الكتاب: محاضرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للفياض
الجزء: ٤
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٥٨-٩
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

محاضرات
في أصول الفقه
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
تأليف
العلامة المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الجزء الرابع
1

محاضرات في أصول الفقه
(ج 2)
تقرير أبحاث: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره
المقرر: الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض
الموضوع: أصول الفقه
طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1419 ه‍. ق
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
2

بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؟
لا يخفى أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد ذكر: أن هذه المسألة باطلة من رأسها وليس
فيها معنى معقول ليبحث عنه، لا في القضايا الحقيقية التي كان الحكم فيها مجعولا
للموضوع المفروض الوجود خارجا، ولا في القضايا الخارجية.
أما في الأولى فلما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن الحكم في
القضية الحقيقية مجعول للموضوع المقدر وجوده بجميع قيوده وشرائطه.
مثلا: وجوب الحج في الآية المباركة * (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) * (1) مجعول لعنوان المستطيع على نحو مفروض الوجود في الخارج.
ومن الطبيعي أن فعلية مثل هذا الحكم مشروطة بفعلية موضوعه ووجوده
خارجا ويستحيل تخلفها عنه. وعليه فعلم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده
أجنبي عن فعلية الحكم بفعلية موضوعه، وعدم فعليته بعدم فعلية موضوعه
بالكلية، وليس له أي دخل في ذلك، ضرورة أن الحكم في مثل هذه القضايا لم
يجعل من الأول لفاقد الشرط والموضوع.
مثلا: وجوب الحج في المثال المزبور لم يجعل من الابتداء لفاقد الاستطاعة
فإذا لا معنى للنزاع في أنه هل تعقل فعلية الحكم مع علم الحاكم بانتفاء فعلية
موضوعه في الخارج أم لا؟ ضرورة أن علم الحاكم به أجنبي عن ذلك رأسا،

(1) آل عمران: 97.
3

فإن الملاك في فعلية الحكم إنما هو فعلية موضوعه خارجا ووجوده، ضرورة
استحالة تخلفها عنه. وعليه فلا تعقل صحة توجيه هذا التكليف فعلا إلى فاقد
الشرط والموضوع، بداهة أن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي، فعندئذ لو وجه
إليه تكليف فهو - لا محالة - يكون تكليفا آخر غير الأول، وهو خلاف مفروض
الكلام.
وأما في الثانية - وهي القضايا الخارجية - فلأن جعل الحكم فيها يدور مدار
علم الحاكم بوجود شرائط الحكم، وأما وجود هذه الشرائط في الخارج أو عدم
وجودها فيه أجنبي عنه رأسا، وليس له أي دخل فيه. فإذا لا معنى للبحث عن
جوازه مع علمه بانتفاء تلك الشرائط خارجا وعدم جوازه، ضرورة أن البحث
على هذا الشكل أجنبي عما هو دخيل في هذا الحكم بالكلية، وعليه فلا معنى له
أصلا كما لا يخفى.
ومن هنا قال: إن ما ذكروه من الثمرة لتلك المسألة - وهي وجوب الكفارة
على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل -
ليست ثمرة لها، بل هي ثمرة مترتبة على مسألة فقهية، وهي: أن التكليف بالصوم
هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات اليوم، أو هو تكليف واحد مشروط
بشرط متأخر وهو بقاؤه على شرائط الوجوب إلى الليل (1)؟
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أنه لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء
شرطه وإن نسب ذلك إلى الأشاعرة (2)، حيث إنهم يجوزون التكليف بالمحال،
ولا يرون فيه قبحا أصلا، وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه، وهو: أن الشرط بما
أنه كان من أجزاء العلة التامة فيستحيل أن يوجد الشئ بدونه، ضرورة استحالة

(1) أجود التقريرات: ج 1 ص 209.
(2) نسبه العلامة الحلي (قدس سره) في مبادئ الوصول إليهم، ونسبه الرازي في المحصول إلى القاضي
أبي بكر الذي هو من أبرز أقطاب الأشاعرة. راجع مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص 108
مسألة امتناع التكليف بالمحال، والمحصول: ج 2 ص 276 مسألة اشتراط المأمور به.
4

وجود المعلول بدون وجود علته، والمشروط بدون وجود شرطه، فإن المركب
ينحل بانحلال بعض أجزائه، وبما أن العلة التامة مركبة من المقتضي والشرط
والمانع فلا محالة تنتفي بانتفاء كل منها.
وعليه فلا يعقل أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه إلا أن يكون المراد من لفظ
" الأمر " الأمر ببعض مراتبه وهو مرتبة الإنشاء، ومن الضمير الراجع إليه بعض
مراتبه الاخر، وهو المرتبة الفعلية، بأن يكون النزاع في أن أمر الآمر يجوز إنشائه
مع علمه بانتفاء شرط فعليته وعدم بلوغه تلك المرتبة. فإذا لا إشكال في جوازه
بل في وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات، ضرورة أن الأمر الصوري إذا كان
الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك - حقيقة - واقع في العرف
والشرع، ولا مانع من وقوعه أصلا (1).
الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة: هو أن الكلام فيها مرة يقع في شرائط
الجعل، ومرة أخرى في شرائط المجعول، لما ذكرناه: من أن لكل حكم مرتبتين:
مرتبة الجعل، ومرتبة المجعول.
أما الكلام في الأولى: فلا شبهة في انتفاء الجعل بانتفاء شرطه، وذلك لأن
الجعل فعل اختياري للمولى كبقية أفعاله الاختيارية. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن كل فعل اختياري مسبوق بالمبادئ النفسانية، وهي
الإرادة بمقدماتها من التصور والتصديق ونحوهما.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا يمكن جعل الحكم من
المولى مع انتفاء شئ من تلك المبادئ والمقدمات، ضرورة أنه معلول لها
ومشروط بها. ومن الطبيعي استحالة وجود المعلول بدون وجود علته، ووجود
المشروط بدون تحقق شرطه، وهذا من الواضحات الأولية، وغير قابل لأن يكون
ذلك محل البحث والأنظار.

(1) كفاية الأصول: ص 169.
5

ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الكفاية (قدس سره)، حيث جعل هذا محل الكلام
والنزاع هنا، ولأجل ذلك حكم بعدم الجواز. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن ما ذكره (قدس سره) من الجواز فيما إذا لم يكن الأمر بداعي
البعث والتحريك واقعا، بل كان بداعي الامتحان أو نحوه أيضا خارج عن محل
البحث، ضرورة أن محل البحث في الجواز وعدمه إنما هو في الأوامر الحقيقية
التي يكون الداعي فيها البعث والتحريك نحو إيجاد متعلقاتها في الخارج حقيقة.
أما في الأوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث نحو إيجاد متعلقاتها في
شئ، بل الداعي لها الامتحان أو غيره فلا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء
شروط فعليتها، بل لا إشكال في وقوعها في العرف والشرع كما هو ظاهر.
فالنتيجة: أنه لا مجال للنزاع في الأوامر التي لم يكن الداعي فيها وقوع
متعلقاتها في الخارج، بل الداعي لها مجرد الامتحان أو الاستهزاء أو شئ آخر،
كما أنه لا مجال للنزاع في شرائط الجعل، ولكن في الأول من ناحية أنه لا
إشكال في جواز تلك الأوامر، بل في وقوعها خارجا، وفي الثاني من ناحية أنه
لا إشكال في عدم جوازه، بل في امتناعه مع انتفاء شرطه كما عرفت.
وأما الكلام في الثانية - وهي شرائط المجعول - فقد ذكرناه في بحث الواجب
المطلق والمشروط: أن كل شرط اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل تستحيل
فعلية الحكم بدون فعليته ووجوده في الخارج، لما ذكرناه هناك: من أن فعلية الحكم
في القضية الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه ووجوده، ويستحيل تخلفها عنه.
مثلا: وجوب الحج مشروط بوجود الاستطاعة بمقتضى الآية الكريمة: * (ولله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) فتستحيل فعليته بدون فعلية
الاستطاعة في الخارج. وكذا وجوب الزكاة مشروط ببلوغ المال حد النصاب،
فإذا بلغ المال ذلك الحد تجب الزكاة عليه فعلا، وإلا فلا وجوب لها أصلا،

(1) آل عمران: 97.
6

ووجوب الغسل مشروط بوجود الجنابة، ووجوب الصوم مشروط بدخول شهر
رمضان، ووجوب الصلاة مشروط بدخول الوقت، وهكذا...، فهذه الأحكام جميعا
تدور فعليتها خارجا مدار فعلية موضوعها وتحققه فيه.
ومن هنا قلنا: إن كل قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود
الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له (1).
وعلى هذا الأصل فإذا علم الآمر بانتفاء شرط فعلية الحكم وأنه لو جعل فلا
يصير فعليا أبدا من ناحية عدم تحقق موضوعه في الخارج فهل يجوز له جعله أم
لا؟ قد يقال بعدم إمكانه، لأنه لغو محض فلا يصدر من الحكيم، وكذا الحال في
القضية الخارجية فلا يجوز للمولى أن يأمر بزيارة الحسين (عليه السلام) - مثلا - على
تقدير السفر إلى كربلاء مع علمه بأنه لا يسافر، وهكذا...
ولكن الصحيح في المقام: هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط مستندا إلى
نفس جعل الحكم وكان هو الموجب له، وما إذا كان مستندا إلى عدم قدرة المكلف
أو إلى جهة أخرى.
فعلى الأول لا مانع من جعله أصلا إذا كان الغرض منه عدم تحقق الشرط
والموضوع في الخارج، من دون فرق بين أن يكون الجعل على نحو القضية
الحقيقية أو الخارجية، كما إذا قال المولى لعبده، أو الأب لابنه: " إن كذبت - مثلا -
فعليك دينار " مع علمه بأن جعل وجوب الدينار عليه على تقدير كذبه موجب
لعدم صدور الكذب منه، فيكون غرضه من جعله ذلك. وكما إذا فرض أن جعل
الكفارات في الشريعة المقدسة على ارتكاب عدة من المحرمات يوجب عدم
تحققها في الخارج: كوجوب القصاص المترتب على القتل الاختياري إذا فرض
أنه موجب لعدم تحقق القتل خارجا، ووجوب الحد للزاني، وقطع اليد للسارق،
وما شاكل ذلك إذا فرض أن جعل هذه الأمور أوجب عدم تحقق ما هو الموضوع
والشرط لها، وهو الزنا في المثال الأول والسرقة في المثال الثاني، ونحوهما ومن

(1) راجع: ج 2 ص 154 و 318.
7

المعلوم أنه لا مانع من مثل هذا الجعل أصلا، بل هو مما تقتضيه المصلحة العامة
كما في القضايا الحقيقية، والمصلحة الخاصة كما في القضايا الخارجية، ضرورة
أن الغرض من جعل هذه الأمور: هو عدم تحقق موضوعها في الخارج، فإذا فرض
أن المولى علم بأن جعلها يوجب عدم تحقق موضوعها فيه مطلقا فهو أولى بالجعل
مما لم يعلم المولى أنه يوجبه.
فالنتيجة: أنه لا شبهة في إمكان ذلك، بل في وقوعه خارجا في العرف
والشرع.
وعلى الثاني - وهو ما إذا كان انتفاء الشرط من غير ناحية اقتضاء الجعل له -
فهو لغو محض فلا يصدر من المولى الحكيم مثل: أن يأمر بركعتين من الصلاة
- مثلا - على تقدير الصعود إلى السماء، أو على تقدير اجتماع الضدين، أو نحو
ذلك، أو أن يأمر بوجوب الحج على تقدير الاستطاعة في الخارج مع علمه فرضا
بعدم تحققها فيه أصلا... وهكذا، فإنه لا شبهة في أن جعل مثل هذا الحكم لغو
صرف فلا يترتب عليه أي أثر شرعي، ومعه يستحيل صدوره منه.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن هذه المسألة باطلة من
رأسها وليس فيها معنى معقول ليبحث عنه لا يتم، وذلك لأن النزاع في هذه المسألة
لو كان في دخل علم الآمر بوجود الموضوع أو بعدم وجوده في فعلية الحكم
وعدم فعليته لكان ما أفاده (قدس سره) في غاية الصحة والمتانة، وذلك لما عرفت: من أن
فعلية الحكم في القضايا الحقيقية تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه في الخارج،
ولا دخل لعلم الآمر بوجوده أو بعدمه في ذلك أصلا. فإذا لا معنى للنزاع فيه كما
هو واضح، إلا أنك عرفت أن النزاع في المسألة ليس في هذا، بل هو فيما ذكرناه:
من أن جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدر وجوده مع علم الجاعل
بعدم تحقق الموضوع في الخارج أصلا هل يجوز أم لا؟
ومن الظاهر أن النزاع في هذا نزاع في معنى معقول، غاية الأمر أن جعل
الحكم عندئذ لغو محض فلا يترتب عليه أثر، ولكن من المعلوم أن هذا لا يوجب
عدم كون النزاع في معنى معقول.
8

وبكلمة أخرى: أن النزاع في المقام ليس في معقولية فعلية الحكم مع علم
الحاكم بانتفاء موضوعه في الخارج وعدم معقوليتها ليقال: إن علم الآمر بوجود
الموضوع خارجا وعدمه أجنبي عن ذلك بالكلية، ضرورة أن الملاك في فعلية
الحكم - واقعا - فعلية موضوعه كذلك، بل النزاع في جواز أصل جعل الحكم
مع العلم بانتفاء شرط فعليته وعدم جوازه. ومن الواضح أن هذا النزاع نزاع في
أمر معقول.
ومن هنا يتبين: أن ما أفاده (قدس سره) - من أن الحكم في القضية الخارجية يدور
مدار علم الحاكم وشروط الحكم، وأما نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه
فهو أجنبي عن الحكم بالكلية - لا يتم أيضا، وذلك لأن علم الحاكم الذي له دخل
في جعل هذا الحكم ليس علمه بما هو صفة نفسانية قائمة بها مع قطع النظر عما
تعلق به من الموجودات الخارجية، ضرورة أن علمه بوجود شرطه في الخارج
يدعو إلى جعل هذا الحكم، كما أن علمه بعدم وجوده فيه داع لعدم جعله فيما إذا لم
يكن الغرض منه عدم تحقق شرطه وموضوعه كالأمثلة المتقدمة.
فإذا يقع الكلام في أنه هل يجوز للمولى أن يأمر عبده بفعل مشروطا بشئ
مع علمه بانتفاء ذلك الشئ في الخارج وعدم تحققه فيه أصلا أم لا؟ ومن المعلوم
أن النزاع فيه نزاع في أمر معقول.
وقد تحصل مما ذكرناه أمور:
الأول: انه لا فرق فيه بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية، فهما من هذه
الناحية على نسبة واحدة.
الثاني: أن الصحيح في المسألة: هو التفصيل بين ما إذا كان انتفاء الشرط
مستندا إلى نفس الجعل، وما إذا كان مستندا إلى عجز المكلف أو نحوه، كما سبق
بشكل واضح.
الثالث: أنه لا ثمرة لهذه المسألة أصلا، ولا تترتب على البحث عنها أية
9

فائدة عملية ما عدا فائدة علمية. وأما ما ذكر من الثمرة لها من وجوب الكفارة
على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية شرائط الوجوب له إلى الليل
- كما إذا أفطر أولا ثم سافر، أو وجد مانع آخر من الصوم كالمرض أو نحوه -
فليس ثمرة لتلك المسألة أصلا، وذلك لأن عروض المانع من الصوم في أثناء اليوم
وإن كان يكشف عن عدم وجوبه عليه من الأول، ضرورة أنه واجب واحد
ارتباطي، ولذا لو طرأ على الصائم مانع من الصوم واضطر إلى الإفطار في بعض
آنات اليوم لم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوب الإمساك في باقي آنات هذا اليوم،
وهذا معنى ارتباطية وجوبه.
وأما وجوب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان متعمدا فلا يدور
مدار وجوب الصوم عليه ولو مع انتفاء شرائطه ليكون ذلك ثمرة لهذه المسألة، بل
هو - على ما يستفاد من روايات الباب - مترتب على الإفطار في نهار شهر
رمضان عالما وعامدا بلا عذر مسوغ له، وذلك لأن جواز الإفطار في الروايات
معلق على خروج المكلف عن حد الترخص، فما دام لم يخرج عنه حرم عليه
الإفطار وإن علم بأنه يسافر بعد ساعة، كما أن وجوب القصر في الروايات معلق
على ذلك، ولذا يجب عليه التمام ما دام هو دون حد الترخص.
وبتعبير أوضح: أن المستفاد من الروايات الواردة في المقام (1) هو: ثبوت
الملازمة بين وجوب القصر وجواز الإفطار، وبين وجوب التمام وعدم جوازه،
ففي كل مورد وجب القصر جاز الإفطار، وفي كل مورد وجب التمام حرم الإفطار.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن وجوب الكفارة مترتب على الإفطار العمدي في
نهار شهر رمضان بلا عذر مسوغ له، سواء طرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك أم لم
يطرأ، وذلك لإطلاق الروايات الدالة عليه.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من ابتناء وجوب الكفارة في

(1) راجع الوسائل: ج 10 ص 184 ب 4 من أبواب من يصح منه الصوم (طبع مؤسسة
آل البيت (عليهم السلام)).
10

هذا الفرض على أن التكليف بالصوم هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد آنات
اليوم أو هو تكليف واحد متعلق بمجموع الآنات؟ فعلى الأول تجب الكفارة عليه
دون الثاني، إلا إذا فرض قيام دليل على وجوب الإمساك في بعض اليوم أيضا
- لا يمكن تصديقه بوجه، وذلك لما عرفت: من أن موضوع وجوب الكفارة
هو الإفطار العمدي في شهر رمضان من دون عذر شرعي له على ما يستفاد من
الروايات.
وعليه فكون التكليف بالصوم تكليفا واحدا أو متعددا أجنبي عن ذلك
بالكلية، ولا دخل له في وجوب الكفارة أو عدم وجوبها أصلا، ضرورة أن المناط
في وجوبها صدق العنوان المزبور. ومن الواضح أنه لا يفرق فيه بين كون
التكليف واحدا أو متعددا بتعدد الآنات.
ونتيجة البحث عن هذه المسألة عده نقاط:
الأولى: أن محل النزاع فيها في الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض منها
إيجاد الداعي للمكلف للإتيان بمتعلقاتها في الخارج. وأما الأوامر الصورية التي
ليس الغرض منها ذلك، بل الغرض منها مجرد الامتحان أو نحوه فهي خارجة عن
محل النزاع، ولا إشكال في جوازها مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليتها.
الثانية: أن محل الكلام في المسألة ليس في شرائط الجعل كما عن المحقق
صاحب الكفاية (قدس سره) (1) ضرورة استحالة الجعل بدون تلك الشرائط. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن فعلية الحكم في
القضية الحقيقية بفعلية موضوعه وعلم الآمر بوجود الموضع في الخارج أو عدم
علمه به أجنبي عن ذلك، ولذا قال: إنه ليس في المسألة معنى معقول ليبحث عنه
أيضا، ليس من محل الكلام في شئ كما عرفت (2).

(1) كفاية الأصول: ص 170.
(2) راجع ص 9.
11

الثالثة: أن محل النزاع فيها إنما هو في تحقق أصل الأمر بداعي إيجاد متعلقه
في الخارج مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته، ومن الواضح أن النزاع فيه نزاع
في أمر معقول، ولا يفرق فيه بين أن تكون القضية حقيقية أو خارجية كما سبق (1).
الرابعة: أن ما ذكروه من الثمرة لهذه المسألة - وهي: أن من أفطر في نهار شهر
رمضان مع عدم تمامية شرائط وجوب الصوم له إلى الليل، كما إذا أفطر في حين
أنه علم بأنه يسافر بعد ساعة أو يوجد مانع آخر منه، فعلى القول بالجواز تجب
الكفارة عليه، وعلى القول بعدمه فلا - ليس لها ثمرة أصلا، وذلك لما ذكرناه من
أنها تدور مدار أن المستفاد من الروايات هو ترتب الكفارة على مطلق الإفطار
العمدي ولو علم بطرو مانع عن الصوم بعده ولا يتمكن من إتمامه، أو أنها مترتبة
على الإفطار العمدي الخاص وهو ما لم يطرأ عليه مانع عنه أصلا، فعلى الأول
تجب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ثم سافر، وعلى الثاني فلا.
* * *
هل الأوامر متعلقة بالطبائع أو الأفراد؟
غير خفي أن هذا النزاع بظاهره مما لا معنى له، وذلك لأنه لا شبهة في أن
مراد القائلين بتعلق الأوامر بالأفراد ليس تعلقها بالموجودات الخارجية، ضرورة
أن الموجود الخارجي مسقط للأمر فلا يعقل تعلق الأمر به، كما أن مراد القائلين
بتعلقها بالطبائع ليس تعلقها بالطبائع الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن
حيثية انطباقها على ما في الخارج، ضرورة أن مثل هذه الطبيعة غير قابل لأن
يتعلق بها الأمر.
ولكن الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة: هو أنه يمكن تقرير النزاع فيها
من ناحيتين:
الأولى: من جهة ابتناء ذلك على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج

(1) راجع ص 9.
12

والقول بعدم وجوده فعلى الأول يتعلق الأمر بالطبيعة، وعلى الثاني بالفرد.
بيان ذلك: هو أنه لا شبهة في أن كل وجود في الخارج بذاته وشخصه يمتاز
عن وجود آخر ويباينه، ويستحيل اتحاد وجود فيه مع وجود آخر، ضرورة
أن كل فعلية تأبى عن فعلية أخرى، وكل وجود يباين وجودا آخر ويأبى عن
الاتحاد معه.
وبعد ذلك نقول: إنه لا إشكال في أن الوجود بواقعه وحقيقته لا بمفهومه
الانتزاعي وجود للفرد حقيقة وذاتا، بداهة أن إسناد الوجود إليه إسناد واقعي
حقيقي مثلا: زيد موجود حقيقة، وعمرو موجود كذلك، وهكذا...، وهذا مما لا
إشكال فيه، سواء فيه القول بوجود الطبيعي في الخارج أو القول بعدم وجوده.
وبكلمة أوضح: أن كل حصة في الخارج تباين حصة أخرى منها، وتمتاز عنها
بهويتها الشخصية ووجودها الخاص مثلا: الحصة المتقررة من الإنسانية في ذات
زيد تباين الحصة المتقررة في ذات عمرو، وهكذا...، أو تمتاز عنها بنفس هويتها
ووجودها، ولكن من الطبيعي أن امتياز أية حصة عن حصة أخرى ليس بالذات
والحقيقية، وإنما هو بالوجود، ضرورة أن امتياز كل شئ به بقانون أن الشئ ما
لم يوجد لم يتشخص. وقد عرفت أن الوجود هو نفس التشخص، فلذا قلنا: إن
امتياز وجود عن وجود آخر إنما هو بنفس ذاته وتشخصه، وعليه فلا محالة
يكون امتياز حصة عن أخرى أو فرد عن آخر بإضافة الوجود الحقيقي إليها، فإن
الحصة بالتحليل العقلي تنحل إلى ماهية وإضافة، أعني: إضافتها إلى الوجود،
وتلك الإضافة توجب صيرورتها حصة وفردا بحيث لو لم تكن تلك الإضافة فلا
حصة في الخارج ولا فرد، فملاك فردية زيد - مثلا - وكونه حصة من الإنسان إنما
هو إضافة الوجود الواقعي إليه إضافة حقيقية.
ومن هنا قلنا: إن امتياز الحصة عن الأخرى بالوجود، ولكن امتياز وجودها
عن وجودها الآخر بالذات والحقيقة بقانون أن كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى
ما بالذات.
13

أو فقل: إن تشخص الحصة وتفردها بالوجود لا غيره، وأما تشخص الوجود
وتفرده فهو بنفس ذاته، لا بشئ آخر، وإلا لدار أو تسلسل كما لا يخفى.
وقد تحصل من ذلك: أن الحصص والأفراد موجودة في الخارج حقيقة
بوجوداتها الواقعية، وهذا مما لا كلام فيه على كلا القولين، أي: سواء فيه القول
بوجود الطبيعي خارجا أو القول بعدم وجوده.
وإنما الكلام: في أن هذا الوجود المضاف إلى الفرد ويكون وجودا له هل هو
وجود للطبيعي أيضا بأن يكون له إضافتان: إضافة إلى الحصة وبتلك الإضافة
يكون وجودا للفرد، وإضافة إلى الطبيعي وبها يكون وجودا له، أو هو ليس وجودا
للطبيعي إلا بالعرض والمجاز، ولا يصح إسناده إليه على نحو الحقيقية؟
فالقائل بوجود الطبيعي في الخارج يدعي الأول، وأن كل وجود مضاف إلى
الفرد فهو وجود للطبيعي على نحو الحقيقة، مثلا: وجود زيد كما أنه وجود له
حقيقة وجود للإنسان كذلك، وهكذا...، غاية الأمر أن هذا الوجود الواحد باعتبار
إضافته إلى الفرد متشخص وممتاز عن غيره في الخارج، وباعتبار إضافته إلى
الطبيعي لا امتياز ولا تشخص له بالنسبة إلى غيره أصلا، كما هو واضح.
والقائل بعدم وجوده يدعي الثاني، وأنه لا تصح إضافة هذا الوجود، أعني:
الوجود المضاف إلى الفرد إلى الطبيعي حقيقة، وأنه ليس وجودا له، بل هو وجود
للفرد فحسب.
وعلى الجملة: فبالتحليل العقلي النزاع المعقول في وجود الطبيعي في الخارج
وعدم وجوده فيه ليس إلا النزاع في هذه النقطة، وهي ما ذكرناه، ضرورة أنه لم
يدع أحد أنه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرده. كما أن القول بأنه
موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه، ضرورة أن الواحد لا بعينه لا
مصداق له في الخارج ولا تعين له، والوجود له تعين ومصداق فيه، ففرض وجوده
خارجا يناقض فرض عدم تعينه فيه فلا يجتمعان.
وعليه، فالنزاع المعقول ينحصر بتلك النقطة، فالمنكر لوجوده يدعي أنه
14

لا يصح إسناد الوجود إليه حقيقية، والقائل به يدعي أنه يصح ذلك، بمعنى: أن
الوجود في الخارج وإن كان واحدا إلا أن له نسبتين: نسبة إلى الفرد ونسبة إلى
الطبيعي، وكلتا النسبتين حقيقية. ومن المعلوم أن تعدد النسبة لا يوجب تعدد
الوجود، وهذا واضح.
والصحيح في المسألة: أن الطبيعي موجود في الخارج حقيقة، وذلك لصحة
حمل الوجود عليه، فلا فرق بين قولنا: " زيد موجود " وقولنا " الإنسان موجود "،
فكما أن الأول على نحو الحقيقة فكذلك الثاني، ولذا لا يصح سلبه عنه. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا شبهة في صحة حمله على الفرد فيقال: زيد إنسان،
ومن المعلوم أنة يعتبر في صحة الحمل الاتحاد في الوجود الخارجي، وإلا
فالحمل غير صحيح، وهذا لعله من الواضحات.
وبعد ذلك نقول: إنه على القول بوجود الطبيعي في الخارج يتعلق الأمر به،
وعلى القول بعدم وجوده فيه يتعلق بالحصة والفرد، ولكن بإحدى الحصص
الخارجية لا بالمعين منها.
فالنتيجة على كلا القولين: هي التخيير بين تلك الحصص والأفراد عقلا. أما
على القول الأول فواضح. وأما على القول الثاني فلفرض: أن الأمر لم يتعلق
بالحصة الخاصة، بل تعلق بواحدة منها لا بعينها. ومن المعلوم أن تطبيقها على هذه
وتلك بيد المكلف، ولا نعني بالتخيير العقلي إلا هذا.
ومن هنا يظهر: أنه لا ثمرة للبحث عن هذه المسألة أصلا، ولا تترتب عليها
أية ثمرة عملية، ضرورة أنه على كلا القولين لابد من الإتيان بالفرد والحصة في
الخارج، سواء كان الأمر متعلقا بالطبيعي أم بالفرد، وذلك لاستحالة إيجاد الطبيعي
في الخارج معرى عن جميع الخصوصيات والتشخصات لتظهر الثمرة بين القولين.
نعم، لو أمكن ذلك فرضا فعلى القول الأول يسقط - لا محالة - الأمر دون
القول الثاني، إلا أنه مجرد فرض لا واقع له أبدا.
15

فإذا لا ثمرة لتلك المسألة أصلا وإن كان الصحيح هو تعلق الأوامر بالطبائع
دون الأفراد، وتشهد على ذلك مراجعة الوجدان، فإن الانسان إذا راجع وجدانه
يرى أنه إذا أراد شيئا تعلقت إرادته بطبيعي ذلك الشئ لا بحصة متشخصة منه،
فلو طلب الماء - مثلا - يرى أن متعلق طلبه هو الطبيعي، من دون ملاحظة
خصوصية خارجية فيه: ككونه في إناء خاص، أو من ماء مخصوص، أو ما شابه
ذلك مما لا دخل له في مطلوبه.
وقد تحصل من ذلك أمور:
الأول: أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج بوجود فرده.
الثاني: أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد.
الثالث: أنه لا ثمرة لهذا البحث أصلا، بل هو بحث علمي فلسفي.
الناحية الثانية: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن مرد النزاع في هذه المسألة
إلى أن الأوامر هل تتعلق بالطبائع مع قطع النظر عن مشخصاتها ولوازم وجوداتها
في الخارج - بحيث تكون تلك اللوازم والمشخصات خارجة عن دائرة متعلقاتها،
وإنما هي موجودة معها قهرا، لاستحالة كون الشئ موجودا بلا تشخص - أو
تتعلق بالأفراد مع تلك المشخصات بحيث تكون المشخصات مقومة للمطلوب
والمراد وداخلة في دائرة المتعلقات؟
فالقائل بتعلق الأمر بالطبيعة أراد تعلقه بذات الشئ مع قطع النظر عن
مشخصاته بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج بدون أي مشخص
وأوجده لسقط الأمر وحصل الغرض، لفرض أنه أتى بالمأمور به وما هو متعلق
الأمر.
والقائل بتعلقه بالفرد أراد تعلقه بالشئ مع مشخصاته، فتكون مشخصاته
أيضا مأمورا بها.
وعلى هذا فتظهر الثمرة بين القولين في باب اجتماع الأمر والنهي، وذلك
16

لأنه على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع دون الأفراد، ففي مورد
الاجتماع: كالصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - لا يسري الأمر من متعلقه وهو
طبيعة الصلاة إلى متعلق النهي وهو الغصب، ولا العكس، لفرض أنهما طبيعتان
مستقلتان، غاية الأمر: أن كل واحدة منهما مشخصة للأخرى في مورد الاجتماع،
وقد عرفت أن الأمر والنهي لا يسريان على هذا القول إلى مشخصات متعلقهما،
فإذا لا مناص من القول بالجواز في تلك المسألة.
وأما على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد دون الطبائع فلا مناص من
الالتزام بالقول بالامتناع في تلك المسألة، وذلك لفرض أن الأمر على هذا القول
متعلق بالصلاة مع مشخصاتها، والمفروض أن الغصب في مورد الاجتماع
مشخص لها. فإذا يكون متعلقا للأمر والحال أنه متعلق للنهي أيضا، فيلزم عندئذ
اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد وهو محال، ضرورة استحالة كون شئ واحد
مأمورا به ومنهيا عنه معا.
وعلى الجملة: فعلى القول الأول بما أن متعلق كل من الأمر والنهي هو الطبيعة
دون مشخصاتها فلا محالة لا يلزم في مورد الاجتماع كون شئ واحد مأمورا به
ومنهيا عنه، لفرض أن متعلق أحدهما غير متعلق الآخر فلا يتحدان في الخارج،
غاية الأمر انهما متلازمان في الوجود الخارجي وان كلا منهما مشخص للآخر.
وعلى القول الثاني: بما أن المشخصات أيضا متعلقة للأمر والنهي فلا مناص
من الالتزام بالامتناع في مورد الاجتماع، لفرض أن متعلق كل منهما - عندئذ -
مشخص للآخر، وعليه فلا محالة يسري كل منهما من متعلقه إلى متعلق الآخر،
فيلزم اجتماعهما في شئ واحد، وهو محال (1).
وقد تحصل مما ذكرناه: أن هذه الفرضية التي فرضها شيخنا الأستاذ (قدس سره) لو
تمت لأصبحت المسألة ذات ثمرة مهمة، ولكنها فرضية خاطئة وغير مطابقة
للواقع، وذلك لما أشرنا إليه سابقا على نحو الإجمال.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 210 - 212.
17

واليك تفصيله، وهو: أن كل وجود سواء كان جوهرا أم عرضا متشخص في
الخارج بذاته، فلا يعقل أن يكون متشخصا بوجود آخر، وذلك لما عرفت من أن
الوجود هو نفس التشخص، وأن تشخص كل شئ به، فلا يعقل أن يكون تشخصه
بشئ آخر أو بوجود ثان، وإلا لدار أو تسلسل. وعليه، فتشخصه بمقتضى قانون:
" أن كل ما بالغير وجب ان ينتهي إلى ما بالذات " بنفس ذاته.
ولذا قلنا: إن كل وجود في ذاته مباين لوجود آخر، وكل فعلية بنفسها تأبى
عن الاتحاد مع فعلية أخرى وتمتاز عنها بنفس ذاتها، وهذا بخلاف الماهية، فإن
تشخصها إنما يكون بالوجود، وامتيازها عن ماهية أخرى به لا بذاتها، وهذا معنى
قولنا: الشئ ما لم يوجد لم يتشخص.
فالنتيجة: هي أن تشخص الوجود بنفسه والماهية بتبع عروض الوجود لها.
وعلى ضوء هذه النتيجة أن الأمور المتلازمة للوجود الجوهري خارجا التي
لا تنفك عنه: كأعراضه: من الكم والكيف والأين والإضافة والوضع وغيرها
موجودات أخرى في قبال ذلك الموجود، ومباينة له ذاتا وحقيقة، ومتشخصات
بنفس ذواتها، وأفراد لطبائع شتى مختلفة لكل منها وجود وماهية، فلا يعقل أن
تكون مشخصات لذلك الوجود، لما عرفت: من أن الوجود هو نفس التشخص، فلا
يعقل أن يكون تشخصه بكمه وكيفه وأينه ووضعه وما شابه ذلك، ضرورة ان لهذه
الاعراض وجودات مباينة بأنفسها لذلك الوجود وإن كانت قائمة به، كما هو شأن
وجود العرض، وقد عرفت أن تشخص الوجود بنفس ذاته فيستحيل أن يكون
بوجود آخر.
وتوهم أن وجود العرض بما أنه متقوم بوجود الجوهر خارجا فلأجل ذلك
يكون متشخصا به توهم خاطئ جدا، ضرورة أن قيامه به في مرتبة متأخرة عن
وجوده. وعليه فلا يعقل أن يكون مشخصا له - مثلا - تشخص زيد بنفس وجوده
الخارجي، لا ببياضه، ولا بسواده، ولا بكمه، ولا بأينه، ولا بوضعه وإن كان كل
وجود في الخارج لا ينفك عن هذه الأمور، ضرورة أن لكل منها وجودا في قبال
18

وجوده وكل وجود متشخص بنفس ذاته، وفرد من أفراد إحدى المقولات التسع
العرضية.
وعلى الجملة: فالوجود لا يعقل أن يكون متشخصا بوجود آخر من دون فرق
فيه بين أن يكون الوجود ان من طبيعة واحدة، أو من طبيعتين كما هو ظاهر. ومن
هنا لم يتوهم أحد ولا يتوهم: أن وجود جوهر مشخص لوجود جوهر آخر، أو أن
وجود عرض مشخص لوجود عرض آخر.
والسر فيه: ما ذكرناه من أن كل وجود متشخص بذاته وممتاز بنفسه عن
غيره. ومن الواضح جدا أن هذا الملاك بعينه موجود بين وجود الجوهر ووجود
العرض المتقوم به، فلا يعقل أن يكون وجود العرض القائم به مشخصا له، كما هو
واضح.
ومن ذلك يتبين أن إطلاق المشخصات على تلك الأعراض الملازمة له
خارجا مسامحة جدا، لما عرفت: من أنها لا تعقل أن تكون مشخصات لوجود
الجوهر أصلا، بل هي وجودات ملازمة له في الخارج فلا تنفك عنه.
وبعد بيان ذلك نقول: إن تلك اللوازم والأعراض كما أنها خارجة عن متعلق
الأمر على القول بتعلقه بالطبيعة كذلك هي خارجة عن متعلقه على القول بتعلقه
بالفرد، ضرورة أن محل الكلام في المسألة إنما هو في تعلق الأمر بالطبيعة، أو
بفرد ما من أفراد تلك الطبيعة. وأما الطبائع الأخرى وأفرادها فجميعا خارجة عن
متعلق الأمر على كلا القولين، بداهة أنه لم يرد من القول بتعلقه بالفرد تعلقه بفرد
ما من هذه الطبيعة وفرد ما من الطبائع الأخرى الملازمة لها في الوجود الخارجي.
ولنأخذ مثالا لذلك كالصلاة مثلا: فإن القائل بتعلق الأوامر بالطبائع يدعي أن
الأمر تعلق بطبيعة الصلاة مع عدم ملاحظة أية خصوصية من الخصوصيات،
والقائل بتعلقها بالأفراد يدعي أنه تعلق بفرد ما من أفرادها، ولا يدعي أنه تعلق
بفرد ما من أفرادها وأفراد الطبائع الأخرى: كالغصب أو نحوه، ضرورة أنه لا معنى
لهذه الدعوى أبدا، كيف؟ فإن الأمر على الفرض متعلق بالصلاة على كلا
19

التقديرين، وليس هو متعلقا بها وبغيرها مما هو ملازم لها وجودا وخارجا، وقد
عرفت أن تلك الأعراض واللوازم وجودات أخرى وأفراد لطبائع غيرها،
ومقولات مختلفة لكل منها وجود وماهية مباين لوجود المأمور به وماهيته.
نعم، لو بني النزاع في المقام على أن المتلازمين هل يجوز اختلافهما في
الحكم أم لا؟ تظهر الثمرة هنا، فإنه لو بنينا على عدم جواز اختلافهما في الحكم
وأن الحكم المتعلق بأحدهما يسري إلى الآخر فلابد من الالتزام بالقول بالامتناع
في مورد الاجتماع.
وأما إذا بنينا على جواز اختلافهما في الحكم وعدم سرايته من أحدهما إلى
الآخر فلا مناص من القول بالجواز فيه، وهذه نعمت الثمرة.
إلا أن البناء على كون المتلازمين في الوجود لابد أن يكونا متوافقين في
الحكم وأنه يسري من أحدهما إلى الآخر خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا،
ضرورة أن الثابت إنما هو: عدم جواز اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما
محكوما بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة، وأما كونهما لابد أن يكونا متوافقين
فيه فهو لم يثبت قطعا، لعدم الدليل عليه أصلا. فإذا لا يمكن ابتناء النزاع في
المسألة على هذا.
كما أنه لا يمكن ابتناؤه على ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وكيف كان، فالعجب
منه (قدس سره) كيف غفل عن هذه النقطة الواضحة؟! وهي: أن هذه الأعراض واللوازم
ليست متعلقة للأمر على كلا القولين كما عرفت بشكل واضح.
ولعل منشأ غفلته عنها تخيل كون تلك اللوازم والأعراض من مشخصات
المأمور به في الخارج، ولكنك عرفت أن هذا مجرد خيال لا واقع له، وأن مثل هذا
الخيال عن مثله (قدس سره) غريب، وذلك لما سبق: من أن تلك الأعراض لا يعقل أن
تكون من مشخصات الوجود خارجا، فإن تشخص الوجود - كما مر - بنفسه لا
بشئ آخر، بل إنها وجودات أخرى في قبال ذلك الوجود وملازمة له في
الخارج.
20

فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت: أن النزاع المعقول في هذه المسألة هو ما
ذكرناه، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وعلى هذا فلا ثمرة للمسألة أصلا كما
عرفت.
نلخص نتيجة البحث عن هذه المسألة في عدة خطوط:
الأول: أن النزاع المعقول في هذه المسألة إنما هو ابتناء ذلك على وجود
الطبيعي في الخارج، وعدم وجوده فيه، وإلا فقد عرفت أن النزاع فيها بظاهره
لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.
الثاني: أن الصحيح هو: وجود الطبيعي في الخارج، وذلك لأجل أن إسناد
الوجود إلى الفرد كما أنه حقيقي كذلك إسناده إلى الطبيعي، ضرورة أنه لا فرق
بين قولنا: " زيد موجود " وقولنا: " الإنسان موجود "، ولا نعني بوجود الطبيعي في
الخارج إلا ذلك، بل لا نعقل لوجوده فيه معنى محصلا ما عدا كون إضافة الوجود
الخارجي إليه حقيقية، كما أن إضافته إلى الفرد كذلك.
الثالث: أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد، ويكفي شاهدا على ذلك
مراجعة الوجدان في هذا الباب.
الرابع: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في هذه المسألة: من أن مرد القول بتعلق
الأمر بالطبيعة هو: أن المأمور به نفس الطبيعي ومشخصاته تماما خارجة عنه،
ومرد القول بتعلقه بالفرد هو: أن المأمور به الفرد مع مشخصاته فتكون مشخصاته
داخلة فيه - وعلى هذا رتب ثمرة مهمة في مسألة اجتماع الأمر والنهي - لا يمكن
المساعدة عليه، وذلك لما عرفت: من أن تشخص كل وجود بنفسه لا بوجود آخر،
ومجرد كون وجود ملازما لوجود آخر في الخارج لا يوجب أن يكون تشخصه
به. وعليه، فلوازم وجود المأمور به خارجا غير داخلة فيه، وخارجة عن متعلق
الأمر على كلا القولين كما سبق.
الخامس: أنه لا ثمرة لهذه المسألة أصلا، ولا يترتب على البحث عنها ما عدا
ثمرة علمية.
21

النسخ
غير خفي أن الوجوب إذا نسخ فلا دلالة فيه على بقاء الجواز، لا بالمعنى
الأعم ولا بالمعنى الأخص، والوجه في ذلك واضح، وهو: أن ما توهم دلالته عليه
لا يخلو من أن يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ، وشئ منهما لا يدل على هذا.
أما الأول: فلأن مفاده إنما هو رفع الوجوب الثابت بدليل المنسوخ، فلا يدل
على أزيد من ذلك أصلا.
وأما الثاني: فلأن مفاده ثبوت الوجوب وقد ارتفع على الفرض، ولا دلالة له
على غيره.
ودعوى: أن الوجوب ينحل إلى جواز الفعل مع المنع من الترك، فالمرفوع
بدليل الناسخ إنما هو المنع من الترك، وأما الجواز الذي هو بمنزلة الجنس فلا
دليل على ارتفاعه أصلا، فإذا لا محالة يكون باقيا خاطئة جدا غير مطابقة للواقع
في شئ، وذلك لأن دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمت فإنما تتم في
المركبات الحقيقية كالإنسان والحيوان وما شاكلهما. وأما في البسائط الخارجية
فلا تتم أصلا، ولا سيما في الأحكام الشرعية التي هي أمور اعتبارية محضة
وتكون من أبسط البسائط، ضرورة أن حقيقتها ليست إلا اعتبار الشارع ثبوت
الفعل على ذمة المكلف أو محروميته عنه.
ومن هنا قلنا: إن الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعا منتزعة من
اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شئ منها مجعولا شرعيا، فالمجعول إنما هو
نفس ذلك الاعتبار، غاية الأمر إن نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك
فينتزع العقل منه الاستحباب، وإن لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب.
وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بأن المرفوع بدليل الناسخ إنما هو فصل
الوجوب دون جنسه، ضرورة أن الوجوب ليس مجعولا شرعيا ليكون هو المرفوع
بتمام ذاته أو بفصله، بل المجعول إنما هو نفس ذلك الاعتبار. ومن الواضح جدا
22

أنه لا جنس ولا فصل له، بل هو بسيط في غاية البساطة، ولأجل ذلك فلا يتصف
إلا بالوجود مرة، وبالعدم مرة أخرى، ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن حقيقة النسخ بحسب مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم
بانتهاء أمده، بمعنى: أن سعة الجعل من الأول ليست بأزيد من ذلك، ومن هنا كان
النسخ في الحقيقة تخصيصا بحسب الأزمان في مقابل التخصيص بحسب الأفراد،
فلا يكون في الواقع رفع، بل فيه دفع، وانتهاء الحكم بانتهاء مقتضيه. نعم، بحسب
مقام الإثبات وظاهر الدليل يكون رفعا.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن معنى النسخ: انتهاء اعتبار
المجعول بانتهاء أمده، والكاشف عن ذلك في مقام الإثبات إنما هو دليل الناسخ،
وعليه، فلا موضوع للبحث عن أنه بعد نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى
الأعم أو الأخص أم لا؟ ضرورة أن الوجوب والجواز بكلا معنييه ليسا من
المجعولات الشرعية ليقع البحث عن أنه إذا نسخ الوجوب هل يبقى الجواز أم لا؟
بل هما أمران منتزعان بحكم العقل كما عرفت.
وقد تحصل من هذا البيان أمور:
الأول: أنه لا موضوع لما اشتهر بين الأصحاب قديما وحديثا: من أنه إذا
نسخ الوجوب هل يبقى الجواز بالمعنى الأعم أو الأخص أم لا؟ لما عرفت: من أن
الوجوب ليس مجعولا شرعيا ليقع الكلام في ذلك.
الثاني: أنه لا موضوع لدعوى ابتناء النزاع في المسألة على إمكان بقاء
الجنس بعد ارتفاع الفصل، لما مر: من أن الاعتبار بسيط في غاية البساطة، فلا
جنس ولا فصل له.
الثالث: أنه لا مجال لدعوى استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب،
ضرورة أن هذه الدعوى ترتكز على أن يكون كل من الوجوب والجواز مجعولا
شرعيا، وقد عرفت خلافه وأنهما أمران انتزاعيان، والمجعول الشرعي إنما هو
اعتبار المولى لا غيره، والمفروض أنه قد ارتفع بدليل الناسخ، فإذا لا موضوع
للاستصحاب.
23

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن الوجوب مجعول شرعا فمع ذلك لا دليل لنا
على بقاء الجواز.
والوجه في ذلك: أما أولا: فلأن الوجوب أمر بسيط، وليس مركبا من جواز
الفعل مع المنع من الترك، وتفسيره بذلك تفسير بما هو لازم له لا تفسير لنفسه،
وهذا واضح.
وأما ثانيا: فلو سلمنا أن الوجوب مركب إلا أن النزاع هنا في بقاء الجواز بعد
نسخ الوجوب وعدم بقائه ليس مبتنيا على النزاع في تلك المسألة، أعني: مسألة
إمكان بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل وعدم إمكانه، وذلك لأن النزاع في تلك
المسألة إنما هو في الإمكان والاستحالة العقليين.
وأما النزاع في مسألتنا هذه إنما هو في الوقوع الخارجي، وعدم وقوعه بعد
الفراغ عن أصل إمكانه، وكيف كان، فإحدى المسألتين أجنبية عن المسألة
الأخرى بالكلية.
وأما دعوى جريان الاستصحاب في هذا الفرض بتقريب أن الجواز قبل نسخ
الوجوب متيقن، وبعد نسخه نشك في بقائه فنستصحب فمدفوعة، فإنه مضافا إلى
أنه من الاستصحاب في الأحكام الكلية - وقد ذكرنا غير مرة (1): أنه لا يجري
فيها على وجهة نظرنا - غير جار في نفسه في المقام، وذلك لأنه من القسم الثالث
من أقسام استصحاب الكلي، لأن المتيقن لنا - وهو الجواز في ضمن الوجوب - قد
ارتفع يقينا بارتفاع الوجوب، والفرد الآخر منه مشكوك الحدوث، فإذا قد اختلت
أركان الاستصحاب فلا يجري.
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه بعد نسخ الوجوب لا دليل على ثبوت شئ من
الأحكام غيره فإذا لابد من الرجوع إلى العموم أو الإطلاق لو كان، وإلا فإلى
الأصل العملي، وهو يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 36.
24

ونتيجة البحث عن هذه المسألة عدة أمور:
الأول: أن الوجوب إذا نسخ فلا دليل على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو
الأخص، بل قد عرفت أن الوجوب ليس مجعولا شرعيا، والمجعول الشرعي إنما
هو نفس الاعتبار القائم بالمعتبر (1)، ومعنى نسخه: هو انتهاء ذلك الاعتبار بانتهاء
أمده، فإذا لا معنى للبحث عن هذا، ولا موضوع له.
الثاني: أن ابتناء النزاع في المسألة على النزاع في إمكان بقاء الجنس بعد
ارتفاع الفصل وعدم إمكانه باطل، فإن الحكم حيث إنه أمر اعتباري بسيط في
غاية البساطة فلا جنس له ولا فصل.
الثالث: أنه بناء على ما ذكرناه فلا مجال للتمسك بالاستصحاب في المقام،
مضافا إلى أنه من الاستصحاب في الحكم الكلي من ناحية، ومن القسم الثالث
من أقسام استصحاب الكلي من ناحية أخرى.
* * *
الواجب التخييري
قد اختلف العلماء فيه إلى عدة آراء ومذاهب:
المذهب الأول: أن الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال مثلا، ففي
موارد التخيير بين القصر والتمام لو اختار المكلف القصر - مثلا - فهو الواجب
عليه، ولو عكس فبالعكس، وهذا المذهب لسخافته تبرأ منه كل من نسب إليه،
ولذا ذكر صاحب المعالم (قدس سره): أن كلا من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا المذهب إلى
الآخر وتبرأ منه (2).
وكيف كان فلازم هذه النظرية هو: أن الواجب يختلف باختلاف المكلفين، بل
باختلاف حالاتهم، فلو اختار أحدهم - في المثال المزبور - القصر في مقام
الامتثال والآخر التمام فالواجب على الأول هو القصر واقعا، وعلى الثاني هو

(1) تقدم في ص 23 فراجع.
(2) معالم الأصول: ص 66 - 67.
25

التمام كذلك. أو لو اختار أحدهم القصر في يوم والتمام في يوم آخر فالواجب
عليه في اليوم الأول هو القصر، وفي اليوم الثاني التمام، وكذا الحال في كفارة شهر
رمضان وما شاكلها.
فالنتيجة: هي أن وجوب الواجب في هذا الفرض واقعا تابع لاختيار المكلف
في مقام الامتثال بحيث لا وجوب له قبل اختياره في الواقع ونفس الأمر. ويرده:
أولا: أنه مخالف لظواهر الأدلة الدالة على وجوب فعلين أو أفعال على نحو
التخيير، ولا تعين لما هو الواجب على المكلف في الواقع ونفس الأمر، فما يختاره
مصداق للواجب لا أنه الواجب بعينه.
وثانيا: أنه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف، ضرورة أن لازم هذا القول
- كما عرفت - هو اختلاف التكليف باختلاف المكلفين، بل باختلاف حالاتهم.
ففي المثال المتقدم لو اختار أحدهم القصر - مثلا - والآخر التمام فيكون تكليف
الأول واقعا هو القصر، والثاني هو التمام. أو لو اختار أحدهم صوم شهرين
متتابعين - مثلا - والآخر عتق رقبة والثالث إطعام ستين مسكينا فيكون الواجب
على الأول واقعا هو الصوم، وعلى الثاني العتق، وعلى الثالث الإطعام. ومن
الواضح جدا أن هذا مناف صريح لقاعدة الاشتراك في التكليف التي هي من
القواعد الضرورية. فإذا لا يمكن الالتزام بهذه النظرية أبدا.
وثالثا: أن لازم هذا القول أن لا يكون وجوب في الواقع عند عدم اختيار
المكلف أحدهما وترك امتثاله وعصيانه، ضرورة أن الوجوب إنما يتحقق باختيار
المكلف إياه في مقام الامتثال كما هو المفروض، وأما قبل اختياره فلا وجوب
- واقعا - ليصدق عليه أنه تركه وعصاه فيستحق العقوبة.
وإن شئت فقل: إن لازم هذه النظرية هو: أن وجوب كل منهما في الواقع
مشروط باختيار المكلف إياه في ظرف الامتثال، ولازمه هو: أنه لا وجوب له
قبل اختياره، ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، كما هو واضح.
فإذا لا موضوع للعصيان واستحقاق العقوبة عند ترك المكلف الإتيان
بالجميع، ضرورة أن إيجاد الشرط غير واجب عليه، وهذا بديهي البطلان.
26

ورابعا: أنه إذا لم يكن شئ منهما واجبا في حال العصيان فلا يكون واجبا
في حال الامتثال أيضا.
والوجه في ذلك: هو أن كلا من العصيان والامتثال وارد على موضوع واحد،
فيتحقق العصيان فيه مرة، والامتثال مرة أخرى، فإذا فرض أنه لم يكن واجبا في
حال العصيان فلا يعقل أن يكون واجبا في حال الامتثال. مثلا: الصلاة قصرا إذا لم
تكن واجبة في حال عصيانها فلا محالة لا تكون واجبة في حال امتثالها أيضا،
ضرورة أنه ا: إما أن تكون في الواقع واجبة، أو ليست بواجبة فيه، فلا ثالث لهما.
وعلى الأول فهي واجبة في كلتا الحالتين، وعلى الثاني فهي غير واجبة كذلك،
لوضوح أنه لا يعقل أن يكون وجوبها مشروطا بامتثالها والإتيان بها في الخارج،
فإن مرده إلى طلب الحاصل واشتراط الأمر بالشئ بوجوده وهو غير معقول.
فالنتيجة: أن هذه النظرية لا ترجع إلى معنى محصل أصلا.
المذهب الثاني: هو أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجبا تعيينا
ومتعلقا للإرادة، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر، فيكون مرد هذا القول
إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الاتيان بالآخر.
وقد صحح هذه النظرية بعض مشايخنا المحققين (قدس سرهم) بأحد نحوين:
الأول: أن يفرض أن لكل واحد منها مصلحة ملزمة قائمة به. مثلا: للصوم
مصلحة الزامية قائمة بنفسه وتقتضي إيجابه، وكذا للعتق والإطعام، فالقائم بها
مصالح متباينة لا متقابلة بحيث لا يمكن الجمع بينها، وبما أن تلك المصالح لزومية
فلذا أوجب الشارع الجميع، ولكن مصلحة التسهيل والإرفاق تقتضي تجويز
الشارع ترك كل منها إلى بدل، فلذا أجاز ترك كل منها عند الإتيان بالآخر وامتثال
أمره.
ونتيجة ذلك: هي أنه إذا ترك الكل فلا يعاقب إلا على ترك ما لا يجوز تركه
وهو ليس إلا الواحد منها وإذا فعل الكل دفعة واحدة كان ممتثلا بالإضافة إلى
الجميع واستشهد على ذلك بأنه ربما لا يكون ارفاق في البين فلذا أوجب الجمع
بين الخصال كما في كفارة الافطار بالحرام.
27

الثاني: أن يفرض أن الغرض المترتب على الخصال - أعني: الصوم والعتق
والإطعام - وإن كان واحدا نوعيا وواحدا بالسنخ إلا أن الإلزامي من ذلك الغرض
وجود واحد منه، وبما أن نسبة كل منها إلى ذلك الوجود الواحد على السوية فلذا
يجب الجميع، لأن وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول، ووجوب أحدها
المعين ترجيح بلا مرجح. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: حيث إن وجودا واحدا من ذلك الغرض لازم، فلأجل
ذلك يجوز ترك كل منها عند الإتيان بالآخر (1).
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية بكلا تفسيريها.
أما تفسيرها الأول فيرد عليه:
أولا: أنه مخالف لظاهر الدليل، حيث إن ظاهر العطف فيه بكلمة " أو " هو
وجوب أحدهما أو أحدها، لا وجوب الجميع كما هو واضح.
وثانيا: أنا قد ذكرنا غير مرة: أنه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في شئ ما
عدا تعلق الأمر به، وحيث إن الأمر فيما نحن تعلق بأحد الطرفين أو الأطراف فلا
محالة لا نستكشف إلا قيام الغرض به. فإذا لا طريق لنا إلى كشف تعدد الملاك
أصلا، فيحتاج الحكم بتعدده وقيامه بكل منها إلى دعوى علم الغيب.
وثالثا: أنه لا طريق لنا إلى أن مصلحة التسهيل والإرفاق على حد توجب
جواز ترك الواجب، وعلى فرض تسليم أنها تكون بهذا الحد فهي - عندئذ - تمنع
عن أصل جعل الوجوب للجميع، ضرورة أن مصلحة ما عدا واحد منها مزاحمة
بتلك المصلحة، أعني: مصلحة التسهيل والإرفاق. ومن الواضح - جدا - أن
المصلحة المزاحمة بمصلحة أخرى لا تدعو إلى جعل حكم شرعي أصلا، وغير
قابلة لأن تكون منشأ له، فإذا إيجاب الجميع بلا مقتض.
وعلى الجملة: فمصلحة التسهيل والإرفاق لو كانت إلزامية فتمنع عن أصل
جعل الوجوب لجميع الأطراف أو الطرفين، لا أنها توجب جواز ترك الواجب،

(1) انظر نهاية الدراية: ج 2 ص 68 - 69 من مباحث الألفاظ.
28

ضرورة أنه لا أثر للمصلحة المزاحمة بمصلحة أخرى، ويكون وجودها وعدمها
سيان. فإذا يكون إيجاب الجميع بلا داع، وهو يستحيل أن يصدر من الحكيم.
فالنتيجة: هي أن الواجب أحدها لا الجميع.
ثم إنه على فرض إيجاب الجميع وعدم كون مصلحة التسهيل والإرفاق مانعة
منه فلا موجب لسقوط وجوب بعضها بفعل الآخر، ضرورة أنه بلا مقتض وسبب،
فإن سقوط وجوب الواجب بأحد أمور لا رابع لها:
الأول: امتثاله والإتيان بمتعلقه خارجا الموجب لحصول غرضه فإنه مسقط
له لا محالة.
الثاني: العجز عن امتثاله وعدم القدرة على الإتيان بمتعلقه في الخارج، سواء
كان من ناحية العصيان أو غيره.
الثالث: النسخ، والمفروض أن الإتيان بالواجب الآخر ليس شيئا من هذه
الأمور.
ودعوى: أنه إذا فرض أن وجوب كل منها مشروط بعدم الإتيان بالآخر فلا
محالة يكون إتيانه مسقطا له مدفوعة بأن الأمر وإن كان كذلك على فرض ثبوت
تلك الدعوى إلا أنها غير ثابتة، فإنه مضافا إلى عدم الدليل عليها أنها مخالفة
لظواهر الأدلة في المقام، حيث إن الظاهر منها وجوب أحد الأطراف أو الطرفين
لا وجوب الجميع بنحو الاشتراط، أي: اشتراط وجوب كل بعدم الإتيان بالآخر.
ورابعا: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن مصلحة التسهيل والإرفاق إلزامية
وسلمنا أيضا أنها لا تمنع عن أصل جعل الوجوب للجميع وإنما توجب جواز ترك
الواجب إلى البدل الذي يكون مرده إلى تقييد وجوب كل منها بعدم الإتيان بالآخر،
ولكن لازم ذلك هو الالتزام في صورة المخالفة وعدم الإتيان بشئ منها باستحقاق
العقاب على ترك كل منها، ضرورة أنه لا يجوز ترك الواجب بدون الإتيان ببدله،
وإنما يجوز الترك إلى بدل لا مطلقا، فإذا فرض أن المكلف ترك الصوم بلا بدل
وترك العتق والإطعام كذلك فلا محالة يستحق العقاب على ترك كل منها.
29

فما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره): من أنه في هذا الفرض يستحق عقابا واحدا
- وهو العقاب على ما لا يجوز تركه وهو الواحد منها - لا يرجع إلى معنى محصل،
وذلك لأن عدم استحقاقه العقاب على ترك البقية عند الإتيان بواحد منها من جهة
أن تركها إلى بدل، وقد عرفت أنه جائز (1) وإنما لا يجوز تركها بلا بدل، والمفروض
أن عند ترك الجميع يكون ترك كل منها بلا بدل فيستحق العقاب عليه.
وبكلمة أخرى: أن ترك كل واحد منها مقتض لاستحقاق العقاب، لفرض أنه
ترك الواجب، والمانع منه إنما هو الإتيان بالآخر، فإذا فرض أنه لم يأت به أيضا
وتركه فلا مانع من استحقاقه العقاب أصلا، فيكون العقاب - عندئذ - على الجمع
بين التركين أو التروك، وقد مر نظير ذلك في بحث الترتب، وقلنا هناك: إن المكلف
إذا ترك الأهم والمهم معا فيستحق عقابين، ويكون العقابان على الجمع بين ترك
هذا وترك ذاك (2)، مع أن من الواضح - جدا - أنه لا يمكن الالتزام بتعدد العقاب في
المقام أبدا، ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.
وأما تفسيرها الثاني فيرده:
أولا: أنه خلاف ظاهر الدليل، فإن الظاهر - كما عرفت - وجوب أحد
الأطراف أو الطرفين، لا وجوب الجميع.
وثانيا: أنه لا طريق لنا إلى إحراز أن الغرض المترتب على الخصال واحد
بالسنخ والنوع، وأن الإلزامي منه وجود واحد، فإنه يحتاج إلى علم الغيب.
وثالثا: على تقدير تسليم ذلك إلا أن لازمه وجوب أحد تلك الخصال
لا وجوب الجميع.
ودعوى: أن وجوب أحدها المردد في الواقع غير معقول، ووجوب أحدها
المعين ترجيح بلا مرجح فلا محالة وجب الجميع فاسدة، وذلك لأنا لا نقول
بوجوب أحدهما المردد في الواقع ليقال: إنه غير معقول، ولا بوجوب أحدهما
المعين ليكون ترجيحا من غير مرجح، بل نقول بوجوب أحدهما لا بعينه،

(1) مر ذكره في ص 29.
(2) تقدم في ج 3 ص 144.
30

وهو غير أحدهما المردد في الواقع المعبر عنه ب‍ " أحدهما المصداقي "، ضرورة
أن الأول قابل لتعلق التكليف به دون هذا، فهاهنا دعويان:
الأولى: أن أحدهما لا بعينه المعبر عنه ب‍ " الجامع الانتزاعي " قابل لتعلق
التكليف به.
الثانية: أن أحدهما المردد في الواقع غير قابل له.
أما الدعوى الأولى: فلأنه لا يعتبر في متعلق التكليف الذي هو أمر اعتباري
أن يكون جامعا ذاتيا، بل يجوز أن يكون جامعا انتزاعيا، وهو عنوان أحد الفعلين
أو الأفعال، كما سيأتي بيانه بشكل واضح.
وأما الدعوى الثانية: فلأن المردد في الواقع والخارج محال في ذاته، ضرورة
أنه لا ثبوت ولا وجود له فيه، فإذا كيف يتعلق الأمر به؟ وهذا واضح.
فما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره) من أن الأمر في المقام لا يخلو: من أن يتعلق
بأحدهما المردد في الواقع، وأن يتعلق بأحدهما المعين فيه أو بالجميع - وحيث إن
الأول والثاني غير معقول فيتعين الثالث - غير صحيح، لما عرفت من أن هنا شقا
رابعا، وهو: تعلق الأمر بأحدهما لا بعينه المعبر عنه بالجامع الانتزاعي، وهو قابل
لتعلق التكليف به كما سنتعرض له عن قريب إن شاء الله، غاية الأمر: أن المكلف
مخير في تطبيقه على هذا الفرد أو ذاك.
ورابعا: على تقدير تسليم أن الواجب هو الجميع إلا أن لازم ذلك هو تعدد
العقاب عند ترك الجميع وعدم الإتيان بشئ منها، ضرورة أن الجائز هو ترك كل
منها إلى بدل لا مطلقا، كما مر آنفا.
فالنتيجة: أن هذا القول بكلا تفسيريه لا يرجع إلى معنى صحيح.
المذهب الثالث: هو ما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) واليك نص كلامه:
والتحقيق أن يقال: إنه إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنه هناك غرض واحد
يقوم به كل واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام الغرض - ولذا يسقط
به الأمر - كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب
31

الواقع عقليا لا شرعيا، وذلك لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما
اثنان ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار نحو من السنخية بين العلة
والمعلول، وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان أن الواجب هو الجامع
بين هذين الاثنين.
وإن كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع
حصول الغرض في الآخر بإتيانه كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب يستكشف
عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلا إلى الآخر، وترتب الثواب على فعل الواحد
منهما والعقاب على تركهما، فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما
لا بعينه مصداقا ولا مفهوما كما هو واضح - إلا أن يرجع إلى ما ذكرناه: فيما إذا
كان الأمر بأحدهما بالملاك الأول من أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما - ولا
أحدهما معينا، مع كون كل واحد منهما مثل الآخر في أنه واف بالغرض (1).
أقول: ما أفاده (قدس سره) يرجع إلى عدة نقاط:
الأولى: أن الغرض في المقام إذا كان واحدا بالذات والحقيقة فلا محالة
يكشف عن وجود جامع وحداني ذاتي بين الفعلين أو الأفعال بقاعدة " أن الأمور
المتباينة لا يمكن أن تؤثر أثرا واحدا بالسنخ "، فوحدة الغرض هنا تكشف عن
جهة جامعة حقيقية بينها، فيكون ذلك الجامع هو متعلق الوجوب بحسب الواقع
والحقيقة وإن كان متعلقه بحسب الظاهر هو كل واحد منها، وعليه فيكون التخيير
بينها عقليا لا شرعيا.
فالنتيجة: أن مرد هذه الفرضية إلى إنكار التخييري الشرعي كما لا يخفى.
الثانية: ما إذا كان الغرض متعددا في الواقع وكان كل واحد منه قائما بفعل،
إلا أن حصول واحد من الغرض مضاد لحصول الآخر فلا يمكن الجمع بينهما في
الخارج، فعندئذ لا مناص من الالتزام بوجوب كل منهما بنحو يجوز تركه إلى بدل
لا مطلقا، ضرورة أنة بلا موجب ومقتض بعد فرض أن الغرضين المترتبين عليهما

(1) كفاية الأصول: ص 174، باختلاف يسير.
32

متضادان فلا يمكن تحصيل كليهما معا، وعليه فيكون التخيير بينهما شرعيا،
ضرورة أن مرد هذه الفرضية إلى وجوب هذا أو ذاك، ولا نعني بالتخيير الشرعي
إلا هذا.
الثالثة: أن الواجب ليس هو أحدهما لا بعينه لا مصداقا، أعني به: الفرد المردد
بحسب الواقع والخارج، ولا مفهوما، أعني به: الجامع الانتزاعي المنتزع منهما.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط، فنقول: إن هذه النقاط جميعا خاطئة وغير
مطابقة للواقع.
أما النقطة الأولى: فقد ذكرنا في أول الكتاب عند البحث عن موضوع العلم:
أن هذه القاعدة - أعني قاعدة عدم صدور الواحد عن الكثير - إنما تتم في الواحد
الشخصي من تمام الجهات دون الواحد النوعي، ضرورة أنه قد برهن في محله: أن
هذه القاعدة وقاعدة " عدم صدور الكثير عن الواحد " إنما تتمان في الواحد
بالشخص دون الواحد بالنوع.
والوجه في ذلك ملخصا: هو أن كل معلول طبيعي يتعين في مرتبة ذات علته
بقانون " أن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد "، والمراد من التشخص: هو تشخصه
في مرتبة ذات علته، ففي تلك المرتبة ما لم يتشخص لم يوجد في الخارج.
والمراد من التشخص في تلك المرتبة: هو أن المعلول الطبيعي بما أنه مرتبة
نازلة من وجود علته فلا محالة يتشخص في مرتبة وجود علته، بملاك أنة كامن
في ذاتها ومرتبة من مراتب وجودها، وفي مرتبة نفسه يتشخص بوجوده الخاص،
وهذا هو المراد من تشخصه السابق واللاحق.
كما أن المراد من وجوبه السابق في قولهم: " الشئ ما لم يجب لم يوجد ":
هو: التشخص السابق، وهو التشخص في مرتبة ذات العلة ووجودها.
كما أن المراد من وجوبه اللاحق: هو تشخصه بوجوده الخاص. وعلى ضوء
هذا الأساس لا يعقل تشخص معلول واحد شخصي في مرتبة ذات علتين
مستقلتين، فإن مرد ذلك إلى تعدد الواحد الشخصي، لفرض أن وجوده في مرتبة
ذات هذه العلة يباين وجوده في مرتبة ذات العلة الأخرى، وهو محال.
33

وبهذا البيان قد ظهر حال القاعدة الثانية أيضا، وذلك لأن لازم صدور
معلولين من علة واحدة شخصية هو: أن تكون في مرتبة ذاتها جهتان متباينتان
لتؤثر بإحداهما في معلول، وبالأخرى في آخر، لما عرفت: من أن كل معلول
يتعين في مرتبة ذات علته وأنه من مراتب وجودها، فإذا فرض أن العلة واحدة
شخصية من جميع الجهات امتنع تعين معلولين متباينين في مرتبة ذاتها
ووجودها، ضرورة أنه لا يعقل أن يكون كلاهما من مراتب وجودها ومتعينا في
ذاتها. مثلا: إذا كانت الحرارة من مراتب وجود النار فلا يعقل أن تكون البرودة من
مراتب وجودها، وهكذا...
وبكلمة أخرى: أن لازم فرض تعين معلولين متباينين في مرتبة ذات العلة
لابد من فرض جهتين متباينتين فيها لا اشتراك بينهما أصلا، ليكون المؤثر في
أحدهما جهة، وفي الآخر جهة أخرى بملاك قاعدة السنخية التي هي معتبرة بين
العلل والمعاليل الطبيعية، بداهة [أنه] (1) يستحيل أن يكون المؤثر فيهما جهة
واحدة شخصية، وهذا خلف.
وبعد ذلك نقول: إن ما ذكرناه من البرهان على استحالة صدور الواحد عن
الكثير واستحالة صدور الكثير عن الواحد لا يجري في الواحد النوعي، ضرورة
أنه لا مانع من صدور الكثير عن الواحد بالنوع، فإن مرده - بحسب التحليل
والواقع - إلى صدور كل معلول شخصي عن فرد منه، وإسناد صدوره إلى الجامع
باعتبار ذلك كما هو واضح. ومن المعلوم أن البرهان المزبور لا يمنع عن ذلك
أصلا، كما أنه لا يمنع عن صدور الواحد النوعي عن الكثير، فإنه خارج عن
موضوع تلك القاعدة، حيث إن مرده إلى استناد كل فرد إلى علة أو كل مرتبة منه
إليها: كالحرارة المستندة إلى إشراق الشمس مرة، والى النار مرة أخرى، والى
الغضب مرة ثالثة، والى الحركة مرة رابعة، والى القوة الكهربائية مرة خامسة،
وهكذا...

(1) أضفناه ليستقيم السياق.
34

كما أنه عند اجتماع تلك الأسباب والعلل على شئ يكون المؤثر في إيجاد
الحرارة فيه هو المجموع، لا كل واحد منها، ولذا لو كان واحد منها لم يوجد فيه إلا
مرتبة ضعيفة منها والمفروض أن المجموع قد أوجد فيه مرتبة شديدة تنحل إلى
مراتب متعددة فتستند كل مرتبة منها إلى واحد منها لا الجميع، ومن الواضح أن
هذا خارج عن موضع القاعدة المذكورة، لاختصاصها - كما عرفت - بالواحد
الشخصي من تمام الجهات، وهذه الحرارة المستندة إلى الجميع ليست واحدة من
تمام الجهات، بل هي ذات مراتب متعددة، وكل مرتبة منها يستند إلى علة.
أو فقل: إنها واحدة بالنوع من هذه الناحية لا واحدة بالشخص، فإذا لا يمكن
دعوى: أن المؤثر فيها هو الجامع بين تلك الأسباب، لا كل واحد واحد منها، فإن
هذه الدعوى - مضافا إلى أنها خلاف الوجدان - غير ممكنة في نفسها، بداهة أنه
لا يعقل وجود جامع ذاتي بين هذه الأسباب، لأنها مقولات متعددة، فإن النار من
مقولة الجوهر، والقوة الكهربائية - مثلا - من مقولة الأعراض، وهكذا...، وقد حقق
في محله: أنه لا يمكن اندراج المقولات تحت مقولة أخرى، فإنها أجناس
عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها، فلا يعقل وجود جامع ماهوي بينها،
وإلا لم يمكن حصر المقولات في شئ.
فالنتيجة: أن الواحد النوعي لا يكشف عن وجود جامع وحداني أصلا، وبما
أن الغرض المترتب على الواجب التخييري ليس واحدا شخصيا، بل هو واحد
بالنوع فلا يكشف عن وجود جامع ماهوي بين الفعلين أو الأفعال.
هذا، مضافا إلى أن سنخ هذا الغرض غير معلوم لنا، وأنه واحد بالذات
والحقيقة، أو واحد بالعنوان، ومن الواضح - جدا - أن الكاشف عن الواحد بالذات
ليس إلا الواحد بالذات، وأما الواحد بالعنوان فلا يكشف إلا عن واحد كذلك،
وحيث إنا لا نعلم بسنخ الغرض في المقام على فرض كونه واحدا فلا نعلم سنخ
الجامع المستكشف منه أنه واحد بالذات أو بالعنوان، فإذا لا يثبت ما أدعاه من
وجود جامع ذاتي بينهما.
35

وثانيا: أن ما أفاده (قدس سره) لو تم فإنما يتم فيما يمكن وجود جامع حقيقي بينهما،
كأن يكونا فردين أو نوعين من طبيعة واحدة، وأما فيما إذا لم يمكن وجود جامع
كذلك، كما إذا كان كل منهما من مقولة على حدة فلا يتم أصلا.
ومن الواضح أن التخيير بين فعلين أو أفعال لا يختص بما إذا كانا من مقولة
واحدة، بل كما يمكن أن يكونا كذلك يمكن أن يكون أحدهما من مقولة والآخر
من مقولة أخرى، أو أن يكون أحدهما أمرا وجوديا والآخر أمرا عدميا. ومن
المعلوم أنه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينهما في أمثال ذلك كما هو واضح.
وثالثا: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن ما أفاده (قدس سره) صحيح إلا أن الجامع المزبور
مما لا يصلح أن يكون متعلقا للأمر، ضرورة أن متعلق الأمر لابد أن يكون أمرا
عرفيا قابلا للإلقاء إليهم. وأما هذا الجامع المستكشف بالبرهان العقلي فهو خارج
عن أذهانهم، وغير قابل لأن يتعلق به الخطاب، لوضوح أن الخطابات الشرعية
المتوجهة إلى المكلفين على طبق المتفاهم العرفي، ولا يعقل تعلق الخطاب بما هو
خارج عن متفاهمهم، وحيث إن هذا خارج عنه فلا يعقل تعلق الخطاب به.
وأما النقطة الثانية فيرد عليها:
أولا: أنها مخالفة لظواهر الأدلة، فإن الظاهر من العطف بكلمة " أو " هو أن
الواجب أحدهما لا كلاهما.
وثانيا: أن فرض كون الغرضين متضادين فلا يمكن الجمع بينهما في الخارج،
مع فرض كون المكلف قادرا على إيجاد كلا الفعلين فيه بعيد جدا.
بل هو ملحق بأنياب الأغوال، ضرورة أنا لا نعقل التضاد بين الغرضين مع
عدم المتضادة بين الفعلين، فإذا فرض ان المكلف متمكن من الجمع بينهما خارجا
فلا مانع من ايجابهما معا عندئذ.
وثالثا: أنا لو سلمنا ذلك فرضا وقلنا بالمضادة بين الغرضين وعدم إمكان
الجمع بينهما في الخارج إلا أن من الواضح - جدا - أنه لا مضادة بين تركيهما معا،
فيتمكن المكلف من ترك كليهما بترك الإتيان بكلا الفعلين خارجا. هذا من ناحية.
36

ومن ناحية أخرى: أن العقل مستقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض
الملزم، ولا يفرق بينه وبين تفويت الواجب الفعلي.
ومن ناحية ثالثة: أن فيما نحن فيه وإن لم يستحق العقاب على ترك تحصيل
أحد الغرضين عند تحصيل الآخر من جهة عدم إمكان الجمع بينهما في الخارج
إلا أنه لا مانع من استحقاق العقاب عليه عند تركه تحصيل الآخر.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنه يستحق العقابين عند جمعه بين
التركين، لفرض أنه مقدور له، فلا يكون العقاب عليه عقابا على ما ليس بالاختيار.
وهذا نظير ما ذكرناه في بحث الترتب، وقلنا هناك: إن المكلف يستحق عقابين عند
جمعه بين ترك الأهم والمهم معا، وإنه ليس عقابا على ما لا يكون بالاختيار،
لفرض أن الجمع بينهما مقدور له (1)، وفيما نحن فيه كذلك، إذ لا مانع من الالتزام
بتعدد العقاب فيه أصلا، فإن المانع من العقاب على ترك أحدهما عند الإتيان
بالآخر هو عدم إمكان تحصيله بعد الإتيان به، لفرض المضادة بينهما. وأما العقاب
على ترك كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر فلا مانع منه أصلا، لما عرفت
من استقلال العقل باستحقاق العقاب على ترك الملاك الملزم، والمفروض في
المقام أن كلا من الملاكين ملزم في نفسه، وعليه فلا محالة إذا ترك المكلف كليهما
معا يستحق عقابين: عقابا على ترك هذا وعقابا على ترك ذاك.
وبكلمة أخرى: أن مقتضى كون كل من الغرضين ملزما في نفسه هو وجوب
كل من الفعلين، غاية الأمر من جهة المضادة بين الغرضين، وعدم إمكان الجمع
بينهما في الخارج - لا محالة - يكون وجوب كل منهما مشروطا بعدم الإتيان
بالآخر هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا يمكن أن يكون الواجب في هذا الفرض هو أحدهما
المعين، لاستلزامه الترجيح بلا مرجح، فإنه بعد فرض كون كل منهما مشتملا

(1) تقدم في: ج 3 ص 144.
37

على الملاك الملزم في نفسه، وأنهما من هذه الناحية على نسبة واحدة فتخصيص
الوجوب بأحدهما خاصة دون الآخر لا يمكن، وكذا لا يمكن أن يكون الواجب
هو أحدهما لا بعينه، وذلك لأنه بعد فرض كون الغرض في المقام متعددا لا موجب
لأن يكون الواجب واحدا، مع أنه خلاف مفروض كلامه (قدس سره).
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين قد أصبحت: أنه لا مناص من الالتزام بما
ذكرناه، وهو: وجوب كل من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر. غاية الأمر:
أن إطلاق وجوب كل منهما يقيد بعدم الإتيان بالآخر، ولازم هذا هو أن المكلف
إذا ترك كليهما معا يستحق عقابين: عقابا على ترك هذا وعقابا على ترك ذاك،
لفرض أن وجوب كل منهما - عندئذ - فعلي من جهة تحقق شرطه، وهو عدم
الإتيان بالآخر، وهذا مما لم يلتزم به أحد.
ورابعا: أن الغرضين المزبورين لا يخلوان: من أن يمكن اجتماعهما في زمان
واحد بأن تكون المضادة بين وجود أحدهما مترتبا على وجود الآخر لا مطلقا،
وأن لا يمكن اجتماعهما فيه أصلا.
فعلى الأول لابد من الالتزام بإيجاب الشارع الجمع بين الفعلين أو الأفعال
في زمان واحد فيما إذا تمكن المكلف منه، وإلا لفوت عليه الملاك الملزم،
وهو قبيح منه. ومن الواضح أن هذا خلاف مفروض الكلام في المسألة، ومخالف
لظواهر الأدلة، فلا يمكن الالتزام به أصلا.
وعلى الثاني فلازمه: هو أن المكلف إذا أتى بهما معا في الخارج وفي زمان
واحد أن لا يقع شئ منهما على صفة المطلوبية. إذ وقوع أحدهما على هذه الصفة
دون الآخر ترجيح من دون مرجح، ووقوع كليهما على تلك الصفة لا يمكن،
لوجود المضادة بينهما، مع أنه من الواضح البديهي أن المكلف إذا أتى بهما في
زمان واحد يقع أحدهما على صفة المطلوبية، ضرورة أنه إذا جمع بين طرفي
الواجب التخييري أو أطرافه وأتى بها دفعة واحدة امتثل الواجب وحصل الغرض
منه لا محالة، وهذا ظاهر.
38

فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن: أن ما ذكروه من الوجوه لتصوير الواجب
التخييري لا يرجع شئ منها إلى معنى صحيح.
الذي ينبغي أن يقال في هذه المسألة تحفظا على ظواهر الأدلة: هو أن
الواجب أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه، وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد
المكلف، كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية، غاية الأمر ان متعلق
الوجوب في الواجبات التعيينية، الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي، وفي
الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني، فهذا هو نقطة انطلاق
الفرق بينهما.
وتخيل: أنه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي وهو عنوان أحدهما في
المقام، ضرورة أنه ليس له واقع موضوعي غير تحققه في عالم الانتزاع والنفس
فلا يمكن أن يتعدى عن أفق النفس إلى ما في الخارج، ومن الواضح أن مثله لا
يصلح أن يتعلق به الأمر خيال خاطئ جدا، بداهة أنه لا مانع من تعلق الأمر به أصلا
بل تتعلق به الصفات الحقيقية، كالعلم والإرادة وما شاكلهما، فما ظنك بالحكم
الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض؟ وقد تقدم منا غير مرة: من أن الأحكام
الشرعية سواء كانت وضعية أو تكليفية أمور اعتبارية، وليس لها واقع ما عدا
اعتبار الشارع. ومن المعلوم أن الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي
كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي، فلا مانع من اعتبار الشارع ملكية أحد
المالين للمشتري عند قول البائع: بعت أحدهما، بل وقع ذلك في الشريعة المقدسة
كما في باب الوصية، فإنه إذا أوصى الميت بملكية أحد المالين لشخص بعد موته
فلا محالة يكون ملكا له بعد موته، وتكون وصيته بذلك نافذة، وكذا لا مانع من
اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال في ذمة المكلف.
وعلى الجملة: فلا شبهة في صحة تعلق الأمر بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان
أحدهما، ومجرد أنه لا واقع موضوعي له لا يمنع عن تعلقه به، ضرورة أن الأمر
لا يتعلق بواقع الشئ، بل بالطبيعي الجامع، ومن الواضح جدا أنه لا يفرق فيه: بين
أن يكون متأصلا أو غير متأصل أصلا.
39

وتخيل: أن الجامع الانتزاعي لا يصلح أن يكون متعلقا للتكليف، ضرورة أن
التكليف تابع لما فيه المصلحة أو المفسدة، ومن الواضح - جدا - أنه لا مصلحة في
ذلك المفهوم الانتزاعي، والمصلحة إنما هي في فعل المكلف الصادر منه في
الخارج، فإذا لا محالة يكون التكليف متعلقا به لا بالعنوان المزبور، وعليه فلابد
من الالتزام بأحد الوجوه المزبورة خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع، وذلك لعدم
الطريق لنا إلى معرفة سنخ الغرض الداعي إلى إيجاب شئ أو تحريمه، ولا نعلم ما
هو سنخه؟ نعم، نعلم من أمر الشارع بشئ أو نهيه عن آخر أن في الأول مصلحة
تقتضي إيجابه، وفي الثاني مفسدة تقتضي تحريمه، ولكن لا نعلم سنخ تلك
المصلحة وسنخ تلك المفسدة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه يجب علينا التحفظ على ظواهر الأدلة وتعيين الحكم
ومتعلقه بها.
ومن ناحية ثالثة: أنا نعلم أن الإتيان بمتعلق الوجوب في الخارج محصل
للمصلحة الداعية إلى إيجابه، ولا يبقى مجال لها بعده.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي: أنه لابد من الالتزام بأن متعلق الوجوب
في موارد الواجبات التخييرية هو العنوان الانتزاعي من جهة ظهور الأدلة في
ذلك، ضرورة أن الظاهر من العطف بكلمة " أو " هو وجوب أحد الفعلين أو
الأفعال، وعلى هدي ذلك نعلم أن الغرض الداعي إلى إيجابه قائم به، لفرض أنه
لا طريق لنا إلى إحراز ما عداه، كما أنا نعلم بحصول هذا الغرض وتحققه في
الخارج بإتيانه في ضمن أي من هذين الفعلين أو الأفعال شاء المكلف إتيانه فيه.
وبكلمة أخرى: أن المستفاد من الأدلة بحسب المتفاهم العرفي: هو أن متعلق
الوجوب الجامع الانتزاعي، ومن الواضح أن مرد ذلك - بحسب التحليل العلمي -
إلى عدم دخل شئ من خصوصية الطرفين أو الأطراف فيه.
ولتوضيح ذلك: نأخذ مثالا، وهو: ما إذا أوجب المولى إطعام ستين مسكينا
أو صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة - كما في كفارة صوم شهر رمضان -
40

فلا محالة يكون مرد هذا إلى عدم دخل شئ من خصوصياتها في غرض المولى
الداعي إلى الأمر بأحدها، لفرض أنه يحصل بإتيان كل منها في الخارج. هذا
من جانب.
ومن جانب آخر: المفروض: أن الغرض لم يقم بكل واحد منها، وإلا لكان كل
منها واجبا تعيينيا.
ومن جانب ثالث: أن وجوب أحدها المعين في الواقع لا يمكن بعد ما كان
الجميع في الوفاء بغرض المولى على نسبة واحدة.
ونتيجة ذلك لا محالة: هي وجوب الجامع بين هذه الأمور، وأن الغرض
الداعي له يحصل بإتيانه في ضمن إيجاد أي فرد منها شاء المكلف إيجاده،
لوضوح أن مرد وجوب الجامع بالتحليل إلى عدم دخل شئ من خصوصيات
هذه الأمور، وأن الغرض المزبور يترتب على فعل كل منها في الخارج، من دون
خصوصية لهذا وذاك أصلا، وهذا أمر معقول في نفسه، بل واقع في العرف والشرع،
فإن غرض المولى إذا تعلق بأحد الفعلين أو الأفعال فلا محالة يأمر بالجامع بينهما،
وهو أحدهما لا بعينه، مع عدم ملاحظة خصوصية شئ منها.
ومن هنا يظهر: أن مرادنا من تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي ليس تعلقه به بما
هو موجود في النفس ولا يتعدى عن أفقها إلى أفق الخارج، ضرورة أنه غير قابل
لأن يتعلق به الأمر أصلا وأن يقوم به الغرض، بل مرادنا من تعلق الأمر به: بما هو
منطبق على كل واحد من الفعلين أو الأفعال في الخارج، ويكون تطبيقه على ما
في الخارج بيد المكلف، فله أن يطبق على هذا، وله أن يطبق على ذاك. ولعل منشأ
تخيل أنه لا يمكن تعلق الأمر بالجامع الانتزاعي هو تعلقه به على النحو الأول
دون الثاني.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا مانع من أن يكون المأمور به هو العنوان الانتزاعي
على النحو المزبور، لا من ناحية الأمر، ولا من ناحية الغرض كما عرفت.
أضف إلى ما ذكرناه: أنه يمكن تعلق الصفة الحقيقية بأحد أمرين أو أمور،
41

فما ظنك بالأمر الاعتباري؟ وذلك كما إذا علمنا إجمالا بعدالة أحد شخصين
مع احتمال أن يكون الآخر أيضا عادلا ولكن كان في الواقع كلاهما عادلا ففي
مثل ذلك لا تعين للمعلوم بالإجمال حتى في علم الله، ضرورة أنه لا واقع له غير
هذا المفهوم المنتزع، فلا يمكن أن يقال: إن المعلوم بالإجمال عدالة هذا دون
عدالة ذاك أو بالعكس، لفرض أن نسبة المعلوم بالإجمال إلى كل واحد منهما على
حد سواء.
وبكلمة واضحة: أنا قد ذكرنا في محله: أنه لا واقع ولا تعين للمعلوم
بالإجمال مطلقا. أما في مثل المثال المزبور فواضح. وأما فيما إذا فرض أن
أحدهما عادل في الواقع وعلم الله دون الآخر ففي مثل ذلك أيضا لا تعين له،
ضرورة أن العلم الإجمالي لم يتعلق بعدالة خصوص هذا العادل في الواقع، وإلا
لكان علما تفصيليا وهذا خلف، بل تعلق بعدالة أحدهما. ومن الواضح - جدا - أنه
ليس لعنوان أحدهما واقع موضوعي وتعين في عالم الخارج، بل هو مفهوم
انتزاعي في عالم النفس. ولا يتعدى عن أفق النفس إلى ما في الخارج، وله تعين
في ذلك العالم، لا في عالم الواقع والخارج. ومن المعلوم أن متعلق العلم هو ذلك
المفهوم الانتزاعي، لا ما ينطبق عليه هذا المفهوم، لفرض أنه متعين في الواقع وعلم
الله، والعلم لم يتعلق به، وإلا لكان علما تفصيليا لا إجماليا.
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك: أنه لا مانع من تعلق الصفات الحقيقية - كالعلم
والإرادة وما شاكلهما - بالجامع الانتزاعي الذي ليس له واقع ما عدا نفسه، فضلا
عن الأمر الاعتباري.
ومن هنا يتبين: أنه لا فرق بين الواجب التعييني والواجب التخييري إلا في
نقطة واحدة، وهي: أن متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية: الطبيعة المتأصلة:
كالصلاة والصوم والحج وما شاكلها. وفي الواجبات التخييرية: الطبيعة المنتزعة
كعنوان أحدهما. وأما من نقاط أخرى فلا فرق بينهما أصلا، فكما أن التطبيق في
الواجبات التعيينية بيد المكلف فكذلك التطبيق في الواجبات التخييرية. وكما أن
42

متعلق الأمر في الواجبات التعيينية ليس هو الأفراد كذلك متعلق الأمر في
الواجبات التخييرية.
بقي هنا شئ، وهو: أنه هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر أم لا؟ وجهان.
فذهب بعضهم إلى عدم إمكانه بدعوى: أنه مع تحقق الأقل في الخارج
وحصوله يحصل الغرض. فإذا يكون الأمر بالأكثر لغوا فلا يصدر من الحكيم.
وقد أجاب عنه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، وإليك نص كلامه: لكنه ليس
كذلك، فإنه إذا فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل
الذي في ضمنه - بمعنى: أن يكون لجميع أجزائه حينئذ دخل في حصوله وإن كان
الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا - فلا محيص عن التخيير بينهما. إذ
تخصيص الأقل بالوجوب - حينئذ - كان بلا مخصص، فإن الأكثر بحده يكون مثله
على الفرض، مثل: أن يكون الغرض الحاصل من رسم الخط مرتبا على الطويل إذا
رسم بماله من الحد، لا على القصير في ضمنه، ومعه كيف يجوز تخصيصه بما لا
يعمه؟ ومن الواضح كون هذا الفرض بمكان من الإمكان.
إن قلت: هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في ضمنه
وجود على حدة كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل سكون في البين، لكنه
ممنوع فيما إذا كان له في ضمنه وجود: كتسبيحة في ضمن تسبيحات ثلاث،
أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في رسمه، فإن الأقل قد وجد بحده، وبه يحصل
الغرض على الفرض، ومعه لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله،
فيكون زائدا على الواجب لا من أجزائه.
قلت: لا يكاد يختلف الحال بذاك، فإنه مع الفرض لا يكاد يترتب الغرض
على الأقل في ضمن الأكثر، وإنما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام، ومعه كان
مترتبا على الأكثر بالتمام.
وبالجملة: إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحده مما يترتب عليه الغرض
فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما عقليا إن كان هناك
غرض واحد، وتخييرا شرعيا فيما كان هناك غرضان على ما عرفت.
43

نعم، لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد لما كان الأكثر مثل
الأقل وعدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره، مستحبا كان أو غيره حسب
اختلاف الموارد، فتدبر جيدا (1).
نلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أنه لا مانع من الالتزام بالتخيير بين الأقل والأكثر فيما إذا كان كل
منهما بحده محصلا للغرض، وعليه فلا يكون الأقل في ضمن الأكثر محصلا له،
ومعه لا مانع من الالتزام بالتخيير بينهما.
وبكلمة أخرى: أن الغرض إذا كان مترتبا على حصة خاصة من الأقل - وهي
الحصة التي لا تكون في ضمن الأكثر " بشرط لا " لا على الأقل مطلقا - فلا مناص
عندئذ من الالتزام بالتخيير بينهما أصلا، ولا يفرق في ذلك: بين أن يكون للأقل
وجود مستقل في ضمن الأكثر: كتسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات أربع، وأن لا
يكون له وجود كذلك: كالخط القصير في ضمن الخط الطويل.
والوجه فيه: ما عرفت من أن الغرض إنما يترتب على حصة خاصة من الأقل.
وعليه فكما أنه لا أثر لوجود الخط القصير في ضمن الخط الطويل ولا يكون
محصلا للغرض فكذلك لا أثر لوجود تسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاث،
لفرض أن الغرض إنما يترتب عليها فيما إذا لم تكن في ضمنها لا مطلقا، وعلى هذا
فلا مناص من الالتزام بالتخيير بينهما.
الثانية: أن الغرض إذا كان واحدا فيكون الواجب هو الجامع بينهما، لفرض أن
المؤثر في الواحد لا يكون إلا الواحد بالسنخ، وحيث إن الغرض واحد على
الفرض فالمؤثر فيه لابد أن يكون واحدا، لاستحالة تأثير الكثير في الواحد، وذلك
الواحد هو الجامع بينهما، فإذا - لا محالة - يكون الواجب هو ذلك الجامع لا غيره،
وعليه فيكون التخيير بينهما عقليا لا شرعيا. وأما إذا كان متعددا فالتخيير بينهما
شرعي كما تقدم.

(1) كفاية الأصول: ص 175.
44

الثالثة: أن الغرض إذا كان مترتبا على خصوص الأقل من دون دخل للزائد
فيه أصلا فلا يكون الأكثر عدلا له، بل كان فيه اجتماع الوجوب وغيره، سواء كان
ذلك الغير استحبابا أو غيره.
ولنأخذ بدراسة هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي وإن كانت في غاية الصحة والمتانة في نفسها إلا أنها
خاطئة بالإضافة إلى مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقل والأكثر، وذلك لأن ما
فرضه صاحب الكفاية (قدس سره) وإن كان تخييرا بينهما صورة إلا أن من الواضح جدا أنه
- بحسب الواقع والحقيقة - تخيير بين المتباينين، وذلك لفرض أن الماهية بشرط
لا تباين الماهية بشرط شئ، فإذا فرض أن الأقل مأخوذ بشرط لا - كما هو
مفروض كلامه لا محالة - يكون مباينا للأكثر المأخوذ بشرط شئ، ضرورة أن
الماهية بشرط لا تباين الماهية بشرط شئ، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير
بين الأقل والأكثر بحسب الواقع والدقة العقلية، بل هو من التخيير بين المتباينين.
وعليه فما فرضه (قدس سره) من التخيير بينهما خارج عن محل الكلام، ولا إشكال في
إمكانه، بل وقوعه خارجا في العرف والشرع، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان
الغرض مترتبا على وجود الأقل مطلقا، أي: ولو كان في ضمن الأكثر بأن يكون
مأخوذا لا بشرط، ومن الواضح جدا أن التخيير بينهما في هذا الفرض غير معقول
ضرورة أنه كلما تحقق الأقل يحصل به الغرض، ومعه يكون الأمر بالزائد لغوا
محضا.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أن الأقل إن كان مأخوذا بشرط لا فالتخيير
بينه وبين الأكثر وإن كان أمرا معقولا إلا أنه - بحسب الواقع - داخل في كبرى
التخيير بين المتباينين، لا الأقل والأكثر كما عرفت. وإن كان مأخوذا لا بشرط فلا
يعقل التخيير بينه وبين الأكثر، ضرورة أنه بمجرد تحقق الأقل ولو في ضمن الأكثر
يحصل الغرض، ومعه لا يبقى مجال للإتيان بالأكثر أصلا. فإذا جعله في أحد
طرفي التخيير يصبح لغوا محضا فلا يصدر من الحكيم.
45

وعلى ضوء هذا البيان إن أراد القائل باستحالة التخيير بينهما: التخيير على
النحو الأول الذي هو تخيير شكلي بينهما لا واقعي موضوعي فيرده ما ذكرناه: من
أنه لا شبهة في إمكانه، بل وقوعه خارجا، لما عرفت من أنه ليس تخييرا بين الأقل
والأكثر، بل هو تخيير في الحقيقة بين المتباينين. وإن أراد باستحالة التخيير بينهما
التخيير على النحو الثاني فالأمر كما ذكره.
ومن هنا يظهر أن التخيير بين القصر والتمام في الأمكنة الأربعة ليس تخييرا
بين الأقل والأكثر واقعا وحقيقة وإن كان كذلك بحسب الشكل، وذلك لأن صلاة
القصر مشروطة شرعا بالتسليمة في الركعة الثانية وعدم زيادة ركعة أخرى عليها،
وصلاة التمام مشروطة شرعا بالتسليمة في الركعة الرابعة وعدم الاقتصار بها، فهما
من هذه الناحية - أي: من ناحية اعتبار الشارع - ماهيتان متباينتان، فالتخيير
بينهما - لا محالة - يكون من التخيير بين أمرين متباينين لا الأقل والأكثر، ضرورة
أن الأثر لا يترتب على الركعتين مطلقا ولو كانتا في ضمن أربع ركعات، وإنما
يترتب عليهما بشرط لا، وهذا واضح. وأما التسبيحات الأربع فالمستفاد من
الروايات هو وجوب إحداها لا جميعها (1). فإذا لا يعقل التخيير بين الواحدة
والثلاث، ضرورة أن الغرض مترتب على واحدة منها، فإذا تحققت تحقق الغرض،
ومعه لا يبقى مجال للإتيان بالبقية أصلا.
نعم، الإتيان بها مستحب، فإذا أتى المكلف بثلاث فقد أتى بواجب ومستحب.
وعلى الجملة: فحال التسبيحتين الأخيرتين حال القنوت وبقية الأذكار
المستحبة في الصلاة.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: أن التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول
وما نراه من التخيير بينهما في العرف والشرع تخيير شكلي لا واقعي موضوعي،
فإن بحسب الواقع ليس التخيير بينهما، بل بين أمرين متباينين كما مر.

(1) راجع الوسائل: ج 6 ص 109 ب 42 من أبواب القراءة ح 5، و ب 51 منها ص 123 ح 3 و 12.
46

وأما النقطة الثانية: فقد تقدم الكلام فيها وفي النقد عليها بشكل واضح
فلا نعيد (1).
وأما النقطة الثالثة: فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) إلا أن مردها إلى عدم تعقل
التخيير بين الأقل والأكثر على ما ذكرناه كما هو واضح.
ونتيجة هذا البحث في عدة خطوط:
الأول: أن القول في المسألة بأن الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام
الامتثال دون غيره باطل جدا، وغير مطابق للواقع قطعا، وقد دلت على بطلانه
وجوه أربعة:
1 - أنه مخالف لظاهر الدليل.
2 - أنه مناف لقاعدة الاشتراك في التكليف.
3 - أنه يستلزم عدم الوجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما
في مقام الامتثال.
4 - أنه إذا لم يكن شئ واجبا حال عدم الامتثال لم يكن واجبا حال
الامتثال أيضا.
الثاني: أن شيخنا المحقق (قدس سره) قد وجه القول بأن كلا منهما واجب تعيينا، غاية
الأمر: أن وجوب كل منهما يسقط بإتيان الآخر بتوجيهين:
1 - أن يفرض قيام مصلحة لزومية بكل منهما، ولأجل ذلك أوجب الشارع
الجميع. ولكن مصلحة التسهيل تقتضي جواز ترك كل منهما إلى بدل.
2 - أن يفرض أن المصلحة المترتبة على كل منهما وإن كانت واحدة بالنوع،
إلا أن الإلزامي من تلك المصلحة وجود واحد، وبما أن نسبته إلى الجميع على حد
سواء فلذا أوجب الجميع، وقد ناقشنا في كلا هذين التوجيهين بشكل واضح،

(1) تقدم في ص 35 - 38.
47

وقدمنا ما يدل على عدم صحتهما كما سبق (1).
الثالث: أن ما اختاره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الغرض إن كان
واحدا فالواجب هو الجامع بين الفعلين أو الأفعال، ويكون التخيير بينهما عقليا،
وإن كان متعددا فالواجب هو كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر لا يمكن
المساعدة عليه، فإن الفرض الأول يرتكز على أن يكون المقام من صغرى قاعدة
عدم صدور الواحد عن الكثير، وقد مرت المناقشة فيه من وجوه:
1 - اختصاص تلك القاعدة بالواحد الشخصي وعدم جريانها في الواحد
النوعي. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الغرض في المقام واحد نوعي لا شخصي، فالنتيجة
على ضوئهما هي: عدم جريان القاعدة في المقام.
2 - أن الدليل أخص من المدعى، لعدم تعقل الجامع الذاتي في جميع موارد
الواجبات التخييرية كما سبق.
3 - أن مثل هذا الجامع لا يصلح أن يتعلق به التكليف، لأن متعلقه لابد أن
يكون جامعا عرفيا.
وأما الفرض الثاني فهو يرتكز على أن يكون الغرضان المفروضان متضادين،
وقد عرفت المناقشة فيه أيضا من وجوه:
1 - أنه خلاف ظاهر الدليل.
2 - أن كون الغرضين متضادين مع عدم التضاد بين الفعلين ملحق بأنياب
الأغوال.
3 - أنه يستلزم استحقاق المكلف عقابين عند ترك الفعلين معا، وهذا مما
لا يمكن الالتزام به كما سبق (2).
الرابع: أن الواجب في موارد الواجبات التخييرية هو أحد الفعلين أو الأفعال،

(1) سبق ذكره في ص 28 - 30.
(2) تقدم في ص 38.
48

والوجه فيه: هو أن الأدلة بمقتضى العطف بكلمة " أو " ظاهرة في ذلك، ولابد من
التحفظ على هذا الظهور.
الخامس: أنه لا مانع من تعلق الأمر بعنوان أحدهما، بل قد تقدم: أنه لا مانع
من تعلق الصفات الحقيقية به: كالعلم والإرادة وما شاكلهما، فضلا عن الأمر
الاعتباري.
السادس: أن الغرض قائم بهذا العنوان الانتزاعي، ولا مانع منه أصلا، وذلك
لفرض أنه لا طريق لنا إلى إحرازه في شئ ما عدا تعلق الأمر به. كما أنه لا طريق
لنا إلى معرفة سنخه.
السابع: أنه لا فرق بين الواجب التخييري والواجب التعييني إلا في نقطة
واحدة، وهي: أن متعلق الوجوب في الأول: الجامع الانتزاعي، وفي الثاني:
الجامع الذاتي، وأما من نقاط اخر فلا فرق بينهما أصلا.
الثامن: أن التخيير بين الأقل والأكثر غير معقول، وما نراه من التخيير بين
القصر والتمام وما شاكلهما تخيير شكلي وصوري، لا واقعي وحقيقي، فإنه
- بحسب الواقع - تخيير بين المتباينين، لفرض أن القصر في اعتبار الشارع مباين
للتمام، فلا يكون التخيير بينهما من التخيير بين الأقل والأكثر، بل هو من التخيير
بين المتباينين، وهكذا....
التاسع: أنه لا فرق في جواز التخيير بين الأقل والأكثر وامتناعه بين أن يكون
للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر أم لا.
* * *
الواجب الكفائي
لا يخفى أن الأمر الوارد من قبل الشرع كما أنه بحاجة إلى المتعلق كذلك
هو بحاجة إلى الموضوع، فكما أنه لا يمكن تحققه ووجوده بدون الأول فكذلك
لا يمكن بدون الثاني. ولا فرق في ذلك بين وجهة نظر ووجهة نظر آخر، فإن
49

حقيقة الأمر سواء كانت عبارة عن الإرادة التشريعية أم كانت عبارة عن الطلب
الإنشائي كما هو المشهور، أم كانت عبارة عن البعث والتحريك كما عن جماعة،
أم كانت عبارة عن الأمر الاعتباري النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما من
صيغة الأمر أو نحوها كما هو المختار عندنا. على جميع هذه التقادير بحاجة إلى
الموضوع كحاجته إلى المتعلق.
أما على الأول فواضح، وذلك لأن الإرادة لا توجد في أفق النفس بدون
المتعلق، لأنها من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، فلا يعقل أن توجد بدونه،
فالمتعلق إذا كان فعل نفسه فهي توجب تحريك عضلاته نحوه، وإن كان فعل غيره
فلا محالة يكون المراد منه ذلك الغير، بمعنى: أن المولى أراد صدور هذا الفعل منه
في الخارج.
وأما على الثاني فأيضا كذلك، ضرورة أن الطلب كما لا يمكن وجوده بدون
المطلوب كذلك لا يمكن وجوده بدون المطلوب منه، لأنه في الحقيقة نسبة
بينهما، وهذا واضح.
وأما على الثالث فلأن البعث نحو شئ لا يمكن أن يوجد بدون بعث أحد
نحوه، والتحريك نحو فعل لا يمكن أن يتحقق بدون متحرك، ضرورة أن التحريك
لابد فيه من محرك ومتحرك وما إليه الحركة، من دون فرق في ذلك بين أن تكون
الحركة حركة خارجية، وأن تكون اعتبارية كما هو واضح.
وأما على الرابع فأيضا الأمر كذلك، لما عرفت: من أن معنى الأمر هو اعتبار
الفعل علي ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز.
ومن المعلوم أنه كما لا يمكن أن يتحقق في الخارج بدون متعلق كذلك لا
يمكن أن يتحقق بدون فرض وجود المكلف فيه كما هو واضح. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الواجبات الكفائية تمتاز عن الواجبات العينية في
نقطة، وهي: أن المطلوب في الواجبات العينية يتعدد بتعدد أفراد المكلف وينحل
بانحلاله، فيكون لكل مكلف تكليف مستقل فلا يسقط عنه بامتثال الآخر،
50

وهكذا...، من دون فرق بين أن يكون الفعل في الواقع ومقام الثبوت ملحوظا على
نحو الإطلاق والسريان، أو ملحوظا على نحو الإطلاق والعموم البدلي الذي يعبر
عنه " بصرف الوجود "، أو ملحوظا على نحو الإطلاق والعموم المجموعي، ضرورة
أن التكيف في جميع هذه الصور ينحل بانحلال أفراد المكلف ويتعدد بتعددها،
فلا فرق بينها من هذه الناحية أبدا، فالجميع من هذه الجهة على صعيد واحد.
نعم، فرق بينها من ناحية أخرى، وهي: أن التكليف ينحل بانحلال متعلقه
أيضا مع الأول دون الثاني والثالث. وسيجئ تفصيل ذلك بشكل واضح في
مبحث النواهي إن شاء الله تعالى، فلاحظ.
وهذا بخلاف الواجبات الكفائية فإن المطلوب فيها واحد، ولا يتعدد بتعدد
أفراد المكلف في الخارج، ولأجل ذلك وقع الكلام في تصوير ذلك، وأنه كيف
يعقل أن يكون الفعل الواحد مطلوبا بطلب واحد من الجميع؟
وما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه:
الأول: أن يقال: إن التكليف متوجه إلى واحد معين عند الله، ولكنه يسقط عنه
بفعل غيره لفرض أن الغرض واحد، فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.
ويرده أولا: أن هذا خلاف ظواهر الأدلة، فإن الظاهر منها هو أن التكليف متوجه
إلى طبيعي المكلف، لا إلى فرد واحد منه المعين في علم الله، كما هو واضح.
وثانيا: لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره. فإنه
على خلاف القاعدة، فيحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن دليل فمقتضى القاعدة
عدم السقوط.
ودعوى: أن الدليل في المقام موجود لفرض أن التكليف يسقط بإتيان بعض
أفراد المكلف وإن كانت صحيحة من هذه الناحية إلا أنه من المعلوم أن ذلك من
ناحية أن التكليف متوجه إليه ويعمه، ولذا يستحق الثواب عليه، لا من ناحية أنه
يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو ظاهر.
وثالثا: أن مثل هذا التكليف غير معقول، وذلك لأن المفروض أن توجه هذا
51

التكليف إلى كل واحد من أفراد المكلف غير معلوم فيكون كل منها شاكا في ذلك،
ومعه لا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه عقلا وشرعا، لفرض أن الشك في أصل
ثبوت التكليف، وهذا هو القدر المتيقن من موارد جريان البراءة.
وعلى هذا فلا يمكن أن يصل هذا التكليف إلى المكلف أصلا، لما ذكرناه: من
أن وصول التكليف يتوقف على وصول الكبرى والصغرى له معا، والمفروض في
المقام أن الصغرى غير واصلة، ضرورة أن من كان مكلفا بهذا التكليف في الواقع
غير معلوم، وأنه من هو؟
ومن الطبيعي أن جعل تكليف غير قابل للوصول إلى المكلف أصلا لغو محض
فلا يترتب عليه أي أثر، ومن المعلوم أن صدور اللغو من الحكيم مستحيل، فإذا
يستحيل أن يكون موضوعه هو الواحد المعين عند الله.
كما أنه لا يمكن أن يكون موضوعه هو الواحد المعين مطلقا حتى عند
المكلفين، وذلك لأنه مضافا إلى كونه مفروض العدم هنا يلزم التخصيص بلا
مخصص، والترجيح من غير مرجح، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع
المكلفين على صعيد واحد، وعليه فتخصيص الواحد المعين منهم بتحصيله لا
محالة يكون بلا مخصص.
الثاني: أن يقال: التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد
المكلفين من حيث المجموع، بدعوى: أنه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي
بالمركب من الأمور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي إذا كان
الغرض المترتب عليه واحدا شخصيا كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على
نحو العموم المجموعي.
ويرد على ذلك:
أولا: أن لازم هذا هو عدم حصول الغرض، وعدم سقوط التكليف بفعل
البعض، لفرض أن الفعل مطلوب من مجموع المكلف على نحو العموم المجموعي،
والغرض مترتب على صدوره من مجموعهم على نحو الاشتراك. وعليه، فمن
52

الطبيعي أنه لا يسقط بفعل البعض، ولا يحصل الغرض به، وهذا ضروري الفساد،
ولن يتوهم أحد ولا يتوهم ذلك.
وثانيا: أن هذا لو تم فإنما يتم فيما إذا كان التكليف متوجها إلى صرف وجود
مجموع أفراد المكلف الصادق على القليل والكثير، دون مجموع أفراده المتمكنين
من الإتيان به، ضرورة أن بعض الواجبات الكفائية غير قابل لأن يصدر من
المجموع. فإذا كيف يمكن توجيه التكليف به إلى المجموع؟ وعلى كل فهذا الوجه
واضح الفساد.
الثالث: أن يقال: إن التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم
الاستغراقي، فيكون واجبا على كل واحد منهم على نحو السريان، غاية الأمر أن
وجوبه على كل مشروط بترك الآخر.
ويرده - مضافا إلى أنه بعيد في نفسه، فإن الالتزام بوجوبه أولا واشتراطه
بالترك ثانيا تبعيد للمسافة، فلا يمكن استفادته من الأدلة - أن الشرط لو كان هو
الترك في الجملة فلازمه: هو أن المكلف لو ترك في برهة من الزمان ولو بمقدار
دقيقة واحدة فقد حصل الشرط وتحقق، ومن المعلوم أنه إذا تحقق يجب على
جميع المكلفين عينا، وهذا خلف.
ولو كان الشرط هو الترك المطلق فلازمه هو أنه لو أتى به جميع المكلفين لم
يحصل الشرط، وهو الترك المطلق، وإذا لم يحصل فلا وجوب، لانتفائه بانتفاء
شرطه على الفرض. فإذا لا معنى للامتثال وحصول الغرض، ضرورة أنه على هذا
الفرض لا وجوب في البين ليكون الإتيان بمتعلقه امتثالا وموجبا لحصول الغرض
في الخارج، على أنه لا مقتضي لذلك.
والوجه فيه: هو أن الغرض بما أنه واحد وقائم بصرف وجود الواجب في
الخارج فلابد أن يكون الخطاب أيضا لذلك، وإلا لكان بلا داع وغرض، وهو محال.
نعم، لو كانت هناك أغراض متعددة بعدد أفعال المكلفين ولم يمكن الجمع
بينها واستيفائها معا لتضادها فعندئذ - لا محالة - يكون التكليف بكل منهما
مشروطا بعدم الإتيان بالآخر على نحو الترتب.
53

وقد ذكرنا في بحث الضد: أن الترتب كما يمكن بين الحكمين في مقام الفعلية
والامتثال كذلك يمكن بين الحكمين في مقام الجعل والتشريع، فلا مانع من أن
يكون جعل الحكم لأحد الأمرين مترتبا على عدم الإتيان بالآخر (1).
وغير خفي أن هذا مجرد فرض لا واقع له أصلا.
أما أولا: فلأن هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فإن المفروض في محل
الكلام هو ما إذا كان الغرض واحدا بالذات، وفرض تعدد الغرض بتعدد أفعال
المكلفين فرض خارج عن مفروض الكلام.
وأما ثانيا: فلأن فرض التضاد بين الملاكات مع عدم التضاد بين الأفعال يكاد
يلحق بأنياب الأغوال، بداهة أنه لا واقع لهذا الفرض أصلا، على أنه لو كان له واقع
فلا طريق لنا إلى إحراز تضادها، وعدم إمكان الجمع بينها مع عدم التضاد بين
الأفعال.
وأما ثالثا: فلأن فرض تعدد الغرض إنما يمكن فيما إذا كان الواحب متعددا
خارجا، وأما إذا كان الواجب واحدا - كما هو المفروض في المقام - كدفن الميت
وكفنه وغسله وصلاته ونحو ذلك فلا معنى لأن تترتب عليه أغراض متعددة،
فلا محالة يكون المترتب عليه غرضا واحدا، بداهة أنه لا يعقل أن يكون المترتب
على واجب واحد غرضين أو أغراض كما هو واضح. فالنتيجة: أن هذا الوجه
أيضا فاسد.
الرابع: أن يكون التكليف متوجها إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف
الوجود، وهذا الوجه هو الصحيح.
بيان ذلك: هو أن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة واخرى
بمطلق وجودها كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين واخرى بصدوره
عن صرف وجودهم.
فعلى الأول: الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر، وهكذا....

