الكتاب: المحكم في أصول الفقه
المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٤ م
المطبعة: جاويد
الناشر: مؤسسة المنار
ردمك:
ملاحظات:

المحكم
في
أصول الفقه
تأليف
السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
الجزء الأول
مؤسسة المنار
تعريف الكتاب 1

الطبعة الأولى
1414 / 1994
حقوق الطبع محفوظة
اسم الكتاب: المحكم في أصول الفقه
اسم المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الفلم والألواح الحساسة: حميد / قم
المطبعة: جاويد
الكمية: 1000 نسخة
السعر: 4500 ريال
الطبعة: الأولى
تعريف الكتاب 2

المؤلف في سطور: -
السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم (دام ظله)
- ولد في النجف الأشرف الثامن من ذي القعدة، سنة 1354 ه‍.
- دراسته وأساتذته..
لقد حباه الله تعالى برعاية والده آية الله السيد محمد علي
الطباطبائي الحكيم (دام ظله)، حيث ما ان وجد أمارات النبوغ والجدية
في ولده حتى تكفل - رغم انشغاله آنذاك بتدريس السطوح العالية -
بتدريسه حل الكتب الدراسية في مرحلة المقدمات، ومن بعدها أتم معه
تدريس مرحلة السطوح العالية، دراسة متأنية كان لها أثر بالغ في تكوين
أساسه العلمي الرصين.
في عام (1376 ه‍)، بدأ حضور أبحاث جده فقيه الطائفة آية الله
العظمى السيد الحكيم (قدس سره) في الفقه (1).

(1) وقد أوكل إليه السيد الحكيم (قدس سره) مراجعة مسودات عدة من أجزاء كتابه القيم
(مستمسك العروة الوثقى).
المقدمة 3

وفي الوقت ذاته حضر مباحث الأصول - ولمدة السنتين - لدى آية
الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره).
ولي السنة ذاتها حضر مباحث الفقه - أيضا لدى آية الله العظمى
الشيخ حسين الحلي (قدس سره) - والذي كان يعد من أعاظم تلامذة
المحقق النائيني (قدس سره) -.
في سنة (1381 ه‍)، حضر أبحاث الأصول لأستاذه الشيخ الجليل
آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي (قدس سره)، والذي كان يحيطه
باهتمام خاص لما وجد فيه من دقة ونضوج علمي.
- تدريسه..
بعد عدة دورات من تدريسه السطوح العالية..
بدأ عام (1388 ه‍) تدريس البحث الخارج على كفاية الأصول،
حيث أتم الجزء الأول منه عام (1392 ه‍)، ثم وفي نفس السنة بدأ
البحث من مباحث (القطع) بمنهجية مستقلة عن الكفاية، فأنتم دورته
الأصولية الأولى سنة (1399 ه‍).
ثم بدأ دورة أصولية ثانية، الا انه انقطع عن التدريس عدة سنوات
لظروف خاصة، وبدأ في سنة (1410 ه‍) - وفي ظرف خاص - بدورة في
علم الأصول بتهذيب واختصار.
أما الفقه، فقد بدأ تدريس الخارج على مكاسب الشيخ
الأنصاري (قدس سره) عام (1390 ه‍).
وفي سنة (1392 ه‍) بدأ تدريس الخارج في الفقه على كتاب
المقدمة 4

منهاج الصالحين للسيد الحكيم (قدس سره)، وما يزال على تدريسه إلى
اليوم، رغم انقطاعه عنه عدة سنوات لظروف خاصة.
- مؤلفاته:
إضافة لما تميزت به بعض كتاباته أثناء دراسته السطوح العالية من
تحقيقات ونكات علمية دقيقة (1) فقد ظهرت له مجموعة مؤلفات منها:
1 - دورة في علم الأصول كاملة وموسعة، سماها (المحكم في أصول
الفقه)، تشتمل على ستة مجلدات، اثنان منها في مباحث الألفاظ
والملازمات العقلية، ومجلدان في مباحث القطع والامارات والبراءة
والاحتياط، ومجلدان في الاستصحاب والتعارض والاجتهاد والتقليد.
وهذا هو المجلد الأول منها، والذي نحن على أبوابه.
2 - فقه استدلالي موسع على كتاب (منهاج الصالحين)، وقد أكمل
منه إلى الان عشرة مجلدات، أولها في الاجتهاد والتقليد، وسبعة في كتاب
الطهارة، ومجلد في كتاب الصوم، وآخر في كتاب الخمس - كتبه في
ظرف خاص -.

(1) أذكر منها:
1 - حاشية على الرسائل للشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتبها أثناء دراسته.
2 - حاشية على كفاية الأصول للمحقق الخراساني، كتبها أثناء دراسته.
3 - حاشية على المكاسب للشيخ الأنصاري (قدس سره)، كتبها أثناء دراسته، تقع
في أربع مجلدات.
المقدمة 5

3 - دورة في تهذيب علم الأصول، بدأ بها في ظرف خاص،
اقتصر فيها على الأبحاث المهمة في علم الأصول، خرج منه مجلدان بلغ
فيهما إلى مبحث (دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين) وعسى أن
تسنح له الفرصة لاكماله.
4 - كتاب في الأصول العملية، كتبه اعتمادا على ذاكرته في ظرف
لم يكن بين يديه أي مصدر، ودرس الكتاب نفسه آنذاك، ولكنه
- وللأسف - تلف لظروف خاصة.
5 - حاشية موسعة على رسائل الشيخ الأنصاري (قدس سره) في
ثلاثة مجلدات.
6 - حاشية موسعة على الجزء الأول من كفاية الأصول، كتبها أثناء
تدريسه الخارج على الكفاية في ثلاثة مجلدات.
7 - حاشية على الجزء الثاني من الكفاية، تقع في جزئين.
8 - حاشية موسعة على المكاسب، كتبها أثناء تدريسه خارج
المكاسب، تقع في مجلدين، ولانقطاع الدرس أكمل منها إلى مباحث
عقد الفضولي.
9 - تقريرات ما حضره من درس السيد الحكيم (قدس سره) في
كتب: النكاح، والمزارعة، والوصية، والضمان، والمضاربة، والشركة.
10 - تقريرات بحث أستاذه الشيخ الحلي (قدس سره) جزءان في
علم الأصول، تشتمل على مبحث الاستصحاب ولواحقه، وباب
التعارض.
11 - تقريرات بحث أستاذه المذكور أيضا، جزءان في الفقه.
المقدمة 6

12 - تقريرات بعض ما حضرة عند السيد الخوئي (قدس سره)،
وهو جزء واحد من مبحث الواجب التخييري وإلى بداية البراءة.
13 - كتابة مستقلة في خارج المعاملات في جزء صغير، كان سيدنا
المترجم له (دام ظله) ينوي العودة إليه في كل ما تسنح له الفرصة،
ولكن لم تواته الظروف.
14 - رسالة عملية في فتاواه، كتبها بعد إلحاح كثير من المؤمنين
لمعرفة فتاواه، أكمل منها الجزء الأول في العبادات.
المقدمة 7

المحكم
في
أصول الفقه
1

بسم الله الرحمن الرحيم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله
الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، أبد الآبدين.
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من
لساني، يفقهوا قولي، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك
تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. وأعني على ما وليتني
واسترعيتني، وأصلح لي نفسي، وطهر قلبي، وزك عملي، وتقبله مني،
واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، أنت حسبي ونعم الوكيل، ونعم
المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بك، عليك توكلت،
وإليك أنيب.
5

تمهيد
فيه أمران:
الامر الأول: وقع الكلام من جملة من أهل الفن في لزوم وحدة
موضوع العلم - وهو الجامع بين موضوعات مسائله - وفي المعيار فيه، وفي
تحديد موضوع علم الأصول، وتعريف العلم المذكور، والغرض منه،
ورتبته... إلى غير ذلك.
وأكثر ذلك خال عن الفائدة المصححة لصرف الوقت، ولا سيما مع
اتضاح الحال في كثير من تلك الجهات، بسبب إفاضتهم الكلام فيها، على
ما يظهر بمراجعة كلماتهم.
ولعل أهم ذلك وأنفعه الكلام في تعريف علم الأصول، لما فيه من ضبط
محل الكلام، وتمييز مقاصده الأصلية عما يبحث فيه استطرادا، وينظر فيه تبعا.
فلنقتصر على ذلك، ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق والتسديد.
وحيث كان الغرض من النظر في علم الأصول هو تيسير طريق استنباط
الأحكام الشرعية مقدمة لامتثالها، والجري عليها. لحدوث أسباب اختفائها،
ولا سيما مع العبد عن عصور المعصومين عليهم السلام.
وكان الغرض الأقصى من ذلك هو الخروج عن عهدة تلك الأحكام،
وبراءة الذمة عقلا عنها، والأمان من العقاب المحتمل على مخالفتها، ونيل
7

الثواب المؤمل بموافقتها.
كان الأنسب أن يقال في تعريفه: هو القواعد الممهدة لاستنباط
الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، أو الوظائف العملية الشرعية
أو العقلية في موارد
الشبهات الحكمية.
ولا بد من نظرة في عدة نقاط من هذا التعريف، يتضح المقصود به،
والباعث لاختياره.
أولاها: أن المراد من تمهيد القواعد للاستنباط هو كون الداعي
لتحريرها، والنظر فيها الاستنباط، وبذلك تخرج القواعد النحوية والصرفية
والبلاغية، لان الداعي لتحريرها أغراض تلك العلوم، لا الاستنباط، وإنما لم
تحرر في الأصول استغناء بتحريرها في تلك العلوم إما لتيسر الرجوع إليها عند
الحاجة، أو لغلبة الفراغ عن تلك العلوم قبل الشروع في علم الأصول أو لغير
ذلك.
ولما كانت وحدة العلم اعتبارية بلحاظ الجهة الملحوظة لمحرره فالظاهر
أن الجهة الملحوظة في المقام سد النقص بتحرير ما يحتاج إليه، لعدم تحريره في
العلوم الأخرى التي يتيسر الرجوع إليها، لا مطلق الفائدة المذكورة.
نعم، قد تحرر بعض المسائل في أكثر من علم واحد، لاهتمام أهل كل
علم من تلك العلوم بها، بلحاظ دخلها في غرضه وعدم الاستغناء بتحريرها
في العلم الاخر، إما لعدم الترتيب بين العلمين في التحصيل، أو لعدم تيسر
الرجوع فيها لطالب أحد العلمين في العلم الاخر، أو لعدم استقصاء الكلام
فيها في أحدهما بالنحو المناسب للاخر، أو لغير ذلك.
8

نعم، قد يستشكل في ذلك: بأن لازمه دخول مسائل علم الرجال
والدراية في علم الأصول، لان الغرض منها الاستنباط.
لكنه يندفع: بأن موضوعات مسائل علم الرجال لما كانت جزئية -
وهي أفراد الرواة - لم تكن المسائل قواعد، لتدخل في التعريف السابق.
كما أنه لم يتضح توقف الاستنباط على علم الدراية، لان مرجع أكثر
مسائلة إلى تفسير مصطلحات القوم، أو بيان حكم الحديث، أو نحو ذلك مما
هو أجنبي عن مقام الحجية، وإنما يبحث عن الحجية في قليل من مسائل التي لا
مانع من عدها من علم الأصول وإن لم تحرر فيه.
على أن علم الرجال وإن نفع في الاستنباط إلا أنه ليس غرضا منه، بل
الغرض منه معرفة حال الرجال، ليركن إلى أخبارهم وإن لم تكن حجة
شرعا، أو كانت في غير الاحكام الفرعية، ولذا لا تكون حجية خبر الواحد
من المبادئ التصديقية للعلم المذكور بحيث يبتني النظر فيه على الفراغ عنها.
بل غرض متقدمي أصحابنا منه الاعتزاز بكثرة علماء الطائفة،
وتوسعهم في التأليف في مقابل تشنيعات العامة، على ما تشهد به ديباجة
كتبهم، وعلم الدراية ملحق به متمم له. فلاحظ.
ثانيها: المراد من كون الاستنباط غرضا من تمهيد مسائل علم الأصول
إنما هو بلحاظ كون العلم بها موجبا لتيسره - الذي عرفت أنه الغرض من
العلم المذكور - لوقوعها في مقدماته.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا (1) من أنه لا بد في كون المسألة أصولية من

(1) السيد أبو القاسم الخوئي. (منه)
9

استقلالها في الاستنباط، والاكتفاء بها فيه، بحيث لا يحتاج فيه إلى ضم مسألة
أخرى، ولو في مسألة فقهية واحدة في مقابل المسائل اللغوية، ونحوها مما ينفع
في الاستنباط ولا يستقل به، بل لا بد فيه من ضم مسائل أخرى أصولية أو
غيرها.
فهو مما لا محال للبناء عليه..
أولا: لعدم مناسبة الغرض من علم الأصول، لعدم خصوصية استقلال
المسألة في الاستنباط في تيسير طريقه.
وثانيا: لعدم انطباقه خارجا على كثير من المسائل الأصولية إلا بمحض
الفرض والتقدير، بأن يفرض كون ما عدا المسألة الأصولية الواحدة من
مقدمات الاستنباط من البديهيات غير المحتاجة للبحث في علم. وقد ذكر بعض ذلك بنحو يحتاج إلى بحث لا يسعه المقام.
وثالثا: أنه إنما ذكر ذلك للفرق بين المسائل الأصولية ومسائل العلوم
الأخرى مما يتوقف عليه الاستنباط، كالعلوم اللغوية، ويكفي في الفرق
ما عرفت في الامر السابق.
مضافا إلى إمكان استقلال بعض مسائل تلك العلوم بالاستنباط، كما
لو استفيد وجوب التيمم بالأرض من أدلة قطعية السند والدلالة، وشك في
مفهوم الأرض، حيث لا يتوقف استنباط جواز التيمم ببعض الافراد
المشكوكة منها إلا على تحديد مفهومها، وهو مما يتكلفه علم اللغة.
ومن الغريب أنه جعل المعيار المذكور منشأ لدخول مسألة ظهور صيغة
الامر في الوجوب في علم الأصول، دون المسائل المبحوث فيها عن أدوات
العموم ومسألة المشتق، مع وضوح أن الحكم الشرعي لما كان عبارة عن قضية
10

مجعولة فهو كما يتوقف على معرفة الحكم - كالواجب المدلول للصيغة -
يتوقف على معرفة موضوعه - كالعموم المدخول لأدواته، ومعنى المشتق -
وكما يمكن القطع بالموضوع والشك في الحكم - ليحتاج فيه للمسألة
الأصولية - يمكن العكس.
ثالثها: المراد باستنباط الأحكام الشرعية هو الوصول لها إما بالقطع، أو
بقيام الحجة عليها، لان مبنى الحجية على الكشف والاثبات، وترتب العمل
على قيام الحجة إنما هو لكونه من شؤون الواقع المحكي بها الواصل بسببها،
كما يتضح في محله إن شاء الله تعالى.
كما أن المراد من الوظيفة العملية ما تثبت ابتداء من دون ثبوت للحكم
الشرعي، بل مع فرض الجهل به وعدم قيام الحجة عليه، كما هو الحال في
الأصول والقواعد الظاهرية الشرعية والعقلية.
هذا، وقد اقتصر المشهور - فيما حكي - على الشق الأول من التعريف
ولما تنبه المتأخرون إلى قصوره عن الوظائف العملية، لعدم تضمنها الحكم
الشرعي، خصوصا العقلية منها، حاولوا تعميمه بالإضافة المذكورة أو نحوها،
إذ هو أولى من الالتزام بخروجها عن علم الأصول وأن البحث عنها
استطرادي، مع وضوح دخلها في الغرض الأقصى منه الذي تقدمت الإشارة
إليه، وهو الخروج عن عهدة الاحكام الواقعية وبراءة الذمة عنها عقلا.
بل اقتصر بعض مشايخنا في التعريف على: أنه العلم بالقواعد لتحصيل
العلم بالوظيفة في مرحلة العمل.
ولا بد أن يكون مراده بالوظيفة الأعم من الشرعية والعقلية. وهو وإن
كان أخصر، فيكون أنسب بالتعريف، إلا أن ما ذكرنا أولى، لما فيه من
11

الإشارة الاجمالية لغرضي العلم ووظيفتي المجتهد، وهما استنباط الحكم
الشرعي، وتعيين الوظيفة عند تعذره، بل المطلوب الأولي هو استنباط الحكم،
لأنه مجهول مطلوب، والاكتفاء بالوظيفة العملية إنها هو لتعذره.
بل لما كانت الوظيفة في كلامه أعم من أن ترفع الشبهة الحكمية - كما
في مورد استنباط الحكم الواقعي بالعلم، أو قيام الحجة - وأن تنقح في موردها
- كما في موارد الأصول - فالتعريف المذكور بإطلاقه قد ينطبق على المسألة
الفقهية، لأنها قاعدة تصلح لتحصيل العلم بالوظيفة العقلية، فإن تشخيص
التكيف الشرعي لما كان مستتبعا لحكم العقل بوجوب إطاعته، كانت
القضية الشرعية التكليفية قاعدة يعلم بها لتحصيل الوظيفة العقلية في مقام
العمل في الموارد الجزئية.
وهذا بخلاف ما ذكرناه من التعريف، لوضوح أن القضية الشرعية
التكليفية عبارة عن حكم ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، لا قاعدة ممهدة
لاستنباط الحكم الشرعي، ولا لمعرفة الوظيفة العملية في مورد الشبهة
الحكمية، فتأمل جيدا. رابعها: المراد في التعريف من الشبهة الحكمية التي هي مجرى الوظيفة
هي الشك في الحكم الشرعي، للشك في الجعل وجودا وعدما، أو سعة
وضيقا.
ويقابلها الشبهة الموضوعية، التي يكون الشك فيها بسبب اشتباه
الأمور الخارجية مع العلم بالجعل الشرعي بحدوده.
وبذلك تخرج القواعد الفقهية الظاهرية الجارية في الشبهات الموضوعية،
كقاعدتي اليد والفراغ.
12

وأما القواعد الشرعية الواقعية كقاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسدة) فهي مسألة فرعية تتضمن حكما شرعيا، وقد عرفت خروجها،
لأنها تتضمن حكما شرعيا ترتفع باستنباطه الشبهة الحكمية، فلا يدخل في
أحد شقي التعريف.
وقد اتضح بما ذكرنا في تعريف علم الأصول أنه لا جامع حقيقي بين
المسائل الأصولية، وأن المعيار فيها أن تحرر لتيسير طريق الاستنباط، لصلوح
نتيجتها لان تكون مقدمة له، سواء كان البحث فيها عن الدليلية والحجية، أم
عن الظهور العرفي، أم التعبد الظاهري الشرعي، أم الوظيفة الظاهرية العقلية،
أم غير ذلك... مما يأتي التعرض له.
وقد أطال غير واحد الكلام في ذلك، وذكر بعضهم وجوها اخر قد
يلزم منها خروج بعض المسائل عن علم الأصول، وكون البحث فيها
استطراديا.
ولا وجه له بعد دخلها في غرضه الذي أشرنا إليه آنفا. ولا يسعنا
تفصيل الكلام في ذلك.
الامر الثاني: حيث كانت المسائل الأصولية كبريات تنفع في الاستنباط
وتشخيص الوظيفة، وتقع في مقدماتها، فالكبريات المذكورة على قسمين:
أولهما: ما يكون مضمونة أمرا واقعيا مدركا، ولا يتضمن العمل
بنفسه، ولا يتقوم به، وإنما يترتب عليه العمل لخصوصية موضوعه، أو بضميمة
أمر خارج عنه.
وتنحصر في مباحث الألفاظ - التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات
اللفظية، ومداليل المفردات، والهيئات التركيبية - والملازمات العقلية - التي
13

يبحث فيها عن ملازمة أحد الامرين للاخر أو لعدمه، وعدمها، كمبحث
مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي - فان تشخيص الظهور تنقيح لأمر
واقعي لا يتقوم بالعمل، وإنما يترتب العمل على مفاد الظاهر إذا كان عمليا،
كالأحكام التكليفية، وبضميمة ثبوت حجية الظهور.
كما أن الملازمات العقلية أمور واقعية ليس حكم العقل بها إلا نظريا
لا يبتني على العمل، وإنما قد يترتب العمل على اللازم إذا صار فعليا تبعا
للملزوم.
ثانيهما: ما يكون مضمونه عمليا مبتنيا على التعذير والتنجيز اللذين
يكون موضوعهما العمل، وهي مباحث الحجج، والأصول العملية،
والتعارض، لوضوح أن العمل مقوم للحجية والوظيفة العملية، فيلغو جعلهما
شرعا بدونه، ويكون حكم العقل بهما عمليا. كما أن البحث في التعارض
راجع إليهما.
ومن ثم يقع الكلام في كل من القسمين على حدة.
ولنطلق على الأول الأصول النظرية لابتنائه على تشخيص المدركات
العرفية في مباحث الألفاظ، والعقلية في مباحث الملازمات.
وعلى الثاني الأصول المبتنية على العمل.
ولكل من القسمين المقاصد المستوفية لهما.
وربما كان لكل من تلك المقاصد أمور خارجة عنها نافعة فيها، تبحث
مقدمة لها، أو استطرادا فيها، على ما يأتي في محله، إن شاء الله تعالى.
كما ينبغي تقديم علم الأصول بقسميه بمقدمة يبحث فيها عن حقيقة
الحكم الشرعي الذي يحتاج لعلم الأصول، لأجل معرفته أو معرفة الوظيفة
14

عند الجهل به، فهو من مبادئه المهمة، التي قد تتوقف بعض مباحثه على
معرفته.
وقد بحث الأصحاب ذلك في موارد متفرقة من المقاصد، إلا أن تقديمه
أولى بعد ما ذكرنا.
وينبغي أيضا إلحاق علم الأصول بقسميه بخاتمة في مباحث الاجتهاد
والتقليد، يكون البحث فيها عن أقسام الاستنباط، وأحكامه، ولواحقه،
كالبحث عن التجزي، وعن حجية الاجتهاد في حق المجتهد غيره... وغير
ذلك مما هو خارج عن علم الأصول المبحوث فيه عن مقدمات الاستنباط،
وله نحو تعلق به.
ونسأله سبحانه أن يعيننا في الكلام على هذا المنهج واستيفائه،
إنه ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
15

مقدمة
في حقيقة الأحكام الشرعية
17

مقدمة
في حقيقة الأحكام الشرعية
الاحكام التي تضمنتها الشريعة المقدسة ويهتم الفقهاء باستنباطها،
والمكلفون بمعرفتها، تنقسم إلى قسمين:
الأول: الأحكام التكليفية.
الثاني: الاحكام الوضيعة.
وقد وقع الكلام في حقيقة كل من القسمين، كما وقع في بعض أفراد
كل منهما.
وحيث كانا مختلفي السنخ كان المناسب الكلام فيهما في مقامين..
19

المقام الأول
في الأحكام التكليفية
وموضوعها فعل المكلف، وهي نحو نسبة بين المولي والعبد وفعله تبتني
على اقتضاء فعله، أو عدم فعله، أو عدم اقتضائهما، بل على السعة فيهما.
وهي تقتضي الجري عليها بنفسها والعمل بما يطابقها، بنحو يترتب
العمل عليها في فرض وجود الداعي لموافقتها - من حكم العقل أو غيره - بلا
حاجة إلى توسط جعل آخر، بخلاف الأحكام الوضعية، على ما يتضح
في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.
وهي - حسبما تضمنته الأدلة النقلية، وتطابق عليه المتشرعة، بل
العقلاء - خمسة، لأنها إما أن تبتني على عدم اقتضاء الفعل ولا الترك، بل على
محض السعة فيهما، أو تبتني على اقتضاء أحدهما، فالأول الإباحة، والثاني إما
أن يبتني على الالزام بمقتضاه، أو على عدم الزام به، فالأول ينحصر
في الوجوب المبني على الالزام بالفعل، والتحريم المبني على الالزام بالترك،
والثاني ينحصر في الاستحباب المبني على اقتضاء الفعل، والكراهة المبنية على
اقتضاء الترك.
20

ومنه يظهر أن توصيفها بالتكليفية يبتني على التغليب، لان التكليف
مأخوذ من الكلفة الموقوفة على الزام، الذي يتضمنه الوجوب والتحريم،
دون غيرهما.
وما ذكرناه ليس موردا للاشكال، وإنما وقع الكلام في بعض ما يتعلق
بذلك.
وينبغي الكلام فيه في ضمن أمور..
الامر الأول: تكرر في كلامهم انتزاع الوجوب والاستحباب
أو تسبيبهما عن تعلق إرادة المولى بالفعل، كما أن التحريم والكراهية منتزعان
أو مسببان عن تعلق كراهته به.
وقد استشكل على ذلك بما يرجع إلى أن القادر على تحقيق مراده ودفع
ما يكرهه - سواء كان واجب القدرة (الله تعالى)، أم ممكن القدرة
كالانسان في بعض الأوقات - حيث لا يتخلف وجود مراده عن إرادته،
ولا دفع ما يكرهه عن كراهته، لزم عدم عصيان أوامره ونواهيه، مع تحقق
العصيان بالوجدان من العبيد لله تعالى الواجب القدرة ولغيره من الموالي
العرفيين الذين قد يكونون قادرين على تحقيق مرادهم، وذلك كاشف عن
عدم توقف التكاليف على الإرادة والكراهة، وأن منشأ التكليف أمر آخر،
وإلا لزم كشف العصيان عن كون التكليف صوريا، لخلوه عن الإرادة فلا
تكون مخالفته عصيانا.
وربما كان هذا أحد الموجبة لدعوى مغايرة الطلب للإرادة،
وأن منشأ التكليف هو الطلب - كما عن الأشاعرة - وأنه هو ما ادعوه من
21

الكلام النفسي، أو غيره مما ذكره بعض أصحابنا.
وقد انجر الكلام بمشايخنا المتقدمين والمعاصرين إلى الكلام في ذلك، وفي
مسألة الجبر والاختيار، وغير ذلك مما يناسبهما.
ولا يسعنا إطالة الكلام فيما ذكروه، لخروجه عن محل الكلام، بل ربما
كان من التكليف المنهي عنه، والذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، فلنقتصر
على ما يخص المقام.
وقد حاول غير واحد دفع الاشكال المتقدم بأن عدم تخلف المراد عن
الإرادة من القادر مختص بالإرادة التكوينية، وليس التكليف مسببا أو منتزعا
منها، بل من الإرادة التشريعية، والتخلف فيها غير عزيز، فمبني الاشكال
على الخلط بين الإرادتين.
ومن هنا لا بد من بيان الفرق بين الإرادتين، وقد ذكروا له وجوها:
الأول: ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لا فرق بينهما
إلا في اقتضاء الإرادة التكوينية للفعل بالمباشرة بحركة عضلات المريد، واقتضاء
الإرادة التشريعية للفعل المنزل منزلة المباشرة، لابتنائها على تنزيل عضلات
العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته.
وفيه: أن التنزيل المذكور مما لا شاهد له، بل لا مجال للبناء عليه بعد
الرجوع للمرتكزات العرفية، بل لعله ممتنع في التكليف الشرعية.
على أن التنزيل إن كان تكوينيا راجعا إلى تبعية حركات العبد
وعضلاته لإرادة المولى كحركات المولى وعضلاته امتنع التخلف مطلقا.
وإن كان ادعائيا فلا أثر له في تحقيق مراد المولى الذي هو أمر حقيقي
خارجي، تابع لأسبابه التكوينية، فلا وجه لاجتزاء المولى به في فرض كونه
22

مريدا.
وإن كان تشريعيا راجعا إلى خطاب العبد بجعل عضلاته وحركاته
بمنزلة عضلات المولى وحركاته في تحركها تبعا لإرادته، رجع الكلام إليه،
واحتاج إلى بيان الإرادة التشريعية التي اقتضت الخطاب به.
الثاني: ما يظهر من غير واحد من انحصار الفرق بينهما في المتعلق،
فمتعلق الإرادة التكوينية هو فعل المريد نفسه، ومتعلق الإرادة التشريعية هو
فعل المكلف، بلا فرق بين حقيقتيهما.
وفيه: أن لازم ذلك عدم تحقق الإرادة في ظرف علم المولى بعدم تحقق
المراد، لان فعلية الإرادة المستتبعة للسعي نحو المراد بتحريك العضلات نحوه،
أو بطلبه من الغير مشروطة باحتمال تحققه.
بل يلزم عدم تخلف المراد في ظرف قدرة المريد عليه، بأن كان المولى
قادرا على فعل العبد ولو بإجباره، كما هو المشاهد في مرادات الموالي
الحتمية، فالتخلف مع القدرة كاشف عن عدم الإرادة فلو كانت الإرادة
منشأ للتكليف كشف التخلف عن كون التكليف صوريا لا معصية بمخالفته،
لعدم الإرادة على طبقة.
وأما ما ذكره بعضهم: من أن متعلق الإرادة التشريعية ليس مطلق فعل
العبد، بل خصوص الاختياري منه، والإرادة المذكورة لا تقتضي جبر العبد،
للزوم الخلف.
فهو لا يدفع الاشكال، حيث يلزم مع علم المريد بعدم تحقق الفعل
الاختياري عدم فعلية إرادة المستتبعة للسعي له بالتكليف.
كما يلزم عدم تخلفه مع قدرة المولى عليه، مع وضوح أنه قد يتخلف
23

وإن كان قادرا، كما هو المشاهد في كثير من الموالي العرفيين، حيث يتسنى
له إقناع العبد وإحداث الداعي له، بمثل الترهيب والترغيب والتذكير.
بل لا إشكال فيه في حق المولى الأعظم عز وجل، إذ لو سلم ما ذكره
بعضهم من عدم استناد اختيار العبد إليه تعالى، إلا أنه لا ريب في وقوعه تحت
سلطانه، ولو بتهيئة أسباب الهداية والسعادة، أو الخذلان والشقاوة، قال
تعالى: (ولو شاء ربك لا من في الأرض كلهم جميعا) (1) وقال
عز وجل: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (2) وقال
سبحانه: (إن نشأ ننزل عليهم آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (3).
مضافا إلى أن أخذ الاختيار قيدا في المراد والمكلف به - لو أمكن،
وغض النظر عما قيل من عدم كون الاختيار اختياريا، فيمتنع أخده في
المكلف به الاختياري - كان لازمه عدم الاجزاء بالموافقة بوجه غير
اختياري، ولا يمكن البناء عليه في غير العباديات. فلا حظ.
الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) (4) من أن الاختلاف بين
الإرادتين إنما هو في كيفية التعلق بالمراد، مع وحدة حقيقتهما ومتعلقهما.
بدعوى: أنه إذا كان لوجود الفعل مقدمات عديدة كان لكل منه دخل
في جهة من جهاته، فهي تمنع العدم من جهتها، وحينئذ فالمصلحة الداعية
للشئ والموجبة لإرادته قد تكون مقتضية لحفظه من جميع الجهات، وقد

(1) سورة يونس: 99.
(2) سورة الأنعام: 149.
(3) سورة الشعراء: 26.
(4) سيدنا الجد السيد محسن الطباطبائي الحكيم. (منه).
24

تكون مقتضية لحفظه من بعضها، فإن كانت على النحو الأول أوجبت إرادته
من جميع الجهات، بنحو تنشأ إرادات غيرية بعدد جميع المقدمات، وإن
كانت على النحو الثاني أوجبت إرادته من خصوص تلك الجهة، فتنشأ منها
إرادة غيرية متعلقة بالمقدمة الحافظة لها دون غيرها.
وحيث كان صدور الفعل من المكلف في فرض عدم الداعي النفسي
إليه يتوقف على تشريع التكليف به، وعلم المكلف بالتكليف الذي هو شرط
في حدوث الداعي العقلي لفعله، وعدم مزاحمة الداعي العقلي بالدواعي
الشهوية على خلافه، كان تشريع التكليف من مقدمات وجود فعل المكلف
الحافظة لبعض جهات وجوده، وكانت إرادة الشارع المتعلقة بالفعل من هذه
الجهة هي الإرادة التشريعية، وتقابلها الإرادة التكوينية، وهي المتعلقة بفعله من
جميع جهات وجوده، المقتضية لحفظه بلحاظ جميع المقدمات، وهي التي يمتنع
تخلف المراد عنها مع قدرة المريد، أما التشريعية فلا يمتنع التخلف فيها، لفرض
قصورها.
وعليه لا يكون العصيان كاشفا عن عدم الإرادة، بل عن قصورها
وأنها لم تبلغ مرتبة التكوينية، كما تكون التشريعية من مراتب التكوينية
الموجودة في ضمنها.
وفيه: أن ملاك الإرادة الغيرية لما كان هو الوصول للمراد النفسي فلا
مجال له إلا مع العلم بحصول المراد النفسي، للعلم بتحقق بقية المقدمات أو
احتمال ذلك.
أما مع العلم بعدم تحقق المراد النفسي، للعلم بعدم تحقق بقية المقدمات،
فيمتنع إرادة بقية المقدمات بإرادة غيرية تابعة لإرادة ذيها نفسيا.
25

نعم، قد تكون مرادة بإرادة نفسية غير تابعة لإرادة ذيها، فيقتصر المريد
على تحقيقها، وحيث ذكرنا أنه كثيرا ما يعلم المولى بعصيان المكلف
للمزاحمات الشهوية أو نحوها للداعي العقلي، امتنع أن يكون تشريع التكليف
مسببا عن إرادة غيرية تابعة لإرادة المكلف به نفسيا، بل ذلك يكشف عن
عدم تعلق الإرادة النفسية به وكون منشأ التكليف أمرا آخر.
أما بعض المحققين (قدس سره) (1) فقد أنكر الإرادة التشريعية في موارد
التكاليف الشرعية - مع تفسيره الإرادة التكوينية بما يتعلق بفعل المريد نفسه،
والإرادة التشريعية بما يتعلق بفعل الغير - لدعوى: أن الإرادة التشريعية إنما
تتعلق بفعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد، لان شوقه إلى الفائدة
يستتبع شوقه لذيها، وهو فعل الغير الاختياري، وحيث لم يكن فعل الغير
مقدورا للمريد بلا واسطة، بل بتبع البعث والتحريك اللذين هما فعل المريد
بالمباشرة، كانت إرادته سببا في إرادتهما وفعلهما.
أما إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة للمريد فيمتنع تعلق الشوق به،
لامتناع تحققه بلا داع، وحيث كان تعالى مستغنيا بذاته امتنع في حقه الإرادة
التشريعية، لعدم كون متعلقها - وهو فعل الغير - موردا للنفع له.
نعم، ربما يكون إيصال النفع إلى الغير بتحريكه - أمرا أو التماسا أو
دعاء - ذا فائدة عائدة إلى الشخص، فينبعث الشوق إلى إيصال النفع بالبعث
والتحريك، الذي هو فعل المريد بالمباشرة.
ولا وجه لعد مثله إرادة تشريعية بعد كون المراد هو إيصال النفع إلى
الغير بتحريكه، وهو فعل المريد نفسه. إلا أن يكون محض اصطلاح.

(1) الشيخ محمد حسين الأصفهاني. (منه).
26

وقد أطال (قدس سره) في ذلك، ومرجع كلامه - على غموض فيه،
وجرى على مسلك أهل المعقول - إلى عدم اشتمال موارد التكاليف الشرعية
على إرادة أو كراهة تشريعيتين كي يمتنع تخلفها، بل ليس موضوع الإرادة
والكراهة فيها إلا نفس البعث، والزجر. إلا أن يكونا هما المرادين بالإرادة
والكراهة التشريعيتين، فلا مشاحة في الاصطلاح.
وفيه: - مع ما سبق من عدم اختصاص الاشكال بالأحكام الشرعية، بل
يجري في تكاليف الموالى العرفيين، الذين اعترف بإمكان الإرادة التشريعية
في حقهم - أن توقف الإرادة التشريعية لفعل الغير على وصول نفع منه للمريد
غير ظاهر الوجه، بل كما أمكن تعلق الإرادة التكوينية بفعل ما لا يصل نفعة
إلى المريد - لفرض كماله - أمكن ذلك في الإرادة التشريعية.
والتحقيق: أن منشأ التكليف من الشارع الأقدس وغيره ليس من سنخ
الإرادة التكوينية، التي هي في الحيوان عبارة: عن الشوق المستتبع لتحريك
العضلات نحو المراد. ومن الله تعالى ما يشارك ذلك في النتيجة، وهي: السعي
لتحقيق المراد، التي يعبر عنها شرعا وعرفا بالمشيئة. بل هو أمر آخر قد يطلق
عليه الإرادة شرعا وعرفا، إما بنحو الاشتراك اللفظي، أو مجازا بلحاظ
مشاركته في الجملة للمعنى المتقدم في العلية للمراد، وإن لم تكن عليته تامة،
بل بنحو الاقتضاء، وليكن هو المراد بالإرادة التشريعية. ونظيره في ذلك
الكراهة التشريعية.
وتوضيح ذلك: أنه لا بد في انتزاع التكليف من نحو من العلاقة بين
المكلف والمكلف تقتضي متابعة الثاني للأول وموافقته، سواء كان اقتضاؤها
بحكم العقل تبعا لذاتيهما - كالمولى الحقيقي عز وجل مع عبيده - أم لأمر
27

خارجي، كقوة المكلف المستلزمة لخوف ضرره، أو وجوب طاعته شرعا، أو
دالة له على المكلف تقتضي موافقته.
وحينئذ فما ينتزع منه التكليف هو الخطاب والتشريع المبتنيان على
الجهة المذكورة، وعلى جعل السبيل بلحاظها، سواء كان الداعي لذلك هو
إرادة حصول المكلف به تكوينا من جميع الجهات من كل مكلف، أو في
الجملة ولو من بعضهم، أم إرادته من بعض الجهات - على ما تقدم توضيحه
في كلام سيدنا الأعظم (قدس سره) - أم أمرا آخر كالملاك الواجب الحفظ
تشريعا على المكلف، أو امتحان المكلف وإظهار حاله في الطاعة والمعصية.
ومن هنا لا ينافيه تخلف المراد، وإن كان المكلف قادرا على تحقيقه من
المكلف بالاختيار أو بدونه، كما لا يمنع من طلبه العلم بعدم تحققه من
المكلف.
نعم، لو كان الداعي له هو إرادة فعل المكلف تكوينا من جميع الجهات
لم يتخلف مع قدرة المكلف، بإجبار المكلف، أو بإحداث الدواعي الموجبة
لفعلية اختياره، ومع عجزه لا يصدر التكليف منه مع علمه بعدم تحقق
المكلف به، كما لا يصدر معه التكليف منه - أيضا - لو كان الداعي هو إرادته
من بعض الجهات، وإن كان قادرا على تحقيقه.
كل ذلك لعدم فعلية إرادته التكوينية حينئذ، ولا داعي للتكليف غيرها،
كما سبق توضيحه.
وهو الحال - أيضا - لو كان الداعي هو الإرادة بأحد الوجهين،
إذا لم يكن الطلب منشأ لانتزاع التكليف، لعدم العلاقة المقتضية لمتابعة
المطلوب منه لطالب، وموافقته له.
28

وقد ظهر من ذلك أن الإرادة التشريعية مباينة للإرادة التكوينية
خارجا، وإن كان متعلقهما واحدا وهو فعل الغير، وأن بينهما عموما من
وجه مورديا في مورد الطلب، حيث يجتمعان فيما لو كان الداعي للتكليف
هو تعلق الإرادة التكوينية بالمكلف به، وتنفرد الإرادة التشريعية فيما إذا كان
الداعي أمرا آخر كالملاك والامتحان، وقد تنفرد التكوينية فيما لو لم يكن بين
الطالب والمطلوب ما يصحح انتزاع التكليف.
وأما امتناع التخلف مع قدرة المريد، وعدم فعلية الإرادة مع العلم بعدم
حصول المراد، فهما تابعان للإرادة التكوينية.
كما أن الداعوية العقلية تابعة للإرادة التشريعية التي بها قوام التكليف
دون التكوينية.
ولذا كان التكليف الامتحاني حقيقيا مقتضيا للإطاعة عقلا حتى
لو علم المكلف بحاله. ولا يكون التكليف صوريا إلا بتخلف الإرادة التشريعية، بأن لم يكن
الخطاب مبنيا على العلاقة المتقدمة التي يبتني عليها التكليف، ولا على جعل
السبيل بلحاظها، كما لو كان الغرض منه الاعتذار للغير عن فعل العبد، لبيان
عدم إطاعته للمولى، كي لا يؤاخذ بإساءته لذلك الغير، فلا تجب إطاعته
على العبد لو اطلع على حاله.
هذا، وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد إنشاء الطلب هو إبراز
كون الفعل على ذمة المكلف فلا مجال للالتزام به على ظاهره، لوضوح
أنه - مع اختصاصه بالطلب ممن له التكليف، المبني على ملاحظة الجهة
المقتضية لمتابعته - من سنخ الوضع، وهو مباين للتكليف المستفاد من إنشاء
29

الطلب سنخا، لتقوم التكليف بالعمل، ولذا كان مقتضيا له بنفسه، وموضوعا
للطاعة والمعصية بلا توسط أمر غير حكم العقل، ولا يعقل ثبوته مع عدم
وجوب العمل، بخلاف الوضع ك‍ (الدين والملك) فهو لا يقتضي العمل
بنفسه، ولا يكون موضوعا للطاعة والمعصية، وإنما يكون موضوعا للحكم
الشرعي المقتضي له والموضوع لهما، ولذا أمكن ثبوته مع عدم وجوبه لعجز،
أو عسر، أو غيرهما.
نعم، لما كان البعث والتحريك في مورد التكليف مبنيا على ملاحظة
العلاقة المقتضية لمتابعة المكلف للمكلف، وعلى جعل المسؤولية بلحاظها
- كما سبق منا - كان مستتبعا للمسؤولية بالفعل المخاطب به، بحيث يصير
كأنه في ذمة المكلف، فكون المكلف مسؤولا بالفعل وفي ذمته مسبب عن
إنشاء الطلب في مورد التكليف ومتفرع على التكليف، لا أنه مفاد إنشاء
الطلب الذي يكون منشأ لانتزاع التكليف، فضلا عن أن يكون مفاد مطلق
إنشاء الطلب ولو في غير مورد التكليف.
ولعله لذا ورد التعبير عن بعض الواجبات بالدين، مثل ما عن الصادق
عليه السلام في وصية لقمان: " وإذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشئ،
صلها، واسترح منها، فإنها دين " (1).
ولا يبعد ابتناء ما ذكره على ما ذكرناه من الامر الارتكازي، وإن لم
يوضح في كلامه بالوجه المناسب له.
الامر الثاني: المتيقن مما تقدم منا ومنهم في منشأ انتزاع التكليف إنما

(1) الوسائل ج 5، باب: 12 من أبواب قضاء الصلوات، حديث 25.
30

هو في الحكمين الزاميين، وهما الوجوب والحرمة، وأما الحكمان
الاقتضائيان غير الالزاميين - وهما الاستحباب والكراهة - فالكلام في منشأ
انتزاعهما يبتني على الكلام في الفرق بينهما وبين الحكمين الالزاميين.
وقد يستفاد مذهبهم في ذلك - تبعا - مما ذكروه في مباحث مادة الامر
والطلب وصيغتيهما عند الكلام في دلالتها على الوجوب وعدمها، وأنها
لو دلت فهل تكون دلالتها بالوضع أو الاطلاق أو بأمر خارج من عقل
أو عرف؟ حيث كان الكلام هناك في مقام الاثبات المتفرع على حقيقة الفرق
بينهما ثبوتا.
أما نحن فحيث كنا هنا بصدد التعرض لحقيقة الاحكام كان البحث
المذكور من البحوث الأصلية، الحقيقة بالذكر في المقام.
والمستفاد من كلماتهم المفروغية عن اشتراك الاحكام الاقتضائية
غير الالزامية، والالزامية، في جهة تقتضي الطلب والبعث نحو المتعلق، أو النهي
والزجر عنه، وإنما الكلام في الخصوصية الزائدة على ذلك التي يمتاز بها أحد
الحكمين عن الاخر.
والكلام في ذلك يبتني..
تارة: على أن الإرادة التشريعية التي هي منشأ انتزاع التكليف متحدة
في حقيقتها مع الإرادة التكوينية، وليس الفرق بينهما إلا في ما ذكره بعض
الأعاظم (قدس سره) من ابتناء الثانية على تنزيل عضلات العبد وحركاته
منزلة عضلات المولى وحركاته، أو في ما سبع عن غير واحد من اختلاف
متعلقهما، فمتعلق الإرادة التكوينية فعل المريد نفسه، ومتعلق التشريعية
فعل الغير.
31

وأخرى، على ما سبق من سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن الإرادة
التشريعية مرتبة من التكوينية، وأنها إرادة للفعل من حيثية تشريع التكليف
وإيصاله فقط، لا من جميع الجهات كالتكوينية.
وثالثة: على ما سبق من بعض المحققين من عدم انتزاع التكليف
الشرعي من الإرادة التشريعية لفعل الغير، بل من نفس البعث والزجر بداعي
جعل الداعي، اللذين هما فعل المريد بالمباشرة، ومرادان له بإرادة تكوينية.
ورابعة: على ما سبق من بعض مشايخنا من أن حقيقة التكليف اعتبار
المكلف به ذمة المكلف.
وخامسة: على ما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية المقومة للتكليف.
أما على الأول فقد ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) (1):
أن الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره راجع إلى الفرق بين مرتبتي الإرادة
الموجبة لهما تبعا لاختلاف الملاك الموجب لهما، فإن كان إلزاميا
كانت
الإرادة شديدة ينتزع منها الحكم الإلزامي، وإلا كانت الإرادة ضعيفة ينتزع
منها الحكم غير الإلزامي.
ويشكل: بأن الإرادة لما كانت هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات
نحو المراد والسعي لتحصيله فهي وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها
لا تنقسم إلى إلزامية وغيرها، بل عدم الالزام مستلزم لعدم فعلية الإرادة،
لمنافاته الإرادة، لمنافاته لفعلية السعي نحو المراد الذي هو لازم لها، ولذا
لا تنقسم الإرادة التكوينية إلى لزومية وغيرها، تبعا لاختلاف الملاك والغرض
الموجب لها، بل مرجع عدم اللزوم في الشوق إلى محض الرغبة من دون أن

(1) الشيخ آغا ضياء الدين العراقي. (منه).
32

تبلغ مرتبة الإرادة.
وأما ما ذكره من أن ذلك خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فهو
كما ترى! إذ لا وجه لاختلافهما في ذلك بعد الاعتراف باتحاد حقيقتهما،
وبعد اشتراكهما في اختلاف الملاك الموجب لهما في الالزام وعدمه، بل الأولى
كون ذلك كاشفا عن اختلاف حقيقتيهما.
أما بعض الأعاظم (قدس سره) (1) فقد صرح بما ذكرناه من أن الإرادة
وإن كانت قابلة للشدة والضعف، إلا أنها ما لم تشتد بحيث يترتب عليها
تحريك العضلات لا تكون إرادة.
كما أن ظاهره اشتراك الوجوب والاستحباب في الإرادة، وفي ما
يترتب عليها، وهو الخطاب المتضمن لايقاع المادة تشريعا على المكلف، وإنما
يختلفان في المبادئ، حيث يكون إيقاع المادة على المكلف تشريعا
مسببا تارة: عن مصلحة لزومية وأخرى: عن مصلحة غير لزومية.
أما وجوب الفعل فهو بحكم العقل، تبعا لصدق الإطاعة عليه، التي هي
واجبة عقلا بنفسها. ويكفي في صدقها عليه صدور البعث من المولى من دون
قرينة على كون مصلحته غير لزومية. أما مع قيام القرينة على ذلك بترخيص
المولى في الترك فلا يصدق عنوان الإطاعة، ولا يكون واجبا، بل يكون
مستحبا.
ومرجع ذلك إلى أن الوجوب والاستحباب وإن اشتراكا في الإرادة
إلا أنهما يختلفان في الملاك الموجب لها، وفي منشأ الانتزاع المسبب عنهما،

(1) الشيخ ميرزا محمد حسين النائيني. (منه)
33

فالوجوب مسبب عن البعث من دون قرينة على كون الملاك غير لزومي،
والاستحباب مسبب عن البعث مع القرينة على ذلك. وقد قاربه في ذلك
بعض من تأخر عنه.
ولا بد أن يريد بالإطاعة ما يساوق عدم المعصية، لأنها الواجبة عقلا
والتي يختص بها الأوامر الوجوبي، وإلا فالإطاعة بمعنى المتابعة للمولى تتحقق
بموافقة الامر الاستحبابي، ولا تتصف بالوجوب عقلا، بل بمحض الحسن.
وحينئذ يشكل ما ذكره - مضافا إلى ما أشرنا إليه آنفا من منافاة
الترخيص في الترك للإرادة - بأن التابع لصدق الإطاعة - بالمعنى المذكور - هو
الوجوب العقلي المختص بالتكاليف الشرعية، والكلام إنما هو في الوجوب
المولوي الذي هو المنشأ لصدق الإطاعة، وهو الطلب اللزومي الذي لا يختص
بأوامر الشارع الأقدس، بل يجري في الأوامر العرفية، ومن الظاهر أنه تابع
للطلب الصادر من المولى تبعا للملاك الداعي له، حيث يكون لزوميا تارة،
وغير لزومي أخرى، ومع عدم المعين يكون محتملا للوجهين، ودليل الترخيص
كاشف عن حاله، لا مقوم ثبوتا لعدم لزوميته، بحيث يكون عدم الدليل عليه
مساوقا للزوم الطلب واقعا.
كيف، ولازم ذلك كون وصول دليل الترخيص موجبا لانقلاب
الطلب من الوجوب إلى الاستحباب ثبوتا؟! ولا يظن الالتزام به منه ولا من
غيره، إلا في موارد النسخ، والانقلاب به - لو تم - مسبب حقيقة عن نفس
الترخيص، لا عن وصول دليله.
نعم قد يكون عدم وصول الدليل على الترخيص منشأ للبناء على
كون الطلب إلزاميا ظاهرا، لأنه الأصل في الطلب، أو لغير ذلك مما يرجع إلى
34

مقام الاثبات - ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى - فيكون تبعا
لذلك موضوعا للإطالة ظاهرا، فيجب عقلا وجوبا طريقيا في طول وجوب
الإطاعة الواقعية، وإن كان مستحبا واقعا. فكأن ما ذكره مبتن على اختلاط
مقام الثبوت بمقام الاثبات، ومقام الواقع بمقام الظاهر.
وأما على الثاني فتوجيه الفرق بين الحكمين غير عسير، لأنه إذا أمكن
إرادة الشئ من بعض الجهات دون بعض بنحو يقتصر على المقدمات
الحافظة لوجوده من تلك الجهات، فكما يمكن الاقتصار على الطلب الإلزامي
الذي يجب عقلا إطاعته، يمكن الاقتصار على الطلب غير الإلزامي الذي
يحسن عقلا إطاعته، ولذا كان ظاهره انتزاع الوجوب من مقام إظهار الإرادة
مع عدم الترخيص في الترك، والاستحباب من مقام إظهارها مع الترخيص
فيه.
نعم، لا يبعد كون إلزامية الإرادة والطلب وعدمها راجعة إلى خصوصية
في الإرادة والطلب، مستكشفة بالترخيص وعدمه لا متقومة بهما، وأن
الترخيص لازم لعدم إلزاميتهما، وعدمه لازم لالزاميتهما، مع تقوم كل من
الحكمين الإلزامي وعدمه بنفس الإرادة والطلب بإحدى خصوصيتيهما، من
دون دخل للترخيص وعدمه فيه، وذلك لما أشار إليه بعض المحققين (قدس
سره)، من أنه قد لا يخطر أحد الامرين - من الترخيص وعدمه - على بال
الحاكم عند جعل أحد الحكمين والخطاب به. وربما يرجع ما ذكره سيدنا
الأعظم (قدس سره) إلى ذلك. والامر سهل.
وأما على الثالث فقد ذكر المحقق المذكور أن الفرق بينهما ينحصر في
تأكد البعث وعدمه، فالوجوب هو الانشاء بداعي البعث الأكيد،
35

والاستحباب هو الانشاء بداعي البعث غير الأكيد، والبعث وإن كان
اعتباريا، والاعتبار بنفسه لا يقبل الشدة والضعف، إلا أن الشدة والضعف في
نفس الامر المعتبر - وهو البعث - لان اعتبار أمر حقيقي بمرتبته الشديدة
أو الضعيفة أمر ممكن، بلحاظ اختلاف الأثر المترتب عليه في مقام العمل.
والمصلحة اللزومية كما تناسب شدة الإرادة تناسب شدة البعث
وتأكده، وغير اللزومية كما تناسب ضعف الإرادة تلازم ضعف البعث وعدم
تأكده. وأما الترخيص في الترك وعدمه فهما لازمان لمنشأ الاستحباب
والوجوب، لا مقومان له، لما سبق منا التنبيه عليه تبعا له.
لكن جعل الشدة والضعف في البعث الاعتباري معيارا في الفرق بين
الحكمين لا يخلو عن إشكال، لان اعتبار البعث إنما هو لأجل ترتب الانبعاث
عليه عقلا، كما يترتب خارجا على البعث الحقيقي، وكما يترتب المراد على
الإرادة في التكوينات، ومن الظاهر ترتب الانبعاث الخارجي على البعث
الحقيقي والمراد على الإرادة مطلقا وإن كانا ضعيفين، وذلك لا يناسب دخل
شدة البعث وضعفه في لزوم الانبعاث عقلا وعدمه.
وأما على الرابع فقد ذكر بعض مشايخنا: أن الفرق بين الحكمين في
مقام الثبوت من حيثية المبدأ. وذلك بشدة الملاك وضعفه - بناء على تبعية
الاحكام للملاكات - وفي مقام الاثبات من حيثية مقارنة الحكم للترخيص
وعدمه، إذ حيث كان الطلب عبارة عن إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف،
فاللازم عقلا بمقتضى قانون المولوي والعبودية لزوم الامتثال، وهو مرجع
الوجوب. إلا أن يرد ترخيص من المولى نفسه، فيجوز ترك الامتثال عقلا،
وهو مرجع الاستحباب.
36

