الكتاب: إفاضة العوائد
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الثاني ١٤١٠
المطبعة: مهر
الناشر: دار القرآن الكريم
ردمك:
ملاحظات: تأليف آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي

إفاضة العوائد
تعليق
على درر الفوائد
تأليف
المرحوم المبرور مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة
آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي
قدس سره
بقلم
سماحة آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية
الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني
مد ظله
الجزء الأول
1

دار القرآن الكريم
للعناية بطبعه ونشر علومه
الحوزة العلمية
إيران - قم
هوية الكتاب
* الكتاب: إفاضة العوائد تعليق على درر الفوائد
* المؤلف: سماحة آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني مد ظله
* الناشر: دار القرآن الكريم
* الطبعة: الأولى
* طبع منه: 3000 نسخه
* المطبعة: مهر
* التاريخ: ربيع الثاني 1410 -
* إيران: قم - شارع ارم - دار القرآن الكريم صندوق البريد 151 - رقم الهاتف
33078
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علمنا معالم الدين ومعارج اليقين، وأنار قلوبنا
بلوامع السنة والكتاب المبين، ووفقنا لتمهيد القواعد والقوانين
لاستنباط احكام سيد المرسلين، والصلاة والسلام على أشرف سفرائه
المقربين محمد خاتم النبيين وعلى اله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول العبد المذنب المستجير برحمة ربه الكريم، عبد الكريم
الحائري غفر ذنوبه وستر عيوبه لما صنفت في سالف الزمان تصنيفا
شريفا وتأليفا منيفا في علم الأصول، وأودعت فيه غالب مسائلها
المهمة، مراعيا فيه غاية الايجاز والاختصار، مع التوضيح والتنقيح
ببيانات شافية وعبارات وافية، بحيث يكون سهل التناول لطالبه
مجتنبا عن ذكر ما لا ثمرة فيه، وسميته ب‍ (درر الفوائد)
فجددت النظر فيه فألحقت به ما خطر ببالي الفاتر وفكري القاصر
أخيرا مما اختلف فيه رأيي، وأرجو من الله ان يكون نافعا لاخواني من
أهل العلم وان يجعله خير الزاد ليوم المعاد.
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فقهنا في الدين، وفرض علينا معرفة أصوله وكلفنا
بالعمل بفروعه ووفقنا لاستنباط احكام شريعته من كتابه وسنة نبيه وأوصيائه
الأئمة الغر الميامين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعترته
الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغنى محمد رضا بن محمد باقر
الموسوي الگلپايگاني قد طلب إلي جمع من أفاضل الطلاب تدريسهم كتاب
(درر الفوائد) تأليف المرحوم المبرور المغفور له شيخنا واستاذنا مؤسس الحوزة
العلمية في مدينة قم المقدسة العلامة الفقيه والأصولي الشهير آية الله العظمى
وحجته الكبرى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي تغمده الله برحمته
فأجبت الطلب وعلقت عليه ما خطر ببالي ابان الدرس وكان القسم الكثير منه
في حياته والجزء الأخير منه بعد وفاته. وكنت قد دونته عندي لمراجعتي لدى
الحاجة فرغب جمع في طبع المدونات فنزلت عند رغبتهم وذيلت المتن بها
وأسميتها (إفاضة العوائد في التعليق على درر الفوائد) والله تبارك وتعالى
أسأل وإياه أرجو أن ينفعني بها يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله
بقلب سليم.
4

(تعريف علم الأصول) إعلم ان علم الأصول هو العلم [1] بالقواعد الممهدة لكشف
حال الاحكام الواقعية المتعلقة بأفعال المكلفين، سواء وقعت في طريق
العلم بها، كما في بعض القواعد العقلية، أو كانت موجبة للعلم بتنجزها
5

على تقدير الثبوت، أو كانت موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك. ولعل
هذا أحسن مما هو المعروف من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط
الأحكام الشرعية الفرعية، لاستلزامه الالتزام بالاستطراد في بعض المسائل
المهمة، مثل مسائل الأصول العملية، [2] ومسألة حجية الظن في حال
6

الانسداد، بناءا على الحكومة، [3] لعدم تمهدها لاستنباط.
الاحكام كما هو واضح وانما قيدنا القواعد بكونها الممهدة لكشف
7

حال الاحكام، لخروج مثل علم النحو والصرف وأمثالهما [4] مما احتيج
إليها في طريق كشف حال الاحكام، وعلم الفقه أما الأول، فلان
مسائله ليست ممهدة لخصوص ذلك. وأما الثاني، فلان مسائله هي
9

الاحكام الواقعية الأولية، وليس ما وراءها احكام اخر تستكشف حالها
بتلك المسائل [5].
إذا حفظت ما ذكرنا، تقدر على دفع ما ربما يتوهم من دخول
بعض مسائل الأصول في الفقه كمسألة الاستصحاب [6] بناءا على اخذه
من الاخبار وما يشابهها، تقريره أن الاستصحاب على هذا ليس الا
10

وجوب البناء على طبق الحالة السابقة، بل يمكن هذا التوهم فيه حتى
بناءا على اعتباره من باب الظن، فيسري الاشكال في جل مسائل
الأصول: كحجية الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك، بناءا
على أن الحجية ليست إلا وجوب العمل بالمؤدى.
11

وحاصل الجواب أن مسائل الفقه ليست عبارة عن كل حكم
شرعي متعلق بفعل المكلف، بل هي عبارة عن الاحكام الواقعية الأولية،
التي تطلب من حيث نفسها، فكل ما يطلب من جهة كونه مقدمة لاحراز
حال الحكم الواقعي، فهو خارج عن مسائل الفقه ولا اشكال في أن تمام
مسائل الأصول من قبيل الثاني.
12

ولا يخفى عليك أن ما ذكرنا من الميزان أسلم مما ذكر: من أن
مسائل الفقه عبارة عن كل حكم، يقدر المقلد على العمل به بعد ما أفتى
به المجتهد، كحرمة الخمر مثلا ونظائرها. بخلاف مسائل الأصول، فإنه
لا يقدر على العمل بها، وان أفتى بها المجتهد، كحجية خبر الواحد وأمثال
ذلك، فان هذا مخدوش بان قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده
وبالعكس من القواعد الفقهية [7]. ومن المعلوم عدم تمكن المقلد من
العمل بها بعد فتوى المجتهد بتلك القاعدة، بل يحتاج إلى تعيين ما هو صغرى
لتلك القاعدة.
13

(موضوع علم الأصول)
ثم اعلم أن موضوع هذا العلم [8] عبارة عن أشياء متنه تعرضها
تلك المسائل كخبر الواحد والشهرة والشك في الشئ مع العلم بالحالة
السابقة والشك في التكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة وأمثال ذلك
مما يبحث عن عوارضه في هذا العلم ولا يجمعها الأدلة لا بعنوانها ولا
بذواتها.
14

اما الأول فللزوم خروج مسائل حجية الخبر والشهرة
والظواهر [9]
15

وأمثال ذلك مما يبحث فيه عن الحجية في علم الأصول ودخولها
في المبادئ بل للزوم ذلك في مسألة التعادل والتراجيح لان
الحالة جايز.
واما الثاني فلعدم تماميته في تمام المسائل كالأصول
العملية [10] والالتزام بكونها استطرادا كما ترى وقد تكلف شيخنا
المرتضى ره في ارجاع البحث عن حجية الخبر إلى البحث عن الدليل
حيث قال (قده) ان البحث فيها راجع إلى أن السنة الواقعية هل تثبت
بخبر الواحد أم لا [11] وأنت خبير بان هذا على فرض تماميته في مسألة
16

حجية خبر الواحد وأمثالها لا يتم في الأصول العلمية [12] فالا وفق
بالصواب ان يقال: لا نلتزم بكون الجامع بين شتات الموضوعات هو الأدلة
ولا بلزوم ان يكون للجامع بينها اسم خاص يعبر عنه.
فتلخص مما ذكرنا ان وحدة العلم ليست بوحدة الموضوع ولا
19

بوحدة المحمول [13] بل انما هي بوحدة الغرض المتعلق بتدوينه ولذلك
يمكن ان يكون بعض المسائل مذكورا في علمين لكنه منشأ لفائدتين
صار كل منهما سببا لتدوينه في علم.
هذا إذا عرفت ما ذكرنا فلنشرع فيما هو المقصود وقد رتبته على
مقدمات ومقاصد. اما المقدمات
(حقيقة الوضع)
فمنها ان الألفاظ ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النظر عن الوضع
وبه يوجد نحو ارتباط بينهما وهل الارتباط المذكور مجعول ابتدائي للواضع
20

بحيث كان فعله ايجاد ذلك الارتباط وتكوينه أم لا [14] أو فعل أمرا اخر
والارتباط المذكور صار نتيجة لفعله لا يعقل جعل العلاقة بين الامرين
الذين لا علاقة بينهما أصلا والذي يمكن تعقله ان يلتزم الواضع انه متى أراد
معنى وتعقله وأراد افهام الغير تكلم بلفظ كذا فإذا التفت المخاطب بهذا
الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه فالعلاقة بين
21

اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام وليكن على ذكر منك ينفعك
في بعض المباحث الآتية انشاء الله وكيف كان الدال على التعهد تارة
23

يكون تصريح الواضع وأخرى كثرة الاستعمال ولا مشاحة في تسمية
الأول وضعا تعيينا والثاني تعينا [15].
(اقسام الوضع)
ثم إن الملحوظ حال الوضع اما ان يكون معنى عاما كليا واما ان
يكون خاصا وعلى الأول اما ان يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى العام واما
ان يوضع بإزاء جزئياته وعلى الثاني لا يمكن ان يوضع الا بإزاء الخاص
الملحوظ فالأقسام ثلاثة لان الخاص الملحوظ ان لوحظت الخصوصية فيه
حين الوضع فالموضوع له لا يكون الا خاصا وان جرد عن الخصوصية فهو
يرجع إلى تصور العام هكذا قال بعض الأساطين دام بقاه.
أقول يمكن ان يتصور هذا القسم أعني ما يكون الوضع فيه خاصا
والموضوع له عاما فيما إذا تصور شخصا وجزئيا خارجيا من دون ان يعلم
تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الافراد، ولكنه يعلم اجمالا
باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الافراد (مثلا) كما إذا رأى
جسما من بعيد ولم يعلم بأنه حيوان أو جماد وعلى أي حال لم يعلم أنه
داخل في أي نوع فوضع لفظا بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في
الواقع، فالموضوع له لوحظ اجمالا وبالوجه، وليس الوجه عند هذا
24

الشخص الا الجزئي المتصور، لأن المفروض ان الجامع ليس متعقلا عنده
الا بعنوان ما هو متحد مع هذا الشخص [16].
25

والحاصل انه كما يمكن ان يكون العام وجها لملاحظة الخاص
لمكان الاتحاد في الخارج، كذلك يمكن ان يكون الخاص وجها ومرآة
لملاحظة العام لعين تلك الجهة. نعم فيما إذا علم بالجامع تفصيلا لا يمكن
ان يكون الخاص. وجهاله، لتحقق الجامع في ذهنه تفصيلا بنفسه لا بوجهه
فليتدبر.
ثم انه لا ريب في ثبوت القسمين أعني ما يكون الوضع فيه خاصا
والموضوع له كذلك كوضع الاعلام الشخصية وما يكون الوضع فيه عاما
والموضوع له كذلك كوضع أسماء الأجناس. واما الأخير فهو - على تقدير
امكانه كما مر - غير ثابت واما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد يتوهم
وضع الحروف وما أشبهها كأسماء الإشارة ونحوها ومما يمكن ان يكون
منشأ التوهم أمران (أحدهما) ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن
آلة لملاحظة حال الغير، مثلا لفظة من موضوعة للابتداء الذي لوحظ في
الذهن آلة ومرآة لملاحظة حال الغير. ولا اشكال في أن مفهوم الابتداء وان
كان بحسب ذاته كليا ولكن بعد تقيده بالوجود الذهني يصير جزئيا
حقيقيا، كما أن المفهوم بعد تقيده بالوجود الخارجي يصير جزئيا كذلك
(ثانيهما) - انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة لتعرف متعلقاتها الخاصة فهي
26

تصير جزءها، إذ لا تعقل لها بدونها، مثلا لا يمكن تعقل معنى لفظة من الابعد
ارتباطه بالسير والبصرة ونظيرهما فلهما ولنظائرهما من العناوين الخاصة
دخل في مفهوم معنى لفظة من [17] وهكذا غيرها من الألفاظ الاخر التي
وضعت لمعنى حرفي.
هذا والحق ان معاني الحروف كلها كليات وضعت ألفاظها لها
وتستعمل فيها، ولا تحتاج هذه الدعوى بعد تعقل المدعى إلى دليل آخر
إذ من المعلوم انه ما ادعى القائل بجزئية المعنى الحرفي إلا عدم تعقل
كونه كليا [18].
27

فنقول انه لا اشكال في أن بعض المفاهيم نحو وجودها في الخارج
هو الوجود التبعي، فهي موجودة بالغير لا بنفسها. وهذا واضح لا يحتاج إلى
البيان. وأيضا لا اشكال في أن تلك المفاهيم قد تتصور في الذهن مستقلة
أي من دون قيامها بالغير، كما أن الانسان يلاحظ لفظ الضرب في الذهن
مستقلا، وهذا المفهوم بهذا النحو من الوجود ليس في الخارج، إذ لا يوجد
في الخارج الا تبعا للغير. وقد يتصور تلك المفاهيم على نحو ما تتحقق في
الخارج، فكما انها باللحاظ الأول كليات، كذلك باللحاظ الثاني، إذ
حقيقتها لم تتغير باختلاف اللحاظين. وكما أن قيد الوجود الذهني ملغى في
الأول وينتزع الكلية منها، كذلك في الثاني. نعم تصورها على النحو
الثاني في الذهن يتوقف على وجود مفهوم آخر في الذهن يرتبط به، كما أن
وجودها في الخارج يتوقف على محل يقوم به. ولا يوجب مجرد احتياج
الوجود الذهني لتلك المفاهيم إلى شئ آخر يرتبط به كون ذلك جزءا
منها، كما أن مجرد احتياج الوجود الخارجي منها إلى محل خاص لا يوجب
كونه جزءا منها. مثلا حقيقة الابتداء تتحقق لها ثلاثة أنحاء من الوجود:
(الأول) - الوجود النفس الأمري الواقعي القائم بالغير.
(الثاني) - الوجود الذهني المستقل بالتصور.
(الثالث) - الوجود الذهني على نحو الوجود النفس الأمري وهو
الوجود الآلي والارتباطي.
وكما أن تصور مفهوم الابتداء على الأول من الأخيرين لا يوجب
صيرورته جزئيا، بل تنتزع منه الكلية بعد تعريته عن الوجود الذهني، كذلك
تصوره على الثاني منهما إذ لا يعقل الاختلاف في المتصور باختلاف أنحاء التصور.
فهذا المفهوم باللحاظ الأول هو معنى لفظ الابتداء وباللحاظ الثاني معنى لفظة من،
28

فمعنى لفظة من مثلا حقيقة الابتداء الآلي والربطي [19] ولا شك انه كلي
كحقيقة الابتداء الاستقلالي. نعم تحقق الأول في الذهن يحتاج إلى محل
يرتبط به، كما أن تحققه في الخارج يحتاج إلى محل يقوم به. وكما أن
29

احتياجه في الخارج إلى محل خاص خارجي لا يوجب جعل ذلك المحل
جزءا لمعنى اللفظ كذلك احتياجه في الوجود الذهني إلى محل لا يوجب
كونه جزءا لمعنى اللفظ أيضا.
وأنت إذا أحطت بما تلوناه عليك تعرف بطلان كلا الامرين اللذين
أوجبا توهم جزئية معاني الحروف. اما تقييدها بالوجود الذهني
فلما مر في طي البيان من أن المقصود كونها كليات مع قطع
النظر عن التشخص الذهني، إذ بملاحظة ذلك التشخص ليست معاني
أسماء الأجناس أيضا كليات، إذ المفهوم المقيد بالوجود الذهني الاستقلالي
بقيد انه كذلك أيضا جزئي لا ينطبق على كثيرين فكما ان الوجود
الاستقلالي في الذهن في معاني أسماء الأجناس لا يخرجها عن الكلية لكون
الوجود الذهني ملغى عند اعتبار المعنى كذلك الوجود الآلي في الذهن في
معاني الحروف. واما احتياجها إلى محال في الذهن ترتبط به فلما مر أيضا
من أن الاحتياج في التحقق إلى شئ لا يوجب كون ذلك الشئ جزءا
للمعنى.
ومن هنا تعرف ان الحروف التي معانيها انشاءات أيضا لا تخرج
معانيها بما هي معانيها عن كونها كليات وانما التشخص جاء من قبل
احتياج تحقق تلك المعاني، مثلا لفظة يا النداء موضوعة لحقيقة النداء
المتحقق في الخارج [20] وهو يحتاج إلى المنادى الخاص بالكسر والمنادى
الخاص بالفتح والدال على تلك الخصوصيات أمور اخر غير هذه اللفظة.
30

وما يكون مستندا إلى لفظة يا ليس الا حقيقة النداء الخارجي. ولا
اشكال في أن هذا - مع قطع النظر عما جاء من قبل أمور اخر - كلي.
وبعبارة أخرى ينتقل السامع من لفظة يا زيد الصادر من المتكلم
إلى أن خصوص زيد منادى بنداء هذا المتكلم وهذا المعنى ينحل إلى
اجزاء (الأول) - وقوع حقيقة النداء (الثاني) - كون المنادي بالكسر
هذا المتكلم الخاص (الثالث) - كون المنادى بالفتح زيدا، والذي إفادته
لفظة يا هو الجزء الأول والباقي جاء من قبل غيره. نعم يحتاج تحقق هذا
المعنى - أعني حقيقة النداء الخارجي - إلى باقي الخصوصيات.
وهكذا الكلام في هيئة افعل ونظائرها مما يتضمن معنى
31

الانشاء [21] مثلا يقال ان هيئة افعل موضوعة لحقيقة الطلب الايقاعي،
من دون ان يكون لمشخصات اخر دخل في معنى الهيئة. ولا اشكال في أن
تلك الحقيقة لا تتحقق الا مع وجود الطالب الخاص والمطلوب منه
كذلك والمطلوب كذلك. ولكن بعد تحقق الطلب المشخص بهذه
المشخصات ما يستند فهمه إلى الهيئة هو حقيقة الطلب. واما المشخصات
الاخر فلها دوال اخر غيرها، فمدلول الهيئة كلي وان صار جزئيا بواسطة
تلك الخصوصيات التي جاءت من قبل غيرها.
ثم لا يخفى عليك ان المعنى الأسمى والحرفي مختلفان بحسب
كيفية المفهوم [22] بحيث لو استعمل اللفظ الموضوع للمعنى الحرفي في المعنى
الأسمى أو بالعكس يكون مجازا أو غلطا، فان مفهوم الابتداء الملحوظ في
الذهن استقلالا يغاير الابتداء الملحوظ في الذهن تبعا للغير، والتقييد
بالوجود الذهني وان كان ملغى في كليهما، لكن المتعقل في مفاد لفظ
الابتداء غيره في مفاد لفظة من.
32

وبعبارة أخرى المقامان مشتركان في تعرية المفهوم من حيث كونه
متعقلا في الذهن، لكن يختلف ذات المتعقل في مفاد لفظ الابتداء معها في
مفاد لفظة من، فلا يحتاج إلى الالتزام بان المعنى والموضوع له في كليهما
33

واحد [23] وانما الاختلاف في كيفية الاستعمال بان الواضع بعد ما
وضع لفظ الابتداء ولفظة من لمعنى واحد، وهو حقيقة الابتداء جعل على
المستعملين ان لا يستعملوا لفظ الابتداء الاعلى نحو إرادة المعنى مستقلا،
ولفظة من الأعلى نحو إرادة المعنى تبعا. هذا وقد أطلنا الكلام لكون المقام
من مزال الاقدام.
استعمال اللفظ في ما يناسبه
ومنها انه لا اشكال في أنه قد يحسن استعمال اللفظ في غير معناه
الموضوع له اما لمناسبة بين المعنيين واما لمناسبة بين اللفظ والمستعمل فيه
كاستعمال اللفظ في اللفظ فإنه يصح وان لم يكن له معنى وضع له
كاستعمال لفظة ديز في نوعه. ومن هنا يظهر ان استعمال اللفظ في غير
معناه لا يحتاج إلى ترخيص الواضع بل هو بالطبع، إذ لولا ذلك لم يصح
استعمال اللفظ المهمل في اللفظ إذ لا وضع له بالفرض.
ثم إن استعمال اللفظ في اللفظ على أنحاء تارة يستعمل في نوعه
وأخرى في صنفه وثالثة في شخص مثله. ومثال كل منها واضح. وهل
يصح استعماله في شخصه أم لا؟ قيل لا لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول
أو تركيب القضية من جزءين. بيان ذلك أنه ان اعتبرت دلالته على نفسه
حينئذ لزم الاتحاد وإلا لزم تركب القضية من جزئين فان القضية اللفظية
حينئذ حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع، مع امتناع تركب القضية
34

الا من ثلاثة اجزاء، ضرورة امتناع النسبة بدون الطرفين.
أقول ينبغي للمستدل ان يقتصر على قوله لاستلزامه اتحاد الدال
والمدلول لان عدم اعتبار دلالته على نفسه حتى يلزم تركب القضية من
جزءين خلاف الفرض، لأن المفروض اطلاق اللفظ وإرادة شخصه
والانصاف عدم جواز استعمال اللفظ في شخص نفسه. لما ذكره المستدل
من الاتحاد، فان قضية الاستعمال ان يتعقل معنى ويجعل اللفظ حاكيا
ومرآة له. وهذا لا يتحقق الا بالا ثنينية والتعدد.
لا يقال: يكفي التعدد الاعتباري بان يقال ان لفظ زيد - مثلا
من حيث إنه لفظ صدر من المتكلم - دال ومن حيث إن شخصه ونفسه
مراد مدلول.
لأنا نقول: هذا النحو من الاعتبار يطرأ بعد الاستعمال، فلو أردنا
تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور [24] لكن يمكن مع
ذلك القول بصحة قولنا زيد لفظ أو ثلاثي، مع كون الموضوع في القضية
35

شخص اللفظ الموجود، بان يكون المتكلم بلفظ زيد بصدد ايجاد الموضوع
لا بصدد الحكاية عن الموضوع، حتى يلزم اتحاد الدال والمدلول [25] فيخرج
حينئذ من باب استعمال اللفظ.
فتحصل ان زيدا في قولنا زيد لفظ أو ثلاثي يمكن ان يراد منه نوعه فيكون
هناك لفظ ومعنى، وان يقصد المتكلم ايجاد الموضوع فلا يكون من باب
استعمال اللفظ. هذا في المحمولات التي يمكن ان تحمل على الشخص
المذكور في القضية. واما في المحمولات التي لا تعم هذا الشخص كقولنا
ضرب فعل ماض، فلا يمكن الا ان يكون من باب الاستعمال.
(هل ان الألفاظ موضوعة
لذوات المعاني أو للمعاني المرادة)
ومنها هل ان الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني من حيث هي أو بإزائه
من حيث إنها مرادة للافظها؟ قد أسلفنا سابقا انه لا يتعقل ابتداءا جعل
علقة بين اللفظ والمعنى. وما يتعقل في المقام بناء الواضع والتزامه بأنه متى
37

أراد المعنى الخاص وتعلق غرضه بافهام الغير ما في ضميره، تكلم باللفظ
الكذائي [26] فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادة
المعنى المخصوص عند الملتفت إلى هذا البناء والالتزام. وكذا الحال لو صدر
ذلك اللفظ من كل من يتبع الواضع، فان أراد القائل - بكون الألفاظ
موضوعة لمعانيها من حيث إنها مرادة - هذا الذي ذكرناه فهو حق، بل لا يعقل
غيره. وان أراد ان معانيها مقيدة بالإرادة بحيث لوحظت الإرادة بالمعنى
38

الأسمى قيدا لها حتى يكون مفاد قولنا زيد هو الشخص المتصف بكونه
مرادا ومتعقلا في الذهن، فهو بمعزل عن الصواب.
والحاصل انه فرق بين القول بان لفظ زيد مثلا موضوع لان يدل
على تصور الشخص المخصوص [27] بحيث يكون التصور معنى حرفيا ومرآة
صرفا للمتصور عند المتكلم والسامع، وبين القول بأنه موضوع لان يدل
على الشخص المقيد بالتصور الذهني، على أن يكون القيد المذكور ملحوظا
بعنوانه وبمعناه الأسمى. والأول لا يرد عليه اشكال أصلا، بل. لا يتعقل غيره.
والثاني ترد عليه الاشكالات التي سنذكرها.
قال شيخنا الأستاذ دام بقاه في الكفاية في مقام الرد على هذا القول
ان قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود
المستعمل فيه. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجملة بلا
تصرف في ألفاظ الأطراف، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما
صح بدونه، بداهة ان المحمول على زيد في زيد قائم والمسند إليه في ضرب
زيد مثلا هما نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع
39

عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة
اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم اخذ مفهوم الإرادة فيه كما
لا يخفى. وهكذا الحال في طرف الموضوع. انتهى كلامه أدام الله أيامه.
أقول ليس الاستعمال على ما ذكرنا الا الاتيان باللفظ الخاص
لإفادة إرادة المعنى الخاص. وهذا لا محذور فيه أصلا [28].
واما ما ذكره ثانيا فلا يرد على ما قررناه، فإنه بعد اعتبار التصور
الذي هو مدلول الألفاظ طريقا إلى ملاحظة ذات المتصور، يصح الاسناد
والحمل في مداليل الألفاظ بلا مؤنة وعناية. نعم هذا الاشكال وارد على
الطريق الاخر الذي قررناه.
واما ما ذكره ثالثا ففيه ان كل لفظ يدل على إرادة المعنى العام
بواسطة الوضع [29] جعلوه مما يكون الموضوع له فيه عاما في مقابل الألفاظ
التي تدل على إرادة المعنى الخاص. ولا مشاحة في ذلك. ومن هنا تعرف
40

صحة القول بان الدلالة تابعة للإرادة [30] وما يرى من الانتقال إلى
المعنى من الألفاظ وان صدرت من غير الشاعر، فهو من باب انس الذهن
وليس من باب الدلالة، الا ترى انه لو صرح واحد باني ما وضعت اللفظ
الكذائي بإزاء المعنى الكذائي، وسمع منه الناس هذه القضية ينتقلون إلى
41

ذلك المعنى عند سماع ذلك اللفظ، مع أن هذا ليس من باب الدلالة
قطعا.
وضع المركبات
ومنها أنه اختلف في أن المركبات أعني القضايا التامة هل لها وضع
آخر غير وضع المفردات، أو ليس لها وضع سوى وضع المفردات
أقول ان كن غرض مدعى وضع آخر للمركبات انها بموادها الشخصية لها
وضع آخر غير وضع المفردات بمعنى ان لقضية زيد قائم وضعا آخر يكون لفظ زيد
بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع، فهو في غاية الفساد، إذ وجدان كل
أحد يشهد ببطلان هذا الكلام، مضافا إلى لغويته. وان كان الغرض ان
وضع مفردات القضية لا يفي بصدق القضية التامة التي يصح السكوت
عليها لان معاني المفردات معان تصورية، وتعدد المعاني التصورية لا يستلزم
القضية التامة التي يصح السكوت عليها، فلا بد ان تكون القضية المستفادة
من قولنا زيد قائم مسببة من وضع آخر غير وضع المفردات، وهو الوضع
النوعي لهذه الهيئة، فهو صحيح فيما لم تشتمل المفردات على وضع تتم به
القضية، كالقضايا الخبرية في لسان العرب، فان وضع زيد ووضع قائم مادة
وهيئة لا يفي بإفادة نسبة تامة يصح السكوت عليها. واما في مثل القضية
الانشائية كاضرب زيدا لا وجه للالتزام بذلك [31] فليتدبر.
42

علامات الحقيقة والمجاز
ومنها انهم ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز امارات: كالتبادر وعدم
صحة السلب. واستشكل في كونهما علامة بالدور، وأجابوا عنه بالاجمال
والتفصيل. ولا بحث لنا في ذلك انما الكلام في أنهم ذكروا في جملتها
43

الاطراد [32] قال شيخنا الأستاذ في الكفاية ولعله بملاحظة نوع العلائق
المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، والا
فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة وزيادة
قيد من غير تأويل، أو على وجه الحقيقة، وان كان موجبا لاختصاص
الاطراد كذلك بالحقيقة، الا انه حينئذ لا يكون علامة لها الاعلى وجه دائر ولا
يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة أنه مع العلم بكون
الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال
بالاطراد أو بغيره انتهى.
44

أقول يمكن توجيه كونه علامة بدون لزوم الدور، بان يقال ان
المراد من الاطراد حسن استعمال اللفظ في كل موقع. من غير اختصاص له
بمواقع خاصة، كالخطب والاشعار مما يطلب فيها اعمال محاسن الكلام
ورعاية الفصاحة والبلاغة، بخلاف المجاز، فإنه انما يحسن في تلك المواقع
خاصة، والا ففي مورد كان المقصود ممحضا في إفادة المدلول لا يكون له
حسن، كما لا يخفى. وهذا كما ترى يمكن حصوله لغير أهل اللسان أيضا إذا
شاهد استعمال أهل اللسان.
(الحقيقة الشرعية)
ومنها أنه اختلف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه.
أقول لا مجال ظاهرا لانكار ان ألفاظ العبادات كانت في زمن النبي
صلى الله عليه وآله بحيث يفهم منها عند الاطلاق المعاني المستحدثة، وهل
كان ذلك من جهة الوضع التعييني أو التعيني، أو كانت موضوعة لتلك
المعاني في الشرائع السابقة أيضا؟ لا طريق لنا لا ثبات أحد الأمور. نعم
الوضع التعييني بمعنى تصريح النبي صلى الله عليه وآله بالوضع لتلك
المعاني بعيد غاية البعد. لكن يمكن الوضع التعييني بنحو آخر بان
استعمل صلى الله عليه وآله تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة بقصد انها معانيها.
45

وهذا أيضا نحو من الوضع التعييني [33] فإنك لو أردت تسمية ابنك
زيدا، فتارة تصرح باني جعلت اسم هذا زيدا، وأخرى تطلق هذا اللفظ
عليه بحيث يفهم بالقرينة أنك تريد ان يكون هذا اللفظ اسما له. وهذا
القسم من الوضع التعييني ليس بمستبعد في الشرع.
وقد يستدل ببعض الآيات من قبيل قوله تعالى: (وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (1) وقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم) (2) وقوله تعالى: (واذن في الناس بالحج) (3)
على كون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.
تقريب الاستدلال ان هذه الآيات تدل على وجود معاني هذه
الألفاظ في الشرائع السابقة ويثبت وضع هذه الألفاظ لها فيها بضم مقدمة
أخرى، وهي ان العرب المتدينين بتلك الأديان لما سمعوا هذه الآيات
فلا يخلو اما انهم ما فهموا منها هذه المعاني المعروفة أو فهموها بمعونة القرائن

(1) سورة مريم 19 الآية 31
(2) سورة البقرة 2 الآية 183
(3) سورة الحج 22 الآية 27
46

الموجودة في البين. أو فهموها من حاق اللفظ والأول واضح البطلان
لا يمكن الالتزام به [34] وكذلك الثاني، إذ من البعيد جدا احتفاف جميع
تلك الألفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة، فلم يبق الا الالتزام بأنهم فهموا
تلك المعاني من حاق اللفظ وهو المطلوب. ولعل هذا هو المراد من بعض
العبارات المشتملة على الاستدلال بهذه الآيات، لا ما يتوهم من أن المراد

(1) عوالي اللئالي 3 / 85.
47

اثبات تداول هذه الألفاظ في الشرايع السابقة.
ثم انه تظهر الثمرة بين القولين في حمل الألفاظ الصادرة من الشارع
بلا قرينة على معانيها الشرعية، بناءا على ثبوت الوضع والعلم بتأخر
الاستعمال [35]. عنه وعلى معانيها اللغوية، بناءا على عدمه. ولو شك في
تأخر الاستعمال وتقدمه اما بجهل التاريخ في أحدهما أو كليهما فالتمسك -
بأصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع فيثبت بها تأخر الاستعمال -
مشكل، فإنه مبنى على القول بالأصول المثبتة إما مطلقا أو في خصوص
المقام [36] مضافا إلى معارضتها بالمثل في القسم الثاني [37] نعم يمكن
اجراء أصالة عدم النقل فيما إذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال، بناءا
على أن خصوص هذا الأصل من الأصول العقلائية، فيثبت به تأخر النقل
عن الاستعمال. ولا معارض له. أما على عدم القول بالأصل المثبت في
الطرف الآخر فواضح. وأما على القول به، فلان تاريخه معلوم بالفرض
واحتمال ان يكون بناء العقلاء على عدم النقل - في خصوص ما جهل
48

رأسا لا فيما إذا علم اجمالا وشك في تاريخه - بعيد لظهور أن بناءهم على
هذا من جهة ان الوضع السابق عندهم حجة، فلا يرفعون اليد عنها الابعد
العلم بالوضع الثاني.
(الصحيح والأعم)
ومنها أنهم قد اختلفوا في أن ألفاظ العبادات هل هي موضوعة
بإزاء خصوص الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة؟
اعلم أن جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح
وأما على القول بالعدم فيمكن جريانه أيضا، بان يقال هل الأصل في
استعمال الشارع بعد العلم بعدم إرادة المعنى اللغوي [38] هو المعاني
الشرعية الصحيحة إلى أن يعلم خلافها أم لا؟ فمن يدعى الأول يذهب إلى أن
العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية أشد، فحملها بعد العلم بعدم إرادة
المعاني الحقيقية على المعاني الشرعية الصحيحة أولى وأسد وكيف كان يتم
هذا المبحث بذكر أمور:
(الأول) - أنه لا اشكال في أن الصحيحي إن قال بان الصلاة
الصحيحة على اختلافها أجزاءا وشرائط كلها افراد للمعنى الجامع الواحد
الذي هو الموضوع له للفظ الصلاة، فلا بدله من تصور معنى واحد جامع
49

لشتات تلك الحقائق المختلفة، كما أن الأعمى أيضا لا بدله من تصور
جامع يكون أوسع دائرة من الأول نعم لو ادعى كل واحد منهما ما ادعاه
على نحو الاشتراك اللفظي، يمكن هذه الدعوى مع عدم القدر الجامع بين
تلك الحقايق، لكن هذه المقالة مع كونها بعيدة في نفسها لا تناسب
كلماتهم، كما لا يخفى [39].
إذا عرفت هذا، فنقول لا يتعقل اخذ القدر الجامع بين ذوات
تلك الحقائق المختلفة المتصفة بالصحة [40] مع قطع النظر عن اعتبار امر
خارج عنها، لان معنى اخذ القدر الجامع الغاء الخصوصيات واخذ ما هو
مشترك سار في جميع الافراد، والمفروض ان لتلك الخصوصيات دخلا في
الصحة. مثلا الصلاة التي يأتي بها القادر قائما يتقوم صحتها بالقيام، فلو
اعتبر القيام مثلا في الموضوع له، فلا يصدق على الصلاة التي
يأتي بها المريض جالسا، وإن لم يعتبر فيلزم صدقها على الصلاة التي يأتي
50

بها القادر جالسا، وكلاهما خلاف مذهب الصحيحي.
والذي يمكن ان يقال في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ان
كل واحد من تلك الحقائق المختلفة إذا أضيفت إلى فاعل خاص، يتحقق
لها جامع بسيط، يتحد مع هذه المركبات، اتحاد الكلى مع افراده. مثلا قيام
الشخص القادر لتعظيم الوارد وايماء الشخص المريض له يشتركان في معنى
واحد، وهو اظهار عظمة الوارد يقدر الامكان، وهذا المعنى يتحد مع قيام
القادر، كما أنه يتحد مع ايماء المريض وعلى هذا فالصلاة بحسب المفهوم
ليست هي التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وكذا وكذا، بل هي
بحسب المفهوم المعنى الواحد البسيط الذي يتحد مع تمام المذكورات
(تارة) ومع بعضها (أخرى) ومع ما قيد بكيفية خاصة (تارة) وبنقيضها
(أخرى) وهذا المعنى وان كان أمرا متعقلا، بل لا محيص عن الالتزام به
بعد ما يعلم أن لتلك الحقائق المختلفة فائدة واحدة، وهي النهى عن
الفحشاء والمنكر، ولا يكاد أن تؤثر الحقائق المتباينة في الشئ الواحد،
من دون رجوعها إلى جهة واحدة، ولكن كون هذا المعنى مفاد لفظ الصلاة
محل اشكال من وجهين:
(أحدهما) أن الظاهر مما ارتكز في أذهان المتشرعة هو أن الصلاة
عبارة عن نفس تلك الأجزاء المعهودة التي أولها التكبير واخرها
التسليم. [41]
(ثانيهما) أن مقتضى ما ذكر من الجامع ان الصحيحي لابد ان
51

يلتزم بالاشتغال في موارد الشك في الجزئية أو الشرطية، وإن بنى في
الأقل والأكثر على البراءة عقلا، لأنه مكلف باتيان ذلك المعنى الواحد،
فمتى شك في جزئية شئ أو شرطيته، يرجع شكه إلى أن ذلك المعنى
الواحد هل يتحقق بدون الاتيان بالمشكوك أم لا، مع أن القائلين بالصحيح
قائلون بالبراءة فيهما.
وقد تصدى لدفع هذا الاشكال شيخنا الأستاذ في الكفاية بأن
الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع من هذه المركبات المختلفة زيادة
ونقيصة، بحسب اختلاف الحالات، يتحد معها نحو اتحاد وفي مثله تجرى
البراءة، وانما لا تجرى فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا مسببا
عن مركب مردد بين الأقل والأكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء
فيما إذا شك في اجزائهما (انتهى كلامه).
أقول: لا اشكال في أنه إذا كان الشئ مجمعا ومصداقا لعناوين
عديدة، فكل عنوان منها وقع في حيز التكليف، كان المكلف مأخوذا
بذلك العنوان والعناوين الاخر وان كانت متحققة مع العنوان الواقع في
حيز التكليف، ولكن ليس لوجودها ولا لعدمها دخل في براءة ذمة
المكلف واشتغاله وهذا واضح جدا، فحينئذ ان قلنا بان الواقع في
52

حيز التكليف هو هذا المركب من التكبيرة والحمد وكذا وكذا، يصح
للقائل بالبراءة ان يقول إن ما علم أنه متعلق للتكليف من هذه الاجزاء
يؤتى به، وما يشك فيه يدفع بالبراءة. وأما إن قلنا بان ما وقع في
حيز التكليف ليس هذا المركب بهذا العنوان، بل هو عنوان بسيط ينطبق
على قسم من هذا المركب في بعض الحالات، فلا يتصور معلوم
ومشكوك [42] حتى يقال: إن المعلوم قد اتي به والمشكوك فيه يدفع
بالأصل، بل في ما نحن فيه معلوم شك في وقوعه. ولا شبهة في أنه مورد
للاشتغال.
53

(الثاني) أنه قد يستشكل في تصوير القدر الجامع بين افراد
الصلاة الصحيحة والفاسدة بحيث ينطبق عليها انطباق الكلى على الافراد.
وحاصل الاشكال أن أجزاء الصلاة ان كان لكل منها دخل في
الموضوع له، فلا تطلق تلك اللفظة الاعلى ما اشتمل على الكل، وان كان
لبعضها دخل دون الاخر، فيلزم ان لا يحمل مفهوم لفظ الصلاة الاعلى
الابعاض المأخوذة في الموضوع له، فيكون المركب من تلك الابعاض
وغيرها بعضها صلاة وبعضها خارجا عنها وكل منهما مما لا يقول به
المدعى للأعم. وقد قيل في تصوير الجامع وجوه لا يهمنا ذكرها.
والحق أن يقال إن القدر المشترك بين افراد الصلاة الموجودة في
الخارج امر متعقل (بيان ذلك) أن الوحدة كما انها قد تكون لشئ
حقيقة كذلك قد تكون لشئ اعتبارا (مثال الأول): مفاد الاعلام
الشخصية، فإنه لا تنثلم وحدة معانيها على اختلاف حالاتها المختلفة
العارضة لها. (ومثال الثاني): الأشياء العديدة التي يوجدها الموجد بقصد
واحد، فان تلك الأشياء وان كانت وجودات مختلفة متعددة، لكن
عرضت لها وحدة اعتبارية بملاحظة وحدة الغرض والقصد، يطلق على كل
منها عنوان الجزء بتلك الملاحظة.
54

إذا عرفت هذا، فنقول: يصح للأعمى أن يقول: ان الواضع
لا حظ جميع اجزاء الصلاة المأتي بها بقصد واحد، وقد قلنا بان الأشياء
المتعددة بهذه الملاحظة واحدة اعتبارا، وبعد طرو الوحدة الاعتبارية، حال
تلك الأشياء بأجمعها حال الواحد الحقيقي، فكما أن الواحد الحقيقي يمكن
اخذه في الموضوع له على نحو لا تنثلم وحدته باختلاف الحالات الطارئة
عليه [43] كذلك الواحد الاعتباري قد يعتبر على نحو ليس فيه حد
خاص. ولازم ذلك أنه متى ما وجد مقدار من ذلك المركب مقيدا
بما يوجب وحدة الاجزاء اعتبارا وهو وحدة القصد، يصدق عليه ذلك
المعنى، سواء وجد في حد التام أو الناقص، فالذي وضع له اللفظ هو
55

مقدار من تلك الأشياء الملحوظة على سبيل الاهمال أو تعيين ما، مثل أن
يلاحظ عدم كونه أقل من ثلاثة اجزاء أو أربعة اجزاء، وهكذا على
اختلاف نظر الواضع، فإذا وجد في الخارج غير زائد على مقدار ما وضع
له، فلا اشكال في صدق معنى اللفظ عليه، وإذا وجد زائدا على ذلك
المقدار، فلكون الزائد جزا ومتحدا مع ما يقوم به المعنى، يصدق عليه المعنى
أيضا، فالزائد في الفرض الثاني جزء للفرد لا جزء لمقوم المعنى ولا خارج
عنه، فافهم وتدبر.
(الثالث) أنه بعد ما عرفت ما ذكرنا من تصور الجامع على كلا
القولين فاعلم أن طريق احراز المعنى وتصديق أحد القائلين، ليس الا
التبادر وصحة السلب وعدمهما، فان قطعنا بالمعنى بالتبادر القطعي فهو،
والا فمقتضى القاعدة التوقف. والوجوه الاخر التي استدل بها كل من
الفريقين لا تخلو عن شئ، كما سننبه عليه.
والانصاف انا لا نفهم من الصلاة ونظائرها الا الحقيقة التي
تنطبق على الصحيح والفاسد، ونرى أن لفظ الصلاة في قولنا الصلاة اما
صحيحة أو فاسدة ليس فيه تجوز، وملاحظة علاقة صورية بين ما أردنا من
اللفظ وبين المعنى الحقيقي له. وهذا ظاهر عند من راجع وجدانه
56

وانصف، وكذا نرى من أنفسنا ان من صلى صلاة فاسدة لا يصح سلب
معنى لفظ الصلاة عما فعله في الخارج، ولو قلنا أحيانا بان ما فعله ليس
بصلاة، فليس نفى الصلاة عن فعله كنفي الصلاة عن الصوم وغيره من
موضوع آخر كالحجر والانسان، إذ يصح الثاني بلا عناية أصلا بخلاف
الأول.
واستدل أيضا للمذهب الأعمى بان الصلاة استعملت في
غير واحد من الاخبار في الفاسدة، كقوله: (بنى الاسلام على خمس الصلاة
والزكاة والحج والصوم والولاية، ولم يناد أحد بشئ كما نودي بالولاية،
فاخذ الناس بالأربع وتركوا هذه، فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات
بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة) ومحل الاستشهاد
قوله: (فاخذ الناس بالأربع) وقوله: (فلو ان أحدا صام نهاره وقام
ليله الخ) وكقوله (ع): (دعي الصلاة أيام أقرائك) حيث أن المراد لو
كان الصحيحة لم تكن بقادرة عليها، فلا يجوز نهيها عنها.
والجواب ان الاطلاق أعم من الحقيقة مضافا إلى أن لفظ الصلاة
في الخبر الثاني استعمل في المعنى المجازى، حتى على مذهب الأعمى، لان
المنهى عنه من الحائض ليس كلما يطلق عليه معنى لفظ الصلاة، فان
الحائض لو أتت بالصلاة فاقدة لبعض الشرائط أو الاجزاء المعتبرة فيها من
غير جهة الحيض، لم يكن ما فعلته محرما [44] فالصلاة في قوله (ع):
(دعي الصلاة) استعملت في الفرد الخاص أعني المستجمع لجميع
الاجزاء والشرائط، ما عدا كونها حائضا واستعمال العام في الخاص مجاز،
57

إلا أن يقول بإرادة الخاص هنا من غير اللفظ.
هذا واستدل لهم أيضا بأنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه
بترك الصلاة في مكان تكره فيه، وحصول الحنث بفعلها، ولو كانت
الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة، لا يحصل بها الحنث، لان الصلاة
المأتي بها فاسدة لأجل النهى عنها، بل يلزم أن يكون فسادها موجبا
لصحتها، لأنها لو كانت فاسدة لم تكن مخالفة للنهي. ولا وجه لعدم كونها
صحيحة الا كونها مخالفة للنهي. وهذا بخلاف ما لو كانت الصحة خارجة
عن معناها، فإنه على هذا لا يلزم محذور.
والجواب ان مدعى الوضع للصحيح لا يدعى انها موضوعة
للصحيح من جميع الجهات، حتى من الجهات الطارئة، كالنذر وشبهه، بل
يدعى أنها موضوعة للصحيح من حيث الجهات الراجعة إلى نفسها [45]
ولو فرض انه يدعى ان الموضوع هو الصحيح الفعلي حتى من الجهات
الطارئة، فله ان يجيب بان نذر الناذر في المقام قرينة على عدم إرادة هذا
المعنى، إذ ليس المعنى المأخوذ فيه الصحة من جميع الجهات قابلا للنهي ولو
فرضنا أن الناذر قصد هذا المعنى في نذره، نلتزم بعدم انعقاده لعدم صحة
تعلق النهى بالفعل المذكور.
واستدل للصحيحي - مضافا إلى دعوى التبادر وصحة السلب
من الفاسد - بالاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار لحقيقة
الصلاة والصوم، مثل قوله (ع): (الصلاة عمود الدين، أو انها معراج
58

المؤمن، وان الصوم جنة من النار) أو نفى الطبيعة بفقدان بعض الشروط
والاجزاء مثل قوله (ع): (لا صلاة الا بطهور)، وكذا (لا صلاة الا بفاتحة
الكتاب) وأمثال ذلك.
والجواب عن الأول ان الاستدلال بها مبنى على إفادة تلك الأخبار
أن الآثار المذكورة لتلك الطبائع على اطلاقها، إذ بذلك يستكشف أن
الفرد الذي ليس فيه تلك الخواص ليس فردا لتلك الطبائع، لكن
الأخبار المذكورة واردة في بيان خاصية تلك الطبايع من حيث نفسها، في
مقابل أشياء اخر. ولا ينافي أن تكون لظهور تلك الخواص في تلك
الطبايع شرائط اخر زائدة عليها، كما يظهر من المراجعة إلى أمثال هذه
العبارات.
وعن الثاني أن استعمال هذا التركيب في نفى الصحة شايع في
الشرع [46] بحيث لم يبق له ظهور عرفي في نفى الماهية واستدلوا أيضا بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ
للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية إليه، وان مست الحاجة
إلى استعمالها في غيرها، فلا يقتضى أن يكون على نحو الحقيقة، بل ولو
كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد. والظاهر عدم التخطي من الشارع
عن هذه الطريقة.
هذا ولا يخفى ما فيه لان دعوى القطع مجازفة، والظن بعد إمكان
المنع لا يغنى عن الحق شيئا.
59

(الرابع) أنه تظهر الثمرة بين القولين في صحة الاخذ بالاطلاق
وعدمه، إذ على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح لا يمكن
الاخذ بالاطلاق فيها، إذ مورده بعد الاخذ بمدلول اللفظ الموجود في القضية
والشك في القيود الزائدة. والمفروض اجمال مدلول اللفظ، وكلما احتمل
اعتباره قيدا يرجع إلى مدخليته في مفهوم اللفظ. وأما بناءا على القول
الآخر فيصح التمسك بالاطلاق على تقدير تمامية باقي المقدمات، إذ القيد
المشكوك فيه مما لا مدخلية له في تحقق الحقيقة التي جعلت موضوعة في
القضية. وكذا تظهر الثمرة بين القولين في الأصل العملي، إذ على القول
بالصحيح على نحو ما بيناه في أول البحث لا محيص عن القول بالاحتياط
ظاهرا، لكن على القول الاخر يبتنى القول بالبراءة والاحتياط فيه على
مسألة الشك في الأقل والأكثر.
(الخامس) أن أسامي المعاملات ان قلنا بأنها موضوعة للمسببات
فلا مجال للنزاع في كونها أسامي للصحيحة منها أو الأعم، لان الامر فيها
دائر بين الوجود والعدم لا الصحة والفساد كما لا يخفى [47] وان قلنا بأنها
موضوعة للأسباب، فيأتي النزاع في أنها موضوعة للأعم مما يترتب عليه
الأثر أو لخصوص الصحيح أعني ما يترتب عليه الأثر. وعلى كل حال
فلا مانع من الاخذ بالاطلاق فيها. أما بناءا على كونها موضوعة للأسباب من
60

دون ملاحظة حصول الأثر، فواضح، وأما على القول بكونها موضوعة
لخصوص الأسباب المؤثرة للأثر، أو موضوعة لنفس المسبب، فلان
لمفاهيمها مصاديق عرفية والأحكام المتعلقة بالعناوين - في القضية
اللفظية التي وردت لبيان تفهيم المراد - تحمل على المصاديق العرفية لها.
وبعد تعلق الحكم في القضية اللفظية بالمصاديق العرفية، يستكشف ان
الشئ الذي يحكم العرف بأنه مصداق يراه الشارع مصداقا أيضا، ولذا
تراهم يتمسكون في أبواب المعاملات باطلاقات أدلتها، مع ذهابهم إلى
كونها موضوعة للصحيح. نعم لو شك في الصدق العرفي. فلا مجال للاخذ
بالاطلاق فليتدبر في المقام.
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
و (منها) أنه اختلف - في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى
واحد بان يراد كل واحد مستقلا [48] كما إذا استعمل فيه وحده - على
أقوال لا يهمنا ذكرها بعد ما تطلع على ما هو الحق في هذا الباب والحق
الجواز بل لعله يعد في بعض الأوقات من محسنات الكلام، لان ما وضع له
61

اللفظ هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة، وليس في كل وضع تقييد المعنى
بكونه مع قيد الوحدة بالوجدان ولا يكون منع من جهة الواضع أيضا،
ضرورة ان كل أحد لو راجع نفسه حين كونه واضعا للفظ زيد بإزاء ولده
62

ليس مانعا من استعمال ذلك اللفظ في غيره [49] ولا يتصور مانع عقلي
في المقام، فالمجوز للاستعمال موجود، وهو الوضع، وليس هناك ما يقبل
المنع.
وذهب شيخنا الأستاذ دام بقاه إلى الاستحالة العقلية، قال في
الكفاية ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى،
بل وجها وعنوانا له، كأنه يلقى إليه نفس المعنى ولذا يسرى إليه قبحه
وحسنه ولا يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه
هكذا في إرادة معنى، ينافي لحاظه كذلك في إرادة الاخر، حيث إن لحاظه
كذلك، لا يكاد يكون الا بتبع لحاظ المعنى، فانيا فيه فناء الوجه في ذي
الوجه، والعنوان في المعنون. ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك
في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذه
الحال (انتهى).
أقول يمكن ان يكون حاصل مرامه دام بقاه أنه بعد ما يكون
63