(1) تقدم في ج 3 ص 167.
54

وعلى الثاني: فالواجب كفائي، بمعنى: أنه واجب على أحد المكلفين، لا بعينه
المنطبق على كل واحد واحد منهم، ويسقط بفعل بعض عن الباقي، وهذا واقع في
العرف والشرع، ولا مانع منه أصلا.
أما في العرف فلأنه لا مانع من أن يأمر المولى أحد عبيده أو خدامه بإيجاد
فعل ما في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص هذا
وذاك، ولذا فأي واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا
محالة، كما إذا أمر أحدهم بإتيان ماء - مثلا - ليشربه فإنه من المعلوم أن أي واحد
منهم قام به فقد وفى بغرض المولى.
وأما في الشرع فأيضا كذلك، ضرورة أنه لا مانع من أن يأمر الشارع المكلفين
بإيجاد فعل في الخارج: كدفن الميت - مثلا - أو كفنه أو ما شاكل ذلك، من دون أن
يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم، بل المطلوب وجوده في الخارج
من أي واحد منهم كان، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على
السوية، فعندئذ تخصيص الواحد المعين منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجا بلا
مخصص ومرجح، وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع أنه بلا مقتض
وموجب باطل بالضرورة كما عرفت (1). وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم
الاستغراقي أيضا بلا مقتض وموجب، إذ بعد كون الغرض واحدا يحصل بفعل
واحد منهم، فوجوب تحصيله على الجميع - لا محالة - يكون بلا مقتض وسبب،
فإذا يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود.
ويترتب على ذلك أنه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض - لا محالة - وسقط
الأمر، لفرض أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم، كما إذا
صلوا على الميت - مثلا - دفعة واحدة كان الجميع مستحقا للثواب، لفرض أن
صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا

(1) مر راجع ص 53.
55

أو ذاك، وأما لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقا للعقاب، فإن صرف الوجود
يصدق على وجود كل منهم من ناحية، والمفروض أن كلا منهم قادر على إتيانه
من ناحية أخرى.
فالنتيجة: هي أن الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمة واحد من
المكلفين، لا بعينه الصادق على هذا وذاك، نظير ما ذكرناه في بحث الواجب
التخييري: من أن الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك، لا
خصوص أحدهما المعين (1)، فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلا
من ناحية أن الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم، وفي الواجب
الكفائي موضوعه.
بقي هنا فرع ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) هو: أنه إذا فرضنا شخصين فاقدي الماء
فتيمما ثم بعد ذلك وجدا ماء لا يكفي إلا لوضوء أحدهما فهل يبطل تيمم كل
منهما أو لا يبطل شئ منهما، أو يبطل واحد منهما لا بعينه دون الآخر؟ وجوه.
قد اختار (قدس سره) الوجه الأول، وأفاد في وجه ذلك: أن في المقام أمورا ثلاثة:
الأول: الأمر بالوضوء.
الثاني: الأمر بالحيازة.
الثالث: القدرة على الحيازة.
لا إشكال في أن وجوب الوضوء مترتب على الحيازة الخارجية وكون الماء
في تصرف المكلف، ليصدق عليه أنه واجد له فعلا. وأما وجوب الحيازة على كل
منهما فمشروط بعدم سبق الآخر وحيازته، وإلا فلا وجوب كما هو واضح وعلى
هذا فلا يمكن وجوب الوضوء على كل منهما فعلا، لفرض أن الماء لا يكفي
إلا لوضوء أحدهما.
ولكن بطلان تيممهما لا يترتب على وجوب الوضوء لهما فعلا، بل هو مترتب
على تمكن المكلف من استعمال الماء وقدرته عليه عقلا وشرعا، والمفروض أن

(1) تقدم في ص 39.
56

القدرة على الحيازة بالإضافة إلى كليهما موجودة فعلا، ضرورة أن كلا منهما
متمكن فعلا من حيازة هذا الماء في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، وعدم كفاية
الماء إلا لوضوء واحد إنما يكون منشأ لوقوع التزاحم بين فعلية حيازة هذا وذاك
خارجا، لا بين القدرة على الحيازة، لما عرفت: من أنها فعلية بالإضافة إلى كليهما
معا من دون أي تناف في البين.
وعلى الجملة: فبما أن بطلان التيمم في الآية المباركة أو نحوها منوط
بوجدان الماء، وقد ذكرنا: أن المراد منه: القدرة على استعماله عقلا وشرعا، فلا
محالة يبطل تيمم كل منهما، لفرض أنه واجد للماء ومتمكن من استعماله كذلك،
وهذا لا ينافي وقوع التزاحم بين الخطابين في ناحية الوضوء خارجا، وذلك
لفرض أن تيمم كل مكلف مشروط بعدم الوجدان، فإذا كان واجدا وقادرا على
الاستعمال - لا محالة - يفسد تيممه، ولا فرق فيه بين وقوع التزاحم بين الخطابين
في ناحية الوضوء وعدم وقوعه أصلا كما هو واضح (1).
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) وهي: أن هذين الشخصين لا يخلوان: من
أن يتسابقا إلى أخذ هذا الماء المفروض وجوده، أم لا.
فعلى الأول: إن كان كل منهما مانعا عن الآخر - كما إذا فرض كون قوة
أحدهما مساوية لقوة الآخر فتقع الممانعة بينهما والمزاحمة إلى أن يضيق الوقت
فلا يتمكن واحد منهما من الوصول إلى الماء - فعندئذ لا وجه لبطلان تيممهما
أصلا، ولا لبطلان تيمم أحدهما، لفرض عدم تمكنهما من استعمال الماء، وإذا كان
أحدهما أقوى من الآخر فالباطل هو تيمم الأقوى دون الآخر. أما بطلان تيمم
الأقوى فلفرض أنه واجد للماء فعلا، وأما عدم بطلان تيمم الآخر فلكشف ذلك
عن عدم قدرته على الوضوء أو الغسل، وأنه باق على ما كان عليه من عدم
الوجدان.
وعلى الثاني: فيبطل كلا التيممين معا.

(1) انظر أجود التقريرات ج 3 ص 96.
57

والوجه في ذلك: هو أن كلا منهما قادر على حيازة هذا الماء واستعماله في
الوضوء أو الغسل من دون مانع من الآخر، لفرض عدم تسابقهما إلى أخذه
وحيازته ولو لأجل عدم المبالاة بالدين، وعليه فيصدق على كل منهما أنه واجد
للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعا، ومعه - لا محالة - يبطل كلا التيممين معا.
وقد ذكرنا في محله: أن وجوب الوضوء وبطلان التيمم في الآية المباركة
مترتبان على وجدان الماء، فإذا كان المكلف واجدا له وجب الوضوء وبطل
تيممه، وإلا فلا (1)، وهذا واضح.
ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قدس سره) كيف فصل بين بطلان التيمم وعدم
وجوب الوضوء، مع أن وجوب الوضوء لا ينفك عن بطلان التيمم كما هو مقتضى
الآية الكريمة؟! كما أنه لا وجه لما ذكره (قدس سره) من بطلان تيمم كليهما معا، لما عرفت
من أنه لابد من التفصيل في ذلك.
ونتيجة هذا البحث عدة نقاط:
الأول: أن الأمر كما أنه لا يمكن تحققه بدون متعلق كذلك لا يمكن تحققه
بدون موضوع على جميع المذاهب والآراء.
الثانية: أنه كما يمكن لحاظ متعلق الحكم تارة على نحو العموم الاستغراقي،
واخرى على نحو العموم المجموعي، وثالثة على نحو صرف الوجود يمكن لحاظ
الموضوع أيضا كذلك، بأن يلحظ تارة على نحو العموم الاستغراقي، واخرى على
نحو العموم المجموعي، وثالثة على نحو صرف الوجود.
الثالثة: أن الواجب الكفائي ثابت على ذمة أحد المكلفين، لا بعينه الذي عبر
عنه بصرف الوجود، لا على ذمة جميع المكلفين، ولا على ذمة مجموعهم،
ولا على ذمة الواحد المعين كما عرفت.

(1) انظر التنقيح في شرح العروة ج 10 ص 357 كتاب الطهارة.
58

الرابعة: أن فرض تعدد الملاك فرض خارج عن محل الكلام، مع أنه لا شاهد
عليه أصلا كما مر.
الخامسة: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من بطلان تيمم شخصين كانا فاقدي
الماء ثم وجدا ماء لا يكفي إلا لوضوء أحدهما فحسب مطلقا لا وجه له أصلا
كما سبق. كما أنه لا أصل لما ذكره (قدس سره) من التفصيل بين بطلان التيمم وعدم وجوب
الوضوء.
* * *
الواجب الموسع والمضيق
ينقسم الواجب باعتبار تحديده بزمان خاص وعدم تحديده به: إلى موقت
وغير موقت. وينقسم الموقت باعتبار زيادة الزمان المحدد له على الزمان الوافي
بإتيان الواجب فيه وعدم زيادته عليه: إلى موسع ومضيق، والأول كالصلوات
اليومية، فإن وقتها زائد على زمان فعلها، فيتمكن المكلف من الإتيان بها في وقتها
مرات عديدة كما هو واضح، والثاني: كصوم شهر رمضان أو نحوه، فإن الزمان
المحدد له مساو لزمان الإتيان به، بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان
بلا زيادة ونقيصة.
قد يشكل في إمكان الواجب الموسع تارة، وفي المضيق أخرى.
أما في الأول فبدعوى: أنه يستلزم جواز ترك الواجب في أول الوقت، وهو
ينافي وجوبه، كيف؟ فإن الواجب ما لا يجوز تركه، فإذا فرض أنه واجب في أول
الوقت كيف يجوز تركه؟
وغير خفي ما فيه من المغالطة، وذلك لأن الواجب هو الجامع بين المبدأ
والمنتهى المعرى عنه جميع خصوصيات الأفراد من العرضية والطولية، والواجب
على المكلف هو الإتيان بهذا الجامع بين هذين الحدين، لا في كل آن ووقت
ليكون تركه أول الوقت تركا للواجب ولو أتى به في آخر الوقت، بل تركه فيه ترك
59

لفرده، وهو ليس بواجب على الفرض، ولذا لو ترك المكلف الصلاة في أول الوقت
وأتى بها في آخر الوقت فلا يقال: إنه ترك الواجب.
وقد تقدم نظير هذا الإشكال في الواجب التخييري أيضا، فيما إذا فرض أن
كل واحد من الفعلين واجب فكيف يجوز تركه مع الإتيان بالآخر مع أنه لا يجوز
ترك الواجب؟
وقد أجبنا عنه بعين هذا الجواب، وقلنا بأن الواجب هو الجامع بينهما لا
خصوص هذا وذاك، فإذا لو أتى المكلف بأحدهما وترك الآخر فلا يكون تاركا
للواجب.
وعلى الجملة: فلا فرق بين الأفراد العرضية والطولية من هذه الناحية أصلا،
فكما أن الواجب هو الجامع بين الأفراد العرضية فكذلك هو الجامع بين الأفراد
الطولية. فكما أن المكلف مخير في تطبيقه على أي فرد من أفراده العرضية فكذلك
هو مخير في تطبيقه على أي فرد من أفراده الطولية، ولا يكون تركه في ضمن فرد،
والإتيان به ضمن فرد آخر تركا للواجب، من دون فرق في ذلك بين الأفراد
العرضية والطولية أصلا، فإذا لا وجه لهذا الإشكال أبدا.
وأما في الثاني - وهو الإشكال في إمكان وجود المضيق - فبدعوى: أن
الانبعاث لابد وأن يتأخر عن البعث ولو آنا ما، وعليه، فلابد من فرض زمان يسع
البعث والانبعاث معا، أعني: الوجوب وفعل الواجب - ولازم ذلك هو زيادة زمان
الوجوب على زمان الواجب - مثلا - إذا فرض تحقق وجوب الصوم حين الفجر،
فلابد وأن يتأخر الانبعاث عنه آنا ما، وهو خلاف المطلوب، ضرورة أن لازم ذلك
هو خلو بعض الآنات من الواجب، وإذا فرض تحقق وجوب الصوم قبل الفجر
يلزم تقدم المشروط على الشرط، وهو محال، وعليه، فلابد من الالتزام بعدم
اشتراطه بدخول الفجر، لئلا يلزم تقدم المعلول على علته، ولازم ذلك هو عدم
إمكان وجود الواجب المضيق.
ويرد على ذلك أولا: أن الملاك في كون الواجب مضيقا هو ما كان الزمان
60

المحدد له وقتا مساويا لزمان الإتيان بالواجب، بحيث يقع كل جزء منه في جزء
من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة. وأما كون زمان الوجوب أوسع من زمان
الواجب أو مساويا له فهو أجنبي عما هو الملاك في كون الواجب مضيقا. ومن هنا
لا شبهة في تصوير الواجب المضيق والموسع على القول بالواجب المعلق، مع أن
زمان الوجوب فيه أوسع من زمان الواجب، ولن يتوهم أحد ولا يتوهم أنه
لا يتصور المضيق على هذه النظرية كما هو واضح.
وثانيا: أن تأخر الانبعاث عن البعث ليس بالزمان ليلزم المحذور المزبور،
بل هو بالرتبة كما لا يخفى.
نعم، العلم بالحكم وإن كان غالبا متقدما على حدوثه - أي: حدوث الحكم
زمانا - إلا أنه ليس مما لابد منه، بداهة أن توقف الانبعاث عند تحقق موضوع
البعث: كالفجر في المثال المزبور - مثلا - على العلم به - أي بالبعث - رتبي، وليس
زمانيا كما هو واضح: كتقدم العلم بالموضوع على العلم بالحكم.
ثم إن مقتضى القاعدة هل هو وجوب الإتيان بالموقت في خارج الوقت إذا
فات في الوقت اختيارا، أو لعذر، أم لا مع قطع النظر عن الدليل الخاص الدال على
ذلك كما في الصلاة والصوم؟ هذه هي المسألة المعروفة بين الأصحاب قديما
وحديثا في أن القضاء تابع للأداء أو هو بأمر جديد؟ فيها وجوه، بل أقوال:
الأول: وجوب الإتيان به مطلقا.
الثاني: عدم وجوبه كذلك.
الثالث: التفصيل بين ما إذا كانت القرينة على التقيد متصلة، وما إذا كانت
منفصلة.
فعلى الأول: إن كانت القرينة بصورة قضية شرطية فتدل على عدم وجوب
إتيانه في خارج الوقت، بناء على ما هو المشهور من دلالة القضية الشرطية على
المفهوم.
وأما إذا كانت بصورة قضية وصفية فدلالتها على ذلك تبتنى على دلالة القضية
الوصفية على المفهوم، وعدم دلالتها عليه.
61

وعلى الثاني - وهو كون القرينة منفصلة - فلا تمنع عن إطلاق الدليل الأول
الدال على وجوبه مطلقا في الوقت وفي خارجه، ضرورة أن القرينة المنفصلة
لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأول في الإطلاق إلى التقييد، بل غاية ما في
الباب أنها تدل على كونه مطلوبا في الوقت أيضا.
فإذا النتيجة في المقام هي: تعدد المطلوب، بمعنى: كون الفعل مطلوبا في
الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة، ومطلوبا في خارجه لأجل إطلاق الدليل
الأول، وعليه فإذا لم يأت المكلف به في الوقت فعليه أن يأتي به في خارج
الوقت، وهذا معنى تبعية القضاء للأداء.
ولنأخذ بالنقد على هذا التفصيل، وملخصه هو: أنه لا فرق فيما نحن فيه بين
القرينة المتصلة والمنفصلة.
بيان ذلك: أن القرينة المتصلة كما هي تدل على التقييد وعلى كون مراد
المولى هو المقيد بهذا الزمان كذلك القرينة المنفصلة، فإنها تدل على تقييد إطلاق
دليل المأمور به وكون المراد هو المقيد من الأول، فلا فرق بينهما من هذه الناحية
أصلا.
نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن القرينة المتصلة مانعة عن ظهور
الدليل في الإطلاق، ومعها لا ينعقد له ظهور، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية
ظهوره في الإطلاق دون أصله. ولكن من المعلوم أن مجرد هذا لا يوجب التفاوت
بينهما في مفروض الكلام، ضرورة أنه لا يجوز التمسك بالإطلاق بعد سقوطه عن
الحجية والاعتبار، سواء كان سقوطه عنها بسقوط موضوعها وهو الظهور - كما إذا
كانت القرينة متصلة - أم كان سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها، كما
إذا كانت القرينة منفصلة، فالجامع بينهما هو: أنه لا يجوز التمسك بهذا الإطلاق.
وعلى الجملة: فالقرينة المنفصلة وإن لم تضر بظهور المطلق في الإطلاق إلا
أنها مضرة بحجيته، فلا يكون هذا الظهور حجة معها، لفرض أنها تكشف عن أن
مراد المولى هو المقيد من الأول، فإذا لا أثر لهذا الإطلاق أصلا. هذا من ناحية.
62

ومن ناحية أخرى: أنها لا تدل على أنه مطلوب في الوقت بنحو كمال
المطلوب ليكون من قبيل الواجب في الواجب، وإلا لا نسد باب حمل المطلق على
المقيد في تمام موارد القيود الثابتة بقرينة منفصلة، سواء كانت زمانا أو زمانية،
إذ على هذا لابد من الالتزام بتعدد التكليف، وأن التكليف المتعلق بالمقيد غير
التكليف المتعلق بالمطلق، غاية الأمر أن المقيد أكمل الأفراد.
مثلا: الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية، أو مع طهارة البدن، أو اللباس،
أو مستقبلا إلى القبلة، أو ما شاكل ذلك غير الأمر المتعلق بها على إطلاقها، وعليه
فلو أتى بالصلاة - مثلا - فاقدة لهذه القيود فقد أتى بالواجب وإن ترك واجبا آخر
وهو الصلاة المقيدة بهذه القيود، ومن المعلوم أن فساد هذا من الواضحات الأولية
عند الفقهاء، ولن يتوهم ذلك في تلك القيود.
ومن الطبيعي أنه لا فرق بين كون القيد زمانا أو زمانيا من هذه الناحية أصلا،
ولذا لو ورد: " أعتق رقبة " مطلقا، وورد في دليل آخر: " أعتق رقبة مؤمنة " لا
يتأمل أحد في حمل الأول على الثاني وأن مراد المولى هو المقيد دون المطلق،
ولأجل ذلك لا يجزي الإتيان به.
وكيف كان فلا شبهة في أن ما دل على تقييد الواجب بوقت خاص: كالصلاة
أو نحوها لا محالة يوجب تقييد إطلاق الدليل الأول، وينكشف عن أن مراد
المولى هو المقيد بهذا الوقت دون المطلق، ولا فرق في ذلك بين كون الدليل الدال
على التوقيت متصلا أو منفصلا، وهذا واضح.
فالنتيجة: أنه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة، فكما أن الأولى
تدل على تقييد الأمر الأول وأن مراد المولى هو الأمر بالصلاة - مثلا - في هذا
الوقت لا مطلقا فكذلك الثانية تدل على ذلك. فإذا ليس هنا أمر آخر متعلق
بالصلاة على إطلاقها ليكون باقيا بعد عدم الإتيان بها في الوقت على الفرض.
ولصاحب الكفاية (قدس سره) في المقام تفصيل آخر واليك نص كلامه: ثم إنه لا دلالة
للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت لو لم نقل
63

بدلالته على عدم الأمر به. نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق
على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت وجوب
القضاء بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك ربما يكون
بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوبا في
الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلا أنه لابد في إثبات أنه بهذا النحو من دلالة،
ولا يكفي الدليل على الوقت إلا فيما عرفت، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة
عدم وجوبها في خارج الوقت، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد
انقضاء الوقت، فتدبر جيدا (1).
توضيح ما أفاده (قدس سره) هو: أن التقييد بالوقت لا يخلو: من أن يكون بدليل
متصل، أو منفصل، ولا ثالث لهما.
أما على الأول - وهو: ما إذا كان التقييد بدليل متصل - فلا يدل الأمر بالموقت
على وجوب الإتيان به في خارج الوقت، إذ على هذا يكون الواجب هو حصة
خاصة من طبيعي الفعل، وهي الحصة الواقعة في هذا الوقت الخاص، وعليه فإذا لم
يأت به المكلف في ذلك الوقت فلا دليل على وجوب الإتيان به في خارجه،
وهذا واضح.
وأما على الثاني - وهو ما إذا كان التقييد بدليل منفصل - فلا يخلو من أن
يكون له إطلاق بالإضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه، أو لا إطلاق له.
فعلى الأول لا يدل على وجوب الإتيان به في خارج الوقت، لفرض أن ما دل
على تقييده بزمان خاص ووقت مخصوص مطلق، وبإطلاقه يشمل حال تمكن
المكلف من الإتيان به في الوقت، وعدم تمكنه منه، ولازم هذا - لا محالة - سقوط
الواجب عنه عند مضي الوقت، وعدم ما يدل على وجوبه في خارج الوقت.
ولا فرق في ذلك: بين أن يكون للدليل الأول إطلاق بالإضافة إلى الوقت

(1) كفاية الأصول: ص 178.
64

وخارجه أم لم يكن له إطلاق، كما لو كان الدليل الدال عليه لبيا من إجماع أو
نحوه، أو كان لفظيا، ولكنه لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية.
والوجه في ذلك واضح على كلا التقديرين: أما على تقدير عدم الإطلاق له
فالأمر ظاهر، إذ لا إطلاق له ليتمسك به، فإذا المحكم هو إطلاق الدليل المقيد.
وأما على تقدير أن يكون له إطلاق فلما ذكرناه غير مرة: من أن ظهور القرينة في
الإطلاق يتقدم على ظهور ذي القرينة فيه، فلا تعارض بينهما بنظر العرف أصلا.
وعلى الثاني - وهو ما إذا لم يكن له إطلاق بالإضافة إلى كلتا الحالتين -
فالمقدار المتيقن من دلالته هو تقييد الأمر الأول بخصوص حال الاختيار
والتمكن لا مطلقا، بداهة أنه لا يدل على أزيد من ذلك، لفرض عدم الإطلاق له،
وعليه، فلابد من النظر إلى الدليل الأول هل يكون له إطلاق أم لا؟ فإن كان له
إطلاق فلا مانع من الأخذ به لإثبات وجوب الإتيان به في خارج الوقت.
وبكلمة أخرى: أن مقتضى إطلاق الدليل الأول هو وجوب الإتيان بهذا الفعل
كالصلاة - مثلا - أو نحوها مطلقا، أي في الوقت وخارجه. ولكن الدليل قد دل
على تقييده بالوقت في خصوص حال الاختيار، ومن الطبيعي أنه لابد من الأخذ
بمقدار دلالة الدليل، وبما أن مقدار دلالته هو تقييده بخصوص حال الاختيار
والتمكن من الإتيان به في الوقت فلا مانع من التمسك بإطلاقه عند عدم التمكن
من ذلك لإثبات وجوبه في خارج الوقت، ضرورة أنه لا وجه لرفع اليد عن إطلاقه
من هذه الناحية أصلا كما هو واضح.
ثم إن هذا الكلام لا يختص بالتقييد بالوقت خاصة، بل يعم جميع القيود
المأخوذة في الواجب بدليل منفصل، فإن ما دل على اعتبار تلك القيود لا يخلو:
من أن يكون له إطلاق بالإضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه، أو لا يكون له إطلاق
كذلك.
والأول كالطهارة مثلا، فإن ما دل على اعتبارها في الصلاة واشتراطها بها
كقوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " ونحوه مطلق، وباطلاقه يشمل صورة تمكن
65

المكلف من الإتيان بالصلاة معها وعدم تمكنه من ذلك، وعلى هذا فمقتضى
القاعدة: سقوط الأمر بالصلاة عند عدم تمكن المكلف من الإتيان بها معها، بل قد
ذكرنا: أن الطهارة من الحدث مقومة لها (1)، ولذا ورد في بعض الروايات أنها ثلث
الصلاة (2)، ومن هنا قوينا سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وعدم وجوبها عليه (3)،
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأول أيضا إطلاق، أو لا، وذلك لأن إطلاق
دليل المقيد حاكم على إطلاق دليل المطلق، فيقدم عليه كما هو واضح.
والثاني كالطمأنينة - مثلا - وما شاكل ذلك، فإن ما دل على اعتبارها في
الصلاة لا إطلاق له، بالإضافة إلى حالة عدم تمكن المكلف من الإتيان بها معها،
وذلك لأن الدليل على اعتبارها هو الإجماع، ومن المعلوم أن القدر المتيقن منه هو
تحققه وثبوته في حال تمكن المكلف من ذلك لا مطلقا كما هو ظاهر.
وعليه، فلابد من أن ننظر إلى دليل الواجب: فإن كان له إطلاق فنأخذ به
ونقتصر في تقييده بالمقدار المتيقن، وهو: صورة تمكن المكلف من الإتيان به لا
مطلقا، ولازم هذا هو لزوم الإتيان به فاقدا لهذا القيد، لعدم الدليل على تقييده به
في هذا الحال، ومعه لا مانع من التمسك بإطلاقه لإثبات وجوبه فاقدا له. وهذا
الذي ذكرناه لا يختص بباب دون باب، بل يعم جميع أبواب الواجبات من
العبادات ونحوها.
وخلاصة ما ذكرناه: هي أنه لا فرق بين كون القيد زمانا وزمانيا من هذه
الناحية أصلا كما هو واضح، هذا ما أفاده (قدس سره) مع توضيح مني.
والإنصاف أنه في غاية الصحة والمتانة، ولا مناص من الالتزام به.
نعم، بعض عبارته لا تخلو عن مناقشة، وهو قوله (قدس سره): وبالجملة: التقييد
بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك يكون بنحو تعدد المطلوب....

(1) راجع ج 1 ص 183 - 184.
(2) الوسائل: ج 6 ص 310 ب 9 من أبواب الركوع ح 1.
(3) راجع التنقيح في شرح العروة: ج 10 ص 67.
66

إلى آخره، وذلك لما عرفت: من أن الدليل الدال على التقييد ظاهر في تقييد
الواجب من الأول، سواء أكان الدليل الدال عليه متصلا أم كان منفصلا، فلا فرق
بين المتصل والمنفصل من هذه الناحية أصلا، وأما دلالته على كمال المطلوب في
الوقت فهو يحتاج إلى عناية زائدة، وإلا فهو في نفسه ظاهر في تقييد أصل
المطلوب لا كماله.
ومن هنا لم يتوهم أحد ولا يتوهم ذلك في بقية القيود بأن يكون أصل الصلاة
- مثلا - مطلوبا على الإطلاق، وتقييدها بهذه القيود مطلوبا آخر على نحو كمال
المطلوب. كيف؟ فإن لازم ذلك هو: جواز الإتيان بالصلاة فاقدة لتلك القيود
اختيارا، وهذا كما ترى.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: أن الدليل المقيد ظاهر في تقييد دليل
الواجب من الابتداء، ويدل على أن مراد المولى بحسب اللب والواقع هو المقيد
دون المطلق، ولا يفرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التقييد متصلا أو
منفصلا، وكون القيد زمانا أو زمانيا، غاية الأمر: إذا كان منفصلا ولم يكن له إطلاق
وكان لدليل الواجب إطلاق فيدل على تقييده بحال دون آخر، وبزمان دون زمان
آخر، وهكذا....
فالنتيجة في المقام: هي أن مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن الموقت بانقضاء
وقته، وعدم وجوب الإتيان به في خارج الوقت إلا فيما قامت قرينة على ذلك.
ثم إن فيما ثبت فيه القضاء لو ترك المكلف الواجب في الوقت: فإن أحرزنا
ذلك وجدانا أو تعبدا بأصل أو أمارة فلا إشكال في وجوب قضائه والإتيان به في
خارج الوقت، بلا فرق في ذلك بين القول بكون القضاء تابعا للأداء والقول بكونه
بأمر جديد، وهذا واضح ولا كلام فيه، والكلام إنما هو فيما إذا لم يحرز ذلك
لا وجدانا ولا تعبدا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لابد من فرض الكلام فيما إذا لم تجر قاعدة الحيلولة
المقتضية لعدم الاعتبار بالشك بعد خروج الوقت، فإن مقتضاها عدم وجوب
67

الإتيان به في خارج الوقت، أو قاعدة الفراغ فيما إذا فرض كون الشك في صحة
العمل وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده وتحققه في الوقت، فإن في مثله يحكم
بصحته من ناحية تلك القاعدة، وإلا فلا يجب الإتيان به في خارج الوقت.
فإذا لابد من فرض الكلام فيما نحن فيه: إما مع قطع النظر عن جريانهما، أو
فيما إذا لم تجريا، كما إذا فرض أن شخصا توضأ بمائع معين فصلى، ثم بعد مضي
الوقت حصل له الشك في أن هذا المائع الذي توضأ به هل كان ماء ليكون وضوءه
صحيحا أو لم يكن ماء ليكون وضوءه فاسدا؟ أو فرض أنه صلى إلى جهة ثم بعد
خروج الوقت شك في أن القبلة هي الجهة التي صلى إليها، أو جهة أخرى؟
وهكذا...، ففي أمثال ذلك لا يجري شئ منهما.
أما قاعدة الحيلولة: فلأن موردها الشك في أصل وجود العمل في الخارج
وتحققه، لا فيما إذا كان الشك في صحته وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده،
فإذن لا يكون مثل هذين المثالين من موارد تلك القاعدة.
وأما قاعدة الفراغ: فلما حققناه في محله: من أن قاعدة الفراغ إنما تجري فيما
إذا لم تكن صورة العمل محفوظة، كما إذا شك في صحة الصلاة - مثلا - بعد الفراغ
عنها من ناحية الشك في ترك جزء أو شرط منها ففي مثل ذلك تجري القاعدة، لأن
صورة العمل غير محفوظة، بمعنى: أن المكلف لا يعلم أنه أتى بالصلاة مع القراءة
- مثلا - أو بدونها، أو مع الطمأنينة أو بدونها، وهكذا....، وهذا هو مرادنا من أن
صورة العمل غير محفوظة (1).
وأما إذا كانت محفوظة وكان الشك في مطابقة العمل للواقع وعدم مطابقته له
- كما في مثل هذين المثالين - فلا تجري القاعدة، لفرض أن المكلف يعلم أنه أتى
بالصلاة إلى هذه الجهة المعينة، أو مع الوضوء من هذا المائع ولا يشك في ذلك
أصلا، والشك إنما هو في أمر آخر، وهو: أن هذه الجهة التي صلى إليها قبلة

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 309.
68

أو ليست بقبلة؟ وهذا المائع الذي توضأ به ماء أوليس بماء؟ ومن المعلوم أن
قاعدة الفراغ لا تثبت أن هذه الجهة قبلة وأن ما أتى به وقع إلى القبلة ومطابق
للواقع، لما عرفت من اختصاص القاعدة بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة،
وأما إذا كانت كذلك وإنما الشك كان في مصادفته للواقع وعدم مصادفته فلا يكون
مشمولا لتلك القاعدة.
وبما أن صورة العمل في هذين المثالين محفوظة - كما عرفت - وأن ما أتى به
المكلف في الخارج معلوم كما وكيفا ولا يشك فيه أصلا، والشك إنما هو في
مصادفته للواقع وعدم مصادفته له، وقاعدة الفراغ لا تثبت المصادفة فعندئذ يقع
الكلام في هذين المثالين وما شاكلهما، وأنه هل يجب قضاء تلك الصلوات خارج
الوقت أم لا؟ فإذا تظهر الثمرة بين القولين، وذلك لأنه لو قلنا بكون القضاء تابعا
للأداء ومطابقا للقاعدة فيجب قضاء تلك الصلوات.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن التكليف المتعلق بها معلوم ولا يشك في
ذلك أصلا، والشك إنما هو في سقوطه وفراغ ذمة المكلف عنه، ومعه لا مناص من
الالتزام بقاعدة الاشتغال، لحكم العقل بأن الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
نعم، المعلوم سقوطه إنما هو التكليف عن المقيد، لاستحالة بقائه بعد خروج
الوقت من ناحية استلزامه التكليف بالمحال. وأما سقوط التكليف عن المطلق فغير
معلوم، لفرض أن ما أتى به المكلف لا نعلم بصحته ليكون مسقطا له. فإذا يدخل
المقام في كبرى موارد الشك في فراغ الذمة بعد العلم باشتغالها بالتكليف. ومن
المعلوم أن المرجع في تلك الكبرى هو قاعدة الاشتغال.
وأما إذا قلنا بأن القضاء بأمر جديد - كما هو الصحيح، لما ذكرناه: من أن
القرينة على التقييد سواء أكانت متصلة أم كانت منفصلة توجب تقييد الواجب من
الأول - فلا يمكن عندئذ التمسك بإطلاقه إلا في صورة واحدة كما تقدمت بشكل
واضح، وعلى هذا فلا يجب الإتيان بها في خارج الوقت، وذلك لأن المكلف شاك
عندئذ في أصل حدوث التكليف بعد خروج الوقت، لفرض أن التكليف بالموقت
69

قد سقط يقينا: إما من ناحية امتثاله في وقته وحصول غرضه، وإما من ناحية عدم
القدرة عليه فعلا، فإذا لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه.
فالنتيجة: أن الثمرة تظهر بين القولين في المثالين المزبورين وما شاكلهما،
فإنه على القول الأول - أي: القول بكون القضاء تابعا للأداء - فالمرجع فيهما وفي
ما شاكلهما قاعدة الاشتغال كما تقدم بشكل واضح. وعلى القول الثاني - أي:
القول بكونه بأمر جديد - فالمرجع في أمثالهما قاعدة البراءة كما عرفت الآن.
وقد تحصل مما ذكرناه عدة أمور:
الأول: أن التقييد سواء كان بمتصل أم بمنفصل ظاهر في التقييد من الأول،
وأن مراد المولى هو المقيد لا غيره وحمله على تعدد المطلوب لا يمكن بلا قرينة
تدل عليه من داخلية أو خارجية.
الثاني: أن لازم ذلك هو كون مقتضى القاعدة سقوط الواجب بسقوط وقته.
الثالث: أن نتيجة هذين الأمرين هو: كون القضاء بأمر جديد، وليس تابعا
للأداء كما هو واضح.
ثم إنه فيما ثبت فيه وجوب القضاء: كالصلاة والصوم ونحوهما إذا خرج
الوقت وشك المكلف في الإتيان بالمأمور به في وقته فهل يمكن إثبات الفوت
باستصحاب عدم الإتيان به أم لا؟ وجهان مبنيان على أن المتفاهم العرفي من هذه
الكلمة - أعني: كلمة الفوت - هل هو أمر عدمي الذي هو عبارة عن عدم الإتيان
بالمأمور به في الوقت، أو أمر وجودي ملازم لهذا الأمر العدمي، لا أنه عينه؟
فعلى الأول يجري استصحاب عدم الإتيان به في الوقت، إذ به يثبت ذلك
العنوان ويترتب عليه حكمه، وهو: وجوب القضاء في خارج الوقت.
وعلى الثاني فلا يجري إلا على القول بالأصل المثبت، لفرض أن الأثر غير
مترتب على عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت، بل هو مترتب على عنوان
وجودي ملازم له في الواقع، وهو عنوان الفوت، ومن المعلوم أن إثبات ذلك
70

العنوان باستصحاب عدم الإتيان به من أوضح أنحاء الأصل المثبت، ولا نقول به.
وعلى الجملة: فمنشأ الإشكال في المقام الإشكال في أن عنوان الفوت الذي
هو مأخوذ في موضوع وجوب القضاء هل هو أمر وجودي عبارة عن خلو الوقت
عن الواجب، أو هو أمر عدمي عبارة عن عدم الإتيان به في الوقت؟
والصحيح هو: أنه عنوان وجودي، وذلك للمتفاهم العرفي، ضرورة أنه
بنظرهم ليس عين الترك، بل هو بنظرهم: عبارة عن خلو الوقت عن الفعل، وذهاب
الواجب من كيس المكلف مثلا المتفاهم عرفا من قولنا: فات شئ من زيد هو
الأمر الوجودي، أعني: ذهاب شئ من كيسه، لا الأمر العدمي، وهذا واضح.
فعلى هذا الضوء لا يمكن إثباته بالاستصحاب المزبور، ولا أثر له بالإضافة
إليه أصلا، وعليه فيرجع إلى أصالة البراءة هذا فيما إذا أحرز أن عنوان الفوت أمر
وجودي أو عدمي.
وأما إذا لم يعلم ذلك وشك في أنه أمر وجودي ملازم لعدم الفعل في الوقت أو
أنه نفس عدم الفعل فهل يمكن التمسك بالاستصحاب المزبور لإثبات وجوب
القضاء في خارج الوقت أم لا؟
الصحيح بل المقطوع به: عدم إمكان التمسك به، والوجه في ذلك واضح، وهو:
أن المكلف لم يعلم أن المتيقن - وهو عدم الإتيان بالواجب في الوقت - هو
الموضوع للأثر في ظرف الشك أو الموضوع للأثر شئ آخر ملازم له خارجا،
فإذا لم يحرز أن رفع اليد عنه - أي: عن المتيقن السابق - من نقض اليقين بالشك،
ومعه لا يمكن التمسك بإطلاق قوله (عليه السلام): " لا ينقض اليقين بالشك " (1)، لكون
الشبهة مصداقية.
بقي هنا شئ، وهو: أن المكلف لو شك في أثناء الوقت أنه صلى في أول
الوقت أم لا فمقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الإتيان بالصلاة، لأن الاشتغال
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، ولكن المكلف إذا لم يأت بها إلى أن خرج الوقت

(1) الوسائل: ج 8 ص 216 ب 10 من أبواب الخلل ح 3.
71

ففي هذا الفرض اتفق الفقهاء على وجوب قضائها في خارج الوقت (1) مع أن
مقتضى ما ذكرناه - من أن استصحاب عدم الإتيان بها في الوقت لا يثبت عنوان
الفوت - عدم وجوب القضاء، لفرض أن عنوان الفوت في نفسه غير محرز هنا،
واستصحاب عدم الإتيان بها في الوقت لا يجدي.
والجواب عن هذا ظاهر، وهو: أن الشك في المقام بما أنه كان قبل خروج
الوقت فلا محالة يكون مقتضى قاعدة الاشتغال والاستصحاب وجوب الإتيان
بها، وعلى ذلك فلا محالة إذا لم يأت المكلف به في الوقت فقد فوت الواجب،
ومعه لا محالة يجب قضاؤه لتحقق موضوعه وهو عنوان الفوت.
وهذا بخلاف ما إذا شك المكلف في خارج الوقت أنه أتى بالواجب في وقته
أم لا؟ ففي مثل ذلك لم يحرز أنه ترك الواجب فيه ليصدق عليه عنوان الفوت،
والمفروض أن استصحاب عدم الإتيان به غير مجد، وهذا هو نقطة الفرق بين ما إذا
شك المكلف في إتيان الواجب في الوقت وما إذا شك في إتيانه في خارج الوقت.
نتائج هذا البحث عدة أمور:
الأول: أنه لا إشكال في إمكان الواجب الموسع والمضيق، بل في وقوعهما
خارجا، وما ذكر من الإشكال على الواجب الموسع تارة وعلى المضيق تارة
أخرى مما لا مجال له، كما تقدم بشكل واضح (2).
الثاني: أن ما ذكر من التفصيل بين ما كان الدليل على التوقيت متصلا وما كان
منفصلا فقد عرفت أنه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، وقد ذكرنا أنه لا فرق بين
القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة من هذه الناحية أبدا، فكما أن الأولى تدل على
التقييد من الأول وعلى وحدة المطلوب فكذلك الثانية كما سبق (3).
الثالث: أن الصحيح ما ذكرناه من أن التقييد بالوقت إذا كان بدليل متصل

(1) راجع العروة الوثقى: ج 2 ص 14 المسألة (7) من أحكام الشكوك.
(2) تقدم في ص 59 - 61.
(3) سبق ذكره في 61 - 62.
72

فيدل على أن الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل، وهي الحصة الواقعة
في زمان خاص، وأما إذا كان بدليل منفصل: فإن كان له إطلاق بالإضافة إلى
حالتي التمكن وعدمه فيقيد به إطلاق دليل الواجب مطلق، لحكومة إطلاق دليل
المقيد على إطلاق دليل المطلق. وإن لم يكن له إطلاق فيقيد دليله في حال التمكن
فحسب، وفي حال عدمه نتمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات وجوبه في خارج
الوقت.
الرابع: أن مقتضى القاعدة هو سقوط الواجب بسقوط وقته إلا فيما قامت
قرينة على خلاف ذلك.
الخامس: أن الثمرة تظهر بين القول بكون القضاء تابعا للأداء، والقول بكونه
بأمر جديد فيما إذا شك بعد خروج الوقت في الإتيان بالمأمور به وعدمه، أو في
صحة المأتي به في الوقت وعدم صحته إذا لم يكن هناك أصل مقتض للصحة
كقاعدة الفراغ أو نحوها، فإنه على الأول المرجع قاعدة الاشتغال، وعلى الثاني
قاعدة البراءة، كما تقدم (1).
السادس: أن الصحيح هو: القول بكون القضاء بأمر جديد وليس تابعا للأداء،
فإنه خلاف ظاهر دليل التقييد، فلا يمكن الالتزام به إلا فيما قامت قرينة عليه.
السابع: أنه لا يمكن إثبات الفوت الذي علق عليه وجوب القضاء باستصحاب
عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت إلا على القول بالأصل المثبت، كما سبق.
* * *
الأمر بالأمر بفعل
أمر بذلك الفعل أم لا؟
توضيح ذلك: أنه بحسب مقام الثبوت والواقع يتصور على وجوه:
الأول: أن يكون غرض المولى قائما بخصوص الأمر الثاني باعتبار أنه

(1) تقدم في ص 70.
73

فعل اختياري للمكلف، فلا مانع من أن يقوم غرض المولى به وكونه متعلقا لأمره
كسائر أفعاله الاختيارية مثل: الصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك.
وعلى الجملة: فلا مانع من أن يأمر الشارع بإيجاد أمر بشئ أو إيجاد نهي
عن آخر، كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: أن يكون قائما بالفعل الصادر من المأمور الثاني، فيكون الأمر الثاني
ملحوضا على نحو الطريقية، من دون أن يكون له دخل في غرض المولى أصلا،
ولذا لو صدر الفعل من المأمور الثاني من دون توسط أمر من المأمور الأول لحصل
الغرض ولا يتوقف حصوله على صدور الأمر منه. فإذا ليس له شأن ما عدا كونه
واقعا في طريق إيصال أمر المولى إلى هذا الشخص.
فهذا القسم في طرفي النقيض مع القسم الأول، فإن غرض المولى في القسم
الأول متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأول دون الفعل الصادر من الثاني،
فيكون المأمور به هو الأمر فقط، وفي هذا القسم متعلق بالفعل دون الأمر، بمعنى:
أن المأمور به هو الفعل، والأمر طريق إلى إيصال أمر المولى إلى المكلف بهذا
الفعل، وهذا القسم هو الغالب والمتعارف من الأمر بالأمر بشئ، لا القسم الأول.
الثالث: أن يكون الغرض قائما بهما معا، بمعنى: أن الفعل مطلوب من المأمور
الثاني بالأمر من المأمور الأول، لا مطلقا بحيث لو اطلع المكلف من طريق آخر
على أمر المولى من دون واسطة أمره لم يجب عليه إتيانه، فوجوب إتيانه عليه
منوط بأن يكون اطلاعه على أمر المولى بواسطة أمره لا مطلقا، فإذا هذا القسم
يكون واسطة بين القسم الأول والثاني.
ونقطة الفرق بين هذه الوجوه: هي أنه على الوجه الأول لا يجب الفعل على
الثاني، لفرض أن غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأول، سواء صدر
الفعل من الثاني أيضا أم لا، فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض.
وعلى الوجه الثاني يجب الفعل عليه ولو فرض أنه اطلع على أمر المولى به
من طريق آخر غير الأمر من المأمور الأول.
74

وعلى الوجه الثالث يجب عليه الإتيان به إذا أمر به المأمور الأول لا مطلقا.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الظاهر من الأمر بالأمر بشئ هو القسم الثاني دون
القسم الأول والثالث، ضرورة أنه المتفاهم من ذلك عرفا، فلو أمر المولى أحدا
بأن يأمر زيدا - مثلا - بفعل كذا الظاهر منه هو هذا القسم دون غيره.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (من أنه لا دلالة
بمجرد الأمر بالأمر بشئ على كونه أمرا به، بل لابد للدلالة عليه من قرينة) (1)
لا يمكن المساعدة عليه بوجه، لما عرفت من أنه دال على ذلك بمقتضى الفهم
العرفي، ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة.
ثم إن الثمرة المترتبة على هذا النزاع هي: شرعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد
في الروايات من قوله (عليه السلام): " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين " (2). ونحوه مما
ورد في أمر الولي للصبي، فإنه بناء على ما ذكرناه: من أن الأمر بالأمر بشئ ظاهر
عرفا في كونه أمرا بذلك الشئ تدل تلك الروايات على شرعية عبادة الصبي،
لفرض عدم قصور فيها، لا من حيث الدلالة كما عرفت، ولا من حيث السند،
لفرض أن فيها روايات معتبرة.
قد يقال كما قيل: إنه يمكن إثبات شرعية عبادة الصبي بعموم أدلة التشريع
كقوله تعالى: " أقيموا الصلاة " (3) وقوله تعالى: " كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم " (4) وما شاكلهما ببيان أن تلك الأدلة بإطلاقها تعم البالغ وغيره
فإنها كما تدل على تشريع هذه الأحكام للبالغين كذلك تدل على تشريعها لغيرهم،
فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
وحديث " رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم " (5) لا يقتضي أزيد من رفع

(1) كفاية الأصول: ص 179.
(2) الوسائل: ج 4 ص 19 ب 3 من أبواب أعداد الفرائض ح 5 و ح 7.
(3) البقرة 43.
(4) البقرة: 183.
(5) الوسائل: ج 1 ص 45 ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.
75

الإلزام، لفرض أن هذا الحديث ورد في مورد الامتنان، ومن المعلوم أن المنة إنما
هي في رفع الحكم الإلزامي، وأما رفع الحكم غير الإلزامي فلا منة فيه أبدا.
فإذا هذا الحديث يرفع الإلزام عن عبادة الصبي فحسب، لا أصل المحبوبية عنها،
وعلى هذا فتكون عباداته مشروعة لا محالة.
فالنتيجة: أنه مع قطع النظر عن تلك الروايات يمكن إثبات مشروعية عباداته.
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية، وملخصها: أنا قد ذكرنا غير مرة: أن
الوجوب عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف، وإبرازه في الخارج
بمبرز من لفظ أو نحوه، ولا نعقل له معنى ما عدا ذلك، وعلى هذا فليس في مورد
تلك العمومات إلا اعتبار الشارع الصلاة والصوم والحج وما شاكلها على ذمة
المكلف وإبرازه في الخارج بها، أي: بتلك العمومات.
غاية الأمر إن قامت قرينة من الخارج على الترخيص فينتزع منه
الاستحباب، وإلا فينتزع منه الوجوب، وحيث إنه لا قرينة على الترخيص في
موارد هذه العمومات فلا محالة ينتزع منه الوجوب، وقد عرفت أنه لا شأن له
ما عدا ذلك.
وعلى هذا الضوء فحديث " الرفع " وهو قوله (عليه السلام): " رفع القلم عن الصبي
حتى يحتلم " (1) يكون رافعا لذاك الاعتبار، أي: اعتبار الشارع هذه الأفعال على
ذمة المكلف، فيدل على أن الشارع لم يعتبر تلك الأفعال على ذمة الصبي، وعليه،
فكيف يمكن إثبات مشروعية عباداته بهذه العمومات لفرض أن مفاده هو: أن قلم
الاعتبار والتشريع مرفوع عنه في مقابل وضعه واعتباره في ذمته؟ فإذا تلك
العمومات أجنبية عن الدلالة على مشروعية عباداته بالكلية.
وبكلمة أخرى: أن الأمر سواء كان عبارة عن الإرادة أو عن الطلب أو عن
الوجوب أو عن الاعتبار النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما بسيط في غاية

(1) الوسائل: ج 1 ص 45 ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.
76

البساطة. وعلى هذا فمدلول هذه العمومات - سواء كان طلب هذه الأفعال أو
وجوبها أو إرادتها أو اعتبارها في ذمته المكلف لا محالة - يقيد بغير الصبي
والمجنون وما شاكلهما بمقتضى حديث الرفع، لفرض أن مفاد الحديث هو: عدم
تشريع مدلول تلك العمومات للصبي ونحوه، فإذا كيف تكون هذه العمومات دالة
على مشروعية عبادته من الصوم والصلاة وما شاكلهما؟
وتوهم أن الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك، والمرفوع
بحديث الرفع هو المنع من الترك، لا أصل الطلب بل هو باق - وعليه فتدل
العمومات على مشروعيتها - خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا.
والوجه في ذلك: إما أولا فلأنه على تقدير تسليم كون الوجوب هو المجعول
في موارد هذه العمومات، إلا أنه لا شبهة في أنه أمر بسيط، وليس هو بمركب من
طلب الفعل مع المنع من الترك، وإلا لكان تركه محرما وممنوعا شرعا، مع أن الأمر
ليس كذلك، ضرورة أن تركه ليس بمحرم، بل فعله واجب، والعقاب إنما هو على
تركه، لا على ارتكاب محرم.
أو فقل: إن لازم ذلك هو انحلال وجوب كل واجب إلى حكمين: أحدهما:
متعلق بفعله، والآخر: متعلق بتركه، وهذا باطل جزما، كما ذكرناه غير مرة.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلا. هذا من
ناحية. ومن ناحية أخرى: أن هذا مرفوع عن الصبي بمقتضى حديث الرفع،
ومن المعلوم أنه بعد رفعه لا دلالة لتلك العمومات على مشروعية عباداته كما
هو واضح.
وأما ثانيا: فلإنه على فرض تسليم أن الوجوب مركب من طلب الفعل مع
المنع من الترك، مع ذلك لا تتم هذه النظرية، وذلك لأنها ترتكز على أن يبقى
الجنس بعد ارتفاع الفصل، وهو خلاف التحقيق، بل لا يعقل بقاؤه بعد ارتفاعه،
كيف؟ فإن الفصل مقوم له، وعلى هذا فلا محالة يرتفع طلب الفعل بارتفاع المنع من
الترك المقوم له، وأما إثبات الطلب الآخر فهو يحتاج إلى دليل، فالعمومات لا تدل
77

على ذلك كما هو ظاهر، ومن هنا قد ذكرنا: أن نسخ الوجوب لا يدل على بقاء
الجواز أو الرجحان.
وقد تحصل من ذلك: أن هذه النظرية إنما تتم فيما إذا كان الدليل على
مشروعية هذه العبادات على نحو الإطلاق شئ، والدليل على وجوبها ولزومها
شئ آخر ليكون حديث الرفع ناظرا إلى الدليل الثاني ومقيدا لمدلوله دون الدليل
الأول، ولكن الأمر هنا ليس كذلك كما هو واضح.
لحد الآن قد تبين: أنه لا يمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بتلك
العمومات أصلا.
فالصحيح: أن الدليل على مشروعيتها إنما هو تلك الروايات فحسب، ومع
قطع النظر عنها أو مع المناقشة فيها - كما عن بعض - فلا يمكن إثبات مشروعيتها
أصلا كما عرفت.
ونتائج هذا البحث عدة نقاط:
الأولى: أن الأمر بالأمر بشئ يتصور بحسب مقام الثبوت على وجوه ثلاثة
كما تقدم.
الثانية: أن الظاهر من هذه الوجوه - بحسب مقام الإثبات - الوجه الثاني،
وهو ما كان الغرض قائما بالفعل لا بالأمر الصادر من المأمور الأول.
الثالثة: أن الثمرة المترتبة على هذا البحث هي مشروعية عبادات الصبيان
على تقدير ظهور تلك الروايات في الوجه الثاني أو الثالث كما عرفت (1).
الرابعة: أن ما توهم من إمكان إثبات شرعية عباداتهم بالعمومات الأولية
خاطئ جدا، لما عرفت: من أن تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على ذلك
بالكلية بعد تقييدها بحديث الرفع بالبالغين.
الخامسة: أن الدليل على شرعية عبادات الصبي إنما هو الروايات المتقدمة،
أعني: قوله (عليه السلام): " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين "، ونحوه.
78

الأمر بشئ بعد الأمر به ظاهر
في التأكيد أو التأسيس
لا إشكال في أن الأمر بشئ في نفسه ظاهر في التأسيس، وإنما الإشكال
فيما إذا كان مسبوقا بأمر آخر فهل هو - عندئذ - ظاهر في التأسيس أو التأكيد إذا
كانا مطلقين بأن لم يذكر سببهما أو ذكر سبب واحد أم لا؟ وجوه:
الظاهر هو الوجه الثاني، ضرورة أن المتفاهم عرفا من مثل قول المولى:
" صل "، ثم قال: " صل " هو التأكيد بمعنى: أن الأمر الثاني تأكيد للأمر الأول،
وهذا واضح.
نعم، لو قيد الأمر الثاني بالمرة الأخرى ونحوها لكان دالا على التأسيس
لا محالة، فيكون المراد - وقتئذ - من الأمر الأول صرف وجود الطبيعة، ومن الثاني
الوجود الثاني منها.
ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فان محل الكلام فيما إذا كان الأمر
الثاني متعلقا بعين ما تعلق به الأمر الأول من دون تقييده بالمرة الأخرى أو نحوها
وإلا فلا اشكال في دلالته على التأسيس.
وأما إذا لم يكونا مطلقين بأن ذكر سببهما كقولنا: " إن ظاهرت فأعتق رقبة "
و " إن أفطرت فأعتق رقبة " أو قولنا " إن نمت فتوضأ " و " إن بلت فتوضأ " وهكذا.
فهل الأمر الثاني ظاهر في التأكيد أو التأسيس فيه كلام سيأتي بيانه في بحث
المفاهيم - إن شاء الله تعالى - بصورة مفصلة وخارج عن محل كلامنا هنا.
وعلى الجملة: فمحل الكلام في المقام فيما إذا كان الأمران مطلقين ولم يذكر
سببهما أو ذكر سبب واحد ففي مثل ذلك قد عرفت أن الظاهر من الأمر الثاني هو
التأكيد دون التأسيس، فإنه قضية إطلاق المادة وعدم تقييدها بشئ.
* * *
79

المقصد الثاني
مبحث النواهي
وفيه جهات من البحث:
81

[الجهة] الأولى
إن المشهور بين الأصحاب قديما وحديثا: أن النهي بمادته وصيغته كالأمر
بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب، غير أن متعلق النهي ترك الفعل " ونفس أن
لا تفعل "، ومتعلق الأمر إيجاد الفعل.
وبكلمة واضحة: أن المعروف بينهم: هو أن النهي يشترك مع الأمر في المعنى
الموضوع له، وهو الدلالة على الطلب. ومن هنا: أنهم يعتبرون في دلالة النهي عليه
ما اعتبروه في دلالة الأمر من كونه صادرا عن العالي، فلو صدر عن السافل أو
المساوي فلا يكون نهيا حقيقة، وغير ذلك مما قدمناه في بحث الأوامر بشكل
واضح وبصورة مفصلة، فلا فرق بينهما من هذه النواحي أصلا.
نعم، فرق بينهما في نقطة أخرى، وهي: أن متعلق الطلب في طرف النهي
الترك، وفي طرف الأمر الفعل.
وقد أشكل عليه: بأن الترك أمر أزلي خارج عن القدرة والاختيار وسابق
عليها. ومن الواضح جدا أنه لا تأثير للقدرة في الأمر السابق، ضرورة أن القدرة
إنما تتعلق بالأمر الحالي، ولا يعقل تعلقها بالأمر السابق المنصرم زمانه فضلا
عن الأمر الأزلي. وعليه، فلا يمكن أن يتعلق النهي به، ضرورة استحالة تعلقه
بما هو خارج عن الاختيار والقدرة.
ومن هنا ذهب بعضهم: إلى أن المطلوب في النواهي: هو كف النفس عن الفعل
83

في الخارج، دون الترك ونفس أن لا تفعل (1).
وغير خفي أن هذا الإشكال يرتكز على نقطة واحدة، وهي: أن يكون متعلق
النهي العدم السابق، فإن هذا العدم أمر خارج عن القدرة والاختيار، فلا يعقل
تعلقها به، إلا أن تلك النقطة خاطئة جدا وغير مطابقة للواقع، وذلك لأن متعلقه
الترك اللاحق، ومن المعلوم أنه مقدور على حد مقدورية الفعل، لوضوح استحالة
تعلق القدرة بأحد طرفي النقيض، فإذا كان الفعل مقدورا للمكلف - كما هو
المفروض - فلا محالة يكون تركه مقدورا بعين تلك المقدورية، وإلا فلا يكون
الفعل مقدورا، وهذا خلف.
فالنتيجة: هي أن النهي يشترك مع الأمر في المعنى الموضوع له وهو الطلب،
ويمتاز عنه في المتعلق، فإنه في الأول هو الترك، وفي الثاني الفعل، فيدل الأول
على طلب الترك وإعدام المادة في الخارج، والثاني على طلب الفعل وإيجاد
المادة فيه.
ثم إنهم قد رتبوا على ضوء هذه النظرية - أعني دلالة النهي على طلب ترك
الطبيعة، ودلالة الأمر على طلب إيجادها - أن متعلق الطلب في طرف الأمر، حيث
إنه صرف إيجاد الطبعية في الخارج، فلا يقتضي عقلا إلا إيجادها في ضمن فرد ما،
ضرورة أن صرف الوجود يتحقق بأول وجودها، وبه يتحقق الامتثال ويحصل
الغرض، ومعه لا يبقى مجال لإيجادها في ضمن فرد ثان وهكذا...، كما هو واضح.
وأما في طرف النهي: فبما أنه صرف ترك الطبيعة فلا محالة لا يمكن تركها
إلا بترك جميع أفرادها في الخارج العرضية والطولية، ضرورة أن الطبيعة في
الخارج تحقق بتحقق فرد منها، فلو أوجد المكلف فردا منها فقد أوجد الطبيعة
فلم تترك.
والى ذلك أشار المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بما حاصله: هو أنه لا فرق بين
الأمر والنهي في الدلالة الوضعية، فكما أن صيغة الأمر تدل وضعا على طلب

(1) راجع معالم الأصول، الأصل الثاني من بحث النواهي.
84

إيجاد الطبيعة من دون دلالة لها على الدوام والتكرار فكذلك صيغة النهي تدل
وضعا على طلب ترك الطبيعة بلا دلالة لها على الدوام والاستمرار. نعم، تختلف
قضيتهما عقلا ولو مع وحدة المتعلق بأن تكون طبيعة واحدة متعلقة للأمر مره،
وللنهي مره أخرى، ضرورة أن وجودها بوجود فرد واحد من أفرادها، وعدمها
لا يمكن إلا بعدم الجميع.
ومن هنا قال (قدس سره): إن الدوام والاستمرار إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه
طبيعة واحدة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه - حينئذ - لا يكاد يكون مثل هذه
الطبيعة معدومة إلا بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية. وبالجملة: قضية النهي
ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له، كانت مقيدة أو مطلقة، وقضية تركها
عقلا إنما هو ترك جميع أفرادها (1).
أقول: إن كلامه (قدس سره) هذا صريح فيما ذكرناه: من أن النهي لا يدل وضعا إلا على
ترك الطبيعة، سواء كانت مطلقة أم مقيدة. نعم، لو كانت الطبيعة مقيدة بزمان خاص
أو حال مخصوص لم يعقل فيها الدوام والاستمرار. وكيف كان، فالنهي لا يدل إلا
على ذلك، ولكن العقل يحكم بأن ترك الطبيعة في الخارج لا يمكن إلا بترك جميع
أفرادها العرضية والطولية.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن النقطة الرئيسية لنظريتهم أمران:
الأول: أن النهي يشترك مع الأمر في الدلالة على الطلب، فكما أن الأمر يدل
عليه بهيئته فكذلك النهي.
نعم، يمتاز النهي عن الأمر في أن متعلق الطلب في النهي صرف ترك الطبيعة،
وفي الأمر صرف وجودها.
الثاني: أن قضية النهي عقلا من ناحية متعلقه تختلف عن قضية الأمر كذلك،
باعتبار أن متعلق النهي حيث إنه صرف الترك فلا يمكن تحققه إلا بإعدام جميع

(1) كفاية الأصول: ص 183.
85

أفراد تلك الطبيعة في الخارج عرضا وطولا، ضرورة أنه مع الإتيان بواحد منها
لا يتحقق صرف تركها خارجا. ومتعلق الأمر حيث إنه صرف الوجود فيتحقق
بإيجاد فرد منها، وبعده لا يبقى مقتض لإيجاد فرد آخر.... وهكذا.
ولنأخذ بالمناقشة في كلا هذين الأمرين معا، أعني: المبنى والبناء.
أما الأول فيرده: أن النهي بماله من المعنى مادة وهيئة يباين الأمر كذلك، فلا
اشتراك بينهما في شئ أصلا. وهذا لا من ناحية ما ذكره جماعة من المحققين (1):
من أن النهي موضوع للدلالة على الزجر والمنع عن الفعل باعتبار اشتمال متعلقه
على مفسدة إلزامية، والأمر موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل
باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية، وذكروا في وجه ذلك: أن النهي لا ينشأ من
مصلحة لزومية في الترك ليقال: إن مفاده طلبه، بل هو ناشئ من مفسدة لزومية في
الفعل. وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه، فإذا لا وجه للقول بأن
مفاده طلب الترك أصلا.
فما ذكرناه من أن النهي بماله من المعنى يباين الأمر كذلك ليس من هذه
الناحية، بل من ناحية أخرى. فلنا دعويان:
الأولى: أن التباين بين الأمر والنهي في المعنى ليس من هذه الناحية.
الثانية: أنه من ناحية أخرى.
أما الدعوى الأولى: فلما ذكرناه غير مرة (2) من أن تفسير الأمر مرة بالطلب
ومرة أخرى بالبعث والتحريك، ومرة ثالثة بالإرادة وكذا تفسير النهي تارة
بالطلب، وتارة أخرى بالزجر والمنع، وتارة ثالثة بالكراهة لا يرجع بالتحليل
العلمي إلى معنى محصل، ضرورة أن هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة
التعبير، وليس لها واقع موضوعي أبدا.

(1) منهم: المحقق الإصفهاني في نهاية الدراية: ص 80.
(2) منها: ما تقدم في ج 2 ص 127 - 128 في صيغة الأمر.
86

نعم، إن صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك، لا أنهما معناها، كما أنها
مصداق للطلب والتصدي، وكذلك صيغة النهي مصداق للزجر والمنع، وليس الزجر
والمنع معناه، وأما الإرادة والكراهة فليستا معنى الأمر والنهي بالضرورة،
لاستحالة تعلق الإرادة بمعنى الاختيار، وكذلك ما يقابلها من الكراهة بفعل الغير.
نعم، يتعلق الشوق ومقابله بفعل الغير، ولا يحتمل أن يكونا معنى الأمر
والنهي. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا في محله (1) أنه لا معنى للإرادة أو الكراهة
التشريعية في مقابل التكوينية ولا نعقل لها معنى محصلا ما عدا الأمر أو النهي.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي: أنه لا معنى لتفسير الأمر بالإرادة
والنهي بالكراهة.
وخلاصة الكلام: كما أنه لا أصل لما هو المشهور من تفسير الأمر بطلب الفعل
وتفسير النهي بطلب الترك، كذلك لا أصل لما عن جماعة: من تفسير الأول بالبعث
والتحريك، والثاني بالزجر والمنع.
وأما الدعوى الثانية: فيقع الكلام فيها مرة في معنى الأمر ومرة أخرى في
معنى النهي.
أما الكلام في الأول: فقد تقدم في بحث الأوامر بشكل واضح (2) أنه إذا حللنا
الأمر المتعلق بشئ تحليلا موضوعيا فلا نعقل فيه ما عدا شيئين:
أحدهما: اعتبار الشارع ذلك الشئ في ذمة المكلف من جهة اشتماله على
مصلحة وملزمة.
وثانيهما: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز: كصيغة الأمر أو ما
يشبهها، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري
النفساني، لا للبعث والتحريك، ولا للطلب.

(1) تقدم في ج 2 ص 183.
(2) تقدم في ج 2 ص 128 - 129.
87

نعم، قد عرفت أن الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصد إلى الفعل، فإن
البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين، فصيغة الأمر أو ما
شاكلها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي، ضرورة أنها تصد في
اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه، لا تكوينا وخارجا كما
هو واضح.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأول: أن صيغة الأمر وما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر
الاعتباري النفساني، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف، ولا تدل على
أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني: أنها مصداق للبعث والطلب، لا أنهما معناها.
وأما الكلام في الثاني: فالأمر أيضا كذلك عند النقد والتحليل، وذلك ضرورة
أنا إذا حللنا النهي المتعلق بشئ تحليلا علميا لا نعقل له معنى محصلا ما عدا
شيئين:
أحدهما: اعتبار الشارع كون المكلف محروما عن ذلك الشئ باعتبار
اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه.
ثانيهما: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز: كصيغة النهي أو ما
يضاهيها. وعليه، فالصيغة أو ما يشاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر
الاعتباري النفساني، لا للزجر والمنع. نعم، هي مصداق لهما.
ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة باعتبار دلالته على حرمان المكلف عن
الفعل في الخارج، كما أنه يصح تفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار
دلالته على ثبوت الفعل على ذمة المكلف، بل هما معناهما لغة وعرفا.
غاية الأمر [أن] الحرمة مرة حرمة تكوينية خارجية كقولك: الجنة - مثلا -
محرمة على الكفار، ونحو ذلك، فإن استعمالها في هذا المعنى كثير عند العرف،
بل هو أمر متعارف بينهم.
88

ومرة أخرى حرمة تشريعية: كاعتبار المولى الفعل محرما على المكلف في
عالم التشريع وإبراز ذلك بقوله: " لا تفعل " أو ما يشابه ذلك، فيكون قوله هذا
مبرزا لذلك ودالا عليه.
وكذا الثبوت مرة ثبوت تكويني خارجي، ومرة أخرى ثبوت تشريعي،
فصيغة الأمر أو ما شاكلها تدل على الثبوت التشريعي وتبرزه.
وعلى الجملة: فالأمر والنهي لا يدلان إلا على ما ذكرناه، لا على الزجر
والمنع والبعث والتحريك.
نعم، المولى في مقام الزجر عن فعل باعتبار اشتماله على مفسدة لزومية
يزجر عنه بنفس قوله: " لا تفعل " أو ما شاكله، غاية الأمر الزجر قد يكون
خارجيا، كما إذا منع أحد آخر عن فعل في الخارج، وقد يكون بقوله: " لا تفعل "
أو ما يشبه ذلك، فيكون قوله: " لا تفعل " - عندئذ - مصداقا للزجر والمنع، لا أنه
وضع بإزائه. كما أن الطلب قد يكون طلبا خارجيا وتصديا نحو الفعل في الخارج:
كطالب ضالة أو طالب العلم أو نحو ذلك، وقد يكون طلبا وتصديا في عالم
الاعتبار نحو الفعل فيه بقوله: " إفعل " أو ما يشبه ذلك، فيكون قوله: " إفعل " وقتئذ
مصداقا للطلب والتصدي، لا أنه وضع بإزائه.
وعلى ضوء بياننا هذا قد ظهر: أن الأمر والنهي مختلفان بحسب المعنى، فإن
الأمر معناه الدلالة على ثبوت شئ في ذمة المكلف، والنهي معناه الدلالة على
حرمانه عنه، ومتحدان بحسب المتعلق، فإن ما تعلق به الأمر بعينه هو متعلق النهي،
فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أنه بناء على وجهة نظر العدلية: من أن الأحكام
الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها. فلا محالة يكون النهي كالأمر
متعلقا بالفعل، ضرورة أن النهي عن شئ ينشأ عن مفسدة لزومية فيه، وهي
الداعي إلى تحريمه والنهي عنه، ولم ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه لتدعو إلى
طلبه، وهذا واضح.
89

فإذا لا مجال للقول بأن المطلوب في النواهي هو ترك الفعل ونفس أن
لا تفعل، إلا أن يدعى أن غرضهم من ذلك هو: أنه مطلوب بالعرض وقد اخذ مكان
ما بالذات، ولكن من الواضح أن إثبات هذه الدعوى في غاية الإشكال.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا شبهة في أن متعلق الأمر بعينه هو ما تعلق به النهي،
فلا فرق بينهما من ناحية المتعلق أبدا، والفرق بينهما إنما هو من ناحية المعنى
الموضوع له كما مضى.
عدة نقاط فيما ذكرناه:
الأولى: أن كلا من الأمر والنهي اسم لمجموع المركب من الأمر الاعتباري
النفساني وإبرازه في الخارج، فلا يصدق على كل منهما، ضرورة أنه لا يصدق
على مجرد اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف بدون إبرازه في الخارج. كما أنه
لا يصدق على مجرد إبرازه بدون اعتباره شيئا كذلك، وكذا الحال في النهي،
وهذا ظاهر.
ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الإنشاء والإخبار: من أن العقود والإيقاعات
- كالبيع والإجارة والطلاق والنكاح وما شاكل ذلك - أسام لمجموع المركب من
الأمر الاعتباري النفساني وإبراز ذلك في الخارج بمبرز، فلا يصدق البيع - مثلا -
على مجرد ذلك الأمر الاعتباري، أو على مجرد ذلك الإبراز الخارجي، كما تقدم
هناك بشكل واضح.
الثانية: أن النزاع المعروف بين الأصحاب من أن متعلق النهي هل هو ترك
الفعل ونفس أن لا تفعل، أو الكف عنه؟ باطل من أصله، ولا أساس له أبدا.
الثالثة: أن نقطتي الاشتراك والامتياز بين الأمر والنهي على وجهة نظرنا،
ونقطتي الاشتراك والامتياز بينهما على وجهة نظر المشهور متعاكستان، فإن الأمر
والنهي على وجهة نظر المشهور - كما عرفت - متفقان بحسب المعنى ومختلفان
في المتعلق. وعلى وجهة نظرنا مختلفان في المعنى ومتفقان في المتعلق كما مر.
الرابعة: أن الأمر والنهي مصداق للبعث والتحريك والزجر والمنع، لا أنهما
موضوعان بإزائهما كما سبق.
90

وأما الأمر الثاني - وهو البناء - فعلى فرض تسليم الأمر الأول - وهو المبني -
وأن متعلق الطلب في طرف الأمر صرف وجود الطبيعة، وفي طرف النهي صرف
تركها فيمكن نقده على النحو التالي، وهو: أنه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد
بوجود فرد منها والطبيعة التي لا تنعدم إلا بعدم جميع أفرادها.
والوجه في ذلك: هو أنه إن أريد من الطبيعة الطبيعة المهملة التي كان النظر
مقصورا على ذاتها وذاتياتها فحسب فهي كما توجد بوجود فرد منها كذلك تنعدم
بعدم مثلها، أعني الطبيعة الموجودة كذلك، لأنه بديلها ونقيضها، لا عدم الطبيعة
بعدم جميع أفرادها، ضرورة أن نقيض الواحد واحد، فنقيض الطبيعة الموجودة
بوجود واحد لا محالة يكون عدم مثل تلك الطبيعة كما هو واضح.
وإن أريد منها الطبيعة السارية إلى تمام أفرادها ومصاديقها فهي وإن كان
يتوقف عدمها كليا في الخارج على عدم جميع أفرادها العرضية والطولية إلا أن
هذا من ناحية ملاحظة وجود تلك الطبيعة على نحو الانحلال والسريان إلى جميع
أفرادها. ومن الواضح جدا أن عدم مثل هذه الطبيعة الذي هو بديلها ونقيضها لا
يمكن إلا بعدم تمام أفرادها في الخارج.
ولكن أين هذا من الطبيعة التي توجد في الخارج بوجود فرد منها؟ فإن
المقابل لهذه الطبيعة ليس إلا الطبيعة التي تنعدم بعدم ذلك الفرد، ضرورة أن
الوجود الواحد لا يعقل أن يكون نقيضا لعدم الطبيعة بتمام أفرادها، بل له عدم
واحد وهو بديله ونقيضه.
وأما المقابل للطبيعة التي يتوقف عدمها على عدم جميع أفرادها العرضية
والطولية هو الطبيعة الملحوظة على نحو الإطلاق والسريان إلى تمام أفرادها
كذلك، لا الطبيعة المهملة التي توجد في ضمن فرد واحد.
وهذا بيان إجمالي لعدم كون الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بإيجاد فرد
واحد مقابلا للطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها، وسيأتي بيانه
التفصيلي فيما بعد إن شاء الله تعالى (1).

(1) سيأتي في ص 98.
91

وعلى هدي ذلك البيان الإجمالي قد ظهر: أنه لا أصل لما هو المشهور من أن
صرف وجود الطبيعة يتحقق بأول الوجود، وصرف تركها لا يمكن إلا بترك جميع
أفرادها.
والوجه في ذلك: هو أن صرف ترك الطبيعة كصرف وجودها، فكما أن صرف
وجودها يتحقق بأول الوجود فكذلك صرف تركها يتحقق بأول الترك، ضرورة أن
المكلف إذا ترك الطبيعة في آن ما لا محالة يتحقق صرف الترك. كما أنه لو أوجدها
في ضمن فرد ما يتحقق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا،
وهذا لعله من الواضحات الأولية.
نعم، لو كان المطلوب في النواهي هو: ترك الطبيعة مطلقا لا يمكن تحققه إلا
بترك جميع أفرادها في جميع الآنات والأزمنة، إلا أن الأمر كذلك في طرف
الأوامر فيما إذا كان المطلوب منها مطلق وجود الطبيعة، لا صرف وجودها،
ضرورة أن مطلق وجودها لا يتحقق بإيجاد فرد منها، بل يتوقف على إيجاد جميع
أفرادها في الخارج.
والسر فيه ظاهر، وهو: وضوح الفرق بين أن يكون المطلوب في النهي صرف
ترك الطبيعة، وفي الأمر صرف وجودها، وأن يكون المطلوب في الأول مطلق
ترك الطبيعة، وفي الثاني مطلق وجودها، فإن صرف الترك وصرف الوجود يتحقق
بأول الترك وأول الوجود كما هو واضح. وهذا بخلاف مطلق الترك ومطلق الوجود
فإنهما لا يتحققان بأول الترك وأول الوجود، بل الأول يتوقف على ترك أفراد
الطبيعة تماما، والثاني يتوقف على إيجاد أفرادها كذلك.
وبكلمة أخرى: أن متعلق الترك ومتعلق الوجود إن كان الطبيعة المهملة فطبعا
يكون المطلوب في النهي هو صرف تركها، وفي الأمر صرف وجودها، وقد عرفت
أن الأول يتحقق بأول الترك، والثاني بأول الوجود. وإن كان المتعلق الطبيعة
المطلقة السارية فلا محالة يكون المطلوب في الأول هو مطلق تركها، وفي الثاني
مطلق وجودها. وعليه، فلا محالة ينحل المطلوب - بحسب الواقع ونفس الأمر -
92

إلى مطلوبات متعددة بانحلال أفراد تلك الطبعية، فيكون ترك كل فرد منها مطلوبا
مستقلا، كما أن وجود كل فرد منها كذلك.
فإذا لا محالة حصول المطلوب على الأول يتوقف على ترك جميع أفرادها
العرضية والطولية، وعلى الثاني يتوقف على إيجاد جميعها كذلك.
فالنتيجة قد أصبحت من ذلك: أن المقابل لصرف الوجود هو صرف الترك،
وهو عدمه البديل له ونقيضه، لا مطلق الترك، فإنه ليس عدمه البديل له ونقيضه،
ضرورة أن نقيض الواحد واحد لا اثنان، والمقابل لمطلق الوجود هو مطلق الترك،
فإنه عدمه البديل له ونقيضه، لا صرف الترك، ضرورة أن الواحد لا يعقل أن يكون
نقيضا للمتعدد، وهذا ظاهر.
وعلى ضوء هذا البيان نتساءل المشهور عن سبب اكتفائهم في طرف الأمر
بإيجاد فرد واحد من الطبيعة، بدعوى: أن المطلوب فيه هو صرف الوجود، وهو
يتحقق بأول الوجود، وعدم اكتفائهم في طرف النهي بأول الترك، مع أنهم التزموا
بأن المطلوب فيه هو صرف الترك؟
فإن سبب ذلك ليس هو الوضع، لما تقدم: من أن مقتضاه في كل من الأمر
والنهي على نسبة واحدة، فلا مقتضي لأجل ذلك أن يفرق بينهما، فإن مفادهما
عندهم - بحسب الوضع - ليس إلا الدلالة على الطلب، غاية الأمر أن متعلقه في
الأمر الوجود، وفي النهي الترك، ولذا قالوا باشتراكهما في المعنى الموضوع له من
هذه الجهة.
وأما العقل فقد عرفت أنه يحكم بخلاف ذلك، فإنه كما يحكم بأن صرف
الوجود يتحقق بأول الوجود كذلك يحكم بأن صرف الترك يتحقق بأول الترك، فلا
فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
نعم، الذي لا يمكن تحققه بأول الترك هو مطلق الترك، إلا أنك عرفت أنهم لا
يقولون بأن المطلوب في النواهي مطلق الترك، بل يقولون بأن المطلوب فيها هو
صرف الترك. وقد مر: أن العقل يحكم بأنه لا مقابلة بين مطلق الترك وصرف
93

الوجود، والمقابلة إنما هي بينه وبين مطلق الوجود لا صرفه، فإن المقابل له
(صرف الوجود) صرف الترك فإذا لا يرجع ما هو المشهور إلى معنى محصل أصلا.
ولعل منشأ تخيلهم ذلك الغفلة عن تحليل نقطة واحدة، وهي الفرق بين صرف
الترك ومطلق الترك، ولكن بعد تحليل تلك النقطة على ضوء ما بيناه قد ظهر
بوضوح خطأ نظريتهم، وأنه لا مبرر لها أبدا.
إلى هنا قد تبين بطلان المبنى والبناء معا، وأنه لا يمكن الالتزام بشئ منهما.
هذا، الذي ينبغي أن يقال في هذا المقام: هو أن سبب اقتضاء النهي حرمة جميع
أفراد الطبيعة المنهي عنها الدفعية والتدريجية، وعدم صحة الاكتفاء في امتثاله
بترك فرد ما منها، وسبب اقتضاء الأمر إيجاد فرد ما من الطبيعة المأمور بها دون
الزائد إحدى نقطتين:
الأولى: اختلاف الأمر والنهي من ناحية المبدأ.
الثانية: اختلافهما من ناحية المنتهى.
أما النقطة الأولى: فلأن النهي بما أنه ينشأ عن مفسدة لزومية في متعلقه وهي
داعية إلى إنشائه واعتباره فهي - غالبا - تترتب على كل فرد من أفرادها في
الخارج، ويكون كل منها مشتملا على مفسدة مغايرة لمفسدة أخرى. ومن الواضح
جدا أن لازم هذا هو: انحلال النهي بانحلال أفراد الطبيعة المنهي عنها، وذلك على
وفق ما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء والفهم العرفي من النواهي.
وهذا بخلاف ما إذا فرض أن المفسدة قائمة بصرف وجودها، أو بمجموع
وجوداتها، أو بعنوان بسيط متحصل من هذه الوجودات في الخارج، فإن فهم ذلك
يحتاج إلى بيان من المولى ونصب قرينة تدل عليه، وأما إذا لم تكن قرينة على
قيامها بأحد هذه الوجوه فالإطلاق في مقام الإثبات - كما عرفت - قرينة عامة
على قيامها بكل فرد من أفراد تلك الطبيعة.
وعلى هدي ذلك: فإذا نهى المولى عن طبيعة ولم ينصب قرينة على أن
المفسدة قائمة بصرف وجودها حتى لا تكون مفسدة في وجودها الثاني والثالث،
94

وهكذا...، أو قائمة بمجموع وجوداتها وأفرادها على نحو العموم المجموعي، أو
بعنوان بسيط متحصل منها كان الارتكاز العرفي - ولو من ناحية الغلبة المزبورة -
قرينة على أن النهي تعلق بكل فرد من أفرادها، وأن المفسدة قائمة بتلك الطبيعة
على نحو السريان والانحلال، فيكون كل واحد منها مشتملا عليها.
وبكلمة واضحة: أن قيام مفسدة بطبيعة يتصور في مقام الثبوت على أقسام:
الأول: أن تكون قائمة بصرف وجود الطبيعة، ولازم ذلك هو أن المنهي عنه
صرف الوجود فحسب، فلو عصى المكلف وأوجد الطبيعة في ضمن فرد ما فلا
يكون وجودها الثاني والثالث - وهكذا - منهيا عنه أصلا.
الثاني: أن تكون قائمة بمجموع أفرادها على نحو العموم المجموعي، فيكون
المجموع محرما بحرمة واحدة شخصية، ولازم ذلك هو: أن المبغوض ارتكاب
المجموع، فلا أثر لارتكاب البعض.
الثالث: أن تكون قائمة بعنوان بسيط مسبب من تلك الأفراد في الخارج.
الرابع: أن تكون قائمة بكل واحد من أفرادها العرضية والطولية. هذا كله
بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الإثبات فلا شبهة في أن إرادة كل واحد من الأقسام الثلاثة
الأولى تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها وعناية زائدة. وأما إذا لم تكن قرينة في
البين على أن المراد من النهي المتعلق بطبيعة النهي عن مجموع أفرادها بنحو
العموم المجموعي، أو عن صرف وجودها في الخارج، أو عن عنوان بسيط متولد
عنها كان المرتكز منه في أذهان العرف والعقلاء هو النهي عن جميع أفرادها بنحو
العموم الاستغراقي. وعليه فيكون كل فرد منها منهيا عنه باستقلاله مع قطع النظر
عن الآخر.
وعلى الجملة: فلا إشكال في أن إرادة كل من الأقسام المزبورة تحتاج إلى
عناية زائدة فلا يتكفلها الإطلاق في مقام البيان، وهذا بخلاف القسم الأخير، فإن
إرادته لا تحتاج إلى عناية زائدة، فيكفي الإطلاق المزبور في إرادته.
95

ومن هنا لا شبهة في ظهور النواهي الواردة في الشريعة المقدسة بمقتضى
الفهم العرفي في الانحلال: كالنهي عن شرب الخمر والزنا والغيبة والكذب
والغصب وسب المؤمن وما شاكل ذلك.
ولأجل هذا قلنا: إن التكاليف التحريمية غالبا، بل دائما تكاليف انحلالية،
فتنحل بانحلال موضوعها مرة كما في النهي عن شرب الخمر - مثلا - أو نحوه، فإنه
ينحل بانحلال موضوعه في الخارج وهو الخمر، ويتعدد بتعدده، وبانحلال متعلقها
مرة أخرى كما في النهي عن الكذب - مثلا - أو الغيبة أو ما شاكل ذلك مما لا
موضوع له، فإنه ينحل بانحلال متعلقه في الخارج، وبانحلال كليهما معا كما في
مثل النهي عن سب المؤمن أو نحوه، فإنه كما ينحل بانحلال موضوعه - وهو
المؤمن - كذلك ينحل بانحلال متعلقه وهو السب ولو مع وحدة موضوعه.
فالنتيجة: هي أن النهي حيث إنه ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة في متعلقه
فالظاهر منه - بمقتضى الفهم العرفي - هو ترتب تلك المفسدة على كل فرد من
أفراده، وبذلك ينحل النهي إلى نواهي متعددة بانحلال موضوعه أو متعلقه. هذا
تمام الكلام في النهي وفي منشأ انحلاله.
وأما الأمر فهو على عكس النهي. والوجه فيه: هو أن الأمر بما أنه ينشأ عن
قيام مصلحة ملزمة في متعلقه - وهي داعية إلى إنشائه واعتباره - فلا محالة
مقتضى الإطلاق فيه - في مقام الإثبات وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات -
هو أن المصحلة قائمة بصرف وجوده، لا بمطلق وجوده أينما سرى.
وبتعبير أوضح: أن قيام مصلحة بطبيعة في مقام الثبوت والواقع يتصور
على صور:
الأولى: أن تكون المصلحة قائمة بصرف الوجود.
الثانية: أن تكون قائمه بمطلق الوجود على نحو العموم الاستغراقي.
الثالثة: أن تكون قائمة بمجموع الوجودات على نحو العموم المجموعي.
الرابعة: أن تكون قائمة بعنوان بسيط متولد من هذه الوجودات الخارجية.
هذا كله بحسب مقام الثبوت.
96

وأما بحسب مقام الإثبات فلا شبهة في أن إرادة كل من الصور الثلاث
الأخيرة من الأمر المتعلق بطبيعة تحتاج إلى عناية زائدة ونصب قرينة تدل على
إرادته. وأما إذا لم تكن قرينة على إرادة إحدى هذه الصور فإطلاقه في مقام
الإثبات بمقتضى الفهم العرفي وارتكازهم كان قرينة عامة على أن المراد منه
هو الصورة الأولى، وأن المصلحة قائمة بصرف الوجود.
والسر في ذلك: هو أن متعلق الأمر بما أنه كان الطبيعة المهملة فلا محالة لا
يدل إلا على إيجادها في الخارج. ومن المعلوم أن إيجادها يتحقق بأول وجودها،
إلا أن تقوم قرينة على إرادة المتعدد منها، أو خصوصية أخرى.
وأما متعلق النهي فهو وإن كان تلك الطبيعة المهملة، إلا أنه لما كان يدل على
مبغوضية وجودها في الخارج بلا قرينة على التقييد بالوجود الأول، أو بمجموع
الوجودات فلا محالة مقتضى الإطلاق هو: مبغوضية كل وجود منها. فهذا هو السر
في افتراق كل من الأمر والنهي عن الآخر.
فالنتيجة: هي أن الأمر لا يدل إلا على اعتبار صرف وجود الطبيعة في ذمة
المكلف، من دون الدلالة على خصوصية زائدة عليه.
ومن هنا قلنا في بحث المرة والتكرار: إنهما خارجان عن مفاد الأمر مادة
وهيئة، فهو كما لا يدل عليهما في الأفراد الطولية كذلك لا يدل على الوحدة
والتعدد في الأفراد العرضية (1).
وأما سبب الاكتفاء بالمرة - في مقام الامتثال - فهو من جهة انطباق الطبيعة
المأمور بها عليها، لا من جهة دلالة الأمر على المرة، وهذا واضح.
وخلاصة هذا الفرق بين الأمر والنهي: هي أن المصلحة في طرف الأمر قائمة
بصرف وجود الطبيعة ما لم تقم قرينة على الخلاف، ولأجل ذلك لا ينحل الأمر
بانحلال أفراد الطبيعة في الواقع.

(1) تقدم في ج 2 ص 208.
97

وأما المصلحة في طرف النهي فهي قائمة بمطلق وجودها، إلا إذا قامت قرينة
على أنها قائمة بصرف وجودها - مثلا - أو بمجموع وجوداتها.... وهكذا، ولذلك
ينحل في الواقع بانحلالها فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل.
ولنا أن نأخذ بالنقد على هذا الفرق من ناحيتين:
الأولى: أن هذا الفرق أخص من المدعى، فإنه لا يثبت التفرقة بين الأمر
والنهي مطلقا وعلى وجهة نظر جميع المذاهب، حيث إنه يرتكز على وجهة نظر
مذهب من يرى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ولا يجري على
وجهة نظر مذهب من لا يرى التبعية - كالأشاعرة - فإذا لا يجدي مثل هذا الفرق
أصلا.
الثانية: أن هذا الفرق وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنه لا طريق لنا إلى إحرازه
مع قطع النظر عما هو مقتضى إطلاق الأمر والنهي بحسب المتفاهم العرفي
ومرتكزاتهم، وذلك لما ذكرناه غير مرة: من أنه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام
مع قطع النظر عن ثبوتها، وعلى هذا الضوء فلا يمكننا إحراز أن المفسدة في
المنهي عنه قائمة بمطلق وجوده، والمصلحة في المأمور به قائمة بصرف وجوده،
مع قطع النظر عن تعلق النهي بمطلق وجوده وتعلق الأمر بصرف وجوده.
فإذا لا أثر لهذا الفرق مع قطع النظر عن الفرق الآتي، وهو: أن قضية الإطلاق
في النواهي هي الانحلال وتعلق الحكم بمطلق الوجود، وفي الأوامر هي عدم
الانحلال وتعلق الحكم بصرف الوجود. هذا تمام كلامنا في النقطة الأولى.
وأما النقطة الثانية - وهي الفرق بينهما من ناحية المنتهى - فيقع الكلام فيها
في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت.
والثاني: في مقام الإثبات.
أما المقام الأول: فالصحيح هو: أنه لا فرق فيه بين الأمر والنهي، ولتوضيحه
ينبغي لنا أن نقدم مقدمة، وهي: أن أسماء الأجناس - كما ذكرناها في بحث
98

الوضع - أنها وضعت للدلالة على الماهية المهملة، وهي الماهية من حيث هي هي
التي لم يلحظ فيها أي اعتبار زائد على ذاتها وذاتياتها، فيكون النظر مقصورا على
ذاتها من دون نظر إلى أمر خارج عنها، ولأجل ذلك تكون الماهية المهملة فوق
الماهية اللابشرط المقسمي في الإبهام والإهمال، فإنها مندمجة فيهما غاية
الاندماج دون تلك الماهية، أعني: الماهية اللابشرط المقسمي، ضرورة أن النظر
فيها ليس مقصورا على ذاتها وذاتياتها، بل تلحظ فيها حيثية زائدة على ذاتها،
وهي: حيثية ورود الاعتبارات الثلاثة عليها - أعني: اللابشرط القسمي وبشرط
لا وبشرط شئ - باعتبار أنها مجمع لتلك الاعتبارات ومقسم لها، فهذه الحيثية
ملحوظة فيها ولم تلحظ في الماهية المهملة.
ثم إن لتلك الطبيعة المهملة أفرادا ومصاديق في الخارج، وهي كل ما يمكن
أن تنطبق عليه هذه الطبيعة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن لكل وجود عدما مضافا إليه، وهو بديله ونقيضه،
وقد برهن في محله أن نقيض الواحد واحد، فلا يعقل أن يكون الاثنان بما هما
اثنان نقيضا للواحد، ضرورة أن نقيض كل شئ رفع ذلك الشئ، لا رفعه ورفع
شئ آخر... وهكذا، مثلا: نقيض الإنسان رفع الإنسان، لا رفعه ورفع شئ آخر
فإن رفع ذلك الشئ نقيض له لا للإنسان.
نعم، قد ثبت في المنطق: أن نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية وبالعكس،
ونقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية كذلك، ولكن من المعلوم أن هذا التناقض
ملحوظ بين القضيتين والكلامين بحسب مقام الإثبات والصدق، بمعنى: أن صدق
كل منهما يستلزم كذب الآخر، مثلا: صدق الموجبة الكلية يستلزم كذب السالبة
الجزئية، وبالعكس، وكذا صدق السالبة الكلية يستلزم كذب الموجبة الجزئية،
وبالعكس، فهما متناقضان بحسب الصدق، فلا يمكن فرض صدق كليهما معا، كما
أنه لا يمكن فرض كذب كليهما كذلك. وهذا هو المراد بالتناقض بينهما، ويسمى
هذا التناقض بالتناقض الكلامي.
99

ومن الواضح جدا أن هذا أجنبي عن التناقض فيما نحن فيه، وهو: التناقض
بين الوجود والعدم بحسب مقام الثبوت والواقع الموضوعي، ضرورة أنه لا يمكن
أن يكون نقيض الوجود الواحد أعداما متعددة، ونقيض العدم الواحد وجودات
متعددة، وإلا لزم ارتفاع النقيضين، وهذا من الواضحات الأولية.
ومن ناحية ثالثة: أن وجود الطبيعي عين وجود فرده في الخارج، لوضوح أنه
ليس للطبيعي وجود آخر في قبال وجود فرده. وقد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر
بالطبائع: أن معنى وجود الطبيعي في الخارج هو: أن هذا الوجود الواحد الخارجي
كما أنه مضاف إلى الفرد ووجود له حقيقة وواقعا كذلك مضاف إلى الطبيعي
ووجود له كذلك.
وقد قلنا هناك: إن كل وجود متشخص بنفس ذاته وهويته لا بوجود آخر،
بداهة أن الوجود عين التشخص لا شئ وراءه.
وأما الأعراض الملازمة له في الوجود فهي وجودات مستقلة في قباله،
فليست من مشخصاته، وفي إطلاق المشخص عليها مسامحة واضحة، وكما تقدم
ذلك بشكل واضح، فهذا الوجود كما أنه وجود للفرد حقيقة وجود للطبيعي كذلك،
فلا فرق بينهما إلا في الاعتبار وجهة الإضافة.
ومن هنا صح القول بأن نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد،
لا نسبة أب واحد إلى الأولاد.
ومن ناحية رابعة: أنه إذا كان وجود الطبيعي في الخارج عين وجود فرده
فلا محالة يكون عدمه فيه عين عدم فرده، وهذا واضح.
ومن ناحية خامسة: كما أن للطبيعي وجودات متعددة بعدد وجودات أفراده
كذلك له أعدام متعددة بعدد أعدامها، لما عرفت: من أن عدم الطبيعي عين عدم
فرده، وبالعكس.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة
على نحو توجد بوجود فرد منها، والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع
100

أفرادها، ضرورة أن نقيض الوجود الواحد واحد، وهو عدمه البديل له، لا عدمه
وعدم الفرد الثاني والثالث، وهكذا...، فأول وجود هذه الطبيعة أول ناقض لعدمها،
ونقيضه البديل له عدم هذا الوجود الأول، وهو وإن كان يستلزم بقاء أعدام بقية
الأفراد على حالها إلا أنه ليس عينها لتثبت المقابلة بين الطبيعتين المذكورتين،
وهذا ظاهر. وقد عرفت أن وجود كل فرد وجود للطبيعة، وعدمه عدم لها، غاية
الأمر أن عدمه عدم لها بنحو القضية الجزئية، فإن عدمها بنحو القضية الكلية بفرض
عدم جميع أفرادها، وهو مقابل وجودها بهذا النحو، لا مقابل وجودها بوجود فرد
منها كما لا يخفى.
وبكلمة واضحة: الوجود قد يضاف إلى الطبيعة المهملة، وهي التي كان النظر
مقصورا على ذاتها وذاتياتها، ولم يلحظ معها حيثية زائدة على ذاتها أصلا.
وقد يضاف إلى الطبيعة المطلقة السارية إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج.
وقد يضاف إلى الطبيعة بنحو السعة والإحاطة والوحدة في الكثرة.
أما الصورة الأولى: فقد تقدم أن الطبيعة المهملة كما تتحقق بتحقق فرد ما
كذلك تنتفي بانتفاء ذلك، ضرورة أن المقابل لهذه الطبيعة هو عدم مضاف إلى مثلها.
ومن الواضح جدا أن عدم مثلها يتحقق بانتفاء ذلك، لوضوح أن كل وجود يطرد
عدمه البديل له، لا عدمه وعدم غيره، فأول وجود لهذه الطبيعة أول طارد لعدمها.
ومن المعلوم أن نقيضه - وهو العدم البديل له - عدم هذا الوجود الأول، لا عدمه
وعدم سائر وجوداتها، وإن استلزم عدمه - أي: عدم هذا الوجود الأول - بقاء
أعدام سائر وجوداتها على حالها إلا أنه ليس عينها، لاستحالة أن يكون نقيض
الوجود الواحد أعدام متعددة كما هو ظاهر.
ومن هذا البيان يظهر فساد ما قيل من أن الوجود الناقض للعدم الكلي وطارد
العدم الأزلي ينطبق على أول الوجودات، ضرورة أنه أول ناقض للعدم الأزلي
ونقيضه - وهو العدم البديل له - عدم ناقض العدم الكلي، وهو عين بقاء العدم
الكلي على حاله، ولازم هذا هو وجود الطبيعة بوجود فرد منها، وانتفاؤها بانتفاء
جميع أفرادها.
101

وجه الظهور: هو أن الطارد للعدم الأزلي - المعبر عنه بالعدم الكلي - هو
الوجود الأول على الفرض. ومن المعلوم أن عدم هذا الطارد - أي: طارد العدم
الكلي - هو عدم ذلك الوجود الأول، لا عدمه وعدم الوجود الثاني والثالث
والرابع.... وهكذا، ضرورة أن نقيض الواحد واحد فلا يعقل أن يكون نقيض
الواحد متعددا.
نعم، عدم الوجود الأول يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات على حالها،
لا أنه عينها.
ولعل منشأ هذا التوهم: الغفلة عن تحليل هذه النقطة، وهي: أن عدم الوجود
الأول - الذي هو أول ناقض للعدم الأزلي - يستلزم بقاء أعدام سائر الوجودات
على حالها، لا أن عدمه عين أعدام تلك الوجودات ليكون لازمه التقابل بين
الطبيعة الموجودة بوجود واحد، والطبيعة المنتفية بانتفاء جميع وجوداتها، وقد مر
استحالة ذلك، فإن لازم ذلك هو أن يكون نقيض الواحد متعددا، وهو محال.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت: أنه لا أصل لما اشتهر في الألسنة
من جعل الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها مقابلا للطبيعة
الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها، لما عرفت من استحالة المقابلة
بينهما، فإن وجود الواحد طارد لعدم الطبيعة الموجودة في ضمنه، لا له، ولعدم
الطبيعة الموجودة في ضمن غيره، بداهة أن الوجود الواحد لا يعقل أن يكون
طاردا لعدم الطبيعة المطلقة السارية إلى تمام أفرادها، كما هو واضح.
قد يقال: إن صرف الوجود الذي يتحقق بوجود واحد وصرف الترك الذي
لا يمكن إلا بانعدام الطبيعة بجميع أفرادها إنما هو من جهة أن بين الأفراد وحدة
سنخية، وتلك الوحدة السنخية هي الجامع بين الوجودات والكثرات، ولا شك في
حصول ذلك الجامع بحصول كل واحد من الأفراد والوجودات.
أو فقل: إن الوجود السعي بين الوجودات كالطبيعة اللابشرط بين المفاهيم،
فكما أن تلك الطبيعة تصدق وتنطبق على كل فرد من أفرادها فكذلك ذلك الوجود
السعي، فإنه ينطبق على كل وجود من الوجودات.
102

وهذا بخلاف ما في طرف العدم، فإن العدم الجامع عبارة عن مجموع الأعدام
بإضافة العدم إلى الطبيعة، لأن على مجموعها يصدق أنه عدم الطبيعة، لا على كل
واحد واحد، ضرورة أنه ليس هنا شئ واقعي يكون جامعا بين تلك الأعدام
ومنطبقا على كل واحد منها.
وغير خفي أن هذا التوجيه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، وذلك لأنه: إن
أريد بالوحدة السنخية بين الوجودات الوحدة الحقيقية والذاتية فهي غير معقولة،
وذلك لأن كل وجود مباين لوجود آخر، وكل فعلية تأبى عن فعليه أخرى،
ومع ذلك كيف تعقل وحدة وجودية حقيقية بينهما؟ وكيف يعقل اشتراك الفعليتين
بالذات في فعلية ثالثة؟
وإن أريد بها الوجود السعي الذي هو: عبارة عن الوجود المضاف إلى الطبيعة
- مع قطع النظر عن جميع الخصوصيات والتشخصات الخارجية - فهو أمر معقول،
إلا أن مثل هذا الجامع موجود بين الأعدام أيضا، وهو العدم السعي، فإنه عدم
مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء كل خصوصية من الخصوصيات، وينطبق على كل
واحد من الأعدام كانطباق الوجود السعي على كل واحد من الوجودات.
وليست وحدة الوجود السعي وحدة حقيقية ليقال: إنه ليس بين الأعدام جامع
حقيقي، لما عرفت من أن الجامع الحقيقي الوجودي بين الوجودات غير معقول،
فلا محالة تكون وحدته وحدة بالعنوان، ولا تتعدى عن أفق النفس إلى الخارج.
إذا تصوير هذا النحو من الجامع بين الأعدام بمكان من الوضوح كما عرفت.
وعلى هذا الضوء لا فرق بين أن يكون المطلوب الوجود السعي، وبين أن
يكون المطلوب العدم السعي، فإن الأول كما ينطبق على كل فرد من الأفراد كذلك
الثاني ينطبق على كل عدم من الأعدام، ولا يتوقف صدق الثاني على مجموع
الأعدام كما توهم، كيف؟ فإنه كما يصدق على وجود كل فرد أنه وجود الطبيعة
كذلك يصدق على عدم كل منه أنه عدم الطبيعة، بداهة أن الوجود إذا كان وجود
الطبيعة فكيف لا يكون عدمه البديل له عدما لها؟ إذا كيف يتوقف صدق عدم
الطبيعة على عدم مجموع الأفراد؟
103

أو فقل: إن عدم الطبيعة بما هو ليس عدما آخر في مقابل الأعدام الخاصة
ليقال: إن صدق هذا العدم يتوقف على تحقق مجموع تلك الأعدام، بداهة أن عدم
الطبيعة عين تلك الأعدام، ولا مطابق له غيرها. كما أن وجودها ليس وجودا آخر
في مقابل الوجودات الخاصة، بل هو عين تلك الوجودات. وعلى هذا فإذا كان
للطبيعة وجود واحد كان لها عدم واحد، وإذا كان لها وجودات متعددة كان لها
أعدام كذلك، فالتفرقة بين وجود الطبيعة وعدمها مما لا أصل له أصلا، وهي وإن
كانت مشهورة إلا أنها مبنية على ضرب من المسامحة.
وأما الصورة الثانية - وهي ما إذا لوحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المطلقة -
فقد ظهر مما تقدم: أن لها أعداما متعددة بعدد وجودات أفرادها، وكل عدم منها
طارد لوجوده، لا له ولوجود غيره، وكل وجود منها طارد لعدمه، لا له ولعدم غيره.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن وجود الفرد كما أنه عين وجود الطبيعي في الخارج
كذلك عدمه عين عدمه فيه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الطبيعة كما توجد بوجود فرد
منها كذلك تنتفي بانتفائه، لفرض أن انتفاء الفرد عين انتفاء الطبيعة، ولا يتوقف
انتفاؤها على انتفاء جميع أفرادها.
نعم، إن انتفاء الطبيعة المطلقة يتوقف على انتفاء جميع أفرادها، لفرض أن
المقابل لها هو عدم مثلها، لا عدم فرد واحد منها كما هو ظاهر.
وأما الصورة الثالثة - وهي الوجود المضاف إلى الطبيعة بنحو السعة
والإحاطة والوحدة في الكثرة - فقد تبين مما تقدم: أن المقابل للوجود المضاف
إلى الطبيعة بنحو السعة، لا بنحو الكثرة والانحلال عدم مثله، أي: العدم المضاف
إلى الطبيعة كذلك.
والمراد من الوجود السعي - كما عرفت - هو عدم ملاحظة خصوصية وجود
فرد دون آخر فيه، بل هو مضاف إلى الطبيعة مع إلغاء جميع خصوصية من
104

الخصوصيات، ولذا لا يغيب ولا يشذ عنه أي وجود من وجودات هذه الطبيعة،
وينطبق على كل وجود من وجوداتها بلا خصوصية في البين. ومن هنا يعبر عنه
بالوحدة في الكثرة، باعتبار أنه يلاحظ فيه جهة السعة والوحدة في هذه الكثرات.
ومقابل هذا الوجود السعي: العدم السعي، وهو العدم المضاف إلى الطبيعة مع
إلغاء تمام خصوصية من الخصوصيات فيه، ولأجل ذلك هذا عدم لا يغيب، ولا
يشذ عنه أي عدم من أعدام هذه الطبيعة، وينطبق على كل عدم منها من دون جهة
خصوصية في البين. ومن الواضح أنه لا يكون في مقابل هذا العدم وجود فرد منها،
كما أنه لا يكون في مقابل هذا الوجود عدم فرد منها.
ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن عدة نقاط:
الأولى: أنه لا مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو توجد بوجود فرد منها،
والطبيعة الملحوظة على نحو تنتفي بانتفاء جميع أفرادها على ضوء جميع الصور
المتقدمة.
الثانية: أن الطبيعة الملحوظة على نحو الإطلاق والسريان في نقطة مقابلة
للطبيعة الملحوظة على نحو تنعدم بانعدام جميع أفرادها كما هو ظاهر.
الثالثة: أن الوجود السعي المضاف إلى الطبيعة مع إلغاء الخصوصيات في نقطة
مقابلة للعدم السعي المضاف إليها كذلك.
وبعد ذلك نقول: إن الطبيعة التي يتعلق بها الحكم لا تخلو: أن تكون ملحوظة
على نحو الإطلاق والسريان، أو أن تكون ملحوظة على نحو الإطلاق والعموم
البدلي، أو أن تكون ملحوظة على نحو العموم المجموعي.
فعلى الأول لا محالة ينحل الحكم بانحلال أفرادها في الواقع، فيثبت لكل فرد
منها حكم مستقل. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون هذا الحكم إيجابيا أو تحريميا،
كما هو واضح.
وعلى الثاني فالحكم متعلق بفرد ما من الطبيعة المعبر عنه بصرف الوجود.
ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين أن يكون ذلك الحكم وجوبيا أو تحريميا،
105

ضرورة أن الملاك إذا كان قائما بصرف الوجود - كما هو المفروض - فلا محالة
يكون الحكم المجعول على طبقه متعلقا به، من دون فرق بين أن يكون ذلك الملاك
مصلحة أو مفسدة، غاية الأمر إن كان الحكم المزبور تحريميا فلا يكون ارتكاب
الفرد الثاني والثالث.... وهكذا بعد ارتكاب الفرد الأول محرما، وهذا ظاهر.
وعلى الثالث: فالحكم متعلق بمجموع الأفراد على نحو العموم المجموعي،
ولا يفرق فيه أيضا بين أن يكون ذلك حكما وجوبيا أو تحريميا، كما هو واضح.
وعلى الجملة: فالألفاظ وإن كانت موضوعة للطبيعة المهملة من تمام الجهات
- ما عدا النظر إلى ذاتها وذاتياتها - إلا أن الشارع في مقام جعل الحكم عليها لابد
أن يلاحظها على أحد الأنحاء المذكورة، لاستحالة الإهمال في الواقع، فلا محالة:
إما أن يلاحظها على نحو الإطلاق والسريان، أو على نحو العموم البدلي، أو
المجموعي، فلا رابع لها. وعلى جميع هذه التقادير والفروض لا فرق بين الحكم
التحريمي والوجوبي أصلا.
ومن هنا يظهر أن الحال كذلك على وجهة نظر المشهور من أن المطلوب من
النهي هو ترك الطبيعة، فإنه في مقام جعل الحكم عليه: إما أن يلاحظ على نحو
الإطلاق والسريان، أو على نحو العموم المجموعي، أو على نحو العموم البدلي،
فلا رابع. وكذا الحال على وجهة نظر من يرى: أن المطلوب من النهي الزجر
عن الفعل.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت: أنه لا فرق بين الأمر والنهي
بحسب مقام الثبوت والواقع من هذه الناحية مطلقا، بلا فرق بين وجهة نظرنا
ووجهة نظر المشهور. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني - وهو مقام الإثبات والدلالة - فهو نقطة أساسية للفرق بين
الأمر والنهي، والسبب النهائي لجواز الاكتفاء في الأول بصرف إيجاد الطبيعة في
الخارج، وعدم الاكتفاء في الثاني بصرف تركها.
بيان ذلك: هو أنه لا شبهة في أن الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة - مثلا -
106

أو نحوها فلا يعقل أن يراد من المكلف إيجاد تلك الطبيعة بكل ما يمكن أن تنطبق
عليه هذه الطبيعة في الخارج، بداهة استحالة ذلك على المكلف وأنه لا يقدر على
إيجادها كذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر المتعلق بها مطلق وغير مقيد بحصة خاصة من
مرة أو تكرار أو غيرهما.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن مقتضى الإطلاق الثابت
بمقدمات الحكمة هو: جواز الاكتفاء في مقام الامتثال بإيجاد فرد من أفرادها أراد
المكلف إيجاده في الخارج، وذلك لأنه بعد استحالة أن يكون المطلوب منه هو
إيجاد جميع أفرادها في الخارج من العرضية والطولية - ضرورة عدم تمكن
المكلف من ذلك، وتقيده بحصة خاصة منها دون أخرى - يحتاج إلى دليل يدل
عليه، وحيث لا دليل في البين فلا مناص من الالتزام بأن قضية الإطلاق هي أن
المطلوب صرف وجودها في الخارج.
أو فقل: إن المطلوب لا يمكن أن يكون جميع وجودات الطبيعة، وبعضها دون
بعضها الآخر يحتاج إلى دليل، وعند فرض عدمه - لا محالة - كان المطلوب هو
إيجادها في ضمن فرد ما المنطبق في الخارج على أول وجوداتها. غاية الأمر
يتخير المكلف في مقام الامتثال في تطبيقها على هذا أو ذاك.
وهذا بخلاف النهي، فإنه إذا ورد على طبيعة ليس المراد منه حرمان المكلف
عن فرد ما منها، ضرورة أن الحرمان منه حاصل قهرا، فالنهي عنه تحصيل
للحاصل وهو محال. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنه لم يقيد النهي عنه بحصة خاصة منها بحسب الأفراد
العرضية أو الطولية.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن مقتضى الإطلاق الثابت فيه بمقدمات الحكمة
هو: منع المكلف وحرمانه عن جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
وعلى أساس هذا البيان قد تبين أن هذا الاختلاف - أعني الاختلاف في
107

نتيجة مقدمات الحكمة بين الأمر والنهي - ليس من ناحية اختلافهما في المتعلق،
لما عرفت من أن متعلقهما واحد، وهو نفس طبيعي الفعل، فإنه كما يكون متعلقا
للأمر كذلك يكون متعلقا للنهي.
بل إن ذلك إنما كان من جهة خصوصية في تعلق الأمر والنهي به، وهذه
الخصوصية: هي أن المطلوب من الأمر بما أنه إيجاد الطبيعة في الخارج فلا يمكن
أن يريد المولى منه إيجادها بكل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة، لفرض عدم
تمكن المكلف منه كذلك، فهذه الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدمات
الحكمة فيه هي كون المطلوب إيجادها في ضمن فرد ما المعبر عنه بصرف
الوجود.
والمطلوب من النهي بما أنه حرمان المكلف فلا يمكن أن يراد منه حرمانه
عن بعض أفرادها، لفرض أنه حاصل قهرا، والنهي عنه تحصيل للحاصل، فهذه
الخصوصية أوجبت أن تكون نتيجة مقدمات الحكمة فيه: هي كون المطلوب
حرمان المكلف عن جميع أفرادها.
وبكلمة واضحة: أن السبب الموضوعي لاختلاف نتيجة مقدمات الحكمة إنما
هو اختلاف خصوصيات الموارد، ففي مورد لخصوصية فيه تنتج مقدمات الحكمة
الإطلاق الشمولي، وفي مورد آخر لخصوصية فيه تنتج الإطلاق البدلي، مع أن
الموردين يكونان متحدين بحسب الموضوع والمتعلق.
مثلا: في مثل قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) تنتج المقدمات
الإطلاق الشمولي، ببيان أن جعل الطهور لفرد ما من الماء في العالم لغو محض
فلا يصدر من الحكيم.
فإذا لا محالة يدور الأمر بين جعله لكل ما يمكن أن ينطبق عليه هذا الطبيعي
في الخارج، وجعله لخصوص حصة منه: كالماء الكر - مثلا - أو الجاري أو نحو

(1) الفرقان: 48.
108

ذلك، وحيث إنه لا قرينة على تقييده بخصوص حصة خاصة فلا محالة قضية
الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هي إرادة الجميع، فإن الإطلاق في مقام
الإثبات كاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت بقانون تبعية المقام الأول للثاني.
وأما في مثل قولنا: " جئني بماء " فتنتج المقدمات الإطلاق البدلي، مع أن
كلمة " ماء " في كلا الموردين قد استعملت في معنى واحد، وهو الطبيعي الجامع،
ولكن خصوصية تعلق الحكم بهذا الطبيعي على الأول تقتضي كون نتيجة الإطلاق
الثابت. بمقدمات الحكمة شموليا، وخصوصية تعلقه به على الثاني تقتضي كون
نتيجته بدليا.
وكذا نتيجة مقدمات الحكمة في مثل قوله تعالى: " أحل الله البيع " (1)،
و " تجارة عن تراض " (2) و " أوفوا بالعقود " (3) وما شابه ذلك شموليا، باعتبار أن
جعل الحكم لفرد ما من البيع أو التجارة أو العقد في الخارج لغو محض، فلا يترتب
عليه أي أثر. ومن المعلوم أنه يستحيل صدور مثله عن الحكيم، فإذا لا محالة: إما
أن يكون الحكم مجعولا لجميع أفراد تلك الطبائع في الخارج من دون ملاحظة
خصوصية في البين، وإما أن يكون مجعولا لحصة خاصة منها دون أخرى.
وبما أن إرادة الثاني تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليها - والمفروض أنه لا
قرينة في البين - فإذا مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو: إرادة جميع
أفراد ومصاديق هذه الطبائع.
وهذا بخلاف نتيجة تلك المقدمات في مثل قولنا: " بع دارك " - مثلا - أو
" ثوبك " أو ما شاكل ذلك، فإنها في مثل هذا المثال بدلي لا شمولي، مع أن كلمة
" بيع " في هذا المثال والآية الكريمة قد استعملت في معنى واحد، وهو الطبيعي
الجامع، ولا تدل في كلا الموردين إلا على إرادة تفهيم هذا الجامع، ولكن
لخصوصية في هذا المثال كان مقتضى الإطلاق فيه بدليا، وهذه الخصوصية هي:

(1) البقرة: 275.
(2) النساء: 29.
(3) المائدة: 2.
109

عدم إمكان أن يراد من بيع الدار: بيعها من كل أحد وبكل شئ، ضرورة أن العين
الواحدة الشخصية غير قابلة لأن بيعها من كل شخص وبكل صيغة في زمان واحد.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المفروض عدم تقييد بيعها من شخص خاص وفي
زمان مخصوص.
فالنتيجة على ضوئهما: هي جواز بيعها من أي شخص أراد بيعها منه، وهذا
معنى الإطلاق البدلي وكون المطلوب هو صرف الوجود.
ومن ذلك يظهر حال الأوامر المتعلقة بالطبائع: كالأمر المتعلق بالصلاة
والصوم والحج وما شاكل ذلك، فإن قضية الإطلاق الثابت فيها بمقدمات الحكمة
الإطلاق البدلي وصرف الوجود، وذلك لما عرفت: من أنه لا يمكن أن يراد من
المكلف كل ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبائع في الخارج، لاستحالة إرادة ذلك،
لأنه تكليف بالمحال، وإرادة بعض أفرادها دون بعضها الآخر تحتاج إلى دليل،
فإذا لم يكن دليل في البين فمقتضى الإطلاق هو: أن المطلوب واحد منها، وصرف
وجودها المتحقق بأول الوجودات. وأما تكرار الصلاة في كل يوم والصوم في كل
سنة فهو من جهة الأدلة الخاصة، لا من ناحية دلالة الأمر عليه.
وهذا بخلاف ما إذا فرض تعلق النهي بتلك الطبائع، فإن مقتضى الإطلاق
الثابت فيها بمقدمات الحكمة هو الإطلاق الشمولي لخصوصية في تعلق النهي بها،
وهي: أنه لا يمكن أن يريد المولى حرمان المكلف عن بعض أفرادها، لأنه
حاصل، ولا معنى للنهي عنه، وإرادة حصة خاصة منها بحسب الأفراد العرضية
أو الطولية تحتاج إلى دليل، وحيث إنه لا دليل عليها فقضية الإطلاق لا محالة
هي العموم الشمولي.
وقد تحصل من ذلك: أن مقتضى الإطلاق في الأوامر سواء كان الإطلاق من
تمام الجهات - أعني بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية - أو من بعض
الجهات كما إذا كان لها إطلاق بالإضافة إلى الأفراد العرضية دون الطولية
110

أو بالعكس هو الإطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي النواهي كذلك الإطلاق
الشمولي.
كما أن الأمر كذلك في الأحكام الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلية: كالطهارة
والنجاسة ولزوم العقد وحلية البيع وما شاكل ذلك، فإن مقتضى جريان مقدمات
الحكمة فيها هو الإطلاق الشمولي، وانحلال تلك الأحكام بانحلال متعلقاتها
وموضوعاتها في الخارج.
عدة نقاط فيما ذكرناه:
الأولى: أنه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع - كما مر.
الثانية: أنه لا فرق بينهما بحسب المتعلق، فما تعلق به النهي بعينه هو متعلق
الأمر كما عرفت.
الثالثة: أن الأساس الرئيسي لامتياز النهي عن الأمر إنما هو في مقام الإثبات
والدلالة، حيث إن نتيجة مقدمات الحكمة في طرف الأمر الإطلاق البدلي وصرف
الوجود، وفي طرف النهي الإطلاق الشمولي.
الرابعة: أن مبدأ انبثاق هذا الامتياز إنما هو خصوصية في نفس الأمر المتعلق
بشئ، والنهي المتعلق به كما سبق.
ثم إن ما ذكرناه من الاختلاف في نتيجة مقدمات الحكمة باختلاف
الخصوصيات جار في الجمل الخبرية أيضا، فإن نتيجة مقدمات الحكمة فيها أيضا
تختلف باختلاف خصوصيات المورد.
مثلا: في مثل قولنا: " جاء رجل " نتيجة تلك المقدمات الإطلاق البدلي، وفي
مثل قولنا: " لا رجل في الدار " نتيجتها الإطلاق الشمولي، مع أن كلمة " رجل "
في كلا المثالين قد استعملت في معنى واحد، وهو الطبيعي الجامع، ولكن
لخصوصية في كل منهما تقتضي كون الإطلاق في أحدهما بدليا، وفي الآخر
شموليا، وبتلك الخصوصية يمتاز أحدهما عن الآخر.
111

وبيان ذلك: أما كون النتيجة في المثال الأول بدليا فلأجل أنه لا يمكن أن
يريد المتكلم الإخبار عن مجئ كل من ينطبق عليه عنوان الرجل، لأنه خلاف
الواقع. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لم ينصب قرينة على الإخبار عن مجئ شخص
خاص.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو:
كونه أراد الإخبار عن مجئ فرد ما من الرجل وصرف وجوده، فهذه الخصوصية
أوجبت كون نتيجة المقدمات فيه بدليا.
وأما في المثال الثاني فباعتبار أنه لا يمكن أن يريد منه الإخبار عن عدم
وجود رجل واحد في الدار ووجود البقية فيها، بداهة أن هذا المعنى في نفسه غير
معقول، كيف؟ ولا يعقل وجود جميع رجال العالم في دار واحدة. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنه لم يقيده بحصة خاصة دون أخرى.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أن المتكلم أراد الإخبار بنفي وجود
كل فرد من أفراد الرجل عن الدار، ضرورة أنه لو كان واحد من أفراده فيها
لا يصدق قوله: " لا رجل في الدار "، ولصدق نقيضه.
ومن هذا القبيل أيضا قولنا: " لا أملك شيئا "، فإن كلمة " شئ " وإن استعملت
في معناها الموضوع له - وهو: الطبيعي الجامع بين جميع الأشياء - إلا أن مقتضى
الإطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه
عنوان الشئ، لا نفي فرد ما منه ووجود البقية عنده، فإن هذا المعنى باطل في
نفسه فلا يمكن إرادته منه.
ومن هذا القبيل أيضا قوله (عليه السلام): " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " (1) وما
شاكل ذلك، فإنه لا يمكن أن يراد منه نفي ضرر ما في الشريعة المقدسة، لأنه

(1) راجع الوسائل: ج 25 ص 427 ب 12 من أبواب إحياء الموات ح 1 طبع مؤسسة آل البيت (عليه السلام).
112

لغو محض فلا يصدر من الحكيم. فإذا لا محالة: إما أن يراد نفي جميع أفراده،
أو نفي بعضها الخاصة. وحيث إن الثاني يحتاج إلى قرينة تدل عليه فمقتضى
الإطلاق هو الأول، وهو إرادة نفي الجميع.
وكذا قوله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " (1) وقوله (عليه السلام):
" لا صلاة إلا بطهور " (2)، وقوله (عليه السلام): " لا سهو للإمام إذا حفظ عليه من خلفه،
ولا سهو للمأموم إذا حفظ عليهم الإمام " (3) وغير ذلك من الجملات، سواء كانت
في مقام الإخبار أو الانشاء - أي سواء كانت كلمة " لا " النافية بمعناها أو بمعنى
النهي - فإنه على كلا التقديرين مقتضى الإطلاق فيها هو العموم الشمولي دون
البدلي، وذلك ضرورة أنه لا يمكن أن يريد المولى من النفي أو النهي نفي فرد ما
أو النهي عنه، لأنه لغو محض فلا يصدر من الحكيم.
فإذا لا محالة يدور الأمر بين أن يراد منه نفي جميع أفراد الطبيعة، أو النهي
عن جميعها، أو نفي بعضها المعين، أو النهي عنه كذلك.
وحيث إن إرادة الثاني تحتاج إلى قرينة فإذا لم تكن قرينة في البين يتعين
إرادة الأول لا محالة. وهذا معنى كون نتيجة مقدمات الحكمة فيها شموليا، وأنها
تكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت.
عدة خطوط فيما ذكرناه.
الأول: أن النهي موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى حرمان المكلف عن
الفعل في الخارج، كما أن الأمر موضوع للدلالة على إبراز اعتبار المولى الفعل
على ذمة المكلف. ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة والأمر بالوجوب باعتبار
دلالة الأول على حرمان المكلف عن الفعل، والثاني على ثبوته في ذمته.