وهو مقارب لما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) أو راجع إليه.
غايته أنه صرح بكون الترخيص وعدمه فرقا بين الحكمين في مقام الاثبات
لا الثبوت، وهو لا يناسب ما ذكره من كون الترخيص رافعا لحكم العقل
بوجوب الامتثال، فيكون الفعل به مستحبا، ولولاه لكان واجبا، حيث
يناسب ذلك دخل الترخيص وعدمه في الحكمين ثبوتا لا إثباتا.
على أنه إذا كان مفاد الطلب إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف
فوجوب أداء ما في ذمة المكلف عليه لما كان عقليا راجعا إلى مقام الإطاعة
امتنع ترخيص المولى في تركه، كما يمتنع ترخيصه في ترك الواجب.
إلا أن يرجع ترخيصه إلى رفعه عن ذمة المكلف، فيرتفع موضوع
حكم العقل، لكن يكون نسخا لمفاد الطلب، ولا يبقى معه وجه لبقاء
الاستحباب.
أو يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلا بنحو خاص من الجعل في
الذمة، ولا يجب في غيره، وهو ما يستكشف بترخيص المولى، فيكون الترخيص
كاشفا عن حال الجعل، ولم ينهض الوجه المذكور لبيان الفارق بين الجعلين
ثبوتا.
ولا مجال لقياسه على ترخيص الدائن في تأخير الدين، أو عدم أدائه
الموجب لعدم وجوب الأداء مع بقاء انشغال الذمة بالدين.
للفرق بينهما بأن وجوب أداء حقوق الناس لما كان شرعيا كان
للشارع التصرف فيه سعة وضيقا، فله إناطته بعدم ترخيص صاحب الحق في
ترك الأداء، من دون أن ينافي بقاءه، أما أداء حقوق المولى فهو عقلي خارج
عن وظيفة الشارع.
37

والظاهر توجه ذلك على ما سبق من بعض الأعاظم، كما يتوجه ما
سبق عليه هنا في الجملة، لرجوع أحدهما للاخر. فلاحظ.
وأما على الخامس - الذي عرفت منا تقريبه - فالحكم غير الإلزامي وإن
كان الخطاب به مبنيا على ملاحظة الجهة المقتضية للموافقة بين الحاكم
والمخاطب، إلا أنه يفترق عنه في عدم ابتنائه على جعل المسؤولية بلحاظ تلك
الجهة، بحيث تكون المخالة خرقا لها وخروجا عليها، بل على محض جعل
مقتضى الخطاب على حساب الحاكم منتسبا إليه، بحيث يكون الاتيان به
لأجله وعلى حسابه من حيثية واجديته لتلك الجهة المقتضية للمتابعة.
وبعبارة أخرى: الخطاب ممن ينبغي متابعته مبتنيا على ملاحظة الجهة
المقتضية للمتابعة هو المصحح لانتزاع الحكم وإضافته إليه، بنحو يقتضي نسبة
متعلقة له وصيرورته في حسابه حتى يكون الاتيان به لأجله إطاعة له وقياما
بمقتضى تلك الجهة الملحوظة، كالعبودية للمولى الأعظم، والسلطنة من الموالي
العرفيين، والحق المتبادل بين المتناظرين.
وهذا ما تشترك فيه الاحكام المولوية الاقتضائية وبه تمتاز عن الأوامر
والنواهي الارشادية، فإنها لا تبتني علي ملاحظة الجهة المذكورة، بل على نحو
الارشاد لواقع لا دخل للامر والناهي به، ولا ينتسب إليه، ولا يكون منشأ
لانتزاع الحكم منه، ولا يصح متابعتها لأجله.
نعم، الحكم المولوي تارة: يتمحض في ذلك، فلا يكون إلزاميا، بل
يستلزم الترخيص في الترك مع التفات الحاكم.
وأخرى: يبتني مع ذلك على جعل المسؤولية بالإضافة لتلك الجهة،
بحيث تكون مخالفته خرقا لها وخروجا عن مقتضاها، فيكون إلزاميا، ويلزمه
38

عدم الترخيص في الترك.
فالفرق بينهما ثبوتا راجع إلى ذاتي الحكمين، ولا ينحصر في مبادئهما،
وهي الملاكات التي تكون إلزامية تارة، وغير إلزامية أخرى، كما لا ينحصر
بالفرق العرضي بالترخيص في الترك وعدمه.
وأولى من ذلك عدم تقومهما بالترخيص وعدمه، أو المنع من الترك،
بنحو ينتزعان من الامرين مع بساطتهما مفهوما، أو بنحو التركيب في
مفهومهما، إذ اشتمال الخطاب على إحدى الخصوصيتين الذاتيتين المشار
إليهما يكفي في انتزاع أحد الحكمين بلا حاجة للترخيص وعدمه، أو المنع.
ومما تقدم يظهر ضعف ما عن بعضهم: من إرجاع الأوامر الاستحبابية
للأوامر الارشادية، وأنها لا تتضمن إلا الارشاد للمصلحة الراجحة.
وأما ما أشير إليه في وجه ذلك: من منافاة البعث للترخيص في الترك،
فلا بد من اختصاصه بالوجوب وخلو الامر الاستحبابي عنه، وتمحضه في
الارشاد.
فهو مدفوع: بأن المراد بالبعث إن كان هو الحث على الفعل المعبر عنه
بالطلب، فهو لا ينافي الترخيص، بل قد لا يخلو منه الامر الارشادي أيضا، كما
لو كان الداعي له حب الخير للمخاطب.
وإن كان المراد منه ما يساوق جعل المسؤولية على المخاطب ولا بدية
الطلب منه فخلو الخطاب عنه لا يستلزم كونه إرشاديا، لما سبق.
كيف والأوامر الارشادية لا تصحح نسبة متعلقها للشارع والشريعة،
بنحو يؤتى به لأجله، كما لا تقتضي موافقتها أهلية المخاطب بها للثواب
منه، مع وضوح ثبوتهما في الأوامر الاستحبابية.
39

وبالجملة: وضوح الفرق بين الأوامر الاستحبابية والارشادية بمقتضى
المرتكزات المتشرعية والعرفية، وبملاحظة آثار كل منهما بحد لا ينبغي معه
خفاؤه وإرجاع أحدهما للاخر، بل اللازم لأجله البناء على خطأ التفسير
المستلزم لذلك، ويكون كالشبهة في مقابل البديهة.
تنبيهان:
أولهما: ما تقدم منا في تفسير الحكم الاقتضائي الإلزامي وغيره كما
يجري في الوجوب والاستحباب يجري في الحرمة والكراهة، وإن اختلفا عنهما
في كون الملاك فيهما راجعا للمفسدة في الفعل المقتضية للزجر عنه،
وللمصلحة المقتضية للبعث نحوه في الوجوب والاستحباب.
وأما على بقية المباني فحيث ذكرها أصحابها في مبحث الأوامر تبعا
لبيان مفاد صيغة الامر ومادته، فقد اقتصر بعضهم على ما يناسبها وهما
الوجوب والاستحباب، وربما يستفاد تفسير الحرمة والكراهة من مجموع
كلماتهم ولو بلحاظ ملاك المبنى.
فالمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الإرادة ذات المرتبتين،
أو مع الترخيص في الترك وعدمه انتزاع الحرمة والكراهة من الكراهة ذات
المرتبتين، أو مع الترخيص في الفعل وعدمه. والمناسب لانتزاع الوجوب
والاستحباب من الطلب أو البعث انتزاع الحرمة والكراهة من النهي
أو الزجر.
أما على ما سبق من بعض مشايخنا فالمناسب كون حقيقتهما اعتبار ترك
المادة في ذمة المكلف، لكن لازمه عدم الفرق بين تحريم الشئ وإيجاب تركه،
40

مع أنه صرح في مبحث النواهي - من حاشيته على تقريره لدرس شيخه -
بالفرق بينهما، وأن المتعلق في الأول الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه
الناشئ من اشتماله على المفسدة، والراجع لتحريمه، ومتعلق الثاني الترك
لاشتماله على المصلحة الداعية لطلبه، فيرجع إلى إيجابه.
ومن هنا لا يبعد كون مفاد النهي عنه اعتبار حرمان المكلف من متعلقه
أو ما يشبه ذلك، والامر سهل.
ثانيهما: لما كان الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره بزيادة حد في
الإلزامي يستتبع المسؤولية بالإضافة للجهة التي يبتني الخطاب عليها، مع
اشتراكهما في أصل المشروعية، والانتساب للمولى التي هي ملاك اقتضائية
الحكم، كان الحكم الاقتضائي غير الإلزامي موجودا بذاته في ضمن الإلزامي،
وإن لم يكن موجودا بحده.
وحينئذ فالمرتكزات العقلانية قاضية بأنه كما يكون للحاكم رفع
الحكم الإلزامي بكلا حديه، فلا تبقى معه المشروعية، له رفعه بحده المميز له
عن الحكم غير الإلزامي، برفع المسؤولية المقتضية للالزام مع بقاء المشروعية،
ولازم ذلك أن يخلفه الحكم الاقتضائي غير الإلزامي، لتمامية حديه بذلك.
فرفع الالزام والحكم بالاستحباب - مثلا - لا يتوقف على رفع
مشروعية الفعل المقارنة للالزام، ثم تشريعه مرة أخرى، وتشخيص الرفع وأنه
بأي من النحوين تابع لما يستفيده الفقيه من دليله.
الامر الثالث: مما سبق يظهر أن الحكم غير الاقتضائي - وهو الإباحة
التي هي أحد الحكام الخمسة - متقوم بعدم الجهة المقتضية لاحد الاحكام
مطابق لمقتضى الأصل الأولي الذي يكفي فيه عدم الخطاب المبتني على
41

ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة، لا بالامر ولا بالنهي.
والمصحح للحكم به، وجعله مع ذلك هو فتح الطريق للعبيد في استناد
عملهم في مقام السعة لتشريع المولى، فإن فعل الشئ أو تركه لإباحة المولى له
أظهر في العبودية له تعالى، والفناء في سبيله من استناده لمجرد عدم منه منه.
كما قد يشير إليه ما عن تفسير النعماني باسناده عن علي عليه السلام:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه
كما يحب أن يؤخذ بعزائمه " (1).
بل لما كان استناد السعة لعدم التكليف من باب الاستناد لعدم المانع،
واستنادها للتحليل من باب الاستناد لوجود المقتضي، كفى ذلك في صحة
الجعل ارتكازا، وكان أدعى للشكر على نعمة التخفيف والسعة.
اللهم إلا أن يقال: هذا إنما يقتضي تشريع الحل بالمعنى الأعم، لكفايته
في السعة عملا، كما هو ظاهر الأدلة المتضمنة للرخصة والحل والإباحة
ونحوها. وأما خصوصية عدم الاقتضاء والالزام فلا أثر لها فيها، ولعله لذا
لم نعهد دليلا يتضمن الإباحة بالمعنى الأخص، بل لا نعرف لفظا مختصا بها
لغة، وإنما هي اصطلاح للفقهاء في مقام تقسيم الاحكام.
وما تقدم من أن تقسيم الاحكام للخمسة عقلي إنما هو بلحاظ
وجودها في الجملة، وإن كان انتزاعيا، على ما يأتي توضيحه.
ودعوى: أن الملاك لا يخلو عن إحدى الحالات الخمس، ولازمه جعل

(1) الوسائل ج 1، باب: 25 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1، و ج 11، باب: 29 من
أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث: 20.
42

الاحكام على طبق كل منها، ومنها الإباحة بالمعنى الأخص.
مدفوعة: بأن اللازم عدم مخالفة التشريع للملاك، لا مطابقته له، ولذا
لا يحسن التشريع في مورد عدم الأثر العملي له وإن كان ملاكه موجودا،
ويكفي في استيفاء الملاك بالتشريع في المورد المذكور تشريع الحل بالمعنى
الأعم مع عدم تشريع حكم اقتضائي في مورده.
وأما تشريع الإباحة فلا بد فيه ثبوتا من غرض مصحح له،
وإثباتا من قيام الدليل عليه، وكلاهما غير ظاهر.
ومن هنا لا طريق لاحراز جعل الحكم المذكور بحده، بل غاية
ما يدعى كونه منتزعا من تشريع الحل بالمعنى الأعم، مع عدم تشريع حكم
اقتضائي في مورده.
ثم إن الوجه المتقدم إنما ينهض بإمكان تشريع الحل وعدم لغويته،
فلا يلزم رفع اليد عن ظاهر أدلته، وحملها على مجرد نفي التحريم.
أما لزوم جعله في مورد عدم التحريم، أو عدم الحكم الاقتضائي
فلا طريق له، بل يمكن اكتفاء الشارع في كثير من الموارد بعدم تشريع الحكم
الاقتضائي، لعدم تحقق ملاكه، لما سبق من عدم الأثر العملي له.
نعم، لو كان مرجع الحكم الاقتضائي الإرادة والكراهة الحقيقتين كان
مرجع الحل بالمعنى الأعم الرضا بالفعل أو الترك، ومرجع الإباحة بالمعنى
الأخص الرضا بهما معا، وحينئذ يمتنع خلو الواقعة عن أحد الأحكام الخمسة
من مثل الشارع الأقدس الذي يستحيل في حقه الغفلة عن الواقعة، إذ
الالتفات للشئ مستلزم لإرادته أو كراهته، أو محض الرضا به من دونهما،
لكن سبق ضعف المبنى المذكور.
43

الامر الرابع: بناء على ما تقدم منا في حقيقة الحكم الاقتضائي يكون
وجوده مستندا للحاكم تبعا لخطابه الخاص، من دون أن يكون مجعولا له
اعتبارا بما له من مفهوم اسمي، نظير الجعل في الوضعيات.
أما بناء على إناطته بالإرادة والكراهة الحقيقتين، فإن كان متحدا
معهما كان أمرا تكوينيا ليس من أفعال الحاكم، بل من الكيفيات النفسانية
التابعة لأسبابها التكوينية، كالعلم بالمصلحة والمفسدة، ونحوه.
وإن كان منتزعا منهما في ظرف إبرازهما بالانشاء القولي أو الفعلي
- كما يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) - كان أمرا انتزاعيا غير
مجعول بنفسه، ولا بمنشأ انتزاعه، وإنما يستند للمولى بلحاظ كون أحد جزئي
منشأ انتزاعه - وهو إبراز الإرادة والكراهة - فعلا اختياريا له.
نعم، يكون أمرا جعليا اعتباريا بناء على ما سبق من بعض الأعاظم
(قدس سره) من كونه عبارة عن ما يتبع الإرادة، وهو إيقاع المادة على
المخاطب تشريعا.
ومثله ما سبق من بعض مشايخنا من تقومه بإبراز اعتبار المادة في ذمة
المكلف، حيث يكون كسائر الأمور الوضعية، له نحو من الوجود الاعتباري
المقصود بالجعل ممن بيده الاعتبار.
الامر الخامس: التكليف وإن كان تابعا لفعلية الخطاب به تبعا لفعلية
موضوعه، إلا أن الظاهر بمقتضى المرتكزات العقلانية أن موضوع الإطالة،
والمعصية والتقرب هو فعلية الغرض بمعنى بلوغه مرتبة الداعوية، بحيث يهتم
المولى بحفظه وإن لم يكن التكليف على طبقه فعليا، لوجود المانع من فعلية
الخطاب به كالعجز عن امتثاله.
44

ومن ثم ذكروا: عدم جواز تعجيز المكلف نفسه عن امتثال التكليف
قبل دخول الوقت، فضلا عما بعده.
كما ذكرنا في مبحث التزاحم: عدم جواز فعل ما يؤدي إلى تزاحم
التكليفين، المؤدي لتعذر امتثال أحدهما وإن سقط به الخطاب به.
وذكروا في مسألة الضد: أن سقوط أمر المهم لمزاحمته بأمر الأهم - بناء
على عدم الامر الترتيبي بالمهم معه - لا يمنع من مشروعية التقرب به بلحاظ
ملاكه.
وتترتب على ذلك ثمرات مهمة، أشير إليها في مباحث التزاحم،
استوفينا الكلام في كثير منها في مبحث التعبدي والتوصلي، ومسألة الضد،
واجتماع الأمر والنهي، ومبحث التعارض.
بل لا إشكال في حسن تحصيل الغرض المذكور مع غفلة المولى عنه
- لو كان ممن يمكن منه الغفلة كما في الموالي العرفيين - وكفايته في التقرب
إليه، بل لزوم تحصيله مع كونه لزوميا وعدم صحة الاعتذار بعدم فعلية
الخطاب به.
نعم، لا مجال لذلك مع انحصار الغرض بالامتحان، وعدم رجوعه إلى
ملاك في المتعلق من شأنه أن يستتبع الخطاب به، لان غفلة المولى مساوقة لعدم
فعلية غرضه المذكور، لان الامتحان أمر قصدي، فلا موضوع للامتثال
والتقرب حينئذ.
45

المقام الثاني
في الأحكام الوضعية
وهي مقابلة للأحكام التكليفية التي سبق أنها متعلقة بفعل المكلف بنحو
تقتضيه وجودا، أو عدما، أو تبتني على محض السعة فيه، سواء لم تتعلق بفعل
المكلف، كسببية موت الحيوان لنجاسته، أم تعلقت به لا على نحو الاقتضاء
أو السعة، كسببية الظهار لوجوب الكفارة، فإن تعلق السببية بالظهار ليس
بنحو يقتضي فعله أو تركه أو السعة فيه.
وينبغي تقديم أمور قبل الكلام في حقيقتها..
الامر الأول: أن إطلاق الحكم في المقام ليس باعتبار فرض الحكم به
شرعا، لان حكم الشارع به مساوق لجعله له، مع أن الكلام إنما هو في جعل
الشارع للأحكام الوضعية.
بل يراد به ما وقع الحكم به في لسان أهل الاستدلال أو المتشرعة مما
كان صدقه تابعا في الجملة لجعل الشارع، سواء كان مجعولا له، أم لازما
لجعله، أم نحو ذلك.
47

الامر الثاني: ربما وقع الاختلاف في عدد الأحكام الوضعية..
فقيل: إنها ثلاثة: وهي السببية، والشرطية، والمانعية.
وقيل: إنها خمسة، بزيادة العلية، والعلامية.
وقيل: إنها تسعة، بإضافة الصحة، والفساد، والرخصة، والعزيمة.
وقيل: إنها غير محصورة، بل كل ما ليس بحكم تكليفي فهو وضعي.
ولا طريق لنا لتحديد المصطلح المذكور، بعد عدم الوقوف على مبدئه
ومنشئه.
نعم، حيث كان سبب البحث فيها هنا هو الاختلاف في حقائقها،
فالمناسب تعميم البحث لكل ما ليس بحكم تكليفي.
بل لا بأس بتعميم المصطلح فعلا لذلك، تبعا لعموم الغرض المصحح
للاصطلاح، كما جرى عليه مشايخنا في العصور القريبة.
ولعل منشأ التخصيص بالبعض في كلام بعضهم عدم التوجه لعموم
الغرض ولو بسبب عدم ظهور الخلاف في غيره. والامر سهل.
الامر الثالث: الكلام في حقيقة الأحكام الوضعية ليس في تحديد
مفاهيمها تفصيلا، لعدم تيسر ذلك بسبب كثرتها، وبساطة مفاهيمها،
وارتكازية بعضها بالنحو غير القابل للشرح والتوضيح.
مع أنه لا أثر مهم لذلك، فلو أشير إلى ذلك في بعضها فهو استطراد
خارج عن محل الكلام.
بل الكلام إنما هو في جعلها شرعا، بحيث يكون لها بسبب الجعل
الشرعي نحو من الوجود الصالح لترتب الأثر. لما يترتب على ذلك من الثمرة
المهمة، وهي إمكان التعبد بها ظاهرا عند الشك فيها.
48

بيان ذلك: أنه لا ريب في أن المصحح للتعبد الشرعي الظاهري بالشئ
هو ترتب الأثر العملي عليه، بحيث يكون منشأ لحدوث الداعي العقلي
للعمل، ويلغو بدون ذلك، إما لكونه أجنبيا عن مقام العمل، كطيران الطير
في الجو، أو لمضي وقت العمل، كما لو شك بعد وطء المرأة في حيضها حين
الوطء، أو لتعذر العمل، كما لو شك في طهارة الماء الذي يتعذر استعماله.
كما أنه تقرر في مباحث الأصل المثبت أنه لا بد في العمل الملحوظ في
مقام التعبد الظاهري من كونه مترتبا بلحاظ القضايا الشرعية من دون توسط
أمر خارج عنها، إما لكون الامر المتعبد به ظاهرا مجعولا للشارع ومنشأ
لحدوث الداعي العقلي للعمل بلا واسطة - كالأحكام التكليفية - أو لكونه
موضوعا لحكم شرعي يترتب عليه العمل، وإن لم يكن في نفسه مجعولا
شرعيا، كالحيض الذي هو موضوع للأحكام التكليفية الخاصة.
وحينئذ يقع الكلام في المقام في أن الحكم الوضعي هل له نحو من
الوجود مستند لجعل الشارع، ليمكن التعبد به ظاهرا، نفيا، أو إثباتا، بلحاظ
كل من العمل المترتب عليه بلا واسطه، والمترتب عليه بواسطة حكمه
الشرعي؟
أو أن له نحوا من الوجود لا يستند للشارع، فلا يمكن التعبد به إلا
بلحاظ العمل المترتب عليه بواسطة حكمه الشرعي، دون المترتب عليه
بلا واسطة؟
أو أن له نحوا من الوجود أصلا، فلا يترتب عليه العمل بنفسه،
كما لا يكون موضوعا لحكم شرعي يترتب عليه العمل بواسطته، فلا يمكن
التعبد به أصلا؟
49

الامر الرابع: قد يعبر عن الموجود تارة: بالامر الحقيقي. وأخرى:
بالامر الاعتباري. وثالثة: بالامر الانتزاعي.
ولا إشكال في المراد بالامر الحقيقي، وأنه عبارة عما له ما بإزاء في
الخارج التكويني، وأنه يستند في وجوده لأسبابه التكوينية من دون دخل فيه
للتشريع. وإن كان ربما يقع الكلام في بعض مصاديقه. وهو غير مهم
في المقام.
وإنما المهم تعيين الامر الاعتباري والانتزاعي حيث وقع الكلام في
حقيقتهما، وربما وقع الخلط بينهما للاشتباه في المفهوم أو المصداق.
والظاهر أن الامر الاعتباري هو المفهوم المتقرر عند الشارع، أو العرف
الذي له نحو من الوجود تابع ثبوتا لجعله والبناء عليه، ممن بيده أمره من شرع
أو عرف أو سلطان، ومسبب عن حكمه به، من دون أن يكون له ما بإزاء
في الخارج.
وبذلك يكون متوسطا بين الامر الحقيقي والادعائي المحض، لان الأول
له ما بإزاء في الخارج مستند لسببه التكويني من دون دخل للعجل والبناء فيه،
والثاني لا يكون له بنظر العرف وجود مسبب عن ادعائه والحكم به، بل
ليس له وراءهما شئ، كما في موارد الاستعارات والمبالغات والتنزيلات
الواردة في مقام الحكم، والتي تبتني على العلاقات المجازية ونحوها.
ولا معنى لمنع وجود الامر الاعتباري بعد ما ذكرناه من فرض أن له
وجودا بنظر العرف من دون أن يكون له ما بإزاء في الخارج، لان إنكار
وجوده في عالم الاعتبار خلاف الفرض، وإنكار وجوده في الخارج إنكار
لأمر خارج عن المدعي.
50

نعم، لا بد من غرض عقلائي مصحح لانتزاع المفهوم الاعتباري والبناء
عليه في عالم الاعتبار، بعد فرض عدم التقرر له في الخارج. والظاهر أن
الغرض منه تنظيم الاحكام والآثار العملية التابعة لمن بيده الاعتبار من شرع
أو عرف، وكما كان له جعل الاحكام، كان له اختراع الموضوع فيها
لتنظيمها. لكن لا بمعنى تقوم مفهوم الامر الاعتباري بخصوص بعض الأحكام
، ليلزم ارتفاعه بارتفاعها، بل بمعنى كون اعتباره لأجل تحديد
الموضوع الصالح لها، ليسهل تنظيمها، وإن لم تشرع في بعض موارده لفقده
بعض شروطها.
وبما ذكرناه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) في بعض
الأمور الاعتبارية من أنها من مراتب بعض الأمور الحقيقية، فإنه بعد أن ذكر
أن الملكية من الأمور الاعتبارية ذكر أنه يمكن أن يقال: إنها من سنخ الملكية
الحقيقية، فان حقيقة الملكية هي الواجدية، والسلطنة، والإحاطة على الشئ،
وهي ذات مراتب أقواها واجدية المالك بالملكية الاعتبارية، ثم واجدية المحاط
عليه بالمحيط خارجا، كواجدية الانسان لما يلبسه من ثيابه.
وجه الضعف: أن اختلاف الامر الحقيقي والاعتباري سنخا وأثرا، تبعا
لاختلاف سنخ علتيهما مانع من البناء على كون أحدهما من مراتب الاخر.
نعم، قد يتشابهان في بعض الآثار، فكما أن له تعالى التصرف في
مخلوقاته فإن للمالك التصرف في مملوكاته.
لكن الأول عقلي، تبعا لخصوصية ذاته تعالى وتأثيره في مخلوقاته،
والثاني تابع لجعل الشارع إطلاقا أو تقييدا.
51

ومثله ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في جملة من عناوين الأمور
الاعتبارية، من أن للعناوين المذكورة حقائق حقيقية، تارة: تنشأ تكوينا بفعلها
في الخارج. وأخرى: تنشأ تكوينا ادعاء في مثل العقود والايقاعات. ولا تخرج
بذلك عن كونها اعتبارية، لان الوجود الادعائي نوع من الاعتبار، من دون
أن تختلف حقائق الأمور الخارجية عن حقائق الأمور الاعتبارية.
وقد يظهر ذلك من بعض المحققين، بل صرح: بان أسدية الشجاع
اعتبارية للعرف كما أن ملكية الوارث اعتبارية لهم أو للشارع، خالطا بين
الاعتبار والادعاء، مدعيا أن المفهوم الواحد كما يكون له مطابق حقيقي
يكون له مطابق اعتباري. فراجع كلامه على غموض فيه.
ويظهر وجه ضعفه مما سبق من أن الادعاء مباين للاعتبار، ولذا يتعلق
بما لا يقبله من الأمور الحقيقية، وبما يقبله من دون أن يقتضي وجودهما،
كادعاء أن الشجاع أسد، وادعاء أن المطلقة رجعيا زوجة، والمزوجة متعة
مستأجرة.
ولذا لا يكون الوجود الادعائي فردا حقيقيا للعنوان المدعى، بل يحتاج
الحمل عليه إلى قرينة، بخلاف الوجود الاعتباري، حيث يكون فردا حقيقيا
لعنوانه، كالوجود الخارجي لعنوانه.
كما يستغني كل منهما عن القرينة لو كان العنوان حقيقة فيه
أو منصرفا إليه، ويحتاج إليها لو كان مشتركا لفظيا بينهما.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في اختلاف حقيقتي كل من الامر الحقيقي
والاعتباري سنخا وتباين مفهوميهما، كما صرح به المحقق الخراساني (قدس
سره)، ومباينة الاعتبار للادعاء.
52

نعم، قد يكون تشابه الامر الحقيقي والامر الاعتباري ذهنا، أو في
بعض الآثار المقصودة منهما منشأ لاطلاق عنوان الامر الحقيقي على الامر
الاعتباري، من باب المجاز أو النقل للمناسبة، من دون أن يقتضي اتحاد
حقيقتيهما ومفهوميهما.
ثم إن الظاهر أن الأمور الاعتبارية من سنخ الاعراض القائمة بموضوع
واحد، كالحرية والمسجدية والطهارة والنجاسة، أو الإضافات القائمة بأكثر
من موضوع واحد، كالزوجية والملكية والرقية وغيرها. وربما يأتي بعض
الكلام فيها. ولا تكون من سنخ الموضوعات القائمة بأنفسها، حيث لا نعهد
ذلك فيها. هذا كله في الامر الاعتباري.
وأما الامر الانتزاعي فهو مأخوذ من الانتزاع، ويراد به في ألسنة أهل
الاستدلال: استحصال العنوان من الجهة المقومة لمفهومه، فتشترك فيه جميع
العناوين، فالعناوين الذاتية تنتزع من مقام الذات، والعرضية تنتزع منها
بلحاظ طروء العرض عليها، على اختلاف الاعراض في كونها خارجية
واعتبارية، والعناوين الإضافية تنتزع من نحو نسبة بين الذات وغيرها،
كالفوقية والبنوة والعلية ونحوها.
إلا أن الظاهر عدم كون ذلك على إطلاقه مرادا لهم من الامر الانتزاعي
بل لهم مصطلح آخر.
وقد اختلفوا في تحديده وموارد إطلاقه، على ما ذكره غير واحد،
والمهم هنا ما يناسب المقام، وهو ما يصلح أن يكون قسيما للامر الحقيقي
والاعتباري.
وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره): أنه الذي لا يكون له نحو تقرر
53

ووجود، لا في وعاء العين، كالخارجيات، ولا في وعاء الاعتبار،
كالاعتباريات، بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع الموجود في عالم
العين، كالعلية المنتزعة من العلة والمعلول الخارجيين، أو الموجود في عالم
الاعتبار، كالعقد الذي يكون سببا لزوجية والملكية، إذ حيث كانت الزوجية
والملكية اعتباريتين كان سببهما اعتباريا لا محالة.
فالأمور الانتزاعية ليس لها ما بحذاء في الخارج، سواء كان انتزاعها من
مقام الذات، كالامتناع والامكان والعلية، أم من قيام أحد المقولات بمحله،
كالفوقية والتحتية، والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية، فان الفوقية ليست من
مقتضيات ذات الفوق، بل لأجل خصوصية أوجبت انتزاع الفوقية منه، وكذا
غيرها من المذكورات.
ولا يخفى ما فيه من الاشكال...
أما أولا: فلان لزوم كون سبب الامر الاعتباري اعتباريا بلا ملزم، بل
سببه الحقيقي وهو اعتبار من بيده الاعتبار أمر خارجي بلا ريب، وسببه
الجعلي تابع له، فقد يأخذ في موضوعه أمر اعتباريا، كملكية أحد العمودين
الموجبة لانعتاقه، وقد يأخذ في موضوعه أمرا خارجيا، كموت المورث
الموجب لملك الموارث، والعقد والايقاع الموجبين لتحقق مضمونيهما، وغير
ذلك، بل أكثر أسباب الاعتباريات أمور حقيقية تابعة لأسبابها التكوينية.
وأما ثانية: فلانه إذا كانت العلية منتزعة من العلة والمعلول معا، فلا
وجه لانتزاع السببية من خصوص العقد، بل يتعين انتزاعها منه ومن مسببه
كالزوجية أيضا، كما لا وجه لانتزاع الفوقية من خصوصية في الفوق، بل من
خصوصية فيه وفي التحت، لأنها بأجمعها من الإضافات القائمات بطرفين.
54

نعم، تختلف الإضافات، فقد يكون قياما بأطرافها بنحو واحد،
كالاخوة والتشابه، وقد يختلف نحو قيامها ببعض أطرافها عن نحو قيامها
بغيره، كالعلية التي يكون قيامها بأحد طرفيها موجبا لصدق العلة عليه،
وقيامها بالآخر موجبا لصدق المعلول عليه، كما أن قيام الإضافة الخاصة
بالعالي والسافل يوجب انتزاع كل من الفوقية والتحية، وصدق الفوق على
الأول والتحت على الثاني.
وكأن ما سبق منه ناشئ عن الاضطراب في بيان المطلب، وإلا فمن
البعيد مخالفته فيما ذكرنا لوضوحه، ومن ثم لم يكن ذلك مهما.
إنما المهم في المقام أن منشأ الانتزاع المفروض وجوده في عالم العين أو
الاعتبار إن كان متضمنا لما يحكي عنه العنوان الانتزاعي كان الامر الانتزاعي
كالعرض موجودا في عالم العين أو الاعتبار، ولم يكن قسيما للامر الخارجي
والاعتباري، إذا لا يراد بوجودهما إلا وجود مطابق عناوينهما المحكي بها،
لا وجود نفس العناوين.
وإن لم يكن متضمنا لما يحكي عنه العنوان، بحيث لا يحكي العنوان عن
شئ متقرر، بل يتحقق المعنون بنفس الانتزاع في الذهن فقط، رجع إلى ما
ذكره غير واحد من أهل المعقول: من أن الإضافات ليست ثابتة في الأعيان،
بل في الذهن فقط، وأنه لا وجود لها حقيقة.
وعمدة دليلهم على ذلك: أن وجودها يستلزم إضافة بينها وبين
موضوعاتها، فيلزم وجود تلك الإضافة وقيام إضافة بينها وبين الموضوع،
وهكذا إلى ما لا نهاية، مع بداهة بطلان ذلك.
مضافا إلى لزوم وجود ما لا نهاية له من الإضافات، لان لكل شئ
55

نحوا من الإضافة لشئ مباينا لنحو إضافته للأشياء الاخر، حتى غير
الموجودات في الخارج كالكليات والذهنيات والاعدام.
وهذا بخلاف ما لو كانت الإضافات ذهنية، حيث لا توجد قبل
ملاحظتها في الطرفين، كما أن النسبة بينهما وبين الموضوع لا توجد إلا بعد
ملاحظتها، فتكون النسب الموجودة محدودة تبعا لمحدودية اللحاظات
والتصورات المتحققة وتناهيها.
وهذا المحذور وإن كان حقيقا بالتأمل، إلا أن دعوى وجود الإضافات
في قبال وجود موضوعاتها حقيقة بالتأمل أيضا، لما يحس بالوجدان من عدم
تمحض عناوين الإضافات في الوجود الذهني وانسلاخها عن الحكاية، بل هي
حاكية عن جهات خاصة، كما تحكي عناوين أطرافها الذاتية والعرضية عن
مطابقتها في الخارج، ولذا لا يكون الذهن حرا في اختراع الإضافة كما في
التخييليات، أو في اعتبارها كما في الجعليات، فلا يكون الفوق تحتا، ولا العلة
معلولا، ولا المتقدم متأخرا، بل هي تابعة لواقع واحد، ليس للذهن التصرف
فيه، بل إدراكه.
ومن هنا لا بد من الجمع بين الوجدان المذكور، والمحذور المزبور.
ولعل الأولى أن يقال: إن كان المدعى وجود الإضافة بوجود زائد على
وجود موضوعاتها بنحو تكون من الأمور التكوينية في الخارجيات أو
الاعتبارية في الجعليات، فالوجدان المتقدم لا يقتضيه، لان صدق القضية
لا يتوقف على تحقق أطراف نسبتها التي تضمنتها خارجا أو اعتبارا، فضلا
عن نفس النسبة، إذ كثيرا ما تكون أطراف نسب القضايا ذهنية صرفة،
كالكليات والعدميات ونحوها، ويحكم عليها بما يناسب مفاهيمها من لوازم
56

وخواص، فيقال: الانسان نوع، وشريك الباري ممتنع، مع وضوح عدم كون
النوعية والامتناع وموضوعيهما أمورا خارجية تكوينية أو اعتبارية جعلية،
كما قد يكون أحد طرفي القضية خارجيا تكوينيا أو اعتباريا جعليا دون
الاخر، فيقال: زيد ممكن بالذات واجب بالعرض، وعمل الأجير مملوك
للمستأجر، مع وضوح أن الموجود خارجا واعتبارا هو موضوع القضية
الأولى ومحمول الثانية، دون محمول الأولى وموضوع الثانية، لان الامكان
والوجوب كالامتناع لا مطابق لهما في الخارج زائدا على موضوعيهما. كما
أن الملكية إنما تتعلق بالعمل الكلي في حال عدم تحققه في الخارج، ولا يكون
تحققه إلا وفاء بالمملوك وأداء له.
وهكذا كثير من المفاهيم المدركة للعقل، حيث قد أودع الله - جلت
قدرته - في الانسان قوة الادراك والتصور، ومكنه من التصرف في البيان
بصورة عجيبة تدعو للذهول والاعتبار، لا تقف عند حدود ما يدركه من
الخارجيات والاعتباريات. فلتكن الإضافات كذلك وإن كانت أطرافها
خارجية أو اعتبارية، من دونه أن ينافي ذلك الوجدان المشار إليه.
وإن كان المدعى تبعية الإضافات لواقع محفوظ يدركه الذهن من دون
أن يكون تابعا لاختراعه كالتخييلات، ولا لاعتباره كالجعليات، بل ليس له
الخروج عنه، فلا يظن من أحد إنكار ذلك.
وما في كلام بعض المحققين (قدس سره) من تقوم الموجود الفعلي
للإضافات بالاعتبار، وأن لها وجودا اعتباريا تابعا للحاظ - حيث قد يوهم
كونها من الاعتباريات الجعلية - كأنه ناشئ عن التوسع في مفهوم الاعتبار
على خلاف ما سبق منا تحديده، كما قد يظهر بملاحظة تمام كلامه.
57

وإلا فبداهة تبعيتها لمنشأ الانتزاع وعدم خضوعها معه للجعل تغني عن
إطالة الكلام فيه.
لكن ذلك لا يستلزم وجودها خارجا أو اعتبارا بحيث يكون عنوانها
حاكيا عن مطابق في عالم العين والخارج أو الاعتبار، كما يحكي العنوان
العرضي عن أمر في الذات زائد عليها موجود في الخارج أو بالاعتبار.
بل يمكن كون منشأ انتزاع الإضافة خصوصية خاصة في طرفيها
أو أطرافها، تابعة لواقع محفوظ يدركه العقل، مصححة لانتزاع المفهوم
الإضافي، من دون أن تكون متحدة معه ومحكية بعنوانه، فليس للمفهوم
والعنوان الحاكي عنه مطابق في عالم الخارج أو الاعتبار، بل هو أمر متقوم
باللحاظ لا يصح انتزاعه إلا من الخصوصية المذكورة، ويكون وجودها
وعدمها مدارا في صدقه وعدمه.
فالتشابه - مثلا منتزع من كل من الطرفين بلحاظ اتصافهما بوجه
الشبه، فإن كانا خارجيين كالرجلين العالمين، أو اعتباريين كالزوجية والملك
الموجبين لجواز الاستمتاع، كان الوجود الخارجي المستند للسبب التكويني،
أو الاعتباري المستند للجعل مختصا بهما، من دون أن يكونا مطابقين لمفهوم
التشابه أو متضمنين لما يطابقه، ولا محكيين بعنوانه إلا بلحاظ ملازمتهما
لمفهومه المحكي به، لأنهما منشأ انتزاعه ومصححان له، مع كون مفهومه
المطابق له والمحكي به أمرا انتزاعيا لا مطابق له لا في عالم العين والخارج،
ولا في عالم الاعتبار.
ولذا لا يختلف سنخ الإضافة ارتكازا باختلاف سنخ طرفيها، حيث
يكونان خارجيين تارة، واعتباريين أخرى، ومختلفين ثالثة، كالتشابه الحاصل
58

بين الرجلين العالمين، وبين الزوجية المنقطعة وملك اليمين في عدم استحقاق
القسم، وبين التنكيل بالعبد وملك أحد عموديه له في كونه موجبا لانعتاقه،
مع وضوح امتناع قيام الامر الخارجي بالامر الاعتباري، كما سبق وضوح
عدم كون الإضافات من الاعتباريات الجعلية في ظرف تحقق منشأ انتزاعها،
فلا بد من كونها سنخا ثالثا غير الامر الخارجي والاعتباري صالحا للقيام بكل
منهما.
هذا، وقد ذكر بعض المحققين (قدس سره) أن الإضافات كما يكون لها
وجود بالذات، وهو الوجود الفعلي التابع للاعتبار - كما سبق منه - كذلك
لها وجود بالعرض تابع لمنشأ الانتزاع، وهو الوجود بالقوة. قال (قدس سره)
في تقريبه: " فالسقف لمكان كونه جسما واقعا في المكان له قابلية أن يضاف
إلى ما فوقه فينتزع منه التحتية... وإلى ما دونه فينتزع منه الفوقية، فللتحتية
والفوقية وجود بوجود السقف، بنحو وجود المقبول بوجود القابل، فوجود
السقف الخاص خارجا وجود بالذات للجسم، ووجود بالعرض لتلك المعاني
القابلة للانتزاع منه.
وهذا معنى وجود الامر الانتزاعي بوجود منشأ انتزاعه خارجا مع قطع
النظر عن اعتبار كل معتبر كان، وبهذا الوجه داخل في المقولات، وبهذا
الوجه يقال: إن للإضافات... وجودا ضعيفا، أي بنحو وجود المقبول بوجود
القابل بالعرض، لا بالذات... ".
لكن الظاهر أن وجود القابل خارجا بالذات لا يستلزم وجود المقبول
خارجا بالعرض، وليس له أي نحو من الوجود الحقيقي، وإلا كان للاعراض
- أيضا - وجود بالعرض تبعا لوجود موضوعاتها، فوجود الجسم مستتبع
59

لوجود جميع الكيفيات والألوان القابل لها، وإن لم يكن متصفا إلا بواحد
منها.
بل كيف يمكن وجود الإضافة خارجا مع ما ذكرناه من قابليتها للقيام
بالموضوعين الخارجيين والاعتباريين والمختلفين؟! إلا أن يريد بالوجود
الخارجي معنى آخر غير ما نفهمه، فيكون النزاع لفظيا لا ينبغي إطالة
الكلام فيه.
وكيف كان فالظاهر أنه ليس للإضافات وجود خارجي ولا اعتباري،
بل هي أمور انتزاعية تابعة لتحقق منشأ انتزاعها في الصدق.
نعم، بعض الإضافات قابلة عرفا للجعل المستتبع للوجود في عالم
الاعتبار إذا لم يكن لها منشأ انتزاع متحقق في طرفيها خارجا ولا اعتبارا،
كالزوجية والملكية والرقية وغيرها، فإنه حيث لم يكن في أطراف هذه
الإضافات - مع قطع النظر عن جعلها - ما يصحح انتزاعها من عرض
خارجي أو اعتباري، وكانت بنظر العرف من الأمور التابعة لمن بيده
الاعتبار، كان له جعلها ابتداء، لابتناء الاعتبار على كثير من التوسعات،
فلا تكون حينئذ من الأمور الانتزاعية التابعة لمنشأ الانتزاع، بل من الإضافات
الاعتبارية المجعولة بنفسها، والظاهر خروجها عن محل الكلام.
ثم إن الأمور الانتزاعية لا تختص بالإضافات، بل تكون غيرها مما
يكون من سنخ الجواهر من المفاهيم القائمة بأنفسها، كالكليات المجردة،
أو من سنخ الاعراض من المفاهيم القائمة بغيرها، كالامتناع والامكان
والنوعية والجنسية وغيرها، لوضوح انه لا وجود لهذه الأمور، ولا تقرر
لمعنوناتها لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار، وإنما هي منتزعة من خصوصيات
60

يدركها العقل في المفاهيم المذكورة ملازمة لصدقها.
بقي شئ
وهو أنه بناء على ما سبق في الامر الثالث من أن التعبد الظاهري إنما
يكون بلحاظ العمل المترتب بالنظر للقضايا الشرعية، بلا توسط أمر خارجا
عنها - إما لكون الامر المتعبد به مجعولا للشارع يترتب عليه العمل بلا
واسطة، أو لكونه موضوعا لحكم شرعي، وإن لم يكن بنفسه مجعولا للشارع
- فلا ينبغي التأمل في عدم إمكان التعبد الظاهري بالأمور الحقيقية التكوينية
إلا إذا كانت موضوعا للأحكام الشرعية، حيث يترتب عليها العمل
بلحاظها، دون العمل المترتب عليها بلا واسطة، لعدم كونه مترتبا بلحاظ
قضية شرعية.
كما لا ينبغي التأمل في شمولها للأمور الاعتبارية بلحاظ العمل المترتب
عليها بلا واسطة، كالحجية - بناء على جعلها شرعا - حيث يجوز الاعتماد
عليها عقلا في مقام التعذير، وتجب متابعتا في مقام التنجيز، فضلا عن العمل
المترتب عليها بواسطة حكمها الشرعي، كالطهارة والنجاسة - بناء على
جعلهما شرعا - حيث يكونان موضوعا لاحكام تكليفية تكون موردا للعمل
عقلا.
وأما الأمور الانتزاعية، فالظاهر أنها كالأمور الخارجية، فيصح التعبد
بها بلحاظ العمل المترتب على أحكامها الشرعية، دون العمل المترتب عليها
بلا واسطة.
أما الأول: فلان لها نحوا من الوجود العرفي في عالمها عرفا، وإن لم يكن
61

خارجيا ولا اعتباريا، فيصح عرفا أخذ الشارع لها في موضوع أحكامه، وإذا
كانت موضوعا للأحكام الشرعية أمكن التعبد بها بلحاظها.
إن قلت: لما لم يكن لها تقرر في عالم الخارج ولا الاعتبار، وكانت
متقومة باللحاظ من دون أن يكون لها مطابق وراء ذلك، امتنع أخذها في
موضوع الأحكام الشرعية التي تتبع في فعليتها فعلية موضوعاتها، والتي
لا إشكال في فعليتها مع عدم اللحاظ، فلا بد من كون الموضوع حقيقة هو
منشأ الانتزاع، ويكون هو موضوع التعبد الظاهري إن تمت فيه شروطه.
قلت: الأمور الانتزاعية وإن لم يكن لها نحو من التقرر دقة إلا أن لها
نحوا من التقرر عرفا، لغفلتهم عن مقتضى الدقة المذكورة، وقد تقرر في محله
أن المعيار في تطبيق أدلة الاحكام الواقعية والتعبدات الظاهرية ليس هو الدقة
العقلية المغفول عنها عرفا، بل النظر العرفي، بحيث يكون التطبيق بنظرهم
حقيقيا لا تسامحيا مجازيا، فلاحظ.
وأما الثاني: فلأنها غير مجعولة شرعا حسب الفرض. نعم، قد يصح
نسبة جعلها للشارع الأقدس بلحاظ جعله لمنشأ انتزاعها لو كان أمرا جعليا.
لكنه ليس بمعنى كونه مفاد القضية الشرعية التي هي المعيار في شمول أدلة
التعبد الظاهري، بملء بمعنى كونه مسببا توليديا عنها ملازما في الخارج لها،
ومثل هذا لا يكفي في شمول أدلة التعبد، بل هو نظير الأصل المثبت.
هذا كله في الامر الانتزاعي المقابل للامر الحقيقي والاعتباري، وربما
يراد بالامر الانتزاعي أو العنوان الانتزاعي ما يحكم به أو عليه في كلام
الشارع أو المشرعة، مع أنه ليس في الحقيقة محكوما به ومجعولا اعتبارا،
ولا محكوما عليه بما له من المفهوم.
62

إما لكونه منتزعا في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم، فلا يكون
موضوعا للحكم، لاستحالة أخذ المتأخر في المتقدم، كما لا يكون محكوما به
ولا مجعولا، لصدقه بمجرد جعل الحكم بلا حاجة إلى جعل آخر، وإنما يمكن
الاخبار به الراجع إلى الاخبار عن الحكم.
وإما لكون المحكوم به أو عليه هو الواقع الخارجي المطابق له بعنوان
آخر، فهو مسوق لمحض الحكاية عن الموضوع بما له من عنوان خاص.
فالغصب قد يحكم عليه بالحرمة، كما قد يحمل على بعض التصرفات،
مع عدم أخذ عنوان الغصب في موضوع الحرمة بما هو أمر وجودي ذو
مفهوم عرفي بسيط، بل ليس موضوعه إلا التصرف في حق المسلم ونحوه ممن
يحترم ما له من دون إذن منه أو ممن يقوم مقامه، فهو مركب من التصرف في
الحق، وإسلام صاحبه أو نحوه، وعدم الإذن.
وعنوان الغصب إما أن يراد به التصرف في حق الغير بالنحو المنافي
لاحترامه شرعا، أو هو منتزع من الموضوع المركب المذكور وحاك عنه، من
دون أن يكون موضوعا بمفهومه.
ولازم ذلك عدم جريان التعبد فيه بعنوانه، لعدم كونه مجعولا شرعا
ولا موضوعا للحكم الشرعي، بل فيما ينتزع منه، وهو الحكم المجعول شرعا،
أو موضوعه ذو العنوان الخاص.
والظاهر أن الامر الانتزاعي قد يراد منه في المقام هذا المعنى، كما قد
يراد منه المعنى السابق، كما يتضح عند الدخول في محل الكلام.
إذا عرفت هذا، فالكلام في حقيقة الأحكام الوضعية يكون في ضمن
مسائل:
63

المسألة الأولى: الظاهر أن الأحكام الوضعية التي أخذت في موضوع
الأحكام الشرعية الأخرى: كالحرية، والرقية، والزوجية، والرهنية، والملكية،
والوقفية، وغيرها من الأمور الاعتبارية المجعولة للشارع الأقدس تأسيسا، أو
إمضاء لما عليه العرف، لظهور أدلتها في ذلك، ولا سيما ما كان ثبوته تبعا
لانشائه ممن له السلطنة شرعا في العقود والايقاعات، لوضوح أن قصد المنشئ
لها إيجادها اعتبارا، فيكون ذلك هو الظاهر من أدلة النفوذ والامضاء الشرعية،
وهو المطابق للمرتكزات المتشرعية، بل العرفية في كثير منها.
خلافا لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) (1) قال: - في تعقيب حجة
القول السابع من أقوال الاستصحاب، عند الكلام في حقيقة الصحة والفساد،
بعد أن ذكر أنهما في المعاملات عبارة عن ترتب الأثر وعدمه - " فإن
لوحظت المعاملة سببا لحكم تكليفي، كالبيع لإباحة التصرفات والنكاح
لإباحة الاستمتاعات، فالكلام فيها يعرف مما سبق في السببية وأخواتها.
وإن لوحظت سببا لأمر آخر، كسببية البيع للملكية، والنكاح للزوجية
والعتق للحرية، وسببية الغسل للطهارة، فهذه الأمور بنفسها ليست أحكامها
شرعية. نعم، الحكم بثبوتها شرعي، وحقائقها إما أمور اعتبارية منتزعة من
الأحكام التكليفية، كما يقال: الملكية كون الشئ بحيث يجوز الانتفاع به
وبعوضه، والطهارة كون الشئ بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب،
والطهارة نقيض النجاسة. وإما أمور واقعية كشف عنها الشارع ".
ولا يخفى أن عدم كون هذه الأمور أحكامها شرعية لا يناسب كون
الحكم بثبوتها شرعيا، إلا أن يراد بالحكم بثبوتها الاخبار عنه، كما أن التعبير

(1) الشيخ مرتضى الأنصاري. (منه).
64

عنها بالاعتبارية مبني التوسع في معنى الاعتبار، وتعميمه للانتزاع بالمعنى
الأخير الذي أشرنا إليه في آخر الامر الرابع، كما يتضح بملاحظته.
وكيف كان فلا مجال لما ذكره (قدس سره) بعد ما ذكرنا من ظهور
أدلة هذه الأمور في جعلها اعتبارا.
على أن كونها أمورا انتزاعية من الأحكام التكليفية الثابتة في مواردها
لا يناسب أخذها في أدلة تلك الأحكام موضوعا لها. لما ذكرناه آنفا من
امتناع موضوعية العنوان المنتزع من التكليف له.
ولا مجال لاحتمال الإشارة بها لما هو الموضوع بعنوان آخر، لأنه - مع
مخالفته لظاهر أخذها في أدلة تلك الأحكام - موقوف على وجود عنوان صالح
للموضوعية مطابق لها مدارك للعرف، وإلا لم يكن عمليا، لعدم إدراك
موضوعة، ومن الظاهر أنه لا وجود للعنوان المذكور.
كما لا يناسب عدم اتفاق أفراد الحكم الوضعي وأحواله في الأحكام التكليفية
، واشتراك أكثر من حكم وضعي في بعض الأحكام التكليفية،
فالزوجية لا تستلزم جواز الاستمتاع، بل يحرم الاستمتاع بالزوجة حال
الاحرام، كما لا تختص به، بل يشاركها فيه ملك اليمين، وملك اليمين إنما
يقتضي جواز الاستمتاع إذا كان المالك ذكرا والمملوك أنثى دون بقية الصور.
كما أن الملك لا يقتضي جواز التصرف دائما، فيحرم التصرف في العين
المرهونة، ولا يختص به، بل يشاركه فيه بعض أفراد الوقف، بل المباحات
الأصلية التي لا يكون موردا لحكم وضعي.
فلو كان عنوان الحكم الوضعي منتزعا من الحكم التكليفي لزم اختلاف
مفهومه وحقيقته باختلاف الأحكام التكليفية في مورده، كما يلزم صدقه في
65

جميع موارد ثبوت الحكم التكليفي المنتزع منه، مع وضوح بطلان ذلك.
وقد اعترف (قدس سره) بذلك في النجاسة عند الكلام في حقيقتها من
كتاب الطهارة، قال: " ويظهر من المحكي عن الشهيد في قواعده أن النجاسة
حكم الشارع بوجوب الاجتناب استنفارا، وظاهر هذا الكلام أن
النجاسة عين الحكم بوجوب الاجتناب، وليس كذلك قطعا، لان النجاسة مما
يتصف به الأجسام، فلا دخل له في الاحكام. فالظاهر أن مراده أنها صفة
انتزاعية من حكم الشارع بوجوب الاجتناب للاستقذار والاستنفار.
وفيه: أن المستفاد من الكتاب والسنة أن النجاسة صفة متأصلة يتفرغ
عليها تلك الأحكام، وهي القذارة التي ذكرناها، لا أنها صفة منتزعة منها،
كالشرطية والسببية والمانعية ".
وأما كونها أمورا واقعية كشف الشارع عنها فهو خلاف المقطوع به
في أكثر تلك الأحكام، حيث لا يشك في تبعيتها حدوثا وارتفاعا للانشاء
والجعل ونحوهما، من دون أن يكون لها ما بإزاء في الخارج.
نعم، قد يعتد بالاحتمال المذكور في خصوص الطهارة والنجاسة، لعدم
تبعيتهما للانشاء ليدرك العرف اعتباريتهما، بل هما تابعان للأمور التكوينية
الذاتية كالبولية، أو العرضية كالملاقاة للنجاسة، حيث يمكن دعوى تأثيرها
لهما بلا توسط الجعل الشرعي.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من منه ذلك، لبداهة أن
الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية، كما
يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون بعض الأشياء دون بعض، غايته أن
الشارع قد أضاف بعض الافراد لذلك مما لا يستقذره العرف، وهو ناشئ عن
66

تخطئته للعرف، مع كون المفهوم عرفيا.
ففيه: أن نظافة الشئ وقذارته العرفيتين أمران واقعيان يدركهما
العرف فيه فيميل إليه ويقبله، أو يتنفر عنه ويستقذره، وليستا من الأمور
الجعلية التابعة لاعتبار من بيده اعتباره.
غايته أن تبعية الميل أو الاستقذار للامر الواقعي المدرك ليس لكونه علة
تامة لهما، بل قد يكون للعادة والتنفير دخل فيهما، ولذا قد يختلفان موردا
باختلاف المجتمعات والأشخاص، وذلك إنما يقتضي كونهما إضافتين
لا اعتباريين.
كما أن عدم اختصاصهما بالشرع ووجودهما عند العرف لا يستلزم
كونهما اعتباريين، إذ قد يستق العرف بإدراك الأمور الواقعية والتأثر بها.
بل ما ذكره (قدس سره) من فرض التخطئة لا يناسب الأمور
الاعتبارية، لان التخطئة إنما تكون في الأمور الواقعية التي لها واقع محفوظ
ويختلف في تشخيصها وإدراكها، أما الأمور الاعتبارية فالاختلاف فيها
لا يرجع للتخطئة، بل لمحض عدم اعتبار أحد الحاكمين لما اعتبره الاخر.
على أن المرتكزات الشرعية في النجاسة والطهارة، والعرفية في النظافة
والقذارة قاضية باختلاف الأوليين سنخا وتباينهما حقيقة، لأنها
وإن اشتركت في اقتضاء الاجتناب وعدمه عملا، إلا أن ترتبهما على الأولين
راجع إلى حسن الاجتناب بنحو يقتضي المدح ويبعد عن الذم، وعلى
الأخيرين راجع لمحض ملائمة النفس من دون أن يستوجب مدحا أو يدفع
ذما.
وقد يشعر باختلاف سنخهما وحقيقتهما ما في صحيح زرارة عن أبي
67

عبد الله عليه السلام قال: " إن سال من ذكر شئ من مذي أو ودي وأنت
في الصلاة فلا تغسله... فإنما ذلك بمنزلة النخامة. وكل شئ خرج منك بعد
الوضوء فإنه من الحبائل أو من البواسير، وليس بشئ، فلا تغسله من ثوبك
إلا أن تقذره " (1)، لظهوره في إقرار الغسل للاستقذار وعدم الردع عنه، لعدم
قذارة الشئ واقعا، المستلزم لعدم الموضوع له.
ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من أن كون الطهارة والنجاسة من
الأمور الواقعية لم تم في الواقعيتين منهما لا يتم في الظاهريتين، بل لا إشكال
في كونهما مجعولين للشارع الأقدس.
لاندفاعه أولا: بأن الحكم بالطهارة والنجاسة ظاهرا لا يرجع إلى
جعلها في قبال الواقع، لينظر في حقيقتهما، بل إلى التعبد بهما في مقام
الاثبات والعمل بما لهما من المعنى الواقعي، كالتعبد الظاهري بالموضوعات
الخارجية من الحياة والموت وخروج المني وغيرها، على ما ذكرناه في حقيقة
الحكم الظاهري، فليس في المقام إلا الأمور الواقعية - الخارجية أو الاعتبارية -
التي تدرك بالوجدان تارة، ويتعبد بها ظاهرا في مقام العمل أخرى.
وثانيا: بأنه لو كان مرجع التعبد بالشئ ظاهرا إلى جعله فهو إنما يمكن
في التعبد بالأحكام القابلة للجعل، أما الأمور الواقعية - كالخمرية والاسكار -
فلا يرجع التعبد بها إلى جعلها، لتبعيتها لأسبابها التكوينية وعدم قابليتها
للجعل التشريعي، بل لا بد من رجوعه لجعل أحكامها، فلو تم كون الطهارة
والنجاسة الواقعيتين من الأمور الخارجية غير الجعلية فاللازم رجوع التعبد
بهما إلى جعل أحكامهما، لا جعلهما بأنفسهما.

