الكتاب: إفاضة العوائد
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: محرم الحرام ١٤١١
المطبعة: مهر
الناشر: دار القرآن الكريم - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات: تأليف آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي

إفاضة العوائد
تعليق
على درر الفوائد
تأليف
المرحوم المبرور مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة
آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي
قدس سره
بقلم
سماحة آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية
الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني
مد ظله
الجزء الثاني
1

دار القران الكريم
للعناية بطبعه ونشر علومه
الحوزة العلمية
إيران
قم
هوية الكتاب
* الكتاب: إفاضة العوائد تعليق على درر الفوائد الجزء الثاني
* المؤلف: سماحة آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني مد ظله
* الناشر دار القران الكريم - قم المقدسة
* الطبعة: الأولى
* طبع منه: 3000 نسخه
* المطبعة: مهر
* التاريخ: غرة محرم الحرام 1411 ه‍ ق
* إيران: قم - شارع ارم - دار القرآن الكريم، صندوق البريد 151 - رقم الهاتف 33078
الرمز 251.
2

بسم الله الرحمن الرحيم
إعلم أن من وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى الحكم
الشرعي، فاما أن يكون قاطعا به أولا (1)، وعلى الثاني إما أن يكون له
طريق منصوب من قبل الشارع أولا.
وعلى الثاني اما أن تكون له حالة ملحوظة أولا. وعلى الثاني إما
أن يكون الشك في حقيقة التكليف (2)، وإما أن يكون في متعلقه.
وعلى الثاني إما ان يتمكن من الاحتياط وإما أن لا يتمكن منه. والقاطع
3

ومن له طريق معتبر إلى الواقع يتبع ما عنده من القطع أو الطريق.
والشاك ان لوحظت حالته السابقة فهو مورد الاستصحاب، والا فان
شك في حقيقة التكليف فهو مورد البراءة، وان شك في متعلقه وكان
قادرا على الاحتياط، فهو مورد الاشتغال، وان لم يكن قادرا على الاحتياط
فهو مورد التخيير.
(وهم ودفع)
قد يتوهم عدم صحة ما ذكرنا، من جهة أن المقسم في هذه
المذكورات هو من وضع عليه قلم التكليف، وهو أعم من المجتهد والمقلد،
مع أن أحكام بعض الأقسام مختصة بالمجتهد، كالقواعد المقررة للشاك.
(إن قلت) لا يصح القول باختصاص الاحكام المقررة للشاك
بالمجتهد، للزوم عدم جواز رجوع المقلد إليه فيما استفاده منها، فان الاحكام
المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها، كوجوب التصرف في مال
الأيتام والغيب وفصل الخصومة وأمثال ذلك مما يختص بالمجتهد.
(قلت) لا ينافي اختصاص القواعد المقررة للشاك بالمجتهد رجوع
المقلد إليه في الاحكام المستفادة من تلك القواعد، مثلا المخاطب بقول
الشارع: (لا تنقض اليقين بالشك) وان كان هو المجتهد، ولكن الحكم
الذي يبنى على بقائه هو الحكم الأولى المشترك بينه وبين المقلد، فالافتاء
4

به عبارة عن حكمه بوجوب العمل على طبق الحالة السابقة على كل أحد،
بخلاف الاحكام الواقعية المختصة بالمجتهد، لعدم استنباط المجتهد فيها حكما
آخر يشترك فيه المقلد، بل هذه الأحكام واقعية تعلقت بفعل المجتهد
خاصة.
هذا ويدفع أصل الاشكال بعدم اختصاص الاحكام الثانوية
بالمجتهد (3)، بل حالها حال الاحكام الأولية في اشتراكهما بين المقلد
والمجتهد، من دون تفاوت أصلا، لعدم التقييد في أدلة الاحكام الظاهرية،
وعدم دليل من الخارج يدل على هذا الاختصاص، إلا توهم عدم قدرة
المقلد على العلم بخبر الواحد وعلى الفحص اللازم في العمل بالأصول.
ويدفعه أن العمل بخبر الواحد ليس الا الاتيان بالفعل الخارجي
الذي دل الخبر على وجوبه، ومن الواضحات عدم خصوصية المجتهد فيه.
نعم الذي يختص بالمجتهد ولا يقدر عليه المقلد هو الاستظهار من الدليل
والاستنباط منه أن الواجب كذا، وهذا غير العمل بمدلوله، والاخذ
5

بالأحكام المتعلقة بالشك ليس مشروطا بعنوان الفحص عن الأدلة، حتى
يقال ان المقلد لا يقدر عليه، بل الحكم متعلق بالشك الذي ليس في
مورده دليل واقعا. والفحص إنما يكون لاحراز ذلك، فيكون نظر المجتهد في
تعيين مدلول الدليل، وانه ليس له معارض، وفي احراز عدم وجود الدليل
في مورد الشك متبعا للمقلد.
هذا. إذا عرفت ما ذكرنا من اقسام المكلف واحكام كل منها على
سبيل الاجمال، فلنشرع كل من المذكورات في ضمن مباحث:
6

المبحث الأول
في حجية القطع المتعلق بالتكليف
وينبغي التكلم فيه في ثلاثة مقامات:
(الأول) - أن القطع هل يحتاج في حجيته إلى جعل الشارع، كما أن
الظن كذلك أم لا؟
(الثاني) أنه هل يمكن عقلا النهي عن العمل به أم لا؟
(الثالث) أنه هل يقبل تعلق امر المولى به أم لا؟
(اما الكلام) في المقام الأول فنقول: الحق عدم احتياجه إلى
الجعل، فإنه لو قلنا باحتياجه إليه لزم التسلسل، لان الامر بمتابعة هذا
القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي، بل لابد فيه من العلم، وهذا
العلم أيضا كالسابق يحتاج في التنجز إلى الامر وهكذا، مضافا إلى أنه لو
فرضنا امكان التسلسل لا يمكن تنجيز القطع، لعدم الانتهاء إلى ما لا يكون
محتاجا إلى الجعل (4). وهذا واضح.
حجية القطع:
7

(واما الكلام) في المقام الثاني، فقد يقال في وجه عدم قابليته
للمنع: أن المنع عن العمل بالقطع يوجب التناقض، فان من علم بكون
هذا خمرا، وكون الخمر محرمة، يحصل له من ضم هذه الصغرى
الوجدانية إلى تلك الكبرى المقطوع بها - العلم بكون هذا حراما، فيرى
تكليف المولى ونهيه عن ارتكاب شرب هذا المائع من دون شبهة ولا
حجاب، فلو قال: لا تعمل بهذا العلم، رجع قوله إلى الاذن في ارتكاب
شرب الخمر بنظر القاطع، وهو التناقض.
وأورد على أصل الدعوى نقضا بورود النهي عن العمل بالظن
القياسي حتى في حال الانسداد، فإذا جاز النهي عن العمل بالظن عند
الانسداد، جاز النهي عن العمل بالعلم، لان الظن في تلك الحالة
كالعلم.
وأجاب عن هذا الاشكال شيخنا الأستاذ دام بقاؤه: بان
القياس بالظن القياسي ليس في محله، لان العالم يرى الحكم الواقعي من
غير سترة ولا حجاب، فالمنع عن اتباعه راجع إلى ترخيص فعل ما يقطع
بحرمته، أو منع فعل ما يقطع بوجوبه، فكيف يمكن أن يذعن به مع الاذعان
بضده ونقيضه من الحكم المقطوع به في مرتبة واحدة، وهي مرتبة الحكم
الواقعي، لانكشاف الواقع بحاقه، من دون سترة موجبة لمرتبة أخرى غير
تلك المرتبة، ليكون الحكم فيها حكما ظاهريا لا ينافي ما في المرتبة
الأخرى، بخلاف الظن القياسي، فان النهي عنه في صورة الانسداد إذا
8

صح ببعض الوجوه الآتية لا يكون الا حكما ظاهريا لا ينافي الحكم
الواقعي لو خالفه، كما إذا اصابه ووافقه. هذا ما أفاده دام بقاه من
الجواب.
أقول: وهذا لا يستقيم على ما ذهب إليه: من منافاة الحكمين
الفعليين اللذين تعلقا بموضوع واحد خارجي، سواء كانا واقعيين أم
ظاهريين أم مختلفين، وحصر دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري:
بجعل الواقعي انشائيا والظاهري فعليا.
وتوضيح الاشكال على هذا المبنى انه لا ينبغي الفرق بين القطع
وبين الظن، بل العمدة ملاحظة المقطوع والمظنون، فان تعلق كل منهما
بالحكم الفعلي فلا يعقل المنع، أما في حال القطع فواضح. وأما في حال
الظن، فلان المنع عن العمل بالظن يوجب القطع بعدم فعلية الحكم
الواقعي - لو كان على خلاف الحكم الظاهري - وهذا ينافي الظن
بالحكم الواقعي الفعلي، كما هو المفروض. وهذا واضح. واما ان تعلق
كل منهما بالحكم الانشائي، فلا مانع من الحكم على الخلاف، ولا
تفاوت أيضا بين العلم والظن.
هذا وأما على ما قلنا في دفع المنافاة بين الحكم الواقعي
والظاهري: من اختلاف رتبتيهما، فيرد اشكال آخر على أصل الدعوى،
بأنه كما تتأخر رتبة الشك والظن بالحكم عن نفس الحكم، كذلك
تتأخر رتبة العلم به، لأنه أيضا من العناوين المتأخرة عن الحكم، فكما أنه
لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في موضوع الشك والظن لاختلاف
رتبتيهما، كذلك لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في مورد القطع، لعين ما
ذكر.
9

ويمكن أن يجاب على هذا المبنى بأن العلم بالتكليف موجب
لتحقق عنوان الإطاعة والمخالفة، والأول علة تامة للحسن، كما أن الثاني
علة تامة للقبح. وهما كعنواني الاحسان والظلم، فكما أنه لا يجوز المنع عن
الاحسان والامر بالظلم عقلا، كذلك لا يجوز المنع عن الإطاعة والامر
بالمعصية والمخالفة. ولا فرق عند العقل في تحقق هذين العنوانين بين
أسباب القطع، بخلاف الظن بالتكليف، فإنه بعد لم يصل إلى حد يصلح
لان يبعث المكلف إلى الفعل، لوجوب الحجاب بينه وبين الواقع، فلم
يتحقق عنوان المخالفة والإطاعة.
نعم لو حكم العقل بوجوب الاتيان بالمظنون من جهة الاحتياط،
وإدراك الواقع - كما في حال الانسداد - فعدم الاتيان به على تقدير
إصابة الظن للواقع في حكم المعصية، لكن لا إشكال في أن هذا الحكم
من العقل ليس الا على وجه التعليق، بمعنى كونه معلقا على عدم منع
الشارع عن العمل بذلك الظن، لا على وجه التنجيز، كالاتيان بالمعلوم.
ومن ثم لو حكم الشارع بترك العمل بالظن في حال الانسداد لا ينافي
حكم العقل.
ومحصل ما ذكرنا من الوجه: ان المخالفة لكونها قبيحة بقول
مطلق - لا تقبل الترخيص، والإطاعة - لكونها حسنة كذلك - لا تقبل
المنع (5)، لا أن المنع عن العمل بالعلم مستلزم للتناقض، حتى يرد عليه
ما ذكرنا من الاشكال.
10

اما المقام الثالث أعني قابلية العمل بالعلم، اي الإطاعة لورود
التكليف الشرعي المولوي عليه وعدمها - فقد قيل في وجه عدم القابلية
أمور:
(منها) لزوم التسلسل لو تعلق الامر المولوي بالإطاعة، لان
الامر بالطاعة لو كان مولويا يحقق عنوان إطاعة أخرى، فيتعلق الامر به،
لكونها إطاعة. وهذا الامر أيضا يحقق عنوان الإطاعة، فيتعلق الامر به،
وهكذا.
(ومنها) اللغوية، لان الامر المولوي ليس الا من جهة دعوة
المكلف إلى الفعل، وهي موجودة هنا، فلا يحتاج إليه.
(ومنها) ان الإطاعة عبارة عن الاتيان بالفعل بداعي امره،
11

فلا يعقل أن يكون الامر بها داعيا إليها، والا لزم عدم تحقق موضوع
الإطاعة، ويستحيل أن يصير الامر المتعلق بعنوان داعيا إلى ايجاد غير ذلك
العنوان، هذا وكلها مخدوشة:
اما الأول: فلانه لا يوجد من الامر الا انشاء امر واحد متعلق
بطبيعة الإطاعة (6)، والقضية الطبيعية تشمل الافراد المحققة بها، فلا بأس
بانحلال الامر المتعلق بالطبيعة الواحدة إلى أوامر غير متناهية، لانتهائها إلى
ايجاد واحد، مضافا إلى انقطاع هذه الأوامر باتيان المكلف فعلا واحدا،
وهو ما امر به أولا أو انقضاء زمان ذلك الفعل.
وأما الثاني: فلانه يكفي في الخروج عن اللغوية تأكيد داعي
المكلف، لأنه من الممكن أن لا ينبعث بأمر واحد، ولكنه لو تعددت
وتضاعفت الأوامر ينبعث نحو الفعل.
12

وأما الثالث: فلان اتيان الفعل ابتداءا بداعي الامر بالإطاعة
ليس إطاعة للامر المتعلق به، ولكن اتيانه بداعي الامر المتعلق به بداعي
الامر بالإطاعة - بحيث يكون الامر بالإطاعة داعيا إلى ايجاد الداعي -
لا يضر بصدق الإطاعة، ولا يكون الامر المتعلق به مولويا، كما لا يخفى.
والأولى أن يقال في وجه المنع أن الإرادة المولوية - المتعلقة
بعنوان من العناوين - يعتبر فيها أن تكون صالحة لان تؤثر في نفس
المكلف مستقلا (7)، لان حقيقتها البعث إلى الفعل.
وبعبارة أخرى هي ايجاب الفعل اعتبارا وبالعناية، والامر المتعلق
بالإطاعة مما لا يصلح لان يؤثر في نفس المكلف مستقلا، لأنه لا يخلو من
أمرين: إما أن يؤثر فيه امر المولى أولا، فعلى الأول يكفيه الامر المتعلق
بالفعل، وهو المؤثر لا غير، لأنه أسبق رتبة من الامر المتعلق بالإطاعة.
وعلى الثاني لا يؤثر الامر المتعلق بالإطاعة فيه استقلالا، لأنه من مصاديق
امر المولى، وقد قلنا أن من شان امر المولى امكان تأثيره في نفس العبد على
وجه الاستقلال. هذا كله في القطع المتعلق بالحكم الواقعي الذي يكون
طريقا محضا إليه (8).
وما القطع المأخوذ في موضوع الحكم، فلا اشكال في امكان
تقييده بحصوله من سبب خاص، كما أنه لا اشكال في امكان اعتباره على
13

وجه الاطلاق، فيتبع دليل اعتباره.
ثم اعلم أن القطع المأخوذ في الموضوع يتصور على اقسام (أحدها)
أن يكون تمام الموضوع للحكم (ثانيها) ان يكون جزءا للموضوع، بمعنى ان
الموضوع المتعلق للحكم هو الشئ مع كونه مقطوعا به. وعلى أي حال إما
أن يكون القطع المأخوذ في الموضوع ملحوظا على أنه صفة خاصة، وإما أن
يكون ملحوظا على أنه طريق إلى متعلقه. والمراد - من كونه ملحوظا على
أنه صفة خاصة - ملاحظته من حيث أنه كشف تام، والمراد من كونه.
14

ملحوظا على أنه طريق - ملاحظته من حيث أنه أحد مصاديق الطرق
المعتبرة.
وبعبارة أخرى ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة،
فعلى هذا يصح أن يقال في الثمرة بينهما انه على الأول لا يقوم سائر الامارات
والأصول مقامه، بواسطة الأدلة العامة لحجيتها، أما غير الاستصحاب من
الأصول فواضح، وأما الاستصحاب وسائر الامارات المعتبرة، فلأنها
بواسطة أدلة اعتبارها توجب اثبات الواقع تعبدا، ولا يكفي مجرد الواقع فيما
نحن فيه، لان للقطع بمعنى الكشف التام دخلا في الحكم، إما لكونه تمام
الملاك، وإما لكونه مما يتم به الموضوع.
وعلى الثاني فقيام الامارات - المعتبرة، وكذا مثل الاستصحاب
لكونه ناظرا إلى الواقع في الجملة - مقامه مما لا مانع منه، لأنه فيما يكون
القطع على هذا المعنى تمام الموضوع، ففي صورة قيام إحدى الامارات أو
الاستصحاب، يتحقق مصداق ما هو الموضوع حقيقة (9)، وفيما يكون
المعتبر هو الواقع المقطوع، فالواقع يتحقق بدليل الحجية تعبدا، والجزء
الآخر وجدانا، لأن المفروض عدم ملاحظة القطع في الموضوع من حيث
كونه كاشفا تاما، بل من حيث أنه طريق معتبر، وقد تحقق مصداقه
قطعا.
15

(فان قلت) لو لم يكن العنوان الواقعي موضوعا للحكم - كما هو
المفروض - فالأمارات القائمة عليه لا يشملها دليل الحجية، حتى تصير
مصداقا للطريق المعتبر، لان معنى حجيتها فرض مداليلها واقعة، وترتيب
آثار الواقع عليها، والمفروض في المقام أن ما تعلقت به الامارة ليس له اثر
واقعي، بل الأثر يترتب على العلم إن كان تمام الموضوع، وعلى الواقع
المعلوم إن كان قيده.
(قلت) أما فيما كان العلم تمام الموضوع، لو لم يكن لمتعلقه اثر
أصلا، فما ذكرته حق لا محيص عنه، لكن نقول بقيام الامارات فيما لو كان
للمتعلق اثر آخر غير مرتب على العلم، مثل أن يكون الخمر موضوعا للحرمة
واقعا، وما علم بخمريته موضوعا للنجاسة مثلا، فحينئذ يمكن احراز الخمر
تعبدا بقيام البينة، لكونها ذات اثر شرعي، وبعد قيام البينة يترتب عليها
ذلك الحكم الآخر الذي رتب على العلم، من حيث إنه طريق لتحقق
موضوعه قطعا.
وأما فيما كان العلم قيدا للموضوع، فيكفي في اثبات الجزء الآخر
كونه ذا اثر تعلقي، بمعنى أنه لو انضم الباقي يترتب عليه الأثر الشرعي،
وكم له من نظير، فان اثبات بعض اجزاء الموضوع - بالأصل أو بالامارة،
والباقي بالوجدان - غير عزيز.
ومما قررنا يظهر لك الجواب عن الاشكال الذي أورده شيخنا
الأستاذ دام بقاه في هذا المقام على شيخنا المرتضى طاب ثراه، بما
حاصله: أن قيام الامارات - وبعض الأصول مقام القطع المأخوذ في
الموضوع جزءا على وجه الطريقية بمجرد الأدلة العامة الدالة على حجيتها -
يوجب الجمع بين اللحاظين لحاظ الموضوعية ولحاظ الطريقية، لان الملحوظ
16

في التنزيل إن كان نفس الظن والعلم، بمعنى أن الجاعل لاحظ الظن
ونزله منزلة العلم في الآثار، فاللازم من هذا الجعل ترتيب آثار العلم على
الظن، ولا يلزم منه ترتيب آثار الواقع على المظنون، وإن كان الملحوظ
متعلقهما، بمعنى أن الجاعل لاحظ العلم والظن مرآة للمتعلق، فاللازم
ترتيب آثار الواقع على متعلق الظن، ولا يجوز على هذا ترتيب آثار العلم
على الظن.
وعلى اي حال فلو تعلق الحكم بالخمر المعلومة مثلا، فدليل
حجية الامارة - أو الاستصحاب المنزل للشك بمنزلة العلم - يتصدى
لتنزيل أحد الجزءين للموضوع، لان الجاعل لو أراد التنزيل في كليهما، لزم
أن يجمع بين لحاظ العلم والظن في الامارة، أو العلم والشك في
الاستصحاب طريقا وموضوعا، وهو مستحيل.
وحاصل الجواب أنه بعد ما فرضنا اعتبار العلم طريقا بالمعنى
الذي سبق، فأدلة حجية الامارة أو الاستصحاب - وان لم تتعرض الا
لتنزيل المؤدى منزلة الواقع - تكفي في قيام كل منهما مقام العلم، لاحراز
الموضوع المقيد بعضه بالتعبد وبعضه بالوجدان، كما عرفت (10).
ثم إنه دام بقاه تقصى عن هذا الاشكال بأنه بعد تنزيل المؤدى
منزلة الواقع، فالواقع التعبدي معلوم، مثلا لو ورد دليل على حرمة الخمر
17

المعلومة، وقامت البينة على أن هذا خمر، نعلم بواسطة دليل حجية البينة
بان هذا الخمر تعبدا، فيتحقق هذا الموضوع بواسطة دليل الحجية والوجدان،
فدليل الحجية يوجب ثبوت الخمر تعبدا، والعلم بان هذا خمر تعبدا
18

وجداني.
وفيه أن اخذ بعض اجزاء الموضوع تعبدا وبعضها وجدانا انما
يكون فيما إذا كان الجزء الوجداني مما اعتبر في الدليل الأول، كما إذا
ترتب الحكم على الماء الكر الطاهر، فنقول كون هذا ماءا وجداني،
وكونه كرا وطاهرا مثلا يتحقق بالأصل. وأما في مقامنا هذا فالجزء
الوجداني ليس مما اخذ في الدليل الأول، لان الموضوع فيه هو العلم بالخمر
الواقعية، لا الأعم منها ومن التعبدية، حتى يتحقق هذا الجزء بالوجدان،
فلابد - في ترتيب اثر العلم بالخمر الواقعية على العلم بالخمر التعبدية -
من تنزيل آخر.
(فان قلت) ان الحكم في الموضوعات المقيدة انما رتب على المقيد
من حيث إنه مقيد، ولا شك في أن مجرد اثبات أحد الجزءين بالأصل
والآخر بالوجدان لا يوجب اثبات المقيد، فلا محيص عن ذلك، إلا أن
تلتزم بان المقيد بالقيد التعبدي بمنزلة المقيد بالقيد الواقعي، فهنا نقول
أيضا يكفي في ترتيب الحكم بالعلم بالخمر التعبدية.
(قلت) الحكم المرتب على الماء الكر ليس مرتبا على المقيد أعني
العنوان البسيط، بل الموضوع هو منشأ انتزاع ذلك العنوان أعني الماء حال
كونه كرا، ولو سلمنا كون الموضوع هو البسيط.
فنقول: إنه من الوسايط الخفية التي لا يراها العرف واسطة،
ولأجل أحد هذين الوجهين نقول: يكفي في ترتيب الحكم ثبوت جزء
بالوجدان والباقي بالأصل، وهذا لا يتم في الخمر المعلومة، لان كون هذا
المائع خمرا في الواقع لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم بكونه خمرا،
كما أن العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع.
19

وبعبارة أخرى مجرد تعلق علم بهذا المائع وكونه خمرا في الواقع،
لا يكون منشأ لانتزاع الخمر المعلومة، بخلاف كون هذا الماء كرا، فتدبر.
التجري
ثم إنك قد عرفت مما سبق عدم تجويز العقل الاقدام على مخالفة
القطع المتعلق بالتكليف، فلو أقدم على ذلك وصادف قطعة الواقع،
فلا شبهة في استحقاقه العقوبة. وأما لو لم يصادف، فوقع النزاع
والاختلاف بين العلماء (قدس سرهم) في حكمه.
وتحقيق المبحث أن يقال إن النزاع يمكن ان يقع في استحقاق
العقوبة وعدمه، فيكون راجعا إلى النزاع في المسألة الكلامية، ويمكن أن
يقع النزاع في أن ارتكاب الشئ المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟
فتكون المسألة من المسائل الأصولية التي يستدل بها على الحكم الشرعي.
ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل أعني ارتكاب ما قطع بحرمته
مثلا حراما شرعا أو لا، فتكون من المسائل الفقهية، فان كان النزاع في
الأخير، فالحق عدم اتصاف الفعل المذكور أعني ما قطع بحرمته
بالحرمة الشرعية.
توضيح ذلك أن شرب المائع المقطوع خمريته في الخارج ينتزع منه
عناوين.
(منها) شرب الماء
(ومنها) شرب مقطوع الخمرية
(ومنها) شرب مقطوع الحرمة
(ومنها) شرب المايع
20

(ومنها) التجري.
ولا اشكال في عدم كون الأخير منها اختياريا للفاعل، فإنه لم
يكن محتملا لخطأ اعتقاده، فلم يقدم على هذا العنوان عن التفات،
وهكذا الأول منها. وباقي العناوين وإن كانت اختيارية للفاعل، ضرورة
أن مجرد كون الفرد الصادر عنه غير الفرد المقصود مع اشتراكهما في الجامع،
لا يخرج الجامع عن كونه اختياريا، إلا أنه من المعلوم عدم النزاع في شئ
من تلك العناوين، غير عنوان مقطوع الحرمة. وقد عرفت مما مضى عدم
قابلية هذا العنوان للحكم المولوي، فان هذا الحكم نظير الحكم بحرمة
المعصية ووجوب الإطاعة.
هذا واما ما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ دام ظله: من أن
الفعل المتجري به لا يكون اختياريا أصلا، حتى بملاحظة العام الشامل
للفرد المقصود وغيره، فلعله من سهو القلم.
قال دام ظله - في طي استدلاله على عدم كون التجري حراما
شرعا ما لفظه (مع أن الفعل المتجري به أو المنقاد - بما هو مقطوع
الوجوب أو الحرمة - لا يكون اختياريا كي يتوجه إليه خطاب تحريم أو
ايجاب، إذ القاطع لا يقصده الا بما قطع انه عليه من العنوان الواقعي
الاستقلالي، لا بهذا العنوان الطاري الآلي، بل لا يكون اختياريا أصلا، إذا
كان التجري أو الانقياد بمخالفة القطع بمصداق الواجب أو الحرام أو
موافقته، فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده، وما صدر
منه لم يقصده، بل ولم يخطر بباله.
لا يقال إن ما صدر منه لا محالة يتدرج تحت عام يكون تحته ما
قصده، فيسري إليه قصده، مثل شرب المايع في المثال.
21

فإنه يقال: كلا، كيف يصير العام المتحقق في ضمن خاص مقصودا
واختياريا، بمجرد قصد خاص آخر قصده بخصوصيته. نعم لو عمد إلى
خاص تبعا للعام، فصادف غيره من افراده، لم يخرج عن اختياره بما هو
متحد مع ذلك العام، وان كان خارجا عنه بما هو ذلك الخاص)
انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقاه.
أقول: لا شك في أن كل عنوان يكون ملتفتا إليه حال ايجاده
وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختياريا، وان لم يكن موردا للغرض
الأصلي، مثلا لو شرب الخمر مع العلم بكونها خمرا لا لأنها خمر، بل لأنها
مايع بارد، يصح ان يعاقب عليه، لأنه شرب الخمر اختيارا (11)، وإن لم
يكن كونها خمرا داعيا ومحركا له على الشرب، لأنه يكفي في كون شرب
الخمر اختياريا، صلاحية كون الخمرية رادعة له، وكونه قادرا على تركه.
ونظير هذا محقق فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجامع، فان من شرب مايعا
باعتقاد انه خمر، يعلم بان هذا مصداق لشرب المايع، ويقدر على تركه،
22

فكيف يحكم بعدم كون شرب المايع اختياريا له، فان خص العنوان
الموجود اختيارا بما كان محطا للإرادة الأصلية للفاعل، فاللازم ان يحكم
- في المثال الذي ذكرناه - بعدم كون شرب الخمر اختياريا، لعدم تعلق
الإرادة الأصلية بعنوان الخمر، كما هو المفروض. ولا أظن أحدا يلتزم به،
وإن اكتفى في كون العنوان اختياريا، بمجرد كونه معلوما وملتفتا إليه حين
الايجاد، بحيث يصلح لان يكون رادعا له، فحكمه - بعدم كون الجامع فيما
نحن فيه أعني شرب المايع اختياريا - لا وجه له.
وكيف كان فالحكم - بعدم اختيارية العناوين المنطبقة على
الفعل المتجري به بأسرها، حتى الجامع لما هو واقع وما هو مقصود - مما
لا أرى له وجها، فالأولى ما قلناه في المقام.
ومحصله ان العناوين المتحققة مع الفعل المتجري به بين ما
لا يكون اختياريا، وبين ما لا شبهة في عدم تحريمه، وبين ما لا يكون قابلا
لورود النهي المولوي عليه. هذا على تقدير جعل النزاع في الحرمة الشرعية.
واما لو كان مجرى النزاع كون الفعل المتجري به قبيحا أم لا،
فالذي يقوى في النظر عدم كونه قبيحا أصلا، فانا إذا راجعنا وجداننا، لم
نر شرب المايع المقطوع خمريته الا على ما كان عليه واقعا قبل طرو عنوان
القطع المذكور عليه. والذي أوقع مدعي قبح الفعل في الشبهة هو كون
الفعل المذكور - في بعض الأحيان - متحدا مع بعض العناوين القبيحة،
كهتك حرمة المولى، والاستخفاف بأمره تعالى شانه، وأمثال ذلك مما
لا شبهة في قبحه، وأنت خبير بان اتحاد الفعل المتجري به مع تلك
العناوين ليس دائميا، لأنا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة،
لا مستخفا بأمر المولى ولا جاحدا لمولويته، بل غلبت عليه شقوته، كاقدام
فساق المسلمين على المعصية، ولا اشكال في أن نفس الفعل المتجري به
23

- مع عدم اتحاده مع تلك العناوين - لا قبح فيه أصلا.
ومن هنا يظهر الكلام على تقدير جعل النزاع في استحقاق
العقوبة، وانه لا وجه لاستحقاق الفاعل - من حيث إنه فاعل لهذا الفعل
الخارجي - العقوبة بعد عدم كونه محرما ولا قبيحا عقلا.
نعم قد يقال باتصاف بعض الأفعال - الموجودة في النفس مما هو
موجب لتحريك الفاعل نحو الفعل - بالقبح، وبسببه يستحق موجده
العقوبة.
بيان ذلك أن العفل الاختياري لابد له من مقدمات في النفس،
بعضها غير اختيارية من قبيل تصور الفعل وغايته والميل إليه (12)،
وبعضها اختيارية من قبيل الإرادة (13)، فما كان من قبيل الأول
لا يتصف بحسن ولا قبح، ولا يستحق الشخص المتصف به مثوبة ولا
عقوبة، ضرورة ان ما ذكر منوط بالافعال الاختيارية. وما كان منها من
قبيل الثاني يتصف - في محل الكلام - بالقبح، كما أنه في الانقياد
24

يتصف بالحسن، ويستحق الموجد له في النفس العقوبة فيما نحن فيه، كما
يستحق المثوبة في الانقياد. والحاصل ان نفس العز على المعصية قبيح،
وان لم تترتب عليه المعصية. نعم لو انجر إلى المعصية يكون أشد قبحا.
(فان قلت) كيف يمكن ان تكون الإرادة اختيارية، والمعتبر في
اختيارية الشئ ان يكون مسبوقا بها، فلو التزمنا في الإرادة كونها
اختيارية لزم التسلسل.
(قلت) انما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في
الإرادة، ولا نقول به، بل ندعي أنها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلق
أعني المراد، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها، فيكفي في تحققها أحد
الامرين. وما كان من قبيل الأول لا يحتاج إلى إرادة أخرى، وما كان
من قبيل الثاني حاله حال ساير الافعال التي يقصدها الفاعل، بملاحظة
الجهة الموجودة فيها. ولازم ما ذكرنا أنه قد يقع التزاحم بين الجهة
الموجودة في المتعلق والجهة الموجودة في الإرادة، فيحنئذ ترجيح إحدى
الجهتين يستند إلى إرادة أخرى، فلو فرضنا كون الفعل مشتملا على نفع
ملائم لطبع الفاعل، وكون ارادته مشتملة على ضرر يخالف طبعه، فترجيح
إرادة الفعل إنما هو بعد ملاحظة مجموع الجهتين، والاقدام على الضرر
المترتب على تلك الإرادة، ولا نعنى بالفعل الاختياري إلا هذا.
25

والدليل على أن الإرادة قد تحقق لمصلحة في نفسها هو
الوجدان، لأنا نرى إمكان ان يقصد الانسان البقاء في المكان الخاص
عشرة أيام، بملاحظة أن صحة الصوم والصلاة التامة تتوقف على القصد
المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مترتبا على نفس البقاء واقعا.
ونظير ذلك غير عزيز، فليتدبر في المقام.
(فان قلت) إن مجرد كون الفعل قبيحا بحكم العقل لا يوجب
استحقاق العقوبة من المولى، لان العقوبة تابعة للتكليف المولوي، ولذا
قيل إن التكاليف الشرعية ألطاف في التكاليف العقلية. ومعنى هذا
الكلام هو ان الأوامر والنواهي الصادرة من الله تعالى توجب زيادة بعث
للعباد نحو الفعل والترك، لكونها موجبة للمثوبة والعقوبة، ولو كان حكم
العقل بالحسن والقبح كافيا فيها، لما كانت التكاليف الإلهية ألطافا. ولا
يمكن أن يقال باستكشاف حكم الشرع هنا بقاعدة الملازمة، لأنا نقول
- مضافا إلى منع تلك القاعدة بناءا على عدم كفاية الجهات الموجودة في
الفعل للتكليف، إذ قد يكون الفعل حسنا عقلا، ولا يأمر به الشارع، أو
يكون قبيحا، ولا ينهى عنه، لعدم المصلحة في النهي عنه - ان الملازمة
المذكورة انما تنفع فيما يكون قابلا للتكليف المولوي، وليس المقام كذلك،
لان حال النهي المتعلق بإرادة المعصية كحال النهي المتعلق بها.
(قلت) فرق بين العناوين القبيحة، فان منها ما لا يكون لها
ارتباط خاص بالمولى - من حيث إنه مولى - كالظلم على الغير مثلا
(ومنها) ماله ربط خاص به، كالظلم على نفس المولى والخيانة بالنسبة
إليه، ففي الأول لو لم يتعلق به النهي المولوي، فلا وجه لعقاب المولى، بل
هو كأحد العقلاء يجوز له ملامة الفاعل من حيث إنه عاقل، وأما الثاني
فيصح عقوبته من حيث هو مولى له. هذا محصل الكلام في المقام.
26

واما استدلالهم على حرمة الفعل المتجري به وكونه معصية
بالاجماع، فمدفوع بعدم كشفه على قول المعصوم عليه السلام في المسائل
العقلية، مضافا إلى مخالفة غير واحد. وأما مسألة سلوك الطريق المظنون
خطره، فهو وان كان يظهر الاتفاق فيه منهم على كونه عصيانا، إلا أنه
يمكن القول بكون الظن عندهم تمام الموضوع للحرمة الواقعية، فيخرج عن
محل الكلام.
واما ما ذكر من الدليل العقلي المعروف، فمحصل الجواب أنا
نختار ثبوت العقاب على من أصاب دون من أخطأ. واما ما أورد على
ذلك من لزوم ابتناء العقاب على امر غير اختياري، ففيه ان مدخلية أمور
غير اختيارية في صحة العقاب مما لا تضر عقلا، إذ ما من فعل اختياري
الا كان للأمور الغير الاختيارية دخل فيه، كتصور الفاعل والميل إليه،
وانما يمنع العقل من العقاب على ما لا يرجع بالآخرة إلى الإرادة والاختيار.
العلم الاجمالي
وينبغي التنبيه على أمور:
(الأول) - ان العلم الاجمالي هل له اثر بحكم العقل، أو حاله
حال الشك البدوي؟ وعلى الأول، فهل يوجب حرمة المخالفة القطعية
فقط، أو يوجب الموافقة القطعية أيضا. وعلى اي حال هل يصح للشارع
الترخيص في خلاف ما اقتضاه أو لا؟ وبعبارة أخرى هذا الأثر منه هل
هو على نحو العلية التامة، بحيث لا يقبل المنع، أو على نحو الاقضاء.
وملخص الكلام في المقام أنه لا شبهة في أن المقدم - على اتيان
27

جميع أطراف الشبهة التحريمية - حاله عند العقل حال من أقدم على المحرم
المعلوم تفصيلا، وأي فرق بين من شرب من إناءين عالما بان أحدهما خمر،
وبين من شرب من اناء واحد عالما بأنه خمر؟ وانكار كون الأول معصية
يرده وجدان كل عاقل. وأما الاقدام على ارتكاب أحد الإناءين مع عدم
قصد الآخر أو مع عدمه، فهو وإن لم يكن في الوضوح كالأول، لكن
مقتضى التأمل عدم جوازه عند العقل أيضا، لوجود الحجة على التكليف
الواقعي المعلوم، إذ لولاه لجازت المخالفة القطعية. وبعد ثبوت الحجة
اشتغلت ذمة المكلف بامتثاله، فلا يجدي له الا القطع بالبراءة الذي
لا يحصل الا بترك الأطراف (14). ولكن حكم العقل بوجوب الموافقة
القطعية ليس كحكمه بحرمة المخالفة القطعية، إذ الثاني حكم تنجيزي
لا يقبل ان يرتفع، لان المخالفة القطعية حالها حال الظلم، بل هو من
أوضح مصاديقه.
والحال ان الاذن في العصيان مما لا يعقل، ولو كان معقولا لم
يكن وجه لمنعه في العلم التفصيلي كما مر، فلو دل ظاهر دليل على ترخيص
المخالفة القطعية، يجب صرفه عن ظاهره، بخلاف الموافقة القطعية التي
تحقق بالاحتياط في جميع الأطراف، فان اذن الشارع - في ارتكاب
العلم الاجمالي
28

محتمل الحرمة - ليس اذنا في المعصية (15)، والحكم بلزوم الاحتياط إنما
هو من جهة احتمال الضرر وعدم الامن من العقاب، فإذا دل دليل على
عدم وجوب الاحتياط، يؤمن به من العقاب.
ومن هنا ظهر أنه لو دل بظاهره على جواز المخالفة القطعية،
فلا بد من طرحه، لمنافاته لحكم العقل، بخلاف ما لو دل دليل على عدم
وجوب الموافقة القطعية، والترخيص في بعض الأطراف إما على سبيل
التعيين أو على سبيل التخيير، ويأتي في مبحث البراءة التعرض للأدلة
اللفظية، وأنها هل يستفاد منها الترخيص في ترك الاحتياط أم لا؟
29

[...
30

(الامر الثاني) هل يكتفى في مرحلة السقوط بالامتثال الاجمالي،
مع التمكن من الامتثال التفصيلي علما، أو بظن معتبر أم لا (16)؟
لا اشكال في سقوط التكليف لو كان من التوصليات. وأما لو كان من
العبادات المعتبر فيها قصد القربة، فأقصى ما يمكن به الاستدلال - على
وجوب تحصيل العلم أو الظن المعتبر في مقام الامتثال وعدم الاكتفاء
بالامتثال الاجمال - وجوه:
(الأول) الاجماع المستفاد من كلمات بعض الأعاظم، خصوصا
فيما إذا اقتضى الاحتياط التكرار.
(الثاني) عدم عد العقلاء من تمكن من تحصيل العلم بالواجب
32

- شخصا واكتفى باتيانه على نحو الاجمال - مطيعا، ألا ترى أن العبد إذا
علم اجمالا بإرادة المولى شيئا مرددا بين أشياء متعددة، ويقدر على تشخيص،
ما اراده بالسؤال منه، فلم يسأل، وجاء بعدة أمور أحدها مطلوب للمولى،
يعد عابثا لاغيا، فكيف يوجب مثل هذا العمل القرب المعتبر في
العبادات؟
(الثالث) أن يقال يحتمل أن يكون للآمر غرض لا يسقط الا
باتيان الفعل مع قصد الوجه التفصيلي، ومع هذا الاحتمال يجب
الاحتياط. أما تحقق هذا الاحتمال في النفس، فلعدم ما يدل على نفيه.
وأما وجوب الاحتياط، فلان هذا القيد المحتمل ليس مما يمكن دفعه
باطلاق الدليل، ولا بالأصل، وان قلنا به في مقام دوران الامر بين
المطلق والمقيد.
أما الأول: فلكون القيد المذكور مما هو متأخر رتبة عن الحكم
فلا يمكن دخله في الموضوع، فالموضوع بالنسبة إلى القيد المذكور لا مطلق ولا
مقيد، والتمسك بأصالة الاطلاق إنما يصح فيما يمكن ان يكون معروضا
للقيد. واما الثاني: فلان موضوع التكليف بناءا على ذلك متعين معلوم
بحدوده، وانما الشك في مرحلة السقوط، وليس حكمه الا الاشتغال. وفى
الكل نظر. أما الاجماع فلعدم حجية المنقول منه، مضافا إلى عدم الفائدة في
اتفاقهم أيضا في مثل المقام، مما يكون المدرك حكم العقل يقينا أو
احتمالا، إذ مع احتمال ذلك لا يستكشف رأى المعصوم عليه السلام.
واما الدليل الثاني، فلان عدم عد العبد الآتي بعدة أمور ممتثلا في
بعض الأحيان، إنما هو فيما يكون مقصوده الاستهزاء. وليس هذا محل
33

الكلام فيفرض فيما كان عدم تحصيل العلم التفصيلي منه، من جهة غرض
عقلائي. والحاصل أن الكلام في أن الإطاعة الاجمالية يمكن أن تكون
عبادة ومقربة، لا أن الإطاعة الاجمالية مقربة مطلقا، ولو كان قاصدا
للاستهزاء.
وأما الدليل الثالث، فقد أشبعنا الكلام فيه في بحث وجوب
المقدمة (17). وذكرنا هناك عدم الفرق بين مثل هذه القيود المتأخرة رتبة
عن الحكم. وساير القيود، فلا نطيل المقام بإعادته. ومن أراد فليراجع.
34

المخالفة الالتزامية
(الامر الثالث) - هل المخالفة الالتزامية كالمخالفة العملية عند
العقل أم لا؟ ينبغي ان نفرض موردا لا تكون فيه مخالفة عملية أصلا، ولو
على نحو التدريج، ونتكلم في جواز المخالفة الالتزامية فيه نفيا واثباتا.
وهذا لا يفرض في الشبهة الحكمية، لعدم وجود فعل يكون واجبا في الشرع
في ساعة معينة أو حراما كذلك (18) ثم يرتفع حكمه بعد تلك الساعة،
فينحصر المورد في الشبهة الموضوعية، كالمرأة، المرددة ين المنذور وطيها في
ساعة كذا، أو ترك وطيها كذلك. ومجمل القول فيه أن المخالفة
الالتزامية في المثال المفروض تتصور على قسمين:
(أحدهما) - عدم الالتزام بشئ من الوجوب والحرمة فيه.
35

(ثانيهما) - الالتزام بحكم آخر غير ما علم واقعا.
فنقول: إن أرد - القائل بوجوب الالتزام بالحكم، وعدم جواز
المخالفة - وجوب الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه، سواء كان
واجبا أو حراما، فهو مما لا ينبغي إنكاره، لان لازم التدين بالشرع
والانقياد به، هو أن يتسلم ما علم أنه حكم الشارع (19).
وإن أراد لزوم التدين بشخص الحكم المجعول في الواقع، فهو مما
لا يقدر عليه، لكونه مجهولا. نعم يقدر ان يبنى على وجوب هذا الفعل،
سواء كان واجبا في الواقع أم حراما. وكذلك الكلام في الحرمة.
وان أراد لزوم التدين بأحد الحكمين على سبيل التخيير في
الخبرين المتعارضين، فهو امر يقدر عليه، لكن لزومه يحتاج إلى دليل، إذ
لولاه لكان البناء تشريعا محرما، وليس في المقام دليل، سوى ما يتوهم
- من الأدلة الدالة على وجوب الاخذ بأحد الخبرين المتعارضين، عند
عدم ترجيح أحدهما على الآخر - من أن العلة في ايجاب الاخذ بأحد
الخبرين كون الحكم في الواقعة مرددا بين أمرين، وهو فاسد، لعدم القطع
بالملاك، واحتمال اختصاص الحكم بخصوص مورد تعارض الخبرين

(1) سورة النمل (27): 14
36

- مضافا إلى أنه لو تم ذلك، لوجب في دوران الامر بين الإباحة
والتحريم الاخذ بأحد الحكمين، كما لا يخفى.
والحاصل انه لا دليل على وجوب الالتزام بشخص حكم في
الواقعة المشكوك فيها، ولا يجوز الالتزام به لكونه تشريعا. ومن هنا يظهر
عدم المانع عقلا، للالتزام بحكم آخر غير الوجوب والتحريم في مورد
الشك (20) كالإباحة إذا اقتضت أدلة الأصول ذلك، لان المانع المتصور
هنا إما لزوم الالتزام بشخص الوجوب أو الحرمة، وهذا ينافي الالتزام
بالإباحة. وإما لزوم الالتزام بالواقع المردد على ما هو عليه.
اما الأول فمفقود لما عرفت. وأما الثاني فليس بمانع، لعدم المنافاة
بين الالتزامين كما أنه لا منافاة بين نفس الحكمين، لما حقق من عدم
المنافاة بين الاحكام الواقعية والاحكام المجعولة في موضوع الشك، ومع
عدم المنافاة بين نفس الحكمين لا يعقل أن يكون الالتزام بأحدهما منافيا
للالتزام بالآخر. هذا في الواقعة الواحدة التي لم تكن لها مخالفة عملية أصلا.
وأما الوقايع المتعددة، كما لو دار الامر بين وجوب صلاة الجمعة
دائما، أو حرمتها كذلك، فالكلام - في عدم وجوب الالتزام بشخص
حكم من الشرع: من الوجوب أو الحرمة، بل حرمته - هو الكلام فيما سبق.
وأما الالتزام بالحكم المخالف فمبني على جريان دليل الأصل
37

الدال على الإباحة، وهو موقوف على عدم حكم العقل بقبح المخالفة
تدريجا. والحق عدم جريان دليل الأصل، لان المخالفة التدريجية قبيحة
عند العقل كغيرها، إذ غاية ما يقال في عدم قبحها. أن الفعل في الزمان
الآتي ليس متعلقا لتكليفه الفعلي، بل التكليف المتعلق به مشروط بوجود
الزمان الآتي. والتكليف الفعلي ليس له مخالفة عملية قطعية أو يقال بأن
المخالفة العملية القطعية وان كانت قبيحة مطلقا، إلا أن الامر في المقام
دائر بين الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، حتى لا توجد مخالفة قطعية، أو
الموافقة القطعية المستلزمة للمخالفة القطعية، ولا نسلم ان العقل يعين الأول.
أما الأول: فهو باطل، لما حققناه في مبحث مقدمة الواجب: من
أن الواجب المشروط - بعد العلم بتحقق شرطه في محله - يكون كالمطلق
عند العقل، فراجع، فالتكليف المتعلق بالفعل في الزمان الآتي في حكم
التكليف الموجود الفعلي عند العقل، فكما أنه لو علم بوجوب أحد
الشيئين فعلا، يجب عليه الامتثال بالاتيان بكليهما، كذلك لو علم
بوجوب فعل إما في هذا اليوم وإما في الغد يجب عليه الاحتياط باتيان
الفعل في اليومين. هذا إذا تمكن من الاحتياط والموافقة القطعية. وأما إذا
لم يتمكن من الموافقة القطعية - كما فيما نحن فيه - يجب عليه ترك
المخالفة القطعية.
وأما الثاني، فلان عدم ارتكاب المخالفة القطعية متعين عند العقل،
لما سمعته سابقا ونحققه في مبحث البراءة انشاء الله تعالى: من أن حكم
العقل بقبح المخالفة القطعية تنجيزي، لا يمكن أن يرفع بالمانع (21). واما
38

حكمه بوجوب الموافقة القطعية فليس كذلك، فإنه إنما يكون على تقدير
عدم ترخيص الشارع في الموافقة الاحتمالية.
(فان قلت) الاذن في المخالفة القطعية التدريجية واقع في الشرع،
كما في التخيير بين الخبرين المتعارضين، إن قلنا بكونه استمراريا، وكتخيير
المقلد بين الاخذ بفتوى كل من المجتهدين فإنه في كل منهما قد ينجر الامر
إلى المخالفة القطعية التدريجية، كما إذا كان أحد الخبرين دالا على
الوجوب، والآخر على الحرمة، وكما إذا أفتى أحد المجتهدين بالوجوب،
والآخر بالحرمة.
(قلت) موافقة الحكم الظاهري - في المثالين في كل واقعة -
بدل للواقع، على تقدير المخالفة (22). ومثل هذه المخالفة التدريجية التي لها
بدل، ليس ممنوعا عقلا، بخلاف ما إذا لم يكن لترك الواقع بدل أصلا،
كما إذا رخص الشارع في ترك الواقع في هذا الزمان والزمان الآتي، فان
هذا ترخيص في مخالفة الواقع بلا بدل.
39

المبحث الثاني
في الظن
والكلام فيه يقع طي أمور:
(الأول) أنه هل يمكن التعبد بالامارات غير العلمية عقلا أم لا؟
والنزاع في هذا الامر بين المشهور وابن قبة (قدس الله اسرارهم) ومورد
كلامهم وان كان خبر الواحد، إلا ان أدلة الطرفين تشهد بعموم محل
النزاع.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الامكان يطلق على معان:
(أحدها) - الامكان الذاتي، والمراد به مالا ينافي الوجود والعدم
بحسب الذات، ويقابله الامتناع بهذا المعنى، كاجتماع النقيضين
والضدين.
(ثانيها) - الامكان الوقوعي والمراد به مالا يلزم من فرض وجوده
محذور عقلي ويقابله الامتناع بهذا المعنى.
(ثالثها) - الاحتمال، كما هو أحد الوجوه في قاعدة الامكان في
باب الحيض.
لا اشكال في عدم كونه بالمعنى الأول موردا للنزاع إذ لا يتوهم
أحد من العقلاء أن التعبد بالظن يأبى عن الجود بالذات. كاجتماع
40

النقيضين، كما أن النزاع ليس فيه بالمعنى الثالث إذ الترديد والشك في
تحقق شئ حاصل لبعض وغير حاصل للآخر، وهذا ليس أمرا قابلا
للنزاع، فانحصر الامر في الثاني.
ثم لا يخفى أن المراد - من المحذور العقلي الذي فرض عدم لزومه في
الامكان الوقوعي - انما هو الموانع العقلية لا عدم المقتضى وان كان يلزم
من فرض وجود الشئ مع عدم المقتضى محذور عقلي أيضا، لامتناع
تحقق الشئ من دون علة، لأنه لو كان المراد أعم من المقتضى وعدم
المانع، لكان العلم بالامكان في شئ مساوقا للعلم بوجوده، كما لا يخفى.
وعلى هذا فمن يدعى العلم بالامكان بالمعنى المذكور، فدعواه
راجعة إلى العلم بأنه على فرض وجوده لا يترتب عليه محذور عقلي، ولو
شك في تحققه من جهة الشك في تحقق مقتضيه، ولا تصح هذه الدعوى
إلا ممن يطلع على جميع الجهات المحسنة والمقبحة في المقام، مثلا من يعتقد
بامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد، لا يصح منه دعوى
الامكان بالمعنى المذكور، إلا بعد القطع بعدم فعلية الاحكام الواقعية.
وكذا الالقاء في المفسدة قبيح بحكم العقل، فمن يدعى امكان التعبد
بالظن، لابد وأن يعلم بأن في العمل به مصلحة أعظم من المفسدة التي قد
يتفق وقوع المكلف فيها بسبب التعبد به، ومتى يحصل العلم لاحد من
طريق العقل. نعم لو ثبت بالأدلة التعبد بالظن نستكشف ما ذكرناه.
وهذا غير دعوى الوجدان، والقطع بعدم المحذور.
فالأولى أن يقال - بعد رد الوجوه التي تذكر في المقام للمنع -
بانا لا نقطع بالاستحالة، فلا مانع من الاخذ بالأدلة التي أقيمت على حجية
بعض الظنون، كما ستطلع عليها في الامر الثالث انشاء الله تعالى.
41

الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
وكيف كان قد استدل المانع بوجهين:
(الأول) - انه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الاخبار عن النبي
صلى الله عليه وآله، لجاز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى، والتالي
باطل اجماعا، فالمقدم مثله.
بيان الملازمة أن حكم الأمثال فيما يجوز ومالا يجوز سواء، ولا
يختلف الاخبار بواسطة اختلاف المخبر عنه، وكونه هو الله سبحانه أو النبي
صلى الله عليه وآله، وإذا لم يجز التعبد به في الاخبار عن الله تعالى،
لم يجز في الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله.
والجواب منع بطلان التالي عقلا، لجواز ايجاب الشارع التعبد
باخبار سلمان وأمثاله عن الله تعالى، غاية الامر عدم الوقوع وليس هذا
محلا للنزاع.
(الثاني) ان العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم
الحلال، إذ لا يؤمن أن يكون ما أخبر بحليته حراما في الواقع، وبالعكس.
وتوضيح الكلام أنه لا اشكال في أن الأحكام الخمسة متضادة
بأسرها، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في مورد واحد. ومن يدعى التعبد
بخبر الوحد يقول بوجوب العمل به، وان أدى إلى مخالفة الواقع. وحينئذ
لو فرضنا أن الامارة أدت إلى وجوب صلاة الجمعة، وكانت محرمة في
الواقع ونفس الامر، فقد اجتمع في موضع واحد - أعني صلاة الجمعة -
حكمان: الوجوب والحرمة، وأيضا يلزم اجتماع الحب والبغض
والمصلحة والمفسدة في شئ واحد، من دون وقوع الكسر والانكسار، بل
42

يلزم المحال أيضا على تقدير المطابقة للواقع، من جهة لزوم اجتماع المثلين،
وكون الموضوع الواحد موردا لوجوبين مستقلين، وأيضا يلزم الالقاء في
المفسدة، فيما إذا أدت الامارة إلى إباحة ما هو محرم في الواقع وتفويت
المصلحة فيما إذا أدت إلى جواز ترك ما هو واجب.
هذا كله على تقدير القول بأن لكل واقعة حكما مجعولا في نفس
الامر، سواء كان المكلف عالما به أو جاهلا، وسواء أدى إليه الطريق أو
تخلف عنه، كما هو مذهب أهل الصواب. وأما على التصويب فلا يرد ما
ذكرنا من الاشكال، إلا أنه خارج عن الصواب
هذا، والجواب عنه وجوه: -
(الأول) ما افاده سيدنا الأستاذ طاب ثراه: من عدم المنافاة بين
الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشك في الأول. وتوضيحه
أنه لا اشكال في أن الاحكام لا تتعلق ابتداءا بالموضوعات الخارجية، بل
انما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن، لكن لا من حيث كونها موجودة في
الذهن، بل من حيث إنها حاكية عن الخارج فالشئ ما لم يتصور في
الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية. وهذا واضح.
ثم إن المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الاطلاق، وأخرى
على نحو التقييد. وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في ذلك المقيد
وقد يكون لوجود المانع (مثلا) قد يكون عتق الرقبة مطلوبا على سبيل
الاطلاق، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة، وقد يكون
في المطلق، إلا أن عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر، ولكونه
منافيا لذلك الغرض، لابد ان يقيد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة
المؤمنة، فتقييد المطلوب في القسم الأخير إنما هو من جهة الكسر
والانكسار، لا لتضييق دائرة المقتضى، وذلك، موقوف على تصور العنوان
43

المطلوب أولا، مع العنوان الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن
المطلوبية الفعلية، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن، بحيث يكون
المتعقل أحدهما لا مع الآخر، فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار بين
جهتيهما، فاللازم من ذلك أنه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية
يكون مطلوبا صرفا، من دون تقييد، لعدم تعقل منافيه ومتى تصور
العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضا كذلك، لعدم تعقل
منافيه، كما هو المفروض. والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان
المتعلق للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني ابدا (مثلا)
إذا تصور الآمر صلاة الجمعة، فلا يمكن ان يتصور معها إلا الحالات التي
يمكن ان يتصف بها في هذه الرتبة، مثل كونها في المسجد أو في الدار،
وأمثال ذلك. واما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكا، فليس مما
يتصور في هذه الرتبة، لان هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق
الحكم، والأوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن ادارجها في موضوعه. فلو
فرضنا أن صلاة الجمعة - في كل حال أو وصف يتصور معها في هذه
الرتبة - مطلوبة بلا مناف ومزاحم، فإرادة المريد تتعلق بها فعلا، وبعد
تعلق الإرادة بها تتصف بأوصاف اخر لم تتصف بها قبل الحكم، مثل أن
تصير معلومة الحكم تارة ومشكوكة الحكم أخرى. فلو فرضنا - بعد
ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم - تحقق جهة المبغوضية
فيه، يصير مبغوضا بهذه الملاحظة لا محالة، ولا تزاحمها جهة المطلوبية
الملحوظة في ذاته، لان الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلا فعلا، لان
تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه
ملاحظته مع الحكم.
(فان قلت) العنوان المتأخر وان لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل
44

الذات، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر فعند
ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ فلا تعقل المبغوضية في
الرتبة الثانية مع محبوبية الذات.
(قلت) تصور ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الأولى مبنى على
قطع النظر عن الحكم، لأن المفروض كون الموضوع موضوعا للحكم،
فتصوره يلزم ان يكون مجردا عن الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك
الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد
عن الحكم ولحاظ ثبوته.
وبعبارة أخرى صلاة الجمعة - التي كانت متصورة في مرتبة
كونها موضوعة للوجوب الواقعي - لم تكن مقسما لمشكوك الحكم
ومعلومه، والتي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسما لهما، فتصور
ما كان موضوعا للحكم الواقعي والظاهري، معا يتوقف على تصور العنوان
على نحو لا ينقسم إلى القسمين وعلى نحو ينقسم إليهما. وهذا مستحيل في
لحاظ واحد (23).
فحينئذ نقول متى تصور الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها، تكون
مطلوبة، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوكة الحكم، تكون متعلقة لحكم
آخر. فافهم وتدبر، فإنه لا يخلو من دقة.
45

الوجه الثاني ما افاده طاب ثراه أيضا، وهو أن الأوامر الظاهرية
ليست بأوامر حقيقية، بل هي ارشاد إلى ما هو أقرب إلى الواقعيات.
وتوضيح ذلك - على نحو يصح في صورة انفتاح باب العلم، ولا يستلزم
48

تفويت الواقع من دون جهة - ان نقول إن انسداد باب العلم - كما أنه
قد يكون عقليا - كذلك قد يكون شرعيا، بمعنى أنه وإن أمكن للمكلف
تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل، لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات
أن في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة، فيجب بمقتضى الحكمة دفع هذا
الالتزام عنه، ثم بعد دفعه عنه، لو أحاله إلى نفسه، يعمل بكل ظن فعلى
من أي سبب حصل، فلو رأى الشارع - بعد أن آل امر المكلف إلى العمل
بالظن - أن سلوك بعض الطرق أقرب إلى الواقع من بعض آخر،
فلا محذور في ارشاده إليه. فحينئذ نقول اما اجتماع الضدين فغير
لازم (24)، لأنه مبنى على كون الأوامر الطريقية حكما مولويا. واما
الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، فليس بمحذور، بعد ما دار امر
المكلف بينه وبين الوقوع في مفسدة أعظم.
الوجه الثالث ان يقال ان بطلان ذلك مبنى على عدم جواز
اجتماع الأمر والنهي، لان المورد من مصاديق ذلك العنوان، فان الامر
تعلق بعنوان العمل بقول العادل مثلا، والنهى تعلق بعنوان آخر مثل
49

شرب الخمر، وحيث جوزنا الاجتماع وبيناه في محله، فلا اشكال هنا
أيضا.
لا يقال جواز اجتماع الأمر والنهي على تقدير القول به إنما يكون
فيما تكون هنا مندوحة للمكلف كالأمر بالصلاة والنهى عن الغصب،
لا فيما ليس له مندوحة. وما نحن فيه من قبيل الثاني، لان العمل بمضمون
خبر العادل (مثلا) يجب عليه معينا، حتى في مورد يكون مؤدى الخبر
وجوب شئ، مع كونه حراما في الواقع بخلاف الصلاة، لعدم وجوب
تمام افرادها معينا، بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد
المحرم، وعلى غيره.
لأنا نقول اعتبار المندوحة في تلك المسألة إنما كان من جهة عدم
لزوم التكليف بما لا يطاق، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لا يطاق، من
جهة عدم تنجز الواقع فلم يبق في البين الا قضية اجتماع الضدين
والمثلين وهو مدفوع بكفاية تعدد الجهة.
وفيه أن جعل الخبر طريقا إلى الواقع، معناه أن يكون الملحوظ في
عمل المكلف نفس العناوين الأولية (25) (مثلا) لو قام الدليل على
وجوب صلاة الجمعة في الواقع، فمعنى العمل على طبقه أن يأتي بها على
انها واجبة واقعا، فيرجع ايجاب العمل به إلى ايجاب الصلاة على أنها
واجبة واقعا فلو فرضنا كونها محرمة في الواقع يلزم كون الشئ الواحد
من جهة واحدة محرما وواجبا، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهي
التي قلنا بكفاية تعدد الجهة فيها. فافهم.
50

الامر الثاني تأسيس الأصل المعول عليه في المقام
اعلم أن الحجية عبارة عن كون الشئ بحيث تصح به المؤاخذة والاحتجاج، ولا ملازمة بين هذا المعنى وجواز التعبد (26) إذ من الممكن
تحقق هذا المعنى وعدم جواز التعبد به، كالظن في حال الانسداد، بناءا
على الحكومة. وهذا المعنى إن ثبت بالدليل، فلا اشكال فيه، وان شك فيه
فهل لواقعه اثر على تقدير ثبوته أم لا؟ بل يكون ما شك في حجيته مع ما
علم بعدم حجيته سواء، وان كانت حجة في الواقع.
والحق فيه التفصيل. وبيان ذلك أن للحجة اثرين:
(أحدهما) - اثبات الواقع وتنجيزه على تقدير الثبوت (ثانيهما) اسقاطه
كذلك (الأول) ما يكون قائما على حكم الزامي من الوجوب أو الحرمة،
وكان مطابقا للواقع، فإنه يصحح العقوبة على ذلك الحكم الواقعي.
(والثاني) ما يكون قائما على رفع الالزام في مورد، لولاه لكان مقتضى
53

العقل الاحتياط، كاطراف العلم الاجمالي.
(اما القسم الثاني) فلا ينفع الواقع المشكوك فيه قطعا مطلقا،
ضرورة أن من علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة عليه، فلم يأت بالظهر
مثلا، وكان هو الواجب واقعا، يصح ان يعاقب عليه وان كان الدليل
على عدم وجوبه موجودا في الواقع، بحيث لو اطلع عليه لكان حجة له على
المولى.
(واما القسم الأول) فتارة يفرض بعد الفحص وعدم الظفر،
وأخرى قبل ذلك، أما في الأول فالوجود الواقعي للدليل ليس له اثر في
حقه قطعا، إذ ليس الوجود الواقعي للحكم الطريقي أقوى من الوجود
الواقعي للحكم الأولى، فبعد الفحص وعدم الظفر بالحكم ولا بدليله،
يحكم العقل بالبراءة قطعا.
وأما في الثاني: فهو على قسمين (تارة) يكون بحيث لو تفحص عن
الدليل لظفر به. و (أخرى) لا يكون كذلك، فان قلنا بان الشك قبل
الفحص كنفسه يصحح العقوبة على الواقع على تقدير الثبوت في كلا
القسمين فوجود الدليل بحسب الواقع أيضا لا اثر له، لان المنجز فيما يكون
الدليل موجودا في الواقع أيضا نفس الشك، وان قلنا بان المصحح
للمؤاخذة ليس نفس الشك، بل وجود الدليل إن كان، بحيث لو تفحص
عنه لظفر به هو المصحح، فالشاك مردد امره بين ان يكون له دليل يصل
إليه بعد الفحص، فتصح عقوبته، أو لا يكون، فيقبح عقابه. ولما لم يكن
جازما بقبح العقاب، يجب عليه عقلا الاحتياط أو الفحص، فالوجود
الواقعي للدليل - لو كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به - يثمر في حقه،
لأنه به يؤاخذ ويعاقب على المخالفة.
54

فتحصل مما ذكرنا أن الطريق المشكوك بعد الفحص ليس بحجة
قطعا، لا اثباتا ولا اسقاطا، وقبل الفحص ليس بحجة اسقاطا مطلقا،
واثباتا ان قلنا بان الحجة نفس الشك قبل الفحص. وان لم نقل
بذلك، بل قلنا بان الحجة هو الدليل الذي لو تفحص عنه لظفر به، فما لم
يكن الدليل الواقعي كذلك، فهو غير حجة أيضا. وأما فيما إذا كان
الدليل الواقعي بحيث لو تفحص عنه لظفر به، فوجوده الواقعي حجة على
المكلف، وان كان مشكوكا فيه فعلا، فتدبر.
حجية الظاهر
الامر الثالث في الامارات الثابتة حجيتها بالدليل أو قيل إنها كذلك.
(فمنها) ما يعمل به في تشخيص مراد المتكلم بعد الفراغ عن
المدلول العرفي للفظ.
اعلم أن الإرادة على قسمين: (أحدهما) إرادة الشئ في اللب
ونفس الامر (وثانيهما) إرادة المعنى من اللفظ في مقام الاستعمال، وهما قد
تتفقان، كما إذا قال المتكلم أكرم العلماء وأراد من اللفظ انشاء وجوب
اكرام كل منهم، وكان في الواقع أيضا مريدا له. وقد تختلفان، كما أنه
في المثال لم يرد اكرام واحد منهم بالخصوص فحكمه - في مقام الإرادة
الاستعمالية على ذلك الفرد - حكم صوري، ولم يظهر الواقع لمصلحة في
اخفائه. والمقصود الأصلي في هذا المقام تشخيص الإرادة الاستعمالية، وما
أراد من اللفظ في مقام الاستعمال. وبعد هذا التشخيص تطبيق هذه
الإرادة على الإرادة الواقعية عند الشك بأصل آخر، غير ما يتكلم فيه في المقام.
55

إذا عرفت هذا فنقول إذا علمنا أن المتكلم كان في مقام تفهيم
المراد، وعلمنا انه مع الالتفات لم ينصب قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره،
نقطع بان مراده هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ، إذ لولا ذلك لزم الالتزام
بأنه تصدى لنقض غرضه عمدا. وهذا مستحيل. ولا يختص ذلك بمورد
يكون المتكلم حكيما، بل العاقل لا يعمل عملا يكون فيه نقض غرضه،
سواء كان حكيما أم لا. وهذا واضح. فمتى شككنا في أن المتكلم أراد
من اللفظ معناه الظاهر أو غير، فاما ان يكون الشك من جهة الشك في
كونه في مقام التفهيم، وإما من جهة الشك في وجود القرينة، وإما من
جهة كليهما.
فان كان منشأ الشك الشك في كونه في مقام تفهيم المراد، فلا اشكال
في أن الأصل المعول عليه عند تمام العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده.
وهذا الأصل لا شبهة لاحد منهم فيه، ولا ينافي ما ذكرنا، ما سبق في باب
الاطلاق: من أن كون المتكلم في مقام البيان لابد وان يحرز من الخارج،
وبدونه يعامل مع اللفظ معاملة الاهمال، لان الاطلاق امر زائد على مدلول
اللفظ. وما ذكرناه هنا - من الأصل المتفق عليه - إنما هو بالنسبة إلى
مدول اللفظ، فلا تغفل.
وان كان منشأه الشك في نصب القرينة، فهل لنا أصل يعتمد
عليه أم لا؟ وعلى الأول فهل الأصل المعول عليه هو أصالة عدم القرينة أو
أصالة الحقيقة؟ والثمرة بينهما تظهر فيما لو اقترن بالكلام ما يصلح لكونه
قرينة، فعلى الأول يوجب اجمال اللفظ لعدم جريان أصالة عدم القرينة
مع وجوده.
وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى ما يستفاد من الوضع، حتى يعلم خلافه.
ومبنى الاشكال في المقام هو أنه هل الطريق إلى إرادة المتكلم عند العقلاء
56

صدور ذات اللفظ الموضوع، أو هو مع قيد خلوه عن القرينة الصارفة؟ فعلى
الأول وجود القرينة من قبيل المعارض، على الثاني لعدمها دخل في
انعقاد الطريق على إرادة المعنى الظاهر، كما أنه لوجودها دخل في انعقاد
الطريق على إرادة المعنى الغير الظاهر.
إذا حفظت ذلك فاعلم أن اعتبار الظهور الثابت للكلام - وان
شك في احتفافه بالقرينة - مما لا اشكال فيه في الجملة كما تأتى الإشارة
إليه. وأما كون ذلك من جهة الاعتماد على أصالة الحقيقة - كي
لا يرفع اليد عنها حتى في صورة وجود ما يصلح للقرينية - فغير معلوم، وإن
كان قد يدعى أن بناء العقلاء على الجري على ما يقتضيه طبع الأشياء،
ما داموا شاكين في ثبوت ما أخرجها عن الطبيعة الأولية. ومن ذلك
بناؤهم على صحة الأشياء عند شكهم في الصحة والفساد، لان مقتضى
طبع كل شئ ان يوجد صحيحا، والفساد يجئ من قبل امر خارج
عنه. ولعله من هذا القبيل القاعدة المسلمة عندهم: (كل دم يمكن ان
يكون حيضا فهو حيض) فان مقتضى طبع المرأة ان يكون الدم الخارج
منها دم حيض، وغيره خارج عن مقتضى الطبع.
وعلى هذا نقول ان مقتضى طبع اللفظ الموضوع أن يستعمل في
معناه الموضوع له، لان الحكمة في الوضع تمكن الناس من أداء مراداتهم
بواسطة الألفاظ، فاستعماله في غيره انما جاء من قبل الامر الخارج عن
مقتضى الطبع، لكن الانصاف أن هذا البناء من العقلاء انما يسلم في
مورد لم تحرز فيه كثرة الوقوع على خلاف الطبع واستعمال الألفاظ في
معانيها المجازية - ان لم نقل بكونه أكثر من استعمالها في المعاني الحقيقية
بمراتب - فلا أقل من التساوي، فلم يبق الطبع الأولى بحيث يصح
الاعتماد عليه.
57

هذا وكيف كان فالمتيقن من الحجية هو الظهور المنعقد للكلام،
خاليا عما يصلح لان يكون صارفا. ولا يناط بالظن الفعلي بالخلاف، ولا
تختص حجيته بمن قصد افهامه، بل هو حجة على من ليس مقصودا
بالخطاب أيضا، بعد كونه موردا للتكليف المستفاد من اللفظ.
والدليل على ذلك كله بناء العقلاء، وامضاء الشارع. أما الأول
فلشهادة الفطرة السليمة عليه، فلو علم العبد بقول المولى أكرم كل عالم في
هذا البلد، واحتمل عدم ارادته معناه الظاهر، إما من جهة احتمال
التورية وعدم كونه في مقام افهام المراد، وإما من جهة احتمال كون
الكلام مشتملا على القرينة على خلاف الظاهر، وخفيت عليه، أو ظن
أحد الامرين من سبب غير حجة عند تمام العقلاء، وفرضنا عدم تمكنه
من الفحص عما يوجب صرف الكلام المذكور عن ظاهره، فهل يصح له
ان لا يأتي بمفاد اللفظ المذكور، معتذرا باني لم أتيقن ان المولى كان
بمعرض تفهيم المراد، أو بعدم اشتمال الكلام على القرينة صارفة،
بل كان وجودها عندي محتملا أو فهل يصح للمولى - لو اتى العبد مفاد
الكلام المذكور في الفرض الذي فرضنا - أن يعاتبه أو يعاقبه إن كان ما اتى
به مبغوضا له واقعا؟ فان رأينا من أنفسنا انقطاع عذر العبد - في المثال
المذكور في صورة عدم الاتيان، وصحة احتجاج المولى عليه عند العقلاء،
وانقطاع عذر المولى في صورة الاتيان، وصحة احتجاج العبد عليه عندهم،
كما هو الواضح بأدنى ملاحظة والتفات - كان هذا معنى الحجية عندهم،
إذ لا نعنى بحجية ظواهر الألفاظ كونها كالعلم في ادراك الواقعيات، حتى
يشكل علينا بان الاخذ بأحد طرفي الشك في ما كان المراد مشكوكا، أو
الاخذ بطرف الوهم فيما كان موهوما كيف يكون كالعلم عند العقلاء؟
وكذا الكلام فيما لو قطع بكلام للمولى خاطب به غيره، مع كونه
58

موردا للتكليف المشتمل عليه ذلك الكلام مع بذل جهده فيما يوجب
صرف الكلام عن مقتضى ظاهره، فإنه بعد مراجعة العقلاء يقطع بانقطاع
العذر بين العبد والمولى بذلك الكلام، وان كان العبد غير مقصود
بالخطاب اللفظي.
هذا واما الثاني أعني امضاء الشارع لهذه الطريقة، فلان الطريقة
المرتكزة في جبلة العقلاء لو لم يرض بها الشارع لكان عليه الردع ولم
يصدر منه ما يصلح لكونه رادعا الا الآيات الناهية عن العمل بغير العلم،
وهي غير قابلة للردع عن العمل بالظواهر، لعدم حجية مدلولها بالنسبة إليه
قطعا، لان الظواهر إما أنها ليست بحجة أصلا، وإما انها حجة، فعلى
الأول ظواهر الآيات أيضا ليست بحجة. لأنها منها، وعلى الثاني تخصيصها
بها معلوم، فلا تغفل.
بقى الكلام في خصوص ظواهر الكتاب المجيد التي ادعى أصحابنا
الأخباريون عدم حجيتها. والذي يمكن أن يكون مستندا لهم أمور:
(الأول) الاخبار المدعى ظهورها في المنع عن العمل بظواهر
الكتاب المجيد.
(الثاني) العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه، كما يظهر من
الأخبار الكثيرة أيضا.
(الثالث) العلم الاجمالي بورود التخصيص والتقييد في عموماته
ومطلقاته، ووقوع الاستعمالات المجازية فيه.
(الرابع) وجود المتشابه في الكتاب، وعدم العلم بشخصه
ومقداره والنهى عن اتباعه. ولا يصلح شئ من الأمور المذكورة المنع.
أما الاخبار فلأنها على طوايف (منها) ما يدل على المنع عن
التفسير بالرأي. و (منها) ما يدل على المنع عن مطلق التفسير و (منها) ما
59

يدل على المنع عن الافتاء بالكتاب معللا بعدم وجود علمه إلا عند أهله.
ولا ريب في أن الأوليين لا تمنعان عن العمل بالظواهر، فان من
عمل من أهل اللسان بعام صادر من مولاه، لا يقال انه فسر كلام مولاه،
فضلا عن صدق التفسير بالرأي عليه.
وأما الثالثة فإنه من المحتمل قويا كون المنع مختصا بمثل أبي حنيفة
وأمثاله الذين كانوا يعملون بظواهر الكتاب، من دون مراجعة من
عندهم علمه. ولا اشكال عندنا في أن هذا النحو من العمل بظواهر
الكتاب غير جائز.
(فان قلت) ان الظاهر من قوله (عليه السلام) - في مقام
الاعتراض على أبي حنيفة: (تعرف كتاب الله حق معرفته..؟) - ان
المفتى بظواهر القرآن يجب ان يعرف القرآن حق معرفته، والا لا يجوز له
الفتوى بها.
(قلت) ليس في الخبر ما يدل على عدم جواز الافتاء بظواهر
القرآن مطلقا بل المتيقن من مدلوله ان من اكتفى في مدارك فتاواه
بالقرآن المجيد وأعرض عن مراجعة كلمات العترة عليهم السلام - كما
كان ذلك ديدن أبي حنيفة وأمثاله - لا يجوز له ذلك، إلا بعد العلم
بحقيقة القرآن. ولما لم يكن هذا العلم عند أحد الا العترة الطاهرة، فلا يجوز
لغيرهم الاكتفاء بالقرآن، فلا يدل الخبر على المنع عن العمل بظواهر
الآيات في حق الخاصة الذين ديدنهم الفحص ومراجعة كلمات أئمتهم
عليهم السلام ثم العمل بظواهر الآيات بعد عدم الظفر بما يوجب صرفها
عن ظاهرها، كما لا يخفى.
واما العلم الاجمالي بوقوع التحريف - بعد تسليمه - فيمكن ان
يقال إنه في غير آيات الاحكام من الموارد التي يكون التحريف فيها مطابقا
60

لأغراضهم الفاسدة.
وثانيا لو سلمنا عدم اختصاص العلم الاجمالي بغيرها، فغاية الامر
صيرورتها من أطراف العلم الاجمالي، إذ لا يمكن دعوى العلم الاجمالي في
خصوصها قطعا. وحينئذ نقول لا تأثير لهذا العلم الاجمالي بخروج بعض
أطرافه عن محل الابتلاء.
(فان قلت) خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء انما يمنع عن
تأثير العلم الاجمالي في العمل بالأصول. وأما الظواهر فالعلم الاجمالي قادح
للعمل بها مطلقا، ولو كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء. والسر
في ذلك أن الملاك في العمل بالأصول هو الشك، فيعمل بها عنده، إلا
أن يكون هناك مانع عقلي، وليس الا فيما يكون العلم الاجمالي بثبوت
تكليف فعلى، بحيث يلزم من العمل بالأصول في الأطراف المخالفة
القطعية. وفيما خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لم يكن التكليف
الفعلي معلوما فلا مانع من العمل بالأصول. وأما الاخذ بالظواهر فملاكه
الطريقية إلى الواقع المعلوم انتفاؤها عند العلم الاجمالي مطلقا.
(قلت) بناء العقلاء - في العمل بالظاهر المستقر على عدم الاعتناء
بالعلم الاجمالي بمخالفة ظاهر - يحتمل ان يكون هو هذا العمل الظاهر
الذي هو محل الابتلاء أو غيره مما لا يكون محلا للابتلاء (27). أترى ان
61

أحدا من العقلاء يتوقف عن العمل بالظاهر الصادر من مولاه بمجرد
العلم الاجمالي بمخالفة ظاهر مردد بين كونه ما صدر من مولاه وكونه ما
صدر مولى آخر لعبده؟
واما العلم الاجمالي بورود المخصصات والمقيدات على عمومات
الكتاب ومطلقاته، فالجواب عنه أنه إن ادعى العلم الاجمالي فيما بأيدينا
من الامارات، فهو مانع عن العمل بالظواهر قبل الفحص. واما بعده
فيعلم بخروج المورد من الأطراف. وإن ادعى ذلك في الواقع، فهو مانع
عن العمل قبل الظفر بالمخصص والمقيد بالمقدار المعلوم بالاجمال. إما علما
وإما من الطرق المعلوم حجيتها، إذ بعد الظفر كذلك ينحل العلم الاجمالي
إلى العلم التفصيلي والشك البدوي، كما هو واضح.
(واما) كون القرآن مشتملا على المتشابه فالجواب عنه أن المتشابه
لا يصدق على ماله ظاهر عرفا، ولو فرض الشك في شموله للظواهر،
فلا يجدى النهى المتعلق بعنوان المتشابه، لان القدر المتيقن من مورده هو
المجملات، فلا يصير دليلا على المنع في الظواهر.
فتلخص مما ذكرنا عدم دليل يقتضى خروج ظواهر الكتاب عن
الحجية، فهي على حد غيرها باقية تحت قاعدة الحجية المستفادة من بناء
العقلاء وامضاء الشارع، فلا تحتاج إلى الاخبار التي يدعى ظهورها في
حجية ظواهر الكتاب، مع كون كلها أو جلها مخدوشا. هذا تمام الكلام
في اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن تشخيص نفس الظاهر.
واما تشخيص الظاهر والمتفاهم من معنى اللفظ فمحصل الكلام
فيه أن الظن في تشخيص الظواهر إما ان يحصل من قول اللغوي واما من
احراز مورد الاستعمال بضميمة أصالة عدم القرينة وكل منهما لا دليل
على حجيته.
62

أما الأول فلان غاية ما يستدل به عليه وجهان (أحدهما) كونه
خبرة، وبناء العقلاء على الرجوع إلى أصحاب الصناعات البارزين في
فنهم فيما يخص صناعتهم (ثانيهما) ان استنباط الاحكام من الأدلة واجب
على المجتهد، ولا يمكن الا بالرجوع إلى قول اللغوي في تشخيص معاني
الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة. والدليل الثاني لو تم لدل على حجية
كل ظن، ولا اختصاص له بقول اللغوي. وكيف كان فلا يتم كل من
الوجهين.
(اما الأول) فلعدم كون أهل اللغة خبرة فيما هو المقصود، لان
المقصود فهم المعاني الحقيقية للألفاظ وتشخيصها عن المعاني المجازية،
وليس وظيفة اللغوي الا بيان موارد الاستعمال. وأما كون المعنى الكذائي
حقيقيا، فلا يطلع عليه، وإن اطلع عليه بواسطة بعض الامارات، فليس
من هذه الجهة من أهل الخبرة.
والحاصل أن المنع من جهة تحقق الصغرى. وأما الكبرى أعني
بناء العقلاء على الرجوع إلى أرباب الصناعات في صنعتهم، فالانصاف
أنها لا تخلو عن قوة (28).
(واما الوجه الثاني) فان كان المقصود أنه لو لم يرجع إلى الظن
63

الحاصل من قول اللغوي، لا نسد باب الامتثال للأحكام الواقعية المعلومة
اجمالا، فهو راجع إلى دليل الانسداد. وهذا يكون ممنوعا على تقدير،
وخارجا عن محل الكلام على تقدير آخر لأن المدعى إن كان ممن يسلم
حجية قول الثقة، وبهذا يحرز صدور تلك الأخبار المنقولة من الثقات،
فلا اشكال في أنه ليس له دعوى العلم الاجمالي بوجود الاحكام، لان
معاني ألفاظ الاخبار - التي تكون حجة بالفرض - معلومة غالبا، فلم يبق
له بعد ذلك علم اجمالي، بل ينحل إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.
وإن كان ممن لا يسلم ذلك، فيصح منه دعوى العلم الاجمالي، لكن نتيجة
تلك الدعوى - مع انضمام باقي المقدمات المذكورة في دليل الانسداد -
كون الظن الحاصل من قول اللغوي من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها
بدليل الانسداد وهذا خارج عن محل البحث. ولا ربط له بالمدعى،
لأنا في مقام اثبات حجيته بالخصوص، حتى يكون من الظنون الخاصة
كحجية ظواهر الألفاظ.
وإن كان المقصود حجيته مع قطع النظر عن الاحكام المعلومة
اجمالا، فوجوب اجتهاد المجتهد لا يقتضى وجوب العمل بالظن المذكور،
لان القاعدة تقتضي - في مورد عدم العمل بالحكم الواقعي وعدم دليل
خاص يرجع إليه - الرجوع إلى الأصول العملية في ذلك المورد.
ومما ذكرنا ظهر ان التمسك بالاحتياج إلى قول اللغوي لا يثمر
ابدا في المقام، لان مع ملاحظة دليل الانسداد خارج عما نحن فيه. ومع
قطع النظر عنه لا يحتاج إلى الاخذ بقوله.
هذا مضافا إلى ما عرفت من أن قول اللغوي لا تنحل به عقدة ما
يهمنا، وهو تشخيص حقايق المعاني من مجازاتها. هذا في الظن الحاصل من
قول اللغوي.
64

وأما أصالة عدم القرينة، فالقدر المتيقن من بناء العقلاء على
حجيتها إنما هو في مورد أحرز المعنى الحقيقي للفظ، وشك في إرادة المتكلم
إياه (29). وأما لو أحرز المراد، وشك في كون المراد معنى حقيقيا للفظ
أو مجازيا، فلا نسلم بناءهم على كونه معنى حقيقيا له، بملاحظة الاستعمال
وأصالة عدم القرينة. ولهذا اشتهر - بين العلماء في قبال السيد القائل
بأصالة الحقيقة - ان الاستعمال أعم من الحقيقة.
ولعل نظير ذلك ما لو ورد عام، وعلم بعدم كون الفرد الخاص
موردا لحكم ذلك العام، ولكن شك في أنه هل هو داخل في عنوان
65

العام حتى يكون خروجه تخصيصا في العام، أو خارج عنه حتى يكون
عدم كونه موردا لحكم العام من باب التخصص فإنه يمكن أن يقال في
ذلك عدم معلومية بناء العقلاء على أصالة عدم التخصيص، لاستكشاف
حال عنوان ذلك الفرد، بعد القطع بعدم كونه مشمولا للحكم.
ويمكن الفرق بين المثال وما نحن فيه: بأنه في المثال يرجع
الشك إلى الشك في المراد من اللفظ وان كان حكم هذا الفرد
- الخارجي الذي لا يعلم دخوله في أي عنوان - مقطوعا به، وأصالة عدم
القرينة فيه يترتب عليها تشخيص المراد، بخلاف ما نحن فيه، فان
المفروض عدم الشك في المراد من اللفظ. هذا.
الامر الرابع - الاجماع المنقول
ومنها - الاجماع المنقول بخبر الواحد. وتحقيق المقام يبتنى على
بيان أمور:
(الأول) - ان الاجماع في مصطلح العامة عرف بتعاريف، فعن
الغزالي (أنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على امر من الأمور
الدينية) وعن الفخر الرازي (أنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد
صلى الله عليه وآله على امر من الأمور) والمراد من أهل الحل والعقد
- على ما نبه عليه غير واحد منهم - المجتهدون. وعن الحاجبي (انه اجتماع
المجتهدين من هذه الأمة في عصر على امر) وأما أصحابنا فقد أوردوا له
حدودا كلها متحدة أو متقاربة معه، فعرفه العلامة بما ذكره، الفخر الرازي،
وعرفه بعضهم بأنه اجتماع رؤساء الدين من هذه الأمة في عصر على امر.
والحاصل أنه من المعلوم أنه ليس لأصحابنا رضوان الله عليهم
66

اصطلاح جديد في الاجماع وانما جروا فيه على ما جرت عليه العامة. نعم
قد يتسامح في اطلاق الاجماع على اتفاق طائفة خاصة يعلم منه قول الإمام
عليه السلام، لوجود ملاك الحجية وهو قول الإمام عليه السلام، وعدم
الاعتناء بمخالفة غيره.
(الثاني) - ان مستند حجية الاجماع أمور ثلاثة:
(أحدها) - دخول شخص الإمام عليه السلام في جملة المجمعين،
ضرورة أنه لو اتفق هذا النحو من الاتفاق - أعني اتفاق أهل العصر أو
اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله، أو اتفاق العلماء منهم، أو أهل الحل
والعقد منهم، أو الرؤساء منهم - كان الإمام عليه السلام أحد هؤلاء
قطعا، لعدم خلو عصر من وجوده
(ثانيها) - ما ذهب إليه شيخ الطائفة من قاعدة اللطف.
وحاصله أنه إذا اجتمع المجتهدون في عصر على حكم من الأحكام الشرعية
، قطع بمطابقته للواقع إذ لولا ذلك للزم على الإمام عليه السلام
اظهار المخالفة من باب اللطف وحيث لم يظهر المخالفة نقطع باتحاد رأيه
مع رأى العلماء.
(ثالثها) - ما ذهب إليه المتأخرون من الحدس. وحاصله أن
اتفاق علمائنا الاعلام - الذين ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الاحكام،
وطريقتهم التحرز عن القول بالرأي والأوهام مع، ما يرى من اختلاف
انظارهم - مما قد يؤدى بمقتضى العقل والفطرة السليمة إلى العلم بأن
ذلك قول أئمتهم ومذهب رؤسائهم. ولا اختصاص لهذه الطريقة
باستكشاف قول المعصوم عليه السلام، بل قد يستكشف بها رأى سائر
الرؤساء المتبوعين. مثلا إذا رأيت جميع خدمة السلطان الدين لا يصدرون
إلا عن رأيه اتفقوا على اكرام شخص خاص، يستكشف من هذا الاتفاق
67

