الكتاب: أنوار الهداية
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ذي القعدة ١٤١٣ - ١٣٧٢ ش
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
ردمك:
ملاحظات:

مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
فرع قم المقدسة - ج 1
قسم التحقيق
ذو القعدة الحرام 1413 ه‍. ق
نموذج من خط
السيد الإمام الخميني (قده)
1

مقدمة التحقيق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
أشرف النبيين محمد وآله المعصومين الطاهرين
لعل من أهم مميزات مدرسة أهل البيت عليهم السلام، هي تلك
الثروة العلمية الهائلة، التي تمثلت بآلاف الكتب والأسفار في شتى العلوم
ومختلف أنواع المعارف وشؤون الثقافات ومجالات الفكر. حيث
توجهت إلى التأليف والتصنيف، وإجالة الأقلام حول الفنون المختلفة
همم الأكابر من أهل الفضل وذوي النبل، الذين لم يألوا جهدا في هذا
الشأن بنشر العلوم وبثها، وتنميق الرسائل وصقلها وتهذيبها، فلله
تعالى درهم، وعليه أجرهم.
ومن جملة ما ألفوا من تلك الفنون وأكثروا فيها، علم أصول الفقه
أو علم أصول الاستنباط، الذي هو من أهم العلوم الإسلامية
9

وأغلاها، وأرفع المعارف الآلهية وأعلاها، وإنما كثرت مؤلفاتهم في هذا
العلم وتنوعت، لأن باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية مفتوح
عندهم على مصراعيه، ولا يجوزون تقليد الموتى ابتداء في الفروع،
ولا في الأصول مطلقا، فكشف علماء الإسلام عن ساق الجد والجهد
فنضدوا قواعده، ورصفوا مباحثه مثابرين على العمل، معانين فيه
أتعابا وجهودا، وما زالوا يتدرجون في مرا قي علوه، وسلالم نموه خلفا
عن سلف وجيلا بعد آخر.
من تلق منهم تلق كهلا أو فتى * علم الهدى بحر الندى المورودا
ولا نشك في أن بذرة التفكير الأصولي وجدت لدى فقهاء
أصحاب الأئمة عليهم السلام منذ أيام الصادقين عليهما السلام على
مستوى تفكيرهم الفقهي، ومن الشواهد التاريخية على ذلك ما ترويه
كتب الحديث من أسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية
الاستنباط، وجهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق عليه السلام
وغيره من الأئمة عليهم السلام وتلقوا جوابها منهم (1).
وكتب المسائل المروية عن الأئمة عليهم السلام موجودة بأيدينا
إلى هذا الوقت، حيث رتبها بعض المتأخرين على ترتيب المصنفين في
هذا العلم منها:
1 - (كتاب أصول آل الرسول صلى الله عليه وآله) في استخراج

(1) انظر المعالم الجديدة للأصول للسيد الشهيد الصدر: 47.
10

أبواب أصول الفقه من روايات أهل البيت عليهم السلام للعلامة الكبير
السيد الشريف ميرزا محمد هاشم ابن الميرزا زين العابدين الموسوي
الخوانساري المتوفى سنة 1318 ه‍ جمع فيه الأحاديث المأثورة عنهم
عليهم السلام في قواعد الفقه والأحكام ورتبها على مباحث
أصول الفقه.
2 - (كتاب الأصول الأصلية والقواعد المستنبطة من الآيات
والأخبار المروية) تأليف العلامة الأوحد الحجة السيد عبد الله بن محمد
الرضا شبر الحسيني الكاظمي المتوفى سنة 1242 ه‍ جمع فيه المهمات من
المسائل الأصولية المنصوصة من الآيات والروايات. فبلغ مجموع
الروايات 1903 ألف وتسع مائة وثلاثة أحاديث، وقد جعل كتابه هذا
رابع مجلدات كتابه الكبير الموسوم ب‍ (جامع المعارف والأحكام) (1).
ولا بأس هنا في هذا المقام أن نستعرض بعض الروايات الواردة
في هذا الشأن كشاهد على ذلك، فمنها:
ما ورد في أصل البراءة: فقد أخرج الإمام الكليني - قدس سره -
في كتابه الحافل الموسوم ب‍ (الكافي) بإسناده عن أبي الحسن زكريا بن
يحيى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
(ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم) (2).

(1) انظر الذريعة للحجة الأكبر الشيخ الطهراني 2: 177 - 178.
(2) الكافي 1: 126 حديث 3 باب حجج الله على خلقه.
11

ومنها ما ورد في حجية الظاهر: وقد أورد منها الإمام الكليني
- قدس سره - في كتابه المذكور عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر عليه
السلام قال: سمعته يقول:
(إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمة إلا أنزله في
كتابه وبينه لرسوله صلى الله عليه وآله...) (1).
ومنها ما ورد في الاستصحاب: فعن عبد الله بن بكير، عن أبيه،
قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام:
(إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث وضوءا
أبدا حتى تستيقن أنك قد أحدثت).
ومنها ما ورد في أصالة الحلية: فقد أخرج الشيخ الصدوق -
رحمه الله - عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
(كل شئ يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف
الحرام منه بعينه فتدعه) (2).
ومنها ما ورد في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة:
أخرج الإمام الكليني - رضوان الله عليه - عن سماعة قال: سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر،
ولا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره؟ قال:

(1) نفس المصدر السابق 1: 48 حديث 2 باب الرد إلى الكتاب والسنة...
(2) الفقيه 3: 216 حديث 1002 باب 96 الصيد والذبائح.
12

(يهريقهما جميعا ويتيمم) (1).
إلى غير ذلك مما يطول بذكره المقام.
وعلى كل حال فقد ذكر أن هشام بن الحكم المتوفى سنة 199 ه‍
صنف كتاب (الألفاظ ومباحثها).
ثم يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين صنف كتاب (اختلاف
الحديث ومسائله) وهو مبحث تعارض الحديثين، ومسائل التعادل
والترجيح في الحديثين المتعارضين.
وبعد ذلك توالت حلقات التصنيف في هذا العلم الشريف،
وازداد ثراء ووضوحا وتألقا على مدى التاريخ العلمي، وها نحن - وروما
للاختصار - نورد قائمة إجمالية مختصرة جدا، نقدمها كفهرست تأريخي
لأشهر الكتب التي دارت بحوثها حول أصول الفقه.
فمنها: كتاب (الخصوص والعموم) و (إبطال القياس) و (نقض
اجتهاد الرأي على ابن الراوندي) وهذه كلها من تصنيفات شيخ
المتكلمين أبي سهل النوبختي إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل
الفضل ابن نوبخت، من أهل القرن الثالث الهجري.
ومنها: كتاب (خبر الواحد والعمل به) وكتاب (الخصوص
والعموم) لشيخ المتكلمين في عصره أبي محمد الحسن بن موسى
النوبختي.

(1) الكافي 3: 10 حديث 6 باب الوضوء من سؤر...
13

ومنها: (كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس) للشيخ الفقيه
الأعظم أبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الكاتب الإسكافي، من أهل
القرن الثالث.
ومنها: (إبطال القياس) للمتكلم المشهور أبي منصور الصرام
النيشابوري، من أهل القرن الثالث.
ومنها: (مسائل الحديثين المختلفين) للشيخ الفقيه محمد بن أحمد
ابن داود بن علي بن الحسن، المعروف بابن داود، المتوفى سنة 368 ه‍.
ومنها: (كتاب في أصول الفقه) (1)، للإمام الكبير أبي عبد الله
محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد، المتوفى سنة
413 ه‍.
ومنها: (الذريعة في علم أصول الشريعة) و (مسائل الخلاف في
أصول الفقه) و (إبطال القياس) لعلم الهدى السيد المرتضى الشريف
الموسوي أبي القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن
إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام المتوفى سنة 436 ه‍.
ومنها: (عدة الأصول) و (ومسألة حجية خبر الواحد) لشيخ
الطائفة الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، المتوفى سنة
460 ه‍.
ومنها: (المصادر في أصول الفقه) و (التنقيح) للإمام الشيخ سديد
(1) أدرجه بتمامه الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتابه (كنز الفوائد) في الجزء 2 صفحة 15.
14

الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الرازي، من أهل القرن
الخامس الهجري.
ومنها (غنية النزوع) للفقيه الكبير السيد حمزة بن علي بن زهرة
الحسيني الحلبي، المتوفى سنة 579 ه‍.
ومنها: (معارج الوصول إلى علم الأصول) و (نهج الوصول إلى
علم الأصول) للفقيه الكبير المحقق الشيخ أبي القاسم نجم الدين جعفر بن
الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي الحلي، المتوفي سنه 676 ه‍.
ومنها: (غاية الوصول في شرح مختصر الأصول) و (مبادئ
الوصول إلى علم الأصول) و (النكت البديعة في تحرير الذريعة) و (نهج
الوصول إلى علم الأصول) و (نهاية الوصول إلى علم الأصول) و (منتهى
الوصول إلى علمي الكلام والأصول) و (تهذيب طريق الوصول إلى علم
الأصول) و (تعليقة على عدة الأصول) و (تعليقة على معارج الوصول)
لآية الله العلامة جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن علي بن
محمد المطهر الحلي، المتوفى سنة 726 ه‍.
ومنها: (شرح التهذيب الجمالي في أصول الفقه) للفقيه الكبير
الشهيد الإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جمال الدين مكي
العاملي، المعروف بالشهيد الأول، المستشهد سنة 786 ه‍.
ومنها: (معالم الدين وملاذ المجتهدين) للمحقق الكبير الشيخ
جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي الجباعي، المتوفى سنة
15

1011 ه‍.
ومنها: (زبدة الأصول) للعلامة الأكبر الشيخ بهاء الدين محمد
ابن الحسين العاملي، المعروف بالبهائي، المتوفى سنة 1031 ه‍.
ومنها: (الوافية) للمولى الفاضل عبد الله بن محمد البشروي
الخراساني التوني، المتوفى سنة 1071 ه‍.
ومنها: (الحاشية على المعالم) للمحقق الكبير الشيخ محمد بن
الحسن الشيرواني المتوفى سنة 1098 ه‍.
ومنها: (شرح الوافية) للمحقق السيد صدر الدين محمد بن مير
محمد باقر الرضوي القمي، المتوفى سنة 1160 ه‍.
ومنها: (الفوائد الحائرية) للمحقق الإمام الشيخ محمد باقر بن
محمد أكمل، المشهور بالوحيد البهبهاني، المتوفى سنة 1206 ه‍.
ومنها: (الوافي) و (المحصول) للمحقق المقدس الكاظمي
البغدادي السيد محسن بن الحسن الأعرجي، المتوفى سنة 1227 ه‍.
ومنها: (القوانين) للعلامة المحقق الميرزا أبي القاسم بن محمد
حسن الجيلاني القمي، المتوفى سنة 1231 ه‍.
ومنها: (فرائد الأصول) المعروف بالرسائل، لإمام المحققين
الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، المتوفى سنة 1281 ه‍.
ومنها: (كفاية الأصول) وهو كتاب جامع في أصول الفقه
للمحقق الأكبر الشيخ محمد كاظم الهروي الخراساني المتوفى سنة مقدمة
16

1329 ه‍، وهذا الكتاب هو المتداول في التدريس في الجامعات
الحوزوية الإسلامية منذ زمن تأليفه وإلى يومنا هذا، وعليه فقد كثرت
شروح هذا المتن والتعليقات عليه من قبل محققي هذا الفن والمختصين به،
ونذكر ما تيسر لنا الآن ذكره من تلك الشروح والتعليقات فمنها:
1 - نهاية المأمول في شرح كفاية الأصول: للميرزا حسن بن
عزيز الله الرضوي القمي المتوفى سنة 1352 ه‍.
2 - شرح الكفاية: للشيخ علي بن قاسم القوچاني المتوفى سنة
1333 ه‍.
3 - نهاية الدراية في شرح الكفاية: للشيخ محمد حسين بن
محمد حسن المعين الأصفهاني الكمپاني المتوفى سنة 1361 ه‍.
4 - شرح الكفاية: للعلامة الشيخ عبد الحسين بن الشيخ عيسى
الرشتي النجفي، المتوفى سنة 1373 ه‍.
5 - حقائق الأصول: للإمام السيد محسن بن السيد مهدي بن
السيد صالح الحكيم المتوفى سنة 1390 ه‍. وله حاشية قديمة على الجزء
الثاني فرغ منها سنة 1339 ه‍.
6 - شرح الكفاية: للشيخ محمد الشهير بسلطان العراقي.
7 - شرح الكفاية: للشيخ مهدي بن الشيخ حسين بن عزيز
الخالصي الكاظمي المتوفى سنة 1343 ه‍ في المشهد الرضوي المقدس.
8 - شرح الكفاية: (فارسي) موسوم ب‍ (خود آموز كفاية) طبع في
17

المشهد الرضوي الشريف.
9 - الحاشية على الكفاية: للسيد إبراهيم بن السيد محمد شبر
الحسيني، وهي على الجزء الأول من الكتاب.
10 - الحاشية عليها: للشيخ محمد إبراهيم بن الشيخ علي بن محمد
حسين الكلباسي.
11 - الحاشية عليها: للشيخ الميرزا أبي الحسن بن عبد الحسين
المشكيني، المتوفى بالنجف الأشرف سنة 1358 ه‍.
12 - الحاشية عليها: للشيخ الميرزا أحمد ابن المصنف الخراساني.
13 - الحاشية عليها: للسيد أحمد بن السيد علي أصغر
الشهرستاني.
14 - الحاشية عليها: للميرزا باقر الزنجاني.
15 - الحاشية عليها: للمولى محمد تقي الگلپايگاني البصير،
المتوفى سنة 1352 ه‍.
16 - وسيلة الوصول إلى كفاية الأصول: للشيخ محمد تقي بن
الشيخ يوسف الحاريصي العاملي.
17 - الحاشية عليها: للسيد حسن اليزدي، المتوفى سنة 1359 ه‍.
18 - الحاشية عليها: للسيد محمد حسين الطباطبائي.
19 - الحاشية عليها: للسيد حسين بن علي بن أبي القاسم بن
محمد حسن الحسيني البختياري الأصفهاني.
18

20 - الهداية في شرح الكفاية: لمرجع المسلمين الراحل آية الله
السيد شهاب الدين بن السيد محمود المرعشي النجفي.
21 - الهداية في شرح الكفاية: للشيخ عبد الحسين بن محمد تقي
ابن الحسن بن أسد الله الدزفولي الكاظمي، المتوفى سنة 1336 ه‍.
22 - الحاشية عليها: للشيخ محمد علي بن محمد جعفر القمي
المتوفى سنة 1354 ه‍.
23 - هداية العقول في شرح كفاية الأصول: للميرزا فتاح بن
محمد علي بن نور الله الشهيدي التبريزي.
24 - الحاشية عليها: للميرزا علي بن الشيخ عبد الحسين بن
المولى علي أصغر الأيرواني المتوفى سنة 1354 ه‍.
25 - الحاشية عليها: للشيخ علي بن الشيخ يوسف بن علي الفقيه
الحاريصي العاملي.
26 - الحاشية عليها: للسيد محمد بن علي بن علي تقي الحسيني
الكوهكمري التبريزي.
27 - الحاشية عليها: لولد المصنف الميرزا محمد، المتوفى سنة
1355 ه‍.
28 - نهاية المأمول في شرح كفاية الأصول: للشيخ عبد النبي
الوفسي العراقي.
29 - نهاية المأمول في شرح كفاية الأصول: للشيخ مرتضى بن
19

محمد حسن المظاهري الأصفهاني.
30 - الحاشية عليها: للشيخ مهدي بن إبراهيم بن هاشم الدجيلي
الكاظمي المعروف بجرموقه، المتوفى سنة 1339 ه‍.
31 - نهاية المأمول في الأصول: للسيد هادي بن حسين
الأشكوري.
32 - هداية العقول في شرح كفاية الأصول: للسيد محمد علي
الموسوي الحمامي.
33 - الهداية في شرح الكفاية: للسيد محمد جعفر الشيرازي.
34 - الحاشية: للسيد محمد النجف آبادي الأصفهاني.
35 - حاشية كفاية الأصول: للسيد محمد الموسوي الكازروني.
36 - الحاشية عليها: للشيخ عباس علي الشاهرودي.
37 - دروس وحلول في شرح كفاية الأصول: للسيد علي
العلوي، المتوفى سنة 1402 ه‍.
38 - شرح الكفاية: للشيخ عبد الكريم الخوئيني.
39 - طريق الوصول إلى تحقيق كفاية الأصول: للشيخ محمد
الكرمي.
40 - نهاية المأمول في شرح كفاية الأصول: للشيخ محمد علي
الاجتهادي.
41 - تعليقة على الكفاية: لآية الله الشهيد السعيد السيد مصطفى
20

نجل الإمام الخميني قدس سرهما المستشهد سنة 1397 ه‍ (1).
حول تعليقة الإمام الخميني
لقد أضفى السيد الإمام الخميني قدس سره على هذا العلم من
نظراته الشمولية، وآراءه العميقة، ما جلى غوامضه وكشف أسراره
وأوسع شواطئه وعمق أغواره، وانعكست على جميع الأبواب التي
طرقها، والعلوم التي بحثها، ويتجلى هذا واضحا في دقته حين يستعرض
الآراء الفلسفية التي استعان بها بعض علمائنا العظام في بحوثهم
الأصولية، فينقدها بفكره الثاقب، ويكشف عن مكامن أخطائها،
ويعالج مواضع ضعفها، ويضع كل شئ في نصابه وعلى مسيره الصحيح.
هذا ما تراه بوضوح في مناقشاته لآراء ونظريات الميرزا النائيني - رحمه
الله - والمحققين الكبار الآخرين كالآخوند الخراساني وأقا ضياء الدين
العراقي والشيخ الأصفهاني قدست أسرارهم.
أضف إلى ذلك اتصاف أبحاثه العلمية بالموضوعية والتهذيب،
فمع أن الفلسفة والعرفان من أهم ما نبغ فيه سيدنا الإمام، فإنك لا تراه
يطرق ما يتعلق من بحوثهما بعلم الأصول إلا بمقدار الضرورة، ويوكل
التفاصيل إلى محالها ومضانها. وحين يرى أن البحث المطروق في علم
(1) انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للعلامة المحقق الثبت الشيخ الطهراني 6: 186 و
14: 33.
21

الأصول عديم الجدوى أو نادر النفع فإنه يحذفه ويلغيه، ويوفر على
الطلاب عناء بحثه، أو يكتفي بالتنويه عنه من دون تفصيل وتطويل.
وفي هذا الصدد يقول آية الله الشيخ الفاضل اللنكراني دام ظله:
أما طريقة السيد الإمام قدس سره فقد كان بناؤه على ملاحظة
المطالب من أصلها والنظر في أساسها، وأنها هل أسست على أساس
صحيح قابل للقبول أو لا؟
فقد رأينا في مباحثه أنه كثيرا ما يضع الإصبع على الأساس الذي
كان مسلما عندهم فيناقش فيه وينقده. ولم تكن المطالب مقبولة عنده
تعبدا وتقليدا بل كانت تدور مدار الدليل والبرهان، وهذا مما يوجب
تشحيذ أذهان الفضلاء والطلبة، ويوجب الرشد والرقاء وتؤثر في كمال
التحقيق والتدقيق.
منهجنا في تحقيق الكتاب
1 - استنساخ الأصل - الذي هو بخط الإمام الراحل قده -
وتقطيع النص، وضبطه، ووضع علامات الترقيم حسب ما ترشد إليه
الخبرة في هذا الفن.
وقد استخدمنا العضادتين [] ووضعناها في عدة موارد:
أ - لإضافة يقتضيها السياق.
ب - لإضافة من المصدر.
22

ج - لتصحيح النص.
2 - الإشارة إلى موضع الآيات القرآنية الشريفة بذكر اسم السورة
ورقم الآية.
3 - تخريج الأحاديث الشريفة، وعزوها إلى مصادرها وذلك
بذكر اسم الكتاب أولا، ثم رقم الجزء، ثم رقم الصفحة، ثم تسلسل
الحديث. وربما نذكر عنوان الباب أو رقم ترتيبه.
4 - ترجمة الأعلام المذكورين في متن الكتاب.
5 - استخراج الأقوال والعبارات، وعزوها إلى مصادرها.
6 - شرح وتبيين بعض الكلمات والمفردات اللغوية.
7 - إعداد فهارس عامة فنية تسهيلا لأمر الاستفادة، وتوفيرا
لوقت العلماء الباحثين.
والحمد لله رب العالمين
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
فرع قم المقدسة
قسم التحقيق
ذو القعدة الحرام 1413 ه‍. ق
23

نموذج من خط
السيد الإمام الخميني (قده)
24

صورة الصفحة الأولى من الأصل
27

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل
28

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
وبعد، فهذه تعليقة علقتها على المباحث العقلية من الكفاية مما
سنح ببالي عند بحثي عنها، وعلى الله التكلان في البداية والنهاية.
29

الأمارات المعتبرة عقلا أو شرعا
مباحث القطع
31

وجه أشبهية مسائل القطع بالكلام
قوله: وكان أشبه بمسائل الكلام... إلخ (1).
قد عرف علم الكلام تارة: بأنه علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية
للوجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام (2).
واخرى: بأنه علم يبحث فيه عن ذات الله - تعالى - وصفاته وأفعاله
وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام (3).
وأشبهية مسائل القطع بمسائل الكلام إنما تكون على التعريف الثاني،
[لأنه] يدخل فيه مباحث الحسن والقبح وأمثالهما.
وأما على الأول من التعريفين فلا شباهة بينهما أصلا، فإن مسائل القطع

(1) الكفاية 2: 5.
(2) شوارق الإلهام: 9 سطر 19.
(3) تعريفات الجرجاني: 237.
33

ليست من الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو وجود، كما لا يخفى
على أهله.
وجه تعميم متعلق القطع
قوله: وإنما عممنا متعلق القطع... إلخ (1).
وجه التعميم وعدم تثليث الأقسام: ما ذكره - قدس سره - من عدم
اختصاص أحكام القطع بما تعلق بالأحكام الواقعية (2).
لكن يرد عليه: أن لازم ذلك دخول تمام مسائل الظن والشك إلا الأصول
الثلاثة العقلية في مسائل القطع، فإن المسائل المفصلة الآتية في الكتاب تفصيل
هذا التقسيم الإجمالي المذكور في أوله وإلا يصير التقسيم لغوا باطلا، فبناء على
توسعة دائرة القطع وإطالة ذيله حتى يشمل كل المباحث، تصير كلية المباحث
مبحثا وحيدا هو مبحث القطع، مع أن مباحث الظن والشك من أعظم المباحث
الأصولية، وهي العمدة في المباحث العقلية، والقول بدخولها في مبحث القطع
كلام لا يرضى به أصولي.
وإنما خصصنا الاستثناء بالأصول الثلاثة مع جعله - قدس سره - الظن
على الحكومة مقابل القطع، فلأن الظن على الحكومة لا يكون مقابله، بل هو في
الحقيقة من مسائل العلم الإجمالي، إلا أن دائرته أوسع

(1) الكفاية 2: 5.
(2) نفس المصدر السابق.
34

من العلم الإجمالي المذكور في مباحث القطع والاشتغال، وكون دائرة
المتعلق أوسع منه غير دخيل في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى
على المتأمل.
ثم إن لنا بناء على ما ذكره - قدس سره - أن ندرج كلية المباحث حتى
مبحث الأصول العقلية في القطع، بأن نجعل متعلق القطع هو وظيفة المكلف،
فتصير المباحث العقلية كلها مبحثا فريدا هو مبحث القطع. لكن هذا مما
لا يرضى به الوجدان الصحيح، فتثليث الأقسام مما لابد منه، لكن لا بما ذكره
الشيخ - قدس سره - (1) لتداخل الأقسام، بل بما ذكره شيخنا العلامة الحائري (2)
وبعض محققي العصر قدس سرهما (3).

(1) فرائد الأصول: 2 سطر 9 - 10.
الشيخ: هو الإمام الشيخ المرتضى بن الشيخ محمد أمين الأنصاري، ولد في ذي الحجة سنة
1214 ه‍ في دزفول، وتولى المرجعية بعد وفاة الإمام صاحب الجواهر، له عدة كتب قيمة
لازالت محط أنظار العلماء وأبحاثهم كالمكاسب والرسائل، توفي رضوان الله عليه سنة
1281 ه‍ ودفن عند أمير المؤمنين عليه السلام. انظر أعيان الشيعة 9: 5، معارف الرجال
2: 323.
(2) درر الفوائد 2: 2.
العلامة الحائري: هو العلامة مؤسس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة الشيخ عبد الكريم بن محمد
جعفر، ولد بقرية مهرجرد التابعة لمدينة يزد سنة 1276 ه‍ هاجر إلى سامراء ثم إلى النجف الأشرف
لمواصلة الدراسة فحضر الأبحاث العالية عند الإمام الخراساني، وبعد ذلك رجع إلى إيران وأسس
الحوزة العلمية المباركة في مدينة قم المقدسة عاصمة العالم الإسلامي، توفي ليلة السبت 17 ذي القعدة
سنة 1355 ه‍ ودفن في رواق حرم المعصومة عليها السلام.
انظر نقباء البشر 3: 1158، أعيان الشيعة 8: 42.
(3) نهاية الدراية 2: 3 سطر 15 - 18.
35

تنبيه
جواب اعتذار بعض مشايخ العصر - رحمه الله -
قد اعتذر بعض محققي العصر (1) - على ما في تقريرات بحثه - عن تثليث
الأقسام بما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري - قدس سره -: بأن عقد البحث في
الظن إنما هو لأجل [تمييز] الظن المعتبر الملحق بالعلم عن الظن الغير المعتبر
الملحق بالشك، فلابد أولا من تثليث الأقسام، ثم البحث عن حكم الظن من
حيث الاعتبار وعدمه (2) انتهى كلامه.
ومراده: أن تثليث الأقسام توطئة لبيان الحق فيها.
وفيه ما لا يخفى، فإن الضرورة قاضية بان التقسيمات التي وقعت في
مجاري الأصول مع هذا التقسيم التثليثي على نهج واحد، فإن كان هذا التقسيم
توطئة تكون هي كذلك، فعليه فما الباعث في تقييد مجرى الاستصحاب بكون
الحالة السابقة ملحوظة إذا كان التقسيم توطئة، لا من باب بيان المختار؟
مع أن هذا المحقق قال بعد أسطر من هذا الكلام: وإنما قيدنا مجرى

(1) هو أستاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ الميرزا محمد حسين بن شيخ الإسلام الميرزا عبد الرحيم
النائيني ولد في نائين سنة 1277 ه‍ وتلقى أوليات العلوم فيها، ثم هاجر إلى أصفهان وأكمل المقدمات،
وبعدها رحل إلى العراق وتتلمذ على يد كبار العلماء كالسيد الفشاركي والسيد الصدر، كان صاحب
مدرسة مستقلة في الأصول وتخرج على يده مجموعة كبيرة من الفقهاء، له عدة مؤلفات في الفقه
والأصول وغيرها توفي سنة 1355 ه‍ ودفن في النجف الأشرف. انظر طبقات أعلام الشيعة 2: 593،
معارف الرجال 1: 284.
(2) فوائد الأصول 3: 4.
36

الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة، ولم نكتف بمجرد وجودها، فإن مجرد
وجودها بلا لحاظها لا يكفي في كونها مجرى الاستصحاب، إذ هناك من ينكر
اعتبار الاستصحاب كلية (1) إلى آخر ما ذكره.
والشيخ - رحمه الله - أيضا قال: وما ذكرناه هو المختار في مجاري
الأصول (2) فعاد الإشكال على تثليثها جذعا (3) فلتكن على ذكر.
وجه عدم جعل الحجية للقطع
قوله: لعدم جعل تأليفي... إلخ (4).
إنما لا يمكن الجعل التأليفي بين الشئ ولوازمه، لأن مناط الافتقار إلى
الجعل هو الإمكان، والوجوب والامتناع مناط الاستغناء، والقطع واجب
الحجية ممتنع اللا حجية، فليس فيه مناط الفقر والحاجة إلى الجاعل إثباتا ونفيا.
هذا، ولكن في كون الحجية والكشف من اللوازم التي لا يتعلق بها الجعل
التأليفي كلام سيأتي - إن شاء الله - في مباحث التجري التعرض له وبيان
الميزان فيها (5).
ومجمل ذاك المفصل: أن الكشف والطريقية من آثار وجود القطع،

(1) نفس المصدر السابق.
(2) فرائد الأصول: 2 سطر 8.
(3) جذعا: أي جديدا كما بدأ. لسان العرب 2: 220 جذع.
(4) الكفاية 2: 8.
(5) انظر صفحة رقم: 74 وما بعدها.
37

لا لوازم مهيته، وآثار الوجود مطلقا مجعولة.
نعم أصل المدعى - وهو عدم تعلق الجعل التشريعي به - صحيح بلا
مرية، فإن الجعل التشريعي لا معنى لتعلقه بما هو لازم وجود الشئ، فلا معنى
لجعل النار حارة والشمس مشرقة تشريعا، لا لأنهما من لوازم ذاتهما، بل
لأنهما من لوازم وجودهما المحققين تكوينا، والقطع أيضا طريق تكويني
وكاشف بحسب وجوده، ولا يتعلق الجعل التشريعي به، للزوم اللغوية وكونه
من قبيل تحصيل الحاصل.
هذا، وأما حديث اجتماع الضدين اعتقادا أو حقيقة، فيمكن [دفعه]،
فإن العلم كالشك من عوارض المعلوم بوجه، كالشك الذي من طوارئ
المشكوك، فكما أن المشكوك بما أنه مشكوك موضوع يمكن تعلق حكم مضاد
للذات به، - بناء على صحة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بنحو الترتب -
كذلك المعلوم بما أنه معلوم موضوع يصح تعلق حكم مناف للذات به.
نعم جعل الحكم المنافي للذات لعنوان المعلوم يوجب اللغوية، لكن هذا
أمر آخر غير الامتناع الذاتي.
إشكال على مراتب الحكم
قوله: مرتبة البعث... إلخ (1).
يظهر منه - قدس سره - على ما في تضاعيف كتبه: أن للحكم أربع

(1) الكفاية 2: 8.
38

مراتب: الاقتضاء، والإنشاء، والفعلية، والتنجز (1).
ولا يخفى أن المرتبة الأولى والأخيرة لم تكونا من مراتب الحكم، فإن
الاقتضاء من مقدمات الحكم لا مراتبه، والتنجز من لوازمه لا مراتبه.
نعم مرتبة الإنشاء - بمعنى جعل الحكم القانوني بنعت العموم والإطلاق
بلا ملاحظة تخصيصاته وتقييداته وموانع إجرائه - من مراتب الحكم، كما أن
مرتبة الفعلية - أيضا - من مراتبه.
وهاتان المرتبتان محققتان في جميع القوانين الموضوعة في السياسات
المدنية، فإن المقننين ينشؤون الأحكام بنعت الكلية والقانونية، ثم تراهم
باحثين في مستثنياتها ويراعون مقتضيات إجرائها، فإذا تم نصاب المقدمات
وارتفعت موانع الاجراء يصير الحكم فعليا واقعا بمقام الإجراء.
فتحصل: أن للحكم مرتبتين لا أربع مراتب.

(1) الفوائد: 36 و 314 سطر 9 - 13.
39

مبحث التجري
41

التجري
قوله: الأمر الثاني... إلخ (1).
اعلم أن الكلام في مسألة التجري طويل الذيل، بعيد الغور، دقيق
المسلك، ونحن نقتصر على جانب من الكلام، ونترك في بعض مباحثه
المقدمات العقلية الدقيقة، فإن الكافل لها علم أعلى، فهاهنا مباحث لابد من
البحث عنها:
المبحث الأول
هل البحث عن التجري من المباحث الأصولية أم لا؟
قد قرر أن المسائل الأصولية هي الكبريات التي وقعت في طريق استنباط
الأحكام الكلية الفرعية، أو ينتهى إليها في مقام العمل، بحيث تكون نسبتها

(1) الكفاية 2: 10.
43

إليها كنسبة الكبريات إلى النتائج، لا كنسبة الكليات إلى المصاديق (1).
وليعلم أن موضوع النتيجة وإن كان من مصاديق موضوع الكبرى،
والنتيجة من جزئيات الكبرى، إلا أن اختلاف الموضوعين عنوانا يكفي لكون
أحدهما مقدمة والآخر نتيجة.
وبهذا يجاب عن الدور الوارد على الشكل الأول البديهي الإنتاج، فما
علم في الكبرى هو حدوث كل متغير بعنوانه، وما علم في النتيجة هو حدوث
العالم بعنوانه، فالعالم - مثلا - من المصاديق العرضية للمتغير، فهو غير معلوم
الحدوث بعنوانه الذاتي، أو بعنوان عرضي آخر، ومعلوم الحدوث بهذا العنوان
العرضي، وبعد ترتيب الصغرى والكبرى يصير معلوم الحدوث بعنوانه الذاتي
أو العرضي الآخر، فإذن الفرق بينهما باختلاف العنوان.
وأما الفرق بين المصاديق والكليات فبالتشخص واللا تشخص مع
حفظ العنوان، فأفراد الإنسان هو الإنسان المتشخص.
فإذن الفرق بين المسائل الأصولية والفقهية - مثل " كل ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده " - هو أن المسائل الأصولية تكون في طريق الاستنباط، ولا تكون
بعنوان ذاتها متعلقا للعمل، ويستنتج منها المسائل الفرعية الكلية التي تكون
متعلقا للعمل. مثلا: حجية خبر الواحد، أو عدم جواز نقض اليقين بالشك،
وأمثالهما من المسائل الأصولية، هي كبريات لا تكون بنفسها متعلقا لعمل
المكلف، بل يستنتج منها الوجوب والحرمة وسائر الأحكام المتعلقة بعمل

(1) انظر فوائد الأصول 1: 19 وما بعدها و 4: 308.
44

المكلف. ونسبة حرمة الخمر في الشبهة الحكمية - مثلا - إلى الاستصحاب
نسبة النتيجة إلى الكبرى، فإن حرمة الخمر من المصاديق العرضية
للاستصحاب، ومصاديقه الذاتية التي هي جزئيات عدم نقض اليقين بالشك لم
تكن مطلوبة للمكلف، ولم تكن متعلقة لعمله، بل ما يستنتج من الاستصحاب
هو مطلوبه. وإذا أخبر الثقة بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر، فعمل
المكلف على طبقه لا يقال: إنه مشغول بالعمل بخبر الواحد، بل يقال: إنه
مشغول بوظيفته التي هي صلاة الجمعة الواجبة عليه.
نعم إنه مشغول بالعمل بخبر الثقة أيضا، إلا أنه بعنوان عرضي غير
منظور إليه.
وبعبارة أخرى: المجتهد - الذي [هو] من آحاد المكلفين - إذا تفحص
عن خبر الثقة أو الاستصحاب - سواء تفحص عن حجيتهما أو تحققهما في
الموارد الخاصة - لا يكون مطلوبه الذاتي خبر الثقة والاستصحاب بعنوانهما،
ولا مؤداهما بعنوان مؤداهما، بل مطلوبه مؤداهما بعنوان غير عنوان المؤدى.
فوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر - اللذان هما المصداقان العرضيان
للمؤدى - مطلوبه، وأما إذا تفحص عن مصاديق " ما يضمن بصحيحه "
لا يكون مطلوبه البيع أو الإجارة بعنوانهما، بل يكون مطلوبه وجدان المصداق
الذاتي لهذه القاعدة - أي قاعدة ما يضمن - تأمل.
فتحصل مما ذكرنا: أن مطلوب المكلف في المسائل الأصولية هو نتائجها،
وفي القواعد الكلية الفقهية هو مصاديقها.
45

في الإيراد على القائلين بكون التجري
من المباحث الأصولية
إذا عرفت ذلك: فاعلم أن مسألة التجري لم تكن من المسائل الأصولية،
ولا وجه لإدراجها فيها إلا وجوه ذكرها المحققون، والكل منظور فيها.
منها: ما تسالموا عليه من أن البحث إذا وقع في أن ارتكاب الشئ
المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا؟ يندرج في المسائل الأصولية التي يستدل
بها على الحكم الشرعي (1).
وفيه: أن قبح التجري كقبح المعصية وحسن الإطاعة وقع في سلسلة
المعلولات للأحكام الشرعية، فلم يكن موردا لقاعدة الملازمة على فرض
تسليمها، فلو سلمنا قبح التجري فلا يستنتج حكم شرعي البتة.
وأيضا يلزم بناء عليه أن يكون في المعصية معصيتان وفي الإطاعة
طاعتان:
إحداهما: المعصية والإطاعة الآتيتان من قبل نهي المولى وأمره.
والثانية: ما يستكشف بالملازمة لقاعدتها.
ولاوجه لتخصيص القاعدة العقلية بالتجري والانقياد، وسيأتي فيما بعد (2)
عدم الفرق بين العاصي والمتجري من حيث التجري على المولى.

(1) درر الفوائد 2: 11.
(2) انظر صفحة رقم: 54 وما بعدها وصفحة رقم: 59.
46

وبالجملة: المسألة الأصولية ما تقع في طريق الاستنباط، وقبح التجري
- لو سلم - لا يقع في طريقه فلا يكون منها.
ومنها: ما في تقريرات بعض محققي العصر - رحمه الله -:
من أن البحث إذا وقع في أن الخطابات الشرعية تعم صورتي مصادفة
القطع للواقع ومخالفته تكون المسألة من المباحث الأصولية (1).
وفيه ما لا يخفى، فإن دعوى إطلاق الخطاب وعمومه لا يدرج المسألة
في سلك المسائل الأصولية، فإنها بحث صغروي مندرج في الفقهيات، وقد
عرفت أن المسائل الأصولية هي الكبريات المستنتجة لكليات الفروع،
كالبحث عن حجية أصالة العموم والإطلاق، لا البحث عن شمولهما لموضوع،
ولو كان البحث الكذائي من المسائل الأصولية للزم إدراج جل المسائل الفقهية
في الأصول، فإنه قلما يتفق في مسألة من المسائل الفقهية ألا يقع البحث عن
الإطلاق والعموم بالنسبة إلى بعض الموضوعات المشكوكة، ولعمري إن ما
وقع منه لا يخلو من غرابة.
ومنها: ما في التقريرات - أيضا - بما يرجع إلى الوجهين (2) وقد عرفت
ما فيهما.
فتحصل مما ذكرنا: أن مسألة التجري لا تندرج تحت المسائل الأصولية،
بل إما فقهية، أو كلامية بتقريبين.

(1) فوائد الأصول 3: 50 وراجع الجهة الأولى صفحة: 37.
(2) فوائد الأصول 3: 44 وما بعدها أي الحيثية الثانية من الجهة الثانية.
47

المبحث الثاني
في عدم اختيارية الفعل المتجرى به
لا إشكال في عدم صيرورة الفعل المتجرى به حراما شرعا، ولا في عدم
صيرورته قبيحا عقلا، لعدم تغير الفعل عما هو عليه من العنوان الواقعي
بواسطة تعلق القطع به، والقطع طريق لما يكون الشئ متصفا به بحسب نفس
الأمر، وهذا واضح جدا لا يحتاج إلى تجشم استدلال وإقامة برهان.
وأما ما أفاده المحقق الخراساني - قدس سره -: من أن الفعل المتجرى به
أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع
لا يقصده إلا بعنوانه الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالبا
بهذا العنوان مما يلتفت إليه (1). وزاد في تعليقته على الفرائد وفي ذيل الأمر الثاني
في الكفاية: بأن المتجري قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلا، لأن ما قصده لم
يقع، وما وقع لم يقصده (2).
ففيه إشكال واضح، لكن لالما في تقريرات بعض أعاظم العصر - قدس
سره -: من أن الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات، بل هو عين الالتفات، ولا
يحتاج إلى التفات آخر (3) فإنه كلام خطابي لا ينبغي أن يصغى إليه، لأن

(1) الكفاية 2: 13.
(2) حاشية فرائد الأصول: 13 سطر 10 - 12، والكفاية 2: 17.
(3) فوائد الأصول 3: 45.
48

الضرورة والوجدان شاهدان على أن القاطع حين قطعه يكون تمام توجهه إلى
المقطوع به، ويكون قطعه غير ملتفت إليه بالنظر الاستقلالي، ويكون النظر إلى
القطع آليا، وإلى الواقع المقطوع به استقلاليا.
بل الإشكال فيه: أن العناوين المغفول عنها على قسمين:
أحدهما: ما لا يمكن الالتفات إليها ولو بالنظرة الثانية، كعنوان النسيان
والتجري وأمثالهما.
وثانيهما: ما يمكن الالتفات إليها كذلك، كعنوان القصد والعلم
وأشباههما.
فما كان من قبيل الأول: لا يمكن اختصاص الخطاب به، فلا يمكن أن
يقال: أيها الناسي لكذا، أو أيها المتجري في كذا افعل كذا، فإنه بنفس هذا
الخطاب يخرج عن العنوان، ويندرج في العنوان المضاد له.
نعم يمكن الخطاب بالعناوين الملازمة لوجودها.
وأما ما كان من قبيل الثاني: فاختصاص الخطاب به مما لا محذور فيه
أصلا، فإن العالم بالخمر بعد ما التفت إلى أن معلومه بما أنه معلوم حكمه
كذا بحسب الخطاب الشرعي، يتوجه بالنظرة الثانية إلى علمه توجها
استقلاليا.
وناهيك في ذلك وقوع العلم والقصد في الشرعيات متعلقا للأحكام في
مثل قوله: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) (1) ومثل الحكم بأن القاصد

(1) مستدرك الوسائل 1: 164 / باب 29 / ح 4.
49

عشرة أيام تكليفه التمام، مع أن نسبة القصد إلى المقصود كنسبة العلم إلى المعلوم.
وبالجملة: فرق واضح بين عدم إمكان الالتفات رأسا، وبين الالتفات
الآلي الذي يمكن التوجه إليه.
في الإشكال على بعض مشايخ العصر
نقل مقال لتوضيح حال: [ذكر] في تقريرات بعض أعاظم العصر قدس
الله سره - بعد الحكم بعدم إمكان اختصاص المتجري بخطاب، وبعد الحكم بان
لا موجب لاختصاص الخطاب به، لاشتراك القبح بين المتجري والعاصي، بل
القبح في صورة المصادفة أتم، فلابد أن يعم الخطاب صورة المصادفة والمخالفة
بان يقال: لا تشرب معلوم الخمرية - ما هذا لفظه: ولكن الخطاب على هذا
الوجه - أيضا - لا يمكن، لا لمكان أن العلم لا يكون ملتفتا إليه... إلى أن قال: بل
المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائما، وان لم يلزم ذلك في
الواقع، لأن النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من
وجه، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان كما في مثل: " أكرم العالم " و " أكرم
الهاشمي " إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين، لأن العالم لا يحتمل
المخالفة، ودائما يرى مصادفة علمه للواقع، فدائما يجتمع في نظره حكمان، ولا
يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد بحيال ذاته،
ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد، وفي مثل
" أكرم العالم " و " أكرم الهاشمي " يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته،
50

ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد،
فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين، بخلات المقام، فإنه لو فرض أن للخمر
حكما ولمعلوم الخمرية حكما، فبمجرد العلم بخمرية شئ يعلم بوجوب
الاجتناب عنه الذي فرض أنه رتب على ذات الخمر، فيكون هو المحرك
والباعث للاجتناب، والحكم الآخر - المترتب على معلوم الخمرية - لا يصلح
لأن يكون باعثا، ويلزم لغويته (1) انتهى.
أقول: يظهر من مجموع كلامه - قدس سره -: أن المحذور في تعلق الأمر
المولوي بعنوان معلوم الخمرية أمران، وإن كان المقرر قد خلط بينهما:
أحدهما: اجتماع المثلين دائما في نظر القاطع، وإن لم يلزم في الواقع.
والثاني: لغوية الأمر، لعدم صلاحيته للباعثية بحيال ذاته، لعدم افتراق
العنوانين.
وفي كليهما نظر: أما في الأول فمن وجوه:
الأول: أن تعلق الأمرين بالخمر وبمعلوم الخمرية لا يكون من قبيل اجتماع
المثلين، لاختلاف موضوعهما، فإن عنوان المعلومية كعنوان المشكوكية من
العناوين الطارئة المتأخرة عن الذات، والمعلوم بما أنه معلوم لما كان تمام
الموضوع على الفرض، لا يكون له اجتماع رتبة مع الذات حتى في مورد
مصادفة العلم للواقع، وهذا بوجه نظير اجتماع المقولات العرضية مع مقولة
الجوهر في الوجود مع كونهما متقابلتين.

(1) فوائد الأصول 3: 45 - 46.
51

الثاني: أنه لو فرضنا هذا المقدار من اختلاف العنوان لا يكفي لرفع
اجتماع المثلين، فلا محالة يكون في مورد التصادق من قبيل اجتماع المثلين
واقعا، ولا وجه لصيرورة النتيجة في مورد التصادق تأكد الحكمين كما في
" أكرم العالم " و " كرم الهاشمي " فهل يكون افتراق المثلين في موضع رافعا
لامتناع اجتماعهما في موضع التصادق؟!
وبالجملة: حرمة الخمر وحرمة معلوم الخمرية إما ممكنا الاجتماع، فلا
يمتنع اجتماعهما أصلا، واما غير ممكني الاجتماع، فلا يمكن اجتماعهما ولو في
موضوع واحد، وهو مورد التصادق، فما معنى كونهما من اجتماع المثلين في
نظر القاطع دائما، وعدم كونهما منه بحسب الواقع مطلقا حتى في مورد
التصادق؟!
وهل هذا إلا التناقض في المقال؟!
الثالث: لو كان مورد التصادق من قبيل " أكرم العالم " و " أكرم الهاشمي "
وتصير النتيجة تأكد الحكمين، فلا يكون في نظر القاطع من اجتماع المثلين أصلا
بل من قبيل تأكد الحكمين دائما، وتلازم عنوانين محرمين لا يقتضي جمع
المثلين.
فلو فرضنا كون عنواني " العالم " و " الهاشمي " متلازمين لم يكن حكم
الإكرام عليهما من قبيل اجتماع المثلين، بل يكون من تأكد الحكمين، وذلك
واضح بأدنى تأمل.
هذا مضافا إلى عدم [كون] المورد من قبيل تأكد الحكمين، لأن الحكمين
52

الواردين على عنوانين لا معنى للتأكد فيهما حتى في مورد الاجتماع، وباب
التأكيد فيما إذا جاء الأمر الثاني على الموضوع الأول لمحض التأكيد والتأييد
للأول.
الرابع: هب أنك دفعت امتناع اجتماع الحكمين في مورد التصادق
بكونهما من قبيل تأكد الحكمين، فما تفعل لو كان معلوم الخمرية موضوعا
واجب الإتيان بحسب الواقع؟! وهل هو إلا من قبيل اجتماع الضدين واقعا؟!
فلا محيص عنه إلا بما ذكرنا في الوجه الأول من اختلاف الموضوعين، فيندرج
المورد في صغريات باب التزاحم.
أما وجه النظر في الثاني من المحذورين: فلأن العبد قد لا ينبعث بأمر
واحد، وينبعث بأمرين أو أكثر، فحينئذ لو كان للموضوع عنوان وحداني
تتأكد الأوامر، ولو كان له عناوين مختلفة متصادقة عليه يكون كل أمر بعثا إلى
متعلقه وحجة من الله على العبد، وموجبا لمثوبة في صورة الإطاعة، وعقوبة في
صورة المخالفة بلا تداخل وتزاحم.
فلو فرضنا كون إكرام العالم ذا مصلحة مستقلة ملزمة، وإكرام الهاشمي
كذلك، ويكون العنوانان متلازمين في الوجود، لا يكون الأمر بكل من
العنوانين لغوا، لصلاحية كل واحد منهما للبعث، ولا دليل على لزوم كون الأمر
باعثا مستقلا غير مجتمع مع بعث آخر، ويكون بعثا بحيال ذاته، وإنما هو دعوى
بلا برهان وبنيان بلا أساس.
53

المبحث الثالث
قبح التجري وتحقيق الحال فيه
الحق الحقيق بالتصديق هو كون المتجري والعاصي كليهما توأمين في
جميع المراحل والمنا زل من تصور الحرام، والتصديق بفائدته المتخيلة،
والشوق إليه، والعزم عليه، واجماع النفس، وتحريك الأعصاب، وهتك
حرمة المولى والجرأة عليه، وتخريب أساس المودة، ونقض منزل (1) العبودية،
وإنما افتراقهما في آخر المراحل ومنتهى المنازل، وهو إتيان العاصي الحرام
الواقعي دون المتجري.
فحينئذ لو قلنا بأن العقاب الأخروي كالحدود الشرعية وكالقوانين
الجزائية العرفية مجعول لارتكاب العناوين المحرمة، فلا يكون للمتجري هذا
العقاب المجعول، كما لا تثبت عليه الحدود الشرعية والجزائيات في القوانين
السياسية العرفية، كما لو قلنا بأن باب عقاب الله في الآخرة من قبيل تجسم
صور الأعمال، فلا يكون لهذا العمل الغير المصادف صورة في البرازخ وما
فوقها.
وأما في صحة العقوبة لهتك حرمة المولى والجرأة عليه، فكلاهما سواء
لا افتراق بينهما أصلا.
كما أنه لو قلنا بأن الجرأة على المولى لها صورة غيبية برزخية، وأثر

(1) يحتمل كونها في المخطوط (غزل).
54

ملكوتي في النفس يظهر في عالم الغيب، ويكون الإنسان مبتلى بها
ومحشورا معها، كما هو الحق الذي لا محيص عنه، ويدل عليه ضرب من
البرهان في محله (1) فهما مشتركان فيها أيضا بلا تداخل للعقابين بالنسبة إلى
العاصي، فإن موجبهما مختلف.
وتوضيحه على نحو الإجمال: أن المقرر في مقاره (2) عقلا ونقلا أن
للجنة والنار عوالم ومنازل ومراتب ومراحل، وتكون تلك المراتب والمنازل
على طبق مراتب النفس ومنازلها، وبوجه كلي يكون لكل منهما ثلاث
مراتب:
الأولى: مرتبة جنة الأعمال وجحيمها، وهي عالم صور الأعمال الصالحة
والفاسدة والحسنة والقبيحة، والأعمال كلها بصورها الملكوتية تتجسم في
عالم الملكوت السافل، وترى كل نفس عين ما عملت، كما قال عز اسمه:
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * (3) وقال
تعالى: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * (4) وقال: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (5).
والثانية: جنة الصفات وجحيمها، وهما الصور الحاصلة من الملكات

(1) انظر الأسفار 9: 4 - 5.
(2) انظر الأسفار 9: 21 - 22 و 228 - 231.
(3) آل عمران: 30.
(4) الكهف: 49.
(5) الزلزلة: 7 - 8.
55

والأخلاق الحسنة والذميمة، وكما أن نفسيهما من مراتب الجنة والنار تكون
آثارهما وصورهما - أيضا - منهما.
والثالثة: جنة الذات ونارها، وهما مرتبة تبعات العقائد الحقة والباطلة
إلى آخر مراتب جنة اللقاء ونار الفراق.
ولكل من المراتب آثار خاصة وثواب وعقاب بلا تداخل وتزاحم أصلا.
إذا عرفت ذلك تقدر على الحكومة في مسألة التجري، وتعرف أن
المتجري والعاصي في أي مرتبة من المراتب يشتركان، وفي أيها يفترقان،
وتعرف النظر في غالب النقوض وا الإبرامات التي وقعت للقوم فيها.
في نقل كلام بعض مشايخ العصر ووجوه النظر فيه
نقل كلام وتوضيح مرام: ولعلك بالتأمل فيما سلف تعرف وجوه الخلط
فيما وقع لبعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه - قال في الجهة الثالثة
من مبحث التجري ما ملخصه:
إن دعوى استحقاق المتجري للعقاب منوطة بدعوى أن العقل بمناط
واحد يحكم في المتجري والعاصي باستحقاق العقاب، وأن مناط عقاب
العاصي في المتجري موجود، وهذا لا يتم إلا بأمرين:
أحدهما: دعوى أن العلم في المستقلات العقلية - خصوصا في باب
الطاعة والمعصية - تمام الموضوع، ولا دخل لمصادفة الواقع وعدمها أصلا، لأنه
أمر غير اختياري، ولأن الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل، ولا يمكن أن تكون
56

محركة لعضلات العبد إلا بالوجود العلمي والوصول.
ثانيهما: كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي،
ولا أثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك.
ويمكن منع كل من الأمرين:
أما الأول: فلأن العلم وإن كان دخيلا في المستقلات العقلية، إلا أنه لا
العلم الأعم من المصادف وغيره، فإن غير المصادف يكون جهلا.
وبالجملة: العقل يستقل بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى، وذلك
يتوقف على بعث المولى وإحرازه، فالبعث بلا إحراز لا أثر له، والإحراز بلا
بعث واقعي لا أثر له.
وأما الثاني: فلأن المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي الذي
يتولد من القبح الفعلي، لا الذي يتولد من سوء السريرة وخبث الباطن، وكم
فرق بينهما (1) انتهى.
وفيه: أن إناطة دعوى استحقاق المتجري بدعوى أن العقل بمناط واحد
يحكم في العاصي والمتجري بالاستحقاق مما لاوجه له، لما قد عرفت أن العقل
يحكم باستحقاق المتجري للعقوبة لهتك حرمة المولى والجرأة عليه صادف
الواقع أم لم يصادف، ويحكم باستحقاق العاصي للعقاب المجعول في الآخرة،
والحدود المجعولة في الدنيا إن قلنا بجعلية العقاب.
فللعاصي عنوانان:

(1) فوائد الأصول 3: 48 - 49.
57

أحدهما: مخالفة أمر المولى في شرب الخمر.
وثانيهما: هتك حرمته وإهانته، وليس له بواسطته عقاب مجعول
قانوني، لكنه مستحق عقلا للعقاب، وله العقاب الذي هو من لوازم التجري
والهتك. كما أن صاحب الأخلاق الذميمة لو فعل حراما يكون له عقاب لفعله
وعقاب آخر من سنخ ملكته الباطنة ملازم لأخلاقه الذميمة.
فالخلق الذميم له صورة غيبية ملكوتية ملازمة لشدة وعذاب وخوف
وظلمة، وللتجري أيضا صورة باطنة ملكوتية ملازمة لعذاب وشدة وظلمة
مسانخة له. هذا للعاصي.
وأما المتجري: فلا يكون له العقاب المجعول، أو الصورة الملكوتية
العملية، لكنه في التجري واستحقاقه بواسطته، وفي الصورة الملكوتية اللازمة
له ولوازمها، شريك مع العاصي، ومناطه موجود فيه بلا إشكال.
وبما ذكرنا: علم ما في الأمرين اللذين جعل الدعوى منوطة بهما:
أما في الأول: فلأن دعوى كون العلم في المستقلات العقلية تمام
الموضوع، وأنه لادخل للمصادفة وعدمها، مما لا دخالة له فيما نحن فيه، وأن
القائل بقبح التجري لا ملزم له لتلك الدعوى، فإن قبح التجري من المستقلات
العقلية، وحرمة المعصية والعقاب عليها من المجعولات الشرعية، ولا ربط لها
بالتجري.
وبما ذكرنا علم حال الجواب عن الأمر الأول بأن قبح التجري إنما يكون
في صورة المصادفة، وأما غيرها فيكون جهلا، ولا أثر للإحراز بلا بعث
58

واقعي، فإن الضرورة قاضية بأن القاطع المتجري هتاك لحرمة المولى، ومقدم
على مخالفته، ومستحق للعقوبة، ولا فرق بينه وبين العاصي من هذه الجهة
أصلا، لا لأن العلم تمام الموضوع، بل لأن التجري تمام الموضوع.
نعم لا يصدق عنوان التجري والعصيان إلا مع العلم، لا أنه تمام
الموضوع أو جزؤه في حكم العقل بالقبح، فالعلم إنما هو محقق عنوان التجري
والعصيان، وهما تمام الموضوع لحكم العقل باستحقاق العقوبة.
وبالجملة: المتجري والعاصي في نظر العقل سواء إلا في العقاب المجعول
أو اللازم لارتكاب المحرم، والوجدان أصدق شاهد على ذلك، فإنك لو نهيت
ولديك عن شرب الترياك، وجعلت للشارب مائة سوط، فشربا ما اعتقدا
كونه ترياكا، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، صار المصادف عندك
مستحقا للعقاب المجعول. وأما غيره وإن كان غير مستحق للعقاب المجعول،
لكنه مستحق للتأديب والتعزير، لهتكه ولجرأته وكونه بصدد المخالفة،
وكلاهما في السقوط عن نظرك والبعد عنك سواء. وهذا واضح، والمنكر
مكابر لعقله.
مع أن أمر الجرأة على مولى الموالي والهتك لسيد السادات لا يقاس على
ما ذكر، فإن الانقياد له والتجري عليه يصيران مبدأ الصور الملكوتية المستتبعة
للدرجات والدركات، كما هو المقرر عند أهله (1).
وأما في الثاني: فلأن دعوى كون القبح الفعلي مما لا أثر له،

(1) انظر هامش 1 - 2 صفحة رقم: 55.
59

والمؤثر المنحصر هو القبح الفاعلي، مما لا دخالة لها في المقام، فإن مدعي قبح
التجري يدعيه سواء كان للفعل الواقعي أثر أم لا.
وبالجملة: أن التجري عنوان مستقل في نظر العقل، وهو موضوع حكمه
بالقبح، والقبح الفعلي أمر آخر غير مربوط به.
ومن ذلك علم حال الجواب عن الأمر الثاني، من إحداث الفرق بين
القبح الفاعلي الناشئ عن القبح الفعلي، وبين الناشئ عن سوء السريرة،
فإن ذلك من ضيق الخناق، وإلا فأية دخالة للمنشأ في عنوان التجري الذي
هو تمام الموضوع لحكم العقل بالقبح، كما هو حكم الوجدان وقضاء
الضرورة؟!
وبالجملة: هذا التكلف والخلط ناش من عدم تحقيق مراتب الثواب
والعقاب، وقياس عالم الآخرة والعقوبات الأخروية بالدنيا وعقوباتها، مع
أنها - أيضا - لا تكون كما زعموا، فافهم واستقم.
في اختيارية ا لإرادة وعدمها
قوله: إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار (1).
أقول: إن مسألة اختيارية الإرادة وعدمها من المسائل التي وقع التشاجر
بين الأفاضل والأعلام فيها، ولابد من تحقيق الحال حسبما وقعت في الكتب
العقلية، ليكون الدخول في البيت من بابه، فنقول:

(1) الكفاية 2: 14.
60

إن من جملة الإشكالات الواردة في باب الإرادة الحادثة: أن الإرادة
الإنسانية إذا كانت واردة عليه من خارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة
القديمة، فكانت واجبة التحقق سواء أرادها العبد أم لم يردها، فكان العبد ملجأ
مضطرا في إرادته، ألجأته إليها المشية الواجبة الإلهية * (وما تشاؤون إلا أن يشاء
الله) * (1) فالإنسان كيف يكون فعله بإرادته حيث لا تكون إرادته بإرادته؟
وإلا لترتبت الإرادات متسلسلة إلى غير نهاية.
كلام المحقق الداماد
وأجاب عنه المحقق البارع الداماد - قدس سره (2) -: بأن الإرادة حالة
شوقية إجمالية للنفس، بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسه، وكان هو الملتفت
إليه بالذات، كانت هي شوقا إليه وإرادة له، وإذا قيست إلى إرادة الفعل،
وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل، كانت هي شوقا وإرادة بالنسبة إلى
الإرادة من غير شوق آخر وإرادة أخرى جديدة.
وكذلك الأمر في إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة، إلى سائر المراتب

(1) الإنسان: 30.
(2) هر معلم الفلاسفة والحكماء، ومربي العلماء والعرفاء السيد مير برهان الدين محمد باقر بن
المير شمس الدين محمد الحسيني المعروف ب‍ (الميرداماد) الملقب بالمعلم الثالث، أشهر أساتذته
السيد نور الدين الموسوي والمحقق الكركي، وأبرز طلبته قطب الدين الأشكوري وصدر الدين
الشيرازي، ألف عدة كتب أشهرها كتاب القبسات، توفي سنة 1041 ه‍. انظر سلافة العصر: 477،
أعيان الشيعة 9: 189، روضات الجنات 2: 62.
61

التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات ويلاحظها على التفصيل، فكل
من تلك الإرادات المفصلة تكون بالإرادة، وهي بأسرها مضمنة في تلك الحالة
الشوقية الإرادية، والترتيب بينها بالتقدم والتأخر عند التفصيل ليس يصادم
اتحادها في تلك الحالة الإجمالية (1) انتهى.
إشكالات صدر المتألهين
وأورد عليه تلميذه الأكبر (2) إشكالات:
منها: أن لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذ عنها شئ منها،
ونطلب أن علتها أي شئ هي؟ فإن كانت إرادة أخرى لزم كون شئ واحد
خارجا وداخلا بالنسبة إلى شئ واحد بعينه هو مجموع الإرادات، وذلك
محال، وإن كان شيئا آخر لزم الجبر في الإرادة (3).
ومنها: أن التحليل بالمتقدم والمتأخر إنما يجري فيما له جهة تعدد في
الواقع وجهة وحدة في نفس الأمر، كأجزاء الحد من الجنس والفصل، وأما

(1) القبسات: 473 - 474، القبس العاشر، الأسفار 6: 388 - 389.
(2) هو الحكيم الإلهي والفيلسوف الرباني الشيخ محمد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بالملا صدرا،
ولد في شيراز سنة 979 ه‍، وشرع في طلب العلم فيها، ثم سافر عنها إلى أصفهان فحضر عند
السيد الداماد وأخذ عنه الكثير وكان يجله كثيرا ويعبر عنه سيدي وسندي وأستاذي في المعالم
الدينية والعلوم الإلهية والمعارف الحقيقية. له عدة كتب أشهرها كتاب الأسفار، ومفاتيح
الغيب، والشواهد الربوبية، توفي سنة 1050 ه‍. انظر أعيان الشيعة 9: 321، سلافة
العصر: 491، روضا ت الجنا ت 4: 120.
(3) الأسفار 6: 390.
62

ما لا يكون كذلك فليس للعقل أن يخترع له الأجزاء الكذائية من غير حالة
باعثة إياه (1).
ومنها غير ذلك.
ويرد عليه - مضافا إلى أن تفسير الإرادة بالحالة الشوقية ليس على
ما ينبغي، فإن الشوق حالة انفعالية أو شبيهة بها، قد تكون من مبادئ الإرادة
وقد لا تكون، والإرادة حالة إجماعية فعلية متأخرة عن الشوق فيما يكون من
مبادئها - أن تلك الهيئة الوحدانية البسيطة لا يمكن أن تنحل إلى علة ومعلول
حقيقة، حتى يكون الشئ بحسب نفس الأمر علة لذاته، أو تكون العلة
والمعلول الحقيقيتان متحدتين في الوجود.
وأما حديث علية الفصل للجنس والصورة للمادة فليست في البين
العلية الحقيقية، بحيث يكون الفصل موجدا للجنس أو المادة للصورة، على ما
هو المقرر في محله (2).
الجواب عن أصل الإشكال
والحق (3) في الجواب عن أصل الإشكال ما أفاد بعض أعاظم الفلاسفة:
من أن المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته وإلا لزم أن لا تكون

(1) الأسفار 6: 389.
(2) الأسفار 2: 29 - 31.
(3) والتحقيق فيه ما حققناه في رسالة مفردة كافلة لجميع الإشكالات وردها فليرجع إليها [منه
قدس سره]. والرسالة أوسمها ب‍ " الطلب والإرادة ".
63

إرادته - تعالى - عين ذاته، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل صدر عنه
الفعل وإلا فلا، لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلا لم يفعل (1) انتهى.
أقول: إن من الواضح الضروري عند جميع [أفراد النوع] الإنساني أن
الفعل الصادر عن اختيار وعلم وإرادة موضوع لحسن العقوبة إذا كان على
خلاف المقررات الدينية أو السياسية المدنية عند الموالي العرفية، والعقلاء كافة
يحكمون باستحقاق عبيدهم [العقوبة] بمجرد فعل مخالف للمولى اختيارا منهم،
وهذا حكم ضروري عندهم في جميع أمورهم، وليس هذا إلا لأجل أن الفعل
الذي [هو] موضوع حسن العقوبة عندهم هو الفعل الصادر عن علم وإرادة
واختيار، وإن لم تكن تلك المبادئ بالاختيار، والعقلاء لا ينظرون ولا يلتفتون
إلى اختيارية المبادئ واراديتها وكيفية وجودها، بل الملتفت إليه هو الفعل
الصادر، فإن كان صادرا عن اختيار يحكمون على فاعله باستحقاق المثوبة أو
العقوبة، بحيث تكون تلك الشبهات في نظرهم شبهات سوفسطائية
في مقابل البديهة.
فلو قيل: إن الفعل الاختياري ما يكون مبادئه اختيارية، فلا وجه لاختصاص
الاختيارية بالإرادة، بل لابد من الإسراء بها إلى كل ما هو دخيل في وجود
الفعل من وجود الفاعل وعلمه وشوقه وارادته، فيلزم أن لا يكون فعل من
الأفعال اختياريا حتى فعل الواجب - تعالى شأنه - فلابد من محو كلمة
الاختيار من قاموس الوجود، وهو ضروري البطلان.

(1) الأسفار 6: 388.
64

ولو سلم فلنا أن نقول: إنه لا يعتبر في صحة العقوبة عند كافة العقلاء
الاختيارية بالمعنى المدعى من كون الفعل اختياريا بجميع مبادئه، فإن صحة
العقوبة من الأحكام العقلائية والمستصحات العقلية، وهذا حكم جار رائج
بين جميع العقلاء في الأعصار والأدوار لا يشكون فيه، و [قد] يشكون
في الشمس في رابعة النهار، مع أن الإرادة ليست بالإرادة، والاختيار
ليس بالاختيار.
وليعلم: أن مجرد صدور الفعل عن علم وإرادة ليس موضوع حكم
العقل لصحة العقوبة واستحقاق العقاب، ضرورة أن الحيوانات - أيضا - إنما
[تفعل ما تفعل] بعلم وإرادة، ولو كانت إرادية الفعل موضوعا للاستحقاق
للزم الحكم باستحقاق الحيوانات، فما هو الموضوع هو صدور الفعل عن
الاختيار الناشئ عن تميز الحسن من القبيح.
والاختيار: عبارة عن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك بعد تميز المصالح
والمفاسد الدنيوية والأخروية، فإن الإنسان بعد اشتراكه مع الحيوان بأن أفعاله
بإرادته وعلمه، يمتاز عنه بقوة التميز وإدراك المصالح الدنيوية والأخروية،
وقوة الترجيح بينهما، وإدراك الحسن والقبح بقوته العقلية المميزة.
وهذه القوة مناط التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، لا مجرد كون
الفعل إراديا، كما ورد في الروايات: (أن الله لما خلق العقل استنطقه...) إلى
أن قال: (بك أثيب، وبك أعاقب) (1) فالثواب والعقاب بواسطة العقل وقوة

(1) الكافي 1: 10 / 1 كتاب العقل والجهل.
65

ترجيحه المصالح والمفاسد والحسن والقبح.
هذا، وأما مسألة إرادية الفعل، فالحق في الجواب: أن الفعل الإرادي
ما صدر عن الإرادة، فوزان تعلق الإرادة بالمراد وزان تعلق العلم بالمعلوم من
هذه الحيثية، فكما أن مناط المعلومية هو كون الشئ متعلقا للعلم، لا كون
علمه متعلقا للعلم الآخر، كذلك مناط المرادية هو كونه متعلقا للإرادة وصادرا
عنها، لاكون إرادته متعلقا لإرادة أخرى، فليتدبر.
تتمة
إشكالات على كلام بعض الأعلام
وهاهنا بعض التفصيات التي لا تخلو عن النظر:
منها: ما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله -: من أن الاختيار وإن لم يكن
بالاختيار، إلا أن بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من
عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة (1).
وفيه: أنه بعد فرض كون الفعل الاختياري ما تكون مبادئه بإرادة
واختيار لا يمكن فرض اختيارية المبادئ، فإنها - أيضا - أفعال اختيارية لابد
من تعلق إرادة بإرادتها.
وبعبارة أخرى: إنا ننقل الكلام إلى المبادئ الاختيارية، فهل اختياريتها
بالاختيار فيلزم التسلسل، أو لا فعاد المحذور؟

(1) الكفاية 2: 14.
66

ومنها: ما أفاده شيخنا العلامة الحائري - رحمه الله تعالى -: بأن
التسلسل إنما يلزم لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في الإرادة، ولا نقول به، بل
ندعي أنها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلق - أعني المراد - وقد توجد
بالجهة الموجودة في نفسها، فيكفي في تحققها أحد الأمرين... إلى أن قال:
والدليل على أن الإرادة قد تتحقق لمصلحة في نفسها هو الوجدان، لأنا نرى
إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أن صحة
الصوم والصلاة التامة تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بأن هذا الأثر
لا يترتب على نفس البقاء واقعا، ونظير ذلك غير عزيز (1) انتهى.
وفيه أولا: أنه بذلك لا تنحسم مادة الإشكال، فإنا لو سلمنا أن الإرادة
في الجملة تحصل أبا لإرادة، لكن إرادة هذه الإرادة هل هي إرادية، وهكذا
إرادة إرادة الإرادة، أم لا؟ فعلى الأول تتسلسل الإرادات إلى غير نهاية،
وعلى الثاني عاد المحذور من كون العبد ملجأ مضطرا.
وثانيا: أن ما اعتمد عليه من المثال الوجداني مما لا يثبت مدعاه، فإن
الشوق بالتبع لابد وأن يتعلق ببقاء عشرة أيام، وإلا فلا يعقل تحقق قصد البقاء،
ففي المثال - أيضا - أنه يريد البقاء، لا أنه يريد إرادة البقاء، وذلك واضح جدا.
ومنها: ما قيل: إن المراد إرادي بالإرادة، والإرادة مرادة بنفس ذاتها،
كالوجود إنه موجود بنفس ذاته، والعلم معلوم بنفس ذاته (2).