اللفظ وجها وإشارة إلى ذات المعنى، فاللفظ من حيث كونه إشارة إلى
معناه ليس إشارة إلى آخر لتباين المعنيين، وبالعكس. ولو جعل إشارة
واحدة ووجها واحدا لكلا المعنيين، فهو من باب استعمال واحد في معنى
واحد، لان المعنيين بهذا اللحاظ يكونان معنى واحدا في هذا الاستعمال،
نظير استعمال لفظ اثنين في معناه، فاستعمال اللفظ في المعنيين غير
معقول.
قلت لا اشكال في امكان إرادة شيئين من لفظ واحد على نحو
بقائهما على صفة التعدد، كما أنه لا اشكال في امكان ارادتهما على نحو
الوحدة الاعتبارية، فلو استعمل لفظ في المتعدد على النحو الثاني،
فلا اشكال في أنه من باب استعمال اللفظ في المعنى الواحد، فان كان
ذلك المعنى موضوعا له اللفظ، يكون الاستعمال حقيقيا، والا يكون
مجازيا. وان استعمل في المتعدد على النحو الأول، يكون من باب
استعمال اللفظ الواحد في المعنيين. وحينئذ ان كان الملحوظ في هذا
الاستعمال هو الوضعين، فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنيين
64

الحقيقيين وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في كل منهما، فيكون من باب
استعمال اللفظ في المجازيين، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في أحدهما،
والوضع في الاخر، فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي
والمجازي.
(ليت شعري) أن دعوى الاستحالة هل هي راجعة إلى إرادة
الانسان الذوات المتعددة من دون ملاحظة عنوان الاجتماع، أو راجعة إلى
امر آخر؟ فان كانت راجعة إلى الأول، فيرده وقوع هذا الامر في العام
الاستغراقي، فإنه انما صار كذلك لعدم ملاحظة الامر هيئة الاجتماع في
مرتبة تعلق الحكم، بل لاحظ الآحاد كلا منها اجمالا على انفرادها، غاية
الامر هذه الملاحظة في العام الاستغراقي انما هي في مرتبة تعلق الحكم دون
الاستعمال [50] فإذا صار هذا النحو من الملاحظة - أعني ملاحظة
الآحاد على انفرادها ممكنا في مرتبة تعلق الحكم - فليكن ممكنا في مرحلة
الاستعمال أيضا، فكما أن كل واحد في الأول يكون موردا للحكم
مستقلا، كذلك في الثاني يصير مستعملا فيه.
و (ليت شعري): أي فرق بين ملاحظة الآحاد بذواتها في مرتبة
65

تعلق الحكم، وبين ملاحظتها كذلك في مرتبة الاستعمال؟ وأيضا من
المعلوم إمكان الوضع عاما والموضوع له خاصا، وهو بان يلاحظ الواضع
معنى عاما ويضع اللفظ بإزاء خصوصياته، فيكون كل من الجزئيات
موضوعا له، ولو عامل الشخص هذه المعاملة في مرحلة الاستعمال، بأن
لا حظ معنى عاما مرآة للخصوصيات، واستعمل اللفظ في تلك
الخصوصيات، يصير كل واحد منها مستعملا فيه، كما أنه صار في الصورة
الأولى موضوعا له، وان كانت الدعوى راجعة إلى امر آخر فلا نعقل وجها
آخر للاستحالة. ولا استبعد كون ذلك من قصوري لا دراكها.
واما أدلة القائلين بالمنع من قبل الوضع، فموهونة جدا، فان
اعتبار قيد الوحدة في المعنى مما يقطع بخلافه، وكون الموضوع له في حال
الوحدة لا يقتضى إلا عدم كون المعنى الاخر موضوعا له بهذا الوضع، ويتبعه
عدم صحة الاستعمال فيه بملاحظة هذا الوضع، ولا يوجب ذلك عدم
وضع آخر له ولا عدم صحة استعماله بملاحظة ذلك الوضع الآخر فيه.
وأما تجويز البعض ذلك في التثنية والجمع بملاحظة وضعهما
لإفادة التعدد بخلاف المفرد، فمدفوع بان علامة التثنية والجمع تدل على
تكرار ما افاده المفرد، لا على حقيقة أخرى في قبال الحقيقة التي دل عليها
المفرد. كيف؟ ولو كانت كذلك لما دلت علامة التثنية على التعدد، لان
66

المفرد الذي دخلت عليه تلك العلامة أفاد معنى واحدا، فالعلامة أيضا
أفادت معنى واحدا، فأين التعدد المستفاد من علامة التثنية.
المشتق
و (منها) أنهم اختلفوا في معاني بعض المشتقات من قبيل اسم
الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأمثال ذلك، مما يجرى على الذوات،
ويحمل عليها على نحو من الحمل، هل هي ما يطلق على الذوات في
خصوص حال التلبس أو أن معانيها أعم من ذلك، بمعنى أنها موضوعة
لمعان تحمل على الذوات، وان انقضى عنها التلبس، بعد الاتفاق على أن
اطلاقها - على الذوات التي لم تتلبس بعد بملاحظة الزمن الآتي - مجاز.
وتنقيح المرام يستدعى رسم أمور:
(الأول) أن النزاع ليس في جميع المشتقات، لان الماضي
والمضارع والامر والنهى خارجة عن محل النزاع قطعا، وكذا المصادر
- وان قلنا بأنها مشتقات أيضا - وكذا ليس النزاع مختصا بالمشتقات
الجارية على الذوات: من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة
وأمثال ذلك، بل يجرى في كل لفظ موضوع بإزاء مفهوم منتزع من
الذوات، باعتبار عروض امر خارج عنها، مثل الزوج والعبد والحر
وأمثال ذلك، وان كان من الجوامد.
فالنزاع في المقام راجع إلى أن الألفاظ الموضوعة بإزاء المفاهيم
المنتزعة من الذوات باعتبار الأمور الخارجة عنها، هل هي موضوعة
للمتلبس الفعلي بذلك العارض، أو لما يعمه وما انقضى عنه ذلك
العارض، سواءا كان من المشتقات أم من الجوامد. نعم الألفاظ الموضوعة
67

بإزاء المفاهيم المنتزعة. من الذاتيات - من دون ملاحظة امر خارج عنها -
ليست محلا للنزاع، إذ لا شبهة لاحد في أن لفظ الانسان والحجر والماء
والنار وأمثالها لا تطلق على ما كان كذلك، ثم انخلعت عنه تلك الصور
النوعية. والدليل على ما ذكرنا من دخول مثل الزوج وأمثاله في محل
النزاع، ما عن الايضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان
كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة، قال: (تحرم المرضعة الأولى والصغيرة
مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الأخرى، ففي تحريمها خلاف،
فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها، لان هذه يصدق عليها أم
زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه). وعن المسالك (في
هذه المسألة ابتناء الحكم على الخلاف في مسألة المشتق).
(الثاني) أنه اتفق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على
الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات، بخلاف الافعال، فقد اشتهر
بينهم دلالتها على الزمان، حتى جعلوا الاقتران بأحد الأزمنة من اجزاء
معرفها.
والحق في المقام أن يقال: إن الأمر والنهي لا يد لان على الزمان
أصلا [51] بداهة أن قول القائل اضرب لا يدل الا على إرادة وقوع الفعل
من الفاعل إما في الان الحاضر أو المتأخر، فلا دلالة له على واحد منهما.
نعم زمان الحال ظرف لانشاء المنشئ، كما أنه ظرف لاخبار المخبر في
القضية الخبرية. وكذا الكلام في النهى.
68

وأما الفعل الماضي، فالظاهر أن دلالته على مضى صدور الفعل
عن الفاعل مما لا يقبل الانكار [52] والمقصود من المضي المضي بالنسبة
إلى حال الاطلاق، حتى يشمل مثل يجئ زيد غدا، وقد ضرب غلامه في
الساعة التي قبل مجيئه. ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه غير اعتبار الزمان
في الفعل، لان المضي قد ينسب إلى نفس الزمان ويقال مضى الزمان،
فمن أنكر اعتبار الزمان في الفعل الماضي ان كان مقصوده ما ذكرنا،
فمرحبا بالوفاق. وان أنكر دلالته على المضي الذي ذكرنا فالتبادر حجة
عليه.
69

واما المضارع فقد اشتهر انه يدل على نسبة الفعل إلى الفاعل في
زمان أعم من الحال والاستقبال [53] فان أريد من الحال الحال الذي
يعتبر في مثل قائم وقاعد وأمثالهما عند من اعتبره، فالوجدان شاهد على
خلافه، لظهور عدم صحة اطلاق قولك يقوم على من كان متلبسا بالقيام
فعلا، وكذلك قولك يقعد على من كان متلبسا بالعقود. وأما إطلاق
يصلى ويذكر ويقرأ ويتكلم وأمثال ما ذكر على المتلبس بتلك المبادئ،
فإنما هو بملاحظة الاجزاء اللاحقة التي لم توجد بعد، كما أنه يصح
الاطلاق بنحو المضي بملاحظة الاجزاء الماضية السابقة. وكذا يصح التعبير
بنحو الوصف نحو ذاكر ومصل وقارئ ومتكلم بلحاظ أن المجموع وجود
واحد متلبس به فعلا.
70

والحاصل ان اطلاق صيغ المضارع إنما يصح فيما إذا لم يكن
الفاعل حين الاطلاق متلبسا بالفعل وان أراد من الحال الحال العرفي
- أعني الزمان المتصل بحال الاطلاق - فهو مرتبة من مراتب الاستقبال،
وليس فعل المضارع دالا الا على الاستقبال. نعم لما لم يدل على مرتبة
خاصة من الاستقبال، يصح اطلاقه على أي مرتبة منه، ولو أطلق الحال
على هذه المرتبة من الاستقبال، يمكن اطلاقه على هذه المرتبة من الماضي
أيضا، فهلا قيل بان فعل الماضي يدل على الماضي والحال.
وكيف كان تحصل من جميع ما ذكرنا أن الماضي يدل على استناد
المبدأ إلى الفاعل على نحو المضي بالنسبة إلى حال الاطلاق، والمضارع يدل
على اسناده إليه حال الاطلاق ومما ذكرنا يعلم أن نسبة بعض الصيغ
71

الماضية إلى الباري جل ذكره من قبيل علم الله أو إلى نفس الزمان ليس
فيه تجوز وتجريد فليتدبر.
(الثالث) أن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال الاطلاق
والاجراء، لا حال النطق، ضرورة عدم تطرق التوهم إلى أن مثل (زيد
كان ضاربا بالأمس، أو يكون ضاربا غدا) مجاز وما قيل - من الاتفاق
على أن مثل (زيد ضارب غدا) مجاز - لعله فيما إذا كان الغد قيدا
للتلبس بالمبدأ، مع فعلية الاطلاق، لا فيما إذا كان ظرفا للاطلاق.
وبالجملة لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة فيما تلبس
بالمبدأ في ظرف الحمل والاطلاق، وان كان ماضيا أو مستقبلا بالنسبة
إلى زمان النطق. وإنما الاشكال في أنه هل يختص معناه بذلك أو يعمه
وما انقضى عنه المبدأ في ظرف الحمل والاطلاق؟
(الرابع) أن المشتقات الدالة على الحرفة والملكة والصنعة،
كسائر المشتقات في مفاد الهيئة من دون تفاوت أصلا وصحة اطلاقها على
من ليس متلبسا بالمبدأ فعلا بل كان متلبسا قبل ذلك، من دون اشكال،
من جهة أحد أمرين: إما استعمال اللفظ الدال على المبدأ في ملكة ذلك
أو حرفته أو صنعته، وإما من جهة تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدأ
دائما، لاشتغاله به غالبا، بحيث يعد زمان فراغه كالعدم، أو لكونه ذا قوة
قريبة بالفعل، بحيث يتمكن من تحصيله بسهولة، فيصح أن يدعى أنه
واجد له. والظاهر هو الثاني. وعلى أي حال هيئة المشتق استعملت في
المعنى الذي استعملت فيه في باقي الموارد.
(الخامس) أنه لا أصل في المسألة يرجع إليه في تعيين المعنى
الموضوع له، كما هو واضح، بل المتعين الرجوع إلى الأصل العملي، وهو
يختلف باختلاف المقامات، فإذا وجب اكرام العالم في حال اتصافه
72

بالعلم ثم زالت عنه تلك الصفة، فمقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب،
وإذا وجب في حال زوال تلك الصفة، فمقتضى الأصل البراءة عن
التكليف.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول اختلف في المسألة، وقيل فيها أقوال
عديدة لا يهمنا ذكرها، خوفا من الإطالة. والحق انها موضوعة لمعنى يعتبر فيه
التلبس الفعلي، ولا يطلق حقيقة الا على من كان متصفا بالمبدأ فعلا.
والدليل على ذلك انك عرفت عدم اعتبار المضي والاستقبال والحال في
معاني الأسماء وبعد ما فرضنا عدم اعتبار ما ذكر في مثل ضارب وأمثاله
من المشتقات، فلم تكن مفاهيمها الا ما اخذ من الذوات مع اعتبار
تلبسها بالمبادئ الخاصة، إما على نحو التقييد والتركيب، وإما على نحو
انتزاع المعنى، كما سيأتي. وعلى أي حال المعنى المتحقق بالذات والمبدأ
- من دون اعتبار امر زائد - لا يصدق الاعلى الذات مع المبدأ لدخالة
المبدأ في تحقق المعنى بنحو من الدخالة [54].
وبعبارة أخرى كما أن العناوين المأخوذة من الذاتيات لا تصدق
الا على ما كان واجدا لها، كالانسان والحجر والماء والنار، كذلك
العناوين التي تتحقق بواسطة عروض العوارض، إذ وجه عدم صدق
73

العناوين المأخوذة من الذاتيات - الاعلى ما كان واجدا لها - انها لم تؤخذ
الا من الوجودات الخاصة من جهة كيفياتها الفعلية، من دون اعتبار
المضي والاستقبال، والا كان من الممكن ان يوضع لفظ الانسان لمفهوم
يصدق حتى بعد صيرورته ترابا، كأن يوضع لمن كان له الحيوانية والنطق
في زمان ما مثلا، أو يوضع لفظ الماء لما كان جسما سيالا في زمن ما.
والحاصل أن العناوين المأخوذة من الموجودات - بملاحظة بعض
الخصوصيات إذا لم يلاحظ شئ زائد عليها - لا تطلق الا على تلك
الموجودات، مع تلك الخصوصيات، سواء كانت تلك الخصوصيات من
ذاتيات الشئ أو من العوارض. ولعل هذا بمكان من الوضوح. ولعمري
إن ملاحظة ما ذكرنا في المقام تكفى المتأمل.
حجة من ذهب إلى أن المشتق موضوع للأعم من المتلبس ومن
انقضى عنه المبدأ أمور مذكورة في الكتب المفصلة. والجواب عنها يظهر لك بأدنى
تأمل ومن جملتها استدلال الإمام عليه السلام بقول تعالى: (لا ينال عهدي
الظالمين) على عدم لياقة من عبد الصنم لمنصب الإمامة تعريضا بمن تصدى
لها بعد عبادته الأوثان مدة. ومن المعلوم أن صحة الاستدلال المذكور
تتوقف على كون المشتق موضوعا للأعم، إذ الظاهر أن حال الاطلاق
75

متحد مع حال عدم نيل العهد [55] فلو لم يكن حقيقة فيما يصح اطلاقه
حال الانقضاء، لما صح التمسك بالآية، لعدم قابلية الجماعة المعهودين
الذين تصدوا الإمامة.
والجواب ان الظلم على قسمين قسم له دوام واستمرار مثل
الكفر والشرك، وقسم ليس له الا وجود آني من قبيل الضرب والقتل
وأمثال ذلك، وهو بمقتضى الاطلاق - بكلا قسميه - موضوع للقضية،
والحكم المرتب على ذلك الموضوع امر له استمرار، إذ لا معنى لعدم نيل
الخلافة في الآن العقلي، فإذا جعل الموضوع الذي ليس له الا وجود آني
موضوعا لأمر مستمر، يعلم أن الموضوع لذلك الامر ليس الا نفس ذلك
الوجود الآني، وليس لبقائه دخل، إذ لا بقاء له بمقتضى الفرض.
فمقتضى الآية - والله أعلم - ان من تصدى للظلم في زمن، غير قابل
لمنصب الإمامة، وإن انقضى عنه الظلم. ولا يتفاوت في حمل الآية
76

الشريفة على المعنى الذي ذكرنا، بين أن نقول بان المشتق حقيقة في
الأخص، أو في الأعم، إذ الحكم المذكور في القضية ليس قابلا لان
يترتب إلا على من انقضى عنه المبدأ، فاختلاف المبنى في المشتق لا يوجب
اختلاف معنى الآية، فلا يصير احتجاج الإمام عليه السلام بها دليلا
لا حدى الطائفتين، كما لا يخفى.
بساطة مفهوم المشتق أو تركبه
(تتمة) هل المشتقات موضوعة لمفاهيم بسيطة تنطبق على الذوات،
أو هي موضوعة للمعاني المركبة؟ وعلى الأول هل يكون ذلك المفهوم
البسيط الذي فرضناه معنى للمشتق قابلا للانحلال إلى أجزاء أو لا يكون
كذلك؟ قد يقال إنها موضوعة للمعاني البسيطة التي لا يكون لها جزء حتى

(1) عوالي اللئالي 3 / 85
77

عند التحليل، نظرا إلى ما يستفاد مما نقل عن أهل المعقول من أن الفرق
بين المشتق ومبدأه هو الفرق بين الشئ لا بشرط والشئ بشرط لا
[56] وظاهر هذا الكلام بل صريحه أن المشتق والمبدأ يشتركان في
أصل المعنى، ويختلفان بملاحظة الاعتبار.
وتحقيق المقام هو ان الاعراض وإن كان لها وجود، ولكن
ليس وجودها الا مندكا في وجود المحل، بحيث يعد من أطوار المحل
وكيفياته وهذا النحو من الوجود التبعي الاندكاكي قابل لان يلاحظ
في الذهن على قسمين (تارة) يلاحظ على نحو يحكى عن الوجود التبعي
المندك في الغير، وهو المراد من قولهم: (ملاحظته على نحو اللابشرط) و
(أخرى) يلاحظ على نحو الاستقلال ويتصور بحياله في قبال وجود المحل،
78

وهو المراد من قولهم: (ملاحظته على نحو بشرط لا) فإذا لوحظ على النحو
الأول، يكون عين المحل، لأنه من كيفيات وجود المحل وأطواره، وليس
وجودا مستقلا في قباله وإذا لوحظ على النحو الثاني، فهو وجود مستقل
في قبال المحل. وعلى النحو الأول يصح أن يقال باتحاده مع المحل، وهو
مفاد هيئة المشتق، كضارب وقاتل وقاعد وأمثالها مما يحمل على الذوات.
وعلى النحو الثاني هو مفاد الألفاظ الدالة على المواد كضرب وقعود
ونحوهما. ونظير ما ذكرنا هنا من الاعتبارين ذكروا في اجزاء المركب من أنها
- بملاحظتها لا بشرط - عين الكل، وبملاحظتها بشرط لا غيره ومقدمة
لوجوده.
والانصاف أن الاتحاد المستفاد من هيئة المشتقات مع الذوات
غير الاتحاد الملحوظ في العرض، باعتبار قيامه بالمحل، فان معنى اتحاد
العرض مع المحل عدم كونه محدودا بحد مستقل، لأنه متحد بحيث لم يكن
له ميز بنحو من الأنحاء، كيف وقد يشار إلى العرض في حال قيامه بالمحل
في الخارج، ويحكم عليه بحكم يخصه ولا يعم المحل [57] كقولك
80

- مشيرا إلى السواد القائم بجسم - بان هذا لون.
والحاصل ان هذا الاتحاد نظير اتحاد اجزاء المركب، فان معنى
اتحادها أنها محدودة بحد واحد، وان كان كل منها ممتازا عن الاخر من
وجوه اخر، بل يمكن أن يكون كل منها معروضا لعرض مضاد لعرض
الاخر. والمعنى المستفاد - من لفظ ضارب مثلا الذي يحمل على الذات في
الخارج - هو معنى يتحد مع الذات، بحيث لا يكون بينهما ميز في الخارج
بوجه. ولعل هذا واضح بعد أدنى تأمل. وتظهر الثمرة بين هذا المعنى الذي
ادعيناه للفظ المشتقات، وبين ما يقوله أهل المعقول أنه لو قال الامر جئني
بالضارب، ولا تجئني بالقاعد، فلا بد من تعيين أحد الخطابين في مورد
الاجتماع، بناءا على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي وبناءا على ما
ذكرنا للمشتق من المدلول، فان معنى القائم والضارب انطبقا في الخارج
81

على الوجود الشخصي. وأما على ما ذكره أهل المعقول فلا تنافي بينهما،
لان مورد الامر هو الهيئة الخاصة المرتبطة بالمحل، ومورد النهى هيئة أخرى
كذلك ونفس المحل خارج عن مورد الأمر والنهي.
والحاصل ان مقتضى ما ذكرنا أن مفهوم المشتق هو مفهوم آخر
مباين لمفهوم المبدأ، لا أنهما متحدان ذاتا مختلفان بالاعتبار. وهل يكون هذا
المفهوم مركبا من الذات وغيرها، كما اشتهر في ألسنتهم: من أن معنى
الضارب مثلا ذات ثبت لها الضرب، وكذا باقي المشتقات، أو لا يكون
كذلك بل هو مفهوم واحد من دون اعتبار تركيب فيه، وإن جاز التحليل
في مقام شرح المفهوم، كما يصح أن يقال في مقام شرح مفهوم الحجر أنه
شئ أو ذات ثبت لها الحجرية؟
الحق هو الثاني [58] لأنا بعد المراجعة إلى أنفسنا، لا نفهم من
لفظ ضارب مثلا إلا معنى يعبر عنه بالفارسية (بزننده) وبعبارة أخرى
(داراى ضرب) ولا اشكال في وحدة هذا المفهوم الذي ذكرنا، وان جاز
في مقام الشرح ان يقال شئ أو ذات ثبت لها الضرب. وليس في باب
82

فهم معاني الألفاظ شئ أمتن من الرجوع إلى الوجدان.
وقد استدل على اعتبار الذات في مفهوم المشتق بما لا يخلو عن
اشكال. قال السيد الشريف - في وجه عدم اعتبار الذات في مفهوم
المشتقات على ما. حكى عنه - انها لو كانت مأخوذة فيها بمفهومها، لزم
دخول العرض العام في الفصل، فان لفظ الناطق - الذي يؤتى به في مقام
ذكر فصل الانسان - من المشتقات، فلو اعتبر فيه مفهوم الذات، لزم ما ذكر
من دخول العرض العام في الفصل، ولو كانت معتبرة بمصداقها، لزم
انقلاب مادة الامكان الخاص ضرورة، فان الشئ الذي له الضحك هو
84

الانسان، وثبوت الشئ لنفسه ضروري. هذا ملخص ما افاده.
وفيه امكان اختيار الشق الأول، والالتزام بأن ما هو مفهوم لفظ
الناطق ليس بفصل حقيقة، إما بتجريد المفهوم عن الذات، ثم جعله فصلا
للانسان وإما بأن ما هو فصل حقيقة غير معلوم وإنما جعل هذا مكان
الفصل. لكونه من خواص الانسان، فعلى هذا لا بأس بأخذ مفهوم الشئ
مجردا عن الوصف، بل هو مقيد بالوصف وعليه فلا يلزم انقلاب مادة
الامكان الخاص ضرورة، ضرورة أن كون زيد زيدا المتصف بالضرب ليس
ضروريا، غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام أن القضايا
المشتملة على الأوصاف تدل على الاخبار بوقوع تلك الأوصاف، وإن لم
تكن الأوصاف المذكورة محمولة في القضية مثلا لو قلت أكرمت اليوم زيدا
العالم تدل القضية على حكايتين: (إحداهما) حكاية أن
زيدا عالم و (الأخرى) حكاية إكرامك إياه. وعلى هذا فقولك: زيد ضارب
لو كان معناه زيد زيد المتصف بالضرب، فيدل هذا القول على اخبار
اتصاف زيد بالضرب، وعلى أن زيدا المتصف بالضرب زيد. ولا
اشكال في أن الاخبار الثاني بديهي، وان كان الأول ليس كذلك
فالقضية بناءا على هذا تشتمل على قضية ضرورية، وقضية ممكنة، مع أنه
لا شبهة لاحد في أن قولنا زيد ضارب لا يفيد أمرا ضروريا.
وفيه ان اشتمال القضية المشتملة على الأوصاف على حكايتها انما
هو بانحلال النسبة التامة الموجودة فيها، لا انها مركبة من قضيتين أو
قضايا، وتلك النسبة الواحدة ينظر فيها، فان كانت مثبتة لأمر ضروري،
85

تعد القضية من الضرورية، وان كانت مثبتة لأمر ممكن، تعد من الممكنة
ولا شبهة في أن النسبة التامة الواقعة بين الذات المقيدة بقيد ممكن،
والذات المجردة لا تحكى أمرا ضروريا وهذا واضح.
(فائدة)
لا اشكال في ألفاظ المشتقات الجارية عليه سبحانه، ولا حاجة
إلى ارتكاب النقل أو التجوز فيها، بملاحظة أن المعتبر في معنى المشتق ذات
ثبت لها المبدأ، فلا يتمشى في صفاته تعالى، بناءا على المذهب الحق من
عينيتها مع ذاته سبحانه.
وجه عدم الاشكال انه كما أن الذهن يلاحظ القطرة تارة بحد
ماء الحوض مثلا، وأخرى بحد مستقل وفي كل منهما يعتبر الملحوظ أمرا
خارجيا، كذلك لا مانع في صفاته تعالى من أن يعتبر الذهن ذاتا ومبدأ
وعروضا للثاني على الأول، وينتزع من الذات المعروضة مفهوما يعبر عنه
بالمشتق، ومن المبدأ العارض مفهوما آخر يعبر عنه بالمبدأ ولا ينافي ذلك
اعتقاد العينية، كما أن ملاحظة القطرة بحد الاستقلال، لا ينافي اعتقاد
عينيتها مع ماء الحوض ومن هنا تظهر الخدشة فيما تفصى به في الكفاية
عن الاشكال، من كفاية التعدد المفهومي بين الذات والمبدأ مع وجود
العينية الخارجية في صحة الحمل، فان هذا المعنى موجود بعينه في مبدأ
المشتقات المذكورة مع ذاته سبحانه، مع عدم صحة الحمل.
هنا تمت المقدمات فلنشرع في المقاصد:
86

(المقصد الأول - في الأوامر)
وتمام الكلام فيه في طي فصول:
(الفصل الأول)
(في تحقيق معنى صيغة افعل)
(وما في معناها وتميز معناها عن معنى الجملة الخبرية)
فنقول: قد يقال في الفرق بينهما: أن الجمل الخبرية موضوعة
للحكاية عن مداليلها في نفس الامر وفي ظرف ثبوتها، سواء كان المحكى
بها مما كان موطنه في الخارج، كقيام زيد أم كان موطنه من النفس،
كعلمه. والمستفاد من هيئة افعل ليس حكاية عن تحقق الطلب في موطنه،
بل هو معنى يوجد بنفس القول، بعد ما لم يكن قبل هذا القول له عين
ولا اثر. وقيل في توضيح ذلك أن مفهوم الطلب له مصداق واقعي يوجد
في النفس، ويحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشايع الصناعي، وله
مصداق اعتباري، وهو أن يقصد المتكلم - بقوله اضرب - ايقاعه بهذا
الكلام. وهو نحو من الوجود، وربما يكون منشأ لانتزاع اعتبار مرتب
عليه شرعا وعرفا آثار، وهكذا الحال في سائر الألفاظ الدالة على المعاني
87

الانشائية، كليت ولعل وأمثال ذلك.
والحاصل - في الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية على ما ذهب
إليه بعض - ان مداليل تلك الألفاظ توجد بنفس تلك الألفاظ اعتبارا،
ولا يعتبر في تحقق مداليلها سوى قصد وقوعها بتلك الألفاظ، سواء كان
مع تلك المداليل ما يعد مصداقا واقعيا وفردا حقيقيا أم لا. نعم الغالب
كون انشاء تلك المداليل ملازما للمصاديق الواقعية، بمعنى ان الغالب أن
المريد لضرب زيد واقعا يبعث المخاطب نحوه، وكذا المتمني واقعا، وكذا
المترجى كذا يتكلم بكلمة ليت ولعل.
هذا ولى فيما ذكر نظر أما كون الجمل الخبرية موضوعة لان تحكى
عن مداليلها في موطنها، ففيه ان مجرد حكاية اللفظ عن المعنى في الموطن
لا يوجب اطلاق الجمل الخبرية عليه ولا يصير بذلك قابلا للصدق
والكذب [59] فان قولنا قيام زيد في الخارج يحكى عن معنى قيام زيد
88

في الخارج، ضرورة كونه معنى اللفظ المذكور، واللفظ يحكى عن معناه
بالضرورة ومع ذلك لا يكون جملة خبرية فالتحقيق انه لا بد من اعتبار امر
89

زائد على ما ذكر، حتى تصير الجملة به جملة يصح السكوت عندها [60]
وهو وجود النسبة التامة. ولا شبهة في أن النسب المتحققة في الخارج
ليست على قسمين، قسم منها (تامة) وقسم منها (ناقصة) بل النقص
والتمام إنما هما باعتبار الذهن، فكل نسبة ليس فيها الا مجرد التصور،
تسمى نسبة ناقصة، وكل نسبة تشتمل على الاذعان بالوقوع، تسمى نسبة
تامة.
ثم إن الاذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبرية، ليس هو العلم
الواقعي بوقوع النسبة، ضرورة أنه قد يخبر المتكلم وهو شاك، بل قد يخبر
وهو عالم بعدم الوقوع، بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع جعلا، على
نحو لا يكون القاطع معتقدا. وكان سيدنا الأستاذ (نور الله ضريحه) يعبر
عن هذا المعنى بالتجزم.
90

وحاصل الكلام أنه كما أن العلم قد يتحقق في النفس بوجود
أسبابه، كذلك قد يخلق في النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن
الخارج، فإذا تحقق هذا المعنى في الكلام، يصير جملة يصح السكوت عليها،
لان تلك الصفة الموجودة تحكى جزما عن تحقق النسبة في الخارج،
ويتصف الكلام بالقابلية للصدق والكذب بالمطابقة والمخالفة. هذا في
الجمل الخبرية.
وأما الانشائيات، فكون الألفاظ فيها علة لتحقق معانيها مما لم
أفهم له معنى محصلا [61] ضرورة عدم كون تلك العلية من ذاتيات
92

اللفظ وما ليس علة ذاتا لا يمكن جعله علة، لما تقرر في محله من عدم قابلية
العلية وأمثالها للجعل.
93

والذي أتعقل من الانشائيات انها موضوعة لان تحكى عن حقائق
موجودة في النفس [62] مثلا هيئة إفعل موضوعة لتحكي عن حقيقة
الإرادة الموجودة في النفس، فإذا قال المتكلم (اضرب زيدا) وكان في
نفسه مريدا لذلك، فقد أعطت الهيئة المذكورة معناها. وإذا قال ذلك،
ولم يكن مريدا واقعا، فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها. نعم
بملاحظة حكايتها عن معناها، ينتزع عنوان آخر لم يكن متحققا قبل ذلك،
وهو عنوان يسمى بالوجوب، وليس هذا العنوان المتأخر معنى للهيئة، إذ
95

هو منتزع من كشف اللفظ عن معناه، ولا يعقل أن يكون عين معناه.
(ان قلت): قد يؤتى بالألفاظ الدالة على المعاني الانشائية،
وليس في نفس المريد معانيها، مثلا قد تصدر من المتكلم صيغة افعل كذا
في مقام امتحان العبد، أو في مقام التعجيز وأمثال ذلك، وقد يتكلم
96

بلفظة ليت ولعل، ولا معنى في النفس يطلق عليه التمني أو الترجي، فيلزم
مما ذكرت أن تكون الألفاظ في الموارد المذكورة غير مستعملة أصلا، أو
مستعملة في غير ما وضعت له والالتزام - بكل منهما لا سيما الأول -
خلاف الوجدان
(قلت) تحقق صفة الإرادة أو التمني أو الترجي في النفس، قد يكون
لتحقق مباديها في متعلقاتها [63]، كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد،
فتحققت في نفسه ارادته، أو اعتقد المنفعة في شئ مع الاعتقاد بعدم
99

وقوعه، فتحققت في نفسه حالة تسمى بالتمني، أو اعتقد النفع في شئ مع
احتمال وقوعه، فتحققت في نفسه حالة تسمى بالترجي، وقد يكون تحقق
تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلقاتها، بل توجد النفس تلك
الصفات من جهة مصلحة في نفسها، كما نشاهد ذلك وجدانا في الإرادة
التكوينية التي قد توجدها النفس لمنفعة فيها، مع القطع بعدم منفعة في
متعلقها، ويترتب عليها الأثر.
مثال ذلك إن إتمام الصلاة من المسافر يتوقف على قصد الإقامة
عشرة أيام في بلد، من دون دخل لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار
وجودا وعدما، ولذا لو بقي في بلد بالمقدار المذكور من دون قصد لا يتم،
وكذا لو لم يبق بذلك المقدار، ولكن قصد من أول الامر البقاء بذلك
100

المقدار يتم ومع ذلك يتمشى قصد البقاء من المكلف، مع علمه بان ما هو
المقصود ليس منشأ للأثر المهم، وانما يترتب الأثر على نفس القصد، ومنع
تمشي القصد منه - مع هذا الحال - خلاف ما نشاهد من الوجدان،
كما هو واضح فتعين ان الإرادة قد توجدها النفس لمنفعة فيها لافى المراد،
فإذا صح ذلك في الإرادة التكوينية صح في التشريعية أيضا، لأنها ليست
بأزيد مؤنة منها. وكذا الحال في باقي الصفات، من قبيل التمني والترجي.
101

إذا عرفت هذا فنقول: إن المتكلم - بالألفاظ الدالة على
الصفات الخاصة الموجودة في النفس - لو تكلم بها ولم تكن مقارنة لوجود
تلك الصفات أصلا، نلتزم بعدم كونها مستعملة في معانيها. وأما إن
كانت مقارنة لوجود تلك الصفات، فهذا استعمال في معانيها، وإن لم
يكن تحقق تلك الصفات بواسطة تحقق المبدأ في متعلقاتها فتأمل جيدا.
(الفصل الثاني)
(في الطلب والإرادة)
قد اشتهر النزاع بين العدلية والأشاعرة في أن الطلب هل هو
عين الإرادة أو غيرها؟ وذهب الأول إلى الأول والثاني إلى
الثاني. وملخص الكلام في المقام أن يقال: إن أراد الأشاعرة
102

أنه في النفس صفة أخرى غير الإرادة تسمى بالطلب، فهو واضح
الفساد، ضرورة أنا إذ نطلب شيئا لم نجد في أنفسنا غير الإرادة
ومباديها [64] وإن أرادوا ان الطلب معنى ينتزع من الإرادة في مرتبة
103

الاظهار والكشف [65] دون الإرادة المجردة، فهما متغايران مفهوما وان
اتحدا ذاتا، فهو كلام معقول، ولكن لا ينبغي أن يذكر في عداد المسائل
العقلية، فان انتزاع مفهوم آخر من مرتبة ظهور الا رادة مما لا ينكر، كما
أشرنا إليه سابقا، فالكلام المذكور يرجع إلى دعوى ان لفظ الطلب موضوع
104

لهذا المعنى، بخلاف لفظ الإرادة، فإنه موضوع للصفة الخاصة النفسانية،
سواء تحقق لها كاشف أم لا.
قال شيخنا الأستاذ - دام بقاه في الكفاية في توضيح عينية الطلب
مع الإرادة - ما لفظه إن الحق - كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة، وخلافا
للأشاعرة - هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى ان لفظهما موضوعان بإزاء
مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر. والطلب
المنشأ بلفظ أو بغيره عين الإرادة الانشائية.
وبالجملة هما متحدان مفهوما وانشاءا وخارجا، لا ان الطلب
الانشائي الذي هو المنصرف إليه اطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة
الحقيقية التي ينصرف إليها اطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر
من الشمس وأبين من الأمس.
إذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان
عند طلب شئ والامر به كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان،
فان الانسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تكون
هي الطلب غيرها (انتهى).
أقول: ما افاده - من أن الانسان لا يجد من نفسه غير الإرادة
القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها عند طلبه شيئا - حق لا محيص عنه.
وأما التزامه بأن المفهوم الذي هو بإزاء لفظ الإرادة أو الطلب له نحوان
من التحقق (أحدهما) التحقق الخارجي و (الاخر) التحقق الاعتباري،
فهو مبنى على ما حققه من أن معاني الهيئة أمور اعتبارية توجد باللفظ
بقصد الايقاع.
وفيه - مضافا إلى ما عرفت سابقا من عدم تعقل كون اللفظ
موجدا لمعناه - أن الأمور الاعتبارية التي فرضناها متحققة بواسطة الهيئة
105

(الفصل الثالث معنى الصيغة)
في الموارد الجزئية، يؤخذ منها جامع، تكون تلك الجزئيات مصداقا حقيقيا
له. وهذا كما في الفوقية، فإنها وان كانت من الأمور الاعتبارية، ولكن
يؤخذ من جزئياتها جامع يحمل على تلك الجزئيات، كحمل باقي المفاهيم
على مصاديقها ولا معنى لجعل تلك الأمور مصاديق اعتبارية لمفهوم آخر
لا ينطبق عليها. والحاصل أنه ليس للمفهوم سوى الوجود الذهني
والخارجي نحو آخر من التحقق يسمى وجودا اعتباريا له.
هل الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما على سبيل
الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وجوه أقواها الأخير، [66] ولكنها عند
الاطلاق تحمل على الأول [67]. ولعل السر في ذلك أن الإرادة المتوجهة
إلى الفعل تقتضي وجوده ليس الا، والندب انما يأتي من قبل الاذن في
الترك، منضما إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج الندب إلى قيد زائد، بخلاف
106

الوجوب، فإنه يكفي فيه تحقق الإرادة، وعدم انضمام الرخصة في الترك
إليها. وهل الحمل على الوجوب عند الاطلاق يحتاج إلى مقدمات
الحكمة [68]، و حيثما اختلت لزم التوقف أم لا، بل يحمل على الوجوب
عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور؟ الا قوى الثاني لشهادة العرف
107



(1) سورة إبراهيم 14 الآية 4
109

بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة، باحتمال الندب، وعدم كون الآمر
في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.
ونظير ما ذكرنا هنا - من استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر
القيد في الكلام، وان لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان - القضايا
المسورة بلفظ الكل وأمثالها، فان تلك الألفاظ موضوعة لبيان عموم افراد
مدخولها، سواء كان مطلقا أم مقيدا، ففي قضية (أكرم كل رجل عالم)،
و (أكرم كل رجل) لفظ الكل مفيد لمعنى واحد، وهو عموم افراد ما
تعلق به وما دخل عليه، غاية الامر مدخوله في الأولى الطبيعة المقيدة، وفي
الثانية المطلقة، فالتقيد في الرجل الذي هو مدخول الكل ليس تصرفا في
لفظ الكل. وهذا واضح، لكنه مع ذلك لو سمعنا من المتكلم (أكرم
كل رجل) لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرجل الاحتياج
إلى مقدمات الحكمة في لفظ الرجل، بحيث لولاها نتوقف في أن المراد من
القضية المذكورة اكرام جميع افراد الرجل، أو جميع افراد الصنف الخاص
منه، ولا يبعد أن يكون نظير ذلك حمل الوجوب على النفسي والتعييني
عند احتمال كونه غيريا أو تخييريا، فان عدم اشتمال القضية على ما يفيد
كون وجوبه لملاحظة الغير، وكذا على ما يكون طرفا للفعل الواجب،
يوجب استقرار ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا، فلا يحتاج إلى
111

احراز مقدمات الحكمة. والشاهد على ذلك كله المراجعة إلى فهم العرف،
إذ لا دليل في أمثال ذلك أمتن مما ذكر. ويحتمل أن يكون حمل الإرادة
على الوجوب التعييني النفسي - عند عدم الدليل على الخلاف - من
باب كونها حجة على ذلك عند العقلاء، لو كان الواقع كذلك، نظير
حجية الأوامر الظاهرية على الواقعيات على تقدير التطابق، من دون أن
يستقر الظهور اللفظي فيما ذكرنا، فافهم [69].
(الفصل الرابع)
(الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب)
الجمل الخبرية - التي يؤتى بها في مقام الطلب - ظاهرة في
الوجوب، سواء قلنا بأنها مستعملة في الطلب مجازا، أم قلنا بأنها مستعملة
في معانيها من الحكاية الجزمية عن الواقع بداعي الطلب، كما هو الظاهر.
أما على الأول فلما مر من أن الندب يحتاج إلى مؤنة زائدة [70] وأما على
الثاني فلان الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدل على عدم تطرق نقيضه
عند الامر، فيكون هذا أبلغ في إفادة الوجوب من صيغة افعل وأمثالها.
112

(لا يقال): لازم حمل الجمل الخبرية في مقام الطلب على الاخبار
وقوع الكذب فيما لم يأت المكلف بالمطلوب (لأنا نقول): الصدق
والكذب يلاحظان بالنسبة إلى النسبة الحكمية المقصودة بالأصالة، دون
النسبة التي جئ بها توطئة لإفادة امر آخر. ولذا لا يستند الكذب إلى
القائل بان زيدا كثير الرماد، توطئة لإفادة جوده، وإن لم يكن له رماد، أو
كان ولم يكن كثيرا وانما يسند إليه الكذب لو لم يكن زيد جوادا.
(الفصل الخامس)
(مفاد هيئة افعل)
هيئة افعل تدل بوضع المادة على الطبيعة اللابشرط من جميع
الاعتبارات، حتى الوجود والعدم، وحتى الاعتبار الذي به صار مفادا
للمصدر [71] ضرورة أن المعنى المذكور آب عن الحمل على الذات،
فيمتنع وجوده في الهيئة التي تحمل على الذات. هذا وضع المادة، وتدل
113

بواسطة وضع الهيئة على الطلب القائم بالنفس، فالمركب من الوضعين يفيد
الطلب المتعلق بتلك الطبيعة اللابشرط. وحيث أن الطبيعة اللابشرط
حتى من حيث الوجود والعدم لا يمكن ان تكون محلا للإرادة عقلا يجب
اعتبار وجود ما زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة [72]، والوجود
المذكور الذي يجب اعتباره عقلا على أنحاء:
(أحدها) الوجود الساري في كل فرد كما في قوله تعالى أحل الله
البيع (ثانيها) الوجود المقيد بقيد خاص، ومن القيود المرة والتكرار،
والفور أو الوجود الأول وأمثال ذلك (ثالثها) أن يعتبر صرف الوجود
مقابل العدم الأزلي، من دون امر آخر وراء ذلك.
وبعبارة أخرى كان المطلوب انتقاض العدم الأزلي
114

بالوجود [73]، من دون ملاحظة شئ آخر، وحيثما لا يدل الدليل على
أحد الاعتبارات، يتعين الثالث لأنه المتيقن من بينها، وغيره يشتمل على
هذا المعنى وأمر زايد فيحتاج إلى مؤنة أخرى زائدة مدفوعة بمقتضى
الاطلاق.
ومما ذكرنا يظهر ان الفور والتراخي والمرة والتكرار وغيرها كلها
خارجة عن متفاهم اللفظ. نعم لو دل الدليل على أحدها، لم يكن منافيا
لوضع الصيغة لا بمادتها ولا بهيئتها. ولازم ما ذكرنا الاكتفاء بالمرة سواء
اتى بفرد واحد من الطبيعة أم أزيد منه، لانطباق الطبيعة المعتبرة فيها
حقيقة الوجود، من دون اعتبار شئ آخر على ما وجد أولا، فيسقط
الامر، إذ بعد وجود مقتضاه في الخارج لو بقى على حاله لزم طلب
الحاصل، وهو محال. نعم يمكن أن يقال في بعض الموارد بجواز ابطال ما
اتى به أولا، وتبديله بالفرد الذي يأتي به ثانيا، كما يأتي بيانه في محله.
(الفصل السادس)
(في الاجزاء)
لا اشكال في أن الاتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرطا
وشطرا، يوجب الاجزاء عنه، بمعنى عدم وجوب الاتيان به ثانيا،
باقتضاء ذلك الامر، لا أداءا ولا قضاءا، لسقوط الامر بايجاد متعلقه،
115

ضرورة أنه لو كان باقيا بعد فرض حصول متعلقه لزم طلب الحاصل، وهو
محال. ولا فرق في ذلك بين الواجبات التعبدية والتوصلية.
وما قد يتوهم في التعبديات: من أنه قد يؤتى بالواجب بجميع ما
اعتبر فيه، ومع ذلك لم يسقط الامر، لفقد التقرب الذي اعتبر في
الغرض، فهو بمعزل عن الصواب، لما ذكرنا من استحالة بقاء الامر مع
وجود عين ما اقتضاه في الخارج. وأما وجوب الاتيان ثانيا في
التعبديات لو أخل بقصد القربة، فاما من جهة اعتبار ذلك في المأمور به،
وإما من جهة تعلق الامر بالاتيان بالفعل ثانيا، بعد سقوط الامر الأول،
لعدم حصول الغرض الأصلي. وستطلع على تفصيل ذلك عند البحث عن
وجوب مقدمة الواجب إن شاء الله.
والحاصل ان الامر إذا اتى بما اقتضاه بجميع ما اعتبر فيه لا اقتضاء
له ثانيا. نعم يتصور امر آخر يتعلق بايجاد الفعل ثانيا. وهذا غير عدم
الاجزاء عن الامر الأول. ولعمري إن هذا من الوضوح بمكان. وكذا
لافرق فيما ذكرنا بين الا وامر المتعلقة بالعناوين الأولية، وبين الا وامر
الملحوظ فيها الحالات الطارية، من قبيل العجز والاضطرار والشك
وأمثال ذلك، لوجود الملاك الذي ذكرنا في الجميع. وانما الاشكال
116

والكلام في أن الأوامر المتعلقة بالمكلف بملاحظة العناوين الطارية [74]
لو اتى المكلف بمتعلقاتها، هل تجزى عن الواقعيات الأولية، بحيث لو
ارتفعت تلك الحالة الطارية في الوقت أو خارجه، لا يجب عليه الاتيان
بما اقتضت الأوامر الواقعية الأولية أو لا يكون كذلك؟
إذا عرفت ذلك فنقول: إن العناوين الطارية
التي توجب التكليف على قسمين (أحدهما) ما يوجب
حكما واقعيا في تلك الحالة مثل الاضطرار
(ثانيهما) ما يوجب حكما ظاهريا،
مثل الشك، فها هنا مقامان يجب التكلم في كل
منهما.
117

[1 - (اجزاء الاضطراري عن الاختياري)
اما القسم الأول فينبغي التكلم فيه (تارة) في أنحاء ما يمكن أن
يقع عليه و (أخرى) فيما وقع عليه. أما الأول فنقول: يمكن أن يكون
التكليف بشئ في حال عدم التمكن من شئ آخر، والاضطرار العرفي
بتركه، من جهة أن ذلك الشئ مشتمل على عين المصلحة التي تقوم
بالفعل الاختياري، من دون تفاوت أصلا، مثلا الصلاة مع الطهارة المائية
في حق واجد الماء، والترابية في حق فاقده سيان في ترتب الأثر الواحد
المطلوب الموجب للامر [75] ويمكن أن يكون الفعل في حق المضطر
مشتملا على مصلحة وجوبية، لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة
بالفعل الاختياري، وان كانت مثلها في كونها متعلقة لغرض الآمر في
الحالة التي يكون المكلف عليها [76]. ويمكن أن يكون مشتملا على مرتبة
أدنى من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري. على هذا يمكن بلوغ الزائد
حدا يجب استيفاؤه ويمكن عدم بلوغه إلى هذه المرتبة. وعلى الأول يمكن
كون الزائد مما يمكن استيفاؤه بعد زوال العذر، ويمكن عدم كونه كذلك.
هذه أنحاء الصور في التكاليف الاضطرارية [77].
118

ولازم الأول من الأقسام المذكورة الاجزاء، بداهة مساواة الفعل
الاضطراري للفعل الاختياري في تحصيل الغرض على الفرض المذكور،
فكما أن الفعل الاختياري يوجب الاجزاء كذلك الاضطراري.
ولازم الثاني منها عدم الاجزاء، إذا لفعل الاضطراري - وإن
كان مشتملا على المصلحة التامة كالاختياري - لكن المصلحة القائمة
بكل منهما تغاير الأخرى، فلا يكون أحد الفعلين مجزيا عن الاخر. نعم
يمكن أن يكون أحد الفعلين في الخارج موجبا لعدم امكان استيفاء
مصلحة الاخر. ولا يخفى أن لازم كلا القسمين المذكورين جواز تحصيل
الاضطرار اختيارا [78].
ولازم الثالث عدم الاجزاء [79]. مع اتصاف الزائد بوجوب
الاستيفاء وامكانه معا، وفى غيره الاجزاء. ثم إنه إن كانت المصلحة
الزائدة بمرتبة اللزوم، ولا يمكن الاستيفاء بعد اتيان الفعل الاضطراري،
لا يجوز للامر الايجاب والبعث إلى الاضطرار في الوقت، إن علم بزوال
عذره قبل زوال الوقت، لأنه تفويت للمصلحة اللازمة. وفي غير الصورة
المذكورة يجوز الايجاب، وإن علم بزوال عذره في الوقت. ووجهه ظاهر.
ولازم الصورة الأولى عدم جواز البدار إلى الفعل الاضطراري، إلا إذا علم
باستيعاب العذر لتمام الوقت، كما أن لازم الثانية جواز ذلك، وان علم
119

بانقطاع العذر. والقول بعدم جواز البعث للامر والبدار للمكلف في
الصورة الأولى، إنما هو فيما لم تكن للتكليف مصلحة تتدارك بها المصلحة
الزائدة الفائتة، وإلا جاز. وتنتفي الثمرة بين الصورتين. هذه أنحاء التصور في
التكاليف الاضطرارية.
واما ما وقع بمقتضى النظر في أدلتها، فالظاهر أن المأتى به في
حال الاضطرار لو وقع مطابقا لمقتضى الامر، يسقط الإعادة ثانيا، فان
ظاهر أدلتها ان المعنى الواحد يحصل من المختار باتيان التام، ومن المضطر
باتيان الناقص [80]. نعم في كون موضوع تكليف المضطر هو الاضطرار
120

الحالي أو الاضطرار المستوعب لتمام الوقت كلام، لابد في تنقيح ذلك من
النظر في الأدلة [81] وللكلام فيه محل آخر. ويتفرع على الأول سقوط
الإعادة لو انقطع العذر في الأثناء، وعلى الثاني عدم السقوط، لا لعدم
اجزاء امتثال الامر في حال الاضطرار، بل لكشف انقطاع العذر عن عدم
كون المأتى به متعلقا للامر. وأما القضاء فيما إذا استوعب العذر مجموع
الوقت وانقطع بعده، فيسقط عنه على كلا التقديرين.
ثم انه لو فرضنا الشك في ظواهر الأدلة، فأصالة البراءة محكمة،
لرجوع المقام إلى الشك في التكليف [82] ولا فرق في ذلك بين الإعادة
والقضاء.
(لا يقال): مقتضى وجوب قضاء ما فات وجوب العمل التام
عليه، لصدق فوت العمل التام عنه.
(لأنا نقول): يعتبر في صدق الفوت اشتمال العمل على المصلحة
المقتضية للايجاب عليه، ولم يستوفها المكلف. والمفروض احتمال استيفاء
المكلف العاجز تلك المصلحة باتيان الناقص. ومع هذا الاحتمال يشك
في صدق الفوت الذي هو موضوع أدلة القضاء هذا حال التكليف
الاضطراري.
121

[2 - (اجزاء الظاهري عن الواقعي)
واما التكاليف المتعلقة بالمكلف في حال الشك في التكليف
الواقعي، فملخص الكلام فيها أنه إن قلنا باشتمال متعلقاتها في تلك الحالة
على المصالح، فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال
الاضطرار [83]، من دون تفاوت. وإن قلنا بأنها تكاليف جعلت لرفع
تحير المكلف عن الواقعيات في مقام العمل، فلازم ذلك عدم الاجزاء،
124

لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع على هذا الفرض. غاية
الامر كون الامتثال لتلك التكاليف عذرا عن الواقع المختلف عنه، وحد
امكان العذر عن الشئ كونه مشكوكا فيه، فإذا علم لا يمكن عقلا ان
يكون معذورا فيه، لوجوب امتثال الحكم المعلوم وحرمة مخالفته. ولا فرق
فيما ذكرنا بين ان يكون مورد الاحكام الظاهرية الشبهات الموضوعية أو
الحكمية [84].
وحاصل الكلام: أن الغرض الموجب للحكم حدوثا موجب له
بقاءا ما لم يحصل. وبعد ما فرضنا أن متعلقات الاحكام الظاهرية ليست
مشتملة على مصالح، حتى يتوهم حصول تلك الاغراض الموجبة للتكليف
بالواقعيات باتيانها، وانما فائدتها تنجيز الواقعيات في مورد ثبوتها، وكونها
عذرا عنها في صورة التخلف، فلا وجه لتوهم الاجزاء، لأنه ان كان المراد
125