(1) الوسائل ج 1، باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 2.
68

ولعله لأجل ذلك حكي عن شيخنا الأعظم (قدس سره) الجزم بأن
الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع.
وإن كان الظاهر خلوه عن الدليل، غاية الامر التوقف والتردد في ذلك.
ولعله لذا كان الظاهر من كلامه الأول المتقدم التردد بين كونهما انتزاعيتين
وكونهما واقعيتين، ومن كتاب الطهارة - قبل الكلام الثاني المتقدم - التردد
بين كونهما حقيقتين وكونهما اعتباريتين.
بل الانصاف أن البناء على كونهما اعتباريتين جعليتين هو الأنسب
بملاحظة الأدلة، كصحيح داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض،
وقد وسع عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض، وجعل لكم الماء طهورا،
فانظروا كيف تكونون؟ " (1). لظهوره في كون طهورية الماء حكما امتنانيا،
فيلزم كون الطهارة المترتبة عليها كذلك، لامتناع ترتب الامر التكويني على
الامر التشريعي.
وقريب منه في ذلك قوله عليه السلام: - في الصحيح - " ان الله جعل
التراب طهورا كما جعل الماء طورا " (2)، حيث يلزم حمله على الجعل
التشريعي دون التكويني بقرينة السياق، لان طهورية التراب تشريعية حسبما
يظهر من بعض النصوص (3). فتأمل.

(1) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 4.
(2) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 1.
(3) راجع الوسائل ج 2، باب: 7 من أبواب التيمم.
69

وكذا ما ورد في انتضاح ماء غسل الجنابة في الاناء من نفي البأس به
مع الاستشهاد بقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1)،
لوضوح أن الجرح لا دخل له في الأمور الخارجية.
وما في رواية جابر في الطعام الذي تقع فيه الفارة من النهي عن أكله
حيث قال السائل: الفارة أهون من أن أترك طعامي لأجلها، فقال عليه
السلام: " إنك لم تستخف بالفارة، وإنما استخففت بدينك، إن الله حرم الميتة
من كل شئ " (2)، بناء على أن المراد بالتحريم النجاسة لمناسبتها لمورد
الرواية.
على أن ملاحظة موارد ثبوتهما تبعد كونهما واقعتين تكوينيتين
لخصوصية في الجسم المعروض لهما، وتقرب كونهما اعتباريتين جعليتين
تابعيتين للملاكات المختلفة الملحوظة للشارع ولو كانت خارجة عن
خصوصية الجسم، كالتنفير والحرج، فماء الاستنجاء طاهر أو لا ينجس من
بين الغسالات، والدم المتخلف في الذبيحة طاهر من بين دمائها، وبعض
الأمور تطهر بالتبعية، والكافر وما يلحق بن قد اشتهر القول بنجاساتهم عينا،
إلى غير ذلك.
هذا، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن نجاسة ما يستقذر
عرفا حقيقية واقعية، بخلاف غيره، حيث لا تكون نجاسة إلا ادعائية تنزيلية.
وهو كما ترى - مع مخالفته لظاهر الأدلة - يبتني:

(1) الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المضاف، حديث: 1 و 5.
(2) الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب الماء المضاف، حديث: 2.
70

أولا: على مطابقة النجاسة للقذارة العرفية مفهوما، وقد سبق المنع منه.
وثانيا: على اطلاع العرف على جميع القذرات، بحيث يكشف عدم
استقذارهم للشئ عن عدم قذارته، ولا مجال للبناء عليه، لامكان اطلاع
الشارع على ما يخفى على العرف من القذرات، ولا سيما مع اختلاف
الأعراف فيها.
على أن لازمه البناء على نجاسة المستقذرات العرفية وترتب أحكام
النجاسة عليها، عملا بعموماتها، إلا ما دل الدليل على عدم ترتب الاحكام
عليه، فيخرج عن العمومات تخصيصا لا تخصصا، ولا يظن من أحد البناء
على ذلك.
مضافا إلى أن بعض النجاسات غير المستقذرة لم تستفد نجاستها من
الحكم بها بعنوانها، ليتعين حمله على الادعاء والتنزيل بلحاظ جميع الأحكام
بعد تعذر حملها على الحقيقة، لفرض عدم استقذارها عرفا، بل مما تضمن
بعض آثار النجاسة ولوازمها العرفية، كالأمر بالغسل والاهراق ونحوهما،
فمع فرض عدم حملها على النجاسة لا وجه للتعدي إلى سائر الأحكام.
فتأمل جيدا.
ثم أن ما ذكرنا في وجه كون النجاسة والطهارة الخبثية اعتباريتين
يجري نظيره في الحدث الأكبر والأصغر، والطهارة الحدثية المائية والترابية، فإن
سبر النصوص قاض بتبعيتهما للجعل الشرعي تبعا للملاكات الخارجة عن
خصوصية البدن، كما يظهر مما تضمن طهورية الماء والتراب (1)، وما تضمن

(1) راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، و ج 2 باب: 7 من أبواب التيمم.
71

تعليل تخفيف الوضوء بأن الفرائض إنما وضعت على قدر أقل الناس طاقة (1)،
وتعليل غسل أعضاء الوضوء ومسحها بأن آدم (عليه السلام) قد باشر بها
الخطيئة (2)، وتعليل عدم وجود الغسل من البول والغائط بأنه شئ دائم
لا يمكن الاغتسال منه كلما يبتلى به، و (لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها) (3)، وما تضمن أن الوضوء حد من حدود الله ليعلم من يطيعه، ومن
يعصيه، وإن المؤمن لا ينجسه شئ (4)، وأن غسل الجنابة أمانة ائتمن الله
عليها عبيده ليختبرهم بها (5).
بل هو المقطوع به بلحاظ الاكتفاء في أسباب الطهارة بالميسور من
ذي الجبيرة ونحوه، وبما تقتضيه التقية، والانتقال للطهارة الترابية عند تعذر
المائية، وغير ذلك.
ونظيرهما - أيضا - التذكية، للاكتفاء فيها بالميسور في كثير من الموارد
واعتبار بعض ما يقطع بعدم دخله في خاصية الحيوان المذبوح كالتسمية
والاستقبال، مع سقوطهما في بعض الحالات من نسيان أو ضرورة، أو
نحوهما إلى غير ذلك.
المسألة الثانية: الظاهر أن الحجية من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها،
كما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره).

(1) الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 13.
(2) الوسائل ج 1، باب: 15 من أبواب الوضوء، حديث: 16.
(3) الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب الجنابة، حديث: 4.
(4) الوسائل ج 1، باب: 52 من أبواب الوضوء حديث: 1.
(5) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الجنابة، حديث 14.
72

ومرجعا إلى كون الشئ بنحو صالح لان يعتمد عليه في إحراز
الواقع والبناء عليه في مقام العمل، ويترتب عليها وجوب العمل بالحجة عقلا.
لا أن المجعول للشارع هو وجوب العمل بالحجة، أو جوازه طريقا للواقع
الذي قامت عليه، مع كون الحجية منتزعة من ذلك من دون أن تكون مجعولة
بنفسها.
ويشهد لما ذكرنا المرتكزات العقلائية، لارتكاز أن اعتماد العقلاء على
الحجج التي عندهم في أعمالهم التابعة لأغراضهم الشخصية بعين ملاك
اعتمادهم عليها في خروجهم عن تكاليفهم المولوية، الشرعية أو العرفية، مع
وضوح عدم التكليف الطريقي في مورد الاغراض الشخصية. بل قد لا يحرز
في مورد التكاليف العرفية، كما لو احتمل غفلة المولى العرفي عن قيام الحجة
على التكليف أو على موضوعه، ليلزم بالعمل بها تبعا لما عليه العقلاء أو
يردع عنها.
ويناسب ذلك التوقيع الشريف: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله " (1)، لظهوره في كون
الحجية بنفسها وعنوانها من الأمور المتقررة الثابتة، كما هو الحال في سائر ما
تضمن عنوان الحجية مما ورد في أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم، وعبر
عنها في الكتاب الشريف بالسلطان.
بل لو كان المراد بالرجوع لرواة الحديث تطبيق العمل على قولهم،
لا سؤالهم مقدمة لذلك، كان التوقيع صريحا في ترتب وجوب العمل على
الحجية، لا انتزاعها منه.

(1) الوسائل ج 18، باب: 11 من صفات القاضي من كتاب القضاء، حديث: 9.
73

هذا، وقد نوقش في ذلك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد
ما ذكرنا، وبعد ما يأتي في أول الكلام في مسألة قيام الطرق والأصول مقام
القطع الموضوعي، حيث تعرضنا هناك لمفاد جميع الأحكام الظاهرية حسبما
تقتضيه مناسبة ذلك المقام.
كما يأتي الكلام في حقيقة الحجية التخييرية عند الكلام في مقتضى
الأصل في المتعارضين من مبحث التعارض، لمناسبة يقتضيها ذلك المقام، ولا
مجال معه لإطالة الكلام في ذلك هنا.
بقي شئ
وهو أن احتياج الحجية للجعل إنما هو في غير الحجج الارتكازية، أما
الحجج الارتكازية فهي بسبب الارتكاز المذكور الناشئ عن إدراك خصوصية
فيها مقتضية للعمل بها لا تحتاج إلى جعل الحجية لها حتى إمضاء، ولذا يصح
الاعتماد عليها في مقام التعذير، ويجب العمل بها في مقام التنجيز، حتى مع
احتمال غفلة المولى - لو كان ممن يمكن الغفلة في حقه - عن الحاجة إليها بنحو
لا يحرز إمضاؤه لحجيتها.
نعم، للمولى الردع عنها، وبلحاظ ذلك كانت تابعة للمولى، لأنه إذا
كان رفعها بيده كان بقاؤها تابعا له، وبذلك فارقت العلم.
ويأتي تمام الكلام في ذلك عند الاستدلال بالسيرة على حجية خبر
الواحد إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة: وقع الكلام بينهم في حقيقة السببية، والشرطية،
والمانعية، والرافعية، ونحوها مما يرجع إلى مقام العلية والتأثير في الشئ وجودا
وعدما، وهل أنها من الأمور التكوينية أو المجعولة بالأصل أو التبع
74

أو المنتزعة؟
ولا كلام فيما لا تعلق له منها بالحكم الشرعي ولا بمتعلقه، بل الأمور
التكوينية، كسببية النار للاحراق، وشرطية الجفاف فيه، ومانعية الرطوبة منه،
ورافعية الدواء للألم، إذ لا إشكال في عدم تبعيتها للجعل والتشريع الذي هو
المهم في المقام، والذي هو المعيار في كون الشئ حكما، بل هي من الأمور
الانتزاعية، التي تقدم الكلام فيها في الامر الرابع، وأن منشأ انتزعها نحو
الترتب بين طرفيها التابع لخصوصية ذاتيهما، من دون أن تستقل بالجعل
التكويني، فضلا عن التشريعي.
وكأن ذلك هو مراد بعض الأعيان المحققين من دعوى كونها من
الأمور الحقيقية غير التابعة للجعل التكويني، فضلا عن التشريعي.
وإنما الكلام فيما له نحو تعلق بالحكم، حيث يكن تابعا للجعل في
الجملة، وهو..
تارة: يلحظ بالإضافة إلى نفس الحكم التكليفي أو الوضعي، كسببية
الاستطاعة لوجوب الحج، والعقد للزوجية، وشرطية البلوغ لتكليف الانسان
أو لنفوذ عقده، ومانعية الحيض من وجوب الصلاة، والرهن من نفوذ العقد
على العين المرهونة، ورافعية الاضطرار للحرمة، والابراء لانشغال الذمة
بالدين.
وأخرى: يلحظ بالإضافة إلى المكلف به، كسببية الوضوء والغسل
للطهارة، وشرطية الستر للصلاة، ومانعية النجاسة منها، وقاطعية الكلام لها
ونحو ذلك.
فالكلام في مقامين..
75

المقام الأول: في ما يكون بالإضافة إلى نفس الحكم.
وقد أصر شيخنا الأعظم (قدس سره) في تعقيب حجة القول السابع
من أقوال الاستصحاب على كونه منتزعا من جعل الحكم على النحو الخاص،
من دون أن يكون مجعولا مستقلا في قباله، ولا تابعا في الجعل له، فضلا عن
أن يكون هو المجعول الأصلي ويكون الحكم تابعا له. وحكى عن شرح الزبدة
نسبة ذلك للمشهور، وعن شرح الوافية للسيد صدر الدين أنه الذي استقر
عليه رأي المحققين.
مستدلا عليه بالوجدان، لان الحاكم لا يجد من نفسه جعل أمر غير
الحكم، ولا يراد من بيان هذه الأمور لو وقعت في لسان الحاكم أو من يحكي
عنه إلا بيان نحو جعل الحكم، من دون أن يقصد بيان جعلها.
نعم، لا يراد بذلك اتحادهما مفهوما، إذ لا ريب في أنهما محمولان
مختلفان الموضوع.
لكن حكي عن بعضهم البناء على كون السببية مجعولة، منهم المحقق
الأعرجي في شرح الوافية، مدعيا بداهة اختلاف التكليف عن الوضع وعدم
رجوع أحدهما للاخر، وإن كانا متلازمين في مقام الجعل فيكون جعل
أحدهما مستلزما لجعل الاخر، قال بعد بيان ذلك: " فقول الشارع: دلوك
الشمس سبب لوجوب الصلاة، والحيض مانع منها، خطاب وضعي وإن
استتبع تكليفا، وهو إيجاب الصلاة عند الزوال، وتحريمها عند الحيض، كما أن
قوله تعالى:) أقم الصلاة لدلوك الشمس) (1) و " دعي الصلاة أيام أقرائك "

(1) سورة الإسراء: 78.
76

خطاب تكليفي وإن استتبع وضعا، وهو كون الدلوك سببا والأقراء مانعا.
والحاصل: أن هناك أمرين متباينين كل منهما فرد للحكم، فلا يغني
استتباع أحدهما للاخر عن مراعاته واحتسابه في عداد الاحكام ".
وقد جرى على ذلك بعض الأعيان المحققين (قدس سره) مدعيا أنه بعد
انتزاع كل من السببية والحكم من الجعل المتضمن لإناطة الحكم بموضوعه
لا بد من البناء على جعلهما معا بجعل واحد، من دون وجه لدعوى انتزاعية
أحدهما من الاخر الذي يختص بالجعل.
أقول: جعل التكليف والأمور الاعتبارية الوضعية إنما يصح بلحاظ الأثر
والعمل المترتب عليها ولو في الجملة، وإلا كان جعلها لغوا غير مصحح
لاعتبارها بنظر العقلاء.
ومن هنا لا مجال لدعوى اعتبار كل من الحكم والسببية وجعلهما في
عرض واحد، لكفاية أحدهما في ترتب الآثار العملية المهمة بلا حاجة إلى
انضمام جعل الاخر إليه.
بل لا بد إما من جعل أحدهما في طول الاخر للترتب بينهما في الجعل،
بأن يدعى - مثلا - عدم جعل الحكم الذي هو مورد الآثار إلا في مرتبة
متأخرة عن جعل السببية، فلا بد من جعلها مقدمة لجعله، وإما من الاقتصار
في الجعل على السببية، لكونها مورد الآثار دون السببية، بل تكون منتزعة منه،
كما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره.
ولا مجال للأول، لعدم ترتب الحكم على السببية الجعلية لا تكوينا
77

ولا تشريعا.
أما الأول فلامتناع الترتب التكويني بين الجعليات، والالتزام بترتب
التكليف عليها رأسا بلا توسط الجعل - مع كونه خروجا عن المدعى من
كونه جعليا - مخالف للمرتكزات العقلائية في تبعية تكليف المولى لجعله.
وأما الثاني فلان الترتب التشريعي بين الامرين الجعليين فرع إمكان
التفكيك بينهما، كالزوجية وجواز الاستمتاع، مع بداهة تعذر ذلك في المقام.
كما لا مجال للثاني، لظهور الأدلة طبقا للمرتكزات العقلائية والعرفية
في جعل الحكم بنفسه، كما أن التكليفي منه هو الموضوع للإطاعة والمعصية
بمقتضى المرتكزات العقلائية، والوضعي منه هو الموضوع للأحكام الشرعية في
ظاهر الأدلة.
بل لا معنى لجعل السببية دون الحكم بعد كونها نحو نسبة قائمة به
وبالسبب.
فالمتعين الثالث، وهو اختصاص الجعل الاعتباري بالحكم وكون السببية
والشرطية ونحوهما أمورا انتزاعية، لكن لا بمعنى مطابقتها للحكم مفهوما،
لبداهة التباين المفهومي بينهما، كما سبق من شيخنا الأعظم (قدس سره)،
ولا بمعنى كونها منتزعة من الحكم بنفسه، لأنها إضافة قائمة به وبالسبب
أو نحوه.
بل هي منتزعة من خصوصية جعله المتضمن للترتب بينهما والمستفاد
من الكبرى الشرعية، ومجرد انتزاعها من الخطاب به والجعل المتضمنين
له - كما سبق من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) - لا يقتضي جعلها
اعتبارا مثله، لما تقدم في الامر الرابع من أن الأمور الانتزاعية ليس لها وجود
78

خارجي أو اعتباري في قبال منشأ انتزاعها، بل ليس الموجود في الخارج أو في
عالم الاعتبار إلا منشأ انتزاعها، ومنه ينتزع ذهنا النسب المختلفة المتقابلة
وغيرها، فكما تنتزع من جعل الحكم بالنحو الخاص السببية تنتزع المسببية،
وكما تنتزع من نحو الترتب بين العلة والمعلول العلية تنتزع المعلولية، إلى غير
ذلك مما تقدم.
وإنما يصح نسبتها للجاعل والحكم بتبعيتها للجعل بلحاظ جعله لمنشأ
انتزاعها. فلاحظ ما سبق في الامر الرابع.
أما المحقق الخراساني (قدس سره) فقد ذكر أنه لا مجال لانتزاع السببية
ونحوها من الحكم لتأخره عن السبب فلا يكون منشأ لانتزاع السببية له، بل
هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات السبب اقتضت دخله في الحكم بالنحو
الخاص، من دون أن تكون تابعة للجعل.
وفيه: أن تأخر المسبب عن السبب إنما يقتضي امتناع كون المسبب
منشأ لانتزاع ذات السبب، لا امتناع كونه منشأ لانتزاع عنوان السببية له
التي هي كسائر الإضافات القائمة بالذات والمتأخرة عنها رتبة.
على أن المدعى ليس هو انتزاع السببية من الحكم بما له من الوجود
الخارجي الخاص، المتأخر عن السبب، بل من خصوصية جعله التي تضمنتها
الكبرى الشرعية، كعنوان المسببية في التكليف، نظير انتزاع التقدم والتأخر
للمتقدم والمتأخر من خصوصية وجودهما الزمانية أو المكانية، من دون أن
ينافي ذلك ترتبهما.
وأما الخصوصية التكوينية التي أشار إليها فهي عبارة عن دخل السبب
في ملاك الحكم الداعي لجعله، وتبعية السببية للخصوصية المذكورة كتبعية
79

الحكم للملاك مما لا إشكال فيه في الجملة، إلا أنها ليست محلا للكلام، لأنها
من سنخ تبعية الشئ لعلته الاعدادية، ومحل الكلام التبعية التي هي من سنخ
تبعية الشئ لعلته التامة.
ولا إشكال في تبعية الحكم والسببية - بالمعنى المذكور - للعجل، ولا
يكفي فيهما الملاك ولا خصوصية السبب التكوينية.
غايته أن الجعل يتعلق بالحكم فيكون مجعولا بنفسه، ولا يتعلق بالسببية،
بل يكون منشأ لتحقق منشأ انتزاعها من دون أن تكون مجعولة بنفسها، لما
تقدم.
المقام الثاني: في ما يكون بالإضافة إلى المكلف به.
لا يخفى أن المكلف به وإن كان أمرا اختياريا للمكلف، إلا أنه قد
يكون فعلا له بالمباشرة، كالصلاة والصوم، وقد يستند إليه بالتسبيب، بتوسط
فعله لسببه التوليدي.
والثاني: إن كان أمرا خارجيا - كالاحراق - كان سببه خارجيا،
كجعل الجسم في النار، والسببية بينهما تابعة لخصوصيتهما التكوينية، لا
للجعل، فتخرج عن محل الكلام.
وإن كان أمرا جعليا - كالطهارة والتذكية، بناء على ما سبق من أنهما
من الاحكام المجعولة - كان فعله بفعل سببه الشرعي الذي هو الموضوع له في
الحقيقة، وكانت السببية بينهما سببية للحكم الشرعي، فتدخل في ما سبق في
المقام الأول، من دون خصوصية لهذا المقام، لان التكليف بالمسبب لا يوجب
اختلاف حقيقة السببية قطعا.
ولعله لذا لم يذكروا فيما يتعلق بالمكلف به السببية بل الشرطية
80

والمانعية ونحوهما، واقتصروا في السببية على السببية لنفس الحكم.
وكيف كان، فالوجه المتقدم في المقام الأول لكون السببية ونحوها
انتزاعية جار هنا، فليس المجعول إلا التكليف بالفعل الخاص، وهو المقيد
بالشرط أو عدم المانع أو نحوهما، لأنه مورد الملاك وموضوع الغرض
والامتثال، وليست شرطية الشرط للمكلف به ومانعية المانع منه إلا من
الإضافات المنتزعة من ذلك، التي يمتنع انفكاكها عنها، وليست مجعولة مثله،
لعدم كونها موردا للغرض ولا موضوعا لما هو المهم من الأثر.
نعم، هي تابعة لخصوصية تكوينية في ذات الشرط والمانع ونحوهما
اقتضت دخلها في ترتب الملاك على المكلف به.
إلا أن التبعية المذكورة كتبعية التكليف للملاك من سنخ تبعية المعلول
لعلته الاعدادية، خارجة عن محل الكلام، على ما سبق توضيحه في تعقيب
ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) هناك.
لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك هنا، وبنى على ما ذكرنا من انتزاع
الشرطية المذكورة ونحوها من التكليف، من دون أن يشير لوجه الفرق بين
المقامين.
هذا وبعض الأعيان المحققين (قدس سره) مع أنه التزم بجعل السببية
والشرطية للحكم - كما سبق - من جعل الشرطية للمكلف به ونحوها،
كما منع من انتزاعها من التكليف.
بدعوى: أن لازمه عدم قيدية شئ لشئ لولا وجود حكم في البين،
مع بداهة فساده، لان الشئ قد يكون قيدا لشئ وطرفا لإضافته ولو لم يكن
في العالم حكم، كالرقبة المؤمنة وزيد العالم، فلا يكون التكليف دخيلا إلا في
81

إضافة الشرطية للواجب بما هو واجب، كدخله في سائر الإضافات له من
مكانه وزمانه وغيرهما، حيث لا يصح إضافتها للواجب بما هو واجب إلا في
رتبة متأخرة عن التكليف، من دون أن تعد من الأحكام الوضعية ولا من
الأمور المجعولة أو المنتزعة قطعا.
أما أصل الإضافة فهي غير تابعة للتكليف، بل هي أمور واقعية منتزعة
من الإضافة والربط بين الشئ وذات الواجب في المرتبة السابقة على وجوبه،
مع قيام الوجوب بالربط المذكور، كقيامه بذات العمل، فهو متقدم على
الوجوب كتقدم الموضوع على العرض، لا منتزع منه.
ويشكل: بأن الامر الذي لا يتوقف على الحكم إنما هو مقارنة الحصة
الخاصة من الذات للقيد في الخارج، أما التقييد فهو كالاطلاق لا موضوع
له إلا في مقام الحكم الخبري أو الانشائي على الماهية الكلية وإن لم توجد بعد
في الخارج، فالرقبة وإن كانت قد تتصف في الخارج بالايمان مع قطع النظر
عن الحكم عليها، إلا أنه لا موضوع لاطلاقها أو تقييدها به إلا في مقام
الحكم عليها بما هي أمر كلي قابل للوجود في الخارج.
نعم، التقييد المذكور في مرتبة سابقة على الحكم - وإن كان ملزوما
له - لاخذه في موضوعه الذي هو بمعنى معروضه.
أما الشرطية فهي منتزعة من نحو من الترتب بين الشيئين، بحيث يتوقف
أحدهما على الاخر، لا من مجرد التقارن بينهما، فإن توقفت ذات الشئ
على الشرط كان شرطا لوجوده، كتوقف فعل المكلف على قدرته، وتوقف
السفر على فتح باب المدينة، وإن توقفت خاصيته عليه كان شرطا له بما هو
ذو عنوان منتزع من الخاصية المذكورة، كتوقف نفع الغسل على حرارة الماء،
82

وتوقف إضرار شرب الماء على برودته، حيث تكون حراره الماء وبرودته
شرطا للغسل والشرب بما أن الغسل نافع والشرب ضار، لا بذاتيهما.
وفي المقام حيث لا يراد بشرط المكلف به في كلماته شرط ذاته الذي
تكون شرطيته تكوينية لا دخل للشارع بها، بل شرط دخوله في حيز
التكليف الذي تكون شرطيته تابعة للجعل الشرعي في الجملة ومتفرعة على
تقييده به في مقام التكليف به، فلا معنى لدعوى سبق الشرطية رتبة على
التكليف، لان التقييد من الخصوصيات المقومة لشخص التكليف.
كما لا مجال لدعوى جعلها في قباله، لاستحالة انفكاكها عنه، بل
يتعين كونها منتزعة منه كسائر الإضافات اللاحقة له التابعة لخصوصيته،
كالسببية والشرطية لنفس التكليف.
على أن ما ذكره (قدس سره) لو تم هنا جرى في الشرطية لنفس
الحكم، التي سبق منه الالتزام بجعلها مع الحكم بجعل واحد، لوضوح رجوع
شرط الحكم إلى جعل سببه الذي اخذ قيدا له في دليل تسبيبه، فمعنى شرطية
البلوغ لوجوب الحج أو لنفوذ العقد أنهما شرط للاستطاعة والعقد، وقيد
فيما يكون منهما موضوعا للوجوب والنفوذ، نظير شرطية الطهارة للصلاة.
المسألة الرابعة: وقع الكلام بينهم في حقيقة الجزئية، وهل هي منتزعة
أو مجعولة.
ولا يخفى أنها كما تتعلق بالمكلف به - كجزئية السورة من الصلاة -
تتعلق بالأسباب ذات المسببات الشرعية - كجزئية القبول من العقد الذي هو
سبب لترتب مضمونه، وجزئية ملك الزاد من الاستطاعة التي هي سبب
وجوب الحج - ولا وجه لتخصيصها بالأول، كما قد توهمه كلمات
83

بعضهم.
هذا، وقد صرح جماعة بانتزاع الجزئية من الامر بالمركب أو جعله
سببا، من دون أن تكون مجعولة معه، لا استقلالا ولا تبعا.
خلافا لما ذكره شيخنا الأستاذ من انتزاعها أو جعلها في رتبة سابقة
على الحكم الوارد على المركب، ولما ذكره بعض مشايخنا من جعلها تبعا
لجعل الحكم المذكور على غرار ما ذكره في السببية. والظاهر الأول.
وتوضيحه: أن الجزئية والكلية عنوانان متضايقان ينتزعان من لحاظ
الوحدة بين الأمور المتكثرة، حيث يكون كل منها بلحاظ الوحدة المذكورة
جزء ومجموعه كلا، ولولا لحاظها لكانت أمورا متفرقة لا يصدق على كل
منها الجزء ولا على مجموعها الكل.
وتلك الوحدة تارة: تكون مقومة لمفهوم واحد ذي عنوان خاص، كما
في الماهيات المخترعة للعرف العام - كالدار والمدينة والبستان - أو الخاص
الشرعي - كالصلاة والحج - أو غيره - كالكلام باصطلاح النحويين - فإن
وحدتها مع تكثر أجزائها ليست حقيقية، بل لحاظية لمخترع عنوانها من أهل
العرف.
وأخرى: تكون مسببة عن لحاظ اشتراك الأمور المتكثرة في جهة
تجمعها من دون لها عنوان خاص بها إلا العنوان الإضافي المنتزع من تلك
الجهة، كعنوان النافع، وما في الصندوق، ومملوك زيد، وغيرها.
إذا عرفت هذا، فجزئية شئ لسبب الحكم - كالقبول الذي هو جزء
للعقد - أو للمأمور به - كالسورة التي هي جزء من الصلاة - موقوفة
أولا: على دخل الجزء بنحو خاص في الغرض الداعي لجعل الحكم،
84

وثانيا: على أخذه في موضوع الحكم في مقام جعله في مرتبة سابقة عليه،
لما تقدم من سبق الموضوع على الحكم رتبة، وثالثا: على ورود الحكم على
الموضوع المركب من المجموع.
ولا يخفى أن لحاظ الامر الأول منشأ لانتزاع جزئية الشئ من
موضوع الغرض، ولحاظ الثاني منشأ لانتزاع جزئيته من الامر الملحوظ
موضوعا للحكم، ولحاظ الثالث منشأ لانتزاع جزئيته من المأمور به بما هو
مأمور به أو من السبب بما هو سبب.
وحيث كان هذا الأخير هو محل الكلام في المقام، لأنه القابل لاحتمال
الجعل استقلالا أو تبعا لجعل الحكم، تعيين البناء على انتزاع الجزئية من الامر،
وأنها من الإضافات التابعة لخصوصية كالسببية.
ولا معنى لسبقها على الحكم - كما سبق من شيخنا الأستاذ (قدس
سره) - إلا أن يراد بها أحد الامرين الأولين، فيكون النزاع لفظيا، كما
لا مجال لجعلها استقلالا ولا تبعا - كما سبق من بعض مشايخنا - لعدم الأثر
لجعلها مع ذلك، نظير ما تقدم في السببية وأخواتها.
هذا، وربما يدعى أن الماهيات المخترعة للشارع الأقدس - كالصلاة
والحج - مجعولة له في أنفسها باختراعها مع قطع النظر عن تعلق الحكم بها،
فتكون جزئيتها مجعولة تبعا لجعلها في رتبة سابقة على الحكم لا تبعا له.
لكنه ممنوع، لان معنى اختراع الشارع للماهية تحديد مفهومها في عالم
الذهن والتصور، لا جعلها اعتبارا كجعل الزوجية ونحوها، كيف وأجزاؤها
أمور حقيقية غير قابلة للجعل التشريعي؟! ومن الظاهر أن التحديد المذكور
لا يقتضي جعل جزئية الجزء، إذ ليس هو إلا تصور المجموع وفرضه أمرا
85

واحدا من دون جعل للجزئية زائدا على ذلك.
غاية الامر ان التصور المذكور مصحح لانتزاع الجزئية للجزء من الامر
المتصور بما هو متصور، لا بما هو مأمور به، مع توقف انتزاع جزئيته من
المأمور به أو موضوع الحكم على ورود الحكم على المجموع، كما ذكرنا.
فلا مخرج عما سبق.
نعم، لو تم ما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) في وجه تبعية
السببية لخصوصية السبب التكوينية جرى نظيره في المقام، لوضوح تبعية
الجزئية - بالمعنى المذكور - لخصوصية تكوينية في الجزئية اقتضت دخله في
الغرض الداعي لجعل الحكم.
لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك في المقام وبنى على انتزاع الجزئية من
الامر - كما ذكرنا - من دون أن يشير إلى وجه الفرق بين المقامين.
كما أنه لو تم ما سبق من بعض الأعيان المحققين في الشرطية للمكلف
به من تبعيتها للتقييد وأنها من الأمور الواقعية غير الموقوفة على الامر بالمقيد،
جرى نظيره في المقام، لابتناء الجزئية من موضوع الحكم على نحو من التقييد
لمتعلق التكليف وقصوره على حال وجود الجزء.
لكنه (قدس سره) لم يذكر ذلك في المقام أيضا، وبنى على ما ذكرنا
من دون أن يشير إلى وجه الفرق.
المسألة الخامسة: تعرض غير واحد في هذا المقام للصحة والفاسد. وقد
ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) وجملة ممن تأخر عنه أن الصحة هي
التمامية، والفساد عدمها، فهما متقابلان تقابل العدم والملكة، وأرسل في
كلامهم إرسال المسلمات، وقد يظهر منهم أن ذلك معناهما اللغوي أو
86

العرفي، بل صرح بعض مشايخنا بأن معناهما لغة تمامية الاجزاء والشرائط
وعدمها.
لكنه يشكل: بأن التمامية لغة وعرفا تقابل النقص، أما الصحة فهي
تقابل المرض والسقم والعيب، والفساد يقابل الصلاح لا الصحة، كما يظهر
بالرجوع لكلام اللغويين وملاحظة الاستعمالات.
كما أن الصحة والفساد في محل كلامهم مختصان بالافعال الارتباطية
ذات الاجزاء أو الشرائط، والتي تكون موردا للأحكام الشرعية، دون الأعيان
وإن كانت موردا للأحكام الشرعية وأمكن اتصافها بالتمامية وعدمها.
وذلك كاشف عن أن المقابلة بين الصحة والفساد وإرادة التمامية وعدمها
منهما ليستا جريا على مقتضي اللغة، بل اصطلاح خاص بأهل الفن.
ولا يبعد كون إطلاقهم الصحة والفساد على التمامية وعدمها بلحاظ
ملازمة التمامية في المركبات الارتباطية لترتب الأثر المقصود، الذي هو من
لوازم الصحة، وملازمة عدم التمامية فيها لعدم ترتبه المشبه للفساد.
وكيف كان فالظاهر أن التمامية التي هي المعيار في الصحة والفساد
عنده إنما تكون بلحاظ الغرض المهم، لا بمعنى مطابقة الصحة لترتب الغرض
مفهوما، بل بمعنى كونه معيارا في صدقها ومصححا لانتزاعها، فهي منتزعة
من تمامية الاجزاء أو الشرائط الدخيلة في الغرض المذكور، فلو لم يكن هناك
غرض مهم لم تنتزع الصحة والفساد وإن أمكن انتزاع التمامية وعدمها، التي
هي إضافة خاصة يكفي فيها أي جهة لحظت في البين يعتبر فيها بعض
الاجزاء أو الشرائط.
ومن هنا لا يتصف الاتلاف - مثلا - بالصحة بلحاظ ترتب الضمان
87

عليه، ولا يتصف الاكل نسيانا من الصائم بالفساد بلحاظ عدم ترتب الافطار
عليه، وإن أمكن اتصافهما بالتمامية وعدمها بلحاظ مطابقة الأول لموضوع
الضمان وعدم مطابقة الثاني لموضوع الافطار.
ومنه يظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان يختلف صدقهما بنظر
الأشخاص تبعا لاختلافهم في الغرض المهم من العمل، كما نبه له غير واحد.
ولعله لذا وقع الاختلاف في تعريفهما، فعن بعض المتكلمين تفسيرهما
باسقاط الإعادة والقضاء وعدمه، من دون أن يرجع ذلك لاختلاف في
مفهوم الصحة والفساد.
نعم، الظاهر عدم اختصاص الغرض المهم للفقيه بإسقاط الإعادة
والقضاء، بل يعم غيره من الآثار المسببة عن الفعل المقصودة منه، كالتذكية في
الذبح، والزوجية في العقد، والبينونة في الطلاق، والطهارة في الغسل،
وغيرها.
إذا عرفت أن الصحة والفساد أمران انتزاعيان، وأنهما عبارة عن تمامية
العمل ومطابقته لموضوع الغرض المهم وعدمه، فمن الظاهر أن المطابقة
وعدمها أمران واقعيان لا دخل للشارع بهما.
نعم، ترتب الغرض على موضوعه كبرويا تارة: لا يستند للشارع
الأقدس، بل يكون عقليا، كسقوط الإعادة والقضاء بالاتيان بالمأمور به
الواقعي، حيث تقرر في محله أنه إجزاء عقلي لا دخل للشارع به، وليس
المجعول للشارع إلا الامر به.
وأخرى: يستند إليه، كسقوط الإعادة والقضاء واقعا في مورد عدم
88

مطابقة المأتي به للمأمور به - كما في موارد حديث لا تعاد ونحوها - أو
ظاهرا في موارد التعبد بصحة العمل، وكترتب مضامين العقود والايقاعات
عليها، فان الآثار المذكورة موقوفة على حكم الشارع الأقدس بها تبعا
لموضوعاتها.
لكن هذا لا يستلزم كون صحة العمل الخارجي في الموارد المذكورة
حكما شرعيا بعدما عرفت في حقيقة الصحة.
نعم، لو كانت الصحة نفس ترتب الأثر دون التمامية الملازمة له اتجه
استنادها للشارع في هذه الموارد. لكنه خلاف ظاهرهم. فتأمل جيدا.
هذا عمدة ما ينبغي التعرض له من الاحكام الوضيعة ولم يبق مما ذكر
في كلماتهم منها إلا الإمامة، والولاية، والنيابة، والوكالة، والقضاوة،
والرخصة، والعزيمة.
والظاهر أن الأربعة الأول من الأحكام الوضعية وداخلة في موضوع
المسألة الأولى، لتبعيتها للجعل والاعتبار ممن بيده الاعتبار، وأخذها في
موضوع الأحكام الشرعية، كوجوب الطاعة وجواز التصرف ونفوذه. كما
أن القضاوة نحو من الولاية والنيابة.
وما يظهر من غير واحد من المفروغية عن عدم كون الإمامة من
الأحكام الوضعية وأنها كالنبوة. كما ترى! إذ لا ينبغي التأمل في تبعية
الإمامة للجعل بعد قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما " (1) وما تضمنته
جملة من النصوص من أنها تابعة لجعل الامام ونصبه من قبله تعالى.
فإن كانت النبوة كذلك فالالتزام بأنها من الأحكام الوضعية غير عزيز،

(1) سورة البقرة: 124.
89

وإن اعتبر فيها - كالإمامة - كمال النفس وصفاؤها بمرتبة خاصة، لا أنهما
شرطان لأهلية المنصب لا مقولتان له، وإن كانت النبوة تابعة لسبب تكويني
فلا وجه لقياس الإمامة عليها.
ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من منع كون
الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية، مع المفروغية عن عدم كون الوكالة
والنيابة منها، بدعوى: أنه لو بني على هذا التعميم لزم عد النبوة والإمامة
منها.
وأما الرخصة والعزيمة فهما من شؤون الحكم التكليفي، إذ المراد بهما
أن سقوط الخطاب بالواجب أو المستحب إن كان مع بقاء مشروعيته فهو
رخصة، وإن كان مع ارتفاعها فهو عزيمة، فيكون مرجع الرخصة إلى ثبوت
الحكم الاقتضائي ببعض مراتبه من دون إلزام، ومرجع العزيمة إلى عدم ثبوته.
ولا وجه لعدهما من الأحكام الوضعية.
تذنيب
نسب للمحقق الخراساني (قدس سره) أن للحكم مراتب أربعة:
الأولى: الاقتضاء. الثانية: الانشاء. الثالثة: الفعلية. الرابعة: التنجيز.
والمستفاد منه (قدسه سره) في المقدمة الثامنة والتاسعة لمبحث اجتماع
الأمر والنهي أن المراد بالحكم الاقتضائي هو الحكم الناشئ عن المقتضي
الملاكي، وإن لم يكن فعليا بسبب مزاحمة ملاك آخر له مساو له أو أهم منه،
فيمكن وجود حكمين اقتضائيين في موضوع واحد تبعا لوجود المقتضي
90

الملاكي على طبق كل منهما، وإن كان الحكم الفعلي على طبق أحدهما أو
مخالفا لهما.
لكن ظاهر سيدنا الأعظم (قدس سره) في المقدمة الأولى من مقدمات
الاستدلال على امتناع الاجتماع، أن الحكمين في الفرض المذكور إنشائيان لا
اقتضائيان.
أما المحقق الخراساني فالمستفاد من كلماته المتفرقة ومنها في مبحث
الواجب المشروط، أن الحكم الانشائي هو الحكم المنشأ تبعا للملاك التام في
المتعلق من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة، وإن لم يكن فعليا لوجود المانع
منه، الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر يكون تابعا لمصلحة فيه لا في المتعلق.
وعليه حمل التكليف المشروط قبل تحقق شرطه، والاحكام في أول
البعثة، حيث ظهرت بالتدريج، والاحكام المودعة عند الحجة (عجل الله
فرجه) التي يكون هو المظهر لها وغيرها.
وأما الحكم الفعلي فهو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، الناشئ عن
الأمر والنهي حقيقة، المسبب عن الإرادة والكراهة، والمستتبع للعمل،
والموضوع للتنجيز والمعصية، سواء كان ناشئا عن مصلحة في نفسه، أم عن
مصلحة أو مفسدة في متعلقة غير مزاحمة بما يمنع من تشريع الحكم على
طبقها.
وأما الحكم المنجز فهو الحكم الفعلي البالغ مرتبة الداعوية العقلية،
الفعلية بسبب ارتفاع العذر عن مخالفته لوصوله وجدانا أو تعبدا أو لكونه
موضوعا للأصل التنجيزي.
هذا ما تيسر لنا الاطلاع عليه من كلماته المتفرقة في الكفاية.
91

ويشكل: بأن الملاكات الدخيلة في جعل الاحكام وإن كانت مختلفة
من حيثية قيامها بنفس جعل الحكم أو بمتعلقه بنحو الاقتضاء، مع وجود
المزاحم فيه أو بدونه، ومع وجود المانع الخارجي من تشريع الحكم على طبقها
- الذي قد يلزم بتشريع حكم آخر - أو بدونه، إلا أن الظاهر أنها لا تصلح
لتشريع الاحكام وجعلها، إلا إذا كانت موردا للغرض فعلا بنحو يستتبع
السعي نحوها بتشريع الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر، والصالح لترتب العمل
عليه، لعدم المزاحم لها في المتعلق وعدم المانع من تشريع الحكم على طبقها،
أما بدون ذلك فلا جعل وجدانا، ولا حكم بأي مرتبة فرضت، لعدم الأثر
المصحح لجعله بعد عدم ترتب العمل عليه، وعدم كونه موضوعا للطاعة
والمعصية والعقاب والثواب.
وأما ما تكرر في كلماتهم في مقام الجمع بين الأدلة من حمل الدليل
على الحكم الاقتضائي في بعض الموارد، الراجع إلى ثبوت الحكم من حيثية
العنوان المأخوذ فيه، وإن لم يكن فعليا لوجود المانع، فهو لا يرجع إلى جعل
حكم اقتضائي يعم حال وجود المانع ثبوتا، بل إلى بيان حال العنوان إثباتا
وأن من شأنه أن يستتبع حكما فعليا لو لم يبتل بالمانع، فمع ابتلائه بالمانع
لا حكم اقتضائي على طبقه، ولعل ذلك هو مراده من الحكم الاقتضائي،
كما قد يناسبه ما يأتي منه في حاشية الرسائل.
نعم، الغرض الداعي لجعل الحكم تارة: يكون فعليا، فيستلزم الخطاب
بالحكم التنجيزي. وأخرى: يكون منوطا بأمر غير متحقق فعلا فلا مجال
للخطاب بالحكم إلا معلقا على ما أنيط به الغرض، ويكون هو موضوع
الحكم، كما في القضية الشرطية.
92

وقد وقع الكلام بينهم في أن الخطاب بالنحو الثاني هل يستتبع جعلا
ووجودا فعليا لحكم تعليقي يترتب العمل عليه بعد تحقق الشرط، بحيث يكون
وجود الشرط ظرف العمل بالحكم الموجود سابقا، من دون أن يكون سببا
لفعلية الحكم، أولا؟ بل لا يكون للحكم وجود فعلي جعلي إلا بتحقق
ما علق عليه، وليس مفاد القضية الشرطية إلا الكشف عن ذلك.
ولا مجال للبناء على استتباع الشرطية جعل حكمين تعليقي مقارن
لانشائها، وفعلي عند تحقق الشرط. وقد أفضنا الكلام في ذلك عند الكلام في
استصحاب الحكم عند الشك في نسخه.
وكيف كان، فليس في المقام إلا إنشاء الحكم معلقا على موضوعه
لو لمن يكن فعليا، ثم فعليته بنحو ما على تقدير فعلية موضوعة، والحكم المجعول
واحد تابع لأحدهما، من دون أن يكون هناك حكم سابق على ذلك بالرتبة
تابع لنحو خاص من الملاك يسمى بالحكم الاقتضائي أو الانشائي.
وأما الملاك فهو من الأمور التكوينية التي لا دخل للحاكم بها
ولا تكون من مراتب حكمه.
وأما الأحكام الشرعية في أول البعثة فليس لها أي نحو من الوجود
ولم يكن جعلها إلا تدريجيا حسب اختلاف أزمنة الخطاب بها.
كما أن الاحكام التي تظهر على يدي الحجة (عجل الله فرجه) إما أن
تكون تعليقية على موضوعات خاصة لا تكون فعلية إلا بظهوره، أو أنها
تشرع حينئذ، وإن كان (عليه السلام) عالما من أول الامر بتشريعها في وقتها
آخذا لها من آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وبهذا
يصح إسنادها للنبي (صلى الله عليه وآله) ولا تنافي ما تضمن عدم نسخ
93

شريعته، وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره بعض الاعلام من محشي الكفاية من
الاعتراف بمرتبتين للحكم، وهما الانشاء والفعلية، بدعوى: كونهما مجعولين
تشريعا.
حيث ظهر مما سبق أن المجعول ليس إلا شئ واحد، وهو الحكم
التعليقي الذي هو مفاد القضية الشرطية، أو الفعلي التابع لفعلية الموضوع، لا
كلا الامرين، وإن كان لهما نحو من الوجود.
هذا، وقد قال المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الجمع بين
الحكم الواقعي والظاهري من حاشيته على الرسائل: " فاعلم أن الحكم بعد ما
لم يكن شيئا مذكورا يكون له مراتب في الوجود:
أولها: أن يكون له شأنه، من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلا.
ثانيها: أن يكون له وجود إنشاء من دون أن يكون له بعثا وزجرا
وترخيصا فعلا.
ثالثها: أن يكون له ذلك مع كونه كذلك فعلا، من دون أن يكون
منجزا يعاقب عليه.
رابعا: أن يكون له ذلك كالسابقة مع تنجزه فعلا. وذلك لوضوح
إمكان اجتماع المقتضي لانشائه وجعله مع وجود مانع أو فقد شرط، كما
لا يبعد أن يكون ذلك قبل بعثته (صلى الله عليه وآله)، واجتماع العلة التامة
له مع وجود المانع من أن ينقدح في نفسه البعث أو الزجر، لعدم استعداد
الأنام لذلك، كما في صدر الاسلام بالنسبة إلى غالب الاحكام ".
وقد ادعى بعد ذلك أن الحكم المشترك بين الكل ولا يختلف فيه العالم
94

والجاهل بالاجماع والضرورة هو الحكم بالمرتبتين الأوليين، وأن الثالثة -
كالرابعة - تختلف بحسب الأزمان والأحوال والأشخاص، مدعيا إمكان
دعوى الاجماع والضرورة على ذلك.
والظاهر أن قوله: " إمكان اجتماع المتقضي لانشائه... " بيان للمرتبة
الأولى، وهي الشأنية، فيناسب ما تقدم في الحكم الاقتضائي. وقوله:
" واجتماع العلة التامة... " بيان للمرتبة الثانية وهي الانشائية، فيناسب ما
تقدم في الحكم الانشائي.
ولا يخفى أن ما ذكره في المرتبة الأولى من أنه لا وجود للحكم فيها
أصلا لا يناسب جعلها من مراتب وجوده بعد أن لم يكن شيئا مذكورا.
كما أنه مما تقدم من عدم جعل حكم آخر غير الحكم الفعلي يظهر أنه
لا واقع للمرتبة الثانية.
وما ذكره من أنها هي المشتركة بين الكل دون الحكم الفعلي راجع
للتصويب الباطل بالاجماع والضرورة.
ولعل الملجئ له لذلك هو محاولة الجمع بين الاحكام الواقعية
والظاهرية، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى مع ما قد ينفع في
المقام.
وبهذا ينتهي الكلام في حقيقة الحكم الشرعي مقدمة لعلم الأصول،
ويقع الكلام في المباحث الأصولية بقسميها: النظرية المحضة، والناظرة لمقام
العمل، ونستمد منه تعالى العون والتأييد، والتوفيق والتسديد،
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
95

