الكتاب: أصول الفقه
المؤلف: الشيخ محمد رضا المظفر
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٨٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
الجزء الثاني
مجموعة المحاضرات التي القيت في
كلية منتدى النشر بالنجف الأشرف
ابتداء من سنة 1360 ه‍. ق
بقلم
الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
257

المقصد الثاني
الملازمات العقلية
259

تمهيد:
من الأدلة على الحكم الشرعي عند الأصوليين الإمامية: " العقل " إذ
يذكرون أن الأدلة على الأحكام الشرعية الفرعية أربعة: الكتاب، والسنة،
والإجماع، والعقل.
وسيأتي - في مباحث الحجة - وجه حجية العقل. أما هنا فإنما يبحث
عن تشخيص صغريات ما يحكم به العقل المفروض أنه حجة، أي يبحث
هنا عن مصاديق أحكام العقل الذي هو دليل على الحكم الشرعي. وهذا
نظير البحث في المقصد الأول (مباحث الألفاظ) عن مصاديق أصالة
الظهور التي هي حجة، وحجيتها إنما يبحث عنها في مباحث الحجة.
وتوضيح ذلك: أن هنا مسألتين:
1 - إنه إذا حكم العقل على شئ أنه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا
أو يحكم على شئ أنه قبيح شرعا أو يلزم تركه شرعا - بأي طريق من
الطرق التي سيأتي بيانها - هل يثبت بهذا الحكم العقلي حكم الشرع؟
أي أ أنه من حكم العقل هذا هل يستكشف منه أن الشارع واقعا قد حكم
بذلك؟
ومرجع ذلك إلى أن حكم العقل هذا هل هو حجة أو لا؟ وهذا البحث
261

- كما قلنا - إنما يذكر في مباحث الحجة، وليس هنا موقعه. وسيأتي بيان
إمكان حصول القطع بالحكم الشرعي من غير الكتاب والسنة، وإذا حصل
كيف يكون حجة.
2 - إنه هل للعقل أن يدرك بطريق من الطرق أن هذا الشئ مثلا
حسن شرعا أو قبيح (1) أو يلزم فعله أو تركه عند الشارع؟ يعني أن العقل
بعد إدراكه لحسن الأفعال أو لزومها ولقبح الأشياء أو لزوم تركها في
أنفسها - بأي طريق من الطرق - هل يدرك مع ذلك أنها كذلك عند
الشارع؟
وهذا المقصد الثاني الذي سميناه " بحث الملازمات العقلية " عقدناه
لأجل بيان ذلك في مسائل، على النحو الذي سيأتي - إن شاء الله تعالى -
ويكون فيه تشخيص صغريات حجية العقل المبحوث عنها (2) في المقصد
الثالث (مباحث الحجة).
ثم لابد - قبل تشخيص هذه الصغريات في مسائل - من ذكر أمرين
يتعلقان بالأحكام العقلية مقدمة للبحث نستعين بها على المقصود، وهما:
- 1 -
أقسام الدليل العقلي (3)
إن الدليل العقلي - أو فقل ما يحكم به العقل الذي يثبت به الحكم
الشرعي - ينقسم إلى قسمين: ما يستقل به العقل، ومالا يستقل به.

(1) في ط الأولى زيادة: شرعا.
(2) الضمير راجع إلى " حجية " لا إلى " صغريات ". (*)
قد يستشكل في إطلاق اسم الدليل على حكم العقل، كما يطلق على الكتاب والسنة
والإجماع. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في مباحث الحجة معنى الدليل والحجة باصطلاح
الأصوليين، وكيف يطلق باصطلاحهم على حكم العقل، أي القطع.
262

وبتعبير آخر نقول: إن الأحكام العقلية على قسمين: مستقلات وغير
مستقلات.
وهذه التعبيرات كثيرا ما تجري على ألسنة الأصوليين ويقصدون بها
المعنى الذي سنوضحه. وإن كان قد يقولون: " إن هذا ما يستقل به العقل "
ولا يقصدون هذا المعنى، بل يقصدون به معنى آخر، وهو ما يحكم به
العقل بالبداهة وإن كان ليس من المستقلات العقلية بالمعنى الآتي.
وعلى كل حال، فإن هذا التقسيم يحتاج إلى شئ من التوضيح،
فنقول:
إن العلم بالحكم الشرعي كسائر العلوم لابد له من علة، لاستحالة
وجود الممكن بلا علة. وعلة العلم التصديقي لابد أن تكون من أحد أنواع
الحجة الثلاثة: القياس، أو الاستقراء، أو التمثيل. وليس الاستقراء مما
يثبت به الحكم الشرعي وهو واضح. والتمثيل ليس بحجة عندنا، لأ أنه هو
القياس المصطلح عليه عند الأصوليين الذي هو ليس من مذهبنا.
فيتعين أن تكون العلة للعلم بالحكم الشرعي هي خصوص القياس
باصطلاح المناطقة، وإذا كان كذلك فإن كل قياس لابد أن يتألف من
مقدمتين سواء كان استثنائيا أو اقترانيا.
وهاتان المقدمتان قد تكونان معا غير عقليتين، فالدليل الذي يتألف
منهما يسمى " دليلا شرعيا " في قبال الدليل العقلي. ولا كلام لنا في هذا
القسم هنا.
وقد تكون كل منهما أو إحداهما عقلية، أي مما يحكم العقل به من
غير اعتماد على حكم شرعي، فإن الدليل الذي يتألف منهما يسمى
" عقليا " وهو على قسمين:
1 - أن تكون المقدمتان معا عقليتين كحكم العقل بحسن شئ
263

أو قبحه ثم حكمه بأنه كل ما حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه.
وهو القسم الأول من الدليل العقلي، وهو قسم " المستقلات العقلية ".
2 - أن تكون إحدى المقدمتين غير عقلية والاخرى عقلية كحكم
العقل بوجوب المقدمة عند وجوب ذيها، فهذه مقدمة عقلية صرفة وينضم
إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدمة. وإنما يسمى الدليل الذي يتألف
منهما عقليا فلأجل تغليب جانب المقدمة العقلية. وهذا هو القسم الثاني
من الدليل العقلي، وهو قسم " غير المستقلات العقلية ". وإنما سمي بذلك،
لأ أنه من الواضح أن العقل لم يستقل وحده في الوصول إلى النتيجة، بل
استعان بحكم الشرع في إحدى مقدمتي القياس.
- 2 -
لماذا سميت هذه المباحث بالملازمات العقلية؟
المراد بالملازمة العقلية هنا هو حكم العقل بالملازمة بين حكم الشرع
وبين أمر آخر سواء كان حكما عقليا أو شرعيا أو غيرهما مثل الإتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري الذي يلزمه عقلا سقوط الأمر الاختياري
لو زال الاضطرار في الوقت أو خارجه، على ما سيأتي ذلك في مبحث
" الإجزاء ".
وقد يخفى على الطالب لأول وهلة الوجه في تسمية مباحث الأحكام
العقلية بالملازمات العقلية لا سيما فيما يتعلق بالمستقلات العقلية، ولذلك
وجب علينا أن نوضح ذلك، فنقول:
1 - أما في " المستقلات العقلية " فيظهر بعد بيان المقدمتين اللتين
يتألف منهما الدليل العقلي. وهما مثلا:
الأولى: " العدل يحسن فعله عقلا " وهذه قضية عقلية صرفة هي
صغرى القياس، وهي من المشهورات التي تطابقت عليها آراء العقلاء التي
264

تسمى " الآراء المحمودة " وهذه قضية تدخل في مباحث علم الكلام
عادة، وإذا بحث عنها هنا فمن باب المقدمة للبحث عن الكبرى الآتية.
الثانية: " كل ما يحسن فعله عقلا يحسن فعله شرعا " وهذه قضية
عقلية أيضا يستدل عليها بما سيأتي في محله، وهي كبرى للقياس،
ومضمونها الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وهذه الملازمة
مأخوذة من دليل عقلي فهي ملازمة عقلية، وما يبحث عنه في علم
الأصول فهو هذه الملازمة، ومن أجل هذه الملازمة تدخل المستقلات
العقلية في الملازمات العقلية.
ولا ينبغي أن يتوهم الطالب أن هذه الكبرى معناها حجية العقل، بل
نتيجة هاتين المقدمتين هكذا " العدل يحسن فعله شرعا " وهذا الاستنتاج
بدليل عقلي. وقد ينكر المنكر أنه يلزم شرعا ترتيب الأثر على هذا
الاستنتاج والاستكشاف، وسنذكر - إن شاء الله تعالى - في حينه الوجه
في هذا الإنكار الذي مرجعه إلى انكار حجية العقل.
والحاصل نحن نبحث في المستقلات العقلية عن مسألتين: إحداهما
الصغرى، وهي بيان المدركات العقلية في الأفعال الاختيارية أنه أيها
ينبغي فعله وأيها لا ينبغي فعله. ثانيهما الكبرى، وهي بيان أن ما يدركه
العقل هل لابد أن يدركه الشرع، أي يحكم على طبق ما يحكم به العقل.
وهذه هي المسألة الأصولية التي هي من الملازمات العقلية.
ومن هاتين المسألتين نهيئ موضوع مبحث حجية العقل.
2 - وأما في " غير المستقلات العقلية " فأيضا يظهر الحال فيها بعد
بيان المقدمتين اللتين يتألف منهما الدليل العقلي وهما مثلا:
الأولى " هذا الفعل واجب " أو " هذا المأتي به مأمور به في حال
الاضطرار " فمثل هذه القضايا تثبت في علم الفقه فهي شرعية.
265

الثانية: " كل فعل واجب شرعا يلزمه عقلا وجوب مقدمته شرعا " أو
" يلزمه عقلا حرمة ضده شرعا " أو " كل مأتي به وهو مأمور به حال
الاضطرار يلزمه عقلا الإجزاء عن المأمور به حال الاختيار "... وهكذا.
فإن أمثال هذه القضايا أحكام عقلية مضمونها الملازمة العقلية بين ما
يثبت شرعا في القضية الأولى وبين حكم شرعي آخر. وهذه الأحكام
العقلية هي التي يبحث عنها في علم الأصول. ومن أجل هذا تدخل في
باب الملازمات العقلية.
الخلاصة:
ومن جميع ما ذكرنا يتضح أن المبحوث عنه في الملازمات العقلية
هو إثبات الكبريات العقلية التي تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي،
سواء كانت الصغرى عقلية كما في المستقلات العقلية، أو شرعية كما في
غير المستقلات العقلية.
أما الصغرى فدائما يبحث عنها في علم آخر غير علم الأصول، كما
أن الكبرى يبحث عنها في علم الأصول، وهي عبارة عن ملازمة حكم
الشرع لشئ آخر بالملازمة العقلية، سواء كان ذلك الشئ الآخر حكما
شرعيا أم حكما عقليا أم غيرهما. والنتيجة من الصغرى والكبرى هاتين
تقع صغرى لقياس آخر كبراه حجية العقل، ويبحث عن هذه الكبرى في
مباحث الحجة.
وعلى هذا فينحصر بحثنا هنا في بابين باب المستقلات العقلية، وباب
غير المستقلات العقلية، فنقول:
266

الباب الأول:
المستقلات العقلية
267

تمهيد:
الظاهر انحصار المستقلات العقلية التي يستكشف منها الحكم
الشرعي في مسألة واحدة، وهي: مسألة التحسين والتقبيح العقليين. وعليه
يجب علينا أن نبحث عن هذه المسألة من جميع أطرافها بالتفصيل،
لا سيما أنه لم يبحث عنها في كتب الأصول الدارجة، فنقول:
وقع البحث هنا في أربعة أمور متلاحقة:
1 - إنه هل تثبت للأفعال مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعلق
خطابه بها أحكام عقلية من حسن وقبح؟ أو إن شئت فقل: هل للأفعال
حسن وقبح بحسب ذواتها ولها قيم ذاتية في نظر العقل قبل فرض حكم
الشارع عليها، أوليس لها ذلك وإنما الحسن ما حسنه الشارع والقبيح
ما قبحه، والفعل مطلقا في حد نفسه من دون حكم الشارع ليس حسنا
ولا قبيحا؟
وهذا هو الخلاف الأصيل بين الأشاعرة والعدلية، وهو مسألة
التحسين والتقبيح العقليين المعروفة في علم الكلام، وعليها تترتب مسألة
الاعتقاد بعدالة الله تعالى وغيرها. وإنما سميت العدلية " عدلية " لقولهم بأنه
تعالى عادل، بناء على مذهبهم في ثبوت الحسن والقبح العقليين.
268

ونحن نبحث عن هذه المسألة هنا باعتبارها من المبادئ لمسألتنا
الأصولية، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
2 - إنه بعد فرض القول بأن للأفعال في حد أنفسها حسنا وقبحا، هل
يتمكن العقل من إدراك وجوه الحسن والقبح مستقلا عن تعليم الشارع
وبيانه أو لا؟ وعلى تقدير تمكنه هل للمكلف أن يأخذ به بدون بيان
الشارع وتعليمه أوليس له ذلك إما مطلقا أو في بعض الموارد؟
وهذه المسألة هي إحدى نقط الخلاف المعروفة بين الأصوليين
وجماعة من الأخباريين، وفيها تفصيل من بعضهم على ما يأتي. وهي
أيضا ليست من مباحث علم الأصول، ولكنها من المبادئ لمسألتنا
الأصولية الآتية، لأ أنه بدون القول بأن العقل يدرك وجود الحسن والقبح
لا تتحقق عندنا صغرى القياس التي تكلمنا عنها سابقا.
ولا ينبغي أن يخفى عليكم أن تحرير هذه المسألة سببه المغالطة التي
وقعت لبعضهم، وإلا فبعد تحرير المسألة الأولى على وجهها الصحيح
- كما سيأتي - لا يبقى مجال لهذا النزاع. فانتظر توضيح ذلك في محله
القريب.
3 - إنه بعد فرض أن للأفعال حسنا وقبحا وأن العقل يدرك الحسن
والقبح، يصح أن ننتقل إلى التساؤل عما إذا كان العقل يحكم أيضا
بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع، بمعنى أن العقل إذا حكم بحسن شئ
أو قبحه هل يلزم عنده عقلا أن يحكم الشارع على طبق حكمه.
وهذه هي المسألة الأصولية المعبر عنها بمسألة الملازمة التي وقع
فيها النزاع، فأنكر الملازمة جملة من الأخباريين (1) وبعض الأصوليين

(1) قال في التقريرات: المخالف في المقام ممن يعتد بشأنه ليس إلا جمال المحققين والسيد
الصدر شارح الوافية، مطارح الأنظار: ص 232.
269

كصاحب الفصول (1).
4 - إنه بعد ثبوت الملازمة وحصول القطع بأن الشارع لابد أن يحكم
على طبق ما حكم به العقل فهل هذا القطع حجة شرعا؟
ومرجع هذا النزاع ثلاث نواح:
الأولى: في إمكان أن ينفي الشارع حجية هذا القطع وينهى عن الأخذ
به.
الثانية: بعد فرض إمكان نفي الشارع حجية القطع، هل نهى عن الأخذ
بحكم العقل وإن استلزم القطع كقول الإمام (عليه السلام): " إن دين الله لا يصاب
بالعقول " (2) على تقدير تفسيره بذلك؟
والنزاع في هاتين الناحيتين وقع مع الأخباريين جلهم أو كلهم.
الثالثة: بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجية القطع هل معنى
حكم الشارع على طبق حكم العقل هو أمره ونهيه، أو أن حكمه معناه:
إدراكه وعلمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه، وهو شئ آخر غير أمره
ونهيه، فإثبات أمره ونهيه يحتاج إلى دليل آخر، ولا يكفي القطع بأن
الشارع حكم بما حكم به العقل؟
وعلى كل حال، فإن الكلام في هذه النواحي سيأتي في مباحث
الحجة (المقصد الثالث) وهو النزاع في حجية العقل. وعليه، فنحن نتعرض
هنا للمباحث الثلاثة الأولى، ونترك المبحث الرابع بنواحيه إلى المقصد
الثالث:
* * *

(1) الفصول الغروية: ص 337.
(2) بحار الأنوار: ج 2 ص 303 ح 41.
270

المبحث الأول
التحسين والتقبيح العقليان
اختلف الناس في حسن الأفعال وقبحها هل انهما عقليان أو شرعيان؟
بمعنى أن الحاكم بهما العقل أو الشرع.
فقال الأشاعرة: لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها، وليس
الحسن والقبح عائدا إلى أمر حقيقي حاصل فعلا قبل ورود بيان الشارع،
بل إن ما حسنه الشارع فهو حسن وما قبحه الشارع فهو قبيح. فلو عكس
الشارع القضية فحسن ما قبحه وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا وانقلب
الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا، ومثلوا لذلك بالنسخ من الحرمة
إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة (1).
وقالت العدلية: إن للأفعال قيما ذاتية عند العقل مع قطع النظر عن
حكم الشارع، فمنها ما هو حسن في نفسه، ومنها ما هو قبيح في نفسه،
ومنها ما ليس له هذان الوصفان. والشارع لا يأمر إلا بما هو حسن ولا
ينهى إلا عما هو قبيح، فالصدق في نفسه حسن ولحسنه أمر الله تعالى به،
لا أنه أمر الله تعالى به فصار حسنا، والكذب في نفسه قبيح ولذلك نهى الله
تعالى عنه، لا أنه نهى عنه فصار قبيحا.

هذا التصوير لمذهب الأشاعرة منقول عن شرح القوشجي للتجريد.
271

هذه خلاصة الرأيين. وأعتقد عدم اتضاح رأي الطرفين بهذا البيان،
ولا تزال نقط غامضة في البحث إذا لم نبينها بوضوح لا نستطيع أن نحكم
لأحد الطرفين. وهو أمر ضروري مقدمة للمسألة الأصولية، ولتوقف
وجوب المعرفة عليه.
فلابد من بسط البحث بأوسع مما أخذنا على أنفسنا من الاختصار
في هذا الكتاب، لأهمية هذا الموضوع من جهة، ولعدم إعطائه حقه من
التنقيح في أكثر الكتب الكلامية والأصولية من جهة أخرى.
وأكلفكم قبل الدخول في هذا البحث بالرجوع إلى ما حررته في
الجزء الثالث من المنطق (ص 17 - 23) (1) عن القضايا المشهورات،
لتستعينوا به على ما هنا.
والآن أعقد البحث هنا في أمور:
1 - معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما
إن الحسن والقبح لا يستعملان بمعنى واحد، بل لهما ثلاث معان، فأي
هذه المعاني هو موضوع النزاع؟ فنقول:
أولا: قد يطلق الحسن والقبح ويراد بهما الكمال والنقض. ويقعان
وصفا بهذا المعنى للأفعال الاختيارية ولمتعلقات الأفعال. فيقال مثلا: العلم
حسن، والتعلم حسن، وبضد ذلك يقال: الجهل قبيح وإهمال التعلم قبيح.
ويراد بذلك أن العلم والتعلم كمال للنفس وتطور في وجودها، وأن الجهل
وإهمال التعلم نقصان فيها وتأخر في وجودها.
وكثير من الأخلاق الإنسانية حسنها وقبحها باعتبار هذا المعنى،
فالشجاعة والكرم والحلم والعدالة والإنصاف ونحو ذلك إنما حسنها

(1) الصفحة 340 - 348 من طبعتنا الحديثة.
272

باعتبار أنها كمال للنفس وقوة في وجودها. وكذلك أضدادها قبيحة لأ نهى
نقصان في وجود النفس وقوتها. ولا ينافي ذلك أنه يقال للأولى: " حسنة "
وللثانية " قبيحة " باعتبار معنى آخر من المعنيين الآتيين.
وليس للأشاعرة ظاهرا نزاع في الحسن والقبح بهذا المعنى، بل جملة
منهم يعترفون بأنهما عقليان، لأن هذه من القضايا اليقينيات التي وراءها
واقع خارجي تطابقه، على ما سيأتي.
ثانيا: أنهما قد يطلقان ويراد بهما الملائمة للنفس والمنافرة لها،
ويقعان وصفا بهذا المعنى أيضا للأفعال ومتعلقاتها من أعيان وغيرها.
فيقال في المتعلقات: هذا المنظر حسن جميل، هذا الصوت حسن
مطرب، هذا المذوق حلو حسن... وهكذا.
ويقال في الأفعال: نوم القيلولة حسن، الأكل عند الجوع حسن،
والشرب بعد العطش حسن... وهكذا. وكل هذه الأحكام لأن النفس تلتذ
بهذه الأشياء وتتذوقها لملائمتها لها.
وبضد ذلك يقال في المتعلقات والأفعال: هذا المنظر قبيح، ولولة
النائحة قبيحة، النوم على الشبع قبيح... وهكذا. وكل ذلك لأن النفس تتألم
أو تشمئز من ذلك.
فيرجع معنى الحسن والقبح - في الحقيقة - إلى معنى اللذة والألم،
أو فقل: إلى معنى الملائمة للنفس وعدمها، ما شئت فعبر، فإن المقصود
واحد.
ثم إن هذا المعنى من الحسن والقبح يتسع إلى أكثر من ذلك، فإن
الشئ قد لا يكون في نفسه ما يوجب لذة أو ألما، ولكنه بالنظر إلى
ما يعقبه من أثر تلتذ به النفس أو تتألم منه يسمى أيضا حسنا أو قبيحا، بل
قد يكون الشئ في نفسه قبيحا تشمئز منه النفس كشرب الدواء المر
273

ولكنه باعتبار ما يعقبه من الصحة والراحة التي هي أعظم بنظر العقل من
ذلك الألم الوقتي يدخل فيما يستحسن. كما قد يكون الشئ بعكس ذلك
حسنا تلتذ به النفس - كالأكل اللذيذ المضر بالصحة - ولكن ما يعقبه من
مرض أعظم من اللذة الوقتية يدخله فيما يستقبح.
والإنسان بتجاربه الطويلة وبقوة تمييزه العقلي يستطيع أن يصنف
الأشياء والأفعال إلى ثلاثة أصناف: ما يستحسن، وما يستقبح، وما ليس له
هاتان المزيتان. ويعتبر هذا التقسيم بحسب ماله من الملائمة والمنافرة،
ولو بالنظر إلى الغاية القريبة أو البعيدة التي هي قد تسمو عند العقل على
ماله من لذة وقتية أو ألم وقتي، كمن يتحمل المشاق الكثيرة ويقاسي
الحرمان في سبيل طلب العلم أو الجاه أو الصحة أو المال، وكمن يستنكر
بعض اللذات الجسدية استكراها لشؤم عواقبها. وكل ذلك يدخل في
الحسن والقبح بمعنى الملائم وغير الملائم.
قال القوشجي في شرحه للتجريد عن هذا المعنى: وقد يعبر عنهما
- أي الحسن والقبح - بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة،
والقبيح ما فيه مفسدة، وما خلا منهما لا يكون شيئا منهما (1).
وهذا راجع إلى ما ذكرنا، وليس المقصود أن للحسن والقبح معنى
آخر بمعنى ماله المصلحة أو المفسدة غير معنى الملائمة والمنافرة، فإن
استحسان المصلحة إنما يكون للملائمة واستقباح المفسدة للمنافرة.
وهذا المعنى من الحسن والقبح أيضا ليس للأشاعرة فيه نزاع، بل هما
عندهم بهذا المعنى عقليان، أي مما قد يدركه العقل من غير توقف على
حكم الشرع. ومن توهم أن النزاع بين القوم في هذا المعنى فقد ارتكب
شططا! ولم يفهم كلامهم.

(1) شرح التجريد: ص 338.
274

ثالثا: أنهما يطلقان ويراد بهما المدح والذم، ويقعان وصفا بهذا المعنى
للأفعال الاختيارية فقط. ومعنى ذلك: أن الحسن ما استحق فاعله عليه
المدح والثواب عند العقلاء كافة، والقبيح ما استحق عليه فاعله الذم
والعقاب عندهم كافة.
وبعبارة أخرى أن الحسن ما ينبغي فعله عند العقلاء، أي أن العقل عند
الكل يدرك أنه ينبغي فعله، والقبيح ما ينبغي تركه عندهم، أي أن العقل
عند الكل يدرك أنه لا ينبغي فعله أو ينبغي تركه.
وهذا الإدراك للعقل هو معنى حكمه بالحسن والقبح، وسيأتي توضيح
هذه النقطة، فإنها مهمة جدا في الباب.
وهذا المعنى الثالث هو موضوع النزاع، فالأشاعرة أنكروا أن يكون
للعقل إدراك ذلك من دون الشرع، وخالفتهم العدلية فأعطوا للعقل هذا
الحق من الإدراك.
تنبيه: ومما يجب أن يعلم هنا أن الفعل الواحد قد يكون حسنا أو
قبيحا بجميع المعاني الثلاثة، كالتعلم والحلم والإحسان، فإنها كمال
للنفس، وملائمة لها باعتبار مالها من نفع ومصلحة، ومما ينبغي أن يفعلها
الإنسان عند العقلاء.
وقد يكون الفعل حسنا بأحد المعاني، قبيحا أوليس بحسن بالمعنى
الآخر، كالغناء - مثلا - فإنه حسن بمعنى الملائمة للنفس، ولذا يقولون
عنه: إنه غذاء للروح (1) وليس حسنا بالمعنى الأول أو الثالث، فإنه لا يدخل
عند العقلاء بما هم عقلاء فيما ينبغي أن يفعل، وليس كمالا للنفس وإن
كان هو كمالا للصوت بما هو صوت، فيدخل في المعنى الأول للحسن

كأن هذا التعبير يريد أن يحاول قائلوه به دعوى أن الغناء كمال للنفس في سماعه. وهو
مغالطة وإيهام منهم.
275

من هذه الجهة. ومثله التدخين أو ما تعتاده النفس من المسكرات
والمخدرات، فإن هذه حسنة بمعنى الملائمة فقط، وليست كمالا للنفس
ولا مما ينبغي فعلها عند العقلاء بما هم عقلاء.
2 - واقعية الحسن والقبح في معانيه ورأي الأشاعرة:
إن الحسن بالمعنى الأول أي الكمال - وكذا مقابله أي القبح - أمر
واقعي خارجي لا يختلف باختلاف الأنظار والأذواق، ولا يتوقف على
وجود من يدركه ويعقله. بخلاف الحسن بالمعنيين الأخيرين.
وهذا ما يحتاج إلى التوضيح والتفصيل، فنقول:
1 - أما الحسن بمعنى " الملائمة " - وكذا ما يقابله - فليس له في نفسه
بإزاء في الخارج يحاذيه ويحكي عنه، وإن كان منشؤه قد يكون أمرا
خارجيا، كاللون والرائحة والطعم وتناسق الأجزاء، ونحو ذلك. بل حسن
الشئ يتوقف على وجود الذوق العام أو الخاص، فإن الإنسان هو الذي
يتذوق المنظور أو المسموع أو المذوق بسبب ما عنده من ذوق يجعل هذا
الشئ ملائما لنفسه، فيكون حسنا عنده، أو غير ملائم فيكون قبيحا
عنده. فإذا اختلفت الأذواق في الشئ كان حسنا عند قوم قبيحا عند
آخرين. وإذا اتفقوا في ذوق عام كان ذلك الشئ حسنا عندهم جميعا،
أو قبيحا كذلك.
والحاصل: أن الحسن بمعنى الملائم ليس صفة واقعية للأشياء
كالكمال، وليس واقعية هذه الصفة إلا إدراك الإنسان وذوقه، فلو لم يوجد
إنسان يتذوق ولا من يشبهه في ذوقه لم تكن للأشياء في حد أنفسها
حسن بمعنى الملائمة.
وهذا مثل ما يعتقده الرأي الحديث في الألوان، إذ يقال: إنها لا واقع
لها بل هي تحصل من انعكاسات أطياف الضوء على الأجسام، ففي الظلام
276

حيث لا ضوء ليست هناك ألوان موجودة بالفعل، بل الموجود حقيقة
أجسام فيها صفات حقيقية هي منشأ لانعكاس الأطياف عند وقوع الضوء
عليها، وليس كل واحد من الألوان إلا طيفا أو أطيافا فأكثر تركبت.
وهكذا نقول في حسن الأشياء وجمالها بمعنى الملائمة، والشئ
الواقعي فيها ما هو منشأ الملائمة في الأشياء - كالطعم والرائحة ونحوهما
- الذي هو كالصفة في الجسم، إذ تكون منشأ لانعكاس أطياف الضوء.
كما أن نفس اللذة والألم أيضا أمران واقعيان، ولكن ليسا هما الحسن
والقبح اللذان ليسا هما من صفات الأشياء، واللذة والألم من صفات
النفس المدركة للحسن والقبح.
2 - وأما الحسن بمعنى " ما ينبغي أن يفعل عند العقل " فكذلك ليس له
واقعية إلا إدراك العقلاء، أو فقل: تطابق آراء العقلاء. والكلام فيه كالكلام
في الحسن بمعنى الملائمة. وسيأتي تفصيل معنى تطابق العقلاء على
المدح والذم أو إدراك العقل للحسن والقبح.
وعلى هذا، فإن كان غرض الأشاعرة من إنكار الحسن والقبح إنكار
واقعيتهما بهذا المعنى من الواقعية فهو صحيح. ولكن هذا بعيد عن أقوالهم،
لأ أنه لما كانوا يقولون بحسن الأفعال وقبحها بعد حكم الشارع، فإنه يعلم
منه أنه ليس غرضهم ذلك، لأن حكم الشارع لا يجعل لهما واقعية
وخارجية. كيف! وقد رتبوا على ذلك بأن وجوب المعرفة والطاعة ليس
بعقلي بل شرعي. وإن كان غرضهم إنكار إدراك العقل - كما هو الظاهر من
أقوالهم - فسيأتي تحقيق الحق فيه وأ نهم ليسوا على صواب في ذلك.
3 - العقل العملي والنظري:
إن المراد من العقل - إذ يقولون: إن العقل يحكم بحسن الشئ أو
قبحه بالمعنى الثالث من الحسن والقبح - هو " العقل العملي " في مقابل
" العقل النظري ".
277

وليس الاختلاف بين العقلين إلا بالاختلاف بين المدركات، فإن كان
المدرك - بالفتح - مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل - مثل حسن العدل وقبح
الظلم - فيسمى إدراكه " عقلا عمليا ". وإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم
- مثل قولهم: " الكل أعظم من الجزء " الذي لا علاقة له بالعمل - فيسمى
إدراكه " عقلا نظريا ".
ومعنى حكم العقل - على هذا - ليس إلا إدراك أن الشئ مما ينبغي
أن يفعل أو يترك. وليس للعقل إنشاء بعث وزجر ولا أمر ونهي إلا بمعنى
أن هذا الإدراك يدعو العقل إلى العمل، أي يكون سببا لحدوث الإرادة في
نفسه للعمل وفعل ما ينبغي.
إذا، المراد من الأحكام العقلية هي مدركات العقل العملي وآراؤه.
ومن هنا تعرف (1) المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى
الأول، إن المراد به هو العقل النظري، لأن الكمال والنقص مما ينبغي أن
يعلم، لا مما ينبغي أن يعمل. نعم، إذا أدرك العقل كمال الفعل أو نقصه، فإنه
يدرك معه أنه ينبغي فعله أو تركه، فيستعين العقل العملي بالعقل النظري.
أو فقل: يحصل العقل العملي فعلا بعد حصول العقل النظري.
وكذا المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الثاني هو العقل
النظري، لأن الملائمة وعدمها أو المصلحة والمفسدة مما ينبغي أن يعلم،
ويستتبع ذلك إدراك أنه ينبغي الفعل أو الترك على طبق ما علم.
ومن العجيب! ما جاء في جامع السعادات (ج 1 ص 59 المطبوع
بالنجف سنة 1368) إذ يقول ردا على الشيخ الرئيس خريت هذه
الصناعة: " إن مطلق الإدراك والإرشاد إنما هو من العقل النظري فهو

(1) في ط 2 زيادة: " أن " وعلى فرض إثبات هذه لابد من حذف " إن المراد به " في السطر
الآتي.
278

بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفذ لإشاراته ".
وهذا منه خروج عن الاصطلاح. وما ندري ما يقصد من " العقل
العملي " إذا كان الإرشاد والنصح للعقل النظري؟ وليس هناك عقلان في
الحقيقة كما قدمنا، بل هو عقل واحد، ولكن الاختلاف في مدركاته
ومتعلقاته، وللتمييز بين الموارد يسمى تارة عمليا واخرى نظريا. وكأ أنه
يريد من العقل العملي نفس التصميم والإرادة للعمل. وتسمية الإرادة عقلا
وضع جديد في اللغة.
4 - أسباب حكم العقل العملي بالحسن والقبح
إن الإنسان إذ يدرك أن الشئ ينبغي فعله فيمدح فاعله، أو لا ينبغي
فعله فيذم فاعله، لا يحصل له هذا الإدراك جزافا واعتباطا - وهذا شأن
كل ممكن حادث - بل لابد له من سبب. وسببه بالاستقراء أحد أمور
خمسة نذكرها هنا، لنذكر ما يدخل منها في محل النزاع في مسألة
التحسين والتقبيح العقليين، فنقول:
الأول: أن يدرك أن هذا الشئ كمال للنفس أو نقص لها، فإن إدراك
العقل لكماله أو نقصه يدفعه للحكم بحسن فعله أو قبحه - كما تقدم قريبا
- تحصيلا لذلك الكمال أو دفعا لذلك النقص.
الثاني: أن يدرك ملائمة الشئ للنفس أو عدمها إما بنفسه أو لما فيه
من نفع عام أو خاص، فيدرك حسن فعله أو قبحه تحصيلا للمصلحة أو
دفعا للمفسدة.
وكل من هذين الإدراكين - أعني إدراك الكمال أو النقص، وإدراك
الملائمة أو عدمها - يكون على نحوين:
1 - أن يكون الإدراك لواقعة جزئية خاصة، فيكون حكم الإنسان
بالحسن والقبح بدافع المصلحة الشخصية. وهذا الإدراك لا يكون بقوة
279

العقل، لأن العقل شأنه إدراك الأمور الكلية لا الأمور الجزئية، بل إنما
يكون إدراك الأمور الجزئية بقوة الحس أو الوهم أو الخيال، وإن كان مثل
هذا الإدراك قد يستتبع مدحا أو ذما لفاعله، ولكن هذا المدح أو الذم لا
ينبغي أن يسمى عقليا، بل قد يسمى - بالتعبير الحديث - عاطفيا، لأن
سببه تحكيم العاطفة الشخصية، ولا بأس بهذا التعبير.
2 - أن يكون الإدراك لأمر كلي، فيحكم الإنسان بحسن الفعل لكونه
كمالا للنفس كالعلم والشجاعة، أو لكونه فيه مصلحة نوعية كمصلحة
العدل لحفظ النظام وبقاء النوع الإنساني. فهذا الإدراك إنما يكون بقوة
العقل بما هو عقل، فيستتبع مدحا من جميع العقلاء.
وكذا في إدراك قبح الشئ باعتبار كونه نقصا للنفس كالجهل، أو
لكونه فيه مفسدة نوعية كالظلم، فيدرك العقل بما هو عقل ذلك ويستتبع
ذما من جميع العقلاء. فهذا المدح والذم إذا تطابقت عليه جميع آراء
العقلاء باعتبار تلك المصلحة أو المفسدة النوعيتين، أو باعتبار ذلك
الكمال أو النقص النوعيين، فإنه يعتبر من الأحكام العقلية التي هي موضع
النزاع.
وهو معنى الحسن والقبح العقليين الذي هو محل النفي والإثبات.
وتسمى هذه الأحكام العقلية العامة " الآراء المحمودة " و " التأديبات
الصلاحية ". وهي من قسم القضايا المشهورات التي هي قسم برأسه في
مقابل القضايا الضروريات. فهذه القضايا غير معدودة من قسم
الضروريات، كما توهمه بعض الناس ومنهم الأشاعرة كما سيأتي في
دليلهم. وقد أوضحت ذلك في الجزء الثالث من " المنطق " في مبادئ
القياسات، فراجع (1).

(1) راجع المنطق للمؤلف (قدس سره): ص 344.
280

ومن هنا يتضح لكم جيدا أن العدلية إذ يقولون بالحسن والقبح
العقليين يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة
المعدودة من التأديبات الصلاحية وهي التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما
هم عقلاء.
والقضايا المشهورة ليس لها واقع وراء تطابق الآراء، أي أن واقعها
ذلك. فمعنى حسن العدل أو العلم عندهم أن فاعله ممدوح لدى العقلاء
ومعنى قبح الظلم والجهل أن فاعله مذموم لديهم (1).
ويكفينا شاهدا على ما نقول - من دخول أمثال هذه القضايا في
المشهورات الصرفة التي لا واقع لها إلا الشهرة وأنها ليست من قسم
الضروريات - ما قاله الشيخ الرئيس في منطق الإشارات: " ومنها الآراء
المسماة بالمحمودة، وربما خصصناها باسم الشهرة، إذ لا عمدة لها إلا
الشهرة، وهي آراء لو خلي الإنسان وعقله المجرد ووهمه وحسه ولم
يؤدب بقبول قضاياها والاعتراف بها... لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو
وهمه أو حسه، مثل حكمنا بأن سلب مال الإنسان قبيح، وأن الكذب
قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه... " وهكذا وافقه شارحها العظيم الخواجا
نصير الدين الطوسي (2).
الثالث: ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح " الخلق الإنساني " الموجود
في كل إنسان على اختلافهم في أنواعه، نحو خلق الكرم والشجاعة، فإن
وجود هذا الخلق يكون سببا لإدراك أن أفعال الكرم - مثلا - مما ينبغي
فعلها فيمدح فاعلها، وأفعال البخل مما ينبغي تركها فيذم فاعلها.