(1) درر الفوائد 2: 14 - 15.
(2) انظر الأسفار 6: 388.
67

وفيه: أن هذا خلط غير مفيد، فإن معنى كون الإرادة مرادة بنفس
ذاتها أنها مصداق المراد بنفس ذاتها، أي بلا جهة تقييدية، بناء على عدم أخذ
الذات في مفهوم المشتق، لا أنها محققة نفس ذاتها ولا يكون لها جهة تعليلية،
وما يكون منشأ الإشكال في المقام هو مسبوقية الإرادة بعلة غير إرادية
للفاعل، فلا يحسم بما ذكر مادة الإشكال، بل هو كلام إقناعي.
في معنى البعد والقرب والإيراد على المصنف
قوله: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده... إلخ (1).
لا يخفى أن القرب والبعد بالنسبة إلى الله - تعالى - قد ينتزعان من كمال
الوجود ونقصه، فكلما كان في وجوده ونعوت وجوده كاملا تاما يكون قريبا
من مبدأ الكمال ومعدن التمام، كالعقول المجردة والنفوس الكلية، وكلما كان
ناقصا متشابكا بالأعدام ومتعانقا بالكثرات يكون بعيدا عن المقام المقدس عن
كل عدم ونقص وقوة واستعداد، كالموجودات المادية الهيولانية.
فالهيولي الأولى الواقعة في حاشية الوجود - حيث كان كمالها عين
النقص، وفعليتها عين القوة - أبعد الموجودات عن الله تعالى، والصادر الأول
أقرب الموجودات إليه تعالى، والمتوسطات متوسطات.
وهذا القرب والبعد الوجودي لا يكونان مناط الثواب والعقاب
بالضرورة، ولعله - قدس سره - يعترف بذلك.

(1) الكفاية 2: 14.
68

وقد ينتزعان من مقام استكمال العبد بالطاعات والقربات، أو نفس
الطاعات والقربات، والتحقق بمقابلاتها من العصيان والتجري، فيقال
للعبد المطيع المنقاد: إنه مقرب [من] حضرته قريب من مولاه، وللعاصي
المتجري: إنه رجيم بعيد عن ساحة قدسه. وهذا مراده من القرب
والبعد ظاهرا.
فحاصل مرامه: أن سبب اختلاف الناس في استحقاق الجنة والنار ونيل
الشفاعة وعدمه، هو القرب منه تعالى بالانقياد والطاعة، والبعد عنه بالتجري
والمعصية.
وفيه: أن القرب والبعد أمران اعتباريان منتزعان من طاعة العبد
وعصيانه، مع أن استحقاق العقوبة والمثوبة من تبعات نفس الطاعة والانقياد
والتجري والعصيان، والعقل إنما يحكم باستحقاق العبد المطيع والعاصي
للثواب والعقاب بلا توجه إلى القرب والبعد.
وبعبارة أخرى: الطاعة والمعصية وكذا الانقياد والتجري تمام الموضوع
لحكم العقل في باب الثواب والعقاب، بلا دخالة للقرب والبعد في هذا الحكم
أصلا.
وبعبارة ثالثة: إن عناوين القرب والبعد واستحقاق العقوبة والمثوبة
منتزعات في رتبة واحدة عن الطاعة والعصيان وشقيقيهما، ولا يمكن أن يكون
بعضها موضوعا لبعض.
ثم اعلم: أنه - قدس سره - قد اضطرب كلامه في هذا المقام، حيث حكم
69

في أول المبحث بأن المتجري مستحق للعقوبة على تجريه وهتك حرمة مولاه (1)
وبعد " إن قلت.. قلت " ظهر منه أن التجري سبب للبعد وهو موجب للعقوبة،
حيث قال: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده
بتجريه عليه (2) وظهر منه بلا فصل أن التجري موجب للبعد وحسن العقوبة
كليهما في عرض واحد، حيث قال: فكما أنه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في
أن يوجب حسن العقوبة (3) وبعد أسطر صرح: بأن تفاوت أفراد الإنسان في
القرب والبعد سبب لاختلافها في الاستحقاق (4) وفي آخر المبحث ظهر منه أن
منشأ استحقاق العقوبة هو الهتك [لحرمة] المولى (5).
ومما ذكرنا من مناط الاختيارية ومناط حسن العقوبة ظهر ما في كلامه
أيضا من أن التجري وان لم يكن باختياره إلا أنه يوجب العقوبة بسوء سريرته
وخبث باطنه، فإنه قد ظهر أن الفعل الذي هو مناط حسن العقوبة عند العقلاء
والعقل هو الفعل الاختياري، أي الفعل الذي هو أثر الاختيار ومنشؤه
الاختيار، لا الفعل الذي يكون اختياره بالاختيار.
وأما سوء السريرة وخبث الباطن ونقصان الوجود والاستعداد،
فليست مما توجب العقوبة عقلا كما عرفت.
نعم لا يبعد أن تكون بعض المراتب من الظلمة والوحشة من تبعات

(1) الكفاية 2: 10.
(2 - 3) الكفاية 2: 14.
(4) الكفاية 2: 16.
(5) الكفاية 2: 18.
70

سوء السريرة وخبث الباطن، وسيأتي في مستأنف القول أن سوء السريرة وخبث
الباطن، وكذا سائر الملكات الخبيثة وغيرها، ليست ذاتية غير ممكنة التخلف
عن الذات، بل كلها قابل للزوال، وللعبد المجاهد إمكان إزالتها، فانتظر (1).
وأما ما ذكره في الهامش في هذا المقام بقوله: كيف لا، أي كيف لا يكون
العقاب بأمر غير اختياري وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير
اختيارية؟ فإنها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار، ضرورة أن
العمد إليها ليس باختياري، وإنما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير
موجبة للاستحقاق، وإنما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على
اولي النهى (2).
ففيه: أن الموجب لاستحقاق العقوبة هي المخالفة العمدية، بمعنى أن
تكون المخالفة صادرة عن عمد، لا بمعنى أن تكون مقيدة بالعمد، حتى يلزم أن
يكون صدور المخالفة العمدية عن عمد واختيار، وهو واضح.

(1) انظر صفحة رقم: 78، وصفحة رقم: 85 وما بعدها.
(2) حقائق الأصول 2: 17 هامش: 1.
71

في تحقيق الذاتي الذي لا يعلل
قوله: فإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال، وينقطع السؤال ب‍ " لم "...
إلخ (1).
قد تكرر على ألسنة القوم أن الذاتي لا يعلل، والعرضي يعلل، وقد أخذ
المصنف - قدس سره - هذا الكلام منهم واستعمله في غير مورده كرارا في
الكفاية (2) والفوائد (3) ولابد لنا من تحقيق الحال حتى يتضح الخلط ويرتفع
الإشكال، وقبل الخوض في المقصود لابد من تمهيد مقدمات:
الأولى: أن الذاتي الذي يقال إنه لا يعلل هو الذاتي المتداول في باب
البرهان في مقابل العرضي في بابه، وهو مالا يمكن انفكاكه عن الذات، أعم من

(1) الكفاية 2: 16 سطر 1 - 2.
(2) الكفاية 1: 101 و 2: 16.
(3) الفوائد: 290 سطر 17.
73

أن يكون داخلا فيها - وهو الذاتي في باب الإيساغوجي - أو خارجا ملازما لها.
ووجه عدم المعللية: أن سبب الافتقار إلى العلة هو الإمكان على
ما هو المقرر في محله (1) والوجوب والامتناع كلاهما مناط الاستغناء عن العلة،
فواجب الوجود لا يعلل في وجوده، وممتنع الوجود لا يعلل في عدمه، وواجب
الإنسانية والحيوانية والناطقية لا يعلل فيها، وواجب الزوجية والفردية لا يعلل
فيهما، لأن مناط الافتقار إلى الجعل - وهو العقد الإمكاني - مفقود فيها، وقس
على ذلك الامتناع.
الثانية: أن الوجود وكلية عوارضه ونعوته - وبالجملة كل ما كان من
سنخ الوجود - لا تكون ذاتية لشئ من المهيات الإمكانية، وإنما هو ذاتي بوجه
لواجب الوجود الذي هو بذاته وجود ووجوب، وأما غير ذاته - تعالى -
فالممكنات قاطبة ذاتها وذاتياتها من سنخ المهيات ولوازمها.
فما كان من سنخ الوجود معلل غير الواجب بالذات - جل كبرياؤه -
وينتهي في سلسلة العلل إلى أول الأوائل وعلة العلل، فلو كان في سلسلة
الوجودات شئ مستغن عن العلة لخرج عن حدود بقعة الإمكان إلى ساحة
القدس الوجوبي تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فالمراد بالذاتي الذي لا يعلل في الممكنات هو المهيات وأجزاؤها
ولوازمها، وأما الوجود فلم يكن في بقعة الإمكان شئ منه غير معلل.
نعم إن الوجود مجعول بالجعل البسيط، وأما بعد جعله بسيطا فلا يحتاج

(1) الأسفار 1: 206.
74

في كونه وجودا وموجودا إلى جعل، ففي الحقيقة كونه موجودا ووجودا ليس
شيئا محققا بهذا المعنى المصدري، بل هو من المخترعات العقلية، وإذا أريد
بكونه موجودا أو وجودا نفس الحقيقة النورية الخارجية، فهو يرجع إلى نفس
هويته المجعولة بسيطا.
فاللازم في باب الوجود لو اطلق لا يكون بمثابة اللازم في باب المهيات
من كونه غير مجعول، بل لازم الوجود - أي الذي هو من سنخ الوجود مطلقا -
مجعول ومعلل. ألا ترى أن أساطين الفلسفة قد جمعوا بين المعلولية واللزوم،
وقالوا: إن المعلول لازم ذات العلة (1).
الثالثة: أن من المقرر في مقاره (2): أن المهيات بلوازمها ليس منشأ لأثر
من الآثار، ولا علية ومعلولية بينها حقيقة أصلا، فإن قيل: إن المهية الكذائية
علة لكذا، فهو من باب المسامحة، كما قيل: إن عدم العلة علة لعدم المعلول، فإذا
رجعوا إلى تحقيق الحال أقاموا البرهان المتقن على أن المهيات اعتباريات
ليست بشئ، والعدم حاله معلوم.
فالتأثير والتأثر أناخا راحلتيهما لدى الوجود، وإليه المصير، ومنه المبدأ
والمعاد، وهذا يؤكد عدم معلولية الذات والذاتيات في الممكنات، فإنها من
سنخ المهيات المحرومة عن المجعولية والفيض الوجودي، فالمفيض والمفاض هو
الوجود لا غير.

(1) الأسفار 2: 226.
(2) الأسفار 2: 380.
75

الرابعة: أن كل كمال وجمال وخير يرجع إلى الوجود، وإنما المهيات
أمور اعتبارية لا حقيقة لها (1) بل * (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) * (2).
فالعلم بوجوده كما ل، والقدرة وجودها شريف لامهيتها، و [كذا] سائر
الكمالات والخيرات فإنها بوجوداتها كمالات وخيرات، لا بمهياتها، فإنها
اعتبارية، ولا شرف ولا خير في أمر اختراعي اعتباري.
فالوجود مع كونه بسيطا غاية البساطة مركز كل الكمال والخير، وليس
في مقابله إلا المهيات الاعتبارية والعدم، وهما معلوما الحال ليس فيهما خير
وكمال، ولا جلال وجمال.
وهذا أصل مسلم مبرهن عليه في محله، وإنما نذكر هاهنا نتائج البراهين
حذرا عن التطويل (3).
الخامسة: أن المقرر في محله (4) والمبرهن عليه في العلوم العالية - كما
عرفت - أن كل الكمالات ترجع إلى الوجود. فاعلم الآن أن السعادة - سواء
كانت سعادة عقلية حقيقية، أو حسية ظنية - من سنخ الوجود والكمال الوجودي،
بل الوجود - أينما كان - هو خير وسعادة، والشعور بالوجود وبكمال الوجود
خير وسعادة، وكلما تتفاضل الوجودات تتفاضل الخيرات والسعادات.
بل التحقيق: أن الخير والسعادة مساوقان للوجود، ولا خيرية للمهيات

(1) منظومة السبزواري: 11، الأسفار 1: 340 - 341.
(2) النور: 39.
(3 - 4) منظومة السبزواري: 11، الأسفار 1: 340 - 341.
76

الاعتبارية والذاتيات الاختراعية، فأتم الوجودات وأكملها يكون خيرا مطلقا
مبدأ كل الخيرات، وسعيدا مطلقا مصدر كل السعادات، وكلما بعد الموجود عن
مبدأ الوجود وصار متعانقا بالأعدام والتعينات بعد عن الخير والسعادة.
هذا حال السعادة.
وأما الشقاوة مطلقا فعلى قسمين:
أحدهما: ما هو مقابل الوجود وكماله، فهو يرجع إلى العدم والنقصان.
وثانيهما: الشقاوة الكسبية التي تحصل من الجهالات المركبة والعقائد
الفاسدة والأوهام الخرافية في الاعتقاديات، والملكات الرذيلة والأخلاق
الذميمة كالكبر والحسد والنفاق والحقد والعداوة والبخل والجبن في
الأخلاقيات، وارتكاب القبائح والمحرمات الشرعية كالظلم والقتل والسرقة
وشرب الخمر وأكل الباطل في التشريعيات.
وهذا القسم من الشقاوة له صورة في النفس وملكوت الباطن،
وبحسبها حظ من الوجود مخالف لجوهر ذات النفس والفطرة الأصلية لها،
وستظهر لأهلها في الدار الآخرة - عند ظهور ملكوت النفس، والخروج عن
خدر الطبيعة - موحشة مظلمة مؤلمة معذبة إياها، ويبقى أهلها في غصة دائمة
وعذاب خالد، مقيدين بسلاسل على حسب صور أعمالهم وأخلاقهم
وملكاتهم وظلمات عقائدهم وجهالاتهم، حسبما هو المقرر عند علماء الآخرة (1)
وكشفت عن ساقها الكتب السماوية، ولا سيما الكتاب الجامع الإلهي والقرآن

(1) الأسفار 9: 4 - 5.
77

التام لصاحب النبوة الختمية (1) والمتكفل لتفصيلها الأخبار الصادرة عن أهل
بيت الوحي والطهارة عليهم أفضل الصلاة والتحية (2).
إذا عرفت ما تقدم من المقدمات فاعلم: أن السعادة مطلقا والشقاوة
بمعناها الثاني لا يكونان من الذاتيات الغير المعللة، فإنها - كما عرفت - هي
المهيات ولوازمها، والوجود - أي وجود كان - فهو ليس بذاتي لشئ من
الأشياء الممكنة، وقد عرفت أن السعادة مطلقا والشقاوة بهذا المعنى من سنخ
الوجود، وهو مجعول معلل ليس ذاتيا لشئ من الموجودات الممكنة.
نعم لما كانت الوجودات مختلفة المراتب ذات المدارج بذاتها، تكون كل
مرتبة تالية معلول مرتبة عالية متلوة لا يمكن التخلف عنها، فالوجود الداني
معلول الوجود العالي السابق له بذاته وهويته، ولا يمكن تخلفه عن المعلولية،
فإنها ذاتية له، وهذا الذاتي غير الذاتي الذي لا يعلل، بل الذاتي الذي هو عين
المعلولية كما عرفت.
في الإشكال على المحقق الخراساني
وبما ذكرنا سقط ما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله - في الكفاية (3)
والفوائد (4): من أن التجري كالعصيان وإن لم يكن باختياره، إلا أنه بسوء

(1) النبأ: 26 وآيات أخرى كثيرة.
(2) انظر بحار الأنوار 18: 282 باب 3.
(3) الكفاية 2: 14 - 16.
(4) الفوائد: 290.
78

سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا وإمكانا، وإذا
انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب‍ " لم "، فإن الذاتيات
ضرورية الثبوت للذات، وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر
والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان، فإنه يساوق
السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا، والإنسان لم يكون ناطقا؟
وما أفاد - أيضا - من أن العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار
الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما، فإن
(السعيد سعيد في بطن امه، والشقي شقي في بطن امه) (1) و (الناس معادن
كمعادن الذهب والفضة) (2) كما في الخبر، والذاتي لا يعلل، فانقطع سؤال:
أنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي
شقي كذلك، وقد أوجدهما الله تعالى (3) انتهى.
فإنه يرد عليه: - مضافا إلى ما عرفت من وقوع الخلط والاشتباه منه
قدس سره في جعل الشقاوة والسعادة من الذاتيات الغير المعللة - أن الذاتي
الغير المعلل أي المهيات ولوازمها لم تكن منشأ للآثار مطلقا، فاختيار الكفر
والعصيان الذي هو أمر وجودي، وكذا الإرادة التي هي من الموجودات،
لم يكونا ناشئين من الذات والذاتيات التي هي المهيات، لما عرفت من أن

(1) كنز العمال 1: 107 / 491، توحيد الصدوق: 356 / 3 باب 58.
(2) الكافي 8: 177 / 197، مسند أحمد بن حنبل 2: 539.
(3) الكفاية 1: 100 - 101.
79

المهيات مطلقا منعزلة عن التأثير والتأثر، والتأثير بالوجود وفي الوجود، وهو
ليس بذاتي لشئ من الممكنات.
وبذلك علم ما في قوله: من أن تفاوت أفراد الناس في القرب منه تعالى
والبعد عنه تعالى، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة والنار ونيل الشفاعة
وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا والذاتي لا يعلل (1) فإن تفاوت
أفراد الناس والامتيازات الفردية إنما تكون بحسب الهوية الوجودية
والعوارض الشخصية التي هي الأمارات للهوية البسيطة الوجودية، لا بحسب
المهية ولوازمها، والتفاوت الوجودي ليس بذاتي للأشياء، فالاختلاف الفردي
إنما هو بجعل الجاعل، لا بالذات.
لا أقول: إن الجاعل جعل بسيطا وجود زيد وعمرو، ثم جعلهما مختلفين
بالجعل التأليفي، بل أقول: إن هوية زيد المختلفة مع هوية عمرو مجعولة بالجعل
البسيط، وهذا هو المراد بالذاتي في باب الوجود الذي لا ينافي الجعل.
وإن شئت قلت: إن اختلاف الهويات الوجودية بنفس ذاتها المعلولة،
فافهم، فإنه دقيق جدا.
في سبب اختلاف أفراد الإنسان
فإن قلت: إذا كانت الذات والذاتيات ولوازمها في أفراد الإنسان غير
مختلفة، فمن أين تلك الاختلافات الكثيرة المشاهدة؟ فهل هي بإرادة الجاعل

(1) الكفاية 2: 16.
80

جزافا؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا، [إضافة إلى] ورود إشكال الجبر أيضا.
قلت: هاهنا كلام طويل في وقوع أصل الكثرة في الوجود، وله مقدمات
كثيرة ربما لا ينبغي الغور فيها إلا في المقام المعد لها، ولكن الذي يناسب مقامنا
في وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية أن يقال:
إن المواد التي يتغذى بها بنو ادم، وبها يعيشون، وتستمر حياتهم في
هذا العالم العنصري الطبيعي مختلفة بحسب النوع لطافة وكثافة وصفاء
وكدورة، فربما يكون التفاح والرمان والرطب ألطف وأصفى وأقرب إلى
الاعتدال والكمال الوجودي من الجزر والباقلاء وأشباههما، وهذا الاختلاف
الكثير بين أنواع المواد الغذائية ربما يكون ضروريا. ولا إشكال في أن النطفة
الإنسانية التي يتكون منها الولد، وتكون لها المبدئية المادية له، من تلك المواد
الغذائية، فإن النطفة من فضول بعض الهضوم، فالقوة المولدة المودعة في
الإنسان تفرز من عصارة الغذاء هذه المادة المنوية لحفظ بقاء النوع، فربما تفرز
المادة من مادة غذائية لطيفة نورانية صافية أكلها الوالد، وربما يكون الإفراز
من المادة الكثيفة الظلمانية الكدرة، وقد يكون من متوسطة بينهما، وقد يمتزج
بعضها بالبعض.
ومعلوم أن هنا اختلافات وامتزاجات كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى،
ولعل المراد من النطفة الأمشاج في قوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة
أمشاج) * (1) هو هذه الامتزاجات والاختلاطات التي تكون في نوع الأفراد،

(1) الإنسان: 2.
81

وقلما تكون النطفة غير ممتزجة ولا مختلطة من مواد مختلفة.
ومن الواضح المقرر في موضعه (1): أنه كلما اختلفت المادة اللائقة
المستعدة لقبول الفيض من مبدئه اختلفت العطية والإفاضة حسب
اختلافاتها، فإنه - تعالى - واجب الوجود بالذات ومن جميع الجهات، فهو
واجب الإفاضة والإيجاد، لكن المادة الصلبة الكثيفة لا تقبل الفيض والعطية إلا
بمقدار سعة وجودها واستعدادها. ألا ترى أن الجليدية (2) تقبل من نور غيب
النفس ما لا يقبله الجلد الضخم والعظم، فالنفس المفاضة على المادة اللطيفة
النورانية ألطف وأصفى وأليق لقبول الكمال من النفس المفاضة على المادة
المقابلة لها.
وهذا - أي اختلاف النطف - أحد موجبات اختلاف النفوس والأرواح،
وهاهنا موجبات كثيرة أخرى لاختلاف المواد في قبول الفيض، ولاختلاف
الأرواح [في درجات] الكمال، بل إلى الوصول إلى الغاية والخروج من الأبدان:
منها: اختلاف الأصلاب في الشموخ والنورانية والكمال ومقابلاتها
والتوسط بينهما، وهذا أيضا باب واسع، وموجب لاختلافات كثيرة ربما لا تحصى.
ومنها: اختلاف الأرحام كذلك، وهذا أيضا من الموجبات الواضحة.
وبالجملة: الوراثة الروحية شئ مشاهد معلوم بالضرورة.

(1) الأسفار 1: 394، 2: 353 - 354، 7: 76 - 77.
(2) الجليدية: وهي إحدى الرطوبات الثلاثة الموجودة في العين الباصرة، وعرفوها بأنها رطوبة
صافية كالبرد والجليد مستديرة ينقص من تفرطحها من قدامها استدارتها. طبيعيات
الشفاء 3: 256.
82

ومنها: غير ذلك، من كون غذاء الأب والام حلالا أو حراما أو مشتبها،
وكذا كون ارتزاقهما من الحلال أو الحرام أو المشتبه في حال كون الأمانة في
باطنهما، وكون معدتهما في حال الوقاع خالية أو ممتلئة أو متوسطة، وكون
الوقاع حلالا أو حراما أو مشتبها، وكون آداب الجماع مرعية مطلقا، أو غير
مرعية مطلقا، أو مرعيا بعضها دون بعض، فإن لكل ما ذكر دخالة تامة في
قبول المادة الفيض الوجودي من المبدأ الجواد.
فلو فرضنا أن المادة في كمال النورانية، والصلب شامخ طاهر كامل،
والرحم طاهر مطهر، والآداب الإلهية محفوظة مرعية، يكون الولد طاهرا
مطهرا لطيفا نورانيا.
ولو اتفق كون سلسلة الآباء والأمهات كلها كذلك لصار نورا على نور،
وطهارة على طهارة، كما تقرأ في زيارة مولانا وسيدنا الحسين عليه الصلاة
والسلام: (أشهد أنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة،
لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها) (1).
فإن هذه الفقرات الشريفة تدل على ما ذكرنا من دخالة المادة النورية
التي في الأصلاب، وشموخ الأصلاب، وطهارة الأرحام، وتنزيه الآباء
والأمهات من قذارات الجاهلية من الكفر وذمائم الأخلاق وقبائح الأعمال،
في طهارة الولد ونورانيته.
هذه كلها أمور دخيلة في أرواح الأطفال قبل ولادتها، وبعد الولادة

(1) مصباح المتهجد: 664.
83

تكون أمور كثيرة دخيلة في اختلافها:
منها: الارتضاع والمرضعة وزوجها، فإن في طهارة المرضعة وديانتها
ونجابتها وأخلاقها وأعمالها، وكذا في زوجها، وكيفية الارتضاع والرضاع،
دخالة عظيمة في الولد.
ومنها: التربية في أيام الصغر وفي حجر المربي.
ومنها: التربية والتعلم في زمان البلوغ.
ومنها: المصاحب والمعاشر.
ومنها: المحيط والبلد الواقع فيه.
ومنها: مطالعة العلوم المختلفة والممارسة للكتب والآراء، فإن لها دخالة
تامة عظيمة في اختلاف الأرواح.
ومنها غير ذلك.
وبالجملة: كل ما ذكر في الآيات والأخبار من الآداب الشرعية صراحة
أو إشارة، وجوبا أو حرمة أو استحبابا أو كراهة، لها دخالة في سعادة الإنسان
وشقائه من قبل الولادة إلى الموت.
هذا شمة من كيفية وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية، ولا يكون شئ
منها ذاتيا غير معلل.
وأما سبب اختلاف المواد الغذائية بل مطلق الأنواع، وكيفية وقوع
الكثرة في العالم، فهو أمر خارج عما نحن بصدده، ولا دخالة له بالجبر
والاختيار، بل هو من المسائل الإلهية المطروحة في العلم الأعلى مع اختلاف
84

مشارب الفلاسفة والعرفاء فيه، فمن كان من أهله فليراجع مظانه، ونحن لسنا
بصدد بيان الجبر والاختيار وتحقيق الحال في تلك المسألة، فإن لها مقاما آخر،
ولها مباد ومقدمات مذكورة في الكتب العقلية.
في أن السعادة قابلة للتغيير وكذا الشقاوة
ثم اعلم: أن تلك الاختلافات التي قد أوضحنا سبيلها ونبهنا على
أساسها، لم تكن من الأمور التي لا تختلف ولا تتخلف مثل الذاتيات الغير
القابلة للتخلف، بل الإنسان - أي إنسان كان - ما دام كونه في عالم الطبيعة
وتعانقه مع الهيولي القابلة للأطوار والاختلافات، قابل لأن يتطور وأن يتبدل
ويتغير، إما إلى السعادة والكمالات اللائقة به، أو إلى الشقاوة والأمور المنافية
لجوهر فطرته، كل ذلك بواسطة الكسب والعمل.
فالشقي، الفاسد عقيدة والسئ أخلاقا والقبيح أعمالا قابل لأن يصير
سعيدا مؤمنا كاملا بواسطة كسبه وعمله وارتياضه ومشاقه، وتتبدل جميع
عقائده وأخلاقه وأعماله إلى مقابلاتها، وكذلك السعيد قابل لأن يصير شقيا
بالكسب.
وذلك لأن الهيولي الأولى قابلة، والمفاض عليها - بعد تطوراتها في
مراتب الطبيعة من النطفة إلى أن تصير قابلة لإفاضة النفس عليها - هو النفس
الهيولانية اللائقة للكمالات وأضدادها، وإذا اكتسبت الكمالات النفسانية
لم تبطل الهيولي، ولم تصر تلك الكمالات ذاتها وذاتياتها، فهي - بعد لما كانت
85

في أسر الهيولي ومتعانقة معها - ممكنة التغير، كما هو المشاهد في مر الدهور
وكر الليالي من صيرورة الكافر السئ الخلق القبيح العمل مؤمنا صالحا حسن
الخلق، وبالعكس.
فالإنسان في تغيير الأخلاق والعقائد فاعل مختار، يمكنه بالاختيار
تحصيل العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والملكات الحسنة. نعم قد يحتاج إلى
رياضة نفسانية وتحمل مشاق علمية أو عملية.
والدليل على إمكانه: دعوة الأنبياء والشارعين - عليهم الصلاة والسلام -
وإراءتهم طرق العلاج، فإنهم أطباء النفوس والأرواح. فما هو المعروف من
أن الخلق الكذائي من الذاتيات والفطريات غير ممكن التغير والتخلف ليس
بشئ، فإن شيئا من العقائد والأخلاق والملكات ليس بذاتي، بل هي من
عوارض الوجود داخلة تحت الجعل. ألا ترى أنها تحصل في الإنسان
بالتدريج، وتستكمل فيه بالتكرار متدرجة، وتكمل وتنقص، وليس شئ من
الذات والذاتيات كذلك.
فما وقع في الكفاية (1): - من أن بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ
والإنذار إنما تفيد من حسنت سريرته وطابت طينته، وتكون حجة على من
ساءت سريرته وخبثت طينته ولا تفيد في حقهم - مما لا ينبغي أن يصغى إليه،
بل هو مناقض للقول بأن اختيار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع
والمؤمن الإطاعة والإيمان من الذاتيات التي لا تختلف ولا تتخلف، فإن

(1) الكفاية: 2: 16.
86

الانتفاع بالشرائع والمواعظ لا يجتمع مع ذاتية الاختيار والسعادة والشقاوة،
فهل يمكن أن يصير الإنسان حمارا أو إنسانا أو الحمار إنسانا أو حمارا بالوعظ
والإنذار؟!
وإني لأظنك لو كنت على بصيرة مما أوضحنا سبيله وأحكمنا بنيانه،
لهديت إلى الصراط المستقيم، فاستقم وكن من الشاكرين.
في معنى قوله: (السعيد سعيد...) و (الناس معادن)
فإن قلت: فعلى ما ذكرت من البيان، فما معنى قوله: (السعيد سعيد في
بطن امه والشقي شقي في بطن امه) (1)، وقوله: (الناس معادن كمعادن
الذهب والفضة) (2)؟
قلت: أما قوله: (الناس معادن) بناء على كونه رواية صادرة عن المعصوم
- عليه السلام - فهو من مؤيدات ما ذكرنا، من أن اختلاف أفراد الناس من جهة
اختلاف المواد الغذائية الموجبة لاختلاف المواد المنوية القابلة لإفاضة الصور
والأرواح عليها، فكما أن اختلاف الذهب والفضة وجودا يكون باختلاف
المواد السابقة والأجزاء المؤلفة والتركيبات والامتزاجات المختلفة وكيفية
النضج والطبخ - كما هو المقرر في العلوم الطبيعية - كذلك أفراد الإنسان تختلف
باختلاف المواد السابقة كما عرفت.

(1) توحيد الصدوق: 356 / 3 باب 58، كنز العمال 1: 107 / 491.
(2) الكافي 8: 177 / 197، مسند أحمد بن حنبل 2: 539.
87

وبالجملة: الإنسان من جملة المعادن في هذا العالم الطبيعي، واختلافه
كاختلافها.
وأما قوله: (السعيد سعيد...) فقريب من مضمونه موجود في بعض
الأخبار، فهو - أيضا - على فرض صدوره لا ينافي ما ذكرناه، بل يمكن أن يكون
من المؤيدات، فإن اختلاف إفاضة الصور باختلاف المواد وسائر الاختلافات
التي قد عرفتها، فالصورة الإنسانية التي تفاض على المادة الجنينية في بطن امه
تختلف باختلافها، بل جعل مبدأ السعادة والشقاوة هو بطن الام شاهد على
ما ذكرنا، ولو كانتا ذاتيتين فلا معنى لذلك. تأمل.
ويمكن أن لا يكون هذا القول ناظرا إلى تلك المعاني، بل يكون جاريا
على التعبيرات العرفية، بأن الإنسان السعيد يوجد أسباب سروره وسعادته
من أول الأمر، والشقي يوجد أسباب شقائه ونكبته من أول أمره.
ويحتمل بعيدا أن يكون المراد من بطن الام هو عالم الطبيعة، فإنه دار
تحصيل السعادة والشقاوة.
هذا ما يناسب إيراده في المقام، ولكن يجب أن يعلم أن لتلك المسائل
وأداء حقها مقاما آخر، ولها مقدمات دقيقة مبرهنة في محلها، ربما لا يجوز
الدخول فيها لغير أهل فن المعقول، فإن فيها مزال الأقدام ومظأن الهلكة، ولذا
ترى ذلك المحقق الأصولي - قدس سره - كيف ذهل عن حقيقة الأمر، وخرج
عن سبيل التحقيق.
88

في أن للمعصية منشأين للعقوبة
قوله: ثم لا يذهب عليك... إلخ (1).
لا يخفى أن الالتزام بكون منشأ استحقاق العقاب في المعصية والتجري
أمرا واحدا هو الهتك الواحد - كما أفاده رحمه الله - خلاف الضرورة، للزوم أن
لا يكون للمنهي عنه مفسدة أخروية أصلا، بل لازمه أن يكون في الطاعة
والانقياد منشأ واحد للاستحقاق، وأن لا يكون للمأمور به مصلحة أصلا، وهو
خلاف ارتكاز المتشرعة، وخلاف الآيات الكريمة (2) والأخبار الشريفة في
باب الثواب والعقاب (3).
كما أن الالتزام بأن التجري والهتك لحرمة المولى لا يوجب شيئا أصلا
أيضا خلاف الضرورة والوجدان الحاكم في باب الطاعة والعصيان.
بل الحق ما أوضحنا سبيله من كون التجري سببا مستقلا، وله عقوبات
لازمة لذاته، وتبعات في عالم الملكوت وباطن النفس، وصور مؤلمة موحشة
مظلمة، كما أن للانقياد صورة ملكوتية بهية حسنة ملذة.
وفي المعصية والطاعة منشئان:

(1) الكفاية 2: 17.
(2) كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت: 29 وقوله تعالى: (وأذن في
الناس بالحج... ليشهدوا منافع لهم) الحج: 27 - 28.
(3) راجع كتاب علل الشرائع: 247 - 275 باب 182 علل الشرائع وأصول الإسلام. وغيره
من الأبواب.
89

أحدهما: ما ذكر، فإنهما شريكان للتجري والانقياد.
وثانيهما: استحقاق الثواب والعقاب على نفس العمل، إما بنحو
الجعل، أو بنحو اللزوم وتجسم صور الأعمال.
ولا يذهب عليك: أن القول بالعقوبة الجعلية لا ينافي الاستحقاق، فإن
الجعل لم يكن جزافا وبلا منشأ عند العدلية، والعقل إنما يحكم بالاستحقاق
بلا تعيين مرتبة خاصة، فلابد من تعيين المرتبة من الجعل على القول به.
90

المبحث الأول
في بيان أقسام القطع
قوله: الأمر الثالث... إلخ (1).
هاهنا مباحث:
الأول في أقسام القطع: فإنه قد يتعلق بموضوع خارجي، أو موضوع
ذي حكم، أو حكم شرعي متعلق بموضوع مع قطع النظر عن القطع، وهو في
جميع الصور كاشف محض، وذلك واضح.
وقد يكون له دخالة في الموضوع: إما بنحو تمام الموضوعية، أو جزئها.
فها هنا أقسام، فإن القطع لما كان من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، فله
قيام بالنفس قيام صدور أو حلول - على المسلكين في العلوم العقلية -
وإضافة إلى المعلوم بالذات الذي هو في صقع النفس إضافة إشراق وإيجاد،

(1) الكفاية 2: 18.
91

فإن العلم هو الإضافة الاشراقية بين النفس والمعلوم بالذات، بها يوجد المعلوم
كوجود المهيات الإمكانية بالفيض المقدس الإطلاقي، وله - أيضا - إضافة
بالعرض إلى المعلوم بالعرض الذي هو المتعلق المتحقق في الخارج.
وقيام العلم بالنفس وكون الصورة المعلومة بالذات فيها، بناء على عدم
كون العلم من مقولة الإضافة، كما ذهب إليه الفخر الرازي (1) فرارا عن
الإشكالات الواردة على الوجود الذهني. فما وقع في تقريرات بعض المحققين
رحمه الله - من قيام الصورة في النفس من غير فرق بين أن نقول: إن العلم من
مقولة الكيف أو مقولة الفعل أو الانفعال أو الإضافة (2) - ناش عن الغفلة عن
حقيقة الحال.
وبالجملة: أن العلم له قيام بالنفس وإضافة إلى المعلوم بالذات وإضافة
إلى المعلوم بالعرض، بل هذه الإضافة على التحقيق هي علم النفس، وهو أمر
بسيط، لكن للعقل أن يحلله إلى أصل الكشف وتمامية الكشف، فعليه يكون
للقطع جهات ثلاث:
جهة القيام بالنفس مع قطع النظر عن الكشف، كسائر أوصافها مثل
القدرة والإرادة والحياة.

(1) المباحث المشرقية 1: 331. الفخر الرازي: هو الشيخ محمد بن عمر بن الحسين التميمي
البكري الملقب بفخر الدين الرازي، ولد في بلدة ري سنة 544 ه‍، أشعري الأصول شافعي
الفروع، له عدة مؤلفات منها التفسير الكبير والمطالب العالية، توفي في هراة سنة 606 ه‍ ودفن
فيها. انظر وفيات الأعيان 4: 248، الكنى والألقاب 3: 9، روضات الجنات 8: 39.
(2) فوائد الأصول 3: 16.
92

وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات.
وجهة كمال الكشف وتمامية الاراءة المختص به المميز له عن الأمارات.
ولا يخفى أن تلك الجهات ليست جهات حقيقية حتى يكون العلم
مركبا منها، بل هو أمر بسيط في الخارج، وإنما هي جهات يعتبرها العقل
ويحلله إليها بالمقايسات، كالأجناس والفصول للبسائط الخارجية، وكاعتبار
كون الوجود الكامل الشديد ممتازا عن الناقص الضعيف بجهة التمامية، مع أن
الوجود بسيط، لا شديده مركب من أصل الوجود والشدة، ولا ضعيفه منه
ومن الضعف، كما هو المقرر في محله (1).
وبالجملة: هذه الجهات كلها حتى جهة القيام بالنفس اعتبارية، يمكن
للمعتبر أن يعتبرها ويجعلها موضوعا لحكم من الأحكام.
فالأقسام ستة:
الأول: أخذه بنحو الصفتية - أي بجهة قيامه بالنفس مع قطع النظر عن
الكشف عن الواقع - تمام الموضوع.
والثاني: أخذه كذلك بعض الموضوع.
والثالث: أخذه بنحو الطريقية التامة والكشف الكامل تمام الموضوع.
والرابع: أخذه كذلك بعض الموضوع.
والخامس: أخذه بنحو أصل الكشف والطريقية المشتركة بينه وبين سائر
الأمارات تمام الموضوع.

(1) شرح المنظومة: 22 - 23.
93

والسادس: أخذه كذلك بعض الموضوع.
وسيأتي الفرق بينها في الجهة المبحوث عنها.
في الإيراد على بعض مشايخ العصر
فإن قلت: في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية إشكال، بل
الظاهر أنه لا يمكن، من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع
وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ
ذي الصورة وذي الطريق، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم،
كما هو الشأن في كل طريق، حيث إن لحاظه طريقا يكون في الحقيقة لحاظا لذي
الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع.
فالإنصاف: أن أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلا بأخذه على وجه الصفتية.
قلت: نعم هذا إشكال أورده بعض محققي العصر - على ما في تقريرات
بحثه (1) - غفلة عن حقيقة الحال، فإن الجمع بين الطريقية والموضوعية إنما
لا يمكن فيما إذا أراد القاطع نفسه الجمع بينهما، فإن القاطع يكون نظره
الاستقلالي إلى الواقع المقطوع به، ويكون نظره إلى القطع آليا طريقيا،
ولا يمكن في هذا اللحاظ الآلي أن ينظر إليه باللحاظ الاستقلالي، مع أن النظر
إلى الموضوع لابد وأن يكون استقلاليا غير آلي. هذا بالنسبة إلى القاطع.
وأما غير القاطع إذا أراد أن يجعل قطع غيره موضوعا لحكم، يكون نظره

(1) فوائد الأصول 3: 11.
94

إلى قطع القاطع - الذي هو طريق - لحاظا استقلاليا، ولا يكون لحاظه لذي
الطريق، بل يكون للطريق، فلحاظ القاطع طريقي آلي، ولحاظ الحاكم لقطعه
الطريقي موضوعي استقلالي.
فأي محال يلزم إذا لحظ لاحظ باللحاظ الاستقلالي القطع الطريقي الذي
لغيره، وجعله موضوعا لحكمه على نحو الكاشفية على وجه تمام الموضوع؟!
وهل هذا إلا الخلط بين اللاحظين؟!
ثم إنه لا اختصاص لعدم الإمكان - لو فرض - بأخذه تمام الموضوع أو
بعض الموضوع، فتخصيصه به في غير محله.
ثم إن القطع قد يتعلق بموضوع خارجي، فتأتي فيه الأقسام الستة
السابقة، وقد يتعلق بحكم شرعي، فيمكن أخذه موضوعا لحكم آخر غير
ما تعلق العلم به، وتأتي - أيضا - فيه الأقسام.
وأما إذا تعلق بحكم شرعي، فهل يمكن أخذه موضوعا لنفس الحكم
الذي تعلق العلم به؟
قال بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه -: لا يمكن ذلك إلا
بنتيجة التقييد، وقال في توضيحه ما حاصله:
إن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه
الإطلاق والتقييد اللحاظي، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلق
باعتبار تعلق الحكم به، كقصد التعبد والتقرب في العبادات، فإذا امتنع التقييد
امتنع الإطلاق، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، لكن الإهمال الثبوتي
95

أيضا لا يعقل، فإن ملاك تشريع الحكم: إما محفوظ في حالتي الجهل والعلم
فلابد من نتيجة الإطلاق، وإما في حالة العلم فلابد من نتيجة التقييد، فحيث
لا يمكن بالجعل الأولي فلابد من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان، وهو متمم
الجعل.
وقد ادعي تواتر الأدلة على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام، وإن
لم نعثر إلا على بعض أخبار الآحاد، لكن الظاهر قيام الإجماع بل الضرورة
على ذلك، فيستفاد من ذلك نتيجة الإطلاق، وأن الحكم مشترك بين العالم
والجاهل.
لكن تلك الأدلة قابلة للتخصيص، كما خصصت في الجهر والاخفات
والقصر والإتمام (1) انتهى.
وفيه أولا: أن الانقسامات اللاحقة على ضربين:
[الضرب الأول]: ما لا يمكن تقييد الأدلة به، بل ولا يمكن فيه نتيجة
التقييد، مثل أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم، فإنه غير معقول
لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد، فإن حاصل التقييد ونتيجته: أن الحكم
مختص بالعالم بالحكم، وهذا دور مستحيل، فإن العلم بالحكم يتوقف على
الحكم بالضرورة، ولو فرض الاختصاص - ولو بنتيجة التقييد - يصير الحكم
متوقفا على العلم به.
نعم لا دور فيما إذا كان القطع تمام الموضوع، لعدم دخالة الواقع فيه حتى

(1) فوائد الأصول 3: 11 - 12.
96

يلزم الدور.
نعم في كون أحكام الله الواقعية تابعة لآراء المجتهدين - كما عليه فرقة
من غير أهل الحق - وقد أشكل عليهم بورود الدور.
ويمكن الذب عنهم: بأن الشارع أظهر أحكاما صورية - بلا جعل أصلا -
لمصلحة في نفس الإظهار، حتى يجتهد المجتهدون ويؤدي اجتهادهم إلى حكم
بحسب تلك الأدلة التي لا حقيقة لها، ثم بعد أداء اجتهادهم إلى حكم أنشأ
الشارع حكما مطابقا لرأيهم تابعا له.
لكن هذا مجرد تصوير ومحض تخييل، ربما لا يرضى به المصوبة.
وبالجملة: اختصاص الحكم بالعالم بالحكم غير معقول بوجه من
الوجوه.
وأما في مثل باب الجهر والإخفات والقصر والإتمام فلا يتوقف الذب
عن الإشكال فيه على الالتزام بالاختصاص، بل يمكن أن يكون عدم الحكم
بالقضاء أو الإعادة من باب التخفيف والتقبل، كما يمكن ذلك في حديث
(لا تعاد الصلاة) (1) بناء على عدم اختصاصه بالسهو كما لا يبعد.
ويمكن أن تكون الإعادة أو القضاء مما بطل محلهما في تلك الموارد، نظير
مريض كان دستوره شرب الفلوس مع البنفسج وأصل السوس، فشرب
الفلوس الخالص، فإن إعادته مع الشرائط مما يفسد المزاج، فشربه خالصا أفسد

(1) من لا يحضره الفقيه 1: 181 / 17 باب 42 في القبلة و 1: 225 / 8 باب 49 في أحكام السهو،
والتهذيب 2: 152 / 55 باب 9.
97

المحل وأخرجه عن قابلية الشرب المخلوط، فلعل إعادة الصلاة تامة مع إتيانها
ناقصة من هذا القبيل، إلى غير ذلك من الاحتمالات.
والضرب الثاني من الانقسامات اللاحقة: ما يمكن تقييد الأدلة به بدليل
آخر، كقصد التعبد والأمر والتقرب في العبادات.
ففي هذا القسم لا يبعد إمكان التقييد اللحاظي أيضا، فإن تصور الأمر
المتأخر عن الحكم ممكن قبل الجعل، وتقييد الموضوع به - أيضا - ممكن،
فللآمر أن يلاحظ قبل إنشاء الحكم الموضوع الذي أراد أن يجعله متعلقا للأمر،
ويلاحظ حالة تعلق الأمر به في الآتية، ويلاحظ قصد المأمور لأمره، ويجعل
قصد المأمور للتقرب والتعبد من قيود المتعلق ويأمر به مقيدا، مثل سائر القيود
المتأخرة.
نعم نفس تعلق الأمر مما يمكن المكلف من إتيان المتعلق، فإن قبل تعلقه
لا يمكن له الإتيان بالصلاة مع تلك القيود، وبنفس التعلق يصير ممكنا.
فإن قلت: بناء على ذلك إن الموضوع المجرد عن قيد قصد التقرب والأمر
لم يكن مأمورا به، فكيف يمكن الأمر به مع قصد أمره؟
قلت: نعم هذا إشكال آخر غير مسألة الدور، ويمكن دفعه: بأن الموضوع
متعلق للأمر الضمني، والزائد على قصد الأمر الضمني لا يلزم ولا موجب له.
وثانيا: أن الإطلاق والتقييد اللحاظي اللذين جعلهما من قبيل العدم والملكة،
وحكم بأن كلما امتنع التقييد امتنع الإطلاق، مما لا أساس له، فإنه إن كان
اللحاظ صفة لكل من التقييد والإطلاق، وأراد أن الإطلاق - أيضا - لحاظي
98

كالتقييد، فيرد عليه:
أولا: أن الإطلاق لم يكن باللحاظ، بل هو متقوم بعدم التقييد، فإذا قال
المولى: " أعتق رقبة " بلا تقييده بشئ مع تمامية مقدمات الحكمة - لو بنينا على
لزوم المقدمات - تم الإطلاق، ولا يحتاج إلى اللحاظ أصلا.
وثانيا: أن لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد من قبيل الضدين لا العدم
والملكة، فإن اللحاظين أمران وجوديان.
وإن كان اللحاظ صفة للتقييد فقط، حتى لا يحتاج الإطلاق إلى اللحاظ،
فيرد عليه: أن امتناع الإطلاق ممنوع، وما ادعى أن كلما امتنع التقييد
امتنع الإطلاق مما لا أساس له، ومجرد دعوى بلا بينة ولا برهان.
والتحقيق: أن الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة أو شبيه بهما،
وهذا كلام صحيح استعمله هذا المحقق في غير موضعه، واستنتج منه هذه
النتيجة العجيبة، أي إنكار مطلق الإطلاق في الأدلة الشرعية، حتى احتاج إلى
دعوى الإجماع والضرورة لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل، وهذا أمر
غريب منه جدا.
وتوضيح ذلك: أن المتعلق قد لا يمكن تقييده لقصور فيه، ولم يكن له
شأنية التقييد، ففي مثله لا يمكن الإطلاق، فإن هذا شأن العدم والملكة في جميع
الموارد، فلا يقال للجدار: أعمى، فإنه غير البصير الذي من شانه البصيرية،
ولا يقال: زيد مطلق إطلاقا أفراديا.
وقد لا يمكن التقييد لا لقصور في الموضوع، بل لأمر آخر ومنع خارجي،
99

كلزوم الدور في التقييد اللحاظي، فإن ذلك الامتناع لا يلازم امتناع الإطلاق،
لعدم لزوم الدور في الإطلاق، ولذا يجوز تصريح الأمر بأن صلاة الجمعة واجبة
على العالم والجاهل بالحكم والخمر حرام عليهما بلا لزوم محال.
وليت شعري أي امتناع يلزم لو كانت أدلة الكتاب والسنة مطلقة تشمل
العالم والجاهل كما أن الأمر كذلك نوعا؟! وهل يكفي مجرد امتناع التقييد في
امتناع الإطلاق بلا تحقق ملاكه (1)؟!
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن اشتراك التكليف بين العالم والجاهل
لا يحتاج إلى التماس دليل من الأخبار والإجماع والضرورة، والفقهاء - رضوان
الله عليهم - لا يزالون يتمسكون بإطلاق الكتاب والسنة من غير نكير.
ومما ذكرنا يظهر حال ما استنتج من هذه المقدمة، ويسقط كلية ما ذكره
- رحمه الله - في هذا المقام. وفي كلامه في المقام مواقع للنظر تركناها مخافة
التطويل.

(1) بل يمكن إقامة البرهان على الإطلاق في المقام من دون احتياج إلى تمامية مقدماته، فإن
اختصاص الحكم بالعالمين لما كان ممتنعا ولم يختص بالجاهل بالضرورة، يكون لا محالة مشتركا
بينهما. ولعل ذلك سند الإجماع والضرورة. [منه قدس سره].
100

المبحث الثاني
في قيام الطرق والأمارات
والأصول بنفس أدلتها مقام القطع بأقسامه
وفيه مقامان: الأول: في إمكان قيامها مقامه ثبوتا، والثاني: في وقوعه
إثباتا وبحسب مقام الدلالة.
أما المقام الأول: فالظاهر إمكانه وعدم لزوم محذور منه، إلا ما أفاده
المحقق الخراساني (1) - رحمه الله - من الإشكالين:
أحدهما: ما محصله: أن الجعل الواحد لا يمكن أن يتكفل تنزيل الظن
منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما اخذ في الموضوع على نحو
الكشف، للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين - أي اللحاظ الآلي
والاستقلالي - حيث لابد في كل تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه، مع

(1) الكفاية 2: 21.
101

أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع آلي طريقي، وفي كونه بمنزلته في
دخله في الموضوع استقلالي موضوعي، والجمع بينهما محال ذاتا.
أقول: هذا الإشكال مما استصوبه جل المشايخ المحققين - رحمهم الله -
فأخذ كل منهم مهربا:
منهم: من ذهب إلى أن المجعول في الأمارات هو المؤدى، وأن مفاد أدلة
الأمارات جعل المؤدى منزلة الواقع، وبالملازمة العرفية بين تنزيل المؤدى
منزلة الواقع وبين تنزيل الظن منزلة العلم، يتم الموضوع (1).
ومنهم: من ذهب إلى أن المجعول هو الكاشفية والوسطية في الإثبات (2)
وبنفس هذا الجعل يتم الأمران.
ومنهم: من سلك غير ذلك (3) ولعلنا نرجع إلى حال ما سلكوا سبيله.
والتحقيق: أن لزوم الجصع بين اللحاظين مما لا أساس له بوجه، وذلك
لأن القاطع أو الظان بشئ يكون نظرهما إلى المقطوع به أو المظنون نظرا
استقلاليا اسميا، والى قطعه وظنه آليا حرفيا، ولا يمكن له الجمع بين لحاظي
الآلية والاستقلالية، لكن الناظر إلى قطع هذا القاطع وظنه إذا كان شخصا آخر
يكون نظره إلى هذا القطع والظن الآليين لحاظا استقلاليا، ويكون نظره إلى
الواقع المقطوع والمظنون بهذا القطع والظن وإلى نفس القطع والظن، في عرض

(1) هو المحقق الأخوند - قدس سره - في حاشيته على فرائد الأصول: 9 سطر 7 - 10.
(2) هو المحقق الميرزا النائيني - قدس سره - كما جاء في فوائد الأصول 3: 21.
(3) كالمحقق الشيخ الحائري - قدس سره - في درر الفوائد 2: 8 - 10.
102

واحد بنحو الاستقلال.
فما أفاد - من أن النظر إلى حجية الأمارة وتنزيلها منزلة القطع آلي طريقي -
مغالطة من باب اشتباه اللاحظين، فإن الحاكم المنزل للظن منزلة القطع لم يكن
نظره إلى القطع والظن آليا، بل نظره استقلالي قضاء لحق التنزيل. نعم نظر
القاطع والظان آلي، ولادخل له في التنزيل.
فمن هو الجاعل والمنزل يكون نظره إلى القطع الطريقي للغير استقلاليا،
كما أنه يكون نظره إلى الواقع المقطوع به - أيضا - استقلاليا، وكذلك في الأمارة
والمؤدى.
ومن هو العالم أو الظان يكون نظره إلى القطع أو الظن آليا، لكنه خارج
عن محط البحث.
وأما قصور أدلة التنزيل عن تكفل الجعلين فهو أمر آخر مربوط بمقام
الإثبات والدلالة، لامن باب لزوم الجمع بين اللحاظين، وسنرجع إلى
البحث عنه (1).
والثاني من الإشكالين: ما أفاده - أيضا - في الكفاية (2) ردا على مقالته
في تعليقة الفرائد (3)، حيث تشبث في التعليقة - فرارا عن لزوم الجمع بين
اللحاظين - بجعل المؤدى منزلة الواقع والملازمة العرفية بين التنزيلين بلا جمع

(1) انظر صفحة رقم: 105 وما بعدها.
(2) الكفاية 2: 23 - 24.
(3) حاشية فرائد الأصول: 9 سطر 7 - 9.
103

بين اللحاظين.
وحاصل رده في الكفاية: أن ذلك يستلزم الدور، فإن تنزيل المؤدى
منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل، لا يمكن إلا بعد تحقق العلم في عرض ذلك
التنزيل، فإنه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل، بل الأثر مترتب على
الواقع والعلم به، والمفروض أن العلم بالمؤدى تحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة
الواقع، فيكون التنزيل موقوفا على العلم، والعلم موقوفا على التنزيل، وهذا
دور محال (1).
وفيه: أنه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي، فهاهنا يكون للمؤدى أثر
تعليقي، أي لو انضم إليه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي، بل لو قلنا بعدم كفاية
الأثر التعليقي لنا أن نقول: إن هاهنا أثرا فعليا، لكن بنفس الجعل، ولا يلزم أن
يكون الأثر سابقا على الجعل، ففيما نحن فيه لما كان نفس الجعل متمما
للموضوع يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقق في ظرفه، فلا يكون الجعل
متوقفا على الأثر السابق.
وإن شئت قلت: لا دليل على كون الجعل بلحاظ الآثار إلا صون جعل
الحكيم من اللغوية، وهاهنا لا يلزم اللغوية: إما بواسطة الأثر التعليقي، أو

(1) هكذا قرر الدور بعض الأعاظم (أ) وهو غير تام. والأولى أن يقال إن تنزيل المؤدى منزلة الواقع
يتوقف على تنزيل الظن منزلة العلم في عرضه، لأن الأثر مترتب على الجزأين وتنزيل الظن
متوقف على تنزيل المؤدى بالفرض، أي دعوى الملازمة العرفية. [منه قدس سره]
(أ) فوائد الأصول 3: 28.
104

بلحاظ الأثر الفعلي المتحقق بنفس الجعل، فتدبر.
وأما المقام الثاني: أي مقام الإثبات والدلالة، فلابد لاتضاح حاله من
تقديم مقدمة:
وهي أنه لابد في كون شئ أمارة جعلية - أي جعل الشارع شيئا أمارة
وطريقا إلى الواقع - من أمور:
الأول: أن يكون له في ذاته جهة كشف وطريقية، فإن ما لا يكون له
جهة الكشف أصلا لا يليق للأمارية والكاشفية.
الثاني: أن لا يكون بنفسه أمارة عقلية أو عقلائية، فإن الواجد
للأمارية لا معنى لجعله أمارة، فإنه من قبيل تحصيل الحاصل وإيجاد الموجود.
الثالث: أن تكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية وتتميم
الكشف.
في عدم قيام الأمارات العقلائية مقام القطع مطلقا
إذا عرفت ذلك: فاعلم أن الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا
المحققين كلها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم
وسياساتهم وجميع أمورهم، بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختل نظام
المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجية له
وجعله كاشفا محرزا للواقع بعد كونه كذلك عند كافة العقلاء، وها هي الطرق
105

العقلائية - مثل الظواهر، وقول اللغوي، وخبر الثقة، واليد، وأصالة الصحة في
فعل الغير - ترى أن العقلاء كافة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من
الشارع، بل لا دليل على حجيتها بحيث يمكن الركون إليه إلا بناء العقلاء، وإنما
الشارع عمل بها كأنه أحد العقلاء. وفي حجية خبر الثقة واليد بعض
الروايات (1) التي يظهر منها بأتم ظهور أن العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية،
وليس في أدلة الأمارات ما يظهر منه بأدنى ظهور جعل الحجية وتتميم الكشف،
بل لا معنى له أصلا.
ومن ذلك علم أن قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه مما لا معنى له: أما
في القطع الموضوعي فواضح، فإن الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأنه لا واقع
له، بل لا معنى له.
وأما بناء العقلاء بالعمل بالأمارات فليس وجهه تنزيل المؤدى منزلة
الواقع، ولا تنزيل الظن منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو
تتميم الكشف لها، بل لهم طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم،
من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر، ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية
والتخيلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء ويتأمل فيها أدنى تأمل.
ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي، فإن عمل العقلاء بالطرق المتداولة

(1) الكافي 7: 387 / 1، التهذيب 6: 261 / 100، الفقيه 3: 31 / 27، تفسير علي بن إبراهيم:
501، علل الشرائع: 190 / 1 باب 151، الوسائل 18: 251 / 2 - 3 باب وجوب الحكم بملكية
صاحب اليد... الخ، وصفحة 98 باب 11 وجوب الرجوع في القضاء...
106

حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلا
ومن غير التفات إلى تلك المعاني.
نعم القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنما يعملون
بها عند فقد القطع، وذلك لا يلزم أن يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه،
حتى يكون الطريق منحصرا بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية
التنزيل والقيام مقامه.
وما اشتهر بينهم: من أن العمل بها من باب كونها قطعا عاديا، أو من
باب إلقاء احتمال الخلاف (1) - على فرض صحته - لا يلزم منه التنزيل أو تتميم
الكشف وأمثال ذلك.
وبالجملة: من الواضح البين أن عمل العقلاء بالطرق لا يكون من باب
كونها علما وتنزيلها منزلة العلم، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا
يعملون بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلا.
ومما ذكرنا تعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحققين - رحمهم
الله - من التزام جعل المؤدى منزلة الواقع تارة (2) والتزام تتميم الكشف وجعل
الشارع الظن علما في مقام الشارعية وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له
أخرى (3) إنها كلمات خطابية لا أساس لها.

(1) فوائد الأصول 3: 108، ومقالات الأصول 2: 4 - 5.
(2) حاشية فرائد الأصول: 8 - 9، نهاية الدراية 2: 18 سطر 13 - 14.
(3) فوائد الأصول 3: 108.
107

والعجب أن بعض المشايخ المعاصرين - على ما في تقريرات بحثه (1) - قد
اعترف كرارا بأنه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا، وفي
المقام قد أسس بنيانا رفيعا في عالم التصور يحتاج إلى أدلة محكمة، مع خلو
الأخبار والآثار عن شائبتها فضلا عن الدلالة. هذا حال الأمارات.

(1) فوائد الأصول 3: 30 و 91.
108

في قيام الأصول مقام القطع
وأما الأصول فهي على قسمين:
أحدهما: ما يظهر من أدلتها أنها وظائف مقررة للجاهل عند تحيره
وجهله بالواقع كأصالة الطهارة والحلية، فهذه الأصول ليست مورد البحث،
فإن قيامها مقامه مما لا معنى له.
وثانيهما: ما يسمونها أبا لأصول التنزيلية، مثل الاستصحاب وقاعدة
التجاوز والفراغ، ولابد لنا من تحقيق حالها وإن كان خارجا عن محل البحث
وله مقام آخر، لكن تحقيق المقام يتوقف على تحقيق حالها، فنقول:
قد عرفت: أنه لابد في كون شئ أمارة شرعية جعلية أن يكون له جهة
كشف، وأن لا يكون أمارة عقلائية معتبرة عند العقلاء، وأن تكون العناية في
الجعل إلى جهة كاشفيته وطريقيته.
109

في أمارية الاستصحاب
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الاستصحاب (1) فيه جهة كشف عن الواقع،

(1) قولنا: فاعلم أن الاستصحاب.
أقول: هذا ما أدى إليه نظري في سالف الزمان قبل الوصول إلى مباحث الاستصحاب ولقد جددت
النظر حين انتهاء بحثنا إليه فوجدت أنه ليس أمارة شرعية، بل هو أصل تعبدي كما عليه المشايخ لأن
عمدة ما أوقعنا في هذا التوهم أمران:
أحدهما: توهم أن اليقين السابق كاشف عن الواقع كشفا ناقصا في زمان الشك فهو قابل للأمارية
كسائر الكواشف عن الواقع.
وثانيهما: توهم أن العناية في اعتباره وجعله إنما هي إلى هذه الجهة بحسب الروايات فتكون روايات
الاستصحاب بصدد إطالة عمر اليقين وإعطاء تمامية الكشف له، وبعد إمعان النظر في بناء العقلاء
وأخبار الباب ظهر بطلان المقدمتين:
أما الأولى: فلأن اليقين لا يعقل أن يكون كاشفا عن شئ في زمان زواله والمفروض أن زمان الشك
زمان زوال اليقين، فكيف يمكن أن يكون كاشفا عن الواقع في زمان الشك؟!
نعم الكون السابق - فيما له اقتضاء البقاء - وأن يكشف كشفا ناقصا عن بقائه لكن لا يكون كشفه عنه
أو الظن الحاصل منه بحيث يكون بناء العقلاء على العمل به من حيث هو من غير حصول
اطمئنان ووثوق.
وأما الثانية: فلأن العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية - أي إلى أن الكون السابق
كاشف عن البقاء - بل العناية إنما هي إلى أن اليقين لكونه أمرا مبرما لا ينبغي أن ينقض بالشك الذي
ليس له إبرام، فلا محيص [عن القول بأن] الاستصحاب أصل تعبدي شرعي كما عليه المشايخ
المتأخرون (أ).
وأما الاستصحاب العقلائي الذي في كلام المتقدمين (ب) فهو غير مفاد الروايات بل هو عبارة
(أ) فرائد الأصول: 319 سطر 4 - 7، أجود التقريرات 2: 343 سطر 20 - 22.
(ب) الغنية - الجوامع الفقهية -: 548 سطر 33، معارج الأصول: 206 - 207، معالم الدين: 227 - 228،
فرائد الأصول: 319 سطر 5 و 7 - 8.
110

فإن القطع بالحالة السابقة فيه كاشفية عن البقاء، حتى قيل: ما ثبت يدوم،
وهذا في الشك في الرافع مما لا مجال للتأمل فيه.
نعم في الشك في المقتضي يمكن الترديد والتأمل فيه وإن كان قابلا للدفع.
وبالجملة: أن الاستصحاب مطلقا قابل لأن يجعل أمارة وكاشفا عن
الواقع بملاحظة اليقين السابق، وليس من قبيل الشك المحض الغير القابل.
وأما بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب - أي بمجرد كون شئ له
حالة سابقة مقطوعة مع الشك في بقائه - فهو وإن ادعي فيه السيرة
العقلائية في سياساتهم ومراسلاتهم ومعاملاتهم، لكن عملهم على
مجرد ذلك غير معلوم، بل يمكن أن يكون ذلك بواسطة احتفافه بأمور
أخرى من القرائن والشواهد والاطمئنان والوثوق، لا لمجرد القطع بالحالة
السابقة.
وبعض المحققين من علماء العصر - قدس سره - وإن أصر على ما في
تقريراته (1) على استقرار الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة - حتى
قال: لا ينبغي التأمل في أن الطريقة العقلائية قد استقرت على ترتيب آثار
البقاء عند الشك في الارتفاع، وليس عملهم لأجل حصول الاطمئنان لهم
بالبقاء أو لمحض الرجاء - لكن للتأمل فيه مجال واسع.
عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن لاحق، وقد عرفت أن بناء العقلاء ليس على
ترتيب الآثار بمجرد الكون السابق مالم يحصل الوثوق والاطمئنان. منه عفي عنه.

(1) فوائد الأصول 4: 331 - 332.
111

ثم لو فرضنا أن سيرة العقلاء قد استقرت على ذلك، فلابد لنا من
الالتزام بكون الاستصحاب من الأمارات والطرق العقلائية، فإنه ليس
للعقلاء أصل تعبدي أو تنزيلي، وليس ما عندهم إلا الطرق والأمارات، لا
الأصول التعبدية، كما لا يخفى على من مارس طريقتهم، مع أن هذا المحقق قائل
بأصلية الاستصحاب (1).
وبالجملة: أن الاستصحاب وإن كان له جهة كشف ضعيف، لكن لا بنحو
يكون العقلاء مفطورين على العمل به، كما في العمل باليد وخبر الثقة.
في أن المستفاد من الكبرى
المجعولة في الاستصحاب هو الطريقية
فتحصل مما ذكرنا: أن الجهتين من الجهات الثلاثة التي تتقوم الأمارة بها
متحققتان في الاستصحاب، وبقيت الجهة الثالثة - وهي العمدة - حتى ينخرط
في سلك الأمارات لكن بجعل الشارع، وهي كون اعتباره بجهة الكاشفية،
وأن عناية الجاعل في جعله هي [اعتباره] علما في عالم الشارعية [وإضفاء]
جهة الكشف والطريقية له، ولو تمت هذه الجهة لتمت أمارية الاستصحاب،
ويكون له ما للأمارات من الآثار واللوازم، والفرق أنه أمارة جعلية شرعية
غير عقلائية، وهي أمارات عقلائية غير مجعولة بجعل شرعي، ولو ساعدنا
الدليل لم نتحاش عما ذهب إليه المحققون وأساطين الفن من المتأخرين من

(1) فوائد الأصول 4: 307 - 308.
112

الخلاف، فإنه ليس في البين إلا تلك الروايات الشريفة، والمتبع هو مفادها
لافهم الأصحاب، مع أن في قدماء أصحابنا من قال بأمارية الاستصحاب (1)
وكثير من الفروع الفقهية التي أفتى بها أصحابنا لا تتم إلا على القول بأمارية
الاستصحاب وحجية المثبتات منه، تأمل.
فالمهم عطف النظر إلى أخبار الباب، والمستفاد منها - بعد إلقاء
الخصوصيات وارجاع بعضها إلى بعض - هو مجعولية كبرى كلية هي
قوله - عليه السلام -: (لا ينقض اليقين بالشك) (2) فإن الأخبار على كثرتها
متوافقة المضمون على هذه الكلية، وأنت إذا تأملت في هذه الكبرى حق التأمل
بشرط الخروج عن ربقة التقليد ترى أن العناية فيها بإبقاء نفس اليقين، وأن
اليقين في عالم التشريع والتعبد باق موجود لا ينبغي أن ينقض بالشك ويدخل
فيه الشك، وأنه - عليه السلام - بصدد جعل المحرز وإطالة عمر اليقين السابق
[وإضفاء] صفة اليقين على من كان على يقين، كما ينادي بذلك قوله - عليه
السلام - في مضمرة زرارة (3): (وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض

(1) أجود التقريرات 2: 343 سطر 1 - 4.
(2) الكافي 3: 351 - 352 / 3 باب السهو في الثلاث والأربع، الوسائل 5: 321 / 3 باب 10 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة.
(3) هو زرارة بن أعين بن سنسن الشيباني، قال الشيخ الطوسي: اسمه عبد ربه، كنيته أبو الحسن،
لقبه زرارة، ذكره النجاشي في رجاله ووصفه بشيخ أصحابنا في زمانه ومتقدمهم. وقال عنه
ابن النديم: أكبر رجال الشيعة فقها وحديثا ومعرفة بالكلام والتشيع، له كتاب في الاستطاعة
والجبر، توفي سنة 150 ه‍. انظر رجال النجاشي: 175، فهرست الشيخ الطوسي: 74.
رجال الكشي 1: 345، فهرست ابن النديم: 276.
113

اليقين أبدا بالشك) (1) لاعلى الشاك بعنوان أنه شاك، ولاجعل الشك يقينا،
حتى يقال: لا معنى [لإضفاء] صفة الكاشفية والطريقية للشك، ولا [إضفاء]
اليقين على الشاك، لأن الشك ليس له جهة الكشف، فإنا لا نقول بأن الشك له
جهة كشف أو جعل الشارع الشك يقينا أو الشاك متيقنا، بل نقول: إن اليقين
السابق ولو زال إلا أن له جهة كشف ضعيف بالنسبة إلى حال زواله، لشهادة
الوجدان بالفرق بين الشاك البدوي والذي كان على يقين، حتى يدعى أن بناء
العقلاء على العمل بالاستصحاب، مع أن العقلاء ليس لهم أصل تعبدي يعملون
به بلا جهة كشف.
وإنا وإن ترددنا في سيرة العقلاء على عملهم بالاستصحاب صرفا بلا
احتفافه بأمور اخر، ولكن أصل الكاشفية - في الجملة - مما لا ينبغي التأمل فيه.
وإن أبيت عن ذلك: فلا إشكال في جواز إطالة عمر اليقين تعبدا في عالم
التشريع، ولا محذور فيه أبدا.
فالأخذ بظاهر أخبار الباب مع كثرتها لا مانع منه، والظاهر منها - مع
اختلاف التعبيرات والاتفاق في المضمون الذي يمكن دعوى القطع به -: أن
العناية في الجعل هي بجعل اليقين وفرض وجوده في زمن الشك، فإن النهي عن
نقض اليقين بالشك لا معنى محصل له، إلا على فرض وجود اليقين في عالم
التشريع وإطالة عمره، وإلا فإنه قد زال بحسب التكوين ووجد الشك،

(1) التهذيب 1: 8 / 11 باب 1 من أبواب الإحداث الموجبة للطهارة، الوسائل 1: 174 - 175 / 1 باب 1
من أبواب نواقض الوضوء (مع اختلاف يسير).
114

ولا معنى لنقضه، فإذا فلا معنى معقول له إلا التعبد ببقاء نفس اليقين وإعطاء
صفة اليقين وإطالة عمره.
إشكالات في تفصيات
فإن قلت: يمكن أن يكون مفاد الأخبار هو النقض العملي، والنهي
قد تعلق بنقضه عملا، ومعناه هو البناء على وجود المتيقن عملا في زمن الشك،
فيصير المفاد هو الأصل المحرز لا الأمارة الكاشفة.
قلت: نعم هذا غاية ما في الباب من تقريب أخبار الاستصحاب للدلالة
على كونه أصلا، وقد تشبث به مشايخنا رضوان الله عليهم.
لكن الإنصاف: أن العناية فيها هي بإبقاء نفس اليقين لا البناء العملي،
وليس لهذا البناء فيها عين ولا أثر.
وقد عرفت: أن الفرق بين الأصل والأمارة في عالم التشريع هو العناية في
الجعل، فإن كانت العناية ببقاء اليقين نفسه وإطالة عمره وعدم نقضه وإبقائه
سالما فهو من الأمارات، وإلا فهو من الأصول. ولا ينبغي التأمل والإشكال في
أن مفاد أخباره من قبيل الأول.
نعم في كل من الأمارة والأصل يكون الجعل والتعبد بلحاظ العمل، وإلا
فيكون لغوا باطلا.
لكن الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك: أن العناية في الأمارة هي
بإعطاء وسطية الإثبات أو الكاشفية أو إعطاء صفة اليقين أو إطالة عمره وأمثال
115

ذلك، وفي الأصول هي بالبناء العملي أو تعيين وظيفة الشاك والمتحير
وأشباههما.
فإن قلت: إن اليقين في الأخبار هو اليقين الطريقي، فيكون النظر إلى
إبقاء المتيقن لا اليقين، فلا يتم ما ذكرت.
قلت: إن اليقين الطريقي للمكلف في لسان الدليل اخذ موضوعا منظورا
إليه، وتكون العناية ببقائه وكون صاحبه ذا يقين كاشف عن الواقع.
إن قلت: إن الشك مأخوذ في موضوع الاستصحاب، ويكون
الاستصحاب متقوما بالشك، وكل ما كان كذلك فهو من الأصول، فإن
الأمارات وإن كانت للشاك، لكنه غير مأخوذ في موضوعها، بل هو في
موردها، والأمارة اعتبرت لإزالة الشك ورفعه، لا أنه مأخوذ في
موضوعها.
قلت: معنى أخذ الشك موضوعا لحكم: [هو] أن الحكم جعل
للشاك، وتكون العناية ببقاء الشك وحفظه، مع جعل الوظيفة للشاك، كما في
أصلي الطهارة والحلية، فإن مفاد أدلتهما جعل الطهارة والحلية للشاك بما أنه
شاك، أو تكون العناية - مع حفظ الشك - بالبناء العملي على وجود
المشكوك فيه، كما في قاعدة الفراغ والتجاوز على أقوى الاحتمالين كما
سيأتي (1).
والاستصحاب وإن كان متقوما بالشك، لكنه لا يكون موضوعا له، بل

(1) انظر صفحة رقم: 119.
116

يكون مورده، فإن الظاهر من الكبرى الكلية المجعولة فيه - وهي قوله:
(لا ينقض اليقين بالشك) (1) - ليس حفظ الشك والحكم على الشك أو الشاك،
بل العناية ببقاء اليقين السابق وعدم نقضه وإطالة عمره في عالم التشريع وإن
كان زائلا تكوينا.
بل يمكن أن يقال: إن أخذ الشك موضوعا في الاستصحاب غير معقول،
للزوم التناقض في عالم التشريع، فإن الحكم بعدم نقض اليقين بالشك أو عدم
دخول الشك في اليقين هو اعتبار بقاء اليقين وحفظه وإطالة عمره في عالم
التشريع، ولازمه إزالة الشك وإقامة اليقين مقامه، وإبطاله وإبقاء اليقين، فلو
اخذ الشك في موضوع الاستصحاب للزم اعتبار بقائه وحفظه، والجمع بين
الاعتبارين تناقض.
إن قلت: ظاهر ذيل الصحيحة الثالثة لزرارة هو البناء العملي الذي هو
شأن الأصل، فإن قوله: (لكنه ينقض الشك باليقين ويتم على اليقين، فيبني
عليه) (2) ظاهر في البناء العملي.
قلت: كلا، فإن قوله: (يبني عليه) أي يبني على وجود اليقين، بل هذه
الصحيحة من أقوى الشواهد وأتم الدلائل على ما ادعيناه، فإن قوله: (لكنه
ينقض الشك باليقين) هو اعتبار بقاء اليقين وإزالة الشك تشريعا، وقوله:
(ويتم على اليقين...) إلى آخرها تأكيد له.