القسم الأول
في الأصول النظرية
97

القسم الأول
في الأصول النظرية
وقد سبق أن البحث فيها عن مدركات واقعية لا تبتني بنفسها على
العمل، وإن ترتب عليها بضميمة أمر خارج عنها. كما تقدم أنها تنحصر
بمباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقلية.
وحيث كان البحث في الألفاظ مباينا للبحث في الملازمات العقلية
سنخا ومخالفا له في المباني، كان المناسب فصلهما وجعل كل منهما في مقام
مختص به.
99

الباب الأول
في مباحث الألفاظ
وهي التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات الكلامية، لتنقيح
صغريات كبرى حجية الظهور التي يأتي الكلام فيها في القسم الثاني من علم
الأصول إن شاء الله تعالى، ولا يترتب عليها العمل إلا بضميمة الكبرى
المذكورة.
مقدمة
حيث كان تشخيص الظهورات متفرعا على دلالة اللفظ على المعنى،
كان المناسب التعرض لبعض المباحث اللغوية الدخيلة في الدلالة والمناسبة لها
مقدمة للكلام في هذا المقام، لمسيس الحاجة لذلك، ولا سيما بعد عدم
استيفاء البحث عنها في العلوم الأديبة، ليستغني به الباحث في الأصول عن
ذكرها في المقام.
وقد بحثها الأصحاب في مقدمة علم الأصول من دون أن يقسموا
مباحثه بالوجه الذي جرينا عليه.
وهي تكون في ضمن أمور:
الامر الأول: من الظاهر أن دلالة اللفظ على المعنى تارة: تبتني على
أداء اللفظ له بنفسه بحيث يكون قالبا له. وأخرى: تبتني على قرينة خارجة
101

عنه لمناسبة صححت ذلك عرفا.
والاستعمال في الثاني مجازي أو نحوه مما قد يجري عليه أهل الاستعمال،
وليس هو فعلا محل الكلام.
أما في الأول فهو حقيقي، وهو متفرع على علاقة خاصة بين اللفظ
والمعنى ونحو من الملازمة الذهنية بينهما، بحيث يكون اللفظ قالبا للمعنى،
ويكون سماعه موجبا للانتقال إليه، حتى يصح عرفا أن ينسب أحدهما
للاخر، فيقال: هذا معنى اللفظ، وهذا اللفظ لهذا المعنى.
ولا إشكال في عدم تبعية الملازمة المذكورة لخصوصية ذاتية في اللفظ
والمعنى، وإن كان قد يوهمه المحكي عن بعضهم من أن دلالة اللفظ على
المعنى طبعية، إذ لا يظن بأحد الالتزام بظاهر ذلك، مع ظهور وهنه باختلاف
اللغات، وتوقف فعلية الدلالة على العلم بها.
بل الظاهر أن منشأ الملازمة المذكورة أمران:
أحدهما: كثرة الاستعمال في المعنى بنحو يكون للفظ نحو اختصاص
به، حتى لا يحتاج معه للقرينة، وإن كان مبدأ الاستعمال مبنيا عليها، حيث
قد يظهر من حال معه المستعملين اتكالهم على الاستعمالات المبنية على القرينة
وجريهم على طبقها حتى يبلغ حد يوجب الملازمة المذكورة والعلاقة
الخاصة، فيستغنى عن القرينة.
ثانيهما: الوضع ممن يتعارف قيامه به، كولي الطفل، ومخترعي المفاهيم،
كأصحاب الفنون في مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم. وهو المسمى بالوضع
التعييني، في قبال مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم. وهو المسمى بالوضع
التعييني، في قبال الأول الذي يطلق عليه الوضع التعيني، تغليبا، أو لمناسبته
للوضع التعييني، لاشتراكهما في الفائدة. وإلا فالوضع الذي هو من مقولة
102

الفعل مختص بالتعييني.
نعم، لو أريد من الوضع ما يعم فعل سبب الاختصاص بين اللفظ
والمعنى - وهو الاستعمال - وإن لم يقصد حصوله به - كما قد يظهر من
بعضهم - لا جعل نسبة الاختصاص المذكورة بالمباشرة صح إطلاقه على
الأول، لكنه بعيد، والامر سهل.
ثم إن الظاهر أن الوضع التعييني يتضمن جعل نسبة الاختصاص بين
اللفظ والمعنى وإنشاءها المستلزم لاعتبارها عرفا، وهي مسانخة للنسبة الحاصلة
عرفا بسبب كثرة الاستعمال. فكما يرى العرف صحة إضافة اللفظ للمعنى
بسبب كثرة الاستعمال بالنحو الخاص يرى صحة إضافته بسبب جعلها ممن
بيده جعلها، فيتابع عليها، ويكون البناء على إطلاق اللفظ من دون قرينة عند
إرادة المعنى متفرعا عليها، كما يكون الاستعمال نفسه جريا على طبقها، لا
مقوما لها، كالتصرف المتفرع على الملكية.
وقد تقدم عند الكلام في حقيقة الامر الانتزاعي من المقدمة أن الإضافة
إذا كان منشأ انتزاعها موجودا تكوينا لم يمكن جعلها اعتبارا، كالفوقية، أما
إذا لم يكن منشأ انتزاعها موجودا فقد تكون قابلة للجعل، كالملكية.
غايته أن الإضافة في المقام ليست على نهج واحد، بل تختلف باختلاف
الموارد، فهي في موارد الوضع التعيني غير مجعولة، لتحقق منشأ انتزاعها
تكوينا، وهو حضور المعنى عند سماع اللفظ بسبب شيوع استعماله فيه
بالنحو الخاص، وفي موارد الوضع التعييني لا وجود لمنشأ انتزاعها، فيمكن
جعلها اعتبارا بنحو تترتب عليها الآثار عرفا، كما تترتب في الأول.
ولعل هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين (قدس سره)، وإن لم يكن
103

مجال للتعرض لكلامه وكلام غيره ممن ذكر وجودها اخر في حقيقة الوضع،
لضيق المجال عن النقض والابرام في ذلك بعد عدم ظهور الثمرة له. فراجع.
هذا والظاهر أن الوضع التعييني مختص بمثل الاعلام الشخصية والمفاهيم
المخترعة المستحدثة، حيث يتدرج الابتلاء بها، ويلتفت من بيده أمرها إلى
الحاجة لتعيين اللفظ الدال عليها، فيختار لها لفظا خاصا لمناسبة ما، ولو كانت
مثل التبرك.
وأما المفاهيم العامة التي لا تخص طائفة مخصوصة والتي بها تقوم اللغة
فمن البعيد جدا ابتناؤها على الوضع التعييني، لتعذره عادة من شخص واحد
أو أشخاص معدودين لكثرة المعاني الافرادية والتركيبية وتشعبها، وعدم
معروفية من له تلك الأهلية، ليوكل إليه ذلك ويتابعه فيه الكل. ولذا لم ينقل
ذلك في التواريخ مع أهميته جدا.
ومثله التصدي من كل من يبتلي بمعنى لوضع لفظ يخصه فيتابع فيه،
حتى تكاملت اللغة تدريجا.
فإن الالتفات للوضع ولفائدته بعيد عما عليه عامة الناس - في أول
ابتلائهم بالمعنى - من سذاجة، وخصوصا مع عدم مألوفية الوضع لهم سابقا،
حيث لا هم لهم إلا بيان المعنى بأي وجه أمكن من إشارة أو استعمال مجازي
أو غيرهما.
على أنه لا يتيسر تبليغ الكل بالوضع الأول، وتعدده يستلزم كثرة
الاشتراك بالنحو الموجب لارتباك اللغة وعدم تحقق غرض الوضع.
ومن هنا فقد قرب شيخنا الأستاذ (قدس سره) كون جميع تلك
الأوضاع تعيينية وأن مبدأها الاستعمال غير المسبوق بالوضع تبعا للحاجة
104

وإعمالا لملكة البيان التي أودعها الله في الانسان ولو مع الغفلة عن وجه
مناسبة اللفظ للمعنى والجهة الموجبة لاختياره في أدائها، بل ولو مع عدم
تحديد طبيعة استعمال اللفظ في المعنى جريا من الانسان على مقتضى غريزته
بصورة بدائية، من دون تحديد تفصيلي للفظ ولا للمعنى، نظير تعابير الطفل
في أول نطقه، ثم يتكامل بمرور الزمن ويتكامل الانسان ويدخله التطوير
والتحسين بعد التنبه لفائدته وتحسسها.
لكن ذلك وإن كان قريبا لمقتضى طبع الانسان في التدرج، إلا أنه
يحتاج لمدة طويلة، وهو لا يناسب ما تضمنته الآيات والأخبار المستفيضة من
كلام آدم أبي البشر في مبدأ الخلقة مع الله تعالى، ومع الملائكة والشيطان،
وكلامهم معه، حيث يظهر منه التوجه في أول الامر للبيان بصورة منظمة
ووجود لغة كافية في أداء المقاصد وعملية التفاهم.
ومن هنا كان من القريب جدا أن الله تعالى قد ساعد الانسان في مبدأ
الخلقة فألهمه فعلية البيان كما أودع فيه ملكته، وهداه لمجموعة من الألفاظ
تفي بأغراضه فتكلم بها بطبعه، من دون أن تكون مسبوقة بالوضع، وجرى
عليها حتى تكونت اللغة الأولى، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التطوير والتغيير
والتبديل تبعا لتجدد الحاجة وتشعبها، كما هو الحال في سائر شؤون حياته.
وربما تشعبت اللغات منها، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى
دفعي إعجازي، كحدوث اللغة الأولى، كما قد يظهر من بعض الاخبار.
ولعل هذا مراد من يقول إن الواضع هو الله تعالى. وربما يكون مرادهم
أمرا آخر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه ولا في بقية المباني المذكورة في مبدأ
الوضع بعد عدم ظهور الثمرة لذلك.
105

الامر الثاني: ما سبق من تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني إنما هو
بلحاظ اختلاف خصوصيته في نفسه، وقد قسموه تقسيمين آخرين بلحاظ
متعلقه من دون أن يرجع إلى اختلاف فيه في نفسه.
التقسيم الأول: تقسيمه إلى الوضع الشخصي والنوعي.
وتوضيحه: أن من الظاهر أن الموضوع ليس هو اللفظ الجزئي، وهو
شخص اللفظ الملفوظ للواضع - في الوضع التعييني - وللمستعمل - في التعييني -
لتصرمه فلا فائدة في حدوث العلاقة بينه وبين المعنى الذي يحتاج لبيانه
باستمرار، بل الموضوع هو الكلي منه المنطبق على ما لا نهاية له من الافراد،
وإرادته من اللفظ الملفوظ للواضع تبتني على استعماله في نوعه.
فلا بد من ابتناء هذا التقسيم على نحو من التوسع.
والذي يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) عند الكلام في وضع
المركبات أن الوضع النوعي هو وضع هيئات المركبات - كهيئات الجمل
والاعراب والتأكيد والحصر والإضافة وغيرها - لخصوصيات النسب المحكية
بها، والشخصي هو وضع مواد المركبات ومفرداتها.
وكانه بلحاظ أن هيئات المركبات لم تؤخذ فيها خصوصية مادة، بل
تجري في سائر المواد المناسبة مع انحفاظها، فهي تشبه النوع المحفوظ في أفراده
الساري فيها.
لكن ذلك يقتضي تعميم الوضع النوعي لسائر الهيئات حتى هيئات
المفردات الاشتقاقية، كهيئات الافعال وأسماء الفاعلين والمفعولين.
لوضوح أنها - كهيئات المركبات - محفوظة في المواد المختلفة ولذا
عممه له غير واحد، بل ذكر بعض المحققين أنه المعروف. فليكن هو المعول
106

عليه تبعا لهم.
بل عممه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) لمواد المشتقات، لعدم أخذ
هيئة خاصة فيها، بل تنحفظ في سائر الهيئات كانحفاظ هيئات المشتقات في
موادها.
لكن لما كان هذا التقسيم محض اصطلاح - لما ذكرنا من كون
الموضوع كليا دائما - فلا ينبغي الخروج عما هو المعروف.
وقد تكون المناسبة المصححة له أن نسبة الهيئة للمادة - لفظا ومعنى -
لما كانت نسبة العرض للموضوع كان المعيار في التعدد هو تعدد المادة عرفا
وكان تعددها في الهيئة موجبا لكون وضع الهيئة نوعيا، بخلاف تعدد الهيئات
في المادة الواحدة، فلا يلتفت إليه، ليكون وضع المادة نوعيا، بل هو كتوارد
الهيئات التركيبية على المفردات، حيث لا ينافي كون وضعها شخصيا، ولولا
الفرق المذكور لكان نوعيا أيضا حتى في الجوامد والحروف.
وقد أجاب بعضهم بوجه آخر غير ظاهر في نفسه، ولا مجال لإطالة
الكلام فيه بعد ما ذكرنا من كون التقسيم محض اصطلاح لا مشاحة فيه.
التقسيم الثاني: تقسيمه بلحاظ عموم المعنى المتصور حين الوضع
وخصوصه، وعموم المعنى الموضوع له وخصوصه، إلى أقسام ثلاثة: الوضع
الخاص والموضوع له خاص، والوضع العام والموضوع له عام، والوضع العام
والموضوع له خاص.
وذلك أن الواضع لابد له من تصور المعنى الموضوع له، إما تفصيلا
بملاحظة ذاته بخصوصياتها، أو إجمالا بملاحظة عنوان يخصه سيق لمحض
الحكاية عنه، كما لو سمى ولده زيدا، ولا يعرفه إلا بأنه أول مولود له.
107

وحينئذ فإن تصور معنى خاصا ووضع اللفظ له فالوضع خاص
- لخصوص المعنى المتصور حينه - والموضوع له خاص، كوضع الاعلام
الشخصية.
وإن تصور معنى عاما، فإن وضع اللفظ له على عمومه، فالوضع عام -
لعموم المعنى المتصور حينه - والموضوع له عام، كوضع أسماء الأجناس.
والامر في هذين القسمين ظاهر.
وإن وضع اللفظ لافراد المعنى المتصور بخصوصياتها المتباينة فالوضع عام
والموضوع له خاص.
والفرق بينه وبين القسم الثاني: أن الموضوع له في القسم الثاني ليس
إلا العام بما له من مفهوم جامع بين الخصوصيات من دون أن تكون
الخصوصيات دخيلة في الموضوع له ولا محكية باللفظ حتى في مورد استعماله
فيها، حيث لا يحكى عنها حينئذ إلا من حيثية دخولها في القدر المشترك، لا
بما به امتيازها، بل هو مقارن لا غير، بخلاف هذا القسم حيث يبتني على
دخل كل خصوصية فردية في الموضوع له بنحو البدلية، بحيث يحكي اللفظ
عنها بما به امتيازها عن غيرها، ولا يحكي عن القدر المشترك بنفسه مع قطع
النظر عن خصوصيات أفراده، لعدم وضعه له، فهو يشارك القسم الثاني في
سعة الموضوع له بنحو يصح استعمال اللفظ في جميع الافراد بدلا، كما
يشارك القسم الأول في الحكاية عن خصوصية الفرد.
ثم إن توضيح بعض الجهات المتعلقة بهذا التقسيم يكون ببيان أمور:
أولها: أنه صرح غير واحد بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام
الذي يكون بتصور المعنى الخاص عند الوضع مع عدم الوضع له بل للعام بما
108

له من معنى شائع واسع الانطباق.
وأن الفرق بينه وبين الوضع العام والموضوع له الخاص - الذي هو
القسم الثالث المتقدم - هو أن العام وجه من وجوه الخاص، بخلاف الخاص،
فإنه لا يكون وجها للعام، لان العنوان العام كما قد يؤخذ بنفسه موضوعا
للحكم، فيكون تقييديا، كذلك قد يجعل عبرة لافراده حاكيا عنها، بحيث
يكون موضوع الحكم هو الافراد بما لها من واقع.
أما الخاص فتصوره لا يكون إلا بتصور خصوصيته غير القابلة للسريان
والشيوع، فلا يكون حاكيا عن العام الشامل له والساري في غيره.
نعم، قد يكون تصوره مقدمة لتجريد جهة فيه منه تقبل السريان يكون
الوضع لها بعد تجريدها.
لكنه راجع إلى تصورها تفصيلا، كما لو مر به حيوان فأدرك ماهيته
ووضع الاسم لها، أو إجمالا، كما لو علم بوجود شئ في الصندوق فوضع
اللفظ لماهيته المتصورة إجمالا.
فيكون الوضع للعام بعد تصوره بنفسه بسبب تصور الخاص - كما في
القسم الثاني - لا بمجرد تصور الخاص، ليكون من القسم الرابع.
ومنه يظهر اندفاع ما عن المحقق الرشتي من إمكان هذا القسم وأنه
كمنصوص العلة، حيث يكون الحكم فيه شخصيا ومع ذلك يسري إلى كل
ما فيه العلة.
كما ظهر أن الوضع العام والموضوع له خاص يبتني على الإشارة
للخاص من طريق العام الراجعة لنحو من التصور الاجمالي له، فيشبه الوضع
الخاص والموضوع له خاص، وإن افترقا في وحدة الموضوع له في الوضع
109

الخاص، وتعدده في العام بسبب كثرة الافراد المحكية بالعنوان العام المتصور
حين الوضع.
ثانيها: أن الموضوع العام والموضوع له الخاص تارة: يرجع إلى الوضع
للخصوصيات بما هي مشتركة في مفهوم العام، بحيث يكون العام مأخوذا في
الموضوع له مقيدا بإحدى الخصوصيات الفردية على البدل، فتكون
الخصوصية قيدا في الموضوع له، لا تمامه، فدلالة اللفظ عليها نظير دلالة
المعرف بلام العهد عليها.
وأخرى: يرجع إلى الوضع للخصوصيات بأنفسها من دون ملاحظة
اشتراكهما في مفهوم العام، وليس لحاظ العام إلا لأجل حصر الخصوصيات
المذكورة وتعيينها، فدلالة اللفظ على كل من الخصوصيات المتباينة كدلالة
المشترك اللفظي عليها، وليس الخلاف بينهما إلا في وحدة الوضع في المقام
وتعدده في المشترك. وكلماتهم في المقام لا تخلو عن إجمال وتردد بين
الوجهين، وإن لم يبعد كونها للأول أقرب.
ثالثها: لا يخفى أن الجمود على ما تقدم في بيان الأقسام المذكورة
يقضي باختصاصها بالوضع التعييني المبتني على وضع اللفظ للمعنى بعد تصور
الواضع له، دون التعيني الذي عرفت خروجه عن حقيقة الوضع، إلا أنه
يمكن جريان نظائرها فيه من حيثية خصوصية المعنى التي هي الغرض الملحوظ
في التقسيم.
فإن المعنى الذي يختص به اللفظ ويكون قالبا له بسبب كثرة الاستعمال
تارة: يكون جزئيا لا يصطلح اللفظ لنظائره مما يجمعه معه مفهوم واحد، كما
110

في القسم الأول. وأخرى: يكون كليا مجردا عن خصوصيات أفراده، كما في
القسم الثاني. وثالثة: يكون جزيئا تتبادل فيه خصوصيات أفراد مفهوم واحد
كلي، بحيث يحكي عن الخصوصيات بأنفسها أو بما هي قيود بدلية في المفهوم
الكلي المذكور، كما في القسم الثالث بأحد وجهيه المتقدمين آنفا.
الامر الثالث: بعد أن عرفت أنحاء الوضع الممكنة فلا إشكال في وقوع
القسم الأول في الاعلام الشخصية، والثاني في أسماء الأجناس، وإنما الكلام في
الثالث، حيث قد يدعى أنه عليه يبتني وضع الحروف وما الحق بها من أسماء
الإشارة والموصولات والضمائر والهيئات ونحوها، وليس التقسيم المذكور إلا
مقدمة لتحقيق الحال فيها.
وقد أطال أهل الفن في ذلك خصوصا المتأخرين منهم، حيث كثرت
أقوالهم وتشعبت وابتنت على كثير من الدقة والتعمق، واحتيج في توضيح كل
منها أو في ردها إلى مقدمات كثيرة، مع اعتمادهم على البداهة فيما يذهبون
إليه على اختلافهم.
ولعل ذلك ناشئ من أن استعمال الحروف ونحوها يجري على البديهة
والفطرة حسبما أودعه الله تعالى في الانسان من قوة البيان، كما أن ما يراد
بها يدرك بالارتكاز بلا كلفة، وتوضيح البديهيات والارتكازيات وبيان
حقائقها وتفاصيل معانيها من أشكل المشكلات، حيث يبتني على التعمق
والتكلف والتعمل التي لا يصل بها الانسان غالبا كما يصل بفطرته وارتكازه.
ومن هنا يضيق الوقت والصدر معا من متابعتهم وتعقيب كلماتهم، بل
قد تضعف الطاقة عن ذلك.
ولا سيما مع عدم وضوح ترتب ثمرة عملية مهمة عليه، وإن ادعى
111

بعضهم ترتبها، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
كما أنه لا يحسن إهمال ذلك رأسا، لعدم خلوه عن الفائدة.
فلنقتصر على بيان ما يتضح لنا فعلا بعد النظر في كلماتهم، مع التوكل
على الله سبحانه وطلب العون والتسديد منه.
فنقول: الظاهر أن جملة من الحروف لم توضع للحكاية عن معان
متقررة في عالم الخارج أو الاعتبار أو الانتزاع، ليقع الكلام في أن معانيه كلية
أو جزئية، بل هي موضوعة لايجاد معانيها في عالم الكلام والتلفظ، فمعانيها -
كما قيل - إيجادية، لا إخطارية ذات وجود ذهني مطابق لوجودها الحقيقي في
عالمه.
كما هو الحال في مثل أدوات التمني والترجي والنداء والاستفهام
والطلب والنهي ونحوها، فكما يكون لهذه الأمور واقع نفسي في الجملة
يكون لها وجود كلامي بأدواتها المعهودة.
وليس الواقع النفسي محكيا بهذه الأدوات على أن يكون هو المدلول
المطابقي لها، بل هو داع لايجاد مضامينها في عالم اللفظ والكلام، كما قد
يكون داعيا لوجودها بالإشارة، فكما يشير الانسان بيده مستفهما بداعي
حث المخاطب على الاعلام والافهام يتكلم بأدوات الاستفهام بالداعي
المذكور.
ولذا لا يكون الاتيان بها من دون تحقق ما يناسبها في النفس كذبا وإن
قصد إظهاره بها، بل لا يكون حينئذ إلا إبهاما وتغريرا.
كما لا يكون الاتيان بها بداع آخر بقرينة مجازا، لعدم انسلاخها عما
سيقت له بحسب وضعها، وهو الوجود الكلامي للمعاني المذكورة، كما في
الاستفهام بداعي الانكار، والنداء بداعي التواجد.
112

نعم، قد تنسلخ عما وضعت له عرفا، فتكون موجدة لمعنى آخر،
كإنشاء التأسف بأداة النداء في قوله تعالى: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم
من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) (1) حيث لا يتضمن جعل النداء عرفا.
واقعة بنحو تكون قالبا له، وإن كانت قد تكشف عن معنى كذلك لملازمة
ذهنية أو عرفية، وإنما وضعت لايجاد معانيها إيجادا كلاميا، فنسبة وضعها
للمعاني المذكورة كنسبة وضع المطرقة للطرق والسكين للقطع، لا كنسبة
وضع الأسماء للمعاني الذي يراد به وضعها لبيانها والحكاية عنها بنحو تكون
قالبا لها. وكذا الحال في نسبة المعاني لها.
ويلحق بالحروف المذكورة في ذلك أسماء الإشارة والضمائر
والموصولات ونحوها، فإنها أدوات لاحداث نحو من الإشارة للشئ - كلام
التعريف - إما مطلقا - كأسماء الإشارة - أو من حيثية معهوديته في الذهن -
كضمائر الغيبة - أو من حيثية ما يتعلق به - كالأسماء الموصولة - فإن الإشارة
في الجميع لا تقرر لها في نفسها مع قطع النظر عن الاستعمال، بل تتحقق به،
كما هو الحال في الإشارة باليد التي تتحقق بالحركة الخاصة بقصدها.
نعم، لما كانت الإشارة تتعلق بمشار إليه له تقرر في نفسه مع قطع النظر
عنها، وتبتني على التنبيه له، كان لهذه الأسماء نحو من الحكاية عنه وكانت
مستلزمة بطبعها لحضوره في الذهن.
وبهذا قد يدعى أن لها معاني إخطارية، ولذا عدت من الأسماء
وشاركتها في وقوعها طرفا للنسب المختلفة. فيتجه الكلام حينئذ في عمومها

(1) سورة يس: 30.
113

وخصوصها.
لكن الظاهر عدم كون المشار إليه معنى مطابقا وضعا، ومحكيا بها
حكاية المعنى باللفظ الموضوع له، بل هو يحضر بسببها في الذهن تبعا لتحقق
الإشارة بها، كما هو الحال في الإشارة الخارجية المبنية على مقتضى طبع
الانسان من دون وضع وتعيين، وبعد حضوره في الذهن يحسن جعله طرفا
للنسبة، كما يجعل المحكي باللفظ طرفا لها.
ولذا لا يكون المشار إليه معنى لها ولا مصداقا لمعناها، مع قطع النظر
عن مقام الاستعمال الخاص، كما تكون ذات زيد معنى للفظه ومصداقا لمعنى
لفظ (رجل) مع قطع النظر عن استعمالهما فيه.
وهذا نفسه يجري في الموصولات كما قد يظهر بالتأمل.
ومثلها في ذلك بعض الهيئات، كهيئة الامر، فإنها مستعملة في إيجاد
النسبة البعثية وإيجادها. ودلالتها على الطلب النفسي الواقعي بالملازمة العرفية،
لكونه الداعي لانشاء النسبة المذكورة عرفا.
وكذا أسماء الافعال، حيث كان الظاهر ابتناءها على انشاء المعنى،
فمفاد (هيهات) ليس هو الحكاية عن البعد، بل ادعاؤه وانشاء الاستبعاد
الذي لا وجود له إلا بالاستعمال. كما أن مفاد (أف) إنشاء التضجر،
لا الاخبار عن الضجر النفسي.
وبالجملة كون معاني جملة من الحروف والأسماء والهيئات الملحقة بها
إيجادية أمر لا إشكال فيه.
وإنما الاشكال في ما يتضمن النسب التي لها ما بإزاء خارج عن الكلام،
له نحو تقرر في نفسه مع قطع النظر عنه، يكون المعيار في صدق الكلام
114

وكذبه مطابقته للخارج بتحققه في عالمه وعدمها، كأكثر حروف الجر
وحروف الشرط والحصر ونحوها، والهيئات الكلامية الدالة على النسب التامة،
كهيئة الجملة الاسمية والفعلية غير الطلبية - والناقصة - كالإضافة والحال
والتمييز وغيرها - وهيئات المفردات الاشتقاقية، لأنها وإن لم تتصف بنفسها
بالصدق والكذب، إلا أنها لما كانت قيودا في النسب التامة المتصفة بهما،
كان وجود المطابق الخارجي لها وعدمه دخيلين في مطابقة تلك النسب
للخارج وعدمه وفي صدقها وكذبها، وهو يستلزم تقرر مفاد تلك النسب مع
قطع النظر عن الكلام..
ومن ثم قد تتجه دعوى: أن معاني تلك الحروف والهيئات إخطارية.
ويقع الكلام حينئذ في أنها كلية أو جزئية، وأن وضعها من القسم الثاني أو
الثالث، بعد معلومية عدم كونه من القسم الأول.
وقد يستدل على كليتها: بصلوحها للحكاية عما لم يقع من النسب في
القضايا المستقبلة ونحوها مع وضوح انطباقه على أكثر من وجه واحد وعدم
أخذ خصوصية فردية فيه، لتبعية التشخص للوجود، وذلك راجع إلى كلية
مفاهيمها وانطباقها على كثيرين، فكما يكون السير في قولنا: سر من البصرة
إلى الكوفة، كليا فلتكن نسبته للبصرة المستفادة من (من) ونسبته لفاعله
المستفادة من هيئة الفعل كليتين أيضا.
وتشخص مؤداها من النسب وجزئيته فيما لو كان موجودا في القضايا
الحالية والماضية - كما في قولنا: سرت من البصرة - إنما هو الملازمة الوجود
للتشخص، لا لاخذ الخصوصية الشخصية في المفهوم، لوضوح عدم اختلاف
مفادها في القضايا المذكورة مع مفادها في القضايا المستقبلة ونحوها.
115

فالخصوصية من مقارنات مفادها لا مقومة له.
كما هو الحال في المفاهيم الاسمية الكلية التي قد يراد المتشخص لقرينة
مع أخذ الخصوصية في مفهومها.
وقد أصر غير واحد على جزئية المعنى مع بنائهم على كونه إخطاريا له
نحو من التقرر مع قطع النظر عن الكلام، ولم يتضح لنا من كلماتهم ما يصح
للجواب عما سبق، فلا مجال لإطالة الكلام فيه.
كما لا مجال لإطالته في حقيقة المعنى الحرفي وأنه متحد مع المعنى
الأسمى مفهوما، أو مباين له حقيقة، وإن أطالوا في ذلك، لعدم وضوح الثمرة
لذلك.
والمهم إنما هو الكلام في كونه إيجاديا أو إخطاريا الذي يترتب عليه
الكلام في كليته وجزئيته، ومقتضى ما سبق كونه إخطاريا كليا.
هذا، ولكن التأمل في حال بعض النسب الكلامية شاهد بأن انتزاع
الصدق والكذب لا يتوقف على كون الحرف حاكيا عن واقع متقرر مع قطع
النظر عنه، بل قد يكون مع حدوث نحو من النسبة به لا تقرر لها لولاه.
ولا وجود لها بدونه، فهي إيجادية لا إخطارية، كما هو الحال في نسبة
الاستثناء، حيث لا تقرر لها في نفسها، بل هي محض اعتبار قائم بالكلام
متفرع على اعتبار عموم الحكم، فليس في الواقع مع قطع النظر عن الكلام إلا
ثبوت الامر المحكوم به لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه وانتفاؤه، عن
المستثنى، ولا يختلف في واقعه، سواء كان بإثبات الحكم لموضوعه ونفيه
عما عداه بأن يقال مثلا: تقبل شهادة العادل ولا تقبل شهادة غيره، أم
بإثبات الحكم للكل ثم الاستثناء منه، بأن يقال: لا تقبل شهادة أحد
إلا العادل.
116

فإن ذلك يكشف عن عدم المطابق للنسبة الاستثنائية المؤداة بأدواته
وعدم التقرر لها بواقع محكي بالأداة حكاية المعنى باللفظ.
وإنما يكون الواقع معيارا في الصدق والكذب بلحاظ كونه مصححا
لاعتبار النسبة عند أهل اللسان في مقام البيان، بحيث تساق النسبة لبيانه
ويكون بيانه داعيا لاعتبارها، لا أن الداعي مجرد وجوده، كما سبق في مثل
الاستفهام النفسي مع الاستفهام اللفظي.
فليس الفرق بين أدوات الاستفهام - مثلا - وأدوات الاستثناء في أن
الأولى موحدة لمعانيها والثانية حاكية عنها، بل ينحصر الفرق بينهما - بعد
اشتراكهما في كون معانيهما إيجادية - في أن الثانية موجدة لمعانيها بداعي بيان
أمر له نحو من التقرر مصحح لاعتبارها عرفا، بخلاف الأولى حيث لا يكون
هناك ما يصحح انتزاعها ويكون مقصودا بها، وإن كان لابد من غرض
مصحح لجعلها واعتبارها غير الباين، كرفع الجهل بالامر المستفهم عنه وبهذا
افترقا في قبول الاتصاف بالصدق والكذب وعدمه.
ولعل مثل أدوات الاستثناء في ذلك بعض أدوات العطف والاضراب
فإن مفادها - وهو التشريك في الحكم أو التفريق فيه - نحو من النسبة القائمة
بالكلام، والتي هي من شؤون الكلام ولواحقه المتقومة به، من دون أن يكون
له مطابق خارجي محكي عنه به حكاية المعنى بلفظه، بل ليس في الواقع إلا
ثبوت الامر المحكوم به أو عدمه في موردهما، وإن اتصف الكلام المشتمل
عليهما بالصدق أو الكذب بلحاظ الواقع المذكور.
كما لعله الحال - أيضا - في بعض الأدوات الأخرى المتضمنة للنسب
الواقعة في الكلام القابل للاتصاف بالصدق والكذب، كما قد يظهر بمزيد من
117

التأمل في موارد استعمالها، وإن ضاق الوقت عن استقصائها.
وإذا ثبت عدم ملازمة اتصاف الكلام بالصدق والكذب لكون معاني
الأدوات إخطارية، بل يمكن مع كونها إيجادية، فلا طريق لاثبات إخطارية
المعنى في جميع الحروف والهيئات، بل ربما تكون إيجادية، بأن تكون جميعا
أدوات لتحقيق نحو من النسبة الكلامية اعتبارا، وإيجاد الربط الكلامي في مقام
البيان، وإن كان الغرض منها بيان الواقع الخارجي، وحال أطراف القضية
بعضها مع بعض في الخارج، الذي هو المصحح لاعتبار النسبة الكلامية
المجعولة بالأدوات عند أهل البيان بمقتضى ارتكازياتهم، ومعيارا في الصدق
والكذب بنظرهم.
وعلى هذا أصر بعض الأعاظم (قدس سره).
ولعله الأقرب، كما يناسبه ما هو المعلوم من إمكان بيان الواقع الواحد
بصور مختلفة، وبأكثر من نسبة واحدة مختلفة المفاد، من دون اختلاف فيما
يبين بها من واقع، فكما يصح أن يقال: (سرت من البصرة) - مثلا - يصح أن
يقال: (كان سيري من البصرة) و (مبدأ سيري البصرة) و (بدأت بالسير من
البصرة)، وكما تقول: (سافر زيد)، تقول: (تحقق السفر من زيد) و (تحقق
سفر زيد).
فلولا أن النسب اعتبارات محضة لا تتقيد بواقع واحد لكان المناسب
عدم الحكاية عن الواقع الواحد إلا بنسبة واحدة، وإن اختلفت ألفاظها من
باب الترادف، لا بنسب مختلفة، كما تقدم.
كما يناسب ما ذكرنا - أيضا - ما هو المحسوس بالوجدان من عدم أداء
الحروف والهيئات لمعانيها إلا في مقام استعمالها في تركيب كلامي، بخلاف
118

الأسماء، فإنها لما كانت قالبا لمعانيها بما لها من واقع قائم بنفسه، متقرر في
عالمه، أمكن تصور مسمياتها، وحكايتها عنها وإن لم تكن في ضمن تركيب
كلامي.
فهي بملاحظة المرتكزات أدوات للبيان، يتحقق بها الربط البياني بين
أطراف الكلام المتشتتة، يجري الانسان فيها بمقتضى المرتكزات البيانية التي
أودعها الله جلت قدرته فيه، فكما أدرك بهذه المرتكزات الجاجة في البيان
للأسماء للحكاية بها عن مسمياتها المتقررة في عالمها، كذلك أدرك بها الحاجة
للحروف لجعل النسب، لترتبط تلك المعاني بعد تفرقها وتنتظم بعد تشتتها،
كي يتم بيان حال بعضها مع بعض، وإن لم تتمحض في بيان ذلك.
ولعل هذا هو منشأ الالية التي تمتاز بها الحروف، وتسالموا عليها تبعا
للفارق الارتكازي بينها وبين الأسماء، لأنها آلات لايجاد معان لا استقلال
لها بنفسها، بل هي قائمة بغيرها، فلا مجال لتصورها وإيجادها إلا في ظرف
تصوره والحكاية عنه، حسبما يقتضيه تركيب الكلام، وإلا خفي وجه كون
المعنى الذي له تقرر مفهومي وخارجي في نفسه آليا، لا يتصور ولا يؤدى
إلا في ضمن الكلام، مع ما هو المعلوم من سعة الذهن، وانطلاقه في مقام
التصور والتعقل.
وقد قيل في الالية غير ذلك، مما لا يضيق الوقت عن التعرض له، وتعقيبه.
وعلى هذا يتعين البناء على أن المعاني الحرفية التي كانت الحروف
أدوات لايجادها جزئية، لان الامر القابل للايجاد هو الجزئي لا الكلي، وإن
كان الكلي معيارا في تحديد تلك الجزئيات التي أعدت الحروف لايجادها،
نظير الوضع العام والموضوع له الخاص، وإن خالفه في كون الوضع هنا لايجاد
119

الخاص، لا للحكاية عنه.
ولا يفرق في جزئيته بين كون القضايا التي وردت فيها واقعة وكونها
غير واقعة، ف‍ (من) - مثلا - في كل من قولنا: (سرت من البصرة) و (أسير من
البصرة) و (سر من البصرة) لا تقتضي إلا جعل نسبة خاصة بين السير
والبصرة، بداعي بيان حال السير والبصرة في الخارج، إلا أنها في الأول حيث
كانت حاكية عن حال واقع فلا بد من كونه جزئيا، متشخصا، أما في الثاني
فهي حاكية عن حال يقع ولم يتشخص بعد، بل هو كلي قابل للانطباق على
كثيرين، كما أنها في الثالث حاكية عن حال يطلب وقوعه فلم يتشخص
أيضا. من دون أن يستلزم ذلك اختلافا في معناها، بل هو جزئي لا غير.
وبهذا يمكن الجمع بين ما هو المرتكز من جزئية المعاني الحرفية،
وورودها في ضمن قضايا غير واقعة، الذي سبق تعذره، بناء على أن معانيها
إخطارية.
ومنه يظهر أن ذلك المعنى الجزئي الحاصل بها ليس مصداقا للمفاهيم
الكلية المذكورة في بيان معاني هذه الحروف، كالابتداء والانتهاء والظرفية
ونحوها، لان جزئيات تلك المفاهيم لها نحو من التقرر، من دون أن تكون
تابعة للكلام ولا مسببة عنه، وإنما هو المنشأ الخارجي المصحح لاعتبارها
وجعلها في مقام البيان، والمقصود بالحكاية منها.
وأما ما اشتهر من تفسير معاني الحروف بالأمور المذكورة، فليس
لكون هذه الأمور بمفاهيمها أو بمصاديقها مدلولة لها ومحكية بها حكاية المعنى
بلفظه، بل لضيق التعبير، حيث يصعب بيان حقيقة الاعتباريات، مع عدم
الغرض في معرفتها، بل المهم معرفة الخارج المستفاد منها الملازم لها، فعدل إلى
120

بيانه.
ولعل في محكي كلام السكاكي في المفتاح إشارة إلى ما ذكرنا، قال: " المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسير معانيها، مثل قولنا:
(من) معناها ابتداء الغاية، (وفي) معناها الظرفية، و (كي) معناها الغرض،
فهذه ليست معاني الحروف، وإلا لما كانت حروفا، بل أسماء، لان الاسمية
والحرفية إنما هي باعتبار المعنى، وإنما هي متعلقات لمعانيها. أي: إذا أفادت
هذه الحروف معاني ترجع تلك المعاني إلى هذه بنوع استلزام ".
ولعل ما سبق في حقيقة المعنى الحرفي أقرب ما قيل فيه، وأنسب
بملاحظة خصائصه ولوازمه. وإن كان للتأمل بعد مجال. والله سبحانه وتعالى
ولي التوفيق والتسديد.
تنبيهان
الأول: ربما تجعل ثمرة النزاع في كلية المعنى الحرفي وجزئيته قبوله للتقييد
لو كان كليا وعدمه لو كان جزئيا، لان التقييد والاطلاق متقابلان تقابل
العدم والملكة، فلا يصح اعتبار كل منهما إلا في موضوع قابل لهما، وحيث
لا يقبل الجزئي الاطلاق لا يقبل التقييد.
ويترتب على ذلك الكلام في رجوع القيد في الواجب المشروط للهيئة
ذات المعنى الحرفي، أو للمادة ذات المعنى الاسمي.
ولذا تعرضوا لهذا الامر هناك، إلا أن الأنسب ذكره في المقام، لأنه من
ثمراته من دون خصوصية لتلك المسألة.
وكيف كان فقد استشكل في الثمرة المذكورة بوجوه.
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الواجب
121

المشروط من أن جزئية الطلب المنشأ - لكونه معنى حرفيا - إنما تمنع من تقييده
بعد إنشائه، لا من إنشائه مقيدا من أول الامر.
وكأن مراده بذلك أن التقييد المصطلح يبتني على كون المراد من
موضوعه الذات القابلة للتقييد والاطلاق، وجعلها طرفا لنسبة التقييد مع
القيد، فيختص بالكلي الصالح في نفسه للسريان والشمول، دون الجزئي، إلا
أنه يمكن قصر الجزئي وتضييقه بوجه آخر، بأن يراد منه - ابتداء - واجد
القيد، فلا يحتاج حينئذ للتقييد، ويكون الشرط - في المقام - متمحضا في
القرينية على إرادة واجد القيد من الطلب، من دون أن يرجع للتقييد.
ويشكل - مضافا إلى ما هو المرتكز من عدم اختلاف مفاد الهيئة حال
وجود القيد عنه حال عدمه تمحض الشرط في القرينية المذكورة، بل هو
مبتن على نحو من التقييد، نظير القيود الواردة على الماهية القابلة لذلك - بأن
امتناع تقييد الجزئي ليس من حيثية لحاظ التقييد، كي لا يلزم في الوجه الذي
ذكره، بل لعدم شيوعه وسريانه، وهو يقتضي امتناع التضييق فيه مطلقا،
سواء كان بالتضييق أم بإرادة المقيد ابتداء.
إلا أن يرجع ما ذكره إلى إرادة جزئي آخر مباين للجزئي الذي لم
يتضيق مفهوما وحقيقة، يكون إلى إرادة جزئي آخر مباين للجزئي الذي لم
يتضيق مفهوما وحقيقة، يكون الاختلاف بينهما كالاختلاف بين الكبير
والصغير. لكنه خروج عن مفروض الكلام من كون المقيد من سنخ المطلق،
مؤدى بنفس أداته.
الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الجزئي
لا يقبل التقييد الافرادي دون الأحوالي.
وفيه: أن الأحوال لما لم توجب تحصص الجزئي وتفريده امتنع كونها
122

قيودا له، وإنما تكون قيودا للحكم الطارئ عليه، فنجاسة الماء الخاص المتغير
بقيد بقاء تغيره لا ترجع إلى أخذ التغير قيدا في الماء النجس، بل إلى أخذه
للحكم بنجاسته الذي هو مفاد الهيئة، فيدخل في محل الكلام من امتناع تقييد
المعنى الحرفي.
نعم، لا بأس بتقييد الكلي بالأحوال، لأنها مخصصة ومفردة له، كتقييد
الانسان الذي تقبل شهادته بالعدالة.
الثالث: ما يظهر من سيدنا الأعظم (قدس سره) في مبحث الواجب
المشروط - توجيها لما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) - من أن المعنى
الحرفي وإن كان جزئيا، ومنه النسبة الطلبية الخاصة، إلا أن تخصص النسب
إنما هو بتخصيص أطرافها، فيجوز تخصيصها بخصوصية الشرط.
وفيه: أنه إن أريد أن الشرط طرف للنسبة الطلبية، فمن الظاهر أن
أطراف النسبة الطلبية في الواجب المشروط والمطلق ليس إلا الطالب والمطلوب
منه والمطلوب، وليس الشرط طرفا لها، بل هو خارج عنها، له نحو من الدخل
فيها، وإنما يتجه ذلك في خصوص بعض النسب، التي تقوم بأطراف قليلة تارة
وكثيرة أخرى، كنسبة التعاند التي تتضمنها القضية المنفصلة، فكما يقال: (إما
أن يكون في الدار زيد أو عمرو)، يقال: (إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو
أو خالد)، من دون تبدل في حقيقة النسبة، ولا يكون الطرف الزائد قيدا
فيها، بل مقوما لها كسائر أطرافها، وليس هو كالشرط في النسبة الطلبية.
وإن أريد أن دخل الشرط في النسبة الطلبية موجب لنحو من التحديد
لها فهو وإن كان مسلما في الجملة، إلا أنه لابد من توجيه دخله فيها، بعد
فرض عدم تقومها به، لخروجه عن أطرافها، لان أخذه في النسبة نفسها راجع
123

إلى نحو من التقييد للمعنى الحرفي، الذي هو محل الكلام، وأخذه في المطلوب
اعتراف بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) مستدلا عليه بامتناع تقييد
المعنى الحرفي لكونه جزئيا، فلا يكون تخلصا منه.
والذي ينبغي أن يقال: إن جزئية المعنى الحرفي إنما تمنع من نحو خاص
من التقييد، وهو الراجع إلى قصر المراد الجدي من الماهية وسريانها في تمام أفرادها،
وعدم خصوصية بعض الافراد في المراد الجدي منها، وهو التقييد بمثل لسان
التوصيف، لوضوح أن الجزئية وعدم تكثر الافراد لا تناسب التقييد المذكور.
أما ما لا يرجع إلى ذلك من التقييد، بل إلى نحو من التضييق الراجع إلى
قصور في وجود ما يطابق المعنى فالجزئية لا تمنع منه، إذ كما تمكن السعة في
الوجود الواحد يمكن فيه الضيق.
ومن الظاهر أن تقييد الهيئة بالشرط لا يرجع إلى الأول، فهو لا يقتضي
كون المراد بالهيئة ماهية الوجوب المقصورة على خصوص الواجد للشرط من
أفرادها، كما لا يقتضي إطلاقها ماهيته بتمام أفرادها، بل ليس مقتضاه إلا
إناطة الوجوب الخاص المنشأ، وتعليقه على الشرط بنحو يقصر عن حال
فقده، في قبال إطلاقها المقتضي لسعة الوجوب الواحد وسعة وجوده لكل
حال، فالفراق بينهما نظير الفرق بين الزوجية الدائمة والزوجية المنقطعة الذي
لا يرجع إلى كثرة الافراد وقلتها، بل إلى سعة الوجود وضيقه.
ولعل هذا هو مراد بعض المحققين من دعوى الفرق بين التقييد بمعنى
التعليق والتقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى، وأن الممتنع هو الثاني واللازم في
المقام الأول.
124

ومن الغريب ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من امتناع رجوع
الشرط للهيئة لما تقدم من امتناع تقييد الجزئي، مع اعترافه بأنه مقتضى
القواعد العربية، مع وضوح أن القواعد العربية ارتكازية يتبعها الظهور
النوعي، فكيف يكون مقتضى الارتكاز والظهور النوعي ممتنعا في نفسه؟! بل
ينبغي جعل ذلك كاشفا عن خلل في بعض مقدمات المدعى.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) ذكر وجها آخر لمنع رجوع الشرط
للهيئة، وهو: أن الاطلاق والتقييد إنما يعرضان على المفاهيم الاسمية الملحوظة
بالاستقلال دون المفاهيم الحرفية التي هي آلية يتعذر لحاظها استقلالا.
لكنه يندفع: بأن آلية المعنى الحرفي وإن ذكرت في كلماتهم بنحو قد
يظهر في التسالم عليها، إلا أن المراد بها لا يخلو عن غموض، والمتيقن منها
ما سبق من عدم تقرر معنى الحرف في نفسه بنحو يستقل بالتصور، بل هو
قائم بأطرافه فلا يؤدى به إلا عند إيجاده في ضمن الكلام في مقام الاستعمال،
وذلك إنما يقتضي امتناع التقييد الراجع إلى قصر الماهية على بعض أفرادها،
لأنه فرع تقرر المعنى في نفسه بنحو يوجد في ضمن أفراده، ولذا كان امتناع
التقييد المذكور مقتضى المرتكزات الاستعمالية أما التقييد بالنحو الاخر الراجع
إلى محض التضييق، كتضييق النسبة الطلبية بالشرط في المقام فالوجه المذكور
لا ينهض بالمنع عنه، بل هو كتحديد النسبة بأطرافها، فلا مجال للمنع منه،
ولا سيما مع ما عرفت من مطابقته للارتكاز، حيث يصلح ذلك بنفسه
للكشف إجمالا عن خلل في وجه المنع، وإن خفي تفصيلا.
نعم، لا يراد بذلك كون الشرط مضيقا للنسبة في الخارج، لما سبق من
تعوم معاني الحروف، وهي النسب الخاصة بالاستعمال، وليس الخارج إلا
125

مصححا لاعتبارها.
بل المراد كونه موجبا لنحو من التضييق لها في مقام الاستعمال، ويكون
أثره تضييق ما يطابقها في الخارج، بخلاف ما لو لم يذكر الشرط، فالوجوب
الخارجي المصحح لاعتبار النسبة الطلبية، والمتحقق بسببها كما يكون له نحو
من السعة مع عدم تقييدها بالشرط يكون مضيقا ومختصا بحال وجود الشرط
في الخارج مع تقييدها به.
التنبيه الثاني: سبق أن الحروف والهيئات تارة: تتمحض في كونها
موجدة لمعانيها من دون نظر للخارج، كحروف التمني، والاستفهام، وهيئة
الامر، وغيرها. وأخرى: تكون مسوقة لايجاد نحو من الربط والنسب
الكلامية بداعي الحكاية عما يكون مصححا لاعتبارها في الخارج.
أما الأولى فهي متمحضة في الانشاء، ولا تتصف بالصدق والكذب.
وأما الثانية فإن كانت نسبا ناقصة كانت قيودا للنسب التامة أو
لموضوعاتها، وإن كانت نسبا تامة صدق الخبر عليها، واتصفت بالصدق
والكذب بلحاظ مطابقتها للخارج المحكي بها، وعدمها. إلا أنها قد تخرج
عن ذلك ويقصد بها الانشاء وإيجاد مضمونها اعتبارا، كما في صيغ العقود
والايقاعات، وقد وقع الكلام في منشأ الفرق بين الامرين.
وظاهر المحقق الخراساني (قدس سره) تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف
الداعي للاستعمال، مع وحدة المعنى الموضوع له والمستعمل فيه، فالخبر
موضوع للمعنى ليستعمل فيه بداعي الحكاية عنه، والانشاء موضوع له
ليستعمل بداعي تحققه وثبوته.
لكنه يشكل: - مضافا إلى ما يأتي من اختلاف المعنى فيهما - بأن تعدد
126

الوضع يقتضي الاشتراك واحتياج كل من الامرين للقرينة، مع أن الظاهر
استغناء الخبر عن القرينة وكونه الأصل في الكلام، وأن الانشاء مبني على نحو
من العناية ومفتقر للقرينة.
ومن هنا قد يحمل كلامه (قدس سره) على أنه ليس بصدد بيان تعدد
الوضع، بل بصدد بيان أن الفرق بين الامرين راجع إلى اختلاف الغرض من
الاستعمال، من دون أن يرجع إلى اختلاف المعنى المستعمل فيه، بل هو واحد
في كلا الحالين.
إلا أنه يشكل: أيضا - بما هو المعلوم من استعمال صيغة الماضي والجملة
الاسمية في الانشاء، مع تجرد الأولى عن الخصوصية الموجبة للدلالة على
الماضي، والثانية عن الخصوصية الدالة على الحال، حيث لا يراد به إلا تحقق
الامر المنشأ بعد الكلام.
بل حتى استعمال صيغة المضارع لو لم يبتن على نحو من التصرف في
معناها لم يقتض تحقق المنشأ متصلا بالكلام والانشاء، لصلوح الفعل المضارع
للحال وتمام أزمنة الاستقبال، فإن ذلك كله كاشف عن اختلاف ما تستعمل
فيه الهيئة حال الخبر عما تستعمل فيه حال الانشاء.
ومن هنا لا يبعد البناء على اختصاص الهيئات المذكورة وضعا بإيجاد
النسب التامة بداعي الحكاية عما يصحح اعتبارها في الخارج، ويكون
استعمالها في مقام الانشاء مبنيا على نحو من التوسع أو الادعاء بالنحو
المناسب له.
بل لا ينبغي التأمل في ذلك فيما لا يراد به إنشاء المادة، بل بيان
مطلوبيتها أو مبغوضيتها أو عدمها، كاستعمال مثل: (يعيد) و (يغتسل)
127

لبيان مطلوبية الإعادة والغسل، ومثل: (لا يقضي) لبيان عدم وجوب القضاء،
ومثل: (يأخذ الجنب من المسجد ولا يضيع فيه) لبيان حرمة الوضع دون
الاخذ.
وربما يأتي في مبحث دلالة الجملة الخبرية على الطلب توجيه مثل هذه
الاستعمالات، وبيان مباينها.
الامر الرابع: لما كان الجري على مقتضى الوضع التعييني والتعيني
مقتضى سيرة أهل اللسان المتبعة في مقام البيان، التي جروا عليها بمقتضى
ارتكازياتهم، كان المعيار في صحة الاستعمال سيرتهم الارتكازية في مقام
التفهيم والتفاهم، وإن لم تستند للوضع، بل لمقتضى أذواقهم وطبائعهم، كما
هو الظاهر في بعض الاستعمالات الشايعة بينهم، والمألوفة لهم.
منها: الاستعمالات المجازية، لو قلنا بابتنائها على استعمال اللفظ في غير
ما وضع له، فإن الظاهر حينئذ ابتناؤها على استحسان الطبع، لا على نقل
اللفظ ووضعه وضعا شخصيا لمعناه المجازي، ك‍ (الأسد) للرجل الشجاع في
طول وضعه لمعناه الحقيقي، بنحو بتني على ملاحظة العلاقة مع المعنى
الحقيقي، ويحتاج استعماله فيه للقرينة، ولا على نقل الألفاظ ووضعها وضعا
نوعيا بلحاظ العلاقات المجازية المختلفة، كعلاقة المشابهة والملازمة وغيرهما،
ولا على ترخيص الواضع في الاستعمال فيما يناسب المعنى من دون نظر إلى
خصوصيات العلائق المجازية. فإن ذلك كله كالمقطوع بعدمه بالنظر
لارتكازيات أهل البيان، وسيرة المستعملين.
حيث يبطل الأول تعذر حصر الموارد التي تصح الاستعمالات المجازية
فيها عادة، ليمكن الوضع لها تعيينا أو تعينا.
128