سقوط الامر بالواقعيات بمجرد امتثال الامر الظاهري، فلا يعقل مع بقاء
الغرض الذي أوجب الامر، وإن كان المراد كونه معذورا فيها مع بقاء
الامر بها وارتفاع الشك، فلا يعقل أيضا، لاستقلال العقل بعدم معذورية
من علم بتكليف المولى. نعم يمكن ان يوجب امتثال الامر الظاهري عدم
القابلية لاستدراك المصلحة القائمة بالواقع، فيسقط الامر به من هذه
الجهة. وهذا الاحتمال - مع كونه بعيدا في حد نفسه - لا يصير منشأ
للتوقف، إذ غايته الشك في السقوط، وهو بعد العلم بالثبوت مورد
للاشتغال.
هذا إذا علم أن جعل الاحكام الظاهرية من باب الطريقية ولو
شك في أنه كذلك أو من باب السببية، أو علم أنه من باب السببية،
ولكن شك في أن الاتيان بالمشكوك فيه هل هو واف بتمام الغرض
الموجب للامر بالواقع، أو بمقدار يجب استيفاؤه أو لم يكن كذلك، فهل
الأصل في تمام ما ذكرنا يقتضى الاجزاء أو عدمه، أو التفصيل بين ما
إذا كان منشأ الشك في الاجزاء وعدمه الشك في أن جعل الاحكام
الظاهرية من باب السببية أو الطريقية، وما إذا كان منشأ الشك فيه
الشك في كيفية المصلحة القائمة بالفعل المشكوك فيه المتعلق للامر، بعد
احراز أن الجعل من باب السببية؟ الحق أن يقال: ان مقتضى الأصل
عدم الاجزاء مطلقا.
بيان ذلك أن الاحكام الواردة على الشك - سواء قلنا بأنها
جعلت لمصلحة في متعلقاتها، أو قلنا بأنها جعلت من جهة الطريقية - إنما
جعلت في طول الاحكام الواقعية، لان موضوعها الشك في الواقعيات بعد
الفراغ عن جعلها، فلا يمكن أن تكون رافعة لها، غاية الامر أن الاتيان
126

بمتعلقاتها - ان قلنا بان الجعل فيها من باب السببية، وانها وافية بمصالح
الواقعيات - مجزئ عنها. وهذا غير ارتفاع الاحكام الواقعية، وانحصار
الحكم الفعلي بمؤدى الطريق.
إذا عرفت ذلك فنقول: لو أتى المكلف بما يؤدى إليه الطريق، فان
قطع باشتمال ما أتى به على المصلحة المتحققة في الواقع فهو، والا فبعد
انكشاف الخلاف يجب عليه اتيان الواقع، سواء كان الشك في السقوط
وعدمه مستندا إلى الشك في جهة الحكم الظاهري، أو في وفاء المصلحة
المتحققة في متعلق الحكم الظاهري لتدارك ما في الواقع، بعد إحراز أن
الجعل انما يكون من جهة المصلحة الموجودة في المتعلق، إذ يشترك الجميع
في أن المكلف يعلم - حين انكشاف الخلاف - بثبوت تكليف عليه في
الجملة، ويشك في سقوطه عنه. وهذا الشك مورد للاشتغال
العقلي [85].
ومما ذكرنا يظهر لك الفرق بين المقام والمقام السابق الذي قلنا
فيه بالبراءة من الإعادة والقضاء، بعد اتيان ما اقتضاه التكليف في حال
الاضطرار. توضيح الفرق أن المكلف في حال الاضطرار، ليس عليه الا
127

الفعل الناقص الذي اقتضاه تكليفه في تلك الحال، فلو كلف بعد ارتفاع
العذر بالفعل التام، فهو تكليف ابتدائي جديد، فالشك فيه مورد للبراءة،
بخلاف حال الشك، فان ما وراء هذا التكليف - الذي اقتضاه الدليل
في حال الشك - واقع محفوظ، فإذا ارتفع الشك يتبين له ذلك الواقع
الثابت، ويشك في سقوطه عنه. هذا ما أدى إليه نظري القاصر في المقام
وعليك بالتأمل التام.
128

المقصد الثاني في مقدمة الواجب
إعلم أن الواجب في الاصطلاح عبارة عن الفعل المتعلق للإرادة
الحتمية المانعة عن النقيض، فلا يشمل ترك الحرام، وان كان ينتزع
- من مبغوضية الفعل وعدم الرضا به - كون تركه متعلقا للإرادة الحتمية
المانعة عن النقيض، إلا أنه لا يسمى واجبا في الاصطلاح فلو اقتصر في
العنوان المبحوث عنه هنا بمقدمة الواجب - كما فعله الأصوليون - فاللازم
جعل الحرام عنوانا مستقلا يتكلم فيه، فالأولى جعل البحث هكذا (هل
الإرادات الحتمية للمريد - سواء كانت متعلقة بالفعل ابتداءا أو بالترك
من جهة مبغوضية الفعل - تقتضي إرادة ما يحتاج ذلك المراد إليه
أم لا)؟ حتى يشمل مقدمة الفعل الواجب والترك الواجب.
ثم انه على القول بالاقتضاء يحكم بوجوب جميع مقدمات الفعل
الواجب من المعد، والمقتضى، والشرط، وعدم المانع، ومقدمات المقدمات.
وأما الترك الواجب، فلا يجب بوجوبه الا ترك إحدى مقدمات وجود
الفعل. والسر في ذلك أن الفعل في طرف الوجود يحتاج إلى جميع المقدمات،
ولا يوجد الا بايجاد تمامها، ولكن الترك يتحقق بترك إحداها [86]،
129

فلا يحتاج إلى تروك متعددة، حتى تجب تلك التروك بوجوب ذلك
الترك.
ومن هنا ظهر أنه إن لم يبق الا مقدمة مقدورة واحدة إما بوجود
الباقي، وإما بخروجه عن حيز القدرة، فحرمة ذلك الفعل تقتضي حرمة
تلك المقدمة المقدور عليها عينا، كما هو الشأن في كل تكليف تخييري
امتنع أطرافه الا واحدا، فإنه يقتضى إرادة الطرف الباقي تحت القدرة
معينا. وهذا واضح، فلو فرض أن صب الماء على الوجه مثلا يترتب عليه
التصرف في المحل المغصوب قطعا، بحيث لا يقدر بعد الصب على ايجاد
المانع أو رفع المحل عن تحت الماء، فحرمة الغصب ووجوب تركه تقتضي
حرمة صب الماء على الوجه عينا.
وعلى هذا بنى سيد أساتيذنا الميرزا الشيرازي (قدس سره) في
حكمه ببطلان الوضوء، وإن لم يكن المصب منحصرا في المغصوب [87]،
إذا كانت الطهارة بحيث يترتب عليها التصرف، فلا يرد عليه (قدس سره)
131

ان صب الماء ليس علة تامة للغصب حتى يحرم بحرمته، بل هو من
المقدمات. وما هو كذلك لا يجب تركه شخصا، حتى ينافي الوجوب.
وحاصل الجواب: أن صب الماء وان لم يكن علة، إلا أنه بعد
انحصار المقدمات المقدورة فيه - كما هو المفروض - يجب تركه عينا.
(فان قلت): ليس المقدور منحصرا في الصب، بل الكون في
المكان المخصوص أيضا من المقدمات، وهو باق تحت قدرة المكلف، فلم
تثبت حرمة صب الماء عينا.
(قلت): ليس الكون المذكور من مقدمات تحقق الغصب في
عرض صب الماء، بل هو مقدمة لتحقق الصب الخاص الذي هو مقدمة
لتحقق الغصب. والنهى عن الشئ يقتضي النهى عن أحد الافعال التي
هي بمجموعها علة لذلك الشئ، فإذا انحصر المقدور من هذه الأفعال في
واحد يقتضى حرمته عينا.
هذا وإذ قد عرفت أن حرمة مقدمات الحرام إنما تكون على سبيل
التخيير، بمعنى ان الواجب ترك إحدى المقدمات، منها يتبين لك أنه إذا
اقتضت جهة من الخارج وجوب إحدى تلك المقدمات عينا، فلا تزاحمه
الحرمة التخييرية التي جاءت من قبل النهى، لان الأول ليس له بدل،
بخلاف الثاني، فلا وجه لرفع اليد عن أحدا لغرضين الفعليين إذا أمكن
الجمع بينهما، فاللازم بحكم العقل قصر أطراف الحرام التخييري على غير ما
اقتضت المصلحة وجوبه عينا. وهكذا الكلام في الواجب التخييري
بالنسبة إلى الحرام التعييني، فان اللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب
بغير الحرام، ولا يلاحظ هنا الأهم وغيره، فان هذه الملاحظة إنما تكون
فيها إذا كان فوت أحد الغرضين مما لابد منه. وأما فيما يمكن الجمع بينهما،
فلا وجه لغيره.
132

ومن هنا ظهر أنه بناءا على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي،
يجب الحكم بكون الصلاة في الدار المغصوبة محرمة، وتقييد مورد الصلاة
بغير هذا الفرد، وان كانت الصلاة أهم من الغصب بمراتب، ولو كان
الواجب تخييريا. وكذلك الحرام، فهل يمكن اجتماعهما في محل واحد،
بناءا على عدم جواز اجتماعهما في غير هذا المورد، أم لا؟ مثاله: لو كان
صب الماء على الوجه مقدورا، وهكذا اخذه على تقدير الصب، بحيث
لا يقع في المحل المغصوب، فهل يمكن أن يكون ترك هذا الصب واجبا،
بدلا لكونه مما يترتب عليه ترك الحرام؟ وكذلك فعله، لكونه أحد افراد
غسل الوجه في الوضوء أم لا؟
قد يقال بالعدم، لان كون الشئ طرفا للوجوب التخييري،
يقتضى أن يكون تركه مع ترك باقي الافراد مبغوضا للمولى [88]، وكونه
طرفا للحرمة التخييرية، يقتضى أن يكون الترك المفروض مطلوبا له.
133

والذي يقوى في النفس أن يقال: إن فعل ذلك الشئ
المفروض - على تقدير قصد ترك أحد الأطراف الذي هو بدل له في
الحرمة - لا مانع من تحقق العبادة به، لأنه على هذا التقدير ليس قبيحا
عقلا، بل على تقدير عدم قصد التوصل به إلى الحرام. نعم على غير هذين
التقديرين - وهو ما إذا كان الآتي بذلك الفعل قاصدا إلى ايجاد فعل
الحرام - لا يمكن ان يكون ذلك الفعل عبادة، فحينئذ نقول في المثال: إن
صاب الماء على الوجه، إن لم يقصد به ايجاد فعل الغصب، فلا مانع من
صحة وضوئه، والا فالحكم بالبطلان متجه [89]. وستطلع على زيادة
توضيح لا مثال هذا المقام في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
ثم إن هذه المسألة هل هي داخلة في المسائل الأصولية أو
الفقهية؟ أقول مسألتنا هذه ان كان البحث فيها راجعا إلى الملازمة
العقلية، فهي من المسائل الأصولية، وان كان عن وجوب المقدمة، فهي
من المسائل الفقهية. وقد تقدم في أول الكتاب ما يوضح ذلك. والظاهر
134

الأول. وكيف كان فتمام الكلام في هذا المقام في ضمن أمور:
(الأول (ان الواجب (تارة) يلاحظ فيه اضافته إلى الفاعل [90]
و (أخرى) لم يلاحظ فيه ذلك، بل المطلوب ايجاد الفعل ولو بتسبيب منه
وعلى الأول قد يلاحظ فيه مباشرة الفاعل بيده، وقد يكون المقصود أعم
من ذلك ومن أن يأتي به نائبه. وأيضا قد لا يحصل الغرض الا باعمال
اختياره في العفل، ولو بايجاد سببه، وقد لا يكون كذلك بمعنى عدم دخل
الاختيار في الغرض. وأيضا قد يكون لقصد عنوان المطلوب دخل في
تحصيل الغرض، وقد يكون الغرض أعم من ذلك. والمقصود في هذا
البحث بيان انه هل الامر بنفسه ظاهر في تشخيص المقدمة أولا ظهور له
135

فيه مطلقا، أو يفصل بين تلك الوجوه؟ وعلى تقدير عدم الظهور،
الأصل ماذا؟.
فنقول وبالله الاستعانة: القيد على ضربين (الأول) ما يحتاج
إليه الطلب بحكم العقل (الثاني) غيره، والأول إما أن يكون مذكورا في
القضية أولا، أما ما كان من هذا القبيل ولم يذكر في القضية، فالظاهر
أن المطلوب غير مقيد بالنسبة إليه، ولذا نفهم من دليل وجوب الصلاة
أنها مطلوبة حتى من النائم الذي لا يقدر عليها. ومن هنا يقال بوجوب
القضاء، مع أنه تابع لصدق الفوت الذي لا يصدق الا مع بقاء المقتضى
في حقه. والدليل على ذلك أن الامر المتصدي لبيان غرضه لا بدان يبين
جميع ماله دخل فيه [91] فليستكشف إذا من عدم التنبيه عليه عدم دخله
في غرضه، وان كان له دخل في تعلق الطلب مثل القدرة، فعلى هذا
136

نقول: قوله (أنقذ الغريق) مثلا يستكشف منه ان الانقاذ في كل فرد
مطلوب له، حتى فيما إذا وجد غريقان ولم يقدر على انقاذهما. هذا حال
القيود التي يتوقف عليها حسن الطلب ولم تذكر في القضية. وأما إذا ذكر
مثل تلك القيود فيها، كما إذا قال (اضرب زيدا ان قدرت عليه)
فالظاهر اجمال المادة به [92]. من حيث إن ذكر هذا القيد يمكن ان
يكون لتقييد المطلوب، وأن يكون لتوقف الطلب عليه، فلا يحكم بتقييد
137

المطلوب ولا باطلاقه، بل يعمل فيه بمقتضى الأصول العملية. وأما إذا
كان القيد مما لا يتوقف حسن الطلب عليه، كتقييد الرقبة المأمور بعتقها
بالمؤمنة ونظائره، فلا اشكال في أنه متى لم يذكر في الكلام نتمسك
138

باطلاقه، ونحكم بعدم دخله ان وجدت هناك شرائط الاخذ بالاطلاق،
والا فبمقتضى الأصول، كما أنه لا اشكال في أنه متى ذكر في القضية،
فالظاهر أن له دخلا في المطلوب، إلا إذا استظهر من الخارج الغاؤه.
إذا عرفت هذا فنقول: إن شككنا في اعتبار إضافة الفعل إلى
المأمور، [93] فان كان اللفظ مفيدا لهذا القيد، فنحكم باعتباره في
المطلوب، لأنه ليس مما يتوقف عليه الطلب، لأنه من الممكن ان يأمر
بتحقق هذا الفعل على سبيل الاطلاق، بان يقول: أريد منك تحقق هذا
الفعل مطلقا، سواء توجده بنفسك، أو تبعث غيرك عليه فلو قال:
اضرب زيدا مثلا الظاهر في أن المطلوب الضرب المضاف إلى المأمور،
فاللازم بمقتضى هذا الظهور الحكم بتقييد المطلوب، وأن الغرض لا يحصل
بضرب غيره إياه، إلا ان يستظهر من الخارج عدم دخل هذه الإضافة في
الغرض، مثل أن يكون الغالب في أوامر الشارع عدم اعتبار الإضافة
139

المذكورة، كما ادعى أو أن يكون الغالب في الأوامر العرفية عدم
اعتبارها [94] ولم يتحقق في الأوامر الشرعية ما يوهن الغلبة العرفية.
واما الاختيار وقصد العنوان، فملخص الكلام فيهما أنه لا اشكال
في عدم امكان تعلق التكليف بخصوص الفعل الصادر من غير اختيار
المكلف، ولا بخصوص ما لم يكن عنوانه مقصودا، ولو كان ملتفتا إليه
أما الأول فواضح وأما الثاني فلعدم امكان بعث الامر إلى غير العنوان
المطلوب [95]، وهذا واضح بعد أدنى تأمل فانحصر الفعل القابل لتعلق
التكليف في الاختياري الذي قصد عنوانه، فحينئذ إن قلنا بان التكاليف
المتعلقة بالطبيعة تسرى إلى افرادها وقد عرفت أن الفرد القابل للحكم
منحصر في الأخير، فالقيدان المذكوران - أعني الاختيارية وقصد
العنوان - من القيود التي يحكم العقل باحتياج الطلب إليها. وقد عرفت
حكمها.
وأما إن قلنا بعدم السراية كما هو التحقيق فيكفي في حسن
الخطاب بنفس الطبيعة من دون تقييد وجود فرد لها يحسن الخطاب
بالنسبة إليه. وعلى هذا فلو فرض تكليف متعلق بفعل مع قيد صدوره
عن اختيار المكلف، أو مع قصد العنوان، يستكشف به تقييد الغرض،
140

إذ هما من القيود التي يستغنى عنها الطلب عقلا، فذكرهما في الكلام يدل على
تقييد الغرض كما عرفت. نعم قدرة المكلف بالنسبة إلى أصل الطبيعة مما
يحتاج إليه صحة الطلب عقلا، فلم لم تذكر في القضية، فاطلاق المادة
بحاله [96] وان ذكرت تكون موجبة لاجمالها كما عرفت.
واما الشك في أن الفعل هل يجب ان يؤتى به بمباشرة بدنه أو
يجتزى باتيان النائب؟ فالكلام فيه في مقامين (أحدهما) في امكان ذلك
عقلا في الواجبات التعبدية التي يعتبر فيها تقرب الفاعل، وانه كيف يمكن
كون فعل الغير مقربا لآخر حتى يكون مجزيا عنه (ثانيهما) بعد الفراغ عن
الامكان في مقتضى القواعد من الأصول اللفظية والعملية.
141

أما الكلام في المقام الأول، فنقول: ما يصلح أن يكون مانعا
عقلا وجهان (أحدهما) انه - بعد فرض كون الفعل مطلوبا من المنوب عنه
والامر متوجها إليه - كيف يعقل ان يصير ذلك الامر المتوجه إليه داعيا
ومحركا للنائب مع أنه قد لا يكون امر بالنسبة إلى المنوب عنه أيضا، كما إذا
كان ميتا (ثانيهما) أنه بعد فرض صدور الفعل من النائب بعنوان الامر
المتعلق بالمنوب عنه، كيف يعقل ان يصير هذا الفعل مقربا له [97]، مع أنه
لم يحصل منه اختيار في ايجاد الفعل بوجه من الوجوه في بعض الموارد،
كما إذا كان ميتا. والفعل ما لم يتحقق من جهة الإرادة والاختيار
لا يمكن عقلا أن يصير منشأ للقرب.
اما المانع الأول فيندفع بأن مباشرة الفاعل قد تكون لها خصوصية
في غرض الامر. وعليه لا يسقط الامر بفعل الغير قطعا، ولو لم يكن تعبديا
وهذا واضح، وقد لا يكون لها دخل في غرض الامر. وهكذا الكلام في
اختياره، فلو فرضنا تعلق الامر بمثل هذا الفعل الذي ليست المباشرة
والاختيار فيه قيد المطلوب، فامكان صيرورة الامر المتعلق بمثل هذا الفعل
داعيا لغير المأمور إليه بديهي، لوضوح أنه بعد تعلق الامر بهذا الفعل
- الذي لم يقيد حصول الغرض فيه بأحد القيدين المذكورين - لا مانع
142

من صيرورة الامر المتعلق به محركا للغير لايجاد ذلك الفعل، مراعاة
لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتبة على ذلك الامر: من العقاب
والبعد عن ساحة المولى. وهذا واضح ومنه يظهر عدم الاشكال فيما إذا لم
يكن امر في البين، كما في النيابة عن الميت، ضرورة امكان فعل ذلك
لحصول اغراض المولى المترتبة على الفعل، ليستريح الميت من العقاب
المترتب على فوتها وهذا لا اشكال فيه.
انما الاشكال في المانع الثاني، وهو صيرورة هذا الفعل مقربا للغير
عقلا، إذ لو لم يكن كذلك لم يسقط غرض الامر، فلم يسقط عنه
العقاب. وهذا الاشكال يسرى في المقام الأول أيضا إذ بعد ما لم يكن
فعله مقربا للغير ولم يسقط غرض الآمر عنه، لا يعقل كون مراعاته سببا
لايجاد ذلك الفعل.
ويمكن التفصي عنه بأن يقال إنه بعد فرض انحصار جهة
الاشكال في حصول القرب يكفي في حصوله رضا المنوب عنه بحصول
الفعل من النائب، كما أنه قد يؤيد ذلك ببعض الأخبار الواردة في (أن
من رضي بعمل قوم أشرك معهم (1)) وهذا المقدار من القرب يكفي في
عبادية العبادة، بل يمكن أن يقال بعدم الفرق عقلا بين الفعل الصادر من
الانسان بنفسه، وبين الصادر من نائبه في حصول القرب، لأنه بعد
حصول هذا الفعل من النائب لابد وأن يكون المنوب عنه ممنونا منه
ومتواضعا له، من جهة استخلاصه من تبعات الامر المتعلق به وهذه
الممنونية تصير منشأ لقربه عند المولى، لان أمره صار سببا لها.
وفيه ان الرضا والممنونية يتفرعان على كون الفعل الصادر من
النائب مقربا له، إذ لولاه لم يكن وجه لهما، ولو توقف القرب عليهما لزم

(1) الوسائل، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي، ج 11، ص 408.
143

الدور [98].
ويمكن ان يقال ان للقرب مراتب باختلاف الجهات الداعية
للمكلف، أدناها اتيان الفعل بداعي الفرار من العقاب، مثل أن يكون
حال العبد بحيث لو علم بعدم العقاب لم يأت بالفعل أصلا، فاتيانه به
خوفا من المولى مقرب له عند العقل، كما أنا نرى الفرق عند العقلاء بين
هذا العبد وبين العبد الذي لم يكن خوف مؤاخذة المولى مؤثرا فيه، وهذا
المقدار من القرب - أعني كون العبد بحيث يكون له جهة امتياز بالنسبة
إلى غيره في الجملة - يكفي في العبادة. ونظير هذا المعنى موجود في المقام،
إذ لو فرضنا عبدين أحدهما لم يأت بالمأمور به بنفسه ولا أحد بدله،
والثاني لم يأت به، ولكن اتى به نائبه، نرى بالوجدان أن حالهما ليس
على حد سواء عند المولى [99]، بل للثاني عنده جهة خصوصية ليست
للأول، وان لم يصل إلى مرتبة من اتى بالمأمور به بنفسه.
فنقول: هذه المرتبة الحاصلة له بفعل الغير تكفى في العبادة،
144

ويمكن أن يقال: إن تقرب المنوب عنه بتسليمه للفعل المتلقى من النائب
إلى الامر بعنوان أنه مولى [100] ولا فرق في حصول القرب بين أن يسلمه
إليه ابتداءا ويسلمه إليه بعد اخذه من نائبه. هذا حاصل الوجوه التي
أفادها سيدنا الأستاذ طاب ثراه ولكن لم تطمئن بها النفس.
أقول: ويمكن أن يقال إن الافعال على وجوه: (منها) ما
لا يضاف الا إلى فاعله الحقيقي الصادر منه الفعل مباشرة كالأكل
والشرب ونظائرهما. و (منها) ما يضاف إليه وإلى السبب أيضا: كالقتل
والا تلاف والضرب ونظائرها و (منها) ما يضاف إلى الغير وان لم يكن
فاعلا ولا سببا، ومن ذلك العقود إذا صدرت عن رضا المالك، بل ولو
لم يكن عنه أيضا ابتداءا إذا رضى بذلك بعده، كما في الإجازة بناءا على
صيرورة العقد بها عقدا للمالك عرفا، كما قيل.
ولعل الضابط كل فعل يتوقف تحقق عنوانه في الخارج على
القصد، وأوقعه واحد بقصد الغير، وكان ذلك الفعل حقا لذلك الغير
ابتداءا مع رضاه بصدوره بدلا عنه، فلو صحت هذه الإضافة العرفية
وأمضاها الآمر، فلابد من أن يعامل هذا الفعل معاملة الفعل الصادر من
شخصه [101] كما هو واضح. (مثلا) لو فرضنا أن تعظيم زيد عمروا بدلا
145

عن بكر إذا كان عن رضا بكر، وتقبل عمر والذي هو المعظم
بالفتح، يحسب تعظيما لبكر عنده، فاللازم على أن يرتب
على هذا التعظيم اثر التعظيم الصادر من شخص بكر، فلو
فرضنا حصول القرب من هذا الفعل للمعظم بالكسر عند
المعظم بالفتح، فاللازم حصوله للمنوب عنه. هذا ما
أمكن لي من التصور في المقام ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
إذا عرفت هذا، فنقول: لا اشكال في أن مقتضى القواعد
عدم الاكتفاء بالفعل الصادر عن الغير في الاجزاء، لان
الظاهر من الامر المتوجه إلى المكلف إرادة خصوص الفعل
148

الصادر منه [102]، نعم لو دل دليل من الخارج على
الاكتفاء بما يصدر من النائب، وانه عند الامر
بمنزلة ما يصدر عن نفسه، نأخذ به والا فلا.
(الامر الثاني)
(في التعبدي والتوصلي)
لا اشكال في أن الواجب في الشريعة على قسمين: تعبدي
وتوصلي، ولو شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا فهل يحمل على
الأول أو الثاني؟
وتوضيح المقام يتوقف على تصور الواجبات التعبدية وشرح
حقيقتها، حتى يتضح الحال في صورة الشك، فنقول وبالله الاستعانة:
أنه قد اشتهر في ألسنة العلماء انها عبارة عما يعتبر فيه اتيانه
بقصد إطاعة الامر المتوجه إليه. وأورد على ذلك بلزوم الدور، فان
149

الموضوع مقدم على الحكم رتبة، لأنه معروض له. ولا اشكال في تقدمه على
العرض بحسب الرتبة. وهذا الموضوع يتوقف على الامر، لما اخذ فيه من
خصوصية وقوعه بداعي الامر التي لا تتحقق الا بعد الامر، فالامر يتوقف
على الموضوع لكونه عرضا له، والموضوع يتوقف على الامر لأنه لا يتحقق
بدونه. وفيه ان توقف الموضوع على الامر فيما نحن فيه مسلم، لكونه مقيدا
به، والمقيد لا يتحقق في الخارج بدون القيد. واما توقف الامر على
الموضوع، فان أردت توقفه عليه في الخارج فهو باطل، ضرورة ان الامر
لا يتعلق بالموضوع الا قبل الوجود. واما بعده فيستحيل تعلقه به، لامتناع
طلب الحاصل. وان أردت توقفة عليه تصورا فمسلم، ولكن لا يلزم الدور
أصلا، فان غاية الامر ان الموضوع هنا بحسب وجوده الخارجي يتوقف
على الامر والامر يتوقف على الوجود الذهني له [103].
وقد يقرر الدور بان القدرة على الموضوع الذي اعتبر وقوعه بداعي
الامر لا يتحقق الا بعد الامر، والامر لا يتعلق بشئ الا بعد تحقق القدرة،
فتوقف الامر على القدرة بالبداهة العقلية، وتوقف القدرة على الامر
بالفرض.
150

وفيه ان الممتنع بحكم العقل تعلق الامر بشئ يعجز عن اتيانه
في وقت الامتثال واما انه يجب ان تكون القدرة سابقة على الامر حتى
يصح الامر فلا، ضرورة انه لا يمتنع عند العقل ان يحكم المولى بشئ يعجز
عنه المأمور في مرتبة الحكم [104]. ولكن تحصل له القدرة عليه بنفس
ذلك الحكم، فحينئذ نقول: ان توقف القدرة على الامر مسلم، واما توقف
151

الامر على القدرة بمعنى لزوم كونها قبله رتبة فلا، لما عرفت من جواز
حصولها بنفس الامر. وههنا كذلك، لأنه بنفس الامر تحصل القدرة على
اتيان الفعل بداعية.
وقد يقال ان الامر باتيان الفعل بداعي الامر وان لم يكن
مستلزما للدور، الا انه مستحيل من جهة عدم قدرة المكلف على ايجاد هذا
المقيد أصلا، حتى بعد الامر بذلك المقيد، فان القدرة - على ايجاد الصلاة
بداعي الامر بها مثلا - تتوقف على الامر بذات الصلاة، والامر بها - مقيدة
بكونها بداعي الامر - ليس أمرا بها مجردة عنه، لان الامر بالمقيد ليس أمرا
بالجرد عن القيد، فالتمكن من ايجاد الفعل مقيدا بحصوله بداعي الامر
لا يحصل الا بعد تعلق الامر بذات الفعل.
(وفيه) ان الامر المتعلق بالمقيد ينسب إلى الطبيعة المهملة حقيقة،
لأنها تتحد مع المقيد، فهذا الامر - المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة
المهملة - يوجب قدرة المكلف على ايجادها بداعية [105] نعم لو
أوجدها فيما هو مباين للمطلوب الأصلي، لا يمكن ان يكون هذا الايجاد
152

بداعي ذلك الامر، كما لو أمر بعتق رقبة مؤمنة، فاعتق رقبة كافرة، لان
الموجود في الخارج ليس تمام المطلوب، بل يشتمل على جزء عقلي منه.
أما لو لم ينقص الفعل الماتى به بداعي الامر بالطبيعة المهملة عن حقيقة
المطلوب الأصلي أصلا - كما في المقام - فلا مانع من بعث الامر المنسوب
إلى المهملة للمكلف.
ويمكن ان يقال - في وجه عدم امكان اخذ التعبد بالامر في
موضوعه - ان الامر وان كان توصليا يشترط فيه ان يصلح لان يصير
داعيا للمكلف نحو الفعل الذي تعلق به، لأنه ليس الا ايجاد الداعي
للمكلف، والامر المتعلق بالفعل بداعي الامر لا يمكن ان يكون داعيا
للمكلف إلى ايجاد متعلقه، لأنه اعتبر في متعلقه كونه بداعي الامر، ولا
يمكن ان يكون الامر محركا إلى محركية نفسه [106] فافهم هذا ان قلنا
بان العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الامر.
153

ويمكن ان يقال: إن المعتبر فيها ليس الا وقوع الفعل على وجه
يوجب القرب عند المولى، وهذا لا يتوقف على الامر. (بيان ذلك): أن
الفعل الواقع في الخارج على قسمين (أحدهما) ما ليس للقصد دخل في
تحققه، بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه (ثانيهما) ما يكون قوامه
في الخارج بالقصد، كالتعظيم والإهانة وأمثالهما. وأيضا لا اشكال في أن
تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له، وكذا شكره ومدحه بما يليق به،
حسن عقلا، ومقرب بالذات، ولا يحتاج في تحقق القرب إلى وجود امر
بهذه العناوين. نعم قد يشك في أن التعظيم المناسب له أو المدح اللائق
بشأنه ماذا؟ وقد يتخيل كون عمل خاص تعظيما له، أو ان القول الكذائي
مدح له. والواقع ليس كذلك، بل هذا الذي يعتقده تعظيما توهين له،
154

وهذا الذي اعتقده مدحا ذم بالنسبة إلى مقامه.
إذا تمهد هذا فنقول: لا اشكال في أن ذوات الافعال والأقوال
الصلاتية مثلا من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا،
ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء
والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس
هذه العناوين محبوبة للآمر، غاية الامر ان الانسان لقصور ادراكه لا يدرك
أن صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عز شأنه،
ويكون التفاته موقوفا على اعلام الله سبحانه، فلو فرض تمامية العقل
واحتواؤه بجميع الخصوصيات والجهات، لم يحتج إلى اعلام الشرع أصلا.
والحاصل ان العبادة عبارة عن اظهار عظمة المولى والشكر على
نعمائه وثنائه بما يستحق ويليق به، ومن الواضح ان محققات هذه
العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد، فقد يكون تعظيم شخص بان يسلم
عليه، وقد يكون بتقبيل يده، وقد يكون بالحضور في مجلسه، وقد يكون
بمجرد اذنه بان يحضر في مجلسك أو يجلس عندك، إلى غير ذلك من
الاختلافات الناشئة عن خصوصيات المعظم بالكسر والمعظم بالفتح. ولما
كان المكلف لا طريق له إلى استكشاف ان المناسب لمقام هذا المولى
تبارك وتعالى ما هو الا باعلامه تعالى، لابد ان يعلمه، والا لم يتحقق به
تعظيمه، ثم يأمره به. وليس هذا المعنى مما يتوقف تحققه على قصد الامر،
حتى يلزم محذور الدور.
ويمكن أن يقال بوجه آخر، وهو أن ذوات الافعال مقيدة بعدم
صدورها عن الدواعي النفسانية محبوبة عند المولى وتوضيح ذلك يتوقف
على مقدمات ثلاث:
155

(الأولى) ان المعتبر في العبادة يمكن أن يكون اتيان الفعل بداعي
امر المولى، بحيث يكون الفعل مستندا إلى خصوص امره وهذا معنى بسيط
يتحقق في الخارج بأمرين (أحدهما) جعل الامر داعيا لنفسه (الثاني)
صرف الدواعي النفسانية عن نفسه. ويمكن أن يكون المعتبر اتيان الفعل
خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الامر، بحيث يكون المطلوب
المركب منهما. والظاهر هو الثاني، لأنه انسب بالاخلاص المعتبر في
العبادات.
(الثانية) أن الامر الملحوظ فيه حال الغير (تارة) يكون للغير،
و (أخرى) يكون غيريا، مثال الأول الامر بالغسل قبل الفجر على
احتمال، فان الامر متعلق بالغسل قبل الامر بالصوم، فليس هذا الامر
معلولا لأمر آخر، الا أن الامر به إنما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانه
(الثاني) الأوامر الغيرية المسببة من الأوامر المتعلقة بالعناوين المطلوبة
نفسا.
(الثالثة) أنه لا إشكال في أن القدرة شرط في تعلق الامر
بالمكلف، ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقا على الامر ولو رتبة،
أو يكفي حصول القدرة ولو بنفس الامر؟ الا قوى الأخير، لعدم وجود مانع
عقلا في أن يكلف العبد بفعل يعلم بأنه يقدر عليه بنفس الامر.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية
- وثبوت الداعي الإلهي الذي يكون موردا للمصلحة الواقعية - وان لم
يكن قابلا لتعلق الامر به بملاحظة الجزء الأخير، للزوم الدور أما من دون
ضم القيد الأخير، فلا مانع منه.
لا يقال ان هذا الفعل - من دون ملاحظة تمام قيوده التي
منها الأخير - لا يكاد يتصف بالمطلوبية، فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل
156

من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام المصلحة.
لأنا نقول: عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما لا يكون مطلوبا في حد
ذاته، بل يكون تعلق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير، والفعل المقيد
بعدم الدواعي النفسانية وان لم يكن تمام المطلوب النفسي مفهوما، لكن
لما لم يوجد في الخارج الا بداعي الامر، لعدم امكان خلو الفاعل المختار
عن كل داع يصح تعلق الطلب به [107] لأنه يتحد في الخارج مع ما
هو مطلوب حقيقة، كما لو كان المطلوب الأصلي اكرام الانسان، فإنه
لا شبهته في جواز الامر باكرام الناطق، لأنه لا يوجد في الخارج الا متحدا
مع الانسان الذي اكرامه مطلوب اصلى.
وكيف كان فهذا الامر ليس أمرا صوريا بل هو امر حقيقي
وطلب واقعي لكون متعلقه متحدا في الخارج مع المطلوب الأصلي. نعم
يبقى الاشكال في أن هذا الفعل - أعني الفعل المقيد بعدم الدواعي
النفسانية - مما لا يقدر المكلف على ايجاده في مرتبة الامر، فكيف يتعلق
157

الامر به وقد عرفت جوابه في المقدمة الثالثة.
هذا وقد يقال في العبادات بان الامر متوجه إلى ذات الفعل،
والغرض منه جعل المكلف قادرا على ايجاد الفعل بداعي الامر الذي
يكون موردا للمصلحة في نفس الامر. والعقل بعد التفاته إلى أخصية
الغرض يحكم بلزوم الإطاعة على نحو يحصل به الغرض. أما توجه الامر إلى
ذات الفعل فلعدم امكان اخذ حصوله بداعي الامر في المطلوب من جهة
لزوم الدور. وأما أن العقل يحكم بلزوم اتيان الفعل بداعي الامر، فلانه
ما لم يسقط الغرض لم يسقط الامر، لان الغرض كما صار سببا لحدوثه
كذلك يصير سببا لبقائه، لان البقاء لو لم يكن أخف مؤنة من الحدوث
فلا أقل من التساوي. والعقل حاكم بلزوم اسقاط الامر المعلوم.
وفيه انه لا يعقل بقاء الامر مع اتيان ما هو مطلوب به على ما هو
عليه [108] لان بقاء الامر مع ذلك مستلزم لطلب الحاصل وهذا واضح
158

بأدنى تأمل.
فالأولى ان يقال - في وجه حكم العقل باتيان الفعل على نحو
يسقط به الغرض - ان الاتيان به على غير هذا لنحو وان كان يسقط الامر
الا ان الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث أمرا اخر، وهكذا ما دام
الوقت الصالح لتحصيل ذلك الغرض باقيا، فلو أتي بالفعل على نحو يحصل
به الغرض فهو، والا يعاقب على تفويت الغرض.
لا يقال فوت الغرض الذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشأ
للعقاب، (لأنا نقول) نعم لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله. وأما لو تصدى
لتحصيله بالامر، ولكن لم يقدر على أن يأمر بتمام ما يكون محصلا لغرضه،
كما فيما نحن فيه، والمكلف قادر على ايجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض
الأصلي، فلا اشكال في حكم العقل بلزوم اتيانه كذلك [109].
ومن هنا يعلم أنه لا وجه للالتزام بأمرين أحدهما بذات الفعل
والثاني بالفعل المقيد بداعي الامر، لان الثاني ليس الا لالزام المكلف
بالفعل المقيد، وقد عرفت انه ملزم به بحكم العقل، مضافا إلى ما افاده في
159

بطلانه شيخنا الأستاذ دام بقاه، من أن القول به يوجب اما الالتزام بما
قلنا من بقاء الامر الأول ما لم يحصل غرض الآمر.، وإما الالتزام بعدم
وصول الآمر إلى غرضه الأصلي، لان المكلف لو أتى بذات الفعل من دون
داعي الامر لا يخلو اما ان نقول ببقاء الامر الأول، وإما أن نقول بسقوطه،
فعلى الأول فاللازم التزامك بما التزمنا، وعليه لا يحتاج إلى الامر الثاني،
وعلى الثاني يلزم سقوط الامر الثاني أيضا، لارتفاع موضوعه فيلزم ما ذكرنا
من عدم الوصول إلى غرضه الأصلي.
هذا ولقائل ان يقول نختار الشق الثاني من سقوط الامر الأول
باتيان ذات الفعل، وسقوط الثاني أيضا بارتفاع موضوعه، ولا يلزم محذور
أصلا، لان الوقت اما باق بعد واما غير باق، فعلى الأول يوجب الغرض
ايجاد أمرين آخرين على ما كانا، وعلى الثاني يعاقب المكلف على عدم
امتثال الامر الثاني، مع أنه كان قادرا عليه بوجود الامر الأول، لان الامر
الثاني لو فرضناه أمرا مطلقا فعدم ايجاد متعلقه معصية بحكم العقل، سواء
كان برفع المحل، أو كان بنحو آخر وهذا واضح.
فاتضح مما ذكرنا من أول العنوان إلى هنا وجوه خمسة في تصوير
العبادات [110] وأنت خبير بأنه كلما قلنا في الواجبات النفسية العبادية
160

يجرى مثله في الواجبات المقدمية العبادية [111]، فلا يحتاج إلى إطالة
الكلام بجعل عنوان لها مستقلا ولما كان الغرض في هذا البحث هو
التكلم في الأصل اللفظي والعملي فيما لو تردد امر الواجب بين ان يكون
عباديا أو توصليا، فلنشرع في المقصود الأصلي.
تأسيس الأصل
فنقول لو شك في الواجب في أنه تعبدي أو توصلي؟ فعلى
ما قدمناه من عدم احتياج العبادة إلى التقييد بصدورها بداعي
الامر [112] لا اشكال في أن احتمال التعبدية احتمال قيد زائد فالشك
فيه من جزئيات الشك في المطلق والمقيد، فآن كانت مقدمات الاخذ
161

بالاطلاق موجودة، يحكم باطلاق الكلام ويرفع القيد المشكوك، والا
فالمرجع هو الأصل الجاري في مقام دوران الامر بين المطلق والمقيد. ولما
كان المختار فيه بحسب الأصل العملي البراءة، يحكم بعدم لزوم القيد.
وأما على ما قيل من لزوم تعلق الطلب على تقدير التعبدية بذات
الفعل، مع أخصية الغرض، فقد يقال - كما يظهر من كلمات شيخنا
المرتضى قدس سره - بعدم جواز التمسك باطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك
كذلك لا يمكن اجراء أصالة البراءة فيه، بل المقام مما يحكم العقل
فيه بالاشتغال. وان قلنا بالبراءة في دوران الامر بين المطلق والمقيد.
(اما الأول) فلان رفع القيد بأصالة الاطلاق انما يكون فيما لو
احتملنا دخول القيد في المطلوب. والمفروض عدم هذا الاحتمال، والقطع
بعدم اعتباره فيه أصلا. وانما الشك في أن الغرض هل هو مساو
للمطلوب أو أخص منه، وحدود المطلوب معلومة لا شك فيها على أي
حال.
(واما الثاني) فلانه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت
لو شك في سقوطه باتيان ذاته، وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث
للامر، لا مجال الا للاحتياط، لان اشتغال الذمة بالامر الثابت المعلوم
متعلقه يقتضى القطع بالبراءة عنه، ولا يكون ذلك الا باتيان جميع
ما يحتمل دخله في الغرض.
ومما ذكر تعرف الفرق بين المقام وسائر الموارد التي شك في
مدخلية قيد في المطلوب. وملخص الفرق أن الشك فيها راجع إلى مرحلة
الثبوت، وفي المقام إلى مرحلة السقوط.
هذا، والحق عدم التفاوت بين المقام وساير الموارد مطلقا أعني
من جهة الاخذ بالاطلاق ومن جهة اجراء أصالة البراءة.
162

(أما الأول)، فلان القيد المذكور وان لم يحتمل دخله في المطلوب
لعدم الامكان، ولكن لو فرضنا وجود مقدمات الاخذ بالاطلاق التي من
جملتها كون المتكلم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به الغرض،
يحكم بعدم مدخلية شئ آخر في تحقق غرضه، إذ لو كان لبين ولو ببيان
مستقل [113] وحيث لم يبين يكشف عن كون متعلق الطلب تمام
ما يحصل به غرضه. نعم الفرق بين المورد وسائر الموارد ان فيها يحكم - بعد
تمامية مقدمات الحكمة - باطلاق متعلق الطلب، وفيه باطلاق الغرض
والامر سهل.
ويمكن أن يستظهر من الامر التوصلية، من دون حاجة إلى
مقدمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيدنا الأستاذ طاب ثراه، وهو ان
الهيئة عرفا تدل على أن متعلقها تمام المقصود، إذ لولا ذلك لكان الامر
163

توطئة وتمهيدا لغرض آخر، وهو خلاف ظاهر الامر.
(واما الثاني) فلانه بعد اتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الامر
الأول، لما عرفت سابقا من استلزامه لطلب الحاصل، فلا يعقل الشك في
سقوط هذا الامر. نعم يحتمل وجود امر آخر من جهة احتمال بقاء
الغرض. وظاهر أن هذا شك في ثبوت امر آخر، والأصل عدمه. ولو
سلمنا كون الشك في سقوط الامر الأول نقول: إن هذا الشك نشأ من
الشك في ثبوت الغرض الأخص.
وحينئذ نقول في تقريب جريان أصالة البراءة ان اقتضاء
الامر ذات الفعل متيقن. واما الزائد عليه فلا نعلم،
فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة الخصوصية
المشكوك اعتبارها في الغرض، مع الجهل به، وعدم
إقامة دليل يدل عليه، مع أن بيانه كان وظيفة له،
لكان هذا العقاب من دون إقامة بيان وحجة،
وهو قبيح بحكم العقل. ولو كان الشك في
السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال، للزم
الحكم به في دوران الامر بين المطلق والمقيد
مطلقا [114] ضرورة أنه بعد اتيان الطبيعة في
ضمن غير الخصوصية التي يحتمل اعتبارها في
المطلوب، يشك في سقوط الامر وعدمه.
164

(الامر الثالث)
(في الواجب المطلق والمشروط)
ينقسم الواجب - ببعض الاعتبارات - إلى مطلق ومشروط،
فالأول عبارة عما لا يتوقف وجوبه على شئ والثاني ما يقابله، ولا يهمنا
التعرض للتعريفات المنقولة عن القوم، والنقض والابرام المتعلقين بها.
وقد يستشكل في تقسيم الواجب باعتبار وجوبه إلى القسمين من
جهة أمرين:
(أحدهما) أن مقتضى كون وجوب الشئ مشروطا بكذا عدم
تحقق الوجوب قبل تحقق الشرط [115]. والمفروض ان الآمر قد أنشأ
165

الوجوب بقوله: (ان جاءك زيد فأكرمه) فان الهيئة قد وضعت لانشاء
الطلب. وعلى هذا فالقول بان الوجوب لا يتحقق الا بعد تحقق الشرط
مستلزم لتفكيك الايجاب عن الوجوب.
وان التزم بعدم تحقق الايجاب، لزم اهمال هذه القضية.
(ثانيهما) - ان الطلب المستفاد من الهيئة انما يكون معنى حرفيا
غير مستقل بالنفس، وليس دخوله في الذهن الا من قبيل وجود العرض
في الخارج في كونه متقوما بالغير، والاطلاق والتقييد فرع إمكان ملاحظة
المفهوم في الذهن.
وأيضا قد تقرر في محله أن معاني الحروف معان جزئية بمعنى ان
166

الواضع لاحظ في وضع الحروف عنوانا عاما اجماليا ووضع اللفظ بإزاء
جزئياته، فالوضع أي آلة الملاحظة فيها عام والموضوع له أعني جزئيات
ذلك العام خاص. ومن الواضح أن الجزئي لا يكون مقسما للاطلاق
والتقييد [116].
هذا ومما ذكرنا سابقا في بيان معاني الحروف من أنها كليات
كمعاني بعض الأسماء، ظهر لك عدم المانع عن اطلاق الطلب وتقييده من
جهة جزئية المعنى المستفاد من الهيئة. أما المانع الآخر وهو كونه مما
لا تحصل له في الذهن استقلالا، والاطلاق والتقييد الواردان على المفهوم
تابعان لملاحظته في الذهن مستقلا، فالجواب عنه بوجهين.
(أحدهما) - أن المعنى المستفاد من الهيئة وان كان حين
استعمالها فيه لا يلاحظ الا تبعا، لكن بعد استعمالها يمكن أن يلاحظ
بنظرة ثانية، ويلاحظ فيه الاطلاق أو التقييد [117].
167

(ثانيهما) - ورود الاطلاق والتقييد بملاحظة محله، مثلا ضرب
زيد إذا تعلق به الطلب المستفاد من الهيئة، يتكيف بكيفية خاصة في
الذهن، وهي كيفية المطلوبية، فضرب زيد بهذه الملاحظة قد يلاحظ فيه
الاطلاق، ويلزم منه كون الطلب الطارئ عليه مطلقا وقد يلاحظ فيه
الاشتراط. واللازم من ذلك كون الطلب أيضا مشروطا [118].
168

ولنا في المقام مسلك آخر وهو ان المعنى المستفاد من الهيئة لم
يلاحظ فيه الاطلاق في الوجوب المطلق، والاشتراط في الوجوب
المشروط، ولكن القيد الماتى به في القضية (تارة) يعتبر على نحو يتوقف
تأثير الطلب على وجوده في الخارج، ويقال لهذا الطلب: الطلب المشروط.
بمعنى أن تأثيره في المكلف موقوف على شئ و (أخرى) يعتبر على نحو
يقتضى الطلب ايجاده، ويقال لهذا الطلب المتعلق بذلك المقيد: الطلب
المطلق، أي لا يبتنى تأثيره في المكلف على وجود شئ.
وتوضيح ذلك أن الطالب قد يلاحظ الفعل المقيد ويطلبه، أي
يطلب المجموع. وهذا الطلب يقتضى ايجاد القيد إن لم يكن موجودا، كما
169

في قوله (صل مع الطهارة) وقد يلاحظ القيد موجودا في الخارج، أي
يفرض في الذهن وجوده في الخارج، ثم بعد فرض وجوده في الخارج
ينقدح في نفسه الطلب، فيطلب المقيد بذلك القيد المفروض وجوده، فهذا
الطلب المتعلق بمثل هذا المقيد المفروض وجود قيده، وان كان متحققا
فعلا بنفس الانشاء، لكن تأثيره في المكلف يتوقف على وجود ذلك القيد
المفروض وجوده حقيقة.
ووجهه ان هذا الطلب انما تحقق مبنيا على فرض وجود الشئ
وهذا الفرض في لحاظ الفارض حاك عن حقيقة وجود ذلك الشئ،
فكأنه طلب بعد حقيقة وجوده، فكما انه لو طلب بعد وجود ذلك الشئ
المفروض وجوده حقيقة لم يؤثر الطلب في المكلف الا بعد وجود ذلك
الشئ واقعا، لعدم الطلب قبله، كذلك لو طلب بعد فرض وجوده لم
يؤثر الا بعد وجوده الخارجي، وان كان الطلب الانشائي محققا قبله
أيضا. فهذا الطلب يقع على نحو يشترط تأثيره في المكلف على شئ في
الخارج فتدبر جيدا.
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن اشكال آخر تقدم في صدر المبحث
[119] وهو ان المعنى الانشائي كيف يعلق على وجود شئ؟
170

ومحصل الجواب أن المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقق فعلا، من
دون ابتنائه على شئ، ولكن تأثيره في المكلف موقوف على وجود شئ.
الواجب المعلق
(الامر الرابع): بعد ما عرفت انقسام الواجب إلى مطلق
ومشروط، إعلم ان الناظر في كلمات الأصحاب، يرى أنه عندهم من
المسلمات عدم اتصاف مقدمات الواجب المشروط بالوجوب المطلق،
ويوضح ذلك اعتراض بعضهم على من جعل عنوان البحث أن الامر
بالشئ يقتضى ايجاب مقدماته، بان النزاغ ليس في مطلق الامر، بل هو في
الامر المطلق. واعتذار بعضهم بأن إطلاق الامر ينصرف إلى المطلق منه،
فلا احتياج في إفادته إلى ذكر القيد. واعتذار بعض ردا على المعترض في
أصل المبنى، بأنه لا وجه لتخصيص محل النزاع بالامر المطلق، بل هو يجرى
في المشروط أيضا، غاية الامر أنه لو قلنا بالملازمة بين الامر بالشئ والامر
بمقدماته، نقول بثبوت الامر للمقدمة على نحو ما ثبت لذيها، إن مطلقا
فمطلق، وان مشروطا فمشروط.
ومن مجموع هذه الكمات يظهر أنه من المسلمات عندهم عدم
الوجوب المطلق للمقدمة، مع كون ذيها متصفا بالوجوب المشروط. وعليه
يقع الاشكال في بعض المقدمات الذي اتصف بالوجوب المطلق، مع عدم
اتصاف ذيها به، بل يكون من الواجبات المشروطة. ومن ذلك الغسل
171

قبل الفجر ليلة رمضان، فإنهم حكموا بوجوبه قبل الفجر، مع أنه لم
يتعلق الوجوب بالصوم بعد. والذي قيل في جل هذه العويصة أمران:
(إحداهما) - المحكى عن بعض أعاظم المحققين في تعليقاته على
المعالم. وملخصه أن الوجوب المتعلق بالغسل قبل الفجر - وأمثاله من
المقدمات التي يتعلق بها الوجوب قبل ذيها - ليس من الوجوب الغيري
أي الوجوب المعلول من وجوب ذي المقدمة، بل هو وجوب نفسي
لوحظ فيه الغير، بمعنى ان الشارع لاحظ في ايجابه النفسي تمكن المكلف من
امتثال الواجب النفسي الذي يتحقق وجوبه فيما بعد.
(ثانيهما) - ما افاده صاحب الفصول (قدس سره) من الفرق بين
الواجب المشروط والمعلق. وحاصل ما افاده أن الواجب ينقسم إلى ثلاثة
اقسام: مطلق، ومشروط، والأول على قسمين، منجز ومعلق، والمنجز ما
كان زمان الوجوب فيه متحدا مع زمان الواجب، والمعلق ما كان زمان
الوجوب فيه منفكا عن زمان الواجب.
توضيح ذلك أن نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية، ولا
ريب في امكان كون الفعل المطلوب مقيدا بوقوعه في مكان خاص،
كالصلاة في المسجد، وكذا في امكان كون وجوبه مشروطا بكون المكلف
في المكان الخاص، وعلى الأول فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب
لا بدأن يكون على وجه الاطلاق، كأن يقول: (صل في المسجد) وعلى
الثاني لا بدان يكون على وجه الاشتراط، كان يقول: (إذا دخلت المسجد
فصل) وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضا، فيمكن أن
يلاحظ الآمر الفعل المقيد بوقوعه في زمان خاص، فيطلب على هذا الوجه
من المكلف، ولابد أن يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الاطلاق،
كأن يقول: (صل صلاة واقعة في وقت كذا) ويمكن أن يلاحظ الفعل
172