أن هذا إنما هو من توصية السلطان.
(الثالث) - أن الطريق الأول مما لا يمكن تحصيله في عصر الغيبة،
لأنه مبنى على استقصاء آراء أشخاص يكون هو عليه السلام منهم، ولا
يعرف شخصه تفصيلا. ومن المعلوم عدم الاتفاق لاحد في هذه الاعصار.
والطريق الثاني ليس صحيحا، لعدم تمامية البرهان الذي أقيم عليه، فإنه
- بعد غيبة الامام بتقصير منا - كل ما يفوتنا من الانتفاع بوجوده
الشريف، وبما يكون عنده من الاحكام الواقعية، قد فاتنا من قبل نفسنا،
فلا يجب عليه عقلا أن يظهر المخالفة عند اتفاق العلماء إذا كان اتفاقهم
على خلاف حكم الله الواقعي، فانحصر الامر في الطريق الثالث (30).
إذا عرفت هذا فنقول انه لو نقل الاجماع ناقل فهذا النقل لا يخلو
من وجوه:
(أحدها) - أن ينقل اتفاق جماعة يلازم قول الإمام عند المنقول
إليه.
(ثانيها) - ان ينقل اتفاق جماعة ليس كذلك عنده قطعا، وهذا
على قسمين (أحدهما) أنه حصل للمنقول إليه بعض الامارات أو
الفتاوى، بحيث حصل له - من مجموع ما عنده وما نقله الناقل على تقدير
68

صدقه - العلم بقول الإمام عليه السلام (ثانيهما) انه ليس عنده شئ آخر
يحصل العم بانضمامه إلى المنقول.
(ثالثها) - ان ينقل الاجماع، ولا يعلم أن هذا الناقل حصل قول الإمام
عليه السلام بطريق ملازم له عندنا أيضا أو بغير ذلك الطريق.
لا ينبغي الاشكال في حجية نقل الاجماع ان كان على الوجه
الأول بالنسبة إلى الكاشف والى المنكشف، بناءا على حجية خبر الواحد.
اما بالنسبة إلى الكاشف، فلانه اخبار عن امر محسوس. فيأخذ هذا الامر
المحسوس المخبر به تعبدا، ويستكشف منه لازمه. واما بالنسبة إلى
المنكشف فلانه، وان لم يكن من الامر المحسوس ولكن لما كان طريق
الاطلاع عليه هو المحسوس يلحق به، نظير الاخبار بالعدالة، فإنه يقبل من
المخبر لاستكشافها من لوازمها المحسوسة.
وكذا لا ينبغي الاشكال في حجيته على الأول من شقي الوجه الثاني
بالنسبة إلى الكاشف، وجعل مقدار ما أخبر به العادل بمنزلة المحصل
واستكشاف الواقع بضميمة ما عنده من الامارات، كما لا ينبغي
الاشكال في عدم حجيته على الثاني من شقي الوجه الثاني، لان العلم
بتحقق هذا القدر لا يستلزم العلم بالواقع. ولا اشكال في أن التعبد بخير
الواحد لا يفيدنا أزيد من العلم.
وأما إذا نقل الاجماع على الوجه الثالث، فهل لنا دليل على
حجيته أم لا؟ وما يمكن أن يستدل به عليه مفهوم آية النبأ بناءا على
ثبوت المفهوم (31).
69

وحاصل تقريب الدلالة انها تدل بمفهومها على حجية اخبار
العادل مطلقا، سواء كان عن حس أو عن حدس، غاية الامر أنه خرج ما
علم كونه عن حدس غير قريب من الحس وبقى الباقي. أو يقال بان
الخارج وإن كان الاخبار عن الحدس البعيد عن الحس واقعا، لكن لما
كان المخصص منفصلا، بعد استقرار ظهور العام في وجوب العمل بكل ما
يخبر به العادل، سواء كان عن حدس أو عن حس، فاللازم التمسك بحكم
العام فيما لم يعلم دخوله تحت عنوان المخصص.
هذا وفيه منع المفهوم للآية كما ستعرف ومنع ظهوره في الأعم من
الاخبار عن حدس بعيد عن الحس، فان مقتضى التعليل في ذيل الآية هو
وجوب الاعتناء باحتمال الندم المستند إلى فسق المخبر. ومن المعلوم أنه
ليس الا من جهة قوة احتمال تعمده الكذب، بخلاف العادل. وكذا
منع كون الخارج من تحته ما يعلم أنه عن حدس بعيد، ومنع جواز
التمسك بعموم العام في صورة الشك في وجود المخصص الذي علم عنوانه
مفصلا. نعم يجوز التمسك في المخصص المنفصل لو كان مجملا مرددا بين
الأقل والأكثر، مع اشكال فيه أيضا مر بيانه في بحث العام والخاص.
ويمكن ان يقال في تقريب حجية الاجماع المنقول: ان جهة
الشك - في عدم مطابقته للواقع - تنحصر في أمور:
(أحدها) - احتمال تعمده الكذب.
(ثانيها) - احتمال خطأه في الحدس والخطأ الذي يحتمل في
70

حقه إما من جهة استكشاف فتوى جماعة أخبر بفتواهم، كما إذا استكشف
فتوى جماعة في مسألة فرعية، من جهة اتفاقهم على الأصل الذي ينطبق
عليها بمقتضى اجتهاد الناقل. وإمام جهة الكشف عن رأى الإمام عليه السلام
، بواسطة قول جماعة لا ينبغي عادة حصول العلم بقولهم، فان
كان الشك من جهة الامر الأول فأدلة حجية خبر العادل - وان قلنا
باختصاص مفادها في الغاء احتمال الكذب - ترفع هذا الشك، وإن
كان من جهة الامر الثاني، فالظاهر - من قول الناقل ان المسألة اجماعية -
تحصيل الاجماع في خصوص تلك المسألة، وحجية هذا الظاهر ترفع ذلك
الشك. من جهة انه استكشف رأى الإمام عليه السلام من سبب غير
عادى، فظاهر حاله يرفع هذا الشك.
نعم لو تبين منه في موارد أن دعواه الاجماع كانت مستندة إلى
الاجماع على القاعدة، أو مستندة إلى اتفاق جماعة ليس اتفاقهم سببا عاديا
لاستكشاف رأى الإمام عليه السلام، فلا يجوز الركون إلى نقله. وأما ما لم
يعلم حاله فأدلة حجية قول العادل - بضميمة ظاهر لفظه وظاهر حاله -
تنتج وجوب الاخذ بالاجماع الذي نقله.
وفيه - بعد تسليم بقاء ظهور كلام ناقل الاجماع في الاتفاق على
الفرع - أنه لا يبعد حصول العلم للناقل بواسطة اتفاق جماعة وعدم حصوله
لنا، ولا يلزم في الصورة المفروضة أن يكون حصول علمه بسبب غير عادى،
حتى يكون على خلاف مقتضى الأصل العقلائي، لامكان ان يكون ذلك
منه من جهة حسن ظنه بتلك الطائفة لم يكن ذلك الظن الحسن للمنقول إليه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم الدليل على حجية الاجماع المنقول بالخصوص
إلا إذا كان الاجماع المنقول بحيث لو اطلعنا عليه علما، حصل لنا العلم،
أو كان بحيث لو ضممنا إليه الامارات الموجودة عندنا حصل لنا العلم.
71

(تتميم) قد يقال: بناءا على أن مفهوم الآية ليس متعرضة الا لحيثية الغاء
احتمال تعمد الكذب لا ينفعنا في الاخذ بخبر العادل، حتى في
المحسوسات، إذا احتملنا كون الحجية الفعلية منوطة بشرط آخر، إذ هي
على التقدير المذكور ليست متعرضة للحجية الفعلية، حتى يدفع ذلك
الشرط المحتمل باطلاقها.
والجواب أنه - بعد الفراغ عن احتمال تعمد الكذب - ليس
المانع من حمل مفاد قول القائل على الواقع إلا احتمال الخطأ في الحس،
ومقتضى الأصل عند العقلاء عدمه، فإذا انضم ذلك الحكم المستفاد من
الشرع إلى تلك القاعدة المتفق عليها عند العقلاء يعقل بقاء التحير. نعم
يمكن عدم كون الخبر - بعد فرض الغاء احتمال الكذب - حجة فعلية الا
مع شرط زائد كالتعدد ونحوه، لكن إن ثبت ذلك بالدليل يرجع إلى عدم
امضاء الشارع ذلك الأصل المحفوظ عند العقلاء، إلا مع وجود ذلك
الشرط. وما لم يدل دليل على ذلك، فمقتضى القاعدة العمل بالأصل
المرتكز في أذهان العقلاء.
ومن هنا يظهر ان عدم قبول شهادة الفاسق - حتى مع العلم
بعدم تعمده الكذب - ليس منافيا لما ادعينا إذا اشتراط العدالة في
الشهادة ثبت من الشرع، لا من جهة احتمال تعمد الكذب في الفاسق.
وبعد ثبوت ذلك يستكشف عدم امضاء الشارع ذلك الأصل العقلائي في
مورد شهادة الفاسق.
ويمكن ان يقال أيضا بأن مانعية الفسق في باب الشهادة أو
اشتراط العدالة ليست راجعة إلى عدم امضاء الأصل المذكور، فلو شهد
الفاسق وعلم بعدم تعمده الكذب، عملنا بالأصل المذكور في إحراز
72

الواقع لكن الموضوع لحكم الواقع في باب دفع الخصومات ليس مجرد
احراز الواقع بأي طريق، بل هو خصوص البينة العادلة، فلا تنافى بين
احراز الواقع وعدم جواز الحكم على طبقه. فليتدبر.
التواتر المنقول
ومما قلنا في الاجماع المنقول يظهر الكلام في التواتر المنقول، إن
أردنا اثبات الواقع الذي ادعى الناقل تواتر الاخبار عليه.
وأما إن أردنا ترتيب آثار نفس التواتر، فان كان الأثر مرتبا على
التواتر في الجملة - ولو عند واحد - اخذ به بلا اشكال، لان احتمال
عدم تحقق التواتر عنده ملغى بحكم الأدلة الدالة على وجوب الغاء
احتمال الكذب عمدا. وان كان مرتبا على التواتر عند المنقل إليه لم
يؤخذ به. وان كان المنقول اخبار عدة لو اطلع عليه المنقول إليه تحقق له
العلم، لأن المفروض عدم تحقق العلم للمنقول إليه بواسطة اخبار تلك
العدة، فالتواتر عنده منتف قطعا.
وبعبارة أخرى حصول العلم باخبار جماعة ليس كالأمور الواقعية
حتى يثبت باخبار العدال ككرية الماء وقلته وأمثال ذلك، بل يختلف
باختلاف الموارد والأشخاص (32) فمن حصل له العلم باخبار جماعة،
73

تحقق له التواتر واقعا، دون من لم يحصل له العلم. وحينئذ فاخبار العادل
بتحقق التواتر لما لم يوجب حصول العلم فعلا للمنقول إليه، لم يتحقق له
موضوع الحكم وهو التواتر عنده.
الامر الخامس - الشهرة
ومن الظنون التي ادعى حجيتها بالخصوص الظن الحاصل من
فتوى المشهور. وما يمكن ان يستدل به عليها أمران:
(أحدهما) الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد إما بدلالتها على
ذلك لمفهوم الموافقة، كما قد يتوهم بدعوى ظهورها في أن اعتباره ليس من
باب الخصوصية بل، هو من باب الكشف عن الواقع، فتدل على اعتبار ما
كان كشفه أتم منه. وإما من جهة تنقيح المناط بعد استفادته من تلك
الأدلة.
والخدشة في كليهما واضحة (أما الأول) فلان ما يكون من باب
مفهوم الموافقة يعتبر فيه دلالة اللفظ عليه عرفا، بحيث يكون مسوقا لإفادة
المفهوم، كدلالة قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف) على حرمة الضرب، لان
المعلوم من هذه القضية أنها سيقت لإفادة حرمة الايذاء. وإنما ذكر الفرد
الخفي فيها لإفادة أن الايذاء بأي مرتبة كان محرم. ولا اشكال في أن
74

العرف لا يفهم القضية الدالة على حجية خبر الواحد أنها سيقت لبيان
اعتبار مطلق الظن.
و (اما الثاني) فلانه إن أراد تنقيح المناط الظني فلا يفيد، لعدم
الدليل على اعتبار هذا الظن. وإن أراد تنقيح المناط القطعي فانى لاحد
القطع بذلك، فان ظهور الأدلة في كون اعتبار الخبر من باب الطريقية
مسلم ولكن ليست الطريقية عبارة عن مجرد حصول الظن، بل هي
مطابقة المورد غالبا للواقع، بحيث يكون مواقع التخلف في غاية الندرة. وما
لم يكن كذلك - ولو احتمالا - لا يحصل لنا القطع بتحقق المناط،
فلا يجوز لنا الحكم باعتبار كل ظن حصل لنا، بمجرد جعل الشارع خبر
العادل حجة، وإن كان ذلك الظن أقوى من الظن الحاصل من الخبر،
لامكان التخلف في الكل أو الغالب. ولو فرضنا العلم بمطابقته غالبا،
فلا نعلم حصول تلك المرتبة من الغلبة التي رآها الشارع في الخبر. هذا.
(ثانيهما) بعض الأخبار الواردة - في تعارض الخبرين - الدالة
على الاخذ بالشهرة، كقوله عليه السلام: - خذ بما اشتهر بين أصحابك
بدعوى أن المورد وإن كان مما تعارض فيه الخبر ان، لكن العبرة بعموم
الجواب لا بخصوص المورد.
وفيه ان الموصل عبارة عن الخبر لاكل شئ وهو واضح. وإن
سلمنا عمومه، فالاشتهار عبارة عن الوضوح لا الشهرة في الاصطلاح. وإن
سلمنا فغاية الامر كون الشهرة مرجحة، ولا تلازم بين المرجحية والحجية
مستقلة.
75

الامر السادس - خبر الواحد
ومما قام الدليل على اعتباره بالخصوص في الجملة خبر الواحد.
واعلم أن اثبات الحكم الشرعي بالألفاظ المنقولة عن المعصومين عليهم
السلام - بعد الفراغ عن أمور متعلقة بعلم الكلام - يتوقف على أمور أربعة:
(أحدها) - احراز ان هذه الألفاظ صادرة عنهم عليهم السلام،
(ثانيها) - إحراز أن صدورها إنما كان لأجل إفادة الحكم الواقعي،
لا للخوف والتقية أو مصالح اخر اقتضت اظهار الحكم على خلاف ما هو
ثابت في الواقع.
(ثالثها) احراز ظواهر الألفاظ وتشخيص ما هو المتفاهم منها عرفا.
(رابعها) - إحراز أن الظواهر منها مرادة للمتكلم. وهذا البحث
انعقد للأول من هذه الأمور، والثلاثة الأخيرة بين ما يكون مفروغا عنه
وما يكون محلا للنظر.
ثم لا يخفى ان موضوع النزاع في هذا المبحث ليس الا خبر
الواحد، إذ ليس النزاع هنا الا في حجيته وعدمها، فلا وجه لجعل
الموضوع هو السنة الواقعية، وجعل النزاع في ثبوته خبر الواحد، تحفظا
لموضوع علم الأصول، لان الالتزام - بكون الموضوع في هذا العلم هو الأدلة
الأربعة - ليس له ملزم. وقد أشبعنا الكلام في ميزان علم الأصول
والفقه في أول الكتاب (33).
76

وكيف كان فاستدل المانع بالآيات الناهية عن العمل بغير
علم (34). ومنها التعليل المذكور في ذيل آية النبأ والروايات الدالة على
عدم قبول الخبر المخالف للكتاب، ورد ما لم يوافقه، وأنه باطل زخرف،
والاجماع المحكي عن السيد، بل المحكى عنه أنه بمنزلة القياس في كون
تركه معروفا لدى الأصحاب.
(والجواب) أما عن الآيات، فبأنها - بعد تسليم دلالتها -
عمومات قابلة للتخصيص، وبعد دلالة الدليل على حجية الخبر تخصص
به، بل الدليل الدال على حجية الخبر حاكم على تلك العمومات، لان
لسان تلك الأدلة جعل مفاد الخبر بمنزلة الواقع. (واما) عن التعليل
المذكور في آية النبأ، فيأتي عند ذكرها انشاء الله تعالى (واما) عن الاخبار
فبأنها بين طوائف:
(منها) - ما يدل على عدم جواز العمل بخبر الواحد عند
التعارض، وهذه الطائفة - مع أنها اخبار آحاد لا يجوز التمسك بها، لعدم
حجية خبر الواحد - لا تثبت المنع عن العمل مطلقا.
(ومنها) - ما يدل على وجوب العرض على الكتاب، وهو بين
طائفتين (إحداهما) - ما يدل على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب
(ثانيتهما) - ما يدل على طرح الخبر الذي لا يوافق الكتاب.
وهذه الأخبار وإن حصل منها التواتر في الجملة، لكن لا يثبت بها
77

الا وجوب طرح ما يخالف الكتاب، ولا تدل على السلب الكلى. أما
بناءا على أن المراد من عدم الموافقة خصوص المخالفة - كما هو الظاهر من
هذا اللفظ عرفا - فواضح. وأما على ظهوره في الأعم - كما هو مدلوله
اللغوي - فلعدم ثبوت التواتر في خصوص الطائفة المشتملة على طرح غير
الموافق منها، بل التواتر المدعى هنا هو التواتر الاجمالي بمعنى العلم بصدور
البعض في مجموع الطائفتين، فاللازم الاخذ بالأخص مضمونا، لأنه المتيقن
على أي حال.
ثم إن المراد بالمخالفة لا يجوز ان يكون على نحو العموم والخصوص
والاطلاق والتقييد لشيوع مثل هذه في الاخبار الصادرة عنهم عليهم
السلام. والتزام التخصيص في تلك الموارد شنيع جدا، لا لكثرتها، بل
لان الاخبار - الدالة على رد الخبر المخالف للكتاب وكونه باطلا
وزخرفا - آبية عن التخصيص كما لا يخفى، فلابد من حمل المخالفة على
المخالفة على نحو التباين. والقول - بعدم صدور ما يباين الكتاب من
الجاعلين - مدفوع: بان هذا الاستبعاد انما يصح فيما إذا نقلت تلك الأخبار
المباينة للكتاب عن الأئمة عليهم السلام، لا فيما إذا كان على نحو
الدس في كتب الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم.
(واما) الاجماع فالمحصل منه غير ثابت والمنقول غير مفيد مع أنه
معارض بالمثل، وموهون بذهاب المعظم إلى الخلاف.
حجة المجوزين هي الأدلة لأربعة (أما) الكتاب فقد استدلوا بآيات منه:
(منها) - آية النبأ، قال الله تبارك وتعالى: (ان جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا.. الآية)
تقريب الاستدلال بها من وجوه.
(الأول) - التمسك بمفهوم الشرط الدال على عدم وجوب التبين
78

عند مجئ غير الفاسق بالخبر.
(الثاني) - التمسك بمفهوم الوصف، حيث علق سبحانه الحكم
على خبر الفاسق.
(الثالث) التمسك بالمناسبة العرفية بين الفسق والتبين: بحيث
يظهر عند العرف أن وجه الاتيان به في الكلام كونه علة، وبعد فرض
كونه علة لا يمكن كون الخبر بذاته علة، وإلا لزم استناد المعلول إليه. لكونه
أسبق مرتبة (35).
هذا وفى الكل نظر، أما في الأخيرتين فلاحتمال أن يكون ذكر
الوصف في الآية لمجرد التنبيه على فسق الوليد، ولكن الانصاف بعد هذا
الاحتمال، لان العرف يفهم من هذه القضية مناسبة بين التبين والفسق.
والحق هو أن يقال: إن المناسبة وإن كانت محققة، لكن لا يفهم من
القضية ان وجه وجوب التبين في خبر الفاسق هذا الوصف بنفسه أو من
جهة كونه ملازما لعدم حصول العلم غالبا، فحينئذ تتردد العلة بين
أمرين: (أحدهما) وصف الفسق (ثانيهما) عدم حصول العلم.
ولازم الأول حجية خبر العادل، ولازم الثاني اشتراك خبر
العادل الغير المفيد للعلم مع خبر الفاسق كذلك في عدم الحجية. وأما في
الأول، فلان الجزاء ليس إلا التبين في خبر الفاسق، ولا يمكن تحققه الا
بعد مجئ الفاسق بالنبأ، فالشرط مسوق لبيان تحقق الموضوع، كما في
قولك: (إذا ركب الأمير فخذ ركابه، وإذا رزقت ولدا فاختنه.)
والحاصل ان القضايا الشرطية التي تدل على المفهوم، يشترط فيها
79

أن تكون مشتملة على موضوع وشرط خارج عنه، لتدل أداة الشرط على
كون الحكم المستفاد من تلك القضية دائرا مدار ذلك الشرط. وأما قيما
لم يعقل تحقق الجزاء عند عدم الشرط لعدم تحقق موضوعه، فعدمه حينئذ،
عقلي ليس من مفاد القضية، ولا ينفع في المقام هذا العدم العقلي، لان
المطلوب عدم وجوب التبين في خبر العادل، لا عدم وجوب التبين في خبر
الفاسق في صورة عدم تحققه.
لا يقال ان كلمة إن وأخواتها وان كانت موضوعة - بالوضع
اللغوي أو العرفي - للدلالة على ثبوت الحكم للموضوع عند وجود الشرط،
وعدمه عند عدمه، لكن لما لم يمكن إرادة هذا المعنى في المقام، لعدم وجود
شرط خارج عن الموضوع، يجب حمل القضية على علية الموضوع لسنخ
الحكم المستفاد من المحمول، حفظا لبعض مراتب ظهور تلك الأدوات.
وبعبارة أخرى إن سنخ المفهوم هنا سنخ مفهوم الوصف واللقب،
إن قلنا به، غاية الامر أن القول به فيهما خلاف التحقيق، لعدم ما يدل
عليه. ولكن نقول به هنا لمكان أداة الشرط.
لأنا نقول ليس حمل الكلام على هذا المعنى حفظا لظهور أداة
الشرط في الجملة (36) لعدم دلالتها الا على العلية المنحصرة للشرط
80

للحكم المتعلق بالموضوع في القضية، اللازم منها ارتفاعه عند عدمه عن
ذلك الموضوع.
لا يقال إن الموضع في القضية ليس نبأ الفاسق حتى يلزم انتفاؤه
بانتفاء، الشرط بل الموضوع هو النبأ، ومجئ الفاسق به شرط خارج
عنه، فتدل الآية على وجوب التبين في النبأ على تقدير مجئ الفاسق به،
وعدمه على تقدير عدمه.
لأنا نقول إن كان المراد كون الموضوع هو طبيعة النبأ المقسم لنبأ
العادل والفاسق، فاللازم - على تقدير تحقق الشرط - وجوب التبين في
طبيعة النبأ، وان كانت متحققة في ضمن خبر العادل. وان كان المراد
كون الموضوع هو النبأ الموجود الخارجي، فيجب ان يكون التعبير بأداة
الشرط باعتبار الترديد لان النبأ الخارجي ليس قابلا لامرين. فعلى هذا
ينبغي أن يعبر بما يدل على المضي لا الاستقبال.
هذا (وههنا) اشكالات آخر أوردت على دلالة الآية على حجية خبر العادل كلها قابل للدفع:
(منها) - أن العبرة في القضية المعللة ملاحظة تلك العلة عموما
وخصوصا، فقد تعمم العلة، وإن كان المذكور في أصل القضية خاصا،
81

وقد تخصص، وان كان المذكور عاما وقد تكون معممة من وجه
ومخصصة من وجه، كما في قولك: (كل الرمان لأنه حامض) حيث أنه
يتعدى منه إلى كل حامض، ويخصص الرمان بالحامض.
إذا تمهد هذا، فنقول: إن صدر الآية وإن كان دالا على حجية
خبر العادل بالمفهوم، إلا ان التعليل يدل على وجوب التبين في كل خبر
غير مفيد للعلم فتكون القضية - بعد ملاحظة التعليل - في قوة أن يقال:
(إن جاءكم خبر لا يعلم صدقه وكذبه، فتبينوا فيه).
لا يقال أن مقتضى التعليل حكم عام نظير سائر العمومات
الدالة على عدم جواز العمل بغير العم فلو فرض للآية مفهوم، يجب أن
يخصص العموم المستفاد من التعليل به، كما يخصص به سائر العمومات.
لأنا نقول تقديم الخاص على العام إنما يكون فيما لو دار الامر بين
طرح الدليل الخاص رأسا، وبين طرح عموم العام. والا اشكال في أن
الثاني متعين، لأنه جمع بين الدليلين، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل،
لان ما يترتب على اخذ عموم العلة ليس الا طرح المفهوم، وهو بعض
مدلول القضية، كما أن ما يترتب على اخذ المفهوم ليس الا طرح العموم،
فالتعارض بين ظهور القضية الشرطية في المفهوم وظهور التعليل في العموم،
ولا شك أن التعليل أظهر في العموم من دلالة القضية على المفهوم،
فيكون التعليل لأظهريته قرينة صارفة عن انعقاد ظهور القضية في المفهوم.
نعم لو وقع التعارض بين مفهوم الآية وعام آخر تكون دلالته
على العموم أضعف من دلالة القضية الشرطية في العلية المنحصرة،
ويخصص ذلك العام بها، كما هو الحال في معارضتها مع سائر العمومات
الدالة على عدم جواز العمل بغير العلم.
والجواب عن الاشكال أن التعليل لا يدل على عدم جواز الاقدام
82

بغير العلم مطلقا، بل يدل على عدم الجواز فيما إذا كان الاقدام في معرض
حصول الندامة، واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجة، فلو دلت
الآية بمفهومها على حجية خبر العادل، فلا يحتمل أن يكون الاقدام على
العمل به مؤديا إلى الندم (37) فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية
أصلا.
(ومنها) - أن الآية لو دلت على حجية خبر العادل، لدلت على
حجية خبر السيد في نقله الاجماع على عدم حجية خبر الواحد ولازم ذلك
عدم حجية الخبر أصلا.
توضيح ذلك أن حجية خبر العادل مما يلزم من وجوده العدم،
وكلما كان كذلك فهو محال، فحجية خبر العادل محال. أما الكبرى
فواضحة. وأما الصغرى، فلانه لو كان حجة لكان خبر السيد بعدم حجية
خبر الواحد أيضا حجة، لكونه خبرا صادرا من العادل. ولو كان هذا
حجة لزم عدم حجية اخبار الآحاد مطلقا.
وأما ما أجيب عنه - بأن خبر السيد غير قابل للحجية، لان
حجيته مستلزمة لعدمها - فغير سديد، لان عدم قابلية للحجية إنما هو
باعتبار شموله لنفسه. وأما بالنسبة إلى سائر مداليله فقابل للحجية،
فحينئذ نقول: يمكن أن يلتزم بالتفكيك، ويقال ان خبر السيد بالنسبة إلى
83

نفسه ليس بحجة، وبالنسبة إلى سائر مداليله موضوع لدليل الحجية فيقع
التعارض بينه وبين سائر الافراد في حكم العام.
فالأولى في الجواب أن يقال: ان اخبار السيد - لكونه نقلا
للاجماع - لا تشمله أدلة حجية الخبر، كما عرفت سابقا. وعلى فرض
شمول الأدلة، الامر ههنا دائر بين خروج هذا الفرد من العام وخروج
باقي الافراد. ولا شك في أن الأول متعين لان الثاني مستلزم لحمل
الكلام على اللغز والمعمى، إذ في مقام إرادة عدم حجية خبر العادل، إلقاء
الكلام الدال على حجيته مما لا ينبغي صدوره من المتكلم الحكيم.
قال شيخنا المحقق الخراساني دام بقاه في تعليقاته - على ما يظهر
من عبارته - (انه من الجائز أن يكون خبر العادل حجة من زمن صدور
الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيد (قدس سره)، وبعده يكون هذا
الخبر حجة فقط، فيكون شمول العادل لخبر السيد مفيدا لانتهاء الحكم في
هذا الزمان، وليس هذا بمستهجن) ثم قال دام بقاه ما محصله: (إن حجية
خبر العادل - في زمان صدور الآية دون زماننا - وان كانت خلاف
الاجماع، فانا نعلم بالاجماع أن الخبر لو كان حجة للأولين، لكان حجة
للآخرين، إلا أنه لا بأس في مقام الاخذ بظاهر العموم أن يأخذ الأولون
بمقتضاه من حجية الخبر، ونأخذ نحن أيضا بمقتضاه من عدم حجيته. هذا
84

ملخص مما افاده دام بقاه.
وفيه (أولا) ما عرفت أن بشاعة الكلام - على تقدير شموله لخبر
السيد - ليست من جهة خروج تمام الافراد سوى فرد واحد، حتى يدفع
بما افاده، بل من جهة التعبير بالحجية في مقام إرادة عدمها. وهذا لا يدفع
بما افاده.
و (ثانيا) أنه بعد تسليم الاجماع المذكور امر القضية دائر بين أمور
كلها باطلة، إلا إرادة باقي الافراد، وعدم إرادة خبر السيد، لان المتكلم
بهذه القضية إما لم يرد حجية خبر العادل أصلا، وهو خلاف الفرض.
وإما أراد حجية كل الاخبار حتى خبر السيد، وهو باطل أيضا، للزوم
التناقض، وإما أراد حجية كل الاخبار إلى زمان صدور الخبر من السيد
وعدمها بعده، وهو باطل أيضا، لأنه خلاف الاجماع. وإما أراد حجية
خصوص خبر السيد من بين اخبار الآحاد، وهو باطل أيضا، لأنه
مستهجن. وإما أراد حجية باقي الاخبار غير خبر السيد. وهو المطلوب.
(ومنها) - أن الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة. ومحصل هذا
الاشكال من وجهين:
(أحدهما) أنه إذا قال الشيخ (قدس سره) حدثني المفيد، قال
حدثني الصدوق مثلا، فخبر المفيد لا يثبت لنا الا بدليل حجية قول الشيخ.
وكيف يصح أن يجعل خبر المفيد - الذي تحقق تعبدا بواسطة قول الشارع
صدق خبر العادل - موضوعا لهذا الحكم، فهذا من قبيل شمول قول
القائل - كل خبري صادق - لهذا الخبر الذي أخبر به فعلا غاية الامر
أن قضية كل خبري صادق توجد فردا حقيقيا للخبر، بخلاف صدق
العادل، فإنه يوجد فردا تعبديا له.
و (ثانيهما) ان قول الشارع صدق العادل ليس الا بملاحظة ترتيب
85

الأثر، ولا اثر لخبر المفيد المخبر بقول الشيخ إلا وجوب التصديق، فيلزم أن
تكون قضية صدق العادل ناظرة إلى نفسها، وهو محال. وعند التحقيق
نرى أن الاشكال الأول راجع إلى الثاني، لان ايجاد قضية صدق العادل
الفرد التعبدي ليس معناه الا ايجاب ترتيب الأثر، ولو أجبنا عنه فرغنا
عن الاشكالين.
والجواب ان وجوب تصديق العادل فيما اخبره، ليس من قبيل
الحكم المجعول للشك تعبدا بل مفاد الحكم هنا جعل الخبر - من حيث
أنه مفيد للظن النوعي - طريقا إلى الواقع. فعلى هذا لو أخبر العادل
بشئ - يكون ملازما لشئ له اثر شرعا إما عادة أو عقلا أو بحسب
العلم - نأخذ به، ونرتب على لازم المخبر به الأثر الشرعي المرتب عليه.
والسر في ذلك أن الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر وان لم
يكن المخبر ملتفتا إلى الملازمة فحينئذ نقول يكفي في حجية خبر العادل
انتهاؤه إلى اثر شرعي.
لا يقال إنما ذكرت إنما يصح فيما إذا كان بين المخبر به وشئ آخر
ملازمة عادية أو عقلية، وليس بين المخبر به فيما نحن فيه - أعني حديث
المفيد وصدقه - ملازمة لا عادية ولا عقيلة، فالانتقال من خبر المفيد
- المخبر بقول الشيخ إلى تحقق مضمومة - لا يجوز الا ببركة قول الشارع
صدق العادل فيجب ان يكون هذا الحكم باعتبار تعلقه بخبر الشيخ
ناظرا إلى نفسه.
لأنا نقول إن الملازمة وان لم تكن عقلية ولا عادية، ولكن يكفي
ثبوت الملازمة الجعلية، بمعنى أن الشارع جعل الملازمة النوعية الواقعية
- بين اخبار العادل وتحقق المخبر به - بمنزلة الملازمة القطعية، ولا تكون
قضية صدق العادل ناظرة إلى هذه الملازمة، كما انها غير ناظرة إلى الملازمة
86

العقلية والعادية، بل يكفي في ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمة في ننفس
الامر، حتى تكون منتحة للحكم الشرعي العملي (38).
وان شئت قلت كما أن الطريق إلى الحكم الشرعي العملي
ابتداء طريق إليه، وتشمله أدلة الحجية كذلك الطريق إلى طريق الحكم
الشرعي أيضا طريق إليه (39)، فيشمله دليل الحجية فافهم وتدبر.
هذا مضافا إلى أن قضية صدق العادل - بعد القطع بعدم كون
المراد منها التصديق القلبي - يجب ان تحمل على ايجاب العمل في الخارج،
وليس لقول المفيد المخبر بقول الشيخ أثر عملي أصلا، ولو بعد ملاحظة
كونها موضوعا لوجوب التصديق، لان التصديق ليس اثرا عمليا في نفسه،
بعد ما لم يكن المراد التصديق القلبي، والأثر العملي منحصر فيما تنتهي إليه
هذه الأخبار، وهو قول الإمام عليه السلام تجب الصلاة مثلا، فيجب أن
تكون قضية صدق العادل - عند تعلقها بقول الشيخ - ناظرة إلى ذلك
الأثر، وهو لا يصح الا بملاحظة ما ذكرنا.
87

وبعبارة أخرى أوضح احتمال عدم وجوب الصلاة في المثال
المذكور مستند إلى احتمال كذب أحد العدول المذكورين في
السلسلة (40) فمعنى الغاء احتمال كذب العادل يرجع إلى ايجاب العمل
بما انتهى إليه قول الرواة العدول.
ومن الآيات التي استدل بها على حجية الخبر: آية النفر. قال الله
تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
تقريب الاستدلال بوجوه أربعة:
(الأول) - استظهار رجحان الحذر من لفظة لعل - إما
بانسلاخها عن معناها الحقيقي وهو الترجي الواقعي وحملها على مطلق
الطلب، أو مع ابقائها على حقيقتها على ما هو التحقيق - يكون معناها هو
الترجي الايقاعي. ولا ينافي ذلك صدورها ممن هو عالم بحقيقة الامر، ثم
القول بالوجوب من باب الملازمة العقلية بين رجحان الحذر ووجوبه، لما
افاده صاحب المعالم: من أن المقتضى للحذر إما أن يكون موجودا فيجب
وإما أن لا يكون موجودا فلا يحسن.
(الثاني) استظهار رجحان الحذر مما ذكر، مع القول بوجوبه من
88

جهة الاجماع على عدم كون العمل بخبر الواحد مستحبا، لان العلماء بين
من يقول بالحرمة، ومن يقول بالوجوب، فلا قائل بالاستحباب. فإذا ثبت
الوجوب بالاجماع.
(الثالث) استكشاف وجوب الحذر من جهة وقوعه غاية للانذار
الواجب، من جهة وقوعه غاية للتفقه الواجب، من جهة وقوعه غاية للنفر
الواجب، بمقتضى كلمة لولا التحضيضية.
الرابع استظهار وجوب الانذار مما ذكر، واستكشاف وجوب
الحذر بالملازمة العقلية، لأنه لو لم يجب الحذر عقيب الانذار، لزم لغوية
وجوب الانذار. ولا يخفى عدم تمامية شئ من الوجوه.
أما الأول فلا مكان الحذر بالنسبة إلى فوت المصالح الواقعية،
وارتكاب المفاسد الكامنة في الأشياء.
وأما الثاني والثالث فلابتنائهما على اطلاق رجحان الحذر، حتى
في عدم العلم بمطابقة قول المنذر للواقع. وليس الكلام مسوقا له كما
لا يخفى.
وأما الرابع فلانه يكفي في عدم اللغوية حصول العلم من جهة
انذار المنذرين في بعض الأحيان (41) ووقوع الحذر بعد العلم.
89

فان قلت كيف يمكن القول بوجوب الانذار على الاطلاق،
وعدم القول بوجوب الحذر كذلك، مع أن وجوب المقدمة تابع لوجوب
ذيها اطلاقا وتقييدا
قلت قد يجب غير المقدمة معها، لعدم كون ما هو المقدمة ممتازا
عند المكلف فيجوز ان يجب مطلق الانذار، لعدم تميز الانذار المفيد للعلم
من بين الانذارات، للوصول إلى ما هو المقصود الأصلي.
هذا مضافا إلى احتمال أن يقال أن الآية ليست الا في مقام
إفادة وجوب تعلم احكام الله واقعا، والانذار بها (42) والحذر عن
مخالفتها. ولا يثبت بها وجوب التعبد بما لم يعلم أنه حكم الله تعالى، كما
هو محل البحث.
ثم إن شيخنا المرتضى (قدس سره) أورد على الاستدلال بالآية
بأنها أجنبية عن المقام، فان الكلام في أنه هل يجب الحكم بصدور
الألفاظ المنقولة عن الحجة عليه السلام بخبر الواحد أم لا؟ ولا شك في
أن مجرد هذا لا يوجب صدق الانذار على فعل الناقل، ولا صدق الحذر
على تصديق المنقول إليه، فالأنسب الاستدلال بها على حجية فتوى الفقيه
للعامي.
وفيه انه ليس حال الناقلين للاخبار إلى غيرهم في الصدر الأول
90

إلا كحال الناقلين للأحكام من المجتهدين إلى مقلديهم فلو قال أحد
حاكيا عن قول المجتهد: (اتقوا الله في شرب الخمر فإنه يوجب العقاب
مثلا) يصدق أنه منذر، مع أن نظره ليس بحجة. وكذلك حال الرواة
بالنسبة إلى من تنقل إليهم الاخبار، من دون تفاوت أصلا.
نعم يبقى الكلام في نقل الاخبار التي ليست مشتملة على الانذار،
كالاخبار الدالة على الإباحة والاستحباب والكراهة، لكن الامر فيها
سهل، بعد الاجماع على عدم الفرق بين افراد الاخبار.
ومما ذكرنا في هذه الآية من عدم دلالتها على وجوب اخذ قول
المنذر تعبدا، تعرف بطلان الاستدلال بآية الكتمان، لان حرمة الكتمان
ووجوب اظهار الحق لا تلازم وجوب قبول السامع عند الشك تعبدا،
كما لا يخفى.
ومن الآيات التي استدل بها للمقام آية سؤال أهل الذكر،
قال جل وعلا: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) تقريب
الاستدلال ما مر سابقا من الملازمة، لان ايجاب السؤال مع عدم وجوب
القبول لغو.
وفيه - مضافا إلى ما مر من الجواب - انها لو دلت على حجية
الخبر، لدلت على حجية الاخبار التي وردت في أن المراد باهل الذكر هم
الأئمة عليهم السلام. وعلى هذا لا دخل لها بحجية خبر الواحد، فصحة
الاستدلال بها توجب عدم صحة الاستدلال بها.
هذا ومن جملة الآيات التي استدلوا بها آية الاذن، قال الله تعالى
(ويقولون هو اذن، قل هو اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) فإنه
تعالى قرن تصديق نبيه صلى الله عليه وآله للمؤمنين بتصديقه جل وعلا،
ومدحه بذلك.
91

وفيه ان الظاهر من الآية بقرينة تعدية الايمان في الفقرة الثانية
باللام: أن الله تعالى مدح نبيه صلى الله عليه وآله بحسن المعاشرة مع
المؤمن، بقبول قوله فيما ينفعه ولا يضر غيره، لا بتصديق قول المؤمن مطلقا،
بمعنى ترتيب جميع الآثار كما هو المقصود. وهذا هو المراد من التصديق في
قول الإمام عليه السلام (فان شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا،
وقال لم أقله فصدقه وكذبهم).
واما السنة فاخبار كثيرة، (43) إلا أن صحة التمسك بها تبتنى
على تواترها، إما لفظا واما معنى وإما اجمالا، بمعنى العلم بصدور بعضها
عن الإمام عليه السلام والا لما أمكن التمسك بها على حجية اخبار
الآحاد، والا ولأن وإن كانا مفقودين، إلا أن الأخير ليس قابلا
للانكار كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في هذا الباب. وعلى
هذا يجب الاخذ بأخصها مضمونا، لكونه القدر المتيقن من بينها. وحينئذ
لو نهض ما هو القدر المتيقن على حجية ما عداه، لوجب الاخذ به، كما أن
الامر كذلك، فان في الاخبار ما هو جامع لشرايط الحجية. ويدل على
حجية خبر الثقة. وعليك بمراجعتها، حتى تجد صدق ما ادعينا.
ولكن المتيقن من مدلول ما هو القدر المتيقن حجية الخبر الموثوق
الصدور من جهة الوثوق بصدق الراوي، دون الجهات الخارجية. نعم لو
تم بناء العقلاء الذي يتكلم فيه بعد ذلك انشاء الله، لدل على حجية كل
خبر تطمئن النفس بصدوره من أي جهة كان.
(واما الاجماع) فتقريره من وجوه:
92

(الأول) - دعواه على حجية خبر الواحد في قبال السيد واتباعه.
(الثاني) دعواه على حجيته في حال الانسداد مطلقا حتى من
السيد واتباعه.
(الثالث) دعوى السيرة واستمرار طريقة المسلمين طرا على
استفادة الأحكام الشرعية من الثقات.
(الرابع) استقرار طريقة العقلاء وتحصيل الاجماع على الوجه
الأول بأحد وجهين: (أحدهما) تتبع كلمات العلماء وأقوالهم رضوان الله
عليهم (ثانيهما) - تتبع الاجماعات المنقولة والعلم بتحقق الاجماع المحصل
إما بنفس الاجماعات المنقولة وإما بضميمة شواهد اخر.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين، فان تتبع كلماتهم - مع احتمال
كون مدركهم مثل آية النبأ أو غير ذلك من الأدلة التي ذكرت سابقا -
لا يوجب الحدس القطعي برأي الحجة عليه السلام. ومن هنا تعرف حال
الوجه الثاني. وأما دعوى الاجماع مطلقا حتى من السيد واتباعه على
حجية خبر الواحد في زمان الانسداد فلا تنفع بعد احتمال أن المستند
للمطلق منهم هو الأدلة التي ذكرناها، وللمقيد منهم بحال الانسداد هو
حكم العقل بحجية كل ظن، سواء حصل من الخبر أم من غيره. وأما
دعوى سيرة المسلمين، فلم يحرز أن عملهم بخبر الثقات من حيث كونهم
مسلمين لاحتمال أن يكون ذلك منهم من جهة كونهم عقلا، فيرجع
إلى الوجه الرابع.
نعم هذا الوجه - أعني بناء العقلاء - لو تم عدم ردع الشارع
إياهم لأثبت المدعى، فينبغي التكلم فيه، فنقول: الذي يمكن أن يكون
رادعا لهم الآيات المتكاثرة والأخبار المتواترة على حرمة العمل بما عدا
العلم، وشئ منها لا يصلح لان يكون رادعا.
93

بيان ذلك أنه بعد فرض كون حجية خبر الثقة مرتكزة في أذهان
العقلاء لو تكلم أحدهم مع الآخر، وقال لا يجوز، أو لا يحسن العمل بغير
العلم، أو لا ينبغي نقض اليقين بغير اليقين مثلا، يفهم السامع من كلام
هذ المتكلم أن المراد من العلم أعم من الجزم وما هو بمنزلة عندهم.
والمفروض أن حجية قول الثقة مفروغ عنها عند المتكلم والسامع لكونها
من العقلاء. والقضايا الصادرة عن أحدهما - الملقاة إلى الآخر التي حكم
فيها على موضوع العلم - محمولة على ما هو العلم بنظرهم وفى حكمهم.
وعلى هذا نقول: ان تكلمات الشارع مع العرف والعقلاء حالها
حال تكلمات بعضهم مع الآخر، لأنه بهذه الملاحظة بمنزلة أحد من
العرف، ومن هذه الجهة تحمل الأحكام الشرعية الواردة في القضايا
اللفظية على المصاديق العرفية.
وحينئذ نقول: نهى الشارع عن العمل بغير العلم - بنظر العرف
والعقلاء - محمول على غير صورة الاطمينان والوثوق الذي فرض كونه
عنده بمنزلة العلم. نعم لو أراد الشارع العمل بغير العمل بغير العلم بنظر العرف
والعقلاء، فالواجب أن يعلمهم بلفظ دال عليه صريحا، كأن يقول يحرم
عليكم العمل بالاطمينان أو مثل ذلك. هذا محصل الكلام في المقام،
وعليك بالتأمل التام.
واستدل شيخنا المحقق الخراساني - دام بقاه - على عدم صلاحية
الأدلة المذكورة للردع بلزوم الدور لو كانت رادعة. وبيانه أن رادعية تلك
الأدلة تتوقف على وجوب اتباعها مطلقا، حتى في موارد خبر الثقة، وهو
يتوقف على عدم حجيته. كيف؟ ولو كان حجة لكان واردا أو حاكما
عليها، فلو كان خبر الثقة غير حجة بواسطة كونها رادعة، للزم الدور، لتوقف
رادعيتها على عدم حجية خبر الثقة المتوقف على رادعيتها، فلا تكون تلك
94

الأدلة رادعة الا على وجه دائر.
وفيه (أولا) أنه يمكن تقرير نظير هذا الدور في طرف حجية خبر
الثقة، بان يقال إن حجية خبر الثقة تتوقف على عدم رادعية تلك الأدلة،
إذ على تقدير رادعيتها لا يكون خبر الثقة حجة، كما هو المفروض، وعدم
رادعيتها يتوقف على حجية خبر الثقة، إذ على تقدير عدم حجيته يكون
عموم الأدلة متبعا في موارد وجود خبر الثقة، فلا يمكن أن يكون خبر الثقة
حجة إلا على وجه دائر.
و (ثانيا) - أن ما افاده من توقف رادعية الأدلة على عدم حجية
خبر الثقة فمسلم، لما عرفت من أنه على تقدير حجيته لا يبقى مجال للعمل
بالعمومات. وأما توقف عدم حجيته على رادعية تلك الأدلة فممنوع، إذ
يكفي في عدم الحجية عدم العلم بامضاء الشارع (44)، وهو حاصل قبل
الفراغ عن عدم كون تلك الأدلة رادعة، فتدبر جيدا:
واما العقل فهو من وجوه: بعضها مختص بحجية الخبر، وبعضها
يثبت حجية مطلق الظن (اما الأول) فمن وجوه:
95

(أحدها) أنا نعلم اجمالا بصدور كثير من الاخبار التي بأيدينا،
بحيث لو علم تفصيلا لا نحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك
البدوي. وحينئذ يجب بحكم العقل العمل بكل خبر مثبت
للتكليف (45)، ويجوز العمل بكل خبر ناف له، لخروج مورده عن
أطراف العلم. ولا يخفى أن مقتضى هذا الدليل - على تقدير تماميته -
هو وجوب العمل بكل خبر مثبت للتكليف،، لو لم يكن في مورده أصل
مجعول شرعي ينافي مقتضى الخبر، وإلا لم يكن العلم بمضمون الخبر
متعينا، بل المتعين هو العمل بالأصل ان كان مثبتا للتكليف أيضا (46)،
وإلا يوجب الترخيص في مخالفة الاحتياط بالعمل بالخبر.
هذا إذا كانت الأصول الواردة في موارد الاخبار حجة، بمعنى عدم
العلم بخلافها اجمالا، واما لو علم ذلك فان كان هذا العلم الاجمالي في
الأصول المثبتة للتكليف الواردة في موارد الاخبار المثبتة لتكليف آخر،
فمقتضى القاعدة التخيير (47) لان المقام من دوران الامر بين محذورين،
96

للعلم بصدور اخبار مثبتة للتكلف اجمالا، وشمول دليل الأصل لبعض
موارد وجود الاخبار على نحو الاجمال أيضا.
نعم لو قلنا إن دليل الأصل يقصر عن ثبوت الحكم في موارد
العلم الاجمالي بالخلاف، يجب العمل بمقتضى الاحتياط في مضمون
الاخبار، وان كان العلم الاجمالي بخلاف الأصول المثبتة في موارد الاخبار
النافية، فلزوم العمل، بمقتضى تلك الأصول وعدمه مبنى على ما أشير إليه
آنفا، من قصور أدلتها في مورد العلم الاجمالي وعدمه، فان قلنا بالأول
فتسقط عن الحجية، وان قلنا بالثاني - كما هو التحقيق - يجب العمل
بمقتضاها (48) هذا حال الأصول المثبتة في مورد الاخبار المثبتة والنافية.
وأما الأصول النافية في موارد الاخبار المثبتة فلو علم اجمالا
بخلافها يجب طرحها رأسا، سواء قلنا بعدم شمول أدلتها لها أم لا. أما على
الأول فواضح. وأما على الثاني، فلان العلم بالكل موجب للمخالفة
القطعية، وهي قبيحة عقلا. والعمل بالبعض معينا ترجيح من غير
مرجح، وغير معين لا دليل عليه. فظهر مما ذكرنا كله أن وجوب العمل
بالاخبار بمقتضى هذا الدليل لا يفي بما هو المراد والمقصود من حجية الخبر.
97

هذا ويظهر من جواب شيخنا المرتضى قدس سره عن هذا الدليل
دعوى العلم بالأحكام، زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة.
والذي ينادى بذلك دعواه بانا لو فرضنا عزل طائفة من الاخبار،
وضممنا إلى الباقي مجموع الامارات التي بأيدينا، كان العلم الاجمالي
بحاله. ومن المعلوم عدم صحة هذه الدعوى، إلا بعد العلم بالتكاليف،
زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة، إذ لولا ذلك لما حصل العلم
بعد عزل طائفة من الاخبار، لامكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة
التي عزلناها. وحينئذ لا يرد عليه اشكال، إذ مع صحة الدعوى المذكورة
لا اشكال في لزوم الاخذ بباقي الامارات، لكونها من أطراف العلم
الاجمالي. نعم يمكن منع العلم زائدا على ما حصل لنا في الاخبار الصادرة.
(الوجه الثاني) ما ذكره في الوافية، مستدلا على حجية الخبر
الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة، مع عمل جمع من غير
رد ظاهر، قال: (لأنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيمة، سما بالأصول
الضرورية كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن
جل اجزائها وشرايطها وموانعها إنما يثبت بخبر الواحد الغير القطعي، بحيث
يقطع بخروج حقايق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل
بخبر الواحد. ومن أنكر فإنما ينكر باللسان، وقلبه مطمئن بالايمان انتهى)
أقول هذا الدليل كالدليل الأول، إلا أن المدعى فيه العلم الاجمالي
بصدور خصوص الأخبار الدالة على الشرايط والاجزاء والموانع، ويرد عليه
- مضافا إلى ما يرد على الأول - أنه لا يثبت وجوب العمل بالخبر المثبت
لأصل التكليف.
(الوجه الثالث) ما ذكره بعض الأساطين في حاشيته على المعالم.
وملخصه، أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالاجماع، بل
98

بالضرورة والأخبار المتواترة، وبقاء هذا التكليف أيضا بالنسبة إلينا ثابت
بالأدلة المذكورة. وحينئذ فان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم
بهما بحكم أو الظن الخاص به فهو، وإلا فالمتبع هو الرجوع إليهما على وجه
يحصل الظن منهما.
أقول لا يخفى أن المراد من السنة - التي ادعى الاجماع والضرورة
على وجوب العمل بها - إن كانت السنة الواقعية (49) فهذا يرجع إلى
دليل الانسداد الآتي المثبت لحجية كل ظن، لا خصوص الاخبار. وإن
كان المراد هو اخبار الآحاد الحاكية عن السنة، فمع أنه لا ينبغي دعوى
الضرورة على وجوب العمل بها يوجب العمل بما هو متيقن الاعتبار لو
كان، وإلا فالعمل بالكل تحصيلا للامتثال اليقيني. ولا يجوز الاكتفاء
بالخبر المظنون الصدور أو الاعتبار.
وأما الوجوه التي استدل بها على حجية مطلق الظن من غير
خصوصية للخبر فهي أربعة:
(الأول) أن مخالفة المجتهد - لما ظنه من الحكم الوجوبي أو
التحريمي - مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم. أما الصغرى، فلان
الظن بالوجوب أو الحرمة مستلزم للظن بالعقوبة على المخالفة، أو بالمفسدة
99

اللازمة لترك الواجب أو فعل الحرام، بناءا على تبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد في متعلقاتها. وأما الكبرى فلاستقلال العقل بها، بل قيل: إن
وجوب دفع الضرر المظنون متفق عليه بين العقلاء، وإن لم نقل بالتحسين
والتقبيح.
والجواب ان الضرر الأخروي غير مظنون، بل ولا محتمل من
جهة عدم البيان (50) واما الغير الأخروي - إن سلمنا الظن به -
فلا يوجب صحة العقوبة، بداهة أن مجرد هذا الظن ليس منشأ للعقوبة،
وليس هنا حكم عقلي يوجب العقوبة (51)، بل المحقق في موارد الظن
بالضرر تحرز النفوس بمقتضى الجبلة، ولا يختص ذلك بالعقلاء، بل هو
امر مرتكز في نفوس تمام الحيوانات. ومعلوم أن مثل هذا الارتكاز الجبلي -
الذي ليس منشأه التحسين والتقبيح - ليس موجبا لصحة العقوبة.
والحاصل أن تحرزهم عن الضرر إنما هو من جهة حبهم للنفس
والمال، وليس من أقدم عليه - لغرض من الاغراض ممن يعد عند
العقلاء - مقدما على القبيح، كمن يقدم على الظلم، فلم يبق إلا أن
المقدم على الضرر المظنون أو المحتمل يقع فيه على فرض وجوده، وهذا
100

لا ينكره، أحد سواء كان بناء العقلاء على الاحتراز عن الضرر أم لا، إنما
الكلام في أنه هل للمولى حجة على مؤاخذته مطلقا أو على تقدير الوقوع في
الضرر الواقعي أولا. وقد عرفت عدمها.
هذا مضافا إلى أنه لا يلزم إن تكون المفاسد الكامنة في فعل المحرم
أو ترك الواجب من الضرر الراجع إلى المكلف، حتى يحصل في الاقدام
على مظنون الحرمة وترك الوجوب مخالفة الكبرى المدعاة، كما هو
واضح.
(الوجه الثاني) انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوع على
الراجح وهو قبيح. وفيه أنه إن أراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة
اغراض الفاعل، ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى
غير ممكن، لأنه راجع إلى نقض الغرض، وليس مجرد الاخذ بالطرف
الموهوم ترجيحا للمرجوح بهذا المعنى، إذ ما لم يترجح بملاحظة اغراضه لم
يمل إليه. وإن أراد من الراجح الظن، فعدم الاخذ به واختيار الطريق
الموهوم وان كان ترجيحا للمرجوح بمعنى اختيار الطرف الموهوم، ولكن
قبح ذلك موقوف على تنجز الاحكام الواقعية، ولزوم امتثالها، وانحصار
طريق الامتثال بالظن أو الوهم أو الشك. لكن هذا راجع إلى دليل
الانسداد الآتي، وليس وجها مستقلا.
101

(الوجه الثالث) ما عن السيد الطباطبائي - قدس سره - من أنه
لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى
ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب، وترك كل
ما يحتمل الحرمة، ولكن مقتضى قاعدة نفى الحرج عدم وجوب ذلك
كله، لأنه عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط
ونفى الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات، دون المشكوكات
والموهومات، لان الجمع على غير هذا الوجه - باخراج بعض المظنونات
وادخال بعض المشكوكات والموهومات - باطل اجماعا. ولا يخفى رجوع
هذا إلى دليل الانسداد المعروف، مع اسقاط بعض المقدمات التي لا ينتج
بدونها.
دليل الانسداد
(الوجه الرابع) هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وهو مركب
من مقدمات:
(الأولى) العلم الاجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة.
(الثانية) عدم لزوم الامتثال على نحو يقطع باتيانها أو اتيان ما
يكون بدلا عنها، لا على وجه التفصيل ولا على وجه الاجمال، سواء كان
عدم لزوم ذلك بواسطة عدم التمكن أم بواسطة الاذن الصادر منه.
(الثالثة) عدم جواز الاهمال وترك التعرض لامتثالها أصلا.
(الرابعة) انه في مقام دوران الامر - بين الامتثال على وجه
الظن وبينه على وجه الشك والوهم - يكون اختيار الشك والوهم في
قبال الظن قبيحا عند العقل.
ولو تمت هذه المقدمات التي ذكرناها يجب الاخذ بالظن قطعا،
إذ العلم الاجمالي بوجود التكاليف ثابت بحكم المقدمة الأولى، وليس على
102

المكلف امتثالها على نحو يوجب القطع بالسقوط، لا على نحو الامتثال
العلمي التفصيلي، ولا على نحو الامتثال بالطرق المعتبرة تفصيلا، أو
الأصول المعتبرة كذلك، ولا على نحو الامتثال الاجمالي، بحكم المقدمة
الثانية. ولا يجوز له اهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا، بحكم المقدمة
الثالثة، ولا يجوز العقل رفع اليد عن الظن واخذ المشكوك والموهوم في
قباله، بحكم المقدمة الرابعة، فلا سبيل له الا الاخذ بالظن.
(اما المقدمة الأولى) فلا سبيل إلى انكارها.
و (اما المقدمة الثانية) فتوضيحها أن الامتثال - على نحو يوجب
العلم ببراءة الذمة: - يتحقق بأحد أمور:
(منها) إحراز التكاليف تفصيلا بمقدار ينحل العلم الاجمالي إلى
العلم التفصيلي والشك البدوي، والآتيان بما علم تفصيلا،
(ومنها) احرازها بالمقدار المذكور بالطرق الشرعية المعتبرة
والأصول المثبتة للتكاليف، والاحتياط في الموارد الجزئية التي تقتضي
القاعدة الاحتياط فيها، ولو مع قطع النظر عن العلم الاجمالي المذكور.
(ومنها) اتيان كل ما يحتمل كونه واجبا، وترك كل ما يحتمل
كونه حراما.
اما الأول فلا سبيل إليه قطعا، لشهادة كل أحد أن المعلومات - في
الفقه بالنسبة إلى غيرها لندرتها - تكاد ان تلحق بالمعدوم.
واما الثاني فيبتنى على مراجعة ما ذكرنا من الأدلة على حجية
الحبر (52)، فان قطع منها بحجية قسم خاص منه يفي بالفقه، كالخبر
103

الموثوق صدوره، فقد استراح من الرجوع إلى الظن المطلق، والا فمرجعه
الظن المطلق ان تم باقي المقدمات، وستطلع عليه. واما الرجوع إلى
الأصول المثبتة فلا يكفي، لعدم وفائها في الفقه، بحيث توجب انحلال
العلم الاجمالي، مضافا إلى أن الامارات الموجودة في مواردها قد توجب
العلم الاجمالي، بخلاف مفادها. والعلم الاجمالي بخلاف مؤدى الأصول
مضر لنا فيما نحن بصدده، سواء: ان العلم الاجمالي بنفي التكليف في بعض
مواردها، أم باثبات تكليف آخر مضاد لمؤدى الأصول، وان قلنا بان مجرد
العلم الاجمالي - بعدم التكليف بين الأصول المثبتة له - لا ينافي اجراء
الأصل.
أما الثاني فواضح. وأما الأول، فلان تلك الأصول - التي
فرضناها كافية في الفقه لولا هذا العلم - تصير غير كافية بملاحظة العلم
المذكور، فإنه بعد العلم بعدم ثبوت التكاليف في بعض مواردها، يعلم أن
المعلوم بالاجمال في غير موردها. اللهم الا ان يفرض أن الاحكام الظاهرية
المستفادة من الأصول زائدة على المقدار المعلوم من التكاليف المعلوم اجمالا،
بحيث لم يعلم بتكاليف اخر في غير مؤدى الأصول، حتى بعد العلم الاجمالي
بعدم التكليف في بعض مواردها. وهو كما ترى.
والحاصل أن اكتفاء المجتهد - بالعمل بالأصول المثبتة للتكليف،
والاحتياط في الموارد الجزئية، ورفع اليد عن سائر الامارات - لا يجوز
104

لامرين: (أحدهما) - قلة مواردها بحيث لا تفي بالمقدار المعلوم اجمالا.
(ثانيهما) - ان العلم الاجمالي بمخالفة مواردها للواقع يوجب
سقوطها عن الاعتبار، فيما كان العلم بتكليف آخر مضاد لمؤدى الأصول،
ويوجب عدم الاكتفاء بمؤدى الأصول، فيما كان العلم بعدم ثبوت
التكليف في بعض مواردها.
نعم يلزم الاخذ بمؤدى الأصول المذكورة بواسطة سقوط العلم
الاجمالي بالمخالفة عن الاعتبار، وأعمال الظن في غيرها، لا أنه يقتصر في
الفقه على العمل بتلك الأصول، ويطرح سائر الامارات المثبتة للأحكام.
لا يقال ان من الطرق إلى التكاليف الواقعية الاخذ بفتوى
الفقيه، حيث دلت الأدلة الخاصة على اعتبارها للجاهل.
لأنا نقول الرجوع إلى فتوى الفقيه إنما يجب على غير البصير،
لا على الفاضل المتدرب الذي يقطع بفساد مبنى الفقيه الآخر من دعوى
انفتاح باب العلم والعلمي وهذا واضح.
وأما الطريق الثالث من الطرق للامتثال القطعي، أعني اتيان
محتملات الوجوب وترك محتملات الحرمة، فقد يقال بعدم وجوبه، بل
بعدم جوازه، لاختلال النظام بذلك: لكثرة ما يحتمل وجوبه، خصوصا
في أبواب الطهارة والصلاة.
قال شيخنا المرتضى - قدس سره في تقريب ذلك: (لو بنى
العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه اجماع قطعي، أو خبر متواتر
على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره يوما وليلة، لوجد صدق ما ادعينا.
هذا كله بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط. وأما تعليم المجتهد موارد
الاحتياط لمقلديه، وتعلم المقلد موارد الاحتياطات الشخصية، وعلاج
105

تعارض الاحتياطات، وترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القوى
على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف، فهو مستغرق لأوقات
المجتهد والمقلد، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج
يخل بنظام معاشهم ومعادهم).
لا يخفى أن العلم الاجمالي انما يكون بين موارد الامارات المثبتة
للتكليف، لا بينها وبين ما لا يكون عليه امارة أصلا، فحينئذ نقول: لا يلزم
من الاحتياط في تمام مواردها حرج، بحيث يوجب اختلال النظام، بل
لا يكون حرجا لا يحتمل عادة بالنسبة إلى كثير من المكلفين الذين ليس
محل ابتلائهم الا القليل من التكاليف، واتفاق الحرج - في بعض الموارد
لبعض الأشخاص - يوجب دفع الاحتياط عنه لا عن عامة المكلفين،
فمقتضى القاعدة الاحتياط في الدين إلا في موارد خاصة، مثل أن يوجب
اختلال النظام أو كان مما لا يحتمل عادة، أو لم يكن الاحتياط ممكنا،
كما إذا دار الامر بين المحذورين، أو وقع التعارض بين احتياطين، أو
أوجب الاحتياط المخالفة القطعية لواجب قطعي آخر، فيجب العمل
بالظن، لأنه لا طريق للمكلف أقوى منه.
والحاصل أن دعوى الحرج - لا سيما الموجب لاختلال النظام
بالنسبة إلى آحاد المكلفين الموجب لسقوط الامتثال القطعي عن الكل -
في غاية الاشكال. وما يدل على ما ذكرنا أن بناء سيد مشايخنا الميرزا
الشيرازي (قدس الله نفسه الزكية) كان على ارجاع مقلديه إلى
الاحتياط، وقل ما اتفق منه اظهار الفتوى، والمخالفة، للاحتياط، وكان
مرجع تمام افراد الشيعة مدة متمادية، ومع ذلك ما اختل نظام العالم
بواسطة الرجوع إلى الاحتياط، وما كان تحمل هذا، الاحتياط شاقا على
المسلمين، بحيث لا يحتمل عادة.
106

وكيف كان فهذه الدعوى محل نظر بل منع. ثم انا لو سلمنا تحقق
العسر والحرج في العمل بالاحتياط الكلى، فان كان بحيث يختل به
النظام، فالعقل حاكم بطرحه. ولا اشكال فيه. وأما لو لم يكن بهذه
المثابة، فالتمسك في رفعه بالأدلة السمعية الدالة على نفى الحرج في الدين
محل تأمل، إذ يمكن أن يقال ظاهرها عدم جعل الشارع تعالى تكليفا
يوجب الحرج بنفسه. ولا اشكال في أن التكاليف المجعولة من قبل الشارع
ليست بنفسها، بحيث يوجب امتثالها الحرج والمشقة، وانما جاء الحرج
من قبل جهل المكلف في تعيينها. وبعد عروض هذا الجهل يحكم العقل
بوجوب الاحتياط، وليس الاحتياط شرعيا، حتى يلزم منه جعل الحرج،
فما جعله الشارع ليس بحرجي، وما يكون حرجيا ليس بمجعول للشارع.
هذا ولكن الاشكال في الكبرى ليس في محله، بعد ملاحظة
الانصاف وفهم العرف، فان ما يفهم العرف من أدلة الحرج هو عدم
تحقق الحرج على المكلف من ناحية الشارع، سواء كان بجعله ابتداء أم
كان بجعل الاحكام الواقعية، واشتبه على المكلف، فوقع في الكلفة بحكم
العقل وامضاء الشارع (53).
107

نعم يمكن القول بعدم شمولها للموارد التي الزم المكلف على نفسه
المشقة - كما لو آجر نفسه لعمل شاق - بوجهين (أحدهما) أن القضية
واردة في مقام المنة، ولا منة في هذه الموارد (ثانيهما) ان العمل بعد هذا
الالتزام مستند إلى نفس الملتزم، لا إلى الشارع.
وقد يورد على الاخذ بالاحتياط انه مخالف للاحتياط، وهذا
الايراد مبنى على اعتبار قصد الوجه، وقد أشبعنا الكلام في الجواب عن
ذلك في مبحث مقدمة الواجب، فراجع. ونزيد هنا أنا لو سلمنا ذلك
فهو مختص بصورة قدرة المكلف على تحصيل العلم التفصيلي. وأما في
غيرها فلا، خصوصا في ما إذا لم يقدر على تحصيل الطريق الشرعي، أيضا،
كما هو المفروض في المقام، لان الظن الذي لم يقم دليل شرعي على
حجيته لا يجوز قصد الوجه به، وان اكتفى المدعى بقصد الوجه بالوجوب
العقلي، فهو ممكن بالنسبة إلى الاحتياط اللازم بمقتضى حكم العقل في
المقام.
هذا واما المقدمة الثالثة - وهي عدم جواز ترك التعرض
لامتثال التكليف بنحو من الأنحاء - فيدل عليه (أولا) العلم الاجمالي
بوجود الاحكام، وهو يوجب الموافقة القطعية، وبعد عدم التمكن أو عدم
الوجوب تسقط الموافقة القطعية، ولكن تبقى حرمة المخالفة القطعية بحالها،
فان قبح المخالفة القطعية لا يمكن ان يرفع في حال من الأحوال، كما قرر
108

ذلك في محله.
و (ثانيا) الاجمال القطعي، فان اهمال معظم الاحكام - وكون
المكلفين بالنسبة إليها كالبهائم والانعام - مما يقطع بأنه مرغوب عنه
شرعا، وهو الذي يعبر عنه في لسان العلماء بالخروج عن الدين، فان من
اقتصر على ما علم - من الاحكام مع قلتها وترك المجهولات مع كثرتها -
يكاد ان لا يعد من الملتزمين بدين الاسلام.
والحاصل ان بطلان هذه الطريقة أوضح من أن يخفى على العوام،
فضلا عن الخواص.
(واما المقدمة الرابعة) وهي ترجيح الظن في مقام الامتثال على
غيره بعد التنزل عن العلم، فان تمسكنا في المقدمة الثالثة بالعلم الاجمالي
فوجهه واضح، لأنه موجب للموافقة القطعية بحسب اقتضائه الأولى، فإذا
لم تجب الموافقة، فلا يسقط عن تنجيز الواقعيات رأسا، كيف؟ وحرمة
المخالفة القطعية من آثار هذا العلم عقلا (54)، وإذا لم يسقط عن
109

التنجيز، فاللازم مراعاته بقدر الامكان، وهو منحصر بالأخذ بالظن.
واما لو لم نقل بتأثير العلم الاجمالي، وتمسكنا لحرمة مخالفة
الاحكام المجعولة في المقام بالاجماع فيشكل الحكم بتقديم الظن
عقلا (55)، لان الاجماع ان كان منعقدا على مجرد حرمة المخالفة القطعية
لتلك الأحكام، فيكفي في عدم مخالفة هذا الاجماع الاتيان بالمشكوكات
والموهومات، وإن كان على وجوب الاخذ بالظن، فتعين الظن حينئذ
شرعي لا عقلي، إلا أن يقال بان الاجماع منعقد على أمرين: (أحدهما)
حرمة المخالفة القطعية (ثانيهما) عدم جواز الاكتفاء بالشك أو الوهم،
فنتيجة هذين الاجماعين ان الشارع إما جعل طريقا خاصا للواقعيات، واما
أن الظن عنده حجة. ولما كان الطريق الآخر مشكوكا فيه، والقابل
للسلوك إلى الواقع في هذه الحال منحصرا في الظن، يتعين بالعقل اعتباره.
هذا ولكن لا يخفى أن هذا البيان يرجع إلى حجية الظن شرعا من
باب الكشف، وسيجئ توضيح ذلك انشاء الله تعالى.
وينبغي التنبيه على أمور:
111

(أحدها) أنه بعد صحة مقدمات الانسداد هل النتيجة اعتبار
الظن مطلقا بمعنى جواز الاكتفاء بالمظنونات، ورفع اليد عن المشكوكات
والموهومات، أو اعتبار الظن الاطميناني لو كان بين الظنون تفاوت، وإلا
فمطلق الظن، أو يحكم بوجوب العمل بالظن بمقدار العلم بالتكليف، فان
كان بين الظنون ترجيح من حيث القوة يؤخذ ذلك المقدار من الظن
القوى، والا يتخير، أو يحكم بالأخذ بالظنون النافية للتكليف بمقدار يرفع
به الحرج، ويقدم القوى منها على الضعيف، ويحتاط في الباقي، سواء كان
من موارد الظنون المشتبهة أم غيرها؟ وجوه. والذي تقضيه القاعدة هو
الأخير - وفاقا لشيخنا المرتضى قدس سره - ثم الثالث.
بيان ذلك أنه لا اشكال في أن للمعلومات الاجمالية مقدارا متيقنا
بحسب العدد، وهذا لا شبهة فيه. وانما الاشكال في أن الامتثال في الخارج -
بمقدار ما علم اجمالا - هل يكفي في خروج المكلف عن عهدة العلم
الاجمالي، وان لم يعلم به أم لا؟ مثال ذلك لو علم بوجود النجاسة في
أحد الإناءين، واحتمل نجاسة كليهما أيضا، فترك أحدهما وشرب من
الآخر، وكانا نجسين في نفس الامر، فهل يكفي في رفع العقاب عنه اجتناب
أحدهما الذي كان نجسا في نفس الامر، نظرا إلى أن العلم الاجمالي ليس
متعلقا بأزيد من تكلف واحد، وقد امتثل بحكم الفرض، وان لم يعلم
بذلك، أو يصح العقوبة عليه بمجرد ارتكابه الشرب من الآخر، نظرا
إلى أن العلم الاجمالي بوجود أحد النجسين بين الإناءين يصحح العقوبة على
ارتكاب شرب ما هو نجس بينهما؟ الأقوى الثاني، لشهادة الوجدان
الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بعدم معذورية المكلف المفروض في
ارتكاب شرب ما هو نجس واقعا.
لا يقال: على هذا يلزم ثبوت العقابين في محل الفرض على من
112

شرب من كلا الإناءين وهو باطل، ضرورة ان العلم بتكليف واحد
لا يصحح العقابين،، إذ الآخر مشكوك فيه، وليس العقاب عليه الا عقابا
بلا بيان.
لأنا نقول: إن العلم الاجمالي بثبوت أحد التكليفين يوجب عقابا
واحدا على المخالفة المتحققة بينهما، فلو شرب من الإناءين في محل الفرض،
يستحق عقوبة واحدة، وكذا لو شرب من اناء، لاشتراك الفرضين في
تحقق المخالفة الواحدة التي كانت محرمة بحكم العقل.
إذا عرفت هذا فنقول: إن مقتضى العلم الاجمالي في المقام أن
يحتاط في تمام الأطراف، توصلا إلى الموافقة القطعية، واجتنابا عن المخالفة
الواقعية، فإذا دل الدليل على الترخيص في بعض الأطراف - وهو المقدار
الذي يرفع الحرج - بترك الاحتياط فيه (56)، فالمقدار المعلوم بالاجمال لو
كان في الباقي، توجب مخالفته العقوبة، فيجب الاحتياط في غير مورد
الترخيص، تخلصا من المخالفة الموجبة للعقاب.
هذا وأما إن قلنا بكفاية الامتثال بالمقدار المعلوم بالاجمال في
نفس الامر، فيقتصر على العمل بالظنون المثبتة للتكليف بالمقدار المعلوم
بالاجمال، لان العلم الاجمالي بمقدار خاص يوجب الاتيان به علما، وان لم
يمكن فالواجب الاتيان به ظنا. ولا دليل على الاتيان بأزيد من ذلك
113

وحينئذ فلو تمكن من تحصيل الاطمينان بالمقدار المذكور، اقتصر عليه،
وإن تساوت الظنون يتخير في اخذ المقدار المذكور من بينها. هذا مقتضى
التأمل في نتيجة دليل الانسداد. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.
الامر الثاني أن قضية المقدمات المذكورة - على تقدير سلامتها -
هل هي حجية الظن بالواقع أو بالطريق أو بهما معا؟ فقد ذهب إلى كل
فريق، واختار شيخنا المرتضى قدس سره الثالث.
وحاصل ما افاده في وجهه: أن المهم للمكلف تحصيل براءة
الذمة عن الواقعيات، فان تمكن من ذلك على سبيل العلم، تعين عليه.
وان انسد باب القطع إلى ذلك يتنزل إلى الظن بذلك. ولا اشكال في
أن العلم بالبراءة - كما أنه يحصل بأحد أمرين إما تحصيل العلم بالواقع
واتيانه، وإما تحصيل ما هو طريق قطعي إليه، وليس بينهما تفاوت عند
العقل - كذلك الظن بالبراءة يحصل بأحد أمرين إما تحصيل الظن
بنفس الواقع، وإما تحصيل الظن بما هو طريق مجعول إليه شرعا، فإذا انسد
باب تحصيل العلم بالمبرئ يؤول امر المكلف إلى التنزل إلى الظن بذلك.
ولا يعقل الفرق بين الظنين، لما قلنا إن المهم عند العقل في مقام الامتثال
ليس ادراك الواقعيات، بل الخروج عن عهدة ما صار منجزا على المكلف
بأي نحو كان.
هذا، أقول: لا اشكال في الكبرى التي أفادها في المقام، وهو ان
العقل - بعد انسداد باب تحصيل العلم بالمبرئ - يعين الظن به بأي وجه
كان، إنما الاشكال في أن العمل بما ظن كونه طريقا - وان لم يفد نفسه
ظنا بالواقع - ظن بالابراء.
ومحصل الاشكال ان بدلية مفاد الطرق عن الواقع لو كانت تابعة
لتحققها واقعا، وإن لم يعلم بها، كان الامر كما افاده قدس سره، لكن
114

هذا خلاف التحقيق، فان من علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا،
فترك الجمعة واتى بالظهر، وكان ما تركه هو الواجب في نفس الامر،
واتفق مقارنة تركه الواجب طريقا شرعيا دالا على عدم الوجوب،
لا يوجب الثبوت الواقعي لذلك الطريق، فرفع استحقاقه العقوبة بحكم
العقل، واسقاط عقوبة الواقع في صورة العمل بالطريق إنما هو من لوازم
العلم بحجيته، لا من لوازم ثبوته في الواقع.
لا يقال ثبوته بالحجة كثبوته بالعلم، والمفروض حجية مطلق الظن
في حال الانسداد.
لأنا نقول اعتبار الظن هنا موقوف على تعلقه بالمبرئ، فان كان
الابراء بواسطة اعتبار الظن لزم الدور.
والحاصل ان تعميم الظن - للظن بالطريق بمجرد العلم الاجمالي
بالواقعيات - في غاية الاشكال، لما مر. نعم يمكن دعوى اعتبار الظن في
الطريق بواسطة دعوى العلم الاجمالي الآخر المتعلق به، كما يأتي تقريبه
انشاء الله تعالى.
(حجة) من ذهب إلى الاختصاص بالظن بالطريق أمران:
(أحدهما) ما ذكره صاحب الفصول قدس سره، قال: (انا كما نقطع بانا
مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا
بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق
معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع،
ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو
الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على
حجيته، لأنه أقرب إلى العلم والى إصابة الواقع مما عداه).
وفيه - بعد تسليم هذا العلم الاجمالي - أن اللازم الاخذ بالقدر
115

المتيقن إن كان، والا فالاحتياط بأخذ مضامين تمام الطرق التي تكون
أطرافا للعلم لعدم كون الاحتياط في الطرق حرجيا، وان قلنا بكونه
كذلك في أطراف تمام المحتملات. ولازم ذلك أن يأتي بمؤدى كل
واحد من الطرق المثبتة إن لم يكن له معارض. وفى غير هذه الصورة إن
كان المعارض نافيا للتكليف، وكان من غير نوعه، فالعمل على طبق
الامارة المثبتة وان كان نافيا، وكان فردا آخر من نوعه، فالعمل على
الأصل في غير الخبر مطلقا، وفي الخبر على التخيير إن لم يكن للمثبت
ترجيح، والا يتعين العمل به.
هذا إذا كان المعارض نافيا للتكليف، وأما إذا كان مثبتا
لتكليف مضاد للآخر، فالعمل على الأصل في غير صورة كونهما فردين من
الخبر، وفيهما التخيير مع عدم المرجح، وتعيين أحدهما مع المرجح. ويظهر
وجه ما ذكرنا كله بالتأمل.
ثم انه على فرض كون العمل، بالاحتياط - فيما بأيدينا من
الطرق - موجبا للعسر والحرج، فهل المتعين العمل بالظن بالطريق
أم لا؟ ومبنى ذلك أن الطرق المجعولة - بعد العلم بها - هل هي مثل
العلم في انحلال التكاليف المعلومة بالاجمال أم لا؟ غاية الامر أن الاتيان
بمؤداها يجب، بدلا عن اتيان الواقع.
وتوضيح ذلك أنه لو علم بوجوب عمل معين - بعد كونه من
أطراف العلم الاجمالي - ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك
البدوي. واللازم عليه بحكم العقل الاتيان بما علم تفصيلا، وباقي
الأطراف مورد لأصالة البراءة. ولو فرض الخطأ في علمه، بان لم يكن ما
قطع بوجوبه واجبا في نفس الامر، وكان الواجب ذاك الطرف الآخر
الذي صار محكوما بالبراءة، لم يكن عليه شئ، وإن لم يأت بأحدهما،
116

فان ما هو واجب صار موردا للبراءة بحكم العقل، وما قطع بوجوبه لم
يكن واجبا واقعا، فلا يضر مخالفته.
نعم ان قلنا بايجاب التجري للعقوبة يستحقها في الفرض من قبل
التجري، وكذا الحال في ما إذا كان الواجب المعلوم مرددا بين أزيد من
طرفين أولا، ثم علم بوجوده بين طرفين منها، فان الوجب بحكم العقل
الاحتياط في الطرفين، وباقي الأطراف التي كانت طرفا للعلم أولا مورد
للبراءة. والوجه في ذلك واضح.
هذا فيما إذا تحقق العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي. وأما إذا قام
طريق معتبر على أحد الأطرف تفصيلا أو اجمالا في بعض أطرافه فهل
يحكم بالبراءة فيما لم يقم عليه طريق، بمجرد قيام الطريق على بعض
الأطراف، وإن لم يعمل به عصيانا أو أن الحكم بالبراءة - في الطرف
الخالي عن الطريق - موقوف على العمل بمؤدى الطريق. مثلا لو فرضنا
قيام طريق معتبر على وجوب الظهر، بعد العلم الاجمالي بوجوب الظهر أو
الجمعة، فهل يحكم بالبراءة عن الجمعة، وعدم صحة العقاب عليها، وإن
لم يأت بالظهر عصيانا، أو أن الحكم بالبراءة عن تكليف الجمعة موقوف
على اتيانه بالظهر الذي كان واجبا بمقتضى الطريق؟
وتظهر الثمرة فيما لو لم يأت بالظهر، واتفق كون الواجب هو
الجمعة، ولم يأت بها أيضا. فعلى الأول لا يستحق العقاب أصلا، أما على
ترك الجمعة فلكون وجوبها موردا للبراءة. واما على ترك الظهر فلعدم كونه
واجبا في الواقع. وقد تحقق في محله أن مخالفته لا توجب العقوبة الا على
تقدير مصادفتها مخالفة الواقع. والمفروض عدمها في المقام. وعلى الثاني
يستحق العقوبة على ترك الواجب الواقعي، لأن المفروض أن جريان
البراءة في مورده يتوقف على اتيان مؤدى الطريق، ولم يأت به. الأقوى
117

هو الثاني (57)، لان قيام الطريق لا يوجب انحلال العلم الاجمالي حقيقة،
بداهة أن الاجمال باق في النفس بعد، فلا يرتفع اثره عند العقل، غاية
الامر أنه لما نزل الشارع مؤدى الطريق منزلة الواقع، يجب بحكم العقل
قيامه في مقام الامتثال مقام الواقع، فلو أدى إلى وجوب الظهر بعد العلم
الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة، فاتيانه بمنزلة اتيان الواجب الواقعي،
فلو كان واجبا واقعا فهو، والا كان بدلا عنه في مرحلة الامتثال، فيكفي
في مقام لزوم امتثال الواجب الاتيان بمؤدى الطريق. وأما لو لم يأت
بمؤدى الطريق، ولا بالواقع، فيستحق العقاب، لأنه لم يأت بالواقع
- المنجز عليه بسبب العلم الاجمالي - لا أصلا ولا بدلا.
ومن هنا اتضح ان اثر العلم الاجمالي لا يرتفع بمحض قيام الطريق
على بعض أطرافه، بل يكون الاتيان بموارده بدلا عن الواقع في مرحلة
الامتثال، فيتخير المكلف بين اتيان الأصل واتيان البدل.
إذا عرفت ذلك ظهر لك أن لازم ما ذكرنا كون العمل الطرق
مساويا للعمل بالواقع في مقام الامتثال عقلا، فإذا تمكن من العلم يتخير
بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطريق، وعند عدم التمكن من العلم،
يقوم الظن في كل منهما مقام العلم.
(الوجه الثاني) ما أفاده بعض المحققين، ومحصل كلامه قدس
سره يتضح في ضمن مقدمات:
(الأولى) العلم بكوننا مكلفين بالأحكام الشرعية اجمالا، وانه لم
118

يسقط عنا التكليف بواسطة الجهل بخصوصياته.
(الثانية) أن كل ما يجب العلم به في زمان الانفتاح يجب الظن
به عند الانسداد.
(الثالثة) انه في حال الانفتاح يجب العلم ببراءة الذمة في حكم
الشارع، دون العلم باتيان الواقع.
(الرابعة) - بعد لزوم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع في
حال الانسداد - ان الظن بالواقع لا يلازم الظن بالبراءة في نظر الشارع،
بخلاف الظن بالطريق، فتنحصر الحجة في زمان الانسداد بالظن
بالطريق، والأوليان بمكان من الوضوح.
والدليل - على الثالثة على ما افاده قدس سره في مقدمات هذا
المطلب - هو (ان المناط في وجوب الاخذ بالعلم وتحصيل اليقين من
الدليل، هل هو تحصيل اليقين بمصادفة الاحكام الواقعية الأولية، إلا أن
يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره، أو أن الواجب أولا هو تحصيل اليقين
بتحصيل الاحكام، وأداء الأعمال على وجه أراد الشارع منافي الظاهر،
وحكم معه قطعا بتفريغ الذمة، بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها، مما جعلها
وسيلة للوصول إليها، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك، أو لم يحصل به
شئ منهما؟ وجهان:
والذي يقتضيه التحقيق هو الثاني، فإنه القدر الذي يحكم العقل
قطعا بوجوبه، ودلت الأدلة المتقدمة على اعتباره، ولو حصل العلم بها،
على الوجه المذكور، لم يحكم العقل قطعا بوجوب تحصيل العلم بما في
الواقع، ولم يرد شئ من الأدلة الشرعية بوجوب تحصيل شئ وراء
ذلك، بل الأدلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك، إذ لم تبن الشريعة من
أول الامر على وجوب تحصيل كل من الاحكام الواقعية على سبيل القطع
119

واليقين، ولم يقع التكيف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع، وفى
ملاحظة طريق السلف من زمن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم
السلام كفاية في ذلك، إذ لم يوجب النبي صلى الله عليه وآله - على جميع
من في بلده من الرجال والنساء - السماع منه في تبليغ الاحكام أو
حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الاحكام أو قيام القرينة
القاطعة على عدم تعمد الكذب أو الغلط في الفهم أو في سماع اللفظ، بل
لو سمعوه من الثقة اكتفوا به) انتهى كلامه رفع مقامه.
وحاصل ما افاده قدس سره ان الواجب بحكم العقل تحصيل
العلم بالبراءة في حكم الشارع في حال الانفتاح. ولما كان الواجب في
حال الانسداد تحصيل الظن بما كان يجب تحصيل العلم به حال الانفتاح،
يلزم تحصيل الظن بالبراءة في حكم الشارع. وأما الدليل على أن العمل
بالظن بالطريق يوجب الظن بالبراءة في حكم الشارع، دون العمل بالظن
بالواقع، فهو ما أشار إليه في طي كلماته، من أن الظن بالعمل بالواقع قد
يجامع القطع بعدم البراءة عند الشك، كالظن القياسي، فتعين العمل
بالظن بالطريق، فإنه ملازم الظن بالمبرء.
والجواب (أولا) بالنقض بما قام الظن القياسي على حجية
طريق، فإنه ليس بمعتبر قطعا، فان كان عدم اعتبار ظن من الظنون موجبا
لعدم الاعتماد على الباقي، فاللازم عدم الاخذ بالظن بالطريق أيضا.
و (ثانيا) - أن ما أسسه - من لزوم تحصيل العلم بالبراءة في حكم
المكلف - لا وجه، لأنه ليس من وظيفة الآمر الحكم بالبراءة، وانما
يحكم بها العقل، سواء اتى بنفس الواقع على وجه الجزم، أو اتى بمؤدى
الطريق المجعول.
أما في الأول فواضح لأنه ليست براءة الذمة مستندة إلى حكم
120