والثاني عدم اطراد استعمال كل لفظ بلحاظ كل علاقة مجازية.
ويبطلهما معا ما هو المعلوم من عدم توقف اختيارهم للعلاقة المجازية
أو موردها على سبق الاستعمال عند أهل اللسان بنحو يتحقق معه الوضع،
بل كلما كانت المعاني مخترعة مبتدعة للمستعمل كان (مجليا).
ويبطل الثالث ما سبق من عدم وجود واضح خاص في غالب الألفاظ،
وعدم صدور الترخيص المذكور ممن يتصدى للوضع في مثل الاعلام الشخصية
والماهيات المخترعة، بل ليس المدار إلا على مقتضى طبع المستعملين وأذواقهم.
ولذا اشترك في كثير من العلاقات أهل اللغات المختلفة.
نعم، بن ء على ابتناء الاستعمالات المجازية على ادعاء دخول المستعمل
فيه في المعنى الموضوع له - كما السكاكي - تكون مبنية على الوضع
للمعنى الحقيقي، لا خروجا عليه، ويكون الطبع والذوق مصححا للجري
على الادعاء المذكور، فيخرج عن محل الكلام.
ومنها: الاستعمالات التابعة لظروف خاصة بين بعض المتخاطبين، التي
يخرجون فيها عن قانون أهل الكلام لدواع تخصهم، وظروف تحبط بهم،
حيث لا يعاب ذلك بعد أن يتأدى به البيان، ويحصل به الغرض الأعم، وإن
لم يجر على الوضع ولا على ملاحظة العلاقات المجازية.
ومنها: استعمال اللفظ وإرادة اللفظ دون المعنى في مثل قولنا: (ضرب)
فعل ماض، و (من) حرف جر، فإنه لا يبتني على وضعها لذلك، ولا على
استعمالها فيه مجازا، لعدم العلاقة المصححة لذلك، بل محض الجري على
مقتضى الانسان في تأدية مقاصده بما يتيسر له من بيان. وإن كان الوقت
يضيق عن تحقيق حاله وتفصيله.
129

وربما كانت هناك بعض الوجوه الاخر التي لا يبتني فيها الاستعمال على
متابعة الوضع والجري عليه، بل على مقتضى الطبع.
نعم، لا ينبغي التأمل في أن الاستعمالات المذكورة على خلاف مقتضى
الأصل المعول عليه عند العقلاء وأهل اللسان، فيحتاج إلى قرينة، وبدونها
يحمل استعمال اللفظ على إرادة معناه الموضوع له، لان ذلك هو مقتضى
الطبع الأولي الذي يجري عليه أهل اللسان في تفهيم المقاصد وفهمها، وإن
أمكن الخروج عنه بالقرينة.
الامر الخامس: حيث حقيقة الوضع وأقسامه ثبوتا يقع الكلام
هنا في طريق إحرازه إثباتا، ولا يراد بإحرازه إحرازه بالحجة الظنية التي تكفي
في مقام العمل، لان ذلك موكول لمباحث الحجج، حيث وقع الكلام هناك في
حجية قول اللغويين، بل المراد هو العلم الوجداني بالنظر لبعض آثاره
ولوازمه، وقد ذكروا لذلك أمورا:
الأول: التبادر، وهو عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بنفسه، بحيث
يكون اللفظ هو المؤدي له والموجب لحضوره في الذهن، لوضوح أن العلاقة
المذكورة بين اللفظ والمعنى لا تستند لغير الوضع، فتدل عليه دلالة الأثر على
المؤثر.
وقد يشكل: بأن مجرد الوضع لا يكفي في التبادر ما لم يكن معلوما،
فالتبادر موقوف على العلم بالوضع، فإن كان مع ذلك موجبا للعلم بالوضع
الذي هو علته لزم الدور - كما قرر في كلام جماعة - وإن كان موجبا لفرد
آخر من العلم بالوضع لزم اجتماع فردين من العلم بالوضع، لان العلم الأول
لا يزول بحصول التبادر، وهو - مع استحالته في نفسه، لامتناع اجتماع المثلين -
130

موجب للغوية علامية التبادر على الوضع - كما نبه له بعض الأعيان
المحققين (قدس سره) - لكفاية العلم الأول بالوفاء بالغرض.
ويجاب عن ذلك بما في كلام جماعة: من أنه يكفي في حصول التبادر
العلم الارتكازي بالمعنى بسبب الاطلاع على استعمالات اللفظ المختلفة، وإن
لم يلتفت إليه تفصيلا بنحو يعمل عليه ويرتب عليه الأثر، ويتجلي مفاد
الارتكاز المذكور بنحو يترتب عليه العلم بالتبادر، فما يترتب على التبادر
نحو من العلم مخالف لنحو العلم الذي يتوقف عليه التبادر، لا عينه ولا مثله.
نعم لا بد من العلم باستناد التبادر لحاق اللفظ من دون دخل قرينة
عامة أو خاصة فيه، فلو لم يعلم بذلك لا مجال لاستكشاف الوضع منه.
ودعوى: أن الأصل عدم القرينة.
مدفوعة - مضافا إلى أن الكلام فيما يوجب العلم الوجداني بالوضع،
ولا ينهض به الأصل المذكور، بل غايته لزوم العمل عليه تعبدا - بأن الأصل
المذكور إن رجع إلى الاستصحاب فهو مثبت، لعدم كون الملازمة بين الأثر
المطلوب - وهو حجية الكلام في المعنى المتبادر إليه - وعدم القرينة شرعية، بل
خارجية بتوسط الملازمة بين عدم القرينة واستناد التبادر لحاق اللفظ، وبين
استناده لحاق اللفظ وتحقق الوضع للمعنى، وبين الوضع للمعنى وظهور
الكلام فيه، وبين ظهوره وحجيته فيه.
وإن كان أصلا عقلائيا مستقلا في نفسه مع قطع النظر عن
الاستصحاب الشرعي فلم يثبت بناء العقلاء عليه في تشخيص حال التبادر أو
الاستعمال مع الشك في الوضع، بل غاية ما ثبت من أهل اللسان الاعتماد
عليه في تشخيص حال الاستعمال مع العلم بالوضع لو احتمل خروج
131

المستعمل عن المعنى الموضوع له اتكالا على قرينة غفل عنها السامع.
ولعل وجه الفرق: أن هم أهل اللسان وعامة العقلاء معرفة مراد المتكلم
للعمل عليه، فلو بني على التوقف عن حمله على المعنى الموضوع له بمجرد
احتمال قرينة مغفول عنها سقطت فائدة الكلام في كثير من الموارد، لعدم
الإحاطة بمحتملات القرينة حتى يتسنى للمتكلم سدها بالطرق القطعية.
أما تحقيق كيفية التبادر أو الاستعمال بعد معرفة المعنى المتبادر إليه،
أو المستعمل فيه، وأنه مستند لحاق اللفظ ليكشف عن الوضع أو للقرينة فلا
يكشف عنه، فهو هم الخاصة ممن استجدت لهم الحاجة لتحقيق المعنى
الموضوع له، ولا غرض فيه لعامة العقلاء وأهل اللسان ليتضح موقفهم فيه بما
لهم من مرتكزات بيانية وسيرة عملية، كي يعلم جري الشارع على سيرتهم.
ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال على الوضع للمعنى باستعمال أهل
اللغة فيه، تحكيما لأصالة الحقيقة، ودفعا لاحتمال المجاز والقرينة.
الثاني: صحة الحمل وعدم صحة السلب فقد ذكروا أن حمل اللفظ بما
له من معنى على شئ، وعدم صحة سلبه عنه علامة كونه حقيقة فيه، كما
أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة كونه حقيقة فيه، كما
أن عدم صحة حمله عليه، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقة فيه، بل
مجازا لو كان مستعملا فيه.
وتوضيح ذلك: أنهم ذكروا أنه لا بد في حمل أحد الشيئين على الاخر
من جهة اتحاد بينهما وجهة اختلاف، إذ لو اتحدا من جميع الجهات كانا شيئا
واحدا، ولا يحمل الشئ على نفسه، وإن كانا مختلفين من جميع الجهات كانا
متباينين، ولا يحمل أحد المتباينين على الاخر.
ومن هنا فالحمل عندهم قسمان:
132

أولهما: الحمل الأولي الذاتي، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوما
والتغاير بالاعتبار، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على
الاخر (1)، في مثل قولنا: (الانسان هو البشر)، وحمل الحد التام على الماهية
كقولنا: (الانسان حيوان ناطق)، أو العكس، كقولنا: (الحيوان الناطق هو
الانسان)، فإن صح الحمل المذكور بين الشيئين، ولم يصح سلبه علم وضع
أحد اللفظين لمعنى الاخر، وكونه حقيقة فيه، وإن صح سلبه عنه، ولم يصح
حمله علم عدم وضعه له، وكونه مجازا فيه لو استعمل فيه بما له من خصوصية
مفهومية.
وقد استشكل في ذلك بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بأنه إنما يتم
في المترادفين، دون الحمل في الحدود التامة، لان اختلاف الحد عن المحدود
بالاجمال والتفصيل مانع من كون أحدهما مفهوما للاخر، لان مفهوم كل
لفظ مفرد بسيط مجمل.
ويندفع: بأن الاجمال والتفصيل لا يوجبان اختلاف المفهوم، بل
اختلاف نحو الحكاية عنه، وهو لا يخل باتحاد المحكي مفهوما.
نعم، لو أريد بشرح الحقيقة شرح الاجزاء الخارجية دون المفهومية،
كشرح السيارة ببيان أجزائهما، أتجد ما ذكره (قدس سره) لعدم التطابق
المفهومي حينئذ بين طرفي الحمل، لكنه خارج عن محل الكلام، لعدم
اختصاص الاختلاف بينهما بالاجمال والتفصيل.
كما استشكل فيه بعض مشايخنا: بأن مفاد الحمل الأولي هو اتحاد ذات

(1) بناء على ما يظهر من بعضهم من كونه من أفراد الحمل الأولي الذاتي. وربما أنكره
بعضهم مدعيا أنه نحو آخر من الحمل، وهو غير مهم بعد رجوعه لتحديد الاصطلاح،
وشمول محل الكلام لواقع الحمل المذكور وإن لم يكن من القسم المزبور اصطلاحا.
133

المحمول مع ذات الموضوع، ولا نظر فيه إلى حال لفظ المحمول، وأنه موضوع
لذات الموضوع وحقيقة فيها أو لا، لان صحة الحمل من صفات المدلول
والمنكشف، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف، فلا يكون الأول
دليلا على الثاني، بل لا بد فيه من التبادر لتعيين معنى لفظ المحمول.
ويندفع: - أيضا - بأنه إذا كشف الحمل عن التطابق بين المعنيين كشف
عن كون اللفظ المطابق لأحدهما والحاكي عنه مطابقا للاخر وحاكيا عنه،
للتلازم بين الامرين. نعم، لا بد فيه من كون لفظ المحمول حقيقة في معناه
المراد به حين الحمل، ليستلزم كونه حقيقة في مطابقه الذي صح حمله عليه.
وإليه يرجع ما سبق منا - تبعا لغير واحد - من تقييده بكون المحمول هو
اللفظ بما له من المعنى، وهو معناه الذي ينسب له دائما، لكونه الموضوع له،
لا معناه المراد منه حين الحمل ولو كان مجازا.
ثانيهما: الحمل الشايع الصناعي، وملاكه الاتحاد خارجا مع الاختلاف
مفهوما، إما لكون الموضوع من أفراد المحمول، لان المحمول ذاتي له، كحمل
الانسان على زيد، أو عرضي كحمل الأبيض على الثوب، وإما لاتفاقهما في
الافراد، كحمل النوع على الخاصة أو بالعكس في مثل قولنا: (الضاحك
إنسان)، أو (الانسان ضاحك).
ولا يخفى أن الحمل المذكور لا يكشف عن معنى اللفظ الموضوع له،
ولا ينهض بتحديده، بل عن سعة مفهوم اللفظ، وانطباقه على ما حمل عليه
بنحو يكون استعماله فيه حقيقة، فهو لا يشرح المعنى إلا من الحيثية
المذكورة. نعم: لو كان المعنى معلوما من سائر الجهات كان الحمل المذكور
متمما لمعرفته. كما أن عدم صحة حمله عليه وصحة سلبه عنه يكشف عن
134

عدم سعة مفهوم اللفظ له وعدم انطباقه عليه، فلو صح استعماله فيه كان
مجازا.
لكن ادعى بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن صحة السلب بلحاظ
الحمل الشايع الصناعي لا تدل على عدم الوضع، ولا على المجاز، ولذا يصح
سلب أحد المترادفين عن الاخر مع وضعه له وكون استعماله فيه حقيقة.
وكأن نظره في صحة السلب في المترادفين إلى أنه إذا كان مفاد الحمل
المذكور هو الاتحاد خارجا مع الاختلاف مفهوما كفى في صحة السلب
المقابل له عدم الاختلاف في المفهوم، بل الاتفاق فيه، كما في المترادفين.
ويشكل: بأن مفاد الحمل ليس إلا الاتحاد إما في المفهوم أو في الخارج،
وليس اعتبارا التغاير بين طرفي الحمل اعتبارا أو مفهوما لكونه مفادا للحمل
كالاتحاد، بل لاستهجان حمل الشئ على نفسه، ولذا لا يكون حمل الشئ
على نفسه كاذبا، وحيث كان مفاد السلب نقيضا لمفاد الحمل انحصر مفاده
بعدم الاتحاد مفهوما أو خارجا، ولا يكون مفاده عدم التغاير، ليصح بين
المترادفين بلحاظ عدم التغاير بينهما مفهوما، ولذا لا يصح سلب الشئ عن
نفسه بلحاظ الحمل الأولي، لعدم التغاير بين الطرفين بالاعتبار.
فسلب أحد المترادفين عن الاخر ممتنع في نفسه، لا أنه يصح، كي
لا تدل صحة السلب على عدم الحقيقة - كما ذكره - بل لا يصح السلب إلا
بلحاظ عدم الاتحاد مفهوما أو خارجا، فيدل في الأول على عدم وضع لفظ
أحد الطرفين للاخر، وفي الثاني على عدم سعة مفهومه له، وعدم اتحادهما
خارجا، المستلزم لكون استعماله فيه - حتى بنحو التطبيق لو صح - مجازا.
أما بعض مشايخنا فقد استشكل بنظير ما سبق منه في الحمل الأولي
135

الذاتي، وحاصله: أن الحمل الشايع الصناعي إنما يدل على الاتحاد خارجا بين
الموضوع والمحمول بما هما معنيان قائمان بأنفسهما مدلولان للفظ، ولا يدل
على حال استعمال اللفظ.
ويظهر اندفاعه مما سبق، لأنه بعد فرض المحمول معنى حقيقيا للفظه
يكون اتحاده خارجا مع الموضوع المستكشف بالحمل راجعا لاتحاد الموضوع
خارجا مع معنى اللفظ الحقيقي، فيكون استعمال اللفظ فيه حقيقيا لا محالة.
ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من استلزام الحمل بأحد وجهيه
للحقيقة، إما لكون المحمول عليه عين معنى اللفظ، أو لكونه من مصاديقه
المتحدة معه خارجا. كما أن السلب مستلزم للمجاز بأحد الوجهين.
إلا أن الظاهر أنه لا يتجه جعلهما علامة في المقام، لتوقفهما على العلم
بتحقق النسبة المصححة لهما بين الطرفين، ولا يكفي فيهما ثبوتها واقعا مع
الجهل بها، فلا يصح الحمل الأولي أو الشايع ممن لا يعلم بالاتحاد مفهوما
أو خارجا بين الطرفين، كما لا يصح السلب ممن لا يعلم بالتباين مفهوما
أو خارجا بينهما، ومع توقفهما على العلم لا يكونان سببا له، وإلا لزم الدور
أو اجتماع المثلين، نظير ما سبق في التبادر.
وما ذكره غير واحد: من اندفاع ذلك بالاكتفاء في حصولهما بالعلم
الارتكازي، كما اكتفي به هناك.
غير متجه، للفرق بينهما وبين التبادر بأن التبادر من سنخ الانفعال
فتكفي فيه العلاقة الذهنية الارتكازية بين اللفظ والمعنى، كسائر الانفعالات،
بخلاف الحمل والسلب، لأنهما من سنخ الحكم ولا يتسنى صدور الحكم
للحاكم بنحو يعلم بصحته ما لم يتوجه تفصيلا لطرفيه، ولما يصححه ويطابقه
136

من النسبة بينهما، ولا يكفي فيه الوجود الارتكازي الذهني من دون أن
يتجلى ويتضح له.
الثالث: الاطراد. فعن بعض المتأخرين عده من علامات الوضع. ويظهر
من بعضهم أن المراد من ذلك: أن اطراد استعمال اللفظ في المعنى كاشف عن
وضعه له.
وقد استشكل فيه المحقق الخراساني بأن المجاز وإن لم يطرد بلحاظ نوع
العلاقة المجازية، كالمشابهة والملازمة ونحوهما، إلا أنه قد يطرد بلحاظ
شخصها، كالمشابهة للأسد في الشجاعة، وللذئب في الخبث.
وتقييد الاستعمال الذي يكون اطراده علامة بما لا يكون بعناية مستلزم
لابتناء علاميته على الدور أو اجتماع المثلين، نظير ما تقدم في صحة الحمل،
إذ لا بد من العلم بالعلامة تفصيلا، ومع العلم التفصيلي بعدم العناية في
الاستعمال يعلم بالوضوح للمعنى المستعمل فيه في رتبة سابقة على العلم بتحقق
العلامة.
وقد ظهر من جميع ما تقدم انحصار علامة الوضع بالتبادر، وأن صحة
الحمل وعدم صحة السلب والاطراد لا تصلح لذلك.
نعم، سبق أن علامية التبادر مشروطة بإحراز استناده لحاق اللفظ، ولا
يخلو إحراز ذلك عن صعوبة، حيث يغفل عن دخل كثير من القرائن
خصوصا العامة، ككثرة الابتلاء بالمعنى الموجبة لاشتباه الانصراف بالتبادر،
ومقدمات الحكمة الموجبة لاشتباه مقتضى الاطلاق به، وشيوع التلازم بين
المعنيين الموجب لاشتباه معنى اللفظ بلازم معناه، ونحو ذلك مما يحتاج معه إلى
كثير من التأمل والتروي.
137

ومن أهم ما يستعان به لتمييز الحال الاطراد وصحة الحمل، حيث يظهر
بالاطراد عدم دخل كثير من القرائن التي يحتمل دخلها ويطرد الاستعمال
بدونها، وعدم دخل بعض الخصوصيات والقيود الزائدة على المعنى التي قد
تنسبق من الاطلاق ويطرد الاستعمال بدونها، كما يظهر بعدمه عدم الوضع
للمعنى على إطلاقه، أو عدم استناد التبادر لحاق اللفظ، بل للقرائن التي
يتخلف بتخلفها.
كما يظهر بصحة الحمل وعدم صحة السلب سعة المفهوم، فلو تبادر
لخصوص بعض أفراده انكشف دخل بعض القرائن في تبادره، يظهر وبصحة
سلب اللفظ عن بعض أفراده المعنى المتبادر إليه وعدم صحة حمله وجود خلل
في تبادره إليه على إطلاقه. إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد من التأمل في حدود
المعنى وخصوصياته.
فالعلامات الثلاث كثيرا ما تشترك بمجموعها في تحديد معنى اللفظ
ويستعين بها الفاحص المتثبت في الوصول إلى ما خفي من جهاته، فلا ينبغي
الاكتفاء بالتبادر والتسرع في الاستنتاج بسببه.
ولا يتضح حال التبادر غالبا بنحو لا يحتاج لغيره إلا في مورد وضوح
الوضع، الذي لا يحتاج فيه للعلامة عليه.
تنبيه
لا يخفى أن ما ينكشف بالعلامات المذكورة هو معنى اللفظ الحالي
عند حصولها، لا في عصر صدور الاستعمال الذي يراد تشخيص مفاده،
كالاستعمال الوارد في الكتاب والسنة، فاللازم الفحص عما لو كان هناك
بعض الاستعمالات أو الامارات الكاشفة عن تبدل المعنى، فإن أحرز ذلك
138

لم يعمل على المعنى الحالي، بل على الأول لو أمكن تشخيصه باستقصاء
الاستعمالات ومراجعة كلمات أهل اللغة ونحو ذلك.
وإن شك في ذلك، فقد صرحوا بأن اللازم العمل على المعنى الحالي،
لأصالة تشابه الا رمان، وعدم النقل المعول عليها عند العقلاء وأهل اللسان،
حيث لا إشكال عندهم في حمل الاستعمالات القديمة في الكتاب والسنة
وكلام العلماء والمؤلفين والخطباء والشعراء والأوراق القديمة ونحوها على
ما يفهمونه منها حين الاطلاع عليها، ولا يعتنون باحتمال تبدل المعنى بحيث
يكون المعنى الفعلي حادثا بعد الاستعمالات التي يراد تشخيص المراد منها.
نعم، لو علم بحصول النقل وتبدل المعنى وشك في سبقة على الاستعمال
الذي يراد تشخيص المراد منه أو تأخره عنه.
فالظاهر التوقف، ولزوم الفحص عما يعين أحد المعنيين، ومن قرائن
داخلية أو خارجية. بل قد يظهر من بعضهم لزوم البناء على مقتضى المعنى
الأول، لأصالة تأخر النقل. لكنه لا يخلو عن إشكال فيما
لو علم بتاريخ الاستعمال وشك في تاريخ النقل، فضلا
عن غيره، لعدم رجوع أصالة تأخر النقل للاستصحاب
الشرعي، لأنها تكون أصلا مثبتا، وعدم وضوح بناء العقلاء عليها، لقلة
الابتلاء بذلك فيما هو مورد الآثار العملية، ليتضح قيام سيرة عملية لهم على
ذلك، وعدم وضوح ارتكازياتهم فيه مع قطع النظر عن عملهم.
بل الظاهر أنه لنظير ذلك يلزم التوقف عن العمل بأصالة تشابه الأزمان،
وعدم النقل عند الشك فيه، إذا كان هناك من الاستعمالات القديمة أو
تصريحات اللغويين أو نحوها ما يثير احتماله بوجه معتد به، وإن لم يكن حجة
عليه، لان المتيقن عملهم بها في مقابل الاحتمالات المجردة التي لا مثير معتد به
139

لها. فلاحظ.
الامر السادس: حيث لا إشكال في إمكان تعدد معاني اللفظ الواحد،
إما بنحو الاشتراك - بناء على ما هو الظاهر من إمكانه، بل وقوعه - أو مع
كون بعضها أو تمامها مجازيا، فقد وقع الكلام بينهم في إمكان استعمال اللفظ
باستعمال واحد في أكثر من معنى واحد على أقوال.
ولا يخفى أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى على وجوه:
أولها: أن يستعمل في المجموع المركب من المعنيين بفرض وحدة اعتبارية
بينهما، ولا يكون لحاظ كل منهما بخصوصه استقلاليا، بل ضمنيا، كلحاظ
سائر أجزاء المعنى المستعمل فيه، كما لو استعمل (القرء) الذي قيل بوضعه
لكل من الحيض والطهر في تمام الدورة الشهرية المركبة منهما، نظير استعمال
اليوم الموضوع للنهار في تمام الدورة اليومية المستوعبة له ولليل.
ثانيها: أن يستعمل في القدر المشترك بينهما بالغاء خصوصية كل
منهما، ولا يلحظ إلا ما به الاشتراك بينهما، وهو الكلي الجامع، سواء كان
مفهوميا مبنيا على تجريد كل منهما عن خصوصيته المميزة له عن الاخر، كما
لو استعمل (القرء) في حالة المرأة من حيثية الدم المشتركة بين الحيض والطهر،
أم منتزعا من أمر لاحق للمفهومين، كما لو استعمل اللفظ في عنوان المسمى،
لوضوح أن التسمية من لواحق كل من المفهومين الخارجة عنه.
ثالثها: أن يستعمل في كل منهما بخصوصه وبما له من جهة امتياز عن
الاخر ويلحظ بحدود المفهومية مستقلا عن الاخر لا منضما إليه، فتكون
كل من الخصوصيتين محكية باللفظ، كما لو استعمل اللفظ فيها وحدها.
والظاهر عدم الاشكال في جواز الاستعمال بأحد الوجهين الأولين -
140

كما صرح به غير واحد - وإن ابتنى على التصرف والخروج عن المعنى
الموضوع له، فيكون مجازا.
غاية الامر أنه لا يحسن إلا مع عدم استبشاع التصرف في معنى اللفظ
وإرادة أحد الوجهين به.
وقد تصدى غير واحد لبيان وجه امتناعه. والمستفاد منهم في ذلك
وجوه..
الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أن حقيقة
الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة المعنى - كي يمكن كونه علامة
على أكثر من واحد - بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى،
فيكون اللفظ فانيا في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون،
ويمتنع لحاظ ذلك في استعمال واحد بالإضافة إلى معنيين، لاستلزامه لحاظ
اللفظ فانيا في كل من المعنيين.
لكن لم يتضح الوجه في امتناع ذلك، فإنه إن رجع إلى امتناع فناء
اللفظ في كل من المعنيين، بل ليس له إلا فناء واحد، أشكل: بأن فناء الوجه
في ذي الوجه ليس حقيقيا، بل راجعا إلى طريقية الوجه لذي الوجه، بحيث
يكون سببا لحضوره ذهنا وعبرة له، ولا مانع من كون الشئ الواحد طريقا
لحضور شيئين في الذهن، وهو معنى فنائه فيهما. إلا أن يراد بالفناء معنى
آخر لم يتضح لنا كي يتضح لازمه.
وإن رجع إلى أن اتحاد اللفظ بالمعنى في مقام الاستعمال يستحيل فرضه
في معنيين، لامتناع فرض الوحدة بين شئ واحد وأمرين متباينين.
141

أشكل: بعدم ابتناء الاستعمال ولا الوضع على فرض الاتحاد بين اللفظ
والمعنى، بل على مجرد طريقية اللفظ للمعنى، والتعبير عن ذلك بالاتحاد لا يراد
منه حقيقته، كي يلتزم بلازمه.
وإن رجع إلى ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من
أن استعمال اللفظ في معنيين وفنائه فيهما مستلزم للحاظه آلة مرتين تبعا لكل
منهما، ويمتنع لحاظ الشئ الواحد مرتين في آن واحد، لان اللحاظ إضافة بين
اللاحظ والملحوظ وتعدد الإضافة إنما يكون باختلاف أحد طرفيها، أو
باختلاف زمانها، ويمتنع تعددها من دون اختلاف في الطرفين ولا في الزمان.
أشكل: بأن الاستعمال وإن كان موقوفا على نحو من اللحاظ للفظ
يسمى باللحاظ الآلي، إلا أنه لا ملزم بكون كل معنى محتاجا إلى لحاظ للفظ
خاص به، كي يكون الاستعمال في معنيين محتاجا للحاظ اللفظ مرتين بل لا
مانع من كون اللفظ ملحوظا واحد طريقا لكل من المعنيين حاكيا
عنهما وفانيا فيهما، فلا يحتاج في الاستعمال الواحد إلا لحاظ واحد للفظ
مهما تعددت المعاني التي يكون الاستعمال فيها.
الثاني: ما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) من أن حقيقة
الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ، لان وجود اللفظ في الخارج وجود
له بالذات، ووجود للمعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل، وحيث كان الموجود
الخارجي بالذات - وهو اللفظ - واحدا امتنع كون الوجود التنزيلي للمعنى
متعددا بتعدد المعنى، لان وحدة الايجاد تستلزم وحدة الوجود، لاتحاد الوجود
والايجاد بالذات.
وفيه: أولا: أن المراد بكون الوجود اللفظي وجودا تنزيليا للمعنى إن
142

كان هو اتحادهما خارجا، بحيث يتطابقان، كي يستحيل اتحاد الشئ الواحد
مع أمرين متباينين.
فهو من الوهن بمكان ظاهر، كيف وهما مختلفان سنخا وموضوعا؟!
فالأول حقيقي موضوعه اللفظ، والثاني تنزيلي موضوعه المعنى.
وإن كان المراد ترتبها، بأن يكون إيجاد اللفظ سببا لايجاد المعنى، لأنه
آلته. فهو وإن أمكن عقلا، إلا أنه لا تساعد عليه المرتكزات العرفية
الاستعمالية، بل ليس اللفظ إلا حاكيا عن المعنى وآلة لاحضاره في الذهن،
ولا مانع من حكاية الشئ الواحد عن أمرين.
وثانيا: أنه لا مانع من كون الوجود الواحد للفظ وجودا لكلا المعنيين
تنزيلا، وهو لا ينافي ما سبق منه من أن وحدة الايجاد تستلزم وحدة الوجود،
إذ يمكن الالتزام بأن التعدد في المقام ليس بالمعنى المتحد مع الايجاد، بل
للموجود، في عدم توقف تعدده على تعدد الايجاد.
فهو نظير: ما لو قتل رجل شخصين بضربة واحدة، حيث لا ريب في
تعدد القتلين مع وجودهما بإيجاد واحد.
ودعوى: أنه مع وحدة وجود المعنيين يلزم كون الاستعمال في مجموعها
الذي سبق خروجه عن محل الكلام، لا في كل منهما.
مدفوعة: بأن المعيار في الاستعمال في مجموع المعنيين هو ملاحظة
الوحدة الاعتبارية بينهما بملاحظة كل منهما حين الاستعمال بما له من
الخصوصيات المميزة عن الاخر ضمنا، ولا يكون الملحوظ الاستقلالي إلا
مجموعها بملاحظة ما به امتيازهما عن غيرهما، والمعيار في الاستعمال في كل
منهما هو ملاحظة كل منهما استقلالا بما له من الخصوصيات المميزة عن
غيره حتى الاخر، من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، فمع كون الاستعمال
143

على النحو الثاني يكون الاستعمال في معنيين الذي هو محل الكلام، وإن كان
إيجادهما بإيجاد واحد المستلزم لوجودهما بوجود واحد بناء على ما ذكره
(قدس سره).
وليس المراد من الاستعمال الذي هو محل الكلام هو الاستعمال في
المعنى وحده بنحو لا يكون معه غيره، لوضوح أنه لا معنى معه للنزاع في
إمكان الاستعمال في معنيين.
الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن المفهوم المحكي
باللفظ قد يكون واحدا كمفهوم النقطة، وقد يكون متعددا كمفهوم العشرة
الذي هو عبارة عن آحاد متكثرة، لكن تكثرها إنما هو قبل الاستعمال، أما
بالاستعمال فهو مفهوم واحد، لوحدة الحكاية عنه في مقام استعمال اللفظ
فيه.
وعليه إن أريد باستعمال اللفظ في معنيين تعددهما قبل الاستعمال مع
وحدتهما به للاستعمال في تمامهما فيكون كل منهما مدلولا تضمنيا للفظ
فلا مانع منه عقلا.
وإن أريد به استعماله في معنيين بلحاظ حال ما بعد الاستعمال، بحيث
يكون كل منهما مدلولا مطابقيا فهو غير معقول، لان اثنينيتهما بالاستعمال
تتوقف على تعدد الاستعمال، وهو خارج عن الفرض، ممتنع مع وحدة
اللفظ.
ويندفع: بأن ما ذكره من تعدد المعنى قبل الاستعمال مع وحدته بعده
راجع إلى تركب المفهوم الواحد، ومرجعه إلى الاستعمال في المجموع بعد
اعتبار الوحدة بين أجزائه، وقد تقدم خروجه عن محل الكلام، وأن الكلام إنما
هو في الاستعمال الواحد في كل من المعنيين مع لحاظه استقلالا بتمام حدوده
144

حتى ما يمتاز به عن الاخر، من دون فرض وحدة بينهما، ليكون كل منهما
جزء لمدلول اللفظ، فإن كان المدعى امتناع ذلك احتاج إلى دليل.
الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الاستعمال في
كل من المعنيين استقلالا مستلزم لتعدد اللحاظ في آن واحد، وهو ممتنع عقلا.
وكأن مراده استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين - كما نسب
إليه في بعض كلماتهم - وإلا فالجمع بين اللحاظين إذا كان أحدهما آليا
مما لا إشكال فيه، بل جميع الاستعمالات مبنية عليه، لابتنائها على لحاظ
اللفظ آلة والمعنى استقلالا. ومثله لحاظ الأمور المتعددة ضمنا في أمر واحد
استقلالي، كالمفاهيم المركبة.
وكيف كان، فدعوى استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين مع
تعدد الملحوظ خالية عن الشاهد، كما ذكره غير واحد ممن تصدى للجواب
عن دليله.
نعم، لو أراد امتناعه عادة لم يكن بعيدا، لابتناء استعمال اللفظ في
المعنى عل نحو خاص من اللحاظ له حين أدائه والحكاية عنه باللفظ، وهو
لا يتيسر بالإضافة إلى أكثر من معنى بمقتضى المرتكزات الاستعمالية، وليس
هو كسائر التصورات المحضة، التي لا إشكال في إمكان اجتماعها في آن
واحد في أفق النفس، بالإضافة إلى أمور متعددة لا ارتباط بينها.
ومنه يظهر أنه لا مجال للنقص على ذلك بأن الانسان يقوم بأمور
متعددة في آن واحد، فيأكل ويمشي ويتكلم ويكتب... إلى غير ذلك مما
يتوقف على تصور الأمور المتعددة في زمان واحد.
لاندفاعه بأن تصور العمل الذي لا بد منه حين القيام به ليس من سنخ
145

التصور الاستعمالي، بل يكفي فيه التصور الارتكازي المستند لعادة ت ونحوها،
من دون حاجة لتصوره تفصيلا بحدوده المفهومية الذي لا بد منه حين
استعمال اللفظ فيه.
ومثله النقض بأن المتصور حين إرادة بيان الجملة تمام أطرافها، ويبقى
هذا التصور إلى إتمامها.
لاندفاعه: - أيضا - بأن تصور تمام أطراف الجملة يبتني على تصورها
ضمنا في ضمن تصور مجموعها ارتكازا، وليس تصور كل منها استقلالا
تفصيلا إلا حين النطق بلفظه الدال عليه. وكذا الحال في اللوازم والملزومات
التي قد تقصد بالبيان، لأنها ليس مقصودة بالاستعمال بنحو تكون ملحوظة
استقلالا، ويقصد أداؤها بالكلام وجعله بأزائها، بل هي من سنخ الدواعي له
المركوزة في الذهن، فلا تخل بالمدعى.
وبالجملة: الرجوع للوجدان شاهد بتعذر الاستعمال في أكثر من معنى
بنحو الاستقلال، لابتناء الاستعمال على نحو من التصور للمعنى حين أدائه
باللفظ، لا يمكن تحققه باستعمال واحد بالإضافة إلى أكثر من معنى واحد.
ويشاركه في ذلك الإشارة بإلى ونحوها، لأنه من سنخه.
نعم، يتيسر سوق بعض الألفاظ أو الهيئات في الكلام لمحض العلامية
على أمور أخر غير ما استعمل فيه، بالاتفاق مع بعض السامعين لها، أو بداعي
التسبيب لتصورهم لها، للعلم بنحو من الملازمة الذهنية بينها وبينه في حقهم،
من دون أن يكون مستعملا فيها ولا مجعولا بأزائها، بل لا يستعمل إلا في
معنى واحد، لتعذر الاستعمال في أكثر من معنى، كما ذكرنا.
على أنه لو سلم عدم تعذره فلا إشكال في احتياجه إلى عناية خاصة
146

تخرج عن الوضع الطبيعي للانسان المتعارف.
وبسبب الامتناع المدعى أو الحاجة للعناية المذكورة جرت الاستعمالات
والبيانات الكلامية من أهل اللسان على وحدة المعنى المستعمل فيه، بحيث لو
تيسر للمتكلم لحاظ الأمور المتعددة استقلالا وجعل اللفظ بإزاء كل منها
باستعمال واحد - لخصوصية فيه يمتاز بها عن عامة أهل اللسان، أو بإعماله
العناية المشار إليها - لم يكن مجال لحمل كلامه عليه ما دام جاريا على الطريقة
العرفية، بل لا بد في الحمل عليه من اتضاح خروجه عن الطريقة العرفية في
بيانه.
ومنه يظهر أنه ليس كالاستعمال في المعنى المجازي، بحيث لو تردد الامر
بينهما كان مجملا، فضلا عن أن يكون أولى من المجاز بناء على كونه حقيقيا.
بل يتعين الحمل على المجاز لو كان مقبولا عرفا بحيث يحمل عليه لو علم
بالاستعمال في معنى واحد، لعدم خروجه عن الطريقة العرفية في الكلام، وإن
كان محتاجا للقرينة، عملا بأصالة الظهور.
والحمل على الحقيقة مختص بما إذا كانت مقتضى أصالة الظهور في
فرض جري المتكلم على الطريقة العرفية في البيان، لا مطلقا، ولو مع
استلزامها الخروج عنها.
وإن لم يكن المجاز مقبولا كان الكلام مجملا ولا يحمل على الاستعمال
في أكثر من معنى، لان خروج المتكلم عن الطريقة العرفية في كلامه محتاج إلى
عناية ليس بناء العقلاء على الحمل عليها من دون بيان.
وعلى هذا لو علم باستعمال اللفظ في أكثر من معنى بأحد الوجوه
الثلاثة السابقة، كان المتعين الحمل على أحد الوجهين الأولين مع مقبوليته
147

عرفا، لأنهما يرجعان إلى التصرف في المعنى الذي يكون به الاستعمال مجازيا،
ومع عدم مقبوليتهما عرفا، لعدم المناسبة المصححة لهما، أو عدم الجامع العرفي
بين المعنيين، أو نحو ذلك يتعين البناء على الاجمال.
ولا مجال لما يظهر من تقرير درس بعض مشايخنا من الاجمال مطلقا،
لعدم المرجح، فضلا عما يطهر منه في حاشيته على تقريره لدرس بعض
الأعاظم (قدس سره) من ترجح الوجه الثالث بناء على كونه حقيقيا،
لترجح الحقيقة على المجاز اللازم من الوجهين الأولين.
بقي في المقام أمور:
الأول: أنه قد يمنع استعمال اللفظ في أكثر من معنى مطلقا أو بنحو
الحقيقة لدعوى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة، فاستعماله في أكثر
من معنى - وإن كان ممكنا - خروج عن القيد المذكور، فلا يصح، أو يكون
مجازا، كما في المعالم.
لكن إن كان المراد بالوحدة التي يدعى التقييد بها هي الوحدة الذاتية
المفهومية المتقومة بحدود المعنى المفهومية، فيرجع إلى دعوى: أن اللفظ
موضوع للمعنى بحدوده المفهومية الخاصة به، من دون أن ينضم إليه غيره بحد
يجمع بينهما.
فالوحدة المذكورة ليست قيدا زائدا على المعنى مأخوذا فيه عند الوضع
له، بل أخذها في المعنى الموضوع له عبارة أخرى عن الوضع للمعنى بنفسه،
لتقوم المعنى الموضوع له بحدوده المفهومية، ولا يمكن فرض الوضع له إلا بأخذ
تلك الحدود فيه.
ومنه يظهر عدم الخروج عن الوحدة المذكورة بالاستعمال في أكثر من
148

معنى بالوجه الذي هو محل الكلام، وهو جعل اللفظ بإزاء كل من المعنيين
بحدوده المفهومية الخاصة به من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما، ليكون كل
منهما جزء المعنى المستعمل فيه.
ولا يخرج عنها إلا بالاستعمال في تمام المعنيين الذي تقدم أنه في الحقيقة
استعمال في معنى واحد يبتني على التصرف في المعنى الموضوع له، ويكون
مجازا، وأنه خارج عن محل الكلام.
وإن كان المراد بالوحدة الاستعمالية، بأن يدعى أن اللفظ
موضوع للمعنى بقيد الاستعمال فيه وحده. أشكل أولا: بعدم الدليل على
تقييد الموضوع له بذلك، بل المشاهد من طريقة الواضعين خلافه، حيث يضع
اللفظ بإزاء المعنى من دون التفات للقيد المذكور. كما أن المتبادر من اللفظ
في الاعلام الشخصية وغيرها هو معناه بحدوده المفهومية مجردا عن القيد
المذكور.
وثانيا: بأنه يمتنع تقييد المعنى الموضوع له بذلك، لان الوضع له إنما هو
بلحاظ استعماله فيه، ويمتنع تقييد المعنى المستعمل فيه بالقيد المذكور، لان
القيد المذكور من شؤون الاستعمال المتأخرة عنه رتبة، فلا يمكن لحاظه حينه
قيدا في المعنى المعروض للاستعمال والمتقدم عليه رتبة.
مع أن الخصوصية الاستعمالية من طوارئ المعنى بما له من تقرر
مفهومي، لا سعة فيه كي يقبل التضييق بالتقييد به، لا من طوارئه بما له من
وجود خارجي، كي يكون قابلا له لو كان واسعا، لكونه كليا منطبقا على
كثيرين.
اللهم إلا أن يدعى كون الاستعمال في المعنى وحده شرطا للواضع،
149

لا قيدا للمعنى الموضوع له. لكن لا طريق لاحراز اشتراط الواضع، ولا سيما
مع ما هو المعلوم من عدم تنبه الواضع لذلك في مثل الاعلام الشخصية، وعدم
وجود واضع خاص في غيرها، على ما سبق.
إلا أن يرجع إلى خروجه عن طريقة أهل اللسان - كما ذكرناه آنفا -
فلا يصح الاستعمال مطلقا حتى مجازا.
وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الشخصية، بمعنى أن اللفظ موضوع
للمعنى بقيد تشخصه خارجا في فرد واحد، فيمتنع الاستعمال في معان
متعددة لأنه يتوقف على إرادة أفراد بعددها.
ولعل ذلك هو مراد صاحب المعالم، لأنه خص ذلك بالمفرد دون المثنى
والجمع.
فهو غير بعيد في الجملة، لتبادر الوحدة عرفا منه، ومن ثم كان المفرد
مقابلا للمثنى والجمع لا أعم منهما.
لكنه يختص ببعض الأسماء مما يختص بالواحد، مما يفرق فيه بين الجنس
والواحد بالتاء، كتمرة وكمأة، والمفرد النكرة، حيث يختص أو ينصرف
للواحد، دون ما يراد من الجنس الصادق على القليل والكثير، كاسم الجنس
المعرف باللام، والمواد الاشتقاقية التي تقع موردا للأحكام التكليفية، كمادة:
(اضرب) و (صل) وكذا الاعلام والحروف والهيئات ونحوها مما لا يدل إلا
على المعاني بحدودها المفهومية.
مع أن الوحدة لما كانت قيدا في المعنى ومن شؤونه لا أمرا مقابلا له فلا
يخل بها الاستعمال في أكثر من معنى، حيث لا يراد بكل منهما إلا المقيد
بها، فيكون المراد واحد من كل من المعنيين.
150

بل لا ينبغي التوقف في ذلك لو تصادق المعنيان في فرد واحد، كالسيد
بالمعنى الأصلي اللغوي، وبمعنى الهاشمي الذي هو مشهور عرفا.
ثم إن أخذ الوحدة المذكورة في المعنى لو منع من الاستعمال في أكثر
من معنى منع منه حتى مجازا، لاستهجان استعمال المفرد في المثنى أو الجمع
عرفا، إلا بعناية تنزيلهما منزلة المفرد، ولا بد في المجاز من عدم الاستهجان.
الثاني: ربما يدعى جواز استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى، بأن
يراد منهما المتعدد من أفراد معان متعددة لا من أفراد معنى واحد، فيراد من
مثل: (عينين) عين جارية وعين نابعة، بل ذهب في المعالم إلى أن الاستعمال
المذكور حقيقي لا مجازي.
بدعوى: أنهما في قوة تكرار المفرد، فكما يجوز استعمال المفردات مع
التكرار في المعاني المتعددة، كل منها في معنى واحد، يجوز فيما هو بقوتها.
واستدل على ذلك في المعالم بتثنية الاعلام وجمعها، كالزيدين والهندات،
مع وضوح تباين معاني الاعلام ومفاهيمها بنحو الاشتراك.
وتندفع بما أشير إليه في كلام غير واحد: من أن دلالتها على التعدد إنما
هو بهيئتهما، وشأن الهيئة إفادة معنى قائم بمدلول المادة لا في قباله، وحيث
كان المراد بمادتهما معنى واحدا، لوحدة الاستعمال الملزمة بوحدة المعنى -
كما سبق - كان التعدد المستفاد من الهيئة من شؤون ذلك المعنى، وهو تعدد
فرده ووجوده، من دون أن يرجع إلى إرادة معنى آخر في قباله.
ولا وجه لقياسه بتعدد المفردات التي يكون التعدد فيها للمادة والتي
يصلح كل منها لإرادة معنى في نفسه باستعمال مستقل به، ولا تستعمل
بمجموعها باستعمال واحد، كما في المقام.
151

ولا يراد بكونهما في قوة تكرار المفرد إلا كونهما مثله في إفادة التعدد
الشخصي، لا ما يعم تعدد المعنى.
وإنما جازت تثنية الاعلام وجمعها مع تباين معانيها لتأويل بالمسمى
الذي هو معنى واحد جامع بين تلك المعاني، والذي لا إشكال في جواز
الاستعمال في أكثر من معنى بلحاظه، كما تقدم في صدر المسألة.
ويشهد بالتأويل المذكور خروج الاعلام بالتثنية والجمع عن التعريف
إلى التنكير والشيوع، فتجري عليها أحكام النكرات من قبول أدات التعريف
والوصف بالنكرة وعدم جواز الابتداء بها إلا لمسوغ، ولو بقيت على معانيها
لبقيت على التعريف.
فهما نظير إضافة الاعلام التي لا تصح لولا تأويلها بما يوجب شيوعها،
وهو المسمى.
ولذا كان ظاهر قولنا: (هذان زيدان) - مثلا - بيان اسمهما لا ذاتيهما،
بخلاف قولنا: (هذا زيد).
فلا وجه لما في المعالم من أن التأويل المذكور تعسف لا دليل عليه.
الثالث: أن بعض المفاهيم الإضافية أو نحوها قد يختلف صدقها
باختلاف منشأ انتزاعها، كعنوان الكبير والأكبر اللذين يصدقان، تارة:
بلحاظ العمر. وأخرى: بلحاظ الجسم والجثة. وثالثة: بلحاظ الشأن
والشرف.
ومثل ذلك وإن لم يوجب الاختلاف في المفهوم، بل في معيار الصدق،
الذي هو نحوهن الاختلاف المصداقي، إلا أن الظاهر دخوله في محل الكلام،
فيمتنع استعمال اللفظ في الإضافة بلحاظ أكثر من منشأ انتزاع واحد، لان
152

ما هو موضوع الأثر والغرض ليس هو الإضافة، بل منشأ انتزاعها، فلابد من
ملاحظته في مقام استعمال اللفظ فيها عند الحكم عليها قيدا فيها، ويمتنع
ملاحظة أكثر من منشأ واحد بخصوصيته وأخذه قيدا في الاستعمال الواحد،
بعين امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
إلا أن يكون بين مناشئ الاستعمال المختلفة قدر جامع، فيمكن
الاكتفاء بملاحظته، ويتجه عموم الحكم لها، لكنه ليس نظيرا لمحل الكلام، بل
نظير الاستعمال في القدر المشترك بين المعاني الذي سبق خروجه عن محل
الكلام.
هذا كله إذا كان استعمال اللفظ في الإضافة في مقام يتعلق بمنشأ
انتزاعها، كالأحكام العملية التابعة للغرض والأثر المتعلقين بمنشأ الانتزاع،
والقضايا التي مواطنها الخارج ونحوها، أما لو لم يتعلق به فيمكن العموم تبعا
لوحدة المفهوم، كما في موارد شرح مفهوم الإضافة، حيث لا ملزم بالنظر
للخارج المصحح لانتزاعها وأخذه قيدا فيها، بل لا ينظر إلا إليها، والمفروض
وحدة مفهومها، وعدم اختلافه باختلاف منشأ الانتزاع.
الرابع: بناء على رجوع المجاز للتصرف في مفهوم اللفظ، يكون الجمع
بين المعنى الحقيقي والمجازي وبين المعنيين المجازيين في استعمال واحد من
صغريات الاستعمال في معنيين، ويلحقه ما سبق. أما بناء على رجوعه إلى
ادعاء دخول الفرد المجازي في المعنى الموضوع له اللفظ فلا مانع من الجمع بين
الافراد الحقيقية والمجازية، لدخولها في المعنى الواحد الذي استعمل فيه اللفظ.
نعم، الظاهر أن مبنى هذا القول على التصرف في المعنى الموضوع له
اللفظ بنحو يشمل الافراد المجازية جهة العلاقة المجازية، فاستعمال أسد في
153

الرجل الشجاع بادعاء كونه أسدا إنما هو لادعاء أن أسدية الأسد بشجاعته
الحاصلة في الرجل الشجاع.
وحينئذ يمتنع استعماله في مجازات متعددة بعلاقات مختلفة لا جامع عرفي
بينها، لتوقف استعماله في كل منها على ادعاء كون الموضوع له شاملا له،
وأن ملاك التسمية هو جهة العلاقة المصححة له، فيلزم من الجمع بين المجازيين
لحاظ كلتا الجهتين بخصوصيتهما ملاكا للتسمية، ومناطا للمعنى المستعمل،
وهو راجع للاستعمال في المعنيين بخصوصيتهما.
وعليه لا يمكن الاستعمال إلا في مجاز واحد وحده أو مع المعنى
الحقيقي.
الخامس: في بعض النصوص: أن للقران المجيد ظهرا وبطنا (1)، وفي
آخر: أن له ظاهرا وباطنا (2)، وفي ثالث: أن له بطنا وللبطن ظهر (3)، وفي
رابع: أن له بطنا وظهرا وللظهر ظهر (4).
وحيث كان الاستعمال في أكثر من معنى ممتنعا عند غير واحد فقد
حاولوا توجيه النصوص المذكورة ونحوها بحملها.
تارة: على ما يعم لوازم المعنى مما أريد بيانه بتبع الملزوم وإن لم يكن
اللفظ مستعملا فيه، نظير الكنايات.