المطلق لكن وجوبه المتعلق به وطلبه يكون مشروطا بمجيئ وقت كذا،
فالوجوب على الأول فعلى، ولا باس باتصاف مقدمات الفعل على هذا
الوجه بالوجوب، إذ لا خلف حينئذ لان ذاها أيضا متصف بالوجوب،
بخلاف الوجوب على الوجه الثاني، فان الفعلية منتفية في الواجب
المشروط، فيمتنع اتصاف مقدماته بالوجوب الفعلي، ففي الموارد التي حكموا
فيها بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، يلتزم بان الواجب معلق، بمعنى ان
المطلوب هو الفعل المقيد بوقت كذا، ووجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها،
فيمكن ان يكون وقت ايقاعها قبل زمان ايجاده، لان زمان اتصاف الفعل
المقيد بالوجوب ليس متأخرا عن زمان اتصاف المقدمة به، بل يقارنه وان
كان زمان وقوع الفعل متأخرا عن زمان وقوع المقدمة.
ثم تصدى (قدس سره) لما يرد على هذا النحو من الواجب وبيان
دفعه. ومحصل ما أورده على نفسه أمران:
(أحدهما) - أن المكلف قد لا يكون حيا في زمان الفعل،
فلا يمكن توجه التكليف بنحو الاطلاق إليه.
(ثانيهما) - أن الفعل المقيد بالزمان الغير الموجود بعد ليس مقدورا
للمكلف بواسطة قيده، وما لا يكون تحت قدرة المكلف يمتنع ان يكلف
به فعلا وعلى نحو الاطلاق.
وأجاب (قدس سره) عن الأول بان التكليف متوجه إلى من
يكون حيا في ذلك الزمان الذي فرض قيدا للمطلوب، وعن الثاني
(أولا) بالنقض (تارة) بالتكليف بالمتعلق بالصوم في أول الفجر، فان
الصوم عبارة عن الامساك في قطعة خاصة من الزمان، أعني ما بين الفجر
والغروب. ولا اشكال في عدم قدرة المكلف في أول الفجر على الامساك
في الجزء الأخير من الوقت، فكيف يلتزم بوجود الوجوب المطلق حين
173

الفجر، مع عدم تحقق قطعة الزمان التي اخذ في المطلوب إلا جزؤها
و (أخرى) بالتكليف بكل ما يحتاج إلى مقدمات لا بد في الآيتان
بها من مضى زمان، ولا يقدر على الاتيان به في زمان صدور التكليف، كما لو
كلفه بأن يكون في مكان كذا، ويحتاج ذلك الكون إلى مشى فرسخ أو
فراسخ مثلا، فان من الواضح عدم قدرة المكلف حال التكليف على
الكون في ذلك المكان. وانما يقدر عليه بعد مضى ساعتين أو ثلاث
ساعات مثلا.
و (ثالثة) بالتكليف المتعلق بكل فعل تدريجي كالصلاة، حيث أن
القدرة على الجزء الأخير يتوقف على اتيانه بالاجزاء السابقة.
و (ثانيا) - بالحل بان القدرة التي تكون شرطا في التكاليف
عقلا، هي القدرة في زمان الفعل، لا القدرة حال التكليف، فاندفع
الاشكال بأسره. هذا حاصل ما افاده قدس سره في هذا المقام.
أقول: المهم بيان كيفية الإرادات اللبية المتعلقة بالافعال، لكي
يتضح حال هذا القسم من الواجب المسمى بالتعليقي، فنقول ان الفعل
المقيد المتعلق للإرادة (تارة) على نحو تقتضي تلك الإرادة تحصيل قيده في
الخارج لو لم يكن موجودا، و (أخرى) على نحو لا تقتضي ذلك، كما لو
اراده على فرض وجود ذلك القيد، مثلا قد تتعلق الإرادة بالصلاة في
المسجد على نحو الاطلاق، سواء كان المسجد موجودا في الخارج أم لا،
وقد تتعلق بها على فرض وجود المسجد. وعلى الأول تقتضي تلك الإرادة
بناء المسجد لو لم يكن في الخارج، مقدمة لحصول الصلاة فيه. وعلى الثاني
لا تقتضي ذلك، بل اللازم الصلاة لو فرض وجود المسجد، ولا نتعقل
قسما آخر من الإرادة في النفس خارجا عما ذكرنا، فتقسيم الواجب إلى
الأقسام الثلاثة مما لا وجه له، بل ينحصر في القسمين المذكورين عقلا
174

ومحصل ذلك أن القيد اما خارج عن حيز الإرادة واما داخل فيه، ولا
ثالث عقلا. وهذا واضح لا سترة عليه.
إذا عرفت هذا فنقول القيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل
الأول قطعا [120] لاستحالة تعلق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلف،
فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من اقسام الطلب المشروط.
(فان قلت) على ما ذكرت يلزم أن لا يكون الخطاب في أول
175

دخول الوقت مطلقا أيضا، ضرورة عدم قدرة المكلف على الامتثال في
الجزء الأخير من الوقت مثلا. ومقتضى ما ذكرت سابقا كون الإرادة
بالنسبة إلى القيود الغير الاختيارية مشروطة، فمتى يصير خطاب الصوم
مطلقا؟
(قلت) نلتزم بعدم صيرورة الخطاب مطلقا، ولكن نقول: إن
الواجب المشروط - بعد العلم بتحقق شرطه في محله - يقتضى التأثير في
نفس المكلف، بايجاد كل شئ منه ومن مقدماته الخارجية في محله.
مثلا لو قال (أكرم زيدا إن جاءك)، فمحل الاكرام بعد مجيئه، ومحل
مقدماته إن كان قبل المجئ، فمجرد علم المكلف بالمجئ يقتضى ايجادها
178

قبله. ولو قال: (إن مشى زيد فامش مقارنا مع مشيه)، فمحل المشي
زمان مشى زيد، فلو علم تحقق المشي من زيد في زمان خاص، يجب عليه
المشي في ذلك الزمان، حتى يصير مشيه مقارنا معه. ولو قال: (ان جاء
زيد فاستقبله) فمحل الاستقبال قبل مجيئه، فلو علم بمجيئه غدا مثلا، يجب
عليه الاستقبال في اليوم.
والحاصل أن طلب الشئ على فرض تحقق شئ لا يقتضى
ايجاد ذلك الشئ المفروض وجوده، ولكن بعد العلم بتحقق ذلك
الشئ يؤثر في المكلف، ويقتضي منه أن يوجد كلا من الفعل ومقدماته
في محله، فقد يكون محل الفعل بعد تحقق ذلك الشئ في الخارج، وقد
يكون قبله، وقد يكون مقارنا له، وهكذا محل مقدماته، قد يكون قبله،
وقد يتسع زمان اتيان المقدمة، كما لو توقف إكرام زيد غدا على شئ
ممكن تحصيله في اليوم وفى الغد. والمقصد أن الوجوب المعلق على شئ
بعد الفراغ عن ذلك الشئ، يجب بحكم العقل متابعته. ومن هنا عرفت
الجواب عن أصل الاشكال، فلا يحتاج إلى التكلفات السابقة. وأنت بعد
الإحاطة والتأمل في الأمثلة المذكورة لا أظن أن ترتاب فيما ذكرنا.
(فان قلت): على ما ذكرت يقتضى ان تكون مقدمات الواجب
المشروط - بعد العلم بشرطه - واجبة مطلقا، فما وجه فتوى القوم بعدم
وجوب الوضوء قبل دخول الوقت، وأيضا فما وجه الفرق بين الليل واليوم
السابق بالنسبة إلى الغسل الذي يكون مقدمة للصوم، ولأي جهة أفتوا
بوجوبه في الليل وعدم وجوبه في النهار السابق؟
(قلت): بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوب الوضوء قبل
الوقت، نستكشف منه أن وجوب الصلاة - مضافا إلى ابتنائه على
الوقت - مبتن على القدرة فيه، فكأنه قال إذا دخل الوقت، وكنت قادرا
179

عنده فصل مع الطهارة. وقد عرفت سابقا أن الوجوب المبنى على فرض
وجود شئ لا يقتضى ايجاد ذلك المفروض فحينئذ لو علم المكلف بأنه
لو لم يتوضأ قبل الوقت، لا يتمكن منه بعده، لا يجب عليه الوضوء، لأنه
موجب لحصول القدرة في الوقت التي هي شرط وجوب الواجب. وقد
عرفت عدم وجوب تحصيله. وهكذا الكلام في غسل الجنابة للصوم في
النهار السابق، فإنه بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوبه، نستكشف
اشتراط القدرة في الليل، فلا يجب تحصيلها.
(فان قلت): نفرض علم المكلف بكونه قادرا في الوقت على أي
حال، بمعنى أنه لا يمكنه سلب قدرته فيه، فعلى هذا يلزم ان يكون الوضوء
مثلا عليه واجبا موسعا، فيجوز أن يأتي به بقصد الوجوب، مع أنهم
لا يلتزمون به.
(قلت): يمكن تصور الواجب على نحو لا يلزمه ذلك، وهو بان
يقال: ان الواجب إقدام المكلف على الفعل بقدرته الموجودة في الوقت.
ومحصله ان المصلحة (تارة) قائمة باكرام زيد بعد دخول الوقت مطلقا
سواء أعمل في ايجاد هذا العنوان قدرته الموجودة قبل الوقت أم بعده.
و (أخرى) المصلحة قائمة باعمال القدرة في الوقت في اكرام زيد، ويرجع
محصل هذا التكليف إلى أنه بعد دخول الوقت وتحقق القدرة على اكرام
زيد، يجب إعمال تلك القدرة، فاعمال القدرة في هذا المثال نظير نفس
اكرام زيد في المثال السابق [121]، فكما أنه لا يقتضى الامر باكرام زيد
180

بعد دخول الوقت إكرامه قبله، كذلك الامر باعمال القدرة في الوقت،
لا يقتضى اعمال القدرة قبله.
فتحصل من مجموع ما ذكرنا أنه إذا راجعنا وجداننا، نقطع بأن
إرادتنا المتعلقة بالافعال الخاصة، لا تخرج عن قسمين (إما) أن تكون على
نحو يقتضى ايجاد تمام مقدماتها. و (إما) ان تكون على نحو لا يقتضى ايجاد بعضها.
181

(أما القسم الأول) فواضح و (اما القسم الثاني) فهو يتصور على
اقسام كلها راجعة إلى الاختلاف فيما تتعلق به الإرادة، لا إلى الاختلاف
فيها، لان الآمر قد يريد اكرام زيد على تقدير مجيئه، بحيث لو أتى ولم يكرم
صار نقضا لغرضه، وإن كان في زمن مجيئه غير قادر على ايجاد الفعل، فان
عدم القدرة يوجب سقوط التكليف، ولا ينافي كون ترك الاكرام مبغوضا
للآمر ونقضا لغرضه. وقد يريد اكرامه على تقدير كون المكلف قادرا على
اكرامه في زمن مجيئه. وحينئذ لو فرض ترك اكرامه مستندا إلى عدم
قدرته في زمن مجيئه، لم يكن مبغوضا للامر ونقضا لغرضه. وهذا واضح.
وقد يكون المطلوب اكرام زيد بمقدماته الاختيارية الموجودة في
زمن المجئ على فرض وجود القدرة في زمن المجئ فحينئذ لا يجب عليه
الاتيان بمقدمات الاكرام قبل المجئ [122]، وان كان في زمن المجئ
غير قادر على فرض عدمه، لأن المفروض اشتراط القدرة في ذلك الزمان،
وكذلك ان كان قادرا في ذلك الوقت، لان المطلوب اعمال القدرة في
ذلك الوقت، لا قبله هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.
ثم انك قد عرفت أن الواجب التعليقي - عند القائل به - من
182

اقسام الواجب المطلق. وصحته - مع أن المكلف قد لا يدرك زمن
الواجب - مبنية على الالتزام بتوجه الخطاب به مشروطا بالعنوان المنتزع
من بلوغ ذلك الزمان. مثلا: التكليف بالصوم في الليل متوجه إلى من
يدرك النهار، ويكون حيا في تمام زمان المطلوب في علم الله تعالى.
وكذلك التكليف بالحج في زمان خروج الرفقة متوجه إلى من يدرك
شهر ذي الحجة. وهكذا وقد عرفت ذلك في طي توضيح كلامه
(قدس سره) والمقصود من اعادته هنا التعرض لبعض ما فرع عليه من
الفروع: التي منها صحة الوضوء إذا كان الماء منحصرا في الآنية المغصوبة،
ومنها وجوب الحج مطلقا فيما إذا لم يتمكن منه الا مع الركوب على
الدابة المغصوبة.
بيانه: أن التكليف في الأول متوجه إلى من يغترف من الآنية
المغصوبة، وفى الثاني إلى من يركب الدابة المغصوبة عصيانا [123]. وفيه
183

- مع ما عرفت في القول بالواجب التعليقي - أن توجه التكليف المطلق
بالوضوء مع انحصار المقدمة في المنهى عنها، وكذلك الحج - تكليف
بما لا يطاق.
نعم على القول بالترتب - كما يأتي تفصيله في محله انشاء الله -
يصح ذلك، ولكن مع ذلك القول بصحة الوضوء محل اشكال، من
حيث أن تصحيح التكليفين - المتعلقين بالفعلين اللذين لا يمكن الجمع
184

بينهما الاعلى نحو الترتب - انما هو بعد الفراغ عن وجود المقتضى في كلا
الفعلين. أما الوضوء في صورة انحصار الماء في الآنية المغصوبة، فيمكن ان
يستكشف من الأدلة عدم وجود المقتضى فيه، حيث أن المقام مما شرع
فيه التيمم، من جهة صدق عدم وجدان الماء، كما في ما إذا كان
استعماله مضرا.
والحاصل ان عدم وجدان الماء - على ما قالوا - عبارة عن عدم
التمكن من استعماله، سواء كان من جهة عدمه أو لمانع عقلي أو شرعي
لا يجوز للمكلف استعماله. ومتى كان التيمم مشروعا لا يكون الوضوء
مشروعا بالاجماع. ذكره سيدنا الأستاذ طاب ثراه. وعلى تقدير الغض عن
الاجماع أيضا، لا طريق لنا لاثبات المشروعية الذاتية الكاشفة عن ثبوت
المقتضى، إذ الدليل إنما شرعه في موضوع المتمكن من استعمال الماء،
والمكلف - في حال يحرم عليه استعمال الماء من قبل الشارع - ليس
متمكنا من استعمال الماء عرفا.
ومن هنا يظهر الجواب عن توهم آخر يوشك أن يرد في المقام،
وهو أنه هب عدم امكان تعلق التكليف بالوضوء على نحو الترتب، لكن
يكفي في الصحة قصد جهة الفعل.
المقدمة الموصلة
(الامر الخامس) لو بنينا على وجوب المقدمة، فهل الواجب ذاتها
أو مع قيد الايصال إلى ذيها، سواء قصد بها الايصال أم لا مع قصد
الايصال، سواء ترتب عليها ذوها أم لا؟.
وينبغي أن يعلم (أولا) - انه على تقدير القول بان الواجب
185

ذات المقدمة، لا ينافي الالتزام في بعض الموارد بمدخلية قصد الايصال
في موضوع الواجب، لجهة خارجية [124]، كما لو توقف إنقاذ
الغريق على خصوص التصرف في ملك الغير، فحينئذ نقول بأن
الواجب من ناحية الانقاذ هو التصرف بقصد الانقاذ، لان إذن
الشارع في الغصب - مع كونه مبغوضا في حد ذاته - إنما هو من جهة
أهمية الانقاذ، إذ لا يقدر المكلف على ترك الغصب وفعل الانقاذ معا.
ولما كان ترك الانقاذ أبغض من فعل الغصب، رضى بفعله. ولا شك
أن الاذن في المبغوض - من جهة المزاحمة - إنما هو من الضرورة التي تقدر
بقدرها. وحيث تدفع الضرورة بالاذن في الغصب المقصود به الانقاذ،
فلا وجه للاذن في قسم آخر، وهو الغصب الغير المقصود به ذلك.
هذا، ولنشرع في المقصود، فنقول: ذهب بعض الأساطين
قدس سره إلى اعتبار قيد الايصال، وأن المقدمة - مع قطع النظر عن
الايصال - لا تتصف بالوجوب. ونحن نذكر الاحتمالات المتصورة في
186

مدخلية هذا القيد، وما يلزم على كل منها، حتى يتضح الحال انشاء الله
تعالى.
فاعلم أن مراده قدس سره من المقدمة الموصلة إما أن يكون ما
يترتب على وجودها ذوها، أعني ما ينطبق عليه الموصل بالحمل الشايع، أو
يكون عنوان الموصل. وعلى الثاني إما أن يكون المراد هو الايصال
الخارجي، أو العنوان المنتزع منه. وعلى الأول من هذه الاحتمالات إما
أن يكون المراد ما يترتب عليه ذو المقدمة، على وجه يكون هو المؤثر فيه، أو
يكون أعم من ذلك.
والفرق بينهما: أنه على الأول ينحصر في العلة التامة، وعلى الثاني
يعم العلة وما يلازمها وجودا، فان ان المراد المعنى الأول، لزم ان يكون
مفصلا بين العلة التامة وغيرها على التقدير الأول، أو مفصلا بين العلة
وما يلازمها وبين سائر المقدمات على التقدير الثاني. وهذا - مع عدم
التزام القائل المذكور به - غير سديد، لما سنشير إليه فيما بعد: من أن
وجوب العلة المركبة من الاجزاء والقيود، مستلزم لوجوب القيود
والاجزاء. وإن كان مراده الثاني - أعني كون القيد عنوان الايصال -
فقد عرفت ان في هذا احتمالين:
(أحدهما) كون القيد هو الايصال الخارجي.
(ثانيهما) - العنوان المنتزع منه أي كونها بحيث توصل إلى ذي
المقدمة. وعلى أي تقدير إما أن يكون القيد راجعا إلى الطلب، واما أن
يكون راجعا إلى المطلوب، فهذه أربعة احتمالات:
الأول: ان يكون المراد الايصال الانتزاعي، ويكون القيد راجعا
إلى الطلب.
الثاني: هذا الفرض لكن يكون القيد راجعا إلى المطلوب.
187

الثالث: ان يكون المراد هو الايصال الخارجي، ويكون القيد
راجعا إلى الطلب.
الرابع: هذا الفرض، ويكون القيد راجعا إلى المطلوب.
أما الاحتمال الأول، فان كان المراد أن خطاب المقدمة مشروط
بكون المكلف آتيا بذيها في علم الله تعالى، فيكون محصله (إفعل المقدمة إن
كنت ممن تفعل ذاها في نفس الامر) فهذا باطل لا ينبغي أن يسند إلى
أحد، فضلا عن مثل هذا المحقق الجليل، لان هذا الشخص المتصف
بالعنوان المذكور يأتي بالمقدمة قطعا. نعم يمكن بأن يوجه هذا الاحتمال
على نحو لا يلزمه ذلك، وهو أن يقال على تقدير أن المقدمة لو وجدت
يترتب عليها ذوها، أو على تقدير كون الفاعل بحيث لو أتى بالمقدمة يأتي
بذيها، تجب عليه المقدمة. وهذا وإن كان خاليا عن الاشكال المتقدم، إلا
أنه يرد عليه أمران:
(الأول) - التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من
حيث الاطلاق والاشتراط.
(الثاني) - عدم تعلق التكليف ببعض العصاة، وهو من لو أتى
بالمقدمة لم يأت بذيها عصيانا، وإن كان المراد الثاني، وهو أن يكون
القيد في هذا الفرض راجعا إلى المطلوب، فيرد عليه أن تقييد المأمور به
بأمر خارج عن اختيار المكلف تكليف بما لا يطاق. وهو قبيح. وهذا
العنوان ليس في حيز اختيار المكلف.
(لا يقال) إنه يكفي في كونه مختارا له، كونه منتزعا من فعله
الاختياري، نظير الافعال التوليدية من الأسباب الاختيارية للمكلف، فان
الحق أنها اختيارية بواسطة تلك الأسباب، ويصح تعلق التكليف بنفس
تلك الأفعال، ولا يجب ارجاع التكليف إلى الأسباب كما يأتي انشاء الله
188

تعالى.
(لأنا نقول) فرق بين الصفات المنتزعة من الافعال الخارجية
للمكلف في ظرف وجودها - كعنوان الاتصال والانفصال ونظائرهما، مما
ينتزع من ايجاد ما هو منشأ لانتزاعه، فحينئذ يصح أن يكلف بالاتصال
والانفصال مثلا، لكونهما في حيز اختياره، بواسطة اختيارية منشأ
انتزاعهما - وبين الصفات المنتزعة من الافعال الموجودة في المستقبل، نظير
كونه بحيث يضرب أو يجلس في المستقبل وأمثالهما من العناوين المنتزعة
من الافعال الموجودة في الزمن المتأخر في علم الله، فان ثبوت تلك
العناوين أو نقيضها مما ليس باختيار الشخص [125] كيف؟ وهي أو
نقيضها ثابتة مع غفلته ونومه، بل قبل وجوده في الخارج، فان ماهية زيد
توجد في الخارج ويضرب عمروا في علم الله. وهذا - بعد أدنى تأمل -
لعله من الواضحات.
189

وإن أراد الثالث، وهو أن يكون المقصود الايصال الخارجي،
ويكون القيد راجعا إلى الطلب، فهو أيضا باطل قطعا، لان التكليف
راجع إلى طلب المقدمة على فرض وجود ذيها، وهو طلب الحاصل. وأيضا
يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط
والاطلاق، وكذا يلزم عدم كون العصاة مكلفين بالمقدمة. وبالجملة هذا
الاحتمال أيضا لا ينبغي ان يسند إليه (قدس سره) ولا إلى أحد من
العقلاء.
وإن أراد الرابع، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعا إلى
المطلوب، فيرد عليه أمور:
(أحدها) - ان لا يكون ممتثلا للامر المقدمي، الا بعد اتيان ذي
المقدمة. وقضية الوجدان خلاف ذلك.
(ثانيها) - أن لا تحصل الطهارة بالوضوء والغسل، إلا بعد اتيان
الصلاة، لان الطهارة لا تحصل الا بعد امتثال الامر المقدمي. والمفروض
190

أنه لا يحصل الا بعد اتيان الصلاة، فلزم تحقق الصلاة من دون تحقق
الطهارة، بل يلزم عدم حصول الطهارة بعد الصلاة أيضا، إذ هي بدون
الطهارة كعدمها.
(ثالثها) - أن هذا القيد لا يخلو إما أن يكون له دخل في مقدمية
المقدمة أولا، فعلى الأول يلزم الدور، لان الايصال عنوان ينتزع من تأثير
المقدمة في وجود ذيها [126]، فيتوقف على المقدمية، فلو توقفت المقدمية
على الايصال، لزم الدور. وعلى الثاني يلزم صيرورة الطلب نفسيا، لان
الامر إذا تعلق بشئ لا تكون له جهة المقدمية، فلا بد من كون ذلك
الامر نفسيا. ولا تخلو هذه الوجوه من نظر.
(أما الأول) فلان لزوم كون امتثال الامر المقدمي - بعد الاتيان
بذى المقدمة - لا مانع له عقلا، وليس ما ذكر الا مجرد استبعاد. ولا
يمكن جعل هذا الاستبعاد في قبال الوجدان الذي يدعيه القائل.
و (اما الثاني) فلان كون الامتثال منوطا باتيان ذي المقدمة،
لا يستلزم كون الطهارة منوطة به، لا مكان ترتب الطهارة على الغسلتين
والمسحتين، مع قصد التوصل، ولو لم يتوصل إلى ذي المقدمة، أو يقال أنه
يشترط مع القصد المذكور كون الفعل بحيث تترتب عليه الصلاة في علم الله
تعالى.
191

والحاصل أنه بعد قضاء العقل بكون القيد مأخوذا في موضوع
الواجب، وتحقق الاجماع على توقف الصلاة على الطهارة، يستكشف أن
الطهارة ليست من أثر امتثال الامر المقدمي للوضوء، بل هي مترتبة على
فعل الوضوء، مع قصد الايصال قبل تحققه.
و (أما الثالث) فبانا نختار الشق الثاني، أعني عدم مدخلية هذا
القيد في مقدمية المقدمة، ولا يلزم من ذلك محذور أصلا، لشيوع مثل هذا
التقييد الذي لا دخل له في المقدمية، بحيث ليس لأحد انكاره، مثل ما
إذا كان للواجب مقدمتان إحداهما مباحة، والأخرى محرمة، فإنه
لا اشكال في تعلق الامر الغيري بالمباح منهما، مع القطع بعدم دخل
الخصوصية في المقدمية.
(فان قلت): تقييد الموضوع في المثال المذكور إنما يكون من جهة
المانع الخارجي وهو كان الفرد الأخير مبغوضا غير قابل لتعلق الامر به.
(قلت): بعد ما صار مثل هذا التقييد الذي ليس له دخل في
المقدمية ممكنا، لا يرجع الطلب المتعلق به إلى الطلب النفسي، فللمدعي
أن يدعى هنا أن المقتضى للطلب الغيري ليس إلا فيما كان متصفا بقيد
الايصال.
فالأولى في الجواب أن يقال - بعد بداهة عدم كون مناط الطلب
الغيري إلا التوقف، واحتياج ذي المقدمة إلى غيره - ان تقييد موضوع
الطلب بقيد يجب إما أن يكون من جهة دخله في الغرض. وبعبارة أخرى
المصلحة المقتضية للطلب لا تحصل الا في المقيد - وإما أن يكون من جهة
غرض آخر مع تحقق المناط، والجهة الموجبة للايجاب في ذات الموضوع من
دون ذلك القيد أيضا. والأول كتقييد الصلاة بالطهارة، والثاني
كتقييدها بوقوعها في المكان المباح، فان هذه الخصوصية لا دخل لها في
192

تحقق الجهة الموجبة للصلاة، بل إنما جاءت من قبل مبغوضية الغصب.
وبعبارة أخرى هذا التقييد إنما نشأ من الجمع بين الغرضين،
لا من جهة مدخليته في تحقق غرض الصلاة. ولا اشكال في أن هذا القيد
ليس من قبيل الثاني، فانحصر في الأول، وهو كونه من جهة دخله في
مناط طلب المقدمة. وهذا - بعد بداهة أن المناط ليس الا التوقف - غير
معقول، لان الايصال عنوان ينتزع من وجود ذي المقدمة، فهو موقوف
عليه، فلو توقف ذو المقدمة على الفعل المقيد بالايصال، لزم الدور. وهذا واضح بأدنى تأمل. وأيضا يلزم من وجوب المقدمة الموصوفة وجوب ذاتها،
مقدمة لتحقق هذا الموصوف.
(لا يقال) إن المطلق عين المقيد وجودا في الخارج، وليس مقدمة
له، حتى يجب بوجوبه.
(لأنا نقول) فرق بين القيود المتحدة في الوجود مع المقيد، كما في
الفصول اللاحقة للأجناس، والقيود المغايرة في الوجود له، كما إذا امر
المولى باتيان زيد المتعقب بعمرو، أعني اتيان زيد المتصف بهذا العنوان،
لا اشكال في أن الواجب على الصورة الأولى أمر واحد في الخارج،
لا ينفك القيد فيها عن المقيد، ولو أراد المكلف امتثاله. ولا وجه للقول
بأنه يجب ايجاد المطلق مقدمة لايجاد المجموع، وإيجاد القيد مقدمة لايجاده،
إذ المفروض وحدة الوجود فيهما. ولا يعقل التفكيك بين أمرين متحدين
في الوجود بالسبق واللحوق، كما أنه لا ينبغي الاشكال في أن الواجب
على الثانية ايجاد ذات المطلق، ثم ايجاد القيد ليتصف به المقيد، لأن المفروض
تغايرهما في الوجود.
إذا عرفت هذا فنقول لا إشكال في أن التقييد في المقدمة الموصلة
من قبيل الثاني، لان ما يصير منشأ لانتزاع صفة الايصال هو وجود الغير،
193

فلو وجبت المقدمة المقيدة بوصف ينشأ من وجود الغير، فالواجب عليه
من باب المقدمة ايجاد ذات المقدمة، ثم اتيان ما يوجب اتصافها بتلك
الصفة، وأيضا يلزم من وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذي المقدمة من
باب المقدمة، لان اتصاف المقدمة بالايصال يتوقف على ايجاد ذي المقدمة،
وهو من الغرائب.
ويمكن ان يقال ان الطلب متعلق بالمقدمات في لحاظ الايصال،
لا مقيدا به حتى تلزم المحذورات السابقة [127]. والمراد أن الآمر بعد تصور
المقدمات بأجمعها يريدها بذواتها، لان تلك الذوات بهذه الملاحظة
لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدمة منفكة عما عداها
194

لا يريدها جزما، فان ذاتها وان كانت موردا للإرادة، لكن لما كانت
المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدمات معها، لم تكن كل واحدة مرادة
بنحو الاطلاق، بحيث تسرى الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي
المقدمات. وهذا الذي ذكرناه مساوق للوجدان. ولا يرد عليه ما ورد على
القول باعتبار الايصال قيدا، وإن اتحد معه في الأثر.
الامر بالمسبب هل يرجع إلى السبب؟
(الامر السادس) هل أن الامر المتعلق بالمسبب يجب ارجاعه إلى
السبب عقلا، أو هو حقيقة متعلق بنفس المسبب؟ والسبب إن وجب إنما
يجب من باب المقدمة؟ الوجوه المتصورة في المقام ثلاثة:
(الأول) أن يقال: إن الامر بالسبب مطلقا راجع إلى السبب عقلا.
(الثاني) أن يقال: إن الامر بالمسبب متعلق بنفسه مطلقا.
(الثالث) التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات،
مثل انكسار الخشبة المتحقق بايصال الآلة قوة الانسان إليها، وبين ما إذا
لم يكن كذلك، كما لو كان في البين فاعل آخر، كما في القاء النفس إلى
السبع فيتلفها، أو القاء شخص في النار فتحرقه.
احتج للأول بأن متعلق الإرادة والتكليف انما هو فعل المكلف،
إذ لا معنى للامر بما ليس من فعله، والافعال المترتبة على أسباب خارجية
ليست من فعله، بل هي من فعل تلك الأسباب و الوسائط، لانفكاكها
عن المكلف في بعض الأحيان، كما إذا رمى سهما فمات، فأصاب زيدا
بعد موت الرامي، فلو كان الفاعل هو الرامي لما جاز وجود القتل في
ظرف عدم الرامي، لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا، فيكشف
195

ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي، بل هو السهم، غاية
الامر أنه لم يكن فاعلا بالطبع، وإنما تكون فاعليته من جهة احداث
الرامي القوة فيه. وقس على ذلك سائر الأمثلة.
وأجيب عنه بانا نسلم أن التكليف لا يتعلق الا بما يعد فعلا
للمكلف، إلا أنا نقول ان الفعل الصادر عنه، له عنوان أولى، وعناوين
ثانوية متحدة معه، بواسطة ترتب الآثار عليه، مثلا حركة اليد المؤثرة في
حركة المفتاح لها عنوان أولى، وهو حركة اليد وتحريك اليد، وبملاحظة
تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح، وبملاحظة تأثيرها في
انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب. ولا إشكال في أن حركة اليد التي
هي الفعل الأول للفاعل كما انها فعل له، كذلك العناوين المتحدة معها،
لمكان اتحادها مع فعله الأول في الخارج. وحينئذ لو تعلق التكليف
بتحريك المفتاح الذي يتحد مع تحريك اليد الذي هو فعل للمكلف، فلا
موجب لارجاعه إلى التعلق بتحريك اليد، إذا كما أنه فعل اختياري له
كذلك ما يتحد معه.
وقد يناقش في هذا الجواب بان تحريك المفتاح في المثال لا يمكن
ان ينطبق على تحريك اليد، لأنه عين حركة المفتاح في الخارج، لما تقرر
من وحدتهما في الخارج. وانما الفرق من حيث الاعتبار، وهي غير حركة
اليد المتحدة مع تحريكها، فيجب ان يكون تحريك المفتاح أيضا غير
تحريك اليد، وإلا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متحدتين أيضا
والمفروض خلافه.
والجواب أنا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد، بل نقول
ان الفعل الذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الأول، ينقلب عنوانه
إلى تحريك المفتاح في الآن الثاني فافهم.
196

هذا ولكن لا يخفى أن هذا إنما يصح فيما إذا كانت الواسطة من
قبيل الآلة. وأما إذا كان هناك فاعل آخر يصدر عنه الفعل، فلا يمكن
القول باتحاد الفعل الصادر عنه مع الفعل الصادر عن الفاعل الأول وهذا
واضح.
وقد يجاب أيضا عن أصل الدليل: بانا لا نسلم لزوم تعلق الإرادة
بالفعل الصادر عن الفاعل، بل يكفي في قابلية تعلق الحكم بشئ كونه
مستندا إلى المكلف بنحو من الاستناد، سواء كان بنحو الفاعلية، أم بنحو
تأثير الشرط في وجود المشروط، أم غير ذلك.
وبعبارة أخرى الكلام في المقام إنما هو في أن متعلق الإرادة
بحسب حكم العقل ماذا؟ فنقول: ما يقطع العقل باعتباره في متعلق
الطلب، هو ارتباط المطلوب بالمكلف بنحو من أنحاء الارتباط، فخرج به
ما ليس للمكلف تأثير فيه بنحو من الأنحاء. وأما لو كان له ربط
بالمكلف بوجه، بحيث يكون وجوده منوطا باختياره، بحيث لو شاء يوجد
ولو لم يشأ لم يوجد، فنمنع استحالة تعلق التكليف به عقلا.
وفيه انه لو أراد أن التكليف - فيما ليس بيد المكلف إلا ايجاد شرطه
كالاحراق بالنار مثلا - متعلق بما هو شأن الواسطة، كما إذا تعلق التكليف
بما هو شأن النار في المثال، فهذا غير معقول، وإن أراد أن التكليف متعلق
بما هو شأن المكلف، فهو راجع إلى الامر بايجاد الواسطة.
توضيح المقام على وجه يرفع الابهام عن وجه المرام: أن الاعراض
باعتبار النسبة إلى محالها تختلف (فتارة) تكون نسبتها إليها بمجرد كونها
حالة بها، من دون أن تكون صادرة عن محالها، كالموت والحياة والسواد
والبياض، و (أخرى) تكون نسبتها إليها من جهة انها صادرة عنها،
كالضرب والقيام. أما ما كان من قبيل الأول، فلا اشكال في عدم قابلية
197

تعلق الطلب به، ضرورة ان الطلب يقتضى صدور الفعل عن الفاعل، وما
ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلق الطلب به [128] لان إرادة
الامر مثل إرادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات، غاية الامر
198

أن الأولى موجبة لتحريك عضلات المأمور، والثانية موجبة لتحريك
عضلات المريد. وظاهر أن ما ليس من قبيل الحركة، لا يمكن تعلق إرادة
الفاعل به، فكذلك إرادة الامر فلو تعلق الطلب بحسب الصورة بمثل ما
ذكر، يجب ارجاعه إلى ما يرجع إلى فعل المأمور.
والحاصل ان متعلق الطلب لابد وأن يكون معنى مصدريا صادرا
عن المخاطب بالخطاب، فلو لم يكن كذلك، بان لم يكن من معنى الصدر،
أو كان ولم يكن صادرا من المأمور، لم يكن تعلق الامر به. أما الأول،
فلما عرفت. وأما الثاني، فلما مضى من أن الإرادة ما يوجب تحريك
عضلات الفاعل إلى الفعل، ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه.
فتحصل مما ذكرنا أن الطلب إذا تعلق صورة بما ليس من الفعل
الصادر من الفاعل، يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك. ومن هنا يقوى
التفصيل بين ما إذا تعلق التكليف بما ليس بينه وبين المكلف إلا آلة
توصل قوة الفاعل إلى القابل، وبين ما إذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا
له، بل هي أفعال الواسطة، ففي الأول التكليف متعلق بنفس ذلك
الفعل، وفي الثاني يجب ارجاعه إلى السبب، فليتأمل جيدا.
المقدمات الداخلية
(الامر السابع) أنه لو بنينا على وجوب المقدمة، فهل أجزاء
المركب المتصف بالوجوب النفسي تتصف به، أو بالوجوب المقدمي؟
والحق هو الثاني، فهنا دعويان (إحداهما) عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب
النفسي و (الثانية) اتصافها بالوجوب المقدمي.
لنا على الأولى أن الأوامر تتعلق بالأمور الموجودة في الذهن باعتبار
199

حكايتها عن الخارج فالشئ ما لم يوجد في الذهن لا يعقل تعلق الامر
به [129] وهذه المقدمة في الوضوح مما يستغنى عن البرهان فحينئذ
نقول: إن الاجزاء الموجودة في ذهن الآمر لا تخلو من أنها إما أن يلاحظ
كل واحد منها بوجوداتها المستقلة الغير المرتبط بعضها ببعض، نظير العام
الافرادي. وإما أن يلاحظ المجموع منها على هيئتها الاجتماعية.
فعلى الأول لابد وأن تنحل الإرادة إلى إرادات متعددة، كما في
العام الافرادي، إذ الإرادة أمر قائم بنفس المريد متعلق بالافعال، فكما
انها تتعدد بتعدد المريد، كذلك تتعدد بتعدد المراد، إذ لا يعقل وحدة
العرض مع تعدد المعروض.
وعلى الثاني أي على تقدير كون الملحوظ الاجزاء على نحو
الاجتماع، فالملحوظ بهذا الاعتبار امر واحد، ولا يعقل أن يشير اللاحظ في
هذا اللحاظ إلى أمور متعددة، فوجود الاجزاء - بهذا الاعتبار في ذهن الآمر -
نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيد في أنه وإن كان موجودا، إلا
أنه لا على وجه يشار إليه، بل هو موجود تبعا للمقيد ومندكا فيه.
والحاصل أن الموجود بهذا الاعتبار ليس الا الكل، والا جزاء
بوجوداتها الخاصة لا وجود لها، فمتعلق الامر النفسي لا يعقل الا ان يكون
الكل الموجود في الذهن مستقلا، والاجزاء - لعدم وجودها في الذهن
بهذا اللحاظ - لا يمكن أن تكون متعلقة للامر [130].
200

نعم يمكن الاستناد الامر إليها بالعرض، نظير استناد الامر المتعلق
بالمقيد إلى ذات المطلق، أعني الطبيعة المهملة، وهذا هو المراد من كلام شيخنا
المرتضى (قدس سره) في التقريرات: أن الجزء إذا لوحظ لا بشرط، فهو عين الكل،
وإذا لوحظ بشرط لا، فهو غيره ومقدمة لوجوده. والمراد من قوله
(قد سره) لا بشرط عدم اشتراط أن يكون في ذهن الآمر معه شئ
أم لا، وهو الصالح لان يتحد مع الكل. ومن قوله بشرط لا،
عدم ملاحظة الامر معه شيئا، أعني ملاحظته مستقلا [131]. ولا اشكال
في أن الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح أن يتحد مع الكل، ويحمل عليه، إذ
201

لا يصدق على الحمد ولا على غيره من اجزاء الصلاة انه صلاة [132].
ولنا على الثانية أن الآمر - إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي،
أي غير ملحوظ معه شئ آخر - يرى أنه مما يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة
202

من اجتماع الاجزاء، فحاله حال سائر المقدمات الخارجية [133]، من
دون تفاوت أصلا. هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.
203

استدلال القائلين بوجوب المقدمة
(الامر الثامن) في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة. أقول ما
تمسك به في هذا المقام وجوه، أسدها وأمتنها ما احتج به شيخنا
المرتضى (قدس سره) من شهادة الوجدان، فان من راجع وجدانه
وانصف من نفسه، يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلق بالفعل
والمتعلق بمقدماته [134].
لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها، كيف؟ والبداهة قاضية
بعدمه، لجواز غفلة الطالب عن المقدمة، إذ ليس النزاع منحصرا
في الطلب الصادر من الشارع، حتى لا يتصور في حقه ذلك، بل
المقصود أن الطالب للشئ إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه، يجد من نفسه
205

حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها، كما قد يتفق هذا النحو من
الطلب النفسي أيضا، فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك، أو لم
يلتفت إلى كونه ابنه، فان الطلب الفعلي في مثله غير متحقق، لابتنائه على
الالتفات، لكن المعلوم من حاله أنه لو التفت إلى ذلك لأراد من عبده
الانقاذ، وهذه الحالة - وان لم تكن طلبا فعليا الا انها - تشترك معه في
الآثار. ولهذا نرى بالوجدان - في المثال المذكور - أنه لو لم ينقذ العبد
ابن المولى، عد عاصيا ويستحق العقاب.
و (منها) - اتفاق أرباب العقول كافة عليه، على وجه يكشف عن
ثبوت ذلك عند العقل، نظير الاجماع الذي ادعى في علم الكلام على
وجود الصانع، أو على حدوث العالم، فان اتفاق أرباب العقول كاشف
قطعي اجمالا عن حكم العقل، فلا يرد على المستدل أن المسألة - لكونها
عقلية - لا يجوز التمسك لها بالاجماع، لعدم كشفه عن رأى المعصوم (ع)،
لان الايراد متوجه لو أراد من الاجماع المستدل به عليه الاجماع
الاصطلاحي. أما على الوجه الذي قررناه، فلا مجال للايراد. هذا ولكن
الشأن في اثبات مثل هذا الاتفاق.
و (منها) أن المقدمة لو لم تكن واجبة، لجاز تركها، فحينئذ إن بقى
الواجب على وجوبه، يلزم التكليف بالمحال، وإلا يلزم خروج الواجب
المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبطلان اللازمين مما لا كلام فيه، فكذا
الملزوم.
والجواب أن ما أضيف إليه الظرف - في قوله فحينئذ - إن كان
الجواز، نختار الشق الأول، أعني بقاء الواجب على وجوبه، ولا يلزم المحذور
قطعا، لعدم معقولية تأثير الوجوب في القدرة، وإن كان الترك مع كونه
جائزا، فان فرض امكان ايجاد المقدمة عند ذلك، بأن كان الوقت
206

موسعا، فنختار أيضا الشق الأول، ولا يلزم التكليف بالمحال. وهو واضح.
وإلا بان انقضى زمان الاتيان بها، فنختار الشق الثاني.
وقوله (قدس سره) يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا
مطلقا، إن أراد خروجه من أول الامر عن كونه كذلك - كما هو ظاهر
عبارته - فنمنع الملازمة، وإن أراد خروجه بعد ترك المقدمة وانقضاء
زمانها، فليس اللازم باطلا، لان الوجوب قد يسقط بالإطاعة، وقد يسقط
بالعصيان.
و (منها) - ما حكى عن المحقق السبزواري (ره) وهو أنها لو لم تكن
واجبة، يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب.
(بيان الملازمة) أنه إذا كلف الشارع بالحج، ولم يصرح بايجاب
المقدمات، فتارك الحج - بترك قطع المسافة الجالس في بلده - إما أن يكون
مستحقا للعقاب في زمان ترك المشي، أو في زمان ترك الحج في موسمه
المعلوم، لا سبيل إلى الأول، لأنه لم يصدر منه في ذلك الزمان إلا ترك
الحركة. والمفروض أنها غير واجبة عليه، ولا إلى الثاني، لان الاتيان
بأفعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة إليه، فكيف يكون مستحقا
للعقاب بما يمتنع صدوره عنه؟ ألا ترى أن الانسان إذا أمر عبده بفعل
معين في زمان معين في بلد بعيد، والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد، فان
ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنه لم يصدر منه إلى الآن فعل
قبيح يستحق به التعذيب، لكن القبيح أنه لم يفعل في هذه الساعة هذا
الفعل في ذلك البلد، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل، بل
لا تصح العقوبة إلا على الاستحقاق السابق قطعا.
ثم نقول: إذا فرضنا أن العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان
الفعل، فإما أن يكن مستحقا للعقاب، أولا، لا وجه للثاني، لأنه ترك
207

المأمور به مع كونه مقدورا، فثبت الأول، فاما أن يحدث استحقاق العقاب
في حالة النوم، أو حدث قبل ذلك، لا وجه للأول، لان استحقاق
العقاب إنما يكون لفعل القبيح، وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن
والقبح بالاتفاق. ولا وجه للثاني، لان السابق على النوم لم يكن الا
ترك المقدمة. والمفروض عدم وجوبها. هذا حاصل ما أفاده (قدس سره)
وقد نقلناه ملخصا.
والجواب أنه لا محذور في اختيار كل واحد من الشقين، فلنا أن
نختار الشق الأول، وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشي، لا على
ترك المشي، بل على ترك الحج المستند إلى ترك المقدمة اختيارا، فان
طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء، وهم يحكمون بحسن عقاب
العبد التارك للمقدمة في زمن تركها، ولا يلزمون المولى بانتظار زمن
الفعل، وليس هذا التزاما بترتب العقاب على ترك المقدمة، بل المقصود
اثبات العقاب المترتب على ترك ذيها في زمن ترك المقدمة، وامتناع ذيها
اختيارا.
ولنا ان نختار الشق الثاني، فنقول: إن تارك المقدمة مستحق
للعقاب في زمان الحج، وقوله (قدس سره) - ان فعل الحج هناك غير
مقدور، فلا يمكن اتصافه بالقبح - غير وجيه، لأنا نقول: يكفي في اتصافه
بالمقدورية كون المكلف قادرا على اتيان مقدمته في زمانها، فاتصاف مثل
هذا الفعل المقدور بواسطة مقدورية مقدماته بالقبح لا مانع له. وأي قبح
أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه؟
(واما) ما ذكره أخيرا من فرض كون تارك المقدمة نائما في زمن
الفعل (فالجواب عنه) أن ما لا يمكن ان يتصف بالحسن والقبح من فعل
النائم إنما يكون فيما استند إلى النوم، مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى
208

النوم، وليس هذا الترك مما نحن فيه مستندا إلى النوم، حتى لا يمكن
اتصافه بالقبح، بل هو مستند إلى ترك المقدمة في زمانها اختيارا. وهذا
النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان. وهذا
واضح.
و (منها) - ما حكى عن المحقق المذكور أيضا، وهو أنها لو لم تكن
واجبة لزم ان لا يستحق تارك الفعل العقاب أصلا. وبيانه: أن المريد
للشئ إذا تصور أحوالا مختلفة يمكن وقوع كل واحد منها، فاما أن يريد
الاتيان بذلك على أي تقدير من تلك التقادير، أو يريد الاتيان به على
بعض تلك التقادير. وهذا مما لا اشكال فيه.
وحينئذ نقول إذا امر أحد بالاتيان بالواجب في زمانه، وفي ذلك
الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها، فاما ان يريد الاتيان به على
أي تقدير من تقديري الوجود والعدم، فيكون في قوة قولنا: ان وجدت
المقدمة فافعل، وان عدمت فافعل. وإما أن يريد الاتيان به على تقدير
الوجود. والأول محال، لأنه يستلزم التكليف بما لا يطاق، فثبت الثاني،
فيكون وجوبه مقيدا بحضور المقدمة، فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا
للعقاب، لفقدان شرط الوجوب. والمفروض عدم وجوب المقدمة،
فينتفى استحقاق العقاب رأسا.
والجواب (أما أولا) فبأنه لو تم ما ذكره هنا، لزم أن لا يقع
الكذب في الاخبار المستقبلة [135].
(بيان الملازمة) أنه لو أخبر المخبر بأني غدا اشترى اللحم، فعلى تقدير
209

عدم الشراء لا وجه لتكذيبه، إذ له أن يقول: إن الاخبار بشراء اللحم إما أن
يكون على تقدير ايجاد جميع المقدمات أو الأعم من ذلك وعدمها، لا سبيل
إلى الثاني، لأوله إلى الاخبار عن الممتنع، فثبت الأول، فيؤول إلى الاخبار
بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدمات. والمفروض عدم وجود واحدة
منها، إذ لا أقل من ذلك، فلا يكون كذبا، إذ عدم تحقق اللازم في صورة عدم
تحقق الملزوم ليس كذبا في القضية الشرطية الخبرية.
و (أما ثانيا) فبان اللازم - على ما ذكره - عدم استحقاق
العقاب على ترك واجب أصلا، لرجوع الواجبات بأجمعها إلى الواجب
المشروط
(بيان ذلك) أن كل واجب لا بدله من مقدمة، ولا أقل من
إرادة الفاعل، فحينئذ نقول: إما أن يريد ذلك الفعل في حالتي وجود
المقدمة وعدمها، أو في حالة وجودها فقط. والأول مستلزم للتكليف بما
لا يطاق، والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من
الواجبات، إذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب
وليت شعري هل ينفعه وجوب المقدمة في دفع هذا الاشكال [136].
210

و (أما ثالثا) فبان الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب اطلاقا
أو تقييدا هي ما يمكن تعلق الطلب بالموضوع معه، ويجوز كونه في تلك
الحالة باعثا للمكلف نحو الفعل. وأما ما لم يكن كذلك بان لا يمكن معه
أن يكون الطلب باعثا للمكلف نحو الفعل، فلا يعقل تقييد الطلب به ولا
إطلاقه. أما الأول، فللزوم لغوية الطلب. وأما الثاني، فلانه تابع لا مكان
التقييد. وحالتا وجود المقدمة وعدمها من قبيل الثاني، لأنه على الأول
يصير الفعل واجبا، فلا يمكن تعلق الطلب به على تقدير وجوبه. وعلى
الثاني يصير ممتنعا، فلا يمكن أيضا تعلق الطلب به على هذا التقدير. وبعد
عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما، لا يمكن ملاحظة الاطلاق أيضا بالنسبة
إليهما، بل الطلب متعلق بذات الفعل مع قطع النظر عنهما اطلاقا وتقييدا،
وهو يقتضى ايجاد الفعل، ولو لم يوجد يستحق العقاب. وهذا واضح.
وقد ذكروا وجوها اخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها، اقتصارا على ما
هو الأهم في الباب. وهو الهادي إلى الصواب.
مقدمات الحرام
(الامر التاسع) في بعض الكلام في مقدمات الحرام، وليعلم
(أولا) أن الالتزام بحرمة مقدمة الحرام - بقصد التوصل إليه - ليس قولا
بحرمة مقدمة الحرام، لان هذا من جزئيات مسألة التجري، فعد بعض
الأساطين حرمة مقدمات الحرام بقصد التوصل إلى ذيها من باب مقدمة
الحرام - واقتضاء النهى المتعلق بذيها لها - مما لم يعرف له وجه، لان
الجهة المقبحة الموجودة في اتيان المقدمة بقصد التوصل إلى الحرام، ليست
منوطة بوجود محرم واقعي تكون هذه المأتي بها بقصد التوصل مقدمة له، بل
211

هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شئ، واتى بمقدماته بقصد التوصل
إليه، ولم يكن ذلك الشئ محرما في الواقع، أو اعتقد مقدمية شئ
لمحرم، واتى به بقصد التوصل إلى ما اعتقد ترتبه عليه. واعجب من ذلك
قياسه بباب مقدمة الواجب، فان ما تحقق هناك أن إتيان ذات المقدمة
من دون قصد التوصل إلى ذيها لا يعد طاعة، لا ان موضوع الطلب التبعي
هو الفعل المقرون بهذا القصد.
وكيف كان، فالمهم في هذا الباب بيان ان المقدمات الخارجية
للحرام هل تتصف بالحرمة، نظير ما قلنا في المقدمات الخارجية للواجب،
أم لا تتصف أصلا، أم يجب التفصيل بينها؟
فنقول: إن العناوين المحرمة على ضربين: (أحدهما) أن يكون
العنوان بما هو مبغوضا، من دون تقييده بالاختيار وعدمه من حيث
المبغوضية، وان كان له دخل في استحقاق العقاب، إذ لا عقاب الاعلى
الفعل الصادر عن اختيار الفاعل. (ثانيهما) ان يكون الفعل الصادر عن
إرادة واختيار مبغوضا، بحيث لو صدر عن غير اختيار، لم يكن منافيا
لغرض المولى، فعلى الأول علة الحرام هي المقدمات الخارجية، من دون
مدخلية الإرادة، بل هي علة لوجود علة الحرام. وعلى الثاني تكون الإرادة
من اجزاء العلة التامة.
إذا عرفت هذا فنقول: نحن إذا راجعنا وجداننا، نجد الملازمة بين كراهة
الشئ وكراهة العلة التامة له، من دون سائر المقدمات، كما إذا راجعنا الوجدان
في طرف إرادة الشئ نجد الملازمة بينها وبين إرادة كل واحدة من
مقدماته، وليس في هذا الباب دليل أمتن وأسد منه. وما سوى ذلك مما
أقاموه غير نقي من المناقشة. وعلى هذا ففي القسم الأول إن كانت العلة
التامة مركبة من أمور يتصف المجموع منها بالحرمة، وتكون إحدى المقدمات
212