الشارع عند العمل بالقطع، بل القاطع يقطع ببراءة ذمته عن الواقع، من
دون ملاحظة حكم من الشرع.
واما في الثاني فلان العقل يحكم أيضا بان الاتيان بمؤدى الطريق
الذي هو واقع ثانوي منزل في لسان الأدلة منزلة الواقع الأولى، بمعنى عدم
صحة العقاب عليه لو كان غير مؤدى الطريق.
وكيف كان فالحكم بالبراءة عما كلفنا الشارع من العقل، وهو
يلزمنا بتحصيل العلم بها في نفس الامر. ولا شك في أن البراءة اليقينية
عند الانفتاح تحصل بأحد أمرين إما اتيان نفس الواقع، وإما اتيان ما هو
مؤدى الطريق المعتبر، فاللازم عند الانسداد الظن بالبراءة في نفس الامر،
وهو أيضا لا يختص باتيان ما هو مؤدى الطرق المظنونة. فالقول - بان
العمل بالظن بالواقع لا يوجب الظن بالبراءة، بخلاف العمل بالظن
بالطريق - تحكم.
هذا فيما إذا علم بنصب الطريق اجمالا. وأما مع قطع النظر عن
ذلك - كما هو مبنى كلام المستدل - فلنا ان نمنع جواز العمل بالظن
بالطريق أصلا، كما عرفت مما ذكرنا سابقا فراجع.
الامر الثالث هل المقدمات المذكورة - على تقدير - تماميتها تنتج
اعتبار الظن على نحو حكومة العقل أو موجبة لكشف العقل عن اعتبار
الظن شرعا؟ الحق هو الأول، فان العلم الاجمالي بوجود واجبات
ومحرمات يوجب وجوب الامتثال بحكم العقل، فان تمكن من ذلك ولم
يكن له مانع تعين عليه الامتثال القطعي، وان لم يتمكن أو أسقط عنه
الشارع الامتثال القطعي، يجب التنزل إلى الظن، لأنه أقرب إلى الواقع
المنجز عليه، بمقتضى العلم من الشك أو الوهم. ولا يجوز العقل - بعد
وجود مراتب متفاوتة للامتثال - المصير إلى المرتبة النازلة إلا بعد عدم
121

التمكن من ما فوقها، أو سقوطه بالاذن الشرعي. وبعد وجود هذا الحكم
القطعي من العقل، لا يجب على الشارع جعل الطريق.
فان قلت: الامر كما تقول فيما إذا كان رفع اليد عن المرتبة العليا
بواسطة عدم التمكن عقلا. وأما إذا كان بواسطة اذن الشارع، فيكشف
عن عدم فعلية الاحكام على تقدير تحققها في البعض المرخص فيه، لامتناع
اجتماع الحكمين الفعلين في مورد واحد، ووجودها في البعض الآخر غير
معلوم، فاذن ينتفى اثر العلم الاجمالي بالمرة. فللقائل باعتبار الظن من باب
الكشف أن يقول: لم يبق لنا الا الاجماع على عدم جواز ترك التعرض
للأحكام الواقعية بوجه من الوجوه، واجماع آخر على عدم جواز الاقتصار
على مجرد اتيان المشكوكات أو الموهومات، فيثبت بذينك الاجماعين جعل
طريق من الشارع، إذ لولا ذلك لما صح عقلا العقاب على ترك التعرض
للأحكام، فان ما كان منجزا وهو العلم الاجمالي قد ارتفع اثره. ولما كان
الطريق القابل للسلوك في نظر المكلف في الحال التي هو عليها منحصرا
بالظن يكشف عن اعتباره.
قلت رفع اثر العلم الاجمالي - مطلقا بواسطة الاذن في بعض
الأطراف - ممنوع. أما بناءا على عدم المنافاة بين فعلية الاحكام الواقعية
والترخيص الوارد من الشرع في مورد الشك فواضح، لان العلم بوجود
الاحكام الفعلية باق على حاله مع هذا الترخيص (58)، فيجب على
122

المكلف امتثال تلك الأحكام المعلومة إما قطعا إذا لم يكن له مانع، وإلا
ينزل إلى الظن بحكم العقل.
واما بناءا على منافاة الاذن في بعض الأطراف مع فعلية الواقع.
فلعدم الملازمة بين الترخيص ورفع الفعلية على الاطلاق، بل غاية ما يلزم
الترخيص رفع الفعلية بمقدار يقتضى الموافقة القطعية.
هذا إذا قلنا بوجوب امتثال الاحكام الواقعية من جهة ثبوت
العلم الاجمالي، كما هو الحق. وأما بناءا على عدم تنجيز العلم الاجمالي
والتمسك - لعدم جواز ترك التعرض للأحكام الواقعية المجهولة -
بالاجماع، فيمكن ان يقال ان لازم هذا المبنى التزام جعل الظن من قبل
الشارع.
توضيح المقام أن صاحب هذا المبنى يحكم بالبراءة في تمام
أطراف العلم الاجمالي، لأنه كالشك البدوي عنده بحسب الفرض، غاية
الامر تحقق الاجماع في المقام على عدم البراءة في تمام الأطراف، فان
123

اقتصر على دعوى هذا الاجماع، لا يجب عليه عقلا الا الاتيان ببعض
الأطراف، وان كان من موارد المشكوكات أو الموهومات. وهذا أيضا لم
يقل به أحد، فيتحقق اجماع آخر على عدم جواز الاقتصار على اتيان
المشكوكات أو الموهومات، فينتج الاجماعان اعتبار طريق من الشارع. ولما
لم يكن ما يقبل السلوك بحسب حال المكلف إلا الظن، يكشف عن
اعتباره من بين الطرق.
هذا ولكن يمكن أن يقال إن المستكشف من الاجماع اهتمام
الشارع بالواقعيات، وهذا يكفي في حكم العقل بالإطاعة بالمقدار الممكن،
ولا يلزم جعل الطريق، فانا لو أحرزنا من الشارع الاهتمام بأمر، نحكم
بلزوم مراعاته، وان كان من موارد الشكوك البدوية.
ومن هذا الباب حكمهم بلزوم الاحتياط في باب الاعراض
والدماء والأموال. ومن هنا ظهر عدم الاحتياج إلى دعوى الاجماع الثاني،
فإنه بعد انعقاد الاجماع على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في التكاليف
المجهولة، يستكشف اهتمام الشارع بالواقعيات. وبعد هذا الاستكشاف
يحكم العقل بلزوم مراعاته بقدر الامكان.
124

والحاصل أن القطع - بجعل الطريق من قبل الشارع بواسطة
مقدمات الانسداد - مما لا وجه له، بعد وجود الطريق العقلائي الامتثال
الذي يحكم العقل بوجوب الاخذ به في مقام الإطاعة. وليس هذا من
الاحكام العقلية التي يستكشف منها الحكم الشرعي من باب الملازمة،
لان الحكم في باب الإطاعة والعصيان ليس من وظيفة المولى، ولو صدر
من قبله حكم في هذا الباب يحمل على الارشاد. هذا.
الامر الرابع هل المقدمات تنتج اعتبار الظن على نحو الاطلاق، أو
على نحو التقييد بظن خاص، أو تنتج اعتباره على نحو الاهمال؟ ثم
الاطلاق والتقييد قد يعتبر ان بالنسبة إلى الأسباب، وقد يعتبران بالنسبة
إلى مراتب الظن، وقد يعتبران بالنسبة إلى الموارد.
وتحقيق المقام أن يقال إنه لا وجه للالتزام باهمال النتيجة، بحيث
تبقى الحجة مرددة بين ابعاض الظنون، أو بينها، وبين سائر الطرق الاخر.
بيان ذلك أنا لو بنينا على حكومة العقل، فلا يخلو إما أن نقول
بحرمة المخالفة في المعلوم بالاجمال الا بمقدار العسر والحرج وإما أن نقول
إن الحرج أوجب سقوط الموافقة القطعية قيام الموافقة الظنية في المقدار
المعلوم بالاجمال مقام الموافقة العلمية، فعلى الأول لا يجوز ترك الاحتياط الا
في مقدار يكون حرجا على المكلف، فان ارتفع الحرج بترك الاحتياط في
موارد الاطمينان بعدم التكليف، يجب الاقتصار عليه، وإلا يتعدى في
ترك الاحتياط إلى باقي الظنون النافية للتكليف. وهكذا.
وعلى الثاني يجب الرجوع إلى الظنون الاطمينانية المثبتة
للتكليف، لو كانت وافية بالمقدار المعلوم بالاجمال، والا يتممها من باقي
الظنون، ويعمل في الزائد بالأصل. ولا فرق فيما ذكرنا على القولين بين
أسباب الظن، كما أنه في حال الانفتاح لا فرق بين أسباب حصول العلم
125

في لزوم اتباعه عقلا، وكذا لا فرق بين الموارد لان المعيار عند العقل هنا
العلم بالتكليف.
نعم يمكن أن يقال - بناءا على الأول - الظن الاطميناني بعدم
التكليف لا يؤخذ به في الموارد التي عرفت اهتمام الشارع بها، كالدماء
والفروج والأموال وأمثال ذلك (59) بل يحتاط فيها، كما أنه بناءا على
الثاني لا تكون هذه الموارد مجرى للبراءة، وان كانت خارجة عن مورد
الظن الاطميناني.
هذا بناءا على حكومة العقل. وأما بناءا على الكشف، فالذي
ذهب إليه صاحب هذا القول أن العقل يكشف عن حجية طريق واصل
إلينا، دون الطريق الواقعي الذي يبقى مجهولا عندنا، فان وجه اعتبار
الطريق في هذا الحال رفع تحير المكلف من الواقعيات المشكوك فيها،
فلا معنى لجعل طريق واقعي يكون المكلف متحيرا فيه. ومقتضى هذا
القول أن يؤخذ بالقدر المتيقن، ولو في حال الانسداد إن كان في البين
وكان وافيا في الفقه، وإلا فان كان لبعض الظنون ترجيح في نظرنا
وأمكن الاكتفاء به في الفقه نقتصر عليه، والا نأخذ بمطلق الظن.
126

هذا ثم إنه على تقدير القول بحجية الطرق الواقعية، فاللازم
الاحتياط بأخذ الجميع لو لم يكن فيه محذور، والا فاللازم ترتيب مقدمات
الانسداد في الطريق إلى أن ينتهى إلى مقدار من الظن لا يكون زائدا على
قدر الكفاية في الفقه، ولم يكن محذور في الاحتياط فيه والدليل على
ذلك أن الطرق احكام ثانوية شرعية، فكما أن انسداد باب العلم بالنسبة
إلى الاحكام الواقعية مع سائر المقدمات يقتضى جعل الشارع طريقا إليها،
كذلك حال انسداد باب العلم بالنسبة إلى الاحكام الثانوية، من غير
تفاوت أصلا.
ومما ذكرنا يظهر لك أنه لا وجه لتوهم أنه على تقدير اشتباه
الطرق الواقعية المجهولة، وعدم لزوم الاحتياط، لابد من الانتهاء إلى
حكومة العقل، فان القائل بهذا المبنى ليس قائلا بحكومة العقل، وإلا لم
يقل بالطرق الشرعية المجعولة محال الانسداد. هذا.
الامر الخامس - أنه - بناءا على حجية الظن من باب الحكومة -
قد استشكل في الظن القياسي. وملخص الاشكال فيه أنه ان قلنا بحجية
الظن القياسي في حال الانسداد - كباقي الظنون - فهو مخالف للأخبار المتواترة
، بل اجماع الشيعة على الخلاف، وإن قلنا بعدم حجيته، فلا يخلو
إما أن يقال بعدم ملاك الحجية فيه، وإما أن يقال بوجود الملاك فيه.
والأول باطل، لان ملاك الحجية عقلا - في حال الانسداد - ليس الا
الظن. والثاني موجب للتخصيص في حكم العقل وهو محال.
فان قيل: نلتزم بعدم حجيته، ونختار الشق الأول، نقول بأن
الملاك عند العقل هو الظن الذي لم يمنع عنه الشارع، فإذا منع الشارع عن
ظن يخرج عن موضوع حكم العقل، فخروج الظن القياسي تخصص
لا تخصيص.
127

(قلت) هذا موقوف على صحة منع الشارع عن العمل بالظن في
حال الانسداد، ولا يمكن ذلك، إذ لو صح لما قطع العقل بحجية سائر
الظنون أيضا، لاحتمال منع الشارع عن العمل بها. ولا دافع للاحتمال
المذكور إلا حكم العقل بقبح المنع من الشارع. ولا يخفى أن هذا الاشكال
لا يبتني على القول بحجية الظن، بل يأتي على القول بالتبعيض في الاحتياط
أيضا. نعم مورد الاشكال على الأول هو الظن القياسي المثبت للتكليف،
وعلى الثاني هو الظن القياسي النافي له، كما يظهر وجهه بأدنى تأمل.
والجواب عن الاشكال أنا نلتزم بان المعتبر - بحكم العقل في
حال الانسداد - هو الظن الذي لم يعلم منعه من قبل الشارع، فإذا علم
المنع يخرج عن موضوع حكم العقل. وهذه الدعوى تنحل إلى دعاوى
ثلاث: (الأولى) - ان المعتبر عند العقل ليس مطلق الظن.
(الثانية) - أن الخصوصية المعتبرة في الموضوع هو عدم العلم بمنع
الشارع، لا عدم منع الشارع واقعا.
(الثالثة) - جواز منع الشارع عن العمل بظن في حال الانسداد.
أما الدليل على الأولى، فهو أن وجه الزام العقل العمل بالظن إنما
هو. تنجز الواقعيات بواسطة قيام الحجة عليها من العلم الاجمالي، وأنه مع
هذا الوصف لا يؤمن المكلف من العقاب لو ترك العمل بما يظن كونه
حكما واقعيا، وبعد منع الشارع عن العمل بظن يقطع بعد العقاب على
مؤدى ذلك الظن وإن كان حكما واقعيا (60).
128

وأما الدليل على الثانية، فهو أن احتمال منع الشارع عن العمل
بظن في حال الانسداد راجع إلى احتمال براءة ذمة المكلف عن مؤداه لو
كان حكما واقعيا (61)، وبعد قيام الحجة - أعني العلم الاجمالي -
129

لا يعتنى بهذا الاحتمال. وهل هذا الا كاحتمال حجية ظن في حال
الانفتاح؟ فكما أنه هنالك لا يجوز الاكتفاء بالاحتمال المذكور في قبال
الامتثال العلمي، كذلك هنا لا يجوز الاعتماد عليه في قبال الامتثال
الظني. وهذا واضح جدا.
وأما الدليل على الثالثة، فهو أن وجه عدم الجواز منحصر في
أمرين (أحدهما) - اجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد
(ثانيهما) - تفويت المصلحة.
والجواب عن الأول أن اختلاف مرتبة الحكم الظاهري والواقعي
يصحح وجودهما بدون تناف وتضاد أصلا، وعن الثاني أن تفويت
المصلحة قبيح لو لم تكن تلك المصلحة مزاحمة مع مصلحة أخرى، إما في
الجعل وإما في متعلقه. وقد ذكرنا نظير ما ذكر هنا في رد اشكال جعل
الطريق في حالا الانفتاح مستقصى، فراجع. فان المقامين من واد واحد.
130

اشكالا وجواب.
(الامر السادس) أنه لو قام فرد من افراد مطلق الظن على حرمة
العمل ببعضها، فهل يجب الاخذ بالظن المانع أو الممنوع، أو يحكم
بالتخيير، أو يسقط كلاهما عن الاعتبار؟
أقول قد عرفت - مما ذكرنا سابقا في تعيين نتيجة دليل
الانسداد - أن مقتضى القاعدة أحد أمرين:
إما التبعيض في الاحتياط - وهو تركه في الموارد التي يطمأن
بعدم ثبوت التكليف، واتيان الباقي إذا ارتفع الحرج بذلك، وإلا يتعدى
إلى مطلق الظن النافي. وأما الظنون المثبتة فحالها عند هذا القائل حال
الشك يحتاط فيها، لأنها من أطراف العلم لا من جهة انها ظنون.
وإما وجوب العمل على طبق الظنون الاطمينانية المثبتة
للتكليف بمقدار المعلوم بالاجمال. وأما الظنون النافية فحالها عند هذا
القائل حال الشك في الاخذ بمقتضى الأصل، فعدم الاحتياط فيها ليس
من جهة الظن بعدم التكليف، بل لان مواردها مجرى الأصل. وعلى
كلا الحالين لا اشكال في المقام، حتى يحتاج إلى الدفع.
أما على الأول فالظن الممنوع إن كان مثبتا للتكليف، فيجب عليه
أن يحتاط في مورده، لا لأنه ظن، بل لأنه من موارد الاحتمال، فلا يضر
هذا المدعى الظن بعدم حجية الظن المفروض، بل لو قطع بعدم حجيته
أيضا يحتاط في مورده، لأنه من أطراف العلم.
والحاصل أن المدعى لهذا القول لا يأخذ الظن المذكور حجة، حتى
يمنعه الظن المانع، وان كان نافيا له، وكان من الظنون الاطمينانية أو
بنينا على التعدي منها إلى غيرها من الظنون، لعدم ارتفاع الحرج بترك
الاحتياط في خصوص الظنون الاطمينانية، فلو كان المرجع في عدم حجيته
131

إلى مجرد أن الشارع لم يجعله حجة، فلا اشكال في أن الظن بعدم الحجية
بهذا المعنى لا يضر بترك الاحتياط، بمقدار رفع الحرج بمقتضى الظنون
النافية للتكليف، بداهة أن تارك الاحتياط في المقدار المذكور في موارد
الظنون النافية وإن كان بعضها مما ظن عدم اعتباره لا يخرج من أنه ظان
ببراءة ذمته مما كان عليه. والعقل لا يحكم عليه بأزيد مما ذكر، ولو كان
المرجع إلى حرمة العمل بالظن المفروض بحيث كان المظنون أن العمل به
محرم في هذا الحال، فلا اشكال في تقديم الظن المانع، فان ترك الاحتياط
حينئذ يظن أنه من المحرمات، فاللازم طرح هذا الظن المتعلق بنفي
التكليف الأولى، وجعل المورد كالموارد التي لا ظن فيه أصلا. هذا مقتضى
القول الأول أعني التبعيض في الاحتياط.
وأما على الثاني فالظنون النافية للتكليف بأسرها لا يتفاوت حالها
بين ان يظن عدم حجيتها أم لا، لان العمل بمقتضى تلك الظنون ليس
من باب انها ظنون، بل لاجراء الأصل في مواردها. واما الظنون المثبتة
له، فان كان عنده من الظنون الاطمينانية ما بقى بمقدار التكليف المعلوم،
وما ظن عدم حجيته كان من الظنون الضعيفة، فلا اشكال أيضا، فان ما
يجب اخذه لا مانع فيه. وما فيه المانع لا يجب اخذه، وان كان ما يظن
عدم حجيته من الظنون الاطمينانية أو من غيرها، بناءا على عدم كفاية
تلك الظنون.
فنقول: إن كان مرجع عدم الحجية إلى مجرد أن الشارع لم يجعله
حجة، فلا مانع من العمل بالظنون المفروضة، فان العامل بها في حال
الانسداد لا يخلو من أنه وافق المقدار المعلوم من التكاليف بالظن
الاطميناني أو بمطلق، على اختلاف حال الأشخاص، والعقل لا يلزم
بأزيد من ذلك على المبنى الذي ذكرناه سابقا، وإن كان المرجع إلى أن
132

الشارع جعل العمل به محرما، فلا اشكال في أن الاتيان بمؤدى الظن
الممنوع لا يعد من الموافقة الظنية، فان مقتضى حرمة العمل بالظن
المفروض - في هذه الحال - عدم فعلية الواقع المتعلق للظن الممنوع، فان
الظن - بحرمة العمل بظن فعلا - يلازم الظن بان التكاليف الواقعية
- التي فرض كونها معلومة فعلا - في غير مؤدى الظن المفروض، فلا يعد
العمل بالظن المفروض من الإطاعة الظنية للتكليف الفعلي، حتى يحكم
بوجوبه. هذا ما يقتضيه النظر.
واما لو قيل بحجية الظن في حال الانسداد اثباتا ونفيا، بمعنى
وجوب الاخذ بمؤداه على كل حال في الواقعيات وفي الطرق، بحيث كان
ملاك الحجية في الظنون المتعلقة بالواقع موجودا مطلقا، وكذا في الظنون
المتعلقة بالطرق.
وبعبارة أخرى كان حال الظن حال الانسداد، حال العلم حال
الانفتاح، فيشكل الامر في المقام من حيث أن ملاك الاعتبار موجود في
كليهما. والاخذ بأحدهما دون آخر ترجيح بلا مرجح.
وقد يقال في المقام بتقديم الظن المانع، فإنه بمؤداه يمنع عن الظن
الممنوع بخلاف الظن الممنوع، فإنه بمؤداه لا ينفى المانع، بل ينفيه بواسطة
المنافاة، وعدم امكان الاجتماع في الحجية، فخروج الظن الممنوع من
باب التخصص، لأنه من الظنون التي قام الدليل على عدم اعتبارها،
وقلنا بان موضوع الحجية عند العقل الظن لم يقم دليل على عدم
اعتباره، بخلاف الظن المانع، فإنه ان خرج فإنما هو من باب التخصيص.
ثم قاس هذا القائل المقام بمسألة الشك السببي والمسببي،
فان الوجه - في تقديم الشك السببي - هو ان دخوله تحت الدليل
يوجب خروج الشك المسببي موضوعا، بخلاف الشك المسببي، فإنه
133

لا يوجب خروج الشك السببي موضوعا بل يوجب خروجه حكما من
باب المنافاة، فيقدم الأول لتقدم التخصص على التخصيص. هذا.
وفيه أن قياس المقام بمسألة وجود الشك السببي والمسببي
فاسد من وجوه:
(أحدها) - أن الامر في ذلك المقام دائر بين التخصيص
والتخصص، بخلاف مقامنا، فان اجراء الحكم على كل من الظنين
يوجب خروج الآخر عن الموضوع، لأن المفروض أن الموضوع مقيد بعدم
قيام الدليل على عدم حجيته، والدليل - على حجية شئ تلازم عدم
حجية شئ آخر - دليل على عدم حجية ذلك الشئ الآخر.
و (ثانيها) - أنه لو سلمنا أن الامر في ذلك المقام أيضا لم يكن
دائرا بين التخصيص والتخصص، بل يكون كما يكون كالمقام دائرا بين تخصصين،
كما إذا قلنا بحجية الاستصحاب من باب الطريقية، فيلزم منه القول بأنه
إذا اجرى في الشك المسببي يزول الشك في السبب، كالعكس، من باب
لزوم الاخذ بلوازم الطريق، ولكن يمكن القول بتقديم الشك السببي من
جهة تقدم وجوده على الشك المسببي رتبة، فيرتب عليه حكمه، من دون
مزاحم في مرتبته، حيث إن الشك المسببي الذي هو معلوله ليس موجودا
في مرتبة العلة، بخلاف مقامنا هذا، لعدم الترتب بين الظنين في مرتبة
الوجود. (62)
و (ثالثها) أنه لو فرضنا كون الامر دائرا بين التخصيص
والتخصص في المقام، فلا وجه أيضا لتقديم الظن المانع.
134

توضيح ذلك أن تقدم التخصص على التخصيص - في مقام
الدوران - انما يكون في المعلومات اللفظية من جهة لزوم الاخذ بظاهرها،
إلى أن يدل دليل على الخلاف، فما دام فرد العام موجودا، لا يجوز رفع اليد
عن الحكم المستفاد من القضية الا بواسطة الدليل المخرج. وأما إذا انتفى
الفرد عن الفردية، فليس رفع اليد عن حكمه خلافا للقاعدة.
واما فيما نحن فيه، فان موضوع حكم العقل - مع قطع النظر عن
وروده على المانع أو الممنوع - متحقق في كلا الفردين، لان كلا منهما ظن
لم يقم دليل على عدم اعتباره. ومن الواضح أن مجرد لزوم التخصيص على
تقدير آخر، لا يوجب الترجيح في حكم العقل، فان مسألة الترجيح
بالتخصص إنما هي في مقام الاثبات والاستفادة، دون مقام اللب
والثبوت، فلابد - في إجراء حكم العقل على أحدهما دون الآخر - من
خصوصية واقعية توجب ترجيح أحدهما على الآخر عند العقل. فتدبر
جيدا.
ومما ذكرنا ظهر لك ما في ما افاده شيخنا المرتضى قدس سره في
توجيه هذا الكلام، بقوله: (ان القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية
الممنوع، لان معنى حجية كل وجوب الأخذ بمؤداه، لكن القطع بحجية
الممنوع - التي هي نقيض مؤدى المانع - مستلزم للقطع بعدم حجية المانع،
فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع. وإنما هو عين خروجه، فلا ترجيح
ولا تخصيص، بخلاف دخول الممنوع، فإنه يستلزم خروج المانع، فيصير
135

ترجيحا من غير مرجح انتهى).
وأنت خبير بما فيه، لأنه مع قطع النظر عن الحكم الذي جاء من
قبل دليل الانسداد، لم يكن بين الظنين تفاوت، فما الذي أوجب جريانه
في الظن المانع دون الممنوع. والأولى في الجواب منع المبنى، بانا لا نسلم
وجود ملاك الاعتبار في كل ظن لم يقم على عدم اعتباره دليل، بل
الملاك إما الظن بعدم حصول المخالفة بمقدار ما علم اجمالا، أو الظن
بحصول الموافقة بالمقدار المذكور. والظن الذي فرض كونه ممنوعا - إذا
انسلخ منه ذانك العنوانان - لم يؤخذ به، لعدم وجود الملاك فيه، والا
فلا مانع من الأخذ به ومع كون ملاك الاعتبار ما ذكرنا، لا يمكن وقوع
التعارض بين فردين من الظن، فليتأمل جيدا.
قال شيخنا الأستاذ دام بقاه في الكفاية في هذا المقام: (إن
التحقيق - بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد - انه
لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع منه، فضلا عما إذا ظن، كما
أشرنا إليه في الفصل السابق، فلا بد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع
عنه بالخصوص، فان كفى، وإلا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه، وان
احتمل مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وان انسد باب هذا
الاحتمال معها كما لا يخفى، وذلك ضرورة عدم الاحتمال مع الاستقلال
حسب الفرض. ومنه انقدح انه لا يتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة
هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما انتهى).
أقول احتمال منع الشارع في حال الانسداد عن ظن، كاحتمال
جعل الشارع ظنا في حالا الانفتاح، فكما ان الاحتمال الثاني لا ينافي
استقلال العقل بعدم الحجية، كذلك الاحتمال الأول لا ينافي استقلال
العقل بالحجية. والسر في ذلك أن الجعل الواقعي للطريق اثباتا ونفيا
136

لا يترتب عليه أثر الحجية، ما لم يثبت بعلم أو علمي، فإذا لا منافاة بين
احتمال منع الشارع عن اتباع ظن، واستقلال العقل بحجية، لعدم ثبوت
ذلك المنع بطريق معتبر من العلم أو العلمي، وكذا لا منافاة بين الظن
بذلك واقعا، واستقلال العقل بحجية الظن الممنوع، لتحقق الملاك في
الظن الممنوع، دون المانع فتدبر جيدا.
المبحث الثالث في مسائل الشك.
وفيه مقاصد:
المقصد الأول في أصالة البراءة
اعلم أن من وضع عليه قلم التكليف إذا التفت إلى الحكم
الشرعي في الواقعة، فإما أن يكون قاطعا أولا، وعلى الثاني إما أن يكون
له طريق معتبر أولا. ولا إشكال في أن مرجع القاطع إلى قطعه، كما أنه
لا إشكال في أن مرجع من جعل له طريق معتبر إلى الطريق المجعول له.
وأما الأخير فمرجعه إلى القواعد المقررة للشاك، وهي منحصرة في
أربع: لأن الشك إما ان تلاحظ فيه الحالة السابقة أولا، فالأول مجرى
الاستصحاب، والثاني إما أن يكون الشك فيه في جنس التكليف أولا،
والأول مجرى أصالة البراءة (63) والثاني إما أن يمكن فيه الاحتياط
أم لا، فالأول مورد الاحتياط، والثاني مجرد التخيير.
وإنما عدلنا - عما ذكره شيخنا المرتضى قدس سره من التقسيم -
إلى ما ذكرنا، لأنه لا يخلو عن مناقشة واختلال. ثم انك قد عرفت أن
الشاك موضوع للقواعد الأربع، والمقصود بالبحث في هذه الرسالة التعرض
لتلك القواعد تفصيلا، فههنا أربع مسائل:
137

أصالة البراءة
المسألة الأولى في حكم الشاك في جنس التكليف، ولم تلاحظ له
حالة سابقة، وأن حكمه - بعد الفحص عن الدليل واليأس عنه - هل
هو البراءة أو الاحتياط. سواء كان الامر دائرا بين الحرمة وغير الوجوب،
أم بين الوجوب وغير الحرمة، وسواء كان الشك من جهة عدم النص،
أم من جهة اجمال النص، أم من جهة تعارض النصين، لان المقصود بيان
الأصل في الشبهات البدوية، والصور المذكورة لا تفاوت بينها بحسبه، وإن
اختص بعض منها بحكم آخر، لدليل خارجي.
إذا عرفت هذا فنقول وبالله التوفيق: الأقوى أن مقتضى القاعدة
في الشبهات المذكورة هو البراءة وعدم لزوم الاحتياط. (لنا) على ذلك
حكم العقل بقبح العقاب من دون حجة وبيان، وهذه قاعدة مسلمة عند
العدلية، ولا شبهة لاحد فيها، إلا أن ما يمكن أن يكون رافعا لموضوعها
138

بزعم الخصم أمور، نتكلم فيها حتى يتضح الحال انشاء الله تعالى.
(الأول) وجوب دفع الضرر المتحمل عقلا، وهذه أيضا قاعدة
عقلية يجب العمل بها، فإذا كان الفعل محتمل الحرمة، يحتمل في ايجاده
الضرر، وكذا إذا كان محتمل الوجوب، يحتمل في تركه الضرر. والعقل
حاكم بوجوب دفع الضرر، فيجب بحكم العقل ترك الأول وإيجاد
الثاني. وبعد ثبوت هذا الحكم من العقل يرتفع موضوع تلك القاعدة.
(والجواب) أن الضرر المأخوذ في موضوع القاعدة الثانية إن كان
الضرر الأخروي، فلا يكون محتملا حتى يجب دفعه (64) لأن المفروض
عدم البيان في غير هذه القاعدة، وهي لا تكون بيانا الا على وجه دائر، لان
جريانها يتوقف على الموضوع، والموضوع يتوقف على جريانها.
وإن كان الضرر ما يكون لازما لفعل كل حرام، وترك كل
واجب، كما يقول به العدلية، فاحتماله وإن كان ملازما لاحتمال
التكليف، ولم يكن محتاجا إلى بيان، إلا أن حكم العقل بوجوب دفعه
139

ليس الا لأجل الخوف من الوقوع فيه، ولا يترتب على مخالفته سوى الوقوع
في المفسدة الذاتية على تقدير الثبوت، ولا يكفي هذا الحكم في اثبات
العقاب من المولى، لان عقاب المولى لا يصح الا مع المخالفة، ولا تتصور
هنا مخالفة، إلا على تقدير الالتزام بأن إلقاء النفس في المفسدة المحتملة من
الافعال القبيحة عند الفعل على أي حال، سواء كان في الواقع مفسدة
أم لا، حتى يستكشف بقاعدة الملازمة تعلق نهى الشارع بهذا العنوان،
ويصير اتيانه مخالفة للنهي. وليس الامر كذلك، للزوم أن يكون محتمل
المفسدة مقطوع المفسدة عند العقل. وهذا واضح البطلان.
والحاصل أنه ليس في المقام الا ارشاد العقل بالتجنب عن
المفسدة المحتملة، ولا يترتب عليه الا نفس تلك المفسدة على تقدير
الثبوت.
وقد يجاب أيضا بان الشبهة في المفسدة من الشبهات الموضوعية
140

التي لا يجب فيها الاحتياط اتفاقا.
ولكنه مخدوش بعدم ثبوت الاتفاق على البراءة، حتى في مثل
هذه الشبهة، كيف؟ والخصم يستدل على دعواه بوجوب دفع المفسدة
المحتملة. والمتيقن من مورد الاتفاق إنما هو الشبهات التي لم يكن كشفها
وظيفة الشارع، مثل كون هذا المايع بولا أو خمرا ونحو ذلك فالعمدة في
الجواب ما ذكرنا فلا تغفل (65).
(الامر الثاني) أن الأمور التي يمكن أن تكون بيانا وحجة على
العقاب - بزعم الخصم - الآيات والاخبار. أما الآيات فهي على
صنفين.
(أحدهما) ما دل على النهى عن القول بغير العلم. والجواب عنه
واضح، لأنا لا نقول بأن الواقعة المشكوكة محكومة بالحلية في نفس الامر،
حتى يكون قولا بغير علم، بل نقول بان اتيان محتمل الحرمة بعد الفحص
عن الدليل لا يوجب عقابا، وكذا ترك محتمل الوجوب. وهذا ليس قولا
بغير علم، بل هو مقتضى حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.
(ثانيهما) - ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط والتورع والاتقاء،
141

مثل قوله تعالى: (واتقوا الله حق تقاته) (وجاهدوا في الله حق جهاده)
وقوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وكذا (لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة).
والجواب عما عدا الأخير أن الاتقاء يشمل فعل المندوبات
وترك المكروهات. ولا اشكال في عدم وجوبهما، فيدور الامر بين تقييد
المادة بغيرهما وبين التصرف في هيئة الطلب، بحملها على إرادة مطلق
الرجحان، حتى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه. ولا اشكال في
عدم أولوية الأول إن لم نقل بأولوية الثاني، من جهة كثرة استعمالها في
غير الوجوب، حتى قيل: إنه صار من المجازات الراجحة لمساواة احتمالها
مع الحقيقة. وأما عن آية التهلكة فبان الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم،
لعدم البيان عليه، وبدونه قبيح. ولا يمكن ان يكون هذا النهى بيانا، إذ
موضوعه التهلكة، ولا يمكن ان يتحقق الموضوع بواسطة حكمه. واما
الهلاك بمعنى المفاسد المترتبة على فعل الحرام وترك الواجب، فالحق ان
الآية لا تشملها، لأنها مما لم يقل به إلا الا وحدي من الناس بالبرهان
142

العقلي، حتى أن بعضا من العدلية لا يلتزمون بتبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد في المتعلق، بل يكتفون بوجود المصلحة في التكليف. فكيف
تحمل الخطابات - المنزلة على فهم العرف - على هذا المعنى الدقيق الذي
لا يعرفه الا البعض بمقتضى البرهان العقلي.
ويمكن ان يقال - على فرض شمولها للمفاسد الذاتية - لا تدل
على دعوى الخصم، لأنها تدل على حرمة إلقاء النفس في التهلكة الواقعية،
ولا دلالة لها على حكم حال الشك.
وفيه ان الظاهر أن إلقاء النفس في التهلكة أعم من الاقدام على
التهلكة اليقينية والمحتملة عرفا، ولا أقل من شمولها لموارد الظن بالتهلكة،
وان كان غير معتبر، فيلحق به الشك، لعدم القول بالفصل، فالأولى في
الجواب ما ذكرنا.
وأما الاخبار فهي على أصناف:
(الأول) ما يدل على حرمة القول بغير علم، وقد مر الجواب عنه.
(الثاني) ما يدل على وجوب التوقف عند الشبهة، وهذا الصنف
مختص بالشبهة التحريمية، بقرينة التوقف الذي يكون عبارة عن عدم
المضي والحركة إلى جانب الفعل.
(الثالث) الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط، وهي أعم
موردا من السابق، لأنها تشمل الشبهة التحريمية والوجوبية.
أما ما يدل منها على التوقف، فهو أكثر من أن يحصى. وتقريب
الاستدلال به أن الظاهر - من هذه الأخبار الكثيرة - أن عدم التوقف
والحركة إلى ناحية الفعل المحتمل حرمته موجب للاقتحام في الهلكة،
والظاهر من الهلكة العقاب الأخروي، فمحصل هذه الأخبار ان الاقدام
- على فعل ما احتمل حرمته - موجب لثبوت العقاب على تقدير كون
143

الفعل المأتى به محرما في الواقع.
لا يقال إن الأوامر المتعلقة بالتوقف لا يمكن كونها بيانا لثبوت
العقاب، لأنها انما جاءت من جهة الهلكة، كما هو مقتضى التعليل في
الاخبار، والحكم الذي جاء من جهة الهلكة لا يعقل ان يكون منشأ
لثبوتها، للزوم الدور. فمورد هذه الأخبار مختص بالشبهة التي قامت الحجة
في موردها على الواقع، على تقدير ثبوته، كالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي
ونحو ذلك. وأما الشبهات البدوية بعد الفحص عن الدليل، فليس
مرتكبها مقتحما في الهلكة، حتى يجب عليه التوقف، للقطع بعدم الهلكة
فيها، من جهة قبح العقاب من دون بيان.
لأنا نقول: إذا تعلق حكم بطبيعة، وعلل بعلة، وكان المتكلم في
مقام البيان، فالظاهر أن تلك الطبيعة في أي فرد وجدت محكومة بذلك
الحكم، وان العلة سارية في جميع افراد تلك الطبيعة (66). ولا فرق فيما
قلنا بين أن يكون الحكم المذكور في القضية مولويا، وبين ان يكون
ارشاديا، الا ترى أن الطبيب لو قال للمريض كل الرمان لأنه مزيل
للصفراء، يفهم منه ان إزالة الصفراء سارية في تمام افراده، وان هذه
الطبيعة من دون تقييدها بشئ تصلح لذلك المريض.
والحاصل أنه لا اشكال في ظهور ما قلنا، وأن الاخبار تدل على
أن مطلق الشبهة يجب فيها التوقف، لان عدم التوقف فيها موجب للاقتحام
144

في الهلكة، فيجب الجمع بين هذا الاطلاق والقاعدة العقلية التي مرت
سابقا: من قبح العقاب من دون بيان، بأن يستكشف من هذه الأدلة أن
الشارع قد كان أوجب الاحتياط على المخاطبين بالخطاب المدلول عليه بهذه
الاخبار، والا لم يصح التعليل المذكور في الاخبار، فإذا ثبت وجوب
الاحتياط على المخاطبين بهذه الخطابات، يثبت وجوبه علينا أيضا، للقطع
بالاشتراك في التكليف. هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب
الاستدلال بهذه الاخبار.
(والجواب) أولا بأنا نمنع ظهور المشتبه في كل محتمل، بل قد
يطلق على فعل يحتمل فيه الحظر، وبعد احتمال ذلك في اللفظ لا يتعين
المعنى الأول، بل يتعين الثاني، بقرينة التعليل، فلا ربط حينئذ لتلك الأخبار
بمذهب المدعى.
(وثانيا) أنه - على فرض ظهور هذه الأخبار في العموم -
لا مناص من حملها على إرادة مطلق الرجحان، وحمل الهلكة فيها على
الأعم من العقاب وغيره من المفاسد، لأنه من الموارد التي أديت بهذه
العبارة - في الاخبار على سبيل التعليل - النكاح في الشبهة، وقد فسره
الإمام الصادق عليه السلام بقوله: (إذا بلغك أنك رضعت من لبنها، أو
أنها لك محرمة، وما أشبه ذلك) ولا اشكال في أن مثل هذا النكاح
لا يجب الاجتناب عنه، ولا يوجب عقابا، وإن صادف المحرم الواقعي،
فان مثل هذه الشبهة من الشبهات الموضوعية التي يتمسك فيها بالأصل
اتفاقا، مضافا إلى قيام الاجماع أيضا فيها.
والحاصل أن قولهم عليهم السلام - فان الوقوف عند الشبهة خير
من الاقتحام في الهلكة - اجرى في موارد وجوب التوقف، وفي موارد عدم
وجوب التوقف، فاللازم ان نحمله على إرادة مطلق الرجحان، حتى يلايم
145

كليهما.
(وثالثا) مع قطع النظر عن بعض موارد تلك الأخبار، نعلم من
الخارج عدم وجوب التوقف في بعض من الشبهات التحريمية والشبهات
الموضوعية باعتراف الخصم، فيدور الأمر بين تخصيص الموضوع بغيرها أو حمل
الهيئة على مطلق الرجحان. ولا ريب في عدم رجحان الأول إن لم نقل
بالعكس، فيسقط عن الدلالة على ما ادعاه الخصم.
(واما الصنف الثالث) من الأوامر التي دلت بظاهرها على وجوب
الاحتياط فهي كثيرة:
(منها) صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا الحسن
عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء بينهما، أو على
كل واحد منهما جزاء؟ قال عليه السلام: بل عليهما أن يجزى كل واحد
منهما الصيد، فقلت: ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه،
قال عليه السلام إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى
تسألوا وتعلموا.
(ومنها) موثقة عبد الله بن وضاح، قال: (كتبت إلى العبد
الصالح يتوارى عنا القرص، ويقبل الليل، ويزيد الليل ارتفاعا، ويستر
عنا الشمس، ويرتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، فأصلي
حينئذ، وأفطر إن كنت صائما، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق
الجبل؟ فكتب إلي أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ
بالحائطة لدينك...) الخبر.
(ومنها) خبر التثليث المروى عن النبي صلى الله عليه وآله
والوصي وعن بعض الأئمة عليهم السلام، في مقبولة ابن حنظلة الواردة في
الخبرين المتعارضين - بعد الامر بأخذ المشهور منهما، وترك الشاذ النادر،
146

معللا بقوله عليه السلام، فان المجمع عليه لا ريب فيه - قوله عليه السلام:
(انما الأمور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، وامر
مشكل يرد حكمه إلى الله ورسوله قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
(حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من
المحرمات، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات، وهلك من حيث
لا يعلم).
(ومنها) سائر الأخبار الآمرة بالاحتياط في الدين. مثل ما ورد
من قول أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد رضي الله عنه: (أخوك
دينك فاحتط لدينك بما شئت) وأمثال ذلك.
والجواب أما عن الصحيحة، فبان قوله عليه السلام: (إذا أصبتم
بمثل هذا) يحتمل أن يكون إشارة إلى السؤال، يعنى إذا سئلتم عن مثل هذه
الواقعة من الوقايع المشكوك فيها، ولم تدروا حكمها فعليكم بالاحتياط.
ويحتمل أن يكون إشارة إلى نفس الواقعة، يعنى إذا ابتليتم بالوقايع
المشكوك فيها، فعليكم بالاحتياط.
وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد من قوله عليه السلام فعليكم
بالاحتياط ايجاب التوقف وترك القول بما لا يعلم، وأن يكون المراد
ايجاب الافتاء بالاحتياط، والأخير بعيد جدا.
وعلى الثاني يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السلام بمثل هذا
جميع الوقايع المشكوك فيها، وأن يكون المراد ما كان مماثلا لواقعة جزاء
الصيد في كونه مرددا بين الأقل والأكثر. واستدلال الأخباريين مبنى على
حمل الرواية على المعنى الأول بالوجه الثاني الذي قلنا بأنه بعيد جدا، أو
على المعنى الثاني بالوجه الأول.
اما الأول منهما ففي غاية البعد. وأما الثاني فيلزم عليهم الحكم
147

بالاحتياط في الشبهات الوجوبية البدوية، ولم يلتزم أكثرهم بذلك،
مضافا إلى عدم الترجيح في هذا الاحتمال، فيسقط الخبر عن صحة
الاستدلال.
واما عن الموثق فبأنه مع اضطرابه لا يدل على المطلوب، لأنه ان
حمل على كفاية استتار القرص ووجوب الانتظار حتى يحصل القطع
بتحققه، فمع بعده عن ظاهر الخبر - كما لا يخفى - لا يدل الا على أنه في
أمثال المقام - مما اشتغلت ذمة المكلف بتكليف - يجب عليه ان يحتاط،
حتى يحصل له اليقين بالبراءة (67) وان حمل على كفاية استتار القرص،
فيشكل حكم الإمام عليه السلام بالاحتياط، مع ا المورد من الشبهات
الحكمية التي تكون وظيفة الإمام عليه السلام رفع الشبهة فيها، فلابد ان
يحمل هذا البيان منه على التقية، بمعنى ان قوله عليه السلام - (أرى لك
ان تنتظر) - ليس من اجل عدم كفاية الاستتار، بل من جهة حصول
القطع بتحققه لمكان. الاحتياط اللازم في المورد.
بل يمكن أن يقال إن الظاهر من قوله عليه السلام (أرى لك)
ايجاب الانتظار احتياطا، فيكون هذا أيضا شاهدا على التقية، ويمكن
قريبا أن يكون قوله عليه السلام - (وتأخذ بالحائطة لدينك) متمما للفقرة
الأولى، لا تعليلا لها، فالمراد على هذا انه يجب عليك الانتظار على نحو
الاحتياط، من دون ان يلتفت إلى مذهبك أحد.
واما عن خبر التثليث فينبغي أولا ذكر موارد الاستدلال به، ثم
الجواب عنه. وهي ثلاثة:
(أحدها) ايجابه الاخذ بالمشهور وطرح الشاذ النادر، معللا بان
148

المجمع عليه لا ريب فيه، فيستفاد من التعليل أن الوجه في وجوب طرح الشاذ
كونه مما فيه ريب. وبمقتضى عموم هذه العلة يجب رفع اليد عن كل ما
فيه الريب وطرحه، والاخذ بما لا ريب فيه. وهذا مفاد قولهم عليهم
السلام في بعض الاخبار: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) فشرب التتن
مثلا مما فيه ريب، وتركه مما لا ريب فيه. ومقتضى قوله عليه السلام
وجوب طرح الأول والاخذ بالثاني.
(ثانيها) تقسيم الإمام عليه السلام الأمور إلى ثلاثة اقسام،
والحكم بوجوب رد الشبهات إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله.
(ثالثها) النبوي الذي استشهد به الإمام عليه السلام، وهو قوله:
(حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من
المحرمات، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات، وهلك من حيث
لا يعلم).
والجواب أما عن الأول فبان السؤال انما هو عن الخبرين
المتعارضين، وانه بأيهما يجب الاخذ على أنه طريق وحجة، فيستفاد من
الجواب بملاحظة عموم التعليل: ان الاخذ بكل ما فيه الريب بعنوان أنه
حجة بينه وبين الله غير جائز، ولا شك في ذلك. ولا دخل له بما نحن
بصدده: من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه.
وأما عن الثاني فبان ظاهر حكم الإمام عليه السلام برد الشبهات
إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله عدم القول بما لا يعلم. ولا اشكال
أيضا في ذلك، ولا يدفع ما ندعيه كما لا يخفى.
واما النبوي، فان كان المراد من الهلكة فيه العقاب - كما هو
149

الظاهر - فاللازم حمله على الارشاد (68) وتخصيصه بموارد ثبوت الحجة
على الواقع، وان كان ما يعم المفاسد الذاتية، فاللازم حمل الطلب فيه
على مطلق الرجحان. ويمكن أن يقال إن المحرمات الواقعية التي لا دليل
على ثبوتها ليست داخلة في هذا التقسيم، بل هو ناظر إلى المحرمات المنجزة،
والمحللات والشبهات بين الحرام المنجز والحلال، كالشبهات في أطراف
العلم الاجمالي. ولا اشكال في وجوب الاحتياط فيها.
وأما عن سائر الأخبار الآمرة بالاحتياط، فبأن الامر فيها دائر بين
التصرف في المأمور به - بحمله على غير الشبهات الموضوعية التي ليس
الاحتياط فيها واجبا اتفاقا - وبين التصرف في الهيئة بحملها على إرادة
مطلق الرجحان، ولا أقل من عدم ترجيح الأول ان لم يكن الثاني أولى،
كما هو واضح، مضافا إلى أن الظاهر من كلها أو جلها الاستحباب، كما
لا يخفى على من راجعها.
الامر الرابع - من الأمور التي تمسك بها الخصم - العلم
الاجمالي بوجود احكام كثيرة، وهذا العلم حاصل لكل من علم ببعث
النبي صلى الله عليه وآله، ولا طريق إلى انكاره إلا المكابرة. ومقتضى
هذا العلم الاحتياط في كل شبهة وجوبية أو تحريمية، لان الاشتغال
اليقيني بالتكاليف يقتضى البراءة اليقينية منها بحكم العقل، غاية الامر
إن ثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية بالدليل، نقول
بمقتضاه في خصوص تلك الشبهة، وتبقى الشبهات التحريمية باقية على
150

مقتضى العلم الاجمالي.
لا يقال إن هذا العلم إنما يكون قبل مراجعة الأدلة. وأما بعدها
فالمعلوم اشتغال الذمة بمقتضى مداليل الأدلة، والزائد مشكوك فيه.
وبعبارة أخرى بعد مراجعة الأدلة ينحل العلم الاجمالي إلى العلم
التفصيلي والشك البدوي.
لأنا نقول ان كان المراد ان الأدلة توجب القطع بالأحكام
الواقعية، فكل منصف يقطع بخلاف ذلك، وان كان المراد أنه مع كون
الأدلة لا تفيد القطع، يجرى الأصل في الموارد الخالية عنها.
فالجواب بأنه لا وجه لذلك، فان المراد من أنه مقتضى دليل
حجية الامارات وجوب الاخذ بمؤداها لا حصر التكاليف الواقعية
بمواردها. وحينئذ لا منافاة بين وجوب الاخذ بمؤدى الامارات بمقتضى
دليل اعتبارها، ووجوب الاخذ بمقتضى العلم الاجمالي الموجود فعلا
بالاحتياط في الأطراف الخالية عن الامارة (69) هذا والجواب عنه
بوجوه: -
151

(الأول) ان العلم الاجمالي بالتكاليف لا يقتضى الا الاتيان
بالمقدار المعلوم إما حقيقة، كما لو علم بالمقدار المعلوم تفصيلا واتى به،
وإما حكما كما لو اتى بمؤديات الطرق التي نزلها الشارع منزلة الواقع، فالآتي
بها كالآتي بنفس الواقعيات، ولا شئ عليه سوى ذلك.
ويمكن الخدشة في هذا الجواب: بان العلم الاجمالي يقتضي عدم
المخالفة بالمقدار المعلوم اجمالا، لا المطابقة بذلك المقدار، كما سبق في
مبحث دليل الانسداد، وجعلناه مبنى القول بالتجزي في الاحتياط (70).
(الوجه الثاني) - أنه - بعد قيام الأدلة على الواجبات والمحرمات
بالمقدار المعلوم - ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك
البدوي، لان الاتيان بما دلت الأدلة على وجوب واجب، وكذا ترك ما
دلت على تحريمه، ولا يكون لنا علم بالتكليف، سوى ما علم تفصيلا،
لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل.
فان قلت: هذا لو اطلع على الأدلة قبل العلم الاجمالي أو مقارنا
له - صحيح، لما ذكر من عدم العلم بأزيد مما علم تفصيلا بمجرد احتمال
152

التطبيق. وأما لو اطلع على الأدلة بعد العلم الاجمالي، فلا يكفي مجرد
احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مداليل الأدلة، لتنجز الواقعيات
بواسطة العلم، ويجب بحكم العقل الامتثال القطعي.
قلت: يشترط في بقاء اثر العلم الاجمالي كونه باقيا، بمعنى أن
يكون عالما في الزمن الثاني اجمالا بوجود التكليف في الزمن الأول، وان
لم يكن عالما به، بملاحظة الزمن الثاني، من جهة انعدام بعض الأطراف أو
خروجه عن محل الابتلاء أو غير ذلك. ولهذا لو شك في الزمن الثاني في
ثبوت التكليف في الزمن الأول، لم يكن اثر للعلم الأول بلا اشكال.
فحينئذ نقول: العلم الاجمالي وان كان موجودا في الزمن الأول،
لكن الامارات الدالة على الاحكام لما دلت على ثبوتها من أول الامر،
وكان الواجب عليه البناء على مضمونها، ففي زمان الاطلاع على هذه
الامارات لم يكن اجمال في البين، بملاحظة الحالة السابقة، لأنه يعلم في
الحال بثبوت التكليف في موارد الامارات في أول الامر، ويشك في
الزائد كذلك.
وبعبارة أخرى الظفر بالامارات - بعد العلم الاجمالي - من
قبيل العلم بالتكاليف الواقعية من أول الامر، فكما انه يوجب انحلال العلم
الاجمالي، كذلك الظفر بالامارات الشرعية، لأنها تكشف عن وجود
تكاليف قطعية على طبق مقتضاها من أول الامر.
هذا ولا يخفى أن الجواب المذكور وان كان نافعا في المقام، فان
كلا منافي الشبهات الحكمية. والأدلة القائمة على التكاليف ثابتة في الواقع
مقدمة على العلم الاجمالي، غاية الامر عدم اطلاع المكلف عليها. وبعد
اطلاعه عليها يكشف عن ثبوت تكاليف قطعية من أول الامر كما عرفت.
153

ولكنه غير نافع في الشبهة الموضوعية (71) كما لو قامت البينة على بعض
أطراف العلم الاجمالي متأخرة عن العلم، لأنها لا تكشف عن التكليف
القطعي، ضرورة ان التكليف القطعي الذي يكون عبارة عن وجوب
متابعة البينة لا يمكن أن يكون سابقا على نفس البينة، فلا يبقى في البين
إلا لسان البينة بكون هذا موضوعا للحكم سابقا. ومجرد هذا اللسان
لا يجدى في الانحلال الوجداني. نعم الجواب الأول إن تم فهو نافع مطلقا
حتى في موارد قيام البينة.
(الوجه الثالث) - أن العلم يعتبر في موضوع حكم العقل، من
حيث إنه طريق قاطع للعذر، لا من حيث إنه صفة خاصة. ولذا تقوم
الامارات مقامة. وقد بينا الفرق بينهما في مبحث حجية القطع. وعلى هذا
لو قامت امارة معتبرة أو طريق معتبر على بعض الأطراف مفصلا، فالمعلوم
بصفة أنه معلوم وان كان بعد مرددا، ولكن ما قام عليه الطريق القاطع
للعذر ليس مرددا، فما هو ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصل،
154

وما بقى على اجماله ليس ملاكا لحكم العقل. ولا تفاوت في الانحلال على
هذا الوجه بين أن يكون الطريق مقارنا للعلم أو سابقا عليه أولا حقا له،
وكذا لا تفاوت بين الشبهة في الحكم وبين الشبهة في الموضوع.
هذا. وتلخص مما ذكرنا عدم نهوض الأدلة التي استدل بها أصحابنا
الأخباريون على ايجاب الاحتياط، فيكفي لنا حكم العقل بقبح العقاب
من دون بيان.
ولنشرع في ذكر الأدلة الشرعية الدالة على عدم البأس في ارتكاب
الشبهات الحكمية البدوية بعون الله تعالى وحسن توفيقه.
(منها) - الخبر المروى عن النبي صلى الله عليه وآله بسند صحيح
في الخصال كما عن التوحيد: (رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا
إليه..) وتقريب الاستدلال به واضح.
واستشكل شيخنا المرتضى قدس سره في شموله للشبهات الحكمية
التي هي محل النزاع بوجهين:
(أحدهما) - أن السياق يقتضى أن يكون المراد من الموصول في
قوله ما لا يعلمون هو الموضوع، إذ المراد في قوله ما لا يطيقون وما اضطروا
إليه وما استكرهوا عليه ليس الا الافعال، إذ لا معنى للاضطرار إلى الحكم
أو الاكراه عليه، فيكون المراد من الموصول في قوله ما لا يعلمون أيضا
الافعال المجهولة العنوان، لظهور اتحاد السياق.
(ثانيهما) - أن الظاهر أن المراد من الرفع المؤاخذة، فلابد من
التقدير في قوله ما لا يطيقون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه، والمقدر
هو المؤاخذة على نفس المذكورات ولو قلنا بشمول الموصول فيما لا يعلمون
الحكم أيضا، لا يمكن مثل هذا التقدير فيه، إذ لا معنى للمؤاخذة على
155

الحكم.
وزاد شيخنا الأستاذ اشكالا آخر، وهو أن إسناد الرفع إلى
الحكم اسناد إلى ما هو له، إذ وظيفة الشارع رفع الحكم ووضعه،
واسناده إلى الموضوع اسناد إلى غير ما هو له، فيكون اسنادا مجازيا، فإرادة
الحكم والموضوع من الموصول لا تجوز إلا ان يراد كل منهما مستقلا، كما في
استعمال اللفظ في المعنيين. هذا ولكن الانصاف عدم ورود شئ مما
ذكر.
اما قضية السياق فلان عدم تحقق الاضطرار في الاحكام وكذا
الاكراه لا يوجب التخصيص في قوله (ما لا يعلمون) ولا يقتضى السياق
ذلك، فان عموم الموصول إنما يكون بملاحظة سعة متعلقة وضيقه، فقوله
عليه السلام ما اضطروا إليه أريد منه كل ما اضطر إليه في الخارج، غاية
الامر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم، فيقتضى اتحاد السياق أن
يراد من قوله (ما لا يعلمون) أيضا كل فرد من افراد هذا العنوان. ألا ترى
أنه إذا قيل ما يؤكل وما يرى في قضية واحدة، لا يوجب انحصار افراد
الأول في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضا بذلك البعض؟
وهذا واضح جدا. واما ما ذكره قدس سره من الوجه الثاني، فالتحقيق
فيه أنه لا يحتاج إلى التقدير في القضية أصلا.
توضيح ذلك: أنه (تارة) نلتزم بان الاحكام: الواقعية في حال
الجهل لابد وأن تكون باقية على فعليتها. و (أخرى) لا نلتزم بذلك. وعلى
أي حال نقول: أسند الرفع إلى نفس ما لا يعلمون بنحو من المسامحة، فعلى
الأول المجهول سواء كان حكما أو موضوعا ليس مرفوعا حقيقة. أما الثاني
فواضح. وأما الأول فلان المفروض بقاء الاحكام الواقعية على فعليتها في
156

حال الجهل، فلابد من إحدى المسامحتين (72). إما جعل المجهولات مما
يقبل الرفع ادعاءا، وإما حمل النسبة على التجوز (73)، وعلى الثاني إن
كان المجهول حكما يمكن رفعه حقيقة، بمعنى رفع فعليته في حال الجهل.
وأما ان كان موضوعا، فلا يقبل الرفع، فالمتعين جعل ما لا يقبل الرفع مما
يقبل الرفع ادعاءا، ثم نسبة الرفع إلى الجميع حقيقة. ومما ذكرنا يظهر ما
فيما افاده شيخنا الأستاذ أيضا فلا تغفل.
وبالجملة الانصاف انه لا وجه لرفع اليد عن عموم قوله
- صلى الله عليه وآله - (ما لا يعلمون) للشبهات الحكمية. ثم إنك بعد ما
عرفت ان نسبة الرفع إلى ما لا يعلمون وأخواته تحتاج إلى وجه من
المسامحة، اعلم أن المصحح لهذه المسامحة إما أن يكون رفع جميع الآثار،
وإما خصوص المؤاخذة في الجميع، وإما الأثر المناسب لكل من
المذكورات.
فان قلنا بالأول، فلو كان للشئ آثار متعددة يرتفع عند الجهل
أو النسيان أو الاضطرار كلها، مثل ما لو اضطر إلى ليس الحرير الذي له
الحرمة النفسية والمانعية للصلاة، وكذا لو جهل بكونه حريرا أو جهل
بكون الحرير محرما ومانعا من الصلاة.
157

وان قلنا بان لثاني مورد الرفع، فينحصر فيما له خصوص الأثر
المذكور - أعني المؤاخذة - وما لم يكن له ذلك خارج عن مورد الرواية.
وان قلنا بالثالث يشمل غير المؤاخذة أيضا، لكن الفرق بينه وبين
الأول: أنه على الأول لو كان للشئ آثار متعددة يرتفع الكل، بخلاف
الأخير، فإنه يلاحظ ما هو انسب بالنسبة إلى ذلك الشئ.
إذا عرفت هذا فنقول لو خلينا وأنفسنا، لقلنا بأن الظاهر أن نسبة
الرفع المذكورات إنما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة، لكن ينافيه ما روى
عن الصفوان والبزنطي عن أبي الحسن عليه السلام بطريق صحيح في
(رجل يستكره على اليمين، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك
يلزمه ذلك؟ فقال لا، قال رسول الله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي ما
أكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطأوا..) فان الحلف على ما ذكر
وان كان باطلا مطلقا، الا ان استشهاد الإمام عليه السلام - على عدم
لزومها مع الاكراه على الحلف بها - يدل على عدم اختصاص الرفع برفع
المؤاخذة، فعلى هذا يدور الامر بين الاحتمالين الأخيرين أحدهما جميع
الآثار، والثاني الأثر المناسب، لكن الثاني مستلزم لملاحظات عديدة
فتعين الأول (74).
قال شيخنا الأستاذ في تعليقاته: (ان ما يظهر من الخبر لا ينافي
158

تقدير خصوص المؤاخذة مع تعميمها إلى ما كانت مرتبة عليها بالواسطة،
كما في الطلاق والصدقة والعتاق، فإنها مستتبعة لها بواسطة ما يلزمها من
حرمة الوطئ في المطلقة، ومطلق التصرفات في الصدقة، أو العتق،
وبالجملة لو كان المقدر هو خصوص المؤاخذة الناشئة من قبلها بلا واسطة
أو معها لا ينافيه ظاهر الخبر) انتهى كلامه.
أقول اسناد الرفع إلى شئ لا يرتفع بنفسه ينصرف إلى الأثر
المترتب غلى ذلك الشئ من دون واسطة، فان قلنا بتمام الآثار فهو تمام
الآثار المترتبة على الشئ من دون واسطة، وإن قلنا بالمؤاخذة خاصة، فهو
أيضا من باب انها أظهر الآثار للمذكورات، ولو في خصوص المقام. وعلى
أي لا يشمل الآثار المترتبة على الشئ بواسطة ووسايط، كما أن اخبار
الاستصحاب - الدالة على وجوب ابقاء ما كان - تنصرف إلى الآثار
بواسطة.
وكيف كان دلالة الخبر المذكور على كون المرفوع أعم من
المؤاخذة غير قابلة الخدشة. بقى الكلام في أمور:
(الأول) أن المراد بالرفع في هذا الخبر الشريف هو الدفع، أو
الأعم منه ومن الرفع، لا معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن إزالة الشئ
بعد ثبوته، إذ هو غير واقع في بعض العناوين المذكورة قطعا.
(الثاني) أن الأثر المرفوع إنما هو الأثر الشرعي المترتب على هذا
المذكورات بلا واسطة، فالآثار القطعية والشرعية المترتبة عليها بواسطة أو
وسائط خارجة عنه.
إن قلت فعلى هذا الشبهات الحكمية خارجة عن مورد الرواية،
لان الحرمة المجهولة مثلا ليس لها اثر شرعا، بل اثرها المؤاخذة وهي غير
قابلة للتصرف الشرعي. وهكذا الوجوب المجهول.
159

قلت المؤاخذة وان لم تكن قابلة للرفع والوضع بنفسها، لكنها
قابلة لها بواسطة منشأها، فإنه للشارع ان يثبت المؤاخذة بايجاب الاحتياط
في حال الجهل، فإذا لم يوجب الاحتياط ترتفع المؤاخذة، فيصح اسناد
رفعها إلى الشارع، مضافا إلى إمكان القول بان نسبة الرفع إلى الشبهات
الحكمية ليس بملاحظة الآثار، بل بملاحظة نفسها، لان الحكم بنفسه مما
تناله يد الجعل (75).
(الثالث) أنه لا اشكال في قبح مؤاخذة الناسي والعاجز والمخطئ
عقلا. وعلى هذا يستشكل في الرواية من جهتين:
(الأولى) - عدم اختصاص رفع المؤاخذة عن هذه المذكورات
بالأمة المرحومة.
(الثانية) ان الرواية في مقام المنة، وأي معنى للمنة في رفع ما
هو قبيح عند العقل.
ثم لا يخفى أنه لا يرتفع الاشكال يجعل المرفوع تمام الآثار، إذ منها
المؤاخذة، فانضمام الآثار - التي يصح رفعها امتنانا إلى ما لا يصح
كذلك غير - صحيح.
وهذا التوجيه نظير ما قيل في أن الرفع إنما هو بملاحظة مجموع
160

التسعة، فما أورده شيخنا المرتضى قدس سره - على التوجيه الثاني: من
أنه شطط من الكلام - وارد على الأول أيضا بعينه، فلا تغفل.
وكيف كان فالأولى أن يقال - كما افاده شيخنا المرتضى قدس
سره أخيرا - بان النسيان وكذا الخطأ قد يكون من جهة مسامحة المكلف
وعدم المبالاة في الحفظ، وقد يكون غير مستند إليه. والقبيح مؤاخذة
الناسي والمخطئ، مثلا إذا لم يكونا مستندين إليه. وأما في صورة الاستناد
إليه، فليست المؤاخذة قبيحة، فيصح ان يرفع الشارع المؤاخذة عن الناسي.
ومثله، بان لا يوجب عليهم التحفظ أولا.
(الرابع) - أنه إن بنينا على أن المرفوع تمام الآثار، يمكن أن يقال
لو نسى جزءا من اجزاء الصلاة وأتى بالباقي، كانت مجزية ولا تجب عليه
الإعادة بعد الالتفات، إذ هي من الآثار الجزئية، فهي مرفوعة في حال
النسيان، فيدل الخبر على أن المكلف به للناسي هي الصلاة من دون
ذلك الجزء المنسى.
والاشكال - بان الجزئية غير قابلة للرفع لأنها من الآثار الوضعية
التي قلنا بعدم الجعل فيها - مدفوع بما مر في رفع المؤاخذة: من أنها وان
كانت غير قابلة للجعل بنفسها، الا انها قابلة له من جهة منشأ انتزاعها.
هذا، ولكن ما قلناه انما هو مبنى على صحة اختصاص الناسي
بالتكليف، كما هو التحقيق والمحقق في محله. واما على مذهب شيخنا
المرتضى قدس سره من عدم امكانه، فلا يصح الاستدلال، كما
لا يخفى (76).
161

(الخامس) أنه لو شك في مانعية شئ للصلاة، فالحديث - بناءا
على حمله على تمام الآثار - ينفع لصحة صلاته ما دام شاكا، وإذا قطع
بكونه مانعا يجب عليه إعادة تلك الصلاة في الوقت وقضاؤها في خارجه،
كما هو مقتضى القاعدة في الاحكام الظاهرية. وأما لو شك في انطباق
عنوان ما هو مانع على شئ، فلا يبعد ان يقال بالاجزاء، وإن علم بعد
الفعل بالانطباق، كما لو صلى مع لباس شك في أنه من مأكول اللحم أو
غيره مثلا، إذ مقتضى رفع الآثار عن هذا المشكوك تخصيص المانع بما
علم أنه من غير المأكول. ولا يمكن هذا القول في الأول، إذ يستحيل
تخصيص المانع بما إذا علم ما نعيته، فتدبر جيدا.
ومن جملة ما استدل به على البراءة صحيحة عبد الرحمن بن
الحجاج فيمن تزوج امرأة في عدتها، قال: (إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد
ما تنقضي عدتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك. قلت
بأي الجهالتين اعذر، بجهالته أن ذلك محرم عليه، أم بجهالته أنها في
العدة؟ قال إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بان الله حرم
عليه ذلك، وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط. قلت فهو في الأخرى
معذور؟ قال نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور، فله ان يتزوجها).
تقريب الاستدلال أنه حكم بكونه معذورا، لأنه جاهل، فجعل
162

الجهل موجبا للعذر، سواء كان متعلقا بالحكم أم بالموضوع، ويؤيده
سؤال الراوي بعد ذلك بأي الجهالتين اعذر، ويشكل بان الجهل
المفروض في الرواية - على فرض كون المراد منه الشك - ان كان متعلقا
بالحكم الشرعي فالمعذورية تتوقف على الفحص، إذ الجاهل بالحكم قبل
الفحص ليس بمعذور اجماعا. ولو حملنا الرواية على ما بعد الفحص، فيبعد
بقاء الجهل مع وضوح الحكم بين المسلمين. وان كان المراد الجهل
بالموضوع، فيصح الحكم بالمعذورية إذا لم يعلم بكونها في العدة أصلا. وأما
إذا علم بكونها في العدة سابقا ولم يدر انقضاءها، فمقتضى استصحاب
بقاء العدة عدم معذوريته.
وبالجملة الحكم بمعذورية الجاهل مطلقا لا يطابق القواعد
المسلمة، إلا ان تحمل الجهالة على الغفلة، فيستقيم الحكم بالمعذورية، أو
كان المراد من المعذورية المعذورية بالنسبة إلى الحكم الوضعي أعني
الحرمة الا بدية.
وأيضا هنا اشكال آخر في حكمه بكون الجهالة بان الله تعالى
حرم عليه ذلك أهون من الأخرى، معللا بعدم قدرته على الاحتياط معها.
وحاصل الاشكال أنه لا فرق بين الجهالتين في هذه العلة، لأنها إن كانت
بمعنى الغفلة، فلا اشكال في عدم قدرته على الاحتياط فيهما، والتفكيك
بين الجهالتين بان يجعل الجهالة بالحكم بمعنى الغفلة والأخرى بمعنى
الشك - في غاية البعد.
قال شيخنا الأستاذ (غاية ما يمكن ان يقال في دفعه هو أن إرادة
الغفلة في أحد الموضعين والشك في الآخر لا توجب التفكيك في الجهالة
بحسب المعنى فيهما، فإنه من الجائز بل المتعين استعماله في كلا الموضعين في
المعنى العام الشامل للغفلة والشك، لكن لما كان الغالب في الجهل
163

بالحكم هو الغفلة، - إذ مع وضوح هذا الحكم بين المسلمين قلما يتفق مع
الالتفات إليه الشك فيه، بخلاف الجهل بكونها في العدة، فإنه يتحقق
غالبا مع الالتفات، لكثرة أسبابه، إذ المتعارف - بحيث قل أن يتخلف
- التفتيش عن حال المرأة التي يريد ان يتزوجها، ومعه من المستحيل
عادة أن لا يصادف بما يورث التفاته إلى انها في العدة أم لا كما لا يخفى -
خص الإمام عليه السلام الجاهل بالتحريم بالأعذرية، معللا بكونه غير
قادر على الاحتياط، نظرا إلى أن الغالب فيه الغفلة، بخلاف الجاهل
بالعدة من دون التفات منه إلى ما يتفق نادرا في الموضعين، فإذا
لا تفكيك بحسب المعنى بين الموضعين).
قلت كما أن وضوح الحكم بين المسلمين يوجب عدم الشك مع
الالتفات، كذلك غلبة التفتيش عن حال المرأة توجب عدم بقاء الشك
بحاله (77)، فالتعرض لحكم الشبهة في العدة أيضا تعرض للفرد النادر
فتأمل.
ويمكن دفع الاشكالات الواردة على الرواية بأجمعها، بحمل
الجهالة على الغفلة في كلتا الصورتين، وحمل قول السائل بجهالة ان الله
حرم عليه ذلك - على الجهالة في الحكم التكليفي، وقوله - أم بجهالته
انها في العادة - على جهالته بان العدة موضوعة للامر الوضعي أعني الحرمة
164

الا بدية. وحينئذ وجه قدرته على الاحتياط في الثاني أنه بعد الالتفات
يتمكن من رفع اليد عن الزوجة، بخلاف الأول، فأنه عمل بالفعل المحرم
شرعا، ولا يتمكن من تداركه بعد الالتفات، فافهم.
ومما استدلوا به على البراءة قوله عليه السلام: (كل شئ فيه
حلال وحرام، فهو ذلك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه) بحمل قوله
عليه السلام فيه حلال وحرام على صلاحيتها واحتمالها، فيصير الحاصل
أن كل شئ يصلح لأن يكون حراما ولأن يكون حلالا، ويصح أن يقال
فيه اما حرام واما حلال فهو لك حالا، سواء كانت الشبهة في الحلية
والحرمة من جهة الشك في اندراجه تحت كلي علم حكمه أم لا.
وأورد شيخنا المرتضى قدس سره على المستدل: بان القضية ظاهرة
في الانقسام الفعلي إما خارجا، مثل أن يكون هناك شئ مشتمل على
الحلال والحرام في الخارج، وإما ذهنا كما إذا كان هناك شئ تحته
عنوانان، أحدهما محرم والآخر محلل، وان لم يوجد افراد أحدهما أو كليهما
في الخارج. وعلى أي حال حمل القضية على الترديد خلاف الظاهر.
لا يقال انا نحمل القضية على الانقسام الفعلي، ولا ينافي شمولها
للشبهات الحكمية أيضا، كما إذا فرضنا شيئا فيه حرام وحلال كذلك،
ويكون قسم من ذلك الشئ مشتبه الحكم كمطلق اللحم، حيث أن
فيه حلالا كلحم الغنم وحراما كلحم الخنزير، وفيه قسم آخر مشتبه بين
الحلال والحرام، فتدل الرواية على حلية ذلك المشتبه، وبعد شمول
الرواية لهذا المورد، يلحق به ما بقى من الشبهات الحكمية بعدم القول
بالفصل.
لأنا نقول قوله عليه السلام (فيه حلال وحرام) إنما جئ به
لبيان منشأ الاشتباه، والا فالقيد - الذي لا دخل له في الحكم ولا في
165

تحقق الموضوع - يكون لغوا لا ينبغي صدوره من المتكلم سيما الإمام عليه السلام
، ولا اشكال في أن حلية لحم الغنم وحرمة لحم الخنزير مما لا دخل
له في حلية لحم الحمير المشتبه، ولا يكون أيضا منشأ للاشتباه، إذ منشأ
الاشتباه فيه إنما هو عدم النص، بخلاف ما لو حملناه على الشبهة
الموضوعية، فان هذا القيد يكون بيانا لمنشأ الاشتباه، حيث إن وجود
القسم الحلال والقسم الحرام يكون منشأ للشبهة في ذلك الامر الخارجي
الذي لم يعلم اندراجه في أحد القسمين، مضافا إلى أنه يلزم على ما ذكره
هذا القائل أن يكون العلم - بكون لحم الخنزير حراما - غاية لحلية لحم
الحمير. هذا محصل ما افاده قدس سره.
أقول يمكن دفع هذين الاشكالين عن القائل: أما الأول فبأنه
يكفي في عدم لغوية القيد أنه لو علم كون مطلق اللحم حراما أو حلالا، لم
يبق شك في لحم الحمير (78) فوجود القسمين في اللحم صار منشأ
للشك في لحم الحمير.
واما الثاني فبان معرفة الحرام غاية للحكم على المطلق أو على
ذلك الشئ الذي عرف حرمته، ولولا ذلك للزم الاشكال على تقدير
الاختصاص بالشبهة الموضوعية أيضا، إذ بعد معرفة فرد من افراد الغير
المذكى يصدق انه عرف الحرام، فيلزم ارتفاع الحكم عن الشبهات أيضا،
166

فتدبر جيدا.
ومن جملة ما استدلوا به على البراءة قوله عليه السلام في المرسلة
(كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى) وهذا كبعض ما سلف لو تمت
دلالته لدل على البراءة في الشبهة التحريمية، وادعى شيخنا المرتضى قدس
سره كونها أوضح دلالة من الكل.
وفيه ان الاستدلال بها على المطلوب يبني على حمل قوله عليه
السلام - (حتى يرد فيه نهى) - على الثبوت عند المكلف، والا فلو حمل
على الورود في نفس الامر، كما أنه لم يكن ببعيد، فلا تدل الا على إباحة
الأشياء قبل تعلق النهى بها واقعا، فما شك في تعلق النهى به وعدمه من
الشبهات، لا يجوز لنا التمسك بالعام فيها، إلا أن يتمسك باستصحاب
عدم النهى لاحراز الموضوع. وعلى هذا لا يحتاج إلى الرواية في الحكم
بالاطلاق، لأنه لو صح الاستصحاب لثبت به ذلك فافهم.
هذه عمدة الأدلة في الباب. وقد عرفت ما ينفع منها. والأدلة
الاخر التي ذكروها في المقام من الآيات والاخبار - لعدم كونها نافعة -
لم نتعرض لها، رعاية للاختصار. بقى هنا أمران:
(الأول) - أنه - بعد ما عرفت حال الشبهة الحكمية في أصل
التكليف من الوجوبية والتحريمية - ينبغي التكلم في الموضوعية من هذا
القسم أيضا: فنقول مجمل القول فيها أن التكاليف المتعلقة بالطبيعة على
أنحاء:
(أحدها) - أن تتعلق بها باعتبار صرف الوجود أعني المقابل
للعدم المطلق.
(ثانيها) - أن تتعلق بها باعتبار الوجودات الخاصة.
(ثالثها) - أن تتعلق بها باعتبار مجموع الوجودات من حيث
167

المجموع. فلو تعلق التكليف على النحو الأول، فلا مجال لأصالة البراءة في
الشبهة الموضوعية سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة على النحو المذكور
أمرا أو نهيا، لان الامر بالطبيعة على هذا النحو يقتضى ايجاد فرد ما منها،
فما لم يوجد قطعا أو يشك في ايجاده، يجب عليه الاتيان به بحكم العقل،
من دون شك، فإذا قطع بايجاده فليس عليه شئ آخر قطعا.
وكيف كان لا مجال لأصالة البراءة، وتعلق النهى بها على هذا
النحو يقتضى ترك جميع الافراد، لان الطبيعة لا تترك الا بترك جميع
الافراد، فمتى شك في شئ انه من افراد الطبيعة المنهى عنها يجب عليه
تركه، لان اشتغال الذمة بترك ايجاد الطبيعة معلوم، ولا يتقين بالبراءة الا
بالقطع بترك جميع افرادها في نفس الامر.
ولو تعلق التكليف بالطبيعة على النحو الثاني فلا اشكال في أنه
ينحل إلى تكاليف عديدة، وان كل فرد يتعلق به تكليف مستقل، نظير
العام الاستغراقي (79)، فمتى شك في شئ انه من افراد الطبيعة المكلف
بها، فالأصل فيه البراءة، سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة أمرا أو
نهيا، إذ كلما ذكرنا في الشبهة الحكمية من حكم العقل والدلالة الشرعية
جار هنا أيضا. ومجرد العلم بالكبرى - التي شك في وجود صغراها كما
هو المفروض - لا يصحح العقاب على هذا المشكوك فيه. ولعمري إن هذا
واضح جدا.
168

ولو كان التكليف بالطبيعة على النحو الثالث (80) فان كان
أمرا يتقضى اتيان مجموع الافراد، فيجب الاتيان بما يحتمل ان يكون فردا
للطبيعة، تحصيلا للبراءة اليقينية، وإن كان نهيا يكفي ترك الفرد الواحد،
فيجب القطع بترك الواحد، ولا شئ عليه بعده.
إذا عرفت هذا تعرف أن مورد اجراء أصالة البراءة ينحصر فيما إذا
كان التكليف بالطبيعة باعتبار وجودها الساري في كل من الافراد،
بحيث ينحل إلى تكاليف متعددة، فلا يحسن القول بالبراءة في الشبهة
الموضوعية على نحو الاطلاق ولا بعدمها كذلك فلا تغفل.
(الثاني) مورد أصالة البراءة في الشبهة ما لم يكن هناك أصل وارد
أو حاكم عليها، فمثل المرأة المرددة بين الزوجة والأجنبية، واللحم المردد
بين ان يكون مذكى أو غير مذكى خارج عنه. أما الأول فلاستصحاب
عدم تحقق علقة الزوجية. واما الثاني فلاستصحاب عدم التذكية.
169

لا يقال: كما أن الحلية في بعض الأدلة علقت على التذكية،
كذلك الحرمة في البعض الآخر علقت على الميتة، فاستصحاب عد
التذكية معارض باستصحاب عدم كونه ميتة، فيتساقطان فيرجع إلى
البراءة.
لأنا نقول: ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه، بل هي
عبارة عن غير المذكى، لان الحيوان - إن أزهق روحه مع تحقق أمور
اعتبرها الشارع: من التسمية والاستقبال وفري الأوداج الأربعة ونحوها،
فقد حل لحمه، ومع عدم تلك الأمور كلا أو بعضا - يكون شرعا ميتة.
وأما المال المردد بين مال الغير ومال نفسه، فان كان مسبوقا بكونه مال
الغير، فلا شبهة في كونه موردا للاستصحاب، وان لم تكن له حالة سابقة
معلومة، فيمكن القول بالحرمة فيه، من جهة أن قولهم عليهم السلام
- لا يحل مال إلا من حيث ما أحله الله - يدل على أن الحلية معلقة على
أمور وجودية اعتبرها الشارع، فإذا شككنا في تحقق ما هو موجب للحلية
يستصحب عدمه، وكذلك الكلام في مال الغير الذي نشك في طيب
نفس صاحبه، فان حلية التصرف في المال معلقة على طيب النفس، وعند
الشك يستصحب عدمه.
هذا تمام الكلام في المسألة الأولى، وهي الشك في التكليف
من الشبهة الحكمية و الموضوعية بحسب الأصل العقلي والنقلي، وقد قلنا:
إن مقتضاهما البراءة، فلا ينافي ما ذكرنا عدم اعتبارها في مورد تعارض
النصين، لوجوب الرجوع إلى المرجحات هناك لو كانت، والا فالتخيير
كما هو التحقيق، لان ما ذكرنا هنا إنما كان مع قطع النظر عن الأخبار الواردة
في علاج الخبرين. فلا تغفل.
170

المقصد الثاني في أصالة الاشتغال
المسألة الثانية فيما إذا كان المكلف شاكا في متعلق التكليف مع
كونه قادرا على الاحتياط.
فنقول والله المستعان: الشك في متعلق التكليف بعد احراز
أصله (تارة) يكون في نوع التكليف مع احراز جنسه، كما إذا علم
بوجوب هذا وحرمة ذاك. و (أخرى) يكون في الفعل الذي تعلق به
التكليف المعلوم جنسا ونوعا، كما إذا علم اجمالا بوجوب هذا أو
ذاك، أو علم بحرمة هذا أو ذاك. وعلى كلا التقديرين إما أن تكون
الشبهة حكمية، بمعنى ان رفعها من وظيفة الشارع، أو تكون موضوعية، بمعنى
أن رفعها ليس من وظيفته، انما وظيفته جعل الحكم للشاك.
وعلى التقدير الأول (تارة) تكون الشبهة ناشئة من عدم النص.
و (أخرى) من اجمال النص و (ثالثة) من تعارض النصين. والمقصود هنا
الكلام في حكم هذه الشبهة بأقسامها من الأصل العقلي والنقلي، إذ حكم
جميع الأقسام من حيث الشبهة واحد، وإن اختص بعض افرادها بحكم
خاص كالشبهة الناشئة من تعارض النصين.
والحاصل ان المقصود ان المكلف - المحرز لتكليف المولى في
الجملة مع تمكنه من الاحتياط - حكمه ماذا؟
فنقول: الأقوى وجوب الاحتياط عليه باتيان جميع المحتملات، فيما
إذا كان الواجب مرددا بين أمور، ويترك جميع المحتملات فيما إذا كان
الحرام كذلك، وباتيان هذا وترك ذاك فيما إذا كان الالزام المعلوم
مرددا بين وجوب فعل هذا وترك ذاك.
(لنا) أن المقتضي للامتثال - وهو العلم بخطاب المولى - موجود
171

بالفرض، والشك في تعيين المكلف به ليس بمانع عند العقل، وهل يجوز
العقل المخالفة القطعية للتكليف المقطوع به، مع تمكن المكلف من
الامتثال بمجرد الشك في التعيين؟ حاشاه من ذلك، فان الملاك
المتحقق في مخالفة العلم التفصيلي موجود هنا بعينه.
ومن هنا يظهر أن العقل يوجب الموافقة القطعية، لان العلم
بالواقع أوجب تنجزه على المكلف، فليس له حجة في عدم اتيانه، كما هو
ظاهر.
(فان قلت): إن الأصل العقلي وان كان كذلك، إلا أن
الأخبار الدالة على الترخيص - في موارد الشك باطلاقها أو عمومها -
شاملة للمقام، فيحكم بالإباحة بمقتضى الاخبار، لا بمقتضى حكم العقل.
(قلت): لا ننكر شمول الاخبار للمقام كما ذكرت، وما ذكر
- في نفى شمولها من كون العلم المأخوذ غاية أعم من العلم الاجمالي
والتفصيلي، والأول حاصل في المقام - مدفوع بان الغاية صيرورة
المشكوك فيه معلوما، وهنا ليس كذلك كما هو واضح، فموضوع أدلة الأصول
باق على حاله، إلا أن الاخذ بمؤدى الأصول في تمام أطراف العلم
الاجمالي يوجب الاذن في المخالفة القطعية، وهو مما يحكم العقل بقبحه على
الحكيم تعالى، فان المفروض تحقق العلم بخطاب فعلى من الشارع،
وحينئذ ترخيصه في تمام أطراف العلم يرجع إلى ترخيصه في المعصية، ولو
جاز ترخيصه في المعصية هنا، جاز في العلم التفصيلي أيضا، لأنهما من واد
واحد كما لا يخفى.
نعم يمكن ان يرخص في بعض الأطراف إما تعيينا واما على
172

البدلية (81)، لان الاذن في البعض ليس اذنا في المعصية، ولا يكون
منافيا للتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال، لما ذكرنا في محله من اختلاف
مرتبة الحكمين، وحينئذ فالعمدة اثبات دلالة هذه الأخبار على الاذن في
بعض الأطراف، بعد رفع اليد عن دلالتها الأولية بحكم العقل.
فنقول: ما يمكن أن يقال في المقام في اثبات المراد وجوه:
(الأول) - أن مقتضى عموم الأدلة الترخيص في كل من
الأطراف، غاية ما هنا وجوب التخصيص بحكم العقل بمقدار ما لا يلزم منه
الاذن في المعصية، وحيث لا ترجيح لاخراج واحد معين من عموم الأدلة،
نحكم بخروج البعض لا بعينه، وبقاء الباقي كذلك حفظا لأصالة العموم
فيما لم يدل دليل على التخصيص.
وفيه أن البعض الغير المعين لم يكن موضوعا للعام من أول الامر،
173

حتى يحفظ العموم بالنسبة إليه، لان موضوعه هو المعينات، فالحكم
بالترخيص في المبهم يحتاج إلى دليل آخر.
(الثاني) - أن يقال ان الدليل اللفظي وان لم يدل على
الترخيص في البعض الغير المعين، إلا أنه يمكن استكشاف هذا الترخيص
من الدليل اللفظي بضميمة حكم العقل.
بيانه أن القضية - المشتملة على حكم متعلق بعنوان من العناوين
على سبيل الاطلاق أو العموم - يفهم منها أمران: - (أحدهما) - ثبوت
ذلك الحكم لتمام افراد عنوان الموضوع. (ثانيهما) وجود ملاك الحكم في
كل فرد منها. ثم إن ثبت قيد يرجع إلى مادة القضية، فقضية ذلك
التقييد تضييق دائرة ذلك الحكم وملاكه معا، وإن ثبت قيد يرجع إلى
الطلب، فقضيته رفع اليد عن اطلاق الطلب دون المادة، كما إذا ورد
174

خطاب دال على وجوب انقاذ الغريق، ثم وجد غريقان، فان ذلك
الخطاب وان كان غير شامل لهما بحكم العقل، لقبح التكليف بما
لا يطاق، إلا أنه يحكم باطلاق المادة بوجود ملاك الوجوب في كليهما،
ولهذا يستكشف العقل وجوبا تخييريا إن لم يكن أحدهما أهم، وخطابا
تعيينيا متعلقا بالأهم، إن كان كذلك. وقد مضى شطر من هذا الكلام
في البحث عن مقدمة الواجب، فراجع.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الأدلة المرخصة هنا وان اختص
حكمها بغير صورة العلم الاجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الاذن في
المعصية، إلا أن اقتضاء كل مشكوك للإباحة يستكشف من اطلاق
المادة. وبعد تعذر الجري على مقتضى كل من الأطراف، يستكشف أن
البعض على سبيل التخيير مرخص فيه، حيث لا ترجيح للبعض المعين.
هذا وفيه ان هذا الحكم من العقل إنما يكون فيما يقطع بان
الجري على طبق أحد الاقتضاءين لا مانع فيه، كما في مثال الغريقين.
وأما فيما نحن فيه، فكما ان الشك يقتضي الترخيص كذلك العلم
الاجمالي يقتضى الاحتياط، ولعل اقتضاء العلم يكون أقوى في نظر
الشارع، فلا وجه لقطع العقل بالترخيص.
(الثالث) - ان يقال إن مقتضى اطلاق الحكم في الأدلة المرخصة
ثبوت الاذن في كل من الأطراف في حال ارتكاب الباقي وفي حال
عدمه، وهذا الاطلاق قد قيد بحكم العقل في حال ارتكاب الباقي، فيما
كان العلم الاجمالي متعلقا بحرمة أحد الأمور، وفي حال ترك الباقي فيما
كان المعلوم وجوب أحد الأمور، فنأخذ بمقتضى الاطلاق في غير
الصورتين، ونقول بثبوت الاذن في الصورة الأولى، وفى حال عدم ارتكاب
الباقي، وفى الثانية في غير حال ترك الباقي، حفظا لاطلاق الحكم فيما لم
175