(1) الكافي 3: 351 - 352 / 3 باب السهو...، الوسائل 5: 321 / 3 باب 10 من أبواب الخلل.
(2) المصدر السابق.
117

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن العناية في الجعل في أخبار الاستصحاب
هي جعل اليقين في زمان الشك، لا بمعنى جعل يقين في مقابل اليقين السابق، بل
بمعنى إطالة عمر اليقين السابق وإبقائه وحفظه.
فحقيقة الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين وإطالة عمره إلى زمان
الشك بلحاظ كشفه عن الواقع، لا البناء العملي على وجود المتيقن، كما
هو المستفاد من أدلته، وبمجرد كون الجعل بلحاظ العمل لا ينسلك الشئ في
سلك الأصول، وإلا فالأمارات مطلقا على مبنى القائلين باحتياجها إلى الجعل
الشرعي يكون جعلها بلحاظ العمل، وإلا لزم اللغوية.
وبالجملة: ليس في أخبار الاستصحاب عين ولا أثر للبناء العملي ولا
لأخذ الشك موضوعا، وعليك بأخباره مع رفض ما عندك من المسموعات
التي صارت كالمسلمات بل الفطريات للناظر فيها، فصارت حجابا غليظا عن
الحقيقة.
ومما يؤيد ما ذكرنا الروايات الواردة في باب جواز الشهادة
بالاستصحاب كروايات معاوية بن وهب (1) فراجع. هذا حال الاستصحاب.

(1) الكافي 7: 387 / 2 و 4، التهذيب 6: 262 - 263 / 101 و 103، الوسائل 18: 245 - 246 / 1 -
3 باب 17 من أبواب الشهادات.
معاوية: هو معاوية بن وهب البجلي أبو الحسن، من أصحاب الإمام الباقر والصادق
عليهما السلام، ثقة حسن الطريقة، له كتب منها فضائل الحج. انظر رجال النجاشي: 412،
فهرست الطوسي: 166، تنقيح المقال 3: 226.
118

في حال قاعدة الفراغ والتجاوز
وأما قاعدة الفراغ والتجاوز: فالكبرى الكلية المجعولة فيها بعد إرجاع
بعض الأخبار (1) إلى بعض: هو وجوب الإمضاء والمضي العملي وعدم
الاعتناء بالشك والبناء على الإتيان، والأخبار التي مضمونها أن الشك ليس
بشئ وإن كانت توهم أنها بصدد إسقاط الشك ولازمه إعطاء الكاشفية،
لكنه إشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به، بل الظاهر منها ولو بقرينة الأخبار الأخر
التي مضمونها المضي عملا هو عدم الاعتناء بالشك عملا والبناء على
الإتيان، كما يكشف عن ذلك رواية حماد بن عثمان (2) (قال: قلت لأبي عبد الله
- عليه السلام -: أشك وأنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا، فقال:
قد ركعت) (3).
وبالجملة: العناية في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملا والمضي
العملي والبناء على الإتيان، ولا نعني بالأصل إلا ذلك.

(1) راجع الوسائل 4: 936 - 937 باب 13 من أبواب الركوع، جميع أحاديث الباب،
971 - 972 / 4 و 5 باب 15 من أبواب السجود، 5: 336 - 338 / 1 و 3 و 9 باب 23 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة، 342 - 343 / 1 - 3 باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(2) هو حماد بن عثمان بن زياد الناب الرواس، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، ثقة
جليل القدر عظيم المنزلة، توفي سنة 190 ه‍. انظر معجم رجال الحديث 6: 212، تنقيح المقال
1: 365.
(3) التهذيب 2: 151 / 52 باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة، الوسائل 4: 936 / 2 باب 13 من
أبوا ب الركوع.
119

في وجه تقدم القاعدة على الاستصحاب
فإن قلت: إن كانت قاعدة التجاوز أصلا والاستصحاب أمارة،
فلا معنى لتقدمها عليه، فهل يمكن تقدم الأصل على الأمارة؟
قلت: ما لا يجوز هو تقدم الأصل عليها في حد ذاته وبنحو الحكومة
أو الورود، وأما تقدمه عليها لأجل أمر خارجي - كلزوم اللغوية لولا التقدم -
فلا مانع منه.
وإن شئت قلت: إن أخبار القاعدة مخصصة لأخبار الاستصحاب
لأخصيتها.
هذا بناء على مسلكنا.
وأما بناء على المسلك المعروف - من كون الاستصحاب أصلا وأخذ الشك
في موضوعه - فتقدم القاعدة عليه يكون بالحكومة، فإن مفاد أخبار القاعدة
هو نفي الشك مثل قوله: (فشككت فليس بشئ) (1)، وقوله: (فشكك ليس
بشئ، إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) (2)، والفرض أن الشك موضوع
الاستصحاب، فتقدم القاعدة عليه كتقدم قوله: (لاشك لكثير الشك) (3) على

(1) التهذيب 2: 352 / 47 باب 16 من أحكام السهو، الوسائل 5: 336 / 1 باب 23 باب من شك
في شئ من أفعال الصلاة.
(2) التهذيب 1: 101 / 111 باب 4 في صفة الوضوء، مستطرفات السرائر: 473 كتاب أحمد بن
محمد بن أبي نصر البزنطي، الوسائل 1: 330 - 331 / 2 باب 42 من أبواب الوضوء.
(3) الظاهر أنها قاعدة متصيدة، حيث لم نعثر على هذا النص، راجع الوسائل 5: 329 - 330
120

أدلة الشكوك، وهذا واضح جدا.
في الإيراد على القوم
ولا أدري أنه مع كون لسان أدلة القاعدة من أوضح موارد الحكومة
بالنسبة إلى الاستصحاب بناء على مسلكهم، فما وجه تزلزل المحققين في وجه
تقدمها عليه، حتى احتمل بعضهم - بل التزم - أماريتها (1) لأجل ما في بعض
أدلة الوضوء [من قوله]: (هو حين يتوضأ أذكر) (2)؟ مع أنه كناية عن إتيان
العمل والتعبد بوجود المشكوك فيه، وأخبار القاعدة كلها عارية عن الدلالة
على الأمارية، كما يظهر بالرجوع إليها.
وعن الشيخ الجليل الأنصاري - قدس سره - أنه يخفي حكومته على
الاستصحاب (3)، وبين وجه الحكومة توضيحا لكلام الشيخ بعض المحققين من
المعاصرين في تقريراته (4) بما لا ينبغي التعرض له، فراجع.
وأوضح شئ وجدوه للهرب عن الإشكال هو لزوم اللغوية لولا
تقدمها عليه (5).
باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(1) فوائد الأصول 4: 618.
(2) التهذيب 1: 101 / 104 باب 4 صفة الوضوء، الوسائل 1: 331 - 332 / 7 باب 42 من أبواب
الوضوء.
(3) فرائد الأصول: 408 سطر 23 - 25.
(4) فوائد الأصول 4: 619.
(5) درر الفوائد 2: 240 سطر 6 - 9، فوائد الأصول 4: 619.
121

وقد عرفت: أنه على مبناهم من كون الاستصحاب أصلا والشك
مأخوذ فيه يكون تقدمها عليه من أوضح مصاديق الحكومة.
إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك فاعلم: أنه قد ذكرنا سابقا أن القطع
المأخوذ في الموضوع تارة يؤخذ على نحو الصفتية، وتارة على نحو الطريقية
التامة، وتارة على نحو الطريقية المشتركة، وعلى التقادير قد يكون تمام
الموضوع، وقد يكون بعضه.
فإن اخذ على نحو الصفتية أو الكاشفية التامة فلا معنى لقيام الطرق
العقلائية مقامه.
وإن اخذ على نحو الطريقية المشتركة فالقطع وغيره متساوي النسبة إليه
، ويكون المأخوذ هو الكاشف المطلق، فكل من القطع وسائر الأمارات
مصداق للموضوع بلا فرق بينهما، فلا يكون ترتيب الآثار على الأمارة من
باب قيامها مقامه، بل من باب وجود المصداق الحقيقي والموضوع الواقعي
بلا حديث حكومة أو ورود.
هذا حال الأمارات العقلائية التي لا تصرف للشارع فيها.
في قيام الاستصحاب مقام القطع
وأما الاستصحاب بناء على ما حققنا من كونه أمارة جعلية شرعية فقيامه
مقام القطع الصفتي مشكل بل ممنوع، لأن مفاد أدلة حجية الاستصحاب أجنبية
عن ذلك، فإن مفادها جعل الوسطية في الإثبات وإعطاء صفة الإحراز.
122

وبالجملة: المجعول هو القطع الطريقي تعبدا وإطالة عمر اليقين الطريقي،
وأين هذا من تنزيله منزلة القطع الصفتي؟!
بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام القطع الصفتي والطريقي، للزوم
الجمع بين اللحاظين المتنافيين، فإن لحاظ الصفتية - كما عرفت - هو لحاظه
مقطوع. النظر عن الكشف، وهذا ينافي لحاظ الكاشفية تلك.
وأما القطع الطريقي بقسميه - أي بنحو كمال الطريقية والطريقية
المشتركة - فإن كان بنحو تمام الموضوع فقيامه مقامه بنفس الأدلة مما لا إشكال
فيه، إذا كان للمقطوع أثر آخر يكون التعبد بلحاظه. فإن مفادها إعطاء صفة
اليقين وإطالة عمره، كما أن الأمر كذلك ظاهرا في المأخوذ بنحو الجزئية، فإن
نفس الأدلة التي يكون مفادها إطالة عمر اليقين تكفي لإثبات الجزأين من
غير احتياج إلى التماس دليل آخر، فإن معنى إطالة عمر اليقين الطريقي هو
الكشف عن الواقع وإحرازه، فالواقع يصير محرزا بنفس الجعل.
وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال: إن المجعول بالذات هو إطالة
عمر اليقين الطريقي، ولازمه العرفي إحراز الواقع، لكن في إطلاق القيام مقامه
في ذلك تسامح واضح.
هذا حال الاستصحاب (1).

(1) بناء على الأمارية، وأما بناء على أنه أصل كما هو الأقوى، فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقا
غير بعيد؟ لأن الظاهر من الكبرى المجعولة فيه: إما التعبد ببقاء اليقين الطريقي من حيث الأثر،
وإما التعبد بلزوم ترتيب أثره في زمان الشك.
123

في عدم قيام القاعدة مقام القطع
وأما قاعدة الفراغ: فقيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه مما لاوجه
له، فإن مفاد أدلتها - كما عرفت - ليس إلا المضي عملا وترتيب آثار الإتيان
تعبدا، وهذا أجنبي عن القيام مقامه.
نعم فيما إذا كان القطع طريقا محضا لما كان المقصود حصول الواقع،
ويكون الواقع بواسطة القاعدة محرزا تعبدا، يفيد القاعدة فائدة القيام، لا أنها
تقوم مقامه.
فإن قلت: إن للقطع جهات: الأولى: كونه صفة قائمة بالنفس،
والثانية: كونه طريقا كاشفا عن الواقع، والثالثة: جهة البناء والجري العملي
فعلى الأول: يكون دليله حاكما على الدليل الذي اخذ فيه القطع الطريقي موضوعا، لا بالوجه
الذي أفاده بعض أعاظم العصر (أ)، بل لكونه كسائر الحكومات المقررة في محله.
فقوله: " إذا قطعت بكذا فكذا " محكوم لقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) (ب) إن كان المراد منه
ابن علي وجود اليقين.
وعلى الثاني: يكون الأثر مترتبا بنتيجة الحكومة فيكون كالقيام مقامه، فإن لزوم ترتيب
الآثار نتيجة التحكيم، فيقوم الاستصحاب مقامه على الأول بالحكومة، وعلى الثاني
بنتيجتها.
وأما القطع الصفتي فالظاهر قصور الأدلة عن قيام الاستصحاب مقامه، لأنها متعرضة للقطع
الطريقي وظاهرة فيه بلا إطلاق لأدلته، لا لامتناعه، بل لقصورها [منه قدس سره].
(أ) فوائد الأصول 3: 24 - 25.
(ب) التهذيب 2: 186 / 41 باب أحكام السهو في الصلاة، الوسائل 5: 321 / 3 باب 10 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة.
124

على وفق العلم، حيث إن العلم بوجود الأسد - مثلا - في الطريق يقتضي الفرار
عنه. ثم إن المجعول في باب الأصول المحرزة هو الجهة الثالثة، فهي قائمة مقام
القطع الطريقي بالجهة الثالثة.
قلت: نعم هذا حاصل ما أفاد بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات
بحثه (1) - لكنه مما لا أساس له، فإن قيام شئ مقام شئ بواسطة الجعل إنما هو
بنحو من التنزيل، ولابد فيه من لحاظ المنزل والمنزل عليه ومن كون الجعل بعناية
التنزيل، وإلا فمجرد كون لسان الجعل هو البناء على الإتيان أو المضي وعدم
الاعتناء بالشك عملا - كما هو مفاد أدلة القاعدة - لا يقتضي قيامها مقام القطع.
وبالجملة: كما أن في الأمارة المجعولة لابد من إعطاء صفة اليقين وإطالة
عمره تعبدا، وهذا لا يمكن إلا بعد لحاظ الطرفين ولحاظ الآثار المترتبة على اليقين
شرعا أو عقلا، كذلك في الأصل المحرز لابد من إعطاء أثر اليقين بما أنه أثر اليقين
حتى يقوم مقامه، وإعطاء أثره بما أنه أثره لا يمكن إلا بعد لحاظ الطرفين وكون
الجعل بعناية إعطاء الأثر، مع أنه في أدلة الفراغ والتجاوز لاعين ولا أثر يفيد
هذا المعنى، بل لسان أدلتها هو المضي وعدم الاعتناء بالشك عملا، بلا نظر إلى
اليقين وآثاره، ولا شائبة تنزيل فيها أصلا. وما في رواية حماد بن عثمان من
قوله - عليه السلام -: (قد ركعت) (2) وإن يدل على البناء العملي على الإتيان،

(1) فوائد الأصول 3: 16 - 17.
(2) التهذيب 2: 151 / 52 باب تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة، الوسائل 4: 936 / 2 باب 13 من
أبواب الركوع.
125

لكن لا يفيد ما يدعي كما لا يخفى.
وبالجملة: إن كانت دعوى قيام القاعدة مقام القطع هي مجرد كونها
محرزة للواقع تعبدا، كما أن القطع محرز عقلا، فلا مضايقة فيها، وإن كانت هي
القيام بمعناه المصطلح، كقيام الأمارات مقام القطع، ففيها منع منشؤه عدم
استفادتها من الأدلة، فراجع.
ومما ذكرنا من أول المبحث إلى هاهنا يعرف وجوه النظر في كلام هؤلاء
الأعلام، خصوصا ما في تقريرات بعض مشايخ العصر (1) - رحمه الله - فإن فيها
مواقع للنظر تركناها مخافة التطويل.
في بيان عدم التضاد بين الأحكام الخمسة
قوله: الأمر الرابع (2)...
لابد لتوضيح الحال من تقديم أمور حتى يرتفع الخلط والاشتباه عن
كثير من المقامات:
الأول: أنه قد عرف الضدان بأنهما الأمران الوجوديان غير المتضايفين
، المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصور اجتماعهما فيه، بينهما غاية
الخلاف (3)، فما لا وجود له لا ضدية بينه وبين غيره، كما لا ضدية بين أشياء

(1) فوائد الأصول 3: 16 - 17.
(2) الكفاية 2: 25.
(3) الأسفار 2: 112 - 113.
126

لا وجود لها. فالأعدام والاعتباريات التي ليس لها وجود إلا في وعاء
الاعتبار لا ضدية بينها، كما أنه لا ضدية بين أشياء لا حلول لها في موضوع،
ولا قيام لها به قيام حلول وعروض.
الثاني: أن الإنشائيات مطلقا من الأمور الاعتبارية التي لاتحقق لها إلا
في وعاء الاعتبار، ولا وجود أصيل حقيقي لها، فقولهم: إن الإنشاء قول قصد به
ثبوت المعنى في نفس الأمر (1) يراد به أن نفس الإنشاء يكون منشأ لانتزاع
المنشأ وثبوته في وعاء الاعتبار، بحيث تكون الألفاظ التي بها يقع الإنشاء
- كالأمر والنهي وغيرهما - مصاديق ذاتية للفظ، وعرضية للمعنى المنشأ، لا
أنها علل للمعاني المنشأة، فإن العلية والمعلولية الحقيقيتين لاتعقل بينها،
ضرورة أن منشئية الإنشاء للمنشأ إنما هي بالجعل والمواضعة، ولاتعقل العلية
والمعلولية بين الأمور الاختراعية الوضعية، فليس للمعنى المنشأ وجود أصيل،
وإنما هو أمر اعتباري من نفس الإنشاء.
فهيئة الأمر وضعت لتستعمل في البعث والتحريك الاعتباريين، لا بمعنى
استعمالها في شئ يكون ثابتا في وعائه، بل بمعنى استعمالها استعمالا إيجاديا
تحققيا، لا كتحقق المعلول بالعلة، حتى يكون المعلول موجودا أصيلا، بل
كتحقق الأمر الاعتباري بمنشأ اعتباره.
فتحصل من ذلك: أن الإنشائيات مطلقا - وفيها الأحكام الخمسة
التكليفية - لا وجود حقيقي لها، بل هي أمور اعتبارية وعاء تحققها عالم الاعتبار.

(1) الكفاية 1: 98، الفوائد: 285 سطر 9.
127

الثالث: أنه للمعاني المنشأة بالألفاظ إضافات كلها من الأمور
الاعتبارية التي لا وعاء لها إلا في ظرف الاعتبار. مثلا: للوجوب إضافة إلى
الأمر إضافة صدورية، وإضافة إلى المأمور إضافة انبعاثية، وإضافة إلى الأمر
إضافة منشئية وإضافة إلى المتعلق إضافة تعلقية أولية، وإضافة إلى الموضوع
إضافة تعلقية ثانوية تبعية، وكل هذه الإضافات تعتبر من نفس الإنشاء
الخاص المتخصص بالخصوصيات، ولا وجود لشئ منها في الخارج.
ومن ذلك يعلم أن نحو تعلق الوجوب وغيره بالمتعلق والموضوع ليس
نحو تعلق الأعراض بالموضوعات، ولا قيام للمعاني المنشآة بالموضوعات
والمتعلقات قيام حلول وعروض، بل قيامها كنفسها من الاعتباريات التي
لاتحقق لها في الخارج.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن المعروف المرسل على ألسنة الأصحاب
إرسال المسلمات: أن الأحكام الخمسة بأسرها متضادة (1) يمتنع اجتماعها في
موضوع واحد، والظاهر المصرح به في كلام كثير من المحققين (2) أن المراد
بالأحكام هي الأحكام البعثية والزجرية وغيرهما المنشأة بالألفاظ الإنشائية
وغيرها من أداة الإنشاء، كما يظهر من تتبع أقوالهم فيما نحن فيه وأبواب اجتماع
الأمر والنهي والترتب والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها.
وهذا مما لا أساس له، لعدم صدق تعريف الضد عليها، فإن الضدين هما

(1) القوانين 1: 142 سطر 14، فوائد الأصول 1: 396.
(2) نهاية الدراية 1: 259 و 266 - 267.
128

الأمران الوجوديان، وهذه الأحكام ليست من الأمور الوجودية، بل من
الاعتباريات كما عرفت.
وأيضا نحو تعلق هذه الأحكام بالموضوع والمتعلق والآمر والمأمور ليس
حلوليا عروضيا نحو قيام الأعراض بالموضوعات، بل قيامها بها قياما
اعتباريا لاتحقق له أصلا، فلا يمتنع اجتماعها في محل واحد، فلهذا يجوز اجتماع
الأمر والنهي في الواحد الشخصي بجهة واحدة من شخصين أو من شخص
واحد مع الغفلة، ولو كان بينها تضاد لكان هذا ممتنعا بالضرورة، كما أن
البياض والسواد لا يجتمعان ولو كان موجدهما شخصين.
وبعبارة أخرى: إذا كانت الضدية بين نفس الأحكام لوجب أن يمتنع
اجتماعها مطلقا بلا دخالة للجاعل والموجد فيه، لعدم دخالة الجاعل في حقيقة
مجعولاته وأحكامها المترتبة عليها، والضدية من الأحكام المتأخرة عن
المجعولات المتأخرة عن الجعل المتأخر عن الجاعل، فكيف يمكن دخالته
فيها؟!
نعم يمتنع اجتماع الحكمين أو الأحكام في موضوع واحد شخصي بجهة
واحدة من شخص واحد، لامن أجل تقابل التضاد بينها، بل من أجل أمرين
آخرين:
أحدهما: أن مبادئها من المصالح والمفاسد والحب والبغض وترجيح
الوجود والعدم والإرادة والكراهة مما يمتنع اجتماعها فيه.
وثانيهما: أن الأمر إنما يكون لغرض انبعاث المأمور نحو إيجاد المأمور
129

به، والنهي لغرض امتناعه عنه وتركه إياه، ولما كان الجمع بينهما ممتنعا يكون
الجمع بين الأمر والنهي من آمر واحد مع العلم لغوا باطلا، كما أن الأمر بشئ
محال ممتنع، فملاك الامتناع فيما نحن بصدده هو ملاك امتناع الأمر بالمحال من
آمر عالم عاقل، لا أن الملاك هو لزوم اجتماع الضدين، حتى تكون الأوامر
والنواهي مما يمتنع اجتماعها بنفسها كما لا يخفى.
ومما ذكرنا في الضدية يعرف حال المثلية بين الأحكام، وأن اجتماع
الأمرين في موضوع واحد مما لا يمتنع.
نعم قد يمتنع الاجتماع لأجل اللغوية، فإن الآمر إذا عرف من حال
المأمور أنه يمتثل أمره بمجرد صدوره لا معنى لأمره ثانيا، ويكون أمره الثاني
لغوا لا يصدر من عاقل ملتفت.
نعم اجتماع الإرادتين أو الكراهتين في موضوع واحد ممتنع، لكن قد
تكون الإرادة الواحدة المتعلقة بموضوع مبدأ لصدور أوامر متعددة إذا عرف
من حال المأمور عدم انبعاثه بالأمر الأول بل يحتاج إلى التكرار والتأكيد،
ومثل الأوامر والنواهي الشرعية المتعلقة بالموضوعات المهمة لأجل إفادة
أهميتها، وهذا مما لا إشكال فيه.
في بيان حال أخذ القطع والظن في موضوع مثله أو ضده
إذا عرفت ما فصلنا لك فلابد من صرف عنان الكلام إلى حال أخذ القطع
أو الظن بحكم في موضوع مثله أو ضده على اصطلاحهم، وقد فرغنا عن امتناع
130

أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم (1)، وقلنا: إنه لا يمكن حتى
بنتيجة التقييد (2).
ومنه يعرف حال الظن لاشتراكهما في الملاك، فلا نطيل بإعادته.
وأما أخذهما في موضوع مثله أو ضده فما يمكن أن يكون وجه الامتناع
أمور (3):
الأول: اجتماع الضدين أو المثلين، فقد عرفت حاله، وأنه مما لا
أساس لذلك.
الثاني: لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في موضوع وحداني شخصي.
وفيه: أنه لا مانع من كون موضوع ذا مصلحة بعنوانه الذاتي، وكونه
بعنوان المقطوعية أو المظنونية ذا مفسدة أو مصلحة أخرى، كما أنه يمكن أن تكون
عطية زيد راجحة ذات مصلحة لك بذاتها، لكنها مع علم عدوك بها مرجوحة
ذات مفسدة.

(1) لكن فصلنا أخيرا بين الذي [هو] تمام الموضوع، فيجوز، و [الذي هو] بعضه فلا، وكذا الظن.
[منه قدس سره]
(2) انظر صفحة رقم: 96.
(3) والتحقيق: التفصيل بين المأخوذ تمام الموضوع فلا يأتي من المحذورات فيه أبدا، لأنه مع تعدد
العنوانين - اللذين هما مركب الحكم - تدفع المحذورات طرا، حتى لزوم اللغوية والأمر بالمحال:
أما اللغوية: فلأن الطرق إلى إثبات الحكم أو موضوعه كثيرة، فجعل الحرمة على الخمر
والترخيص على معلوم الخمرية لا يوجب اللغوية بعد إمكان العمل به لأجل قيام طرق اخر،
وكذا الحال في معلوم الحرمة.
وأما لزوم الأمر بالمحال: فلأن أمر الآمر ونهيه لا يتعلقان إلا بالممكن، وعروض الامتناع في
مرتبة الامتثال - كباب التزاحم - لا يوجب الأمر بالمحال، كما حقق في محله. [منه قدس سره]
131

وبالجملة: كثيرا ما يكون اختلاف العناوين موجبا لاختلاف المصالح
والمفاسد.
الثالث: لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد.
وفيه: أنه مع اختلاف العناوين واختلاف المصالح والمفاسد لا مانع من
تعلق الإرادة والكراهة.
وبعبارة أخرى: ما يمتنع تعلقها به هو الموضوع الواحد الذي له صورة
وحدانية في النفس، وأما مع اختلاف العناوين فتكون صورها مختلفة فيها،
وتعلق الإرادة بواحد منها والكراهة بالأخرى مما لا مانع منه.
وبالجملة: الخمر ومعلوم الخمرية ومظنون الخمرية لها صور مختلفة
وشخصيات متكثرة في النفس، ويجوز تعلق الإرادة والكراهة بها، وليست
الصور الذهنية مثل الموضوعات الخارجية، حيث إن ذات الموضوع الخارجي
محفوظة مع اختلاف العناوين، بخلاف الصور الذهنية، فإن الموضوع مع كل
عنوان له صورة على حدة.
الرابع: لزوم اللغوية في بعض الموارد.
الخامس: لزوم الأمر بالمحال في بعض الموارد.
والعمدة في الباب هي هذان الوجهان، فكلما لزم - من تعلق حكم
بموضوع وتعلق حكم آخر بمعلوم الحكم أو مظنونه - أحد هذين الوجهين أو
كلاهما، فيمتنع، ومعلوم أن الموارد مختلفة في هذا الوادي، فربما يلزم في
مورد اللغوية دون مورد آخر، وكذا الوجه الخامس.
132

مثلا: لو تعلق حكم بموضوع، فتعلق حكم مماثل به بعنوان المقطوعية قد
يكون لغوا، وهو ما إذا أحرز إتيان المأمور بمجرد القطع والإحراز، وقد يكون
لازما، وهو كل مورد أحرز عدم الإتيان إلا بعد تعلق أمر آخر بالمحرز
المقطوع، وقد يكون راجحا إذا احتمل انبعاثه بالأمر الثاني، بل لا يبعد أن
يكون في هذه الصورة أيضا لازما. هذا في الأحكام الجزئية والشخصية.
وأما الأحكام الكلية فتعلقها مطلقا لا يكون لغوا، لعدم تحقق إحراز
الإتيان.
وأما الحكم المضاد - على اصطلاحهم - فالظاهر أنه في مورد القطع غير
ممكن، فلا يمكن أن يكون الخمر حراما ومقطوع الخمرية أو الحرمة واجبا، لا
لأجل اجتماع الضدين، بل لأجل لزوم طلب المحال - فإن امتثال التكليفين محال
- ولزوم لغوية جعل الحرمة للموضوع كما لا يخفى.
ولو فرضنا كون الخمر حراما ومقطوع الخمرية أو الحرمة مرخصا فيه،
يكون - أيضا - ممتنعا للزوم اللغوية، فإن جعل الحرمة للخمر إنما هو لغرض
صيرورة المأمور بعد علمه بالحكم والموضوع ممتنعا تاركا، فجعل الترخيص في
هذا المورد نقض للغرض، أو جعل الحرمة للخمر يصير لغوا باطلا.
وكذا لو تعلق الوجوب بموضوع لا يمكن تعلق الحرمة به بعنوان مقطوع
الحكم أو الموضوع، للزوم الأمر بالمحال أو اللغوية، ولا يمكن تعلق الترخيص
به للزوم اللغوية.
إلا أن يقال: إن إمكان الإتيان بالمأمور به أو ترك المنهي عنه بإحرازهما
133

بسائر الطرق غير العلم يدفع اللغوية والمحالية. نعم هذا لازم بناء على أخذ
العلم بالجهة الجامعة بينه وبين الطرق موضوعا، لا الجهة الجامعة المتخصصة
بالعلم. هذا حال العلم.
وأما الظن - سواء كان حجة أم لا - فالظاهر عدم المانع من تعلق حكم
مماثل أو مضاد بعنوانه:
أما الظن غير المعتبر فواضح، لعدم لزوم اللغوية أو الأمر بالمحال:
أما عدم لزوم اللغوية، فلأن جعل الحكم لموضوع له موارد للعمل
لا يكون لغوا، ولو جعل حكم آخر لمورد لا يكون منجزا للتكليف، فالظن غير
المعتبر لما لم يكن منجزا للتكليف لا مانع في جعل حكم مضاد له، ولا يلزم منه
لغوية جعل الحكم لنفس الموضوع، فإن له موارد للعمل.
ومنه يعلم عدم لزوم طلب المحال، لأن الظن غير المعتبر لم ينجز التكليف
المتعلق بالموضوع، فلم يبق إلا التكليف المتعلق بالمظنون.
وكذا لا مانع من تعلق الحكم المماثل، لعدم لزوم المحذورين أصلا.
وأما الظن المعتبر: فإن كان دليل اعتباره مختصا بكشف هذا الموضوع أو
الحكم الذي تعلق به، فلا يمكن جعل حكم مضاد له، للزوم اللغوية في دليل
الإحراز أو لزوم الأمر بالمحال.
وإن كان دليل الاعتبار مطلقا شاملا له ولغيره يكون جعل الحكم المضاد
بمنزلة المخصص لدليل الاعتبار، ويصير حكمه حكم الظن غير المعتبر، وأما في
جعل الحكم المماثل فحال الظن المعتبر حال القطع.
134

في نقل كلام بعض المشايخ والإشارة إلى وجوه الخلط فيه
تنبيه: ومما ذكرنا يعرف حال ما ذكره الأصحاب من الخلط والاشتباه،
خصوصا ما فصله بعض مشايخ العصر رحمه الله - على ما في تقريرات بحثه -
فإنه بعد بيان الأقسام المتصورة وبيان إمكان أخذ الظن موضوعا لحكم آخر
مطلقا إلا فيما اخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية، كما تقدم في العلم وتقدم ما
فيه، وحال ما نحن فيه حال العلم إشكالا وجوابا فراجع (1).
قال - قدس سره - ما ملخصه: وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه
فلا يمكن مطلقا، من غير فرق بين الظن المعتبر وغيره، للزوم اجتماع الضدين
ولو في بعض الموارد، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي، بل يلزم منه
الاجتماع في محل واحد.
وأما أخذه موضوعا لحكم المماثل، فإن لم يكن الظن حجة فلا مانع منه،
فإن في صورة المصادفة يتأكد الحكمان، فإن اجتماع المثلين إنما يلزم لو تعلق
الحكمان بموضوع واحد وعنوان واحد، وأما مع تعلقهما بالعنوانين فلا يلزم إلا
التأكد.
وأما الظن الحجة فلا يمكن أخذه موضوعا للمماثل، فإن الواقع في طريق
إحراز الشئ لا يكون من طوارئه، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة
لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك، لأن الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون

(1) انظر صفحة رقم: 94 وما بعدها.
135

محركا وباعثا لإرادة العبد، فإن الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم
الواقعي المجعول على الخمر، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز، كما
لا يعقل ذلك في العلم أيضا.
وزاد - قدس سره - في فذلكته: أن الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه
موضوعا على وجه الطريقية لا للماثل ولا للمخالف، فإن أخذه على وجه
الطريقية هو معنى اعتباره، إذ لا معنى له إلا لحاظه طريقا.
وأما أخذه موضوعا لنفس متعلقه إذا كان حكما فلا مانع منه بنتيجة
التقييد مطلقا، بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد (1) فإن أخذ الظن
حجة محرزا لمتعلقه معناه أنه لادخل له في المتعلق، إذ لو كان له دخل لما اخذ
طريقا، فأخذه محرزا مع أخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد،
وذلك واضح (2) انتهى.
وفيه مواقع للنظر نذكر بعضها إجمالا، فنقول:
أما قضية اجتماع الضدين فقد عرفت حالها، وأنها مما لا أساس لها أصلا.
وأما تفرقته بين الظن المعتبر وغير المعتبر في الحكم المماثل ففيها:
أولا: أن اختلاف العنوانين إن كان رافعا لاجتماع المثلين فهو رافع
لاجتماع الضدين أيضا، فإن محط الأمر والنهي إذا كان عنوانين مختلفين ولو

(1) وردت العبارة في المصدر هكذا: (فإن كان ذلك بنتيجة التقييد فلا محذور فيه...، وإن كان
بالتقييد اللحاظي فهو مما لا يمكن، من غير فرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر، بل في الظن المعتبر
لا يمكن ولو بنتيجة التقييد...) فوائد الأصول 3: 35.
(2) فوائد الأصول 3: 32 وما بعدها.
136

اتفق اجتماعهما في موضوع واحد، فهو كما يرفع اجتماع المثلين يرفع اجتماع
الضدين.
وأما إذا كان أحد العنوانين محفوظا مع الآخر - كما فيما نحن فيه، فإن
الخمر محفوظة بعنوانها مع مظنون الخمرية - فكما لا يرفع معه التضاد لا يرفع
معه اجتماع المثلين.
وثانيا: أن ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكد مما لا أساس
له أصلا، فإن التأكد إنما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحدا وتعلق الأوامر
المتعددة به تأكيدا، وحديث اجتماع المثلين كالضدين مما لا أصل له كما عرفت،
فإن الإرادة المتعلقة بموضوع مهتم به كما قد تصير مبدأ للتأكيد بأداته، كذلك قد
تصير مبدأ لتكرار الأمر والنهي تأكيدا، كالأوامر والنواهي الكثيرة المتعلقة
بعنوان الصلاة والزكاة والحج وعنوان الخمر والميسر والربا في الشريعة
المقدسة، فهل هذه من قبيل اجتماع المثلين؟!
نعم تعلق الإرادتين بعنوان واحد مما لا يمكن، لأن تشخص الإرادة
بالمراد. هذا حال العنوان الواحد.
وأما مع اختلاف العنوانين فلا يكون من التأكيد أصلا وإن اتفق
اجتماعهما في موضوع واحد، فإن لكل واحد من العنوانين حكمه، ويكون
الموضوع مجمعا لعنوانين ولحكمين، ويكون لهما اطاعتان وعصيانان،
ولا بأس به.
وما اشتهر بينهم: أن قوله: " أكرم العالم " و " أكرم الهاشمي " يفيد التأكيد
137

إذا اجتمعا في مصداق واحد (1) مما لا أصل له.
وثالثا: أن ما أفاد: من أن الظن المعتبر لا يمكن أخذه موضوعا لحكم
المماثل، معللا تارة بأن المحرز للشئ ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث
الملاك، وتارة بأن الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث، وان خلط الفاضل المقرر
- دام علاه - في تحريره.
فيرد على الأول: أن عدم كون الظن المحرز من العناوين الثانوية التي
توجب الملاك هل هو من جهة كون الظن مختلفا مع الواقع المظنون في الرتبة،
فيلزم أن يكون الظن الغير المعتبر - أيضا - كذلك، أو من جهة الاعتبار
الشرعي، ففيه: أنه أي دليل قام على أن الاعتبار الشرعي مما ينافي الملاكات
الواقعية ويرفعها؟!
وبالجملة: لافرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر إلا في الجعل الشرعي،
وهو مما لا يضاد الملاكات النفس الأمرية.
مع أن الظن والقطع كسائر العناوين يمكن أن يكونا موجبين لملاك آخر.
ويرد على الثاني: أنه يمكن أن لا ينبعث العبد بأمر واحد وينبعث بأمرين
أو أوامر، وإمكان الانبعاث يكفي في الأمر، ولولا ذلك لصارت التأكيدات
كلها لغوا باطلا، مع أن المظنون بما أنه مظنون يمكن أن يكون له ملاك مستقل في
مقابل الواقع، كما هو المفروض فيما نحن فيه، فيتعلق به أمر مستقل.
وأما ما أفاد في فذلكته: من أن أخذ الظن على وجه الطريقية هو معنى

(1) فوائد الأصول 3: 36.
138

اعتباره، ففيه: أنه ممنوع، فإن الظن لما كان له طريقية ناقصة وكاشفية ضعيفة
ذاتا، يمكن أن يؤخذ على هذا الوجه موضوعا، في مقابل الصفتية التي معناها
أن يؤخذ مقطوع النظر عن كاشفيته.
وأما معنى اعتباره فهو أن يجعله الشارع طريقا وكاشفا بالجعل
التشريعي، فمجرد لحاظ الشارع طريقيته لا يلازم اعتباره شرعا، فضلا عن أن
يكون معناه.
وإن شئت قلت: إن لحاظ الطريقية من مقولة التصور، وجعل الاعتبار
من الإنشاء والحكم، ولا ربط بينهما ولا ملازمة، فضلا عن أن يكون أحدهما
معنى الآخر.
مضافا إلى أن لحاظ الطريقية لو كان بمعنى جعل الاعتبار وجعل الطريقية،
لابد وأن يلتزم بامتناعه في القطع، لأن جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع،
فلحاظ القطع الطريقي موضوعا مطلقا يصير ممتنعا.
اللهم إلا [أن] يدعى أن ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعم من
الاعتبار الذاتي أو الجعلي، وهو كما ترى.
وأما ما أفاد: من أن أخذ الظن بالحكم موضوعا لنفسه لا مانع منه
بنتيجة التقييد، فقد عرفت ما فيه في أخذ العلم كذلك من لزوم الدور.
وأما ما أفاده أخيرا: من عدم جواز أخذ الظن المعتبر موضوعا لحكم
متعلقه، معللا بأن أخذ الظن محرزا لمتعلقه معناه أنه لادخل له فيه، وهو ينافي
الموضوعية.
139

ففيه: أن ذلك ممنوع جدا، فإن الملاك يمكن أن يكون في الواقع المحرز
بهذا الظن بعنوان المحرزية، فلابد من جعل المحرزية للتوصل إلى الغرض، لكن
أخذ الظن كذلك محال من رأس، للزوم الدور.
والذي يسهل الخطب أن ما ذكر من أقسام الظن الموضوعي مطلقا - بل
والقطع غالبا - مجرد تصورات لاواقع لها، والتعرض لها إنما هو تبعا للمشايخ
رحمهم الله تعالى.
140

الموافقة الالتزامية
قوله: الأمر الخامس... إلخ (1).
وفيه مطالب:
المطلب الأول
في حال الموافقة الالتزامية في الأصول والفروع
وتوضيحها يتوقف على تمهيد مقدمات:
المقدمة الأولى:
أن الأصول الاعتقادية تكون على أقسام:
منها: ما هي ثابتة بالبرهان العقلي من غير دخالة النقل والنص فيها، بل
لو ورد في الكتاب والسنة ما بظاهره المنافاة لها لابد من تأويله أو إرجاع علمه إلى

(1) الكفاية 2: 27.
141

أهله، كوجود المبدأ المتعال وتوحيده وسائر صفاته الكمالية وتنزيهه عن
النقص، وكأصل المعاد بل والجسماني منه - أيضا - على ما هو المبرهن عند
أهله (1)، وكالنبوة العامة وأمثالها من العقليات الصرفة، فما وقع في كلام بعض
أعاظم المحدثين من أن المعول عليه في التوحيد هو الدليل النقلي (2) مما لا ينبغي
أن يصغى إليه، ولا يستأهل جوابا وردا.
ومنها: ما هي ثابتة بضرورة الأديان أو دين الإسلام، كبعض أحوال
المعاد والجنة والنار والخلود في النار وأمثالها، أو ضرورة المذهب.
ومنها: ما هي ثابتة بالنص الكتابي أو النقل المتواتر.
وأما غيرها مما ورد فيه رواية أو روايات، فقد يحصل منها العلم أو
الاطمئنان وقد لا يحصل.
والفروع الشرعية أيضا: تارة تكون ثابتة بضرورة الدين كوجوب
الصلاة والحج، وتارة بضرورة المذهب كوجوب حب أهل البيت وحرمة
بغضهم، وتارة بالنقل المتواتر أو النص الكتابي أو الإجماع، وتارة بغيرها من
الأدلة الاجتهادية والفقاهتية، وربما تثبت بالعقل أيضا.
المقدمة الثانية:
أن الأحوال القلبية من الخضوع والخشوع والخوف والرجاء والرضا

(1) الأسفار 9: 185 وما بعدها، كشف المراد: 320 - 321، اللوامع الإلهية: 371 - 372، إرشاد
الطالبين: 406 - 409.
(2) انظر غاية المرام في شرح تهذيب الأحكام: 46 (مخطوط).
142

والسخط وأمثالها إنما تحصل في النفس قهرا تبعا لمبادئها الحاصلة فيها بعللها؟
بحيث لو حصلت المبادئ فيها تتبعها تلك الحالات بلا دخالة إرادة واختيار
أصلا.
مثلا: العلم بوجود المبدأ وعظمته وقهاريته يوجب الخضوع والخشوع
لدى حضرته - جلت كبرياؤه - والخوف منه، والعلم برحمته الواسعة وجوده
الشامل وقدرته النافذة يوجب الرجاء والوثوق.
وكلما تمت المبادئ وكملت، تمت وكملت الحالات القلبية، أي
درجات الثمرات تابعة لدرجات المبادئ، ولا يمكن تحصيل النتائج إلا بتحصيل
مبادئها، ولا يمكن حصول تلك الحالات بالإرادة وجعل النفس من دون
تحقق المبادئ، ومع تحققها تحصل قهرا وتبعا من غير دخالة الإرادة والاختيار
فيها.
المقدمة الثالثة:
أن عقد القلب والالتزام بشئ والانقياد والتسليم القلبي لأمر، من
الأحوال القلبية التي لا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مبادئها،
فضلا عن حصولها مع تحقق أضداد مبادئها أو مبادئ أضدادها، فإذا حصلت
مبادئها في النفس لا يمكن تخلف الالتزام والتسليم والانقياد القلبي عنها،
ولا يمكن الالتزام بمقابلاتها وأضدادها، فتخلفها عن المبادئ ممتنع، كما أن
حصولها بدونها - أيضا - ممتنع.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الأصول الاعتقادية البرهانية أو الضرورية
143

أو غيرها إذا حصلت بمبادئها في النفس لا يمكن تخلف الالتزام والتسليم
والانقياد القلبي عنها، ولا يمكن الالتزام بأضدادها، مثلا من قام البرهان الأولي
عنده على وجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له اختيارا وإرادة الالتزام وعقد
القلب بعدم وجوده ووحدته تعالى، كما لا يمكن عقد القلب حقيقة على ضد أمر
محقق محسوس، كعقد القلب على أن النار باردة، وأن الشمس مظلمة، وأن
الكوكب الذي يفعل النهار هو المشتري، وقس على ذلك كلية الاعتقاديات
والفرعيات الضرورية والمسلمة، فكما لا يمكن عقد القلب والالتزام على ضد
أمر تكويني لا يمكن على ضد أمر تشريعي بالضرورة والوجدان.
وما يتوهم (1) أن الكفر الجحودي يكون من قبيل الالتزام القلبي على
خلاف اليقين الحاصل لصاحبه - كما قال تعالى * (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم ظلما وعلوا) * (2) - فاسد، فإن الجحود عبارة عن الانكار اللساني، لا
الالتزام القلبي كما هو واضح.
وكذلك الحال في الفرعيات الثابتة بالطرق والأمارات وسائر الحجج
الشرعية، فإن الالتزام بها والتسليم لها مع حصول مقدماتها والعلم بها قهري
تبعي، لا إرادي اختياري، والالتزام على خلافها غير ممكن، فلا يمكن للذي
ثبت عنده بالحجة الشرعية أن حكم الغسالة هو النجاسة أن يلتزم بطهارتها
شرعا، أو لا يلتزم بنجاستها، إلا أن يرجع إلى تخطئة الشارع، وهو خلاف

(1) نهاية الدراية 1: 112 سطر 20.
(2) النمل: 14.
144

الفرض.
فما اشتهر بينهم من حرمة التشريع ووجوب الموافقة الالتزامية (1)، إن
كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم لم يكن من
الشرع - أو لم يعلم كونه منه - أنه منه، ومن وجوب الالتزام هو الالتزام القلبي
- بالاختيار والجعل - للأحكام الشرعية والأصول الاعتقادية، كما هو ظاهر
كلماتهم بل صريحها، فهو مما لا يرجع إلى محصل، فإن التشريع بهذا المعنى غير
ممكن، فضلا عن أن يكون متعلقا للنهي الشرعي، وكذلك الالتزام بالأحكام
الشرعية - لمن يعتقد الرسالة، وثبتت عنده الأحكام بطرقها وأدلتها - واجب
التحقق ممتنع التخلف، ولا يكون تحت اختيار العبد وإرادته حتى يكون موردا
للأمر.
وإن كان المراد من التشريع هو إدخال ما ليس في الدين فيه، افتراء على
الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله - فهو أمر ممكن واقع محرم
بالضرورة، وكذلك الموافقة الالتزامية إن كان المراد منها هو البناء القلبي على
الالتزام العملي والإطاعة لأمر المولى، والمخالفة هي البناء على المخالفة العملية،
فهما أمران معقولان يكونان من شعب الانقياد والتجري.
فتحصل مما ذكر: أن وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها - على
ما يستفاد من كلام القوم - مما لا أساس لهما أصلا، وما ذهب إليه بعض سادة

(1) نهاية الدراية 2: 26 - 27، حاشية فرائد الأصول: 41 - 42، درر الفوائد 2: 19 - 20، فوائد
الأصول 3: 42 - 43.
145

مشايخنا (1) - رحمهم الله - في القضايا الكاذبة من التجزم على طبقها، وجعله
مناطا لصيرورة القضايا مما يصح السكوت عليها، وأن العقد القلبي عليها
يكون جعليا اختيارا.
وقال شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه -: إن حاصل كلامه: أنه كما أن
العلم قد يتحقق في النفس بوجود أسبابه، كذلك قد تخلق النفس حالة وصفة
على نحو العلم حاكية عن الخارج، فإذا تحقق هذا المعنى في الكلام يصير جملة
يصح السكوت عليها، لأن تلك الصفة الموجودة تحكي جزما عن تحقق النسبة
في الخارج (2). انتهى.
فيرد عليه: أن العلم والجزم ليسا من الأمور الجعلية الاختيارية، فإنهما
من الأمور التكوينية التي لا توجد في النفس إلا بعللها وبأسبابها التكوينية،
فهل يمكن جعل الجزم في النفس بأن الواحد ليس نصف الاثنين بل هو نصف
الثلاثة، وأن النقيضين يجتمعان ويرتفعان؟!
وأما الاخبارات الكاذبة إنما تكون بصورة الجزم، وليس في واحد منها
حقيقة الجزم الجعلي بل إظهار الجزم، والمناط في صحة السكوت هو الاخبار
الجزمي، أي الاخبار الذي بصورة الجزم، ولاربط للجزم القلبي في صحة
السكوت وعدمه، ولهذا لو أظهر المتكلم ما هو مقطوع به بصورة الترديد
لا تصير القضية مما يصح السكوت عليها.

(1) نقله عنه في درر الفوائد 1: 39.
(2) المصدر السابق.
146

اللهم إلا أن يقال: إن في تلك القضايا المظهرة بصورة الترديد ينشئ
المتكلم حقيقة الترديد في النفس، ويصير مرددا جعلا واختراعا، وهو كما
ترى.
فتحصل: أن جعلية هذه الأوصاف النفسانية مما لاوجه صحة لها.
المطلب الثاني
جريان الأصول لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي
بناء على ما ذكرنا من كون الموافقة الالتزامية من الملتزم بالشريعة والمؤمن
بها من الأمور القهرية الغير الاختيارية، لا الجعلية الاختيارية، تكون الموافقة
الالتزامية على طبق العلم بالأحكام وتابعة له كيفية وكمية، فإن كان العلم
متعلقا بحكم تفصيلا يتعلق الالتزام به تفصيلا، وإن كان متعلقا إجمالا يكون
الالتزام إجماليا، ففي دوران الأمر بين المحذورين - الذي يكون العلم بنحو
الترديد والإجمال في المتعلق - يكون الالتزام به أيضا كذلك، فلو بنينا على
جواز جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين يكون الالتزام على
طبق الحكم الظاهري، أي كما أنه يجوز جعل الحكم الواقعي والظاهري في
موضوع بعنوان الذات والمشكوك - مثلا - ويكون تعلق العلم بهما مما لا مانع
منه، كذلك الالتزام يكون على طبقه، أي التزام بحكم واقعي والتزام بحكم
ظاهري بلا تناف بينهما، فجريان الأصول فيه مما لا مانع منه من قبل لزوم
الالتزام، كما أن جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي، لأن جريانها في طول
147

الواقع، ولا يدفع به العلم بالحكم الواقعي.
بل لو بنينا على اختيارية الالتزام وجعليته فلا وجه لاختصاص محذور
عدم الموافقة بما إذا لم تجر الأصول في الأطراف، كما مال إليه المحقق
الخراساني (1) - قدس سره - لأن موضوع الالتزام بالحكم الواقعي في طول
مجاري الأصول، والالتزام بالواقع مع الأصول في الرتبتين، ولاوجه لدفع
أحدهما بالآخر، فتدبر.
المطلب الثالث
عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي
في حال جريان الأصول العقلية أو الشرعية في أطراف العلم الإجمالي
فيما إذا دار الأمر بين المحذورين، وأما جريانها في غيره من موارد العلم
الإجمالي فسيأتي حاله (2).
والظاهر عدم جريان الأصول العقلية مطلقا في أطرافه، لعدم المجال
للحكم العقلي فيما هو ضروري تكوينا وحاصل بنفس ذاته، حتى التخيير
العقلي بمعنى الحكم بالتخيير، فإنه لا معنى له بعد ضرورية حصوله.
وأما الأصول الشرعية، مثل أصالة الحلية والإباحة فلا تجري، لمناقضة
مضمونها للعلم الإجمالي، فإن جنس التكليف معلوم، وأصل الإلزام متيقن،

(1) كفاية الأمول 2: 30 - 31.
(2) انظر الجزء الثاني صفحة: 177 وما بعدها، و 271 وما بعدها.
148

فلا موضوع لأصل الحلية والإباحة، فإن معنى الحلية والإباحة عدم الإلزام في
طرفي الوجود والعدم، وهذا ليس بمشكوك بل معلوم.
وأما أصالة البراءة - التي مستندها دليل الرفع والتوسعة - فالظاهر جريانها
في طرفي الوجود والعدم، وتساقطهما بالتعارض أو بواسطة العلم بالخلاف.
ولو قلنا بعدم الجريان فإنما هو بواسطة العلم بالخلاف، وهذا مناقضة
بالعرض ومن باب الاتفاق، لا مناقضة في مفاد الدليل والجعل، لأن الرفع
والتوسعة في كل طرف لا يكون مفادها التوسعة والرفع في الطرف الآخر، حتى
يناقض جنس التكليف المعلوم، فموضوع الأصل الذي هو الشك في نوع
التكليف محقق في كل واحد من الطرفين في حد نفسه.
الإشكال على بعض محققي العصر
وما أفاد بعض مشايخ العصر - قدس سره - على ما في تقريراته (1) - من أن
المحذور في جريان البراءة الشرعية هو أن مدركها قوله: (رفع ما لا يعلمون) (2)،
والرفع فرع إمكان الوضع، وفي مورد الدوران بين المحذورين لا يمكن وضع
الوجوب والحرمة كليهما، لاعلى سبيل التعيين ولاعلى سبيل التخيير، ومع عدم
إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع، فأدلة البراءة الشرعية لا تعم المقام.

(1) فوائد الأصول 3: 448.
(2) توحيد الصدوق: 353 / 24 باب 56، الخصال: 417 / 9، الوسائل 11: 295 / 1 باب 56 من
أبواب جهاد النفس.
149

فيرد عليه:
أولا: أن ما لا يمكن الوضع [فيه] هو الوجوب والحرمة كلاهما - أي
المجموع من حيث هو مجموع - والأفراد بهذه الحيثية ليست مشمولة للأدلة
مطلقا، فإن مفادها هو كل فرد فرد بعنوانه، لا بعنوان المجموع، ولو كانت
مشمولة بهذه الحيثية - أيضا - يلزم أن يكون كل فرد مشمول الدليل مرتين بل
مرات غير متناهية: مرة بعنوان ذاته، ومرات غير متناهية بعنوان الاجتماعات
الغير المتناهية، وهو ضروري البطلان.
وثانيا: أنه يلزم بناء على ذلك عدم جريان أصالة البراءة وغيرها في
غير مورد دوران الأمر بين المحذورين، لمناقضة مفادها مع المعلوم بما أنه
معلوم، فإن الرفع عن كلا الطرفين يناقض الوضع الذي في البين، مع اعترافه
بجريانها إذا لم يلزم منه مخالفة عملية.
وثالثا: أنه لو فرضنا أن حديث الرفع يشمل المجموع - أيضا - لنا أن نقول
بجريانه في الدوران بين المحذورين وغيره، لشموله بالنسبة إلى كل فرد فرد
بنفسه، فالفرد بعنوان ذاته مشمول للدليل، وإن كان بعنوان اجتماعه مع غيره
غير مشمول له، ولا يتنافى عدم المشمولية بعنوان مع المشمولية بعنوان ذاته.
هذا كله إذا كان مراده - قدس سره - من قوله: لا يمكن وضع الوجوب
والحرمة كليهما، هو المجموع. وإن كان مراده الجميع بنحو الاستغراق، فمناقضته
مع التكليف في البين لا تنافي الجريان في كل واحد من حيث هو، بل لازمها
السقوط بعد الجريان، كما هو الشأن في كل مورد يكون كذلك.
150

وأما الاستصحاب فما كان مفاده مناقضا لأصل الإلزام وجنس
التكليف كاستصحاب الاستحباب والكراهة والإباحة فعدم جريانه معلوم،
لعدم الموضوع له.
وأما استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة فالظاهر جريانهما
وسقوطهما بالمعارضة، كما عرفت في جريان أصل البراءة، ولامانع من
جريانهما سوى ما أفاد العلامة الأنصاري (1) من عدم جريان الأصول في
أطراف العلم مطلقا، للزوم مناقضة صدر الأدلة مع ذيلها، وسيأتي ما فيه (2)،
وسوى ما في تقريرات بعض المشايخ - قدس سره - وسيأتي ما فيه، فانتظر (3).
إن قلت: جريان الاستصحابين - بل مطلق الأصول - في مورد الدوران
يلزم منه اللغوية، فإن الإنسان - تكوينا - لا يخلو عن الفعل أو الترك، وهما
مفاد استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة، فوجودهما وعدمهما على
السواء، وكذا الحال في أصالة البراءة عن الوجوب والحرمة.
وإن شئت قلت: لا معنى لجريان الأصل العملي في مورد ليس فيه عمل
يمكن التعبد به، كما فيما نحن فيه، فإن أحد الطرفين ضروري التحقق.
قلت: نعم، لو كان مفاد الأصل هو مجموع كلا الطرفين فمع لزوم اللغوية
يلزم منه المناقضة مع المعلوم في البين، لكن قد عرفت ما فيه.

(1) فرائد الأصول: 429 سطر 10 - 13.
(2) انظر صفحة رقم: 162.
(3) انظر صفحة رقم: 164.
151

وأما مع ملاحظة كل واحد من الأصلين بحيال ذاته فلا يلزم من جريانه
اللغوية، فإنه مع استصحاب عدم الوجوب يجوز الترك، ومع استصحاب عدم
الحرمة يجوز الإتيان، فأين يلزم اللغوية؟!
وأيضا نفس الوجوب والحرمة من الأحكام الشرعية التي يجري فيها
الاستصحاب بلا توقع أثر آخر.
نعم التعبد بكليهما مما لا يمكن، للعلم بمخالفة أحدهما للواقع، فلهذا
يتساقطان بالتعارض. وهاهنا أمور أخر موكولة إلى محلها.
في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطريقي
قوله: الأمر السادس... إلخ (1).
أقول: لا ينبغي الإشكال في عدم تفاوت القطع الطريقي عقلا فيما له من
الآثار العقلية من حيث الموارد والقاطع وأسباب حصوله، والتعرض له مما لا
طائل تحته، وما ظاهره المخالفة مؤول أو مطروح. إنما الكلام في بعض الجهات
التي تعرض [لها] بعض محققي العصر - رحمه الله - على ما في تقريرات
بحثه.
قال في الجهة الأولى ما حاصله: نسب إلى جملة من الأشاعرة (2)

(1) كفاية الأصول 2: 31 سطر 9.
(2) الإحكام في أصول الأحكام 1: 119 - 120، المحصول في علم أصول الفقه 1: 29 - 40،
كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 234.
152

إنكار الحسن والقبح العقليين، وعدم دوران أحكام الشارع مدار المصالح
والمفاسد، وأنه - تعالى - مقترح في أحكامه من دون مرجح، ولامانع من
الترجيح بلا مرجح، ولما كان هذا القول في غاية السقوط أعرض عنه المحققون
منهم، والتزموا بثبوت المصالح والمفاسد، لكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة
النوعية القائمة بالطبيعة في صحة تعلق الأمر ببعض الأفراد وان لم يكن لتلك
الأفراد خصوصية، ويصح ترجيح بعض الأفراد بلا مرجح على بعضها بعدما
كان مرجح في أصل الطبيعة، ومثلوا برغيفي الجائع وطريقي الهارب مع تساوي
الطرفين، فإنه لا إشكال في اختيار أحدهما من غير مرجح أصلا، لأن
المفروض تساويهما من جميع الجهات.
قال الفاضل المقرر (1) - دام علاه -: إن شيخنا الأستاذ يميل إلى هذا القول
بعض الميل، وهذا ليس بتلك المثابة من الفساد، ويمكن الالتزام به، ولا ينافيه
تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك، وما لا يمكن
الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد مطلقا، لعدم معقولية الترجيح
بلا مرجح (2). انتهى.
أقول: كما أن القول باقتراح الشارع الأحكام من غير مرجح في غاية

(1) هو العالم الفاضل الشيخ محمد علي بن الشيخ حسن الجمالي القابچي الخراساني الكاظمي،
ولد في سامراء سنة 1309 ه‍ وتلقى أوليات العلوم فيها على يد والده، هاجر إلى النجف
الأشرف وحضر عند الميرزا النائيني، له عدة مؤلفات أشهرها فوائد الأصول، توفي سنة
1365 ه‍. انظر نقباء البشر 4: 1386.
(2) فوائد الأصول 3: 57 - 58.
153

السقوط، كذلك القول باقتراح الخصوصية من غير مرجح - أيضا - في غاية
السقوط، بل لافرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة عند العقل أصلا، فإن ملاكها
هو تعلق الإرادة - التي هي متساوية النسبة إلى الطرفين - بأحدهما من دون
ملاك، الذي يرجع إلى وجود الممكن بلا علة توجبه، وهو مساوق لخروج
الممكن عن كونه ممكنا، وهو يساوق اجتماع النقيضين، وهذا الملاك متحقق
عينا في ترجيح بعض الأفراد على بعض من غير مرجح.
وإن شئت قلت: إن استحالة الترجيح بلا مرجح من الأحكام العقلية
الغير القابلة للتخصيص، فلو فرضنا أن ملاك الحكم يكون في الطبيعة نفسها
بلا دخالة لخصوصية الأفراد فيه يكون نفس الطبيعة - بما هي - مأمورا بها،
فاختصاص بعضها بالحكم والإيجاد أو الاختيار والبعث يكون من الترجيح
بلا مرجح والاختيار بلا ملاك، ومجرد كون الطبيعة ذات ملاك لا يدفع استحالة
التخصيص ببعض الأفراد بلا مرجح وملاك، فإن كل ملاك لا يدعو إلا إلى
نفسه، ولا معنى لدعوته إلى غيره.
وبالجملة: استحالة الترجيح بلا مرجح المنتهي بالآخرة إلى الترجح
بلا مرجح من ضروريات الأحكام العقلية أو المنتهية إليها، من غير افتراق بين
مواردها أصلا.
وأما الأمثلة الجزئية - التي لا تكون تحت ملاك برهاني وضابطة ميزانية
- فلا تفيد شيئا، ولا يدفع بمثلها البرهان الضروري، مع أن اختيار بعض التي
[هي] مورد النقض في الأمثلة لا يكون بلا مرجح، بل له مرجحات خفية قد
154

يغفل عن تفصيلها الفاعل أو الأمر، مثل كون أحدهما أسهل تناولا لكونه على
يمينه، أو توجه النفس وتعلق إدراكها بأحدهما أولا، أو أكثر من الآخر بالعلل
الخفية.
فلو قيل: نحن نفرض التساوي من جميع الجهات واقعا وفي نظر
الفاعل.
قلنا: فإذن يمتنع تعلق الإرادة بأحدهما، وهذا الفرض مثل أن يقال:
نحن نفرض تحقق المعلول بلا علة موجبة، أو تحقق الإرادة من غير علة وغاية،
أو نفرض اجتماع النقيضين، وهذه مجرد فروض لا واقع لها، وأوهام
لا حقيقة لها.
وبالجملة: يرجع الترجيح بلا مرجح في جميع الموارد إلى وجود الممكن
بلا علة، وبطلانه من البديهيات الأولية، ولافرق بين قول الأشاعرة الغير
المحققين والمحققين منهم لو وجد بينهم محقق، ولو كان هذا الرأي والتفرقة أثر
تحقيقهم، فهو - كما ترى - ليس فيه أثر تحقيق أصلا.
ثم إنه قد أورد في الجهة الأولى من التقريرات كلاما آخر ملخصه: أن
دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح ومفاسد في نفسها دون متعلقاتها ضعيفة
ولو إيجابا جزئيا، فإن المصلحة في الأمر مما لا معنى لها، وإلا يلزم أن تتحقق
المصلحة بمجرد الأمر بلا انتظار شئ آخر، والأوامر الامتحانية التي مثلوا بها
لذلك ليست كذلك، فإن المصلحة فيها قائمة بإظهار العبد الإطاعة، وهو
لا يتحقق إلا بالجري على وفق المأمور به، وأين هذا من كون المصلحة في نفس
155

الأمر؟!
فتحصل: أنه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في
المتعلقات (1) انتهى.
وكلامه هذا يرجع إلى دعاوى ثلاث:
الأولى: عدم تصور كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي
مطلقا.
الثانية: كونهما مطلقا في المتعلقات دون غيرها.
الثالثة: المناقشة في الأمثلة التي مثلوا بها وإرجاع المصلحة في الأوامر
الامتحانية إلى المتعلقات.
وفي كل من الدعاوي إشكال ونظر:
أما في الأولى: فلأنه من الممكن أن تكون المصلحة في نفس الأمر،
وتتحقق بمجرده بلا انتظار شئ آخر، وذلك مثل أن يكون غرض الأمر مجرد
إظهار الآمرية بلا غرض في المتعلق ولا في إظهار العبد الإطاعة.
مثلا: لو مر المولى على عدة غلمان له، فتعلق غرضه بمجرد الآمرية
والناهوية - فإنهما بنفسهما لذيذان - فأمرهم ونهاهم بلا انتظار عمل منهم، فلا
إشكال في كون المصلحة في نفس الأمر، لا في المتعلق ولا في إظهار العبد
الطاعة، ولهذا يسقط الغرض بمجرد الأمر والنهي في مثله، ولعل بعض أوامر
التقية من هذا القبيل، أي من قبيل كون المصلحة في نفس الأمر، كما لو كان في

(1) فوائد الأصول 3: 59.
156

نفس إظهار الموافقة معهم مصلحة، فتأمل.
وأما في الثانية: فلأنه لو فرضنا عدم معقولية كون المصالح والمفاسد في
نفس الأوامر والنواهي، فلا يلزم منه لزوم كونها في المتعلقات، لإمكان كونها
في أمر ثالث، لافي الأوامر ولا في متعلقاتها، لعدم كون الانفصال على سبيل منع
الخلو، حتى ينتج من نفي أحدهما إثبات الآخر، فإن الغرض الباعث للأمر
قد يكون في المتعلقات، وذلك ظاهر، وقد يكون في الأوامر كما عرفت، وقد
يكون في أمر آخر غيرهما، كبعض أوامر التقية التي تكون المصلحة في إظهار
الشيعة موافقتهم، لافي نفس المتعلقات، فإن كون المصلحة في المتعلق عبارة عن
قيام المصلحة بنفسه أتى به المكلف أو لم يأت به، وأما المصلحة إذا قامت
بإظهار الموافقة مع العامة فلا يكون في نفس المتعلق مصلحة أصلا، بل قد
يكون فيه مفسدة، لكن لما كان في إظهار الموافقة لهم فيه مصلحة غالبة، وهو
قد يتوقف على إتيان المتعلق، فلابد من الأمر به وإتيانه.
وبالجملة: لا يكون المتعلق مصداقا ذاتيا للمصلحة، بل قد يكون
مصداقا عرضيا، والشاهد على ذلك أنه لو أتى المكلف بما يتوهم العامة موافقته
لهم يسقط الغرض والأمر بلا إشكال، كما لو شرب ما يتوهم أنه نبيذ، أو فعل
ما يتوهم منه التكتف.
وبالجملة: ما اشتهر بينهم (1) - أن المصلحة: إما في المتعلق، أو في الأمر -
مما لا أصل له.

(1) المصدر السابق.
157

إلا أن يقال: إن المأمور به في الحقيقة في تلك الموارد هو ما قامت به
المصلحة بالذات، فإذا تعلق الأمر بشرب النبيذ يكون تعلقا عرضيا، والمتعلق
بالذات هو إظهار الموافقة معهم.
وهذا ليس بشئ، فإن الأغراض التي هي الغايات غير المتعلقات، وإلا
لزم أن تكون كل الأوامر والنواهي الإلهية متعلقة بغير متعلقاتها الحقيقية، وهو
كما ترى.
وأما في الثالثة: فلأن الأوامر الامتحانية كما لا تكون المصلحة في نفسها
، كذلك لا تكون في متعلقاتها، بل قد تكون المصلحة في إتيان مقدمات المأمور
به بتوهم كونها موصلة إليه، كما في قضية الخليل (1) - سلام الله عليه - وقد
تكون في نفس إظهار العبودية بلا دخالة للمتعلق أصلا.
والعجب أنه - قدس سره - مع اعترافه بأن المصلحة في الأوامر
الامتحانية إنما تكون في إظهار العبد الإطاعة والموافقة، استنتج منه أن المصالح
فيها في نفس المتعلقات، وهذا من قبيل اشتباه ما بالعرض بما بالذات، ويشبه
أن يكون تناقضا في المقال.

(1) التبيان في تفسير القرآن 8: 516 - 520، الميزان في تفسير القرآن 17: 152 - 153.
158

البحث في العلم الإجمالي
قوله: الأمر السابع (1)...
أقول: هاهنا مباحث كثيرة طويلة الذيل، بعضها راجع إلى ما نحن فيه،
وبعضها إلى مباحث الاشتغال، ونحن نذكر بعضها على سبيل الإجمال:
أما ما هو راجع إلى ما نحن بصدده فالعمدة فيه هو مقامان:
أحدهما: ما هو راجع إلى مقام ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.
وثانيهما: ما هو راجع إلى مرحلة سقوطه به.
المقام الأول
ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي
وفيه مطالب:

(1) كفاية الأصول 2: 34 سطر قبل الأخير.
159

المطلب الأول: لا إشكال في أن العلم طريق إلى متعلقه كاشف عنه
- سواء كان متعلقه مجملا مرددا بين أمرين أو أمور، أو مفصلا - وبعد كشف
المتعلق وإحرازه يصير موضوعا لإطاعة المولى عقلا إذا تعلق بأمره أو نهيه،
ولا شبهة في أن الآتي بجميع أطراف الشبهة التحريمية، والتارك لجميع أطراف
الشبهة الوجوبية، حاله عند العقل كالآتي بالمحرم المعلوم تفصيلا، والتارك
للواجب المعلوم كذلك، وانكار ذلك مكابرة لضرورة حكم العقل.
وما قيل: من أن موضوع حكم العقل في باب المعصية ما إذا علم
المكلف حين إتيانه أنه معصية فارتكبه، والمرتكب لأطراف العلم الإجمالي لم
يكن كذلك (1). يرده العقل السليم، فإن العقل يحكم قطعا بقبح مخالفة المولى،
ويرى أن ارتكاب الجميع مخالفة قطعية له، ولافرق في نظر العقل بين قتل ولد
المولى بالسم المعلوم تفصيلا أو إجمالا، وهذا واضح لا سترة عليه.
المطلب الثاني: لا شبهة في أنه كما يقبح عند العقل المخالفة القطعية، كذلك
تجب الموافقة القطعية، لكن العقل يرى فرقا بينهما، فإن المخالفة القطعية معصية
لا يمكن الاذن فيها من المولى، لكن المخالفة الاحتمالية لم تكن معصية ويكون
حكم العقل بالنسبة إليها بنحو الاقتضاء، لا العلية التامة، لوجود الشك
والسترة في البين، فلو فرض الاذن من الشارع بارتكاب بعض الأطراف
والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية لم يتحاش العقل منه كما يتحاشى من الاذن في
المعصية، كما وقع في الشرعيات.