لا بشخصها محرمة، إلا إذا وجد باقي الاجزاء، وانحصر اختيار المكلف في
واحدة منها، فتحرم عليه شخصا، من باب تعين أحد افراد الواجب
التخييري بالعرض، فيما إذا تعذر الباقي، فان ترك أحد الاجزاء واجب
على سبيل التخيير، فإذا وجد الباقي وانحصر اختيار المكلف في واحد
معين، يجب تركه معينا، واما القسم الثاني - أعني فيما إذا كان الفعل
المقيد بالإرادة محرما - فلا تتصف الاجزاء الخارجية بالحرمة، لان العلة
التامة للحرام هي المجموع المركب منها ومن الإرادة، ولا يصح اسناد الترك
الا إلى عدم الإرادة. لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات
الخارجية [137].
213

فقد فهم مما ذكرنا أن القول بعدم اتصاف المقدمات الخارجية
للحرام بالحرمة - مطلقا لسبق رتبة الصارف، وعدم استناد الترك إلا إليه
مطلقا - مما لا وجه له، بل ينبغي التفصيل، لأنه في القسم الأول لو
فرض وجود باقي المقدمات مع عدم الإرادة، تحقق المبغوض قطعا، فعدم
إحداها علة لعدم المبغوض فعلا. وأما في القسم الثاني، فلو فرضنا وجود
باقي المقدمات مع الصارف، لم يتحقق المبغوض، لكونه مقيدا بصدوره عن
214

الإرادة، فالمقدمات الخارجية - من دون انضمامها إلى الإرادة - لا توجد
المبغوض، ففي طرف العدم يكفي عدم إحدى المقدمات. ولما كان الصارف
أسبق رتبة منها، يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي، فيتصف بالمحبوبية،
دون ترك إحدى المقدمات الخارجية، فلا يكون فعلها متصفا بالحرمة.
المقصد الثالث في الضد
هل الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده الخاص أم لا؟ أقول لما
كانت المسألة مبتنية على مقدمية ترك الضد لفعل ضده [138]، فاللازم
215

التكلم فيها، فنقول: هل ترك الضد مقدمة لفعل ضده، أو فعله مقدمة
لترك ضده، أو كل منهما مقدمة للآخر، أولا توقف في البين؟
والمعروف من تلك الاحتمالات، هو الأول والأخير، فلا نتعرض
لغيرهما. وستطلع على بطلانه في أثناء البحث. والقائل - بتوقف فعل
الضد على ترك ضده الآخر - إما أن يقول مطلقا، كما عليه جل أرباب
هذا القول، أو يفصل بين الرفع والدفع، بمعنى أنه لو كان الضد موجودا،
وأراد ايجاد الآخر، يتوقف ايجاده على رفع ضده، وإن لم يكن موجودا،
وأراد ايجاد ضده، لم يكن موقوفا على ترك الضد.
ثم إن وجه التوقف يمكن أن يكون أحد أمور ثلاثة: (الأول) - أن
يقال بان ترك الضد ابتداءا مقدمة لفعل الضد (الثاني) - أن تكون
مقدمية الترك من باب مانعية الفعل (الثالث) - أن يكون من جهة عدم
قابلية المحل، فان المحل - لما لم يكن قابلا لان يقع فيه كلاهما - صار
وجود كل منهما متوقفا على خلو المحل عن الآخر.
وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود - وقبل ذكر أدلة الطرفين،
لابد وأن يعلم حكم حال الشك، لنرجع إليه إذا عجزنا عن القطع بأحد
الطرفين.
فنقول: لو شك في كون ترك الضد مقدمة، بعد العلم بوجوب
مقدمة الواجب، والعلم بوجوب فعل الضد الآخر، فهل الأصل يقتضى
الحكم بصحة العمل إن كان من العبادات، أو الفساد؟
قد يقال بالأول، لان فعلية الخطاب مرتفعة بواسطة الشك،
خصوصا في الشبهة الموضوعية التي قد أطبقت - على اجراء البراءة فيها -
كلمة العلماء رضوان الله عليهم من الأصوليين والأخباريين، وإذا لم يكن
الوجوب فعليا لا مانع من صحة العمل، لان المانع - كما قد تحقق في محله -
216

هو الوجوب الفعلي. ولذا أفتى العلماء بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة
في صورة نسيان الغصبية، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم تجب عليه
الإعادة والقضاء. وما نحن فيه من هذا القبيل، وأوضح من ذلك صورة
القطع بعدم المقدمية [139] وانكشاف خطأ قطعه بعد ذلك، فان
الحكم بفساد صلاته موجب لفعلية الخطاب حين القطع بعدمه.
والحق أن الشك في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا
ولا شرعا.
أما الأول فلان مقتضاها هو الامن من العقاب على مخالفة
217

التكليف الواقعي على تقدير ثبوته، ولا يمكن جريانها هنا، لان العقاب
لا يترتب على مخالفة التكليف المقدمي، ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب
عن التكليف النفسي، إذا استند تركه إلى هذه المقدمة المشكوك
مقدميتها، لان التكليف النفسي معلوم، ويعلم أن الاتيان به ملازم لهذا
الترك الذي يحتمل كونه مقدمة. انما الشك في أن هذا الترك - الذي قد
علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم - هل هو مقدمة أولا؟ وهذا
لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسي المعلوم كما هو واضح.
وأما الثاني، فلانه على تقدير كون الترك مقدمة، فالوجوب
المتعلق به بحكم العقل على حد الوجوب المتعلق بفعل ضده، فكما أنه في
هذا الحال يكون فعليا منجزا، كذلك مقدمته. وعلى هذا الفرض لا يعقل
الترخيص. والمفروض احتمال تحقق الفرض في نظر الشاك، والا لم يكن
شاكا. و مع هذا الاحتمال يشك في امكان الترخيص وعدمه عقلا،
فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.
(لا يقال) بعد احتمال كون الترخيص ممكنا، لا مانع من التمسك
بعموم الأدلة الدالة على إباحة جميع المشكوكات، واستكشاف الامكان
بالعموم الدال على الفعلية.
(لأنا نقول) على هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه، إذ لو
بنينا على انكشاف الامكان بعموم الأدلة، فاللازم الالتزام بدلالة العموم
على عدم كون ترك الضد مقدمة، إذ مع بقاء هذا الشك لا يمكن
انكشاف الامكان، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضد مقدمة
فلا مجرى له [140]، لان موضوعه الشك. وبالجملة، فلا أرى وجها
218

لجريان أصالة الإباحة في المقام. هذه خلاصة الكلام في حكم الشك،
فلنعد إلى أصل البحث.
فنقول: الحق - كما ذهب إليه الأساطين من مشايخنا - هو
عدم التوقف والمقدمية، لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل. أما
عدم كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده، فلان مقتضى مقدميته لزوم ترتب
عدم ذي المقدمة على عدمه، لأنه معنى المقدمية والتوقف، فعلى هذا يتوقف
عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدمة، وهو فعل
الضد الآخر. والمفروض أن فعل الضد أيضا يتوقف على ترك ضده
الآخر، ففعل الضد يتوقف على ترك ضده، كما هو المفروض، وترك
الضد يتوقف على فعل ضده، لأنه مقتضى مقدمية تركه.
هذا مضافا إلى عدم إمكان تأثير العدم في الوجود [141]، وهو
من الواضحات، والا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات إلى العدم. وأما
219

عدم كون فعل الضد علة ومؤثرا في ترك ضده، فلانه لو كان كذلك،
لزم - مع عدمه وعدم موجود يصلح لان يكون علة لشئ - إما ارتفاع
النقيضين، أو تحقق المعلول بلا علة، أو استناد الوجود إلى العدم [142].
بيان ذلك أنه لو فرضنا عدم الفعل الذي فرضناه علة لعدم
الضد، وعدم كل شئ من السكنات يصلح لان يكون علة لشئ،
فلا يخلو الواقع من أمور، لأنك إما أن تقول بوجود ذلك الفعل الذي
كان عدمه معلولا أولا؟ فعلى الأول يلزم استناد الوجود إلى العدم، إذ
المفروض عدم وجود شئ في العالم يصلح لان يكون علة، وعلى الثاني
إما أن تقول بعدم تحقق العدم المفروض معلولا أولا؟ فعلى الثاني يلزم
ارتفاع النقيضين، وعلى الأول يلزم تحقق المعلول بلا علة، مضافا إلى أن
مقتضى كون الفعل علة لترك ضده كون تركه مقدمة لفعل ضده الآخر،
لان عدم المانع شرط فيلزم الدور.
220

(فان قلت) إن الدور الذي أوردته - على القائل بمقدمية ترك
الضد لفعل ضده الآخر - انما يتوجه لو التزم بكون الفعل أيضا علة
للترك، وهو لا يلتزم به. وإنما يقول بكون ترك الضد مستندا إلى
الصارف، لكونه أسبق رتبة من الفعل. ومعلوم أن المعلول إذا كانت له
علل، فهو يستند إلى أسبق علله، فحينئذ نقول بان فعل الضد يتوقف على
ترك ضده الآخر، ولكن ترك الضد لا يتوقف على فعل ضده الآخر، بل
يكفي فيه الصارف، فاندفع بذلك الدور.
(قلت) الاسناد الفعلي وان كان إلى الصارف ليس الا، لما ذكر
من كونه أسبق العلل، إلا أنه يكفي في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علة
الترك لاستلزام ذلك التقدم عليه، مع كون الترك أيضا مقدما على الفعل
بمقتضى مقدميته، لان وجه بطلان الدور تقدم الشئ على نفسه، وهذا
الوجه موجود هنا بعينه، فان ترك الضد بمقتضى المقدمية مقدم طبعا على
فعل ضده، وكذلك فعل الضد بمقتضى شأنيته للعلية يجب أن يكون
مقدما على ترك ضده، فترك الضد مقدم على فعل ضده الذي هو مقدم
على ذلك الترك، فيجب أن يكون ترك الضد مقدما على نفسه.
وكذلك فعل الضد.
ومما ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الرفع والدفع، لان البرهان الذي
ذكرناه على عدم التوقف يجرى فيهما على نهج واحد، وأنت إذا تأملت فيما
ذكرنا، لم تجد بدا من القول بعدم التوقف، فلا نطيل المقام بذكر ما أوردوه
في بيان المقدمية والمناقشة فيه.
إنما المهم التعرض للمسألة التي فرعوها على مقدمية ترك الضد
وعدمها أعني بطلان فعل الضد لو كان عباديا، وقد وجب ضده على
الأول، وصحته على الثاني.
221

فنقول: اما بناءا على كون ترك الضد مقدمة، فلا اشكال في
بطلان العمل، بناءا على بطلان اجتماع الأمر والنهي، بل قد يقال
بالبطلان، حتى على القول بامكان الاجتماع، لان محل النزاع في مسألة
جواز اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان هناك عنوانان يتفق تحققهما في
وجود واحد، وليس المقام من هذا القبيل، لان عنوان المقدمية ليس مما
يتوقف عليه المطلوب، بل المطلوب إنما يتوقف على نفس ترك الصلاة
مثلا إذا كان ضدها مطلوبا، فلو جاز تعلق الامر بها، لزم اجتماع الأمر والنهي
في شئ واحد، فيكون ذلك من باب النهى في
العبادات [143].
هذا على القول بكون ترك الضد مقدمة. وأما على القول بعدم
مقدميته فان قلنا بكفاية الجهة في صحة العبادة، وإن لم يتعلق به الامر
لمانع عقلي - كما هو الحق - فلا اشكال في الصحة. وأما لو لم نقل بكفاية
الجهة، فيشكل الامر بان الامر بالضد وان لم يقتض النهى عن ضده لعدم
المقدمية، ولكنه يقتضى عدم الامر به، لامتناع الامر بايجاد الضدين في
222

زمان واحد. وحيث لا أمر فلا يقع صحيحا، لأن المفروض عدم كفاية
جهة الامر في الصحة. فالمناص حينئذ منحصر في تصحيح تعلق الامر فعلا
بالضد، مع كون ضده الآخر مأمورا به. والذي يمكن أن وجها
لذلك أحد أمرين: -
(الأول) - ما نقل عن بعض الأساطين من أن الامر بالضد إنما
ينافي الامر بضده الآخر لو كانا مضيقين. أما لو كان أحدهما مضيقا
والآخر موسعا، فلا مانع من الامر بكليهما، لان المانع ليس الا لزوم
التكليف بما لا يطاق. وهذا المانع منحصر فيما إذا كانا مضيقين، إذ لو
كان أحدهما موسعا، فلا يلزم ذلك قطعا، سواء كان الآخر موسعا أيضا
أم لا. وأي مانع من أن يقول المولى لعبده أريد منك من أول الظهر إلى
الغروب انقاذ هذين الغريقين، أو يقول أريد منك إنقاذ هذا الغريق
فعلا، وأريد منك أيضا انقاذ الغريق الآخر في مجموع الوقت الذي يكون
أعم من هذا الوقت وغيره؟
(أقول): تمامية ما افاده (قدس سره) مبتنية على مقدمتين:
(الأولى) - أن يكون الوقت المضروب ظرفا للواجب، من قبيل الكلى
الصادق على جزئيات الوقت، فيصير المحصل من التكليف بصلاة الظهر
ايجاب ايجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدين، إذ لو كان التكليف
راجعا إلى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الأزمنة، فلا يصح ذلك، لان
البعث على غير المقدور قبيح عقلا، وان كان على سبيل التخيير بينه وبين
فعل آخر مقدورا، الا ترى قبح الخطاب التخييري بين الطيران إلى السماء
واكرام زيد مثلا.
(الثانية) - أن الامر بالطبيعة لا يستلزم السراية إلى الافراد، والا
لكان اللازم منه المحذور الأول بعينه. وحيث أن عدم السراية إلى الافراد
223

هو المختار - كما سيجئ تحقيقه في مسألة اجتماع الأمر والنهي انشاء الله
تعالى - لا يبعد صحة المقدمة الأولى، فلا باس بالالتزام بتحقق الامر الفعلي
بالصلاة في مجموع الوقت، مع ايجاب ضدها في أول الوقت مضيقا، بل
يمكن ان يقال لا مانع من الامر حتى على القول بالتخيير الشرعي، أو على
القول بسراية حكم الطبيعة إلى الافراد، لان المانع من التكليف بما
لا يطاق ليس الا اللغوية، وهي مسلمة فيما إذا كان نفس الفعل غير
مقدور كالطيران إلى السماء. وأما إذا كان نفسه مقدورا - كما فيما نحن
فيه - غاية الامر يجب عليه بحكم العقل امتثال امر آخر من المولى، ولا
يقدر مع الامتثال على اتيان فعل آخر، فلا يلزم اللغوية، إذ يكفي في ثمرة
وجود الامر - أنه لو أراد المكلف عصيان الواجب المعين - يقدر على إطاعة
هذا الامر [144] ومن ذلك يظهر أن قياس مقامنا هذا بمثال الطيران إلى
السماء ليس في محله.
مسألة الترتب
الوجه الثاني ما أفاده سيد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي
224

(قدس سره)، وشيد أركانه وأقام برهانه وتلميذه الجليل والنحرير الذي
ليس له بديل، سيدنا الأستاذ السيد محمد الأصفهاني جزاهما الله عن
الاسلام وأهله أفضل الجزاء، وهو أن يتعلق الامر أولا بالضد الذي يكون
أهم في نظر الآمر مطلقا، من غير تقييد بشئ، ثم يتعلق امر آخر بضده
متفرعا على عصيان ذلك الامر الأول.
واثبات هذا المطلب يستدعى رسم مقدمات:
(الأولى) - ولعلها العمدة في هذه المسألة - توضيح الواجب
المشروط، وهو وإن مر ذكره في مبحث مقدمة الواجب مفصلا، إلا أنه
لابد من أن نشير إليه ثانيا توضيحا لهذه المسألة التي نحن بصددها،
فنقول - وعلى الله التوكل أن الإرادة المنقدحة في النفس المتعلقة بالعناوين
على ضربين (تارة) تكون على نحو تقتضي ايجاد متعلقها بجميع ما يتوقف
عليه، من دون إناطتها بوجود شئ أو عدمه، و (أخرى) على نحو
لا تقتضي ايجاد متعلقها ألا بعد تحقق شئ آخر وجودي أو
عدمي [145]. مثلا إرادة اكرام الضيف (تارة) تكون على نحو يوجب
تحريك المريد إلى تحصيل الضيف واكرامه، و (أخرى) على نحو لا يوجب
225

تحريكه إلى تحصيل الضيف، بل يقتضى اكرامه على تقدير حصوله.
ثم إن الثانية على أنحاء (تارة) تقتضي ايجاد متعلقها بعد تحقق
ذلك الشئ المفروض وجوده في الخارج، كما في مثال أكرم زيدا ان
جاءك و (أخرى) تقتضي ايجاده مقارنا له، كما في إرادة الصوم مقارنا
للفجر إلى غروب الشمس، وكما في إرادة الوقوف في عرفات مقارنا لأول
الزوال إلى الغروب، وأمثال ذلك. و (تارة) تقتضي ايجاده قبل تحقق
ذلك الشئ، كما لو أراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا،
وهذه الأنحاء الثلاثة كلها مشتركة في أنها مع عدم العلم بتحقق ذلك
المفروض تحققه لا تؤثر في نفس الفاعل [146]، كما أنها مشتركة في أنه
على تقدير العلم بذلك مؤثرة في الجملة. إنما الاختلاف في أنه على التقدير
226

الأول العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتي لا يوجب تحريك الفاعل نحو
المراد، لان المقصود ايجاد الفعل بعد تحقق ذلك الشئ لا قبله.
نعم لو توقف الفعل في زمان تحقق ذلك الشئ على مقدمات
قبل ذلك، اقتضت الإرادة المتعلقة بذلك الفعل - على تقدير وجود
شئ خاص - ايجاد تلك المقدمات قبل تحقق ذلك الشئ، كما نرى
من أنفسنا أن الانسان إذا أراد اكرام زيد - على تقدير مجيئه، وعلم
بمجيئه في الغد، وتوقف اكرامه في الغد على مقدمات قبله - يهيئ تلك
المقدمات، وهكذا حال إرادة الآمر، فلو امر المولى باكرام زيد - على تقدير
مجيئه، وعلم العبد بتحقق مجيئه غدا، وتوقف اكرامه غدا على ايجاد
مقدمات في اليوم - وجب عليه ايجادها، ولا عذر له عند العقل لو ترك
تلك المقدمات. وهذا واضح لا سترة عليه.
وعلى التقدير الثاني باعثية الإرادة - بالنسبة إلى الفاعل - إنما
تكون بالعلم بتحقق ذلك الشئ المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن
الذي هو فيه، كما أنه على الثالث تؤثر إذا علم بتحققه في الزمن الآتي.
وان شئت قلت هذه الإرادة - المعلقة على وجود شئ إذا انضم
إليها العلم بتحقق ذلك الشئ - تقتضي ايجاد كل من الفعل ومقدماته
في محله، فحمل الاكرام - في الفرض الأول - بعد تحقق المجئ، ومحل
مقدماته قبله، ومحل الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط، ومحل مقدماته
قبله، كما في الوقوف في عرفات مقارنا للزوال، ومحل الفعل في المثال
الثالث قبل تحقق الشرط.
والحاصل أنه لا نعني بالواجب المشروط إلا الإرادة المتعلقة
بالشئ مبتنية على تحقق أمر في الخارج، وهذه الإرادة لا يعقل أن تؤثر في
نفس الفاعل، إلا بعد الفراغ من حصول ذلك الامر.
227

وبعبارة أخرى هذه الإرادة من قبيل جزء العلة لوجود متعلقها،
وإذا انضم إليها العلم بتحقق ذلك الشئ تؤثر في كل من الفعل
ومقدماته في محله، كما عرفت، فالإرادة المبتنية على امر مقدر، سواء علم
بتحقق ذلك الامر أم لم يعلم، بل ولو علم بعدمه موجودة، ولكن تأثيرها
في الفاعل يتوقف على العلم بتحقق ذلك الامر.
(المقدمة الثانية) - أن الإرادة المبتنية على تقدير امر في الخارج،
لا يعقل ان تقتضي ايجاد متعلقها على الاطلاق، أي سواء تحقق ذلك
المقدر أم لا، والا خرجت عن كونها مشروطة بوجود شئ، فمتى ترك
الفعل بترك الامر المقدر، لا يوجب مخالفة لمقتضى الإرادة. نعم المخالفة إنما
تتحقق فيما إذا ترك مع وجود ذلك المقدر، وهذه المقدمة في الوضوح بمثابة
لا تحتاج إلى برهان.
(المقدمة الثالثة) - أن الإرادة المتعلقة بشئ من الأشياء لا يقدح
في وجودها كون المأمور بحيث يترك في الواقع أو يفعل [147]، إذ لا
مدخلية لهذين الكونين في قدرة المكلف، فالإرادة - مع كل من هذين
الكونين - موجودة، ولكن لا يمكن أن يلاحظ الآمر كلا من تقديري
الفعل والترك في المأمور به، لا اطلاقا ولا تقييدا. أما الثاني فواضح، لان
إرادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال، وإرادة الفعل على تقدير الفعل
طلب الحاصل. وأما الأول، فلان ملاحظة الاطلاق فرع امكان التقييد،
وحيث يستحيل الثاني يستحيل الأول، فالإرادة تقتضي ايجاد ذات
228

متعلقها، لا انها تقتضي ايجاده في ظرف عدمه، ولا ايجاده في ظرف
وجوده، ولا ايجاده في كلتا الحالتين، لان هذا النحو من الاقتضاء يرجع
إلى طلب الشئ مع نقيضه، أو مع حصوله، فظهر ان الامر يقتضى وجود
ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة إلى الحالتين
المذكورتين، ولا اطلاقه بالنسبة إليهما. نعم الامر المتعلق بذات الفعل
موجود، سواء كان المكلف ممن يترك أو يفعل، ولكن هذا الامر الموجود
يقتضى عدم تحقق الترك وتحقق الوجود، لا انه يقتضى الوجود على تقدير
الترك.
وبعبارة أخرى يقتضى عدم تحقق هذا المقدر، لا أنه يقتضى
وجود الفعل في فرض وقوعه، لان الثاني يرجع إلى اقتضاء اجتماع
النقيضين، دون الأول، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.
(المقدمة الرابعة) - أنه لم يرد في خبر ولا آية بطلان تعلق
أمرين بالضدين في زمان واحد، حتى يتمسك باطلاق ذلك الخبر
وتلك الآية في بطلانه، إنما المانع حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق،
وهو منحصر فيما إذا كان الطلبان بحيث يقتضى كل واحد منهما سلب
قدرة المكلف عن الاتيان بمقتضى الآخر، لو أراد الاتيان بما يقتضيه. أما
لو كانا بحيث لا يوجب ذلك، فلا مانع أصلا.
إذا عرفت المقدمات المذكورة، فنقول: لو أمر الآمر بايجاد فعل
مقارنا لترك ضده الآخر، فهذا الامر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقق
ذلك الترك في الآن المتصل بالآن الذي هو فيه، إذ لو صبر إلى أن يتحقق
ذلك الترك لم يقع المأمور به بالعنوان الذي امر به، وهو المقارنة، فمحل
تأثير هذا الامر في نفس المأمور إنما يكون مقارنا لوقوع الترك، فيجب أن
يؤثر في ذلك المحل بمقتضى المقدمة الأولى. وهذا الامر المبتنى على ترك
229

الضد لا يوجب التأثير في المتعلق مطلقا، حتى يستلزم لا بدية المكلف من
ترك الضد بحكم المقدمة الثانية. والامر المتعلق بالضد الآخر - الذي
فرضناه مطلقا - لا يقتضى ايجاد المتعلق في ظرف عدمه بحكم المقدمة
الثالثة، حتى يلزم منه وجود التكليف بالضدين في ظرف تحقق هذا
الفرض، بل الامر بالأهم يقتضى عدم تحقق هذا الفرض، والامر بالمهم
يقتضى ايجاده على تقدير تحقق الفرض.
ومن هنا يتضح عدم تحقق المانع العقلي في مثل هذين الامرين،
لان المانع كما عرفت ليس الا لزوم التكليف بما لا يطاق، لان ذلك إنما
يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من امتثال كل منهما معصية الآخر.
وقد عرفت أنه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك، لان المكلف لو امتثل الامر
بالأهم لم يعص الامر الآخر الذي تتعلق بالمهم، إنما ترتب على هذا
الامتثال انتفاء ما كان شرطا للامر بالمهم. وقد عرفت أن عدم اتيان
الواجب المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب.
والحاصل أنه لا يقتضى وجود الخطابين بعث المكلف على الجمع
بين الضدين ومما يدلك على هذا أنه لو فرضنا محالا صدور الضدين من
المكلف، لم يقع كلاهما على صفة المطلوبية، [148] بل المطلوب هو الأهم
لا غير، لعدم تحقق ما هو شرط لوجوب المهم.
(فان قلت): سلمنا إمكان الامر بالضدين على النحو الذي
فرضته، ولكن بم يستدل على الوقوع فيما إذا وجبت الإزالة عن المسجد
230

مطلقا، وكان في وقت الصلاة، فان حمل دليل الصلاة - على الوجوب
المعلق على ترك إزالة النجاسة - يحتاج إلى دليل.
(قلت): المفروض أن المقتضى لوجوب الصلاة محقق بقول
مطلق [149] وليس المانع إلا حكم العقل بعدم جواز التكليف بما
لا يطاق. وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما
لا يطاق، يجب بحكم العقل تأثير المقتضى.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام وعليك بالتأمل التام، فإنه من
مزال الاقدام.
حجة المانع أن الضدين مما لا يمكن ايجادهما في زمان واحد عقلا،
وجعلهما في زمان واحد - متعلقين للطلب المطلق - تكليف بما لا يطاق،
وهاتان المقدمتان مما لا يقبل الانكار إنما الشأن بيان ان تعلق الطلبين
بالضدين في زمان واحد - ولو على نحو الترتب - يرجع إلى تعلق الطلب المطلق
بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد. وبيانه أنه الامر بايجاد الضد
مع الامر بايجاد ضده الآخر لا يخلو من أنه إما أمر بايجاده مطلقا في زمان
الامر بضده كذلك، وإما أمر بايجاده مشروطا بترك الآخر. والثاني على
قسمين، لأنه إما أن يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضد الآخر، أو
يجعل الشرط كون المكلف بحيث يترك في علم الله.
أما الأول فلا يلتزم به كل من أحال التكليف بما لا يطاق. وأما
231

الأول من الأخيرين، فلا مانع منه إلا أنه عليه لا يصير الامر مطلقا إلا بعد
تحقق الترك ومضى زمانه. وهذا وإن كان صحيحا، لكنه خارج عن
فرض القائل بالترتب، لأنه يدعى تحقق الامرين في زمان واحد.
وأما الأخير منهما فلازمه القول باطلاق الامر المتعلق بالمهم في
ظرف تحقق شرطه. والمفروض وجود الامر بالأهم أيضا، لأنه مطلق، ففي
زمان تحقق شرط المهم يجتمع الامر ان المتعلقان بالضدين، وكل واحد
منهما مطلق، أما الامر المتعلق بالأهم فواضح، واما الامر المتعلق بالمهم،
فلان الامر المشروط بعد تحقق شرطه يصير مطلقا.
والجواب يظهر مما قدمناه في المقدمات. وحاصله أن الامر بالأهم
مطلق، والامر بالمهم مشروط. أما قولك بان الشرط إما هو الترك
الخارجي أو العنوان المنتزع منه، فنقول: إنه هو الترك الخارجي، وقولك
- إنه على هذا يلزم تأخر الطلب عن زمان الترك - مدفوع بما عرفت من
عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط ايجاد متعلقه، بعد تحقق الشرط [150]
بل قد يقتضيه كذلك. وقد يقتضى مقارنة الفعل للشرط كما عرفت
ذلك كله مشروحا.
232

(فان قلت) سلمنا كون الشرط نفس الترك الخارجي للضد،
ولا يلزم من ذلك تأخر الطلب عن مضى زمان الترك، ولكن نقول في
ظرف فعلية الطلب المشروط إما ان تقول ببقاء الطلب المطلق أولا.
والثاني خلاف الفرض، والأول التزام بالامر بما لا يطاق [151].
233

(قلت) نختار الشق الأول، ولكن لا يقتضى الطلب الموجود
حينئذ الا عدم تحقق الترك الذي هو شرط لوجوب الآخر، لا أنه يقتضى
ايجاد الفعل في ظرف تحقق هذا الترك، كما أوضحناه في المقدمات،
فليتأمل في المقام فإنه مما ينبغي ان تصرف لا جله الليالي والأيام.
234

المقصد الرابع
امكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه
وليعلم (أولا) أن النزاع المذكور إنما يكون بعد فرض وجود
المندوحة [152] وتمكن المكلف من ايجاد عنوان المأمور به في غير مورد
النهى، والا فالمسلم عند الكل عدم الجواز، لقبح التكليف بما لا يطاق.
235

نعم ذهب المحقق القمي (قدس سره) إلى التفصيل بين ما كان
العجز مستندا إلى سوء اختيار المكلف وعدمه، فخص القبح بالثاني. ومن
هنا حكم بأن المتوسط في الأرض المغصوبة منهى عن الغصب فعلا،
ومأمور بالخروج كذلك.
ولكنك خبير بأن هذا التفصيل يأبى عنه العقل، بل لعل قبح
التكليف بما لا يطاق مطلقا من البديهيات الأولية. وكيف كان فقبل
الشروع في المقصود ينبغي رسم أمور:
(الأول) - أنه قد يتوهم ابتناء المسألة على كون متعلق التكاليف هو
الطبيعة أو الفرد، فينبغي التكلم في هذه المسألة على وجه الاختصار،
حذرا من فوت المهم، والنظر فيها يقع في مقامات: (أحدها) في تشخيص
مرادهم (ثانيها) في أنه هل يبتنى النزاع في مسألتنا هذه عليها، بمعنى أنه لو
أخذ بأحد طرفي النزاع فيها لزم الاخذ بأحد طرفي المسألة فيما نحن فيه
أم لا؟ (ثالثها) في أدلة الطرفين.
أما المقام الأول، فيمكن أن يكون مرادهم أنه بعد فرض لزوم اعتبار
الوجود في متعلق الطلب، فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة، أو وجود
الفرد؟ [153] ويمكن أن يكون مرادهم أنه بعد فرض اعتبار الوجود، هل
236

المعتبر أشخاص الوجودات الخاصة، أو المعنى الواحد الجامع بين
الوجودات؟.
أما المقام الثاني، فالحق عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي
وعدمه عليه، إذ يمكن القول بأن متعلق الاحكام هو الطبايع بكلا
المعنيين اللذين احتملنا في مرادهم، ومع ذلك يمنع جواز اجتماع الأمر والنهي
، اما لما ذكره صاحب الفصول (قدس سره): من أن متعلق الطلب
إنما يكون الوجودات الخاصة [154]، لعدم جامع لها في البين وإما لأنه
- على تقدير تعلق الطلب بالجامع - يلزم سرايته إليها، لمكان الاتحاد
والعينية. وكذلك يمكن القول بتعلق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين
237

أيضا، والالتزام بجواز الاجتماع، لان الفرد الموجود في الخارج يمكن
تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات، ومع ذلك لا يخرج عن كونه
فردا [155].
(مثلا) الصلاة في الدار المغصوبة - الموجودة بحركة واحدة
شخصية - لو لوحظت تلك الحركة الشخصية من حيث أنها مصداق
للصلاة، وجرد النظر عن كونها واقعة في الدار المغصوبة، لم تخرج عن
كونها حركة شخصية، فللمجوز - بعد اختياره أن متعلق التكاليف هو
238

الافراد - ان يقول: إن هذه الحركة من حيث كونها مصداقا للصلاة محبوبة
ومأمور بها، ومن حيث أنها مصداق للغصب منهى عنها.
أما المقام الثالث فالذي يمكن أن يحتج به - على كون متعلق
التكاليف هو الافراد على المعنى الأول - أمران: (أحدهما) - عدم كون
الطبيعة موجودة في الخارج، وإنما الوجود مختص بافرادها، وليس لها حظ
من الوجود، بناءا على عدم وجود الكلى الطبيعي في الخارج، كما ذهب
إليه بعضهم و (ثانيها) - ان المقدور ليس إلا الفرد، ولا يمكن الطلب بغير
المقدور. (أما الثاني) فواضح و (أما الأول) فلان الطبيعة - مجردة عن
الخصوصيات وانضمام الأمور الخارجية - لا يمكن ان تتحقق في الخارج،
فلو أراد ايجادها، فاللازم ايجاد الفرد مقدمة، حتى تتحقق الطبيعة في
ضمنه [156].
والجواب عن الأول بالمنع عن الأصل المذكور - أعني امتناع
وجود الكلى الطبيعي في الخارج - بل نقول: عند التحقيق يمتنع إضافة
الوجود في الخارج الا إليه، بداهة أن الفرد المتشخص الموجود في الخارج
- الذي هو مجمع الحيثيات والعناوين - كالجسمية والحيوانية والناطقية،
وأنه طويل أو قصير أو ذو لون كذا - لو جرد النظر فيه عن هذه الحيثيات،
لم يبق شئ حتى يكون الوجود مضافا إليه، فعلم أن فردية الفرد لا تتحقق
الا بعد اجتماع هذه الحيثيات المتعددة في الوجود [157].
239

واما الجواب عن الثاني، فبان الممتنع ما إذا قيدت الطبيعة بشرط
عدم انضمامها بالخصوصيات. وأما إذا جردت عن هذه الاعتبارات،
فلا اشكال في تعلق القدرة بها. وأما وجود الفرد، فليس مقدمة لوجود
الطبيعة، لمكان اتحادهما في الخارج، كما هو واضح.
حجة من يقول - بأن الطلب يتعلق بوجود الطبيعة - ان الطلب
يتوقف على تصور المحل، والفرد لا يمكن أن يتصور الابعد التحقق وحينئذ
غير قابل لتعلق الطلب به، أما عدم امكان تصور الفرد قبل تحققه، فلان
الصور الذهنية مأخوذة من الخارج، فحيث لم يتحقق الفرد بعد في عالم
الخارج، لا يمكن أن يحيط به الذهن وينتقش فيه صورة، فكلما يتصور
حينئذ لا يخرج عن كونه كليا، غاية الامر يمكن تقييده في الذهن بقيود
عديدة، حتى يصير منحصرا في فرد واحد. ولكنه مع ذلك لا يخرج عن
كونه كليا قابلا للصدق على كثيرين. وأما عدم قابليته للطلب، بعد تحققه
فواضح.
والجواب: أن ما ذكرت - من توقف الطلب على تصور المحل -
ان أردت لزوم تصوره تفصيلا، فهذه المقدمة ممنوعة، وان أردت لزوم
تصوره ولو بالوجه والعنوان الاجمالي، فهو مسلم، ولكن استحالة تصور
الفرد قبل وقوعه بهذا النحو من التصور ممنوعة، ضرورة امكان تصور افراد
الطبيعة بعنوان انها افراد لها [158] والذي يمكن أن يحتج به لتعلق الطلب
240

بالفرد بالمعنى الثاني: أن الوجودات بأسرها متباينات بمعنى أنه ليس لها
جامع.
واستدل القائل بتعلق الطلب بالطبيعة بالمعنى الثاني أيضا
بوجهين: (أحدهما) أن وجود الشخص لا يدخل في الذهن، والا لا نقلب
خارجا و (الثاني) أن إمكان تصور الوجود الشخصي إنما يكون بعد تحققه،
وفي ذلك الوقت لا يمكن تعلق الطلب به.
والجواب عن حجج الأولين منع عدم الجامع بين الوجودات، كما
ترى بالوجدان أنه قد تتعلق الإرادة بايجاد الماء لرفع العطش، من دون
مدخلية خصوصيات الوجود في الإرادة، وستطلع على زيادة توضيح في
ذلك انشاء الله تعالى.
وعن حجج الآخرين أما عن الأول، فبأنه لا يلزم من تعلق
الطلب بالموجودات الشخصية كونها - بوصف تحققها في الخارج -
متصورة في الذهن، حتى يلزم الانقلاب، بل يكفي انتقاش صورها في
الذهن، ويتعلق الطلب بهذه الصور الذهنية حاكية عن الخارجيات. وأما
عن الثاني، فبما عرفت مما سبق فلا نعيد [159].
241

(الامر الثاني) أن الموجود الخارجي - من أي طبيعة كان - امر
وحداني محدود بحد خاص، سواء قلنا بأصالة الوجود أو أصالة المهية، غاية
الامر أنه على الأول يكون الثاني منتزعا، وعلى الثاني يكون الأول منتزعا.
نعم يمكن أن ينحل في الذهن إلى مهية ووجود، وإضافة الوجود إلى
المهية. فحينئذ لو قلنا بان الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي
، فاللازم أن نقول بالامتناع، سواء قلنا بأصالة الوجود أو المهية،
ولو قلنا بعدم كونها مانعة. ويكفي تعدد المتعلق في الذهن، فاللازم القول
بالجواز، سواء قلنا أيضا بأصالة الوجود أو بأصالة المهية.
(الامر الثالث) - أن الظاهر - من العنوان الذي جعلوه محلا
للنزاع - ان الخلاف في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه. ولا يخفى أنه
غير قابل للنزاع، إذ من البديهيات التضاد بين الاحكام وملاكاتها. إنما
النزاع في أنه هل يلزم - على القول ببقاء اطلاق دليل وجوب الصلاة
مثلا بحاله، وكذا اطلاق دليل الغصب في مورد اجتماعهما - اجتماع
242

الأمر والنهي في شئ واحد، حتى يجب عقلا تقييد أحدهما بغير مورد
الآخر أو لا يلزم؟ بل يمكن ان يتعقل للامر محل، وللنهي محل آخر ولو
اجتمعا في مصداق واحد؟ فهذا النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى،
نظير النزاع في حجية المفاهيم.
(الامر الرابع) أنه لا اشكال في خروج المتباينين عن محل النزاع،
بمعنى عدم الاشكال في امكان أن يتعلق الامر بأحدهما، والنهى بالآخر
إلا على تقدير التلازم بينهما في الوجود، كما لا اشكال في خروج المتساويين
في الصدق، لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة، كما لا اشكال في دخول
العامين من وجه في محل النزاع [160] انما النزاع في أن العام المطلق
والخاص أيضا يمكن ان يجرى فيه النزاع المذكور أم لا،
243

قال المحقق القمي (قدس سره) ان العام المطلق خارج عن محل النزاع،
بل هو مورد للنزاع في النهى في العبادات. اعترض عليه المحقق الجليل صاحب
الفصول (قدس سره) بأنه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين
الجهتين فرق، بل الملاك أنه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهى
245

عنه مغايرة، يجرى فيه النزاع، وان كان بينهما عموم مطلق، كالحيوان
والضاحك، وان اتحد العنوانان، وتغايرا ببعض القيود، لم يجر النزاع
فيهما، وان كان بينهما عموم من وجه، نحو (صل الصبح، ولا تصل في
الأرض المغصوبة).
هذا ويشكل بأنه لو اكتفى المجوز بتغاير المفهومين ووجود
المندوحة، فلا فرق بين أن يكون بينهما عموم من وجه أو مطلق، وأن يكون
العنوان المأخوذ في النهى عين العنوان المأخوذ في الامر، مع زيادة قيد من
القيود أو غيره، ضرورة كون المفاهيم متعددة في الذهن في الجميع، ولو لم
يكتف بذلك، فليس لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضا مجال.
فاللازم على من يدعى الفرق بيان الفارق.
قال شيخنا المرتضى - أعلى الله مقامه - في التقريرات المنسوبة إليه - بعد
نقل كلام المحقق القمي وصاحب الفصول - ما هذا لفظه: (أقول إن ظاهر هذه
الكلمات يعطى انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد
دون أختها، وليس كذلك، بل التحقيق ان المسؤول عنه في إحداهما غير
مرتبط بالأخرى. وتوضيحه أن المسؤول عنه في هذه المسألة هو امكان
اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها والماهية
المطلوب تركها، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي، فإنه كما
يصح السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلقين عموم من وجه،
فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق، سواء كان من قبيل قولك (صل
ولا تصل في الدار المغصوبة) أو لم يكن كذلك. والمسؤول عنه في المسألة
الآتية هو أن النهى المتعلق بشئ هل يستفاد منه أن ذلك الشئ مما
لا يقع به الامتثال، حيث أن المستفاد من اطلاق الامر حصول الامتثال
بأي فرد كان، فالمطلوب فيها هو استعلام أن النهى المتعلق بفرد من افراد
246

المأمور به، هل يقتضى دفع ذلك الترخيص المستفاد من اطلاق الامر
أولا؟ ولا ريب أن هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها، فيما إذا كان
بين المتعلقين اطلاق وتقييد، كذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من
وجه، كما إذا كان بينهما عموم مطلق. وبالجملة، فالظاهر أن اختلاف
المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين، كما زعموا بل لابد من اختلاف
جهة الكلام) انتهى موضع الحاجة من كلامه، قدس سره (1).
أقول: والحق ان العنوانين لو كانا بحيث اخذ أحدهما في الآخر،
وكان بينهما عموم مطلق، أيضا لا يتطرق فيهما هذا النزاع [161].
وتوضيحه أنه لا اشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع بعض في الذهن، سواء
كان بينها عموم مطلق أو من وجه أو غيرهما، وسواء كان أحدهما مأخوذا
في الآخر أم لا، إلا أنه لا يمكن أن يقال فيهما - إذا كان بين المفهومين
عموم مطلق، وكان أحدهما مشتملا على الآخر - ان المطلق يقتضى
الامر، والمقيد يقتضى النهى، لان معنى اقتضاء الاطلاق شيئا ليس الا
اقتضاء نفس الطبيعة، إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الاطلاق، والمقيد ليس
الا نفس تلك الطبيعة منضمة إلى بعض الاعتبارات، ولو اقتضى المقيد
شيئا منافيا للمطلق، لزم أن يقتضى نفس الطبيعة أمرين متنافيين.
وبعبارة أخرى بعد العلم بأن صفة الاطلاق لا تقضي تعلق الحب

(1) مطارح الأنظار، الهداية الثانية من بحث اجتماع الأمر والنهي، ص 128
247

بالطبيعة، فالمقتضي له نفسها، وهي متحدة في عالم الذهن مع المقيد،
لأنها مقسم له وللمطلق، فلو اقتضى المقيد الكراهة، لزم أن يكون
المحبوب والمبغوض شيئا واحدا حتى في الذهن. وهذا غير معقول، بخلاف
مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلا، لعدم الاتحاد في الذهن أصلا.
(الامر الخامس) قد يتراءى تهافت بين الكلمات، حيث عنونوا
مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه، واختار
جمع منهم الجواز، وأنه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع، وفي
باب تعارض الأدلة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من
وجه، وجعلوا علاج التعارض الاخذ بالأظهر إن كان في البين، والا
فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية على الخلاف. وكيف كان لم
يتمسك أحد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الأمر والنهي.
والجواب ان النزاع في مسألتنا هذه مبنى على احراز وجود الجهة
والمناط في كلا العنوانين [162]، وان المناطين هل هما متكاسران عند
العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد - كما يقوله المانع - أولا، كما
يقوله المجوز. ولا اشكال في أن الحاكم في هذا المقام ليس الا العقل.
248

وباب تعارض الدليلين مبنى على وحدة المناط والملاك في الواقع، ولكن
لا يعلم أن الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الامر أو النهى مثلا،
فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهرية، إن كان أحد
الدليلين أظهر، والا فالتوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية حسبما قرر في
محله. نعم يبقى سؤال وهو أن طريق استكشاف ما هو من قبيل الأول وما
هو من قبيل الثاني ماذا؟ وهذا خارج عن المقام.
إذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوزين
والمانعين، فنقول وعلى الله التوكل: أحسن ما قيل في تقريب احتجاج
المجوزين، هو أن المقتضى موجود والمانع مفقود. أما الأول فلما عرفت من
أن فرض الكلام ليس الا فيما يكون المقتضى موجودا. وأما الثاني، فلان
المانع ليس الا ما تخيله الخصم، من لزوم اجتماع المتضادين من الحكمين،
والحب والبغض والمصلحة والمفسدة في شئ واحد، وليس كما زعمه.
وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة، وهي أن الاعراض على ثلاثة اقسام:
(منها) ما يكون عروضه واتصاف المحل به في الخارج كالحرارة
العارضة للنار، والبرودة العارضة للماء، وأمثالهما من الاعراض القائمة
بالمحال في الخارج.
و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في
الخارج، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وأمثالها [163].
250

و (منها) ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به فيه أيضا،
كالكلية العارضة للانسان، حيث أن الانسان لا يصير متصفا بالكلية في
الخارج قطعا، فالعروض في الذهن، لان الكلية إنما تنتزع من الماهية
المتصورة في الذهن، واتصاف الماهية بها أيضا فيه، لأنها لا تقبل الكلية في
الخارج.
فنقول حينئذ لا إشكال في أن عروض الطلب - سواء كان أمرا
أم نهيا - لمتعلقه ليس من قبيل الأول، وإلا لزم أن لا يتعلق الا بعد وجود
متعلقه [164]، كما أن الحرارة والبرودة لا تتحققان الا بعد تحقق النار
والماء، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه، وهو غير معقول.
ولا من قبيل الثاني، لان متعلق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط
للطلب ومعدم له، ولا يعقل ان يتصف في الخارج بما هو ينعدم بسببه،
فانحصر الامر في الثالث، فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلقاتهما كعروض
الكلية للماهيات.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن طبيعة الصلاة والغصب وان كانتا
251

موجودتين بوجود واحد، وهي الحركة الشخصية المتحققة في الدار
المغصوبة، إلا أنه ليس متعلق الأمر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج،
لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل، بل هي بوجوداتها الذهنية. ولا
شك أن طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك، فلا يلزم من
وجود الأمر والنهي حينئذ اجتماعهما في محل واحد.
فان قلت: لا معنى لتعلق الطلب بالطبايع الموجودة في الذهن،
لأنها ان قيدت بما هي في ذهن الآمر، فلا يتمكن المكلف من الامتثال،
وان قيدت بما هي في ذهن المأمور، لزم حصول الامتثال بتصورها في
الذهن، ولا يجب ايجادها في الخارج. وهو معلوم البطلان.
قلت: نظير هذا الاشكال يجرى في عروض الكلية للمهيات، لأنه
بعد ما فرضنا أن الماهية الخارجية لا تقبل ان تتصف بالكلية، وكذا المهية
من حيث هي، لأنها ليست إلا هي، فينحصر معروض الكلية في الماهية
الموجودة في الذهن، فيتوجه الاشكال بأنه كيف يمكن أن تتصف
بالكلية، مع أنها من الجزئيات، ولا تنطبق على الافراد الخارجية، ضرورة
اعتبار الاتحاد في الحمل. ولا اتحاد بين الماهية المقيدة بالوجود الذهني
وبين الافراد الخارجية.
وحل هذا الاشكال في كلا المقامين أنه بعد ما فرضنا أن الماهية
- من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار الوجود - ليست الا هي، ولا
تتصف بالكلية والجزئية ولا بشئ من الأشياء، فلابد من القول بأن
اتصافها بوصف من الأوصاف يتوقف على الوجود، وذلك الوجود قد
يكون وجودا خارجيا، كما في اتصاف الماء والنار بالبرودة والحرارة، وقد
يكون وجودا ذهنيا، لكن لامن حيث ملاحظة كونه كذلك، بل من
حيث كونه حاكيا عن الخارج، مثلا ماهية الانسان تلاحظ في الذهن،
252

ويعتبر لها وجود مجرد عن الخصوصيات حاك عن الخارج، فيحكم عليها
بالكلية، فمورد الكلية في نفس الامر ليس الا الماهية الموجودة في الذهن،
لكن لا بملاحظة كونها كذلك، بل باعتبار حكايتها عن الخارج.
فنقول موضوع الكلية وموضوع التكاليف المتعلقة بالطبائع شئ
واحد [165]، بمعنى أن الطبيعة - بالاعتبار الذي صار موردا لعروض
253

وصف الكلية - تكون موضوعة للتكاليف من دون تفاوت أصلا.
فان قلت سلمنا ذلك كله، لكن مقتضى كون الوجود حاكيا
عن الخارج بلحاظ المعتبر أن يحكم باتحاده مع الوجودات الخارجية،
فاللازم من تعلق ارادته بهذا الوجود السعي تعلقها أيضا بالوجودات
الخارجية، لمكان الاتحاد الذي يحكم به اللاحظ.
قلت: الحكم - باتحاد الوجود السعي مع الوجودات الخاصة في
الخارج - لابد له من ملاحظة مغايرة بين الموضوع والمحمول، حتى يجعل
أحدهما موضوعا والآخر محمولا، ولا ينافي ذلك الحكم بالاتحاد، لأنه
بنظر آخر.
وبعبارة أخرى لللاحظ لحاظان أحدهما تفصيلي والآخر اجمالي،
فهو باللحاظ الأول يرى المغايرة بين الموضوع و المحمول، ولذا يجعل أحدهما
موضوعا والآخر محمولا، وباللحاظ الثاني يرى الاتحاد، فحينئذ لو عرض
المحمول شئ في لحاظه التفصيلي، فلا وجه لسريانه إلى الموضوع، لمكان
المغايرة في هذا اللحاظ [166]، وبهذا اندفع الاشكال عن المقام ونظائره
مما لم تسر الأوصاف القائمة بالطبيعة إلى افرادها، من قبيل الكلية العارضة
254

للانسان، وكذا وصف التعدد العارض لوجود الانسان بما هو وجود
الانسان، مع أن الفرد ليس بكلي ولا متعدد، وكذا الملكية العارضة
للصاع الكلى الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة، حيث حكموا بأن
من اشترى صاعا من الصبرة الموجودة، يصير مالكا للصاع الكلى بين
الصيعان، والخصوصيات ليس ملكا له، وفرعوا على هذا لو تلف منها
شئ، فالتالف من مال البايع ما بقى مقدار ما اشترى المشترى. فافهم
واغتنم.
فان قلت: كيف يمكن ان يكون هذا الوجود المجرد عن
الخصوصيات محبوبا أو مبغوضا، وليس له في الخارج عين ولا اثر، لان ما
في الخارج ليس الا الوجودات الخاصة. ولا شبهة في أن المحبوب
والمبغوض لا يمكن أن يكون الا من الأمور الخارجية، لان تعلق الحب
والبغض بشئ ليس الا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع
الآمر له، أو منافرته له، وليس في الخارج الا الوجودات الخاصة المباين
بعضها لبعض.
قلت: إن أردت من عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه
256

مع وصف كونه جامعا ومتحدا مع كثيرين، فهو حق لا شبهة فيه، لان
الشئ مع وصف كونه جامعا لا يتحقق الا في الذهن، وإن أردت عدمه
في الخارج أصلا، فهو ممنوع، بداهة أن العقل بعد ملاحظة الوجودات
الشخصية التي تحويها طبيعة واحدة، يجد حقيقة واحدة في تمام تلك
الوجودات. وأقوى ما يدل على ذلك الوجدان، فانا نرى من أنفسنا تعلق
الحب بشرب الماء مثلا، من دون دخل للخصوصيات الخارجية في ذلك،
ولو لم تكن تلك الحقيقة في الخارج، لما أمكن تعلق الحب بها [167].
والذي يدل على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من
افراد الطبيعة الواحدة، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثر الواحد،
لزم تأثر الواحد من المتعدد. وهذا محال عقلا.
257