(1) البقرة: ص 197.
(2) الوسائل: ج 1 ص 365 ب 1 من أبواب الوضوء ح 1.
(3) الوسائل: ج 8 ص 241 ب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 8.
113

الثاني: أن حقيقة النهي هو ذلك الأمر الاعتباري، كما أن حقيقة الأمر كذلك،
وأنهما اسمان للمؤلف من ذلك الأمر الاعتباري وإبرازه في الخارج بمبرز.
الثالث: أن متعلق النهي بعينه هو ما تعلق به الأمر، فلا فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا. وأما ما هو المعروف من أن متعلق النهي الترك ونفس " أن لا تفعل "
فلا أصل له كما سبق.
الرابع: أن النقطة الأساسية للفرق بين الأمر والنهي: هي أن نتيجة مقدمات
الحكمة في طرف الأمر الإطلاق البدلي وصرف الوجود، وفي طرف النهي
الإطلاق الشمولي وتمام الوجود.
الخامس: أنه لا فرق بين الأمر والنهي بحسب مقام الثبوت والواقع على
وجهتي كلا النظرين، أعني: وجهة نظرنا ووجهة نظر المشهور، وذلك لأنهما لا
تخلوان: - بحسب الواقع - من أن يكونا مجعولين للطبيعة على نحو العموم البدلي،
أو الاستغراقي، أو المجموعي، فلا رابع في البين. ومن المعلوم أنه لا فرق بينهما
من هذه النواحي أصلا كما تقدم.
السادس: أن النهي يختلف مع الأمر في المعنى الموضوع له، ويتحد معه
بحسب المتعلق على وجهة نظرنا. وأما على وجهة نظر المشهور فمتعلق الطلب في
النهي الترك، وفي الأمر الوجود. نعم، متعلق نفس الأمر والنهي معا الفعل والوجود.
السابع: أنه لا فرق بين عدم الطبيعة ووجودها، فكما أن عدمها على نحو
القضية الكلية يتوقف على عدم جميع ما يمكن أن تنطبق عليه هذه الطبيعة في
الخارج فكذلك وجودها على هذا النحو يتوقف على وجود جميع ما يمكن
انطباق تلك الطبيعة عليه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا. وأما وجودها على
نحو القضية الجزئية فهو وإن تحقق بوجود فرد ما منها إلا أن عدمها كذلك أيضا
يتحقق بعدم فرد ما منها، فلا خصوصية من هذه الجهة للوجود، بل هما من هذه
الناحية على نسبة واحدة.
ومن هنا قلنا: إن مقابل كل وجود من وجودات الطبيعة عدم من أعدامها،
114

وهو بديله ونقيضه، ولذا ذكرنا أنه لا مقابلة بين الطبيعة التي توجد بوجود فرد منها
والطبيعة التي تنتفي بانتفاء جميع أفرادها.
الثامن: أن نتيجة جريان مقدمات الحكمة تختلف باختلاف خصوصيات
الموارد، فإن نتيجتها في الأوامر المتعلقة بالطبائع الإطلاق البدلي وصرف
الوجود، وفي النواهي المتعلقة بها الإطلاق الشمولي وتمام الوجود. وفي الأحكام
الوضعية المتعلقة بالطبائع الكلية أيضا ذلك، أعني: الإطلاق الشمولي والانحلال.
الجهة الثانية
إن الأمر كما يتعلق بالفعل من ناحية اشتماله على مصلحة لزومية قد يتعلق
بالترك كذلك، وكما أنه على الأول يتصور على صور كذلك على الثاني.
بيان ذلك: هو أن المصلحة القائمة بالفعل لا تخلو: من أن تقوم بصرف
وجودها في الخارج، أو بتمام وجوداتها على نحو العموم الاستغراقي، أو على
نحو العموم المجموعي، أو بعنوان بسيط متحصل من الوجودات الخارجية.
فعلى الأول يكون المطلوب هو صرف وجود الطبيعة المتحقق بأول
وجوداتها.
وعلى الثاني يكون المطلوب هو جميع وجوداتها على نحو الانحلال.
وعلى الثالث يكون المطلوب هو مجموع تلك الوجودات بطلب واحد
شخصي.
وعلى الرابع يكون المطلوب هو ذلك العنوان البسيط، وأما الوجودات
الخارجية فهي محصلة له.
وكذا الحال في المصلحة القائمة بالترك، فإنها لا تخلو - بحسب مقام الثبوت
والواقع - من أن تكون قائمة بصرف ترك الطبيعة، أو بتمام تروكها على نحو العام
الاستغراقي، أو بتمامها على نحو العام المجموعي، أو بعنوان بسيط متولد من هذه
التروك الخارجية، ولا خامس لها.
115

فعلى الأول: المطلوب هو صرف الترك، وهو يحصل بترك فرد ما من الطبيعة
في الخارج، فيكون حاله حال ما إذا كان المطلوب هو صرف الوجود.
وعلى الثاني: المطلوب هو كل ترك من تروكها على نحو الاستقلال، بحيث
يكون كل منها متعلقا للحكم مستقلا مع قطع النظر عن تعلق الحكم بالآخر، فحاله
من هذه الناحية حال ما إذا كان المطلوب هو إيجاد الطبيعة على نحو الإطلاق
والانحلال.
وعلى الثالث: المطلوب هو مجموع التروك من حيث هو بطلب واحد
شخصي، بحيث يكون تعلق الحكم بكل منها مربوطا بتعلقه بالآخر، فيكون حاله
حال الصورة الثالثة من هذه الناحية.
وعلى الرابع: المطلوب هو ذلك العنوان البسيط، وأما التروك الخارجية فهي
محصلة له، فيكون حاله من هذه الجهة حال الصورة الرابعة.
ثم إنه لا يخفى أن مرد هذه الصور الأربع جميعا إلى إيجاب الترك، كما أن مرد
الصور الأربع الأولى إلى إيجاب الفعل، ولا يرجع شئ من تلك الصور إلى المنع
عن الفعل وحرمته واقعا وإن فرض ورود الدليل عليه بصورة النهي.
والوجه في ذلك واضح، وهو ما ذكرناه من أن النهي عن شئ ينشأ عن
اشتماله على مفسدة لزومية، وهي تدعو المولى إلى اعتبار حرمان المكلف عنه،
ولا ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه. وإلا لزم أن يكون تركه واجبا، لا أن يكون
فعله حراما، ضرورة أنه لا مقتضي لاعتبار حرمان المكلف عنه أصلا بعد ما لم
تكن فيه مفسدة أصلا، بل اللازم عندئذ هو اعتبار تركه في ذمته من جهة اشتماله
على مصلحة ملزمة.
وهذا بخلاف النهي الوارد في المقام، فإنه غير ناش عن مفسدة في الفعل،
بداهة أنه لا مفسدة فيه أصلا بل نشأ عن قيام مصلحة في تركه، وهي داعية إلى
إيجابه واعتباره في ذمة المكلف.
وبكلمة واضحة: أن المولى كما يعتبر الفعل على ذمة المكلف باعتبار اشتماله
116

على مصلحة إلزامية ويبرزه في الخارج بمبرز - كصيغة الأمر أو ما شاكلها - قد
يعتبر الترك على ذمته باعتبار قيام مصلحة لزومية فيه ويبرزه في الخارج بمبرز
ما، سواء كان إبرازه بقول أم بفعل، وسواء كان بصيغة الأمر وما شابهها أم بصيغة
النهي، ضرورة أن اختلاف أنحاء المبرز - بالكسر - لا يوجب الاختلاف في المبرز
- بالفتح - أصلا فإنه واحد، وهو اعتبار المولى الترك في ذمته، كان مبرزه قولا
أو فعلا، كان بصيغة الأمر أو النهي، وهذا واضح.
ونتيجة ذلك: هي أن الأمر ناش عن قيام مصلحة إلزامية في متعلقه، سواء أكان
متعلقه فعل شئ أم تركه، كما أن النهي ناش عن قيام مفسدة إلزامية في متعلقه
كذلك.
والسر فيه: ما عرفت من أن حقيقة الأمر هو اعتبار المولى الشئ على ذمة
المكلف من جهة وجود مصلحة ملزمة فيه. ومن المعلوم أنه لا يفرق بين اعتباره
فعل شئ على ذمته أو تركه، كما أنه لا يفرق بين أن يكون مبرز ذلك الأمر
الاعتباري في الخارج فعلا أو قولا. وحقيقة النهي اعتباره حرمان المكلف عن
الشئ باعتبار وجود مفسدة ملزمة فيه. ومن الواضح جدا أنه لا يفرق بين اعتباره
حرمانه عن فعل شئ، أو اعتباره حرمانه عن ترك شئ.
وقد تحصل من ذلك، أن هذا هو الميزان الأساسي لتمييز حقيقة النهي عن
حقيقة الأمر، وليست العبرة في ذلك بالمبرز - بالكسر - أصلا، ضرورة أنه لا شأن
له ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي، ولا خصوصية له أبدا.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال النواهي الواردة في أبواب العبادات:
منها: ما ورد في خصوص باب الصلاة كموثقه سماعة، قال: سئل أبو
عبد الله (عليه السلام) عن جلود السباع؟ فقال: " اركبوها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون
فيه " (1) وما شاكلها من الروايات الدالة على ذلك.

(1) راجع الوسائل: ج 4 ص 353 ب 5 من أبواب لباس المصلي ح 3 و 4.
117

وصحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة
إذا دبغ؟ (1) قال (عليه السلام): " لا، ولو دبغ سبعين مرة ".
وصحيحة محمد بن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الميتة،
قال: " لا تصل في شئ منه حتى في شسع " (2).
وقوله (عليه السلام): " لا تصل فيه حتى تغسله " (3). وما شاكل ذلك من الروايات، فإن
هذه الروايات وإن كانت واردة بصورة النهي إلا أنها - في الحقيقة - إرشاد إلى
مانعية تلك الأمور عن الصلاة وتقيد الصلاة بعدمها، لأجل مصلحة كانت في هذا
التقييد، لا لأجل مفسدة في نفس تلك الأمور حال الصلاة، ضرورة أنه ليس لبس
ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرمات في الشريعة المقدسة.
نعم، الإتيان بالصلاة عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرم، وهذا خارج عن محل
الكلام، فإن الكلام في حرمة هذه القيود، لا في حرمة الصلاة، على أن الكلام في
الحرمة الذاتية، لا في الحرمة التشريعية، والفرض: أن هذه الحرمة حرمة تشريعية.
فإذا لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.
وعلى الجملة: ففي أمثال هذه الموارد ليس في الواقع وعند التحليل العلمي
إلا اعتبار الشارع تقييد الصلاة بعدم تلك الأمور من جهة اشتمال هذا التقييد على
مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز كهذه النواهي أو غيرها.
ومن هنا تدل تلك النواهي على مطلوبية هذا التقييد ومانعية تلك الأمور عن
الصلاة، ضرورة أنا لا نعني بالمانع إلا ما كان لعدمه دخل في المأمور به، وهذا
معنى كون هذه النواهي إرشادا إلى مانعية هذه الأمور وتقيد الصلاة بعدمها، هذا
كله فيما إذا كان الترك مأمورا به بالأمر الضمني.
وقد يكون الترك مأمورا به بالأمر الاستقلالي، بأن يعتبره المولى على ذمة
المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة ملزمة، ويبرزه في الخارج بمبرز، سواء كان

(1) الوسائل: ج 4 ص 343 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(2) الوسائل: ج 4 ص 343 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(3) الوسائل: ج 3 ص 490 ب 50 من أبواب النجاسات ح 1.
118

ذلك المبرز صيغة أمر أم نهي، لما عرفت من أنه لا شأن للمبرز - بالكسر - أصلا ما
عدا إبرازه ذلك الأمر الاعتباري في الخارج، والعبرة إنما هي للمبرز - بالفتح -،
فإنه إذا كان ناشئا عن مصلحة في متعلقه - سواء كان متعلقه فعلا أم تركا - فهو أمر
حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة النهي، وإذا كان ناشئا عن مفسدة في
متعلقه كذلك فهو نهي حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أو ما يشبهها.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن الأمر المتعلق بالترك على قسمين:
أحدهما: أنه أمر ضمني متعلق بعدم إيجاد شئ في العبادات أو المعاملات.
وثانيهما: أنه أمر استقلالي متعلق بعدم إيجاد شئ مستقلا.
أما القسم الأول فهو بمكان من الكثرة في أبواب العبادات والمعاملات.
وأما القسم الثاني فهو قليل جدا. نعم، يمكن أن يكون الصوم من هذا القبيل،
باعتبار أن حقيقته: عبارة عن ترك عدة أمور: كالأكل والشرب والجماع
والارتماس في الماء ونحو ذلك، وليست عبارة عن عنوان وجودي بسيط متولد
من هذه التروك في الخارج. فإذا الأمر بالصوم ناش عن قيام مصلحة ملزمة في
هذه التروك، ولم ينشأ عن قيام مفسدة كذلك في فعل هذه الأمور، ولذا يقال: إن
الصوم واجب، ولا يقال: إن فعل المفطرات محرم.
وعليه فلا محالة يكون مرد النهي عن كل من الأكل والشرب والجماع
والارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إلى اعتبار تروك هذه الأمور على ذمة
المكلف باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيها. فالنهي عن كل واحد منها إرشاد إلى
دخل تركه في حقيقة الصوم، وأنه مأمور به بالأمر الضمني.
فالنتيجة: هي أن مجموع هذه التروك مأمور به بالأمر الاستقلالي، وكل منها
مأمور به بالأمر الضمني.
ومن هذا الباب أيضا تروك الإحرام في الحج، فإن كلا منها واجب على
المكلف وثابت في ذمته، وليس بمحرم، ضرورة أن النهي عنه غير ناش عن قيام
مفسدة إلزامية في فعله، بل هو ناش عن قيام مصلحة ملزمة في نفسه، بمعنى:
119

أن الشارع قد اعتبر ترك كل من محرمات الإحرام على ذمة المكلف، وأبرزه في
الخارج بمبرز، كصيغة النهي أو ما شاكلها.
ومن الواضح جدا أنه ليس هنا نهي حقيقة، بل أمر في الحقيقة والواقع تعلق
بترك عدة من الأفعال في حال الإحرام. فيكون ترك كل منها واجبا مستقلا على
المكلف.
وقد تقدم ما هو ملاك افتراق الأمر والنهي، وأنه ليس في المبرز بالكسر، لما
عرفت من أنه لا شأن له أصلا ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي، وهما:
اعتبار الشارع فعل شئ أو تركه في ذمة المكلف، واعتباره حرمانه عن فعل شئ
أو تركه.
فالأول: أمر، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة أمر أم صيغة نهي.
والثاني: نهي كذلك، أي سواء أكان مبرزه فيه صيغة نهي أم أمر.
نعم، فيما إذا كان مبرز الأمر خارجا صيغة النهي يصح أن يقال: إنه أمر واقعا
وحقيقة، ونهي صورة وشكلا.
ومن هنا يظهر: أن تعبير الفقهاء عن تلك الأفعال بمحرمات الإحرام مبني
على ضرب من المسامحة والعناية، وإلا فقد عرفت أنها ليست بمحرمة، بل تركها
واجب.
وكيف كان فلا إشكال في أن هذا القسم قليل جدا في أبواب العبادات
والمعاملات، دون القسم الأول، وهو: ما إذا كان الترك متعلقا للأمر الضمني.
وبتعبير آخر: أن الواجبات الضمنية على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يكون بنفسه متعلقا للأمر.
الثاني: ما يكون التقيد بوجوده متعلقا له.
الثالث: ما يكون التقيد بعدمه متعلقا له. ولا رابع لها.
والأول: هو الأجزاء، لفرض أن الأمر متعلق بأنفسها.
والثاني: هو الشرائط، فإن الأمر متعلق بتقيد تلك الأجزاء بها، لا بنفسها،
120

خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث إنه قد ذهب إلى أن الشرائط كالأجزاء متعلقة
للأوامر الضمنية بنفسها (1)، ولكن قد ذكرنا بطلان ذلك في بحث الواجب المطلق
والمشروط فلا نعيد (2).
والثالث: هو الموانع، فإن الأمر متعلق بتقيد هذه الأجزاء بعدمها.
وبعد ذلك نقول: الكلام هنا يقع في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت والواقع.
الثاني: في مقام الإثبات والدلالة.
أما المقام الأول: فيقع الكلام فيه في موردين:
الأول: في بيان ظهور الثمرة بين الصور المتقدمة في فرض كون الترك متعلقا
للأمر مستقلا.
الثاني: في بيان ظهورها بين تلك الصور في فرض كونه متعلقا للأمر ضمنا.
أما الكلام في المورد الأول: فتظهر الثمرة بين تلك الصور في موضعين:
الأول: فيما إذا فرض أن المكلف قد اضطر إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة
في الخارج كان المطلوب تركها فيه، كأن اضطر إلى إيجاد بعض محرمات الإحرام
في الخارج، أو اضطر إلى ترك الصوم في بعض آنات اليوم.
فعلى الصورة الأولى - وهي ما كانت المصلحة قائمة بصرف تركها - فإن
تمكن المكلف من صرف الترك في هذا الحال وجب عليه ذلك، وإلا فيسقط الأمر
المتعلق به لا محالة، لفرض أنه غير مقدور له.
وبكلمة واضحة: أن الاضطرار المزبور لا يخلو من أن يكون مستوعبا لتمام
وقت الواجب، كما إذا اضطر إلى إيجاد بعض تلك المحرمات إلى آخر وقته،
أو لا يكون مستوعبا له.
فعلى الأول لا محالة يسقط الأمر المتعلق بصرف الترك، لعدم قدرته عليه،

(1) انظر فوائد الأصول ج 1 - 2 ص 228.
(2) راجع ج 2 ص 302.
121

فهو نظير: ما إذا اضطر المكلف إلى ترك الصلاة - مثلا - في تمام وقتها، فإنه
لا إشكال عندئذ في سقوط الصلاة عنه.
وعلى الثاني لا يسقط الأمر عنه بالضرورة، لفرض أن الواجب هو الجامع،
لا خصوص الفرد المضطر إليه، والمفروض أنه مقدور للمكلف، ومعه لا محالة
لا يسقط عنه، فيكون نظير: ما لو اضطر المكلف إلى ترك الصلاة في بعض أوقاتها،
فإنه لا إشكال في أن ذلك لا يوجب سقوط الأمر بالصلاة عنه، لفرض أن الواجب
هو الجامع بين المبدأ والمنتهى، لا خصوص هذا الفرد المضطر إليه أو ذاك،
وهذا واضح.
وعلى الصورة الثانية - وهي ما كانت المصلحة قائمة بتمام تروك الطبيعة
على نحو الانحلال والعموم الاستغراقي - فلابد من الاقتصار على خصوص الفرد
المضطر إليه، ولا يجوز ارتكاب فرد آخر زائدا على هذا الفرد.
والوجه فيه واضح، وهو: أن المجعول في هذه الصورة على الفرض أحكام
متعددة بعدد تروك أفراد هذه الطبيعة في الخارج، فيكون ترك كل واحد منها
واجبا مستقلا ومناطا للإطاعة والمعصية. ومن الظاهر أن الاضطرار إلى ترك
واجب لا يوجب جواز ترك واجب آخر، وفي المقام الاضطرار إلى إيجاد فرد
منها في الخارج لا يوجب جواز إيجاد فرد آخر منها.... وهكذا، ضرورة أن
سقوط التكليف عن بعض منها - لأجل اضطرار أو نحوه - لا يوجب سقوطه عن
آخر، وجواز عصيانه بعد ما كان التكليف المتعلق بكل منهما تكليفا مستقلا غير
مربوط بالآخر، فإنه بلا موجب. ومن المعلوم أن سقوط التكليف بلا موجب
وسبب محال.
وعلى الصورة الثالثة - وهي ما كانت المصلحة قائمة بمجموع التروك
الخارجية على نحو العموم المجموعي - لا محالة يسقط التكليف المتعلق
بالمجموع المركب من هذه التروك، لفرض أنه تكليف واحد شخصي متعلق به،
فإذا فرض أن المكلف لا يقدر عليه لاضطراره إلى إيجاد بعض أفراد هذه الطبيعة
122

في الخارج، ومعه لا يتمكن من ترك هذه الطبيعة فيه بجميع أفرادها وإذا لم يتمكن
منه فلا محالة يسقط التكليف عنه فيكون كما إذا تعلق التكليف بمجموع أفراد هذه
الطبيعة على نحو العموم المجموعي، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، ضرورة
أنه لا فرق في الأحكام المترتبة على العموم المجموعي: بين أن يكون هذا العموم
ملحوظا بين تروك الطبيعة في الخارج، وأن يكون ملحوظا بين وجوداتها
وأفرادها فيه، وهذا واضح.
وعلى ضوء ذلك لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه، بل
يجوز له إيجاد فرد ثان وثالث.... وهكذا، لفرض أن الأمر المتعلق بمجموع تروكها
قد سقط، ومعه لا مانع من إيجاد البقية في الخارج أصلا، إلا إذا فرض قيام الدليل
على وجوب الباقي.
وقد تحصل من ذلك: أن مقتضى القاعدة في أمثال المقام هو: سقوط التكليف
عن المجموع المركب بسقوط جزء منه أو قيده، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل
خارجي، فإن دل دليل من الخارج على وجوبه فهو، وإلا فلا نلتزم به.
وعلى الصورة الرابعة - وهي ما كانت المصلحة قائمة بعنوان وجودي بسيط
متولد من تروك هذه الطبيعة في الخارج - أيضا يسقط التكليف المتعلق به، وذلك
لفرض أن هذا العنوان مسبب عن ترك جميع أفراد هذه الطبيعة خارجا، فإذا فرض
اضطرار المكلف إلى إيجاد بعض أفرادها في الخارج - لا محالة - لا يتحقق ذلك
العنوان المعلول لترك جميعها، لاستحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة.
فالنتيجة من ذلك: هي أن الثمرة تظهر بين الوجه الأول والثاني، كما أنها تظهر
بينهما وبين الوجهين الأخيرين، وأما بينهما - أي بين الوجهين الأخيرين - فلا
تظهر، كما عرفت.
الثاني (1): فيما لو شككنا في فرد أنه من أفراد الطبيعة التي كان المطلوب
تركها أم لا.

(1) أي الموضع الثاني من موضعي ظهور الثمرة، تقدم أولها في ص 127.
123

فعلى الصورة الأولى لا يجب تركه، لفرض أن المطلوب في هذه الصورة
صرف تركها. والمفروض أنه يتحقق بتركها آنا ما، ومعه - أي: مع تركها آنا ما -
يجوز له إيجادها في الخارج في ضمن أفرادها المتيقنة في بقية الآنات والأزمنة،
فضلا عن أفرادها المشكوكة، وهذا ظاهر.
وعلى الصورة الثانية فبما أن مرد الشك في كون هذا الموجود فردا له أوليس
بفرد له إلى الشك في تعلق التكليف به فلا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة
عنه، لفرض أنه شك في تكليف مستقل، وهو القدر المتيقن من موارد الرجوع إليها.
وعلى الصورة الثالثة فبما أن المورد داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين فلا محالة يرتكز جريان البراءة فيه، وعدم جريانها على القول
بجريان البراءة وعدمه في تلك المسألة فإن قلنا فيها بجريان أصالة البراءة عن
وجوب الأكثر العقلية والنقلية فنقول بها كذلك في المقام أيضا، وإن لم نقل به فيها
فلا نقول هنا أيضا. وحيث إنا قد اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة البراءة عن
وجوبه عقلا وشرعا فلا مناص من الالتزام به في المقام.
وقد ذكرنا هناك: أنه لا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل
بين البراءة الشرعية والعقلية، فالتزم بجريان الأولى دون الثانية (1)، وذلك لأن ما
توهم من المانع عن جريان البراءة العقلية هنا منحصر في أمرين لا ثالث لهما.
أحدهما: دعوى أن العلم الإجمالي هنا غير منحل.
ثانيهما: دعوى وجوب تحصيل الغرض في المقام. ومن الواضح جدا أن
كلا منهما لو تم فكما أنه مانع عن جريان البراءة العقلية فكذلك مانع عن جريان
البراءة الشرعية، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
بيان ذلك ملخصا: هو أنه لو بنينا على أن انحلال العلم الإجمالي في المقام
يبتني على أن يثبت جريان البراءة الشرعية عن جزئية المشكوك فيه تعلق

(1) كفاية الأصول: ص 413 - 416.
124

التكليف بالأقل على نحو الإطلاق وعدم دخل الجزء المشكوك فيه في الواجب
لم يمكن إثباته بإجراء أصالة البراءة الشرعية عنها، وذلك لما ذكرناه غير مرة: من
أن الإطلاق - كالتقييد - أمر وجودي، فإن الأول: عبارة عن لحاظ الطبيعة
لا بشرط، والثاني: عبارة عن لحاظها بشرط شئ. ومن المعلوم أنهما أمران
متضادان، فإذا دار أمر التكليف بين تعلقه بالطبيعة على النحو الأول وتعلقه بها
على النحو الثاني فأصالة البراءة عن تعلقه بها على النحو الثاني لا تثبت تعلقه بها
على النحو الأول - وهو الإطلاق - إلا على القول بالأصل المثبت.
نعم، لو كان الإطلاق أمرا عدميا عبارة عن عدم التقييد فأصالة البراءة عن
التقييد تثبت الإطلاق، إلا أن هذا الفرض خاطئ وغير مطابق للواقع.
فالنتيجة: هي أن البراءة الشرعية كالعقلية غير جارية.
وكذا لو بنينا على وجوب تحصيل الغرض في المقام، فإنه - عندئذ - لا أثر
لجريان أصالة البراءة عن الجزء المشكوك فيه، لفرض أنها لا تثبت كون الغرض
المعلوم مترتبا على الأقل إلا على القول بالأصل المثبت، ومعه لا محالة نشك
في حصوله بإتيانه. فإذا لابد من الالتزام بإتيان الأكثر ليعلم بحصوله وتحققه
في الخارج.
ونتيجة ذلك: هي عدم جريان البراءة الشرعية كالعقلية، من دون فرق بينهما
من هذه الناحية أصلا.
ولكن قد ذكرنا في محله: أن شيئا من الأمرين لا يكون مانعا عن إجراء
البراءة الشرعية والعقلية. أما العلم الإجمالي فقد ذكرنا هناك: أن انحلاله لا يتوقف
على إثبات الإطلاق. ليقال: إن البراءة عن التقييد لا تثبت الإطلاق، بل يكفي في
انحلاله جريان البراءة في أحد الطرفين بلا معارض، لعدم جريانها في الطرف
الآخر. والمفروض: أن الأمر في المقام كذلك، وذلك لأن البراءة لا تجري عن
الإطلاق، لفرض أنه توسعة للمكلف، ولا ضيق فيه أصلا.
125

ومن المعلوم أن البراءة - سواء أكانت شرعية أم عقلية - إنما ترفع الضيق
عن المكلف والكلفة عنه ليكون في رفعه منة عليه، والفرض أنه لا كلفة ولا ضيق
في طرف الإطلاق أصلا، فإذا تجري البراءة عن التقييد بلا معارض.
ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين البراءة الشرعية والعقلية، بل كلتاهما تجري
بملاك واحد، وهو أن التقييد بما أن فيه كلفة زائدة ولم يقم بيان عليها من قبل
الشارع - والإطلاق لا كلفة فيه - فلذا لا مانع من جريان البراءة عنه مطلقا. أما
البراءة الشرعية فواضح. وأما البراءة العقلية فلتحقق موضوعها هنا، وهو عدم
البيان، ومعه لا محالة تجري كما هو ظاهر. فإذا لا وجه للتفرقة بينهما أصلا.
وأما الغرض فلفرض أنه لا يزيد عن التكليف، بل حاله حاله، وذلك لما
ذكرناه مرارا من أنه لا طريق لنا إلى إحرازه في مورد مع قطع النظر عن ثبوت
التكليف فيه. وعليه، فلا محالة تدور سعة إحراز الغرض وضيقه مدار سعة التكليف
وضيقه، فلا يعقل أن يكون الغرض أوسع منه.
وعلى هذا فبما أن التكليف المتعلق بالأكثر غير واصل إلى المكلف - لما
عرفت من انحلال العلم الإجمالي - فلا محالة يكون الغرض المترتب عليه في
الواقع أيضا غير واصل، لفرض أن وصوله تابع لوصول التكليف، فإذا فرض أن
التكليف لم يصل فالغرض أيضا كذلك.
ومن الظاهر أنه لا يجب تحصيل مثل هذا الغرض لا بحكم العقل، ولا بحكم
الشرع، لفرض أنه لا يزيد عن التكليف، والمفروض في المقام أنه لا يجب امتثال
هذا التكليف من جهة عدم تنجزه ووصوله. فإذا لا مانع من قبل وجوب تحصيل
الغرض من إجراء البراءة عن وجوب الأكثر شرعا وعقلا، كما هو واضح.
وأما التكليف المتعلق بالأقل فبما أنه واصل إلى المكلف ومنجز فلا محالة
يكون الغرض المترتب عليه واصلا أيضا، ومعه يجب تحصيله، كما يجب امتثال
التكليف المتعلق به.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن الغرض المترتب على الأكثر بما أنه مشكوك فيه من
126

جهة ولم يقم برهان عليه من جهة أخرى فلا محالة لا يمنع عن جريان البراءة
عن وجوبه.
ومن ذلك يظهر: أنه لا فرق بين البراءة الشرعية والعقلية، فإنه كما لا يمنع
عن جريان الأولى كذلك لا يمنع عن جريان الثانية، ضرورة أن مانعيته إنما هي
في فرض كون تحصيله واجبا بحكم العقل. وقد عرفت: أن العقل لا يحكم
بوجوب تحصيله، إلا فيما إذا وصل إلى المكلف لا مطلقا.
فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفكيك بين البراءة الشرعية
والعقلية في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين (1) لا يمكن المساعدة عليه بوجه،
وتمام الكلام هناك.
وأما الكلام في المقام (2) الثاني - وهو بيان الثمرة بين الصور المتقدمة في
فرض كون الترك متعلقا للوجوب الضمني - فأيضا تظهر الثمرة بينها في موردين:
الأول: فيما إذا اضطر المكلف إلى إيجاد بعض أفراد الطبيعة كان المطلوب
تركها في الخارج في ضمن واجب كالصلاة - مثلا - أو نحوها، كما إذا اضطر
إلى لبس الثوب المتنجس، أو الميتة، أو ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.
فعلى الصورة الأولى بما أن المطلوب هو صرف ترك هذه الطبائع في ضمنها
وأنها متقيدة به فلا محالة يحصل المطلوب بترك فرد ما منها في الخارج، ولا يجب
عليه ترك بقية أفرادها، وذلك كما عرفت: من أن صرف الترك كصرف الوجود،
فكما أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجودات فكذلك صرف الترك يتحقق بأول
التروك، فإذا حصل صرف الترك بأول الترك حصل الغرض، ومعه يسقط الأمر.
فإذا لا أمر بترك بقية أفرادها، بل لا مقتضي له، لفرض أنة قائم بصرف الترك
لا بمطلقه، كما أن عصيانه يتحقق بإيجاد أول فرد منها في الخارج في ضمن
الصلاة ولو في آن.

(1) كفاية الأصول: ص 413 - 316.
(2) كذا، والمناسب: المورد الثاني، تقدم أوله في ص 127.
127

وعلى الجملة: فعلى هذه الصورة يكفي في صحة الصلاة ترك هذه الطبائع فيها
آنا ما، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بالصلاة، بل لا مقتضي له.
ويترتب على ذلك: أن المانع عنها في هذه الصورة إنما هو وجود هذه الطبائع
في تمام آنات الاشتغال بها، ولا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات أصلا.
والسر فيه واضح، وهو: أن المطلوب حيث كان صرف ترك هذه الطبائع في
الصلاة فمن المعلوم أنه يتحقق بترك لبسها آنا ما فيها وإن لم يترك في بقية آنات
الاشتغال بها، لصدق صرف الترك عليه، ومعه يحصل المطلوب ويسقط الأمر
لا محالة، ولا زم ذلك: هو أن المانع لبس هذه الأمور في جميع آنات الصلاة،
وهذا واضح.
وعلى الصورة الثانية - وهي كون المطلوب ترك جميع أفراد هذه الطبائع في
الصلاة على نحو الانحلال والعام الاستغراقي - وجب الاقتصار على خصوص
الفرد المضطر إليه، وذلك لفرض أن الصلاة على هذا متقيدة بترك كل فرد من
أفرادها في الخارج على نحو الاستقلال، ولازم ذلك هو: أن وجود كل منها مانع
مستقل عنها، فلا تكون مانعيته مربوطة بمانعية فرد آخر.... وهكذا.
وبكلمة أخرى: حيث إن المفروض في هذه الصورة: هو أن ترك كل واحد من
أفراد هذه الطبائع مطلوب على نحو الاستقلال فلا محالة يكون وجود كل منها
مانعا مستقلا، ضرورة أنا لا نعني بالمانع إلا ما يكون عدمه دخيلا في الواجب.
وعلى هدى ذلك فإذا فرض أن المكلف اضطر إلى إيجاد فرد من أفرادها
وجب عليه الاقتصار على خصوص هذا الفرد المضطر إليه، ولا يسوغ له إيجاد
فرد آخر منها، فلو أوجده لبطلت صلاته، لفرض أن ترك كل منهما مطلوب مستقلا،
وأنه زيادة في المانع.
ويترتب على ما ذكرناه أنه يجب التقليل في أفراد تلك الطبائع بالمقدار
الممكن، ويلزم الاقتصار على قدر الضرورة، ولا يجوز ارتكاب الزائد.
وذلك كما إذا فرض نجاسة طرفي ثوب المكلف - مثلا - وفرض أنه متمكن
128

من إزالة النجاسة عن أحد طرفيه دون الطرف الآخر، كما إذا كان عنده ماء بمقدار
يكفي لإزالة النجاسة عنه دون الآخر ففي مثل ذلك يجب عليه تقليل النجاسة
وإزالتها عن أحد طرفي ثوبه، لفرض أن كل فرد منها مانع مستقل، وترك كل فرد
منها مطلوب كذلك، فإذا فرض أن المكلف اضطر إلى إيجاد مانع فلا يجوز له،
إيجاد مانع آخر... وهكذا، فإن الضرورة تتقدر بقدرها، فلو أوجد فردا آخر زائدا
عليه لكان موجبا لبطلان صلاته.
وكذا إذا فرض نجاسة ثوبه وبدنه معا فعندئذ إذا كان عنده ماء بمقدار يكفي
لإزالة النجاسة عن أحدهما وجبت الإزالة بالمقدار الممكن.
وكذا إذا فرض نجاسة موضع من بدنه وفرض أنه متمكن من إزالة النجاسة
عن بعضها وجبت الإزالة الممكنة.
وكذا الأمر فيما إذا فرض نجاسة موضع من بدنه أو ثوبه ولكنه متمكن من
تقليله بحسب الكم وجب تقليله.... وهكذا.
وعلى الجملة: فالاضطرار إلى إيجاد مانع في الخارج لا يوجب سقوط
الصلاة، لفرض أنها لا تسقط بحال، كذلك لا يوجب سقوط مانعية فرد آخر، لفرض
أن كلا منها مانع مستقل.
ونتيجة ما ذكرناه: هي وجوب التقليل في أفراد النجس، والميتة، وما لا يؤكل،
ونحو ذلك في الصلاة من الأفراد العرضية والطولية بالمقدار الممكن ولزوم
الاقتصار على قدر الضرورة.
بل إن السيد العلامة الطباطبائي (قدس سره) قد أفتى في العروة بوجوب التقليل حكما
فضلا عن التقليل موضوعا، كما إذا فرض تنجس الثوب بملاقاة البول المعتبر في
طهارته تعدد الغسل ولكن كان عنده ماء بمقدار يكفي لغسلة واحدة، أو كان هناك
مانع عن الغسلة الثانية فيجب غسله مرة واحدة، لأنه يوجب تخفيف النجاسة
وزوال المرتبة الشديدة (1).

(1) انظر العروة الوثقى: ج 1 ص 99 أحكام النجاسات المسألة (9) من الفصل الأخير.
129

وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من وجوب تقليل النجاسة حكما لا يتم صغرى
وكبرى.
أما بحسب الصغرى فلما ذكرناه غير مرة من أن الأحكام الشرعية - بشتى
أنواعها وأشكالها - أمور اعتبارية محضة، وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار
من بيده الاعتبار. ومن الطبيعي أن الأمور الاعتبارية لا تتصف بالشدة مرة
وبالضعف مرة أخرى، ضرورة أنهما من الصفات العارضة على الأمور الخارجية
والموجودات التكوينية: كالسواد والبياض وما شاكلهما. وأما الأمور الاعتبارية
فالمفروض أنه ليس لها واقع خارجي ووجود إلا في عالم الاعتبار، فهي لا تتصف
في ذلك العالم إلا بالوجود والعدم، إذ أنها عند اعتبار من له الاعتبار موجودة،
وعند عدم اعتباره معدومة.
وبعد ذلك نقول: إن النجاسة بما أنها حكم شرعي فليس لها واقع موضوعي
ما عدا اعتبار الشارع لها للأشياء بالذات كما في الأعيان النجسة، أو بالعرض كما
في الأعيان المتنجسة، لحكمة دعت إلى ذلك الاعتبار. ومن المعلوم أن هذا
الاعتبار لا يتصف بالشدة والضعف.
فلا يقال: إن اعتبار نجاسة شئ عند ملاقاته للبول شديد واعتبار نجاسته عند
ملاقاته للدم - مثلا - ضعيف، ضرورة أنه لا فرق بين الاعتبارين من هذه الناحية
أصلا، ولا يعقل اتصافهما بالشدة تارة وبالضعف أخرى.
وعلى الجملة: فليس في المقام عند التحليل إلا اعتبار الشارع نجاسة الثوب
- مثلا - عند ملاقاته للبول، واعتبار طهارته عند غسله في الماء مرتين مطلقا، أو
في خصوص الماء القليل على الخلاف في المسألة، فتكون ملاقاته للبول موضوعا
لحكم الشارع بنجاسته، وغسله في الماء مرتين موضوعا لحكمه بطهارته. ومن
الواضح أن الموضوع ما لم يتحقق في الخارج لا يترتب عليه حكمه.
وعلى ضوء ذلك: فلا أثر لتحقق الغسلة الواحدة بالإضافة إلى الحكم بالطهارة
ما لم تتحقق الغسلة الثانية، لفرض أنها جزء الموضوع، ولا أثر له ما لم يتحقق
130

جزؤه الآخر أيضا، وعند تحقق الغسلة الثانية يتحقق الموضوع، فيترتب عليه
حكمه وهو الطهارة في المثال.
كما أنه ربما اعتبر الشارع في حصول الطهارة لشئ خصوصية أخرى زائدا
على غسله بالماء، وهي المسح بالتراب أو نحوه. ولكن من المعلوم أن كل ذلك
لمصلحة يراها الشارع، وليس أمرا جزافا، لاستحالة صدور الجزاف منه.
كما أن من الضروري أنها لا توجب كون اعتبار النجاسة في مثل هذه الموارد
أشد من اعتبارها في غيره من الموارد، لما عرفت من أن الاعتبار - بما هو - لا
يمكن أن يتصف بالشدة والضعف، ضرورة أنهما من صفات وعوارض الأمور
الخارجية، لا الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها في الخارج.
نعم، يمكن اختلاف المعتبر في الشدة والضعف، فيكون المعتبر نجاسة شديدة
لشئ ونجاسة ضعيفة لشئ آخر، كما ورد ذلك في الناصب أنه أنجس من الكلب
والخنزير (1)، إلا أن ذلك أجنبي عن محل البحث وحصول ضعف في نجاسة
المتنجس بغسله مرة واحدة.
وإن شئت فقل: إن الاعتبار - بما هو - وإن كان غير قابل للاتصاف بالشدة
تارة والضعف أخرى إلا أنه لا مانع من اعتبار الشارع نجاسة شديدة لشئ
ونجاسة ضعيفة لآخر بملاك يقتضي ذلك، فإن هذا بمكان من الوضوح، ولكن هذا
غير ما نحن بصدده كما لا يخفى.
وقد يتخيل في المقام أنه لا شبهة في تفاوت الأحكام الشرعية من حيث القوة
والضعف والأهمية وعدمها، ضرورة أنها ليست في رتبة واحدة وعلى نسبة فاردة
كما هو ظاهر. وعليه فكيف يمكن نفي التفاوت بينها وعدم اتصافها بالشدة
والضعف؟
ولكن هذا الخيال خاطئ وغير مطابق للواقع، وذلك لأن مركز نفي الشدة

(1) راجع الوسائل: ج 1 ص 22 ب 11 من أبواب الماء المضاف ح 5.
131

والضعف عن الأحكام الشرعية إنما هو نفس الاعتبار الشرعي بما هو اعتبار.
ومن المعلوم أنه غير قابل للاتصاف بهما أبدا كما مر.
وأما اتصاف الحكم بكونه أهم من آخر وأقوى منه فإنما هو باعتبار الملاك
المقتضي له، بمعنى: أن ملاكه أقوى من ملاكه وأهم منه لا باعتبار نفسه، ضرورة أن
الأحكام الشرعية بملاحظة أنفسها في رتبة واحدة. وعلى نسبة فاردة، فليس هذا
الاعتبار بما هو اعتبار أقوى وأهم من اعتبار آخر... وهكذا، فإذا يكون اتصافها
بالأقوائية والأهمية إنما هو بالعرض والمجاز، لا بالذات والحقيقة، والمتصف بهما
بالذات والحقيقة إنما هو ملاكات تلك الأحكام كما لا يخفى.
وأما بحسب الكبرى فعلى تقدير تسليم الصغرى: - وهي قبول النجاسة
لوصف الشدة تارة ولوصف الضعف تارة أخرى - فلأنه لا دليل على وجوب
تقليل النجاسة عن البدن أو الثوب بحسب الكيف، وذلك لأن الأدلة ناظرة إلى
مانعية الأفراد بحسب الكم، وأن كل فرد من أفراد النجس إذا كان في بدن الإنسان
أو ثوبه مانع عن الصلاة، ولا تكون ناظرة إلى مانعيتها بحسب الكيف، وأن شدتها
زيادة في المانع.
وبتعبير آخر: أن الأدلة تدل على الانحلال الكمي، وأن كل فرد من أفراد هذه
الطبيعة مانع، ولا تدل على أن شدته مانع آخر زائدا على أصله ليجب رفعها عند
الإمكان.
وعليه، فلا فرق بين الفرد الشديد والضعيف في المانعية بالنظر إلى الأدلة،
ولا تكون شدته زيادة في المانع بعد ما كان موجودا في الخارج بوجود واحد.
وعليه فالعبرة في وحدة المانع وتعدده إنما هي بوحدة الوجود خارجا
وتعدده، فإن كان في الخارج موجودا بوجود واحد فهو فرد واحد من المانع وإن
كان وجوده شديدا، وإن كان موجودا بوجودين فهو فردان من المانع... وهكذا.
فالنتيجة هي: أنه لا دليل على وجوب التخفيف الحكمي والكيفي.
وعلى الصورة الثالثة - وهي: ما كان المطلوب مجموع تروك الطبيعة على نحو
132

العموم المجموعي - فلا يجب التقليل والاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن المطلوب في هذه الصورة تقيد الصلاة بترك
مجموع أفراد هذه الطبائع في الخارج على نحو العام المجموعي، وليس ترك كل
منها مطلوبا مستقلا، بل المجموع مطلوب بطلب واحد شخصي.
وعلى هذا فإذا فرض أن المكلف اضطر إلى إيجاد بعض أفراد تلك الطبائع
في الصلاة لا يقدر على إتيان الصلاة مقيدة بالقيد المزبور. وعليه، فلا أثر لإيجاد
فرد آخر غير هذا الفرد المضطر إليه، ضرورة أنه سواء أوجد فردا آخر غيره أم لم
يوجد فلا يقدر على الصلاة مع ذلك القيد.
وإن شئت قلت: إن مرد هذه الصورة إلى أن المانع عن الصلاة إنما هو الوجود
الأول، ضرورة أن معه ينتفي القيد المذكور. ومن المعلوم أنه مع انتفائه لا أثر
للوجود الثاني والثالث... وهكذا، ولا يتصف شئ منهما بالمانعية، لعدم المقتضي
لهذا الاتصاف أصلا كما هو ظاهر. وعلى هذا يجوز له إيجاد فرد آخر بإرادته
واختياره.
ويترتب على ذلك: أنه في الأمثلة المتقدمة لا يجب عليه التقليل، بل له أن
يصلي مع نجاسة ثوبه وبدنه مع فرض تمكنه من تطهير أحدهما وإزالة النجاسة
عنه، بل لو كان عنده ثوبان متنجسان يجوز له أن يصلي فيهما معا عند اضطراره
إلى الصلاة في أحدهما، ولا يجب عليه الاقتصار فيها على أحدهما.
والسر فيه: ما ذكرناه من أن الصلاة متقيدة بمجموع تروك أفراد النجس، أو
الميتة، أو ما لا يؤكل، أو نحو ذلك على نحو العموم المجموعي، ففيها تقييد واحد
بالإضافة إلى مجموع التروك، لا تقييدات متعددة.
وعليه فإذا اضطر المكلف إلى الصلاة في شئ من أفراد هذه الطبائع: كأن
اضطر إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو فيما لا يؤكل أو غير ذلك فلا محالة ينتفي
ذلك القيد، لعدم القدرة على إتيانها معه. ومن الواضح جدا أنه لا يفرق في ذلك بين
أن يقتصر المكلف على خصوص الفرد المضطر إليه أو يأتي بفرد آخر أيضا، كأن
133

يلبس ثوبا متنجسا آخر زائدا على الفرد المضطر إليه باختياره وإرادته، بداهة أنه
لا دخل للفرد الثاني أصلا، فيكون وجوده وعدمه سيان، لفرض أن عدمه
بالخصوص غير دخيل في الواجب، والدخيل فيه إنما: هو عدم المجموع،
والمفروض أن المكلف لا يقدر عليه. فإذا يستحيل أن يتصف الفرد الثاني أو
الثالث بالمانعية، ومعه لا مانع من أن يأتي به باختياره وإرادته أصلا.
كما أن المطلوب لو كان هو صرف الوجود يستحيل أن يتصف الفرد الثاني أو
الثالث بالمطلوبية، وهذا من الواضحات الأولية.
وعلى الصورة الرابعة - وهي: ما كانت الصلاة متقيدة بعنوان وجودي بسيط
متحصل من مجموع تروك هذه الطبائع - فالحال فيها هي الحال في الصورة الثالثة،
بمعنى: أن المكلف إذا اضطر إلى الصلاة في شئ من أفراد هذه الطبائع في الخارج
- كأن اضطر إلى الصلاة في الثوب المتنجس أو الميتة أو ما لا يؤكل - فلا محالة لا
يتحقق العنوان المزبور، ولا يقدر المكلف على الصلاة مع هذا القيد، ضرورة أنه
مسبب عن مجموع تروك الطبعية ومعلول لها، ومع الاخلال بواحد منها - لا
محالة - لا يوجد، بداهة استحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة.
وعلى الجملة: فالصلاة لم تكن متقيدة بنفس تروك تلك الطبائع على الفرض،
بل هي متقيدة بعنوان متولد من تلك التروك في الخارج، فلا شأن لهذه التروك إلا
كونها محصلة لقيد الواجب - وهو الصلاة في مفروض الكلام - ومقدمة لحصوله،
وإلا فهي أجنبية عما هو مراد الشارع، وليست بمطلوبة له، فإذا فرض أن لمجموع
هذه التروك دخلا في تحقق هذا العنوان بحيث يكون دخل كل منها فيه بنحو جزء
السبب والمؤثر لإتمامه فلا محالة ينتفي ذلك القيد بانتفاء واحد منها وانقلابه إلى
الوجود باضطرار أو نحوه.
وعليه فلا أثر لانقلاب ترك الفرد الثاني أو الثالث... وهكذا إلى الوجود أصلا،
وذلك لفرض أن ترك كل منها ليس مطلوبا، والمطلوب إنما هو تقيد الصلاة
بالعنوان المذكور، وهو منتف في هذا الحال، سواء أوجد المكلف فردا آخر زائدا
134

على هذا الفرد المضطر إليه أم لا. فإذا لا يجب الاقتصار على خصوص هذا الفرد،
ويجوز له إيجاد فرد آخر باختياره.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا فرق بين هذه الصورة والصورة الثالثة بحسب
النتيجة، وهي: عدم وجوب الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه.
نعم، بينهما فرق في نقطة أخرى، وهي: أن في الصورة الثالثة كانت الصلاة
متقيدة بنفس التروك الخارجية بعنوان العموم المجموعي، وفي هذه الصورة متقيدة
بعنوان وجودي متحصل منها.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن في الصورة الأولى لا يجب على المكلف إلا ترك
هذه الطبائع، أعني ترك لبس النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة آنا
ما، ولا يلزم تركها في جميع آنات الاشتغال بها، وذلك لما عرفت من أن المطلوب
في هذه الصورة هو صرف تركها، وهو على الفرض يتحقق بتركها آنا ما كما هو
واضح.
وفي الصورة الثانية يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد المضطر إليه،
ولا يجوز له إيجاد فرد آخر زائدا عليه، وإلا لبطلت صلاته، لفرض أنه مانع
مستقل ولم يضطر إليه.
وفي الصورة الثالثة والرابعة لا يجب عليه الاقتصار على خصوص الفرد
المضطر إليه، بل يجوز له إيجاد الفرد الثاني والثالث... وهكذا باختياره.
الثاني (1): ما إذا شككنا في مانعية شئ عن الصلاة - مثلا - لشبهة موضوعية،
فإن كان هناك أصل موضوعي يمكن أن تحرز به المانعية أو عدمها - كما إذا
شككنا في طهارة ثوب أو نجاسته وجرى فيه استصحاب النجاسة أو قاعدة
الطهارة - فلا كلام فيه ولا إشكال. وأما إذا لم يكن هناك أصل موضوعي - كما لو
شككنا في مانعية ثوب عن الصلاة - مثلا - من جهة الشك في أنه متخذ من أجزاء

(1) أي المورد الثاني من موردي ظهور الثمرة في فرض كون الترك متعلقا للوجوب الضمني،
تقدم أولهما في ص 133.
135

ما لا يؤكل لحمه أو غير متخذ منه - ففي مثل ذلك لا أصل موضوعي يحرز به أحد
الأمرين، مع قطع النظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي فيه أو العدم النعتي
المحرز لعدم كونه متخذا من أجزاء ما لا يؤكل.
بيان ذلك هو: أنا إذا بنينا في تلك المسألة - أعني: مسألة اللباس المشكوك
فيه - على جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي فيها بالتقريب الآتي
- كما هو مختارنا في هذه المسألة - فهي خارجة عن مفروض كلامنا، إذ بهذا
الاستصحاب نحرز أن هذا اللباس غير متخذ من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فلا يبقى
لنا شك - عندئذ - في مانعيته أصلا.
أما تقريب جريانه على النحو الأول في هذه المسألة هو: أن مادة هذا الثوب
في زمان لم تكن موجودة يقينا، ضرورة أنها ليست أزلية، وكذا اتصافها بكونها من
أجزاء ما لا يؤكل، لوضوح أنه أمر حادث مسبوق بالعدم ثم وجدت مادته، وبعد
وجودها - لا محالة - نشك في اتصافها بالوصف المزبور، وأن هذا الاتصاف تحقق
في الخارج أم لا، فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم اتصافها به، وبذلك نحرز أن
مادة هذا الثوب ليست من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فإذا لا مانع من الصلاة فيه، إذ
المفروض جواز الصلاة في ثوب لم يكن من أجزاء ما لا يؤكل، وهذا ثوب لم
يكن منها.
أما كونه ثوبا فبالوجدان، وأما أنه ليس من أجزاء ما لا يؤكل فبالتعبد. فبضم
الوجدان إلى الأصل يلتئم موضوع الأثر.
وعلى الجملة: فهنا أمران كلامهما مسبوق بالعدم:
أحدهما: مادة هذا الثوب وأجزاؤه الأصلية.
ثانيهما: اتصافها بكونها من أجزاء ما لا يؤكل.
أما الأمر الأول: فقد تحقق في الخارج ووجدت مادة هذا الثوب.
وأما الأمر الثاني: فهو مشكوك فيه، فإنا نشك في أن تلك المادة والأجزاء هل
وجدت متصفة بهذه الصفة أو لم توجد كذلك؟ فالذي نتيقن به: هو وجود تلك
136

المادة في الخارج، وأما اتصافها بهذه الصفة فهو مشكوك فيه، فلا مانع من الرجوع
إلى استصحاب عدمه، للشك في انتقاض هذا العدم إلى الوجود، فنستصحب بقاءه
على حاله، وبذلك نحرز أن مادة هذا الثوب لم تؤخذ من أجزاء ما لا يؤكل،
فلا مانع - عندئذ - من إيقاع الصلاة فيه. وتمام الكلام في محله (1).
وأما تقريب جريانه على النحو الثاني في هذه المسألة هو: أن مادة هذا الثوب
في زمان كانت موجودة، ولم تكن في ذلك الزمان جزءا لما لا يؤكل وهو زمان
كونها نباتا - مثلا - ثم نعلم بانتقالها من الصورة النباتية وصيرورتها جزءا للحيوان،
ولكن لا نعلم أنها صارت جزءا للحيوان غير المأكول أم لا، وحيث إنا نعلم بعدم
كونها جزءا له في حال كونها نباتا، ثم بعد ذلك نشك في أنها صارت جزءا له أم لا،
فعندئذ لا مانع من استصحاب عدم صيرورتها جزءا له، وبذلك نحرز أن مادة هذا
الثوب ليست من أجزاء ما لا يؤكل.
ودعوى: أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم انتقالها من الصورة
النباتية وصيرورتها جزءا للحيوان المأكول خاطئة جدا، وذلك لأن هذا
الاستصحاب غير جار في نفسه ليعارض الاستصحاب المزبور، لعدم ترتب أثر
شرعي عليه إلا على القول بالأصل المثبت، فإن الأثر الشرعي - وهو صحة
الصلاة - إنما يترتب على عدم كونها جزءا من غير المأكول، لا على كونها جزءا
من المأكول، كما أن بطلانها إنما يترتب على كونها جزءا من غير المأكول، لا على
عدم كونها جزءا من المأكول، وهذا واضح. فإذا لا وجه لهذه الدعوى أصلا.
فالنتيجة: هي أنه بناء على ما حققناه في تلك المسألة من جريان استصحاب
العدم الأزلي فيها أو العدم النعتي بالتقريب المزبور لا تصل النوبة إلى الأصل
الحكمي من أصالة البراءة أو الاشتغال. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه قد مر أن محل الكلام في المقام إنما هو فيما إذا لم يكن
هناك أصل موضوعي.

(1) راجع رسالته (قدس سره) في اللباس المشكوك: ص 47.
137

ويترتب على ضوئهما: أن هذه المسألة - بناء على هذه النظرية - خارجة
عن محل الكلام.
نعم، لو بنينا فيها على عدم جريان هذا الاستصحاب - أعني: استصحاب العدم
الأزلي والعدم النعتي معا - فتدخل المسألة في محل الكلام، ولابد عندئذ من
الرجوع إلى الأصل الحكمي من أصالة البراءة أو الاحتياط. ومن الواضح أنه
يختلف باختلاف الصور المتقدمة.
بيان ذلك: أما على الصورة الأولى فبما أن المطلوب هو صرف ترك لبس
النجس والميتة وما لا يؤكل ونحو ذلك في الصلاة - والمفروض حصوله بترك فرد
ما من هذه الطبائع في الخارج آنا ما حال الصلاة - فعندئذ: إن تمكن المكلف من
ترك هذه الطبائع آنا ما فيها فلا مانع بعد ذلك من إيجاد أفرادها المتيقنة فيها فضلا
عن الأفراد المشكوك فيها. وإن لم يتمكن من تركها آنا ما فيها فلا محالة تبطل
صلاته، لما مر: من أن المانع على هذه الصورة إنما هو وجود هذه الطبائع في تمام
آنات الاشتغال بها، أي: بالصلاة.
وعليه فإذا صلى في هذا الثوب المشكوك فيه بأن لبسه في تمام آنات
الاشتغال بها - كما هو مفروض الكلام - فحينئذ: إن كان هذا الثوب نجسا في الواقع
فهو مانع عنها لا محالة، وإن لم يكن نجسا فلا يكون مانعا، وحيث إنا لا نعلم أنه
نجس أوليس بنجس فطبعا نشك في مانعيته، ولا مانع عندئذ من الرجوع إلى
البراءة عنها - الشرعية والعقلية - بناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة في
مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وأما على الصورة الثانية - وهي: ما كان ترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع
مطلوبا في الصلاة على نحو الاستقلال فالمقام داخل في كبرى مسألة الأقل
والأكثر الارتباطيين، وذلك لأن مرد الشك فيها عندئذ إلى الشك في انطباق
الواجب وهو الصلاة المقيدة بعدم إيقاعها فيما لا يؤكل، والميتة، والنجس، وما
شابه ذلك على الصلاة المأتي بها في هذا الثوب في الخارج، وعدم انطباقه إلا على
خصوص المقيدة بعدم وقوعها في هذا الثوب المشتبه.
138

فعلى الأول: يكون الواجب هو الأقل، وهو المطلق من حيث تقيده بعدم
وقوعه في هذا الثوب وعدم تقيده به.
وعلى الثاني: يكون هو الأكثر، وهو المقيد بعدم وقوعه في هذا الثوب
المشكوك فيه.
وبما أنا لا نعلم أن الواجب في المقام هو الأقل أو الأكثر فيدخل في تلك
المسألة، ويبتنى القول بالرجوع إلى البراءة أو الاحتياط فيه على القول بالرجوع
إلى البراءة أو الاحتياط فيها، وحيث إنا قد اخترنا في تلك المسألة جريان أصالة
البراءة عن وجوب الأكثر - الشرعية والعقلية - فنقول بها في المقام أيضا.
وقد تقدم ملخصا: أن ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من التفصيل بين
البراءة الشرعية والعقلية لا يرجع إلى معنى صحيح.
ويترتب على ما ذكرناه: أنه لا مانع من الصلاة في هذا الثوب المشتبه المردد
بين كونه من المأكول أو غيره. ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا، لأن
مرجع الشك فيها أيضا - عندئذ - إلى الشك في انطباق الواجب - وهو الصلاة في
مفروض الكلام - على هذا الفرد المأتي به في الخارج - وهو الصلاة في هذا الثوب
المشتبه - وعدم انطباقه عليه.
فعلى الأول يكون الواجب هو الأقل، يعني: الطبيعي اللابشرط.
وعلى الثاني: يكون هو الأكثر، يعني: الطبيعي بشرط شئ، وحيث إنا لا نعلم
أن الواجب هو الأقل أو الأكثر فيدخل في كبرى تلك المسألة. وقد عرفت أن
المختار فيها على وجهة نظرنا هو: جريان أصالة البراءة عن التقييد، لأنه كلفة
زائدة، ولم يقم برهان عليها، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه
العقلية والشرعية. وكذا الحال فيما نحن فيه.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا فرق بين الصورة الثانية والصورة الثالثة من هذه
الناحية أصلا، فإن المقام على كلتا الصورتين داخل في كبرى تلك المسألة ويكون
من صغرياتها.
139

نعم، فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: أن الصلاة بناء على الصورة الثانية
متقيدة بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في الخارج على نحو الاستقلال، وبناء
على الصورة الثالثة متقيدة بمجموع تروك أفراد هذه الطبائع في الخارج بنحو
الارتباط. وعليه، فيكون ترك هذا الفرد المشتبه على تقدير كونه نجسا - مثلا - في
الواقع تركا لمانع مستقل على الصورة الثانية، وجزءا من التروك المطلوبة على
الصورة الثالثة.
ومن هنا يظهر: أنه لا ثمرة بين هاتين الصورتين من هذه الناحية أصلا.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أنه مع قطع النظر عما ذكرناه من الأصل الموضوعي
في مسألة اللباس المشكوك فيه يرتكز جواز الصلاة فيه على القول بجريان البراءة
في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا بالبراءة فيها - كما هو الصحيح -
تجوز الصلاة فيه، سواء كانت مانعية ما لا يؤكل لحمه انحلالية أم غير انحلالية.
وإن لم نقل بالبراءة فيها فلا تجوز الصلاة فيه كذلك، أي: سواء كانت مانعيته
انحلالية أم لم تكن.
ومن ذلك يظهر فساد ما قد يتوهم: أن جواز الصلاة في اللباس المشكوك
كونه مما لا يؤكل يبتني على أن تكون ما نعيته انحلالية، وأما إذا لم تكن انحلالية
فلا تجوز الصلاة فيه. ووجه الظهور: ما عرفت من أن مانعيته سواء أكانت انحلالية
أم لم تكن فعلى كلا التقديرين تدخل هذه المسألة - أعني: مسألة اللباس
المشكوك - في كبرى تلك المسألة، أي: مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، فلا
فرق بين الصورتين من هذه الناحية أصلا. وعليه فيبتنى جريان البراءة أو
الاحتياط فيها على جريان البراءة أو الاحتياط في تلك المسألة، لا على
الانحلالية وعدمها، فلا أثر لهما في المقام أصلا.
نعم، إنما يكون أثر لهما - أي: للانحلال وعدمه - في التكاليف الاستقلالية،
لا في التكاليف الضمنية كما في المقام، فإنه لا أثر لكون تروك هذه الطبيعة
ملحوظة على نحو الانحلال في مقام جعل الحكم أو على نحو العموم المجموعي،
فإنها على كلا الفرضين داخلة في كبرى تلك المسألة كما مر.
140

وهذا بخلاف التكاليف الاستقلالية فإنها على نحو تقدير كونها مجعولة
على نحو الانحلال والاستغراق بالإضافة إلى أفراد متعلقاتها فلا إشكال في
جريان أصالة البراءة في موارد الشك في كون شئ فردا لها أولا.
وأما على تقدير كونها مجعولة على نحو الارتباط والعموم المجموعي
بالإضافة إلى أفراد متعلقاتها فيقع جريان البراءة عن كون شئ جزءا لها موردا
للكلام والإشكال بين الأصحاب، وإن كان الصحيح أيضا عدم الفرق بينهما
بحسب النتيجة بناء على ما اخترناه في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين من
جريان البراءة عن وجوب الأكثر إلا أن هذا المقدار من الفرق - وهو: كون جريان
البراءة على التقدير الأول محل الوفاق بينهم، وعلى التقدير الثاني محل الخلاف -
كاف في المقام.
ومن هنا يظهر الفرق بين التروك المتعلقة للأمر الاستقلالي والتروك المتعلقة
للأمر الضمني، فإنها على التقدير الأول تفترق بين ما كانت مأخوذة في متعلق
الأمر على نحو الانحلال والعام الاستغراقي وما كانت مأخوذة فيه على نحو
الارتباط والعام المجموعي.
ويترتب على هذا الافتراق: أن مورد الشك على الفرض الأول غير داخل في
كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، ولا يبتني القول بالرجوع إلى البراءة فيه
على القول بالرجوع إلى البراءة في تلك المسألة، بل ولو قلنا بالاحتياط فيها فمع
ذلك نقول بالبراءة فيه، لفرض أن الشك فيه شك في تكليف مستقل، ومعه لا مانع
من الرجوع إلى البراءة.
وأما المشكوك فيه على الفرض الثاني فهو داخل في كبرى تلك المسألة،
وعليه، فيبتنى جواز الرجوع إلى البراءة فيه، وعدمه على القول بجواز الرجوع إلى
البراءة وعدمه في تلك المسألة.
وأما على التقدير الثاني فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، فإنها على
كلا التقديرين داخلة في كبرى تلك المسألة وتكون من صغرياتها.
141

نعم، بحسب النتيجة بناء على ما ذكرناه -: من أنه لا مانع من الرجوع إلى
البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر في تلك المسألة - لا فرق في التروك
المأخوذة في متعلق الوجوب على نحو الاستقلال: بين كونها مأخوذة على نحو
العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي، فإن النتيجة واحدة على كلا التقديرين،
وهي: البراءة عن وجوب المشكوك فيه، ولا فرق بينهما من هذه الجهة وإن كان
فرق بينهما من جهة أخرى كما تقدم.
وعلى الصورة الرابعة - وهي: ما كان المطلوب عنوانا بسيطا متحصلا من
التروك الخارجية - فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال دون البراءة، على عكس
الصورتين المتقدمتين.
والوجه في ذلك: هو أن الصلاة - مثلا - في هذه الصورة ليست متقيدة بنفس
تروك الطبائع المزبورة في الخارج على الفرض، بل هي متقيدة بعنوان وجودي
بسيط متولد من هذه التروك في الخارج، فتكون تلك التروك محصلة للمطلوب
ومقدمة لوجوده وتحققه فيه، وليست بنفسها مطلوبة.
وعلى هذا فإذا شك في ثوب أنه من أجزاء ما لا يؤكل أولا يرجع الشك فيه
- لا محالة - إلى الشك في تحقق المطلوب وعدمه، فيكون أمر المحصل - عندئذ -
دائرا بين الأقل والأكثر. ومن المعلوم أن البراءة لا تجري هنا عن الأكثر، لفرض
أنه لا أثر له شرعا، والأثر الشرعي إنما يترتب على ذلك العنوان البسيط المشكوك
وجوده. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن ذمة المكلف قد اشتغلت بذلك العنوان يقينا،
والمفروض: أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين: هي أنه لابد من الإتيان بالأكثر ليحصل
القطع بحصول ذلك العنوان البسيط في الخارج، ويقطع ببراءة ذمته عن التكليف
المعلوم.
وهذا بخلاف ما إذا اقتصر على إتيان خصوص الأقل في الخارج، فإنه
142

لا يعلم - عندئذ - بحصول ذلك العنوان البسيط فيه، ولا يقطع ببراءة ذمته عنه.
ومن هنا تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورتين المتقدمتين بناء على ما هو
الصحيح من جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
نعم، لو بنينا في تلك المسألة على عدم جريان البراءة وأن المرجع فيها هو
قاعدة الاشتغال لا غيرها فلا تظهر الثمرة - وقتئذ - بين هذه الصورة وهاتين
الصورتين.
إلا أن هذا الفرض خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا كما تقدم. فإذن تظهر
الثمرة بينهما، كما تظهر الثمرة بين هذه الصورة والصورة الأولى كما هو ظاهر. هذا
تمام الكلام في مقام الثبوت.
أما الكلام في مقام الإثبات والدلالة: فلابد من ملاحظة أدلة مانعية هذه
الأمور وما شاكلها، هل المستفاد منها مانعيتها على النحو الأول أو الثاني أو الثالث
أو الرابع؟
أقول: ينبغي لنا أولا ذكر جملة من الروايات الواردة في باب العبادات
والمعاملات بالمعنى الأعم، ثم نبحث عن أن المستفاد من تلك الروايات ما هو؟
أما الروايات الواردة في باب العبادات فنكتفي بذكر خصوص الروايات
الواردة في باب الصلاة فحسب، وهي كثيرة:
منها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة
إذا دبغ؟ قال (عليه السلام): " لا، ولو دبغ سبعين مرة " (1).
ومنها: صحيحة ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الميتة،
قال (عليه السلام): " لا تصل في شئ منه، ولا في شسع " (2).
ومنها: موثقة سماعة قال: سألته عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال (عليه السلام):
" أما لحومها فمن الطير والدواب فأنا أكرهه، وأما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا

(1) الوسائل: ج 4 ص 343 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
(2) الوسائل: ج 4 ص 343 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 1 و 2.
143

منها شيئا تصلون فيه " (1).
ومنها: موثقة ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في
الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتابا زعم أنه إملاء
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أن الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره
وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في
غيره مما أحل الله أكله ". ثم قال: " يا زرارة، هذا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك
يا زرارة، فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه
وكل شئ منه جائز إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد
نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شئ منه فاسد، ذكاه الذبح أو لم
يذكه " (2).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسكان: " يغسلها ويعيد صلاته " (3).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: " إذا كنت قد رأيته وهو أكثر
من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت فيه " (4).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن جعفر: " وإن اشتراه من نصراني فلا
يصلي فيه حتى يغسله " (5).
ومنها: صحيحة إسماعيل بن سعد الأحوص في حديث قال: سألت أبا الحسن
الرضا (عليه السلام) هل يصلي الرجل في ثوب إبريسم؟ فقال (عليه السلام): " لا " (6).
ومنها قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن عبد الجبار: " لا تحل الصلاة في حرير
محض " (7).
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة عمار بن موسى: " لا يلبس الرجل الذهب

(1) المصدر السابق: ص 353 ب 5 ح 3 و 4.
(2) راجع الوسائل: ج 4 ص 345 ب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.
(3) الوسائل: ج 3 ص 429 ب 19 من أبواب النجاسات ح 3.
(4) المصدر السابق: ص 431 ب 20 ح 6.
(5) المصدر السابق: ص 490 ب 50 ح 1.
(6 و 7) الوسائل: ج 4 ص 367 ب 11 من أبواب لباس المصلي ح 1 - 2.
144

ولا يصلي فيه " (1). ونحوها من الروايات الواردة في هذه الأبواب، الدالة على
مانعية هذه الأمور عن الصلاة، وأن الصلاة المأمور بها هي الحصة الخاصة منها،
وهي الحصة المتقيدة بعدم إيقاعها فيها.
وأما الروايات الواردة في باب المعاملات فأيضا كثيرة.
ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ما كان من طعام سميت
فيه كيلا فلا يصلح بيعه مجازفة " (2).
ومنها: توقيعه (عليه السلام) في مكاتبة الصفار: " لا يجوز بيع ما ليس يملك " (3).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: " لا تشترها إلا برضا أهلها " (4).
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة " لا يصلح إلا أن يشتري معه (العبد الآبق)
شيئا آخر " (5).
وغيرها من الروايات الدالة على المنع عن بيع الخمر (6)، والبيع الربوي (7)،
والبيع الغرري، وبيع النقدين بدون التقابض في المجلس (8)، وبيع المجهول (9)،
وبيع آلات القمار (10)، والغناء (11)، وبيع غير البالغ (12)، وما شاكل ذلك مما يعتبر
عدمه في صحة المعاملة، سواء أكان من أوصاف العوضين، أم كان من أوصاف
المتعاملين، أم كان من غيرهما.

(1) المصدر السابق: ص 413 ب 30 ح 4.
(2) الوسائل: ج 17 ص 341 ب 4 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 و 2 و 3، طبع مؤسسة
آل البيت (عليهم السلام).
(3) المصدر السابق: ص 339 ب 2 ح 1.
(4) المصدر السابق: ص 334 ب 1 ح 3.
(5) المصدر السابق: ص 353 ب 11 ح 2.
(6) راجع الوسائل: ج 17 ص 223 ب 55 من أبواب ما يكتسب.
(7) الوسائل: ج 18 ص 117 ب 1 و 2 و 4 من أبواب الربا.
(8) الوسائل: ج 18 ص 167 ب 2 من أبواب الصرف.
(9) الوسائل: ج 18 ص 33 ب 18 من أبواب الخيار.
(10) الوسائل: ج 17 ص 322 ب 104 من أبواب مما يكتسب به.
(11) الوسائل: ج 17 ص 303 ب 99 و 100 من أبواب مما يكتسب به.
(12) الوسائل: ج 17 ص 360 ب 14 من أبواب عقد البيع.
145

والحري بنا أن نقول في هذا المقام: هو أن هذه النواهي جميعا نواهي
إرشادية، فتكون إرشادا إلى مانعية هذه الأمور عن صحة العبادات والمعاملات،
ومبرزة لاعتبار عدمها فيهما، وهذا معنى: إرشادية تلك النواهي، ضرورة أن
إرشاديتها ليست كإرشادية الأوامر والنواهي الواردتين في باب الإطاعة
والمعصية، فإنه لا أثر لهما ما عدا الإرشاد إلى ما استقل به العقل، وهذا بخلاف تلك
النواهي، فإنها إرشاد إلى حكم مولوي ومبرزة له، وهو تقيد العبادة أو المعاملة
بعدم هذا الشئ أو ذاك، فيكون مرد ذلك إلى أن المطلوب هو حصة خاصة من
العبادة، أو أن الممضاة من المعاملة هي الحصة المتقيدة بعدم ما تعلق به النهي.
وتسمية هذه النواهي بالنواهي الإرشادية إنما هي من جهة أنها ليست بنواهي
حقيقية، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها، باعتبار اشتمالها على مفسدة
ملزمة لينتزع منها الزجر عنها. ولتكون تلك النواهي - عندئذ - مصداقا له، لفرض
أنه لا مفسدة فيها فلا شأن لها ما عدا كونها مبرزة لتقييد العبادة أو المعاملة بعدم
شئ وإرشادا إلى مانعيته.
كما أن الأوامر الواردة في هذه الأبواب سميت بأوامر إرشادية من ناحية أنها
ليست بأوامر حقيقية، وأنها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية، ولا يترتب عليها
ما عدا ذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا شبهة في ظهور تلك النواهي في الانحلال، وأن
مانعية هذه الأمور تنحل بانحلال أفرادها ومصاديقها في الخارج، فيكون كل فرد
منها مانعا مستقلا، بمعنى: أن عدم كل منها مأخوذ في عبادة أو معاملة على نحو
الاستقلال.
والوجه في ذلك هو: أنه لا إشكال في أن مانعية هذه الأمور على النحو الأول
- بأن يكون المطلوب صرف تركها في الصلاة أو نحوها ولو آنا ما، ليكون لازمه
هو: كون المانع وجودها وتحققها في تمام آنات الاشتغال بها، فلا أثر لوجودها
في بعض تلك الآنات دون بعضها الآخر - تحتاج إلى نصب قرينة تدل على إرادة
146

مانعيتها على هذا الشكل وعناية زائدة، وإلا فإطلاقات الأدلة لا تتكفل لإرادة
المانعية على هذا النحو أصلا، بل هي لا تخرج عن مجرد الفرض.
وكذا إرادة مانعية هذه الأمور على النحو الثالث تحتاج إلى عناية زائدة،
ضرورة أن الإطلاقات لا تتكفل لبيان تقييد الواجب بمجموع تروك هذه الطبائع
على نحو العموم المجموعي ليكون لازم ذلك هو كون المانع صرف وجود هذه
الطبائع في الخارج، كيف؟ فإن مقتضى الإطلاق عدم الفرق في المانعية بين
الوجود الأول والثاني والثالث... وهكذا.
وكذا إرادة الصورة الرابعة، ضرورة أنها خلاف ظواهر الأدلة، فإن الظاهر منها
هو كون تروك هذه الطبائع بنفسها قيدا، لا أنها مقدمة لحصول القيد في الخارج،
فإن إرادة ذلك تحتاج إلى عناية أخرى وبيان من المتكلم.
ومن ناحية ثالثة المفروض: أن المولى في مقام البيان، ولم ينصب قرينة على
إرادة الصورة الأولى، ولا على إرادة الصورة الثالثة، ولا على إرادة الصورة
الرابعة، لما عرفت: من أن إرادة كل واحدة من هذه الصور تحتاج إلى قرينة
ومؤونة زائدة.
ومن ناحية رابعة أنه لم يعقل أن يراد من هذه النواهي ترك هذه الطبائع في
ضمن فرد ما من أفرادها العرضية والطولية حال الصلاة، ضرورة أنه حاصل قهرا
فلا يمكن إرادته، لأنها إرادة ما هو حاصل بالفعل، وهي مستحيلة من الحكيم، فإذا
تنتج مقدمات الحكمة الإطلاق.
ومن ناحية خامسة: قد ذكرنا سابقا: أنه لا يترتب على مقدمات الحكمة ما
عدا الإطلاق وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات، وأما كون الإطلاق بدليا
أو شموليا أو غير ذلك فهو خارج عن مقتضى المقدمات، ضرورة أن كون المتكلم
في مقام البيان وورود الحكم على المقسم، وعدم نصب قرينة على التقييد بصنف
خاص دون آخر لا يقتضي إلا إطلاق الحكم وعدم تقييده بحصة خاصة. وأما
اختلاف الإطلاق من حيث الشمول والبدل والتعيين وما شاكل ذلك فهو من جهة
147

القرائن الخارجية وخصوصيات المورد، فإنها تقتضي كون الإطلاق بدليا في
مورد، وشموليا في مورد آخر، ومقتضيا للتعيين في مورد ثالث (1).
فالنتيجة على ضوء هذه النواهي هي: أن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة
في المقام شمولي لا بدلي، وذلك لقرينة خارجية وخصوصية المورد، وتلك القرينة
الخارجية هي فهم العرف، ضرورة أن المرتكز في أذهانهم من مثل هذه النواهي
هو الانحلال والشمول، ومنشأ فهم العرف ذلك وكون هذا من مرتكزاتهم هو ما
ذكرنا: من أن إرادة بقية الصور من تلك النواهي تحتاج إلى مؤونة أخرى خارجة
عن عهدة الإطلاق. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: أن إرادة ترك فرد ما من أفرادها العرضية أو الطولية غير
ممكنة كما عرفت.
ومن جهة ثالثة: أن القرينة لم تنصب على إرادة حصة خاصة منها.
فالنتيجة على ضوئها هي: كون الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في هذه
الموارد شموليا، وأن كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع مستقل، فلا تكون مانعية
هذا مربوطة بمانعية ذاك، وعدم كل واحد منها مأخوذ في العبادة أو المعاملة على
نحو الاستقلال والانحلال، وهذا هو المتفاهم العرفي من هذه الروايات، ضرورة
أنه لا فرق في نظر العرف بين الفرد الأول من النجس والفرد الثاني
والثالث... وهكذا في المانعية. وكذا لا فرق بين الفرد الأول من الميتة والفرد
الثاني، والفرد الأول مما لا يؤكل أو الحرير والفرد الثاني... وهكذا.
وقد تحصل من ذلك: أن المستفاد عرفا من إطلاق قوله (عليه السلام): " لا تصل في
شئ منه ولا في شسع " (2)، وقوله (عليه السلام): " لا تحل الصلاة في حرير محض " (3)
ونحوهما هو الانحلال، وأن لبس كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع عن الصلاة

(1) راجع ص 106 - 110.
(2) الوسائل: ج 4 ص 243 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 2.
(3) المصدر السابق: ص 368 ب 11 ح 2.
148

مستقلا، وعدم الفرق بين الوجود الأول والثاني من هذه الناحية أصلا، وهذا ظاهر.
وبكلمة أخرى: أن حال هذه النواهي من هذه الجهة حال النواهي الحقيقية
الاستقلالية، فكما أن المتفاهم عرفا من إطلاق تلك النواهي هو العموم والشمول
بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية ما لم تنصب قرينة على الخلاف فكذلك
المتفاهم عرفا من إطلاق هذه النواهي هو العموم والشمول.
والسر في ذلك واضح، وهو: أن الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية
- لا محالة - تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج. ومن الواضح أنه لا فرق في
ذلك بين الأحكام التحريمية والوجوبية، فكما أن الأولى تنحل بانحلال موضوعها
فيما إذا لم تنصب قرينة على خلافه فكذلك الثانية.
مثلا: وجوب الحج المجعول للمستطيع في قوله تعالى: " ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا " (1) على نحو القضية الحقيقة - لا محالة - ينحل
بانحلال أفراد المستطيع في الخارج، فيثبت لكل منها حكم مستقل. وكذا وجوب
الصلاة المجعول للمكلف البالغ العاقل القادر، الداخل عليه الوقت على نحو القضية
الحقيقية، فإنه - لا محالة - ينحل بانحلال أفراده. وكذا وجوب الزكاة المجعول لمن
بلغ ماله حد النصاب على نحو القضية الحقيقية.... وهكذا. فلا فرق من هذه
الناحية بين الأحكام التحريمية والأحكام الوجوبية أصلا، وإنما الفرق بينهما في
نقطة أخرى، وهي: أن الأحكام التحريمية كما تنحل بانحلال موضوعها في
الخارج فيما إذا كان لها موضوع كذلك تنحل بانحلال أفراد متعلقها فيه، فالنهي عن
سب المؤمن - مثلا - كما ينحل بتعدد أفراد المؤمن في الخارج كذلك ينحل
بانحلال أفراد السب، يكون كل فرد منه محرما.
نعم، قد يكون انحلال النهي بانحلال متعلقه وتعدده من ناحية تعدد موضوعه
وانحلاله في الخارج، لا في نفسه، وذلك كشرب الخمر مثلا، أو شرب النجس،
أو ما شاكل ذلك، فإنه يتعدد بتعدد أفراد الخمر أو النجس خارجا لا في ذاته،

(1) آل عمران: 97.
149

ضرورة أن فردا واحدا منه غير قابل لأن يتعدد شربه، بل له شرب واحد. نعم،
يتعدد باعتبار تعدد الحالات والأزمنة، لا في نفسه، والمكلف في اعتبار الشارع
محروم عن جميع أفراد شربه في الخارج من العرضية والطولية.
وهذا بخلاف الأحكام الوجوبية، فإنها لا تنحل بانحلال أفراد متعلقها في
الخارج أصلا، إلا فيما إذا قامت قرينة من الخارج على الانحلال.
فالنتيجة هي: أن الأوامر تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج فحسب،
ولا تنحل بانحلال متعلقاتها فيه. وهذا بخلاف النواهي، فإنها تنحل بانحلال
موضوعاتها ومتعلقاتها معا.
وفيما نحن فيه حيث إن مانعية لبس ما لا يؤكل والميتة والحرير والذهب
والنجس وما شاكل ذلك في الصلاة جعلت لها على نحو القضية الحقيقية فمن
الطبيعي هو أنها تنحل بانحلال أفراد هذه الطبائع في الخارج، فيكون لبس كل فرد
منها مانعا مستقلا، ولا تكون ما نعيته مربوطة بمانعية الآخر... وهكذا، وهذا هو
المتفاهم العرفي من كل قضية حقيقية من دون شبهة وخلاف.
وكذا لا شبهة في ظهور تلك النواهي في باب المعاملات بالمعنى الأعم في
الانحلال، ضرورة أن مانعية الغرر - مثلا - تنحل بانحلال أفراد البيع في الخارج،
وكذا الجهل بالعوضين أو بأحدهما وما شاكل ذلك بعين الملاك المتقدم.
وقد يتخيل في المقام: أن المفروض أن هذه النواهي ليست بنواهي حقيقية،
بل هي نواه بحسب الصورة والشكل، وفي الحقيقة أوامر، غاية الأمر: أن المولى
أبرز تلك الأوامر بصورة النهي.
وقد تقدم: أنه لا عبرة بالمبرز - بالكسر - أصلا، والعبرة إنما هي بالمبرز
بالفتح. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق أن نتيجة الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في
طرف الأوامر هي العموم البدلي وصرف الوجود، لا العموم الشمولي ومطلق
الوجود (1).

(1) راجع ص 107.
150

فالنتيجة على ضوئهما هي: أنه لابد أن يكون المطلوب في أمثال هذه
الموارد هو تقيد العبادة أو المعاملة بصرف ترك هذه الأمور في الخارج، وهو
يتحقق بتركها آنا ما.
فإذا المتعين في هذه الموارد وما شاكلها هو: إرادة الصورة الأولى من الصور
المتقدمة لا غيرها، وهي ما كان المطلوب تقييد الواجب بصرف ترك تلك الأمور
خارجا.
وعلى الجملة: فقد مر أن مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في طرف
الأمر هو العموم البدلي وصرف الوجود بمقتضى الفهم العرفي. ومن المعلوم أنه
لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر متعلقا بالفعل أو بالترك، فإذا مقتضى الإطلاق
في أمثال تلك الموارد أيضا ذلك.
ولكن هذا الخيال خاطئ جدا وغير مطابق للواقع قطعا. والوجه في ذلك ما
تقدم: من أن نتيجة مقدمات الحكمة ليست إلا ثبوت الإطلاق. وأما كونه شموليا
أو بدليا فلا تدل مقدمات الحكمة على شئ من ذلك (1). فإذا إثبات كون الإطلاق
في المقام على النحو الأول أو الثاني يحتاج إلى قرينة خارجية تدل عليه. هذا
من جانب.
ومن جانب آخر: قد مر أن القرينة الخارجية قد دلت على أن الإطلاق الثابت
بمقدمات الحكمة في موارد الأمر المتعلق بالفعل والوجود بدلي، وفي موارد النهي
شمولي (2).
ومن جانب ثالث: أن الأمر إذا تعلق بترك طبيعة في الخارج فلا محالة لا
يخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أن المولى: إما أن يريد ترك جميع أفرادها
في الخارج من العرضية والطولية سواء كانت على نحو العموم المجموعي أو
الاستغراقي، أو أن يريد ترك فرد ما منها، أو أن يريد ترك حصة خاصة منها دون
أخرى، أو أن يريد صرف تركها، ولا خامس في البين.

(1) راجع ص 106 - 110.
(2) راجع ص 106 - 110.
151

ومن جانب رابع: أنه لا شبهة في أنه لا يمكن أن يراد من ذلك: الفرض الثاني،
وهو ترك فرد ما منها، لأنه حاصل، وطلبه تحصيل للحاصل، فلا يمكن أن يصدر
من الحكيم. وكذا لا يمكن أن يراد منه: الفرض الثالث، وهو ترك حصة خاصة
منها، لأن إرادته تحتاج إلى قرينة تدل عليها، والمفروض أنه لا قرينة هنا. فإذا
يدور الأمر بين أن يراد منه الفرض الأول - وهو: أن يكون المطلوب ترك جميع
أفرادها العرضية والطولية - وأن يراد منه الفرض الرابع، وهو: أن يكون المطلوب
صرف تركها المتحقق بتركها آنا ما.
ومن الواضح جدا أن إرادة الفرض الرابع خلاف المتفاهم العرفي المرتكز في
أذهانهم، ضرورة أن المتفاهم العرفي من مثل قوله (عليه السلام): " لا تصل في شئ منه
ولا في شسع " (1) هو تركه في جميع آنات الاشتغال بها، ولا يختلج في بالهم أن
يكون المراد منه تركه حال الاشتغال بالصلاة آنا ما، ولا يلزم تركها في تمام آنات
الاشتغال بها. ومن المعلوم أن إرادة مثل هذا المعنى البعيد عن أذهان العرف
تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه، وإلا فلا يمكن إرادته من الإطلاق الثابت
بمقدمات الحكمة.
فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الأربعة: هي أن نتيجة مقدمات الحكمة
- وهي الإطلاق - يختلف مقتضاها باختلاف موارد الأمر، ففي موارد تعلقه بالفعل
كان مقتضاها الإطلاق البدلي وصرف الوجود من جهة القرينة الخارجية، وهي:
فهم العرف من إطلاقه ذلك بعد ضميمة عدم إمكان إرادة إيجاد الطبيعة بجميع
أفرادها العرضية والطولية في الخارج. وفي موارد تعلقه بالترك كان مقتضاها
الإطلاق الشمولي ومطلق الترك من جهة الفهم العرفي والقرينة الخارجية.
وعلى الجملة: فقد عرفت أن نتيجة مقدمات الحكمة هي: ثبوت الإطلاق
فحسب، وأن مراد المولى مطلق من ناحية تبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت، ولكن
المتفاهم العرفي من هذا الإطلاق في موارد تعلق الأمر بالفعل هو الإطلاق البدلي

(1) الوسائل: ج 4 ص 243 ب 1 من أبواب لباس المصلي ح 2.
152

وصرف الوجود لأجل خصوصية فيه، والمتفاهم العرفي من الإطلاق في موارد
تعلقه بالترك هو الإطلاق الشمولي وعموم الترك كذلك، أي: من جهة خصوصية
فيه، ولأجل ذلك تفترق موارد تعلق الأمر بالفعل عن موارد تعلقه بالترك.
ثم إنه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالفعل: بين أن تكون أوامر استقلالية:
كالأمر بالصلاة والصوم وما شاكلهما، وأن تكون أوامر ضمنية، كالأوامر المتعلقة
بأجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما مثل: الأمر بالركوع والسجود والتكبيرة
واستقبال القبلة والقيام والطهارة وما شاكلها. فكما أن المتفاهم العرفي من
الإطلاق في موارد الأوامر الاستقلالية هو الإطلاق البدلي وصرف الوجود
فكذلك المتفاهم العرفي منه في موارد الأوامر الضمنية هو ذلك، ضرورة أن
المتفاهم العرفي من إطلاق قوله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه " (1)
هو كون المطلوب صرف وجود الغسل وتحققه في الخارج، واعتبار خصوصية
أخرى يحتاج إلى دليل خاص: كاعتبار التعداد والمسح بالتراب ونحو ذلك، فإن
كل هذا خارج عن الإطلاق، فلا يستفاد منه، فإن قام دليل من الخارج على
اعتباره بالخصوص نأخذ به، وإلا فلا نقول به. وكذا الحال في مثل الأمر بالركوع
والسجود ونحوهما، فإن المتفاهم منه عرفا هو: كون المطلوب صرف الوجود، لا
مطلق الوجود، وهذا واضح، كما أنه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالترك بين أن
تكون استقلالية أو ضمنية من هذه الناحية أصلا.
وقد تحصل من ذلك أمور:
الأول: أن كون الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في مورد بدليا وفي مورد
آخر شموليا ليس ما تقتضيه نفس المقدمات، فإن ما تقتضيه المقدمات هو ثبوت
الإطلاق في مقام الإثبات الكاشف عن الإطلاق في مقام الثبوت، وأما كونه بدليا

(1) الوسائل: ج 3 ص 405 ب 8 من أبواب النجاسات ح 2.
153

أو شموليا فخارج عما تقتضيه المقدمات بالكلية، بل هو تابع لخصوصيات
الموارد، ويختلف باختلافها.
الثاني: أن مقتضى الإطلاق في طرف الأمر ليس هو الإطلاق البدلي مطلقا
وفي تمام موارده، بل هو يختلف باختلاف تلك الموارد، ففي موارد تعلقه بالفعل
كان مقتضاه بدليا، إلا إذا قامت قرينة من الخارج على خلافه، وفي موارد تعلقه
بالترك كان شموليا.
الثالث: أنه لا فرق في ذلك: بين أن يكون الأمر المتعلق بالترك أمرا ضمنيا،
وأن يكون أمرا استقلاليا فكما أن مقتضى الإطلاق في الأول من جهة الفهم العرفي
هو العموم والشمول فكذلك مقتضى الإطلاق في الثاني، فلا فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا. كما أنه لا فرق في الأمر المتعلق بالفعل: بين أن يكون أمرا استقلاليا:
كالأمر بالصلاة والصوم وما شابه ذلك، وأن يكون أمرا ضمنيا: كالأوامر المتعلقة
بالعبادات والمعاملات بالمعنى الأعم، فكما أن المتفاهم عرفا من الإطلاق الثابت
بمقدمات الحكمة في الأول هو العموم البدلي وصرف الوجود فكذلك المتفاهم
عرفا من الإطلاق الثابت بها في الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
الرابع: أن نتيجة الإطلاق عرفا في هذه الموارد - أعني: موارد النهي عن
العبادات والمعاملات - هو العموم الانحلالي دون العموم المجموعي، لأن إرادته
تحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يتكفل الإطلاق لبيانه.
فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن: أن مقتضى إطلاق هذه النواهي هو: تقييد
العبادات - كالصلاة مثلا - والمعاملات بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في
الخارج من العرضية والطولية.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح: أنه لا شبهة في وجوب التقليل في أفراد هذه
الموانع والاقتصار على مقدار الضرورة.
نعم، لو كان المستفاد من تلك الأدلة هو الصورة الثالثة أو الرابعة لم يجب
154

التقليل والاقتصار على قدر الضرورة كما مر. ولكن عرفت أن المستفاد منها
عرفا هو الصورة الثانية مطلقا، أي: في العبادات والمعاملات، من دون فرق بينهما
من هذه الناحية أصلا، بل الحال في المعاملات أوضح، ضرورة أنه لا يحتمل أن
يكون الجهل - مثلا - بأحد العوضين أو بهما معا مانعا عن صحة المعاملة في مورد
واحد...، وهكذا.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده السيد العلامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة: من
وجوب التقليل بالمقدار الممكن والاقتصار على ما تقتضيه الضرورة هو الصحيح
ولا مناص عنه، إلا أن ما أفاده (قدس سره) من لزوم التقليل حكما فضلا عن التقليل
موضوعا لا يتم صغرى وكبرى، كما تقدم بشكل واضح فلا نعيد (1).
نعم، لو قلنا بالتزاحم في أمثال هذه الموارد دون التعارض من ناحية وسلمنا
اتصاف النجاسة من هذه الجهة بالشدة والضعف من ناحية أخرى فعندئذ لو دار
الأمر بين إزالة الفرد الشديد وإزالة الفرد الضعيف لكان اللازم هو تقديم إزالة الفرد
الشديد على إزالة الفرد الضعيف، لأن إزالته أهم من إزالته، ولا أقل من احتمال
كونها أهم منها، وهذا يكفي للتقديم في مقام المزاحمة.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بكون هذه الموارد داخلة في كبرى باب التعارض،
فإنه - عندئذ - لا وجه لتقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف في مقام
المعارضة أصلا، وذلك لفرض أنه لا فرق بينهما في أصل المانعية بالنظر إلى الأدلة،
ولا تكون شدته زيادة فيها. وعليه، ففي مثل هذا الفرض نعلم إجمالا بجعل
الشارع أحدهما مانعا، فإذا لابد من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة.
فإن كان الدليل على أحدهما لفظيا والدليل على الآخر لبيا يتقدم الأول على
الثاني، لفرض أن المتيقن من الثاني هو غير هذا المورد، فلا يشمل مثله.
وإن كان كلاهما لفظيا: فإن كان التعارض بينهما بالإطلاق يسقطان معا، فلابد

(1) راجع ص 129 وما بعدها.
155

- عندئذ - من الرجوع في هذا المورد إلى الأصل فيه، إلا إذا كان إطلاق أحدهما
من الكتاب أو السنة، وإطلاق الآخر من غيرهما، فيتقدم الأول على الثاني، وذلك
لما استظهرناه: من أن الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو
السنة تشمل المخالفة بالإطلاق أيضا، فإذا لا يكون هذا الإطلاق حجة في نفسه،
مع قطع النظر عن المعارضة في مقابل إطلاق الكتاب أو السنة (1).
وإن كان التعارض بينهما بالعموم فعندئذ لابد من الرجوع إلى قواعد
ومرجحات باب المعارضة. وإن كان أحد الدليلين مطلقا والآخر عاما فيتقدم العام
على المطلق، لأنه يصلح أن يكون بيانا للأول دون العكس.
وإن كان كلاهما لبيا فلابد - وقتئذ - من الرجوع إلى دليل آخر من أصل لفظي
أو عملي، لفرض أن المتيقن منهما غير هذا الفرض، فلا إجماع فيه، لا على مانعية
هذا ولا على مانعية ذاك، كما هو ظاهر.
نتائج ما ذكرناه لحد الآن عدة نقاط:
الأولى: أن النهي عن فعل غالبا ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيه، ولا ينشأ عن
مصلحة إلزامية في تركه، وإلا لكان تركه واجبا، لا فعله محرما، وهذا خلف،
والأمر به ينشأ غالبا عن قيام مصلحة ملزمة في فعله، لا عن قيام مفسدة كذلك في
تركه، وإلا لكان تركه محرما لا فعله واجبا.
الثانية: أن الأمر كما يتعلق بالفعل باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيه فيكون
ذلك الفعل واجبا - سواء كان وجوبه ضمنيا أم استقلاليا - قد يتعلق بالترك كذلك،
أي: باعتبار وجود مصلحة ملزمة فيه، فيكون ذلك الترك واجبا، سواء كان وجوبه
استقلاليا أم ضمنيا.
الثالثة: أن النواهي الواردة في أبواب العبادات جميعا نواهي إرشادية، فتكون
إرشادا إلى مانعية أشياء: كالقهقهة والحدث والتكلم ولبس ما لا يؤكل والنجس

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 408 مبحث التعادل والتراجيح.
156

والميتة والحرير والذهب وما شاكل ذلك، وليست تلك النواهي بنواهي حقيقية
ناشئة عن قيام مفسدة ملزمة فيها، ضرورة أنه لا مفسدة فيها أبدا، بل مصلحة ملزمة
في تقيد الصلاة بعدم هذه الأمور.
ولعل النكتة في التعبير عن هذا التقييد بالنهي في مقام الإثبات لا بالأمر إنما
هي اعتبار الشارع كون المكلف محروما عن هذه الأمور حال الصلاة، ولأجل
ذلك أبرزه بالنهي الدال على ذلك. ولكن بما أن هذا الاعتبار لم ينشأ عن قيام
مفسدة ملزمة فيها، بل هو ناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في هذا التقييد - ومن ثم
يكون مرده إلى اعتبار حصة خاصة من الصلاة، وهي الحصة المقيدة بعدم هذه
الأمور في ذمة المكلف - فلأجل ذلك يكون هذا نهيا بحسب الصورة والشكل،
لا بحسب الواقع والحقيقة.
ومما يدل على كون هذه النواهي إرشادية لا حقيقية وجود هذه النواهي في
المعاملات بالمعنى الأعم، ولا شبهة في كون تلك النواهي هناك نواه إرشادية إلى
مانعية ما تعلق به النهي: كالغرر ونحوه، وليست هي بنواهي حقيقية، ضرورة أن بيع
الغرر وما شاكل ذلك ليس من المحرمات في الشريعة المقدسة، فالنهي عنه إرشاد
إلى فساده.
نعم، قد تكون المعاملة محرمة بنفسها كالمعاملة الربوية، ولكن من المعلوم أن
حرمتها ليست من ناحية هذا النهي، بل هي من جهة دليل آخر يدل عليها. ولذا
قلنا: إن حرمتها لا تستلزم فسادها، ففسادها إنما هو من ناحية هذا النهي، لا من
ناحية النهي الدال على حرمتها. ونظير ذلك في العبادات أيضا موجود، وهو: لبس
الحرير، فإنه حرام على الرجال مطلقا، أي: سواء كان في حال الصلاة أم كان في
غيره، ومانع عن الصلاة أيضا، ولكن من الواضح جدا أن حرمته الذاتية غير
مستفادة من النهي عن لبسه حال الصلاة، ضرورة أن هذا النهي لا يكون إلا إرشادا
إلى مانعيته عنها، ولا يدل على حرمته أصلا، وحاله من هذه الناحية حال النهي
عن بقية الموانع حال الصلاة، بل لابد من استفادتها من دليل آخر أو من قرينة
خارجية، كما هو ظاهر.
157

ومن ذلك يظهر حال الأوامر الواردة في أبواب العبادات بشتى أشكالها أنها
أوامر ارشادية، فتكون إرشادا إلى الجزئية أو الشرطية: كالأمر بالركوع والسجود
والقيام واستقبال القبلة والطهور وما شاكلها، فإنها إرشاد إلى جزئية الركوع
والسجود للصلاة، وشرطية القيام والاستقبال والطهور لها.
ومما يؤكد ذلك: وجود هذه الأوامر في أبواب المعاملات، فإنه لا إشكال في
كون تلك الأوامر هناك إرشادية، ضرورة أن مثل قوله (عليه السلام): " اغسل ثوبك من
أبوال ما لا يؤكل " أو نحوه لا يحتمل فيه غير الإرشاد إلى نجاسة الأبوال، وأن
المطهر للثوب المتنجس بها هو الغسل...، وهكذا الحال في بقية الأوامر الواردة
فيها.
الرابعة: أن التروك المأخوذة في متعلق الأمر مرة تكون مأخوذة على نحو
الاستقلال، بأن تكون تلك التروك واجبة بوجوب استقلالي. ومرة أخرى تكون
مأخوذة على نحو القيدية، بأن تكون واجبة بوجوب ضمني فالقسم الأول وقوعه
في الشريعة في غاية القلة، وأما القسم الثاني فهو في غاية الكثرة في باب العبادات
والمعاملات.
كما أن الوجودات المأخوذة في متعلق الأمر مرة تكون على نحو الاستقلال،
واخرى على نحو القيدية والجزئية، والأول: كالصلاة والصوم وما شاكلها، والثاني:
كالركوع والسجود والقيام والطهور ونحوها، وكلا هذين القسمين كثير في الشريعة
في باب العبادات والمعاملات كما هو واضح.
الخامسة: أن هذا الترك مأمور به، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أم
صيغة النهي، لما عرفت من أنه لا شأن للمبرز - بالكسر - أصلا، وإنما العبرة بالمبرز
بالفتح.
السادسة: أن التروك المأخوذة في متعلق الأمر بكلا قسميها من الاستقلالي
والضمني تتصور في مقام الثبوت والواقع على صور أربع. وقد تقدم أن الثمرة
تظهر بين هذه الصور في موردين:
أحدهما: في مورد الاضطرار والإكراه.
158

الثاني: في مورد الشك كما سبق.
السابعة: أن وجوب التقليل في أفراد المانع بالمقدار الممكن والاقتصار على
قدر الضرورة يرتكز على القول بالانحلال في المسألة دون بقية الأقوال، كما أنه
على هذا القول إنما يجب التقليل فيها بحسب الكم دون الكيف على تقدير تسليم
اختلافها فيه كما تقدم.
الثامنة: أن الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال في موارد التروك المتعلقة
للأمر الضمني عند الشك يبتني على أن لا يكون هناك أصل موضوعي، مثلا:
جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في مسألة اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل أو
الحرير أو الذهب يبتني على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي
بالتقريب المتقدم، وإلا فلا موضوع له.
التاسعة: أن جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه مع قطع النظر عن جريان
استصحاب العدم الأزلي أو النعتي يرتكز على القول بجريان أصالة البراءة في
مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لا على انحلال المانعية أو عدم انحلالها.
العاشرة: أن المستفاد من الأدلة في مقام الإثبات في باب العبادات
والمعاملات هو الصورة الثانية، وهي: انحلال مانعية هذه الطبائع بانحلال أفرادها
في الخارج، وأن تلك الأدلة إرشاد إلى مانعية كل فرد من أفرادها العرضية
والطولية، فإن إرادة بقية الصور منها تحتاج إلى بيان زائد من المتكلم وقرينة
أخرى، وفي فرض عدمها كانت إرادة هذه الصورة متعينة.
الجهة الثالثة
قد تقدم سابقا: أن الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في طرف النهي كما أنه
يستدعي بمقتضى الفهم العرفي العموم بالإضافة إلى الأفراد العرضية كذلك
يستدعي العموم بالإضافة إلى الأفراد الطولية، فلا فرق بينهما من هذه الناحية
أصلا، ضرورة أن إطلاق النهي في مقام الإثبات وعدم تقييد المنهي عنه بحصة
خاصة دون أخرى وبزمان معين دون آخر كما أنه كاشف عن الإطلاق والعموم
159

في مقام الثبوت والواقع بالإضافة إلى الأفراد العرضية كذلك هو كاشف عنه فيه
بالإضافة إلى الأفراد الطولية، لتبعية مقام الإثبات للثبوت.
إلا أن العموم في متعلق الأمر يكون بدليا كما عرفت، وقد يكون مجموعيا،
كما أنه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعيا من جهة.
ومثال الأول: قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (1)، ومثال الثاني: قوله تعالى:
* (أحل الله البيع) * (2) و * (تجارة عن تراض) * (3) ونحوهما مما دل على حكم
وضعي: كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها، فإن المستفاد عرفا من إطلاق الآية
الأولى وإن كان هو العموم الاستغراقي بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من
العقد ضرورة أنه يثبت لكل فرد من أفراد العقد وجوب الوفاء على نحو الاستقلال،
فلا يكون وجوب الوفاء بهذا الفرد من العقد مربوطا بفرد آخر. وهكذا، وهذا
واضح. ولكن المستفاد منه عرفا بالإضافة إلى الوفاء الذي تعلق به الأمر هو
العموم المجموعي، لا الاستغراقي، لوضوح أن الوجوب الثابت للوفاء بكل فرد من
أفراد العقد في جميع الآنات والأزمنة وجوب واحد مستمر، وليس الثابت في كل
آن وزمان وجوبا غير وجوب الوفاء الثابت له في زمان آخر.
وكذا المستفاد عرفا من إطلاق الآية الثانية والثالثة وإن كان هو العموم
الاستغراقي بالإضافة إلى الأفراد العرضية والطولية من البيع والتجارة، إلا أن
الحلية الثابتة لكل فرد من أفراد البيع في جميع الآنات والأزمنة حلية واحدة
مستمرة، وليس الثابت له في كل آن وزمان حلية غير الحلية الثابتة له في آن آخر
وزمان ثان... وهكذا، ضرورة أن ثبوت الحلية له في كل آن وزمان لغو محض.
وكذا الحال في الطهارة والنجاسة ونحوهما، فإن الطهارة الثابتة لشئ في
جميع الآنات والأزمنة طهارة واحدة مستمرة وليس الثابت له في كل آن طهارة
واحدة... وهكذا الأمر في النجاسة وغيرها.