(1) القوانين 2: 27.
160

وما أفاد المحقق الخراساني: من النقض بالشبهة الغير المحصورة تارة
- فإن الإذن في ارتكاب الجميع إذن في المخالفة القطعية - وبالشبهة البدوية
أخرى، فإن احتمال المناقضة كالقطع بها مستحيل (1)، منظور فيه.
أما في الشبهة [غير] المحصورة: فلعدم الاذن في جميع الأطراف، بحيث
لو بنى المكلف [على] إتيان جميعها وتكلف بالإتيان كان مأذونا فيه.
نعم إتيان بعض الأطراف من حيث هو مما لا مانع منه، لضعف الاحتمال،
فإن الميزان في الشبهة الغير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بحد لا يعتني
العقلاء بوجود المحتمل في مورد الارتكاب، فكأن الأمارة العقلائية قامت
عندهم على عدم كون الواقع فيه، لشدة ضعف الاحتمال. ألا ترى أنه إذا كان
ولدك العزيز في بلد مشتمل على مائة ألف نفس، وسمعت بهلاك نفس واحدة
من أهل البلد فإنك لا تفزع لاحتمال كون الهالك ولدك، ولو فزعت لكنت على
خلاف المتعارف، وصرت موردا للاعتراض، وهذا ليس من باب قصور في
المعلوم كما أفاد المحقق الخراساني (2) - رحمه الله - فإن في المثال المذكور
لم يكن الوالد الشفيق راضيا بهلاك ولده، بل لضعف الاحتمال لا يعتني به العقلاء
والعقل.
وأما ما أفاد بعض مشايخ العصر (3) رحمه الله - على ما في تقريرات

(1) كفاية الأصول 2: 35 سطر 5 - 11.
(2) كفاية الأصول 2: 35 سطر 2.
(3) فوائد الأصول 4: 116 وما بعدها.
161

بحثه - في ميزان الشبهة الغير المحصورة وتضعيف هذا الوجه، فضعيف يأتي إن
شاء الله وجهه في محله (1).
وأما النقض بالشبهة البدوية فسيأتي (2) في بيان الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري من رفع إشكال التناقض والتضاد، وما هو وجه الامتناع
في المقام من الترخيص في المعصية ليس في الشبهة البدوية كما لا يخفى.
المطلب الثالث: قد علم مما مر وجه عدم جريان الأصول في أطراف
العلم الإجمالي. وقد قيل في وجه عدم جريانها وجوه آخر ربما تأتي في محلها،
ونكتفي هاهنا إجمالا بذكر بعضها والخلل فيها:
منها: ما عن الشيخ (3) - رحمه الله - من أن شمول أدلة الأصول لجميع
الأطراف مستلزم للتناقض بين صدرها وذيلها، أما في الاستصحاب فلاشتمال
دليله على قوله: (ولكن تنقضه بيقين مثله) (4)، فقوله: (لا تنقض اليقين
بالشك) إذا شمل الأطراف يناقض قوله: (ولكن تنقضه بيقين آخر) فإن عدم
النقض في الطرفين مع النقض في أحدهما الذي علم ارتفاع الحالة السابقة فيه
متناقضان.

(1) انظر الجزء الثاني صفحة رقم: 222 وما بعدها.
(2) انظر صفحة رقم: 199 وما بعدها، والجزء الثاني صفحة رقم: 181 وما بعدها.
(3) فرائد الأصول: 429 سطر 10 - 31.
(4) التهذيب 1: 8 / 11 باب الاحداث الموجبة للطهارة و 2: 186 / 41 باب أحكام السهو في الصلاة،
الوسائل 1: 174 / 1 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء و 5: 321 / 3 باب 10 من أبواب الخلل
الواقع في الصلاة، مع تفاوت يسير.
162

وفيه: أن قوله: (ولكن تنقضه بيقين آخر) ليس حكما شرعيا تعبديا
ولا جعلا، بل لا يمكن أن يكون جعلا، فإنه يرجع إلى جعل الاعتبار والحجية
للعلم، فإن اليقين السابق إذا انتقض بيقين مخالف له - أي تعلق يقين بضد الحالة
السابقة المعلومة - فلا يمكن عدم نقضه، لكون النقض من لوازم حجية العلم،
فلا يتعلق به جعل إثباتا ونفيا، فقوله: (ولكن تنقضه) ليس حكما وجعلا حتى
يناقض الصدر، بل هو لمجرد بيان حدود الحكم الأول، أي عدم نقض اليقين
بالشك إنما يكون إلى أن يتبدل اليقين بيقين مثله، وينتقض قهرا.
وثانيا: أن الظاهر من أدلة الاستصحاب أن المشكوك مالم يصر معلوما
يكون موضوعا لحكمه، ولازمه أن يتعلق العلم بعين ما تعلق به الشك، وفي
العلم الإجمالي لم يكن كذلك.
وبما ذكرنا يظهر الجواب عن دعوى المناقضة في دليل أصالة الحل من
قوله: (كل شئ حلال حتى تعرف الحرام بعينه) (1) فإن فيه - أيضا - لم يكن
جعلان، بل جعل واحد هو بيان وظيفة الشاك، وذكر الغاية لبيان حدود
موضوع الحكم، وليس لجعل حكم آخر حتى تأتي المناقضة.
نعم لو كانت مناقضة في البين إنما تكون مع الحكم الواقعي، فإن شمول
الدليل لكلا المشتبهين مما يناقض الحكم الواقعي، وهذا - بما أنه إذن في المعصية
ومستلزم للمخالفة القطعية - موجب لرفع اليد عن جريان الأصول في

(1) الكافي 5: 313 / 40، التهذيب 7: 226 / 9 باب من الزيادات، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من
أبواب ما يكتسب به. والظاهر أن السيد نقله بالمعنى.
163

الأطراف، ومع قطع النظر عن ذلك لا محذور فيه من قبل المناقضة، كما سيأتي
في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، والمحذورات الاخر مرتفعة بما سيأتي
في ذلك المقام (1).
هذا، وأما ما أفاد بعض مشايخ العصر (2) رحمه الله - على ما في تقريرات
بعض الأفاضل رحمه الله - في جواب الشيخ قدس سره: من أن مناقضة الصدر
للذيل على تقدير تسليمه إنما يختص ببعض أخبار الاستصحاب الذي اشتمل
على الذيل.
ففيه ما لا يخفى، فإنه بعد حمل الأخبار بعضها على بعض تحقق المناقضة في
الحكم المجعول. مع أن تحقق المناقضة في بعض الأخبار يكفي في المحذور
والامتناع.
ومنها: ما أفاد المحقق المتقدم - على ما في تقريرات بحثه - من التفصيل
بين الأصول التنزيلية وغيرها، بعدم الجريان فيها لزم منه المخالفة القطعية أم لا،
وفي غيرها إذا لزمت، وأدرج الاستصحاب في سلكها.
قال في بيان ذلك: إن المجعول في الأصول التنزيلية إنما هو البناء العملي،
والأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع، والقاء الطرف الآخر، وجعل
الشك كالعدم في عالم التشريع، فإن الظاهر من قوله: (لا تنقض اليقين
بالشك) هو البناء العملي على بقاء المتيقن، وتنزيل حال الشك منزلة حال

(1) انظر صفحة رقم: 199 وما بعدها.
(2) فوائد الأصول 4: 2 2 - 23.
164

اليقين والإحراز، فلا يمكن مثل هذا الجعل في جميع الأطراف، للعلم بانتقاض
الحالة السابقة في بعضها، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع
الأطراف إلى إحراز آخر يضاده، ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز
السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا؟! فإن الإحراز التعبدي لا يجتمع مع
الإحراز الوجداني بالخلاف (1) انتهى.
وفيه:
أولا: أن مفاد قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) هو عدم النقض العملي،
أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشك عملا، والجري العملي على طبق اليقين
السابق، بلا تعرض للبناء على أنه هو الواقع، فليس للكبرى المجعولة في
الاستصحاب إلا مفاد واحد، وهو إما إبقاء اليقين وإطالة عمره تعبدا، وإما
البناء العملي على بقاء اليقين السابق، وليس معناه إلا العمل على طبق الحالة
السابقة أو اليقين السابق والجري العملي على طبقه، وأما التعرض للبناء على
أنه هو الواقع فليس في أدلته ما يستشم منه ذلك أصلا. نعم إنه دائر على ألسنة
أهل العلم من غير دليل يدل عليه.
فتحصل من ذلك: أن الاستصحاب أصل عملي مفاده الجري العملي على
طبق الحالة السابقة.
وأما تقدمه على بعض الأصول العملية - كأصالة الحل والبراءة
والطهارة - فلا يتوقف على كونه من الأصول المحرزة التنزيلية، كما سيأتي في

(1) فوائد الأصول 4: 14.
165

محله إن شاء الله (1).
فإذا كان مفاده هو الجري العملي على طبق الحالة السابقة ترتفع المنافاة
بينه وبين الإحراز الوجداني بالخلاف، وليس عدم الجريان لقصور في المجعول،
كما أفاد رحمه الله (2).
وثانيا: أنه لو سلم أن مفاد الاستصحاب هو البناء العملي على أنه هو
الواقع، فمنافاة الإحراز التعبدي مع الوجداني في محل المنع، فإن للشارع أن
يأمر بالتعبد بوجود ما ليس بموجود واقعا، وبعدم ما ليس بمعدوم واقعا، كما أن
له الأمر بالتعبد بوجود العرض بلا موضوع، وبوجود المعلول بلا علة،
وبوجود أحد المتلازمين بلا متلازم آخر.
نعم لا يمكن تعلق الإحراز التعبدي بشئ ونقيضه، كما أنه لا يمكن تعلق
الإحراز الوجداني بشئ ونقيضه، لكن لا مناقضة بين الإحراز الوجداني
والتعبدي. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
المقام الثاني
سقوط التكليف بالعلم الإجمالي
والموافقة على سبيل الإجمال والاحتياط
فاعلم أنه لا إشكال في التكاليف التوصلية وحصول الغرض وسقوط

(1) انظر الرسائل (مبحث الاستصحاب) صفحة رقم: 242 وما بعدها.
(2) فوائد الأصول 4: 16.
166

الأمر بالاحتياط، لزم منه تكرار جملة العمل أو لا، حتى مع اللعب بأمر
المولى، فإنه وإن كان الاحتياط على هذا الوجه قبيحا، لكن يحصل الغرض
ويسقط الأمر به.
وأما في التعبديات ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقا، أو
مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي، أو عدم حسنه مطلقا، أو التفصيل بين
لزوم التكرار وعدمه، وجوه.
وقبل الخوض في المقام لابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: قد حقق في مبحث التعبدي والتوصلي جواز أخذ ما يأتي
من قبل الأمر في المأمور به، كقصد التقرب والأمر وأمثالهما، وعدم المحذور فيه
لامن ناحية تعلق الأمر، ولامن ناحية إتيان المأمور به، خلافا للشيخ العلامة
الأنصاري (1) وبعض الأعاظم المتأخرين عنه (2) وقد أشبعنا الكلام في ذلك
المبحث (3) فلا نطيل بتكراره.
ثم إن اعتبار قصد الوجوب ووجهه وتميزه عقلا في العبادات مما لاوجه له
بلا إشكال، فإن الإطاعة عند العقل ليست إلا الانبعاث ببعث المولى والإتيان
للتقرب به لو كان المأمور به تعبديا، والعلم بأصل بعث المولى بل احتماله يكفي
في تحقق الطاعة، وأما العلم بمرتبة الطلب في الوجوب والاستحباب ووجه

(1) مطارح الأنظار: 0 6 سطر 23 - 29.
(2) فوائد الأصول 1: 149.
(3) انظر كتاب (مناهج الوصول) للسيد الإمام.
167

الإيجاب أو الاستحباب والتميز مما لادخل له فيها أصلا بحسب حكم العقل،
فلو اعتبر أمثال ذلك فيها تكون بدليل شرعي من القيود الشرعية، واعتبارها
شرعا أيضا مما لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، ولو وصلت النوبة إلى
الشك فأصالة الإطلاق - لو كان إطلاق في الدليل ترفعه - وإلا فالأصل العملي
يقتضي البراءة كما لا يخفى.
ولو بنينا على لزوم تعلق الطلب - على تقدير التعبدية - بذات الفعل مع
أخصية الغرض كما قيل (1)، لأمكن - أيضا - التمسك بالإطلاق المقامي لرفع
الشك، فإن الغرض إذا تعلق بالأخص من المأمور به فللشارع بيانه ولو بدليل
منفصل لئلا يلزم نقض غرضه، كما أن التمسك بالبراءة مما لا مانع منه.
وأما ما نقل شيخنا العلامة الحائري - قدس سره - عن سيده الأستاذ
- طاب ثراه - بقوله: ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصلية من دون الاحتياج
إلى مقدمات الحكمة بوجه آخر: وهو أن الهيئة عرفا تدل على أن متعلقها تمام
المقصود، إذ لولا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيدا لغرض آخر، وهو خلاف
ظاهر الأمر (2).
ففيه: أن هذا - على فرض التسليم - يتم في القيود التي يمكن أخذها في
المتعلق، وأما القيود التي لا يمكن أخذها فيه فلا معنى للتمسك بالظهور العرفي
كما لا يخفى.

(1) مطارح الأنظار: 61 سطر 20 - 22.
(2) درر الفوائد 1: 69 - 70.
168

ثم إن شيخنا العلامة (1) - رحمه الله - نقل عن العلامة الأنصاري (2)
- قدس سره - عدم جواز التمسك بإطلاق اللفظ لرفع القيود المشكوكة، وكذا
عدم إمكان إجراء أصالة البراءة (3) بناء على تعلق الطلب في التعبديات بذات
الفعل مع أخصية الغرض:
أما الأول: فلأن القيد غير دخيل في المتعلق، وحدوده معلومة، فلا
شك حتى يتمسك بالأصل، إنما الكلام في أخصية الغرض من المأمور به.
وأما الثاني: فلأن الغرض المحدث للأمر إذا لم يعلم حصوله شك في
سقوط الأمر المعلول له، ومعه فالأصل الاشتغال.
ويرد على الأول منهما: ما ذكرنا من جواز التمسك بالإطلاق المقامي.
وعلى الثاني منهما: أن العقل يستقل بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه،
وأما لزوم العلم بأغراضه وسقوطها فلا يحكم به العقل، ولا موجب له أصلا،
بل يكون من قبيل (اسكتوا عما سكت الله) (4) فلو أتى المكلف بجميع ما هو
دخيل في المأمور به فلا إشكال في الاجزاء وسقوط الأمر، فلو فرضنا أن
للمولى غرضا لم يحصل إلا بالإتيان بكيفية أخرى كان عليه البيان، ولا حجة له
على العبد، مع أن العلم بحصول الغرض وسقوطه مما لا يمكن لنا، فإنه ليس لنا

(1) درر الفوائد 1: 68 - 69.
(2) مطارح الأنظار: 60 سطر 23 - 29.
(3) مطارح الأنظار: 61 سطر 20 - 22.
(4) الخلاف 1: 117 مسألة 59.
169

طريق إلى العلم به كما هو واضح.
تنبيه
نقل كلام العلامة الحائري ووجوه النظر فيه
قد رجع شيخنا العلامة في أواخر عمره عن أصالة التوصلية في الأوامر
إلى أصالة التعبدية، وتوضيحه - على ما أفاد في مجلس بحثه - يتوقف على
مقدمات:
الأولى: أن متعلق الأوامر هو الطبيعة القابلة للوحدة والكثرة الجامعة
للصرف وغيره، لاصرف الوجود الذي يحتاج إلى اعتبار زائد عن أصل الطبيعة،
والدليل عليه أن صيغ الأوامر مركبة من هيئة هي تدل على نفس البعث
والإغراء، ومادة هي نفس الطبيعة اللا بشرط التي هي المقسم للواحد والكثير.
الثانية: أن العلل التشريعية - ومنها الأوامر الشرعية - كالعلل
التكوينية حذو النعل بالنعل، فكما أن وحدة العلة في التكوينيات تقتضي
وحدة المعلول، وكثرتها كثرته، فالنار الواحدة تؤثر في إحراق واحد،
والنيران الكثيرة في الاحراقات الكثيرة، فكذلك وحدة العلة في التشريعيات
تقتضي وحدة المعلول، وكثرتها كثرته.
وبهذا يظهر السر في عدم دلالة الأوامر على التكرار، لأن الأمر الواحد
لا يقتضي إلا المعلول الواحد، لا لأن الطبيعة لا تتكثر، بل لعدم اقتضاء الكثرة
فيها، ويبتني على هذين الأصلين فروع كثيرة: منها عدم تداخل الأسباب،
170

ومنها اقتضاء الأمر الفورية.
الثالثة: - وهي العمدة في الباب - أن القيود اللبية قد يمكن أن تؤخذ في
المأمور به على نحو القيدية اللحاظية، كالإيمان والكفر للرقبة، والطهور والستر
في الصلاة، وقد لا يمكن أن تؤخذ بنحو اللحاظ، كقيد الإيصال في المقدمة على
تقدير وجوبها، فإن المطلقة منها غير واجبة، والتقيد بالإيصال غير ممكن،
فليس فيها الإطلاق ولا التقييد، ولكن لا تنطبق إلا على المقيدة، كالعلل
التكوينية، فإن تأثيرها ليس في المهية المطلقة، ولا المقيدة بقيد المتأثرة من
قبلها، بل في المهية التي لا تنطبق إلا على المقيدة بهذا القيد، فالنار إنما تؤثر في
الطبيعة المحترقة من قبلها واقعا، لا المطلقة ولا المقيدة، ومن هذا القبيل العلل
التشريعية، فإنها - أيضا - تحرك العبد نحو الطبيعة المتقيدة لبا بتحريكها إياه
نحوها، لا المطلقة ولا المقيدة بالتقيد اللحاظي.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الطبيعة لما كانت قابلة للتكرار والكثرة، فإذا
أثرت فيها العلل المتكثرة تتكثر لا محالة باقتضائها، فإذا أوجد المكلف فردا من
الطبيعة بغير داعوية الأمر لم يأت بالمأمور به وإن أتى بالطبيعة، فإن المأمور به هو
الطبيعة المتقيدة لبا بتحرك المكلف نحوها بداعوية الأمر وباعثيته، فما لم ينبعث
بباعثيته لم يأت بالطبيعة المأمور بها، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي في
الأوامر هو التعبدية والتحرك بداعوية الأمر. انتهى ملخص ما أفاده قدس سره.
وفيه أولا: أن قياس العلل التشريعية بالعلل التكوينية مع الفارق، فإن
العلل التكوينية يكون تشخص معلولاتها بها، فإن المعلول صرف التعلق
171

ومحض الربط بعلته، وليس له تحقق قبل تحقق علته.
وأما الأوامر المتعلقة بالطبائع الباعثة نحو العمل لا تتعلق بها إلا بعد
تصورها والعلم بها والاشتياق إليها والإرادة لتحققها، فلا بد لها من التحقق في
الرتبة السابقة على الأمر، فلو كان لقيد - أي قيد كان - دخالة في تحصل الغرض
لابد من تقييد الموضوع به ولو ببيان آخر.
وأما التقييدات الآتية من قبل الأمر خارجا فلا يمكن أن يكون الأمر
باعثا نحوها، للزوم كون الأمر باعثا إلى باعثية نفسه أوما هو متأخر عنه
وجودا. تأمل (1).
وثانيا: أن ما أفاده في التقييدات اللبية في المعلولات التكوينية والتشريعية
مما لا يستنتج منه ما هو بصدده، فإن النار - مثلا - إذا أحرقت طبيعة، فهاهنا أمور
ثلاثة: النار والاحراق المتعلق بها ومتعلق الاحراق، أي الطبيعة، والإحراق
المتعلق بالنار يكون هوية تعلقية ومتشخصة بتشخصها، ولا إطلاق للإحراق
الحاصل من النار الشخصية، والنار توجد الاحراق الذي من قبلها لبا وواقعا،
وأما القطن المتعلق للإحراق فلا يكون قطنا مقيدا بها أو بالإحراق حتى تكون
النار مؤثرة في القطن المحترق من قبلها، بل ينتزع منه بعد التأثير هذا العنوان،
فيكون التقيد بنفس التأثير، فالنار تحرق القطن، لا القطن المحترق من قبلها.
فهكذا الأمر، والبعث الحاصل منه، ومتعلق البعث أي المبعوث إليه،

(1) فإنه على ما أشرنا إليه يمكن أن تؤخذ هذه القيود - أيضا - في المتعلق من دون محذور أصلا كما
حقق في محله [منه قدس سره]
172

فالبعث وإن كان من قبل الأمر - ويكون تحصله وتشخصه به - لكن المتعلق
لا يكون مقيدا به حتى يكون البعث إلى الطبيعة المقيدة، فما تعلق به البعث
ويكون الأمر داعيا إليه هو الطبيعة، وبعد تحقق البعث وتعلقه بها ينتزع منها
أنها معنونة بعنوان المبعوث إليه.
وبعبارة أخرى: الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه، وهو لا يكون إلا الطبيعة
لا بشرط شئ، لا المطلقة ولا المقيدة لبا أو لحاظا، كما اعترف - قدس سره - به
في المقدمة الأولى، وبعد تعلق الأمر وتوجه الدعوة إليها تصير مقيدة بتعلق
الأمر والبعث إليها، فمفاد الهيئة البعث إلى المادة التي هي لا بشرط شئ.
وثالثا: أن ما أفاده رحمه الله - من أن الأمر الواحد إذا تعلق بالطبيعة
يقتضي المعلول الواحد، والأوامر الكثيرة تقتضي المعلولات الكثيرة كالعلل
التكوينية - منظور فيه، فإن المعاليل التكوينية لما كان تشخصها بتشخص
العلل، لا محالة يكون تكثرها بتكثر عللها أيضا، وهذا بخلاف الأوامر، فإنها
لا تتعلق بالطبائع ولا تصير باعثة إليها، إلا بعد تصور المولى إياها وتعلق
اشتياقه بها وانبعاث إرادته نحوها، فيأمر بإيجادها ويحرك العبد نحوها، فتقدير
الطبيعة المأمور بها وتشخصها الذهني يكون سابقا على تعلق الأمر وعلى
الإرادة التي هي مبدؤه، ولا يمكن أن تكون الطبيعة - بما هي أمر وحداني
ومتصور فرداني - متعلقة لإرادتين، ولا لبعثين مستقلين تأسيسيين، ولو تعلق
بها ألف أمر لا يفيد إلا تأكيدا.
وإن شئت قلت: إن تكثر المعلول التكويني بعلته، ولكن تكثر الإرادة
173

والأمر التأسيسي بتكثر المراد.
فتحصل مما ذكرنا: أن أصالة التعبدية لا تستنتج من تلك المقدمات
الممهدة.
الأمر الثاني: لا إشكال في أن الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة
وحسنها هو العقل، وهل للشارع التصرف في كيفية الإطاعة بعد استقلال
العقل بها، أم لا؟
قال بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريرات بحثه -: له ذلك،
والقول بأنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة بمعزل عن الصواب،
لوضوح أن حكم العقل في باب الطاعة إنما هو لأجل رعاية امتثال أوامره، فله
التصرف في كيفية إطاعتها زائدا عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء، حيث
قامت الأدلة على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل
لا يستقل به، وله - أيضا - الاكتفاء في امتثال أوامره بما لا يكتفي به العقل، كما في
قاعدة الفراغ (1). انتهى ملخصه.
وفيه: أنه من الواضح الضروري أن الإتيان بالمأمور به على وجهه
يفيد الإجزاء ويسقط الأمر، ولا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بكل ما هو دخيل
في المأمور به، فإن رجع التصرف في كيفية الإطاعة إلى تقييد المأمور به - كما أن
الأمر كذلك في باب الرياء، ضرورة تقيد العبادة بالإخلاص عن جميع مراتب
الرياء - فهو خارج عن التصرف في كيفية الإطاعة، وراجع إلى التصرف في

(1) فوائد الأصول 3: 68.
174

المأمور به، وإن رجع إلى التصرف في كيفية الإطاعة بلا تقييد في ناحية المأمور
به، فليس له ذلك، فإنه مخالف صريح حكم العقل، وتصرف فيما يستقل به،
والظاهر وقوع الخلط بين التصرفين كما يظهر من مثاله.
وأما قضية قاعدة الفراغ والتجاوز وأمثالهما، فلا بد من الالتزام بتقبل
الناقص بدل الكامل، ورفع اليد عن التكليف هو لمصلحة التسهيل وغيرها،
وإلا فمع بقاء الأمر والمأمور به على حالهما لا يعقل جعل مثل تلك القواعد،
ففيها أيضا يرجع التصرف إلى المأمور به، لا إلى كيفية الإطاعة.
ثم إنه لو استقل العقل بشئ في كيفية الإطاعة فهو، وإلا (1) فالمرجع
أصالة الاشتغال، لأن الشك راجع إلى مرحلة سقوط التكليف بعد العلم بثبوته
وحدوده.
وأما ما في تقريرات المحقق المتقدم (2) رحمه الله من أن نكتة الاشتغال
فيه هو رجوع الشك إلى التعيين والتخيير فهو تبعيد المسافة، مع أن الشك في
التعيين والتخيير ليس بنحو الإطلاق مجرى الاشتغال، بل فيه تفصيل موكول
إلى محله (3).
وبالجملة: ميزان البراءة والاشتغال هو رجوع الشك إلى مرحلة
الثبوت والسقوط، والشك في التعيين والتخيير - أيضا - لابد وأن يرجع إلى

(1) أي إذا شك في حصولها. [منه قدس سره]
(2) فوائد الأصول 3: 68 - 69.
(3) انظر الجزء الثاني صفحة رقم: 152 وما بعدها.
175

ذلك الميزان.
والعجب أن الفاضل المقرر - رحمه الله - ذيل كلامه في المقام بقوله:
سيأتي في مبحث الاشتغال أن اعتبار الامتثال التفصيلي لابد وأن يرجع إلى
تقييد العبادة به شرعا ولو بنتيجة التقييد، ولكن مع ذلك الأصل الجاري فيه
عند الشك هو الاشتغال، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير (1) انتهى.
فكأنه ورد نص - في باب التعيين والتخيير - بأن الأصل فيه هو
الاشتغال، وإلا فمع كون اعتبار الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية لاوجه
لأصل الاشتغال، فإن الشك يرجع إلى مرحلة ثبوت التكليف لا سقوطه، فإنه
لو كان القيد شرعيا لابد وأن يكون العقل - مع قطع النظر عنه - يحكم بكفاية
الامتثال الإجمالي، ولكن مع التقييد الشرعي في المأمور به يحكم بلزوم
الإطاعة التفصيلية، فإذا شك في التقييد يكون شكه في ثبوت تكليف زائد،
والأصل فيه البراءة.
بل لنا أن نقول: إن الشك فيه راجع إلى الأقل والأكثر، لا التعيين
والتخيير، لأن أصل الامتثال الأعم من الإجمالي والتفصيلي ثابت، والشك إنما
هو في القيد الزائد، أي تفصيلية الإطاعة.
هذا كله مع الغض عما يرد على أصل كلامه - كما أسلفنا (2) - من أن تقييد
المأمور به بالعلم بالوجوب لحاظيا أو لبيا مما لا يعقل، ويلزم منه الدور المستحيل،

(1) فوائد الأصول 3: هامش 69.
(2) انظر صفحة رقم: 94 وما بعدها.
176

ونتيجة التقييد إن رجعت إلى القيد اللبي - حتى يكون الواجب ما علم وجوبه -
يرد عليه الدور، وان لم ترجع إليه - لا لحاظيا ولا لبيا - فلا يعقل بقاء الأمر مع
الإتيان بمتعلقه مع جميع ما يعتبر فيه.
الأمر الثالث: لا إشكال في أن مراتب الامتثال أربع: الأولى: الامتثال
التفصيلي الوجداني، الثانية: الامتثال الإجمالي، الثالثة: الامتثال الظني،
الرابعة: الامتثال الاحتمالي.
النظر في مراتب
لكن الإشكال في أمور:
الأمر الأول: بناء على لزوم الامتثال التفصيلي هل الامتثال بالطرق
والأمارات والأصول المحرزة يكون في عرض الامتثال التفصيلي الوجداني، أم
لا، أو التفصيل بينها؟
والمسألة مبتنية على حد دلالة أدلتها، فإن دلت على اعتبارها مطلقا -
مع التمكن من العلم وعدمه - فيتبع، وإلا فبمقدار دلالتها.
فنقول: إن دليل اعتبار الأمارات - كما ذكرنا سابقا (1) - هو البناء
العقلائي وسيرة العقلاء، وليس للشارع حكم تأسيسي نوعا في مواردها،
وحينئذ لابد من النظر في السيرة العقلائية والأخذ بالمتيقن مع الشك فيها، كما
أن الأمر كذلك في كلية الأدلة اللبية.

(1) انظر صفحة رقم: 105 وما بعدها.
177

والظاهر أنه لا إشكال في تعميم سيرة العقلاء في أصالة الصحة واليد
والأخذ بالظهور، فإن بناء العقلاء على العمل بها حتى مع التمكن من العلم،
فتراهم يتعاملون مع صاحب اليد معاملة المالكية، ومع معاملاتهم معاملة
الصحة، ويعملون مع الظاهر معاملة المنكشف العلمي، تمكنوا من العلم أولا.
وخبر الثقة - أيضا - لا يبعد أن يكون كذلك، وإن كان في النفس منه
شئ.
وأما الاستصحاب - سواء قلنا: إنه أصل أو أمارة - فلا إشكال في
إطلاق أدلته، كما أنه لا إشكال في قاعدة الفراغ والتجاوز والشك بعد الوقت،
فإنها جعلت في موارد إمكان العلم التفصيلي ولو بالإعادة. تأمل.
وأما الظن على الكشف فليس في عرض العلم، لا لأن اعتباره موقوف
على انسداد باب العلم حتى يقال: إن المراد بالانسداد انسداد معظم الأحكام،
فلا ينافي إمكان العلم بالنسبة إلى بعضها، بل لقصور مقدمات الانسداد عن
كشف اعتباره مطلقا حتى مع التمكن من العلم أو طريق شرعي معتبر.
فما في تقريرات بعض الأعاظم (1) رحمه الله - من عرضيته له - مما
لا يصغى إليه.
الأمر الثاني: لا مجال للاحتياط مع العلم الوجداني، وأما مع قيام الظن
الخاص فله مجال، لبقاء الاحتمال الوجداني، وهذا لا كلام فيه، إنما الكلام
في أن اللازم هو الإتيان أولا بمقتضى الظن الخاص ثم العمل بمقتضى الاحتياط

(1) فوائد الأصول 3: 70 - 71.
178

فيما يلزم منه التكرار، أو يتخير في التقديم والتأخير بينهما:
اختار أولهما بعض أعاظم العصر (1) رحمه الله - على ما في تقريرات
بحثه - ونسب ذلك إلى العلمين (2) الشيخ الأنصاري (3) والسيد الشيرازي
- قدس سرهما - واستدل له بأمرين:
أحدهما: أن معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم
الاعتناء به، والعمل أولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال
الخلاف، فإن ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف.
وهذا بخلاف ما إذا قدم العمل بمؤدى الطريق، فإنه حيث قد أدى
المكلف ما هو الوظيفة، وعمل بما يقتضيه الطريق، فالعقل يستقل بحسن
الاحتياط لرعاية إصابة الواقع.
الثاني: أنه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الطاعة
التفصيلية، وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلف
متمكنا من الامتثال التفصيلي بمؤدى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي
لصلاة الظهر (4) انتهى.
ويرد على الأول منهما: أن مقتضى أدلة حجية الأمارات هو لزوم العمل
على طبقها، وجواز الاكتفاء بها، لاعدم جواز الاحتياط والإتيان بشئ آخر

(1) فوائد الأصول 4: 264 وما بعدها.
(2) فوائد الأصول 3: 71 - 72.
(3) فرائد الأصول: 16 سطر 16 - 18.
(4) فوائد الأصول 4: 265 - 66 2.
179

باحتمال إصابة الواقع، ولو كان مفادها عدم جواز الاعتناء باحتمال المخالف
مطلقا، فلا فرق بين الاعتناء قبل العمل وبعده، فإن الإتيان على طبق الاحتمال
عين الاعتناء به مطلقا.
والحق: أن العمل بالاحتياط لا ينافي أدلة اعتبار الأمارات، والمكلف
مخير في تقديم الإتيان بأيهما شاء.
وعلى الثاني: - مضافا إلى ما أورد عليه الفاضل المقرر (1) رحمه الله: من
عدم إمكان الإطاعة التفصيلية في المقام، فإن الإتيان بالظهر على أي حال إنما
يكون بداعي الاحتمال، والتمكن من الإطاعة التفصيلية في صلاة الجمعة
لا يوجب التمكن منها في صلاة الظهر، فالمقام أجنبي عن مسألة اعتبار الامتثال
التفصيلي - ما سيأتي من منع تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال
الاحتمالي ووقوع الخلط في المسألة، فانتظر (2).
فاتضح من ذلك جواز تقديم العمل على مقتضى الاحتياط، ثم العمل
على مقتضى الأمارة.
الأمر الثالث: هل الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي، فمع
التمكن من التفصيلي يجوز الاكتفاء بالإجمالي، أم رتبته متأخرة عنه؟
ذهب بعضهم (3) إلى الثاني فيما يلزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة

(1) نفس المصدر السابق هامش رقم (2).
(2) انظر صفحة رقم: 184.
(3) فرائد الأصول: 299 سطر 15 - 17.
180

العمل، وتبعه فيه بعض مشايخ العصر رحمه الله - على ما في تقريراته (1) -
واستدل عليه:
بأن تكرار العمل لعب بأمر المولى (2) وفيه مالا يخفى.
واخرى بما فصله المحقق المعاصر رحمه الله - على ما في تقريراته - بما
حاصله: أن حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث
يكون المحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي
لا يتحقق، فإن الداعي في كل واحد في الطرفين هو احتمال الأمر، فان لانبعاث إنما
يكون عن احتمال البعث، وهذا أيضا - نحو من الإطاعة، إلا أن رتبته متأخرة
عن الامتثال التفصيلي.
فالإنصاف: أن مدعي القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي
مع التمكن في الشبهات الموضوعية والحكمية لا يكون مجازفا، ومع الشك يكون
مقتضى القاعدة هو الاشتغال (3).
وربما يظهر منه في المقام - ونقل عنه الفاضل المقرر رحمه الله - أن اعتبار
الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية ولو بنتيجة التقييد (4) هذا.
وفيه: أنه أما دعوى كون الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية - على
فرض إمكان اعتباره شرعا بنتيجة التقييد - فهو مما لا دليل عليه تعبدا، والإجماع

(1) فوائد الأصول 3: 72 - 73.
(2) فرائد الأصول: 299 سطر 21.
(3) فوائد الأصول 3: 73.
(4) فرائد الأصول 3: 69 هامش رقم (1).
181

المدعى (1) في المقام مما لا اعتبار لمحصله، فضلا عن منقوله، لأن المسألة عقلية
ربما يكون المستند فيها هو الحكم العقلي لاغير، فالعمدة هو الرجوع إلى العقل
الحاكم في باب الطاعات.
فنقول: إن الآتي بالمأمور به مع جميع قيوده وشرائطه بقصد إطاعة أمره
ولو احتمالا يكون عمله صحيحا عقلا، ولو لم يعلم حين الإتيان أن ما أتى به هو
المأمور به، فإن العلم طريق إلى حصول المطلوب، لا أنه دخيل فيه.
ودعوى: كون العلم التفصيلي دخيلا في حصول المطلوب وتحقق
الطاعة، ممنوعة جدا، فإن العقل كما يحكم بصحة عمل من صلى الجمعة مع علمه
بوجوبها تفصيلا، يحكم بها لمن صلى الجمعة والظهر بقصد طاعة المولى مع علمه
بوجوب أحدهما إجمالا، بلا افتراق بينهما ولاتقدم رتبة أحدهما على
الآخر.
فدعوى لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم تفصيلا خالية عن
الشاهد، بل العقل شاهد على خلافها، ولا شبهة في هذا الحكم العقلي أصلا،
فلا تصل النوبة إلى الشك.
بل لنا أن نقول: لو بنينا على لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم
يكون الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي عن البعث المعلوم، فإن البعث فيها
معلوم تفصيلا والإجمال إنما يكون في المتعلق، ودعوى لزوم تميز المتعلق وتعينه
في حصول الإطاعة ممنوعة جدا.

(1) نسبه إلى الحدائق في فرائد الأصول: 299 سطر 22 - 23.
182

هذا كله فيما إذا لزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة العمل.
وأما إذا لم يلزم منه ذلك فقد اعترف العلامة المعاصر - على ما في
تقريرات بحثه - بعدم وجوب إزالة الشبهة وان تمكن منها، لإمكان قصد الامتثال
التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب
الجزء المشكوك، إلا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء، وهو ضعيف (1).
وفيه: أنه - بعد البناء على أن الإطاعة عبارة عن الانبعاث عن البعث
المعلوم تفصيلا مع التمكن، ولا تتحقق مع احتمال البعث - لابد من الالتزام
بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الأجزاء أيضا، فإن الأجزاء وإن لم تكن
متعلقة للأمر مستقلا، لكن الانبعاث نحوها لابد وأن يكون بواسطة بعث المولى
المتعلق بها ضمنا، فما لم يعلم أن السورة - مثلا - جزء للواجب لا يمكن أن يصير
الأمر المتعلق بالطبيعة باعثا إليها، فلا يكون الانبعاث عن البعث، بل عن
احتماله.
وبالجملة: لا شبهة في أن الإتيان بأجزاء الواجب التعبدي لابد وأن
يكون بنحو الإطاعة، والبعث نحو الأجزاء وإن كان بعين البعث نحو الطبيعة،
لكن لا يمكن ذلك إلا مع العلم بالجزئية.
هذا على مسلكه - قدس سره - وأما على مسلكنا فالأمر سهل.
الأمر الرابع: أنه بعد ما عرفت مراتب الامتثال، فهل يجوز الامتثال
الظني بالظن الغير المعتبر والاحتمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي،

(1) فوائد الأصول 3: 74.
183

أم لا؟
قال المحقق المتقدم رحمه الله - على ما في تقريراته -: لا إشكال في أنه
لاتصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني، ولاتصل
النوبة إلى الامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي (1) انتهى.
والظاهر وقوع الخلط في كلامه - قدس سره - بين جواز الاكتفاء
بالامتثال الاحتمالي أو الظني في أطراف العلم الإجمالي مع التمكن من الموافقة
القطعية، وبين المبحوث عنه فيما نحن فيه، فإن البحث هاهنا غير البحث عن
لزوم الموافقة القطعية في أطراف العلم الإجمالي. فما أفاده - من عدم الإشكال
في تقدم الامتثال الظني على الاحتمالي، وفي تقدم العلمي الإجمالي على الظني
مع التمكن - أجنبي عن المقام، فإن المبحوث عنه في المقام هو أنه هل يعتبر العلم
التفصيلي بالأمر في العبادات مع الإمكان، أم تصح العبادة مع
الاحتمال أو الظن؟
فلو فرضنا إتيان أحد أطراف العلم الإجمالي باحتمال كونه مأمورا به، أو
إتيان المحتمل البدوي، ثم تبين مصادفته للواقع، فهل يصح ويجزي عن التعبد
به ثانيا، أم لا؟ فمن اعتبر الامتثال التفصيلي يحكم بالإعادة وعدم الإجزاء.
والتحقيق: هو الصحة مع الامتثال الاحتمالي حتى مع التمكن من
الامتثال العلمي الوجداني التفصيلي فضلا عن غيره، وذلك لما عرفت من أن
الإتيان بالمأمور به على وجهه للتوصل به إلى مطلوب المولى يفيد الإجزاء،

(1) فوائد الأصول 3: 72.
184

والانبعاث باحتمال البعث إطاعة حقيقة لو صادف المأتي به الواقع، خصوصا
في أطراف العلم الإجمالي. ودعوى لزوم العلم بالبعث في صدق الإطاعة (1)
ممنوعة.
نعم مع الانبعاث باحتمال البعث يكون تحقق الطاعة محتملا، فإن المأتي به
لو كان هو المأمور به يكون طاعة، وإلا انقيادا، ولا يعتبر في الطاعة أكثر من
ذلك عند العقل، واعتبار شئ آخر زائد عما يعتبره العقل إنما يكون بتقييد
شرعي مدفوع بالإطلاق أو الأصل.
وهاهنا تفصيل منقول عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (2) - قدس
سره - وهو الحكم بفساد العبادة لو لم يكن قاصدا للامتثال على نحو الإطلاق في
الواجبات، للتأمل في صدق الإطاعة عرفا على فعل من يقتصر على بعض
المحتملات، لكون القصد فيها مشوبا بالتجري، وهذا موجب للتردد في صدق
الإطاعة. هذا في الواجبات.
وأما في المستحبات فصدق الإطاعة على الإتيان ببعض محتملاتها مما
لا شبهة فيه، ولامانع منه، لعدم الشوب بالتجري فيها.

(1) فوائد الأصول 3: 73 والدعوى تستفاد من لازم كلامه قدس سره.
(2) هو الإمام زعيم الدين والملة، سيد الفقهاء ومربي العلماء، السيد محمد حسن بن السيد
محمود الحسيني الشيرازي. ولد سنة 1230 ه‍ في شيراز، اشتغل في طلب العلم وحضر
الأبحاث العالية عند مجموعة من العلماء الأعلام كصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري
والشيخ حسن كاشف الغطاء، له عدة مؤلفات، توفي سنة 1312 ه‍ في سامراء، ودفن في
النجف الأشرف. انظر أعيان الشيعة 5: 5 0 3، معارف الرجال 2: 233، الكنى والألقاب
3: 184.
185

ويرد عليه: أن الإتيان ببعض المحتملات بقصد امتثال أمر المولى
لا يكون مشوبا بالتجري أصلا، بل التجري إنما يتحقق بترك الآخر، لا بفعل
المأتي به، وهذا واضح.
وبما ذكرنا اتضح حال الشبهات البدوية الحكمية، وأن الإتيان بالمشتبه
بقصد الامتثال مجز، ولا يحتاج إلى الفحص، فما أفاده بعض محققي العصر رحمه
الله - من الاحتياج إليه (1) - مما لا أساس له.

(1) فوائد الأصول 4: 271.
186

مباحث الظن
187

في إمكان التعبد بالأمارات
قوله: في بيان إمكان التعبد... إلخ (1).
أقول: لا سبيل إلى إثبات الإمكان، فإنه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه،
ولا برهان عليه كما لا يخفى.
ولكن الذي يسهل الخطب أنه لا احتياج إلى إثباته، بل المحتاج إليه هو
رد أدلة الامتناع، فإذا لم يدل دليل على امتناع التعبد بالأمارات والأصول
نعمل على طبق أدلة حجيتها واعتبارها.
وبعبارة أخرى: لا يجوز رفع اليد عن ظواهر أدلة اعتبارها إلا بدليل
عقلي على الامتناع، فإن دل دليل عليه فإنا نرفع اليد عنها، وإلا نعمل على
طبقها.
ومن ذلك يظهر: أن الإمكان الذي نحتاج إليه هو الذي وقع في كلام

(1) كفاية الأصول 2: 42 السطر الأخير.
189

الشيخ رئيس الصناعة (1) من قوله: كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة
الإمكان مالم يذدك عنه قائم البرهان (2) فإن مقصوده من ذلك الكلام هو الردع
عن الحكم بالامتناع والاستنكار من الإمكان بمجرد غرابة أمر كما هو ديدن
غير أصحاب البرهان.
والإمكان بهذا المعنى - أي الاحتمال العقلي وعدم الحكم بأحد طرفي
القضية بلا قيام البرهان عليه - من الأحكام العقلية، لا البناء العقلائي كما
قيل (3)، والمحتاج إليه فيما نحن بصدده هو هذا المعنى، فإن رفع اليد عن الدليل
الشرعي لا يجوز إلا بدليل عقلي أو شرعي أقوى منه.
فاتضح بما ذكرنا: أن عنوان البحث بما حرروا (4) من إمكان التعبد
بالأمارات الغير العلمية، ليس على ما ينبغي.
كما أن تفسير الإمكان بالوقوعي (5) في غير محله، فإن إثبات الإمكان
- كما عرفت - يحتاج إلى برهان مفقود في المقام، مع عدم الاحتياج إلى
إثباته.

(1) هو الشيخ الكبير أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المعروف بالشيخ الرئيس، ولد في بخارى
سنة 370 ه‍، عرف بقوة الحافظة وشدة الذكاء وسرعة تلقيه للعلوم، له عدة كتب أشهرها
الشفاء والإشارات والقانون، توفي سنة 428 ه‍ ودفن في همدان. انظر وفيات الأعيان
2: 157، أعيان الشيعة 6: 69، الوافي بالوفيات 12: 391.
(2) الإشارات 2: 143 سطر 20 - 21.
(3) فرائد الأصول: 24 السطر الأخير.
(4) فرائد الأصول: 24 سطر 17 - 18، فوائد الأصول 3: 88، درر الفوائد 2: 22.
(5) نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 56.
190

نعم الاستحالة التي ادعيت (1) هي الوقوعية أو الذاتية على بعض
التقادير، فالأولى أن يقال في عنوان البحث: " في عدم وجدان دليل على امتناع
التعبد بالأمارات ".
وأما ما في تقريرات بحث بعض أعاظم العصر - رحمه الله -: من أن
المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي لا التكويني،
فإن التوالي الفاسدة المتوهمة هي المفاسد التشريعية لا التكوينية (2).
ففيه أولا: أن الإمكان التشريعي ليس قسما مقابلا للإمكانات، بل هو من
أقسام الإمكان الوقوعي، غاية الأمر أن المحذور الذي يلزم من وقوع شئ قد
يكون تكوينيا، وقد يكون تشريعيا، وهذا لا يوجب تكثير الأقسام، وإلا
فلنا أن نقول: الإمكان قد يكون ملكيا، وقد يكون ملكوتيا، وقد يكون
عنصريا، وقد يكون فلكيا.. إلى غير ذلك، بواسطة اختلاف المحذورات المتوهمة.
وثانيا: أن بعض المحذورات المتوهمة من المحذورات التكوينية، مثل
اجتماع الحب والبغض والإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة في شئ واحد،
فإنها محذورات تكوينية.
ثم إن المحذورات المتوهمة بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام كاجتماع
المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار، وبعضها راجع إلى مبادئ
الخطابات كاجتماع الكراهة والإرادة والحب والبغض، وبعضها راجع إلى

(1) ادعاها ابن قبة على ما نقله في فرائد الأصول: 24 سطر 19 - 21.
(2) فوائد الأصول 3: 88.
191

نفس الخطابات كاجتماع الضدين والنقيضين والمثلين، وبعضها راجع إلى لازم
الخطابات كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، فحصر المحذور في الملاكي
والخطابي ممالا وجه له، كما وقع من العظيم المتقدم (1).
كما أن تسمية الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة بالمحذور الملاكي (2)،
مما لا ينبغي، فإنها من المحذورات الخطابية ومن لوازم الخطابات، والأمر سهل.
وكيف كان، فلا بد من دفع المحذورات مطلقا، فنقول:
أما تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فلا محذور فيهما إذا كانت
مصلحة التعبد بالأمارات والأصول غالبة، أو محذور عدم التعبد بها غالبا.
وإن شئت قلت: إن ما فات من المكلف بواسطة التعبد بها تصير
متداركة.
بل لنا أن نقول: إن المفاسد الأخروية - أي العقاب والعذاب - لاتلزم بلا
إشكال، وتفويت المصالح الأخروية إما ينجبر بواسطة الانقياد بالتعبد
بالأمارات، وإما يتدارك من جهة أخرى، وإما غير لازم التدارك، فإن
ما يقبح على الحكيم هو الإلقاء في المفسدة، وأما إيصال المصالح فهو من باب
التفضل، وليس في تركه قبح.
وأما الدنيوية منهما فلزومها غير معلوم، لعدم الدليل على اشتمال
المتعلقات أو الأحكام على المصالح والمفاسد الدنيوية، وبعض المصالح

(1) فوائد الأصول 3: 89.
(2) المصدر السابق.
192

الاستجرارية تترتب على التعبد بالأمارات أيضا.
ثم إن الإشكال لا ينحصر بصورة الانفتاح كما أفاد المحقق المعاصر (1)
- رحمه الله - بل يجري في صورة الانسداد أيضا، فإنه وارد في صورة الانسداد
على رفع الاحتياط وترخيص العمل على طبق بعض الأمارات.
وما أفاد: من أن العمل على طبق الأمارة - لو صادف - خير جاء من
قبلها (2).
يرد عليه: بأن الأمر لو كان دائرا بين العمل على طبق الأمارة وترك
العمل والإهمال رأسا، كان الأمر كما أفاده، لكنه ليس دائرا بينهما، بل هو دائر
بين العمل بالاحتياط أو التجزي فيه، أو العمل بالأمارة.
فحينئذ يرد الإشكال عينا على الترخيص في ترك الاحتياط أولا، وعلى
العمل بالأمارة دون التجزي في الاحتياط ثانيا، وطريق [دفع] الإشكال هو
سبيل [دفعه] في زمان الانفتاح من كون العمل بالأمارة ذا مصلحة جابرة، أو
في العمل بالاحتياط مفسدة غالبة.
تنبيه
قد أجاب الشيخ العلامة الأنصاري (3) - قدس سره - عن الإشكال بالتزام

(1) فوائد الأصول 3: 90.
(2) المصدر السابق.
(3) فرائد الأصول: 26 - 27.
193

المصلحة السلوكية، وفصلها المحقق المعاصر - قدس سره - على ما في تقريرات
بحثه بعد رد الوجهين من وجوه السببية - بما حاصله:
الثالث: أن يكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء
الواقع والمؤدى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من دون أن يحدث في
المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه، بل المصلحة تكون في
تطرق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها والبناء على أنه هو
الواقع بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى، وبهذه المصلحة
السلوكية يتدارك ما فات من المكلف (1) انتهى كلامه.
وفيه أولا: أن الأمارات المعتبرة شرعا غالبها - إن لم يكن جميعها -
طرق عقلائية يعمل بها العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم، ولا تكون تأسيسية
جعلية، كما اعترف به المحقق المتقدم (2) - رحمه الله - ومن الواضح أن الأمارات
العقلائية ليست في سلوكها مصلحة أصلا، بل هي طرق محضة، وليس لها شأن
إلا الإيصال إلى الواقع، وليس إمضاء الشارع لها إلا بما لها من الاعتبار
العقلائي، فالمصلحة السلوكية مما لا أساس لها أصلا، وهذا بمكان من الوضوح،
ولا ينبغي التأمل فيه.
وثانيا: لا معنى لسلوك الأمارة وتطرق الطريق إلا العمل على طبق
مؤداها، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فسلوك هذه الأمارة وتطرق هذا

(1) فوائد الأصول 3: 95 - 96.
(2) فوائد الأصول 3: 91.
194

الطريق ليس إلا الإتيان بصلاة الجمعة، فلا معنى لكون مصلحة تطرق الطريق
مصلحة مغايرة للإتيان بنفس المؤدى، والإتيان بالمؤدى مع المؤدى غير متغايرين
إلا في عالم الاعتبار، ولا يرفع الإشكال بهذه الاعتبارات والتعبيرات.
ولك أن تقول: إن هذه المفاهيم المصدرية النسبية لا حقيقة لها إلا في عالم
الاعتبار، ولا تتصف بالمصالح والمفاسد، فموضوع المصلحة والمفسدة نفس
العناوين، أي الصلاة والخمر.
ولو قلت: إن شرب الخمر وإتيان الصلاة متعلق الحرمة والوجوب
وموضوع المفسدة والمصلحة.
قلت: لو سلم فتطبيق العمل في طبق الأمارة وتطرق الطريق عبارة
أخرى عن شرب الخمر وإتيان الصلاة.
وثالثا: لو قامت المصلحة في نفس العمل على طبق الأمارة وتطرق
الطريق - بلا دخالة للمؤدى والواقع فيها - فلا بد من التزام حصول المصلحة في
الاخبار عن الأمور العادية، وقيام الأمارات على أمور غير شرعية، فإذا
أخبر الثقة بأمر له عمل غير شرعي لابد أن يلتزم بأن تطبيق العمل على طبقه
وتطرق هذا الطريق له مصلحة، وهو كما ترى، والقول بأن المصلحة قائمة في
تطرق الطريق القائم على الحكم الشرعي (1) مجازفة.
ثم إن لازم قيام المصلحة - التي يتدارك بها ما فات من المكلف - في تطرق
الطريق وسلوك الأمارة، هو الاجزاء وإن انكشف الخلاف في الوقت، فضلا

(1) فرائد الأصول: 26 السطر الأخير.
195

عن خارجه، لاستيفاء المصلحة بواسطة سلوك الأمارة والعمل على طبقها.
فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، وقلنا: إن في سلوك
الأمارة مصلحة يتدارك بها مفسدة فوت صلاة الظهر مثلا، فعمل المكلف على
طبق الأمارة، ثم انكشف الخلاف في الوقت - ولو وقت الفضيلة - يكون
الإتيان بها مجزيا عن الظهر، لأن المصلحة القائمة في تطرق الطريق غير مقيدة
بعدم انكشاف الخلاف.
فما أفاد الشيخ العلامة الأنصاري (1) - قدس سره - وتبعه المحقق
المعاصر (2) - رحمه الله - من التفصيل في الاجزاء، مما لاوجه له، وما أفاده
الثاني من الوجه (3) ضعيف غايته، فراجع.
ثم إن ما ذكرنا من الأجزاء إنما هو على مسلك القوم، وأما التحقيق في
مسألة الاجزاء وتحرير محل البحث فيها فهو أمر آخر وراء ما ذكروه، وهو
موكول إلى محله.
هذا ما يتعلق بالجواب عن تفويت المصالح والإلقاء في المفاسد.
وأما محذور اجتماع المثلين والضدين والنقيضين وأمثاله، فيتوقف
التحقيق في دفعه على بيان مقدمات:
الأولى: أن مفاد أدلة اعتبار الأمارات والأصول مطلقا هو ترتيب الآثار

(1) فرائد الأصول: 28 سطر 16 حتى آخر الصفحة.
(2) فوائد الأصول 3: 96 - 97.
(3) نفس المصدر السابق.
196

والتعبد بالبناء عملا على طبق مفادها، فكما أن مفاد أدلة أصالتي الطهارة والحلية
- من قوله: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر) (1) و (كل شئ لك حلال) (2) - هو
التعبد عملا بالطهارة والحلية، أي ترتيب آثار الطهارة والحلية على المشكوك
فيه عملا، كذلك مفاد أدلة الفراغ والتجاوز - أيضا - هو التعبد بترتيب آثار
الإتيان على المشكوك فيه في الجزء والشرط، وعدم إتيان مشكوك المانعية.
ومفاد أدلة البراءة الشرعية هو ترتيب آثار عدم الجزئية والشرطية
والمانعية عند الشك فيها.
وكذا مفاد أدلة اعتبار الأمارات هو التعبد بترتيب آثار الواقع عملا،
فإذا قام خبر الثقة على عدم الجزئية والشرطية والمانعية، فمعنى تصديقه هو
ترتيب آثار تلك الأعدام، وإذا قامت البينة على طهارة شئ أو حليته، أو
قامت على إتيان الجزء عند الشك فيه، فوجوب تصديقهما عبارة عن ترتيب
آثار الطهارة والإتيان عملا.
وقس على ذلك كلية أدلة اعتبار الأمارات والأصول بلا افتراق من
هذه الحيثية بينها أصلا. نعم الأمارات بنفسها لها جهة الكاشفية والطريقية دون
غيرها، وكلامنا في دليل اعتبارها لافي مفاد أنفسها، وقد خلط كثير منهم بين
المقامين والحيثيتين، فلا تغفل.

(1) التهذيب 1: 284 - 285 / 199 باب 12 في تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، الوسائل
2: 1054 / 4 باب 37 من أبواب النجاسات.
(2) الكافي 6: 339 / 2 باب الجبن من كتاب الأطعمة، الوسائل 17: 91 / 2 باب 61 من
أبواب الأطعمة المباحة.
197

وأما حديث حكومة دليل على دليل فهو باعتبار لسان أدلة الاعتبار،
لا باعتبار كاشفية الأمارات وعدم كاشفية غيرها، فإنها أمور تكوينية لادخل
لها بالحكومة ومثلها.
فمفاد أدلة الأمارات وإن كان بحسب النتيجة مطابقا لأدلة الأصول، لكن
حكومتها باعتبار لسانها، فإن لسانها هو ترتيب آثار صدق العادل وكون
خبره مطابقا للواقع، وهذا لسان إزالة الشك تعبدا، وهو بهذا المفاد مقدم على
الأصول التي اخذ الشك في موضوعها، وللكلام محل آخر يأتي - إن شاء الله
تعالى - في مستأنف المقال (1).
عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها
الثانية: لا يمكن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها، للزوم الدور،
فإن العلم بالشئ يتوقف على وجود الشئ بحسب الواقع، ولو توقف
وجوده على العلم به لزم توقف الشئ على ما يتوقف عليه، وهذا واضح.
ومناقشة بعض المحققين من أهل العصر (2) - رحمه الله - في ذلك - لجواز

(1) انظر الجزء الثاني صفحة رقم: 242.
(2) هو المحقق الكبير والعالم الرباني الشيخ محمد حسين بن محمد حسن معين التجار الأصفهاني
الشهير بالكمپاني. ولد في النجف الأشرف سنة 1296 ه‍ حضر الأبحاث العالية عند جملة من
عظماء الطائفة الإمامية كالأخوند والسيد الفشاركي والميرزا باقر الاصطهباناتي وغيرهم. توفي
سنة 1361 ه‍ ودفن في النجف الأشرف. له مؤلفات كثيرة أشهرها نهاية الدراية. انظر معارف
الرجال 2: 263، نقباء البشر 2: 560. وانظر المطلب في نهاية الدراية 2: 22 - 23.
198

القطع بالحكم بنحو الجهل المركب، فلا يتوقف العلم بالحكم عليه بحسب
الواقع - خلط، وفي غير محلها.
هذا مضافا إلى ظهور أدلة الأصول والأمارات في أن الأحكام الواقعية
محفوظة في حال الشك، فإن قوله: (كل شئ لك حلال حتى تعرف الحرام
بعينه) (1) يدل على أن ما هو حرام واقعا إذا شك في حرمته يكون حلالا بحسب
الظاهر وفي حال الشك، وكذا قوله: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) (2)
يدل على محفوظية القذارة الواقعية في حال الشك. وكذا أدلة الأمارات - مثل
أدلة حجية قول الثقة - تدل على تصديقه وترتيب آثار الواقع على مؤداه.
وبالجملة: لا إشكال في عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها،
كما أن الخطابات الشرعية متعلقة بعناوين محفوظة في حال العلم والجهل، فإن
الحرمة قد تعلقت بذات الخمر والوجوب تعلق بذات الصلاة من غير تقيد
بالعلم والجهل، فهي بحسب المفاد شاملة للعالم والجاهل كما لا يخفى.
وجه الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية
الثالثة: أن الخطابات - كما عرفت - وإن لم تكن مقيدة بحال العلم ولا
مختصة بالعالم بها، ولكن هنا أمر آخر، وهو أن الخطابات إنما تعلق بالعناوين

(1) الكافي 5: 313 / 40 باب المملوك يتجر...، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من أبواب
ما يكتسب به.
(2) مستدرك الوسائل 1: 164 / باب 29 / ح 4.
199

وتوجه إلى المكلفين لغرض انبعاثهم نحو المأمور به ولتحريكها إياهم نحوه،
ولا إشكال في أن التكليف والخطاب بحسب وجوده الواقعي لا يمكن أن يكون
باعثا وزاجرا، لامتناع محركية المجهول، وهذا واضح جدا.
فالتكاليف إنما تتعلق بالعناوين وتتوجه إلى المكلفين لكي يعلموا
فيعملوا، فالعلم شرط عقلي للباعثية والتحريك، فلما كان انبعاث الجاهل غير
ممكن فلا محالة تكون الإرادة قاصرة عن شمول الجاهلين، فتصير الخطابات
بالنسبة إليهم أحكاما إنشائية.
وإن شئت قلت: إن لفعلية التكليف مرتبتين:
إحداهما: الفعلية التي هي قبل العلم، وهي بمعنى تمامية الجهات التي من
قبل المولى، وإنما النقصان في الجهات التي من قبل المكلف، فإذا ارتفعت الموانع
التي من قبل العبد يصير التكليف تام الفعلية، وتنجز عليه.
وثانيتهما: الفعلية التي هي بعد العلم وبعد رفع سائر الموانع التي تكون
من قبل العبد، وهو التكليف الفعلي التام المنجز.
إذا عرفت ما ذكرنا من المقدمات سهل لك سبيل الجمع بين الأحكام
الواقعية والظاهرية، فإنه لابد من الالتزام بأن التكاليف الواقعية مطلقا - سواء
كانت في موارد قيام الطرق والأمارات، أو في موارد الأصول مطلقا - فعلية
بمعناها الذي قبل تعلق العلم، ولا إشكال في أن البعث والزجر الفعليين غير
محققين في موارد الجهل بها، لامتناع البعث والتحريك الفعليين بالنسبة إلى
القاصرين، فالتكاليف بحقائقها الإنشائية والفعلية التي من قبل المولى - بالمعنى
200

الذي أشرنا إليه - تعم جميع المكلفين، ولا تكون مختصة بطائفة دون طائفة،
لكن الإرادة قاصرة عن البعث والزجر الفعلي بالنسبة إلى القاصرين.
فإذا كان التكليف قاصرا عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إليهم فلا
بأس بالترخيص الفعلي على خلافها، ولا امتناع فيه أصلا، ولا يلزم منه اجتماع
الضدين أو النقيضين أو المثلين وأمثالها.
نعم يمكن للمولى - بعد قصور التكليف الواقعي عن البعث والزجر -
إيجاب الاحتياط على المكلف بدليل مستقل، فإن إيجاب الاحتياط لا يمكن
بواسطة نفس الدليل الدال على الحكم الواقعي، لقصوره عن التعرض لحال
الشك، فلابد من الدليل المستقل حفظا للحكم الواقعي، ولكن إذا كان في
الاحتياط محذور أشد من الترخيص - مثل الحرج واختلال النظام - فلابد له
من الترخيص، ولا محذور فيه أصلا.
فالجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية بما ذكرنا مما لا محذور فيه ملاكا
وخطابا، بل لا محيص عنه، فإن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجاهل غير
معقولين، كما أن الترخيص مع البعث والزجر الفعليين غير معقول.
وأما مع قصور التكليف والإرادة عنهما وحرجية إيجاب الاحتياط أو
محذور آخر فيه، فلا محيص عن جعل الترخيص، ولا محذور فيه.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأحكام الواقعية والخطابات الأولية - بحسب
الإنشاء والجعل، وبحسب الفعلية التي قبل العلم - عامة لكلية المكلفين
جاهلين كانوا أو عالمين، لكنها قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى
201

الجهال منهم، ففي هذه المرتبة التي هي مرتبة جريان الأصل العقلي لا بأس في
جعل الترخيص، فإذا جاز الترخيص فما ظنك بجعل الأمارات التي هي غالبة
المطابقة للواقع؟
مضافا إلى ما عرفت فيما سبق (1) أن الأمارات والطرق الشرعية - جلها
أو كلها - هي الأمارات العرفية العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم
وسياساتهم، وليست هي تأسيسية جعلية، فصرف عدم الردع كاف لحجيتها،
ولا تحتاج إلى جعل وإنشاء حجية أو إمضاءكما قيل (2). نعم للشارع جعل
الاحتياط والردع عن العمل بها، وهو - كما عرفت - خلاف المصالح العامة
وسهولة الدين الحنيف، فإذا كان الأمر كذلك فلا ينقدح شوب إشكال الجمع
بين الضدين والنقيضين والمثلين حتى نحتاج إلى رفعه، فتدبر.
تنبيه
الإشكال على الوجوه التي
ذكرت للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
وها هنا وجوه من الجمع لا تخلوكلها أو جلها من الخلل والقصور،
لا بأس بالتعرض لمهماتها:
منها: ما أفاد بعض محققي العصر رحمه الله - على ما في تقريرات بحثه - بعد

(1) انظر صفحة رفم: 105 وما بعدها.
(2) مقالات الأصول 2: 38 سطر 9 - 11.
202

تفكيكه في التفصي عن الإشكال بين موارد قيام الطرق والأمارات وبين
الأصول المحرزة وبين الأصول الغير المحرزة، فقال في موارد تخلف الأمارات
ما حاصله: إن المجعول فيها ليس حكما تكليفيا، حتى يتوهم التضاد بينها وبين
الواقعيات، بل الحق أن المجعول فيها هو الحجية والطريقية، وهما من الأحكام
الوضعية المتأصلة في الجعل، خلافا للشيخ - قدس سره - حيث ذهب إلى أن
الأحكام الوضعية كلها منتزعة من الأحكام التكليفية (1).
والانصاف عدم تصور انتزاع بعض الأحكام الوضعية من الأحكام
التكليفية، مثل الزوجية، فإنها وضعية ويستتبعها جملة من الأحكام، كوجوب
الإنفاق على الزوجة، وحرمة تزويج الغير لها، وحرمة ترك وطئها أكثر من
أربعة أشهر... إلى غير ذلك، وقد يتخلف بعضها مع بقاء الزوجية، فأي حكم
تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه؟! وأي جامع بين هذه الأحكام التكليفية
ليكون منشأ لانتزاع الزوجية؟! فلا محيص في أمثالها عن القول بتأصل الجعل،
ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات، فإنها متأصلة بالجعل ولو إمضاء، لما
تقدمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا عقلائية يعتمد عليها العقلاء
في مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع، فنفس
الحجية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن
يكون هناك حكم تكليفي منشأ لانتزاعه.
إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ظهر لك أنه ليس فيها حكم حتى ينافي

(1) فرائد الأصول: 351 سطر 11 - 20.
203

الواقع، فلا تضاد ولا تصويب، وليس حال الأمارات المخالفة إلا كحال العلم
المخالف، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط مطلقا، فعند الإصابة يكون
المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيزه، وعند الخطا يوجب
المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك
حكم آخر مجعول (1) انتهى.
وفيه: أولا: أنه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائية الإمضائية
غالبا حكم مجعول أصلا، لا الحجية، ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم
التكليفي التعبدي، كما قد عرفت سابقا (2) وليس معنى الإمضاء هو إنشاء حكم
إمضائي، بل الشارع لم يتصرف في الطرق العقلائية، وكان الصادع بالشرع
يعمل بها كما يعمل العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم. وما ورد في بعض
الروايات إنما هي أحكام إرشادية.
والعجب أنه - قدس سره - مع اعترافه كرارا بذلك (3) ذهب إلى جعل
الحجية والوسطية في الإثبات وتتميم الكشف (4) وأمثالها مما لاعين لها في الأدلة
الشرعية ولا أثر.
وثانيا: لو سلم أن هناك جعلا شرعيا، فما هو المجعول ليس إلا إيجاب
العمل بالأمارات تعبدا، ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤداها، كما هو مفاد

(1) فوائد الأصول 3: 105.
(2) انظر صفحة رقم: 105 وما بعدها.
(3) فوائد الأصول 3: 30، 91، 195.
(4) فوائد الأصول 3: 17.
204

الروايات مثل قوله - عليه السلام -: (إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس)
وأشار إلى زرارة (1)، وقوله: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا) (2) وقوله: (عليك بالأسدي، يعني أبا بصير) (3)، وقوله: (العمري ثقتي)
إلى أن قال: (فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون) (4) إلى غير ذلك من الروايات
الكثيرة مما يستفاد منها - مع الغض عن الإرجاع إلى الارتكاز العقلائي - وجوب
العمل على طبقها تعبدا على أنها هو الواقع وترتيب آثار الواقع على مؤداها.
نعم لو كان للآية الشريفة: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (5) دلالة،
يمكن أن يتوهم منها أنها بصدد جعل المبينية والمكشوفية في مؤدى خبر العادل،
بتقرير أن المفهوم منها أن خبر العادل لا يجب التبين فيه لكونه متبينا.