فان قلت: ما ذكرت إنما يتم في الماهيات المتأصلة التي لها حظ
من الوجود في الخارج، كالانسان ونحوه. وأما ما كان من العناوين
المنتزعة من الوجودات الخارجية كالصلاة والغصب، فلا يصح فيه ذلك،
لان هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج، حتى يجرد من الخصوصيات
ويجعل موردا للتكاليف، بل اللازم في أمثالها هو القول بان مورد
التكاليف الوجود الخارجي الذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم. ولا
ريب في وحدة الوجود الخارجي الذي يكون منشأ للانتزاع.
وبعبارة أخرى تعدد العناوين مفهوما لا يجدى، لعدم الحقيقة لها
الا في العقل [168] وما يكون موردا للزجر والبعث ليس الا الوجود
258

الخارجي الذي تنتزع منه هذه العناوين. ولا شبهة في وحدته.
قلت بعد ما حققنا تحقق صرف الوجود في الخارج، لا مجال لهذه
الشبهة، لان العناوين المنتزعة لا تنتزع الا من صرف الوجود، من دون
ملاحظة الخصوصيات. (مثلا) مفهوم (ضارب) ينتزع من ملاحظة حقيقة
وجود الانسان، واتصافه بحقيقة وجود المبدأ، من دون دخل لخصوصيات
افراد الانسان أو كيفيات الضرب في ذلك.
259

إذا عرفت هذا فنقول مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرف في
ملك الغير، من دون دخل لخصوصيات التصرف من كونه من الافعال
الصلاتية أو غيرها في ذلك، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والأقوال
الخاصة، مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط، من دون دخل لخصوصية
وقوعها في محل خاص. وقد عرفت مما قررنا سابقا قابلية ورود الأمر
والنهي على الحقيقتين المتعددتين، بملاحظة الوجود الذهني، المتحدتين
بملاحظة الوجود الخارجي. وهنا نقول أن المفاهيم الانتزاعية وإن كانت -
حقيقة البعث أو الزجر المتعلق بها ظاهرا - راجعة إلى ما يكون منشأ
لانتزاعها، لكن لما كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب
متعددا، لا باس بورود الأمر والنهي وتعلقهما بما هو منشأ لانتزاعهما.
هذا غاية الكلام في المقام، وعليك بالتأمل التام فإنه من مزال
الاقدام.
وينبغي التنبيه على أمور:
من توسط أرضا مغصوبة
(الامر الأول) - أنه لا اشكال في أن من توسط أرضا مغصوبة،
لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج بأسرع وجه يتمكن منه، لأنه
في غيره يتحقق منه هذا المقدار مع الزائد، وفيه يتحقق منه هذا المقدار
ليس الا. وهذا لا شبهة فيه إنما الاشكال في أن الخروج من تلك الدار ما
حكمه؟ والمنقول فيه أقوال:
(الأول) - أنه مأمور به ومنهى عنه. وهذا القول محكى عن أبي
هاشم، واختاره الفاضل القمي (قدس سره) ونسبه إلى أكثر أفاضل
المتأخرين، وظاهر الفقهاء. وصحته تبتنى على أمرين (أحدهما) كفاية
260

تعدد الجهة في تحقق الأمر والنهي، مع كونهما متحدتين في الوجود
الخارجي (ثانيهما) جواز التكليف فعلا بأمر غير مقدور، إذا كان منشأ
عدم القدرة سوء اختيار المكلف. والامر الأول قد فرغنا منه واخترنا
صحته [169] ولكن الثاني في غاية المنع، بداهة قبح التكليف بما
لا يقدر عليه، لكونه لغوا وعبثا.
واما ما يقال من أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي
الاختيار، فهو في قبال استدلال الا شاعرة للقول بان الافعال غير
اختيارية، بان الشئ ما لم يجب لم يوجد، فكل ما تحققت علته يجب
وجوده، وكل ما لم تتحقق علته يستحيل وجوده.
وحاصل الجواب ان ما صار واجبا بسبب اختيار المكلف، وكذا
ما صار ممتنعا به، لا يخرج عن كونه اختياريا له، فيصح عليه العقاب،
لا ان المراد انه بعد ارتفاع القدرة يصح تكليفه بغير المقدور فعلا.
القول الثاني أنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه، كما
اختاره صاحب الفصول (قدس سره)
القول الثالث أنه مأمور به بدون ذلك.
والحق أن يقال: إن بنينا على كون الخروج مقدمة لترك الغصب
الزائد، فالأقوى هو القول الثاني، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أم
لم نقل. وان لم نقل بمقدمية الخروج، بل قلنا بصرف الملازمة بين ترك
261

الغصب الزائد والخروج - كما هو الحق، وقد مر برهانه في مبحث
الضد - فالأقوى أنه ليس مأمورا به ولا منهيا عنه فعلا، ولكن يجرى عليه
حكم المعصية.
لنا على الأول أنه قبل الدخول ليس للخروج عنوان المقدمية،
ضرورة إمكان ترك الغصب بأنحائه، ولا يتوقف ترك شئ منه على
الخروج، فيتعلق النهى بجميع مراتب الغصب من الدخول في الأرض
المغصوبة والبقاء والخروج [170] لكونه قادرا على جميعها، ولكنه بعد
الدخول فيها يضطر إلى ارتكاب الغصب مقدار الخروج، فيسقط النهى عنه
بهذا المقدار، لكونه غير قادر فعلا على تركه. والتكليف الفعلي قبيح بالنسبة
إليه. وهذا واضح. ولكنه يعاقب عليه، لوقوع هذا الغصب بسوء اختياره،
ولما توقف عليه بعد الدخول ترك الغصب الزائد، كما هو المفروض. وهذا
الترك واجب بالفرض، لكونه قادرا عليه، فيتعلق به الوجوب بحكم
العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته،
فالخروج من الدار المغصوبة منهى عنه قبل الدخول، ولذا يعاقب عليه،
ومأمور به بعد الدخول، لكونه بعده مقدمة للواجب المنجز الفعلي.
فان قلت ما ذكرت إنما يناسب القول بكفاية تعدد الجهة في الأمر والنهي
. واما على القول بعدمها، فلا يصح، لان هذا الموجود الشخصي
262

- أعني الحركة الخروجية - مبغوض فعلا، وان سقط عنه النهى لمكان
الاضطرار، وكما أن الأمر والنهي لا يجتمعان في محل واحد، كذلك الحب
والبغض الفعليان، ضرورة كونهما متضادين كالأمر والنهى.
وقلت اجتماع البغض الذاتي مع الحب الفعلي مما لا ينكر، ألا ترى
أنه لو غرقت بنتك أو زوجتك، ولم تقدر على انقاذهما، ترضى بأن
ينقذهما الأجنبي، وتريد هذا الفعل منه، مع كمال كراهتك إياه لذاته.
فان قلت الكراهة في المثال الذي ذكرته ليست فعلية، بخلاف
المقام، فان المفروض فعليتها فلا تجتمع مع الإرادة.
قلت ليت شعري ما المراد بعدم فعلية الكراهة في المثال،
وفعليتها في المقام فان كان المراد أنه لا يشق عليه هذا الفعل الصادر من
الأجنبي، بل حاله حال الصورة التي يصدر هذا الفعل من نفسه، بخلاف
المقام، فان الفعل يقع مبغوضا للآمر، فالوجدان شاهد على خلافه. ولا
أظن أحدا تخيله. وإن أراد به أن الفعل - وان كان يقع في المثال مبغوضا
ومكروها للشخص المفروض - الا ان هذا البغض لا اثر له، بمعنى أنه
لا يحدث في نفس الشخص المفروض إرادة ترك الفعل المفروض، لان
تركه ينجر إلى هلاك النفس، ومن هذه الجهة هذا البغض المفروض
لا ينافي إرادة الفعل، فهو صحيح. ولكنه يجرى بعينه في المقام، فان الحركة
الخروجية وان كانت مبغوضة حين الوقوع، لكن هذا البغض لما لم يكن
منشأ للأثر وموجبا لزجر الآمر عنها، فلا ينافي إرادة فعلها، لكونه فعلا
مقدمة للواجب الفعلي.
ومحصل ما ذكرنا في المقام: أن القائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي
إنما يقول بامتناع اجتماعهما واجتماع ملاكيهما إذا كان كل واحد
من الملاكين منشأ للأثر وموجبا لاحداث الإرادة في النفس. وأما إذا
263

سقطت جهة النهى عن الأثر - كما هو المفروض - فلا يعقل أن يتخيل أن
الجهة الساقطة عن الأثر تزاحم الجهة الموجودة المؤثرة في الامر، مثلا لو
فرضنا أن المولى نهى عبده عن مطلق الكون في المكان الفلاني، فأوقع العبد
نفسه في ذلك المكان بسوء اختياره، ثم لم يمكنه الخروج من ذلك المكان
ابدا، فلا شك أن الأكوان الصادرة من العبد كلها تقع مبغوضة للمولى،
ويستحق عليها العقاب، وان سقط عنها النهى، لعدم تمكن العبد من
الترك فعلا.
ثم انه لو فرضنا أن خياطة الثوب مطلوبة للمولى من حيث هي،
فهل تجد من نفسك أن تقول لا يمكن للمولى ان يأمره بخياطة الثوب في
ذلك المكان، لان أنحاء التصرفات والأكوان المتحققة في ذلك المكان
مبغوضة للمولى، ومنها الخياطة، فلا يمكن أن تتعلق ارادته بما يبغضه، وهل
ترضى أن تقول ان المولى - بعد عدم وصوله إلى الغرض الذي كان له في
ترك الكون في ذلك المكان - يرفع يده من الغرض الآخر من دون
مزاحم أصلا؟ وهل يرضى أحد ان يقول إنه في المثال المذكور تكون أنحاء
التصرفات في نظر المولى على حد سواء. وبالجملة أظن أن هذا من الوضوح
بمكان، بحيث لا ينبغي أن يشتبه على أحد، وان صدر خلافه عن بعض
أساتيذ العصر دام بقاه فلا تغفل.
والحاصل أن جهة النهى انما تزاحم جهة الامر إذا أمكن
للمكلف بعث المكلف إلى ترك الفعل. وأما إذا لم يمكنه ذلك، لكون
الفعل صادرا قهرا من غير اختيار المكلف، فلو وجدت فيه جهة الامر ولم
يأمر به، لزم رفع اليد عن مطلوبه وغرضه من دون جهة ومزاحم [171].
264

هذا إذا اخترنا أول شقي الترديد، وهو كون الخروج مقدمة لترك
الغصب الزائد. واما على ثانيهما، فعدم كون الخروج موردا للحكم الشرعي
واضح، لعدم كونه مقدمة للواجب، حتى يصير واجبا كما هو المفروض،
وعدم قدرة المكلف على ترك الغصب بمقدار الخروج، حتى يصير حراما.
ولكن لو طبق تلك الحركة الخروجية على عبادة كأن صلى في تلك
الحالة نافلة، بحيث لا يستلزم غصبا زائدا على المقدار المضطر إليه، أو صلى
المكتوبة كذلك في ضيق الوقت، كانت تلك العبادة صحيحة، لما ذكرنا
من الوجه، وهو عدم قابلية الجهة الغير المؤثرة في نفس المريد، للمزاحمة مع
الجهة المؤثرة.
فان قلت: هب صحة الامر التوصلي في أمثال المقام، ولكن نمنع
صحة الامر التعبدي. والسر في ذلك أن الغرض في الأوامر التوصلية وقوع
الفعل في الخارج كيف ما كان، لترتب الغرض عليه، وان اتحد مع
مبغوض آخر. وأما الغرض في التعبديات، فليس كذلك، بل الغرض
وقوع العبادة على وجه يحصل به القرب، ولا يحصل القرب بما هو
مبغوض فعلا، لأنه موجب لاستحقاق العقوبة والبعد عن ساحة المولى.
قلت: بعد وجود جهة القرب في الفعل - كما هو المفروض،
وعدم مزاحمة شئ للامر كما عرفت - لا وقع لهذا الاشكال، لأنه لا نعنى
بالقرب المعتبر في العبادات الا صيرورة العبد بتلك العبادة ذا مرتبة لم
تكن له على تقدير عدمها، ولا إشكال في أن العبد - بعد اضطراره إلى
265

مخالفة المولى بمقدار ساعة مثلا - لو عمد إلى اتيان مقصود آخر له، يكون
أقرب - إلى المولى بحكم العقل - منه لو لم يفعل ذلك. وهذا واضح
جدا.
وعلى هذا نقول: لا منافاة بين كون هذا الفعل موجبا للبعد
والعقوبة، من جهة اختياره السابق، وموجبا للقرب إذا طبقه على عبادة
من العبادات، بمعنى أنه في الحال التي يقع منه هذا المقدار من الغصب
قطعا، لو طبقه على عبادة من العبادات التي فيها جهة حسن، أحسن من
أن يوجده مبغوضا صرفا. وهذا المقدار من القرب يكفي في العبادة.
وبعبارة أخرى لو فرضنا عبدين أوقعا نفسهما في المكان المغصوب
بسوء اختيارهما، فاضطرا إلى ارتكاب الغصب بمقدار الخروج، فأوجد
أحدهما في حال الخروج عملا راجحا في حد ذاته، طلبا لمرضاة الله دون
الاخر، فالعبدان مشتركان في استحقاق العقاب على الدخول في المكان
المغصوب، والخروج، ويختص الأول بما ليس للثاني. ولا نعنى بالقرب
إلا هذا المعنى.
ومما ذكرنا يظهر أن الحكم - بصحة العبادة المتحدة مع الحركات
الخروجية - لا يحتاج إلى احراز أن في تلك العبادة مصلحة راجحة على
مفسدة الغصب، وانها أهم عند الشارع من ترك الغصب، لان ملاحظة
الأهم وتقديمه على غيره، إنما يكون فيما إذا كان كل منهما تحت اختيار
العبد، فيجب عليه اختيار الأهم وترك غيره. وأما إذا لم يكن المكلف
مختارا على ترك الغصب أصلا، فلا يكون مجرد المفسدة الخالية عن الأثر
مانعا للامر بعنوان آخر متحد مع فعل الغصب، وان كان ترك الغصب
أهم من فعل ذلك بمراتب، فلا تغفل.
(الامر الثاني) ومما استدل به المجوزون أنه لو لم يجز، لما وقع نظيره
266

وقد وقع كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في الحمام ومواضع التهمة
وأمثال ما ذكرنا مما لا يحصى.
بيان الملازمة أنه ليس المانع الا التضاد بين الوجوب والحرمة،
وعدم كفاية تعدد الجهة مع وحدة الوجود في الخارج، وهو موجود بعينه
في اجتماع الوجوب مع الكراهة، واجتماع الوجوب مع الاستحباب، إذ
الاحكام متضادة بأسرها. والتالي باطل لوقوع الاجتماع في موارد كثيرة،
فيكشف عن بطلان المقدم، وهو عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة.
وأجيب عنه بأجوبة كثيرة لا نطيل الكلام بذكرها.
والتحقيق - في الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة - أنها
على ثلاثة أصناف (أحدها) ما تعلق النهى بعنوان آخر يكون بينه وبين
العبادة عموم من وجه، كالصلاة في موارد التهمة بناءا على أن تكون
كراهتها من جهة النهى عن الكون فيها المجامع للصلاة (ثانيها) ما تعلق
النهى بتلك العبادة مع تقيدها بخصوصية، وهو على قسمين:
(الأول) - ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحكام.
(الثاني) - ما ليس كذلك، كالصوم يوم عاشوراء والنوافل
المبتدأة في بعض الأوقات.
اما القسم الأول: فمحصل الكلام فيه: أنه بعد دلالة الدليل
على وجوب الصلاة - من حيث هي - أعني مع قطع النظر عن اجتماعها
في الوجود مع الحرام التعييني أو مع المكروه كذلك، فكما أن
اللازم بحكم العقل عدم فعلية الامر بالصلاة في صورة الاجتماع مع
الحرام التعييني، بناءا على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي كذلك اللازم
على هذا القول عدم فعلية وصف الكراهة في صورة الاجتماع مع العنوان
المكروه. والوجه في ذلك أن الحرمة التعيينية تقتضي عدم وجود كل
267

شخص من افراد الطبيعة المنهى عنها، ومنها الفرد المجتمع مع عنوان
الواجب، والوجوب - المتعلق بالطبيعة التي قد يتفق اجتماعها مع
الحرام - لا يتقضى خصوص ذلك الفرد المجتمع مع الحرام، بل أي فرد
وجد وطبقت عليه تلك الطبيعة يحصل الغرض الداعي إلى الامر بها،
فعلى هذا مقتضى الجمع بين الغرضين أن يقيد الآمر مورد بغير الفرد
الذي اجتمع مع الحرام.
ومن هنا ظهر أن تقيد عنوان المأمور به - واخراج الفرد المنهى
عنه عن موضوع الوجوب - لا يبتنى على احراز ان مصلحة ترك الحرام
أعظم وأهم عند الشارع من مصلحة ايجاد المأمور به، لان هذا الكلام إنما
يصح فيما إذا كان بينهما تزاحم، بحيث لا يمكن الجمع بينهما. وأما بعد
فرض امكان الجمع بينهما - كما فيما نحن فيه - فالواجب بحكم العقل
تقييد مورد الوجوب، ولو كان من حيث المصلحة أهم وأعظم من ترك
الحرام.
والحاصل أنه إذا اجتمع عنوانان أحدهما فيه جهة الوجوب،
والآخر فيه جهة الحرمة، والأولى تقتضي فردا اما، والثانية ترك كل فرد
تعيينا، وقلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعلق الأمر والنهي، فاللازم بحكم
العقل تقييد مورد الوجوب. وهذا لا شبهة فيه بعد أدنى تأمل.
وأما إذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه، فالامر
بالعكس [172]، لان جهة الكراهة وإن كانت تقتضي عدم تحقق كل
268

فرد تعيينا، بخلاف جهة الوجوب، كما في الواجب والحرام، إلا ان
الكراهة لما لم تكن مانعة للفعل على وجه اللزوم، فلا تقاوم جهة الوجوب
الملزمة للفعل، فعلى هذا إذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه، فاللازم
بحكم العقل انتفاء وصف الكراهة فعلا، ولكن لما كان الفرد الموجود
الخارجي مشتملا على جهة الكراهة، توجد فيه حزازة، فيكون امتثال
الواجب في هذا الفرد أقل فضلا وثوابا من امتثاله في غيره، لمكان تلك
الحزازة.
فان قلت: ما معنى الكراهة، مع أن الفعل المفروض مصداق
للواجب، ويعتبر في صدق الكراهة رجحان الترك؟
قلت: الأحكام الشرعية التي تدل عليها الأدلة على قسمين (تارة)
يستظهر من الأدلة أنها احكام فعلية تعلقت بالموضوعات، بملاحظة جميع
الخصوصيات والضمائم، و (أخرى) يستظهر منها احكام حيثية تعلقت
بموضوعاتها من حيث هي، أعني مع قطع النظر عن الضمائم الخارجية،
وما يكون من قبيل الثاني تتوقف فعليته على عدم عروض مانع للعنوان
يقتضى خلاف ذلك الحكم الجاري عليه، نظير قوله: (الغنم حلال) فان
الحلية وان كانت مجعولة، إلا أن هذا الجعل لا يلازم الفعلية في جميع افراد
الغنم، فان الغنم الموطوءة أو المغصوبة حرام، مع كون الغنم من حيث الطبع
269

حلالا، وليس اطلاق الحلال على طبيعة الغنم - مع كون بعض افرادها
حراما - جاريا على خلاف الاصطلاح، بل يصح اطلاق الحلال بالمعنى
المذكور على خصوص الفرد الحرام أيضا، إذ المعنى أن هذا الفرد مع قطع
النظر عن كونه مغصوبا مثلا حلال.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول إطلاق المكروه على الوجود الذي
يكون فعلا مصداقا للواجب لاتحاده معه، نظير اطلاق الحلال على الفرد
المجامع للحرام من الغنم [173] بمعنى أن هذا الوجود مع قطع النظر عن
اتحاده مع الواجب يكون مكروها.
هذا واما أول القسمين، من الثاني - أعني ما إذا تعلق النهى
بالعبادة مع خصوصية زائدة كالصلاة في الحمام - فمحصل الكلام فيه أن
النهى المتعلق بتلك العبادة الخاصة، لابد وان يرجع إلى نفس
الخصوصية، أعني كونها في الحمام. وقد مر بيانه في مقدمات
المبحث [174] فحينئذ نقول: هذا النهى إما أن يكون لبيان الكراهة
270

الذاتية لهذه الخصوصية، وان لم يكن وصف الكراهة الفعلية موجودا، نظير
ما قدمنا، فيكون اللازم كون هذا الفرد أقل ثوابا من سائر الافراد. وعلى
هذا يكون هذا النهى مولويا تستفاد منه الكراهة الشرعية. وإما أن يحمل
على الارشاد وترغيب المكلف إلى اتيان فرد آخر من الطبيعة يكون خاليا
عن المنقصة، وتستكشف الكراهة الذاتية منه بطريق الان.
واما ثاني القسمين، وهو ما إذا تعلق النهى بالعبادة ولا بدل لها،
كالصوم في يوم عاشوراء وأمثاله - فيشكل الامر فيه، من حيث إن حمل
النهى - فيه على بيان الكراهة الذاتية مع الالتزام بكونه راجحا ومستحبا
فعليا - ينافي التزام الأئمة (عليهم السلام) بتركه، وامر هم شيعتهم بالترك
أيضا، وحمله على الارشاد يستلزم الارشاد إلى ترك المستحب الفعلي من
دون بدل، والقول بكونه مكروها فعلا ينافي كونه عبادة.
والذي يمكن أن يقال في حل الاشكال أمران: (الأول) ما افاده
سيدنا الأستاذ نور الله مضجعه، وهو أن يقال برجحان الفعل من حيث أنه
عبادة، ورجحان الترك من حيث انطباق عنوان راجح عليه، ولكون
رجحان الترك أشد من رجحان الفعل، غلب جانب الكراهة، وزال
وصف الاستحباب. ولكن الفعل لما كان مشتملا على الجهة الراجحة
لو أتى به يكون عبادة، إذ لا يشترط في صيرورة العمل عبادة وجود الامر،
بل يكفي تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق، فهذا الفعل مكروه فعلا
لكون تركه أرجح من فعله، وإذا اتى به يقع عبادة، لاشتماله على الجهة.
271

ويشكل بأن العنوان الوجودي لا يمكن ان ينطبق على
العدم، لان معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي،
والعدم ليس له وجود.
(الثاني) ان يقال: إن فعل الصوم راجح، وتركه مرجوح،
وأرجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن ان يجتمع مع الصوم ويلازم عدمه.
ولما كان الشارع عالما بتلازم ذلك العنوان الأرجح مع عدم الصوم، نهى
عن الصوم للوصلة إلى ذلك العنوان، فالنهي على هذا ليس الا للارشاد
ولا يكون للكراهة، إذ مجرد كون الضد أرجح لا يوجب تعلق النهى بضده
الآخر، بناءا على عدم كون ترك الضد مقدمة، كما هو التحقيق. ولعل
السر - في الاكتفاء بالنهي عن الصوم بدلا عن الامر بذلك العنوان
الأرجح - عدم امكان اظهار استحباب ذلك العنوان.
هذا ومما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض
عليها جهة الاستحباب، كالصلاة في المسجد ونحوها. هذا تمام الكلام في
المقام، وعليك بالتأمل التام.
تداخل الأسباب والمسببات
ثم انه نسب إلى بعض أن إجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة
إنما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد، فيكون من موارد
272

اجتماع حكمين متضادين. ومثله ما عن البعض من عد مطلق تداخل
الأسباب - كما في منزوحات البئر ونحوها - من هذا القبيل، ولا بأس
بتحقيق مسألة الأسباب والمسببات في الجملة، ليعرف أن الاستدلال بما
ذكر مما لا وجه له.
أقول إذا جعل الشارع طبيعة شئ سببا، فلا يخلو هذا في نفس
الامر من وجوه:
(أحدها) - أن يكون السبب صرف الوجود لتلك الطبيعة،
أعني حقيقته التي هي في مقابل العدم الكلى [176]، وكذلك المسبب،
مثل أن يقول إذا انتقض عدم النوم بالوجود، يوجب انتقاض عدم الوضوء
بالوجود.
(ثانيها) - أن تكون الطبيعة باعتبار مراتب الوجود سببا لوجود
طبيعة أخرى كذلك، مثل قولك (النار سبب للحرارة) والمراد أن النار
273

باعتبار مراتب الوجود سبب للحرارة كذلك، بمعنى أن كل وجود ثبت
للنار يؤثر في حرارة خاصة.
(ثالثها) - ان يعتبر في طرف السبب صرف الوجود، وفي طرف
المسبب مراتبه.
(رابعها) - العكس.
ولا اشكال في ما إذا ثبت أحد الوجوه، لأنه على الأول لا يكون
السبب ولا المسبب قابلا للتكرار، بداهة أن ناقض العدم لا ينطبق إلا على
أول الوجودات ان وجدت مرتبة، وعلى المجموع إن وجدت دفعة. وعلى هذا
لا يكون السبب الا واحدا، وكذا المسبب، كما أنه على الثاني يتكرر السبب
بلا اشكال. وعلى الثالث لا تؤثر الافراد الموجودة من طبيعة واحدة آثارا
متعددة، لأن المفروض وحدة السبب. نعم لو اختلف السبب نوعا ووجد من
كل من النوعين فرد. يجب ان يتعدد المسبب، لأن المفروض قابلية التعدد في
طرف المسبب. وعلى الرابع لا يتكرر المسبب وان تكرر السبب، سواء كان
التكرر من جهة فردين من طبيعة واحدة أم من طبيعتين مختلفتين، لعدم قابلية
المسبب للتكرار.
ولا اشكال في شئ مما ذكرنا ظاهرا إنما الاشكال في الاستظهار
من القضايا الملقاة من الشارع، وانها ظاهرة في أي شئ ليكون هو
الأصل المعول عليه، إلى أن يثبت خلافه. والذي يظهر من مجموع
الكلمات المتفرقة في مصنفات شيخنا العلامة المرتضى (قدس سره) ان
مقتضى اطلاق أدلة السببية كون كل واحد من افراد الطبيعة - سواء
وجدت دفعة أم بالتفاوت - سببا مستقلا، مثلا لو قال الشارع (ان نمت
فتوضأ) فالنوم اللاحق إذا أثر في وضوء آخر فهو المطلوب. وأما إذا لم
يؤثر، فاللازم تقييد موضوع الشرط بالنوم الخاص، وهو النوم الأول أو الغير
274

المسبوق بمثله.
فان قلت: ظاهر القضية وحدة المسبب، وهو حقيقة الوضوء في
القضية المفروضة، فلم لا يكون هذا صارفا عن ظهور اطلاق السبب لو
سلم؟ مع أنه لنا ان نمنع اقتضاء اطلاق السببية كون كل فرد سببا
مستقلا، ألا ترى أنه لو جعلت الطبيعة معروضة للامر، لا يقتضى اطلاقها
كون كل واحد من افرادها واجبا مستقلا، وأي فرق بين كون الشئ
معروضا للامر وبين كونه معروضا للسببية؟
قلت: قد حقق في محله أن الألفاظ الدالة على المفاهيم، لا تدل
بحسب الوضع الاعلى الطبيعة المهملة المعراة عن اعتبار الاطلاق والتقييد
والوجود والعدم [177] لكنها بهذا النحو لا يمكن أن تكون معروضة لحكم
من الاحكام، فاللازم بحكم العقل اعتبار الوجود حتى يصح بهذا الاعتبار
كونها موضوعة للحكم. والوجود اللازم اعتباره بحكم العقل أعم من أن
يكون وجودا خاصا مقيدا بقيد وجودي أو عدمي، أو كل واحد من
الوجودات الخاصة، أو صرف الوجود في مقابل العدم الكلى. فلو دل دليل
275

على اعتبار الوجود بوجه من الوجوه المذكورة، فهو المتبع، والا فاللازم هو
الاخذ بصرف الوجود، لأنه ثابت على كل حال، وهو المتيقن.

(1) مطارح الأنظار تقريرات العلامة الأنصاري للعلامة الشيخ أبو القاسم الكلانتري / 141 قريبا من
ذلك.
276

إذا عرفت هذا فنقول: السر - في الاخذ بصرف الوجود في
موضوع الامر، والاكتفاء في مقام الامتثال بفرد واحد - هو كونه متيقنا، وعدم دلالة دليل على أزيد منه، فلو دل دليل على اعتبار أزيد، فلا
تعارض بينهما، لما عرفت من أن الاخذ به انما هو من باب القدر المتيقن،
وعدم ما يبين الزائد.
وحينئذ نقول: لو قال الشارع (إذا نمت فتوضأ) فمقتضى الجزاء
- مع قطع النظر عن الشرط - كون موضوع الامر صرف الوجود، لما
عرفت آنفا. ومقتضى السببية الفعلية المستفادة من القضية الشرطية، كون
كل فرد من افراد النوم سببا فعليا، لان الأسباب العادية والمؤثرات
الخارجية تكون بهذه المثابة، بمعنى أن كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة،
يؤثر كل فرد منها. ومن هذه الجهة تحمل السببية - المستفادة من القضية
الملقاة من الشارع - على ما هو المتعارف من الأسباب.
وبعبارة أخرى يفهم من القضية الشرطية أمران (أحدهما) يكون
مدلولا لأداة الشرط، وهو العلية الفعلية لما جعل شرطا في القضية (ثانيهما)
يكون مفهوما من القضية، من جهة ما ارتكز في أذهان أهل العرف، من
الامر المتعارف، وهو كون كل وجود لهذا الشرط علة فعلية. وعلى هذا
فاللازم هو الحكم بتعدد التأثير عند تعدد تلك الافراد، لأنه لو حكمنا به لم
نرتكب خلافا لظاهر القضية، لما عرفت من أن الاخذ بصرف الوجود في
موضوع الامر إنما كان من جهة عدم البيان، وهذا الظهور العرفي للقضية
يصير بيانا له، بخلاف ما لو حكمنا بعدم تعدد التأثير، فإنه لابد حينئذ من
التصرف إما في الظاهر المستفاد من أداة الشرط، بحملها على إفادة كون
تاليها مقتضيا لا علة تامة، وإما في الظاهر الآخر المستفاد من العرف من
غير دليل.
277

فان قلت: سلمنا ذلك كله، ولكن المسبب ليس فعل المكلف
حتى يقتضى تعدد افراد السبب الفعلي تعدده، بل المسبب هو الوجوب،
ولا يقتضي تعدد أسباب الوجوب تعدده، بل يتأكد بتعدد أسبابه.
قلت: ظاهر القضية أن السبب الشرعي يقتضى نفس الفعل، وامر
الشارع إنما جاء من قبل هذا الاقتضاء، بمعنى أن الشارع أمرنا باعطاء كل
ذي حق حقه، فافهم فإنه دقيق.
فان قلت: يمكن أن يكون السببان مؤثرين في عنوانين مجتمعين في
فرد واحد، فلا يقتضى تعدد السبب تعدد الوجود، كما لو قال الآمر: (إن
جاءك عالم فأكرمه، وان جاءك هاشمي فأكرمه) فجاءك عالم
هاشمي، فلا شبهة في أنه لو أكرمت ذلك العالم الهاشمي امتثلت كلا
الامرين.
قلت: أما (أولا) فظاهر القضية وحدة عنوان المسبب [178]، ولا
شك في أنه مع وحدة عنوان المسبب لا يمكن القول بتعدد التأثير، الا
بالتزام تعدد الوجود، لعدم معقولية تداخل الوجودين من طبيعة واحدة.
وأما (ثانيا) فنقول - بعد الاغماض عن هذا الظهور - لا أقل من الشك
في أن المفهومين المتأثرين من السببين هل يجتمعان في مصداق واحد أم لا؟
ومقتضى القاعدة الاشتغال، لان الاشتغال بالتكليفين ثابت، ولا يعلم
278

الفراغ الا من ايجادين. هذا محصل ما استفدناه من كلمات شيخنا الاجل
المرتضى (قدس سره) مع تنقيح منا.
أقول: والتحقيق عندي أن القضايا الشرطية لا يستفاد منها كون
الشرط - أعني ما جعل تلو إن وأخواتها - علة تامة، بل إنما يستفاد منها أن
الجزاء يوجد في ظرف وجود الشرط، مع ارتباط بين الشرط والجزاء على
نحو الترتب [179]، سواء كان الشرط علة تامة للجزاء أم كان أحد اجزاء
العلة التامة، بعد الفراغ من باقيها. وما قيل - في بيان دلالة أدوات
الشرط على كون تاليها أعني مدخولها علة تامة للجزاء - مخدوش. وسيأتي
توضيح ذلك في بحث المفاهيم انشاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا فنقول: يكفي في صدق القضايا الشرطية المتعددة
- التي جزاؤها حقيقة واحدة - تحقق تلك الحقيقة مرة واحدة، ولو تعدد
ما جعل شرطا في الخارج. وكذا في صورة تعدد افراد الطبيعة الواحدة التي
جعلت شرطا. نعم لو وجد الجزاء، ثم تحقق فرد من افراد ما جعل شرطا،
يجب إتيان الجزاء ثانيا، لان مقتضى القضية الشرطية تحقق الجزاء في
ظرف وجود الشرط، فالفعل الموجود قبل تحقق الشرط لا يكفي.
ومما ذكرنا يظهر أن الأصل - في باب الأسباب - كفاية
المسبب الواحد في صورة تعدد السبب، وعدم تخلل المسبب وأما في صورة
التخلل، فيجب الاتيان بفعل آخر للوجود اللاحق. فتدبر جيدا.
279

هذا، وأنت بعد الإحاطة بما ذكرنا، تعرف أن استدلال المجوز
- باجتماع المثلين أو الضدين في باب الأسباب - مما لا وجه له أصلا.
وتوضيحه أنه في صورة تعدد الافراد من الطبيعة الواحدة، إن قلنا
بان السبب ليس الا صرف الوجود، وكذا المسبب، فلا يكون هناك الا
سبب واحد ومسبب واحد، وليس من مورد اجتماع المثلين أصلا. وكذا
إن قلنا بصرف الوجود في طرف المسبب فقط، أو السبب كذلك. وان
قلنا بكون السبب مراتب، الوجود، وكذلك المسبب فالأسباب متعددة
وكذلك المسببات، فلا اجتماع للمثلين أيضا. وهكذا الامر في صورة
تعدد الفردين من طبيعتين [180] لأنه ان جعلنا المسبب صرف الوجود،
فالواجب واحد بوجوب واحد، وان جعلناه مراتب الوجود، فالواجب
متعدد بتعدد السبب. والوجوب أيضا كذلك، فلا اجتماع للمثلين أيضا.
واما قضية اجتماع الضدين كالوجوب والاستحباب في غسل
الجمعة والجنابة، فنقول إن قلنا بتعدد الحقيقة في الغسلين، فلا يكون من
مورد اجتماع الضدين، لأنه على هذا يكون من قبيل وجوب اكرام العالم،
واستحباب اكرام الهاشمي. وإن قلنا بوحدتهما حقيقة، فان بنينا على عدم
كفاية غسل واحد عنهما، فلا شبهة أيضا في عدم اجتماع الضدين، وإن
280

بنينا على كفاية غسل واحد، فالموجود في الخارج من قبيل الصلاة في
المسجد، في كونه مصداقا للواجب فقط، مع أفضليته من ساير المصاديق،
من جهة اشتماله على جهة الوجوب وجهة الاستحباب. هذا تمام الكلام
في حجج المجوزين وقد عرفت ان أمتنها ما ذكر أولا.
بيان حجة المانعين
إعلم أن أحسن ما قرر في هذا المقام ما افاده شيخنا الأستاذ دام
بقاه في فوائده، ونحن نذكر عباراته لئلا يسقط شئ مما اراده، قال بعد
اختيار القول المشهور - وهو الامتناع - ما هذا لفظه:
(وتحقيقه على وجه يتضح فساد ما قيل أو يمكن ان يقال للقول
بالجواز من وجوه الاستدلال يتوقف على بيان أمور:
(أحدها) - أنه لا اشكال في تضاد الأحكام الخمسة بأسرها في
مقام فعليتها ومرتبة واقعيتها، لا بوجوداتها الانشائية، من دون انقداح
البعث والزجر والترخيص فعلا، نحو ما أنشأ وجوبه أو حرمته أو
ترخيصه، فلا امتناع في اجتماع الايجاب والتحريم في فعل واحد انشاءا،
من دون بعث نحوه وزجر عنه، مع وضوح الامتناع معهما. ومن هنا ظهر
أنه لا تزاحم بين الجهات المقتضية لها إلا في مرتبة فعليتها وواقعيتها، وأنه
يمكن انشاء حكمين اقتضائيين لفعل واحد، وإن لم يمكن ان يصير فعليا إلا
أحدهما. ومما ذكرنا ظهر أن تعلق الأمر والنهي الفعليين بشئ واحد
محال، ولا يتوقف امتناعه على استحالة التكليف بالمحال.
(ثانيها) - انه لا ريب في أن متعلق الاحكام إنما هو الافعال
بهويتها وحقيقتها، لا بأسمائها وعناوينها المنتزعة عنها. وإنما يكون اخذ
281

اسم أو عنوان خاص في متعلق الأمر والنهي، لأجل تحديد ما يتعلق به
أحدهما منها وتعيين مقداره، فلا تنثلم وحدة المتعلق بحسب الهوية والحقيقة
واقعا بتعدد الاسم أو العنوان، ولا تعدده كذلك بوحدتهما، فالحركة
- الخاصة الكذائية المحدودة بحدود معينة - لا تتعدد إذا سميت باسمين،
أو انتزع منها عنوانان من وجهين، كما أن الحركتين - الخاصتين اللتين
يكون كل منهما محدودة بحدود معينة - لا تصير ان واحدة إذا سميتا باسم
واحد، وانتزع منهما مفهوم واحد. وهذا من أوائل البديهيات.
وبالجملة إنما تتعلق الاحكام في الأدلة بالأسامي والعناوين
- بما هي حاكية عن المسميات والمعنونات وفانية فيها - لا بما هي
بنفسها. ومن الواضح أنه لا يتكثر المحكى والمرئي الواحد بتكثر الحاكي
والمرآة، ولا يتحد المتكثر بوحدتها.
(ثالثها) - ان الطبيعتين - اللتين يتعلق بإحداهما الامر،
وبالأخرى النهى - إذا تصادقتا في مورد، يكشف عن أنهما ليستا بحاكيتين
عن هويتين وحقيقتين مطلقا، بل في غير مورد التصادق، والا يلزم أن
تكون له هويتان وماهيتان، ولا يكون لوجود واحد الا ماهية وحقيقة
واحدة، ولا عن موجودين متغايرين في الخارج، ولو كانا متحدين بحسب
الحقيقة والماهية، كالضرب الواقع في الخارج (تارة) ظلما و (أخرى)
تأديبا إلا في غير المورد.
وبالجملة تعدد الوجه واختلاف الجهة المأخوذ في أصل عنوان
المسألة لا يجدي شيئا في مورد الاجتماع، لا تعدده بحسب الحقيقة والماهية،
ولا بحسب الوجود في الخارج، بل هو واحد ماهية ووجودا. نعم يجدى
تعدد ما يحكيه ويريه، وهو لا يجدى مع وحدة المرئي والمحكى ذاتا
ووجودا، لما عرفت من أن متعلقات الاحكام نفس الافعال الخاصة
282

المسماة بأسماء أو المعنونات بعناوين متباينات أو متصادقات مطلقا أو في
الجملة، من غير تفاوت في ذلك بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة
الماهية، لوحدة المورد ماهية ووجودا. واما الطبيعة المأمور بها والطبيعة
المنهى عنها، فان كان كل منها عنوانا للفعل الذي تعلق به الأمر والنهي،
فهما مفهومان اعتباريان انتزعا عن الفعل المعنون بهما، ولو قلنا بأصالة
المهية، والا فخصوص ما كان عنوانا منهما، بداهة اعتبارية المفاهيم التي
ليست بإزائها شئ في الخارج، ولا وجود لها الا بوجود ما انتزعت عنه،
ولا موطن لها الا الذهن. واختصاص الأصالة - على القول بأصالة
الماهية - بالحقايق الخارجية التي يكون بإزائها شئ في الخارج، ويكون
لها موطنان الذهن والخارج، غاية الامر تلزمها الجزئية في الخارج،
وتعرضها الكلية تارة والجزئية أخرى في الذهن.
ومن هنا ظهر عدم ابتناء المسألة على القول بأصالة الوجود
والماهية أصلا، كما تخيله الفصول، وان الأصيل في مورد الاجتماع واحد
وجودا كان أو مهية. فظهر مما بيناه أن مورد الاجتماع - لوحدته ذاتا
ووجودا لما حقق في هذا الامر، وكونه بنفسه متعلقا للحكم واقعا
وحقيقة، وإن اخذ في الدليل اسمه أو عنوانه، لما حقق في سابقه -
لا يمكن أن يكون بالفعل واجبا وحراما يبعث نحوه ويزجر عنه فعلا،
للتضاد بين الاحكام في هذا المقام، وان لم يكن بينها تضاد بحسب
وجوداتها الانشائية، كما عرفت في الامر الأول.
ولا يخفى ان تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد لا يرفع غائلة هذا
التضاد في مورد الاجتماع، فان غاية تقريبه أن يقال: ان الطبايع من
حيث هي وان كانت ليست الا هي، ولا تصلح لان تتعلق بها الأحكام الشرعية
كالآثار العادية والعقلية، إلا انها - مقيدة بالوجود، بحيث كان
283

الوجود خارجا والتقييد به داخلا - صالحة لتعلق الاحكام بها. ومن
الواضح أن متعلقي الأمر والنهي على هذا ليسا بمتحدين أصلا، لا في مقام
تعلق البعث والزجر بهما، ولا في مقام الامتثال لأحدهما وعصيان الآخر
باتيان المورد بسوء الاختيار.
أما في المقام الأول فلبداهة تعددهما ومباينة أحدهما عن الآخر بما
هو متعقل الامر أو النهى، وان اتحدا فيما هو خارج عنهما بما هما كذلك.
وأما في المقام الثاني، فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان
بمجرد الاتيان، فأين اجتماعهما في واحد؟ وانتزاع المأمور بهية والمنهى
عنهية عنه إنما هو لمجرد كونه مما ينطبق عليه ما امر به ونهى عنه، من دون
ان يتعلق به بنفسه البعث والزجر. وهذا لا يجدي بعد ما عرفت - بما
لا مزيد عليه - أن تعدد ما يؤخذ في دليلهما من الاسم أو العنوان لا يوجب
تعدد ما هو المتعلق لهما في مورد الاجتماع، لا مهية ولا وجودا، بل
الاسمان أو العنوانان حاكيان في هذا المورد عن واحد يكون متعلقا لهما
حسب توسعة متعلقهما واقعا، بحيث يعمانه.
وتوهم الجدوى في ذلك إما لتخيل أن تعدد العنوان حاك عن
تعدد المحكى ماهية وذاتا مطلق ولو فيما اتحدا وجودا، كما في مورد
التصادق، أو ان تعدده كاف بان يكون بنفسه متعلقا للبعث أو الزجر لا بما
هو حاك وفان. وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - فسادهما، وان المورد
الواحد واحد وجودا وماهية، وأن العنوان بما هو هو ليس إلا أمرا انتزاعيا
لا وجود له إلا بوجود منشأ الانتزاع، ولا واقعية له إلا بواقعيته، وليس ما
يوجب البعث والطلب - من الآثار المطلوبة والمبغوضة والصفات الحسنة
والذميمة - إلا في المنشأ دونه، فليس بما هو كذلك محكوما بالامر أو
النهى، بل بما هو حاك، فيكون المأمور به أو المنهى عنه والمحكى. وهذا
284

- فيما إذا كان المأخوذ في الدليلين أو أحدهما من قبيل أسامي الماهيات -
أوضح من أن يخفى على عاقل، فضلا عن فاضل.
هذا مضافا إلى أن هذا التقريب يقتضى الجواز مطلقا ولو كان
العنوانان متساويين، لتعددهما في مقام البعث وسقوطهما بالإطاعة
والعصيان باتيان واحد من مصاديقهما، ولا يقول به أيضا إلا أن يدعى
أنه إنما لا يقول به لأجل انه طلب المحال حينئذ لا من اجل ان الطلب
محال، فتدبر جيدا.
ومما حققناه - من كون العناوين بمعنوناتها تكون متعلقة للأحكام
كما في الأسماء بلا اشكال ولا كلام - ظهر أن غائلة التضاد في مورد
الاجتماع في نفس الطلب على حالها، سواء قلنا بتعلق الاحكام بالطبايع
أو بالافراد. - وقد عرفت بما لا مزيد عليه - أو بالاختلاف، فإنه على هذا تكون
افراد حقيقة واحدة متعلقة للبعثين، إذ تكون الطبيعة المأمور بها - على
سعتها بحسب الوجود، بحيث لا يشذ عنها فرد - متعلقة للامر، وان كانت
خصوصيات الافراد ومشخصاتها خارجة عنها بما هي مأمور بها، ولازمة
لها، وكان بعض ما يسعها من الافراد التي تكون بالفعل مبعوثا إليها،
حسب قضية البعث إليها على سعتها الذي لازمه عقلا التخيير فيها، بما هي
منهى عنها، فيكون هذا البعض - بوجوده الشخصي بما هو وجود تلك
الحقيقة والمهية، من دون ملاحظة خصوصية - مبعوثا إليه، وبما هو
وجودها مع ملاحظة الخصوصية - ممنوعا فعلا. وملاحظة الخصوصية
وعدم ملاحظتها لا توجب تعدده، بل هو واحد حقيقة وماهية ووجودا،
كما لا يخفى على من له أدنى التفات. انتهى كلامه (1).
أقول: وأنت - بعد الإحاطة بتمام ما قدمناه - تعرف موارد
الاشكال في كلامه، فان ما افاده في المقدمة الثانية - من كون متعلق

(1) الفوائد المطبوعة ضميمة تعليقة الفرائد الفائدة الآخرة، ص 7 - 335.
285

الأوامر والنواهي إنما هي الافعال بهوياتها وحقايقها - غير معقول، للزوم
طلب الحاصل إن تعلق الطلب بنفس الحقيقة الخارجية. ولا دافع لهذه
الغائلة الا الالتزام بكون متعلق التكاليف صورا ذهنية من حيث حكايتها
عن الخارج.
وأما ما افاده في طي كلماته من عدم تعلق التكاليف بالأسماء،
فهو من الواضحات، ولا يتوهم أحد تعلق التكاليف بصرف الأسماء،
لأنها ليست الا الفاظا كاشفة عن معانيها، بل القائل يدعى تعلقها
بالمفاهيم المتعلقة في الذهن، باعتبار حكايتها عن الخارج، ما حققناه.
وأما ما افاده في المقدمة الثالثة من وحدة مورد تصادق العناوين،
فان أراد عدم كونها موجودات متميزا بعضها عن بعض في الخارج، فهو
من البديهيات، وإن أراد عدم تحقق لها في نفس الامر، بمعنى كونها صورا
ذهنية لا واقعية لها، فهو مقطوع البطلان. ويكفي في تعلق التكاليف بتلك
العناوين تحققها في نفس الامر.
وبالجملة أظن أن التأمل التام - فيما ذكرنا من دليل المجوزين -
يوجب القطع بصحة هذا القول، فتدبر جيدا.
العبادة المنطبق عليها عنوان محرم
تذييل
لا اشكال في بطلان العبادة على تقدير القول بعدم جواز
الاجتماع إذا علم حرمة الفرد المنطبق عليه عنوان العبادة [181] وذلك
286

حاصل من العلم بفردية هذا الموجود للعنوان المحرم، والعلم بكون ذلك
العنوان محرما أيضا. ولو لم يكن له علم بالصغرى أو بالكبرى، فهل يحكم
بصحة العبادة أو البطلان على القول المذكور؟ تحقيق المقام أن الفرض
المذكور (تارة) يتحقق بالنسيان لإحداهما و (أخرى) بالجهل، وهو إما أن
يكون بسيطا أو مركبا.
وجملة القول في المجموع أنه لا يخلو محل الكلام من أنه إما أن يكون
قد ورد فيه ترخيص من جانب الشارع أولا، وعلى الثاني إما أن يكون
المكلف معذورا بحكم العقل أولا (اما القسم الأول) فلا ينبغي الاشكال
في صحة العبادة، ضرورة عدم الفرق بين الترخيص والامر، فإذا صح
الترخيص في ذلك المحل، مع كونه في نفس الامر محرما، كذلك يصح

(1) الوسائل، الجزء 3 الباب (2) من أبواب مكان المصلي - الحديث (2).
(2) الوسائل، الجزء 6، الباب 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام وفيه روايات ندل على ذلك
289

الامر، لعدم الفرق بين الترخيص والامر في كون كل واحد منهما ضدا
للنهي.
وبعبارة أخرى إما أن يجمع بين النهى الواقعي والإباحة
الظاهرية، بحمل النهى الواقعي على النهى الشأني الذي لا ينافي جعل
حكم فعلى على خلافه، أو يقال بعدم التنافي بينهما، لترتب موضوعهما.
وعلى أي حال لا تفاوت بين الترخيص والامر [182]. وهذا واضح جدا
(وأما القسم الثاني) فالأقرب فيه صحة العبادة أيضا لوجهين:
(أحدهما) - أن يقال إن الامر وإن امتنع تعلقه بهذا الفرد - لكونه
منهيا عنه في الواقع - إلا أنه لا تتوقف صحة العبادة على الامر، بل يكفي
فيها وجود الجهة، كما مر في باب الضد. ولا اشكال في وجود الجهة، لان
النزاع مبنى على الفراغ منها.
إن قلت فعلى هذا ينبغي أن يحكم بالصحة في مورد العلم بالحرمة
أيضا، لان الجهة موجودة فيه.
قلت: الوجه - في عدم الحكم بالصحة فيما إذا علم بالحرمة - هو
ان الجهة لا تؤثر في قرب الفاعل، لوجود الجهة المبعدة، بخلاف ما نحن
290

فيه، فان الجهة المقبحة لا تؤثر في البعد، لمعذورية المكلف، فلا مانع من
تأثير الجهة المحسنة.
فان قلت: إن الجهة المقبحة وان لم تؤثر في الفاعل، إلا أنها منافية
للجهة المحسنة في نفس الامر ومزاحمة لها، فلا يبقى للفعل الخارجي حسن
في نفس الامر، حتى يتقرب به الفاعل في اتيانه.
قلت: ليست الجهتان متضادتين من حيث ذاتهما، ألا ترى وجود
الخاصية الموافقة للطبع والمنافرة له في شرب دواء خاص واحد، بل
التزاحم في رتبة تأثير كل منهما فيما تقتضيه من إرادة الشرب وعدمه،
وكذلك في مرحلة مدح العقلاء مرتكب ذلك الفعل المشتمل على جهتين
أو ذمهم إياه، وكما أن الجهة الملائمة للطبع لا تزاحم الجهة المنافرة له في
الواقع، كذلك الجهة الملائمة للقوة العاقلة والمنافرة لها. وعلى هذا لو لم تؤثر
الجهة المنافرة للعقل في استحقاق الفاعل للذم، فلا مانع من تأثير الجهة
الملائمة له في استحقاقه للمدح.
(الوجه الثاني) أن العناوين الطارئة على التكاليف - مما
لا تشملها أدلتها - يمكن ان تجعل موردا لحكم آخر غير ما تعلق بنفس
الواقع [183]، وبهذا يجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، ومن العناوين
الطارئة على التكليف كون المكلف معذورا من ذلك التكليف المتوجه
إليه.
291

وأما القسم الثالث فالحق فيه بطلان العبادة [184]، فان الجهة
المقبحة موثرة فعلا في تبعيد العبد عن ساحة المولى، فلا يمكن أن تكون
الجهة المحسنة مؤثرة في القرب. وبه يعلم عدم امكان تعلق الامر به أيضا،
لان العنوان الطارئ لو كان بحيث لا يوجب عذرا للمكلف، فحاله حال
العلم بالحرمة، فكما أنه في مورد العلم بالحرمة لا يمكن بقاء الامر وصحة
العبادة، كذلك في حال لا يعذر فيها عقلا. فتأمل جيدا.
فصل في النهى عن العبادة
هل النهى عن الشئ يقتضى فساده أولا، ولنقدم أمورا:
(الأول) - أن الفرق - بين هذه المسألة والمسألة السابقة - ان
292