ولا ينافي هذا أن العلم حسن من جهة أخرى وهي جهة كونه كمالا للنفس، والجهل قبيح
لكونه نقصانا.
(2) راجع الإشارات: الجزء الأول في علم المنطق ص 219.
281

وهذا الحكم من العقل قد لا يكون من جهة المصلحة العامة أو
المفسدة العامة ولا من جهة الكمال للنفس أو النقص، بل بدافع الخلق
الموجود.
وإذا كان هذا الخلق عاما بين جميع العقلاء يكون هذا الحسن والقبح
مشهورا بينهم تتطابق عليه آراؤهم. ولكن إنما يدخل في محل النزاع إذا
كان الخلق من جهة أخرى فيه كمال للنفس أو مصلحة عامة نوعية فيدعو
ذلك إلى المدح والذم. ويجب الرجوع في هذا القسم إلى ما ذكرته عن
" الخلقيات " في المنطق (ج 3 ص 20) (1) لتعرف توجيه قضاء الخلق
الإنساني بهذه المشهورات.
الرابع: ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح " الانفعال النفساني " نحو
الرقة والرحمة والشفقة والحياء والأنفة والحمية والغيرة... إلى غير ذلك من
انفعالات النفس التي لا يخلو منها إنسان غالبا.
فنرى الجمهور يحكم بقبح تعذيب الحيوان اتباعا لما في الغريزة من
الرقة والعطف، والجمهور يمدح من يعين الضعفاء والمرضى ويعنى برعاية
الأيتام والمجانين بل الحيوانات، لأ أنه مقتضى الرحمة والشفقة. ويحكم
بقبح كشف العورة والكلام البذئ، لأ أنه مقتضى الحياء. ويمدح المدافع
عن الأهل والعشيرة والوطن والأمة، لأ أنه مقتضى الغيرة والحمية... إلى
غير ذلك من أمثال هذه الأحكام العامة بين الناس.
ولكن هذا الحسن والقبح لا يعدان حسنا وقبحا عقليين، بل ينبغي أن
يسميا عاطفيين أو انفعاليين. وتسمى القضايا هذه عند المنطقيين
ب‍ " الانفعاليات ". ولأجل هذا لا يدخل هذا الحسن والقبح في محل النزاع
مع الأشاعرة، ولا نقول نحن بلزوم متابعة الشرع للجمهور في هذه

(1) الصفحة 344 من طبعتنا الحديثة.
282

الأحكام، لأ أنه ليس للشارع هذه الانفعالات، بل يستحيل وجودها فيه،
لأ نهى من صفات الممكن. وإنما نحن نقول بملازمة حكم الشارع لحكم
العقل بالحسن والقبح في الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية - على ما
سيأتي - فباعتبار أن الشارع من العقلاء بل رئيسهم، بل خالق العقل، فلابد
أن يحكم بحكمهم بما هم عقلاء ولكن لا يجب أن يحكم بحكمهم بما هم
عاطفيون. ولا نقول: إن الشارع يتابع الناس في أحكامهم متابعة مطلقة.
الخامس: ومن الأسباب " العادة عند الناس " كاعتيادهم احترام القادم
- مثلا - بالقيام له، واحترام الضيف بالطعام، فيحكمون لأجل ذلك بحسن
القيام للقادم وإطعام الضيف.
والعادات العامة كثيرة ومتنوعة، فقد تكون العادة تختص بأهل بلد أو
قطر أو أمة، وقد تعم جميع الناس في جميع العصور أو في عصر، فتختلف
لأجل ذلك القضايا التي يحكم بها بحسب العادة، فتكون مشهورة عند
القوم الذين لهم تلك العادة دون غيرهم.
وكما يمدح الناس المحافظين على العادات العامة يذمون المستهينين
بها، سواء كانت العادة حسنة من ناحية عقلية أو عاطفية أو شرعية، أو
سيئة قبيحة من إحدى هذه النواحي، فتراهم يذمون من يرسل لحيته إذا
اعتادوا حلقها ويذمون الحليق إذا اعتادوا إرسالها وتراهم يذمون من
يلبس غير المألوف عندهم لمجرد أنهم لم يعتادوا لبسه، بل ربما يسخرون
به أو يعدونه مارقا.
وهذا الحسن والقبح أيضا ليسا عقليين، بل ينبغي أن يسميا " عاديين "
لأن منشأهما العادة. وتسمى القضايا فيهما في عرف المناطقة " العاديات ".
ولذا لا يدخل أيضا هذا الحسن والقبح في محل النزاع. ولا نقول نحن
أيضا بلزوم متابعة الشارع للناس في أحكامهم هذه، لأ نهم لم يحكموا فيها
بما هم عقلاء بل بما هم معتادون، أي بدافع العادة.
283

نعم، بعض العادات قد تكون موضوعا لحكم الشارع، مثل حكمه
بحرمة لباس الشهرة (1) أي اللباس غير المعتاد لبسه عند الناس. ولكن هذا
الحكم لا لأجل المتابعة لحكم الناس، بل لأن مخالفة الناس في زيهم على
وجه يثير فيهم السخرية والاشمئزاز فيه مفسدة موجبة لحرمة هذا اللباس
شرعا. وهذا شئ آخر غير ما نحن فيه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا - وقد أطلنا الكلام لغرض كشف
الموضوع كشفا تاما - أنه ليس كل حسن وقبح بالمعنى الثالث موضعا
للنزاع مع الأشاعرة، بل خصوص ما كان سببه إدراك كمال الشئ أو
نقصه على نحو كلي وما كان سببه إدراك ملائمته أو عدمها على نحو كلي
أيضا من جهة مصلحة نوعية أو مفسدة نوعية، فإن الأحكام العقلية
الناشئة من هذه الأسباب هي أحكام للعقلاء بما هم عقلاء، وهي التي
ندعي فيها أن الشارع لابد أن يتابعهم في حكمهم. وبهذا تعرف ما وقع من
الخلط في كلام جملة من الباحثين عن هذا الموضوع.
5 - معنى الحسن والقبح الذاتيين
إن الحسن والقبح بالمعنى الثالث ينقسمان إلى ثلاثة أقسام:
1 - ما هو " علة " للحسن والقبح. ويسمى الحسن والقبح فيه
ب‍ " الذاتيين " مثل العدل والظلم والعلم والجهل، فإن العدل بما هو عدل لا
يكون إلا حسنا أبدا، أي أنه متى ما صدق عنوان " العدل " فإنه لابد أن
يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسنا. وكذلك الظلم بما هو
ظلم لا يكون إلا قبيحا، أي أنه متى ما صدق عنوان " الظلم " فإن فاعله
مذموم عندهم ويعد مسيئا.
2 - ما هو " مقتض " لهما، ويسمى الحسن والقبح فيه ب‍ " العرضيين "

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 354، الباب 12 من أبواب أحكام الملابس.
284

مثل تعظيم الصديق وتحقيره، فإن تعظيم الصديق لو خلي ونفسه فهو
حسن ممدوح عليه، وتحقيره كذلك قبيح لو خلي ونفسه. ولكن تعظيم
الصديق بعنوان أنه تعظيم الصديق يجوز أن يكون قبيحا مذموما، كما إذا
كان سببا لظلم ثالث. بخلاف العدل، فإنه يستحيل أن يكون قبيحا مع بقاء
صدق عنوان " العدل ". كذلك تحقير الصديق بعنوان أنه تحقير له يجوز أن
يكون حسنا ممدوحا عليه، كما إذا كان سببا لنجاته. ولكن يستحيل أن
يكون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان " الظلم ".
3 - ما لا علية له ولا اقتضاء فيه في نفسه للحسن والقبح أصلا، وإنما
قد يتصف بالحسن تارة إذا انطبق عليه عنوان حسن كالعدل، وقد يتصف
بالقبح أخرى إذا انطبق عليه عنوان قبيح كالظلم، وقد لا ينطبق عليه
عنوان أحدهما فلا يكون حسنا ولا قبيحا، كالضرب مثلا، فإنه حسن
للتأديب وقبيح للتشفي، ولا حسن ولا قبيح، كضرب غير ذي الروح.
ومعنى كون الحسن أو القبح ذاتيا: أن العنوان المحكوم عليه بأحدهما
بما هو في نفسه وفي حد ذاته يكون محكوما به، لا من جهة اندراجه
تحت عنوان آخر، فلا يحتاج إلى واسطة في اتصافه بأحدهما.
ومعنى كونه مقتضيا لأحدهما: أن العنوان ليس في حد ذاته متصفا به
بل بتوسط عنوان آخر، ولكنه لو خلي وطبعه كان داخلا تحت العنوان
الحسن أو القبيح. ألا ترى أن تعظيم الصديق لو خلي ونفسه يدخل تحت
عنوان " العدل " الذي هو حسن في ذاته، أي بهذا الاعتبار تكون له
مصلحة نوعية عامة. أما لو كان سببا لهلاك نفس محترمة كان قبيحا، لأ أنه
يدخل حينئذ بما هو تعظيم الصديق تحت عنوان " الظلم " ولا يخرج عن
عنوان كونه تعظيما للصديق.
وكذلك يقال في تحقير الصديق، فإنه لو خلي ونفسه يدخل تحت
285

عنوان " الظلم " الذي هو قبيح بحسب ذاته، أي بهذا الاعتبار تكون له
مفسدة نوعية عامة. فلو كان سببا لنجاة نفس محترمة كان حسنا، لأ أنه
يدخل حينئذ تحت عنوان " العدل " ولا يخرج عن عنوان كونه تحقيرا
للصديق.
وأما العناوين من القسم الثالث فليست في حد ذاتها لو خليت
وأنفسها داخلة تحت عنوان حسن أو قبيح، فلذلك لا تكون لها علية ولا
اقتضاء.
وعلى هذا يتضح معنى العلية والاقتضاء هنا، فإن المراد من العلية أن
العنوان بنفسه هو تمام موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح. والمراد من
الاقتضاء أن العنوان لو خلي وطبعه يكون داخلا فيما هو موضوع لحكم
العقلاء بالحسن أو القبح. وليس المراد من العلية والاقتضاء ما هو معروف
من معناهما أنه بمعنى التأثير والإيجاد، فإنه من البديهي أنه لا علية
ولا اقتضاء لعناوين الأفعال في أحكام العقلاء إلا من باب علية الموضوع
لمحموله.
6 - أدلة الطرفين (1):
بتقديم الأمور السابقة نستطيع أن نواجه أدلة الطرفين بعين بصيرة،
لنعطي الحكم العادل لأحدهما ونأخذ النتيجة المطلوبة. ونحن نبحث عن
ذلك في عدة مواد، فنقول:
1 - إنا ذكرنا أن قضية الحسن والقبح من القضايا المشهورات، وأشرنا

(1) إن شئت الوقوف على مصادر الأدلة وتفاصيلها راجع المستصفى للغزالي: ج 1 ص 55،
وشرح التجريد للقوشچي: ص 337، وكشف المراد للعلامة الحلي: ص 302، والقوانين
المحكمة للمحقق القمي: ج 2 ص 8، ومطارح الأنظار تقرير أبحاث الشيخ الأعظم
الأنصاري: ص 230.
286

إلى ما كنتم درستموه في الجزء الثالث من المنطق من أن المشهورات قسم
يقابل الضروريات الست كلها. ومنه نعرف المغالطة في دليل الأشاعرة
- وهو أهم أدلتهم - إذ يقولون:
لو كانت قضية الحسن والقبح مما يحكم به العقل لما كان فرق بين
حكمه في هذه القضية وبين حكمه بأن الكل أعظم من الجزء. ولكن
الفرق موجود قطعا، إذ الحكم الثاني لا يختلف فيه اثنان مع وقوع
الاختلاف في الأول.
وهذا الدليل من نوع القياس الاستثنائي قد استثني فيه نقيض التالي
لينتج نقيض المقدم.
والجواب عنه: أن المقدمة الأولى - وهي الجملة الشرطية - ممنوعة،
ومنعها يعلم مما تقدم آنفا، لأن قضية الحسن والقبح - كما قلنا - من
المشهورات، وقضية " أن الكل أعظم من الجزء " من الأوليات اليقينيات،
فلا ملازمة بينهما وليس هما من باب واحد حتى يلزم من كون القضية
الأولى مما يحكم به العقل ألا يكون فرق بينهما وبين القضية الثانية.
وينبغي أن نذكر جميع الفروق بين المشهورات هذه وبين الأوليات، ليكون
أكثر وضوحا بطلان قياس إحداهما على الأخرى. والفارق من وجوه
ثلاثة:
الأول: أن الحاكم في قضايا التأديبات العقل العملي، والحاكم في
الأوليات العقل النظري.
الثاني: أن القضية التأديبية لا واقع لها إلا تطابق آراء العقلاء،
والأوليات لها واقع خارجي.
الثالث: أن القضية التأديبية لا يجب أن يحكم بها كل عاقل لو خلي
ونفسه ولم يتأدب بقبولها والاعتراف بها، كما قال الشيخ الرئيس على
287

ما نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني (1). وليس كذلك القضية
الأولية التي يكفي تصور طرفيها في الحكم، فإنه لابد ألا يشذ عاقل في
الحكم بها لأول وهلة.
2 - ومن أدلتهم على إنكار الحسن والقبح العقليين أن قالوا: إنه لو كان
ذلك عقليا لما اختلف حسن الأشياء وقبحها باختلاف الوجوه
والاعتبارات، كالصدق إذ يكون مرة ممدوحا عليه واخرى مذموما عليه
إذا كان فيه ضرر كبير، وكذلك الكذب بالعكس يكون مذموما عليه
وممدوحا عليه إذا كان فيه نفع كبير. كالضرب والقيام والقعود ونحوها مما
يختلف حسنه وقبحه.
والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر مما ذكرناه من أن حسن
الأشياء وقبحها على أنحاء ثلاثة، فما كان ذاتيا لا يقع فيه اختلاف، فإن
العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون
حسنا أبدا، أي أنه ما دام عنوان " العدل " صادقا فهو ممدوح، وما دام
عنوان " الظلم " صادقا فهو مذموم. وأما ما كان عرضيا فإنه يختلف
بالوجوه والاعتبارات، فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان " العدل " كان
ممدوحا، وإن دخل تحت عنوان " الظلم " كان قبيحا. وكذلك الكذب وما
ذكر من الأمثلة.
والخلاصة: أن العدلية لا يقولون بأن جميع الأشياء لابد أن تتصف
بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا، حتى يلزم ما ذكر من الإشكال.
3 - وقد استدل العدلية على مذهبهم بما خلاصته:
إنه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان وقبح الظلم عند كل عاقل من
غير اعتبار شرع، فإن ذلك يدركه حتى منكر الشرائع.

(1) راجع ص 281.
288

وأجيب عنه بأن الحسن والقبح في ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو
بمعنى صفة الكمال والنقص، وهو مسلم لا نزاع فيه. وأما بالمعنى المتنازع
فيه فإنا لا نسلم جزم العقلاء به.
ونحن نقول: إن من يدعي ضرورة حكم العقلاء بحسن الإحسان
وقبح الظلم يدعي ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان وذمهم لفاعل الظلم.
ولا شك في أن هذا المدح والذم من العقلاء ضروريان، لتواتره عن جميع
الناس، ومنكره مكابر. والذي يدفع العقلاء لهذا - كما قدمنا - شعورهم بأن
العدل كمال للعادل وملأمته لمصلحة النوع الإنساني وبقائه، وشعورهم
بنقص الظلم ومنافرته لمصلحة النوع الإنساني وبقائه.
4 - واستدل العدلية أيضا بأن الحسن والقبح لو كانا لا يثبتان إلا من
طريق الشرع، فهما لا يثبتان أصلا حتى من طريق الشرع.
وقد صور بعضهم هذه الملازمة على النحو الآتي:
إن الشارع إذا أمر بشئ فلا يكون حسنا إلا إذا مدح مع ذلك الفاعل
عليه، وإذا نهى عن شئ فلا يكون قبيحا إلا إذا ذم الفاعل عليه، ومن أين
تعرف أنه يجب أن يمدح الشارع فاعل المأمور به ويذم فاعل المنهي
عنه؟ إلا إذا كان ذلك واجبا عقلا، فتوقف حسن المأمور به وقبح المنهي
عنه على حكم العقل، وهو المطلوب.
ثم لو ثبت أن الشارع مدح فاعل المأمور به وذم فاعل المنهي عنه
والمفروض أن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، فمن أين نعرف أنه صادق
في مدحه وذمه إلا إذا ثبت أن الكذب قبيح عقلا يستحيل عليه، فيتوقف
ثبوت الحسن والقبح شرعا على ثبوتهما عقلا، فلو لم يكن لهما ثبوت
عقلا فلا ثبوت لهما شرعا.
وقد أجاب بعض الأشاعرة عن هذا التصوير بأنه يكفي في كون
289

الشئ حسنا أن يتعلق به الأمر، وفي كونه قبيحا ان يتعلق به النهي،
والأمر والنهي - حسب الفرض - ثابتان وجدانا. ولا حاجة إلى فرض
ثبوت مدح وذم من الشارع.
وهذا الكلام - في الحقيقة - يرجع إلى أصل النزاع في معنى الحسن
والقبح، فيكون الدليل وجوابه صرف دعوى ومصادرة على المطلوب، لأن
المستدل يرجع قوله إلى أنه يجب المدح والذم عقلا، لأ نهما واجبان في
اتصاف الشئ بالحسن والقبح. والمجيب يرجع قوله إلى أنهما لا يجبان
عقلا لأ نهما غير واجبين في الحسن والقبح.
والأحسن تصوير الدليل على وجه آخر، فنقول:
إنه من المسلم عند الطرفين وجوب طاعة الأوامر والنواهي الشرعية،
وكذلك وجوب المعرفة. وهذا الوجوب عند الأشاعرة وجوب شرعي
حسب دعواهم، فنقول لهم: من أين يثبت هذا الوجوب؟ لابد أن يثبت
بأمر من الشارع. فننقل الكلام إلى هذا الأمر، فنقول لهم: من أين تجب
طاعة هذا الأمر؟ فإن كان هذا الوجوب عقليا فهو المطلوب، وإن كان
شرعيا أيضا فلابد له من أمر ولابد له من طاعة فننقل الكلام إليه...
وهكذا نمضي إلى غير النهاية، ولا نقف حتى ننتهي إلى طاعة وجوبها
عقلي لا تتوقف على أمر الشارع، وهو المطلوب.
بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين،
ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها، لأ نا ننقل الكلام إلى
هذا الطريق الشرعي فيتسلسل إلى غير النهاية.
والنتيجة: أن ثبوت الحسن والقبح شرعا يتوقف على ثبوتهما عقلا.
290

المبحث الثاني
إدراك العقل للحسن والقبح
بعد ما تقدم من ثبوت الحسن والقبح العقليين في الأفعال، فقد نسب
بعضهم إلى جماعة الأخباريين - على ما يظهر من كلمات بعضهم - إنكار
أن يكون للعقل حق إدراك ذلك الحسن والقبح (1). فلا يثبت شئ من
الحسن والقبح الواقعيين بإدراك العقل.
والشئ الثابت قطعا عنهم على الإجمال القول بعدم جواز الاعتماد
على شئ من الإدراكات العقلية في إثبات الأحكام الشرعية. وقد فسر
هذا القول بأحد وجوه ثلاثة (2) حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم:
1 - إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعيين. وهذه هي مسألتنا
التي عقدنا لها هذا المبحث الثاني.
2 - بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل إنكار الملازمة بينه وبين

(1) قد تنسب هذه المقالة إلى الأمين الأسترابادي والسيد الجزائري والمحدث البحراني (قدس سرهم)
ونحن لم نتحقق تلك النسبة، راجع الفوائد المدنية: ص 129 - 131، شرح التهذيب
(مخطوط): ص 47، الحدائق الناضرة: ج 1 ص 125 - 133، المقدمة العاشرة. (*)
سيأتي أن هناك وجها رابعا لحمل كلامهم عليه بما أولنا به رأي صاحب الفصول الآتي، وهو
إنكار إدراك العقل لملاكات الأحكام الشرعية. وهو وجه وجيه سيأتي بيانه وتأييده. وبه
تحل عقدة النزاع ويقع التصالح بين الطرفين.
291

حكم الشرع. وهذه هي المسألة الآتية في المبحث الثالث.
3 - بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة إنكار وجوب
إطاعة الحكم الشرعي الثابت من طريق العقل، ومرجع ذلك إلى إنكار
حجية العقل. وسيأتي البحث عن ذلك في الجزء الثالث من هذا الكتاب
(مباحث الحجة).
وعليه، فان أرادوا التفسير الأول بعد الاعتراف بثبوت الحسن والقبح
العقليين فهو كلام لا معنى له، لأ أنه قد تقدم أنه لا واقعية للحسن والقبح
بالمعنى المتنازع فيه مع الأشاعرة - وهو المعنى الثالث - إلا إدراك العقلاء
لذلك وتطابق آرائهم على مدح فاعل الحسن وذم فاعل القبيح، على ما
أوضحناه فيما سبق.
وإذا اعترفوا بثبوت الحسن والقبح بهذا المعنى فهو اعتراف بإدراك
العقل. ولا معنى للتفكيك بين ثبوت الحسن والقبح وبين إدراك العقل لهما
إلا إذا جاز تفكيك الشئ عن نفسه. نعم، إذا فسروا الحسن والقبح
بالمعنيين الأولين جاز هذا التفكيك. ولكنهما ليسا موضع النزاع عندهم.
وهذا الأمر واضح لا يحتاج إلى أكثر من هذا البيان بعدما قدمناه في
المبحث الأول.
292

المبحث الثالث
ثبوت الملازمة العقلية بين حكم العقل وحكم الشرع
ومعنى الملازمة العقلية هنا - على ما تقدم - أنه إذا حكم العقل بحسن
شئ أو قبحه هل يلزم عقلا أن يحكم الشرع على طبقه؟
وهذه هي المسألة الأصولية التي تخص علمنا، وكل ما تقدم من
الكلام كان كالمقدمة لها. وقد قلنا سابقا: أن الأخباريين فسر كلامهم - في
أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة الذي يظهر من كلام بعضهم - بإنكار هذه
الملازمة. وأما الأصوليون فقد أنكرها منهم صاحب الفصول (1) ولم نعرف
له موافقا. وسيأتي توجيه كلامهم وكلام الأخباريين.
والحق أن الملازمة ثابتة عقلا، فإن العقل إذا حكم بحسن شئ أو
قبحه - أي أنه إذا تطابقت آراء العقلاء جميعا بما هم عقلاء على حسن
شئ لما فيه من حفظ النظام وبقاء النوع، أو على قبحه لما فيه من
الإخلال بذلك - فإن الحكم هذا يكون بادي رأي الجميع، فلابد أن يحكم
الشارع بحكمهم، لأ أنه منهم بل رئيسهم. فهو بما هو عاقل - بل خالق
العقل - كسائر العقلاء لابد أن يحكم بما يحكمون، ولو فرضنا أنه لم
يشاركهم في حكمهم لما كان ذلك الحكم بادي رأي الجميع. وهذا خلاف

(1) الفصول الغروية: 337.
293

الفرض.
وبعد ثبوت ذلك ينبغي أن نبحث هنا عن مسألة أخرى:
وهي أنه لو ورد من الشارع أمر في مورد حكم العقل كقوله تعالى:
* (أطيعوا الله والرسول) * (1) فهذا الأمر من الشارع هل هو أمر مولوي، أي
أنه أمر منه بما هو مولى. أو أنه أمر إرشادي، أي أنه أمر لأجل الإرشاد
إلى ما حكم به العقل، أي أنه أمر منه بما هو عاقل؟ وبعبارة أخرى: أن
النزاع هنا في أن مثل هذا الأمر من الشارع هل هو أمر تأسيسي، وهذا
معنى أنه مولوي. أو أنه أمر تأكيدي، وهو معنى أنه إرشادي؟
لقد وقع الخلاف في ذلك. والحق أنه للإرشاد حيث يفرض أن حكم
العقل هذا كاف لدعوة المكلف إلى الفعل الحسن وانقداح (2) إرادته للقيام
به، فلا حاجة إلى جعل الداعي من قبل المولى ثانيا، بل يكون عبثا ولغوا،
بل هو مستحيل، لأ أنه يكون من باب تحصيل الحاصل.
وعليه، فكل ما يرد في لسان الشرع من الأوامر في موارد المستقلات
العقلية لابد أن يكون تأكيدا لحكم العقل، لا تأسيسا.
نعم، لو قلنا بأن ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح
والذم فقط على وجه لا يلزم منه استحقاق الثواب والعقاب من قبل
المولى، أو إنه يلزم منه ذلك بل هو عينه (3) ولكن لا يدرك ذلك كل أحد،
فيمكن ألا يكون نفس إدراك استحقاق المدح والذم كافيا لدعوة كل أحد

(1) آل عمران: 32.
(2) في ط 2: اندفاع. (*)
الحق كما - صرح بذلك كثير من العلماء المحققين - أن معنى استحقاق المدح ليس إلا
استحقاق الثواب، ومعنى استحقاق الذم ليس إلا استحقاق العقاب، بمعنى أن المراد من
المدح ما يعم الثواب لأن المراد بالمدح المجازاة بالخير، والمراد من الذم ما يعم العقاب لأن
المراد به المكافاة بالشر، ولذا قالوا: إن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، وأرادوا به هذا المعنى.
294

إلى الفعل إلا للأوحدي (1) من الناس، فلا يستغني أكثر الناس عن الأمر من
المولى المترتب على موافقته الثواب وعلى مخالفته العقاب في مقام
الدعوة إلى الفعل وانقياده، فإذا ورد أمر من المولى في مورد حكم العقل
المستقل فلا مانع من حمله على الأمر المولوي، إلا إذا استلزم منه محال
التسلسل كالأمر بالطاعة والأمر بالمعرفة. بل مثل هذه الموارد لا معنى
لأن يكون الأمر فيها مولويا، لأنه لا يترتب على موافقته ومخالفته غير
ما يترتب على متعلق المأمور به، نظير الأمر بالاحتياط في أطراف العلم
الإجمالي.
توضيح وتعقيب:
الحق أن الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليين هو نفس الالتزام
بتحسين الشارع وتقبيحه، وفقا لحكم العقلاء لأ أنه من جملتهم، لا أنهما
شيئان أحدهما يلزم الآخر، وإن توهم ذلك بعضهم (2).
ولذا ترى أكثر الأصوليين والكلاميين لم يجعلوهما مسألتين بعنوانين،
بل لم يعنووا إلا مسألة واحدة، هي مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
وعليه، فلاوجه للبحث عن ثبوت الملازمة بعد فرض القول بالتحسين
والتقبيح. وأما نحن فإنما جعلنا الملازمة مسألة مستقلة فللخلاف الذي
وقع فيها بتوهم التفكيك.
ومن العجيب! ما عن صاحب الفصول (رحمه الله) من إنكاره للملازمة مع

(1) في ط 2: للأفذاذ.
(2) قال في التقريرات: اعلم أن المعروف بين من تقدم على الفاضل التوني اكتفاؤهم عن هذا
العنوان بعنوان مسألة إثبات إدراك العقل للحسن والقبح، وأول من جعل هذا المبحث عنوانا
آخر هو الفاضل المذكور، ولعله أخذه من كلام الفاضل الزركشي، حيث التزم بالحكم العقلي
ونفى الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي، مطارح الأنظار: ص 230 وراجع الوافية للفاضل
التوني: ص 171 (ط مجمع الفكر الاسلامي).
295

قوله بالتحسين والتقبيح العقليين، وكأ أنه ظن أن كل ما أدركه العقل من
المصالح والمفاسد - ولو بطريق نظري أو من غير سبب عام من الأسباب
المتقدم ذكرها - يدخل في مسألة التحسين والتقبيح، وأن القائل بالملازمة
يقول بالملازمة أيضا في مثل ذلك.
ولكن نحن قلنا: إن قضايا التحسين والتقبيح هي القضايا التي تطابقت
عليها آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء وهي بادي رأي الجميع، وفي مثلها
نقول بالملازمة لا مطلقا، فليس كل ما أدركه العقل من أي سبب كان ولو
لم تتطابق عليه الآراء أو تطابقت ولكن لا بما هم عقلاء يدخل في هذه
المسألة.
وقد ذكرنا نحن سابقا: أن ما يدركه العقل من الحسن والقبح بسبب
العادة أو الانفعال ونحوهما وما يدركه لامن سبب عام للجميع لا يدخل
في موضوع مسألتنا.
ونزيد هذا بيانا وتوضيحا هنا، فنقول:
إن مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي نفسها ملاكات أحكام
الشارع لا تندرج تحت ضابط نحن ندركه بعقولنا، إذ لا يجب فيها أن
تكون هي بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام العام وإبقاء
النوع التي هي - أعني هذه المصالح العمومية - مناطات الأحكام العقلية
في مسألة التحسين والتقبيح العقليين.
وعلى هذا، فلا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات
الأحكام الشرعية. فإذا أدرك العقل المصلحة في شئ أو المفسدة في آخر
ولم يكن إدراكه مستندا إلى إدراك المصلحة أو المفسدة العامتين اللتين
يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء، فإنه - أعني العقل - لا سبيل له إلى
الحكم بأن هذا المدرك يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل،
إذ يحتمل أن هناك ما هو مناط لحكم الشارع غير ما أدركه العقل، أو أن
296

هناك مانعا يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل وإن كان
ما أدركه مقتضيا لحكم الشارع.
ولأجل هذا نقول: إنه ليس كل ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به
العقل. وإلى هذا يرمي قول إمامنا الصادق (عليه السلام): " إن دين الله لا يصاب
بالعقول " (1) ولأجل هذا أيضا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الأدلة
الشرعية على الأحكام.
وعلى هذا التقدير، فإن كان ما أنكره صاحب الفصول والأخباريون
من الملازمة هي الملازمة في مثل تلك المدركات العقلية التي هي ليست
من المستقلات العقلية التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء، فإن
إنكارهم في محله وهم على حق فيه لا نزاع لنا معهم فيه. ولكن هذا أمر
أجنبي عن الملازمة المبحوث عنها في المستقلات العقلية.
وإن كان ما أنكروه هي مطلق الملازمة حتى في المستقلات العقلية
- كما قد يظهر من بعض تعبيراتهم - فهم ليسوا على حق فيما أنكروا،
ولا مستند لهم.
وعلى هذا، فيمكن التصالح بين الطرفين بتوجيه كلام الأخباريين
وصاحب الفصول بما يتفق وما أوضحناه. ولعله لا يأباه بعض كلامهم.
* * *

(1) في ط 2: العقل، نقله في البحار عن علي بن الحسين (عليهما السلام) بلفظ " إن دين الله لا يصاب
بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة... " بحار الأنوار: ج 2 ص 303 ح 41.
297

الباب الثاني:
غير المستقلات العقلية
299

تمهيد:
سبق أن قلنا: إن المراد من " غير المستقلات العقلية " هو مالم يستقل
العقل به وحده في الوصول إلى النتيجة، بل يستعين بحكم شرعي (1) في
إحدى مقدمتي القياس (وهي الصغرى) والمقدمة الأخرى (وهي الكبرى)
الحكم العقلي الذي هو عبارة عن حكم العقل بالملازم عقلا بين الحكم
في المقدمة الأولى وبين حكم شرعي آخر.
مثاله حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة شرعا وبين
وجوب المقدمة شرعا.
وهذه الملازمة العقلية لها عدة موارد وقع فيها البحث وصارت موضعا
للنزاع، ونحن ذاكرون هنا أهم هذه المواضع في مسائل:

قلنا: " يستعين بحكم شرعي " ولم نقل: " إن المقدمة شرعية " لتعميم بحث غير المستقلات
العقلية لمسألة الإجزاء، فإن صغرى مسألة الاجزاء هكذا: " هذا الفعل إتيان بالمأمور به
شرعا " والحكم بأن الفعل إتيان بالمأمور به يستعان فيه بالحكم الشرعي، وهو الأمر
المفروض ثبوته.
300

المسألة الأولى
الإجزاء (1)
تصدير:
لاشك في أن المكلف إذا فعل بما أمر به مولاه على الوجه المطلوب
- أي أتى بالمطلوب على طبق ما أمر به جامعا لجميع ما هو معتبر فيه من
الأجزاء أو الشرائط شرعية أو عقلية - فإن هذا الفعل منه يعتبر امتثالا
لنفس ذلك الأمر، سواء كان الأمر اختياريا واقعيا، أو اضطراريا، أو ظاهريا.
وليس في هذا خلاف أو يمكن أن يقع فيه الخلاف.
وكذا لاشك ولا خلاف في أن هذا الامتثال على تلك الصفة يجزئ
ويكتفى به عن امتثال آخر، لأن المكلف - حسب الفرض - قد جاء بما
عليه من التكليف على الوجه المطلوب، وكفى.
وحينئذ يسقط الأمر الموجه إليه، لأ أنه قد حصل بالفعل ما دعا إليه
وانتهى أمده. ويستحيل أن يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه،
لانتهاء أمد دعوته بحصول غايته الداعية إليه، إلا إذا جوزنا المحال وهو
حصول المعلول بلا علة (2).
فإن هذا قطعي - كما قلنا في المتن - وإنما الذي يصح أن يقال ويبحث عنه ففي جواز
الامتثال مرة أخرى بدلا عن الامتثال الأول على وجه يلغى الامتثال الأول ويكتفى بالثاني.
وهو خارج عن مسألة الإجزاء، ويعبر عنه في لسان الأصوليين بقولهم: " تبديل الامتثال
بالامتثال "
وقد يتصور الطالب أن هذا لا مانع منه عقلا، بأن يتصور أن هناك حالة منتظرة بعد
الامتثال الأول، بمعنى أن نتصور أن الغرض من الأمر لم يحصل بمجرد الامتثال الأول، فلا
يسقط عنده الأمر، بل يبقى مجال لامتثاله ثانيا، لا سيما إذا كان الامتثال الثاني أفضل.
ويساعد على هذا التصوير أنه قد ورد في الشريعة ما يؤيد ذلك بظاهره مثل ما ورد في باب
إعادة من صلى فرادى عند حضور الجماعة: " إن الله تعالى يختار أحبهما إليه " (1).
والحق عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر، لأن الإتيان بالمأمور به بحدوده وقيوده
علة تامة لحصول الغرض، فلا تبقى حالة منتظرة بعد الامتثال الأول، فيسقط الأمر لانتهاء
أمده كما قلنا في المتن.
وأما ما ورد في جواز ذلك فيحمل على استحباب الإعادة بأمر آخر ندبي، وينبغي أن
يحمل قوله (عليه السلام): " يختار أحبهما إليه " على أن المراد: يختار ذلك في مقام إعطاء الثواب
والأجر، لا في مقام امتثال الأمر الوجوبي بالصلاة [وأن الإمتثال يقع بالثاني] (2).

(1) الإجزاء: مصدر " أجزأ " أي أغنى عنه وقام مقامه.
(2) وإذا صح أن يقال شئ في هذا الباب فليس في إجزاء المأتي به والاكتفاء بامتثال الأمر، ق‍
(1) الوسائل: ج 5 ص 456، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة ح 10.
(2) لم يرد في ط 2.
301

وإنما وقع الخلاف - أو يمكن ان يقع - في مسألة الإجزاء فيما إذا كان
هناك أمران: أمر أولي واقعي لم يمتثله المكلف إما لتعذره عليه أو لجهله
به، وأمر ثانوي إما اضطراري في صورة تعذر الأول وإما ظاهري في
صورة الجهل بالأول، فإنه إذا امتثل المكلف هذا الأمر الثانوي الاضطراري
أو الظاهري ثم زال العذر والاضطرار أو زال الجهل وانكشف الواقع صح
الخلاف في كفاية ما أتى به امتثالا للأمر الثاني عن امتثال الأمر الأول،
وإجزائه عنه إعادة في الوقت وقضاء في خارجه.
ولأجل هذا عقدت هذه المسألة (مسألة الإجزاء).
وحقيقتها هو البحث عن ثبوت الملازمة - عقلا - بين الإتيان بالمأمور
302

به بالأمر الاضطراري أو الظاهري وبين الإجزاء والاكتفاء به عن امتثال
الأمر الأولى الاختياري الواقعي.
وقد عبر بعض علماء الأصول المتأخرين عن هذه المسألة بقوله: هل
الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا يقتضي؟ (1)
والمراد من " الاقتضاء " في كلامه: الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير، أي
أنه هل يلزم - عقلا - من الإتيان بالمأمور به سقوط التكليف شرعا أداء
وقضاء؟
ومن هنا تدخل هذه المسألة في باب الملازمات العقلية، على ما
حررنا البحث في صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمة العقلية. ولاوجه
لجعلها من باب مباحث الألفاظ، لأن ذلك ليس من شؤون الدلالة اللفظية.
وعلينا أن نعقد البحث في مقامين: الأول في إجزاء المأمور به بالأمر
الاضطراري. الثاني في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري.
المقام الأول
الأمر الاضطراري
وردت في الشريعة المطهرة أوامر لا تحصى تختص بحال الضرورات
وتعذر امتثال الأوامر الأولى أو بحال الحرج في امتثالها، مثل التيمم
ووضوء الجبيرة وغسلها، وصلاة العاجز عن القيام أو القعود، وصلاة
الغريق.
ولا شك في أن الاضطرار ترتفع به فعلية التكليف، لأن الله تعالى
لا يكلف نفسا إلا وسعها. وقد ورد في الحديث النبوي المشهور الصحيح
" رفع عن أمتي ما اضطروا إليه " (2).