(1) رجال الكشي: 136 / 216، الوسائل 18: 104 / 19 باب 11 من أبواب صفات القاضي
بتفاوت يسير.
(2) كتاب الغيبة: 177، الاحتجاج 2: 470 توقيعات الناحية المقدسة، الوسائل 18: 101 / 9 باب
11 من أبواب صفات القاضي.
(3) رجال الكشي: 171 / 291، الوسائل 18: 103 / 15 باب 11 من أبواب صفات القاضي.
أبو بصير الأسدي: هو يحيى بن القاسم، كوفي تابعي، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق
عليهما السلام، ذكره النجاشي ووصفه بالوثاقة والوجاهة، توفي سنة 150 ه‍. انظر رجال
النجاشي: 441. معجم رجال الحديث 20: 74.
(4) الكافي 1: 329 - 330 / 1 باب في تسمية من رآه عليه السلام، الوسائل 18: 99 / 4 باب 11 من
أبواب صفات القاضي.
العمري: هو الشيخ العظيم والوكيل الجليل أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي، أول
نائب خاص للإمام المهدي (عليه السلام) في الغيبة الصغرى، توفي ببغداد ولازال قبره الشريف
مقصد الزائرين. انظر تنقيح المقال 2: 245، معجم رجال الحديث 11: 111.
(5) الحجرات: 6.
205

لكن فيه - مع الغض عن الإشكال بل الإشكالات في دلالتها - أنها
ليست بصدد جعل ما ذكر، بل بصدد جعل وجوب العمل على طبقه، وإنما
المتبينية الذاتية التي له جهة تعليلية لوجوب العمل على طبقه. تدبر تعرف.
وثالثا: أن الحجية والوسطية في الإثبات والكاشفية وأمثالها لا تنالها يد
الجعل تأصلا.
أما الحجية بمعنى صحة الاحتجاج وقاطعية العذر فواضح، فإنها أمر
تبعي محض متأخر عن جعل تكليف أو وضع، وليس نفس صحة الاحتجاج
وقاطعية العذر من الاعتبارات الاستقلالية للعقلاء، وذلك واضح.
وأما الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية والحجية التي بمعنى
الوسطية في الإثبات: فلأن كل واحد من تلك المعاني مما لا يمكن جعله، فإن
إعطاء جهة الكاشفية والطريقية كما لا يمكن لما لا يكون له جهة كشف وطريقية،
كذلك تتميم الكاشفية وإكمال الطريقية لا يمكن جعلهما لما هو ناقص الكاشفية
والطريقية، فكما أن الشك غير قابل لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية عليه - كما
اعترف به (1) قدس سره - كذلك ما ليس له تمام الكاشفية ويكون هذا النقصان
ذاتيا له لا يمكن جعل التمامية له، وكما أن اللا كاشفية ذاتية للشك لا يمكن سلبها
عنه، كذلك النقص ذاتي للأمارات لا يمكن سلبه عنها، فما هو تحت يد الجعل
ليس إلا إيجاب العمل بمفادها تعبدا والعمل على طبقها وترتيب آثار الواقع
عليها، ولما كان ذاك التعبد بلسان تحقق الواقع وإلقاء احتمال الخلاف عملا،

(1) فوائد الأصول 3: 19.
206

ينتزع منه الحجية والوسطية في الإثبات تعبدا.
فتحصل مما ذكرنا: أن ما هو ممكن المجعولية وما تناله يد الجعل ليس إلا
الحكم التكليفي التعبدي، أي وجوب العمل على طبق الأمارات ووجوب
ترتيب آثار الواقع على مؤداها، والوضع إنما ينتزع من هذا الحكم التكليفي.
وأما قضية حكومتها على الأصول فهي أساس آخر قد أشرنا إليه فيما
سلف (1). وسيأتي (2) - إن شاء الله - بيانها في مستأنف القول.
ورابعا: أن ما أفاد من كون الزوجية مجعولة تأصلا لعدم تصور وجود
تكليف ينتزع منه الزوجية (3)، ففيه: أن تلك الأحكام التكليفية التي عدها -
من وجوب الإنفاق على الزوجة... إلى آخر ما ذكره إنما هي متأخرة عن
الزوجية، وتكون من أحكامها المترتبة عليها، ومعلوم أن أمثالها لا يمكن أن
تكون منشأ لانتزاع الزوجية، لا لمكان عدم الجامع بينها، بل لمكان تأخرها
عن الزوجية وكونها من آثارها وأحكامها، فتلك الأحكام أجنبية عن انتزاع
الوضع منها.
نعم هنا أحكام تكليفية أخرى يمكن أن تكون (4) مناشئ للوضع،
كقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (5) وقوله: * (وانكحوا الأيامى

(1) انظر صفحة رقم: 198.
(2) انظر الرسائل (مبحث الاستصحاب) صفحة رقم: 242.
(3) فوائد الأصول 3: 105 - 106.
(4) أي يتوهم أنها [منه قدس سره].
(5) النساء: 3.
207

منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) * (1)، وقوله تعالى: * (وأحل لكم ما
وراء ذلكم) * (2) وأمثالها.
وإن كان التحقيق عدم مجعولية الزوجية شرعا، لا بنحو الأصالة ولا
بنحو آخر، فإن الزوجية من الأمور العقلائية ومن الاعتبارات التي يكون أساس
الحياة الاجتماعية ونظامها متوقفا عليها، ولا تكون من المخترعات الشرعية.
نعم إن الشرائع قد تصرفت فيها نوع تصرفات في حدودها، لا أنها اخترعتها،
بل اتخاذ الزوج وتشكيل العائلة من مرتكزات بعض الحيوانات أيضا.
وخامسا: بعد اللتيا والتي لا يحسم ما أطنب مادة الإشكال، فإن
الأحكام الواقعية إذا كانت باقية على فعليتها وباعثيتها وزاجريتها لا يمكن
جعل الأمارة المؤدية إلى خلافها بالضرورة، فإن جعل الحجية والوسطية في
الإثبات في الأمارات المؤدية إلى منا قضات الأحكام الشرعية ومضاداتها،
يلازم الترخيص الفعلي للعمل على طبقها، وهو محال مع فعليتها.
وبالجملة: لا يعقل جعل الأمارة المؤدية إلى خلاف الأحكام الواقعية
بأي عنوان كان، فمع بقائها على تلك المرتبة من الفعلية، كما لا يمكن جعل
أحكام مضادة لها، لا يمكن جعل حجة أو أمارة أو عذر أو أمثال ذلك.
وقياس الأمارات على العلم مع الفارق، ضرورة أن العلم لم يكن بجعل
جاعل، حتى يقال: إن جعله لأجل تضمنه الترخيص الفعلي يضاد الأحكام

(1) النور: 32.
(2) النساء: 24.
208

الواقعية. هذا إذا قلنا ببقاء الأحكام على فعليتها بعثا وزجرا.
وأما مع التنزل عنها وصيرورتها إنشائية أو فعلية بمرتبة دون تلك
المرتبة - كما عرفت (1) - فلا مضادة بينها وبين الأحكام التكليفية الظاهرية،
فلاوجه لإتعاب النفس والالتزام بأمور لم يكن لها عين ولا أثر في أدلة اعتبار
الأمارات، وإنما هي اختراعات نشأت من العجز عن إصابة الواقع.
ومما ذكرنا يعرف النظر في كلام المحقق الخراساني (2) - رحمه الله - حيث
ظن أن المجعول قي باب الأمارات - إذا كان الحجية غير مستتبعة لإنشاء أحكام
تكليفية - يحسم مادة الإشكال مع أنه بحاله.
كما أن الجمع على فرض الحكم التكليفي بما أفاد من كون أحدهما طريقيا
والآخر واقعيا (3) مما لا يحسم مادته، فإنه مع فعلية الأحكام الواقعية لا يمكن
جعل الحكم الطريقي المؤدي إلى ضدها ونقيضها، كما هو واضح بأدنى تأمل.
وبالجملة: لا محيص - على جميع المباني - عن الالتزام بعدم فعلية
الأحكام بمعناها الذي بعد العلم كما عرفت.
ثم إن المحقق المعاصر المتقدم - قدس سره - قال في باب الأصول المحرزة
ما حاصله: إن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو
الواقع، وإلقاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع

(1) انظر صفحة رقم: 200 وما بعدها.
(2) الكفاية 2: 44 سطر 12 - 14.
(3) الكفاية 2: 49 - 50.
209

الطريقي، فالمجعول فيها ليس أمرا مغايرا للواقع، بل الجعل الشرعي تعلق
بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله - في بعض
أخبار قاعدة التجاوز -: بأنه (قد ركع) (1) فإن كان المؤدى هو الواقع فهو، وإلا
كان الجري العملي واقعا في غير محله، من دون أن يتعلق بالمؤدى حكم على
خلاف ما هو عليه، فلا يكون ما وراء الحكم الواقعي حكم آخر حتى يناقضه
ويضاده (2) انتهى.
وأنت خبير بورود الإشكال المتقدم عليه من عدم حسم مادة الإشكال
به أصلا مع بقاء الحكم الواقعي على فعليته وباعثيته، فإنه مع بقائهما كيف يمكن
جعل الأصول التنزيلية بأي معنى كان؟!
فالبناء العملي على إتيان الجزء أو الشرط - كما هو مفاد قاعدة التجاوز
على ما أفاد - مع فعلية حكم الجزئية والشرطية مما لا يجتمعان بالضرورة، ولا
يعقل جعل الهوهوية المؤدية إلى مخالفة الحكم الواقعي مع فعليته وباعثيته (3).
وهكذا الكلام في الاستصحاب وغيره من الأصول المحرزة على طريقته
قدس سره (4).

(1) الاستبصار 1: 358 / 8 باب 208 من شك وهو قائم، الوسائل 4: 937 / 6 باب 13 من
أبواب الركوع.
(2) فوائد الأصول 3: 111 - 112.
(3) هذا، مع أن ظاهر كلامه لا يرجع إلى محصل، فإن البناء العملي والجري العملي من
فعل المكلف، وهو ليس تحت الجعل، وإيجاب الجري العملي حكم مضاد للواقع. [منه
قدس سره]
(4) فوائد الأصول 4: 692.
210

هذا مضافا إلى ما مر ذكره من منع كون الاستصحاب من الأصول المحرزة:
أما على استفادة الطريقية من أدلته - كما قربناها (1) - فواضح، وأما على التنزل
من ذلك فلا يستفاد منها إلا وجوب ترتيب آثار الواقع على المشكوك وعدم
جواز رفع اليد عن الواقع بمجرد الشك، فالكبرى المجعولة في الاستصحاب
ليست إلا الحكم التكليفي (2) وهو حرمة رفع اليد عن آثار الواقع، أو وجوب
ترتيب آثاره، وأما جعل الهوهوية فهو أجنبي عن مفادها.
وأما قاعدة التجاوز والفراغ فمفاد أدلتها - أيضا - ليس إلا الحكم
التكليفي، وهو وجوب المضي وعدم الاعتناء بالشك وترتيب آثار إتيان
الواقع المشكوك فيه، وهذا حكم تكليفي أجنبي عما ذكره من جعل الهوهوية.
وليت شعري أنه ما الداعي إلى رفع اليد عن ظواهر الأدلة الكثيرة في باب
الطرق والأمارات وأبواب الأصول والالتزام بما لاعين له في الأدلة ولا أثر؟
ولعل الإشكال المتقدم ألجأه إلى الالتزام بهذه الأمور الغريبة البعيدة عن
مفاد الأدلة بل عن مذاق الفقاهة، مع أنها - كما عرفت - لا تسمن ولا تغني من
جوع.
وبما ذكرنا - مع ما يأتي في محله (3) - يظهر أن الأصول التنزيلية - بما ذكره -
مما لا أساس لها أصلا، ولا داعي للالتزام بها، كما أنه لا داعي للالتزام بما التزم به

(1) سابقا لكن رجعنا عنه. [منه قدس سره]
(2) قد رجعنا عنه أيضا في مبحث الاستصحاب. [منه قدس سره]
(3) انظر الجزء الثاني صفحة رقم: 174.
211

في الأمارات والطرق، كما يظهر بالتأمل فيما ذكرناه.
ثم (1) إنه - قدس سره - قال في باب الأصول الغير التنزيلية - مع ما أطال
وأتعب نفسه الزكية في تفصيل متممات الجعل - ما ملخصه:
إن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو
موضوعه كحالة العلم والظن، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم
يضاد الحكم الواقعي، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
ثانيهما: اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه
ومنجزا له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل
ومنجزا للواقع وموصلا إليه، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن
الواقع، حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية، فلو كانت مصلحة
الواقع مهمة في نظر الشارع، كان عليه جعل المتمم، كمصلحة
احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنه أهم من مفسدة حفظ نفس الكافر،

(1) وذكر قبيل هذا: أن متمم الجعل فيما نحن فيه يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه (أ).
ومراده من المتمم هو أصالة الاحتياط. وهذا مع بطلانه في نفسه، لأن أصل الاحتياط أو إيجاب
الاحتياط لا يكون متكفلا لبيان وجود الحكم في زمان الشك بالضرورة، وإلا لكان أمارة،
ووجوب الاحتياط مع الشك لغرض الوصول إلى الواقع غير كون أصل الاحتياط أو إيجابه مبينا
للواقع، وهو أوضح من أن يخفى، ومخالف لما قال سابقا من أنه أصل غير محرز، ولبعض
كلماته اللاحقة (ب) فراجع.
(أ) فوائد الأصول 3: 114.
(ب) فوائد الأصول 3: 112، 4: 692.
212

فيقتضي جعل حكم طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشك، وهذا الحكم
الاحتياطي إنما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته، ولذا كان خطابه نفسيا
لا مقدميا، لأن الخطاب المقدمي ما لا مصلحة فيه أصلا، والاحتياط ليس
كذلك، لأن أهمية الواقع دعت إلى وجوبه، فهو واجب نفسي للغير،
لا واجب بالغير، ولذا كان العقاب على مخالفته، لا مخالفة الواقع، لقبح
العقاب عليه مع الجهل.
إن قلت: فعليه تصح العقوبة على مخالفة الاحتياط - صادف الواقع
أولا - لكونه واجبا نفسيا.
قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي لا يدور الحكم
مداره هو الأول دون الثاني. ولا إشكال في أن الحكم بوجوب حفظ نفس
المؤمن علة للحكم بالاحتياط، ولا يمكن أن يبقى في مورد الشك مع عدم كون
المشكوك مما يجب حفظ نفسه، ولكن لمكان جهل المكلف كان اللازم عليه
الاحتياط تحرزا عن مخالفة الواقع.
من ذلك يظهر: أنه لا مضادة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي،
فإن المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع
الوجوب الواقعي، ويكون هو هو، وإلا فلا، لانتفاء علته، والمكلف يتخيل
وجوبه لجهله بالحال، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب
المقدمي وإن كان من جهة أخرى يغايره.
والحاصل: أنه لما كان إيجاب الاحتياط من متممات الجعل الأولي
213

فوجوبه يدور مداره، ولا يعقل بقاء المتمم - بالكسر - مع عدم المتمم - بالفتح -
فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضاد
بينهما، لاتحادهما في مورد المصادقة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة،
فأين التضاد؟!
هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمم وأما مع عدم الأهمية،
فللشارع جعل المؤمن بلسان الرفع، كقوله: (رفع... مالا يعلمون) (1)،
وبلسان الوضع مثل (كل شئ... حلال) (2) فإن رفع التكليف ليس عن موطنه
ليلزم التناقض، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط.
فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل
بقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع.
والسر فيه: أنها تكون في طول الواقع لتأخر رتبتها عنه، لأن الموضوع
فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل
إليه ولا منجز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف
يعقل أن تضاده؟!
وبالجملة: الرخصة والحلية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحل
تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط. وقد عرفت أن

(1) الخصال: 417 / 9، توحيد الصدوق: 353 / 24، الفقيه 1: 36 / 4 باب 14 فيمن ترك
الوضوء أو بعضه أو شك فيه، الاختصاص: 31.
(2) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من أبواب
ما يكتسب به.
214

إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع، فما يكون في عرضه يكون في طول
الواقع أيضا، وإلا يلزم أن يكون ما في طول الشئ في عرضه (1) انتهى كلامه
رفع مقامه.
وفيه أولا: أن تفريقه بين أخذ الشك باعتبار كونه من الحالات
والطوارئ، وبين أخذه باعتبار كونه مؤجبا للحيرة في الواقع، وجعله مناط
رفع التضاد هو الأخذ على الوجه الثاني، مما لا محصل له، فإن الطولية لو ترفع
التضاد فالحالات الطارئة - أيضا - في طول الواقع، وإلا فالأخذ باعتبار كونه
موجبا للحيرة في الواقع لا يرفعه.
وبالجملة: أن الاعتبارين مجرد تغيير في العبارة وتفنن في التعبير، وبهذا
وأشباهه لا يرفع التضاد، لكون الحكم الواقعي محفوظا مع الشك والحيرة.
وثانيا: أن الحكم الواقعي إن بقي على فعليته وباعثيته فلا يعقل جعل
الاحتياط المؤدي إلى خلافه، فضلا عن جعل المؤمن كما في أصالة الإباحة،
فهل يمكن مع فعلية الحكم الواقعي جعل المؤمن الذي يلازم الترخيص في
المخالفة أو عينه؟ وهل مجرد تغيير أسلوب الكلام وكثرة الاصطلاح والاعتبار
ترفع التضاد والتناقض؟!
وإن لم يبق كما اعترف في المقام بأن الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس
الأمرية لا تصلح للداعوية فالجمع بين الحكم الواقعي بهذا المعنى والظاهري
لا يحتاج إلى تلك التكلفات، فإن الحكم الإنشائي أو الفعلي بالمعنى المتقدم مما

(1) فوائد الأصول 3: 114 وما بعدها.
215

لا ينافي الأحكام الظاهرية.
وثالثا: أن ما تفصى به عن إشكال صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط
- بالتزامه عدم وجوب الاحتياط واقعا في مورد الشك مع عدم كون المشكوك
فيه مما يجب حفظه، لكون وجوب حفظ المؤمن علة للحكم بالاحتياط لا علة
للتشريع - مما لاوجه له، فإن وجوب الاحتياط حكم ظاهري لغرض حفظ
الواقع، ولابد لهذا الحكم الظاهري المتمم للجعل الأولي أن يتعلق حقيقة بكل
مشكوك سواء كان المشكوك مما يجب حفظه، أم لا. ولو تعلق وجوب
الاحتياط بمورد الشك الذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج
إلى متمم آخر، فإن وجوب الاحتياط المتعلق بالمشكوك فيه الواجب بحسب
الواقع لا يصلح للداعوية نحو المشكوك فيه، وقاصر عن أن يكون محركا لإرادة
العبد كنفس التكليف الواقعي، فيصير إيجاب الاحتياط لغوا، فإن في جميع
موارد الشك يكون تعلق وجوب الاحتياط بها مشكوكا.
وما أفاد قدس سره - من أن المكلف لما لم يعلم كون المشكوك مما يجب
حفظ نفسه أو لا يجب، كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرزا عن مخالفة الواقع -
واضح الفساد، فإن وجوب الاحتياط على النحو الذي التزم به لا يزيد سعة
دائرته عن الحكم الواقعي، فكما أن الحكم الواقعي لا يمكن أن يتكفل بزمان
شكه، كذلك حكم الاحتياط لا يمكن أن يتكفل بزمان شكه، والحال أن تمام
موارده كذلك، فإيجاب الاحتياط لا يكون إلا لغوا باطلا.
فتحصل مما ذكرنا: أن حكم الاحتياط لابد وأن يتعلق بكل مشكوك،
216

لكن لما كان هذا الحكم لغرض حفظ الواقع، وليس نفسه متعلقا لغرض المولى،
لا يوجب مخالفته بنفسها استحقاق العقوبة (1) وهذا واضح جدا.
ورابعا: أن ما أفاد - من أن الرخصة والحلية المستفادة من حديث الرفع
وأصالة الحل تكون في عرض المنع المستفاد من إيجاب الاحتياط، ولما كان
إيجاب الاحتياط في طول الواقع فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع
أيضا، وإلا يلزم أن يكون ما في طول الشئ في عرضه - منظور فيه، فإنه قد
ثبت أن ما في عرض المتقدم على شئ لا يلزم أن يكون في طول هذا المتأخر، مع
أن هذه الطولية مما لا ترفع التضاد كما عرفت.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن ما أفاد هذا المحقق - مع ما أطنب وأتعب
نفسه في أبواب الأمارات والأصول من وجوه الجمع - مما لا طائل تحته ولا
أساس له. وفي كلامه مواقع أنظار اخر تركناها مخافة التطويل.
وجه الجمع على رأي بعض المشايخ
ومن وجوه الجمع: ما نقل شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - عن سيده
الأستاذ - قدس سره - ومحصله: عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في
موضوع الآخر الشك في الأول.
توضيحه: أن الأحكام تتعلق بالمفاهيم الذهنية من حيث إنها حاكية عن

(1) بل العقاب على الواقع - لو فرض التخلف - ولا يقبح العقاب عليه بعد إيجاب الاحتياط، كما هو واضح.
[منه قدس سره]
217

الخارج، فالشئ مالم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية.
ثم المفهوم المتصور: تارة يكون مطلوبا على نحو الإطلاق، واخرى على
نحو التقييد، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في غير ذلك المقيد، وقد
يكون لوجود المانع، وهذا الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقا
إلا أن عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر الأهم، فلا محالة بعد الكسر
والانكسار يقيد الرقبة بالمؤمنة، لا لعدم المقتضي، بل لمزاحمة المانع.
وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتحد
معه المخرج له عن المطلوبية الفعلية. فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن
- بحيث يكون تعقل أحدهما لامع الآخر دائما - لم يتحقق الكسر والانكسار بين
الجهتين، فاللازم منه أنه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون
مطلوبا مطلقا، لعدم تعقل منافيه، ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضية
يكون مبغوضا كذلك، لعدم تعقل منافيه.
والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهرية
مما لا يجتمعان في الوجود الذهني أبدا، لأن الحالات اللاحقة للموضوع بعد
تحقق الحكم وفي الرتبة المتأخرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه.
فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق
جهة المبغوضية فيه لصار مبغوضا بهذه الملاحظة، ولا يزاحمها جهة المطلوبية
الملحوظة في ذاته، لأن الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلا فعلا، لأن
تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه
218

ملاحظته مع الحكم.
إن قلت: العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات،
ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعلق العنوان المتأخر، فيجتمع العنوانان وعاد
الإشكال.
قلت: كلا، فإن تصور موضوع الحكم الواقعي مبني على تجرده عن
الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم،
ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرد واللا تجرد.
وبعبارة أخرى: صلاة الجمعة التي كانت متصورة في مرتبة كونها
موضوعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسما لمعلوم الحكم ومشكوكه، والتي
تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسما لهما، فتصورهما معا موقوف على
تصور العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمين وعلى نحو ينقسم، وهذا مستحيل
في لحاظ واحد.
فيحنئذ نقول: متى تصور الأمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون
مطلوبة، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلقة لحكم
آخر (1) انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه أولا: أن ما أفاد - من عدم إمكان تصور ما يأتي من قبل الحكم في
الموضوع - ممنوع، فإن تصور الأمر المتأخر مما لا إشكال فيه أصلا، فعدم اجتماع
العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع، وقد اعترف قدس سره - في رد الشبهة

(1) درر الفوائد 2: 25 - 27.
219

المشهورة في باب التعبدي والتوصلي - بجواز أخذ مامن قبل الأمر في
الموضوع (1)، فرا جع (2).
وثانيا: لازم ما أفاد - من مزاحمة جهة المبغوضية مع جهة المحبوبية - هو
التقييد اللبي ونتيجة التقييد، فإن الإهمال الثبوتي غير معقول، فالصلاة التي
شك في حكمها لم تكن بحسب اللب مع ابتلائها بالمزاحم الأقوى واجبة،
فيختص الوجوب بالصلاة المعلومة الوجوب، فعاد إشكال التصويب، ومجرد
إطلاق الحكم بواسطة الغفلة عن المزاحم لا يدفع الإشكال كما لا يخفى.
وثالثا: أن ما أفاد في جواب " إن قلت " - من أن موضوع الحكم الواقعي
هو المجرد عن الحكم - يرد عليه: أنه إن أراد بالتجرد هو لحاظ تقييد الموضوع
به حتى يصير الموضوع بشرط لا - كما هو الظاهر من كلامه صدرا وذيلا - فهو
ممنوع، فإن الموضوع للأحكام نفس الذوات بلا لحاظ التجرد والتلبس. مع أن
لحاظ تجرده عن الحكم يلازم لحاظ الحكم، والحال أن الحكم متأخر عن الموضوع
ومن الحالات اللاحقة له، فكما لا يمكن لحاظ مشكوكية الحكم في الموضوع
على مبناه لا يمكن لحاظ نفس الحكم، لتحقق المناط فيه، فيكون ما أفاد - قدس

(1) درر الفوائد 1: 62.
(2) مع أن تأخر المشكوكية عن الحكم وحصولها بعد تعلق الحكم ممنوع جدا لأن الشك قد يتعلق
بعنوان مع عدم المصداق له خارجا، كالشك في تحقق شريك الباري.
وأما جعل الحكم على المشكوك إنما يكون لغوا إذا لم يكن للحاكم حكم مطلقا، ولا يلزم أن يكون
جعله متأخرا عن جعل الأحكام الواقعية في مقام تدوين القوانين، بل لازم ما ذكره - من أن
الشك متأخر عن الجعل - انقلاب الشك علما، لأنه مع العلم بهذه الملازمة لا يمكن تعلق الشك،
ومع الغفلة ينقلب إذا توجه، مع أن تعلقه مع الغفلة دليل على بطلان ما أفاد. [منه قدس سره]
220

سره - من قبيل الكر على ما فر منه (1).
وإن أراد بالتجرد عدم اللحاظ، فعدم مقسميته لمعلوم الحكم ومشكوكه
وعدم ملحوظيته مع العنوان المتأخر ممنوع، لأنه محفوظ معه، لكونه طبيعة بلا
شرط كما لا يخفى.
ومما ذكرنا في الوجهين المتقدمين يعرف حال سائر الوجوه التي أفادها
الأصحاب في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، فلا نطيل بالتعرض لها
والنظر فيها.

(1) مضافا إلى أن تعلق الحكم بالموضوع بشرط لا مستلزم لعدم تعلق (أ) الحكم واقعا على الموضوع
المشكوك الحكم، فلا يعقل معه الشك في الحكم. ولو جعل بشرط لامن المعلوم أيضا، فالفساد
أفحش. [منه قدس سره]
(أ) الكلمة في المخطوط غير واضحة ويمكن أن تقرأ تبقي أو تيقن.
221

في تأسيس الأصل فيما لا يعلم اعتباره
قوله: ثالثها: أن الأصل... إلخ (1).
إعلم أن الحجية إما بمعنى الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع،
وبهذا المعنى يقال للمعلومات التصديقية الموصلة إلى مجهولاتها: الحجة
والدليل، وإطلاقها على الأمارات باعتبار كونها برهانا شرعيا أو عقلائيا على
الواقع، لا باعتبار صيرورتها بعناوينها وسطا في الإثبات، وإما بمعنى الغلبة (2)
على الخصم وقاطعية العذر وصحة المؤاخذة والاحتجاج.
وهي بكلا المعنيين مما لا تقبل الجعل الابتدائي، ولا ينالها يد استقلال
الجعل كما أشرنا إليه سابقا (3) وإنما الممكن ثبوتا جعل منشأ انتزاعها، والواقع

(1) الكفاية 2: 55.
(2) الظاهر أن إطلاق الحجة على الدليل أيضا بهذه الملاحظة. [منه قدس سره]
(3) انظر صفحة رقم: 206 وما بعدها.
223

إثباتا - لو بنينا على أن الروايات الواردة في بعضها إنما وردت للجعل
والتأسيس - هو جعل وجوب اتباعها وترتيب آثار الواقع على مؤداها على
أنها هو الواقع.
وبالجملة: مفاد الأدلة هو الأحكام التكليفية لا الوضعية.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص عدم
الحجية، وعدم جواز ترتيب الآثار عليه، وعدم صحة الاحتجاج به، وهذا
واضح.
إنما الكلام في تحقق الملازمة بين الحجية وبين جواز التعبد وصحة
الانتساب إلى الشارع طردا وعكسا وعدمه.
والتحقيق: أن الحجية بمعنى الطريقية والوسطية في الإثبات ملازمة لهما
طردا وعكسا، ضرورة أنه مع قيام الطريق الشرعي تأسيسا أو إمضاء لا معنى
لعدم جواز التعبد وصحة الانتساب، ومع عدم الحجية بهذا المعنى لا معنى
لهما.
وأما الحجية بالمعنى الثاني - أي ما (ا) يصح الاحتجاج به، ويكون
قاطعا للعذر - لا تلازمهما، فإن الظن على الحكومة ليس بحجة بالمعنى الأول،
ولكنه حجة بالمعنى الثاني، ويصح الاحتجاج به، ويكون قاطعا للعذر كما هو
واضح، ومع ذلك لا يصح معه الانتساب ولا يجوز التعبد به.
وبما ذكرنا يمكن إيقاع التصالح بين الأعلام، لأن المنكر للملازمة كالمحقق

(1) كون الشئ بحيث... [منه قدس سره]
224

الخراساني (1) وشيخنا العلامة (2) - أعلى الله مقامهما - فسراها بالمعنى
الثاني (3) والمثبت لها كالمحقق المعاصر - على ما في تقريراته (4) - فسرها بالمعنى
الأول. تأمل.
البحث عن قبح التشريع وحرمته
ثم إن المبحوث عنه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل على اعتباره
بالخصوص، حتى يتبع في موارد الشك، كما أفاد المحقق الخراساني (5) وأما
البحث عن قبح التشريع وحرمته والمباحث المتعلقة به كما فصل المحقق
المعاصر (6) - رحمه الله - فهو خارج عما نحن فيه، لكنه لا بأس بالتعرض لبعض
ما حثه تبعا له، لتتضح بعض جهات الخلط، فنقول:
هاهنا جهات من البحث:
الجهة الأولى: أن التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها،
وهو مساوق للبدعة، وقبحه واضح عقلا، وحرمته شرعا كادت أن تكون من

(1) الكفاية 2: 55 - 58.
(2) درر الفوائد 2: 28.
(3) الكفاية 2: 44 سطر 12.
(4) فوائد الأصول 3: 122.
(5) الكفاية 2: 55.
(6) فوائد الأصول 3: 120 - 121.
225

الضروريات، ودلت عليها الآيات (1) والأخبار (2).
وبالجملة: إثبات حرمته لا يحتاج إلى تجشم استدلال.
وأما التعبد بما لا يعلم جواز التعبد به من قبل الشارع: إن كان
المراد منه هو إتيان ما لم يعلم أنه من العبادات بعنوان كونه منها، والتعبد
حقيقة بما لا يعلم أنه عبادي، فهو أمر غير ممكن، فإن التعبد الحقيقي مع الشك
في العبادية غير ممكن من المكلف، إذ ليس الالتزامات النفسانية مما هي
تحت اختيار المكلف، كما سبق منا استقصاء الكلام فيه في مباحث
القطع (3).
نعم، اختراع بعض العبادات بواسطة الاستحسانات الظنية - كبعض
الأذكار والأوراد من بعض أهل البدع - ممكن، لكنه بعد حصول مبادئه من
الاستحسان والترجيح الظني.
وأما إسناد مالم يعلم كونه من الشريعة إليها فأمر ممكن، وهو محرم
شرعا، وقبيح عقلا، ويدل على حرمته - بعد كونه من المسلمات - الأدلة الدالة
على حرمة القول بغير علم، بل وأدلة حرمة الإفتاء والقضاء (4) بغير علم (5).

(1) آل عمران: 94، يونس: 59 - 0 6، الانعام: 144.
(2) الكافي 1: 59 / باب البدع...، الوسائل 18: 24 و 39 و 40 / 7 و 46 و 49 باب 6 من
أبواب صفات القاضي.
(3) انظر صفحة رقم: 142 وما بعدها.
(4) الكافي 1: 42 - 43 باب النهي عن القول بغير علم، الوسائل 18: 9 - 12 / 1 - 10 و 18: 16 -
17 / 29 - 33 باب 4 من أبواب صفات القاضي.
(5) فيه إشكال، لان الحكم إنشاء، لا إسناد إلى الشرع. [منه قدس سره]
226

وهذا عنوان آخر غير عنوان التشريع والبدعة، وقد خلط بينهما المحقق
المتقدم (1) - قدس سره - حيث طبق عنوان التشريع عليه.
فتحصل مما ذكرنا: أن هاهنا عنوانين كل واحد منهما محرم شرعا وقبيح
عقلا: أحدهما التشريع، والآخر القول بغير علم والإسناد إلى الشارع
ما لا يعلم كونه منه.
الجهة الثانية: أن حكم العقل بقبح التشريع وكذا حكمه بقبح القول بغير
علم، ليسا من الأمور التي لا تنالهما يد الجعل الشرعي، فإذا ورد دليل شرعي
على حرمتهما لا يحمل على الإرشاد، كما ذهب إليه المحقق الخراساني (2)
- قدس سره -.
لكن لا يستكشف من نفس الحكم العقلي الخطاب الشرعي بقاعدة
الملازمة، كما ذهب إليه بعض مشايخ العصر - على ما في تقريراته (3) - فإن مجرد
كون الأحكام العقلية في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين
والتقبيح، لا يوجب استتباع الخطاب الشرعي، لجواز اتكاء الشارع فيها إلى
الحكم العقلي من دون إنشاء خطاب على طبقها، فغاية ما يمكن دعواه هو
الملازمة بين الأحكام العقلية وبين المبغوضية الشرعية أو محبوبيتها في مورد
الملازمة، وأما كشف الخطاب الشرعي فلا، لمكان الاحتمال المتقدم.

(1) فوائد الأصول 3: 124.
(2) حاشية فرائد الأصول: 41 - 42.
(3) فوائد الأصول 3: 121.
227

نعم لو ورد دليل شرعي على الحرمة لا يجوز صرفه عن ظاهره وحمله
على الإرشاد، لجواز أن يكون ملاكه أقوى مما أدركه العقل، فاحتاج إلى تعلق
الخطاب الشرعي، خصوصا إذا كان على وجه التأكيد.
الجهة الثالثة: الظاهر عدم سراية قبح التشريع إلى الفعل المتشرع به
- بحيث يصير الفعل قبيحا عقلا ومحرما شرعا على القول بالملازمة، كما عن
الشيخ العلامة الأنصاري (1) - قدس سره - ومال إليه بعض محققي العصر على
ما في تقريرات بحثه (2) - ضرورة أن ما هو مناط القبح عند العقل هو نفس
عنوان التشريع، سواء كان التشريع عبارة عن التعبد والالتزام بما لا يكون في
الشريعة، أو لا يعلم كونه فيها، أو عبارة عن الإسناد إلى الشارع والافتراء
عليه كذبا، أو الإسناد إليه من غير علم، وعلى أي حال لاوجه لتسرية القبح
من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، فالالتزام بحرمة الصلاة الواجبة
لا يغيرها عما هي عليه، ولا يصيرها قبيحة عقلا، لعدم مناط القبح فيها، وهذا
واضح جدا، فإذا كان القبيح عقلا هو عنوان التشريع لاغير، لا يستكشف من
قاعدة الملازمة إلا حرمة نفس هذا العنوان، لا عنوان آخر مغاير له، لعدم
معقولية أوسعية دائرة المنكشف من الكاشف.
وما أفاده المحقق المتقدم رحمه الله في وجه السراية: من إمكان كون
القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه،

(1) فرائد الأصول: 31 سطر 6 و 13 - 15.
(2) فوائد الأصول 3: 121 - 122.
228

فيكون الالتزام والتعبد والتدين بعمل لا يعلم التعبد به من الشارع موجبا
لانقلاب العمل عما هو عليه، وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا
وحرمته شرعا (1) - من عجيب الاستدلال، فإنه استنتج من مجرد إمكان
المقدمة فعلية الحكم. هب أن طريان العناوين على شئ مما يمكن أن يغير
جهاته، فبأي دليل تكون هذه العناوين كذلك؟!
مضافا إلى ممنوعية تغير جهات الأفعال فيما نحن فيه بواسطة عنوان آخر
مغاير له، فما هو القبيح المحرم هو عنوان الالتزام والتعبد بما لا يعلم، ونفس
الالتزام بشئ لا يوجب قبح ذلك الشئ، كما أن نفس الافتراء على الله كذبا
لا يوجب قبح متعلقه كما لا يخفى، ومجرد كون القصد في بعض المقامات مغيرا
للجهات لا ينتج كونه مغيرا فيما نحن فيه، فالكبرى - أيضا - ليست كلية.
وأعجب منه الاستدلال على الحرمة بقوله: (رجل قضى بالحق وهو
لا يعلم) (2)، لدلالته على حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدل على
حرمة نفس العمل (3)، فإن حرمة القضاء والإفتاء بغير علم وكذا حرمة القول
بغير علم ثابتة بلا إشكال وكلام، وليس النزاع فيها، إنما الكلام في متعلقاتها
لافي نفس عناوينها كما لا يخفى.
الجهة الرابعة: قد عرفت في أول المبحث: أن التشريع - أي إدخال

(1) نفس المصدر السابق.
(2) الكافي 7: 407 / 1 باب أصناف القضاة من كتاب القضاء والأحكام، الفقيه 3: 3 / 1 باب 2 في
أصناف القضاة، الوسائل 18: 11 / 6 باب 4 من أبواب صفات القاضي.
(3) فوائد الأصول 3: 122.
229

ما ليس في الشريعة فيها - قبيح عقلا ومحرم شرعا، وهو عنوان برأسه، كما أن
القول بغير علم وإسناد ما لا يعلم كونه من الشارع إلى الشارع قبيح ومحرم.
فاعلم الآن أن التشريع من العناوين الواقعية التي قد يصيبها المكلف وقد
لا يصيبها، فانسلاك ما هو واجب بحسب الحكم الشرعي في جملة المحرمات أو
غيرها مبغوض عند الشارع، وكذلك العكس، فنفس تغيير القوانين الشرعية
والأحكام الإلهية، وإدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، من
المبغوضات الشرعية التي قد يتعلق بها العلم وقد لا يتعلق.
فالتشريع بهذا المعنى من العناوين الواقعية المبغوضة بمناط خاص به،
كما أن القول بغير علم وإسناد شئ إلى الشارع بلا حجة - أيضا - من العناوين
المبغوضة برأسها بمناط خاص غير مناط التشريع بالمعنى المتقدم.
فما أفاد بعض مشايخ عصرنا قدس سره - على ما في تقريرات بحثه -: من
أنه ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلف أو لا يصيبه، بل واقع التشريع
هو إسناد الشئ إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه، سواء علم المكلف
بالعدم أو ظن أو شك، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن.
والحاصل: أن للعقل في باب التشريع حكما واحدا بمناط واحد يعم
صورة العلم والظن والشك (1). مما لا ينبغي أن يصغى إليه، فإن مفسدة إدخال
ما ليس في الدين فيه والتصرف في حدود الأحكام الشرعية والتلاعب بها،
من المستقلات العقلية كالظلم، بل هو ظلم على المولى، وله مناط خاص به.

(1) فوائد الأصول 3: 124 - 125.
230

نعم مع عدم علم العبد لا يتصف هذا التصرف بالقبح مثل سائر القبائح
العقلية، فالتصرف في أموال الناس وأعراضهم وقتل النفس وغيرها - مما هي
قبيحة عقلا ومحرمة شرعا - يكون قبحها الفاعلي عند علم الفاعل، لكن الحرمة
الشرعية متعلقة بنفس العناوين الواقعية، ويكون العلم طريقا إليها، فالعقل
يدرك مفسدة هذه العناوين الواقعية، كما أنه يدرك مفسدة إدخال ما ليس في
الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، والحرمة الشرعية أيضا متعلقة بهذا العنوان،
وإنما العلم طريق إليه كما في سائر الموارد، ولا ريب في أن لهذا المعنى واقعا قد
يصيبه المكلف وقد لا يصيبه.
وأما القول بغير علم فهو عنوان برأسه في مقابل هذا العنوان، وفي مقابل
عنوان الكذب الذي هو الإخبار المخالف للواقع.
والحاصل: أن هاهنا ثلاثة عناوين كلها محرمة شرعا بعناوينها:
التشريع، والكذب، والقول بغير علم، فإذا صادف القول بغير علم التشريع
أو الكذب، ينطبق عليه العنوانان واقعا، لكن خطابي التشريع والكذب
قاصران عن شمول مورد الشك، لأن الشبهة مصداقية للعام كما هو واضح.
تتمة
في جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها
قد عرفت أن الأصل: عدم حجية الأمارات عند الشك في اعتبارها،
وقد يقرر الأصل بوجه آخر: وهو استصحاب عدم الحجية.
231

ومنع الشيخ - قدس سره - من جريانه، لعدم ترتب الأثر العملي على
مقتضى الاستصحاب، لأن نفس الشك في الحجية موضوع لحرمة التعبد،
ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة.
وحاصله: أن الاستصحاب إنما يجري فيما إذا كان الأثر مترتبا على
الواقع المشكوك فيه، لاعلى نفس الشك (1) انتهى.
ورده المحقق الخراساني (2) بوجهين:
أحدهما: أن الحجية من الأحكام الوضعية، وجريان الاستصحاب
- وجودا وعدما - فيها لا يحتاج إلى أثر آخر وراءها، كاستصحاب عدم
الوجوب والحرمة.
وثانيهما: لو سلم الاحتياج إلى الأثر، فحرمة التعبد كما تكون أثرا للشك
في الحجية، تكون أثرا لعدم الحجية واقعا، فيكون الشك في الحجية موردا لكل
من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك، ويقدم الاستصحاب على
القاعدة لحكومته عليها، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها.
هذا حاصل ما لخصه بعض المحققين المعاصرين من كلامهما على ما في
تقريراته (3).
ورد المحقق المعاصر - رحمه الله - الوجهين بما ملخصه:

(1) فرائد الأصول: 31 سطر 16 وما بعده.
(2) حاشية فرائد الأصول: 4 سطر 13 - 24.
(3) فوائد الأصول 3: 126.
232

أما الوجه الأول: أن الاستصحاب من ا لأصول العملية، ولا يجري إلا
إذا كان في البين عمل، وما اشتهر (1) أن الأصول الحكمية لا تتوقف على الأثر،
إنما هو فيما إذا كان المؤدى بنفسه من الآثار العملية، لا مطلقا.
والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية المجعولة، إلا أنها بوجودها
الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي، والآثار المترتبة عليها: منها ما يترتب
عليها بوجودها العملي، ككونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة،
ومنها ما يترتب على نفس الشك في حجيتها، كحرمة التعبد بها وعدم جواز
إسنادها إلى الشارع، فليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها، وهو
حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا، فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر
أسوأ حالا تحصيل الحاصل، للزوم إحراز ما هو محرز وجدانا بالتعبد (2).
وأما الوجه الثاني بقوله: وأما ما أفاده ثانيا من أن حرمة التعبد بالأمارة
تكون أثرا للشك في الحجية ولعدم الحجية واقعا، وفي ظرف الشك يكون
الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة له. ففيه: أنه لا يعقل أن يكون
الشك في الواقع موضوعا للأثر الشرعي في عرض الواقع، مع عدم جريان
الاستصحاب على هذا الفرض أيضا، لأن الأثر يترتب بمجرد الشك، لتحقق
موضوعه، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، ولاتصل النوبة إلى إثبات
الواقع ليجري الاستصحاب، فإنه في الرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق

(1) الكفاية 2: 308 سطر 4 - 9 و 332 سطر 10 - 11.
(2) فوائد الأصول 3: 127 وما بعدها.
233

موضوع الأثر، وترتب عليه الأثر، فأي فائدة في جريان الاستصحاب؟!
وحكومة الاستصحاب على القاعدة إنما تكون فيما إذا كان ما يثبته
الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة، كقاعدة الطهارة والحل واستصحابهما، فإن
القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية، بل مفادهما حكم ظاهري، بخلاف
الاستصحاب، وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز
الاستعمال وحلية الأكل، وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان
الذي شك في حليته إذا جرى استصحاب الحلية، كما [إذا] كان الحيوان غنما
فشك في مسخه إلى الأرنب، وعدم جواز الصلاة في أجزائه إذا لم يجر
الاستصحاب وإن جرت فيه أصالة الحل، فإنها لا تثبت الحلية الواقعية. وكذا
الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب، فإنه في مورد جريان القاعدة
لا يجري الاستصحاب وبالعكس، فالقاعدة تجري في مورد العلم الإجمالي عند
خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بالامتثال ونحوه، والاستصحاب
يجري عند الشك في فعل المأمور به، وأين هذا مما نحن فيه، مما كان
الأثر المترتب على الاستصحاب عين الأثر المترتب على الشك! فالإنصاف: أنه
لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها (1) انتهى.
أقول: قد عرفت سابقا أن التشريع وإدخال شئ في الشريعة وتبديل
الأحكام بعضها ببعض والتلاعب بها، مما هو مبغوض عند الشرع ومحرم واقعي
علم المكلف أو لا، وهذا عنوان برأسه، كما أن القول بغير علم ونسبة شئ إلى

(1) فوائد الأصول 3: 130 وما بعدها.
234

الشارع بلا حجة قبيح عقلا ومحرم آخر شرعي بمناط خاص به، فالشك في
الحجية - كما أنه موضوع لحرمة التعبد وحرمة الانتساب إلى الشارع - موضوع
لاستصحاب عدم الحجية وحرمة التشريع وإدخال ما ليس في الدين فيه،
ويكون الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة للشك، لإزالته تعبدا (1).
ومن ذلك يعلم ما في كلام هؤلاء الأعلام - قدس سرهم - من الخلط،
إلا أن يرجع كلام المحقق الخراساني - قدس سره - في الوجه الثاني إلى ما ذكرنا،
وهو بعيد.
وأما ما يرد على المحقق النائيني - مضافا إلى ما ذكره الفاضل المقرر رحمه
الله (2) في وجه التأمل في المقام - أمور:
الأول: أن ما ذكر أن جريان الاستصحاب تحصيل الحاصل بل أسوأ منه،
فيه: أن حرمة التشريع لا تحصل بنفس الشك، بل ما يحصل بنفسه هو حرمة

(1) بمعنى أنه مع استصحاب عدم جعل الحجية وعدم كون الشئ الفلاني من الدين، يخرج
الموضوع عن القول بغير العلم، لأن المراد من القول بغير العلم هو القول بغير حجة، ضرورة أن
الإفتاء بمقتضى الأمارة والأصول والنسبة إلى الشارع، مقتضاهما غير محرم وغير داخل في
القول بغير علم، فيحنئذ لا تكون النسبة مع استصحاب العدم نسبة بغير حجة بل نسبة مع الحجة
على العدم، وهو كذب وافتراء وبدعة، وتكون حرمته لأجل انطباق هذه العناوين عليه،
لا عنوان القول بغير علم.
وتوهم مثبتية الأصل في غير محله كما لا يخفى على المتأمل، ولو نوقش فيه فلا يلزم إثبات تلك
العناوين، بل مع استصحاب عدم كون شئ من الشارع يكون حكمه حرمة الانتساب إليه،
كاستصحاب عدالة زيد حيث يكون حكمه صحة الاقتداء به. [منه قدس سره]
(2) فوائد الأصول 3: 129 وما بعدها هامش رقم (1).
235

القول بغير علم والتعبد بما لا يعلم، وهو أمر آخر غير التشريع كما عرفت.
والثاني: أنه لا دليل على عدم معقولية كون الشك في الواقع موضوعا
للأثر في عرض الواقع، وإنما هو دعوى خالية من البرهان مع جعلين مستقلين.
والثالث: أن ما أفاد من أن الشك في الرتبة السابقة على الاستصحاب
يترتب عليه الأثر، فلا يبقى مجال لجريانه، يرد عليه: أنه ليس رتبة الشك -
الذي هو موضوع للقاعدة - متقدمة على ما هو موضوع الاستصحاب، بعدما
كان الأثر مترتبا على الواقع كما هو المفروض، لاعلى العلم بعدم الواقع حتى
يكون تحقق هذا العنوان تعبدا في الرتبة المتأخرة عن جريان الاستصحاب،
فالشك في الرتبة الواحدة موضوع لهما بلا تقدم وتأخر أصلا (1) على حكمه،
فكما أنه مقدم على هذا الإثبات كذلك مقدم على حكم الشك في القاعدة،
فالشك في الرتبة السابقة على الحكمين موضوع لهما. نعم لما كان جريان
الاستصحاب رافعا لموضوع القاعدة حكما يتقدم عليها، وهو واضح.
والرابع: أن ما أفاد في وجه الفرق بين قاعدة الطهارة والحلية
واستصحابهما في جواز الصلاة في مشكوكهما يرد عليه: أن اعتبار الطهارة
والحلية بحسب الأدلة الأولية وإن كان بوجودهما الواقعي، لكن أدلة أصالتي
الطهارة والحلية - التي مفادها هو ترتيب آثار الواقع على المشكوك - يستفاد
منها التعميم بالحكومة بلا إشكال وريب.
نعم فيما إذا شك في مسخ الغنم بالأرنب يقدم الاستصحاب الموضوعي

(1) بناء على أن المجعول في الاستصحاب هو الجري العملي، كما هو مبناه. [منه قدس سره]
236

على القاعدة وعلى الاستصحاب الحكمي، وهذا أمر آخر غير مربوط بما نحن
بصدده.
والخامس: أن ما أفاد من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة
الاشتغال وبالعكس، إن ادعى الكلية ففيه منع واضح، وإن ادعى في بعض
الموارد - التي تختل [فيها] أركان الاستصحاب مثلا - فهو خارج عن الموضوع،
كما أن عدم جريان الاستصحاب في المثال الذي ذكره لعله لاختلال بعض أركانه.
وأما عدم جريان القاعدة في حد نفسها عند الشك في فعل المأمور به
فممنوع.
237

مبحث في حجية الظهور
قوله: لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع (1).
أقول: لابد لإثبات الحكم الشرعي من طي مراحل، كإثبات أصل
الصدور، والمتكفل به كبرويا هو بحث حجية الخبر الواحد، وصغرويا هو علم
الرجال وأسانيد الروايات، وكإثبات الظهور، والمتكفل به هو الطرق التي
تثبت بها الظهورات، كالتبادر وصحة السلب وأمثالهما، وكقول اللغويين
ومهرة الفن وإثبات حجية قولهم، وكإثبات كون الظهورات - كتابا وسنة -
مرادة استعمالا، وكإثبات جهة الصدور، ويقال له: أصل التطابق.
ولا إشكال ولا كلام في أن بناء العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين
المرادات الاستعمالية، فاللفظ الصادر من المتكلم - بما أنه فعل له كسائر أفعاله -
يدل بالدلالة العقلية - لا الوضعية - على أن فاعله مريد له، وأن مبدأ صدوره هو

(1) الكفاية 2: 58 سطر 13.
239

اختياره وإرادته، كما أنه يدل بالدلالة العقلية - أيضا - على أن صدوره يكون
لغرض الإفادة، ولا يكون لغوا، كما أنه يدل بهذه الدلالة على أن قائله أراد
إفادة مضمون الجملة خبريا أو إنشائيا، لا الفائدة ا لأخرى، وتدل مفردات
كلامه - من حيث إنها موضوعة - على أن المتكلم به أراد منها المعاني الموضوعة
لها، ومن حيث إنه كلام مركب - من ألفاظ وله هيئة تركيبية - على أنه أراد
ما هو الظاهر منه وما هو المتفاهم العرفي لاغيره، ويدل أيضا على أن المتكلم
- المريد أبا لإرادة الاستعمالية ما هو الظاهر من المفردات والهيئة التركيبية - أراد
ذلك أبا لإرادة الجدية، أي تكون إرادته الاستعمالية مطابقة لإرادته الجدية.
وكل هذه دلالات عقلية يدل عليها بناء العقلاء في محاوراتهم، والخروج
عنها خروج عن طريقتهم، ويحتجون [بها] على غيرهم في كل من تلك
المراحل، ولا يصغون إلى دعوى المخالفة، وهذا واضح.
إنما الكلام في أن حجية الظهورات إنما هي من أجل أصالة الحقيقة، أو
أصالة عدم القرينة، أو أصالة الظهور، أو أن لهم في كل مورد أصلا برأسه، فمع
الشك في وجود القرينة تجري أصالة عدم القرينة، وبعدها تجري أصالة الحقيقة،
وفي بعض الموارد تجري أصالة الظهور، مثل الظهورات المنعقدة للمجازات عند
احتمال إرادة خلاف ظاهرها، فإنه لا يجري فيها أصالة الحقيقة، وهو ظاهر،
ولا أصالة عدم القرينة إذا لم يكن الشك من جهة وجودها، وفي بعض الموارد
تجري أصالة العموم، وفي بعضها أصالة الإطلاق.
وبالجملة: هل للعقلاء أصول كثيرة، كأصالة الحقيقة، وعدم القرينة،
240

والظهور، والعموم، والإطلاق، وكل منها مورد بناء العقلاء برأسه، أو لا يكون
عندهم إلا أصل واحد هو مبناهم في جميع المراحل؟ وما هو هذا الأصل؟
الظاهر - بعد التدبر والتأمل في طريقة العقلاء في محاوراتهم ومراسلاتهم -
أن ما هو مأخذ احتجاج بعضهم على بعض هو الظهورات المنعقدة للكلام، سواء
كانت في باب الحقائق والمجازات، أو العمومات والإطلاقات، ولا يكون مستندهم
إلا الظهور في كلية الموارد، والمراد منها هو أن بناء العقلاء تحميل ظاهر كلام
المتكلم عليه والاحتجاج عليه، وتحميل المتكلم ظاهر كلامه على المخاطب
واحتجاجه به (1) وهذا أمر متبع في جميع الموارد، ومستنده أصالة العموم
والإطلاق وأصا له الحقيقة. والظاهر أن أصا له عدم القرينة - أيضا - ترجع إلى
أصالة الظهور، أي العقلاء يحملون الكلام على ظاهره حتى تثبت القرينة، و
لهذا تتبع الظهورات مع الشك في قرينية الموجود ما دام كون الظهور باقيا.
وبالجملة: المتبع هو الظهور المنعقد للكلام وإن شك في قرينية الموجود
ما لم ينثلم الظهور.
وبالجملة: لا إشكال في حجية الظواهر، من غير فرق بين ظواهر الكتاب
وغيره، ولابين كلام الشارع وغيره، ولا بالنسبة إلى من قصد إفهامه وغيره.
لكن في المقام خلافان:
أحدهما من المحقق القمي (2) - رحمه الله -: حيث فصل بين من قصد

(1) قد حققنا المقام في الدورة اللاحقة، فراجع. [منه قدس سره]
(2) القوانين 1: 229 سطر 16 - 19 و 1: 398 - 403.
241

إفهامه وغيره.
ولا ريب في ضعفه، فإن دعواه ممنوعة صغرى وكبرى، ضرورة أن بناء
العقلاء على العمل بالظواهر مطلقا. نعم لو أحرز من متكلم أنه كان بينه وبين
مخاطب خاص مخاطبة خاصة على خلاف متعارف الناس، وكان من بنائه
التكلم معه بالرمز، لم يجز الأخذ بظاهر كلامه، والمدعي إن أراد ذلك فلا كلام،
وإلا فطريقة العقلاء على خلاف دعواه.
مع أنه لو سلم ذلك، فلنا أن نمنع الصغرى بالنسبة إلى الأخبار الصادرة
عن المعصومين - عليهم السلام - فإنهم بما هم مبينوا الأحكام وشأنهم
بث الأحكام الإلهية في الأنام، لا يكون كلامهم إلا مثل الكتب المؤلفة التي
لا يكون المقصود منها إلا نفس مفاد الكلام من غير دخالة إفهام متكلم خاص،
كما لو فرضنا أن متكلما يخاطب شخصا خاصا - في مجلس فيه جمع كثير -
بخطاب مربوط بجميعهم، ولا يكون للمخاطب خصوصية في خطابه،
لا يمكن أن يقال: إن ظاهر كلامه لا يكون حجة بالنسبة إليهم، وإن فرقنا بين
من قصد إفهامه وغيره، لأن في مثل المورد لا يكون المخاطب ممن قصد إفهامه
المحقق القمي: هو شيخ الفقهاء والمحققين الإمام أبو القاسم بن المولى محمد حسن الجيلاني
القمي المعروف بالميرزا القمي. ولد في رشت سنة 1151 ه‍، درس مقدمات العلوم فيها، ثم
هاجر إلى خونسار فحضر عند السيد حسين الخونساري، ثم ارتحل إلى العراق وحضر عند
مجموعة من العلماء منهم الوحيد البهبهاني، ثم انتقل إلى قم المقدسة واستقر فيها حتى وافاه
الأجل سنة 1231 ه‍. له كتب كثيرة أشهرها كتاب القوانين في الأصول. انظر معارف الرجال
1: 49، الكرام البررة 1: 52، الكنى والألقاب 1: 137.
242

دون غيره.
ومعلوم أن أئمتنا المعصومين - عليهم السلام - وإن كان مخاطبتهم مع
أشخاص خاصة، لكن لغرض بث الأحكام الإلهية في الأنام، وإفادة نفس
مضمون الكلام بما أنه تكليف عام للناس من غير خصوصية للمخاطب أصلا،
ولهذا كثير من رواياتهم المنقولة إلينا يكون من غير المخاطب بالكلام، كقول
بعضهم مثلا: كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - فسأله رجل عن كذا، فقال
له: كذا، والرواة كانوا يأخذون هذا الحكم منه من غير نكير، ولم يكن هذا إلا
لبنائهم - بما أنهم عقلاء - على العمل بالظواهر من غير فرق بينها، وهذا
واضح.
وثانيهما: مقالة الأخباريين (1) بالنسبة إلى ظواهر الكتاب المجيد،
واستدلوا على ذلك بوجوه:
منها: وقوع التحريف في الكتاب (2) حسب أخبار كثيرة (3)، فلا يمكن
التمسك به لعروض الإجمال بواسطته عليه.
وهذا ممنوع بحسب الصغرى والكبرى:
أما الأولى: فلمنع وقوع التحريف فيه جدا، كما هو مذهب المحققين من
علماء العامة والخاصة، والمعتبرين من الفريقين، وإن شئت شطرا من الكلام

(1) هداية الأبرار: 162.
(2) الدرر النجفية: 94 2 سطر 12 - 16.
(3) الكافي 2: 634 / 28 باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ثواب الأعمال: 137 / 1 ثواب من
قرأ سورة الأحزاب.
243

في هذا المقام فارجع إلى مقدمة تفسير آلاء الرحمن (1) للعلامة البلاغي (2)
المعاصر - قدس سره -.
وأزيدك توضيحا: أنه لو كان الأمر كما توهم صاحب فصل الخطاب (3)
الذي كان كتبه لا يفيد علما ولا عملا، وإنما هو إيراد روايات ضعاف أعرض
عنها الأصحاب، وتنزه عنها أولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمدين
الثلاثة المتقدمين (4) رحمهم الله.

(1) تفسير آلاء الرحمن: 2924 الأمر الخامس من الفصل الثاني.
(2) البلاغي: هو العالم الجليل، مشيد أركان الدين، دافع شبه الملحدين الشيخ محمد الجواد بن
الشيخ حسن البلاغي النجفي الربيعي، ولد في النجف الأشرف سنة 1282 ه‍، حضر الأبحاث
العالية عند الشيخ الآخوند والشيخ أقا الهمداني وغيرهما. له عدة مؤلفات منها الهدى إلى دين
المصطفى، الرحلة المدرسية، آلاء الرحمن، ردود على أهل الديانات المنحرفة، توفي
سنة 1352 ه‍. انظر أعيان الشيعة 4: 255، نقباء البشر 1: 323، معارف الرجال 1: 96 1.
(3) هو المحدث الشهير الشيخ حسين بن الميرزا محمد تقي النوري الطبرسي، ولد في طبرستان سنة
1254 ه‍، ارتحل إلى النجف الأشرف فلازم شيخ العراقين، وكذلك الشيخ الأنصاري
وغيرهما، له عدة مؤلفات أشهرها المستدرك، توفي سنة 1320 ه‍. انظر معارف الرجال
1: 271، الأعلام للزركلي 2: 257، نقباء البشر 2: 543.
(4) الأول: ثقة الإسلام، رئيس المحدثين الشيخ الحافظ الإمام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن
إسحاق الكليني، قال فيه النجاشي: شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم، وكان أوثق الناس
في الحديث وأثبتهم، توفي سنة 329 ه‍ ودفن ببغداد، له عدة مؤلفات أشهرها كتاب الكافي
الذي يعتبر من أجل كتب الشيعة وهو أحد الأصول الأربعة. انظر رجال النجاشي: 377،
تنقيح المقال 3: 201، فهرست الشيخ: 135.
الثاني: الشيخ الأجل رئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه
الصدوق القمي، ولد بقم حدود سنة 306 ه‍، وصفه الإمام عليه السلام في التوقيع الخارج من
ناحيته المقدسة بأنه فقيه مبارك ينفع الله به، له عدة كتب منها: من لا يحضره الفقيه وهو أحد
244

هذا حال كتب روايته غالبا كالمستدرك، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة
بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجد، وهو - رحمه
الله - شخص صالح متتبع، إلا أن اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب
وما لا يقبلها العقل السليم والرأي المستقيم، أكثر من الكلام النافع، والعجب
من معاصريه من أهل اليقظة! كيف ذهلوا وغفلوا حتى وقع ما وقع مما بكت
عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض؟!
وبالجملة: لو كان الأمر كما ذكره هذا وأشباهه، من كون الكتاب الإلهي
مشحونا بذكر أهل البيت وفضلهم، وذكر أمير المؤمنين وإثبات وصايته وإمامته،
فلم لم يحتج بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب
الإلهي أمير المؤمنين، وفا طمة، والحسن، والحسين - عليهم السلام - وسلما ن،
وأبو ذر، ومقداد، وعمار (1)، وسائر الأصحاب الذين لا يزالون يحتجون على
كتب الأصول الأربعة، والتوحيد، ومعاني الأخبار وغيرها. توفى سنة 381 ه‍، وقبره الشريف
في بلدة (ري) بالقرب من السيد عبد العظيم. انظر رجال العلامة: 147، بلغة المحدثين: 410،
روضات الجنات 6: 132.
الثالث: هو رئيس الطائفة، شيخ الإمامية، مؤسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف الشيخ
محمد بن الحسن بن علي الطوسي، ولد في طوس سنة 385 ه‍ في شهر رمضان المبارك، هاجر
إلى بغداد مدينة العلم آنذاك سنة 408 ه‍ فحضر عند زعيمي المذهب وعلمي الشيعة الشيخ المفيد
والسيد المرتضى، توفي في النجف الأشرف سنة 460 ه‍ ودفن فيها، له عدة كتب منها:
التهذيب، والاستبصار وهما من كتب الأصول الأربعة، التبيان، المبسوط، الفهرست
وغيرها. انظر رجال العلامة: 148، أعيان الشيعة 9: 159، تنقيح المقال 3: 104.

(1) سلمان: هو كبير الصحابة أبو عبد الله سلمان الفارسي، ويعرف بسلمان الخير مولى رسول الله
- صلى الله عليه وآله - وقد قال فيه: (سلمان منا أهل البيت) والأحاديث في فضله كثيرة
245

خلافته عليه السلام؟!
ولم تشبث - عليه السلام - بالأحاديث النبوية، والقرآن بين أظهرهم؟!
ولو كان القرآن مشحونا باسم أمير المؤمنين وأولاده المعصومين وفضائلهم و
إثبات خلافتهم، فبأي وجه خاف النبي - صلى الله عليه وآله - في حجة
الوداع اخر سنين عمره الشريف وأخيرة نزول الوحي الإلهي من تبليغ آية
واحدة مربوطة بالتبليغ، حتى ورد أن * (الله يعصمك من الناس) * (1)؟!
مشهورة، توفي سنة 35 ه‍ وقيل 36 ه‍. انظر أسد الغابة 2: 328، الاستيعاب 2: 56، الإصابة
2: 62.
أبو ذر: هو الصحابي الكبير جندب بن جنادة بن سفيان الغفاري، بايع النبي - صلى الله عليه
وآله - على أن لا تأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق وإن كان مرا، وقال فيه الرسول
الأعظم: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) توفي بالربذة سنة
32 ه‍. انظر الكنى والأسماء للدولابي: 28، حلية الأولياء 1: 156، الإصابة 4: 62.
مقداد: هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة، المعروف بالمقداد بن الأسود، وهو أول من أظهر
الإسلام بمكة، شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله -، ومدحه النبي بقوله:
(إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم، قيل يا رسول الله سمهم لنا، قال: علي منهم
يقول ذلك ثلاثا، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان) توفي بالمدينة في خلافة عثمان. انظر سفينة
البحار 2: 408، أسد الغابة 4: 409، الجرح والتعديل للرازي 8: 426.
عمار: هو أبو اليقظان عمار بن ياسر حليف مخزوم، كان أحد الخمسة الذين تشتاق إليهم
الجنة، وهو من أصفياء أصحاب الإمام علي - عليه السلام -، وهو الذي قال فيه الرسول
- صلى الله عليه وآله -: (عمار مع الحق والحق مع عمار حيث كان، عمار جلدة بين عيني
وأنفي، تقتله الفئة الباغية) استشهد يوم صفين سنة 37 ه‍. انظر تاريخ الطبري 5: 38، حلية
الأولياء 1: 39، معجم رجال الحديث 12: 265.

(1) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته، والله يعصمك من الناس). المائدة: 67. وهي التي نزلت في حق أمير المؤمنين
246

ولم احتاج النبي - صلى الله عليه وآله - إلى دواة وقلم حين موته للتصريح
باسم علي عليه السلام (1)؟! فهل رأى أن لكلامه أثرا فوق أثر الوحي الإلهي؟!
وبالجملة: ففساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى
على ذي مسكة، إلا أن هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفاظ
شريعة سيد الأنام.
وأما الكبرى: فلأن التحريف - على فرض وقوعه - إنما وقع في غير
آيات الأحكام، مما هو مخالف لأغراضهم الفاسدة - ولو احتمل كونها طرفا
للاحتمال - أيضا - فلا إشكال في عدم تأثير العلم الإجمالي. ودعوى العلم
بالوقوع فيها بالخصوص مجازفة واضحة.
ومنها (2): العلم الإجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات
والمطلقات الكتابية، والعلم الإجمالي يمنع عن التمسك بأصالة الظهور.
ومنها (3): الخبار الناهية عن العمل بالكتاب (4) ومنها غير ذلك.
ولقد أجاب عنها الأصحاب، فلا داعي للتعرض لها. هذا كله مما يتعلق
بحجية الظواهر.
عليه السلام. انظر شواهد التنزيل 1: 187 / 243 - 250.

(1) انظر صحيح البخاري 9: 774 / 2169 كتاب الاعتصام بالسنة، باب كراهية الخلاف.
(2) الدرر النجفية: 171 سطر 3 - 5.
(3) هداية الأبرار: 155، الفوائد الطوسية: 191 - 192.
(4) الوسائل 18: 129، باب 13 من أبواب صفات القاضي.
247

مبحث في حجية قول اللغوي
وأما ما يتعلق بتشخيص الظاهر فبعض المباحث منها مربوط بمباحث
الألفاظ، وما يتعلق بما نحن فيه فالعمدة هو دعوى حجية قول اللغوي ومهرة
الفن.
وقد استدل على حجيته: بأن اللغوي من أهل الخبرة، وبناء العقلاء
الرجوع إلى أهل الصناعات وأصحاب الخبرة في صناعاتهم ومورد
خبرويتهم، فإن رجوع الجاهل إلى العالم ارتكازي، وبناء العقلاء عليه مما
لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه، والشارع الصادع لم يردع عنه، فيتم القول
بالحجية. كما أن الأمر كذلك في باب التقليد، فإنه - أيضا - من باب رجوع
الجاهل بالصنعة إلى العالم بها الذي تدور عليه رحى سياسة المدن وحياة
المجتمع، كما لا يخفى.
هذا غاية ما يقال في الاستدلال على حجية قول اللغوي.
249

وأما الإجماع والانسداد فليسا بشئ.
وأما الجواب عن هذا الدليل:
أما أولا: فبمنع كون اللغويين من أهل خبروية تشخيص الحقائق من
المجازات، وهذه كتبهم بين أيدينا ليس فيها أثر لذلك، ولا يدعي لغوي - فيما
نعلم - أنه من أهل الخبرة بذلك، وإنما هم يتفحصون عن موارد الاستعمالات.
لا يقال: الاستعمال يثبت بقول اللغوي، فإنه [من] أهل الخبرة بموارد
الاستعمال، وهو مع أصالة الحقيقة يتم المطلوب.
فإنه يقال: الاستعمال أعم من الحقيقة، خلافا للسيد المرتضى (1)
رحمه الله.
وأما ثانيا: فعلى فرض كونه [من] أهل الخبرة، فمجرد بناء العقلاء على
العمل بقولهم لا ينتج، إلا أن ينضم إليه عدم ردع الشارع الكاشف عن رضاه،
وليس هاهنا كلام صادر من الشارع يدل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم،
حتى نتمسك بإطلاقه أو عمومه في موارد الشك، وإنما يجوز التشبث ببناء
العقلاء وعدم الردع فيما إذا أحرز كون بناء العقلاء في المورد المشكوك متصلا

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 13.
السيد المرتضى: هو سيد المشايخ والفقهاء الإمام الكبير علم الهدى السيد المرتضى أبو القاسم
علي بن الحسين الملقب بذي المجدين، ولد سنة 355 ه‍ وتلقى علومه على يد الشيخ المفيد
رضوان الله عليه وآخرين وأخذ عنه جملة من الأعلام كالشيخ الطوسي وسلار وأبو الصلاح
وغيرهم، له عدة مصنفات في الفقه والأصول والكلام والتفسير وغيرها من العلوم. توفي
سنة 436 ه‍. انظر روضات الجنات 4: 294، تاريخ بغداد 11: 402، الدرجات الرفيعة: 458.
250

بزمن الشارع ولم يردع عنه، مثل بنائهم على العمل بخبر الواحد واليد وأصالة
الصحة، فإنه لا إشكال في اتصال عملهم في تلك الموارد إلى زمان الشارع،
ولكن فيما إذا لم يكن كذلك أولم يحرز كونه كذلك لا يفيد مجرد بنائهم.
وبناء العقلاء على العمل بقول أهل الصناعة ومهرة كل فن إنما هو أمر
لبي لالفظ فيه (1) كما هو واضح.
إذا عرفت ذلك يتضح لك الإشكال في حجية قول اللغوي (2)، وفي مثله
لا يجوز التشبث بما ذكر، كما لا يخفى على المتأمل.
ومن ذلك يمكن الخدشة - في باب التقليد أيضا - في التمسك بهذا الدليل،
لاحتمال أن يكون الاجتهاد - بهذا المعنى المتعارف في هذه الأزمنة - حادثا بعد
غروب شمس الولاية فداه مهجتي.
اللهم إلا أن يقال: إنه يظهر من أخبار أهل البيت أن الاجتهاد والفتوى
كان في زمنهم وبين أجلة أصحابهم أمرا معمولا به، كما لا يبعد (3).

(1) فلا إطلاق فيه، ليتمسك به في حجية قول اللغوي، لذا يقتصر منه على القدر المتيقن، وهو
فيما عداه مما أحرز اتصاله مستمرا إلى زمن المعصوم عليه السلام. [منه قدس سره]
(2) لعدم إحراز رجوع الناس إلى أهل صناعة اللغة في زمن المعصوم عليه السلام بحيث أحرز
كون اتكائهم في العمل على قوله محضا، كالراجع إلى الطبيب والفقيه.
وأما الرجوع إليه لتشخيص المعنى اللغوي بمناسبة سائر الجمل - كما في رجوعنا إلى اللغة -
فلا يكون محط البحث ولا مفيدا للمدعى، فصرف إثبات تدوين اللغة في تلك الأزمنة - بل
صرف الرجوع إليها - لا يفيد. وبالجملة فرق بين الرجوع إليها وإلى الطبيب والفقيه ونحوهما مما
لأنظر للمراجع في صنعتهما، فتدبر. [منه قدس سره]
(3) وقد أثبتنا ذلك في بحث الاجتهاد والتقليد، فراجع. [منه قدس سره]
251

مبحث في حجية الإجماع
قوله: الإجماع المنقول (1).
أقول: تحقيق المقام يتم برسم أمور:
الأمر الأول: الظاهر أن انسلاك الإجماع في سلك الأدلة وعده في
مقابلها إنما نشأ من العامة، وقد عرفوه بتعاريف:
فعن الغزالي: أنه اتفاق أمة محمد - صلى الله عليه وآله - على أمر من
الأمور الدينية (2).