المسؤول عنه في السابقة جواز بقاء الأمر والنهي فيما كان موردهما متحدا
بحسب المصداق ومتعددا بحسب المفهوم وعدمه، وفي هذه المسألة ملازمة النهى
المتعلق بالشئ لفساده. قال المحقق القمي (قدس سره) في بيان الفرق:
أن مورد المسألة السابقة هو ما كان بين المأمور به والمنهى عنه عموم من
وجه، ومورد المسألة ما كان بينهما عموم مطلق.
ورد عليه في الفصول بأن هذا الفرق ليس بسديد، بل الفرق: أنه
إذا كان العنوانان بحيث لم يؤخذ أحدهما في الآخر، فهو من المسألة
السابقة، سواء كان بينهما عموم من وجه أم مطلق. (الأول) مثل صل
ولا تغصب، والثاني مثل جئني بحيوان ولا تجئني بضاحك. وان كان
أحد العنوانين مأخوذا في الآخر فهو من المسألة سواء كان بينهما عموم من
وجه أم مطلق أيضا (الأول) مثل (صل ولا تصل في الحمام) والثاني
مثل (صل الصبح ولا تصل في الحمام).
أقول: إن كان مرادهما أن المسألتين متحدتان من جهة المسؤول
عنه، وليس الفرق بينهما إلا في اختلاف المورد، ففيه أن مجرد اختلاف
المورد لا يوجب تعددهما وصيرورتهما مسألتين، وإن كان المراد بيان
اختصاص كل من النزاعين بمورد، بمعنى ان النزاع في المسألة السابقة له
مورد خاص لا يجرى فيه النزاع في هذه المسألة وبالعكس، ففيه أن ما
محضه كل من الفاضلين للنزاع الثاني يجرى فيه النزاع الأول، لان جهة
كلام المجوز في المسألة السابقة هي تعدد العنوان، كما أن جهة كلام المانع
هناك الاتحاد في الوجود، وكلاهما متحققان فيما فرضه الفاضلان مختصا
بهذه المسألة، كما هو واضح.
نعم في مثل (صل ولا تصل في الحمام) لو أحرز ان النهى تعلق
بالمقيد لا بخصوصية ايجاده في المكان الخاص لا يمكن فيه النزاع
293

السابق [185] والسر فيه أن المطلق والمقيد وإن كانا متغايرين بحسب
المفهوم، إلا ان مغايرة الأول للثاني إنما هو بملاحظة الاطلاق، إذ لو جرد
النظر عن ذلك، يكون المقسم المتحد مع المطلق والمقيد في الذهن. ولا
اشكال في أن الجهة - التي بها يغاير المقيد، ويصير في قباله في الذهن،
وهي جهة الاطلاق - لا دخل لها في المطلوبية، لان هذه الجهة عبارة عن
عدم مدخلية شئ في المطلوب، سوى أصل الطبيعة، ففي الحقيقة جهة
المطلوبية قائمة بأصل الحقيقة التي تكون مقسما بين المطلق والمقيد، ومع
كون المطلوب ما ذكر يمتنع تعلق النهى بالمقيد، لا تحاد مورد الأمر والنهي
حتى في الذهن، فليتدبر.
(الثاني) - أن النزاع في المسألة يمكن أن يكون عقليا فقط،
ويمكن ان يرجع إلى اللفظ، ويمكن أن لا يكون ممحضا في أحدهما.
اما الأول فبان يكون في صحة العبادة، بعد الفراغ عن كون
النهى متعلقا بالخصوصية، ووجود الجهة الموجبة للامر في الطبيعة [186]،
فيرجع محصل النزاع إلى أن وجود الجهة في الطبيعة هل يكفي في كونها عبادة
ومحصلة للقرب، وان كان المأتى به الفرد المشتمل على الخصوصية
المبغوضة فعلا أولا.
294

واما الثاني فبان يكون النزاع في أن القضايا الدالة على حرمة
عبادة خاصة - بعد كون أصلها مأمورا بها - هل تدل عرفا على فساد
تلك العبادة أولا؟
واما الثالث فبان يكون المدعى في هذه المسألة صحة العبادة
وبطلانها، سواء كان طريق الاثبات في ذلك اللفظ أم العقل.
والظاهر كون النزاع هنا راجعا إلى المسألة العقلية كالسابقة،
والدليل على ذلك أنهم يعنونون النهى في العبادات، ويتمسك القائل
بالبطلان بعدم امكان صيرورة المبغوض عبادة، وهذا يكشف عن أن مورد
الكلام ما إذا فهم ثبوت المقتضى للطبيعة، وإنما النزاع في أن اتحادها مع
المبغوض هل هو مانع من القرب أولا؟ ولو كان النزاع راجعا إلى اللفظ
لما احتاج المانع إلى هذا الكلام، ولا اختص ما ادعاه بالعبادة، إذ كما
يمكن ان يدعي أن النواهي الواردة في العبادة تدل على الفساد، كذلك
يمكن أن يدعي ان النواهي الواردة في المعاملات أيضا كذلك.
(الثالث) أنه لا فرق بين النهى النفسي والغيري والأصلي
والتبعي، لوجود الملاك في الجميع. نعم يختص النزاع بالنواهي
التحريمية، لعدم قابلية النهى التنزيهي الوارد على الخصوصية لا سقاط الامر
بالطبيعة. والوجه في ذلك أن الكراهة - لعدم منعها من النقيض -
لا تمنع الوجوب المانع عنه، فإذا اجتمعت جهة الوجوب مع الكراهة،
فلا بد من صيرورة الوجوب فعليا والكراهة شأنية، فيكون الفرد المشتمل
على الخصوصية الموجبة للكراهة مجزيا عن الواجب. ولكنه أقل ثوابا من
باقي الافراد. وقد مر تفصيل ذلك في البحث السابق:
(الرابع) أن محل النزاع انما هو في غير النواهي المستفاد منها الوضع
ابتداءا، كالنهي المتعلق بالصلاة في اجزاء مالا يؤكل لحمه وأمثال ذلك،
295

لان تلك النواهي تنبئ عن عدم المصلحة في العمل الخاص، فلا يتطرق
إليه احتمال الصحة بعد ذلك، وليس الفساد مرتبا على النهى، بل النهى
جاء قبل الفساد.
(الخامس) أنه لو شك في اقتضاء النهى للبطلان، فلا اشكال في
عدم وجود أصل في هذا العنوان يعين أحد طرفي الترديد [187] فيجب
الرجوع إلى القواعد الجارية في نفس المسألة الفرعية، فنقول: لو تعلق نهى
بالصلاة في محل خاص مثلا، وشككنا في ايجابه لبطلان العمل، فلو اتى
المكلف بتلك الصلاة المنهى عنها، فهل الأصل يقتضى البطلان أو
الصحة؟ يمكن ابتناء ذلك على كون النزاع في المسألة لفظيا أو عقليا.
فعلى الأول يرجع الشك في المسألة إلى الشك في التقييد، فان
القائل - بان الخطاب المشتمل على النهى يدل على فساد العمل عرفا -
يرجع قوله إلى دعوى أن مورد الوجوب مقيد بغير الخصوصية المنهى عنها،
فالصلاة الماتى بها في محل ورد النهى عن اتيانها فيه باطلة، لفقدان الشرط
الشرعي على مذهب هذا القائل، فلو شك في ذلك يرجع الشك إلى أن
296

المأمور به هل هو مقيد شرعا بان لا يؤتي به في المحل المخصوص أولا [188].
وعلى الثاني أعني على تقدير كون النزاع عقليا، فمقتضى الأصل
فساد العمل، لان المأمور به معلوم من حيث القيود والشروط، بحيث لو
كان توصليا لكان مجزيا. وإنما الشك في أن القرب المعتبر في العبادات
هل يحصل بايجاد العمل في ضمن فرد محرم أم لا؟ ولا اشكال في لزوم
الاتيان ثانيا، حتى يقطع بفراغ ذمته.
إذا عرفت ذلك كله فنقول: إن الافعال المتعلقة للنهي على
قسمين: قسم اعتبر في صحته قصد القربة، وهو الذي يسمى بالعبادة،
وقسم لم يعتبر فيه ذلك، فان جعلنا النزاع في المقام راجعا إلى الامر العقلي
وهو أنه - بعد الفراغ عن وجود الجهة في الطبيعة - هل تقتضي مبغوضية
ايجادها في ضمن خصوص فرد فساد العمل لو أتى به في الفرد المحرم أم لا؟
297

فالحق أنه لا يقتضى الفساد مطلقا. أما في العبادات، فلان ما يتوهم كونه
مانعا عن الصحة كون العمل مبغوضا، فلا يحصل القرب المعتبر في
العبادات به.
وفيه أنه من الممكن ان يكون العمل المشتمل على الخصوصية
موجبا للقرب من حيث ذات العمل [189] وان كان ايجاده في تلك
الخصوصية مبغوضا للمولى.
298

وبعبارة أخرى فكما أنا قلنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي
بامكان أن يتحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب، كذلك هنا من
دون تفاوت، فان أصل الصلاة شئ، وخصوصية ايقاعها في مكان
مخصوص مثلا شئ آخر مفهوما، وإن كانا متحدين في الخارج. نعم لو
تعلق النهى بنفس المقيد وهي الصلاة المخصوصة، فلازمه الفساد من جهة
عدم امكان كون الطبيعة - من دون تقييد - ذات مصلحة توجب المطلوبية،
والطبيعة المقيدة بقيد خاص ذات مفسدة توجب المبغوضية.
والحاصل أنه كلما تعلق النهى بأمر آخر يتحد مع الطبيعة المأمور
بها، فالصحة والفساد فيه يبتنيان على كفاية تعدد الجهة في تعدد الأمر والنهي
ولوازمهما من القرب والبعد والإطاعة والعصيان والمثوبة
والعقوبة، وحيث اخترنا كفاية تعدد الجهة في ذلك، فالحق في المقام
الصحة، وكلما تعلق النهى بنفس المقيد لا يمكن كون الفعل صحيحا، وإن
قلنا بكفاية تعدد الجهة، فان الجهة الموجبة للمبغوضية ليست مباينة لأصل
الطبيعة، حتى في عالم الذهن، فلا يمكن أن تكون مبغوضة، ويكون أصل
الطبيعة محبوبة من دون تقييد. [وبعبارة أخرى لو بقيت المحبوبية التي هي ملاك الصحة في
العبادة في المثال، يلزم كون الشئ الواحد خارجا وجهة محبوبا
ومبغوضا، وهو مستحيل.
هذا حال العبادات وأما غيرها، فلا ينافي النهى فيها الصحة
299

مطلقا، لوضوح امكان أن تكون الطبيعة مشتملة على غرض من اغراض
الامر مطلقا، فيحصل ذلك الغرض في الفرد المبغوض. ولا نعنى بالصحة
الا ذلك.
هذا في غير العقود والايقاعات. وأما فيهما فالنهي يدل على
الصحة إذا تعلق بهما بلحاظ الآثار [190]، إذ لولا ذلك لزم التكليف بالمحال،
كما هو واضح. نعم لو تعلق بنفس الأسباب مع قطع النظر عن ترتب
المسببات، فليس النهى دليلا على الصحة ولكنه لا ينافيها أيضا، لوضوح
امكان ترتب الآثار المتوقعة من تلك الأسباب على ما يكون مبغوضا منها.
نعم قد يستفاد من بعض النواهي أن ورودها ارشاد إلى فساد متعلقها.
300

وهذا لوجود قرائن في المقام، ولولاه لزم حمله على ما هو ظاهر فيه من
التحريم الغير المنافى للصحة [191]، بل موجب لها في بعض المقامات،
كما عرفت.
هذا، وقد يقال إن مقتضى القواعد وان كان كذلك الا ان في
الاخبار ما يدل على أن التحريم ملازم للفساد شرعا، مثل ما رواه في
الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه السلام سأله عن مملوك تزوج
بغير اذن سيده، فقال: ذاك إلى سيده ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما،
قلنا أصلحك الله تعالى إن حكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما
يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا يحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر
عليه السلام إنه لم يعص الله وانما عصى سيده، فإذا أجاز فهو له جائز (1).
حيث أنه يدل على أنه لو كان النكاح محرما شرعا لبطل، بل يشعر بان
الملازمة بين المعصية والفساد من المسلمات بين الأصحاب، وإنما اشتبه
من قال بفساد النكاح في الفرض، من جهة تخيل ان التحريم المستلزم
للفساد أعم من أن يكون متعلقا بعنوان المعاملة بأصل الشرع، أو يكون من
جهة وجوب متابعة السيد.
ويمكن أن يقال ليس المراد من المعصية في الرواية مخالفة النهى
التحريمي، بل مخالفة النهى الوضعي، إذ من المتعارف إطلاق المعصية عرفا

(1) وسائل الشيعة الجزء (14) الباب (24) من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث (1).
301

على عقد لم يشرعه الشارع ولم يمضه [192] ومن المعلوم أن العصيان بهذا
المعنى ملازم للفساد، فتأمل.

(1) وسائل الشيعة الجزء (12) الباب (2) من أبواب ما يكتسب الحديث (1)
302

فصل في المفاهيم
والمراد من المفهوم هو القضية الغير المذكورة التابعة للمذكورة
لخصوصية مستفادة منها [193]. واعلم أن النزاع في باب المفاهيم راجع

(1) وسائل الشيعة الجزء (12) الباب (2) من أبواب ما يكتسب به الحديث (1)
303

إلى الصغرى وان القضية الكذائية هل لها مفهوم أولا فلو أحرز المفهوم
فلا اشكال في حجيته.
1 - مفهوم الشرط
ومن المفاهيم مفهوم الشرط، واختلف في الجلمة الشرطية هل
تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على الثبوت عند الثبوت إما
بالوضع وإما بقرينة عامة يظهر منها ذلك، بحيث لو أراد المتكلم غيره،
فلا بد له من إقامة قرينة خاصة أم لا؟
إذا عرفت هذا فنقول ما يحتمل ان يكون مدلولا للقضية أمور:
(أحدها) - أن يكون مدلولها مجرد الثبوت عند الثبوت على أي نحو
كان، ولو من باب المقارنات الاتفاقية، من دون دلالة على الارتباط
واللزوم أصلا، فضلا عن أن تكون دالة على الحصر.
(ثانيها) - ان يكون مفادها ما ذكر مع زيادة ارتباط ولزوم بين
المقدم والتالي، بأي نحو من اللزوم، سواء كان الأول علة للثاني أو الجزء
الأخير لها، أم كان الثاني علة للأول، أم كانا معلولين لثالثة ونحو ذلك.
(ثالثها) - ان يكون اللزوم المستفاد منها تأثير المقدم في الجزاء، سواء
304

كان علة تامة أم كان أحد اجزائها.
(رابعها) - ذلك مع زيادة أن المقدم علة تامة للتالي.
(خامسها) - أحد الأخيرين مع زيادة دلالتها على الحصر.
والانصاف ان الاحتمال الأول ليس مفادا للقضية، ولا يبعد
دعوى ظهورها في ترتب التالي على المقدم [194] واما كون المقدم من
قبيل العلة المنحصرة أو جزئها المنحصر، فلا نجزم به بعد مراجعة الوجدان
مرارا، أترى أنه لو قال المتكلم (إن جاءك زيد فأكرمه) فسأل المخاطب
إن لم يجئ، ولكنه أكرمني هل أكرمه أولا، فأجاب أكرمه هل يكون
كلاما منافيا للظهور المنعقد لكلامه الأول [195]. لا أظنك تجزم بذلك بعد التأمل.
واما الأدلة التي يستدل بها في المقام فكلها مخدوش.
(منها) - ان القضية المشتملة على كلمة (لو) تدل على امتناع
التالي لامتناع المقدم بالاتفاق، وبشهادة التبادر والوجدان. وليس ذلك
الا لدلالتها على حصر العلة [196]، إذ لولا ذلك فمجرد امتناع العلة التي
305

جعلت مدخولة لكلمة لو، لا يستلزم انتفاء المعلول، فعلم أن كلمة (لو)
تدل على أن مدخولها علة منحصرة للجزاء. ومن البعيد التفكيك بينها
وبين سائر أدوات الشرط.
وفيه انه من الممكن أن يقال إن امتناع التالي يستفاد من مفاد
كلمة (لو) كامتناع المقدم في عرض واحد [197] لا أنه مستفاد من حصر
العلة. هذا مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد لا يعد دليلا يعتمد عليه.
و (منها) - انه بعد فهم اللزوم بين المقدم والتالي، يحمل على العلية
المنحصرة، لكونها أكمل افراد اللزوم [198].
306

وفيه (أولا) ان انحصار العلية في شئ لا يوجب أكمليتها، إذ
بعد كون شئ علة، فوجود شئ آخر مثله في العلية لا يوجب نقصا فيه،
كما أن عدمه ليس كما لا له، كما هو واضح.
و (ثانيا) انصراف الشئ إلى الفرد الكامل ممنوع، لأنه ليس
منشأ للانصراف، وهل ترى من نفسك أن الانسان ينصرف إلى خاتم
الأنبياء صلى الله عليه وآله؟ والحاصل أن ميزان الانصراف انس اللفظ
إلى معنى خاص، بحيث يفهم العرف منه ذلك المعنى، وأكملية الشئ
لا ربط لها بهذا المقام.
و (منها) - ان اللزوم المستفاد من الجملة يحمل على العلية المنحصرة
بمقدمات الحكمة، كما أن الطلب يحمل على النفسي عند الاطلاق دون
الغيري، كما أنه يحمل على التعييني دون التخييري.
وفيه (أولا) انه ليس حمل الطلب على النفسي والتعييني من جهة
الاطلاق، بل يحمل على النفسي عند الشك في كونه نفسيا أو غيريا،
وعلى التعييني عند الشك في كونه تعيينيا أو تخييريا، إما من جهة ظهوره
عرفا فيها عند خلو اللفظ عما يدل على غيرهما، وإما من جهة أن الطلب
المتعلق بشئ حجة عقلا على كونه واجبا نفسيا تعيينيا، بمعنى أنه لو كان
كذلك في الواقع لصحت العقوبة على مخالفته، ولا يجوز عند العقل
الاتيان بما يحتمل أن يكون بدلا له.
307

(ثانيا) أنه لو سلم أن حمله عليهما إنما يكون من جهة مقدمات
الاطلاق، فقياس ما نحن فيه عليه قياس مع الفارق، فان حمل الطلب على
النفسي والتعييني عند الاطلاق، إنما هو من جهة أنهما قسمان من الطلب
في قبال قسمين آخرين منه، ولكل من الأقسام أثر خاص، فلو لم يحمل
على قسم خاص، فلابد من الالتزام بالاهمال. والمفروض كونه في مقام
البيان، فيجب أن يحمل على ما هو أخف مؤنة من الأقسام، والنفسي
أخف مؤنة من الغيري، فان الغيري يحتاج إلى لحاظ الغير، وكذا التعييني
أخف مؤنة من التخييري، لأنه يحتاج إلى ذلك البدل. وهذا بخلاف
انحصار العلة، فإنه عنوان منتزع من عدم علة أخرى. ومن المعلوم أن وجود
علة أخرى وعدمها ليسا موجبين لتفاوت العلة أصلا، فلو أراد بيان
الانحصار يحتاج إلى دال مستقل آخر، كما أنه لو أراد بيان عدمه، يحتاج
إلى مبين آخر فافهم [199].
ومما استدل به المثبتون إطلاق ترتب الجزاء على الشرط. وتقريب
الاستدلال به أن مقتضى إطلاق ذلك أن يكون الجزاء مستندا إلى
خصوص الشرط دائما، سواء وجد شئ آخر سابقا عليه أو مقارنا له
أم لا. وهذا لا ينطبق إلا على العلة المنحصرة، فإنه لو تعددت العلة، فلو
كانت سابقة على ما ذكر في القضية، يكون الجزاء مستندا إليها، وإن
كانت مقارنة له، يكون الجزاء مستندا إلى مجموع العلتين.
والجواب أنه لو تكرر المسبب بتعدد الأسباب، يلزم اهمال السبب
308

أو استناد المسبب إلى مجموع السببين، فيحفظ الاطلاق المستفاد من
القضية، وهو أنه متى يوجد الشرط يترتب عليه الجزاء، من دون لزوم
القول بالحصر. واما لو فرضنا أن الجزاء واحد على كل حال، فاللازم على
تقدير تعدد الأسباب وإن كان عدم ترتبه على الشرط أصلا أحيانا، وعدم
كونه مستقلا كذلك لكنك عرفت مما تقدم أنا لم نسلم دلالة القضية على
كون الشرط علة تامة، بل المقدار المسلم وقوع الجزاء عقيب الشرط مع
ربط بينهما، ويكفي في الربط كونه صالحا للتأثير فيه [200]، وان منع من
تأثيره سبق علة أخرى.
309

ثم إن كل من استدل على ثبوت المفهوم بالاطلاق المستفاد من
الحكمة، فكلامه - على فرض تماميته - خارج عن المدعى، لان المدعى
ثبوت المفهوم للقضية الشرطية دائما، وأن القضية الشرطية تنحل إلى عقد
ايجابي وسلبي، والاطلاق المستفاد من المقدمات ليس دائميا، لأنه تابع
لوجود المقدمات.
حجة المنكرين أمور: (الأول): أن ما استدل به السيد
(قدس سره) من أن تأثير الشرط هو تعليق الحكم عليه، وليس يمتنع ان
يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجرى مجراه، ولا يخرج عن كونه شرطا، فان
قوله تعالى: (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم) (1) يمنع عن قبول الشاهد
الواحد حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في
القبول. ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشروط عن
بعض أكثر من أن تحصى، مثل الشمس فان انتفاءها لا يستلزم انتفاء
الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها. والأمثلة لذلك كثيرة عقلا وشرعا
انتهى)
والظاهر أنه (قدس سره) قد استظهر من كلام القائلين بالمفهوم
أن ذلك من جهة الشرطية، وأن لازمها انتفاء المشروط بانتفاء الشرط،
فورود ما افاده على هذا الكلام واضح لا اشكال فيه. ولكن المدعين لم

(1) سورة البقرة، الآية 282.
310

يتشبثوا بمجرد اطلاق الشرط، بل يدعون ظهور الجملة في كون مدخول أداة
الشرط علة منحصرة للجزاء، فلا يصح التقابل معهم الا بنفي هذا الظهور.
(الثاني) - أنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، والملازمة كبطلان
التالي واضحة. وأجيب بمنع بطلان التالي، وأن الالتزام ثابت. وقد عرفت
الكلام في ذلك.
(الثالث) - قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن
تحصنا) وفيه أن القائل بالمفهوم يشترط أن لا يكون الشرط محققا للموضوع،
والشرط في القضية المذكورة محقق للموضوع، فان الاكراه لا يتحقق الا مع
إرادة التحصن.
هذا مضافا إلى أن استعمال القضية الشرطية فيما لا مفهوم له
أحيانا مما لا ينكر، إنما الكلام في ظهورها فيما له مفهوم وضعا أو بقرينة
عامة وعدمه، والمدعى يقول بالأول. ومجرد الاستعمال بقرائن خارجية في
بعض المقامات لا ينافي دعواه.
ينبغي التنبيه على أمور
(الأول) - أن المفهوم لو قلنا به هو انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع
المذكور في القضية في غير مورد الشرط لا شخصه، ضرورة أن ارتفاع
شخص الحكم بارتفاع بعض قيود الموضوع عقلي. وهذا ليس من المفهوم
المتنازع فيه، وهكذا مفهوم الوصف وباقي المفاهيم التي وقعت موردا
للنزاع، فيكون مورد النزاع منحصرا فيما كان الحكم بسنخه قابلا للثبوت
وعدمه في غير مورد الشرط.
ومن هنا ظهر انه ليس من باب المفهوم الحكم بالانتفاء عند
311

الانتفاء في باب الوصايا والأوقاف ونظائرهما، فإنه لو أوصى بثلث ما له
مثلا للعلماء فمن كان خارجا عن العنوان لا يكون موردا لهذه الوصية
قطعا، ولا يمكن ان يكون المال - بعد انتقاله إلى العلماء بموت الموصى،
وكونه ملكا لهم - مالا لغيرهم. وهكذا حال الوقف وأمثاله، فعدم كون
المال لغير المتصف في مثال الوصية، وكذا عدمه لغير المتصف بعنوان
الموقوف عليه، فيما لو وقف على عنوان خاص ليس من باب مفهوم اللفظ.
هذا وقد خالف فيما ذكرنا - من أن المناط في باب المفهوم انتفاء
سنخ الحكم - بعض أساطين الفن، وجعل المفهوم في قولنا (أكرم زيدا
ان جاءك) انتفاء شخص الوجوب المتحقق في هذه القضية، على تقدير
انتفاء الشرط، ولعل نظره إلى أن هيئة افعل موضوعة بالوضع العام
والموضوع له الخاص بإزاء جزئيات الطلب، فما هو جزاء في القضية
المذكورة هو الوجود الجزئي الشخصي المتعلق باكرام زيد، دون حقيقة
الوجوب المتعلق باكرام زيد، ولم تحضرني عبارته حتى أتأمل في مراده
(قدس سره).
أقول: لو كان الوجه ما ذكرنا، ففيه (أولا) ما عرفت في تحقيق
معنى الحروف، وانها موضوعة كأسماء الأجناس للمعنى العام، ومستعملة
فيه حينئذ لا مورد لهذا الكلام.
و (ثانيا) ان الشرط - في قولنا إن جاءك زيد فأكرمه -
يستدعى حقيقة ايجاب الاكرام، لا الايجاب الجزئي الشخصي المتحقق
بجميع الخصوصيات، إذ ليس لنا شرط في القضايا الشرطية يكون كذلك،
غاية الامر حقيقة الايجاب لا تتحقق الا في ضمن الايجاب الخاص،
ونسلم منك أنه ليس لتلك الحقيقة لفظ موضوع، ولكنا نفهم أن
الايجاب الجزئي المدلول عليه باللفظ الخاص ليس معلولا للشرط المذكور في
312

القضية، بل المعلول هو الحقيقة الموجودة في ضمنه. وحينئذ فبعد فهم
حصر السبب من القضية لازمه ارتفاع حقيقة وجوب اكرام زيد في مورد
عدم الشرط.
(الثاني) أنه لابد - في مفهوم القضية الشرطية على القول به -
من حفظ الموضوع مع تمام ما اعتبر قيدا في الموضوع أو الشرط أو في طرف
الجزاء، وينحصر اختلافه مع المنطوق في أمرين: -
(أحدهما) - انتفاء الشرط في المفهوم وثبوته في المنطوق.
(ثانيهما) - ان يكون الحكم الثابت في المفهوم نقيض ما ثبت في
المنطوق، فمفهوم قولك: إن جاءك زيد راكبا يوم الجمعة فاضربه ضربا
شديدا - إن لم يجئك زيد راكبا يوم الجمعة، فلا يجب عليك أن تضربه
ضربا شديدا.
ومن الاعتبارات الراجعة إلى القضية الشرطية الكل المجموعي،
فلو قال: إن جاءك زيد فتصدق بكل مالك، على نحو الكل المجموعي،
فمفهومه عدم وجوب التصدق بمجموع المال على تقدير عدم الشرط. وهذا
مما لا اشكال فيه. أما لو وقع العموم الاستغراقي في موضوع الجزاء، فهل
تقتضي القاعدة مراعاته في طرف المفهوم، فيكون المفهوم من قولنا: - (ان
جاءك زيد فأكرم كل عالم على نحو الاستغراق الافرادي - عدم وجوب
اكرام الكل على تقدير عدم الشرط، حتى لا ينافي وجوب اكرام البعض أو
عدم مراعاته، حتى يكون المفهوم من القضية المذكورة السالبة الكلية.
ومن هنا وقع النزاع بين إمامي الفن الشيخ محمد تقي وشيخنا
المرتضى قدس سرهما في حديث إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ،
فادعى الأول بداهة أن المفهوم هو الايجاب الكلى واستدل - في
الطهارة على ما هو ببالي - بان العموم لوحظ مرآة وآلة لملاحظة الافراد،
313

فكأنه لم يذكر في القضية الا الاحكام الجزئية المتعلقة بالافراد، فيكون
تعليق هذا الحكم - المنحل إلى احكام جزئية عديدة على بلوغ الكرية -
منحلا إلى تعليقات عديدة، ولازم حصر العلة كما هو المفروض أنه في
صورة انتفاء الكرية ينقلب كلي نفى إلى الاثبات.
ويمكن أن يستدل لهذا المطلب بوجه آخر، وهو أنه بعد فرض
حصر العلة في الكرية يلزم ان لا يكون لبعض افراد العام علة أخرى إذ لو
كان لبعض الافراد علة أخرى يتحصل المجموع من علتين وهذا خلف
ولازم ذلك في القضية المذكورة الايجاب الكلى في صورة عدم الكرية
وهذا واضح.
والحق أن القضية المذكورة وأمثالها ظاهرة في أن عمومها ملحوظ
وأن المفهوم في القضية المذكورة هو الايجاب الجزئي، والدليل على ذلك
التبادر [201] ولا ينافي دعوى التبادر المذكور ما تقدم سابقا من إنكار
أصل المفهوم في القضايا الشرطية، فان هذا التبادر المدعى هنا يكون في
314

كيفية مفهوم القضية، وفائدته أنه لو علمنا من الخارج أن القضية
المشتملة على الكل الاستغراقي جئ بها لبيان المفهوم، وبنينا على الاخذ
بالمفهوم في قضية شخصية من جهة وجود القرائن الخارجية، نأخذ به على
نحو ما ذكرنا فلا تغفل.
وأما الاستدلال الأول فجوابه أن العموم وإن لوحظ مرآة في
الحكم الذي أسند إلى موضوعه، إلا أنه لا منافاة بين هذا وبين ملاحظة
هذا العموم الاستغراقي أمرا وحدانيا، بملاحظة التعليق على الشرط. وهذا
أمر واضح لا يحتاج امكانه في مرحلة الثبوت إلى مزيد برهان. وأما الدليل
عليه في مرحلة الاثبات، فهو التبادر، فان مفهوم قولنا لو كان معك
الأمير، فلا تخفف أحدا ليس انه في صورة عدم كون الأمير يجب الخوف من
كل أحد [202].
وأما الاستدلال الثاني، فهو مبنى على الالتزام بان تالي الأدوات
علة، وهذا غير مسلم حتى بناءا على القول بالمفهوم، إذ يكفي في المعنى
المستفاد من تعليق الجزاء كون تالي الأدوات جزءا أخيرا للعلة، إما
317

منحصرا بناءا على القول بالمفهوم، أو أعم من ذلك بناءا على
عدمه [203].
(الثالث) أنه لو تعددت القضايا وكان الجزاء واحدا، فلا يمكن
الجمع بين مداليلها الأولية، ضرورة وقوع التعارض بين مفهوم كل منها مع
منطوق الأخرى، فلابد من التصرف اما بتخصيص مفهوم كل منها بمنطوق
الأخرى، وإما بحملها على بيان مجرد الوجود عند الوجود. والفرق بينهما
أنه على الأول يؤخذ بالمفهوم في غير مورد المنطوق، بخلاف الثاني، وإما
بحمل الشرط في كل من القضايا على جزء السبب، واخذ المفهوم من
المجموع. واما بالالتزام بأن المذكور في القضايا مصداق للسبب، وما هو
سبب هو الجامع بين ما ذكر. ولعل الأظهر هو الوجه الثاني عرفا [204].
318

وأما احتمال أخذ إحدى القضايا منطوقا ومفهوما، فلاوجه له أصلا، فإنه
يوجب طرح غيرها كما لا يخفى.
2 - مفهوم الوصف
ومن جملة المفاهيم التي قد وقع النزاع في ثبوتها مفهوم
الوصف [205]. والحق عدم دلالة القضية المشتملة على ذكر الوصف على
عدم سنخ الحكم في غير مورده، لا وضعا ولا من جهة قرينة عامة.
والتحقيق عدم دلالتها على كون الوصف المذكور في القضية علة للحكم،
319

فضلا عن كونه علة منحصرة، لاحتمال كون ذكره في القضية من جهة
وجود مانع من تعلق الحكم بالمطلق في مرحلة الاثبات، وإن كان ثابتا له
في مرحلة الثبوت، أو لكون الاهتمام بشأنه، أو لعدم احتياج غيره إلى
الذكر، وغير ذلك من النكات.
نعم قد تستظهر العلية من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع،
كوجوب الاكرام المتعلق بالعالم، أو وجوب التبين المتعلق بخبر الفاسق،
ولا فرق في ما ذكرنا بين الوصف المعتمد على الموصوف وغيره. نعم لازم
التقييد بالوصف عدم شمول الحكم في تلك القضية لغير مورد الوصف،
وهذا غير المفهوم المتنازع فيه، كما عرفت.
ومن هنا يظهر أن بعض الكلمات التي تنقل عن الاعلام في
الاستدلال على المقام ليس في محله، مثل ما قيل: (إنه لو لم يكن للوصف
مفهوم لما صح القول بالتخصيص في مثل قولنا أكرم العلماء الطوال)، ولما
صح حمل المطلق على المقيد، إذ لا تنافى بينهما إلا من جهة دلالة المقيد على
سلب الحكم من غيره، إذ هذه الكلمات أجنبية عما نحن بصدده، ضرورة
أن نفى وجوب اكرام القصار ليس من جهة أن تقييد العلماء بالوصف دل
على عدم الحكم في غير مورده، حتى يكون من باب المفهوم، بل من حيث
أن وجوب الاكرام في غير المنصوص يحتاج إلى دليل، والنص لا يشمله.
320

وكذا حمل المطلق على المقيد في مورد نقول به، وهو في صورة احراز وحدة
التكليف المتعلق بهما، وأظهرية دليل المقيد - في اعتبار القيد من دليل
المطلق في الاطلاق - إنما هو من جهة تضييق دائرة الحكم الثابت في
القضية، فكأنه من أول الامر ورد الحكم على المقيد. وأين هذا من المفهوم
المدعى في المقام؟ ونظير ما ذكر الاستدلال بقولهم (الأصل في القيود أن
تكون احترازية)، فإنه بعد تسليم ظهور كل قيد في ذلك، يوجب تضييق
دائرة الموضوع، ولا يفيد انتفاء سنخ الحكم من غير مورد القيد، كما هو واضح.
وما استدل به على مفهوم الوصف أن أبا عبيدة - مع كونه من
أهل اللسان الذين ينبغي الرجوع إليهم في تشخيص المعاني - قد فهم من
قوله عليه السلام (لي الواجد يحل عقوبته) أن لي غيره لا يحل.
وفيه أنه ليس أبو عبيدة وغيره بأولى منا في فهم هذا المعنى من
القضية، بعد القطع بوضع مفرداتها، والقطع بعدم وضع آخر للمجموع.
وإنما يفهم المفهوم من خصوص هذه القضية، لان الوصف المأخوذ فيها
مناسب لعلية الحكم، مع العلم بعدم علة أخرى كما لا يخفى.
(تنبيهان)
(الأول) - أنه مما تقرر عند القائل بثبوت المفهوم للوصف أنه
يشترط أن لا يكون الوصف واردا مورد الغالب، كما في قوله تعالى:
(وربائبكم اللاتي في حجوركم) (1) ويمكن توجيهه بان المفهوم - بعد غلبة
وجوده في افراد - ينصرف إليها ولا يحتاج في ذلك إلى ذكر القيد، فذكر
القيد وعدمه سيان فهو بمنزلة القيد المساوي، وسيجئ خروجه عن محل النزاع.

(1) سورة النساء، الآية 23.
321

وفيه منع انصراف المفهوم إلى الافراد الغالبة [206]، فان ميزان
الانصراف انس اللفظ عرفا بالنسبة إلى المعنى الخاص، وليس دائرا مدار
الغلبة في الوجود، ويمكن ان يكون وجهه ن الورود مورد الغالب يخرج
القيد عن اللغوية، فلا يكون حينئذ دليلا على إرادة المفهوم.
وفيه أنه لو كان القول بالمفهوم من جهة الخروج عن اللغوية،
لما صح القول به في كثير من الموارد، لوجود احتمال نكتة في ذكر القيد.
وهذا في الحقيقة انكار للمفهوم للقضية، واثباته لها في بعض المقامات
لقرينة خاصة، مع أن خروج القيد عن اللغوية يكفي فيه كونه دخيلا في
الحكم، ولا يدل على الانحصار حتى يلزم منه العدم عند العدم.
(الثاني) - أن محل النزاع في المقام هو ما لو كان هناك موضوع
محفوظ في كلتا الحالتين. أعني حالة وجود الوصف وعدمه، فيدعي مدعى
المفهوم دلالة القضية على عدم سنخ الحكم المتعلق بالموضوع المفروض،
فينحصر مورد النزاع فيما تخلف الموصوف عن الصوف، وهو في الأوصاف
التي تكون أخص من الموصوف، أو أعم من وجه في مورد تخلف
الموصوف،. ما أشرنا في المبحث السابق إلى أن الموارد - التي يكون الشرط
محققا للموضوع - ليست محلا للبحث، ففي مثل قولنا: (في الغنم السائمة
زكاة) لو قلنا بالمفهوم نقول بدلالته على نفى الزكاة في المعلوفة. واما الإبل،
فان قلنا بأن في سائمتها زكاة، فمن جهة فهم المناط، وأن العلة لأصل
الزكاة السوم، فيجرى المعلول في غير المذكور، تبعا للعلة. وإن قلنا بدلالة
322

القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الإبل، فمن جهة حصر مناط
أصل الزكاة في السوم. ولا دخل لشئ مما ذكر بمفهوم الوصف المدعى،
كما لا يخفى.
3 - مفهوم الغاية
ومن المفاهيم التي وقع الاختلاف فيها مفهوم الغاية. والمنسوب
إلى المشهور دلالة الغاية المذكورة في القضية على ارتفاع الحكم، وإلى جماعة
- منهم الشيخ والسيد قدس سرهما - عدم الدلالة.
والحق ان يقال إن الغاية بحسب القواعد العربية (تارة) تكون
غاية للموضوع، و (أخرى) تكون غاية للحكم (الأول) مثل سر من البصرة
إلى الكوفة (والثاني) مثل اجلس من الصبح إلى الزوال،
ففي الأول حالها حال الوصف في عدم الدلالة، وان كان تحديد
الموضوع بها يوجب انتفاء الحكم المذكور في القضية عند حصولها، لكن
قد مر ان هذا ليس قولا بالمفهوم.
وفي الثاني الظاهر الدلالة، فان الغاية جعلت - بحسب مدلول
القضية - غاية للحكم المستفاد من قوله اجلس. وقد حققنا في محله ان
مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب لا الطلب الجزئي الخارجي، فتكون الغاية
في القضية غاية لحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس. ولازم ذلك ارتفاع
حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها. نعم لو قلنا ان مفاد الهيئة هو
الطلب الجزئي الخارجي، فالغاية لا تدل على ارتفاع سنخ الوجوب.
وبعبارة أخرى لا إشكال في ظهور قولنا (اجلس من الصبح إلى
الزوال) في أن الزوال غاية للطلب المستفاد من قولنا اجلس، فان جعلنا
323

مفاد الهيئة حقيقة الطلب المتعلق بالجلوس، فمقتضى جعل الغاية لها
ارتفاعها عند تحقق الغاية، وان جعلنا مفادها هو الطلب الجزئي، فلازم
ذلك ارتفاع ذلك الطلب الجزئي. ولا ينافي وجود جزئي آخر بعد الغاية.
وحيث أن التحقيق هو الأول، تكون القضية ظاهرة في ارتفاع سنخ الحكم
عن الجلوس في المثال [207].
هذا وفي المقام نزاع آخر، وهو أن الغاية هل هي داخلة في المغيى
أو خارجة عنها والتحقيق في هذا المقام أن الغاية التي جعلت محلا للكلام
في هذا النزاع، لو كان المراد منها هو الغاية عقلا، أعني انتهاء الشئ،
فهذا مبنى على بطلان الجزء الغير القابل للتقسيم وصحته، فان قلنا بالثاني
فالغاية داخلة في المغيى يقينا، فان انتهاء الشئ على هذا عبارة عن جزئه
الأخير، فكما أن باقي الاجزاء داخلة في الشئ، كذلك الجزء الأخير،
وان قلنا بالأول، فالغاية غير داخلة، لأنها حينئذ عبارة عن النقطة الموهومة
324

التي لا وجود لها في الخارج.
وان كان محل النزاع هو مدخول حتى وإلى وان لم يكن غاية
حقيقة، فإنه قد يكون شيئا له اجزاء متصلة، كالكوفة، في قولنا سر من
البصرة إلى الكوفة، والليل في قولنا صم من الفجر إلى الليل.
فالحق التفصيل بين كون الغاية قيدا للفعل، كالمثال الأول،
وبين كونها غاية للحكم كالمثال الثاني، ففي الأول داخلة في المغيى، فان
الظاهر من المثال المذكور دخول جزء من السير المختص بالكوفة في
المطلوب، كما أن الظاهر منه دخول السير المختص بالبصرة أيضا في
المطلوب. وفي الثاني خارجة عنه، فان المفروض انها موجبة لرفع الحكم،
فلا يمكن بعثه إلى الفعل المختص بها، كما لا يخفى.
ومن جملة ما يستفاد منه الحصر الجملة الملحوقة بأداة الاستثناء،
ولا شبهة في أنها تدل على اختصاص الحكم بالمستثنى منه، وثبوت نقيضه
للمستثنى. ولذا يكون الاستثناء من الاثبات نفيا، ومن النفي اثباتا.
وذلك للانسباق والتبادر القطعي.
ونسب الخلاف إلى أبي حنيفة ولعله يدعى أن الاستثناء لا يدل
إلا على أن المستثنى لا يكون مشمولا للحكم المنشأ في القضية. وأما ثبوت
نقيضه له في الواقع، فلا.
ويقرب هذا المدعى القول بأن الاسناد إنما يكون بعد
الاخراج [208]، إذ على هذا حاله حال التقييد. وقد عرفت أن التقييد
325

لا يدل الا على تضيق دائرة الموضوع في القضية. وكيف كان يدل - على
خلاف ما ذهب إليه - التبادر القطعي.
واحتج على مذهبه بقوله (ع) (لا صلاة الا بطهور) إذ لو كان
الاستثناء من النفي اثباتا، للزم كفاية الطهور في صدق الصلاة، وان
كانت فاقدة لباقي الشرائط.
وفيه (أولا) أن الملحوظ في القضية هو المركب المشتمل على تمام
ما اعتبر فيه، سوى الطهور [209]، ونفيت حقيقة الصلاة أو هي بقيد
التمام عنه، إلا في مورد تحقق الطهور. و (ثانيا) أنه على فرض التجوز في
مثل التركيب المزبور لا يضرنا، بعد شهادة الوجدان القطعي على ما
ادعيناه.
ومما استدل به على ما ذكرنا من المعنى قبول رسول الله صلى الله
عليه وآله اسلام من قال كلمة (لا إله إلا الله) إذ لو لم يدل الاستثناء من
النفي على الاثبات في المستثنى، لما كانت هذه الكلمة بمدلولها دالة على
الاعتراف بوجود الباري عز شانه. والقول - بان هذه الدلالة في كل
مورد كانت مستندة إلى قرينة خاصة - بعيد غاية البعد، بل المقطوع به
خلافه، كالقطع بخلاف أن هذه الكلمة كانت سببا لقبول الاسلام
شرعا، مع قطع النظر عن مدلولها.
هذا وهذا الاستدلال، وان كان حسنا، لكن لا يحتاج إليه بعد
326

كون المعنى الذي ذكرنا متبادرا قطعيا من القضية. وهنا اشكال آخر
معروف، وهو أن الخبر المقدر للفظة لا النافية للجنس إما موجود، وإما
ممكن وعلى أي حال لا يدل الاستثناء على التوحيد الذي هو عبارة عن
الاعتقاد بوجود الباري، ونفى إمكان الشريك له عز شأنه، فإنه على الأول
الاستثناء يدل على حصر وجود الالهة في الباري جل وعلا، ولا يدل على
نفى امكان الشريك له جل شانه. وعلى الثاني يدل على اثبات الامكان
لوجوده تعالى شانه، لا على وجوده تعالى ولا يدفع هذا الاشكال جعل إلا
تامة غير محتاجة إلى الخبر، فإنه على هذا أيضا تدل القضية على نفى الالهة
واثبات الباري جل اسمه، ولا تدل على عدم امكان غيره.
ويمكن ان يجاب بان المراد بالآلة المنفى هو خالق تمام
الموجودات [210]، وبعد نفى هذا المعنى مطلقا واثباته في الذات المقدسة،
يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقا له، ولا يمكن مع كونه
مخلوقا أن يكون خالقا، فحصر وجود الاله في الباري جل وعلا يدل
- بالالتزام البين - على عدم امكان غيره تعالى، فافهم.
327

بقى هنا شئ، وهو أن الدلالة التي أشرنا إليها، هل هي داخلة
في المنطوق أو المفهوم؟ وهذا وان كان خاليا عن الفائدة، إذ ليسا بعنوانهما
موردا لحكم من الاحكام، إلا أنه لا باس بذكر ذلك.
فنقول قولنا وأكرم العلماء الا زيدا) يشتمل على عقد ايجابي
وسلبي، ودلالة العقد الايجابي - بعد خروج زيد - على وجوب اكرام باقي
العلماء دلالة المنطوق، ودلالة العقد السلبي على اثبات نقيض ذلك الحكم
في المستثنى دلالة المفهوم [211]، إذ هي لازمة لخروج المستثنى عن تحت
الحكم المتعلق بالمستثنى منه، كما أن دلالته - على حصر مورد وجوب
الاكرام في الباقي، وحصر مورد نقيضه في المستثنى أيضا - داخلة في
المفهوم، فان ذلك كله لازم المعنى المستفاد من أداة الاستثناء بالمطابقة،
328

وهو خروج المستثنى عن تحت الحكم السابق على وجه الحصر. وإن جعلنا
كلمة إلا زيدا قرينة على إرادة وجوب اكرام الباقي على وجه الحصر من
العقد الايجابي، فتكون دلالة العقد الايجابي - للقضية على حصر مورد
وجوب الاكرام في الباقي - داخلة في المنطوق، ودلالته - على ثبوت
نقيضه للمستثنى - داخلة في المفهوم المستفاد من حصر وجوب الاكرام في
غيره.
ويحتمل بعيدا أن يكون الحصر مستفادا من تركيب العقد الايجابي
مع السلبي، بمعنى أن حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي يستفاد من نفى
وجوب اكرام زيد المستفاد من الاستثناء، وكذا حصر مورد نفى الوجوب
في زيد يستفاد من نفى وجوب اكرام باقي العلماء المستفاد من قوله أكرم
كل عالم فتدبر.
ومن جملة ما ذكروه في عداد ما يفيد الحصر كلمة (انما)، وقد
أرسلها النحاة ارسال المسلمات في كلماتهم، وقالوا إن ذلك - أعني
إفادتها الحصر - جواز انفصال الضمير في مثل قول الفرزدق: (أنا الذائد
الحامي الذمار وانما، يدافع عن أحسابهم انا أو مثلي) كما جاز في قولنا ما
يدافع عن أحسابهم الا انا أو مثلي. ونقل تصريح أهل اللغة أيضا بافادته
الحصر.
والانصاف - كما اعترف به في التقريرات - عدم حصول الجزم
بذلك. أما (أولا) فلعدم وجود ما يرادفه في عرفنا، حتى يستكشف الحال
منه بمراجعة الوجدان. وأما (ثانيا) فنحن كلما راجعنا مواقع استعمال
هذه الكلمة في كلمات الفصحاء، لم نجد موضعا إلا ويمكن المناقشة في
استفادة الحصر من هذه الكلمة، لا جل قيام القرينة المقامية على الحصر أو
غيرها. من تقديم ما حقه التأخير أو غير ذلك، بحيث لو حذفت لفظة انما
329

من الكلام لدلت القرائن على الحصر أيضا، ولذا يستفاد الحصر من قولنا
(يدافع عن أحسابهم انا أو مثلي) بقرينة عطف أو مثلي. وهذا هو المجوز
لانفصال الضمير، ألا ترى أنه لو فرض مورد خال عن جميع تلك القرائن
- كما في قولك إنما زيد قائم - لا يفهم منه الحصر، وإنما المستفاد هو
التأكيد وأما إرساله في كلمات النحاة أرسال المسلمات، وكذا تصريح
أهل اللغة، فلا يجدي شئ منهما في إفادة القطع، خصوصا مع ذكر
التعليلات العليلة في كلامهم. نعم الذي يمكن الجزم به أن مفاد تلك
الجملة المصدرة بأنما - حصرا كان أو غيره - يصير آكد بواسطة تصديرها
بهذه اللفظة وأين هذا من إفادة الحصر؟
330

(المقصد الخامس)
(في العام والخاص)
إعلم ان العموم قد يستفاد من جهة وضع اللفظ، كلفظة (كل)
وما يرادفها، وقد يستفاد من القضية عقلا، كالنكرة الواقعة في سياق
النفي، أو اسم الجنس الواقع في سياق النفي، حيث أن نفى الطبيعة مستلزم
لنفى افرادها عقلا. وقد يستفاد من جهة الاطلاق، مع وجود مقدماته،
كالنكرة في سياق الاثبات أو اسم الجنس كذلك والعموم المستفاد من
الاطلاق قد يكون بدليا، وقد يكون استغراقيا حسب اختلاف المقامات.
(اشكال ودفع)
أما الاشكال فهو انه ليس لنا لفظ يدل على العموم، بحيث
يستغنى عن التشبث بمقدمات الحكمة، فان الألفاظ الدالة على العموم
كلفظة (كل) وأمثالها تابعة لمدخولها، فان اخذ مطلقا فالكل يدل على
تمام افراد المطلق، وإن اخذ مقيدا فهو يدل على تمام افراد المقيد.
والمفروض أن مدخول (كل) ليس موضوعا للمعنى المطلق، كما أنه ليس
موضوعا للمعنى المقيد، بل هو موضوع للطبيعة المهملة الغير الآبية عن
331

الاطلاق والتقييد فحينئذ قول المتكلم (كل عالم) لا يدل على تمام افراد
العالم، إلا إذا أحرز كون العالم الذي دخلت عليه لفظة (كل) مطلقا،
ومع عدم احرازه يمكن أن يكون المدخول هو العالم العادل مثلا، فتكون
لفظة (كل) دالة على تمام افراد ذلك المقيد. ولذا لو صرح بهذا القيد لم
يكن تجوز أصلا، لا في لفظ العالم ولا في لفظة (كل) وهو واضح.
واما النكرة في سياق النفي وما في حكمها، فلا يقتضى وضع
اللفظ إلا نفى الطبيعة المهملة، وهي تجامع المقيدة، كما أنها تجامع المطلقة،
والمحرز - لكون الطبيعة المدخولة للنفي هي المطلقة لا المقيدة - ليس الا
مقدمات الحكمة، كما أن المحرز - لكون الطبيعة المدخولة للفظة (كل)
مطلقة - ليس الا تلك المقدمات، إذ بدونها يتردد الامر بين أن يكون
النفي واردا على المطلق، وأن يكون واردا على المقيد.
وأما الدفع فهو أن الظاهر - من جعل مفهوم موردا للنفي، أو
اللفظ الدال على العموم - كون ذلك المفهوم بنفسه موردا لأحدهما، لا أنه
اخذ معرفا لما يكون هو المورد. ولا اشكال في أن ورود الكل على نفس
مفهوم لفظ العالم (مثلا) يقتضى استيعاب تمام الافراد [212] كما أنه
332

لا إشكال في أن ورود النفي عليه يقتضى نفى تمام الافراد [213]. نعم
يمكن كون الرجل في قولنا لا رجل في الدار معرفا لفرد خاص منه، ويكون
333

النفي واردا عليه. ولكن هذا خلاف ظاهر القضية، فان الظاهر أن مفهوم
لفظ الرجل بنفسه مورد للنفي.
334

ولا يرد أنه - بناءا على هذا الظهور - يلزم عدم الاحتياج إلى
مقدمات الحكمة في الحكم الايجابي أيضا. توضيح الاشكال: أن ظاهر
القضية الحاكية لتعلق الايجاب بالطبيعة أنها بنفسها مورد للحكم، لا بما
هي معرفة لصنف خاص منها، لعين ما ذكر في القضية المنفية، ولازم تعلق
الحكم بالطبيعة بنفسها سريانه في كل فرد، فلا يحتاج فهم العموم من
القضية إلى مقدمات الحكمة.
وبيان دفعه ان المهملة تصدق على وجود خاص حقيقة، فان
كان الثابت في نفس الامر الحكم المتعلق بوجود خاص منها، يصح نسبة
الحكم إليها حقيقة، فاسراء الحكم إلى تمام الافراد لا يقتضيه وضع اللفظ،
بل يحتاج إلى المقدمات. وهذا بخلاف النفي المتعلق بالطبيعة المهملة، فإنه
لا يصح إلا إذا لم تكن متحققة أصلا، إذ لو صح نفى الطبيعة مع وجود فرد
خاص منها، لزم اجتماع النقيضين.
ومحصل الكلام أنه لا شك في أن قولنا (كل رجل، وقولنا
لا رجل) يفيدان العموم، من دون حاجة إلى مقدمات الحكمة. والسر في
ذلك ما قلناه، ولولا ذلك لما دل قولنا أكرم العالم مطلقا أيضا على
الاطلاق، إذ الاطلاق أيضا أمر وارد على مفهوم لفظ العالم. والمفروض
أنها مهملة تجتمع مع المقيد، ولذا لو قال (أكرم العالم العادل مطلقا) لم
يكن تجوزا قطعا، كما ذكرنا في تقرير الشبهة في مدخول لفظ الكل والنفي،
ولا شبهة في أن العرف والعقلاء لا يقفون عند سماع هذا الكلام، ولا
يطلبون مقدمات الحكمة في مفهوم لفظ العالم الذي ورد الاطلاق عليه.
ولعل هذا من شدة وضوحه خفي على بعض الأساتيذ فتدبر فيما ذكرناه.
335