يدل دليل على خلافه. وبهذا البيان يمكن اثبات الخطابين فيما إذا اجتمع
غريقان لا يقدر على انقاذهما، بان يقال ان مقتضى القاعدة رفع اليد عن
اطلاق كليهما، وجعل كل منهما مقيدا بترك الآخر.
(لا يقال) لازم ذلك ثبوت الخطابين في حال ترك كليهما،
لثبوت شرط كل منهما، فيلزم التكليف بما لا يطاق في الحال المفروض في
مسألة الغريقين، وكذا يلزم الاذن في المعصية في تلك الحال في الشبهة
المحصورة.
لأنا نقول إن الاطلاق لا يقتضى ايجاد الفعل في حال تركه حتى
يلزم المحذور المذكور فافهم (82).
لا يقال إن لازم ما ذكر اجتماع اللحاظين المتنافيين في الأدلة
المرخصة، لان الاذن فيها مطلق بالنسبة إلى الشبهات البدوية ومشروط
بالنسبة إلى الشبهة المقرونة بالعم الاجمالي، فيلزم في إنشاء واحد أن
يلاحظ ذلك الانشاء مطلقا ومشروطا.
لأنا نقول هذا المحذور إنما يرد إن قلنا بان القيد الوارد على المطلق
كاشف عن إرادة المقيد في مقام الاستعمال. وأما إن قلنا إن المطلق في
مقام الالقاء أريد منه ما هو ظاهره، وأن القيد كاشف عن عدم الإرادة
في مقام اللب، فلا محذور كما لا يخفى.
هذا ولكن الأدلة - الدالة على أن العالم يحتج عليه بما علم، وأنه
في غير سعة من معلوماته - تقتضي الاحتياط بحكم العقل، وينافي
الترخيص الذي استكشفناه من الاطلاق، مضافا إلى منع اطلاق الأدلة
176

المرخصة، بل هي متعرضة لحكم الشك من حيث أنه شك.
ثم إن ما ذكرناه إنما يصح على ما هو التحقيق عندنا من كون
الاحكام الواقعية فعلية، وان الترخيص في مورد الشك لا ينافي فعلية
الحكم الواقعي.
وأما على ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ من ثبوت المراتب
للأحكام، فقد يقال بوجوب الاخذ بعمومات الأدلة المرخصة في أطراف
العلم، والجمع بينهما وبين الحكم الواقعي المعلوم بالشأنية والفعلية، كما
هو الحال في الشبهات البدوية.
لكنه مدفوع بأنه كما أن عمومات الأدلة المرخصة تقتضي
الترخيص، كذلك عموم أدلة اعتبار العلم يقتضى الفعلية
فيتعارضان (83) فلا طريق للحكم بالترخيص.
فان قلت هب، ولكن لا طريق أيضا للحكم بفعلية المعلوم بعد
التعارض.
قلنا يكفي في الحكم بالفعلية ظهور أدلة الاحكام، لأنها ظاهرة
بنفسها في الحكم الفعلي. والحمل على الشأني إنما كان من جهة الجمع
بينها وبين الأدلة المثبتة للأحكام الظاهرية، وحيث لم يكن حكم
177

ظاهري، لا وجه لرفع اليد عن ظهورها. وينبغي التنبيه على أمور:
(الأول) - أنه لو كان أطراف المعلوم بالاجمال مما لم يوجد إلا تدريجا،
كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها: بان تنسى وقتها وإن
حفظت عددها، فعلم اجمالا انها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا، فهل
يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر، ويجب على الزوجة أيضا
الامساك عن قراءة العزيمة واللبث في المسجد مثلا أولا؟
قد يقال بعدم تنجز التكليف لا على الزوج ولا على الزوجة، لان
المعلوم عندهما خطاب مردد بين المطلق والمشروط، لان الزوج يعلم بحرمة
الوطئ في هذه القطعة من الزمان، أو في القطعة الآتية، ولو كانت الحرمة
في القطعة الآتية، فالخطاب مشروط بتحقق تلك القطعة، فلم يعلم بتوجه
الخطاب المطلق إليه. ومقتضى الأصل البراءة وهكذا الكلام في الزوجة.
وفيه انه ليس حال الزوجة كالزوج (84)، لأنها في كل يوم
تعلم بتوجه خطاب مطلق إليها إما متعلق بأفعال المستحاضة، واما متعلق
بتروك الحائض، فلا وجه للعمل بالبراءة بالنسبة إليها. واما الزوج
فالذي ينبغي أن يقال أن من يرى ثبوت الوجوب التعليقي، وأنه قسم من
الواجب المطلق، يجب أن يلاحظ الدليل الدال على وجوب ترك وطء
الحائض في وقت حيضها، فان استظهر منه أن هذا الوجوب مشروط
بالزمان، يحكم بالبراءة في كل قطعة من الزمان في الصورة المفروضة،
لعدم تحقق العلم بالتكليف المطلق في وقت من الأوقات، وإن استظهر أنه
مطلق وأن زمان الواجب قد انفك عن زمان الوجوب، يحكم بوجوب
178

الاحتياط.
وعلى هذا المبنى يمكن الفرق بين الصورة المفروضة وبين ما إذا
نذر أو حلف على ترك وطء امرأته في ليلة خاصة، ثم اشتبهت بين ليلتين
أو أزيد، بان يقال إن في الأول خطاب الزوج مشروط بتحقق الحيض،
ولم يعلم بتحققه، بخلاف الثاني، لان الخطاب ليس له شرط أصلا، بل
الزمان ظرف لتحقق الفعل.
وأما بناءا على ما قلنا في مبحث مقدمة الواجب - اخذا عن
سيدنا الأستاذ طاب ثراه من انقسام الواجب إلى المطلق والمشروط، وعدم
ثالث لهما، وان المقدمات الوجودية للواجب المشروط - بعد العلم بتحقق ما
هو شرط الواجب في محله، وإن لم يتحقق - بعد محكومة بالوجوب، كما
أشبعنا الكلام فيه - فاللازم الحكم بالاحتياط في المثال مطلقا، فان
حكم الواجب المشروط - بعد لعلم بتحقق شرط الوجوب في محله، وإن
لم يتحقق بعد - حكم الواجب المطلق على هذا المبنى (85).
(الثاني) - أنه يشترط في تنجز المعلوم بالاجمال أن يكون الخطاب
المعلوم بحيث يصح تعلقه فعلا بالمكلف على أي حال، بمعنى أن كل طرف
فرض كونه فيه من الأطراف، كان الخطاب بالنسبة إليه صحيحا، فإنه لو
لم يكن على بعض التقادير صحيحا، لم يعلم بتوجه الخطاب فعلا. وهذا
واضح ويتفرع على ما ذكرنا مسائل:
(الأولى) - أنه لو اضطر إلى ارتكاب أحد الأطراف، التي علم
179

بوجود النجاسة أو الخمر فيها معينا، فلو كان هذا الاضطرار سابقا على
العلم، لم يؤثر ذلك العلم شيئا (86)، وكذا لو كان مقارنا له، ووجهه
180

واضح. اما لو كان الاضطرار لاحقا ومسبوقا بتحقق العلم الاجمالي،
فلا يرفع الأثر الحاصل للعلم، لان الذمة قد اشتغلت بامتثال التكليف
الواقعي في حال العلم، فيجب بحكم العقل تحصيل اليقين بالبراءة.
(الثانية) أنه لو اضطر إلى ارتكاب البعض الغير المعين، فلا يكون
مانعا من تنجز الخطاب في كل من الأطراف فعلا، لعدم الاضطرار إلى
ارتكاب طرف معين.
وبعبارة أخرى شرايط الخطاب بالنسبة إلى الواقع موجودة (87)،
ولذا لو علم به تعين عليه دفع اضطراره بالطرف الآخر، غاية الامر جهل
181

المكلف هنا أوجب سقوط الامتثال القطعي عنه. وهذا نظير حال
الانسداد، حيث أن عدم القدرة على امتثال الاحكام الواقعية - على سبيل
القطع أو كونه حرجا عليه - لا يوجب سقوط الاحكام الواقعية، بل
يوجب سقوط الامتثال القطعي عنه.
نعم من ذهب إلى عدم امكان اجتماع الحكم الواقعي الفعلي
والترخيص في حال الشك كذلك، يجب عليه أن يفصل هنا بين أن
يكون الترخيص في بعض الأطراف شرعيا، فيرتفع العلم الاجمالي بثبوت
التكليف، أو عقليا فيبقى العلم بحاله، كما أنه لابد له من هذا التفصيل في
مسألة دليل الانسداد: بأن يقول: إن كان الحرج اللازم على تقدير
الاحتياط عقليا، كما إذا لزم من الاحتياط اختلال النظام، فلا ينافي بقاء
الاحكام الواقعية، وان كان شرعيا، فالترخيص الشرعي ينافي بقاء العلم
الاجمالي، فلا يكون اتيان المظنونات واجبا عقلا، اللهم الا ان يدعى العلم
الاجمالي في خصوص المظنونات.
(الثالثة) أنه لو كان أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء قبل
تحقق العلم الاجمالي، أو خرج عنه مقارنا له، فلا يكون العلم الاجمالي
منجزا، لعدم كونه علما بالتكليف الفعلي. والخروج عن محل الابتلاء إما
بأن يكون غير مقدور للمكلف، وإما بأن يكون بحيث يرغب عنه الناس
عادة، وتكون دواعيهم مصروفة عنه نوعا. والميزان استهجان العقلاء
للخطاب المتعلق به، والخروج عن محل الابتلاء - بعد تحقق العلم
182

الاجمالي - حاله حال الاضطرار الطارئ. وقد سبق أن الأصل فيه لزوم
الاحتياط. ولا اشكال في شئ مما ذكرناه.
إنما اشكال في حكم موارد الشك في كون الطرف خارجا عن
محل الابتلاء، أو داخلا فيه لا من جهة الأمور الخارجية، بل من جهة
اجمال ما هو خارج عن موارد التكليف الفعلي، فهل يكون المقام مما
يتمسك فيه بأصالة البراءة أو الاحتياط أو إطلاق الأدلة، بملاحظة أن
التقييد بالمجمل - المردد بين الأقل والأكثر - يوجب الاقتصار فيه على
المتقين، وهنا كذلك، لان الخارج ليس عنوانا مبينا، فيشك في
الانطباق، حتى يصير المقام من التمسك بالعام أو المطلق في الشبهة
المصداقية، كما لا يخفى.
والحق عدم جواز التمسك بالدليل اللفظي في أمثال المقام، مما
يكون الشك فيه راجعا إلى حسن الخطاب وعدمه، لوجهين:
(أحدهما) - أن الأدلة الشرعية ليست ناظرة إلى مثل هذه الجهات.
(ثانيهما) - أنه لا يمكن القطع بحكم ظاهري، بواسطة أصالة
الاطلاق أو العموم، لأن المفروض الشك في أن خطاب الشرع في هذا
المورد حسن أم لا؟ ولا تفاوت بين الخطاب الواقعي والظاهري. وعلى
هذا فهل القاعدة تقتضي البراءة أو الاحتياط؟ التحقيق هو الثاني (88)،
183

لان البيان المصحح للعقاب عند العقل - وهو العلم بوجود مبغوض المولى
بين أمور حاصل، وإن شك في الخطاب الفعلي، من جهة الشك في
حسن التكليف وعدمه. وهذا المقدار يكفي حجة عليه، نظير ما إذا شك
في قدرته على اتيان المأمور به وعدمها، بعد احراز كون ذلك الفعل موافقا
لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا، وهل له أن لا يقدم على الفعل بمجرد الشك
في الخطاب الفعلي الناشئ من الشك في قدرته.
والحاصل ان العقل - بعد احراز المطلوب الواقعي للمولى أو
مبغوضة - لا يرى عذرا للعبد في ترك الامتثال. هذا.
(الثالث) - أنه لو تحقق العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم بالاجمال،
ولم يكن له عنوان زائد لا يعلم انطباقه على ما علم تفصيلا، فلا اشكال في
انحلال العلم الاجمالي قهرا، إذا يكشف العلم التفصيلي عن كون الخطاب
سابقا. أما لو علم تفصيلا بشئ لا يعلم انطباق المعلوم الاجمالي عليه، كما
إذا علم اجمالا بوجود شاة متصفة بصفة كذا موطوءة بين الشياه، ثم علم
تفصيلا بكون الشاة المعينة موطوءة، ولم يعلم باتصافها بتلك الصفة، فهل
يوجب الانحلال، أم يجب الاحتياط حتى يقطع بالاجتناب عن الشاة
184

المتصفة بالوصف المعلوم؟ الأقوى الأول، لأنه - بعد احتمال انطباق
المعلوم بالاجمال على ما علم تفصيلا - لم يبق له علم بتكليف آخر، سوى
المعلوم بالتفصيل (89). نعم يشترط في الانحلال أن يعلم بكون الشاة
الخاصة موطوءة في الزمن الذي علم اجمالا بوجود شاة موطوءة، بملاحظة
ذلك الزمان، إذ لو علم تفصيلا بكون شاة موطوءة، واحتمل حدوث
الوطي، لم ينحل العلم الاجمالي السابق، بل هو باق على اجماله.
فان قلت: إن كان الاعتبار بوجود العلم الاجمالي في زمان،
فاللازم الاحتياط في كلا المثالين، لاشتراكهما في تحقق العلم الاجمالي في
زمن، وان كان الأثر دائرا مدار وجوده، فيلزم عدم وجوب الاحتياط
فيهما، إذ - بعد العلم التفصيلي بكون الطرف المعين محرما - لا يبقى التردد
والاجمال في أن الحرام هل هذا أو الآخر؟ سواء علم تفصيلا بكونه
حراما من قبل أم لم يعلم بذلك، بل احتمل حدوث سبب الحرمة.
185

قلت الاعتبار بوجود العلم الاجمالي وبقائه بملاحظة الزمن اللاحق.
وبعبارة أخرى يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي - في الأزمنة المتأخرة - أن
يعلم أنه في الزمن السابق كان عليه تكليف مردد بين أطراف، وان لم
يعلم بملاحظة الحال. وأما إذا علم الآن بان هذا المورد كان متعلقا
لتكليفه في السابق، وشك في الطرف الآخر من أول الامر، فلا اثر للعلم
الاجمالي الموجود سابقا، كما لو شك في أصل تحقق التكليف من أول
الامر، بعد ما علم اجمالا بثبوته أولا، بل ولو تفصيلا. ولو كان مجرد تحقق
العلم في زمن مؤثرا لوجب الحكم بوجود الأثر، وان صار شكا ساريا.
وهذا مما لا يقول به ذو مسكة.
ثم إن هذا الذي ذكرناه من الانحلال إنما هو فيما إذا لم يعلم
بانحصار التكليف، كما في المقدار الذي علم تفصيلا. وأما إذا علم
بالانحصار، فالامر فيه أوضح. هذا حال العلم التفصيلي. ولو قام طريق
معتبر شرعي مثبت للتكليف في بعض الأطراف، بحيث لو علم مؤدى
ذلك الطريق لانحل العلم الاجمالي، فهل يحكم بانحلال ويجرى الأصل
النافي للتكليف في الباقي أولا يجرى؟ بل الاحتياط في باقي الأطراف
أيضا. ومحل الكلام ما لم يعين الطريق مورد العلم الاجمالي، كما إذا علم
اجمالا بكون شاة موطوءة من انسان خاص، ثم قامت البينة على أن الشاة
الموطوءة من ذلك الشخص هي هذه، فإنه في هذه الصورة لا اشكال في
جريان الأصل في الطرف الآخر، وكذا لو علم بحصر المعلوم في واحد
مثلا، فان من لوازم صدق البينة عدم كون الباقي موطوءا، وتعيين المعلوم
بالاجمال فيما قامت عليه البينة. وقد حقق في محله وجوب الاخذ بلوازم
الطرق، وان لم تكن شرعية. وبهذا تفارق الأصول العلمية.
والحاصل ان محصل الكلام فيما إذا علم بوجود حرام أو واجب بين
186

أمور، واحتمل كون التكليف زائدا على المعلوم في نفس الامر، ولم يعين
الطريق المعلوم بالاجمال في مورده، كما إذا علم بكون شاة واحدة موطوءة
بين الشياه، واحتمل الزيادة، ثم قامت البينة على أن الشاة المخصوصة
موطوءة، وكذا لو علم بوجوب الظهر والجمعة، ثم قام الطريق المعتبر على
وجوب الظهر.
ومجمل الكلام في المقام أنه لو كان قيام الطريق سابقا على العلم
الاجمالي أو مقارنا له، فلا اشكال في جريان الأصول الشرعية النافية
للتكليف (90)، فان الأصل في مورد الطريق محكوم عليه، فتبقى الأصول
187

- الجارية في الأطراف الخالية عن الطريق - سليمة عن المعارض.
ولو كن بعد تحقق العلم الاجمالي، فان كان المقام من الشبهات
الحكمية، وكان عدم وصوله إليه من جهة عدم الفحص، فلا اشكال أيضا
في خلو الأصول في باقي الأطراف عن المعارض، لان قيام الطريق يكشف
عن عدم كون مورده مجرى للأصل من أول الامر، فيبقى خاليا عن
المزاحم.
وإن لم يكن من الشبهات الحكمية، أو كان، ولكن تفحص بقدر
الوسع، فلم يجد الطريق ابتداءا، ثم التفت إلى طريق على خلاف العادة
188

مثلا، فيشكل اجراء الأصول الشرعية في باقي الأطراف، لسقوطها ابتداءا
بواسطة المعارضة. وقد عرفت ان سقوط المعارض - بعد العلم الاجمالي
والتساقط - لا يوجب كون الطرف الموجود موردا للأصل.
والذي ينبغي أن يقال: هو ان قيام الطريق يوجب عدم تأثير
العلم الاجمالي السابق في الاحتياط عقلا. وقد قررنا وجهه سابقا في
الجواب عن الأخباريين المتمسكين بالعلم الاجمالي لرفع البراءة، فلا نطيل
المقام بإعادته.
(الامر الرابع) - أن سقوط الأصول في أطراف العلم إنما يكون إذا
كانت نافية للتكليف. وأما إذا كانت مثبتة، فلو احتمل مطابقة الكل
للواقع - كما في صورة عدم العلم بالانحصار - فلا اشكال في وجوب
الاخذ بها، لعدم المانع لا عقلا ولا شرعا. أما إذا لم يحتمل ذلك، كما إذا
علم بنجاسة أحد الإناءين وطهارة الآخر، وكان كل منهما مسبوقا
بالنجاسة، فهل يحكم بجريان الاستصحاب في كليهما أم لا؟ وجهان
مبنيان على أن العلم المجعول في الاخبار غاية، هل هو أعم من العلم
التفصيلي والاجمالي، أو هو مختص بالعلم التفصيلي؟
إن قلنا بالأول فلا يجرى الأصل. وان قلنا بالثاني فلا مانع من
جريان الأصلين كليهما. أما بحسب الدليل الشرعي، فلان المفروض ثبوت
الدليل العام ووجود الموضوع لذلك الدليل. وأما بحسب حكم العقل،
فلان اجراء الأصل في كليهما يوجب المخالفة العملية. وقد عرفت ما هو
الأقوى.
وتظهر الثمرة في ملاقي أحد الإناءين بالخصوص، فإنه - على تقدير
جريان الاستصحاب في الملاقى بالفتح - محكوم بالنجاسة، وعلى التقدير
الآخر محكوم بالطهارة.
189

(الامر الخامس) - انه قد عرفت في طي المسائل السابقة ان الشبهة
المقرونة بالعلم الاجمالي انما يجب فيها الاحتياط بشروط:
(منها) - كون الأطراف كلها موردا للابتلاء، بحيث لا يكون
التكليف بالنسبة إلى بعضها مستهجنا.
(ومنها) - عدم الاضطرار إلى بعض الأطراف إما معينا وإما غير
معين، فإنهما مشتركان في عدم وجوب الاحتياط، كما لا يخفى.
(ومنها) - عدم كون الاحتياط في جميع الأطراف حرجيا، ولو
كان كذلك لم يجب الاحتياط.
إذا عرفت ذلك فنقول قد اشتهر أن الشبهة الغير المحصورة لا يجب
فيها الاحتياط، بل ادعى عليه الاجماع، بل الضرورة، فلا بد أن تفرض
الشبهة على نحو لو فرض كونها محصورة لوجوب فيها الاحتياط، لكونها جامعة
للشرايط المعتبرة في تنجزها، إذ لو فقد بعض ما ذكر، فعدم وجوب
الاحتياط إنما يكون من جهة عدم الشرط، لا من جهة كونها غير محصورة،
فلنفرض الكلام فيما إذا علمنا بحرمة شئ مردد بين أمور كثيرة، ولم يكن
الاجتناب عن الجميع حرجيا، ولم يكن بعضها خارجا عن محل الابتلاء،
ولم يكن المكلف مضطرا إلى ارتكاب البعض. فما قيل في وجه عدم
وجوب الاحتياط فيها - من عدم ابتلاء المكلف بالنسبة إلى جميع
الأطراف، أو كون الاحتياط فيها حرجيا وأمثال ذلك - أجنبي عن
المقام.
إذا عرفت موضع البحث فنقول: غاية ما يمكن ان يقال - في
وجه عدم وجوب الاحتياط - هو أن كثرة الأطراف توجب ضعف
احتمال كون الحرام مثلا في طرف خاص، بحيث لا يعتنى به العقلاء،
ويجعلونه كالشك البدوي، فيكون في كل طرف يقدم الفاعل على
190

الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه. وهذا التقريب أحسن
مما افاده شيخنا الأستاذ قدس سره: من أن وجه عدم وجوب الاحتياط
كون الضرر موهوما، فان جواز الاقدام على الضرر الأخروي الموهوم - لو
سلم - لا يوجب القطع بكونه غير معاقب، كما لا يخفى.
هذا ولكن فيما ذكرنا أيضا تأمل، فان الاطمينان - بعدم الحرام
في كل واحد واحد بالخصوص - كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام
بينها، وعدم خروجه عنها، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية،
مع الظن بالسلب الكلى (91) فحينئذ إن تم الاجماع في المسألة فهو، والا
فالقول بعدم وجوب الاحتياط مشكل، لعين ما ذكر في الشبهة المحصورة،
من دون تفاوت. ولا يبعد أن يكون حكمهم بعدم وجوب الاحتياط في
الشبهة الغير المحصورة من جهة مقارنتها غالبا مع فقد بعض شروط التنجيز،
وعلى هذا لا خصوصية لها في الحكم المذكور.
هذا حكم الشبهة في متعلق الحكم بعد احراز أصله، وقد ذكرنا
أن الشبهة إن كانت في أصل التكليف، فالقاعدة تقتضي البراءة، وان
كانت في متعلقه بعد احراز أصله، فالقاعدة تقتضي الاحتياط. وقد وقع
الاختلاف بين أصحابنا في بعض الشبهات، فذهب جماعة إلى كونه موردا
للبراءة، وأخرى إلى كونه موردا للاشتغال. ومبنى الخلاف أنه هل هي
من افراد الشبهة في أصل التكليف، أو في متعلقه. ومن تلك الموارد
الشك في جزئية شئ للمأمور به، وأن التكليف هل هو متعلق بالمركب
الأقل أو الأكثر.
191

الأقل والأكثر
والتكلم فيه يقع في مقامين: (أحدهما) في اقتضاء الأصل العقلي
و (ثانيهما) في اقتضاء الأصل الشرعي. والمركب الواجب (تارة) يفرض
توصليا لا يشترط فيه قصد القربة. و (أخرى) تعبديا. ولنقدم الكلام في
الواجب التوصلي بحسب اقتضاء الأصل العقلي:
فنقول احتج على لزوم الاحتياط بثبوت العلم الاجمالي بالتكليف
المتعلق بالأقل والأكثر، ومقتضى اشتغال الذمة بالتكليف وجوب
الفراغ منه يقينا، وهو لا يحصل الا باتيان الأكثر.
192

لا يقال إن الأقل معلوم الوجوب على كل حال، لأنه إما واجب
نفسا وإما مقدمة لحصول الأكثر، وبعد العلم بوجوب الأقل تفصيلا،
ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي.
لأنا نقول التكليف المعلوم تفصيلا لو كان غيريا في الواقع،
لا يترتب عليه اثر عقلا، لما حقق في محله. والتكليف النفسي غير معلوم
تفصيلا في طرف خاص، فيبقى العلم الاجمالي بالتكليف النفسي موجبا
للاحتياط.
فان قلت نفى الأثر عن التكليف الغيري مطلقا لا وجه له، فان
المنفى بحكم العقل استحقاق العقوبة على مخالفته كالتكليف النفسي. وأما
كون مخالفته منشأ للعقاب على ذي المقدمة، فلا ينفيه العقل، بل هو لازم
له عند العلم به، فحينئذ يقال: إن التكليف بالأقل معلوم، ومخالفته
توجب استحقاق العبد للعقوبة، إما على ترك نفسه، وإما على ترك ما هو
مسبب عن تركه، ولا علم له بتكليف آخر غير هذا المعلوم.
قلت المفروض على هذا القول عدم تنجز الأكثر، فكيف يصير
ترك الأقل المعلوم موجبا للعقوبة عليه.
والحاصل ان احتمال كون الوجوب المعلوم غيريا هل يوجب
تنجز الأكثر أم لا؟ فعلى الأول لا معنى للقول بالبراءة فيه. وعلى الثاني
لا معنى للقول بان مخالفته توجب العقوبة عليه.
إن قلت ترك الأكثر قد يكون مستندا إلى ترك الاجزاء المعلومة،
وقد يكون مستندا إلى ترك الجزء المشكوك فيه. والمراد - من أن مخالفة
التكليف الغيري توجب العقوبة على ذي المقدمة - أنه لو ترك مستندا
إلى ترك الاجزاء المعلوم وجوبها، لاستحق عليه العقاب، دون ما إذا
ترك مستندا إلى غيرها.
193

قلت لازم ما ذكرت عدم صحة العقوبة على الأكثر، لو ترك
مجموع الاجزاء من المعلومة وغيرها، فان الترك حينئذ ليس مستندا إلى
خصوص ترك الاجزاء المعلومة، كما هو واضح، فيرجع الامر إلى أن مخالفة
هذا الامر المعلوم ليس له اثر على كل تقدير.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال للقائل بالاشتغال.
وفيه ان الضابط في انحلال العلم الاجمالي ليس العلم التفصيلي
بالتكليف الذي يوجب في مخالفته العقوبة على كل حال، كيف؟ ولو
كان كذلك لما صح القول بالانحلال فيما إذا قام طريق معتبر شرعي
مثبت في بعض الأطراف، فإنه لا تصح العقوبة على مخالفة التكليف
الطريقي على كل تقدير، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفا
للواقع. إنما الضابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلا،
وإن كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير.
فنقول - فيما نحن فيه - إن العلم بالتكليف المتعلق بالأقل - لما
لم يعلم كونه مقدميا أو نفسيا - يجب عند العقل موافقته، لأنه لو كان
نفسيا لم يكن له عذر في تركه، كما في التكاليف الطريقية، حيث أن
وجوب امتثالها عند العقل من جهة احتمال مصادفتها للواقع، وان
المكلف على هذا التقدير لم يكن معذورا.
فعلى هذا نقول: نعلم تفصيلا بتكليف من الشرع يجب بحكم
العقل متابعته، ونشك في تكليف آخر وراء ذلك، لاحتمال وحدة مورد
العلم الاجمالي مع التفصيلي. والعجب ممن جزم في التكاليف الطريقية
بأنها موجبة للانحلال، مع جزمه هنا بالاشتغال، محتجا بأن التكليف
المعلوم ليس له اثر على كل تقدير. وكيف كان فالأقوى في النظر البراءة
194

وفاقا لسيدنا الأستاذ طاب ثراه، لما ذكر من الوجه.
فان قلت إن مقتضى قواعد العدلية كون الأوامر مسببة عن
مصالح في المأمور به، وأن غرض الشارع وصول العبد إليها، فإذا اتى
بالأقل لم يعلم بحصول الغرض أصلا، لاحتمال حصوله باتيان الأكثر،
والعقل يحكم بوجوب اتيان المأمور به على نحو يسقط به الغرض، بل ليس
هذا الكلام مبنيا على قواعد العدلية القائلين بوجود المصلحة والمفسدة،
لوضوح أن لكل آمر غرضا في اتيان المأمور به، وان كان جزافا، ويلزم على
العبد اتيان المأمور به على نحو يصحل به غرض المولى.
قلت لزوم اتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض عقلا (تارة) من
جهة أن الثابت عليه بحكم العقل اسقاط الامر، وهو لا يسقط الا باسقاط
الغرض. و (أخرى) من جهة ان اللازم بحكم العقل تحصيل غرض المولى
مستقلا، من دون ملاحظة كونه سببا لسقوط الامر. وعلى الثاني (تارة)
يقال إن أصل الواجب في باب الإطاعة ينحصر في تحصيل الغرض،
والامر إنما يكون حجة على الغرض، من دون ان يكون موضوعا لحكم
العقل بوجوب الامتثال. و (أخرى) يقال بان الواجب كل منهما بحكم
العقل، فلو انفرد الغرض عن الامر يجب تحصيله. وكذا لو انفرد الامر عن
الغرض، كما لو كانت المصلحة في نفس التكليف.
فان كان نظر القائل إلى الأول نقول لا يعقل بقاء الامر مع اتيان
متعلقه، لأنه يرجع إلى طلب الحاصل.
وان كان نظره إلى أول الوجهين من الثاني فنقول هذا خلاف ما
نجده من أنفسنا، لوضوح أنه لو فرضنا امر المولى جديا، ولم يكن له غرض
في الفعل، بل إنما امر جدا لغرض ومصلحة في الطلب الجدي، يجب بحكم
العقل اطاعته، ويصح عند العقلاء ان يؤاخذ العبد على المخالفة، ولا يسمع
195

عذر العبد بأن هذا الامر لم يكن لتحصيل غرض في المأمور به.
وان كان نظره إلى الوجه الأخير فنقول: لو علم بان غرض المولى
لا يحصل باتيان متعلق الامر المعلوم، يحكم العقل باتيان ما هو موجب
لحصول غرضه. وأما إذا لم يعلم ذلك، واحتمل انطباق غرضه على ما
علم وجوبه - كما فيما نحن فيه - فلا يحكم العقل بوجوب شئ زائد
على ما علم وجوبه، فان امتثال هذا الامر المعلوم واجب، ولا يعلم ببقاء
غرض المولى بعد اتيان الفعل المفرض.
ويمكن ان يستدل على البراءة بوجه آخر، وهو أن يقال: إن
الأقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسي، لان المركب باللحاظ الأول
- الذي يجعله الحاكم موضوعا للحكم - ملحوظ بلحاظ واحد، وموجود
في الذهن بوجود واحد، ولا جزء له بهذا اللحاظ، إنما تعتبر الجزئية بلحاظ
ثانوي، وهو لحاظ كل جزء منه مستقلا، فالجزء إن لوحظ مستقلا فهو
مقدمة للكل، وان لوحظ طريقا إلى اللحاظ الأولى للحاكم على نحو
الطبيعة المهملة، فهو غير الكل، إذ ليس للاجزاء بهذا الاعتبار وجود
على حدة.
إذا عرفت هذا فنقول - بعد العلم بتعلق الوجوب إما بالأقل أو
بالأكثر - نعلم بتعلقه بذات الأقل، مع قطع النظر عن كونه محدودا بأحد
الحدين، ونشك في تعلقه بشئ آخر، فمقتضى الأصل البراءة.
فان قلت إن الطبيعة المهملة - من أحد الحدين - لا تكون
موضوعة لحكم الحاكم قطعا، ضرورة أنه إما تعلق غرضه بالمركب الأقل أو
الأكثر، فالقدر المشترك بينهما - المجرد عن اعتبار الوضعين - شئ انتزع
عن تكليف الآمر بأحد العنوانين على جهة الخصوصية، ولا أثر هذا الامر
الانتزاعي، وما هو واقع لا يعلم به الا اجمالا.
196

(قلت) ليس حكم العقل بوجوب الامتثال مختصا بما إذا علم
عنوان المكلف به مفصلا، بل متى علم بشئ - ولو كان ذلك الشئ
وجها من وجوه المكلف به - لزم عليه الامتثال بحكم العقل. ولذا قلنا
في مبحث العلم الاجمالي أنه باقسامه موجب للاحتياط، لو لم يكن
العنوان الواقعي للمكلف به معلوما، كما إذا علم بوجوب الدعاء عند
رؤية الهلال، أو بحرمة شرب التتن.
(فان قلت) نعم لكن ليس العلم بوجوب المهملة مقتضيا لاتيانها
في ضمن أي فرد كان، ألا ترى أنه لو كان الواجب عتق الرقبة المؤمنة،
لا يصح امتثاله بعتق الرقبة الكافرة؟ وان كانت نسبة الوجوب إلى عتق
الرقبة بنحو الاهمال صحيحة، من جهة وجود المهملة في المقيد أيضا،
فمقتضى العلم - بتعلق الوجوب بالطبيعة المهملة - امتثاله على نحو
يقتضيه في الواقع. ولا يقطع بالبراءة من مقتضى هذا المعلوم إلا بالاتيان
بالأكثر.
قلت إن علم تعلق التكليف بالمقيد، فلا يصح امتثاله في الفرد
الفاقد للقيد، لان التكليف بالمقيد تكليف واحد، وان صح نسبته إلى
المهملة، من جهة اتحادها مع المقيد، فذمته مشغولة باتيان ذلك المقيد،
بخلاف ما نحن فيه، فان ذمته لم تشتغل بأزيد من هذه الطبيعة الجامعة.
فان قلت: على هذا لزم عليك ان تقول - في صورة العلم
بوجوب أحد المتباينين - بعدم وجوب الاحتياط، لأنه لا يعلم الا
بوجوب أحدهما، فلا يجب عليه الا اتيان أحدهما، لأنه المقدار المعلوم له.
قلت وجه الاحتياط في المتباينين أنه يعلم بوجوب عنوان خاص
في نفس الامر، وذلك العنوان خصوصية زايدة على عنوان أحدهما، لان
هذا العنوان الاجمالي صادق على كل منهما، وذلك لا ينطبق الا على واحد
197

بعينه. والمنجز عقلا هو ذلك العنوان الخاص، لا العنوان الأعم الاجمالي.
وأما في مقامنا مما يكون الامر فيه دائرا بين الزائد والناقص، أو المطلق
والمقيد، فلا علم للمكلف بلزوم خصوصية زائدة على المقدار المعلوم، فان
مرجع كون الناقص أو المطلق مطلوبا إلى عدم دخل خصوصية زائدة على
تلك الطبيعة، لا إلى دخل خصوصية زائدة، وهي النقص أو الاطلاق،
فتدبر في المقام.
ومما ذكرنا عرفت وجه أصالة البراءة في الشك في القيد،
فلا نطيل بذكره الكلام. هذا حال الأصل العقلي في الاجزاء والقيود
المشكوكة في الواجبات التوصلية (92).
(واما) الواجبات التعبدية، فيستظهر القائل بالاحتياط بجهة
أخرى غير ما ذكره في وجه الاحتياط في التوصليات، وهي أن الواجب
فيها قصد التقرب، ولا يحصل الا بقصد اتيان ما هو تكليف نفسي
للمولى، إذ في الواجبات الغيرية - على ما حقق في محله - لا يتأتى قصد
القربة، فيجب من جهة حصول هذا المعنى المبين إتيان الأكثر، وقصد
التقرب باتيان ما هو واجب في الواقع.
198

وفيه ان قصد القربة إن جعلناه من الاغراض المترتبة على الامر،
بان قلنا لا يمكن ادراجه في المأمور به، فمعلوم ان تنجزه تابع لتنجز الامر، إذ
لا يعقل عدم تنجز الامر الذي هو سبب لتنجز الغرض وتنجزه، فكما أن
العقل يحكم في الشبهات البدوية بعدم تنجز الغرض المترتب على الامر على
المكلف، كذلك هنا على القول بالبراءة. نعم لو كان التكليف متعلقا
بالأقل، يجب على المكلف امتثاله على نحو يسقط به الغرض، إذ الحجة قد
قامت عليه. والمفروض أنه يأتي بالأقل المعلوم بقصد الإطاعة، لا بأغراض
اخر.
فان قلت كيف يتمشى قصد القربة فيما دار امره بين ان يكون
واجبا نفسيا أو مقدميا، والمفروض عدم حصول القرب في امتثال
التكليف المقدمي؟
قلت المقدار المسلم اعتباره في العبادات أن توجد على نحو يعد
فاعله من المنقادين للمولى. ومن المعلوم حصوله هنا، كيف؟ ولو كان
المعتبر أزيد من ذلك، لا نسد باب الاحتياط في العبادات في موارد الشبهة
في أصل التكليف، إذ لا يعلم العبد أن ما يأتي به لغو أو مطلوب للمولى،
فكيف يقصد القربة؟
ومن هنا ظهر الجواب عن هذا الاشكال، على تقدير القول بكون
قصد القربة داخلا في المأمور به، فإنه يصير حينئذ كالاجزاء المعلومة في
لزوم المراعاة باتيانها متقربا على نحو ما ذكرناه. هذا تمام الكلام في
الأصل العقلي.
واما الأصل الشرعي فنقول إن الدليل العمدة في المقام هو
حديث الحجب وحديث الرفع، ومفادهما بالنسبة إلى مورد الشك واحد.
وتقريب الاستدلال على مبنى القائل بالبراءة عقلا واضح، فان مقتضاهما
199

رفع الحكم المتعلق بالأكثر، لأنه مما حجب الله علمه عن العباد، ومما
لا يعلمون، ولا يعارضه كون تعلق الحكم بالنسبة إلى الأقل مشكوكا
أيضا، فان التكليف النفسي وإن كان كذلك، إلا أنه - بعد العلم بأصل
الوجوب وكون هذا الحكم المعلوم لازم الامتثال بحكم العقل، كما هو
مبنى القائل بالبراءة - لا يكون موردا للرفع، لان ما هو ملاك للأثر عند
العقل معلوم غير قابل للرفع، والخصوصية المشكوكة ليست كلفة زائدة على
العبد، كما هو واضح. ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بهما على نفى القيد
المشكوك.
وأما على مبنى القائل بالاحتياط، فيشكل التمسك بهما على
المطلوب، من جهة أنه - على المبنى المذكور - العلم بالوجوب الأعم من
النفسي والغيري ليس له اثر عقلا. وإنما المؤثر هو العلم بالتكليف
النفسي إما اجمالا أو تفصيلا، فعلى هذا كما أن تعلق التكليف بالأكثر
مشكوك فيه، فيشمله الحديث، كذلك تعلقه بالأقل أيضا،
فيتعارضان (93). اللهم إلا أن يقال بعد تعارضهما يبقى الأصل - الجاري
في الوجوب الغيري للجزء المشكوك فيه - سليما عن المعارض، لأن الشك
فيه إنما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالأكثر، وليس
في مرتبة المتعارضين حتى يسقط بالتعارض.
ولكن يمكن المناقشة فيه أيضا بأن مجرد نفى الوجوب الغيري عن
الجزء المشكوك فيه لا يثبت كون الواجب هو الأقل، إلا بالأصل المثبت
200

الذي لا نقول. به اللهم إلا أن يدعى أن رفع الوجوب - عن جزء المركب
بعد فرض وجوب الباقي - يفهم منه عرفا ان الباقي واجب نفسي (94)
ويؤيد ذلك قول الإمام عليه السلام في خبر عبد الاعلى: (يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله، ما جعل عليكم في الدين من حرج، امسح على
المرارة) حيث أن الإمام عليه السلام دلنا على أن المدلول العرفي للقضية
رفع ما يكون حرجا، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة، واثبات
الباقي، وهو أصل المسح.
وهنا نقول أيضا بأن المجهول مرفوع، والتكليف ثابت في الباقي،
بمدلول قضية رفع ما لا يعلمون، وحديث الحجب. ومن هنا يظهر وجه
التمسك بهما لنفى القيد المشكوك، فان التكليف بالمقيد، وان كان تكليفا
واحدا، لكن يصح تحليله عند العقل، ويقال إن تعلق التكليف بأصل
الطبيعة معلوم، والخصوصية الزائدة غير معلومة، فتنفى بمقتضى الخبرين،
ويثبت الباقي كما ذكرنا.
هذا، وينبغي التنبيه على أمور
(الأول) - أنه إذا دار الامر بين التعيين والتخيير، بأن يكون
تعلق الوجوب على موضوع معلوما، وشك في أنه على نحو التعيين أو
التخيير، فالأصل يقتضى أيهما؟ فيه وجهان.
(لوجه الأول) أن تعلق التكليف بهذا الموضوع معلوم، ويشك في
أنه هل يسقط باتيان شئ آخر أم لا؟ فمقتضى الاشتغال بالحكم الثابت
فراغه عن عهدة التكليف يقينا.
201

(لوجه الثاني) أن الشك في المقام راجع إلى الشك في الاطلاق
والتقييد، ووجهه أن الشيئين إذا اتحدا في الأثر، فاللازم عند العقل أن
يكون ذلك الأثر مستندا إلى القدر الجامع، فحينئذ مرجع الشك في
التعيين والتخيير إلى أن التكليف هل هو متعلق بالجماع بين الفردين، أو
بخصوص ذلك الفرد؟ وبما أنا قلنا بالبراءة هناك نقول بها هنا أيضا.
(والحق) هو الأول، لان التخيير وإن كان راجعا إلى تعلق
الحكم بالجامع عقلا وفى عالم اللب، ولكن لو كان مراد المولى ذلك
العنوان الخاص الذي جعله موردا للتكليف على وجه التعيين، لم يكن
للعبد عذر، وليست المؤاخذة عليه مؤاخذة من دون حجة وبيان، حيث أنه
يعلم توجه الخطاب بالنسبة إلى العنوان الخاص.
ومن هنا تعرف الفرق بين المقام وبين دوران الامر بين المطلق
والمقيد، حيث أنه في الثاني لا يعلم بتوجه الخطاب بالمقيد، فيؤخذ
بالمتيقن، ويدفع القيد بالبراءة، بخلاف ما نحن فيه، حيث أن المفروض
العلم بصدور الخطاب المتعلق بالعنوان الخاص، فلا تغفل.
(الثاني) - أنه لما فرغنا عن الشك في الجزئية والقيدية في
الشبهة الحكمية، فاللازم التكلم في الموضوعية منها مفصلا، لكون بعض
مصاديقها محلا للابتلاء، وموردا لانظار العلماء.
فنقول وبالله المستعان إن جعل طبيعة جزءا للمأمور به يتصور على
أنحاء: (منها) جعلها باعتبار صرف الوجود، أعني الوجود اللابشرط من
جميع الخصوصيات، الذي يكون نقيضا للعدم المطلق.
وبعبارة أخرى الذي ينتقض به العدم، فيكتفى باتيانه في ضمن
فرد واحد، ضرورة تحقق ذلك المعنى اللابشرط في ضمن فرد واحد.
و (منها) - جعلها باعتبار وجودها الساري في جميع الافراد.
202

و (منها) - جعلها باعتبار مجموع الوجودات، بحيث يكون مجموع افراد
الطبيعة جزء أو أحدا للمأمور به، والأقسام المذكورة كلها متصورة بالنسبة
إلى الشرط والمانع.
إذا عرفت هذا فنقول إن جعل شئ جزءا أو شرطا للمأمور به
بالاعتبار الأول، فلا ريب في وجوب احرازه، وعدم جواز الاكتفاء
بالمشكوك، لان الاشتغال - بالمركب من اجزاء معلومة أو المشروط
بالشرط المعلوم - معلوم بالفرض، ولا تتحقق البراءة إلا باتيان ما يعلم
انطباقه عليه. وهذا في الوضوح والبداهة بمكان.
وان جعل جزءا أو شرطا بالاعتبار الثاني، فلا اشكال في أن
مرجع هذا النحو من الجعل إلى جعل كل واحد من افراد الطبيعة جزءا
مستقلا أو شرطا كذلك، وان القضية الدالة على ذلك تنحل إلى قضايا
متعددة، فهل يحكم - في الفرد المشكوك كونه جزءا أو شرطا، من جهة
الشك في انطباق المفهوم المعلوم كونه جزءا أو شرطا عليه - بالبراءة أو
الاحتياط؟ وجهان تعرف الحال بعد بسط المقام في الشك في المانع
أيضا. وكذا الحال فيما إذا جعل بالاعتبار الثالث.
وان جعل شئ مانعا بالاعتبار الثالث - أعني اعتبار مجموع
الوجودات - فيرجع إلى اشتراط ترك واحد من افراد ما جعل مانعا. ولا
اشكال في وجوب احراز ذلك احراز ذلك الترك، لان أصل الاشتراط
معلوم، فاللازم العلم بوجود الشرط. وهذا أيضا واضح.
وان جعل مانعا بأحد الاعتبارين الأولين - أعني اعتبار صرف
الوجود، أو الوجود الساري - فلو شك في كون شئ مصداقا للمفهوم
الذي جعل مانعا، فهل الأصل يقتضى الاحتياط والاجتناب عن ذلك
الشئ المشكوك كونه فردا، أو البراءة؟
203

مثال ذلك إذا علمنا أن الشارع جعل - لبس الجلد أو الصوف
أو الوبر لغير ما يؤكل لحمه من الحيوان - مانعا للصلاة، وشككنا في أن
اللباس الخاص هل هو مأخوذ مما يؤكل لحمه أو من غيره؟ المشهور - كما
قيل - على الاحتياط، وذهب بعض الأساطين إلى البراءة وعدم وجوب
الاحتياط. منهم سيد مشائخنا الميرزا الشيرازي في أواخر عمرة وهذا هو
الأقوى.
اللباس المشكوك
(وتوضيح المقام) على نحو يكشف الستر عن وجه المرام: أن جعل
اجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعا في الصلاة - بعد القطع بعدم كون المانع هو
مجموع وجودات تلك الطبيعة - لا يخلو من أمرين إما حمله على نحو
السريان، فالمجعول مانعا - على هذا - كل فرد من افراد تلك الطبيعة.
والمفروض أن لتلك الطبيعة افرادا معلومة، قد علم تقييد الصلاة بعدم
كل واحد منها، فمرجع الشك هنا إلى أن المأمور به هل قيد بعدم هذا
الفرد زائدا على ما علم اعتباره فيه أم لا؟
وبعبارة أخرى مرجع هذه الشبهة إلى الشبهة في اشتراط امر آخر،
سوى الأمور المعلومة، غاية الامر أن هذه الشبهة نشأت من أمور خارجية.
وحينئذ نقول: إن لهذه الشبهة جهتين: (إحداهما) أنها من مصاديق الشبهة
في الأقل والأكثر (والثانية) أنها من مصاديق الشبهة الموضوعية، فان كان
المانع من اجراء البراءة فيها الجهة الأولى، فقد فرغنا عنها، وان الحق فيها
من هذه الجهة البراءة، وكل ما أقمناه حجة هناك جار هنا، فلا نطيل
الكلام بإعادته. وإن كان المانع الجهة الثانية فقد مر أيضا الكلام فيه،
وان ما يشك في كونه محرما - من جهة الشك في انطباق العنوان عليه -
204

حكمه حكم ما يشك في كونه محرما من جهة الشبهة الحكمية.
والحاصل أنه بعد ما فرضنا قبح المؤاخذة على ارتكاب المحرم
المجهول، فلا فرق في ذلك بين ان يكون المرتكب جاهلا بالصغرى، وأن
هذا خمر مثلا، وبين أن يكون جاهلا بالكبرى، بان لا يعلم حرمته،
فالقائل بوجوب الاحتياط إن كان نظره إلى أن هذا المورد مما دار الامر
فيه بين الأقل والأكثر، فقد أجبنا عن اشكاله في الشبهة الحكمية، وان
كان نظره إلى كون المقام من الشبهات الموضوعية، فقد أجبنا عن اشكاله
في الشبهة الموضوعية، ولا يعقل ان يحدث - اجتماع الجهتين ليست
واحدة منهما موجبة للاحتياط - ايجاب الاحتياط.
هذا إن حملنا دليل المانع على الوجود الساري، كما هو ظاهر
النواهي الشرعية عرفا، سواء كانت نفسية أو غيرية، وان حملناه على صرف
الوجود، فقد يتوهم ان مقتضى القاعدة الاحتياط، حيث إن تقييد الصلاة
بعدم تلك الحقيقة معلوم، وهو تقييد واحد، سواء كثرت افرادها أم
قلت. ولا يتحقق ذلك العدم الا بعدم جميع الافراد، كما إذا قيدت
الصلاة بالطهارة من الحدث، ولم يعلم بأنه هل يتحقق بالمركب من
الغسلتين والمسحتين أو به وبشئ آخر.
والحاصل أنه لو كان التكليف بشئ واحد معلوما، ودار الامر
في محصل ذلك الشئ بين الأقل والأكثر، فلا شك في لزوم الاحتياط.
والسر في ذلك أن محط التكليف ليس هذا المركب، حتى يؤخذ فيه بالقدر
المتيقن، ويكون الشك في الباقي شكا في أصل التكليف، بل التكليف
متعلق بذلك المعنى الواحد، فالذمة مشغولة به يجب الفراغ عنه، لكن
التحقيق يقتضى عدم الفرق بين الصورتين، ومقايسة ذلك بالطهارة
205

ومحصلها ليست في محلها (95).
توضيح ذلك أنه قد يكون التكليف متعلقا بالعنوان المتولد من
السبب الخارجي، ويشك في أن سبب حصول ذلك العنوان المكلف به،
هل هو الأقل أو الأكثر، فيجب حينئذ الاحتياط باتيان الأكثر، حتى يعلم
تحقق العنوان. والامر بالطهارة من هذا القبيل، لأنها امر معنوي يتحصل
من أفعال خارجية. وكذلك لو أمرنا بالتأديب، ولم نعلم أنه يحصل
بضربة أو بضربتين مثلا، وهكذا. وقد يكون التكليف متعلقا بما هو عين
الخارج، لا انه يتحصل به، كما فيما نحن فيه، فان صرف الوجود الذي
جعلناه متعلقا للنهي الغيري هو عين الوجودات الخارجية، والنهى المتعلق
به في الحقيقة راجع إلى النهى عن تلك التحصلات الخارجية.
فحينئذ يقال: أنا نعلم من جهة ذلك النهى تقييد الصلاة بعدم
تلك التحصلات المعلومة، ونشك في تقييدها بالزائد، ومقتضى الأصل
البراءة. والفرق بين هذا الفرض وسابقه أنه في السابق كانت الشبهة من
مصاديق الشبهة في الأقل والأكثر من حيثية واحدة، وفى هذا الفرض من
حيثيتين: (إحداهما) من جهة ارتباط القيد بالصلاة (والثانية) من جهة
الارتباط الموجود في نفس القيد. ولا ضير بعد ما لم تكن هذه الجهة منشأ
للاحتياط. هذا ما استفدناه من سيدنا الأستاذ طاب ثراه في بيان الأصل
العقلي، نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدس سره.
206

فان قلت إن ما ذكرته صحيح على تقدير جعل لبس غير مأكول
اللحم مانعا في الصلاة. واما لو جعل اللباس - على تقدير كونه من اجزاء
الحيوان - شرطا، سواء كان ذلك الشرط كونه مأكول اللحم أم عدم
كونه من غير مأكول اللحم، فالقاعدة تقتضي الاحتياط، فإنه - بعد
حصول التقدير، وهو ما إذا لبس المصلى شيئا من اجزاء الحيوان - اشترط
هذا اللباس الخاص بشئ معلوم، وهو كونه مما يؤكل أو عدم كونه مما لا
يؤكل. والشك إنما هو في وجود الشرط، وليس هنا قدر متيقن، حتى
يؤخذ به، ويصير الشك في الزائد شكا في أصل الاشتراط كما لا يخفى على
المتأمل.
وحينئذ نقول إن موثقة ابن بكير - التي هي أصل في عدم جواز
لبس غير مأكول اللحم في الصلاة - وان كان صدرها ظاهرا في مانعية
ليس غير مأكول اللحم في الصلاة، ولكن بعض فقراتها تدل على خلاف
ذلك، وهو قوله عليه السلام (لا يقبل الله تلك الصلاة حتى تصلى في
غيره مما أحل الله اكله) لأن هذه الفقرة - بعد القطع بعدم كون ظاهرها
مرادا، كما هو واضح - ان تحمل على الشرطية التقديرية. والمعنى - على
هذا - لا يقبل الله تلك الصلاة على تقدير لبسك شيئا من الحيوان، حتى
تصلى فيما أحل الله اكله فحينئذ لا يجوز الاكتفاء بالصلاة في اللباس
المشكوك.
قلت لا يخفى - على العارف بأسلوب الكلام - ان هذه الفقرة
ليست مما تفيد مطلبا آخر سوى ما استفدناه من صدر الرواية، لان قول الإمام
عليه السلام هذا تفريع على ما مر منه عليه السلام في صدر الرواية.
ومحصل المعنى: أنه لما كانت الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه فاسدة،
لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصلى في غيره، واما ذكر ما أحله الله من
207

جهة كون الصلاة فيه أحد مصاديق الصلاة المقرونة بعدم المانع.
ثم إنه على تقدير تسليم كونه في مقام بيان الاشتراط نقول: الظاهر
منه توقف صحة الصلاة على كونه في مأكول اللحم، وبعد القطع بعدم
اشتراط ذلك بقول مطلق، فاللازم حمله على الاشتراط المعلق، يعنى أن
المصلى - على تقدير لبسه شيئا من اجزاء الحيوان - لا تصح صلاته إلا أن
يصلى فيما أحله الله وحينئذ نقول يكفي في صدق هذا الشرط أن يكون معه،
لباس مما أحله الله يقينا، وان كان معه أيضا ما يشك كونه كذلك،
فإنه بعد احراز الشرط - المستفاد من ذيل الرواية على الفرض - ليس لنا
شك الا من جهة مانعية اللباس الآخر للصلاة. وقد قلنا إنه من تلك
الجهة مورد للأصل.
اللهم إلا أن يدعى أنه - على تقدير القول بأن ذيل الرواية تفيد
الشرطية - ليس معناه مجرد اشتراط الصلاة فيما أحله الله، بل المراد أن
المصلى - على تقدير لبسه جزءا من الحيوان - يشترط كون ذلك الجزء
الملبوس مما يؤكل، ففي الجزء المشكوك أصل الاشتراط معلوم. وإنما
الشك في وجود الشرط. واللازم في مثله الاحتياط.
وكيف كان نحن في سعة مما ذكر، لما قلنا من أن العمدة مفاد
صدر الرواية، وان الذيل لا يفيد شيئا الا التفريع على ما ذكر. هذا تمام
الكلام في الأصل العقلي.
واما الأصل النقلي، فيدل على المقصود كل ما دل على البراءة
في الشبهة الحكمية، بالتقريب الذي مر بيانه هناك، فلا نطيل الكلام
بإعادته، مضافا إلى امكان أن يقال ان مثل قوله عليه السلام - (كل
شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه)
أيضا - يدل على المقصود.
208

تقريبه ان الحل والحرمة كما يطلقان على النفسيين، كذلك
يطلقان على الغيريين، وقد شاع استعمالهما في هذا المعنى في الاخبار، مثل
قوله عليه السلام في رواية عبد الله بن سنان: (كل ما كان عليك أو
معك مما لا يجوز فيه الصلاة منفردا...) وكذا قوله عليه السلام: (لا يجوز
الصلاة في شئ من الحديد) وفى رواية إبراهيم بن محمد الهمداني:
(لا يجوز الصلاة فيه) وفى صحيحة عبد الجبار: (لا تحل الصلاة في الحرير
المحض) وفى صحيحة أخرى له: (لا تحل الصلاة في حرير محض) وفى
صحيحة على بن مهزيار: (هل يجوز الصلاة في وبر الأرنب - إلى أن
قال - فكتب عليه السلام لا يجوز الصلاة) وفى رواية الحلبي: (كل ما
لا يجوز الصلاة فيه وحده) إلى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.
والحاصل أن الحل والحرمة - في لسان الأئمة عليهم السلام -
أعم من النفسي والغيري، كما يشهد به ما ذكرناه من الاخبار. وحينئذ
نقول: مقتضى ظاهر الحديث جواز الصلاة في المشكوك، فإنه شئ
لا يعلم أتحل الصلاة فيه أم لا. وقد قال كل شئ فيه حلال وحرام فهو
لك حلال، وللجلود والأصواف قسم تحل فيه الصلاة، فيحكم في
المشكوك بالحل، بمقتضى ظاهر الحديث.
هذا محصل الكلام في المقام وفقنا الله وإخواننا المؤمنين لمراضيه
بحق محمد صلى الله عليه وآله خير الأنام.
(الثالث) أنه إذا ثبتت جزئية شئ في الجملة، وشك في أن
نقصه سهوا يوجب بطلان الصلاة أم لا، فهل الأصل العقلي يوجب
الإعادة، أو الاكتفاء بالناقص؟ وجهان:
(أولهما) اختيار شيخنا المرتضى قدس سره. واحتج على ذلك بما
حاصله: أن ما كان جزءا حال العمد، كان جزءا حال الغفلة فلو لم
209

يأت به نسيانا لم يأت بالمركب المأمور به. والدليل على ما قلنا أنه لو
كانت جزئية الجزء المغفول عنه مختصة بحال العمد، لزم تخصيص الغافل
بخطاب خاص، وهو غير معقول، لعدم امكان انبعاث الغافل بالخطاب
المتوجه إلى عنوانه، لان انبعاثه يتوقف على التفاته إلى أنه داخل في
العنوان الذي تعلق به الخطاب. ولا يعقل التفاته إلى ذلك، لأنه مناف
للغفلة، فمتى التفت يخرج عن كونه غافلا، فينتفى الخطاب المتعلق بهذا
العنوان، لعدم موضوعه. وما لم يلتفت لم يعقل انبعاثه بذلك الخطاب،
فالخطاب المتوجه إليه لغو مطلقا.
نعم يمكن ان يسقط الشارع الادعاة عن المكلف الآتي بالناقص،
كما نقول به في بعض اجزاء الصلاة بواسطة القاعدة المستفادة من الشرع،
لكن الكلام في الأصل العقلي، مع قطع النظر عما استفدناه من الشرع. ولا
شك في أن الأصل العقلي لزوم الاحتياط، وعدم الاكتفاء بالمركب
الناقص. هذا محصل ما افاده قدس سره في المقام.
وأورد عليه سيدنا الأستاذ نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي
قدس سرهما بوجهين: (أحدهما) أنه على تقدير تسليم قبح اختصاص
الغافل بخطاب خاص، لا يلازم كونه مشاركا للعامد في الخطاب، لجواز
ان لا يكون له خطاب أصلا حين الغفلة، لا بالتام المغفول عنه ولا
بالناقص المأتى به، بل هو كذلك، لأنه غير قادر على المغفول عنه، وغير
قابل للخطاب الناقص، فتوجه الخطاب إليه لغو، وان أريد من الخطاب
مجرد الاقتضاء والمصلحة، فنسبة الامكان إلى الناقص والتام سواء.
فان قلت بعد الاجماع على أن لكل أحد خطابا، كان خطاب
الغافل كخطاب الذاكر، لعدم امكان اختصاصه بخطاب، غاية الامر أن
الخطاب عام. والمكلف ما دام غافلا لم يتنجز عليه كالشاك بعد
210

الفحص.
قلت دعوى الاجماع - بالنسبة إلى الغافل عن الموضوع، كما هو
محل الكلام - ممنوعة. نعم الغفلة عن الحكم لا توجب اختلاف الحكم،
وإلا لزم التصويب. وملخص الكلام أنا نشك بعد ارتفاع العذر في أن
الغافل صار مكلفا بغير المركب الناقص الذي اتى به أم لا؟ والأصل
عدمه. وثبوت الاقتضاء - بالنسبة إلى الجزء الفائت لا دليل عليه،
فالأصل البراءة عنه، كما هو الشأن في كل مورد دار الامر فيه بين الأقل
والأكثر.
لا يقال انا نستصحب بقاء الإرادة الذاتية التي كانت ثابتة في
حال الغفلة.
(لأنا نقول) المعلوم منها وهي المتعلق بالقدر المشترك بين الأقل
والأكثر مقطوع الامتثال، والزايد مشكوك الحدوث، فالأصل البراءة منه.
(الوجه الثاني) أنه يمكن تصور اختصاص الغافل وأمثاله
بخطاب، مثل أن يخاطب في ضمن مطلق الانسان بالصلاة، ويشرح له
الاجزاء والشرايط على ما هو عليه من العموم والاختصاص بالذاكر.
وحينئذ فان لم يلتفت من أول الامر إلى جزء، فلا محالة ينوى الاجزاء
المطلقة المفصلة في ذهنه، بعنوان انها عين الصلاة، وان التفت إلى أن من
تلك الأجزاء ما يختص بالذاكر، ينوى الاتيان بالعبادة بحسب ما يجب
عليه على حسب حالته الطارئة عليه، فيكون داعيه المرتكز في ذهنه الامر
الواقعي الذي تصوره بالعنوان الاجمالي، واعتقاد انه لا يعرض عليه النسيان
لا يضر بالنية، كما لا يخفى (96).
211

هذا ما سمعناه منه طاب ثراه، ونقلنا في هذه الرسالة عباراته في
الرسالة التي صنفها في الخلل، شكر الله سعيه وأجزل مثوبته.
هذا حال نقص الجزء الذي ثبتت جزئيته في الجملة سهوا، ولو
زاد فمقتضى القاعدة الأولية - مع قطع النظر عن أدلة ابطال الزيادة -
عدم بطلان العمل بها، ولو كانت عن عمد، لان الزيادة في العمل المأمور به
لا يمكن أن تكون مبطلة، إلا ان يشترط عدمها، فيرجع إلى النقيصة،
فالشك في بطلان العمل بالزيادة يرجع إلى الشك في اعتبار عدمها أو
عدمه. والمرجع البراءة، لأنه من مصاديق الشك في التقييد.
نعم لو دل دليل على بطلان العمل بها في الجملة، فعلى ما افاده
شيخنا المرتضى قدس سره لابد من القول بالبطلان بها، بحسب الأصل
العقلي في حال العمد والسهو، لعدم امكان اختصاص الساهي بخطاب
خاص على ما نقلناه منه قدس سره.
وأما على ما ذكرنا، فلو لم يكن للأدلة الدالة على ابطال الزيادة
212

اطلاق يشمل حال السهو، لم تكن في تلك الحالة مضرة بالعمل، لما ذكر
من الوجه.
هذا تمام الكلام فيما يقتضيه الأصل العقلي، فتلخص مما ذكرنا
أن مقتضى الأصل العقلي عدم بطلان العمل بنقص الجزء سهوا، فيما لم
يدل دليل على جزئيته، حتى في حال السهو، كما أن مقتضى الأصل عدم
البطلان إذا زاد على المركب المأمور به، ما لم يدل دليل على ابطال
الزيادة. ولو دل دليل على ذلك، ولم يكن له اطلاق يشمل حال السهو،
فالأصل عدم البطلان بالزيادة في حال السهو.
بقى الكلام في الأصل المستفاد من الشرع في خصوص باب
الصلاة، فنقول: روى محمد بن علي بن الحسين باسناده عن زرارة قال
قال أبو جعفر عليه السلام (لا تعاد الصلاة الا من خمسة: الطهور والوقت
والقبلة والركوع والسجود) والتكلم فيه يقع في مواقع:
(الأول) - ان الظاهر - بمقتضى العموم المستفاد من الخبر -
عدم التفاوت بين أسباب الخلل، وان وقوعه في غير الخمسة المستثناة
لا يوجب الإعادة، سواء كان منشأه السهو عن الحكم، أو عن موضوعه،
أو النسيان كذلك، أو الجهل كذلك. نعم ليس الخلل - الواقع عن علم
بالحكم أو الموضوع - داخلا في نفى الإعادة لمنافاة ذلك للجزئية أو
الشرطية الثابتتين بحسب الفرض. هذا وكلمات الأصحاب لا تلائم ما
ذكرنا من العموم، فلاحظ.
(الثاني) - ان الظاهر من الإعادة هو الاتيان ثانيا، بعد تمام
العمل، فلا يعم اللفظ بظاهره الاستيناف في الأثناء، ولكن استعماله في
الأعم شايع في الاخبار، وفى لسان المتشرعة، مضافا إلى شهادة تعليل عدم
الإعادة في الخبر بان القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة
213

الفريضة، فإنه ظاهر في أن تركه سهوا لكونه سنة لا تنقض الفريضة حين
حصوله، لا انه مراعى باتمام العمل.
(الثالث) أنه هل يعم الخبر الزيادة الواقعة في الصلاة عن سهو،
أو يختص مدلوله بالنقيصة؟ وجهان (من) أن الزيادة أيضا راجعة إلى
النقيصة، لكون عدمها معتبرا في الصلاة، والا لم يعقل كونها موجبة
للبطلان، فعلى هذا مقتضى العموم عدم الإعادة بكل نقص حصل في
الصلاة، سواء كان بترك ما اعتبر وجوده أم بايجاد ما اعتبر تركه (ومن)
أنه ظاهر من حيث الانصراف في الوجوديات. واما العدميات المعتبرة في
الصلاة فلا يشملها، وهو الأقوى.
وعلى هذا فان ثبت عموم يدل على ابطال الزيادة مطلقا، لم تكن
الرواية حاكمة عليه، وعلى الأول هل يدل على بطلان العمل بزيادة
الركوع والسجود أم لا؟ يمكن أن يقال ان زيادتها داخلة في المستثنى منه،
فان مدلول الخبر على هذا عدم الإعادة من النقص الحاصل في الصلاة،
سواء كان بترك شئ معتبر وجوده، أم بايجاد شئ معتبر عدمه، إلا من
نقص الركوع والسجود مثلا، فتكون زيادتهما داخلة في المستثنى منه.
ويمكن أن تكون الزيادة صفة مضافة إلى الجزء، كما أن النقيصة أيضا
كذلك، فهما اعتباران متواردان عليه. وان كانت الزيادة عدمها معتبرا في
الصلاة، فهي - من جهة الاعتبار الأول - تدخل في المستثنى، ويصير
حاصل مدلول الخبر - على هذا - لا تعاد الصلاة بفوت شئ من الأمور
المعتبرة فيها، سواء كانت وجودية أم عدمية إلا إذا نشأ الخلل الواقع فيها
من جهة الركوع والسجود مثلا. والخلل الواقع فيها من جهتيهما على
قسمين: (أحدهما) تركهما في الصلاة و (ثانيهما) زيادتهما فيها.
هذا ولكن الانصاف أن ظهور الرواية فيما قلنا مشكل. والأظهر
214

ما قلناه. أولا من عدم شمولها للعدميات المعتبرة في الصلاة.
(الرابع) أنه لو شك في أن سبب النقص عمد أو سهو، فالتمسك
بالعموم مبنى على الاخذ بالعمومات في الشبهة المصداقية، إلا أن يقال: ان
التخصيص هنا عقلي، والمتيقن منه هو المعلوم كونه عن عمد، وهو غير
بعيد (97).
هذا بعض الكلام في الحديث الشريف. وقد عرفت عدم تعرضه
للزيادة، فلو فرض ما يدل على ابطال الزيادة مطلقا، لم يكن منافيا له. ثم
لو فرض شموله للزيادة كالنقيصة، فالنسبة - بينه وبين الأخبار الدالة
على ابطال الزيادة مطلقا - وان كانت عموما من وجه، إلا ان الظاهر
حكومة هذه القاعدة عليها، كما لا يخفى.
وكذا الحال فيما إذا دل دليل على بطلان الصلاة بالزيادة في
خصوص حال السهو، مثل قوله عليه السلام (إذا استيقن أنه زاد في
المكتوبة استقبل الصلاة)، لان الدليل المذكور وان كان مختصا بحال
السهو، لكنه من حيث الزيادة يعم الركوع والسجود وغيرهما. والقاعدة
تدل على عدم لزوم الإعادة في غير الركوع والسجود، فمورد التعارض
غيرهما. ومقتضى حكومة القاعدة اخراج مورد التعارض عن ذلك
الدليل، ويتعين مورده في الركوع والسجود. فما افاده شيخنا المرتضى قدس
سره من كون الدليل المذكور أخص من القاعدة - لا وجه له، فتدبر جيدا.
215

(الامر الرابع) انه إذا ثبتت جزئية شئ أو شرطيته في الجملة،
فهل يقتضى الأصل جزئيته أو شرطيته مطلقا، بحيث لو تعذر سقط التكليف،
أو اختصاص اعتبارهما بحال التمكن، فلو تعذرا لم يسقط التكليف
بالمقدور؟ وجهان. وينبغي تعيين محل الكلام ثم التكلم بما تقتضيه
القاعدة فيه.
فنقول محل الكلام ما إذا لم يكن للدليل - الدال على الجزئية أو
الشرطية - اطلاق، إذ لو كان كذلك لا اشكال في سقوط التكليف حال
تعذرهما، وكذا إذا لم يكن للدليل - الدال على وجوب المركب والمقيد -
اطلاق يشمل حال العجز عنهما، إذ لو كان كذلك يتمسك بالاطلاق في
بقاء التكليف.
ثم إنه قد يفرض طرو العجز مع كونه قادرا قبل ذلك، وقد
يفرض كونه عاجزا من أول الامر، كما إذا كان في أول زمن التكليف
عاجزا عن اتيان تمام المأمور به.
ثم إن القدرة والعجز (تارة) يفرضان في واقعة واحدة كما إذا
كان في أول الظهر قادرا على اتيان الصلاة مع تمام ما له دخل فيها،
فصار عاجزا عن اتيان شئ منه في الوقت. و (أخرى) في واقعتين، كما
إذا كان قادرا في الأيام السابقة، فطرأ عليه العجز في يومه، فلو كان عاجزا
من أول الامر لم تجر في حقه الا قاعدة البراءة، إذ قاعدتا الاستصحاب
والميسور اللتان يتمسك بهما في المسألة الآتية لا تجريان في حقه، ضرورة
توقفهما على الثبوت في الزمان السابق، اللهم إلا أن يكتفى في تحقق قاعدة
الميسور بتحقق مقتضى الثبوت. ولو كان العجز طاريا عليه في واقعة
واحدة.
فالحق وجوب الاتيان بالمقدور عقلا، لأنه يعلم بتوجه التكليف
216

إليه، فان لم يأت بالمقدور لزمت المخالفة القطعية. فالمقصود بالبحث هنا
صورة طرو العجز في واقعة أخرى، ولم يكن للدليل الدال على المركب
والمقيد اطلاق، وكذلك لم يكن للدليل الدال على الجزئية أو القيدية،
اطلاق.
إذا عرفت هذا فنقول لا اشكال في أن مقتضى الأصل الأولى
البراءة، للشك في ثبوت أصل التكليف، لكن هنا أمور تقدم على قاعدة
البراءة:
(منها) - استصحاب بقاء التكليف على المقدور، إما من جهة
المسامحة في المستصحب، بمعنى أن التكليف المتعلق بالمقدور في الزمن
السابق، وان كان غيريا، وقد انتفى قطعا. وهذا التكليف المشكوك
نفسي على تقدير ثبوته، لكن العرف لا يرى الغيرية والنفسية معددة
للتكليف. وإما من جهة المسامحة في الموضوع، بان يقال إن المستصحب هو
التكليف النفسي. والمركب التام والناقص - بجزء واحد، وكذا المقيد
والفاقد للمقيد - ليسا بموضوعين عند العرف، بل هما شئ واحد. وهذا
الاختلاف نظير الاختلاف في حالات موضوع واحد، نظير استصحاب
الكرية، مع أن موضوع الكرية لم يكن هذا الماء الموجود عقلا، وكل منهما صحيح.
ولكن الثمرة بينهما أنه على الأول يجرى الاستصحاب في المقدار
المقدور، سواء كان قليلا أم كثيرا. وبعبارة أخرى سواء كان المعجوز عنه
بالنسبة إلى المقدور قليلا، بحيث يفرض كالمعدوم أم لا، وعلى الثاني
لا يجرى، إلا إذا كان المقدور بمقدار يصح اطلاق اسم التام عليه بالمسامحة
العرفية. وأيضا الاستصحاب على الوجه الأول يختص بصورة فقدان
الجزء، ولا يجرى في صورة فقدان القيد، لان المطلق لا يكون مكلفا به
217

بالتكليف الغيري في ضمن المقيد، لعدم كونه مقدمة له، بخلاف الاجزاء
بالنسبة إلى الكل، فالاستصحاب في صورة فقدان القيد مختص بالوجه
الثاني.
ولكن لا يخفى أنه ليس كل قيد بحيث يكون فقدانه غير قادح في
جريان الاستصحاب، بل القيود مختلفة في ذلك، فرب قيد لا يكون عدمه
مغيرا للموضوع في نظر العرف، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإنها مع
الطهارة ليست أمرا مباينا لها مع عدمها، بخلاف الايمان بالنسبة إلى
الرقبة، فان الرقبة المؤمنة والرقبة الغير المؤمنة متباينتان بنظر العرف. ومجرى
الاستصحاب في صورة العجز عن القيد هو القسم الأول، كما لا يخفى.
و (منها) - النبوي الذي في غوالي اللئالي: (إذا أمرتكم بشئ،
فائتوا منه ما استطعتم).
و (منها) - العلوي (الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله
لا يترك كله) وضعف اسناده مجبور باشتهار التمسك به بين العلماء في
الكتب الفقهية.
تقريب الدلالة في النبوي أن كلمة من ظاهرة في التبعيض لا
التبيين، لان كونها بيانية فيما إذا كان لسابقها اجمال يرتفع بسبب متعلقها،
كما في قولك خاتم من فضة، وكونها بمعنى الباء خلاف الظاهر مطلقا.
وحينئذ كلمة ما موصولة لا مصدرية زمانية، فيصير المعنى إذا أمرتكم
بمجموع مركب من اجزاء، ولم تقدروا على اتيان الكل فائتوا بالبعض
الذي استطعتم.
هذا ولكن هذا المعنى وان كان ظاهرا من الرواية، إلا أنه
مستلزم لتخصيص كثير، بل الخارج منها أكثر من الباقي بمراتب، بحملها
على هذا المعنى المستلزم هذا التخصيص المستبشع لا يجوز، فيدور الامر بين
218

استكشاف تقييد متصل بالكلام مجهول عندنا - فلا يجوز التمسك بها في
الموارد، إلا بعد احراز كونها من مصاديق العنوان المذكور في الدليل من
الخارج - وبين حملها على معنى آخر، وان كان خلافا لظاهرها ابتداءا.
وعلى أي حال لا يجوز التمسك بها لما نحن بصدده.
والانصاف أنه بعد ملاحظة خروج الأكثر لو حملناه على ظاهره،
فالأقرب جعل كلمة من فيه زائدة أو بمعنى الباء، وكلمة ما مصدرية
زمانية، فيكون مفاده تخصيص أو امر النبي صلى الله عليه وآله بزمان
الاستطاعة، ويصير موافقا لأدلة نفى الحرج في الدين.
هذا واما تقريب الدلالة في العلوي الأول، فهو أن يقال: إن قوله
عليه السلام لا يسقط إنما هو في مقام توهم السقوط، وهو وإن كان فرع
الثبوت، إلا أنه يكفي في صدق الثبوت وعدم السقوط ثبوت التكليف
الغيري المتعلق بالميسور سابقا، لما ذكرنا في تصحيح الاستصحاب من اتحاد
التكليف الغيري والنفسي عرفا، أو يقال إن التكليف النفسي كان ثابتا
في الموضوع، كما مضى في الاستصحاب أيضا. والثمرة بينهما كالثمرة
المذكورة في الاستصحاب بالطريقين.
هذا ولكن الاشكال الوارد في الرواية السابقة من لزوم خروج
الأكثر جار هنا أيضا، فلا بد من حمله على ما لا يستلزم ذلك. والأولى حمله
على الارشاد والموعظة لمن أراد اتيان شئ بالوجه الأكمل، أو الانتهاء إلى
أقصى درجات الكمال، فلم يتمكن، فان النفس قد تنصرف عن الاقدام
على الميسور أيضا، وان كان حسنا، كما هو المشاهد المعلوم. ومن هنا
يظهر الكلام في العلوي الثاني أيضا.
أصالة التخيير
المسألة الثالثة فيما إذا علم جنس التكليف، ولم يتمكن من
219

الاحتياط، سواء كان عالما بالنوع، كما إذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة،
ولم يقدر على الجمع بينهما، أو لم يكن كذلك، كما إذا علم بأصل الالزام،
ولم يعلم تعلقه بفعل شئ مخصوص أو تركه.
ومجمل الكلام في المقام أنه (تارة) تفرض هذه الحالة في واقعة
واحدة، و (أخرى) في وقايع متعددة. والأول لا يفرض غالبا إلا في
الشبهات الموضوعية، كمن علم بوجوب وطئ إحدى زوجتيه بالنذر في
زمان خاص غير قابل للجمع، أو علم بوجوب وطئ امرأة خاصة أو
حرمته، من جهة العلم بأنه إما حلف على الوطي أو على تركه. والثاني
يفرض في الشبهات الحكمية أيضا، كمن علم بوجوب الجمعة دائما أو
حرمته كذلك مثلا.
اما الفرض الأول فلا يمكن في حقه مخالفة قطعية ولا موافقة
قطعية، إن كان التكليف توصليا. والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك
حاصلتان قهرا، وحيث لا معين لاختيار خصوص الفعل أو الترك في مقام
العمل، يحكم العقل بالتخيير.
وأما الفرض الثاني فالموافقة القطعية لما لم تكن متصورة فيه،
فلا اثر للعلم الاجمالي فيها. واما المخالفة القطعية، فلا وجه لاهمال العلم
بالنسبة إليها.
(لا يقال) الوقايع المتأخرة لما لم يكن التكليف بالنسبة إليها إلا
مشروطا بتحقق الزمان، لا ربط لها بالمكلف، فالتكليف الثابت المتعلق به
منحصر فيما تعلق بالواقعة الشخصية الفعلية. ولا اشكال في أن المخالفة
القطعية غير ممكنة فيها، كالموافقة القطعية.
لأنا نقول التكاليف المشروطة بشرط متحقق الحصول فيما بعد،
حالها حال التكاليف المطلقة في وجوب مقدماتها الوجودية والعلمية.
220

وقد مر الكلام في ذلك في مبحث مقدمة الواجب مستوفى، ومن أراد
فليراجع.
والحاصل ان العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين ما إذا
كان التكليف مطلقا أو مشروطا، بشرط يعلم حصوله. ومن هنا يعلم
حال الواقعة الواحدة إذا كان أحد طرفي المعلوم بالاجمال أو كلاهما تعبديا.
هذا حال الأصول الثلاثة أعني البراءة والاحتياط والتخيير. وقد تم فيها
الكلام بعون الله الملك العلام، ويتبعها الكلام في الاستصحاب مستعينا
بالله العزيز الوهاب.
المسألة الرابعة في الاستصحاب
وقد عرف بتعاريف غير خالية عن المناقشة، وأمتنها تعريفه بابقاء ما كان،
لان المراد بالابقاء بشهادة المقام هو الابقاء العملي لا الحقيقي، وذكر جملة
(ما كان) مع كونه مأخوذا في مفهوم الابقاء، يدل على دخل الكون السابق
في الابقاء العملي، فيخرج ما إذا كان الابقاء للعلم بالبقاء أو لدليل خارجي
عليه. وأيضا يعلم اعتبار الشك واليقين من هذه العبارة، لأنه لو كان للكون
السابق دخل في الابقاء، فلا بد من احرازه، وكذا لو لم يكن شاكا في البقاء، لم
يكن ابقاؤه مستندا إلى الكون السابق، فلا يرد عليه الاشكال باخلال اليقين
والشك اللذين هما ركنا الا استصحاب.
وأيضا الاستصحاب على ما يظهر من مشتقاته هو فعل المكلف، لا حكم
الشارع (98) بناءا على اعتباره من باب الاخبار، ولا حكم العقل أو بناء العقلاء،
221

بناءا على عدم اخذه من الاخبار، فلا يرد على التعريف المذكور ما أورده شيخنا
الأستاذ من أن الاستصحاب يختلف باختلاف جهة اعتباره، إذ هو - كما
عرفت - عبارة عن البناء على الحالة السابقة بحسب العمل (99) غاية الامر أن
وجه هذا البناء يختلف باختلاف الآراء، فعند بعض حصول الظن النوعي
أو الشخصي من الكون السابق، وعدم ما يدل على ارتفاعه، وعند آخر الاخبار
222

الدالة على وجوب البناء على الحالة السابقة. وهكذا. ولا يوجب هذا الاختلاف
تفاوتا في حقيقة الاستصحاب، كما لا يخفى.
ثم اعلم أن الاستصحاب إن أخذ من باب الظن، فتارة يبحث عن وجود
هذا الظن، وأخرى عن حجيته ولا اشكال في أن النزاع الثاني نزاع في المسألة الأصولية،
كالنزاع في حجية خبر الواحد وأمثال ذلك، بناءا على عدم اخذ عنوان الدليلية
في موضوع علم الأصول. واما الأول فادخاله في المسألة الأصولية مبنى على جعل
محل الكلام ثبوت الملازمة بين الكون السابق والبقاء، لان موضوع البحث حينئذ
هو حكم العقل، وهو ادراكه الملازمة ظنا، وان احتيج - بعد الفراغ عن هذا
الحكم العقلي - إلى حكم شرعي يدل على حجية هذا الظن، فموضوع البحث
ذات الدليل العقلي، وان لم يفرغ عن دليليته.
وأما إذا اخذناه من الاخبار فادراجه في المسائل الأصولية - مع الالتزام
بكون موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة لا غير - مشكل، بل غير ممكن، لان
المبحوث فيه ليس الا ثبوت حكم الشارع بوجوب المضي على ما كان. ومن
الواضح عدم كون حكم الشارع - الذي هو محل البحث في المقام - من الأدلة
الأربعة، بل هو مدلول الاخبار، بعد احراز حجيتها، وحجية ظواهرها، وتمييز
ظاهرها عن غيره، وغير ذلك مما جعل لكل واحد بحث مستقل.
والحاصل انه ليس النزاع في حكم الشارع في المقام إلا مثل النزاع في
حكم الشارع بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وأمثاله من المسائل الفقهية، فما
افاده المحقق القمي قدس سره في القوانين - من أن الاستصحاب إن اخذ من
العقل، كان داخلا في الدليل العقلي، وإن اخذ من الاخبار فيدخل في السنة -
صحيح في الشق الأول، ولكنه محل نظر في الشق الثاني.
ويظهر من كلام شيخنا المرتضى قدس سره هنا دخوله في المسائل
الأصولية، من جهة أن إجراءه في موارده مختص بالمجتهد، وليس وظيفة للمقلد.
ومراده قدس سره ان هذا الحكم من الشارع بعد الاستظهار من أدلة الباب
لا ينفع الا المجتهد، إذ مجراه تيقن الحكم في السابق وعدم طريق في اللاحق
223

يدل على ارتفاعه. ومن الواضح أن تشخيص المورد المذكور ليس شأن المقلد. وهذا
ميزان المسائل الأصولية، بخلاف ما إذا استظهر من الأدلة نجاسة الغسالة مثلا،
فان هذا الحكم - بعد استظهاره من الأدلة - ينفع المقلد، وهو ميزان المسائل
الفقهية. وعلى هذا تدخل مسألة الاستصحاب - ولو على تقدير اخذه من
الاخبار - في المسائل الأصولية.
ولا يخفى أن هذا الكلام يدل على عدم التزامه بكون موضوع علم الأصول
خصوص الأدلة، ولكن يرد على ما افاده قدس سره ان لازم ما ذكره كون بعض
المسائل الفقهية داخلا في المسائل الأصولية، من قبيل قاعدة ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده، وعكس هذه القاعدة، لوضوح ان تشخيص مجاريهما ليس
وظيفة للعامي، بل ينتقض بكل حكم شرعي متعلق بالموضوعات التي لا يكون
تشخيص مصاديقها الا وظيفة للمجتهد، من قبيل الصلاة والغناء والوطن،
وأمثال ذلك، مما لا يحصى فتأمل (100).
وأوثق كلام في المقام أن يقال: كل قاعدة أسست لملاحظة الاحكام
الواقعية الأولية - سواء كانت من الطرق إليها، أو من الأحكام المتعلقة بالشك،
من دون ملاحظة الكشف عن الواقع - تسمى قاعدة أصولية، (101) وسواء
224

كانت منجزة للأحكام الواقعية أو مسقطة لها، فيخرج ما ذكر في مقام النقض عن
تحت القاعدة المذكورة، فان الأحكام المذكورة ليست مجعولة بملاحظة حكم آخر،
بل هي احكام مجعولة لمتعلقاتها للاقتضاء الثابت فيها، وتدخل مسألة الاستصحاب
ونظائرها في المسائل الأصولية، لشمول القاعدة المذكورة لها.
ثم إن المعتبر في اليقين والشك المأخوذين في موضوع الاستصحاب تحققهما
فعلا، ولا يكفي وجودهما الشأني، بمعنى ان المكلف لو التفت لكان متيقنا
بالحدوث وشاكا في البقاء. أما بناءا على اخذه من الاخبار فواضح، لان المعتبر
فيها وجودهما الظاهر في الفعلية. وأما بناءا على اخذه من باب الطريقية، فلان
طريقية الكون السابق للبقاء إنما هي في صورة الالتفات. وأما في حال الغفلة،
فلا يكون مفيدا للظن النوعي، حتى يكون طريقا. والظاهر أن هذا لا اشكال فيه.
إذا عرفت هذا فنقول: قد فرع شيخنا المرتضى قدس سره على ذلك
مسألتين: (الأولى) - ان المتيقن بالحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق، فشك،
جرى الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلى، بطلت صلاته، لسبق
الامر بالطهارة، ولا يجرى في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل،
لان مجراه الشك الحادث بعد الفراغ، لا الموجود من قبل.
(الثانية) أنه لو غفل المتيقن بالحدث عن حاله وصلى، ثم التفت وشك
في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهرا، جرت في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ،
لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده قبله، حتى يوجب الامر بالطهارة والنهى
عن الدخول في الصلاة بدونها. (ثم قال قدس سره): نعم هذا الشك اللاحق
يوجب الإعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة، لولا حكومة قاعدة الشك بعد
الفراغ. انتهى كلامه قدس سره.
أقول: وللنظر فيما افاده قدس سره مجال، لان المصلي في الفرض الأول
225

كالثاني ليس محكوما بحكم الاستصحاب، (102) لأن المفروض أنه غفل في حال
صلاته عن الحالة السابقة، ولم يكن شاكا في تلك الحالة، فكيف يمكن أن
يحكم عليه في تلك الحالة بعدم جواز نقض اليقين بالشك؟ نعم كان محكوما
بهذا الحكم قبل الصلاة في حال التفاته، ولكنه رفع بواسطة رفع موضوعه. وأما
بعد الصلاة فان قلنا بان الشك الحاصل له هنا من افراد الشكوك الحادثة بعد
الفراغ من العمل، لأن الشك الموجود قبل العمل قد انتفى، وهذا الشك الموجود
بعده شك آخر حدث بد الفراغ، تجرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ، على
احتمال يأتي في المسألة الثانية. وإن قلنا بأنه هو الشك الموجود قبل العمل عرفا،
فليس من افراد الشكوك التي تجرى فيها القاعدة المذكورة، فاللازم الاخذ
باستصحاب الحدث، والحكم ببطلان الصلاة بملاحظة هذا الشك الموجود بعد
الفراغ، بالتقريب الذي يأتي بيانه في المسألة الثانية.
وأما المسألة الثانية، فالأخذ بقاعدة الشك بعد الفراغ فيها مبنى على كونها
من الأصول العملية. وأما على كونها من الطرق، من جهة ملاحظة التعليل الوارد
في بعض الاخبار من أنه حين العمل أذكر، فلا تكون المشمولة لها، للعلم بأنه
حين العلم ليس أذكر منه بعده. (103) فحينئذ إن قلنا بالأول يؤخذ بالقاعدة،
وتقدم على الاستصحاب، لا من جهة الحكومة، بل من جهة أنه لولاه لزم كون
226