(1) الكفاية 2: 68 سطر ما قبل الأخير.
(2) المستصفى 1: 181.
الغزالي: هو الشيخ الكبير أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، ولد في طوس سنة
450 ه‍. وبدأ دراسته فيها على يد أستاذه أحمد الرادكاني، وبعدها انتقل إلى نيسابور وأخذ عن
إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، انتقل إلى بغداد، ثم قصد الشام بعد رجوعه من الحج، ومنها
رجع إلى بلده طوس. له عدة كتب أشهرها إحياء العلوم. توفي سنة 505 ه‍ بالطابران ودفن
فيها. انظر وفيات الأعيان 4: 216، الكنى والألقاب 2: 450، روضات الجنات 8: 7.
253

وعن الرازي: أنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد - صلى الله عليه
وآله - على أمر من الأمور (1).
وعن الحاجبي: أنه اجتماع المجتهدين من هذه الأمة في عصر على
أمر (2).
والظاهر أن مستندهم في حجيته ما نقلوا عن النبي - صلى الله عليه
وآله -: (لا تجتمع أمتي على الضلالة) (3) ولعل الغزالي نظر إلى ظاهر الرواية
فعرفه بما عرفه، والرازي وغيره لما رأوا أن ذلك ينافي مقصدهم الأصيل - من
إثبات خلافة مشايخهم - أعرضوا عن تعريف الغزالي، مع أن الإجماع - بأي
معنى كان - لم يتحقق على خلافة أبي بكر، لمخالفة كثير من أهل الحل والعقد
وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله (4).
وبالجملة: الإجماع عندهم دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنة
والعقل.
وأما عندنا فهو ليس دليلا برأسه في مقابل السنة، بل هو عبارة عن قول

(1) المحصول في علم الأصول 2: 3.
(2) شرح العضدي (لمختصر المنتهى لابن الحاجب) 1: 122، مع اختلاف في الألفاظ.
الحاجبي: هو العلامة الشهير أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر، يكنى بابن الحاجب، المالكي
الكردي، ولد في (أسنا) - وهي بلدة صغيرة في صعيد مصر - سنة 570 ه‍، توفي بالإسكندرية
سنة 646 ه‍، له عدة مؤلفات منها الأمالي والكافية والشافية ومختصر الأصول وغيرها. انظر
وفيات الأعيان 3: 248، الكنى والألقاب 1: 244.
(3) الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة: 180.
(4) انظر العقد الفريد لابن عبد ربه 4: 259 - 260، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 131 - 134.
254

جماعة يستكشف منه قول المعصوم - عليه السلام - أو رضاه.
وبالجملة: ما هو الحجة هو رأيه - عليه السلام - وتدور الحجية مداره،
سواء استكشف من اتفاق الكل، أو اتفاق جماعة يستكشف منه ذلك، وليس
نفس اجتماع الآراء حجة كما يكون عند العامة.
فتحصل من ذلك: أن الإجماع - اصطلاحا ومناطا - عند العامة غيره
عندنا. والظاهر أن عد أصحابنا الإجماع في الأدلة لمحض تبعية العامة، وإراءة
أن لنا - أيضا - نصيبا من هذا الدليل، فإن اتفاق الأمة لما كان المعصوم أحدهم
حجة عندنا، واتفاق أهل الحل والعقد لما يستكشف منه قول الإمام - لطفا أو
حدسا أو كشفا عن دليل معتبر - حجة، وإلا لم يكن لنفس الإجماع واجتماع
الآراء عندنا استقلال بالدليلية.
وكثرة دعوى الإجماع من قدماء أصحابنا، كابن زهرة (1) في الغنية
والشيخ وأمثالهما، إنما هي لأجل تمامية مناط الإجماع عندهم، وهو العثور على
الدليل المعتبر الكاشف عن رأي الإمام، ولا ينافي هذا الإجماع خلافية المسألة،
كما يظهر من أصول الغنية (2) فراجع.
الأمر الثاني: أدلة حجية خبر الثقة - من بناء العقلاء والكتاب والسنة -
لو تمت دلالتها إنما تدل على حجيته بالنسبة إلى الأمر المحسوس،

(1) هو الإمام السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، من فقهاء الإمامية، عالم
فاضل جليل القدر له مصنفات كثيرة منها كتاب الغنية والنكت. روضات الجنات 2: 374،
تنقيح المقال 1: 376.
(2) الغنية - الجوامع الفقهية -: 542 سطر 28.
255

أو الغير المحسوس الذي يعد عند العرف كالمحسوس لقربه إلى الحس، وفي
المحسوس أيضا - إذا كان المخبر به أمرا غريبا غير عادي - تكون أدلتها قاصرة
عن إفادة حجيته، لعدم إحراز بناء العقلاء وقصور دلالة غيره عليها.
ومن ذلك يعرف أن نقل قول شخص الإمام بالسماع منه - عليه السلام -
في زمان الغيبة الكبرى - إما بنحو الدخول في المجمعين مع عدم معرفة شخصه،
أو معها - لا يعبأ به،. ولا دليل على حجيته.
وإن شئت قلت: احتمال تعمد الكذب لا يدفع بأدلة حجية الخبر، كما أن
أصالة عدم الخطأ - التي هي من الأصول العقلائية - لا تجري في الأمور الغريبة
الغير العادية. فمن ادعى أنه تشرف بحضوره لا يمكن إثبات دعواه بمجرد أدلة
حجية خبر الواحد، إلا أن تكون في البين شواهد ودلائل أخرى (1).
الأمر الثالث: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد بالنسبة إلى الكاشف
حجة إذا كان له أثر عملي، وأما بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجة، فإنه أمر
غير محسوس اجتهادي ولا تنهض أدلة حجيته على ذلك.
وما قيل: إنه وإن كان غير محسوس إلا أن مبادئه محسوسة، كالإخبار
بالعدالة والشجاعة (2).
فيرد عليه: أن العدالة والشجاعة وأمثالهما من المعقولات القريبة من
الحس، مع أن العدالة تثبت بحسن الظاهر تعبدا بحسب الدليل الشرعي،

(1) ولهذا ورد الأمر بتكذيب مدعي الملاقاة. [منه قدس سره]
(2) نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 97، درر الفوائد 2: 40 - 41.
256

فتصير من الأمور التي تقبل الشهادة بالنسبة إليها، وأما الكشف عن رأي الإمام
من قول المجمعين فليس سبيله كسبيلها، لأن للنظر والاجتهاد فيه مجالا واسعا.
الرابع: بما ذكرنا في بعض المقدمات يعرف موهونية الإجماع على طريقة
الدخول.
وأما على طريقة اللطف فهو - أيضا - كذلك، لممنوعية قاعدته.
وأما الحدس برأي الإمام ورضاه - بدعوى الملازمة العادية بين اتفاق
المرؤوسين على شئ وبين رضا الرئيس به (1) - فهو قريب جدا، ضرورة أن
من ورد في مملكة، فرأى في كل بلد وقرية وكورة (2) وناحية منها أمرا رائجا بين
أجزاء الدولة - كقانون النظام مثلا - يحدس حدسا قطعيا بأن هذا قانون
المملكة، ومما يرضى به رئيس الدولة.
فلا يصغى إلى ما أفاد بعض محققي العصر رحمه الله - على ما في تقريرات
بحثه -: من أن اتفاقهم على أمر: إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهم
الملازمة العادية بين إجماع المرؤوسين ورضا الرئيس مجال، وأما إذا اتفق
الاتفاق بلا تواطؤ منهم فهو مما لا يلازم عادة رضا الرئيس، ولا يمكن دعوى
الملا زمة (3) انتهى.
فإنه من الغرائب، ضرورة أولوية إنكار الملازمة في صورة تواطئهم على

(1) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 97 سطر 20 - 25.
(2) كورة: هي البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى. قال أحمد بن فارس: والكورة: الصقع،
لأنه يدور على ما فيه من قرى. معجم مقاييس اللغة 5: 146 كور.
(3) 3: 150 - 151.
257

شئ، لإمكان أن يكون تواطؤهم عليه معللا بأمر غير ما هو الواقع، وأما مع
عدمه فلا احتمال في البين، ويكشف قطعا عن الرضا.
هذا، كما أن دعوى (1) كشف اتفاقهم - بل الاشتهار بين متقدمي
الأصحاب - عن دليل معتبر قريبة جدا.
فمناط حجية الإجماع - على التحقيق - هو الحدس القطعي برضا الإمام،
أو الكشف عن دليل معتبر لم نعثر عليه.
إن قلت: دعوى الكشف عن الدليل المعتبر عند المجمعين وإن كانت
قريبة (2) لكن يمكن أن يكون الدليل المنكشف دالا عندهم على الحكم المفتى به،
لا عندنا، لاختلاف الأنظار في فهم الظهورات.
قلت: كلا، بل الدعوى: أنه كشف عن دليل لو عثرنا عليه لفهمنا منه
ذلك أيضا، ألا ترى لو اتفقت فتوى الفقهاء على حكم مقيد، ويكون ما بأيدينا
من الأدلة هو المطلق، نكشف قطعا عن وجود قرينة أو مخصص له، كما أنه لو
اتفقت فتواهم على إطلاق [و] دل الدليل على التخصيص والتقييد لم نعمل

(1) فوائد الأصول 3: 150 - 151.
(2) بل الكشف عن الدليل المعتبر اللفظي بعيد، لبعد عثور أرباب الجوامع - كالكليني والصدوق
والشيخ - على رواية قابلة للاعتماد عليها وعدم نقلها، بل امتناع ذلك عادة، واحتمال
وجدانهم في كتاب وفقدانه أبعد.
بل الإجماع أو الشهرة القديمة - لو تحققا - فالفقيه يحدس بكون الفتوى معروفة في زمن الأئمة
والحكم ثابتا، بحيث لا يرون أصحاب الأصول والكتب حاجة إلى السؤال من الإمام عليه
السلام فلم يسألوا لاشتهاره ووضوحه من زمن الرسول عليه السلام فلم يحدثوا برواية دالة
عليه، وهذا ليس ببعيد. [منه قدس سره]
258

بهما، أو على خلاف ظاهر نرفع اليد عنه بمجرد فتواهم، ولا يمكن أن يقال: إن
الناس مختلفون في فهم الظواهر.
وبالجملة: فاتفاقهم على حكم يكشف عن الدليل المعتبر الدال عليه.
إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أن الحاكي للإجماع إنما تكون حكايته عن
الكاشف معتبرة ومشمولة لأدلة حجية خبر الواحد، وحينئذ لو حصل تمام
السبب بنظر المنقول إليه - لأجل الملازمة الواقعية عنده بين قولهم ورأي
الإمام - فيأخذ به، وإلا احتيج إلى ضم ما يكون به تمام السبب من القرائن
وضم فتوى غيرهم.
هذا، ومما ذكرنا يعرف حال التواتر المنقول أيضا.
259

مبحث في حجية الشهرة الفتوائية
قوله: مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى... إلخ (1).
اعلم أن الشهرة في الفتوى قد تكون من قدماء الأصحاب إلى زمن
الشيخ أبي جعفر الطوسي - رحمه الله - وقد تكون من المتأخرين عن زمانه:
أما الشهرة المتأخرة فإنما هي في التفريعات الفقهية، وليست بحجة، ولا
دليل على حجيتها.
وما استدل لها - من فحوى أدلة حجية خبر الواحد، أو تنقيح المناط، أو
تعليل آية النبأ، أو دلالة المقبولة أو تعليلها عليها - مخدوش كله.
وأما الشهرة المتقدمة - وهي التي بين أصحابنا الذين كان ديدنهم ضبط
الأصول المتلقاة من الأئمة في كتبهم بلا تبديل وتغيير، وكان بناؤهم على ضبط
الفتاوى المأثورة خلفا عن سلف إلى زمن الأئمة الهادين، وكانت طريقتهم في

(1) الكفاية 2: 77 سطر 6.
261

الفقه غير طريقة المتأخرين، كما يظهر من أول كتاب المبسوط (1) - فهي حجة،
فإذا اشتهر حكم بين هؤلاء الأقدمين وتلقي بالقبول يكشف ذلك عن دليل
معتبر.
وبالجملة: في مثل تلك الشهرة مناط الإجماع، بل الإجماع ليس إلا
ذاك. فالشهرة المتأخرة كإجماعهم ليست بحجة، والشهرة المتقدمة فيها
مناط الإجماع.
ويمكن أن يستدل على حجيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة،
حيث قال: (ينظر إلى ما كان من روايتهم (2) عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع
عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما (3)، ويترك الشاذ الذي ليس
بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه) (4) ضرورة أن الشهرة بين

(1) قد راجعنا الكتب التي كانت مؤلفة قبل ولادة الشيخ أو قبل زمان تأليف المبسوط كالمراسم
وكتب المفيد والسيد علم الهدى، فلم نجد ما أفاد الشيخ الطوسي، لوضوح عدم كونها
متون الأخبار، واختلاف ألفاظها معها، وبعضها مع بعض. نعم بعض كتب الصدوق
كذلك.
والظاهر صحة كلامه بالنسبة إلى الطبقة السابقة عن طبقة أصحاب الكتب الفتوائية، فلا يبعد أن
يكون بناء تلك الطبقة على نقل الروايات المطابقة لفتواهم، أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح
والتقييد والتخصيص، كما لا يبعد أن يكون " فقه الرضا عليه السلام " كذلك، وقريب منه كتاب
" من لايحضر " [منه قدس سره]
(2) في المصدر: روايتهما.
(3) في المصدر: حكمنا.
(4) الفقيه 3: 6 / 2 باب 9 في الاتفاق على عدلين في الحكومة، الوسائل 18: 75 / 1 باب 9 من
أبواب صفات القاضي.
262

الأصحاب في تلك الأزمنة - بحيث يكون الطرف الآخر قولا شاذا معرضا عنه
بينهم، وغير مضر بإجماعهم عرفا، بحيث يقال: إن المجمع عليه بين الأصحاب
ذلك الحكم، والقول الشاذ قول مخالف للمجمع عليه بينهم - لا شبهة في حجيتها
واعتبارها وكشفها عن رأي المعصوم، وهذا هو الإجماع المعتبر الذي يقال في
حقه: إنه لا ريب فيه (1).
إن قلت: إن الاستدلال بهذا التعليل ضعيف، لأنه ليس من العلة
المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها، فإن المراد من
قوله: (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم
الشهرة الفتوائية، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله: (مما لا ريب
فيه) عليه بقول مطلق، بل لابد أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى
ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلية، لأنه يعتبر في
الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها،
كما في قوله: " الخمر حرام لأنه مسكر " فإنه يصح أن يقال: لا تشرب
المسكر، بلا ضم الخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على
ذلك، لأنه لا يصح أن يقال: يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة
هو عمر بن حنظلة أبو صخر العجلي الكوفي، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما
السلام، وقد مدحة الإمام الصادق عليه السلام في عدة روايات. انظر معجم رجال الحديث
13: 27، تنقيح المقال 2: 2 34.

(1) فحينئذ لا دليل على حجية مجرد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس منها قول الإمام عليه السلام أي
لا دليل على حجية الشهرة التي [هي] من الأدلة الظنية. [منه قدس سره]
263

إلى ما يقابله، وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره، وبأقوى
الشهرتين، وبالظن المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام
بها، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلية التي يصح التعدي عن
موردها.
قلت: نعم، هذا ما أفاده بعض مشايخ العصر على ما في تقريراته (1) لكن
يرد عليه: أن التعليل ينطبق على الكبرى الكلية، ويجوز التعدي عن موردها،
لكنها ليست بهذه التوسعة التي أفادها حتى تترتب عليها التوالي الفاسدة، بل
الكبرى: هي ما يكون بلا ريب بقول مطلق عرفا، ويعد طرفه الآخر الشاذ
النادر الذي لا يعبأ به، ولهذا عد مثل تلك الشهرة بالمجمع عليه بين الأصحاب،
لعدم الاعتداد بالقول المخالف الشاذ.
بل يمكن أن يقال: إن عدم الريب ليس من المعاني النسبية الإضافية،
حتى يقال: لا ريب فيه بالنسبة إلى ما يقابله، بل هو من المعاني النفسية التي
لا تقبل الإضافة.
وبالجملة: كل ما لا ريب فيه عند العرف، وكان العقلاء لا يعتنون باحتمال
خلافه، يجب الأخذ به، ولا شبهة في عدم ورود النقوض والتوالي الفاسدة التي
ذكرها عليه.
فتحصل مما ذكرنا: أن مثل تلك الشهرة - التي بين قدماء أصحابنا الذين
كان بناؤهم على ذكر الأصول المتلقاة خلفا عن سلف، دون التفريعات

(1) فوائد الأصول 3: 154.
264

الاجتهادية - حجة، وفيها مناط الإجماع.
وأما الشهرة في التفريعات بل الإجماع فيها - كالشهرات والإجماعات
من زمن الشيخ إلى زماننا - فليست بحجة، ولا دليل على اعتبارها، فإن في
التفريعات سعة ميدان الاجتهاد والآراء، فتدبر جيدا.
265

مبحث في حجية خبر الواحد
قوله: من أهم المسائل الأصولية... إلخ (1).
قد عرفت في مباحث التجري ميزان الافتراق بين المسائل الأصولية
والفقهية، فرا جع (2).
في موضوع علم الأصول
والذي ينبغي التعرض له هاهنا هو: أنه قد استقر رأي محققي علماء
الأصول قديما وحديثا إلى قريب من عصرنا على أن موضوع علم الأصول هو
الأدلة بعنوانها - أي الحجة في الفقه - (3) والمسائل الأصولية هي التي تبحث

(1) الكفاية: 2: 78 سطر 7.
(2) انظر صفحة رقم: 44 - 45.
(3) القوانين 1: 9 سطر 22 - 23، فرائد الأصول: 67 سطر 7 - 8، مقالات الأصول 1: 9 سطر 23
إلى السطر الأخير.
267

عن عوارض الحجة الذاتية.
ولقد أوردوا على هذا الإشكال المشهور: من خروج معظم المسائل عن
علم الأصول، كمباحث حجية الخبر الواحد والشهرة والظواهر، ومسائل
التعادل والترجيح (1) إلى غير ذلك، وذلك لأن البحث فيها عن الحجية، وهو
من المبادئ لا المسائل.
وتصدى العلامة الأنصاري - قدس سره - للجواب في مبحث حجية
الخبر الواحد: بان البحث فيه عن ثبوت السنة به، وهو من العوارض (2).
ورده المحقق الخراساني - رحمه الله -: بأن الثبوت الواقعي مفاد كان
التامة، وهو من المبادئ، والثبوت التعبدي من عوارض الخبر الحاكي (3).
وقد تصدى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - للذب عن
الشيخ: بأن البحث في حجية الخبر إنما هو عن انطباق السنة على مؤذى الخبر
وعدم انطباقها، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة ولا وجودها، بل
يكون البحث عن عوارضها، بداهة أن انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون
من العوارض اللاحقة له، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان (4).
وفيه: أن الخبر الحاكي - على فرض مطابقته للواقع - إنما هو عين السنة،
ونسبتها إليه نسبة الكلي إلى الفرد، لا العارض إلى المعروض، وعلى فرض

(1) الفصول: 11، الكفاية 1: 6 سطر 5 - 10، درر الفوائد 1: 3 - 4.
(2) فرائد الأصول: 67 سطر 5 - 6.
(3) الكفاية 1: 6 - 9.
(4) فوائد الأصول 3: 157.
268

عدم المطابقة تكون نسبتهما التباين. وقياسه بكون الشئ في الزمان والمكان
مع الفارق، ضرورة عارضية مقولتي الأين والمتى.
وبالجملة: بعد اللتيا والتي استقر رأي أكثر المتأخرين فرارا عن هذا
الإشكال على أن موضوع علم الأصول ليس الأدلة لا بعنوانها ولا بذاتها بل
ربما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل -
عنوان خاص واسم مخصوص، فموضوع علم الأصول عبارة عن أمر كلي مبهم
منطبق على موضوعات مسائله المتشتتة (1).
ولما كان المرضي (2) هو قول المشهور: - من كون موضوعه هو الحجة في
الفقه - لابد من تحقيق الحال، حتى يتضح الأمر ويرتفع الإشكال، وذلك
يتوقف على بسط من الكلام، فنقول:
الأعراض الذاتية - التي يبحث في العلم عنها - أعم من الأعراض
الخارجية والأعراض التحليلية، بداهة أن في كثير من العلوم لم تكن الأعراض
اللاحقة لموضوعاتها إلا من قبيل التحليلية، ألا ترى أن موضوع علم الفلسفة
هو الوجود، أو الموجود بما أنه موجود، ومباحثه هي تعيناته التي هي المهيات،
ولم تكن نسبة المهيات إلى الوجود نسبة العرض الخارجي إلى الموضوع، بل
العرضية والمعروضية إنما هي بتحليل من العقل، فإن المهيات بحسب الواقع
تعينات الوجود، ومتحدات معه، ومن عوارضه التحليلية فإن قيل: الوجود

(1) الكفاية 1: 6 سطر 1 - 3، درر الفوائد 1: 4، فوائد الأصول 1: 29.
(2) قد حققنا في [مناهج الوصول] ما هو المرضي عندنا فعليه يسقط ما في هذه الأوراق [منه عفي عنه].
269

عارض المهية ذهنا، صحيح، وان قيل: المهية عارض الوجود فإنها تعينه،
صحيح، حتى قيل: " من وتو عارض ذات وجوديم ".
وإن شئت زيادة تحقيق لذلك، فاعلم: أن العرض له اصطلاحان:
أحدهما: ما هو المتداول في علم الطبيعي، والمقولات العشر، وهو مقابل
الجوهر، وهو الحال في المحل المستغني.
وثانيهما: ما هو مصطلح المنطقي في باب الكليات، وهو الخارج المحمول
على الشئ، أي ما هو متحد مع المعروض في الخارج، ومختلف معه في التحليل
العقلي، ومأخوذ على نحو اللا بشرطية.
والذاتية والعرضية في هذا الاصطلاح تختلف بحسب الاعتبار، بخلافهما
في الاصطلاح الأول، فإنهما أمران حقيقيان غير تابعين للاعتبار، مثلا إذا
لوحظ الحيوان والناطق من حيث كونهما جزأين للماهية الإنسانية، فهما جنس
وفصل وذاتيان للماهية، وإذا لوحظا من حيث اختلافهما في العقل واتحادهما في
الخارج، يقال: كل منهما عارض للآخر، فالجنس عرض عام، والفصل عرض
خاص، وبهذا الاعتبار كل من الوجود والماهية عارض للآخر.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن موضوع علم الأصول هو الحجة في الفقه، فإن
الفقيه لما رأى احتياجه في علمه إلى الحجة توجه إليها، وجعلها وجهة
نفسه، وتفحص عن تعيناتها التي هي الأعراض الذاتية التحليلية لها المصطلحة
في باب الكليات الخمس، فالحجة بما هي حجة موضوع بحثه وعلمه،
وتعيناتها - التي هي الخبر الواحد والظواهر والاستصحاب وسائر المسائل
270

الأصولية - من العوارض الذاتية لها بالمعنى الذي ذكرنا، فعلى هذا يكون
البحث عن حجية الخبر الواحد وغيره بحثا عن العرض الذاتي التحليلي
للحجة، وتكون روح المسألة أن الحجة هل هي متعينة بتعين الخبر الواحد،
أم لا؟
وبالجملة: بعدما يعلم الأصولي أن لله - تعالى - حجة على عباده في
الفقه، يتفحص عن تعيناتها التي هي العوارض التحليلية لها، فالموضوع
هو الحجة بنعت اللا بشرطية، والمحمولات هي تعيناتها.
وأما انعقاد البحث في الكتب الأصولية بأن الخبر الواحد حجة، أو
الظاهر حجة، وأمثال ذلك، فهو بحث صوري ظاهري لسهولته، كالبحث في
الفلسفة عن أن النفس أو العقل موجودان، مع أن موضوعها هو الوجود،
وروح البحث فيها: أن الوجود متعين بتعين العقل أو النفس أو الجوهر
أو العرض.
هذا، مع أنه لو كان البحث في حجية الخبر الواحد هو بهذه الصورة،
فأول ما يرد على الأصوليين: أن الحجة لها سمة المحمولية لا الموضوعية، كما أن
هذا الإشكال يرد على الفلاسفة أيضا، ونسبة الغفلة والذهول إلى أئمة الفن
والفحول غفلة وذهول.
بل لنا أن نقول: إن الموضوع - في قولهم: موضوع كل علم ما يبحث
فيه عن عوارضه الذاتية (1) - ليس هو الموضوع المصطلح في مقابل المحمول،

(1) الشمسية: 14 سطر 13 - 14، الشواهد الربوبية: 19.
271

بل الموضوع ما وضع لينظر في عوارضه وحالاته، وما هو محط نظر صاحب
العلم.
ولا إشكال في أن محط نظر الأصولي هو الفحص عن الحجة في الفقه،
ووجدان مصاديقها العرضية وعوارضها التحليلية، فالمنظور إليه هو الحجة لا
الخبر الواحد، فافهم واغتنم.
وبما ذكرنا يرتفع الإشكال، وتنسلك مسائل حجية الخبر الواحد وغيرها
في المسائل الأصولية، مع التحفظ على موضوع العلم بما يراه المحققون.
وأما على ما التزم به المتأخرون - مضافا إلى عدم الداعي إليه إلا الفرار
من الإشكال، وإلى ورود عار عظيم عليهم من الجهل بموضوع علمهم، فكأنهم
يبحثون في أطراف المجهول والمبهم - يرد عليهم: أنه لاجامع بين موضوعات
المسائل الأصولية، فأي جامع يتصور بين ا لاستصحاب - مثلا - والظواهر،
إلا بالالتزام بتكلفات باردة؟!
ويرد عليهم أيضا: أنه بناء على ما التزموا يصير موضوع علمهم مختلفا
حسب اختلاف المسالك في حجية شئ وعدمها، فمن يرى حجية الخبر الواحد
لابد له من تصور جامع بينه وبين غيره من المسائل، ومن يرى عدم حجيته
لابد له من تصور جامع بين ما عداه، بحيث يخرج الخبر الواحد عنه.
وأما إذا كانت الحجة - بعنوانها - موضوعا، فهي محفوظة، ولا تختلف
بالزيادة والنقص في الحجج، كما لا يخفى.
إن قلت: هب أن البحث عن الحجية - في مسائل حجية الظواهر
272

والخبر الواحد والاستصحاب وأمثالها مما يبحث عن حجيتها - يرجع إلى ما
ذكرت، ولكن أكثر المسائل الأصولية لم يكن البحث فيها عن الحجية أصلا،
مثل مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومقدمة الواجب، ومسائل البراءة
والاشتغال، وغيرها مما لا اسم للحجية فيها ولارسم، فلا محيص فيها عن
الالتزام بما التزم به المتأخرون.
قلت: كلا، فإن المراد من كون موضوع علم الأصول هو الحجة في الفقه:
أن الأصولي يتفحص عما يمكن أن يحتج به في الفقه، سواء كان الاحتجاج
لإثبات حكم أو نفيه، كحجية خبر الثقة والاستصحاب وأمثالهما، أو لإثبات
العذر أو قطعه، كمسائل البراءة والاشتغال.
وتفصيل ذلك: أن المسائل الأصولية: إما [أن] تكون من القواعد
الشرعية التي تقع في طريق الاستنباط، كمسألة حجية الاستصحاب، وحجية
الخبر الواحد بناء على ثبوت حجيته بالتعبد.
وإما أن تكون من القواعد العقلائية، كحجية الظواهر، والخبر الواحد
بناء على ثبوت حجيته ببناء العقلاء.
وإما من القواعد العقلية التي تثبت بها الأحكام الشرعية، كمسائل
اجتماع الأمر والنهي ومقدمة الواجب والضد من العقليات.
وإما من القواعد العقلية لإثبات العذر وقطعه، كمسائل البراءة
والاشتغال.
وكل ذلك مما يحتج به الفقيه: إما لإثبات الحكم ونفيه عقلا أو تعبدا،
273

أو لفهم التكليف الظاهري، وليس مسألة من المسائل الأصولية إلا ويحتج بها
في الفقه بنحو من الاحتجاج، فيصدق عليها أنها الحجة في الفقه، تدبر.
274

أدلة عدم حجية خبر الواحد
في الاستدلال بالكتاب على عدم حجية خبر الواحد
قوله: واستدل لهم بالآيات الناهية (1)...
أقول: الآيات الناهية بعضها مربوط بالأصول الاعتقادية، مثل قوله
- تعالى -: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (2) وبعضها أعم، مثل قوله
- تعالى - * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (3) فإنه في سياق الآيات الناهية عن
الأمور الفرعية، فلا يختص بالأصول لولا اختصاصه بالفروع.
والتحقيق في الجواب عنه: مضافا إلى عدم إبائه عن التخصيص، وإن
كانت الآيات الأولية آبية عنه - أن الاستدلال به مستلزم لعدم جواز الاستدلال

(1) الكفاية 2: 79 سطر 8 - 9.
(2) يونس: 36.
(3) الإسراء: 36.
275

به، وما يلزم من وجوده العدم غير قابل للاستدلال به.
بيان ذلك: أن قوله: * (لا تقف ما ليس لك به علم) * قضية حقيقية،
تشمل كل ما وجد في الخارج ويكون مصداقا لغير العلم، مع أن دلالة نفسها
على الردع عن غير العلم ظنية لا قطعية، فيجب عدم جواز اتباعها بحكم نفسها.
وبالجملة: إذا لم يجز اتباع غير العلم لم يجز اتباع ظاهر الآية، لكونه غير
علمي، والفرض شمولها لنفسها لكونها قضية حقيقية.
فإن قلت: الآية الشريفة لا تشمل نفسها، لعين هذا المحذور الذي ذكرت.
وبعبارة أخرى: إن الآية مخصصة عقلا، للزوم المحال لولا التخصيص.
قلت: كما يمكن رفع الاستحالة بما ذكر، يمكن رفعها بالالتزام بعدم شمولها
لمثل الظواهر، أي ما قام الدليل على حجيته، فتخصص الآية بالظنون التي هي
غير حجة، ولا ترجيح، بل الترجيح لذلك، فإن الغرض من إلقاء الآية
الشريفة هو الردع عن اتباع غير العلم، ولا يمكن رادعية الآية إلا أن تكون
مفروضة الحجية عند المتخاطبين، ولا وجه لحجيتها إلا كونها ظاهرة في
مفادها، وموردا لبناء العقلاء على العمل بها لأجل الظهور، فالآية لا تشمل ما
كان من قبيلها من الظنون الخاصة.
فتحصل مما ذكر: أن الآية لا تصلح للرادعية عن مثل الخبر الواحد.
هذا، وقد تصدى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه -
للجواب عنها بما حاصله:
أن نسبة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد إلى الآيات نسبة الحكومة،
276

لا التخصيص لكي يقال: إنها آبية عنه، فإن تلك الأدلة تقتضي إلغاء احتمال
الخلاف، وجعل الخبر محرزا للواقع، لكون حاله حال العلم في عالم التشريع.
هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد.
وأما السيرة فيمكن أن يقال: إن نسبتها إليها هي الورود، بل
التخصص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلى
احتمال المخالفة للواقع، فالعمل به خارج بالتخصص عن العمل بالظن،
فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عنها، فإنه - مضافا
إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات - يلزم منه الدور المحال، لان الردع
عن السيرة بها يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها، وعدم
التخصص يتوقف على الرادعية.
وإن منعت عن ذلك فلا أقل من كون السيرة حاكمة على الآيات،
والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعا للحاكم (1) انتهى.
أقول: أما قضية إباء الآيات عن التخصيص فقد عرفت أن قوله تعالى:
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (2) الذي هو عام قابل للتخصيص، وما ليس
بقابل له هو الآيات المربوطة بالأصول الاعتقادية، فراجع.
وأما حديث الحكومة فلا أصل له، فإن الأخبار على كثرتها لم يكن
لسانها لسان الحكومة، مع أن الحكومة متقومة بلسان الدليل.

(1) فوائد الأصول 3: 160 وما بعدها.
(2) الإسراء: 36.
277

إن قلت: قوله: (العمرى ثقة، فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال
لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطعه، فإنه الثقة المأمون) (1) له نحو حكومة على
الآيات، فإن لازمه إلقاء احتمال الخلاف.
قلت: كلا، فإن لسان الحكومة غير ذلك، لأن غاية مفاد الرواية هو
وجوب اتباع العمري لوثاقته، وأما أن ما أخبر به هو المعلوم، حتى خرج عن
اتباع غير العلم، فلا.
وبالجملة: الحكومة والتخصيص مشتركان في النتيجة، ومفترقان في
اللسان، ولسان الأدلة ليس على نحو الحكومة.
وأما قضية ورود السيرة العقلائية عليها، أو التخصص، فهي ممنوعة،
فإن كون العمل بالخبر عندهم من العمل بالعلم ممنوع، ضرورة وضوح عدم
حصول العلم من الخبر الواحد.
ولو سلم غفلتهم عن احتمال الخلاف، لم يوجب ذلك تحقق الورود (2)

(1) الكافي 1: 330 / 1 باب في تسمية من رآة عليه السلام، الوسائل 18: 100 / 4 باب 11 من
أبواب صفات القاضي. مع اختلاف يسير.
(2) وإن اشتهيت بيان الورود، فيمكن تقريره بوجهين:
أحدهما: أن يقال: إن المراد من قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) ليس هو العلم
الوجداني، للزوم تعطيل أكثر الاحكام، أو ورود التخصيص الأكثري المستهجن عليه، كما أن
المراد بحرمة القول بلا علم، أو حرمة الفتوى والقضاء كذلك ليس العلم الوجداني، فحينئذ
يكون معناه: لا تقف ما ليس لك به حجة، فتكون أدلة حجية الخبر الواحد واردة عليه، لاحداث
الحجة بالتعبد.
وثانيهما: أن يقال إنه بعد تمامية حجية الخبر الواحد يكون الاتكال في العمل به على القطع
278

أو التخصص، فإن موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعا، لا عند المخاطب.
والفرق بينهما: أن الورود يكون مع إعمال التعبد، والتخصص لا يكون
كذلك وما نحن فيه لا يكون الخروج واقعيا، بل عند المخاطب.
نعم يمكن دعوى عدم صلاحية الأدلة للردع عما هو مورد السيرة: إما
لعدم التفاتهم إلى مخالفة الخبر للواقع، فلا يرتدع العقلاء بتلك العمومات، بل
لابد من التصريح بالردع، وإما لدعوى انصراف الأدلة عن الظن الذي هو
حجة.
وأما حديث حكومة السيرة - على ما أفاد أخيرا - فهو أسوأ حالا من
حكومة سائر الأدلة، فإن السيرة لا لسان لها، وإنما هي عمل خارجي،
والحكومة إنما هي بين ظواهر الأدلة ومفادها اللفظي.
وأما قضية الدور فمضافا إلى عدم كونه دورا مصطلحا - لعدم التوقف
بمعنى تقدم الموقوف عليه على الموقوف، ضرورة عدم تقدم الرادعية على عدم
المخصصية، ولا العكس - أن الرادعية تتوقف على عدم المخصص، وهو حاصل،
إذ لا مخصص في البين جزما، لأن النواهي الرادعة حجة في العموم، ولابد من
رفع اليد عنها بحجة أقوى، ولا حجية للسيرة بلا إمضاء الشارع، فالرادع
بحجيته، فالخبر وإن كان ظنيا من حيث الكشف عن الواقع، لكن حجيته قطعية، والمكلف يتبع
قطعه، لأظنه، لان اتكاله ليس إلا على الحجة المقطوعة، فلا يشمله قوله: (ولا تقف ما ليس لك
به علم)، لأجل أن ظاهر الكتاب - على فرض دلالته على لزوم اتباع الخبر - حجية قطعية، لأن
العقلاء يحتجون به قطعا، وعدم ورود الردع عنه قطعا، فينسلك اتباع الخبر في اتباع العلم
بالتعبد، فيتم ميزان الورود. [منه عفي عنه]
279

رادع فعلا، والسيرة حجة لو أمضاها الشارع، ولا إمضاء في البين مع هذه
النواهي، بل الردع موجود متحقق.
فإن قلت: إن الشارع أمضاها قبل ورود الآيات، فالأمر دائر بين
تخصيصها بها أو ردعها إياها، كالخاص المقدم والعام المؤخر، حيث يدور
الأمر فيهما بين التخصيص والنسخ، ومع عدم الترجيح يستصحب حجيتها.
قلت - مضافا إلى أن التمسك بالاستصحاب الذي دليله أخبار الآحاد
لا معنى له في المقام -: إنا لا نسلم أن عدم الردع في أوائل البعثة يدل على
الإمضاء، فإنه إنما يدل عليه لو انعقدت السيرة على العمل بالخبر الواحد في
الأحكام الشرعية، كما انعقدت عليه في الاحكام العادية والعرفية، أو كان
مظنه لذلك، دون ما إذا انعقدت فيهما ولا تسري إلى الأحكام الشرعية.
ومن المعلوم أنه في أوائل البعثة - التي لم تنتشر أحكام الإسلام في البلاد،
وإنما كانت محدودة بين أشخاص معدودة، خصوصا في مكة المعظمة قبل
هجرته صلى الله عليه وآله إلى المدينة - لا يحتاج تلك العدة المعدودة من
المسلمين إلى العمل بقول الثقة في الأحكام، بل كل حكم صادر عن النبي
- صلى الله عليه وآله - كان بمسمع من الأصحاب في الجامع أو غيره، بل في
أوائل هجرته في المدينة كان الأمر بتلك المثابة، كما لا يخفى.
فعدم الردع لعله لأجل عدم الاحتياج، وعدم لزوم نقض الغرض، ومع
احتمال ذلك لا يدل على الإمضاء، كما لا يخفى.
ولعل الآيات الناهية صدرت في تلك الآونة، لغرض الردع عن السيرة
280

التي بينهم في العاديات، لئلا يسري إلى الشرعيات. هذا حال الآيات.
في الاستدلال بالسنة على عدم حجية خبر الواحد
وأما السنة (1) فهي مع كثرتها بين طوائف:
منها: ما تدل على عدم جواز الأخذ بالخبر، إلا ما عليه شاهد أو
شاهدان من كتاب الله أو من قول رسول الله - صلى الله عليه وآله (2) - ومن
هذه الطائفة ما تدل على عدم جواز الأخذ إلا بما يوافق القرآن (3).
ولا يخفى أن هذه الطائفة لا معنى محصل لها، إلا إذا حملت على مورد
التعارض، وتكون من سنخ الأخبار العلاجية، فإن الأخذ بالخبر الموافق

(1) ولا يخفى أن المثبت والمنكر لابد [لهما] من دعوى تواتر الروايات، مع أن دعواه بعيدة بعد
الرجوع إلى الروايات، لأن تواتر جميع الطبقات غير ثابت بل عدمه ثابت، لأن جميع الروايات
ترجع إلى عدة كتب لا يقطع الإنسان بعدم وقوع الخلط والاشتباه أو غيرهما فيها، فإثبات عدم
الحجية بتلك الروايات مما لا يمكن.
ثم على فرض التواتر لا يكون ذلك إلا إجماليا، فلابد من أخذ أخص المضمون وهو المخالفة إما
بالتباين، أو مع العموم من وجه، ضرورة أن المخالفة بغيرهما ليست مخالفة في محيط التقنين (أ)
عرفا، مع أن ورود المخصص والمقيد للكتاب عنهم قطعي ضروري، فلا يمكن حمل الروايات
عليها. [منه قدس سره]
(2) الكافي 1: 69 / 2 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب و 2: 222 / 4 باب الكتمان، الوسائل 18:
78 و 80 / 11 و 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(3) الكافي 1: 69 / 3 و 4 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، الوسائل 18: 78 و 79 و 80 و 86 /
10 و 12 و 14 و 15 و 19 و 35 و 37 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(أ) غير واضحة في المخطوط ويمكن أن تقرأ المتقنين.
281

للقرآن، أو بماله شاهد أو شاهدان منه، ليس أخذا وعملا بالخبر، بل هو أخذ
وعمل بالكتاب. نعم لو حملت على مورد التعارض يكون لها معنى محصل،
وعليه تكون من شواهد حجية الخبر الواحد.
ومنها: ما يدل على طرح غير الموافق (1)، وهو يرجع إلى المخالف عرفا.
ومنها: ما يدل على طرح الخبر المخالف للكتاب (2). ولا يخفى أنها آبية
عن التخصيص، مع ضرورة صدور أخبار مقيدة أو مخصصة للكتاب من
رسول الله - صلى الله عليه وآله - والأئمة - عليهم السلام - فلابد من حمل تلك
الطائفة على المخالفة التباينية، أو الأعم منها ومن مخالفة العموم من وجه.
وصدور الأخبار المتباينة مع الكتاب من المخالفين لا يبعد، إذا كان على
وجه الدس في كتب أصحابنا، فإن في دسها إحدى النتيجتين لهم: إما تضعيف
كتب أصحابنا وإسقاطها عن النظر، وإما التزلزل في اعتقاد المسلمين بالنسبة
إلى أئمة الحق عليهم السلام.

(1) الكافي 1: 69 / 3 و 4 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، الوسائل 18: 78 و 79 و 80 و 86 /
12 و 14 و 19 و 35 و 37 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(2) الكافي 1: 69 / 1 و 5 باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب، الوسائل 18: 78 و 80 و 86 10 / و 19
و 37 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
282

أدلة حجية خبر الواحد
في الاستدلال بالكتاب على حجية خبر الواحد
آية النبأ
قوله (1): فمنها آية النبأ (2)...
ويمكن (3) تقريب الاستدلال بوجه آخر: وهو أنه لافرق في شمول العام

(1) الكفاية 2: 83.
(2) الحجرات: 6.
لا يخفى أنه مع فرض المفهوم للآية الشريفة لا تدل على حجية خبر العادل مطلقا، لأن التبين
لا يناسب الجزائية، فإن مجئ الفاسق بالنبأ مع وجوب تحصيل العلم للعمل غير مترتبين عقلا
ولا عرفا، فلابد من أن يكون ذلك كناية عن الإعراض عن خبر الفاسق وعدم ترتيب الأثر عليه،
ومفهومه - على فرضه - ترك الإعراض، وهو أعم من كونه تمام الموضوع للعمل، فلا يستفاد
منه كونه حجة بنفسه، كما لا يخفى. [منه قدس سره]
(3) وهاهنا تقريبات اخر:
منها: ما أفاده الماتن (أ)، ولا يخفى مخالفته لظاهر الآية.
283

لأفراده، بين كونها أفرادا ذاتية له، وبين كونها أفرادا عرضية إذا كانت بنظر
العرف شموله لها بنحو الحقيقة، فكما أن الأبيض صادق على نفس البياض لو
فرضنا قيامه بنفس ذاته، كذلك إنه صادق على الجسم المتلبس به، مع أن
صدقه عليه عرضي تبعي لدى العقل الدقيق، لكنه حقيقة لدى العقل العادي
والعرف.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن لعدم مجئ الفاسق بالخبر فردا ذاتيا، هو عدم
تحقق الخبر لامن الفاسق ولامن غيره، وأفرادا عرضية هي مجئ غيره به،
فيكون صدق عدم مجئ الفاسق به على مجئ العادل به صدقا عرضيا في نظر
العقل، وصدقا حقيقيا في نظر العرف، فيشمل العام له كما يشمل الفرد
الذاتي.
ومنها: ما أفاده بعض المحققين (ب): من أن الظاهر أن الشرط هو المجئ مع متعلقه - أي
مجئ الفاسق - فيكون الموضوع نفس النبأ، ولمفهومه مصداقان: عدم مجئ الفاسق،
ومجئ العادل، فلا يكون الشرط محقق الموضوع. وأما إذا جعل الشرط نفس المجئ، ويكون
الموضوع نبا الفاسق، يكون الشرط محقق الموضوع.
وفيه: أن مفهوم " إن جاءك الفاسق بنبأ " ليس إلا " إن لم يجئك الفاسق بنبأ "، وأما مجئ العادل
فليس مفروضا في المنطوق ولا المفهوم، فلا تدل الآية عليه مطلقا.
مع أن كون المفهوم ذا مصداقين - كما ذكره - لا يتوقف على جعل الشرط مجئ الفاسق،
بل لو كان الشرط هو المجئ والموضوع هو خبر الفاسق، فلعدم مجئ خبره مصداقان،
كما لا يخفى. لكن العمدة هو تفاهم العرف، وهو لا يساعد على ما ذكر. [منه قدس
سره]
(أ) الكفاية 2: 83 سطر 4 - 6.
(ب) نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 111 - 112.
284

فمفهوم قوله - تعالى -: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (1) هو إن لم يجئكم
به فلا يجب التبين، سواء جاء به العادل أولا. وإن ضم إلى ذلك أن ظهور
القضايا السالبة إنما هو في سلب المحمول، لاسلب الموضوع، يصير المفهوم: إن
جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبين.
وبالجملة: مفهومها يدل على عدم وجوب التبين في خبر العادل: إما
بإطلاقه، وإما بالتعرض لخصوص خبره. هذا.
وفيه: أن الأمر في المثال والممثل متعاكسان بحسب نظر العرف، فإن
المثال الذي مثلت - من صدق الأبيض على البياض والجسم المتلبس به -
يكون صدقه على الفرد الذاتي العقلي أخفى عند العرف من صدقه على الفرد
العرضي، بل يمكن أن يقال: إنه لا يصدق إلا على الثاني دون الأول عرفا، وإن
كان الأمر عند العقل الدقيق على عكس ذلك.
وأما فيما نحن فيه والممثل، لا يكون مجئ العادل بالخبر من مصاديق
لا مجئ الفاسق به عرفا، وإن فرض أن أحد الضدين مما ينطبق عليه عدم الضد
الآخر، ويكون مصدوقا عليه بحسب اصطلاح بعض أكابر فن المعقول (2) لكنه
أمر عقلي خارج عن المتفاهم العرفي، وأخذ المفاهيم إنما هو بمساعدة نظر
العرف، ولا إشكال في أنه لا يفهم [من] الآية الشريفة مجئ العادل به.
وأما قضية ظهور القضايا السالبة في سلب المحمول، إنما هو في القضايا

(1) الحجرات: 6.
(2) الأسفار 2: 114.
285

اللفظية، وأما فيما نحن فيه فليس قضية لفظية في البين. تأمل.
ولو فرضنا كون المفهوم قضية لفظية أو في حكمها، لكانت ظاهرة في سلب
الموضوع، ضرورة ظهور قوله: " إن لم يجئ فاسق بنبأ " فيه، لاسلب المحمول.
فتحصل مما ذكر: أنه لا إشكال في عدم دلالة الآية على المفهوم، وإنما
مفادها التبين في خبر الفاسق من غير التعرض لخبر غيره.
هذا، ولقد تصدى بعض أعاظم العصر قدس سره - على ما في تقريرات
بحثه - لبيان أخذ المفهوم من الآية بما لا يخلو عن خلط وتعسف.
ومحصل ما أفاد: أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ،
والشرط هو مجئ الفاسق به من مورد النزول، فإن مورده إخبار الوليد (1)
بارتداد بني المصطلق، فقد اجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد،
وكون المخبر فاسقا، والآية وردت لإفادة كبرى كلية، لتميز الأخبار التي يجب
التبين عنها عن غيرها، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا،
فيكون هو الشرط، لا كون الخبر واحدا، ولو كان الشرط ذلك لعلق عليه، لأنه
بإطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر
الفاسق، كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق.
ولا يتوهم أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط، أو إلى دلالة الإيماء، فإن

(1) الوليد: هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، امه أروى بنت كريز بن ربيعة أم
عثمان بن عفان، ولاه عثمان الكوفة وعزله بسعيد بن العاص، توفي بالرقة ودفن بالتليح. انظر
أسد الغابة 5: 90.
وبنو المصطلق: هم فخذ من قبيلة خزرج العربية الشهيرة.
286

ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.
وبالجملة: لا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية، ولابد من
أن يكون مورد النزول من صغرياتها، وإلا يلزم خروج المورد عن العام، وهو
قبيح، فلابد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية، فيكون مفاد
الآية - بعد ضم المورد إليها -: أن الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا،
فتصير ذات مفهوم (1) انتهى.
وفيه أولا: أن كون مورد النزول إخبار الوليد لاربط له بكون الموضوع
في الآية مطلق النبأ، والشرط خارج غير مسوق لتحقق الموضوع، ومجرد
إخباره بكذا لا يصير منشأ لظهورها في إفادة الكبرى الكلية لتميز الأخبار التي
يجب التبين عنها عن غيرها.
نعم الآية الشريفة مسوقة لإفادة الكبرى الكلية، وهي وجوب التبين
عن خبر كل فاسق، من غير تعرض لغيره، وليست بصدد بيان التميز بين خبر
الفاسق والعادل.
وبالجملة: إنها متعرضة لخبر الفاسق فقط، دون العادل، لا منطوقا
ولا مفهوما.
وثانيا: أن اجتماع العنوانين في خبر الوليد - أي كونه خبرا واحدا،
وكون المخبر به فاسقا - بيان لمفهوم الوصف، لا الشرط، حيث لم يعلق في الآية
وجوب التبيين على كون المخبر به فاسقا، بل علق على مجئ الفاسق بالخبر،

(1) فوائد الأصول 3: 169.
287

ومعلوم أنه لا مفهوم له، كما أنه بذاك التقريب لا يكون للوصف أيضا مفهوم،
لعدم إفادة العلية المنحصرة.
مع أن في ذكر الفاسق ها هنا نكتة هي التنبيه على فسق الوليد، فكون
مورد النزول هو إخبار الوليد مضر بدلالة الآية على المفهوم، لا أنه موجب
لها، كما أفاد - رحمه الله - ومن ذلك يعرف ما في قوله: فإن ما بيناه من التقريب
ينطبق على مفهوم الشرط.
وأما ما أفاد: - في تأييد كون الآية بمنزلة الكبرى الكلية -: من أن
مورد النزول من صغرياتها، وإلا يلزم خروج المورد، فهو صحيح، لكن
الكبرى الكلية ليست هي ما أفاد، بل هي وجوب التبين عن خبر كل فاسق،
واخبار الوليد من صغرياتها، من غير أن يكون للآية مفهوم.
وبالجملة: إن الآية الشريفة لا مفهوم لها، وهذه التشبثات لا تجعل الآية
ظاهرة فيما لم تكن ظاهرة فيه.
تكملة
قد اورد على التمسك بالآية الشريفة لحجية الخبر الواحد بأمور: منها
ما يختص بالآية، ومنها ما يشترك بينها وبين غيرها:
فمن الإشكالات المختصة بها: هو كون المفهوم - على تقدير ثبوته -
معارضا لعموم التعليل في ذيلها (1) فإن الجهالة هي عدم العلم بالواقع، وهو

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 535 - 536، عدة الأصول: 46 سطر 9 - 13.
288

مشترك بين إخبار الفاسق والعادل، فمفهوم التعليل يقتضي التبين عن
خبر العادل، فيقع التعارض بينهما، والتعليل أقوى في مفاده، خصوصا
في مثل هذا التعليل الآبي عن التخصيص، فعموم التعليل لاقوائيته يمنع
عن ظهور القضية في المفهوم، فلا يلاحظ النسبة بينهما، فإنها فرع
المفهوم.
ولقد تصدى المشايخ لجوابه، وملخص ما أفاد بعض أعاظم العصر قدس
سره - على ما في تقريرات بحثه - أن الإنصاف أنه لاوقع له:
أما أولا: فلأن الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون
إليه، ولا شبهة في جواز الركون إلى خبر العادل دون الفاسق، فخبر العادل
خارج عن العلة موضوعا.
وأما ثانيا: فعلى فرض كونها بمعنى عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع،
يكون المفهوم حاكما على عموم التعليل، لأن أقصى ما يدل عليه التعليل هو
عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي إلقاء احتمال الخلاف، وجعل
خبر العادل محرزا للواقع وعلما في عالم التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض
بينهما، لأن المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهوره أقوى، لأن الحاكم
متعرض لعقد وضع المحكوم إما بالتوسعة أو التضييق.
فإن قلت: إن ذلك كله فرع ثبوت المفهوم، والمدعى أن عموم التعليل
مانع عن ظهور القضية فيه.
قلت: المانع منه ليس إلا توهم المعارضة بينهما، وإلا فظهورها الأولي
289

فيه مما لا سبيل لإنكاره، وقد عرفت عدم المعارضة بينهما، لأن المفهوم
لا يقتضي تخصيص العموم، بل هو على حاله من العموم، بل إنما يقتضي خروج
خبر العادل عن موضوع القضية، لاعن حكمها، فلا معارضة بينهما أصلا، لعدم
تكفل العام لبيان موضوعه وضعا ورفعا، بل هو متكفل لحكم الموضوع على
فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده (1) انتهى.
ويرد عليه: أولا: أن التعليل يمنع عن المفهوم بلا إشكال. والسر فيه
ليس ما أفاد المستشكل، بل هو أن القضية الشرطية إنما تكون ذات مفهوم
لظهور التعليق في العلية المنحصرة - كما هو المقرر في محله (2) - وهذا الظهور إنما
ينعقد إذا لم يصرح المتكلم بعلة الحكم، لأنه مع تصريحه بها لا معنى لإفادته
العلية، فضلا عن انحصارها.
فقوله: " إن جاءك زيد فأكرمه " إنما يدل على علية المجئ للإكرام
وانحصارها فيه إذا أطلق المتكلم كلامه، وأما إذا صرح بأن علة الإكرام هو
العلم، لا يبقى ظهور له في العلية، فضلا عن انحصارها. ولعمري إن هذا واضح
للمتأمل، ومن العجب غفلة الأعلام عنه.
وهذا الإشكال مما لا يمكن دفعه أيضا، وعليه لاوقع لما أفاده المحقق
المعاصر وغيره (3) في دفعه.

(1) فوائد الأصول 3: 172.
(2) الفصول: 147 - 148، مطارح الأنظار: 171 سطر 1 - 4.
(3) درر الفوائد 2: 50، فرائد الأصول: 73 سطر 21 - 23.
290

وثانيا: أن الظاهر أن الجهالة في الآية في مقابل التبين، ومعلوم أن التبين
هو تحصيل العلم بالواقع وجعل الواقع بينا واضحا، والجهالة التي في مقابلته
بمعنى عدم العلم بالواقع، لا بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه،
كما أفاده - رحمه الله - تبعا للشيخ (1) قدس سره.
وثالثا: أن ما أفاد من حكومة المفهوم على عموم التعليل - مع كونه دورا
واضحا، لأن الحكومة تتوقف على الفهوم، وهو عليها - فممنوع، فإن غاية
(1) حكاه الشيخ عن بعض في فرائده: 73 سطر 14 - 16.
بل الحق أن الآية ليست بصدد بيان أن خبر الفاسق مطلقا لايعتنى به، لأن مناسبة صدرها وذيلها
وتعليلها تجعلها ظاهرة في أن النبأ الذي كان له خطر عظيم - وأن الإقدام على طبقه موجب
للمفاسد العظيمة والندامة، كإصابة القوم ومقاتلتهم - لابد من تبينه والعلم بمفاده، ولا يجوز
الإقدام عليه بلا تحصيل العلم، خصوصا إذا جاء به الفاسق، فحينئذ فلابد من إبقاء الظاهر على
حاله، فإن الظاهر من التبين طلب الوضوح وتحقيق كذب الخبر وصدقه ومن الجهالة في مقابل
التبين هو عدم العلم بالواقع وليس معناها السفاهة.
ولو فرض أنها إحدى معانيها - مع إمكان منعه، لعدم ذكرها في جملة معانيها في الصحاح (أ)
والقاموس (ب) والمجمع (ج) - وذكرها في بعض (د) اللغات، مع مخالفته للمتفاهم العرفي،
لأمكن أن يقال: إن إطلاقها على السفاهة لأجل أنها جهالة، والسفيه جاهل بعواقب الأمور
وتدبيرها، لا أنها بعنوانها معناها.
ثم إنه على ما ذكرنا لا يلزم التخصيصات الكثيرة في الآية، على فرض حملها على العلم
الوجداني، كما قيل (ه‍)، فتدبر. [منه قدس سره]
(أ) الصحاح 4: 1663 جهل.
(ب) القاموس المحيط 3: 363 - 364 جهل.
(ج) مجمع البحرين 5: 345 جهل.
(د) مفردات الراغب: 143 جهل.
(ه‍) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 115 سطر 14 - 16.
291

ما تدل عليه الآية هي جواز العمل على طبق قول العادل أو وجوبه، وليس
لسانها لسان الحكومة، وليس فيها دلالة على كون خبر العادل محرزا للواقع
وعلما في عالم التشريع.
نعم، لو ادعى أحد أن قوله: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (1) مفهومه
عدم وجوب التبين في خبر العادل، لكونه متبينا في عالم التشريع، لكان
للحكومة وجه، لكنه غير متفاهمه العرفي كما لا يخفى.
ومن الإشكالات المختصة: لزوم خروج المورد عن المفهوم، فإنه من
الموضوعات الخارجية، وهي لا تثبت إلا بالبينة، فلابد من رفع اليد عن
المفهوم لئلا يلزم التخصيص البشيع.
ولقد تصدى لرده المحقق المعاصر - رحمه الله - بما ملخصه: من أن المورد
داخل في عموم المنطوق، وهو غير مخصص، فإن خبر الفاسق لا اعتبار به
مطلقا، لافي الموضوعات ولا في الأحكام. وأما المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى
مفروضة الوجود، لأنه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد، بل يكون حكم
المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية، فلا مانع من تخصيصه.
ولافرق بين المفهوم والعام الابتدائي سوى أن المفهوم كان مما تقتضيه
خصوصية في المنطوق، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد، بل
القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق والمفهوم واحدا (2) انتهى.

(1) الحجرات: 6.
(2) فوائد الأصول 3: 174.
292

وفيه ما لا يخفى: فإن الآية الشريفة - على فرض دلالتها على المفهوم -
إنما تدل على أن التبين إنما يختص بخبر الفاسق، وإنما الاعتراض والتشنيع على
ترتيب الأثر في المورد بإخبار الوليد الفاسق، ولولا فسقه أو كون الخبر غيره
من العدول لما توجه اعتراض ولوم.
وبالجملة: أن العلة المنحصرة لتوجه الاعتراض والتشنيع في المورد -
حتى أتى الله بضابط عام وقانون كلي - هو فسق المخبر، لا كونه واحدا.
مع أنه لو كان عادلا واحدا لتوجه على العامل بقوله الاعتراض بترتيب
الأثر على قول شاهد واحد في الموضوعات، مع لزوم التعدد فيها.
فتحصل منه: أن التخصيص هاهنا في المفهوم بشيع، فلابد من رفع اليد
عن المفهوم، والالتزام بأن الآية سيقت لبيان المنطوق فقط، كما هو الحق.
وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاد الشيخ العلامة الأنصاري في الجواب عن
الاعتراض (1) فراجع.
ومن الإشكالات التي تعم جميع الأدلة: هو وقوع التعارض بينها وبين
عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم، والمرجع بعد التعارض
إلى أصالة عدم الحجية.
وفيه ما عرفت: من أن الآيات - التي هي غير قابلة للتخصيص، وتقع
المعارضة بينها وبين غيرها حتى الأخص المطلق منها - مربوطة بالأصول
الاعتقادية.

(1) فرائد الأصول: 76 - 77.
293

وأما ما هو عام أو مختص بالفروع - مثل قوله تعالى: * (ولا تقف ما
ليس لك به علم) (1) - فهو قابل للتخصيص، وتكون نسبته مع أدلة الحجية عاما
وخاصا مطلقا، أو إطلاقا وتقييدا.
وأما ما أفاد بعض أعاظم العصر قدس سره - من أن أدلة الحجية حاكمة
على الآيات الناهية، لأن أدلة الحجية تقتضي خروج العمل بخبر العادل عن
كونه عملا بالظن (2) - فقد عرفت أنه مما لا أساس له، لعدم كون لسانها لسان
الحكومة.
كما أن ما أفاد - من أن نسبة الآيات الناهية مع أدلة الحجية نسبة العموم
والخصوص، والصناعة تقتضي تخصيص عمومها بما عدا خبر العدل (3) -
لا يكفي لدفع الإشكال، فإن العام إذا كان غير قابل للتخصيص تقع المعارضة
بينه وبين الخاص منه، والصناعة لا تقتضي التخصيص، ولمدعي المعارضة أن
يدعي ذلك، والجواب ما عرفت.
ومن الإشكالات الغير المختصة: أنه لا يمكن حجية الخبر الواحد، لأنه
يلزم من حجيته عدم حجيته، فإنه لو كان حجة لكان خبر السيد بطريق
الإجماع على عدم حجيته حجة، فيلزم من حجية الخبر عدمها، وهو باطل
بالضرورة، فالحجية باطلة بالضرورة.

(1) الإسراء: 36.
(2) فوائد الأصول 3: 160 وما بعدها.
(3) فوائد الأصول 3: 175.
294

والجواب: - مضافا إلى أنه من الإجماع المنقول، وأدلة الحجية لا تشمله
- أن الاستحالة لا تستلزم من حجية الخبر، بل من إطلاق دليل الحجية وشموله
لخبر السيد، فإطلاقه وشموله له مستحيل، لا أصل الحجية (1).

(1) وقد يقال باستحالة شمول إطلاق المفهوم لمثل خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية، لاستلزامه
لشمول إطلاقه لمرتبة الشك بمضمون نفسه، لأن التعبد بإخبار السيد بعدم الحجية، إنما كان في
ظرف الشك في الحجية واللا حجية، وهو عين الشك بمضمون الآية، وإطلاق المفهوم لمثل هذه
المراتب المتأخرة غير ممكن (أ).
وفيه: منع امتناع الشمول له، لعدم الدليل عليه إلا توهم تأخر الشك عن الجعل، وعدم
إمكان الإطلاق للمتأخر عنه، وهو ممنوع، لأن الشك في جعل الحجية لخبر الواحد ممكن،
سواء جعل الحجية له واقعا أو لا، والآية الشريفة رافعة لهذا الشك، فإذا شك في شمول
الآية لخبر السيد - مع كونه نبأ - نتمسك بإطلاقها لدخوله. ولولا إشكالات اخر لم يكن هذا
إشكالا.
وبهذا لو فرض عدم الإجماع على عدم الفرق بين النبأ قبل نبأ السيد وبعده، وعدم كون إجماع
السيد على عدم الحجية مطلقا، لجاز الاخذ بمفاد المفهوم، والحكم بحجية الأخبار إلى زمن
السيد، وعدم الحجية فيما بعده، كما أفاد المحقق الخراساني (ب) من غير ورود إشكال أصلا.
فالقول بامتناع شمول الإطلاق لمثل خبر السيد تقول بلا برهان.
وقد يقال: إن الأمر في المقام دائر بين التخصيص والتخصص، لأن شمول الآية لسائر الأخبار
يجعلها مقطوعة الحجية، فيعلم بكذب خبر السيد لأن مضمونه عدم الحجية، وأما شمولها لخبر
السيد وإخراج غيره يكون من قبيل التخصيص، لعدم العلم بكذب مؤدياتها ولو مع العلم بحجية
خبر السيد، لان مؤدياتها غير الحجية واللا حجية (ج).
وفيه: أولا: أن مفاد الآية - وكذا سائر أدلة الحجية - ليس حجية الخبر، بل مفادها وجوب
العمل، وتنتزع الحجية من الوجوب الطريقي، كما أن مفاد إجماع السيد حرمة العمل، وعدم
الحجية تنتزع منه، فحينئذ يسقط الدوران المذكور، بل يدور بين التخصيصين.
وثانيا: أن مضمون الآية لو كان جعل الحجية للاخبار فلا إشكال، لعدم شموله لما قطع بعدم
جعل الحجية له، أو قطع بجعل الحجية له. فحينئذ لو شملت الآية خبر السيد لصار خبره مقطوع
295

وأيضا الأمر دائر بين تخصيص أدلة الحجية إلى بقاء فرد واحد تحتها،
وبين تخصيص فرد واحد منها وبقائها بحالها في البقية، ومقتضى أصالة العموم
تعين الثاني.
وأيضا في مقام إفادة عدم الحجية، إلقاء الكلام الدال على الحجية بشيع،
لا ينبغي صدوره من الحكيم.
وأما ما عن المحقق الخراساني: أنه من الجائز أن يكون خبر العادل
حجة من زمن صدور الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيد، وبعده يكون
هذا الخبر حجة فقط، فيكون شمول العام لخبر السيد مفيدا لانتهاء الحكم في هذا
الزمان، وليس هذا بمستهجن (1).
ففيه: أن الإجماع كاشف عن كون حكم الله من أول الأمر كذلك، لا
من زمان دعوى الإجماع، فإذا كان الإجماع حجة يكشف عن عدم حجية
خبر العادل من زمن النبي - صلى الله عليه وآله - وعمل الناس على طبقه قبل
دعوى السيد الإجماع إنما هو لجهلهم بالحكم الشرعي، وتوهمهم الحجية لظاهر
أدلة مخالفة للإجماع بحسب الواقع، فلا معنى لما أفاده من انتهاء زمن الحجية.
الحجية، وخبر غيره مقطوع عدم الحجية وإن لم يكن مقطوع المخالفة للواقع، فيصير حال غير
خبره كحاله في خروجه تخصصا، فتدبر. [منه عفي عنه]
(ا) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 118 - 119.
(ب) حاشية فرائد الأصول: 63 سطر 11 - 19.
(ج) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 119 سطر 11 - 19.

(1) حاشية فرائد الأصول: 63 سطر 11 - 19.
296

وبذلك يعرف النظر فيما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في درره
من قوله: إن بشاعة الكلام - على تقدير شموله لخبر السيد - ليست من جهة
خروج تمام الأفراد سوى فرد واحد، حتى يدفع بما أفاده، بل من جهة التعبير
بالحجية في مقام إرادة عدمها، وهذا لا يدفع بما أفاد (1) انتهى.
فإن البشاعة لا تدفع حتى إذا كانت من الجهة الأولى، لا عرفت من أن
الإجماع كاشف عن [عدم] الحجية من زمن النبي - صلى الله عليه وآله -
فيكون - بحسب الواقع - تمام الأفراد خارجا عن العمومات سوى فرد واحد،
وإن كان الكاشف عنه إجماع السيد.
وأما لو سلمنا أن خبر السيد يفيد انتهاء الحجية في زمنه، فيدفع البشاعة
حتى من الجهة الثانية، فإن شمول إطلاق أدلة الحجية لفرد متأخر عن زمان
الصدور - يفيد انتهاء أمد الحكم بعد العمل به في الأزمنة المتتالية - لابشاعة فيه
أصلا.
ومن الإشكالات الغير المختصة: إشكال شمول أدلة الحجية للأخبار مع
الواسطة، والمهم منه إشكالان:
أحدهما: دعوى لزوم إثبات الحكم لموضوعه، فان ن إحراز الوسائط إنما
يكون بدليل الحجية، مع أن مفاده وجوب التصديق الذي هو حكم لتلك
الموضوعات، فوجوب التصديق مما يحرز الموضوع ويترتب عليه، وهو محال.
وثانيهما: دعوى لزوم كون الحكم ناظرا إلى نفسه، فإن وجوب التصديق

(1) درر الفوائد 2: 52.
297

الذي يتعلق بالخبر مع الواسطة، إنما يكون بلحاظ الأثر الذي هو وجوب
التصديق (1).
ولقد تصدى المحققون لجوابهما: بكون أدلة الحجية من قبيل القضايا
الحقيقية المنحلة إلى الموضوعات المتكثرة المحققة والمقدرة، فلا مانع من تحقق
الموضوع بها وشمولها لنفسها، كما في قوله: " كل خبري صادق "، فإنه يشمل
هذا الخبر، لكون القضية حقيقية. كما لا مانع [من] كون الحكم ناظرا إلى نفسه

(1) وهاهنا إشكالان آخران، أحدهما: دعوى انصراف الأدلة عن الاخبار مع الواسطة، لا كما قرره
الشيخ (أ) وأجابه وجعله ضعيفا، بل أن يقال: إنها منصرفة عن المصداق التعبدي للخبر المحرز
بدليل الحجية، بل الظاهر منها هو الأخبار الوجدانية لا التعبدية، خصوصا ما هو مصداق بنفس
تلك الأدلة.
أو يقال: إن الوسائط إذا صارت كثيرة جدا - كالوسائط بيننا وبين المعصومين - تكون الأدلة
منصرفة عنها، بل لا يمكن إحراز حجتها ببناء العقلاء أيضا، لعدم إحراز بنائهم على الخبر الذي
كثرت وسائطه كذلك، ولم يكن في زمن الشارع بناء منهم على العمل بمثل ذلك، حتى يكشف
عدم الردع من السكوت.
والجواب عن الأول: بمنع الانصراف، بل الحق أن العرف لا يفهم الفرق بين الأخبار بلا واسطة
ومعها، بحيث لو قصر الإطلاق عن شمولها يحكم بمحكوميتها بالحكم بإلقاء الخصوصية، أو
بتنقيح المناط، كما ادعى الشيخ الأعظم (ب).
وعن الثاني: بأنه لو سلم فإنما هو في الوسائط الكثيرة جدا، وليست أخبارنا كذلك، لأن
الكتب الأربعة - التي دارت عليها رحى الاجتهاد - متواترة عن مصنفيها بحيث نقطع بكونها
منهم، ولا نحتاج في إثباتها إلى أدلة الحجية، والوسائط بينها وبين المعصومين ليست كثيرة يمكن
دعوى الانصراف بالنسبة إليها، أو التردد في بناء العقلاء في مثلها، ضرورة أن العقلاء يتكلون
على الأخبار مع مثل تلك الوسائط [منه قدس سره].
(أ) فرائد الأصول: 75 سطر 1 - 2.
(ب) فرائد الأصول: 76 سطر 1 - 10.
298

مع الانحلال إلى القضايا (1).
ولقد أطال بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - في المقام بما
لا يخلو عن خلط واشكال، فقال ما ملخصه:
إن هذا الإشكال - أي الإشكال الثاني - غير وارد على طريقتنا: من أن
المجعول في باب الأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات، لأن المجعول في
جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدي إليه - أي شئ كان المؤدى - فقول
الشيخ طريق إلى قول المفيد (2)، وهو إلى قول الصدوق، وهكذا إلى أن ينتهي
إلى قول الإمام - عليه السلام - ولا نحتاج في جعل الطريق إلى أن يكون في
نفس المؤدى أثر شرعي، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر، كما في
المقام.
هذا، ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر - لعله يأتي حتى بناء على المختار -
وهو أنه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة، للزم أن يكون الدليل حاكما
على نفسه، ويتحد الحاكم والمحكوم، لأن أدلة الأصول والأمارات حاكمة على
الأدلة الأولية الواردة [لبيان] الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هو أنها مثبتة

(1) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 123 - 124.
(2) الإمام الهمام شيخ العلماء ومربي الفقهاء الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب
بالمفيد من أجل علماء الشيعة، ولد سنة 336 ه‍، أخذ العلم عن جملة من العلماء منهم ابن
قولويه والصدوق رحمهما الله، انتهل من فيضه كبار العلماء كالسيد المرتضى والرضي
والطوسي والنجاشي رحمهم الله جميعا. له ما يقارب من (190) مؤلف ما بين كتاب ورسالة.
توفي رحمه الله سنة 413 ه‍ وصلى عليه السيد المرتضى ودفن عند الجوادين عليهما السلام.
انظر رجال النجاشي: 399، تاريخ بغداد 3: 231.
299

لتلك الأحكام، وفيما نحن فيه يكون الحكم الواقعي هو وجوب التصديق،
وأريد إثباته بدليل وجوب التصديق، فيكون دليل وجوب التصديق حاكما
على نفسه، أي مثبتا لنفسه.
ونظير هذا الإشكال يأتي في الأصل السببي والمسببي، فإن لازمه
حكومة دليل (لا تنقض) (1) على نفسه.
والتحقيق في الجواب: أن دليل الاعتبار قضية حقيقية تنحل إلى قضايا،
فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد السلسلة، ويكون لكل منها
أثر يخصه غير الأثر المترتب على الآخر، فلا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم، بل
تكون كل قضية حاكمة على غيرها.
فإن المخبر به لخبر الصفار (2) الحاكي لقول العسكري - عليه السلام - في
مبدأ السلسلة لما كان حكما شرعيا - من وجوب الشئ، أو حرمته - وجب
تصديق الصفار في إخباره عن العسكري بمقتضى أدلة خبر الواحد، والصدوق
الحاكي لقول الصفار حكى موضوعا ذا أثر شرعي، فيعمه دليل الاعتبار،
وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان، فبواسطة الانحلال
لا يلزم أن يكون الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه، ولا حكومة الدليل

(1) التهذيب 1: 8 / 11 باب الأحداث الموجبة للطهارة، الوسائل 1: 174 - 175 / 1 باب 1 من
أبواب نواقض الوضوء و 5: 321 / 3 باب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(2) هو الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفار، ثقة عظيم القدر ضابط للحديث
قليل السقط في الرواية، له كتب كثيرة وأصول عظيمة أهمها كتاب بصائر الدرجات، توفي
سنة 290 ه‍ في قم المقدسة. انظر رجال النجاشي: 354، فهرست الطوسي: 143.
300

على نفسه، فيرتفع الإشكال (1).