(1) المائدة: 1.
(2) البقرة: 285.
(3) النساء: 29.
160

وهذا بخلاف الإطلاق في طرف النهي، فإن المتفاهم العرفي منه كما أنه ثبوت
الحرمة لكل فرد من أفراد المنهي عنه كذلك ثبوت الحرمة له في كل زمان من
الأزمنة وآن من الآنات، كما تقدم بشكل واضح.
ولكن لشيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام، وهو: أن انحلال النهي بالإضافة
إلى الأفراد العرضية إنما هو من جهة أخذ ترك الطبيعة حال تعلق الطلب به فانيا
في معنوناته التي هي: عبارة عن ترك كل واحد من تلك الأفراد الخارجية. وأما
انحلاله بالإضافة إلى الأفراد الطولية فهو إنما يمكن بأحد وجهين:
الأول: أن يكون الزمان مأخوذا في ناحية المتعلق بأن يكون شرب الخمر في
كل زمان محكوما بالحرمة.
الثاني: أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بأن يكون الحكم المتعلق بترك
الطبيعة باقيا في الأزمنة اللاحقة، وبما أنه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية
المتعلق من جهة ولا معنى لتحريم شئ يسقط بامتثاله آنا ما من جهة أخرى
فلا محالة يكون دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة.
نلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة صور:
الأولى: أن انحلال النهي بالإضافة إلى الأفراد العرضية إنما هو من ناحية أخذ
ترك الطبيعة فانيا في معنوناته حين تعلق الطلب به، ولازم ذلك هو: أن متعلق
الطلب في الحقيقة هو ترك كل فرد من أفراد هذه الطبيعة في الخارج، فإن الطلب
المتعلق به - لا محالة - يسري إلى جميع أفراده ومعنوناته، لفرض أنه اخذ فانيا
في تلك المعنونات، وهذا معنى انحلال النهي بانحلال ترك أفراد الطبيعة.
الثانية: أن انحلال النهي بالإضافة إلى الأفراد الطولية: إنما هو من جهة أحد
الأمرين: إما أخذ الزمان في ناحية المتعلق، أو أخذه في ناحية الحكم. ولا ثالث،
ضرورة أن النهي لا يدل على الانحلال بالإضافة إلى تلك الأفراد، وإنما يدل عليه
بالإضافة إلى الأفراد العرضية فحسب.
والسر في ذلك هو: أن الملحوظ حال تعلق الطلب بترك الطبيعة هو فناؤه في
161

ترك كل فرد من أفرادها فحسب، لافناؤه في ترك كل فرد منها في كل آن من الآنات
وزمان من الأزمنة، ولأجل ذلك يدل على الانحلال من الناحية الأولى دون الثانية.
الثالثة: أن أخذ الزمان في ناحية المتعلق يحتاج إلى دليل، وحيث إنه لا دليل
عليه في المقام فدليل الحكمة يعين أخذه في ناحيته، فيدل على استمراره وبقائه
في الآنات اللاحقة والأزمنة المتأخرة.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه الصور:
أما الصورة الأولى فيردها ما تقدم منا بشكل واضح، وملخصه:
أما أولا فلأن أصل هذه النظرية فاسدة، لما سبق: من أن النهي ليس عبارة عن
طلب ترك الطبيعة، ولا عبارة عن الزجر عنها، بل هو: عبارة عن اعتبار المولى
حرمان المكلف عن الطبيعة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز ما من قول
أو فعل.
وأما ثانيا فلما عرفت: من أن انحلال النهي بالإضافة إلى الأفراد العرضية
والطولية على جميع المذاهب والآراء إنما هو مقتضى الإطلاق الثابت بمقدمات
الحكمة، فإن المتفاهم منه عرفا ذلك بالإضافة إلى كلتيهما، فلا فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا.
وأما الصورة الثانية فيرد عليها ما عرفت: من أن استفادة العموم بالإضافة إلى
الأفراد الطولية أيضا بالإطلاق فإن إطلاق المتعلق وعدم تقييده بحصة خاصة كما
يقتضي العموم بالإضافة إلى الأفراد العرضية كذلك إطلاقه وعدم تقييده بزمان
معين يقتضي العموم بالإضافة إلى الأفراد الطولية.
فما أفاده (قدس سره) من أن انحلال النهي بالإضافة إلى الأفراد الطولية يتوقف
على أحد أمرين: إما أخذ الزمان في ناحية المتعلق، أو أخذه في ناحية الحكم
لا يمكن المساعدة عليه بوجه، لما مر من أنه لا يتوقف على شئ منها، بل هو
يتوقف على ثبوت الإطلاق، فإذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على
التقييد بزمان خاص دون آخر - لا محالة - كان مقتضى الإطلاق هو ثبوت الحكم
لكل فرد من أفراد الطبيعة في كل آن وزمان.
162

أضف إلى ذلك أنه لا معنى لأخذ الزمان في ناحية المتعلق أو الحكم في أمثال
هذه الموارد، فإن الزمان كالمكان بنفسه ظرف، فلا يحتاج كونه كذلك إلى لحاظ
زائد. وعليه، فإذا لم يقيد المولى الحكم بزمان خاص فطبعا يكون الحكم ثابتا
في تمام الأزمنة والآنات.
ومن الواضح جدا أن هذا لا يحتاج إلى لحاظ الزمان في ناحية المتعلق
أو الحكم وأخذه فيه كما هو ظاهر، غاية الأمر: قد يكون المتفاهم العرفي من ذلك
هو استمرار الحكم على نحو العموم المجموعي، وقد يكون المتفاهم منه هو
استمراره على نحو العموم الاستغراقي كما هو الحال في أمثال هذه الموارد.
وأما الصورة الثالثة: فعلى تقدير تسليم أنه لابد من أخذ الزمان في ناحية
المتعلق أو الحكم لأجل استفادة العموم بالإضافة إلى الأفراد الطولية فيرد عليها:
أن دليل الحكمة يعين أخذه في ناحية المتعلق دون ناحية الحكم، وذلك لأن
إطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان مخصوص يقتضي ثبوت الحكم له في كل زمان
على نحو العموم الاستغراقي، بأن يثبت له في كل زمان حكم مغاير لثبوت حكم له
في زمان ثان... وهكذا، وهذا هو المتفاهم منه عرفا، ضرورة أن المتفاهم العرفي
من النهي عن شرب الخمر - مثلا - وسب المؤمن وما شاكلهما هو انحلال النهي
بانحلال أفرادها بحسب الأزمنة، فيكون النهي الثابت لسب المؤمن في هذا الزمان
مغايرا للنهي الثابت له في زمان آخر... وهكذا.
نعم، إطلاق المتعلق في بعض الموارد يعين أخذه في ناحية الحكم كما في
مثل قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " (1) وما شاكله كما عرفت.
فما أفاده (قدس سره) من أن دليل الحكمة يعين أخذه في ناحية الحكم لا يتم على
إطلاقة، بل الغالب هو العكس.
هذا تمام الكلام في معنى النهي ونقطة الامتياز بينه وبين الأمر.
* * *

(1) المائدة: 1.
163

اجتماع الأمر والنهي
هاهنا جهات من البحث:
الأولى
أن عنوان النزاع في هذه المسألة - على ما حرره الأصحاب قديما وحديثا -
يوهم كون النزاع فيها كبرويا، بمعنى: أن موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي في
شئ واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع، بمعنى: أن القائلين بجواز الاجتماع
يدعون أنه لا مانع من اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد، بدعوى، أنه لا مضادة
بينهما، ومعه لا مانع من اجتماعهما فيه. والقائلين بالامتناع يدعون استحالة
اجتماعهما فيه، بدعوى: وجود المضادة بينهما. وعليه، فمرد النزاع في المسألة إلى
دعوى المضادة بين الأحكام الشرعية بعضها مع بعض، وعدم المضادة. فعلى
الأول لا مناص من القول بالامتناع. وعلى الثاني لابد من القول بالجواز.
والتحقيق: أن النزاع في هذه المسألة لا يعقل أن يكون كبرويا، بداهة استحالة
اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد مطلقا، حتى عند من يجوز التكليف بالمحال:
كالأشعري، وذلك لأن اجتماعهما في نفسه محال، لا أنه من التكليف بالمحال،
ضرورة استحالة كون شئ واحد محبوبا ومبغوضا للمولى معا على جميع
المذاهب والآراء فما ظنك بغيره؟
164

وعلى الجملة: فلا شبهة في استحالة اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد،
حتى عند القائل بجواز الاجتماع في المسألة، فإنه إنما يقول به بملاك أن تعدد
العنوان يوجب تعدد المعنون، وأما مع فرض وحدته فلا يقول بالجواز أصلا. فإذا
لا نزاع في الكبرى، والنزاع في المسألة إنما هو في الصغرى.
وبيان ذلك: هو أن الأمر إذا تعلق بطبيعة كالصلاة - مثلا - والنهي تعلق بطبيعة
أخرى كالغصب - مثلا - وقد اتفق في الخارج انطباق الطبيعتين على شئ واحد
- وهو الصلاة في الأرض المغصوبة - فعندئذ يقع الكلام في أن النهي المتعلق بطبيعة
الغصب هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصلاة المأمور بها في الخارج
أم لا؟
ومن الواضح جدا أن سراية النهي من متعلقه إلى متعلق الأمر ترتكز على
نقطة واحدة، وهي: اتحاد المجمع وكونه موجودا بوجود واحد، كما أن عدم
السراية ترتكز على تعدد المجمع وكونه موجودا بوجودين.
فالنتيجة هي: أن مركز النزاع في هذه المسألة ونقطة الخلاف فيها بين الأعلام
والمحققين إنما هي في أن المجمع لمتعلقي الأمر والنهي كالصلاة في الأرض
المغصوبة - مثلا - في مورد التصادق والاجتماع هل هو موجود واحد حقيقة
وبالذات وأن التركيب بينهما اتحادي، أو هو متعدد كذلك وأن التركيب بينهما
انضمامي؟ فمرد القول بالامتناع في المسألة إلى القول باتحاد المجمع لهما في
مورد التصادق والاجتماع، إذ على هذا - لا محالة - يسري النهي من متعلقه إلى ما
ينطبق عليه المأمور به في الخارج. فإذا يلزم انطباق المأمور به على المنهي عنه
فعلا، وهذا محال، ومرد القول بالجواز فيها إلى القول بعدم اتحاد المجمع.
وعليه، فلا يسري النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به بناء على ما
هو الصحيح من عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
وقد تحصل من ذلك بوضوح: أن النزاع في مسألتنا هذه صغروي، ولا يعقل
أن يكون كبرويا.
165

الثانية
قد ظهر مما ذكرناه: نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية كمسألة
النهي في العبادات، وهي: أن النزاع في تلك المسألة كبروي، فإن المبحوث عنه
فيها إنما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه
الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى، وهي: تعلق النهي بالعبادة. وأما النزاع في
مسألتنا هذه فقد عرفت أنه صغروي، لفرض أن المبحوث عنه فيها هو سراية النهي
من متعلقه إلى متعلق الأمر، وعدم سرايته.
وعلى ضوء هذا فالبحث في هذه المسألة بحث عن إثبات الصغرى للمسألة
الآتية، فإنها على القول بالامتناع وسراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه
المأمور به تكون من إحدى صغرياتها ومصاديقها دون القول الآخر.
فالنتيجة: أن النقطة الرئيسية لامتياز إحدى المسألتين عن الأخرى هي: أن
جهة البحث في إحداهما صغروية وفي الأخرى كبروية.
ومن هنا يظهر فساد ما أفاده المحقق صاحب الفصول (قدس سره) من الفرق بين
المسألتين، وحاصل ما أفاده هو: أن هذه المسألة تمتاز عن المسألة الآتية في أن
النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب
الحقيقة والذات. وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق: كما إذا أمر المولى عبده
بالحركة ونهاه عن القرب في مكان مخصوص فإن عنوان الحركة وعنوان القرب
عنوانان متغايران بالذات، مع أن النسبة بينهما بحسب الخارج عموم مطلق،
ضرورة أن العبرة إنما هي بتغاير ما تعلق به الأمر وما تعلق به النهي، لا بكون
النسبة بينهما عموما من وجه، وإن كان الغالب أن النسبة بين الطبيعتين المتغايرتين
كذلك عموم من وجه، وقل ما يتفق أن تكون النسبة بينهما عموما مطلقا.
والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدين بحسب
الذات والحقيقة، ومختلفين بمجرد الاطلاق والتقييد، بأن تعلق الأمر بالطبيعة
166

المطلقة كالصلاة - مثلا - والنهي تعلق بحصة خاصة منها، وهي الصلاة في الدار
المغصوبة (1).
وتوضيح فساده هو: أن مجرد اختلاف متعلقي الأمر والنهي في هذه المسألة
واتحادهما في تلك المسألة لا يكون ملاكا لامتياز إحداهما عن الأخرى ما لم
تكن هناك جهة أخرى للامتياز، ضرورة أنه لا يفرق في البحث عن تلك المسألة،
أعني: البحث عن أن تعلق النهي بعبادة هل يستلزم فسادها أم لا، بين أن يكون
النهي متعلقا بعبادة بعنوانها: كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة أو نحوه، وأن
يكون متعلقا بعنوان آخر منطبق عليها في الخارج: كالنهي عن الغصب - مثلا - إذا
فرض انطباقه على الصلاة فيها خارجا، فإذا لا محالة تكون الصلاة منهيا عنها
ومتعلقا للنهي؟
ومن الواضح جدا أن مجرد تعلق النهي بها بعنوان آخر لا يوجب عقد ذلك
مسألة أخرى في قبال تلك المسألة بعد ما كان ملاك البحث في تلك المسألة
موجودا فيه، وكان الغرض المترتب عليها مترتبا على ذلك أيضا، وهو فساد
العبادة، وعليه فلا أثر لمجرد الاختلاف في المتعلق وعدم الاختلاف فيه، فإن
ميزان تعدد المسألة ووحدتها في أمثال هذا العلم إنما هو بتعدد الغرض وجهة
البحث وحدتهما، لا باختلاف الموضوع والمحمول وعدم اختلافهما كما هو
واضح.
وبكلمة أخرى: أن صرف تعلق الأمر والنهي بطبيعتين مختلفتين على نحو
العموم من وجه أو المطلق في هذه المسألة وعلى نحو الإطلاق والتقييد في تلك
المسألة لا يوجب الامتياز بينهما إذا فرض عدم اختلافهما من جهة البحث،
ضرورة أنه إذا فرض أن جهة البحث فيهما ترجع إلى نقطة واحدة فلا معنى
- عندئذ - لجعل هذه المسألة مسألة أخرى في قبال تلك كما هو ظاهر.

(1) انظر الفصول الغروية: ص 140.
167

وقد تحصل من ذلك: أن الضابط لامتياز هذه المسألة عن تلك هو ما ذكرناه:
من أن جهة البحث في هذه المسألة غير جهة البحث في تلك المسألة. فإذا لابد
من عقدها مسألة أخرى في قبالها كما تقدم بصورة مفصلة.
وقد يتخيل أن نقطة الفرق بين هاتين المسألتين: هي أن البحث في مسألتنا
هذه عقلي، فإن الحاكم بالجواز أو الامتناع فيها إنما هو العقل، بملاك تعدد المجمع
في مورد التصادق والاجتماع ووحدته فيه، وليست للفظ أية صلة في البحث
عنها، والبحث في المسألة الآتية لفظي، بمعنى: أن النهي المتعلق بعبادة هل يدل
على فسادها أم لا؟
ولكن هذا الخيال خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا.
والوجه في ذلك: أما أولا: فلأن هذه المسألة تغاير تلك المسألة ذاتا فلا
اشتراك لهما، لا في الموضوع ولا في المحمول، ولا في الجهة ولا في الغرض،
وهذا معنى الامتياز الذاتي، ومعه لا نحتاج إلى امتياز عرضي بينهما، وهو: أن
البحث في إحداهما عقلي، وفي الأخرى لفظي، فإن الحاجة إلى مثل هذا الامتياز
إنما هو في فرض الاشتراك بينهما ذاتا. وأما إذا فرض أنه لا اشتراك بينهما أصلا
فلا معنى لجعل هذا جهة امتياز بينهما كما هو واضح.
وأما ثانيا: فلما سيجئ - عن قريب إن شاء الله تعالى - من أن البحث في تلك
المسألة أيضا عقلي، ولا صلة له بعالم اللفظ أبدا، ضرورة أن الجهة المبحوث عنها
فيها إنما هي: ثبوت الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها، وعدم ثبوت هذه
الملازمة.
ومن الواضح جدا أن البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كانت الحرمة
مدلولا لدليل لفظي، بل يعم الجميع، بداهة أن المبحوث عنه في تلك المسألة والمهم
فيها إنما هو البحث عن ثبوت الملازمة وعدمه. ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين
أن تكون الحرمة مستفادة من اللفظ أو من غيره، وإن كان عنوان البحث فيها على
ما حرره الأصحاب - قديما وحديثا - يوهم اختصاص محل النزاع بما إذا كانت
168

الحرمة مدلولا لدليل لفظي، إلا أن هذا من جهة الغلبة، حيث إن الحرمة غالبا
مستفادة من اللفظ دون غيره كما هو ظاهر.
الثالثة
قد تقدم: أن متعلق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلية التي يمكن انطباقها
على الأفراد والمصاديق الخارجية بشتى ألوانها وأشكالها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن تلك الطبائع الكلية قد قيدت بقيودات كثيرة وجودية
وعدمية، مثلا: الصلاة مقيدة بقيودات وجودية: كالطهور والقيام واستقبال القبلة
والاستقرار وما شاكل ذلك، وقيودات عدمية: كترك لبس ما لا يؤكل والحرير
والذهب والميتة والنجس وترك القهقهة والتكلم ونحو ذلك.
ومن ناحية ثالثة: أن تلك القيودات لا توجب إلا تضييق دائرة انطباقها على
أفرادها في الخارج، ولا توجب خروجها عن الكلية.
وعلى الجملة: فإن للطبائع الكلية عرضا عريضا، ولكل حصة منها نحو سعة
وكلية، وإن التقييد مهما بلغ عدده لا يوجب إلا تضييق دائرة الانطباق على ما في
الخارج، إلا إذا فرض بلوغ التقييد إلى حد يوجب انحصار المقيد في الخارج بفرد
واحد، ولكنه مجرد فرض لعله غير واقع أصلا.
ومن هنا تكون التقييدات الواردة على الصلاة من نواح عديدة:
1 - من ناحية الزمان، حيث إنها واجبة في زمان خاص لا مطلقا.
2 - من ناحية المكان، حيث إنه يشترط في صحتها أن تقع في مكان مباح.
3 - من ناحية المصلي، فلا تصح من كل شخص كالحائض ونحوها.
4 - من ناحية نفسها، حيث إنها مقيدة بقيودات عديدة كثيرة وجودية وعدمية
لا توجب إلا تضييق دائرة انطباقها على ما في الخارج، ولا توجب خروجها عن
الكلية، وإمكان انطباقها على الأفراد الكثيرة في الخارج.
ومن ناحية رابعة: أن المراد من الواحد في محل الكلام هو مقابل المتعدد،
169

لا في مقابل الكلي، بمعنى: أن المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد،
وليس بمتعدد بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهي عنه،
وإلا لخرج عن محل الكلام، ولا إشكال - عندئذ - أصلا.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أن المجمع في مورد الاجتماع
والتصادق كلي قابل للانطباق على كثيرين، وليس واحدا شخصيا، ضرورة أن
الصلاة في الأرض المغصوبة ليست واحدة شخصا، بل هي واحدة نوعا، ولها أفراد
عرضية وطولية تصدق عليها، لما عرفت من أن التقييد لا يوجب إلا تضييق دائرة
الانطباق، فتقييد الصلاة بكونها في الدار المغصوبة لا يوجب خروجها عن الكلية،
وإنما يوجب تضييق دائرة انطباقها على خصوص الأفراد الممكنة التحقق فيها من
العرضية والطولية، فإنها كما تصدق على الصلاة قائما فيها تصدق على الصلاة
قاعدا، وعلى الصلاة مع فتح العينين، ومع غمضهما، وفي هذه الدار وتلك...
وهكذا، وعلى الصلاة في هذا الآن، وفي الآن الثاني والثالث... وهكذا.
وبكلمة أخرى: أن الواحد قد يطلق ويراد منه ما لا يكون متعددا، فيقال: إن
الصلاة في الأرض المغصوبة واحدة فلا تكون متعددة بمعنى: أنه ليس في الدار
شيئان أحدهما كان متعلق الأمر، والثاني متعلق النهي، بل فيها شئ واحد - وهو
الصلاة - يكون مجمعا لمتعلقيهما. فالغرض من التقييد بكون المجمع لهما واحدا
في مقابل ذلك - أي: في مقابل ما ينطبق المأمور به على شئ، والمنهي عنه على
شئ آخر - لا في مقابل الكلي كما ربما يتوهم.
وقد يطلق الواحد ويراد منه ما لا يكون كليا، فيقال: هذا واحد ليس بكلي
قابل للانطباق على كثيرين، والنسبة بين الواحد بهذا المعنى والواحد بالمعنى
الأول هي عموم مطلق، فإن الأول أعم من هذا، لشموله الواحد بالشخص والواحد
بالنوع والواحد بالجنس دون هذا، فإنه خاص بالأول فحسب.
وبعد ذلك نقول: إن المراد من الواحد في محل الكلام هو: الواحد بالمعنى
الأول دون الثاني، بمعنى: أن هذه الحصة من الصلاة - مثلا، وهي الصلاة في
170

الأرض المغصوبة - مجمع لمتعلقي الأمر والنهي ومورد لتصادقهما وإن كانت
في نفسها كليا قابلا للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج العرضية والطولية
كما عرفت.
فالنتيجة: أن هذه الحصة بما لها من الأفراد مجمع لهما ومحل للتصادق
والاجتماع في مقابل ما إذا لم يكن كذلك، بأن يكون مصداق المأمور به حصة،
ومصداق المنهي عنه حصة أخرى مباينة للأولى بمالها من الأفراد الدفعية
والتدريجية.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل السجدة والقتل والكذب وما شاكلها
من الطبائع الكلية التي يتعلق الأمر بحصة منها، والنهي بحصة أخرى منها عن محل
الكلام في المسألة، فإن هذه الطبائع وإن كانت واحدة بالنوع أو الجنس إلا أنها
ليست مجمعا لمتعلقي الأمر والنهي معا، فإن الأمر تعلق بحصة منها وهي السجود
لله تعالى، والنهي تعلق بحصة أخرى منها وهي السجود لغيره تعالى. وهاتان
الحصتان متباينتان فلا تجتمعان في مورد واحد، ولا تنطبق إحداهما على ما
تنطبق عليه الأخرى، وليس هنا شئ يكون مجمعا لمتعلقي الأمر والنهي ومحلا
لاجتماعهما فيه، ضرورة أن طبيعي السجود بما هو ليس مجمعا للأمر والنهي
ليكون داخلا في محل البحث في هذه المسألة، بل الأمر - كما عرفت - تعلق
بحصة، والنهي تعلق بحصة مباينة لها، فلا تجتمعان في مورد أصلا.
وكذا الحال في القتل، فإن الأمر تعلق بحصة خاصة منه وهي قتل الكافر أو
غيره ممن وجب قتله، والنهي تعلق بحصة أخرى منه وهي قتل المؤمن ومن
الواضح أنهما لا تتصادقان على شئ واحد، ولا تجتمعان في محل فارد. فإذا
ليس هنا شئ واحد اجتمع فيه الأمر والنهي، بل الأمر تعلق بحصة يمكن انطباقها
على أفرادها الكثيرة في الخارج العرضية والطولية، والنهي تعلق بحصة أخرى
كذلك. وكذا الحال في الكذب ونحوه.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن الغرض من تقييد المجمع بكونه واحدا إنما هو
171

التحرز عن مثل هذه الموارد التي لا يتوهم اجتماع الأمر والنهي فيها في شئ
واحد، لا التحرز عن مطلق الواحد النوعي أو الجنسي كما عرفت.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أنه إذا كان مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه في الخارج
ومباينا له فهو خارج عن مفروض الكلام في المسألة، ولا كلام ولا إشكال فيه
أبدا.
الثاني: أن محل الكلام فيها ما إذا كان مصداق المأمور به والمنهي عنه واحدا،
وذلك الواحد يكون مجمعا لهما، سواء كانت وحدته شخصية أو صنفية أو نوعية أو
جنسية، لما مر: من أن المراد من الواحد في مقابل المتعدد، وهو: ما إذا كان
مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه خارجا، لا في مقابل الكلي، وسواء
أكانت وحدته حقيقية أم انضمامية.
الجهة الرابعة
التي هي أهم الجهات في مسألتنا هذه
قد تقدم أن القول بالامتناع في المسألة يرتكز على سراية النهي من متعلقه
إلى ما ينطبق عليه المأمور به، وعلى هذا فلا محالة تقع المعارضة بين دليلي
الحكمين: كالوجوب والحرمة مثلا، لما عرفت: من أن مرد هذا القول: إما إلى القول
باتحاد المجمع حقيقة، أو القول بسراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. وعلى
كلا التقديرين - لا محالة - يكون أحد الدليلين كاذبا في مورد الاجتماع، وذلك
لاستحالة أن يكون المجمع - عندئذ - مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا. فإذا
الأخذ بمدلول كل منهما في ذلك المورد يستلزم رفع اليد عن مدلول الآخر فيه مع
بقاء موضوعه.
ومن هنا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح: أن التعارض هو تنافي مدلولي
الدليلين في مقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات والحقيقة،
172

أو بالعرض والمجاز، بمعنى: أن كل واحد من الدليلين يدل على نفي مدلول الدليل
الآخر بالمطابقة أو بالالتزام، فيكون مدلول الدليل الآخر منتفيا مع بقاء موضوعه
بحاله لا بانتفائه. وهذا هو الضابط الرئيسي لمسألة التعارض وواقعه الموضوعي (1).
ومن المعلوم أنه ينطبق في هذه المسألة على القول بالامتناع، فإن المجمع على هذا
يكون واحدا كما هو المفروض.
وعليه، فلا محالة يدل كل من دليلي الأمر والنهي على نفي مدلول الدليل
الآخر مع بقاء موضوعه بحاله، فإذا لا بد من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة:
فإن كان التعارض بينهما بالإطلاق - كما هو الغالب - يسقطان معا، فيرجع إلى
الأصل في المسألة من أصل لفظي إن كان، وإلا فإلى أصل عملي.
وإن كان بالعموم يرجع إلى أخبار الترجيح إذا كان التعارض بين الخبرين،
وإلا فإلى قواعد اخر على تفصيل في محله (2).
وإن كان أحدهما مطلقا والآخر عاما فيتقدم العام على المطلق، لأنه يصلح أن
يكون بيانا له دون العكس.
وإن كان أحدهما لبيا والآخر لفظيا فيتقدم الدليل اللفظي على الدليل اللبي،
كما هو واضح.
وإن كان كلاهما لبيا فلابد من الرجوع في المسألة إلى الأصل من أصل لفظي
أو عملي.
والقول بالجواز يرتكز على عدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه
المأمور به، لما سبق: من أن مرد هذا القول إلى تعدد المجمع حقيقة في مورد
الاجتماع والتصادق. وعليه، فلا محالة تقع المزاحمة بين إطلاقي الدليلين في مقام
الامتثال والفعلية.
وقد تقدم في بحث الضد بشكل واضح: أن نقطة انبثاق التزاحم بين الحكمين

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 346.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 427.
173

تنحصر في عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال، فإن صرف
قدرته في امتثال هذا يعجز عن امتثال ذاك، وإن عكس فبالعكس، فيكون انتفاء
كل منهما عند إعمال المكلف قدرته في امتثال الآخر بانتفاء موضوعه وهو القدرة،
لا بانتفائه مع بقاء موضوعه على حاله، وإلا لكان بينهما تعارض وتعاند في
مقام الجعل.
ولذا قلنا: إنه لا تنافي بين الحكمين المتزاحمين بحسب مقام الجعل أصلا،
فكل منهما مجعول لموضوعه على نحو القضية الحقيقية، من دون أية منافاة
ومعاندة بينهما في هذا المقام أبدا، والمنافاة بينهما إنما طرأت في مقام الامتثال
من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معا.
ومن هنا قلنا: إنه لا منافاة بينهما ذاتا وحقيقة، والمنافاة إنما هي بالعرض
والمجاز، ولأجل ذلك اختصت المزاحمة والمنافاة بينهما بالإضافة إلى العاجز،
فلا مزاحمة بينهما بالإضافة إلى القادر أصلا، وهذا بخلاف باب التعارض، فإنه
تنافي الحكمين بحسب مقام الجعل مع قطع النظر عن وجود أي شئ في الخارج
وعدمه فيه، ولذا لا يختص التعارض بين الحكمين بالإضافة إلى شخص دون
آخر. وقد تقدم الكلام في تمام هذه النقاط في بحث الضد بصورة مفصلة فلا نعيد.
هذا إذا لم تكن مندوحة للمكلف في مقام الامتثال. وأما إذا كانت مندوحة له بأن
يتمكن من امتثال كلا التكليفين معا - غاية الأمر أحدهما بنفسه والآخر ببدله - فهل
يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أم لا؟ وجهان:
فقد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) الوجه الأول بدعوى: أنه لا فرق في تحقق
المزاحمة بين حكمين أن تكون هناك مندوحة للمكلف أم لم تكن. ومن هنا
قال (قدس سره): إن أول مرجحات باب التزاحم هو ما إذا كان لأحد الحكمين المتزاحمين
بدل دون الحكم الآخر، فيتقدم ما ليس له بدل على ماله بدل في مقام المزاحمة،
وهذا إنما يتحقق في أحد موردين:
الأول: ما إذا زاحم بعض أفراد الواجب التخييري، الواجب التعييني، كما إذا
174

وقعت المزاحمة بين صرف المال الموجود عنده في نفقة عياله وصرفه في إطعام
ستين مسكينا - مثلا - بعد فرض أنه لا يكفي إلا لأحدهما فحسب، وحيث إن
للثاني بدلا في عرضه - وهو صوم شهرين متتابعين - فيتقدم الأول عليه في صورة
المزاحمة مطلقا ولو كان ماله البدل أهم منه.
الثاني: ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالوضوء أو الغسل، والأمر بغسل
الثوب أو البدن للصلاة، وبما أن للوضوء أو الغسل بدلا في طوله - وهو التيمم -
فيتقدم الأول عليه، فتنتقل الوظيفة إلى التيمم (1).
أقول: أما المورد الأول فقد تقدم الكلام فيه بشكل واضح في بحث الضد عند
التكلم عن مرجحات باب التزاحم، وقلنا هناك: إنه خارج عن كبرى هذا الباب (2)،
وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب التخييري: من أن الواجب هو الجامع بين
الفعلين أو الأفعال، لا كل واحد منهما مثلا: الواجب في خصال الكفارة هو الواحد
لا بعينه، لا كل واحد منها خاصة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد ذكرنا: أن منشأ التزاحم بين الحكمين إنما هو عدم
تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا تزاحم في أمثال هذا المورد، لفرض أن
المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين معا، ومعه لا مزاحمة بينهما أبدا، ضرورة
أنه كما يكون قادرا على امتثال الأمر بالنفقة والإتيان بمتعلقه في الخارج كذلك
يكون قادرا على امتثال الأمر بالجامع بين الخصال والإتيان بمتعلقه فيه. فما هو
واجب - وهو الجامع بينها - لا يكون مزاحما للأمر بصرف هذا المال في النفقة
ومانعا عنه، وما هو مزاحم له ومانع عنه - وهو إطعام ستين مسكينا - ليس بواجب،
فإذا لا يعقل التزاحم في هذه الموارد.
نعم التزاحم، إنما يكون في تطبيق هذا الجامع على خصوص هذا الفرد
وهو الإطعام، ولكن التطبيق بما أنه باختيار المكلف وإرادته ولا يكون ملزما

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 397.
(2) راجع المحاضرات: ج 3 ص 232 - 236.
175

في تطبيقه على هذا الفرد، لا من قبل الشرع، ولا من قبل العقل فله الخيار في
التطبيق على هذا أو ذاك، ولكن حيث إن تطبيقه على خصوص هذا الفرد في المقام
مزاحم لامتثال الواجب الآخر ومستلزم لتركه فلا يجوز بحكم العقل، بل هو ملزم
بتطبيقه على غيره لئلا يزاحم الواجب كما هو واضح. وتمام الكلام في ذلك قد
تقدم في بحث الضد فلاحظ.
وأما المورد الثاني فقد تقدم الكلام فيه أيضا بصورة واضحة في بحث الضد،
وقلنا هناك: إن أمثال هذا المورد داخلة في كبرى باب التعارض دون باب
التزاحم، فراجع، ولا حاجة إلى الإعادة.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن مسألة الاجتماع على القول بالامتناع وسراية النهي
من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به تدخل في كبرى باب التعارض، وتكون
من إحدى صغرياتها، فلابد - عندئذ - من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.
وعلى القول بالجواز وعدم السراية تدخل في كبرى باب التزاحم إذا لم تكن
للمكلف مندوحة في البين، بأن لا يتمكن من الإتيان بالصلاة في خارج الأرض
المغصوبة. وأما إذا كانت له مندوحة بأن كان متمكنا من الإتيان بها في الخارج
فلا تزاحم أبدا.
الخامسة
هل أن مسألتنا هذه من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية، أو من
المسائل الكلامية، أو من المبادئ التصديقية؟ وجوه وأقوال:
الأول: قيل: إنها من المسائل الفقهية، بدعوى: أن البحث في هذه المسألة - في
الحقيقة - عن عوارض فعل المكلف، وهي صحة العبادة في المكان المغصوب
وفسادها فيه، وهذا هو الضابط لكون المسألة فقهية لا غيرها.
ويرده ما تقدم: من أن البحث فيها ليس عن صحة العبادة وفسادها ابتداء،
بل البحث فيها متمحض في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به
176

وعدم سرايته. ومن الواضح جدا أن البحث من هذه الناحية لا يرتبط بعوارض
فعل المكلف أبدا، ولا يكون بحثا عنها أصلا، بل الصحة التي هي من عوارض فعله
تترتب على القول بعدم السراية، ونتيجة لهذا القول، وهذا ملاك كون هذه المسألة
مسألة أصولية لا غيرها، وذلك لما تقدم: من أن الميزان في كون المسألة أصولية
ترتب نتيجة فقهية عليها ولو باعتبار أحد طرفيها، من دون ضم كبرى مسألة
أصولية أخرى. وكيف كان، فعدم كون هذه المسألة من المسائل الفقهية من
الواضحات الأولية.
الثاني: أنها من المسائل الكلامية، بتقريب: أن البحث فيها عن استحالة
اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد وإمكانه عقلا. ومن الظاهر أن البحث عن هذه
الجهة - أعني: الاستحالة والإمكان - يناسب المسائل الكلامية دون المسائل
الأصولية، ضرورة أن الأصولي لابد أن يبحث عما يترتب عليه أثر شرعي، وليس
المناسب له البحث عن إمكان الأشياء واستحالتها.
وغير خفي أن البحث في هذه المسألة وإن كان عقليا ولا صلة له بعالم اللفظ
أبدا إلا أنه مع ذلك ليس من المسائل الكلامية.
والوجه فيه: هو أن الضابط في كون المسألة كلامية هو: أن يكون البحث فيها
عن أحوال المبدأ والمعاد، ومسألتنا هذه وإن كانت مسألة عقلية إلا أن البحث فيها
ليس بحثا عن أحوال المبدأ والمعاد في شئ، بل البحث فيها - كما عرفت - إنما هو
عن سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم السراية. ومن
المعلوم أنه لا مساس لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.
وبكلمة أخرى: أن المسائل الكلامية وإن كانت مسائل عقلية إلا أنه ليس كل
مسألة عقلية مسألة كلامية، بل هي طائفة خاصة منها، وهي ما يترتب على البحث
عنها معرفة المبدأ والمعاد، وبذلك نميز المسائل الكلامية عن غيرها، فكل مسألة
يترتب على البحث عنها هذا الغرض فهي من المسائل الكلامية، وإلا فلا، وحيث
إن هذا الغرض لا يترتب على البحث عن مسألتنا هذه فلا تكون منها.
177

نعم، يمكن إرجاع البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أحوال المبدأ
والمعاد، بتقريب: أن يجعل البحث فيها عن قبح صدور الأمر والنهي منه تعالى
بالإضافة إلى شئ واحد، وعدم قبح ذلك منه تعالى، وبهذه العناية وإن كانت من
المسائل الكلامية إلا أن البحث فيها ليس عن هذه الجهة في شئ، بل قد عرفت أن
البحث فيها عن السراية وعدمها بعد ما تعلق الأمر بطبيعة والنهي بطبيعة أخرى
واتفق انطباقهما على شئ فعندئذ يقع الكلام في سراية النهي من متعلقه إلى ما
تعلق به الأمر وعدم سرايته. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا: أن الضابط لكون المسألة أصولية أو كلامية
أو غيرهما إنما هو جهة البحث في تلك المسألة (1):
فإن كانت الجهة مما يترتب عليه الغرض الأصولي تكون المسألة أصولية.
وإن كانت مما يترتب عليه الغرض الكلامي تكون كلامية... وهكذا، كما هو واضح.
وحيث إنه يترتب على البحث عن هذه المسألة غرض أصولي فهي من المسائل
الأصولية، لا غيرها.
الثالث: أنها من المبادئ الأحكامية، والمراد بها: ما يكون البحث فيه عن حال
الحكم: كالبحث عن أن وجوب شئ هل يستلزم وجوب مقدمته، أو حرمة ضده
أم لا؟ والبحث في هذه المسألة في الحقيقة بحث عن حال الأحكام من حيث
إمكان اجتماع اثنين منها في شئ واحد وعدم إمكانه. وعليه، فتكون المسألة من
المبادئ الأحكامية، كما هو الحال في بقية مباحث الاستلزامات العقلية.
ويرده: أن المبادئ لا تخلو من أن تكون مبادئ تصورية أو مبادئ تصديقية
فلا ثالث لهما.
والمبادئ التصورية: عبارة عن تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما
وذاتياتهما.
والمبادئ التصديقية: هي التي تكون مبدأ للتصديق بالنتيجة، فإنها عبارة

(1) تقدم في ج 2 ص 225 مبحث الإجزاء.
178

عن الصغرى والكبرى المؤلف منهما القياس المنتج للعلم بالنتيجة. ومن تلك
المبادئ: المسائل الأصولية بالإضافة إلى المسائل الفقهية، باعتبار أنها تكون مبدأ
للتصديق بثبوت تلك المسائل، وتقع في كبرى القياس الواقع في طريق استنباطها،
وبهذا الاعتبار تكون المسائل الأصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه، لوقوعها
في كبرى قياساتها التي تستنتج منها المسائل الفقهية، ولا نعقل المبادئ الأحكامية
في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية، بداهة أنه: إن أريد من المبادئ
الأحكامية تصور نفس الأحكام: كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادئ
التصورية، إذ لا نعني بها إلا تصور الموضوع والمحمول كما مر.
وإن أريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه - ومنه الحكم بسراية
النهي إلى متعلق الأمر في محل الكلام - فهي من المبادئ التصديقية لعلم الفقه، كما
هو الحال في سائر المسائل الأصولية.
الرابع: أنها من المبادئ التصديقية لعلم الأصول، وليست من مسائله. وقد
اختار هذا القول شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وأفاد في وجه ذلك ما حاصله وهو: أن هذه
المسألة على كلا القولين لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الشرعي بلا
واسطة ضم كبرى أصولية. وقد تقدم: أن الضابط لكون المسألة أصولية هو وقوعها
في طريق الاستنباط بلا واسطة، والمفروض أن هذه المسألة ليست كذلك، فإن
فساد العبادة لا يترتب على القول بالامتناع فحسب، بل لا بد من ضم كبرى
أصولية إليه، وهي قواعد كبرى مسألة التعارض، فإن هذه المسألة على هذه القول
تدخل في كبرى تلك المسألة، وتكون من إحدى صغرياتها.
وعليه، ففساد العبادة إنما يترتب بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في
المسألة، لا مطلقا، وهذا شأن كون المسألة من المبادئ التصديقية دون المسائل
الأصولية، كما أنها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم (1).

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 333 - 334.
179

ويرد عليه: ما ذكرناه غير مرة من أنه يكفي في كون المسألة أصولية وقوعها
في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة بأحد طرفيها وإن كانت لا تقع بطرفها الآخر،
ضرورة أنه لو لم يكن ذلك كافيا في اتصاف المسألة بكونها أصولية بل يعتبر فيه
وقوعها في طريق الاستنباط بطرفها الآخر أيضا للزم خروج عدة من المسائل
الأصولية عن كونها أصولية:
منها: مسألة حجية خبر الواحد، فإنها لا تقع في طريق الاستنباط على القول
بعدم حجيته، ولا يترتب عليها أي أثر شرعي على هذا القول.
ومنها: حجية ظواهر الكتاب، فإنه على القول بعدمها لا يترتب عليها أي أثر
شرعي، وغيرهما من المسائل، مع أنه لا شبهة في كونها من المسائل الأصولية، بل
هي من أهمها.
نتيجة ذلك هي: أن الملاك في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق
الاستنباط بنفسها، ولو باعتبار أحد طرفيها في مقابل ما ليس له هذا الشأن، وهذه
الخاصة كمسائل بقية العلوم. والمفروض: أن مسألتنا هذه كذلك، فإنه يترتب عليها
أثر شرعي، وهو صحة العبادة على القول بالجواز وتعدد المجمع وان لم يترتب أثر
شرعي عليها على القول بالامتناع، وهذا يكفي في كونها مسألة أصولية.
وقد تبين لحد الآن: أن هذه المسألة كما أنها ليست مسألة فقهية كذلك ليست
مسألة كلامية، ولا من المبادئ الأحكامية، ولا من المبادي التصديقية.
الخامس: أنها من المسائل الأصولية العقلية، وهذا هو الصحيح. فلنا دعويان:
الأولى: أنها مسألة عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا.
الثانية: أنها مسألة أصولية تترتب عليها نتيجة فقهية بلا واسطة.
أما الدعوى الأولى: فهي واضحة، ضرورة أن الحاكم باستحالة اجتماع الأمر
والنهي في شئ واحد وإمكانه إنما هو العقل، فإنه يدرك استحالة الاجتماع فيما
إذا كان المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحدا، وجوازه فيما إذا كان
المجمع فيه متعددا.
180

وبتعبير آخر: أن القضايا العقلية على ضربين:
أحدهما: القضايا المستقلة العقلية، بمعنى: أن في ترتب النتيجة على تلك
القضايا لا نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، بل هي تتكفل لإثبات النتيجة بأنفسها،
وهذا معنى استقلالها، وهي: مباحث التحسين والتقبيح العقليين التي يبحث فيها
عن حكم العقل بحسن شئ أو قبحه في مقابل الأشاعرة، حيث إنهم ينكرون تلك
القضايا، ويدعون: أن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها أصلا.
وثانيهما: القضايا العقلية غير المستقلة، بمعنى: أن في ترتب النتيجة عليها
نحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، وإلا فلا تترتب عليها بأنفسها أية نتيجة فقهية،
وهي كمباحث الاستلزامات العقلية: كمبحث مقدمة الواجب، ومبحث الضد،
ونحوهما، فإن الحاكم في هذه المسائل هو العقل لا غيره، ضرورة أنه يدرك
وجود الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، وبين وجوبه وحرمة ضدة...
وهكذا.
وليس المراد من عدم استقلال تلك القضايا أن العقل في إدراكه غير مستقل،
فإنه لا معنى لعدم استقلاله في إدراكه! بداهة أنه لا يتوقف في إدراكه الملازمة
بينهما، أو الاستحالة والإمكان - كما في مسألتنا هذه - على أية مقدمة خارجية،
بل المراد من عدم استقلالها ما عرفت: من أنها تحتاج في ترتب نتيجة فعلية عليها
إلى ضم مقدمة شرعية كما هو واضح.
وأما الدعوى الثانية: فلما ذكرناه غير مرة: من أن المسألة الأصولية ترتكز
على ركيزتين:
الأولى: أن تقع في طريق استنباط الأحكام الكلية الإلهية، وتكون الاستفادة
من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب الانطباق، وبهذه الركيزة تمتاز المسائل
الأصولية عن القواعد الفقهية، فإن استفادة الأحكام منها من باب التطبيق لا
التوسيط. هذا، مضافا إلى أن الأحكام المستفادة منها أحكام شخصية لا كلية.
الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الاستفادة بنفسها من دون حاجة إلى ضم
181

كبرى أصولية أخرى، وبهذه الركيزة تمتاز عن مسائل بقية العلوم، فإنها وإن كانت
دخيلة في استنباط الأحكام وواقعة في طريق استفادتها إلا أنها لا بنفسها، بل
بضميمة مسألة أصولية.
وبعد ذلك نقول: إن في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين، فإنها تقع في
طريق الاستنباط بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى، لما عرفت
من أنه تترتب عليها صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز، وتعدد
المجمع بلا ضميمة مسألة أخرى وإن لم يترتب عليها أثر شرعي على القول
بالامتناع. ولكنك عرفت أن ترتب الأثر الشرعي على أحد طرفيها يكفي في
كونها مسألة أصولية.
السادسة
قد سبق: أن مسألتنا هذه من المسائل العقلية، باعتبار أن الحاكم باستحالة
اجتماع الأمر والنهي أو إمكانه إنما هو العقل، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا.
ومن هنا يظهر: أن النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الإيجاب والتحريم
مدلولين لدليل لفظي من كتاب أو سنة. بل يعم الجميع، أي: سواء كان مدلولين
لدليل لفظي أم لم يكونا، وإن كان عنوان المسألة يوهم اختصاص النزاع بما إذا كانا
مستفادين من اللفظ إلا أنه من ناحية الغلبة، حيث إن الدليل عليهما في الغالب هو
اللفظ دون غيره.
وعلى ضوء ذلك قد تبين أنه لا معنى لأن يقال: إن القول بالامتناع في
المسألة يرتكز على نظر العرف، والقول بالجواز فيها يرتكز على نظر العقل (1).
والوجه فيه هو: ما ذكرناه غير مرة: من أن نظر العرف إنما يكون متبعا في مقام
تعيين مفاهيم الألفاظ سعة وضيقا، لا في مثل مسألتنا هذه (2)، حيث إنه لا صلة لها

(1) نسب هذا القول إلى المحقق الأردبيلي وصاحب الرياض وسلطان العلماء (قدس سرهم) راجع رسالة
اجتماع الأمر والنهي لصاحب العروة (قدس سره): ص 52.
(2) منها: ما تقدم في ج 1 ص 222.
182

بعالم اللفظ أبدا، وليس البحث فيها عن تعيين مفهوم الأمر ومفهوم النهي، والبحث
فيها إنما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته.
وقد تقدم أنهما ترتكزان على وحدة المجمع في مورد التصادق والاجتماع
وتعدده فيه، فإن كان واحدا بحسب الواقع والحقيقة فلا مناص من القول بالامتناع
والسراية، وإن كان متعددا في الواقع فعندئذ لو قلنا بأن الحكم الثابت لأحد
المتلازمين يسري إلى الملازم الآخر فأيضا لا مناص من القول بالامتناع، ولكن
هذا مجرد فرض لا واقع له أصلا. وأما إذا قلنا بأنه لا يسري إلى الملازم الآخر
- كما هو الصحيح - فلابد من الالتزام بالقول بالجواز وعدم السراية.
ومن الطبيعي أن الملاك في السراية وعدمها - وهو وحدة المجمع وتعدده -
إنما هو بنظر العقل، ضرورة أن اللفظ لا يدل على أنه واحد في مورد الاجتماع
والتصادق، أو متعدد، فإن إدراك ذلك إنما هو بنظر العقل فإن أدرك أنه متعدد
واقعا كان المتعين هو القول بالجواز، فلا معنى لحكم العرف بالامتناع في هذا
الفرض، وإن أدرك أنه واحد واقعا لم يكن مناص من القول بالامتناع، لاستحالة
أن يكون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا. فإذا لا يعقل الحكم
بالجواز، وكيف كان، فلا أصل لهذا التفصيل أصلا.
وقد يوجه ذلك بأن نظر العرف حيث كان يبتني على المسامحة فيرون
المجمع في مورد الاجتماع والتصادق واحدا ويحكمون بامتناع الاجتماع. وأما
نظر العقل حيث إنه كان مبنيا على الدقة فيرى المجمع متعددا، ولذا يحكم بالجواز
بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم
الآخر (1).
ويرده: ما ذكرناه غير مرة: من أن نظر العرف لا يكون حجة في موارد تطبيق
المفاهيم على مصاديقها، بداهة أن المجمع إذا كان متعددا في الواقع فلا أثر لنظر

(1) التوجيه من صاحب العروة قدس سره في رسالة اجتماع الأمر والنهي ص 122.
183

العرف بكونه واحدا أصلا، ولا سيما نظره المسامحي، فالعبرة إنما هي بوحدة
المجمع وتعدده بحسب الواقع والحقيقة عند العقل. كما هو ظاهر.
وقد يوجه بتوجيه ثان، وملخصه: هو دعوى أن العرف لا يفهم من قوله تعالى
- مثلا - " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل " (1) إلا وجوب حصة منها،
وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة، فلا تنطبق على الصلاة فيها.
وعليه، فلا ينطبق المأمور به على المنهي عنه أصلا، وهذا معنى امتناع اجتماعهما
في شئ واحد عرفا.
وبتعبير آخر: أن المتفاهم العرفي من الأدلة الدالة على وجوب الصلاة أو
نحوهما بعد ملاحظة النهي عن التصرف في مال الغير هو: وجوب حصة خاصة
منها، وهي الحصة التي لا تقع في مال الغير، وعليه فالحصة الواقعة فيه ليست
مصداقا للصلاة المأمور بها، بل هي منهي عنها فحسب، فإذا يستحيل اجتماع
الأمر والنهي في شئ واحد. ومرد هذا إلى تخصيص أدلة وجوب الصلاة - مثلا -
بغير موارد النهي عن التصرف في أرض الغير، وهذا معنى امتناع اجتماعهما على
شئ واحد.
ولنأخذ بالمناقشة عليه:
أما أولا: فلأنه لا صلة لهذا الفرض بمحل البحث أبدا، وذلك لأن محل البحث
في المسألة إنما هو فيما إذا كان لكل من متعلقي الأمر والنهي إطلاق يشمل مورد
التصادق والاجتماع، بأن يكون المجمع فيه مصداقا للمأمور به من ناحية،
وللمنهي عنه من ناحية أخرى.
غاية الأمر: إذا فرض أن المجمع واحد بالذات والحقيقة فيقع التعارض بين
دليلي الوجوب والحرمة، فعندئذ لابد من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه.
وإذا فرض أنه متعدد واقعا وخارجا فيقع التزاحم بينهما فلابد - عندئذ - من
الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه.

(1) الإسراء: 78.
184

وأما إذا فرض أن الأمر من الأول تعلق بحصة خاصة من الصلاة - وهي
الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة - فلا موضوع - وقتئذ - للنزاع في
المسألة عن جواز الاجتماع وعدم جوازه، وسراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به
الأمر وعدم سرايته أصلا، إذ على هذا لا يعقل توهم اجتماعهما في مورد واحد،
لفرض تقييد دليل الوجوب من الأول بغير موارد الحرمة. ومن الواضح جدا أنه
لو كان المتفاهم العرفي من أدلة وجوب الصلاة أو نحوها ذلك لم يكن مجال
وموضوع لهذه المسألة أصلا. كما لا يخفى.
وأما ثانيا: فلأن أصل هذه الدعوى فاسد، وذلك لأن المتفاهم العرفي من
الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة ليس ذلك التقييد والتضييق، ضرورة أن التقييد بحصة
خاصة يحتاج إلى دليل يدل عليه، وحيث إنه لا دليل عليه فلا يمكن الحكم
بالتقييد.
ومن ناحية أخرى: أن ما دل على حرمة التصرف في أرض الغير لا يصلح أن
يكون مقيدا له، ضرورة أن نسبته إليه ليست كنسبة الخاص إلى العام والمقيد إلى
المطلق ليكون المتفاهم العرفي منه ذلك التقييد، بل المتفاهم عرفا من كل منهما هو
الإطلاق أو العموم بنحو يكون مورد الاجتماع داخلا فيهما معا، ولا يصلح شئ
منهما لأن يكون مقيدا للآخر فيه كما هو واضح. وعليه، فلا محالة تقع المعارضة
بينهما في ذلك المورد إذا كان المجمع فيه واحدا بالذات والحقيقة. وأما إذا كان
متعددا ذاتا وحقيقة فعندئذ لو قلنا بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم
الآخر أيضا تقع المعارضة بينهما، وأما إذا لم نقل بها - كما هو كذلك - فتقع
المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين.
ومن هنا يكون مرد البحث في هذه المسألة إلى البحث عن نقطتين:
الأولى: هل المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد بالذات والحقيقة
أو أنه متعدد كذلك؟
الثانية: أنه على تقدير كونه متعددا هل يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر
185

أم لا؟ وسيأتي البحث عن هاتين النقطتين فيما بعد - إن شاء الله تعالى - بصورة
واضحة.
فالنتيجة: هي أنه لا أصل لهذا التفصيل أبدا.
السابعة
قد حققنا فيما تقدم أن القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:
الأول: أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع واحدا.
الثاني: أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين بحسب الوجود إلى
الملازم الآخر. والقول بالجواز يرتكز على أمرين:
الأول: أن يكون المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع متعددا.
الثاني: أن لا يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
وعلى ضوء هذا فيدخل في محل النزاع جميع أنواع الإيجاب والتحريم، ما
عدا الإيجاب والتحريم التخييريين. فلنا دعويان:
الأولى: جريان النزاع في جميع أنواعهما ما عدا التخييريين منهما، سواء كانا
نفسيين، أم غيريين، أم تعينيين، أم عينيين، أم كفائيين.
الثانية: عدم جريانه في خصوص التخييريين منهما.
أما الدعوى الأولى: فلضرورة استحالة اجتماع اثنين منها في شئ واحد،
سواء كانا من نوع واحد أو من نوعين، لوضوح أنه إذا فرض كون المجمع واحدا
فكما أنه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيين فيه - كما عرفت - فكذلك
لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريين، بداهة أنه لا يعقل أن يكون شئ
واحد واجبا غيريا وحراما كذلك على القول بهما، فإن مرد الأول إلى أمر الشارع
بإتيانه مقدمة لواجب نفسي، ومرد الثاني إلى نهي الشارع عن فعله مقدمة
للاجتناب عن فعل حرام كذلك. ومن الواضح جدا أنه لا يمكن اجتماعهما في
شئ واحد، ضرورة استحالة أن يكون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي
عنه معا ولو كانا غيريين.
186

وإن شئت فقل: إن اجتماع الوجوب والحرمة الغيريين كما أنه مستحيل من
ناحية المنتهى مستحيل من ناحية المبدأ أيضا، فإن كون شئ مقدمة لواجب
يقتضي محبوبيته كما أن كونه مقدمة لحرام يقتضي مبغوضيته. ومن المعلوم أنه
لا يمكن تأثير كل منهما في مقتضاه، كما أنه لا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة
في تحريم شئ واحد ووجوبه معا.
وكذا لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيين، لوضوح أنه لا يمكن أن
يكون في فعل واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثر كل منهما في
مقتضاه، من دون فرق بين أن يكون المكلف بهما آحاد المكلفين كما في التكاليف
العينية، أو الطبيعي الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائية.
وأما الدعوى الثانية: فلعدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة التخييريين
في شئ واحد ليقع التنافي بينهما.
والوجه فيه: هو أن الحرمة التخييرية تمتاز عن الوجوب التخييري في نقطة
واحدة، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شئ واحد، وهي: أن مرد الحرمة
التخييرية إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع، لا
بالجامع بينهما، وإلا لكان كل من الفعلين محرما تعيينا، لفرض أن النهي المتعلق
بالجامع ينحل بانحلال أفراده، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل.
وفي المقام: إذا فرض أن المفسدة قائمة بالطبيعي الجامع فلا محالة تسري إلى
أفراده، وتثبت لكل فرد منها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد تقدم: أن المتفاهم العرفي من الإطلاق الثابت بمقدمات
الحكمة في طرف النهي هو الانحلال، وتعلق النهي بكل فرد من أفراد متعلقه
العرضية والطولية (1).
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن النهي لو تعلق بالجامع بينهما لا بالمجموع لكان
كل منهما حراما تعيينا لا تخييرا كما هو ظاهر.

(1) سبق ذكره في ص 107.
187

فإذا مرجع النهي التخييري إلى النهي عن الجمع بين الفعلين، ومرد الوجوب
التخييري إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء، لا إلى إيجاب كل منهما
بخصوصه كما تقدم بيان ذلك في بحث الواجب التخييري بشكل واضح (1).
وبعد ذلك نقول: إنه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع
بينهما، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى.
أما بحسب المبدأ فلأنه لا مانع من قيام مصلحة ملزمة بالجامع بينهما وقيام
مفسدة ملزمة بالمجموع منهما، ضرورة أن المانع إنما هو: قيام كلتيهما في شئ
واحد، لا قيام إحداهما بشئ والأخرى بشئ آخر، وهذا واضح.
وأما بحسب المنتهى فلفرض أن المكلف قادر على امتثال كلا التكليفين معا،
لأنه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر فامتثل كليهما. وعليه، فلا تنافي بينهما أصلا،
أي: لا في المبدأ ولا في المنتهى. هذا بناء على ما حققناه في بحث الواجب
التخييري: من أن الواجب هو الجامع بين فعلين أو أفعال.
وأما بناء على أن يكون الواجب هو: كل واحد منهما بخصوصه، غاية الأمر
عند الإتيان بأحدهما يسقط الآخر فأيضا لا تنافي بينهما، أعني: بين الواجب
التخييري كذلك والحرام التخييري أما بحسب المنتهى فواضح. وأما بحسب المبدأ
فلأنه لا منافاة بين قيام مصلحة في كل واحد منهما خاصة، بحيث مع استيفاء تلك
المصلحة في ضمن الإتيان بأحدهما لا يمكن استيفاء الأخرى في ضمن الإتيان
بالآخر وقيام مفسدة بالجمع بينهما في الخارج كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن ملاك النزاع في المسألة يعم جميع أنواع الإيجاب
والتحريم، ما عدا الإيجاب والتحريم التخييريين.
الثامنة
قد يتوهم أنه لابد من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة،

(1) تقدم في ص 39.
188

ضرورة أنه بدونه يلزم التكليف بالمحال (1).
بيان ذلك هو: أنه لا إشكال في اعتبار القدرة في متعلق التكليف واستحالة
توجيهه نحو العاجز، غاية الأمر: أن اعتبارها على وجهة نظرنا إنما هو من ناحية
حكم العقل في ظرف الامتثال فحسب، لا مطلقا، وأن المكلف في هذا الظرف
لابد أن يكون قادرا، ولا يحكم باعتبار قدرته مطلقا حتى في ظرف الجعل،
كما أنه لا يحكم باعتبار القدرة في متعلقه بأن يكون المتعلق حصة خاصة منه
وهي الحصة المقدورة.
وعلى وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) إنما هو من ناحية اقتضاء نفس التكليف
ذلك. ومن هنا يكون متعلقه على وجهة نظره خصوص الحصة المقدورة، دون
الأعم منها ومن غير المقدورة، كما تقدم تفصيل ذلك في بحث الضد بشكل
واضح (2).
وعلى كلا هذين المسلكين فإن كان المكلف قادرا على إيجاد متعلق التكليف
في ضمن فرد ما خارجا - كما إذا فرض أنه قادر على الإتيان بالصلاة في خارج
الأرض المغصوبة - فعندئذ لا مانع من توجيه التكليف بالصلاة إليه، ولا يكون هذا
من التكليف بالمحال. وأما إذا فرض أنه غير قادر على الإتيان بالصلاة - مثلا - لا
في خارج الدار المغصوبة، لعدم المندوحة له ولا فيها، لأن الممنوع الشرعي
كالممتنع العقلي - فإذا لا يمكن توجيه التكليف بالصلاة إليه، لأنه من التكليف
بالمحال.
وعليه، فلا معنى للنزاع في المسألة عن جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم
جوازه، ضرورة أن الأمر على هذا الفرض غير معقول ليقع النزاع في ذلك.
ولكن هذا التوهم خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا. والوجه في ذلك
ما تقدم: من أن النزاع في المسألة إنما هو في سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به

(1) اعتبره صاحب الفصول الغروية (قدس سره) في فصوله: ص 124.
(2) تقدم في ج 3 ص 55 وما بعدها.
189

الأمر وبالعكس، وعدم سرايته. وقد سبق أن القول بالامتناع يرتكز على أحد
أمرين:
الأول: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحدا.
الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أن
القول بالجواز يرتكز على أمرين هما: تعدد المجمع، وعدم سراية الحكم من
أحدهما إلى الآخر كما هو الصحيح. ومن الواضح جدا أنه لا دخل لوجود
المندوحة في ذلك أبدا.
وبكلمة أخرى: أن اعتبار وجود المندوحة في مقام الامتثال أجنبي عما هو
محل النزاع في المسألة، فإن محل النزاع فيها - كما عرفت - في السراية وعدمها،
وهما لا يبتنيان على وجود المندوحة أبدا، بل يبتنيان على أمر آخر كما مر. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا: أنه يترتب على القول بالامتناع والسراية وقوع
التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع والتكاذب بينهما فيه
بحسب مرحلة الجعل، بحيث لا يمكن أن يكون كل منهما مجعولا على نحو يشمل
مورد الاجتماع، فإن ثبوت كل منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في
تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها، وهذا معنى التعارض بينهما.
فإذا لابد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن
الصادق. وقد تقدم بيان ذلك بشكل واضح (1).
وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن
مندوحة في البين، لما عرفت: من أنه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلا، لفرض
تمكن المكلف - عندئذ - من امتثال كليهما معا، ومعه لا مزاحمة بينهما.
نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، لعدم تمكن المكلف

(1) تقدم في ص 172 - 173.
190

وقتئذ من امتثال كليهما معا، فإذا لابد من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أنه على القول بالامتناع يترتب وقوع المعارضة بين
دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم
تكن، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالإضافة إلى هذا القول أصلا.
وعلى القول بالجواز يترتب وقوع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين
لا مطلقا، كما عرفت.
وقد تحصل من ذلك: أنه إذا كانت مندوحة للمكلف في مقام الامتثال وجب
عليه امتثال كلا التكليفين معا، لفرض أن كليهما فعلي في حقه - عندئذ - بلا أية
مزاحمة. وأما إذا لم تكن مندوحة فتقع المزاحمة بينهما، وعندئذ لا يمكن توجيه
كلا التكليفين معا إليه، لأنه من التكليف بالمحال، فلابد إذا من الرجوع إلى قواعد
باب المزاحمة، فيقدم أحدهما على الآخر لمرجح إن كان، وإلا فهو مخير بين أن
يصرف قدرته في امتثال هذا، وأن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة
في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة،
لا أنه يوجب عدم صحة النزاع فيها كما هو ظاهر.
التاسعة
قد يتخيل أن النزاع في المسألة في الجواز والامتناع يبتني على القول بتعلق
الأحكام بالطبائع دون الأفراد، بتقريب: أنه على القول بتعلق الأحكام بالأفراد
والمصاديق لا مناص من الالتزام بالقول بالامتناع، ضرورة أنه لا يعقل أن يكون
المجمع - وهو الفرد الواحد الخارجي - مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا ولم
يقل أحد بجواز ذلك حتى القائل بجواز الاجتماع، وذلك لأنه إنما يقول به
بدعوى: أن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون لا مطلقا. فإذا لا يعقل النزاع في
المسألة على هذا القول، وهذا بخلاف ما إذا كان متعلق الأوامر والنواهي هو
191

الطبائع الكلية، فإنه يبقى - حينئذ - مجال للبحث، فإن الأمر إذا تعلق بطبيعة
والنهي تعلق بطبيعة أخرى ولكن اتفق انطباقهما في الخارج على شئ فعندئذ يقع
النزاع في سراية كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الآخر وعدم سرايته.
وقد تقدم: أن مرد ذلك إلى أن تعدد متعلقي الأمر والنهي هل يوجب تعدد
المجمع في مورد الاجتماع والتصادق أو لا يوجب؟ فالقائل بالامتناع يدعي
الثاني، وأن تعدده لا يوجب تعدد المعنون في الخارج. والقائل بالجواز يدعي
الأول، وأن تعدده يوجب تعدد المعنون فيه.
ولنأخذ بالمناقشة فيه، وهي: أن هذا الخيال يرتكز على نقطة واحدة، وهي:
أن معنى تعلق الأمر بالأفراد هو: تعلقه بها بما لها من المشخصات الخارجية
واللوازم المفردة للطبيعة، بحيث تكون تلك اللوازم داخلة في متعلق الأمر، لا أنها
ملازمة له. وعليه، فالغصب حيث إنه من مقولة الأين مشخص للصلاة في المكان
المغصوب ومفرد لها، وقد عرفت أن المشخص والمفرد مقوم لها وداخل في حيز
أمرها، فإذا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد شخصي في الخارج
وهو الصلاة المتشخصة بالغصب.
ومن البديهي أنه يستحيل أن يتعلق الأمر والنهي بشئ واحد في آن واحد
وأن يكون ذلك الشئ الواحد محبوبا ومبغوضا معا، حتى عند من يجوز التكليف
بالمحال: كالأشعري، فضلا عن غيره، لأن نفس هذا التكليف محال، لا أنه من
التكليف بالمحال. وعليه فلا يعقل النزاع، وهذا بخلاف ما إذا تعلق الأمر بالطبيعة،
فإن الغصب خارجا وإن كان مشخصا لها إلا أنه غير داخل في المطلوب وخارج
عما تعلق به الأمر. وعليه، فالنزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه في
المسألة - عندئذ - أمر معقول، فإنه يرجع إلى النزاع في أنه هل يسري الحكم من
أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أم لا؟ فعلى الأول لا مناص من القول
بالامتناع، وعلى الثاني من القول بالجواز.
ولكن قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد أن تلك النقطة
192

خاطئة جدا، وليس لها واقع موضوعي أبدا، وذلك لما حققناه هناك، وملخصه هو:
أن تشخص كل وجود بنفس ذاته وهويته الشخصية، لا بوجود آخر، بداهة أن كل
وجود يباين وجودا آخر، وكل فعليه تأبى عن فعلية أخرى، ويستحيل اتحاد
إحداهما مع الأخرى. وأما الأعراض الملازمة لهذا الوجود فلا يعقل أن تكون
مشخصة له، ضرورة أن تلك الأعراض واللوازم أفراد لطبائع شتى لكل منها وجود
وماهية، فيستحيل أن تكون من مشخصاته، وإطلاق المشخص عليها مبني على
ضرب من المسامحة.
وعلى الجملة: فكل وجود جوهري في الخارج ملازم لوجودات عديدة فيه،
وتلك الوجودات من أعراضه: ككمه وكيفه وأينه ووضعه ونحو ذلك. ومن المعلوم
أن لتلك الأعراض وجودات أخرى في مقابل ذلك الوجود الجوهري ومباينة له.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن كل وجود متشخص بنفسه فلا يحتاج في تشخصه
إلى شئ آخر.
ومن هنا قالوا: إن تشخص الماهية بالوجود، وأما تشخص الوجود فهو، بنفس
ذاته لا بشئ آخر، وإلا لدار أو ذهب الأمر إلى ما لا نهاية له كما هو واضح، وهذا
معنى قولهم: الشئ ما لم يوجد لم يتشخص.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا يعقل أن تكون تلك الوجودات من
مشخصات ذلك الوجود الجوهري، لما عرفت: من أن تشخص كل منها في نفسه،
بل هي وجودات في قباله وملازمة له في الخارج.
وعلى هدي هذا البيان يظهر: أنه لا فرق بين تعلق الأمر بالطبيعة وتعلقه
بالفرد أصلا، وذلك لأن وجودات تلك الأعراض - كما أنه على القول بتعلق الأمر
بالطبيعة - خارجة عن متعلقه وغير داخلة فيه - غاية الأمر أنها ملازمة لوجود
الطبيعة في الخارج - كذلك على القول بتعلقه بالفرد، لما مر: من أن تشخص الفرد
بوجوده لا بوجودات تلك الأعراض الملازمة له خارجا، فإنها وجودات في قبال
193

وجود ذلك الفرد ومباينة له، غاية الأمر أنها ملازمة له في الخارج. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر على الفرض تعلق بالفرد فحسب، لا به وبما هو
ملازم له في الوجود الخارجي كما هو واضح، إلا على القول بسراية الحكم من
أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، ولكنه مجرد فرض لا واقع له.
وعلى ذلك يترتب أن تلك الأعراض واللوازم خارجة عن متعلق الأمر وغير
داخلة فيه. فإذا لا فرق بين القول بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد من هذه
الناحية أبدا.
وقد تبين لحد الآن أنه لا وقع لهذا التفصيل أصلا، ولا يرجع إلى معنى
محصل.
وقد يتخيل في المقام أن القول بالامتناع يرتكز على القول بتعلق الأوامر
والنواهي بالأفراد.
والقول بالجواز يرتكز على القول بتعلقها بالطبائع، بدعوى: أن متعلق الأمر
والنهي إذا كان هو الطبيعة فكل من متعلقي الأمر والنهي يغاير الآخر في مرحلة
تعلق الحكم به، فلم يجتمع الأمر والنهي في واحد، وإنما الاجتماع في مرحلة
أخرى غير مرحلة تعلق الأمر والنهي بشئ. وأما على القول الآخر - وهو القول
بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد - فبما أن متعلقهما هو الفرد فلا يمكن اجتماعهما
على فرد واحد وتعلقهما به.
فالنتيجة: هي أنه لابد من الالتزام بهذا التفصيل.
ولكن هذا الخيال فاسد جدا وغير مطابق للواقع قطعا. والوجه في ذلك: هو
أن هذا التفصيل بظاهره لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، إذ لا فرق بين تعلق
الأوامر والنواهي بالطبائع وتعلقهما بالأفراد من هذه الناحية أبدا، ضرورة أن
تعلقهما بالطبائع لا يقتضي تعدد المجمع في مورد الاجتماع كذلك كما أن تعلقهما
بالأفراد لا يقتضي وحدة المجمع فيه، فإن وحدة المجمع في مورد الاجتماع
ترتكز على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي تركيبا حقيقيا، وأما إذا لم يكن
194

التركيب بينهما حقيقيا - كما إذا تعلق الأمر بمقولة والنهي بمقولة أخرى - فلا مناص
من الالتزام بتعدده فيه. ومن الواضح جدا أنه لا يفرق في ذلك بين تعلق الأمر
بطبيعي هذه المقولة أو بأفرادها، وكذا الحال في النهي، ضرورة أنه كما لا يمكن
التركيب بين هذه المقولة وتلك واندراجهما تحت مقولة ثالثة كذلك لا يمكن
التركيب بين فرد من هذه المقولة وفرد من تلك وكونهما موجودين بوجود واحد،
فإذا لا فرق بين تعلق الأحكام بالطبيعة وتعلقها بالأفراد من هذه الناحية أصلا.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أن ملاك وحدة المجمع في مورد الاجتماع أو تعدده
فيه أمر آخر، ولا صلة له بتعلق الأمر والنهي بالطبيعة أو بالفرد.
على أنك عرفت سابقا: أن النواهي جميعا متعلقة بالأفراد بحسب الواقع
والحقيقة دون الطبائع بما هي، لما ذكرناه: من أن النهي المتعلق بطبيعة ينحل
بانحلال أفراد تلك، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل مغاير للنهي الثابت لفرد
آخر... وهكذا.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن ملاك تعدد المجمع هو انطباق عنوانين
متغايرين عليه بتخيل أن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ولكن من الواضح
جدا أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون العنوانان كليين أو جزئيين، ضرورة أن
انطباق طبيعتين كليتين إذا اقتضى تعدد المجمع في الخارج كذلك اقتضى تعدده
فيه انطباق حصتين جزئيتين، لما ذكرناه: من أن الفرد حصة من الطبيعة، وتلك
الحصة بالنظر العقلي تنحل إلى ماهية وتقيد بقيد خاص، وهذا التقيد يوجب
صيرورتها حصة في مقابل سائر الحصص.
مثلا: الحصة المتقررة في ذات زيد تمتاز عن الحصة المتقررة في ذات عمرو،
والموجود بكل من الوجودين غير الموجود بالوجود الآخر ضرورة، وإلا لم يكن
بينهما امتياز، وهو باطل بالبداهة، وعلى ذلك فانطباق الطبيعتين المتغايرتين على
شئ لو كان مقتضيا لتعدده في الخارج لكان انطباق الحصتين المتغايرتين عليه
واجتماعهما فيه أيضا مقتضيا له لا محالة، فما توهم من أن الأول مقتض له دون
الثاني باطل جزما.
195

وعلى الجملة: فلو كان صدق الطبيعتين الكليتين كالصلاة والغصب - مثلا -
على شئ مجديا في رفع محذور استحالة اجتماع الوجوب والحرمة وموجبا
لتعدده لكان صدق الطبيعتين الجزئيتين عليه مجديا في ذلك وموجبا لتعدده، فلا
فرق بينهما من هذه الناحية أبدا، ضرورة أن الصلاة في الدار المغصوبة إذا كانت
متحدة مع الغصب خارجا فلا مناص من القول بالامتناع، من دون فرق بين تعلق
الأمر بالطبيعة وتعلقه بالفرد، غاية الأمر على الأول يكون الفرد مصداقا للمأمور
به، وعلى الثاني يكون بنفسه مأمورا به، وهذا لا تعلق له بما نحن بصدد إثباته.
وإذا فرض أنها غير متحدة معه في الخارج بأن يكون التركيب بينهما
انضماميا لا اتحاديا فلا مناص من القول بالجواز، من دون فرق في ذلك بين القول
بتعلق الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد.
فالنتيجة: أن هذا التفصيل بالتحليل العلمي لا يرجع إلى معنى محصل أصلا،
إلا أن يوجه ذلك إلى معنى معقول، وهو ما أشرنا إليه سابقا: من أن وجود كل فرد
يمتاز في الخارج عن وجود فرد آخر ويباينه، ولهذا الوجود فيه لوازم، ولتلك
اللوازم وجودات بأنفسها في قبال وجود ذلك الفرد، ويعبر عنها مسامحة
بالمشخصات، وهي عبارة عن الأعراض الطارئة على هذا الوجود الجوهري:
ككمه، وكيفه، وأينه، وما شاكل ذلك.
وعلى هذا: فإن قلنا بتعلق الأحكام بالطبائع فتلك الأعراض الملازمة لوجود
الفرد خارجة عن حيز الأمر، فإذا لا مانع من تعلق النهي بها، لفرض أن الأمر تعلق
بشئ والنهي تعلق بشئ آخر، غاية الأمر أنه ملازم لوجود المأمور به في
الخارج، فلا يلزم محذور اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد، وعليه فلا مناص
من القول بالجواز.
وإن قلنا بتعلقها بالأفراد فتكون تلك الأعراض الملازمة لها في الخارج
داخلة في متعلق الأمر، بمعنى: أن الأمر لم يتعلق بها فحسب، بل تعلق بها مع
لوازمها وأعراضها.
196

وعليه، فإذا فرض تعلق النهي بتلك الأعراض فيلزم اجتماع الأمر والنهي في
شئ واحد، مثلا: الصلاة في الدار المغصوبة ملازمة للغصب فيها والتصرف في
مال الغير، فعندئذ: إن قلنا بكون متعلق الأمر هو طبيعي الصلاة فلا يسري الأمر منه
إلى الغصب الملازم لوجود ذلك الطبيعي في الخارج، لفرض أن الأمر متعلق
بالطبيعة فحسب، وعليه فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد. وإن قلنا
بكون متعلقه هو الفرد دون الطبيعي فحيث أنه لم يتعلق به فحسب على الفرض،
بل تعلق به وبلوازمه فلا محالة يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في شئ واحد،
وهو محال.
ولكن قد عرفت فساد ذلك، وملخصه هو: أنه لا فرق في ذلك بين تعلق
الأوامر بالطبائع وتعلقها بالأفراد أصلا، فكما أنه على تقدير تعلقها بالطبائع تلك
الأعراض واللوازم خارجة عن متعلقها فكذلك على تقدير تعلقها بالأفراد، لما
عرفت من أن تلك الوجودات ليست من مشخصاتها، ضرورة ان تشخص كل
وجود بنفسه، بل هي من عوارضها التي تعرض عليها في الخارج وملازمة
لوجوداتها فيه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأوامر متعلقة بنفس الأفراد على القول به، لا بها
وبلوازمها الخارجية، ضرورة أن القائلين بتعلقها بالأفراد لا يقولون بذلك كما هو
المفروض، وعليه فلا مجال لدعوى: أنه على القول بتعلق الأمر بالأفراد: هو أنه
متعلق بها وبأعراضها معا فيلزم - عندئذ - اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد،
وهو محال. فإذا تبقى دعوى: أن النهي المتعلق بهذا الفرد من الغصب يسري إلى
لازمه - وهو الصلاة في مفروض الكلام - باعتبار أنها لازمة لوجود الغصب
في الخارج.
ولكن هذه الدعوى فاسدة، وذلك لعدم الدليل على سراية الحكم المتعلق
بالملزوم إلى لازمه. كما أنه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى
الملازم الآخر. ضرورة أن المستفاد من الدليل هو: ثبوت الحكم للملزوم فحسب.
197

وأما ثبوته للازمه فهو يحتاج إلى دليل آخر، ومجرد كون شئ لازما لشئ آخر
لا يكون دليلا على وجوب اتحادهما في الحكم، لوضوح أن غاية ما يقتضي ذلك
هو عدم إمكان اختلافهما فيه.
وعلى الجملة: فهذا التفصيل يبتني على أحد أمرين:
الأول: دعوى: أن تلك الأعراض من مشخصات الأفراد ومقوماتها، وعليه
فلا محالة الأمر المتعلق بالأفراد متعلق بها أيضا.
الثاني: دعوى: سراية النهي المتعلق بالأفراد إلى ما ينطبق عليه المأمور به.
ولكن قد عرفت أن كلتا الدعويين خاطئة وغير مطابقة للواقع، فإذ لا مجال
لهذا التفصيل أصلا.
وقد يتوهم أن النزاع في المسألة يبتني على النزاع في مسألة أصالة الوجود،
أو الماهية. فإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الوجود فلا مناص في هذه المسألة من
القول بالامتناع. وإن قلنا في تلك المسألة بأصالة الماهية فلا مانع من الالتزام
بالقول بالجواز.
بيان ذلك: هو أن القائل بأصالة الوجود يدعي أن ما في الخارج هو الوجود،
والماهية منتزعة من حدوده، وليس لها ما بإزاء فيه أصلا. والقائل بأصالة الماهية
يدعي أن ما في الخارج هو الماهية، والوجود منتزع من إضافة الماهية إلى
الموجد، وليس له ما بإزاء.
وبعد ذلك نقول: إنه بناء على أصالة الوجود في تلك المسألة وأن الصادر من
الموجد هو الوجود لا غيره فلا محالة يكون هو متعلق الأمر والنهي دون الماهية،
لفرض أنه لا عين ولا أثر لها في الخارج. وعليه، فبما أن الوجود في مورد
الاجتماع واحد فلا يعقل تعلق الأمر والنهي به، ضرورة استحالة أن يكون شئ
واحد مأمورا به ومنهيا عنه معا، ومحبوبا ومبغوضا في آن واحد، فإذا لا مناص
من القول بالامتناع.
وأما بناء على أصالة الماهية فلا محالة يكون متعلق الأمر والنهي هو الماهية،
198

لفرض أنه على هذا لا عين ولا أثر للوجود. وعليه، فبما أن الماهية المتعلقة للأمر
كالصلاة - مثلا - في مورد الاجتماع غير الماهية المتعلقة للنهي كالغصب فلا مانع
من القول بالجواز واجتماع الأمر والنهي، وذلك لأن الماهيات متباينات بالذات
والحقيقة، فلا يمكن اتحاد ماهية مع ماهية أخرى، ولا يمكن اندراج ماهيتين
متباينتين تحت ماهية واحدة، فإذا - في الحقيقة - لا اجتماع للأمر والنهي في
شئ واحد.
ولكن هذا التوهم خاطئ جدا، والوجه في ذلك هو: أنه على القول بأصالة
الوجود وإن كانت حقيقة الوجود واحدة إلا أن لها مراتب عديدة وتتفاوت تلك
المراتب بالشدة والضعف، وكل مرتبة منها تباين مرتبة أخرى.
ومن ناحية أخرى: أن لكل مرتبة منها عرض عريض وأفراد كثيرة.
ومن ناحية ثالثة: أن لكل وجود ماهية واحدة وحد فارد، ويستحيل أن يكون
لوجود واحد ماهيتان وحدان.
نعم، وإن أمكن أن يكون لوجود واحد عنوانان أو عناوين متعددة إلا أنه
لا يمكن أن يكون له ماهيتان وحدان، ضرورة أن لكل ماهية وجودا واحدا،
ولا يعقل أن يكون للماهيتين وجودا، وهذا واضح.
فالنتيجة على ضوء هذه النواهي الثلاث: هي أن للمجمع في مورد الاجتماع
والتصادق إذا كان وجودا واحدا فلا محالة يكون له ماهية واحدة. وعليه فلا فرق
بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية، فكما أنه على الأول يستحيل
اجتماع الأمر والنهي فكذلك على الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
والصحيح: هو عدم الفرق في محل النزاع بين القول بتعلق الأوامر بالأفراد
وتعلقها بالطبائع أصلا.
نتائج ما ذكرناه عدة نقاط:
الأولى: أن محل النزاع في مسألتنا هذه إنما هو في سراية النهي من متعلقه
199

إلى ما تعلق به الأمر، وبالعكس وعدم سرايته، لا ما يوهم عنوان المسألة في
كلمات الأصحاب قديما وحديثا: من كون النزاع فيها كبرويا، لما عرفت من عدم
تعقل كون النزاع فيها كذلك.
الثانية: أنة قد تقدم: أن القول بالامتناع يبتني على أحد أمرين:
الأول: أن يكون المجمع في مورد الاجتماع واحدا، فإذا كان واحدا وجودا
وماهية لا مناص من القول بالامتناع.
الثاني: أنه على تقدير كون المجمع متعددا أن يلتزم بسراية الحكم من أحد
المتلازمين إلى الملازم الآخر، وعند منع أحدهما ينتفي القول بالامتناع. والقول
بالجواز يرتكز على أمرين:
الأول: أنه لا يكون المجمع واحدا، وإلا فلا مجال له.
الثاني: أنه على تقدير كونه متعددا لا نقول بسراية الحكم من أحد
المتلازمين إلى الملازم الآخر، وعند انتفاء أحد الأمرين ينتفي القول بالجواز.
الثالثة: أن المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض، فتقع
المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة. فإذا لابد من الرجوع إلى قواعد بابه
وإجراء أحكامه كما تقدم.
وعلى القول بالجواز تدخل في كبرى باب التزاحم، فتقع المزاحمة بينهما إذا
لم تكن مندوحة في البين. فإذا لا بد من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة وإجراء
أحكامه.
الرابعة: أن نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة الآتية - وهي مسألة النهي
في العبادات - هي: أن البحث في مسألتنا هذه بحث عن تنقيح الصغرى لتلك
المسألة، باعتبار أنها على القول بالامتناع تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون
من إحدى صغرياتها.
الخامسة: أن المراد من الواحد في محل الكلام في مقابل المتعددة بأن
لا يكون ما تعلق به الأمر غير ما تعلق به النهي، لا في مقابل الكلي.
200

السادسة: قد تقدم أن مسألتنا هذه من المسائل الأصولية العقلية: لتوفر شروط
المسألة الأصولية فيها، وليست من المسائل الكلامية أو الفقهية أو من المبادئ
الأحكامية أو التصديقية كما مر.
السابعة: أن النزاع في المسألة في جواز الاجتماع أو امتناعه لا يبتني على
وجود المندوحة في البين، لما عرفت من أن كلا من القول بالجواز والامتناع
يرتكز على ركيزة أجنبية عن وجود المندوحة وعدم وجودها بالكلية، وهي
وحدة المجمع وتعدده، فإن المجمع في مورد الاجتماع والتصادق إذا فرض أنه
واحد حقيقة فلا مناص من القول بالامتناع، كانت هناك مندوحة أم لم تكن. وإذا
فرض أنه متعدد كذلك فلا مناص من القول بالجواز، بناء على ما هو الصحيح من
عدم سراية الحكم من الملزوم - وهو متعلق النهي إلى لازمه - وهو ما ينطبق عليه
متعلق الأمر.
الثامنة: قد سبق أن النزاع يعم جميع أنواع الإيجاب والتحريم ما عدا
الإيجاب والتحريم التخييريين، فلا فرق بين كونهما نفسيين أو غيريين أو كفائيين،
فإن ملاك استحالة الاجتماع في شئ واحد موجود في الجميع. واما خروج
الإيجاب والتحريم التخييريين عن محل النزاع فلعدم إمكان اجتماعهما في شئ
واحد كما عرفت، فتكون سالبة بانتفاء الموضوع.
التاسعة: أن النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الإيجاب والتحريم
مدلولين لدليل لفظي، ضرورة أنه يعم جميع أقسام الإيجاب والتحريم، سواء أكانا
مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا.
العاشرة: أن مسألتنا هذه من المسائل العقلية، فإن الحاكم بالجواز أو الامتناع
فيها إنما هو العقل، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا، غاية الأمر أنها من العقليات غير
المستقلة، وليست من العقليات المستقلة كما تقدم.
الحادية عشرة: أنه لا فرق في جريان النزاع في المسألة بين القول بتعلق
الأحكام بالطبائع وتعلقها بالأفراد. وتوهم أنه على تقدير تعلقها بالأفراد لا مناص
من القول بالامتناع فاسد، لما سبق بشكل واضح.
201

قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقدمة الثامنة ما هذا نصه: (إنه لا يكاد
يكون من باب الاجتماع إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الإيجاب والتحريم
مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق والاجتماع كي يحكم على الجواز
بكونه فعلا محكوما بالحكمين، وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين،
أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى كما يأتي تفصيله.
واما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد
الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما
فيما لم يكن لواحد منهما قيل بالجواز أو الامتناع. هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الدلالة والإثبات فالروايتان الدالتان على الحكمين
متعارضتان إذا أحرز أن المناط من قبيل الثاني، فلابد من عمل المعارضة بينهما
من الترجيح والتخيير، وإلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين
المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا لكونه أقوى مناطا، فلا
مجال - حيئذ - لملاحظة مرجحات الروايات أصلا، بل لابد من مرجحات
المقتضيات المتزاحمات كما تأتي الإشارة إليها. نعم، لو كان كل منهما متكفلا
للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض، فلابد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة
لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب
المزاحمة، فتفطن) (1).
نلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أن مسألتنا هذه ترتكز على ركيزة واحدة وتدور مدارها وجودا
وعدما، وهي: أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع
والتصادق مشتملا على ملاك كلا الحكمين معا.

(1) كفاية الأصول: ص 189 - 190.
202

مثلا: الصلاة في الدار المغصوبة التي تكون مجمعا لمتعلقي الأمر والنهي إنما
تكون من أفراد هذه المسألة إذا كانت مشتملة على ملاك كلا الحكمين. وعليه
فالمجمع على القول بالجواز يكون محكوما بكلا الحكمين معا، لفرض وجود
الملاك لهما من ناحية، وعدم التنافي بينهما من ناحية أخرى.
وعلى القول بالامتناع يكون محكوما بأقوى الملاكين إذا كان أحدهما أقوى
من الآخرة وأما إذا كانا متساويين فهو محكوم بحكم آخر غير هذين الحكمين
بمقتضى أصل لفظي أو أصل عملي، لفرض أنه لا أثر لملاكهما عندئذ.
وأما إذا فرض أن المجمع لم يكن مشملا على ملاك كلا الحكمين معا، فلا
يكون من هذا الباب - أي: باب الاجتماع - من دون فرق في ذلك بين أن يكون
مشتملا على ملاك أحدهما أم لا.
الثانية: أنا لو أحرزنا من الخارج بأن المجمع لمتعلقي الأمر والنهي مشتمل
على ملاك واحد من الحكمين دون الآخر فتقع المعارضة بين دليليهما الدالين
عليهما، لعدم إمكان ثبوت كليهما معا في الواقع. فإذا لابد من الرجوع إلى قواعد
باب التعارض من الترجيح أو التخيير.
فالنتيجة: أن ملاك التعارض بين الدليلين في مقام الإثبات هو: أن يكون
مورد الاجتماع مشتملا على مناط كليهما معا فتقع المزاحمة بين المقتضيين. فإذا
لابد من الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم من الأهمية ونحوها، ولا وجه
للرجوع إلى مرجحات باب التعارض، لانتفائه على الفرض.
الثالثة: لو كان كل من الدليلين متكفلا للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما،
فعندئذ لابد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة، إلا إذا جمع بينهما بحمل
أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فيردها أن النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر
203

مذهب الإمامية القائلين بتبعية الأحكام للملاكات الواقعية وجهات النفس
الأمرية، بل يعم وجهة نظر جميع المذاهب، حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية
الأحكام للجهات الواقعية، ضرورة أن البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في
شئ واحد وامتناعهما لا يختص بمذهب دون آخر كما هو ظاهر. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد تقدم أن النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلقه
إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته. وقد عرفت أن القول بالسراية يبتني
على أحد أمرين:
الأول: أن يكون المجمع واحدا وجودا وماهية.
الثاني: أن لا يتخلف اللازم عن الملزوم في الحكم بأن يثبت الحكم الثابت
للملزوم له أيضا، والقول بعدمها يبتني على أمرين معا:
الأول: أن يكون المجمع متعددا وجودا وماهية.
الثاني: ان يتخلف اللازم عن الملزوم في الحكم، بمعنى: أن الحكم الثابت له
لا يسري إلى لازمه، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن النزاع في مسألتنا هذه لا يبتني على مسألة
تبعية الأحكام الواقعية لجهات المصالح والمفاسد أصلا، ضرورة أن إحدى
المسألتين أجنبية عن المسألة الأخرى بالكلية، ولا صلة لإحداهما بالأخرى أبدا.
وعلى الجملة: فهاهنا مسألتان: إحداهما مسألتنا هذه، والاخرى مسألة تبعية
الأحكام لجهات المصالح والمفاسد الواقعية، وقد عرفت أن نقطة انطلاق الخلاف
في إحداهما غير نقطة انطلاق الخلاف في الأخرى.
أما في الأولى: فهي أن المجمع لمتعلقي الأمر والنهي إن كان واحدا وجودا
وماهية في مورد الاجتماع والتصادق فلا مناص من القول بالامتناع والسراية،
حتى على مذهب الأشعري المنكر للتبعية من ناحية، المجوز للتكليف بالمحال
من ناحية أخرى، فإن هذا - أعني: اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد ذاتا
204

وحقيقة - ليس من التكليف بالمحال، بل نفس هذا التكليف محال كما هو واضح.
وإن كان متعددا وجودا وماهية من جانب وقلنا بعدم سراية الحكم من أحد
المتلازمين إلى الملازم الآخر من جانب آخر فلا مناص من القول بالجواز، بلا فرق
بين تبعية الأحكام للملاكات الواقعية وعدم تبعيتها لها، وهذا ظاهر. فما أفاده (قدس سره)
من ابتناء النزاع في المسألة على القول بالتبعية لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.
وأما في الثانية: فهي أن الأشاعرة حيث إنهم قد أنكروا مسألة التحسين
والتقبيح العقليين وقالوا بأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها، وأن كل ما أمر
الشارع به حسن، وكل ما نهى الشارع عنه قبيح، وأن أفعاله تعالى لا تتصف بالقبح
أبدا فلأجل ذلك قد التزموا بعدم تبعية الأحكام الواقعية للملاكات، لا في متعلقاتها
ولا في أنفسها، لفرض أن عندهم لا مانع من صدور اللغو من الشارع الحكيم. وأما
الإمامية فحيث إنهم قد التزموا بتلك المسألة - وأن أفعاله تعالى تتصف بالحسن
مرة وبالقبح مرة أخرى - فلذلك التزموا بالتبعية المزبورة، وإلا لكان التكليف لغوا
محضا، وصدور اللغو من الشارع الحكيم قبيح.
فهذه النقطة هي منشأ الخلاف في تلك المسألة، أعني: مسألة تبعية الأحكام
لجهات المصالح والمفاسد وعدم تبعيتها لها.
فالنتيجة: أنه لا مساس لمسألتنا هذه بتلك المسألة أصلا.
وأما النقطة الثانية: فيردها ما تقدم بصورة مفصلة في بحث الضد: من أن
مسألة التعارض لا ترتكز على وجهة نظر مذهب دون آخر، بل تعم جميع
المذاهب والآراء، حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقا،
وذلك لما ذكرناه هناك: من أن مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين هو: عدم إمكان
ثبوت الحكمين في مقام الجعل، وأن ثبوت كل منهما في هذا المقام ينفي الآخر
ويكذبه.
ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح
والمفاسد والقول بعدمها، وكون مورد الاجتماع مشتملا على مناط أحد الحكمين
205

أم لا. وقد تقدم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح في بحث الضد (1) فلا نعيد.
وعليه، فما أفاده (قدس سره) من الضابط للتعارض بين الدليلين - وهو: كون مورد
الاجتماع بينهما مشتملا على مناط أحدهما - لا أصل له، بل صدوره من مثله (قدس سره)
غريب جدا.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا هناك: أن التزاحم على نوعين:
الأول: التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض.
الثاني: التزاحم بين الأحكام كذلك.
أما النوع الأول فقد ذكرنا سابقا: أنه خارج عن محل الكلام، فإن محل
الكلام إنما هو في النوع الثاني، ولذا قلنا: إن الترجيح فيه بيد المولى، فله أن
يلاحظ الجهات الواقعية ويرجح بعضها على بعضها الآخر، وليس ذلك من وظيفة
العبد، فإن وظيفته امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى، على أنه ليس للعبد
طريق إلى معرفة تلك الجهات ليرجح بعضها على بعضها الآخر مع قطع النظر عن
الأحكام المجعولة على طبقها.
وبعد ذلك نقول: إنه (قدس سره) إن أراد من التزاحم بين المقتضيين ذلك فقد عرفت:
أن هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الكلام، وأن الترجيح فيه بيد المولى
دون العبد، ولذا لا يرجع فيه إلى مرجحات النوع الثاني من التزاحم. وإن أراد منه
التزاحم بين الدليلين في مرتبة الاقتضاء فقد تقدم: أن التزاحم هو تنافي الحكمين
في مرتبة الفعلية الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال
من دون أي تناف بينهما في مقام الإنشاء والجعل كما مر بشكل واضح. وعليه،
فلا يرجع قوله (قدس سره): " بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين " إلى معنى محصل
أصلا.
وأضف إلى ذلك ما ذكرناه هناك: من أن مسألة التزاحم أيضا لا تبتنى على
وجهة نظر مذهب دون آخر، بل تعم جميع المذاهب والآراء، حتى مذهب

(1) راجع ج 3 ص 227 - 226.
206

الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للملاكات مطلقا، ضرورة أن مسألة التزاحم
كمسألة التعارض، فإنها ترتكز على ركيزة واحدة وتدور مدار تلك الركيزة
وجودا وعدما، وهي: عدم تمكن المكلف من الجمع بين المتزاحمين في مقام
الامتثال. ومن المعلوم أن مسألة التبعية أجنبية عن تلك الركيزة بالكلية، فإذ ما
أفاده (قدس سره) من الضابط لمسألة التزاحم - وهو: كون المجمع مشتملا على مناط
كلا الحكمين - لا يرجع إلى أصل صحيح.
وأما النقطة الثالثة: فيمكن المناقشة فيها بوجوه:
الأول: أن موارد التوفيق العرفي غير موارد التعارض، فإذا فرض التعارض
بين الدليلين فمعناه: أنه لا يمكن الجمع العرفي بينهما، وفيما إذا أمكن ذلك
فلا تعارض، ففرض التعارض مع فرض إمكان الجمع العرفي لا يجتمعان كما هو
واضح.
الثاني: أن التوفيق العرفي بين الدليلين إنما يكون بملاحظة مرجحات باب
الدلالة، كأن يكون أحدهما أظهر من الآخر أو نحو ذلك، لا بملاحظة مرجحات
باب المزاحمة، لوضوح الفرق بين البابين، وأن أحدهما أجنبي عن الآخر بالكلية،
ضرورة أن مرجحات باب المزاحمة توجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وهو
القدرة، ولا توجب التصرف بالحمل على الاقتضاء أو نحوه كما هو ظاهر.
الثالث: أن هذا الحمل - أي: حمل الأمر والنهي على بيان المقتضي في
متعلقه - خارج عن الفهم العرفي، ولا يساعد عليه العرف أبدا.
الرابع: أن هذا الحمل لا يجدي في دفع المحذور اللازم من اجتماع الأمر
والنهي في شئ واحد، وذلك لأن اجتماع المصلحة والمفسدة في شئ واحد في
نفسه وإن كان لا مانع منه، إلا أن ذلك لا يمكن من جهة تأثير المصلحة في
محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته، لاستحالة أن يكون شئ واحد محبوبا
ومبغوضا معا.
قال (قدس سره) في المقدمة التاسعة ما هذا لفظه: إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا
207

الباب أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهى عنها مشتملا على مناط
الحكم مطلقا حتى في حال الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك من إجماع
أو غيره فلا إشكال، ولو لم يكن إلا إطلاق دليلي الحكمين ففيه تفصيل، وهو: أن
الإطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي
والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، ولو كان بصدد الحكم الفعلي
فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في الحكمين على القول بالجواز، إلا إذا
علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين. واما على
القول بالامتناع فالإطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين
في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد المتنافيين كما يمكن أن يكون لأجل
المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل انتفائه، إلا أن يقال: إن قضية
التوفيق بينهما هو: حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن أحدهما
أظهر، وإلا فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص: أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان
من مسألة الاجتماع، وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا
إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلا فعلى
الامتناع (1).
ونلخص هذه المقدمة في عدة خطوط:
الأول: أن غرضه (قدس سره) من هذه المقدمة: بيان ما يمكن أن يحرز به كون المجمع
في مورد الاجتماع مشتملا على ملاك كلا الحكمين معا، من قيام دليل من الخارج
ليكون بذلك داخلا في هذا الباب، أي: باب الاجتماع: كالإجماع أو نحوه في
دخوله في المسألة.

(1) كفاية الأصول: ص 190.
208

الثاني: أنه إذا لم يكن من الخارج دليل فهل هناك قرينة أخرى تدل عليه
أم لا؟ فقد ذكر (قدس سره) أن إطلاق كل من دليلي الحكمين إن كان في مقام بيان الحكم
الاقتضائي لكان قرينة على ثبوت المقتضي والمناط لكلا الحكمين في مورد
الاجتماع، من دون فرق في ذلك بين القول بالجواز والقول بالامتناع.
وأما إذا كان في مقام بيان الحكم الفعلي: فإن قلنا بالجواز كان إطلاق كل
منهما أيضا قرينة على ثبوت المقتضي والمناط لكليهما معا في محل الاجتماع
والتصادق، إلا إذا علم من الخارج بكذب أحدهما وعدم جعله في الواقع، فعندئذ
تقع المعارضة بينهما، فلابد من الرجوع إلى قواعد بابها. وأما إذا قلنا بالامتناع
فتقع المعارضة بين دليليهما، ولابد - عندئذ - من رفع اليد عن أحدهما. وعليه، فلا
دلالة على ثبوت المقتضي والمناط لهما في مورد الاجتماع، ضرورة أن انتفاء
أحدهما كما يمكن أن يكون لوجود المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون
من جهة انتفاء المقتضي.
ولعل الوجه في ذلك ما ذكرناه غير مرة: من أنه لا طريق لنا إلى إحراز
ملاكات الأحكام ومقتضياتها مع قطع النظر عن ثبوت نفس هذه الأحكام.
وعلى ضوء هذا فإذا فرض انتفاء حكم في مورد فلا يمكن الحكم بأن انتفاءه
من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له، ضرورة أنه كما يحتمل أن يكون
انتفاؤه من هذه الناحية يحتمل أن يكون من ناحية عدم المقتضي له في هذا الحال.
بل قد ذكرنا: أن الأمر كذلك حتى فيما إذا كان انتفاء الحكم من جهة عجز
المكلف عن امتثاله وعدم قدرته عليه، فإن انتفاءه في هذا الحال كما يمكن أن
يكون من ناحية وجود المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون من ناحية عدم
المقتضي له، بداهة أنه لا طريق لنا إلى ثبوت المقتضي له في هذا الحال كما هو
ظاهر.
الثالث: أنه يمكن رفع التعارض بحمل كل من الإطلاقين على الحكم
الاقتضائي إذا لم يكن في البين أظهر، وإلا فيحمل لخصوص الظاهر منهما على
209

ذلك. وعليه، فهما دالان على ثبوت المقتضي والمناط في المورد، أعني: مورد
الاجتماع والتصادق، وذلك لأن المانع من دلالتهما عليه إنما هو تعارضهما
وتنافيهما بحسب مقام الإثبات والدلالة، وأما بعد علاجه بالجمع بينهما عرفا
فلا مانع من دلالتهما عليه أصلا.
ولنأخذ بالمناقشة في هذه الخطوط:
أما الخط الأول: فلأنه يبتني على تسليم أن يكون المعتبر في باب الاجتماع
هو كون المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين معا في مورد الاجتماع،
لتستدعي الحاجة إلى إثبات ذلك في الخارج بدليل. ولكن قد عرفت منع ذلك في
المقدمة الثامنة، وقلنا هناك: إن مسألة الاجتماع لا ترتكز على وجهة نظر مذهب
دون آخر، بل تجري على وجهة نظر جميع المذاهب والآراء، وذلك لما تقدم: من
أن المسألة تبتنى على ركيزة أخرى وتدور مدار تلك الركيزة، وهي: أن المجمع إذا
كان واحدا وجودا وماهية فلابد من الالتزام بالامتناع، سواء فيه القول بتبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدمها، وسواء أكان المجمع مشتملا على
ملاك أم لم يكن. وإذا كان متعددا كذلك من ناحية ولم نقل بسراية الحكم من
الملزوم إلى اللازم من ناحية أخرى فلابد من الالتزام بالجواز كذلك. ومن الواضح
جدا أن تلك الركيزة لا تختص بمذهب دون آخر وبحالة دون أخرى، وأجنبية عن
القول بالتبعية بالكلية، ضرورة أنه لا فرق في استحالة اجتماع الضدين بين وجهة
نظر دون آخر كما هو ظاهر.
وأما الخط الثاني: فيقع الكلام فيه من ناحيتين:
الأولى: في بيان مراده (قدس سره) من الحكم الفعلي.
الثانية: في بيان مراده من الحكم الاقتضائي.
أما الناحية الأولى: فإن أراد (قدس سره) من الحكم الفعلي الحكم الذي بلغ إلى مرتبة
البعث أو الزجر فقد ذكرنا غير مرة: أن بلوغ الحكم إلى تلك المرتبة يتوقف على
210

وجود موضوعه بجميع شرائطه وقيوده في الخارج، ضرورة استحالة فعلية الحكم
بدون فعلية موضوعه كذلك، فما لم يتحقق موضوعه خارجا يستحيل أن يكون
الحكم فعليا، فتتبع فعلية الحكم فعلية موضوعة حدوثا وبقاء. ومن هنا لا يلزم أن
تكون فعليته حين جعله وإبرازه في الخارج، بل هي غالبا متأخرة عنه، بل ربما
تتأخر عنه بآلاف السنين.
والسر فيه: هو أن الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، أعني:
للموضوعات المقدرة وجودها في الخارج، ولا يتوقف جعلها على وجودها فيه
أبدا، ضرورة أنه يصح جعلها لها من دون أن يتوقف على وجود شئ منها
في الخارج.
مثلا: وجوب الحج مجعول للعاقل البالغ القادر المستطيع مع بقية الشرائط،
ووجوب الصوم مجعول للبالغ العاقل القادر الداخل عليه شهر رمضان مع سائر
الشرائط... وهكذا، ولا يتوقف جعلها على وجود موضوعها خارجا، ولكن فعلية
تلك الأحكام وتحققها في الخارج تتوقف على فعلية موضوعاتها، فمتى تحقق
موضوعها تحقق الحكم.
ومن ذلك قد ظهر: أن فعلية الحكم خارجة عن مفاد الدليل، وأجنبية عنه
رأسا، وتابعة لفعلية موضوعه، ضرورة أن مفاد الدليل هو ثبوت الحكم على نحو
القضية الحقيقية، ولا يدل على أزيد من ذلك، فلا نظر له إلى فعليته بفعلية موضوعه
أبدا، لوضوح أن كل قضية حقيقية غير ناظرة إلى وجود موضوعها في الخارج
وتحققه فيه، بل مفادها ثبوت الحكم على تقدير وجود موضوعها فيه من دون
تعرض لحاله وجودا وعدما.
وعليه، فلا معنى لما أفاده (قدس سره): من أن إطلاق كل من الدليلين قد يكون لبيان
الحكم الفعلي، وذلك لما عرفت من أن فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه في
الخارج، وأجنبية عن مفاد الدليل بالكلية، فلا يكون الدليل متكفلا لفعليته أبدا (1).