(1) راجع مطارح الأنظار: ص 18، كفاية الأصول: ص 104، فوائد الأصول: ج 1 ص 241.
(2) الخصال: ج 2 ص 417، باب التسعة، ح 9.
303

غير أن الشارع المقدس حرصا على بعض العبادات - لا سيما الصلاة
التي لا تترك بحال - أمر عباده بالاستعاضة عما اضطروا إلى تركه بالإتيان
ببدل عنه، فأمر - مثلا - بالتيمم بدلا عن الوضوء أو الغسل، وقد جاء في
الحديث " يكفيك عشر سنين " (1). وأمر بالمسح على الجبيرة بدلا عن
غسل بشرة العضو في الوضوء والغسل. وأمر بالصلاة من جلوس بدلا عن
الصلاة من قيام... وهكذا فيما لا يحصى من الأوامر الواردة في حال
اضطرار المكلف وعجزه عن امتثال الأمر الأولي الاختياري أو في حال
الحرج في امتثاله.
ولا شك في أن هذه الأوامر الاضطرارية هي أوامر واقعية حقيقية
ذات مصالح ملزمة كالأوامر الأولية. وقد تسمى " الأوامر الثانوية " تنبيها
على أنها واردة لحالات طارئة ثانوية على المكلف وإذا امتثلها المكلف
أدى ما عليه في هذا الحال وسقط عنه التكليف بها.
ولكن يقع البحث والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك الحالة الاضطرارية
الثانوية ورجع المكلف إلى حالته الأولى من التمكن من أداء ما كان عليه
واجبا في حالة الاختيار، فهل يجزئه ما كان قد أتى به في حال الاضطرار،
أولا يجزئه بل لابد له من إعادة الفعل في الوقت أداء إذا كان ارتفاع
الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل وكنا قلنا بجواز البدار (2) أو إعادته خارج
الوقت قضاء إذا كان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت؟
إن هذا أمر يصح فيه الشك والتساؤل، وإن كان المعروف بين الفقهاء
في فتاويهم القول بالإجزاء مطلقا أداء وقضاء.

(1) الوسائل: ج 2 ص 984، الباب 14 من أبواب التيمم، ح 12. (*)
لأ أنه إذا لم يجز البدار، فان ابتدر فعمله باطل فكيف يجزئ، وإن لم يبتدر فلا يبقى مجال
لزوال العذر في الوقت حتى يتصور الأداء.
304

غير أن إطباقهم على القول بالإجزاء ليس مستندا إلى دعوى أن
البديهية (1) العقلية تقضي به، لأ أنه هنا يمكن تصور عدم الإجزاء بلا محذور
عقلي، أعني يمكننا أن نتصور عدم الملازمة بين الإتيان بالمأمور به
بالأمر الاضطراري وبين الإجزاء به عن الأمر الواقعي الاختياري.
توضيح ذلك: أنه لا إشكال في أن المأتي به في حال الاضطرار
أنقص من المأمور به حال الاختيار، والقول بالإجزاء فيه معناه كفاية
الناقص عن الكامل مع فرض حصول التمكن من أداء الكامل في الوقت
أو خارجه. ولا شك في أن العقل لا يرى بأسا بالأمر بالفعل ثانيا بعد
زوال الضرورة، تحصيلا للكامل الذي قد فات منه، بل قد يلزم العقل بذلك
إذا كان في الكامل مصلحة ملزمة لا يفي بها الناقص ولا يسد مسد الكامل
في تحصيلها.
والمقصود الذي نريد أن نقوله بصريح العبارة: إن الإتيان بالناقص
ليس بالنظرة الأولى مما يقتضي عقلا الإجزاء عن الكامل.
فلابد أن يكون ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء لسر هناك: إما لوجود
ملازمة بين الإتيان بالناقص وبين الإجزاء عن الكامل، وإما لغير ذلك من
الأسباب. فيجب أن نتبين ذلك، فنقول: هناك وجوه أربعة تصلح أن تكون
كلها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء نذكرها كلها:
1 - إنه من المعلوم أن الأحكام الواردة في حال الاضطرار واردة
للتخفيف على المكلفين والتوسعة عليهم في تحصيل مصالح التكاليف
الأصلية الأولية * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (2).
وليس من شأن التخفيف والتوسعة أن يكلفهم ثانيا بالقضاء أو الأداء،
وإن كان الناقص لا يسد مسد الكامل في تحصيل كل مصلحته الملزمة.

(1) في ط الأولى: البديهة.
(2) البقرة: 185.
305

2 - إن أكثر الأدلة الواردة في التكاليف الاضطرارية مطلقة، مثل قوله
تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * (1) أي أن ظاهرها بمقتضى
الإطلاق الاكتفاء بالتكليف الثاني لحال الضرورة، وأن التكليف منحصر
فيه وليس وراءه تكليف آخر، فلو أن الأداء أو القضاء واجبان أيضا
لوجب البيان والتنصيص على ذلك، وإذ لم يبين ذلك علم أن الناقص
يجزئ عن أداء الكامل أداء وقضاء، لا سيما مع ورود مثل قوله (عليه السلام):
" إن التراب يكفيك عشر سنين " (2).
3 - إن القضاء بالخصوص إنما يجب فيما إذا صدق الفوت، ويمكن أن
يقال: إنه لا يصدق " الفوت " في المقام، لأن القضاء إنما يفرض فيما إذا
كانت الضرورة مستمرة في جميع وقت الأداء، وعلى هذا التقدير لا أمر
بالكامل في الوقت، وإذا لم يكن أمر فقد يقال: إنه لا يصدق بالنسبة إليه
" فوت الفريضة " إذ لا فريضة.
وأما الأداء فإنما يفرض فيما يجوز البدار به، وقد ابتدر المكلف -
حسب الفرض - إلى فعل الناقص في الأزمنة الأولى من الوقت ثم زالت
الضرورة قبل انتهاء الوقت، ونفس الرخصة في البدار - لو ثبتت - تشير
إلى مسامحة الشارع في تحصيل الكامل عند التمكن، وإلا لفرض عليه
الانتظار تحصيلا للكامل.
4 - إذا كنا قد شككنا في وجوب الأداء والقضاء، والمفروض أن
وجوبهما لم ننفه بإطلاق ونحوه فإن هذا شك في أصل التكليف، وفي مثله
تجري أصالة البراءة القاضية بعدم وجوبهما.
فهذه الوجوه الأربعة كلها أو بعضها أو نحوها هي سر حكم الفقهاء

(1) النساء: 43، المائدة: 6.
(2) الوسائل: ج 2 ص 984، الباب 14 من أبواب التيمم، ح 12.
306

بالإجزاء قضاء وأداء. والقول بالإجزاء - على هذا - أمر لا مفر منه.
ويتأكد ذلك في الصلاة التي هي العمدة في الباب.
المقام الثاني
الأمر الظاهري
تمهيد:
للحكم الظاهري اصطلاحان:
أحدهما: ما تقدم في أول الجزء الأول (ص 50) وهو المقابل للحكم
الواقعي وإن كان الواقعي مستفادا من الأدلة الاجتهادية الظنية، فيختص
الظاهري بما ثبت بالأصول العملية.
وثانيهما: كل حكم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحكم الواقعي الثابت في
علم الله تعالى، فيشمل الحكم الثابت بالأمارات والأصول معا. فيكون
الحكم الظاهري بالمعنى الثاني أعم من الأول.
وهذا المعنى الثاني العام هو المقصود هنا بالبحث. فالأمر الظاهري:
ما تضمنه الأصل أو الأمارة.
ثم إنه لا شك في أن الأمر الواقعي في موردي الأصل والأمارة غير
منجز على المكلف، بمعنى أنه لا عقاب على مخالفته بسبب العمل
بالأمارة والأصل لو اتفق مخالفتهما له، لأ أنه من الواضح أن كل تكليف
غير واصل إلى المكلف بعد الفحص واليأس غير منجز عليه، ضرورة أن
التكليف إنما يتنجز بوصوله بأي نحو من أنحاء الوصول، ولو بالعلم
الإجمالي.
هذا كله لا كلام فيه، وسيأتي في مباحث الحجة تفصيل الحديث عنه.
وإنما الذي يحسن أن نبحث عنه هنا في هذا الباب هو أن الأمر الواقعي
المجهول لو انكشف فيه بعد ذلك خطأ الامارة أو الأصل وقد عمل
307

المكلف - حسب الفرض - على خلافه اتباعا للأمارة الخاطئة أو الأصل
المخالف للواقع، فهل يجب على المكلف امتثال الأمر الواقعي في الوقت
أداء وفي خارج الوقت قضاء، أو أنه لا يجب شئ عليه بل يجزئ ما أتى
به على طبق الأمارة أو الأصل ويكتفي به؟
ثم إن العمل على خلاف الواقع - كما سبق - تارة يكون بالأمارة،
واخرى بالأصل. ثم الانكشاف على نحوين: انكشاف على نحو اليقين
وانكشاف بمقتضى حجة معتبرة. فهذه أربع صور.
ولاختلاف البحث في هذه الصور مع اتفاق صورتين منها في الحكم -
وهما صورتا الانكشاف بحجة معتبرة مع العمل على طبق الأمارة ومع
العمل بمقتضى الأصل - نعقد البحث في ثلاث مسائل:
1 - الإجزاء في الأمارة مع انكشاف الخطأ يقينا
إن قيام الأمارة تارة يكون في الأحكام، كقيام الأمارة على وجوب
صلاة الظهر يوم الجمعة حال الغيبة بدلا عن صلاة الجمعة. واخرى في
الموضوعات، كقيام البينة على طهارة ثوب صلى به أو ماء توضأ منه، ثم
بانت نجاسته.
والمعروف عند الإمامية عدم الإجزاء مطلقا، في الأحكام
والموضوعات.
أما في الأحكام: فلأجل اتفاقهم على مذهب التخطئة، أي أن المجتهد
يخطئ ويصيب، لأن لله تعالى أحكاما ثابتة في الواقع يشترك فيها العالم
والجاهل، أي أن الجاهل مكلف بها كالعالم، غاية الأمر أنها غير منجزة
بالفعل بالنسبة إلى الجاهل القاصر (1) حين جهله، وإنما يكون معذورا في

الجاهل القاصر من لم يتمكن من الفحص أو فحص فلم يعثر. ويقابله المقصر، وهو بعكسه. ق‍
والأحكام منجزة بالنسبة إلى المقصر، لحصول العلم الإجمالي بها عنده، والعلم منجز
للأحكام وإن كان إجماليا، فلا يكون معذورا. بل الاحتمال وحده بالنسبة إليه يكون منجزا.
وسيأتي البحث عن ذلك في مباحث الحجة.
308

المخالفة لو اتفقت له باتباع الأمارة، إذ لا تكون الأمارة عندهم إلا طريقا
محضا لتحصيل الواقع.
ومع انكشاف الخطأ لا يبقى مجال للعذر، بل يتنجز الواقع حينئذ في
حقه من دون أن يكون قد جاء بشئ يسد مسده ويغني عنه.
ولا يصح القول بالإجزاء إلا إذا قلنا: إنه بقيام الأمارة على وجوب
شئ تحدث فيه مصلحة ملزمة على أن تكون هذه المصلحة وافية
بمصلحة الواقع يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعي، فتكون الأمارة
مأخوذة على نحو الموضوعية للحكم، ضرورة أنه مع هذا الفرض يكون
ما أتى به على طبق الأمارة مجزئا عن الواقع، لأ أنه قد أتى بما يسد مسده
ويغني عنه في تحصيل مصلحة الواقع.
ولكن هذا معناه التصويب المنسوب إلى المعتزلة (1) أي أن أحكام الله
تعالى تابعة لآراء المجتهدين وإن كانت له أحكام واقعية ثابتة في نفسها،
فإنه يكون - عليه - كل رأي أدى إليه نظر المجتهد قد أنشأ الله تعالى على
طبقه حكما من الأحكام. والتصويب بهذا المعنى قد أجمعت (2) الإمامية
على بطلانه. وسيأتي البحث عنه في مباحث الحجة.
وأما القول بالمصلحة السلوكية - أي أن نفس متابعة الأمارة فيه
مصلحة ملزمة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع وإن لم تحدث
مصلحة في نفس الفعل الذي أدت الأمارة إلى وجوبه - فهذا قول لبعض
الإمامية لتصحيح جعل الطريق والأمارات في فرض التمكن من تحصيل

(1) راجع المعتمد في أصول الفقه: ج 2 ص 370.
(2) في ط 2: اجتمعت.
309

العلم (1) على ما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
ولكنه - على تقدير صحة هذا القول - لا يقتضي الإجزاء أيضا، لأ أنه
على فرضه تبقى مصلحة الواقع على ما هي عليه عند انكشاف خطأ
الأمارة في الوقت أو في خارجه.
توضيح ذلك: أن المصلحة السلوكية المدعاة هي مصلحة تدارك الواقع
باعتبار أن الشارع لما جعل الأمارة في حال تمكن المكلف من تحصيل
العلم بالواقع فإنه قد فوت عليه الواقع، فلابد من فرض تداركه بمصلحة
تكون في نفس اتباع الأمارة، واللازم من المصلحة التي يتدارك بها الواقع
أن تقدر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة، لا أكثر. وعند انكشاف الخطأ
في الوقت لم يفت من مصلحة الواقع إلا مصلحة فضيلة أول الوقت، وعند
انكشاف الخطأ في خارج الوقت لم تفت إلا مصلحة الوقت، أما مصلحة
أصل الفعل فلم تفت من المكلف لإمكان تحصيلها بعد الانكشاف، فما هو
الملزم للقول بحصول مصلحة يتدارك بها أصل مصلحة الفعل حتى يلزم
الإجزاء؟!
وأما في الموضوعات: فالظاهر أن المعروف عندهم أن الأمارة فيها
قد أخذت على نحو " الطريقية " كقاعدة اليد والصحة وسوق المسلمين
ونحوها، فإن أصابت الواقع فذاك، وإن أخطأت فالواقع على حاله ولا
تحدث بسببها مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع، غاية الأمر أن المكلف
معها معذور عند الخطأ، وشأنها في ذلك شأن الأمارة في الأحكام.
والسر في حملها على " الطريقية " هو أن الدليل الذي دل على حجية
الأمارة في الأحكام هو نفسه دل على حجيتها في الموضوعات بلسان

(1) نسبه في أجود التقريرات (ج 2 ص 67) إلى جماعة من العدلية. وراجع فرائد الأصول:
ج 1 ص 43، فوائد الأصول: ج 3 ص 95.
310

واحد في الجميع، لا أن القول بالموضوعية هنا يقتضي محذور التصويب
المجمع على بطلانه عند الإمامية كالأمارة في الأحكام.
وعليه، فالأمارة في الموضوعات أيضا لا تقتضي الإجزاء بلا فرق
بينها وبين الأمارة في الأحكام.
2 - الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا:
لاشك في أن العمل بالأصل إنما يصح إذا فقد المكلف الدليل
الاجتهادي على الحكم. فيرجع إليه باعتباره وظيفة للجاهل لابد منها
للخروج من الحيرة.
فالأصل - في حقيقته - وظيفة للجاهل الشاك ينتهي إليه في مقام
العمل، إذ لا سبيل له غير ذلك لرفع الحيرة وعلاج حالة الشك.
ثم إن الأصل على قسمين:
1 - أصل عقلي، والمراد منه ما يحكم به العقل ولا يتضمن جعل حكم
ظاهري من الشارع، كالاحتياط، وقاعدة التخيير، والبراءة العقلية التي
مرجعها إلى حكم العقل بنفي العقاب بلا بيان، فهي لا مضمون لها إلا رفع
العقاب، لاجعل حكم بالإباحة من الشارع.
2 - أصل شرعي، وهو المجعول من الشارع في مقام الشك والحيرة،
فيتضمن جعل حكم ظاهري، كالاستصحاب، والبراءة الشرعية التي
مرجعها إلى حكم الشارع بالإباحة. ومثلها أصالة الطهارة والحلية.
إذا عرفت ذلك، فنقول:
أولا: أن بحث الإجزاء لا يتصور في قاعدة الاحتياط مطلقا سواء
كانت عقلية أو شرعية، لأن المفروض في الاحتياط هو العمل بما يحقق
امتثال التكليف الواقعي فلا يتصور فيه تفويت المصلحة.
311

وثانيا: كذلك لا يتصور بحث الإجزاء في الأصول العقلية الأخرى
كالبراءة وقاعدة التخيير، لأ نهى حسب الفرض لا تتضمن حكما ظاهريا
حتى يتصور فيها الإجزاء والاكتفاء بالمأتي به عن الواقع، بل إن مضمونها
هو سقوط العقاب والمعذورية المجردة.
وعليه، فينحصر البحث في خصوص الأصول الشرعية عدا الاحتياط،
كالاستصحاب، وأصالة البراءة والحلية، وأصالة الطهارة.
وهي لأول وهلة لا مجال لتوهم الإجزاء فيها لا في الأحكام ولا في
الموضوعات، فإنها أولى من الأمارات في عدم الإجزاء، باعتبار أنها - كما
ذكرنا في صدر البحث - وظيفة عملية يرجع إليها الجاهل الشاك لرفع
الحيرة في مقام العمل والعلاج الوقتي. أما الواقع فهو على واقعيته، فيتنجز
حين العلم به وانكشافه، ولا مصلحة في العمل بالأصل غير رفع الحيرة
عند الشك، فلا يتصور فيه مصلحة وافية يتدارك بها مصلحة الواقع حتى
يقتضي الإجزاء والاكتفاء به عن الواقع.
ولذا أفتى علماؤنا المتقدمون بعدم الإجزاء في الأصول العملية (1).
ومع هذا، فقد قال قوم من المتأخرين بالإجزاء، منهم شيخنا صاحب
الكفاية (2) وتبعه تلميذه استاذنا الشيخ محمد حسين الإصفهاني (3). ولكن
ذلك في خصوص الأصول الجارية لتنقيح موضوع التكليف وتحقيق
متعلقه، كقاعدة الطهارة وأصالة الحلية واستصحابهما، دون الأصول
الجارية في نفس الأحكام.
ومنشأ هذا الرأي عنده اعتقاده بأن دليل الأصل في موضوعات
الأحكام موسع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر في موضوع التكليف

(1) لم نتوفق للفحص عن موارد فتاويهم.
(2) كفاية الأصول: ص 110.
(3) نهاية الدراية: ج 1 ص 392 - 393.
312

ومتعلقه بأن يكون مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر " (1)
يدل على أن كل شئ قبل العلم بنجاسته محكوم بالطهارة، والحكم
بالطهارة حكم بترتيب آثارها وإنشاء لأحكامها التكليفية والوضعية التي
منها الشرطية، فتصح الصلاة بمشكوك الطهارة كما تصح بالطاهر الواقعي.
ويلزم من ذلك أن يكون الشرط في الصلاة - حقيقة - أعم من الطهارة
الواقعية والطهارة الظاهرية.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا انكشف الخلاف لا يكون ذلك موجبا
لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل يكون بالنسبة إليه من قبيل ارتفاعه من
حين ارتفاع الجهل. فلا يتصور حينئذ معنى لعدم الإجزاء بالنسبة إلى ما
أتى به حين الشك، والمفروض أن ما أتى به يكون واجدا لشرطه المعتبر
فيه تحقيقا، باعتبار أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية
حين الجهل، فلا يكون فيه انكشاف للخلاف ولا فقدان للشرط.
وقد ناقشه شيخنا الميرزا النائيني بعدة مناقشات (2) يطول ذكرها ولا
يسعها هذا المختصر. والموضوع من المباحث الدقيقة التي هي فوق
مستوى كتابنا.
3 - الإجزاء في الأمارات والأصول مع انكشاف الخطأ بحجة معتبرة:
وهذه أهم مسألة في الإجزاء من جهة عموم البلوى بها للمكلفين،
فإن المجتهدين كثيرا ما يحصل لهم تبدل في الرأي بما يوجب فساد
أعمالهم السابقة ظاهرا، وبتبعهم المقلدون لهم. والمقلدون أيضا قد ينتقلون
من تقليد شخص إلى تقليد شخص آخر يخالف الأول في الرأي بما
يوجب فساد الأعمال السابقة.

(1) الوسائل: ج 2 ص 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات ح 4.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 249.
313

فنقول في هذه الأحوال:
إنه بعد قيام الحجة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلى المجتهد أو المقلد،
لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة غير المرتبطة بالوقائع
السابقة.
ولا إشكال - أيضا - في مضي الوقائع السابقة التي لا يترتب عليها أثر
أصلا في الزمن اللاحق.
وإنما الإشكال في الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة، مثل ما لو
انكشف الخطأ اجتهادا أو تقليدا في وقت العبادة وقد عمل بمقتضى
الحجة السابقة، أو انكشف الخطأ في خارج الوقت وكان عمله مما يقضى
كالصلاة. ومثل ما لو تزوج زوجة بعقد غير عربي اجتهادا أو تقليدا ثم
قامت الحجة عنده على اعتبار اللفظ العربي والزوجة لا تزال موجودة.
فإن المعروف في الموضوعات الخارجية عدم الإجزاء.
أما في الأحكام فقد قيل بقيام الإجماع على الإجزاء لا سيما في
الأمور العبادية كالمثال الأول المتقدم.
ولكن العمدة في الباب أن نبحث عن القاعدة ماذا تقتضي هنا؟ هل
تقتضي الإجزاء أو لا تقتضيه؟ والظاهر أنها لا تقتضي الإجزاء.
وخلاصة ما ينبغي أن يقال: إن من يدعي الإجزاء لابد أن يدعي أن
المكلف لا يلزمه في الزمان اللاحق إلا العمل على طبق الحجة الأخيرة
التي قامت عنده. وأما عمله السابق فقد كان على طبق حجة ماضية عليه
في حينها.
ولكن يقال له: إن التبدل الذي حصل له إما أن يدعي أنه تبدل في
الحكم الواقعي أو تبدل في الحجة عليه. ولا ثالث لهما.
أما دعوى التبدل في الحكم الواقعي فلا إشكال في بطلانها، لأ نهى
314

تستلزم القول بالتصويب. وهو ظاهر.
وأما دعوى التبدل في الحجة، فإن أراد أن الحجة الأولى هي حجة
بالنسبة إلى الأعمال السابقة وبالنظر إلى وقتها فقط، فهذا لا ينفع في
الإجزاء بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة. وإن أراد أن
الحجة الأولى هي حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار
الأعمال السابقة، فالدعوى باطلة قطعا، لأ أنه في تبدل الاجتهاد ينكشف
بحجة معتبرة أن المدرك السابق لم يكن حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى
أعماله اللاحقة، أو أنه تخيله حجة وهو ليس بحجة، لا أن المدرك الأول
حجة مطلقا وهذا الثاني حجة أخرى.
وكذلك الكلام في تبدل التقليد، فإن مقتضى التقليد الثاني هو
انكشاف بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليد الأول، فلابد من ترتيب
الأثر على طبق الحجة الفعلية، فإن الحجة السابقة - أي التقليد الأول - كلا
حجة بالنسبة إلى الآثار اللاحقة وإن كانت حجة عليه في وقته،
والمفروض عدم التبدل في الحكم الواقعي فهو باق على حاله. فيجب
العمل على طبق الحجة الفعلية وما تقتضيه. فلا إجزاء إلا إذا ثبت الإجماع
عليه.
وتفصيل الكلام في هذا الموضوع يحتاج إلى سعة من القول فوق
مستوى هذا المختصر.
تنبيه في تبدل القطع
لو قطع المكلف بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ثم بان له يقينا
خطؤه، فإنه لا ينبغي الشك في عدم الإجزاء. والسر واضح، لأ أنه عند
القطع الأول لم يفعل ما يستوفي مصلحة الواقع بأي وجه من وجوه
315

الاستيفاء، فكيف يسقط التكليف الواقعي؟ لأ أنه في الحقيقة لا أمر موجه
إليه وإنما كان يتخيل الأمر.
وعليه، فيجب امتثال الواقع في الوقت أداء وفي خارجه قضاء.
نعم، لو أن العمل الذي قطع بوجوبه كان من باب الاتفاق محققا
لمصلحة الواقع فإنه لابد أن يكون مجزئا. ولكن هذا أمر آخر اتفاقي ليس
من جهة كونه مقطوع الوجوب.
* * *
316

المسألة الثانية
مقدمة الواجب
تحرير النزاع:
كل عاقل يجد من نفسه أنه إذا وجب عليه شئ وكان حصوله
يتوقف على مقدمات، فإنه لابد له من تحصيل تلك المقدمات ليتوصل إلى
فعل ذلك الشئ بها.
وهذا الأمر بهذا المقدار ليس موضعا للشك والنزاع. وإنما الذي وقع
موضعا للشك وجرى فيه النزاع عند الأصوليين هو أن هذه اللابدية
العقلية للمقدمة التي لا يتم الواجب إلا بها هل يستكشف منها اللابدية
شرعا أيضا؟ يعني أن الواجب هل يلزم عقلا من وجوبه الشرعي وجوب
مقدمته شرعا؟
أو فقل على نحو العموم: كل فعل واجب عند مولى من الموالي هل
يلزم منه عقلا وجوب مقدمته أيضا عند ذلك المولى؟
وبعبارة رابعة أكثر وضوحا: إن العقل لاشك يحكم بوجوب مقدمة
الواجب - أي يدرك لزومها - ولكن هل يحكم أيضا بأنها واجبة أيضا
عند من أمر بما يتوقف عليها؟
317

وعلى هذا البيان، فالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هي موضع
البحث في هذه المسألة.
مقدمة الواجب من أي قسم من المباحث الأصولية؟
وإذا اتضح ما تقدم في تحرير النزاع نستطيع أن نفهم أنه في أي قسم
من أقسام المباحث الأصولية ينبغي أن تدخل هذه المسألة. وتوضيح ذلك:
إن هذه الملازمة - على تقدير القول بها - تكون على أنحاء ثلاثة: إما
ملازمة غير بينة، أو بينة بالمعنى الأعم، أو بينة بالمعنى الأخص (1).
فإن كانت هذه الملازمة - في نظر القائل بها - غير بينة أو بينة بالمعنى
الأعم، فإثبات اللازم - وهو وجوب المقدمة شرعا - لا يرجع إلى دلالة
اللفظ أبدا بل إثباته إنما يتوقف على حجية هذا الحكم العقلي بالملازمة.
وإذا تحققت هناك دلالة فهي من نوع دلالة الإشارة (2). وعلى هذا فيجب أن
تدخل المسألة في بحث الملازمات العقلية غير المستقلة، ولا يصح
إدراجها في مباحث الألفاظ.
وإن كانت هذه الملازمة - في نظر القائل بها - ملازمة بينة بالمعنى
الأخص، فإثبات اللازم يكون لا محالة بالدلالة اللفظية، وهي الدلالة
الالتزامية خاصة. والدلالة الالتزامية من الظواهر التي هي حجة.
ولعله لأجل هذا أدخلوا هذه المسألة في مباحث الألفاظ وجعلوها
من مباحث الأوامر بالخصوص. وهم على حق في ذلك إذا كان القائل

(1) راجع عن معنى الملازمة وأقسامها الثلاثة الجزء الأول من المنطق للمؤلف ص 104 من
طبعتنا الحديثة. (*)
راجع دلالة الإشارة الجزء الأول ص 188، فإنه ذكرنا هناك أن دلالة الإشارة ليست من
الظواهر، فلا تدخل في حجية الظهور، وإنما حجيتها - على تقديره - من باب الملازمة
العقلية.
318

بالملازمة لا يقول بها إلا لكونها ملازمة بينة بالمعنى الأخص. ولكن الأمر
ليس كذلك.
إذن، يمكننا أن نقول: إن هذه المسألة ذات جهتين باختلاف الأقوال
فيها، يمكن أن تدخل في مباحث الألفاظ على بعض الأقوال، ويمكن أن
تدخل في الملازمات العقلية على البعض الآخر.
ولكن لأجل الجمع بين الجهتين ناسب إدخالها في الملازمات العقلية
- كما صنعنا - لأن البحث فيها على كل حال في ثبوت الملازمة، غاية
الأمر أنه على أحد الأقوال تدخل صغرى لحجية الظهور كما تدخل
صغرى لحجية العقل. وعلى القول الآخر تتمحض في الدخول صغرى
لحجية العقل. والجامع بينهما هو جعلها صغرى لحجية العقل.
ثمرة النزاع:
إن ثمرة النزاع المتصورة - أولا وبالذات - لهذه المسألة هي استنتاج
وجوب المقدمة شرعا بالإضافة إلى وجوبها العقلي الثابت. وهذا المقدار
كاف في ثمرة المسألة الأصولية، لأن المقصود من علم الأصول هو
الاستعانة بمسائله على استنباط الأحكام من أدلتها.
ولكن هذه ثمرة غير عملية، باعتبار أن المقدمة بعد فرض وجوبها
العقلي ولابدية الإتيان بها لا فائدة في القول بوجوبها شرعا أو بعدم
وجوبها، إذ لا مجال للمكلف أن يتركها بحال ما دام هو بصدد امتثال ذي
المقدمة.
وعليه، فالبحث عن هذه المسألة لا يكون بحثا عمليا مفيدا، بل يبدو
لأول وهلة أنه لغو من القول لا طائل تحته، مع أن هذه المسألة من أشهر
مسائل هذا العلم وأدقها وأكثرها بحثا.
ومن أجل هذا أخذ بعض الأصوليين المتأخرين يفتشون عن فوائد
319

عملية لهذا البحث غير ثمرة أصل الوجوب. وفي الحقيقة أن كل ما ذكروه
من ثمرات لا تسمن ولا تغني من جوع. راجع عنها المطولات إن شئت (1).
فيا ترى هل كان البحث عنها كله لغوا؟ وهل من الأصح أن نترك
البحث عنها؟ نقول: لا!
إن للمسألة فوائد علمية كثيرة إن لم تكن لها فوائد عملية، ولا يستهان
بتلك الفوائد كما سترى. ثم هي ترتبط، بكثير من المسائل ذات الشأن
العملي في الفقه، كالبحث عن الشرط المتأخر، والمقدمات المفوتة،
وعبادية بعض المقدمات كالطهارات الثلاث مما لا يسع الأصولي أن
يتجاهلها ويغفلها. وهذا كله ليس بالشئ القليل وإن لم تكن هي من
المسائل الأصولية.
ولذا تجد أن أهم مباحث مسألتنا هي هذه الأمور المنوه عنها
وأمثالها. أما نفس البحث عن أصل الملازمة فيكاد يكون بحثا على
الهامش، بل آخر ما يشغل بال الأصوليين.
هذا، ونحن اتباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل
المسألة في أمور تسعة:
- 1 -
الواجب النفسي والغيري
تقدم في الجزء الأول (ص 124) معنى الواجب النفسي والغيري،
ويجب توضيحهما الآن، فإنه هنا موضع الحاجة لبحثهما، لأن الوجوب
الغيري هو نفس وجوب المقدمة على تقدير القول بوجوبها.

(1) راجع الفصول الغروية: ص 116، مطارح الأنظار: ص 18.
320

وعليه، فنقول في تعريفهما:
الواجب النفسي: ما وجب لنفسه، لا لواجب آخر.
الواجب الغيري: ما وجب... لواجب آخر.
وهذان التعريفان أسد التعريفات لهما وأحسنها، ولكن يحتاجان إلى
بعض من التوضيح:
فإن قولنا (1): " ما وجب لنفسه " قد يتوهم منه المتوهم لأول نظرة أن
العبارة تعطي أن معناها أن يكون وجوب الشئ علة لنفسه في الواجب
النفسي، وذلك بمقتضى المقابلة لتعريف الواجب الغيري، إذ يستفاد منه أن
وجوب الغير علة لوجوبه كما عليه المشهور. ولا شك في أن هذا محال
في الواجب النفسي، إذ كيف يكون الشئ علة لنفسه؟
ويندفع هذا التوهم بأدنى تأمل، فإن ذلك التعبير عن الواجب النفسي
صحيح لا غبار عليه، وهو نظير تعبيرهم عن الله تعالى بأنه " واجب
الوجود لذاته " فإن غرضهم منه أن وجوده ليس مستفادا من الغير ولا
لأجل الغير كالممكن، لا أن معناه أنه معلول لذاته. وكذلك هنا نقول في
الواجب النفسي، فإن معنى " ما وجب لنفسه " أن وجوبه غير مستفاد من
الغير ولا لأجل الغير في قبال الواجب الغيري الذي وجوبه لأجل الغير،
لا أن وجوبه مستفاد من نفسه.
وبهذا يتضح معنى تعريف الواجب الغيري " ما وجب لواجب آخر "
فإن معناه: أن وجوبه لأجل الغير وتابع للغير، لكونه مقدمة لذلك الغير
الواجب. وسيأتي في البحث الآتي توضيح معنى التبعية هذه ليتجلى لنا
المقصود من الوجوب الغيري في الباب.