(1) لا يخفى أن الأجوبة التي ذكروها في دفع الإشكال عن الأخبار مع الواسطة غير مقنعة:
أما أولا: فلأن أدلة حجية خبر الواحد - أي الآيات الكريمة (أ) التي أهمها آية النبأ (ب) - ليس
لسانها لسان تتميم الكشف، وجعل خبر الواحد مصداق العلم تشريعا كما يدعى (ج) بل لسانها
ايجاب العمل على فرض الدلالة، ويمكن أن يكون حصول الظن النوعي منه، أو الكشف الظني
عن الواقع، نكتة التشريع، أو ذلك مع عدم وقوع الناس في الكلفة نكتته، ولا دليل على أن
إيجاب العمل لإلقاء احتمال الخلاف وجعل مصداق من العلم، فحينئذ يسقط ما تشبثوا (د) به
من إحراز الموضوع بدليل أصدق العادل وتعلق الحكم الانحلالي به، وهكذا. كما أنه لا دلالة
لها على التعبد بوجود الخبر به، حتى يأتي فيه ذلك.
وأما ثانيا: فعلى فرض تتميم الكشف لابد من أثر عملي للمنكشف بالخبر، ولا إشكال في أن
خبر الشيخ لا يكون وجوب ملاة الجمعة، بل لا يخبر إلا عن تول المفيد بكذا من غير إخبار عن
مقول قوله، فلا أثر لقوله بما هو قوله.
والانتهاء إلى الأثر إن كان بالملازمة العقلية أو العادية، فلا بأس به، لكنها ممنوعة، والملازمة
الشرعية تحتاج إلى جعل، وليس في البين إلا هذه الأدلة، فما أفاده شيخنا العلامة (ه‍) غير
ظاهر.
ودعوى دخالة كل خبر في موضوع الحكم كما ترى (و) فإن موضوع الوجوب - مثلا - هو
صلاة الجمعة، لاهي مع كونها محكية.
مع أن الانتهاء إلى الأثر إنما هو بالتعبد، ولابد للتعبد من الأثر.
وبالجملة: أن خبر الشيخ لا عمل له، ولا أثر عملي له، ولا يكون جزء موضوع للعمل. نعم له أثر
عملي بما هو موضوع من الموضوعات، وهو جواز (ز) نسبة الخبر إلى المفيد، وهكذا، لكنه
لابد فيه من البينة كسائر الموضوعات.
وثالثا: بناء على أن المجعول وجوب تصديق العادل، لا محيص إلا أن يكون المراد هو التصديق
العملي، أي ترتيب الآثار عملا، ولاعمل لاخبار الشيخ، لأن وجوب صلاة الجمعة ليس مفاد
خبره، ولهذا لو لم تكن واجبة لم يكن قول الشيخ مخالفا للواقع، بل لو لم يخبر به المفيد لكان
خبره مخالفا له ولو كانت الصلاة واجبة، فحينئذ فلا معنى للتعبد بخبر الشيخ.
والعجب منهم حيث تشتثوا بتصحيح الحجية بأول السلسلة وأن قول الصفار له أثر غير وجوب
301

ومن ذلك يظهر دفع الإشكال في حكومة الأصل السببي على المسببي،
فإن انحلال قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) يقتضي حكومة أحد المصداقين على
الآخر، كما فيما نحن فيه، وإنما الفرق بينهما أن الحكومة في باب الأصل السببي
والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله: (لا تنقض اليقين
بالشك م، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في
التصديق، فيجب تصديقه، فصار ذا أثر، فإذا أخبر الصدوق يكون إخباره موضوعا ذا أثر حتى
ينتهي إلى آخر السلسلة، مع أن هذا إنما يتم لو كان إخبار الصفار للصدوق ثابتا، وهو لا يثبت إلا
بدليل التعبد، فلابد من التشبث بأول السلسلة، وهو أيضا مخدوش كما عرفت.
نعم، لا يبعد أن يقال: إن العرف والعقلاء لا يفرقون بين الاخبار مع الواسطة وبلا واسطة،
ويفهمون من دليل الحجية أنها لا تختص بالاخبار بلا واسطة، ولا يجب أن تكون كل واسطة ذا أثر
شرعي، بل لابد وأن لا تكون لغوا، وجعل الحجية ليس بلغو في المقام.
والسر في عدم تفرقتهم بينهما يمكن أن يكون لأجل أن نظرهم إلى الوسائط يكون طريقيا، ولهذا
لا يعدون الخبر مع الوسائط أخبارا عديدة، بل خبرا واحدا ذا وسائط، فإذا قيل لهم: اعملوا
بقول العادل، وكان الوسائط عدولأ، لا يخطر ببالهم أن هاهنا أخبارا متعددة، ولاعمل لغير
واحد منها، بل لا يرون إلا خبرا واحدا ذا عمل امروا بالعمل على طبقه، ولهذا يكون الدليل
الدال على احتياج الموضوعات إلى البينة منصرفا عن أقوال الوسائط، مع كونها موضوعات،
بل قول الإمام أيضا كذلك، ولهذا لو كان لقول بعض الوسائط أثر خاص لم يمكن إثباته إلا بالبينة،
فتدبر. [منه قدس سره].
(أ) كآية النفر، التوبة: 122، وآية سؤال أهل الذكر، النحل: 43، والأنبياء: 7.
(ب) الحجرات: 6.
(ج) فوائد الأصول 3: 195.
(د) فوائد الأصول 3: 179، نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 124 - 125.
(ه‍) درر الفوائد 2: 53 - 54.
(و) نهاية الأفكار: القسم الأول من الجزء الثالث: 124 - 125.
(ز) فوائد الأصول 3: 182 وما بعدها، نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 124.
302

دليل الاعتبار.
هذا، وقد أوضح الفاضل المقرر - رحمه الله - مراده في ذيل الصحيفة بما
حاصله: أن طريق حل الإشكال الأول - وهو إثبات الموضوع بالحكم - مع
طريق حل الإشكال الثاني، وإن كان أمرا واحدا - وهو انحلال القضية - إلا أن
حل الإشكال الأول يكون بلحاظ آخر السلسلة، وهو خبر الشيخ المحرز
بالوجدان، فإن وجوب تصديقه يثبت موضوعا آخر، وحل الإشكال الثاني
بلحاظ مبدأ السلسلة، وهو الراوي عن الإمام - عليه السلام - فإن وجوب
تصديقه بلحاظ الأثر الذي هو غير وجوب التصديق، ثم يكون وجوب
تصديقه أثرا لاخبار الآخر، وهكذا إلى آخر السلسلة (1) انتهى كلامهما رفع
مقامهما.
وفيه مواقع للنظر:
الأول: أن ما أفاد - من أن الإشكال الثاني غير وارد على مسلك جعل
الطريقية - منظور فيه، فإن ملخص هذا الإشكال لزوم كون الدليل ناظرا إلى
نفسه، وكون دليل الجعل باعتبار الأثر الذي هو نفسه، وهذا بعينه وارد على
هذا المسلك ببيان آخر، فإن خبر الشيخ المحرز بالوجدان طريق إلى خبر المفيد
وكاشف عنه بدليل الاعتبار، وهو كاشف عن خبر الصدوق بدليل الاعتبار
أيضا، وهكذا، فدليل جعل الكاشفية ناظر إلى جعل كاشفية نفسه، ويكون
جعل الكاشفية باعتبار جعل الكاشفية، وهو محال.
الثاني: أن ما أفاد - من أن أدلة ا لأصول وا لأمارات حاكمة على أدلة

(1) فوائد الأصول 3: 180 - 183 هامش رقم 1.
303

الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هو أنها مثبتة لتلك الأحكام - فيه:
أولا: أن أدلة الأصول ليست مثبتة للأحكام الواقعية، بل هي مثبتة
لوظائف في زمان الشك حتى في الأصول المحرزة، فإن مفادها البناء على
الإحراز، لا الإحراز الذي في الطرق.
وثانيا: أن مجرد إثبات الأمارات الأحكام الواقعية لا يوجب حكومتها
عليها، لعدم انطباق ضابطة الحكومة على ذلك كما لا يخفى، وسيأتي في محل. نعم
بعض أدلة الأصول حاكمة على أدلة الشرائط، كأصالة الطهارة، فإن مفادها
توسعة دائرة الشرطية.
الثالث: أن بيان كون الدليل حاكما على نفسه يمكن أن يكون بوجه آخر
، وهو: أن أدلة اعتبار الخبر لما كانت مثبتة لموضوع نفسها، تكون حاكمة على
نفسها، ضرورة حكومة قوله: " أخبر العادل " على قوله: " صدق خبر
العادل "، مثل حكومة قوله: " زيد عالم " على قوله: " أكرم العالم "، فما يكون
مفاده تحقق خبر العادل، يكون حاكما على ما يكون مفاده تصديقه، والفرض
أن دليل الاعتبار متكفل لكلا الأمرين، فيكون حاكما على نفسه ولا يخفى أنه
على هذا التقرير يكون هذا الوجه تقريرا آخر للإشكال الأول،
لا الثاني.
والمظنون أن الفاضل المقرر قد خلط في تقريره، والشاهد عليه أنه في
ذيل كلامه - الذي تصدى لبيان الفرق بين حكومة الأصل السببي والمسببي،
وبين ما نحن فيه قال: إن الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي
304

تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله: (لا تنقض بالشك)، وحكومة
دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار، فإن وجوب
تصديق الشيخ في إخباره عن المفيد يقتضي وجوب تصديق المفيد في إخباره
عن الصدوق، فوجوب تصديق الشيخ يدخل فردا تحت عموم وجوب
التصديق، بحيث لولاه لما كان داخلا فيه (1) انتهى. فإنه صريح فيما
ذكرنا.
فتحصل من ذلك: أن حكومة دليل الاعتبار على نفسه إنما هي باعتبار
تحقق موضوعه بنفسه، لا باعتبار إثبات الحكم كما أفاد أولا.
الرابع: أن ما أفاد - من أن طريق حل الإشكالين وإن كان واحدا، وهو
انحلال القضية إلى القضايا، إلا أن حل الثاني باعتبار أول السلسلة - فيه من
الخلط ما لا يخفى.
فإن قول الراوي عن الإمام عليه السلام - على فرض ثبوته - وإن كان
ذا أثر غير وجوب التصديق، لكن وجوب تصديقه يتوقف على ثبوته، وهو
يتوقف على وجوب التصديق، فلا يمكن حل الإشكال باعتبار أول
السلسلة، لعدم الموضوع لدليل وجوب التصديق، فلابد من حل كلا
الإشكالين باعتبار اخر السلسلة - وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان - دفعا
للدور المستحيل.

(1) فوائد الأصول 3: 184.
305

آية النفر
قوله: ومنها: آية النفر (1) إلخ (2).
قد تصدى بعض أعاظم العصر - رحمه الله - لتقريب الاستدلال، بها بما
زعم أنه يندفع به ما اورد على الاستدلال بها، فقال ما محصله: إن الاستدلال
يتركب من أمور:
الأول: أن كلمة " لعل " - مهما تستعمل - تدل على أن ما يتلوها يكون
من العلل الغائية لما قبلها، سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات، والأفعال
الاختيارية وغيرها، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح
لأن يتعلق بها الإرادة الآمرية، كان - لا محالة - بحكم ما قبلها في الوجوب
والاستحباب.
وبالجملة: لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب
علته الغائية. وفي الآية جعل التحذر علة غائية للإنذار، ولما كان الإنذار واجبا
كان التحذر واجبا.
الثاني: أن المراد من الجموع التي في الآية هي الجموع الاستغراقية،
لا المجموعية، لوضوح أن المكلف بالتفقه هو كل فرد فرد من النافرين أو
المتخلفين على التفسيرين، فالمراد أن يتفهمه كل فرد منهم، وينذر كل واحد

(1) التوبة: 122.
(2) الكفاية 2: 92.
306

منهم، ويتحذر كل واحد منهم.
الثالث: المراد من التحذر هو التحذر العملي، وهو يحصل بالعمل بقول
المنذر وتصديق قوله، والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون، وليس
المراد الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم
الاستغراقي في قوله: * (لينذروا) * هو وجوب الحذر مطلقا، حصل العلم من
قول المنذر أو لم يحصل، غايته أنه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا.
وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن أن يشك أحد في دلالتها على حجية
الخبر الواحد. وبما ذكرنا من التقريب يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات
على التمسك بها، انتهى. ثم تصدى لبيان الإشكالات ودفعها (1).
أقول: يرد عليه: أولا: أن ما ادعى - من أن ما بعد كلمة " لعل " يكون
علة غائية لما قبلها في جميع موارد استعمالاتها - ممنوع، كما يظهر من تتبع موارد
استعمالاتها، كما أن في قوله تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم
يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) * (2) لم يكن بخوع نفسه الشريفة علة غائية لعدم
إيمانهم، ومعلوم أن الجملة الشرطية في حكم التقدم على جزائها. ولكن الخطب
سهل بعد كون ما نحن فيه من قبيل ما أفاده رحمه الله.
وثانيا: أن دعوى كون التحذر واجبا - لكونه غاية للإنذار الواجب (3) -

(1) فوائد الأصول 3: 185 - 187.
(2) الكهف: 6. باخع نفسك: أي قاتلها ومهلكها. التبيان 7: 8.
(3) فرائد الأصول: 78 سطر 18 - 20.
307

ممنوعة، فإن غاية ما يقال في وجه وجوبه هو كونه غاية للنفر المستفاد وجوبه
من لولا التحضيضية الظاهرة في الوجوب.
وفيه: أن قوله تعالى - قبل ذلك -: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (1)
منع عن النفر العمومي، أي لا يسوغ لهم النفر جميعا، وإبقاء رسول الله - صلى
الله عليه وآله - وحده، كما هو منقول في تفسيرها (2) وبعد هذا المنع قال:
* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) *، فتكون الآية بصدد المنع عن النفر
العمومي، لا إيجاب نفر طائفة من المؤمنين.
فيصير محصل مفادها - والعلم عند الله -: أنه لا يسوغ للمؤمنين أن
ينفروا جميعا، فينفرد رسول الله - صلى الله عليه وآله - فلم لا يكون نفرهم
بطريق التفرقة، وبقاء طائفة، ونفر طائفة أخرى؟ فيتوجه الحث المستفاد من
كلمة " لولا " التحضيضية إلى لزوم التجزنة وعدم النفر العمومي، لا إلى نفر
طائفة للتفقه (3).

(1) التوبة: 122.
(2) مجمع البيان 5: 83 سطر 21.
(3) ودعوى أن ذلك مخالف لظاهر الآية، فلو كان المراد ما ذكر حتفى بالآية الأولى، فذكر قوله:
(فلولا نفر) لإيجاب النفر للتفقه. هذا مع أن ظاهر قوله: (وما كان المؤمنون) ليس نهيا، بل
إخبار عن عدم إمكان النفر العمومي، لاختلال النظام به.
ممنوعة: بأن عدم احتفاء بالجملة الا ولى لعله لدفع ما ينقدح في الأذهان: من أن عدم نفر
الجميع يوجب بقاء سانر الطوانف في الجهالة، فقال - تعالى - ما قال، فليست الآية في مقام
بيان وجرب النفر.
وقوله: (وما كان المؤمنون م اخار في مقام الانثاء، ولو بقرينة شأن نزول الآية، كما قال
308

وثالثا: أن ما ادعى - من أن المراد من الحذر هو الحذر العملي، وهو
يحصل بالعمل بقول المنذر - في محل المنع، بل الظاهر من الآية الشريفة أن
المنذرين لينذروا قومهم بالموعظة، والايعاد بعذاب الله وشدة بأسه، حتى
يخافوا من عقابه وعذابه، فإذا خافوا يعملون بوظائفهم الشرعية، وليست
الآية في مقام بيان وجوب التحذر، حتى يقال: إنه تحذر عملي، بل الظاهر
أن المقصود حصول التحذر القلبي والخوف والخشية للناس حتى يقوموا
بوظائفهم.
ولا يلزم أن يكون المنذر عادلا، بل قد يكون تأثير كلام غيره كثر منه
بمراتب، لحسن بيانه، وقوة إفهامه، ونفوذ كلامه.
وبالجملة: بين مضمون الآية الشريفة والدلالة على حجية الخبر الواحد،
بون بعيد.
ورابعا: لو سكمنا جميع ذلك، فليس للآية إطلاق من هذه الجهة، فإنها
ليست في مقام بيان وجوب التحذر، بل فيها إهمال من هذه الحيثية. ومجرد
كون الجموع استغراقية لا يوجب رفع الإهمال، فإن الإطلاق من أحوال الفرد،
وأي ربط بين استغراقية الجمع والإطلاق الفردي؟!
المفسرون (أ)، وليس المراد الاخبار بأمر واضح لم يختلج ببال أحد خلافه، إلا أن يحمل على
كونه مقدمة لقوله: (فكولا نفر)، وهو خلاف الظاهر، بل ليس المراد بالنهي عن النفر إلا في
مورد شأن نزول الآية، وإلا فعدم إمكان نفر جميع الناس في جميع الأدوار واضح لا يحتاج إلى
النهي. [منه قدس سره]
(أ) مجمع البيان 5: 83 سطر 21. (*)
309

والعجب منه - قدس سره - حيث قال في جواب هذا الإشكال بهذه
العبارة: وأنت خبير بأنه وبعد ما عرفت من أن المراد من الجمع هو العام
الاستغراقي، لا يبقى موقع لهذا الإشكال، فإنه أي إطلاق يكون أقوى من
إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (1)؟! انتهى.
وهو كما ترى في كمال السقوط، وليته بين الربط بين الجمع الاستغراقي
والإطلاق الفردي.
وخامسا: أن المستفاد من بعض الروايات الواردة في تفسير الآية (2)
تطبيقها على النفر لأجل تحصيل العلم بإمامة بعض الأئمة عليهم السلام بعد
وفاة بعض منهم، واخبارهم قومهم بها، ومعلوم أن خبر الثقة لا يعتمد عليه في
الأصول الاعتقادية، بل لابد من العلم فيها، وهذا أيضا يشهد بعدم إطلاق لها
كما مر.
الاستدلال بالأخبار على حجية خبر الواحد
قوله: في الأخبار... (3).
أقول: ما استدلوا بها من الأخبار (4) على حجية الخبر الواحد - مع كثرتها

(1) فوائد الأصول 3: 187.
(2) الكافي 1: 378 - 380 / 1 - 3 باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.
(3) الكفاية 2: 97.
(4) الوسائل 18: 52 - 75 باب 8 من أبواب صفات القاضي، و 18: 98 - 111 باب 11 من أبواب
صفات القاضي.
310

وتواترها إجمالا - لا تدل على جعل الحجية والطريقية والوسطية في الإثبات
للخبر الواحد (1) نعم يظهر من مجموعها أن حجيته كانت مفروغا عنها بين
الراوي والمروي عنه.
ومدعي القطع بأن الشارع لم يكن في مقام تأسيس الحجية للخبر في
مقابل بناء العقلاء بل كان النبي - صلى الله عليه وآله - والأئمة - عليهم السلام -
يتعاملون معه معاملة سائر العقلاء، ويعملون به عملهم ليس بمجازف.
ولما كان بناء العقلاء على العمل به مسلما مرتكزا في أذهانهم، كانت
الأدلة [المستدل بها] على حجيته من الكتاب والسثنة - على فرض دلالتها -
محمولة على الأمر العقلائي والإمضاء لطريقتهم، لاعلى تأسيس الحجية وجعل
الطريقية والمحرزية والكاشفية، كما تمور به الألسن مورا.
وأما ما أفاد المحقق الخراساني - رحمه الله - وتبعه شيخنا الأستاذ (2)
- طاب ثراه - من أن الأخبار الدالة على حجية الخبر متواترة إجمالا، فيؤخذ
بأخصها مضمونا، ويتعدى ببركته إلى الأعم منه (3).
فالظاهر أنه - بعد تسليم التواتر - مجرد فرض، وإلا فلا أظن أن يكون في
(1) لكن لو لم يستلزم منها وجوب العمل أو جعل الحجية وأمثالها، يشكل التمسك بها لكشف حال
السيرة، لعدم الكشف القطعي، وهو واضح، وعدم كون ذلك حكما عمليا، فلا معنى للتعبد به.
وكيف كان، فالخطب سهل بعد إحراز بناء العقلاء في محيط الاحتجاج بالعمل بكل خبر من
الثقة. ومع إنكار بنانهم فالرواية تدل على التشريع ولزوم العمل على قوله، وما ذكرنا - من عدم
الدلالة على التأسيس - لأجل إحراز بناء العقلاء، فتدبر. [منه قدس سره]
(2) درر الفوائد 2: 57.
(3) الكفاية 2: 97. (*)
311

الأخبار ما يكون جامعا لشرائط الحجية، ودالا على حجية الخبر مطلقا (1).
(1) بل القدر المتيقن هو الاخبار بلا واسطة، مع كون الراوي من الفقهاء، أضراب زرارة ومحمد
ابن مسلم وأبي بصير. ومعلوم أنه لم يصل إلينا خبر كذاني، حتى يتمسك به لإثبات الحجية
المطلقة.
لكن هاهنا وجه أخر لإثبات حجية مطلق خبر الثقة: وهو أنه لا إشكال في بناء العقلاء في
الجملة، فحينئذ إن ثبت بناؤهم في مقام الاحتجاج على العمل بمطلق خبر الثقة - كما هو الظاهر -
فهو، وإلا فالقدر المتيقن من بنائهم هو العمل على الخبر العالي السند إذا كان جميع رواته مزكى
بتزكية جمع من العدول، وفي الروايات ما يكون بهذا الوصف، مع دلالته على حجية مطلق خبر
الثقة، كصحيحة أحمد بن إسحاق، حيث روى محمد بن يعقوب عن محمد بن عبد الله
الحميري ومحمد بن يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق عن أبي
الحسن قال: (سألته، وقلت: من أعامل، وعمن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي،
فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة
المأمون) (أ)، ونحوه صحيحته الأخرى، وسندها مع علوه [فإن] رواتها من المشايخ العظام،
ممن لاغمز في واحد منهم من أحد، فلا إشكال في بناء العقلاء على العمل بمثلها.
وبمقتضى تعليلها نتعدى إلى كل خبر ثقة مأمون. والإشكال - بأن من المحتمل أن لوثاقة مثل
العمري وابنه دخالة في القبول، ولا يمكن التعدي إلى مطلق الثقة - مردود، فإن الظاهر من
التعليل أن لزوم القبول إنما هو لأجل الوثاقة والمأمونية، لا وثاقة خاصة ومرتبة كاملة لها، كما
أن المستفاد من قوله: " لا تشرب الخمر، لأنه مسكر " أن مجرد الإسكار كاف، لا إسكار خاص
نحو إسكار الخمر.
وأمثال هذه الروايات وإن لم تدل على جعل الحجية (ب) أو تتميم الكشف كما يدعى (ج) لكن
تدل على كون العمل بقول مطلق الثقة المأمون كان معروفا في تلك الأزمنة، وجائزا من قبل
الشرع. [منه قدس سره].
(أ) الكافي 1: 329 - 330 / 1 باب في تسمية من رآه عليه السلام، الوسائل 18: 99 - 100 / 4 باب 11
من أبواب صفات القاضي.
(ب) الكفاية 2: 44.
(ج) فوائد الأصول 3: 17، 108.
312

بل لنا منع التواتر؟ لأن الأخبار - مع كثرتها - تكون منقولة عن عدة
كتب لاتبلغ مرتبة التواتر، فلا يكون في تمام الطبقات تواتر.
وأما الاكتفاء بنفس التواتر الإجمالي لإثبات مطلق خبر الثقة كما يظهر
من بعض المحققين على ما في تقريرات بحثه (1) فهو كما ترى.
الاستدلال بسيرة العقلاء على حجية الخبر الواحد
قوله: دعوى استقرار سيرة العقلاء (2).
وهذه هي عمدة ما في الباب، وقد تقدم منا أن الآيات الناهية عن العمل
بغير العلم أو العمل بالظن (3) لا تصلح للرادعية، لالما أفاده المحقق الخراساني
- رحمه الله - من لزوم الدور (4) فإنه مخدوش كما ذكرنا عند استدلال النافين
للحجية بالآيات فراجع، بل لأنها لما كانت من قبيل القضايا الحقيقية تكون
شاملة لنفسها، وهي تكون بحسب الدلالة غير علمية، بل ظنية، فيلزم من
التمسك بها عدم جواز التمسك بها، لرادعيتها لنفسها، وهو باطل بالضرورة.
إن قلت: ما يلزم منه المحال هو شمولها لنفسها، فلا تشملها، فيتم
رادعيتها لغيرها بلا محذور.
قلت: لاشك في أن هذه الآيات الظاهرة في المنع عن العمل بغير العلم

(1) نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 136 سطر 2 - 6.
(2) الكفاية 2: 98.
(3) الإسراء: 36، النجم: 23 و 28.
(4) الكفاية 2: 99.
313

إنما أفادها المتكلم بها لأجل الإفادة والإفهام، فلا بد وأن تكون ظواهرها - مع
كونها غير مفيدة للعلم - قابلة للإفادة والإفهام، فتكون هذه الظواهر بين
المتكلم والمخاطب مفروغة الحجية، ولا تكون حجيتها إلا للسيرة العقلائية على
الأخذ بالظواهر، والمتكلم - جل وعلا - اتكل على هذه السيرة العقلائية،
لاعلى أن هذا الكلام لا يشمل نفسه لأجل لزوم المحال، فإنه خارج عن
المتفاهم العرفي والطريقة العقلائية في الإفادة والإفهام، فإذا كان الاتكال في
الإفهام على السيرة مع عدم إفادة العلم، يعلم بإلقاء الخصوصية أن الآية غير
رادعة لما قامت به السيرة العقلائية، سواء كانت من قبيل الظواهر، أو من قبيل
خبر الثقة.
وبالجملة: لا تصلح تلك الآيات للرادعية.
ثم إن هاهنا كلاما من بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في
تقريرات بحثه -: وهو أنه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء
صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها، فإن عدم
الردع عنها مع التمكن منه، يلازم الرضا بها وإن لم يصرح بالإمضاء.
نعم، لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات، لأنها من الأمور
الاعتبارية التي يتوقف صحتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع
فلابد من إمضاء ذلك ولو بالعموم والإطلاق.
وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع،
كالمعاملات المعروفة في هذا الزمان ب‍ (البيمة) فإنها إذا لم تندرج في عموم
314

* (أحل الله) * (1) و * (أوفوا بالعقود) * (2) ونحو ذلك، فلا يجوز ترتيب آثار الصحة
عليها (3) انتهى.
وفيه: أن احتياج المعاملات إلى التصريح بالإمضاء - لكونها من الأمور
الاعتبارية - ممنوع، فإن اعتباريتها لا تلازم احتياجها إليه، فنفس عدم ردع
الشارع يكفي في صحتها ونفوذها، فالمعاملة النافذة عند العقلاء لو لم تكن
نافذة لدى الشرع، لابد من الردع عنها ويكفي في النفوذ عدم ردعه.
نعم لا يكفي الرضا من المتعاملين لصحة المعاملة، بل لابد فيها من
الإنشاء، وهو أجنبي عما نحن فيه، ولعله - قدس سره - قايس بينهما.
وأما ما أفاده: - رحمه الله - في المقام - بعد اعترافه بأنه من المحتمل
قريبا رجوع سيرة المسلمين في الأمور الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد
العرف والعقلاء قبل الشارع، إلى طريقة العقلاء - بأن ذلك لا يضر بالاستدلال
بها، لكشفها عن رضا الشارع كما تكشف عنه طريقة العقلاء، غاية الأمر أنه
في مورد اجتماعهما يكونان من قبيل تعدد الدليل على أمر واحد، فتكون سيرة
المسلمين من جملة الأدلة، كما تكون طريقة العقلاء كذلك (4).
ففيه ما لا يخفى، فإن سيرة المسلمين إذا رجعت إلى طريقة العقلاء
لا تكون دليلا مستقلا، بل الدليل هو طريقة العقلاء فقط، وإنما تصير سيرة

(1) البقرة: 275.
(2) المائدة: 1.
(3) فوائد الأصول 3: 193.
(4) فوائد الأصول 3: 194.
315

المسلمين دليلا لو قامت بما أنهم مسلمون، لا بما أنهم عقلاء كما في المقام.
وبالجملة: لا تنعقد سيرة المسلمين بما هم مسلمون مع رجوعها إلى
طريقة العقلاء، فلا معنى لكونها دليلا كاشفا في مقابلها، وهذا واضح.
316

الفرق بين الانسداد الكبير والصغير
قوله: أحدها (1): أنه يعلم إجمالا... (2).
أقول: هذا الدليل العقلي هو دليل الانسداد الصغير. وضابط الفرق بين
الانسدادين: أن المقدمات المرتبة في الانسداد إذا انتهت إلى حجية مطلق الظن
- بناء على الكشف أو الحكومة - من أي طريق كان، من غير كونه مقيدا

(1) إني قد تركت البحث في هذه الدورة عن الأدلة العقلية مطلقا، لقلة فائدتها، مع طول
مباحثها.
والمرجو من طلاب العلم وعلماء الأصول - أيدهم الله - أن يضنوا على أوقاتهم وأعمارهم
الشريفة، ويتركوا ما لا فائدة فقهية فيه من المباحث، ويصرفوا همهم العالي في المباحث المفيدة
الناتجة.
ولا يتوهم متوهم: أن في تلك المباحث فوائد علمية، فإن ذلك فاسد، ضرورة أن علم الأصول
علم آلي لاستنتاج الفقه، فإذا لم يترتب عليه هذه النتيجة فأية فائدة علمية فيه؟! والعلم ما يكشف
لك حقيقة من الحقائق - دينية أو دنياوية - وإلا فالاشتغال به اشتغال بما لا يعني والله ولي
التوفيق. جمادى الأولى 1374. [منه قدس سره]
(2) الكفاية 2: 100.
317

بحصوله من طريق خاص، فهو الانسداد الكبير، وإذا انتهت إلى حجيته إذا
حصل من طريق خاص أو أمارة مخصوصة، أو تنتهي إلى حجية الظن المطلق
بصدور الرواية، أو جهة أخرى من الجهات، ولا يكون نطاقه وسيعا إلى
غيرها، فهو الانسداد الصغير.
ومعلوم أن المنشأ في هذا الافتراق هو المقدمة الأولى من دليل الانسداد،
فإن العلم الإجمالي إذا كانت دائرته وسيعة، بحيث يشمل نطاقه جميع
المشتبهات، من الأخبار، والأمارات الظنية، وغيرهما، فلابد وأن ينتهي - مع
ضم سائر المقدمات - إلى حجية مطلق الظن بناء على الكشف أو الحكومة.
وأما إذا كانت دائرته ضيقة - محصورة في الأخبار خاصة، أو في
الشهرات، أو الإجماعات المنقولة - فلابد وأن ينتهي إلى حجية الظن من طريق
خاص من المذكورات، أو الظن بالصدور فقط.
! ذا عرفت ذلك فقد ادعى المستدل: بأن العلم الإجمالي حاصل بصدور
الأخبار الكثيرة المتضمنة للأحكام الإلهية الوافية بالفقه، بحيث ينحل العلم
الإجمالي بسائر المشتبهات في دائرة الأخبار، وبعد انضمام سائر المقدمات يصير
الدليل منتهيا إلى حجية الظن بصدور الأخبار، وهذا هو الانسداد الصغير.
نقل كلام بعض الأعاظم ووجوه النظر فيه
وبما ذكرناه من الضابط يعلم ما في كلام بعض أعاظم العصر على ما في
تقريرات بحثه، فإنه - بعد الاعتراف بأن هذا الدليل هو ترتيب الانسداد الصغير
318

في خصوص الأخبار - تصدى لبيان المراد من الانسداد الصغير والفرق بينه
وبين الكبير، فقال ما ملخصه:
إن استفادة الحكم الشرعي من الخبر تتوقف على العلم بالصدور وجهته
والظهور وحجيته، فإن قام الدليل بالخصوص على كل واحد منها فهو، وإن لم
يقم على شئ منها - وانسد طريق إثباتها - فلا بد من جريان الانسداد لإثبات
حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي. وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن
ذلك بالانسداد الكبير.
وإن قام الدليل على بعض جهات الرواية دون بعض، كما لو فرض قيام
الدليل على الصدور وجهته وإرادة الظهور، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور،
وتوقف على الرجوع إلى اللغوي في تشخيصه، ولم يقم دليل بالخصوص على
اعتبار قوله، فلا بد من جريان مقدمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ،
لاستنتاج حجية الظن من قوله في معنى اللفظ، وإن لم يحصل بالحكم الشرعي.
وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.
وحاصل الفرق بينهما: هو أن مقدمات الانسداد الكبير إنما تجري في
نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق الظن فيها، وأما مقدمات الانسداد
الصغير إنما تجري في بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية في إحدى
الجهات الأربع المتقدمة، ليستنتج منها حجية مطلق الظن في خصوص الجهة
التي انسد باب العلم فيها.
ثم أطال الكلام في صحة جريان مقدمات الصغير مطلقا، أو عدمه
319

مطلقا، أو التفصيل، واختار التفصيل: بأن بعض هذه الجهات مما يتوقف عليها
العلم بأصل الحكم كالصدور، فإنه لولا إثباته لا يكاد يحصل العلم بالحكم،
ففيه تجري مقدمات الانسداد الكبير، وبعضها مما يتوقف عليها العلم بتشخيص
الحكم وتعينه إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلق، كالصعيد المردد
بين كونه التراب أو مطلق وجه الأرض، والجهل بمعناه لا يغير العلم بأصل
الحكم، لأن المكلف يعلم بأنه مكلف بما تضمنته الآية من الحكم، ففيه تجري
مقدمات الانسداد الصغير لحجية مطلق الظن بالجهة التي انسد باب العلم فيها
انتهى (1).
وفيه أولا: أنه يظهر من صدر كلامه أن هذا الدليل العقلي هو ترتيب
مقدمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار، ويظهر مما بعده أنه مع عدم
قيام الدليل الخاص بإثبات أصل الصدور تجري مقدمات الانسداد الكبير، كما
أنه يظهر من تفصيله وتوضيحه أن هذا الدليل العقلي يرجع إلى الانسداد
الكبير. وبالجملة: كلامه في المقام لا يخلو من تهافت صدرا وذيلا.
وثانيا: أن الضابط الذي أفاده في الافتراق بين الانسدادين - من أن
مقدمات الانسداد الكبير إنما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق
الظن فيها، وأما مقدمات الصغير تجري في بعض ما يتوقف عليه استنباط
الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع ليستنتج منها حجية مطلق الظن في
خصوص الجهة التي انسد باب العلم فيها - ينافي تفصيله الآتي من الافتراق بين

(1) فوائد الأصول 3: 196 وما بعدها.
320

هذه الجهات، وأن مع عدم الدليل على أصل الصدور لابد من ترتيب مقدمات
الكبير، فإن ترتيب المقدمات في أصل الصدور ينتهي إلى حجية الظن
بالصدور، لا حجيته بالنسبة إلى الأحكام مطلقا، فلا ينطبق الضابط عليه.
فتحصل من جميع ذلك: أن الضابط هو الذي ذكرنا، وأن في كلامه
- قدس سره - اختلاطا وتهافتا، فراجع كلامه.
ثم إنه - قدس سره - أطال الكلام في تقرير الدليل العقلي وجوابه وفي
كلامه مواقع للنظر تظهر للمتأمل فيه:
منها: ما أفاده في جواب " إن قلت " الثاني: أن دعوى العلم الإجمالي في
خصوص الأمارات الظنية ليست ببعيدة، لأن من تراكم الظنون يحصل العلم
الإجمالي، بخلاف تراكم الشكوك (1).
فإن فيه ما لا يخفى، لأن مبادئ حصول العلم غير مبادئ حصول الظن
والشك، فلا يمكن حصول العلم من تراكم الظنون، أي كثرتها، وكثرة
المظنونات، فلو فرض آلاف من الظنون بآلاف من الأحكام من المبادئ
الظنية، لا يعقل حصول علم واحد منها، وهذا واضح، ولعله له خلط بين
التراكم بحسب المراتب وبينه بحسب الموارد.
ومنها: ما أفاده بقوله: وثانيا: سلمنا أن الأمارات الظنية ليست من
أطراف العلم الإجمالي، ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنما هو
لأجل ما تضمنتها من الأحكام الواقعية، لا بما هي هي، فالمتعين هو الأخذ بكل

(1) فوائد الأصول 3: 201.
321

ما يظن أن مضمونه حكم الله الواقعي، لا خصوص ما يظن بصدوره من
الأخبار، لأن الأخذ بمظنون الصدور إنما هو لاستلزامه الظن بالمضمون غالبا،
ومقتضى ذلك هو اعتبار الظن بالحكم، سواء حصل من الظن بالصدور، أو من
الشهرة والإجماع المنقول (1) انتهى.
فإن فيه ما لا يخفى أيضا، لأن الأخذ بمظنون الصدور في دائرة الأخبار
إنما هو لأجل العلم الإجمالي مع ضم بقية المقدمات، لا لأجل كونه مستلزما
للظن بالمضمون، حتى نتعدى إلى الشهرة والإجماع المنقول، فمجرد الظن
بالمضمون لم يصر موجبا لوجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار، بل العلم
الإجمالي في دائرة الأخبار أدى إلى ذلك، كما هو واضح.
ثم إنه - قدس سره - تصدى لتقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه
آخر، وقال: إنه سالم عما اورد على الوجه الأول (2) ولكنه اعترف بعد أسطر:
بأن الإشكال الثالث مشترك الورود بين التقريرين.
ثم بعد كلام آخر قال: لا يخفى عليك أن ما ذكرناه من التقريب وإن كان
يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدمة، إلا أنه يرد عليه... إلخ، وهذا الإيراد
هو الإيراد الثاني على التقريب الأول مع تغيير العبارة.
ثم أفاد في جواب " إن قلت " عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير
بتقريبين، وهو عين الإشكال الأول على التقرير الأول مع تقريب آخر.

(1) فوائد الأصول 3: 203 - 204.
(2) فوائد الأصول 3: 205 وما بعدها.
322

وبالجملة: مع تصريحه بعدم ورود شئ من الإشكالات على التقريب
الثاني، أورد تدريجا جميع الإشكالات المتوجهة على الأول على الوجه الثاني
أيضا، وهذا لا يخلو من غرابة.
ثم إنه في كلامه موارد للأنظار لابد من التعرض لها وإن يطل الكلام
فنقول:
حاصل تقريبه في الوجه الثاني من التقريبين: هو أنا نعلم بصدور غالب
الأخبار التي في أيدينا، ولا إشكال في وجوب الأخذ بما صدر عنهم، بما أنها
أحكام ظاهرية في مقابل الأحكام الواقعية، فلا يرجع إلى الوجه الأول.
وحيث لا يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم نتنزل إلى الظن
والأخذ بمظنون الصدور.
ولا يرد عليه شئ من الإشكالات، فإن مبناها كان على أن وجوب
العمل بالأخبار من باب تضمنها الأحكام الواقعية، فيرد عليه: أن العلم
الإجمالي بالأحكام لا يختص بدائرة الأخبار، بل الأمارات الظنية أيضا من
أطرافه، إلى آخر الإشكالات.
وأما هذا التقريب فمبني على وجوب العمل بالأخبار لكونها أحكاما
ظاهرية، فلا تكون سائر الأمارات التي لم يقم دليل على اعتبارها - من
أطراف هذا العلم، فإنها ليست أحكاما ظاهرية، فدائرة العلم الإجمالي تختص
بالأخبار، ونتيجته الأخذ بمظنون الصدور عند تعذر تحصيل العلم التفصيلي،
وعدم وجوب الاحتياط في الجميع، بل مقتضى العلم بصدور غالب الأخبار
323

هو انحلال العلم الإجمالي الكبير، لأن ما صدر عنهم يكون بقدر المعلوم
بالإجمال في دائرة الكبير (1) انتهى.
فتلخص مما ذكره: أن العلم الإجمالي بالأحكام الظاهرية مما ينجز العمل
بالأخبار، ولما كانت الأحكام الظاهرية الصادرة بمقدار الأحكام الواقعية
فيحتمل انطباق الأحكام الواقعية عليها، وبهذا ينحل العلم الإجمالي الكبير في
دائرة العلم الإجمالي الصغير.
ميزان انحلال العلم الإجمالي الكبير في الصغير
أقول: ميزان انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير: هو
أن يكون المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير أسبق من المعلوم بالعلم الإجمالي
الكبير، ويكون المعلوم بالكبير قابلا للانطباق على المعلوم بالصغير، فإذا تحقق
الشرطان ينحل الكبير في الصغير، ومع اختلال أحدهما لا يتحقق الانحلال.
مثلا: لو فرضنا العلم الإجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحد الاناءين في
صدر النهار، ثم حصل العلم بوقوع قطرة أخرى، إما في أحدهما أو في ثالث في
آخر النهار، لا يكون هذا العلم الثاني منجزا لجميع الأطراف، وينحل في الأول
، لأن العلم الأول قد تنجز به الاناء ان، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، فيصير
الثالث من الشبهة البدوية، فينحل الثاني.
لكن لو فرضنا تقارن المعلومين أو تقدم المعلوم في دائرة الكبير على

(1) نفس المصدر السابق.
324

المعلوم في دائرة الصغير لا ينحل العلم الكبير.
أما في المقارن: فلأن التنجيز في جميع الأطراف يكون في عرض واحد،
فيكون التنجيز بالنسبة إلى أطراف الصغير مستندا إلى كلا العلمين، وبالنسبة إلى
الزائد مستندا إلى الكبير، فلا مانع من تأثير العلم في دائرة الكبير كما لا يخفى.
وأما في صورة تقدم الكبير فهو أوضح، لأن العلم الإجمالي باعتبار
المعلومين يكون له ثلاث صور، تقدم الصغير على الكبير وبالعكس وتقارنهما.
ففي الأولى ينحل العلم في دائرة الكبير دون الباقيتين.
هذا كله مع مقارنة العلمين، وأما مع تقدم أحدهما على الآخر ففيه
تفصيل، ولما كان ما نحن فيه من قبيل الصورتين الأخيرتين فلا معنى للانحلال
الكبير، فإن العلم الإجمالي بكون الأحكام الواقعية بين الأخبار وسائر الطرق
الظنية مقارن بحسب المعلوم والعلم مع العلم الإجمالي بصدور الأخبار من الأئمة
الأطهار عليهم السلام.
ومن مواقع النظر فيه: أنه قال: إن تقريب مقدمات الانسداد على هذا
الوجه الثاني يقرب مما أفاد صاحب الحاشية (1) وأخوه (2) في الانسداد وإن كان

(1) هداية المسترشدين: 403 - 404.
صاحب الحاشية: هو الإمام الشيخ محمد تقي بن محمد رحيم الأصفهاني، من قرية (إيران
كيف) هاجر إلى العراق فحضر عند الوحيد البهبهاني والسيد بحر العلوم وكاشف الغطاء وبعدها
رجع إلى أصفهان واستقر فيها حتى وافاه الاجل في سنة 1248 ه‍. له عدة كتب أشهرها هداية
المسترشدين. انظر هدية الأحباب: 204، روضات الجنات 2: 123، الكرام البررة 1: 217.
(2) الفصول: 277 سطر 33 - السطر الأخير.
325

فرق بينهما (1) وتصدى لبيان الفرق بما لا يرجع إلى محصل، وظني أنه من
قصور العبارة، فإن الفرق بينهما أظهر من أن يخفى على مثله، لأن ترتيب
المقدمات في المقام مبني على الانسداد الصغير وانحلال العلم الكبير،
ونتيجتها حجية الأخبار المظنونة الصدور، ومبنى كلامهما على الانسداد الكبير
وانحلال دائرة العلم الإجمالي بالواقع في مطلق الطرق، ونتيجتها حجية
مطلق الظن، سواء كان من الأخبار أو من طرق أخرى غيرها، ولعل مراده
- أيضا - ذلك، فراجع.
ومنها: أنه - قدس سره - بعد أن تصدى لإيراد إشكال على التقريب
الثاني مما يقرب ثاني الإشكالات الواردة على التقريب الأول، من أن الأحكام
الظاهرية ليست في مقابل الأحكام الواقعية، بل هي طرق إليها، فيجب العمل
على الأحكام الواقعية من أي طريق حصل العلم بها، ومع فقدانه نتنزل إلى
الظن بها، لا إلى الظن بالصدور، وأورد إشكالا بقوله: " إن قلت " على ذلك
بأن الواجب أولا وبالذات وإن كان امتثال الأحكام الواقعية، لكن العلم بها
ينحل في دائرة العلم بالأخبار الصادرة التي بمقدار المعلوم بالإجمال في دائرة
أخوه: هو الإمام الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني الأصفهاني الحائري، ولد في
قرية (إيران كيف) تلقى أوليات العلوم في طهران، ثم انتقل إلى أصفهان وأخذ عن أخيه الشيخ
محمد التقي ما حب الحاشية، وبعدها هاجر إلى كربلاء وتقلد المرجعية فيها، له عدة مؤلفات
أشهرها الفصول الغروية، انتقل إلى جوار ربه سنة 1254 ه‍ ودفن في حمى سيد الشهداء
عليه السلام. انظر الفوائد الرضوية: 501، الكرام البررة 1: 390.

(1) فوائد الأصول 3: 206.
326

الكبير.
وتصدى لجوابه بقوله: " قلت " بوجهين:
أحدهما: ما محصله: إن مجرد العلم بصدور جملة من الأخبار لا يقتضي
ترتب الأحكام عليها، فإن الحكم الظاهري يتوقف على العلم به موضوعا
وحكما، لا بمعنى أن لا وجود واقعي له، فإنه ضروري البطلان، بل بمعنى أن
الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري من تنجيز الواقع والعذر منه لا تترتب
عليه مع الجهل، بل الأصول العقلائية أيضا لا تجري مع الجهل بالصدور، فما لم
يعلم صدور الرواية تفصيلا لا تجري فيها أصالة الظهور، ولا أصالة الجهة، لعدم
العلم بظهور ما هو الصادر منها حتى تجري فيها الأصول العقلائية، فلا يمكن أن
يترتب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار، فيبقى العلم
الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنية على حاله، ولابد
من ترتيب مقدمات الانسداد الكبير، ولا أثر للظن بالصدور (1) انتهى.
ولا يخفى ما فيه، فإن توقف جريان الأصول العقلائية على العلم
التفصيلي بما هو الصادر، ممنوع أشد المنع، فلو فرضنا العلم الإجمالي بصدور
إحدى الروايتين - مثلا - يتضمن إحداهما وجوب إكرام العلماء، والاخرى
وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وتركنا العمل بهما باحتمال إرادة خلاف
الظاهر منهما، أو احتمال عدم الجد في مضمونهما، واعتذرنا بأن الأصول
العقلائية - من أصالة الظهور وأصالة الجد - لا تجري في غير المعلوم بالتفصيل،

(1) نفس المصدر السابق.
327

لعدم العلم بظهور ما هو الصادر حتى تجري فيه الأصول العقلائية، لخرجنا عن
طريقة العقلاء، ويكون هذا الاعتذار غير موجه عندهم، كما أن الأصول
جارية في الخبرين المتعارضين اللذين نعلم إجمالا بكذب أحدهما، وإنما يكون
تقديم أحدهما على الآخر من باب تقديم الحجة على الحجة، وفي صورة عدم
الترجيح والحكم بالتخيير تجري في كل منهما الأصول العقلائية من أصالة
الظهور والجهة، فعدم جريان الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال مما لاوجه له.
وبالجملة: لافرق في انحلال العلم الإجمالي الكبير بين العلم التفصيلي
بالصادر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام وبين العلم الإجمالي به. نعم لو
كان العلم الإجمالي في دائرة الصغير غير مقدم على الكبير لم ينحل الكبير به،
كما تقدم.
ثم قال في الوجه الثاني ما محصله: إنه على فرض تسليم كون الإجمال
غير مانع عن ترتب الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار، لكن مجرد ذلك
لا يكفي في انحلال الكبير، فإن تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر
المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان، ولم يجب الاحتياط
في جميع الأخبار، لثبوت الترخيص في غير المظنون، ومع هذا لا يمكن
الانحلال، لعدم كون الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور بمقدار الأحكام
الواقعية في مجموع الأخبار والأمارات، فإن أقصى ما يدعى هو أن مجموع
ما صدر عنهم - عليهم السلام - من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية،
لا أن مظنون الصدور بمقدارها، فالترخيص فيما عدا مظنون الصدور يوجب
328

نقصا في الأحكام الظاهرية، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الظاهرية
التي يلزم الأخذ بها.
وبالجملة: أن الترخيص في ترك العمل ببعض الاخبار يوجب نقصا في
الاحكام الظاهرية، للعلم بأن بعض الأحكام الظاهرية يكون في الأخبار التي
رخص في ترك العمل بها، لأن مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر
التكاليف الواقعية، فلا يبقى مجال للانحلال.
إن قلت: الاخذ بمظنون الصدور إن كان من باب التبعيض في الاحتياط
كان لعدم الانحلال وجه، وأما إن كان من باب أن الشارع جعل الظن بالصدور
طريقا إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الاخبار، فلا محالة ينحل العلم
الإجمالي، لأن الأحكام الظاهرية التي فرضنا أنها بقدر الأحكام الواقعية
تكون محرزة ببركة حجية الظن، فإن نتيجة جعل الشارع الظن بالصدور طريقا
إلى ما صدر هي أن ما عدا المظنون ليس مما صدر، واختص ما صدر بمظنون
الصدور، والمفروض أن ما صدر بقدر الأحكام الواقعية، فينحل العلم
الإجمالي.
قلت: هذا إذا تمت المقدمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، فتكون
النتيجة حجية الظن وكونه طريقا إلى ما صدر، ولكن المدعى أنه لاتصل النوبة
إليه، لأن عمدة المقدمات التي يتوقف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال
الوقائع المشتبهة من الأحكام الظاهرية، وبعد بطلان هذه المقدمة بجواز إهمال
بعض الوقائع - وهو ما عدا المظنون - لاتصل النوبة إلى أخذ النتيجة، فينهدم
329

أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة (1) انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه أولا: أن نتيجة الانسداد الصغير أو الكبير هو التبعيض في
الاحتياط كما سيأتي (2) لا حجية الظن كشفا أو حكومة، ولم نعلم زيادة الأحكام
الواقعية عما يجب الاحتياط فيه من الأطراف، فدعوى زيادتها عن المظنون
لا ينهدم بها أساس الانحلال. نعم لو ادعى زيادتها عما يجب الاحتياط فيه كان
له وجه، لكنها بمكان من المنع.
وثانيا: أنه - مع تسليم كون النتيجة حجية الظن بالصدور، وتسليم كون
الأحكام الواقعية زائدة عما ظن صدوره - يكون العلم الإجمالي الكبير قاصرا
عن تنجيز أطرافه، وهو عين الانحلال أو في حكمه، لأن المفروض أن الأحكام
الواقعية ليست زائدة عما صدر، وما صدر إنما هو بين المظنونات والمشكوكات
والموهومات، والمظنونات واجبة العمل، والباقي مرخص فيه، ففي رتبة المعلوم
بالعلم الإجمالي الكبير يكون بعض أطرافها واجب العمل، وبعضها مرخص
فيه، ولا يكون المعلوم بالكبير زائدا عنهما، فلا يمكن تنجيزه للأطراف الاخر.
مثلا: لو فرضنا العلم بنجاسة إناءين في خمسة، واحتملنا الزيادة،
وعلمنا بنجاسة إناءين في ثلاثة منها واحتملنا التطبيق، وكان المعلوم بالعلم
الثاني مقدما على المعلوم بالعلم الأول، مع مقارنة العلمين، أو تقدم الثاني
على الأول، يصير العلم الإجمالي الكبير منحلا بواسطة الصغير، لأن تنجيز

(1) فوائد الأصول 3: 209 وما بعدها.
(2) انظر صفحة رقم: 357 وما بعدها.
330

الصغير للأطراف، لما كان مقدما على الكبير لم تصل النوبة إلى تنجيز الكبير
لهذه الأطراف، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، ولما احتملنا انطباق المعلوم
بالكبير على المعلوم بالصغير يصير الكبير - لا محالة - منحلا، كما ذكرنا سابقا.
ولو فرضنا أن بعض أطراف الصغير صار منجزا بمنجز خاص، وبعضها
صار مرخصا فيه بمرخص، وتكون الأطراف المنجزة أقل عددا من المعلوم
بالعلم الإجمالي الكبير، لا يصير العلم الإجمالي الكبير - الذي كان ساقطا عن
التأثير - مؤثرا بواسطة كون المنجز في الصغير أقل عددا من المعلوم بالعلم
الكبير، لأن المنجز وإن كان أقل، لكنه مع الأطراف المرخص فيها بمقداره،
فإذا صار بعض الأطراف قبل تنجيز العلم جميع الأطراف منجزا أو مرخصا
فيه - سواء كان التنجيز والترخيص مقدمين على العلم الإجمالي الكبير أو
مقارنين معه، ويكون كلاهما بمقدار المعلوم، ويحتمل انطباق المعلوم عليه -
يصير العلم لا محالة منحلا، لأن العلم بالتكليف الفعلي على جميع التقادير من
أركان تنجيز العلم الإجمالي، وهو في المقام مفقود، لأن المعلوم إذا انطبق على
المرخص فيه والمنجز التفصيلي، لا يكون التكليف فعليا.
نعم لو فرض الترخيص في الزمان المتأخر عن العلم الإجمالي يكون
تنجيزه للأطراف الاخر بحاله، لأن تنجيز جميع الأطراف بالعلم الإجمالي بعد
تحققه لا يسقط بواسطة الترخيص في بعضها للاضطرار أو الحرج، على تفصيل
يأتي في محله إن شاء الله (1).

(1) انظر صفحة رقم: 352 - 353.
331

وثالثا: أن تسليمه في جواب " إن قلت " - بأنه إذا تمت المقدمات،
ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، وصار الظن حجة، ينحل العلم الإجمالي - في
غير محله، فإنه مع فرض العلم بكون الأحكام الواقعية زائدة عن مظنون
الصدور - وإن كان الصادر بمقدارها - لا معنى لانطباقها عليه، لان انطباق
الأكثر على الأقل غير معقول، فدليل اعتبار الظن لا يمكن أن يخصص الاخبار
الصادرة - التي بمقدار الأحكام الواقعية - بالمظنون الصدور الذي هو أقل منها.
ورابعا: أن ما أفاده - من عدم وصول النوبة إلى أخذ النتيجة من جهة
جواز إهمال بعض الوقائع، وهو ما عدا المظنون، فينهدم أساس الانحلال قبل
أخذ النتيجة - ليس على ما ينبغي، لأن جواز الإهمال - الذي هو من مقدمات
الانسداد الصغير - مع ضم باقي المقدمات يكشف عن حجية الظن من أول
الأمر، لا أن المقدمات موجبة لحجيته، فالمقدمات هي الدليل الآني الكاشف عن
جعل الشارع حجية الظن في موضوع الانسداد، لا أنها موجبة لها، حتى
تكون الحجية متأخرة عنها واقعا، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة،
تأمل.
332

في ما استدل به على حجية مطلق الظن
قوله: الأول: أن في مخالفة المجتهد لما ظنه... إلخ (1).
أقول: الفرق بين هذا الدليل وبين الدليل المعروف بالانسداد: هو أن
هذا الوجه مركب من صغرى هي ان في مخالفة المجتهد لما ظنه مظنة للضرر،
وكبرى هي أن الضرر المظنون واجب التحرز عقلا، ينتج: أن مخالفة المجتهد لما
ظنه واجب التحرز عقلا.
وأما دليل الانسداد فهو مركب [من] مقدمات لا تشترك مع هذا
الوجه في شئ منها، فكل من الوجهين يسلك مسلكا غير مربوط بالآخر،
وهما لا يشتركان في شئ - إلا النتيجة - حتى نحتاج إلى إبداء الفرق
بينهما.
فما أفاده بعض أعاظم العصر قدس سره - من أن الفرق بينهما في توقف

(1) الكفاية 2: 107.
333

أحدهما على انسداد باب العلم والعلمي، بخلاف الآخر (1) الظاهر منه أن هذا ما
به الافتراق بينهما بعد اشتراكهما في غيره - ليس في محله، لما عرفت من عدم
الاشتراك بينهما أصلا في شئ من المقدمات.
لا يقال: لو جاز إهمال الوقائع المشتبهة، وترك التعرض لها بالرجوع
إلى البراءة في جميع موارد الشك في التكليف، لم ينتج هذا الوجه، فإنتاجه
يتوقف على إبطال جواز الإهمال، وهو عين إحدى مقدمات الانسداد.
فإنه يقال: لو صحت الكبرى والصغرى المأخوذتان في هذا الوجه، فهما
تنتجان بلا احتياج إلى ضم هذه المقدمة، فإن جواز الإهمال مناف للصغرى
كما لا يخفى.
ثم إن المحقق المعاصر - رحمه الله - قد أطال الكلام في هذا الوجه، ونحن
لا نذكر كلامه بطوله، ولكن ننبه على محال أنظار فيه، والطالب يرجع إلى
تقريرات بحثه:
قوله - قدس سره - في المقام: فهي مما لا ينبغي التأمل والإشكال فيها...
إلخ (2).
بل للتأمل والإشكال فيها مجال واسع، فإن الإنسان - بل كل حيوان -
وإن يدفع الضرر عن نفسه بمقتضى جبلته وقوته الدافعة عن مضاره، ولكن
حكمه العقلي بقبح الإقدام على ما فيه مظنة الضرر - بحيث يستكشف منه حكما

(1) فوائد الأصول 3: 214.
(2) نفس المصدر السابق.
334

شرعيا لو التزمنا بالملازمة - فلا، فهذه جبلة حيوانية مشتركة بين الحيوانات.
قوله: لا يكاد يتحقق الشك... إلخ (1).
بل قد يتحقق الشك ولو قلنا بأن البيان هو البيان الواصل، فإنه قد يشك
في كفاية مقدار الفحص، ومنه يتولد الشك بأن المورد من موارد قبح العقاب بلا
بيان، أو من موارد دفع الضرر المحتمل، إلا أن يكون مورد جريان قاعدة قبح
العقاب هو إحراز كفاية الفحص.
قوله: وإلا يلزم التسلسل... إلخ (2).
ليس هذا هو التسلسل الاصطلاحي، بل بمعنى عدم الوقوف إلى حد.
قوله: إن الظاهر من تسالم الأصحاب... إلخ (3).
قد ذكرنا سابقا (4): أن حكم العقل بقبح التشريع ليس حكما واحدا بمناط
واحد، بل حكمان بمناطين، والآن نقول: إن حكمه بقبح الإقدام على ما لا
يؤمن معه الوقوع في الضرر - على فرضه - حكم طريقي لمناط عدم الوقوع فيه،
والإقدام على الوقوع في الضرر الواقعي حكم موضوعي، فللعقل بالضرورة
حكمان: أحدهما متعلق بموضوع واقعي، والآخر حكم طريقي لحفظ الواقع،
كما في الظلم، فالإقدام على مقطوع الظلم والضرر أو مظنونهما قبيح، لا لأجل
الموضوعية والاستقلال، بل لأجل الطريقية.

(1) فوائد الأصول 3: 216.
(2) فوائد الأصول 3: 217.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) انظر صفحة رقم: 225 وما بعدها.
335

وبالجملة: قبحه قبح التجري لو لم يصادف الواقع.
والعجب منه - قدس سره - حيث استظهر حكم العقل من تسالم
الأصحاب على حكم شرعي، مع أنه لا معنى للاستظهار في باب الأحكام العقلية
، ولا معنى للتقليد فيها.
وأما تسالم الأصحاب - على وجوب الإتمام في سلوك الطريق الذي
لا يؤمن [معه] من الوقوع في الضرر، معللا بكونه معصية - على فرض صحته،
فهو لا يدل على أن حكمهم إنما يكون بملازمة حكم العقل، لإمكان أن يكون
حكما تعبديا شرعيا ابتدائيا يكشف عنه إجماعهم وتسالمهم عليه.
مع أن للخدشة في أصل الحكم مجالا واسعا، فإن الفتوى بإتمام الصلاة
لا يلزم أن تكون لأجل المعصية، بل يمكن أن يستفاد حكمه من بعض روايات
التصيد اللهوي، ولا يلازم إتمام الصلاة كون السفر معصية، كما في باب السفر
للصيد اللهوي، فإن حرمته محل إشكال وخلاف، مع أن لزوم الإتمام متسالم
عليه بين الأصحاب.
هذا، مع أن التجري عند كثير منهم معصية (1) فلعل الإقدام على
مظنون الضرر يكون معصية لأجل كونه طريقا إلى الوقوع في الضرر الحرام
عندهم، فتدبر.
قوله: في سلسلة علل الاحكام... إلخ (2).

(1) الكفاية 2: 18، نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 30 - 31.
(2) فوائد الأصول 3: 218.
336

لو قلنا بأن احتمال الضرر طريقي لحفظ الواقع، لم يكن في سلسلة علل
الاحكام، بل يكون في سلسلة المعلولات.
والمراد من العلل والمعلولات هو ما يتقدم على الحكم وما يتأخر عنه،
لا العلل والمعلولات الحقيقية كما لا يخفى.
وبالجملة: قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الضرر لو كان طريقيا
لا يستكشف منه الحكم الشرعي المولوي، لكونه في سلسلة المعلولات، فما
ذكره من عدم الفرق ليس في محله.
قوله: ولو موجبة جزئية مما لا سبيل إليها (1).
قد ذكرنا فيما سبق تصوير كون المصلحة في الأمر بنحو الموجبة الجزئية،
فراجع (2).
قوله: فإن كان من العبادات... إلخ (3).
هذا غريب منه - قدس سره - فإن قصد الامتثال لا يدور مدار العلم
بالتكليف.
نعم لو كان المراد بالقصد الجزم بالنية فهو وإن يتوقف على ذلك، لكن
صحة العبادة لا تتوقف عليه، ولا تكون العبادة بدونه تشريعا محرما، فما
تتوقف عليه العبادة هو كونه لله ولو على نحو الرجاء والاحتمال، وهذا مما يمكن

(1) فوائد الأصول 3: 219.
(2) انظر صفحة رقم: 155 وما بعدها.
(3) فوائد الأصول 3: 220.
337

قصده، وتصح العبادة معه، فما أفاده - من أن المصلحة تدور مدار قصد
الامتثال، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه، ومع الظن الغير
المعتبر لا يتمكن المكلف منه إلا على نحو التشريع المحرم (1) - ليس في محله،
وغريب منه جدا.
ثم إنه لو فرضنا عدم تمكن المكلف من إتيانها كذلك، فلا يلزم منه رفع
الملازمة بين الظن بالتكليف العبادي والظن بالضرر، لأن تمكن المكلف من
الإتيان أو عدم تمكنه غير مربوط بالمصالح الكامنة في العبادات، فالظن
بالتكليف - عباديا كان أو غيره - يلازم الظن بالمصالح والمفاسد، ومع تسليم
كون ترك المصالح وإتيان المفاسد من الضرر، لا معنى لرفع الملازمة بمجرد عدم
التمكن من إتيان العبادة المتقومة بقصد الامتثال، فما أفاده - من أن حال
المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظن بالحكم وبين الظن
بها - مما لا سبيل إلى تصديقه، وأغرب من شقيقه.
ثم إنه - قدس سره - فرق بين الأحكام النظامية والشخصية، والتزم
بعدم حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر النوعي والمفسدة النظامية
النوعية، وإنما يحكم بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الضرر الشخصي (2).
هذا، وأنت خبير بما فيه، فإن العقل يحكم بقبح الإقدام على ما فيه
المفاسد النوعية، خصوصا لو كانت من قبيل اختلال النظام وتفرق شمل

(1) نفس المصدر السابق.
(2) فوائد الأصول 3: 0 22 - 1 22.
338

المجتمع، فلو أقدم أحد على ما فيه انقراض الحكومة من بين البشر حتى يرجع
المجتمع إلى اللا نظامي التوحشي المنتهي إلى اختلال أمورهم وسلب الأمن
والأمان من بينهم، لكان فعله هذا من أقبح القبائح بضرورة العقل، وكذلك
الإقدام على ما يكون مظنة لذلك ممنوع عقلا، بل احتماله أيضا منجز في نظر
العقل، لكمال أهميته.
وأما المضار الشخصية فاحتراز الإنسان - كسائر الحيوانات - منها
بحسب الجبلة الحيوانية مسلم، لكن كون الإقدام عليها أو على ما لا يؤمن
[معه] من الوقوع فيها قبيحا عند العقل - ويكون هذا من الأحكام العقلائية أو
العقلية حتى يرى العقل صحة عقوبة المولى لذلك - فلا.
والحق: أن التفصيل ثابت، لكن بعكس ما أفاده رحمه الله.
قوله: سلك مسلكا آخر في منع الصغرى... إلخ (1).
ما سلكه الشيخ - قدس سره - هو منع الكبرى لا الصغرى، كما يظهر
بالتأمل فيما نقله عنه، فإن حاصل ما أفاده: أن الضرر المظنون بواسطة
ترخيص الشارع بأدلة البراءة والاستصحاب متدارك، والعقل لا يستقل بقبح
الإقدام على الضرر المتدارك والمفسدة المتداركة (2).
وهذا منع الكبرى، فإن الضرر المتدارك ضرر عقلا، لا أنه ليس بضرر،
نعم العرف يتسامح في سلب الضررية عنه، لكن الميزان في المقام هو الحكم

(1) فوائد الأصول 3: 222.
(2) فرائد الأصول: 109 - 110.
339

العقلي، والعقل يحكم بأن القبيح هو الإقدام على الضرر الغير المتدارك
لا المتدارك.
وإن شئت قلت: هذا نفي كلية الكبرى، لمنع كلية قبح الإقدام على كل ما
لا يؤمن معه الضرر.
قوله: وذلك ينحصر بالتعبد بالامارات (1).
هذا حق لو كانت الامارات مجعولات شرعية، وأما لو كانت الامارات
أمورا عقلائية - يعمل بها العقلاء في جميع أمور معاشهم وسياساتهم - فلا
يكون وقوعهم في الضرر والمفسدة بإيقاع الشرع، والامارات كلها عقلائية،
وأنما لم يردع عنها الشارع، ومجرد عدم ردعه إياهم لا يوجب الايقاع في
المفسدة من قبله.
وأما الأصول العملية فيمكن أن يقال: إن ترخيص الشارع بنحو العموم
لكل مشتبه إغراء للمكلف في الوقوع في المفسدة، وذلك - أيضا - قبيح ولو في
مورد حكم العقل بجواز الارتكاب.
لا يقال: إن أدلة حجية الأمارات - أيضا - إغراء له فيها.
فإنه يقال: ليس في الآيات والاخبار التي استدلوا بها لحجيتها دليل
يصح الاعتماد عليه في الترخيص في العمل بالامارات بنحو الإطلاق، وإنما هي
أدلة في موارد خاصة وأشخاص معلومة، ولعلهم كانوا مأمونين عن تخلف
قولهم للواقع، لشدة تحفظهم وتقواهم.