(1) راجع ج 2 ص 319 و ج 3 ص 213.
211

وإن أراد منه الحكم الإنشائي - وهو الحكم المبرز في الخارج بمبرز ما، بأن
يكون إطلاق كل من الدليلين في مقام بيان إبراز ما اعتبره المولى، غاية الأمر دليل
النهي في مقام بيان اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل، ودليل الأمر في
مقام بيان اعتباره الفعل على ذمته. وقد يطلق عليه الحكم الفعلي باعتبار أنه فعلي
من قبل الشارع وتام - فيرد عليه: أن اجتماع الحكمين كذلك في شئ واحد
محال، سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع، ضرورة أنه لا يمكن الجمع بين
اعتبار ثبوت فعل على ذمة المكلف واعتبار محروميته عنه.
وعلى الجملة: فالمجمع إذا كان واحدا يستحيل جعل الوجوب والحرمة له
معا، سواء فيه القول بالجواز والقول بالامتناع، وإذا كان متعددا فلا مانع من
جعلهما معا، لفرض أن الوجوب مجعول لشئ، والحرمة مجعولة لشئ آخر، ولا
مانع من ذلك أبدا، بلا فرق بين القول بالامتناع والقول بالجواز، فالعبرة إنما هي
بوحدة المجمع وتعدده، لا بكون الدليلين متكفلين للحكم الفعلي أو الاقتضائي،
كما هو واضح.
وأما الناحية الثانية: فلا نعقل للحكم الاقتضائي معنى محصلا ما عدا كون
الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ويكون إطلاق كل من دليلي الأمر والنهي
في مقام بيان ذلك، وإرشادا إلى أن فيه جهة تقتضي وجوبه وجهة تقتضي حرمته،
وهذا هو مراده (قدس سره) من الحكم الاقتضائي.
ولكن يرد عليه:
أولا: أن هذا خارج عن محل الكلام، فإن محل البحث في المسألة - كما
عرفت في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته.
ومن المعلوم أنه لا بد من فرض وجود الأمر ووجود النهي، ليبحث في مورد
اجتماعهما عن سراية أحدهما من متعلقه إلى ما تعلق به الآخر وعدم السراية.
والمفروض أنه بناء على هذا ليس أمر ولا نهي، ما عدا كون الفعل مشتملا على
مصلحة ومفسدة لنبحث عن سراية أحدهما إلى الآخر وعدمها.
212

فالنتيجة: هي أن مرد الإطلاقين على ذلك في الحقيقة إلى إخبار الشارع
بوجود المصلحة والمفسدة في مورد الاجتماع، لا إلى جعل حكم تكليفي.
وبكلمة أخرى: أن حمل الأمر والنهي على ذلك - أي: على الإخبار عن
وجود مصلحة في فعل ووجود مفسدة فيه، بأن يقال: إن المولى في مقام بيان
الإخبار عنه - لا يمكن، وذلك لأن هذا خارج عن وظيفة الشارع، فإن وظيفته
بيان الأحكام الشرعية، لا الإخبار عن وجود المصالح والمفاسد في الأفعال.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن هذا الحمل خارج عن المتفاهم العرفي وبعيد عنه جدا،
بل غير واقع في الشريعة المقدسة أصلا، كيف؟ فإن حمل الأمر الوارد في الشريعة
المقدسة على الإخبار عن وجود مصلحة في الفعل وحمل النهي الوارد فيها على
الإخبار عن وجود مفسدة فيه لا يمكن بحسب المتفاهم العرفي أبدا.
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن هذا الحمل ممكن عرفا إلا أنه - عندئذ -
وإن كان لا مانع من اجتماع المصلحة والمفسدة في شئ واحد في نفسه مع قطع
النظر عن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية - ضرورة أنه لا مانع من أن يكون
شئ واحد مشتملا على مصلحة من جهة وعلى مفسدة من جهة أخرى - ولكن
لا يمكن تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية معا، بداهة استحالة أن يكون شئ
واحد محبوبا ومبغوضا في آن واحد.
وعليه فإذا فرض أن المجمع واحد وجودا وماهية فلا يعقل تأثير المصلحة
في محبوبيته وتأثير المفسدة في مبغوضيته، وتأثير الأولى في جعل الوجوب له
وتأثير الثانية في جعل الحرمة له، وإن كان لا مضادة بين نفس الوجوب والحرمة
من جهة أنهما أمران اعتباريان. وقد ذكرنا أنه لا مضادة بين الأمور الاعتبارية
أصلا، إلا أنه لا يمكن جعلهما لشئ واحد، من ناحية أن جعل الحكم الأول
كاشف عن محبوبية هذا الشئ، وجعل الثاني كاشف عن مبغوضيته، ولا يمكن أن
تجتمع المحبوبية والمبغوضية في شئ واحد. هذا من جهة.
213

ومن جهة أخرى: أنه لا يمكن امتثالهما في الخارج. ومن المعلوم أن جعل
مثل هذا الحكم لغو، وصدور اللغو عن الشارع الحكيم مستحيل.
وعلى الجملة: فعلى تقدير كون المجمع واحدا وإن كان لا مانع من اجتماع
المصلحة والمفسدة فيه بنفسه إلا أنه لا يمكن ذلك من ناحية تأثيرهما في
المحبوبية والمبغوضية.
فإذا لا يمكن أن يكون الإطلاقان كاشفين عن وجود مصلحة فيه كذلك
ومفسدة، فعلى هذا - لا محالة - تقع المعارضة بينهما، لكذب أحدهما في الواقع
على الفرض، وعدم إمكان صدق كليهما معا، فيرجع - عندئذ - إلى أحكامها
وقواعدها.
ودعوى: أنهما كاشفان عن وجودهما في المجمع في نفسه من دون تأثيرهما
في شئ - وقد مر أنه لا مانع من اجتماعهما في شئ في ذاته - خاطئة جدا،
وغير مطابقة للواقع قطعا، وذلك لأنها مخالفة للوجدان والضرورة، بداهة أن
المجمع - كالصلاة في الدار المغصوبة - إذا كان واحدا فلا محالة: إما أن يكون
محبوبا أو مبغوضا، ولا ثالث لهما، ضرورة أنه لا يعقل أن لا يكون محبوبا ولا
مبغوضا، بأن لا تؤثر المفسدة فيه ولا المصلحة، أضف إلى ذلك أن هذا الفرض لغو
محض فلا يترتب عليه أي أثر. فإذا لا يمكن حمل إطلاقي الأمر والنهي على ذلك
أصلا، لعدم أثر شرعي مترتب عليه.
وأما إذا كان المجمع متعددا فلا مانع من تأثيرهما في المحبوبية والمبغوضية
معا أصلا وفي جعل الوجوب والحرمة، من دون أية منافاة ومضادة في البين،
وهذا واضح.
وأما الخط الثالث: فيرده ما تقدم: من أن هذا الجمع - أي: الجمع بين الدليلين
بالحمل على الاقتضاء - خارج عن المتفاهم العرفي، ولا يساعد عليه العرف كما
مر بشكل (1) واضح.

(1) راجع ص 212.
214

وقد تحصل من جميع ما ذكرناه عدة أمور:
الأول: أن أساس مسألة إمكان الاجتماع واستحالته يبتني على وحدة
المجمع وجودا وماهية في مورد الاجتماع، وتعدده كذلك.
فعلى الأول: لا مناص من القول بالامتناع والاستحالة، قلنا بتبعية الاحكام
للمصالح والمفاسد أم لا، قلنا بكون المجمع مشتملا على الملاك أم غير مشتمل،
ضرورة أن كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك هذا القول في المسألة.
وعلى الثاني: إذا لم نقل بسراية الحكم من الملزوم إلى اللازم - كما هو
الصحيح - فلا مناص من القول بالجواز كذلك، ومن هنا قلنا: إن هذه المسألة على
القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض، وعلى القول بالجواز تدخل في
كبرى باب التزاحم إذا لم تكن مندوحة في البين كما سبق.
الثاني: أن أساس مسألة التعارض يرتكز على تنافي الحكمين في مقام الجعل
بحيث لا يمكن جعل كليهما معا، سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات المصالح
والمفاسد وعدمه، وكون مورد التعارض مشتملا على ملاك أحد الحكمين أم لا،
بداهة أن كل ذلك أجنبي عما هو ملاك التعارض.
وأساس مسألة التزاحم بين الحكمين يرتكز على عدم تمكن المكلف من
الجمع بينهما في مقام الامتثال، سواء قلنا بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد أم لا،
وسواء أكان المجمع مشتملا على مناط كلا الحكمين أم لم يكن.
الثالث: أن ما أفاده (قدس سره) في هاتين المقدمتين - أعني: المقدمة الثامنة والتاسعة
جميعا - لا يبتني على أصل صحيح كما تقدم بشكل واضح.
* * *
ثمرة مسألة الاجتماع
المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا هو: أن العبادة صحيحة
على القول بالجواز وتعدد المجمع مطلقا ولو كان عالما بحرمة ما هو ملازم
215

للواجب في مورد الاجتماع، فضلا عما إذا كان جاهلا بها أو ناسيا لها. وعليه،
فتصح الصلاة في المكان المغصوب. ومجرد ملازمتها لارتكاب الحرام خارجا لا
يمنع عن صحتها بعد فرض أن متعلق الأمر غير متعلق النهي. وفاسدة على القول
بالامتناع ووحدة المجمع كذلك ولو كان جاهلا بالحرمة، فضلا عما إذا كان عالما
بها. هذا هو المشهور.
ولكن خالف في ذلك شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره)، وذهب إلى بطلان الصلاة على
القول بالجواز وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالما بالحرمة، لا فيما إذا كان
جاهلا بها أو ناسيا لها، فله (قدس سره) هناك دعويان:
الأولى: بطلان الصلاة على هذا القول في صورة العلم بالحرمة.
الثانية: صحة الصلاة في صورة الجهل والنسيان.
أما الدعوى الأولى: فلأنها تبتنى على ما أفاده (قدس سره) في بحث الضد، وملخصه
هو: أن منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك، لا حكم
العقل بقبح التكليف العاجز.
والوجه في ذلك: هو أن الغرض من التكليف حيث إنه كان جعل الداعي
للمكلف نحو الفعل فمن الواضح أن هذا بنفسه يقتضي كون متعلقه مقدورا، ضرورة
استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلا وشرعا.
ونتيجة ذلك: هي أن متعلقه حصة خاصة من الطبيعة، وهي الحصة المقدورة
عقلا وشرعا. وأما الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقه وإن كانت حصة
من الطبيعة على نحو الإطلاق إلا أنها ليست من حصتها بما هي مأمور بها ومتعلقة
للتكليف.
وعلى ذلك، فبما أن الأمر متعلق بخصوص الحصة المقدورة عقلا وشرعا
وهي الصلاة في غير المكان المغصوب - مثلا - فلا محالة لا تكون الصلاة في

(1) راجع أجود التقريرات ج 1 ص 369.
216

المكان المغصوب مصداقا للمأمور به وفردا له، فإنها وإن لم تكن متحدة مع
الحرام في الخارج إلا أنها ملازمة له خارجا، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعا
وإن كانت مقدورة عقلا. والمفروض أن الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي. فإذا
لا محالة يختص الأمر بالحصة الخاصة من الصلاة، وهي الحصة المقدورة،
فلا تنطبق على الحصة غير المقدورة، وهي الصلاة في المكان المغصوب.
فالنتيجة: هي أنه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع على هذا
القول، أي: القول بالجواز من ناحية الأمر، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها عليها.
مثلا: الصلاة المأمور بها لا تنطبق على الصلاة في الدار المغصوبة، لفرض أنها
ليست مصداقا وفردا لها. ومن الواضح أنه مع عدم الانطباق لا يمكن الحكم
بالصحة، لما ذكرناه غير مرة: من أن الصحة منتزعة من انطباق المأمور به على
المأتي به في الخارج، فإذا فرضنا أن المأمور به لا ينطبق عليه وأنه ليس مصداقا
وفردا له فلا يمكن الحكم بصحته.
وقد تحصل من ذلك: أن المأمور به على هذا بما أنه حصة خاصة - وهي
الحصة المقدورة فحسب - لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع
والتصادق على القول بالجواز وتغاير متعلق الأمر والنهي فضلا عن غيره، لعدم
انطباق المأمور به عليها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه لا يمكن تصحيح تلك العبادة في مورد الاجتماع
بالترتب، بتقريب أنها وإن لم تكن مأمورا بها بالأمر الأول إلا أنه لا مانع من
تعلق الأمر بها مترتبا على عصيان النهي، وذلك لأنه (قدس سره) وإن التزم بالترتب في
بحث الضد (1) - وقلنا هناك: إن إمكانه يكفي في وقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى
دليل، لما ذكرناه: هناك: من أن حقيقة الترتب هو رفع اليد عن إطلاق كل من
الحكمين بمقدار تقتضيه الضرورة لا مطلقا، والمقدار الذي تقتضيه الضرورة هو

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 - 2 ص 336.
217

تقييد إطلاق كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر دون الزائد عليه (1) - إلا أنه (قدس سره)
قد أنكر جريانه في المقام، أي: في مسألة الاجتماع.
وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه: أن عصيان النهي في مورد الاجتماع لا
يخلو: من أن يتحقق بإتيان فعل مضاد للمأمور به في الخارج وهو الصلاة، مثلا:
كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو النوم أو ما شاكل ذلك، وأن يكون بنفس الإتيان
بالصلاة، ولا ثالث لهما. ومن الواضح أنه على كلا التقديرين لا يمكن أن يكون
الأمر بالصلاة مشروطا به.
أما على التقدير الأول: فلأنه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدين مشروطا
بوجود الضد الآخر، وهذا غير معقول، ضرورة أن مرد هذا إلى طلب الجمع بين
الضدين في الخارج، لفرض أنه أمر بإيجاد ضد على فرض وجود ضد آخر،
وهو محال، لأنه تكليف بالمحال.
وأما على التقدير الثاني: فلأنه يلزم أن يكون الأمر بالشئ مشروطا
بوجوده في الخارج، وهو محال، لأنه طلب الحاصل، ضرورة أنه لا يعقل أن
يكون الأمر بالشئ كالصلاة - مثلا - مشروطا بوجوده كما هو واضح.
فالنتيجة هي: أنه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع بناء على
القول بالجواز وتعدد المجمع بالترتب.
ومن ناحية ثالثة: أنه لا يمكن تصحيحها في هذا المورد بالملاك.
بيان ذلك هو: أنه (قدس سره) وإن التزم بتصحيح الفرد المزاحم من العبادة بالملاك (2)
- كما تقدم في بحث الضد (3) - إلا أنه قال بعدم إمكان تصحيح العبادة في مورد
الاجتماع بالملاك، وذلك لأن ملاك الأمر إنما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن
مزاحما بالقبح الفاعلي، وإلا فلا يكون صالحا للتقرب، فإن صحة العبادة كما هي
مشروطة بالحسن الفعلي - بمعنى: أن يكون الفعل في نفسه محبوبا وحسنا ليكون

(1) تقدم في ج 3 ص 95.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 262.
(3) راجع ج 3 ص 58 - 56.
218

صالحا للتقرب به إلى المولى - كذلك هي مشروطة بالحسن الفاعلي، بمعنى: أن
يكون إيجادها من الفاعل أيضا حسنا، وإلا لم تقع صحيحة، والمفروض فيما نحن
فيه: أن إيجادها من الفاعل ليس كذلك، لأن الصلاة والغصب بما أنهما ممتزجان
في الخارج بحيث لا تمكن الإشارة إلى أن هذه صلاة وذاك غصب فلا محالة
يكونان متحدين في مقام الإيجاد والتأثير وموجودين بإيجاد واحد، ضرورة أن
المكلف بإيجاد الصلاة في الأرض المغصوبة أوجد أمرين: أحدهما الصلاة،
والآخر الغصب، لا أنه أوجد الصلاة فحسب. وعليه، فلا محالة يكون موجدهما
مرتكبا للقبيح في إيجاده، ومعه يستحيل أن يكون الفعل الصادر منه مقربا له (1).
ونتيجة ما ذكرناه هي: أنه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد الاجتماع، لا
من ناحية الأمر - لما عرفت من عدم انطباق المأمور به على هذا الفرد من جهة
اختصاصه بالحصة المقدورة عقلا وشرعا، وعدم انطباقه على الحصة غير
المقدورة كما مر - ولا من ناحية الترتب، لما عرفت من عدم جريانه في المقام،
ولا من ناحية الملاك، لما عرفت من القبح الفاعلي المانع من التقرب.
ولنأخذ بالمناقشة في جميع ما أفاده (قدس سره).
أما ما ذكره: من أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هي باقتضاء نفس
التكليف ذلك، لا من ناحية حكم العقل فقد ذكرنا في بحث الضد: أنه غير تام،
وملخصه: هو أن ذلك مبني على وجهة نظر المشهور: من أن المنشأ بصيغة الأمر
أو ما شاكلها إنما هو الطلب والبعث نحو الفعل الإرادي، وحيث إن الطلب والبعث
التشريعيين: عبارة عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره وجعل
الداعي له لأن يفعل في الخارج ويوجده فمن الطبيعي أن جعل الداعي لا يمكن
إلا بالإضافة إلى خصوص الفعل الاختياري. إذا نفس التكليف مقتض لاعتبار
القدرة في متعلقه من دون حاجة إلى حكم العقل في ذلك.
ولكن قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر، وكذا في بحث الإنشاء والإخبار:

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 370.
219

أن ما هو المشهور: من أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ وأن المنشأ بالصيغة هو
الطلب والبعث لا أساس له أصلا. وقد تقدم الكلام هناك من هذه الناحية بشكل
واضح فلا نعيد (1).
فالصحيح: هو ما ذكرناه من أن حقيقة التكليف: عبارة عن اعتبار المولى
الفعل على ذمة المكلف، أو اعتباره محروما عن الفعل وإبرازه في الخارج بمبرز
ما من صيغة الأمر أو النهي أو ما شاكلها، ولا نعقل للتكليف معنى ما عدا ذلك.
ومن الواضح جدا أن هذا الاعتبار لا يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة
المقدورة دون الأعم، ضرورة أنه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدورة وغير
المقدورة على ذمة المكلف أصلا، كما أن إبرازه في الخارج لا يقتضي ذلك، بداهة
أنه ليس إلا مجرد إبراز اعتبار كون المادة على ذمة المكلف، وهذا أجنبي تماما
عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
فالنتيجة: أنه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه.
وأما العقل فقد ذكرنا: أنه لا يقتضي اعتبار القدرة إلا في ظرف الامتثال، ولا
يحكم باعتبارها في ظرف الجعل، فإنه لا وجه لتخصيص متعلق التكليف
بخصوص الحصة المقدورة، بل مقتضى إطلاقه هو الجامع بين المقدورة وغير
المقدورة. وعليه، فلا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع، لفرض
انطباق الطبيعة المأمور بها عليها عندئذ.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو
باقتضاء نفس التكليف ولكن من الواضح أنه لا يقتضي إلا كون متعلقه مقدورا
في الجملة ولو باعتبار القدرة على بعض أفراده، لئلا يكون طلبه طلبا للمحال،
ولئلا يكون البعث نحوه بعثا نحو الممتنع، ضرورة أنه إذا كان مقدورا كذلك صح
البعث نحوه وصح طلبه، ولا يكون بعثا نحو الممتنع وطلبا له. وقد تقدم الكلام من
هذه الناحية في بحث الضد بصورة مفصلة.

(1) راجع ج 2 ص 119 - 120 و ج 1 ص 94.
220

ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا أن التكليف يقتضي كون متعلقه خصوص
الحصة المقدورة دون الأعم فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره) من عدم انطباق الطبيعة
المأمور بها على هذا الفرد، وذلك لفرض أن الصلاة في الدار المغصوبة غير متحدة
مع الغصب خارجا، وأن التركيب بينهما انضمامي لا اتحادي كما هو أساس هذا
القول. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنها مقدورة عقلا وشرعا: أما عقلا فواضح. وأما شرعا
فلفرض عدم انطباق كبرى الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي على المقام، وذلك
لفرض أن الصلاة ليست ممنوعة شرعا، وأنها سائغة في نفسها ومقدورة تشريعا،
والممنوع الشرعي هو: ما إذا كان الشئ في نفسه ممنوعا ومنهيا عنه شرعا، أو
كانت له مقدمة محرمة وإن لم يكن في نفسه محرما. وأما إذا لم يكن هذا ولا ذاك
فلا مانع من كونه مصداقا للمأمور به وفردا له. وبما أن الصلاة في الدار المغصوبة
على هذا القول - أي: القول بالجواز - ليست بمحرمة على الفرض ولا لها مقدمة
محرمة - غاية الأمر أن إيجادها فيها ملازم لإيجاد الحرام - فلا مانع من كونها
مصداقا للمأمور به، ولا مانع من انطباق الصلاة المأمور بها بما هي عليها. ومجرد
ملازمة وجودها في الخارج لوجود الحرام لا يمنع عن ذلك بعد فرض أن
وجودها مغاير لوجود الحرام خارجا.
فالنتيجة: أنه لو سلمنا اختصاص التكليف بخصوص الحصة المقدورة فمع
ذلك لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع، لفرض أنها مقدورة
عقلا وشرعا، ومعه - لا محالة - تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها. وما ذكره (قدس سره) من
الكبرى وهي: أن الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي لا ينطبق على ما نحن فيه.
ثم إنه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أنه لا يمكن تصحيح العبادة في مورد
الاجتماع من هذه الناحية - أي: من ناحية انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا
الفرد - ولكن يمكن تصحيحها من ناحية الالتزام بالترتب.
وأما ما أفاده (قدس سره): من أن الترتب لا يعقل في المقام بدعوى: أن عصيان النهي
221

الذي هو شرط للأمر بالصلاة: إما أن يتحقق في ضمن نفسها، وإما أن يتحقق في
ضمن ضدها، فعلى الأول: يلزم اشتراط الأمر بالشئ بوجوده وتحققه في
الخارج، وهو محال، وعلى الثاني: يلزم اشتراط الأمر بالشئ بوجود ضده
وتحققه فيه، وهذا غير معقول فيرد عليه: ما ذكرناه في بحث الضد، وملخصه: هو أن
المنهي عنه في المقام هو الكون في الأرض المغصوبة، لأنه تصرف فيها حقيقة،
ومصداق للغصب كذلك، لا الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك، ضرورة أن شيئا
منها لا يكون مصداقا للغصب وتصرفا في مال الغير، فالتصرف فيه إنما هو الكون
فيها.
ومن الواضح جدا أنه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان النهي
عنه، كأن يقول المولى: لا تكن في أرض الغير، وإن كنت فيها فتجب عليك الصلاة،
فيكون الأمر بالصلاة معلقا على عصيان النهي عن الكون فيها. ومن المعلوم أنه
لا يلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به أحد المحذورين المزبورين، أعني بهما: طلب
الجمع بين الضدين، واشتراط الأمر بالشئ بوجوده وتحققه في الخارج.
والوجه في ذلك ظاهر، وهو: أن ما يتحقق به الغصب هو الكون فيها الذي هو
من مقولة الأين. وأما الأفعال الخاصة: كالأكل والنوم والشرب - وما شاكل ذلك -
فليست مصداقا للغصب، ضرورة أن الأكل ليس مما يتحقق به الغصب، وكذا النوم
والشرب وما شابه ذلك في مفروض الكلام، بل الغصب يتحقق بالكون فيها.
ومن الواضح أنه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة به، ولا يلزم شئ من
المحذورين المذكورين.
أما عدم لزوم محذور طلب الجمع بين الضدين فلفرض أن الكون فيها ليس
مضادا لها، بل هو ملازم معها وجودا ويجتمع معها خارجا.
وأما عدم لزوم محذور اشتراط الأمر بالشئ بوجوده وتحققه في الخارج
فلأنه مبني على أن الكون فيها متحد مع الصلاة خارجا ويكون عينها فيه. ولكنك
222

عرفت أنه خلاف مفروض الكلام في المقام، فإن المفروض هو: أنه مغاير لها
وجودا، فإن الكلام في المقام مبني على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد
الاجتماع وجودا وماهية، فإذا لا محذور أبدا.
ونتيجة ما ذكرناه هي: أنه لا مانع من الحكم بصحة العبادة في مورد
الاجتماع من ناحية الترتب.
ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا أنه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالترتب إلا
أنه لا مانع من الحكم بصحتها من ناحية الملاك على وجهة نظره (قدس سره) من تسليم
اشتمالها على الملاك، وذلك لأن ما أفاده (قدس سره) من أن الملاك في المقام لا يكون
مقربا من جهة القبح الفاعلي غير تام.
والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة: من أن الإيجاد عين الوجود في الخارج ذاتا
وحقيقة، والاختلاف بينهما إنما هو في الإضافة، فالشئ الواحد باعتبار إضافته
إلى الفعل وجود، وباعتبار إضافته إلى الفاعل إيجاد، ويترتب على ذلك: أن
الوجود إذا كان متعددا في الخارج فلا محالة يكون الإيجاد أيضا متعددا فيه،
ولا يعقل أن يكون واحدا، وبما أن الوجود في مورد الاجتماع متعدد خارجا كما
هو المفروض في المقام فلا محالة يكون الإيجاد أيضا كذلك، بمعنى: أن المأمور به
كما أنه مغاير للمنهي عنه وجودا كذلك مغاير له إيجادا.
وعليه، فيكون إيجاد المأمور به بما هو محبوبا للمولى، وليس فيه أي قبح
أصلا، والقبيح إنما هو إيجاد المنهي عنه فحسب، والمفروض أن قبحه لا يسري
إليه، فإذا لا مانع من التقرب به من ناحية اشتماله على الملاك وإن كان إيجاده في
الخارج ملازما لإيجاد قبيح ومبغوض فيه، إلا أنه لا يمنع من التقرب به أصلا،
لفرض أن الفعل في نفسه صالح للتقرب به من جهة اشتماله على الملاك، وإيجاده
في الخارج لا يكون قبيحا ومبغوضا عليه، والقبيح إنما هو إيجاد أمر آخر مغاير
له، وهو إيجاد المنهي عنه، غاية الأمر أنه ملازم له خارجا. ومن المعلوم أن مجرد
ملازمته له لا يمنع عن الصحة. وعلى هذا فلا قبح فعلي ولا فاعلي.
223

فالنتيجة: أنه بناء على ما يراه (قدس سره) من اشتماله على الملاك لا مناص من
الحكم بالصحة أصلا.
نعم، بناء على وجهة نظرنا: من أنه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك فالحكم
بالصحة في المقام يبتني على الالتزام بأحد الأمرين الأولين، هما: انطباق الطبيعة
المأمور بها بما هي على هذا الفرد في مورد الاجتماع. والقول بالترتب فيه.
وأما الدعوى الثانية - وهي صحة العبادة في مورد الاجتماع في صورة
الجهل والنسيان على القول بالجواز وتعدد المجمع ماهية ووجودا - فلأن
المفروض أنه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل، والتنافي بينهما إنما هو في
مقام الامتثال من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معا، فلو صرف
قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر، وينتفي بانتفاء موضوعه وهو
القدرة. وعليه، فإذا فرض كون أحد الحكمين أهم من الآخر تعين صرف القدرة
في امتثاله، وبذلك عجز عن امتثال الآخر.
ولكن من المعلوم أن تعجيزه عنه إنما هو في ظرف وصوله إلى المكلف وكونه
منجزا عليه ليحكم العقل بلزوم امتثاله. وأما في ظرف كون المكلف جاهلا به
فحيث إن العقل لا يحكم بلزوم امتثاله ولا يكون شاغلا للمكلف بامتثاله لا يكون
معجزا له عن امتثال الآخر، لفرض أنه مع الجهل به قادر على امتثاله، والمفروض
أنه مع القدرة عليه فعلي، لأن المانع عن فعليته عدم القدرة على امتثاله، ومع
التمكن منه - لا محالة - يكون فعليا بفعلية موضوعه وهو القدرة.
وإن شئت فقل: إنه لا تنافي بين الحكمين في مقام الجعل على الفرض،
والتنافي بينهما إنما هو في مقام الفعلية والامتثال، فإذا فرض جهل المكلف
بأحدهما فلا مانع من فعلية الآخر بفعلية موضوعه وهو القدرة، هذا في صورة
الجهل.
وأما في صورة النسيان: فالأمر أوضح من ذلك، لفرض أنه لا حرمة واقعا
في هذه الصورة. هذا على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره).
224

وأما على وجهة نظرنا فقد عرفت أن العبادة صحيحة في مورد الاجتماع على
القول بالجواز، وتعدد المجمع واقعا في صورة العلم بالحرمة فضلا عن صورة
الجهل بها أو النسيان لها.
قال في المقدمة العاشرة ما إليك لفظه: إنه لا إشكال في سقوط الأمر وحصول
الامتثال بإتيان المجمع بداعي الأمر على الجواز مطلقا ولو في العبادات وإن كان
معصية، للنهي أيضا. وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الأمر، إلا أنه
لا معصية عليه.
وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الأمر مطلقا في غير العبادات،
لحصول الغرض الموجب له. وأما فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه
تقصيرا، فإنه وإن كان متمكنا مع عدم الالتفات من قصد القربة وقد قصدها إلا
أنه مع التقصير لا يصلح أن يتقرب به أصلا فلا يقع مقربا، وبدونه لا يكاد يحصل
به الغرض الموجب للأمر به عبادة كما لا يخفى.
وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا وقد قصد القربة بإتيانه فالأمر يسقط، لقصد
التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة مع صدوره حسنا، لأجل
الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الأمر فيسقط به قطعا وان لم يكن
امتثالا، بناء على تبعية الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد
واقعا، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح، لكونهما تابعين لما علم منهما
كما حقق في محله. مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا
يرى تفاوتا بينه وبين سائر الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم
تعمه بما هي مأمور بها، لكنه لوجود المانع، لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أنه يجزئ ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة
وعدم كفاية الإتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد الواجب حيث
لا يكون هناك أمر يقصد أصلا.
وبالجملة: مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما يكون الإتيان
225

بالمجمع امتثالا وبداعي الأمر بالطبيعة لا محالة، غاية الأمر أنه لا يكون مما
تسعه بما هي مأمور بها لو قيل بتزاحم الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية.
وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الأحكام لكان مما تسعه وامتثالا
لأمرها بلا كلام.
وقد انقدح بذلك الفرق: بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين
وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا.
وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة حيث
يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان، لموافقته للغرض، بل للأمر.
ومن هنا علم: أن الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة لا الانقياد
ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذكرناه وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة
مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل الحكم إذا كان عن قصور، مع أن الجل لولا
الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر
فلتكن من ذلك على ذكر (1).
نلخص ما أفاده (قدس سره) في هذه المقدمة إلى عدة نقاط:
الأولى: أنه لا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض بإتيان المجمع
بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة على القول بالجواز مطلقا في العبادات والتوصليات.
أما في التوصليات فواضح، لأن الغرض منها على الفرض صرف وجودها
وتحققها في الخارج، ولا يعتبر فيها كيفية زائدة.
وأما في العبادات فلأجل انطباق الطبيعة المأمور بها على هذا الفرد المأتي به
في الخارج - وهو المجمع - وإن استلزم ذلك معصية للنهي أيضا، وذلك كالصلاة
في الأرض المغصوبة، فإنها تستلزم التصرف فيها، وهو محرم، إلا أنها حيث
لم تكن متحدة مع الحرام على الفرض فلا يكون ارتكابه موجبا لفسادها، فيكون

(1) كفاية الأصول: ص 191، مع اختلاف يسير في اللفظ.
226

كالنظر إلى الأجنبية حال الصلاة، فكما أنه لا يوجب بطلانها باعتبار أنه غير
متحد معها خارجا فكذلك الكون في الأرض المغصوبة لا يوجب فساد الصلاة
فيها من جهة أنه غير متحد معها.
الثانية: أنه بناء على القول بالامتناع فعلى تقدير تقديم جانب الوجوب على
جانب الحرمة فلا إشكال في تحقق الامتثال وحصول الغرض بإتيان المجمع
عندئذ، وذلك لأنه على هذا الفرض متمحض في كونه مصداقا للمأمور به دون
المنهي عنه، ولذا لا يكون الإتيان به - وقتئذ - معصية أيضا.
وأما على تقدير تقديم جانب الحرمة على الوجوب فبما أن المجمع لا يكون
- حينئذ - مصداقا للمأمور به، ضرورة أن الحرام لا يعقل أن يكون مصداقا
للواجب فلا يحصل الامتثال بإتيانه إذا كان الواجب عباديا، ضرورة أنه مع
الالتفات إلى الحرمة لا يمكن قصد التقرب به المعتبر في صحته. وأما إذا كان
توصليا فيسقط أمره بإتيانه، لفرض أن الغرض منه يحصل بمجرد وجوده وتحققه
في الخارج ولو كان في ضمن فعل محرم، هذا إذا كان عالما بالحرمة.
وأما إذا كان جاهلا بها فمرة يكون جهله عن تقصير، واخرى عن قصور.
أما على الأول فتكون عبادته فاسدة، والوجه في ذلك هو: أن صحة العبادة
ترتكز على ركائز:
1 - أن يكون الفعل في نفسه قابلا للتقرب.
2 - أن يقصد المكلف التقرب به.
3 - أن لا يكون صدوره منه قبيحا ومبغوضا.
ثم إن الركيزة الأولى والثانية وإن كانتا موجودتين هنا باعتبار أن المكلف بما
أنه كان جاهلا بالحرمة فيتمشى منه قصد القربة والمفروض أن الفعل لاشتماله
على الملاك قابل لأن يتقرب به في نفسه إلا أن الركيزة الثالثة غير موجودة هنا،
وذلك لأن الفعل وإن كان في نفسه قابلا للتقرب من ناحية اشتماله على الملاك
إلا أنه حيث كان فعلا مبغوضا للمولى، كما هو المفروض من ناحية، وجهله كان
227

عن تقصير من ناحية أخرى فلا يكون صدوره منه حسنا، بل يكون قبيحا
ومبغوضا، فإذا لا يمكن الحكم بصحة العبادة الفاقدة لتلك الركيزة.
وأما على الثاني فتكون صحيحة، وذلك لتوفر تلك الركائز فيه.
أما الركيزة الأولى: فلأن الفعل من ناحية اشتماله على الملاك قابل للتقرب به،
والجهل بالحرمة بما أنه كان عن قصور فهو مانع عن فعلية الحرمة. ومن الواضح
أن الحرمة غير الفعلية لا تمنع عن صحة العبادة وقابليتها للتقرب.
وأما الركيزة الثانية: فالمفروض أن المكلف متمكن من قصد القربة في هذا
الحال.
وأما الركيزة الثالثة: فبما أن جهله كان عن قصور فلا محالة لا يكون صدور
الفعل منه قبيحا، فإذا لا مانع من الحكم بصحة العبادة في هذا الفرض وإن لم
يتحقق عنوان الامتثال، فإن عنوان الامتثال إنما يصدق فيما إذا كان المأتي به مما
تعلق به الأمر، لا فيما إذا كان الحكم بصحته من جهة محبوبيتها كما في المقام. وقد
ذكرنا: أن سقوط الأمر لا يدور مدار حصول الامتثال، بل هو يدور مدار حصول
الغرض (1). ومن هنا ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي: أن صحة العبادة لا تتوقف
على قصد الأمر فحسب، بل يكفي في صحتها إتيانها بقصد محبوبيتها، أو اشتمالها
على الملاك أو نحو ذلك (2).
الثالثة: أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال في المقام حتى بناء على تبعية
الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في الواقع، لا للجهات المؤثرة فيها فعلا، وذلك
لأن العقل لا يرى تفاوتا بين هذا الفرد وبقية الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة
المأمور بها، فكما أنه يحصل الامتثال بإتيان غيره من أفراد هذه الطبيعة فكذلك
يحصل بإتيانه، فلا فرق بينهما بنظر العقل من هذه الناحية أصلا.
الرابعة: أن عدم انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي على هذا الفرد يرتكز على
تزاحم جهات المصالح والمفاسد في مقام تأثيرها في الأحكام الواقعية، فإنه

(1) تقدم آنفا، وفي ج 2 ص 209 و 226.
(2) راجع ج 2 ص 179 - 185.
228

على هذا حيث كانت جهة الحرمة أقوى من جهة الوجوب في الواقع ونفس الأمر
فلا محالة هي المؤثرة فيها دون تلك. وعليه، فلا يكون المجمع مصداقا للواجب.
وأما إذا فرض عدم المزاحمة بين تلك الجهات في الواقع وأنه لا أثر لها
والمزاحمة إنما هي بين الجهات الواصلة في مقام فعلية الأحكام لكان المجمع
بنفسه مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي، ولكان الإتيان به امتثالا لأمرها، وذلك
لأن جهة الوجوب بما أنها كانت واصلة إلى المكلف لفرض أنها ملتفت إليها فهي
المؤثرة دون جهة الحرمة، لعدم الالتفات إليها.
وعلى الجملة: فلا أثر للملاك الواقعي، ولا تأثير له في الحكم الشرعي أبدا،
فالمؤثر إنما هو الملاك الواصل والفعلي، وهو ما كان ملتفتا إليه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المجمع على الفرض مشتمل على مناط كلا الحكمين
معا، غاية الأمر أن ملاك الحرمة بحسب الواقع أقوى من ملاك الوجوب. ولكن
عرفت أنه لا أثر لأقوائية الملاك بحسب وجوده الواقعي.
ومن ناحية ثالثة: أن الملاك الواصل إلى المكلف هو ملاك الوجوب، فإنه
ملتفت إليه دون ملاك الحرمة.
فالنتيجة على ضوئها هي: أن المؤثر ملاك الوجوب دون غيره، ولازمه هو: أن
المجمع - عندئذ - يكون مصداقا للمأمور به فعلا، من دون أن يكون محرما كذلك.
الخامسة: قد تقدم أن هذه المسألة تبتنى على أن يكون لكل من متعلقي الأمر
والنهي ملاك حكمه على كل من القولين، وبذلك تمتاز هذه المسألة عن مسألة
التعارض: باعتبار أن مسألة التعارض تبتنى على أن يكون لأحدهما مناط دون
الآخر. وعلى هذا يترتب أن دليلي الوجوب والحرمة إذا كانا متعارضين وقدمنا
دليل الحرمة على دليل الوجوب تخييرا أو ترجيحا فلا مجال - وقتئذ - للصحة
أصلا وإن فرض أن جهله بالحرمة كان عن قصور، وذلك لفرض أنه لا مقتضى
للوجوب - عندئذ - في مورد الاجتماع أصلا، ومعه يستحيل أن تنطبق عليه
الطبيعة المأمور بها، ضرورة استحالة أن يكون الحرام مصداقا للواجب. وهذا
229

بخلاف ما إذا قلنا بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب، فإنه
على هذا يقع المجمع صحيحا في موارد الجهل عن قصور وموارد النسيان، وذلك
لما عرفت: من أن المجمع على هذا مشتمل على ملاك الوجوب فلا مانع من
التقرب به إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور.
ومن هنا حكم الفقهاء بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مع النسيان أو الجهل
بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور، مع أن المشهور بينهم هو القول بالامتناع
وتقديم جانب الحرمة (1).
ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة على القول بالجواز مطلقا
لا يمكن المساعدة عليه بإطلاقه، وذلك لما تقدم (2): من أن المسألة على هذا القول
تدخل في كبرى باب التزاحم مطلقا على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وفيما إذا
لم تكن مندوحة في البين على وجهة نظرنا.
وعليه، فلابد من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب ومرجحاته: فإن كان الوجوب
أهم من الحرمة أو محتمل الأهمية فيقدم عليها، وإذا فلا إشكال في صحة العبادة
والإتيان بها بداعي أمرها. وكذا إذا كان الوجوب مساويا لها ولكن أخذنا بجانب
الوجوب دون الحرمة وإن كانت الحرمة أهم من الوجوب أو محتمل الأهمية فتقدم
عليه، فإذا تبتنى صحة العبادة في محل الكلام على الالتزام بأحد أمرين:
الأول: أن يقول بالترتب.
الثاني: باشتمال المجمع في هذا الحال على الملاك.
أما الأول - وهو الترتب - فقد أنكره (قدس سره) وأصر على استحالته وعدم إمكانه.
وعليه فلا يمكن تصحيح العبادة به على وجهة نظره (3).

(1) راجع جواهر الكلام: ج 8 ص 293.
(2) تقدم في ص 182 - 184.
(3) كفاية الأصول: ص 166 - 168.
230

وأما الثاني: فهو وإن اعترف به وقد صحح العبادة بذلك في أمثال المورد (1)
إلا أنا قد ذكرنا غير مرة أنه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك في هذا الحال،
وذلك لما عرفت من أنه لا طريق لنا إلى ثبوت الملاك ومعرفته في مورد بعد
سقوط الحكم عنه، فإنه كما يمكن أن يكون سقوطه من ناحية وجود المانع مع
ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي والملاك له في هذا
الحال، ولا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر، بداهة أن الطريق إلى إحرازه
منحصر في ثبوت الحكم وبعد سقوطه فلا طريق لنا إلى إحرازه أصلا.
نعم، لو لم تكن مزاحمة بين الإطلاقين كما إذا كانت في البين مندوحة فعندئذ
تصح العبادة بإتيان المجمع بداعي الأمر بالطبيعة، لفرض أن الطبيعة المأمور بها
على هذا لم تكن مزاحمة مع الحرام، والمزاحم له إنما هو فردها. وعليه فلا مانع
من الإتيان بهذا الفرد بداعي أمرها أصلا.
ولعل ما ذكره (قدس سره) بقوله: " لا إشكال في سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتيان
المجمع بداعي الأمر على الجواز.... إلى آخره " ناظر إلى هذا الفرض.
ولكن يرده: أنه لا وجه للاقتصار على هذا الفرض أصلا.
فالنتيجة: أن ما أفاده (قدس سره) من صحة العبادة لا يتم فيما إذا لم تكن مندوحة في
البين، وتقع المزاحمة بين الواجب والحرام، وكان الحرام أهم أو محتمل الأهمية
بناء على وجهة نظره (قدس سره) من استحالة الترتب، وذلك لفرض أنه لا أمر به في هذا
الحال ليمكن الإتيان به بداعي أمره، ولا طريق لنا إلى اشتماله على الملاك ليمكن
التقرب به من هذه الجهة.
مع أن هذا الفرض خارج عن مورد كلامه، لأن المفروض في كلامه هو صحة
العبادة بالأمر على الجواز لا بالملاك. وكيف كان، فما أفاده (قدس سره) لا يتم على
إطلاقه، فلابد من التفصيل.
ومن هنا يظهر: أن ما أفاده (قدس سره) بقوله: " إنه معصية للنهي أيضا " لا يتم مطلقا،

(1) كفاية الأصول: ص 166 - 168.
231

فإنه إنما يتم فيما إذا لم تكن مزاحمة بين الحكمين، أو كانت مزاحمة ولكن كان
الحرام أهم من الواجب أو محتمل الأهمية. وأما إذا كان الواجب أهم منه أو
محتمل الأهمية فلا معصية أصلا.
وأما النقطة الثانية: فقد تقدم أن أساس القول بالامتناع في هذه المسألة هو:
اتحاد متعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع، وعلى هذا - فلا محالة - تقع
المعارضة بين دليليهما، لاستحالة أن يكون شئ واحد مأمورا به ومنهيا عنه معا.
فإذا لابد من الرجوع إلى قواعد ومرجحات باب المعارضة.
وعليه: فإن قدمنا دليل الأمر على دليل النهي ترجيحا أو تخييرا على القول به
فلا إشكال في صحة العبادة بإتيان المجمع، فإنه على هذا مصداق للمأمور به
فحسب، ولا يكون بمنهي عنه في شئ.
وإن قدمنا دليل النهي على دليل الأمر فلا يصح الإتيان بالمجمع عندئذ،
لفرض أنه منهي عنه فعلا، ويستحيل أن يكون مصداقا للمأمور به، ضرورة أن
الحرام لا يعقل أن يكون مصداقا للواجب، فيقيد إطلاق دليل الواجب بغير ذلك
الفرد، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصليا أو تعبديا، ضرورة
استحالة أن يكون المحرم مصداقا له مطلقا، فإن الفرق بينهما في نقطة واحدة،
وهي: اعتبار قصد القربة في الواجب العبادي دون التوصلي.
فإذا لا يصح الإتيان بالمجمع في مورد الاجتماع في التوصليات فضلا عن
العباديات، لفرض تقييد المأمور به بغير هذا الفرد، فلا يكون هذا الفرد مصداقا له
ليكون الإتيان به مجزيا، فإن إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى
دليل، وإلا فمقتضى القاعدة عدم الإجزاء، ولا فرق من هذه الناحية بين التوصلي
والتعبدي أصلا.
نعم، قد يعلم من الخارج أن الغرض من الواجب التوصلي يحصل بمطلق
وجوده في الخارج ولو في ضمن فرد محرم، وذلك كإزالة النجاسة عن البدن
أو الثوب، فإن الغرض من وجوبها حصولها في الخارج وتحققها فيه ولو كان
بماء مغصوب.
232

وأما فيما إذا لم يعلم ذلك من الخارج فلا يحكم بصحة الواجب وسقوط الأمر
عنه وحصول الغرض، وذلك كتكفين الميت - مثلا - فإنه واجب توصلي، فمع ذلك
لا يحصل الغرض منه بتكفينه بالكفن المغصوب، ولا يحكم بسقوط الأمر عنه، بل
هو من موارد اجتماع الأمر والنهي.
ومن هنا ذكرنا في بحث الواجب التوصلي والتعبدي: أن الواجب التوصلي
على أقسام: منها: ما لا يترتب الغرض على مطلق وجوده في الخارج، بل يترتب
على وجوده الخاص، وهو: ما إذا لم يكن في ضمن فرد محرم، أو لم يصدر من
المجنون أو الصبي، وإلا فلا يحصل الغرض منه، وذلك كتحنيط الميت - مثلا -
فإنه واجب توصلي، ومع ذلك لو أتى به الصبي أو المجنون لم يكن مجزيا (1).
فما أفاده (قدس سره) من أن الواجب إذا كان توصليا يحصل الغرض منه بإتيان
المجمع لا يمكن تصديقه بوجه.
وبكلمة أخرى: قد سبق منا غير مرة: أن القول بالامتناع يرتكز على وحدة
المجمع وجودا وماهية (2)، وعليه فحيث تقع المعارضة بين إطلاق دليلي الأمر
والنهي فلابد من الرجوع إلى مرجحاتها، وبعد ملاحظة المرجحات إذا قدمنا
إطلاق دليل النهي على إطلاق دليل الأمر فمعناه: أن المجمع مبغوض للمولى
ومحرم في الواقع فحسب، وليس مصداقا للواجب واقعا وفي نفس الأمر.
هذا فيما إذا علمت الحرمة واضح، وكذلك مع الجهل عن تقصير أو قصور فإن
الأحكام الواقعية ثابتة لمتعلقاتها في الواقع، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها
أبدا ضرورة أنها لا تتغير بواسطة جهل المكلف بها، فلو كان شئ حراما في الواقع
وكان المكلف جاهلا بحرمته فلا تتغير حرمته بواسطة جهله بها، وهذا واضح.
ومن ناحية أخرى: أن الحرام لا يعقل أن يكون مصداقا للواجب وإن فرض
كون المكلف جاهلا بحرمته بل معتقدا بوجوبه، ضرورة أن الواقع لا ينقلب عما هو
عليه.

(1) تقدم في ج 2 ص 137 - 139.
(2) منها: ما تقدم في ص 165.
233

فالنتيجة على ضوء ذلك هي: أنه لا إشكال في أنه لا ينطبق الواجب على
المجمع بناء على تقديم جانب الحرمة، فلا يسقط الأمر به بإتيان المجمع، حتى إذا
كان توصليا مع العلم بحرمته أو مع الجهل بها، إلا إذا علم من الخارج وفاؤه
بالغرض، وعلى ذلك يترتب فساد الإتيان بالمجمع: كالصلاة في الدار المغصوبة
مع العلم بمبغوضيته وحرمته، بل مع الجهل بها ولو كان عن قصور، ضرورة استحالة
أن يكون الحرام مصداقا للواجب، والمفروض أن الجهل بالحرمة لا يوجب تغيير
الواقع وإن كان عن قصور، والعلم بوجوبه لا يوجب الأمر به في الواقع وارتفاع
حرمته، فإذا كيف يمكن الحكم بالصحة في فرض الجهل بها عن قصور؟
وإن شئت فقل: إن صحة العبادة ترتكز على ركيزتين:
الأولى: تحقق قصد القربة.
الثانية: كون الفعل في نفسه محبوبا وقابلا للتقرب به، ومع انتفاء إحدى هاتين
الركيزتين لا تقع العبادة صحيحة، ضرورة أن الفعل إذا لم يكن محبوبا في نفسه
فلا يمكن التقرب به، فضلا عن كونه مبغوضا في الواقع أو لو كان محبوبا كذلك،
ولكن المكلف لم يقصد القربة، فحينئذ تقع العبادة فاسدة.
وفيما نحن فيه وإن أمكن تحقق قصد القربة من المكلف باعتبار أنه جاهل
بالحرمة إلا أن المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع - كالصلاة في
الأرض المغصوبة على القول بالامتناع ووحدة المجمع وتقديم جانب الحرمة
على جانب الوجوب - لا يكون محبوبا في نفسه وصالحا للتقرب به، لتمحضه
في الحرمة والمبغوضية في الواقع.
ومن المعلوم: أن الحرام لا يمكن أن يقع مصداقا للواجب كما هو الحال في
بقية موارد التعارض بالعموم من وجه، مثل: ما إذا فرض قيام الدليل على وجوب
إكرام العالم وفرض قيامه أيضا على حرمة إكرام الفاسق، فتقع المعارضة بينهما في
مورد الاجتماع وهو العالم الفاسق، حيث إن مقتضى إطلاق الدليل الأول وجوب
إكرامه، ومقتضى إطلاق الدليل الثاني حرمة إكرامه، فعندئذ لو قدمنا دليل الحرمة
234

على دليل الوجوب في مورد الاجتماع لخرج مورد الاجتماع - وهو إكرام العالم
الفاسق - عن كونه مصداقا للواجب واقعا، سواء كان المكلف عالما بالحرمة أو
بموضوعها، أم كان جاهلا بها كذلك عن قصور أو تقصير، ضرورة أن الواقع لا
يتغير بواسطة جهل المكلف به والاعتقاد بخلافه، لما ذكرناه غير مرة: من أن فعلية
الأحكام في الواقع تابعة لفعلية موضوعاتها، ولا دخل لعلم المكلف بها وجهله (1)،
وهذا واضح.
وكذا الحال فيما نحن فيه، فإنه بناء على تقديم جانب الحرمة على جانب
الوجوب في مورد الاجتماع: كالصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - فالمجمع
متمحض - عندئذ - في الحرمة والمبغوضية بحسب الواقع، ولا يعقل - حينئذ - أن
يكون مصداقا للمأمور به والواجب وإن فرض أن المكلف جاهل بحرمته جهلا
عن قصور، غاية الأمر: أن جهله بها كذلك يوجب كونه معذورا وغير مستحق
للعقاب على ارتكاب الحرام في الواقع، هذا بناء على وجهة نظرنا: من أن هذه
المسألة على القول بالامتناع تدخل في كبرى باب التعارض، فتجري عليه أحكامه.
ولكن يمكن لنا المناقشة فيه على وجهة نظره (قدس سره) أيضا، ببيان: أن قصد
الملاك، إنما يكون مقربا فيما إذا لم يكن مزاحما بشئ، ولا سيما إذا كان أقوى
منه كما هو المفروض في المقام. وأما الملاك المزاحم فلا يترتب عليه أي أثر، ولا
يكون قصده مقربا، بناء على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام للجهات الواقعية لا
للجهات الواصلة. وبما أن في مفروض الكلام ملاك الوجوب مزاحم بملاك الحرمة
في مورد الاجتماع فلا يكون صالحا للتقرب به.
وعلى هذا، فلا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا
القول، أي: القول بالامتناع، لا من ناحية الأمر وانطباق المأمور به بما هو على
المأتي به في الخارج، ولا من ناحية الملاك لفرض أنه مزاحم بما هو أقوى منه.
وأما النقطة الثالثة فيردها: أن العقل يرى التفاوت بين هذا الفرد وبقية الأفراد،

(1) منها: ما تقدم في ص...، ومنها: ما تقدم في ج 2 ص 286 - 287 من المحاضرات.
235

من ناحية أن هذا الفرد بما أنه ليس مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي ولا تنطبق
تلك الطبيعة عليه فلا يمكن إحراز أنه واف بغرض الطبيعة المأمور بها، ضرورة أن
طريق إحراز وفائه بغرضها منحصر بانطباقها عليه، ومع عدم الانطباق لا طريق لنا
إلى ذلك أصلا، لوضوح: أن عدم الانطباق كما يمكن أن يكون من ناحية وجود
المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون من ناحية عدم المقتضي له. ومن
الطبيعي أن العقل على هذا لا يحكم بحصول الامتثال بإتيان المجمع وسقوط الأمر.
وأما النقطة الرابعة: فيرد عليها: أن الأحكام الشرعية بناء على وجهة نظر
العدلية تابعة لجهات المصالح والمفاسد الواقعية، وهي مقتضية لجعلها على نحو
القضايا الحقيقية. وأما فعلية تلك الأحكام فهي تابعة لفعلية موضوعاتها في
الخارج، ولا دخل لعلم المكلفين وجهلهم بها، لا في مرحلة الجعل، ولا في مرحلة
الفعلية أصلا.
وعلى هذا فلا معنى لما أفاده (قدس سره) من التزاحم بين الجهات في مقام فعلية
الأحكام بأن يكون المؤثر في الحكم فعلا هو الجهة الواصلة دون غيرها، ضرورة
أن لازم ذلك هو دخل علم المكلف في فعلية الأحكام، وهذا غير معقول،
لاستلزامه التصويب وانقلاب الواقع، فإن لازمه هو: أن المكلف إذا كان عالما
بحرمة المجمع في مورد الاجتماع وأنه مشتمل على مفسدة فالحرمة فعلية،
ولا أثر للوجوب - عندئذ - أصلا، وإذا كان جاهلا بحرمته عن قصور وعالما
بوجوبه وأنه مشتمل على مصلحة فالوجوب فعلي، ولا أثر للحرمة، وهذا معنى:
دخل علم المكلف في فعلية الأحكام. وعليه، فلا محالة يلزم التصويب وانقلاب
الواقع. ومن الواضح جدا أن ذلك مما لم يلتزم به أحد، حتى هو (قدس سره)، كيف؟ فإن
لازم ذلك هو خروج المقام عن محل النزاع، ضرورة أنه في هذا الحال لا حرمة
واقعا ليقع الكلام في أنها تجتمع مع الوجوب في مورد الاجتماع أم لا.
وبكلمة أخرى: أن الأمر في الأحكام العقلية العملية: كالحسن والقبح وإن كان
كما ذكر: من أنها تابعة للجهات الواصلة فلا يتصف الشئ بالحسن أو القبح
236

العقلي في الواقع، وإنما يتصف به فيما إذا علم المكلف بجهة محسنة أو مقبحة له.
والسر في ذلك هو: أنه لا واقع لحكم العقل بالحسن والقبح ما عدا إدراكه
استحقاق الفاعل الذم على فعل والمدح على آخر. ومن المعلوم أن استحقاق
الفاعل المدح أو الذم على صدور فعل منه إنما يكون في فرض التفاته إلى الجهة
المحسنة أو المقبحة له، وإلا فلا يعقل اتصافه بذلك.
ولكن الأمر في الأحكام الشرعية ليس كذلك، ضرورة أنها تابعة للجهات
الواقعية في مقام الجعل، بلا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك المقام أصلا. وفي
مقام الفعلية تابعة لفعلية موضوعها وتحققه في الخارج، ولا دخل لعلم المكلف
بالحكم بفعليته أصلا، كما أنه لا يضر بها جهله، فلو كانت الأحكام الواقعية تابعة
للجهات الواصلة للزم التصويب وانقلاب الواقع لا محالة، فعندئذ يخرج المقام عن
محل النزاع، فإنه على هذا ليس في مورد الاجتماع حكمان ليتكلم في جواز
اجتماعهما فيه وعدم جوازه، بل حكم واحد فحسب، فإن المكلف إذا كان جاهلا
بالحرمة جهلا عن قصور فلا حرمة في مورد الاجتماع واقعا، بل هو متمحض في
الوجوب، وإن كان العكس فبالعكس كما هو واضح.
ولكنك عرفت فساد هذا المبنى، وأن المؤثر في الأحكام إنما هو الجهات
الواقعية لا غيرها، وعليه فمناط الحرمة في مورد الاجتماع بما أنه كان أقوى كما
هو - المفروض - فلا محالة يكون هو المؤثر، ولا أثر لمناط الوجوب - عندئذ -
أصلا، سواء أكان المكلف عالما بالحرمة أم كان جاهلا بها عن تقصير أو قصور.
فعلى جميع التقادير لا يكون المجمع واجبا.
أما على التقدير الأول والثاني فواضح كما اعترف هو (قدس سره) بذلك.
وأما على التقدير الثالث فلأن الجهل لا يوجب انقلاب الواقع، فالواقع باق
على ما كان عليه، وأن ملاك الوجوب بما أنه مزاحم بما هو أقوى منه فلا أثر له.
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده (قدس سره) في هذه النقطة لا يرجع إلى معنى محصل
على وجهة نظره (قدس سره) في باب الاجتماع فضلا عن وجهة نظرنا فيه.
237

وأما النقطة الخامسة: فقد ظهر فسادها مما تقدم: من بيان ملاك باب
الاجتماع وملاك باب التعارض وملاك باب التزاحم، فلا حاجة إلى الإعادة (1).
كما أنه قد تبين على هدي ما ذكرناه: أن ما نسبه (قدس سره) إلى المشهور من الحكم
بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة على
جانب الوجوب في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور لا يمكن
تصديقه بوجه، وذلك لأن حكمهم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع مبني على
القول بالجواز وتعدد المجمع، ولم يعلم من حالهم أنهم حكموا بالصحة حتى على
القول بالامتناع ووحدة المجمع، بل المعلوم منهم عكس ذلك، يعني: أنهم على
هذا القول حكموا بالبطلان دون الصحة.
هذا تمام الكلام في الجاهل.
وأما الكلام في الناسي للحكم أو الموضوع فيقع في مقامين:
الأول: فيما إذا كان نسيانه مستندا إلى سوء اختياره بأن يكون المكلف مقصرا
في ذلك.
الثاني: فيما لا يكون مستندا إلى اختياره، بل هو قاصر في ذلك ومعذور فيه.
أما الكلام في المقام الأول: فالظاهر بطلان عبادته وفسادها، وذلك كما إذا
فرض أن المكلف غصب ثوبا أو دارا ثم نسي وصلى في ذلك الثوب أو الدار، ففي
هذا الحال وإن لم يمكن توجيه التكليف بالحرمة إليه، لاستحالة تكليف الناسي في
حال نسيانه إلا أن ملاك الحرمة باق، وهو مبغوضية هذا التصرف باعتبار أنه منته
بالأخرة إلى اختياره، فإذا لا مانع من الحكم باستحقاقه للعقاب من ناحية باعتبار
أنه منته إلى الاختيار. وفساد عبادته من ناحية أخرى باعتبار أن هذا التصرف
مبغوض للمولى، فلا يمكن التقرب به، وهذا واضح.

(1) راجع ص 174.
238

وأما الكلام في المقام الثاني: فالظاهر بل المقطوع به أن عبادته صحيحة،
وذلك لفرض أن النسيان رافع للحرمة واقعا، فلا يكون المجمع في هذا الحال
محرما كذلك، ولا مبغوضا، لفرض أن نسيانه كان عن قصور لا عن تقصير. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المجمع إذا كان جائزا واقعا فلا مانع من شمول إطلاق
دليل الأمر له، ضرورة أن المانع من شموله لهذا الفرد هو دليل الحرمة وتقديمه
على دليل الوجوب، وبذلك يقيد إطلاق دليله، فإذا فرض سقوط دليله واقعا - كما
في المقام - فلا مانع من شمول إطلاقه له أصلا.
وبتعبير آخر: قد ذكرنا: أن المعتبر في صحة العبادة أمران: أحدهما: أن يقصد
القربة، والآخر: أن يكون الفعل في نفسه قابلا للتقرب به، والمفروض أن كلا
الأمرين في المقام موجود.
أما الأول: فلفرض أن المكلف قصد القربة.
وأما الثاني: فلفرض أن الفعل في نفسه سائغ واقعا، ومعه لا مانع من التقرب به
بإتيانه بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة، لفرض أنها تشمله بعد سقوط دليل المقيد لها
واقعا، وهذا ظاهر.
ومن هنا حكمنا بصحة الوضوء في الماء المغصوب نسيانا إذا كان عن قصور،
وذلك لفرض أن التصرف فيه جائز واقعا، ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل
وجوب الوضوء له (1).
فالنتيجة: أن ما نسب إلى المشهور من صحة الصلاة في الدار المغصوبة
في حال نسيان الحكم أو الموضوع إذا كان عن قصور متين جدا، ولا مناص
عنه. ولكن ما نسب إليهم من صحة الصلاة فيها في حال الجهل فقد عرفت أنه غير
تام.

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 4 ص 371 كتاب الطهارة.
239

لحد الآن قد تبين: أن ما أفاده (قدس سره) في هذه المقدمة من الثمرة لا يمكن إتمامه
بدليل، بل لا يترقب صدوره من مثله (قدس سره).
وبعد ذلك نقول: إن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد اختار في المسألة القول
بالامتناع، ورتب ذلك القول على بيان مقدمات:
الأولى: ما لفظه: أنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها
وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بين
البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان وإن لم يكن بينها مضادة ما
لم تبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائية قبل
البلوغ إليها كما لا يخفى، فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال. فلا يجوز عند من يجوز
التكليف بغير المقدور أيضا (1).
ملخص هذه المقدمة: هو أن المضادة والمعاندة بين الأحكام الخمسة إنما هي
في مرتبة فعليتها وبلوغ تلك الأحكام حد البعث والزجر الحقيقيين، فلا مضادة
بينها في مرتبة الإنشاء فضلا عن مرتبة الاقتضاء، واستحالة الجمع بين اثنين منها
في هذه المرتبة في شئ واحد في زمان من باب استحالة اجتماع الضدين، فلذا
لا تختص بمذهب دون آخر، بل هو محال مطلقا حتى على مذهب الأشعري
المجوز للتكليف بالمحال، فإن هذا في نفسه محال.
الثانية: ما نصه: أنه لا شبهة في أن متعلق الأحكام هو فعل المكلف، وما هو
في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله، ولا ما هو اسمه - وهو واضح - ولا ما
هو عنوانه مما قد انتزع عنه بحيث لولا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا لما كان
بحذائه شئ خارجا، ويكون خارج المحمول كالملكية والزوجية والرقية
والحرية والمغصوبية إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات، ضرورة أن البعث
ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنما يؤخذ في متعلق الأحكام آلة للحاظ

(1) كفاية الأصول: ص 193.
240

متعلقاتها، والإشارة إليها بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه
وعلى استقلاله وحياله (1).
مرد هذه المقدمة: إلى أن الأحكام الشرعية لم تتعلق بالأسماء والألفاظ، ولا
بالعناوين الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلا، وإنما تتعلق تلك
الأحكام بأفعال المكلفين الصادرة عنهم خارجا، ضرورة أن الغرض سواء كان
مصلحة أو مفسدة أم كان غيرهما لا يترتب على الأسماء والألفاظ المجردة،
ولا على العناوين الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها، وإنما يترتب على تلك
الأفعال فحسب، وهذا ظاهر.
الثالثة: ما لفظه: أنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا تنثلم به
وحدته، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد،
وتصداق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيط من جميع الجهات ليس
فيه حيث غير حيث وجهة مغايرة لجهته أصلا: كالواجب تبارك وتعالى فهو على
بساطته ووحدته وأحديته تصدق عليه مفاهيم الصفات الجلالية والجمالية، له
الأسماء الحسنى والأمثال العليا، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.
عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير (2)
ملخص هذه المقدمة: هو أن تعدد العنوان بشتى أنواعه وأشكاله لا يوجب
تعدد المعنون في الخارج، ضرورة أنه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على
معنون واحد خارجا أصلا، ولا يوجب تعدده أبدا: كانطباق عنوان الأب والابن
والأخ والزوج والعالم والقادر وما شاكل ذلك على شخص واحد وذات فاردة
كزيد مثلا، بل تنطبق على ذات واحدة بسيطة من تمام الجهات كذاته تعالى شأنه،
فإن مفاهيم الصفات العليا الذاتية: كالعالم والقادر ونحوهما، والصفات الفعلية:
كالخالق والرازق والمتكلم والمريد وما شاكل ذلك تنطبق على ذاته الأحدية، مع
أنها بسيطة في غاية البساطة.

(1) كفاية الأصول: ص 193.
(2) كفاية الأصول: ص 194.
241

نعم، تلك الذات البسيطة باعتبار انكشاف الأشياء لديها عالم، وباعتبار
قدرتها على التكوين والإيجاد قادر، وباعتبار خلقها الأشياء خالق، وباعتبار
رزقها العالم رازق... وهكذا، فالاختلاف والتعدد إنما هو في الإضافة، لا في
الذات كما هو واضح، وكيف كان، فتعدد العنوان لا يستدعي تعدد المعنون بحسب
الوجود الخارجي.
الرابعة: ما هذا نصه: أنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد إلا ماهية
واحدة وحقيقة فاردة لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية،
فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة كانت
عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية
وذاتا لا محالة، فالمجمع وإن تصادقا عليه متعلقا الأمر والنهي، إلا أنه كما يكون
واحدا وجودا يكون واحدا ماهية وذاتا، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو
أصالة الماهية. ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة على
القولين في تلك المسألة كما توهم في الفصول. كما ظهر عدم الابتناء على تعدد
وجود الجنس والفصل في الخارج وعدم تعدده، ضرورة عدم كون العنوانين
المتصادقين عليه من قبيل: الجنس والفصل له، وأن مثل الحركة في دار - من أي
مقولة كانت - لا يكاد تختلف حقيقتها وماهيتها وتتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا
للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أولا (1).
ولنأخذ بتوضيح هذه المقدمة بما يلي: قد يتخيل في المقام - كما عن
الفصول (2) - أن القول بالامتناع والجواز في مسألتنا هذه يرتكزان على القول
بأصالة الوجود وأصالة الماهية، ببيان: أنه لا شبهة في أن ماهية الصلاة غير ماهية
الغصب، فهما ماهيتان متباينتان يستحيل اتحادهما في الخارج ودخولهما تحت
ماهية أخرى.
وعلى هذا: فإن قلنا بأصالة الماهية في تلك المسألة فبما أن مناط تأصلها

(1) كفاية الأصول: ص 194.
(2) راجع الفصول الغروية: ص 126.
242

وتحصلها نفسها في الخارج لا وجودها، لأن الفرض أنه لا واقع موضوعي له،
ولا مطابق له في الخارج، والمطابق فيه إنما هو للماهية، فلا محالة يكون متعلق
النهي غير متعلق الأمر تحصلا، ضرورة استحالة اتحاد الماهيتين المتحصلتين
خارجا ودخولهما تحت ماهية ثالثة، فإذا لا مناص من القول بالجواز. وأما إن
قلنا بأصالة الوجود في تلك المسألة فبما أن اتحاد الماهيتين في الوجود
الخارجي بمكان من الوضوح كاتحاد الماهية الجنسية مع الماهية الفصلية فلا
مناص من القول بالامتناع، وذلك لأن ماهية الصلاة وإن كانت مغايرة لماهية
الغصب بما هما ماهيتان إلا أنهما متحدتان في الخارج وتوجدان بوجود فارد.
ومن المعلوم أن وجودا واحدا لا يعقل أن يكون مصداقا للمأمور به والمنهي
عنه معا.
وإن شئت فقل: إن المحقق صاحب الفصول (قدس سره) قد ابتنى القول بالامتناع في
المسألة على القول بأصالة الوجود، باعتبار أن الوجود في مورد الاجتماع واحد،
والقول بالجواز على القول بأصالة الماهية باعتبار أن الماهية في مورد الاجتماع
متعددة.
ولكن هذا الخيال خاطئ جدا، ولا واقع موضوعي له أصلا، وذلك لأن ماهية
الصلاة وماهية الغصب ليستا من الماهيات المتأصلة المقولية لتدخل محل النزاع
في تلك المسألة، أعني: مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية، بل هما من
الماهيات الانتزاعية والعناوين الاعتبارية التي لا مطابق لها في الخارج ما عدا
منشأ انتزاعها، سواء فيه القول بأصالة الوجود أو الماهية، فإذا لا يجري فيهما
النزاع في تلك المسألة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد عرفت أنه لا مانع من انطباق عناوين متعددة على
معنون واحد وجودا وماهية (1).

(1) راجع ص 241.
243

ومن ناحية ثالثة: أن محل النزاع في تلك المسألة إنما هو في الماهيات
المتأصلة المقولية.
ومن ناحية رابعة: أنه لا يعقل أن يكون لوجود واحد ماهيتان حقيقيتان
أو حدان كذلك، بداهة أن لوجود واحد ماهية واحدة أو حدا كذلك، وهذا واضح.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أن مسألتنا هذه أجنبية عن تلك المسألة
بالكلية، ولا تبتنى عليها أصلا، وذلك لأن المجمع إذا كان له وجود واحد فلا محالة
يكون له ماهية واحدة أو حد كذلك، ولا يعقل أن تكون له ماهيتان حقيقيتان أو
حدان كذلك، سواء فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية ولا فرق بينهما من
هذه الناحية أبدا، ضرورة أن الوجود الواحد لا يعقل أن يكون وجودا لماهيتين
متباينتين، كيف؟ فإنه إن كان وجودا لهذه الماهية فلا يمكن أن يكون لتلك،
وبالعكس.
وأما إذا فرض أن للمجمع في مورد الاجتماع وجودين فلا محالة تكون له
ماهيتان، بداهة أن لكل وجود ماهية واحدة، فلا يعقل أن تكون الماهية الواحدة
ماهية لوجودين، وعليه، فلا مناص من القول بالجواز بناء على ما هو الصحيح من
عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. ومن الواضح أنه لا
فرق في ذلك بين القول بأصالة الوجود في تلك المسألة وأصالة الماهية فيها.
فالنتيجة: أن المفروض في المسألة بما أن المطابق في مورد الاجتماع واحد،
سواء أكان ذلك المطابق مطابقا للماهية بالذات وللوجود بالعرض، بناء على أصالة
الماهية أم كان بالعكس، بناء على أصالة الوجود فلا يعقل فيه اجتماع الأمر والنهي
وهذا واضح.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكر في الفصول أيضا: من ابتناء القول بالجواز
والامتناع على تعدد وجود الجنس والفصل وعدمه، بدعوى: أن مورد الأمر إذا
كان الماهية الجنسية ومورد النهي الماهية الفصلية: فإن كانت الماهيتان متحدتين
في الخارج وموجودتين بوجود واحد فلا مناص من القول بالامتناع، وإن كانتا
244

متعددتين فيه بحسب الوجود فلا مناص من القول بالجواز (1).
وجه الظهور: ما عرفت آنفا: من أن ماهية الصلاة وماهية الغصب ليستا من
الماهيات الحقيقية المقولية لتكون إحداهما جنسا والاخرى فصلا، بل هما من
المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج أصلا ليقال: إنهما موجودتان فيه
بوجود واحد أو بوجودين.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن ماهية الصلاة وماهية الغصب من الماهيات
الحقيقية المقولية إلا أن من الواضح جدا أن ماهية الصلاة ليست جنسا، وماهية
الغصب ليست فصلا مقوما لها، ضرورة أن الماهية الفصلية لا تنفك عن الماهية
الجنسية فإن نسبتها إليها نسبة الصورة إلى المادة.
ومن المعلوم استحالة انفكاك الصورة عن المادة، مع أن الغصب ينفك عن
الصلاة بكثير، بحيث إن نسبة مادة اجتماعهما إلى مادة افتراقهما نسبة الواحد إلى
الألوف. وعليه، فكيف يكون الغصب فصلا والصلاة جنسا له؟
كما أن توهم كون الحركة في مورد الاجتماع بما هي حركة جنسا والصلاتية
والغصبية فصلان لها واضح الفساد، وذلك لاستحالة أن يكون لشئ واحد فصلان
مقومان، فإن فعلية الشئ إنما هي بفصله وصورته.
ومن الواضح أنه لا يعقل أن يكون لشئ واحد صورتان، على أنك عرفت أن
مفهوم الصلاة والغصب من المفاهيم الانتزاعية، ومن الطبيعي أن المفهوم الانتزاعي
لا يصلح أن يكون فصلا، كيف؟ فإن فعلية الشئ ووجوده إنما هي بفصله،
والمفروض أن الأمر الانتزاعي لا وجود له في الخارج، ومعه لا يعقل كونه فصلا.
فالنتيجة هي: أنه لا أصل لابتناء القول بالجواز والامتناع في هذه المسألة
على كون التركيب بين الجنس والفصل هل هو اتحادي أو انضمامي؟ ضرورة أنه
لا صلة لإحدى المسألتين بالأخرى أبدا. على أنه لا إشكال في كون التركيب
بينهما اتحاديا.

(1) راجع الفصول الغروية: ص 126.
245

نعم، قد يقال: إن الأمر لو تعلق بالجنس في مقام والنهي تعلق بالفصل يبتني
القول بالجواز والامتناع على كون التركيب بينهما اتحاديا أو انضماميا.
فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع، لاستحالة اجتماع الوجوب
والحرمة في شئ واحد.
وعلى الثاني فلا مانع من القول بالجواز، لفرض أن متعلق الأمر - عندئذ - غير
متعلق النهي وإن كانا متلازمين في مورد الاجتماع بحسب الوجود الخارجي.
ويحتمل أن يكون غرض المحقق صاحب الفصول (قدس سره) أيضا ذلك، لا أن
غرضه هو: أن الأمر في خصوص الصلاة والغصب كذلك، وكيف كان، فهذا أيضا
غير تام، وذلك لأن المسألة على هذا الشكل تدخل في كبرى مسألة المطلق
والمقيد، فيجري عليهما أحكامها من حمل المطلق على المقيد.
هذا، مضافا إلى أن الجنس والفصل متحدان في الخارج وموجودان بوجود
واحد فلا يعقل أن يكونا موجودين بوجودين فيه.
وبعد ذلك نقول: إن النتيجة على ضوء هذه: هي أنه لا مناص من القول
بالامتناع، لفرض أن الأحكام متضادة، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في شئ
واحد بمقتضى المقدمة الأولى، ولفرض أن المجمع في مورد الاجتماع واحد
وجودا وماهية بمقتضى المقدمة الثانية والثالثة والرابعة.
ثم ذكر (1): أنه قد يتوهم أن محذور اجتماع الضدين في شئ واحد يرتفع
على القول بتعلق الأحكام بالطبائع دون الأفراد، ببيان: أن الطبائع من حيث هي
هي التي ليست إلا ذاتها وذاتياتها وإن كانت غير قابلة لأن تتعلق بها الأحكام
الشرعية إلا أنها مقيدة بالوجود الخارجي - على نحو كان القيد - وهو الوجود
خارجا والتقيد به - داخلا - قابلة لأن تتعلق بها الأحكام، وعلى هذا فلا يكون
متعلقا الأمر والنهي متحدين أصلا، لا في مقام تعلق الأمر والنهي، ولا في مقام
عصيان النهي وإطاعة الأمر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.

(1) كفاية الأصول: ص 195.
246

أما في المقام الأول: فلتعدد متعلقهما بما هما متعلقان وإن كانا متحدين
في الوجود، إلا أنك عرفت أن الوجود قيد خارج عن المتعلق، والتقيد به داخل.
وأما في المقام الثاني: فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان، إذا
فلا اجتماع بين الحكمين في واحد.
ولكن هذا التوهم خاطئ، وذلك لما سبق: من أن مورد الحكم إنما هو فعل
المكلف بواقعه وحقيقته الصادرة منه، لا بعنوانه العارض عليه. وقد عرفت أن
الفعل في مورد الاجتماع واحد وجودا وماهية، وأن تعدد العنوان لا يوجب
تعدده، والمفروض أن الصلاة والغصب ليستا من الماهيات الحقيقية المقولية
لتكونا متعلقتين للأمر والنهي، بل هما من المفاهيم الانتزاعية التي لا مطابق لها في
الخارج، وإنما تؤخذ في متعلقات الأحكام بما هي حاكيات وإشارات إلى ما هو
المتعلق في الواقع، لا بما هي على حيالها واستقلالها. هذا تمام ما أفاده (قدس سره) في
وجه القول بالامتناع، ولعله أحسن ما قيل في المقام.
ولنأخذ بالنقد على بعض تلك المقدمات، وبذلك تبطل النتيجة التي أخذها (قدس سره)
من هذه المقدمات، وهي: القول بالامتناع مطلقا. بيان ذلك:
أما المقدمة الأولى: فقد ذكرنا غير مرة: أن حديث تضاد الأحكام بعضها مع
بعضها الآخر في نفسها وإن كان أمرا معروفا بين الأصحاب قديما وحديثا إلا أنه
مما لا أصل له، وذلك لما حققناه: من أن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية فلا واقع
لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار. ومن الواضح جدا أنه لا مضادة بين نفس
اعتباري الوجوب والحرمة ذاتا، بداهة أنه لا تنافي بين نفس اعتبار المولى الفعل
على ذمة المكلف وبين اعتباره محرومية المكلف عنه بالذات، مع قطع النظر عن
مبدئهما ومنتهاهما، فإن الاعتبار خفيف المؤونة، فلا مانع من اعتبار وجوب شئ
وحرمته معا.
والوجه في ذلك هو: أن المضادة إنما تكون طارئة على الموجودات
التكوينية الخارجية: كالبياض والسواد والحركة والسكون وما شاكل ذلك ومن
247

صفاتها. وأما الأمور الاعتبارية فالمفروض أنه لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر
ليكون بعضها مضادا مع بعضها الآخر.
نعم، المضادة بين الأحكام من ناحيتين:
الأولى: من جهة المبدأ، أعني: اشتمال الفعل على المحبوبية والمبغوضية.
الثانية: من جهة المنتهى، أعني: مرحلة الامتثال والإطاعة.
أما من ناحية المبدأ: فلأن الوجوب والحرمة بناء على وجهة نظر مذهب
العدلية كاشفان عن المحبوبية والمبغوضية في متعلقه. وعليه، فلا يمكن اجتماع
الوجوب والحرمة في شئ واحد، وذلك لاستحالة أن يكون شئ واحد محبوبا
ومبغوضا معا، فمن هذه الناحية لا يمكن اجتماعهما في شئ واحد وفي زمان
فارد لا بالذات والحقيقة.
فالنتيجة: أن المضادة بين الوجوب والحرمة إنما هي بالعرض والمجاز،
فإنها في الحقيقة بين المحبوبية والمبغوضية والمصلحة الملزمة والمفسدة كذلك
كما هو واضح.
وأما من ناحية المنتهى: فلأن اجتماعهما في شئ واحد يستلزم التكليف
بالمحال وبغير المقدور، لفرض أن المكلف في هذا الحال غير قادر على امتثال
كليهما معا.
وأما ما ذكره (قدس سره): من أن المضادة بين الأحكام الشرعية إنما هي في مرتبة
فعليتها وبلوغها حد البعث والزجر مبني على نقطة واحدة، وهي: أن تكون
الأحكام من قبيل الأعراض الخارجية، فكما أن المضادة بين الأعراض إنما كانت
في مرتبة فعليتها ووجودها في الخارج - لوضوح أنه لا مضادة بين السواد
والبياض قبل فعليتهما ووجودهما فيه... وهكذا - فكذلك المضادة بين الأحكام
الشرعية إنما تكون في مرتبة فعليتها ووجوداتها في الخارج، فلا مضادة بين
الوجوب والحرمة قبل وجودهما فيه وبلوغهما حد البعث والزجر.
ولكن تلك النقطة خاطئة جدا، وذلك لأن الأحكام الشرعية ليست من سنخ
248

الأعراض الخارجية لتكون المضادة بينها في مرتبة فعليتها ووجوداتها في
الخارج، لما ذكرناه: من أن المضادة صفة عارضة على الموجودات الخارجية،
فلا مضادة بينها قبل وجوداتها، بل هي من الأمور الاعتبارية التي ليس لها واقع
موضوعي. وقد تقدم أنه لا مضادة بينها بالذات والحقيقة، والمضادة بينها: إما من
ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى.
أما من ناحية المبدأ: فالمضادة بينهما إنما هي في مرتبة جعلها، فلا يمكن
جعل الوجوب والحرمة على شئ واحد. ومن الواضح أن المضادة في هذه
المرتبة لا تتوقف على فعليتهما وبلوغهما حد البعث والزجر، ضرورة أن المضادة
بين نفس الجعلين فلا يمكن تحقق كليهما معا.
وأما من ناحية المنتهى: فالمضادة بينها وإن كانت في مرتبة فعليتها إلا أنها
بالعرض والمجاز، فإنها ناشئة عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في مقام
الامتثال، وإلا فلا مضادة بينها أصلا.
وعلى الجملة: فجعل الوجوب والحرمة لشئ واحد وجودا وماهية مستحيل
على جميع المذاهب والآراء، بداهة أن استحالة اجتماع الضدين في شئ واحد
لا تختص بوجهة نظر دون آخر، ولا تتوقف استحالة ذلك على فعليتهما أبدا،
وهذا ظاهر.
فما أفاده (قدس سره): من أن التضاد بين الأحكام إنما هو في مرتبة فعليتها دون مرتبة
الإنشاء لا يرجع إلى معنى محصل أصلا كما لا يخفى.
وأما المقدمة الثانية: فالأمر كما أفاده (قدس سره): من أن الأحكام لا تتعلق بالعناوين
الانتزاعية التي لا مطابق لها في الخارج بحيالها واستقلالها. نعم، تؤخذ تلك
العناوين في متعلقات الأحكام لا بما هي هي، بل بما هي معرفة ومشيرة إلى ما هو
المتعلق في الواقع.
كما أنها لا تتعلق بالأسماء والألفاظ كذلك، وإنما تتعلق بطبيعي الأفعال
الصادرة عن المكلفين في الخارج.
249

وأما المقدمة الثالثة: فالأمر أيضا كما أفاده (قدس سره) والوجه فيه ما تقدم: من
استحالة أن يكون لشئ واحد ماهيتان في عرض واحد أو حدان كذلك.
نعم، يمكن أن يكون له ماهيات طولا باعتبار أجناسه العالية والمتوسطة
والقريبة، ولكن لا يمكن أن يكون له ماهيتان نوعيتان عرضا، فإن لازم ذلك هو:
أن يكون شئ واحد متفصلا بفصلين يكون كل منهما مقوما له، ومن الواضح
استحالة ذلك: كاستحالة دخول شئ تحت مقولتين من المقولات العشرة، ضرورة
أن المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات والحقيقة، فيستحيل اندراج
مقولتين منها تحت مقولة واحدة. كما أنه يستحيل أن يكون شئ واحد مندرجا
تحت مقولتين منها.
فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن: أنه كما يستحيل صدق المقولتين على شئ
واحد كذلك يستحيل تفصل شئ واحد بفصلين ولو كانا من مقولة واحدة.
وأما المقدمة الرابعة: - وهي: أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون - فغير
تامة، وذلك لأن هذه الكبرى لا تصدق إلا على نحو الموجبة الجزئية، ومعها لا
تنتج النتيجة المزبورة وهي القول بالامتناع، لفرض أنه (قدس سره) لم يبرهن أن المعنون
واحد في جميع موارد الاجتماع، وغاية ما برهن: أن تعدد العنوان لا يقتضي تعدد
المعنون. ومن المعلوم أن عدم الاقتضاء أعم من أن يكون واحدا أو متعددا.
فإذا لابد من ملاحظة المجمع في مورد الاجتماع في نفسه، ومجرد تعدد
العنوان كما لا يكشف عن تعدد المعنون فيه كذلك لا يكشف عن وحدته، فلا أثر له
بالإضافة إلى تعدده ووحدته أصلا.
ومن هنا استشكل شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره) بأنها لا تتم على إطلاقها، وذلك لأن
العنوانين المنطبقين على شئ في الخارج إن كانا من العناوين الانتزاعية
والمفاهيم الاعتبارية التي تنتزع من الجهات التعليلية ولا واقع موضوعي لها فمن
الواضح أن تعددها لا يوجب تعدد المعنون أبدا.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 338.
250

ومن هنا قال (قدس سره): إنا قد ذكرنا في بحث المشتق: أن صدق كل عنوان
اشتقاقي على ذات، معلول لقيام المبدأ بها بنحو من أنحاء القيام.
وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق والانطباق في صدق العناوين
الاشتقاقية على ذات واحدة، وانطباق تلك العناوين عليها تعليلية لا تقييدية، إذ
المفروض أن المعنون واحد ولا تعدد فيه أصلا، لا وجودا ولا ماهية، والتعدد إنما
هو في الأعراض القائمة بذلك الموجود الواحد التي توجب انتزاع تلك العناوين
في الخارج، فصدق كل عنوان معلول لعرض قائم به.
مثلا: صدق عنوان العالم عليه معلول لقيام العلم به، وصدق عنوان العادل عليه
معلول لقيام العدل به، وصدق عنوان الشجاع معلول لقيام الشجاعة....، وهكذا.
وعليه، فيكون صدق كل من هذه العناوين على هذا الشخص الواحد معلولا لعلة
غير ما هو علة لصدق الآخر كما هو واضح.
فالنتيجة: هي أن الجهات في صدق العناوين الاشتقاقية بما أنها جهات
تعليلية فتعددها لا يوجب تعدد المعنون في الخارج. ومن هنا يكون التركيب بين
العنوانين الاشتقاقيين: كالأبيض والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما في
مورد الاجتماع اتحاديا، لفرض أن المعنون واحد وجودا وماهية، والتعدد إنما
يكون في العرضين القائمين به.
وأما إذا كان العنوانان من العناوين الذاتية: كالعلم والشجاعة والقدرة وما
شابه ذلك فمن الطبيعي أن تعددها يوجب تعدد المعنون في الخارج، ضرورة أن
الجهات فيها تقييدية، فلا يعقل اتحاد العنوانين منها خارجا، ولا يمكن أن يكون
التركيب بينهما اتحاديا، بداهة أن التركيب الاتحادي إنما يعقل بين جزءين يكون
أحدهما قوة محضة والآخر فعلية كذلك كالمادة والصورة. وأما الاتحاد بين
أمرين فعليين فلا يعقل، لوضوح أن كل فعلية تأبى عن فعلية أخرى.
وعلى هذا الضوء فلا محالة تكون جهة الصدق في صدق كل من تلك المبادئ
جهة تقييدية. ومن الواضح أن الجهة التقييدية توجب تعدد المعنون خارجا، مثلا:
251

ما ينطبق عليه عنوان العلم غير ما ينطبق عليه عنوان العدل في الخارج، لاستحالة
اتحادهما فيه، غاية الأمر أنهما يكونان متلازمين في الوجود في مورد الاجتماع.
والوجه في ذلك: هو أن المبدأ المأخوذ بشرط لا بما أنه ماهية واحدة
وحقيقة فاردة فلا محالة يكون محفوظا بتمام ماهيته أينما سرى وتحقق، ضرورة
أن الصلاة الموجودة في الدار المغصوبة متحدة في الماهية والحقيقة مع الصلاة
الموجودة في غيرها، وكذا البياض الموجود في الثلج - مثلا - في المكان
المغصوب متحد في الماهية والحقيقة مع البياض الموجود في العاج أو نحوه، وكذا
الحال في بقية المبادئ منها: الغصب فإنه ماهية واحدة أينما سرى وتحقق، أي:
سواء تحقق في ضمن الصلاة أم في ضمن فعل آخر.
وعلى هذا الأصل فلا محالة يكون التركيب بينهما - أي: بين الصلاة والغصب
مثلا - في مورد الاجتماع انضماميا، نظير: التركيب بين الهيولي والصورة،
ويستحيل اتحادهما في الخارج ليكون التركيب بينهما اتحاديا، لما عرفت من
استحالة التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين.
وبكلمة أخرى: أن الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أخرى، وهي مقولة
الأين. ومن المعلوم أن المقولات أجناس عاليات ومتباينات بتمام الذات
والحقيقة، فيستحيل اندارج مقولتين منها تحت مقولة، فإذا كانت الصلاة من مقولة
والغصب من مقولة أخرى يستحيل اتحادهما في الوجود الخارجي واندراجهما
تحت مقولة ثالثة.
وقد يتخيل في المقام أنهما يصدقان على حركة واحدة شخصية، وتلك
الحركة الواحدة مصداق للصلاة والغصب معا، وعلى هذا فيكون التركيب بينهما
في مورد الاجتماع اتحاديا.
ولكن هذا الخيال خاطئ جدا، والوجه فيه هو: أن ذلك يستلزم تفصل الجنس
الواحد - أعني: الحركة - بفصلين في عرض واحد، وهو محال، ضرورة أنه
لا يمكن كون الحركة فيها جنسا لهما وما به اشتراكهما، وإلا لزم ذلك المحذور.
252

أضف إلى ذلك: أن الأعراض بسائط خارجية، فما به الاشتراك في كل مقولة
منها عين ما به الامتياز في تلك المقولة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الحركة ليست مقولة برأسها في قبال تلك المقولات،
بداهة أن نسبة الحركة إلى المقولات التي تقبل الحركة نسبة الهيولي إلى الصور،
فكما أن الهيولي (1) لا توجد في الخارج إلا في ضمن صورة فكذلك لا توجد
الحركة إلا في ضمن مقولة.
ومن الواضح جدا أن الحركة في أية مقولة تحققت فهي عين تلك المقولة،
وليست أمرا زائدا عليها، سواء كانت في مقولة الجوهر على القول بالحركة
الجوهرية أم كانت في مقولة الكم أو الكيف أو نحو ذلك، ضرورة أن الحركة في
مقولة الجوهر ليست شيئا زائدا عليها، بل هي عينها وحقيقتها، وكذا الحركة في
الكم والكيف والأين والوضع، فإنها لا تزيد على وجودها، بل هي عينها خارجا.
وعلى هذا الضوء فالحركة الموجودة في ضمن الصلاة - لا محالة - تكون
مباينة للحركة الموجودة في ضمن الغصب، لفرض أن الصلاة من مقولة والغصب
من مقولة أخرى. وعليه ففرض كون الحركة الواحدة مصداقا لهما معا يستلزم
اتحاد المقولتين المتباينتين في الوجود، وهو محال.
فإذا لا وجه لدعوى: أن الحركة الموجودة في الدار المغصوبة كما هي محققة
لعنوان الغصب كذلك هي معروضة للصلاة فيها، فلا تستلزم وحدة الحركة فيها
اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة ثالثة، وذلك لما عرفت آنفا: من أن
الحركة ليست مقولة برأسها، بل هي توجد في ضمن المقولات وتكون عينها
خارجا. وعليه، فوحدتها في مورد الاجتماع وكونها كذلك مصداقا لهما - لا
محالة - تستلزم اتحاد المقولتين كما هو واضح.
وبكلمة أخرى: أن جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية بما أنها جهة تعليلية

(1) قال الفيروزآبادي في القاموس والمحيط: والهيول - كصبور - الهباء المنبث وما تراه في
البيت من ضوء الشمس، معربة، والهالة دارة القمر. (مادة هال).
253

فلا يوجب تعددها تعدد المعنون في الخارج، وجهة الصدق في المبادئ بما أنها
جهة تقييدية فلا محالة تعددها يوجب تعدد المعنون فيه.
بيان ذلك: أما في الأولى: فلأن معروض المبادئ وموضوعها في الخارج
يختلف وجودا وماهية باختلاف الموارد، فكما أن وحدة العرض نوعا لا تقتضي
وحدة معروضه كذلك - فالبياض يعرض للثلج والعاج وغيرهما - كذلك تعدد
العرض لا يقتضي تعدد معروضه، فيمكن قيام أعراض متعددة بمعروض شخصي
واحد، مثلا: الذات التي يقوم بها المبدأ في مورد اجتماع الحلاوة والبياض كالسكر
ذات، وفي مورد الافتراق من ناحية الحلاوة ذات أخرى: كالدبس المغايرة
للأولى، وفي مورد الافتراق من ناحية البياض ذات ثالثة كالعاج....، وهكذا.
وعلى الجملة: فالمعروض لا يتعدد بتعدد المبادئ القائمة به، ولذا يكون
واحدا في مورد اجتماع الحلاوة والبياض، ولا يتعدد بتعددهما.
وعلى هذا الضوء فالمجمع للعنوانين الاشتقاقيين بينهما عموم من وجه - لا
محالة - يكون واحدا كالمجمع لعنواني الحلو، والأبيض، والمصلي والغاصب،
والمتحرك والساكن، والعالم والعادل، وما شاكل ذلك، لفرض أن المعنون في مورد
الاجتماع واحد، والتعدد إنما هو في العرض القائم به. وقد عرفت أن تعدد العرض
لا يوجب تعدد المعروض.
وأما في الثانية: فلوضوح أن كل مبدأ من مبادئ الاشتقاق مباين لمبدأ آخر
منها وجودا وماهية. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه من الطبيعي أن ذلك المبدأ بتمام ذاته وذاتياته
محفوظ في جميع موارد تحققه وسريانه، ضرورة أن الحلاوة الموجودة في محل
الاجتماع متحدة في الماهية مع الحلاوة الموجودة في محل الافتراق، بداهة أن
جهة صدق طبيعي الحلاوة على حصة منه الموجودة في محل الافتراق ليست
مغايرة لجهة صدقه على حصة منه الموجودة في محل الاجتماع، بل هي واحدة،
وهي: أن هذه الحصة كتلك عين الطبيعي في الخارج، لفرض أن وجوده فيه عين
254

وجود أفراده وحصصه، وصدقه على جميع أفراده بملاك واحد وبجهة فاردة، من
دون فرق في ذلك بين فرد منه الموجود في محل الافتراق والفرد منه الموجود في
محل الاجتماع، وهذا واضح.
وكذا الصلاة الموجودة في المكان المغصوب متحدة في الماهية مع الصلاة
الموجودة في المكان المباح، والغصب الموجود في ضمن الصلاة متحد في
الماهية مع الغصب الموجود في ضمن فعل آخر... وهكذا، لوضوح أن الحقيقة
الواحدة لا تختلف في الصدق باختلاف وجوداتها ومواردها كما هو ظاهر.
وعلى هذا يترتب أن التركيب بين الصلاة والغصب أو البياض والحلاوة في
مورد اجتماعهما انضمامي، نظير التركيب بين الهيولي والصورة، لفرض أن الصلاة
الموجودة في محل الاجتماع بعينها هي الصلاة الموجودة في محل الافتراق، وكذا
الحال في الغصب. وعليه، فلا يعقل أن تتحد الصلاة مع الغصب، وإلا لزم أن لا
تكون الصلاة الموجودة في محل الاجتماع فردا لطبيعة الصلاة، وكذا الغصب
الموجود فيه ليس فردا لطبيعته، وهذا خلف.
نعم، يفترق التركيب الانضمامي بين العرضين عن التركيب الانضمامي بين
الهيولي والصورة، من ناحية أن نسبة الهيولي إلى الصورة نسبة القوة إلى الفعل، فإن
الهيولي قوة محضة والصورة فعلية محضة، وهذا بخلاف نسبة العرض إلى
معروضه، فإنها نسبة الشخص إلى المتشخص، لا نسبة القوة إلى الفعل، لفرض أن
كل من العرض ومعروضه فعلي في الخارج وموجود فيه، غاية الأمر أنه
يتشخص بتشخص معروضه، مثلا: الصلاة كما تتشخص بوقوعها في غير الدار
المغصوبة كذلك تتشخص بوقوعها فيها، وكذا الغصب كما يتشخص في ضمن غير
الصلاة قد يتشخص في ضمنها.
فالنتيجة قد أصبحت من جميع ما ذكرناه: أن التركيب بين عنوانين اشتقاقيين
تكون النسبة بينهما عموما من وجه في مورد الاجتماع تركيب اتحادي، بمعنى:
أن معروضهما في الخارج واحد وجودا وماهية، وإن كان منشأ انتزاعهما متعددا
فيه باعتبار أنه لا يمكن انتزاع مفهومين متباينين من شئ واحد.
255

وأما التركيب بين المبدأين تكون النسبة بينهما عموما من وجه في مورد
الاجتماع تركيب انضمامي لا محالة، بداهة استحالة انتزاع مفهومين تكون النسبة
بينهما عموما من وجه من موجود واحد بجهة واحدة، وإلا لكانا متساويين، فإن
ملاك التساوي: هو أن يكون صدق كل منهما على أفراده متحدا مع صدق الآخر
على أفراده في ملاك الصدق وجهته، وهذا بخلاف المفهومين تكون النسبة بينهما
عموما من وجه فإن جهة الصدق في كل منهما مغاير لجهة الصدق في الآخر.
وعلى الجملة: فالمفهومان لا يخلوان: من أن تكون جهة الصدق في كل منهما
على جميع أفراده واحدة، أو أن تكون متعددة. وعلى الفرض الثاني: فإما أن كل
ما يصدق عليه أحدهما مندرج في الآخر ومن مصاديقه وأفراده، وإما أن لا يكون
كذلك.
فعلى الأول لا محالة تكون النسبة بينهما التساوي، لفرض أنه يستحيل
صدق أحدهما على شئ بدون صدق الآخر عليه.
وعلى الثاني تكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، لفرض عدم مادة
الافتراق من جانب أحدهما.
وعلى الثالث العموم والخصوص من وجه، لفرض وجود مادة الافتراق من
كلا الجانبين معا.
ومن هنا يظهر أنه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين، بداهة
استحالة اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة، وهذا واضح.
ومن ضوء هذا البيان قد اتضح أن القول بالجواز في المسألة يرتكز على أن
تكون الجهتان تقييديتين في مورد الاجتماع، والمفروض أنهما كذلك. وعليه فلا
محالة يكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه، غاية الأمر أنهما متلازمان
وجودا في الخارج.
وقد مر في غير مورد أن الصحيح: هو عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين
إلى الملازم الآخر، خصوصا إذا كان التلازم بينهما اتفاقيا كما في المقام. كما أن
256

القول بالامتناع فيها يرتكز على أن تكون الجهتان تعليليتين فإنه على هذا
- لا محالة - يكون المجمع واحدا وجودا وماهية، ومعه يستحيل أن يكون مصداقا
للمأمور به والمنهي عنه معا.
ولأجل ذلك أشكل (قدس سره) على المحقق صاحب الكفاية: بأن القول بالامتناع في
المسألة يبتني على أن تكون الجهتان في مورد الاجتماع تعليليتين بأن يكون
صدق كل منهما معلولا لجهة خاصة قائمة بالمجمع ليكون التركيب بينهما اتحاديا
لا انضماميا (1).
ولكن عرفت أن الجهتين في محل الكلام تقييديتان. وعلى هذا فلا مناص من
القول بالجواز.
ثم إن المراد من التقييد في المقام غير التقييد في باب المطلق والمقيد، حيث
إن التقييد هناك بمعنى تضييق دائرة المطلق وعدم سريان الحكم المتعلق به إلى
جميع افراده.
وأما التقييد في المقام بمعنى: التوسعة في متعلق الحكم واندراجه تحت
ماهيتين، ضرورة أن معنى كون الجهة في مورد الاجتماع تقييدية: هو أنها توجب
تعدد المجمع فيه واندراجه تحت الماهيتين. فنتيجة التقييد في كل من المقامين
على عكس نتيجة التقييد في المقام الآخر.
وكيف كان، فالجهتان بما أنهما في مورد الكلام تقييديتان فلابد من الالتزام
بجواز الاجتماع بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى
اللازم.
ثم قال (قدس سره): والعجب منه أنه لم يتعرض لهذه الجهة في كلامه في المقام أصلا،
لا نفيا ولا إثباتا (2).
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) لحد الآن: هي أنه لابد من القول بالجواز في المسألة،

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 352 - 353.
(2) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 352.
257

فإن لازم كون جهة الصدق في صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد
الاجتماع تقييدية هو تعدد المجمع وجودا وماهية، ومعه لا مانع من اجتماع الأمر
والنهي، ولا يلزم منه اجتماع الضدين أصلا.
وقد برهن على كون الجهة فيهما تقييدية: بأن ماهية واحدة لا تختلف
باختلاف وجوداتها وأفرادها في الخارج، فإن صدقها على جميعها بملاك واحد،
من دون فرق بين الفرد الموجود في مورد الاجتماع والفرد الموجود في مورد
الافتراق كما عرفت.
عدة نقاط فيما أفاده (قدس سره):
الأولى: أن جهة الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية، ولأجل
ذلك لا مانع من انطباق عنوانين منها على معنون واحد وجودا وماهية، فلا يقتضي
تعددها تعدده أصلا. نعم، تعددها مقتض لتعدد الأعراض القائمة به، لفرض أن كلا
من هذه العناوين منتزع من قيام عرض من تلك الأعراض به.
الثانية: أن جهة الصدق في صدق المبادئ جهة تقييدية، ضرورة استحالة
صدق مبدأ على مبدأ آخر واتحادهما في الخارج. وعليه، فلا محالة يكون
التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضماميا، لفرض أن تعددهما يقتضي تعدد
المجمع في الخارج، ومعه لا يمكن فرض اتحادهما فيه أبدا.
الثالثة: أن محل الكلام في هذه المسألة في الجواز والامتناع إنما هو فيما إذا
كان متعلق الأمر والنهي من المبادئ وكانت النسبة بينهما عموما من وجه لا من
المفاهيم الاشتقاقية، لفرض أن المجمع لعنوانين منها في مورد الاجتماع واحد من
ناحية أن جهة الصدق فيهما تعليلية، وإذا كان المجمع واحدا وجودا وماهية فلا
يمكن القول بالجواز فيه حتى من القائل به، فإنه إنما يقول به بدعوى: أن المجمع
متعدد وجودا وماهية لا مطلقا كما هو واضح.
الرابعة: أن محل النزاع في مبادئ المشتقات إنما يكون فيما إذا كانت تلك
258

المبادئ من سنخ الأفعال الاختيارية، لا فيما إذا كانت من سنخ الصفات
الجسمانية أو النفسانية، لفرض أن محل الكلام في اجتماع متعلقي الأمر والنهي في
مورد واحد. ومن المعلوم أنهما لا يمكن أن يتعلقا إلا بالأفعال الاختيارية.
الخامسة: أن ماهيات المبادئ المأخوذة بشرط لا لا تختلف باختلاف
الموارد، ففي مورد الاجتماع والافتراق ماهية واحدة كما عرفت، وهذا بخلاف
ماهية معروضها، فإنها تختلف في الخارج، بمعنى: أن وحدة ماهية العرض نوعا
لا تستلزم وحدة ماهية المعروض كذلك، كما أن تعددها لا يستلزم تعددها. ومن
هنا يكون التركيب بين العرضين في مورد الاجتماع انضماميا، نظير: التركيب بين
الهيولي والصورة. وإن كان التركيب بين العنوانين الاشتقاقيين اتحاديا.
السادسة: أن ملاك التساوي بين المفهومين: هو أن صدق كل منهما على
أفراده بمناط واحد وجهة فاردة وملاك العموم من وجه بينهما: هو أن صدق كل
منهما على أفراده بمناطين وجهتين لا معاندة بينهما، وإلا فهما ملاك التباين كما
لا يخفى، وملاك العموم المطلق: هو أن كل ما يصدق عليه أحدهما يكون داخلا
تحت المفهوم الآخر. ومن ذلك يتبين أنه لا يمكن أن تكون النسبة بين جوهرين
عموما من وجه، لتباينهما في الخارج وعدم إمكان صدق أحدهما على ما يصدق
عليه الآخر.
السابعة: أن الجهة التقييدية في المقام على عكس الجهة التقييدية في باب
المطلق والمقيد، حيث إنها في المقام توجب توسعة المجمع ودخوله تحت
الماهيتين وهناك توجب تضييق المطلق واختصاص الحكم بحصة خاصة منه دون
أخرى كما هو واضح.
الثامنة: أنه لا يمكن أن يكون التركيب بين الصلاة والغصب اتحاديا، ضرورة
أن الصلاة من مقولة والغصب من مقولة أخرى، وهي مقولة الأين. ومن المعلوم أن
المقولات متباينات بالذات فلا يمكن اتحاد اثنتين منها في الوجود، وعلى هذا
فيستحيل صدق كليهما على حركة واحدة في مورد الاجتماع، وإلا لزم تفصل
259

شئ واحد بفصلين في عرض واحد، وهو محال، مضافا إلى ما ذكرناه من أن
الحركة في كل مقولة من المقولات عين تلك المقولة خارجا وليست جنسا لها،
لفرض أن الأعراض بسائط خارجية، وأن ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
ولنأخذ بالمناقشة في بعض هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة، وذلك ضرورة أن جهة
الصدق في صدق العناوين الاشتقاقية على ذواتها لا محالة جهة تعليلية، بداهة
أنه لا يمكن تعقل النسبة بالعموم من وجه بين عنوانين منها إلا إذا كانت الذات
في مورد الاجتماع واحدة، وإلا فليست النسبة بينهما كذلك كما هو واضح.
أما النقطة الثانية فيرد عليها: أن نظريته (قدس سره) في تلك النقطة إنما تتم في
الماهيات المتأصلة والمقولات الحقيقية، فإن المبادئ إذا كانت من تلك المقولات
يستحيل اتحاد اثنين منها في الخارج وصدق أحدهما على الآخر، ضرورة
استحالة اتحاد مقولتين خارجا وصدق إحداهما على الأخرى، من دون فرق في
ذلك بين أن تكونا عرضين أو جوهرين، أو إحداهما جوهرا والاخرى عرضا.
والسر فيه ما عرفت غير مرة: من أن المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات
والحقيقة، وليس فوقها جنس آخر لتكون تلك المقولات داخلة فيه.
وعلى هذا الضوء فكما أنه لا يمكن صدق مقولة الجوهر على مقولة العرض
فكذلك لا يمكن صدق كل من أقسامهما على الآخر بعين هذا الملاك، فلا تصدق
النفس على العقل، والصورة على المادة، والكم على الكيف، والأين على
الوضع... وهكذا.
ومن هذا البيان قد تبين حال المبادئ المتأصلة: كالبياض والعلم والشجاعة
والحلاوة والكرم وما شاكل ذلك، فإن هذه المبادئ وأمثالها بما أنها مبادئ
متأصلة وماهيات حقيقية مقولية فلا محالة تعددها يستلزم تعدد المعنون والمطابق
في الخارج، لما عرفت الآن من استحالة اتحاد ماهية متأصلة مع ماهية متأصلة
260

أخرى خارجا، فلا يمكن اتحاد الحلاوة مع البياض والعلم مع الشجاعة... وهكذا،
وعليه، فالتركيب الحقيقي بين اثنين منها غير معقول، لاستلزام ذلك اندراج
مقولتين متباينتين تحت مقولة واحدة، وهو محال.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في
مورد الاجتماع تركيب انضمامي لا غيره إنما يتم فيما إذا كان متعلقيهما من
المبادئ المتأصلة والماهيات المقولية، حيث قد عرفت أن التركيب الحقيقي بين
تلك المبادئ غير معقول.
وإن شئت فقل: إن تعدد العنوان في مورد الاجتماع إنما يقتضي تعدد المعنون
فيه بحسب الخارج إذا كان من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية، ضرورة
أنه على هذا لابد من الالتزام بتعدده وكون التركيب انضماميا.
وأما إذا لم يكن من هذه العناوين أو كان أحد العنوانين منها دون الآخر ففي
مثل ذلك لا يستدعي تعدد العنوان تعدد المعنون والمطابق في الخارج أصلا، بل
لابد - عندئذ - من ملاحظة أن المطابق لهما في مورد الاجتماع والتصادق واحد
أو متعدد، فإن كان واحدا فلا مناص من القول بالامتناع، وإن كان متعددا فلا
مناص من القول بالجواز، بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من
الملزوم إلى اللازم.
وعلى الجملة: فالعنوانان في مورد الاجتماع إذا كانا متأصلين فلا محالة
يقتضيان تعدد المجمع فيه وجودا وماهية، فإذا يتعين القول بالجواز.
وأما إذا كانا انتزاعيين أو كان أحدهما انتزاعيا والآخر متأصلا فلا يقتضيان
تعدد المجمع أبدا، بل لابد - وقتئذ - من تحقيق نقطة واحدة، وهي: ملاحظة أن
منشأ انتزاعهما على الفرض الأول - وهو: ما إذا كان كلا العنوانين انتزاعيا - هل
هو واحد في الخارج وجودا وماهية أو متعدد فيه كذلك؟ ومنشأ انتزاع العنوان
الانتزاعي على الفرض الثاني - وهو: ما إذا كان أحدهما انتزاعيا - هل هو متحد مع
العنوان الذاتي خارجا بأن يكونا موجودين بوجود واحد أو غير متحد معه بأن
261

يكون منشأ انتزاعه مباينا للعنوان الذاتي وجودا وماهية؟
فعلى الأول: بما أن المطابق لهما واحد في مورد الاجتماع والتصادق فلابد
من القول بالاستحالة والامتناع في المقام.
وعلى الثاني بما أنه متعدد فيه فلا مانع من القول بالجواز أصلا.
وبكلمة واضحة: أن العنوانين المتصادقين في مورد لا يخلوان: من أن يكونا
من العناوين الذاتية والمقولات الحقيقية، وأن يكون أحدهما من العناوين الذاتية
والآخر من العناوين الانتزاعية، وأن يكون كلاهما من العناوين الانتزاعية
ولا رابع في البين.
فالنتيجة: أن الصور في المقام ثلاثة:
الأولى: - وهي ما إذا كان كلاهما من العناوين المتأصلة - قد تقدم آنفا: أن
تعدد العنوان المقولي في مورد لا محالة يوجب تعدد المعنون والمطابق فيه، بداهة
أنه كما يستحيل اتحاد مقولة مع مقولة أخرى واندراجهما تحت مقولة ثالثة كذلك
يستحيل اتحاد نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة، أو فرد من هذه المقولة
مع فرد آخر منها... وهكذا، وذلك لما برهن في محله: من أنه لابد في المركب
الحقيقي من أن تكون له جهة وحدة حقيقية، لوضوح أنه لولا تلك الجهة لكان
التركيب اعتباريا.
ومن الواضح جدا أن جهة الوحدة الحقيقية لا تكون إلا إذا كان أحد جزئي
المركب بالقوة والآخر بالفعل ليكونا موجودين بوجود واحد. وأما إذا كان كلاهما
بنحو الفعلية والتحصل فيستحيل أن تكون بينهما جهة وحدة حقيقية، ضروة أن كل
فعلية تأبى عن فعلية أخرى.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر: أنه لا يمكن اتحاد فردين من مقولة واحدة
فضلا عن مقولتين. أضف إلى ذلك ما ذكرناه: من أن المقولات أجناس عاليات فلا
يمكن أن يكون فوقها جنس آخر.
262

الثانية: - وهي ما إذا كان أحد العنوانين من العناوين المتأصلة، والآخر من
العناوين الانتزاعية - قد تقدم على صفة الإجمال: أن تعدد العنوان كذلك لا يقتضي
تعدد المعنون والمطابق في الخارج، بل لابد من ملاحظة أن العنوان الانتزاعي هل
ينتزع من مرتبة ذات العنوان المتأصل في الخارج أو من شئ آخر مباين له
وجودا؟ بمعنى: أن منشأ انتزاعه مباين للعنوان الذاتي خارجا.
فعلى الأول لا محالة يكون التركيب بينهما اتحاديا في مورد الاجتماع،
بمعنى: أن المجمع فيه واحد وجودا وماهية، غاية الأمر يكون صدق أحدهما عليه
ذاتيا والآخر عرضيا.
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثالين:
أحدهما: ما إذا فرض أن شرب الماء بما هو مأمور به، وفي هذا الفرض لو
شرب أحد الماء المغصوب فلا محالة ينطبق عليه عنوانان: أحدهما: العنوان
الذاتي وهو: الشرب، والآخر: العنوان الانتزاعي وهو: الغصب، لما سيجئ - إن
شاء الله تعالى - من أن الغصب ليس من إحدى المقولات التسع العرضية، بل هو
عنوان انتزاعي منتزع من التصرف في مال الغير. ومن هنا أمكن انطباقه على
الماهيات المتعددة المقولية. ووفي المقام بما أنه منتزع من نفس العنوان الذاتي
في مورد الاجتماع - وهو: شرب هذا الماء، لا من شئ آخر مباين له وجودا -
فلا محالة يتحد معه خارجا، ويكون المطابق لهما واحدا وجودا وماهية. وعليه،
فلا مناص من القول بالامتناع، بداهة استحالة أن يكون شئ واحد مصداقا
للمأمور به والمنهي عنه معا.
فما أفاده (قدس سره) من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر لا يتم في هذا
المثال وما شاكله. نعم، إنما يتم في المبادئ المتأصلة كما سبق.
وثانيهما: التوضؤ بماء الغير بدون إذنه، فإنه مجمع للعنوان الذاتي والانتزاعي
معا.
أما العنوان الذاتي فهو: عبارة عن نفس التوضؤ الذي له واقع موضوعي
263

في الخارج، وينطبق عليه انطباق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.
وأما العنوان الانتزاعي: فهو عبارة عن الغصب الذي لا واقع له ما عدا منشأ
انتزاعه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه منتزع من نفس هذا العنوان الذاتي في الخارج وهو
التوضؤ بهذا الماء.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن العنوانين في المقام منطبقان على شئ واحد
وجودا وماهية. وعليه، فلا مناص من القول بالامتناع.
وعلى الجملة: فالنسبة بين هذين العنوانين وإن كانت بالعموم من وجه، وأن
لكل منها ماهية مستقلة في مورد الافتراق إلا أنهما متحدان في مورد الاجتماع
باعتبار أن منشأ انتزاع العنوان الانتزاعي هو نفس العنوان الذاتي في الخارج، ولا
واقع له ما عداه.
والأصل في جميع ذلك: هو ما أشرنا إليه: من أن المبدأ إذا كان من العناوين
الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا منشأ انتزاعها أمكن انطباقه على
المقولات المتعددة، لفرض أنه تابع لمنشأ انتزاعه، فإن كان منشأ انتزاعه من
مقولة الأين فينطبق عليه، وإن كان من مقولة أخرى فكذلك... وهكذا، كما هو
الحال في الغصب، فإنه قد ينطبق على مقولة الأين، وهي: الكون في الأرض
المغصوبة، وقد ينطبق على مقولة أخرى غيرها: كلبس مال الغير أو أكله أو شربه،
مع أنه لا يلزم من ذلك اتحاد المقولتين أو تفصل الجنس الواحد بفصلين في
عرض واحد أصلا، لاختصاص ذلك بما إذا كان المبدءان كلاهما من المبادئ
المتأصلة المقولية، لا فيما إذا كان أحدهما متأصلا والآخر منتزعا.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أنه لا يمكن في مثل هذين المثالين أن
يكون العنوان الانتزاعي متعلقا للنهي مثلا، والعنوان الذاتي الذي هو منشأ انتزاعه
متعلقا للأمر.
وعلى الثاني - وهو: ما كان منشأ انتزاع العنوان العرضي مغايرا للعنوان
264