(1) في ط الأولى بدل " فإن قولنا ": فنقول.
321

- 2 -
معنى التبعية في الوجوب الغيري
قد شاع في تعبيراتهم كثيرا قولهم: " إن الواجب الغيري تابع في
وجوبه لوجوب غيره ". ولكن هذا التعبير مجمل جدا، لأن التبعية في
الوجوب يمكن أن تتصور لها معاني أربعة، فلابد من بيانها وبيان المعنى
المقصود منها هنا، فنقول:
1 - أن يكون معنى " الوجوب التبعي " هو الوجوب بالعرض، ومعنى
ذلك: أنه ليس في الواقع إلا وجوب واحد حقيقي - وهو الوجوب النفسي
- ينسب إلى ذي المقدمة أولا وبالذات وإلى المقدمة ثانيا وبالعرض،
وذلك نظير الوجود بالنسبة إلى اللفظ والمعنى حينما يقال: " المعنى
موجود باللفظ " فإن المقصود بذلك أن هناك وجودا واحدا حقيقيا ينسب
إلى اللفظ أولا وبالذات وإلى المعنى ثانيا وبالعرض.
ولكن هذا الوجه من التبعية لا ينبغي أن يكون هو المقصود من التبعية
هنا، لأن المقصود من " الوجوب الغيري " وجوب حقيقي آخر يثبت
للمقدمة غير وجوب ذيها النفسي، بأن يكون لكل من المقدمة وذيها
وجوب قائم به حقيقة. ومعنى التبعية في هذا الوجه أن الوجوب الحقيقي
واحد ويكون الوجوب الثاني وجوبا مجازيا. على أن هذا الوجوب
بالعرض ليس وجوبا يزيد على اللابدية العقلية للمقدمة حتى يمكن
فرض النزاع فيه نزاعا عمليا.
2 - أن يكون معنى " التبعية " صرف التأخر في الوجود، فيكون ترتب
الوجوب الغيري على الوجوب النفسي نظير ترتب أحد الوجودين
المستقلين على الآخر، بأن يفرض البعث الموجه للمقدمة بعثا مستقلا
ولكنه بعد البعث نحو ذيها مرتب عليه في الوجود، فيكون من قبيل الأمر
322

بالحج المرتب وجودا على حصول الاستطاعة، ومن قبيل الأمر بالصلاة
بعد حصول البلوغ أو دخول الوقت.
ولكن هذا الوجه من التبعية أيضا لا ينبغي أن يكون هو المقصود هنا،
فإنه لو كان ذلك هو المقصود لكان هذا الوجوب للمقدمة - في الحقيقة -
وجوبا نفسيا آخر في مقابل وجوب ذي المقدمة وإنما يكون وجوب ذي
المقدمة له السبق في الوجود فقط. وهذا ينافي حقيقة المقدمية، فإنها لا
تكون إلا موصلة إلى ذي المقدمة في وجودها وفي وجوبها معا.
3 - أن يكون معنى " التبعية " ترشح الوجوب الغيري من الوجوب
النفسي لذي المقدمة على وجه يكون معلولا له ومنبعثا منه انبعاث الأثر
من مؤثره التكويني، كانبعاث الحرارة من النار.
وكأن هذا الوجه من التبعية هو المقصود للقوم، ولذا قالوا بأن وجوب
المقدمة تابع لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا لمكان هذه المعلولية، لأن
المعلول لا يتحقق إلا حيث تتحقق علته وإذا تحققت العلة لابد من تحققه
بصورة (1) لا يتخلف عنها. وأيضا عللوا امتناع وجوب المقدمة قبل
وجوب ذيها بامتناع وجود المعلول قبل وجود علته.
ولكن هذا الوجه لا ينبغي أن يكون هو المقصود من تبعية الوجوب
الغيري وإن اشتهر على الألسنة، لأن الوجوب النفسي لو كان علة
للوجوب الغيري فلا يصح فرضه إلا علة فاعلية تكوينية دون غيرها من
العلل، فإنه لا معنى لفرضه علة صورية أو مادية أو غائية. ولكن فرضه
علة فاعلية أيضا باطل جزما، لوضوح أن العلة الفاعلية الحقيقية للوجوب
هو الآمر، لأن الأمر فعل الآمر.
والظاهر أن السبب في اشتهار معلولية الوجوب الغيري هو أن شوق

(1) لم ترد " بصورة " في ط الأولى.
323

الآمر للمقدمة هو الذي يكون منبعثا من الشوق إلى ذي المقدمة، لأن
الإنسان إذا اشتاق إلى فعل شئ اشتاق بالتبع إلى فعل كل ما يتوقف عليه.
ولكن الشوق إلى فعل الشئ من الغير ليس هو الوجوب وإنما الشوق إلى
فعل الغير يدفع الآمر إلى الأمر به إذا لم يحصل ما يمنع من الأمر به، فإذا
صدر منه الأمر وهو أهل له انتزع منه الوجوب.
والحاصل: ليس الوجوب الغيري معلولا للوجوب النفسي في ذي
المقدمة ولا ينتهي إليه في سلسلة العلل، وإنما ينتهي الوجوب الغيري في
سلسلة علله إلى الشوق إلى ذي المقدمة إذا لم يكن هناك مانع لدى الآمر
من الأمر بالمقدمة، لأن الشوق - على كل حال - ليس علة تامة إلى فعل
ما يشتاق إليه. فتذكر هذا، فإنه سينفعك في وجوب المقدمة المفوتة، وفي
أصل وجوب المقدمة، فإنه بهذا البيان سيتضح كيف يمكن فرض وجوب
المقدمة المفوتة قبل وجوب ذيها. وبهذا البيان سيتضح أيضا كيف أن
المقدمة مطلقا ليست واجبة بالوجوب المولوي.
4 - أن يكون معنى " التبعية " هو ترشح الوجوب الغيري من الوجوب
النفسي، ولكن لا بمعنى أنه معلول له، بل بمعنى أن الباعث للوجوب
الغيري - على تقدير القول به - هو الواجب النفسي باعتبار أن الأمر
بالمقدمة والبعث نحوها إنما هو لغاية التوصل إلى ذيها الواجب وتحصيله،
فيكون وجوبها وصلة وطريقا إلى تحصيل ذيها، ولولا أن ذيها كان مرادا
للمولى لما أوجب المقدمة. ويشير إلى هذا المعنى من التبعية تعريفهم
للواجب الغيري بأنه " ما وجب لواجب آخر " أي لغاية واجب آخر
ولغرض تحصيله والتوصل إليه، فيكون الغرض من وجوب المقدمة على
تقدير القول به هو تحصيل ذيها الواجب.
وهذا المعنى هو الذي ينبغي أن يكون معنى التبعية المقصودة في
324

الوجوب الغيري. ويلزمها أن يكون الوجوب الغيري تابعا لوجوبها إطلاقا
واشتراطا.
وعليه، فالوجوب الغيري وجوب حقيقي، ولكنه وجوب تبعي
توصلي آلي. وشأن وجوب المقدمة شأن نفس المقدمة، فكما أن المقدمة
بما هي مقدمة لا يقصد فاعلها إلا التوصل إلى ذيها كذلك وجوبها إنما هو
للتوصل إلى تحصيل ذيها، كالآلة الموصلة التي لا تقصد بالأصالة
والاستقلال.
وسر هذا واضح، فإن المولى - بناء على القول بوجوب المقدمة - إذا
أمر بذي المقدمة، فإنه لابد له لغرض تحصيله من المكلف أن يدفعه
ويبعثه نحو مقدماته فيأمره بها توصلا إلى غرضه.
فيكون البعث نحو المقدمة - على هذا - بعثا حقيقيا، لا أنه يتبع البعث
إلى ذيها على وجه ينسب إليها بالعرض (كما في الوجه الأول) ولا أنه
يبعثه ببعث مستقل لنفس المقدمة ولغرض فيها بعد البعث نحو ذيها (كما
في الوجه الثاني) ولا أن البعث نحو المقدمة من آثار البعث نحو ذيها على
وجه يكون معلولا له (كما في الوجه الثالث).
وسيأتي تتمة للبحث في المقدمات المفوتة.
- 3 -
خصائص الوجوب الغيري
بعد ما اتضح معنى التبعية في الوجوب الغيري تتضح لنا خصائصه
التي بها يمتاز عن الوجوب النفسي، وهي أمور:
1 - إن الواجب الغيري كما لا بعث استقلالي له - كما تقدم - لا إطاعة
استقلالية له، وإنما إطاعته كوجوبه لغرض التوصل إلى ذي المقدمة.
بخلاف الواجب النفسي، فإنه واجب لنفسه ويطاع لنفسه.
325

2 - إنه بعد أن قلنا: إنه لا إطاعة استقلالية للوجوب الغيري وإنما
إطاعته كوجوبه لصرف التوصل إلى ذي المقدمة فلابد ألا يكون له ثواب
على إطاعته (1) غير الثواب الذي يحصل على إطاعة وجوب ذي المقدمة،
كما لاعقاب على عصيانه غير العقاب على عصيان وجوب ذي المقدمة،
ولذا نجد أن من ترك الواجب بترك مقدماته لا يستحق أكثر من عقاب
واحد على نفس الواجب النفسي، لا أنه يستحق عقابات متعددة بعدد
مقدماته المتروكة.
وأما ما ورد في الشريعة من الثواب على بعض المقدمات، مثل ما ورد
من الثواب على المشي على القدم إلى الحج (2) أو زيارة الحسين (عليه السلام) وأنه
في كل خطوة كذا من الثواب (3) فينبغي - على هذا - أن يحمل على توزيع
ثواب نفس العمل على مقدماته باعتبار أن أفضل الأعمال أحمزها وكلما
كثرت مقدمات العمل وزادت صعوبتها كثرت حمازة العمل ومشقته،
فينسب الثواب إلى المقدمة مجازا ثانيا وبالعرض، باعتبار أنها السبب في
زيادة مقدار الحمازة والمشقة في نفس العمل، فتكون السبب في زيادة
الثواب، لا أن الثواب على نفس المقدمة.
ومن أجل أنه لا ثواب على المقدمة استشكلوا في استحقاق الثواب
على فعل بعض المقدمات كالطهارات الثلاث الظاهر منه أن الثواب

(*) يرى السيد الجليل المحقق الخوئي: أن المقدمة أمر قابل لأن يأتي به الفاعل مضافا به إلى
المولى، فيترتب على فعلها الثواب إذا أتى بها كذلك. ولا ملازمة عنده بين ترتب الثواب على
عمل وعدم استحقاق العقاب على تركه. ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة
وعدمه (1). وهو رأي وجيه باعتبار أن فعل المقدمة يعد شروعا في امتثال ذيها.
(2) الوسائل: ج 8 ص 529، الباب 117 من أبواب أحكام العشرة، ح 12.
(3) بحار الأنوار: ج 101 ص 90، ح 28 و 172، ح 23.
-
(1) راجع المحاضرات: ج 2 ص 404.
326

على نفس المقدمة بما هي. وسيأتي حله إن شاء الله تعالى.
3 - إن الوجوب الغيري لا يكون إلا توصليا، أي لا يكون في حقيقته
عباديا ولا يقتضي في نفسه عبادية المقدمة، إذ لا يتحقق فيه قصد
الامتثال على نحو الاستقلال كما قلنا في الخاصة الأولى أنه لا إطاعة
استقلالية له، بل إنما يؤتى بالمقدمة بقصد التوصل إلى ذيها وإطاعة أمر
ذيها، فالمقصود بالامتثال به نفس أمر ذيها.
ومن هنا استشكلوا في عبادية بعض المقدمات كالطهارات الثلاث.
وسيأتي حله إن شاء الله تعالى.
4 - إن الوجوب الغيري تابع لوجوب ذي المقدمة إطلاقا واشتراطا
وفعلية وقوة، قضاء لحق التبعية، كما تقدم. ومعنى ذلك: أنه كل ما هو
شرط في وجوب ذي المقدمة فهو شرط في وجوب المقدمة، وما ليس
بشرط لا يكون شرطا لوجوبها، كما أنه كلما تحقق وجوب ذي المقدمة
تحقق معه وجوب المقدمة. وعلى هذا قيل: يستحيل تحقق وجوب فعلي
للمقدمة قبل تحقق وجوب ذيها، لاستحالة حصول التابع قبل حصول
متبوعه، أو لاستحالة حصول المعلول قبل حصول علته، بناء على أن
وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها.
ومن هنا استشكلوا في وجوب المقدمة قبل زمان ذيها في المقدمات
المفوتة كوجوب الغسل - مثلا - قبل الفجر لإدراك الصوم على طهارة
حين طلوع الفجر، فعدم تحصيل الغسل قبل الفجر يكون مفوتا للواجب
في وقته، ولهذا سميت مقدمة مفوتة باعتبار أن تركها قبل الوقت يكون
مفوتا للواجب في وقته، فقالوا بوجوبها قبل الوقت مع أن الصوم لا يجب
قبل وقته، فكيف تفرض فعلية وجوب مقدمته؟
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - حل هذا الإشكال في بحث المقدمات
المفوتة.
327

- 4 -
مقدمة الوجوب
قسموا المقدمة إلى قسمين مشهورين:
1 - مقدمة الوجوب، وتسمى " المقدمة الوجوبية " وهي ما يتوقف
عليها نفس الوجوب، بأن تكون شرطا للوجوب على قول مشهور. وقيل:
إنها تؤخذ في الواجب على وجه تكون مفروضة التحقق والوجود على
قول آخر (1) ومع ذلك تسمى " مقدمة الوجوب ". ومثالها الاستطاعة
بالنسبة إلى الحج، وكالبلوغ والعقل والقدرة بالنسبة إلى جميع الواجبات.
ويسمى الواجب بالنسبة إليها " الواجب المشروط ".
2 - مقدمة الواجب، وتسمى " المقدمة الوجودية " وهي ما يتوقف
عليها وجود الواجب بعد فرض عدم تقييد الوجوب بها، بل يكون
الوجود (2) بالنسبة إليها مطلقا ولا تؤخذ بالنسبة إليه مفروضة الوجود، بل
لابد من تحصيلها مقدمة لتحصيله كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، والسفر
بالنسبة إلى الحج ونحو ذلك. ويسمى الواجب بالنسبة إليها " الواجب
المطلق ".
راجع عن الواجب المشروط والمطلق الجزء الأول (ص 134).
والمقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أن محل النزاع في مقدمة الواجب
هو خصوص القسم الثاني أعني المقدمة الوجودية، دون المقدمة
الوجوبية. والسر واضح، لأ أنه إذا كانت المقدمة الوجودية (3) مأخوذة على
أنها مفروضة الحصول فلا معنى لوجوب تحصيلها، فإنه خلف، فلا يجب
تحصيل الاستطاعة لأجل الحج، بل إن اتفق حصول الاستطاعة وجب

(1) راجع نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقق العراقي): ص 292 - 293.
(2) كذا في النسخ، والظاهر: الوجوب.
(3) كذا، والظاهر: الوجوبية.
328

الحج عندها. وذلك نظير الفوت في قوله (عليه السلام): " اقض ما فات كما فات " (1)
فإنه لا يجب تحصيله لأجل امتثال الأمر بالقضاء، بل إن اتفق الفوت
وجب القضاء.
- 5 -
المقدمة الداخلية
تنقسم المقدمة الوجودية إلى قسمين: داخلية، وخارجية.
1 - المقدمة الداخلية، هي جزء الواجب المركب، كالصلاة. وإنما
اعتبروا الجزء مقدمة فباعتبار أن المركب متوقف في وجوده على أجزائه،
فكل جزء في نفسه هو مقدمة لوجود المركب، كتقدم الواحد على الاثنين.
وانما سميت " داخلية " فلأجل أن الجزء داخل في قوام المركب، وليس
للمركب وجود مستقل غير نفس وجود الأجزاء.
2 - المقدمة الخارجية، وهي كل ما يتوقف عليه الواجب وله وجود
مستقل خارج عن وجود الواجب.
والغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أن النزاع في مقدمة الواجب
هل يشمل المقدمة الداخلية أو أن ذلك يختص بالخارجية؟
ولقد أنكر جماعة شمول النزاع للداخلية (2). وسندهم في هذا الإنكار
أحد أمرين:
الأول: إنكار المقدمية للجزء رأسا، باعتبار أن المركب نفس الأجزاء
بالأسر، فكيف يفرض توقف الشئ على نفسه؟

(1) التهذيب: ج 2 ص 274، ح 1087 وفيه: فاقض ذلك كما فاتك.
(2) نقله شارح المعالم عن محكي بعض الأفاضل، راجع هداية المسترشدين: ص 217. وقد
أنكره أيضا جمع من الأعلام، منهم المحقق الخراساني في كفاية الأصول: ص 115،
والمحقق النائيني على ما في فوائد الأصول: ج 1 ص 268، والمحقق العراقي على ما في
نهاية الأفكار: ج 1 ص 262.
329

الثاني: بعد تسليم أن الجزء مقدمة، ولكن يستحيل اتصافه بالوجوب
الغيري ما دام أنه واجب بالوجوب النفسي، لأن المفروض أنه جزء
الواجب بالوجوب النفسي، وليس المركب إلا أجزاءه بالأسر، فينبسط
الواجب على الأجزاء. وحينئذ لو وجب الجزء بالوجوب الغيري أيضا
لاتصف الجزء بالوجوبين.
وقد اختلفوا في بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبين، ولا يهمنا بيان
الوجه فيه بعد الاتفاق على الاستحالة.
ولما كان هذا البحث لا تتوقع منه فائدة عملية حتى مع فرض الفائدة
العملية في مسألة وجوب المقدمة، مع أنه بحث دقيق يطول الكلام حوله،
فنحن نطوي عنه صفحا محيلين الطالب إلى المطولات إن شاء.
- 6 -
الشرط الشرعي
إن المقدمة الخارجية تنقسم إلى قسمين: عقلية وشرعية.
1 - المقدمة العقلية، هي كل أمر يتوقف عليه وجود الواجب توقفا
واقعيا يدركه العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع، كتوقف الحج على
قطع المسافة.
2 - المقدمة الشرعية، هي كل أمر يتوقف عليه الواجب توقفا لا
يدركه العقل بنفسه، بل يثبت ذلك من طريق الشرع، كتوقف الصلاة على
الطهارة واستقبال القبلة ونحوهما. ويسمى هذا الأمر أيضا " الشرط
الشرعي " باعتبار أخذه شرطا وقيدا في المأمور به عند الشارع، مثل
قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (1) المستفاد منه شرطية الطهارة للصلاة.

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 1 ص 33، ح 67.
330

والغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أن النزاع في مقدمة الواجب هل
يشمل الشرط الشرعي؟
ولقد ذهب بعض أعاظم مشايخنا - على ما يظهر من بعض تقريرات
درسه (1) - إلى أن الشرط الشرعي كالجزء لا يكون واجبا بالوجوب
الغيري، وسماه " مقدمة داخلية بالمعنى الأعم " باعتبار أن التقييد لما كان
داخلا في المأمور به وجزءا له (2) فهو واجب بالوجوب النفسي. ولما كان
انتزاع التقييد إنما يكون من القيد - أي منشأ انتزاعه هو القيد - والأمر
بالعنوان المنتزع أمر بمنشأ انتزاعه، إذ لا وجود للعنوان المنتزع إلا بوجود
منشأ انتزاعه، فيكون الأمر النفسي المتعلق بالتقييد متعلقا بالقيد، وإذا كان
القيد واجبا نفسيا فكيف يكون مرة أخرى واجبا بالوجوب الغيري؟
ولكن هذا كلام لا يستقيم عند شيخنا المحقق الإصفهاني (رحمه الله) وقد
ناقشه في مجلس بحثه بمناقشات مفيدة (3) وهو على حق في مناقشاته.
أما أولا: فلأن هذا القيد - المفروض دخوله في المأمور به - لا يخلو
إما أن يكون دخيلا في أصل الغرض من المأمور به، وإما أن يكون دخيلا
في فعلية الغرض منه. ولا ثالث لهما.
فإن كان من قبيل الأول، فيجب أن يكون مأمورا به بالأمر النفسي،

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 225 و 263. (*)
إن الفرق بين الجزء والشرط: هو أنه في الجزء يكون التقييد (أ) والقيد معا داخلين في
المأمور به. وأما في الشرط فالتقييد فقط يكون داخلا والقيد يكون خارجا، يعني أن التقييد
يكون جزءا تحليليا للمأمور به، إذ يكون المأمور به - في المثال - هو الصلاة بما هي مقيدة
بالطهارة، أي أن المأمور به هو المركب من ذات الصلاة والتقييد بوصف الطهارة، فذات
الصلاة جزء تحليلي والتقييد جزء تحليلي آخر.
(3) الظاهر عدم ورود تلك المناقشات مفصلا في نهاية الدراية، انظر ج 2 ص 33.
-
(أ) كذا، والظاهر: التقيد. وهكذا فيما يأتي.
331

ولكن بمعنى أن متعلق الأمر لابد أن يكون الخاص بما هو خاص، وهو
المركب من المقيد والقيد، فيكون القيد والتقييد معا داخلين. والسر في
ذلك واضح، لأن الغرض يدعو بالأصالة إلى إرادة ما هو واف بالغرض وما
يفي بالغرض - حسب الفرض - هو الخاص بما هو خاص، أي المركب
من المقيد والقيد، لا أن الخصوصية تكون خصوصية في المأمور به
المفروغ عن كونه مأمورا به، لأن المفروض أن ذات المأمور به ذي
الخصوصية ليس وحده دخيلا في الغرض. وعلى هذا فيكون هذا القيد
جزءا من المأمور به كسائر أجزائه الأخرى، ولا فرق بين جزء وجزء في
كونه من جملة المقدمات الداخلية، فتسمية مثل هذا الجزء ب‍ " المقدمة
الداخلية بالمعنى الأعم " بلا وجه، بل هو مقدمة داخلية بقول مطلق، كما
لاوجه لتسميته بالشرط.
وإن كان من قبيل الثاني، فهذا هو شأن الشرط سواء كان شرطا
شرعيا أو عقليا ومثل هذا لا يعقل أن يدخل في حيز الأمر النفسي، لأن
الغرض - كما قلنا - لا يدعو بالأصالة إلا إلى إرادة ذات ما يفي بالغرض
ويقوم به في الخارج، وأما ما له دخل في تأثير السبب - أي في فعلية
الغرض - فلا يدعو إليه الغرض في عرض ذات السبب، بل الذي يدعو إلى
إيجاد شرط التأثير لابد أن يكون غرضا تبعيا يتبع الغرض الأصلي
وينتهي إليه.
ولا فرق بين الشرط الشرعي وغيره في ذلك، وإنما الفرق أن الشرط
الشرعي لما كان لا يعلم دخله في فعلية الغرض إلا من قبل المولى
كالطهارة والاستقبال ونحوهما بالنسبة إلى الصلاة، ولابد أن ينبه المولى
على اعتباره ولو بأن يأمر به، إما بالأمر المتعلق بالمأمور به - أي يأخذه
قيدا فيه - كأن يقول مثلا: " صل عن طهارة " أو بأمر مستقل كأن يقول
332

مثلا: " تطهر للصلاة " وعلى جميع الأحوال لا تكون الإرادة المتعلقة به في
عرض إرادة ذات السبب حتى يكون مأمورا به بالأمر النفسي، بل الإرادة
فيه تبعية، وكذا الأمر به.
فإن قلتم: على هذا يلزم سقوط الأمر المتعلق بذات السبب الواجب
إذا جاء به المكلف من دون الشرط. قلت: من لوازم الاشتراط عدم سقوط
الأمر بالسبب بفعله من دون شرطه، وإلا كان الاشتراط لغوا وعبثا.
وأما ثانيا: فلو سلمنا دخول التقييد في الواجب على وجه يكون
جزءا منه، فإن هذا لا يوجب أن يكون نفس القيد والشرط - الذي هو
حسب الفرض منشأ لانتزاع التقييد - مقدمة داخلية، بل هو مقدمة
خارجية، فإن وجود الطهارة - مثلا - يوجب حصول تقييد الصلاة بها،
فتكون مقدمة خارجية للتقييد الذي هو جزء حسب الفرض. وهذا يشبه
المقدمات الخارجية لنفس أجزاء المأمور به الخارجية، فكما أن مقدمة
الجزء ليست بجزء فكذلك مقدمة التقييد ليست جزءا.
والحاصل: أنه لما فرضتم في الشرط أن التقييد داخل وهو جزء
تحليلي فقد فرضتم معه أن القيد خارج، فكيف تفرضونه مرة أخرى أنه
داخل في المأمور به المتعلق بالمقيد؟
- 7 -
الشرط المتأخر
لاشك في أن من الشروط الشرعية: ما هو متقدم في وجوده زمانا
على المشروط، كالوضوء والغسل بالنسبة إلى الصلاة ونحوها، بناء على
أن الشرط نفس الأفعال لا أثرها الباقي إلى حين الصلاة.
ومنها: ما هو مقارن للمشروط في وجوده زمانا، كالاستقبال وطهارة
اللباس للصلاة.
333

وإنما وقع الشك في " الشرط المتأخر " أي أنه هل يمكن أن يكون
الشرط الشرعي متأخرا في وجوده زمانا عن المشروط أو لا يمكن؟
ومن قال بعدم إمكانه قاس الشرط الشرعي على الشرط العقلي، فإن
المقدمة العقلية يستحيل فيها أن تكون متأخرة عن ذي المقدمة، لأ أنه
لا يوجد الشئ إلا بعد فرض وجود علته التامة المشتملة على كل ما له
دخل في وجوده، لاستحالة وجود المعلول بدون علته التامة، وإذا وجد
الشئ فقد انتهى، فأ ية حاجة له تبقى إلى ما سيوجد بعد.
ومنشأ هذا الشك والبحث: ورود بعض الشروط الشرعية التي
ظاهرها تأخرها في الوجود عن المشروط، وذلك مثل الغسل الليلي
للمستحاضة الكبرى الذي هو شرط - عند بعضهم (1) - لصوم النهار السابق
على الليل. ومن هذا الباب إجازة بيع الفضولي بناء على أنها كاشفة عن
صحة البيع، لا ناقلة.
ولأجل ما ذكرنا من استحالة الشرط المتأخر في العقليات اختلف
العلماء في الشرط الشرعي اختلافا كثيرا جدا. فبعضهم ذهب إلى إمكان
الشرط المتأخر في الشرعيات (2) وبعضهم ذهب إلى استحالته (3) قياسا

(1) قال صاحب المدارك فيما علقه على قول المحقق: " وإن أخلت بالأغسال لم يصح
صومها ": واعلم أن إطلاق العبارة يقتضي أن إخلال المستحاضة بشئ من الأغسال مقتض
لفساد الصوم، وهو مشكل، وقيدها الشارحون بالأغسال النهارية وقطعوا بعدم توقف صوم
اليوم على غسل الليلة المستقبلة وترددوا في غسل الليلة الماضية، مدارك الأحكام: ج 2
ص 39.
(2) انظر كفاية الأصول: ص 118 - 120، فوائد الأصول ج 1 ص 272، نهاية الأفكار: ج 1
ص 279.
(3) الأصل في الاعتراض والإنكار على الشرط المتأخر هو جمال المحققين الخونساري في
حاشية الروضة على ما يظهر من كلام الشيخ الأنصاري في المكاسب في مسألة كاشفية
الإجازة، راجع المكاسب: ج 3 ص 408.
334

على الشرط العقلي كما ذكرنا آنفا. والذاهبون إلى الاستحالة أولوا ما ورد
في الشريعة بتأويلات كثيرة يطول شرحها.
وأحسن ما قيل في توجيه إمكان الشرط المتأخر في الشرعيات
ما عن بعض مشايخنا الأعاظم (قدس سره) في بعض تقريرات درسه (1). وخلاصته:
إن الكلام تارة يكون في شرط المأمور به، واخرى في شرط الحكم سواء
كان تكليفيا أم وضعيا.
أما في " شرط المأمور به " فإن مجرد كونه شرطا شرعيا للمأمور به
لا مانع منه، لأ أنه ليس معناه إلا أخذه قيدا في المأمور به على أن تكون
الحصة الخاصة من المأمور به هي المطلوبة. وكما يجوز ذلك في الأمر
السابق والمقارن فإنه يجوز في اللاحق بلا فرق. نعم، إذا رجع الشرط
الشرعي إلى شرط واقعي - كرجوع شرط الغسل الليلي للمستحاضة إلى
أنه رافع للحدث في النهار - فإنه يكون حينئذ واضح الاستحالة كالشرط
الواقعي بلا فرق.
وسر ذلك: أن المطلوب لما كان هو الحصة الخاصة من طبيعي
المأمور به فوجود القيد المتأخر لا شأن له إلا الكشف عن وجود تلك
الحصة في ظرف كونها مطلوبة، ولا محذور في ذلك. إنما المحذور في
تأثير المتأخر في المتقدم.
وأما في " شرط الحكم " سواء كان الحكم تكليفيا أم وضعيا، فإن
الشرط فيه معناه: أخذه مفروض الوجود والحصول في مقام جعل الحكم
وإنشائه، وكونه مفروض الوجود لا يفرق فيه بين أن يكون متقدما أو
مقارنا أو متأخرا، كأن يجعل الحكم في الشرط المتأخر على الموضوع
المقيد بقيد أخذ مفروض الوجود بعد وجود الموضوع.

(1) لم نتحقق المراد من بعض مشايخه باتا، راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 272 - 280.
335

ويتقرب ذلك إلى الذهن بقياسه على الواجب المركب التدريجي
الحصول، فإن التكليف في فعليته في الجزء الأول وما بعده يبقى مراعى
إلى أن يحصل الجزء الأخير من المركب، وقد بقيت إلى حين حصول
كمال الأجزاء شرائط التكليف: من الحياة والقدرة ونحوهما.
وهكذا يفرض الحال فيما نحن فيه، فإن الحكم في الشرط المتأخر
يبقى في فعليته مراعى إلى أن يحصل الشرط الذي اخذ مفروض
الحصول. فكما أن الجزء الأول من المركب التدريجي الواجب في فرض
حصول جميع الأجزاء يكون واجبا وفعلي الوجوب من أول الأمر لا أن
فعليته تكون بعد حصول جميع الأجزاء - وكذا باقي الأجزاء لا تكون
فعليتها بعد حصول الجزء الأخير بل حين حصولها ولكن في فرض
حصول الجميع - فكذلك ما نحن فيه يكون الواجب المشروط بالشرط
المتأخر فعلي الوجوب من أول الأمر في فرض حصول الشرط في ظرفه،
لا أن فعليته تكون متأخرة إلى حين الشرط.
هذا خلاصة رأي شيخنا المعظم. ولا يخلو عن مناقشة، والبحث عن
الموضوع بأوسع مما ذكرنا لا يسعه هذا المختصر.
- 8 -
المقدمات المفوتة
ورد في الشريعة المطهرة وجوب بعض المقدمات قبل زمان ذيها في
الموقتات، كوجوب قطع المسافة للحج قبل حلول أيامه، ووجوب الغسل
من الجنابة للصوم قبل الفجر، ووجوب الوضوء أو الغسل - على قول -
قبل وقت الصلاة عند العلم بعدم التمكن منه بعد دخول وقتها... وهكذا.
وتسمى هذه المقدمات باصطلاحهم " المقدمات المفوتة " باعتبار أن
تركها موجب لتفويت الواجب في وقته، كما تقدم.
336

ونحن نقول: لو لم يحكم الشارع المقدس بوجوب مثل هذه
المقدمات، فإن العقل يحكم بلزوم الإتيان بها، لأن تركها موجب لتفويت
الواجب في ظرفه، ويحكم أيضا بأن التارك لها يستحق العقاب على
الواجب في ظرفه بسبب تركها.
ولأول وهلة يبدو أن هذين الحكمين العقليين الواضحين لا ينطبقان
على القواعد العقلية البديهية في الباب من جهتين:
أما أولا: فلأن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها، على أي نحو فرض
من أنحاء التبعية، لا سيما إذا كان من نحو تبعية المعلول لعلته على ما هو
المشهور. فكيف يفرض الواجب (1) التابع في زمان سابق على زمان فرض
الوجوب المتبوع؟
وأما ثانيا: فلأ أنه كيف يستحق العقاب على ترك الواجب بترك مقدمته
قبل حضور وقته، مع أنه حسب الفرض لا وجوب له فعلا. وأما في ظرفه
فينبغي أن يسقط وجوبه، لعدم القدرة عليه بترك مقدمته والقدرة شرط
عقلي في الوجوب.
ولأجل التوفيق بين هاتيك البديهيات العقلية التي يبدو كأنها متعارضة
- وإن كان يستحيل التعارض في الأحكام العقلية وبديهيات العقل - حاول
جماعة من أعلام الأصوليين المتأخرين تصحيح ذلك بفرض انفكاك زمان
الوجوب عن زمان الواجب وتقدمه عليه، إما في خصوص الموقتات أو
في مطلق الواجبات، على اختلاف المسالك. وبذلك يحصل لهم التوفيق
بين تلكم الأحكام العقلية، لأ أنه حينما يفرض تقدم وجوب ذي المقدمة
على زمانه فلا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل وقت الواجب، وكان
استحقاق العقاب على ترك الواجب على القاعدة، لأن وجوبه كان فعليا
حين ترك المقدمة.

(1) في ط الأولى: الوجوب.
337

أما كيف يفرض تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب وبأي مناط؟
فهذا ما اختلف فيه الانظار والمحاولات.
فأول المحاولين لحل هذه الشبهة - فيما يبدو - صاحب الفصول
الذي قال بجواز تقدم زمان الوجوب على طريقة " الواجب المعلق " (1)
الذي اخترعه، كما أشرنا إليه في الجزء الأول (ص 136) وذلك في
خصوص الموقتات، بفرض أن الوقت في الموقتات وقت للواجب فقط،
لا للوجوب، أي أن الوقت ليس شرطا وقيدا للوجوب، بل هو قيد
للواجب. فالوجوب - على هذا الفرض - متقدم على الوقت ولكن
الواجب معلق على حضور وقته. والفرق بين هذا النوع وبين الواجب
المشروط هو أن التوقف في المشروط للوجوب وفي المعلق للفعل.
وعليه لا مانع من فرض وجوب المقدمة قبل زمان ذيها.
ولكن نقول: على تقدير إمكان فرض تقدم زمان الوجوب على زمان
الواجب، فإن فرض رجوع القيد إلى الواجب لا إلى الوجوب يحتاج إلى
دليل. ونفس ثبوت وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان وجوب ذيها لا
يكون وحده دليلا على ثبوت الواجب المعلق، لأن الطريق في تصحيح
وجوب المقدمة المفوتة لا ينحصر فيه، كما سيأتي بيان الطريق الصحيح.
والمحاولة الثانية: ما نسب إلى الشيخ الأنصاري من رجوع القيد في
جميع شرائط الوجوب إلى المادة (2) - وإن اشتهر القول برجوعها إلى الهيئة
- سواء كان الشرط هو الوقت أو غيره كالاستطاعة للحج والقدرة والبلوغ
والعقل ونحوها من الشرائط العامة لجميع التكاليف. ومعنى ذلك: أن
الوجوب الذي هو مدلول الهيئة في جميع الواجبات مطلق دائما غير مقيد
بشرط أبدا، وكل ما يتوهم من رجوع القيد إلى الوجوب فهو راجع في

(1) الفصول الغروية: ص 79 - 80.
(2) راجع مطارح الأنظار: ص 49.
338

الحقيقة إلى الواجب الذي هو مدلول المادة. غاية الأمر أن بعض القيود
مأخوذة في الواجب على وجه يكون مفروض الحصول والوقوع
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، ومثل هذا لا يجب تحصيله ويكون حكمه
حكم ما لو كان شرطا للوجوب. وبعضها لا يكون مأخوذا على وجه
يكون مفروض الحصول، بل يجب تحصيله توصلا إلى الواجب، لأن
الواجب يكون هو المقيد بما هو مقيد بذلك القيد.
وعلى هذا التصوير فالوجوب يكون دائما فعليا قبل مجئ وقته،
وشأنه في ذلك شأن الوجوب على القول بالواجب المعلق، لا فرق بينهما
في الموقتات بالنسبة إلى الوقت، فإذا كان الواجب استقباليا فلا مانع من
وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذيها.
والمحاولة الثالثة: ما نسب إلى بعضهم من أن الوقت شرط للوجوب،
لا للواجب كما في المحاولتين الأوليتين، ولكنه مأخوذ فيه على نحو
الشرط المتأخر (1). وعليه، فالوجوب يكون سابقا على زمان الواجب
نظير القول بالمعلق فيصح فرض وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذيها
لفعلية الوجوب قبل زمانه، فتجب مقدمته.
وكل هذه المحاولات مذكورة في كتب الأصول المطولة، وفيها
مناقشات وأبحاث طويلة لا يسعها هذا المختصر. ومع الغض عن المناقشة
في إمكانها في أنفسها لا دليل عليها إلا ثبوت وجوب المقدمة قبل زمان
ذيها، إذ كل صاحب محاولة منها يعتقد أن التخلص من إشكال وجوب
المقدمة قبل زمان ذيها ينحصر في المحاولة التي يتصورها، فالدليل الذي
يدل على وجوب المقدمة المفوتة قبل وقت الواجب لا محالة يدل عنده
على محاولته.

(1) تستفاد هذه المحاولة من كلام المحقق العراقي (قدس سره)، راجع نهاية الأفكار: ج 1 ص 298.
339

والذي أعتقده: أنه لا موجب لكل هذه المحاولات لتصحيح وجوب
المقدمة قبل زمان ذيها، فإن الصحيح - كما أفاده شيخنا الإصفهاني (رحمه الله) -
أن وجوب المقدمة ليس معلولا لوجوب ذيها ولا مترشحا منه، فليس
هناك إشكال في وجوب المقدمة المفوتة قبل زمان ذيها حتى نلتجئ إلى
إحدى هذه المحاولات لفك الإشكال. وكل هذه الشبهة إنما جاءت من
هذا الفرض، وهو فرض معلولية وجوب المقدمة لوجوب ذيها، وهو
فرض لا واقع له أبدا، وإن كان هذا القول يبدو غريبا على الأذهان
المشبعة بفرض أن وجوب ذي المقدمة علة لوجوب المقدمة، بل نقول
أكثر من ذلك: إنه يجب في المقدمة المفوتة أن يتقدم وجوبها على وجوب
ذيها إذا كنا نقول بأن مقدمة الواجب واجبة، وإن كان الحق - وسيأتي -
عدم وجوبها مطلقا.
بيان (1) عدم معلولية وجوب المقدمة لوجوب ذيها (2): إن الأمر في
الحقيقة هو فعل الآمر، سواء كان الأمر نفسيا أم غيريا، فالآمر هو العلة
الفاعلية له دون سواه. ولكن كل أمر إنما يصدر عن إرادة الآمر لأ أنه فعله
الاختياري والإرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إلى فعل المأمور به، أي أن
الآمر لابد أن يشتاق أولا إلى فعل الغير على أن يصدر من الغير، فإذا
اشتاقه لابد أن يدعو الغير ويدفعه ويحثه على الفعل فيشتاق إلى الأمر به.
وإذا لم يحصل مانع من الأمر فلا محالة يشتد الشوق إلى الأمر حتى يبلغ
الإرادة الحتمية، فيجعل الداعي في نفس الغير للفعل المطلوب، وذلك
بتوجيه الأمر نحوه.
هذا حال كل مأمور به، ومن جملته " مقدمة الواجب " فإنه إذا ذهبنا
إلى وجوبها من قبل المولى لابد أن نفرض حصول الشوق أولا في نفس

(1) في ط 2: ولبيان.
(2) في ط 2 زيادة: نذكر.
340

الآمر إلى صدورها من المكلف، غاية الأمر أن هذا الشوق تابع للشوق إلى
فعل ذي المقدمة ومنبثق منه، لأن المختار إذا اشتاق إلى تحصيل شئ
وأحبه اشتاق وأحب بالتبع كل ما يتوقف عليه ذلك الشئ على نحو
الملازمة بين الشوقين. وإذا لم يكن هناك مانع من الأمر بالمقدمات
حصلت لدى الآمر - ثانيا - الإرادة الحتمية التي تتعلق بالأمر بها، فيصدر
حينئذ الأمر.
إذا عرفت ذلك، فإنك تعرف أنه إذا فرض أن المقدمة متقدمة بالوجود
الزماني على ذيها على وجه لا يحصل ذوها في ظرفه وزمانه إلا إذا
حصلت هي قبل حلول زمانه - كما في أمثلة المقدمات المفوتة - فإنه
لاشك في أن الآمر يشتاقها أن تحصل في ذلك الزمان المتقدم، وهذا
الشوق بالنسبة إلى المقدمة يتحول إلى الإرادة الحتمية بالأمر، إذ لا مانع
من البعث نحوها حينئذ، والمفروض أن وقتها قد حان فعلا، فلابد أن يأمر
بها فعلا. أما ذو المقدمة فحسب الفرض لا يمكن البعث نحوه والأمر به
قبل وقته، لعدم حصول ظرفه، فلا أمر قبل الوقت وإن كان الشوق إلى
الأمر به حاصل حينئذ ولكن لا يبلغ مبلغ الفعلية لوجود المانع.
والحاصل: أن الشوق إلى ذي المقدمة والشوق إلى المقدمة حاصلان
قبل وقت ذي المقدمة، والشوق الثاني منبعث ومنبثق من الشوق الأول
ولكن الشوق إلى المقدمة يؤثر أثره ويصير إرادة حتمية لعدم وجود ما
يمنع من الأمر، دون الشوق إلى ذي المقدمة لوجود المانع من الأمر.
وعلى هذا، فتجب المقدمة المفوتة قبل وجوب ذيها ولا محذور فيه،
بل هو أمر لابد منه ولا يصح أن يقع غير ذلك.
ولا تستغرب ذلك، فإن هذا أمر مطرد حتى بالنسبة إلى أفعال الإنسان
نفسه، فإنه إذا اشتاق إلى فعل شئ اشتاق إلى مقدماته تبعا، ولما كانت
341

المقدمات متقدمة بالوجود زمانا على ذيها، فإن الشوق إلى المقدمات
يشتد حتى يبلغ درجة الإرادة الحتمية المحركة للعضلات فيفعلها، مع أن
ذي المقدمة لم يحن وقته بعد ولم تحصل له الإرادة الحتمية المحركة
للعضلات، وإنما يمكن أن تحصل له الإرادة الحتمية إذا حان وقته بعد طي
المقدمات.
فإرادة الفاعل التكوينية للمقدمة متقدمة زمانا على إرادة ذيها، وعلى
قياسها الإرادة التشريعية، فلابد أن تحصل (1) للمقدمة المتقدمة زمانا قبل
أن تحصل لذيها المتأخر زمانا، فيتقدم الوجوب الفعلي للمقدمة على
الوجوب الفعلي لذيها زمانا، على العكس مما اشتهر. ولا محذور فيه،
بل هو المتعين.
وهذا حال كل متقدم بالنسبة إلى المتأخر، فإن الشوق يصير شيئا
فشيئا قصدا وإرادة، كما في الأفعال التدريجية الوجود.
وقد تقدم معنى تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها فلا نعيد، وقلنا:
إنه ليس معناه معلوليته لوجوب ذي المقدمة وتبعيته له وجودا، كما اشتهر
على لسان الأصوليين.
فان قلت: إن وجوب المقدمة - كما سبق - تابع لوجوب ذي المقدمة
إطلاقا واشتراطا، ولا شك في أن الوقت - على الرأي المعروف - شرط
لوجوب ذي المقدمة، فيجب أن يكون أيضا وجوب المقدمة مشروطا به،
قضاء لحق التبعية.
قلت: إن الوقت على التحقيق ليس شرطا للوجوب بمعنى أنه دخيل
في مصلحة الأمر - كالاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج - وإن كان
دخيلا في مصلحة المأمور به، ولكنه لا يتحقق البعث قبله، فلابد أن يؤخذ

(1) أي: الإرادة التشريعية.
342

مفروض الوجوب (1) بمعنى عدم الدعوة إليه، لأ أنه غير اختياري للمكلف.
أما عدم تحقق وجوب الموقت قبل الوقت فلامتناع البعث قبل الوقت.
والسر واضح، لأن البعث حتى البعث الجعلي منه يلازم الانبعاث
إمكانا ووجودا، فإذا أمكن الانبعاث أمكن البعث وإلا فلا، وإذ يستحيل
الانبعاث قبل الوقت استحال البعث نحوه حتى الجعلي. ومن أجل هذا
نقول بامتناع الواجب المعلق، لأ أنه يلازم انفكاك الانبعاث عن البعث.
وهذا بخلاف المقدمة قبل وقت الواجب، فإنه يمكن الانبعاث نحوها
فلا مانع من فعلية البعث بالنظر إليها لو ثبت، فعدم فعلية الوجوب قبل
زمان الواجب إنما هو لوجود المانع، لا لفقدان الشرط، وهذا المانع
موجود في ذي المقدمة قبل وقته مفقود في المقدمة.
ويتفرع على هذا فرع فقهي، وهو: أنه حينئذ لا مانع في المقدمة
المفوتة العبادية كالطهارات الثلاث من قصد الوجوب في النية قبل وقت
الواجب لو قلنا بأن مقدمة الواجب واجبة.
والحاصل: أن العقل يحكم بلزوم الإتيان بالمقدمة المفوتة قبل وقت
ذيها ولا مانع عقلي من ذلك.
هذا كله من جهة إشكال انفكاك وجوب المقدمة عن وجوب ذيها.
وأما من جهة إشكال استحقاق العقاب على ترك الواجب بترك مقدمته مع
عدم فعلية وجوبه، فيعلم دفعه مما سبق، فإن التكليف بذي المقدمة
الموقت يكون تام الاقتضاء وإن لم يصر فعليا لوجود المانع وهو عدم
حضور وقته. ولا ينبغي الشك في أن دفع التكليف مع تمامية اقتضائه
تفويت لغرض المولى المعلوم الملزم. وهذا يعد ظلما في حقه وخروجا
عن زي الرقية وتمردا عليه، فيستحق عليه العقاب واللوم من هذه الجهة
وإن لم يكن فيه مخالفة للتكليف الفعلي المنجز.