(1) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 7 / تفسير
العياشي 1: 11.
(2) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 39.
(3) تفسير العياشي ج 1، ص 12.
(4) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي، حديث: 41.
154

وأخرى: بما يراد من اللفظ بمحض العلامية التي أشرنا إليها عند الكلام
في المختار من وجه المنع، لا بنحو الإرادة الاستعمالية.
ولعله مراد المحقق الخراساني من حمله على ما يراد بنفسه حين استعمال
اللفظ في المعنى من دون أن يكون مرادا من اللفظ.
إذ لا وجه لنسبته للقرآن لو لم يكن مرادا بالبيان منه، بل لا معنى لتعلق
الإرادة به بنفسه ما لم ترجع إلى إرادة بيانه ونحوها.
ولعل الأقرب الأول، وقد يناسبه مرسلة العياشي عن حمران عن أبي
جعفر عليه السلام قال: (ظهر القران الذين نزل فيهم، وبطنه الذين عملوا
بمثل أعمالهم) (1). وما في مرسلته الأخرى عن الفضيل عنه عليه السلام قال:
" ظهره وبطنه تأويله منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري
الشمس والقمر، كلما جاء منه شئ وقع.. " (2).
هذا وحيث سبق أن وجه امتناع الاستعمال في أكثر من معنى تعذره
عادة لقصور في المستعمل كان قاصرا عن المنع في القران فلا ملزم بتأويل
النصوص المذكورة لو كان ظاهرها الاستعمال في أكثر من معنى.
الامر السابع، لا ريب في أن الألفاظ التي يحكى بها عند المتشرعة عن
الوظائف الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والصوم والخمس والاذان وغيرها
صارت حقائق فيها بنحو تتبادر منها من دون قرينة دون معانيها القديمة
بحسب أصل اللغة، وإنما وقع الكلام بينهم في أن مبدأ صيرورتها كذلك في

(1) تفسير العياشي ج 1، ص 11.
(2) تفسير العياشي ج 1، ص 11.
155

عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلامه وكلام تابعيه أو بعده، وهو
المراد بالكلام في ثبوت الحقيقة الشرعية.
ولا يخفى أن الثمرة لذلك تعيين مداليل الألفاظ المذكورة لو وقعت في
الكتاب العزيز أو في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وكلام معاصريه مجردة
عن القرينة، فبناء على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل على الوظائف الشرعية
المذكورة، وبناء على عدمه تحمل على المعاني اللغوية.
وتوهم أنه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية يتعين الاجمال، لاشتراك
الألفاظ المذكورة بين المعاني الجديدة والمعاني القديمة اللغوية.
مدفوع: بأن محل الكلام ليس هو مجرد الوضع للمعاني المذكورة، بل
النقل لها بنحو يقتضي هجر المعنى القديم واحتياج إرادته للعناية والقرينة، ولو
في عرف الشارع الأقدس في لسانه ولسان تابعيه، كما هو الحال في العصور
المتأخرة، ونظير النقل في سائر الأعراف الخاصة للمعاني المستحدثة لهم، حيث
يجب حمل الكلام الصادر من أهل عرف خاص من حيثية كونهم من أهل
ذلك العرف على ما هو المعنى عندهم، لا بحسب أصل اللغة.
ومثله ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من عدم فعلية الثمرة
المذكورة، إذ لا مورد يشك في المراد الاستعمالي فيه، لان هذه الألفاظ قد
صارت في زمان الصادقين (عليهما السلام) حقائق في المعاني المستحدثة.
وما يرد عن النبي (صلى الله عليه وآله) بحكم ما يرد منهم عليهم السلام إذا
كان بطريقهم، وما كان بطريق غيرهم خارج عن الابتلاء.
لاندفاعه: بأن ما ينقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طريقهم
عليهم السلام إنما يكون بحكم ما ينقل عنهم إذا نقلوه في مقام بيان التشريع،
156

حيث يتعين تنبيههم عليهم السلام إلى اختلاف المعنى عما عليه في زمانهم
لو كان، أما إذا كان نقلهم له لمحض بيان ألفاظه (صلى الله عليه وآله) كما
في موارد نقل الخطب ونحوها فلا يلزمهم التنبيه للاختلاف.
وما ينقل من طريق غيرهم إنما يخرج عن الابتلاء إذا لم يكن النقل
موثوقا به، والجزم بكون تمام ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله) من غير طريق
الأئمة عليهم السلام غير موثوق بنقله محتاج إلى فحص. على أنه يكفي نقل
غير الثقة بناء على قاعدة التسامح في أدلة السنن.
مع أنه يكفي في الثمرة ما ينقل عن الأئمة السابقين قبل الصادقين
عليهما السلام فالجزم بعدم فعلية الثمرة غير حاصل.
وكذا ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أنه قد قيل: إن هذه
المعاني يعلم بإرادة الشارع لها في جميع الاستعمالات، لشهادة التتبع بعدم
الاستعمال في غيرها.
إذ فيه: أنه لا مجال لدعوى الاستقراء التام، ولا سيما مع صراحة بعض
نصوص الصلاة على المدفون بإرادة الدعاء منها (1).
وكذا دعوى: احتفاف جميع الاستعمالات بالقرينة.
إلا أن يراد منها القرينة العامة، وهي مألوفية المعاني المستحدثة ذهنا،
بسبب الابتلاء بها.
لكن يأتي أن ذلك شاهد بتحقق الوضع لها وسبب له.
ثم إنهم وإن خصوا الكلام في تحقق الوضع بعصر النبي (صلى الله عليه

(1) الوسائل ج 2، باب: 18 من أبواب صلاة الجنازة، حديث: 4.
157

وآله) إلا أن الثمرة لا تختص به، بل تجري في عصور الأئمة المعصومين عليهم
السلام فكلما ثبت الوضع للمعنى الجديد في زمان إمام منهم عليهم السلام
لزم الحمل عليه الكلام الصادر منه وممن بعده من الأئمة ومن أتباعهم،
وذلك مهم أيضا بناء على ما عليه الامامية من أن كلامهم عليهم السلام
وفعلهم وتقريرهم سنة تتبع كسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا عرفت هذا فالظاهر تحقق الوضع التعيني في غالب الألفاظ المذكورة،
وأنها استعملت أولا في المعاني الجديدة إما مجازا لمناسبتهما للمعاني الأصلية،
كالزكاة التي هي في الأصل النماء والطهارة وسمي الحق الخاص بها بلحاظ
كون أدائه سببا لها، أو لأنها من أفراد المعنى الأصلي، كالصوم والاذان، ثم
اشتهرت فيها حتى انصرفت إليها في زمن قريب في عرف الشارع وتابعيه،
بسبب تتابع الاستعمال منهم، ولمألوفية المعاني الأصلية، حتى يبعد مع ذلك
عدم تحقق النقل للمعاني المذكورة، بحيث يحتاج للقرينة الخاصة على إرادتها
من الألفاظ، كما هو المشاهد في جميع أهل الأعراف الخاصة بالإضافة إلى
ما يختصون به من معاني.
غاية الامر أن يبقى المعنى الأصلي معروفا عند غيرهم ممن لا يبتلي
بالمعاني الجديدة. بل ربما يسري ذلك للكل بسبب أهمية العرف الجديد،
وانتشاره، وكثرة أتباعه، خصوصا فيما له أهمية من المعاني بين أهل ذلك
العرف، حيث قد يكون له مزيد ظهور وانتشار بين غيرهم بسببهم.
وأما الوضع التعييني، بتصريح الشارع بتعين هذه الألفاظ لهذه المعاني
بنحو يتفرع عليه الاستعمال، فالظاهر أنه لا مجال لاحتماله في المقام، لما في
158

ذلك من العناية والكلفة غير المألوفة في تلك العصور، لان الغرض الفعلي
تفهيم المعاني ولو بالاستعمال فيها مع القرينة التي يسهل إقامتها مع أنه لو
صدر ذلك منه صلى الله عليه وآله لظهر وبان، لأهميته جدا، وتوفر
الدواعي لنقله، من دون موجب لاخفائه.
نعم، قرب المحقق الخراساني (قدس سره) تحقق الوضع التعييني بنفس
استعمال اللفظ في المعنى بنحو استعماله فيه لو كان موضوعا له، ولو بضميمة
القرينة الدالة على أن الغرض منه الحكاية عن المعنى، والدلالة عليه بنفس
اللفظ على أنه معناه، لا بالقرينة.
وهو وإن كان ممكنا بناء على أن الوضع عبارة عن الالتزام بتعيين اللفظ
بإزاء المعنى، وإبراز الالتزام المذكور إما بإنشاء ذلك المضمون، أو بفعل ما هو
من شؤونه وتوابعه وهو الاستعمال الخاص، نظير إبراز الالتزام العقدي بإنشاء
مضمونه تارة، وبالمعاطاة أخرى.
إلا أن الظاهر عدم وقوعه، لما فيه من العناية والخروج عن الوضع
الطبيعي في الوضع، بل قصد ذلك وإقامة القرينة عليه أشد مؤنة من إنشاء
الوضع قبل الاستعمال صريحا.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن ديدن العقلاء
في العلوم والفنون التي يخترعونها ويدونونها والصناعات التي يزاولونها على
تعيين الألفاظ المناسبة للمعاني المستحدثة ليسهل تفهيمها، وحيث امتنع
الوضع التعييني بالوجه الأول تعين هذا الوجه.
فهو ممنوع، بل تكون المصطلحات للعلوم والفنون والصناعات تدريجي،
ولا هم للمؤسسين إلا تفهيم المعاني بالطرق غير المتكلفة بالاستعانة بالقرائن
159

الميسورة، ثم تتكون المصطلحات بتكرر الاستعمال، ولا تدون وتضبط إلا
بعد تكامل العلم أو الفن أو الصناعة وثبوت مصطلحاتها.
على أن الوجه الذي ذكره لامتناع الوضع التعييني بالوجه الأول، وهو
أنه لو صدر من الشارع لظهر وبان، جار في هذا الوجه أيضا.
وما ذكره من أن كون الوضع فيه من توابع الاستعمال من دون تصريح
به موجب لعدم الالتفات إليه، كي يهتم بنقله. كما ترى! لان ترتب الغرض
على الاستعمال بالنحو المذكور موقوف على إقامة القرينة على حاله، ومع
قيام القرينة عليه يتوجه إليه، ويتعلق الغرض بنقله لما ذكرنا من توفر الدواعي
لذلك.
فالعمدة ما عرفت من تقريب الوضع التعييني.
هذا، والظاهر أن تلك الألفاظ موضوعة للمعاني الشرعية بحسب أصل
اللغة، كالحج والعمرة، لمعروفيتهما باسميهما في الجاهلية على ما هو المعهود
منهما في الاسلام، تبعا لشريعة إبراهيم (عليه السلام) وليس الاختلاف بين
ما عندهم وما في الاسلام إلا في بعض الخصوصيات من باب التخطئة في
المصداق، نظير الاختلاف بيننا وبين العامة، من دون أن يرجع للاختلاف في
المفهوم أو التشريع.
بل ادعى المحقق الخراساني (قدس سره) ذلك في كثير من الوظائف
الشرعية، كالصلاة والزكاة والصوم، وسبقه إلى ذلك في الفصول، لما تضمنته
كثير من الآيات - وكذا النصوص - من تشريعها في الأديان السابقة.
لكن الظاهر أن ذلك إنما يشهد بثبوت الوظائف في تلك الأديان لا على
تسميتها بالأسماء المخصوصة، بل هو مقطوع بعدمه بعد اختلاف اللغة.
160

نعم، لو ثبت بقاء معروفيتها بين أهل تلك الأديان حتى خالطهم العرب
وألفوها بسببهم وعبروا عنها بالألفاظ المذكورة اتجه ذلك، إلا أنه لا طريق
للجزم به وإن قربه في الفصول.
مع أن الاختلاف بين ما هو المشروع في الاسلام وما هو المشروع
عندهم مستلزم لاخذ الخصوصيات المميزة جزءا من المسمى في عرف
المسلمين لأنه مورد حاجتهم، بحيث يتبادر إليها من الكلام المبتني على
عرفهم.
وليس هو كالاختلاف بيننا وبين العامة راجعا إلى التخطئة في المصداق،
بل هو يبتني على اختلاف التشريع من دون تخطئة فيه.
ولا ينافي هذا كون ألفاظ بحسب أصل اللغة موضوعة للقدر الجامع
بين الوظيفتين، وهو الوظيفة المشروعة. فلاحظ.
وكيف كان فثبوت كون الألفاظ المذكورة موضوعة للمعاني المعهودة
لغة لا يمنع من البناء على الحقيقة الشرعية فيها، لما سبق عند الكلام في الثمرة
من أن محل الكلام هو اختصاص المعاني الشرعية بألفاظها المعهودة في عرف
الشارع بنحو تكون هي المتبادرة منها، لهجر المعنى الاخر الموضوع له بحسب
أصل اللغة وبمقتضى اشتقاق الكلمة في عرفه، لعدم تعلق غرضه به، لا مجرد
وضعها لها شرعا ولو بنحو الاشتراك، كما هو الحال في الوضع اللغوي بناء
على القول المذكور، إذ لا إشكال في عدم اختصاصه بالمعاني الشرعية.
فالكلام في الحقيقة الشرعية إنما هو في اختصاص الألفاظ المذكورة
بالمعاني الشرعية في عرف الشارع، إما بعد اختصاصها بالمعاني الأخرى، أو
بعد اشتراكها بين المعنين لغة.
161

نعم، بناء على سبق الوضع للمعاني المذكورة لغة لو قيل بعدم الحقيقة
الشرعية لا يتعين حمل الألفاظ في كلام الشارع على المعنى الاخر غير
الشرعي، بل يتردد الامر بينه وبين المعنى الشرعي، كما هو الحال في جميع
موارد الاشتراك.
بقي شئ
وهو أنه قال في الفصول: (وربما عزي إلى الباقلاني القول: بأن هذه
الألفاظ باقية في معانيها اللغوية، والزيادات شروط لقبولها وصحتها. وهو غير
ثابت).
وعليه يكون إطلاقها على الوظائف الشرعية في لسان الشارع
والمتشرعة من باب إطلاق لفظ الكلي على بعض أصنافه أو أفراده، كما قد
يناسبه لزوم لام التعريف لها.
لكنه كما ترى إذ لا ريب في عدم انطباق المعنى الموضوع له بحسب
أصل اللغة على بعض تلك الوظائف، غاية الامر أن تكون بينهما مناسبة
مصححة للاطلاق مجازا، كما في الزكاة على ما تقدم التنبيه عليه.
وإنما يمكن الكلام في ذلك في مثل الصوم مما كانت فيه الوظيفة الشرعية
من أفراد المعنى الموضوع له في أصل اللغة:
مضافا إلى أنه أريد ببقاء تلك الألفاظ على معانيها اللغوية بقاؤها
عليها حتى في العصور المتأخرة، فهو مخالف للوجدان، لعدم تبادر غير تلك
الوظائف منها عند المتشرعة.
ولا ينافيه شيوع دخول لام التعريف عليها، لأنها قد تكون جنسية
لا عهدية، نظير اللام في المنقول بالغلبة.
162

وإن أريد به بقاؤها عليه في عصر الشارع الأقدس فهو راجع إلى إنكار
الحقيقة الشرعية، ولا مجال له بعد ما سبق في وجه الاستدلال عليها.
تنبيه:
لو فرض عدم بلوغ ما سبق في تقريب الوضع التعيني مرتبة يصلح بها
لليقين بالوضع إما مطلقا أو في خصوص بعض الألفاظ التي لم يكثر تداولها في
الصدر الأول، أو في خصوص بعض الأزمنة، كأوائل عصر النبي صلى الله
عليه وآله فحيث يعلم بالنقل بعد ذلك يكون استعمال الشارع الألفاظ
المذكورة أو بعضها، أو في الزمن المذكور من مواردها إذا علم بتاريخ
الاستعمال وشك في تقدم النقل عليه وتأخره عنه، الذي تقدم منا في آخر
الكلام في علامات الحقيقة لزوم التوقف فيه والبناء على الاجمال، لا على
الحمل على المعنى القديم، وأظهر من ذلك ما لو علم بتاريخ النقل وشك في
تاريخ الاستعمال أو جهل بالتاريخين معا، فراجع.
الامر الثامن: اختلفوا في أن ألفاظ العبادات مختصة بالصحيح منها،
أو تعمه والفاسد.
وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بذكر مقدمات يتضح بها محل الكلام
أو يبتني عليها الاستدلال أو غير ذلك مما له دخل بالمقام.
الأولى: لما كانت ثمرة البحث تتعلق بخطابات الشارع الأقدس ونحوها
مما له دخل في الحكاية عن الشريعة - على ما يأتي - فالمهم هو اختصاص
الألفاظ بأحد الامرين في عصره.
وحينئذ لا ريب في جريان النزاع بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية وحمل
الألفاظ المذكورة في استعمالات الشارع واستعمالات الحاكين عنه على
163

الوظائف الشرعية، حيث يقع النزاع في حملها مع التجرد عن القرينة على
خصوص الصحيح منها أو الأعم منه ومن الفاسد.
أما بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية فحيث لا تكون الوظائف
المذكورة موضوعا لها أشكل تحقق موضوع للنزاع المذكور، حيث لا مجال
للحمل على كل من الامرين بعد كون الاستعمال فيه مجازيا إلا بالقرينة المعينة
له.
إلا أنه ربما يوجه النزاع حينئذ بوجوه:
الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني من إمكان النزاع في أن أي
الامرين من الصحيح أو الأعم قد لحظت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي
اللغوي ويكون الاستعمال في الاخر بتبعه وبمناسبته، بحيث يبتني على ملاحظة
علاقتين علاقته بالأول وعلاقة الأول بالمعنى الحقيقي، فأي منهما كانت
العلاقة ملحوظة بينه وبين المعنى الحقيقي يكون مقتضى الأصل الحمل عليه مع
القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، ولا يحمل على الاخر إلا مع القرينة المعينة
له، لابتنائه على مزيد عناية.
لكنه يرجع إلى ابتناء الاستعمال في الاخر على سبك مجاز في مجاز، وهو
في غاية الاشكال، لانحصار مصحح الاستعمال المجازي ارتكازا في مناسبة
المستعمل فيه للمعنى الحقيقي وعدم الاكتفاء بمناسبته لما يناسبه. اللهم إلا أن
الاستعمال فيه مبنيا على التوسع في المجاز الأول، بتنزيله منزلته في طول
ملاحظة مناسبته للمعنى الحقيقي. فتأمل.
الثاني: إمكان النزاع في أن أي الامرين أقرب عرفا، لشدة مناسبته
للمعنى الحقيقي، وإن كان الاخر مناسبا له أيضا، لان المجازات قد تتفاوت في
164

ذلك، فنفي الماهية - مثلا - كما يستعمل مجازا في نفي الصحة يستعمل في نفي
الكمال، لمناسبتهما له معا، وإن كان الأول أنسب، فيكون أقرب عرفا،
فيحمل عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي إلا بقرينة معينة للثاني.
لكنه موقوف على كون المناسبة المصححة للاستعمال قابلة للشدة
والضعف، وهو غير ظاهر في المقام.
مع أنه لو أمكن دعوى: أن الصحيح أقرب من الأعم لدخل الصحة في
شدة المناسبة للمعنى الحقيقي، فلا مجال لدعوى العكس، لأن الصحيح من
أفراد الأعم واجد لخصوصية زائدة عليه، فإن كان لتلك الخصوصية دخل في
المناسبة كان أقرب من الأعم، وإن كانت منافية لها كان الأقرب هو الفاسد
لا الأعم، وإلا لم يصح الاستعمال في الخصوصية إلا بلحاظ أن واجدها من
أفراد الأعم، الذي هو في الحقيقة استعمال في الأعم لا في الصحيح.
الثالث: ما قد يستفاد من بعض كلمات الخراساني (قدس سره)
من أنه لو علم باستقرار بناء الشارع في محاوراته على التدرج في المجاز
بالاكتفاء في أحد المجازين بالقرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي، وعدم الاكتفاء
في الاخر إلا بالقرينة المعنية له، اتجه النزاع في أن أي الامرين م الصحيح
والأعم هو الذي يكتفى فيه بالقرينة الصارفة. لكن لا طريق لاثبات بناء
الشارع على ذلك.
أقول: إن كان بناؤه عليه تبعا للطريقة العرفية في البيان، لترجح أحد
المعنيين في كونه هو الظاهر عرفا، إما لاختصاصه بالمناسبة للمعنى الحقيقي،
ولا يصح استعمال في الاخر إلا لمناسبته له أو لأقربيته للمعنى الحقيقي رجع
إلى أحد الوجهين الأولين، فيلحقه ما تقدم فيهما.
165

وإن كان بناؤه عليه اعتباطا مع قطع النظر عن الطريقة العرفية في
الاستعمال، فهو مما يقطع بعدمه، لاحتياجه إلى عناية خاصة وعدم ترتب
الغرض عليه إلا ببيانه، ولو بين لوصل لنا، لتوفر الدواعي على نقله من دون
غرض في إخفائه.
مع أن لازمه التوقف لو احتمل ضياع القرينة على المعنى الاخر، لعدم
وضوح بناء العقلاء على أصالة عدم القرينة إلا في تنقيح الظهور، دون تنقيح
مقتضى طريقة الشارع الخاصة. إلا أن يثبت تعبد الشارع بها بالخصوص،
ودونه خرط القتاد.
الرابع: ما أشار إليه سيدنا الأعظم (قدس سره) من إمكان النزاع في
أن أي الامرين هو مقتضى القرينة النوعية العامة، حتى يتعين الحمل عليه
بتعذر الحقيقة، ولا يحمل على الاخر إلا بقرينة خاصة، نظير النزاع في الامر
الواقع عقيب الخطر.
وهذا لا يخلو عن وجه لو كان هناك ما يصلح لان يكون قرينة عامة في
جميع موارد الاستعمالات المتعلقة بالشارع الأقدس، بحيث يحتاج الخروج عن
مقتضاها لقرينة خاصة.
وبهذا وما قبله - لو تما - يتجه النزاع - أيضا - فيما لو كانت الوظيفة
الشرعية من أفراد المعنى اللغوي بحيث لا يكون الاستعمال فيها مجازيا. أما
الوجهان الأولان فلا يجريان إلا فيما كان استعمال اللفظ فيها مجازيا يبتني
على ملاحظة المناسبة بينه وبين المعنى اللغوي.
هذا كله لو احتمل الاستعمال في كل من الصحيح والأعم، أما لو
كان المدعى عدم صحة الاستعمال أو عدم وقوعه إلا في أحدهما، إما
166

لانحصار العلاقة به، أو لوجود الجامع بين افراده دون الاخر، أو لكونه محط
الغرض دون غيره فلا إشكال في إمكان النزاع في تعيينه. فلاحظ.
الثانية: محل الكلام هو العبادات التي هي موضوعة - ولو في عرف
المتشرعة - للخصوصيات الزائدة أو المباينة للمفاهيم اللغوية، كالصلاة والصوم
والاعتكاف والحج وغيرها، دون ما لم يكن كذلك، بل بقي على مفهومه
اللغوي وإن قيد في مقام الامر به ببعض القيود الزائدة على ذلك، كقراءة
القران والسجود والركوع والدعاء والزيارة، لان القيود المذكورة لا توجب
تبدل مفاهيمها.
نعم يأتي - إن شاء الله تعالى - بعد الفراغ عن محل البحث في هذه
المسألة الكلام في المعاملات ذات المضامين الانشائية الاعتبارية، لأنها تتصف
بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الآثار المطلوبة عليها وعدمه، فيناسب إلحاقها
بمحل الكلام.
الثالثة: تقدم في المسألة الخامسة من مباحث الأحكام الوضعية أن
الصحة والفساد منتزعان من التمامية وعدمها بلحاظ ترتب الأثر المهم، وان
تعريف الصحة تارة بموافقة الامر، وأخرى بإسقاط الإعادة والقضاء ليس
للاختلاف في مفهومها، بل في معيار صدقها تبعا للاختلاف في الغرض المهم.
ولا يخفى أن الموافقة والامر في التعريف الأول يراد بهما تارة: خصوص
الواقعيين. وأخرى: ما يعم الظاهرين.
وعلى الأول تكون الموافقة للامر أخص موردا من إسقاط الإعادة
والقضاء، لأنهما قد يسقطان بالناقص المأتي به غفلة أو نسيانا أو خطأ
أو جهلا بسبب التعبد الظاهري، كالصلاة في موارد حديث: " لا تعاد... "،
167

والصوم الذي يؤكل حينه نسيانا وغيرهما.
ولا مجال لدعوى: أن الاجزاء في مورد كاشف عن تحقق الغرض من
الامر المستلزم لشمول الامر الواقعي له لبا، لتبعيته للغرض سعة وضيقا.
لاندفاعها بما يأتي في مبحث الاجزاء إن شاء الله تعالى.
أما على الثاني فتكون أعم من وجه موردا من إسقاط الإعادة
والقضاء، حيث قد لا يسقط القضاء في موارد موافقة الامر ظاهرا، كما لو
كان الاخلال بالأركان، وقد يسقط مع القطع بالموافقة خطا من دون تعبد
ظاهري في مورده، لامتناع جعل الحجية مع القطع.
هذا، ولم أعثر عاجلا على تصريح بكلماتهم بتعيين معيار الصحة في
المقام، وإن لم يبعد عن أكثر حجج القائلين بالصحيح إرادة الموافقة الواقعية
للامر الواقعي، على ما يتضح عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
وهذا لا ينافي ما ذكرناه وأكدوا عليه من أن الاختلاف بين التعريفين
لا يرجع للاختلاف في مفهوم الصحة، بل في معيار صدقها. لأنه لا يراد
بالوضع لخصوص الصحيح الاكتفاء بوصف الصحة بلحاظ أي منشأ انتزاع
فرض، بل بلحاظ منشأ انتزاع خاص يناسب غرض الشارع من التسمية،
فلا بد من تعيين ذلك.
الرابعة: لا إشكال في دخول الاجزاء في محل النزاع، بمعنى أنه على
الصحيح تكون تمام الاجزاء مأخوذة في المسمى. وأما الشروط فقد وقع
الكلام بينهم في دخولها مطلقا، أو عدمه كذلك، أو دخول خصوص الشروط
التي يمكن التقييد بها، دون ما يمتنع التقييد به، كقصد امتثال الامر، أو غير
ذلك من التفصيلات التي أطالوا الكلام في الاستدلال لها. والمناسب إيكال
168

ذلك للكلام في حجة القول بالصحيح حتى يتضح مفادها.
الخامسة: ذكروا في ثمرة النزاع أنه على الأعم يتجه الرجوع لاطلاقات
الخطابات المشتملة على عناوين العبادات المذكورة لنفي ما يحتمل اعتباره فيها
من الاجزاء والشرائط التي لا يتوقف عليها صدق تلك العناوين عرفا. أما
على الصحيح فلا مجال لذلك، لأن الشك في اعتبار شئ فيها مساوق للشك
في صدق عناوينها بدونه، ولا يمكن الرجوع للمطلق مع عدم إحراز عنوانه.
نعم، بناء على اختصاص النزاع بالاجزاء أو بها مع بعض الشرائط
يمكن الرجوع في غيرها للاطلاق لو تم من جهته، لعين الوجه المذكور له على
الأعم، بل هو راجع للأعم من حيثية الشروط المذكورة.
كما أنه لو كان هناك شرح للماهيات المذكورة، كالنصوص البيانية
الواردة في الوضوء والصلاة ونحوهما أمكن التمسك بإطلاقه لنفي اعتبار أمر
آخر في صدق عناوينها ويرتفع به إجمالها.
لكنه خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في إطلاق أحكام هذه العناوين،
لا في إطلاق شرحها. فما قد يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من
استثنائه من الثمرة المتقدمة في غير محله.
هذا، وقد يدعى أنه لا مجال للرجوع لاطلاق الخطابات مطلقا حتى
على القول بالأعم لوجهين:
أولهما: ما أشار إليه شيخنا الأعظم (قدس سره) من أنه حيث قام
الاجماع بل الضرورة على أن الشارع لا يأمر بالفاسد، فقد ثبت تقييد
المسميات المذكورة في أدلتها دفعة واحدة بكونها صحيحة جامعة لتمام ما
يعتبر فيها واقعا، ولا مجال معه للتمسك بالاطلاق، لعدم الشك في التقييد، بل
169

في تحقق القيد فلا بد من إحرازه.
ويندفع بما أشار إليه (قدس سره) من أن عنوان الصحيح لم يؤخذ قيدا
زائدا في المأمور به، ليمنع من التمسك بإطلاقه، ويجب إحرازه، بل هو منتزع
من مقام الامر ومترتب عليه، لان كل ما تعلق به الامر فما يطابقه صحيح،
فإذا كان مقتضى إطلاق الخطاب تعلق الامر بالمسمى مجردا عن كل قيد كان
الصحيح تمام أفراد المسمى المفروض أنه الأعم.
مضافا إلى أن ذلك مختص بإطلاقات الأوامر بالعناوين المذكورة، دون
إطلاقات بقية أحكامها، حيث لا ملزم بتقييدها بالصحيح. إلا أن يدعى العلم
بذلك فيها أيضا.
ثانيهما: ما أصر عليه (قدس سره) في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين
من أن جميع الأوامر الواردة في الكتاب المجيد بالعبادات - كالصلاة والصوم
والحج - ليست واردة في مقام بيان ما هو المشروع منها، بل في مقام الحث
والتأكيد عليها، مع إهمال بيانه وإيكاله إلى الخطابات المتعرضة لذلك، الواردة
قبله أو التي ترد بعده.
وعمم في التقريرات ذلك لخطابات السنة الشريفة أيضا، وذكر أنها إما
أن تكون في مقام بيان مقدار المراد منها، ولم يشذ عن ذلك إلا شاذ.
وما ذكره (قدس سره) قد يتم فيما ورد في مقام التأكيد على العمل
والحث عليه كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1)

(1) سورة العنكبوت: 45.
170

وقوله عز اسمه: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (1) لان مقام
الحث والتأكيد يناسب سبق التشريع لما هو المشروع والمفروغية عنه.
أما ما تضمن الامر بالعمل وتشريعه، كقوله تعالى: (أقم الصلاة طرفي
النهار) (2) وقوله عز وجل: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم) (3) فمجرد تضمنه التشريع لا ينافي ثبوت الاطلاق له فيما هو
المشروع، لان مقام التشريع يناسب بيان المشروع، فالاكتفاء في بيانه بذكر
العنوان ظاهر في الاكتفاء به على إطلاقه.
وأما ما نظر له به من قول الطبيب للمريض في غير وقت الحاجة: (لا بد
لك من شرب الدواء أو المسهل) وقول المولى لعبده: (يجب عليك السفر
غدا) حيث لا مجال للتمسك فيها بإطلاق الدواء والمسهل والسفر من شرح
لها وبيان خصوصياتها المطلوبة.
فهو إنما يسلم في مثل الدواء لقرينة خاصة مانعة من احتمال تعلق
الغرض بصرف ماهيته، كما يقتضيه الاطلاق، للعلم باختلاف أفراده في سنخ
الأثر، وتضاد كثير من آثارها، وعدم مناسبة كل مرض إلا لبعضها، دون مثل
المسهل مما له جهة خاصة يمكن تعلق الغرض بها من دون فرق بين
خصوصياتها، وكذا السفر، حيث يمكن تعلق الغرض بمفارقة الوطن هربا من
ظالم أو تخلصا من تكليف لازم أو نحوهما.

(1) سورة النساء: 103.
(2) سورة هود: 114.
(3) سورة البقرة: 183.
171

إلا أن يعلم بتعلق الغرض بخصوص بعض خصوصيات المسهل
أو السفر، فيمتنع التمسك بالاطلاق، نظير ما ذكرناه في إطلاق الدواء.
لكنه راجع للمانع من الاطلاق، نظير ما ذكرناه في إطلاق الدواء.
لكنه راجع للمانع من الاطلاق، لا لما قد يظهر منه (قدس سره) من
عدم انعقاده مع ورود الكلام في مقام التشريع.
نعم، لا يبعد عروض الاجمال لأغلب المطلقات المذكورة، لنظير
ما سبق، حيث يعلم بعدم إرادة الاطلاق منها، بنحو يكتفي بما ينطبق عليه
العنوان بناء على الأعم، لابتناء الأعم - كما سيأتي - على الاكتفاء في صدق
العنوان على بعض الاجزاء المعينة - كالأركان - أو غير المعينة بنحو البدلية،
ومن العلوم عدم إرادة الاكتفاء بالك في شئ من أحكام هذه العناوين، بل
لا بد فيها من أجزاء خاصة لا يخل تخلفها بالتسمية عرفا، حيث يكشف ذلك
عن ورود الاطلاقات لمحض التشريع مع إيكال - بيان حدود المشروع إلى
غيرها - ولعل هذا هو مراد شيخنا الأعظم (قدس سره).
هذا وقد حكى في الفصول عن جماعة جعل الثمرة هو الرجوع
للاشتغال عند الشك في اعتبار شئ في العبادة بناء على الصحيح دون الأعم.
وهو إنما يتجه بناء على التفصيل في الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين بين كونه مسببا عن إجمال العنوان وعدمه، فيرجع في الأول
للاشتغال وفي الثاني للبراءة. إذ لو قلنا بعموم الرجوع فيه للاشتغال لم يفرق
بين الصحيحين والأعم، إلا بناء على تمامية الاطلاق على الأعم - على ما سبق
الكلام فيه - فيرفع به اليد عن الأصل.
ولو قلنا بعموم الرجوع فيه للبراءة - كما هو الظاهر - لم يفرق بينهما
أيضا. إلا بناء على بعض وجوه الجامع الصحيحي الآتية المستلزمة لرجوع
172

الشك للشك في الامتثال الذي لا إشكال في الرجوع فيه للاشتغال
هاذ، وربما تتضح بعض الثمرات عند الكلام في الجامع الصحيحي
والأعمي، الذي يدعي أنه المسمى على كل من القولين.
السادسة: الوضع لكل من الصحيح والأعم يبتني على فرض الجامع بين
أفراد كل منهما يكون هن الموضوع له بعد وضوح كون الوضع في المقام من
باب الوضع العام والموضوع له عام، لما هو المعلوم من إمكان الاستعمال في
المفهوم الجامع مع قطع النظر عن الخصوصيات الفردية.
بل لو كان من باب الوضع العام والموضوع له خاص فقد سبق أنه لابد
فيه من ملاحظة الجامع، إما لكونه دخيلا في الموضوع له بنحو تكون
الخصوصيات قيدا فيه على البدل، أو لكونه معيارا لتعين الخصوصيات
الموضوع لها وضبطها.
ومن هنا يتعين الكلام في تعيين الجامع على كل من القولين، بل هو من
أهم مباحث المسألة وعمدة ما يبتني الاستدلال عليه فيها.
والكلام فيه في مقامين:
173

المقام الأول
في الجامع الصحيحي
وقد يشكل تصويره لوضوح اختلاف أفراد الصحيح في كثير من
العبادات - كالوضوء والصلاة والحج - اختلافا فاحشا.
وقد جزم المحقق الخراساني (قدس سره) بوجوده وإمكان الإشارة إليه
بخواصه وآثاره.
قال: " فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر
الكل فيه بذلك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة - مثلا - بالناهية
عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما) ت.
وقريب منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره).
وما ذكره (قدس سره) يبتني..
أولا: على ما أشار إليه هنا وفى غير مقام من ملازمة وحدة الأثر
لوحدة المؤثر، بنحو يكشف عن جهة مشتركة بين الأمور المؤثرة يستند إليها
الأثر.
وثانيا: على امتياز كل عبادة ذات عنوان خاص بأثر يخصها،
لا يشاركها فيه غيرها، من العبادات أو غيرها.
وثالثا: على عموم الآثار المذكورة لتمام أفراد الصحيح وقصورها عن
تمام أفراد الناقص حتى المجزئ منه، بناء على أن مرادهم بالصحيح - الذي
174

يدعى الموضع له - خصوص مطابق الامر - كما يبق تقريبه - لا مطلق المجزئ.
أما الأخير فلا طريق لاثباته، لان الآثار المذكورة سيقت في الأدلة لبيان
الفائدة لا لبيان ملاك الامر، كي يدور مدارها وجودا وعدما، فلا مانع من
عمومها للناقص غير المأمور به، خصوصا ما كان نقصه مجهولا للمكلف عند
إتيانه به.
كما لا مانع من قصورها عن بعض أفراد المأمور به، واختصاصها
بالكامل منها المشتمل على شروط القبول أو بعضها، إذ لا طريق لاثبات
عمومها لتمام أفراده إلا الاطلاق الذي يشكل الاستدلال به مع عدم وروده
لبيان المأمور به، بل في مقام الحث والتأكيد على المأمور بعد الفراغ عن
مشروعيتها.
ولا سيما مع ظهور بعض أدلة شروط القبول في عدم الاعتداد بالعمل
بدونها، حيث يقرب جدا كون مصححه عدم ترتب مثل هذه الآثار المهمة.
ومثله الثاني، لان مجرد نسبة الأثر للماهية لا يقتضى اختصاصها بها،
وليس في أدلته قرائن تقضي بالاختصاص، كما لعله لم يرد في بعض الماهيات
أدلة تشهد بثبوت آثارها، ليقع الكلام في اختصاصها بها.
وأما الأول فالكلام فيه تارة: في انطباق الكبرى المذكورة على المقام.
وأخرى: في الدليل عليها.
وقد استشكل سيدنا الأعظم قدس سره في الأول بأنها إنما تلزم
بفرض الجامع في المقام لو كانت أفراد العبادة علة حقيقية للأثر المذكور،
أما لو كانت علة معدة له فلا ملزم بالجامع بينها، لان كلا من وجود الشرط
وعدم المانع مؤثر في القابلية مع عدم الجامع بين الوجود بين الوجود والعدم.
175

ويندفع: بأن كونها معدات إنما يمنع من لزوم فرض الجامع بينها
لو اختلف سنخ تأثيرها فيه، كالشرط وعدم المانع، لرجوعه إلى اختلاف الأثر
حقيقة، لان أثر كل جزء من أجزاء العلة جهة خاصة من جهات المعلول.
أما مع اتحاد جهة التأثير فاللازم البناء على وجود الجامع بين المؤثرات
لو تمت الكبرى المذكورة، وظاهر نسبة الآثار في الأدلة للعبادات كونها
- بتمام أفرادها - مقتضيات لها، لان المقتضي هو الذي يصح نسبة الأثر له
عرفا، دون الشرط وعدم المانع.
بل ظاهرها فعلية ترتبها عليها، إما لكونها عللا تامة، أو لتحقق بقية
أجزاء العلة معها.
وأما الثاني فالذي ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث
الواجب التخييري في وجه الكبرى المذكورة: أنه لابد من نحو من السنخية
بين العلة والمعلول.
فإن كان المراد بالسنخية كون الأثر من سنخ المؤثر كي يلزم اتحاد
المؤثرات سنخا بعد فرض أثرها، الذي هو عبارة أخرى عن لزوم الجامع
بينها، فلا ملزم به، بل لا مجال له، لرجوعه إلى لزوم وجود الجامع الماهوي
بين العلة والمعلول، ولا يظن من أحد البناء عليه.
وإن كان المراد بها أن استناد الأثر للمؤثر ليس اعتباطيا بل هو تابع
لخصوصية ذاتيهما، لما قيل: من أنه لولا ذلك لاثر كل شئ في كل شئ، فهو لا يقتضي لزوم الجامع بين المؤثرات بحيث يستند له الأثر دون
خصوصياتها، إذا لا استحالة في كون خصوصية ذات الأثر الواحد تناسب
تحققه، بمؤثرات متعددة لا جامع بينها، ومن هنا لا مجال للبناء على الكبرى
176

المذكورة.
وقد أصر ما ذكرنا بعض المحققين وغيره، مدعيا اختصاص الملازمة
المذكورة بالواحد الشخصي، لاختصاص برهانها به، على ما أطال الكلام فيه
بما لا يسعنا التعرض له، بل يظهر منه إنكار هذه الملازمة في الواحد النوعي
من صدر المحققين، كما يظهر من غيره معروفية إنكارها فيه بين جماعة من
أهل المعقول.
هذا كله بالنظر للمقدمات التي ابتني عليها استكشاف الجامع المذكورة،
وأما بالنظر له في نفسه فيشكل في وجهين:
أولهما: أنه كيف يمكن فرض الجامع الماهوي الحقيقي بين أفراد
الصحيح مع اختلافها في الخصوصيات المعتبرة في فردية الفرد له؟، فإنه وإن
أمكن اختلاف أفراد الماهية الواحدة في الخصوصيات، بل هو مما لابد منه في
تعددها، إلا أنه ليس بنحو تكون الخصوصيات دخيلة في فردية الفرد للماهية،
بل هي زائدة عليها لا يستلزم تخلفها خروج الفرد عن الفردية.
أما الخصوصيات المتباينة في المقام فقد تكون مقومة لفردية الفرد،
لتوقف الصحة عليها فيه دون غيره من الافراد، بل قد تكون مانعة عن
فرديتها، كالركعة الرابعة المقومة لصلاة العشاء والمبطلة لصلاة المغرب.
نعم، لو لم يكن المؤثر المسمى متحدا مع الفعل ذي الاجزاء والشرائط
بل مباينا له مسببا عنه ارتفع المحذور المذكور، لامكان اختلاف أفراد السبب
بهذا الوجه، كالبناء المؤثر للظل الذي يستعمل فيه مقدار خاص من الماء في
حالة، وقد يخل به المقدار المذكور في حالة أخرى.
لكن لا مجال للالتزام بذلك في المقام، لما هو المعلوم من اتحاد المسمى مع
177

الفعل بنحو يصح حمله عليه، وليس أحدهما مسببا عن الاخر، ولذا كان
المرجع مع الشك في الجزئية أو الشرطية هو البراءة عند المشهور، مع أن
المسمى لو كان هو المسبب عن الاجزاء والشرائط رجع الشك للشك في
المحصل الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال بلا إشكال.
ثانيهما: أن وجود القدر المشترك واقعا لا يكفي في التسمية ما لم يكن
معلوما ومحدودا ولو إجمالا، ليتصور عند الوضع في مقام تعيين اللفظ بأزائه،
وعند جعل الحكم له في مقام التشريع وعند الاستعمال في مقام الحكاية عنه
وأدائه باللفظ.
وحينئذ فالجامع الماهوي الحقيقي المذكور إن كان مدركا بنفسه استغني
عن استكشافه بالأثر وكان المناسب التنبيه على حدوده ولو بالرسم، وإن
لم يكن مدركا بنفسه لم يكف وجوده واقعا في صحة الوضع له والاستعمال
فيه.
ودعوى: أنه يكفي تصوره من طريق أثره إجمالا، فالصلاة - مثلا - هي
الذات الناهية عن الفحشاء، بما لها من واقع متقرر في نفسه.
مدفوعة: بأن اللازم عدم انفكاك تصور المسمى عند الاستعمال عن
تصور الآثار المذكورة لانحصار طريق تصوره بتصورها، وهو مخالف
للوجدان، بل قد يتصور معاني هذه الألفاظ في مقام الاستعمال وغيره من
لا يعلم بثبوت الآثار المذكورة لها.
كيف ولازمه لغوية بيان ثبوت هذه الآثار لها في القضايا المتضمنة
لذلك لرجوعه إلى قضية بديهية بشرط المحمول. على أن ذلك - لو تم.
أغنى عن استكشاف الجامع الحقيقي بالملازمة المدعاة بين وحدة الأثر ووحدة
178

المؤثر، حيث يكفي الجامع الانتزاعي بين الذوات المؤثرة للأثر المذكور وإن
فرض عدم الجامع الحقيقي بينها.
وبالجملة: ما ذكره (قدس سره) في تصوير الجامع غير تام في نفسه،
ولا خال عن المحذور.
ومما ذكرناه أخيرا يظهر أنه لا مجال لدعوى: انتزاع الجامع المذكور من
الآثار المذكورة، على أن تكون مقومة له مفهوما، بلحاظ أن الجهة العرضية
المشتركة صالحة لانتزاع العنوان القابل للتسمية، بلا حاجة إلى الملازمة بين
وحدة الأثر ووحدة المؤثر.
لاندفاعها: بأن لازمها عدم تصور معاني هذه الألفاظ إلا بتصور هذه
الآثار، ولغوية بيان ثبوتها لها، نظير أم سبق، بل لا ريب في عدم التطابق
المفهومي بين مثل الصلاة والناهي عن الفحشاء، ولا يكون الحمل بينهما أوليا
ذاتيا.
على أن لازم ذلك الرجوع مع الشك في اعتبار شئ فيها للاشتغال
للشك، في تحقيق العنوان المكلف به الموجب للشك في الامتثال بدونه، لان
العنوان المذكور حيث كان منتزعا من جهة زائدة على فعل المكلف وهي
ترتب الأثر الخاص عليه كانت مصب التكليف عرفا، وحيث كانت معلومة
فلا إجمال في المكلف به، ليقتصر على المتيقن منه، بل يجب إحراز الفراغ عنها
نظير الشك في المحصل.
وتردد الفعل الواحد لتلك الجهة بين الأقل والأكثر لا يوجب إجمال
المكلف به، لان التكليف به لا يرجع للتكليف بمقدار خاص منه يفرض فيه
الاجمال، بل إلى التكليف بما يحصل الأثر منه مع إبهام مقداره وعدم النظر
179

إليه.
نعم، لو لم يكن العنوان منتزعا من جهة زائدة على فعل المكلف، بل
حاكيا عن الفعل بنفسه كان تردد الفعل بين الأقل والأكثر مستلزما لاجمال
المكلف به، فيرجع فيه للبراءة.
وكذا لو كان منتزعا من جهة زائدة على فعل المكلف إلا أنه لم يكن
موضوعا لتكليف بنفسه وبمنشأ انتزاعه، بل سبق لمحض الحكاية عن الفعل
بذاته معرى عن كل جهة خارجة عنه، كما ذكرناه أولا في ذيل تعقيب
ما ذكره المحقق الخراساني.
وقد أطلنا الكلام ي ذلك في التنبيه الأول من تنبيهات أصل البراءة.
فراجع.
ولعل المحقق الخراساني إنما أصر على جريان البراءة لفرضه الجامع المتحد
مع الاجزاء حاكيا عنها بذواتها لا بلحاظ ترتب الأثر عليها، وإن كان
مستكشفا بالأثر بضميمة الملازمة التي ادعاها.
هذا وقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه لا مجال لتقرير الجامع
بنحو يشمل تمام أفراد الصحيح، إذ لا مجال لفرض الجامع المركب المبتني على
ملاحظة الاجزاء والشرائط بخصوصياتها بعد اختلاف افراده فيها اختلافا
فاحشا، فكلما هو صحيح في حال فاسد في آخر، ولا الجامع البسيط المنتزع
من جهة عرضية أو إضافية أو نحوهما خارجة عن الاجزاء والشرائط.
كالمنتزع من الأثر الخاص أو نحوه، لنظير ما سبق منا.
وحينئذ ذكر - كما في التقريرات - أن الوجه هو الالتزام بأن الموضوع
له هو خصوص الاجزاء والشرائط الشخصية الثابتة في حق القادر المختار،
180

العالم العامد، من دون حاجة إلى فرض جامع عنواني بسيط بينها، وليس
ما ثبت في حق غيره من أفراد المسمى الحقيقة، بل هو بدل مسقط عنه.
نعم، قد تكون حقائق متشرعية ناشئة عن توسع المتشرعة ف ي استعمال
الألفاظ فيها بسبب ترتب الأثر المهم عليها، وكثر ذلك منهم حتى صارت
حقائق عندهم، لكل لا بلحاظ انتزاعهم الجامع بينها وبين المعنى التام بل
بلحاظ وضعهم لافراد الناقص لمشاركتها للموضوع له الأصلي في مناط
التسمية عندهم، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص الذي لا يفرض فيه
قدر جامع في مقام الاستعمال في الافراد.
ويشكل ما ذكره من وجون:
أولها: أن الاجزاء والشرائط الثابتة في حق القادر المختار العالم العامد
مختلفة في أنفسها باختلاف الأوقات والحالات والافراد فتختلف اليومية في
أفرادها وفي حالتي الحضر والسفر، كما تختلف عن بقية الفرائض، وتختلف
الفرائض عن النوافل، والنوافل فيما بينها، وتختلف أقسام الحج والعمرة، إلى
غير ذلك، فلو أمكن فرض القدر الجامع بين الافراد المختلفة أمكن فرضه بينها
وبين ما ثبت في حق الشخص المذكور.
ثانيها: أن دعوى كون الوضع أو الاستعمال في لسان المتشرعة بنحو
الوضع العام والموضوع له الخاص مخالفة للمرتكزات الاستعمالية القطعية،
حيث لا إشكال في ملاحظة القدر الجامع عند الاستعمال، كما في المثنى
والجمع والاستعمال في الماهية.
بل دعوى ذلك في لسان الشارع الأقدس أهون من دعواه في لسان
المتشرعة، لان إدراك المستعمل فيه في لسانه بالتبادر بضميمة أصالة تشابه
181

الأزمان، وفي لسانهم بالوجدان غير القابل للتشكيك.
وثالثها: أن التزام عدم إطلاق العناوين المذكورة في لسان الشارع على
ما ثبت في حق المضطر غريب حدا لا يناسب الآيات والنصوص، فقد
صدرت آية التميم بقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة...) (1)، وقال تعالى:
- في صلاة الخوف - (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...) (2)، إلى غير
ذلك مما يتضح بأدنى نظرة في الاستعمالات.
ومن الغريب جدا التزامه بأن ثبوت الاجزاء والشرائط غير المتعذرة في
حق من يكتفى منه بالعمل الاضطراري من بعض الجهات ليس لاطلاق أدلتها
- لان موضوعها المسمي، وهو مصوص التام - بل للاجماع على ثبوت تلك الأجزاء
في حق من لم تتعذر عليه.
وأما ما ذكره من امتناع فرض الجامع المركب الحاكي عن الاجزاء
والشرائط الشخصية، فقد أورد عليه سيدنا الأعظم (قدس سره) بإمكان كون
الجامع مركبا ينطبق على القليل والكثير بأن يكون القليل في بعض الأحوال
واحدا لجهات يكون بها مصداقا للمفهوم المركب بعين مصداقية الكثير له،
فكما جاز أن يكون التراب أحد الطهورين عند فقد الماء جاز أن يكون القليل
قائما مقام الكثير في فرديته للجامع بلا قصور فيه.
نعم، جعله مركبا من خصوص الاجزاء المعنونة في كلماتهم من التكبير
والقراءة ونحوهما مانع من انضباطه بنحو يصدق على القليل والكثير
صحيحين، لكن لا ملزم به في مقام تصوير الجامع ثبوتا.