الذاتي في الوجود - فالتركيب - عندئذ - في مورد الاجتماع - لا محالة - يكون
انضماميا، لفرض عدم اتحاد ما تعلق به الأمر مع ما تعلق به النهي، ويكون مصداق
أحدهما في الخارج غير مصداق الآخر وجودا وماهية، غاية الأمر أنهما
متلازمان في الوجود في مورد الاجتماع.
وقد تقدم غير مرة: أن الصحيح هو: عدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى
الملازم الآخر، وعليه فلا مناص من القول بالجواز.
ومثاله: التكلم في الدار المغصوبة إذا فرض أنه مأمور به، فإن التكلم وإن كان
عنوانا متأصلا لفرض أنه من مقولة الكيف المسموع. إلا أنه ليس منشأ لانتزاع
عنوان الغصب خارجا ضرورة انه ليس تصرفا في الدار، ليكون مصداقا له ومنشأ
لانتزاعه، بل المنشأ له انما هو الكون فيها الذي هو من مقولة الأين. ومن الواضح
انه مغاير للتكلم بحسب الوجود الخارجي، لفرض أنه من مقولة والتكلم من
مقولة أخرى، والمفروض استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت حقيقة
واحدة.
وعلى هذا، فلا مانع من أن يكون العنوان الذاتي متعلقا للأمر والعنوان
الانتزاعي متعلقا للنهي أصلا، لفرض أن منشأ العنوان الانتزاعي مغاير مع العنوان
الذاتي في الخارج وجودا وماهية، ومعه لا يلزم من اجتماعهما في مورد كون
شئ واحد مصادقا للمأمور به والمنهي عنه معا.
ومن هذا القبيل: الأكل في الأرض المغصوبة فإنه ليس تصرفا فيها بنظر
العرف ليكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب، بل الغصب منتزع من أمر آخر مغاير له
وجودا، وهو الكون فيها، فلا يلزم من فرض تعلق الأمر بالأكل اجتماع الأمر
والنهي في شئ واحد.
الثالثة: - وهي: ما إذا كان كلا العنوانين من الماهيات الانتزاعية - أيضا لابد
من ملاحظة أن العنوانين المتصادقين في مورد الاجتماع هل ينتزعان من موجود
واحد في الخارج، بمعنى: أن ذلك الموجود الواحد باعتبار منشأ لانتزاع أحدهما
265

وباعتبار آخر منشأ لانتزاع الآخر، أو ينتزع كل منهما من موجود مباين لما ينتزع
منه الآخر؟
فعلى الأول: لا محالة يكون التركيب بينهما اتحاديا، لفرض أن منشأ انتزاعهما
واحد في الخارج وجودا وماهية من ناحية، وعدم تعلق الحكم بالعنوان الانتزاعي
بما هو من ناحية أخرى. وعليه، فلا مناص من القول بالامتناع، ضرورة استحالة
أن يكون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا ومحبوبا ومبغوضا.
وعلى الثاني: فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضماميا،
وذلك لاستحالة التركيب الحقيقي بين الموجودين المتباينين، سواء أكانا من مقولة
واحدة أم من مقولتين.
وبتعبير آخر: أن العنوانين إذا كان كلاهما انتزاعيا فلا يخلوان: من أن يكونا
منتزعين من شئ واحد في الخارج باعتبارين مختلفين، أو أن يكون كل منهما
منتزعا من شئ.
أما الصورة الأولى: فلابد من الالتزام باستحالة الاجتماع فيه، وذلك لأن
متعلق الأمر والنهي في الحقيقة إنما هو منشأ انتزاعهما، والمفروض أنه واحد
وجودا وماهية لا العنوانان المتصادقان عليه، لفرض أن العنوان الانتزاعي لا
يخرج عن أفق النفس إلى ما في الخارج ليكون صالحا لأن يتعلق به الأمر أو النهي.
ولتوضيح ذلك نأخذ مثالا، وهو: الإفطار في نهار شهر رمضان بمال الغير
فإنه مجمع لعنوانين، أعني: عنواني الغصب والإفطار ومصداق لهما معا، ضرورة
أن هذا الفعل الواحد وجودا وماهية - وهو: الأكل - كما يكون منشأ لانتزاع عنوان
الغصب باعتبار تعلقه بمال الغير بدون إذنه كذلك يكون منشأ لانتزاع عنوان
الإفطار في نهار شهر رمضان باعتبار وقوعه فيه، فانتزاع كل من هذين العنوانين
من ذلك الفعل الواحد معلول لجهة خاصة مغايرة لجهة أخرى. ومن الواضح جدا
أن لزوم كون انتزاعهما من شئ واحد وصدقهما عليه بجهتين لا ينافي كون
المصداق الخارجي واحدا ذاتا ووجودا.
266

والوجه في ذلك ظاهر، وهو: أن النسبة بالعموم من وجه لا يمكن أن تتحقق
إلا بين عنوانين انتزاعيين الذين هما من قبيل: خارج المحمول، أو بين عنوان
انتزاعي وعنوان مقولي، بداهة أنه لا مانع من صدق عنوانين انتزاعيين على
موجود واحد في الخارج، وكذا لا مانع من صدق عنوان عرضي على ما يصدق
عليه العنوان الذاتي.
ومن هنا يستحيل تحقق النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين وعرضين
وجوهر وعرض، وذلك لوضوح أن المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات
والحقيقة، فلا يمكن اتحاد مقولتين منها خارجا، وعليه فلا يمكن أن يكون شئ
واحد مصداقا للجوهر والعرض معا، ضرورة أن ما يكون مصداقا للجوهر
يستحيل أن يكون مصداقا للعرض، وبالعكس. كما أن ما يكون مصداقا للكم
- مثلا - يستحيل أن يكون مصداقا للكيف... وهكذا.
بل الأمر كذلك بالإضافة إلى أنواع هذه المقولات وأفرادها، فلا يمكن اتحاد
نوع من مقولة مع نوع آخر من هذه المقولة، فإن الأنواع وإن كانت مشتركة في
الجنس إلا أنها متباينات من ناحية الفصل، لفرض أن نوعية الأنواع بواسطة
الفصل، فلو فرض اتحاد نوع مع نوع آخر للزم تفصل شئ واحد بفصلين في
عرض واحد، وهو محال، بداهة أن فعلية الشئ بفصله فإنه المقوم والمحصل له،
أو أنه منتزع من حده الحقيقي. ومن المعلوم أنه لا يعقل أن يكون لشئ واحد
وجودان ومحصلان في الخارج، أو حدان كما هو واضح.
وكذا لا يمكن اتحاد فرد من مقولة مع فرد آخر منها، لما تقدم: من استحالة
التركيب الحقيقي بين أمرين فعليين في الخارج، لأن كل فعلية تأبى عن فعلية
أخرى، وبما أنهما فعليان وموجودان فيه فلا يعقل التركيب الحقيقي بينهما.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن النسبة بالعموم من وجه لا تعقل بين جوهرين وعرضين وجوهر
وعرض.
267

الثاني: أن النسبة بالعموم من وجه إنما تعقل بين عنوانين عرضيين وعنوان
عرضي وعنوان ذاتي مقولي. وعليه، فلا مانع من انطباق عنوان الغصب والإفطار
على شئ واحد في مورد الاجتماع، فعندئذ لو تعلق الأمر بأحدهما كالإفطار
- مثلا - والنهي بالآخر كالغصب فلا محالة تقع المعارضة بينهما في مورد
الاجتماع، لاستحالة أن يكون شئ واحد مأمورا به والمنهي عنه معا.
وأما الصورة الثانية - وهي: ما إذا كان منشأ انتزاع كل منهما مغايرا لمنشأ
انتزاع الآخر - فلا مانع من القول بالجواز، لفرض أن التركيب بينهما في مورد
الاجتماع انضمامي، فيكون مصداق المأمور به غير مصداق المنهي عنه، ومعه
لا مناص من القول به بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من متعلقه
إلى مقارناته الوجودية.
ومثال ذلك: الإفطار في المكان المغصوب بمال مباح أو مملوك له، فإن
عنوان الإفطار هنا منتزع من شئ، وعنوان الغصب من شئ آخر مباين له، حيث
إن الأول منتزع من الأكل الموجود في الخارج، والمفروض أنه ليس تصرفا في
مال الغير ليكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب ومصداقا له. والثاني منتزع من الكون
في هذا المكان، فإنه مصداق للتصرف في مال الغير ومنشأ لانتزاعه. وعليه، فلا
يلزم من اجتماع هذين العنوانين في مورد لزوم كون شئ واحد مصداقا للمأمور
به والمنهي عنه معا، لفرض أن المأمور به غير المنهي عنه بحسب الوجود
الخارجي، فلا يعقل كون التركيب بينهما اتحاديا، غاية الأمر: أن وجوده في هذا
المورد ملازم لوجود المنهي عنه. وقد عرفت غير مرة أن الحكم لا يسري من
الملازم إلى الملازم الآخر، وعليه، فلا مانع من القول بالجواز في مثل هذا المثال
أصلا.
نعم، عنوان الغاصب والمفطر منطبقان على شخص واحد في مورد الاجتماع،
إلا أنهما أجنبيان عن محل الكلام رأسا، فمحل الكلام في عنواني: الغصب
والإفطار، والمفروض أنهما لا ينطبقان على شئ واحد هنا كما عرفت.
268

إلى هنا قد تبين أنه ليس لنا ضابط كلي للقول بالامتناع ولا للقول بالجواز
في المسألة أصلا، بل لابد من ملاحظة العنوانين المتعلقين للأمر والنهي في مورد
الاجتماع: فإن كانا من المبادئ المتأصلة والمقولات الحقيقية فقد عرفت أن تعدد
تلك المبادئ يستلزم تعدد المعنون والمطابق في الخارج لا محالة، ضرورة
استحالة اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة أخرى، أو تفصل شئ واحد
بفصلين في عرض واحد.
وأما إذا كان أحدهما عنوانا انتزاعيا والآخر مقوليا فلابد من النظر في أن
العنوان الانتزاعي هل ينتزع من مطابق العنوان الذاتي أو من شئ آخر مباين له؟
وليس لذلك ضابط كلي، فإن كان منتزعا من مطابق العنوان الذاتي فلا محالة
يكون المجمع في مورد الاجتماع واحدا، ومعه لا مناص من القول بالامتناع وإن
كان منتزعا من شئ آخر كان المجمع متعددا، ومعه لا مناص من القول بالجواز.
وأما إذا كان كلاهما معا انتزاعيا فأيضا لابد من النظر إلى أنهما منتزعان من
شئ واحد في الخارج وجودا وماهية، أو من شيئين كذلك. فعلى الأول لابد من
القول بالامتناع، وعلى الثاني من القول بالجواز.
ومن ضوء هذا البيان يظهر ما في نظرية كل من شيخنا الأستاذ (1) والمحقق
صاحب الكفاية (2) (قدس سرهما)، حيث ذهب الأول إلى القول بالجواز مطلقا، والثاني إلى
القول بالامتناع كذلك.
أما نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) فلما سبق آنفا: من أن العنوانين إذا كانا
من المبادئ المتأصلة والمقولات الواقعية يستحيل اتحادهما في الخارج،
وانطباقهما على موجود واحد فلا محالة تعدد مثل هذا العنوان يستلزم تعدد
المعنون.
وأما إذا كان أحدهما انتزاعيا والآخر مقوليا أو كان كلاهما انتزاعيا فيختلف
الحال باختلاف الموارد والمقامات، ففي بعض الموارد والمقامات يكون المعنون

(1) انظر فوائد الأصول: ج 2 ص 424.
(2) كفاية الأصول: 193.
269

لهما واحدا، وفي بعضها الآخر يكون متعددا، فلا ضابط لذلك أصلا، فتعدد العنوان
في هذه الموارد لا يقتضي تعدد المعنون، ولا يقتضي وحدته، فيمكن أن يكون
واحدا، ويمكن أن يكون متعددا.
فما أفاده (قدس سره) من أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته
لا كلية لهذه الكبرى أبدا، كما تقدم بشكل واضح.
نعم، إن لتلك الكبرى كلية في العناوين الاشتقاقية خاصة، فإن تعدد تلك
العناوين لا يستلزم تعدد المعنون أصلا، والسر فيه ما عرفت: من أن صدق كل منها
على معروضه معلول لعلة قائمة بمعروضه وخارجة عن ذاته، مثلا: صدق العالم
على شخص معلول لقيام العلم به.
ومن الواضح جدا أن العلم خارج عن ذات هذا الشخص ومباين له وجودا،
فإن وجوده وجود جوهري، ووجود العلم وجود عرضي. ومن الضروري
استحالة اتحاد الجوهر مع العرض خارجا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن تعدد العرض لا يستلزم تعدد معروضه، بداهة أن قيام
أعراض متعددة: كالعلم والشجاعة والسخاوة وما شاكل ذلك بذات واحدة
ومعروض فارد من الواضحات الأولوية، فلا حاجة إلى إقامة برهان وزيادة بيان.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن تعدد العناوين الاشتقاقية والمفاهيم الانتزاعية
واجتماعها في مورد لا يوجب تعدد المعنون فيه، بل لابد أن يكون المعنون واحدا
وجودا وماهية في مورد اجتماعهما، وإلا فلا تعقل النسبة بالعموم من وجه بينهما
كما هو واضح، ضرورة أن المعنون لو لم يكن واحدا فيه وكان متعددا وجودا
وماهية لكانت النسبة بينهما التباين، بمعنى: أن كل عنوان منها مباين لعنوان آخر
منها في الصدق، فلا يجتمعان في مورد واحد.
أما نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) فقد ذكرنا: أنها إنما تتم في ناحية خاصة، وهي:
ما إذا كان العنوانان المتصادقان في مورد الاجتماع من العناوين المتأصلة
والماهيات المقولية. وأما إذا كان أحدهما انتزاعيا والآخر مقوليا أو كان كلاهما
انتزاعيا فلا تتم أصلا كما تقدم.
270

فما جعله (قدس سره) من الضابط لكون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي في مورد
الاجتماع انضماميا لا اتحاديا - وهو: ما كان العنوانان المنطبقان عليه من المبادئ
الاختيارية وبينهما عموم من وجه - لا واقع موضوعي له أصلا، لما تقدم: من أن
في كثير من الموارد يكون متعلقا الأمر والنهي من المبادئ الاختيارية وبينهما
عموم من وجه، ومع ذلك يكون مطابقهما في الخارج واحدا. وقد ذكرنا لذلك عدة
أمثلة:
منها: التوضؤ بالماء المغصوب، فإنه مجمع لمبدأين اختياريين بينهما عموم
من وجه، أعني بهما: التوضؤ والغصب، ومع ذلك فهما ينطبقان على موجود واحد
في الخارج.
ومنها: شرب الماء المغصوب فيما إذا كان الشرب في نفسه مأمورا به، فإنه
مجمع لمبدأين: أحدهما: الشرب، والآخر: الغصب، والمفروض أنهما منطبقان
على شئ واحد. ومنها غير ذلك كما تقدم.
فما أفاده (قدس سره) من استحالة اتحاد المبادئ بعضها مع بعضها الآخر مناقض بهذه
الأمثلة وما شاكلها، فإن متعلقي الأمر والنهي فيها مبدءان، ومع ذلك فهما متحدان
في الخارج ومنطبقان على شئ واحد وجودا وماهية.
ومن هنا التجأ (قدس سره) إلى الالتزام بخروج مثل هذه الأمثلة عن محل الكلام،
بدعوى: أن المعنون في مورد الاجتماع فيها بما أنه واحد وجودا وماهية فمع
فرض كونه منهيا عنه لا يعقل كونه مصداقا للمأمور به (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من أن شيئا واحدا إذا كان منهيا عنه يستحيل أن
يكون مأمورا به وإن كان في غاية الصحة إلا أن ذلك لا يوجب خروج مثل هذه
الأمثلة عن محل الكلام، ضرورة أنه لا فرق بين الصلاة والشرب من هذه الناحية
أصلا، وكذا بينهما وبين الوضوء، فكما أن الصلاة والغصب داخلان في محل النزاع
فكذلك الشرب والغصب والتوضؤ والغصب، غاية الأمر أن المطابق في المثالين

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 342 - 343.
271

الأخيرين بما أنه واحد في الخارج وجودا وماهية فلا مناص فيه من القول
بالامتناع، وأما في الصلاة والغصب: فإن كان الأمر أيضا كذلك فلا مناص من
القول به أيضا، وإلا فلابد من القول بالجواز، فوحدة المجمع في مورد الاجتماع
توجب القول بالامتناع لا الخروج عن محل الكلام كما لا يخفى.
فالنتيجة: هي أنه لا ضابط لكل من القول بالامتناع والقول بالجواز في
المسألة أصلا. فما جعله شيخنا الأستاذ والمحقق صاحب الكفاية (قدس سرهما) من الضابط
لكل من القولين قد عرفت فساده بشكل واضح وأنه لا كلية له أصلا، فإن تعدد
العنوان كما لا يقتضي تعدد المعنون كذلك لا يقتضي وحدته، فإذا لا أثر لتعدد
العنوان، بل لابد من ملاحظة أن المجمع في مورد الاجتماع واحد أو متعدد.
ومن هنا قلنا سابقا: إن مرد البحث في المسألة في الحقيقة إلى البحث عن
وحدة المجمع في مورد الاجتماع والتصادق وتعدده. وعليه، فالحكم بالامتناع أو
الجواز في كل مورد منوط بملاحظة ذلك المورد خاصة، فإن كان المجمع فيه
واحدا يتعين فيه الحكم بالامتناع، وإن كان متعددا يتعين فيه الحكم بالجواز.
وأما النقطة الثالثة فالأمر كما أفاده (قدس سره)، وذلك ضرورة أن العناوين الاشتقاقية
خارجة عن محل الكلام في المسألة، لما تقدم: من أن جهة الصدق فيها على
معروضاتها جهة تعليلية، بمعنى: أن الموجب لصدق تلك العناوين عليها أمر
خارج عنها ومباين لها وجودا، وهذا بخلاف جهة الصدق في صدق المبادئ فإنها
تقييدية، يعني: أن صدقها على الموجود في الخارج صدق الطبيعي على فرده
والكلي على مصداقه: كصدق البياض على البياض الموجود في الخارج، والسواد
على السواد الموجود فيه... وهكذا، وليست جهة الصدق فيها أمرا خارجا عنها
ومباينا لها وجودا، وهذا معنى كون الجهة تقييدية.
وأما العناوين الاشتقاقية فبما أن جهة الصدق فيها تعليلية فلا يمكن توهم
اجتماع الأمر والنهي في مورد اجتماع اثنين من هذه العناوين، لفرض أن الأمر
والنهي لم يتعلقا بالجهتين التعليليتين. بل تعلقا بنفس المعروض لهما، والمفروض
272

أنه واحد وجودا وماهية. ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشئ واحد
حتى على مذهب من يرى جواز التكليف بالمحال كالأشعري فضلا عن غيره،
لفرض أن نفس هذه التكليف محال.
وقد ذكرنا سابقا: أن القائل بالجواز إنما يقول به بدعوى أن المجمع متعدد
وجودا وماهية، وأن ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه خارجا، وأما إذا
كان المجمع واحدا كذلك فلا يقول أحد بجواز الاجتماع فيه حتى القائل بالجواز
في المسألة، وبما أن المعروض للعنوانين الاشتقاقيين في مورد الاجتماع واحد
وجودا وماهية فلا محالة يخرج عن محل البحث في هذه المسألة، ضرورة أنه لم
يقل أحد بجواز الاجتماع فيه حتى القائلين بالجواز، بل يدخل في باب
المعارضة، وتقع المعارضة بين إطلاق دليل الأمر وإطلاق دليل النهي، فلابد
- عندئذ - من رفع اليد عن إطلاق أحدهما لمرجح إن كان، وإلا فيسقطان معا.
ومن هنا لم نر، أحدا من الفقهاء - فيما نعلم - ذهب إلى دخول ذلك في محل
البحث في هذه المسألة، بأن يبني على جواز اجتماع الأمر والنهي فيه على القول
بالجواز فيها.
والوجه فيه: ما أشرنا إليه آنفا: من أن القائل بالجواز يدعي تعدد المجمع في
مورد الاجتماع وجودا وماهية، ومع وحدته لا يقول بالجواز أصلا، ولذا قلنا
سابقا: إن مرد البحث في هذه المسألة إلى البحث عن وحدة المجمع في الواقع
والحقيقة وتعدده كذلك.
وعلى الجملة: فلا إشكال في خروج العناوين الاشتقاقية عن محل البحث
والكلام، فإن جهة الصدق فيها حيث إنها تعليلية فلا محالة يكون المجمع واحدا
في مورد الاجتماع. ومن المعلوم استحالة تعلق الأمر والنهي بشئ واحد، سواء
فيه القول بالجواز أو الامتناع في مسألتنا هذه.
مثلا: إذا ورد الأمر بإكرام العلماء وورد النهي عن إكرام الفساق وفرضنا
انطباق هذين العنوانين على شخص واحد كزيد - مثلا - فإنه من جهة كونه عالما
273

يجب إكرامه. ومن جهة كونه فاسقا يحرم إكرامه. ومن الظاهر أنه لا يمكن أن
يكون إكرامه واجبا وحراما معا، ولا يلتزم به أحد، حتى القائل بالجواز في تلك
المسألة، أي: مسألة الاجتماع، بل لابد من رفع اليد عن أحدهما لمرجح من
مرجحات باب التعارض. ومثل هذه المعارضة كثير في أبواب الفقه، ولم يتوهم
أحد دخوله في هذه المسألة ليبني على الجواز فيه، بناء على القول بالجواز فيها،
ولذا يعامل معه معاملة التعارض، سواء أكان من القائلين بالجواز فيها أم الامتناع،
وهذا واضح.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في الأمر الثالث: من
أن الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العناوين، فلو كان تعدد العنوان كافيا مع
وحدة المعنون في القول بجواز اجتماع الأمر والنهي لكان تعدد الإضافات أيضا
كافيا في ذلك، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. وعليه فيكون " أكرم العلماء " و " لا
تكرم الفساق " من باب الاجتماع، لا من باب التعارض (1).
وجه الظهور: ما عرفت: من أن تعدد الإضافات والجهات التعليلية لا يكفي
في القول بالجواز، مع كون المجمع واحدا، فإن القائل بالجواز يدعي تعدده وجودا
وماهية، وإن ما ينطبق عليه المأمور به غير المنهي عنه في الخارج. وأما إذا كان
واحدا فلا يقول بالجواز، فإذا مثل هذا المثال خارج عن مسألة الاجتماع بالكلية،
ولا يقول فيه بالجواز أحد فيما نعلم.
وأما النقطة الرابعة - وهي: ما كانت المبادئ من الأفعال الاختيارية دون
الصفات الجسمانية والنفسانية - فهي من الواضحات، ضرورة أن الأمر والنهي لم
يتعلقا بالصفات الخارجة عن القدرة، وسواء كانت جسمانية أو نفسانية، وهذا
ليس لخصوصية في المقام، بل من ناحية حكم العقل بكون متعلق التكليف لابد أن
يكون مقدورا للمكلف في ظرف الامتثال، وحيث إن تلك الصفات خارجة عن

(1) كفاية الأصول ص 216.
274

قدرته واختياره فلا محالة لا يتعلق التكليف بها فهذا ليس شرطا زائدا على أصل
اشتراط التكليف بالقدرة.
وأما النقطة الخامسة - وهي: أن ماهية المبادئ بما أنها ماهية واحدة فهي
محفوظة أينما تحققت وسرت - فهي إنما تتم في المبادئ المتأصلة والماهيات
المقولية الحقيقية، ضرورة أنها لا تختلف باختلاف وجوداتها في الخارج،
وتنطبق على تلك الوجودات جميعا بملاك واحد، ومحفوظة بتمام ذاتها وذاتياتها
في ضمن كل واحد منها، لفرض أن الطبيعي عين فرده في الخارج، كما سنشير إلى
ذلك في النقطة السادسة بشكل واضح.
وأما في المبادئ غير المتأصلة والماهيات الانتزاعية فهي لا تتم، وذلك لأنه
لا مانع من انتزاع مفهوم واحد من ماهيات مختلفة ومقولات متعددة: كالغصب
مثلا، فإنه قد ينتزع من مقولة الأين وهو: الكون في الأرض المغصوبة، وقد ينتزع
من مقولة أخرى: كأكل مال الغير أو لبسه أو نحو ذلك. ومن المعلوم أن منشأ
انتزاعه على الأول غير منشأ انتزاعه على الثاني، ضرورة أنه على الأول من
مقولة، وعلى الثاني من مقولة أخرى. فإذا لا يلزم أن يكون منشأ انتزاعه ماهية
نوعية واحدة محفوظة في تمام موارد تحققه لتكون نتيجته استحالة اتحاد المجمع
في مورد اجتماعهما، كما هو الحال فيما إذا كانا من المبادئ المتأصلة والماهيات
المقولية.
وعليه، فلابد من النظر في أن العنوانين منتزعان من ماهية واحدة أو من
ماهيتين متباينتين. هذا إذا كان كلاهما انتزاعيا.
وأما إذا كان أحدهما انتزاعيا دون الآخر فلابد من النظر في أن منشأ انتزاعه
متحد مع العنوان الذاتي المقولي خارجا أم لا. وقد عرفت أنه لا ضابط لذلك
أصلا، ولأجل هذا ففي أي مورد كان المجمع واحدا نحكم بالامتناع، وفي أي
مورد كان متعددا نحكم بالجواز (1).

(1) تقدم في ص 261.
275

فالنتيجة: أن هذه النقطة هي الأساس لما اختاره (قدس سره) في المسألة وهو القول
بالجواز.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن التركيب بين الصورة والمادة انضمامي لا يمكن
تصديقه بوجه، وذلك لما حققناه في بحث المشتق (1): من أن التركيب بينهما
اتحادي، ولأجل ذلك يصح حمل إحداهما على الأخرى، وحمل المجموع على
النوع، بداهة أنه لولا اتحادهما في الخارج وكونهما موجودتين بوجود واحد لم
يصح حمل إحداهما على الأخرى أبدا، ولا حمل المجموع على النوع، لما ذكرناه
هناك: من أن ملاك صحة حمل الشائع الصناعي هو اتحاد المحمول والموضوع في
الوجود الخارجي، ضرورة أنهما متباينان بحسب المفهوم، فلو كانا متباينين
بحسب الوجود الخارجي أيضا لما أمكن حمل أحدهما على الآخر أبدا، لوضوح
أن المعتبر في صحة الحمل المغايرة بين الموضوع والمحمول من جهة، لبطلان
حمل الشئ على نفسه، والوحدة من جهة أخرى، لعدم جواز حمل المباين على
المباين.
ومن هنا قلنا في ذلك البحث: إن الذات مأخوذة في مفهوم المشتق، وإلا فلا
يمكن حمله عليها، لفرض تباينهما وجودا عندئذ، فإن العرض الذي هو مفهوم
المشتق على الفرض موجود بوجود، والجوهر الذي هو موضوعه موجود بوجود
آخر. ومن المعلوم استحالة إتحاد وجود مع وجود آخر، ضرورة أن كل وجود
يأبى عن وجود آخر، ولأجل ذلك قلنا: إن مجرد لحاظه لا بشرط لا يوجب
اتحاده مع موضوعه ليصح حمله عليه الذي ملاكه الاتحاد في الوجود، بداهة أن
اعتبار اللابشرط لا يجعل المتغايرين في الوجود متحدين فيه واقعا، فإن
تغايرهما ليس بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر، وهذا واضح.
وأما النقطة السادسة فيرد عليها: أن مناط التساوي بين المفهومين: هو
اشتراكهما في الصدق، بمعنى: أن كل ما يصدق عليه هذا المفهوم يصدق عليه ذاك

(1) راجع المحاضرات: ج 1 ص 317 - 318.
276

المفهوم أيضا، فهما متلازمان من هذه الناحية، وليس مناط التساوي بينهما
اتحادهما في جهة الصدق، ضرورة أنه مناط الترادف بين المفهومين: كالإنسان
والبشر، حيث إن جهة الصدق فيهما واحدة وهو الحيوان الناطق، بمعنى: أنهما
مشتركان في حقيقة واحدة، ولفظ كل منها موضوع بإزاء تلك الحقيقة باعتبار.
مثلا: لفظ الإنسان موضوع للحيوان الناطق باعتبار، ولفظ البشر موضوع له
باعتبار آخر.
وهذا بخلاف المفهومين المتساويين: كالضاحك والمتعجب مثلا، فإن لكل
منهما مفهوما يكون في حد ذاته مباينا لمفهوم آخر، ضرورة أن مفهوم الضاحك
غير مفهوم المتعجب، فلا اشتراك لهما في مفهوم واحد وحقيقة فاردة، وإلا لكانا
من المترادفين لا المتساويين. كما أن جهة الصدق في أحدهما غير جهة الصدق
في الآخر، فإن جهة صدق الضاحك على هذه الذات - مثلا - هي قيام الضحك بها،
وجهة صدق المتعجب عليها هي قيام التعجب بها، فلا اشتراك لهما في جهة الصدق
أيضا.
فالنتيجة: أن ملاك التساوي بين المفهومين: هو عدم إمكان تحقق جهة الصدق
في أحدهما في الخارج بدون تحقق جهة الصدق في الآخر، لا أن تكون جهة
الصدق فيهما واحدة.
وأما ملاك العموم والخصوص من وجه بين المفهومين: فهو أن تكون جهة
الصدق في كل منهما أعم من ناحية من جهة الصدق في الآخر، ومتحدة من ناحية
أخرى من جهة الصدق فيه: كالحيوان والأبيض مثلا، فإن طبيعة الحيوان
الموجودة في مادة الاجتماع بعينها هي الطبيعة الموجودة في مادة الافتراق،
ولا تزيد ولا تنقص، لفرض أن الفرد عين الطبيعي في الخارج، فلا فرق بين الحصة
الموجودة في مادة الاجتماع والحصة الموجودة في مادة الافتراق، فإن كلتا
الحصتين عين الطبيعة بلا زيادة ونقيصة، وكذا البياض الموجود في مادة الاجتماع
بعينه هو البياض الموجود في مادة الافتراق وفي موضوع آخر، فإن كلا الفردين
277

عين طبيعته النوعية الواحدة، ضرورة أن البياض الموجود في مادة الاجتماع
ليس فردا لطبيعة أخرى، بل هو فرد لتلك الطبيعة وعينها خارجا كبقية أفرادها،
فلا فرق بينه وبينها من هذه الناحية أصلا.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي أنه لا تعقل النسبة بالعموم من وجه بين
جوهرين أو عرضين، أو جوهر وعرض، بداهة أنه لو كانت بين طبيعتين
- جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض - النسبة بالعموم من وجه للزم اتحاد
مقولتين متباينتين في الخارج، أو اتحاد نوعين من مقولة واحدة، وكلاهما محال،
فإن لازم ذلك هو أن يكون شئ واحد - وهو الموجود في مورد الاجتماع -
داخلا تحت مقولتين أو نوعين من مقولة واحدة، وهذا غير معقول، لاستحالة أن
يكون فرد واحد فردا لمقولتين أو لنوعين، بداهة أن فردا واحدا فرد لمقولة
واحدة، أو لنوع واحد، وإلا لزم تفصله بفصلين في عرض واحد وهو مستحيل،
وهذا واضح. فإذا تنحصر النسبة بين طبيعتين جوهرين أو عرضين أو جوهر
وعرض بالتساوي أو التباين أو العموم المطلق، فلا رابع لها.
كما أنه تنحصر النسبة بالعموم من وجه بين مفهومين عرضيين: كالأبيض
والحلو والمصلي والغاصب وما شاكلهما، وبين مفهوم عرضي ومفهوم ذاتي مقولي:
كالحيوان والأبيض ونحوهما.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما ذكره (قدس سره) من تخصيص استحالة تحقق
النسبة بالعموم من وجه بين جوهرين، وذلك لأنها كما يستحيل أن تتحقق بين
جوهرين كذلك يستحيل أن تتحقق بين عرضين أو جوهر وعرض كما عرفت الآن.
وأما النقطة السابعة: فقد ظهر مما تقدم: أن المراد من الجهة التقييدية في المقام
ليس اندراج فرد واحد تحت ماهيتين متباينتين (1) لما عرفت من استحالة ذلك، بل
المراد منها: ما ذكرناه: من أن ملاك صدق كل منهما على الموجود في مورد

(1) راجع ص 272.
278

الاجتماع: هو أنه فرده أو منشأ انتزاعه، وليس ملاك صدقه عليه جهة خارجية،
ولا نعني بالجهة التقييدية إلا صدق الطبيعي على فرده وصحته، والعنوان على نفس
منشأ انتزاعه في مقابل الجهة التعليلية التي هي علة صدق العنوان على شئ آخر
غيرها: كالعلم القائم بزيد الموجب لصدق عنوان العالم عليه... وهكذا.
ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن جهة الصدق إذا كانت في
صدق كل من المأمور به والمنهي عنه في مورد الاجتماع تقييدية فلا مناص من
الالتزام بكون التركيب فيه انضماميا لا اتحاديا، وذلك لما عرفت: أن هذا تام إذا
كان كل من المأمور به والمنهي عنه من الماهيات المتأصلة، وأما إذا كان من
الماهيات الانتزاعية، أو كان أحدهما دون الآخر منها فلا يتم كما تقدم بشكل
واضح.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة بحسب الكبرى الكلية، وملخصه: هو أنه
لا ضابط فيها للقول بالامتناع، ولا للقول بالجواز أبدا، بل لابد من ملاحظة كل
مورد بخصوصه، لنرى أن المجمع فيه واحد أو متعدد. وقد عرفت أنه في بعض
الموارد واحد، وفي بعضها الآخر متعدد.
نعم، إذا كان العنوان من العناوين الاشتقاقية فلا محالة يكون المجمع في مورد
اجتماع اثنين منها واحدا وجودا وماهية. كما أنه إذا كان من المبادئ المتأصلة
والماهيات المقولية الحقيقية فلا محالة يكون المجمع فيه متعددا كذلك. وأما في
غير هذين الموردين فلا ضابط لوحدته، ولا لتعدده أصلا، بل لابد من لحاظه في
كل مورد لنحكم بالجواز أو الامتناع.
وأما النقطة الثامنة: فالكلام فيها في صغرى تلك الكبرى، وهي: ملاحظة أن
الصلاة هل يمكن أن تتحد مع الغصب خارجا أو لا، وقد عرفت أن شيخنا
الأستاذ (قدس سره) ذهب إلى عدم إمكان اتحادهما، بدعوى: أن الصلاة من مقولة والغصب
من مقولة أخرى، ويستحيل اتحاد المقولتين واندراجهما تحت مقولة واحدة.
ولكن الأمر ليس كذلك، فإن الصلاة وإن كانت مركبة من مقولات متعددة
279

إلا أن الغصب ليس من المقولات في شئ، بل هو مفهوم انتزاعي منتزع من
مقولات متعددة كما أشرنا إليه. وعليه فيمكن اتحاده مع الصلاة فلنا دعويان:
الأولى: أن الصلاة مركبة من مقولات متعددة، والغصب ليس مقولة.
الثانية: إمكان اتحادهما في الخارج.
أما الأولى: فلأن الصلاة ليست حقيقة مستقلة ومقولة برأسها في قبال بقية
المقولات كما هو واضح، بل هي مركبة من مقولات عديدة:
منها: الكيف المسموع: كالقراءة والأذكار.
ومنها: الكيف النفساني: كالقصد والنية.
ومنها: الوضع: كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه قد برهن في محله: أن المقولات أجناس عاليات
ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها، وعليه فلا يمكن أن يكون المركب من تلك
المقولات مقولة برأسها، لاعتبار الوحدة في المقولة، ولا وحدة للمركب منها،
ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة أخرى: فإذا ليس للصلاة وحدة حقيقية،
بل وحدتها بالاعتبار، ولذا لا مطابق لها في الخارج ما عدا هذه المقولات المؤلفة
منها الصلاة.
وأما الغصب: فلأنه ممكن الانطباق على المقولات المتعددة. ومن المعلوم
أنه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية، لما عرفت من استحالة اتحاد
المقولتين واندراجهما تحت حقيقة واحدة، فلو كان الغصب من الماهيات المقولية
لاستحال اتحاده مع مقولة أخرى وانطباقه عليها، لاستلزام ذلك تفصل شئ واحد
بفصلين في عرض واحد واندراجه تحت ماهيتين نوعيتين، وهو محال فإذا لا
محالة يكون من المفاهيم الانتزاعية، فقد ينتزع من الكون في الأرض المغصوبة
الذي هو من مقولة الأين، وقد ينتزع من أكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة
أخرى... وهكذا.
فالنتيجة: أنه لا يعقل أن يكون الغصب جامعا ماهويا لهذه المقولات،
فلا محالة يكون جامعا انتزاعيا لها.
280

ودعوى: أنه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من مقولات متعددة وماهيات
مختلفة - وعليه فلا يمكن انتزاع مفهوم الغصب من تلك المقولات - وإن كانت
صحيحة ولا مناص من الالتزام بها إلا أن الغصب لم ينتزع من هذه المقولات
بأنفسها، بل انتزاعه منها باعتبار عدم إذن المالك في التصرف بها، ضرورة أنة في
الحقيقة منشأ لانتزاعه، لا نفس التصرف بها بما هو، والمفروض أنه واحد
بالعنوان، وهذا ظاهر.
وأما الدعوى الثانية: فقد تقدم: أن العنوان الانتزاعي قد يتحد مع العنوان
الذاتي المقولي، بمعنى: أن منشأ انتزاعه في الخارج هو ذلك العنوان الذاتي لا
غيره، وفي المقام: بما أن عنوان الغصب انتزاعي فلا مانع من اتحاده مع الصلاة
خارجا أصلا.
ولكن الكلام: في أن الأمر في الخارج أيضا كذلك أم لا؟ وهذا يتوقف على
بيان حقيقة الصلاة التي: هي عبارة عن عدة من المقولات، لنرى أن الغصب يتحد
مع هذه المقولات خارجا أو مع إحداها أو لا؟
فنقول: من هذه المقولات: مقولة الكيف النفساني، وهي: النية، فإنها أول
جزء للصلاة بناء على ما حققناه في بحث الواجب التعبدي والتوصلي: من أن قصد
القربة مأخوذ في متعلق الأمر، وليس اعتباره بحكم العقل (1)، ولا يشك أحد في
أنها ليست تصرفا في مال الغير عرفا لتكون منشأ لانتزاع عنوان الغصب في
الخارج ومصداقا له، ضرورة أن الغصب لا يصدق على الأمور النفسانية: كالنية
والتفكر في المطالب العملية أو نحو ذلك من الأمور الموجدة في أفق النفس، وهذا
من الواضحات الأولية فلا يحتاج إلى البيان.
ومنها: التكبيرة التي هي من مقولة الكيف المسموع، ولا شبهة في أنها ليست
متحدة مع الغصب خارجا، ضرورة أنه لا يصدق على التكلم في الدار المغصوبة
أنه تصرف فيها ليكون مصداقا للغصب ومنشأ لانتزاعه.

(1) راجع ج 2 ص 188.
281

ودعوى: أن التكلم وإن لم يكن تصرفا في الدار إلا أنه تصرف في الفضاء
باعتبار أنه يوجب تموج الهواء فيه - والمفروض أن الفضاء ملك للغير كالدار
فكما أن التصرف فيها غير جائز ومصداق للغصب، فكذلك التصرف فيه - خاطئة
جدا وغير مطابقة للواقع قطعا، وذلك لأن الفضاء وإن كان ملكا للغير والتصرف فيه
غير جائز بدون إذن صاحبه إلا أن التكلم كما أنه لا يكون تصرفا في الدار كذلك
لا يكون تصرفا في الفضاء، ضرورة أنه لا يصدق عليه أنه تصرف فيه.
وعلى تقدير صدق التصرف عليه عقلا فلا يصدق عرفا بلا شبهة. ومن المعلوم
أن الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير منصرفة عن مثل هذا التصرف
فلا تشمله أصلا. لأنها ناظرة إلى المنع عما يكون تصرفا عند العرف، وما لا يكون
تصرفا عندهم فلا تشمله وإن كان تصرفا بنظر العقل: كمسح حائط الغير باليد
- مثلا - فإنه ليس تصرفا عند العرف، ولذا لا تشمله الأدلة، فلا يكون محكوما
بالحرمة وإن كان تصرفا عند العقل.
والحاصل: أن التكلم في الدار المغصوبة ليس تصرفا فيها ولا في فضائها، لا
عقلا ولا عرفا أولا. وعلى فرض كونه تصرفا فيه عقلا فلا ريب في أنه ليس
تصرفا عرفا، ومعه لا يكون مشمولا لتلك الأدلة ثانيا.
ومن هنا لو نصب أحد مروحة في مكان توجب تموج الهواء في فضاء الغير
فلا يقال: إنه تصرف في ملك الغير، وهذا واضح.
ومن ذلك يظهر حال جميع أذكار الصلاة: كالقراءة ونحوها، ضرورة أن
الغصب لا يصدق عليها.
وبكلمة أخرى: أن الغصب هنا منتزع من ماهية مباينة لماهية التكلم في
الخارج، فإن الغصب في المقام منتزع من الكون في الدار، وهو من مقولة الأين،
والتكلم من مقولة الكيف المسموع، فيستحيل اتحادهما في الخارج واندراجهما
تحت مقولة واحدة.
فالنتيجة: أن التكبيرة وما شاكلها غير متحدة مع الغصب خارجا.
282

ومنها: الركوع والسجود والقيام والقعود، والصحيح أنها أيضا غير متحدة
مع الغصب خارجا.
والوجه في ذلك هو: أن هذه الأفعال من مقولة الوضع، فإنها هيئات حاصلة
للمصلي من نسبة بعض أعضائه إلى بعضها الآخر، ونسبة المجموع إلى الخارج.
والوضع: عبارة عن هيئة حاصلة للجسم من نسبة بعض أجزائه إلى بعضها
الآخر، ونسبة المجموع إلى الخارج، وهذه الهيئات هي حقائق تلك الأمور التي
تعتبر في الصلاة. ومن الواضح جدا أن تلك الهيئات ليست بأنفسها مصداقا
للغصب ومتحدة معه في الخارج ومنشأ لانتزاعه، ضرورة عدم صدق التصرف
عليها بما هي لتكون كذلك، بل يستحيل أن تتحد مع الغصب، لفرض أنه في المقام
منتزع من الكون في الأرض المغصوبة، وهو من مقولة الأين، وتلك الهيئات من
مقولة الوضع، وعليه فيستحيل اتحادهما خارجا.
ونتيجة ذلك: هي أن هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في
أنفسها - مع قطع النظر عن مقدماتها من الهوي والنهوض - مصداقا للغصب ومنشأ
لانتزاعه.
وقد يتخيل في المقام أنها من مقولة الفعل، وليست من مقولة الوضع،
فإذا - لا محالة - تكون مصداقا للغصب وتصرفا في مال الغير.
ولكنه تخيل خاطئ جدا، فإنه ناش من الخلط بين ما يكون من قبيل الفعل
الصادر بالإرادة والاختيار، وما يكون من مقولة الفعل التي هي من إحدى
المقولات التسع العرضية. والهيئات المزبورة وإن كانت من الأفعال الاختيارية
الصادرة بالإرادة والاختيار إلا أنها مع ذلك ليست من مقولة الفعل، ضرورة أنه
لا منافاة بين ما يكون الشئ من قبيل الفعل الصادر بالاختيار، ولا يكون من
مقولته، للفرق بين الأمرين، وهو: أن الملاك في كون الفعل اختياريا هو صدوره
من الإنسان بالإرادة والاختيار، والملاك في كون الشئ من مقولته: هو أن يكون
حصوله بالتأثير على نحو التدريج: كتسخين المسخن ما دام يسخن ونحو ذلك.
283

ومن المعلوم أن أحد الملاكين أجنبي عن الملاك الآخر بالكلية، ولا مساس
لأحدهما بالآخر أبدا، ولذا لا يعتبر في كون شئ من مقولة الفعل أن يكون من
الأفعال الاختيارية أصلا كما هو واضح.
وعلى الجملة: فالفعل الاختياري لا يكون مساوقا لمقولة الفعل، بل النسبة
بينهما عموم من وجه، فإن الشئ قد يكون من مقولته، ولا يكون اختياريا
كالهيئات العارضة للأجسام الخارجية، وقد يكون اختياريا وليس من مقولته، بل
من مقولة أخرى كمقولة الوضع أو الكيف أو نحوها.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجا، لا من ناحية
النية، ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما، ولا من ناحية الركوع والسجود
والقيام والقعود.
بقى في المقام أمران:
الأول: أنه لا شبهة في أن الهوي إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى
القيام والجلوس تصرف في ملك الغير ويكون مصداقا للغصب، ضرورة أن الحركة
في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرف فيها، وبما أن الهوي والنهوض نحو
من الحركة فلا محالة يكونان متحدين مع الغصب خارجا، ومن مصاديقه وأفراده،
إلا أن الكلام في أنهما من أجزاء الصلاة كبقية أجزائها أو من مقدماتها.
فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع، لفرض أن الصلاة - عندئذ - متحدة
مع الغصب في الخارج ومصداق له ولو باعتبار بعض أجزائها، ومعه لابد من القول
بالامتناع، أي: بامتناع الصلاة في الأرض المغصوبة، لاستحالة أن يكون شئ
واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا.
وعلى الثاني فلا مناص من القول بالجواز، وذلك لأن الهوي والنهوض وإن
كانا تصرفا في ملك الغير إلا أنهما ليسا من أجزاء المأمور به ليلزم اتحاده مع
المنهي عنه، بل هما من مقدمات وجوده في الخارج.
284

وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب: أن حرمة المقدمة لا تنافي إيجاب ذيها
إذا لم تكن منحصرة، وأما إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بين حرمة المقدمة
ووجوب ذيها، كما لو توقف إنقاذ الغريق - مثلا - على التصرف في مال الغير ولم
يكن له طريق آخر يمكن، إنقاذه منه. فإذا لابد من الرجوع إلى قواعد باب
التزاحم وأحكامه (1).
وعلى الجملة: فالهوي الذي هو مقدمة للركوع والسجود والنهوض الذي هو
مقدمة للقيام إذا كانا من أفعال الصلاة وأجزائها يتعين القول بالامتناع في المسألة،
وإذا كانا من المقدمات يتعين القول بالجواز فيها، ولذا لو فرض تمكن شخص من
الركوع والسجود والقيام والجلوس بدونهما لكان مجزئا لا محالة، ولا يجب عليه
الإتيان بهما، لفرض عدم دخلهما في المأمور به لا جزءا ولا شرطا.
وعلى هذا الضوء فلابد من أن يدرس ناحية كونهما من أجزاء الصلاة أو من
مقدماتها، الصحيح: هو أنهما من المقدمات، وذلك لأن الظاهر من أدلة جزئية
الركوع والسجود والقيام والجلوس: هو أن نفس هذه الهيئات جزء فحسب، لا مع
مقدماتها من الهوي والنهوض، لفرض أن هذه العناوين اسم لتلك الهيئات خاصة،
لا لها ولمقدماتها معا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المذكور في لسان الأدلة إنما هو نفس تلك العناوين
على الفرض، لا هي مع مقدماتها.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن المستفاد من تلك الأدلة ليس إلا جزئية هذه
العناوين فحسب، دون مقدماتها كما لا يخفى، وتمام الكلام في ذلك في محله (2).
وعلى هدي هذا البيان قد ظهر: أنه لا شبهة في صحة الصلاة في الدار
المغصوبة إذا فرض أنها لم تكن مشتملة على الركوع والسجود ذاتا: كصلاة

(1) راجع ج 2 ص 442.
(2) راجع مستند العروة: ج 2 ص 6 كتاب الصلاة في مكان المصلي.
285

الميت على تقدير كونها صلاة، وإن ذكرنا في موضعه: أنها ليست بصلاة، بل هي
دعاء حقيقة (1)، أو عرضا كما إذا كان المكلف عاجزا عنهما وكانت وظيفته الصلاة
مع الإيماء والإشارة بدلا عنهما، لفرض أن الصلاة - عندئذ - كما أنها ليست
مصداقا للتصرف في مال الغير كذلك ليست متوقفة عليه. وأما إذا كانت مشتملة
على الركوع والسجود فوقتئذ تقع المزاحمة بين حرمة التصرف في مال الغير
ووجوب الصلاة، فلابد من الرجوع إلى قواعد باب المزاحمة من تقديم الأهم أو
محتمل الأهمية، أو نحو ذلك على غيره إن كان، وإلا فيتعين التخيير.
وعلى الجملة: فعلى ما حققناه: من أن الهوي والنهوض ليسا من أفعال الصلاة
وأجزائها لا مناص من القول بالجواز من هذه الناحية في المسألة. وعليه، فإذا لم
تكن مندوحة في البين تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة وحرمة التصرف كما
عرفت.
الثاني: أن الظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرد مماسة الجبهة
الأرض، بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها، ومن المعلوم أن الاعتماد على أرض
الغير نحو تصرف فيها فلا يجوز. وعليه، فتتحد الصلاة المأمور بها مع الغصب
المنهي عنه في الخارج، فإذا لا مناص من القول بالامتناع. ولا يفرق في ذلك بين
كون ما يصح عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئا آخر، ضرورة أنه على كلا
التقديرين يكون الاعتماد على أرض الغير، وعلى هذا فلا يكفي في القول بالجواز
مجرد الالتزام بكون الهوي والنهوض من المقدمات لا من الأجزاء، بل لابد من
فرض عدم كون السجود على أرض الغير أيضا.
ونتيجة ذلك: هي جواز الاجتماع فيما إذا لم تكن الصلاة مشتملة على
السجود ذاتا: كصلاة الميت على تقدير كونها صلاة، أو عرضا، كما إذا كان المكلف
عاجزا عنه، أو فرض أنه متمكن من السجود على أرض مباحة أو مملوكة كما إذا
كان في انتهاء الأرض المغصوبة. وفي غير هذه الصور لابد من القول بالامتناع،

(1) راجع التنقيح في شرح العروة: ج 9 ص 46 كتاب الطهارة.
286

لفرض أن المأمور به فيها - أي: في هذه الصور - متحد مع المنهي عنه خارجا،
وكون شئ واحد - وهو السجود - مصداقا للمأمور به والمنهي عنه، وهو محال.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أنه
لا يمكن أن تكون الحركة الواحدة مصداقا للصلاة والغصب معا (1)، وذلك لأن
ما أفاده (قدس سره): يرتكز على نقطة واحدة، وهي: أن الغصب من مقولة برأسها، وهي:
مقولة الأين. وعلى هذا فيستحيل اتحاده مع الصلاة خارجا.
ولكن قد عرفت: أن هذه النقطة خاطئة جدا، ولا واقع موضوعي لها أصلا،
ضرورة أن الغصب مفهوم انتزاعي منتزع من مقولات متعددة، وليس من المفاهيم
المتأصلة والماهيات المقولية. وعليه، فلا مانع من اتحاده مع الصلاة في الخارج
أبدا بأن يكون منشأ انتزاعه بعينه ما تصدق عليه الصلاة، بل قد مر: أنه متحد
خارجا مع السجدة فيها، ومع الهوي والنهوض بناء على كونهما من أجزائها.
كما أن ما أفاده (قدس سره): من أن الصادر من المكلف في الدار المغصوبة حركتان:
إحداهما: مصداق للغصب، والاخرى: مصداق للصلاة من الغرائب، بداهة أن
الصادر من المكلف في الدار ليس إلا حركة واحدة وهي مصداق للغصب، فلا
يعقل أن تكون مصداقا للصلاة المأمور بها، على أنه لو كانت هناك حركة أخرى
تكون مصداقا لها في نفسها فلا محالة تكون مصداقا للغصب أيضا، لوضوح أن كل
حركة فيها تصرف فيها ومصداق له، فإذا كيف يمكن فرض وجود الحركتين فيها
تكون إحداهما مصداقا للغصب فحسب، والاخرى مصداقا للصلاة كذلك؟
وخلاصة ما ذكرناه لحد الآن: هي أن القول بالامتناع في مسألتنا هذه - أعني:
الصلاة في الأرض المغصوبة - يتوقف على الالتزام بأحد أمرين:
الأول: أن نقول بكون الهوي والنهوض من أفعال الصلاة وأجزائها لا من
المقدمات، وعلى هذا فلابد من القول بالامتناع.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 2 ص 413.
287

الثاني: أن نقول بأن السجود لا يصدق على مجرد وضع الجبهة على الأرض
بدون الاعتماد عليها، فإن الاعتماد عليها مأخوذ في مفهوم السجدة، فلو وضع
جبهته عليها بدون اعتماد لم تصدق عليه السجدة، بل هو مماسة لها، لا أنه سجدة.
أما الأمر الأول: فقد عرفت أنهما ليسا من الأفعال والأجزاء، بل هما من
المقدمات، فإذن من هذه الناحية لا مانع من القول بالجواز أصلا.
وأما الأمر الثاني: فقد عرفت أن الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم
السجدة، فلا تصدق السجدة بدون الاعتماد عليها، وهذا واضح. وعليه، فلا تجوز
الصلاة المشتملة على السجدة، في الأرض المغصوبة، لاستحالة كون المنهي عنه
مصداقا للمأمور به. كما أنها إذا لم تكن مشتملة عليها فلا مانع من جوازها فيها،
أو إذا فرض أن المكلف متمكن من السجدة على الأرض المباحة أو المملوكة.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه لحد الآن قد أصبحت: أن الصلاة في الدار
المغصوبة إذا كانت مشتملة على السجود فلا مناص من القول بالامتناع، وأما إذا
لم تكن مشتملة عليه ذاتا أو عرضا، أو كان المكلف متمكنا منه على أرض مباحة
أو مملوكة فلا مانع من القول بالجواز.
نتائج ما ذكرناه إلى الآن عدة نقاط:
الأولى: أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن مسألة الاجتماع
ترتكز على ركيزة واحدة، وهي: أن يكون المجمع مشتملا على مناط كلا
الحكمين معا (1) خاطئ جدا، وذلك لما حققناه: من أن البحث في هذه المسألة لا
يختص بوجهة نظر مذهب دون آخر، بل يعم جميع المذاهب والآراء، حتى مذهب
الأشعري المنكر لتبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد مطلقا.
والسر فيه ما ذكرناه: من أن مرد البحث في هذه المسألة إلى البحث عن أن
المجمع في مورد الاجتماع واحد وجودا وماهية، أو متعدد كذلك.

(1) كفاية الأصول: ص 189.
288

فعلى الأول لا مناص من القول بالامتناع مطلقا وعلى جميع المذاهب،
ضرورة أن استحالة اجتماع الضدين لا تختص بمذهب دون آخر.
وعلى الثاني لابد من القول بالجواز بناء على ما هو الصحيح من عدم سراية
الحكم من الملزوم إلى اللازم.
الثانية: أن ما ذكره (قدس سره): من أن مسألة التعارض ترتكز على كون المجمع
مشتملا على مناط أحد الحكمين في مورد الاجتماع (1) أيضا خاطئ، وذلك لأن
البحث عن هذه المسألة كالبحث عن مسألة الاجتماع لا يختص بوجهة نظر مذهب
دون آخر، ضرورة أن ملاك التعارض: هو عدم إمكان جعل الحكمين معا في
مورد الاجتماع. ومن المعلوم أن هذا لا يتوقف على وجود ملاك لأحدهما فيه،
لوضوح استحالة جعلهما معا لشئ واحد، سواء فيه القول بتبعية الأحكام لجهات
المصالح والمفاسد والقول بعدمها، فإن خلاف الأشعري مع الإمامية إنما هو في
العقل العملي، أعني به: التحسين والتقبيح العقليين، ولأجل ذلك أنكر مسألة التبعية
لابتنائها على تلك المسألة، أعني: مسألة التحسين والتقبيح، لا في العقل النظري،
أعني به: إدراكه إمكان الأشياء واستحالتها، والمفروض أن جعل الحكمين
المتضادين لشئ واحد محال عقلا، وكذا الحال في مسألة التزاحم، فإنها لا
تختص بوجهة نظر مذهب دون آخر، بل تعم جميع المذاهب والآراء حتى مذهب
الأشعري: وذلك لما ذكرناه: من أن مبدأ انبثاق المزاحمة بين الحكمين مع عدم
التنافي بينهما في مقام الجعل إنما: هو عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في
مرحلة الامتثال.
الثالثة: أن الدليل لا يكون متكفلا لفعلية الحكم أصلا، ضرورة أن فعليته
تتبع فعلية موضوعه في الخارج، وأجنبية عنه بالكلية. فإن مفاده - كما ذكرناه غير
مرة - ثبوت الحكم على نحو القضية الحقيقية، ولا نظر له إلى فعليته ووجوده
في الخارج أصلا.

(1) كفاية الأصول: ص 189.
289

كما أنه لا يمكن أن يكون الدليل متكفلا للحكم الاقتضائي، وهو: اشتمال
الفعل على المصلحة والمفسدة، ضرورة أن بيان ذلك ليس من شأن الشارع
ووظيفته، فإن وظيفته بيان الأحكام الشرعية، لا بيان مصالح الأشياء ومفاسدها
ومضارها ومنافعها، وبذلك ظهر ما في كلام المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في
المقدمة التاسعة (1)، فلاحظ.
الرابعة: أن ثمرة المسألة على القول بالجواز: صحة العبادة في مورد الاجتماع
مطلقا ولو كان عالما بالحرمة، فضلا عما إذا كان جاهلا بها، ولكن خالف في ذلك
شيخنا الأستاذ (قدس سره) وقال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة، وبصحتها في
صورة الجهل بها والنسيان.
وأفاد في وجه ذلك ما حاصله: أنه لا يمكن تصحيح العبادة بالأمر، لفرض
أن متعلق الأمر هو الحصة الخاصة، وهي الحصة المقدورة، ولا يمكن بالترتب،
لعدم جريانه في المقام، ولا يمكن بالملاك، لفرض أن صدور المجمع منه قبيح،
ومع القبح الفاعلي لا تصح العبادة، كما أنها لا تصح مع القبح الفعلي (2).
فالنتيجة: أنه لا يمكن الحكم بصحة العبادة في مورد الاجتماع على هذا
القول، فضلا عن القول بالامتناع.
ولكن قد تقدم: أن نظريته (قدس سره) هذه خاطئة جدا ولم تطابق الواقع أصلا، لما
عرفت: من أنه يمكن الحكم بصحتها:
من ناحية الأمر، لما عرفت من إطلاق المتعلق وعدم المقتضي لتقييده
بخصوص الحصة المقدورة (3).
ومن ناحية الترتب، لما ذكرناه هناك: من أنه لا مانع من الالتزام به في
المقام أصلا (4).

(1) كفاية الأصول: ص 190.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 443.
(3) راجع ص 220 - 221.
(4) راجع ص 220 - 221.
290

ومن ناحية الملاك، لما عرفت من عدم القبح الفاعلي بالإضافة إلى إيجاد
ما ينطبق عليه المأمور به (1).
الخامسة: قد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أنه تصح العبادة في مورد
الاجتماع على القول بالجواز مطلقا، أي: في العبادات والتوصليات وإن كان
معصية للنهي أيضا، وتبطل على القول بالامتناع مع العلم بالحرمة، وكذا مع الجهل
بها إذا كان عن تقصير مع ترجيح جانب النهي، وتصح إذا كان عن قصور (2). ولكن
قد ذكرنا سابقا: عدم تمامية جميع ما أفاده (قدس سره) فلاحظ.
السادسة: أن الصحيح في المقام: هو ما ذكرناه من صحة العبادة في مورد
الاجتماع على القول بالجواز مطلقا، أي: بلا فرق بين كون المكلف عالما بالحرمة
أو جاهلا بها أو ناسيا. وكذا بلا فرق بين كون الحرمة أهم من الوجوب، أو بالعكس،
أو كونهما متساويين، وباطلة على القول بالامتناع مع ترجيح جانب النهي مطلقا،
أي: من دون فرق بين العلم بالحرمة والجهل بها، كان جهله عن قصور أو عن تقصير.
نعم، صحيحة على هذا الفرض في صورة واحدة، وهي: صورة النسيان، كما
أنها صحيحة على هذا القول مع ترجيح جانب الوجوب.
السابعة: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد اختار في المسألة القول بالامتناع،
بدعوى: أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون، بل المعنون واحد في مورد
الاجتماع وجودا وماهية (3). ولكن قد عرفت أن ما أفاده لا يخرج عن مجرد
الدعوى، لفرض عدم إقامة برهان عليه، ولأجل ذلك قلنا: إنه لا يتم إلا على نحو
الموجبة الجزئية.
الثامنة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد اختار في المسألة القول بالجواز بدعوى: أن
النسبة بين متعلقي الأمر والنهي إذا كانت عموما من وجه فلا محالة يكون التركيب
بينهما انضماميا، لفرض أن جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الافتراق

(1) انظر ص 220 - 221.
(2) كفاية الأصول: ص 191.
(3) كفاية الأصول: ص 193.
291

بعينها هي جهة الصدق في صدق كل منهما في مورد الاجتماع. وعليه، فيستحيل
اتحادهما في الخارج واندراجهما تحت حقيقة واحدة، وإلا لزم أن لا تكون جهة
صدقهما في مورد الاجتماع تلك الجهة التي كانت في مورد الافتراق، وهذا خلف.
وهذا بخلاف ما إذا كانت النسبة بالعموم من وجه بين موضوعي الحكمين:
كقولنا: أكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، حيث إن النسبة بين العالم والفاسق عموم من
وجه، فإن التركيب بينهما في مورد الاجتماع - لا محالة - يكون اتحاديا وهو
العالم الفاسق، لانطباق كلا العنوانين عليه، فلا يمكن أن يكون إكرامه واجبا
وحراما معا (1).
التاسعة: قد تقدم أن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) إنما تتم في المبادئ المتأصلة
والماهيات المقولية، فإن تعدد العنوان منها يستلزم تعدد المعنون في الخارج لا
محالة، لاستحالة أن يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحاديا. وأما إذا
كان أحدهما عنوانا عرضيا والآخر ذاتيا أو كان كلاهما عنوانا انتزاعيا فلا يستلزم
تعددهما تعدد المعنون، بل يمكن أن يكون المعنون واحدا، ويمكن أن يكون
متعددا.
ومن هنا قلنا: إنه لا ضابط للمسألة، لا للقول بالامتناع، ولا للقول بالجواز،
بل لابد من ملاحظة المجمع في كل مورد، لنرى أنه واحد وجودا وماهية أو
متعدد كذلك لنحكم على الأول بالامتناع وعلى الثاني بالجواز، ولأجل ذلك
الصحيح: هو القول بالتفصيل في المسألة في مقابل القول بالامتناع والجواز مطلقا.
نعم، ما ذكره (قدس سره): من أن النسبة بالعموم من وجه إذا كانت بين موضوعي
الحكمين فلا محالة يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع اتحاديا متين جدا،
كما سبق بشكل واضح (2).
العاشرة: أن الغصب عنوان انتزاعي وليس من الماهيات المقولية، بداهة أنه

(1) انظر فوائد الأصول: ج 2 ص 424.
(2) تقدم في ص...
292

ينطبق على مقولات متعددة، فلو كان مقولة بنفسه يستحيل أن ينطبق على مقولة
أخرى.
الحادية عشرة: قد تقدم: أن الصلاة بتمام أجزائها غير متحدة مع الغصب
خارجا إلا في السجدة، حيث إنها متحدة معه في الخارج ومصداق له، وعلى هذا
الضوء فالصلاة إذا لم تكن مشتملة عليها ذاتا أو عرضا أو كانت السجدة على
أرض مباحة - مثلا - أو مملوكة فلا مانع من القول بالجواز أصلا.
الثانية عشرة: قد سبق: أن الهوي والنهوض من مقدمات الصلاة لا من
أجزائها.
الثالثة عشرة: أن الصحيح: عدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته
الخارجية التي يعبر عنها بالتشخصات مسامحة.
الرابعة عشرة: أن النسبة بالعموم من وجه لا تتصور بين جوهرين وعرضين
وجوهر وعرض، لفرض أنهما متباينان ماهية ووجودا، فلا يصدق أحدهما على
ما يصدق عليه الآخر. وقد تقدم: أن النسبة كذلك إنما تتصور بين عنوانين
عرضيين وعنوان عرضي وذاتي.
الخامسة عشرة: أن التركيب بين المادة والصورة حقيقي لا انضمامي، خلافا
لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث يرى أن التركيب بينهما انضمامي، ولكن قد عرفت أن
نظره (قدس سره) في ذلك خاطئ، ولا يمكن تصديقه بوجه.
بقي الكلام في أمور:
الأول: التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب.
الثاني: التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة.
الثالث: التوضؤ أو الاغتسال من الإناء المغصوب.
الرابع: التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة.
الخامس: التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب.
293

أما الأول: فلا شبهة في القول بالامتناع وعدم جواز الوضوء أو الغسل منه،
ضرورة استحالة أن يكون المنهي عنه مصداقا للمأمور به، ولا يمكن فيه القول
بالجواز أبدا، ولا مناص من تقديم دليل حرمة التصرف فيه على دليل وجوب
الوضوء أو الغسل، وذلك لما ذكرناه غير مرة: من أن وجوب الوضوء والغسل
مشروط بوجدان الماء بمقتضى الآية المباركة، وقد قلنا: إن المراد منه وجوده
الخاص من جهة القرينة الداخلية والخارجية، وهو ما يتمكن المكلف من استعماله
عقلا وشرعا، والمفروض في المقام أن المكلف لا يتمكن من استعماله شرعا وإن
تمكن عقلا، ومعه يكون فاقدا له، فوظيفة الفاقد هو التيمم دون الوضوء أو الغسل.
وعليه، فلابد من الالتزام بفساد الوضوء أو الغسل به مطلقا حتى في حال
الجهل، ضرورة أن التخصيص واقعي، والجهل بالحرمة لا يوجب تغيير الواقع
وصيرورة الحرام واجبا ولو كان عن قصور، وهذا واضح.
نعم، لو كان المكلف ناسيا لكون هذا الماء مغصوبا فتوضأ أو اغتسل به فلا
إشكال في صحة وضوئه أو غسله إذا كان نسيانه عن قصور لا عن تقصير.
والوجه في ذلك: هو أن النسيان رافع للتكليف واقعا فلا يكون الناسي مكلفا
في الواقع، وهذا بخلاف الجهل فإنه رافع للتكليف ظاهرا، فيكون الجاهل مكلفا
في الواقع. وعليه، فترتفع حرمة التصرف في هذا الماء واقعا من ناحية النسيان،
ومعه لا مانع من شمول إطلاق دليل وجوب الوضوء له، فإن المانع عن شموله هو
حرمة التصرف فيه، والمفروض أنها قد ارتفعت واقعا من ناحية النسيان، ومع
ارتفاعها - لا محالة - يشمله لفرض عدم المانع منه - حينئذ - أصلا، ومعه - لا
محالة - يكون صحيحا.
نعم، لو كان نسيانه عن تقصير - كما هو الحال في أكثر الغاصبين - فلا يمكن
الحكم بصحته، وذلك لأن الحرمة وإن ارتفعت واقعا من جهة نسيانه إلا أن ملاكه
باق وهو المبغوضية، ومعه لا يمكن التقرب به.
فالنتيجة: أن التوضؤ أو الاغتسال بهذا الماء غير صحيح في صورة الجهل ولو
كان عن قصور، وصحيح في صورة النسيان إذا كان كذلك.
294

ولكن للشيخ الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام، وهو: أنه (قدس سره) مع التزامه بفساد
العبادة على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة مطلقا ذهب إلى صحة الوضوء
أو الغسل هنا بهذا الماء في صورة الجهل بالحكم أو الموضوع عن قصور (1).
ولعله (قدس سره) استند في ذلك إلى أحد أمرين:
الأول: دعوى: أن الوضوء أو الغسل مشتمل على الملاك في هذا الحال. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن صدوره من المكلف في هذا الحال حسن على الفرض،
ومعه لا مانع من التقرب به من ناحية اشتماله على الملاك.
وغير خفي أن هذه الدعوى خاطئة جدا حتى عنده (قدس سره)، ضرورة أنه لا طريق
لنا إلى إحراز أن الوضوء أو الغسل في هذا الحال مشتمل على الملاك، لما ذكرناه
غير مرة: من أنه لا طريق لنا إلى معرفة ملاكات الأحكام مع قطع النظر عن
ثبوتها، فإذا لا يمكن الحكم بصحته من هذه الناحية.
الثاني: دعوى الإجماع على الصحة في هذا الفرض كما ذكرها صاحب مفتاح
الكرامة (2) (قدس سره).
ويردها: أولا: أن الإجماع غير ثابت، وإنما هو إجماع منقول وهو ليس
بحجة، وعلى تقدير ثبوته فهو، إنما يكون حجة إذا كان تعبديا، لا فيما إذا كان
محتمل المدرك أو معلوما، ضرورة أنه في هذا الحال لا يكون كاشفا عن قول
المعصوم (عليه السلام) فلا يكون حجة.
والإجماع المدعى في المقام على تقدير تسليمه بما أنه محتمل المدرك
لاحتمال أن من يقول بصحة الوضوء أو الغسل هنا إنما يقول به من جهة توهم
اشتماله على الملاك، أو من ناحية تخيل أن المؤثر في الحكم إنما هو الجهات

(1) ولذا وافق (رحمه الله) السيد الطباطبائي (قدس سره) في الفتوى بالصحة في مسألتي الوضوء والغسل، حيث
لم يعلق عليهما في حاشيته على العروة الوثقى.
(2) مفتاح الكرامة: ج 1 ص 303.
295

الواصلة دون الجهات الواقعية. فإذا لابد من النظر في هذين الأمرين:
أما الأمر الأول: فقد عرفت أنه لا مجال له أصلا، ضرورة أنه لا طريق لنا
إلى إحراز أنه مشتمل على الملاك في هذا الحال كما مر آنفا.
وأما الأمر الثاني: فقد نشأ من الخلط بين الجهات المؤثرة في الأحكام
الشرعية والجهات المؤثرة في الأحكام العقلية، فإن المؤثر في الأحكام العقلية
- وهي الحسن والقبح - إنما هو الجهات الواصلة، ضرورة أن العقل لا يحكم
بحسن شئ وقبح شئ آخر إلا فيما إذا أحرز ما هو المؤثر فيهما، لما ذكرناه: من
أنه لا واقع موضوعي لهما ما عدا إدراك العقل استحقاق الفاعل المدح على فعل
واستحقاقه الذم على آخر.
ومن الواضح جدا أن العقل لا يحكم بذلك إلا إذا أحرز انطباق عنوان العدل
عليه في الأول، وانطباق عنوان الظلم في الثاني، حيث إن حكم العقل بقبح الظلم
وحسن العدل ذاتي وغير قابل للانفكاك أبدا، ولا يحتاج إلى علة خارجة عن مقام
ذاتهما، ضرورة أن الذاتي غير قابل للتعليل بشئ، من دون فرق في ذلك بين أن
يكون الذاتي ذاتي باب البرهان، أو ذاتي باب الكليات: كالجنس والفصل،
وهذا واضح.
وأما حكمه بقبح غيرهما من الأفعال الاختيارية أو حسنها فهو ليس بالذات،
بل من ناحية انطباق عنوان الظلم عليها أو العدل. مثلا: ضرب اليتيم إذا كان
للتأديب انطبق عليه عنوان العدل، وإذا كان للإيذاء انطبق عليه عنوان الظلم، ولذا
يحكم بحسنه على الأول وقبحه على الثاني، وهذا واضح.
وأما المؤثر في الأحكام الشرعية فهو الجهات الواقعية، لا الجهات الواصلة،
ضرورة أن الأحكام الشرعية لو كانت تابعة لتلك الجهات - أي: الجهات الواصلة -
للزم التصويب وانقلاب الواقع، فإن معنى ذلك هو: تبعية الأحكام لعلم المكلف
وهذا معنى التصويب. وقد تقدم الكلام في ذلك من هذه الناحية بشكل واضح
فلاحظ.
296

فالنتيجة: أنه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في هذا الحال، لا من
ناحية الملاك، ولا من ناحية الإجماع، بل الصحيح: هو ما ذكرناه من فساده في
هذا الحال أيضا، بداهة أن الجهل بالحرمة أو بموضوعها لا يغير الواقع وإن كان عن
قصور، ولا يوجب صيرورة الحرام واجبا، بل هو باق على حرمته، غاية الأمر أنه
معذور في ارتكابه والتصرف فيه. ومن المعلوم أن الحرام لا يصلح أن يكون مقربا
ومصداقا للواجب كما هو ظاهر.
وأما الثاني - وهو التوضؤ أو الاغتسال من آنية الذهب أو الفضة - فقد تقدم
الكلام فيه من ناحية صحة الوضوء أو الغسل منها أو فساده في بحث الضد بصورة
مفصلة. ونتيجته: هي أنه لا إشكال في فساد الوضوء أو الغسل منها إذا كان على
نحو الارتماس، ضرورة أن نفس هذا التصرف محرم، والمحرم لا يصلح أن يكون
مصداقا للواجب. هذا بناء على أن يكون مطلق التصرف فيها محرما.
وإما إذا قلنا بأن المحرم فيها إنما هو خصوص الأكل والشرب لا مطلق
استعمالها والتصرف فيها فلا إشكال - عندئذ - في صحة الوضوء أو الغسل منها
أصلا.
وأما إذا كان على نحو الترتيب بأن يغترف الماء منها غرفة غرفة ليتم وضوءه
أو غسله فبناء على ما حققناه من إمكان الترتب من ناحية، وكفاية القدرة
التدريجية على الواجبات المركبة من الأجزاء الطولية: كالصلاة والوضوء والغسل
وما شاكل ذلك من ناحية أخرى لا مانع من الحكم بصحته أصلا، من دون فرق في
ذلك بين صورة انحصار الماء فيها، وصورة عدم انحصاره، وتمكن المكلف من
إفراغ الماء منها في إناء آخر بلا استلزامه التصرف فيها وعدم تمكنه منه، على ما
تقدم الكلام في جميع هذه النواحي بشكل واضح (1)، فلا نعيد.
نعم، فرق بين الوضوء أو الغسل من الآنية كذلك - أي: بأخذ الماء منها غرفة

(1) راجع ج 3 ص 191 وما بعدها.
297

غرفة أو بأخذه في ظرف آخر - وبين الأكل والشرب على هذا النحو، أي: بأن
يأخذ الطعام أو الشراب من الآنية ويصب في " المشقاب أو الفنجان "، فيأكل فيه
أو يشرب.
حيث إن الأول - وهو الوضوء أو الغسل - ليس بمحرم، والمحرم إنما هو أخذ
الماء منها الذي هو مقدمة له.
والثاني - وهو الأكل والشرب - محرم، والوجه فيه: هو أن الملاك في حرمة
الوضوء أو الغسل أو ما شابه ذلك منها كونه استعمالا للآنية بنفسه، وفي الفرض
المزبور بما أنه ليس استعمالا لها كذلك ضرورة أن ما كان استعمالا لها إنما هو
أخذ الماء منها دونه، فلأجل ذلك لا يكون محرما ومصداقا للتصرف فيها. وهذا
بخلاف الملاك في حرمة الأكل والشرب منها، فإنهما محرمان، سواء أكان بلا
واسطة أم مع واسطة، كما إذا صب الطعام من القدر في " الصيني أو المشقاب "
فأكل فيه، فإنه وإن لم يصدق عليه أنه أكل في الآنية إلا أن ذلك استعمال لها في
الأكل، وهذا المقدار كاف في حرمته، وكذا إذا صب الشاي من السماور في
الفنجان فإنه لا يجوز شربه، لصدق أن هذا استعمال للآنية في الشرب.
وعلى الجملة: فالمحرم ليس خصوص الأكل والشرب في الآنية، بل المحرم
إنما هو استعمالها في الأكل والشرب ولو كان استعمالها واقعا في طريقهما:
كالأمثلة المزبورة. هذا مقتضى إطلاق الروايات الواردة في المقام (1). وأما التوضؤ
أو الاغتسال فإنه إن كان في الآنية كما إذا كان على نحو الارتماس فمحرم، وأما
إذا كان بأخذ الماء منها في ظرف آخر أو غرفة غرفة فهو ليس بمحرم، لعدم كونه
- عندئذ - مصداقا للتصرف فيها. وتمام الكلام في ذلك في محله (2).
ومن هنا تظهر نقطة الفرق بين الأكل والشرب من آنية الذهب أو الفضة

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 505 ب 65 من أبواب النجاسات باب عدم استعمال أواني
الذهب والفضة.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 3 ص 330 كتاب الطهارة المسألة 10 من أحكام الأواني.
298

والأكل والشرب من الإناء المغصوب، فإنهما على الأول كما عرفت محرمان
مطلقا، أي: سواء أكان بلا واسطة أم معها. وعلى الثاني فليسا بمحرمين مطلقا ولو
كانا مع واسطة، وذلك لأ نهما إنما يكونان محرمين فيما إذا صدق عليهما أنه تصرف
فيه، فلو أخذ الطعام منه وصب في ظرف آخر وأكل فيه فلا يكون أكله فيه محرما.
والوجه في ذلك: أن المستفاد من الروايات: هو حرمة استعمال آنية الذهب
والفضة في الأكل والشرب ولو كان استعمالها في طريقهما، وهذا بخلاف الإناء
المغصوب، فإن المحرم فيه إنما هو تصرفه، وعليه فإذا كان الأكل أو الشرب
مصداقا له فهو محرم، وإلا فلا. ومن المعلوم أنه إنما يكون مصداقا له فيما إذا كان
فيه، وأما إذا كان في غيره كما إذا أخذ الطعام منه وصبه في إناء آخر فأكل فيه فهذا
ليس تصرفا فيه كما هو واضح.
وأما إذا توضأ المكلف أو اغتسل منها بحيث كان وضوؤه أو غسله تصرفا
فيها فهل يمكن القول بجواز اجتماع الأمر والنهي فيه بناء على القول بالجواز في
المسألة أم لا؟ قولان.
فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن من يقول بجواز الاجتماع فيها يقول به في
المقام أيضا، وقد أفاد في تقريب ذلك: أن الوضوء أو الغسل باعتبار نفسه الذي هو
فرد من أفراد المقولة مأمور به، وباعتبار إضافته إلى الآنية التي يحرم التصرف فيها
منهي عنه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن استعمال الآنية ليس داخلا في إحدى المقولات
التسع العرضية، بل هو متمم لمقولة من المقولات: كالأكل والشرب والتوضؤ
وما شاكل ذلك.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا مانع من القول بالجواز هنا باعتبار أن
المأمور به بنفسه مقولة والمنهي عنه ليس بمقولة على الفرض، بل هو من متمم
المقولة، فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي (1).

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 347.
299

وغير خفي أن هذا غريب منه (قدس سره) والوجه في ذلك: هو أنه ليس لاستعمال
آنية الذهب أو الفضة واقع موضوعي في الخارج ما عدا تلك الأفعال الخاصة
كالأكل والشرب والتوضؤ والاغتسال وما شاكل ذلك، ضرورة أنه عنوان
انتزاعي منتزع من هذه الأفعال خارجا، ولا واقع له ما عداها. وعليه، فبما أنه في
مفروض الكلام منتزع من نفس التوضؤ أو الاغتسال منها باعتبار أنه تصرف فيها
كما إذا فرض أنه كان على نحو الارتماس لا محالة يكون المنهي عنه - عندئذ -
متحدا مع المأمور به في مورد الاجتماع، ومعه لا يمكن القول بالجواز.
وعلى الجملة: فاستعمال الآنية قد يكون بالأكل والشرب، وقد يكون بالتوضؤ
والاغتسال، وقد يكون بغيرهما، وليس الاستعمال إلا عنوانا انتزاعيا من هذه
الأفعال، وبما أنه في المقام استعمالها بالتوضؤ أو الاغتسال على الفرض فلا يعقل
أن يكون مأمورا به، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للواجب.
ثم إن ما أفاده (قدس سره): من أن استعمال الآنية ليس مقولة برأسها، بل هو متمم
المقولة لا نعرف له معنى محصلا أبدا، وذلك لأن مراده (قدس سره) من متمم المقولة - كما
فسر به (1) - ما لا يعرض على الجوهر في الخارج بلا واسطة: كالشدة في البياض
والسواد، والسرعة في الحركة وما شابه ذلك فإنها لا تعرض على الجوهر خارجا
بلا توسط، بل تعرض أولا وبالذات على الكم والكيف ونحوهما وبواسطتها
تعرض عليه، والمفروض - كما عرفت - أن الاستعمال - أي: استعمالها - عنوان
انتزاعي منتزع من أمر موجود في الخارج، وليس له ما بإزاء فيه أصلا لينظر أنه
من المقولة أو متمم لها، وليس كالشدة فإنها موجودة فيه.
أضف إلى ذلك: أن الشدة والضعف في البياض والسواد، والسرعة والبطء
أيضا في الحركة ليس من متممات المقولة بالمعنى الذي ذكره (قدس سره)، بل هما عين
المقولة، ضرورة أن الشدة ليست شيئا زائدا على حقيقة البياض: ولا السرعة شيئا
زائدا على حقيقة الحركة لتكون الشدة عارضة على البياض العارض على الجوهر

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 347.
300

والسرعة عارضة على الحركة العارضة على موضوعها، بداهة أن الشدة والسرعة
موجودتان بنفس وجود البياض والحركة في الخارج، لا بوجود آخر لتكونا
عارضتين على وجودهما فيه أولا وبالذات، وبتوسطه تعرضان على الجوهر.
وبكلمة أخرى: أنه (قدس سره) قد جعل الملاك في كون شئ متمما للمقولة دون
نفسها هو ما يمتنع عروضه في الخارج على الجوهر بلا واسطة عرض من
الأعراض، وقد مثل لذلك بالشدة والضعف والسرعة والبطء والابتداء والانتهاء.
وقد عرفت أن الابتداء والانتهاء من الأمور الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها
في الخارج ما عدا منشأ انتزاعها، فإن الابتداء منتزع من صدور السير من البصرة
مثلا، والانتهاء منتزع من انتهائه إلى الكوفة... وهكذا.
ومن المعلوم أن الأمر الانتزاعي لا يعقل أن يكون متمما للمقولة، بداهة أن
متمم المقولة لابد أن يكون موجودا في الخارج، والأمر الانتزاعي لا يتعدى من
أفق النفس إلى الخارج، وإلا فكل عرض موجود فيه - لا محالة - يكون منشأ
لانتزاع أمر. وعليه، فيلزم أن يكون لكل عرض خارجا متمم، وهذا باطل.
وأما الشدة والضعف والسرعة والبطء فالمفروض أنها ليست بموجودة
بوجود آخر غير وجود نفس البياض والحركة ليكون وجودها عارضا على
وجودهما في الخارج أولا وبتوسطه على وجود الجوهر، لوضوح أن كل مرتبة
من وجود البياض والحركة مباين لمرتبة أخرى منه، فلا يعقل أن تعرض مرتبة منه
على مرتبة أخرى منه: كأن تعرض المرتبة الشديدة على المرتبة الضعيفة.
أو فقل: إن البياض الموجود فيه لا يخلو: من أن يكون شديدا أو ضعيفا
أو متوسطا، ولا رابع في البين، وكذا الحركة الموجودة فيه، فلو كانت الشدة
والضعف في الفرد الشديد والضعيف متممين لهما لكان التوسط في الفرد المتوسط
أيضا كذلك، ضرورة عدم الفرق بينهما من هذه الناحية أبدا، مع أنهم لا يقولون
بذلك فيه.
فالنتيجة: أنه لا يرجع متمم المقولة إلى معنى محصل أصلا، فإن الشدة
301

في الخارج عين الفرد الشديد، لا أنها متممة له، وكذا الضعف في الفرد الضعيف...
وهكذا.
[وأما] الثالث - وهو التوضؤ أو الاغتسال من الإناء المغصوب -: قد ظهر
الحال فيه مما ذكرناه في آنية الذهب والفضة (1) فإن الكلام فيه من هذه الناحية أي
من ناحية الوضوء أو الغسل منه بعينه هو الكلام فيها، بناء على أن يكون مطلق
التصرف فيها محرما، كما أن الكلام فيه بعينه هو الكلام فيها من ناحية جواز
اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.
وقد تقدم: أن الظاهر من كلامه (قدس سره) هو جواز الاجتماع في أمثال ذلك، ببيان:
أن المأمور به هو فرد من أفراد المقولة، وهو التوضؤ أو الاغتسال الموجود في
الخارج، فإنه: عبارة عن إيصال الماء إلى البدن، والمنهي عنه - وهو استعماله -
ليس داخلا في إحدى المقولات التسع العرضية، بل هو متمم لمقولة من المقولات،
فمن يقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مسألة يقول في المقام أيضا.
ولكن قد عرفت أن هذا من غرائب كلامه (قدس سره)، وذلك لأن الوضوء أو الغسل
منه إذا كان تصرفا فيه - كما هو المفروض واستعمالا له - فلا يعقل أن يكون مأمورا
به، ضرورة استحالة كون المنهي عنه مصداقا له.
كما أنه لا وجه لما أفاده (قدس سره) من صحة الوضوء أو الغسل منه في صورة
الجهل عن قصور. وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في آنية الذهب والفضة بشكل
واضح فلا نعيد.
[وأما] الرابع - وهو التوضؤ أو الاغتسال في الدار المغصوبة: - قد تقدم الكلام
فيه في بحث الضد بشكل مفصل، وملخصه: هو أن المكلف تارة متمكن من
الوضوء أو الغسل في غير المكان المغصوب، وتارة أخرى لا يتمكن منه في غيره،
لانحصار الماء فيه.
فعلى الأول: بما أن متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي حيث إن الأول: عبارة

(1) تقدم في ص 297.
302

عن الغسلتين والمسحتين مثلا، والثاني: عبارة عن الكون في الدار، والمفروض
أنهما لا ينطبقان على موجود واحد في الخارج فلا مانع من القول بالجواز.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن وظيفة المكلف في هذا الفرض وإن كانت هي التيمم،
لفرض أنه لا يتمكن من الوضوء أو الغسل شرعا وإن تمكن منه عقلا - وقد ذكرنا
في غير مورد: أن مشروعية الوضوء أو الغسل مشروطة بالتمكن من استعمال الماء
عقلا وشرعا - وفي المقام بما أن الوضوء أو الغسل يتوقف على ارتكاب محرم
وهو التصرف في مال الغير فلا يتمكن منه فإذا - لا محالة - تكون وظيفته التيمم
لكونه فاقدا للماء.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن المكلف لو عصى ودخل الدار المغصوبة فتوضأ
أو اغتسل فلا إشكال في صحته، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب، وهذا
واضح.
وعلى الثاني: فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل ولو قلنا بالفساد في
الفرض الأول، وذلك لأن الصحة في هذا الفرض لا تتوقف على القول بالترتب، بل
لو قلنا باستحالته فمع ذلك يكون صحيحا.
والوجه فيه: هو أن المكلف مأمور بالطهارة المائية فعلا، لتمكنه منها، غاية
الأمر أنه بسوء اختياره قد ارتكب المحرم بدخوله في المكان المزبور. ومن
الظاهر أن ارتكاب محرم مقدمة للوضوء أو الغسل، أو في أثنائه إذا لم يكن متحدا
معه لا يوجب فساده، هذا كله فيما إذا لم يكن الفضاء مغصوبا، بل كان مباحا أو
مملوكا للمتوضئ.
[وأما] الخامس - وهو التوضؤ أو الاغتسال في الفضاء المغصوب - أن الظاهر
بطلان الوضوء فحسب دون الغسل.
أما الوضوء فمن ناحية المسح حيث يعتبر فيه إمرار اليد، وهو نحو تصرف في
ملك الغير فيكون محرما. ومن الواضح استحالة وقوع المحرم مصداقا للواجب،
303

فإذا لابد من القول بالامتناع هنا، لفرض اتحاد المأمور به مع المنهي عنه في مورد
الاجتماع، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء فيه، أي: في الفضاء
المغصوب وعدم انحصاره فيه.
نعم، لو تمكن المكلف من إيقاع المسح في غير الفضاء المغصوب وأوقع فيه
لصح وضوؤه على الأقوى وإن كان الأحوط تركه.
وعلى الجملة: فوظيفة المكلف في صورة الانحصار وإن كانت هي التيمم
ولكنه لو دخل في الفضاء المغصوب وتوضأ فيه: فإن أوقع المسح في غير الفضاء
المغصوب لكان وضوؤه صحيحا، بناء على مما حققناه من إمكان الترتب. وإن
أوقع المسح فيه لكان فاسدا، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للمأمور به، لفرض
أن المسح تصرف في ملك الغير، ومعه لا يمكن أن يكون واجبا.
ومن هنا استشكلنا في صحة التيمم في الفضاء المغصوب (1) من جهة أن
المعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف فيه، ولا يفرق في هذا بين وجود المندوحة
وعدمها.
وأما الغسل فبما أنه لا يعتبر فيه إمرار اليد فلا يكون تصرفا فيه، لفرض أن
الواجب فيه وصول الماء إلى البشرة، ومن المعلوم أنه لا يكون تصرفا فيه،
والتصرف إنما يكون في مقدماته، كما هو واضح، فإذا لا مانع من القول بالجواز في
المقام والالتزام بصحة الغسل، بناء على ما ذكرناه من إمكان الترتب ووقوعه
خارجا.
* * *
أدلة جواز الاجتماع
الأول: أن اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد لو لم يكن جائزا لم يقع في
الشريعة المقدسة، مع أنه واقع فيها، كما في موارد العبادات المكروهة، حيث قد

(1) راجع التنقيح في شرح العروة: ج 1 ص 89 كتاب الطهارة.
304

اجتمع فيها الوجوب مع الكراهة مرة: كما في الصلاة في الحمام والصلاة في
مواضع التهمة ونحوهما. والاستحباب معها مرة أخرى كما في النوافل المبتدأة.
ومن الواضح جدا: أن وقوع شئ في الخارج أدل دليل على إمكانه وجوازه. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأحكام الخمسة بأسرها متضادة: إما من ناحية المبدأ،
أو من ناحية المنتهى، والجامع: هو أنه لا يمكن اجتماع اثنين منها في شئ
واحد، فكما أنه لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شئ واحد فكذلك لا
يمكن اجتماع الوجوب والكراهة فيه... وهكذا.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن من وقوع اجتماع الوجوب والكراهة في شئ
واحد يكشف عن أنه لا مانع من اجتماع مطلق الأمر والنهي فيه، سواء أكانا
إلزاميين أم لا.
ثم إن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد عد من أمثلة ذلك الصيام في السفر (1).
وغير خفي أن الصوم في السفر ليس مثالا لمحل الكلام هنا.
والوجه في ذلك: هو أنه ليس بمأمور به في غير الموارد المستثناة، لا وجوبا
ولا استحبابا ليلزم اجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الكراهة، ضرورة أنه غير
مشروع في ما عدا تلك الموارد، والإتيان به بقصد الأمر تشريع ومحرم. فإذا لا
وجه لعده من أمثلة المقام. وأما في موارد استثنائه كما إذا نذر الصوم في السفر
فليس بمكروه ليلزم اجتماع الوجوب مع الكراهة.
وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن هذا الدليل بوجهين: الأول:
بالاجمال، والثاني: بالتفصيل.
أما جوابه الإجمالي فإليك نصه: (فبأنه لابد من التصرف والتأويل فيما وقع
في الشريعة مما ظاهره الاجتماع بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن الظهور
لا يصادم البرهان، مع أن قضية ظهور تلك الموارد اجتماع الحكمين فيها بعنوان

(1) كفاية الأصول: ص 196.
305

واحد، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين
فهو أيضا لابد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها، سيما إذا لم يكن هناك
مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال
بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا كما لا يخفى) (1).
ونوضح ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أن الظاهر من هذه الموارد وإن كان اجتماع الحكمين في شئ واحد
إلا أنه لابد من رفع اليد عن هذا الظاهر والتصرف فيه وتأويله من ناحية قيام
الدليل القطعي على الامتناع واستحالة اجتماعهما في موضوع واحد، بداهة أن
الظهور مهما كان لونه لا يمكن أن يصادم البرهان العقلي الذي قام على استحالة
الاجتماع بمقتضى المقدمات المتقدمة.
الثانية: أن هذه الموارد التي توهم اجتماع حكمين فيها لشئ واحد خارجة
عن مورد النزاع في المسألة.
والوجه في ذلك: هو أن النزاع فيها ما إذا كان الأمر متعلقا بعنوان كالصلاة
- مثلا - والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب، وقد اتفق اجتماعهما في مورد واحد
كالصلاة في الدار المغصوبة، فعندئذ يقع النزاع.
فالقائل بالجواز يدعي أن تعدد العنوان يكفي للقول بجواز الاجتماع، والقائل
بالامتناع يدعي أنه لا يكفي، فالعبرة إنما هي بوحدة المعنون وتعدده، لا بوحدة
العنوان وتعدده. وأما إذا فرض تعلق الأمر والنهي بشئ واحد بعنوان فهو خارج
عن محل النزاع، ضرورة أنه لا يقول أحد بالجواز فيه حتى من القائلين به فضلا
عن غيرهم، فإنهم إنما يقولون بالجواز فيما إذا فرض تعلق كل من الأمر والنهي به
بعنوان، والمفروض أن في موارد العبادات المكروهة ليس الأمر كذلك، فإن النهي
في تلك الموارد تعلق بعين ما تعلق به الأمر، لا بغيره، والفرق بينهما بالإطلاق
والتقييد.

(1) كفاية الأصول: ص 197.
306

وعلى الجملة: فالأمر في هذه الموارد تعلق بذات العبادات، والنهي تعلق بها
بعنوان خاص: كالنهي عن الصوم في يوم عاشوراء، والنهي عن الصلاة في الحمام
مثلا، فلم يتعلق الأمر بها بعنوان والنهي بعنوان آخر كانت النسبة بينهما عموما
من وجه، فإذا تلك الموارد خارجة عن محل الكلام في المسألة.
الثالثة: أن القائلين بالجواز إنما يقولون به فيما إذا كانت هناك مندوحة، وأما
إذا فرض أنه لا مندوحة في البين فلا يقولون بالجواز فيه أصلا. وعليه، فلا يمكن
القول بالجواز في مثل صوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة وما شاكلهما مما
لا بدل له.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فالأمر كما ذكره (قدس سره)، وذلك لما تقدم: من أن المعنون إذا كان
واحدا وجودا وماهية في مورد الاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع. وبما أن
المعنون في موارد العبادات المكروهة واحد فلابد من التوجيه والتأويل بعد
استحالة كون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا.
وأما النقطة الثانية: فهي في غاية الصحة والمتانة، ضرورة أن أمثال هذه
الموارد التي تعلق الأمر والنهي فيها بشئ بعنوان واحد خارجة عن محل النزاع
في المسألة، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح (1).
وأما النقطة الثالثة: فيرد عليها ما تقدم: من أنه لا دخل لقيد المندوحة في
جواز الاجتماع أصلا، لما عرفت من أن القول بالجواز يبتني على تعدد المجمع في
مورد الاجتماع وجودا وماهية، فإذا كان متعددا كذلك لا مناص من القول به،
سواء أكانت هناك مندوحة أم لا. كما أن القول بالامتناع يبتني على وحدة المجمع
فيه، فإذا كان واحدا كذلك لا مناص من القول به، ولو كانت هناك مندوحة فلا
دخل لقيد المندوحة، ولا لعدمه في جواز الاجتماع وعدمه أصلا.