القاعدة لغوا، لورودها مورد الاستصحاب غالبا، إما موافقة أو مخالفة، وإن قلنا
بالثاني، فتقديمها عليه - في موارد جريانها من جهة الحكومة - نظير تقديم سائر
الأدلة والامارات عليه. ولكن الدليل غير شامل للشك المفروض، لعدم صدق
التعليل المقتضى للطريقية.
ومن هنا يعلم ما في ما افاده قدس سره من أن هذا الشك اللاحق
يوجب الإعادة بحكم الاستصحاب، لولا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ، لأنه لو
اخذ بالقاعدة من باب الطريقية بملاحظة التعليل المذكور، فلا تجرى في الفرع
المزبور أصلا، حتى تكون مقدمة على الاستصحاب، وان اخذ بها من باب التعبد،
فتقدمها ليس من باب الحكومة، كما لا يخفى. ولعله أشار إلى ما ذكرنا أو بعضه
بقوله: فافهم.
ثم إن الاستصحاب ينقسم - باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه في
السابق والشك في بقائه في اللاحق - إلى اقسام عديدة، لا يهمنا التعرض
لذكرها، لقلة الجدوى.
وإنما المهم هنا بيان أمور:
استصحاب حكم العقل
أحدها: أن الدليل الدال على وجود المستصحب في السابق إن كان هو
العقل، فهل يمكن الاستصحاب أم لا؟ ذهب شيخنا المرتضى قدس سره إلى
الثاني، وذهب جمع من مشايخنا إلى الأول، تبعا لسيد مشايخنا الميرزا الشيرازي
قدس سره، وهو الحق. وتوضيح ذلك يتوقف على بيان مرام الشيخ
227

قدس سره أولا.
فنقول: حاصل ما يستفاد من كلامه في وجه منع جريان الاستصحاب هو أن
العقل يحكم بحكم إلا بعد احراز موضوعه بقيوده وحدوده، حتى عدم المانع
والرفع. فحينئذ إذا حكم العقل بالحسن أو القبح على موضوع محدود بحدوده، فما
دام ذلك الموضوع على حاله، لا يعقل الشك في حكمه، والشك في الحكم إما
من جهة القطع بزوال قيد أو جزء من ذلك الموضوع، واحتمال أن يكون ملاك
ذلك الحكم موجودا في المجرد عنهما أيضا، وإما من جهة الشك في انطباق
الموضوع العقلي على امر خارجي، ولا يمكن الاستصحاب في كل من الصورتين. أما
الأولى، فللقطع بزوال الموضوع. وأما الثانية، فللشك في بقاء الموضوع. ومن جملة
شرايط الاستصحاب احراز الموضوع.
فان قلت: لو بنينا على احراز الموضوع في الاستصحاب بالدقة العقلية،
لا نسد بابه في الأحكام الشرعية أيضا، ضرورة عدم إمكان الشك فيها إلا من
جهة الشك في الموضوع. ومن المعلوم عدم الاشكال هنا من هذه الجهة، لان
الميزان نقض اليقين بالشك عرفا، وهو يقتضى بقاء ما هو الموضوع عندهم.
قلت: الفرق بين المقامين أنه في القضايا الملقاة من الشرع، يرى العرف
موضوعا وحكما وشيئا آخر يكون من حالات الموضع، وواسطة في ثبوت الحكم
لذلك الموضع، وان لم تكن القضية عند العقل الا مركبة من الموضوع والمحمول
والنسبة، وليس هناك شئ آخر يكون ظرفا أو حالا لثبوت الحكم للموضوع.
مثلا إذا قال الشارع (الماء نجس إذا تغير)، فموضوع هذه القضية عند العرف
هو الماء، والتغير واسطة لثبوت النجاسة للماء، فحينئذ لو شك - بعد زوال التغير من
قبل نفسه - في النجاسة، من جهة الشك في أن التغير في زمان سبب لنجاسة الماء
مطلقا، ولو زال بعد ذلك، أو أنه سبب لها حدوثا وبقاءا أو من جهة الشك في
أنه بعد زوال التغيير، هل قام مقامه ملاك آخر أم لا؟ يصدق أن ما كان موضوعا
للنجاسة في الزمن السابق باق بعينه، والشك في النجاسية شك في بقائها،
فتشمله أدلة الاستصحاب.
228

وأما القضية الملقاة من العقل، فليست مشتملة على شئ آخر خارج عن
الموضوع، يسمى ظرفا أو حالا، وواسطة في ثبوت الحكم، كما كان في القضية
الملقاة من الشرع. فحينئذ متى زال قيد أو جزء عن الموضوع العقلي، فالباقي موضوع
آخر مغاير لما كان أولا، فلا يفرض الشك في الحكم العقلي مع بقاء موضوعه.
ومن هنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بالعقل
أيضا هذه خلاصة ما افاده قدس سره في المقام:
أقول: وتحقيق الحال أن يقال: إن عدم الاجمال - في موضوع حكم
العقل، بمعنى إدراكه واذعانه الفعلي - مسلم لعدم إمكان ان يذعن بحسن شئ أو
قبحه، ولم يتعين عنده موردهما، فإذا حكم بحسن شئ مركب أو مقيد أو قبحه،
فجميع خصوصيات ذلك الشئ له دخل في حكمه، بحيث لو زال بعض الخصوصيات
وتغير عما كان عليه أولا، يرتفع حكمه قطعا. ولكن يمكن أن لا يكون لبعض تلك
الخصوصيات دخل فيما هو ملاك لحكمه أعني: الحسن والقبح الواقعيين،
بان يعتقد العقل حسن شئ أو قبحه على سبيل الاهمال والاجمال إما بأن يرى
ذلك في مركب أو مقيد مثلا، من دون ان يعلم دخل لخصوصية أو جزء معين في
الحسن والقبح، أو يرى أن المطلق مثلا مقتض للحسن أو القبح، ولكن يحتمل
ان يكون وجوده في خصوصية خاصة رافعا لما يقتضيه المقتضى، فالقدر المتيقن عند
العقل حينئذ هو المقيد بغير القيد المفروض، مع احتمال أن يكون الملاك في
المطلق، أو بان يعتقد أن الملاك قائم بالمجموع المركب أو المقيد. ولكن يحتمل
وجود ملاك آخر في فاقد الجزء أو القيد، ففي جميع الصور المفروضة - إذا تغير
موضوعه الأولى بزوال القيد المفروض أو الجزء المفروض - يشك في ثبوت
الملاك في الباقي.
إذا عرفت هذا فنقول: لا ينبغي الاشكال في عدم جواز استصحاب نفس
حكم العقل، ضرورة عدم تصور الشك في بقائه، كما لا ينبغي الاشكال في عدم
جواز استصحاب ملاك حكمه، لأن الشك وإن كان متصورا فيه، لكنه ليس
موضوعا لاثر من الآثار الشرعية، ولكن استصحاب الحكم الشرعي
229

- المستكشف بقاعدة الملازمة - بمكان من الامكان، لعدم المانع فيه إلا الشك في
الموضوع بحسب الدقة، ولو كان هذا مانعا لا نسد باب الاستصحاب في الاحكام
الكلية والجزئية، لكون الشك فيها راجعا إلى الشك في الموضوع يقينا، وما هو
الجواب في باقي موارد الاستصحاب هو الجواب هنا، من دون تفاوت أصلا.
وستطلع على تحقيق وجوب اخذ الموضوع من العرف في محله انشاء الله تعالى.
أدلة الاستصحاب
الثاني - بيان حال الأدلة الدالة على وجوب البناء على الحالة السابقة،
وانها هل تدل عليه مطلقا، أو تختص ببعض الموارد؟
فنقول: ذهب شيخنا المرتضى قدس سره إلى الثاني، وذكر من الأدلة الدالة
على الاستصحاب أمورا كلها مختصة بصورة الشك في الرافع، مع احراز المقتضي
على ما افاده قدس سره:
أحدها: ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه.
ثانيها: أنا تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من
جهة الرافع، فلم نجد من أول الفقه إلى آخره موردا إلا وحكم الشارع فيه
بالبقاء، إلا مع امارة توجب الظن بالخلاف، كالحكم بنجاسة الخارج قبل
الاستبراء، فان الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة، والا لوجب الحكم
بالطهارة، لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء جزء من البول أو المنى في المخرج،
فرجح هذا الظاهر على الأصل - إلى أن قال قدس سره - والانصاف أن هذا
الاستقراء يكاد يفيد القطع، وهو أولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد،
كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض أنه المستند في حجية شهادة العدلين على
الاطلاق.
ثالثها: الأخبار المستفيضة، فذكر اخبار الباب عموما وخصوصا، ثم
قال قدس سره - بعد التكلم فيها نقضا وإبراما: ان اختصاص الأخبار الخاصة
بالقول المختار واضح. وأما الاخبار العامة، فالمعروف بين المتأخرين
230

الاستدلال بها على حجية الاستصحاب مطلقا. وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق
الخوانساري قدس سره في شرح الدروس.
توضيحه: أن حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية، كما في نقض الحبل،
والأقرب إليه على تقدير مجازيته هو رفع الامر الثابت، وقد يطلق على مطلق رفع
اليد عن الشئ، ولو لعدم المقتضى له، بعد أن كان آخذا به، فالمراد من النقض
عدم الاستمرار عليه، والبناء على عدمه بعد وجوده.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الامر يدور بين أن يراد بالنقض مطلق ترك
العمل وترتيب الأثر، وهو المعنى الثالث، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين، وبين
ان يراد من النقض ظاهره، وهو المعنى الثاني، فيختص متعلقه بما من شأنه
الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى. والظاهر رجحان هذا على
الأول، لان الفعل الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام، كما في قول القائل
لا تضرب أحدا، فان الضرب قرينة على اختصاص العام بالاحياء، ويكون عمومه
للأموات قريبة على إرادة مطلق الضرف عليه، كساير الجمادات. إنتهى ما أردنا
نقله من كلامه رفع مقامه.
أقول: أما الاتفاق فلا يتحقق المحصل منه الكاشف عن رأى المعصوم
قطعا. والمنقول منه ليس بحجة، مع ما يرى من الاختلاف، وذهاب جمع إلى عدم
حجية الاستصحاب مطلقا.
واما التتبع الذي ذكره قدس سره، فان كان الدليل في كل مورد غير أدلة
الاستصحاب، فالانصاف أنه يفيد الاطمينان التام بوجوب الجري على طبق
المقتضي للبقاء. أما ان هذا الحكم هل هو من جهة ملاحظة الحالة السابقة مع
وجود المقتضى للبقاء، أو من جهتها من دون اعتبار المقتضي، أو من جهتها من
دون اعتبار الحالة السابقة؟ فلا يعلم. وان كان الدليل على ذلك أدلة
الاستصحاب، فليس بدليل مستقل ليتكلم فيها.
وأما الاخبار، فالانصاف ان ظهورها في حجية الاستصحاب غير قابل
للانكار. وأما اختصاص مواردها فيما اختاره قدس سره فمحل منع، بل
231

الحقيق شمولها للشك في المقتضي أيضا. وتحقيق الحال فيها يتوقف على ذكر
كل واحد منها.
فنقول: إن الأخبار الواردة في المقام بين عامة وخاصة:
فمن الأولى صحيحة زرارة، ولا يضرها الاضمار، لان زرارة اجل شأنا من أن
يسأل غير الامام، فالمسئول إما أبو جعفر وإما أبو عبد الله عليهما الصلاة والسلام،
لأنه يروي عن كليهما، قال: (قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب
والاذن، فإذا نامت العين والاذن، فقد وجب الوضوء، قلت فان حرك في جنبه
شئ وهو لا يعلم؟ قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك امر
بين، والا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين ابدا بالشك، ولكن ينقضه
بيقين آخر).
(فقه الحديث) ان الظاهر من الفقرة الأولى ان شبهة السائل كانت
حكمية، أعني أنه كان شاكا في أن مفهوم النوم الذي جعل ناقضا للوضوء، هل
يشمل مثل الخفقة والخفقتين أم لا، فسأل عن ذلك، فاجابه عليه السلام بما
حاصله: أن النوم الموجب للوضوء لا يتحقق بذلك، بل الملاك نوم العين والاذن.
والفقرة الثانية سؤال عن الشبهة الموضوعية. أعني بعد ما علم زرارة ما هو
الملاك في النوم الناقض سأل عن الشك في تحقق ذلك، فاجابه عليه السلام
بقوله: (حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك امر بين، والا فإنه على
يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر).
ثم إن قوله (عليه السلام) - فإنه على يقين من وضوئه - يحتمل بعيدا أن
يكون هو الجزاء للشرط، ويصير المفاد: وإن لم يجئ من ذلك امر بين، فإنه
يجري على يقينه من وضوئه. والظاهر أن جواب الشرط محذوف قامت العلة
مقامه، (104) كما وقع نظيره في الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى (وان تكفروا
232

فان الله غنى عنكم) ومثل قوله تعالى (ومن كفر فان ربى غنى كريم، ومن كفر
فان الله غنى عن العالمين) وأمثال ذلك مما لا يحصى. وحينئذ هذه القضية تكون
صغرى لقوله (ولا ينقض اليقين..) والظاهر أن قوله (عليه السلام) من وضوئه
لمجرد كونه متعلقا لليقين في المورد، لا لدخله في الحكم، لان المناسبات المقترنة
بالكلام كما قد توجب التقيد وان لم يكن القيد مذكورا، كما في قوله: عليه السلام
(إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ) الظاهر من جهة فهم العرف المستند إلى المناسبة
المقامية انه لم ينجسه شئ بالملاقاة كذلك قد توجب إلغاء القيد المذكور
في الكلام، كما فيما نحن فيه، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في
قبال الشك، فاندفع ما يقال في المقام من أن استظهار العموم من الخبر مبنى على
كون اللام للجنس، وظهوره فيه ممنوع بعد سبق الخصوصية، لما عرفت من أن
المناسبة في المقام توجب الغاء الخصوصية بنظر العرف.
ثم اعلم أن هذه الصحيحة أنفع للمقام من الاخبار العامة الآتية، لكونها
نصا في وجوب الجري على الحالة السابقة المتيقنة في حال الشك، بخلاف
الاخبار العامة، فإنها تحتمل إفادتها لقاعدة الشك الساري، كما يأتي. نعم
ليست الصحيحة نصا في العموم، لكنها ظاهرة فيه، كما أشرنا إليه.
بقى الكلام في أن الصحيحة وأمثالها - مما يدل على عدم جواز نقض
اليقين بالشك - هل تعم الشك في المقتضي أو تختص بالشك في الرافع، بعد
احراز المقتضي. والأقوى هو الأول.
233

توضيح ذلك: ان النقض بحسب اللغة ضد الابرام، فلا بد ان يتعلق بماله
اجزاء مبرمة، كما في قوله تعالى: (نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) (2) كما أن
متعلق الابرام لابد ان يكون ذا اجزاء متفاسخة. وقد يستعار لمثل العهود والايمان،
مما شأنه الاستحكام والاتقان، لكونها شبيهة بماله اجزاء ذات ابرام. واليقين
حاله حال العهد واليمين، وانتقاضه عبارة عن انفساخ تلك الحالة الجزمية،
وتحقق الترديد في النفس، فعلى هذا نسبة مادة النقض إلى اليقين لها مناسبة تامة
لا تحتاج إلى صرف النسبة إلى المتيقن، ثم تخصيصه بما إذا كان له مقتض للبقاء،
بل ليس مجرد وجود المقتضي للبقاء في شئ مصححا لنسبة النقض إليه، لما
عرفت من اعتبار كون متعلقه اجزاء مبرمة.
فان قلت: نعم لكن النهى في القضية لا يصح تعلقه بنقض اليقين، حيث
أن انتقاض اليقين بالشك قهري.
قلت: كما أنه لا يجوز تعلق النهى بنقض اليقين، كذلك لا يجوز تعلقه
بنقض المتيقن أيضا، لأنه أيضا في حال الشك إما باق واقعا، وإما مرتفع. وعلى
أي حال ليس اختياره بيد المكلف، كما هو واضح. فالنهي في القضية يجب أن
يكون متعلقا بالنقض من حيث العمل. وعلى هذا كما أنه يصح أن يقال يجب
عليك معاملة بقاء المتيقن من حيث الآثار، كذلك يصح أن يقال يجب عليك
معاملة بقاء اليقين كذلك.
فان قلت: نعم، لكن على الثاني تفيد القضية وجوب ترتيب اثر نفس
اليقين، وهو غير مقصود.
قلت: اليقين في القضية ملحوظ طريقا إلى متعلقه، فيرجع محصل مفاد
القضية إلى وجوب معاملة بقاء اليقين، من حيث كونه طريقا إلى متعلقه، فيندفع
المحذور. هذا مما افاده سيدنا الأستاذ طاب ثراه نقلا عن سيد مشايخنا الميرزا
الشيرازي قدس سره ولعمري ان التأمل المنصف يشهد بان هذا الالتفات والتنبه
إنما يصدر ممن ينبغي ان يشد إليه الرجال، فجزاه الله عن الاسلام وأهله أحسن
الجزاء.
234

و (منها) - صحيحة أخرى لزرارة أيضا، قال: قلت له (عليه السلام):
(أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المنى، فعلمت أثره إلى أن أصيب له
الماء، فحضرت الصلاة، ونسيت ان بثوبي شيئا، وصليت، ثم انى ذكرت بعد
ذلك؟ قال (عليه السلام) تعيد الصلاة وتغسله، قال: قلت فان لم أكن رأيت
موضعه، وعلمت أنه اصابه فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته؟ قال تغسله
وتعيد، قلت: فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت ولم أر شيئا، فصليت
فيه، فرأيت فيه؟ قال (عليه السلام): تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك:
قال لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي لك ان
تنقض اليقين بالشك ابدا، قلت فانى قد علمت أنه قد اصابه، ولم أدر أين هو
فاغسله، قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على
يقين من طهارتك، قلت: فهل على إن شككت أنه اصابه شئ أن انظر فيه؟
قال: لا، ولكنك إنما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك، قلت: إن
رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع
منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على
الصلاة، لأنك لا تدرى لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي لك ان تنقض
اليقين بالشك.. الحديث.
(تقريب الاستدلال) كما في الصحيحة الأولى، لكن فيها إشكال من جهة
أخرى، وهو أن الظاهر من السؤال في قوله: (فان ظننت أنه قد اصابه) أنه
بعد الصلاة تبين أن ثوبه كان نجسا من أول الامر. وحينئذ عدم إعادة الصلاة
لا يمكن أن يكون مستندا إلى تلك القاعدة، أعني عدم جواز نقض اليقين بالشك،
لان الإعادة على هذا نقض اليقين بيقين مثله.
وبعبارة أخرى: الظاهر من تلك الفقرة أن الإعادة نقض اليقين بالشك،
ولعدم صلاحية ذلك لا تصلح الإعادة، ولا يمكن حفظ هذا الظهور فيما نحن
فيه، فان الطهارة من الخبث إن كانت من الشروط الواقعية، فالإعادة ليست من
مصاديق نقض اليقين بالشك، كما هو واضح. وان كان الشرط إحرازها ولو
235

بالأصل، فالاجزاء وعدم الإعادة مستند ان إلى حكم الاستصحاب حين الصلاة،
بضميمة الأدلة الدالة على كفاية نفس الاحراز حين الصلاة. وعلى أي حال قوله
(عليه السلام) - وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك - لا ينتج عدم
الإعادة، كما هو واضح.
إذا عرفت هذا يظهر لك عدم ارتفاع هذا الاشكال بما تخيله بعض: من
استناد عدم الإعادة إلى اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء، ولا بما افاده شيخنا
الأستاذ دام بقاه: من جعل الشرط هو نفس الاحراز، ولو بأصل من الأصول، إذ
كل ذلك أجنبي عن ظاهر الرواية، كما لا يخفى. فيلزم التصرف في ظاهرها إما
على نحو ما تخيله المتخيل. وإما على نحو وجهها شيخنا الأستاذ دام بقاه.
والتوجيهان مشتركان في أن الصحة وعدم الإعادة إنما يكون مستندا إلى كبرى
مسلمة عند السائل، وان قوله (عليه السلام) - (ليس ينبغي لك...) إشارة إلى
تحقق صغرى لتلك الكبرى المسلمة. غاية الامر أنه على ما تخيله المتخيل الكبرى
المفروضة كون الامر الظاهري مفيدا للاجزاء، وعلى ما افاده دام ظلله، كون الشرط
نفس الاحراز، فلا تغفل. والعجب منه دام بقاه أنه استضعف كلام المتخيل، ثم
وجه الرواية بما هو مماثل لما استضعفه.
هذا إذا كان المراد من الرواية ما ذكر كما. وأما إن كان المراد رؤية
النجاسة بعد الصلاة، مع احتمال وقوعها بعدها، هو أحد الاحتمالين فيها،
فلا اشكال في اقتضاء قوله (عليه السلام) - لا تنقض اليقين بالشك - عدم
إعادة الصلاة، والاكتفاء بما اتى به، لأنه واجد للشرط تعبدا، ولا كاشف
للخلاف، كما هو المفروض.
فان قلت: عدم الإعادة ليس اثرا شرعيا، حتى يترتب على استصحاب
الطهارة،
قلنا: ليس المجعول بقضية لا تنقض عدم وجوب الإعادة، حتى يقال: إنه
عقلي ليس قابلا للجعل، بل المجعول بها التصرف في شرط الواجب، والتوسعة في
موضوع الوجوب، ولازم ذلك عدم وجوب الإعادة، فعدم وجوب الإعادة من
236

اللوازم العقلية المترتبة على نفس الاستصحاب، لا على المستصحب.
و (منها) - صحيحة ثالثة لزرارة: (وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع،
وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أخرى، ولا شئ عليه، ولا ينقض اليقين
بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض
الشك باليقين، فيتم على اليقين، فيبنى عليه، ولا يعتد بالشك في حال
من الحالات).
وقد تمسك بها في الوافية وتبعه جماعة ممن تأخر عنه. وكيف كان فهذه
الصحيحة - مع قطع النظر عما فيها من الاجمال - لا تفيد قاعدة كلية ينتفع بها
في سائر الموارد، لظهور أن قوله (عليه السلام) - ولا ينقض اليقين بالشك - تأكيد
لقوله (عليه السلام) قام فأضاف إليها أخرى، لا علة له، حتى يستفاد منه الكلية.
اللهم إلا أن يستفاد العموم من قوله (عليه السلام): ولا يعتد بالشك في حال من
الحالات.
ثم إن جعل هذا المورد من مصاديق حرمة نقض اليقين بالشك، يحتمل
أمرين: أحدهما - كونه من جهة التقية، موافقة للعامة الزاعمين لكون مقتضى
البناء على اليقين هو البناء على الأقل، وضم الركعة المشكوكة.
ويوهن هذا الاحتمال ظهور صدر الرواية في عدم الصدور على جهة
التقية، حيث أنه امر في جواب السائل عن الشك بين الاثنين والأربع بأن يركع
ركعتين، وأربع سجدات، وهو قائم بفاتحة الكتاب. وهذا ظاهر في وجوب ركعتين
منفصلتين. من جهة ظهور تعيين الفاتحة. وهذا مخالف لمذهب العامة.
ثانيهما ان يقال: إن المراد - من قوله (عليه السلام): قام فأضاف إليها
ركعة - القيام للركعة المنفصلة، كما هو مذهب الحق. والوجه - لجعل هذا من
صغريات القاعدة المزبورة مع اقتضائها بحسب الظاهر اتيان الركعة المتصلة - أن
الصلاة في نفس الامر يعتبر فيها أمران أحدهما تحقق الركعات، وثانيهما تقييدها
بعدم الزائد. ومقتضى قولهم (عليهم السلام)، لا تنقض اليقين بالشك، البناء على
عدم تحقق الركعة المشكوكة، ولا يثبت بهذا تحقق ذلك التقييد المعتبر لو اتى بالركعة
237

المشكوكة موصولة، فالجمع بين مفاد القاعدة المزبورة ومراعاة ذلك التقييد لا يمكن
إلا باتيان الركعة منفصلة، فليتأمل جيدا.
وهذا التوجيه أوجه من حمل الرواية على ايجاب تحصيل اليقين بالاحتياط،
كما فعله شيخنا المرتضى قدس سره، لظهور اتحاد مفاد هذه القضية في جميع الموارد.
وقد عرفت كونها ناصة في الاستصحاب في الصحيحة الأولى.
وما قد يتوهم - من امكان الجمع بين الاستصحاب وايجاب تحصيل
اليقين، فلا ينافي تطبيق القضية تارة على الاستصحاب، كما في الصحيحة الأولى
وأخرى على ايجاب الاحتياط كما في الصحيحة الثالثة - (مدفوع) بأنه على
تقدير إرادة الاستصحاب، يجب أن يراد من اليقين المفروض في القضية الموجود
الثابت، وعلى تقدير إرادة ايجاب الاحتياط، يجب ان يفرض عدمه حتى يصح
الامر بتحصيله. وهما ملاحظتان غير قابلتين للجمع، كما هو واضح.
(ومنها) موثقة عمار عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (إذا شككت
فابن على اليقين، قلت هذا أصل؟ قال (عليه السلام) نعم).
أقول إن جعلنا مورد الرواية خصوص ركعات الصلاة، كما أن
الأصحاب يذكرونها في طي أدلة تلك المسألة، فالمراد من قوله (عليه السلام)
(فابن على اليقين) إما تحصيل اليقين بالبناء على الأكثر، واتيان ما يحتمل، نقصه
منفصلا، ولا دخل لها بما نحن بصدده. وإما محمول على التقية. وإما على
الاستصحاب بالتوجيه الذي ذكرناه في الصحيحة السابقة. وان لم نقل
باختصاصها بشكوك الصلاة، فلا يبعد دعوى ظهورها في الاستصحاب، حيث أن
الظاهر من لفظ اليقين هو اليقين الموجود حين البناء عليه، لا الماضي، حتى ينطبق
على قاعدة الشك الساري، ولا المستقبل حتى يكون المراد وجوب تحصيله، وينطبق
على الاحتياط.
فما ذكره شيخنا المرتضى قدس سره - من أن الموثقة - على تقدير عدم
اختصاص موردها بشكوك الصلاة - أضعف دلالة من الروايات الآتية، حيث
أنه لم يبين فيها أن المراد اليقين السابق على الشك، ولا أنه المتيقن السابق
238

على المشكوك، بخلاف الروايات الآتية، حيث إنها ليست خارجة عن هذين
الاحتمالين - مبنى على عدم كون ظهور الموثقة في الاستصحاب أقوى من بين
الاحتمالات. وقد عرفت خلافه.
(ومنها) - ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله
(ع) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من كان على يقين فشك، فليمض
على يقينه، فان الشك لا ينقض اليقين) وفى رواية أخرى عنه (عليه السلام)
(من كان على يقين فأصابه شك، فليمض على يقينه، فان اليقين لا يدفع
بالشك).
أقول: ظهور الروايتين في اتحاد متعلق اليقين والشك مما لا يقبل الانكار.
وحينئذ إما أن يلاحظ المتيقن مقيدا بالزمان، فالشك فيه معناه الشك الساري.
وإما أن يجرد عنه. وعلى الثاني إما أن تكون القضية مهملة من حيث الزمان،
وإما أن تكون ملحوظا فيها على نحو الظرفية. والأخير منطبق على المدعى.
وسيجئ أن الجمع بين القاعدة والاستصحاب غير ممكن في هذه القضية.
إذا عرفت هذا فنقول: إن القضية وإن كانت في حد نفسها غير ظاهرة في
المدعى، لكن بملاحظة تكرارها في موارد - يعلم إرادة الاستصحاب منها - تصير
ظاهرة في المدعى، لظهور اتحاد المراد في تمام الموارد.
(لا يقال) إن ذكرهما في عداد أدلة الباب غير صحيح، لان العمدة هي
الأدلة المتقدمة، إذ لولاها لكانت هذه مجملة أو ظاهرة في غير المدعى.
لأنا نقول: فائدة هاتين الروايتين استفادة الكلية، بعد ما حملناهما على
الاستصحاب، إذ ليس فيهما ما يمنع ذلك، كما كان في الأدلة السابقة.
هذا ولكن الاشكال في سند الرواية، من حيث أن فيها قاسم بن يحيى،
وقد ضعفه العلامة قدس سره في الخلاصة، وتضعيفه وإن كان مستندا إلى تضعيف
ابن الغضايري، وقد قيل إنه لا يعبأ به، الا انه لم يوجد في علم الرجال توثيقه، فلو
أغمضنا عن هذا التضعيف، لكان من المجاهيل، وعلى أي حال لا يجوز جعل
الرواية مدركا لشئ. اللهم إلا أن يوثق برواية الأجلة عنه، مثل أحمد بن أبي
239

عبد الله، وأحمد بن محمد بن عيسى، فليتأمل جيدا.
و (منها) - مكاتبة على بن محمد القاساني، قال: (كتبت إليه - وانا بالمدينة -
عن اليوم الذي نشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب (عليه السلام):
اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية).
ودلالتها على المدعى بملاحظة تفريع الإمام (عليه السلام) ظاهرة.
هذه اخبار عامة واردة في المقام، وقد تؤيد بالأخبار الواردة في الموارد
الخاصة، مثل رواية عبد الله بن سنان (في من يعير ثوبه الذمي، وهو يعلم أنه
يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، قال فهل على أن اغسله؟ فقال: لا، لأنك
أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن انه نجسه) (1). وفى تعليل الحكم بأنه طاهر
حين الإعارة دلالة واضحة على أن المستند هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها.
ومثل موثقة عمار: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر).
بناءا على كونها في مقام بيان استمرار الطهارة المفروغ عنها، لا في مقام
جعل الطهارة في موضوع لم يعلم نجاسته.
ولكن الظاهر من القضية المعنى الثاني، كما هو واضح، فلا دخل لها
بالمدعى. ولا يمكن الجمع بين المعنيين، أعني قاعدة الطهارة واستصحابها، فان
الثاني مبنى على كونها مفروضة الوجود، والأول مبنى على عدم كونها كذلك.
وملاحظة شئ واحد مفروض الوجود وغيره جمع بين المتنافيين، كما لا يخفى.
والعجب من شيخنا الأستاذ دام بقاه حيث زعم إمكان الجمع بينهما في
القضية المذكورة. والنظر في كلامه يتوقف على نقل ما افاده
قال دام بقاه في حاشيته على رسالة الاستصحاب - عند قول المصنف
قدس سره (نعم إرادة القاعدة والاستصحاب معا توجب استعمال اللفظ في
معنيين...) ما لفظه: ارادتهما إنما توجب ذلك، لو كان كما افاده
قدس سره، بان يراد من المحمول فيها تارة أصل ثبوته، وأخرى استمراره، بحيث
كان أصل صبوته مفروغا عنه. كذلك الحال في الغاية، فجعلت غاية للحكم
بثبوته مرة، وللحكم باستمراره أخرى. وأما إذا أريد أحدهما من المغيى والآخر
240

من الغاية فلا.
توضيح ذلك: أن قوله (عليه السلام): (كل شئ طاهر) - مع قطع
النظر عن الغاية - بعمومه يدل على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية، كالماء
والتراب وغيرهما، فيكون دليلا اجتهاديا على طهارة الأشياء، وباطلاقه - بحسب
حالات الشئ التي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة
الحكمية أو الموضوعية - يدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبهت طهارته كذلك.
وأن أبيت إلا عن عدم شمول اطلاقه لمثل هذه الحالة التي هي في الحقيقة
ليست من حالاته، بل من حالات المكلف، وان كانت لها إضافة إليه، فهو
بعمومه - لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا تنفك عنه ابدا، كما في بعض
الشبهات الحكمية والموضوعية - يدل بضميمة عدم الفصل بينه وبين سائر
المشتبهات على طهارتها كلها، وإلا يلزم تخصيصه بلا مخصص، ضرورة صدق عنوان
الشئ على هذا المشتبه، كسائر الأشياء، بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى،
وليس التمسك به - فيما اشتبهت طهارته موضوعا - تمسكا بالعام في
الشبهة المصداقية، لان التمسك به إنما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم
المشكوك على ما عرفت، لا لأجل دلالته على حكم الشئ بعنوانه الواقعي،
كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثية بنجاسة بعض العناوين أو بعض الحالات.
ولا منافاة بين جواز التمسك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة وعدم جوازه من
جهة أخرى كما لا يخفى.
ولا ضير في اختلاف الحكم بالنسبة إلى افراد العام، وصيرورته ظاهريا،
بالنسبة إلى بعضها، وواقعيا بالإضافة إلى بعضها الآخر، لان الاختلاف بذلك
إنما هو من اختلاف افراد الموضوع، لا من جهة الاختلاف في معنى المحكوم،
بل هو - بالمعنى الواحد والمفهوم الفارد - يحمل على ما هو واحد يعم تلك
الافراد على اختلافها، كما هو واضح من أن يخفى. فلا مجال لتوهم لزوم استعمال
اللفظ في معنيين من ذلك أصلا، فعلى ذلك يكون دليلا بعمومه على طهارة
الأشياء بما هي بعناوينها، وبما هي مشتبه حكمها مطلقا، بضميمة عدم الفصل في
المشتبهات بين ما يلزمه الاشتباه، وبين مالا يلزمه الاشتباه، فلا حاجة في دلالته
241

على قاعدة الطهارة إلى ملاحظة الغاية. نعم بملاحظتها يدل على الاستصحاب.
(بيانه) ان قضية جعل العلم - بالقذارة التي تنافي الطهارة - غاية لها في
الرواية هي بقاؤها واستمرارها، ما لم يعلم بالقذارة، كما هو الشأن في كل
غاية، غاية الامر أن قضيتها لو كانت من الأمور الواقعية هو استمرار المغيى وبقاؤه
واقعا إلى زمان تحققها، ويكون الدليل عليها دليلا اجتهاديا على البقاء ولو كانت
هي العلم بانتفاء المغيى هو بقاؤه واستمراره تعبدا. إلى زمان حصولها، كما هو
الحال في الغاية ههنا، فيكون بملاحظتها دليلا على استمرار الطهارة تعبدا، ما لم
يعلم بانتفائها، ولا نعنى بالاستصحاب إلا ذلك كما لا يخفى.
فدل بما فيه من الغاية والمغيى على ثبوت الطهارة واقعا وظاهرا على ما
عرفت على اختلاف افراد العام، وعلى بقائها تعبدا عند الشك في البقاء، من
دون لزوم محذور استعمال اللفظ في معنيين، إذ منشأ توهم لزومه ليس الا توهم
أن إرادة ذلك من قوله: (كل شئ طاهر) لا يكاد أن يكون الا بإرادة الحكم على
كل شئ بثبوت أصل الطهارة، ما لم تعلم قذارته، والحكم باستمرار طهارته
المفروغ عنها أيضا ما لم تعلم قذارته باستعمال لفظ طاهر وإرادة كلا الحكمين
منه.
وقد عرفت أن استفادة مفاد القاعدة من اطلاقه أو عمومه بضميمة عدم
الفصل، من غير حاجة إلى ملاحظة الغاية. واستفادة مفاد الاستصحاب من
الغاية، من جهة دلالتها على استمرار المغيى، كما هو شأن كل غاية، إلا أنها لما
كانت هو العلم بانتفاء المغيى، كان مفاده استمراره تعبدا، كما هو الشأن في
كل مقام جعل ذلك غاية للحكم، من غير حاجة في استفادته إلى ارادته من
اللفظ الدال على المغيى، والا يلزم ذلك في كل غاية مغيى كمالا يخفى.
مثلا: (الماء طاهر حتى يلاقى النجس) لابد أن يراد منها على هذا طاهر بمعنى ثبوت
الطهارة، ومعنى استمراره كليهما، مع أنه ليس بلازم لاستفادة الاستمرار من
نفس الغاية، كما لا يخفى،. فلم لا يكون الحال في هذه الغاية على هذا المنوال.
انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقاه. (1).
242

أقول: وفيه (أولا) - أن الجمع - بين الحكم بطهارة الأشياء بعناوينها
الأولية وعنوان كونها مشكوكة الطهارة - لا يمكن في انشاء واحد، ضرورة تأخر
رتبة الثاني عن الأول، ولا يمكن ملاحظة موضوع الحكم الثاني في عرض موضوع
الحكم الأول. وهذا واضح.
وأيضا على فرض تسليم الجمع يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك.
لغوا، لان هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت إلى المكلف يرتفع
شكه، من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الأشياء بعناوينها الأولية، فلا يبقى
له شك حتى يحتاج إلى العمل بالحكم الوارد على الشك.
اللهم إلا أن تحمل القضية على الاخبار والحكاية عن الواقع دون
الانشاء. وعلى هذا يرتفع الاشكالان، لأنه إذا فرض أن الشارع حكم على بعض
الأشياء بعناوينها الأولية بالطهارة، وعلى بعض آخر بعنوان أنه مشكوك فيه أيضا،
يصح أن يقول واحد في مقام الحكاية: كل شئ طاهر عند الشرع إما بالطهارة
الواقعية وإما بالطهارة الظاهرية.
هذا. ولكنه لا يدل على أن المحكوم بالطهارة ما هو، حتى يكون دليلا
اجتهاديا على طهارة الأشياء بعناوينها الأولية، كما نص عليه كلامه المحكى،
فيظهر أن ما قلناه في مقام التوجيه لا ينطبق على المستفاد من كلامه دام بقاؤه.
ان مقتضى الغاية المذكورة في القضية أن الحكم فيها إنما هو
ثابت فيما قبل الغاية، وهو زمان عدم العلم بالقذارة، وهذا الحكم الثابت
للأشياء في زمان عدم العلم بالقذارة عبارة عن قاعدة الطهارة، فأين حكم
الاستصحاب الذي هو عبارة عن ابقاء الشئ الموجود سابقا في حال طرو الشك،
والشئ الذي فرضناه موجودا بهذه الرواية هو طهارة الأشياء في حال عدم العلم،
وهو حال الشك، وبقاؤها ببقاء الشك ليس استصحابا قطعا، لان مقتضى
الحكم المعلق على موضوع بقاؤه ببقائه، ومن الموضوعات الشك، وإذا أريد إفادة
الاستصحاب، فاللازم فرض شك آخر طارئ على هذا الحكم المتعلق بموضوع
الشك والحكم ببقائه، في حال ذلك الشك الطارئ كما إذا شك في أن هذا
243

الحكم المتعلق بالشك هل نسخ أم لا؟ مثلا.
والحاصل: أنه لا ينبغي الشك في عدم امكان الجمع بين القاعدة
والاستصحاب في قضية واحدة، بعد ملاحظة ما ذكرنا. وعليك بالتأمل
والتدبر، لئلا يشتبه عليك الحال.
الكلى
الامر الثالث - أن المتيقن السابق في استصحاب الكلى قد يكون جزئيا،
وقد يكون كليا، والشك في بقاء الكلى (تارة) من جهة الشك في بقاء الفرد الذي
علم تحققه فيه، و (أخرى) من جهة الشك في تعيين الفرد المتحقق في ذلك
الكلى، وتردده بين ما هو باق جزما، وبين ما هو مرتفع، و (ثالثة) من جهة
الشك في وجود فرد آخر مع الفرد المتيقن أولا، أو مقارنا لارتفاعه بحيث يحتمل
عدم ارتفاع الكلى، فان كان الشك في بقاء الكلى من جهة الشك في بقاء الفرد
المعين كالمثال الأول، فلا اشكال في جواز استصحاب الكلى إن كان ذا اثر
شرعي، ولا يغنى عن استصحاب الفرد، وان كان بقاؤه مستلزما، لبقاء ذلك
الفرد، فلو كان الفرد ذا اثر شرعي يجرى فيه الاستصحاب مستقلا. وهل يغنى
استصحابه عن استصحاب الكلى، بحيث يترتب على الاستصحاب الجاري في
الفرد اثر الفرد والكلي أم لا؟ وجهان من حيث أن الفرد عين الكلى في الخارج،
والأثر المترتب على الكلى سار في الفرد من جهة الاتحاد والعينية، فالفرد مجمع
لأثرين: (أحدهما) من جهة الكلى، و (الثاني) من جهة نفسه. ومن حيث
تغايره مع الكلى عند التعقل، ولكل منهما اثر يمكن سلبه عن الآخر، وان كانا
متحدين في الخارج.
(مثلا) لو فرض أن وجود الانسان في الدار يكون موضوعا لوجوب الصلاة
ركعتين، ووجود زيد يكون موضوعا لوجوب التصدق بدرهم، يصح أن يقال: إن
وجوب الصلاة ليس اثرا لزيد، بل هو اثر لوجود الانسان وكذلك يصح أن
يقال: إن وجوب التصدق ليس اثر، بل هو أثر لوجود زيد. وحينئذ نقول:
244

إن اجراء الاستصحاب بالنسبة إلى زيد - لو شك في بقائه - لا يوجب الا ترتب
الأثر المختص بزيد، لاما هو مترتب على حقيقة الانسان، كما في العكس.
وان كان الشك من جهة الشك في تعيين الفرد، فهو على قسمين، لأن الشك
فيه إما راجع إلى الشك في المقتضى - كما لو كان الموجود أولا حيوانا
مرددا بين ما يعيش ثلاثة أيام أو سنة، فإذا مضى ثلاثة أيام يشك في بقاء ذلك
الحيوان - واما راجع إلى الشك في الرافع، كما لو خرجت منه رطوبة
مرددة بين البول والمنى، ثم توضأ فيشك في بقاء حدثه وارتفاعه بواسطة
الوضوء.
هذا إن قلنا بان الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر موضوع لاثر
شرعي، وهو عدم جواز الدخول في الصلاة. وأما إن قلنا ان الموضوع للأثر
خصوص الحالتين اللتين توجدان مع البول والمنى، إحداهما توجب المنع من
الدخول في الصلاة إلا بالوضوء، والأخرى توجب المنع إلا بالغسل. فالمثال الذي
ذكرناه أخيرا ليس من موارد استصحاب الكلى.
وكيف كان فالحق جواز استصحاب الكلى في كلا القسمين ان كان
له اثر شرعا، لعدم المانع إلا على مذاق من يذهب إلى اختصاص مورده بالشك في
الرافع، فمنع جريانه في القسم الأول. وقد عرفت أن التحقيق خلافه. نعم منع
بعض علماء العصر - دام ظله - جريان هذا النحو من الاستصحاب مطلقا في
حاشيته التي علقها على مكاسب شيخنا المرتضى قدس سره.
وحاصل ما افاده هناك أن الشك في بقاء الكلى مسبب عن الشك
في وجود الفرد الطويل، وحيث إن مقتضى الأصل عدمه، فلا يبقى شك في بقاء
الكلى. ثم أورد على نفسه بان أصالة عدم وجود الفرد الطويل معارض بأصالة
عدم وجود الفرد القصير، وأجاب بأنه ليس في طرف القصير أصل حتى يعارض
ذلك الأصل، لعدم الأثر الشرعي للأصل الجاري، في طرف القصير.
هذا. وفيه (أولا) - أن تقدم الأصل الجاري في السبب على المسبب إنما
يكون فيما إذا كان الترتب شرعيا، كالأصل الجاري في الماء بالنسبة إلى الثوب
245

المغسول به، فان غسل الثوب بالماء الطاهر شرعا يوجب طهارة الثوب شرعا،
بخلاف ترتب عدم الكلى على عدم الفرد في المثال، فإنه من جهة العلم بانحصار
الموجود في فرد واحد وانه على تقدير عدم وجود الطويل وجد القصير وارتفع.
و (ثانيا) - ان عدم جريان الأصل في القصير مطلقا لا وجه له، لأنه ان
كان المراد انه مقطوع العدم في زمان الشك في بقاء الكلى، فلا يقدح هذا القطع،
لان ملاك المعارضة وجود الأصلين المتعارضين في زمان، وإن انتفى مورد أحدهما
فيما بعد ذلك كما لو خرج أحد أطراف الشبهة المحصورة - بعد تعارض
الأصلين - عن محل الابتلاء. وإن كان المراد عدم جريان الأصل في القصير
أصلا، فهو لا يصح على الاطلاق. وانما يصح فيما إذا كان اثر الفرد القصير أقل
من اثر الفرد الطويل، كما إذا لم يعلم أن الثوب تنجس بالدم أو بالبول، وقلنا
انه في الأول يكفي الغسل مرة، وفى الثاني يجب مرتين، فان وجوب الغسل مرة مما
يقطع به، فلا يجوز استصحاب عدم تنجسه بالدم، لنفى اثره. وأما إذا لم يكن
كذلك، كما لو كانا متباينين في الأثر، فلا وجه للقول بعدم جريان الاستصحاب
في الفرد القصير فليتدبر جيدا.
ثم إنك قد عرفت أن إجراء الأصل في الكلى لا يثبت الفرد، وان كان
ملازما له، لان هذه الملازمة ليست بشرعي. وحينئذ فلو كان للفرد اثر خاص ينفى
بالأصل، إلا إذا كان للفرد الآخر أيضا اثر خاص، فيتعارض الأصلان. وكذا لو
علم أن الحكم ببقاء الكلى في الأثر، والحكم بعدم الفرد كذلك مما
لا يجتمعان في مرحلة الظاهر أيضا - وإن كان الشك من جهة وجود الفرد الآخر
مع المتيقن أو مقارنا لارتفاعه، ففي جريان الاستصحاب في الجامع بين الفردين
المحتمل بقاؤه بقيام الفرد الآخر مقام المتيقن وجوه:
(ثالثها) - التفصيل بين القسمين المذكورين، فيجرى في الأول منهما،
نظرا إلى احتمال بقاء الكلى بين ما وجد أولا، دون الثاني، للقطع بعدم بقائه
كذلك، كما ذهب إليه شيخنا المرتضى قدس سره واختار شيخنا الأستاذ دام
بقاه عدم الجريان مطلقا.
246

قال في تقريب ذلك: إن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده، إلا أن
وجوده في ضمن افراد متعددة ليس نحو وجود واحد له، بل وجود كل فرد منه نحو
وجود له عقلا وعرفا، كما إذا شك أنه في الزمان الأول كان موجودا بوجود
واحد أو وجودين، وفى ضمن فرد أو فردين، لم يكن الشك في نحو وجوده، بل
الشك في وجوده بنحو آخر غير ما علم من نحو وجوده، فما علم من وجوده فقد
علم ارتفاعه. وما شك فيه فقد شك في أصل حدوثه، فاختل أحد ركني
الاستصحاب فيه على كل حال. ومنه يظهر الحال في القسم الثاني، بل الامر فيه
أظهر. انتهى كلامه دام بقاه.
أقول: لو جعلت الطبيعة - باعتبار صرف الوجود، مع قطع النظر عن
خصوصياته الشخصية - موضوعا للحكم، كما أوضحنا ذلك في مسألة اجتماع
الأمر والنهي فلا اشكال في أن هذا المعنى لا يرتفع الا بانعدام تمام الوجودات
الخاصة في زمن من الأزمنة اللاحقة، لأنه في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق
هذا العدم الا بعد انعدام الوجودات. وحينئذ لو شك في وجود الفرد الآخر مع
ذلك الموجود المتيقن، واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم فمورد استصحاب
الجامع. - بملاحظة صرف الوجود - متحقق، من دون اختلال أحد ركنيه، فان
اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للانكار، وكذلك الشك في بقاء هذا
المعنى، لان لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق
صرف الوجود فيه، وهو على تقدير تحققه في نفس الامر بقاءا لا حدوثا لان هذا
المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق، فحدوثه فيما إذا كان مسبوقا بالعدم
المطلق. والمفروض انه ليس كذلك فعلى تقدير تحققه بقاءا فالشك فيه شك
في البقاء، نعم لو أريد استصحاب وجود خاص فهو غير جائز، لأن المتقين سابقا
مقطوع الارتفاع، والمشكوك لاحقا غير متيقن سابقا، فاختل أحد ركني
الاستصحاب.
ومما ذكرنا يظهر حال القسم الآخر، وهو ما لو شك في وجود فرد آخر
مقارنا لارتفاع الموجود من دون تفاوت أصلا.
247

-
استصحاب التدريجيات
الامر الرابع - أن المستفاد من اخبار الباب أن مجرى الاستصحاب هو
ما شك في تحققه لاحقا، مع القطع بتحققه سابقا، فحينئذ لا فرق بين ما يكون
قارا بالذات وما يكون تدريجيا كالزمان والزمانيات، كالتكلم والحركة
وأمثالهما، ضرورة أنها - ما لم تنقطع - وجود واحد حقيقي، وان كان نحو
وجودها أن ينصرم شيئا فشيئا. وحينئذ فلو شك في تحقق الحركة مثلا أو نفس
الزمان، بعد ما علم بتحققه سابقا، فقد شك في تحقق عين ما كان محققا سابقا،
فلا يحتاج في التمسك بالاخبار إلى المسامحة العرفية.
نعم لو كان محل الاستصحاب الشك في البقاء، أمكن أن يقال: ان
مثل الزمان والزمانيات خارج عن العنوان المذكور، (105) لعدم تصور البقاء لها
إلا بالمسامحة العرفية، لكن ليس هذا العنوان في الأدلة.
وبعبارة أخرى المعتبر في الأدلة صدق نقض اليقين بالشك، ولا تفاوت
في ذلك بين التدريجيات وغيرها.
قال شيخنا المرتضى قدس سره الامر الثاني من الأمور التي نبه عليها في
(105) لا يخفى أن المقصود من الزمان المستصحب إن كان الجامع بين
الآنات المحدودة بين الحدين، كالكلي في المعين، صح استصحابه - وإن قلنا
باعتبار البقاء في صدق لا تنقض - لان بقاء الجامع كما مر منه - دام ظله - ببقاء
الافراد لكنه لا يصدق عليه اليوم والليل مثلا، بل الظاهر أن كل آن جزء منهما
لا جزئي، لهما. وإن كان المقصود استصحاب ما هو موضوع له للفظ اليوم أو النهار،
فلا يصح الا بما ذكره الشيخ (قدس سره) من المسامحة في وجوده وتحققه، مع قطع النظر
عن اعتبار البقاء، لان وجود اليوم حقيقة لا يتحقق الا بعد تحقق جميع اجزائه ولو
عند العرف. وأما ما يرى من اطلاق اليوم على بعض النهار فليس الا من باب المسامحة،
فتأمل.
248

باب الاستصحاب ما لفظه: (قد علم من تعريف الاستصحاب وأدلته: أن مورده
الشك في البقا؟ وهو وجود ما كان موجودا في الزمان السابق، ويترتب عليه عدم
جريان الاستصحاب في نفس الأزمان، ولا في الزماني الذي لا استقرار لوجوده، بل
يتجدد شيئا فشيئا على التدريج. وكذا في المستقر الذي يؤخذ قيدا له، إلا أنه
يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب في الزمان، فيجرى في القسمين
الأخيرين بالطريق الأولى) انتهى كلامه رفع مقامه.
وقد عرفت صحة استصحاب نفس الزمان والزمانيات، ومن دون احتياج
إلى مسامحة. نعم لو انقطع الزماني بما لا يقيد به عرفا، ثم وجد فعده شيئا واحدا،
يحتاج إلى المسامحة والا فبحسب العقل قد انصرمت وحدته.
ويمكن أن يقال: إن الزمان إن لوحظ أمرا محدودا - بأن يقال: ان
الليل وكذا النهار عبارتان عن القطعة الخاصة المحدودة بالحدين المفروضين
- أمكن تحقق اليقين فلا معنى للعلم به إلا بعد احراز مجموع تلك
القطعة، وبعد احراز وجود تمام تلك القطعة لا يبقى الشك فيه، فلا يتحقق فيه
ما هو ملاك جريان الاستصحاب.
نعم لو قلنا بان الليل والنهار عبارتان عن الآن السيال بين الحدين
المفروضين، أمكن تحقق اليقين والشك فيه، وهكذا حال الحركة إن كان
المقصود الحركة المحدودة المسماة بالحركة القطعية، فلا يجتمع فيها اليقين
والشك. وإن كان المقصود الحركة التوسطية - وهي كون الجسم بين
الحدين - فيمكن كونها متعلقة لليقين والشك، كما هو ظاهر،
فالأولى في المقام أن يقال: إن كان موضوع الأثر الذي أريد استصحابه
هو الزمان المحدود أو الزماني كذلك، فاستصحابه يحتاج إلى المسامحة التي أفادها
شيخنا المرتضى قدس سره من جعل المجموع موجودا فعليا، لوجود جزئه، وان
كان القسم الآخر فلا يحتاج في الاستصحاب إلى تلك المسامحة.
وأما المستقر الذي اخذ الزمان قيدا له، فان أريد استصحابه في حال
الشك في انقضاء الزمان المأخوذ قيدا - كما هو ظاهر كلامه قدس سره هنا -
249

فحاله حال استصحاب نفس الزمان، كمن وجب عليه الجلوس في النهار مثلا،
فجلس إلى أن شك في انقضاء النهار وبقائه، إذ يصح أن يقال: إن جلوسه كان
سابقا جلوسا في النهار، والآن كما كان، فيترتب حكمه أعني الوجوب.
لا يقال: ان الجلس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة،
ضرورة كونه مرددا من أول الامر بين وقوع في الليل أو النهار.
لأنا نقول: المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار
موضوعا مستقلا، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقق في النهار موضوعا واحدا
للوجوب. (106) وهذا واضح. وإن أريد استصحاب الموضوع المقيد بالزمان
أو حكمه، بعد انقضاء الزمان المأخوذ قيدا، - كما هو ظاهر كلامه قدس سره بعد
ذلك، عند التعرض للقسم الثالث، وهو ما كان مقيدا بالنهار - فلا شك في عدم
جريان الاستصحاب، ضرورة أن الجلوس - المقيد بالنهار، وكذا حكمه - لا يبقى
بعد انقضائه.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إن مراده قدس سره إن كان ما ذكر أولا،
فلا وجه للقطع بعدم جريان الاستصحاب كما أفاد ذلك عند تعرضه للقسم
الثالث، حيث يقول: (وأما القسم الثالث - وهو ما كان مقيدا بالزمان -
فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه...) بل ينبغي القطع بصحة
الاستصحاب فيه، كما لا يخفى. وإن كان مراده قدس سره ما ذكرناه أخيرا،
فلا وجه لجعل الاستصحاب فيه أولى منه في نفس الزمان
هذا وكيف كان فالظاهر عدم الاشكال في صحة الاستصحاب
250

في الأقسام الثلاثة إذا كان الأثر مترتبا على نفس بقائها، من دون أن تحمل
وتطبق على جزئي في الخارج. وأما لو أريد مع تطبيقه كذلك، كما إذا أريد أن
يحكم باستصحاب الزمان، بكون هذا الزمان المشكوك فيه نهارا مثلا، فلا يصح
الا بالأصل المثبت.
وبعبارة أخرى: إن كان الحكم مرتبا على تحقق النهار، ففي الآن الثاني
يحكم به بالاستصحاب، ويترتب عليه ذلك الحكم، إن كان مرتبا على كون
الزمان المشكوك فيه نهارا، فلا يثبت بذلك الاستصحاب لان كون الزمان
المشكوك نهارا امر آخر يلازم بقاء النهار عقلا. اللهم إلا ان يعد من اللوازم
الخفية التي لا يراها العرف واسطة، فلا يضر كما يأتي انشاء الله تعالى.
ثم نقل (قدس سره) عن بعض معاصريه: أنه - في صورة تعلق الحكم
بالموضوع المعتبر فيه الزمان - لو شك بعد انقضاء ذلك الزمان في بقاء الحكم،
فهناك استصحابان، أحدهما وجودي، والآخر عدمي، فيعارض أحدهما
الآخر. مثلا لو علمنا بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ثم شككنا بعد
الزوال، فههنا أصلان: أحدهما استصحاب وجوب الجلوس، والآخر استصحاب
عدمه.
ورد عليه قدس سره بان الزمان إن اخذ قيدا فليس هناك
الا استصحاب العدم، لان الجلوس المقيد بما بعد الزوال لم يكن واجبا قطعا،
وإن اخذ ظرفا، فليس هناك الا استصحاب الوجود، لان عدم الوجوب انقطع
بنقيضه، فلا يجرى فيه الاستصحاب، بخلاف الوجوب، فإنه كان ثابتا قبل
الزوال، فيشك في بقائه بعده، انتهى ملخصا.
أقول: يمكن أن يوجه كلام المعاصر المذكور على نحو يسلم عما أورد عليه،
بان نختار الشق الأول. ونقول: بان الزمان وان اخذ قيد في الموضوع الذي تعلق
به الوجوب، إلا أن نسبة الوجوب - إلى المهملة عن اعتبار الزمان - صحيحة،
لاتحاد المهملة مع الأقسام كما بينا ذلك في محله وبنينا على ذلك صحة
اجراء أصالة البراءة في المقيد المشكوك فراجع مسألة الأقل والأكثر. وعلى هذا
251

نقول: لو وجب الجلوس المقيد بما قبل الزوال، فبعد انقضاء الزوال، يمكن أن
يقال: ذات الجلوس كان واجبا قبل الزوال ونشك في بقائه فيحكم
- ببركة الاستصحاب - ببقاء الوجوب لأصل الجلوس فيما بعد الزوال،
ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال لأنه بهذا القيد
مشكوك الوجوب أو نختار الشق الثاني.
ونقول: إن الزمان وإن اعتبر ظرفا في الدليل الذي دل على ثبوت الحكم
على الموضوع، لكن بعد انقضاء ذلك الزمان كما أنه يصح أن يلاحظ ذلك
الفعل، ويقال: انه كان واجبا في السابق، ونشك في بقاء وجوبه - كذلك
يصح أن يلاحظ مقيدا، ويقال: ان هذا الموضوع المقيد لم يكن واجبا في السابق،
والآن كما كان، فيتعارض الأصلان في طرف الوجود والعدم.
وفيه: ان الشق الأول وإن أمكن تصوره، لليقين السابق بوجوب حقيقة
الجلوس على سبيل الاهمال، والشك اللاحق كذلك لكنه راجع إلى
استصحاب القسم الثالث من الكلى. وقد سبق من شيخنا المرتضى قدس سره
اختيار عدم جريانه. ونحن وان قلنا بصحته لكنه في المقام محكوم لأن الشك
فيه مسبب عن الشك في وجوب فرد آخر من الجلوس (107) والأصل عدمه.
وعلى كل حال لا يصح القول بالتعارض، هذا في الشق الأول.
وأما الشق الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض فان مقتضى
252

استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بالزمان الخاص: هو أن هذا المقيد ليس
موردا للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيدا، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك
الزمان الخاص على نحو لوحظ الزمان ظرفا للوجوب.
الاستصحاب التعليقي والتقديري
الامر الخامس - أنه قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب
التقديري والتعليقي، وهو ان يثبت الحكم المشترط بشئ المتعلق بموضوع في الآن
السابق المشكوك بقاؤه لذلك الموضوع، لاختلاف حال من حالاته، مثل أن
العنب كان حكمه النجاسة المعلقة على الغليان، وبعد ما صار زبيبا - والمفروض
عدم صيرورته بواسطة الجفاف موضوعا آخر عند العرف - يشك في أن
النجاسة - المعلقة على الغليان التي كانت ثابتة لهذا الموضوع حال كونه عنبا - هل
هي باقية بعد صيرورته زبيبا أم لا؟ لا اشكال في صحة هذا الاستصحاب، لعدم
الفرق في شمول أدلة الباب بين ما يكون الحكم المتيقن في السابق مطلقا
أو مشروطا.
ولا يتوهم أن الحكم المشروط قبل تحقق شرطه ليس بشئ إذ قد تقرر في
محله تحققه ووجوده قبل وجود شرطه وكما أن وظيفة الشارع جعل الشئ حراما
مطلقا مثلا، كذلك وظيفته جعله حراما على تقدير كذا فإذا شك في بقاء
الحرمة المعلقة في الآن الثاني يصح ان يجعل حرمة ظاهرية معلقة على ذلك
الشرط. وإذا صح ذلك، فشمول أدلة الاستصحاب مما لا ينبغي أن ينكر. وهذا
واضح.
وانما الاشكال في تعارضه مع استصحاب الحكم الفعلي. مثلا الزبيب
إذا غلى، فهناك حالتان في السابق، يصح استصحاب كل منهما إحداهما الحرمة
على تقدير الغليان، والثانية، الإباحة الفعلية الثابتة قبل الغليان فهل يكون
لأحدهما تقدم على الآخر أم لا؟ قال شيخنا المرتضى قدس سره أن استصحاب
الحكم التعليقي مقدم لحكومته على استصحاب الحكم الفعلي.
253

أقول: عندي فيما افاده قدس سره نظر، فان الشك في بقاء الإباحة
الفعلية وان كان مسببا عن الشك في جعل الحرمة التعليقية، إلا أن ترتب
عدم الإباحة من جهة أن العقل يحكم بثبوت الحرمة الفعلية - عند تحقق
الشرط - وهي تضاد الإباحة، وهذا الحكم العقلي، وان كان من لوازم الحكم
التعليقي، سواء كان ظاهريا أم واقعيا، نظير الحكم بلزوم الامتثال، لكنه يصحح
الاخذ بهذا اللازم، وانه ليس قولا بالأصل المثبت ولا يصحح الحكومة، لما
عرفت من أن عدم الإباحة حينئذ من جهة عدم امكان الجمع بينهما، وكما
يترتب على الاستصحاب التعليقي عدم الإباحة بحكم العقل، كذلك يترتب على
استصحاب الحكم الفعلي عدم الحكم التعليقي بحكم العقل، إذ لا تجتمع
الإباحة - ولو ظاهرا - مع ما يكون علة لضدها.
وبعبارة أخرى ليس العصير بعد الغليان محكوما بالحرمة بحسب الدليل
شرعا، مع قطع النظر عن الشك، حتى يكون حاكما على ما يقتضى اباحته
بملاحظة الشك، بل الحكم بالحرمة إنما جاء من حكم العقل بفعلية الحكم
المعلق عند تحقق ما علق عليه. والمفروض أن الحكم المعلق - أيضا حكم مجعول
للشاك فيصير فعليا للشاك أيضا بحكم العقل، فتدبر.
ومما ذكرنا يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ دام بقاه من تصحيح
الحكومة، بكون اللازم من اللوازم العقلية الأعم من الواقعي والظاهري. نعم لو
قلنا بتقديم الأصل في الشك في السبب. من جهة تقدمة على الشك في المسبب
طبعا، وإن لم يكن من آثار الأصل الجاري في السبب رفع الشك عن المسبب
شرعا - صحت الحكومة هنا. وسيجئ - انشاء الله تعالى عند ذكر تعارض الأصلين -
زيادة توضيح للمطلب فانتظر.
استصحاب حكم الشريعة السابقة
الامر السادس - أنه لو شك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة
السابقة، فهل يحكم بالبقاء بواسطة الاستصحاب أم لا.
254

توضيح المقام أن هذا الشك (تارة) يفرض بعد القطع بنسخ أصل
الشريعة السابقة، وأخرى يفرض بواسطة الشك في ذلك. أما الأول، فالحق
جواز اجراء، لاستصحاب، والحكم ببقاء الحكم المشكوك فيه في هذه الشريعة، فان
المقتضي - أعني عمومات الأدلة - موجود وليس في المقام ما يصلح للمانعية
عدا أمور، توهم كونها مانعة.
(منها) - أن الحكم الثابت لجماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين،
لتغاير الموضوع، فان ما ثبت في حقهم مثله لا نفسه.
والجواب (أولا) - بالنقض باستصحاب عدم النسخ فان الحكم
المفروض كان ثابتا لجماعة، وثبت بالاستصحاب في حق الآخرين.
و (ثانيا) - بالحل وهو أن المستصحب كان حكما ثابتا للعنوان
الباقي، ولو بتبدل الأشخاص لا نفس الأشخاص، ليلزم تعدد الموضوع، ههنا
كالموضوع في الوقف على العناوين من الفقراء والطلبة وغيرهما.
هذا ملخص ما أجاب به شيخنا المرتضى قدس سره وهو كلام متين.
وأجاب أيضا بانا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين فإذا ثبت
في حقه حكم في الشريعة السابق، وشك في بقائه في اللاحقة يجرى في حقه
الاستصحاب ويكون هذا حكم الشخص المفروض وبعد وجود المعدومين في
عصره يسرى الحكم المذكور إليهم، لقيام الضرورة على اتحاد حكم أهل العصر
الواحد.
وهذا بظاهره مخدوش، كما أفاد شيخنا الأستاذ في حاشيته، لان قضية
الاشتراك تقتضي كون الاستصحاب حكما كليا ثابتا في حق كل من كان على
يقين من شئ فشك دون من لم يكن كذلك فتسرية الحكم الثابت
بالاستصحاب - في حق من كان موضوعا له إلى من لم يكن موضوعا له - مما
لا وجه له أصلا.
ويمكن ان يكون نظره إلى أن المعدوم الذي يوجد في زمن المدرك
للشريعتين متيقن لحكم ذلك المدرك في الشريعة الأولى، وشاك في حكمه أيضا
255

في هذه الشريعة، فيحكم بأدلة الاستصحاب ببقاء ذلك الحكم للشخص
المدرك للشريعتين، ثم يحكم بثبوته لنفسه بواسطة الملازمة الثابتة بالشرع.
وبعبارة أخرى الحكم الثابت لمدرك الشريعتين بمنزلة الموضوع لحكمه،
وهذا الاستصحاب في حق المعدوم الذي وجد في عصره من الأصول الجارية في
الموضوع. فافهم. (108)
ومنها - أن هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرايع، فلا يجوز الحكم
بالبقاء.
وفيه أن نسخ جميع الأحكام غير معلوم ونسخ البعض غير قادح.
(لا يقال) انا نعلم بنسخ كثير من الاحكام السابقة. والمعلوم تفصيلا ليس
بالمقدار المعلوم اجمالا حتى ينحل.
(لأنا نقول) الافعال التي تعلق بها حكم الشرع.: بين ما علم تفصيلا بنسخ
الحكم الثابت له في الشريعة السابقة، وبين ما لم يعلم بذلك. والثاني على
ضربين، لأنه إما أن يعلم الحكم الشرعي الثابت له في هذه الشريعة، وإما لا،
والثاني على ضربين، لأنه إما لم يعلم حكمه في الشريعة السابقة أيضا أو إما يعلم
ذلك. ومجرى الاستصحاب هو القسم الأخير فقط. وقد تقرر جواز اجراء الأصل
في بعض أطراف العلم، وان كان سليما من المعارض. ودعوى العلم الاجمالي
- بوقوع النسخ في القسم الأخير - مما لا يصغى إليها، لأنه في غاية الندرة،
كما لا يخفى.
و (منها) - ما حكى عن المحقق القمي قدس سره أن جريان
الاستصحاب مبنى على القول بكون حسن الأشياء ذاتيا، وهو ممنوع، بل التحقيق
أنه بالوجوه والاعتبارات. والظاهر أن مراده قدس سره بكون حسن الأشياء ذاتيا
256

- الذي جعله مبنى لصحة الاستصحاب - ليس كونها علة تامة للحسن،
وإلا لكان النسخ محالا، ولم يقع موردا للشك حتى يثبت عدمه بالاستصحاب،
بل مراده قدس سره كونها مقتضيه.
وحاصل مرامه على هذا أن صحة استصحاب عدم النسخ مبنية على القول
بأن الفعل الذي كان حسنا في السابق، كان من جهة اقتضائه لذلك، حتى يرجع
الشك في نسخه إلى الشك في وجود المانع. وأما إن قلنا بالوجوه والاعتبارات،
فلا يجرى الاستصحاب، لاحتمال أن يكون للزمان دخل في حسن ذلك الفعل،
فمقتضى بقاء الحسن غير محرز. هذا غاية توجيه كلامه.
وفيه (أولا) - أنه على هذا المبنى لا يصح استصحاب عدم نسخ حكم
الشريعة اللاحقة أيضا، لو شك في ارتفاعه لعين ما ذكر،
و (ثانيا) - أنا قلنا فيما مضى أنه لا فرق على القول بأخذ الاستصحاب
من الاخبار - بين أن يكون الشك في المانع أو في المقتضى فراجع.
واما الثاني: أعني صورة كون الشك في بقاء الاحكام السابقة، من جهة
الشك في نسخ أصل الشرع. فنقول: أنه لو فرض بقاء هذا الشك بعد التفحص
الذي هو شرط للعمل بالاستصحاب، فجواز التمسك به لهذا الشاك يبتنى على
أحد أمرين. إما أن يعلم أن هذا الحكم الاستصحابي حكم في كل من
الشريعتين، وإما أن يعلم أن هذا الحكم ثابت في الشريعة اللاحقة، لأنه
على الأول يعلم أنه هذا الحكم غير منسوخ، وعلى الثاني يعلم أن المجعول في حقه
مثلا الابقاء على الحكم السابق، إما لكونه حكما واقعيا له، وإما لكونه حكما
ظاهريا. (109)
257

فائدة
حكي عن بعض السادة أن ابتلي بمخاصمة وقعت بينه وبين
بعض علماء اليهود، فتمسك العالم اليهودي لاثبات دينه باستصحاب نبوة
موسى (ع)، لاعتراف المسلمين بأصل ثبوتها وحقيتها، قال فعلى المسلمين إقامة
الدليل على ارتفاعها وانقطاعها. وهذه الشبهة قد أشار إليها الجاثليق لاثبات نبوة
عيسى (ع) في مجلس المأمون، فاجابه الرضا (ع) بأني مقر بنبوة
عيسى (ع) وكتابه وما بشر به أمته وما أقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل
عيسى لم يقر بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه ولم يبشر به أمته، فاجابه
الفاضل المذكور على حسب ذلك بأنا نقول بنبوة موسى الذي أقر بنبوة
محمد صلى الله عليه وآله ولا نقول بنبوة كل موسى لم يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله فاعترض عليه
اليهودي بان موسى بن عمران حاله معهود وشخصه معروف قد ادعى النبوة
وجاء بدين وشريعة، وأنتم تعرفون صحتها ولا يتفاوت ثبوت ذلك بين أن يقول
بنبوة محمد صلى الله عليه وآله أولا يقول بها، فنحن نقول بنبوة ذاك الشخص المعهود وبقائها
بحكم الاستصحاب، فعليكم بابطاله، انتهى حكاية المخاصمة بين اليهودي وبعض
السادة. وقد أجابوا عن اشكال اليهودي بأجوبة لا يهمنا ذكرها.
والحق في الجواب أن اليهودي المذكور (تارة) يريد أن يتمسك
بالاستصحاب لتكليف نفسه فيما بينه وبين ربه. (وأخرى) يريد الزام الخصم،
فان كان غرضه تكليف نفسه.
فنقول بقاء نبوة موسى (ع) - الراجع إلى بقاء احكامه في نفس الامر -
ملزم لامرين (أحدهما) - وجوب الاعتقاد والعلم بذلك الذي هو مقتضى
الايمان (ثانيهما) - وجوب العمل بتلك الاحكام،
فان أراد اثبات اللازم الأول بالاستصحاب، فهو غير معقول، لأنه حكم
مجعول للشاك بوصف أنه شاك. ولا يمكن الايجاب تحصيل العلم والاعتقاد بأمر
على من هو شاك في ذلك الامر يوصف انه شاك نعم يمكن ان يجب على
258

الشخص في حال الشك تحصيل العلم، كما أنه يجب على العباد تحصيل العلم
بالمبدأ والوسايط والمعاد. ولكن هذا التكليف راجع إلى ايجاب إزالة تلك
الحالة أعني الشك، لا أنه تكليف متعلق بموضوع الشاك. والأول امر ممكن
واقع، والثاني محال، لرجوعه إلى اجتماع النقيضين.
وان أراد اثبات اللازم الثاني، فهو ممكن، إلا انك عرفت أن التمسك
بالاستصحاب مشروط بالفحص ولو تفحص اليهودي ورفع اليد عن المعصية وما
اخذ من آبائه تقليدا لظهر له حقية مذهب الاسلام، لوضوح الأدلة والبراهين
القائمة على صدقه بحيث لم تبق له حيرة ولا شك، حتى يحتاج إلى التمسك
بالاستصحاب وهذا امر مقطوع به لا ريب فيه أصلا.
نعم لو فرض محالا بقاء الشك له بعد الفحص فالتمسك بالاستصحاب
- لعمل نفسه بالأحكام السابقة. إن كان الحكم الاستصحابي مجعولا في
الشريعتين، أو الجري على التكاليف الثابتة في شريعة موسى، من جهة أنه إما
تكليف واقعي له أو ظاهري - مما لا مانع له، ولا يضر ذلك أحدا. ولا ربط له
في ابطال مذهب الخصم وحقية مذهبه، كما هو ظاهر.
هذا إذا كان غرضه اثبات تكليف نفسه. واما إن كان غرضه الزام
الخصم - كما هو ظاهر قوله فعليكم إقامة الدليل الخ - فنقول من الأمور
المعتبرة في الاستصحاب المجعول في حقنا اليقين بأمر في الزمن السابق، والشك
في ذلك الامر في الزمن اللاحق. ونحن لو قطعنا النظر عن اخبار نبينا وكتابه
الذي أخبر بنبوة موسى، لا نعلم بوجود موسى، فضلا عن نبوته، ومع ملاحظة نبوة
محمد صلى الله عليه وآله وكتابه واخباره بنبوة موسى (ع) نعلم بنبوته، ونعلم بنسخه
أيضا، فكيف تلزم أيها اليهودي بالاستصحاب جماعة ليس لهم علم بالامر السابق
على تقدير، وليس لهم شك في انقطاع ذلك الامر على تقدير آخر.
الأصل المثبت
الامر السابع - ان نقض اليقين بالشك ليس امر اختياريا للمكلف، حتى
259

يقع مورد التكليف فالقضية - بعد القطع بعدم كون ظاهرها مرادا - محمولة بحكم
العرف على النهى عن النقض عملا فمحصل المعنى حرمة اليقين، ووجوب الابقاء في
حال الشك من حيث العمل فيختص مورد التكليف بما إذا كان لليقين السابق
- على فرض بقائه - عمل يصح للشارع ان يجعله موردا للتكليف، وحيث أن هذه
القضية وردت لرفع تحير المكلف من جهة تكليفه الواقعي، لزم أن يكون لليقين
السابق - على تقدير بقائه - عمل متعلق للتكليف الشرعي، وان لم يكن في
السابق كذلك، فخرج اليقين الذي لم يكن له - على تقدير بقائه - عمل أصلا،
وكذا ما لم يكن له عمل متعلق للتكليف الشرعي.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان المتيقن في السابق حكما من الأحكام الشرعية
متعلقا بموضوع من الموضوعات أو موضوعا خارجيا تعلق به الحكم
الشرعي، من دون واسطة فدخوله في مورد الاخبار ممالا اشكال فيه لان اليقين
بالحكم له عمل، وهو الاتيان بموضوع متعلق للحكم الشرعي. وكذا اليقين
بموضوع مورد للتكليف بلا واسطة، مثلا لو تيقن بكون مايع خمرا، فعمل هذا اليقين
من حيث الطريقية ترك شرب ذلك المايع، وابقاء عمل اليقين في الحالة الثانية
ترك شربه أيضا، فيرجع قوله لا تنقض اليقين بالشك - فيما لو كان المتيقن
وجوب الصلاة مثلا - إلى ايجاب الصلاة، وفيما لو كان كون المايع خمرا فشك فيه
إلى حرمة شربه، لان ترك الصلاة في الأول نقض لليقين بالوجوب عملا، وكذا
شرب ذلك المايع في الثاني.
وبهذا تعرف معنى ما هو المعروف من أن الاستصحاب في الأحكام الشرعية
عبارة عن جعل الحكم المماثل للمتيقن، وفى الموضوعات عبارة عن جعل
آثارها، مع وحدة الدليل الدال على ذلك فاضبطه فإنه حرى به ذلك.
ثم إن ما قلناه من أنه لا بد أن يكون لليقين عمل ليس المراد كون ذلك
العمل متعلقا للتكليف الشرعي مستقلا، بل المراد أعم منه ومن أن يكون له دخل
وربط بالموضوع المتعلق للحكم، بنحو من أنحاء الربط، كالقيد والشرط، فالميزان
أن يكون لليقين عمل بواسطة الشرع، سواء كان من جهة كون شئ موضوعا
260

للتكليف مستقلا، أو من جهة دخله في الموضوع بنحو من الأنحاء، ضرورة أن تقيد
مورد الأدلة بالصورة الأولى مما لا وجه له أصلا، لان مقتضى العموم عدم جواز
نقض كل يقين له عمل يصح للشارع أن يحكم به.
واما إن لم يكن المتيقن في السابق حكمها من الأحكام الشرعية،
ولا موضوعا رتب عليه الحكم شرعا بلا واسطة، فهو على أنحاء: (أحدها) مالا
ينتهى إلى اثر شرعي أصلا. و (الثاني) ما ينتهى إليه بنحو من الأنحاء، لا اشكال في
خروجه الأول من الأدلة. واما الثاني فهو على اقسام، وكلها يسمى بالأصول
المثبتة، لكن يختلف بعضها مع بعض في الخروج عن مورد الأدلة وضوحا
وخفاءا.
(أحدها) ما ينتهى بواسطة اللوازم العادية أو العقلية إلى اثر شرعي.
و (الثاني) ما ينتهى بواسطة الملازمة بينه وبين شئ آخر، إما عقلا وإما
عادة وإما اتفاقا إلى اثر شرعي.
و (الثالث) ما يكون ملزومه اثرا شرعيا أو موضوعا لاثر شرعي.
و (الرابع) أن يكون لازمه اثرا شرعيا، ولكن لم يكن ترتبه على ذلك
الموضوع بشرعي، كما لو أحرز مقتضى الوجوب، وشك في المانع، فأصالة عدم
المانع - وان كان يترتب عليها الوجوب وهو حكم شرعي - لكن ترتب هذا
الحكم على وجود المقتضى وعدم المانع ترتب عقلي كما لا يخفى
. و (الخامس) أن يكون المستصحب أو اثره من الأمور الانتزاعية التي
منشأ انتزاعها بيد الشرع، كاستصحاب الشرطية أو عدمها أو المانعية أو عدمها، بناءا
على عدم كونها من الأمور المجعولة في حد ذاتها، كما هو التحقيق، أما خروج
الثاني والثالث عن مورد الأدلة فظاهر، فان الابقاء العملي للشئ ليس اخذا
بملازمه أو اثر ملازمه في الوجود أو ملزومه.
أما الرابع فقد يتوهم شمول دليل الاستصحاب له، من جهة أن الحكم
الشرعي وان كان ترتبه بحسب الواقع عقليا،: إلا أنه يمكن أن يرتبه الشارع عند
الشك، فان العقل غير حاكم بترتب الأثر عند الشك في المانع، فالحكم به في
261

حال الشك ليس خارجا عن وظيفة الشارع.
وفيه أن عنوان عدم المانع وجوده كالمقتضي بعنوانه، (110) وكذا العلة
ليس له اثر حتى عقلا، فان مثل تلك العناوين إنما تنتزع من تأثير شئ بعنوانه
الخاص في شئ، لان الآثار تتحقق بها. وهذا واضح جدا.
وأما الخامس فلا يبعد دخوله في الأدلة، حيث أن الحكم ببقاء ما هو
من قبيله بجعل منشأ انتزاعه، فهو مما تناله يد التصرف. وليس خارجا عن وظيفة
الشارع. ودعوى انصراف الاخبار عن مثله ليس لها وجه. والمسألة محل تأمل.
وأما القسم الأول، فالتحقيق فيه عدم دخوله في الاخبار، وعدم شمولها
له، لان الابقاء العملي للشئ ينصرف إلى اتيان ما يقتضيه ذلك الشئ
بلا واسطة.
فان قلت لو تيقن بشئ ليس له اثر إلا بواسطة الوسايط، فمقتضى أصالة
الاطلاق في لفظ اليقين الحكم بدخول هذا المتيقن أيضا فيحكم بوجوب ترتيب
الآثار مع الواسطة، لانحصار الأثر فيها، بالفرض. وإذا صح في ذلك يتم في غيره.
لعدم القول بالفصل.
قلت: قد قلنا: إن المراد من نقض اليقين في القضية هو النقض العملي،
262

فكما تصرف بحكم الأدلة الاقتضاء إلى ذلك، تصرف بحكم الانصراف إلى ما
يكون نقضا عمليا لنفس المتيقن ابتداءا، لا بواسطة الوسايط، فاليقين بأمر ليس له
اثر شرعا، بل ينتهى بالوسائط إلى اثر شرعي ليس له نقض عملي، على نحو ما
تنصرف إليه القضية، فلا تشمله.
ومن هنا يظهر أنه لا يتفاوت الامر بين ان يكون هناك لفظ يدل
عموم افراد اليقين وضعا، أو لا يكون الا اطلاق لفظ اليقين، إذ الدعوى المذكورة
تتعلق بانصراف المادة، فلو كانت مدخولة للفظ الكل أيضا، لما دل الا على
إحاطة افراد ما دلت عليه المادة.
إن قلت: فعلى ما ذكرت لا يمكن اثبات اللوازم الشرعية الثابتة مع
الواسطة في صورة قيام الامارة أو الطريق على شئ، فان معنى قول الشارع
- صدق العادل أو اعمل بالبينة - ليس الا جعل المؤدى بمنزلة الواقع فيما يترتب
عليه، وإذا لم يكن لما أخبر به العادل اثر شرعا، بل ينتهى بواسطة اللوازم العادية
أو العقلية إلى اثر شرعي فمقتضى ما ذكرت في دليل الاستصحاب أن لا يشمله
دليل الحجية هنا أيضا، لان العمل بالأثر الشرعي المفروض ليس اخذا بمفاد
خبر العادل ابتداءا.
قلت: الوجه في ذلك أن الطرق والامارات إنما اعتبرت من جهة كشفها
عن الواقع، وافادتها الظن النوعي به: ولا إشكال في أن ما يكشف عن الملزوم
يكشف عن اللازم، بعد العلم بالملازمة، فالظن النوعي المتعلق باللازم ظن
حاصل من تلك الامارة، ودليل حجيتها دل على اعتبار الظن النوعي الحاصل
منها، فهنا فردان من الكشف الحاصل منها، فان كان كل منهما قابل للاعتبار،
يشملهما دليل الحجية، وإن كان أحدهما دون الآخر، يدخل هو تحت دليل
الحجية، دونه.
وبهذا يظهر أنه لو كان مفاد الامارة ابتداء أمرا لم يكن شرعيا،
ولا موضوعا لاثر شرعي، ولكن ينتهى إلى اثر شرعي بألف واسطة، يثبت ذلك
الأثر الشرعي، لان الامارة تكشف عن وجود ذلك الأثر ويصير مظنونا بالظن
263

النوعي الحاصل من تلك الامارة، ولا يتوقف اثبات هذا الأثر الشرعي على
اعتبار الامارة في الوسايط، حتى يستشكل بأنها ليست قابلة لان يعتبر فيها الامارة
بل دليل الحجية يشمل الكشف الحاصل من تلك الامارة عن الأثر الشرعي
ابتداءا.
ومن هنا يظهر الجواب عن شبهة، ربما يتوهم ورودها على الحكم بنفي
الثالث بالخبرين اللذين تعارض مدلولهما. وحاصل الشبهة أن دلالة كل منهما
على نفى الثالث دلالة التزامية، وبعد سقوطهما في المدلول المطابقي، وعدم
حجيتهما فعلا فيه، كيف يؤخذ بمدلولهما الالتزامي الذي هو تبع لمدلولهما
المطابقي؟.
وحاصل الجواب - على ما عرفت هنا - ان كشف كل منهما عن
المعنى الالتزامي، وان كان تبعا للكشف عن المطابقي في الوجود، ولكن ليس تبعا
له في الاعتبار والحجية، لان كلا منهما كشف حاصل من الخبر، فسقوط
الكشف الأول - عن الحجية بواسطة المعارض - لا يلازم سقوط الثاني.
ومن هنا يعلم وجه أخذ ما يلازم مفاد الامارة في الوجود، سواء كانت
الملازمة عادية أو عقلية أو اتفاقية.
ومن هنا يعلم أيضا أنه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن، لم
يكن مناص من القول بالأصل المثبت، لعدم انفكاك الظن بالملزوم عن الظن
باللازم، والظن بأحد المتلازمين عن الظن بالآخر.
اللهم إلا ان يقال بان بناء العقلا على اعتبار الظن بالبقاء الحاصل من
الكون السابق، لا الظن، بحدوث امر يلازم بقاء ذلك الشئ. وعلى هذا يحمل
عدم ذهابهم إلى حجية الأصل المثبت، مع أن بناء المعظم على حجيته من
باب الظن.
وكيف كان فبناءا على التحقيق - من اخذ الاستصحاب من
الاخبار - يجب ان يقتصر في مورده على ما إذا كان المستصحب حكما شرعيا، أو
موضوعا لحكم شرعي من دون واسطة امر عادى أو عقلي. نعم يستثنى من ذلك
264

ما إذا كانت الواسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسايط
الخفية. والسر في ذلك أن العرف لا يرى ترتب الحكم الشرعي على تلك
الواسطة، بل يراه مرتبا على نفس المستصحب وخطاب لا تنقض اليقين بالشك
- كسائر الخطابات - تعلق بالعنوان، باعتبار مصاديقه العرفية لا الواقعية العقلية،
ولذا لا يحكم بواسطة دليل نجاسة الدم بنجاسة اللون الباقي منه، بعد زوال العين،
مع أنه من افراد الدم بنظر العقل والدقة، بواسطة استحالة انتقال العرض.
فما يتوهم - من أن المسامحة العرفية بعد العلم بخطأهم - لا يجوز الاعتماد
عليها، وأن المقام من هذا القبيل - ناش عن عدم التأمل، فان المدعى ان مورد
الحكم بحسب الدقة هو المصاديق العرفية. نعم لو ترتب حكم على عنوان باعتبار ما
هو مصداقه بحسب الواقع، لا يجوز الاعتماد على ما يراه العرف مصداقا، من باب
المسامحة. وهذا واضح جدا.
واستثنى شيخنا الأستاذ دام بقاه أيضا ما إذا كانت الملازمة بين الشيئين
جلية، بحيث يستلزم التنزيل في أحدهما التنزيل في الآخر، كالأبوة والبنوة، وهو
كلام في غاية المتانة، ولا يجب أن يكون لكل منهما اثر حتى يصح بلحاظ
التنزيل، بل وضوح الملازمة بينهما صار بحيث يعد اثر كل واحد منهما اثرا
للآخر، كما لا يخفى.
ثم إنه لا باس بالإشارة إلى بعض الموارد التي توهم كونه من الأصول
المثبتة. وقد ذكرها شيخنا الأستاذ دام بقاه وأجاب عنها:
(منها) - ما لو نذر التصدق بدرهم ما دام ولده حيا، حيث توهم أن
استصحاب حياته - في يوم شك فيها لاثبات وجوب التصدق بدرهم - مثبت
لعدم ترتب الأثر الشرعي على حياة الولد في دليل من الأدلة، بل موضوع الوجوب
هو الوفاء بالنذر، وحياة الولد توجب أن يكون الدرهم المتصدق به وفاءا للنذر.
ومثل هذا الاشكال جار في استصحاب حياة زيد لاثبات وجوب الانفاق من
ماله على زوجته، لان حياة زيد ليست موضوعة في الدليل، بل الحكم مرتب على
265