(1) كذا، والظاهر: الوجود.
343

وهذا لا يشبه دفع مقتضى التكليف كعدم تحصيل الاستطاعة للحج،
فإن مثله لا يعد ظلما وخروجا عن زي الرقية وتمردا على المولى، لأ أنه
ليس فيه تفويت لغرض المولى المعلوم التام الاقتضاء. والمدار في
استحقاق العقاب هو تحقق عنوان " الظلم للمولى " القبيح عقلا.
- 9 -
المقدمة العبادية
ثبت بالدليل أن بعض المقدمات الشرعية لا تقع مقدمة إلا إذا وقعت
على وجه عبادي، وثبت أيضا ترتب الثواب عليها بخصوصها. ومثالها
منحصر في الطهارات الثلاث: الوضوء والغسل والتيمم.
وقد سبق في الأمر الثاني الإشكال فيها من جهتين: من جهة أن
الواجب الغيري لا يكون إلا توصليا، فكيف يجوز أن تقع المقدمة بما هي
مقدمة عبادة ومن جهة ثانية: أن الواجب الغيري بما هو واجب غيري لا
استحقاق للثواب عليه.
وفي الحقيقة أن هذا الإشكال ليس إلا إشكالا على أصولنا التي
أصلناها للواجب الغيري فنقع في حيرة في التوفيق بين ما فهمناه عن
الواجب الغيري وبين عبادية هذه المقدمات الثابتة عباديتها. وإلا فكون
هذه المقدمات عبادية يستحق الثواب عليها أمر مفروغ عنه لا يمكن رفع
اليد عنه.
فإذا، لابد لنا من تصحيح ما أصلناه في الواجب الغيري بتوجيه
عبادية المقدمة على وجه يلائم توصلية الأمر الغيري. وقد ذهبت الآراء
أشتاتا في توجيه ذلك.
ونحن نقول على الاختصار: إنه من المتيقن الذي لا ينبغي أن يتطرق
إليه الشك من أحد أن الصلاة - مثلا - ثبت من طريق الشرع توقف صحتها
344

على إحدى الطهارات الثلاث، ولكن لا تتوقف على مجرد أفعالها كيفما
اتفق وقوعها، بل إنما تتوقف على فعل الطهارة إذا وقع على الوجه
العبادي، أي إذا وقع متقربا به إلى الله تعالى. فالوضوء العبادي - مثلا - هو
الشرط وهو المقدمة التي تتوقف صحة الصلاة عليها.
وعليه، لابد أن يفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعلق الأمر الغيري
به، لأن الأمر الغيري - حسبما فرضناه - إنما يتعلق بالوضوء العبادي بما
هو عبادة، لا بأصل الوضوء بما هو. فلم تنشأ عباديته من الأمر الغيري
حتى يقال: إن عباديته لا تلائم توصلية الأمر الغيري، بل عباديته لابد أن
تكون مفروضة التحقق قبل فرض تعلق الأمر الغيري به. ومن هنا يصح
استحقاق الثواب عليه، لأ أنه عبادة في نفسه.
ولكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر، وهو أنه إذا كانت عبادية
الطهارات غير ناشئة من الأمر الغيري، فما هو الأمر المصحح لعباديتها؟
والمعروف أنه لا يصح فرض العبادة عبادة إلا بتعلق أمر بها ليمكن قصد
امتثاله، لأن قصد امتثال الأمر هو المقوم لعبادية العبادة عندهم. وليس لها
في الواقع إلا الأمر الغيري. فرجع الأمر بالأخير إلى الغيري لتصحيح
عباديتها.
على أنه يستحيل أن يكون الأمر الغيري هو المصحح لعباديتها،
لتوقف عباديتها - حينئذ - على سبق الأمر الغيري، والمفروض: أن الأمر
الغيري متأخر عن فرض عباديتها لأ أنه إنما تعلق بها بما هي عبادة، فيلزم
تقدم المتأخر وتأخر المتقدم. وهو خلف محال، أو دور على ما قيل.
وقد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه كثيرة.
وأحسنها فيما أرى - بناء على ثبوت الأمر الغيري أي وجوب مقدمة
الواجب، وبناء على أن عبادية العبادة لا تكون إلا بقصد الأمر المتعلق بها -
345

هو أن المصحح لعبادية الطهارات هو الأمر النفسي الاستحبابي لها في حد
ذاتها السابق على الأمر الغيري بها. وهذا الاستحباب باق حتى بعد فرض
الأمر الغيري، ولكن لا بحد الاستحباب الذي هو جواز الترك، إذ
المفروض أنه قد وجب فعلها فلا يجوز تركها، وليس الاستحباب إلا
مرتبة ضعيفة بالنسبة إلى الوجوب، فلو طرأ عليه الوجوب لا ينعدم، بل
يشتد وجوده، فيكون الوجوب استمرارا له كاشتداد السواد والبياض من
مرتبة ضعيفة إلى مرتبة أقوى، وهو وجود واحد مستمر. وإذا كان الأمر
كذلك فالأمر الغيري حينئذ يدعو إلى ما هو عبادة في نفسه، فليست
عباديتها متأتية من الأمر الغيري حتى يلزم الإشكال.
ولكن هذا الجواب - على حسنه - غير كاف بهذا المقدار من البيان
لدفع الشبهة. وسر ذلك: أنه لو كان المصحح لعباديتها هو الأمر
الاستحبابي النفسي بالخصوص لكان يلزم ألا تصح هذه المقدمات إلا إذا
جاء بها المكلف بقصد امتثال الأمر الاستحبابي فقط، مع أنه لا يفتي بذلك
أحد، ولا شك في أنها تقع صحيحة لو أتى بها بقصد امتثال أمرها الغيري،
بل بعضهم اعتبر قصده في صحتها بعد دخول وقت الواجب المشروط بها.
فنقول إكمالا للجواب: أنه ليس مقصود المجيب من كون استحبابها
النفسي مصححا لعباديتها أن المأمور به بالأمر الغيري هو الطهارة المأتي
بها بداعي امتثال الأمر الاستحبابي. كيف! وهذا المجيب قد فرض عدم
بقاء الاستحباب بحده بعد ورود الأمر الغيري، فكيف يفرض أن المأمور
به هو المأتي به بداعي امتثال الأمر الاستحبابي؟
بل مقصود المجيب: أن الأمر الغيري لما كان متعلقه هو الطهارة بما
هي عبادة، ولا يمكن أن تكون عباديتها ناشئة من نفس الأمر الغيري بما
هو أمر غيري، فلابد من فرض عباديتها لا من جهة الأمر الغيري وبفرض
346

سابق عليه، وليس هو إلا الأمر الاستحبابي النفسي المتعلق بها، وهذا
يصحح عباديتها قبل فرض تعلق الأمر الغيري بها، وإن كان حين توجه
الأمر الغيري لا يبقى ذلك الاستحباب بحده، وهو جواز الترك، ولكن
لا تذهب بذلك عباديتها، لأن المناط في عباديتها ليس جواز الترك كما
هو واضح، بل المناط مطلوبيتها الذاتية ورجحانها النفسي، وهي باقية بعد
تعلق الأمر الغيري.
وإذا صح تعلق الأمر الغيري بها بما هي عبادة واندكاك الاستحباب
فيه، بمعنى أن الأمر الغيري يكون استمرارا لتلك المطلوبية، فإنه حينئذ
لا يبقى إلا الأمر الغيري صالحا للدعوة إليها، ويكون هذا الأمر الغيري
نفسه أمرا عباديا، غاية الأمر أن عباديته لم تجئ من أجل نفس كونه أمرا
غيريا، بل من أجل كونه امتدادا لتلك المطلوبية النفسية وذلك الرجحان
الذاتي الذي حصل من ناحية الأمر الاستحبابي النفسي السابق.
وعليه، فينقلب الأمر الغيري عباديا، ولكنها عبادية بالعرض لا بالذات
حتى يقال: إن الأمر الغيري توصلي لا يصلح للعبادية.
ومن هنا لا يصح الإتيان بالطهارة بقصد الاستحباب بعد دخول الوقت
للواجب المشروط بها، لأن الاستحباب بحده قد اندك في الأمر الغيري
فلم يعد موجودا حتى يصح قصده.
نعم يبقى أن يقال: إن الأمر الغيري إنما يدعو إلى الطهارة الواقعة على
وجه العبادة، لأ أنه حسب الفرض متعلقه هو الطهارة بصفة العبادة، لا ذات
الطهارة، والأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به، فكيف صح أن يؤتى بذات
العبادة بداعي امتثال أمرها الغيري ولا أمر غيري بذات العبادة؟
ولكن ندفع هذا الإشكال بأن نقول: إذا كان الوضوء - مثلا - مستحبا
نفسيا فهو قابل لأن يتقرب به من المولى، وفعلية التقرب تتحقق بقصد
347

الأمر الغيري المندك فيه الأمر الاستحبابي. وبعبارة أخرى: قد فرضنا
الطهارات عبادات نفسية في مرتبة سابقة على الأمر الغيري المتعلق بها،
والأمر الغيري إنما يدعو إلى ذلك، فإذا جاء المكلف بها بداعي الأمر
الغيري المندك فيه الاستحباب - والمفروض ليس هناك أمر موجود
غيره - صح التقرب به ووقعت عبادة لا محالة، فيتحقق ما هو شرط
الواجب ومقدمته.
هذا كله بناء على ثبوت الأمر الغيري بالمقدمة، وبناء على أن مناط
عبادية العبادة هو قصد الأمر المتعلق بها.
وكلا المبنيين نحن لا نقول بهما.
أما الأول: فسيأتي في البحث الآتي الدليل على عدم وجوب مقدمة
الواجب، فلا أمر غيري أصلا.
وأما الثاني فلأن الحق أنه يكفي في عبادية الفعل ارتباطه بالمولى
والإتيان به متقربا إليه تعالى. غاية الأمر أن العبادات قد ثبت أنها توقيفية
فما لم يثبت رضا المولى بالفعل وحسن الانقياد وقصد وجه الله بالفعل لا
يصح الإتيان بالفعل عبادة بل يكون تشريعا محرما. ولا يتوقف ذلك على
تعلق أمر المولى بنفس الفعل على أن يكون أمرا فعليا من المولى، ولذا
قيل: يكفي في عبادية العبادة حسنها الذاتي ومحبوبيتها الذاتية للمولى
حتى لو كان هناك مانع من توجه الأمر الفعلي بها (1).
وإذا ثبت ذلك، فنقول في تصحيح عبادية الطهارات: إن فعل المقدمة
بنفسه يعد شروعا في امتثال ذي المقدمة الذي هو حسب الفرض في
المقام عبادة في نفسه مأمور بها.
فيكون الإتيان بالمقدمة بنفسه يعد امتثالا للأمر النفسي بذي المقدمة

(1) كفاية الأصول: ص 166، فوائد الأصول: ج 1 ص 315.
348

العبادي. ويكفي في عبادية الفعل كما قلنا ارتباطه بالمولى والإتيان به
متقربا إليه تعالى مع عدم ما يمنع من التعبد به. ولا شك في أن قصد
الشروع بامتثال الأمر النفسي بفعل مقدماته قاصدا بها التوصل إلى
الواجب النفسي العبادي يعد طاعة وانقيادا للمولى.
وبهذا تصحح عبادية المقدمة وإن لم نقل بوجوبها الغيري، ولا حاجة
إلى فرض طاعة الأمر الغيري.
ومن هنا يصح أن تقع كل مقدمة عبادة ويستحق عليها الثواب بهذا
الاعتبار وإن لم تكن في نفسها معتبرا فيها أن تقع على وجه العبادة،
كتطهير الثوب - مثلا - مقدمة للصلاة، أو كالمشي حافيا مقدمة للحج
أو الزيارة. غاية الأمر أن الفرق بين المقدمات العبادية وغيرها أن غير
العبادية لا يلزم فيها أن تقع على وجه قربي، بخلاف المقدمات المشروط
فيها أن تقع عبادة، كالطهارات الثلاث.
ويؤيد ذلك ما ورد من الثواب على بعض المقدمات (1). ولا حاجة إلى
التأويل الذي ذكرناه سابقا في الأمر الثالث من أن الثواب على ذي
المقدمة يوزع على المقدمات باعتبار دخالتها في زيادة حمازة الواجب،
فإن ذلك التأويل مبني على فرض ثبوت الأمر الغيري وأن عبادية المقدمة
واستحقاق الثواب عليها لا ينشئان إلا من جهة الأمر الغيري، اتباعا
للمشهور المعروف بين القوم.
فإن قلت: إن الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به، فلا يعقل أن يكون
الأمر بذي المقدمة داعيا بنفسه إلى المقدمة إلا إذا قلنا بترشح أمر آخر منه
بالمقدمة، فيكون هو الداعي، وليس هذا الأمر الآخر المترشح إلا الأمر
الغيري. فرجع الإشكال جذعا.

(1) راجع ص 326.
349

قلت: نعم، الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به، ولكنا لا ندعي أن الأمر
بذي المقدمة هو الذي يدعو إلى المقدمة، بل نقول: إن العقل هو الداعي
إلى فعل المقدمة توصلا إلى فعل الواجب. وسيأتي أن هذا الحكم العقلي
لا يستكشف منه ثبوت أمر غيري من المولى. ولا يلزم أن يكون هناك
أمر بنفس المقدمة لتصحيح عباديتها ويكون داعيا إليها.
والحاصل: أن الداعي إلى فعل المقدمة هو حكم العقل، والمصحح
لعباديتها شئ آخر هو قصد التقرب بها، ويكفي في التقرب بها إلى الله أن
يأتي بها بقصد التوصل إلى ما هو عبادة. لا أن الداعي إلى فعل المقدمة هو
نفس المصحح لعباديتها، ولا أن المصحح لعبادية العبادة منحصر في قصد
الأمر المتعلق بها. وقد سبق توضيح ذلك.
وعليه، فإن كانت المقدمة ذات الفعل - كالتطهير من الخبث - فالعقل
لا يحكم إلا بإتيانها على أي وجه وقعت. ولكن لو أتى بها المكلف متقربا
بها إلى الله توصلا إلى العبادة صح ووقعت على صفة العبادية واستحق
عليها الثواب. وإن كانت المقدمة عملا عباديا - كالطهارة من الحدث -
فالعقل يلزم بالإتيان بها كذلك، والمفروض أن المكلف متمكن من ذلك،
سواء كان هناك أمر غيري أم لم يكن، وسواء كانت المقدمة في نفسها
مستحبة أم لم تكن.
فلا إشكال من جميع الوجوه في عبادية الطهارات.
النتيجة:
مسألة مقدمة الواجب والأقوال فيها
بعد تقديم تلك التمهيدات التسعة نرجع إلى أصل المسألة، وهو البحث
عن وجوب مقدمة الواجب الذي قلنا: إنه آخر ما يشغل بال الأصوليين.
350

وقد عرفت في مدخل المسألة موضع البحث فيها، ببيان تحرير
النزاع. وهو - كما قلنا - الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، إذ قلنا:
إن العقل يحكم بوجوب مقدمة الواجب أي أنه يدرك لزومها، ولكن وقع
البحث في أنه هل يحكم أيضا بأن المقدمة واجبة أيضا عند من أمر بما
يتوقف عليها؟
لقد تكثرت الأقوال جدا في هذه المسألة على مرور الزمن نذكر
أهمها، ونذكر ما هو الحق منها. وهي:
1 - القول بوجوبها مطلقا (1).
2 - القول بعدم وجوبها مطلقا (2) (وهو الحق وسيأتي دليله).
3 - التفصيل بين السبب فلا يجب، وبين غيره كالشرط وعدم المانع
والمعد فيجب (3).
4 - التفصيل بين السبب وغيره أيضا، ولكن بالعكس، أي يجب
السبب دون غيره (4).
5 - التفصيل بين الشرط الشرعي فلا يجب بالوجوب الغيري باعتبار
أنه واجب بالوجوب النفسي نظير جزء الواجب، وبين غيره فيجب
بالوجوب الغيري. وهو القول المعروف عن شيخنا المحقق النائيني (5).

(1) لأكثر الأصوليين، القوانين: ج 1 ص 103.
(2) اختاره صاحب القوانين، ونسبه إلى الشهيد الثاني في تمهيد القواعد. (لكن لم نظفر به في
التمهيد) ونسبه المحقق الرشتي إلى ظاهر المعالم وصريح الإشارات، بدائع الأفكار:
ص 348.
(3) نسبه في القوانين إلى ابن الحاجب في خصوص الشرط الشرعي، ولم يذكر عدم المانع
والمعد.
(4) عزاه في القوانين إلى الواقفية، ثم قال: ونسبه جماعة إلى السيد [المرتضى] رحمه الله وهو
وهم، القوانين: ج 1 ص 104.
(5) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 225 و 284.
351

6 - التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره أيضا، ولكن بالعكس، أي
يجب الشرط الشرعي بالوجوب المقدمي دون غيره (1).
7 - التفصيل بين المقدمة الموصلة، أي التي يترتب عليها الواجب
النفسي فتجب، وبين المقدمة غير الموصلة فلا تجب. وهو المذهب
المعروف لصاحب الفصول (2).
8 - التفصيل بين ما قصد به التوصل من المقدمات فيقع على صفة
الوجوب وبين مالم يقصد به ذلك فلا يقع واجبا. وهو القول المنسوب إلى
الشيخ العظيم الأنصاري (3).
9 - التفصيل المنسوب إلى صاحب المعالم الذي أشار إليه في مسألة
الضد، وهو اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذيها (4). فلا تكون المقدمة
واجبة على تقدير عدم إرادته.
10 - التفصيل بين المقدمة الداخلية - أي الجزء - فلا تجب، وبين
المقدمة الخارجية فتجب (5).
وهناك تفصيلات أخرى عند المتقدمين لا حاجة إلى ذكرها.
وقد قلنا: إن الحق في المسألة - كما عليه جماعة (6) من المحققين

(1) ليس هذا التفصيل قسيما للقول الثالث المتقدم، بل هو قسم منه، وهو مقتضى كلام كل من
استدل لوجوب الشرط الشرعي بالعقل، مثل ابن الحاجب والعضدي، وهكذا الكلام في
التفصيل السابق، راجع بدائع الأفكار للمحقق الرشتي: ص 355.
(2) في ط الأولى زيادة: الذي كان يتبجح به، راجع الفصول الغروية: ص 82 - 86.
(3) راجع مطارح الأنظار: ص 72.
(4) يظهر من عبارته في بحث الضد، راجع معالم الدين: ص 71.
(5) ليس هذا تفصيلا في الحقيقة، فإن مراد من يقول بعدم وجوب المقدمة الداخلية هو نفي
الوجوب الغيري عنها باعتبار عدم كونها مقدمة، للزوم المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة،
راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 264. (*)
أول من تنبه إلى ذلك وأقام عليه البرهان بالأسلوب الذي ذكرناه - فيما أعلم - استاذنا
المحقق الإصفهاني - قدس الله نفسه الزكية - وقد عضد هذا القول السيد الجليل المحقق
الخوئي - دام ظله - وكذلك ذهب إلى هذا القول، وأوضحه سيدنا المحقق الحكيم - دام ظله -
في حاشيته على الكفاية.
352

المتأخرين - القول الثاني، وهو عدم وجوبها مطلقا.
والدليل عليه واضح بعد ما قلناه (ص 294) من أنه في موارد حكم
العقل بلزوم شئ على وجه يكون حكما داعيا للمكلف إلى فعل الشئ
لا يبقى مجال للأمر المولوي، فإن هذه المسألة من ذلك الباب من جهة
العلة.
وذلك: لأنه إذا كان الأمر بذي المقدمة داعيا للمكلف إلى الإتيان
بالمأمور به، فإن دعوته هذه - لا محالة بحكم العقل - تحمله وتدعوه إلى
الإتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به تحصيلا له. ومع فرض وجود هذا
الداعي في نفس المكلف لا تبقى حاجة إلى داع آخر من قبل المولى مع
علم المولى - حسب الفرض - بوجود هذا الداعي، لأن الأمر المولوي -
سواء كان نفسيا أم غيريا - إنما يجعله المولى لغرض تحريك المكلف نحو
فعل المأمور به، إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داع (1). بل يستحيل في
هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى، لأ أنه يكون من باب تحصيل
الحاصل.
وبعبارة أخرى: أن الأمر بذي المقدمة لو لم يكن كافيا في دعوة
المكلف إلى الإتيان بالمقدمة فألف أمر (2) بالمقدمة لا ينفع ولا يكفي
للدعوة إليها بما هي مقدمة. ومع كفاية الأمر بذي المقدمة لتحريكه إلى
المقدمة وللدعوة إليها فأية حاجة تبقى إلى الأمر بها من قبل المولى؟ بل
يكون عبثا ولغوا، بل يمتنع، لأ أنه تحصيل للحاصل.

(1) كذا، والظاهر: لا داعي.
(2) في ط 2: فأي أمر.
353

وعليه، فالأوامر الواردة في بعض المقدمات يجب حملها على
الإرشاد وبيان شرطية متعلقها للواجب وتوقفه عليها كسائر الأوامر
الإرشادية في موارد حكم العقل. وعلى هذا يحمل قوله (عليه السلام): إذا زالت
الشمس فقد وجب الطهور والصلاة (1).
ومن هذا البيان نستحصل على النتيجة الآتية:
إنه لا وجوب غيري أصلا، وينحصر الوجوب المولوي بالواجب
النفسي فقط. فلا موقع إذا لتقسيم الواجب إلى النفسي والغيري. فليحذف
ذلك من سجل الأبحاث الأصولية.
* * *

(1) الوسائل: ج 1 ص 261، الباب 4 من أبواب الوضوء، ح 1، بلفظ: إذا دخل الوقت وجب
الطهور والصلاة.
354

المسألة الثالثة
مسألة الضد
تحرير محل النزاع:
اختلفوا في أن الأمر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أو لا
يقتضي؟ على أقوال.
ولأجل توضيح محل النزاع وتحريره نشرح مرادهم من الألفاظ التي
وردت على لسانهم في تحرير النزاع هذا، وهي على ثلاثة:
1 - الضد: فإن مرادهم من هذه الكلمة مطلق المعاند والمنافي،
فيشمل نقيض الشئ، أي أن الضد - عندهم - أعم من الأمر الوجودي
والعدمي. وهذا اصطلاح خاص للأصوليين في خصوص هذا الباب،
وإلا فالضد مصطلح فلسفي يراد به - في باب التقابل - خصوص الأمر
الوجودي الذي له مع وجودي آخر تمام المعاندة والمنافرة وله معه غاية
التباعد.
ولذا قسم الأصوليون الضد إلى " ضد عام " وهو الترك - أي النقيض -
و " ضد خاص " وهو مطلق المعاند الوجودي.
وعلى هذا، فالحق أن تنحل هذه المسألة إلى مسألتين: موضوع
355

إحداهما " الضد العام " وموضوع الأخرى " الضد الخاص " لا سيما مع
اختلاف الأقوال في الموضوعين.
2 - الاقتضاء: ويراد به " لابدية ثبوت النهي عن الضد عند الأمر
بالشئ " إما لكون الأمر يدل عليه بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقة
والتضمن والالتزام، وإما لكونه يلزمه عقلا النهي عن الضد من دون أن
يكون لزومه بينا بالمعنى الأخص حتى يدل عليه بالالتزام.
فالمراد من " الاقتضاء " عندهم أعم من كل ذلك.
3 - النهي: ويراد به النهي المولوي من الشارع وإن كان تبعيا،
كوجوب المقدمة الغيري التبعي. والنهي معناه المطابقي (كما سبق في
مبحث النواهي ج 1 ص 151) هو الزجر والردع عما تعلق به. وفسره
المتقدمون بطلب الترك، وهو تفسير بلازم معناه. ولكنهم فرضوه كأن ذلك
هو معناه المطابقي، ولذا اعترض بعضهم على ذلك فقال: إن طلب الترك
محال فلابد أن يكون المطلوب الكف (1).
وهكذا تنازعوا في أن المطلوب بالنهي الترك أو الكف. ولا معنى
لنزاعهم هذا إلا إذا كانوا قد فرضوا أن معنى النهي هو الطلب، فوقعوا في
حيرة في أن المطلوب به أي شئ هو، الترك أو الكف؟
ولو كان المراد من النهي هو طلب الترك - كما ظنوا - لما كان معنى
لنزاعهم في الضد العام، فإن النهي عنه معناه - على حسب ظنهم - طلب
ترك ترك المأمور به. ولما كان نفي النفي إثباتا فيرجع معنى النهي عن
الضد العام إلى معنى طلب فعل المأمور به، فيكون قولهم: " الأمر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده العام " تبديلا للفظ بلفظ آخر بمعناه، ويكون عبارة

(1) نسبه صاحب المعالم إلى الأكثرين وقال: ومنهم العلامة (رحمه الله) في تهذيبه، معالم الدين:
ص 90 - 91.
356

أخرى عن القول ب‍ " أن الأمر بالشئ يقتضي نفسه ". وما أشد سخف مثل
هذا البحث!
ولعله لأجل هذا التوهم - أي توهم أن النهي معناه طلب الترك - ذهب
بعضهم إلى عينية الأمر بالشئ للنهي عن الضد العام.
وبعد بيان هذه الأمور الثلاثة في تحرير محل النزاع يتضح موضع
النزاع وكيفيته.
إن النزاع معناه يكون: أنه إذا تعلق أمر بشئ هل إنه لابد أن يتعلق
نهي المولى بضده العام أو الخاص؟ فالنزاع يكون في ثبوت النهي
المولوي عن الضد بعد فرض ثبوت الأمر بالشئ. وبعد فرض ثبوت
النهي فهناك نزاع آخر في كيفية إثبات ذلك.
وعلى كل حال فإن مسألتنا - كما قلنا - تنحل إلى مسألتين: إحداهما
في " الضد العام " والثانية في " الضد الخاص " فينبغي البحث عنهما في
بابين:
- 1 -
الضد العام
لم يكن اختلافهم في " الضد العام " من جهة أصل الاقتضاء وعدمه،
فإن الظاهر أنهم متفقون على الاقتضاء (1) وإنما اختلافهم في كيفيته:

(1) كيف يكون اتفاقيا وقد نسب السيد عميد الدين القول بالمنع إلى جمهور المعتزلة وكثير من
الأشاعرة! (راجع منية اللبيب: ص 125) قال المحقق الرشتي: وعزاه الفاضل البهائي في
حاشية الزبدة على ما حكي عنه إلى البعض ويلوح من كلام العلامة في محكي النهاية أيضا،
واستظهره غير واحد من كلام علم الهدى في الذريعة - إلى أن قال - وكيف كان فما في
المعالم والوافية وشرحها للسيد الصدر من إنكار هذا القول واختصاص النزاع بكيفية
الاقتضاء لا في أصل الاقتضاء غريب، بدائع الأفكار: ص 387.
357

فقيل: إنه على نحو العينية (1) أي أن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده
العام، فيدل عليه حينئذ بالدلالة المطابقية.
وقيل: إنه على نحو الجزئية (2) فيدل عليه بالدلالة التضمنية، باعتبار أن
الوجوب ينحل إلى طلب الشئ مع المنع من الترك، فيكون " المنع من
الترك " جزءا تحليليا في معنى الوجوب.
وقيل: إنه على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص (3) فيدل عليه بالدلالة
الالتزامية.
وقيل: إنه على نحو اللزوم البين بالمعنى الأعم، أو غير البين (4) فيكون
اقتضاؤه له عقليا صرفا.
والحق أنه لا يقتضيه بأي نحو من أنحاء الاقتضاء، أي أنه ليس هناك
نهي مولوي عن الترك يقتضيه نفس الأمر بالفعل على وجه يكون هناك
نهي مولوي وراء نفس الأمر بالفعل.
والدليل عليه: أن الوجوب سواء كان مدلولا لصيغة الأمر أو لازما
عقليا لها - كما هو الحق - ليس معنى مركبا، بل هو معنى بسيط وحداني
هو " لزوم الفعل ".
ولازم كون الشئ واجبا المنع من تركه، ولكن هذا المنع اللازم
للوجوب ليس منعا مولويا ونهيا شرعيا، بل هو منع عقلي تبعي من غير
أن يكون هناك من الشارع منع ونهي وراء نفس الوجوب. وسر ذلك
واضح، فإن نفس الأمر بالشئ على وجه الوجوب كاف في الزجر عن

(1) نسبه الفاضل الصالح المازندراني إلى جماعة من المحققين، والفاضل الجواد على ما حكي
عنه إلى القاضي ومتابعيه، وهو مختار بعض المحققين وبعض من تبعه، راجع المصدر السابق.
(2) صرح به صاحب المعالم، معالم الدين: ص 63.
(3) مال إليه المحقق النائيني، راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 303.
(4) لم نظفر بمصرح به، راجع بدائع الأفكار للمحقق الرشتي: ص 387 - 388.
358

تركه، فلا حاجة إلى جعل للنهي عن الترك من الشارع زيادة على الأمر
بذلك الشئ.
فإن كان مراد القائلين بالاقتضاء في المقام: أن نفس الأمر بالفعل
يكون زاجرا عن تركه فهو مسلم، بل لابد منه، لأن هذا هو مقتضى
الوجوب. ولكن ليس هذا هو موضع النزاع في المسألة، بل موضع النزاع
هو النهي المولوي زائدا على الأمر بالفعل. وإن كان مرادهم: أن هناك نهيا
مولويا عن الترك يقتضيه الأمر بالفعل - كما هو موضع النزاع - فهو غير
مسلم ولا دليل عليه، بل هو ممتنع.
وبعبارة أوضح وأوسع: أن الأمر والنهي متعاكسان، بمعنى أنه إذا تعلق
الأمر بشئ فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه، وإلا لخرج
الواجب عن كونه واجبا. وإذا تعلق النهي بشئ فعلى طبع ذلك يكون
نقيضه بالتبع مدعوا إليه، وإلا لخرج المحرم عن كونه محرما. ولكن ليس
معنى هذه التبعية في الأمر أن يتحقق فعلا نهي مولوي عن ترك المأمور به
بالإضافة إلى الأمر المولوي بالفعل. كما أنه ليس معنى هذه التبعية في
النهي أن يتحقق فعلا أمر مولوي بترك المنهي عنه بالإضافة إلى النهي
المولوي عن الفعل.
والسر ما قلناه: إن نفس الأمر بالشئ كاف في الزجر عن تركه. كما
أن نفس النهي عن الفعل كاف للدعوة إلى تركه، بلا حاجة إلى جعل جديد
من المولى في المقامين، بل لا يعقل الجعل الجديد كما قلنا في مقدمة
الواجب حذو القذة بالقذة، فراجع.
ولأجل هذه التبعية الواضحة اختلط الأمر على كثير من المحررين
لهذه المسألة، فحسبوا أن هناك نهيا مولويا عن ترك المأمور به وراء الأمر
بالشئ اقتضاء الأمر على نحو العينية أو التضمن أو الالتزام أو اللزوم
العقلي.
359

كما حسبوا هناك - في مبحث النهي - أن معنى النهي هو الطلب إما
للترك أو الكف. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في تحرير النزاع.
وهذان التوهمان في النهي والأمر من واد واحد. وعليه فليس هناك
طلب للترك وراء الردع عن الفعل في النهي، ولا نهي عن الترك وراء طلب
الفعل في الأمر.
نعم، يجوز للآمر بدلا من الأمر بالشئ أن يعبر عنه بالنهي عن الترك،
كأن يقول - مثلا - بدلا عن قوله: " صل ": " لا تترك الصلاة ". ويجوز له
بدلا من النهي عن الشئ أن يعبر عنه بالأمر بالترك، كأن يقول - مثلا -
بدلا عن قوله: " لا تشرب الخمر ": " اترك شرب الخمر " فيؤدي التعبير
الثاني في المقامين مؤدى التعبير الأول المبدل منه، أي أن التعبير الثاني
يحقق الغرض من التعبير الأول.
فإذا كان مقصود القائل بأن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده العام
هذا المعنى - أي أن أحدهما يصح أن يوضع موضع الآخر ويحل محله
في أداء غرض الآمر - فلا بأس به وهو صحيح. ولكن هذا غير العينية
المقصودة في المسألة على الظاهر.
- 2 -
الضد الخاص
إن القول باقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده الخاص يبتني ويتفرع
على القول باقتضائه للنهي عن ضده العام.
ولما ثبت - حسبما تقدم - أنه لا نهي مولوي عن الضد العام،
فبالطريق الأولى نقول: إنه لا نهي مولوي عن الضد الخاص، لما قلنا من
ابتنائه وتفرعه عليه.
360

وعلى هذا، فالحق أن الأمر بالشئ لا يقتضي النهي عن ضده مطلقا
سواء كان عاما أو خاصا.
أما كيف يبتني القول بالنهي عن الضد الخاص على القول بالنهي عن
الضد العام ويتفرع عليه؟ فهذا ما يحتاج إلى شئ من البيان، فنقول:
إن القائلين بالنهي عن الضد الخاص لهم مسلكان لا ثالث لهما،
وكلاهما يبتنيان ويتفرعان على ذلك:
الأول: مسلك التلازم
وخلاصته: أن حرمة أحد المتلازمين تستدعي وتستلزم حرمة
ملازمه الآخر. والمفروض أن فعل الضد الخاص يلازم ترك المأمور به،
أي الضد العام، كالأكل مثلا الملازم فعله لترك الصلاة المأمور بها. وعندهم
أن الضد العام محرم منهي عنه (وهو ترك الصلاة في المثال) فيلزم على
هذا أن يحرم الضد الخاص (وهو الأكل في المثال) فابتنى النهي عن الضد
الخاص بمقتضى هذا المسلك على ثبوت النهي عن الضد العام.
أما نحن فلما ذهبنا إلى أنه لا نهي مولوي عن الضد العام، فلا موجب
لدينا من جهة الملازمة المدعاة للقول بكون الضد الخاص منهيا عنه بنهي
مولوي، لأن ملزومه ليس منهيا عنه حسب التحقيق الذي مر.
على أنا نقول - ثانيا - بعد التنازل عن ذلك والتسليم بأن الضد العام
منهي عنه: إن هذا المسلك ليس صحيحا في نفسه، يعني أن كبراه غير
مسلمة، وهي " إن حرمة أحد المتلازمين تستلزم ملازمه الآخر " فإنه لا
يجب اتفاق المتلازمين في الحكم - لا في الوجوب ولا الحرمة ولا
غيرهما من الأحكام - ما دام أن مناط الحكم غير موجود في الملازم
الآخر. نعم، القدر المسلم في المتلازمين أنه لا يمكن أن يختلفا في
الوجوب والحرمة على وجه يكون أحدهما واجبا والآخر محرما،
361