(فصل في حجية العام المخصص في الباقي)
لا شبهة أن العام المخصص - سواء كان بالتخصيص المتصل أم
المنفصل - حجة في الباقي، وان كان قد يفرق بينهما من بعض جهات اخر
كما يأتي انشاء الله تعالى.
والدليل على ذلك أن التخصيص لا يستلزم التجوز في العموم،
حتى يبحث في أنه بعد رفع اليد عن معناه الحقيقي هل الباقي أقرب
المجازات أو هو مساو مع سائر المراتب إلى أن تنتهي إلى مرتبة لا يجوز
التخصيص إليها، لان التخصيص ان كان متصلا، فان كان من قبيل
القيود والأوصاف، فهو تضييق لدائرة الموضوع [214]، وان كان من
قبيل الاستثناء، فهو إما إخراج عن الموضوع قبل الحكم، وإما إخراج عن
الحكم [215]، فيستكشف أن شمول العام له من باب التوطئة والإرادة
الصورية الانشائية لا الجدية [216]. وعلى كل حال ليس حمل العام
336

على باقي الافراد تجوزا فيه [217] بل ظهوره انعقد واستقر في الباقي من
أول الامر.
وإن كان التخصيص منفصلا، فالظاهر أنه يكشف عن عدم
كون الخاص مرادا في اللب، مع استعمال لفظ العام عن عمومه في مرحلة
الاستعمال بأحد الوجهين الذين ذكرا في المتصل. ولا يخفى أن هذا الظهور
الذي يتمسك به لحمل العام على الباقي ليس راجعا إلى تعيين المراد من
اللفظ في مرحلة الاستعمال، بل هو راجع إلى تعيين الموضوع للحكم جدا،
فان جعلنا المخصص كاشفا عن عدم كون الخاص موضوعا للحكم في
القضية، فنقول مقتضى الأصل العقلائي كون المعنى الذي ألقي إلى
337

المخاطب موردا للحكم في القضية بتمامه، وإذا علمنا عدم دخول جزء منه
تحت الحكم، فمقتضى الأصل دخول الباقي. وإن جعلناه كاشفا عن عدم
كونه موردا للحكم الجدي، بعد شمول الحكم الانشائي المجعول في القضية
له، فنقول مقتضى الأصل كون الإرادة المنشأة في القضية مطابقة مع
اللب، وخرج عن تحت هذا الأصل الإرادة المنشأة في القضية المتعلقة
بالخاص، فبقى الباقي.
هذا لكن لا يخفى انما يجرى في العام الاستغراقي، حيث أنه
ينحل إلى إرادات عديدة متعلقة بموضوعات كذلك، فخروج واحدة منها
عن تحت الأصل المذكور لا يضر بالباقي. وأما المجموعي فحيث أن الإرادة
فيه واحدة، فينحصر وجه حمله على الباقي بعد خروج البعض في الأول
فتدبر فيه.
احتج النافي لحجية العام في الباقي بالاجمال، لتعدد المجازات
حسب مراتب العام، وتعيين مرتبة خاصة تعيين بلا معين. وقد أجيب بأن
الباقي أقرب المجازات. وفيه ان المدار ليس على الأقربية بحسب الكم
والمقدار، بل المعيار الأقربية بحسب زيادة الانس الناشئة عن المناسبة
الخاصة بين المعنيين.
وفي تقريرات شيخنا المرتضى (قدس سره) ما محصله أن دلالة
العام على كل فرد عير منوطة بدلالته على الآخر. ولو فرض كون دلالة
العام على الباقي دلالة مجازية، فمجازيته انما هي بملاحظة عدم شموله
للافراد المخصوصة، لشموله لباقي الافراد، فالمقتضي لحمله على الباقي
موجود، والمانع مفقود، لاختصاص المخصص بغيره إنتهى ملخص كلامه
(قدس سره).
ولا يخفى ما فيه، إذ الدلالة - المستفادة من القضية المشتملة على
338

لفظ الكل مثلا على كل فرد - إنما هي من جهة السور المحيط بتمام
الافراد الدال عليه لفظ الكل حقيقة، وبعد فرض صرف اللفظ عن هذا
المعنى واستعماله في معنى آخر، لا يعلم أن ذلك المعنى المجازى هل هو
معنى محيط بالباقي أو الأقل.
وبعبارة أخرى ليس كل فرد مستقلا مدلولا ابتدائيا للفظ الكل،
حتى تكون له مداليل متعددة، فيجب حفظ ما لم يعلم خلافه، بل الانتقال
إلى كل فرد مستقلا إنما هو ببركة ذلك المعنى الواحد الذي جعل مرآة
لملاحظة الافراد وبعد رفع اليد عن ذلك المعنى، من أين لنا طريق إلى
الباقي. والأولى في الجواب ما قررناه.
(فصل)
إذا خص العام بمخصص، وكان مرددا بين متباينين، يسقط
عن الاعتبار في كليهما، سواء كان المخصص متصلا أم منفصلا، وسواء
كان الترديد من جهة الشبهة في المفهوم أم في المصداق.
وأما إذا خصص بشئ مردد بين الأقل والأكثر، فان كان
من جهة الشبهة في المصداق، فسيأتي الكلام فيه، وإن كان من جهة
الشبهة في المفهوم، فلا إشكال في سراية اجماله إلى العام لو كان المخصص
متصلا، لان المجموع كلام واحد، ولا يتم ظهوره إلا بعد تماميته وخلوه
عن الصارف، إما بالقطع وإما بأصالة عدمه. وليس أحدهما في المقام.
أما الأول فواضح. واما الثاني فلعدم بناء العقلاء على التشبث بها، بعد
وجود ما يصلح لان يكون صارفا.
وأما إذا كان منفصلا فقد استقر بناء مشايخنا على التمسك بالعموم في
339

الفرد المشكوك انطباق عنوان المخصص عليه. واستدلوا على ذلك بان
العموم قد تم واستقر ظهوره في كل فرد، إما بالقطع بعدم المخصص
المتصل، وإما بواسطة الأصل، حيث أنه شك في أصل وجوده، فهو حجة
في نفسه، ولا يرفع اليد عنها الا بحجة أخرى أقوى منها. والمخصص المجمل
- المردد بين الأقل والأكثر بحسب المفهوم - ليس حجة إلا في القدر
المتيقن، وفي هذا المقدار يرفع اليد عن ظهور العام قطعا. وأما الزائد فليس
المخصص حجة فيه، فرفع اليد عن العموم فيه طرح للحجة المستقرة، من
دون معارض.
وفيه نظر، لا مكان أن يقال: إنه بعد ما جرت عادة المتكلم على
ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه، فحال المنفصل في كلامه حال
المتصل في كلام غيره، فكما أنه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر
المتكلمين إلى احراز عدم المخصص المتصل إما بالقطع وإما بالأصل،
كذلك يحتاج - في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض - إلى إحراز
عدم المخصص المنفصل أيضا كذلك، فإذا احتاج العمل بالعام إلى احراز
عدم التخصيص بالمنفصل، فاللازم الاجمال فيما نحن فيه، لعدم احراز عدمه
لا بالقطع ولا بالأصل. أما الأول فواضح وأما الثاني فلما مضى من أن
جريانه مختص بمورد لم يوجد ما يصلح لان يكون مخصصا. والمسألة محتاجة
إلى التأمل [218].
340

(الشبهة المصداقية)
لو كان المخصص مجملا بحسب المصداق، بان كان المشتبه فردا
للعام، وتردد بين أن يكون فردا للعنوان الخاص أو باقيا تحت عموم العام،
فلا اشكال في عدم جواز التمسك بالعام فيما إذا كان المخصص متصلا
بالكلام، لعدم انعقاد ظهور العام من أول الامر، إلا في غير مورد العنوان
الخاص. وأما إذا كان المخصص منفصلا، فقد يتوهم جواز التمسك به فيما
شك انطباق العنوان الخاص عليه، بعد انطباق العنوان العام عليه قطعا.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب ذلك أن قول القائل - أكرم
العلماء - يدل بعمومه الافرادي على وجوب اكرام كل واحد من العلماء،
وباطلاقه على سراية الحكم إلى كل حالة من الحالات التي تفرض
للموضوع. ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، كما أنه من
جملة حالاته كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق، وبقوله لا تكرم الفساق
من العلماء قد علم خروج معلوم الفسق منهم، ولا يعلم خروج الباقي،
فمقتضى أصالة العموم والاطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم.
لا يقال إن قوله لا تكرم الفساق من العلماء قد اخرج الفاسق
الواقعي من الحكم، لا الفاسق المعلوم، فالفرد المردد لو صدق عليه عنوان
الخاص محكوم بحكمه واقعا، فكيف يجتمع هذا الحكم مع الحكم الذي اتى
من قبل العام؟
لأنا نقول حال الحكم الواقعي - المفروض مع الحكم الذي اتى
من قبل العام - حال الاحكام الواقعية مع الأحكام المتعلقة بالشئ في
341

حال الشك، فالكلام في المقام هو الكلام فيها اشكالا ودفعا [219].
وفيه أن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو من جهة أن
الشك في أحدهما مأخوذ في موضوع الحكم الاخر، وليس شمول العام
للفرد - حال كونه مشكوك العدالة والفسق - بلحاظ كونه مشكوك
الحكم، لعدم إمكان ملاحظة الشك في حكم المخصص موضوعا في الدليل
المتكفل لجعل الحكم الواقعي، للزوم ملاحظة حال الشك اطلاقا
وقيدا [220] وهما ملاحظتان متباينتان، فحينئذ لا يمكن الجمع بين كون
342

الفرد المشكوك الفسق واجب الاكرام، ولو كان فاسقا في الواقع، وبين
عدم وجوب اكرام كل فاسق في الواقع، كما هو مفاد المخصص، فالفرد
المشكوك - لو كان عادلا - يجب اكرامه بحكم العموم، ولو كان فاسقا
لا يجب بحكم المخصص. وتعيين أن الفرد المذكور هل هو عادل أو فاسق
ليس على عهدة أحد الدليلين، بل قد يكون المتكلم بكلا الدليلين أيضا
شاكا، فلا معنى للتمسك بأصالة العموم لتعيين مراده، كما هو واضح.
343

وبعبارة أخرى بعد خروج الفساق في الواقع من قوله أكرم
العلماء، تبقى حجية العام بالنسبة إلى العلماء الغير الفساق، فكأنه ورد من
أول الامر كذلك، فكما أنه لو ورد من أول الامر مقيدا بعدم الفسق - إذا
شككنا في عدالة فرد من العلماء وفسقه - لم يكن للتمسك بالعموم مجال،
كذلك لو ورد المخصص بعد صدور العام بصورة العموم. نعم لو ظهر
- من حال المتكلم أن تكلمه بالعموم مبنى على الفحص عن حال افراده،
ووضوح أنه ليس من بينها ما ينطق عليه عنوان الخاص - صح التمسك
بالعموم، واستكشاف أن الفرد المشكوك فيه ليس داخلا في الخاص.
وهذا في المخصصات اللبية غالبا. وقد يتحقق في اللفظية أيضا، لكن
بشرط كون النسبة بين الدليلين عموما من وجه، نظير الدليل على جواز
لعن بنى أمية، والأدلة الدالة على حرمة سب المؤمن. وأما إذا كان
المخصص أخص مطلقا، فلا مجال لما ذكرنا قطعا، ضرورة أنه لو كان حال
افراد العام مكشوفة لدى المتكلم، وانه لا ينطبق على أحد منها عنوان
المخصص، لكان التكلم بالدليل الخاص لغوا.
ومما ذكرنا يظهر أنه ليس المعيار في عدم جواز التمسك كون
المخصص لفظيا، كما أنه ليس المعيار في الجواز كونه لبيا، بل المعيار ما
ذكر فتأمل فيه.
(تنبيه)
بعد ما عرفت سقوط العام عن الاعتبار، فيما شك في انطباق
عنوان المخصص، من جهة الشبهة في المصداق، فالمرجع في الفرد المشكوك
فيه إلى الأصل المنقح للموضوع - لو كان - والا فإحدى القواعد الاخر:
344

من البراءة أو الاحتياط أو التخيير، حسب اختلاف المقامات وهذا
لا اشكال فيه، كما أنه لا اشكال في أنه لو كانت له حالة سابقة مع حفظ
وجوده، وشك في بقائها، يحكم بواسطة الاستصحاب بكونه محكوما
بحكم العام أو الخاص [221] وإنما الكلام في أنه لو لم تكن له حالة
سابقة مع حفظ وجوده، فهل يكفي استصحاب العدم الأزلي المتحقق بعدم
الموضوع، في جعله محكوما بحكم العام أولا؟ مثلا إذا شك في امرأة انها
قرشية أولا، فهل يصح استصحاب عدم قرشيتها، والحكم بان الدم الذي
تراه بعد الخمسين محكوم بالاستحاضة أولا؟
قد يقال بالصحة نظرا إلى أن الباقي تحت العام لم يكن معنونا
بعنوان خاص، بل يكفي فيه عدم تحقق العنوان، وعدم الوصف لا يحتاج
إلى الموضوع الخارجي. ولذا قالوا إن السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع،
بخلاف الموجبة فالمرأة الموجودة لم تكن بقرشية قطعا، فان النسبة بينها
وبين قريش تتوقف على تحقق الطرفين. وعلى هذا كان احراز المشتبه
بالأصل الموضوعي - في غالب الموارد إلا ما شذ - ممكنا.
وفيه ان الأثر الشرعي لو كان مترتبا على عدم تحقق النسبة، أو
على عدم وجود الذات المتصفة، أو على عدم الوصف للذات - مع
تجريدها عن ملاحظة الوجود والعدم - لصح الاستصحاب، لتحقق
الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب. وأما لو كان الأثر مترتبا على عدم
الوصف للموضوع، مع عناية الوجود الخارجي، فلا يمكن الاستصحاب الا
345

بعد العلم بان الموضوع - مع كونه موجودا في السابق - لم يكن متصفا
بذلك الوصف [222]. واستصحاب عدم النسبة إلى حين وجود الموضوع
- أو استصحاب عدم تحقق الموضوع المتصف كذلك، أو استصحاب عدم
الوصف للذات، مع عدم ملاحظة الوجود والعدم كذلك - لا يثمر في
اثبات السالبة التي فرضناها موضوعة للأثر إلا بالأصل المثبت. ولا يبعد
كون المثال من قبيل الأول.
(تذنيبات)
(الأول) أنه لو اخذ في موضوع حكم رجحانه واستحبابه، أو
جوازه من حيث هو، كموضوع وجوب الوفاء بالنذر، وكإطاعة الوالدين
346

وأمثال ذلك، فلابد - في الاستدلال بدليل ذلك الحكم - من اثبات
رجحان ذلك الموضوع أو جوازه، ولا يمكن أن يستكشف ذلك من عموم
الدليل المذكور، فان التمسك بالعام يتوقف على احراز موضوعه. وهذا
واضح، لكنه نسب إلى بعض التمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر،
للحكم بصحة الوضوء والغسل المنذورين بمايع مضاف لو شك في صحته
وبطلانه. وربما يؤيد ذلك ما ورد من صحة الاحرام قبل الميقات،
والصيام في السفر إذا تعلق بهما النذر، ويؤيد أيضا حكمهم بصحة النافلة
في وقت الفريضة إذا تعلق بها النذر.
والحق أنه لا يجوز التمسك بالعام فيما شك من غير جهة تخصيصه،
والوضوء والغسل بالمايع المضاف لو كانا باطلين، لم يلزم تخصيص في دليل
النذر، فكيف يستكشف صحتهما من عموم دليل النذر؟
وأما صحة الصوم في السفر بعد النذر، والاحرام قبل الميقات
كذلك بعد وجود الدليل على ذلك، فبالجمع بين الدليل المفروض
ودليل الوفاء بالنذر إما باستكشاف رجحانهما الذاتي [223]، وإنما المانع
في تعلق الامر الاستحبابي أو الوجوبي بالعنوان الأولى، وإما بصيرورتهما
راجحين بنفس النذر، بعد ما لم يكونا كذلك، لكشف دليل صحتهما عن
عروض عنوان راجح ملازم لتعلق النذر بهما، وإما بالالتزام بالتخصيص في
عموم دليل النذر المقتضى لعدم انعقاده إلا فيما إذا كان المنذور راجحا.
وعلى الأخير يقصد التقرب بامتثال امر النذر، ولا يضر تحقق القدرة
بنفس الامر، كما حقق في محله.
347

وأما صحة النافلة في وقت الفريضة بالنذر - وإن قلنا بكونها
محرمة بدونه - فلان النذر مخرج لها عن موضوع الحرمة، فلا مانع لرجحانها
حينئذ فيعمها دليل الوفاء بالنذر.
ان قلت خروج النافلة المفروضة عن كونها محرمة يتوقف على
تعلق الوجوب بها، وهو يتوقف على خروجها عن كونها محرمة. وهذا دور.
قلت خروجها عن موضوع الحرمة لا يتوقف على تعلق الوجوب
الفعلي بها، بل يكفي كونها بحيث لولا جهة عروض الحرمة لكانت واجبة،
وهذه القضية التعليقية متحققة بالنذر قطعا [224] ووجه خروجها - بعد
صدق هذه القضية التعليقية - عن موضوع الحرمة هو ان النافلة المحرمة هي
النافلة التي - لولا عروض جهة الحرمة - لكانت متصفة بالنفل الفعلي،
فتدبر فيه جيدا.
(الثاني) انه لو ورد عام، وعلمنا بعدم كون فرد محكوما بحكم
العام، وشككنا في كونه فردا له حتى يكون تخصيصا، أو ليس بفرد
348

له، (مثلا) لو علمنا بعدم وجوب اكرام يد، وشككنا في أنه عالم حتى
يكون تخصيصا في العام المقتضى لوجوب اكرام العلماء، أو ليس بعالم،
فهل يحكم بواسطة عموم العام بعدم دخول ذلك الفرد المعلوم الحكم في
افراد العام أولا؟ يظهر من كلماتهم التمسك بأصالة عموم العام،
واستكشاف ان الفرد المفروض ليس فردا له، إذ بعد ورود الدليل على
وجوب اكرام كل عالم، يصح أن يقال كل عالم يجب اكرامه، وينعكس
بعكس النقيض إلى قولنا كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم، وهو
المطلوب.
ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بأنها لا تنجس
المحل [225]، فان كانت نجسة غير منجسة، لزم التخصيص في قضية كل
نجس ينجس. وأمثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا
المرتضى (قدس سره)
هذا ولكن للتأمل فيه مجال، لا مكان أن يقال: إن التمسك
- بأصالة عدم التخصيص عند العقلاء - مختص بحال الشك في إرادة
المتكلم، فلو كان المراد معلوما، وشك في كيفية استعمال اللفظ، لم نعلم
من بناء العقلاء التمسك بها، وهذا نظير ما يقال من أن الأصل في
349

الاستعمال الحقيقة عند تمييز المعنى الحقيقي من المجازى، والشك في إرادة
المعنى الحقيقي. وأما لو علمنا بمراد المتكلم، ولم نعلم بأنه معنى حقيقي للفظ
أو مجازي، فبناء المشهور على عدم التمسك بأصالة الحقيقة.
وبالجملة يمكن التفكيك بين الموردين في التمسك، وبعد إمكان
ذلك يكفي في عدم جواز التمسك الشك في بناء العقلاء.
(الثالث) أن الحكم المتعلق بالعام إذا علل بعلة، لو علم بعدم
العلة في بعض افراد العام، يقيد مورد الحكم بغيره. وأما لو شك في
ذلك، فيتمسك بظاهر العموم، ويستكشف وجود العلة في الافراد
المشكوك فيها. ومن هنا علم أن تقييد مورد الحكم بواسطة العلة المنصوصة
ليس بمثابة ورود موضوع الحكم مقيدا من أول الامر، فلو قال أكرم العلماء
العدول، لم يصح لنا التمسك به في مشكوك العدالة والفسق. وأما لو قال
أكرم العلماء فإنهم عدول، فلو شككنا في عدالة فرد، نحكم بعدالته بحكم
القضية، فان الظاهر منها تحقق العدالة في كل فرد من العام.
(فصل في التمسك بالعام)
(قبل الفحص عن المخصص)
هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن مخصصه؟ فيه خلاف،
الا قوى عدم الجواز، لعدم سيرة العقلاء على التمسك، ما دام العموم في
معرض أن يكون له مخصص، بحيث لو تفحص عنه لظفر به، ولا أقل من
الشك. ويكفي ذلك في عدم الحجية نعم العمومات التي ليست في
معرض ذلك - كغالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورة - لا شبهة
350

في أن السيرة على التمسك بها بلا فحص عن المخصص، وهذا مما لا ينبغي
الاشكال فيه.
إنما الاشكال في أن بناءهم على الفحص في القسم الأول هل هو
من قبيل الفحص عن المعارض، كما يجب الفحص عن معارض الخبر
الجامع لشرائط الحجية، أو من جهة احراز شرط الحجية؟ لا يبعد أن يكون
الفحص من قبيل الثاني [226]، فإنه بعد ما يرى من حال المتكلم ذكر
قرائن كلامه غير متصلة به غير مرة، فحال المخصص المنفصل في كلامه
كحال المتصل في كلام غيره، فكما أنه لا يجوز التمسك بالعام قبل احراز
عدم المخصص المتصل إما بالعلم أو بالأصل، فكذلك لا يجوز التمسك به
قبل احراز عدم المخصص المنفصل في كلام المتكلم المفروض. فلما كان
الأصل غير جار الا بعد الفحص عن مظان الوجود، يجب الفحص عن
المخصص.
وتظهر الثمرة فيما إذا اطلع على مخصص مردد بين الأقل والأكثر،
فعلى الأول يؤخذ بالمتيقن من التخصيص، ويرجع إلى عموم العام في
غيره، وعلى الثاني يسرى اجماله إلى العام. وقد تقدم بعض الكلام في
ذلك.
351

(فصل في الخطاب الشفهي)
هل الخطابات الشفهية من قبيل (يا أيها الذين آمنوا) تختص
بالمشافهين والحاضرين لمجلس الخطاب، أو تعم الغائبين والمعدومين؟
والذي يمكن أن يكون محلا للكلام وموردا للبحث بين الاعلام أمور:
(الأول) انه هل يصح خطاب المعدومين والغائبين بالألفاظ
الدالة عليه، وتوجيه الكلام نحوهم أم لا؟
(الثاني) انه هل يصح تعلق الحكم بالمعدومين، كما يصح تعلقه
بالموجودين أم لا؟
(الثالث) أنه هل الألفاظ المشتملة على الخطاب تعم غير
المشافهين، بعد الفراغ عن الامكان أم لا؟ والنزاع على الأولين عقلي،
وعلى الثالث لفظي.
إذا عرفت ذلك فنقول: لا اشكال في عدم صحة تكليف المعدوم
فعلا على نحو الاطلاق، كما أنه لا اشكال في عدم صحة توجيه الكلام نحوه
بداعي التفهيم فعلا، سواء كان بالأداة الدالة على الخطاب أم بغيرها.
وهذا مما لا يحتاج إلى بيان وبرهان. وأما إنشاء التكاليف فعلا لمن يوجد
بملاحظة زمان وجوده واستجماعه لساير شرائط التكليف، فهو بمكان من
الامكان [227]، نظير إنشاء الوقف فعلا للطبقات الموجودة بعد ذلك في
الأزمنة اللاحقة، بملاحظة ظرف وجودها، كما أن توجيه الخطاب نحو
352

المعدوم - لا لغرض التفهيم، بل لأغراض اخر بعد تنزيله منزلة الموجود -
خال عن الاشكال، كمن يخاطب ولده الميت أو أباه الميت تأسفا
وتحسرا، ولا يوجب التجوز اللغوي في الأداة الدالة على الخطاب، كما
لا يخفى.
والظاهر أن توجيه الخطاب نحو المعدوم - حين الخطاب،
بملاحظة ظرف وجوده، وصيرورته قابلا للمخاطبة - لا اشكال فيه،
فيكون حال النداء المشروط بوجود المنادى بالفتح، حال الوجوب
المشروط بوجود من يجب عليه. نعم نفس هذا النداء - الصادر في زمان
عدم وجود المنادى بالفتح - لا يمكن أن يكون موجبا لتفهيمه حتى في
زمان وجوده، لعدم ثباته وبقائه في الخارج إلى ذلك الزمان، بل يحتاج
إلى شئ آخر يحكى عنه، كالكناية التي تبقى إلى حال وجوده، ومثل
ذلك.
إذا عرفت ذلك فنقول: لو كان الكلام في تكليف المعدوم على
نحو الاطلاق، وكذا خطابه بغرض التفهيم فعلا، فلا اشكال في عدم
353

إمكانه عقلا. وان كان على نحو آخر مر بيانه، فالظاهر أيضا عدم
الاشكال في إمكانه. وأما دلالة ألفاظ الكتاب العزيز على شمول
التكليف والخطابات للمعدومين أيضا على نحو ما تصورنا، فلا يبعد
دعواها، حيث انزل لانتفاع عامة الناس إلى يوم القيمة، وما كان هذا
شانه بعيد جدا أن تكون خطاباته - والتكاليف المشتمل هو عليها -
مختصة بطائفة خاصة، ثم علم من الخارج اشتراك سائر الطوائف معها في
التكليف، فتدبر.
ثم إنهم ذكر والعموم الخطابات الشفهية ثمرتين:
(الأولى) حجية ظهور خطابات الكتاب لنا أيضا، كما انها
حجة للمشافهين.
وفيه (أولا) أن هذا مبنى على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد
افهامه، كما يظهر من المحقق القمي قدس سره وقد ذكر في محله عدم صحة
المبنى.
و (ثانيا) أنه لا ملازمة بين كون المشافهين مخصوصين بالخطاب
وكونهم مخصوصين بالافهام، بل الناس كلهم مقصودون بالافهام إلى يوم
القيمة، وان قلنا بعدم شمول الخطاب إلا لخصوص المشافهين.
(الثانية) صحة التمسك باطلاق الكتاب لمن وجد وبلغ منا،
وان كان مخالفا في الصنف لجميع المشافهين.
وتقريب ذلك أنه لو خصصنا الخطابات الواردة في القرآن العزيز
بهم، فلابد - في اثبات التكاليف الواردة فيه لنا - من التمسك بدليل
الاشتراك، وهو لا ينفع الا بعد احراز كل ماله دخل في التكليف
المتوجه إليهم، فإذا احتملنا ان التكليف المتوجه إليهم كان مشروطا
بشرط. كانوا واجدين له دوننا، فلا يثمر دليل الاشتراك في التكليف.
354

(فان قلت) يدفع الشرط المحتمل بأصالة الاطلاق، لأن المفروض
عموم حجيتها بالنسبة إلينا، فيثبت التكليف بضميمة دليل
الاشتراك.
(قلت) أصالة الاطلاق لا تجرى بالنسبة إلى الامر الموجود الذي
يحتمل دخله في التكليف. والسر في ذلك أنه على تقدير شرطيته لا يحتاج
إلى البيان، إذ لا يوجب عدم بيان شرطيته، على تقدير كونه شرطا نقضا
للغرض.
وفيه أنه ليس في الخارج امر يشترك فيه جميع المشافهين إلى آخر
عمرهم. ولا يوجد عندنا [228]. وحينئذ لو احتملنا اشتراط شئ
يوجد في بعضهم دون آخر، أو في بعض الحالات دون أخرى، يدفعه
أصالة الاطلاق والله أعلم بالصواب.
(فصل في العام المتعقب بالضمير)
هل تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده يوجب تخصيصه
به أم لا؟ فيه خلاف ولابد من أن يكون محل الخلاف ما إذا كان هناك
355

قضيتان إحداهما ذكر فيها اللفظ الدال على العموم، والأخرى ذكر فيها
ضمير يرجع إليه، مع إمكان شمول الحكم في القضية الأولى لجميع افراد
العام، والعلم بعدم شموله لها في الثانية.
مثال ذلك قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء
- إلى قوله تعالى - وبعولتهن أحق بردهن) حيث إن الحكم في القضية
المشتملة على الضمير متعلق بخصوص الرجعيات، فيدور الامر بين
التصرف في العام بحمله على البعض، أو التصرف في الضمير بارجاعه إلى
بعض مدلول ما ذكر سابقا [229]، مع كون الظاهر منه ان يرجع إلى ما
هو المراد من اللفظ الأول.
والحق أن يقال لو دار الامر بين أحد التصرفين في الكلام، تصير
القضية المذكورة أولا مجملة، لان القضيتين لاشتمال الثانية على الضمير
الراجع إلى الموضوع في الأولى - في حكم كلام متصل واحد. وقد ذكر في
محله: أنه لو ذكر في الكلام الواحد ما يصلح لصرف سابقه عن ظاهره
يصيره مجملا. ولكن يمكن أن يقال: إن مجرد القطع - باختصاص الحكم
المذكور في الثانية ببعض افراد العام - لا يوجب التصرف في إحدى
356

القضيتين في مدلولها اللفظي، بل يصح حمل كلتا القضيتين على إرادة
معناهما اللغوي في مرحلة الاستعمال، مع الالتزام بخروج بعض افراد
العام في الثانية عن الإرادة الجدية، كما أنه لو كان في القضية الثانية
الاسم الظاهر مكان الضمير، مثل (وبعولة المطلقات) فان مجرد العلم
- بخروج بعض الافراد من القضية الثانية - لا يوجب الاجمال في الأولى،
فكذلك حال الضمير من دون تفاوت [230] فتدبر جيدا.
(فصل في تخصيص العام بالمفهوم المخالف)
اختلف في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف، بعد الاتفاق على
الجواز في المفهوم الموافق. ومجمل الكلام فيه أن أظهر ما قيل فيه بالمفهوم
القضية الشرطية، وقد قلنا في محله أن ظهورها في مدخلية الشرط لثبوت
الحكم مما لا يقبل الانكار. وأما دلالتها على الحصر، فهي قابلة للانكار.
والمدعي للمفهوم لابد له من ادعاء دلالتها على الحصر، وإن سلمت هذه
الدلالة، فلا اشكال في أنها ليست بالمرتبة التي لا يصلح رفع اليد عنها
بواسطة عموم وإطلاق ونحوهما
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا ورد عام وقضية شرطية دالة بمفهومها
على خلاف الحكم الثابت في العام لبعض افراده، فان كان المفهوم أخص
357

مطلقا فالحق تخصيص العام به، فان التعارض وقع بين عموم العام ودلالة
القضية على إناطة الحكم بالشرط، ولو لم نقل بالحصر، فان العام يدل على أن
الحكم لكل فرد من دون إناطة بشئ، ومقتضى القضية اناطته به،
وظهور القضية في ذلك أقوى من ظهور العام كقوله عليه السلام (خلق الله
الماء طهورا لا ينجسه شئ) وقوله عليه السلام (إذا بلغ الماء قدر كر
لا ينجسه شئ) وأما إن كان بينهما عموم من وجه، كالدليل على عدم
انفعال الجاري مطلقا وما دل على توقف عدم الانفعال على الكرية،
فالحق رفع اليد عن المفهوم، لان العام المذكور يعارض حصر الشرط
لا أصل الاشتراط، لعدم المنافاة بين كون الكرية شرطا، وكون الجريان
شرطا آخر. وقد عرفت أن دلالة القضية الشرطية على حصر العلة، على
فرض الثبوت، ليست قوية. وحينئذ فهل يرفع اليد عن المفهوم
مطلقا، بحيث لو احتملنا سببا ثالثا لعدم الانفعال لا تكون القضية الشرطية
دالة على نفيه، أو يرفع اليد في خصوص ما ورد الدليل وجهان.
(فصل في تخصيص الكتاب بخبر الواحد)
هل يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر أم لا؟ مقتضى
القاعدة هو الأول، لان الخاص بواسطة دليل اعتباره يصلح لان يكون قرينة
على التصرف في العام، بخلاف العكس. وكون العام قطعي الصدور
لا ينافي جواز رفع اليد عن عمومه، بعد ورود الخاص المعتبر، لان هذا
الجمع مما يشهد بصحته العرف. وقد ادعوا سيرة الأصحاب على العمل
باخبار الآحاد في قبال العمومات الكتابية إلى زمن الأئمة عليهم السلام.
هذا ولكن العمدة في المقام الأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على أن
358

الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها أو ضربها على الجدار، أو انها زخرف،
أو انها مما لم يقل به الإمام عليه السلام.
والجواب عنها - بعد القطع بورود اخبار كثيرة مخالفة لعمومات
الكتاب واطلاقه منهم عليهم السلام - بحمل الأخبار المانعة من الاخذ
بمخالف الكتاب على غير المخالفة على نحو العموم والخصوص ومثله. كما
إذا ورد الخبر في مقابل الكتاب بحيث لا يكون بينهما جمع عرفي وعدم وجود
مثله - في الاخبار التي بأيدينا - لا ينافي وجوده في ذلك الزمان، وما
وصل بأيدينا إنما يكون بعد تهذيبه مما يخالف الكتاب بالمعنى الذي ذكرنا.
ويمكن حمل مورد الأخبار المانعة على ما لا يشمله دليل الحجية، مثل ما ورد
في أصول العقايد أو خبر غير الثقة [231].
(فصل في حمل العام على الخاص)
العام والخاص إما أن يكونا متقارنين، واما ان يكونا مختلفين
بحسب التاريخ. وعلى الثاني إما ان يكون العام مقدما على الخاص أو
بالعكس. لا اشكال في التخصيص في الصورة الأولى، كما أن الظاهر
كذلك في الصورتين الأخيرتين لو كان ورود الثاني قبل حضور وقت
العمل بالأول، فان الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل - وإن لم
يكن بمستحيل بناءا على امكان وجود المصلحة في جعل حكم، ونسخه
359

قبل زمان العمل به - لكنه بعيد، بخلاف التخصيص، فإنه شائع
متعارف، فيحمل الكلام عليه.
وأما لو كان ورود أحدهما بعد مضى زمان العمل بالأول، فان
كان المقدم خاصا، فالعام المتأخر يمكن ان يكون ناسخا له، ويمكن أن
يكون الخاص المقدم مخصصا للعام. وتظهر الثمرة في العمل بعد ورود
العام، فإنه على الأول على العام، وعلى الثاني على الخاص. والظاهر أيضا
البناء على التخصيص لشيوعه وندرة النسخ.
وأما لو كان المقدم عاما والمؤخر خاصا، فيشكل الحمل على
التخصيص من حيث استلزام ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو
وإن لم يكن محالا من جهة امكان وجود مصلحة في ذلك، لكنه بعيد
نظير النسخ قبل حضور وقت العمل. واشكل من ذلك حمل الخاص
الوارد - في اخبار الأئمة عليهم السلام - المتأخر عن العام على النسخ مع
كثرته. وكذلك حال المقيدات الواردة في كلامهم عليهم السلام بالنسبة
المطلقات، فان الالتزام بالنسخ في جميع هذه الموارد الكثيرة في غاية
الاشكال [232].
نعم حمل الخاص المتأخر عن العام - في كلام النبي صلى الله عليه
وآله - على النسخ ليس ببعيد، فيرجح على التخصيص، لاستلزامه تأخير
البيان عن وقت الحاجة، فلا محيص عن حمل الخاص المتأخر - في كلام
360

الأئمة عليهم السلام - على التخصيص أيضا، ولو كان واردا بعد مضى
زمان العمل بالعام والالتزام - بان حكم العام إلى زمان صدور الخاص
كان حكما ظاهريا للمكلفين، اقتضت المصلحة أن يجعل لهم لك، ولا
يكشف لهم الواقع إلى حين صدور الخاص - غير بعيد، بعد العلم بأنه في
الشرع احكام واقعية وظاهرية فتدبر جيدا.
ثم إنه لو بنينا على تقديم التخصيص على النسخ في تمام الصور
المذكورة، فلا اشكال في مجهولي التاريخ. وأما لو بنينا على النسخ في الخاص
المتأخر بعد مضى زمان العمل بالعام، فلو شك في تاريخهما أو علم تأخر
الخاص في الجملة، لكنه لم يعلم أنه ورد بعد حضور وقت العمل بالعام أو
قبله، فالوجه الرجوع إلى الأصول العملية، لان الشرط في الحمل على
التخصيص عدم مضى زمان العمل بالعام، كما أن الشرط في النسخ مضى
زمان العمل به. وما لم يحرز أحد الشرطين لا يجوز الحمل على أحدهما.
ومجرد أغلبية التخصيص وندرة النسخ، وان كان يوجب الظن بالأول
دون الثاني، لكنه لا دليل على اعتبار هذا الظن [232] والله العالم.
361

(المطلق والمقيد)
فصل فيما وضع له بعض الألفاظ
(فمنها) اسم الجنس كالانسان والبقر والفرس والضرب
والضارب وغير ذلك مما هو نظيرها.
إعلم أن المفهوم العام قد ينقسم إلى إلى اقسام خارجية [234] كقولنا
الانسان اما ابيض واما اسود، وقد ينقسم إلى اقسام ذهنية، كقولنا
الانسان إما مطلق أي غير مشروط بشئ، أو مقيد بشئ، أو مقيد بعدم
شئ. والمقسم وان كان في الواقع القسم الأول من هذه الأقسام [235]
362

إلا أنه لم تلاحظ كيفية ثبوته في ذهن اللاحظ، بل اخذ مرآة لما يتحقق في
ذهن آخر.
وقد ينقسم إلى موجود ومعدوم، والموجود أعم من أن يكون في
363

الذهن أو في الخارج، وكذلك المعدوم، كما تقول الانسان إما موجود
وإما معدوم، والموجود إما موجود في الذهن أو في الخارج، والموجود في
الذهن إما كذا وإما كذا، والموجود في الخارج إما كذا واما كذا.
إذا عرفت هذا فنقول الموضوع له في أسماء الأجناس هو المفهوم
المعرى عن الوجود والعدم والذهن والخارج، فضلا عن كيفية الوجود في
الذهن من الاطلاق والتقييد، وكيفية الوجود في الخارج من الطول
والقصر والسواد والبياض ونحو ذلك. والشاهد على ذلك هو الوجدان
الحاكم بصحة تقسيم مفاد لفظ الانسان بنحو ما قسمناه أخيرا، من دون
عناية والله أعلم بالصواب.
و (منها) - علم الجنس كأسامة والمشهور انه موضوع للطبيعة لا بما
هي هي، بل بما هي متعينة بالتعيين الذهني. ولذا يعامل معه معاملة
المعرفة بدون أداة التعريف.
واستشكل على هذه المقالة شيخنا الأستاذ قدس سره بما محصله:
(أنه لو كان كذلك لما صح حمله على الافراد بلا تصرف وتجريد، ضرورة
أن المفهوم - مع ملاحظة وجوده في الذهن - كلي عقلي لا ينطبق على
الخارج، مع أنا نرى صحة الحمل بلا عناية وتصرف أصلا. على أن وضعه
- لمعنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية عند الاستعمال - لا يصدر عن
جاهل، فضلا عن الحكيم انتهى).
أقول: فيما افاده نظر، لامكان دخل الوجود الذهني على نحو
المرآتية في نظر اللاحظ، كما أنه تنتزع الكلية من المفاهيم الموجودة في
الذهن، لكن لا على نحو يكون الوجود الذهني ملحوظا للمتصور بالمعنى
الأسمى إذ هي بهذه الملاحظة مباينة مع الخارج، ولا تنطبق على
364

شئ، ولا معنى لكلية شئ لا ينطبق على الخارج أصلا.
إذا عرفت هذا فنقول: إن لفظ أسامة موضوع للأسد بشرط تعينه
في الذهن على نحو الحكاية عن الخارج، ويكون استعمال ذلك اللفظ في
معناه بملاحظة القيد المذكور، كاستعمال الألفاظ الدالة على المعاني الحرفية
فافهم وتدبر.
و (منها) - النكرة نحو رجل في قوله تعالى: (وجاء رجل) أو
قولنا (جئني برجل) وقد يقال بجزئية الأول وكلية الثاني. أما جزئية
الأول فواضحة، وأما كلية الثاني، فلان المادة تدل على الطبيعة الكلية،
والتنوين على مفهوم الوحدة، وهو أيضا كلي، وضم الكلى إلى الكلى
لا يصيره جزئيا، فمعنى رجل على هذا طبيعة الرجل مع قيد الوحدة، وهذا
يصدق على افراد الطبيعة المقيدة في عرض واحد. وعدم صدقه على
اثنين فصاعدا إنما هو لعدم المصداقية، كما أن مفهوم الانسان لا يصدق على
البقر مثلا.
هذا ولكن يمكن دعوى كون النكرة مستعملة في كلا الموردين
بمعنى واحد، وأنه في كليهما جزئي حقيقي.
بيانه أنه لا اشكال في أن الجزئية والكلية من صفات المعقول في
الذهن، وهو إن امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي،
وجزئية المعنى في الذهن لا تتوقف على تصوره بتمام تشخصاته
الواقعية [237]، ولذا لو رأى الانسان شبحا من بعيد، وتردد في أنه زيد أو
365

عمرو، بل انسان أو غيره، لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية. وكون أحد
الأشياء ثابتا في الواقع لا دخل له بالصورة المنتقشة في الذهن، فإذا كانت
هذه الصورة جزئية كما في القضية الأولى، فكذلك الصورة المتصورة في
القضية الثانية، إذ لا فرق بينهما إلا في أن التعيين في الأولى واقعي، وفي
الثانية بيد المكلف، وعدم إمكان وجود الفرد المردد في الخارج، بداهة أن
عدم معقولية كون الشئ مرددا بين نفسه وغيره - لا ينافي اعتبار وجوده
في الذهن، كما يعتبر الكسر المشاع مع عدم وجوده بوصف الإشاعة في
الخارج.
و (منها) - المعرف باللام والمعروف بين أهل الأدب أن اللام
- أو الهيئة الحاصلة منها ومن المدخول - موضوعة لتعريف الجنس وللعهد
باقسامه - من الذهني والذكرى والحضوري - وللاستغراق. والظاهر أن
اقسام العهد راجعة إلى معنى واحد، وهو المعهودية في الذهن، غاية الامر أن
منشأ العهد قد يكون هو الذكر، وقد يكون الحضور، وقد يكون غيرهما.
366

بل يمكن أن يقال إن مرجع الجنس والاستغراق أيضا إلى ذلك [238]
وتوهم - أن المعهود الذهني كلي عقلي، ولا موطن له إلا الذهن، ولا
ينطبق على الخارج - مدفوع، لما مر آنفا في علم الجنس.
ثم إنه قد ظهر أن اسم الجنس وضع للمقسم بين المطلق والمقيد،
وكذا النكرة. وان قلنا بجزئيتها، إنما الكلام في المقام في أنه - عند عدم
قرينة على إحدى الخصوصيتين من الاطلاق والتقييد - هل يحتاج إلى
مقدمات في الحمل على الاطلاق أم لا؟ قد يقال بالأول.
(بيانه) أنه لا اشكال في أن الأصل - في كل كلام صادر عن
كل متكلم - صدوره بغرض الإفادة وتفهيم المعنى، ولا يكفي هذا المقدار
لتعيين الاطلاق في المقام، إذ لا يثبت بهذا إلا إرادة الطبيعة المهملة. وقد
فرضنا أنها قابلة للاطلاق والتقييد، فاللازم في المقام إحراز كون المتكلم
بصدد بيان تمام مراده الجدي. وبعد احراز هذه الحالة للمتكلم نقول لو
كان للمراد الجدي قيد لكان اللازم ذكره، فحيث لم يذكر القيد، يعلم أن
المراد بحسب الجد هو المطلق الخالي عن القيد. وعلى هذا فالحمل على
الاطلاق بعد الفراغ عن الأصل المتقدم يتوقف على أمور:
(منها) كونه في مقام بيان تمام مراده الجدي.
(ومنها) عدم ذكر قيد في الكلام.
367

(ومنها) انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب على قول يأتي.
وتأتي الخدشة فيه انشاء الله تعالى.
هذا ويمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى احراز كون المتكلم في مقام
بيان تمام المراد في الحمل على الاطلاق عند عدم القرينة، بيانه أن المهملة
مرددة بين المطلق والمقيد، ولا ثالث. ولا إشكال أنه لو كان المراد
المقيد، تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة، وإنما ينسب إلى الطبيعة بالتبع.
لمكان الاتحاد، فنقول لو قال القائل جئني بالرجل أو برجل، ويكون ظاهرا
في أن الإرادة أولا وبالذات متعلقة بالطبيعة، لا أن المراد هو المقيد. ثم
أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتحاد. وبعد تسليم هذا الظهور تسرى
الإرادة إلى تمام الافراد. وهذا معنى الاطلاق.
إن قلت إن المهملة ليست قابلة لتعلق الإرادة الجدية بها، كيف؟
وقد فرضناها مرددة بين المطلق والمقيد. ولا يعقل كون موضوع الحكم
مرددا عند الحاكم، فنسبة الإرادة إلى المهملة عرضية في كل حال، فيبقى
تعيين الاطلاق بلا دليل.
قلت عروض الاطلاق للمهملة ليس كعروض القيد لها في
الاحتياج إلى الملاحظة، وإلا لزم عدم الحمل على الاطلاق حتى بعد احراز
كونه في مقام البيان، لعدم الترجيح بعد كونه بمثابة سائر القيود، فإذا
فرضنا عدم دخل شئ سوى المهملة في تعلق الحكم، يحصل وصف
الاطلاق قهرا، وان لم يكن ملحوظا بنفسه.
إن قلت سلمنا أنه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة
للمقيد لكنه يحتاج في نفى هذين أيضا إلى احراز كونه بصدد البيان.
قلت يمكن نفى كل من الامرين بالظهور اللفظي ولو لم يحرز كونه
368

بصدد البيان [239] كما لا يخفى على المتأمل. ثم إن وجود القدر المتيقن في
مقام التخاطب لا يضر بالحمل على الاطلاق، ما لم يصل إلى حد
الانصراف، سواء قلنا بعدم الاحتياج إلى احراز كون المتكلم بصدد البيان
- كما مر بيانه - أو قلنا بالاحتياج إليه. أما على الأول، فواضح وأما على
369

الثاني، فلانه بعد فرض كونه كذلك [240] فاللازم ان يكون اللفظ الملقى
إلى المخاطب كاشفا عن تمام مراده. وهذا ملازم لصحة حكم المخاطب
بان هذا تمام مراده، والمفروض عدم صحة حكم المخاطب بكون القدر
المتيقن تمام مراده، فيقال لو كان مراده مقصورا على المتيقن لبينه، لكونه
في مقام البيان كما هو المفروض، وحيث لم يبينه يكشف أن مراده نفس
الطبيعة مطلقا ويشهد لذلك أنه لم يعهد من أحد من أهل اللسان التوقف
في حمل المطلقات الواردة في الموارد الخاصة على الاطلاق والاقتصار عليها
فقط، لأنها المتيقن، بل يتجاوزون عنها، حتى أنه قد اشتهر أن العبرة بعموم
اللفظ لا خصوص المورد.
370

(اشكال ودفع)
(أما الأول) فهو أنه إذا كان الحمل على الاطلاق بمعونة المقدمات
على كلا الطريقين، فليزم بطلانها فيما إذا ورد بعد المطلق مقيد منفصل
- موافقا كان أو مخالفا - وعدم امكان دفع ما سواه من القيود المحتملة
بالاطلاق.
بيانه أما على طريقة المشهور فهو أن من جملة المقدمات عندهم
كون المتكلم في مقام البيان، وبعد ظهور المقيد منفصلا يعلم أنه لم يكن
بصدده. وأما على ما ذكرنا، فلانه بعد ما علم بصدور القيد المنفصل
ينكشف أحد الامرين. اما تبعية ارادته المتعلقة بالطبيعة، وإما أخذ
الطبيعة مرآة ومعرفا للمقيد.
(واما الثاني) فهو أن الاطلاق - سواء على طريقة القوم أم على
طريقتنا - إنما يلاحظ بالنسبة إلى المراد الاستعمالي. وأما تطبيق
الاستعمالي مع الجدي، فإنما يحرز بأصل عقلائي آخر، وظهور القيد إنما
ينكشف به عدم التطابق في هذا المورد مع بقاء الاستعمالي مطلقا والأصل
العقلائي في غير هذا المورد بحاله.
(فصل في حمل المطلق على المقيد)
إذا ورد مطلق ومقيد، فاما ان يكونا متخالفين في الايجاب
والسلب، وإما أن يكونا متوافقين، لا محيص عن التقييد في الأول (كاعتق
رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) سواء كان النهى بعنوان الكراهة أو الحرمة،
371

لان الظاهر من قوله (أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة). مثلا تعلق النهى
بالطبيعة المقيدة، لا بإضافتها إلى القيد، فلو كان مورد الامر هو المطلق لزم
اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد. نعم لو أحرز ان الطبيعة
الموجودة في المقيد مطلوبة - كما في العبادة المكروهة - فاللازم صرف
النهى إلى الإضافة بحكم العقل، وإن كان خلاف الظاهر.
واما الثاني فان لم تحرز وحدة التكليف [241] فالمتعين حمل كل
منهما على التكليف المستقل أخذا بظاهر الامرين، وان أحرزت
وحدة [242]، فان كان الاحراز من غير جهة وحدة السبب، فيدور الامر
بين حمل الامر المتعلق بالمطلق على ظاهره من الوجوب والاطلاق،
والتصرف في الامر المتعلق بالمقيد إما هيئة بحملها على الاستحباب، وإما
مادة برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في موضوع الوجوب، وجعله
إشارة إلى الفضيلة الكائنة في المقيد، وبين حمل المطلق على المقيد. وحيث
لا ترجيح لاحدها لاشتراك الكل في مخالفة الظاهر، فيتحقق الاجمال،
وإن كان الاحراز من جهة وحدة السبب، فيتعين التقييد. ولا وجه
للتصرف في المقيد بأحد النحوين، فإنه إذا فرض كون الشئ علة
لوجوب المطلق، فوجود القيد أجنبي عن تأثير تلك العلة، فلا يمكن أن
يقال إن وجوب المقيد معلول لتلك العلة فلا بد له من علة واحدة أخرى.
والمفروض وحدتها. وكذا كون الشئ علة لوجوب المطلق ينافي كونه
372

علة الاستحباب للفرد الخاص، إذ استناد المتباينين إلى علة واحدة غير
معقول.
هذا وقد عرفت مما ذكرنا أنه لابد في حمل المطلق على المقيد من
احراز وحدة السبب، ولا يكفي احراز وحدة التلكيف مع عدم احراز
وحدة السبب، كما ذهب إليه المشهور ولعل وجهه ما ذكره شيخنا
المرتضى طاب ثراه في باب التعادل والترجيح من أنه إذا دار الامر بين
التقييد ومخالفة ظاهر آخر، فالتقييد أولى، لان ظهور المطلق متقوم بعدم
البيان فبورود ما يصلح للبيانية يصير موهونا. وفيه ما لا يخفى نعم يتم ما
ذكروه بناءا على ما احتملناه سابقا من المعاملة مع القيود المنفصلة في
كلام الشارع معاملة القيود المتصلة في كلام غيره، لكن اللازم منه سراية
الاجمال من المقيد المنفصل المردد بين الأقل والأكثر مفهوما إلى المطلق،
ولا يلتزمون به [243].
* تم بالخير *
373

كلمة المصحح
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أولاني سماحة آية الله العظمى فقيه العصر ووحيد الدهر السيد الگلپايگاني
مد ظله العالي المعلق على هذا الكتاب ثقته وشرفني بذلك فأمرني بمقابلة الكتاب
وتعليق سماحته عليه فقرأتها على سماحته وباذن منه وخدمة للماتن أعلى الله
مقامه صححت بعض الكلمات وتصرف في العبارة من الجهة الأدبية وبعد
اتمام المقابلة امرني بالاشراف على طبعه وتصحيحه فامتثلت امره المطاع وبذلت
غاية الجهد في ذلك ووضعت فهرسته. (والعصمة لأهلها) فجاء بحمد الله كما
يرى ويرام والله تبارك وتعالى أرجو وإياه اسأل أن ينفع به طلاب العلم و
رواده وأن يلحظوا ما زاغ عنه البصر بعين الرضا إنه ولى التوفيق -
محمد الكاظم الخوانساري
1 رمضان المبارك 1410
376