الزوج، وزيد على تقدير حياته يوجب تحقق عنوان الزوجية، وهو موضوع لوجوب
الانفاق وأمثال ذلك - مما لا يسع لذكره المجال - كثيرة.
وقد أجاب عنه دام بقاه بقوله: (والتحقيق في دفع هذه الغائلة أن
يقال: إن مثل الولد في المثال، وإن لم يترتب على حياته اثر شرعي في خصوص
خطاب، إلا أن وجوب التصدق قد رتب عليه، لعموم الخطاب الدال على وجوب
الوفاء بالنذر، فإنه يدل على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص، على ما
التزم به من قيوده وخصوصياته، فإنه لا يكون وفاءا لنذره إلا ذلك.
وبالجملة إنما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشايع،
وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس الا ما التزم به بعنوانه بخصوصياته،
فيكون وجوب التصدق بالدرهم ما دام الوالد حيا في المثال مدلولا عليه بالخطاب،
لأجل كون التصدق به كذلك وفاءا لنذره، فاستصحاب حياة الولد لاثبات
وجوب التصدق غير مثبت، ووجه ذلك - أي سريان الحكم من عنوان الوفاء
بالوعد أو العهد أو النذر وشبهه من الحلف والعقد إلى تلك العناوين الخاصة
المتعلق بها أحد هذه الأمور حقيقة - هو أن الوفاء ليس إلا أمرا منتزعا عنها،
وتحققه يكون بتحققها. وانما اخذ في موضوع الخطاب ذلك دونها، لأنه جامع
لها مع شتاتها وعدم انضباطها، بحيث لا تكاد ان تندرج تحت ميزان أو يحكى عنها
بعنوان غيره جامع ومانع كما لا يخفى.
وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك،
للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها، كالمقدمية والضدية، ونحوهما. ولأجل ذلك
يكون النهى المتعلق بالضد - بناء على اقتضاء الامر بالشئ له - من باب النهى في
المعاملة والعبادة، لا من باب اجتماع الأمر والنهي.
(لا يقال): إن الغصب مثلا له عنوان منتزع، فكيف إذا اجتمع مع
الصلاة يكون من باب اجتماع الأمر والنهي لا النهى في العبادات والمعاملات؟
(لأنا نقول): إن الغصب وإن كان منتزعا إلا أنه ليس بمنتزع من الافعال
بما هي صلاة، بل بما هي حركات وسكنات، كما ينتزع منها عنوان الصلاة
266

أيضا. وهذا بخلاف عنوان الضد، فإنه منتزع عن الصلاة بما هي صلاة، فيما
إذا زاحمت هي كذلك واجبا مضيفا، فإذا اقتضى الامر به النهى عن ضده،
يكون النهى متعلقا بالصلاة، فاحفظ ذلك، فإنه ينفعك) انتهى ما افاده دام بقاه
بألفاظه.
أقول: إن أراد أن عنوان الوفاء بالنذر ليس له دخل في المطلوبية، بل
المطلوب في نفس الامر هو العناوين الخاصة بخصوصياتها، وإنما جئ بهذا
العنوان لمجرد الاحتواء على المطلوبات الخاصة، نظير (هؤلاء) في قولك (أكرم
هؤلاء) كما هو ظاهر كلامه، ففيه أنه من المعلوم أن إعطاء الدرهم على تقدير
حياة الولد إنما وجب لكونه مصداقا للوفاء بالنذر، لا لخصوصية فيه، مع قطع
النظر عن هذا العنوان. وإن أراد أن الحكم المتعلق بهذا العنوان يسرى إلى
مصاديقه التي منها إعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد، فهو حق لا ريب فيه، إلا
أنه لا اختصاص لهذا الكلام بالعناوين المذكورة في كلامه من الوفاء بالنذر
والعهد وأمثال ذلك، بل الأحكام المتعلقة بكل عنوان تسرى إلى مصاديقه، وان
كان من العناوين التي يضاف الوجود إليها في الخارج، كالانسان. مثلا.
(والأولى) في الجواب أن يقال: إن الوفاء بالنذر - كسائر العناوين -
إذا تعلق به الحكم يسرى إلى مصاديقه في الخارج ومن مصاديقه إعطاء
الدرهم على تقدير حياة الولد بعد الالتزام بذلك، فاعطاء الفقير الدرهم على تقدير
حياة الولد متعلق للتكليف للشرعي، من حيث كونه مصداقا للنذر، فإذا شك في
حياة الولد تستصحب ويترتب عليها الحكم بلا واسطة.
ومنها - استصحاب وجود شرط شئ أو عدم مانعه أو بالعكس، إذ
يتخيل أنه لا اثر شرعا يترتب على وجود أحدهما. والشرطية والمانعية من
الأحكام الوضعية، وهي على التحقيق غير مجعولة، وجواز الدخول في المشروط
والممنوع وعدم جوازه ليس بشرعيين، بل عقليان لاستقلال العقل بهما.
والجواب أنه إن أراد استصحاب مصداق الشرط والمانع، أعني ما جعله
الشارع شرطا أو مانعا، سواء اعتبر في المكلف به، مثل الطهارة والحدث، أم
267

في التكليف كالزوال ومثله، فلا اشكال في صحة الاستصحاب بل مورد بعض
اخبار الباب هو استصحاب الطهارة إذ كما أن تقييد موضوع الحكم بالطهارة
وظيفة للشارع، كذلك الاكتفاء بالطهارة المشكوك فيها أو عدم الاكتفاء بها
وكذلك جعل الحكم المشروط بشرط لم يعلم تحققه، عند اقتضاء الاستصحاب
تحققه أو عدم جعله عند اقتضاء الاستصحاب عدم تحققه.
والحاصل أنه كما أن ايجاب الصلاة المقيدة بالطهارة وظيفة للشارع،
كذلك الاكتفاء بالصلاة مع الطهارة المشكوكة التي علم بتحققها سابقا أيضا
وظيفة له. وكما أن ايجاب اكرام العالم بشرط العدالة وظيفة للشارع كذلك
ايجاب اكرام العالم المشكوك عدالته، بعد ما علم سابقا بها أيضا وظيفة له.
ولا اشكال في شئ من ذلك.
وان أراد استصحاب عنوان الشرطية والمانعية أو عدمهما، فله وجه، من
حيث أن هذه العناوين ليست بمجعولة في حد أنفسها، ولا تكون موضوعة لاثر
شرعي، مع امكان ان يقال بصحة الاستصحاب فيما ذكر أيضا، لأنه وإن كان
غير مجعول ولا موضوعا لاثر شرعي، إلا أنه يكفي في شمول أدلة الاستصحاب لشئ
كونه بحيث تناله يد التصرف من قبل الشرع، ولو بان يجعل ما هو منشأ لانتزاعه.
وعلى هذا أيضا لا فرق في صحة الاستصحاب، بين ما لوحظت هذه العناوين في
المكلف به، أو في التكليف. وعبارة شيخنا الأستاذ دام بقاه في المقام لا تخلو من
اضطراب فراجع.
ومنها - الاستصحاب في الموضوعات الخارجية، بتوهم أنه لا اثر لها شرعا إلا
بواسطة انطباق العناوين الكلية عليها، ضرورة أن الأحكام الشرعية لها
لا للموضوعات الخارجية الشخصية، فيكون اثباتها بملاحظة تلك الأحكام مثبتا.
وهذا الايراد نقله شيخنا الأستاذ في تعليقته عن بعض الأعاظم من معاصريه.
أقول: يحتمل أن يكون مراده أن الجزئي الخارجي لم يترتب عليه حكم
في الشرع، بل إنما يسرى الحكم إليه عقلا، للانطباق، فترتب الحكم على
الجزئي الخارجي عقلي لا شرعي. ويحتمل أن يكون مراده أن الأعيان الخارجية
268

كالخمر ونحوها ليست بنفسها موضوعة للحكم التكليفي، ضرورة أن موضوع
التكليف إنما هو فعل المكلف، فالحرام شرب الخمر مثلا لا نفسها، فكون المايع
المخصوص خمرا، لا يترتب عليه شئ إلا كون شربه شرب الخمر، وهو موضوع
للحرمة، فاستصحاب خمرية شئ لاثبات أن شربه شرب الخمر من الأصول
المثبتة.
(والجواب) أن كون المايع الخارجي خمرا موجب لصيرورته حراما بنفس
الحرمة المجعولة المتعلقة بشرب الخمر، لان الحكم المتعلق بالعناوين الكلية
عين الحكم المتعلق بجزئياتها، فالمايع الخارجي - على تقدير كونه خمرا - يكون
شربه حراما، لاتحاد شربه مع شرب الخمر. وهو واضح. هذا تمام الكلام في
المقام.
مجهولي التاريخ
الامر الثامن - أنه لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع
في الزمان اللاحق رأسا، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق،
مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء، وهو الذي يعبر عنه بأصالة تأخر الحادث.
والمقصود أن الحادث الذي نقطع بوجوده في زمان، ونشك في مبدأ وجوده،
فمقتضى الاستصحاب عدم تحققه في الأزمنة التي يشك فيها، فيرتب عليه آثار عدمه
في تلك الأزمنة، وان لم تترتب عليه آثار حدوثه، فيما بعد تلك الأزمنة، لان حدوثه
فيه لازم عقلي للعدم في تلك الأزمنة، ومطلق وجوده المعلوم بالفرض. إلا أن يقال
إن الحدوث في زمان خاص ليس عنوانا بسيطا متحققا من أصل وجوده فيه
وعدمه فيما قبل، بل هو عبارة - ولو عند العرف - عن الوجود في ذلك الزمان
مقيدا بعدمه في الأزمنة السابقة، فيصير كسائر الموضوعات المقيدة التي يمكن احراز
قيدها بواسطة الأصل.
وكيف كان فلا إشكال في اثبات الآثار الشرعية المترتبة على عدم
الحادث المفروض في الأزمنة المشكوك فيها، إن كان لعدم ذلك اثر شرعي.
269

هذا حال الحادث المعلوم وجوده في زمن، وشك في مبدأ وجوده بالنسبة
إلى نفسه. وأما حاله بالنسبة إلى حادث آخر، كما إذ علم بحدوث حادثين،
وشك في تقدم أحدهما على الآخر، فاما أن يجهل تاريخهما أو يعلم تاريخ
أحدهما. وأما لو علم تاريخ حدوث كل منهما، فلا يبقى للشك فيه مجال، فهو
خارج عن محل الكلام.
أما في صورة الجهل بتاريخ كليهما، فأصالة عدم كل منهما في الأزمنة
المشكوكة التي فيها زمان حدوث الآخر وان كانت جارية في حد ذاتها، (111)
إلا أنها معارضة بالمثل إن كان لعدم كل منهما في زمن حدوث الآخر اثر
شرعي، وإن كان الأثر لعدم أحدهما بالخصوص، فيجرى فيه بلا معارض.
وأما إذا كان تاريخ أحدهما معلوما والآخر مشكوكا، فيجرى الأصل في
مجهول التاريخ ويحكم بعدمه في الأزمنة المشكوكة التي فيها زمن وجود معلوم
التاريخ إن كان لذلك العدم في زمنه اثر شرعي. ولا يجرى الأصل في طرف
معلوم التاريخ، للعلم بعدمه قبل ذلك الزمان المعين الذي قطع بوجوده. والعلم
بانقطاع ذلك العدم في ذلك الزمان، فليس له زمان شك في بقاء عدمه. نعم
وجوده الخاص، أعني وجوده المقارن لوجود ذاك مشكوك فيه، فيمكن
270

استصحاب عدمه بنحو ليس التامة، لأنه مسبوق بالعدم الأزلي، فيترتب عليه الأثر
إن كان له أثر بهذا النحو من الوجود.
وأما إن كان الأثر لعدمه في مورد الوجود المفروض للآخر بنحو ليس
الناقصة، فليس له حالة سابقة، لان أصل وجوده معلوم في زمان معلوم. وأما كون
هذا الوجود في زمان وجود الآخر فلا يعلم نفيا واثباتا. مثاله: لو علم بحدوث
ملاقاة النجس الماء المعين في يوم الخميس، وعلم بصيرورته كرا، لكن لا يعلم تاريخ
كريته، فيحتمل كونه كرا في يوم الخميس، ويحتمل صيرورته كرا في يوم
الجمعة، فاستصحاب عدم الكرية في زمن الشك - أعني يوم الخميس الذي
هو زمان حدوث الملاقاة - لا اشكال فيه، فتكون ملاقاة النجاسة للماء الذي لم
يكن كرا، - في يوم الخمس - محرزة. أما ملاقاته فبالوجدان. وأما عدم كريته
في زمن الملاقاة أعني يوم الخميس فبالأصل، فيعامل هذا الماء معاملة الماء
الذي لاقى نجسا ولم يكن كرا في زمن الملاقاة.
وأما استصحاب عدم الملاقاة فان أريد استصحابه من دون إضافة إلى
الآخر، فهو باطل قطعا، إذ ليس لها زمان شك في وجودها وعدمها، لأن المفروض
أن مبدأ وجودها وانقطاع عدمها معلوم، وإن أريد استصحابه مع
الإضافة إلى الآخر، بأن تلاحظ الملاقاة المتحققة في زمن الكرية ويستصحب
عدمها، لان الوجود الخاص غير معلوم، وإن كان مطلق الوجود معلوما، فهو مبنى
على كون الأثر مرتبا على الوجود الخاص على نحو كان التامة.
271

وأما إذا كان الأثر مرتبا عليه على نحو الوجود الربطي بمعنى أن الملاقاة لها
اثر شرعي إذا وقعت في زمن وقوع الكرية المفروض وجودها، وكذا عدم الملاقاة،
فليس للملاقاة على هذا النحو ولا لعدمها حالة سابقة، لعدم العلم بأنه في زمن
الكرية وقعت الملاقاة أو لم تقع، بخلاف مجهول التاريخ، مثل الكرية في المثال،
فإنه يمكن اثبات عدمها، وان كان الأثر مرتبا على العدم المرتبط بالوجود الآخر
على نحو ليس الناقصة، لان الكرية بهذا النحو وان لم تكن مسبوقة بالعدم، بحيث
يمكن ان يكون المستصحب هو عدم الكرية بهذا النحو، إلا أن استصحاب عدم
الكرية - مع قطع النظر عن اضافتها إلى الملاقاة - يكفي في اثبات عدمها
الربطي، لان مقتضاه عدمها في يوم الخميس الذي هو أحد الأزمنة المشكوكة،
وهو أيضا زمن الملاقاة بالفرض، فيصح ان يقال انه في يوم الخميس وقعت
الملاقاة وهو غير كر. وهذا واضح لا سترة عليه.
ولشيخنا الأستاذ دام بقاه في المقام - ردا على شيخنا المرتضى
قدس سره - كلام لا بأس بذكره والنظر فيه، قال دام بقاه عند قول شيخنا
المرتضى قدس سره في مجهولي التاريخ: (إن أصالة عدم أحدهما في زمان
حدوث الآخر معارضة بالمثل) ما هذا لفظه:
(لا يخفى أنه لا مجال لأصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر في
نفسها، مع قطع النظر عن المعارضة بها في الآخر، للقطع بوجود كل منهما في
زمان. وأما أنه كان في زمان الآخر وإن كان مشكوكا، إلا أنه غير مسبوق
بالعدم، فإنه حدث إما فيه أو في غيره من زمان سبقه أو لحقه.
وبالجملة ما ذكره في دفع جريان الأصل في طرف المعلوم ومعارضته في
طرف المجهول به من قوله قدس سره ويندفع (إلى آخره) جار ههنا في الطرفين.
والتحقيق حسبما يساعد عليه التدقيق، أن الغرض إن كان متعلقا بمجرد عدم
أحدهما في زمان الآخر فالأصل في نفسه يجرى في الطرفين مطلقا ولو كان
أحدهما معلوم التاريخ، ضرورة أن وجودهما الخاص وهو الوجود في زمان الآخر
مشكوك الحدوث، لاحتمال ان لا يوجدا به، وان علم تحققهما بوجود ما،
272

فيكون مسبوقا بالعدم، فيستصحب لمكان أركان الاستصحاب بلا ارتياب، حتى
فيما علم زمان حدوث أحدهما، وكون وجود كل منها معلوما لا ينافي الشك
في تحققه بوجود خاص، وهو الجود في زمان الآخر المسبوق بنقيضه، وهو سلب
هذا الوجود الخاص ونفيه في الأزل، فليتعبد به باستصحابه ما لم يعلم بانقلابه.
وان علم بانقلاب عدمه في الجملة - إلى أن قال - وان كان الغرض متعلقا بأنه
لم يكن وجوده الثابت في زمان معلوم أو مجهول في زمان الآخر أو كان فلا مجال
للأصل أصلا، فان الوجود المحقق في كل واحد منهما المشكوك كونه في زمان
الآخر غير مسبوق بعدم كونه فيه، بل إما حدث مسبوقا أو ملحوقا أو فيه.
وأما سبق وجود مجهول التاريخ في زمان معلومه بالعدم، فهو أيضا بالنسبة
إلى أصل تحققه لا بالنسبة إلى وجوده المعلوم فإنه اما كان في زمان معلوم التاريخ
أو في زمان آخر، فلم يكد يكون مسبوقا بعدم كونه في زمانه، ثم شك في أنه على ما
كان، فيستصحب العدم. وانما يصح استصحاب عدم وجوده الخاص، وهو
وجوده فيه. كما مر.
وبالجملة لا حالة سابقة في البين لو شك في أنه متى كان وجود أحد
الحادثين اللذين كان كل منهما مجهول التاريخ، أو كان أحدهما وتعلق الغرض
بتعيين ذلك، وأنه كان في زمان الآخر، أو في زمان آخر، فلا استصحاب.
والحالة السابقة إنما تكون لو شك في أنه هل تحقق بوجود خاص - وهو وجوده
في زمان الآخر الذي هو مفاد كان التامة من دون نظر إلى وجوده المحقق، وأنه
متى كان الذي هو مفاد كان الناقصة - لما عرفت من احتمال عدم تحققه به،
وان تحقق بوجود آخر فلا مانع من استصحابها في أحدهما الا استصحابها
في الآخر، فيجرى لولا هذه المعارضة) انتهى ما أردنا من نقل كلامه دام بقاه.
أقول المقصود في المقام كون الحادثين على نحو - لو فرض عدم وجود كل
منهما في زمان الثبوت المفروض للآخر - يترتب عليه اثر. وعلى هذا لو فرضنا أن
كليهما لي التاريخ، يتعارض الأصل في كل منهما ولو فرض أحدهما معلوم
التاريخ دون الآخر، يجرى الأصل في مجهول التاريخ، أعني أنه يستصحب عدمه
273

لي زمن وجود هذا المعلوم ففي كلا القسمين مجرى الاستصحاب محقق، من
جهة تحقق اليقين في السابق والشك في اللاحق، إلا أنه في القسم الأول معارض
بالمثل، وفى الثاني لا معارضة.
أما بيان أن مجرى الأصل محقق في كلا القسمين - مع أن الأثر مرتب على
عدم كل منهما في زمان الثبوت الخارجي المفروض للآخر، ولا حالة سابقة لعدم
واحد منهما على هذا النحو، لان أصل الوجود للآخر، معلوم. وأما كونه مقارنا
مع عدم الآخر أو وجوده فليس مما له حالة سابقة - هو ان المستصحب ليس
العدم في زمان وجود الآخر بلحاظ هذا المجموع، حتى يقال بعدم الحالة السابقة
لهذه السالبة، بل المستصحب نفس عدم ذلك الحادث، فيحكم ببقائه إلى زمان
الثبوت الخارجي لحادث آخر ففي زمان الثبوت الخارجي للآخر، يتحقق
ما هو الموضوع للأثر الشرعي، وهو وجود حادث في حال عدم الآخر، الأول
منهما وجدانا والآخر تعبدا.
مثلا لو فرضنا ترتب الأثر على ملاقاة النجس للماء في حال عدم كونه
كرا، فلو تيقن بتحقق الملاقاة وشك في الكرية، مع العلم بعدمه في السابق،
فلا اشكال في اثبات عدم الكرية حال الملاقاة بالأصل، وإن لم يكن لعدم الكرية
- بهذا العنوان أعني حال الملاقاة - حالة سابقة، لان المستصحب نفس عدم
الكرية المعلوم سابقا، فتتم - باستصحاب بقاء ذلك العدم إلى زمان الملاقاة -
اجزاء الموضوع للحكم الشرعي بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد فظهر أن مجرى
الاستصحاب محقق في كلا القسمين.
وأما التفصيل - الذي قلنا بان الأصلين يتعارضان في مجهولي التاريخ
بخلاف ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ، فيجرى الأصل في مجهوله - فبيانه أنه
بعد فرض أن لكل من الحادثين اثرا في حال عدم الآخر، ففي مجهول التاريخ
يحتمل انتقاض عدم كل منهما قبل الآخر وبعده، ففي حال وجود كل منهما
يحتمل بقاء عدم صاحبه، وعدم انتقاضه بالوجود، فيتعارض الأصلان.
وأما لو كان أحدهما معلم التاريخ، كما لو علم بحدوث الملاقاة في أول
274

يوم الجمعة، وشك في أن الكرية هل حدثت قبله أو بعده مثلا فاستصحاب
عدم الكرية - إلى أول يوم الجمعة الذي هو زمان ثبوت الملاقاة الخارجي -
لا مانع منه. واما الاستصحاب في طرف الملاقاة المعلوم مبدأ حدوثها، فلا يمكن،
لعدم زمان شك في بقاء عدمها، لأنها قبل يوم الجمعة كانت معدومة قطعا، وفى
أول يوم الجمعة انتقض عدمها بالوجود قطعا، فلم يبق في البين زمان يشك في بقاء
عدم الملاقاة حتى يستصحب.
نعم كون الملاقاة في زمن الكرية مشكوك فيه، إلا أنها على هذا النحو ليس
لها حالة سابقة إن أريد اثباتها أو نفيها على نحو الربط، وان لم يرد على النحو
الربطي، فيمكن استصحاب عدم هذا الوجود الخاص أعني الملاقاة في زمن
الكرية، إلا أن هذا الاستصحاب محكوم، لان منشأ الشك في وجود هذا الخاص
هو أن أول يوم الجمعة الذي هو مبدأ وجود الملاقاة هل كان كرا أولا، فلو كان
الأصل جاريا في الخصوصية تتعين حال هذه الملاقاة باحراز أصلها وجدانا،
وقيدها تعبدا.
ولعمري إن ما قلناه واضح وإن اشتبه على من لا يليق لمثله هذا لاشتباه،
وكانه دام بقاه توهم - من عبارة الشيخ قدس سره في بيان تساقط الأصلين في
مجهولي التاريخ (واما أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر، فهي معارضة بالمثل)
- أن المقصود اجراء الأصل في عدم أحدهما في زمن الآخر، ملاحظا كونه في
زمن الآخر جزءا للمستصحب، لكنه من الواضح أن مراده قدس سره ليس
ذلك، بل هو ما ذكرنا فتأمل في المقام تجد صدق ما ادعيناه. هذا.
هل يؤخذ بالعام أو باستصحاب حكم المخصص
الامر التاسع - أن الدليل الدال على الحكم، لو دل عليه في الزمان الثاني
اثباتا أو نفيا، فلا اشكال في عدم جريان الاستصحاب لان مورده عدم وجود الدليل،
الاجتهادي. انما الكلام في أنه لو كان لنا عام يدل على ثبوت الحكم لافراده، ثم
خرج منه فرد في زمان، ففي ما بعد ذلك الزمان هل يرجع إلى استصحاب حكم
275

المخصص أو إلى عموم العام؟ مثلا لو قال أكرم العلماء، ثم علمنا بالاجماع عدم
وجوب اكرام زيد في يوم، ففي ما بعد ذلك اليوم هل يرجع إلى استصحاب عدم
وجوب الاكرام، أو إلى عموم أكرم العلماء؟
وملخص الكلام في المقام: أنه إن لاحظ المتكلم بالقضية قطعات الأزمنة
افرادا، كما لو قال: أكرم العلماء في كل زمان، فلا شبهة في أنه إذا خرج فرد في
زمان، يحكم بدخوله في حكم العام فيما بعد ذلك الزمان، سواء جعل تلك
القطعات بحسب اعتبار الدليل قيد الفعل المأمور به أم ظرفا للنسبة الحكمية، فإنه
على الفرض الأول يصير الاكرام بالنسبة إلى كل فرد من افراد العام متعددا
بالنسبة إلى الأزمنة، فاكرام زيد في يوم الجمعة فرد من افراد العام، وفى يوم
السبت فرد آخر، وهكذا. وعلى الثاني تصير نفس القضية متعددة بتعدد افراد
الزمان، فكأن المتكلم في كل زمان تكلم بهذه القضية. ولا شبهة في أن خروج
زيد يوم الجمعة لا يوجب سقوط القضية عن الحجية فيما بعده على التقديرين،
فإنه على الأول اكرام زيد في يوم الجمعة فرد من الاكرام واكرامه في يوم
السبت فرد آخر، خرج من العموم فرد، فيتمسك في الباقي بأصالة العموم. وعلى
الثاني القضية في حكم القضايا المتعددة، فكأنه صدرت من المتكلم قضية في يوم
الجمعة فخرج منها زيد، وأيضا صدرت منه تلك القضية في يوم السبت، ولم
يعلم بخروجه، من تلك القضية الثانية.
والحاصل أن المقام مقام الاخذ بالعموم دون الاستصحاب، بل قال
شيخنا المرتضى قدس سره إنه في هذا المورد لم يجز التمسك بالاستصحاب، وان لم
يتمسك بعموم العام أيضا، لكن فيما افاده نظر، لان المانع من الاخذ
بالاستصحاب - مع قطع النظر عن العموم - ليس الا عدم اتحاد الموضوع،
والموضوع في الاستصحاب - بعد عدم اخذه من العقل كما سيجئ - إما
مأخوذ من الدليل، وإما من العرف، فان اعتبرنا الأول، فالمعيار هو الموضوع المأخوذ
في الحكم المستصحب. وربما يكون الزمان قيدا بحسب الدليل الدال على العموم،
وظرفا للحكم بحسب الدليل الدال على المخصص. وان اعتبرنا الثاني فالامر
276

أوضح فإنه قد يكون الزمان بالنسبة إلى دليل الحكم المستصحب أيضا قيدا، لكن
العرف يراه ظرفا للحكم مع ما عرفت من عدم ملازمة ملاحظة الأزمنة افرادا مع
كونها قيدا للمأمور به، لما مضى من وجه آخر أيضا.
هذا على تقدير ملاحظة الأزمنة افرادا. وأما على تقدير عدم ملاحظة
ذلك، فظاهر أن الحكم في القضية المفروضة يتعلق بكل فرد ويستمر ذلك
دائما حيث إنه لم يحدده بحد خاص، ولم يقيده بزمان خاص بالفرض، فإذا خرج
الفرد من تحت العام في زمان لم يكن العام دليلا على دخوله في الزمان الآتي، لأن
دلالة العام على استمرار الحكم المتعلق بالفرد فرع دلالته على نفس الفرد فإذا
خرج الفرد من تحته يوم الجمعة، فانى لنا بالعموم الذي يشمل ذلك الفرد يوم
السبت؟ حتى يشمله الحكم ويحكم باستمرار ذلك الحكم أيضا من أول
يوم السبت.
والحاصل أنه على الفرض الأول كان الفرد الخارج يوم الجمعة فردا،
والفرد الذي يتمسك بالعموم له في السبت فردا آخر، أو كان لنا في يوم الجمعة
قضية عامة، خرج منها فرد، وفى يوم السبت أيضا قضية عامة كذلك، نشك في
خروج الفرد منها. ولا إشكال في كل الاعتبارين في التمسك بالعموم في
المشكوك، لان الفرد المفروض - على تقدير عدم دخوله تحت العام - يستلزم
تخصيصا آخر زايدا على تخصيص المعلوم. وهذا واضح. بخلاف الفرض الثاني،
فان الفرد المفروض خروجه يوم الجمعة - لو كان خارجا دائما - لم يستلزم إلا
مخالفة ظاهر واحد، وهو ظهور وجوب اكرامه دائما.
(فان قلت) كيف يتمسك بالاطلاقات بعد العلم بالتقييد، ويقتصر في
عدم التمسك بها على المقدار الذي علم بخروجه؟ والحال أن مفادها واحد.
وبعد العلم بالتقييد، يعلم أن ليس بمراد. (مثلا) لو فرضنا ورود دليل على وجوب
عتق الرقبة وعلمنا بدليل منفصل: أن الرقبة الكافرة عتقها غير واجب، فيلزم ان
لا يكون الموضوع في الدليل الأول المفهوم من اللفظ المذكور فيه مرادا وبعد ما لم
يكن هذا المعنى مرادا منه، لا يتفاوت في كونه خلاف الظاهر، بين ان يكون المراد من الرقبة
277

المؤمنة أو مع كونها عادلة، وليست مخالفة الظاهر على تقدير إرادة المفهوم الثاني من
اللفظ أكثر، حتى يحمل اللفظ بواسطة لزوم حفظ مراتب الظهور بقدر الامكان
على الأول، إذ ليس في البين الا تقييد واحد كثرت دائرته أو قلت. والمفروض
انا نرى ان ديدن العلماء على التمسك بالاطلاق في المثال المذكور، والحكم ببقاء
الرقبة المؤمنة - سواء كانت عادلة أم فاسقة - تحت الاطلاق.
(قلت) الفرق بين المطلق وما نحن فيه: هو ان المطلق يشمل ما تحته من
الجزئيات في عرض واحد. والحكم إنما يتعلق به بلحاظ الخارج فظهور
القضية استقر في الحكم على كل ما يدخل تحت المطلق بدلا أو على سبيل
الاستغراق، على اختلاف المقامات، فإذا خرج بالتقييد المنفصل شئ، بقى الباقي
بنفس ذلك الظهور الذي استقر فيه أولا. وهذا بخلاف ما نحن فيه، فان الزمان
في حد ذاته امر واحد مستمر، ليس جامعا لافراد كثيرة متباينة، إلا أن يقطع
بالملاحظة، ويجعل كل من قطعاته ملحوظا في القضية، كما في قولنا: أكرم العلماء
في كل زمان. وأما إذا لم يلاحظ على هذا النحو، كما في قولنا أكرم العلماء،
ومقتضى الاطلاق: أن هذه الحكم غير مقيد بزمان خاص فلازمه الاستمرار من
أول وجود الفرد إلى آخره، (112) فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم
278

الجمعة مثلا، فليس لهذا العام المفروض دلالته على دخول ذلك الفرد يوم السبت،
إذ لو كان داخلا لم يكن هذا الحكم استمرارا للحكم السابق، كما هو واضح.
هذا كله فيما إذا خرج فرد من افراد العام في الأثناء. وأما إذا علم بخروجه
من أول الامر إلى زمان معين، فمقتضى القاعدة الحكم بشمول العام له بعد ذلك
الزمان، لان أصالة عموم الافراد تقتضي دخول الفرد المفروض في حكم العام في
الجملة، وبعد العلم بعدم دخوله من أول الوجود إلى زمن معين يجب تقييده بما
بعد ذلك الزمان، بخلاف ما إذا خرج في الأثناء، فان العموم الافرادي قد عمل
به. هذا غاية ما يمكن أن يقال أو قيل في الفرق بين المنقطع الوسط والابتداء.
وعندي فيه نظر، لأن أصالة العموم بالنسبة إلى الافراد الا تقتضي
الا دخول الفرد في الجملة. وأما استمرار الحكم المتعلق به، فإنما هو من جهة
اطلاق الزمان. والمفروض كونه معنى واحدا، وهو استمرار الحكم من أول وجود
الفرد إلى آخره. (113) ولا فرق في ارتفاع هذا المعنى بين ان يخرج الفرد
في الأثناء أو من أول الوجود فإنه في كلا الحالين الحكم في القضية لم يستمر
بالنسبة إلى هذا الفرد من أول وجوده إلى آخره، وتقييد الفرد بغير الزمان المقطوع
279

خروجه مبنى على ظهور الدليل في كل واحد من الأزمنة، حتى يقتصر في
الخارج على القدر المتيقن. وهذا خلاف المفروض. على أنه لو صح هذا التقييد
فيما خرج في الابتداء، لصح فيما إذا خرج في الأثناء أيضا، بأن يقال - بعد
العلم بخروج زيد مثلا يوم الجمعة عن عموم أكرم العلماء - ان الواجب
هو الاكرام في غير يوم الجمعة، فيوم السبت فرد من افراد هذا العنوان المقيد، كما أن
اليوم السابق على يوم الجمعة أيضا فرد له.
والحاصل أن الامر دائر بين تخصيص العام بالنسبة إلى الفرد أو التصرف
في ظهور الاطلاق الذي يقتضى استمرار الحكم، ولو فرضنا أن الثاني متعين، من
جهة أنه ظهور اطلاقي يرفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي، فلا يجوز أن يقيد
موضوع الحكم بما بعد ذلك الزمان الخارج، ويقال بثبوت الحكم لذلك
الموضوع دائما، لان ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة إلى الأزمان، حتى تحفظ
فيما لم يعلم بالخروج. والمفروض خلافه، بل اللازم - على فرض القول بدخول
الفرد في الجملة - القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم. فافهم.
اخذ الموضوع في الاستصحاب
الامر العاشر - أنه يشترط في استصحاب كل شئ بقاء موضوعه على
نحو ما كان في القضية المتيقنة، فان كان الموضوع فيها الشئ المفروض وجوده، فاللازم
ان تكون القضية المشكوكة هي ثبوت العرض لذلك الشئ المفروض وجوده، وان كان
الموضوع ذات الشئ أعني الطبيعة المقررة، كما إذا تيقن بوجود زيد، فاللازم أن يكون في
القضية المشكوكة أيضا كذلك، مثلا لو تيقن بقيام زيد في السابق، ثم شك في
ذلك، فتارة يشك في القيام مع اليقين بوجود زيد في الخارج، ولأخرى مع
الشك. والثاني على قسمين، لأن الشك (تارة) يستند إلى الشك في وجود زيد،
و (أخرى) لا يستند إليه، بل يشك في كل من وجوده وقيامه مستقلا. هذه اقسام
الشك المتصورة في قيام زيد ثانيا.
280

والقضية الموضوعة للحكم الشرعي في نحو قيام زيد يمكن تصورها على
قسمين: (أحدهما) - أن يكون الموضوع ثبوت هذا المفهوم، كما إذا قال إذا
تحقق قيام زيد في الخارج فافعل كذا (ثانيهما) - أن يكون الموضوع ثبوت
القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج كما هو مفاد قولك: إن كان زيد قائما
فافعل كذا.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كان موضوع الحكم الشرعي القيام على النحو
الأول فلا اشكال في جريان الاستصحاب إذا شك في ذلك في الآن الثاني،
سواء كان الشك في القيام وحده أو فيه مع المحل، وسواء كان الشك في القيام
ناشئا عن الشك في وجود المحل أم لا، لان جميع تلك الصور شك في قيام زيد.
والمفروض أن موضوع الحكم تحققه في الخارج، فيحكم بالاستصحاب بتحققه.
وإن كان موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد على النحو الثاني،
فلو شك في القيام مع اليقين بوجود زيد، فاستصحاب القيام لا اشكال فيه،
لوحدة موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة، وهو زيد مع الفراغ عن وجوده. واما
لو شك في قيام زيد مع الشك في وجوده، سواء كان الشك في قيامه مستندا إلى
الشك في وجوده أم لا، فلا يمكن استصحاب القيام لعدم احراز موضوعه. نعم لو
كان الأثر مترتبا على وجوده وقيامه على تقدير الوجود، أمكن اجراء استصحابين،
لاحراز جزئي الموضوع، فيما كان كل منهما مشكوكا مستقلا. ولا يكفي
استصحاب وجود المحل، فيما إذا كان الشك في القيام مسببا عن الشك فيه،
فان احراز المسبب بواسطة اجراء الأصل في طرف السبب يكون فيما كان المسبب
من الآثار الشرعية، دون مثل القيام وأمثاله. هذا حاصل مرادنا من بقاء الموضوع
في الاستصحاب.
ويظهر من كلام شيخنا الأستاذ دام بقاه جواز استصحاب قيام زيد،
وان كان الشك فيه مسببا عن الشك في وجود زيد مطلقا على أي نحو فرض
موضوع الحكم الشرعي.
وأنت خبير بان الموضوع لو كان قيام زيد بعد ملاحظة الوجود، لم يكن
281

في المثال مشكوكا حتى يستصحب. والذي هو مشكوك لم يكن له اثر شرعي كما
هو المفروض.
وكيف كان دليلنا - على اعتبار بقاء الموضوع على النحو الذي قلنا - ان
الملاك في شمول أدلة الاستصحاب الشك في بقاء ما كان متحققا سابقا، بشرط
أن يكون هذا المشكوك - على تقدير بقائه - إما حكما شرعيا أو موضوعا لحكم
شرعي، فلو كان المشكوك قيام عمرو، والمتيقن سابقا قيام زيد، فليس هذا الشك
شكا في البقاء، ولو كان المشكوك قيام زيد، وكان الشك مستندا إلى الشك
في وجود زيد، فان كان موضوع الحكم الشرعي تحقق هذا المفهوم، أعني قيام
زيد، يصدق أنه شك في بقاء ما هو موضوع لحكم الشارع، وان كان في هذه
الصورة موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد بعد تحققه، فهذا المعنى ليس
مشكوكا فيه، للعلم بقيامه بعد تحققه. والمعنى المشكوك فيه أعني قيام زيد -
ليس بموضوع للحكم الشرعي. وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا، تعرف أن
المدعى لا يحتاج في اثباته إلى مزيد برهان، وان تكلف له شيخنا المرتضى
قدس سره
قال في هذا المقام: (الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان
الاستصحاب واضح، لأنه لو لم يعلم تحققه لاحقا، فإذا أريد ابقاء المستصحب
العارض له المتقوم به، فاما أن يبقى في غير محل موضوع، وهو محال. واما أن يبقى في
موضوع غير الموضوع السابق. ومن المعلوم أن هذا ليس ابقاءا لنفس ذلك
العارض، وإنما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد، فيخرج عن
الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم، فهو المستصحب
دون وجوده.
وبعبارة أخرى بقاء المستصحب لا في موضوع محال، وكذا في موضوع
آخر، إما لاستحالة انتقال العرض، وإما لان المتيقن سابقا وجوده في الموضوع
السابق، والحكم - بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد - ليس نقضا للمتيقن
السابق). انتهى كلامه قدس سره.
282

واعترض عليه شيخنا الأستاذ دام بقاه (بأن المحال إنما هو الانتقال
والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة، لا بحسب وجوده
تعبدا، كما هو قضية الاستصحاب. ولا حقيقة لوجوده كذلك إلا ترتيب آثاره
الشرعية واحكامه العملية. ومن المعلوم أن مؤنة هذا الوجود خفيفة، مع أنه
أخص من المدعى، فان المستصحب ليس دائما من مقولات الاعراض، بل ربما
يكون هو الوجود، وليس هو من المقولات العشر، فلا جوهر بالذات
ولا عرض وان كان بالعرض.
(ان قلت): نعم لكنه مما يعرض على الماهية كالعرض.
(قلت) نعم إلا ان تشخصه ليس بمعروضه، فيستحيل بقاؤه مع تبدله، بل
تكون القضية بالعكس، ويكون تشخص معروضه به، كما حقق في محله، بحيث
لا تنثلم وحدته وتشخصه بتعدد الموجود وتبدله من نوع إلى نوع آخر، فلينتزع من
وجود واحد شخصي ماهيات مختلفة، حسب اختلافه نقصا وكمالا وضعفا
وشدة، فيصح استصحاب هذا الوجود عند الشك في بقائه وارتفاعه، ولو مع
القطع بتبدل ما انتزع عنه سابقا من المهية إلى غير ما ينتزع عنه، الآن لو كان)
انتهى كلامه دام بقاه.
أقول: ظاهر كلام الشيخ وإن كان يوهم ما يرد عليه الاعتراض، إلا أنه
يمكن توجيه كلامه على نحو يسلم من المناقشة (114). وتوضيح ذلك يحتاج إلى
283

بيان مقدمة، وهي أن القضايا الصادرة من المتكلم - سواء كانت من سنخ انشاء
الاحكام أم من الاخبار - مشتملة على نسب ربطية متقومة بالموضعات الخاصة،
(مثلا) قولنا أكرم زيدا مشتمل على إرادة ايقاعية مرتبطة باكرام زيد، وكذا قولنا
زيد قائم مشتمل على نسبة تصديقية حاكية متقومة بهذا المحل الخاص. والموضوع
كذلك. وحال هذه النسب في الذهن حال الاعراض في الخارج في الحاجة
إلى الغير في التحقق، وكذا في عدم إمكان انتقالها من محل إلى آخر. وهذا
واضح
إذا عرفت ما بيناه لك، فنقول: لو فرضنا ان المتيقن في السابق هو
وجوب الصلاة، فالجاعل للحكم في الزمان الثاني إما أن يجعل الوجوب للصلاة،
وهو المطلوب هنا من لزوم اتحاد الموضوع، وإما أن ينشئ هذه الإرادة الحتمية
الربطية من دون موضوع، وهو محال، ضرورة تقومها في النفس بموضوع خاص.
وإما أن ينشئ لغير الصلاة. وحينئذ إما ان ينشئ تلك الإرادة المتقومة بموضوع
الصلاة لغيرها، وإما أن ينشئ إرادة مستقلة. والأول محال أيضا، لاستحالة
انتقال العرض. وقد عرفت أن حالها في النفس حال الاعراض في الخارج.
والثاني ممكن، لكنه ليس بابقاء لما سبق. هذا في الشبهة الحكمية.
284

وأما تقريب هذا الكلام في الشبهة الموضوعية، فلنفرض أن المتيقن في
السابق خمرية هذا المايع الخاص، ففي الثاني لو أوقع تلك النسبة التصديقية
المرتبطة بالخمرية وهذا المايع تعبدا، فان كان طرف النسبة المذكورة هذا المايع،
فقد ثبت المطلوب، والا فان لم يكن لها طرف، يلزم تحقق العرض أعني هذه
النسبة الربطية في النفس من دون محل، وهو محال، وان كان لها طرف، فان
أوقع تلك النسبة المتقومة بطرف خاص لمحل آخر، فهو محال أيضا، للزوم انتقال
العرض، وإن أوقعها لمحل آخر، فهو ممكن، ولكنه ليس بابقاء للحالة السابقة
كما هو واضح. وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام شيخنا المرتضى قدس سره. ومما
ذكرنا تعرف عدم الفرق بين كون المستصحب عرضا خارجيا أو وجودا.
وأما ما افاده دام بقاه في ذيل كلامه من عدم انثلام وحدة الوجود، مع
انتزاع ماهيات مختلفة بحسب المراتب ضعفا وشدة، لعدم تشخصه بها، بل الامر
بالعكس، فيصح استصحاب هذا الوجود إذا شك في بقائه وارتفاعه، مع القطع
بتبدل ما انتزع عنه سابقا إلى غيره.
ففيه ان الوجود وإن لم يتشخص بالماهية، ولكنه يتشخص بحدوده
285

الخاصة، لان وجود زيد ووجود عمرو وجودان متعددان قطعا. وحينئذ لو انتزع
عنوان السواد الضعيف من حد خاص من وجود السواد، وعنوان السواد الشديد
من حد خاص من وجود السواد، وعنوان السواد الشديد من حده الآخر، يكشف
ذلك عن اختلاف الوجودين اللذين انتزع العنوانان المختلفان منهما، إذ لا يعقل
اختلاف العنوان المنتزع من دون الاختلاف في منشأ الانتزاع.
(فان قلت) كيف ينتزع من وجود زيد مثلا ضارب (تارة) وغير ضارب
(أخرى) وجالس (تارة) وقائم (أخرى) مع بقائه على الوحدة؟
(قلت) العناوين المذكورة لا تنتزع من مرتبة الذات، بل هي منتزعة من
امر خارج عنها، وثبوت ذلك الامر الخارج عن الذات يختلف، قد تكون الذات
متصفة بعرض، وقد تكون متصفة بضده، بخلاف مثل السواد الضعيف والشديد،
فإنهما منتزعان من حد خاص من الوجود، من دون دخل امر خارجي. فحينئذ لو
لم يتعدد الوجود الذي هو منشأ لانتزاع كل من المفهومين، فكيف يختلف المعنى
المنتزع؟
ومن هنا ظهر أن استصحاب بقاء السواد فيما قطع بتبدله على تقدير
البقاء مبنى على أحد أمرين: إما جواز استصحاب الكلى الذي يكون من القسم
الثالث، وإما القول بوحدة هذين الوجودين بنظر العرف، وان كانا متعددين في
نظر العقل، فاحفظ ذلك.
ثم: انك بعد ما علمت من لزوم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة
والمشكوكة، هل الحاكم بالاتحاد هو العقل والدليل، أو العرف؟ والفرق بين
الأول والأخيرين غير محتاج إلى البيان. والفرق بين الثاني والثالث أنه بناءا على
الثاني ينظر فيما جعل موضوعا للقضية عند العرف، فان اخذ فيها الشئ المقيد،
فبارتفاع القيد يختلف ذلك الشئ ويصير موضوعا آخر، وان اخذ فيها ذات
الشئ وجعل حصوله شرطا للحكم، فالموضوع هو تلك الذات، ولا يختلف بارتفاع
ذلك الامر الذي جعل شرطا فيها للحكم مثلا، فالموضوع في قضية (الماء المتغير
نجس) هو الماء المتغير، دون قضية (الماء نجس إذا تغير)، فان الموضوع بفهم العرف
286

هو الماء، والتغير علة لثبوت النجاسة للماء. فإذا زال التغير، وشك في ارتفاع
النجاسة أو بقائها من جهة الشك في أن حدوثه علة للنجاسة حدوثا وبقاءا، أو
ان الحكم دائر مداره، فلا مانع لاستصحابه.
وأما بناءا على الأخير فنلاحظ المناسبة بين الحكم الوارد من الشارع
وموضوعه، فربما يكون الموضوع في القضية اللفظية هو المقيد، كالماء المتغير، لكن
العرف - بواسطة المناسبة بين الحكم والموضوع - يرى أن موضوع النجاسة هو
الماء، وأن التغير خارج عنه، وعلة لثبوت الحكم. وربما يكون الامر بالعكس.
وكيف كان فالحق هو الأخير، لان الأحكام المتعلقة بالعناوين تتعلق
بها بلحاظ مصاديقها العرفية، لان الشارع إنما يتكلم بلسان العرف، وهو حين
التكلم كأحد من العرف، فإذا قال أحد من أهل العرف لآخر لا تنقض اليقين
بالشك، يحمل كلامه على ما هو نقض عند أهل العرف، وكذلك حال الشارع
في التكلم مع أهل العرف. وحينئذ بعد كون الموضوع في قضية (الماء المتغير نجس)
هو الماء فلو زال التغير يحكم العرف بان هذا الماء إن كان نجسا فقد بقيت نجاسته
السابقة، وإلا فقد ارتفعت، فمعاملة النجاسة مع هذا الماء ابقاء للحالة السابقة
عملا، وعدمها نقض لها كذلك.
ومن هنا ظهر أن توهم عدم جواز كون العرف مرجعا عند العلم بخطأه
ناش عن الغفلة، إذ بناءا على ما قلنا ليس موضوع الحكم - واقعا وبالدقة
العقلية - إلا ما هو مصداق للعناوين بنظر العرف. وهذا واضح جدا.
ثم انك بعد ما علمت أن موضوع الحكم مأخوذ من العرف. فاعلم أنه
قد يرد الحكم في الدليل على عنوان، ولكن العرف يحكم بان الموضوع أعم مما
يصدق عليه ذلك العنوان، بحيث لو زال العنوان عنه، وأطلق عليه عنوان آخر
يحكم بان هذا الباقي في كلا الحالين هو الذي كان موضوعا للحكم، وقد يحكم
بان زوال العنوان موجب لزوال الموضوع الأول وحدوث موضوع آخر. والأول على
قسمين: (أحدهما) - أنه لا يحتاج في حكمه ببقاء الحكم الأول إلى وجود دليل
آخر، مثل الاستصحاب، بل يحكم بالبقاء بمقتضى نفس الدليل الأول.
287

و (الثاني) - أنه يحتاج في ذلك إلى دليل آخر، ووجه الاحتياج - مع فرض أنه
ليس موضوعا آخر، وأن الموضوع هو الموجود في الحالين - احتمال أن يكون
الحكم في القضية دائرا مدار وجود اسم العنوان، بحيث يكون هو الواسطة في
ثبوت حكمها لموضوعها حدوثا وبقاءا، فلا ينافي بقاء الموضع عدم الحكم.
وغالب الاحكام المستفادة من القضايا من قبيل الثاني، أعني أنه لو زال العنوان
الذي كان الموضوع متصفا به، لم يكن الدليل الأول كافيا في اثبات الحكم.
ولعل ما اشتهر في ألسنتهم - من أن الاحكام تدور مدار الأسماء - محمول على
الغالب لمقام الاثبات، بمعنى أن الأدلة المثبتة لحكم المسمى باسم يجوز التمسك بها
لاثبات ذلك الحكم ما دام الاسم باقيا، وبعد زواله لا يجوز التمسك بها.
فائدة تناسب المقام
وهي انه حكى عن بعض المتأخرين: انه فرق بين استحالة نجس العين
والمتنجس، فحكم بطهارة الأول لزوال الموضوع، دون الثاني، لان موضوع النجاسة
فيه ليس عنوان المستحيل أعني الخبث مثلا، وانما هو الجسم، ولم يزل
بالاستحالة.
قال شيخنا المرتضى قدس سره بعد نقل هذا الكلام - (وهو حسن في
بادي النظر، إلا أن دقيق النظر يقتضى خلافه، إذ لم يعلم أن النجاسة في
المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية وهي الجسم، وإن اشتهر في الفتاوى
ومعاقد الاجماعات أن كل جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس، إلا أنه
لا يخفى على المتأمل أن التعبير بالجسم لالقاء عموم الحكم لجميع الأجسام
الملاقية من حيث سببية الملاقاة للتنجس، لا لبيان إناطة الحكم بالجسمية.
وبتقرير آخر الحكم ثابت لاشخاص الجسم، فلا ينافي ثبوته لكل واحد
منها من حيث نوعه أو صنفه المتقوم به عند الملاقاة، فقولهم - كل جسم لاقى
نجسا فهو نجس - لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة، من غير تعرض
للمحل الذي يتقوم به، كما إذا قال القائل: إن كل جسم له خاصية وتأثير، مع
288

كون الخواص والتأثيرات من عوارض الأنواع.
وإن أبيت إلا عن ظهور معقد الاجماع في تقوم النجاسة بالجسم.
فنقول: لا شك في أن مستند هذا العموم هي الأدلة الخاصة الواردة في
الاشخاص الخاصة، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك، فاستنباط القضية
الكلية المذكورة منها ليس إلا من حيث عنوان حدوث النجاسة لا ما يتقوم به، وإلا
فاللازم إناطة النجاسة في كل مورد بالعنوان المذكور في دليله. ودعوى - أن ثبوت
الحكم لكل عنوان جائز من حيث كونه جسما - ليست أولى من دعوى كون
التعبير بالجسم في القضية العامة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة،
لا من حيث تقوم النجاسة بالجسم) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
أقول: الظاهر من الأدلة في الموارد الخاصة ان الخصوصيات النوعية
والصنفية لا دخل لها في التنجس بالملاقاة، كيف؟ ولو لم يكن كذلك لما صح
الحكم بنجاسة ما لاقى نجسا، ولم يذكر في الأدلة، لاحتمال اختصاص الحكم
بالمذكورات في الأدلة، فاستكشاف قضية عامة - وهي قولهم كل جسم لاقى
نجسا فهو نجس - مبنى على العلم بالغاء الخصوصيات في الموارد الخصوصية.
فالأولى في الجواب أن يقال إنه إن أراد القائل ببقاء النجاسة - في
المتنجسات بعد الاستحالة - الحكم ببقائها من دون حاجة إلى التمسك
بالاستصحاب، فهو باطل، لان الدليل الدال على نجاسة، شئ بالملاقاة لا يدل على
عدم تطهره بعد ذلك، فإذا احتملنا ان عروض صورة أخرى على ذلك الشئ
أوجب تطهره، فلا يرفع هذا الاحتمال بالدليل الأول الدال على حدوث النجاسة
فيه بالملاقاة، وان أراد الحكم ببقاء النجاسة فيها بضميمة الاستصحاب، فهو تابع
لبقاء الموضوع عند العرف، أعني موضوع المستصحب، ولا ينافي كون موضوع
النجاسة هو الجسم عدم بقائه عند العرف، لان حكم الجسم - لتشخصه في نوع
خاص قبل الاستحالة - سرى في ذلك النوع. وبعد استحالته وصيرورته
عند العرف موضوعا آخر لا يصح الاستصحاب، لأنه لو كان نجسا لم تكن تلك
النجاسة بقاء النجاسة السابقة. ويظهر ذلك لو فرضنا تعلق حكم بالحيوان من
289

دون دخل لخصوصية، فإنه يسرى إلى جميع أنواعه، وكل نوع منه يتعلق به
حكم مستقل غير الحكم الذي تعلق بنوع آخر، وان كان أصل الحكم من
حيث تعلقه بالحيوان واحد هذا.
الفرق بين قاعدة اليقين والاستصحاب
الحاد يعشر أن المعتبر في الاستصحاب أن يكون المكلف شاكا في
البقاء، بعد الفراغ عن أصل وجود المستصحب حين الشك في بقائه، فلو شك في أصل وجوده - وهو الذي يعبرون عنه بالشك الساري - لا يكون موردا
للاستصحاب. نعم لو ورد دليل على عدم الاعتناء بالشك في أصل الحدوث،
أخذنا به، ويصير هذا قاعدة أخرى. وقد تخيل إمكان شمول الأدلة المذكورة في
باب الاستصحاب للقاعدتين.
وتقريب ذلك على نحو أتم: هو أن يقال: إنه في قولهم (عليهم السلام):
(من كان على يقين فشك) جعل الزمان السابق ظرفا لليقين والزمان اللاحق
ظرفا للشك. وأما المتيقن والمشكوك لو حظا مجردين عن اعتبار الزمان، لا على نحو
القيدية ولا على نحو الظرفية، فالمراد باليقين بالشئ حينئذ هو اليقين بذات الشئ
مهملة عن اعتبار الزمان، والمراد بالشك أيضا كذلك. ولا شك في أن الشك في
ذات الشئ يصدق على الشك في أصل وجوده، وعلى الشك في بقائه، لان بقاء
الشئ ليس أمرا آخر وراء ذلك الشئ، فإذا اشتمل على كلا الشكين، فوجوب
المضي على اليقين يوجب الغاء كليهما. والغاء كل شك بحسبه، فالغاء الشك
في أصل الوجود وهو الحكم بأصل الوجود الغاء، والشك في البقاء هو الحكم
بالبقاء. هذا غاية تقريب كلام المتخيل.
أقول: والذي يخطر بالبال في دفع هذا المقال هو أن: يقال: إن المتيقن
بعدالة زيد في يوم الجمعة مثلا، يصح أن يقال في حقه أنه متيقن بالعدالة مقيدة
بكونها يوم الجمعة، وأن يقال: إنه متيقن بالعدالة بملاحظة اعتبار ذلك الزمان
ظرفا لها، وان يقال: إنه متيقن بعدالة زيد مع اهمال الزمان قيدا وظرفا، فان
290

المتيقن بالمقيد متيقن بالمهملة.
إذا عرفت هذا فنقول: المتكلم بقضية (إذا تيقنت بشئ، ثم شككت
فيه..) اما لاحظ الشئ المتيقن مقيدا بالزمان، وإما لاخط الزمان ظرفا للمتيقن،
وإما أهمل ملاحظة الزمان رأسا، ولا تخلو القضية عن هذه الحالات الثلاث.
اما على الأول، فلا بد أن يكون المراد من قوله (شككت فيه) الشك في
نفس ذلك الشئ مقيدا بالزمان السابق، ولا يكون هذا الا الشك الساري. وكذا
على الثالث، لان المراد من قوله (شككت فيه) على هذا - هو الشك في تحقق ذات
ذلك الشئ مهملة عن الزمان، ولا يصدق هذا الشك الاعلى الشك في وجوده
من رأس، إذ على تقدير اليقين بوجوده في زمان لا يصدق أنه مشكوك تحققه مجردا
عن الزمان، فان الشئ إذا كان له أنحاء من الوجود، يصدق أنه مشكوك
الوجود، إلا إذا شك في تمام أنحاء وجوده.
واما على الثاني فيمكن تطبيقه على الاستصحاب، بان يلاحظه الشئ
الواحد باعتبار الزمان السابق متيقنا، وباعتبار الزمان اللاحق مشكوكا فيه، فعلم
أن تطبيق القضية على الاستصحاب يتوقف على ملاحظة الزمان السابق ظرفا
للمتيقن، واللاحق ظرفا للمشكوك فيه. وهذه الملاحظة لا تجتمع مع ملاحظة
الزمان الأول قيدا، كما في الصورة الأولى وعدم ملاحظة الزمان أصلا، كما
في الصورة الثالثة، هذا.
واعلم أن تخيل شمول عموم الاخبار للقاعدتين من جهتين
(احداههما) ما مر الكلام فيه، و (الثانية) أن المراد من قوله (ع): (تيقنت
بشئ) الشئ المقيد بالزمان، والمراد من قوله (ع) (ثم شككت فيه) الشك في
حدوث ذلك الشئ من أول الامر، إلا أن المراد من قوله (ع) (فليمض على
يقينه، أولا تنقض اليقين الا بيقين مثله) هو البناء على ذلك الشئ حدوثا
وبقاءا، وهذا التخيل نظير ما وقع عن بعض - في قوله (ع)، (كل شئ طاهر
حتى تعلم أنه قذر) - أنه يشمل الاستصحاب وقاعدة طهارة الأشياء.
وقد وافق شيخنا الأستاذ دام بقاه هذا المتخيل، وأصر في الاعتراض على
291

من أنكر ذلك. ونحن قد بينا هناك - عدم امكان الجمع بين القاعدتين في
تلك القضية - على نحو لا أظن أن يشتبه على أحد، بعد المراجعة. ومن أراد
فليراجع.
وزاد دام بقاه في المقام: أنه لا يبعد أن يكون الامر ههنا أوضح، فان
الشك المتعلق بما كان اليقين متعلقا به على قسمين:
(أحدهما) - ما يتعلق بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا، وكان اليقين
متعلقا بها، مع القطع بعدالته بعد اليوم أو فسقه.
(ثانيهما) - ما يتعلق بعدالته فيه وفيما بعده، فالنهي عن نقض اليقين
بالشك يعم باطلاقه النقض بكل من الشكين، وقضية عدم نقضه بالثاني: المعاملة
مع مشكوكه معاملة المتيقن بترتيب آثار العدالة عليه. وربما أيد ذلك بالاستدراك
بقوله (ع): (ولكن تنقضه بيقين آخر) انتهى.
وفيه أن الشك في الحدوث والشك في البقاء شكان مستقلان،
ومعاملة اليقين مع أحدهما لا تلازم معاملة اليقين مع الآخر، والاستدراك
- بقوله (ع): (ولكن تنقضه بيقين آخر) بعد تسليم أن القضية متعرضة للشك في
الحدوث - لا يدل الا على عدم رفع اليد عن اليقين بالحدوث الذي كان
في الزمان الأول، إلا بيقين آخر بعدم الحدوث كذلك، ولا يدل على الحكم
بالبقاء، كما لا يخفى.
هذا وقال شيخنا المرتضى قدس سره هذا المقام: (ثم لو سلمنا دلالة
الروايات على ما يشمل القاعدتين، لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط
له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية، لأنه إذا شك فيما تيقن به سابقا
(أعني عدالة زيد في يوم الجمعة) فهذا الشك معارض لفردين من اليقين:
(أحدهما) - اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة (الثاني) - اليقين بعدم عدالته
المطلقة قبل يوم الجمعة، فتدل بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين
بعدالة زيد يوم الجمعة، باحتمال انتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة
الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة، باحتمال حدوثها
292

في الجمعة. فكل من طرفي الشك معارض لفرد من اليقين.
(ودعوى) أن اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة،
والقاعدة الثانية تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق (مدفوعة)
بأن الشك - الطارئ في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها - عين الشك في
انتقاض ذلك اليقين السابق. واحتمال انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة
وعدمها، فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض، ولا بالعدم. انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: الظاهر من كلامه قدس سره ان هذه المعارضة دائمية، وليس
كذلك، (115) لامكان عدم احراز الحالة السابقة قبل يوم الجمعة. نعم العدم
الأزلي متيقن، لكن انما يصح أن يكون مجرى للاستصحاب إن كان له اثر
شرعي. وأما إن كان موضوع الأثر عدم العدالة للمحل المفروض وجوده، فلا يلزم
أن يكون ذلك العدم متيقنا دائما، حتى يلزم التعارض بين الاستصحاب
والقاعدة، كما لا يخفى.
واعترض شيخنا الأستاذ دام بقاه، بأن التعارض إنما يلزم لو كان كل
واحد - من نقض اليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة بشك، ونقض اليقين
بالعدالة المقيدة ثبوتها بذلك في مثل المثال - في عرض الآخر، ولم يكن بينهما
السبية والمسبية، والا فلا يعم العام إلا ما هو السبب منهما، كما سيأتي الكلام
فيه انشاء الله تعالى. وليس كذلك، فان كون نقض اليقين بعدم العدالة مع
هذا الشك نقضا بالشك، يتوقف على عدم شمول النهى لنقض اليقين بالعدالة
المقيدة. وهذا بخلاف نقض اليقين بالعدالة المقيدة مع هذا الشك، فإنه نقض
293

بالشك على كل حال، من غير توقف على عدم شمول النهى لنقض اليقين بعدم
العدالة المطلقة، بل ولو شمله، غاية الامر معه لا يمكن أن يشمله أيضا، وكان
نقض اليقين بهذا الشك جائزا، فان النهى عن نقض اليقين بعدم العدالة بهذا
الشك يلازم تجويز نقض اليقين بالعدالة المقيدة بالشك، لا أنه موجب لكونه نقضا
بغير شك، انتهى (1).
أقول: لا يخفى أن في المثال لنا شكا واحدا، وهو الشك في عدالة زيد
يوم الجمعة، ويقينين أحدهما اليقين بعدم عدالته قبل يوم الجمعة، والثاني
اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة، ومقتضى الاخذ بالاستصحاب تنزيل الشك
في العدالة يوم الجمعة منزلة العلم بعدمها، ومقتضى إجراء حكم القاعدة تنزيل
هذا الشك منزلة العلم بثبوتها، فأين حكومة القاعدة على الاستصحاب؟
ولعل نظره دام بقاه في هذا الكلام إلى أن اليقين المتحقق في يوم الجمعة
صار ناقضا لليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة، ومقتضى عدم جواز نقض هذا
اليقين بالشك الطارئ أن يجعل ذلك الشك بمنزلة اليقين، حتى في كونه ناقضا
لليقين بعدم العدالة السابقة، فيكون اجراء القاعدة دليلا على أن ننقض اليقين
بعدم العدالة بهذا الشك بمنزلة نقضه باليقين، لأن هذا الشك بمنزلة اليقين
بالعدالة الذي كان ناقضا لليقين بعدمها. وهذا بخلاف الاستصحاب، فان
اليقين فيه وهو اليقين بعدم العدالة سابقا لم يكن ناقضا لليقين الآخر، حتى
يترتب على الشك اللاحق هذا الأثر.
(وأنت خبير) بأن ناقضية اليقين السابق ليست من اللوازم الشرعية، حتى
يترتب على الشك اللاحق المنزل منزلته، وإنما هي من آثاره العقلية، سواء لوحظ
طريقا أم صفة، لان العقل يحكم بان قيام الطريق - حجة على خلاف الحالة
السابقة أو خصوص العلم كذلك - يوجب رفع اليد عنها، والشك اللاحق منزل
منزلة العلم في الآثار المترتبة على المعلوم، لا في لوازم العلم بحكم العقل، سواء في
ذلك الاستصحاب والقاعدة. ومن المعلوم عدم حكومة أحدهما على الآخر في
هذا المدلول، كما هو واضح.
294

ثم إنه بعد ما بينا عدم شمول الأدلة المذكورة في الباب للقاعدتين، يتعين
الاستصحاب، لورود بعضها في الشك في البقاء، وظهور اتحاد مفاد الباقي معه.
بقى الكلام في وجود مدرك آخر لقاعدة الشك الساري وعدمه. وما
يمكن أن يكون مدركا لها في الجملة هي الأخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك
بعد التجاوز عن الشئ، فلا بد من ذكر الأخبار الواردة في المقام، ثم التكلم
فيها.
قاعدة التجاوز والفراغ
فأقول - مستعينا بالله العزيز العلام، ومتوسلا بأوليائه الكرم: - أنه
روى محمد بن الحسن باسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن
عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
(رجل شك في الاذان، وقد دخل في الإقامة؟ قال عليه السلام يمضى، قلت:
رجل شك في الأذان والإقامة، وقد كبر؟ قال عليه السلام: يمضى، قلت: رجل
شك في التكبير، وقد قرأ؟ قال عليه السلام: يمضى، قلت: شك في القراءة،
وقد ركع؟ قال (ع) يمضى، قلت: شك في الركوع، وقد سجد؟ قال عليه السلام:
يمضى على صلاته، ثم قال يا زرارة إذا خرجت من شئ، ثم دخلت في غيره،
فشككت، فليس بشئ).
وباسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن مغيرة، عن
إسماعيل بن جابر، قال قال أبو جعفر عليه السلام: (إن شك في الركوع بعد ما
سجد، فليمض، وإن شك في السجود بعد ما قام، فليمض، كل شئ شك فيه مما
قد جاوزه ودخل في غيره، فليمض عليه.. الخبر).
وعن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا شككت
في شئ من الوضوء، وقد دخلت في غيره، فليس شكك بشئ، إنما الشك إذا
كنت في شئ لم تجزه.. الخبر).
295

وفى موثقة أخرى (كما شككت فيه مما قد مضى، فامضه كما هو).
والكلام فيها يقع في مقامات:
المقام الأول
(أحدهما) ان مضمون هذه الأخبار هل هو جعل قاعدة واحدة أو قواعد مختلفة؟
قال شيخنا الأستاذ دام بقاه: إن مقتضى التأمل في الروايات أنها مفيدة
لقاعدتين: (إحداهما) القاعدة المضروبة للشك في وجود الشئ بعد التجاوز
عن محله مطلقا، أو في خصوص اجزاء الصلاة وما بحكمها من الأذان والإقامة
و (ثانيتهما) القاعدة المضروبة للشك في صحة الشئ، لأجل الشك في
الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطرا أو شرطا. بعد الفراغ منه، ثم جعل
- دام بقاه - الصحيحة الأولى، والرواية الثانية ظاهرتين في القاعدة الأولى،
والموثقة الأخيرة - مضافة إلى مؤيدات اخر - ظاهرة في الثانية.
ثم قال دام بقاه في تقريب هذا المدعى: (لا يخفى أن ارجاع إحدى
الطائفيتين إلى الأخرى - بحسب المفاد، أو ارجاعهما لي ما يعمها أو ما يعم
القاعدتين من كل منهما لا يخلو من تكلف وتعسف بلا وجه موجب له أصلا،
مع ما يرد عليه من الاشكال الآتي في خروج أفعال الطهارات الثلاث عن القاعدة
مع التمحل في اندفاعه، وعدم وروده على ما استفدناه من القاعدتين.
ثم استظهر مما جعله دليلا على القاعدة الثانية العموم لجميع موارد الفقه
من أبواب العبادات والمعاملات. ومما جعله دليلا على القاعدة الأولى اختصاصه
باجزاء الصلاة وما يحسب منها: كالاذان والإقامة، وعلل - اختصاص ذلك
باجزاء الصلاة وما بحكمها - بان قوله (عليه السلام): (إذا خرجت من شئ)
في صحيحة زرارة، وقوله في رواية ابن جابر: (كل شئ شك فيه) لو لم يكن
ظاهرا في خصوص الشئ من أفعال الصلاة - بقرينة السؤال عن الشك فيها في
صدر كل واحد منهما - فلا أقل من عدم الظهور في العموم لغيرها، فان تكرار
296

السؤال عن خصوص أفعال الصلاة يمنع من اطلاق الشئ لغيرها.
ثم اعترض على نفسه: بأنه لو سلم ذلك فإنما هو في الصحيحة، لان
العموم فيها بالاطلاق دون الرواية، لان العموم فيها بالوضع، فأجاب بما حاصله:
أن لفظ الشئ الذي وقع عقيب الكل - لو لم يكن مطلقا بمقدمات الحكمة - فلا
يدل الكل على استيعاب تمام افراده، لأنه إنما يدل على استيعاب تمام افراد ما
يراد من مدخوله. وقد عرفت أن المتيقن من مدخوله في المقام خصوص أفعال
للصلاة، فإذا أريد بقوله عليه السلام: (كل شئ شك فيه) كل فعل من أفعال
الصلاة لا يلزم خلاف أصل في اللفظ الدال على العموم. انتهى كلامه دام بقاه.
أقول: وفى كلامه مواقع للنظر:
(منها) - استظهار قاعدتين من الاخبار، مع وحدة مضامينها بحسب
الصورة، فان المضمون الوارد في الصحيحة - (أعني قوله عليه السلام إذا خرجت
من شئ) إلى آخره)، وكذا الوارد في الرواية (كل شئ شك فيه وقد جاوز)
مما استظهر منه قاعدة الشك بعد المحل - متحد مع ما ورد في الموثقتين. ومن
البعيد جدا أن يراد من هذا المضمون في مقام، غير ما أريد به في الآخر، كما
يظهر ذلك في قوله (عليه السلام) (لا تنقض اليقين بالشك).
و (منها) - ما أفاده: من أنه - بناءا على ما ذكر - لا يرد عليه خروج
أفعال الطهارات، ولا يحتاج إلى ما تكلف به شيخنا المرتضى قدس سره في دفع
الاشكال، فان هذا التكلف محتاج إليه على كل حال، سواء جعلنا مفاد الكل
واحدا أم لا، فان من شك في غسل المرفق بعد الفراغ من غسل اليد، يصدق أنه
شك في صحة شئ بعد الفراغ عنه، وتشمله الكلية المذكورة في ذيل الموثقة،
وهي قوله عليه السلام: (انما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) مع وجوب
الاعتناء بهذا الشك بالاجماع والاخبار، فلا بد من القول بان الوضوء امر واحد
في نظر الشارع، حتى يدفع الاشكال، كما أفاده شيخنا المرتضى قدس سره.
و (منها) ما أفاده من أن وجود القدر المتيقن في المطلقات مانع عن الاخذ
باطلاقها، لان المتكلم إن أحرز كونه في مقام بيان ما هو مراده في اللب، وأظهر
297

في مقام الاظهار لفظا مطلقا، ولم يكن منصرفا إلى شئ من الخصوصيات، يحكم
العرف بأن مراده في اللب هو المطلق، والا فلم يعلمنا إراداته الواقعية، وهو
خلاف كونه في مقام اظهار ذلك.
نعم يمكن أن يقال في بعض الموارد: أن المتيقن - من كونه في
مقام البيان - هذا المقدار، أعني المقدار المتيقن في مقام التخاطب، لكن ليس هذا
في مثل المقام الذي هو بصدد اعطاء القاعدة الكلية، كما لا يخفى.
و (منها) - ما أفاده من أن إفادة الكل استيعاب تمام افراد الشئ تابعة
لوجود مقدمات الحكمة فيه، فان الكل عند العرف يدل على استيعاب افراد ما
يتلوه في القضية اللفظية، لا افراد ما يكون مرادا في اللب.
وبعبارة أخرى الاطلاق والعموم يردان على الشئ في عرض واحد، لا
ان العموم يرد عليه بعد احراز الاطلاق. ولعمري هذا واضح عند العرف
والعقلاء. وقد سمعنا ذلك مرارا من سيدنا الأستاذ طاب ثراه.
والذي يظهر لي اتحاد مفاد الأخبار، وأن المستفاد منها الأعم من الشك
في وجود الشئ بعد انقضاء المحل، والشك في صحته كذلك، فهنا دعويان:
لنا للأولى ما سبق من اتحاد القضايا الواردة في هذا الباب بحسب
الصورة، والعرف يفهم منها اتحاد المفاد، كما مر نظيره في النهى عن نقض اليقين
بالشك.
وللثانية عموم الأدلة أو اطلاقها، مضافا إلى أن المستفاد أن ملاك عدم
الاعتناء هو التجاوز عن المحل، وأن الفاعل حين العمل أذكر.
(فان قلت) لا يمكن ان يراد من القضية كلا الشكين من وجهين.
(أحدهما) أن إرادة الشك في الصحة مبتنية على ملاحظة وجود نفس
الشئ، لان هذا الشك إنما يكون بعد الفراغ عن أصل وجود الشئ، وإرادة
الشك في الوجود إنما تتصور فيما لم يكن وجود الشئ مفروغا عنه، والشئ
الذي فرض متعلقا للشك لا يمكن أن يفرض محقق الوجود، ولا يفرض كذلك،
لأنه من الجمع بين اللحاظين المتنافيين.
298

(ثانيهما) - أنه إن أريد من الشك الشك في الوجود، فلا بد من
الالتزام بأن المراد - من الخروج عن الشئ في الاخبار - هو الخروج عن محله،
وإن أريد منه الشك في الصحة، لا يلزم منه ذلك، فان التجاوز حينئذ يلاحظ
بالنسبة إلى نفس ذلك الشئ، فيلزم تقدير المحل وعدم تقديره في قضية واحدة.
قلت أما الجواب عن الأول، فبان للشك في وجود الشئ تعلق به،
وكذا الشك في صحته، (116) فيمكن أن يلاحظ جامع هذين التعلقين معنى
حرفيا، ويعبر عنه بلفظ الشك في الشئ، كما استعمل في بعض الاخبار في
معنى جامع بين الظرفية وغيرها، كما في موثقة ابن بكير، (فالصلاة في وبره
وشعره وجلده وروثه وألبانه... الخبر).
واما الجواب عن الثاني فبالالتزام بتقدير المحل، (117) فان من فرغ
من نفس الشئ فرغ من محل وجوده الخارجي. نعم المحل بالنسبة إلى الشك
في الوجود ليس محلا للوجود الخارجي المحقق، لأنه غير محرز بالفرض، بل هو
299

عبارة عن المكان الذي ينبغي أن يوجد فيه، إما شرعا وإما الأعم منه ومن غيره.
ولا مانع من تقدير مفهوم جامع يعم المعنيين.
هذا بل يمكن أن يقدر المحل بالمعنى الذي يقدر في الشك في الوجود،
أعني المحل الذي اعتبر لشئ شرعا، فان محل الحمد مثلا شرعا قبل السورة،
سواء اتى به أم لا، فكما أنه لو شك في وجوده بعد الدخول في السورة، يكون من
الشك فيه بعد المحل، كذلك لو شك في صحته بعد الدخول في السورة يكون
من الشك فيه بعد المحل، لان ما اعتبر مشكوكا هو الحمد مثلا، ومحله قبل
السورة، سواء كان الشك في وجوده أو في صحته، فليتدبر.
هذا، ولكن الانصاف عدم ظهور الاخبار في المعنى الأعم وان لم تكن
ارادته محالا، فالأولى حمل الاخبار على الشك في التحقق، لتشمل الشك في
وجود شئ والشك في صحته، لأنه راجع إلى الشك في تحقق امر وجودي
أو عدمي اعتبر في الشئ شطرا أو شرطا.
(وقد يقال) إن الشك في الصحة راجع إلى الشك في وجود الشئ
الصحيح فتشمله الاخبار من هذه الجهة. والمراد منه ليس هو عنوان الصحيح،
حتى يدفع بأن الظاهر أن الشئ كناية عن العناوين الأولية، لا ما يعرضها بملاحظة
بعض الأمور الخارجية، مثل الصحة، بل المراد ما يصدق عليه الصحيح بالحمل
الشايع، كالصلاة مع الطهارة والحمد عن جهر مثلا.
وتظهر الثمرة بينه وبين ما ذكرناه أنه لو شك في الكيفية المعتبرة في الفعل
بعد تحقق ذلك الفعل، وقبل الدخول في غيره المرتب عليه، فعلى ما ذكرنا
لا اعتبار به، لانقضاء محلها، فان محلها نفس ذلك الفعل المأتى به. وعلى ما ذكر
ههنا تجب الإعادة، لعدم انقضاء محل المقيد.
وفيه أن الظاهر من الشئ - الذي نسب الشك إليه في الاخبار - هو
المشكوك الابتدائي، والمشكوك الابتدائي - في الصلاة مع الطهارة - هو الطهارة
مثلا، وإن صح من جهة نسبة الشك إلى الصلاة المقيدة، لكن لا ينصرف لفظ
الشك في الشئ إلا إلى ما شك فيه ابتداءا.
300

المقام الثاني
هل المحل الذي اعتبر التجاوز عنه في الاخبار، هو خصوص المحل الذي
جعل للشئ شرعا، أو يكون أعم من ذلك وما صار محلا للشئ، بمقتضى العادة
الشخصية أو النوعية؟
والذي يظهر في بادي النظر هو الأخير، دون الأول والثاني. (118) أما
الأول فلعدم التقييد في دليل من الأدلة. وأما الثاني، فلان إضافة المحل إلى
الشئ بقول مطلق لا تصح بمجرد تحقق العادة لشخص خاص، بخلاف ما لو
كانت العادة بملاحظة النوع، مثلا يصح أن يقال: إن محل غسل الطرف الأيسر
قبل تخلل فصل معتد به بينه وبين غسل الطرف الأيمن، لبناء النوع في الغسل
الترتبي على الموالاة بين الغسلات، بخلاف العادة الشخصية.
301

نعم يصح أن يضاف المحل في هذه الصورة إلى فعل خصوص ذلك
الشخص، لكن ظاهر الاخبار اعتبار مضى محل الشئ من دون إضافة إلى
شخص، فتدبر جيدا.
لكن قال شيخنا المرتضى قدس سره أفتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة
يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة، فمن اعتاد الصلاة في أول وقتها أو مع الجماعة،
فشك في فعلها بعد ذلك، فلا يجب عليه الفعل، وكذا من اعتاد فعل شئ بعد
الفراغ من الصلاة، فرأى نفسه فيه، وشك في فعل الصلاة، وكذا من اعتاد
الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به، أو قبل دخول الوقت للتهيؤ، فشك بعد
ذلك في الوضوء، إلى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها. نعم ذكر
جماعة من الأصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شك في الجزء
الأخير. انتهى ما أردنا من نقل كلامه قدس سره.
وأنت خبير بان ما ذكره - قدس سره - من الأمثلة كلها من قبيل العادة
الشخصية، إلا الأخير. وقد قال جماعة بعدم اعتبار الشك فيه، مستدلين
بالاخبار، وهو موافق لما قويناه. ونعم لازم ما ذكرنا. أن من صلى صلاة الظهر أو
المغرب، ثم شك - بعد قيامه من مصلاه. أنه هل صلى صلاة العصر أو العشاء
أم لا، مع بقاء الوقت، لا يعتنى بشكه، لتحقق العادة نوعا باتيان الصلاتين في
مجلس واحد، والالتزام به مشكل جدا.
واما ما أفاده من المخالفة للاطلاقات، ففيه أن الاطلاقات لا تدل
الا على وجوب اتيان الفعل. وأما لو شك في أنه هل وجد أم لا، فلا تدل على
عدم الايجاد، كما لا تدل على الايجاد. نعم قاعدة الاشتغال تقتضي وجوب
الاتيان، حتى يقطع بالامتثال، وكذا استصحاب عدم الاتيان. وعلى فرض
تمامية أدلة الباب، لا تعارض بينها وبين قاعدة الاشتغال، لورودها عليها، كما
لا تعارض بينها وبين الاستصحاب، إما من جهة حكومتها عليه، وإما من جهة
خلوها عن المورد لو اخذ بالاستصحاب ورفع اليد عنها، كما يأتي انشاء الله تعالى.
302

المقام الثالث
الدخول في الغير إن كان محققا للتجاوز، فلا اشكال في
اعتباره، والا ففي اعتباره وعدمه وجهان، منشأهما اختلاف اخبار الباب.
ويظهر من الصحيحة ورواية ابن جابر اعتباره، ومن بعض الاخبار الاخر عدم
اعتباره، فهل اللازم تقييد ذلك البعض بما دل على اعتباره، كما ذهب إليه
شيخنا المرتضى قدس سره، أو الاخذ بالاطلاق. كما ذهب إليه بعض؟ ثم على
التقدير الأول، هل الغير الذي اعتبر دخوله فيه يعم كل شئ أو يكون مختصا
بأشياء خاصة؟
والذي يظهر لي هو عدم اعتبار الدخول في الغير مطلقا، لاطلاق الموثقة
(كل ما شككت مما قد مضى فأمضه كما هو) وكذا ذيل موثقة ابن أبي يعفور
(إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه).
فان قلت لا وجه للاخذ بالاطلاق مع وجود الأخبار الدالة على القيد،
وأيضا الموثقة وإن كان ذيلها مطلقا، ولكن ظاهر صدرها اعتبار الدخول في
الغير، فكيف يمكن الاخذ باطلاق الذيل، مع ما ذكر من القيد في الصدر؟
(قلت) ما ذكر فيه الدخول في الغير ليس ظاهرا في القيدية، لامكان
وروده مورد الغالب. والقيد الذي يصح وروده مع الغالب لا يوجب التصرف في
ظاهر المطلق الذي استقر ظهوره.
نعم لو قلنا بان وجود القدر المتيقن في الخطاب مانع من الاخذ
بالاطلاق - كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ دام بقاه - لا يمكن التمسك بموثقة
ابن أبي يعفور، لان المتيقن من موردها هو الدخول في الغير، لما ذكر في الصدر.
ولكن هذا خلاف التحقيق عندي ما لم يصل إلى حد الانصراف، وعلى فرض
القول بذلك يكفينا اطلاق الموثقة السابقة.
(فان قلت): إن الظاهر من رواية ابن جابر - (ان شك في الركوع
303

بعد ما سجد، وان شك في السجود بعد ما قام، فليمض) - ان ذكر الدخول في
الغير ليس لمجرد كونه محققا للتجاوز غالبا، إذ لو كان من هذه الجهة، لما صح تعيين
ذلك الغير في السجود والقيام، لوجود امر آخر يتحقق به التجاوز سابقا عليهما،
كالهوى والنهوض للقيام، فالتحديد في الرواية - مضافا إلى دلالته على عدم كفاية
مجرد التجاوز - يدل على عدم كفاية الدخول في كل امر غير ما هو المشكوك، بل
يعتبر كون ذلك الامر مما اعتبر في المركب بعنوانه الخاص، فلا يكفي مثلا الهوي
الذي هو مقدمة للسجود، والنهوض الذي هو مقدمة للقيام.
(قلت) إن الهوى والنهوض وان كانا يتحقق بهما التجاوز لكن لا يتحقق
الشك في الركوع في حال الهوى غالبا، (119) وكذا في السجود في حال النهوض،
لقربهما من المشكوك فيه، فيمكن أن يكون ذكر السجود والقيام في الرواية من
جهة كونهما أول حال يتحقق فيه الشك للغالب في الجزء السابق، لا أن الحكم
منوط بالدخول في مثلها، فتدبر جيدا.
304

المقام الرابع
أنه قد خرج عن الكلية المذكورة الشك في بعض أفعال
الوضوء قبل الفراغ عن أصل العمل، كما لو شك في غسل الوجه، وهو مشغول
بغسل اليد اليمنى، أو شك في غسل اليد اليمنى، وهو مشغول باليسرى، وهكذا،
وهذا من جهة الاخبار والاجماع، بل وألحق بعضهم بالوضوء الغسل
والتيمم.
وكيف كان فحكم الوضوء مما لا اشكال فيه، إنما الاشكال في أن
موثقة ابن أبي يعفور - وهي قوله (عليه السلام): (إذا شككت في شئ من
الوضوء، وقد دخلت في غيره، فشكك ليس بشئ، إنما الشك إذا كنت في شئ
لم تجزه) - تدل على أن الوضوء باق تحت القاعدة المذكورة، بناءا على عود ضمير
غيره إلى الوضوء، لئلا يخالف الاجماع. وحينئذ يستشكل بان اجراء حكم القاعدة
على الوضوء، ودخوله تحتها ليس منوطا بالدخول في غير الوضوء، لتحقق بعض
جزئيات تلك القاعدة قبل الدخول في غير الوضوء أيضا، فمقتضى القاعدة المذكورة
في ذيل الموثقة عدم الاعتناء ببعض الشكوك، وان كان قبل الانتقال من
الوضوء إلى غيره، كما لو شك في غسل جزء من الوجه بعد الدخول وغسل اليد
مثلا، أو شك في أصل غسل الوجه بعد الدخول في غسل اليد، لأنه شك في
الشئ بعد التجاوز.
وقد تفصى شيخنا المرتضى قدس سره عما ذكر، بان الوضوء بتمامه في
نظر الشارع أمر واحد، بملاحظة وحدة اثره، وهي الطهارة، فلا يلاحظ كل فعل
بحياله، فعلى هذا لا يصدق التجاوز الا بالانتقال عن أصل العمل إلى غيره،
وناقش في ذلك شيخنا الأستاذ دام بقاه، بان وحدة الأثر لو كانت موجبة لذلك
للزم أن يكون الشك - في جزء كل عمل قبل الفراغ عنه - شكا فيه قبل التجاوز
عن ذلك الجزء.
305

بيان الملازمة ان سائر الأعمال يشارك الطهارات في وحدة الأثر
وبساطته، مثل أن اثر الصلاة هو الانتهاء عن الفحشاء، فلو كانت الوحدة في الأثر
توجب كون السبب فعلا واحدا في نظر الشرع، فلم لا يوجب في سائر الأفعال هذا.
أقول الظاهر أنه قدس سره لم يرد أن كل فعل له اثر واحد هو واحد في
نظر الشارع، حتى يرد عليه ما افاده دام بقاه، بل المراد أن المكلف به في الوضوء
- لكونه هي الطهارة في الحقيقة والافعال الخارجية محصلة لها - صح ان يلاحظ
الشارع تلك الأفعال أمرا واحدا من جهة وحدة ما يراد فيها. وبهذه الملاحظة
ليس لها اجزاء حتى يكون الشك في السابق منها - بعد الدخول في اللاحق - من
افراد الشك بعد التجاوز. والدليل على هذه الملاحظة تطبيق هذه الكلية في
الموثقة على الشك في جزء من اجزاء الوضوء، بعد الفراغ منه.
والحاصل أنه بعد الاستفادة من الاخبار - أن الشك في جزء من الوضوء
إن كان بعد الوضوء فلا يعتنى به، لكونه من أفراد الشك في الشئ قبل التجاوز
- نستكشف أن أفعال الوضوء كلها في نظر الشارع بمنزلة فعل واحد، والمصحح
لهذه الملاحظة - مع كونها متعددة في الخارج - هو وحدة المسبب، وهي الطهارة
التي هي المكلف به في الحقيقة.
هذا، ثم تفصى دام بقاه عن أصل الاشكال بما مر سابقا في المقام الأول،
وحاصله أن المستفاد من الاخبار قاعدتان: الأولى قاعدة الشك بعد المحل،
والثانية قاعدة الشك بعد التجاوز والفراغ، والأولى مختصة باجزاء الصلاة وما
بحكمها، والثانية أعم منها ومن سائر الأبواب. والمذكورة ذيل الموثقة هي
القاعدة الثانية، فلا اشكال.
وأما شمول ذيل الموثقة للشك في صحة بعض الاجزاء بعد الفراغ منه
- والانتقال إلى جزء آخر، كما إذا شك في غسل جزء من الوجه، بعد الشروع
بغسل اليد مثلا - فيلزم التهافت، إذ كما يصح اعتبار أنه شك في الشئ قبل
المضي - لأنه شك في شئ من الوضوء قبل الانتقال عنه إلى حال أخرى، فيجب
الالتفات إليه - صح اعتبار أنه شك في الشئ بعد المضي عنه، لأنه شك في
306