(1) سورة المائدة: 5.
(2) سورة النساء: 103.
182

ويندفع: بأن ذلك راجع إلى عدم انطباق الجامع على الاجزاء بأنفسها
وذواتها، بل بلحاظ خصوصية زائدة عليها، نظير عنوان الطهورية في التراب،
وذلك هو المراد بالجامع البسيط، إذ لا يراد به في كلام شيخنا الأعظم (قدس سره
ما لا ينطبق على المركب الخارجي، بل ما لا يحكي عن خصوصيات
أجزائه المتكثرة، وإنما يحكي عن جهة قائمة بتمام أجزائه على اختلافها مع
النظر للاجزاء بنحو الابهام من حيثية النوع والكم.
وحينئذ يجري فيه ما أورده شيخنا الأعظم (قدس سره) على الجامع
البسيط، فلا حظ.
هذا، وربما يقرر الجامع الصحيحي بوجه لابد في توضيحه من
مقدمة..
وهي أنه لا إشكال في تعين الماهيات الحقيقة تبعا لحدودها الواقعية.
فكل شئ يلحظ معها إما أن يكون دخيلا فيها، فيتعذر صدقها بدونه،
أو غير دخيل فلا يتوقف صدقها عليها، بل لو قارنها في الفرد كان خارجا
عنها غير دخيل في فردية الفرد لها، ولا محكي باللفظ الدال عليها عند إطلاقه
على ذلك الفرد، ولا يعقل الترديد فيها بالإضافة للشئ الواحد بنحو
لا يتوقف صدقها عليه، لكن لو قارنها كان دخيلا في فردية الفرد لها ومحكيا
بلفظها إذا أطلق على ذلك الفرد، لتبعية حدود الماهية لواقعها غير القابل
للترديد، وليست فردية الفرد إلا متفرعة على الواقع المذكور من دون دخيلة
فيه، ليمكن اختلافها باختلاف الافراد.
ولذا سبق في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) امتناع
فرض الجامع الحقيقي الماهوي بين أفراد الصحيح مع اختلافها في الاجزاء
183

المعتبرة فيها.
أما الماهيات الاعتبارية المخترعة فلا مانع من الترديد فيها، لتقومها
بالاعتبار، ولا حرج على المعتبر في كيفية اعتبارها، بل له لحاظها بالإضافة
لبعض الخصوصيات بنحو الترديد تبعا لاختلاف الافراد فيها سواء كانت
تلك الخصوصيات من سنخ ما به الاشتراك بين الافراد أم من سنخ آخر.
فمثلا: مفهوم الدار لابد فيه من مكان مسور مشتمل على غرفة، إلا
أنه قد اخذ لا يشرط بالإضافة إلى عدد الغرف، وإلى بعض الكماليات،
كالحمام والسرداب، فهي في ظرف عدمها في الفرد لا تخل بصدق الدار
التامة عليه، وفي ظرف وجودها لا تكون زائدة عليها خارجة عنها، بخلاف
مثل المحل التجاري، فإنه لو اتصل بالدار لم يدخل فيها، بل يكون المجموع
أكثر من دار.
إذا عرفت هذا، فاختلاف أفراد الصحيح في الاجزاء والشرائط سنخا
وكما لا يمنع من فرض جامع اعتباري بينها قد اخذت فيه خصوصيات
الاجزاء بنحو الترديد، تبعا لاختلاف الافراد فيها، إلا أنه لابد فيه من لحاظ
جهة تجمع شتات أفراده المختلفة، وتقصر عن غيرها من أفراد الفاسد.
والاشكال إنما هو في تعيين تلك الجهة، بعدما عرفت من أنه لا مجال
للبناء على لحاظ جهة عرضية أو انتزاعية خراجة عن حقيقة الاجزاء مختصة
بالافراد الصحيحة التي يبتني عليها الجامع البسيط، كما سبق، ومع ما هو
المعلوم من أن أي مقدار فرض من الاجزاء والشرائط لا يطابق الافراد
الصحيحة، لأنه صحيح في حال دون آخر، ولذا منع غير واحد من وجود
الجامع الصحيحي.
184

لكن الظاهر أن الاشكال المذكور مختص بما إذا كان الوضع تعيينيا من
قبل الشارع الأقدس مع قطع النظر عن التشريع، حيث لا جهة تصلح للتعيين
حينئذ وقد سبق في مبحث الحقيقة الشرعية أنه لا مجال للبناء عليه، بل
الوضع تعيني مستند للاستعمالات المتكثرة من الشارع والمتشرعة في المعاني
الشرعية بعد الابتلاء بها بسبب التشريع، إذ عليه يمكن كون التشريع معيارا
عندهم في التسمية، لا بمعنى أن الوضع يكون للمشروع بما هو مشروع،
ليرجع للجامع البسيط، الذي لا مجال للبناء عليه، بل بمعنى أن العرف الخاص
بعد الالتفات لافراد المشروع من كل حقيقة من هذه الحقائق، وإدراك نحو
سنخية بينها، ينتزع منها جامعا اعتباريا صالحا للانطباق عليها ويكون
الوضع له.
ولا مانع من شمول الجامع المذكور لما شرع بعدها لتحقق ملاك
التسمية فيه.
فالتشريع يكون طريقا لتحديد المتشرعة التي ينتزع الجامع منها
بعد إدراك نحو من السنخية بينها، مع انطباق الجامع على كل فرد فرد بما له
من أجزاء وشرائط اقتضاها التشريع بعناوينها الذاتية، وليست خصوصياتها
ملحوظة إلا بنحو الترديد تبعا لواقع الافراد المشروعية المختلفة فيها. ومثل هذا
الجامع يمكن الوضع له ثبوتا، وإن كان إحراز ذلك موقوفا على النظر في
حجة القول بالصحيح.
هذا، ولا يخفى أنه لا مجال لاستعمال الشارع في الجامع المذكور في
مقام تشريع الماهية أو تشريع فرد منها، لتأخر صدق العنوان عن التشريع
رتبة، بل لابد في بيان ما هو المشروع من الاستعمال بوجه آخر، ولو
185

بالاستعمال في المعنى اللغوي مع تقييده ببعض القيود بنحو تعدد الدال
والمدلول.
وحينئذ لو شك في اعتبار شئ فيه بنحو تتوقف صحته عليه ولا يكون
مشروعا بدونه لم يكن موضوع للثمرة المتقدمة، وهي إجمال الخطاب بسبب
إجمال العنوان الصحيحي من حيثية الامر المشكوك، لفرض عدم الاستعمال
فيه، بل يتعين الرجوع لدليل التشريع فان نهض ببيان اعتباره أو عدمه، وإلا
كان المرجع الأصل.
نعم، يمكن الاستعمال فيه من قبل الشارع أو المتشرعة بعد الفراغ عن
التشريع تارة: في مقام الاخبار عن التشريع في مثل قولنا: الصلاة أو صلاة
الظهر واجبة.
وأخرى: في مقام بيان أمر آخر، كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر) (1) وقولنا: زيد كثير الصلاة.
وثالثة: في مقام الحث على العمل كقوله تعالى: (حافظوا على
الصلوات) (2).
ورابعة: لبيان طلبه بعنوانه خاص زائدا الذاتية اللازمة لمشروعيته، كما
قد يقال في مثل: لا تدع المسجد من دون صلاة.
أما في الأول فيمكن الشك في اعتبار شئ في العمل يبطل بدون.
والظاهر في مثله عدم التمسك بالاطلاق، لعدم إحراز صدق العنوان بدون
المشكوك بعد احتمال عدم مشروعية العمل بدونه، ليدخل في ضابط أفراده.
186

بل يكون مجملا من حيثية المشكوك، كما سبق عند بيان ثمرة النزاع.
وأما في بقية الصور فحيث لم يكن المقصود للمتكلم بيان المشروع، بل
بيان بعض ما يتعلق به بعد الفراغ عن مشروعيته بحدود، فلا إطلاق من
حيثية ما يعتبر فيه ليقع الكلام في التمسك به.
نعم، يمكن في الأخير الكش في اعتبار شئ في موضوع المطلوبية الزائدة
من دون أن يخل تخلفه بصحة العمل ومشروعيته الذاتية، بل بخصوصية،
وحيث كان ظاهر المتكلم بيان موضوع المطلوبية الزائدة أمكن التمسك
بالاطلاق لنفي اعتبار ذلك، لصدق العنوان بدون، بناء على أن المراد به
الجامع المذكور، وربما يأتي عند الاستدلال للصحيح والأعلم بعض ما ينفع في
المقام، ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
187

المقام الثاني
في الجامع الأعمي
وبما سبق منا في تقريب الجامع الصحيحي يتضح تقريب الجامع
الأعمي، لأنه بعد ابتلاء أهل العرف أهل العرف الشرعي بالماهيات المخترعة الجديدة
والنظر إلى أفرادها المختلة، وإدراك نحو سنخية بينها، فكما يمكنهم انتزاع
جامع اعتباري بين أفرادها المشروعة مع أخذ خصوصيات الاجزاء فيه بنحو
التريد حسب اختلاف الافراد فيها، كذلك يمكنهم انتزاع جامع أوسع
يشمل هذه الافراد وما يشبهها عرفا مما يسانخها في الاجزاء، وإن كان فاسدا
لعدم مشروعيته.
وعليه في الجملة يبتني تقسيم العمل إلى التام والناقص والصحيح
والفاسد، لان التقسيم فرع ملاحظة جامع بين القسمين يكون مقسما لهما.
ولعله إلى هذا يرجع تقرير الجامع بأنه: عبارة عن معظم الاجزاء التي
تدور التسمية مدارها عرفا، فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى
وعدمه عن عدمه، وفي التقريرات أنه نسب إلى جماعة من القائلين بالأعم،
بل قيل: أنه المعروف بينهم.
حيث لا يبعد عدم إرادتهم الوضع لمفهوم المعظم، لعدم انسباقه من هذه
الألفاظ، بل لواقع الاجزاء التي يتحقق بها المعظم في الخارج. كما لا يبعد أن
يراد بالمعظم الجملة المعتد بها التي يكتفي بها في صدق الاسم عرفا بنحو
البدلية، لا خصوص أجزاء معينة منها كالأركان، لوضوح صدق المسمى
188

عرفا مع الاخلال بأي جزء فرض.
وأيضا لا يراد بالوضع لها الوضع لخصوصها بحيث يكون انضمام الباقي
لها موجبا للزيادة على المسمى، للقطع ببطلانه، بل لزومها في تحقق المسمى.
وإن صدق المسمى على التام بمجموعة، بل على الزائد عليه أيضا.
غاية الامر أنه يلزم الترديد بالإضافة لخصوصياتها الاجزاء المختلفة
حسب اختلاف الافراد فيها سنخا وكما، وقد سبق في تقريب الجامع
الصحيحي أنه ليس محذورا في المقام.
ومنه يظهر حال ما أورد عليه في التقريرات والكفاية مما يبتني على
امتناع الترديد في المفهوم بالإضافة للخصوصيات التي تختلف الافراد فيها.
ولعل هذا أحسن الوجوه المذكورة في المقام وأبعدها عن الاشكال، كما
يظهر، بمراجعة تلك الوجوه في التقريرات والكفاية وغيرها، ولا مجال لإطالة
الكلام فيها بعد ذلك.
إذا عرفت هذا فقد استدل على الصحيح بوجوه
أولها: التبادر. وقد سبق في تقريب الجامع الصحيحي أنه لا إجمال في
مفهومه كي يتعذر التبادر إليه، غاية الامر أن تفرع فردية الفرد منه على
تشريعه مانع من الحمل عليه في الخطابات المتكلفة للتشريع، وأنه لا مانع من
إرادته في مقام الاخبار عنه أو غيره مما لا يرجع إلى مقام التشريع.
لكن قد يجاب عن التبادر: بإمكان استناده إلى كون الصحيح محط
الاغراض والآثار، فإن ذلك كالقرينة العامة على إرادته عند الاطلاق، المانعة
من القطع باستناد التبادر لحاق اللفظ.
ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، فقد أصر عليها المحقق الخراساني
189

(قدس سره) مدعيا أن الاطلاق وإن صح تسامحا وبالعناية إلا أن السلب يصح
أيضا بالمداقة، التي هي المعيار في الكشف عن قصور المعنى الموضوع له عن
مورد السلب.
لكن المتيقن بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم - كالاجزاء وفراغ الذمة -
المصحح لتنزيل العمل منزلة العدم، أما صحته بلحاظ المعنى الارتكازي
للمسميات التي هي علامة المجاز فهي لا تخلو عن إشكال، ولا يتسنى القطع
بها.
ثالثها: ما تضمن من الآيات والروايات إثبات بعض الخواص والآثار
للمسميات، كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1).
وقوله (صلى الله عليه وآله): " الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1).
وقوله (صلى الله عليه وآله): " الصلاة عماد دينك) (2)، وقوله (عليه
السلام): " الصلاة قربان كل تقي " (3)، وقوله (عليه السلام): " الصوم جنة
من النار " (4)، وقوله (عليه السلام): " حجوا واعتمروا تصح أبدانكم، وتتسع
أرزاقكم، وتكفون مؤنة عيالاتكم " (5).
بدعوى: أن مقتضى إثباتها للماهية ثبوتها لجميع أفرادها، وحيث
لا تثبت للفاسد لم يكن من الافراد الداخلة في المسمى.

(1) سورة العنكبوت: 45.
(2) الوسائل ج 2، باب: 1 من أبواب الاستحاضة، حديث: 5
(3) الوسائل ج 4، باب: 12 من أبواب قواطع الصلاة، حديث: 6.
(4) الكافي كتاب الايمان والكفر، باب: دعائم الاسلام، حديث: 5، ج 2: 19.
(5) الوسائل ج 8، باب: 1 من أبواب وجوب وشرائطه، حديث: 7.
190

وكذا ما تضمن أخذ بعض الاجزاء والشرائط في الماهية كقوله (عليه
السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (1) وقوله (عليه السلام): فيمن لا يقرء بفاتحة
الكتاب في صلاته: " لا صلاة له إلا أن يقرأ بها... " (2) وقوله (عليه السلام):
(فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن أصحاب الأراك لا حج لهم - يعني
الذين يقفون عند الأراك) (3)، لظهوره في عدم صدق معاني هذه الألفاظ
حقيقة على الفاقد لهذه الأمور وإن صدقت عليها تسامحا.
لكن سبق عند الكلام في تقريب المحقق الخراساني (قدس سره) للجامع
الصحيحي أنه لا مجال لاستفادة اختصاص الآثار بالافراد الصحيحة
ولا عمومها لجميعها من الأدلة المثبتة لها.
على أنها لو اختصت بها فلعله ليس لانحصار أفراد المسمى بالصحيح،
بل لورود أدلة هذه الآثار للحث على العمل تأكيدا لداعوية التشريع ودفعا
للعمل بمقتضاه، فيختص ما يقصد بيانه منها بمورده وإن كان المسمى أعم
منه.
ودعوى: أعن اعتماد المتكلم على القرينة المذكورة خلاف الأصل، وأن
مقتضى الأصل جرية على مقتضى الوضع.
مدفوعة: بأنه لم يتضح بناء العقلاء على عدم اعتماد المتكلم على

(1) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1
(2) الوسائل ج 4، باب: 1 من أبواب القراءة في الصلاة، حديث: 1.
(3) الوسائل ج 9، باب: 19 من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة، حديث: 11.
191

ما يحتف بالكلام مما هو صالح للقرينة مع الشك في المراد فضلا عما لو علم
بالمراد وشك في كيفية الاستعمال، والمتيقن إنما هو بناؤهم على أصالة عدم
القرينة عند الشك في وجودها مع الشك في المراد، كما أشار إليه في الجملة
المحقق الخراساني (قدس سره).
وأما ما تضمن نفي الماهية بانتفاء بعض الاجزاء والشرائط فالاستدلال
به موقوف على إحراز كون النفي حقيقيا بلحاظ انتفاء المسمى لا ادعائيا
بلحاظ عدم ترتب الأثر المهم، ولا تنهض أصالة الحقيقة بذلك، لان المتيقن
من بناء العقلاء عليها ما لو شك في المراد دون ما لو علم بالمراد وشك في
كيفية الاستعمال.
ومن الظاهر أن ما سيق الكلام له وكان هو الغرض الأقصى للمتكلم
ليس هو بيان سعة المفهوم وتحديد انطباقه، نظير اللغويين، ليرجع الشك
في كون النفي حقيقيا أو ادعائيا إلى الشك في المراد الذي هو مجرى أصالة
الحقيقة، بل بيان عدم الاعتداد بالعمل في مقام الامتثال، لان ذلك هو وظيفة
الشارع الأقدس، ولذا لو دل على الاجتزاء بفاقد الجزء أو الشرط دليل كان
معارضا للأدلة المتقدمة، ولو كانت تلك الأدلة مسوقة لتحديد المفهوم لم يكن
معارضا لها، لان عدم صدق المسمى على الفاقد لا ينافي الاجتزاء به بدلا عنه.
فمع العلم بمراد المتكلم - وهو عدم الاعتداد بالفعل الناقص في مقام
الامتثال - لا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كون النفي حقيقيا لا ادعائيا،
لتنهض الأدلة المتقدمة بالمدعى، وإنما تنهض بأن عدم الاعتداد حقيقي لبطلان
العمل، لا مجازي بلحاظ عدم كماله.
ومنه يظهر حال ما في التقريرات من دعوى: ظهور التركيب المذكور
192

في نفي الحقيقة، وأنه مندفع بأن الظهور المذكور موقوف على سوق الكلام
لشرح المفهوم أما مع سوقه لبيان عدم الاعتداد به حقيقة لبطلانه.
رابعها: أن طريقة الواضعين وديدنهم في الوضع للماهيات المخترعة هو
الوضع لخصوص التام منها، لأنه الذي تقتضيه حكمة الوضع وهي مساس
الحاجة للتعبير عنها كثيرا، والحكم عليها بما هو من لوازمها وآثارها، وأما
استعماله في الناقص الذي قد تدعوا الحاجة إليه فليس إلا تسامحيا تنزيلا
للمعدوم منزلة الموجود.
ومن الظاهر أن الشارع لا يتخطى عن الطريقة المذكورة لارتكازيتها.
وقد اعتمد شيخنا الأعظم (قدس سره) - كما في التقريرات - على هذا
الوجه وأطال في تقريبه وتوضيحه.
وذكره المحقق الخراساني إلا أنه قال: " ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن
كانت غير بعيدة إلا أنها قابلة للمنع " والمذكور في تقريب المنع وجهان:
الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن غرض
الوضع لما كان هو تسهيل طريق التفهيم والتعبير عن المعنى الجديد فهو
لا يختص بالصحيح التام، بل يعم الفساد الناقص أيضا، أيضا، حيث قد يتعلق
الغرض بالتعبير عنه وبيانه، كما قد يتعلق بالتعبير عن الجامع بينه وبين
الصحيح، ولا وجه مع ذلك لاختصاص الصحيح بالوضع، بل يتعين الوضع
للأعم تبعا لعموم الغرض، وعليه جرت سيرة العقلاء.
بل ذلك في أوضاع الشارع الأقدس أظهر، لان غرضه في أكثر أحكامه
وفي تشريعها هو تسهيل الاخذ بشريعته وتيسير طريق الوصول إليها حيث
193

كان الوضع للأعم مستلزما لفتح باب الاخذ بالاطلاقات التي يتوصل بها
لمعرفة الاحكام، كان المناسب منه اختياره، دون الوضع للصحيح الذي ينسد
معه ذلك، كما سبق عند الكلام في ثمرة المسألة.
وفيه: أن تفهيم الافراد الفاسدة أو الأعم والتعبير عنهما ليس داخلا في
الغرض النوعي من الوضع للمعني الجديد، ولا في المقصود بالأصل منه، بل قد
يتعلق به الغرض الشخصي لحاجة طارئة، كما يتعلق بتفهيم سائر المعاني من
دون أن يكون منظورا ولا ملتفتا إلى حين الوضع، بل ليس المنظور والملتفت
إليه إلا المعنى الجديد بما له من حدود مضبوطة بها يتقوم الصحيح التام منه،
وبها يكون موضوعا للآثار الداعية لاختراعه.
كما أن الرجوع للاطلاق على تقدير الوضع للأعم - لو تم - ليس من
الأمور المقصودة من الوضع ولا الملتفت إليها حينه، وإن كان من توابعه
المترتبة عليه بمقدمات الحكمة، بل ليس الملتفت إليه والمقصود منه إلا تفهيم
المعنى.
ولو فرض الالتفات إليه، فرفع الاجمال ببيان حدود المسمى وتوضيحه
الذي لا إشكال في الرجوع لاطلاقه - كما سبق - أولى من الوضع للأعم،
المبني على الدوران مدار لتسمية العرفية التي هي غير منضبطة والتي قد
تستلزم ضياع كثير من الحدود المأخوذ في المطلوب، أو تكلف التقييد بها في
كل حكم تؤخذ فيه.
الثاني: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن التمام والنقصان
كالصحة والعيب تطرآن على الماهيات المسميات، فيقال: سرير ناقص وسرير
تام، وبيت ناقص وبيت تام، وثوب ناقص وثوب تام، كما يقال: أنه صحيح
194

ومعيب بلا تصرف ولا عناية، فلابد من الالتزام بكون المسميات بهذه الأسماء
الأعم من التام والناقص الذي يطرأ عليه النقصان كما يطرأ عليه التمام، وكذا
الحال فيما نحن فيه.
وفيه: أن فرض التمامية والنقص شاهد بكون المسمى هو اتمام، إذ لو
عم الناقص كانت الماهية المسماة مشككة، والمشكك يصدق على المرتبة
الدانية بعين صدقة على المرتبة العالية، من دون أن تكون الأولى ناقصة
ولا الثانية زائدة، كالخط الموضوع للأعم من الطويل والقصير، والجماعة
الموضوعة للأعم من الكبيرة والصغيرة، ولا يكون النقص إلا بفوت بعض
المسمى الملازم لاخذ متممه فيه واختصاص التسمية بالتام.
ولذا كان التوصيف بالنقص من سنخ الاستدراك والاستثناء عرفا،
وبالتمامية من سنخ التأكيد الذي لا يختلف مفاده عن المؤكد ثبوتا، وإن
اختلفا إثباتا.
كما لا إشكال ظاهرا في انصراف الاطلاق إليه وإن لم يختص به الأثر،
بل كان الناقص وافيا ببعض ما يترتب على التام، إذ لم تكن قرينة على كون
الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.
ولا يتأتي هنا ما سبق في التبادر من احتمال استناده للقرينة العامة،
وهي اختصاص الغرض بالتام، لفرض عدم اختصاص التام بالأثر، وعدم
القرينة على كون الغرض هو المرتبة العالية من الأثر.
ولا مجال لقياس المقام بالصحة والعيب اللذين هما من الحالات الطارئة
على الفرد من دون إخلال بشئ من مقومات ماهيته الدخيلة في المسمى،
لعدم كون المعيار فيهما على تمامية الاجزاء وعدمها، بل على عروض أمور
195

خارجة تمنع من ترتب الغرض النوعي من الماهية على الفرد.
ومن هنا لابد من ابتناء التقسيم إلى التام والناقص على نحو من العناية،
والخروج في لفظ المقسم عن معناه - وهو ما يطابق التام - واستعماله في الأعم
منه ومن الناقص، نظير تقسيم الماء إلى المطلق والمضاف، والدينار إلى الصحيح
والمزور، وبلحاظه قد يطلق على الناقص، ولا يبتني على الحقيقية.
ولذا لا إشكال في صحة التقسيم والاستعمال المذكورين فميا يعلم
باختصاصه بالتام، كالقرآن المجيد، والكتب التي يسميها أصحابها، والتي
لا إشكال في كون المسمى هو التام منها، مع أنه يصح تقسيم نسخها للتام
والناقص.
نعم، حيث كان بين القسمين في موارد التقسيم المذكورة نحو من
السنخية متقومة بالصورة أو غيرها كان انتزاع الجامع الأعم بينها ارتكازيا
لا يحتاج لمزيد عناية، بل قد تخفى العناية فيه، وليس هو كالتقسيم في أسماء
المقادير - كالاعداد والأوزان والمكاييل والمساحات - المتقومة بمحض الكم من
دون أخذ نحو صورة فيها يسهل بملاحظتها انتزاع الجامع بين التام والناقص
منها، ولذا يحتاج التقسيم فيها لمزيد عناية ظاهرة.
ومن هنا فقد يجعل التوصيف بالتمامية والنقص، والتقسيم للتام
والناقص دليلا آخر على الوضع للصحيح.
اللهم إلا أن يستشكل في صحة التوصيف والتقسيم بلحاظ نفس
العناوين والمسميات، لاحتمال ابتنائه على ملاحظة ترتب الأثر وعدمه، فيراد
التمامية والنقص بلحاظ الاجزاء التي يترتب عليها الأثر، لا الاجزاء المقومة
للماهية المسماة، فلا ينافي الوضع للأعم، بل يناسبه.
196

وكيف كان، فقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض الوجهين
المتقدمين بدفع ما ذكره شيخنا الأعظم من الاستدلال بطريقة الواضعين، وأن
الظاهر تماميته في نفسه بناء على كون الوضع في المقام تعيينيا مستندا للشارع
الأقدس أو غيره.
أما بناء على ما سبق في مبحث الحقيقة الشرعية من كون الوضع تعيينا
مستندا للاستعمال في المعنى الجديد بعد تجدد الابتلاء به فكما يمكن
اختصاصه بالصحيح لأنه مورد الغرض والأثر فتنصرف الاستعمالات إليه
حتى يختص الوضع بن كذلك يمكن عمومه للفاسد الذي هو مورد للابتلاء
أيضا بعد اختراع الماهية، فيكون الوضع للجامع المنتزع بملاحظة السنخية
الذي تقدم تقريب الجامع الأعمي به، وتعيين أحد الأمرين محتاج إلى دليل.
نعم، لا يبعد كون الأول أنسب بلحاظ ما هو المرتكز من كون
الصحيح هو المنظور بالأصل بسب كونه مورد الأثر وموطن الغرض
والفاسد من توابعه من غير أن يكون مرادا بالاستقلال، لكن في بلوغ ذلك
حدا صالحا للاستدلال إشكال.
ويأتي ما يتضح به الحال عند بيان المختار إن شاء الله تعالى.
هذه عمدة الوجوه المستدل بها للصحيح، وهناك بعض الوجوه الاخر
ظاهرة الضعف خصوصا بملاحظة ما تقدم، فلا مجال لإطالة الكلام فيها.
وحيث انتهى الكلام في حجج الصحيح يقع الكلام فيما استدل
أو يستدل به على الأعم، وهو وجوده:
أولها: التبادر الذي هو ممكن بناء على ما سبق من تصوير الجامع
الأعمي، لكن لا إشكال في لتبادر لخصوص الصحيح، وإن سبق أنه لا مجال
197

للاستدلال به على الوضع له لاحتمال عدم استناده لحاق اللفظ، بل للقرينة
العامة، وهي اختصاص الأثر به، وعلى كل حال لا تبادر للأعم.
ثانيها: عدم صحة السلب عن الفاسد، الذي لا مجال للاشكال فيه
بعدم تحصيل الجامع الأعمي، كما قد يظهر من غير واحد. لما سبق من
تقريبه، ولو غض النظر عنه فالجامع المذكور قد يكون ارتكازيا غير متحصل
لنا تفصيلا، إلا أنه يستكشف بصحة السلب وعدمها سعة انطباقه في الخارج،
وهو نحو من المعرفة له، لأنه معرفة له بلازمه.
فالعمدة في رده: أن عدم صحة السلب وإن كان مسلما في الجملة إلا
أنه لم يتضح عدم صحته بملاحظة المسمى بما له من الحدود المفهومية، إذ قد
يكون بلحاظ الجامع المتنزع ارتكازيا، المشار إليه عند الكلام في صحة التقسيم
إلى التام والناقص، الذي سبق أن انتزاعه لا يحتاج إلى مزيد عناية بل قد تخفى
العناية فيه لكونه ارتكازيا، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يشهد بابتناء صحة
السلب على ذلك عند بيان المختار في المقام.
ثالثها: صحة التقسيم إلى الصحيح والفاسد، حيث يدل على انطباق
المسمى المقسم على كل منهما وكونه أعم منهما.
وما سبق من منع الاستدلال على الأعم بصحة التقسيم إنما هو في
التقسيم للتام والناقص، لتوقف صدق التمامية والنقص على دخل الجزء الذي
يدوران مداره في المسمى، بخلاف الصحة والفساد فان المعيار فيهما ترتب
الغرض النوعي وعدمه وإن تحقق المسمى في الحالين، نظير ما تقدم في الصحة
والعيب.
ويظهر الحال فيه مما تقدم في سابقه، لوضوح أن صحة التقسيم
198

لا تكشف عن عموم المعنى الموضوع له، إلا إذا ثبت كون المراد بالمقسم في
مقام التقسيم هو المعنى الموضوع له بما له من الحدود المفهومية، ولا طريق
لاثبات ذلك في المقام بعدهم سبق من أن الجامع بين التام والناقص ارتكازي
تخفى فيه العناية، حيث قد يكون هو المراد في لمقام وإن لم يكن موضوعا له.
رابعا: جملة من النصوص الظاهرة، في إلاق العناوين على الفاسد،
كموثق فضيل - أو صحيحه - عن أبي جعفر (عليه السلام): " قال: بني
الاسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد
بشئ كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني:
الولاية " (1)، وفي صحيح زرارة عنه: (عليه السلام): " أما لو أن رجلا قام ليله
وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه... " (2).
فإن الاخذ بالأربع في الأول، وبالصوم والتصدق والحج في الثاني
لا يكون إلا بإرادة الفاسد منها، بناء على بطلان العبادة من غير ولاية، ونحو
ما تضمن نهي الحائض ونحوها عن الصلاة مما هو كثير جدا، لتعذر الصحيح
منها في حقها، فيمتنع نهيها عنه.
وفيه: أن الاستعمال أعم من الحقيقة، كما سبق في الاستدلال بنظير
ذلك للصحيح.
على أن المراد من الأربع التي اخذ بها في الأول هي التي بني عليها

(1) الكافي كتاب الايمان والكفر، باب دعائم الاسلام، حديث: 3، ج 2: 18.
(2) الوسائل ج 1، باب: 29 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 2.
199

الاسلام، وهي خصوص الصحيحة، فلابد من كون الاخذ بها مجازيا، ولو
لاعتقادهم صحتها، فلا يكشف عن صدق المسمى بفعلهم حقيقة:
كما أن ما تضمن النهي عن الصلاة للمحدث - مثلا - إن كان إرشاديا
فكما يمكن أن يكون إرشادا إلى بطلان العمل مع تحقق المسمى به - كما هو
مقتضى الوضع للأعم - يمكن. ن يكون إرشادا إلى عدم تحقق العمل ذي العنوان لخاص وهو المسمى - كما هو مقتضى الوضع للصحيح.
وإن كان مولويا راجعا إلى تحريم الفعل - كما هو المدعي في وجه
الاستدلال - فمن المعلوم أن المحرم ليس مطلق ما يصح إطلاق الاسم عليه عرفا
ليناسب الأعم، بل خصوص ما هو الصحيح لولا الجهة الموجبة للنهي عنه.
فيناسب الصحيح.
وبعبارة أخرى، لابد من ابتناء الاستعمال المذكور على نحو من
التصرف والخروج عن مقتضى الأصل، سواء قلنا بالصحيح أم الأعم، إذ على
الأعم يراد من الاطلاق بعض أفراد المسمى، وعلى الصحيح يراد بالعنوان ما
يصدق عليه المسمى لولا الجهة الموجبة للنهي، ولا مرجح للأول ليصح
الاستدلال بمثل هذا الاستعمال.
ومنه يظهر حال الاستدلال بإمكان نذر مثل ترك الصلاة في الحمام مع
عدم خصوص الصحيح منها لتعذره بسبب النهي الحاصل من النذر، ولغير
ذلك مما أطالوا في بيانه.
لاندفاعه: بما سبق من أن الاستعمال أعم من الحقيقة، ولزوم ابتناء
الاستعمال على نحو من التصرف والخروج عن مقتضى الأصل بأحد الوجهين
المتقدمين، وقد أطالوا في تقريب هذا الوجه والجواب عنه بما يضيق الوقع عن
200

متابعتهم فيه. كما يضيق عن التعرض للوجوه الاخر التي سطرها في
التقريرات، لظهور ضعفها، ولا سيما بملاحظة بعض ما سبق.
وقد ظهر من جميع ما تقدم عدم نهوض ما ذكروه بإثبات أحد الامرين
من الصحيح والأعم.
وحيث سبق في تقريب الثمرة عدم التمسك بالاطلاق على كل منهما
يتضح عدم أهمية هذا الخلاف، لعدم ترتب الثمرة العملية عليه.
نعم، لا يبعد إمكان تقريب الوضع بنحو من التفصيل بين الوجهين
الذي قد تترتب عليه نحو من الثمرة العملية، قد يلائم بعض الوجوه المتقدمة
للصحيح، وعمدتها الوجه الرابع.
أن الظاهر من الأدلة الشارحة للعبادات بأنواعها، كالوضوء والصلاة
والحج، وأصنافها، كصلاة العيدين وحج الافراد كونها بصدد بيان أجزاء
المسميات المعتبرة فيها التي يكون الاخلال بشئ منها موجبا لنقص العمل
المسمى وعدم تماميته، لا بيان ما يجب فيها وإن لم تتوقف عليه تمامية المسمى،
وإلا فلا طريق لمعرفة جزئية شئ منها، مع أنه لا إشكال في استفادة جزئيتها
إما بمجموعها - كما هو الحال على الصحيح - أو في الجملة - كما هو الحال
على الأعم.
ومن ثم كان ظاهر الأدلة المذكورة أن المسمى هو المركب من تمام
الاجزاء - تبعا لظهورها في لزومها بتمامها - لا المركب منها في الجملة.
واحتمال خروج المتشرعة بسبب كثرة الاستعمالات إلى تسمية الأعم
من التام والناقص بعيد جدا لا يعتد به عرفا.
سواء أريد به كون الأعم هو المسمى ابتداء، بحيث لم يبلغ ما عينه
201

الشارع حد التسمية، أم تجدد الوضع له بعد الوضع للتام بنحو النقل
أو الاشتراك.
لمخالفة الأول لما هو المتعارف من أخذ الماهيات المخترعة من مخترعها،
ولا سيما في حق أتباعه، بضميمة ظهور الأدلة الشارحة في كونها شرحا
للمسمى بعد الفراغ عن التسمية، خصوصا بعد أن كان التام هو محط الغرض
ومورد الأثر المهم.
والثاني إنما يتجه لو لم يبق لخصوصية التام خصوصية في الابتلاء تقتضي
خصوصية في الحاجة للتفهيم، بحيث يكون الابتلاء به كالابتلاء بالناقص،
ولا إشكال في عدم ذلك، بل الصحيح باق على ما هو عليه من الخصوصية
الموجبة للاهتمام بتفهيمه، والابتلاء بالفاسد إنما هو بتبعه. بل بعضها يندر
الابتلاء بالفاسد منه، كصلاة الآيات ونحوها، حيث لا موجب للخروج في
تسميتها عما عينه الشارع من أجزاء لها.
بل يشهد بمطابقة التسمية في عرف المتشرعة لذلك الرجوع إليهم في
بيان أجزاء المسميات وشرحها، سواء أريد شرح الماهيات النوعية كالصلاة
والصوم والحج، أم شرح أصنافها، كصلاة الظهر والعيدين، وحج التمتع،
فإنهم يستوفون الأمور المعتبرة فيها على أنها بتمامها أجزاؤها المقومة لها
والشارحة لها، التي تنقص بنقص بعضها، لا أنه لابد فيها من وجودها في
الجملة، بحيث يتم المسمى مع نقص شئ منها، وإن لم تجز إلا بتماميتها.
وأما احتمال كون الشرح في الأدلة وبيانات المتشرعة ليس للماهيات
المسميات على اطلاقها، بل لخصوص المطلوب منه لأنه موطن الغرض، فلا
تنافي كون المسمى هو الأعم.
202

فهو لا يناسب البيانات المذكورة جدا، لعدم الاشعار في شئ منها
بعموم المسمى وعدم أخذ خصوصيات الاجزاء فيه.
بل الذي يظهر من ذلك هو المفروغية عما سبق في تقريب الجامع
الصحيحي من تفرع التسمية على التشريع، وعدم خروجهم فيها عنه للأعم
من المشروع والناقص مما شاركه في السنخية الارتكازية العرفية، حيث
لا يسئل عن المشروع إلا بالسؤال عن المسمى ولا يبين إلا ببيانه، من دون
إشعار بكون السؤال والبيان لخصوص بعض أفراده.
وبذلك يستكشف أن إطلاقهم الأسماء بلحاظ الجامع - عند الاستعمال
في الناقص، والحمل عليه وعدم صحة السلب عنه، أو في مقام التقسيم له
وللتام - ليس لكونه موضوعا له، بل لارتكازيته الموجبة لخفاء العناية في
الاستعمال فيه والغفلة عنها، كما جرى العرف على ذلك في جميع الماهيات
المخترعة وإن اختص الوضع بالتام، كما سبق، وبهذا يتمم ما سبق في الوجه
الرابع من وجوه الاستدلال للصحيح.
نعم، لا يبعد البناء على أن الماهية الواحدة إذا اختلفت أصنافها كان
المعيار في صدقها هو الاجزاء المعتبرة في جميع الأصناف مع الترديد فيها
بالإضافة للخصوصيات الاخر حسب اختلاف تشريعها، لان ذلك هو
الأنسب بشرح الماهية وبيان أجزائها من قبل الشارع، فالصلاة - مثلا - هي
عبارة عن تكبيرة الاحرام وقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين بأذكارها
والتشهد والتسليم، لأنها معتبرة في كل الصلوات، مع الترديد من حيثية
مراتب الركوع والسجود والقراءة، ومن حيثية عدد الركعات والركوعات،
ومن حيثية السورة والتسبيحات في الأخيرين، وغيرها مما يعتبر في أصنافها
203

المختلفة.
فلو تمت هذه الأمور تمت الماهية وصدقت الصلاة بإطلاقها وإن لم تكن
مشروعة، والاخلال بالخصوصيات الزائدة إنما يوجب الاخلال بالأصناف
المشروعة منها بخصوصياتها كالظهر والعيدين، ولا يخل بالماهية إلا نقص
الاجزاء المقومة لها، فإذا خلت الصلاة عن الركوع كانت صلاة ناقصة
لا تامة، أما إذا كانت ركعة واحدة للاجزاء المذكورة فهي صلاة تامة
مشروعة - كالوتر - أو غير مشروعة.
والظاهر أن ما تضمن تشريع بعض الصلوات الخالية عن الاجزاء
المذكورة أو بعضها، إما أن يبتني على البدلية عن الصلاة، كصلاة المطاردة -
كما يناسبه التعبير في بعض نصوصها بفوت الصلاة - أو على الاجتزاء
بالصلاة الناقصة، كصلاة الأخرس الخالية عن القراءة وجميع موارد قاعدة
الميسور. وإطلاق الاسم عليها توسع بلحاظ تحقق الغرض المهم به.
كما أن ما تضمن الاكتفاء بالناقص في مورد حديث: " لا تعاد
الصلاة... " (1) ونحوها لا يستلزم كونها صلاة تامة، بل مقتضى الجمع بين
الأدلة كونها ناقصة مجزية. وهكذا الحال في تمام الماهيات كالحج والعمرة
وغيرهما.
ولا يبعد مطابقة ما ذكرنا لمفهوم المسميات المذكورة عند المتشرعة،
كما يستكشف بالرجوع إليهم في شرحها وبيان أجزائها، وإن كانوا قد
يخطئون في بعض ذلك للجهل بالحكم الشرعي.

(1) الوسائل ج 4، باب: 10 من أبواب الركوع، حديث: 5.
204

هذا كله في الاجزاء، وأما الشروط فهي مختلفة، إذ لا إشكال في دخل
قصد عناوين الافعال من صلاة أو نحوها ولو إجمالا،. وفي دخل الترتيب بين
الاجزاء المذكورة إشكال.
كما أن الظاهر عدم دخل بقية الشروط وإن اعتبرت في تمام أفراد
الماهية، كالخلوص في جميع العبادات، والطهارة في الصلاة، كما هو الحال في
الشروط الدخيلة في فعلية ترتب الأثر في الماهيات المخترعة عند العرف،
لصحة الحمل على الفاقد لها ارتكازا، ولو كانت دخيلة في التسمية لم يصح
الحمل إلا بعناية المشابهة، كالحمل على صورة العمل من دون قصد عنوانه،
مع أنه ليس كذلك قطعا، وليس هو كالفاقد للجزء الذي يصح فيه الحمل
بلحاظ الجامع الارتكازي بين التام والناقص، على ما تقدم، لان الفاقد للجزء
بعض العمل المسمى وفاقد الشرط مباين لواجده رأسا، فلا مجال فيه للجامع
المذكور.
وأما ما تضمن أن افتتاح الصلاة الوضوء (1)، وأنه الوقت من فرائض
الصلاة (2)، فلابد من حمله على لزوم الاتيان بالوضوء لأجلها ولزوم ايقاعها
في الوقت، لا أنهما مقومان لمفهومها، إذ لا ريب في مباينة الوضوء والوقت
بنفسهما لها، وإنما الكلام في عدم صدقها على العمل إلا مع إيقاعه في الوقت
وحال الطهارة المسببة عن الوضوء، ولا يشعر بذلك الألسنة المتقدمة.

(1) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 4 و 7.
(2) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 3.
205

ومثلها ما تضمن أن الطهور أحد أثلاث الصلاة (1)، سواء أريد به
استعمال الطهور بالوضوء والغسل، أم أثر ذلك وهو الطهارة، للقطع بعدم
كونهما جزءا من المسمى، بنحو يكون أحدهما ثلثا منه، وإنما الكلام في
شرطيتها له، ولا يدل عليه اللسان المذكور.
ثم إن بعض مشايخنا ادعى دوران التسمية مدار الأركان من الاجزاء
والشرائط.
لا بمعنى كونها تمام المسمى بنحو لو انضم إليها غيرها مما يعتبر في
المأمور به لكان زائدا على المسمى كالتعقيب، بل بمعنى توقف صدق الاسم
عليها، مع كون المسمى مرددا بالإضافة إلى غيرها، حيث سبق إمكانه في
الماهيات المخترعة، فتدخل في المسمى في ظرف وجودها، ويصدق بدونها في
ظرف عدمها.
بدعوى: أن الماهيات المذكورة لما كانت مخترعة للشارع، متقومة
باعتباره الوحدة بين أجزائها، فلابد من الرجوع إليه في مقوماتها، ومقتضى
أدلة الأركان كونها مقومة للماهيات المذكورة لا تحقق بدونها، وأن ما زاد
عليه غير مقوم لها ولا مأخوذ فيها، بل في المأمور به.
لكنه يشكل..
أولا: بأن التعبير بالأركان لم يرد في البيانات الشرعية، ليدعى ظهوره
في تقوم المسمى بها، بل في ألسنة الفقهاء بالإضافة إلى بعض الاجزاء
والشرائط بعد رجوعهم للأدلة، التي هي لم تتضمن إلا عدم إجزاء الفاقد لها
ولو سهوا، وإجزاء الواجد لها الفاقد لغيرها من الاجزاء والشرائط سهوا.

(1) الوسائل ج 4، باب: 9 من أبواب الركوع، حديث: 1.
206

والأول أعم من عدم تحقق المسمى بالفاقد، لامكان تحققه به وعدم
الاجتزاء به لعدم وفائه بالملاك إلا في ظرف انضمام المفقود له مع إمكان
استيفاء الملاك بالاتيان به منضما له، وهو راجع في الحقيقة إلى عدم تعلق
الطلب بالمسمى على إطلاقه بل بالمقيد منه. كما هو الحال لو جئ بالفاقد
لغير الأركان عمدا حيث لا إشكال في عدم الاجتزاء به مع تحقق المسمى به
عنده. كما أن الثاني أعم من تحقق المسمى به، حيث يمكن الاجتزاء بالناقص،
بل بالمباين، لعدم إمكان تدارك الملاك التام معه، أو لسقوط ملاكه بسببه.
وإما ما تضمن نفي الماهية بفقد بعض الأركان، مثل: " لا صلاة إلا
بطهور " (1).
فهو - مع ورود نظيره في غير الأركان - لا ينهض بالاستدلال، لامكان
كون النفي ادعائيا، ولا تنهض أصالة الحقيقة بإحراز كونه حقيقيا، كما سبق
في الوجه الثالث للاستدلال على القول بالصحيح.
كما أن ما تضمنته جملة من النصوص من الحكم بتمامية العمل أو
صحته مع فقده لغير الأركان سهوا مسوق لبيان إجزائه الذي هو الأثر المهم
المصحح لانتزاع الصحة والتمامية، لا لبيان تحقق المسمى به لينفع فيما نحن
فيه.
على أنه قد ورد نقيض ذلك مع تركه عمدا الذي لا يخل بصدق
المسمى عنده.
وثانيا: أن الافراد مختلفة في قدر الأركان المعتبرة فيها، فالمعتبر - مثلا -

(1) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1.
207

في صلاة الصبح ركوعان، وفي صلاة الظهر أربعة، وحينئذ إن كانت التسمية
دائرة مدار صرف الوجود لكل منها - وهو المعتبر في ركعة واحدة - كما
سبق منا - مع كونها مرددة بالإضافة للزائد عليه، فمن الظاهر أن أدلة
الأركان كما تقتضي اعتبار وجودها في الجملة تقتضي اعتبار المقادير الخاصة
منها، المختلفة باختلاف الافراد المشروعة، بنحو تخل الزيادة عليها والنقيصة
عنها.
وإن كانت دائرة في مقدارها مدار التشريع - نظير ما سبق منا في
تقريب الجامع الصحيحي - فهو لا يناسب ما صرح به من عدم معقولية
الجامع الصحيحي لاختلاف أفراده في الاجزاء المعتبرة.
وأشكل من ذلك استدلاله للأعم بصحة إطلاق الاسم على الفاسد
دون عناية.
إذ فيه: أنه لو غض النظر عما سبق في رد الاستدلال المذكور، فإن أراد
به ما يعم الفاسد الفاقد لبعض الأركان كان منافيا لما سبق منه اختياره
والاستدلال عليه من دوران الاسم مدار الأركان، وإن أراد به خصوص
الفاسد الواجد لها فمن الظاهر عدم اختصاص صحة الاطلاق به.
ومن هنا فلا مخرج عما سبق تقريبه - تبعا لظاهر الأدلة - من أن المعتبر
في المسمى تمام الاجزاء المعتبرة في تمام أفراد الماهية، وبعض الشروط المعتبرة
فيها دون غيرها ودون الاجزاء والشروط المعتبرة في خصوصيات الأصناف.
وهو في الحقيقة نحو من التفصيل بين الصحيح والأعم، فليست التسمية
تابعة للصدق العرفي التسامحي الحاصل مع فقد بعض الاجزاء المعتبرة في تمام
أفراد الماهية - كما هو مقتضى القول بالأعم - ولا مختصة بالصحيح الواجد
208

لتمام ما يعتبر في المأمور به فعلا من أجزاء وشرائط وإن لم تعتبر في بقية أفراد
الماهية.
وعلى هذا يتجه التمسك بالاطلاق لنفي اعتبار ما شك في اعتباره في
خصوصية الصنف حتى لو كان واردا في مقام التشريع، لعدم إجمال المسمى
في نفسه - كما هو لازم القول بالصحيح - وعدم استلزام حمل الامر عليه
العلم بكثرة التخصيص - كما هو لازم القول بالأعم - لان الاطلاق يقتضي
مقدارا معينا مضبوطا لا يعلم بالزيادة عليه إلا في الشروط العامة التي يمكن
الاتكال في بيان إرادتها على أدلتها المشهورة، وما زاد عليها من الاجزاء
والشرائط لو فرض ثبوته بأدلة خاصة ليس من الكثرة بحد يستلزم استهجان
الاطلاق، ليمنع من انعقاده والاستدلال به لنفي ما يشك في اعتباره، كما
سبق منا في توجيه منع التمسك بالاطلاق على القول بالأعم.
نعم، لا مجال للتمسك بالاطلاق لنفي ما يشك في اعتباره في أصل
الماهية، لاجمال العنوان بالإضافة إليه، وإن أمكن التمسك به لنفيه على القول
بالأعم لو غض النظر عما سبق منا.
وهذه ثمرة معتد بها للتفصيل الذي ذكرناه، وهي قريبة للمرتكزات في
مقام الاستدلال. بل لعل سيرتهم الارتكازية عليها. فلاحظ والله سبحانه
وتعالى العالم. ومنه نستمد العصمة والسداد.
209

بقي في المقام أمران:
الأول: أشرنا آنفا إلى الكلام في دخول الشروط في محل النزاع،
وأحلناه على النظر في حجة القولين، فينبغي الكلام فيه هنا فنقول:
من الظاهر الفرق بين الاجزاء والشرائط، بأن الاجزاء هي المعروضة
للامر ويستند إليها الأثر، بحيث يصدق عنوان العمل المأمور به ذي الملاك
عليها.
أما الشروط فهي خارجة عنه، وإنما تكون مقارنته لها دخيلة في
واجديته للخصوصية التي بها يكون واجدا لعنوانه وموردا للامر والأثر.
فمرجع الكلام في دخل الشروط في المسمى ليس إلى كونها بنفسها
داخلة فيه، بل إلى توقف صدق الاسم على العمل على مقارنته لها، نظير
توقف صدق عنوان الزبيب على الثمرة على جفافها، مع كون الجفاف عرضا
خارجا عن الثمرة المسماة بالزبيب.
وقد سبق منا حال الشروط على المختار، أما على الأعم فمقتضى
مساق كلامهم عدم دخل الشروط في التسمية.
وإن كان وضوح دخل قصد عنوان العمل قد يقرب بناءهم على دخله
وأن الفاقد له صورة العمل، لا أنه فاسد منه عندهم، بخلاف بقية الشروط.
وأما على الصحيح فقد صرح غير واحد بدخل الشروط، وهو ظاهر
مساق كلماتهم، بل هو كالصريح من تعبيرهم بالصحيح، إذ حمله على
الذات التي من شأنها أن تتصف بالصحة بعيد جدا. وهو المناسب للوجه
الثالث من وجوه الاستدلال المتقدمة للصحيح بل للوجهين الأولين منها أيضا،
210

لان الظاهر أن منشأ دعوى التبادر للصحيح وصحة السلب عن الفاسد هو
عدم ترتب الغرض المهم على الفاسد، ولا يفرق فيه بين فاقد الشرط وفاقد
الجزء.
نعم، الوجه الرابع لا يلزم به، لعدم اختصاص سيرة الواضعين بأحد
الامرين، بل يضعون تارة لما هو المؤثر فعلا لتمامية الشرط، وأخرى لما هو
المؤثر شأنا. لكن قصور أحد الأدلة عن عموم الدعوى لا ينافي عمومها.
وبذلك ظهر ضعف ما قد يظهر مما عن الوحيد (قدس سره) من خروج
الشرط عن محل النزاع، حيث فسر الصحة بتمامية الاجزاء، فإنه خروج عن
ظاهر كلماتهم واستدلالاتهم في المقام.
ودعوى: أن الشرطية إنما تستفاد من أدلة تقييد المسمى بالشرط، الظاهر
في كونه أمرا زائدا، عليه، كقوله (عليه السلام): " إذا حاضت الجارية فلا
تصلي إلا بخمار ".
مدفوعة: بإمكان كوت التقييد للارشاد إلى عدم تحقق المسمى بدون
الشرط. مع أن كثيرا من أدلة الشروط ليست باللسان المذكور، بل بنظير
لسان أخذ الاجزاء، ومنه ما تضمن نفي المسمى بفقد الشرط، مثل: " لا
صلاة إلا بطهور " (2).
على أن ذلك - لو تم - إنما يكشف عن عدم دخل الشرط في المسمى،
لا عن عدم القول بدخله فيه من القائلين بالصحيح، ليتجه به الخروج عما
سبق.