(1) فوائد الأصول 3: 222.
340

وبالجملة: أن القضايا الشخصية لا يمكن أن تكون ميزانا لشئ، وأما
أدلة الأصول فهي أدلة مطلقة أو قضايا كلية تدل على الترخيص والاغراء.
اللهم إلا أن يقال: إن المستفاد من الاخبار هو إمضاء العمل على طبق
قول الثقة مطلقا، كما لا يبعد، بل يظهر من بعضها، فتصير حالها حال أدلة
الأصول.
قوله: وأما ثانيا فلأن العموم (1)...
أقول: فيه أولا: أن دعوى عدم شمول العموم لما له مؤنة زائدة - مثل ما
نحن فيه - مما لاوجه لها، ضرورة عدم كون مثل تلك المؤنة الزائدة مانعا عن
شمول العام، فإن الكشف عن تدارك الضرر والمفسدة إنما يكون بعد شمول العام
للمظنونات، ولا يعقل أن يكون المنكشف مانعا عن شمول العام الكاشف له، مع
أن في أصل الدعوى مطلقا ما لا يخفى.
وثانيا: سلمنا ذلك، لكن يكون ما نحن فيه مما استثناه من القاعدة
المتوهمة، للزوم عدم شمول العام للمظنونات عدم شموله للمشكوكات
والموهومات - أيضا - لتوقف شموله على إثبات تدارك المفسدة والضرر مطلقا،
ولاوجه للاختصاص بالمظنونات، لأن التدارك لازم ترخيص المولى مع تخلف
المرخص فيه عن الواقع، فلو رخص المولى في ارتكاب المشكوكات، وارتكب
العبد لأجل الترخيص، وصادف الحرام الواقعي، أو ترك لأجله، وصادف
الواجب الواقعي، لكان الوقوع في المفسدة لأجل ترخيصه، فلابد من جبرانه

(1) فوائد الأصول 3: 223.
341

وتداركه من غير فرق بين المظنون وغيره، والظن الغير المعتبر عند العقلاء حاله
حال الشك، فما أفاده - من أنه لا يلزم من عدم شموله للمظنونات بقاء العموم
بلا مورد، لأن المشكوكات والموهومات تبقى تحت العام (1) - في غير محله.
قوله: لا يبقى موقع للبراءة والاستصحاب (2).
أقول: عدم بقاء الموقع للبراءة والاستصحاب يتوقف على حكومة
الحكم المستكشف من الحكومة العقلية بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه
الضرر، وهو غبر معقول، لأن العقل كما يستقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن
معه الضرر، كذلك يستقل بعدم قبح الإقدام على الضرر المتدارك، فهما حكمان
يستقل بكل منهما العقل، وهذا مما لا إشكال فيه.
إنما الإشكال في كون ما نحن فيه - أي مورد الظن بالحكم - يكون صغرى
لأي منهما حتى لايبقى للآخر مجال؟
والحق: أنه صغرى للضرر المتدارك، فإن الظن الغير المعتبر يكون
موضوعا لأدلة البراءة والاستصحاب، فإن موضوعهما هو عدم العلم والشك،
والفرض شمولهما للظن الغير المعتبر أيضا، وأما الظن بالضرر فهو متأخر رتبة
عن الظن بالحكم، فإن الظن بالحكم كاشف عن المضار والمنافع والمصالح
والمفاسد، فالظن بالضرر متأخر عن الظن بالحكم، وتطبيق حكم العقل بقبح
الإقدام على الضرر المظنون على الصغرى متأخر عن الظن بالضرر، وكشف
الحكم الشرعي بحكم الملازمة متأخر عن الحكم العقلي، لكونه منكشفا منه،

(1 - 2) نفس المصدر السابق.
342

فالظن بالحكم متقدم على الظن بالضرر، وهو متقدم على تطبيق حكم العقل
بقبح الإقدام على الصغرى، وهو متقدم على الحكم الشرعي المنكشف منه،
فإذا تحقق الظن بالحكم جرت قاعدة البراءة والاستصحاب بلا مانع في البين،
فإن موضوعهما الظن بالحكم، وقد تحقق، والفرض أن المانع ليس في هذه
المرتبة، وفي الرتبة الثانية يتحقق الظن بالضرر، لكن في هذه الرتبة يكون
التدارك بواسطة حكم الشرع بالترخيص ثابتا، فرتبة الظن بالضرر هي رتبة
التدارك، فيصير موضوعا لحكم العقل بعدم القبح، لاحكمه بالقبح، فلا تصل
النوبة إلى قاعدة قبح الإقدام على الضرر حتى ينكشف الحكم الشرعي،
وتتحقق الحكومة، أو تتحقق حكومة الحكم العقلي.
فتحصل من جميع ذلك: أن تصحيح الحكومة والورود يتوقف على تقدم
الشئ على نفسه، فالحق ما أفاده الشيخ في هذا المقام (1) لافي مبحث البراءة من
أنه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظن بالضرر الدنيوي، كما
نقل عنه (2).
قوله - رحمه الله -: ولو سلم... الخ (3).
أقول: هذا منه غريب، فإنه مع تسليم ملازمة الظن بالحكم للظن بالضرر
الدنيوي والأخروي معا، فكيف يمكن جريان البراءة بالنسبة إلى الضرر

(1) فرائد الأصول: 109 - 110.
(2) فرائد الأصول: 222 سطر 4 - 5.
(3) نقله في فوائد الأصول 3: 224.
343

الأخروي؟! فهل ترى من نفسك: أنه مع احتمال العقاب تجري البراءة العقلية،
فضلا عن الظن به؟! فالظن بالحكم إذا حصل منه الظن بالعقاب يصير من
موارد استقلال العقل بقبح الإقدام عليه، لامن مورد جريان قبح العقاب بلا
بيان، فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالعقاب ولا احتماله، إلا مع كونه بيانا
ومعتبرا، فراجع كلامه.
ولعل الخلط وقع من الفاضل المقرر رحمه الله تعالى.
344

في مقدمات الانسداد
قوله: الرابع: دليل الانسداد... إلخ (1).
اعلم: أنه قد وقع الخلط وسوء الترتيب من الأعلام في تنظيم مقدمات
الانسداد:
أما أولا: فلأن دليل الانسداد لا يتألف من أربع (2) أو خمس (3) مقدمات،
وإنما هو قياس استثنائي متألف من شرطية وحملية، ينتج رفع التالي رفع المقدم
- كما سيأتي بيانه - فدليل الانسداد يتألف من مقدمتين، لا مقدمات، كما هو
الشأن في سائر الأقيسة.
وأما ثانيا: فلأن كل ما هو دخيل في إنتاج حجية الظن لوعد مقدمة برأسه

(1) الكفاية 2: 114.
(2) فرائد الأصول: 111 - 112، درر الفوائد 2: 64.
(3) الكفاية 2: 114 - 115.
345

على رغم علماء المنطق وعلمهم لصارت المقدمات أكثر مما ذكروا، فإن بطلان
الاحتياط مقدمة برأسه، وله دليل مستقل، وبطلان التقليد كذلك، وكذلك
بطلان الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة، بل وانسداد باب العلم غير
انسداد باب العلمي موضوعا ودليلا، فلا وجه لحصر المقدمات في أربع أو
خمس.
وأما ثالثا: فلأنه قد وقع الخلط في أخذ المقدمات، فأخذت المقدمة التي
بلا واسطة تارة، والتي مع الواسطة أخرى، وأيضا في مقدمة أخذت العلة، وفي
الأخرى اخذ المعلول، وهو خلاف نظم البرهان، فمن أراد تنظيم البرهان على
الوجه المقرر في علم الميزان لابد له من ترتيب المقدمات القريبة المنتجة بلا
واسطة، وأما أخذ مقدمات المقدمات وعللها فهو خلاف الترتيب، فضلا عن
اختلاط القياس من المقدمات التي بلا واسطة والتي مع الواسطة، كما وقع منهم
في المقام، فإن العلم الإجمالي بالأحكام، وانسداد باب العلم والعلمي، وقبح
ترجيح المرجوح على الراجح، من المقدمات البعيدة وعلل المقدمات المنتجة
في القياس. وبطلان إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة، وبطلان
الاحتياط والتقليد والرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها، من
المقدمات القريبة المنتجة.
فالأولى تنظيم البرهان على النظم القياسي المنطقي، فيقال:
لولا حجية الظن المطلق، أو لولا وجوب العمل بالظن المطلق، للزم
- على سبيل منع الخلو -: إما إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة في
346

جميع موارد الشك، وإما العمل على العلم التفصيلي في جميع الوقائع، وإما العمل
على طبق الطرق الخاصة العلمية، وإما الاحتياط في جميع الوقائع، واما
الرجوع إلى فتوى الغير، وإما الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة من
الاستصحاب والبراءة وغيرهما، وإما العمل على طبق المشكوكات
والموهومات، والتالي بجميع شقوقه فاسد:
أما فساد إهمال الوقائع، فللعلم الإجمالي بالأحكام والإجماع وغيرهما.
وأما فساد العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق، فلانسداد باب
العلم والعلمي.
وأما فساد الاحتياط التام، فللزوم اختلال النظام أو العسر والحرج.
وأما فساد الرجوع إلى فتوى الغير، فلأنه من رجوع العالم إلى الجاهل
بنظره.
وأما فساد الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيه، فلعدم كفايتها
وغير ذلك.
وأما فساد الأخذ بالمشكوكات والموهومات، فلقبح ترجيح المرجوح
على الراجح.
فإذا بطل التالي بجميع شقوقه بطل المقدم، وهو عدم حجية الظن، أو
عدم وجوب العمل به، فيلزم منه حجيته أو وجوب العمل به في الجملة.
وسيأتي (1) توضيح المقدمات تفصيلا، والمقصود هاهنا التنبيه على أن

(1) انظر صفحة رقم: 346 وما بعدها.
347

دليل الانسداد قياس استثنائي مؤلف من شرطية هي: لولا كذا للزم كذا وكذا،
وحملية هي: والتالي بجميع تقاديره باطل. ولابد للمستدل من إثبات كلا (1)
الأمرين حتى ينتج القياس:
أحدهما: إثبات التلازم بين المقدم والتالي، وهو إنما يحصل بإثبات
الحصر العقلي بين التوالي بنحو منع الخلو، وإثبات عدم خلو الواقع عن
الترديدات الواقعة في التالي حتى ينتج بطلانها بطلان المقدم، فيصير نقيضه
حقا.
وثانيهما: إثبات بطلان التوالي بأسرها وجميع تقاديرها، فمع حقية
المقدمتين ينتج القياس.
ولا إشكال ولا كلام في الأمر الأول والمقدمة الأولى، وإنما الإشكال
والكلام في المقدمة الثانية، أي بطلان التالي، وبما ذكرنا وأوضحنا - من كيفية
تشكيل القياس المنتج - اتضح الخلط الواقع من الأعلام في المقام من أخذ
مقدمة المقدمة مقام المقدمة، والعلة مقام المعلول، والخلط بين المقدمات التي مع
الواسطة والتي بلا واسطة، فتدبر تعرف.
فلابد للتعرض لكل تقدير من التالي والتفتيش والفحص عن حقيته
وبطلانه، فنقول:
أما بطلان العمل بالعلم التفصيلي في جميع الوقائع فهو ضروري.
وأما بطلان العمل بالعلمي فهو مردود، لأنا قد فرغنا - بحمد الله تعالى -

(1) في (الأصل): أحد بدل: كلا.
348

عن حجية الخبر الواحد، وهو واف بجميع الفقه من الطهارة إلى الديات، فدليل
الانسداد - مع عرضه العريض وطول مباحثه - فاسد من أصله، والتعرض له
مما لا طائل تحته، وإنما هو محض تبعية المحققين وأساطين الفن رحمهم الله.
ولا ينقضي تعجبي من الفاضل المقرر لبحث بعض أعاظم العصر
- رحمهما الله - حيث بالغ في شكر مساعي شيخه الأستاذ في إفادة الدقائق
العلمية التي تقصر عنها الأفهام في دليل الانسداد (1) مع أن هذه الدقائق العلمية
التي زعمها حقائق رائجة، مع الغض عن المناقشات الكثيرة فيها،
والإشكالات الواضحة عليها، كما سيأتي (2) عند التعرض لبعضها لا تفيد شيئا،
لبطلان أساس الانسداد، فلابد من شكر مساعي هذا المحقق وسائر مشايخ
العلم وأساطين الدين، لكن في غير هذا المبحث الذي لا يفيد علما ولا عملا،
والتعرض لهذه المباحث مع طولها وعدم فائدتها العملية المتوقعة من القواعد
الأصولية لولا غرض تشييد الأذهان وتحصيل قوة الاجتهاد للمشتغلين
وطلاب العلوم، لكان الاستغفار منه للمتعرض لها أولى من التشكر، ككثير من
المباحث المبحوث عنها في علم الأصول.
وأما بطلان إهمال الوقائع المشتبهة فهو ضروري لا يحتاج إلى إقامة
البرهان، وقد استدل عليه بوجوه:
الوجه الأول: الإجماع القطعي التقديري من كل من يحفظ منه العلم،

(1) فوائد الأصول 3: 225 - 226.
(2) انظر صفحة رقم: 352 وما بعدها.
349

فإن المسألة وان لم تكن معنونة في قديم الزمان، لكن القطع حاصل بأن إجماع
العلماء في جميع الأعصار والأمصار حاصل بأن ترك المشتبهات وإهمالها رأسا
غير جائز (1). هذا.
وفيه: أن هذا الاتفاق لا يستكشف منه رأى المعصوم، ولا الدليل
التعبدي الذي هو مبنى حجية الإجماع، فإن المسألة عقلية صرفة يمكن أن
يكون مبناها هو العلم الإجمالي بالأحكام، فإن تنجيز العلم الإجمالي وكونه
كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية مما لا ينبغي الشبهة فيه.
وبالجملة: هذه المسألة ليست من المسائل التي يكون اتفاقهم فيها كاشفا
عن الدليل التعبدي المعتبر.
الوجه الثاني: لزوم الخروج من الدين، لقلة الأحكام المعلومة بالتفصيل،
بحيث يعد الاقتصار عليها وترك التعرض للوقائع المشتبهة خروجا من الدين،
وتاركه غير ملتزم باحكام سيد المرسلين - صلوات الله عليه وآله أجمعين -
وذلك مرغوب عنه شرعا وان لم نلتزم بتنجيز العلم الإجمالي (2).
وفيه أولا: أن عدم التعرض للمشتبهات وإن يلزم منه المخالفات الكثيرة،
لكن كون ذلك بمثابة الخروج من الدين، وكون الملتزم بصرف ضروريات الفقه
وإجماعياته ومتواترات الأحكام وما يستفاد من الكتاب خارجا من الدين وغير
ملتزم باحكام الإسلام، ممنوع، ضرورة أن الآتي بالصلاة والصيام والحج

(1) فرائد الأصول: 112 - 113.
(2) فرائد الأصول: 113 سطر 5 - 8.
350

وسائر الأحكام الضرورية مع ما يستفاد من أحكامها من الإجماع والضرورة
والمتواتر من النقل، لا يعد خارجا من الدين، فإن صورة هذه الفروع
الضرورية مع كثير من أحكامها من قبيل ما ذكر، والفروع الخلافية أمور
خارجة عن حقائقها، أو داخلة لكن لا يكون التارك لها غير آت بتلك الحقائق،
فمن صلى مع الطهور والقبلة والستر وسائر الشرائط والأجزاء - التي تكون
متسالما عليها عند الفقهاء بواسطة الإجماع أو الضرورة أو النقل المتواتر أو
دلالة الكتاب العزيز - وأتى بصيام شهر رمضان مقتصرا على ما يكون مفطرا
كذلك، وأتى بالحج والزكاة والخمس وسائر الواجبات التي تكون كذلك، وترك
المحرمات المسلمة، لا يعد خارجا من الدين، بحيث يعد هذا محذورا مستقلا في
مقابل منجزية العلم الإجمالي، نعم الآتي بالتكليفات كذلك غير آت بها، لمكان
العلم الإجمالي بترك أجزاء أو شرائط دخيلة فيها، أو إتيان منافيات لها.
وبالجملة: ليس ما وراء العلم الإجمالي بالمخالفات الكثيرة أمر آخر
مرغوب عنه يكون مستقلا في مقابله.
وثانيا: لو سلم كون هذا محذورا مستقلا لدى الفقهاء، بحيث يعد فاعله
كأنه خارج من الدين، لكن كشف هذا عن كونه محذورا مستقلا لدى الشرع -
غير مخالفة الأحكام الكثيرة، بحيث يعاقب التارك للأحكام الكثيرة: تارة
لأجل المخالفة الكثيرة، وتارة لأجل صيرورته كأنه خارج من الدين، وغير
ملتزم بأحكام سيد المرسلين صلى الله عليه وآله - ممنوع.
نعم لا شبهة في كون المخالفات الكثيرة الكذائية مرغوبا عنها عقلا وشرعا،
351

لكن كون هذا أمرا تعبديا - لا إرشاديا - ممنوع.
وبالجملة: ليس في البين من الشارع إلا الأمر بإطاعة جميع أحكامه،
وهو أمر إرشادي عقلي، لا تعبدي شرعي.
الوجه الثالث: العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، وهو كالتفصيلي في
وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، فلا تجري الأصول النافية في
أطرافه (1).
وهذا هو العمدة في هذا الباب، وأما الوجهان الأولان فقد عرفت النظر
فيهما، فما أفاده بعض أعاظم العصر - من أن هذه الوجوه الثلاثة في غاية الصحة
والمتانة غير تابلة للخدشة فيها (2) - فيه ما لا يخفى.
إن قلت: هذا الوجه - أيضا - مخدوش فيه، لأن بعض أطراف العلم
الإجمالي إذا كان مرخصا فيه، أو لزم الاقتحام فيه، فهل كان العقاب على
المخالفة في سائر الأطراف - حينئذ - على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان،
والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان.
قلت: نعم هذا ما أفاد المحقق الخراساني - قدس سره - في وجه عدم
منجزية العلم الإجمالي.
وأجاب عنه: بأن هذا إنما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم
بنحو اللتم، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، مع صحة دعوى الإجماع

(1) فرائد الأصول: 115 سطر 10 - 18.
(2) فوائد الأصول 3: 232.
352

على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وهو مرغوب عنه شرعا (1).
ومحصل جوابه يرجع إلى الوجهين الأولين في عدم جواز الإهمال، وقد
عرفت النظر فيهما.
والتحقيق في الجواب عن الإشكال: أن ترخيص بعض الأطراف أو
لزوم الاقتحام فيه إذا كان متأخرا عن المعلوم بالعلم الإجمالي، لا يخل بتنجيز
العلم ولو كان الترخيص أو لزوم الاقتحام في البعض المعين، فلو علم إجمالا
بكون أحد الاناءين خمرا، ثم رخص في ارتكاب أحدهما المعين،
لم يكن العلم ساقطا بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وإن سقط بالنسبة إلى
القطعية.
وفيما نحن فيه يكون الأمر من هذا القبيل، فإن العلم بالأحكام مقدم من
حيث المعلوم على عروض الاشتباه وكثرته، وهما مقدمان على ترخيص
الشارع أو العقل لارتكاب بعضها.
مع إمكان أن يقال: إن الترخيص هاهنا لم يكن من قبيل ترخيص
بعض الأطراف معينا، بل يكون من قبيل الترخيص في البعض الغير المعين،
فإن ما يدل على الترخيص هو أدلة العسر والحرج، وهي دالة على رفع العسر
والحرج، والعقل إنما يحكم بأن رفع العسر إنما يجب أن يكون في دائرة
الموهومات، وإن لم يرفع ففي دائرة المشكوكات، ويكون هذا الحكم العقلي
لأجل التحفظ على التكاليف الواقعية، والجمع بينها وبين رفع العسر حتى

(1) الكفاية 2: 118.
353

الإمكان، ولا يعقل أن يصير ذلك موجبا لرفع تنجيز العلم عقلا مطلقا، كما
لا يخفى.
القول في اختلاف
نتيجة دليل الانسداد باختلاف المبنى
إيقاظ: قد تصدى بعض الأعاظم - رحمه الله - على ما في تقريراته لبيان
مبنى اختلاف نتيجة الانسداد من حيث الكشف والحكومة، فقال ما حاصله:
إن اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدمة الثانية يوجب
اختلاف النتيجة، فإن المستند لعدم جواز إهمال الوقائع لو كان الوجه الأول
والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة، فإن مرجعهما إلى أن الشارع أراد من
العباد التعرض للوقائع المشتبهة، - فالعقل يحكم حكما ضروريا بأنه لابد
للشارع من نصب طريق للعباد واصل بنفسه أو بطريقه، والذي يصح جعله في
حال الانسداد مع كونه واصلا بنفسه ينحصر بالاحتياط، لكونه محرزا للواقع،
فالاحتياط هو الطريق المجعول الشرعي - نظير الاحتياط في الدماء - لا العقلي،
فإن الاحتياط العقلي لا يكون إلا في أطراف العلم الإجمالي، فمع قطع النظر عن
العلم الإجمالي لا حكم للعقل، فلا إشكال في أن الاحتياط شرعي لاغير، ثم
بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط - كما يأتي في المقدمة الثالثة - تكون النتيجة
حجية الظن شرعا، وهي معنى الكشف.
هذا، وأما إذا كان المدرك هو العلم الإجمالي، فيمكن أن تكون النتيجة
354

الكشف، ويمكن أن تكون التبعيض في الاحتياط - كما سيتضح وجهه -
والغرض في المقام الإشارة إلى أساس الكشف والحكومة (1). انتهى كلامه
رفع مقامه.
أقول: وبما ذكرنا - من بطلان الوجهين الأولين - انهدم أساس هذا
البنيان.
مضافا إلى أن الإجماع الذي أدعاه في المقام: إما أن يكون إجماعا على
قضية كلية، وهو الإجماع على عدم جواز إهمال شئ من الوقائع المشتبهة، واما
إجماعا على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع، وإما
إجماعا على قضية مهملة، وهو الإجماع على عدم جواز الإهمال في الجملة، واما
إجماعا على أن صيرورة التكاليف الواقعية مجهولة بين المشتبهات لا توجب رفع
اليد عنها، فالشارع لا يرضى بإهمال التكاليف الواقعية بمجرد عروض
الاشتباه عليها، فلابد من إتيانها ولو لم يحكم العقل بإتيانها من ناحية العلم
الإجمالي:
فإن أريد الإجماع على النحو الأول، فيرد عليه - مضافا إلى أن
الضرورة قاضية بأن عروض الاشتباه لا يوجب أن يكون المشتبه بما أنه مشتبه
مطلوبا نفسيا، بل لو كان مطلوبا يكون لأجل التحفظ على الواقع، فيكون
الواقع مطلوبا ذاتيا نفسيا ولو في زمان الاشتباه، فيرجع إلى الوجه الثالث -:
أولا: أن هذا الإجماع هو عين الإجماع على جمع المشتبهات والاحتياط

(1) فوائد الأصول 3: 232 وما بعدها.
355

فيها، فإن الإجماع على عدم جواز إهمال شئ من المشتبهات عبارة أخرى عن
الإجماع على إيجاب الاحتياط، فلا وجه لما أفاده - رحمه الله - من أن العقل
يحكم حكما قطعيا بأن الشارع لابد له من نصب طريق واصل بنفسه أو بطريقه،
والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التام (1) وهل هذا إلا وحدة الكاشف
والمنكشف؟!
وثانيا: أن هذا الإجماع مخالف للعقل أو النقل، فإنه إجماع على
الاحتياط التام المخل بالنظام، أو إجماع على أمر يوجب العسر والحرج، وهو
كما ترى.
والعجب أنه اعترف - فيما يأتي - بأن هذا الإجماع لا يستكشف منه
الاحتياط التام (2) وفي هذا المقام ادعى القطع بأن حكم العقل هو كشف
الاحتياط التام.
وثالثا: أن هذا الإجماع معارض للإجماعين اللذين ادعاهما في الأمر
الثالث (3) وسيأتي التعرض لهما (4).
وإن أريد الإجماع على النحو الثاني، كما صرح بذلك فيما سيأتي عند
التعرض لإبداء الفرق بين الاحتياط العقلي والشرعي، من حكومة أدلة العسر
والحرج على العقلي منه دون الشرعي، فقال:

(1) فوائد الأصول 3: 233.
(2) فوائد الأصول 3: 248.
(3) فوائد الأمول 3: 245 - 246.
(4) انظر صفحة رقم: 365 وما بعدها.
356

والسر في ذلك: هو أن الوقائع المشتبهة لوحظت قضية واحدة مجتمعة
الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط، لأن الإجماع أو الخروج عن الدين إنما
كان دليلا على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع،
لاعلى كل شبهة شبهة، فإن إهمال كل شبهة مع قطع النظر عن انضمام سائر
الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين، ولا قام الإجماع على عدم
جوازه، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنما هو إهمال مجموع
المحتملات من المظنونات والمشكوكات والموهومات، وذلك يقتضي نصب
الشارع طريقة الاحتياط في المجموع، فيكون حكما خاصا ورد على موضوع
خاص (1) انتهى.
فيرد عليه: أن قيام الإجماع على عدم جواز إهمال مجموع المشتبهات
من حيث المجموع، وكذلك لزوم الخروج عن الدين في ترك المجموع من حيث
المجموع، لا يوجبان الاحتياط التام في جميع المشتبهات، ولا يمكن استكشاف
ذلك منهما، فإن غاية ما يستكشف منهما لزوم إتيان بعض المشتبهات بنحو
الإهمال، فإن هدم المجموع إنما يكون بالبعض بنحو القضية المهملة، لا بالجميع
بنحو الاستغراق، ولا بالمجموع بنحو لحاظ الوحدة.
وبالجملة: مخالفة الإجماع والخروج عن الدين إنما يكونان بترك المجموع
من حيث المجموع، وذلك لا يقتضي الاحتياط في المجموع من حيث المجموع، بل
يقتضي عدم جواز إهمال المجموع من حيث المجموع الملازم للتعرض لبعض

(1) فوائد الأصول 3: 259.
357

المشتبهات، ولعمري إن هذا بمكان من الغرابة منه قدس سره.
مع أن دعوى هذا الإجماع - أيضا - بمكان من الغرابة، فإن لازمه جواز
ترك جميع المشتبهات إلا واحدا منها، فلابد من الالتزام بأن إتيان واحد من
المشتبهات يوجب عدم الخروج عن الدين وعدم مخالفة الإجماع، فلو أتى
المكلف من بين جميع المشتبهات بالخرطات الاستبرائية، يكون داخلا في الدين
وغير مخالف لإجماع المسلمين، وهذا - كما ترى - لا يلتزم به أحد، مع أنه لازم
تلك الدعوى.
وإن أريد الإجماع على النحو الثالث، فيرد عليه:
أولا: أنه لا يمكن استكشاف الاحتياط التام من هذا الإجماع على قضية
مهملة، فإن المهملة في حكم الجزئية، فلا ينتج إلا قضية مهملة في حكم
الجزئية.
وثانيا: أن هذا هو الإجماع على التبعيض في الاحتياط، فإن الإجماع
على عدم جواز إهمال المشتبهات في الجملة عبارة أخرى عن التبعيض في
الاحتياط.
نعم لو كان هذا الإجماع لأجل التحفظ على الواقع لحكم العقل بإتيان
المظنونات، لأجل أقربيتها إلى التكاليف الواقعية.
اللهم إلا أن يقال: إن لهذا الإجماع إهمالا حتى من جهة التبعيض في
الاحتياط، فلا يستفاد منه شئ إلا عدم جواز الإهمال رأسا، فلابد من
التماس دليل آخر على تعيين كيفية التعرض للمشتبهات، وهو الإجماع الآتي.
358

وإن أريد الإجماع على النحو الرابع - كما أن المقطوع به أنه لو كان إجماع
في البين لكان على هذا النحو، لاعلى المشتبهات بما أنها مشتبهات - فيكون
الإجماع على لزوم التعرض للتكاليف الواقعية حتى مع عروض الاشتباه،
فيرجع إلى أن التكاليف الواقعية بقيت فعلية في زمان الانسداد.
فيرد عليه: أن هذا الإجماع لا يقتضي جعل الاحتياط أصلا، بل مع العلم
بأن التكاليف بقيت على فعليتها في حال عروض الاشتباه عليها، يحكم العقل
بالاحتياط التام والجمع بين المشتبهات لأجل التحفظ على الواقع.
إن قلت: هذا يرجع إلى الوجه الثالث، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف.
قلت: كلا، فإن الوجه الثالث هو أن العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية
من حيث هو موجب لوجوب الخروج عن العهدة، ويحكم العقل بالاحتياط
لأجله، بخلاف هذا الوجه، فإنه لا يحكم بوجوب إتيان المشتبهات لأجل العلم
الإجمالي بالتكاليف الأولية من حيث هي، بل لأجل حكم الشرع بأن
التكاليف بعد عروض الاشتباه عليها - أيضا - بقيت على فعليتها، فالجمع بين
المشتبهات ليس لأجل تنجيز العلم الإجمالي كما في الوجه الثالث، بل لأجل
التعرض لحال اشتباه التكاليف.
وليس للعقل المعارضة مع الحكم الشرعي في ذلك، فإن الإجماع إذا قام
على فعلية الأحكام مع عروض الاشتباه، يحكم العقل قطعا بلزوم الجمع بين
المشتبهات ولو لم ينجز العلم الإجمالي.
فتحصل من ذلك: أن الإجماع الذي يمكن دعواه - على إشكال فيه قد
359

تقدم - هو الإجماع على النحو الرابع، ولا يستكشف منه نصب الشارع الطريق
الواصل بنفسه - أي الاحتياط التام - بل يشترك هذا الوجه مع الوجه الثالث
في حكم العقل بالاحتياط. هذا كله حال الإجماع.
وأما قضية الخروج من الدين، فمحصل الكلام فيه: أن الإجماع لو كان
على ذلك العنوان فهو ملازم عقلا لترك التكاليف وإهمالها، مع قطع النظر عن
الإشكال المتقدم، فإهمال التكاليف لازمه الخروج من الدين، فإذا كان
الخروج من الدين مرغوبا عنه شرعا ومحرما إجماعا، فيكون إهمال التكاليف
ملزومه، فيحكم العقل بإتيانها تحفظا عن الخروج من الدين، وليس هذا حكما
شرعيا بالاحتياط، بل حكم عقلي صرف من باب المقدمية.
هذا مضافا إلى أنه لو سلم وجوب التعرض للتكاليف شرعا لأجل عدم
الخروج من الدين، لا يمكن استكشاف الاحتياط التام، لأن الخروج من
[الدين] لو سلم إنما يرتفع بالتعرض لجملة من الأحكام، لا جميعها، فلا وجه
للاحتياط التام لأجله.
فتحصل من جميع ذلك: أن ما ادعي - من أن اختلاف نتيجة دليل
الانسداد باختلاف المدرك في المقدمة الثانية - مما لا ينبغي أن يصغى إليه،
فانهدم أساس ما أرعد وأبرق الفاضل المقرر - رحمه الله - من إيداع شيخه
العلامة الدقائق العلمية في المقام مما كانت الأفهام عن إدراكها قاصرة.
هذا تمام الكلام في إبطال جواز إهمال الوقائع.
360

الكلام في المقدمة الثالثة وهي الرابعة عند الآخوند
وأما الكلام في المقدمة الثالثة باصطلاحهم (1) والتقادير الاخر على
التحقيق: فبطلان الرجوع إلى فتوى القائل بالانفتاح واضح، والقول بأن
القائل بالانسداد معترف بجهله بالأحكام، فلابد من رجوعه إلى الانفتاحي
القائل بانفتاح باب العلم عليه، كما ترى.
وأما بطلان الرجوع إلى الأصول الجارية في كل مسألة: فبالنسبة إلى
الأصول العدمية فواضح، للزوم المخالفة القطعية في موارد الأصول النافية
بالخصوص، لعدم انحلال العلم الإجمالي في موارد الأصول المثبتة، ومعنى عدم
انحلاله فيها كون موارد الأصول النافية متعلقة للعلم بالتكليف.
وأما عدم الانحلال في موارد الأصول المثبتة فواضح - أيضا - لقلة
مواردها جدا، والعلم بالتكاليف أضعاف مضاعفة بالنسبة إليها، فدعوى
الانحلال (2) فاسدة.
نقل كلام المحقق الخراساني في المقام ووجوه النظر فيه
ولقد تصدى المحقق الخراساني - رحمه الله - لبيان جريان الاستصحاب

(1) فرائد الأصول: 112 سطر 1 - 4 و 118 سطر 1 - 3، فوائد الأصول 3: 234 وهي المقدمة الرابعة
عند الآخوند - قدس سره - الكفاية 2: 115.
(2) الكفاية 2: 123.
361

في المقام حتى مع القول بعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي، فقال ما محصله
بتوضيح منا:
إن الاستصحاب وإن كان غير جار في أطراف العلم، لاستلزام شمول
دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى
(لا تنقض...) لوجوبه في البعض بمقتضى (ولكن تنقضه بيقين آخر) (1) ولكن
جريانه في المقام مما لا مانع منه، لأن التناقض إنما يلزم إذا كان الشك واليقين في
جميع أطراف العلم فعليين ملتفتا إليهما، وأما إذا لم يكن الشك واليقين فعليين
ملتفتا إليهما إلا في بعض أطرافه، وكان البعض الآخر غير ملتفت إليه فعلا، فلا
يلزم التناقض أصلا، لأن قضية (لا تنقض) ليست - حينئذ - إلا حرمة النقض
في [خصوص] الطرف المشكوك، وليس [فيه] علم بالانتقاض كي يلزم
التناقض في مدلول دليله من شموله له، وما نحن فيه كذلك، فإن المجتهد إنما
يستنبط الأحكام تدريجا، وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتا إليها (2)
انتهى.
وفيه أولا: ما مرت الإشارة إليه سالفا (3) من أن التناقض في مدلول دليل
الاستصحاب في موارد الشك الفعلي - أيضا - مما لا أساس له، فإن التناقض إنما
يلزم لو كان قوله في ذيل أدلة الاستصحاب: (ولكن تنقضه بيقين آخر) جعل

(1) التهذيب 1: 8 / 11 باب الأحداث الموجبة للطهارة، الوسائل 1: 174 - 175 / 1 باب 4 من
أبواب نواقض الوضوء، باختلاف يسير.
(2) الكفاية 2: 120 - 122.
(3) انظر صفحة رقم: 162 وما بعدها.
362

حكم هو لزوم نقض اليقين باليقين، أو الشك باليقين، مع أنه غير معقول جدا،
لأن جعل لزوم نقض اليقين باليقين في قوة جعل الحجية لليقين، مع أن ناقضية
اليقين الفعلي لكل شئ قبله - من اليقين والشك - أمر تكويني قهري لا ينالها يد
جعل إثباتا أو نفيا.
والتحقيق: أن قوله: (ولكن ينقضه...) أتى لبيان حد الحكم السابق، لا
لتأسيس حكم آخر، فكأنه قال: لا تنقض اليقين بالشك إلى زمان حصول يقين
آخر ناقض له تكوينا.
وثانيا: أن الظاهر من قوله: (ولكن تنقضه بيقين آخر) أن ما هو متعلق
الشك عين ما هو متعلق اليقين، أي المتيقن السابق الذي صار مشكوكا فيه إذا
صار متيقنا ثانيا يجب نقضه، ولا شك في أنه لا يكون المشكوك في أطراف العلم
عين المتيقن، فإن اليقين إنما تعلق بأحدهما مرددا، والشك تعلق بكل واحد
معينا.
وثالثا: لو سلمنا تناقض الصدر والذيل وشمول الدليل لأطراف
العلم، فلا يمكن الافتراق بين الاستصحابات الفعلية وغيرها أصلا، لأن
قضية (لا تنقض اليقين بالشك)، وكذلك (تنقضه بيقين آخر) من قبيل
القضايا الحقيقية الشاملة للأفراد الفعلية والمقدرة، أي كلما وجد في
الخارج يقين سابق وشك لاحق لا يجوز نقضه به، ولا شك في لزوم
التناقض بين هذا وبين قوله: (ولكن تنقضه بيقين آخر)، ضرورة لزوم
التناقض بين قوله: لا تنقض اليقين بالشك إذا وجدا في هذا الطرف، ولا
363

تنقضه به إذا وجدا في ذاك الطرف، ولكن يجب النقض في أحدهما،
والقضايا الحقيقية تنحل إلى القضايا الكثيرة بحسب الأفراد المحققة
والمقدرة.
وبالجملة: وقع الخلط في المقام بين لزوم التناقض في مدلول الدليل وبين
أمر آخر هو عدم منجزية العلم في الأطراف المتدرجة الوجود عقلا، مع أنه
لا ملازمة بينهما، فالتناقض في مدلول الدليل لا يتوقف على العلم بالانتقاض،
فقوله: وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض (1) في غير محله، لأن لزوم
التناقض بحسب الأفراد المقدرة كلزومه بحسب الأفراد المحققة، ولا دخالة لعلم
المكلف وعدمه في لزوم التناقض.
ورابعا: أن العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات للواقع يوجب
هدم أساس الفتوى على طبقها، وهذا العلم حاصل للمجتهد قبل شروعه في
الاستنباط وبعد فتواه طبقا لمفاد الاستصحابات، ولا فرق في نظر العقل بين
ذلك وبين العلم بالمخالفة في الدفعيات أبدا. هذا.
في ما استدل به على
عدم وجوب الاحتياط في جميع الوقائع
وأما بطلان الاحتياط في جميع الوقائع: فقد استدل عليه بوجهين:
الأول: الإجماع على عدم وجوبه، والثاني: استلزامه العسر والحرج المنفيين،

(1) الكفاية 2: 122.
364

بل اختلال النظام (1).
ولقد تصدى بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريراته -
لتقريب الإجماع، فقال ما محصله:
إنه يمكن تقريبه بوجهين:
الأول: الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات.
الثاني: الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على امتثال التكاليف
بالاحتمال، بل بناؤها على امتثال كل تكليف بعنوانه، ويكون الإتيان بعنوان
الاحتمال ورجاء انطباقه على المكلف به أمرا مرغوبا عنه شرعا.
وهذان الإجماعان وان لم يقع التصريح بهما في كلام القوم، إلا أنه مما
يقطع باتفاق الأصحاب عليهما، كما مر نظيره في دعوى الإجماع على عدم
جواز إهمال الوقائع المشتبهة.
ثم أطال الكلام في لزوم اختلاف النتيجة باختلاف الإجماعين (2).
وحيث لا أساس لتلك الإجماعات عندنا فالنتائج المترتبة عليها - على
فرض تماميتها - منهدمة الأساس، فلا وجه لإطالة الكلام والنقض والابرام
فيها.
أما الإجماع على عدم وجوب إحراز المشتبهات: فلا يمكن دعواه ولو مع

(1) فرائد الأصول: 118 سطر 6 - 20، نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 153 سطر
14 - 16.
(2) فوائد الأصول 3: 246 وما بعدها.
365

عنوان المسألة واتفاق كلمة الأصحاب، فضلا عن هذا الإجماع التوهمي، لأن
مبنى فتواهم يمكن أن يكون أدلة العسر والحرج أو لزوم اختلال النظام، ومثل
هذا الاتفاق لا يكشف عن دليل معتبر آخر.
مع أن هذا الإجماع مناقض للذي ادعى - أيضا - القطع بتحققه، وهو
الإجماع على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة بالتقريب الذي سيأتي تعرضه
له (1) وهو ملاحظة جميع المحتملات قضية واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم
عليها بالاحتياط، على أن يكون حكما خاصا ورد على موضوع خاص،
فكيف يمكن تحقق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع المحتملات
من حيث المجموع، وعلى عدم وجوب الجمع بينها؟! وهل هذا إلا
التناقض؟!
وأما الإجماع الثاني: وهو الإجماع على عدم بناء الشريعة على امتثال
التكاليف بالاحتمال، ففيه: - مضافا إلى مناقضته للإجماع المتقدم كما هو
واضح - أنه إن أراد من ذلك ما في بعض الكتب الكلامية - من لزوم العلم
بالمكلف به حتى يؤتى به بعنوانه، أو لزوم قصد التميز وأمثال ذلك (2) - فهو أمر
عقلي، ادعى بعضهم حكم العقل بذلك في باب الإطاعة، لا أمر شرعي تعبدي
يكشف عن دليل تعبدي.

(1) انظر صفحة رقم: 367.
(2) كشف المراد: 252، اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية: 146، إرشاد الطالبين إلى نهج
المسترشدين: 275.
366

وإن أراد غير ذلك فلا شاهد عليه، لأن الفقهاء بناؤهم على الاحتياط
عملا وفتوى، فكيف يدعي أنه أمر مرغوب عنه عندهم؟!
بل التحقيق: أن العمل بالاحتياط مع التمكن من العلم لا مانع منه عقلا
ولا شرعا، فضلا عن زمان الانسداد الذي لا يتمكن منه.
هذا كله حال الإجماعات، وقد عرفت أنها مما لا أساس لها أصلا.
وأما لزوم العسر والحرج، بل اختلال النظام، فمحصل الكلام فيه:
أنه إن لزم منه الثاني فلا كلام، فإنه مما حكم العقل بقبحه، وأما إن لزم
العسر، ففي بطلان الاحتياط بدليله إشكالان:
أحدهما: ما أفاد بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - ومبنى
إشكاله على تحقق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع المحتملات من حيث
المجموع، بحيث يكون الاحتياط حكما خاصا ورد على موضوع خاص، هو
المجموع من حيث المجموع، فبعد هذا الإجماع يصير الاحتياط حكما حرجيا،
ولا يكون دليل الحرج والضرر حاكما على ما يكون بتمام هويته حرجيا أو
ضرريا، كالجهاد والخمس والزكاة، بل أدلة هذه الأحكام مقدمة عليهما
بالتخصيص، وإنما أدلتهما حاكمة على ما بإطلاقه أو عمومه يوجب الحرج
والضرر (1).
هذا، وقد عرفت ما فيه:
أما أولا: فلعدم أساس للإجماع الذي أدعاه.

(1) فوائد الأصول 3: 250 و 259.
367

وأما ثانيا: فلعدم الإجماع - لو فرض - على المجموع من حيث المجموع،
بل على عدم جواز ترك الواقعيات لأجل عروض الاشتباه عليها، وحينئذ
تصير النتيجة مثل العلم الإجمالي حكما عقليا على وجوب الاحتياط، وسيأتي
الكلام فيه (1).
وأما ثالثا: فلأنه لو فرض الإجماع على المجموع لا يستكشف منه إلا
الاحتياط في الجملة، فلا وقع لهذا الإشكال أصلا.
وثانيهما: ما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله - في الكفاية،
وملخصه:
أن قاعدتي نفي الضرر والحرج - اللتين مفادهما نفي الحكم بلسان نفي
الموضوع - غير حاكمتين على قاعدة الاحتياط، لأن العسر فيه إنما هو بحكم
العقل من الجمع بين المحتملات، لافي متعلق التكليف. نعم لو كان معناه نفي
الحكم الناشئ من قبله العسر، لكانت القاعدة محكمة على الاحتياط العسر (2)
انتهى.
وهذه العبارة - كما ترى - مما يستشم منه، بل يظهر حكومة القاعدتين
على أدلة الاحكام، إلا أن عدم الحكومة في المقام لأجل أن العسر إنما لزم من
حكم العقل، لا من الأحكام، لكنه - قدس سره - صرح في غير المورد: بان
وجه تقديمها عليها ليس هو الحكومة، لعدم ناظريتهما لأدلة الأحكام، بل الوجه

(1) انظر الجزء الثاني صفحة رقم: 211.
(2) الكفاية 2: 118 و 120.
368

هو الأظهرية (1).
والانصاف: أن فيما أفاده - قدس سره - محال أنظار:
أحدها: أن الظاهر من دليلي الضرر والحرج والمتفاهم العرفي منهما هو
عدم تحقق الضرر والحرج من ناحية الأحكام الشرعية مطلقا، لا أولا
وبالذات، ولا ثانيا وبالتبع والعرض، خصوصا مع كونهما في مقام الامتنان
على العباد.
وبالجملة: بمناسبة الحكم والموضوع ومساعدة الفهم العرفي وإلقاء
الخصوصية بنظر العرف، يفهم منهما رفع الحكم الضرري والحرجي ورفع ما
ينشأ منه أحدهما، وإن كان الجمود على الظاهر ربما لا يساعد على التعميم.
وثانيا: أن ما صرح به في غير المقام - من عدم الحكومة، معللا بعدم
ناظريتهما إلى بيان كمية مفاد الأدلة، وعدم تعرضهما لبيان حال أدلة
الأحكام - ليس في محله، فإن أدلتهما ناظرة إلى الأحكام المجعولة بلا ريب:
أما دليل الحرج: فلأن قوله تعالى: * (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) * (2) صريح في ناظريته إلى الأحكام المجعولة التي هي الدين.
وأما دليل الضرر (3): فمع اشتماله لكلمة (في الإسلام) (4) كما في بعض
الروايات فهو - أيضا - مثل دليل الحرج، ومع عدمه يكون ظاهرا - أيضا -

(1) حاشية فرائد الأصول: 79 - 80.
(2) الحج: 78.
(3) الكافي 5: 292 - 294 باب الضرار، الوسائل 12: 364 / 3 - 5 باب 17 من أبواب الخيار.
(4) الفقيه 4: 243 / 2 باب 171 في ميراث أهل الملل.
369

في نظره إلى الأحكام، فإن نفي الضرر في لسان صاحب الشرع هو نفي
الأحكام الضررية، أي نفي الضرر في دائرة الشريعة ومملكته.
والعجب منه - قدس سره - حيث صرح بأن مفاد دليل العسر والحرج
والضرر هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ومع ذلك أنكر كونه ناظرا إلى
الأحكام، حتى قال: دون إثباته خرط القتاد (1) مع أن ذلك من أجلى موارد
النظر والتعرض.
وثالثا: أن الحكومة لا تتقوم بالنظر والتعرض إلى الدليل المحكوم
بمدلوله اللفظي، بل الضابط فيها هو نحو تصرف في المحكوم ولو بنحو من
اللزوم.
بيان ذلك: أن تقديم أحد الدليلين على الآخر عرفا، إما أن يكون
بواسطة الأظهرية، وذلك فيما إذا كان التعارض والتصادم في مرتبة
ظهور الدليلين، كتقديم قرينة المجاز على ذي القرينة، وتقديم الخاص على
العام، والمقيد على المطلق، فإن التصادم بينهما إنما يكون في مرحلة الظهور،
والميزان في التقديم في تلك المرحلة هو الأظهرية لاغير.
وإما أن يكون بواسطة الحكومة، والضابط فيها أن يكون أحد الدليلين
متعرضا لحيثية من حيثيات الدليل الآخر التي لا يكون هذا الدليل متعرضا لها،
وان حكم العقلاء مع قطع النظر عن الدليل الحاكم بثبوت تلك الحيثية، سواء
كان التعرض بنحو الدلالة اللفظية أو الملازمة العقلية أو العرفية، وسواء كان

(1) حاشية فرائد الأصول: 80 سطر 1.
370

التصرف في موضوعه أو محموله أو متعلقه إثباتا أو نفيا، أو كان التعرض
للمراحل السابقة أو اللاحقة للحكم، كما لو تعرض لكيفية صدوره، أو أصل
صدوره، أو تصوره، أو التصديق بفائدته، أو كونه ذا مصلحة، أو كونه مرادا،
أو مجعولا، أو غير ذلك.
مثلا: لو قال: أكرم العلماء، فهو مع قطع النظر عن شئ آخر يدل على
وجوب إكرام جميع العلماء، ويحكم العقلاء على كون هذا الحكم - موضوعا
ومحمولا - متصورا للحاكم، ويكون مجعولا ومتعلقا لإرادته استعمالا وجدا،
لاهزل فيه ولا تقية ولا غيرهما، ويكشف عن كونه ذا مصلحة ملزمة، كل
ذلك بالأصول اللفظية والعقلائية.
فلو تعرض دليل آخر لأحد هذه الأمور يكون مقدما على هذا الدليل
بالحكومة، فلو قال: إن الفساق ليسوا بعلماء، أو المتقين من العلماء، أو الشئ
الفلاني إكرام، أو الاكرام الكذائي ليس بإكرام، أو قال: ما جعلت وجوب
الاكرام للفساق، أو ما أردت إكرامهم، أو لا يكون إكرامهم منظوري، أو
لا مصلحة في إكرامهم، أو صدر هذا الحكم عن هزل أو تقية، يكون مقدما على
الدليل الأول بالحكومة.
وأما لو تعرض لما أثبت الدليل الآخر، مثل أن قال: لاتكرم الفساق من
العلماء، أو لاتكرم الفساق، يكون التعارض بينهما في مرحلة الظهورين، فيقدم
الأظهر منهما، ولا يكون تقديم أحد الظاهرين على الآخر بالحكومة، كما
لا يكون تقديم قرينة المجاز على ذيها بالحكومة، بل إنما يكون بالأظهرية، فميزان
371

الحكومة هو نحو من التعرض لدليل المحكوم بما لا يرجع إلى التصادم الظهوري
ولو كان التعرض بالملازمة، فأدلة الأمارات التي لسانها الكشف عن الواقع أو
ثبوت الواقع مقدمة على أدلة الأصول بالحكومة - بناء على أخذ الشك في
موضوعها - فإن التعبد بالثبوت الواقعي ملازم عرفا لرفع الشك تشريعا
فيكون تعرضها لها بالملازمة العرفية، كما أن أدلة الاستصحاب مقدمة على أدلة
الأصول، لأن مفادها إطالة عمر اليقين، فيلازم رفع الشك، بل مفادها حصول
غاية الأصول، وهو من أظهر موارد الحكومة، بل حكومة الاستصحاب على
الأصول أظهر من حكومة الأمارات عليها ولو لم نلتزم بأمارية الاستصحاب،
كما هو المعروف بين المتأخرين (1).
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الحكومة ولو كانت متقومة بنحو من
التعرض لدليل المحكوم مما لا يتعرض المحكوم له، لكن هذا التعرض لا يلزم أن
يكون بنحو الدلالة اللفظية، وسيأتي - إن شاء الله - التعرض لمعنى الحكومة
وأقسامها وافتراقها عن الورود والتخصيص في محله مستقصى (2).
ورابعا: أن ما ذكره من أن لسان أدلة الضرر والحرج هو رفع الحكم بلسان
رفع الموضوع ليس في محله إن كان المراد من الموضوع هو المصطلح - أي في
مقابل الحكم - فإن الأحكام الشرعية المرفوعة في مورد الضرر ببركة قوله:
(لا ضرر) لا يكون موضوعها الضرر، بل موضوعها الوضوء الضرري، أو

(1) نهاية الدراية 3: 0 13 سطر 5 - 11، فوائد الأصول 4: 680.
(2) انظر الرسائل (مبحث الاستصحاب) صفحة رقم: 239 وما بعدها.
372

الغسل الضرري، أو الصوم والبيع الضرريان، بل الظاهر المفهوم من قوله:
(لا ضرر) - الصادر من الشارع الناظر في مملكة التشريع ودائرة الشريعة - نفي
حقيقة الضرر، فإن الضرر وإن كان أمرا تكوينيا غير قابل للرفع والوضع ذاتا،
لكن لما كان قابلا للرفع بحسب المنشأ والموجب، وتكون الأحكام الشرعية -
التي بإطلاقها موجبة للضرر على العباد - مرفوعة ومحدودة بحدود عدم إيراثها
له، يجوز للمتكلم الذي لا يرى إلا مملكة التشريع أن يخبر بعدم الضرر فيها، أو
ينشئ عدم الضرر فيها بلسان الاخبار، كما أن سلطان المملكة إذا قلع بقدرته
مناشئ الفساد عنها يجوز له الاخبار بان لافساد في المملكة، أو رفع الفساد
منها، مع أن الفساد لا يرفع إلا بالمنشأ، فيكون هذا إخبارا عن نفي الفساد ولو
بلحاظ المنشأ، ولا يضر بذلك وجود فسادات جزئية، فإن السلطان - بنظره
إلى الجهات العمومية والكلية - يجوز له الاخبار بقلع الفساد لقلع مادته،
وكذلك الناظر إلى دائرة التشريع لما رأى عدم منشأ للضرر في دائرة تشريعه
يجوز له الاخبار، كما يجوز له إنشاء نفي الضرر بلحاظ نفي منشئه.
فتحصل من ذلك: أن قوله: (لا ضرر) - سواء يتقيد بقوله: (في
الإسلام)، أم لا! نفي حقيقة الضرر في دائرة التشريع بلحاظ نفي منشئه.
وهكذا الكلام في قوله - تعالى -: * (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) * (1) فإن الحرج غير قابل لتعلق الجعل به، وكذلك غير قابل للرفع، فعدم
جعل الحرج في الدين إنما هو بملاحظة عدم جعل أحكام تكون منشأ للحرج.

(1) الحج: 78.
373

وخامسا: أن رفع الحكم بلسان رفع الموضوع من أقسام الحكومة، فبعد
الاعتراف بأن لسان أدلة الضرر والحرج إنما هو رفع الحكم بلسان رفعهما،
لاوجه لانكار الحكومة أصلا.
اشكالات بعض الأعاظم
على المحقق الخراساني ووجوه النظر فيها
هذا، وبالتأمل فيما حققناه يظهر النظر في كثير مما أفاد بعض أعاظم
العصر رحمه الله - على ما في تقريراته - في هذا المقام إشكالا على المحقق
الخراساني رحمه الله:
منها: ما أفاد بقوله: ففيه أولا.
وملخصه: أن عدم وجوب الاحتياط التام لا يبتني على حكومة أدلة
العسر على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط، بل ليس حال لزوم العسر من
الجمع بين المحتملات إلا كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف، بل العسر
والحرج من أفراد الاضطرار، فإنه لا يعتبر فيه عدم القدرة التكوينية على
الاحتياط، والاضطرار إلى بعض الأطراف المعين يوجب التوسط في التكليف،
أي ثبوته على تقدير وعدمه على تقدير، وإلى غير المعين يوجب التوسط في
التنجيز أو التكليف على احتمالين، ففي المقام حيث يتعين الأخذ
بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات - إن كان يلزم من الأخذ بهما كلا أو
بعضا العسر والحرج - كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعين، وتكون النتيجة
374

التوسط في التكليف، أي سقوطه إن كان في المشكوكات والموهومات، وثبوته
إن كان في المظنونات، فتأمل (1) انتهى.
وفيه أولا: - بعد التسليم بأن حال العسر حال الاضطرار، بل هو من
أفراده - أن حال أدلة نفي الاضطرار كأدلة نفي الحرج، فكما أن [مفاد] أدلة نفي
الحرج - على مسلك المحقق الخراساني (2) رحمه الله - هو نفي الحكم الحرجي،
لانفي ما ينشأ منه الحرج ولو بواسطة حكم العقل بالاحتياط، كذلك الحال
بالنسبة إلى أدلة الاضطرار، فإن قوله: (رفع... ما اضطروا إليه) (3) أي
الحكم الذي بإطلاقه شامل لمورد الاضطرار، كحرمة الخمر فيما إذا
اضطر المكلف إلى شربه، لاما يجئ الاضطرار من قبل حكم العقل بالاحتياط
كما في المقام.
وبالجملة: الاضطرار الغير العقلي لابد وأن يرفع حكمه بالدليل التعبدي،
وحال أدلته كحال أدلة العسر والحرج بلا تفاوت وافتراق بينهما.
وثانيا: أن هذا المقام من الاضطرار إلى غير المعين، سواء رفع العسر
بترك بعض المشكوكات أو الموهومات، أو بجميعها:
أما في الصورة الأولى فواضح، فإن رفع العسر إنما يتحقق ببعض
غير معين.

(1) فوائد الأصول 3: 257.
(2) الكفاية 2: 118 - 120.
(3) توحيد الصدوق: 353 / 24 باب الاستطاعة، الخصال 2: 417 / 9 باب التسعة،
الاختصاص: 31.
375

وأما في الصورة الثانية فلأن ما اضطر إليه المكلف إنما هو ارتكاب بعض
المشتبهات بلا تعيين من بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، لكن العقل
يرجح ترجيحا خارجيا غير مربوط بنفس الاضطرار، وهذا غير الاضطرار
إلى المعين، تاقل.
ومنها: ما أفاده في جواب " إن قلت ": من إبداء الفرق بين الاحتياط
العقلي والشرعي من أن الوقائع المشتبهة لوحظت قضية واحدة مجتمعة
الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط... إلخ (1).
وقد مر الإشكال - بل الإشكالات - فيه، وأضف إليها وجود المناقضة
بين ما ذكره هاهنا مع ما ذكره في خلال الأمر الثاني من تنبيهات دليل الانسداد
في الرد على الشيخ الأنصاري - قدس سره - فراجع قوله: وأنت خبير بما
فيه... (2) إلى آخر كلامه، تجد صدق ما ادعيناه.
ومنها: ما أفاد بقوله: ولا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين
بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر بمثل " أي " و " أعني " (3)
وقد نسب ذلك في ضابطة الحكومة إلى المحقق الخراساني - رحمه الله - مع عدم
وجود هذا التفسير لها في شئ من كلماته، لافي المقام ولا عند تعرضه لقاعدة
" لا ضرر " في كفايته وتعليقته، بل صرح بخلاف ذلك في التعليقة، عند تعرض

(1) فوائد الأصول 3: 259.
(2) فوائد الأصول 3: 98 2.
(3) فوائد الأصول 3: 261.
376

الشيخ العلامة - أعلى الله مقامه - للحكومة في مبحث التعادل والترجيح،
حيث قال ما حاصله:
إنه لا يعتبر في الحكومة إلا سوق الدليل بحيث يصلح للتعرض لبيان كمية
موضوع الدليل الآخر تعميما وتخصيصا، من دون اعتبار أن يكون المحكوم قبله
فضلا من تفرع الحاكم عليه، فإن الأمارات - مع حكومتها على الأصول -
لا تكون متفرعة عليها، بل تكون مستقلة مفيدة فائدة تامة، كانت الأصول أو
لم تكن. ولعل منشأ توهم التفرع كون الحاكم بمنزلة الشرح، وقد عرفت أن
الحاكم مستقل وإن كان مسوقا بحيث يبين كمية موضوع المحكوم، لا أنه ليس
مسوقا إلا لذلك (1) انتهى.
وما ذكره من ميزان الحكومة تفصيل لما أفاده في غير المقام (2) فما
نسب إليه في التقريرات أجنبي عن مرامه، وتفسير بما لا يرضى به
صاحبه.
نعم يرد على المحقق الخراساني - رحمه الله - أن اختصاص الحكومة ببيان
كمية الموضوع تعميما وتخصيصا مما لا وجه له كما عرفت.
وأما أصل التعرض لدليل المحكوم - ولو بنحو من الملازمة - فمما لابد منه
، حتى أن دليل الأمارات التي لها استقلال بما أنها رافعة للشك لها نحو تعرض
لموضوع أدلة الأصول كما لا يخفى.

(1) حاشية فرائد الأصول: 256 - 257.
(2) الكفاية 2: 376.
377

وبهذا يظهر التسامح في الضابط الذي أفاد المحقق المعاصر - رحمه الله -
على [ما] في تقريراته بقوله: والضابط الكلي في ذلك أن يكون أحد
الدليلين متكفلا لبيان مالا يتكفله دليل المحكوم (1). فإن هذا الضابط يحتاج
إلى قيد، وهو كون الحاكم متعرضا لدليل المحكوم نحو تعرض ولو بالملازمة،
وأما مجرد تكفل دليل لما لا يتكفله الدليل الآخر غير مانع، فإنه شامل
للأدلة التي لا يرتبط بعضها بالبعض، فإن أدلة وجوب الصلاة تتكفل بما
لا تتكفل أدلة الخمس والزكاة، فالتعرض للمحكوم مما لابد منه كما هو
واضح.
وعليه يمكن أن يقال: إن أحد الدليلين مفسر وشارح للدليل الآخر، بل
بمنزلة " أي " التفسيرية، لكن بالمعنى الذي أشرنا إليه، لا بما يوهم لفظا التفسير
والشرح.
وقد ظهر مما ذكرنا - في ضابطة الحكومة - أوسعية نطاقها مما يظهر من
المحقق المعاصر - رحمه الله - من التصرف في عقد الوضع والحمل (2) ولا يبعد أن
يكون مراده - أيضا - أعم من ذلك، ولهذا تعرض لحكومة نفي الحرج على
الأدلة الأولية (3) بما هو موافق للتحقيق.
وأما الحكومة الظاهرية التي أصر عليها في بعض من الموارد (4)

(1) فوائد الأصول 3: 261.
(2) فوائد الأصول 4: 594.
(3) فوائد الأصول 3: 262.
(4) فوائد الأصول 3: 262 و 4: 295 و 713.
378

فمما لا محصل لها، أما حكومة الأمارات على الأحكام الواقعية فلأن
كون الشئ طريقا إلى شئ آخر ومحرزا له لا ينطبق على الحكومة
أصلا، فإن الحكومة من أقسام التعارض، ولا معارضة بين الطريق وذي
الطريق.
نعم أدلة الأمارات موسعة لنطاق دائرة الإحراز، فتكون حاكمة على
الحكم العقلائي إذا لم تكن الأمارة من الأمارات العقلائية.
مثلا: لو فرضنا أن الخبر الواحد أمارة شرعية تعبدية تأسيسية، كانت
أدلة اعتباره حاكمة على حكم العقلاء والعقل بانحصار الإحراز بالقطع بتوسعة
دائرة الإحراز، وهذه حكومة واقعية، كما أن حكومة بعض الأمارات على
بعض وعلى الأصول من الحكومة الواقعية، فإن قاعدة الفراغ حاكمة على
الاستصحاب واقعا، وحكومة الاستصحاب على الأصول واقعية، فتقسيم
الحكومة إلى الواقعية والظاهرية يكون بلا ملاك صحيح، إلا أن يكون مجرد
اصطلاح، ولا مشاحة فيه.
وقد تعرض في خاتمة الاستصحاب لبيان الحكومة الظاهرية (1) ولم يأت
بشئ.
ومنها: ما أفاده من أن مفاد أدلة نفي الضرر والحرج هو نفي الحكم
الحرجي والضرري، فهي بمدلولها المطابقي تنفي الأحكام الواقعية عن بعض
حالاتها، وهي حالة كونها ضررية أو حرجية، فمفاد أدلة نفي الضرر والحرج

(1) فوائد الأصول 4: 596.
379

نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية (1)، وقد فصل ذلك في رسالته المعمولة
لقا عدة الضرر (2) وأصر وأبرم.
لكن التحقيق - كما عرفت - خلافه، فإن ظاهر قوله: (لا ضرر) هو نفي
نفس الضرر، لانفي الحكم الضرري، واستعمال الضرر في الحكم الضرري
بشيع بارد لا يصار إليه.
بل التحقيق: هو نفي حقيقة الضرر ادعاء بلحاظ نفي موجباته من
الأحكام، وهذا من أبلغ أسلوب الكلام وأحسنه، كما لا يخفى على العالم
بأساليب الكلام ومحسناته.
وهكذا الكلام في عدم جعل الحرج، فإن الحرج غير قابل للوضع
والرفع، وظاهر الكلام يقتضي عدم جعل نفس الحرج، فهو - أيضا - نفيه
بلحاظ نفي موجباته من الأحكام وفي عالم التشريع.
ويمكن أن يكون مراد المحقق الخراساني - رحمه الله - من نفي الحكم
بلسان نفي الموضوع (3) ما ذكرنا، ويكون مراده من الموضوع هو الموضوع
الخارجي - أي الضرر والحرج - لا الموضوع المقابل للحكم، ومن الحكم
الأحكام التي تصير منشأ للضرر والحرج، لا الأحكام المتعلقة بموضوع الضرر
والحرج، حتى يرد عليه ما أفاد المحقق المعاصر - رحمه الله -: من أن نفي الضرر

(1) فوائد الأصول 3: 262.
(2) منية الطالب 2: 199 - 200 و 207 وما بعدها.
(3) الكفاية 2: 118 - 120.
380

بلحاظ نفي حكمه يلزم منه جواز الضرر ونفي حرمته، فإن الضرر إنما هو حكمه
الحرمة (1)، تأمل.
وبما ذكرنا - من وحدة أسلوب نفي الضرر والحرج - يظهر النظر فيما أفاده
من أن توهم كون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يتمشى مع دليل الضرر،
لا الحرج، فإن في دليله ورد النفي على الدين، وهو عبارة عن الأحكام، فالنفي
ورد على الحكم، لاعلى الموضوع، حتى يتوهم ذلك (2)، فإن فيه ما لا يخفى،
ضرورة أن النفي لم يرد في قوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (3) إلا
على الحرج، فعدم الجعل متوجه إلى الحرج بلحاظ عدم جعل موجبه، كما في
دليل الضرر، وإنما يكون الدين مأخوذا على نحو الظرفية، لا أن النفي متوجه
إليه.
وأما ما أفاد بقوله: - وثالثا: أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا
من أقسام الحكومة، فمجرد كون مفاد الدليل ذلك لا ينافي الحكومة (4) - إنما
ورد عليه لو كان منظوره أن المنافي للحكومة هو ذلك، لكنه صرح بخلافه،
وقال: إنما المانع هو عدم كون أدلة الضرر والحرج ناظرة إلى الأحكام
الواقعية (5).

(1) فوائد الأصول 3: 263 - 264.
(2) فوائد الأصول 3: 264.
(3) الحج: 78.
(4) فوائد الأصول 3: 264.
(5) حاشية فرائد الأصول: 79 - 80.
381

فما ذكره إيرادا عليه أجنبي عن مقصوده، وإن ورد عليه: أن أدلتهما
ناظرة إليها بنحو من النظر الذي تحتاج إليه الحكومة، كما أشرنا إليه (1).
قوله: هل قضية المقدمات... إلخ (2)؟
التحقيق: أن قضية المقدمات في نفسها هي الظن بالواقع، لا الظن
بالطريق، ولا الأعم منهما، ضرورة أن العلم الإجمالي بالأحكام الواقعية - مع
ضم سائر المقدمات - لا ينتج في نفسه إلا ذلك، وما ذكر من دليل التعميم
والتخصيص بالطريق - مع عدم تماميته في نفسه - خارج عن حكم المقدمات،
خصوصا ما ذكره صاحب الفصول تبعا لأخيه المحقق، فإن مبناه على العلم
الإجمالي الآخر الذي به ينحل العلم الإجمالي الذي [هو] من مقدمات
الانسداد، ومعلوم أنه تخريب لمقدمات الانسداد، وتأسيس لمقدمات انسداد
آخر لانتاج الظن بالطريق، وهو أجنبي عن اقتضاء مقدمات الانسداد
المعروف. ولهذا يمكن أن يقال: إنه لا نزاع بين القوم وبين العلمين في اقتضاء
مقدمات الانسداد على فرض تماميتها، وإنما النزاع في أمر آخر، وهو وجود
مقدمات أخرى لانتاج الظن بالطريق.
وأما ما أفاده العلامة الأنصاري - قدس سره - لتعميم النتيجة، فيمكن
دعوى اقتضاء مقدمات الانسداد ذلك، بتقريب: أن العلم الإجمالي بالأحكام
الواقعية - الذي يكون مبنى عدم جواز إهمالها - يقتضي عقلا تحصيل براءة الذمة

(1) انظر صفحة رقم: 377.
(2) الكفاية 2: 125.
382

عنها، فإن تمكن المكلف من تحصيلها علما تعين عليه، وإلا يتنزل إلى الظن،
والعلم بالبراءة كما يحصل باتيان الواقع، كذلك يحصل بإتيان طريقه، وهكذا
الظن في زمان الانسداد (1).
هذا، ولكن مع ذلك إن هذا التعميم لا يكون من مقتضيات نفس دليل
الانسداد، بل من هذه المقدمة الخارجية.
مضافا إلى عدم تمامية الدعوى أيضا، فإن الظن بالطريق في حال
الانسداد لا يكون ظنا بالمبرئ، لأن مبرئية الطريق عن الواقع تتقوم بوصوله،
لا بوجوده النفس الأمري.
وهذا إشكال على التعميم أورده شيخنا العلامة - قدس سره - في
درره (2) فمن شاء فليرجع إليه.
وأما ما أفاده صاحب الفصول (3) - رحمه الله - تبعا لأخيه المحقق (4)
- رحمه الله - من الاختصاص بالطريق، فهو مبتن على مقدمات جلها - لولا
كلها - مخدوشة، والعمدة منها انحلال العلم الإجمالي بالواقع في العلم
الإجمالي في دائرة الطرق - كما لا يبعد أن يكون هذا هو المقصود من قوله:
ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد (5)... الخ - وعدم وجوب

(1) فرائد الأصول: 128 - 129.
(2) درر الفوائد 2: 72.
(3) الفصول الغروية: 277 سطر 33 - السطر الأخير.
(4) هداية المسترشدين: 1 39 سطر 19 - 27.
(5) الفصول الغروية: 277 سطر 36 - السطر الأخير.
383

الاحتياط في دائرة الطرق.
وفي كليهما نظر:
أما قضية الانحلال فممنوع، لما أشرنا إليه سابقا (1): من أن العلم الإجمالي
الكبير إنما ينحل في دائرة الصغير إذا كان المعلوم بالإجمال في دائرة الصغير
مقدما على المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير، حتى يكون تنجيز العلم الإجمالي
الصغير لاطرافه مانعا عن ورود تنجيز آخر فوقه بالنسبة إليها، فيصير العلم
الكبير بالنسبة إليها بلا أثر، وبالنسبة إلى غيرها كالشك البدوي، وأما مع
مقارنتهما أو تقدم الكبير على الصغير فلا ينحل، لمنجزية الكبير بالنسبة إلى
جميع الأطراف، فلا يرتفع حكمه مع العلم الإجمالي الصغير.
إن قلت: لازم ما ذكرت عدم الانحلال حتى مع قيام الطرق المعتبرة -
التي [هي] بمقدار العلم الإجمالي - على بعض الأطراف، مع عدم إمكان
الالتزام به.
قلت: فرق بين قيام الطرق المعتبرة في بعض الأطراف معينا، وبين العلم
الإجمالي، فإن قيام الطرق فيها يجعلها معلوما تفصيلا ولو تعبدا، ومع العلم
التفصيلي لايبقى إجمال أو أثر للعلم الإجمالي، وأما الانحلال بالعلم
الإجمالي فموقوف على منجزيته لجميع أطرافه، ومنجزيته لها موقوفة على عدم
مسبوقيتها بمنجز آخر، والفرض أن العلم الكبير منجز لها سابقا، أو في مرتبة
العلم الإجمالي الصغير.

(1) انظر صفحة رقم: 324 وما بعدها.
384

إذا عرفت ذلك يظهر وجه النظر في كلامه، فإن المعلوم بالعلم الإجمالي
الكبير فيما نحن فيه: إما مقدم على الصغير، أو مقارن له، ولا يكون متأخرا عنه
جزما، فالانحلال باطل من أصله.
وأما ما أفاده المحقق صاحب الكفاية في وجه عدم الانحلال في خلال
كلامه، فمبني على أن الاضطرار إلى بعض الأطراف، وعدم لزوم رعاية العلم
بالنسبة إلى بعض الأطراف، يرفع حكم العلم الإجمالي (1)، وهو كما ترى.
كما أن ما أفاده المحقق المعاصر رحمه الله - على ما في تقريراته - من وجه
عدم الانحلال (2) مبني على مبناه من عدم جريان الأصول اللفظية والجهتية إلا
فيما أحرز تفصيلا، وقد عرفت سالفا (3) فساد المبنى، فلا نطيل بالإعادة.
" والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا "
إلى هنا تم الجزء الأول من هذا
الكتاب، ويليه إن شاء الله
تعالى الجزء الثاني
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

(1) الكفاية 2: 131 - 132.
(2) فوائد الأصول 3: 285.
(3) انظر صفحة رقم: 326 وما بعدها.
385