لاستحالة امتثالهما حينئذ من المكلف، فيستحيل التكليف من المولى بهما،
فإما أن يحرم أحدهما أو يجب الآخر. ويرجع ذلك إلى باب التزاحم الذي
سيأتي التعرض له.
وبهذا تبطل شبهة " الكعبي " المعروفة التي أخذت قسطا وافرا من
أبحاث الأصوليين إذا كان مبناها هذه الملازمة المدعاة، فإنه نسب إليه
القول بنفي المباح (1) بدعوى أن كل ما يظن من الأفعال أنه مباح فهو
واجب في الحقيقة، لأن فعل كل مباح ملازم قهرا لواجب وهو ترك محرم
واحد من المحرمات على الأقل.
الثاني: مسلك المقدمية:
وخلاصته: دعوى أن ترك الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به، ففي
المثال المتقدم يكون ترك الأكل مقدمة لفعل الصلاة، ومقدمة الواجب
واجبة، فيجب ترك الضد الخاص.
وإذا وجب ترك الأكل حرم تركه، أي ترك ترك الأكل، لأن الأمر
بالشئ يقتضي النهي عن الضد العام، وإذا حرم ترك ترك الأكل، فإن معناه
حرمة فعله، لأن نفي النفي إثبات، فيكون الضد الخاص منهيا عنه.
هذا خلاصة مسلك المقدمية. وقد رأيت كيف ابتني النهي عن الضد
الخاص على ثبوت النهي عن الضد العام.
ونحن إذ قلنا بأنه لا نهي مولوي عن الضد العام، فلا يحرم ترك ترك
الضد الخاص حرمة مولوية، أي لا يحرم فعل الضد الخاص، فثبت
المطلوب.
على أن مسلك المقدمية غير صحيح من وجهين آخرين:

(1) معالم الدين: ص 68.
362

أحدهما: أنه بعد التنزل عما تقدم وتسليم حرمة الضد العام، فإن هذا
المسلك - كما هو واضح - يبتني على وجوب مقدمة الواجب، وقد سبق
أن أثبتنا أنها ليست واجبة بوجوب مولوي، وعليه لا يكون ترك الضد
الخاص واجبا بالوجوب الغيري المولوي حتى يحرم فعله.
ثانيهما: أنا لا نسلم أن ترك الضد الخاص مقدمة لفعل المأمور به،
وهذه المقدمية - أعني مقدمية الضد الخاص - لا تزال مثارا للبحث عند
المتأخرين حتى أصبحت من المسائل الدقيقة المطولة. ونحن في غنى
عن البحث عنها بعد ما تقدم.
ولكن لحسم مادة الشبهة لا بأس بذكر خلاصة ما يرفع المغالطة في
دعوى مقدمية ترك الضد، فنقول:
إن المدعي لمقدمية ترك الضد لضده تبتني دعواه على أن عدم الضد
من باب عدم المانع بالنسبة إلى الضد الآخر، للتمانع بين الضدين، أي
لا يمكن اجتماعهما معا، ولا شك في أن عدم المانع من المقدمات، لأ أنه
من متممات العلة، فإن العلة التامة - كما هو معروف - تتألف من المقتضي
وعدم المانع.
فيتألف دليله من مقدمتين:
1 - الصغرى: ان عدم الضد من باب " عدم المانع " لضده، لأن الضدين
متمانعان.
2 - الكبرى: ان " عدم المانع " من المقدمات.
فينتج من الشكل الأول: أن عدم الضد من المقدمات لضده.
وهذه الشبهة إنما نشأت من أخذ كلمة " المانع " مطلقة، فتخيلوا أن لها
معنى واحدا في الصغرى والكبرى، فانتظم عندهم القياس الذي ظنوه
منتجا. بينما أن الحق أن التمانع له معنيان، ومعناه في الصغرى غير معناه
363

في الكبرى، فلم يتكرر الحد الأوسط، فلم يتألف قياس صحيح.
بيان ذلك: أن التمانع تارة يراد منه التمانع في الوجود، وهو امتناع
الاجتماع وعدم الملاءمة بين الشيئين. وهو المقصود من التمانع بين
الضدين، إذ هما لا يجتمعان في الوجود ولا يتلاءمان. واخرى يراد منه
التمانع في التأثير وإن لم يكن بينهما تمانع وتناف في الوجود، وهو الذي
يكون بين المقتضيين لأثرين متمانعين في الوجود، إذ يكون المحل
غير قابل إلا لتأثير أحد المقتضيين، فإن المقتضيين حينئذ يتمانعان في
تأثيرهما فلا يؤثر أحدهما إلا بشرط عدم المقتضي الآخر. وهذا هو
المقصود من المانع في الكبرى، فإن المانع الذي يكون عدمه شرطا لتأثير
المقتضي هو المقتضي الآخر الذي يقتضي ضد أثر الأول. وعدم المانع إما
لعدم وجوده أصلا أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة على الآخر في التأثير.
وعليه، فنحن نسلم أن عدم الضد من باب عدم المانع، ولكنه عدم
المانع في الوجود، وما هو من المقدمات عدم المانع في التأثير، فلم يتكرر
الحد الأوسط، فلا نستنتج من القياس أن عدم الضد من المقدمات.
وأعتقد أن هذا البيان لرفع المغالطة فيه الكفاية للمتنبه. وإصلاح هذا
البيان بذكر بعض الشبهات فيه ودفعها يحتاج إلى سعة من القول لا
تتحملها الرسالة. ولسنا بحاجة إلى نفي المقدمة لإثبات المختار بعد
ما قدمناه.
ثمرة المسألة
إن ما ذكروه من الثمرات لهذه المسألة مختص بالضد الخاص فقط،
وأهمها والعمدة فيها هي: صحة الضد إذا كان عبادة على القول بعدم
الاقتضاء، وفساده على القول بالاقتضاء.
364

بيان ذلك: أنه قد يكون هناك واجب - أي واجب كان عبادة أو غير
عبادة - وضده عبادة، وكان الواجب أرجح في نظر الشارع من ضده
العبادي، فإنه لمكان التزاحم بين الأمرين للتضاد بين متعلقيهما والأول
أرجح في نظر الشارع، لا محالة يكون الأمر الفعلي المنجز هو الأول دون
الثاني.
وحينئذ، فإن قلنا بأن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده الخاص،
فإن الضد العبادي يكون منهيا عنه في الفرض، والنهي في العبادة يقتضي
الفساد، فإذا أتى به وقع فاسدا. وإن قلنا بأن الأمر بالشئ لا يقتضي النهي
عن ضده الخاص، فإن الضد العبادي لا يكون منهيا عنه، فلا مقتضي
لفساده.
وأرجحية الواجب على ضده الخاص العبادي يتصور في أربعة موارد:
1 - أن يكون الضد العبادي مندوبا، ولا شك في أن الواجب مقدم
على المندوب، كاجتماع الفريضة مع النافلة، فإنه بناء على اقتضاء الأمر
بالشئ للنهي عن ضده لا يصح الاشتغال بالنافلة مع حلول وقت
الفريضة، ولابد أن تقع النافلة فاسدة. نعم، لابد أن تستثنى من ذلك نوافل
الوقت، لورود الأمر بها في خصوص وقت الفريضة (1) كنافلتي الظهر
والعصر.
وعلى هذا فمن كان عليه قضاء الفوائت لا تصح منه النوافل مطلقا
بناء على النهي عن الضد. بخلاف ما إذا لم نقل بالنهي عن الضد، فإن عدم
جواز فعل النافلة حينئذ يحتاج إلى دليل خاص.
2 - أن يكون الضد العبادي واجبا، ولكنه أقل أهمية عند الشارع من
الأول، كما في مورد اجتماع إنقاذ نفس محترمة من الهلكة مع الصلاة

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 96، الباب 5 من أبواب المواقيت.
365

الواجبة.
3 - أن يكون الضد العبادي واجبا أيضا، ولكنه موسع الوقت والأول
مضيق، ولا شك في أن المضيق مقدم على الموسع وإن كان الموسع أكثر
أهمية منه. مثاله: اجتماع قضاء الدين الفوري مع الصلاة في سعة وقتها.
وإزالة النجاسة عن المسجد مع الصلاة في سعة الوقت.
4 - أن يكون الضد العبادي واجبا أيضا، ولكنه مخير والأول واجب
معين، ولا شك في أن المعين مقدم على المخير وإن كان المخير أكثر
أهمية منه، لأن المخير له بدل دون المعين. مثاله: اجتماع سفر منذور في
يوم معين مع خصال الكفارة، فلو ترك المكلف السفر واختار الصوم من
خصال الكفارة فإن كان الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده كان الصوم
منهيا عنه فاسدا.
هذه خلاصة بيان ثمرة المسألة مع بيان موارد ظهورها. ولكن هذا
المقدار من البيان لا يكفي في تحقيقها، فإن ترتبها وظهورها يتوقف على
أمرين:
الأول: القول بأن النهي في العبادة يقتضي فسادها حتى النهي الغيري
التبعي، لأ أنه إذا قلنا بأن النهي مطلقا لا يقتضي فساد العبادة أو خصوص
النهي التبعي لا يقتضي الفساد فلا تظهر الثمرة أبدا. وهو واضح، لأن الضد
العبادي حينئذ يكون صحيحا سواء قلنا بالنهي عن الضد أم لم نقل.
والحق أن النهي في العبادة يقتضي فسادها حتى النهي الغيري على
الظاهر. وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
واستعجالا في بيان هذا الأمر نشير إليه إجمالا فنقول: إن أقصى
ما يقال في عدم اقتضاء النهي التبعي للفساد هو أن النهي التبعي لا يكشف
عن وجود مفسدة في المنهي عنه، وإذا كان الأمر كذلك فالمنهي عنه باق
على ما هو عليه من مصلحة بلا مزاحم لمصلحته، فيمكن التقرب فيه
366

إذا كان عبادة بقصد تلك المصلحة المفروضة فيه.
وهذا ليس بشئ - وإن صدر من بعض أعاظم مشائخنا (1) - لأن
المدار في القرب والبعد في العبادة ليس على وجود المصلحة والمفسدة
فقط، فإنه من الواضح أن المقصود من القرب والبعد من المولى القرب
والبعد المعنويان تشبيها بالقرب والبعد المكانيين، وما لم يكن الشئ
مرغوبا فيه للمولى فعلا لا يصلح للتقرب به إليه، ومجرد وجود مصلحة
فيه لا يوجب مرغوبيته له مع فرض نهيه وتبعيده.
وبعبارة أخرى: لاوجه للتقرب إلى المولى بما أبعدنا عنه، والمفروض
أن النهي التبعي نهي مولوي، وكونه تبعيا لا يخرجه عن كونه زجرا
وتنفيرا وتبعيدا عن الفعل وإن كان التبعيد لمفسدة في غيره أو لفوات
مصلحة الغير.
نعم، لو قلنا بأن النهي عن الضد ليس نهيا مولويا بل هو نهي يقتضيه
العقل الذي لا يستكشف منه حكم الشرع - كما اخترناه في المسألة - فإن
هذا النهي العقلي لا يقتضي تبعيدا عن المولى إلا إذا كشف عن مفسدة
مبغوضة للمولى. وهذا شئ آخر لا يقتضيه حكم العقل في نفسه.
الثاني: أن صحة العبادة والتقرب لا يتوقف على وجود الأمر الفعلي
بها، بل يكفي في التقرب بها إحراز محبوبيتها الذاتية للمولى وإن لم يكن
هناك أمر فعلي بها لمانع.
أما إذا قلنا بأن عبادية العبادة لا تتحقق إلا إذا كانت مأمورا بها بأمر
فعلي، فلا تظهر هذه الثمرة أبدا، لأ أنه قد تقدم أن الضد العبادي - سواء كان
مندوبا، أو واجبا أقل أهمية، أو موسعا، أو مخيرا - لا يكون مأمورا به
فعلا لمكان المزاحمة بين الأمرين، ومع عدم الأمر به لا يقع عبادة

(1) راجع فوائد الأصول 1: 316، أجود التقريرات 1: 265.
367

صحيحة وإن قلنا بعدم النهي عن الضد.
والحق هو الأول، أي أن عبادية العبادة لا تتوقف على تعلق الأمر بها
فعلا، بل إذا أحرز أنها محبوبة في نفسها للمولى مرغوبة لديه فإنه يصح
التقرب بها إليه وإن لم يأمر بها فعلا لمانع، لأ أنه - كما أشرنا إلى ذلك في
مقدمة الواجب ص 348 - يكفي في عبادية الفعل ارتباطه بالمولى
والإتيان به متقربا به إليه مع عدم ما يمنع من التعبد به من كون فعله
تشريعا أو كونه منهيا عنه. ولا تتوقف عباديته على قصد امتثال الأمر كما
مال إليه صاحب الجواهر (قدس سره) (1).
هذا، وقد يقال في المقام نقلا عن المحقق الثاني - تغمده الله
برحمته -: إن هذه الثمرة تظهر حتى مع القول بتوقف العبادة على تعلق
الأمر بها، ولكن ذلك في خصوص التزاحم بين الواجبين الموسع والمضيق
ونحوهما، دون التزاحم بين الأهم والمهم المضيقين (2).
والسر في ذلك: أن الأمر في الموسع إنما يتعلق بصرف وجود الطبيعة
على أن يأتي به المكلف في أي وقت شاء من الوقت الوسيع المحدد له،
أما الأفراد بما لها من الخصوصيات الوقتية فليست مأمورا بها
بخصوصها، والأمر بالمضيق إذا لم يقتض النهي عن ضده فالفرد المزاحم
له من أفراد ضده الواجب الموسع لا يكون مأمورا به لا محالة من أجل
المزاحمة، ولكنه لا يخرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة المأمور بها.
وهذا كاف في حصول امتثال الأمر بالطبيعة، لأن انطباقها على هذا الفرد
المزاحم قهري فيتحقق به الامتثال قهرا ويكون مجزيا عقلا عن امتثال
الطبيعة في فرد آخر، لأ أنه لا فرق من جهة انطباق الطبيعة المأمور بها بين

(1) جواهر الكلام: ج 9 ص 155 - 157.
(2) نقله في فوائد الأصول (ج 1 ص 312) عن محكي المحقق الكركي، وما ظفرنا به في جامع
المقاصد مما يرتبط بالمقام ليس بهذا البيان والتفصيل، فراجع ج 5 ص 12 - 14.
368

فرد وفرد.
وبعبارة أوضح: أنه لو كان الوجوب في الواجب الموسع ينحل إلى
وجوبات متعددة بتعدد أفراده الطولية الممكنة في مدة الوقت المحدد على
وجه يكون التخيير بينها شرعيا، فلا محالة لا أمر بالفرد المزاحم للواجب
المضيق ولا أمر آخر يصححه، فلا تظهر الثمرة، ولكن الأمر ليس كذلك،
فإنه ليس في الواجب الموسع إلا وجوب واحد يتعلق بصرف وجود
الطبيعة، غير أن الطبيعة لما كانت لها أفراد طولية متعددة يمكن انطباقها
على كل واحد منها فلا محالة يكون المكلف مخيرا عقلا بين الأفراد، أي
يكون مخيرا بين أن يأتي بالفعل في أول الوقت أو ثانيه أو ثالثه... وهكذا
إلى آخر الوقت، وما يختاره من الفعل في أي وقت يكون هو الذي ينطبق
عليه المأمور به وإن امتنع أن يتعلق الأمر به بخصوصه لمانع، بشرط أن
يكون المانع من غير جهة نفس شمول الأمر المتعلق بالطبيعة له، بل من
جهة شئ خارج عنه، وهو المزاحمة مع المضيق في المقام.
هذا خلاصة توجيه ما نسب إلى المحقق الثاني في المقام.
ولكن شيخنا المحقق النائيني لم يرتضه، لأ أنه يرى أن المانع من تعلق
الأمر بالفرد المزاحم يرجع إلى نفس شمول الأمر المتعلق بالطبيعة له (1)
يعني أنه يرى أن الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها لا تنطبق على
الفرد المزاحم ولا تشمله، وانطباق الطبيعة بما هي لا بما هي مأمور بها
على الفرد المزاحم لا ينفع ولا يكفي في امتثال الأمر بالطبيعة.
والسر في ذلك واضح، فإنا إذ نسلم أن التخيير بين أفراد الطبيعة تخيير
عقلي نقول: إن التخيير إنما هو بين أفراد الطبيعة المأمور بها بما هي
مأمور بها، فالفرد المزاحم خارج عن نطاق هذه الأفراد التي بينها التخيير.

(1) فوائد الأصول 1: 314.
369

أما ان الفرد المزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة المأمور بها بما
هي مأمور بها، فلأن الأمر إنما يتعلق بالطبيعة المقدورة للمكلف بما هي
مقدورة، لأن القدرة شرط في المأمور به مأخوذة في الخطاب، لا أنها
شرط عقلي محض والخطاب في نفسه عام شامل في إطلاقه للأفراد
المقدورة وغير المقدورة. بيان ذلك: أن الأمر إنما هو لجعل الداعي في
نفس المكلف، وهذا المعنى بنفسه يقتضي كون متعلقه مقدورا، لاستحالة
جعل الداعي إلى ما هو ممتنع، فيعلم من هذا أن القدرة مأخوذة في متعلق
الأمر ويفهم ذلك من نفس الخطاب، بمعنى أن الخطاب لما كان يقتضي
القدرة على متعلقه، فتكون سعة دائرة المتعلق على قدر سعة دائرة القدرة
عليه لا تزيد ولا تنقص، أي تدور سعته وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها.
وعلى هذا، فلا يكون الأمر شاملا لما هو ممتنع من الأفراد، إذ يكون
المطلوب به الطبيعة بما هي مقدورة، والفرد غير المقدور خارج عن
أفرادها بما هي مأمور بها.
نعم، لو كان اعتبار القدرة بملاك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقلي
لا يوجب تقييد متعلق الخطاب، لأ أنه ليس من اقتضاء نفس الخطاب،
فيكون متعلق الأمر هي الطبيعة بما هي لا بما هي مقدورة، وإن كان
بمقتضى حكم العقل لابد أن يقيد الوجوب بها. فالفرد المزاحم - على هذا
- هو أحد أفراد الطبيعة بما هي التي تعلق بها كذلك.
وتشييد ما أفاده استاذنا ومناقشته يحتاج إلى بحث أوسع لسنا بصدده
الآن، راجع عنه تقريرات تلامذته.
الترتب
وإذا امتد (1) البحث إلى هنا، فهناك مشكلة فقهية تنشأ من الخلاف

(1) في ط الأولى: انجر.
370

المتقدم لابد من التعرض لها بما يليق بهذه الرسالة.
وهي: أن كثيرا من الناس نجدهم يحرصون - بسبب تهاونهم - (1) على
فعل بعض العبادات المندوبة في ظرف وجوب شئ هو ضد للمندوب،
فيتركون الواجب ويفعلون المندوب، كمن يذهب للزيارة أو يقيم مأتم
الحسين (عليه السلام) وعليه دين واجب الأداء. كما نجدهم يفعلون (2) بعض
الواجبات العبادية في حين أن هناك عليهم واجبا أهم منه فيتركونه، أو
واجبا مضيق الوقت مع أن الأول موسع فيقدمون الموسع على المضيق، أو
واجبا معينا مع أن الأول مخير فيقدمون المخير على المعين... وهكذا.
ويجمع الكل تقديم فعل المهم العبادي على الأهم، فإن المضيق أهم
من الموسع، والمعين أهم من المخير، كما أن الواجب أهم من المندوب
(ومن الآن سنعبر بالأهم والمهم ونقصد ما هو أعم من ذلك كله).
فإذا قلنا بأن صحة العبادة لا تتوقف على وجود أمر فعلي متعلق به،
وقلنا بأنه لا نهي عن الضد، أو النهي عنه لا يقتضي الفساد، فلا إشكال ولا
مشكلة، لأن فعل المهم العبادي يقع صحيحا حتى مع فعلية الأمر بالأهم،
غاية الأمر يكون المكلف عاصيا بترك الأهم من دون أن يؤثر ذلك على
صحة ما فعله من العبادة.
وإنما المشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضد وأن النهي يقتضي الفساد،
أو قلنا بتوقف صحة العبادة على الأمر بها - كما هو المعروف عن الشيخ
صاحب الجواهر (قدس سره) (3) فإن أعمالهم هذه كلها باطلة ولا يستحقون عليها
ثوابا، لأ أنه إما منهي عنها والنهي يقتضي الفساد، وإما لا أمر بها وصحتها

(1) العبارة في ط الأولى هكذا: وهي أن كثيرا ما يكون محل بلوى الناس ما يقع منهم بسبب
سوء اختيارهم وتهاونهم على الغالب، وذلك حينما يحرصون.
(2) في ط الأولى: وكم يفعلون.
(3) راجع جواهر الكلام: ج 9 ص 155 - 157.
371

تتوقف على الأمر.
فهل هناك طريقة لتصحيح فعل المهم العبادي مع وجود الأمر بالأهم؟
ذهب جماعة إلى تصحيح العبادة في المهم بنحو الترتب بين الأمرين
- الأمر بالأهم والأمر بالمهم - مع فرض القول بعدم النهي عن الضد وأن
صحة العبادة تتوقف على وجود الأمر (1).
والظاهر أن أول من أسس هذه الفكرة وتنبه لها المحقق الثاني (2)
وشيد أركانها السيد الميرزا الشيرازي (3) كما أحكمها ونقحها شيخنا
المحقق النائيني (4) - طيب الله مثواهم -.
وهذه الفكرة وتحقيقها من أروع ما انتهى إليه البحث الأصولي
تصويرا وعمقا.
وخلاصة " فكرة الترتب ": أنه لا مانع عقلا من أن يكون الأمر بالمهم
فعليا عند عصيان الأمر بالأهم، فإذا عصى المكلف وترك الأهم فلا
محذور في أن يفرض الأمر بالمهم حينئذ، إذ لا يلزم منه طلب الجمع بين
الضدين، كما سيأتي توضيحه.
وإذا لم يكن مانع عقلي من هذا الترتب، فإن الدليل يساعد على
وقوعه، والدليل هو نفس الدليلين المتضمنين للأمر بالمهم والأمر بالأهم،
وهما كافيان لإثبات وقوع الترتب.
وعليه، ففكرة الترتب وتصحيحها يتوقف على شيئين رئيسين في

(*) أما نحن الذين نقول بأن صحة العبادة لا تتوقف على وجود الأمر فعلا وأن الأمر بالشئ
لا يقتضي النهي عن ضده، ففي غنى عن القول بالترتب لتصحيح العبادة في مقام المزاحمة
بين الضدين - الأهم والمهم - كما تقدم.
(2) انظر جامع المقاصد 5: 13.
(3) في أجود التقريرات (ج 1 ص 300) ما يلي: إن إسناد صحة الخطاب الترتبي إلى السيد
المحقق العلامة الشيرازي (قدس سره) - بتقريب: أنه وإن كان يستلزم طلب الجمع، إلا أنه لا محذور
فيه لتمكن المكلف من التخلص عنه بتركه العصيان - ليس مطابقا للواقع، بل يستحيل
صدور ذلك منه.
(4) راجع فوائد الأصول 1: 336.
372

الباب: أحدهما إمكان الترتب في نفسه، وثانيهما الدليل على وقوعه.
أما الأول - وهو إمكانه في نفسه - فبيانه: أن أقصى ما يقال في إبطال
الترتب واستحالته: هو دعوى لزوم المحال منه، وهو فعلية الأمر بالضدين
في آن واحد، لأن القائل بالترتب يقول بإطلاق الأمر بالأهم وشموله
لصورتي: فعل الأهم وتركه، ففي حال فعلية الأمر بالمهم [وهو حال ترك
الأهم] (1) يكون الأمر بالأهم فعليا على قوله، والأمر بالضدين في آن
واحد محال.
ولكن هذه الدعوى - عند القائل بالترتب - باطلة، لأن قوله: " الأمر
بالضدين في آن واحد محال " فيه مغالطة ظاهرة، فإن قيد " في آن واحد "
يوهم أنه راجع إلى " الضدين " فيكون محالا، إذ يستحيل الجمع بين
الضدين، بينما هو في الحقيقة راجع إلى " الأمر " ولا استحالة في أن يأمر
المولى في آن واحد بالضدين إذا لم يكن المطلوب الجمع بينهما في آن
واحد، لأن المحال هو الجمع بين الضدين لا الأمر بهما في آن واحد وإن
لم يستلزم الجمع بينهما.
أما أن قيد " في آن واحد " راجع إلى " الأمر " لا إلى " الضدين "
فواضح، لأن المفروض أن الأمر بالمهم مشروط بترك الأهم، فالخطاب
الترتبي ليس فقط لا يقتضي الجمع بين الضدين بل يقتضي عكس ذلك،
لأ أنه في حال انشغال المكلف بامتثال الأمر بالأهم وإطاعته لا أمر في هذا
الحال إلا بالأهم، ونسبة المهم إليه حينئذ كنسبة المباحات إليه. وأما في
حال ترك الأهم والانشغال بالمهم، فإن الأمر بالأهم نسلم أنه يكون فعليا
وكذلك الأمر بالمهم، ولكن خطاب المهم حسب الفرض مشروط بترك
الأهم وخلو الزمان منه، ففي هذا الحال المفروض يكون الأمر بالمهم

(1) لم يرد في ط الأولى.
373

داعيا للمكلف إلى فعل المهم في حال ترك الأهم فكيف يكون داعيا
إلى الجمع بين الأهم والمهم في آن واحد.
وبعبارة أوضح: أن إيجاب الجمع لا يمكن أن يتصور إلا إذا كان هناك
مطلوبان في عرض واحد على وجه لو فرض إمكان الجمع بينهما لكان
كل منهما مطلوبا، وفي الترتب لو فرض محالا إمكان الجمع بين الضدين،
فإنه لا يكون المطلوب إلا الأهم ولا يقع المهم في هذا الحال على صفة
المطلوبية أبدا، لأن طلبه حسب الفرض مشروط بترك الأهم، فمع فعله لا
يكون مطلوبا.
وأما الثاني - وهو الدليل على وقوع الترتب وأن الدليل هو نفس
دليلي الأمرين - فبيانه: أن المفروض أن لكل من الأهم والمهم - حسب
دليل كل منهما - حكما مستقلا مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما،
كما أن المفروض أن دليل كل منهما مطلق بالقياس إلى صورتي فعل
الآخر وعدمه، فإذا وقع التزاحم بينهما اتفاقا فبحسب إطلاقهما يقتضيان
إيجاب الجمع بينهما، ولكن ذلك محال، فلابد أن نرفع اليد عن إطلاق
أحدهما، ولكن المفروض أن الأهم أولى وأرجح، ولا يعقل تقديم
المرجوح على الراجح والمهم على الأهم، فيتعين رفع اليد عن إطلاق
دليل الأمر بالمهم فقط، ولا يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل المهم،
لأ أنه إنما نرفع اليد عنه من جهة تقديم إطلاق الأهم لمكان المزاحمة بينهما
وأرجحية الأهم، والضرورات إنما تقدر بقدرها.
وإذا رفعنا اليد عن إطلاق دليل المهم مع بقاء أصل الدليل، فإن معنى
ذلك اشتراط خطاب المهم بترك الأهم. وهذا هو معنى الترتب المقصود.
والحاصل: أن معنى الترتب المقصود هو اشتراط الأمر بالمهم بترك
الأهم، وهذا الاشتراط حاصل فعلا بمقتضى الدليلين مع ضم حكم العقل
374

بعدم إمكان الجمع بين امتثالهما معا وبتقديم الراجح على المرجوح الذي
لا يرفع إلا إطلاق دليل المهم، فيبقى أصل دليل الأمر بالمهم على حاله في
صورة ترك الأهم، فيكون الأمر الذي يتضمنه الدليل مشروطا بترك الأهم.
وبعبارة أوضح: أن دليل المهم في أصله مطلق يشمل صورتين: صورة
فعل الأهم وصورة تركه، ولما رفعنا اليد عن شموله لصورة فعل الأهم -
لمكان المزاحمة وتقديم الراجح - فيبقى شموله لصورة ترك الأهم
بلا مزاحم، وهذا معنى اشتراطه بترك الأهم.
فيكون هذا الاشتراط مدلولا لدليلي الأمرين معا بضميمة حكم العقل،
ولكن هذه الدلالة من نوع دلالة الإشارة (راجع عن معنى دلالة الإشارة
الجزء الأول ص 187).
هذه خلاصة " فكرة الترتب " على علاتها. وهناك فيها جوانب تحتاج
إلى مناقشة وإيضاح تركناها إلى المطولات. وقد وضع لها شيخنا المحقق
النائيني خمس مقدمات لسد ثغورها، راجع عنها تقريرات تلامذته (1).
* * *

(1) راجع فوائد الأصول 1: 336 - 352.
375

المسألة الرابعة
اجتماع الأمر والنهي
تحرير محل النزاع:
واختلف الأصوليون من القديم في أنه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي
في واحد أو لا يجوز؟
ذهب إلى الجواز أغلب الأشاعرة وجملة من أصحابنا أولهم الفضل
ابن شاذان على ما هو المعروف عنه، وعليه جماعة من محققي
المتأخرين (1). وذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة وأكثر أصحابنا (2).

(1) قال المحقق القمي (قدس سره): إن القول بجواز الاجتماع هو مذهب أكثر الأشاعرة والفضل بن
شاذان (رحمه الله) من قدمائنا، وهو الظاهر من كلام السيد (رحمه الله) في الذريعة، وذهب إليه جلة من فحول
متأخرينا كمولانا المحقق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقق الخوانساري وولده المحقق
والفاضل المحقق الشيرواني والفاضل الكاشاني، والسيد الفاضل صدر الدين، وأمثالهم
- رحمهم الله تعالى - بل ويظهر من الكليني - حيث نقل كلام الفضل بن شاذان في كتاب
الطلاق ولم يطعن عليه - رضاؤه بذلك، بل ويظهر من كلام الفضل أن ذلك كان من مسلمات
الشيعة وإنما المخالف فيه كان من العامة، كما أشار إلى ذلك العلامة المجلسي (رحمه الله) في كتاب
بحار الأنوار أيضا، وانتصر هذا المذهب أيضا جماعة من أفاضل المعاصرين، قوانين
الأصول: ج 1 ص 140.
(2) في تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري: فذهب أكثر أصحابنا وجمهور المعتزلة وبعض
الأشاعرة - كالباقلاني - إلى الامتناع، بل عن جماعة - منهم العلامة والسيد الجليل في
إحقاق الحق والعميدي وصاحبي المعالم والمدارك وصاحب التجريد - الإجماع عليه، بل
ادعى بعضهم الضرورة، وليس بذلك البعيد، مطارح الأنظار: ص 129.
376

وكأن المسألة - فيما يبدو من عنوانها - من الأبحاث التافهة، إذ لا
يمكن أن نتصور النزاع في إمكان اجتماع الأمر والنهي في واحد حتى
لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال - كما تقوله الأشاعرة - لأن التكليف
هنا نفسه محال، وهو الأمر والنهي بشئ واحد. وامتناع ذلك من أوضح
الواضحات، وهو محل وفاق بين الجميع.
إذا، فكيف صح هذا النزاع من القوم؟ وما معناه؟
والجواب: أن التعبير باجتماع الأمر والنهي من خداع العناوين، فلابد
من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا
العنوان، وهي كلمة: " الاجتماع "، " الواحد "، " الجواز ". ثم ينبغي أن نبحث
أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع، وهو قيد " المندوحة " الذي أضافه
بعض المؤلفين (1) وهو على حق. وعليه نقول:
1 - الاجتماع: والمقصود منه هو الالتقاء الاتفاقي بين المأمور به
والمنهي عنه في شئ واحد. ولا يفرض ذلك إلا حيث يفرض تعلق الأمر
بعنوان وتعلق النهي بعنوان آخر لاربط له بالعنوان الأول. ولكن قد يتفق
نادرا أن يلتقي العنوانان في شئ واحد ويجتمعا فيه، وحينئذ يجتمع - أي
يلتقي - الأمر والنهي.
ولكن هذا الاجتماع والالتقاء بين العنوانين على نحوين:
1 - أن يكون اجتماعا مورديا، يعني أنه لا يكون هنا فعل واحد
مطابقا لكل من العنوانين، بل يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت
واحد، أحدهما يكون مطابقا لعنوان " الواجب " وثانيهما مطابقا لعنوان

(1) الفصول الغروية: ص 124.
377

" المحرم " مثل النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة، فلا النظر هو مطابق
عنوان " الصلاة " ولا الصلاة مطابق عنوان " النظر إلى الأجنبية " ولاهما
ينطبقان على فعل واحد.
فإن مثل هذا الاجتماع الموردي لم يقل أحد بامتناعه، وليس
هو داخلا في مسألة الاجتماع هذه. فلو جمع المكلف بينهما بأن نظر إلى
الأجنبية في أثناء الصلاة فقد عصى وأطاع في آن واحد ولا تفسد صلاته.
2 - أن يكون اجتماعا حقيقيا وإن كان ذلك في النظر العرفي وفي
بادئ الرأي، يعني أنه فعل واحد يكون مطابقا لكل من العنوانين كالمثال
المعروف: الصلاة في المكان المغصوب.
فإن مثل هذا المثال هو محل النزاع في مسألتنا، المفروض فيه أنه
لاربط لعنوان " الصلاة " المأمور به بعنوان " الغصب " المنهي عنه، ولكن قد
يتفق للمكلف صدفة أن يجمع بينهما بأن يصلي في مكان مغصوب،
فيلتقي العنوان المأمور به وهو " الصلاة " مع العنوان المنهي عنه وهو
" الغصب " وذلك في الصلاة المأتي بها في مكان مغصوب، فيكون هذا
الفعل الواحد مطابقا لعنوان " الصلاة " ولعنوان " الغصب " معا. وحينئذ إذا
اتفق ذلك للمكلف فإنه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به
من جهة فيقتضي أن يكون المكلف مطيعا للأمر ممثلا، وداخلا فيما هو
منهي عنه من جهة أخرى فيقتضي أن يكون المكلف عاصيا به مخالفا.
2 - الواحد: والمقصود منه الفعل الواحد باعتبار أن له وجودا واحدا
يكون ملتقى ومجمعا للعنوانين، في مقابل المتعدد بحسب الوجود، كالنظر
إلى الأجنبية والصلاة، فإن وجود أحدهما غير وجود الآخر، فإن
الاجتماع في مثل هذا يسمى " الاجتماع الموردي " كما تقدم.
والفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين، فإن
التقاء العناوين فيه لا يخلو من حالتين: إحداهما أن يكون الالتقاء بسبب
378

ماهيته الشخصية. وثانيتهما أن يكون الالتقاء بسبب ماهيته الكلية كأن
يكون الكلي نفسه مجمعا للعنوانين كالكون الكلي الذي ينطبق عليه أنه
صلاة وغصب.
وعليه، فالمقصود من " الواحد " في المقام: الواحد في الوجود. فلا
معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصي.
وبما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محل الكلام، والمراد به
ما إذا كان المأمور به والمنهي عنه متغايرين وجودا، ولكنهما يدخلان
تحت ماهية واحدة، كالسجود لله والسجود للصنم، فإنهما واحد بالجنس
باعتبار أن كلا منهما داخل تحت عنوان " السجود " ولا شك في خروج
ذلك عن محل النزاع.
3 - الجواز: والمقصود منه الجواز العقلي، أي الإمكان المقابل
للامتناع، وهو واضح. ويصح أن يراد منه الجواز العقلي المقابل للقبح
العقلي وهو قد يرجع إلى الأول باعتبار أن القبيح ممتنع على الله تعالى.
والجواز له معان اخر، كالجواز المقابل للوجوب والحرمة الشرعيين،
والجواز بمعنى الاحتمال. وكلها غير مرادة قطعا.
إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة
يتضح لك جيدا تحرير النزاع فيها، فإن حاصل النزاع في المسألة يكون
أنه في مورد التقاء عنواني " المأمور به " و " المنهي عنه " في واحد وجودا
هل يجوز اجتماع الأمر والنهي؟
ومعنى ذلك:
إنه هل يصح أن يبقى الأمر متعلقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك
الواحد ويبقى النهي كذلك متعلقا بالعنوان (1) المنطبق على ذلك الواحد،

(1) في ط الأولى: بعنوانه.
379

فيكون المكلف مطيعا وعاصيا معا في الفعل الواحد.
أو أنه يمتنع ذلك ولا يجوز، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إما
مأمورا به فقط أو منهيا عنه فقط، أي أنه إما أن يبقى الأمر على فعليته
فقط فيكون المكلف مطيعا لاغير، أو يبقى النهي على فعليته فقط فيكون
المكلف عاصيا لاغير.
والقائل بالجواز لابد أن يستند في قوله إلى أحد رأيين:
1 - أن يرى أن العنوان بنفسه هو متعلق التكليف ولا يسري الحكم
إلى المعنون، فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه أن يكون ذلك
الواحد متعلقا للحكمين، فلا يمتنع الاجتماع - أي اجتماع عنوان المأمور
به مع عنوان المنهي عنه في واحد - لأ أنه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر
والنهي في واحد.
2 - أن يرى أن المعنون - على تقدير تسليم أنه هو متعلق الحكم
حقيقة لا العنوان - يكون متعددا واقعا إذا تعدد العنوان، لأن تعدد العنوان
يوجب تعدد المعنون بالنظر الدقيق الفلسفي، ففي الحقيقة - وإن كان فعل
واحد في ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانين - هناك معنونان كل واحد
منهما مطابق لأحد العنوانين، فيرجع اجتماع الوجوب والحرمة بالدقة
العقلية إلى الاجتماع الموردي الذي قلنا: إنه لا بأس فيه من الاجتماع.
وعلى هذا فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعا بين
العنوانين في الحقيقة، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهي عنه
في وجوده. ولا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلق به النهي ولا سراية النهي
إلى ما تعلق به الأمر، فيكون المكلف في جمعه بين العنوانين مطيعا
وعاصيا في آن واحد، كالناظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة.
وبهذا يتضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، وفي الحقيقة
380

ليس هو قولا باجتماع الأمر والنهي في واحد، بل إما أنه يرجع إلى القول
باجتماع عنوان المأمور به والمنهي عنه في واحد من دون أن يكون هناك
اجتماع بين الأمر والنهي، وإما أن يرجع إلى القول بالاجتماع الموردي
فقط، فلا يكون اجتماع بين الأمر والنهي ولا بين المأمور به والمنهي عنه.
وأما القائل بالامتناع، فلابد أن يذهب إلى أن الحكم يسري من
العنوان إلى المعنون وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فإنه
لا يمكن حينئذ بقاء الأمر والنهي معا وتوجههما متعلقين بذلك المعنون
الواحد بحسب الوجود، لأ أنه يلزم اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد،
وهو مستحيل، فإما أن يبقى الأمر ولا نهي، أو يبقى النهي ولا أمر.
ولقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع، إذ عبر بكلمة " التوجه "
بدلا عن كلمة " الاجتماع " فقال: الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى
شئ واحد... (1)
المسألة من الملازمات العقلية غير المستقلة:
ومن التقرير المتقدم لبيان محل النزاع يظهر كيف أن المسألة هذه
ينبغي أن تدخل في الملازمات العقلية غير المستقلة، فإن معنى القول
بالامتناع هو: تنقيح صغرى الكبرى العقلية القائلة بامتناع اجتماع الأمر
والنهي في شئ واحد حقيقي.
توضيح ذلك: أنه إذا قلنا بأن الحكم يسري من العنوان إلى المعنون
وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون، فإنه يتنقح عندنا موضوع
اجتماع الأمر والنهي في واحد الثابتين شرعا، فيقال على نهج القياس
الاستثنائي هكذا:

(1) معالم الدين: ص 93.
381

إذا التقى عنوان المأمور به والمنهي عنه في واحد بسوء الاختيار فإن
بقي الأمر والنهي فعليين معا فقد اجتمع الأمر والنهي في واحد (وهذه هي
الصغرى).
ومستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان إلى
المعنون وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون. وإنما تفرض هذه
الملازمة حيث يفرض ثبوت الأمر والنهي شرعا بعنوانيهما.
ثم نقول: ولكنه يستحيل اجتماع الأمر والنهي في واحد. (وهذه هي
الكبرى).
وهذه الكبرى عقلية تثبت في غير هذه المسألة.
وهذا القياس استثنائي قد استثني فيه نقيض التالي، فيثبت به نقيض
المقدم، وهو عدم بقاء الأمر والنهي فعليين معا.
وأما بناء على الجواز، فيخرج هذا المورد - مورد الالتقاء - عن أن
يكون صغرى لتلك الكبرى العقلية.
ولا يجب في كون المسألة أصولية من المستقلات العقلية وغيرها أن
تقع صغرى للكبرى العقلية على تقدير جميع الأقوال، بل يكفي أن تقع
صغرى على أحد الأقوال فقط، فإن هذا شأن جميع المسائل الأصولية
المتقدمة - اللفظية والعقلية - ألا ترى أن المباحث اللفظية كلها لتنقيح
صغرى أصالة الظهور، مع أن المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على
جميع الأقوال فيها، كمسألة دلالة صيغة " افعل " على الوجوب، فإنه على
القول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو
غيره.
ولاوجه لتوهم كون هذه المسألة فقهية أو كلامية أو أصولية لفظية.
وهو واضح بعد ما قدمناه من شرح تحرير النزاع، وبعد ما ذكرناه سابقا
382

في أول هذا الجزء (1) من مناط كون المسألة الأصولية من باب غير
المستقلات العقلية.
مناقشة الكفاية في تحرير النزاع:
وبعد ما حررناه من بيان النزاع في المسألة يتضح ابتناء القول بالجواز
فيها على أحد رأيين: إما القول بأن متعلق الأحكام هي نفس العنوانات
دون معنوناتها، وإما القول بأن تعدد العنوان يستدعي تعدد المعنون.
فتكون مسألة تعدد المعنون بتعدد العنوان وعدم تعدده حيثية تعليلية
في مسألتنا ومن المبادئ التصديقية لها على أحد احتمالين، لا أنها هي
نفس محل النزاع في الباب، فإن البحث هنا ليس إلا عن نفس الجواز
وعدمه، كما عبر بذلك كل من بحث هذه المسألة من القديم.
ومن هنا تتجلى المناقشة فيما أفاده في " كفاية الأصول " في رجوع
محل البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدد العنوان لتعدد المعنون
وعدمه (2).
فإنه فرق عظيم بين ما هو محل النزاع وبين ما يبتني عليه النزاع في
أحد احتمالين. فلا وجه للخلط بينهما وإرجاع أحدهما إلى الآخر، وإن كان
في هذه المسألة لابد للأصولي من البحث عن أن تعدد العنوان هل يوجب
تعدد المعنون، باعتبار أن هذا البحث ليس مما يذكر في موضع آخر.
قيد المندوحة:
ذكرنا فيما سبق (3) أن بعضهم قيد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة
في مقام الامتثال. ومعنى المندوحة: أن يكون المكلف متمكنا من امتثال
الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع.