(1) راجع ص 165.
307

وأما جوابه التفصيلي: فإليك نصه: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته ولا بدل له: كصوم يوم عاشوراء أو
النوافل المبتدأة في بعض الأوقات.
ثانيها: ما تعلق النهي به كذلك، ويكون له البدل: كالنهي عن الصلاة في الحمام.
ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له
خارجا: كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على أن يكون النهي عنها لأجل اتحادها
مع الكون في مواضعها.
أما القسم الأول: فالنهي تنزيها عنه بعد الإجماع على أنه يقع صحيحا، ومع
ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الأئمة (عليهم السلام) على الترك:
إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا
مصلحة موافقة للغرض، وإن كان مصلحة الترك أكثر فهما - حينئذ - يكونان من
قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلا
فيتعين الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحا، حيث إنه كان راجحا وموافقا للغرض
كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات. وأرجحية الترك
من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلا، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة
غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع، فإن الحزازة والمنقصة فيه
مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام فإنه على ما هو عليه من الرجحان
وموافقة الغرض كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا.
وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا
انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق به - حينئذ - ليس بحقيقي، بل
بالعرض والمجاز، وإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان، بخلاف
صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة كما في سائر المكروهات من غير فرق، إلا أن
منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في الترك من دون حزازة
في الفعل أصلا، غاية الأمر كون الترك أرجح.
308

نعم، يمكن أن يحمل النهي في كلا القسمين على الإرشاد إلى الترك الذي
هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك. وعليه، يكون
النهي على نحو الحقيقة لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل (1).
توضيح ما أفاده (قدس سره): هو أن الكراهة في هذه الموارد ليست كراهة مصطلحة
وهي التي تنشأ عن مفسدة في الفعل وحزازة ومنقصة فيه، فإن الكراهة في المقام
لو كانت كراهة مصطلحة ناشئة عن مفسدة في الفعل غالبة على مصلحته لم يقع
الفعل في الخارج صحيحا، ضرورة عدم إمكان التقرب بما هو مبغوض للمولى
ومشتمل على مفسدة غالبة، مع أنه لا شبهة في وقوعه صحيحا وإمكان التقرب
به، غاية الأمر أن تركه أرجح من فعله. مثلا: لا شبهة في صحة الصوم يوم
عاشوراء، وأنه قابل لأن يتقرب به، محبوب للمولى في نفسه، وليس النهي
المتعلق به ناشئا عن مفسدة ومبغوضية فيه، ضرورة أنه لو كان ناشئا عنها لخرج
عن قابلية التقرب، ولا يمكن الحكم بصحته أبدا، لوضوح أنه لا يمكن التقرب بما
هو مبغوض للمولى، بل هو ناش عن رجحان تركه الطبيعة المأمور بها مع بقاء
الفعل على ما هو عليه من المصلحة والمحبوبية كما يظهر من مداومة الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) على ذلك.
وعليه، فلا محالة يكون هذا الرجحان: إما من ناحية انطباق عنوان ذي
مصلحة عليه، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض وإن كانت مصلحة
الترك غالبة على مصحلة الفعل، حيث إنه في نفسه محبوب ومشتمل على مصلحة
موافقة لغرض المولى، فالصوم يوم عاشوراء كبقية أفراد الصوم.
ولكن بما أن بني أمية - عليهم اللعنة - التزموا بصوم هذا اليوم شكرا وفرحا
من الانتصار الظاهر المزعوم فتركه فيه مخالفة لهم، وهي مطلوبة للشارع، ولأجل
انطباق هذا العنوان - أعني: عنوان المخالفة - على هذا الترك يكون ذا مصلحة غالبة
على مصحلة الفعل. فإذن يكون الفعل والترك من قبيل المستحبين المتزاحمين،

(1) كفاية الأصول: ص 198 - 199.
309

وحيث إن المكلف لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلابد من الالتزام
بالتخيير إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر، وإلا فيقدم الأهم على غيره.
وفي المقام: بما أن الترك أهم من الفعل فيقدم عليه وإن كان الفعل أيضا يقع
صحيحا، لعدم قصور فيه أصلا من ناحية الوفاء بغرض المولى ومحبوبيته كما هو
الحال في جميع موارد التزاحم بين المستحبات، فإنه يصح الإتيان بالمهم عند
ترك الأهم من جهة اشتماله على الملاك ومحبوبيته في نفسه، بل الأمر كذلك في
الواجبات المتزاحمات، فإنه يصح الإتيان بالمهم عند ترك الأهم، لا من ناحية
الترتب، لما تقدم في بحث الضد: من أنه (قدس سره) من القائلين باستحالة الترتب وعدم
إمكانه، بل من ناحية اشتماله على الملاك والمحبوبية.
وإن شئت فقل: إن النهي في أمثال هذه الموارد غير ناش عن مفسدة في الفعل
ومبغوضية فيه، بل هو ناش عن مصلحة في الترك ومحبوبية فيه.
وهذا: إما من ناحية انطباق عنوان ذي مصلحة عليه، ولأجل ذلك يكون تركه
أرجح من الفعل، ولكن مع ذلك لا يوجب حزازة ومنقصة فيه أصلا، فلو كان النهي
عنه نهيا حقيقيا ناشئا عن مفسدة ومبغوضية فيه لكان يوجب حزازة ومنقصة لا
محالة، ومعه لا يمكن الحكم بصحته أبدا، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض
للمولى.
وإما من ناحية ملازمة الترك لعنوان ذي مصلحة خارجا من دون انطباق ذلك
العنوان عليه، كما إذا فرضنا أن عنوان المخالفة لبني أمية - عليهم اللعنة - لا ينطبق
على نفس ترك الصوم يوم عاشوراء، بدعوى: استحالة انطباق العنوان الوجودي
على الأمر العدمي، وإن كانت هذه الدعوى خاطئة في خصوص المقام، من ناحية
أن عنوان المخالفة ليس من العناوين المتأصلة والماهيات المقولية، بل هو عنوان
انتزاعي. ومن المعلوم أنه لا مانع من انتزاع مثل هذا العنوان من الأمر العدمي بأن
يكون ذلك الأمر العدمي منشأ لانتزاعه.
وعلى هذا، فلا مانع من انتزاع عنوان المخالفة من ترك الصوم في هذا اليوم.
310

نعم، الذي لا يمكن انتزاع شئ منه هو العدم المطلق، لا العدم المضاف، فإنه ذو
أثر شرعا وعرفا كما هو واضح.
وكيف كان، فإذا فرض أن الترك ملازم لعنوان وجودي ذي مصلحة أقوى من
مصلحة الفعل - لا محالة - يكون الترك أرجح منه، فلا فرق - عندئذ - بين هذه
الصورة والصورة الأولى، أعني: ما كان العنوان الراجح منطبقا على الترك، غاية
الأمر أن الطلب المتعلق بالترك في هذه الصورة ليس طلبا حقيقيا، بل هو بالعرض
والمجاز، إذ أنه في الحقيقة متعلق بذلك العنوان الراجح الملازم له، وهذا بخلاف
الطلب المتعلق به في الصورة الأولى كما مر.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن المصلحة الموجودة في صوم يوم عاشوراء
- مثلا - ليست بأنقص من المصلحة الموجودة في صوم بقية الأيام بما هو صوم،
غاية الأمر أن المصلحة الموجودة في تركه حقيقة أو عرضا أرجح منها، ولأجل
ذلك يكون تركه أرجح من فعله، وعندئذ فالنهي المتعلق به كما يمكن أن يكون
بمعنى طلب الترك يمكن أن يكون إرشادا إلى أرجحية الترك من الفعل: إما لأجل
انطباق العنوان الراجح عليه، أو لأجل ملازمته له وجودا خارجا.
وعليه، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين. وبما أن الترك أرجح فيقدم
على الفعل، كما يظهر ذلك من مداومة الأئمة (عليهم السلام) على الترك، ولذا لم ينقل
منهم (عليهم السلام) ولو بطريق ضعيف أنهم (عليهم السلام) صاموا في يوم عاشوراء، كما أن سيرة
المتشرعة قد استمرت على ذلك من لدن زمانهم (عليهم السلام) إلى زماننا هذا. هذا تمام ما
أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره).
وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) بما حاصله: أنه إذا فرض اشتمال كل من
الفعل والترك على مصلحة فبما أنه يستحيل تعلق الأمر بكل من النقيضين في
زمان واحد - لا محالة - يكون المؤثر في نظر الآمر إحداهما على فرض كونها
أقوى وأرجح من الأخرى، وعلى تقدير التساوي تسقط كلتاهما معا عن التأثير،
ضرورة استحالة تعلق الطلب التخييري بالنقيضين، فإنه طلب الحاصل.
311

وعلى هذا الضوء يستحيل كون كل من الفعل والترك مطلوبا فعلا.
وبكلمة أخرى: أن فرض اشتمال كل من الفعل والترك على مصحلة يوجب
التزاحم بين المصلحتين في مقام تأثيرهما في جعل الحكم، لا التزاحم بين
الحكمين في مرحلة الامتثال، لما عرفت من استحالة جعل الحكمين للمتناقضين
مطلقا، أي: سواء كان تعيينيا أو تخييريا.
ومن هذا القبيل الضدين الذين لا ثالث لهما، فإنه لا يمكن جعل الحكم
لكليهما معا، لا على نحو التعيين ولا على نحو التخيير. أما الأول فلأنه تكليف
بالمحال. وأما الثاني فلأنه طلب الحاصل.
ومن هذا القبيل أيضا المتلازمين الدائميين، فإنه لا يمكن جعل الحكمين
المختلفين لهما بأن يجعل الوجوب لأحدهما والحرمة للآخر، لا تعيينا ولا تخييرا،
لاستلزام الأول التكليف بالمحال، والثاني طلب الحاصل.
فالنتيجة من ذلك قد أصبحت: أن المزاحمة لا تعقل بين أمرين متناقضين
كالفعل والترك، ولا بين ضدين لا ثالث لهما، ولا بين متلازمين دائميين على
الشكل المتقدم، بل هذه الموارد جميعا داخلة في كبرى باب التعارض كما هو
ظاهر.
ولأجل ذلك قد تصدى (قدس سره) بجواب آخر، وبنى ذلك الجواب على مقدمة،
وهي: أنه لا شبهة في أن الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعبادة مستحبة:
كصلاة الليل أو نحوها متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي. ونتيجة ذلك - لا
محالة -: هي اندكاك الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي، لاستحالة أن يكون كل
من الأمرين محفوظا بحده بعد ما كان متعلقهما واحدا، ولازم الاندكاك والاتحاد
هو اكتساب كل منهما من الآخر جهة: فالأمر الوجوبي يكتسب جهة التعبدية من
الأمر الاستحبابي، والأمر الاستحبابي يكتسب جهة اللزوم من الأمر الوجوبي،
فيتحصل من اندكاك أحدهما في الآخر أمر واحد وجوبي عبادي.
والوجه في ذلك: ما أشرنا إليه: من أنه إذا كان متعلق كل من الأمرين عين ما
312

تعلق به الأمر الآخر فلابد من اندكاك أحدهما في الآخر، وإلا لزم اجتماع الضدين
في شئ واحد، وهو محال. هذا في النذر.
وأما الأمر الناشئ من قبل الإجارة المتعلقة بعبادة مستحبة - كما في موارد
النيابة عن الغير - فلا يكون متعلقا بنفس العبادة المتعلقة بها الأمر الاستحبابي
ليندك أحدهما في الآخر ويتحد، بل يكون متعلق أحدهما غير متعلق الآخر، فإن
متعلق الأمر الاستحبابي - على الفرض - هو ذات العبادة، ومتعلق الأمر الناشئ
من قبل الإجارة هو الإتيان بها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، لوضوح أن
ذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه لم يتعلق بها غرض عقلائي من
المستأجر، ولأجل ذلك تبطل الإجارة لو تعلقت بها.
وعلى هذا الضوء يستحيل اتحاد الأمرين واندكاك أحدهما في الآخر في
موارد الإجارة على العبادات، ضرورة أن التداخل والاندكاك فرع وحدة المتعلق،
والمفروض عدم وحدته في تلك الموارد. فإذا لا يلزم اجتماع الضدين في شئ
واحد من تعلق الأمر الاستحبابي بذات العبادة، والأمر الوجوبي بإتيانها بداعي
الأمر المتوجه إلى المنوب عنه.
وبكلمة أخرى: أن الأمر الطارئ على أمر آخر لا يخلو: من أن يكون متعلقا
بعين ما تعلق به الأمر الأول، أو بغيره. والأول: كموارد النذر المتعلق بالعبادة
المستحبة، فإن الأمر الناشئ من ناحية النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر
الاستحبابي، وهو ذات العبادة، وعليه فلا محالة يندك الأمر الاستحبابي في الأمر
الوجوبي، فيتولد منهما أمر واحد وجوبي عبادي، ويكتسب كل منهما من الآخر
جهة فاقدة لها.
فالأمر الوجوبي بما أنه فاقد لجهة التعبد فيكتسب تلك الجهة من الأمر
الاستحبابي، والأمر الاستحبابي بما أنه فاقد لجهة الإلزام فيكتسب تلك الجهة
من الأمر الوجوبي. هذا نتيجة اتحاد متعلقهما في الخارج.
والثاني: كموارد الإجارة على العبادات المستحبة، فإن الأمر الناشئ من
313

ناحية الإجارة في هذه الموارد لم يتعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي،
وهو ذات العبادة، بل تعلق بإتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، وإلا فلا
تترتب على تلك الإجارة فائدة تعود إلى المستأجر، ضرورة أنه لو أتى بها لا
بذلك الداعي بل بداعي الأمر المتعلق بذاتها فلا ترجع فائدته إلى المستأجر أصلا،
بل ترجع إلى نفس العامل.
ومن هنا قد اشتهر بين الأصحاب: أن الإجارة لو تعلقت بذات العبادة لكانت
باطلة، لفرض أن الإتيان بذات العبادة بداعي أمرها في الخارج لا يفيد المستأجر،
ولا ترجع فائدته إليه، وهي سقوط العبادات عن ذمته ورجوع أجرها وثوابها إليه،
بل ترجع إلى نفس النائب والفاعل. ومن المعلوم: أن حقيقة الإجارة هي تمليك
المنفعة للمستأجر بأن تكون المنفعة له. وأما إذا فرض عدم كون المنفعة له فلا
تتحقق حقيقة الإجارة، بداهة أنه لا معنى لإجارة عين مسلوبة المنفعة، أو إجارة
شخص على أن يعمل لنفسه، فإن في مثل هذه الموارد لا تتحقق حقيقة الإجارة
وواقعها الموضوعي ليقال: إنها صحيحة أو فاسدة كما هو واضح.
ومن هنا يظهر: أن الأمر الناشئ من ناحية الإجارة في طول الأمر
الاستحبابي المتعلق بذات العبادة، ويترتب على ذلك أنه لا مقتضي للتداخل
والاندكاك في موارد الإجارة أصلا.
وبعد بيان ذلك قال (قدس سره): إن الإشكال في اتصاف العبادة بالكراهة في هذا
القسم إنما نشأ من الغفلة عن تحليل نقطة واحدة، وهي: أن متعلق النهي فيها غير
متعلق الأمر، فإن متعلق الأمر هو ذات العبادة، ومتعلق النهي ليس هو ذات العبادة،
ضرورة أنه لا مفسدة في فعلها ولا مصحلة في تركها، بل هو التعبد بهذه العبادة،
فإنه منهي عنه، لما فيه من المشابهة والموافقة لبني أمية - لعنهم الله -. وعليه، فلا
يلزم اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن النهي المتعلق به بما أنه تنزيهي فهو غير مانع عن
جواز الإتيان بمتعلقه والتعبد به، بل هو بنفسه متضمن للترخيص في الإتيان
بمتعلقه بداعي امتثال الأمر المتعلق به.
314

نعم، لو كان النهي المتعلق به تحريميا لكان مانعا عن الإتيان بمتعلقه والتعبد
به، وموجبا لتقييد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد المتعلق به النهي، بداهة أن
الحرام يستحيل أن يكون مصداقا للواجب. وعليه، فلا محالة يقيد إطلاق دليل
الأمر بغير هذا المورد (1).
وملخص ما أفاده: هو أن متعلق النهي في هذا القسم بما أنه مغاير لمتعلق
الأمر فلا يكون منافيا له، فإنه في طول الأمر، ويكون كموارد الإجارة المتعلقة
بالعبادات المستحبة، فكما أن فيها متعلق الأمر الناشئ من قبل الإجارة غير متعلق
الأمر الاستحبابي فكذلك في المقام، فإن متعلق النهي غير متعلق الأمر كما مر
وليس المقام من قبيل النذر المتعلق بها، لما عرفت: من أن الأمر الناشئ من قبل
النذر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي.
ثم إن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) تمتاز عن نظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)
في نقطة واحدة، وهي: أن نظرية شيخنا الأستاذ ترتكز على كون النهي في المقام
في طول الأمر، فإنه متعلق بإيقاع العبادة بداعي أمرها الاستحبابي أو الوجوبي
المتعلق بذاتها، فلا يكون متعلقه متحدا مع متعلقه ليلزم اجتماع الضدين في شئ
واحد. كما أنه غير ناش عن وجود مفسدة في الفعل أو عن وجود مصلحة في
تركه، بل الفعل باق على ما هو عليه من المحبوبية والمصلحة، بل هو ناش عن
مفسدة في التعبد بهذه العبادة، لما فيه من المشابهة والموافقة لأعداء الدين.
ويترتب على هذا: أن النهي على وجهة نظره (قدس سره) نهي مولوي حقيقي ناش عن
مفسدة في التعبد بها.
ونظرية المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) ترتكز على كون الترك كالفعل مشتملا
على مصلحة أقوى من مصلحة الفعل: إما لأجل انطباق عنوان راجح عليه، أو
لأجل ملازمته معه وجودا وخارجا، فيكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين.
ولنأخذ بالمناقشة على نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره): فلأن ما أفاده من الكبرى

(1) انتهى ما قاله المحقق النائيني، راجع أجود التقريرات ج 1 ص 364 - 367.
315

الكلية - وهي: عدم جريان التزاحم في الموارد المتقدمة - وإن كان صحيحا
ضرورة أن تلك الموارد من موارد المعارضة بين الدليلين في مقام الإثبات على
وجه التناقض أو التضاد، لا من موارد التزاحم بين الحكمين، لما عرفت: من
استحالة جعلهما في هذه الموارد مطلقا ولو على نحو التخيير (1)، إلا أن تلك
الكبرى لا تنطبق على المقام فإنه ليس من صغرياتها ومصاديقها، وذلك لأن المقام
إنما يكون من إحدى صغريات هذه الكبرى إذا فرض قيام مصلحة بطبيعي صوم
يوم عاشوراء، فعندئذ لا ثالث بين فعله وتركه. ومن المعلوم أنه إذا لم يكن بينهما
ثالث فلا محالة لا تعقل المزاحمة بينهما كما تقدم.
ولكن الأمر ليس كذلك، فإن المصلحة إنما قامت بحصة خاصة منها، وهي
الحصة العبادية، لا بمطلق وجود الفعل في الخارج والترك. وعليه، فلهما ثالث وهو
الحصة غير العبادية، فإنه لا مصلحة في فعلها ولا في تركها. فإذا لا مانع من جعل
الحكمين لهما، غاية الأمر - عندئذ - تقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال فيدخل
في كبرى مسألة المستحبين المتزاحمين، لفرض أن المكلف - عندئذ - قادر على
تركهما والإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة، وغير قادر على الجمع بينهما كما
هو مناط التزاحم في كل متزاحمين، سواء أكانا واجبين أم مستحبين.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن المستحب إنما هو خصوص الحصة الخاصة من
الصوم، وهي الحصة التي يعتبر فيها قصد القربة، وأما ترك هذه الحصة بخصوصها
فلا رجحان فيه، بل الرجحان في ترك الإمساك مطلقا والإفطار خارجا، فإن فيه
مخالفة لبني أمية، فالمكلف إذا صام بقصد القربة أو أفطر فقد أتى بأمر راجح، وأما
إذا أمسك بغير قربة فقد ترك كلا الأمرين الراجحين.
وعليه، فلا محالة تقع المزاحمة بين استحباب الفعل واستحباب الترك، لفرض
تمكن المكلف من ترك امتثال كليهما معا والإتيان بمطلق الفعل من دون قصد

(1) تقدم في ص 312.
316

القربة، وغير متمكن من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال، فإذا لابد من الرجوع
إلى مرجحات وقواعد باب التزاحم.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الكبرى، وهي: عدم إمكان جريان التزاحم
بين النقيضين ولا بين الضدين لا ثالث لهما، ولا بين المتلازمين الدائميين وإن كان
تاما إلا أنه لا ينطبق على المقام كما عرفت.
وبعد بيان ذلك نأخذ بالمناقشة على جوابه (قدس سره) عن هذا القسم، وهي: أن ما
ذكره (قدس سره) في باب الإجارة المتعلقة بعبادة مستحبة في موارد النيابة عن الغير غير
تام في نفسه، وعلى فرض تماميته لا ينطبق على ما نحن فيه، فلنا دعويان:
الأولى: عدم تمامية ما أفاده في موارد الإجارة المتعلقة بعبادة الغير.
الثانية: أنه على تقدير تماميته لا ينطبق على المقام.
أما الدعوى الأولى: فقد حققنا في محله (1): أن الأوامر المتصورة في موارد
الإجارة المتعلقة بعبادة الغير أربعة:
الأول: الأمر المتوجه إلى شخص المنوب عنه المتعلق بعبادته: كالصلاة
والصوم والزكاة والحج ونحو ذلك، وهذا الأمر يختص به ولا يعم غيره، ويسقط
هذا الأمر عنه بموته أو نحوه، ولا يفرق في صحة الإجارة بين بقاء هذا الأمر: كما
إذا كان المنوب عنه حيا ومتمكنا من الامتثال بنفسه، كمن نسي الرمي وذكره بعد
رجوعه إلى بلده، أو كان حيا وعاجزا عن الامتثال، كما في الاستنابة في الحج
عن الحي، فإن التكليف كما يسقط بموت المكلف كذلك يسقط بعجزه، لاستحالة
التكليف في هذا الحال، لأنه من التكليف بالمحال، وهو مستحيل من الحكيم.
وكيف كان، فبقاء هذا الأمر وعدم بقائه وسقوطه بالإضافة إلى صحة الإجارة
على حد سواء، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
ومن ذلك يظهر: أن هذه الأمر أجنبي عن النائب بالكلية، فلا يكون متوجها

(1) انظر تعليقة أجود التقريرات: ج 1 ص 366.
317

إليه أصلا، بداهة أنه لا يعقل توجه تكليف شخص إلى آخر، فإنه خاص به،
ويسقط بموته أو نحوه، ولا يمكن توجهه إلى غيره، وهذا واضح.
وعلى هذا الضوء فقد تبين: أن هذا الأمر مباين للأمر الناشئ من قبل الإجارة
المتوجه إلى النائب، ولا يمكن دعوى اتحاده معه أبدا، لفرض أنهما مختلفان
بحسب الموضوع، فيكون موضوع أحدهما غير موضوع الآخر. فإن موضوع
الأول هو المنوب عنه، وموضوع الثاني هو النائب، ومع هذه كيف يعقل دعوى
الاتحاد بينهما واندكاك أحدهما في الآخر، ضرورة أنه فرع وحدة الموضوع كما
هو واضح؟
الثاني: الأمر المتوجه إلى شخص النائب المتعلق بعباداته: كالصلاة ونحوها.
ومن المعلوم أن هذا الأمر أجنبي عن الأمر الأول بالكلية، لفرض أنهما مختلفان
بحسب الموضوع والمتعلق، فإن موضوع الأمر الأول هو المنوب عنه، وموضوع
الأمر الثاني هو النائب، ومتعلقه هو فعل المنوب عنه، ومتعلق الثاني هو فعل
النائب نفسه، ومع هذا الاختلاف لا يعقل اتحاد أحدهما مع الآخر أبدا كما هو
ظاهره، كما أن هذا الأمر أجنبي عن الأمر الناشئ من ناحية الإجارة المتوجه إليه،
وذلك لاختلافهما بحسب المتعلق، فإن متعلق هذا الأمر هو فعل النائب، ومتعلق
ذاك الأمر هو فعل المنوب عنه، غاية الأمر أنه ينوب عنه في إتيانه في الخارج،
ومع هذا الاختلاف لا يعقل دعوى الاتحاد بينهما أصلا، وهذا واضح.
الثالث: الأمر المتوجه إلى النائب المتعلق بإتيان العبادة نيابة عن الغير، وهذا
الأمر الاستحبابي متوجه إلى كل مكلف قادر على ذلك، فيستحب للإنسان أن
يصلي أو يصوم نيابة عن أبيه أو جده أو امه أو أستاذه أو صديقه... وهكذا.
ثم إنه من الواضح جدا أن هذا الأمر الاستحبابي كما أنه أجنبي عن الأمر
الأول كذلك أجنبي عن الأمر الثاني. ولا يعقل لأحد دعوى اتحاده مع الأمر الأول
أو الثاني.
الرابع: الأمر المتوجه إلى النائب الناشئ من قبل الإجارة المتعلق بإتيان
318

العبادة نيابة عن غيره، فهذا الأمر متعلق بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي، فإن
الأمر الاستحبابي - كما عرفت - متعلق بإتيان العبادة نيابة عن الغير، والمفروض
أن هذا الأمر الوجوبي متعلق بعين ذلك فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
وعلى هذا، فلابد من الالتزام باندكاك أحد الأمرين في الآخر واتحادهما في
الخارج، ضرورة أنه لا يمكن بقاء كلام الأمرين بحده بعد فرض كون متعلقهما
واحدا وجودا وماهية، فلا محالة يندك أحدهما في الآخر ويتحصل منهما أمر
واحد وجوبي عبادي، فإن كلا منهما يكتسب من الآخر جهة فاقدة له، فيكتسب
الأمر الوجوبي من الأمر الاستحبابي جهة التعبد، ويكتسب الأمر الاستحبابي من
الأمر الوجوبي جهة اللزوم، وهذا معنى اندكاك أحدهما في الآخر واتحادهما
خارجا.
وقد تحصل من ذلك: أن الأمر الرابع يتحد مع الأمر الثالث، لاتحادهما
بحسب الموضوع والمتعلق، ولا يعقل اتحاده مع الأمر الأول أو الثاني، لاختلافهما
في الموضوع أو المتعلق كما عرفت.
ومن هنا يظهر: أن النائب يأتي بالعمل بداعي الأمر الناشئ من قبل الإجارة
المتوجه إليه، لا بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، ضرورة استحالة أن يكون
الأمر المتوجه إلى شخص داعيا لشخص آخر بالإضافة إلى الإتيان بمتعلقه، فإن
داعوية الأمر لشخص بالإضافة إلى ذلك إنما تكون فيما إذا كان ذلك الأمر
متوجها إليه، وإلا فيستحيل أن يكون داعيا له، وهذا من الواضحات، ولا فرق في
داعوية الأمر إليه بين أن يكون الإتيان بمتعلقه من قبل نفسه أو من قبل غيره كما
في موارد الإجارة، لوضوح أن العبرة إنما هي بتوجه الأمر إلى شخص ليكون
داعيا له إلى العمل، لا بكون متعلقه عمل نفسه أو عمل غيره، وهذا ظاهر.
ومن هنا قلنا: إن صحة الإجارة لا تتوقف على بقاء ذلك الأمر ليأتي النائب
بالعمل بداعية، كما أنه لا يأتي به بداعي الأمر المتوجه إليه المتعلق بإتيان عباداته
من قبل نفسه، بداهة استحالة أن يكون ذلك الأمر داعيا إلى الإتيان بمتعلقه من قبل
غيره ونيابة عنه، بل هو داع إلى الإتيان به من قبل نفسه كما هو واضح.
319

ونتيجة ما ذكرناه: هي أن النائب يأتي بعمل المنوب عنه بداعي الأمر المتوجه
إليه الناشئ من ناحية الإجارة المتعلق بإتيانه نيابة عنه، وبما أن هذا الأمر تعلق
بعين ما تعلق به الأمر الاستحبابي فلا مناص من اندكاك أحدهما في الآخر
واتحادهما خارجا، فتكون النتيجة أمرا واحدا وجوبيا عباديا.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن الأمر
الاستحبابي في موارد الإجارة متعلق بذات العبادة، والأمر الوجوبي الناشئ من
ناحيتها متعلق بإتيانها بداعي الأمر المتوجه إلى المنوب عنه خاطئ جدا وغير
مطابق للواقع قطعا، وذلك لما عرفت من أن الأمر المتوجه إلى المنوب عنه
يستحيل أن يكون داعيا للنائب إلى الإتيان بمتعلقه، بداهة أن الأمر المتوجه إلى
شخص يمتنع أن يكون داعيا لشخص آخر، فإن الداعي لكل مكلف هو الأمر
المتوجه إلى شخصه كما سبق. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر الاستحبابي المتوجه إلى النائب ليس منحصرا
بأمر واحد، بل هو أمران:
أحدهما: متعلق بإتيان العمل من قبل نفسه، ومن المعلوم أنه لا يعقل أن
يتوهم أحد اتحاد هذا الأمر مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الإجارة،
لاختلافهما في المتعلق، فإن متعلق هذا الأمر الاستحبابي هو ذات العبادة، ومتعلق
الأمر الوجوبي هو إتيانها من قبل الغير ونيابة عنه.
وثانيهما: متعلق بإتيان العمل من قبل غيره ونيابة عنه، وهذا الأمر
الاستحبابي متحد مع الأمر الوجوبي في المتعلق، فيكون متعلقهما واحدا وجودا
وماهية، وهو: إتيان العمل من قبل الغير، ومع هذا الاتحاد لا مناص من اندكاك
الأمر الاستحبابي في الأمر الوجوبي.
ومن هنا تظهر نقطة اشتباه شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وهي: غفلته عن الأمر
الاستحبابي المتعلق بإتيان العبادات من قبل الغير، وتخيل أنه منحصر بالأمر
الاستحبابي الأول، والمفروض أنه متعلق بإتيانها من قبل نفسه لا من قبل الغير،
320

ولأجل ذلك حكم باستحالة اتحاده مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبل الإجارة
واندكاكه فيه، لعدم وحدة متعلقهما كما مر.
وعلى هدي هذا البيان قد تبين: أنه لا فرق بين موارد الإجارة المتعلقة
بعبادة مستحبة، وموارد النذر المتعلق بها. فكما أن في موارد النذر يتحد الأمر
الاستحبابي مع الأمر الوجوبي الناشئ من قبله فكذلك في موارد الإجارة.
غاية الأمر: أنه في موارد النذر يتحد الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة
مع الأمر الوجوبي، لفرض انه متعلق بها كما عرفت، وفي موارد الإجارة يتحد
الأمر الاستحبابي المتعلق بإتيانها من قبل الغير ونيابة عنه مع الأمر الوجوبي
الناشئ من قبل الإجارة، لا الأمر الاستحبابي المتعلق بذات العبادة، ولكن هذا لا
يوجب التفاوت فيما هو المهم في المقام كما هو واضح.
وأما الدعوى الثانية، وهي: أن ما أفاده (قدس سره) على تقدير تماميته لا ينطبق على
ما نحن فيه.
والوجه في ذلك: هو أن ما أفاده (قدس سره) من أن متعلق النهي في هذا القسم مغاير
لمتعلق الأمر لا يمكن المساعدة عليه من وجوه:
الأول: أن هذا خلاف مفروض الكلام في المقام، فإنه فيما إذا كان متعلق
الأمر والنهي واحدا، لا متعددا، وإلا فلا كلام فيه، ضرورة أن محل البحث والكلام
هنا بين الأصحاب في فرض كون متعلقهما واحدا. وأما إذا كان متعددا فهو خارج
عن محل الكلام والبحث، ولا إشكال فيه أصلا.
الثاني: أن ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر الدليل، لوضوح أن الظاهر من النهي عن
الصوم يوم عاشوراء: هو أنه متعلق بذات الصوم، وأنه منهي عنه. ودعوى: أنه
متعلق بجهة التعبد به لا بذاته خلاف الظاهر، فلا يمكن الالتزام به بلا قرينة وشاهد،
وكذا الحال في النهي المتعلق بالنوافل المبتدأة في بعض الأوقات، فإن الظاهر منه:
هو أنه متعلق بذات تلك النوافل، وأنها منهي عنها لا بجهة التعبد بها، ضرورة أن
حمل النهي على ذلك خلاف الظاهر، فلا يمكن أن يصار إليه بلا دليل.
321

الثالث: أنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن النهي متعلق بجهة التعبد بها وإتيانها
بقصد القربة لا بذاتها فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره)، والوجه فيه: ما حققناه: من أن
قصد القربة كبقية أجزاء العبادة مأخوذ في متعلق الأمر، غاية الأمر: أنه على
وجهة نظره (قدس سره) مأخوذ في متعلق الأمر الثاني دون الأمر الأول، وعلى وجهة نظرنا
مأخوذ في متعلق الأمر الأول (1).
وعلى هذا الضوء فدعوى: أن النهي في هذه الموارد تعلق بجهة التعبد
بالعبادات لا بذاتها لا تدفع محذور لزوم اجتماع الضدين في شئ واحد، ضرورة
أن قصد القربة إذا كان مأخوذا في متعلق الأمر يستحيل أن يتعلق به النهي،
لاستحالة كون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا.
الرابع: لو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا أن قصد القربة غير مأخوذ في متعلق
الأمر مطلقا - أي: لا في متعلق الأمر الأول ولا في متعلق الأمر الثاني - فمع ذلك
لا يتم ما أفاده (قدس سره)، وذلك ضرورة أن النهي لم يتعلق بخصوص قصد القربة فحسب
ليكون متعلقه غير متعلق الأمر، بل تعلق بحصة خاصة من الصوم، وهي الحصة
العبادية التي يعتبر فيها قصد القربة.
مثلا: المنهي عنه في المقام هو خصوص الصوم العبادي في يوم عاشوراء في
مقابل ما إذا كان المنهي عنه هو مطلق الإمساك، لا أن المنهي عنه هو خصوص
قصد القربة دون ذات العبادة، بداهة أنه لا يعقل أن يكون خصوص قصدها منهيا
عنه كما هو واضح، فإذا لا محالة يكون المنهي عنه هو إتيانها بقصد القربة.
وعليه، فمحذور لزوم كون شئ واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه باق
على حالة، ضرورة أن الإتيان بها بقصد القربة إذا كان منهيا عنه يستحيل أن يكون
مصداقا للمأمور به، لاستحالة أن يكون شئ واحد محبوبا ومبغوضا معا.
فالنتيجة مما ذكرناه قد أصبحت: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) غير تام
صغرى وكبرى. إذا فالصحيح: هو ما ذكرناه: من أن النهي هنا ليس ناشئا عن

(1) راجع المحاضرات: ج 2 ص 186.
322

مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه، بل هو باق على ما هو عليه من المحبوبية،
ولذا يكون الإتيان به صحيحا، بل هو لأجل أرجحية الترك من الفعل باعتبار
انطباق عنوان راجح عليه، أو ملازمته له خارجا ووجودا، كما تقدم ذلك بشكل
واضح. هذا تمام الكلام في القسم الأول.
وأما القسم الثاني - وهو: ما إذا كان للعبادة المنهي عنها بدل - فيمكن أن
يجاب عنه بعين هذا الجواب بلا زيادة ونقيصة.
ويمكن أن يجاب عنه بشكل آخر، وهو: أن النهي في هذا القسم متعلق بحصة
خاصة من الواجب: كالنهي عن الصلاة في الحمام وفي مواضع التهمة وما شاكل
ذلك. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن هذا النهي نهي تنزيهي وليس بتحريمي.
وعلى ضوء ذلك يتبين: أن هذا النهي لا يوجب تقييد إطلاق الطبيعة المأمور
بها بغير هذه الحصة المنهي عنها.
بيان ذلك: أن النهي المتعلق بحصة خاصة من العبادة على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون إرشادا إلى اقتران هذه الحصة بالمانع، بمعنى: أن الخصوصية
الموجبة لكونها حصة مانعة عنها، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، وفي
النجس، وفي الميتة، وما شاكل ذلك، فإن هذه النواهي جميعا إرشاد إلى مانعية
هذه الأمور عن الصلاة وتقيدها بعدمها.
وقد ذكرنا غير مرة: أن أمثال هذه النواهي الواردة في أبواب العبادات
والمعاملات ظاهرة في الإرشاد إلى المانعية بمقتضى الفهم العرفي، كما تقدم
الكلام فيها من هذه الناحية بصورة واضحة في أول بحث النواهي (1). كما أنه لا
شبهة في ظهور الأوامر الواردة في أبواب العبادات والمعاملات في الإرشاد إلى
الجزئية أو الشرطية. وقد ذكرنا سابقا: أن هذه النواهي كثيرة في كلا البابين، كما أن
هذه الأوامر كذلك.

(1) تقدم في ص 146.
323

وعلى الجملة: فالأمر والنهي وإن كانا في أنفسهما ظاهرين في المولوية
فلا يمكن حملهما على الإرشاد بلا قرينة، إلا أن هذا الظهور ينقلب في هذه
النواهي والأوامر الواردتين في أبواب العبادات والمعاملات، فهما ظاهران فيها
في الإرشاد دون المولوية بمقتضى المتفاهم العرفي كما هو واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبين: أن هذه النواهي - لا محالة - تكون مقيدة
لإطلاق العبادة والمعاملة موجبة لتقييدهما بغير الحصة المنهي عنها، فلا تنطبقان
عليها.
ومن هنا لم يستشكل أحد - فيما نعلم - في دلالة هذا النهي على الفساد في
العبادات والمعاملات، والوجه فيه: ما عرفت: من أنها توجب تقييد المأمور به
بغير هذه الحصة المنهي عنها، فهذه الحصة خارجة عن حيز، الأمر ولا تنطبق عليها
الطبيعة المأمور بها، ومع عدم الانطباق لا يمكن الحكم بصحتها أبدا، لفرض أن
الصحة تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به. وأما إذا فرض أنه لا
ينطبق عليه فلا يمكن الحكم بصحته أصلا كما هو ظاهر. كما أنها توجب تقييد
المعاملة بغير هذه الحصة، ولازم ذلك: هو أن اقترانها بها مانع عن صحتها، فلا
يمكن الحكم بصحتها عند تخصصها بهذه الخصوصية المنهي عنها.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنه لا شبهة في أن هذه القسم من النهي يوجب تقييد
العبادة أو المعاملة بغير الفرد المنهي عنه، ومعه لا يكون هذا الفرد من أفرادها،
ولأجل ذلك يكون فاسدا.
الثاني: أن يكون لبيان حكم تحريمي فحسب، وذلك كالنهي عن الوضوء أو
الغسل من الماء المغصوب، أو النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة... وهكذا،
فهذه النواهي تدل على حرمة متعلقها في الخارج ومبغوضيته، وأن الشارع لا
يرضى بإيجاده فيه أصلا. ومن الواضح جدا أن أمثال هذه النواهي تنافي إطلاق
المأمور به وتوجب تقييده بغير هذا الفرد المنهي عنه.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن مقتضى إطلاق المأمور به ترخيص المكلف
324

في إيجاده في ضمن أي فرد من أفراده شاء المكلف إيجاده، ومقتضى هذا النهي
عدم جواز إيجاد هذا الفرد المنهي عنه في الخارج، وعدم جواز تطبيق الطبيعة
المأمور بها عليه، ضرورة استحالة كون المحرم مصداقا للواجب. وعليه فلابد من
رفع اليد عن إطلاق المأمور به وتقييده بغير الفرد المنهي عنه، بداهة أن الشارع
بنهيه عنه قد سد طريق امتثال المأمور به، به ومنع عن إيجاده في ضمنه، ومعه كيف
يعقل بقاء إطلاقه على حاله الذي لازمه هو ترخيص الشارع المكلف في إيجاده
في ضمن أي فرد من أفراده شاء إيجاده في ضمنه؟
وإن شئت قلت: إن العقل وإن حكم من ناحية الإطلاق بجواز تطبيقه على أي
فرد من أفراده شاء المكلف تطبيقه عليه. إلا أن من المعلوم أن حكمه بذلك منوط
بعدم منع الشارع عن بعض أفراده، ومع منعه عنه لا حكم له بذلك أصلا، بل يحكم
بعكس هذا، أعني: بعدم جواز تطبيقه عليه وتقييد إطلاقه بغيره، ضرورة استحالة
أن يكون المحرم مصداقا للواجب، والمبغوض مصداقا للمحبوب.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الواجب توصليا أو تعبديا، فكما أن هذا النهي
يوجب تقييد إطلاق دليل الواجب التعبدي فكذلك يوجب تقييد إطلاق دليل
الواجب التوصلي بعين هذه الملاك، وهو استحالة كون الحرام مصداقا للواجب،
وهذا واضح.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن هذا القسم من النهي يوجب تقييد إطلاق الواجب
بغير الفرد المنهي عنه، من دون فرق فيه بين أن يكون الواجب تعبديا أو توصليا.
الثالث: أن يكون النهي تنزيهيا ملازما للترخيص في متعلقه، ففي مثل ذلك لا
موجب لتقييد الواجب بغيره، حتى إذا كان عباديا فضلا عما إذا كان غير عبادي.
بيان ذلك: أن المولى إذا نهى عن الصلاة في الحمام - مثلا - وكان نهيه تنزيهيا
وملازما للترخيص في الإتيان بها فمعناه: جواز امتثال الواجب بالإتيان بالصلاة
في الحمام وصحتها، والجمع بين ذلك وبين النهي التنزيهي يقتضي أن يكون تطبيق
الطبيعي الواجب على هذه الحصة في نظر الشارع مرجوحا بالإضافة إلى تطبيقه
325

على سائر الحصص، وإلا فالحصة بما أنها وجود للطبيعة المأمور بها لا نقصان
فيها أصلا.
ومن هنا لو لم يتمكن المكلف من الإتيان بغير هذه الحصة لزمه الإتيان بها
جزما فهذا يكشف عن اشتراكها مع سائر الحصص في الوفاء بالغرض، وعدم تقييد
الواجب بغيرها.
ومن هذا البيان يظهر: أنه لا وجه لما ذكره غير واحد (1) من حمل النهي في
هذا القسم على الإرشاد إلى أقلية الثواب بالإضافة إلى سائر الحصص والأفراد.
وجه الظهور: أن تخصص الطبيعة المأمور بها بهذه الخصوصية الموجبة للنهي
التنزيهي، إن كان مرجوحا في نظر الشارع فالنهي مولوي لا محالة، وإلا فلا
موجب للإرشاد إلى اختيار غير ما تعلق به من الأفراد.
ومما ذكرناه يظهر حال الأمر الاستحبابي المتعلق بحصة خاصة من الطبيعة
الواجبة، فإنه بمعنى: استحباب تطبيق الواجب على تلك الحصة، وكونها أفضل
الأفراد المجامع مع جواز تطبيقه على سائر الأفراد. ومن هنا لا يوجب مثل هذا
الأمر تقييدا في إطلاق المأمور به، سواء في ذلك الواجب وغيره، وتفصيل الكلام
يأتي في بحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.
وأما القسم الثالث - وهو: ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهي عنه
بالنهي التنزيهي نسبة العموم من وجه - فقد ظهر الحال فيه مما تقدم.
وحاصله: أنه لا إشكال فيه في صحة العبادة على القول بالجواز، أي: جواز
اجتماع الأمر والنهي، ولا يكون دليل النهي - عندئذ - موجبا لتقييد إطلاق دليل
المأمور به، لفرض تعدد متعلقي الأمر والنهي - حينئذ - في مورد الاجتماع من
ناحية، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر من ناحية أخرى، وعلى هذا
فلا موجب للتقييد أصلا.
وأما على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجودا

(1) منهم: صاحب الكفاية (قدس سره) في كفايته: ص 200.
326

وماهية فربما يتخيل فساد العبادة فيه من ناحية توهم التنافي بين صحتها في مورد
الاجتماع وكونها مكروهة فيه، لتضاد الأحكام وعدم اختصاصه بالوجوب
والحرمة، بل يعم جميع الأحكام الإلزامية وغيرها.
فإذا فرض كون العبادة مكروهة ينافي كونها مصداقا للواجب أو المستحب.
وعليه، فلابد من تقييد إطلاق دليل الأمر بغير موارد الكراهة، كما هو الحال فيما
إذا كان النهي تحريميا.
ولكن هذا خيال خاطئ وغير مطابق للواقع.
والوجه في ذلك: هو أن النهي عن حصة خاصة من العبادة لا يوجب تقييد
إطلاقها بغيرها إذا كان تنزيهيا كما هو المفروض في المقام، فإن النهي التنزيهي بما
أنه ملازم للترخيص في إيجاد متعلقه في الخارج فلا ينافي الرخصة في انطباق
الطبيعة المأمور بها عليه، وهذا بخلاف ما إذا كان النهي تحريميا، فإنه ينافي إطلاق
المأمور به على ما تقدم بيان جميع ذلك بصورة واضحة فلا نعيد.
وإن شئت قلت: إن القسم الثالث على القول بالامتناع يدخل في القسم الثاني
ويكون من صغرياته، فيجري فيه جميع ما ذكرناه فيه.
الثاني: (1) ما عن جماعة: من أن المولى لو أمر عبده بخياطة ثوب ونهاه عن
الكون في مكان خاص فلو خاطه في ذلك المكان لعد عاصيا للنهي عن الكون
فيه، ومطيعا لأمر الخياطة.
وغير خفي أن هذا الدليل غير قابل للاستدلال به، وذلك:
أما أولا: فلأن الغرض من الخياطة يحصل بإيجادها في الخارج، سواء أكان
إيجادها في ذلك المكان المخصوص المنهي عنه أم لا، وسواء فيه القول باتحاد
الخياطة مع الكون فيه فرضا أو القول بعدم اتحادهما معه.
وأما ثانيا: فلأن متعلق الأمر هنا غير متعلق النهي، فإن متعلق الأمر خياطة
الثوب، ومتعلق النهي هو الكون في ذلك المكان. ومن المعلوم أن أحدهما غير

(1) أي: من أدلة جواز الاجتماع، تقدم أولها في ص 304.
327

الآخر وجودا وماهية. وعليه، فلا مانع من أن يكون أحدهما متعلقا للأمر، والآخر
متعلقا للنهي، ولا يلزم من القول بالامتناع في المسألة القول بالامتناع هنا أبدا:
كما هو واضح.
الثالث: ما عن المحقق القمي (قدس سره): من أن الأمر على الفرض تعلق بطبيعة
كالصلاة مثلا، والنهي تعلق بطبيعة أخرى كالغصب مثلا، أو نحوه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الفرد الذي يكون مجمعا لعنوانين في مورد الاجتماع
مقدمة لوجود الطبيعي في الخارج الذي يكون واجبا بوجوب نفسي.
وعلى هذا الضوء يتوقف القول بالامتناع في المسألة على الالتزام بأمرين:
الأول: بوجوب المقدمة.
الثاني: بتنافي الوجوب الغيري مع النهي النفسي.
ولكن كلا الأمرين خاطئ:
أما الأمر الأول: فقد ذكر (قدس سره) أن مقدمة الواجب ليست بواجبة ليكون تناف
بين وجوب هذا الفرد الذي يكون مقدمة للطبيعي الواجب وبين حرمته.
وأما الأمر الثاني: مع تسليم أن مقدمة الواجب واجبة مطلقا فلما حققناه من
أنه لا تنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي أصلا، ولا مانع من اجتماعهما
في شئ واحد.
وعلى الجملة: فعلى فرض أن النهي يسري إلى هذه الحصة التي تكون مجمعا
لهما باعتبار انحلال هذا النهي وسريانه إلى جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها فمع
ذلك لا يلزم اجتماع الضدين، وهما: الوجوب والحرمة في شئ واحد، لأن ما هو
محرم - وهو الفرد - ليس بواجب، وما هو واجب - وهو الطبيعة المأمور بها - ليس
بمنهي عنه.
وعلى فرض أن الفرد واجب بوجوب غيري فمع ذلك لا يلزم اجتماع
الضدين، لعدم التنافي بين الوجوب الغيري والنهي النفسي كما مر، فإذا لا مانع من
القول بالجواز في المسألة (1).

(1) انظر قوانين الأصول: ج 1 ص 141.
328

وغير خفي ما فيه، وذلك لأن ما أفاده (قدس سره) يرتكز على ركيزتين، وكلتاهما
خاطئة.
أما الركيزة الأولى - وهي: كون الحصة والفرد مقدمة للطبيعة المأمور بها -
فواضحة الفساد، ضرورة أن الفرد ليس مقدمة للطبيعي، بل هو عينه وجودا
وخارجا، ولا تعقل المقدمية بينهما، لوضوح أنها إنما تعقل بين شيئين متغايرين
في الوجود. وعليه فالحصة الموجودة في مورد الاجتماع بما أنها تكون محرمة
بنفسها ومنهيا عنها فلا يعقل أن تكون مصداقا للواجب، وهذا معنى القول
بالامتناع، بداهة أنه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشئ واحد كذلك يمتنع أن
يكون المنهي عنه مصداقا للمأمور به.
وأما الركيزة الثانية - وهي: كون الوجوب الغيري لا ينافي النهي النفسي - فهي
أيضا واضحة الفساد، ضرورة أن الوجوب الغيري على القول به لا يجتمع مع النهي
النفسي، فالمقدمة إذا كانت محرمة لا يعقل أن تكون واجبة، فلا محالة يختص
الوجوب بغيرها من المقدمات، كما تقدم في بحث مقدمة الواجب بشكل واضح (1).
ولكن الذي يسهل الخطب: هو أنه لا مقدمية في البين. وعليه، فإذا فرض أن
الحصة في مورد الاجتماع محرمة - كما هو مفروض كلامه (قدس سره) فلا يعقل أن تكون
مصداقا للطبيعة المأمور بها، بداهة أن المحرم لا يمكن أن يكون مصداقا للواجب.
وهذا معنى: امتناع اجتماع الأمر والنهي. هذا إذا كان مراده من المقدمة ما هو
ظاهر كلامه (قدس سره).
وأما لو كان مراده (قدس سره) منها: هو أن الفرد لا يتصف بالوجوب باعتبار أن متعلق
الوجوب هو صرف وجود الطبيعة - ومن المعلوم أنه لا يسري إلى أفراده
وحصصه، وهذا بخلاف النهي، فإن متعلقه مطلق الوجود، ولذا ينحل بانحلال
أفراده ويسري إلى كل واحد منها. وعلى هذا الضوء فلا يجتمع الوجوب والحرمة

(1) راجع ج 2 ص 441.
329

هنا في شئ واحد. فإن الحصة الموجودة في مورد الاجتماع لا تتصف بالوجوب
على الفرض، وإنما هي متصفة بالحرمة فحسب، فإذا لا يجتمع الوجوب والحرمة
فيها ليكون محالا - فيرد عليه:
أولا: أن هذا خلاف مفروض كلامه (قدس سره)، فإن المفروض فيه: هو أن الفرد مقدمة
لوجود الطبيعي في الخارج، لا أنه لا يتصف بالوجوب باعتبار أن متعلقه هو
صرف الوجود.
وثانيا: أن الأمر وإن كان كذلك فإن الحصة لا تتصف بالوجوب، إلا أنها إذا
كانت محرمة يستحيل أن تقع مصداقا للواجب. وعليه، فإذا فرض أن المجمع في
مورد الاجتماع محرم ومنهي عنه يستحيل أن ينطبق عليه الواجب، وهذا معنى:
القول بالامتناع، لما عرفت: من أنه كما يمتنع تعلق الأمر والنهي بشئ واحد
كذلك يمتنع أن يكون الحرام مصداقا للواجب.
فالنتيجة: أن الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة: هو ما
ذكرناه من وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية، وتعدده كذلك.
فعلى الأول: لا مناص من القول بالامتناع.
وعلى الثاني: من القول بالجواز على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم
من الملزوم إلى لازمه.
إلى هنا قد تبين أن العمدة للقول بالجواز هي الوجه الأول. وأما الوجه الثاني
والثالث فهما لا يرجعان إلى معنى محصل أصلا. كما أن الوجوه الأخر التي ذكرت
لهذا القول لا ترجع إلى معنى معقول، ولأجل ذلك لا نتعرض لتلك الوجوه،
لوضوح فسادها، وعدم ارتباطها للقول بالجواز أصلا.
ونتائج البحث عن العبادات المكروهة عده نقاط:
الأولى: أن ما يمكن أن يستدل به للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي في
المسألة مطلقا إنما هو موارد العبادات المكروهة، بدعوى: أنه لو لم يجز
330

الاجتماع لم يمكن تعلق النهي بتلك العبادات، ضرورة عدم اختصاص المضادة
بين الوجوب والحرمة فحسب، بل تعم جميع الأحكام من الإلزامية وغيرها.
فإذا تعلق النهي بها ووقوعه في الخارج أقوى برهان على إمكانه وعدم استحالته،
وإلا لم يقع.
الثانية: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد أجاب عن هذا الدليل بصورة
إجمالية، ولكن قد عرفت النقد في بعض جهات جوابه. ثم أجاب عنه بصورة
تفصيلية حيث قسم تلك العبادات إلى ثلاثة أقسام، وأجاب عن كل واحد واحد
منها مستقلا، ولا بأس بجوابه هذا في الجملة.
الثالثة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد أورد على ما أجاب به صاحب الكفاية (قدس سره)
عن القسم الأول بما ملخصه: أن التزاحم لا يعقل بين النقيضين، ولا بين الضدين
اللذين لا ثالث لهما، وبما أن الصوم يوم عاشوراء وتركه متناقضان فلا يمكن جعل
الحكم لهما معا لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال، بل هما يدخلان في باب
المعارضة، فيرجع إلى قواعده وأحكامه.
ولكن قد ذكرنا: أن ما أفاده (قدس سره) من الكبرى - وهي: استحالة وقوع المزاحمة
بين النقيضين والضدين اللذين لا ثالث لهما - وإن كان في غاية المتانة والاستقامة
إلا أن تطبيق تلك الكبرى على المقام غير صحيح، وذلك لوجود أمر ثالث في
البين، وهو: الإمساك بدون قصد القربة، فإنه لا موافقة فيه لبني أمية ولا مخالفة لهم،
فإذا لا مانع من جعل الحكمين لهما أصلا. كما تقدم ذلك بشكل واضح (1).
الرابعة: أن النهي في القسم الأول لا يخلو: من أن يكون إرشادا إلى محبوبية
الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة عليه، أو ملازمته له، أو يكون بمعنى
الأمر، أعني به: ما يكون نهيا صورة وشكلا وأمرا واقعا وحقيقة.
الخامسة: أن النهي في القسم الثاني نهي مولوي، ويترتب على هذا: أن
الكراهة في المقام كراهة مصطلحة، وليست بمعنى أقلية الثواب، ومع ذلك لا تكون

(1) انظر ص 311.
331

منافية لإطلاق العبادة فضلا عن غيرها، غاية الأمر أن تطبيق الطبيعة المأمور بها
على هذه الحصة المنهي عنها مرجوح بالإضافة إلى تطبيقها على غيرها من
الحصص والأفراد كما تقدم.
السادسة: أنه لا فرق في القسم الثالث من أقسام العبادات المكروهة بين
القول بالامتناع والقول بالجواز، فعلى كلا القولين تكون العبادة صحيحة في مورد
الاجتماع. أما على القول بالجواز فهي على القاعدة، وأما على القول بالامتناع
فلأجل ما ذكرناه في القسم الثاني من هذه الأقسام في وجه صحة العبادة، باعتبار
أن هذا القسم على هذا القول داخل فيه، ويكون من صغرياته كما تقدم.
* * *
الاضطرار إلى ارتكاب المحرم
لتمييز موضع البحث هنا عن المباحث المتقدمة ينبغي أن نشير إلى عدة نقاط:
الأولى: ما إذا كان المكلف متمكنا من امتثال الواجب في الخارج بدون
ارتكاب الحرام، ولكنه باختياره ارتكب المحرم وأتى بالواجب في ضمنه، وذلك
كمن كان قادرا على الإتيان بالصلاة - مثلا - في خارج الأرض المغصوبة وغير
ملزم بالدخول فيها، ولكنه باختياره دخل فيها وصلى، فعندئذ يقع الكلام في صحة
هذه الصلاة وفسادها من ناحية أنها هل تتحد مع المحرم خارجا في مورد
الاجتماع أم لا؟ وهذه النقطة هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
وقد تقدم الكلام فيها بشكل واضح (1).
الثانية: ما إذا كان المكلف غير متمكن من امتثال الواجب بدون ارتكاب
الحرام، لعدم المندوحة له، ولكنه قادر على ترك الحرام، وذلك كما إذا توقف
الوضوء أو الغسل - مثلا - على التصرف في أرض الغير، بأن يكون الماء في مكان
يتوقف التوضؤ أو الاغتسال به على التصرف فيها، فيدور - عندئذ - أمر المكلف

(1) راجع ص 165.
332

بين أن يترك الواجب، أو يرتكب المحرم، أو يتخير بينهما، لعدم تمكنه من امتثال
كليهما معا، وهذه النقطة هي التي يدور عليها بحث التزاحم. وقد تقدم الكلام فيها
بصورة مفصلة.
الثالثة: ما إذا كان المكلف غير متمكن من ترك الحرام ومضطرا إلى ارتكابه،
وذلك كمن كان محبوسا في الدار المغصوبة مثلا، سواء كانت مقدمته باختياره
أو بغير اختياره، وبعد ذلك لا يتمكن من الخروج عنها فطبعا - عندئذ - يضطر إلى
الصلاة فيها، وهذه النقطة هي محل البحث في المقام دون غيرها.
وبعد ذلك نقول: الكلام فيها يقع في موضعين:
الأول: في الاضطرار الناشئ بغير سوء اختيار المكلف.
الثاني: في الاضطرار الناشئ بسوء اختياره.
أما الموضع الأول
فالكلام فيه يقع في موردين:
الأول: في حكم الفعل المضطر إليه نفسه.
الثاني: في حكم العبادة الواقعة معه.
أما الأول: فلا إشكال في أن الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن الفعل
المضطر إليه، ولا يعقل بقاؤه، ضرورة استحالة توجيه التكليف إلى المضطر، لأنه
تكليف بما لا يطاق، وهو محال عقلا.
هذا، مضافا إلى ما دلت عليه عدة من الروايات (*)
333



(1) راجع الخصال: ج 2 ص 417 باب التسعة ح 9، والتوحيد: ص 353 ح 24 آخر باب
الاستطاعة.
(2) الوسائل: ج 7 ص 293 ب 30 من أبواب قواطع الصلاة و ج 8 ص 248 ب 30 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة ح 2.
(3) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 320.
(4) الوسائل: ج 23 ص 228 ب 13 من كتاب الايمان ح 18.
(5) الوسائل: ج 5 ص 483 ب 1 من أبواب القيام ح 7.
334



(1) الوسائل: ج 23 ص 237 ب 16 من كتاب الايمان ح 3.
(2) رجال الطوسي: ص 105 أصحاب الباقر (عليه السلام) رقم (18)، وص 147 أصحاب الصادق (عليه السلام)
رقم (93)، وص 343 أصحاب الكاظم (عليه السلام) رقم (13).
(3) رجال النجاشي: ص 32 رقم (71).
(4) رجال العلامة (الخلاصة): ص 8.
(5) نقد الرجال: ص 43.
(6) مجمع الرجال: ج 1 ص 208.
335

وأما الكلام في الثاني: فيقع في عدة مقامات:
الأول: في بيان ما هو المستفاد من تعلق النهي بعبادة أو معاملة، وهذا وإن كان
خارجا عن محل الكلام فإنه في الاضطرار إلى ارتكاب المحرم لا غيره، إلا أنه
لا بأس بالإشارة إليه لأدنى مناسبة.
الثاني: في صحة العبادة في فرض عدم اتحادها مع المحرم خارجا.
الثالث: في صحة العبادة في فرض اتحادها معه كذلك.
أما المقام الأول: فقد ذكرنا غير مرة: أن النهي في العبادات: كقوله (عليه السلام): " لا
تصل فيما لا يؤكل لحمه أو في الميتة أو في الحرير أو في الذهب أو في النجس (1)

(1) تقدم جملة من الروايات في ص 143.
(2) راجع معجم رجال الحديث: ج 3 ص 424.
(3) رجال الطوسي: ص 147 أصحاب الصادق (عليه السلام) رقم (84).
(4) رجال النجاشي: ص 110 رقم 281 تحت عنوان: بسطام بن الحصين.
336

أو ما شاكل ذلك. أو في المعاملات: كقوله (عليه السلام): " لا تبع ما ليس عندك " (1).
وقوله (عليه السلام): " نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر " (2) ونحوهما ظاهر في الإرشاد إلى
مانعية هذه الأمور عن العبادات أو المعاملات، ومعنى مانعيتها: هو اعتبار عدمها
فيها. ومن المعلوم أن مرد ذلك إلى أن المأمور به هو حصة خاصة منها، وهي
الحصة المقيدة بعدم هذه الأمور، وكذا الممضاة من المعاملة.
ويترتب على ذلك: أن الصلاة فيما لا يؤكل أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك
ليست بمأمور بها. ومن المعلوم أن الإتيان بغير المأمور به لا يجزئ عن المأمور به
ولا يوجب سقوطه، فإذا - لا محالة - يقع فاسدا، بل لو أتى بها مع أحد هذه الموانع
بقصد الأمر لكان تشريعا ومحرما، وكذا لو فعل معاملة غررية أو باع ما ليس عنده
فلا محالة تقع فاسدة، لفرض أنها غير ممضاة شرعا.
وقد تحصل من ذلك: أن هذه النواهي إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة مع
أحد هذه الأمور، فيكون البطلان مدلولا مطابقيا لها، ولا تدل على حكم تكليفي
أصلا، ولذا لا يكون إيجادها في الخارج من المحرمات في الشريعة المقدسة، فلا
يكون لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس محرما ومبغوضا.
نعم، لبس الحرير والذهب من المحرمات، إلا أن حرمته غير مستفادة من هذا
النهي، بل هي مستفادة من دليل آخر. وكيف كان، فهذا واضح، وأن هذه النواهي
من هذه الناحية - أي: من ناحية كونها إرشادا إلى مانعية تلك الأمور - لا تدل على
حرمة إيجادها في الخارج أبدا. نعم، يمكن استفادة حرمة بعضها من دليل آخر،
وهذا لا صلة له بدلالة تلك النواهي عليها كما لا يخفى.
وعلى ضوء هذا البيان يترتب: أن المكلف لو اضطر إلى لبس ما لا يؤكل في
الصلاة أو الميتة أو الحرير أو نحو ذلك فمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط الصلاة،

(1) الوسائل: ج 18 ص 47 ب 7 من أحكام العقود ح 2 و 5 مع تفاوت ما.
(2) سنن البيهقي: ج 5 ص 338.
337

لعدم تمكنه من الإتيان بها واجدة لجميع الأجزاء والشرائط، ومعه - لا محالة -
يسقط الأمر عنها، وإلا لكان تكليفا بالمحال.
وأما وجوب الفاقد لهذا القيد فهو يحتاج إلى دليل آخر، فإن دل دليل على
وجوبه أخذنا به، وإلا فلا وجوب له أيضا.
وعلى الجملة: فمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط الأمر عن كل مركب إذا
تعذر أحد أجزائه أو قيوده من الوجودية أو العدمية باضطرار أو نحوه، ولا يعقل
بقاء الأمر به في هذا الحال، لاستلزامه التكليف بغير المقدور، وهو محال.
وأما وجوب الباقي من الأجزاء والقيود فهو يحتاج إلى دليل آخر، فإن كان
هناك دليل عليه فهو، وإلا فلا وجوب له أيضا.
نعم، قد ثبت وجوب الباقي في خصوص باب الصلاة من جهة ما دل من
الروايات على أنها لا تسقط بحال، هذا مضافا إلى قيام الضرورة والإجماع
القطعي على ذلك.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن الأوامر والنواهي بطبعهما ظاهرتان في المولوية، وحملهما على
غيرها من الإرشاد أو نحوه يحتاج إلى عناية زائدة وقرينة خاصة تدل عليه،
ولكن هذا الظهور قد انقلب في الأوامر والنواهي المتعلقتين بحصة خاصة من
العبادات والمعاملات، فإنهما في هذه الموارد ظاهرتان في الإرشاد، فالأوامر
إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية، والنواهي إلى المانعية.
فتلخص: أن ورودهما في أبواب العبادات والمعاملات قرينة عامة على
أنهما للإرشاد.
الثاني: أن مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب عند تعذره بتعذر أحد
أجزائه أو قيوده. وأما وجوب الباقي فهو يحتاج إلى دليل آخر، ولا دليل عليه إلا
في باب الصلاة فحسب.
وأما المقام الثاني: فلا ينبغي الشك في صحة العبادة في مورد الاجتماع هنا.
338

والوجه في ذلك: ما ذكرناه هناك: من أن من ثمرة المسألة - أعني: مسألة
الاجتماع -: هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقا، وقد تقدم: أن القول
بالجواز يرتكز على ركيزتين:
الأولى: أن يكون المجمع في مورد الاجتماع متعددا وجودا وماهية.
الثانية: أن لا يسري الحكم من متعلق النهي إلى متعلق الأمر، وعلى هذا، فإذا
كانت العبادة صحيحة في مورد الاجتماع مع بقاء الحرمة وفعليتها وأنها لا تكون
مانعة عن صحتها فما ظنك فيما إذا سقطت تلك الحرمة من ناحية الاضطرار أو
الإكراه أو نحوهما كما هو المفروض في مقامنا هذا.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا: أن العبادة كالصلاة - مثلا - صحيحة على القول
بالجواز مطلقا، ومجرد ملازمة الحرام معها وجودا لا يمنع عن صحتها بعد ما كان
وجود أحدهما في الخارج مباينا لوجود الآخر، فيكون نظير ما إذا استلزم الصلاة
في مكان النظر إلى الأجنبية، فكما أنه غير مانع عن صحة الصلاة في ذلك المكان
فكذلك في المقام، هذا حال ما إذا لم يكن المكلف مضطرا إلى ارتكاب المحرم
وصلى باختياره في أرض مغصوبة.
وأما إذا كان مضطرا إلى ارتكابه والتصرف فيها فلا إشكال في صحة صلاته،
بل لو قلنا بالفساد هناك: إما من ناحية سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى
الملازم الآخر، أو من ناحية أن مجرد ملازمة الحرام معها وجودا في الخارج مانع
عن صحتها، بدعوى: اعتبار الحسن الفاعلي في صحة العبادة، ومع ملازمة وجود
الحرام معها خارجا لا يكون صدورها حسنا فلا نقول به في المقام، وذلك لأن
المانع عن الحكم بالصحة إنما هو الحرمة الواقعية من جهة أحد هذين الأمرين،
والمفروض أنها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعا، لفرض أنه رافع
للتكليف واقعا لا ظاهرا، فإذا لا مانع من الصحة أصلا.
ومن هنا قلنا بصحة العبادة على القول بالامتناع في صورة النسيان أو نحوه
بعين هذا الملاك، وهو: أنه رافع للتكليف واقعا، فإذا كانت الحرمة مرفوعة واقعا
339

من جهة النسيان أو نحوه لا مانع - عندئذ - من الحكم بالصحة أصلا.
وكيف كان، فلا إشكال في صحة العبادة في المقام ولو قلنا بفسادها على
القول بالجواز في المسألة. وسيأتي بيان ذلك بشكل واضح إن شاء الله تعالى.
وأما المقام الثالث - وهو: ما إذا كان المأمور به متحدا مع المنهي عنه في
الخارج - فهل يصح الإتيان بالعبادة المضطر إليها المتحدة مع الحرام خارجا أم
لا؟ وجهان، بل قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأول ولكن
اختار جماعة منهم: شيخنا الأستاذ (قدس سره) القول الثاني (1).
وقد استدل للمشهور بأن الموجب لتقييد إطلاق المأمور به بغير الحصة المنهي
عنها إنما هو حرمة تلك الحصة، وإلا فلا مقتضى لتقييده أصلا، والمفروض في
المقام أن حرمتها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعا فلا حرمة بحسب
الواقع ونفس الأمر. ومن المعلوم أنه مع سقوطها كذلك لا مانع من التمسك
بإطلاق دليل الأمر لإثبات كون هذه الحصة من مصاديق المأمور به وأفراده.
لتوضيح ذلك نأخذ مثالا، وهو: ما إذا اضطر المكلف إلى الوضوء أو الغسل
بالماء المغصوب فتوضأ أو اغتسل به ففي أمثال هذا لا مانع من الحكم بصحة
الوضوء أو الغسل، فإن المانع عن صحتهما إنما هو حرمة التصرف في هذا الماء،
حيث إنها - لا محالة - توجب تقييد إطلاق دليليهما بغير هذه الحصة - أعني:
التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب - فهذه الحصة خارجة عن دائرة الأمر
ومبغوضة للشارع فلا يعقل انطباق المأمور به عليها، لاستحالة كون المحرم
والمبغوض مصداقا للواجب والمحبوب، ولازم ذلك - لا محالة - تقييد المأمور به
بغيرها.
فإذا النتيجة: هي أن ما دل على حرمة التصرف في هذا الماء بالمطابقة فلا
محالة يدل على تقييد الوضوء أو الغسل بغيره بالالتزام، لفرض أن هذا التقييد لازم
حرمة التصرف فيه ومتفرع عليها. هذا من ناحية.

(1) أجود التقريرات: ج 1 ص 371، وفوائد الأصول: ج 2 ص 444.
340

ومن ناحية أخرى: أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث
والبقاء والوجود والحجية، فلا يعقل بقاء الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة
المطابقية، فالدلالة الالتزامية كما أنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود فلا يعقل
وجودها بدون وجود تلك الدلالة كذلك تابعة لها في الحجية، فلا يمكن بقاؤها
على صفة الحجية مع فرض سقوط الدلالة المطابقية عنها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن في المقام بما أن الدلالة
المطابقية - وهي: دلالة النهي على حرمة التصرف في هذا الماء - قد سقطت من
ناحية الاضطرار أو نحوه فلا محالة تسقط دلالته الالتزامية أيضا، وهي: الدلالة
على تقييد الوضوء أو الغسل بغير الوضوء أو الغسل بهذا الماء، فإذا لا مانع من
التمسك بإطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل لإثبات كون هذا الفرد مأمورا به.
وبكلمة أخرى: أنه لا شبهة في أن المانع عن صحة الوضوء أو الغسل ليس
هو التصرف في مال الغير بما هو تصرف في مال الغير، ضرورة أنه لو أذن في
التصرف فيه فلا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به، بل المانع عنها إنما هو
حرمة التصرف فيه، لوضوح أنه إذا كان محرما يستحيل أن يكون مصداقا
للواجب. وأما إذا سقطت تلك الحرمة من جهة الاضطرار أو نحوه واقعا - كما هو
المفروض في المقام - فلا مانع. عندئذ من كون الوضوء أو الغسل به مصداقا
للمأمور به، لفرض أن التصرف فيه - وقتئذ - جائز واقعا: كالتصرف في الماء
المملوك أو المباح، فإذا كان جائزا كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به عليه.
ومن هنا قوينا صحة الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب في صورة النسيان
إذا كان عن قصور لا عن تقصير.
والوجه فيه: ما تقدم: من أن النسيان كالاضطرار رافع للتكليف واقعا لا
ظاهرا فحسب. ومن المعلوم أنه إذا ارتفعت الحرمة واقعا ارتفع ما هو معلول لها
أيضا، لاستحالة بقاء المعلول من دون علته، وهو تقييد المأمور به بغير هذا الفرد
المنهي عنه، وما نحن فيه من هذا القبيل.
341

وعلى ضوء ذلك قد تبين: أنه لا فرق في صحة الوضوء أو الغسل بهذا الماء،
بين أن يكون للمكلف مندوحة بأن يتمكن من أن يتوضأ أو يغتسل بماء آخر مباح
أو مملوك له، أو لا يكون له مندوحة.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن حرمة التصرف في هذا الماء على الفرض قد
سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه. ومن المعلوم أنه مع سقوط الحرمة عنه لا
فرق بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل، أو أن يصرفه في أمر آخر. وعليه،
فتمكن المكلف من استعمال هذا الماء في شئ آخر والتوضؤ أو الاغتسال بماء
مباح أو مملوك له لا يوجب لزوم صرفه في هذا الشئ والتوضؤ أو الاغتسال بماء
آخر، لفرض أن التصرف فيه جائز واقعا. ومن الطبيعي أنه لا فرق فيه بين أنحاء
التصرف.
نعم، يمكن ذلك فيما لو أذن المالك في التصرف في ماله من جهة خاصة دون
جهة أخرى فإنه على هذا وجب الاقتصار في التصرف فيه على تلك الجهة
فحسب، إلا أن ذلك أجنبي عن المقام بالكلية، لفرض أن الاضطرار في المقام تعلق
بطبيعي التصرف في هذا الماء، لا بالتصرف فيه بجهة خاصة كما هو واضح.
تتلخص نتيجة استدلال المشهور في نقطتين رئيسيتين:
الأولى: أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا وبقاء، وجودا
وحجية.
الثانية: أن الاضطرار رافع للتكليف واقعا لا ظاهرا فقط كما هو الحال في
الجهل، فإنه رافع للتكليف ظاهرا ولا ينافي ثبوته واقعا.
وقد أورد شيخنا الأستاذ (قدس سره) على النقطة الأولى بما حاصله: هو أن النهي
المتعلق بالعبادة يتصور على أنواع:
الأول: أن يكون إرشادا إلى مانعية شئ واعتبار عدمه في المأمور به، وذلك
كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس والميتة والحرير وما شاكل ذلك،
فاعتبار عدم هذه الأمور في المأمور به كالصلاة - مثلا - يكون مدلولا مطابقيا لهذا
النهي، وليس مدلولا التزاميا كما هو ظاهر.
342

الثاني: أن يكون نهيا نفسيا تحريميا، ولكن استفادة اعتبار قيد عدمي فيه
- أي: في المأمور به - من ناحية مزاحمته مع المنهي عنه بمعنى: أن المكلف لا
يتمكن من امتثال كليهما في الخارج فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، وعلى هذا
فبناء على تقديم جانب النهي على جانب الأمر لا محالة يقيد إطلاق المأمور به
بغير هذا الفرد.
الثالث: هذه الصورة بعينها، ولكن استفادة التقييد ليست من ناحية مزاحمة
المأمور به مع المنهي عنه، بل هو من ناحية الدلالة الالتزامية، بمعنى: أن النهي يدل
على الحرمة بالمطابقة، وعلى التقييد بالالتزام.
أما النوع الأول: فلا إشكال في دلالته على الفساد، وذلك لأن مقتضى إطلاق
هذا النهي: هو اعتبار هذا القيد العدمي في المأمور به مطلقا، وفي جميع أحوال
المكلف، ولازم ذلك سقوط الأمر عنه عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد لهذا
القيد، كما لو اضطر المكلف إلى لبس الحرير أو الذهب أو الميتة في الصلاة، هذا ما
تقتضيه القاعدة. ولكن في خصوص باب الصلاة قد دل الدليل على عدم سقوطها
بحال، ومرد هذا الدليل إلى إلغاء هذه القيود عند العجز وعدم التمكن من إتيانها.
وأما النوع الثاني - وهو: ما كان التقييد ناشئا عن مزاحمة المأمور به مع
المنهي عنه - فلا يدل على الفساد، حتى فيما إذا تمكن المكلف من ترك الحرام بناء
على إمكان الترتب وصحته، أو بناء على إمكان تصحيح العبادة بالملاك فضلا عما
إذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار كما في المقام، وذلك لأن سقوط الحرمة
يستلزم سقوط التقييد لا محالة، لفرض أن منشأه ليس دليلا لفظيا له عموم أو
إطلاق ليتمسك بعمومه أو إطلاقه لإثبات أنه باق ولم يسقط، بل منشؤه مزاحمة
الحرمة مع الوجوب، فإذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ارتفعت المزاحمة،
ومع ارتفاعها لا يعقل بقاؤه، بداهة أنه لا يعقل بقاء المعلول مع سقوط علته
وارتفاعها.
وكذا الحال فيما إذا كانت الحرمة ثابتة في الواقع ولكنها غير منجزة، لوضوح
343

أنها ما لم تكن منجزة فلا تزاحم الوجوب، ولا تكون معجزا للمكلف عن الإتيان
بالمأمور به ومعذرا له في تركه لتكون موجبة لتقييده بغير هذا الفرد.
فالنتيجة: أن الحرمة إذا سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه - كما فيما نحن
فيه - أو فرض أنها وإن لم تسقط في الواقع، بل هي باقية إلا أنها غير منجزة
فلا تمنع عن انطباق الطبيعي المأمور به على هذا الفرد الملازم وجودا مع الحرام،
لأن المانع عنه إنما هو الحرمة المنجزة الموجبة لتقييده بغيره بناء على تقديمها
على الوجوب كما هو المفروض، وأما إذا سقطت فلا مانع أصلا.
وأما النوع الثالث - وهو: ما كان التقيد ناشئا عن الدلالة الالتزامية - فقد
أفاد (قدس سره) بما هو توضيحه: أن التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة،
فلا سبق للحرمة على التقييد ليكون التقييد معلولا لها. وعليه، فمقتضى القاعدة
الأولية هو سقوط الأمر عند تعذر قيده، ضرورة استحالة بقاء الأمر بحاله مع
تعذره، وإلا لزم التكليف بالمحال، ومقتضى القاعدة الثانوية: هو سقوط التقييد
ولزوم الإتيان بالباقي من أجزاء الصلاة وشرائطها.
والوجه في ذلك: هو أن الحرمة والوجوب متضادان، وقد تقدم في بحث الضد
بشكل واضح: أن وجود الضد ليس مقدمة لعدم الضد الآخر، ضرورة أن المقدمية
تقتضي تقدم المقدمة على ذيها بالرتبة، والمفروض أنه لا تقدم ولا تأخر بين
وجود ضد وعدم الآخر، كما أنه لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما، لأن تقدم شئ
على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك مصحح له ولا يكون جزافا، والمفروض أنه
لا ملاك له في المقام.
فالنتيجة: أن عدم الضد ووجود ضد آخر في رتبة واحدة من دون سبق
ولحوق بينهما أبدا، فإذا كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون أحدهما متفرعا على
الآخر وفي مرتبة متأخرة عنه.
وعلى ضوء ذلك قد تبين: أنه لا يمكن أن يكون النهي دالا على الحرمة في
مرتبة وعلى التقييد وعدم الوجوب في مرتبة أخرى متفرعة عليها، لما عرفت
344

من عدم الاختلاف بينهما في الرتبة أصلا. وعليه، فلا محالة تكون دلالة النهي
على كليهما في رتبة واحدة.
ونتيجة ذلك: هي أن مقتضى القاعدة الأولية سقوط الأمر عن المركب عند
تعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد، لفرض أن دلالة النهي عليه لم تكن متفرعة
على دلالته على الحرمة، بل دلالته عليه كانت في عرض دلالته عليها.
ويترتب على ذلك: أنه إذا سقطت دلالته على الحرمة لضرورة فلا مقتضي
لسقوط دلالته على التقييد أصلا، لفرض أنها غير متفرعة عليها لتنتفي بانتفائها،
بل هي في عرضها، فإذا مقتضى القاعدة الأولية: هو عدم سقوط التقييد وأنه باق
بحاله، والاضطرار إنما يوجب سقوط الحرمة فحسب، فإن بقاءها معه غير معقول،
لاستلزام بقائها في هذا الحال التكليف بالمحال، وأما التقييد فلا موجب لسقوطه.
ومن المعلوم أنه لا منافاة بين سقوط الحرمة وبقاء التقييد أصلا، بل هو مقتضى
إطلاق دليله كما لا يخفى.
نعم، قد دل الدليل على سقوطه في خصوص باب الصلاة، ولازم ذلك: هو
وجوب الإتيان بالباقي من أجزائها وشرائطها.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قدس سره).
أما ما أفاده في النوع الأول من تلك النواهي فهو في غاية الاستقامة، كما
تقدم ذلك غير مرة، فلا نعيد.
وأما ما أفاده في النوع الثاني منها فأيضا الأمر كذلك، فإنه لا إشكال في
سقوط التقييد عندئذ، أي: عند سقوط النهي واقعا من ناحية الاضطرار أو نحوه،
ومعه لا شبهة في صحة العبادة، بل قد ذكرنا سابقا: أن العبادة صحيحة في فرض
بقاء الحرمة وعدم سقوطها بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه، فضلا
عما إذا سقطت الحرمة.
وأما ما أفاده في النوع الثالث فلا يمكن تصديقه بوجه، والصحيح فيه: هو
345

ما ذكره المشهور: من أن دلالة النهي على التقييد متفرعة على دلالته على الحرمة
فتنتفي بانتفائها.
والوجه في ذلك: هو أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أنه لا تقدم ولا تأخر
بين عدم ضد ووجود ضد آخر وأنهما في مرتبة واحدة وإن كان في غاية المتانة
والصحة بحسب مقام الواقع والثبوت - وذلك لما ذكرناه غير مرة: من أن تقدم شئ
على آخر في الرتبة بعد ما كان مقارنا معه زمانا لا يكون جزافا، وإلا لأمكن تقدم
كل شئ على آخر بالرتبة، بل كان بملاك: كتقدم العلة على المعلول رتبة بعد ما
كانت مقارنة معه زمانا، فإنه قضية حق عليتها عليه، وتقدم الشرط على
المشروط كذلك فإنه قضاء لحق الشرطية... وهكذا، ولا ملاك لتقدم عدم ضد
على وجود ضد آخر رتبة أو بالعكس، كما بينا ذلك في بحث الضد بشكل واضح
فلاحظ - (1) ولكنه لا يتم بحسب مقام الإثبات والدلالة.
بيان ذلك: هو أنه لا شبهة في أن الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال
الغير: كقوله (عليه السلام): " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " (2) ونحوه لا تدل على
التقييد المزبور وعدم الوجوب إلا بالدلالة الالتزامية، ضرورة أن مدلولها
المطابقي: هو حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه، لا ذلك التقييد وعدم
الوجوب، ولكن بما أن الحرمة تنافي الوجوب ولا تجتمع معه فلا محالة ما دل
على الحرمة بالمطابقة يدل على عدم الوجوب بالالتزام.
نظير: ما إذا أخبر أحد عن قيام زيد - مثلا - فإن إخباره هذا يدل على قصد
الحكاية عن قيامه بالمطابقة، وعلى عدم قعوده بالالتزام، فإن كل دليل يدل على
ثبوت شئ لشئ بالمطابقة سواء كان إخبارا أو إن شاء يدل على عدم ثبوت ضده
له بالالتزام، فلو دل دليل على حرمة شئ فلا محالة يدل بالالتزام على عدم
وجوبه، وهذا من الواضحات الأولوية.

(1) تقدم في ج 3 ص 20 من المحاضرات.
(2) الوسائل: ج 29 ص 10 ب 1 من أبواب قصاص النفس ح 3.
346

ويترتب على ذلك: أن عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس
وعدم تفرع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت لا ينافي الترتب
والتفرع بينهما بحسب مقام الإثبات والدلالة، بل قد عرفت أن ذلك من
الواضحات، بداهة أن الدلالة الالتزامية متفرعة على الدلالة المطابقية، وفي مرتبة
متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين - أعني: المدلول الالتزامي والمدلول
المطابقي - تقدم وتأخر في مقام الثبوت والوقع أصلا، فإن ذلك لا يمنع عن كون
دلالة الدليل على أحدهما في مرتبة سابقة على دلالته على الآخر، بل الأمر
- طبعا - كذلك في جميع الأمور المتلازمة في الوجود خارجا.
فكلما دل الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دل على وجود الآخر
بالالتزام، فتكون دلالته على وجود أحدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على
وجود الآخر، مع أنه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع. وكذا ما دل على
وجود المعلول بالمطابقة لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام، فتكون دلالته
على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة، مع أن وجوده
متأخر رتبة عن وجودها.
ولذا قسموا الدليل: إلى دليل إني ودليل لمي. والمراد بالأول: هو ما كان
المعلول واقعا في طريق إثبات العلة يكون العلم بها معلولا للعلم به، أو كان أحد
المعلولين واقعا في طريق إثبات المعلول الآخر. والمراد بالثاني: هو ما كانت العلة
واقعة في طريق إثبات المعلول.
فالنتيجة من ذلك: هي أن عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبة بحسب مقام
الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الإثبات
والكشف أيضا، لوضوح أنه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدما
رتبة على كشف الآخر والعلم به، بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبة
متقدما على كشف المتقدم كذلك، كما هو الحال في الدليل الإني، بل هذا من
البديهيات الأولية، ضرورة أن كل دليل دل على وجود شئ لا محالة يدل على
عدم ضده ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.
347

نعم، المستحيل إنما: هو كون الشئ المتأخر رتبة واسطة وعلة لوجود الشئ
المتقدم كذلك، أو كون أحد المتساويين في الرتبة علة لوجود المتساوي الآخر
فإن هذا غير معقول، لاستلزام ذلك تقدم الشئ على نفسه. وأما كون الشئ
المتأخر واسطة للعلم بالمتقدم أو كون أحد المتساويين واسطة للعلم بالمتساوي
الآخر فلا محذور فيه أبدا.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب
ليست متفرعة على دلالته على الحرمة بل هي في عرضها لا يرجع بظاهره إلى
معنى معقول أصلا.
لحد الآن قد تبين: أن دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على
دلالته على الحرمة، وليست في عرض دلالته عليها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا: أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية
حدوثا وبقاء، وجودا وحجية.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أن الدلالة المطابقية لو سقطت عن الحجية لسقطت
الدلالة الالتزامية أيضا، وبما أن في المقام قد سقطت الدلالة المطابقية - وهي:
دلالة النهي على الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه - فلا محالة تسقط الدلالة
الإلتزامية أيضا، وهي دلالته على التقييد بمقتضى قانون التبعية.
فإذا لا مانع من التمسك بإطلاق دليل الوجوب لإثبات كون هذه الحصة
مصداقا للمأمور به، وفي المثال المتقدم لا مانع من التمسك بإطلاق دليل وجوب
الوضوء أو الغسل - عندئذ - لإثبات جوازه في هذا الماء، أعني: الماء المغصوب،
فيكون المقام نظير: ما إذا ورد التخصيص على دليل النهي من أول الأمر فإنه
- لا محالة - يوجب اختصاص الحرمة بغير موارد تخصيصه. وعليه، فلا مانع من
التمسك بإطلاق دليل الأمر بالإضافة إلى تلك الموارد أصلا.
ومن ذلك يظهر فساد ما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره) أيضا: من أن الدلالة الالتزامية
ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية، وإنما هي تابعة لها في الحدوث. فإذا
سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها.
348

ووجه الظهور: ما عرفت على نحو الإجمال: من أن الدلالة الالتزامية تتبع
الدلالة المطابقية في الحدوث والحجية، فلا يعقل بقاؤها على صفة الحجية
والاعتبار مع سقوط الدلالة المطابقية عنها. وقد تقدم الكلام في بيان الجواب عن
ذلك نقضا وحلا في بحث الضد (1) بصورة واضحة، فلا نعيد.
فالنتيجة قد أصبحت إلى الآن: أن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور: من
صحة العبادة بعد سقوط الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعا.
ولكن قد يناقش في ذلك: بأن الحرمة وإن ارتفعت واقعا من جهة الاضطرار
أو غيره إلا أن ملاكها - وهو المفسدة - باق، لعدم الدليل على ارتفاعه، فإن الدليل
إنما قام على ارتفاع الحرمة الفعلية لأجل عروض ما يوجب ارتفاعها وهو
الاضطرار، وأما ملاكها فلا دليل على ارتفاعه أصلا، ودليل رفع الحكم لا يكون
دليلا عليه بنفسه، ضرورة أنه لا يدل إلا على رفع الحكم فحسب، وأما رفع
الملاك فلا.
وعليه، فبما أن الفعل في هذا الحال - أي: حال الاضطرار - أيضا مشتمل على
ملاك التحريم فلا يصلح أن يتقرب به، فإذا لا يمكن التمسك بإطلاق دليل الأمر.
وبكلمة واضحة: أن لنا في المقام دعويين:
الأولى: أن ملاك التحريم باق بحاله، والمرفوع بأدلة الاضطرار إنما هو
الحرمة فحسب.
الثانية: أنه مع هذا الملاك لا يمكن الحكم بصحة العبادة والتقرب بها.
أما الدعوى الأولى: فلأن حديث الرفع أو ما شاكله حيث قد ورد في مورد
الامتنان فلا محالة يدل على أن رفع الحكم لاضطرار أو نحوه مستند إلى ذلك، أي:
الامتنان، وقضية ذلك ثبوت المقتضي والملاك له، وإلا فلا معنى لكونه واردا في
مورد الامتنان، ضرورة أن معنى وروده في ذلك المورد: هو أنه لولا الامتنان

(1) تقدم في ج 3 ص 74 وما بعدها من المحاضرات.
349

لكان الحكم ثابتا، وهذا قرينة واضحة على أن المقتضي له تام ولا قصور فيه
أصلا، وإلا فلا يكون في رفعه امتنان.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن رفع الحكم امتنانا على الأمة في نفسه قرينة
واضحة على ثبوت المقتضي والملاك له، وإلا فلا منة في رفعه أصلا كما هو واضح.
أما الدعوى الثانية: فلا ريب في أن الفعل إذا كان مشتملا على مفسدة فلا
يمكن التقرب به، ضرورة أن المفسدة مانعة عن التقرب بها، وبدونه لا يمكن
الحكم بصحته.
ولكن هذه الدعوى خاطئة جدا، وذلك لأن الفعل المضطر إليه وإن كان
مشتملا على ملاك التحريم ومقتضيه كما هو قضية رفعه امتنانا إلا أن ذلك الملاك
بما أنه غير مؤثر في المبغوضية فلا يمنع عن صحة العبادة، فإن المانع عنها - كما
عرفت - إنما هو المبغوضية والحرمة، والمفروض أنهما قد سقطنا من ناحية
الاضطرار أو نحوه واقعا. ومجرد اشتمال الفعل على مفسدة غير مؤثرة فيهما لا أثر
له أصلا.
ومن الواضح جدا أن الفعل إذا كان جائزا واقعا - كالتصرف في الماء
المغصوب عند الاضطرار إليه - فلا مانع من التمسك بإطلاق الواجب لإثبات كونه
مصداقا له.
وعلى الجملة: فالتصرف في الماء المغصوب بعد سقوط الحرمة عنه واقعا
جائز كذلك، ومعه لا مانع من التوضؤ أو الاغتسال به، ومجرد اشتماله على مفسدة
بلا تأثيرها في حرمته ومبغوضيته غير مانع عن التقرب بإيجاد الطبيعة المأمور بها
في ضمنه، هذا حال غير الصلاة من العبادات.
وأما الصلاة في الأرض المغصوبة في حال الاضطرار فيقع الكلام في حكمها
في مقامين:
الأول: فيما إذا لم يتمكن المكلف من الخروج عنها في الوقت، بمعنى: أنه
لا مندوحة له.
350

الثاني: فيما إذا تمكن من الخروج عنها فيه بأن يكون له مندوحة في الجملة.
أما المقام الأول: فهل يجوز له الإتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود
أو يجب الاقتصار على الإيماء والإشارة بدلا عنهما باعتبار أن الركوع والسجود
تصرف زائد على مقدار الضرورة فلا يجوز؟ قولان:
ذهب جماعة إلى القول الثاني، بدعوى: أنه لابد في جواز التصرف في أرض
الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار، فإن
الزائد عليه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز، وبما أن الركوع والسجود تصرف
زائد على ذاك المقدار فلا يسوغ، فإذا وظيفته الإيماء والإشارة بدلا عنهما (1).
هذا، وأما شيخنا الأستاذ فقد سلم أن الأمر كذلك بنظر العرف، ولم يكن كذلك
بنظر العقل، فله (قدس سره) هنا دعويان:
الأولى: أن الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف.
الثانية: انهما ليسا بتصرف زائد عند العقل.
أما الدعوى الأولى: فاستظهر أن الركوع والسجود يعدان عرفا من التصرف
الزائد، باعتبار أنهما مستلزمان للحركة، وهي تصرف زائد بنظر العرف. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن العبرة بصدق التصرف الزائد على مقدار الضرورة بما
أنها بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على
الإيماء والإشارة بدلا عنهما.
وأما الدعوى الثانية: فلأن العقل يحكم بأن كل جسم يشغل المكان المغصوب
بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق، ومن الواضح جدا أن ذلك المقدار
لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله، ضرورة أنه سواء كان على هيئة القائم
أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل ذلك يشغل مقدارا خاصا من المكان،

(1) نسبه في الجواهر إلى بعض المتفقهين والى بعض مشايخه المعاصرين، راجع الجواهر:
ج 8 ص 300.
351

وهذا لا يتفاوت زيادة ونقيصة بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال، وعليه فكونه
على هيئة الراكع أو الساجد ليس تصرفا زائدا بنظر العقل من كونه على هيئة القائم
أو القاعد... وهكذا، وهذا واضح (1).
ونتيجة ما أفاده (قدس سره): هي وجوب الاقتصار على الإيماء والإشارة في الصلاة،
وعدم جواز الإتيان بالركوع والسجود.
ولكن الصحيح: هو القول الأول: والوجه في ذلك: هو أن كل جسم له حجم
خاص ومقدار مخصوص - كما عرفت - يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد
عليه ومن الطبيعي أن مقدار تحيزه المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله
الهندسية: من المثلث والمربع وما شاكلهما، بداهة أن نسبة مقدار حجمه إلى مقدار
من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه، ولا تختلف تلك النسبة
زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه.
مثلا: إذا اضطر الإنسان إلى البقاء في المكان المغصوب - كما هو مفروض
الكلام في المقام - لا يفرق فيه: بين أن يكون قائما أو قاعدا فيه، وأن يكون راكعا
أو ساجدا، فكما أن الركوع والسجود تصرف فيه فكذلك القيام والقعود فلا فرق
بينهما من هذه الناحية أصلا، بداهة أن الركوع والسجود ليسا تصرفا زائدا على
القيام والقعود، لا بنظر العقل ولا العرف، فعندئذ لا وجه للقول بوجوب الاقتصار
على الإيماء بدلا عنهما.
ودعوى: أنهما يعدان بنظر العرف من التصرف الزائد خاطئة جدا، ضرورة
أنه لا فرق في نظر العرف بين أن يكون الإنسان قائما في الدار المغصوبة أو
قاعدا، وبين أن يكون راكعا أو ساجدا فيها، فكما أن الثاني تصرف فيها بنظره
فكذلك الأول، وليس في الثاني تصرف زائد بنظره بالإضافة إلى الأول. وهذا لعله
من الواضحات.
فإذا لا وجه لما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفرقة بين نظر العرف ونظر العقل.

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 372.
352

ولعل منشأها هو الغفلة عن تحليل نقطة واحدة، وهي: عدم الفرق بين كون
المكلف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة.
وتخيل أنه إذا كان على هيئة واحدة فهو مرتكب لحرام واحد، وإذا كان على
هيئات متعددة كأن يكون راكعا مرة وساجدا مرة أخرى فهو مرتكب لمحرمات
متعدده، ولأجل ذلك لا محالة وجب الاقتصار فيها على هيئة واحدة، فإن
الضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز ارتكاب الزائد.
ولكن من المعلوم أن هذا مجرد خيال لا واقع له أبدا، وذلك لأن كون المكلف
فيها على هيئة واحدة في كل آن وزمن تصرف في الأرض ومحرم، لا أن كونه
عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرف واحد ومحكوم بحكم واحد لتكون
الحركة فيها تصرفا زائدا. ومن الواضح جدا أنه لا فرق في ذلك بين نظر العقل
ونظر العرف، فكما أن الكون في الأرض المغصوبة في كل آن تصرف فيها ومحرم
بلا فرق بين أن يكون في ضمن هيئة واحدة أو هيئات متعددة بنظر العقل فكذلك
الكون فيها في كل آن تصرف ومحرم كذلك بنظر العرف.
وبكلمة أخرى: أن جعل الركوع والسجود تصرفا زائدا مبني على ما ذكرناه
من الخيال الخاطئ، وهو: أن بقاء الإنسان في الأرض المغصوبة على حالة واحدة
وهيئة فاردة من القيام أو القعود تصرف واحد بنظر العرف. وأما إذا اشتغل بالركوع
أو السجود فهو تصرف زائد غفلة عن أن بقاءه على تلك الحالة الواحدة حرام في
كل آن، ضرورة أنه في كل آن تصرف في مال الغير بدون إذنه.
كما أن انتقاله من هذه الحالة والهيئة إلى حالة أخرى وهيئة ثانية حرام، وليس
هذا تصرفا زائدا على بقائه على الحالة الأولى، ضرورة أنه على الفرض لم يجمع
بين الحالتين في مكانين لتكون الحالة الثانية تصرفا زائدا، غاية الأمر أنه تصرف
في الحالة الأولى في مكان، وفي الحالة الثانية في مكان آخر، أو أنه تصرف في
كلتا الحالتين في مكان واحد وفضاء فارد، فإن التصرف في مكان واحد قد يكون
بهيئة واحدة ووضع فارد، وقد يكون بهيئات متعددة وأوضاع مختلفة.
353

ومن الطبيعي أن تصرفه في الحالة الثانية وبهيئة أخرى في مكان آخر، أو في
نفس المكان الأول بمقدار تحيزه في الحالة الأولى وبالهيئة السابقة دون الزائد،
لوضوح أن مقدار تحيز الجسم المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله
لا عقلا ولا عرفا كما هو واضح.
نعم، لو كان البقاء فيها على حالة واحدة محرما بحرمة واحدة في تمام الآنات
والأزمنة لكان الالتزام بما أفاده (قدس سره) مما لابد منه. وعليه، فلابد من الحكم بحرمة
كل حركة فيها والاقتصار على حالة واحدة في تمام آنات البقاء، ولكن قد عرفت
أنه مجرد فرض لا واقع له أصلا.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبين: أنه ليست الصلاة مع الركوع والسجود تصرفا
زائدا على الصلاة مع الإيماء والإشارة.
ومما يشهد على ذلك: أن العرف لا يرون أن المصلي في الأرض المغصوبة إذا
كان على وضع الراكع أو الساجد يكون تصرفه فيها أزيد مما إذا كان على غير هذا
الوضع وغير هذا الشكل كما هو واضح.
فالنتيجة: أن وظيفته هي الصلاة مع الركوع والسجود فيها، دون الصلاة مع
الإيماء.
وممن اختار هذا القول في المسألة صاحب الجواهر (قدس سره)، حيث قال في بحث
مكان المصلي ما إليك نصه: (تصح منه صلاة المختار، ضرورة عدم الفرق بينه
وبين المأذون في الكون بعد اشتراكهما في إباحته وحليته. نعم، لو استلزمت
الصلاة تصرفا زائدا على أصل الكون لم يجز، لعدم الإذن فيه، لا ما إذا لم تستلزم،
فإنها - حينئذ - أحد أفراد الكون الذي فرض الإذن فيه، على أن القيام والجلوس
والسكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز، وجميعها أكوان،
ولا ترجيح لبعضها على بعض، فهي في حد سواء في الجواز، وليس مكان الجسم
حال القيام أكثر منه حال الجلوس.
نعم، يختلفان في الطول والعرض، إذ الجسم لا يحويه الأقل منه، ولا يحتاج
إلى أكثر مما يظرفه، كما هو واضح بأدنى تأمل).
354

ثم قال: (ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر، بل سمعته من بعض
مشايخنا المعاصرين: من أنه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان
عليها أول الدخول إلى المكان المحبوس فيه، إن قائما فقائم وإن جالسا فجالس،
بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة أخرى في غير الصلاة أيضا، لما فيه من الحركة
التي هي تصرف في مال الغير بغير إذنه، ولم يتفطن أن البقاء على الكون الأول
تصرف أيضا لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف، كما أنه لم يتفطن أنه
عامل هذا المظلوم المحبوس قهرا بأشد ما عامله الظالم، بل حبسه حبسا ما حبسه
أحد لأحد، اللهم إلا أن يكون في يوم القيامة مثله، خصوصا وقد صرح بعض
هؤلاء أنه ليس له حركة أجفان عيونه زائدا على ما يحتاج إليه، ولا حركة يده أو
بعض أعضائه كذلك، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته
ونحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير، وكل ذلك ناش عن عدم
التأمل في أول الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك) (1).
أقول: الأمر كما أفاده (قدس سره)، فإنه لو حرم عليه جميع الحركات والتقلبات فيها
حتى مثل حركة اليد وما شاكلها فهذا كان غاية الضيق عليه وأشد مما حبسه
الظالم، ومن الواضح جدا أن ذلك مناف لرفع الشارع حرمة التصرف عنه امتنانا،
ضرورة أن في ذلك ليس أي امتنان، بل هو خلاف الامتنان، كيف؟ فإن الإنسان لا
يخلو من مثل هذه التصرفات والتقلبات أبدا، فإنها من لوازم حياته، وإن الإنسان
الحي لا يخلو منها في زمان من الأزمنة، ومع هذا لا يمكن الحكم بحرمة هذه
التقلبات والاقتصار على مقدار يتوقف عليه حفظ نفسه، ضرورة أن هذا أشد ظلما
مما فعله الظالم.
وأما المقام الثاني - وهو: ما إذا كان المكلف متمكنا من التخلص عن الغصب
في الوقت - فيقع الكلام فيه في موردين:

(1) جواهر الكلام: ج 8 ص 300 صلاة المحبوس في المكان المغصوب.
355

الأول: ما إذا كان المكلف متمكنا من الصلاة في خارج الدار لبقاء الوقت،
وهذا الفرض وإن كان خارجا عن محل الكلام إلا أنه لا بأس بالتعرض له لمناسبة.
الثاني: ما إذا لم يتمكن من الصلاة في الخارج لضيق الوقت وعدم تمكنه من
إدراك تمام الصلاة فيه.
أما المورد الأول فلا إشكال في لزوم الخروج عليه والتخلص عن الغصب في
أول أزمنة الإمكان عقلا وشرعا، ولا يجوز له البقاء فيها آنا ما بعد تمكنه من
الخروج، لأنه تصرف زائد على مقدار تقتضيه الضرورة.
وعلى الجملة: فكل من العقل والشرع ألزم المكلف بالتخلص عن الدار
المغصوبة والخروج عنها في أول زمن الإمكان ورفع الاضطرار، فلو بقي بعد ذلك
ولو آنا ما فقد ارتكب محرما، لفرض أنه تصرف فيها بغير اضطرار. ومن المعلوم
أن تصرفه فيها بدونه محرم على الفرض، هذا حكم التخلص والخروج.
ومن هنا يظهر: أنه لا يجوز الإتيان بالصلاة، لأنه يوجب زيادة البقاء فيها
والتصرف بلا موجب ومقتض، ومن الواضح أنه غير جائز. وأما إذا فرض أنه
عصى وأتى بالصلاة فيها فهل يحكم بصحة صلاته أم لا؟ فهو مبني على النزاع في
مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه.
فعلى القول بالجواز يحكم بصحتها، لفرض أنه على هذا القول يكون المجمع
متعددا وجودا وماهية، فيكون مصداق المأمور به غير المنهي عنه خارجا، ومجرد
ملازمته معه في الوجود الخارجي لا يمنع عن انطباق المأمور به عليه وصحته،
كما تقدم الكلام من هذه الناحية بشكل واضح.
وعلى القول بالامتناع يحكم ببطلانها، لفرض أنه على هذا يكون مصداق
المأمور به متحدا مع المنهي عنه خارجا، ومعه - أي: مع الاتحاد - لا يمكن الحكم
بالصحة أبدا، لاستحالة كون المحرم مصداقا للواجب كما سبق ذلك بصورة مفصلة.
هذا حكم الصلاة في الدار المغصوبة بعد رفع الاضطرار.
وأما الصلاة فيها قبل رفع الاضطرار فعلى وجهة نظرنا لا إشكال في جواز
الإتيان بها، وعدم وجوب تأخيرها لأن يؤتى بها في خارج الدار.
356

والوجه في ذلك واضح، وهو: ما ذكرناه: من أن الصلاة مع الركوع والسجود
ليست تصرفا زائدا على مقدار تقتضيه الضرورة. ومن هنا قلنا إن وظيفة غير
المتمكن من التخلص عن الغصب هي الصلاة مع الركوع والسجود، وليست وظيفته
الصلاة مع الإيماء بدلا عنهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: المفروض جواز تصرف المتوسط في الدار المغصوبة بغير
اختياره بمقدار تقتضيه الضرورة، لفرض ارتفاع حرمته من ناحية الاضطرار
أو نحوه.
ومن ناحية ثالثة: قد تقدم: أنه لا فرق بين أن يكون المكلف فيها على هيئة
واحدة ووضع فارد، أو على هيئات متعددة وأوضاع مختلفة، وليس كون المكلف
على هيئات متعددة تصرفا زائدا بالإضافة إلى كونه على هيئة واحدة كما سبق
بشكل واضح (1).
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي جواز الصلاة فيها مع الركوع
والسجود، وعدم وجوب تأخيرها إلى أن يرتفع الاضطرار ويأتي بها في خارج
الدار.
وأما على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) فلا تجوز الصلاة فيها مع التمكن من
الإتيان بها في خارج الدار. والوجه فيه: ما عرفت: من أن الركوع عنده من
التصرف الزائد بالإضافة إلى مقدار الضرورة (2) فلا يجوز، فإذا لا محالة وجب
الاقتصار على خصوص الإيماء في الصلاة وترك الركوع والسجود، ولكن بما أن
المكلف متمكن من الصلاة معهما في غير المكان المغصوب - كما هو المفروض -
فلا تنتقل وظيفته إلى الصلاة مع الإيماء فيه، ضرورة أنها وظيفة المضطر وغير
المتمكن من الصلاة في تمام الوقت، والمفروض في المقام أن المكلف متمكن من
الصلاة في الوقت مع الركوع والسجود. ومن الواضح جدا أنه مع هذا لا تنتقل

(1) راجع ص 353.
(2) راجع ص 351.
357

وظيفته إلى بدلها الاضطراري وهو الصلاة مع الإيماء، ضرورة أنها غير مشروعة
في حق المتمكن من الإتيان بصلاة المختار.
نعم، لو كان مجرد الاضطرار كافيا في ذلك ولو لم يكن مستوعبا لتمام الوقت
لمكان الإتيان بها مجزيا لا محالة إلا أن ذلك باطل قطعا، ضرورة أن الاضطرار
الرافع للتكليف إنما يكون رافعا فيما إذا كان مستوعبا لتمام الوقت ليصدق عليه
أنه مضطر إلى ترك الواجب لينتقل الأمر إلى بدله. وأما إذا كان الاضطرار إلى ترك
الواجب في بعض الوقت دون بعضه الآخر فلا يصدق عليه أنه مضطر إلى ترك
الواجب. نعم، يصدق عليه أنه مضطر إلى ترك بعض أفراده، لفرض أن الواجب هو
الجامع بين الحدين، والمفروض أن الاضطرار لم يتعلق بتركه، وما تعلق به
الاضطرار لا يكون واجبا.
وقد تحصل من ذلك: أن هذه الثمرة التي تظهر بين وجهة نظرنا ووجهة نظر
شيخنا الأستاذ (قدس سره) نتيجة الاختلاف في نقطة واحدة، وهي: أن الركوع والسجود
على وجهة نظره (قدس سره) من التصرف الزائد، وعلى وجهة نظرنا ليسا من التصرف الزائد.
أما المورد الثاني - وهو: ما إذا لم يتمكن المكلف من الصلاة في خارج الدار
لضيق الوقت - فلا إشكال في وجوب الصلاة عليه حال الخروج، لفرض أن الصلاة
لا تسقط بحال، ولكن بما أنه كان في مقام التخلص عن الغصب فلا محالة وجب
الاقتصار في الصلاة على خصوص الإيماء بدلا عن الركوع والسجود،
لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة، ولا مسوغ له، ولأجل ذلك تنتقل
الوظيفة من صلاة المختار إلى صلاة المضطر، وهي الصلاة مع الإيماء والإشارة.
وإن شئت فقل: إنه لا يجوز للمكلف في هذا الحال الركوع والسجود. أما
عدم جواز السجود في هذا الحال فواضح، وذلك لما تقدم: من أنه متحد مع
الغصب خارجا، باعتبار أن الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهومه، والمفروض
أنه نحو تصرف فيها، فإذا يتحد المأمور به مع المنهي عنه، ومع الاتحاد لا يمكن
الحكم بصحته، لاستحالة أن يكون المحرم مصداقا للمأمور به. وعليه فلا محالة
358

تكون وظيفته الإيماء دون السجدة. وأما الركوع فهو وإن لم يكن بنفسه تصرفا في
مال الغير - لما عرفت: من أنه عبارة عن هيئة حاصلة للمصلي من نسبة بعض
أجزائه إلى بعضها الآخر ونسبة المجموع إلى الخارج - إلا أنه مستلزم، للبقاء
فيها، وهو تصرف زائد على مقدار الضرورة.
فإذا تقع المزاحمة بين وجوب الصلاة مع الركوع وبين حرمة التصرف في
مال الغير، فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة. ولكن بما أن وجوب
الصلاة مع الركوع خاصة مشروط بالقدرة شرعا - لما تقدم في بحث الضد - من أن
الأركان بعرضها العريض وإن كانت غير مشروطة بالقدرة الشرعية إلا أن كل
مرتبة منها مشروطة بها - فعليه تتقدم حرمة التصرف في مال الغير على وجوبه من
ناحية ما ذكرناه: من أنه إذا وقعت المزاحمة بين ما هو المشروط بالقدرة شرعا
وما هو المشروط بالقدرة عقلا فيتقدم ما هو المشروط بالقدرة عقلا على ما هو
المشروط بها شرعا، على تفصيل تقدم في مسألة الضد (1).
فالنتيجة: هي وجوب الاقتصار على الإيماء في الصلاة للركوع والسجود.
نعم، لو تمكن المكلف من الإتيان بهما في الصلاة من دون استلزامه للتصرف
الزائد لوجب ذلك، كما إذا فرض أن خروجه من الأرض المغصوبة بالسيارة
أو الطيارة أو السفينة أو ما شاكل ذلك فإن الركوع والسجود في مثل ذلك
لا يستلزمان التصرف الزائد كما هو واضح. فإذا تتعين الصلاة بها، ولا يجوز
الاقتصار على الإيماء، لفرض أنه بدل اضطراري عنهم، ومع تمكن المكلف من
الإتيان بهما لا تصل النوبة إلى بدلهما الاضطراري كما هو واضح.
نتيجة ما ذكرناه عدة نقاط:
الأولى: أنه لا إشكال في سقوط الحرمة واقعا من ناحية الاضطرار أو نحوه،
وليس حاله حال الجهل الرافع للتكليف ظاهرا لا واقعا.

(1) راجع ج 3 ص 247.
359

الثانية: أنه لا شبهة في صحة العبادة فيما إذا لم تكن متحدة مع الفرد المحرم
المضطر إليه، لما عرفت: من أن العبادة صحيحة على هذا الفرض فيما إذا كانت
الحرمة باقية بحالها فضلا عما إذا سقطت.
الثالثة: أن الظاهر صحة العبادة فيما إذا فرض كونها متحدة مع المحرم المضطر
إليه، وذلك لما عرفت: من أن المانع عن صحتها إنما هو حرمتها، فإذا فرض أنها
سقطت بالاضطرار أو نحوه واقعا فلا مانع - عندئذ - من صحتها أصلا كما تقدم.
الرابعة: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن دلالة النهي على حرمة شئ في
عرض دلالته على تقييد المأمور به بعدمه وليست متقدمة عليها قد تقدم فساده
بشكل واضح. وقلنا هناك: إن حرمة شئ وعدم وجوبه وإن كان في رتبة واحدة
بحسب مقام الثبوت والواقع لعدم ملاك لتقدم أحدهما على الآخر إلا أنهما
بحسب مقام الإثبات والدلالة ليسا كذلك، فإن دلالة النهي على الحرمة في مرتبة
متقدمة على دلالته على عدم الوجوب والتقييد، بداهة أن الدلالة الالتزامية متفرعة
على الدلالة المطابقية.
الخامسة: أنه تظهر الثمرة بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) في
جواز التمسك بالإطلاق وعدمه، فإنه بناء على وجهة نظرنا بما أن دلالة النهي على
التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة فلا محالة تسقط بسقوط
دلالته عليها. ومن المعلوم أنه مع سقوط التقييد لا مانع من التمسك بالإطلاق.
وبناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) بما أن دلالته على التقييد وعدم
الوجوب في عرض دلالته على الحرمة فلا تسقط بسقوط تلك الدلالة، ومع عدم
السقوط لا يمكن التمسك بالإطلاق.
السادسة: قد تقدم: أن رفع الحكم من ناحية الاضطرار بما أنه يكون للامتنان
فيدل على ثبوت المقتضي والملاك له (1) وإلا فلا معنى للامتنان أصلا، وهذا بخلاف
رفع الحكم في غير موارد الامتنان، فإنه لا يدل على ثبوت مقتضيه، ضرورة أنه
كما يمكن أن يكون من جهة المانع مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون من جهة

(1) تقدم في ص 349.
360

عدم المقتضي له، فلا دليل على أنه من قبيل الأول. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد سبق (1): أن هذا الملاك بما أنه غير مؤثر في المبغوضية
والحرمة فلا يمنع عن صحة العبادة وقصد التقرب بها.
السابعة: أن الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب في صورة الاضطرار إلى
التصرف فيه صحيح مطلقا، أي: بلا فرق بين وجود المندوحة وعدمه كما سبق.
الثامنة: أن الصلاة في الأرض المغصوبة لا تسقط عن المتوسط فيها بغير
اختياره على القاعدة على وجهة نظرنا، لما عرفت: من أن الصلاة فيها مع الركوع
والسجود ليست تصرفا زائدا على الكون فيها بدون الصلاة، وعليه فلا موجب
لسقوطها أصلا. كما أن مقتضى القاعدة الأولية سقوطها عنه على وجهة نظر جماعة
منهم شيخنا الأستاذ (قدس سره)، ولكن القاعدة الثانوية تقتضي وجوب الإتيان بالباقي من
الأجزاء والشرائط. والوجه فيه: ما تقدم: من أن الركوع والسجود بنظرهم من
التصرف الزائد عرفا فلا يجوز، فإذا لا محالة يسقطان عنه، ومع سقوطهما
- لا محالة - يسقط الأمر عن الصلاة، ولكن دل دليل آخر على وجوب الإتيان بها
مع الإيماء بدلا عنهما.
التاسعة: أن كل جسم يشغل المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق،
ولا يختلف ذلك - أي: مقدار تحيزه وشغله المكان - باختلاف هيئاته وأوضاعه
عقلا وعرفا، خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث إنه قد فصل بين نظر العرف والعقل،
فذهب إلى أن اختلاف الجسم باختلاف الهيئات ليس تصرفا زائدا بالدقة العقلية،
ولكنه تصرف زائد بالنظر العرفي ولكن قد عرفت فساده بشكل واضح (2).
العاشرة: أن الصلاة في حال الخروج لابد فيها من الاقتصار على الإيماء بدلا
عن الركوع والسجود، لفرض أنهما مستلزمان للتصرف الزائد على قدر الضرورة
إلا فيما إذا فرض أنهما لا يستلزمان له، كما إذا كان خروجه بالسيارة أو نحوها.

(1) سبق في ص 350.
(2) راجع في ص 353.
361

ومن هنا تكون مشروعية هذه الصلاة - أعني: الصلاة مع الإيماء - منوطة بعدم
تمكن المكلف من إدراك الصلاة في الوقت في خارج الأرض، وإلا فلا تكون
مشروعة، ضرورة أن المكلف مع التمكن من الإتيان بصلاة المختار لا يسوغ له
الإتيان بصلاة المضطر، وكذا منوطة بعدم تمكنه من الصلاة في الأرض المغصوبة.
وذلك: أما على وجهة نظرنا فلما عرفت: من أنه متمكن فيها من الصلاة مع
الركوع والسجود الاختياريين من دون استلزامهما للتصرف الزائد، ومعه
- لا محالة - تكون وظيفته هي صلاة المختار دون صلاة المضطر. نعم، لو أخرها
ولم يأت بها إلى زمان خروجه عنها فوجب عليه الإتيان بصلاة المضطر، وهي
الصلاة مع الإيماء، لفرض أنها لا تسقط بحال، ولكنه عصى في تأخيره وتفويت
الواجب عليه، إلا إذا فرض أن تأخيره كان لعذر شرعي.
وأما على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) فلأجل أن الصلاة حال الخروج
تستلزم تفويت الاستقرار المعتبر فيها. ومن المعلوم أن المكلف إذا تمكن من
الصلاة مع الاستقرار فلو صلى بدونه بطلت لا محالة. وعليه، فلا يجوز له تأخيرها
إلى زمان الخروج، لاستلزام ذلك تفويت الاستقرار باختياره وهو غير جائز،
إلا إذا كان التأخير مستندا إلى عذر شرعي.
وعلى الجملة: فالصلاة في حال الخروج إذا كانت مستلزمة لتفويت شرط من
شرائطها: كالاستقرار أو الاستقبال دون الصلاة في الدار فيجب إتيانها في الدار.
الحادية عشرة: قد ظهر مما تقدم: أنه بناء على وجهة نظرنا تصح الصلاة من
المتوسط فيها بغير اختياره مطلقا، أي: بلا فرق بين كون المكلف متمكنا من الصلاة
في الوقت في خارج الدار وبين كونه غير متمكن منها كذلك.
أما على الثاني فواضح. وأما على الأول فلفرض أنه متمكن من الإتيان بالصلاة
التامة الأجزاء والشرائط، ومعه لا موجب للتأخير والإتيان بها في خارج الدار.
نعم، بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) وجب التأخير في هذا الفرض،
لأن المكلف على هذه النظرية لا يتمكن من صلاة المختار في الدار، لفرض أن
362

الركوع والسجود تصرف زائد عليها، والانتقال إلى صلاة المضطر مع التمكن من
صلاة المختار لا دليل عليه. إلى هنا انتهى الكلام في المقام الأول.
وأما الموضع الثاني
وهو: ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار - فيقع الكلام فيه في موردين:
الأول: في حكم الخروج في حد نفسه.
الثاني: في حكم الصلاة الواقعة حاله، أي حال الخروج.
أما المورد الأول: فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيه إلى خمسة أقوال:
الأول: أن الخروج حرام بالفعل.
الثاني: أنه واجب وحرام معا كذلك.
أما أنه واجب فمن ناحية أنه: إما أن يكون مقدمة للتخلص من الحرام الذي
هو واجب عقلا وشرعا ومقدمة الواجب واجبة، وإما أن يكون من ناحية أنه
مصداق له، أي: للتخلص من الواجب.
وأما أنه حرام فمن ناحية أنه مصداق للتصرف في مال الغير، وهو محرم.
وذهب إلى هذا القول أبو هاشم المعتزلي (1). ويظهر اختياره من المحقق
القمي (قدس سره) (2) أيضا. وهذا القول يرتكز على أمرين:
الأول: دخول المقام في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار
عقابا وخطابا.
الثاني: الالتزام بوجوب الخروج: إما لأجل أنه مقدمة للتخلص الواجب
ومقدمة الواجب واجبة، وإما لأجل أنه من مصاديقه وأفراده.
الثالث: أنه واجب فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار،
ولكن يجري عليه حكم المعصية. واختار هذا القول المحقق صاحب الفصول (3) (قدس سره).

(1) نسبه إليه المحقق القمي في القوانين: ج 1 ص 153.
(2) راجع قوانين الأصول: ج 1 ص 153.
(3) راجع الفصول الغروية: ص 138 أآلهتنا 25.
363

الرابع: أنه واجب فحسب، ولا يكون محرما، لا بالنهي الفعلي ولا بالنهي
السابق الساقط. واختار هذا القول شيخنا العلامة الأنصاري (1)، ووافقه فيه شيخنا
الأستاذ (2) (قدس سره).
الخامس: أنه لا يكون فعلا محكوما بشئ من الأحكام الشرعية، ولكنه
منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه، ويجري عليه حكم المعصية.
نعم، هو واجب عقلا من ناحية أنه أقل محذورين وأخف قبيحين. واختار
هذا القول المحقق صاحب الكفاية (3) (قدس سره). فهذه هي الأقوال في المسألة. ولنأخذ
بالنظر إلى كل واحد من هذه الأقوال:
أما القول الأول: فهو واضح الفساد، وذلك لاستلزام هذا القول التكليف
بالمحال.
بيان ذلك: هو أن المتوسط في الأرض المغصوبة لا يخلو: من أن يبقى فيها،
أو يخرج عنها، ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: المفروض أن البقاء فيها محرم، فلو حرم الخروج أيضا لزم
التكليف بما لا يطاق، وهو محال. فإذا لا يعقل أن يكون الخروج محكوما
بالحرمة.
وأما القول الثاني: فهو أوضح فسادا من الأول، وذلك ضرورة استحالة كون
شئ واحد واجبا وحراما معا حتى على مذهب الأشعري الذي يرى جواز
التكليف بالمحال، فإن نفس هذا التكليف والجعل محال، لا أنه من التكليف
بالمحال، على أن وجوبه: إما أن يكون مبنيا على القول بوجوب المقدمة بناء على
كون الخروج مقدمة للتخلص الواجب ورد المال إلى مالكه، وإما أن يكون مبنيا
على كونه مصداقا للتخلص ولرد المال إلى مالكه.

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 158 أآلهتنا 3.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 2 ص 447.
(3) كفاية الأصول: ص 204.
364

أما الأول: فقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب: أنه لا دليل على وجوب
المقدمة شرعا.
وأما الثاني: فسيأتي عن قريب - إن شاء الله تعالى - أن الخروج ليس مصداقا
لقاعدة رد المال إلى مالكه، فإذا لا دليل على كون الخروج واجبا. وأما حرمته
- فهي مبنية على قاعدة الامتناع بالاختيار - لا تنافي الاختيار عقابا وخطابا،
ولكن سيأتي - بيان: أن هذه القاعدة تنافي الخطاب، ضرورة أنه لا يمكن توجيه
التكليف نحو العاجز ولو كان عجزه مستندا إلى سوء اختياره، لكونه لغوا محضا
وصدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل، وكيف كان، فهذا القول غير معقول،
وعلى تقدير كونه معقولا فلا دليل عليه كما عرفت.
وأما القول الثالث - وهو: كون الخروج واجبا فعلا ومحرما بالنهي السابق
الساقط بالاضطرار أو نحوه - فهو وإن كان له - بحسب الظاهر - صورة معقولة
ببيان: أن الخروج بما أنه تصرف في مال الغير بسوء اختياره فلا مانع من أن
يعاقب عليه، لفرض أنه مبغوض للمولى وإن كان النهي عنه فعلا غير معقول
لاستلزامه التكليف بالمحال، وبما أنه مصداق للتخلية ولرد المال إلى مالكه
فلا مانع من كونه واجبا.
فالنتيجة: هي أن الخروج واجب فعلا ومنهي عنه بالنهي السابق، إلا أنه
- بحسب الواقع والدقة العقلية - ملحق بالقولين الأولين في الفساد.
والوجه في ذلك: هو أن تعلق الأمر والنهي بشئ واحد محال وإن كان زمان
تعلق أحدهما غير زمان تعلق الآخر به، فإن ملاك استحالة تعلق الأمر والنهي
بشئ واحد وإمكانه إنما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده، ولا عبرة بوحدة زمان
الإيجاب والتحريم وتعدده أصلا، بداهة أنه لا يعقل أن يكون شئ واحد في
زمان واحد متعلقا للإيجاب والتحريم معا وإن فرض أن زمان الإيجاب غير زمان
التحريم.
والسر في ذلك واضح، وهو: أن الفعل الواحد في زمان واحد: إما أن يكون
مشتملا على مصلحة ملزمة، وإما أن يكون مشتملا على مفسدة كذلك.
365

فعلى الأول: لا مناص من الالتزام بوجوبه.
وعلى الثاني: لا مناص من الالتزام بحرمته، ولا يعقل إيجابه وتحريمه معا
كما هو واضح.
تلخص: أن العبرة إنما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده فحسب، فإن كان
واحدا يستحيل تعلق الأمر والنهي به وإن كان زمان تعلق أحدهما به غير زمان
تعلق الآخر. وإن كان متعددا فلا مانع من تعلقهما به وإن كان زمان تعلقهما واحدا،
كما إذا أمر المولى يوم الخميس بإكرام زيد يوم الجمعة ونهاه في ذلك اليوم عن
إكرامه يوم السبت فإنه لا محذور فيه أبدا.
نعم، يمكن للمولى العرفي أن يأمر بشئ وينهى عنه في زمان آخر اشتباها،
أو بتخيل أن فيه مصلحة مقتضية للوجوب ثم بان أنه لا مصلحة بل فيه مفسدة
مقتضية للتحريم، إلا أنه لا أثر في مثل ذلك لأحد الحكمين أصلا، بل هو صدر
اشتباها وغفلة لا حقيقة وواقعا.
وبكلمة أخرى: فقد ذكرنا غير مرة: أن الغرض من الأمر بشئ أو النهي عنه
إنما هو إيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل في الخارج أو الترك في مقام الامتثال.
ومن الواضح جدا أن الداعي إنما يحصل له فيما إذا كان المكلف متمكنا من
الامتثال في ظرفه. وأما إذا لم يتمكن منه فلا يحصل له هذا الداعي، ومع عدم
حصوله يكون الأمر أو النهي لغوا محضا فلا يترتب عليه أي أثر، ومن المعلوم أن
صدور اللغو من الحكيم مستحيل. وعليه، فلا يمكن أن يكون فعل واحد مأمورا به
ومنهيا عنه معا ولو كان زمان أحدهما غير زمان الآخر من هذه الناحية أيضا،
أعني: ناحية المنتهى والامتثال.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن الخروج في مفروض الكلام إن كان مشتملا على
مفسدة امتنع تعلق الأمر به، وإن كان مشتملا على مصلحة امتنع تعلق النهي به ولو
من الزمان السابق، لفرض أن المولى علم باشتماله على المصلحة في ظرفه، ومعه
يستحيل أن ينهى عنه في ذلك الظرف. وقد عرفت أن العبرة في استحالة تعلق
366

الأمر والنهي بشئ واحد وإمكانه إنما هي بوحدة زمان المتعلق وتعدده، فإن كان
واحدا يستحيل أن يكون متعلقا للأمر والنهي معا وإن كان زمان النهي سابقا، على
زمان الأمر أو بالعكس، لعدم العبرة بتعدد زمانهما أصلا، لفرض أنه لا يرفع
المحذور المزبور. وإن كان متعددا فلا مانع من تعلق الأمر والنهي به في زمان
واحد فضلا عن زمانين، لعدم التنافي بينهما - عندئذ - أصلا، لفرض أن الأمر تعلق
به في زمان والنهي تعلق به في زمان آخر، ولا مانع من أن يكون شئ واحد في
زمان محكوما بحكم، وفي زمان آخر محكوما بحكم آخر غيره.
مثال الأول: ما إذا فرض أن المولى نهى يوم الأربعاء عن صوم يوم الجمعة
وأمر به في يوم الجمعة فإنه لا إشكال في استحالة ذلك ضرورة أن صوم يوم
الجمعة لا يمكن أن يكون مأمورا به ومنهيا عنه معا، فإنه إن كان فيه ملاك الوجوب
امتنع تعلق النهي به مطلقا، وإن كان فيه ملاك الحرمة امتنع تعلق الأمر به كذلك.
ومثال الثاني: ما إذا أمر المولى يوم الخميس بصوم يوم الجمعة ونهى في ذلك
اليوم عن صوم يوم السبت فإنه لا إشكال في جواز ذلك وإمكانه.
فالنتيجة: أن ملاك استحالة اجتماع حكمين من الأحكام التكليفية في شئ
واحد وإمكان اجتماعه إنما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده، ولا اعتبار بوحدة
زمان الحكمين وتعدده أصلا.
وأما الأحكام الوضعية: فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره) أن حالها من هذه الناحية
حال الأحكام التكليفية، فكما أن المناط في استحالة اجتماع اثنين منها في شئ
واحد وإمكانه هو وحدة زمان المتعلق وتعدده لا وحدة زمان الحكمين وتعدده
فكذلك المناط في استحالة اجتماع اثنين من الأحكام الوضعية في شئ واحد،
وإمكانه هو وحدة زمان المعتبر وتعدده، لا وحدة زمان الاعتبارين وتعدده.
ومن هنا أشكل (قدس سره) على ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على
مكاسب شيخنا الأعظم (رحمه الله)، واليك نص ما أفاده: فلا وجه للقول بالكشف بمعنى:
تحقق المضمون قبل ذلك لأجل تحقق الإجازة فيما بعد، نعم، بمعنى: الحكم بعد
367

الإجازة بتحقق مضمونه حقيقة مما لا محيص عنه بحسب القواعد، فلو أجاز
المالك مثل: الإجارة الفضولية بعد انقضاء بعض مدتها أو الزوج أو الزوجة عقد
التمتع كذلك فيصح اعتبار الملكية حقيقة للمستأجر، والزوجية لهما في تمام المدة
التي قد انقضى بعضها، بل ولو انقضى تمامها، لتحقق منشأ انتزاعها.
فإن قلت: كيف يصح هذا وكان قبل الإجازة ملكا للمؤجر ولم يكن هناك
زوجية، إلا أن يكون مساوقا لكون شئ بتمامه ملكا لاثنين في زمان واحد
واجتماع الزوجية وعدمها كذلك؟
قلت: لا ضير فيه إذا كان زمان اعتبار الملكية لأحدهما في زمان غير زمان
اعتبار الملكية للآخر في ذاك الزمان، لتحقق ما هو منشأ انتزاعها في زمان واحد
لكل منهما في زمانين، وكذا الزوجية وعدمها (1).
وحاصل هذا الإشكال هو ما أفاده (قدس سره): من أن اختلاف زمان اعتبار الملكية
للاثنين لا يدفع إشكال اجتماع المالكين في ملك واحد في زمان واحد، فإن
اختلاف زمان الاعتبار بمنزلة اختلاف زماني: الإخبار بوقوع المتناقضين في
زمان واحد، وبمنزلة اختلاف زماني الحكم بحكمين متضادين، فإن حكم الحاكم
في يوم الجمعة لكون عين شخصية لزيد في هذا اليوم مع حكمه في يوم السبت
بكون شخص هذه العين في يوم الجمعة لبكر متناقض كما هو واضح (2).
وغير خفي أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على المكاسب
هو الصحيح، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (قدس سره).
والوجه في ذلك هو: أن الأحكام الوضعية لا تشترك مع الأحكام التكليفية في
ملاك الاستحالة والإمكان، وذلك لأن الأحكام التكليفية بما أنها تابعة لجهات
المصالح والمفاسد في متعلقاتها أو لجهات أخرى فلا يمكن أن يكون فعل في
زمان واحد محكوما بحكمين مختلفين: كالوجوب والحرمة - مثلا - ولو كان تعلق

(1) تعليقة المكاسب للمحقق الخراساني ص 61.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 375.
368

أحدهما به في زمان وتعلق الآخر به في زمان آخر، ضرورة أن هذا الفعل في هذا
الزمان لا يخلو: من أن يكون مبغوضا للمولى، أو أن يكون محبوبا له، ولا ثالث
لهما. فعلى الأول يستحيل تعلق الأمر به. وعلى الثاني: يستحيل تعلق النهي به كما
هو واضح.
وهذا بخلاف الأحكام الوضعية، فإنها تابعة لجهات المصالح والمفاسد
النوعية في نفس جعلها واعتبارها. وعليه، فلا يمكن أن تقتضي مصلحة في زمان
اعتبار شئ ملكا لشخص ومصلحة أخرى في ذلك الزمان بعينه اعتباره ملكا
لآخر. نعم، لا مانع من أن تقتضي المصلحة اعتبار ملكيته له في زمان والمصلحة
الأخرى في زمان آخر اعتبار ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه بأن يكون زمان
الاعتبارين مختلفا وزمان المعتبرين واحدا كما حققنا ذلك بصورة مفصلة في
مسألة الفضولي عند البحث عن كون الإجازة ناقلة أو كاشفة (1).
ونتيجته هي: أن القول بكون الإجازة ناقلة باطل، ولا دليل عليه أصلا كما أن
الكشف الحقيقي بالمعنى المشهور باطل، بل هو غير معقول، وهو: أن تكون
الملكية حاصلة من حين العقد وقبل زمان الإجازة، فالإجازة كاشفة عنها
فحسب، ولا أثر لها ما عدا الكشف عن ثبوت الملكية من الأول. ومن المعلوم أن
هذا بلا موجب ودليل، بل الدليل قام على خلافه، ضرورة أن هذا العقد لم يكن
عقدا للمجيز إلا بعد إجازته ورضاه به ليكون مشمولا لأدلة الإمضاء، ومع هذا
كيف يحكم الشارع بملكية المال له وانتقاله إليه قبل أن يرضى به ويجيزه؟
ولأجل ذلك التزمنا بالكشف بالمعنى الآخر، ولا بأس بتسميته ب‍ " الكشف
الانقلابي "، وهو: الالتزام بكون المال في العقد الفضولي باقيا على ملك مالكه
الأصلي قبل الإجازة والى زمانها. وأما إذا أجاز المالك ذلك العقد ورضي به فهو
ينتقل من ملكه إلى ملك الآخر وهو الأصيل، من حين العقد وزمانه.