شئ من عسل الوجه مع التجاوز عنه، فيجب عدم الالتفات إليه.
فيجاب عنه (أولا) بأنه لا اختصاص لهذا الاشكال بالطهارات، بل يعم
سائر المركبات مما كان له اجزاء مركبة أو مقيدة من العبادات والمعاملات مثل
ما إذا شك في جزء من الفاتحة بعد الفراغ منها وقبل الفراغ من الصلاة.
والتفصي عن الكل بان المراد من الشئ في ذيل الموثقة وغيرها هو مثل
الوضوء والغسل والصلاة مما له عنوان شرعا وعرفا بالاستقلال يقينا وبلا اشكال،
كما تشهد به صحيحة زرارة في الوضوء، ومثل خبر كلما مضى من صلاتك
وطهورك، وغيرهما من الاخبار. ومعه لا يمكن ان يراد من العموم والاطلاق في الموثقتين الاجزاء المركبة، كي يلزم التهافت. انتهى ما أردنا ذكره من كلامه
ملخصا دام بقاه.
أقول وأنت خبير بان وحدة مضمون الأخبار الواردة في المقام تأبى
عن الحمل على القاعدتين (120) فإنها بين ما رتب عدم الاعتناء فيها على الشك
في الشئ بعد الخروج عنه، وما رتب عليه بعد المضي عنه، وما رتب عليه بعد
التجاوز. ولا شك في وحدة هذه الألفاظ الثلاثة بحسب المعنى، فيحمل بعضها
على الشك في الوجود بعد المحل - والآخر على الشك في الصحة بعد التجاوز
عن اعمل - مما لا يساعد عليه فهم العرف. وحيث إن المراد في بعض الاخبار
307

هو الشك في الوجود - كما في صحيحة زرارة ورواية ابن جابر من جهة الأمثلة
المذكورة فيها - تعين حمل الباقي عليه.
هذا مضافا إلى أن المشكوك في موثقة ابن أبي يعفور إنما هو شئ من
الوضوء لا نفسه باعتبار جزء منه أو قيده (121) فالشك المذكور في الكبرى لابد
وان يحمل على الشك في الجزء أو القيد، حتى يصير كبرى لما ذكر في الصدر.
وحينئذ فيرجع ضمير قوله (عليه السلام) لم تجزه إلى ذلك الشئ المفروض،
ولا ينطبق هذا الا على الشك في الشئ بعد المحل، فتدبر.
نعم يمكن أن يقال إن قاعدة الشك بعد الفراغ قاعدة أخرى تستفاد من
بعض الاخبار في خصوص الوضوء والصلاة، مثل صحيحة زرارة في باب الوضوء،
ومثل ما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (كلما شككت فيه بعد
ما تفرغ من صلاتك فامض) وأمثال ذلك من الروايات. وحينئذ فكل شك
تنطبق عليه القاعدتان يلغى من جهتهما، وكلما تنطبق عليه إحداهما يلغى
308

أيضا من جهتها، ولا يعارضها مفهوم الأخرى، لان المفهوم في كل من القاعدتين
بيان عدم المقتضى لالغاء الشك، وان الرجوع إلى الشك من باب القاعدة،
مع امكان أن يقال بعدم المفهوم للدليل المفيد لقاعدة الشك بعد الفراغ في باب
الصلاة، لأنه لم يجعل الموضوع فيه الشك والفراغ شرطا خارجا عنه، كما هو شأن
كل قضية شرطية سيقت لبيان المفهوم، بل جعل الشك بعد الفراغ موضوعا
للحكم، وأداة الشرط الموجودة في بعضها إنما جئ بها لبيان تحقق الموضوع، كما لا يخفى على المتأمل.
ولو سلمنا ثبوت المفهوم لكل منهما فلا يقبل المعارضة مع المنطوق، كما
لو قال الشارع: إذا بلت فتوضأ مثلا، ثم قال إذا نمت فتوضأ، فإنه لا ينبغي توهم
أن منطوق أحدهما معارض مع لمفهوم الآخر، فتدبر.
فان قلت: الشك في المركب بعد الفراغ مسبب عن الشك في الجزء
أو القيد، والشك في السبب تشمله الأخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد
المحل وقد تحقق أن القاعدة الجارية في الشك السببي مقدمة على القاعدة
الجارية في الشك المسببي. وحينئذ لا يبقى للشك بعد الفراغ مورد
الا نادرا، (122) كما لو شك في الجزء الأخير وقد فرغ عن العمل بواسطة
309

الاشتغال بأمر آخر مغاير له، ولا يحسن اعطاء قاعدة كلية لأجل مورد نادر.
قلت: هذا إنما يصح إذا اعتبر المشكوك في القاعدة بعد الفراغ عن مجموع
العمل، بلحاظ الخلل في بعض ما اعتبر فيه. وأما إذا اعتبر نفس ما اعتبر فيه من
القيد أو الجزء، كما في قوله (عليه السلام) (كلما شككت فيه بعد ما تفرغ من
صلاتك..) فليس هناك شكان، حتى يكون أحدهما مسببا عن الآخر، بل
علق الحكم في إحدى القاعدتين على الشك في الجزء أو القيد، بعد انقضاء
المحل، وعلق في الأخرى عليه أيضا، بعد الفراغ عن مجموع العمل.
وأما تطبيق القاعدة على الشك في بعض أفعال الوضوء كما في الموثقة،
فتصحيحه إما بما افاده شيخنا المرتضى قدس سره. وقد عرفت عدم ورود ما أورده
عليه شيخنا الأستاذ دام بقاه، وإما بان يقال: إن المستفاد من الموثقة هو ان
الشك في شئ من الوضوء بعد الوضوء لا يعتنى به، من جهة انه من افراد الشك
في الشئ بعد التجاوز، ولا يستفاد منها ومن غيرها أن الشك في شئ من
الوضوء قبل الفراغ عن أصل الوضوء يعتنى به، من جهة انه شك في الشئ قبل
التجاوز، بل يمكن أن يكون الشك قبل تمام الوضوء، مع كونه من افراد الشك
بعد المحل يعتنى به، لكون هذه القاعدة مختصة به إذ لا منافاة بين بقاء فرد من
افراد الشك بعد المحل في باب الوضوء تحت القاعدة، وخروج الباقي.
وحينئذ نقول ذكر القاعدة في الموثقة إنما هو من جهة الاجراء على الفرد
الباقي، لا أنها تدل على أن الشك في باب الوضوء داخل تحت القاعدة من دون
تخصيص أصلا.
والحاصل أنه لم يظهر من الاخبار أن الاعتناء بالشك في جزء من
310

الوضوء ما دام مشتغلا به من حيث كونه داخلا في افراد الشك قبل التجاوز،
وأن الشك بعد التجاوز في باب الوضوء منحصر بالشك بعد تمام العمل (123)
حتى يحتاج في التوجيه إلى ما افاده شيخنا المرتضى قدس سره، أو إلى ما أفاده
شيخنا الأستاذ دام بقاه. غاية الأمر أن الموثقة السابقة تدل على أن الشك - في
شئ من الوضوء بعد الفراغ عنه - لا يعتنى به، لكونه من جزئيات الشك في
الشئ بعد المحل. ولولا الاجماع والأخبار الصحيحة الآمرة بوجوب الاعتناء بالشك
ما دام مشتغلا بالوضوء، لقلنا - بمقتضى القاعدة ان الشك - في غسل اليد
اليمنى بعد الشروع في اليسرى، وكذا الشك في جزء منها بعد الفراغ عنها - لا يعتنى
به. لكن الاخبار والاجماع يخصصان القاعدة في الشكوك المتعلقة باجزاء
الوضوء بعد المحل، غير الشك الذي يكون كذلك بعد الوضوء. هذا.
المقام الخامس
قد عرفت - مما ذكرنا سابقا - أن الشك في الشرط حكمه حكم
الشك في الجزء، لان الشرط أيضا امر يشك في وجوده، وله محل خاص، فلو
تجاوز محله تشمله العمومات.
311

والكلام هنا في أنه إن أحرز الشرط بهذه القاعدة - بواسطة مضى محله -
هل يكفي للمشروط الآخر الذي محله باق بالنسبة إليه أم لا؟ (مثلا) لو شك بعد
صلاة الظهر في أنها كانت مقرونة بالطهارة أم لا، فلا شبهة في مضى محل الطهارة
بالنسبة إلى صلاة الظهر، فتشمله العمومات، فهل يكون المكلف بمقتضى تلك
الأدلة واجدا للطهارة، حتى يجوز له الدخول في العصر، من دون تحصيل الطهارة،
أم لا تدل الاعلى صحة صلاة الظهر، لان محل الطهارة مضى بالنسبة إليها. واما
بالنسبة إلى صلاة العصر فمحلها باق، فيدخل بالنسبة إليها في الشك في الشئ
قبل انقضاء المحل.
ويمكن تفريع هذا المطلب على أن الأدلة هل يستفاد منها الطريقية، بمعنى
أن الشاك في شئ بعد التجاوز جعل له طريق إلى احراز الواقع، أولا يستفاد
منها الا حكم الشك كسائر القواعد المقررة للشاك، نظير أصالة البراءة
والاستصحاب وغير ذلك.
فان قلنا بالأول فيكتفى به لمشروط آخر أيضا، لان الشخص المفروض
واجد للشرط واقعا بحكم الطريق الشرعي. والمفروض أنه لم يرتفع، على تقدير
وجوده، ويستلزم وجوده أولا بقاءه. ومثل هذا اللازم يؤخذ به في الطرق الشرعية.
وأما ان قلنا بالثاني، فلا يكتفى به لمشروط آخر، لان الشرط من هذه
الجهة ليس مما تجاوز محله. وهذا ظاهر.
ولما كان المطلب متفرعا على طريقية القاعدة وعدمها، فليتكلم في ذلك
312

ونقول: إن ظاهر الأخبار المذكورة في صدر المبحث كونها من القواعد المقررة
للشاك، نعم ما يوهم - كونها معتبرة من باب الطريقية تعليل الحكم في
بعض الاخبار بكونه حين العمل أذكر، مثل رواية بكير بن أعين (في الرجل
يشك بعد ما يتوضأ، قال (ع) هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)، فان الظاهر
منه أن الوجه في الغاء الشك وقوع المشكوك فيه في محل بموجب العادة والغلبة.
وفيه منع، إذ فرق واضح بين جعل الظن الحاصل من العادة معتبرا، كما
هو مفاد الطريق، أو كونها علة لتشريع الحكم للشاك، ولا يستفاد من الخبر
الأول، فيبقى ظهور الأخبار السابقة من كون هذا الحكم من الاحكام المقررة
للشاك بحاله، فليتدبر.
المقام السادس
- قد يتراءى في بادي النظر لزوم التهافت في الأخبار السابقة،
إذ لفظ الشئ كما أنه يصدق على جزء المركب كذلك يصدق على
مجموعه، فحينئذ لو شك في جزء من المركب بعد الفراغ منه، فذلك الجزء
مشكوك فيه، ومجموع المركب أيضا مشكوك فيه، إذ الشك في الجزء يستلزم
الشك في الكل، فههنا فردان من الشك: أحدهما الشك في الجزء، والآخر
الشك في الكل، والأول داخل في الشك في الشئ بعد تجاوز محله، والثاني
داخل في الشك في الشئ قبل تجاوز محله، وبالاعتبار الثاني يجب الاعتناء به
دون الأول.
والجواب ان الظاهر من الشك في الشئ هو ان يكون الشك متعلقا
به ابتداءا (124) لا ان يكون مشكوكا بواسطة امر آخر، وما يشك فيه ابتداءا
313

هو الجزء وان كان يصدق نسبة الشك إلى الكل من جهة استلزام الأول
للثاني.
وإن أبيت فنقول لزوم الاعتناء بالشك - إذا كان قبل الخروج
المستفاد من الاخبار - ليس حكما تعبديا، حتى يقع التعارض في مدلول الاخبار،
بل إنما هو على طبق القاعدة العقلية المقتضية لوجوب اتيان كل ما شك فيه مما
اعتبر في المأمور به، غاية الامر خروج ما شك فيه بعد القضاء المحل. وأما
المشكوك فيه قبل انقضاء محله، فلزوم الاتيان به من باب القاعدة الأولية.
وحينئذ نقول: الشك المفروض - من حيث أنه شك في الجزء - لو
شمله الدليل الدال على عدم لزوم الاعتناء به، فليس في البين ما يعارضه، لأن الشك
في الكل وان كان شكا في الشئ قبل انقضاء محله، لكن عرفت أن
الحكم بالإعادة فيه من باب قاعدة الاشتغال، وبعد ما حكم الشارع بالغاء
الجزء المشكوك فيه - كما هو مفاد اجزاء الدليل في الشك في الجزء لا يبقى
محل لحكم العقل، كما هو ظاهر.
المقام السابع
لا اشكال في أن المراد بالشك الوارد في الاخبار هو الشك الحادث
بعد التجاوز، لا الأعم منه ومن الباقي من أول الامر، فلو شك من
حين الدخول في الصلاة في كونه متطهرا، فلا يجوز له الدخول فيها، بملاحظة أن
هذا الشك يصير بعد انقضاء العمل شكا في الشئ بعد تجاوز المحل. وهذا
واضح. وهذا الشك الحادث بعد العمل على اقسام:
314

(أحدها) - أن يكون المكلف غافلا عن صورة العمل، بمعنى انه لا يعلم
الان هل حرك خاتمه حين غسل اليد أم لا، وهذا على قسمين:
(أحدهما) - أنه يعلم أنه على تقدير عدم تحريكه الخاتم، كان هذا
مستندا إلى السهو، والثاني أنه يعلم أنه على هذا التقدير كان مستنده العمد، وهنا
قسم ثالث وهو أنه على هذا التقدير لا يعلم أنه مستند إلى السهو أو العمد، لكن
حكم هذا القسم يعلم ببيان القسمين الأولين، والقسم الثالث أن يعلم كيفية
العمل، مثل أنه يعلم بان كيفية غسل يده كانت برمس يده في الماء، وانه لم
يحرك خاتمه قطعا، وانه كان غافلا حين العمل، ولكن شك الآن في أن ما
تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا؟
إذا عرفت هذا، فنقول: أما القسم الأول فدخوله في الأدلة مما لا اشكال
فيه. وأما القسم الثاني فشمول الأخبار المطلقة له مما لا اشكال فيه أيضا. وأما
تطبيق ما علل فيه بكونه حين العمل أذكر، فتقريبه أن قوله (ع) (هو حين يتوضأ
أذكر) بمنزلة الصغرى للكبرى المطوية، فكأنه قال (ع) هو حين يتوضأ أذكر وكل
من كان متذكرا حين العمل فلا يتركه عمدا، فعلى هذا تنفع هذه القضية لمن
احتمل ترك الشئ سهوا، وكذا لمن احتمل تركه عمدا، كما لا يخفى.
وفيه أن الظاهر من التعليل المذكور عدم الاعتناء بترك الشئ سهوا،
لكون الانسان متذكرا حين العمل غالبا. وأما عدم تركه عمدا فهو مفروغ عنه في
الأسئلة والأجوبة الواردة في الاخبار.
ومن هنا يظهر الاشكال في القسم الآخر الذي ذكرنا أنه يعلم حكمه.
والحاصل أن قوله (ع) (هو حين يتوضأ...) ليس متعرضا لالغاء احتمال
التعمد.
وأما القسم الثالث ففي شمول الأدلة له وعدمه وجهان: من الاطلاق
وظهور التعليل المذكور فيما إذا احتمل التذكر حين العمل.
ويمكن أن يقال: أن قوله (ع) (هو حين يتوضأ...) ليس من قبيل العلة،
بحيث يكون الحكم دائرا مداره، بل هو من قبيل الحكمة لأصل تشريع الحكم
315

للشك بعد الفراغ بنحو الاطلاق. والدليل على ذلك أمران:
أحدهما - خلو سائر الأخبار المطلقة مع كونها في مقام البيان عن ذكر
تلك العلة.
والثاني ما رواه ثقة الاسلام، عن العدة، عن أحمد بن محمد، عن علي بن
الحكم، عن الحسين بن أبي العلاء، قال: (سألت أبا عبد الله (ع) عن الخاتم
إذا اغتسلت؟ قال (ع) حوله من مكانه، وقال في الوضوء تديره، فان نسيت حتى
تقوم في الصلاة، فلا آمرك ان تعيد الصلاة) واحتمال أن يكون السؤال عن
الخاتم الوسيع الذي يصل الماء تحته قطعا - وإنما أمره بالتحويل والإدارة
استحبابا، أو حمل النسيان على الغفلة بعد العمل عن الإدارة وعدمها حينه - بعيد
في الغاية.
وعلى هذا يمكن قويا الاخذ باطلاقات الاخبار، وحمل التعليل المذكور
على الحكمة، والحكم بان الشك الحادث بعد التجاوز مطلقا - سواء كان
غافلا عن صورة العمل أم كان ملتفتا إليها، وسواء كان احتمال تركه مستندا إلى
السهو أم كان مستندا إلى العمد - لا اعتبار به. هذا تمام الكلام في المقام وعليك
بالتأمل التام.
أصالة الصحة
بقى الكلام في أصالة الصحة في فعل الغير، وبيان مدركها. وقد استدل
عليها بالأدلة الأربعة. أما الكتاب فبآيات منه:
(منها) قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا) ومبنى الاستدلال على أن
المراد من القول هو الظن والاعتقاد، ووجه الدلالة على هذا أن التكليف المتعلق
بالاعتقاد لكونه أمرا غير اختياري راجع إلى ترتيب الأثر، فيجب على المكلفين ان
يعاملوا الناس في أفعالهم معاملة الفعل الصحيح.
(لا يقال) تحصيل الاعتقاد امر اختياري إذا كانت مقدماته اختيارية.
(لأنا نقول) نعم قد يكون كذلك، وقد يحصل قهرا، بل في غالب
316

الأحوال يكون كذلك، فلا يمكن جعله موضوعا للالزام بنحو الاطلاق.
و (منها) - قوله تعالى (فاجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن اثم)
تقريب الاستدلال، أن ظن الخير ليس اثما قطعا، فالظن الذي يكون اثما ومنهيا
عنه هو ظن السوء، والنهى عنه راجع في الحقيقة إلى النهى عن ترتيب الأثر
السيئ حين الظن به، لما مضى من عدم قابلية الظن للالزام، فيجب ترتيب آثار
الحسن والصحة، لعدم الواسطة.
و (منها) قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) بناءا على أن الخارج من عمومه
ليس الا ما علم فساده، لأنه المتيقن.
و (منها) - قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) بالتقريب
المتقدم. وأنت خبير بما في المجموع من الضعف.
أما الآية الأولى، فلان الظاهر منها مطلوبية القول الحسن في مقام
المحاورة، ولا ربط لها بترتيب آثار الصحة على فعل الغير، وهي نظير قوله تعالى في
توصية موسى (ع) وهرون (قولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى).
وأما الثانية فلان عدم الواسطة - بين السوء والحسن أو الصحة
والفاسد - لا يلازم عدم الواسطة في المعاملة وترتيب الأثر، إذ رب عقد لا يعامله
الانسان لا معاملة الصحة، ولا معاملة الفساد، وان كان في الواقع لا يخلو من
أحدهما.
واما الآيتان الأخيرتان، فمضافا إلى عدم شمولهما لتمام المدعى، إذ هما
ليستا في خصوص العقود، فالاستدلال بهما مبنى على جواز التمسك بعموم العام في
الشبهات المصداقية، وهو خلاف المشهور.
وأما السنة (فمنها) - ما في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (ضع
أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنن بكلمة خرجت
من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير سبيلا).
و (منها) - قوله (عليه السلام) لمحمد بن فضل: (يا محمد كذب
سمعك وبصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة أنه قال، وقال لم
317

أقل، فصدقه وكذبهم).
و (منها) - ما ورد مستفيضا (أن المؤمن لا يتهم أخاه، وأنه إذا اتهم
انماث الايمان في قلبه، كانمياث الملح في الماء، وأن من اتهم أخاه، فلا حرمة
بينهما، وأن من اتهم أخاه فهو ملعون ملعون) إلى غير ذلك من الاخبار.
ولا يخفى ما في الكل، خصوصا رواية ابن الفضل، فان رد شهادة خمسين
قسامة - في مقابل انكار الأخ المؤمن وتصديقه فيما يترتب عليه الحكم
الشرعي - مما يقطع بخلافه، فان القسامة هي البينة العادلة، والأولى حملها على
مورد لم يكن لما تشهد به القسامة اثر شرعي، فتكون هذه الرواية واردة في مقام
آداب المعاشرة، ومحصل مفادها - على ما ذكرنا - أنه إذا رأيت أو سمعت - ولو من
خمسين قسامة - صدور قول أو فعل من أخيك لا ينبغي صدوره في مقام المعاشرة،
فلا ترتب الأثر على ذلك، واجعل المعاملة بينك وبينه كما لم يصدر منه شئ.
وأما الاجماع القولي، فيظهر - لمن تصفح فتاوى الفقهاء، - أنهم لم يختلفوا
في أن قول مدعى الصحة مطابق للأصل. والاجماع العملي يعرف من أن سيرة
المسلمين في جميع الأعصار على حمل الأعمال على الصحيح، وترتيب آثار الصحة
في عباداتهم ومعاملاتهم. وهذا واضح من دون سترة. الظاهر أن بناء العقلاء على
ذلك من دون اختصاص بالمسلمين. ويستكشف رضا الشارع بضميمة عدم
الردع. ويمكن أن يكون هذا أيضا مدركا للفتاوى، لا انهم اطلعوا على ما لم تطلع
عليه.
وكيف كان فاعتبار أصالة الصحة في فعل الغير اجمالا أظهر من أن يحتاج
إلى تكلف الاستدلال. ولا يخفى أن بناء العقلاء والسيرة المستمرة على أن
المحمول عليه هو الصحة الواقعية، دون الصحة عند الفاعل، وهذا واضح عند من
نظر إلى حالهم في المعاملات والعبادات، ولكن الحمل على الصحة الواقعية في
بعض الصور مشكل.
وتفصيل الصور هو أن الشاك في الفعل الصادر من غيره إما أن يعلم
بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده واقعا، وإما أن يعلم بجهله بذلك، وإما أن
318

لا يعلم حاله أصلا. والصورة الثانية على اقسام: لان إما أن يعلم باستناد جهله إلى
خطأه في الاجتهاد المعذور فيه أو التقليد كذلك، وإما أن يعلم بكونه عن تقصير.
وإما أن يجهل ذلك، وحيث أنه ليس في البين دليل لفظي ينظر فيه من حيث
العموم والاطلاق، فلابد من أن يؤخذ بالمقدار المتيقن من السيرة. ولا اشكال في
تحققها في الصورة الأولى. والظاهر تحققها في الصورة الأخيرة أيضا. وأما تحققها
في الوسطى بتمام أقسامها، ففي غاية الاشكال. وعليك بالتتبع في هذا المجال.
319

تعارض الاستصحاب مع القواعد والأدلة)
خاتمة في تعارض الاستصحاب مع ساير القواعد المقررة للشاك، وفي
تعارض الاستصحابين. ونذكر ذلك في ضمن مقالات:
المقالة الأولى)
(في تعارضه مع القاعدة المقتضية لعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز)
ومجمل القول في ذلك: أنه إن قلنا باعتبار القاعدة من باب الطريقية،
فوجه تقديمها على الاستصحاب واضح، وإن قلنا به من باب التعبد، فمقتضى
تقديمه على سائر الأصول وإن كان تقديمه عليه أيضا، إلا أنه لو قلنا به لزم لغوية
القاعدة، (125) إذ قل ما يتفق عدم استصحاب في موردها مخالفا كان أو موافقا،
ولو بنى على تقديم الاستصحاب على القاعدة، كتقديمه على سائر الأصول، لم يبق
لها مورد إلا نادرا غاية الندرة، فاللازم تقديمها عليه من هذه الجهة.
320

(المقالة الثانية)
(في تعارضه مع أصالة الصحة في فعل الغير)
ومجمل القول في ذلك أن الشك في صحة الفعل الذي وقع في الخارج
ناش من الشك في اخلال ما اعتبر فيه شرطا أو شطرا، وهذا على قسمين
أحدهما ما يكون مجرى الاستصحاب، كالبلوغ واعتبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو
الوزن، والثاني مالا يكون كذلك، كما إذا شك في الصحة لأجل الشك في
تحقق ما اعتبر قيدا للعقد، كالعربية مثلا، إذ لا يكون له حالة سابقة كما لا يخفى.
اما القسم الثاني فمجرى الاستصحاب فيه هو المجموع الملتئم مما اعتبر
فيه، إذ هو مسبوق بالعدم، ولكن الشك في بقاء ذلك على العدم مستند إلى
الشك في أن هذا الموجود هل هو مصداق لما رتب عليه الأثر شرعا أم لا، ومقتضى
أصالة الصحة كونه مصداقا له، فهي حاكمة على الاستصحاب.
وأما القسم الأول، فان قلنا باعتبار أصالة الصحة من باب الطريقية،
فتقدمها عليه واضح. وأما إن قلنا بكونها من الأصول العملية، فتقدمها عليه
مشكل، لأنه كما أن مقتضاها كون الواقع جامعا لتمام ما اعتبر فيه، كذلك
مقتضاه عدم تحقق الشرط الكذائي مثلا.
ولا يتوهم أن الاستصحاب حاكم على القاعدة، من حيث إن الشك في
الصحة مستند إلى الشك في تحقق ما اعتبر فيه. ومقتضى الاستصحاب عدمه، كما
هو المفروض لان ما يصح بالقاعدة ليس عنوان الصحة، حتى يقال: إن الشك
فيها ناش من الشك فيما اعتبر في الموضوع، بل مفادها تحقق ما يكون مصداقا
للصحيح في الخارج، مثلا لو شك في صحة عقد وقع في الخارج، من جهة
الشك في بلوغ العاقد، فمقتضى أصالة الصحة صدوره من البالغ، ومقتضى
الاستصحاب عدم بلوغ العاقد. ومن المعلوم عدم حكومة أحدهما على الآخر.
ويمكن ان يقال: بحكومة الاستصحاب من جهة أن مجراه نفس القيد
المشكوك فيه، ومجرى أصالة الصحة هو العقد من حيث تقييده بما اعتبر فيه. ومن
321

المعلوم أن الشك - في تقييد العقد بكونه صادرا من البالغ - ناش من الشك في
بلوغ العاقد.
وقد يتوهم تقدم القاعدة على الاستصحاب، من جهة أن أصالة عدم بلوغ
العاقد لا تثبت إلا أن هذا العقد صدر من غير البالغ، وعدم الأثر إنما هو مستند
إلى عدم وقوع العقد الصادر من البالغ أصلا. وهذا الأصل لا يثبت ذلك الاعلى
القول بالأصل المثبت، إذ المفروض انحصار الكلى في الفرد الموجود الذي حكم
عليه بمقتضى الاستصحاب أنه من غير البالغ. وحيث لا نقول بالأصل المثبت،
ولا نحكم بعدم صدور العقد الصادر من البالغ مطلقا، فان اقتضت القاعدة وقوع
ما هو سبب مؤثر - أعني العقد الصادر من البالغ - فلا يعارضه شئ.
وفيه: أن استصحاب عدم البلوغ يقتضى عدم حصول النقل بواسطة العقد
الموجود. والمفروض عدم عقد آخر مؤثر في النقل، فيصح الحكم بعدم النقل
مطلقا، لان أسبابه بين مقطوع العدم وما هو بمنزلة العدم.
لا يقال ترتب عدم الكلى على عدم الافراد ترتب عقلي، فلا يمكن المصير إليه
إلا بالأصل المثبت.
لأنا نقول: لا نحتاج في الحكم بعدم النقل إلى الحكم بعدم الجامع بين
الخصوصيات، بل يكفي في ذلك عدم الوجودات الخاصة، إذ ليس المؤثر
الا تلك. نعم لو كان المؤثر هو الجامع من دون ملاحظة الخصوصيات لما صح
الحكم بعدمه باجراء الأصل في الافراد، إلا على القول بالأصل المثبت.
والحاصل أن تنافى مقتضى الأصلين واضح. (126)
ومقتضى ما قلناه سابقا حكومة الاستصحاب على القاعدة. إلا أن يقال
بتقدم أصالة الصحة من جهة ورودها غالبا في موارد الاستصحاب الموضوعية،
ولو لم نقل بذلك تصير كاللغو.
322

المقالة الثالثة
(في تعارضه مع أدلة القرعة)
ومجمل القول في ذلك: أن موضوع القرعة جعل في بعض الاخبار الأمر
المشكل، وفي آخر المجهول والمشتبه، فان أخذنا بمفاد الأول، فتقدم
الاستصحاب عليها واضح، لارتفاع الاشكال فيما إذا ورد حكم من الشرع ولو
ظاهرا.
وان أخذنا بالثاني، فنقول بتقدم الاستصحاب أيضا، لأعمية دليلها
منه، فلابد من تخصيص دليلها بدليله. ومن هنا يعرف حالها مع سائر الأصول
العملية التي كان مدركها تعبد الشارع بها، إذ ما قلناه في تقديم الاستصحاب عليها
جار في الكل
نعم ان كان مدركها العقل، فالقرعة واردة عليها، لكن بشرط الانجبار
بعمل الأصحاب، لان كثرة التخصيص أوجبت وهنا في عموم أدلتها.
(فان قلت) كثرة التخصيص إن وصلت إلى حد الاستهجان، فلا يجوز
العمل به أصلا، للعلم بعدم كون العام المفروض على الصورة التي وصلت بأيدينا،
بل كان محفوفا بقرينة حالية أو مقالية لم يلزم بملاحظتها هذا المحذور، فيصير اللفظ
مجملا بالنسبة إلينا، لعدم علمنا بتلك القرينة تفصيلا. وان لم تصل إلى الحد
المذكور، فهي إن لم توجب قوة الظهور لا توجب وهنا فيه يحتاج جبره إلى عمل
الأصحاب به، بل يحتج به على من لم يعمل به.
(قلت) نختار الشق الأول، ونقول إن عمل الأصحاب يكشف عن أن
اللفظ المفروض مع تلك الضميمة التي كانت معه يشمل المقام، كما أن
إعراضهم عنه - مع كونه نصب أعينهم يكشف عن عدم شموله للمقام
323

كذلك.
ولنا أن نختار الشق الثاني، ونقول: إن كثرة التخصيص على هذا وإن لم
تكن موجبة للوهن بنفسها، لكنها لا توجب الوهن إذا علم تفصيلا موارد
التخصيص بالمقدار الذي علم اجمالا به. وأما إذا لم يعلم ذلك المقدار، فلا يجوز
العمل بالعام، إلا إذا أحرز أن مورد العمل ليس من أطراف العلم الاجمالي.
وعمل الأصحاب يوجب ذلك، كما لا يخفى. فلو احتملنا تخصيص المورد
المفروض أيضا بعد خروجه عن أطراف العلم الاجمالي، كان احتمالا بدويا غير
مانع من الاخذ بأصالة العموم.
المقالة الرابعة
(في تعارضه مع قاعدة اليد)
إعلم أن مقتضى التأمل أن اعتبار اليد من باب الطريقية، لبناء العرف
والعقلاء على معاملة الملكية مع ما في أيدي من يدعى الملكية، ويحتمل في حقه
ذلك. ومعلوم أن ذلك ليس من جهة التعبد، كما في سائر الطرق المعمولة فيما
بينهم، ولا اختصاص لذلك بيد المسلم أيضا، كما هو ظاهر. ويشهد لما قلنا
رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (قال له رجل إذا رأيت)
شيئا في يدي رجل، يجوز لي اشهد أنه له: قال (عليه السلام) نعم، قال الرجل
أشهد انه في يده، ولا اشهد أنه له، فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام)
أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) فلعله لغيره، فمن أين
لك ان تشتريه ويصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز
ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم
يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1) فان الظاهر أن السؤال عن جواز الشهادة على أنه
مالك واقعا، إذ السائل عالم بالملكية الظاهرية بمقتضى اليد، ولذا قال: نعم في
جواب قول الإمام (عليه السلام) أفيحل الشراء منه، وجواز الشهادة على الملكية
واقعا لا يمكن الا مع كون اليد معتبرة على نحو يعامل معها معاملة العلم. ولا ينافي ما
324

قلنا قوله (عليه السلام) - في ذيل الخبر - لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق، فان
الظاهر أن هذا المطلب صار سببا لامضاء الشارع ما هو مرسوم بين الناس من جعل
اليد طريقا إلى الملكية. وعلى هذا تقدمها على الاستصحاب واضح، كما أنه يقدم
كل امارة اعتبرت من جهة كشفها عن الواقع. وسيأتي الوجه في تقديم الامارات
على الاستصحاب انشاء الله تعالى.
هذا مع أنه لو قلنا باعتبارها من باب التعبد لزم أيضا تقديمها، لورودها
موردا يقتضى الاستصحاب خلاف مقتضاها غالبا، فلو بنى على العمل
بالاستصحاب في تلك الموارد الكثيرة لما قام للمسلمين سوق. وهذه العلة هي التي
صارت موجبة لاعتبار اليد كما في الخبر.
(فان قلت) مقتضى كون اليد امارة أنه لو علم بانحصار سبب الملك في
امر خاص، حكم بواسطة تلك الامارة بوقوع ذلك السبب، لأن من شأن الامارة
الاخذ بلوازمها وملزوماتها وملازماتها، مع أن المشهور حكموا بأنه لو اعترف ذو اليد
بكونه سابقا ملكا للمدعى. ينتزع منه العين. وعليه أن يقيم البينة على انتقالها
إليه. ومقتضى امارية اليد على الملكية أماريتها على موجبها، وهو الانتقال من
الخصم إليه، فدعوى ذي اليد الانتقال مطابقة للامارة، فكيف تنتزع منه العين
ويطالب بالبينة؟
(قلت) الوجه في ذلك أن الشارع جعل في باب المخاصمة إقامة البينة
على المدعى والحلف على المنكر، وحصر فصل الخصومة بذلك، وفهم مصاديق
هذين المفهومين موكول إلى العرف، إذ ليس لهما حقيقة شرعية، كما هو الحق.
وعلى هذا نقول: إن كل من صدق عليه عنوان المدعى عرفا يطالب
بالبينة، سواء طابق قوله ظاهرا من الظواهر واصلا من الأصول أم خالف، وكل
من صدق عليه عنوان المنكر، فعليه اليمين كذلك. وتعريف الفقهاء رضوان الله
تعالى عليهم - بان المدعى هو الذي لو ترك ترك، أو الذي يدعى خلاف
الأصل، أو الذي يدعى أمرا خفيا - محمول على بيان الافراد الغالبية، وتميزه عن
المنكر في الجملة.
325

إذا عرفت هذا فنقول: إن كان مال تحت يد أحد يعامله معاملة الملكية،
فادعى الغير أنه ماله، فهذا الغير مدع عرفا، لأنه هو الذي أنشأ الخصومة. وأما
لو أقر ذو اليد باستناد يده إلى انتقال العين إليه من الخصم، فيصير مصب الدعوى
هو الانتقال، ويصير ذو اليد بذلك مدعيا، لأنه لا نزاع بينهما إلا دعوى ذي اليد
الانتقال، وهذه خصومة أنشأها بكلامه، وليس طريق فصل الخصومة إلا إقامة
البينة، منه، أو استخلاف من ينكر الانتقال. نعم لو لم تكن في البين خصومة،
وادعى ذو اليد ملكية ما فيه يده بسبب خاص، يقبل منه بواسطة اليد.
تنبيه
إعلم أن ما قلناه - من أن طريق رفع الخصومة في باب القضاء منحصر
بالبينة والايمان - انما هو فيما إذا كان المنكر في مقابل المدعى. وأما إذا لم يكن
في مقابلة منكر، بان يقول الخصم لا أدرى أصدق ما تقول، أم كذب، كالدعوى
على المورث، مع اظهار الورثة الجهل بذلك، وتصديق المدعى لهم، فان كانت
البينة للمدعى على ما يقول، أخذ بها، والا فلا مانع من الاخذ بسائر القواعد
الموجودة: من قبيل الاستصحاب أو اليد. ويتفرع على ذلك أن العين لو كانت في
يد المدعى وادعى انتقالها من الميت في حال حياته إليه، ولا ينكر ذلك الورثة
جزما، يحكم بكونها ملكا لذي اليد، إذ لا منكر في قباله، حتى يقال إن طريق
توصل المدعى إلى المال منحصر في إقامة البينة، والأدلة الدالة على ذلك موردها
وجود المنكر في قباله، وفى غيره يعمل على القواعد.
ومما ذكرنا يعلم وجه محاجة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أبي بكر المروية
في الاحتجاج، فان دعوى سيدة النساء (عليها السلام) بأن رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أعطاها فدكا في حياته، لم ينكرها أحد على سبيل الجزم، حتى يلزمها
(عليها السلام) إقامة البينة، فانتزاع فدك منها - مع كون يدها ثابتة عليه -
ليس له وجه الا العناد.
326

المقالة الخامسة
(في حاله مع الطرق المعتبرة شرعا)
أعني ما اعتبر من جهة كشفه عن الواقع، وتسمى في الاحكام أدلة
اجتهادية، وفى الموضوعات أمارة فلو ورد في مورد الاستصحاب دليل معتبر أو أمارة
معتبرة على خلاف الحالة السابقة، فلا إشكال في أنه يترك الاستصحاب،
ويعمل بمقتضى ذلك الدليل أو تلك الامارة.
إنما الكلام في وجه ذلك. وقد قال شيخنا المرتضى قدس سره في
غير مورد من كلامه أن تقديم الأدلة أو الامارات على الاستصحاب إنما هو من باب
الحكومة لا التخصيص ولا التخصص، وهي - على ما فسرها في مبحث التعادل
والترجيح - أن ينظر دليل بمدلوله اللفظي إلى دليل آخر، ويكون مبينا لمقدار مدلوله
مسوقا لبيان حاله، نظير الدليل على أنه لا حكم لكثير الشك، أو للشك في النافلة
وأمثال ذلك، بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حكم الشك في عدد ركعات الصلاة.
وعلى هذا فبيان حكومة الأدلة والامارات على الاستصحاب أنه في
هما، وإن كان الشك موجودا ولم يقطع بخلاف الحالة السابقة، وعموم
لا تنفض يشمله لفظا، إلا ان دليل اعتبارهما قد جعل مؤداهما واقعا أوليا
بالتنزيل. ولازم ذلك جعل الشك فيه ملغى بحسب الآثار، فصار مفاد قول
الشارع - صدق العادل فيما أخبرك به، أو صدق الامارة فيما حكمته - ان
شكك في المورد المفروض بمنزلة العدم، ومعنى كونه بمنزلة العدم أنه لا يترتب عليه
ما يترتب على الشك، نظير ما إذا ورد حكم على عنوان العالم، ودل دليل على
عدم كون النحوي عالما، فان مرجع هذا الدليل إلى أن ما جعلنا للعالم في ذلك
الدليل، لا يترتب على النحوي.
هذا، ويشكل بأن الضابط المذكور لا ينطبق على دليل حجية الامارات
والأدلة، ولا على سائر الموارد التي جعل تقديمها من باب الحكومة، كدليل لا ضرر
327

ولا ضرار، ولا شك لكثير الشك. ودليل نفى الحرج وأمثال ذلك، إذ ليس
واحد منها بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول دليل آخر، (127) بل يحكى كل
واحد منها عن الواقع، ولذا لو لم يكن في البين الا هذه القواعد التي جعلت حاكمة
على سائر القواعد، لم يلزم كونها بلا مورد، ولو كانت مبينة لمقدار مدلول قاعدة
أخرى، للزم كونها لغوا وبلا مورد عند عدم تلك القاعدة، لان الدليل الحاكم
على ما ذكره بمنزلة قول القائل (أعني)، ولا يكون هذا صحيحا إلا مع كلام آخر
يكون هذا شارحا له، ونحن نرى أنه لو لم يكن الشك موضوعا للحكم الشرعي
أصلا، وكذا لو لم يدل دليل على حكم الشك في عدد ركعات الصلاة، وكذا لو لم
تكن العمومات أو الاطلاقات تقتضي ثبوت الحكم الضرري والحرجي، لما
كانت حجية للامارات والأدلة، وكذا قول الشارع لا حكم لكثير الشك،
ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام، وما جعل عليكم في الدين من حرج - كان لغوا وبلا
مورد، كما هو واضح. فعلم أن ما ذكر ليس بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل
الآخر.
(ضابط الحكومة)
ولنقدم الكلام في بيان ضابط الحكومة بما عندنا، ثم نتعرض لوجه تقديم
الامارات والأدلة على الاستصحاب وعلى سائر الأصول التعبدية، وانه هل هو من
جهة الحكومة أو الورود. وما توفيقي الا بالله.
328

إعلم أن المراد من قولنا دليل كذا حاكم على كذا أنه يقدم عليه، من
دون ملاحظة الأخصية والأظهرية، بل يقدم بواسطة أدنى ظهور انعقد له.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن كل دليل يكون متعرضا للحكم المستفاد من
الدليل الآخر، وإن لم يكن بلسان ته نزيل الموضوع، فهو مقدم عليه عند العرف،
وان لم يكن أخص، بل كانت النسبة بينهما عموما من وجه، كما إذا قال
المتكلم أكرم العلماء، ثم قال في مجلس آخر: لم احكم أولا احكم باكرام
الفاسق قط (128) فانا نرى أن أهل العرف يجعلون الكلام الثاني قرينة على
الأول، ويحكمون أن المراد من العلماء العدول منهم، مع كون النسبة بين الكلامين
عموما من وجه. وان لم يكن الثاني بمدلوله اللفظي شارحا للكلام الأول، ولذا لو لم
يكن الأول أيضا، لكان الثاني تاما في مفاده. ولعل السر في ذلك أن مدلول قول
المتكلم أكرم العلماء ليس الا جعل ايجاب متعلق باكرام العلماء. وأما أن وجوب
اكرام كل فرد منهم مراد للمتكلم، فهو مفهوم آخر غير المفهوم الأول من القضية.
نعم يحكم السامع - بملاحظة عموم اللفظ، وعدم صدور شئ من ناحية المتكلم
يدل على عدم كون فرد خاص موردا للايجاب - بان وجوب اكرام ذلك الفرد
مراد أيضا.
وبعد ما صدر من ناحيته لفظ يدل بمدلوله المطابقي على عدم صدور هذا
الحكم منه، وإن لم يكن هذا اللفظ شارحا للفظ الأول، بل يكون حاكيا عن
نفس الامر، فلا يبقى مجال للاخذ بأصالة العموم في الكلام الأول.
نعم لو كان الكلام الثاني غير متعرض للحكم بمدلوله الأولى، بل يدل
على جعل الحكم المنافى، كقول المتكلم لا تكرم الفساق، فلا بد من التعارض بين
الكلامين في مورد الاجتماع، لأنه كما أن كون اكرام العالم الفاسق مرادا
للمتكلم ليس مدلولا أوليا لقضية أكرم العلماء، بل يحكم السامع بذلك من جهة
329

القاعدة المسلمة، كذلك كونه مرادا له من قضية لا تكرم الفساق، فيقع
التعارض، فيحتاج إلى ملاحظة الأظهرية إن كانت في البين، والا فيحكم
بالتساقط، ويرجع إلى قاعدة أخرى.
وبعبارة أخرى: في القسم الأول لا يقع التعارض بين الكلامين في ذهن
العرف، حتى يحتاج إلى الترجيح بالاقوائية. ولذا قلنا فيه بأنه يكفي انعقاد أول
ظهور للكلام، بخلاف القسم الثاني. ويحتمل أن يكون هذا أيضا مراد شيخنا
المرتضى، لكنه قد قال في مبحث التعادل والترجيح في ذيل بيان الضابط للحكومة
ما ينافي ما ذكرنا.
هذا، وأما وجه تقديم الأدلة والامارات على الاستصحاب وسائر
الأصول العملية، فكونه من باب الحكومة يبتنى على أن يكون دليل حجيتها
متعرضا لحكم الشك، بمعنى أن قول الشارع: - صدق العادل، أو اعمل
بالبينة - يرجع إلى أن هذا الشك ليس شكا عندي، وما جعلت له حكم
الشك. والانصاف أنه لم يدل دليل الحجية الا على جعل مدلول الخبر واقعا،
وايجاب معاملة الواقع معه. وأما أن حكم الشك لا يترتب على الشك الموجود،
فليس بمدلول لدليل الحجية. ونعم لازم حجية الخبر المنافى للاستصحاب أو سائر
الأصول عدم ترتب حكم الشك عليه، كما أن لازم ترتب حكم الشك عدم
حجية الامارة الدالة على الخلاف. وهذا معنى التعارض.
والأقوى وفاقا لسيدنا الأستاذ طاب ثراه ورود الأدلة والامارات على
الاستصحاب وسائر الأصول التعبدية. (129)
330

وتوضيح ذلك: أنك عرفت في مبحث حجية القطع أن العلم إذا اخذ
في الموضوع، فتارة يعتبر على نحو الطريقية، وأخرى على نحو الصفتية. والمراد من
اعتباره على نحو الطريقية أن المعتبر هو الجامع بينه وبين الطرق المعتبرة، كما أن
المراد من اعتباره على نحو الصفتية، ملاحظة خصوصيته المختصة به، دون سائر
الطرق، وهو الكشف التام المانع عن النقيض.
ونقول هنا: إن الشك في مقابل العلم، أعني كما أن العلم المأخوذ في
الموضوع تارة يلحظ على وجه الطريقية، وأخرى على وجه الصفتية، كذلك
الشك قد يلاحظ بمعنى أنه عدم الطريق، وقد يلاحظ بمعنى صفة التردد القائمة

(1) وسائل الشيعة الجزء 12 - الباب 4 من أبواب ما يكتسب به - الحديث 4.
331

بالنفس، إذ الشك بمعنى عدم العلم، فان لوحظ العلم طريقا، فمعنى الشك الذي
في قباله هو عدم الطريق، وان لوحظ صفة، فكذلك.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن ظاهر الأدلة الدالة على الاستصحاب وسائر
الأصول أن العلم المأخوذ فيها اخذ طريقا، وعلى هذا مفاد قولهم (عليهم السلام):
لا تنقض اليقين بالشك - أنه في صورة عدم الطريق إلى الواقع، يجب ابقاء ما كان
ثابتا بطريق، وهكذا كل ما دل على ثبوت الحكم على الشك، فمفاده دوران
الحكم المذكور مدار عدم الطريق، فإذا ورد دليل على حجية دليل أو امارة، يرتفع
موضوع الحكم الذي كان معلقا على عدم الطريق. والذي يدل على ذلك
- مضافا إلى أنه لا يبعد دعوى ظهور العلم المأخوذ في الموضوع في كونه على نحو
الطريقية عند العرف - ان الأصول العملية والطرق المعتبرة تشتركان في كونها
أحكاما ظاهرية للشاك في الواقع، إذ لا يعقل جعل الطريق إلى الواقع للقاطع به،
سواء كان قطعه موافقا لمؤدى الطريق أم مخالفا له، فالاحكام الظاهرية - سواء
كانت من سنخ الطرق أم من سنخ الأصول - مجعولة ما دام المكلف شاكا.
وحينئذ نقول: إن تعليق الشارع الحكم على الشك - وجعله ما دام كونه
باقيا فيما يسمى بالأصول العملية، وعدمه كذلك فيما يسمى بالطرق، مع كونها
أيضا أحكاما متعلقة بالشك ودائمة بدوامه - دليل على أن الشك المذكور
332

في الأصول العملية غير الشك اللازم عقلا في الطرق الشرعية، ومغايرتهما بان يراد
من الشك المأخوذ في الأصول عدم الطريق، ويكون الشك اللازم في الطرق
الشرعية عقلا، ولم يذكر في الدليل صفة التردد، فليتأمل.
(فان قلت) هب ذلك، لكن ورود الطريق على الأصول موقوف على
شمول دليل الحجية لمواردها، وأي ترجيح لشمول دليل الحجية على شمول أدلة
الأصول، مع كون المورد قابلا لهما في أول الامر؟
(قلت شمول أدلة الطريق لا مانع منه أصلا، لوجود موضوعها مطلقا،
وعدم ما يدل على التخصيص، بخلاف شمول أدلة الأصول، فان موضوعها
يبتنى على عدم شمول دليل حجية الطرق. ولا وجه له بعد وجود الموضوع مطلقا،
وعدم ما يدل على التخصيص.
وبعبارة أخرى: الامر دائر بين التخصيص والتخصص، والأول خلاف
الأصول دون الثاني. والعجب من شيخنا المرتضى (قدس سره) حيث أنه - بعد
ما نقل كون العمل بالأدلة في مقابل الاستصحاب من التخصيص، بناءا على أن
المراد من الشك عدم الدليل والطريق والتحير في العمل - استشكل بأنه لا يرفع
التحير في خصوص مورد الاستصحاب، الا بعد اثبات كون مؤداه حاكما على
مؤدى الاستصحاب، والا أمكن أن يقال: إن مؤدى الاستصحاب وجوب العمل
على الحالة السابقة، مع عدم اليقين بارتفاعها، سواء كانت هناك الامارة
الفلانية أم لا، ومؤدى دليل تلك الامارة وجوب العمل بمؤداها، خالف الحالة
السابقة أم لا. ولا تندفع هذه المغالطة الا بما ذكرنا من طريق الحكومة. انتهى.
وأنت خبير بأنه - بعد ما فرض ان المراد من الشك المأخوذ في
الاستصحاب هو عدم الدليل والتحير (130) - لا يمكن ان يقال: ان مؤداه وجوب
333

العمل على الحالة السابقة، مع عدم اليقين بارتفاعها، سواء كانت الامارة الفلانية
أم لا، إذ مع الامارة الفلانية - المفروض كونها حجة - لا يبقى للاستصحاب موضوع
على الفرض المذكور، مع أن هذا الكلام يجرى على تقدير القول بالحكومة أيضا،
بان يقال إن مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على طبق الحالة السابقة، سواء
كانت الامارة الفلانية أم لا، وكون الامارة على تقدير وجودها حاكمة ليس أقوى
من كونها واردة. وكيف كان هو قدس سره اعلم بما أفاد.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا فرق في تقدم الطرق على الأصول العملية، بين ما
يكون مخالفا لها أو موافقا، وكذلك لا فرق على ما افاده شيخنا المرتضى
قدس سره، لان وجود الطريق موجب لارتفاع موضوع الأصول، بناءا على ما قلنا،
وارتفاع حكمه بناءا على ما أفاده قدس سره.
ويمكن ان تقرر الحكومة: بأن حجية الخبر والطرق وإن قلنا بأنها حكم
تعبدي من الشارع، إلا أن أدلة وجوب الاخذ بها تدل عليه بلسان الارشاد إلى
الواقع، فكما أن المرشد حقيقة يكون غرضه رفع الشك من المسترشد، كذلك
المتعبد بلسان الارشاد يفهم منه العرف أن غرضه رفع الشك تعبدا، وهو راجع
إلى رفع آثاره.
وذهب شيخنا الأستاذ دام بقاه في المقام إلى القول بورود الطرق على
الاستصحاب وسائر الأصول العملية، بتقريب آخر، قال في مبحث
الاستصحاب: إن مجرد الدليل على خلاف الحالة السابقة، وان لم يوجب خروج
المورد عن مورد الاستصحاب، إلا أنه يخرجه حقيقة عما تعلق به النهى في اخبار
الباب من النقض بالشك، فإنه لا يكون معه نقضا بالشك، بل بالدليل، فلا يعمه
334

النهى فيها. وليس افراد العام ههنا هو افراد الشك واليقين، كي يقال إن الدليل
العلمي إنما يكون مزيلا للشك بوجوده، بل افراده افراد نقض اليقين بالشك،
والدليل المعتبر - وإن لم يكن علميا - يكون موجبا لئلا يكون النقض بالشك، بل
بالدليل - إلى أن قال -.
لا يقال قضية قوله (عليه السلام) في بعض الاخبار: (ولكن تنقضه بيقين
آخر) هو النهى عن النقض بغير اليقين، والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا،
فكيف يقدم كذلك؟
لأنا نقول: لا محالة يكون الدليل موجبا لليقين، غاية الامر لا بالعناوين
الأولية للأشياء، بل بعناوينها الطارئة الثانوية، مثل ان يكون قد دل على وجوبه
أو حرمته خبر العدل، أو قامت البينة على ملكيته أو نجاسته بالملاقاة، إلى غير ذلك
من العناوين المنتزعة. انتهى ما أردنا من نقل كلامه دام بقاه.
ولا يخفى أن جعل اليقين الذي جعل غاية للاستصحاب - عبارة عن
اليقين بالحكم بوجه من الوجوه، وان كان من الوجوه الظاهرية - يلازم جعل
الشك الموضوع فيه عبارة عن عدم العلم بالحكم بوجه من الوجوه كذلك. وعلى
هذا فبعد قيام الدليل المعتبر ليس الشك بهذا المعنى موجودا. وحينئذ فلا حاجة إلى
تسليم ان الدليل المعتبر لا يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب، ولكن يخرجه
عما تعلق به النهى من النقض بالشك. وكيف كان ففي ما افاده دام بقاه
مواقع للنظر:
(أحدها) ان وجود الدليل المعتبر على خلاف الحالة السابقة، بعد ما لم
يكن موجبا للعلم، لا يخرج المورد عن صدق نقض اليقين بالشك، لأن المفروض
بقاء الشك بحالة، ولا نعنى بنقض اليقين بالشك الا رفع اليد عن الحالة السابقة
في حال الشك، (131) نعم هو نقض لليقين بالشك بواسطة الدليل.
335

(ثانيها) - أن جعل اليقين الذي هو غاية للاستصحاب عبارة عن اليقين
بالحكم بوجه من الوجوه، حتى يكون العلم بالحكم - بعنوان أنه قام عليه
خبر العدل - مصداقا له حقيقة، لا ينفع في البينة القائمة على الموضوع الخارجي على
خلاف الاستصحاب في ذلك الموضوع، ضرورة أن البينة لا توجب العلم بمؤداها
بوجه، لان الموضوع غير قابل للجعل.
وبعبارة أخرى لو قام الدليل على حرمة شرب التتن في قبال استصحاب
اباحته مثلا، أمكن أن يقال ان شرب التتن حرام يقينا، بعنوان انه قام على حرمته
الدليل المعتبر. وأما إذا قامت البينة على موت زيد في قبال استصحاب حياته،
فلا يمكن أن يقال انه ميت يقينا، بعنوان قيام البينة على موته، فحياة زيد في المثال
مما علم سابقا، ولم يعلم عدمه لاحقا بوجه من الوجوه، فالعمل على طبق البينة
نقض لحياته سابقا بغير يقين بالخلاف.
- منها - إن الوجوه المذكورة ليست عناوين للأحكام، بمعنى تعلق الاحكام
بها بعناوينها، بل انما لوحظت طريقا إلى الواقع. ومقتضى ذلك اللحاظ أن
يجعل الحكم الثانوي للعنوان الذي يكون موضوعا للحكم الأولى، مثلا لو قام
الدليل على حرمة شرب التتن، فمقتضى طريقية ذلك الدليل ان يصير شرب التتن
بهذا العنوان محرما، إذ لو لوحظ عنوان قيام خبر العدل في موضوع هذا الحكم،
كالغصب وسائر العناوين الموضوعة للأحكام، لخرج الدليل عن كونه طريقا
معتبرا، من جهة حكايته عن الواقع. وإذا فرض أن مقتضى الدليل كون شرب
التتن محرما بالحرمة الثانوية، فنقول إن مقتضى الاستصحاب كونه مباحا
بالإباحة الثانوية، فأي مزية له عليه، إلا أن يلتزم بان غاية الاستصحاب هو العلم
بالحكم الفعلي، وإن لم يكن متعلقا بوجه من الوجوه، سوى الوجوه الواقعية. ونحن
علمنا بحرقة شرب التتن بواسطة الدليل القائم عليها مثلا، فتحقق العلم الذي هو
336

غاية للاستصحاب.
فإن قلت لم لا تأخذ بمفاد الاستصحاب، ونعلم أنه غير حرام فعلا، حتى
لا يحتاج إلى الاخذ بالدليل الدال على الحرمة؟
قلت لان ذلك موجب لرفع اليد عن الدليل من دون موجب، بخلاف
العكس، فإنه يوجب التخصص في دليل الاستصحاب. والوجه في ذلك أن
ايجاب الاخذ بالطرق الشرعية ليس مغيى بالعلم بالحكم الفعلي، حتى يمكن
الاخذ بمفاد الاستصحاب وجعله غاية له، كما في العكس، بل الدليل على
وجوبه مطلق.
نعم لما علم أنه حكم ظاهري للتوصل إلى الواقع، علم أنه ليس مجعولا
للعالم بأصل الواقع، لا انه مقيد بعدم العلم بالحكم الفعلي، وان كان مدلولا
لدليل أو أصل آخر.
وبعبارة أخرى دليل الاستصحاب جعل الحكم معلقا على الشك
الظاهر في الشك في الحكم الفعلي، وأوجب النقض بيقين آخر، وهو ظاهر أيضا
في اليقين بالحكم الفعلي، وان كان مستفادا من الأدلة المعتبرة، بخلاف دليل
اعتبار الطرق، فإنه اعتبرها مطلقا، غاية الامر هو مقيد عقلا بما إذا لم يعلم أصل
الواقع. وحينئذ فالأخذ بالطرق رافع لموضوع الاستصحاب حقيقة، بخلاف
العكس.
وكيف كان فلا أرى بدا مما سبق، من أن الشك المأخوذ في
الاستصحاب وسائر الأصول، بمعنى عدم الطريق، فيرتفع هذا الموضوع بوجود كل
ما اعتبر طريقا على نحو الاطلاق. هذا
تنبيه
لا ندعي أن لفظ اليقين في الخبر استعمل في معنى الطريق المعتبر مطلقا،
ولا ان الشك استعمل في عدم الطريق كذلك، حتى يلزم المجاز في الكلمة، بل
نقول إن الظاهر أن الخصوصية المذكورة ملغاة في موضوع الحكم، وهو غير عزيز
في القضايا كمالا يخفى.
337

المقالة السادسة
(تعارضه مع سائر الأصول العملية)
مثل البراءة والاحتياط والتخيير ومحصل الكلام في المقام أن كل ما
كان مما ذكر مدركه العقل، فلا اشكال في ورود الاستصحاب عليه، لارتفاع
موضوعه بسببه، لان حكم العقل بالبراءة معلق على عدم بيان من جانب الشرع،
وحكمه بالاحتياط معلق على عدم وجود المؤمن، وحكمه بالتخيير معلق على عدم
ما يرفع به التحير من قبل الشارع. ولا فرق فيما ذكر بين الاحكام الواقعية
والظاهرية. وهذا واضح. وأما ما كان منها مأخوذا من الأدلة الشرعية كاصالة
البراءة المأخوذة من قوله (رفع ما لا يعلمون) وقول (كل شئ مطلق حتى يرد فيه
نهى) وكذا أصالة الطهارة، ففي تقديم الاستصحاب عليها اشكال، من جهة أن
كلا من قاعدة الاستصحاب والقاعدتين المذكورتين حكم مجعول من الشارع في
موضوع الشك. ولا وجه لتقديم إحدى القاعدتين على الأخرى، سواء جعلنا
الشك بالموضوع فيها بمعنى التردد في النفس، أم جعلناه بمعنى عدم الطريق، إذ على
الثاني كل ما قدم من القاعدتين يكون رافعا لموضوع صاحبه. واستراح شيخنا
الأستاذ دام بقاه في هذا المقام بما افاده سابقا من وجه تقدم الامارات على
الاستصحاب. وحاصله أن الشك المأخوذ في الأصول هو الشك من جميع
الجهات، فإذا علم الحكم بوجه من الوجوه، ارتفع ذلك الموضوع. وقد علمنا
الحكم بعنوان نقض اليقين بالشك، فلا مجال للاخذ بالحكم المعلق على عدم
العلم بوجه من الوجوه.
أقول ليت شعري ما الفرق بين البناء على الحالة السابقة الذي هو حكم
الشك في باب الاستصحاب، والبناء على الإباحة الذي هو أيضا حكم الشك
في باب البراءة، وهكذا البناء على الطهارة الذي هو مفاد قاعدة الطهارة؟ وما
الذي رجح الاستصحاب حتى صار منشأ للحكم بهذا الوجه، وارتفع به موضوع
الأصل المخالف له؟ وقال شيخنا المرتضى قدس سره في وجه تقدم الاستصحاب
338

على أصالة البراءة: ما لفظه (إن دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق
بالنسبة إلى الزمان اللاحق، قوله (عليه السلام) لا تنقض اليقين بالشك يدل
على أن النهى الوارد لابد من ابقائه، وفرض عمومه، وفرض الشئ في الزمان
اللاحق مما ورد فيه النهى أيضا، فمجموع الرواية المذكورة والمراد بها كل شئ
مطلق. ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول كل شئ مطلق حتى يرد فيه النهى،
وكل نهى ورد في شئ فلا بد من تعميمه لجميع أزمنة احتماله، فتكون الرخصة
في الشئ واطلاقه مغياة بورود النهى المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان،
فكأن مفاد الاستصحاب نفى ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشك لولا النهى.
وهذا معنى الحكومة، كما سيجئ في باب التعارض. انتهى كلامه رفع مقامه)
أقول: لا اشكال في أن التعميم المستفاد من قضية لا تنقض إنما هو
الحكم المرتب على الشك، وليست حاكية عن عموم التحريم بحسب الواقع
وحينئذ، فما الفرق بين ما يدل على أن الحكم الشرعي في حال الشك من سنخ
ما كان موجودا في السابق، وهو التحريم مثلا، أو هو الترخيص. وأي وجه لتقديم
الأول. على الثاني.
وكيف كان فالذي يمكن ان يقال هو أن مدلول أدلة الاستصحاب
هو الحكم بابقاء اليقين والغاء الشك، لا جعل الحكم المطابق للسابق، وان
كانت بدلالة الاقتضاء يرجع إلى ذلك، حيث أن اليقين لا يقبل لان يحكم عليه
بالابقاء.
وحينئذ نقول: إن جعلنا المراد من الشك - الذي هو موضوع الأصول -
المعنى الظاهر منه، أعني حالة الترديد في النفس، فقوله (عليه السلام) لا تنقض
اليقين بالشك يكون حاكما عليها، لأنه يدل على وجوب معاملة اليقين مع هذا
الشك، فموضوع أصالة البراءة وسائر الأصول التي في حكمها منتف شرعا، وإن
كان باقيا عقلا وان جعلنا المراد منه عدم الطريق - كما أسلفنا سابقا -، والمراد
من اليقين الذي هو غاية للأصول ومعتبر في الاستصحاب ابتداءا، وغاية الطريق
المعتبر، فوجه تقديم الاستصحاب على أصالة البراءة وما شابهها وروده عليها، لان
339

مفاد أدلته كون المكلف واجدا للطريق في حال الشك، فلا يبقى - لسائر الأصول
التي مفادها الحكم لفاقد الطريق - موضوع.
فان قلت: إن أردت من الطريق الذي يرتفع به موضوع الأصول ما يحكى
عن الواقع الأولى، فلا اشكال في عدم كون الاستصحاب كذلك، وان أردت منه
مطلق الاحكام الظاهرية التي جعلت بملاحظة الاحكام الواقعية، من دون ملاحظة
أنفسها، فلا اشكال في اشتراك الاحكام المجعولة في ساير الأصول معه في ذلك.
وحينئذ، فأي واحد من الاستصحاب والأصل الآخر يقدم برفع موضوع صاحبه،
إذ كما يصدق بعد مجيئ الحكم بالاستصحاب أنه واجد للطريق إلى الحرمة
مثلا بالمعنى الذي ذكرنا، يصدق بعد مجيئ الترخيص بأدلة البراءة أنه واجد
للطريق إلى الترخيص كذلك.
قلت: نعم كون المكلف ذا طريق إلى الترخيص بالمعنى الذي ذكرنا إنما
هو بعد جعل الترخيص الظاهري الذي هو مفاد أدلة البراءة، وأما كونه ذا طريق
إلى الحرمة المحققة - في الزمن السابق بالمدلول الأولى من أدلة الاستصحاب،
لأنها حاكمة ببقا الطريق في حال الشك أيضا - فواجدية المكلف الطريق إلى
الحرمة السابقة بمقتضى أدلة الاستصحاب مقدمة على واجديته للطريق إلى
الترخيص بمقتضى دليل البراءة، إذ هي في مرتبة الترخيص الملزوم لانجعال الطريق.
وبعبارة أخرى - بعد تحقق موضوع الاستصحاب وأصالة البراءة
أولا. (132) واما دليل البراءة فلا يتصدى لذلك أولا، بل هو لازم للحكم المستفاد منه، فموضوع الاستصحاب باق في رتبة الحكم المستفاد من دليل
340

البراءة، (133) بخلاف موضوع البراءة فإنه ينتفي بورود الحكم المستفاد من دليل
الاستصحاب.
هذا كله في الاستصحابات الجارية في الاحكام. واما الشبهات
الموضوعية، فتقدم الاستصحابات الجارية فيها على أصالة البراءة أوضح، لأن الشك
فيها في الحكم مسبب عن الشك في الموضوع، ويأتي تقدم الأصل الجاري في
السبب على الأصل الجاري في المسبب مطلقا إنشاء الله تعالى.
المقالة السابعة
(في تعارض الاستصحابين)
ومحصل الكلام في المقام أن الشك في أحدهما إما أن يكون مسببا عن
الشك في الآخر. وإما أن يكون الشك فيهما مسببا عن ثالث، وأما كون الشك
في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر، فغير معقول، فالاستصحابان
المتعارضان على قسمين:
(الأول) - ما إذا كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر،
وحكمه تقديم الاستصحاب الجاري في الشك في السبب، ورفع اليد عن الحالة
السابقة للمستصحب الآخر، مثاله لو غسل ثوب نجس بماء كان طاهرا قبل،
وشك في بقاء طهارته حين غسل الثوب به، فالثوب بعد الغسل بالماء يشك في
طهارته ونجاسته، ولكن هذا الشك إنما نشأ من الشك في طهارة الماء حين غسل
الثوب به، إذ لو علم طهارة الماء حين الغسل، لكانت طهارة الثوب قطعية. والوجه
في تقدم الاستصحاب الجاري في الشك السببي أمر ان:
(أحدهما) ما أسلفناه سابقا في وجه تقدم الطرق المعتبرة على الأصول.
وحاصله أن الشك المأخوذ في موضعها بمعنى عدم الطريق، فإذا ورد طريق معتبر
341

يرتفع موضوعها. وفى المقام نقول أيضا إن دليل اعتبار الاستصحاب بملاحظة
شموله للشك السببي لم يبق للاستصحاب في المسبب موضوع، لأنه بعد حكم
الشارع بطهارة الماء الذي غسل به الثوب، (134) يحصل لنا طريق إلى طهارة
الثوب أيضا. ولا عكس، بمعنى أنه لو فرض شموله للشك في الثوب لا تترتب عليه
نجاسة الماء، لان نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب، لأن المفروض العلم بان
الماء لم يتنجس بالثوب. نعم لو علم ببقاء نجاسة الثوب، يكشف عن نجاسة الماء.
وحينئذ فالامر دائر بين التخصيص والتخصص، والأول مخالف للقاعدة بخلاف
الثاني.
(الثاني) - تقدم الشك السببي على المسببي طبعا، (135) لان الثاني معلول
342

للأول، ففي رتبة وجود الأول لم يكن الثاني موجودا، وإنما هو في رتبة الحكم
المرتب على الأول، فالأول في مرتبة وجوده ليس له معارض أصلا، فيحرز الحكم
من دون معارض. وإذا ثبت الحكم في الأول، لم يبق للثاني موضوع. وبهذا البيان
الثاني تعرف وجه تقدم الاستصحاب الجاري في السبب، وان قلنا بالأصول
المثبتة. توضيح المقال أنه بناء على ذلك - وإن كان يترتب على الاستصحاب
الجاري في الثوب نجاسة الماء، ويرتفع به موضوع الاستصحاب في الماء، وليس
على هذا من قبيل دوران الامر بين التخصيص والتخصص - إلا أن التقدم
الطبعي للشك السببي أوجب احراز الحكم وارتفاع موضوع الآخر من دون
عكس. ومن هنا يعلم أن الاستصحاب - إن قلنا باعتباره من باب الظن أيضا
- لكان المقدم الاستصحاب في السبب. ويظهر أيضا من جميع ما ذكرنا أن هذا
الحكم ليس مختصا بالاستصحاب، بل كل أصل جار في الشك السببي مقدم
على كل أصل جار في الشك المسببي، حتى أنه في المثال المذكور لو أحرزنا طهارة
الماء بأصالة الطهارة، نحكم بطهارة الثوب، ونرفع اليد عن السابقة فيه، مع أن
343

الاستصحاب مقدم على قاعدة الطهارة إذا كانا في مورد واحد.
القسم الثاني ما إذا كان الشك في كليهما ناشئا من امر ثالث. ومثاله لو
علم اجمالا بنقض الحالة السابقة في أحد المستصحبين.
ومحصل القول في ذلك أن العمل بالاستصحابين (تارة) يوجب مخالفة
عملية قطعية لذلك العلم الاجمالي، و (أخرى) لا يوجب ذلك. (الأول) كما لو
علم بنجاسة أحد الإناءين الطاهرين في السابق. والثاني، كما لو توضأ غافلا
بمايع مردد بين الماء والبول، فان بقاء طهارة البدن والحدث وان كان مخالفا
للقطع، ولكن لا يلزم من البناء عليهما بمقتضى الاستصحابين مخالفة عملية.
أما القسم الأول فالتحقيق فيه أن عموم أدلة الاستصحاب يشمل كلا
من طرفي العلم الاجمالي، لان الموضوع فيما اليقين بأمر في السابق، والشك في
بقاء ذلك الامر في اللاحق. وهذا المعنى محقق في كل واحد منهما، لكن لما
كان العمل بعموم الدليل المذكور في المقام موجبا لمخالفة قطعية عملية، ولا يجوز
عند العقل تجويز ذلك، فلا بد من رفع اليد عنه في مجموع الطرفين. نعم الترخيص
في البعض لا بأس به، لكن اخراج بعض معين وابقاء الآخر كذلك ترجيح
بلا مرجح، إذ نسبة الدليل إلى كلا الطرفين على حد سواء، وإبقاء واحد منهما على
نحو التخيير غير مدلول الدليل، لان موضوعه الآحاد المعينة. ومقتضى ذلك
التساقط، والرجوع إلى مقتضى العلم الاجمالي بالتكليف، وهو موجب للامتثال
344

القطعي.
فان قلت ترخيص أحد الطرفين وإن لم يكن مدلول الدليل، الا أنه يجب
الحكم بالترخيص من جهة العقل، لان مقتضى الترخيص في كل منهما موجود
بمقتضى عموم الأدلة، والمانع إنما منع عن الجمع، فالمقتضي في أحدهما يكون
بلا مانع يجب تأثيره بحكم العقل. ونظير هذا يقال فيما إذا تزاحم الغريقان، ولم
يتمكن المكلف من انقاذهما، ولم يكن لأحدهما مرجح.
قلت هذا في مثال تزاحم الغريقين صحيح. والوجه فيه أن مقتضى
الانقاذ في أحدهما موجود، ولا يكون له مانع يقينا، بخلاف ما نحن فيه، لأنا نقطع
بعدم المانع، إذ لعل العلم الاجمالي الذي يقتضى الاحتياط يمنع عن تأثير مقتضى
الترخيص مطلقا في نظر الشارع.
اللهم إلا أن يقال بالترخيص في أحدهما، لا من جهة ما ذكر، بل من
جهة الاخذ باطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين، وتقييد كل منهما بمقدار
الضرورة. بيان ذلك أن مقتضى عموم الدليل الترخيص في كل من الإناءين
المشتبهين مطلقا، أعني مع ارتكاب الآخر وعدمه، والمانع العقلي إنما يمنع هذا
الاطلاق، ولا ينافي بقاء الترخيص في كل واحد منهما بشرط عدم ارتكاب
الآخر.
فان قلت لازم ذلك أن من لم يرتكب شيئا منهما، يكون مرخصا في
ارتكاب كليهما. وهذا إذن في المخالفة القطعية.
قلت: الاحكام لا تشمل حال وجود متعلقاتها ولا حال عدمها، (136)
345

لان الشئ المفروض الوجود ليس قابلا لان يتعلق به حكم من الاحكام، وكذا
الشئ المفروض العدم. مثلا بعد فرض الوجود الخارجي لشرب التتن لا يصح
الامر به، ولا المنع عنه، ولا الترخيص فيه، لأنه بعد هذا الفرض خارج عن تحت
قدرة المكلف، وكذا بعد فرض عدمه الخارجي، فالدليل المذكور لا يمكن شموله
للترخيص حتى في صورة فرض عدم ارتكاب متعلقه ليكون ترخيصا في المخالفة
القطعية. هذا. وقد أشرنا إلى ذلك في الشبهة المحصورة، فراجع وتأمل.
وأما القسم الثاني فهو على قسمين: أحدهما أن يكون مقتضى
الاستصحاب في أحد الطرفين ثبوت التكليف وفى الآخر عدمه، ونحن نعلم بعدم التكليف
بينهما. والثاني أن يكون مقتضاه في الطرفين ثبوت التكليف. ونحن نعلم بعدمه
في أحدهما.
346

أما الأول فلا مانع فيه من الاخذ بمقتضى كلا الأصلين، لعدم المخالفة
القطعية العملية التي كانت مانعة في المثال السابق. ومجرد العلم بأن مقتضى أحد
الاستصحابين مخالف للواقع لا يؤثر شيئا.
نعم لو علمنا بعدم التفكيك حتى في مرحلة الظاهر، يقع التعارض
بينهما، كما أنه قد يقال في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر بقيام الاجماع
على اتحاد الماءين في الحكم، حتى بملاحظة الظاهر. فحينئذ مقتضى استصحاب
نجاسة المتمم بالفتح - بضميمة الاجماع المدعى على الملازمة - نجاسة الكل،
ومقتضى استصحاب طهارة المتمم بالكسر - بضميمة الاجماع المذكور - طهارة
الكل، فيقع التعارض بينهما، ويحصل التساقط، فاللازم في المثال الرجوع إلى
قاعدة الطهارة.
واما الثاني فالأخذ بالاستصحاب فيه وإن لم يكن مخالفا لتكليف واقعي
معلوم، كما هو المفروض، لكن لما كان الاستصحاب حكما ظاهريا - وليس له
فائدة الا تنجيز الواقع على تقدير الوجود، فيما إذا كان مثبتا للتكليف، واسقاطه
كذلك فيما إذا كان نافيا له - لا يمكن جعل الاستصحابين في المثال، للقطع
بعدم ثبوت الواقعين، فيكون أحدهما لغوا.
نعم لو فرض لهما اثر آخر غير تنجيز الواقع لأمكن الاخذ بكل منهما،
لترتب ذلك الأثر، كما في استصحاب نجاسة كل من الطرفين لاثبات نجاسة
ملاقي كل واحد من المشتبهين، إذ لولا ذلك لكان الملاقى محكوما بالطهارة، إلا إذا
حصل العلم الاجمالي في الملاقى، كما إذا لاقى شئ أحد الطرفين، وآخر
الطرف الآخر.
هذا ما عندنا في هذا المقام وعليك بالتأمل التام. وقد تم الكلام
في احكام الشك بأسرها، مع مراعاة الاختصار، والاجتناب عن الزوايد
والتكرار، ونسأل الله أن يصلح نياتنا ويتجاوز عن زلاتنا، إنه عزيز غفار.
ويتلوها الكلام في التعادل والترجيح إنشاء الله تعالى.
347

التعادل والترجيح
البحث في تعارض الدليلين
وهو عبارة عن تنافى مدلوليهما بحيث لا يمكن صدق كليهما بحسب
الواقع. ومن هنا يعلم أنه لا تعارض بين مفاد الدليل الحاكي عن الواقع،
والدليل الدال على حكم الشك، وإن كان على خلاف الواقع، لامكان صدق
كليهما. مثلا يمكن أن يكون شرب التتن حراما، ومع الشك في حرمته حلالا،
لاختلاف رتبتيهما. وقد أوضحنا ذلك في مبحث حجية الظن، عند التعرض
لكلام ابن قبة، فلا نطيل الكلام بتكراره، فراجع.
ثم إنه لو كان الدليل الدال على الواقع مفيدا للقطع، فلا اشكال، وإلا يقع
التعارض بحسب الصورة بين دليل حجية ذلك الدليل، وبين ما يدل على حكم
الشك، لان مقتضى دليل حجية الخبر الحاكي عن الواقع وجوب الاخذ بمؤداه
في الحال التي عليها المكلف، وهي حال الشك في الواقع. ومفاد ذلك الخبر
حرمة شرب التتن مثلا، ومقتضى الدليل الدال على حكم الشك في هذا الحال
حليته، وليس بينهما اختلاف الرتبة، كما كان بين الحكم الواقعي والحكم
المتعلق بالشك، لان كلا منهما حكم ثانوي مجعول للمكلف في حال الشك في
الواقع الأولى.
هذا وقد فرغنا فيما تقدم أيضا عن ورود أدلة حجية الطريق على
348

الأصول العملية، فلا نعيد. ومن أراد فليراجع. واما العام والخاص المطلق،
فالتعارض بين مدلوليهما واضح، لعدم امكان صدق كليهما.
ومحصل الكلام فيهما انهما على اقسام، لأنهما إما ان يكونا قطعي السند،
أو يكونا ظنيين، أو يكون العام قطعي السند دون الخاص، أو بالعكس. وعلى أي
حال إما أن يكون الخاص قطعيا من حيث الدلالة، ومن حيث جهة الصدور،
أو يكون ظنيا من هاتين الجهتين، أو من أحداهما، فهنا اقسام لابد من التعرض
لها.
(القسم الأول) ما إذا كان العام مقطوع الصدور، والخاص أيضا
مقطوع الصدور والجهة والدلالة، فلا اشكال في تقديم الخاص المذكور على هذا
العام، لان حجية ظهور العام موقوفة على عدم العلم بالخلاف، والخاص
المفروض يوجب العلم بالخلاف، كما هو واضح.
(القسم الثاني) ما إذا كان العام مقطوع الصدور والخاص ظني الصدور
فقد اختلف العلماء في ذلك.
ومن جملة مصاديق هذا القسم تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد،
وهم بين قائل بتخصيص العام به، وقائل بالعكس، ومتوقف، لان لكل منها
جهة رجحان.
وقال شيخنا المرتضى قدس سره في وجه التخصيص المذكور ما محصله:
(إن دليل اعتبار السند حاكم على أصالة العموم إن بنينا على أن اعتبار الظهور
إنما هو من حيث أصالة عدم القرينة، فان مقتضى دليل اعتبار السند جعل هذا
الخاص المفروض كونه نصا بمنزلة النص الصادر القطعي، فالشك - في تحقق
القرينة الذي كان موضوعا للأصل المذكور - بمنزلة العدم، بحكم دليل اعتبار
السند. وأما إن قلنا بان اعتباره من جهة الظن النوعي بإرادة الحقيقة الحاصل
من الغلبة أو غيرها، فالظاهر أن النص وارد عليه مطلقا، وإن كان ظنيا، لان
الظاهر أن دليل حجية الظن الحاصل من إرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة
الظهور مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه. ويكشف عن ذلك أنا لم نجد
349

ولا نجد من أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص، وإن فرض
كونه أضعف الظنون المعتبرة) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
أقول وفيما ذكره قدس سره نظر. أما أولا فلانه بناءا على اعتبار العموم
من باب أصالة عدم القرينة أيضا لو قدمنا الخاص، فلا يكون وجه تقدمه الا
الورود، لعدم تعقل الحكومة في اللبيات، كما لا يمكن القول بالتخصيص، فلا بد
ان يلتزم القائل - بتقدم الخاص الظني السند على العام في هذا الفرض - بان
أصالة عدم القرينة معتبرة، ما لم يدل دليل معتبر على القرينة، وان كان
غير علمي.
وأما ثانيا فلانه قدس سره وان أصاب فيما أفاد من أنه لا نجد من
أنفسنا موردا يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص، وان كان أضعف الظنون
المعتبرة، ولكنا أيضا لا نجد من أنفسنا كون حجية الظواهر بحسب الشأن
والاقتضاء مقيدة بعدم وجود ظن معتبر على خلافها. نعم نرفع اليد عنها في بعض
الموارد، وان لم يعلم بالقرينة، لكن ليس ذلك من جهة قصورها في الحجية، بل
من جهة تقديم ما هو أقوى منها.
والحاصل أن تقديم الخاص الظني على العام، وإن كان نجده من
أنفسنا كما افاده، ولكن وجهه ليس ما أفاده قدس سره، كما أنه مما نجده من
أنفسنا أيضا. والذي يخطر بالبال في المقام في وجه التقديم هو أن دليل اعتبار
السند يجعل ظهور العموم في الخاص بمنزلة معلوم الخلاف، (137) فان الاخذ
350

بسند الخاص - الذي لا احتمال فيه بعد الاخذ بالسند سوى المعنى الخاص
الذي هو في مقابل العام - يكون معناه جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم، فتحصل
غاية حجية الظواهر بنفس دليل اعتبار السند، بخلاف دليل حجية الظاهر، فإنه
ليس معناه ابتداءا جعل الغاية لحجية خبر الواحد، بل مقتضاه ابتداءا هو
العمل بالظاهر، وأنه مراد من العام.
نعم لازم كونه مرادا من العام عدم كون خبر الدال على خلافه صادرا
عن الإمام (عليه السلام)، إذ المفروض كونه نصا من جميع الجهات، فدليل
حجية السند موضوع محقق في رتبة تعلقها به، بخلاف دليل حجية الظاهر، فإنه يرد
معه ما يرفع موضوع الحجية. ومعلوم أنه إذا كان مع الحكم ما يرتفع به
موضوعه، لا يصح تحقق ذلك الحكم.
وبعبارة أخرى يرفع دليل حجية السند موضوع حجية الظاهر بنفس
وجوده، بخلاف العكس، فان دليل حجية الظاهر لا يرفع موضوع حجية السند
بنفس وجوده، إذ من الواضح أنه ليس معنى جعل الظاهر مرادا واقعيا هو عدم
صدور ذلك الخاص من الإمام (عليه السلام) نعم يرفع موضوع حجية السند في
الرتبة المتأخرة عن مجئ الحكم، ففي المرتبة الأولى لا مانع من مجئ دليل
اعتبار السند، لتحقق موضوعه في هذه الرتبة، فإذا جاء هذا الدليل لتحقق
موضوعه، يرتفع به موضوع ذلك الدليل. فليتدبر جيدا.
ومما ذكرنا يظهر وجه تقدم الخاص الذي يكون نصا في المدلول
الاستعمالي، ولم يكن مقطوعا به من حيث وجه الصدور، فان ما ذكرنا في تقدم
الخاص الظني السند جار فيه أيضا. نعم لو كان الخاص ظنيا من جهة المدلول
الاستعمالي، لم يجر فيه ما قلناه، ضرورة كون أصالة الظهور في كل من العام
والخاص في عرض واحد.
فتحصل مما ذكرنا أن الخاص إذا كان نصا في مدلوله الاستعمالي، فهو
351

مقدم على العام، سواء كان مقطوعا من سائر الجهات أو مظنونا أو مختلفا، وسواء
كان العام قطعي الصدور أم لا، فيبقى الكلام في الخاص الظني بحسب الدلالة
اللفظية.
فنقول: إن كانا متساويين في الظهور، فلا اشكال في التوقف، لان
أصالة ظهور كل منهما معارضة بمثلها، وإن كان أحدهما أظهر، ففي تقديم
الأظهر - وجعله قرينة على صرف الظاهر أو التوقف كالمتساويين - اشكال. وما
يمكن أن يكون وجها للأول أحد أمرين على سبيل منع الخلو.
(أحدهما) - ان يدعى أن بناء العرف على تقديم الأقوى عند التعارض،
فلا يكون متحيرا عند تعارض الامارتين بعد اقوائية إحداهما، خصوصا إذا كان
منشأ الأقوائية ما يكون بنفسه حجة، كما فيما نحن فيه، فان منشأ الأقوائية
إضافة ظهور هو حجة إلى ظهور آخر: وليس ذلك ببعيد. ولكنه يحتاج إلى تأمل.
(الثاني) ان يقال انا إذا أحرزنا ان المتكلم من عادته ذكر القرائن
منفصلة عن كلامه، بمعنى أنه كثيرا ما يفعل كذلك، كما هو كذلك في
كلمات الأئمة عليهم السلام تصير كلماته المنفصلة المنافى بعضها مع بعض بمنزلة
المتصل، (138) فكما أن اللفظ الذي يكون أظهر دلالة على معناه من لفظ آخر
إذا وقع متصلا بالكلام يكون قرينة صارفة كما في لفظ يرمى بالنسبة إلى الأسد،
كذلك هذا اللفظ إذا وقع منفصلا إذا فهمنا بالفرض أن من عادته أن يؤخر ما
يكون صالحا للقرينية في الكلام. نعم فرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة من جهة
أخرى، وهي أن الأولى تمنع عن انعقاد الظهور، ويسرى اجمالها لو كان في الكلام
352

بخلاف الثانية. هذا وأما الدليلان المتباينان بحسب المدلول فهما على اقسام.
(أحدها) - أن يكونا نصين في تمام مدلوليهما. والثاني - أن يكونا
ظاهرين، وهو على قسمين: (أحدهما) أن يكون لهما قدر متيقن، بحيث لو فرض
صدورهما تعين الاخذ به. و (الثاني): أن لا يكون لهما قدر متيقن في البين
أصلا. والأول منهما أيضا على قسمين (أحدهما) - أن القدر المتيقن المفروض
إنما فهم من نفس الدليلين. و (الثاني) - أنه علم من الخارج، فهذه أربعة
اقسام.
لا إشكال في عدم امكان الجمع إذا كانا نصين، كما أنه لا اشكال في
عدم امكان الجمع أيضا إذا كانا ظاهرين في تمام مدلولهما، فهذان القسمان
داخلان في الخبرين المتعارضين، ويعامل معهما معاملة التعارض، من ملاحظة
الترجيح في السند أو التخيير، على التفصيل الذي يأتي انشاء الله. ولو كان كل
منهما نصا في مقدار من مدلولهما، وظاهرا في الآخر، فمقتضى ما ذكرنا - في
وجه تقديم الخاص المظنون السند على العام هو الاخذ بالنص في كلا الدليلين
هنا وإلغاء الظاهر فيهما، تحكيما للنص في كل منهما على الظاهر في الآخر.
ولا فرق في ذلك بين كونهما مقطوعي السند، أو مظنوني السند بالظن المعتبر، أو
كان أحدهما مقطوع السند والآخر مظنونا بالظن المعتبر.
أما في الأول فظاهر. وأما في الثالث فلوقوع التعارض بين ظهور الخبر
المقطوع الصدور وسند الآخر. وما ذكرناه من الوجه في تقديم الخاص المعتبر على
العام جار هنا بعينه.
واما في الثاني، فلعدم كون المدلول مشمولا لدليل الاعتبار، إلا بعد الفراغ
عن اعتبار السند، فيشمل دليل الاعتبار كلا السندين من دون معارض، لان ما
يتوهم أن يكون معارضا للسند دليل اعتبار الظهور في الآخر. وظاهر أنه
غير مشمول لدليل الحجية قبل الفراغ من اعتبار سنده. فالواجب أن يفرض
السندان مقطوعي الصدور بمقتضى دليل الاعتبار الخالي عن المعارض، كما
عرفت، ثم الاخذ بنص كل منهما وتحكيمه على ظاهر الآخر.
353