(1) راجع ص 266.
(2) كفاية الأصول: ص 193.
(3) راجع ص 377.
383

ونظر إلى ذلك كل من قيد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين
العنوانين بسوء اختيار المكلف.
وإنما قيد بها موضع النزاع، للاتفاق بين الطرفين على عدم جواز
الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة، وذلك فيما إذا انحصر امتثال
الأمر في مورد الاجتماع لا بسوء اختيار المكلف.
والسر واضح، فإنه عند الانحصار تستحيل فعلية التكليفين لاستحالة
امتثالهما معا، لأ أنه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي، وإن تركه فقد
عصى الأمر، فيقع التزاحم حينئذ بين الأمر والنهي.
وظاهر أن اعتبار قيد " المندوحة " لازم لما ذكرناه، إذ ليس النزاع
جهتيا كما ذهب إليه صاحب الكفاية (1) - أي من جهة كفاية تعدد العنوان
في تعدد المعنون وعدمه وإن لم يجز الاجتماع من جهة أخرى - حتى لا
نحتاج إلى هذا القيد.
بل النزاع - كما تقدم - هو في جواز الاجتماع وعدمه من أية جهة
فرضت وليس جهتيا. وعليه، فما دام النزاع غير واقع في الجواز في صورة
عدم المندوحة، فهذه الصورة لا تدخل في محل النزاع في مسألتنا.
فوجب - إذا - تقييد عنوان المسألة بقيد " المندوحة " كما صنع بعضهم.
الفرق بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة الاجتماع:
من المسائل العويصة: مشكلة التفرقة بين باب التعارض وباب
التزاحم، ثم بينهما وبين مسألة الاجتماع. ولابد من بيان الفرق بينها
لتنكشف جيدا حقيقة النزاع في مسألتنا - مسألة الاجتماع -.
وجه الإشكال في التفرقة: أنه لا شبهة في أن من موارد التعارض بين

(1) راجع كفاية الأصول: ص 187.
384

الدليلين ما إذا كان بين دليلي الأمر والنهي عموم وخصوص من وجه،
وذلك من أجل العموم من وجه بين متعلقي الأمر والنهي، أي العموم من
وجه الذي يقع بين عنوان " المأمور به " وعنوان " المنهي عنه " بينما أن
التزاحم بين الوجوب والحرمة من موارده أيضا العموم من وجه بين الأمر
والنهي من هذه الجهة. وكذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا
كان بين عنواني " المأمور به " و " المنهي عنه " عموم من وجه.
فيتضح أنه مورد واحد - وهو مورد العموم من وجه بين متعلقي الأمر
والنهي - يصح أن يكون موردا للتعارض وباب التزاحم ومسألة
الاجتماع، فما المائز والفارق؟
فنقول: إن العموم من وجه إنما يفرض بين متعلقي الأمر والنهي فيما
إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد، سواء كان العنوان بالنسبة إلى
الفعل من قبيل العنوان ومعنونه، أو من قبيل الكلي وفرده (1). وهذا بديهي.

(1) إنما يفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعا مورديا، بل
كان اجتماعا حقيقيا، ونعني بالاجتماع الحقيقي أن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان
على وجه يصح في كل منهما أن يكون حاكيا عنه ومرآة له وإن كان منشأ كل من العنوانين
مباينا في وجوده بالدقة العقلية لمنشأ العنوان الآخر.
ولكن انطباق العناوين على فرد واحد لا يجب فيه ان يكون من قبيل انطباق الكلي على
فرده، أي لا يجب أن يكون المعنون فردا للعنوان ومن حقيقته، لأن المعنون كما يجوز أن
يكون من حقيقة العنوان يجوز ان يكون من حقيقة أخرى، وإنما الذهن يجعل من العنوان
حاكيا ومرآة عن ذلك المعنون، كمفهوم الوجود الذي هو عنوان لحقيقة الوجود، مع أنه ليس
من حقيقته، ومثله مفهوم الجزئي الذي عنوان للجزئي الحقيقي وليس هو بجزئي بل كلي،
وكذا مفهوم الحرف والنسبة... وهكذا.
ولأجل هذا عممنا العنوان إلى قسمين. وهذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار
في المسألة، فكن على ذكر منه. ولقد أحسن المولى صدر المحققين في تعبيره للتفرقة بين
القسمين، إذ قال في الجزء الأول من الأسفار " وفرق بين كون الذات مصدوقا عليه بصدق
مفهوم، وكونها مصداقا لصدقه ".
وقد أراد المصداق النحو الثاني، وهو المعنون الصرف بالنسبة إلى معنونه وأراد بالمصداق
فرد الكلي، ويا ليت! أن يعمم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين.
385

ولكن العنوان المأخوذ في متعلق الخطاب من جهة عمومه على
نحوين:
1 - أن يكون ملحوظا في الخطاب فانيا في مصاديقه على وجه يسع
جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميزات، فيكون شاملا في سعته
لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر، فيعد في حكم
المتعرض لحكم خصوص موضع الالتقاء، ولو من جهة كون موضع
الالتقاء متوقع الحدوث على وجه يكون من شأنه أن ينبه عليه المتكلم
في خطابه، فيكون أخذ العنوان على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من
الكثرات والمميزات لهذا الغرض من التنبيه ونحوه. ولا نضائقك أن تسمي
مثل هذا العموم " العموم الاستغراقي " كما صنع بعضهم.
والمقصود: أن العنوان إذا اخذ في الخطاب على وجه يسع جميع
الأفراد بما لها من الكثرات والمميزات يكون في حكم المتعرض لحكم
كل فرد من أفراده، فيكون نافيا بالدلالة الالتزامية لكل حكم مناف
لحكمه.
2 - أن يكون العنوان ملحوظا في الخطاب فانيا في مطلق الوجود
المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع
الأفراد، أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميزات في مقام الأمر بوجود
الطبيعة ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأخرى، فيكون المطلوب
في الأمر والمنهي عنه في النهي صرف وجود الطبيعة. ولتسم مثل هذا
العموم " العموم البدلي " كما صنع بعضهم.
فإن كان العنوان مأخوذا في الخطاب على النحو الأول، فإن موضع
386

الالتقاء يكون العام حجة فيه كسائر الأفراد الأخرى، بمعنى أن يكون
متعرضا بالدلالة الالتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة
إلى الأفراد وخصوصيات المصاديق.
وفي هذه الصورة لابد أن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في
مقام الجعل والتشريع، لأ نهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة
الدلالة الالتزامية في كل منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع
الالتقاء.
والتحقيق أن التعارض بين العامين من وجه إنما يقع بسبب دلالة كل
منهما بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم الآخر، ومن أجلها يتكاذبان.
وإلا فالدلالتان المطابقيتان بأنفسهما في العامين من وجه لا يتكاذبان،
فلا يتعارضان مالم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الأخرى،
فليس التنافي بين المدلولين المطابقيين إلا تنافيا بالعرض لا بالذات.
ومن هنا يعلم أن هذا الفرض - وهو فرض كون العنوان مأخوذا في
الخطاب على النحو الأول - ينحصر في كونه موردا للتعارض بين
الدليلين، ولا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه، ولا إلى
النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، لأن مقتضى القاعدة في باب
التعارض هو تساقط الدليلين عن حجيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء،
فلا يحرز (1) فيه الوجوب ولا الحرمة. ولا يفرض التزاحم أو مسألة النزاع
في جواز الاجتماع إلا حيث يفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء وبقاء
حجيتهما بالنسبة إليه. أي أنه لم يكن تعارض بين الدليلين في مقام الجعل
والتشريع.
وإن كان العنوان مأخوذا على النحو الثاني، فهو مورد التزاحم

(1) في ط 2: فلا يجوز.
387

أو مسألة الاجتماع، ولا يقع بين الدليلين تعارض حينئذ، وذلك مثل قوله:
" صل " وقوله: " لا تغصب " باعتبار أنه لم يلحظ في كل من خطاب الأمر
والنهي الكثرات والمميزات على وجه يسع العنوان جميع الأفراد وإن كان
نفس العنوان في حد ذاته وإطلاقه شاملا لجميع الأفراد، فإنه في مثله
يكون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة للصلاة، وامتثاله يكون بفعل أي
فرد من الأفراد، فلم يكن ظاهرا في وجوب الصلاة حتى في مورد
الغصب على وجه يكون دالا بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم آخر في
هذا المورد ليكون نافيا لحرمة الغصب في المورد. وكذلك النهي يكون
متعلقا بصرف طبيعة الغصب، فلم يكن ظاهرا في حرمة الغصب حتى في
مورد الصلاة على وجه يكون دالا بالدلالة الالتزامية على انتفاء حكم
آخر في هذا المورد ليكون نافيا لوجوب الصلاة.
وفي مثل هذين الدليلين إذا كانا على هذا النحو يكون كل منهما
أجنبيا في عموم عنوان متعلق الحكم فيه عن عنوان متعلق الحكم الآخر،
أي أنه غير متعرض بدلالته الالتزامية لنفي الحكم الآخر، فلا يتكاذبان في
مقام الجعل والتشريع. فلا يقع التعارض بينهما، إذ لا دلالة التزامية لكل
منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء، ولا تعارض بين الدلالتين
المطابقيتين بما هما، لأن المفروض أن المدلول المطابقي من كل منهما هو
الحكم المتعلق بعنوان أجنبي في نفسه عن العنوان المتعلق للحكم الآخر.
وحينئذ إذا صادف أن ابتلي المكلف بجمعهما على نحو الاتفاق فحاله
لا يخلو عن أحد أمرين: إما أن تكون له مندوحة من الجمع بينهما، ولكنه
هو الذي جمع بينهما بسوء اختياره وتصرفه. وإما أن لا تكون له مندوحة
من الجمع بينهما.
فإن كان الأول: فإن المكلف حينئذ يكون قادرا على امتثال كل من
388

التكليفين فيصلي ويترك الغصب، وقد يصلي ويغصب في فعل آخر. فإذا
جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلى في مكان مغصوب، فهنا يقع النزاع
في جواز الاجتماع بين الأمر والنهي. فإن قلنا بالجواز كان مطيعا وعاصيا
في آن واحد. وإن قلنا بعدم الجواز، فإنه إما أن يكون مطيعا لاغير إذا
رجحنا جانب الأمر، أو عاصيا لاغير إذا رجحنا جانب النهي، لأ أنه حينئذ
يقع التزاحم بين التكليفين، فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين.
وإن كان الثاني: فإنه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليين، لأ أنه
- حسب الفرض - لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل والإنشاء، بل
المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلف على التفريق بين الامتثالين، فيدور
الأمر حينئذ بين امتثال الأمر وبين امتثال النهي، إذ لا يمكنه من امتثالهما
معا من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحق الذي ينبغي أن يعول عليه في سر التفريق بين بابي
التعارض والتزاحم، وبينهما وبين مسألة الاجتماع في مورد العموم من
وجه بين متعلقي الخطابين (خطاب الوجوب والحرمة). ولعله يمكن
استفادته من مطاوي كلماتهم وإن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح
بذلك، بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا - رضوان الله عليهم - في وجه
التفريق.
فقد ذهب صاحب الكفاية إلى: أنه لا يكون المورد من باب الاجتماع
إلا إذا أحرز في كل واحد من متعلقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه
مطلقا حتى في مورد التصادق والاجتماع. وأما إذا لم يحرز مناط كل من
الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط أحد الحكمين بلا تعيين،
فالمورد يكون من باب التعارض (1) للعلم الإجمالي حينئذ بكذب أحد

(1) كفاية الأصول: ص 189.
389

الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضا.
هذا خلاصة رأيه (رحمه الله). فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع
وعدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع وباب التعارض. بينما
أن المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الالتزامية
على نفي الحكم الآخر وعدمها، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين
الدليلين فيتعارضان، وبدونها لا تعارض فيدخل المورد في مسألة
الاجتماع.
ويمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة، لأنه مع تكاذب
الدليلين من ناحية دلالتهما الالتزامية لا يحرز وجود مناط الحكمين في
مورد الاجتماع، كما أنه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكل
من الحكمين في مورد الاجتماع، بل لابد من إحراز مناط الحكمين
بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقي.
وأما شيخنا النائيني - أعلى الله في الخلد مقامه - فقد ذهب إلى: أن
مناط دخول المورد في باب التعارض: أن تكون الحيثيتان في العامين من
وجه حيثيتين تعليليتين، لأ أنه حينئذ يتعلق الحكم في كل منهما بنفس ما
يتعلق به فيتكاذبان. وأما إذا كانتا تقييديتين فلا يقع التعارض بينهما،
ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة، وفي باب التزاحم مع
عدم المندوحة (1).
ونحن نقول: في الحيثيتين التقييديتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب
من أجل دلالتهما الالتزامية على نفي الحكم الآخر - على نحو ما فصلناه
- فإن التعارض بينهما لا محالة واقع، ولا تصل النوبة في هذا المورد
للدخول في مسألة الاجتماع.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 331.
390

ولنا مناقشة معه في صورة الحيثية التعليلية يطول شرحها ولا يهم
التعرض لها الآن. وفيما ذكرناه الكفاية وفوق الكفاية للطالب المبتدئ.
الحق في المسألة:
بعد ما قدمنا من توضيح تحرير النزاع وبيان موضع النزاع نقول: إن
الحق في المسألة هو الجواز.
وقد ذهب إلى ذلك جمع من المحققين المتأخرين (1).
وسندنا يبتني على توضيح واختيار ثلاثة أمور مترتبة:
أولا: أن متعلق التكليف سواء كان أمرا أو نهيا ليس هو المعنون، -
أي الفرد الخارجي للعنوان بما له من الوجود الخارجي - فإنه يستحيل
ذلك، بل متعلق التكليف دائما وأبدا هو العنوان، على ما سيأتي توضيحه.
واعتبر ذلك بالشوق، فإن الشوق يستحيل أن يتعلق بالمعنون، لأ أنه إما
أن يتعلق به حال عدمه أو حال وجوده، وكل منهما لا يكون. أما الأول
فيلزم تقوم الموجود بالمعدوم وتحقق المعدوم بما هو معدوم - لأن
المشتاق إليه له نوع من التحقق بالشوق إليه - وهو محال واضح. وأما
الثاني فلأ أنه يكون الاشتياق إليه تحصيلا للحاصل، وهو محال.
فإذن لا يتعلق الشوق بالمعنون لا حال وجوده ولا حال عدمه.
مضافا إلى أن الشوق من الأمور النفسية، ولا يعقل أن يتشخص ما في
النفس بدون متعلق ما، كجميع الأمور النفسية - كالعلم والخيال والوهم
والإرادة ونحوها - ولا يعقل أن يتشخص بما هو خارج عن أفق النفس
من الأمور العينية، فلابد أن يتشخص بالشئ المشتاق إليه بما له من

(1) كمولانا المحقق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقق الخوانساري وولده المحقق والفاضل
المدقق الشيرواني. والفاضل الكاشاني والسيد الفاضل صدر الدين، قوانين الأصول: ج 1
ص 140.
391

الوجود العنواني الفرضي، وهو المشتاق إليه أولا وبالذات، وهو الموجود
بوجود الشوق لا بوجود آخر وراء الشوق. ولكن لما كان يؤخذ العنوان
بما هو حاك ومرآة عما في الخارج - أي عن المعنون - فإن المعنون
يكون مشتاقا إليه ثانيا وبالعرض، نظير العلم، فإنه لا يعقل أن يتشخص
بالأمر الخارجي، والمعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان الموجود بوجود
العلم ولكن بما هو حاك ومرآة عن المعنون، وأما المعنون لذلك العنوان
فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
وفي الحقيقة إنما يتعلق الشوق بشئ إذا كان له جهة وجدان وجهة
فقدان، فلا يتعلق بالمعدوم من جميع الجهات ولا بالموجود من جميع
الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود
الشوق في أفق النفس باعتبار ماله من وجود عنواني فرضي، وجهة
الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقي في الخارج، ومعنى الشوق إليه
هو الرغبة في إخراجه من حد الفرض والتقدير إلى حد الفعلية والتحقيق.
وإذا كان الشوق على هذا النحو، فكذلك حال الطلب والبعث بلا فرق،
فيكون حقيقة طلب الشئ هو تعلقه بالعنوان لإخراجه من حد الفرض
والتقدير إلى حد الفعلية والتحقيق.
ثانيا: أنا لما قلنا بأن متعلق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني:
أن العنوان بما له من الوجود الذهني يكون متعلقا للطلب، فإن ذلك باطل
بالضرورة، لأن مثار الآثار ومتعلق الغرض والذي تترتب عليه المصلحة
والمفسدة هو المعنون لا العنوان.
بل نعني: أن المتعلق هو العنوان حال وجوده الذهني، لا أنه بما له من
الوجود الذهني أو بما هو مفهوم. ومعنى تعلقه بالعنوان حال وجوده
الذهني: أنه يتعلق به نفسه باعتبار أنه مرآة عن المعنون وفان فيه، فتكون
392

التخلية فيه عن الوجود الذهني عين التحلية به.
ثالثا: أنا إذ نقول: إن المتعلق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن
المعنون وفان فيه، لا نعني: أن المتعلق الحقيقي للتكليف هو المعنون وأن
التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه - كما قيل (1) -
فإن ذلك باطل بالضرورة أيضا، لما تقدم أن المعنون يستحيل أن يكون
متعلقا للتكليف بأي حال من الأحوال، وهو محال حتى لو كان بتوسط
العنوان، فإن توسط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلق التكليف به.
بل نعني ونقول: إن الصحيح أن متعلق التكليف هو العنوان بما هو
مرآة وفان في المعنون على أن يكون فناؤه في المعنون هو المصحح
لتعلق التكليف به فقط، إذ أن الغرض إنما يقوم بالمعنون المفنى فيه، لا أن
الفناء يجعل التكليف ساريا إلى المعنون ومتعلقا به.
وفرق كبير بين ما هو مصحح لتعلق التكليف بشئ وبين ما هو بنفسه
متعلق التكليف. وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلين بأن التكليف
يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه. ولا يزال هذا الخلط بين ما هو
بالذات وما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات التي تقع في علمي
الأصول والفلسفة. والفناء والآلية في الملاحظة هو الذي يوقع الاشتباه
والخلط، فيعطي ما للعنوان للمعنون وبالعكس.
وإذا عسر عليك تفهم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال " الحرف "
حينما نحكم عليه بأنه لا يخبر عنه، فإن عنوان " الحرف " ومفهومه اسم
يخبر عنه، كيف! وقد أخبر عنه بأنه لا يخبر عنه، ولكن إنما صح الإخبار
عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون، لأنه هو الذي له هذه الخاصية ويقوم
به الغرض من الحكم، ومع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون - وهو الحرف

(1) لم نتحقق القائل، انظر نهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقق العراقي) ج 2 ص 420.
393

الحقيقي - موضوعا للحكم حقيقة أولا وبالذات، فإن الحرف الحقيقي
يستحيل أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأي حال من الأحوال
ولو بتوسط شئ، كيف! وحقيقته: النسبة والربط، وخاصته: أنه لا يخبر
عنه. وعليه، فالمخبر عنه أولا وبالذات هو عنوان " الحرف " لكن لا بما
هو مفهوم موجود في الذهن، فإنه بهذا الاعتبار يخبر عنه، بل بما هو فان
في المعنون وحاك عنه، فالمصحح للإخبار عنه بأن لا يخبر عنه هو فناؤه
في معنونه، فيكون الحرف الحقيقي المعنون مخبرا عنه ثانيا وبالعرض،
وإن كان الغرض من الحكم إنما يقوم بالمنفي فيه، وهو الحرف الحقيقي.
وعلى هذا، يتضح جليا كيف أن دعوى سراية الحكم أولا وبالذات
من العنوان إلى المعنون منشؤها الغفلة بين ما هو المصحح للحكم على
موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحح فيجعل الموضوع عنوانا
حاكيا عنه، وبين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض، فالمصحح
للحكم شئ والمحكوم عليه والمجعول موضوعا شئ آخر. ومن
العجيب! أن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفن في المعقول.
نعم، إذا كان القائل بالسراية يقصد أن العنوان يؤخذ فانيا في المعنون
وحاكيا عنه وأن الغرض إنما يقوم بالمعنون، فذلك حق ونحن نقول به.
ولكن ذلك لا ينفعه في الغرض الذي يهدف إليه، لأ نا نقول بذلك من دون
أن نجعل متعلق التكليف نفس المعنون، وإنما يكون متعلقا له ثانيا
وبالعرض، كالمعلوم بالعرض - كما أشرنا إليه فيما سبق - فإن العلم إنما
يتعلق بالمعلوم بالذات ويتقوم به، وليس هو إلا العنوان الموجود بوجود
علمي ولكن باعتبار فنائه في معنونه، يقال للمعنون: إنه معلوم ولكنه في
الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات، وهذا الفناء هو الذي يخيل للناظر
أن المتعلق الحقيقي للعلم هو المعنون. ولقد أحسنوا في تعريف العلم بأنه
394

" حصول صورة الشئ لدى العقل " لا حصول نفس الشئ، فالمعلوم
بالذات هو الصورة، والمعلوم بالعرض نفس الشئ الذي حصلت صورته
لدى العقل.
وإذا ثبت ما تقدم واتضح ما رمينا إليه: من أن متعلق التكليف أولا
وبالذات هو العنوان وأن المعنون متعلق له بالعرض، يتضح لك الحق جليا
في مسألتنا (مسألة اجتماع الأمر والنهي) وهو: أن الحق جواز الاجتماع.
ومعنى جواز الاجتماع: أنه لا مانع من أن يتعلق الإيجاب بعنوان
ويتعلق التحريم بعنوان آخر، وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء
اختياره، فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكل من العنوانين متعلقا
للإيجاب والتحريم إلا بالعرض. وليس ذلك بمحال، فإن المحال إنما هو
أن يكون الشئ الواحد بذاته متعلقا للإيجاب والتحريم.
وعليه، فيصح أن يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار
انطباق العنوان المأمور به عليه، وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار
انطباق عنوان المنهي عنه. ولا محذور في ذلك ما دام أن ذلك الفعل الواحد
ليس بنفسه وبذاته يكون متعلقا للأمر وللنهي ليكون ذلك محالا، بل
العنوانان الفانيان هما المتعلقان للأمر والنهي. غاية الأمر أن تطبيق العنوان
المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل، ولا فرق بين
فرد وفرد في انطباق العنوان عليه، فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان المنهي
عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كل منهما ينطبق عليه العنوان المأمور
به بلا جهة خلل في الانطباق.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون أو
لم يكن، ما دام أن المعنون ليس هو متعلق التكليف بالذات.
نعم، لو كان العنوان مأخوذا في المأمور به والمنهي عنه على وجه
395

يسع جميع الأفراد حتى موضع الاجتماع - وهو الفرد الذي ينطبق عليه
العنوانان ولو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل - فإنه حينئذ تكون لكل من
الدليلين الدلالة الالتزامية على نفي حكم الآخر في موضع الالتقاء
فيتكاذبان، وعليه يقع التعارض بينهما ويخرج المورد عن مسألة
الاجتماع، كما سبق بيان ذلك مفصلا.
كما أنه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلق الأمر على وجه
يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور، فإن عنوان المأمور به
حينئذ لا يسع ولا يعم الفرد غير المقدور، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما
هو مأمور به على موضع الاجتماع، ولا يكون هذا الفرد غير المقدور
شرعا من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها.
بخلاف ما إذا كانت القدرة مصححة فقط لتعلق التكليف بالعنوان، فإن
عنوان المأمور به يكون مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من
أفراده. ولهذا قلنا: إنه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع
الاجتماع - كما في مورد عدم المندوحة - يقع التزاحم بين الحكمين في
موضع الاجتماع، لأ أنه لا يصح تطبيق المأمور به على هذا الفرد وهو
موضع الاجتماع إلا إذا لم يكن النهي فعليا، كما لا يصح تطبيق عنوان
المنهي عنه عليه إلا إذا لم يكن الأمر فعليا، فلابد من رفع اليد عن فعلية
أحد الحكمين وتقديم الأهم منهما.
ولقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلى أن القدرة مأخوذة في متعلق
التكليف باعتبار أن الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك، لأن الأمر إنما
هو لتحريك المكلف نحو الفعل على أن يصدر منه بالاختيار، وهذا نفسه
يقتضي كون متعلقه مقدورا لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع وإن كان
الامتناع من ناحية شرعية (1).

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 314.
396

ولكننا لم تتحقق صحة هذه الدعوى، لأن صحة التكليف بطبيعة الفعل
لا تتوقف على أكثر من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على
فرد من أفرادها، فالعقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة في متعلق التكليف،
وذلك لا يقتضي القدرة على كل فرد من أفراد الطبيعة إلا إذا قلنا بأن
التكليف يتعلق بالأفراد أولا وبالذات. وقد تقدم توضيح فساد هذا الوهم.
تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون:
بعد ما تقدم من البيان من أن التكليف إنما يتعلق بالعنوان بما هو مرآة
عن أفراده لا بنفس الأفراد، فإن القول بالجواز لا يتوقف على القول بأن
تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون - كما أشرنا إليه فيما سبق - لأ أنه سواء
كان المعنون متعددا بتعدد العنوان أو غير متعدد، فإن ذلك لا يرتبط
بمسألتنا نفيا وإثباتا ما دام أن المعنون ليس متعلقا للتكليف أبدا. وعلى
كل حال، فالحق هو الجواز تعدد المعنون أو لم يتعدد.
ولو سلمنا جدلا بأن التكليف يتعلق بالمعنون باعتبار سراية التكليف
من العنوان إلى المعنون - كما هو المعروف - فإن الحق أنه لا يجب تعدد
المعنون بتعدد العنوان، فقد يتعدد وقد لا يتعدد.
فليس هناك قاعدة عامة تقضي بأن نحكم بأن تعدد العنوان يوجب
تعدد المعنون، كما تكلف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا (1) - قدس الله
نفسه الزكية - وكأن نظره الشريف يرمي إلى أن العامين من وجه يمتنع
صدقهما على شئ واحد من جهة واحدة وإلا لما كانا عامين من وجه،
فلابد أن يفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع: إحداهما هو
الواجب، وثانيتهما هو المحرم، فيكون التركيب بين الحيثيتين تركيبا

(1) الظاهر، المراد به المحقق النائيني (قدس سره) انظر فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 411.
397

انضماميا لا اتحاديا، إلا إذا كانت الحيثيتان المفروضتان تعليليتين
لا تقييديتين، فإن الواجب والمحرم على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا
وهو ذات المحيث بهاتين الحيثيتين، وحينئذ يقع التعارض بين دليلي
العامين ويخرج المورد عن مسألتنا.
وفي هذا التقرير مالا يخفى على الفطن
أما أولا: فإن العنوان بالنسبة إلى معنونه تارة يكون منتزعا منه
باعتبار ضم حيثية زائدة على الذات مباينة لها ماهية ووجودا، كالأبيض
بالقياس إلى الجسم، فإن صدق الأبيض عليه باعتبار عروض صفة
البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته. واخرى يكون منتزعا منه باعتبار
نفس ذاته بلا ضم حيثية زائدة على الذات، كالأبيض بالقياس إلى نفس
البياض، فإن نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة
إلى ضم بياض آخر إليه، لأ أنه بنفس ذاته أبيض لا ببياض آخر. ومثل ذلك
صفات الكمال لذات واجب الوجود، فإنها منتزعة من مقام نفس الذات لا
بضم حيثية أخرى زائدة على الذات.
وعليه، فلا يجب في كل عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات
باعتبار ضم حيثية زائدة على الذات.
وأما ثانيا: فإن العنوان لا يجب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة
متأصلة على وجه يكون انطباق العنوان أو مبدئه عليه من باب انطباق
الكلي على فرده، بل من العناوين ما هو مجعول ومعتبر لدى العقل لصرف
الحكاية والكشف عن المعنون من دون أن يكون بإزائه في الخارج حقيقة
متأصلة، مثل عنوان " العدم " و " الممتنع " بل مثل عنوان " الحرف "
و " النسبة " فإنه لا يجب في مثله فرض حيثية متأصلة ينتزع منها العنوان.
ومثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عاما يصح انطباقه على حقائق متعددة
398

من دون أن يكون بإزائه حيثية واقعية غير تلك الحقائق المتأصلة، ولعل
عنوان " الغصب " من هذا الباب في انطباقه على " الصلاة " - التي تتألف
من حقائق متبائنة - وعلى غيرها من سائر التصرفات، فكل تصرف في
مال الغير بدون رضاه غصب، مهما كانت حقيقة ذلك التصرف ومن أية
مقولة كانت.
ثمرة المسألة:
من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة، فإنه بناء
على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي - كما هو المعروف - تقع
العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة والعمد بالجمع بين المأمور به والمنهي عنه
- كما هو المفروض في المسألة - لأ أنه لا أمر مع ترجيح جانب النهي،
وليس هناك في ذات المأتي به ما يصلح للتقرب به مع فرض النهي
الفعلي، لامتناع التقرب بالمبعد وإن كان ذات المأتي به مشتملا على
المصلحة الذاتية وقلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتية في صحة العبادة.
نعم، إذا وقع الجمع بين المأمور به والمنهي عنه عن جهل بالحرمة
- قصورا لا تقصيرا - أو عن نسيان وكان قد أتى بالفعل على وجه القربة،
فالمشهور أن العبادة تقع صحيحة. ولعل الوجه فيه هو القول بكفاية
رجحانها الذاتي واشتمالها على المصلحة الذاتية في التقرب بها مع قصد
ذلك وإن لم يكن الأمر فعليا.
وقيل: إنه لا يبقى مصحح في هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة (1) نظرا
إلى أن دليلي الوجوب والحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين
وإن لم يكونا في حد أنفسهما متعارضين، فإذا قدم جانب النهي، فكما
لا يبقى أمر كذلك لا يحرز وجود المقتضي له وهو المصلحة الذاتية في

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 434.
399

المجمع، إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز أن يكون لوجود
المانع في المجمع عن شمول الأمر له، ويجوز أن يكون لانتفاء المقتضي
للأمر، فلا يحرز وجود المقتضي.
هذا بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي.
وأما بناء على الامتناع وتقديم جانب الأمر، فلا شبهة في وقوع
العبادة صحيحة، إذ لا نهي حتى يمنع من صحتها، لا سيما إذا قلنا بتعارض
الدليلين بناء على الامتناع، فإنه لا يحرز معه المفسدة الذاتية في المجمع.
وكذلك الحق هو صحة العبادة إذا قلنا بالجواز، فإنه كما جاز توجيه
الأمر والنهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز
الاجتماع في مقام التشريع، فكذلك نقول: لا مانع من الاجتماع في مقام
الامتثال أيضا - كما أشرنا إليه في تحرير محل النزاع - حتى لو كان
المعنون للعنوانين واحدا وجودا ولم يوجب تعدد العنوان تعدده، لما
عرفت سابقا: من أن المعنون لا يقع بنفسه متعلقا للتكليف لا قبل وجوده
ولا بعد وجوده وإنما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان
المأمور به عليه الذي ليس بمنهي عنه، لا أن الداعي إلى إتيانه تعلق الأمر
به ذاته، فيكون المكلف في فعل واحد بالجمع بين عنواني الأمر والنهي
مطيعا للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به، وعاصيا من جهة انطباق
العنوان المنهي عنه، نظير الاجتماع الموردي، كما تقدم توضيحه في
تحرير محل النزاع.
وقيل: إن الثمرة في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي
الأمر والنهي بناء على الامتناع، وإجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على
الجواز (1).

(1) قاله المحقق النائيني، راجع فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 429.
400

ولكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز إنما يلزم إذا كان
القائل بالجواز إنما يقول بالجواز في مقام الجعل والإنشاء دون مقام
الامتثال، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال، وحينئذ لا محالة يقع
التزاحم بين الأمر والنهي. أما إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضا - كما
أوضحناه - فلا موجب للتزاحم بين الحكمين مع وجود المندوحة، بل
يكون مطيعا عاصيا في فعل واحد، كالاجتماع الموردي بلا فرق،
إذ لا دوران حينئذ بين امتثال الأمر وامتثال النهي.
اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة [أي مع الاضطرار] (1)
تقدم الكلام كله في اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك مندوحة
من الجمع بين المأمور به والمنهي عنه، وقد جمع المكلف بينهما في فعل
واحد بسوء اختياره. ويلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل.
وقد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل والامتثال.
وبقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة، وذلك بأن يكون
المكلف مضطرا إلى هذا الجمع بينهما. والاضطرار على نحوين:
الأول: أن يكون بدون سبق اختيار للمكلف في الجمع، كمن اضطر
لإنقاذ غريق إلى التصرف في أرض مغصوبة، فيكون تصرفه في الأرض
واجبا من جهة إنقاذ الغريق وحراما من جهة التصرف في المغصوب.
فإنه في هذا الفرض لابد أن يقع التزاحم بين الواجب والحرام في مقام
الامتثال، إذ لا مندوحة للمكلف حسب الفرض، فلابد في مقام إطاعة
الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع، لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد
المحرم، فيدور الأمر بين أن يعصي الأمر أو يعصي النهي.