(1) انظر مصباح الفقاهة: ج 4 ص 144.
369

والوجه في ذلك هو: أن مفهوم الإجازة مفهوم تعلقي، فكما أنه يتعلق بالأمر
الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الماضي. وفي المقام بما أن إجازة المالك متعلقة
بالعقد السابق إذ المفروض أنه أجاز ذلك العقد الواقع فضولة لا عقدا آخر. ومن
المعلوم أن العقد بمجرد إجازته ينتسب إليه حقيقة، ولا مانع من انتساب الأمر
السابق، وهو العقد بواسطة الأمر اللاحق وهو الإجازة، بداهة أن الانتساب
والإضافة خفيف المؤنة فيحصل بأدنى شئ وأقل مناسبة، ولذلك أمثلة كثيرة في
العرف والشرع ولا حاجة إلى بيانها، فإذا صار هذا العقد عقدا له من حين صدوره
فلا محالة ينتقل ماله إلى الآخر من ذلك الحين. ومن هنا قلنا (1): إن الكشف بذاك
المعنى مطابق للقاعدة، فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل.
ولكن قد يتخيل أن الكشف بهذا المعنى غير ممكن، وذلك لاستلزامه كون
المال الواحد في زمان ملكا لشخصين، لفرض أن هذا المال باق في ملك مالكه
الأصلي إلى زمان الإجازة حقيقة، ومعه كيف يعقل أن يصير هذا المال ملكا للطرف
الآخر في هذا الزمان بعينه بعد الإجازة؟ فيلزم اجتماع الملكيتين على مال واحد
في زمان فارد، وهو غير معقول، لأنه من اجتماع الضدين على شئ واحد.
وغير خفي أن هذا خيال خاطئ جدا وغير مطابق للواقع يقينا، والوجه فيه:
ما ذكرناه غير مرة من أن الأحكام الشرعية جميعا أمور اعتبارية، ولا واقع
موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ولذا قلنا: إنه لا مضادة بينها في
أنفسها، والمضادة بينها إنما هي من ناحية المبدأ أو المنتهى.
وعلى هذا الضوء: فبما أن في المقام زمان الاعتبار مختلف فإن زمان اعتبار
بقاء هذا المال في ملك مالكه قبل الإجازة وزمان اعتبار كونه ملكا للآخر بعدها
وإن كان زمان المعتبر فيهما واحدا فلا يلزم محذور التضاد، فإن محذور التضاد
إنما يلزم فيما إذا كان زمان الاعتبار فيهما أيضا واحدا. وأما إذا كان متعددا
- كما في المقام - فلا يلزم ذلك، ضرورة أنه لا مانع من أن تقتضي المصلحة

(1) راجع مصباح الفقاهة: ج 4 ص 144.
370

الملزمة بعد الإجازة لاعتبار كون هذا المال ملكا له من حين العقد، فإن الاعتبار
خفيف المؤنة، فهو قابل لأن يتعلق بالأمر السابق، كأن يعتبر المولى ملكية مال
لشخص من زمان سابق ولا مانع فيه أبدا، كما أنه قابل للتعلق بأمر لاحق كما في
باب الوصية أو نحوها.
ومن هنا قلنا (1): إن التعليق في باب العقود أمر معقول في نفسه، بل هو واقع
كما في باب الوصية، فإن الموصي حكم بملكية ماله لشخص بعد موته ومعلقا عليه
والشارع أمضاه كذلك، وكذا في بيع الصرف فإن إمضاء الشارع وحكمه بالملكية
فيه معلق على التقابض بين المتبايعين وإن كان حكمهما - أي: المتبايعين -
بالملكية غير معلق على شئ.
فالنتيجة: أن التعليق في العقود أمر معقول، ولذا كلما دل الدليل على وقوعه
نأخذ به، وإنما لا نأخذ به من ناحية الإجماع القائم على بطلانه.
وكيف كان، فلا مانع من تعلق الاعتبار بالملكية السابقة، كما أنه لا مانع من
تعلقه بالملكية اللاحقة، بداهة أنه لا واقع للملكية، ولا وجود لها في الخارج على
الفرض غير اعتبار من بيده الاعتبار، فإذا كان هذا أمرا ممكنا في نفسه فهو واقع
في المقام لا محالة، لأن مقتضى تعلق الإجازة بالعقد السابق هو اعتبار كون هذا
المال ملكا له في الواقع من ذلك الزمان.
وبكلمة أخرى: أن اعتبار الملكية بما أنه تابع للملاك القائم به: فهو مرة
يقتضي اعتبار ملكية شئ في زمن سابق كما فيما نحن فيه، فإن الاعتبار فعلي
والمعتبر أمر سابق.
واخرى يقتضي اعتبار ملكية شئ في زمن متأخر كما في باب الوصية، فإن
الاعتبار فيه فعلي والمعتبر أمر متأخر.
وثالثة يقتضي اعتبار ملكية شئ في زمن فعلي، فيكون الاعتبار والمعتبر
كلاهما فعليا، وهذا هو الغالب. ومن المعلوم أن جميع هذه الصور ممكن، غاية

(1) انظر مصباح الفقاهة: ج 3 ص 66.
371

الأمر أن وقوع الصورة الأولى والثانية في الخارج يحتاج إلى دليل إذا لم يكن في
مورد مطابقا للقاعدة كما في المقام، لأن اعتبار ملكية المال الواقع عليه العقد
الفضولي لمن انتقل إليه تابع لإجازة المالك، وبما أن الإجازة متعلقة بالعقد السابق
كما هو مقتضى مفهومها فلا محالة يكون الاعتبار متعلقا بالملكية من ذلك الزمان
لا من حين الإجازة إذ من الواضح جدا أن الإجازة متعلقة بالعقد السابق وموجبة
لاستناد ذلك العقد إلى المالك، فلابد من أن يكون الاعتبار متعلقا بالملكية من
حين العقد، فإن أدلة الإمضاء: كقوله تعالى: " أوفوا بالعقود " (1) و " أحل الله
البيع " (2) ونحوهما ناظرة إلى إمضاء ما تعلقت به الإجازة. والمفروض أن ما
تعلقت به الإجازة هو العقد السابق الصادر من الفضولي. فإذا تدل الأدلة على
صحة هذا العقد وانتسابه إلى المالك من ذلك الزمان، فيكون زمان الاعتبار فعليا،
وهو زمان الإجازة وزمان المعتبر سابقا، وهو زمان صدور العقد، وهذا معنى ما
ذكرناه: من أن الكشف بهذا المعنى مطابق للقاعدة، ولا مناص من الالتزام به.
وقد تحصل من ذلك عدة أمور:
الأول: أن القول بالكشف بهذا المعنى لا يستلزم انقلاب الواقع، ضرورة أنه لا
واقع للملكية ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ليلزم الانقلاب، فإن انقلاب الواقع
فرع أن يكون لها واقع ليقال: إن الالتزام به يستلزم انقلابها عما وقعت عليه، وهو
محال. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الاعتبار خفيف المؤنة، فكما يمكن تعلقه بأمر استقبالي
أو حالي يمكن تعلقه بأمر سابق من دون لزوم محذور أصلا. فما توهم من أن
المحذور اللازم على القول بالكشف الحقيقي بالمعنى المشهور لازم على هذا
القول أيضا فاسد جدا، ولا أصل له أبدا كما يظهر وجهه من ضوء بياننا المتقدم،
فلاحظ.

(1) المائدة: 2.
(2) البقرة: 197.
372

الثاني: أن الكشف بهذا المعنى أمر معقول في نفسه من ناحية، ومطابق للقاعدة
من ناحية أخرى، ولذا لا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل، فإمكانه يكفي
لوقوعه كما عرفت.
الثالث: أن ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام الوضعية في شئ
واحد غير ملاك استحالة اجتماع الحكمين من الأحكام التكليفية فيه، ولأجل ذلك
يكون تعدد زمان الاعتبار في الأحكام الوضعية مجديا في رفع محذور استحالة
اجتماع اثنين منها في شئ في زمان واحد. وأما في الأحكام التكليفية فلا أثر له
أصلا، كما تقدم. ومن هنا يظهر أن الصحيح: هو ما ذكره المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره) في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره).
وأما القول الرابع - وهو: ما اختاره شيخنا الأستاذ تبعا لشيخنا العلامة
الأنصاري (قدس سره) (1) فملخصه على ما أفاده: هو أن المقام داخل في كبرى قاعدة
وجوب رد المال إلى مالكه، ولا صلة له بقاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار
للاختيار، ولأجل ذلك يكون الخروج واجبا شرعا ولا يجري عليه حكم المعصية.
نعم، بناء على دخوله في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار
للاختيار فالصحيح: هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن الخروج لا
يكون محكوما بحكم شرعي فعلا، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط
بالاضطرار وهو المعصية، فله (قدس سره) دعاو ثلاث:
الأولى: أن الخروج لا يكون محكوما بحكم من الأحكام الشرعية فعلا،
ولكن يجري عليه حكم المعصية للنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه بناء
على كون المقام من صغريات قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
الثانية: أن المقام غير داخل في كبرى تلك القاعدة، وليس من صغرياتها.
الثالثة: أنه داخل في كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه، ولزوم التخلية
بينه وبين صاحبه.

(1) انظر مطارح الأنظار: ص 155 - 156.
373

أما الدعوى الأولى: فقد أفاد (1) (قدس سره): أنه يكفي لإثباتها بطلان القولين
السابقين، أعني: القول بكون الخروج واجبا وحراما فعلا، والقول بكونه واجبا
فعلا وحراما بالنهي السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه. وقد تقدم بطلان كلا
القولين.
أما القول الأول: فلاستحالة كون شئ واحد واجبا وحراما معا.
ودعوى: أن الخطاب التحريمي في المقام خطاب تسجيلي، والغرض منه
تصحيح عقاب العبد، وليس خطابا حقيقيا كما هو الحال في الخطابات المتوجهة
إلى العصاة مع علم الآمر بعدم تحقق الإطاعة منهم خاطئة جدا، وذلك لأنه لا
معنى للخطاب التسجيلي، فإن العبد إن كان مستحقا للعقاب بواسطة مخالفة أمر
المولى أو نهيه مع قطع النظر عن هذا الخطاب فيكون هذا الخطاب لغوا ولا فائدة
له أصلا، ومن المعلوم أن صدور اللغو من الحكيم محال وإن لم يكن مستحقا له في
نفسه مع قطع النظر عنه، فكيف يمكن خطابه بهذا الداعي - أي: بداعي العقاب - مع
عدم قدرته على امتثاله؟ ضرورة أن هذا تعد من المولى على عبده وظلم منه.
فإذا لا يمكن الالتزام بالخطاب التسجيلي، وأما خطاب العصاة مع العلم بعدم
تحقق الإطاعة منهم فهو خطاب حقيقي، بداهة أنه لا يعتبر في صحة الخطاب
الحقيقي إلا إمكان انبعاث المكلف أو انزجاره في الخارج، وهذا المعنى متحقق
في موارد تكليف العصاة على الفرض، فإن العصيان إنما هو باختيارهم، فإذا قياس
المقام بخطاب العصاة قياس مع الفارق. وكيف كان، فلا شبهة في بطلان هذا القول.
وأما القول الثاني: فقد عرفت امتناع تعلق الحكمين بفعل واحد في زمان
واحد ولو كان زمان تعلق الإيجاب مغايرا لزمان تعلق التحريم، لما ذكرناه: من أن
ملاك الاستحالة والإمكان إنما هو بوحدة زمان المتعلق وتعدده، لا بوحدة زمان
الإيجاب والتحريم وتعدده كما تقدم ذلك بشكل واضح.

(1) أنظر أجود التقريرات: ج 1 ص 374.
374

وأما الدعوى الثانية - وهي: عدم كون المقام داخلا في كبرى قاعدة عدم
منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار - فقد استدل عليها بوجوه:
الأول: أن ما يكون داخلا في كبرى هذه القاعدة لابد أن يكون مما قد عرضه
الامتناع باختيار المكلف وإرادته: كالحج يوم عرفة لمن ترك مقدمته باختياره
وقدرته، وكحفظ النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق، ونحوهما من الأفعال
الاختيارية التي تعرض عليها الامتناع بالاختيار. ومن الواضح جدا أن الخروج
من الدار المغصوبة ليس كذلك، فإنه باق على ما هو عليه من كونه مقدورا
للمكلف فعلا وتركا بعد دخوله فيها، ولم يعرض عليه الامتناع كما هو واضح.
نعم، مطلق الكون في الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء بأقل
مقدار يمكن فيه الخروج وإن كان مما لابد منه ولا يتمكن المكلف من تركه
بعد دخوله فيها.
إلا أن ذلك أجنبي عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج كما هو محل
الكلام، ضرورة أن الاضطرار إلى جامع لا يستلزم الاضطرار إلى كل واحد من
أفراده.
مثلا: لو اضطر المكلف إلى التصرف في ماء جامع بين ماء مباح وماء
مغصوب فهو لا يوجب جواز التصرف في المغصوب، لفرض أنه لا يكون مضطرا
إلى التصرف فيه خاصة ليكون رافعا لحرمته، بل هو باق عليها، لعدم الموجب
لسقوطها، فإن الموجب له إنما هو تعلق الاضطرار به، والمفروض أنه غير متعلق
به، وإنما تعلق بالجامع بينه وبين غيره، فإذا لا يجوز التصرف فيه.
نعم، يتعين عليه - عندئذ - التصرف في خصوص الماء المباح ورفع
الاضطرار به، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الاضطرار إلى مطلق الكون في
الأرض المغصوبة الجامع بين الخروج والبقاء لا يوجب الاضطرار إلى خصوص
الخروج، بل الخروج باق على ما هو عليه من كونه مقدورا من دون أن يعرض
عليه ما يوجب امتناعه.
375

فالنتيجة: أن الخروج ليس من مصاديق قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار
للاختيار.
الثاني: أن محل الكلام في هذه القاعدة إنما هو فيما إذا كان ملاك الوجوب
تاما في ظرفه ومطلقا، أي: من دون فرق في ذلك: بين أن تكون مقدمته الإعدادية
موجودة في الخارج أو غير موجودة، وأن يكون وجوبه مشروطا بمجئ زمان
متعلقه أولا، وذلك: كوجوب الحج فإنه وإن كان مشروطا بمجئ يوم عرفة بناء
على استحالة الواجب المعلق إلا أن ملاكه يتم بتحقق الاستطاعة كما هو مقتضى
قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (1)، فإنه ظاهر في
أن ملاك وجوبه في ظرفه صار تاما بعد تحقق الاستطاعة، ولا يتوقف على مجئ
زمان متعلقه وهو يوم عرفة.
وعليه، فمن ترك المسير إلى الحج بعد وجود الاستطاعة يستحق العقاب على
تركه وإن امتنع عليه الفعل عندئذ في وقته، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار. وكذا من ألقى نفسه من شاهق فإنه يستحق العقاب عليه، هذا هو الملاك
في جريان هذه القاعدة.
ومن المعلوم أن هذا الملاك غير موجود في المقام، بل هو في طرف النقيض
مع مورد القاعدة، وذلك لأن الخروج قبل الدخول في الدار المغصوبة لم يكن
مشتملا على الملاك، فالدخول فيها من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة
على الخروج وتحقق ملاك الحكم فيه، ضرورة أن الداخل فيها هو الذي يمكن
توجيه الخطاب إليه بفعل الخروج أو بتركه دون غيره، فإذا لا يمكن أن يكون
الخروج داخلا في موضوع القاعدة.
وعلى الجملة: فمورد القاعدة - كما عرفت - ما إذا كان ملاك الحكم تاما
مطلقا، أي: سواء أوجد المكلف مقدمته الوجودية أم لم يوجد: كوجوب الحج
- مثلا - فإن ملاكه تام بعد تحقق الاستطاعة وإن لم يوجد المكلف مقدمته

(1) آل عمران: 97.
376

في الخارج، غاية الأمر أنه إذا تركها امتنع عليه الحج فيدخل - عندئذ -
في موضوع القاعدة، وهذا بخلاف الخروج فإنه لا ملاك له قبل إيجاد مقدمته
وهي الدخول في الأرض المغصوبة، فيكون الدخول مما له دخل في تحقق الملاك
فيه. وعلى هذا الضوء يمتنع دخول الخروج في كبرى تلك القاعدة كما هو ظاهر.
الثالث: أن مناط دخول شئ في موضوع القاعدة هو: أن يكون الإتيان
بمقدمته موجبا للقدرة عليه ليكون الآتي بها قابلا لتوجيه التكليف إليه فعلا، وهذا
كالإتيان بمقدمة الحج فإنه يوجب تحقق قدرة المكلف على الإتيان به
وصيرورته قابلا لتوجيه التكليف به فعلا.
وأما إذا ترك المسير إليه ولم يأت بهذه المقدمة لامتنع الحج عليه ولسقط
وجوبه، ولكن بما أن امتناعه منته إلى الاختيار فلا يسقط العقاب عنه، وهذا معنى
كونه من صغريات تلك القاعدة.
وأما المقام فليس الأمر فيه كذلك، لأن الدخول وإن كان مقدمة إعدادية
للخروج وموجبا للقدرة عليه إلا أنه يوجب سقوط الخطاب عنه، لا أنه يوجب
فعلية الخطاب به.
والوجه فيه: ما ذكروه من أن المكلف في هذا الحال يدور أمره بين البقاء في
الدار المغصوبة والخروج عنها، ومن المعلوم أن العقل يلزمه بالخروج مقدمة
للتخلص عن الحرام، ولا يجوز له البقاء، لأنه تصرف زائد.
وعلى هذا، فلا محالة يضطر المكلف إلى الخروج عنها، ولا يقدر على تركه
تشريعا وإن كان قادرا عليه تكوينا، ومعه لا يمكن للشارع أن ينهى عنه، ومن
الطبيعي أن مثل هذا غير داخل في مورد القاعدة.
وإن شئت فقل: إن ما نحن فيه ومورد القاعدة متعاكسان، فإن إيجاد المقدمة
فيما نحن فيه - أعني بها: الدخول في الأرض المغصوبة - يوجب سقوط الخطاب
بترك الخروج، وفي مورد القاعدة يوجب فعلية الخطاب كما عرفت. فإذا كيف
يمكن دخول المقام تحت القاعدة؟
377

الرابع: أن الخروج فيما نحن فيه واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل
وهذا يكشف عن كونه مقدورا وقابلا لتعلق التكليف به. ومن المعلوم ان كلما كان
كذلك أعني كونه واجبا ولو بحكم العقل لا يدخل في كبرى تلك القاعدة قطعا،
ضرورة أن مورد القاعدة: هو ما إذا كان الفعل غير قابل لتعلق التكليف به لامتناعه،
واما إذا فرض كونه قابلا كذلك ولو عقلا فلا موجب لسقوط الخطاب المتعلق به
شرعا أصلا، فإذا فرض تعلق الخطاب الوجوبي به مع فرض كونه داخلا في
موضوع القاعدة فرضان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما، وعليه فكيف يمكن كون
المقام من صغريات القاعدة.
نتيجة جميع ما ذكره (قدس سره): هي أن الخروج عن الدار المغصوبة غير داخل في
كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) من الوجوه: أن هذه الوجوه جميعا تبتنى
على الاشتباه في نقطتين:
الأولى: توهم اختصاص القاعدة بموارد التكاليف الوجوبية والغفلة عن أنه
لا فرق في جريانها بين موارد التكاليف الوجوبية وموارد التكاليف التحريمية،
فهما من هذه الناحية على صعيد واحد، والفارق: هو أن ترك المقدمة في التكاليف
الوجوبية غالبا بل دائما يفضي إلى ترك الواجب وامتناع فعله في الخارج، كمن
ترك المسير إلى الحج فإنه يوجب امتناع فعله، وهذا بخلاف التكاليف التحريمية
فإن في مواردها: إيجاد المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار عنه، لا
تركها مثلا: الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار
عنه، لا تركه، فإنه لا يوجب امتناع فعله، فتكون موارد التكاليف التحريمية من
هذه الناحية على عكس موارد التكاليف الوجوبية.
الثانية: توهم اختصاص جريان القاعدة بموارد الامتناع التكويني: كامتناع
فعل الحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه، وعدم جريانها في موارد الامتناع
التشريعي، فتخيل أن الامتناع العارض على الفعل المنتهي إلى اختيار المكلف
378

وإرادته إن كان امتناعا تكوينيا فيدخل في موضوع القاعدة وإن كان تشريعيا
فلا يدخل فيه.
ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أما النقطة الأولى: فلضرورة أن الملاك في جريان هذه القاعدة في مورد: هو
أن ما كان امتناع امتثال التكليف فيه منتهيا إلى اختيار المكلف وإرادته فلا فرق:
بين أن يكون ذلك التكليف تكليفا وجوبيا أو تحريميا، ولا فرق: بين أن يكون
امتناع امتثاله من ناحية ترك ما يفضي إلى ذلك: كترك المسير إلى الحج، أو من
ناحية فعل ما يفضي إليه: كالدخول في الأرض المغصوبة.
فكما أنه على الأول يقال: إن امتناع فعل الحج يوم عرفة بما أنه منته إلى
الاختيار فلا يسقط العقاب عنه فإن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فكذلك
على الثاني يقال: إن امتناع ترك الغصب بما أنه منته إلى الاختيار فلا يسقط
العقاب، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فلا فرق بينهما في الدخول
في موضوع القاعدة أصلا.
وبكلمة أخرى: أنه لا واقع موضوعي لهذه القاعدة، ما عدا كون امتناع امتثال
التكليف منتهيا إلى اختيار المكلف وإرادته، فيقال: إن هذا الامتناع بما أنه مستند
إلى اختياره فلا ينافي العقاب، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، هذا
هو واقع تلك القاعدة. ومن الطبيعي أنه لا فرق في ذلك بين التكليف الوجوبي
والتحريمي أبدا.
نعم، تمتاز التكاليف التحريمية عن التكاليف الوجوبية في نقطة أخرى، وهي:
أن في موارد التكاليف الوجوبية يستند امتناع فعل الواجب في الخارج - كما
عرفت - على ترك المقدمة اختيارا، وفي موارد التكاليف التحريمية يستند امتناع
ترك الحرام - كالمثال المتقدم وما شاكله - إلى فعل المقدمة، ولكن من المعلوم أنه
لا أثر لهذا الفرق بالإضافة إلى الدخول في موضوع القاعدة كما مر.
وأما النقطة الثانية: فلأنه لا فرق في الدخول في كبرى تلك القاعدة بين أن
379

يكون الامتناع الناشئ من الاضطرار بسوء الاختيار تكوينيا: كامتناع فعل الحج
يوم عرفة لمن ترك المسير إليه وما شابه ذلك، أو تشريعيا ناشئا من إلزام الشارع
بفعل شئ أو بتركه، فإن الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، ضرورة أن الميزان في
جريان هذه القاعدة - كما عرفت - هو ما كان امتناع الامتثال مستندا إلى اختيار
المكلف، ومن الطبيعي أن الامتثال قد يمتنع عقلا وتكوينا، وقد يمتنع شرعا. ومن
المعلوم أنه لا فرق بينهما من ناحية الدخول في موضوع القاعدة أصلا إذا كان
منتهيا إلى الاختيار، وهذا واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد جميع هذه الوجوه.
أما الوجه الأول: فلأنه مبني على اختصاص القاعدة بموارد الامتناع
التكويني ليختص جريانها بما إذا عرضه الامتناع في الخارج تكوينا، وكان ذلك
بسوء اختيار المكلف: كالإتيان بالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إليه، وكحفظ
النفس المحترمة لمن ألقى نفسه من شاهق - مثلا - وما شابه ذلك. وعليه، فلا محالة
لا تشمل مثل الخروج عن الدار المغصوبة، لفرض أنه غير ممتنع تكوينا ومقدور
للمكلف عقلا فعلا وتركا وإن كان غير مقدور له تشريعا، ولكن قد عرفت أنه
لا وجه لهذا التخصيص أصلا، ولا فرق في جريان هذه القاعدة: بين أن يكون
امتناع الفعل تكوينيا أو تشريعيا، فكما أنها تجري على الأول فكذلك تجري
على الثاني.
وعلى هدي ذلك قد تبين: أن الخروج عن الأرض المغصوبة في مفروض
الكلام وما شاكله داخل في كبرى تلك القاعدة، وذلك لأن الخروج وإن كان
مقدورا للمكلف تكوينا فعلا وتركا إلا أنه لا مناص له من اختياره خارجا.
والوجه فيه: هو أن أمره في هذا الحال يدور بين البقاء في الأرض المغصوبة
والخروج عنها، ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن التصرف فيها بغير الخروج بما أنه محرم فعلا من جهة
أنه أهم المحذورين وأقوى القبيحين فلا محالة يحكم العقل بتعين اختيار
380

الخروج والفرار عن غيره، ومع هذا يمتنع النهي عنه بالفعل، لأن حكم الشارع
بحرمة البقاء فيها فعلا الموجب لامتناع ترك الخروج تشريعا لا يجتمع مع النهي
عن الخروج أيضا.
فالنتيجة: أنه لا يمكن النهي عنه في هذا الحال، لامتناع تركه من ناحية إلزام
الشارع بترك البقاء والتصرف بغيره كما هو واضح، ولكن بما أنه مستند إلى
اختيار المكلف فلا ينافي العقاب، فإن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وعلى الجملة: فمن دخل الأرض المغصوبة باختياره وإرادته وإن كان قادرا
على الخروج منها عقلا كما أنه قادر على البقاء فيها كذلك فإن ما هو خارج عن
قدرته واختياره هو مطلق الكون فيها الجامع بين البقاء والخروج، لا كل واحد
منهما في نفسه، إلا أن حرمة التصرف فعلا بغير الخروج تستلزم - لا محالة - لزوم
اختيار الخروج بحكم العقل فرارا عن المحذور الأهم. وعلى هذا، فالنهي عن
الخروج ممتنع لامتناع تركه من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره، [لكن هذا تركه
من ناحية حكم العقل بلزوم اختياره] (1) ولكن هذا الامتناع بما أنه منته إلى
اختياره فلا ينافي العقاب، وهذا معنى كونه داخلا في موضوع القاعدة. فما
أفاده (قدس سره) في هذا الوجه لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.
وأما الوجه الثاني: فلأنه مبتن على اختصاص القاعدة بموارد التكاليف
الوجوبية، ببيان: أن المعتبر في دخول شئ في تلك القاعدة: هو أن يكون ملاك
الواجب تاما في ظرفه، سواء أكان المكلف أوجد مقدمته الوجودية أم لا، وذلك
كالحج في الموسم فإن ملاكه تام بعد حصول الاستطاعة وإن لم توجد مقدمته في
الخارج، ففي مثل ذلك إذا ترك المكلف مقدمته كالمسير إليه فلا محالة امتنع
الواجب عليه في ظرفه، ويفوت منه الملاك الملزم، وبما أن تفويته باختياره
فلأجل ذلك يستحق العقاب. وأما الخروج في مفروض الكلام بما أنه لا ملاك

(1) ما حددناه بين المعقوفتين كذا في المطبوع من الأصل، والظاهر أنه زائد ومكرر.
381

لوجوبه قبل حصول مقدمته وهي الدخول - لفرض أن له دخلا في ملاكه وتحقق
القدرة عليه - فلا يكون مشمولا لتلك القاعدة.
وغير خفي ما في ذلك، فإن فيه خلطا بين جريان القاعدة في موارد التكاليف
الوجوبية وجريانها في موارد التكاليف التحريمية، وتخيل أن جريانها في كلا
الموردين على صعيد واحد، مع أن الأمر ليس كذلك، لوضوح أن الكلام في دخول
الخروج في موضوع القاعدة وعدم دخوله ليس من ناحية حكمه الوجوبي ليقال:
إنه قبل الدخول لا ملاك له ليفوت بتركه فيستحق العقاب عليه إذا كان بسوء
اختياره، بل من ناحية حكمه التحريمي، وهذا لعله من الواضحات. ومن المعلوم
أنه من هذه الناحية داخل في كبرى القاعدة، لما عرفت من أن حرمة التصرف
فعلا بغير الخروج أوجبت بحكم العقل لزوم اختياره فرارا عن المحذور الأهم،
وامتناع تركه تشريعا وإن لم يكن ممتنعا تكوينا، ولكن بما أنه منته إلى الاختيار
فيستحق العقاب عليه، لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا: أن التكاليف الوجوبية تمتاز عن التكاليف
التحريمية في نقطة، وهي: أن في موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة غالبا أو
دائما يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها في الخارج تكوينا أو تشريعا، وفي
موارد التكاليف التحريمية فعل المقدمة غالبا يفضي إلى امتناع موافقتها وامتثالها
في الخارج كذلك، فهما من هذه الناحية على طرفي النقيض.
وعلى أساس تلك النقطة قد ظهر حال الخروج فيما نحن فيه، فإن له ناحيتين،
أعني: ناحية حرمته وناحية وجوبه، فمرة ننظر إليه من ناحية حرمته، واخرى من
ناحية وجوبه.
أما من ناحية حرمته فقد عرفت أنه لا إشكال في دخوله في موضوع القاعدة.
ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قدس سره) كيف غفل عن هذه الناحية ولم يتعرض
لها في كلامه أبدا لا نفيا ولا إثباتا، وأصر على عدم انطباق القاعدة عليه؟! مع أنه
من الواضح جدا أنه لو التفت إلى هذه الناحية لالتزم بانطباق القاعدة عليه،
382

بداهة أنه (قدس سره) لا يفرق في جريان هذه القاعدة بين التكاليف الوجوبية والتكاليف
التحريمية، لعدم الموجب له أبدا، وهذا واضح.
وأما من ناحية وجوبه فعلى ما يراه (قدس سره) من أنه واجب شرعا من جهة دخوله
في موضوع قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه فالأمر كما أفاده، لوضوح أنه من
هذه الناحية غير داخل في القاعدة، لعدم الملاك له قبل إيجاد مقدمته وهي
الدخول ليفوت منه ذلك بترك هذه المقدمة، ليستحق العقاب على تفويته إذا كان
باختياره. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنه بعد إيجاد مقدمته بالاختيار لا يفوت منه الواجب على
الفرض ليستحق العقاب على تفويته فإذا لا يمكن أن يكون الخروج من هذه
الناحية داخلا في كبرى القاعدة. ولكن سنبين عن قريب - إن شاء الله تعالى - أن
هذه الناحية ممنوعة، وأن الخروج ليس بواجب شرعا وإنما هو واجب بحكم
العقل، بمعنى: أن العقل يدرك أن المكلف لابد له من اختياره، ولا مناص عنه من
ناحية حكم الشارع بحرمة البقاء فيها فعلا. وعليه، فلا وجه لخروجه عن موضوع
القاعدة.
أضف إلى ذلك: أنه على فرض تسليم وجوبه وإن كان خارجا عنه إلا أنه لا
شبهة في دخوله فيه من ناحية تحريمه كما عرفت. فإذا لا وجه لإصراره (قدس سره)
لخروجه عنه إلا غفلته عن هذه الناحية كما أشرنا إليه آنفا.
وأما الوجه الثالث: فيرد عليه: أنه مبني على الخلط بين مقدمة الواجب
ومقدمة الحرام، والغفلة عن نقطة ميزهما.
بيان ذلك هو: أن إيجاد المقدمة في موارد التكاليف الوجوبية يوجب قدرة
المكلف على إتيان الواجب وامتثاله وصيرورته قابلا لأن يتوجه إليه التكليف
فعلا. وأما في موارد التكاليف التحريمية فترك المقدمة يوجب قدرة المكلف على
ترك الحرام.
وعلى هذا، ففي موارد التكاليف الوجوبية ترك المقدمة المزبورة يوجب
383

امتناع فعل الواجب في الخارج، فيدخل في مورد القاعدة كما عرفت، وفي موارد
التكاليف التحريمية فعل المقدمة يوجب امتناع ترك الحرام، ففيما نحن فيه
الدخول في الأرض المغصوبة يوجب امتناع الخروج تشريعا من ناحية حكم
الشارع بحرمة التصرف بغيره فعلا، ويوجب سقوط النهي عنه، كما أن ترك
الدخول فيها يوجب فعلية النهي عنه.
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده (قدس سره) مبني على خلط مقدمة الحرام بمقدمة
الواجب.
وأما الوجه الرابع: فقد ظهر بطلانه مما تقدم، وملخصه: هو أن حكم العقل
بلزوم اختيار الخروج دفعا للمحذور الأهم وإن كان يستلزم كونه مقدورا للمكلف
تكوينا إلا أنه لا يستلزم كونه محكوما بحكم شرعا، لعدم الملازمة بين حكم
العقل بلزوم اختياره في هذا الحال وإمكان تعلق الحكم الشرعي به.
والوجه في ذلك: هو أن حكم العقل وإدراكه بأنه لابد من اختياره وإن كان
كاشفا عن كونه مقدورا تكوينا إلا أنه مع ذلك لا يمكن للشارع أن ينهى عنه فعلا،
وذلك لأن منشأ هذا الحكم العقلي إنما هو منع الشارع عن التصرف بغيره فعلا،
الموجب لعجز المكلف عنه بقاعدة " أن الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي "، ومع
ذلك لو منع الشارع عنه أيضا منعا فعليا لزم التكليف بما لا يطاق، وهو محال، فإذا
لا يمكن أن يمنع عنه فعلا كما هو واضح، وهذا معنى سقوط النهي عنه وعدم
إمكانه، ولكن بما أن ذلك كان بسوء اختياره وإرادته فلا ينافي العقاب، لأن
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فما أفاده (قدس سره) من دعوى الملازمة بين وجوب الخروج بحكم العقل وكونه
قابلا لتعلق التكليف به خاطئة جدا ولا واقع لها أصلا. نعم، هذه الدعوى تامة على
تقدير القول بكون الخروج محكوما بالوجوب كما هو مختاره (قدس سره).
إلى هنا قد تبين: أن ما أفاده (قدس سره) من الوجوه لإثبات أن الخروج غير داخل في
كبرى تلك القاعدة لا يتم شئ منها.
384

وأما الكلام في الدعوى الثالثة - وهي: كون المقام داخلا في كبرى قاعدة
وجوب رد مال الغير إلى مالكه - فقد ذكر (قدس سره): أنه بعد بطلان دخول المقام في
كبرى قاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالوجوه المتقدمة من ناحية
وبطلان بقية الأقوال من ناحية أخرى لا مناص من الالتزام بكونه داخلا في
موضوع قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه، ببيان: أنه كما يجب رد المغصوب إلى
صاحبه في غير هذا المقام يجب رده إلى مالكه هنا أيضا، وهو يتحقق هنا بالخروج
فإذا يكون الخروج مصداقا للتخلية بين المال ومالكه في غير المنقولات، فيكون
واجبا - لا محالة - عقلا وشرعا، كما أن البقاء فيها على أنحائه محرم.
والوجه في ذلك: هو أن الاضطرار متعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة
الجامع بين البقاء والخروج، لا بخصوص البقاء لتسقط حرمته، ولا بخصوص
الخروج ليسقط وجوبه، ضرورة أن ما هو خارج عن قدرة المكلف إنما هو ترك
مطلق الكون فيها بمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج، لا كل منهما، ولأجل ذلك
لا يمكن النهي عن مطلق الكون فيها، ولكن يمكن النهي عن البقاء فيها بشتى
أنحائه، لأن المفروض أنه مقدور للمكلف فعلا وتركا، ومعه لا مانع من تعلق
النهي به بالفعل أصلا.
ومن هنا قلنا: إن البقاء - وهو التصرف فيها بغير الحركة الخروجية - محرم،
ولا تسقط حرمته من ناحية الاضطرار، لفرض عدم تعلقه به، والخروج بما أنه
مصداق للتخلية بين المال وصاحبه فلا محالة يكون واجبا شرعا، وعليه، فيكون
المقام من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير يكون بعض أفراده واجبا
وبعضها الآخر محرما، نظير: ما إذا اضطر المكلف لرفع عطشه - مثلا - إلى شرب
الماء الجامع بين الماء النجس والطاهر، فإنه لا يوجب سقوط الحرمة عن شرب
النجس، لفرض عدم الاضطرار إليه، بل هو باق على حرمته ووجوب الاجتناب عنه.
وعلى الجملة: فالخروج واجب بحكم الشرع والعقل من ناحية دخوله في
كبرى تلك القاعدة، أعني: قاعدة وجوب التخلية بين المال ومالكه، وامتناع كونه
385

داخلا في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار. ومن المعلوم أن
عنوان التخلص والتخلية من العناوين المحسنة عقلا، المطلوبة شرعا من ناحية
اشتمالها على مصلحة إلزامية. وأما غيره - أي: غير الخروج - من أقسام التصرف
فيبقى على حرمته كما عرفت (1).
والجواب عن ذلك: أن الحركات الخروجية مضادة لعنوان التخلية والتخلص،
ضرورة أن تلك الحركات تصرف في مال الغير حقيقة وواقعا، ومصداق للغصب
كذلك، ومعه كيف تكون مصداقا للتخلية، لوضوح أن التخلية هي إيجاد الخلاء في
المكان وهو يضاد الاشغال والابتلاء به؟
ومن الواضح جدا أن الحركات الخروجية مصداق لعنوان الإشغال والابتلاء،
فكيف يصدق عليه عنوان التخلص والتخلية؟ فإنهما من العناوين المتضادة فلا
يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر، بداهة أن ظرف تحقق الخلاص
وإيجاد الخلاء والفراغ بين المال ومالكه حال انتهاء الحركة الخروجية، وعليه،
فكيف يعقل أن تكون تلك الحركات مصداقا للتخلية ومعنونة بعنوان التخلص؟
وبكلمة أخرى: أن من يقول بهذه المقالة - أي: بكون الحركة الخروجية
مصداقا للتخلص والتخلية -: إن أريد بمصداقيتها لها بالإضافة إلى أصل الغصب
هنا والتصرف في مال الغير فيرد ذلك: ما عرفت الآن: من أنه ما دام في الدار
سواء اشتغل بالحركات الخروجية أم لا فهو معنون بعنوان الابتلاء والاشغال
بالغصب، لا بعنوان التخلص والتخلية، فهما عنوانان متضادان لا يصدقان على
شئ واحد. هذا إذا كان عنوان التخلص عنوانا وجوديا وعبارة عن إيجاد الفراغ
والخلاء بين المال وصاحبه، كما هو الصحيح.
وأما إذا فرض أنه عنوان عدمي وعبارة عن ترك الغصب فيكون - عندئذ -
نقيضا لعنوان الابتلاء، ومن الطبيعي استحالة صدق أحد النقيضين على ما يصدق
عليه الآخر.

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 374 - 379.
386

وكيف كان، فعنوان التخلص سواء كان عنوانا وجوديا أو عدميا فهو مقابل
لعنوان الابتلاء، فلا يصدق أحدهما على ما يصدق عليه الآخر.
وإن أريد بالإضافة إلى الغصب الزائد على ما يوازي زمان الخروج ببيان: أن
التصرف في مال الغير في هذا المقدار من الزمان مما لابد منه فلا يتمكن المكلف
من تركه، ولأجل ذلك ترتفع حرمته، وأما الزائد على ما يوازي هذا الزمان فهو
متمكن من تركه بالخروج عنها وقادر على التخلص عنه، فعندئذ - لا محالة - تقع
الحركات الخروجية مصداقا للتخلية والتخلص بالإضافة إلى الغصب الزائد، ومعه
تكون محبوبة ومشتملة على مصلحة إلزامية فتجب فيرد على ذلك: أن عنوان
التخلص لا يصدق عليها بالإضافة إلى الغصب الزائد أيضا، ضرورة أن صدق
عنوان التخلص عن الشئ فرع الابتلاء به، فما دام لم يبتل بشئ فلا يصدق أنه
خلص عنه إلا بالعناية والمجاز، والمفروض في المقام أن المكلف بعد غير مبتلى
به ليصدق عليه فعلا أنه خلص منه بهذه الحركات الخروجية.
نعم، بعد مضي زمان بمقدار يوازي زمان الخروج إن بقي المكلف فيها فهو
مبتلى به، لفرض بقائه وعدم خروجه، وإن خرج فهو متخلص عنه، فعنوان
التخلص عن الغصب الزائد يصدق عليه بعد الخروج وفي ظرف انتهاء الحركة
الخروجية إلى الكون في خارج الدار لا قبله كما هو واضح. وعليه، فكيف تتصف
تلك الحركة بعنوان التخلص والتخلية؟
ودعوى: أن هذه الحركات وإن لم تكن مصداقا لعنوان التخلية والتخلص
لتكون واجبة بوجوب نفسي إلا أنه لا شبهة في كونها مقدمة له فتكون واجبة
بوجوب مقدمي خاطئة جدا، ولا واقع موضوعي لها أصلا، وذلك لأن تلك
الحركات الخاصة - أعني: الحركات الخروجية - مقدمة للكون في خارج الدار،
ولا يعقل أن تكون مقدمة لعنوان التخلص، فإن عنوان التخلص لا يخلو: من أن
يكون عنوانا وجوديا وعبارة عن إيجاد الفراغ بين المال وصاحبه كما هو
الصحيح، أو يكون أمرا عدميا وعبارة عن عدم الغصب وتركه، وعلى كلا
387

التقديرين فهو ملازم للكون في خارج الدار وجودا، لا أنه عينه. أما الثاني
فواضح، ضرورة أن ترك الغصب ليس عين الكون في خارج الدار، بل هو ملازم له
خارجا، لاستحالة أن يكون الأمر العدمي مصداقا للأمر الوجودي، وبالعكس وأما
الأول فأيضا كذلك، لوضوح أن عنوان التخلص والتخلية ليس عين عنوان الكون
فيه خارجا ومنطبقا عليه انطباق الطبيعي على فرده، بل هو ملازم له وجودا في
الخارج. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنا قد ذكرنا غير مرة: أن حكم أحد المتلازمين لا يسري
إلى الملازم الآخر فضلا عن مقدمته.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لا يمكن الحكم بوجوب تلك الحركات من
باب المقدمة أيضا، فإن ما هو واجب - وهو عنوان التخلص - ليس تلك الحركات
مقدمة له، وما كانت تلك الحركات مقدمة له - وهو الكون في خارج الدار - ليس
بواجب، ضرورة أن الكون فيه ليس من أحد الواجبات في الشريعة المقدسة
لتكون مقدمته واجبة.
وبكلمة أخرى: فقد عرفت أن عنوان التخلية: إما أن يكون مضادا للحركات
الخروجية، أو مناقضا لها، وعلى كلا التقديرين لا يعقل أن تكون تلك الحركات
مقدمة له، لما ذكرناه في بحث الضد من استحالة كون أحد الضدين مقدمة للضد
الآخر، أو أحد النقيضين مقدمة لنقيضه كما تقدم هناك بشكل واضح، فلا حظ.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن عنوان التخلص متحد مع عنوان الكون في
خارج الدار ومنطبق عليه انطباق الطبيعي على مصداقه فعندئذ وإن كانت تلك
الحركات مقدمة له - أي: لعنوان التخلية والتخلص - إلا أنه قد تقدم في بحث
مقدمة الواجب أنه لا دليل على ثبوت الملازمة بين وجوب شئ ووجوب
مقدمته، لتكون تلك الحركات واجبة بوجوب مقدمي.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن الخروج ليس بواجب، لا بوجوب نفسي، لعدم
الملاك والمقتضي له، ولا بوجوب مقدمي، لعدم ثبوت الصغرى أولا، وعلى تقدير
ثبوتها فالكبرى غير ثابتة.
388

أضف إلى ذلك: أن الخروج ليس عنوانا لتلك الحركات المعدة للكون في
الخارج، بل هو عنوان لذلك الكون فيه، ضرورة أنه مقابل الدخول، فكما أن
الدخول عنوان للكون في الداخل فكذلك الخروج عنوان للكون في الخارج. فإذا
لو صدق عليه عنوان التخلية والتخلص أيضا فلا يجدي في اتصاف تلك الحركات
بالوجوب كما هو واضح.
فما أفاده (قدس سره): من أن الخروج مصداق للتخلية بين المال وصاحبه لو سلمنا
ذلك فلا يفيده أصلا، لأن ذلك لا يوجب كون تلك الحركات محبوبة وواجبة،
لفرض أنها ليست مصداقا لها، غاية الأمر أنها - عندئذ - تكون مقدمة للواجب،
ولكن عرفت أن مقدمة الواجب غير واجبة، ولا سيما إذا كانت مبغوضة.
ومن هنا يظهر: أن قياسه (قدس سره) المقام بالاضطرار إلى الجامع بين المحلل
والمحرم قياس في غير محله لما عرفت: من أن الخروج ليس بواجب ليكون
الاضطرار في المقام متعلقا بالجامع بين الواجب والحرام.
إلى هنا قد تبين بوضوح بطلان بقية الأقوال وصحة قول المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره)، وهو: أن المقام داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار
للاختيار (1)، وقد ظهر وجهها مما تقدم بشكل واضح فلا نعيد.
ثم إن له (قدس سره) هنا كلاما آخر، وحاصله: هو أنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن
الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بدون إذنه في حال من الحالات ولو كان
ذلك بعنوان التخلية ورده إليه كالخروج عن الدار المغصوبة في المقام - كما هو
ليس ببعيد - فغاية ما يوجب ذلك: هو أن يكون حال الخروج هنا حال شرب
الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة.
وبيان ذلك: هو أن الشارع بما أنه ينهى عن شرب الخمر مطلقا من أي
شخص كان وفي أية حالة ولا يرضى بشربه أصلا، لما فيه من المفسدة الإلزامية
فمن الطبيعي أنه لا يرضى بارتكاب المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شربه،

(1) كفاية الأصول: ص 204.
389

ولكن بعد ارتكاب تلك المقدمة في الخارج ولو باختياره واضطراره إلى شربه من
ناحية توقف حفظ النفس عليه - لا محالة - لا يقع هذا الشرب المتوقف عليه ذلك
إلا محبوبا للمولى ومطلوبا له عقلا وشرعا، وذلك كمن يجعل نفسه مريضا باختياره
وإرادته ويضطر بذلك إلى شربه، أو يأتي بمقدمة يضطر بها في حفظ بيضة الإسلام
إلى قتل نفس محترمة مثلا.... وهكذا، ولكن بعد جعل نفسه مضطرا إلى ذلك لا يقع
الشرب المتوقف عليه حفظ النفس إلا مطلوبا عقلا وشرعا، وكذا قتل النفس
المحترمة المتوقف عليه حفظ الدين لا يقع في الخارج إلا محبوبا ومطلوبا.
وما نحن فيه كذلك، فإن الشارع بما أنه لا يرضى بالتصرف في مال الغير
بدون إذنه مطلقا ولو كان ذلك بالخروج وبعنوان التخلية ورده إلى مالكه فلا محالة
يحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى الخروج، أعني بها: الدخول،
فعندئذ يقع الدخول محرما من ناحية نفسه ومن ناحية كونه مقدمة للخروج، وأما
الخروج بعده فيقع محبوبا ومطلوبا عقلا وشرعا.
وعلى الجملة: فالخروج لا يخلو: من أن يكون حاله حال ترك الصلاة فيكون
مبغوضا في حال دون آخر، كما في حال الحيض والنفاس وما شاكل ذلك، فإنه
يجوز للمرأة أن تفعل فعلا كأن تشرب دواء يترتب عليه الحيض لتترك صلاتها،
أو يكون حاله حال شرب الخمر فيكون مبغوضا في جميع الحالات، ولذا يحرم
التسبيب إليه. فإن كان من قبيل الأول فهو واجب نفسا من ناحية كونه مصداقا
للتخلية بين المال ومالكه، وإن كان من قبيل الثاني فهو واجب غيري من ناحية
كونه مقدمة لواجب أهم، وهو التخلية بين المال ومالكه، فيكون حاله - عندئذ -
حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس المحترمة، فكما أنه بعد الاضطرار
إليه بسوء اختياره واجب بوجوب غيري ومطلوب للشارع فكذلك الخروج
بعد الدخول.
غاية الأمر: أن المقدمة التي بها اضطر المكلف إلى شرب الخمر لحفظ النفس
المحترمة سائغة في نفسها، ولكنها صارت محرمة من ناحية التسبيب والمقدمية.
390

والمقدمة التي بها اضطر إلى الخروج محرمة في نفسها مع قطع النظر عن كونها
مفضية إلى ارتكاب محرم آخر ومقدمة له، ولكن من المعلوم أنه لا دخل لذلك
فيما نحن فيه أصلا، بداهة أنه لا فرق في وقوع شرب الخمر مطلوبا في هذا الحال
بين كون المقدمة التي توجب اضطرار المكلف إليه سائغة في نفسها أو محرمة
كذلك.
غاية الأمر على الثاني يكون العقاب من ناحيتين: من ناحية حرمتها النفسية،
ومن ناحية التسبيب بها إلى ارتكاب محرم آخر.
فالنتيجة: هي أن الخروج: إما أن يكون ملحقا بالقسم الأول، وعلى هذا
فيكون واجبا في نفسه ومطلوبا لذاته، ولا يكون محرما أبدا بمعنى: أن التصرف
في أرض الغير بالدخول والبقاء فيها محرم لا مطلقا ولو كان بالخروج، فإنه
واجب باعتبار كونه مصداقا للتخلية بين المال ومالكه.
وإما أن يكون ملحقا بالقسم الثاني، وعلى هذا فيكون واجبا غيريا باعتبار
أنه مقدمة لواجب أهم وإن كان محرما في نفسه من ناحية أنه تصرف في مال
الغير وهو محرم مطلقا على الفرض.
وكيف كان، فهو على كلا التقديرين غير داخل في موضوع قاعدة عدم منافاة
الامتناع بالاختيار للاختيار.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره)، وهي: أن تلك الحركات - أعني:
الحركات التي هي مقدمة للكون في خارج الدار - خارجة عن كلا البابين، فكما
أنها ليست من صغريات الباب الأول فكذلك ليست من صغريات هذا الباب.
والوجه في ذلك ما تقدم: من أن تلك الحركات بقيت على ما هي عليه من
المبغوضية، من دون أن تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية، بداهة أنها
تصرف في مال الغير بدون إذنه ومصداق للغصب، ومعه كيف تعرض عليها جهة
محبوبية؟ وقد سبق أنها ليست مقدمة لواجب أيضا ليعرض عليها الوجوب الغيري.
غاية ما في الباب: أن العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية أنها
391

أخف القبيحين وأقل المحذورين، وبما أن ذلك منته إلى اختيار المكلف فلا ينافي
استحقاق العقاب عليها. وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت أنها غير واجبة.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا عروض الوجوب الغيري لها فمن الطبيعي أنه لا
ينافي مبغوضيتها النفسية واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء
الاختيار كما هو الحال في المقام، ضرورة أن الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك
ومحبوبية متعلقه ليقال: إنها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها؟ بل هو
ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها، ومن المعلوم أنها لا تنافي
مبغوضيتها النفسية أصلا.
ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضا، وذلك لأن العقاب فيهما ليس
على التسبيب والإتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل
النفس المحترمة.
والوجه في ذلك: هو أن تلك المقدمة لو كانت محرمة في ذاتها ومبغوضة
للمولى لاستحق العقاب على نفسها، سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرم آخر أم لا.
وأما لو لم تكن محرمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها فلا وجه لاستحقاق
العقاب عليها أصلا، بل يستحق العقاب - عندئذ - على ارتكاب المحرم: كشرب
الخمر - مثلا - أو قتل النفس، لفرض أن الاضطرار إلى ذلك منته إلى الاختيار،
بداهة أنه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضا
للمولى، بل كان محبوبا له من ناحية عروض الوجوب الغيري له على الفرض لا
معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه - أي: التسبيب - مبغوضا
ومحرما، لوضوح أن التسبيب إلى المحرم حرام ومبغوض، لا التسبيب إلى غيره.
وأما إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوبا فلا يعقل كون التسبيب إليه
محرما، وهذا واضح.
فإذا لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل
باعتبار أن الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منته إلى الاختيار فلا ينافي العقاب،
392

ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافي مبغوضيته في
نفسه، لفرض أن الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه، بل هو
ناش عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلا كما عرفت.
فالنتيجة: أن هذين المثالين وما شاكلهما - كالخروج - جميعا داخل في كبرى
قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، وأن الجميع - بالإضافة إلى
الدخول - في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد، وأن العقل في جميع ذلك يرشد
إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.
وقد تحصل من ذلك: أن الصحيح: هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره):
من أن الخروج أو ما شاكله ليس محكوما بشئ من الأحكام الشرعية فعلا، ولكن
يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء
الاختيار، ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وإن
كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فرارا عن المحذور الأهم، ولكن
عرفت: أن ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهيا إلى سوء اختياره كما هو
مفروض المقام.
أما الكلام في المقام الثاني - وهو: حكم الصلاة الواقعة حال الخروج - فيقع
في عدة موارد:
الأول: ما إذا كان المكلف غير متمكن من الصلاة في خارج الدار أصلا، لا مع
الركوع والسجود، ولا مع الإيماء لضيق الوقت أو نحوه.
الثاني: أن يتمكن من الصلاة مع الإيماء فيه، ولا يتمكن من الصلاة مع الركوع
والسجود.
الثالث: أن يتمكن من الصلاة في الخارج مع الركوع والسجود لسعة الوقت.
أما الكلام في المورد الأول: فيجوز له الصلاة حال الخروج، ولكن يقتصر
فيها على الإيماء بدلا عن الركوع والسجود، وذلك لاستلزامهما التصرف الزائد
على قدر الضرورة، ومعه - لا محالة - تنتقل الوظيفة إلى بدلهما وهو الإيماء.
هذا على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية.
393

وأما على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع وجودا فمقتضى القاعدة
الأولية عدم جواز إيقاع الصلاة حال الخروج، لفرض أن الحركات الخروجية
متحدة مع الصلاة خارجا، ومعه لا يمكن التقرب بها، ضرورة استحالة التقرب بما
هو مبغوض للمولى.
ولكن مقتضى القاعدة الثانوية: هو لزوم الإتيان بها، لأنها لا تسقط بحال،
ومرد ذلك إلى سقوط المبغوضية عن تلك الحركات بمقدار زمان تسع الصلاة فيه.
وبكلمة أخرى: أن من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ولا يتمكن من
الخروج عنها لمانع من سد باب أو نحوه إلى أن ضاق وقت الصلاة فعندئذ على
القول بالجواز وتعدد المجمع لا إشكال في صحة الصلاة بناء على ما هو الصحيح
من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه، لفرض أن مصداق المأمور به غير
متحد مع مصداق المنهي عنه، ومعه لا مانع من التقرب به أصلا وإن كان المكلف
مستحقا للعقاب من ناحية أن تصرفه في مال الغير بدون إذنه منته إلى الاختيار.
والإشكال إنما هو على القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الحركات
الخروجية، وحاصله: أن الحرمة في المقام وإن سقطت من ناحية الاضطرار،
ضرورة أن بقاء الحرمة في هذا الحال مع عدم تمكن المكلف من الترك - أي: ترك
الحرام - لغو محض وتكليف بما لا يطاق إلا أن مبغوضيتها باقية. ومن المعلوم
أنها تمنع عن قصد التقرب، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض عند المولى.
وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة، لفرض أنها مبغوضة فيستحيل أن
يكون مقربا.
هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية، فلو كنا نحن وهذه القاعدة ولم يكن هنا دليل
آخر يدل على وجوب الصلاة وعدم سقوطها بحال لقلنا بسقوطها وعدم وجوبها
في المقام. ولكن من جهة دليل آخر وأنها لا تسقط بحال نلتزم بوجوبها وعدم
سقوطها في هذا الحال أيضا، ولازم ذلك: هو سقوط المبغوضية، بمعنى: أن الصلاة
في هذا الحال ليست بمبغوضة، بل هي محبوبة فعلا وقابلة للتقرب بها، ولكن لابد
394

- عندئذ - من الالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الحركات التي تكون مصداقا
للصلاة بمقدار زمان يسع الصلاة دون الزائد على ذلك، فإن الضرورات تتقدر
بقدرها، لوضوح أن ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال من ناحية وعدم إمكان
الحكم بصحتها هنا مع فرض بقاء المبغوضية من ناحية أخرى أوجب الالتزام
بسقوط تلك المبغوضية عن هذه الحركات الصلاتية - لا محالة - في زمان يسع لها
فحسب، لا مطلقا، لعدم المقتضي لارتفاع المبغوضية عنها في الزائد على هذا
المقدار من الزمان، بل هي باقية على حالها من المبغوضية.
وإن شئت فقل: إن المقتضي للالتزام بسقوط المبغوضية أمران:
الأول: وجوب الصلاة في هذا الحال، وعدم سقوطها عن المكلف على
الفرض.
الثاني: عدم إمكان الحكم بصحة الصلاة مع بقاء المبغوضية، ضرورة استحالة
التقرب بما هو مبغوض، فعندئذ لو لم نلتزم بسقوط المبغوضية عنها في زمان يسع
لفعلها للزم التكليف بما لا يطاق وهو محال، ولأجل ذلك لابد من الالتزام
بسقوطها. ومن المعلوم أن ذلك لا يقتضي إلا جواز التصرف بمقدار زمان يسع
لفعل الصلاة فحسب، وأما الزائد عليه فلا مقتضي للجواز وارتفاع المبغوضية
أصلا، هذا بناء على وجهة نظر الأصحاب من القول بالجواز أو الامتناع في مسألة
الاجتماع.
وأما بناء على ما حققناه هناك: من أن أجزاء الصلاة لا تتحد مع الغصب
خارجا ما عدا السجدة، باعتبار أن مجرد مماسة الجبهة الأرض لا يكفي في
صدقها، بل لابد فيها من الاعتماد على الأرض، وبدونه لا تصدق السجدة. ومن
المعلوم أنه تصرف في مال الغير بدون إذنه، وهو مبغوض للمولى فلا يمكن
التقرب به.
نعم، نفس هيئة السجود ليست تصرفا فيه، فإنها من هذه الناحية كهيئة الركوع
والقيام والقعود. وقد ذكرنا: أن هذه الهيئات التي تعتبر في الصلاة ليس شئ منها
متحدا مع الكون في الأرض المغصوبة ومصداقا للغصب.
395

نعم، الحركات المتخللة بينها: كالهوي والنهوض وإن كانت تصرفا فيها
ومصداقا له إلا أنها ليست من أجزاء الصلاة، فما هو من أجزائها غير متحد مع
الغصب خارجا، وما هو متحد معه ليس من أجزائها. وقد سبق الكلام في كل ذلك
بشكل واضح.
فعندئذ لا مانع من الحكم بصحة الصلاة هنا أصلا، وإن قلنا بفسادها في غير
حال الخروج من ناحية السجدة أو الركوع، أو من ناحية مقدماتهما، ومعه لا
حاجة إلى التماس دليل آخر يدل على وجوبها في هذا الحال، وذلك لأن الصلاة
في حال الخروج في مفروض المقام ليست إلا مشتملة على التكبيرة والقراءة
والإيماء بدلا عن الركوع والسجود. ومن الطبيعي أنه ليس شئ منها تصرفا في
مال الغير عرفا ومصداقا للغصب.
أما التكبيرة والقراءة فلأنهما من مقولة الكيف المسموع، ومن الواضح أنه لا
صلة لها بالتصرف في مال الغير أصلا، كما أنه من الواضح أنه لا يعد تموج الهواء
وخرقه الناشئ من الصوت تصرفا.
وأما الإيماء للركوع والسجود فأيضا كذلك، ضرورة أنه لا يعد تصرفا في
ملك الغير عرفا ليكون مبغوضا. نعم، لا تجوز الصلاة في هذا الحال مع الركوع
والسجود، لاستلزامهما التصرف الزائد وهو غير جائز، فإذا - لا محالة - تنتقل
الوظيفة إلى الإيماء كما عرفت.
فالنتيجة: أن الصلاة مع الإيماء في حال الخروج صحيحة مطلقا، من دون
حاجة إلى التماس دليل آخر، ومع الركوع والسجود باطلة.
وأما الكلام في المورد الثاني - وهو: ما إذا لم يكن المكلف متمكنا من الصلاة
في خارج الأرض المغصوبة إلا مع الإيماء للركوع والسجود - فقد ظهر أنه على
القول بالجواز في المسألة وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية كما
حققناه الآن فلا إشكال في صحة الصلاة حال الخروج، بناء على ما هو الصحيح
من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.
396

والوجه في هذا واضح، وهو: أن الصلاة حال الخروج ليست مصداقا للغصب
وتصرفا في مال الغير على الفرض. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنها لا تستلزم التصرف الزائد على نفس الخروج، لفرض
أنها غير مشتملة على الركوع والسجود المستلزمين له.
ومن ناحية ثالثة: أن المكلف غير قادر على الصلاة التامة الأجزاء والشرائط
في خارج الدار لتكون هذه الصلاة - أعني: الصلاة مع الإيماء حال الخروج - غير
مشروعة في حقة، لأنها وظيفة العاجز دون القادر.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي أنه لا مناص من الالتزام بصحة هذه الصلاة في
هذا الحال، أعني: حال الخروج. وأما بناء على القول بالامتناع وفرض اتحاد
الصلاة مع الغصب خارجا فلا تجوز الصلاة حال الخروج، بل لابد من الاتيان بها
خارج الدار، وذلك لفرض أنها مصداق للغصب ومبغوض للمولى، ومعه لا يمكن
التقرب بها، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض.
وأما الكلام في المورد الثالث - وهو: ما إذا كان المكلف متمكنا من الصلاة
التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار - فلا إشكال في لزوم إتيانها في الخارج،
وعدم جواز إتيانها حال الخروج ولو على القول بالجواز في المسألة.
والوجه في ذلك ظاهر، وهو: أن المكلف لو أتى بها في هذا الحال لكان عليه
الاقتصار على الإيماء للركوع والسجود، ولا يجوز له الإتيان بها معهما،
لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة، وهو غير جائز، فإذا لابد من
الاقتصار على الايماء. ومن الواضح جدا أن من يتمكن من المرتبة العالية من
الصلاة - وهي الصلاة مع الركوع والسجود - لا يجوز له الاقتصار على المرتبة
الدانية وهي الصلاة مع الإيماء، ضرورة أنها وظيفة العاجز عن المرتبة الأولى،
وأما وظيفة المتمكن منها فهي تلك المرتبة لا غيرها، لوضوح أنه لا يجوز
الانتقال من هذه المرتبة - أعني: المرتبة العالية إلى غيرها من المراتب - إلا في
صورة العجز عن الإتيان بها.
397

وإن شئت فقل: إن الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة الجامع بين المبدأ
والمنتهى، والمفروض أن المكلف قادر على إتيان هذا الطبيعي بينهما، ومعه
- لا محالة - لا تنتقل وظيفته إلى صلاة العاجز والمضطر وهي الصلاة مع الايماء
كما هو واضح. هذا على القول بالجواز.
وأما على القول بالامتناع فالأمر أوضح من ذلك، لأنه لو قلنا بجواز الصلاة
حال الخروج في هذا الفرض - أي: فرض تمكنه من صلاة المختار في خارج
الدار على القول بالجواز - فلا نقول به على هذا القول، لفرض أن الصلاة على هذا
متحدة مع الغصب خارجا ومصداق له، ومعه لا يمكن التقرب بها، بداهة استحالة
التقرب بالمبغوض.
وعلى الجملة: فالمانع على القول بالامتناع أمران:
أحدهما: مشترك فيه بينه وبين القول بالجواز، وهو: أن الصلاة مع الإيماء
ليست وظيفة له.
وثانيهما: مختص به، وهو: أن الصلاة على هذا القول متحدة مع الحركة
الخروجية التي هي مصداق للغصب. ومعه لا يمكن أن تقع مصداقا للمأمور به.
ثم لا يخفى أن الصلاة في حال الخروج مع عدم التمكن منها مع الركوع
والسجود في الخارج على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) تقع صحيحة مطلقا، أي:
بلا فرق في ذلك بين القول بالامتناع في المسألة والقول بالجواز، وذلك لأن
الحركات الخروجية على وجهة نظره (قدس سره) محبوبة للمولى وواجبة من ناحية انطباق
عنوان التخلية عليها، وعلى هذا فلا محالة تقع الصلاة صحيحة وإن كانت متحدة
مع تلك الحركات خارجا، لفرض أنها ليست بمبغوضة لتكون مانعة عن صحتها
والتقرب بها. بل هي محبوبة. نعم، لو استلزمت الصلاة في هذا الحال تصرفا زائدا
فلا تجوز، وهذا واضح.
فالنتيجة: أن نظريتنا تفترق عن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) في الصلاة حال
الخروج. فإن الحركات الخروجية على وجهة نظرنا مبغوضة وموجبة لاستحقاق
398

العقاب عليها، ولذا تقع الصلاة فاسدة في صورة اتحادها معها خارجا، وعلى
وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) محبوبة وتقع الصلاة في هذا الفرض صحيحة.
هذا تمام الكلام في مسألة الاضطرار.
بقي هنا أمور:
الأول: أنا قد ذكرنا: أن مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع
في مورد الاجتماع وجودا وماهية من صغريات كبرى باب التعارض، كما أنها
على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات كبرى باب التزاحم. وقد
تقدم الكلام في هاتين الناحيتين بصورة واضحة فلا نعيد. كما أنه تقدم النقد على
ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في ضمن المقدمة الثامنة والتاسعة والعاشرة،
فلا حاجة إلى الإعادة.
الثاني: أنه على القول بالامتناع في المسألة فهل هناك مرجح لتقديم جانب
الحرمة على جانب الوجوب، أو بالعكس، أو لا يكون مرجح لشئ منهما؟ هذا
فيما إذا لم يكن دليل من الخارج على تقديم أحدهما على الآخر: كإجماع أو
نحوه، وإلا فلا كلام. وقد ذكروا لترجيح جانب النهي على جانب الأمر وجوها:
منها: أن دليل النهي أقوى دلالة من دليل الأمر، وذلك لأن الإطلاق في طرف
دليل النهي شمولي، ضرورة أن حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه بمقتضى
قوله (عليه السلام): " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " (1) ونحوه لا تختص بمال
دون مال وبتصرف دون آخر، فهي تنحل بحسب الواقع بانحلال موضوعها
ومتعلقها في الخارج، ففي الحقيقة تكون نواه متعدد بعدد أفراد الموضوع
والمتعلق، فيكون كل تصرف محكوما بالحرمة على نحو الاستقلال، من دون
ارتباط حرمته بحرمة تصرف آخر... وهكذا.

(1) الوسائل: ج 29 ص 10 ب 1 من أبواب القصاص في النفس ح 3.
399

وهذا بخلاف الإطلاق في طرف دليل الأمر فإنه بدلي، وذلك لأن الأمر
المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشئ يقتضي كون المطلوب هو صرف
وجودها في الخارج بعد استحالة أن يكون المطلوب هو تمام وجودها. ومن
المعلوم أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود، فيكون الوجود الثاني
والثالث... وهكذا غير مطلوب، وهذا معنى كون الإطلاق في طرف الأمر بدليا وقد
بينا السر في أن الإطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي، والإطلاق في
طرف النواهي المتعلقة بها شمول في أول بحث النواهي بصورة مفصلة فلاحظ.
ولذلك - أي: لكون الإطلاق في طرف النهي شموليا وفي طرف الأمر بدليا -
ذكروا: أن الإطلاق الشمولي يتقدم على الإطلاق البدلي في مقام المعارضة،
وذهب إليه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره)، وتبعه على ذلك شيخنا الأستاذ (قدس سره)،
واستدل عليه بوجوه ثلاثة: وقد تقدمت تلك الوجوه مع المناقشة عليها بصورة
مفصلة في بحث الواجب المشروط، وملخصها:
1 - إن تقديم الإطلاق البدلي على الإطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن
بعض مدلوله، وهذا بخلاف تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، فإنه لا
يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله، لفرض أن مدلوله واحد وهو محفوظ، غاية
الأمر أن ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على أفراده.
2 - إن ثبوت الإطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة أخرى زائدا على كون المولى
في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف، وهي: إحراز تساوي أفراد
المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها، وهذا بخلاف الإطلاق
الشمولي، فإنه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة، وبتلك
المقدمات يتم الإطلاق وسريان الحكم إلى جميع أفراده وإن كانت الأفراد مختلفة
من جهة الملاك المقتضي لجعل الحكم عليها. ومن المعلوم أنه مع وجود الإطلاق
الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض، وهذا معنى تقديم
الإطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع، لفرض عدم ثبوت الإطلاق له
بالإضافة إلى هذا الفرد.
400

3 - إن حجية الإطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف
عن حكم العقل بالتخيير، والإطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعا، فلو توقف
عدم مانعيته على وجود الإطلاق البدلي لدار.
ولنأخذ بالمناقشة عليها:
أما الوجه الأول فيرد عليه:
أولا: أن العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنما تكون بقوته، ومجرد
أن تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا
يكون موجبا للتقديم.
وثانيا: أن الحكم الإلزامي في مورد الإطلاق البدلي وإن كان واحدا متعلقا
بصرف وجود الطبيعة إلا أن الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من
أفرادها، وذلك لأن لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أي
فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه، فالعموم بالإضافة إلى هذا الحكم - أعني:
الحكم الترخيصي - شمولي لا محالة.
فإذا كما يستلزم تقديم الإطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض
مدلوله كذلك يستلزم تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض
مدلوله، وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.
وأما الوجه الثاني فيرده: أن التخيير الثابت في مورد الإطلاق البدلي ليس
تخييرا عقليا، بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد
خاص، وبذلك يحرز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى
مقدمة أخرى خارجية، ولذلك لو شك في تعيين بعض الأفراد لاحتمال أن الملاك
فيه أقوى من الملاك في غيره يدفع ذلك الاحتمال بالإطلاق، فالإطلاق بنفسه
محرز للتساوي بلا حاجة إلى شئ آخر.
وعليه، فلا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي عليه، بل تقع المعارضة بينهما في
مورد الاجتماع، فإن مقتضى الإطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة
401

المأمور بها على أي فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه، وهو يعارض مقتضى
الإطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.
وعلى الجملة: فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه: أن ثبوت الإطلاق للمطلق البدلي
يحتاج إلى مقدمة أخرى زائدا على مقدمات الحكمة، وهي: إحراز تساوي أفراده
في الوفاء بالغرض، وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي فإنه لا يحتاج إلى
مقدمة زائدة على تلك المقدمات، فإذا هو مانع عن ثبوت الإطلاق له، أي: للمطلق
البدلي بالإضافة إلى مورد الاجتماع، ضرورة أنه بعد كون مورد الاجتماع
مشمولا للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز أنه واف بغرض الطبيعة المأمور بها
كبقية أفرادها، وهذا معنى عدم إحراز تساوي أفرادها مع وجود الإطلاق
الشمولي.
ولكن تلك النقطة خاطئة جدا، لأنها ترتكز على كون التخيير بين تلك
الأفراد عقليا، ولكن عرفت أن التخيير شرعي مستفاد من الإطلاق وعدم تقييد
الشارع الطبيعة بحصة خاصة، فإذا نفس الإطلاق كاف لإحراز التساوي، وإلا
لكان على المولى التقييد ونصب القرينة، والعقل وإن احتمل وجدانا عدم التساوي
إلا أنه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الإطلاق الكاشف عن التساوي.
ومن هذا البيان تظهر المناقشة في الوجه الثالث أيضا، وذلك لأن هذا الوجه
أيضا يبتني على كون التخيير عقليا، ولكن بعد منع ذلك، وأن التخيير شرعي
مستفاد من الإطلاق فإن مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها
على أي فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه. ومن المعلوم أن حجية هذا لا تتوقف
على أي شئ ما عدا مقدمات الحكمة، فإذا لا محالة يعارض هذا الإطلاق
الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في
الواقع، وعدم صدوره من الشارع.
وقد تحصل من ذلك: أن هذه الوجوه بأجمعها خاطئة، ولا واقع موضوعي
لها أصلا.
402

فالصحيح: هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أنه لا وجه
لتقديم الإطلاق الشمولي على البدلي، وذلك لأن ثبوت كلا الإطلاقين يتوقف على
جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض، ضرورة أنه لا مزية لأحدهما
بالإضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلا، فإذا الحكم بجريان مقدمات الحكمة
في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح، وعليه
فيسقط كلا الإطلاقين معا، بمعنى: أن مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا،
ولا في طرف ذاك، وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة. ومجرد كون الإطلاق في
أحدهما شموليا وفي الآخر بدليا لا يكون سببا للترجيح بعد ما كان الإطلاق
فيه أيضا شموليا بالدلالة الالتزامية كما عرفت.
نعم، العموم الوضعي يتقدم على المطلق، سواء كان شموليا أو بدليا.
والوجه فيه واضح، وهو: أن سراية لفرض الحكم (1) في العموم الوضعي إلى
جميع أفراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وأنها فعلية، لأنها معلولة
للوضع لا لتلك المقدمات، وهذا بخلاف إطلاق المطلق، فإنه معلول لإجراء تلك
المقدمات، وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلا. وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن
يكون قرينة على التقييد، ومعه لا تجري المقدمات، إذ من المقدمات عدم نصب
قرينة على الخلاف. ومن المعلوم أن العام صالح لذلك. ومن هنا قالوا: إن دلالة
العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أن مجرد كون الإطلاق في طرف النهي
شموليا وفي طرف الأمر بدليا لا يكون سببا لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم
والشمول مستندا إلى الوضع، فإذا هذا الوجه باطل.
ومنها: أن الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه، والوجوب تابع للمصلحة
كذلك في متعلقه. هذا من ناحية.

(1) كذا في المطبوع من الأصل، والظاهر أن الصحيح: فرض سراية الحكم.
403

ومن ناحية أخرى: أنهم ذكروا: أنه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب
المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنه لابد في المقام من ترجيح جانب الحرمة على
جانب الوجوب، لكونه من صغريات تلك القاعدة.
وغير خفي أن هذا الاستدلال من الغرائب جدا، وذلك لأنه على فرض تسليم
تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزما، بداهة أنه على القول بالامتناع
ووحدة المجمع وجودا وماهية: فهو إما مشتمل على المصلحة دون المفسدة،
أو بالعكس. فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه، وإن قلنا
بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه، فليس في مورد الاجتماع مصلحة
ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة، ولا موضوع عندئذ لتلك
القاعدة، وموضوع هذه القاعدة وموردها: هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة،
وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الأولى وجلب الثانية
معا، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، فيقال: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
فهذه القاعدة لو تمت فإنما تتم في باب التزاحم، بناء على وجهة نظر العدلية
فحسب لا مطلقا. وأما في باب التعارض فلا تتم أصلا. وقد تقدم أن المسألة - أي:
مسألة الاجتماع على القول بالامتناع - داخلة في كبرى باب التعارض، على أنه
لا أصل لهذه القاعدة في نفسها، لعدم الدليل عليها أصلا، لا من العقل ولا من
الشرع، بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد، فقد يقدم جانب المفسدة على
جانب المنفعة، وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة... وهكذا.
أضف إلى ذلك أن هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها
أولوية قطعية لا ظنية فهي لا صلة لها بالأحكام الشرعية أصلا، وذلك لوجهين:
الأول: أن المصلحة ليست من سنخ المنفعة، ولا المفسدة من سنخ المضرة
غالبا، والظاهر أن هذه القاعدة إنما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة،
لا بين المصحلة والمفسدة كما لا يخفى.
404

وبكلمة أخرى: أن الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار، وإنما هي
تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها. ومن المعلوم أن المصلحة ليست
مساوقة للمنفعة، والمفسدة مساوقة للمضرة. ومن هنا تكون في كثير من الواجبات
مضرة مالية: كالزكاة والخمس والحج ونحوها، وبدنية: كالجهاد وما شاكله.
كما أن في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية، مع أن الأولى تابعة
لمصالح كامنة فيها، والثانية تابعة لمفاسد كذلك، فإذا لا موضوع لهذه القاعدة
بالإضافة إلى الأحكام الشرعية أصلا.
الثاني: أن وظيفة المكلف عقلا إنما هي الإتيان بالواجبات والاجتناب عن
المحرمات بعد ثبوت التكليف شرعا، وأما دفع المفسدة بما هي أو استيفاء
المصلحة كذلك فليس بواجب، لا عقلا ولا شرعا. فلو علم المكلف بوجود مصلحة
في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع
لا يجب عليه استيفاء الأولى، ولا دفع الثانية، وأما مع العلم بثبوته فالواجب عليه
هو امتثال ذلك التكليف لا غيره، فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنما هو
أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب، لا إدراك الواقع بما هو، واستيفاء
المصالح ودفع المفاسد.
وعلى هذا، فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية
هذه القاعدة، بل لابد من الرجوع إلى مرجحات وقواعد اخر لتقديم أحدهما على
الآخر إن كانت، وإلا فيرجع إلى الأصول العملية.
ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي في المقام، حيث إنه أجاب عن هذا
الدليل بأنه مطلقا ممنوع، لأن في ترك الواجب أيضا مفسدة، فإذن لا يدور الأمر
بين دفع المفسدة وجلب المنفعة، بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك (1).
ووجه الغرابة واضح، ضرورة أنه لا مفسدة في ترك الواجب، كما أنه لا
مصلحة في ترك الحرام، فالمصلحة في فعل الواجب من دون أن تكون في تركه

(1) انظر قوانين الأصول: ج 1 ص 153.
405

مفسدة، كما أن المفسدة في فعل الحرام من دون أن تكون في تركه مصلحة،
وإلا لكان اللازم أن ينحل كل حكم إلى حكمين: أحدهما متعلق بالفعل، والآخر
متعلق بالترك، ولازم هذا أن يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام:
أحدهما على ترك الواجب، والآخر على فعل الحرام، لفرض أن ترك الواجب
محرم، ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى هو (قدس سره) كما هو واضح.
ومنها: الاستقراء بدعوى: أنا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب
والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها نجد أن الشارع قدم جانب الحرمة
على جانب الوجوب.
فمن جملة تلك الموارد: حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار، فإن أمر
المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها، ولكن الشارع
غلب جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر بترك الصلاة فيها.
ومنها: الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين، فإن الأمر يدور - حينئذ - بين
حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه، ولكن الشارع قدم جانب الحرمة على
جانب الوجوب، وأمر بإهراق الماءين والتيمم للصلاة. ومنها غير ذلك.
ومن مجموع ذلك نستكشف أن تقديم جانب الحرمة أمر مطرد في كل مورد
دار الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون أخرى وبباب دون آخر.
ويرد عليه: أولا: أن الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار، حتى الاستقراء الناقص
فضلا عن التام، فإن الاستقراء الناقص: عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والأفراد
وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية في قبال الاستقراء التام الذي هو: عبارة
عن تتبع تمام الأفراد، ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية. ومن الواضح جدا أن
الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين.
وثانيا: أن الأمر في هذين الموردين أيضا ليس كذلك، وأن الحكم بعدم
الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة.
وبيان ذلك: أما في مورد الاستظهار فلأن الروايات الواردة فيه في باب
406

الحيض والنفاس (1) مختلفة غاية الاختلاف، ولأجل اختلاف تلك الروايات
والنصوص في المسألة اختلفت الأقوال فيها.
فذهب بعضهم: كالمحقق صاحب الكفاية (2) (قدس سره) والسيد العلامة الطباطبائي (3)
في العروة إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه، وجعل المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب، وعدم اهتمام الشارع
بالاستظهار، كما جعل (قدس سره) اختلاف النصوص قرينة على عدم الإلزام في غير هذا
المورد أيضا، منها: مسألة الكر.
وعلى الجملة: فهذا من الأصل المسلم عنده (قدس سره)، ففي كل مسألة كانت
النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة - مثلا - ولم تكن قرينة من الخارج
على أن الحكم في المسألة إلزامي جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم
فيها إلزاميا.
واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام (4)، وهذا هو
الصحيح في نظرنا، وأنه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات، وقد ذكرنا نظير
ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة، وقلنا في تلك المسألة أيضا بوجوب واحدة
منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين، بمعنى: أن للمكلف أن يقتصر على
الواحدة، وله أن يأتي بالبقية أيضا وهو الأفضل.
وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام (5). وذهب جماعة أخرى إلى وجوبه
عشرة أيام (6). هذه هي الأقوال في المسألة. ومن الواضح جدا أن شيئا من هذه

(1) راجع الوسائل: ج 2 ص 300 ب 13 من أبواب الحيض.
(2) راجع الموسوعة الفقهية المسماة بقطرات: ص 39 - 41.
(3) انظر العروة الوثقى: ج 1 ص 329 المسألة (23) من أحكام الحيض.
(4) راجع مستند العروة: ج 3 ص 496 كتاب الصلاة.
(5) نسبه في المستمسك إلى المحكي عن السرائر والمنتهى والمدارك ولم نعثر على قائل له
بتلك الكيفية.
(6) نسبه المحقق (قدس سره) في المعتبر: ص 57 إلى علم الهدى.
407

الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة، أعني: قاعدة وجوب تقديم جانب
الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.
أما على القول الأول: فواضح، لأن النصوص على هذا القول محمولة على
الاستحباب، أي: استحباب الاستظهار، لا وجوبه. فلم يقدم احتمال الحرمة على
احتمال الوجوب.
وأما على القول الثاني: فالأمر أيضا كذلك، لأن إيجاب الاستظهار إذا كان من
جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة
أيام، ولم يختص بيوم واحد، ضرورة أن احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم
الأول كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث... وهكذا، فاختصاص وجوبه بيوم
واحد منها قرينة على أنه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.
وأما على القول الثالث: فلأن حاله حال القول الثاني من هذه الناحية، إذ لو
كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام، لبقاء احتمال
الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضا.
وأما على القول الرابع: فقد يتوهم أن الروايات على هذا القول تدل على تلك
القاعدة، ولكنه من المعلوم أنه توهم خاطئ جدا، وذلك لأن مجرد مطابقة
الروايات للقاعدة لا تكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها،
فلعله بملاك آخر مثل: قاعدة الإمكان ونحوها. على أن هذا القول ضعيف في نفسه
فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية؟
أضف إلى ذلك أن الاستشهاد يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض
والنفساء ذاتا، إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار
مرددا بين الحرمة والوجوب، فإيجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبيا عن
القاعدة المزبورة بالكلية.
وأما المورد الثاني - وهو: عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين - فقد ظهر
حاله مما تقدم، فإن عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة
408

على جانب الوجوب، بل هو من ناحية النص (1) الخاص الذي ورد فيه الأمر
بإهراقهما والتيمم، وإلا فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة، إذ بذلك
يحرز المكلف أن إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية. ومن المعلوم أنه مع
التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه (2).
أضف إلى ذلك: أن حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة، بل هي
حرمة تشريعية، وهي خارجة عن موضوع القاعدة، ضرورة أن موضوعها هو
دوران الأمر بين الحرمة الذاتية والوجوب. وأما الحرمة التشريعية فهي تابعة لقصد
المكلف، وإلا فلا حرمة بحسب الواقع. وكيف كان، فلا أصل لهذه القاعدة أصلا.
لحد الآن قد تبين: أنه لا يرجع شئ من الوجوه التي ذكروها لترجيح جانب
الحرمة على جانب الوجوب إلى محصل.
فالصحيح: هو ما حققنا سابقا: من أن المسألة على القول بالامتناع ووحدة
المجمع في مورد الاجتماع تدخل في كبرى باب التعارض، ولابد - عندئذ - من
الرجوع إلى مرجحات ذلك الباب، فإن كان هناك ترجيح لأحدهما على الآخر
فلابد من العمل به، وإلا فالمرجع هو الأصول العملية.
نعم، قد تكون في بعض الموارد خصوصية تقتضي تقدم الحرمة على الوجوب
وإن كان شمول كل منهما لمورد الاجتماع مستفادا من الإطلاق، وذلك كإطلاق
دليل وجوب الصلاة مع إطلاق دليل حرمة الغصب، فإن عنوان الغصب من
العناوين الثانوية، ومقتضى الجمع العرفي بين حرمته وجواز فعل (3) بعنوانه الأولي
في مورد الاجتماع: حمل الجواز على الجواز في نفسه وبطبعه غير المنافي
للحرمة الفعلية، وذلك نظير: ما دل على جواز أكل الرمان بالإضافة إلى دليل حرمة
الغصب، فإن النسبة بينهما وإن كانت نسبة العموم من وجه إلا أنه لا يشك في
تقديم حرمة الغصب، لما ذكرناه.

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 345 ب 4 من أبواب التيمم.
(2) انظر التنقيح في شرح العروة: ج 1 ص 425 كتاب الطهارة.
(3) كذا، والظاهر: فعله.
409

الثالث: أنه إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب الحرمة على الوجوب أو
بالعكس فهل يمكن الحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع على هذا القول
- أعني القول بالامتناع - أم لا؟
فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): أنه لا مانع من الحكم بالصحة - أي
صحة الصلاة - من ناحية جريان أصالة البراءة عن حرمتها، ومعه لا مانع من
الحكم بالصحة أصلا، ضرورة أن المانع عنه إنما هو الحرمة الفعلية، وبعد ارتفاع
تلك الحرمة بأصالة البراءة فهي قابلة للتقرب بها، ومعه لا محالة تقع صحيحة، ولا
يتوقف جريان البراءة عنها على جريانها في موارد الشك في الأجزاء والشرائط،
بل ولو قلنا بعدم جريانها في تلك الموارد تجري في المقام.
والوجه في ذلك: هو أن المورد ليس داخلا في كبرى مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين، لفرض أنه ليس هنا شك في مانعية شئ عن المأمور به واعتبار
عدمه فيه، بل الشك هنا في أن هذه الحركات الصلاتية التي هي مصداق للغصب
وتصرف في مال الغير هل هي محرمة فعلا أو لا؟ فالشك إنما هو في حرمة هذه
الحركات فحسب، ومعه لا مانع من جريان البراءة عنها وإن قلنا بالاشتغال في
تلك المسألة.
نعم، المانعية في المقام عقلية، ضرورة أن مانعية الحرمة عن الصلاة ليست
مانعية شرعية ليكون عدم حرمتها قيدا لها، بل مانعيتها من ناحية أن صحتها لا
تجتمع مع الحرمة، لاستحالة اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخارج، وعلى
هذا فالحرمة مانعة عن التقرب بها عقلا لا شرعا، فإذا لا يرجع الشك فيها إلى
الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ليكون داخلا في كبرى تلك المسألة، ويدور
جريان البراءة هنا مدار جريانها فيها، بل تجري هنا ولو لم نقل بجريانها هناك،
لأن الشك هنا شك بدوي.
نعم، لو قلنا بأن المفسدة الواقعية الغالبة هي المؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن
محرزة فأصالة البراءة - عندئذ - لا تجري، بل لا مناص من الالتزام بقاعدة
410

الاشتغال ولو قلنا بجريان البراءة في الشك في الأجزاء والشرائط في تلك المسألة.
والوجه فيه واضح، وهو: أنه مع احتمال غلبة المفسدة في الواقع - كما هو
المفروض - لا يمكن قصد القربة كما هو واضح (1). هذا حاصل ما أفاده (قدس سره) مع
توضيح منا.
ونحلل ما أفاده (قدس سره) إلى عدة نقاط:
1 - جريان أصالة البراءة عن الحرمة.
2 - إنه يكفي في الحكم بصحة الصلاة في الدار المغصوبة مجرد رفع هذه
الحرمة بأصالة البراءة، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك.
3 - إن المقام غير داخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر.
4 - إنه لو بنينا على أن المؤثر في المبغوضية الفعلية هو المفسدة الواقعية وإن
لم تكن محرزة فلا يمكن الحكم بالصحة وقتئذ، لعدم إمكان التقرب بما يحتمل
كونه مبغوضا للمولى.
أما النقطة الأولى: فلا إشكال فيها، لوضوح أن البراءة تجري، ولا مانع من
جريانها أبدا كما هو ظاهر.
أما النقطة الثانية: فلا يمكن تصديقها بوجه، وذلك لأنه لا يكفي في الحكم
بالصحة مجرد رفع الحرمة بأصالة البراءة، بل لابد من إحراز المقتضي له أيضا،
وهو في المقام: إطلاق دليل المأمور به بالإضافة إلى هذا الفرد، والمفروض أنه قد
سقط بالمعارضة، وعليه فلا مقتضي للصحة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن أصالة البراءة عن الحرمة لا تثبت إطلاق دليل المأمور
به واقعا وحقيقة ليتمسك به لإثبات صحة هذا الفرد وانطباق الطبيعة المأمور بها
عليه - وهو الصلاة في الدار المغصوبة في مفروض الكلام - ليقيد به إطلاق دليل
النهي بغير ذلك الفرد. والمفروض أن أصالة البراءة لا ترفع إلا الحرمة ظاهرا لا
واقعا لتثبت لوازمها العقلية أو العادية.

(1) كفاية الأصول: ص 214.
411

وقد ذكرنا في محله (1): أنه لا دليل على حجية الأصل المثبت، فإذا أصالة
البراءة عن الحرمة في المقام لا تثبت الإطلاق - أي إطلاق دليل المأمور به -
ليشمل المورد إلا على القول بالأصل المثبت.
نعم، لو قامت أمارة معتبرة: كخبر الثقة أو نحوه على ارتفاعها لكانت مثبتة
للإطلاق لا محالة، لما ذكرناه في موضعه (2): من أن مثبتات الأمارات الحاكية عن
الواقع - كأخبار الثقة أو ما شاكلها - حجة، إلا أن وجود مثل هذه الأمارة في محل
الكلام مفروض العدم.
وأما النقطة الثالثة: فالمقام وإن لم يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين من نقطة النظر في كون الشك في حرمة المجمع وعدم حرمته - كما
عرفت - إلا أنه داخل في كبرى تلك المسألة من نقطة نظر آخر، وهي: أن أصل
وجوب الصلاة - مثلا - على الفرض معلوم لنا، والشك إنما هو في تقييدها بغير هذا
المكان، وعليه فلا محالة يدور الأمر بين أن يكون الواجب هو المطلق أو المقيد.
فإذا بناء على ما حققناه هناك من جريان البراءة عن التقييد الزائد تجري
البراءة في المقام أيضا، فإن التقييد بما أنه كلفة زائدة دون الإطلاق فهو مدفوع
بحديث " الرفع " أو نحوه، وبذلك يثبت الإطلاق الظاهري للمأمور به، إذ
المفروض أن وجوب بقية أجزائه وشرائطه معلوم لنا، والشك إنما هو في تقييده
بأمر زائد، فإذا رفعنا هذا التقييد بأصالة البراءة يثبت الإطلاق الظاهري بضم
الأصل إلى أدلة الأجزاء والشرائط المعلومتين، وهو كاف للحكم بالصحة ظاهرا،
لفرض انطباق المأمور به - عندئذ - على الفرد المأتي به في الخارج، ولا نعني
بالصحة إلا ذلك.
وعليه، فنحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع ظاهرا، لانطباق الطبيعة
المأمور بها عليها في الظاهر بعد رفع تقييدها بغير هذا المكان بأصالة البراءة،

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 151 - 155.
(2) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 155.
412

لفرض أنها بعد رفع ذلك التقييد صارت مصداقا لها في حكم الشارع، وهذا
المقدار كاف للحكم بالصحة، وتمام الكلام في محله.
وأما النقطة الرابعة - وهي: أن المؤثر في المبغوضية لو كان هو المفسدة
الواقعية الغالبة فلا مجال للبراءة - فيردها: عدم العلم بوجود مفسدة في هذا الحال
فضلا عن كونها غالبة على المصلحة للشك في أصل وجودها، وأن المجمع في هذا
الحال مشتمل على مفسدة أم لا؟
والوجه في ذلك: ما ذكرناه من أن مسألة الاجتماع على القول بالامتناع
داخلة في كبرى باب التعارض، لا باب التزاحم، لفرض أنه لا علم لنا بوجود
مفسدة في المجمع، فإن الطريق إلى إحراز اشتماله على المفسدة إنما هو حرمته،
والمفروض أنها مشكوك فيها، وهي مرفوعة بأصالة البراءة، ومع ارتفاعها كيف
يمكن لنا العلم بوجود مفسدة فيه؟
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن المجمع مشتمل على كلا الملاكين - كما هو
مختاره (قدس سره) في باب الاجتماع - إلا أن كون المفسدة غالبة على المصلحة غير
معلومة، ومع عدم العلم بالغلبة كانت الحرمة والمبغوضية مجهولة لا محالة، فلا
مانع من الرجوع إلى البراءة.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: أنه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة أو
نحوها في مورد الاجتماع ظاهرا على القول بالامتناع فيما إذا فرض أنه لم يكن
ترجيح لأحد الجانبين على الآخر.
الرابع: أن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) قد ألحق تعدد الإضافات بتعدد
العناوين والجهات (1) بدعوى أن البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه
لا يختص بما إذا تعلق الأمر بعنوان كالصلاة - مثلا - والنهي بعنوان آخر كالغصب
وقد اجتمعا في مورد واحد، بل يعم ما إذا تعلق الأمر بشئ كالإكرام - مثلا - بجهة
وإضافة، والنهي تعلق به بجهة أخرى وإضافة ثانية، ضرورة أن تعدد العنوان لو كان

(1) كفاية الأصول: ص 216 - 217.
413

مجديا في جواز اجتماع الأمر والنهي مع وحدة المعنون وجودا وماهية لكان
تعدد الإضافة أيضا مجديا في جوازه، إذ كما أن تعدد العنوان يوجب اختلاف
المعنون بحسب المصلحة والمفسدة كذلك تعدد الإضافة يوجب اختلاف المضاف
إليه بحسب المصلحة والمفسدة، والحسن والقبح عقلا، والوجوب والحرمة شرعا.
وعلى هذا، فكل دليلين متعارضين كانت النسبة بينهما عموما من وجه مثل:
" أكرم العلماء ولا تكرم الفساق " يدخلان في باب الاجتماع، لا في باب
التعارض ليرجع إلى مرجحات ذلك الباب، إلا إذا علم من الخارج أنه لم يكن
لأحد الحكمين ملاك في مورد الاجتماع فعندئذ يدخل في باب التعارض كما هو
الحال أيضا في تعدد العنوانين.
وعلى الجملة: فلا فرق بين تعدد العنوان وتعدد الإضافة من هذه الناحية
أصلا. وأما معاملة الفقهاء (رحمهم الله) مع مثل " أكرم العلماء ولا تكرم الفساق " معاملة
التعارض بالعموم من وجه، فهي إما مبنية على القول بالامتناع، أو لإحراز عدم
المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع. وأما في غير ذلك فلا معارضة بين
الدليلين أصلا.
وغير خفي أن هذا من غرائب ما أفاده (قدس سره) من جهات:
الأولى: أن فرض إحراز الفقهاء عدم وجود ملاك لأحد الحكمين في مورد
الاجتماع بين الدليلين كانت النسبة بينهما عموما من وجه في جميع أبواب الفقه
أمر غريب، فإن هذا يختص بمن كان عالما بالجهات الواقعية وملاكات النفس
الأمرية. ومن هنا قد ذكرنا غير مرة: أنه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام
مع قطع النظر عن ثبوتها (1)، فإذا من أين يعلم الفقيه بعدم اشتمال المجمع لأحد
الملاكين من أول الفقه إلى آخره؟
وعلى الجملة: فعلى وجهة نظره (قدس سره) من أن المجمع في مورد الاجتماع لابد أن
يكون مشتملا على ملاك كلا الحكمين معا وإلا فلا يكون من باب الاجتماع أصلا

(1) منها: ما تقدم في ص 126 و 209.
414

فلابد من فرض جهة وجوب وجهة حرمة في إكرام العالم الفاسق ليكون داخلا
في هذا الباب، أي: باب الاجتماع.
وعلى هذا الأساس يدخل جميع موارد التعارض بالعموم من وجه كهذا
المثال في هذا الباب، إلا إذا علم من الخارج بعدم وجود الملاك لأحد الحكمين
في مورد الاجتماع، فوقتئذ يدخل في باب التعارض.
وأما معاملة الفقهاء - رضي الله عنهم - مع هذا المثال وما شاكله معاملة
التعارض بالعموم من وجه إنما يكون لأحد سببين:
الأول: من ناحية علمهم بعدم وجود الملاك لأحدهما في مورد الاجتماع في
تمام أبواب الفقه.
الثاني: من ناحية التزامهم بالقول بالامتناع في المسألة - أي: مسألة
الاجتماع - وعدم كفاية تعدد العنوان أو الإضافة للقول بالجواز.
ولنأخذ بالمناقشة في كليهما:
أما السبب الأول: فلأنه يرتكز على كون الفقهاء عالمين بالجهات الواقعية
وملاكات النفس الأمرية ليكونوا في المقام عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما في
مورد الاجتماع، ولأجل ذلك عاملوا معهما معاملة المتعارضين بالعموم من وجه.
ومن الضروري أنه ليس لهم هذا العلم فإنه يختص بالله تعالى وبالراسخين في
العلم، على أنه لو كان لهم هذا العلم لكانوا عالمين بعدم وجود ملاك لأحدهما
المعين، ومعه لا معنى لأن يعامل معهما معاملة التعارض، ضرورة أنه - عندئذ -
يكون ملاك الآخر هو المؤثر. وكيف كان، فصدور مثل هذا الكلام من مثله (قدس سره)
يعد من الغرائب جدا.
وأما السبب الثاني: فلأنه يبتني على أن يكون الفقهاء جميعا من القائلين
بالامتناع في المسألة، وهذا مقطوع البطلان، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل
واضح.
وعلى ضوء هذا البيان قد تبين: أن هذا المثال وما شاكله خارج عن مسألة
415

الاجتماع رأسا، ولن يتوهم أحد ولا يتوهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه، بداهة
أنه يستحيل أن يكون في المجمع في مورد الاجتماع - وهو: إكرام العالم الفاسق -
جهة وجوب وحرمة معا، ومحبوبية ومبغوضية كذلك. فإذا لا محالة يدخل في
كبرى باب التعارض كما صنع الفقهاء ذلك فيه وفي أمثاله، وذلك لاستحالة جعل
كلا الحكمين معا للمجمع في مادة الاجتماع بحسب مقام الواقع والثبوت، ونعلم
بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع، بداهة أنه كيف يعقل أن يكون إكرام زيد
العالم الفاسق - مثلا - واجبا ومحرما معا؟
وعليه، فلا محالة تقع المعارضة بين مدلولي دليليهما في مقام الإثبات
والدلالة، فلابد من الرجوع إلى مرجحات بابها، وهذا هو الملاك في باب
التعارض. ومن هنا قد ذكرنا سابقا: أن التعارض بين الحكمين لا يتوقف على
وجود ملاك لأحدهما دون الآخر، بل الملاك فيه ما ذكرناه: من عدم إمكان جعل
كلا الحكمين معا في الواقع ومقام الثبوت.
ولذا قلنا: إن مسألة التعارض لا تختص بوجهة نظر مذهب دون آخر، بل
تجري على جميع المذاهب والآراء.
الثانية: أن ما ذكره (قدس سره) من المثال خارج عن محل الكلام في المسألة، وذلك
لأن العموم في هذا المثال في كلا الدليلين عموم استغراقي، فلا محالة ينحل الحكم
بانحلال موضوعه أو متعلقه، فيثبت لكل فرد من أفراده حكم مستقل غير مربوط
بحكم ثابت لفرد آخر منها... وهكذا، ولازم ذلك: هو أن يكون المجمع في مورد
الاجتماع - وهو: إكرام العالم الفاسق - محكوما بكلا هذين الحكمين على نحو
الاستقلال، بأن يكون إكرامه واجبا ومحرما معا.
ومن الواضح جدا أن القائلين بالجواز في المسألة لا يقولون به في مثل هذا
المثال، ضرورة أن في مثله جعل نفس هذين التكليفين معا محال، لا أنه من
التكليف بالمحال، فإذا هذا المثال وما شاكله خارج عن محل الكلام.
الثالثة: قد تقدم في مقدمات مسألة الاجتماع: أن محل الكلام فيها فيما إذا
416

تعلق الأمر بعنوان كالصلاة - مثلا - والنهي تعلق بعنوان آخر كالغصب، ولكن
المكلف قد جمع بينهما في مورد، فعندئذ يقع الكلام في أن التركيب بينهما اتحادي
أو انضمامي، بمعنى: أن المعنون لهما في الخارج هل هو واحد وجودا وماهية
أو متعدد كذلك؟
فعلى الأول: لا مناص من القول بالامتناع، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا
للمأمور به.
وعلى الثاني لا مناص من الالتزام بالقول بالجواز بناء على ما هو الصحيح
من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه. وقد تقدم تفصيل كل ذلك من هذه
النواحي بصورة واضحة (1).
وعلى ضوء هذا الأساس قد ظهر: أن مجرد تعدد الإضافة مع كون المتعلق
واحدا وجودا وماهية لا يجدي للقول بالجواز في مسألة الاجتماع، بل هو خارج
عن محل الكلام فيها بالكلية، لما عرفت من أن محل الكلام إنما هو فيما إذا تعلق
الأمر بعنوان والنهي بعنوان آخر مباين له، ولكن اتفق اجتماعهما في مورد واحد،
والمفروض في المقام أن الأمر تعلق بعين ما تعلق به النهي، وهو: إكرام العالم
الفاسق.
غاية الأمر: جهة تعلق الأمر به شئ وهو علمه، وجهة تعلق النهي به شئ
آخر وهو فسقه. ومن المعلوم أن تعدد الجهة التعليلية لا يوجب تعدد المتعلق،
فالمتعلق في المقام واحد وجودا وماهية وهو الإكرام، والموضوع له أيضا كذلك
وهو زيد العالم الفاسق مثلا، والتعدد إنما هو في الصفة، فإن لزيد صفتين: إحداهما:
العلم وهو يقتضي وجوب إكرامه، والاخرى: الفسق وهو يقتضي حرمة إكرامه،
ومن البديهي أنه لا يعقل أن يكون إكرام زيد العالم الفاسق واجبا ومحرما معا،
لأن نفس هذا التكليف محال، لا أنه مجرد تكليف بالمحال وبغير المقدور،

(1) راجع ص 165.
417

والمفروض أن صفتي العلم والفسق ليستا متعلقتين للتكليف، بل هما جهتان
تعليليتان خارجتان عن متعلق التكليف وموضوعه.
فالنتيجة: أن مثل هذه الموارد خارج عن محل الكلام في المسألة، والقائل
بالجواز فيها لا يقول بالجواز فيه، بل تخيل دخول هذه الموارد في محل النزاع من
مثله (قدس سره) من الغرائب جدا.
نتائج ما ذكرناه عدة نقاط:
الأولى: أن المناط في الاستحالة والإمكان في الأحكام التكليفية إنما هو
بوحدة زمان المتعلق وتعدده، ولا عبرة بوحدة زمان الحكمين وتعدده أصلا،
فالفعل الواحد في زمان واحد لا يمكن أن يكون واجبا ومحرما معا ولو كان تعلق
الوجوب به في زمان وتعلق الحرمة به في زمان آخر.
ومن هنا قلنا باستحالة القول بكون الخروج واجبا فعلا ومنهيا عنه بالنهي
السابق الساقط بالاضطرار أو نحوه.
الثانية: أن الأحكام الوضعية لا تشترك في مناط الاستحالة والإمكان مع
الأحكام التكليفية، فإن تعدد زمان الحكم في الأحكام الوضعية يجدي في رفع
الاستحالة ولو كان زمان المتعلق واحدا.
ومن هنا قلنا بالكشف في باب الفضولي، وأن المولى من زمان تحقق الإجازة
يحكم بملكية المال الواقع عليه العقد الفضولي من حين العقد للمشتري إذا كان
الفضولي من طرف البائع، وللبائع إذا كان من طرف المشتري، بل قلنا: إن ذلك
مضافا إلى إمكانه على طبق القاعدة في خصوص المقام.
الثالثة: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم الفرق في الاستحالة والإمكان
بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية وأنهما على صعيد واحد من هذه
الناحية لا يرجع إلى معنى محصل كما تقدم.
الرابعة: الصحيح: هو أن الخروج من الدار المغصوبة داخل في كبرى قاعدة
418

عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، وقد ذكرنا: أنه لا فرق في الدخول في
موضوع هذه القاعدة بين أن يكون الامتناع المنتهي إلى اختيار المكلف تكوينيا
أو تشريعيا، كما أنه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين التكاليف الوجوبية
والتكاليف التحريمية، لما ذكرناه: من أن هذه القاعدة ترتكز على ركيزة واحدة،
وهي: أن يكون امتناع امتثال التكليف في الخارج منتهيا إلى اختيار المكلف
وإرادته.
الخامسة: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن الحركات الخروجية داخلة
في كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه ومصداق للتخلية والتخلص لا يمكن
المساعدة عليه أصلا، وما ذكره من الوجوه لإثبات ذلك لا يتم شئ منها. وقد
ذكرنا وجه فسادها بشكل واضح، فلاحظ.
السادسة: أن ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أنه لا تعارض بين
خطاب " صل " وخطاب " لا تغصب " على القول بالامتناع غير تام. والوجه فيه
ما ذكرنا هناك: من أن مسألة الاجتماع على هذا القول - أي: على القول بالامتناع
ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجودا وماهية - تدخل في كبرى باب
التعارض لا محالة، لاستحالة كون المنهي عنه مصداقا للمأمور به، فإذا - لا محالة -
تقع المعارضة بين إطلاق الخطابين.
السابعة: أنه لا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي، وما
ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الوجوه لذلك لا يتم شئ منها كما عرفت. نعم، العموم
الوضعي يتقدم على الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة، سواء كان بدليا أو شموليا
كما عرفت.
الثامنة: أنه لا أصل لقاعدة " أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة "، على
أنها لا تنطبق على الأحكام الشرعية أصلا، وأجنبية عنها بالكلية كما سبق.
التاسعة: أن الاستقراء الناقص لا يثبت بمورد وموردين فضلا عن التام،
أنه على تقدير ثبوته لا يكون حجة. أضف إلى ذلك: أن ما ذكره من الموردين
مع
419

خارج عن مورد القاعدة، وليس تقديم جانب الحرمة فيهما مستندا إلى تلك
القاعدة.
العاشرة: الصحيح هو أن جانب الحرمة يتقدم على جانب الوجوب في مورد
الاجتماع فيما إذا كانت الحرمة ثابتة للشئ بعنوان ثانوي، وهو: عدم إذن المالك
في التصرف فيه، فإن جواز انطباق الطبيعة المأمور بها على المجمع في مورد
الاجتماع بمقتضى الإطلاق - عندئذ - لا يعارض حرمته كما عرفت.
الحادية عشرة: أنه لا شبهة في جريان البراءة عن حرمة المجمع بما هي عند
الشك فيها، لفرض أن الشبهة بدوية، وهي المقدار المتيقن من موارد جريانها. وأما
جريانها عن تقييد الواجب بغير هذا المكان فهو يبتني على جريانها في مسألة
الأقل والأكثر الارتباطيين، ولكن بما أنا قد اخترنا جريان البراءة فيها هناك فلا
محالة نقول بجريانها في المقام أيضا.
الثانية عشرة: أن ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من إلحاق تعدد
الإضافات بتعدد العناوين في الدخول في محل النزاع في المسألة لا يرجع إلى
معنى محصل أصلا كما عرفت.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء.
إلى هنا قد تم - بعون الله تعالى وتوفيقه -
الجزء الرابع من كتابنا محاضرات في أصول الفقه
وسيتلوه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى
420