وبعبارة أخرى قبل الاخذ بالسندين ليس المدلولان مشمولين لدليل
الاعتبار، وبعد الاخذ بهما لا مناص إلا الاخذ بنص كل منهما وطرح ظاهر
الآخر. وبهذا البيان تعرف الحال في القسم الأخير أيضا، وهو ما إذا كان لكل
منهما على فرض الصدور قدر متيقن علم من الخارج، لا بحسب مدلول القضية،
فان ما ذكرناه في السابق جار هنا أيضا.
والحاصل أن ميزان الجمع هو أن يكون الدليلان - بحيث لو فرض
صدورهما - لم يكن تحير في مدلولهما. وقد يقال بالفرق بين القسمين الأخيرين:
بالالتزام بالجمع بين المدلولين في الأول، ومعاملة المتعارضين في الثاني، بملاحظة
أن ثبوت المتيقن في كل من الدليلين من الخارج لا يخرجهما عن المتعارضين
عرفا، إذ ليس هذا الجمع هو الجمع المقبول عند العرف.
وفيه أن المراد من الجمع العرفي إن كان ارتفاع التعارض بينهما عرفا،
على فرض الصدور، كما هو الحال في المخصص المتصل، فظاهر أن هذا المعنى
في القسم الأول أيضا مفقود، بل ليس ذلك في العموم والخصوص المطلق
المنفصل أيضا، إذ ليس حال المخصص المنفصل كالمتصل في كونه موجبا لانعقاد
ظهور آخر للكلام، وان كان المراد أن العرف - بعد فرض صدور الدليلين - لم
يكن متحيرا في الاخذ بمدلولهما، فالقسمان متساويان في ذلك. فثبت مما ذكرنا
أن المتباينين - لو كان لكل منهما على فرض الصدور مقدار متيقن، ولو علم
ذلك من خارج اللفظ - لزم الاخذ بهما باتباع المتيقن منهما، وطرح غيره في
كليهما. وقال شيخ أساتيذنا العظام شيخنا المرتضى قدس سره في رسالة التعادل
والترجيح بانحصار الجمع بين الدليلين، فيما إذا كان مستلزما للتصرف في
أحدهما، كالعام والخاص والمطلق والمقيد، دون ما كان مستلزما للتصرف في
كليهما.
وحاصل ما أفاده قدس سره في وجه ذلك: أن أحد الدليلين مقطوع
الاعتبار، فيقع التعارض بين ظاهره وبين سند الآخر. ولا ترجيح لاخذ السند
وطرح الظاهر.
354

أقول - بعد تسليم كون أحد السندين مقطوع الاعتبار - فالوجه في تقديم
سند الآخر على ظاهر ما فرض القطع باعتباره ما قلناه في تقديم سند الخاص على
ظهور العام، مضافا إلى منع حجية أحد السندين، لان حجيته في المدلول التعييني
ترجيح بلا مرجح، وحجية الاخذ بالمبهم لا معنى لها، فيما إذا لم يكن هناك
ثالث، كما إذا قام الخبران على طرفي نقيض.
فان قلت: ان أحد الخبرين حجة بالاجماع، لعدم القول بجواز
طرحهما بين العلماء قدس سرهم، لأنهم بين من يجمع المدلولين، وبين من يأخذ
بالترجيح لو كان، والا فالتخيير، وبين من يحكم بالتخيير مطلقا.
قلت مدارك الأقوال المذكورة معلومة، فمن اختار أحد المدارك المذكورة
يلزمه حكمه، فلم يبق له مجال للقول بحجية أحد الخبرين على سبيل الابهام،
وتعارض ظهوره مع سند الآخر. ومن لم يختر أحد المدارك المذكورة، فلا دليل له
على حجية أحد الخبرين في مقام التعارض، لا تعيينا ولا تخييرا، ولا على سبيل
الابهام.
فان قلت إذا منعت حجية الواحد على سبيل الابهام، فبم يحكم بانتفاء
الثالث فيما إذا كان لهما ثالث؟
قلت نفى الثالث لا يتوقف على حجية أحد الخبرين في المدلول المطابقي،
إذ كون دلالة اللفظ على اللازم - متفرعة على دلالته على الملزوم - لا يلازم كون
حجية حكاية اللفظ عن اللازم متفرعة على حجية حكايته عن الملزوم، إذ هما
فردان من الكشف الحاصل من نقل الثقة، فيشملهما دليل الاعتبار في عرض
واحد، ولو منع أحدهما مانع ليس في الآخر، فلا وجه لسقوط دليل الاعتبار
بالنسبة إلى ما ليس له مانع. (139)
355

ومما ذكرنا يظهر أن ما اشتهر بينهم - من أن الجمع بين الدليلين مهما
أمكن أولى من الطرح - إن كان المراد الامكان العرفي، فهو صحيح، وينحصر
مورده فيما إذا فرض صدور كلا الدليلين ولم يتحير العرف في المراد، سواء كانا من
قبيل العموم والخصوص أم غيره، كما عرفت. وإن كان المراد غير ذلك،
فلا دليل عليه.
ثم إن الشهيد الثاني قدس سره - على ما حكى عنه في تمهيده - فرع على
قضية أولية الجمع الحكم بتنصيف دار تداعياها، وهي في يدهما، أو لا يد
لأحدهما، وأقاما بينة انتهى.
وفى كون أول المثالين من فروع القاعدة ما لا يخفى، لان بينة كل منهما
إنما هي معتبرة في النصف، سواء حكمنا بتقديم بينة الداخل أو الخارج، فالحكم
بالتنصيف مقتضى حجية بينة كل منهما في النصف، لا مقتضى الجمع. نعم
يمكن أن يكون الثاني متفرعا على القاعدة، وان كان للنظر فيه أيضا مجال، حيث
أنه يمكن أن يقال: إن الحكم بالتنصيف من جهة تساقط البينتين من الطرفين،
كما إذا لم تكن بينة في البين، وتحالفا أو تناكلا.
وكيف كان فالذي ينبغي أن يقال في المقام: أن الجمع بين الدليلين
في الاخبار الحاكية عن قول الإمام (عليه السلام) يتصور على وجهين:
أحدهما - التصرف في أحد الدليلين أو في كليهما على وجه يرتفع
التنافي، والثاني الاخذ ببعض المفاد من كل منهما أو من أحدهما. وذلك
356

فيما لم يتطرق إليه التوجيه والحمل، كالنصين. وأما الجمع بين مفاد قولي
الشاهدين، فينحصر في الثاني. أما إذا كان القولان نصين، فواضح وأما إذا كانا
ظاهرين أو أحدهما ظاهرا والآخر نصا، فلان الجمع بهذا المعنى يتجه فيما إذا
كان المتكلم واحدا أو في حكم الواحد (140) واما في صورة تعدد المتكلم، فلا
وجه للتصرف في ظاهر كلام أحدهما، لنصوصية كلام الآخر أو أظهريته.
إذا عرفت هذا فنقول إن سلمنا كون القاعدة المعروفة موردا للاجماع،
فلا محيص في أمثال المقام من الاخذ بمفاد بعض قول كل منهما، وطرح البعض
الآخر، لان طريق الجمع منحصر في ذلك. ولا بد من الجمع بحكم القاعدة
المفروض كونها اجماعية؟ وان لم نقل بذلك - كما هو الحق، وقلنا بعدم
الدليل على ذلك إلا في الدليلين اللذين لم يتحير العرف في استكشاف المراد
منهما، بعد فرض صدورهما - فاللازم التمسك بدليل آخر في أمثال المقام.
والذي يمكن أن يكون وجها للحكم بالتنصيف في المسألة المذكورة
ونظائرها، هو أنا نعلم بوجوب فصل الخصومة على الحاكم. ولا وجه لان يحكم
لأحدهما على الآخر، فالحكم بالعدل عرفا أن يحكم بالتنصيف.
ويمكن أن يستظهر ذلك أيضا من الرواية الواردة في الدرهم، إلا أن يقال
ان الحكم الوارد في الدرهم قضية في واقعة، ولا يستكشف منها عموم الحكم
لكل مال مردد بين اثنين. والوجه الأول لا بأس به، إذا لم يكن في البين طريق
شرعي لتعيين الواقع. وقد جعل الشارع القرعة لكل امر مشكل، والمسألة محتاجة
إلى مزيد تأمل.
ثم إنك قد عرفت مما مضى أن الجمع بين الدليلين - فيما إذا لم يكن
357

العرف متحيرا في المراد، بعد فرض صدور كليهما - أولى من طرح أحدهما
والتخيير بينهما. وأما فيما إذا كان متحيرا على فرض الصدور، فلا دليل على
الجمع، ولا يصح. وعلى هذا لابد من التكلم فيما إذا تعارض الخبران ولم يمكن
الجمع بينهما عرفا على نحو ما ذكرنا.
والكلام فيه يقع في مقامين: (الأول) فيما إذا كان الخبران متكافئين،
ولا مرجح لأحدهما على الآخر. (الثاني) فيما إذا كان لأحدهما مرجح على
الآخر.
أما الكلام في المقام الأول، فيقع في مقامين أيضا (أحدهما) - فيما
تقتضيه القاعدة، مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في الباب. والثاني فيما
تقتضيه الاخبار.
أما الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب ما تقتضيه القاعدة، فمحصله
أن حجية الخبر إما أن تكون من باب السببية، وإما من باب الطريقية، فان قلنا
بالثاني، فمقتضى القاعدة التوقف فيما يختص كل من الخبرين به من المضمون،
والاخذ بما يشتركان فيه. مثلا لو قام دليل على وجوب صلاة الظهر، ودليل آخر
على وجوب صلاة الجمعة، فمقتضى القاعدة التوقف في الحكم الخاص المدلول
لكل منهما بالخصوص، والحكم بثبوت أحد المدلولين واقعا. وفائدته نفى
الثالث، فهنا دعويان:
إحداهما - لزوم التوقف في المدلول المختص لكل منهما. والثانية
- لزوم الحكم بأحد المدلولين اللازم منه نفى الثالث. والدليل على الأولى منهما
أمران (أحدهما) بناء العرف والعقلاء، فانا نراهم متوقفين عند تعارض طرقهم
المعمول بها عندهم، فان من أراد الذهاب إلى بغداد مثلا، واختلف قول الثقات
في تعيين الطريق إليه، يتوقف عند ذلك، حتى يتبين له الامر. وهذا واضح من
طريقتهم.
(الثاني) - أنه قد تحقق أن فائدة سلوك الطرق المجعولة هو تنجيز الواقع فيما
لو كان هناك واقع مطابق لمؤداها، واسقاطه فيما لو كان هناك واقع على خلاف
358

مؤداها، ففيما إذا تعارض الخبران، فالخبر الدال على الوجوب يقتضى تنجيزه لو
كان، والخبر الدال على الإباحة يقتضى اسقاطه كذلك، وهكذا. ومقتضى
ذلك سقوط كليهما عن الأثر. وهذا معنى سقوطهما عن الحجية.
هذا على تقدير القول بأن أدلة حجية الخبر تدل على حجيته من حيث
هو، مع قطع النظر عن حال التعارض، لا بمعنى تقييده بعدم التعارض، حتى يخرج
المقام عن تعارض الحجتين، بل بمعنى عدم ملاحظة حال التعارض لا إطلاقا
ولا تقييدا، كما هو الظاهر من الأدلة.
وأما ان قلنا باطلاق دليل الحجية لحال التعارض، فلا وجه للتوقف،
بل الوجه - على هذا - هو التخيير، لان جعل الخبرين حجة حال التعارض
لا معنى له إلا التخيير. ولا يتوهم أنه على هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين: حجية
الخبر تعيينا في غير مورد التعارض، وتخييرا فيه، لان استفادة التخيير هنا ليست
من المدلول اللفظي، بل هي من القرينة الخارجية، فلا تغفل. هذا. ولكن الذي
يسهل الخطب عدم ظهور أدلة حجية الخبر في هذا الاطلاق كما لا يخفى.
فان قلت على تقدير تسليم عموم دليل الحجية لكل منهما، يستكشف منه
وجود المصلحة الطريقية في كل منهما تعيينا، وعلى هذا. فمقتضى القاعدة التخيير
لا التوقف، كما هو الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين استكشف وجود
المصلحة التامة في كل منهما تعيينا.
قلت فرق بين المقام وبين تزاحم الواجبين، إذ في الثاني قد علمنا
باشتمال كل منهما على غرض من الشارع لازم الحصول، وحيث لا يمكن
الجمع، فالعقل يحكم بوجوب تحصيل أحدهما، لأنه مقدور. وفيما نحن فيه
ليس كل من الطريقين مشتملا على غرض مستقل للشارع، بل المقصود الأصلي هو
الواقع. وقد علمنا بمخالفة أحدهما للواقع الذي هو المقصود الأصلي للامر، فما هو
مخالف للواقع قطعا ليس فيه مصلحة الطريقية أصلا. وحيث أن أحدهما المقطوع
مخالفته للواقع ليس فيه مصلحة الطريقية، فلا سبيل إلى الحكم بالحجية في
المقام، لا تعيينا ولا تخييرا، مع قطع النظر عن الأدلة الأخر المتكفلة لحال
359

الخبرين المتعارضين. أما الأول فواضح، لان حجية كليهما غير ممكن، وحجية
أحدهما المعين دون الآخر ترجيح من غير مرجح، إذ المفروض اجتماع شرايط
الحجية في كليهما من دون تفاوت. وحجية أحدهما على التخيير، تحتاج إلى
دليل نقلي أو عقلي.
أما العقل فحكمه بالتخيير موقوف على وجود المصلحة في كل واحد منهما
تعيينا، حتى في حال التعارض. وقد عرفت عدم قابلية ما هو معلوم المخالفة
للحجية.
وأما النقل فلا يدل على التخيير أيضا، لما عرفت من أن دليل حجية
الاخبار متكفل لحجيتها على التعيين في حد ذاته. وأما الأدلة الواردة لعلاج
المتعارضين، فهي وان كانت تدل على التخيير، لكن الكلام هنا مع قطع النظر
عنها.
وأما الدليل على الثانية فهو أن حجية الخبر إنما هي من باب كشفه نوعا
عن الواقع، فالدليل المثبت لحجيته يوجب الاخذ بالكشف الحاصل منه، لا أن
معناه وجوب الاخذ بمؤدى قول العادل مثلا، ولو لم يكن كذلك لكان الواجب
الاقتصار على ما كان مدلولا لفظيا له، ولم يكن وجه للاخذ بلوازمه وملزوماته
وملازماته، كما كان الامر كذلك في الأصول العملية. والوجه في الاخذ بها
ليس إلا ما ذكرنا، وهو أن معنى حجية الطريق جعل الكشف الحاصل منه
بمنزلة العلم. ولا ريب أنه إذا قام طريق على ثبوت الملزوم، يحصل به الكشف عن
اللازم، كما حصل به الكشف عن ثبوت الملزوم. وكذا العكس، وهكذا إذا
قام طريق على أحد المتلازمين، فالدليل الدال على حجية ذلك الكشف، يدل
على حجية الجميع في عرض واحد، وان كان بعضه مرتبا على بعض في مرحلة
الوجود.
إذا عرفت ذلك فنقول إن دل خبر على وجوب الظهر مثلا، فقد حصل
منه الكشف عما دل عليه بالمطابقة، وهو وجوب صلاة الظهر، وحصل منه
الكشف أيضا عن لازمه الأعم، أعني عدم براءة ذمة المكلف عن تكليف الزامي،
360

وكذا إن دل خبر آخر على وجوب الجمعة، فقد حصل منه كشفان، أحدهما عن
مدلوله المطابقي، والثاني عن اللازم الذي ذكرنا، وهما وإن تعارضا في مدلولهما
الخاص، وسقطا عن الحجية، ولكن بقى كشفهما عن اللازم المشترك، وهو
أيضا كشف حاصل من خبر العادل، وهو وان كان تابعا للكشف الأول
في الوجود، ولكنه ليس تابعا له في الحجية، لان دليل حجية الانكشاف
الحاصل من خبر العادل يشمل تمام افراد الانكشاف الحاصل منه القابل
للاعتبار في عرض واحد. وحجية انكشاف المعلول ليست تابعة لحجية انكشاف
العلة، كما مر في محله من وجوب الاخذ بالانكشاف الحاصل من الطرق، وان
كان بوسايط لم تكن قابلة للاعتبار، لخروجها عن وظيفة الشارع.
وان شئت قلت في تعارض الخبرين كشف أحدهما عن الواقع مقطوع
الخلاف. أما كشف أحدهما بلا عنوان، فليس بمقطوع الخلاف، فلا مانع من
حجيته بعد كونه كشفا حاصلا من الخبر الجامع للشرايط المعتبرة في الحجية.
ولازم ذلك نفى الثالث. وحينئذ فلو اقتضى الأصل خلاف مقتضى الخبرين
يطرح، لأنه في مقابل الدليل، لكن أحدهما بلا عنوان ليس قابلا للحجية، لعدم
مدلول خاص له حتى يؤخذ به، وحجية مدلوله الالتزامي غير موقوفة على حجيته،
لأنه من مصاديق الكشف الحاصل من الخبر، فيشمله دليل الحجية من دون
البناء على شموله للمدلول المطابقي. وان كان هذا الكشف مرتبا على الكشف عن
المدلول المطابقي وجودا، فليتدبر في المقام فإنه من مزال الاقدام.
هذا ما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في الباب. وأما
بالنظر إليها، فسيجئ الكلام في مدلول الاخبار العلاجية والنقض والابرام فيها بعد
ذلك انشاء الله. هذا كله على تقدير القول بحجية الاخبار من باب الطريقية.
وأما على تقدير اعتبارها من باب السببية، فالذي صرح به شيخنا
المرتضى قدس سره هو أن مقتضى الأصل التخيير، لان المطلوبية المانعة عن
النقيض في كل منهما موجودة، فيجب الامتثال بقدر الامكان. وحيث لا يمكن
الجمع يجب امتثال أحد التكليفين بحكم العقل على نحو التخيير، لعدم الأهمية
361

في أحدهما، كما هو المفروض. واليه ذهب شيخنا الأستاذ دام بقاه، حيث قال
في تعليقته على رسالة التعادل والترجيح ما هذا لفظه:
(فاعلم أنه ان قلنا بحجية الاخبار من باب السببية، فيكون حال
المتعارضين من قبيل الواجبين المتزاحمين في أن الأصل فيهما هو التخيير، حيث أن
كل واحد منهما - حال التزاحم أيضا - على ما كان عليه من المصلحة التامة
المقتضية للطلب الحتمي، ولا يصلح التزاحم الا للمنع عن تنجزهما جميعا، لامتناع
الجمع لا عن أحدهما، لامكانه. وحيث كان تعيينه بلا معين ترجيحا بلا مرجح،
كان التخيير متعينا. نعم لو كان أهم أو محتمل الأهمية تعين على ما سنفصله) انتهى
ما أردنا من نقل كلامه دام بقاه.
وعندي في ذلك نظر، توضيح أن جعل الامارات من باب السببية
- كما أوضح ذلك شيخنا المرتضى قدس سره في مبحث حجية الظن - يتصور
على وجوه، بعضها باطل عقلا، وبعضها باطل شرعا. والذي يمكن من الوجوه
المذكورة وجهان:
(أحدهما) أن يكون الحكم الفعلي تابعا للامارة، بمعنى أن لله تعالى في
كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل لولا قيام الامارة على خلافه، بحيث
يكون قيام الامارة المخالفة مانعا عن فعلية ذلك الحكم، لكون مصلحة سلوك
هذه الامارة غالبة على مصلحة الواقع، فالحكم الواقعي فعلى في حق غير الظان
بخلافه، وشأني في حقه بمعنى وجود المقتضى لذلك الحكم لولا الظن بخلافه.
والوجه الثاني أن لا يكون للامارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي
تضمنت الامارة حكمه، ولا تحدث فيه مصلحة، إلا أن العمل على طبق تلك
الامارة والالتزام به في مقام العمل - على أنه هو الواقع، وترتيب الآثار الشرعية
المرتبة عليه واقعا - يشتمل على مصلحة، فأوجبه الشارع. ومعنى ايجاب العمل على
الامارة وجوب تطبيق العمل عليها، لا وجوب ايجاد العمل على طبقها.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن مقتضى السببية بالمعنى الأول: أنه إذا
تعارض الخبران، وعلم مطابقة أحدهما للواقع، لم يكن للخبر المطابق تأثير
362

أصلا، لما عرفت في الوجه الأول: من أن المانع من الحكم الواقعي إنما هو الظن
بالخلاف، دون ما يكون مطابقا للواقع، فالخبر الموافق لم يؤثر شيئا، (141)
والمخالف صار سببا لانقلاب الحكم الواقعي، فالواجب هو الاخذ بمؤدى إحدى
الامارتين في الواقع، وهي الامارة المخالفة للواقع، دون ما هو مطابق له.
وحيث لم يتميز المخالف من الموافق، يلزم التوقف والرجوع إلى مقتضى
الأصل، وهو يختلف بحسب المقامات، لان الخبرين إن كانا مثبتين للتكليف،
فان أمكن الاختيار يجب، لان مضمون أحدهما مجعول في حقه، بمقتضى سببية
الخبر المخالف للواقع، وإلا فالتخيير. وإن لم يكونا مثبتين، بل كان أحدهما
مثبتا والآخر نافيا، فمقتضى الأصل البراءة، لاحتمال كون النافي مخالفا للواقع
وموجبا لانقلاب الواقع إلى مؤداه.
هذا في صورة العلم بمطابقة أحد الخبرين المتعارضين للواقع. واما في
صورة الجهل، فالواقع لا يخلو إما ان يكون كذلك، فالحكم ما عرفت. وإما ان
يكون كلاهما مخالفا للواقع، فاللازم سقوط كليهما عن الأثر. مثلا لو كان حكم
الواقعة الإباحة، فدل أحد الخبرين على الوجوب، والآخر على الحرمة، فما دل
على الوجوب يقتضى احداث مصلحة تامة في فعل ذلك الشئ، وما دل على
الحرمة يقتضى ذلك في تركه. وحيث لا يمكن الجمع بين ايجاب شئ وتحريمه
يلغى السببان.
هذا بناءا على السببية بالمعنى الأول. نعم على الوجه الثاني، فالامر كما
363

افاده قدس سره (142) لان الواقع على هذا لا يتغير عما هو عليه، سواء كانت
الامارة مطابقة له أم لا، بل المصلحة في الا التزام والتدين بما دلت عليه. ولما
كانت الامارتان في محل الفرض متعارضتين، ولم يمكن الالتزام بمؤدى كلتيهما،
وجب ذلك في إحداهما على سبيل التخيير، لعدم الأهمية، كما هو المفروض.
فان قلت ليس الامر كذلك على الاطلاق في هذا الفرض أيضا، لجواز
التدين بمدلول الامارتين في بعض فروض التعارض، كما إذا دل دليل على وجوب
الظهر، والآخر على وجوب الجمعة، مع العلم بعدم كليهما، فان الدليلين
متعارضان، لعدم جواز صدق كليهما، مع العلم المفروض، مع أنه يمكن الالتزام
بمدلول كلا الدليلين. وحينئذ لا سبيل إلى التخيير، لأنه متفرع على عدم امكان
الجمع. والمفروض خلافه.
قلت قد حقق في محله أن اعتبار الامارات ليس مخصوصا بمداليلها المطابقية،
بل يؤخذ بها وبما يلازمها، سواء كانت الملازمة بين الشئ ومداليلها بحسب
الواقع أم لا، بل كانت بملاحظة علم المكلف. ولا يفرق في ذلك بين القول
باعتبارها من باب الطريقية والسببية، كما هو واضح.
وحينئذ نقول - بعد العلم بانحصار الواجب في أحد الفعلين إما الظهر
364

وإما الجمعة - إن لخبر الدال على وجوب الظهر مثلا، يدل على عدم وجوب
الجمعة، وكذا الخبر الدال على وجوب الجمعة. ومقتضى التدين بالأول
الالتزام بوجوب الظهر، وعدم وجوب الجمعة، ومقتضى التدين بالثاني عكس
ذلك. ولا يمكن الجمع بينهما فمقتضاه التخيير (143) فافهم.
هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل، مع قطع النظر عن الأخبار الواردة
في المقام. وأما بالنظر إليها، فهل يحكم بالتخيير، أو التوقف، أو الاخذ بما يوافق
الاحتياط، أو التفصيل بين ما لابد فيه من العمل فالتخيير، وبين غيره فالتوقف،
كما حكى عن غوالي اللئالي، أو التفصيل بين دوران الامر بين محذورين
فالتخيير، وغيره فالتوقف، أو التفصيل بين حق الله فالتخيير، وحق الناس
فالتوقف، كما نسب إلى الرسائل؟ وجوه ناشئة من اختلاف الاخبار،
واختلاف الأنظار في الجمع بينهما.
فنقول المشهور - الذي عليه جمهور المجتهدين - هو الأول، للأخبار المستفيضة
الدالة عليه، ولكن تعارضها الأخبار الدالة على التوقف، وهي أيضا في
الكثرة لا تقصر عن الأخبار الدالة على التخيير، وكذا تعارضها مرفوعة زرارة
المحكية عن غوالي اللئالي الآمرة بالأخذ بما فيه الاحتياط، بعد فرض السائل
تساوي الخبرين في جميع ما ذكر فيها من المرجحات.
أما معارضتها للمرفوعة، فقد أجاب عنها شيخنا المرتضى قدس سره
بضعف سند المرفوعة، فإنه قد طعن في ذلك التأليف وفى مؤلفه المحدث
البحراني قدس سره في مقدمات الحدائق.
وفى ما افاده نظر، لان المرفوعة وإن كانت ضعيفة السند، إلا أن ضعفها
365

منجبر بعمل الأصحاب، حيث استقرت سيرتهم في باب الترجيح على العمل بها،
كما اعترف به قدس سره في موضع آخر من الرسالة، فالأولى أن يقال: إن
الأخذ بما يوافق الاحتياط في المرفوعة إنما جعل في عداد المرجحات. وحينئذ ان
حملنا الأدلة الدالة على الاخذ بالمرجحات على الاستحباب، فالامر سهل. والا
فالمتعين حمل تلك الفقرة على الاستحباب، لعدم قائل بوجوب الترجيح بالموافقة
للاحتياط ظاهرا، فإنهم بين قائل بالتوقف مطلقا، وقائل بالتخيير كذلك،
ومفصل بين الموارد المذكورة. ولا ينافي ذلك كون المراد في باقي الفقرات الوجوب
كما لا يخفى.
وأما معارضتها لاخبار التوقف، فقد أجاب عنها شيخنا المرتضى
قدس سره أيضا، بأنها محمولة على صورة التمكن من الوصول إلى الإمام (عليه
السلام) كما يظهر من بعضها، فيظهر منها أن المراد ترك العمل وارجاع
الواقعة إليه.
وفيه نظر أما أولا، فلانه كما يوجد - في الأخبار الدالة على التوقف
- ما يظهر منه التمكن من الوصول إلى الإمام (عليه السلام) من جهة كون الامر
بالتوقف فيها مغيى بلقائه (عليه السلام)، كذلك في الأخبار الدالة على التخيير ما
يظهر منه ذلك، لعين تلك الجهة، كرواية حارث بن مغيرة عن الصادق
(عليه السلام): (إذا سمعت عن أصحابك الحديث، وكلهم ثقة، فموسع
عليك، حتى ترى القائم (عليه السلام).
وأما ثانيا فلان مجرد دلالة بعض اخبار التوقف على التمكن من الوصول
إلى الإمام (عليه السلام) لا يوجب تقييد سائر الأخبار المطلقة، إذ لا منافاة بين
وجوب التوقف مطلقا - سواء تمكن من الوصول إلى الإمام (عليه السلام) أم لا،
كما هو مفاد الأخبار المطلقة - وبين كون غاية التوقف الوصول إليه (عليه السلام)،
كما هو مفاد بعض الاخبار الاخر، فلا وجه للحمل كما لا يخفى.
قد يقال إن التحديد بلقاء الإمام (عليه السلام) أعم من صورة التمكن،
لان كلمة حتى - كما تدخل على الغاية الممكنة كذلك - تدخل على الغاية
366

الممتنعة، كما في قوله تعالى: (حتى يلج الجمل في سم الخياط) فالاخبار
المحدودة بلقائه مطلقة من حيث التمكن من الوصول إلى خدمته (عليه السلام)،
كما أن اخبار التخيير أيضا مطلقة، فهما متباينتان، فيحتاج الجمع بينهما
- بحمل كل منهما على صورة معينة - إلى شاهد خارجي.
وفيه أن كلمة حتى وإن كانت كذلك بحسب وضعها اللغوي، لكنها
تنصرف عند الاطلاق إلى أن الغاية التي جعلت تلوها من الممكنات.
وكيف كان فالذي أظنه - في الجمع بين الاخبار - هو أن اخبار
التوقف ليست ناظرة إلى ما يقابل الاخذ بأحدهما على سبيل التخيير، ولا على
سبيل التعيين، بل هي ناظرة إلى تعيين مدلول الخبرين المتعارضين بالمناسبات
الظنية التي لا اعتبار بها شرعا ولا عقلا، فيكون المعنى على هذا أنه ليس له
استكشاف الواقع، والحكم بأن الواقع كذا، كما كان له ذلك فيما إذا كان في
البين ترجيح. ولا اشكال في أن المتحير من جهة الواقع لابد له من قاعدة يرجع إليها
في مقام العمل، فلو جعل التخيير مرجعا له في مقام العمل، لا ينافي وجوب
التوقف، كما أنه لو جعل المرجع في مقام العمل الأصل الموافق لاحد الخبرين، لم
يكن منافيا لذلك.
والشاهد على ذلك في أخبار التوقف أمران: (أحدهما) - أن التوقف
من غير جهة المدلول امر مرتكز في أذهان العرف، أترى ان أحدا من العقلاء يبنى
- في صورة تعارض الخبرين المتساويين من جميع الجهات - على حجية أحدهما
المعين، أو على حجية أحدهما على سبيل التخيير، من دون دليل؟ وحيث أن
التوقف من هاتين الجهتين مرتكز في أذهانهم، فلا يحتاج إلى تلك الأوامر
الكثيرة. وهذا بخلاف تعيين مدلول الخبرين المتعارضين، بل مدلول كل خبر
متشابه بالظنون والاعتبارات، فان هذا امر مرسوم عندهم، متعارف بينهم. وقد
تصدى الشارع لسد هذا الامر بحكمه بلزوم التوقف عند اشتباه مدلول الخبر إما
بالتعارض أو بغيره.
والحاصل انا ندعي أن اخبار التوقف - بملاحظة ما قلنا - منصرفة إلى
367

حرمة القول بالرأي في تعيين مدلول كلام الشارع، (144) فإذا دل دليل على
التخيير في مقام العمل، فلا منافاة بينه وبين تلك الأخبار. والشاهد على ذلك
أيضا قولهم (عليهم السلام) - بعد الامر بالتوقف في بعض الاخبار - (ولا تقولوا
فيه بآرائكم) وإن أبيت عن الانصراف المذكور، يمكن ان يقال أن مدلول اخبار
التوقف أعم مطلقا من مدلول اخبار التخيير، لان الأول يرجع إلى النهى عن أمور:
(منها) - القول بغير العلم في مدلول الخبرين، و (منها) - الاخذ بخبر خاص
حجة، على أنه هو الحجة لا غير. و (منها) - اخذ أحدهما حجة على سبيل
التخيير. واخبار التخيير تدل على جواز الأخير، فيجب تقييد تلك الأدلة بها.
ومما ذكرنا ظهر ما فيما افاده شيخنا المرتضى قدس سره في الرسالة من
دلالة اخبار التوقف على الاحتياط في العمل بالاستلزام. ووجه ذلك شيخنا
الأستاذ دام بقاه: بأن الاحتياط في العمل لا يحتاج إلى فتوى بشئ أصلا،
بخلاف العمل على البراءة، فإنه لابد من الفتوى بها. ثم ناقش في ذلك بمنع
الاستلزام، إذ يكفي في العمل بالبراءة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، بلا افتاء

(1) وسائل الشيعة الجزء 18 - الباب 9 من الباب صفات القاضي - الحديث 3
368

بالإباحة شرعا، لا ظاهرا ولا واقعا.
ثم قال دام بقاه فالأولى التمسك للاحتياط باطلاق اخبار التوقف،
إذ هي باطلاقها تدل على وجوب التوقف عن ارتكاب الشبهة مطلقا، وعدم جواز
الاقتحام فيها أصلا، عملا كان أو فتوى، بل دلالتها - على وجوب التوقف في
الفتوى - ليست الا لأنها عمل أيضا، لا بما هي فتوى. انتهى.
أقول ومما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده بقوله (فالأولى...). لان التعبير
عن الاحتياط في العمل بالتوقف إنما يحسن في خصوص الشبهة التحريمية، لأنها
هي التي يحسن فيها التوقف أعني السكون وعدم الحركة إلى الفعل، دون غيرها،
كما لا يخفى.
تنبيهات
وهنا أمور يجب التنبيه عليها (أحدها) - ان التعارض إن وقع للحاكم
في مدرك حكمه، فهو يختار أحد الخبرين، ويحكم على طبقه، لان فصل
الخصومة عمل القاضي، فالتخيير له لا للمترافعين، وان وقع للمفتي، ففي عمل
نفسه أيضا يختار أحدهما، ويعمل على طبقه. وأما في عمل المقلد، فهل يختار
أحدهما أيضا، أو يجب الافتاء بالتخيير؟ وجهان: الأقوى الثاني، لان الاحكام
الظاهرية كالواقعية مجعولة للمجتهدين والمقلدين، وليس في أدلة الاحكام
الظاهرية ما يظهر منه اختصاصها بالمجتهدين.
والقول - بان العمل بأحد الخبرين عند التعارض أو بأقومهما ليس
الا وظيفة المستنبط، ولا معنى لثبوت ما يتعلق بالاستنباط من الاحكام للعامي
الغير القادر على الاستنباط - مدفوع بأن ما هو وظيفة المستنبط فهم التعارض بين
الخبرين وتساويهما، أو كون أحدهما أقوى. وأما العمل على طبق الأقوى أو
أحدهما، فلا يختص بالمجتهد، لان هذا العمل ليس الا كالعمل بأصل الواقعيات
الأولية التي يشترك فيها جميع العباد، وان لم يكن للمقلد طريق إليها إلا فهم
مجتهده.
369

والحاصل ان حال المجتهد والمقلد - بالنسبة إلى الأحكام المتعلقة
بالموضوعات، (145) سواء كانت واقعية أم ظاهرية - سواء، والذي يختص بالمجتهد
- ولاحظ للمقلد فيه - هو فهم تلك الأحكام وتشخيص مواردها من طريق
النظر، فلا تغفل.
الثاني - ان التخيير هل هو على سبيل الاستمرار، بمعنى انه هل يجوز
للحاكم ان يحكم على طبق امارة في واقعة، ثم يحكم على طبق امارة أخرى في
واقعة أخرى مثلها أم لا؟ وكذا هل يجوز للمفتي ان يختار في عمل نفسه امارة
ويعمل على طبقها، ثم يختار أخرى ويعمل عليها، وكذا يفتى للمقلد على هذا النحو
من الاختيار أم لا؟ الأقوى هو الأول، لاطلاق أدلة التخيير، خصوصا بعد
ملاحظة ما ورد في بعض الاخبار: من أن الاخذ بأحد الخبرين انما هو من
باب التسليم. ومن المعلوم أن مصلحة ذلك لا تختص بابتداء الحال. وان أبيت عن
ذلك وقلت إن الاخبار لم يكن لها تعرض الا لبيان وظيفة المتحير في أول الامر،
يكفي في اثبات استمرار التخيير استصحاب ذلك، الحاكم على استصحاب
حكم المختار، والقول باختلاف الموضوع مدفوع بما مر في محله من كفاية الوحدة
العرفية.
الثالث انك عرفت أن الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين انما هو
من باب التعبد بالأخبار الواردة في الباب، وان مقتضى القاعدة - بناءا على
اعتبار الاخبار من باب الطريقية - هو التوقف. وحينئذ فاللازم الاقتصار في ذلك
370

على مورد الاخبار العلاجية، وهو صورة تعارض الخبرين، وحكم تعارض
الامارتين - القائمتين في غير الاحكام - التوقف على حسب ما تقتضيه القاعدة،
كما هو الظاهر.
المقام الثاني فيما إذا كانت لاحد الخبرين مزية على الآخر، والتكلم
فيه يقع في أمرين: (أحدهما) - أنه هل يجب الترجيح بواسطة وجود المزية في
أحد الخبرين أم لا؟ (الثاني) - أنه على فرض ذلك هل يقتصر على مزايا خاصة،
أم يتعدى إلى كل مزية؟ أما الامر الأول، فالمشهور وجوب الترجيح. وقبل
الشروع في الاستدلال لابد من تأسيس الأصل في المسألة:
فنقول قد عرفت مقتضى الأصل الأولى في الخبرين المتعارضين بناءا على
الطريقية والسببية، وأنه على الأول التوقف، وإن كان لأحدهما مزية على الآخر،
إذ مجرد المزية لأحدهما على الآخر لا يصلح دليلا على الخروج عن مقتضى
أصالة عدم الحجية، كما لا يخفى. لكن كلامنا في هذا المقام بعد فرض حجية
أحد الخبرين من جهة التعبد بالاخبار. إنما الاشكال في أن الحجة هل هو
خصوص ذي المزية أو أحد الخبرين على سبيل التخيير؟ فالمقام من دوران الامر
بين التخيير والتعيين.
فنقول - بناءا على اعتبار الاخبار من باب الطريقية - مقتضى الأصل
هو التعيين، لان ذا المزية حجة يقينا، وغيره مما لم تعلم حجيته، فيجب الاخذ
بما علمت حجيته، ولا يجوز الاخذ بما يشك في حجيته، لأنه تشريع.
ومن هنا يظهر انه متى دار الامر بين التعيين والتخيير بين الطريقين،
فالأصل التعيين. وان قلنا في غير هذا المقام بالتخيير، لان اخذ الشئ طريقا
عبارة عن جعله مستندا للحكم الشرعي، ولا يجوز ذلك إلا إذا علم بالحجية.
وأما إن قلنا باعتبار الاخبار من باب السببية، فالمقام من قبيل المتزاحمين، مع
احتمال أهمية أحدهما المعين.
والذي يظهر من شيخنا المرتضى قدس سره في مثل ذلك هو التعيين، فان
وجوب الاخذ بمحتمل الأهمية قطعي، لأنه إما متعين في الواقع، أو انه أحد طرفي
371

التخيير، بخلاف الطرف الآخر، فالأخذ بمحتمل الأهمية موجب لبراءة الذمة
يقينا، بخلاف الاخذ بالآخر.
وفصل شيخنا الأستاذ دام بقاه بين أن يكون منشأ الأهمية المحتملة
أشدية المناط، وبين اتحاده مع واجب آخر، فان كان احتمالها ناشئا من الجهة
الثانية، فلا وجه لاستقلال العقل بوجوب ما كان منهما محتملا لها، بل العقل
يستقل بالتخيير بعد الجزم بعدم العقاب على الواجب الآخر لو كان، فإنه عقاب
بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، ولو كان احتمالها ناشئا من الجهة الأولى، فالظاهر
استقلال العقل بالاشتغال، وعدم الفراغ عن العهدة على سبيل الجزم إلا باتيان ما
فيه الاحتمال، حيث إن التكليف به في الجملة ثابت قطعا. وإنما الشك في
تعيينه هل هو على سبيل التخيير أو التعيين، وليست الجهة لو كانت تكليفا
آخر، حتى يمكن نفيه بأصالة البراءة، بل هي على تقديره من كيفيات ذلك
التكليف المعلوم تعلقه، بداهة ان اقوائية جهة وجوب الأهم ليست جهة أخرى
منضمة إليها، كما لا يخفى. انتهى كلامه دام بقاه.
أقول الأقوى عندي التخيير مطلقا، لان التكليف الشرعي - بمقتضى
الدليل الأولى - ثابت في كلا الطرفين، فالمقتضي للامتثال موجود فيهما، وبعد
عدم امكان الجمع ووجود المقتضى في كلا الطرفين تاما، يحكم العقل بالتخيير،
لان التعيين ترجيح بلا مرجح، فان مقتضى الامتثال انما هو امر المولى، والعلم بان
الواقع مطلوب للمولى من حيث هو، واحتمال عدم فعلية الطلب - من جهة
احتمال عروض عوارض اقتضت ذلك - موجود في كلا الطرفين من دون
تفاوت أصلا. نعم أشدية المناط توجب أمرا اخر من قبل المولى على سبيل التعيين،
بملاحظة حال التزاحم، وحيث لا سبيل إلى العلم به كما هو المفروض، فمقتضى
الأصل البراءة.
والحاصل أنه فرق بين ما نحن فيه، وبين دوران الامر الصادر من المولى
بين التعيين والتخيير، فإنه في الثاني لم يثبت امر من المولى متعلقا بالطرف
المشكوك، فالاتيان به لا يوجب البراءة من الامر المعلوم على سبيل الجزم، فيجب
372

الاحتياط باتيان الطرف المعلوم، قضاءا لاشتغال الذمة بالتكليف يقينا. وأما
فيما نحن فيه فكل طرف اتى به يعلم أنه متعلق للتكليف الثابت عليه
أولا. (146)
نعم يحتمل ان يكون الامر بواسطة الأهمية يرجح طرفا معينا، وحيث لم
يثبت ذلك، فالمؤاخذة عليه مؤاخذة بلا برهان. فليتدبر.
وكيف كان فقد عرفت انه بناءا على اعتبار الاخبار من باب الطريقية،
فمقتضى الأصل التعيين، لأنه مع دوران الامر بين الاخذ بما هو متيقن الحجية،
وما هو مشكوك الحجية، فاللازم الاخذ بالأول، فان جعل ما شك في اعتباره
فعلا مدركا للحكم الشرعي تشريع محرم. وحيث أن التحقيق اعتبار الاخبار من
باب الطريقية، فالأصل في المسألة التعيين.
هذا تمام الكلام في مقتضى الأصل في المقام. وأما الأدلة التي أقاموها
على الترجيح، فأمور نذكر بعضها، لعدم الفائدة في ذكر الجميع.
(منها) - الاجماع، قال بعض الأساطين قدس سره في طي أمور استدل
بها على المقصود ما لفظه: (الثاني الاجماع بقسميه، بل باقسامه من القولي والعملي
المحقق والمنقول. أما الاجماع المحقق القولي، فطريق تحصيله مراجعة كتبهم،
خصوصا الأصولية المعدة لذلك، فإنهم ينادون بأعلى أصواتهم بوجوب العمل
بأرجح الدليلين، من غير خلاف محقق إلا خلاف شاذ ممن عرفت، فان الاطلاقات
النادرة - والأقوال الشاذة الصادرة عن بعض الآراء والاجتهادات في مقابل جمهور
العلماء - مما لا يعبأ به، والا لم يبق للاجماع - في غير الضروريات من مسائل
373

الفقه - مورد ومحل.
والحاصل أن هذا الاجماع كأحد الاجماعات الموجودة في المسائل
الفقهية، بل من أعلاها، فان كانت الأقوال الشاذة قادحة في الاجماعات،
فخلاف الجماعة قادح في هذا الاجماع وإلا فلا.
وأما المنقول فقد ادعاه من أساطين الفن جمع كثير، ففي المفاتيح دعوى
الاجماع على ترجيح بعض الاخبار على بعض، وعن النهاية أن الاجماع على
العمل بالترجيح والمصير إلى الراجح من الدليلين. وعن غاية المبادئ اجماع
الصحابة على العمل بالترجيح عند التعارض وعن غاية المأمول يجب العمل
بالترجيح، لان المعهود - من العلماء كالصحابة ومن خلفهم من التابعين - أنه
متى تعارضت الامارات اعتمدوا على الراجح ورفضوا المرجوح. وعن الاحكام
أيضا وجوب العمل بالدليل الراجح، لما علم من اجماع الصحابة والسلف في
الوقايع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنين، وعنه أيضا في موضع آخر
من فتش عن أحوالهم ونظر في وقايع اجتهاداتهم، علم علما لا يشوبه ريب أنهم
كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما. وعن المختصر ما يقرب
من ذلك. ويمكن استفادة عدم الخلاف من المعالم وأمثاله، حيث قال قدس سره: أن
التعادل يحصل عن اليأس من الترجيح بكل وجه، لوجوب المصير إليه أولا عند
التعارض، وعدم امكان الجمع، وأرسله ارسال المسلمات، ولم ينقل فيه خلافا،
وظاهره كما ترى اتفاق العلماء على ذلك، خصوصا بعد تعرضه لخلاف بعض
أهل الخلاف في التخيير مع التعادل، وعدم تعرضه هنا.
والحاصل ان الوقوف - في اثبات الاجماع محققا ومنقولا قولا وفعلا -
مبالغة في ايضاح الواضحات، خصوصا العملي منه. نعم ليس في هذه الاجماعات
ما يحكى عن فتوى الصحابة والعلماء، لان كلها حاكية عن عملهم، وهو يكفي
في المقام، وليس دون الاجماع المنقول الاصطلاحي في الاستدلال هنا. انتهى
موضع الحاجة من كلامه، وانما خرجنا من وضع هذا الكتاب تيمنا بنقل
كلماته الشريفة جزاه الله عن أهل الاسلام خيرا.
374

أقول قد تحقق في محله أن الاجماع الذي هو أحد الأدلة عبارة عن الاتفاق
الكاشف عن قول الإمام (عليه السلام) أو فعله أو تقريره كشفا قطعيا، فلو حصلنا
على اتفاق الكل، ولكن احتملنا ان يكون منشأ هذا القول منهم أمرا لا يصح
كونه مستندا عندنا، فلم يتحقق عندنا اجماع محقق، كما لا يخفى.
وفي المقام بما أنه يمكن بل يظن أن مدرك فتوى القائلين بوجوب الترجيح
بعض الوجوه الآتية، فليس هذا الاتفاق بشئ، بل يرجع إلى تلك الوجوه. هذا
حال الاجماع المحصل الذي استدل به، فكيف حال المنقول، مضافا إلى أن
الناقلين لم ينقلوا الاجماع على وجوب الترجيح من الصحابة والعلماء، بل نقلوا
عملهم على ذلك، وهو لا يكشف عن كونه واجبا عندهم.
و (منها) أن العدول عن الراجح إلى المرجوح قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا،
فيجب العمل بالراجح، لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.
وفيه أنه ان أريد من الراجح ما هو كذلك بملاحظة الدواعي الشخصية
للفاعل، فترجيح المرجوح بهذا المعنى عليه محال، لكن ليس العمل بغير ذي المزية
اختيارا للمرجوح، ضرورة أنه ما لم يترجح بحسب دواعيه الشخصية، لم يعقل
اختياره. وإن أريد منه ما يكون كذلك عقلا، فقد عرفت أنه - مع قطع النظر
عن التعبد - يحكم بالتوقف وعدم العمل بواحد منهما بالخصوص، فما دعت
إلى العمل بأحد الخبرين عند التعارض الا الأخبار الواردة في الباب، فلابد أن
تلاحظ، فان دلت على التخيير مطلقا، حكم به، وان دلت على الترجيح، حكم
به أيضا، وان قصرت دلالتها من هذه الجهة، فلابد من الرجوع إلى الأصل الذي
أسسناه.
وكيف كان فالتمسك بقبح ترجيح المرجوح على الراجح أو امتناعه مما
لا دخل له بالمقام.
و (منها) الأخبار الواردة من طرقنا المشتملة على جمع من وجوه الترجيح. وقد
ذكرها شيخنا المرتضى قدس سره في رسالة التعادل والترجيح، وهي العمدة في
الباب عند مشايخنا قدس الله اسرارهم.
375

أقول الانصاف أن اثبات وجوب الترجيح بهذه الاخبار مشكل من
وجوه: (أحدها) اختلاف هذه الأخبار، حيث ذكر في بعضها موافقة الكتاب
والسنة، وفي بعضها مخالفة العامة، واطلاق الأول يقتضى وجوب الاخذ بموافق
الكتاب، وان كان الآخر مخالفا للعامة، وكذا اطلاق الثاني يقتضى وجوب
الترجيح بمخالفة العامة، وإن كان الآخر موافقا للكتاب، فإذا كان أحد
الخبرين موافقا للكتاب، والآخر مخالفا للعامة، فمقتضى اطلاق الأول الاخذ
بالأول، ومقتضى اطلاق الثاني الاخذ بالثاني. ودعوى أن المقصود في المقام هو
الايجاب الجزئي - في مقابل السلب الكلى، ويحصل ذلك بواسطة دلالة تلك الأخبار
في مورد الافتراق - مدفوعة بأن حمل كلام السائل في تلك الأخبار على
خصوص مورد الافتراق في كمال البعد كما لا يخفى. وحمل كلام الإمام (عليه
السلام) على ذلك - بعد فرض أن السائل لم ينظر خصوص هذا المورد بل
سأل عن مطلق تعارض ما ورد عنهم - يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة،
وهو وان كان جائزا إن اقتضت المصلحة ذلك، لكنه بعيد أيضا.
فان قلت هذا الاشكال جار بناءا على حمل اخبار الترجيح على
الاستحباب أيضا، فلابد من حمل هذه الأخبار على خصوص مورد الافتراق على أي
حال، سواء قلنا بوجوب الترجيح أو باستحبابه.
قلت بناءا على الحمل على الاستحباب، يحمل على الحكم الحيثي،
كغالب الاحكام المستحبة المتعلقة بالعناوين، من حيث أنها هي، مع قطع النظر
عن المزاحمات، بخلاف ما لو حملناها على الوجوب، فإنه على هذا يصير كسائر
الاحكام الوجوبية المتعلقة بالعمل ظاهرا في الحكم الفعلي، فتأمل. وحملها
- على أن المراد مجرد الرجحان من أي وجه حصل - ليس بأولى من حملها على
ما ذكرنا.
و (منها) التعارض بين الخبرين المشتملين على جمع من وجوه الترجيح:
أحدهما مقبولة عمر بن حنظلة، والآخر مرفوعة زرارة، حيث أنه مقتضى الأول
منهما الاخذ برواية الأعدل والأفقه، وان كان الآخر أشهر. ومقتضى الثاني
376

منهما عكس ذلك. وأيضا بمقتضى الأول - بعد فرض التساوي في الوجوه
المذكورة فيه - يجب التوقف، حتى يلقى الإمام (عليه السلام) وبمقتضى الثاني يجب
الاحتياط إن كان أحدهما موافقا له، والا فالتخيير.
و (منها) الاطلاقات الكثيرة الحاكمة بالتخيير من دون ذكر الترجيح
أصلا، مع كونها في مقام البيان، وغلبة وجود إحدى المرجحات في الخبرين
المتعارضين، خصوصا إذا تعدينا عن المنصوصة منها إلى غيرها.
والحاصل أن حمل تلك الاطلاقات الكثيرة على مورد تساوى الخبرين
- من جميع الجهات مع كونه نادرا بواسطة الامر بالترجيح في الاخبار الاخر -
ليس بأولى من حمل الأخبار الدالة على الترجيح على الاستحباب، بل الأولى
العكس، إذ ليس فيها الا الامر بالأخذ بذى المزية بصيغة افعل، وهي وإن قلنا
أنها حقيقة في الوجوب، لكن استعمالها في الشريعة في الاستحباب وصل إلى حد
أنكر بعض أساطين الفن ظهورها في الوجوب لو لم تكن معها قرينة، فكيف تطمئن
النفس بتقييد تلك الاطلاقات الواردة في مقام البيان بواسطة هذا الظهور الذي
من كثرة خفائه صار مورد الانكار.
وان أبيت عن حمل الأخبار الواردة في الترجيح على الاستحباب، فلا
أقل من الاجمال، لدوران الامر بين الظهورين: ظهور الأخبار المطلقة في
التخيير، وظهور الأخبار الدالة على الترجيح فيه، فيعمل بالأصل في موارد وجود
إحدى المرجحات المنصوصة. وقد عرفت أن الأصل في المقام الترجيح، بناءا على
حجية الاخبار من باب الطريقية، ويؤخذ باطلاق أدلة التخيير في غيرها.
فان قلت لا تعارض بين ظهور الاطلاق وظهور الامر، لان الثاني وضعي،
والأول مبنى على عدم البيان، وهو مفقود في المقام.
قلت انعقاد ظهور الاطلاق موقوف على عدم وجود البيان المتصل بالكلام،
لا الأعم منه ومن المنفصل، ولذا لا يسرى اجمال القيد المنفصل إلى الاطلاق،
بخلاف المتصل، ولو كان عدم القيد - وان كان منفصلا - له دخل في انعقاد
ظهور المطلق، لكان اللازم عدم انعقاد ظهور الاطلاق فيما إذا وجد ما يمكن أن
377

يكون قيدا منفصلا عن الكلام.
والحاصل أن حكم المقيد المنفصل حكم المعارض للاطلاق، فاللازم
الاخذ بما هو أقوى ظهورا. هذا ولكن الانصاف عدم ظهور للأخبار الدالة على
التخيير، ولابد من ذكر ما وقفنا عليه من تلك الأخبار:
(فمنها) - خبر سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن
رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه، كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه،
والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال يرجه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى
يلقاه).
و (منها) - ما عن الحميري عن الحجة روحي له الفداء إلى أن قال في
الجواب عن ذلك حديثان إلى أن قال وبأيهما اخذت من باب التسليم كان
صوابا.
و (منها) - ما عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عليه السلام) قال:
(قلت له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال (عليه السلام): ما جاءك عنا، فقس
على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا، فان كان يشبههما فهو منا، وان لم يكن
يشبههما فليس منا، قلت يجيئنا الرجلان، وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين،
ولا نعلم أيهما الحق، قال (عليه السلام): فإذا لم تعلم، فموسع عليك بأيهما
اخذت).
و (منها) - ما عن الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلهم ثقة، فموسع عليك، حتى ترى
القائم فترد إليه).
و (منها) - ما عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد
إلى أبى الحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي عبد الله
(عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلهما في المحمل،
وروى بعضهم لا تصلهما إلا على الأرض، فوقع عليه السلام موسع عليك باية
علمت).
378

و (منها) مرفوعة زرارة، وفيها بعد ذكر المرجحات (إذن فتخير أحدهما،
فتأخذ به ودع الآخر).
هذا ما وقفنا عليه من الاخبار. ولا يخفى عدم ظهور لبعضها في التخيير بين
الخبرين أصلا، كخبر سماعة، لقوة احتمال أن يكون المراد من قوله
(عليه السلام) (فهو في سعة...). كون المكلف في سعة من الأمر والنهي
الواقعيين، حتى يعلم حكم الواقعة، لا أنه في سعة الاخذ بأحد الخبرين، كما
هو المدعى، وكخبر حرث بن المغيرة، لاحتمال ان يكون المراد حجية قول الثقة
من دون ملاحظة حال التعارض، فهو على هذا من الأدلة الدالة على حجية قول
الثقة، فتأمل.
واما التوقيع الشريف وخبر على بن مهزيار فهما وان كانا دالين على
التخيير بين الخبرين في الجملة، ولكن لورودهما في المستحبات لا اطلاق لهما،
بحيث يشملان موارد الالزاميات، فلو قال قائل باختصاص التخيير بالمستحبات
كما هو أحد الاحتمالات - فلا يدلان على خلافه، وكذا لورودهما في المورد
الخاص أعني تعارض الخبرين المخصوصين. فلا اطلاق لهما بحيث يشمل ثبوت
التخيير، حتى في مورد وجود المرجح، إذ لعل الحكم بالتخيير فيهما من جهة عدم
وجود المرجح.
نعم خبر حسن بن جهم لا اختصاص له بالمستحبات، وان كان يشترك
معهما في عدم الدلالة على التخيير، حتى في صورة وجود المرجح.
فظهر مما ذكرنا عدم ثبوت اطلاق لأدلة التخيير، حتى تشمل صورة وجود
المرجح، فلو دل دليل على ثبوت الترجيح يؤخذ به من دون تزاحم أصلا، فلنشرع
في بيان أدلة الترجيح:
إعلم أن الاخبار - الدالة على تقديم الخبر الموافق للكتاب والمخالف
للقوم - بالغة حد الاستفاضة، بل لا يبعد دعوى التواتر فيها، وإن كان في القسم
الأول ما يدل على عدم حجية المخالف للكتاب، فالأخذ بموافق الكتاب من جهة
حجيته وعدم حجية غيره، ولكن فيه أيضا ما يدل على كون موافقة الكتاب مرجعة
379

فيما إذا تعارض الخبران الجامعان لشرايط الحجية، كما لا يخفى على الناظر
في الاخبار.
ثم إن الأدلة الدالة على الترجيح بهما، وان كان بعضها مقتصرا على
خصوص موافقة الكتاب، والآخر مقتصرا على مخالفة القوم، ولكن فيها ما يدل
على الترتيب بينهما، وان الترجيح بمخالفة القوم مختص بما إذا لم يكن لاحد
الخبرين شاهد من كتاب الله تعالى.
فتلخص من جميع ما ذكرنا أن الترجيح بموافقة الكتاب لازم، ثم بمخالفة
القوم. وأما الترجيحات الاخر المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة
كأعدلية الراوي وأوثقيته وأصدقيته، وكذا الشهرة بين الأصحاب، فيمكن أن
يقال بعدم دلالتها على الترجيح بما ذكر في صورة تعارض الخبرين، كما
هو مفروض البحث.
اما ما ذكر من الأعدلية ونظائرها في المقبولة، فلأنها في مقام تقديم حكم
أحد الحكمين في مقام رفع الخصومة، (147) ولا تدل على وجوب الترجيح في
380

صورة تعارض الخبرين للمجتهد.
وأما ما ذكر منها في المرفوعة، فان الظاهر - بقرينة سؤال السائل بعد
ذلك هما عدلان مرضيان - أنه ليس المراد من الأعدل من كان هذا الوصف فيه
أكثر وأشد، بعد اشتراكهما في أصل الصفة، بل المراد هو من كان منهما عادلا، فهو
من قبيل أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، وحاصله يرجع إلى وجوب الاخذ
بخبر العادل، لكونه حجة، وطرح الآخر لكونه غير حجة.

(1) عوالي الليالي المجلد 4 - الصفحة ح 133 - الحديث 231
381

واما الشهرة فالظاهر - بقرينة قوله (عليه السلام) في المقبولة فان المجمع
عليه لا ريب فيه، وادراج الخبر المشتهر بين الأصحاب في جملة الأمور التي رشدها
بين - أن الترجيح بها ليس من الترجيحات الظنية التي تعبدنا الشارع بها، بل تقديم
الخبر المشتهر بين الأصحاب من جهة أنه مقطوع به، وان غيره مقطوع الخلاف.
وحمل قوله (عليه السلام) (لا ريب فيه) - على عدم الريب بالإضافة إلى الآخر،
فيجب الاخذ به تعبدا - ركيك جدا من دون داع إلى هذا الحمل، لوضوح أن
الخبر إذا صار اشتهر بين الشيعة رواية وفتوى وعملا - كما هو الظاهر من
الاشتهار بين الأصحاب يوجب القطع بصحته، وان مضمونه هو حكم الأئمة
(عليهم السلام)، ولازم ذلك صيرورة غيره مقطوع الخلاف، فليس تقديم الخبر
المشتهر بين الأصحاب من جهة الترجيح الذي يتكلم فيه.
الامر الثاني - أنه إذا بنينا على الترجيح، فهل يقتصر على المرجحات
المنصوصة أم لا؟ ذهب شيخنا المرتضى قدس سره إلى الثاني، واستفاد ذلك من
أمور: أحدها الترجيح بالأصدقية والأوثقية فان اعتبار هاتين الصفتين ليس الا
382

لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر، وليس للسبب الخاص دخل
فيه.
و (منها) - تعليقه (عليه السلام) الاخذ بالمشهور بقوله: فان المجمع عليه
لا ريب فيه، فإنه - بعد القطع بان ما يرويه المشهور لا يصير مما لا ريب فيه واقعا،
والا كان غيره مقطوع الخلاف، ولم يمكن فرضهما مشهورين - يجب ان يكون
المراد - من قوله فان المجمع عليه لا ريب فيه - أنه كذلك بالإضافة إلى غيره،
فيستفاد من التعليل المذكور قاعدة كلية، وهي ان كل خبر يكون مما لا ريب فيه
بالإضافة إلى معارضه يؤخذ به.
و (منها) - تعليلهم (عليهم السلام) لتقديم الخبر المخالف للقوم، بان الحق
والرشد في خلافهم، فإنه يدل على وجوب ترجيح كل ما كان معه امارة الحق
والرشد.
هذا وفي الكل نظر، لان الترجيح بالصفات قد عرفت حاله، وكذا
الترجيح بالأشهرية. واما الترجيح بمخالفة القوم والتعليل بان الرشد في خلافهم،
فلا يدل إلا على أن الخبر الذي يكون معه هذا المرجح يؤخذ به، لكونه معه أقرب
إلى الواقع واقعا وفي نظر الشارع، لا لكونه أقرب في نظر الناظر، ولو جعل الشارع
عند التعارض الخبر الذي يخالف القوم حجة لعلمه بأنه غالب الوصول إلى الواقع
دون غيره، فكيف يصح لنا التعدي منه إلى كل خبر يكون معه شئ يرجح في
نظرنا مطابقته للواقع، مع عدم العلم بالغلبة التي صارت موجبة لجعل الشارع
هناك؟ مثلا إذا جعل الشارع خبر الثقة لنا حجة، وان كنا نقطع بأن جهة حجيته
كونه طريقا إلى الواقع وموصلا إليه في الغالب، لكن لا يصح لنا ان نعمل بكل
ما يفيد الظن لنا، لان ملاك حجية خبر الثقة وان كان غلبة الوصول، لكن
وجوده في الظن الحاصل لنا من سبب آخر غير معلوم.
ومن هنا يظهر ان الأقوى - بناءا على الاخذ بالمرجحات - الرجوع - فيما
لم يكن هناك إحدى المرجحات المنصوصة - إلى اطلاق التخيير إن تمت دلالة الأدلة
الدالة على التخيير، والا فإلى الأصل.
383

بقى في المقام ما يجب التعرض له، وهو بعض الاشكالات الواردة في بادي
النظر على مقبولة عمر بن حنظلة. والأولى نقلها بتمامها. ولعله من بركاتها تزول
كل شبهة أوردت عليها.
أقول روى المشايخ الثلاثة باسنادهم عن عمر بن حنظلة قال: (سألت
أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو
ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟
قال من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما
يحكم له، فإنما يأخذه سحتا، وان كان حقه ثابتا، لأنه اخذ بحكم الطاغوت،
وإنما أمر الله ان يكفر به، قال الله تعالى: (ويريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت،
وقد أمروا ان يكفروا به).
قلت فكيف يصنعان؟
قال: ينظر ان إلى من كان منكم، ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا
وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فانى قد جعلته عليكم حاكما،
فإذا حكم بحكمنا، فلم يقبل منه، فإنما بحكم الله استخف، وعلينا قد رد، والراد
علينا الراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.
قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا، فرضيا ان يكونا
ناظرين في حقهما، فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال عليه السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في
الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر،
قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على
الآخر؟
قال (عليه السلام) ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي
حكما به المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذ
النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه، وانما
الأمور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، وامر مشكل يرد حكمه
384

إلى الله:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلال بين، وحرام بين، وشبهات
بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن اخذ بالشبهات وقع في
المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم.
قال قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به،
ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب
والسنة، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا، بأي الخبرين يؤخذ؟
قال (عليه السلام) ما خالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت جعلت فداك فان وافقهم الخبران جميعا؟
قال (عليه السلام) ينظر إلى ما هم أميل إليه حكامهم وقضاتهم ليترك،
ويؤخذ بالآخر.
قلت فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟
قال (عليه السلام) إذا كان ذلك، فارجه حتى تلقى امامك، فان الوقوف
عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.
هذا واما الاشكالات الواردة فهي من وجوه:
(أحدها) - أن قطع المخاصمات وفصل الخصومات لا يناسبه تعدد
الحاكم والفاصل.
(الثاني) - أن مقام الحكومة آب عن الغفلة عن معارض مدرك
الحكم، فكيف يصح الحكمان، ويرجح أحدهما على الآخر؟
(الثالث) - ان اجتهاد المترافعين وتحريهما في مدرك حكم الحاكم
لا يجوز اجماعا.
(الرابع) - أن اللازم مع التعارض الاخذ بأسبق الحكمين، إذ لا يبقى
للمتأخر مورد. هذا إن كان أحدهما سابقا على الآخر، وان صدرا دفعة،
385

فاللازم التساقط دون الترجيح.
(الخامس) - أن الامر في تعيين الحاكم إنما هو بيد المدعى، فينفذ
حكم من اختاره في الواقعة. وقد فرض في الرواية الامر بيدهما وتحريهما بعد
اختلافهما في الحكم، وحسم مادة الاشكال بأحد وجهين.
إما بان تخرج الواقعة عن المخالفة والمخاصمة، وتحمل على السؤال عن
المسألة المتعلقة بالأموال التي صارت منشأ للنزاع. (148)
والحاصل أن المتنازعين لما كان منشأ نزاعها الشبهة في حكم المسألة،
فيجب رجوعهما إلى رواة الحديث، ليعلما حكم الواقعة، ويرتفع النزاع بينهما.
وحينئذ لا اشكال أصلا.
وإما بحملها على مورد التداعي، فيصح أن يختار كل منهما غير من يختاره
الآخر، فينفذ حكم كل منهما على من اختاره دون الآخر.
نعم يظهر من الرواية أنه لو كان أحدهما اعلم وأفقه فليس لأحد اختيار
غيره ويمضى حكمه على الطرفين.
وكيف كان فيرتفع ما ذكر من الاشكالات، أما إشكال تعدد
الحاكم، فلما مضى. وأما إشكال غفلة كل منهما عن مدرك حكم الآخر،
فلا مكان اطلاع كل منهما على ذلك، ولكن يعتقد عدم صحته، كما هو غير
عزيز. وأما اشكال لزوم الاخذ بالأسبق، فلانه فيما لو كان الحكم نافذا على
الطرفين. وما نحن فيه ليس كذلك، لأن المفروض أن كل واحد اختار حكما
غير من اختاره الآخر، فلا ينفذ حكم من اختاره أحدهما على الآخر، وان كان
سابقا. وأما اجتهاد المترافعين، فلانه بعد ما كانت الشبهة حكمية، ولم ترتفع
بالحكومة، أمرهما الإمام عليه السلام بالنظر في أدلة نفس الواقعة، واستنباط
386

الحكم منها، حتى يرتفع نزاعهما، والأمر بترجيح أحد الحكمين إذا كانت فيه
إحدى المرجحات المذكورة في الرواية، من جهة أن حكمهم في الصدر الأول كان
مطابقا لمضمون الرواية والله العالم.
(وينبغي التنبيه على أمور)
(أحدها) - أنه - بناءا على وجوب الترجيح - لو بنينا على التعدي عن
المرجحات الخاصة إلى غيرها، فهل يعتبر الظن الشخصي، بمعنى أن الخبرين
المتعارضين إذا كان مع أحدهما أمارة توجب الظن الفعلي بكونه مطابقا للمواقع،
نأخذ به ونقدمه على الآخر، والا فحالهما سواء. وإن كان مع أحدهما ما
يوجب أقر بيته إلى الواقع نوعا، أو أن المعتبر الظن النوعي وان لم يوجب الظن
شخصا، أو أن المعتبر أبعدية أحدهما عن الخلاف بحيث لو فرض العلم بصدق
أحدهما وكذب الآخر، كان أحدهما أبعد عن الكذب وأقرب إلى الصدق؟
لا ينبغي الاشكال في عدم اعتبار الظن الشخصي، لان المرجحات
المنصوصة - في الاخبار كموافقة الكتاب ونظايرها - لا تستلزم الظن الشخصي،
مع وجوب الاخذ بها، بناءا على وجوب الترجيح، فالملاك المأخوذ من الاخبار
ليس الظن الشخصي، لعدم اعتبار ذلك في الأصل، فيبقى الأخيران.
واستظهر شيخنا المرتضى قدس سره - من تعليلهم (عليهم السلام)
لتقديم الخبر المخالف للعامة، بان الحق والرشد في خلافهم، ومن تعليلهم
(عليهم السلام) لاخذ الخبر الموافق للمشهور بأنه لا ريب فيه - ان الملاك في
الترجيح هو كون أحدهما أبعد عن الباطل من الآخر، وان لم تكن معه امارة
المطابقة.
وتقريب ذلك أن قولهم (عليهم السلام) ان المجمع عليه لا ريب فيه،
- بعد العلم بان المراد ليس نفى الريب عنه حقيقة - يراد منه انه لا ريب فيه
بالإضافة إلى الآخر، فيتحصل من هذا التعليل أن الملاك في الترجيح كون أحد
الخبرين بالإضافة إلى الآخر أقرب إلى الواقع وأبعد عن الباطل. وإن لم يكن
387

معه ما يوجب أقر بيته إلى الواقع على نحو الاطلاق، وكذا تعليلهم الاخذ بالخبر
المخالف للقوم. بان الحق والرشد في خلافهم.
أقول: لا يظهر من الاخبار - بعد فرض جواز التعدي - ان الملاك ما
افاده قدس سره، لان قوله فان المجمع عليه لا ريب فيه - بعد تعذر حمله على
ظاهره - يجب حمله على الرجحان الفعلي أو النوعي. وكذا قولهم فان الحق
والرشد في خلافهم، إذ الظاهر أنه لوحظ كون خلافهم طريقا إلى الواقع، ويؤيد
ذلك ما في بعض الاخبار من أمرهم بالاستفتاء من فقيه البلد، والعمل بخلاف
ما يفتى، ومن أنهم ليسوا من الحقيقة على شئ، وغير ذلك مما يوجد في
الاخبار. وكيف كان فبناءا على التعدي لا وجه لترجيح غير ما يكون مؤيدا بما
يفيد الظن نوعا. (149)
(الثاني) - انك قد عرفت مما ذكرنا سابقا: أن تقديم النص - الظني
السند أو الجهة أو كليهما على الظاهر، وان كان قطعي السند - مما يحكم به
العرف، ولازم ذلك عدم التوقف الذي هو الأصل الأولى في تعارض الخبرين،
فيما إذا كان أحدهما عاما والآخر خاصا، وأمثال ذلك من النص والظاهر،
وكذا الحكم في الأظهر والظاهر، وهل يكون مورد التخيير والترجيح أيضا غير
ما ذكر، أو هو عام؟ وجهان أقصى ما يقال للأول: أن مورد الأخبار الواردة في
العلاج هو الخبران اللذان يتحير العرف فيهما، دون ماله طريق جمع مرتكز في
أذهانهم، وجرى عليه ديدنهم.
أقول قد ذكرنا سابقا أن العرف يعاملون الخاص الظني معاملة
الخاص القطعي في تقديمه على العام، وتحكيمه عليه، ولكن لا اشكال في أنه لم
يكن منشأ لانعقاد ظهور آخر، وصرف ظهور العام كالقرينة المتصلة، حتى لا يبقى
تعارض في البين، ولا يحسن السؤال عن حكمها، ولا تشمله الأخبار الواردة في
388

تعارض الخبرين.
وبعبارة أخرى (تارة) يقال بأن الخاص المنفصل كالمتصل في صرف ظهور
العام وانعقاد ظهور آخر لمجموع الكلامين، و (أخرى) يقال بان العام وان لم
يصرف عن ظهوره المنعقد له بورود الخاص المنفصل، ولكن العرف - في مقام
تعارض الخاص المذكور مع العام - يقدمون الخاص عليه، والأول يكذبه
وجدان كل أحد. والثاني لا يستلزم حمل الأسئلة الواردة في الاخبار على غير الموارد
المذكورة، إذ المرتكزات العرفية لا يلزم أن تكون مشروحة ومفصلة عند كل
أحد (150) حتى يرى السائل في هذه الأخبار عدم احتياجه إلى السؤال عن
حكم العام والخاص المنفصل وأمثاله، إذ رب نزاع بين العلماء يقع في الاحكام
العرفية، مع أنهم من أهل العرف. سلمنا التفات كل الناس إلى هذا الحكم
حتى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الأخبار، فمن الممكن السؤال أيضا،
لاحتمال عدم امضاء الشارع هذه الطريقة. وعلى هذا يجب أن يؤخذ باطلاق
الاخبار.
ويؤيد عموم الاخبار ما ورد في رواية الحميري عن الحجة (عليه السلام)
من قوله، في الجواب عن ذلك حديثان: أما أحدهما (فإذا انتقل من حالة إلى
أخرى، فعليه التكبير). وأما الآخر، فإنه روى أنه (إذا رفع رأسه من السجدة
389

الثانية، وكبر، ثم جلس، ثم قام، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير...)
ولا شك أن الثاني أخص من الأول مطلقا، مع أنه (عليه السلام) امر بالتخيير
بقوله في آخر الخبر وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا.
وكذا ما رواه على بن مهزيار قال: (قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى
أبى الحسن (عليه السلام) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في
ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلهما في المحمل، وروى بعضهم
لا تصلهما إلا على وجه الأرض...).
وظاهر أن الروايتين من قبيل النص والظاهر، لان الأولى نص في
الجواز، والثانية ظاهرة في عدمه، لامكان حملها على أن ايقاعها على الأرض
أفضل، مع أنه (عليه السلام) امر بالتخيير بقوله: موسع عليك باية عملت. ودعوى
السيرة القطعية - على التوفيق بين الخاص والعام والمطلق والمقيد من لدن زمان
الأئمة (عليهم السلام) وعدم رجوع أحد من العلماء إلى المرجحات الاخر - يمكن
منعها. كيف؟ ولو كانت لما خفيت على مثل شيخ الطائفة قدس سره، فلا يظن
بالسيرة، فضلا عن القطع، بعد ذهاب مثله إلى العمل بالمرجحات في تعارض
النص والظاهر، كما يظهر من العبارة المحكية عنه في الاستبصار والعدة. وقد
نقل العبارتين شيخنا المرتضى قدس سره في رسالة التعادل والترجيح فلاحظ.
(الثالث) - أنه لو بنينا على تقديم الأظهر، فمتى علم كون أحد الدليلين
أظهر من الآخر، فلا اشكال، ومتى اشتبه الحال، فقد ذكروا لتشخيص الأظهر
390

أمورا لا بأس بذكر بعضها:
(منها) - أنه لو دار الامر بين التخصيص والتقييد، فالثاني مقدم، نظرا
إلى أن الاطلاق ليس معنى وضعيا للفظ، وانما حكم به من جهة مقدمات:
(إحداها) - عدم البيان على القيد، ومتى ورد دليل يوجب التقييد - وان كان من
الألفاظ الدالة على العموم - يقدم على الاطلاق، لارتفاع موضوعه بذلك.
وفيه أن عدم البيان الذي اعتبر في تحقق الاطلاق هو عدم البيان المتصل،
لا الأعم منه ومن المنفصل كما لا يخفى. (151) فالأولى في دوران الامر بين
التخصيص والتقييد ملاحظة الخصوصيات الموجودة في المقام، إن كانت.
و (منها) - إنه لو دار الامر بين النسخ والتخصيص، فالثاني مقدم، نظرا
إلى قلة الأول وشيوع الثاني، حتى اشتهر انه ما من عام الا وقد خص.
أقول ندرة الأول وشيوع الثاني إن كانا مرتكزين في ذهن العرف، بحيث
يصيران كالقرائن المكتنفة بالكلام فهو، والا فمجرد الظن لا ينفع. ولا دليل على
اتباعه.
نعم يمكن أن يقال في الخصوصيات الواردة في كلام الأئمة
(عليهم السلام) بالنسبة إلى عمومات الكتاب أو السنة النبوية يتعين التخصيص،
لان النسخ وإن أمكن وقوعه عقلا، بان كان الناسخ مودعا عندهم، ولكن وقوعه
ولو نادرا غير محقق، مضافا إلى ما ورد عنهم (عليهم السلام) من أن حلال محمد
(صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة، وكذا حرامه الظاهر في أن جنس
الحكم المودع عنه لا يتغير ولا يتبدل أصلا، كما لا يخفى، مضافا إلى ارتكاز هذا
المعنى في ذهن المسلمين.
فان قلت كيف يحمل على التخصيص مع حضور وقت العمل بتلك
391

العمومات، وهل هو الا تأخير البيان عن وقت الحاجة القبيح عقلا؟
قلت قبح ذلك نظير قبح الكذب، يمكن ان يرفع بالوجوه والاعتبارات،
فقد تقتضي المصلحة اخفاء القرينة على الحكم الواقعي، كما أنه قد تقتضي
عدم بيانه وايكال الناس إلى العمل بحكم الشك.
وبعبارة أخرى تأخير البيان عن وقت العمل ليس علة تامة للقبح،
كالظلم، حتى لا يمكن تخلفه عنه، وإذا لم يكن كذلك فقبحه فعلا منوط بعدم جهة
محسنة تقتضي ذلك.
(الرابع) - تعيين النص والأظهر، فيما لو كان التعارض بين متعارضين،
فلا اشكال فيه. وأما إذ كان التعارض بين أزيد منهما، فقد يشكل الامر، من
حيث أن ملاحظة علاج التعارض بين اثنين منهما قد توجب انقلاب النسبة مع
الآخر، مثلا لو ورد أكرم العلماء، وورد أيضا لا تكرم الفساق من العلماء،
وعلمنا من الاجماع ونحوه عدم وجوب اكرام النحويين، فقد يتخيل ان العام
- بعلة القطع بخروج النحويين منه - يصير بمنزلة قولنا أكرم العلماء الغير
النحويين، والنسبة بينه وبين الخاص الآخر - أعني لا تكرم الفساق من
العلماء - تكون عموما من وجه، وهذا فاسد، من جهة أن ورود كل من
الخاصين على العام إنما يكون في مرتبة واحدة، وان كان أحدهما قطعيا
والآخر دليلا لفظيا قطعي الاعتبار.
نعم لو كان دليل التخصيص مكتنفا بالكلام، بحيث انعقد للكلام ظهور
واحد، ودليل التخصيص الآخر منفصلا عنه، يجب ان تلاحظ نسبة ذلك
المخصص المنفصل مع ذلك العام المخصص، لكن مع كونهما منفصلين لا وجه
لملاحظة أحدهما قبل الآخر، وتخصيص العام به، ثم ملاحظة الخاص الآخر
مع العام المخصص. وهذا واضح.
وقال شيخنا الأستاذ دام بقاؤه في وجه عدم انقلاب النسبة أن النسبة
إنما هي بملاحظة الظهورات، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان
قطعيا لا ينثلم به ظهوره، وان انثلمت به حجيته انتهى.
392

أقول الذي لا ينثلم هو ظهوره في المعنى التصوري أعني الملقى في ذهن
السامع حين سماعه. وأما ظهوره في إرادة المتكلم، فلا شك في اختلافه بعد
التخصيص بالمنفصل، إذ قبله ظاهر في إرادة الجميع على حد سواء، وبعده يقطع
بعدم إرادة البعض المخرج، ويصير ظهوره في إرادة الباقي أقوى. ولذا قد تصل
كثرة التخصيص إلى مرتبة يقطع بإرادة الباقي.
والعمدة في عدم الانقلاب هو ما ذكرنا، من كون الخصوصات في
عرض واحد (152) ولا وجه لملاحظة بعضها قبل الآخر، حتى يوجب انقلاب
النسبة.
393

ومن هنا يظهر أنه لو كانت النسبة بين المتعارضين عموما مطلقا، بعد
تخصيص أحدهما بخاص، يعامل مع ذلك العام المخصص ومقابله معاملة العام
والخاص المطلق، (153) وان كان بينهما تباين قبل ذلك التخصيص، كما
لو ورد (أن ثمن العذرة سحت، وورد أيضا ثمن العذرة لا بأس به، وورد أيضا ثمن
عذرة المأكول اللحم لا باس به) يجب تخصيص الدليل الأول واخراج عذرة
المأكول اللحم منه، ثم ملاحظته مع الدليل الثاني أعني قوله ثمن العذرة لا بأس
به. والسر في ذلك أنه ليس تعارض المقيد مع المطلق والمطلق الآخر معه على
نسق واحد، فيجب تقييد المطلق بذلك المقيد. وبعد التقييد يصير في حكم المقيد،
فيقيد الاطلاق الآخر به فليتأمل جيدا.
ثم انه في الفرض الأول - أعني صورة تعارض العام مع الخصوصات -
394

إذا بقى من العام بعد خروج تلك الخصوصات مقدار لم تكن إرادته منه بشعة،
فالحكم ما ذكرنا. وأما إذا لم يكن كذلك، بان تكون الخصوصات مستوعبة
لافراد العام، أو لم يبق بعد اخراجها مقدار يصح حمل العام عليه، فيقع التعارض
بين العام ومجموع الخصوصات، وحالهما حال المتباينين. فحينئذ لا يخلو إما أن
يكون كل من العام والخصوصات متساويين في السند وإما لا وعلى الثاني إما
ان يكون العام أرجح سندا من جميع الخصوصات، وإما بالعكس. وإما أن يكون
راجحا بالإضافة إلى بعض الخصوصات، ومساويا بالإضافة إلى الباقي، أو
مرجوحا كذلك. وإما أن يكون مرجوحا بالنسبة إلى بعض، ومساويا بالنسبة إلى
الآخر.
ففي الصورة الأولى، يحكم بالتخيير، فان أخذنا بالخصوصات يطرح
العام كلية، وان اختير العام، فلا وجه لطرح الخصوصات رأسا، إذا لتباين مع
المجموع، لا مع كل واحد، فحينئذ يطرح منها مقدار لم يكن في الاخذ بالباقي محذور
ويقع التعارض بين الخصوصات، فيحكم بالتخيير، لعدم الترجيح، كما هو
المفروض. وفي الصورة الثانية يؤخذ بالعام بناءا على الاخذ بالترجيح، ويطرح من
الخصوصات ما لم يكن في الاخذ بالباقي محذور، ويلاحظ الترجيح في
الخصوصات إن كان، والا فالتخيير. وفي الثالثة يؤخذ بجميع الخصوصات
ويطرح العام. والصور الباقية متحدة في الحكم مع الصورة التي لم يوجد ترجيح في
البين أصلا، (154) إذا لتباين إنما يكون بين العام والبعض المبهم من بين
395

الخصوصات، وترجيح أحد هذين المتباينين على الآخر لا يكون الا بترجيح العام
على تمام الخصوصات، أو ترجيحها عليه، فليتدبر.
(الخامس) - انه لو بنينا على الترجيح، واقتصرنا على المرجحات المنصوصة،
مع ملاحظة الترتيب بينها، فلا اشكال في وجوب الاخذ بالمزية الملحوظة سابقة،
وعدم الاعتناء بالأخرى الملحوظة لاحقة. وان لم نقتصر عليها، بل تعدينا إلى كل
ما يوجب الأقربية إلى الواقع، أو الأبعدية عن الخلاف، أو قلنا بناءا على
الاقتصار أن أدلة الترجيح انما تكون في بيان ذكر المرجحات دون الترتيب بينها،
فمتى وجدت في أحد المتعارضين إحدى المزايا الموجبة لاحد المناطين، بناءا على
الأول، ووجدت أخرى في الآخر كذلك، أو وجدت إحدى المزايا المنصوصة في
أحدهما، وأخرى في الآخر، يحكم بالتخيير، سواء كانت المزيتان راجعتين إلى
الصدور، أو إحداهما إليه والأخرى إلى جهته.
والوجه في ذلك - بناءا على التعدي - ان ملاك الاخذ بأحدهما معينا
كونه لو فرض كذب أحد المتعارضين وصدق الآخر أولى بالمطابقة للواقع، أو كونه
منضما إلى شئ يوجب أقر بيته إلى الواقع، على الاختلاف الذي ذكرناه سابقا في
396

فهم الملاك من الاخبار. وعلى كل حال مخالفة العامة عدت في الاخبار مما يتحقق به ملاك
الترجيح، كالأعدلية وأمثالها، فلو كان أحد الخبرين موافقا للعامة، والآخر
مخالفا لهم، ولو كان رواة المطابق لهم اعدل، يحكم بالتخيير، لان ملاك
الترجيح في كل منهما على نهج واحد، لا مزية لأحدهما على الآخر. وهكذا
الكلام على القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة، بناءا على أن الاخبار
ليست في بيان الترتيب، بل هي في مقام تعداد المرجحات، لأنه كما أن الأعدلية
عدت في الاخبار من المرجحات، كذلك مخالفة العامة أيضا عدت منها، فلا وجه
لترجيح خبر الأعدل المطابق للعامة على غيره المخالف لهم، خلافا لشيخنا المرتضى
قدس سره، حيث قدم الخبر الأرجح سندا المطابق للعامة على غيره المخالف لهم.
قال في باب التعادل والترجيح: ما لفظه (اما لو زاحم الترجيح بالصدور
الترجيح من حيث جهة الصدور، بان كان الأرجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر
تقديمه على غيره، وان كان مخالفا لهم، بناءا على تعليل الترجيح بمخالفة العامة،
باحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض
صدورهما قطعا، كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين، بعد عدم امكان
التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر. وفيما نحن فيه يمكن ذلك
بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.
فان قلت إن الأصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى
ذلك الحكم بصدور الخبر الموافق تقية، كما يقتضى ذلك الحكم بإرادة
خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة
مقدما على الترجيح بحسب الصدور.
قلت لا معنى للتعبد بصدورهما، مع وجوب حمل أحدهما المعين على
التقية، لأنه الغاء لأحدهما في الحقيقة) انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع
مقامه.
أقول قوله (أو تعبدا كما في الخبرين..) إن أراد كونهما حجة فعلا،
397

فلا معنى له بعد وجوب الغاء أحدهما المعين، كما صرح به قدس سره في جواب
المستشكل، وان أراد تساويهما بملاحظة دليل الحجية من دون ترجيح لأحدهما
على الآخر، بحيث تشمله الأدلة الواردة في علاج المتعارضين. فما نحن فيه من هذا
القبيل، لان الخبر الصادر من الأعدل الموافق لهم مع الخبر الصادر غيره
المخالف لهم سيان، بملاحظة دليل الحجية. أما تساويهما بملاحظة الدليل
الأول، فواضح، لأن المفروض كونهما جامعين للشرايط المعتبرة في دليل الحجية.
وأما تساويهما بملاحظة دليل العلاج (155) فلان المفروض اشتمال كل منهما
على مزية خاصة موجبة للترجيح هذا.
398

والحمد على ما تيسر لي من تحرير هذه المسائل وأصلي وأسلم على محمد وآله
أشرف الأواخر والأوائل. واللعنة الدائمة على أعدائهم ومخالفيهم ومبغضيهم ما
تنافرت الأضداد والأماثل.
399

كلمة المصحح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفقني لخدمة سيدي الأستاذ سماحة آية الله العظمى زعيم الحوزات
العلمية في إيران السيد الگلپايگاني أمد الله في عمره الشريف في القيام بتصحيح
هذا السفر الجليل والاشراف على طبعه ووضع فهرسته على غرار ما قمت به
في الجزء الأول وبذلت غاية جهدي فيه الا أن (العصمة لأهلها) وأرجو أن
يكون خاليا من الخطأ الا ما زاغ عنه البصر والله تبارك وتقدس أسأل أن يجعل
هذا الجهد المتواضع ذخيرة لي ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله
بقلب سليم وأن ينفع به أهل العلم وأرباب الفضل وأن لا يضنوا علي بصالح
دعائهم إنه قريب سميع الدعاء.
محمد الكاظم الخوانساري 27 / جمادى الأولى 1411
29 / 9 / 1369
400