(1) لم يرد في ط 2.
401

وفي مثله يرجع إلى أقوى الملاكين، فإن كان ملاك الأمر أقوى - كما
في المثال المذكور - قدم جانب الأمر ويسقط النهي عن الفعلية، وإن كان
ملاك النهي أقوى قدم جانب النهي، كمن انحصر عنده إنقاذ حيوان محترم
من الهلكة بهلاك إنسان.
تنبيه: مما يلحق بهذا الباب ويتفرع عليه ما لو اضطر إلى ارتكاب
فعل محرم لا بسوء اختياره، ثم اضطر إلى الإتيان بالعبادة على وجه
يكون ذلك فعل المحرم مصداقا لتلك العبادة، بمعنى أنه اضطر إلى الإتيان
بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذي قد اضطر إليه.
ومثاله: المحبوس في مكان مغصوب فيضيق عليه وقت الصلاة ولا
يسعه الإتيان بها خارج المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب
عليه الإتيان بالعبادة وتقع صحيحة، أو لا؟
نقول: لا ينبغي الشك في أن عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة،
لأ أنه مع الاضطرار إلى فعل الحرام لا تبقى فعلية للنهي، لاشتراط القدرة
في التكليف، فالأمر لا مزاحم لفعليته، فيجب عليه أداء الصلاة، ولابد أن
تقع حينئذ صحيحة.
نعم، يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر ودليل النهي متعارضين
بأنفسهما من أول الأمر وقد رجحنا جانب النهي بأحد مرجحات باب
التعارض، فإنه في هذه الصورة لاوجه لوقوع العبادة صحيحة، لأن العبادة
لا تقع صحيحة إلا إذا قصد بها امتثال الأمر الفعلي بها - إن كان - أو قصد
بها الرجحان الذاتي قربة إلى الله تعالى، والمفروض أنه هنا لا أمر فعلي،
لعدم شمول دليله بما هو حجة لمورد الاجتماع، لأن المفروض تقديم
جانب النهي.
402

وقيل: إن النهي إذا زالت فعليته من جهة الاضطرار لم يبق مانع من
التمسك بعموم الأمر (1).
وهذه غفلة ظاهرة، فإن دليل الأمر بما هو حجة لا يكون شاملا
لمورد الاجتماع، لمكان التعارض بين الدليلين وتقديم دليل النهي، فإذا
اضطر المكلف إلى فعل المنهي عنه لا يلزم منه أن يعود دليل الأمر حجة
في مورد الاجتماع مرة ثانية. وإنما يتصور أن يعود الأمر فعليا إذا كان
تقديم النهي من باب التزاحم، فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليا.
وأما الرجحان الذاتي، فإنه بعد فرض التعارض بين الدليلين وتقديم
جانب النهي لا يكون الرجحان محرزا في مورد الاجتماع، لأن عدم
شمول دليل الأمر بما هو حجة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان:
وجود المانع مع بقاء الملاك، وانتفاء المقتضي وهو الملاك، فلا يحرز
وجود الملاك حتى يصح قصده متقربا به إلى الله تعالى.
الثاني: أن يكون الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل منزلا مغصوبا
متعمدا، فبادر إلى الخروج تخلصا من استمرار الغصب، فإن هذا التصرف
بالمنزل في الخروج لا شك في أنه تصرف غصبي أيضا، وهو مضطر إلى
ارتكابه للتخلص من استمرار فعل الحرام، وكان اضطراره إليه بمحض
اختياره إذ دخل المنزل غاصبا باختياره.
وتعرف هذه المسألة في لسان المتأخرين بمسألة " التوسط في
المغصوب " والكلام يقع فيها من ناحيتين:
1 - في حرمة هذا التصرف الخروجي أو وجوبه.
2 - في صحة الصلاة المأتي بها حال الخروج.

(1) لم نظفر على شخص القائل، ذكره في تقرير أبحاث السيد الخوئي بلفظ: قد استدل
للمشهور، راجع المحاضرات: ج 4 ص 340.
403

حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه:
أما الناحية الأولى: فقد تعددت الأقوال فيها، فقيل: بحرمة التصرف
الخروجي فقط (1). وقيل: بوجوبه فقط ولكن يعاقب فاعله (2). وقيل:
بوجوبه فقط ولا يعاقب فاعله (3). وقيل: بحرمته ووجوبه معا (4). وقيل: لا
هذا ولا ذاك ومع ذلك يعاقب عليه (5).
فينبغي أن نبحث عن وجه القول بالحرمة، وعن وجه القول بالوجوب
ليتضح الحق في المسألة (وهو القول الأول).
أما وجه الحرمة: فمبني على أن التصرف بالغصب بأي نحو من أنحاء
التصرف - دخولا وبقاء وخروجا - محرم من أول الأمر قبل الإبتلاء
بالدخول، فهو قبل أن يدخل منهي عن كل تصرف في المغصوب حتى
هذا التصرف الخروجي، لأ أنه كان متمكنا من تركه بترك الدخول.
ومن يقول بعدم حرمته، فإنه يقول به لأ أنه يجد أن هذا المقدار من
التصرف مضطر إليه سواء خرج الغاصب أو بقي، فيمتنع عليه تركه، ومع
فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة؟
ولكنا نقول له: إن هذا الامتناع هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره
وكان متمكنا من تركه بترك الدخول، والامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار، فهو مخاطب من أول الأمر بترك التصرف حتى يخرج،
فالخروج في نفسه بما هو تصرف داخل من أول الأمر في أفراد العنوان

(1) نسبه في التقريرات إلى ظاهر بعض الأفاضل في الإشارات، مطارح الأنظار: ص 155.
(2) اختاره صاحب الفصول ثم قال: وكأن ما عزي إلى الفخر الرازي من القول بأنه مأمور
بالخروج وحكم المعصية جار عليه راجع إلى ما ذكرناه، الفصول الغروية: ص 138.
(3) قال به الشيخ الأنصاري على ما في مطارح الأنظار: 153.
(4) هذا القول منسوب إلى أبي هاشم، واستقربه المحقق القمي، قوانين الأصول: ص 153.
(5) اختاره المحقق الخراساني في كفاية الأصول: ص 204.
404

المنهي عنه، أي أن العنوان المنهي عنه - وهو التصرف بمال الغير بدون
رضاه - يسع في عمومه كل تصرف متمكن من تركه حتى الخروج،
وامتناع ترك هذا التصرف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان.
ونحن لا نقول - كما سبق - إن المعنون بنفسه هو متعلق الخطاب حتى
يقال لنا: إنه يمتنع تعلق الخطاب بالممتنع تركه وإن كان الامتناع بسوء
الاختيار.
وأما وجه الوجوب: فقد قيل: إن الخروج واجب نفسي باعتبار أن
الخروج معنون بعنوان التخلص عن الحرام، والتخلص عن الحرام في
نفسه عنوان حسن عقلا وواجب شرعا. وقد نسب هذا الوجه إلى الشيخ
الأعظم الأنصاري - أعلى الله تعالى مقامه - على ما يظهر من تقريرات
درسه (1).
وقيل: إن الخروج واجب غيري - كما يظهر من بعض التعبيرات في
تقريرات الشيخ أيضا (2) - باعتبار أنه مقدمة للتخلص من الحرام، وهو
الغصب الزائد الذي كان يتحقق لو لم يخرج.
والحق: أنه ليس بواجب نفسي ولا غيري.
أما أنه ليس بواجب نفسي، فلأ أنه:
أولا: أن التخلص عن الشئ - بأي معنى فرض - عنوان مقابل لعنوان
الابتلاء به بديل له لا يجتمعان، وهما من قبيل الملكة وعدمها. وهذا
واضح.
وحينئذ نقول له: ما مرادك من التخلص الذي حكمت عليه بأنه عنوان
حسن؟
إن كان المراد به " التخلص من أصل الغصب " فهو بالخروج - أي

(1 و 2) راجع مطارح الأنظار: ص 153 - 156.
405

الحركات الخروجية - مبتل بالغصب، لا أنه متخلص منه، لأ أنه تصرف
بالمغصوب.
وإن كان المراد به " التخلص من الغصب الزائد الذي يقع لو لم يخرج "
فهو لا ينطبق على الحركات الخروجية، وذلك لأن التخلص لما كان مقابلا
للابتلاء بديلا له - كما قدمنا - فالزمان الذي يصلح أن يكون زمانا للابتلاء
لابد أن يكون هو الذي يصدق عليه عنوان " التخلص " مع أن زمان
الحركات الخروجية سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج،
فهو في حال الحركات الخروجية لا مبتل بالغصب الزائد ولا متخلص منه،
بل الغاصب مبتل بالغصب من حين دخوله إلى حين خروجه، وبعد
خروجه يصدق عليه أنه متخلص من الغصب.
وثانيا: أن التخلص لو كان عنوانا يصدق على الخروج، فلا ينبغي أن
يراد من الخروج نفس الحركات الخروجية، بل على تقديره ينبغي أن يراد
منه ما تكون الحركات الخروجية مقدمة له أو بمنزلة المقدمة. فلا ينطبق
إذا عنوان " التخلص " على التصرف بالمغصوب المحرم كما يريد أن
يحققه هذا القائل.
والسر واضح، فإن الخروج يقابل الدخول، ولما كان الدخول عنوانا
للكون داخل الدار المسبوق بالعدم، فلابد أن يكون الخروج - بمقتضى
المقابلة - عنوانا للكون خارج الدار المسبوق بالعدم. أما نفس التصرف
بالمغصوب بالحركات الخروجية التي منها يكون الخروج فهو مقدمة أو
شبه المقدمة للخروج لا نفسه.
وثالثا: لو سلمنا أن التخلص عنوان ينطبق على الحركات الخروجية
فلا نسلم بوجوبه النفسي، لأن التخلص عن الحرام ليس هو إلا عبارة
أخرى عن ترك الحرام، وترك الحرام ليس واجبا نفسيا على وجه يكون
406

ذا مصلحة نفسية في مقابل المفسدة النفسية في الفعل. نعم، هو مطلوب
بتبع النهي عن الفعل، وقد تقدم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأول (1)
وفي مسألة الضد في الجزء الثاني (2). فكما أن الأمر بالشئ لا يقتضي
النهي عن ضده العام - أي نقيضه وهو الترك - كذلك أن النهي عن الشئ
لا يقتضي الأمر بضده العام - أي نقيضه وهو الترك -، ولذا قلنا في مبحث
النواهي: إن تفسير النهي بطلب الترك - كما وقع للقوم - ليس في محله
وإنما هو تفسير للشئ بلازم المعنى العقلي، فإن مقتضى الزجر عن الفعل
طلب تركه عقلا، لا على أن يكون الترك ذا مصلحة نفسية في مقابل
مفسدة الفعل. وكذلك في الأمر، فإن مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن
تركه عقلا لاعلى أن يكون الترك ذا مفسدة نفسية في مقابل مصلحة الفعل،
بل ليس في النهي إلا مفسدة الفعل، وليس في الأمر إلا مصلحة الفعل.
وأما أن الخروج ليس بواجب غيري، فلأ أنه:
أولا: قد تقدم أن مقدمة الواجب ليست بواجبة على تقدير القول بأن
التخلص واجب نفسي.
وثانيا: أن الخروج الذي هو عبارة عن الحركات الخروجية في
مقصود هذا القائل ليس مقدمة لنفس التخلص عن الحرام، بل على
التحقيق إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار، والكون في خارج الدار
ملازم لعنوان التخلص عن الحرام لا نفسه، ولا يلزم من فرض وجوب
التخلص فرض وجوب لازمه، فإن المتلازمين لا يجب أن يشتركا في
الحكم، كما تقدم في مسألة الضد (3) وإذا لم يجب الكون خارج الدار كيف
تجب مقدمته؟

(1) راجع ص 149.
(2) راجع ص 356.
(3) راجع ص 361.
407

وثالثا: لو سلمنا أن التخلص واجب نفسي وأنه نفس الكون خارج
الدار فتكون الحركات الخروجية مقدمة له وأن مقدمة الواجب واجبة،
لو سلمنا كل ذلك، فإن مقدمة الواجب إنما تكون واجبة حيث لا مانع من
ذلك، كما لو كانت محرمة في نفسها - كركوب المركب الحرام في طريق
الحج - فإنه لا يقع على صفة الوجوب وإن توصل به إلى الواجب. وهنا
الحركات الخروجية تقع على صفة الحرمة - كما قدمنا - باعتبار أنها من
أفراد الحرام وهو التصرف بالمغصوب، فلا تقع على صفة الوجوب من
باب المقدمة.
فإن قلت: إن المقدمة المحرمة إنما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا
تكون منحصرة، وأما مع انحصار التوصل بها إلى الواجب، فإنه يقع
التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها، لأن الأمر يدور حينئذ بين امتثال
الوجوب وبين امتثال الحرمة، فلو كان الوجوب أهم قدم على حرمة
المقدمة فتسقط حرمتها. وهنا الأمر كذلك، فإن المقدمة منحصرة،
والواجب - وهو ترك الغصب الزائد - أهم.
قلت: هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلف، فإنه
حينئذ يكون الدوران في مقام التشريع. وأما لو كان الدوران واقعا بسوء
اختيار المكلف - كما هو مفروض في المقام - فإن المولى في مقام
التشريع قد استوفى غرضه من أول الأمر بالنهي عن الغصب مطلقا ولا
دوران فيه حتى يقال: يقبح من المولى تفويت غرضه الأهم. وإنما الدوران
وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاء خارجيا بسبب سوء اختيار المكلف
بعد فرض أن المولى من أول الأمر - قبل أن يدخل المكلف في المحل
المغصوب - قد استوفى كل غرضه في مقام التشريع إذ نهى عن كل
تصرف بالمغصوب.
408

فليس هناك تزاحم في مقام التشريع، فالمكلف يجب عليه أن يترك
الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب، ونفس الحركات الخروجية تكون
أيضا محرمة يستحق عليها العقاب، لأ نهى من أفراد ما هو منهي عنه، وقد
وقع في هذا المحذور والدوران بسوء اختياره.
صحة الصلاة حال الخروج
وأما الناحية الثانية: - وهي صحة الصلاة حال الخروج - فإنها تبتني
على اختيار أحد الأقوال في الناحية الأولى.
فإن قلنا بأن الخروج يقع على صفة الوجوب فقط، فإنه لا مانع من
الإتيان بالصلاة حالته، سواء ضاق وقتها أم لم يضق، ولكن بشرط ألا
يستلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا على الحركات الخروجية، فإن هذا
التصرف الزائد حينئذ يقع محرما منهيا عنه. فإذا استلزم أداء الصلاة
تصرفا زائدا، فإن كان الوقت ضيقا، فلابد أن يؤدي الصلاة حال الخروج
ولابد أن يقتصر منها على أقل الواجب فيصلي ايماء بدل الركوع
والسجود. وإن كان الوقت متسعا لأدائها بعد الخروج وجب أن ينتظر بها
إلى ما بعد الخروج.
وإن قلنا بوقوع الخروج على صفة الحرمة، فإنه مع سعة الوقت لابد
أن يؤديها بعد الخروج سواء استلزمت تصرفا زائدا أم لم تستلزم. ومع
ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبي والصلاة الواجبة، والصلاة لا
تترك بحال، فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرفا زائدا، فيصلي
إيماء للركوع والسجود، ويقرأ ماشيا، فيترك الاطمئنان الواجب... وهكذا.
وإن قلنا بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة ولا صفة الوجوب فلا
مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرفا زائدا حتى مع
سعة الوقت على النحو الذي تقدم.
409

المسألة الخامسة
دلالة النهي على الفساد
تحرير محل النزاع:
هذه المسألة من أمهات المسائل الأصولية التي بحثت من القديم.
ولأجل تحرير محل النزاع فيها وتوضيحه، علينا أن نشرح الألفاظ الواردة
في عنوا نهى وهي كلمة: الدلالة، النهي، الفساد.
ولابد من ذكر المراد من الشئ المنهي عنه أيضا، لأ أنه مدلول عليه
بكلمة " النهي " إذ النهي لابد له من متعلق.
إذن ينبغي البحث عن أربعة أمور:
1 - الدلالة: فإن ظاهر اللفظة يعطي أن المراد منها الدلالة اللفظية.
ولعله لأجل هذا الظهور البدوي أدرج بعضهم هذه المسألة في مباحث
الألفاظ (1). ولكن المعروف أن مرادهم منها ما يؤدي إليه لفظ " الاقتضاء "

(1) لم نظفر بمن بحث عنها قبل مبحثي الأوامر والنواهي، فإن كان البحث عنهما من مباحث
الألفاظ فهو الطريقة الدارجة بين الأصوليين. قال المحقق الخراساني: لا يخفى أن عد هذه
المسألة من مباحث الألفاظ إنما هو لأجل أنه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في
المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، كفاية الأصول: ص 217.
وراجع فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 455.
410

حسبما يفهم من بحثهم المسألة وجملة من الأقوال فيها، لا سيما
المتأخرون من الأصوليين.
وعليه، فيكون المراد من " الدلالة " خصوص الدلالة العقلية. وحينئذ
يكون المقصود من النزاع: البحث عن اقتضاء طبيعة النهي عن الشئ
فساد المنهي عنه عقلا. ومن هنا يعلم أنه لا يشترط في النهي أن يكون
مستفادا من دليل لفظي. وفي الحقيقة يكون النزاع هنا عن ثبوت الملازمة
العقلية بين النهي عن الشئ وفساده، أو عن الممانعة والمنافرة عقلا بين
النهي عن الشئ وصحته. لا فرق بين التعبيرين.
ولأجل هذا أدرجنا نحن هذه المسألة في قسم الملازمات العقلية.
نعم، قد يدعي بعضهم: أن هذه الملازمة - على تقدير ثبوتها - من نوع
الملازمات البينة بالمعنى الأخص (1). وحينئذ يكون اللفظ الدال بالمطابقة
على النهي دالا بالدلالة الالتزامية على فساد المنهي عنه، فيصح أن يراد
من " الدلالة " ما هو أعم من الدلالة اللفظية والعقلية.
ونحن نقول: هذا صحيح على هذا القول، ولا بأس بتعميم الدلالة إلى (2)
اللفظية والعقلية في العنوان حينئذ. ولكن النزاع مع هذا القائل أيضا يقع
في الملازمة العقلية قبل فرض الدلالة اللفظية الالتزامية، فالبحث معه
أيضا يرجع إلى البحث عن الاقتضاء العقلي. فالأولى أن يراد من " الدلالة "
في العنوان الاقتضاء العقلي، فإنه يجمع جميع الأقوال والاحتمالات،
لا سيما أن البحث يشمل كل نهي وإن لم يكن مستفادا من دليل لفظي.
والعبارة تكون أكثر استقامة لو عبر عن عنوان المسألة بما عبر به
صاحب الكفاية (قدس سره) بقوله: " اقتضاء النهي الفساد " (3) فأبدل كلمة " الدلالة "

(1) لم نظفر بمن صرح به.
(2) لم ترد " إلى " في ط الأولى.
(3) كفاية الأصول: ص 217.
411

بكلمة " الاقتضاء " ولكن نحن عبرنا بما جرت عليه عادة القدماء في
عنوان المسألة متابعة لهم.
2 - النهي: إن كلمة " النهي " ظاهرة - كما تقدم في الجزء الأول
ص 149 - في خصوص الحرمة، وقلنا هناك: إن هذا الظهور ليس من
جهة الوضع، بل بمقتضى حكم العقل. أما نفس الكلمة من جهة الوضع
فهي تشمل النهي التحريمي والنهي التنزيهي - أي الكراهة -. ولعل كلمة
" النهي " في مثل عنوان المسألة ليس فيها ما يقتضي عقلا ظهورها في
الحرمة، فلا بأس من تعميم " النهي " في العنوان لكل من القسمين بعد أن
كان النزاع قد وقع في كل منهما.
وكذلك كلمة " النهي " بإطلاقها ظاهرة في خصوص الحرمة النفسية
دون الغيرية. ولكن النزاع أيضا وقع في كل منهما، فإذن ينبغي تعميم كلمة
" النهي " في العنوان للتحريمي والتنزيهي وللنفسي والغيري، كما صنع
صاحب الكفاية (قدس سره). وشيخنا النائيني (قدس سره) جزم باختصاص النهي في عنوان
المسألة بخصوص التحريمي النفسي (1) لأ أنه يجزم بأن التنزيهي لا يقتضي
الفساد وكذا الغيري.
والذي ينبغي أن يقال له: إن الاختيار شئ وعموم النزاع في المسألة
شئ آخر، فإن اختياركم بأن النهي التنزيهي والغيري لا يقتضيان الفساد
ليس معناه اتفاق الكل على ذلك حتى يكون النزاع في المسألة مختصا
بما عداهما، والمفروض أن هناك من يقول بأن النهي التنزيهي والغيري
يقتضيان الفساد.
فتعميم كلمة " النهي " في العنوان هو الأولى.
3 - الفساد: إن " الفساد " كلمة ظاهرة المعنى، والمراد منها ما يقابل

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 456.
412

" الصحة " تقابل العدم والملكة على الأصح، لا تقابل النقيضين ولا تقابل
الضدين. وعليه، فما له قابلية أن يكون صحيحا يصح أن يتصف بالفساد،
وما ليس له ذلك لا يصح وصفه بالفساد.
وصحة كل شئ بحسبه، فمعنى صحة العبادة مطابقتها لما هو المأمور
به من جهة تمام أجزائها وجميع ما هو معتبر فيها (1). ومعنى فسادها عدم
مطابقتها له من جهة نقصان فيها. ولازم عدم مطابقتها لما هو مأمور به
عدم سقوط الامر وعدم سقوط الأداء والقضاء.
ومعنى صحة المعاملة مطابقتها لما هو المعتبر فيها من أجزاء وشرائط
ونحوها. ومعنى فسادها عدم مطابقتها لما هو معتبر فيها، ولازم عدم
مطابقتها عدم ترتب أثرها المرغوب فيه عليها: من نحو النقل والانتقال
في عقد البيع والإجارة، ومن نحو العلقة الزوجية في عقد النكاح...
وهكذا.
4 - متعلق النهي: لاشك في أن متعلق النهي - هنا - يجب أن يكون
مما يصح أن يتصف بالصحة والفساد ليصح النزاع فيه، وإلا فلا معنى لأن
يقال - مثلا -: إن النهي عن شرب الخمر يقتضي الفساد أولا يقتضي.
وعليه، فليس كل ما هو متعلق للنهي يقع موضعا للنزاع في هذه
المسألة، بل خصوص ما يقبل وصفي الصحة والفساد. وهذا واضح.
ثم إن متعلق النهي يعم العبادة والمعاملة اللتين يصح وصفهما بالفساد،
فلا اختصاص للمسألة بالعبادة، كما ربما ينسب إلى بعضهم (2).

(1) هذا بناء على اعتبار الأمر في عبادية العبادة. أما إذا قلنا بكفاية الرجحان الذاتي في
عباديتها إذا قصدها متقربا بها إلى الله تعالى - كما هو الصحيح - فيكون معنى صحة العبادة ما
هو أعم من مطابقتها لما هو مأمور به ومن مطابقتها لما هو راجح ذاتا وإن لم يكن هناك أمر.
(2) لم نظفر بالناسب ولا بالمنسوب إليه.
413

وإذا اتضح المقصود من الكلمات التي وردت في العنوان يتضح
المقصود من النزاع ومحله هنا، فإنه يرجع إلى النزاع في الملازمة العقلية
بين النهي عن الشئ وفساده. فمن يقول بالاقتضاء فإنما يقول بأن النهي
يستلزم عقلا فساد متعلقه، وقد يقول مع ذلك بأن اللفظ الدال على النهي
دال على فساد المنهي عنه بالدلالة الالتزامية. ومن يقول بعدمه إنما يقول
بأن النهي عن الشئ لا يستلزم عقلا فساده.
أو فقل: إن النزاع هنا يرجع إلى النزاع في وجود الممانعة والمنافرة
عقلا بين كون الشئ صحيحا وبين كونه منهيا عنه، أي أنه هل هناك
مانعة جمع بين صحة الشئ والنهي عنه أولا؟
ولأجل هذا تدخل هذه المسألة في بحث الملازمات العقلية كما
صنعنا.
ولما كان البحث يختلف اختلافا كثيرا في كل واحدة من العبادة
والمعاملة عقدوا البحث في موضعين: العبادة، والمعاملة. فينبغي البحث
عن كل منهما مستقلا في مبحثين:
المبحث الأول
النهي عن العبادة
المقصود من " العبادة " التي هي محل النزاع في المقام: العبادة بالمعنى
الأخص، أي خصوص ما يشترط في صحتها قصد القربة، أو فقل هي
خصوص الوظيفة التي شرعها الله تعالى لأجل التقرب بها إليه.
ولا يشمل النزاع العبادة بالمعنى الأعم، مثل غسل الثوب من النجاسة،
لأ أنه وإن صح أن يقع عبادة متقربا به إلى الله تعالى لا يتوقف حصول أثره
المرغوب فيه - وهو زوال النجاسة - على وقوعه قربيا، فلو فرض وقوعه
414

منهيا عنه - كالغسل بالماء المغصوب - فإنه يقع به الامتثال ويسقط الأمر
به، فلا يتصور وقوعه فاسدا من أجل تعلق النهي به.
نعم، إذا وقع محرما منهيا عنه، فإنه لا يقع عبادة متقربا به إلى الله
تعالى. فإذا قصد من الفساد هذا المعنى فلا بأس في أن يقال: إن النهي عن
العبادة بالمعنى الأعم يقتضي الفساد، فإن من يدعي الممانعة بين الصحة
والنهي يمكن أن يدعي الممانعة بين وقوع غسل الثوب صحيحا - أي
عبادة متقربا به إلى الله تعالى - وبين النهي عنه.
وليس معنى العبادة هنا: أنها ما كانت متعلقة للأمر فعلا، لأ أنه مع
فرض تعلق النهي بها فعلا لا يعقل فرض تعلق الأمر بها أيضا. وليس ذلك
كباب اجتماع الأمر والنهي الذي فرض فيه تعلق النهي بعنوان غير العنوان
الذي تعلق به الأمر، فإنه إن جاز هناك اجتماع الأمر والنهي فلا يجوز هنا،
لعدم تعدد العنوان، وإنما العنوان الذي تعلق به الأمر هو نفسه صار متعلقا
للنهي.
وعلى هذا، فلابد أن يراد بالعبادة المنهي عنها ما كانت طبيعتها متعلقة
للأمر وإن لم تكن شاملة - بما هي مأمور بها - لما هو متعلق النهي، أو ما
كانت من شأنها أن يتقرب بها لو تعلق بها أمر. وبعبارة أخرى جامعة أن
يقال: إن المقصود بالعبادة هنا هي الوظيفة التي لو شرعها الشارع لشرعها
لأجل التعبد بها وإن لم يتعلق بها أمر فعلي لخصوصية المورد.
ثم إن النهي عن العبادة يتصور على أنحاء:
أحدها: أن يتعلق النهي بأصل العبادة، كالنهي عن صوم العيدين،
وصوم الوصال، وصلاة الحائض والنفساء.
وثانيها: أن يتعلق بجزئها، كالنهي عن قراءة سورة من سور العزائم في
الصلاة.
415

وثالثها: أن يتعلق بشرطها أو بشرط جزئها، كالنهي عن الصلاة
باللباس المغصوب أو المتنجس.
ورابعها: أن يتعلق بوصف ملازم لها أو لجزئها، كالنهي عن الجهر
بالقراءة في موضع الإخفات، والنهي عن الإخفات في موضع الجهر.
والحق: أن النهي عن العبادة يقتضي الفساد، سواء كان نهيا عن أصلها
أو جزئها أو شرطها أو وصفها، للتمانع الظاهر بين العبادة التي يراد بها
التقرب إلى الله تعالى ومرضاته، وبين النهي عنها المبعد عصيانه عن الله
والمثير لسخطه، فيستحيل التقرب بالمبعد والرضا بما يسخطه. ويستحيل
أيضا التقرب بما يشتمل على المبعد المبغوض المسخط له، أو بما هو
متقيد بالمبعد، أو بما هو موصوف بالمبعد.
ومن الواضح: أن المقصود من القرب والبعد من المولى القرب والبعد
المعنويان، وهما يشبهان القرب والبعد المكانيين، فكما يستحيل التقرب
المكاني بما هو مبعد مكانا كذلك يستحيل التقرب المعنوي بما هو مبعد
معنى.
ونحن إذ نقول ذلك في النهي عن الجزء والشرط والوصف، نقول به لا
لأجل أن النهي عن هذه الأمور يسري إلى أصل العبادة وأن ذلك واسطة
في الثبوت أو واسطة في العروض كما قيل (1) ولا لأجل أن جزء العبادة
وشرطها عبادة فإذا فسد الجزء والشرط استلزم فسادهما فساد المركب
والمشروط.
بل نحن لا نستند في قولنا في الجزء والشرط والوصف إلى ذلك، لأ أنه
لا حاجة إلى مثل هذه التعليلات، ولا تصل النوبة إليها بعد ما قلناه: من أنه
يستحيل التقرب بما يشتمل على المبعد أو بما هو مقيد أو موصوف

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 463.
416

بالمبعد، كما يستحيل التقرب بنفس المبعد بلا فرق.
على أن في هذه التعليلات من المناقشة ما لا يسعه هذا المختصر،
ولا حاجة إلى مناقشتها بعدما ذكرناه.
هذا كله في النهي النفسي.
أما النهي الغيري المقدمي: فحكمه حكم النفسي بلا فرق، كما أشرنا
إلى ذلك في ما تقدم ص 412.
فإنه أشرنا هناك إلى الوجه الذي ذكره بعض أعاظم مشايخنا (قدس سره) للفرق
بينهما، بأن النهي الغيري لا يكشف عن وجود مفسدة وحزازة في المنهي
عنه، فيبقى المنهي عنه على ما كان عليه من المصلحة الذاتية بلا مزاحم
لها من مفسدة للنهي، فيمكن التقرب به بقصد تلك المصلحة الذاتية
المفروضة. بخلاف النهي النفسي الكاشف عن المفسدة والحزازة في
المنهي عنه المانعة من التقرب به.
وقد ناقشناه هناك بأن التقرب والابتعاد ليسا يدوران مدار المصلحة
والمفسدة الذاتيتين حتى يتم هذا الكلام، بل - كما ذكرناه هناك - أن الفعل
المبعد عن المولى في حال كونه مبعدا لا يعقل أن يكون متقربا به إليه -
كالتقرب والابتعاد المكانيين - والنهي وإن كان غيريا يوجب البعد
ومبغوضية المنهي عنه وإن لم يشتمل على مفسدة نفسية.
ويبقى الكلام في النهي التنزيهي - أي الكراهة - فالحق أيضا أنه
يقتضي الفساد كالنهي التحريمي، لنفس التعليل السابق من استحالة التقرب
بما هو مبعد بلا فرق، غاية الأمر أن مرتبة البعد في التحريمي أشد وأكثر
منها في التنزيهي، كاختلاف مرتبة القرب في موافقة الأمر الوجوبي
والاستحبابي. وهذا الفرق لا يوجب تفاوتا في استحالة التقرب بالمبعد.
ولأجل هذا حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلية الثواب مع
417

ثبوت صحتها شرعا لو أتى بها المكلف، لا الكراهة الحكمية الشرعية.
ومعنى حمل الكراهة على أقلية الثواب: أن النهي الوارد فيها يكون مسوقا
لبيان هذا المعنى وبداعي الإرشاد إلى أقلية الثواب، وليس مسوقا لبيان
الحكم التكليفي المقابل للأحكام الأربعة الباقية بداعي الزجر عن الفعل
والردع عنه.
وعليه، فلو أحرز بدليل خاص أن النهي بداعي الزجر التنزيهي، أولم
يحرز من دليل خاص صحة العبادة المكروهة، فلا محالة لا نقول بصحة
العبادة المنهي عنها بالنهي التنزيهي.
هذا فيما إذا كان النهي التنزيهي عن نفس عنوان العبادة أو جزئها أو
شرطها أو وصفها. أما لو كان النهي عن عنوان آخر غير عنوان المأمور به،
كما لو كان بين المنهي عنه والمأمور به عموم وخصوص من وجه، فإن
هذا المورد يدخل في باب الاجتماع، وقد قلنا هناك بجواز الاجتماع في
الأمر والنهي التحريمي فضلا عن الأمر والنهي التنزيهي. وليس هو من
باب النهي عن العبادة إلا إذا ذهبنا إلى امتناع الاجتماع، فيدخل في
مسألتنا.
تنبيه: إن النهي الذي هو موضع النزاع - وقلنا باقتضائه الفساد في
العبادة - هو النهي بالمعنى الظاهر من مادته وصيغته، أعني ما يتضمن
حكما تحريميا أو تنزيهيا بان يكون إنشاؤه بداعي الردع والزجر.
أما النهي بداع آخر - كداعي بيان أقلية الثواب، أو داعي الإرشاد إلى
مانعية الشئ مثل النهي عن لبس جلد الميتة في الصلاة، أو نحو ذلك من
الدواعي - فإنه ليس موضع النزاع في مسألتنا، ولا يقتضي الفساد بما هو
نهي. إلا أن يتضمن اعتبار شئ في المأمور به، فمع فقد ذلك الشئ
لا ينطبق المأتي به على المأمور به فيقع فاسدا، كالنهي بداعي الإرشاد
418

إلى مانعية شئ، فيستفاد منه أن عدم ذلك الشئ يكون شرطا في
المأمور به. ولكن هذا شئ آخر لا يرتبط بمسألتنا، فإن هذا يجري حتى
في الواجبات التوصلية، فإن فقد أحد شروطها يوجب فسادها.
المبحث الثاني
النهي عن المعاملة
إن النهي في المعاملة على نحوين - كالنهي عن العبادة - فإنه تارة
يكون النهي بداعي بيان مانعية الشئ المنهي عنه أو بداع آخر مشابه له،
واخرى يكون بداعي الردع والزجر من أجل مبغوضية ما تعلق به النهي
ووجود الحزازة فيه.
فإن كان الأول: فهو خارج عن مسألتنا - كما تقدم في التنبيه السابق -
إذ لا شك في أنه لو كان النهي بداعي الإرشاد إلى مانعية الشئ في
المعاملة، فإنه يكون دالا على فسادها عند الإخلال، لدلالة النهي على
اعتبار عدم المانع فيها، فتخلفه تخلف للشرط المعتبر في صحتها. وهذا
لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان.
وإن كان الثاني: فإن النهي إما أن يكون عن ذات السبب، أي عن العقد
الإنشائي - أو فقل: عن التسبيب به لإيجاد المعاملة - كالنهي عن البيع
وقت النداء لصلاة الجمعة في قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع...) * (1). وإما أن يكون عن ذات
المسبب، أي عن نفس وجود المعاملة، كالنهي عن بيع الآبق وبيع
المصحف.
فإن كان النهي على النحو الأول - أي عن ذات السبب - فالمعروف

(1) الجمعة: 9.
419

أنه لا يدل على فساد المعاملة، إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين
مبغوضية العقد والتسبيب به وبين إمضاء الشارع له بعد أن كان العقد
مستوفيا لجميع الشروط المعتبرة فيه، بل ثبت خلافها كحرمة الظهار التي
لم تناف ترتب الأثر عليه من الفراق.
وإن كان النهي على النحو الثاني - أي عن المسبب - فقد ذهب
جماعة من العلماء إلى أن النهي في هذا القسم يقتضي الفساد (1).
وأقصى ما يمكن تعليل ذلك بما ذكره بعض أعاظم مشايخنا: من أن
صحة كل معاملة مشروطة بأن يكون العاقد مسلطا على المعاملة في
حكم الشارع غير محجور عليه من قبله من التصرف في العين التي تجري
عليها المعاملة، ونفس النهي عن المسبب يكون معجزا مولويا للمكلف
عن الفعل ورافعا لسلطنته عليه، فيختل به ذلك الشرط المعتبر في صحة
المعاملة، فلا محالة يترتب على ذلك فسادها (2).
هذا غاية ما يمكن أن يقال في بيان اقتضاء النهي عن المسبب لفساد
المعاملة. ولكن التحقيق أن يقال:
إن استناد الفساد إلى النهي إنما يصح أن يفرض ويتنازع فيه فيما إذا
كان العقد بشرائطه موجودا حتى بشرائط المتعاقدين وشرائط العوضين،
وأنه ليس في البين إلا المبغوضية الصرفة المستفادة من النهي. وحينئذ يقع
البحث في أن هذه المبغوضية هل تنافي صحة المعاملة أو لا تنافيها؟
أما إذا كان النهي دالا على اعتبار شئ في المتعاقدين والعوضين أو
العقد - مثل النهي عن أن يبيع السفيه والمجنون والصغير الدال على اعتبار
العقل والبلوغ في البايع، وكالنهي عن بيع الخمر والميتة والآبق ونحوها

(1) لم نجده إلا في كلام النائيني، راجع فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 471.
(2) أجود التقريرات: ج 1 ص 404.
420

الدال - على اعتبار إباحة المبيع والتمكن من التصرف منه، وكالنهي عن
العقد بغير العربية مثلا الدال على اعتبارها في العقد - فإن هذا النهي في
كل ذلك لا شك في كونه دالا على فساد المعاملة، لأن هذا النهي في
الحقيقة يرجع إلى القسم الأول الذي ذكرناه، وهو ما كان النهي بداعي
الإرشاد إلى اعتبار شئ في المعاملة. وقد تقدم أن هذا ليس
موضع الكلام: من منافاة نفس النهي بداعي الردع والزجر لصحة المعاملة.
فالعمدة هو الكلام في هذه المنافاة، وليس من دليل عليها حتى تثبت
الملازمة بين النهي وفساد المعاملة وكون النهي عن المسبب يكون معجزا
مولويا للمكلف عن الفعل ورافعا لسلطنته عليه، فإن معنى ذلك: أن النهي
في المعاملة شأنه أن يدل على اختلال شرط في المعاملة بارتكاب المنهي
عنه. وهذا لا كلام لنا فيه.
وفي هذا القدر من البحث في هذه المسألة الكفاية
وفقنا الله تعالى لمراضيه
* * *
421