(1) الوسائل ج 3، باب: 28 من أبواب لباس المصلي، حديث: 13.
(2) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1.
211

وبذلك يشكل ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من عدم شمول
النزاع لقصد القربة، لأنه متأخر عن الامر المتأخر عن المسمى، فلا يعقل أخذه
فيه مع تأخره عنه بمرتبتين. وكذا عدم التكليف المزاحم، أو عدم النهي
الموجبين لبطلان العبادة، لتأخرهما عن المسمى بمرتبة، لأنهما في مرتبة
الامر به.
وجه الاشكال فيه: ما ذكرناه من أن ذلك إنما يمنع من أخذ الشروط
المذكورة في المسمى لا من دخولها في محل النزاع.
مضافا إلى أنه إنما يمنع من أخذ هذه الأمور بنحو التقييد لا بنتيجة
التقييد، بأن يكون المسمى هو الحصة المقارنة لها لبا، كالمؤثر للأثر الخاص أو
نحوه، كما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره). غايته أن يكون النهي
موجبا لتعذر النهي عنه. فلا مجال للخروج بذلك عن ظاهر كلماتهم في
الصحة الفعلية.
بل ما سبق من استدلال القائلين بالأعم بأنه لو كان المسمى هو
الصحيح لامتنع النهي عن الصلاة أو نذر تركها، صريح في شمول النزاع لعدم
النهي.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من اتفاقهم على تحقق
المسمى مع المزاحم أو مع النهي فلم يتضح مأخذه بعد ما عرفت، إلا أن
يكون ما إذا صح العمل معهما، لامكان التقرب مع المزاحم بالملاك أو بالامر
الترتبي، وكذا مع النهي للغفلة عنه مع تحقق ملاك الامر في مورد النهي،
فيخرج عن محل الكلام من كون هذه الأمور شروطا تتوقف عليها
صحة العمل.
212

الثاني: سبق في المقدمة الثانية اختصاص محل الكلام بالعبادات التي ثبت
استعمالها ولو عند المتشرعة في الخصوصيات الزائدة على معانيها اللغوية
لتكون من الماهيات المخترعة، دون غيرها من العبادات كالركوع والسجود
والدعاء، فضلا عن غير العبادات، كالسفر والانفاق على الزوجة، حيث
يكون المرجع في تحديده العرف.
بل غالب تلك الأمور لا يتصف بالصحة والفساد عرفا، لما ذكرناه آنفا
من انتزاعهما من التمامية وعدمها بلحاظ الأثر المهم، حيث لا يراد به إلا
الأثر المطلوب من الماهية نوعا بمقتضى طبعها.
والأمور المذكورة وإن كانت موردا للتكاليف الشرعية التي قد تدعو
لفعلها طلبا للفراغ عنها ولتكون مجزئة في مقام امتثالها، إلا أن ذلك أمر
طارئ عليها خارج عن مقتضى طبعها بما لها من المعاني العرفية، فلا يكون
منشأ لانتزاع الصحة والفساد لها، بخلاف الماهيات المخترعة التي اخترعت
بسبب وقوعها موردا للتكاليف الشرعية، حيث يكون الأثر المذكور لازما
لمفاهيمها عرفا وثابتا لها بمقتضى طبعها.
نعم، لما كان مقتضى طبع المعاملات حتى عند العرف ترتب الآثار
المرغوب فيها عليها كانت موردا للصحة والفساد عرفا بلحاظ ترتب تلك
الآثار وعدمه.
ومن هنا ناسب الكلام فيها تبعا للكلام في العبادات وإن كانت باقية
على مفاهيمها العرفية، كما جرى عليها غير واحد في المقام، والمراد بها المضامين الانشائية الاعتبارية التي تتكفلها العقود والايقاعات.
إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بينهم..
213

تارة: في أنها موضوعة للأسباب، وهي العقود والايقاعات،
أو للمسببات الحاصلة بها.
وأخرى: في أنها تختص بالصحيح أو تعم الفاسد.
وثالثة: في ثمرة البحث عن ذلك.
وقد أطالوا في تحقيق هذه الجهات بما لا مجال لتعقيب كلماتهم فيه.
فلنقتصر على بيان ما عندنا وإن كان قد يظهر به حال بعض ما ذكروه.
فنقول بعد الاتكال عليه تعالى وطلب العون منه والتسديد:
لا ينبغي التأمل في أن مضامين المعاملات التي وضعت لها أسماؤها هي
المضامين الاعتبارية التي تتضمن العقود والايقاعات اللفظية إنشاءها، فهي
كسائر الأمور الاعتبارية التي سبق الكلام في حقيقتها، وذكرنا أن لها نحوا من
التقرر عند العرف أو الشرع، وأن وجودها في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من
بيده اعتبارها من شرع أو عرف أو سلطان، وليست العقود والايقاعات
اللفظية المتضمنة لانشائها أو غيرها مما يبرز التزام من له القيام بها إلا أسبابا
لها على ما سيتضح.
ولذا كان مفاد أدلة جعلها من الحاكم إمضاء الالتزام المذكور، مع
وضوح أن الامضاء لا يكون إلا مع مطابقة ما حكم به الممضي لموضوع
الالتزام الممضى مفهوما، والايقاعات ونحوها أمور حقيقية لها ما بإزاء
في الخارج مباينة لمفاد الامضاء، فهي غير قابلة للانشاء والاعتبار والامضاء.
نعم، للمضامين المذكورة نحوان من الوجود:
الأول: نحو من الوجود الادعائي تابع للالتزام بها مع إبرازه بالعقود
ونحوها من أي شخص فرض وإن لم يكن له السلطنة عليها بنظر من بيده
اعتبارها.
214

الثاني: وجود اعتباري تابع لاعتبار من بيده الاعتبار من شرع أو عرف
أو سلطان المتفرع على الوجود الأول إذا صدر ممن له السلطنة بنظره،
كالمالك الكامل في المعاملات المالية، ومرجعه إلى إمضاء التزامه، لما أشرنا إليه
من أن الامضاء لا يكون إلا مع تطابق حكم الممضي مع موضوع الالتزام
الممضى مفهوما.
وبذلك تختلف مضامين المعاملات عن بقية الأمور الاعتبارية التي يكون
الحكم بها تابعا لتحقق موضوعها، من دون أن يبتني على الامضاء، كالضمان
بسبب الاتلاف، والميراث بسبب الموت، واستحقاق النفقة بسبب الزوجية،
فإنه لا يكون لها إلا النحو الثاني من الوجود، وهو الوجود الاعتباري ممن
بيده الاعتبار، لعدم رجوع موضوعاتها للنحو الأول منه، بل هي مباينة سنخا
ومفهوما لها.
وحيث كان الوجود الأول لمضامين المعاملات موضوعا للوجود الثاني
صح إطلاق السبب عليه عرفا، كسائر الموضوعات بالإضافة لأحكامها،
ولا يصح إطلاقه على العقد - مثلا - إلا بلحاظ سببيته لذلك الوجود
الادعائي، لكون آلة له، نظير نسبة سببية الضمان للالقاء في النار، بتوسط
سببيته للاتلاف الذي هو الموضوع حقيقة.
هذا، ولا يخفى أن غالب أسماء المعاملات حاك عن إيجاد مضامينها
وإيقاعها على موضوعاتها كالبيع والإجارة والمزارعة والتزويج والطلاق
والوقف وغيرها، فإنها مصادر لافعال متعدية فاعلها موقع تلك المضامين على
موضوعاتها، لا لافعال لازمة فاعلها نفس الموضوعات.
وحينئذ إن كان المحكي بها الوجود الأول - الذي عرفت أنه السبب
215

حقيقة - صح نسبتها إلى موقع المعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، دون الحاكم الذي
يمضي المعاملة من شرع أو عرف أو سلطان، لعدم الدخل له بالوجود
المذكور.
وإن كان المحكي بها الوجود الثاني - الذي هو المسبب - صح نسبتها
للحاكم الممضي للمعاملة، لأنه فعله بالمباشرة، كما يصح نسبتها لموقع المعاملة
ولو مجازا بلحاظ فعله لموضوعه - وهو الوجود الأول - نظير نسبة التحليل
والتحريم تارة للشارع الأقدس، وأخرى لمحقق موضوعهما، كالذابح بالوجه
الشرعي وبغيره.
وحيث يصح عرفا نسبة هذه الأمور لموقع المعاملة دون الشارع الأقدس
ونحوه ممن له إمضاؤها كشف ذلك عن الوجه الأول، وهو أنها موضوعة
للأسباب دون المسببات.
لكن ذلك لخصوصية في الهيئة - وهي هيئة الفعل - دون المادة المشتركة
بين الفعل والانفعال، فإنها صالحة للوجهين، وبلحاظها كان دليل الثاني
إمضاء للأول، فالبيع - مثلا - لما كان فعل البايع كان عبارة عن إنشاء
المعاملة، ولم يكن المحكي به إلا الوجود الانشائي المستند له دون الشارع،
أما الابتياع فله النحوان السابقان من الوجود، فوجوده الادعائي الانشائي
مستند للبايع، ووجوده الاعتباري الجعلي مستند للشارع مبتن على إمضاء
الأول مع تحقق شروطه. وكذا الحال في التزويج والإجارة والوقف ونحوها مما
هو مصدر لفعل متعدد يتضمن إيقاع المعاملة.
ومنه يظهر أن التطابق بين الوجودين المصحح لكون الثاني إمضاء
للأول إنما هو في نتيجة المعاملات ك‍ (الأنبياء) لا في مضامينها الايقاعية، بل
216

ليس لها إلا الوجود الأول.
والاختلاف المذكور جار في العناوين المنتزعة من أحد الامرين، فعنوان
المزوجة منتزع من التزويج الذي هو مصدر (زوج) المتعدي، والذي هو فعل
القائم بالعقد دون الشارع، وعنوان الزوج والزوجة منتزعان من نتيجة
التزويج، التي لها وجود إنشائي تابع للعقد، ووجود اعتباري تابع
للامضاء.
وحيث ظهر أن غالب عناوين المعاملات وأسمائها تحكي عن الوجود
الانشائي لموقعها، والذي هو الموضوع الاعتباري والسبب له بمعنى،
وكان الوجود الاعتباري هو الداعي لفعلها والأثر المرغوب فيه منها، ظهر
إمكان اتصافها بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الأثر المذكور وعدمه.
وحينئذ يقع الكلام في الوضع لمطلق الوجود الانشائي المذكور،
أو لخصوص الصحيح منه الذي يمكن تحديد الجامع له بأثره المذكور.
وقد يمنع اختصاص الوضع بالصحيح بدعوى: أنه مستلزم لتصرف
الشارع في معاني هذه الألفاظ، لتبعية الصحة لقيود شرعية، فلا يدركها
العرف ليتسنى له أخذها في الموضوع له. ومن البعيد جدا تصرف الشارع في
معاني ألفاظ المعاملات، لعدم الحاجة له بعد مسانخة موضوع الأثر الشرعي
للمعنى العرفي، بل يكتفي بتقييده بما يراه من القيود عند إناطة أحكامه به،
كسائر الموضوعات العرفية المأخوذة في موضوع الأحكام الشرعية.
بخلاف العبادات التي هي من سنخ الماهيات المخترعة للشارع، والتي
خرج بها عن معانيها الأصلية، حيث يقع الكلام في وضعها جديدا للصحيح
من تلك الماهيات أو للأعم منه ومن الفاسد.
217

لكنه يندفع: بإمكان ابتناء وضعها للصحيح على وضعها له عرفا ابتداء،
من دون حاجة إلى تصرف شرعي فيها، لا بمعنى وضعها عرفا للصحيح
الشرعي، لعدم إدراك العرف له، ولا للصحيح الواقعي وإن اختلف العرف
والشرع في تشخيصه، لعدم انتزاع الصحة والفساد من أمر واقعي متقرر في
نفسه، كالنفع والضرر الذي يرجع الاختلاف فيها للتخطئة، بل حيث كانا
منتزعين من ترتب الأثر وعدمه، وكان ترتبه تابعا لاعتبار من بيده الاعتبار،
كانا من الأمور الإضافية النسبية التي يكون اختلاف طرف الإضافة فيها
موجبا للاختلاف في صدقها من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم، ولا إلى
التخطئة في المصداق، نظير اختلاف الأذواق في اللذيذ والجميل. ومن ذلك
اختلاف الشارع مع العرف في موارد الملكية ونحوها من الأمور الاعتبارية.
وبالجملة: لا مانع في المقام من دعوى أن الموضوع له لغة وعرفا هو
الصحيح الذي يترتب عليه الأثر، فما ترتب عليه الأثر عرفا بيع عرفا، وما
ترتب عليه الأثر شرعا بيع شرعا، من دون أن يرجع الاختلاف بين الشرع
والعرف في المفهوم، ولا للتخطئة في المصداق.
نعم، يشكل الدليل على ذلك، حيث لا موجب لدعواه ظاهرا إلا تبادر
الصحيح من الاطلاق الذي قد يكون مسببا عن كونه مورد الغرض والأثر،
الذي هو قرينة عامة صالحة لان تكون منشأ لانصراف الاطلاق، نظير
ما تقدم في الاستدلال بالتبادر على الصحيح في العبادات.
بل لما كانت التسمية بلحاظ كون المسمى هو الوجود الانشائي
الادعائي للمفهوم فمن الظاهر أن المنشأ هو المفهوم المجرد. وليس ترتب الأثر
إلا من لواحقه، فيبعد جدا أخذه في المسمى. ولا سيما بملاحظة ورود بعض
218

الأدلة في إمضائها، مع وضوح أن القابل للامضاء هو الوجود الانشائي
المطلق، ولا معنى لامضاء خصوص الصحيح منه إلا بنحو القضية بشرط
المحمول التي لا مجال لحمل الأدلة عليها.
نعم، لو كان المدعى الوضع لخصوص الصحيح العرفي لم ينهض ذلك
بالمنع منه، لقابليته للامضاء الشرعي، فينحصر رده بما سبق.
هذا كله في أسماء المعاملات التي هي عبارة عن مصادر الافعال المتعدية
وما ينتزع بلحاظها من عناوين، وأما العناوين المنتزعة من نتائجها، كالزوج
والزوجة والثمن، فإن لحظ فيها الوجود الانشائي الادعائي فهي قابلة
للاتصاف بالصحة والفساد بلحاظ ترتب الوجود الاعتباري عليها وعدمه،
وإن كان الظاهر صدقها مع الفساد وعدم توقفه على الوجود الاعتباري لما
سبق. وإن لحظ فيها الوجود الاعتباري فهي غير قابلة للاتصاف بالصحة
والفساد، بل إما أن توجد أو لا توجد.
بقي الكلام في إمكان التمسك بالاطلاقات وعدمه مع الشك في اعتبار
بعض القيود في صحة المعاملة.
والاطلاقات المذكورة تارة: تتكفل ببيان نفوذ المعاملة، كقوله (عليه
السلام): " الوقوف على حسب ما يقفها أهلها " (1). وأخرى: تتكفل ببيان
أحكامها الاخر، كوجوب الانفاق على الزوجة.
أما الأولى: فلا إشكال في إمكان التمسك بها، أما بناء على ما عرفت
من وضعها للأعم فظاهر. وكذا بناء على وضعها للصحيح العرفي. نعم، لابد

(1) الوسائل ج 13، باب: 2 من كتاب الوقوف والصدقات.
219

عليه من إحراز صحة المعاملة عرفا، لعدم تحقق عنوان المطلق بدونه.
وأما بناء على وضعها للصحيح شرعا، أو بما له من مفهوم إضافي صالح
للانطباق على الصحيح الشرعي، فلما ذكرناه آنفا من أن الصحيح الشرعي
لا يقبل الامضاء شرعا، فلابد من تنزيل دليل الامضاء على الاستعمال في
الأعم، أو في الصحيح العرفي، فيلحقه ما سبق.
وأظهر من ذلك إطلاق نفوذ العقود، لانتزاع العقد من نفس الايجاب
والقبول، لا من نفس المضمون المعاملي المنشأ بهما، فلا مجال لاحتمال
اختصاصه بالصحيح.
وأما الثانية: فما كان منها قد اخذ فيه عنوان منتزع من إيقاع المعاملة،
كالمبيع والمستأجر والمزارع بمجرد إيقاعها وإن لم يحرز نفوذها، بناء
على ما سبق من وضعها للأعم، فيكون مقتضى الاطلاق ترتب الحكم بمجرد
إيقاع المعاملة وإن لم يتحقق ما يحتمل اعتباره في نفوذها، ولازمه عدم توقف
نفوذها عليه، لما هو المعلوم من عدم ترتب أحكامها مع بطلانها.
اللهم إلا أن يرجع ذلك إلى تقييد موضوع الاحكام بالصحيح استغناء
عن التصريح به بالقرينة العامة القاضية بأن ترتب الحكم على المعاملة فرع
نفوذها وصحتها.
وحينئذ لا ينهض الاطلاق بإثبات الحكم مع الشك في الصحة، لعدم
إحراز قيد الموضوع، فضلا عن أن ينهض بإثبات صحتها حينئذ.
وأشكل من ذلك ما لو كان العنوان المأخوذ في الاطلاق منتزعا من
نتيجة إطلاق المعاملة، كعنوان الزوجة، لما سبق من أن العنوان المذكور كما
يمكن انتزاعه من الوجود الانشائي التابع لايقاع المعاملة، يمكن أن يراد به
220

الوجود الاعتباري التابع لامضائها. بل لعل الثاني هو الظاهر من إطلاق
العنوان في كلام الشارع وغيره ممن له الاعتبار، لظهور حاله في إرادة ثبوت
العنوان بنظره واعتباره، بل حمل العنوان على الوجود الانشائي بعيد جدا،
لكونه بنظر العرف وجودا ادعائيا لا حقيقيا، وإنما التزم الحمل عليه في عناوين
المعاملات لخصوصية في الهيئة، كما سبق.
ومن هنا لا ينهض الاطلاق بإثبات الحكم مع الشك في نفوذ المعاملة
وصحتها، فضلا عن أن ينهض بإثبات نفوذها وصحتها، لعدم إحراز عنوانه.
نعم، يمكن التمسك بالاطلاقات المقامية لأدلة الأحكام المذكورة، لان
خطاب الشارع للعرف بأحكام المضامين الاعتبارية من دون أن يتصدى لبيان
مورد اعتباره لها ظاهر في الاكتفاء في بيانه على ما عند العرف وعدم خروجه
عليهم فيه، كما هو الحال في خطابات الموالي العرفيين أيضا، حيث لا إشكال
في رجوع عبيدهم في معرفة مورد اعتبارهم إلى ما عليه العرف العام عند عدم
تصديهم لبيان مورد الاعتبار مع وضوح إمكان خروجهم عما عليه العرف
المذكور، كالشارع.
وبالجملة: لما كان الأثر أمرا اعتباريا للشارع الأقدس، وكان ظاهر
خطابه بحكمه لزوم تحققه بالإضافة لاعتباره، فلا مجال للتمسك بإطلاقه
اللفظي مع عدم إحرازه، إلا أنه مع عدم تصديه لبيان مورد اعتباره يكون
مقتضى الاطلاق المقامي لخطابه الايكال إلى ما عليه العرف فيه، ومتابعته لهم،
كسائر الموالي العرفيين. والظاهر أن ما ذكرنا مطابق لسيرة أهل الاستدلال.
فلاحظ.
والله سبحانه وتعالى العالم، ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد له
221

وحده، والصلاة على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.
ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في مقدمات مباحث الظهورات،
وندخل فيما هو المقصود بالأصل من المباحث المذكورة.
والمراد به تشخيص الظهورات النوعية، سواء استندت للوضع أم لقرائن
عامة منضبطة المفاد، أما الظهورات المستندة لقرائن شخصية غير منضبطة فلا
مجال للبحث عنها في علم الأصول، لعدم تيسر استقصائها، بل يوكل للفقيه
عند الابتلاء بمواردها.
كما أن محل الكلام ظهور خصوص بعض الهيئات الافرادية والتركيبية
والحروف مما يكثر الابتلاء به ويظهر أثره في الأحكام الشرعية، ولم يبحث
بالنحو الكافي في العلوم اللغوية الأخرى، كمعاني المفردات المبحوثة في معاجم
اللغة، والهيئات الاعرابية المبحوثة في علم النحو وغير ذلك. والبحث فيها يتم
في ضمن مقاصد..
222

المقصد الأول
في بحث المشتق
223

المقصد الأول
في بحث المشتق
وقد جرى غير واحد على بحثه في مقدمة علم الأصول. وأول من
خرج عن ذلك بعض المعاصرين (رحمه الله تعالى) في أصوله، بلحاظ رجوع
البحث فيه إلى تشخيص الظهور، وليس في مبادئ الظهور.
وكيف كان، فقد وقع الكلام في أن المشتق حقيقة في خصوص
ما تلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه، مع الاتفاق - كما قيل
- على كونه مجازا فيما لا تلبس به إلا في الاستقبال.
وينبغي تقديم أمور لها دخل بتوضيح محل النزاع، أو نافعة في مقام
الاستدلال.
الامر الأول: المشتق في اصطلاح النحويين ما كان لمادته معنى محفوظ
في غيره مما شاركه فيها وفارقه في الهيئة، كالفعل واسمي الفاعل والمفعول
وغيرها.
أما في محل النزاع فهو العنوان المنتزع عن الذات، الحاكي عنها بلحاظ
جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها.
وبينه وبين المشتق بالمعنى الأول عموم من وجه، حيث يعم بعض
الجوامد باصطلاح النحويين كالأب والام والأخ والزوج والزوجة ونحوها مما
225

يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عموم النزاع لها، كما يقصر عن الفعل
والمصدر، حيث لا ينتزعان عن الذات، ولا يحكيان عنها، بل عن المادة المجردة
أو مع نحو من النسبة.
نعم، ينبغي أن يكون النزاع في المشتقات راجعا للنزاع في وضع
هيئاتها النوعي، أما في الجوامد فهو راجع للنزاع في وضعها الشخصي، لعدم
أم مشترك يجمعها يكون النزاع فيما وضع له، وإنما تشترك في كونها عنوانا
للذات بلحاظ جهة خارجة عنها، وذلك أشبه بالجهة التعليلية.
وأما ما يظهر من الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل ونحوه
دون باقي المشتقات، لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام لها. فهو كما
ترى! لان قصور الدليل عن بعض الدعوى لا يشهد بقصور الدعوى.
ولا سيما مع ظهور عموم النزاع لاسم المفعول من تفريع جمع من المحققين
- كما قيل - على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخن بالشمس بعد
زوال حرارته.
نعم، لا يبعد انصراف بعض كلماتهم عن ذلك، إلا أنه لا يكفي في
اختصاص النزاع، خصوصا في العصور المتأخرة بعد الالتفات لهذه الجهات.
هذا، وقد يستشكل في عموم النزاع لاسم الزمان، لان تصرم الزمان
مستلزم لعدم بقاء الذات بعد ارتفاع الحدث، كي يقع الكلام في صحة
إطلاق اسم الزمان عليها حقيقة.
وهو مبني أولا: على وضع الهيئة له بخصوصه ولو بنحو الاشتراك
اللفظي بينه وبين المكان، إذ لو كان موضوعا بوضع واحد للجامع بين الزمان
والمكان وهو الظرفية - كما قد يظهر من بعض المحققين وجرى عليه غير
226

واحد من تلامذته، ويناسبه اطراد اسمي الزمان والمكان في الهيئة وارتكازية
الجامع بينهما - فلا موضوع للاشكال المذكور، لان الظرفية قابلة للارتفاع
عن الذات ولو في المكان، ولا أثر لعدم قبولها له في الزمان بعد عدم وضع
الهيئة له بخصوصه.
وثانيا: على كون المحكي باسم الزمان خصوص ما يقارن الحدث من
الأمد الموهوم. أما لو أمكن اطلاقه حقيقة على ما هو أوسع مما يقع بين
الحدين الاعتباريين، كالساعة واليوم والشهر - كما يظهر من غير واحد -
فيتجه فرض البقاء له بعد ارتفاع الحدث.
وما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) من أن الحدث وإن ارتفع
إلا أن التلبس المصحح لانتزاع الظرفية للزمان باق، غير ظاهر فتأمل.
الامر الثاني: حيث عرفت أن محل الكلام هو العنوان المنتزع عن
الذات بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها، فالمصحح لانتزاع
العنوان تارة: يكون فعلية اتصاف الذات بالعرض، كما في الماشي المنتزع من
فعلية الاتصاف بالمشي. وأخرى: يكون أمرا آخر، كوجود الملكة له،
أو القابلية أو الحرفة أو الصنعة أو نحوها مما لا يلحظ فيه الفعلية، كما في
عنوان المجتهد المنتزع من تحقق ملكة الاجتهاد في الشخص، والكاتب المنتزع
من تحقق ملكة الكتابة أو كونها وظيفة له وحرفة، والصائغ المنتزع من كون
صنعته الصياغة، وأسماء الآلة المنتزعة من قابلية الشئ لان يتحقق بواسطته
الفعل، بحيث لا يحتاج صدوره إلا إلى إعماله فيه، كالفتح للمفتاح والسمر
للمسمار.
والاكتفاء بما عدا الفعلية في الثاني إما أن يستند إلى المادة، بأن لا يراد
227

منها الفعلية مع بقاء الهيئة على ما هي عليه من الدلالة على فعلية التلبس بما
يراد من المادة، كما في الاجتهاد الذي يراد به اصطلاحا وجود الملكة الخاصة
ولو من دون مزاولة للعمل، والكتابة التي يراد بها تارة الملكة وأخرى الوظيفة،
ولذا تدل المادة على ذلك في غير الهيئة المذكورة، كالفعل والمصدر.
وإما أن يستند لخصوص الهيئة، مع بقاء المادة على ما هي عليه من
الدلالة على الحدث الفعلي، كما في اسم الآلة، حيث لا إشكال في كون
المراد بموادها نفس الفعل الخارجي، وليس الاكتفاء بالقابلية المذكورة إلا
مقتضى الهيئة الخاصة.
ومثل ذلك ما أفاد الصنعة أو الحرفة مما بني على (فعال) كالصراف
والنجار والوزان، حيث لا إشكال في استناد الدلالة على ذلك للهيئة،
لا للتوسع في المادة، ولذا تدل على ذلك فيما ينتزع من الأعيان، كالحداد
والبزاز والجمال والوراق، مع وضوح عدم الخروج بموادها عن معانيها. فهو
نظير هيئة النسبة التي قد يراد بها ذلك، كما في الجوهري.
وربما يتردد الامر بين الوجهين، كما في الصايغ، الذي يكون المعيار في
انتزاعه عرفا اتخاذ الصياغة صنعة، لا عمل الصياغة، حيث يحتمل ابتناؤه على
التوسع في المادة بإرادة الامر المذكور منها مع إرادة فعلية القيام به من الهيئة،
كما يحتمل ابتناؤه على التوسع في الهيئة بإرادة ذلك منها مع إرادة نفس العمل
من المادة.
وكيف كان، فلا مجال بعد ما سبق لما ذكره المحقق الخراساني
(قدس سره) من رجوع جميع ذلك للتوسع في مفاد المادة من دون تصرف في
الهيئة، بل المراد بها ما يراد في القسم الأول من الحكاية عن فعلية القيام بالمعنى
228

الذي أريد من المادة.
ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من ابتناء ذلك على
التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات وادعاء أن واجد ملكة الشئ أو القابلية له
أو متخذه صنعة أو حرفة متلبس به دائما، مع دلالة كل من المادة والهيئة على
الفعلية في العمل أو في القيام به.
إذ لا شاهد على التوسع المذكور، بل هو محتاج إلى عناية غير حاصلة
ارتكازا.
بل لا ينبغي احتمالها فيما يطرد استعماله في غير الفعلية كأسماء الآلة
ومثل الصراف والنجار، إذ ليس من شأن التوسع والعناية الاطراد. ولا سيما
في اسم الآلة الذي لا يستلزم الفعلية أصلا، فإذا استندت إفادة ذلك في بعض
ما تقدم للهيئة أو المادة أمكن الاستناد في الباقي بلا ملزم لالتزام التوسع في
التطبيق بالغاء الفترات فيه.
ثم إنه لا إشكال في أن ما تستند الدلالة فيه على غير الفعلية للمادة من
هذا القسم داخل في محل النزاع، حيث يقع الكلام في أن هيئته - كسائر
هيئات المشتق - موضوعة للدلالة على خصوص حال التلبس أو على الأعم
منه ومن حال الانقضاء لكن لا يراد بحال التلبس فيه حال التلبس بفعلية
العمل، بل حال التلبس بما يراد من المادة من ملكة أو حرفة أو غيرهما،
ويقابله حال الانقضاء الذي يكون بارتفاع المعنى المذكور، لا بارتفاع
التلبس بفعلية العمل.
وأما ما تستند فيه الدلالة على ذلك للهيئة فدخوله في محل النزاع
لا يبتني على النزاع في وضع الهيئة للتلبس بما يراد بالمادة في خصوص الحال،
229

أو في الأعم منه ومن حال الانقضاء، لفرض عدم وضعه لإفادة التلبس به
مطلقا، بل لإفادة معنى آخر قد لا يلازمه، بل لابد أن يبتني على النزاع في
وضعها لذلك المعنى - من القابلية أو الحرفة أو غيرهما - بقيد فعلية تحققه في
الحال، أو بنحو يعم حال انقضائه، فكما أمكن النزاع في المشتقات التي
تتضمن هيئاتها التلبس في عمومه وخصوصه أمكن النزاع في المشتقات التي
تتضمن هيئاتها أمرا غير التلبس في عموم ذلك الامر وخصوصه.
وبالجملة: النزاع في العموم والخصوص إنما هو بعد تعيين ما يراد بالمادة
من الامر الفعلي أو ملكته أو القابلية له أو غيرها، وتعيين ما يراد بالهيئة من
التلبس بما يراد بالمادة أو ملكته أو القابلية له أو غيرها.
ومنه يظهر الحال في الجوامد التي تقع عنوانا للذات بلحاظ جهة
خارجة عنها، حيث لا فرق بينها وبين المشتقات إلا في أن الكلام فيها في
مقتضى وضعها الشخصي، وفي المشتقات في مقتضى وضع هيئاتها النوعي،
كما تقدم في الامر السابق.
ومن جميع ما سبق يظهر أنه لا مجال للاستدلال على عموم المشتق
لحال الانقضاء، بصحة إطلاق القسم الثاني من المشتقات المتقدمة مع انقضاء
التلبس بالحدث، كإطلاق الصائغ على الشخص حال عدم انشغاله بعمل
الصياغة. فإن ذلك خروج عن محل الكلام، إما لعدم كون المراد بالمادة
الحدث، بل الصنعة ونحوها، أو لعدم دلالة الهيئة على التلبس. كيف؟! ولازمه
عدم اعتبار الملابسة حتى في الحال الماضي، لصدق بعض ما سبق بلحاظ
الشأنية من دون تلبس بالحدث أصلا، كما في اسم الآلة.
نعم، لو صدق مثل ذلك بعد انقضاء ما يراد بالهيئة والمادة اتجه
230

الاستدلال به.
الامر الثالث: لا يخفى أن إطلاق العنوان الذاتي أو العرضي المشتق أو
الجامد على الذات - حاكيا عنها أو [واصفا] لها أو محمولا عليها - إنما يكون
بلحاظ اتحاده معها وانطباقه عليها، وظرف الاتحاد الملحوظ هو المعبر عنه في
كلمات بعضهم بحال الجري، ومن الظاهر أنه تارة: يكون في زمان النطق،
كما في قولنا: (زيد عادل الان)، أو (أكرم غدا المسافر الان). وأخرى: في
زمان آخر، كما في قولنا (زيد مسافر أمس أو غدا)، أو: (أعن الان المسافر
أمس أو غدا).
نعم، مقتضى الاطلاق عرفا تنزيل حال الجري على زمان النطق
وعدم احتياج إرادته إلى قرينة. وكأنه لكونه محط الاغراض والآثار، فيكون
هو الحقيق بالبيان، فعدم التصدي لبيانه ظاهر في الاتكال على ارتكاز أقربية
زمان النطق في بيانه.
ولا يحمل على غيره إلا بقرينة خاصة - كما في الأمثلة المتقدمة - أو
عامة، كما لو وقع المشتق طرفا لنسبة غير حالية، حيث يحمل حال الجري
على حال النسبة، فلو قيل: (تصدق على فقير)، كان ظاهره إرادة الفقير حين
التصدق، وإن قيل: (إن جاء زيد زاره العلماء)، كان ظاهره إرادة العلماء
حين مجيئه الذي هو زمان لزوم الزيارة، إلى غير ذلك مما تناسبه خصوصيات
النسب.
ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن ما يحكي عنه المشتق وما الحق به من
الجوامد - من التلبس بالجهة العرضية المصححة لانتزاع العنوان، أو نحو التلبس
مما تقدم في الامر السابق - لا يعتبر تحققه حال النطق، بل يكفي تحققه قبله أو
231

بعده، لعدم العناية في الاستعمالات المذكورة، الكاشف عن كونها حقيقية،
وعن عموم الوضع بالنحو المناسب لها.
فلابد من كون النزاع في اختصاص المشتق بالحال أو عمومه لحال
الانقضاء إنما هو بلحاظ حال الجري، بمعنى: أن العنوان هل يدل على التلبس
أو نحوه في خصوص حال الجري، فلا يصدق مع انقضائه حاله، أو على
الأعم منه ومن التلبس أو نحوه قبل حال الجري، فيصدق مع انقضائه حاله.
ولعل التباس حال الجري بحال النطق بسبب كون التطابق بينهما
مقتضى الاطلاق له دخل مهم في اشتباه مفهوم المشتق ولوقوع النزاع فيه،
على ما قد يتضح عند بيان المختار والاستدلال له.
الامر الرابع: ربما يدعى أن النزاع في المقام ليس في سعة مفهوم المشتق
وضيقة، بل في حال صدقه مع وضوح مفهومه، وأن صدقه، على ما انقضى
عنه التلبس هل هو لكونه من أفراده الحقيقية أو الادعائية؟ وأن تحرير النزاع
في المفهوم خلط في محل الكلام.
لكن لا يخفى أن صدق المعنى على الفرد - المعلوم حاله - حقيقة وعدمه
فرع سعة مفهومه له وضيقه عنه، ولا معنى لصدقه عليه مع ضيق مفهومه
عنه، ولا لعدم صدقه عليه مع سعة مفهومه له.
بل سبق في استعمال اللفظ في أكثر من معنى أنه لابد من ذلك حتى
في الاستعمال المجازي، بناء على ابتناء المجاز على ادعاء دخول الفرد في معنى
اللفظ وعدم الخروج باللفظ عن معناه، فلابد فيه من نحو من التصرف في
المعنى الموضوع له بنحو يشمل الفرد ادعاء.
وحينئذ لابد من رجوع النزاع في سعة صدق المشتق للنزاع في سعة
232

مفهومه.
الامر الخامس: حكي عن الفارابي والشيخ الخلاف في أن صدق
عنوان الموضوع على ذاته في القضايا المعتبرة في العلوم هل هو بالامكان أو
بالفعل الذي يكفي فيه الصدق في أحد الأزمنة الثلاثة، فإذا قيل: (كل ماش
متحرك)، فالموضوع هو الماشي بالامكان عند الفارابي، والماشي بالفعل عند
الشيخ.
وقد استدل على الثاني بعضهم: بأن ذلك هو المتبادر في العرف واللغة.
وهذا قد لا يناسب ما سبق من الاتفاق على عدم صدق المشتق حقيقة
مع التلبس في الاستقبال، فضلا عما لم يتلبس حتى فيه، بل لم يكن تلبسه
إلا إمكانيا.
كما قد لا يناسبه - أيضا - ما ذكروه في وجه تسمية القضية الفعلية
- وهي التي حكم فيها بتحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة - بالمطلقة، من أن
مفادها هو المفهوم من القضية عند إطلاقها، ضرورة أنه لو تم الاتفاق السابق
في المشتق فلا يفهم من الاطلاق إلا التلبس في الحال، أو فيما يعمه والتلبس
في الماضي، دون التلبس في الاستقبال.
ولم أعثر عاجلا على من تعرض لذلك عدا بعض الأعاظم (قدس سره)
فقد ذكر أن النزاع بين الفارابي والشيخ أجنبي عن محل الكلام، لان محل
الكلام هو المفاهيم الافرادية، والنزاع المذكور في القضايا التركيبية، وأن
المحمولات فيها هل هي ثابتة على الافراد الممكنة أو خصوص الفعلية منها.
لكن من الظاهر أن الموضوع الذي هو جزء القضية التركيبية إذا فرض
دلالته على معنى خاص بما هو مفهوم إفرادي لزم دلالته على ذلك في ضمن
233

القضية، للقطع بعدم انسلاخه عن معناه الافرادي عند صيرورته موضوعا لها،
إذ ليس مفاد التركيب إلا جعل النسب بين المعاني الافرادية من دون
تصرف فيها.
ولعل الأولى في تقريب خروج النزاع المذكور عن محل الكلام أن
يقال: النزاع المذكور إنما هو فيما يعتبر من صدق عنوان الموضوع الذي
هو مصحح للجري الذي تقدم الكلام فيه في الامر السابق، فالفارابي لا يعتبر
فعلية الصدق، بل يكتفي بإمكانه، والشيخ يعتبر فعليته ولو في الزمان
المستقبل، أما النزاع في محل الكلام فهو في معيار الصدق، وأنه لا بد فيه - ولو
لم يكن فعليا بل إمكانيا - من التلبس حينه أو يكفي التلبس فيما سبق عليه.
وكذا الحال فيما تقدم منهم في القضية الفعلية، فإنه راجع إلى أن
المفهوم من القضية عند إطلاقها هو صدق المحمول على الموضوع في الجملة
ولو في الزمان اللاحق، وهو لا ينافي ما هو محل الكلام من أن معيار الصدق
المصحح للجري هو التلبس حاله أو الأعم منه ومن التلبس فيما سبق.
نعم، بناء على ما سبق من أن مقتضى الاطلاق كون حال الجري
هو حال النطق يتجه عدم تمامية ما ذكروه في الموردين، لان ذلك يستلزم
ظهور الاطلاق في كون الصدق المصحح للجري في حال النطق أيضا،
لا مطلق فعليته ولو في الزمان المستقبل - كما هو مقتضى ما ذكره الشيخ في
الموضوع وما ذكروه في القضية الفعلية - فضلا عن الاكتفاء بالامكان، كما
ذكره الفارابي في الموضوع. لكنه أمر آخر غير مورد الكلام في المشتق.
الامر السادس: وقع الكلام بينهم في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه.
ومرادهم بالبساطة عدم تضمن المفهوم الذات المتلبسة بالمبدأ، بل هو
234

متمحض في الدلالة على المبدأ المحكي بالمادة، وليس مفاد هيئته إلا نحو نسبة
تقتضي لحاظه بنحو يكون عنوانا للذات متحدا معها يصح حمله عليها، في
مقابل التركيب الراجع إلى أخذ الذات مع المبدأ في مفهوم المشتق بنحو يكون
قيدا لها.
وقد أطالوا في ذلك بما لا يسعنا متابعتهم فيه لخروجه عما نحن بصدده
من تعيين سعة مفهوم المشتق من حيثية التلبس وعدمها، وعدم الأثر له في
الاستنباط بعد اتفاق القولين في الحكاية به عن الذات ذات المبدأ، وابتنائه على
نحو من التدقيقات في المدعى والاستدلال، التي هي أنسب بالمعقولات منها
بمبحث الظهورات، التي يكون الغرض منها تشخيص المفاهيم العرفية المدركة
لعامة أهل اللسان بحسب سلائقهم وارتكازاتهم الأولية، غير المبتنية على
التكلف والتعمل.
وإنما أشرنا للنزاع المذكور هنا لأجل ما ذكره بعض الأعاظم (قدس
سره) من أن النزاع في سعة مفهوم المشتق وضيقه في محل الكلام فرع وجوده
جامع عرفي بين حالي التلبس والانقضاء، كي يقع الكلام في الوضع له أو
لخصوص حال التلبس، أما لو لم يكن هناك جامع بين الحالين فيمتنع الوضع
لهما معا إلا بنحو الاشتراك اللفظي الذي لا قائل به في المقام، بل يتعين الوضع
لخصوص حال التلبس.
وقد ادعى (قدس سره) امتناع تقريب الجامع على كل من القول
بالبساطة والقول بالتركيب.
أما على البساطة: فلان مفهوم المشتق لما كان هو المبدأ المعرى عن
الذات كان صدقه موقوفا على صدق المبدأ، وامتنع صدقه مع ارتفاعه، لأنه
235

عبارة أخرى عن المبدأ الملحوظ محمولا على الذات، ومن المعلوم توقف ذلك
على وجود المبدأ، ولا معنى لصدقه مع عدمه، إذ لا جامع بين الوجود
والعدم، وقد أقره على ذلك بعض مشايخنا.
وأما على القول بالتركيب: فلانه لما كانت الذات هي الركن له،
وكانت ذات حالين حال التلبس وحال الانقضاء، فلا جامع بينهما إلا بأخذ
الزمان جزءا من مدلول المشتق حتى يمكن بلحاظه فرض الجامع بين الحالين،
وحيث لا إشكال في عدم أخذ الزمان في مفهومه فلا مجال لفرض الجامع
كي يمكن دعوى الوضع له.
وقد أطال (قدس سره) في تقريب ذلك على ما في تقريري درسه،
كما أطال بعضهم في مناقشته ورده. ولا يسعنا استقصاء ما ذكر في المقام،
وإنما نكتفي ببيان عدم تمامية ما ذكره.
أما بناء على البساطة: فلان القول بالعموم لحال الانقضاء لا يتوقف
على كون المراد بالمشتق الذي هو بمعنى المبدأ الجامع بين وجود المبدأ وعدمه،
ليدفع بامتناع الجامع المذكور، بل يكفي حكايته عن المبدأ في ظرفه فانيا في
الذات محمولا عليها - كما هو مفاد الهيئة - مع دعوى الاكتفاء في صحة حمله
عليها وحكايته عنها بتلبسها به في الجملة ولو مع انقضاء التلبس حال الحمل
والحكاية.
وما ذكره من امتناع لحاظه محمولا عليها مع انقضاء تلبسها به عين
مدعى القائل باختصاص المشتق بحال التلبس لا يسلم به القائل بالأعم، وليس
هو من المبادئ المسلمة عند الطرفين ليصح سوقه دليلا على المدعى المذكور.
وأما بناء على التركيب: فلا يتوقف فرض الجامع على أخذ الزمان في
236

مفهوم المشتق، بل كما أمكن دعوى الاختصاص بحال التلبس من أخذ زمان
الحال فيه، بل بأخذ نحو من النسبة بين الذات والحدث لا تصدق إلا فيه،
يمكن دعوى العموم بأخذ نحو من النسبة بينهما تصدق في الحالين.
ولا ضابط للنسب ولا للمفاهيم الافرادية أو التركيبية، بل هي تابعة
لقوة التصور التي لا تقف عند حد محدود.
ولعل وضوح ما ذكرنا بعد التنبيه إليه مغن عن إطالة الكلام فيه.
ومن هنا كان المتعين البناء على إمكان كلا القولين ثبوتا، وإنما الكلام
فيما هو الواقع منهما إثباتا تبعا لوجوه الاستدلال المذكورة لكلا الطرفين.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت، فقيل:
باختصاص المشتق بحال التلبس مطلقا وقيل: بعمومه لحال الانقضاء كذلك
وقيل: بالتفصيل على وجوه لا مجال لاستقصائها.
إلا أن الحق هو اختصاص المشتق بحال التلبس ونحوه مما تقدم التعرض
له في الامر الثاني، من دون فرق بين أقسامه وحالاته، ككونه لازما ومتعديا،
وكونه محكوما عليه، ومحكوما به إلى غير ذلك.
لأنه هو المتبادر في الكل، ولصحة السلب عما انقضى عنه التلبس
ونحوه بلا ريب.
ولذا كان المرتكز تضاد العناوين الاشتقاقية المأخوذة من المبادئ
المتضادة، كالحاضر والمسافر، والأسود والأبيض والأحمر، والغني والفقير،
والجالس والقائم، وغيرها، فكما لا يجتمع الحدثان في ذات واحدة في وقت
واحد، لا يجتمع العنوانان الاشتقاقيان منهما للذات كذلك، فلا يحمل على
الرجل انه مسافر وحاضر بلحاظ حال واحد، وكذا غيرهما، وهو شاهد
237

بتبعية صدق العنوان لفعلية الانتساب، وإلا كان حملهما كبيان انتساب
الحدث بالفعل الماضي الذي يصدق مع ارتفاع النسبة. على ما ذكروه في
المقام وأطالوا الكلام فيه بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد وضوحه.
وكأن التوقف فيه من بعضهم ناشئ من دلالة مادة المشتق على أمر
غير الفعلية من ملكة أو شأنية أو حرفة أو غيرهما، أو دلالة الهيئة على أمر
غير التلبس، على ما سبق التنبيه له في الامر الثاني.
أو من اشتباه حال الجري في بعض الموارد، وتخيل كونه في زمان
خاص متأخر عن التلبس، مع الغفلة عن القرينة الصارفة له إلى زمانه، فيتخيل
بسببه كون منشأ الصدق عموم وضع المشتق لحال الانقضاء مطلقا أو في
بعض الموارد التي تعرض لها بعض المفصلين.
كما هو الحال في المشتقات المأخوذة من المبادئ التي لا بقاء معتد به
لها بنحو يتعارف الاخبار به أو ترتيب أحكامه حين وقوعه، بل لا يخبر به
غالبا ولا يرتب حكمه إلا بعده، كالضارب في قولنا: (زيد ضارب)،
و: (كلم الضارب)، حيث لا إشكال في أنه لا يفهم من الأول الاخبار عن
ضربه حين تحققه، ومن الثاني إرادة تكليمه حين ضربه.
وكذا فيما إذا قضت المناسبات الارتكازية بكون المبدأ علة لثبوت
الحكم وبقائه ولو بعد ارتفاعه، كما في مثل (يضمن المتلف) و (يجلد الزاني)
و (يقطع السارق) و (يجزى المحسن بإحسانه) حيث لا يفهم منها ثبوت هذه الأحكام
لهم حين تلبسهم بالاحداث الخاصة لا غير.
ومثله ما لا يتعارف حمله على الذات حين التلبس، كالباني والحارث
والنائح والمتكلم وغيرها مما يتعارف حمله على الذات بعده تلبسها به، وإذا
238

أريد بيانه حين التلبس جئ بالفعل، فيقال،: (زيد يبني أو يحرث أو يتكلم).
فإن هذه الموارد ونحوها وإن أوهمت عموم المشتق لحال الانقضاء،
إلا أن الظاهر عدم ابتنائها على ذلك، بل على عدم إرادة الجري حال الاخبار
أو حال ترتيب الاحكام، بل المراد به ما يعم الجري فيما سبق مما يطابق حال
التلبس، خروجا فيهما عما سبق في الامر الثاني من أن مقتضى الاطلاق حمل
الجري على حال النطق، وأن مقتضى القرينة العامة كونه حال النسبة وترتيب
الاحكام، لان الخصوصيات المشار إليها تكفي في الخروج عن ذلك.
ولذا لا يظن من أحد التوقف في تبادر حال التلبس ونحوه في المشتقات
المذكورة وغيرها مع النص على الحال الجري والنسبة، كما لو قيل: (زيد
ضارب أو زان أو نجار أو صائغ اليوم)، حيث لا ريب في عدم صدق القضية
مع صدور الضرب أو الزنا منه أمس، أو اتخاذه الصياغة أو النجارة صنعة قبل
سنة ثم إعراضه عنها.
ومن الظاهر أن (اليوم) قيد للنسبة وظرف للجري الذي يصححه اتحاد
العنوان مع الذات الحاصل على القول بالأعم بعد ارتفاع التلبس، وليس قيدا
للحدث على أن يكون بمنزلة المفعول المطلق، بحيث يكون معنى قولنا: (زيد
ضارب اليوم) - مثلا - أنه ضارب ضربا حاصلا هذا اليوم، كي لا ينافي عدم
صدقه لعدم تحقق الضرب منه هذا اليوم صدق الضارب المطلق عليه اليوم
بلحاظ سبق الضرب منه. فلاحظ.
ومنه يظهر الحال فيما لا بقاء له بنفسه، بل البقاء لاثره، كالجرح
والقتل والتسخين للماء والتنظيف للثوب وغيرها. فإنه إن أريد من المبدأ فيه
حقيقته، وهو المعنى الحدثي المصدري الذي لا بقاء له كان مما سبق، وابتنى
239

الاستعمال فيه على ما سبق من أن الجري ليس بلحاظ حال النطق أو حال
ترتيب الاحكام، بل بلحاظ ما سبقه مما يطابق حال التلبس. ولازم ذلك
العموم لما لو ارتفع الأثر.
وإن أريد من المبدأ فيه تسامحا ما يساوق الأثر ويبقى ببقائه - كما يكثر
إرادة ذلك في اسم المفعول - خرج عما سبق، ولا ملزم بالخروج في حال
الجري عن مقتضى الاطلاق أو القرينة العامة، بل يبنى فيه على مقتضاهما
ويختص بحال التلبس الذي هو حال وجود الأثر، وإن ابتنى على نحو من
التسامح في المادة، لما سبق من أنه لا أثر لاختلاف المواد فيما نحن بصدده من
معنى المشتق. ولذا لا يصح الاطلاق بعد ارتفاع الأثر.
ومنه الاثمار في الشجرة لو أريد منه فعليته، إذ الظاهر عدم إرادة المعنى
الحدثي المصدري بل ما يساوق بقاء الثمرة.
نعم، لو أريد به شأنية الاثمار في مقابل ما لا يثمر اتجه صدقه مع قطف
الثمرة، بل مع عدم ظهورها أيضا، لفعلية الشأنية المذكورة.
هذا، وفي الفصول قد فصل بين المشتق المأخوذ من المبادئ المتعدية
كالضارب والمكرم، فيعم حال الانقضاء، والمأخوذ من المبادئ اللازمة كالعالم
والقائم، فيختص بحال التلبس، مستدلا بالتبادر في المقامين.
وكأن منشأه كون الغالب في المتعدي عدم البقاء بالنحو المعتد به، وفي
اللازم البقاء، ولعله لذا غفل فعد (المالك) من اللازم مع أنه متعد، ومثله في
التبادر لخصوص حال التلبس من المتعديات (اللابس والساكن) وغيرهما،
وعكسه في التبادر لما يعم حال الانقضاء من اللوازم (الزاني والجاني والمذنب)
وغيرها مما لا بقاء له بنحو معتد به.
240

وقد سبق أن التبادر لما يعم حال الانقضاء فيما لا بقاء له ونحوه ليس
لعموم المشتق له، بل العدم كون الجري بلحاظ حال النطق، فلا ينافي عموم
اختصاص المشتق بحال التلبس.
وإلا فمن البعيد جدا اختلاف مفاد الهيئة لغة باختلاف المواد، بل
لا مجال له بعد ما سبق من تبادر خصوص حال التلبس مع النص على حال
الجري.
بقي الكلام في حجج القائلين بالعموم..
وقد احتجوا بعلامتي الوضع المشهورتين، وهما التبادر وعدم صحة
السلب.
ويظهر المنع منهما مما سبق في تقريب الاختصاص بحال التلبس.
كما احتجوا بجملة من الاستعمالات في حال الانقضاء، كآيتي السرقة
والزنا وغيرهما، بل ربما يدعى كثرة ذلك بنحو لا يناسب كونه مجازا.
ويندفع: بأن الاستعمال مع معرفة المراد أعم من الحقيقة. وكثرة المجاز
ليست عزيزة.
مع أنه لم يتضح كون الاستعمالات المذكورة بلحاظ حال الانقضاء،
بل الظاهر كونها بلحاظ حال التلبس مع عدم كون الجري في حال النطق
ولا حال النسبة، كما يظهر بملاحظة ما سبق، فلا نطيل.
نعم، لا بأس بإفاضة الكلام فيما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله)
والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: * (لا ينال عهدي
الظالمين) * (1) أن من عبد صنما لا يكون إماما.

(1) سورة البقرة: 124.
241

فعن ابن المغازلي بسنده عن عبد الله بن مسعود، قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): " أنا دعوة أبي إبراهيم ". قلت: يا رسول الله وكيف صرت
دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: " أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم أني جاعلك
للناس إماما فاستخف إبراهيم الفرح، قال: ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى
الله عز وجل إليه: أن يا إبراهيم إني لا أعطيتك عهدا لا أفي لك به، قال يا رب
ما العهد الذي لا تنفي لي به؟ قال: لا أعطيتك لظالم من ذريتك عهدا. قال:
إبراهيم عندها: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من
الناس. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): فانتهت الدعوة إلي وإلى علي،
لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا " (1).
وفي صحيح هشام بن سالم، قال أبو عبد الله (عليه السلام): " الأنبياء
والمرسلون على أربع طبقات، فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها. ونبي يرى في
النوم ويسمع الصوت ولا يعانيه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام،
مثل ما كان إبراهيم على لوط. ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين
الملك، وقد ارسل إلى طائفة قلوا أو كثروا، كيونس... وعليه إمام. والذي
يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم. وقد
كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا وليس بإمام حتى قال الله: * (إن جاعلك
للناس إماما قال ومن ذريتي) *، فقال الله: * (لا ينال عهدي الظالمين) *،
من عبد صنما أو وثنا لا يكون أماما " (2)، وقريب منهما غيرهما (3).

(1) غاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270.
(2) أصول الكافي 1: 174، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 271.
(3) راجع أصول الكافي 1: 175، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني: 270 - 272.
242

وقد ذكروا أن الاستدلال بالآية الشريفة الذي تضمنته النصوص إنما يتم
بناء على عموم المشتق لحال انقضاء التلبس، لابتنائه على كون المراد بعدم
إمامة الظالم في الآية الشريفة عدم إمامته ولو بعد ارتفاع ظلمه.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من احتمال كون الظلم
بحدوثه مانعا من الإمامة إلى الأبد، فيكفي في امتناع إمامة الشخص صدق
الظالم عليه ولو سابقا بلحاظ سبق التلبس، بلا حاجه إلى صدقه عليه فعلا.
بل هو المناسب لجلالة قدر الإمامة، ورفعة محلها وعظم خطرها.
ويشكل بمخالقة الاحتمال المذكور لظاهر جعل العنوان، لما سبق من أن
حمل حال الجري على حال النسبة - وهي في المقام عدم نيل العهد - مقتضى
القرينة العامة بلا ملزم بالخروج عنها، بعد كون الظلم مما له بقاء معتد به قابل
عرفا لان يبين ثبوت الحكم حينه.
ومجرد كون عموم المانعية لحال عدم صدق العنوان أنسب برفعة مقام
الإمامة، لا يقتضى تعيينه بعد كون تبعيتها لصدقه مناسبا لها أيضا، لان رفعة
المنصب بالمقدار الزائد - مع كون عين الدعوى - لا قرينة على سوق الآية
الشريفة لبيانه.
الثاني: ما يستفاد مما ذكره بعض الأعيان المحققين، وهو أن الظلم لما
كان له فردان: ما لا بقاء له كضرب اليتيم وما له بقاء كالغصب والكفر،
امتنع إناطة الحكم به بنحو يدور مداره وجودا وعدما، لعدم مناسبته لاحد
فرديه، بل لابد من أن يناط بوجوده بنحو يبقى بعد ارتفاعه، ليناسب كلا
فرديه.
243

وفيه - مضافا إلى أن الظلم قد فسر في كثير من الروايات المذكورة
بالشرك والكفر، وإلى أنه في مثل ضرب اليتيم قابل للبقاء بلحاظ عدم
الاستيهاب أو عدم التوبة. فتأمل -: أنه يكفي في حمل العنوان على أنه مما
يدور الحكم مداره وجودا وعدما قابلية بعض أفراده للبقاء، لكفاية ذلك في
رفع لغوية الخطاب عرفا. ولذا لا إشكال في فهم ذلك لو اخذ عنوان الظالم
موضوعا للمانعية من غير الإمامة العامة، كإمامة الصلاة، وقبول الشهادة.
الثالث: ما ذكره الشيخ الطبرسي ويظهر من بعض الأعاظم (قدس
سره) وغيره من إن الآية لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عمن
انقضى عنه الظلم حين صدروها، بل بنحو القضية الحقيقة كانت شاملة
للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبدا،
لان قوله تعالى: * (لا ينال) * مضارع منفي غير محدود بوقت، وهو يقتضى
التأبيد.
وفيه: أن مقتضى الاطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه، لا عدم
ارتفاعه بارتفاعه، فإذا اخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم
دورانه مدار صدق العنوان المذكور، لا ثبوته للذات بعد ارتفاعه، كما هو
الحال لو قيل: لا تصل خلف الفاسق.
نعم، لو كان العنوان مسوقا لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام
الموضوع اتجه ما ذكره (قدس سره). لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان،
ولا سيما في القضايا الحقيقية، وفي مثل المقام مما كان دخل العنوان في الحكم
ارتكازيا. بل لا يظن منه ولا من غيره البناء على ذلك.
الرابع: ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من ظهور صدر الآية في
244

سؤال إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريته، ويمتنع منه سؤالها لمن هو متلبس
بالظلم حينها، بل المسؤول له عداهم ممن لم يتلبس بالظلم أصلا أو انقضى
تلبسه به، فيكون ذيلها إخراجا للقسم الثاني، دون من تلبس بالظلم حينها،
لخروجه عن مورد السؤال.
وفيه - مع عدم ظهور صدر الآية ولا الروايات في سؤال إبراهيم وطلبه
للإمامة، بل استفهامه عنها. فتأمل -: أن إبراهيم (عليه السلام) لم يطلب
استيعاب ذريته بالإمامة، ليمنع عمومه للمتلبس بالظلم، بل جعلها فيهم في
الجملة من دون نظر لشروط المستحق لها، وبيان المستحق ابتداء منه تعالى،
فلا مانع من حمله على المتلبس فعلا بالظلم.
الخامس: أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل
الآية الشريفة عليه، لاستهجان بيانه حينئذ، بل لا بد أن يحمل على ما يحتاج
للبيان مما فيه نحو من الخفاء، وهو مانعية الظلم آنا ما من الإمامة ولو بعد
ارتفاعه، فيكفي صدق العنوان سابقا بلحاظ حال التلبس.
وفيه: أن وضوح ذلك بحسب المرتكزات العقلية والفطرة الأولية لا يمنع
من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملا بسبب جور الظالمين، بل اعتقاد
كثير من أهل الأديان بخلافه، لشبهات روجها الطواغيت، فقد اشتهر عن
المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة، وكذا غيرهم من أهل الأديان حتى بعض
فرق المسلمين.
ولولا ما من الله تعالى به من وضوح البيان ببقاء القرآن المجيد، وجهود
أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم المخلصين، في التأكيد على ذلك، وفي
كشف حال الظالمين وسلب الثقة بهم، لاتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة
245

يتبعونهم في الاحكام، ويأخذون منهم الحلال والحرام، كما تبعوا بعض
الأوائل في كثير من فروع الدين وأصوله، مع وضوح ظلمهم حين ادعاء
المنصب، وإن حاول بعض الاتباع - بضلالهم - التلبس والدفاع عن أئمتهم،
وتنزيه سيرتهم عن الظلم، وسننهم في الدين عن الابتداع، بعد وضوح مانعية
التلبس بالظلم عن الإمامة بسبب الجهود المذكورة.
فكيف يستغنى مع ذلك عن إتمام الحجة ببيان صريح في القرآن المجيد
الذي يتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه؟! والحمد لله على هدايته لدينه. ونسأله العصمة والتوفيق.
والذي ينبغي أن يقال: الاستدلال على عموم المشتق بهذه النصوص
موقوف:
أولا على ورودها في مقام الاحتجاج بالآية الشريفة على عدم إمامة
من عبد وثنا أو صنما، كي يتعين كون استفادة ذلك منها بمقتضى الوضع
أو الظهور العام، ليتسنى إلزام الخصم به في مقام الاحتجاج.
وثانيا: على أن المراد بالعهد في الآية الشريفة الإمامة التي لا تكون فعلية
للشخص إلا بوجوده واجتماع الشرائط فيه، ومنها عدم كونه ظالما،
كي يدعى أن ظاهرها لزوم عدم كونه ظالما حين انعقاد الإمامة له، فلا يشمل
من خرج عن التلبس بالظلم إلا بناء على عموم المشتق.
ولا طريق لاثبات الامرين، لو لم يكن الظاهر خلافهما.
أما الأول: فلعدم ظهور النصوص في الاحتجاج بالآية والالزام بمفادها
لخصم منكر، بل في مجرد بيان المراد منها، ولا مانع من ابتناء إرادة ما تضمنته
النصوص منها على خلاف ظهورها البدوي، لقرائن اطلع عليها من أوتي علم
246

الكتاب بنحو يرجع إلى استعمال المشتق مجازا في حال انقضاء التلبس، أو إلى
عدم كون الجري بلحاظ حال فعلية الإمامة، بل بلحاظ حال التلبس ولو كان
سابقا على ذلك الراجع إلى مانعية صدق العنوان من أهلية المتصف به للإمامة
ولو بعد ارتفاعه.
وأما الثاني: فلاحتمال أن لا يكون المراد بالعهد في الآية العهد بالإمامة
للامام، بل العهد لإبراهيم (عليه السلام) بجعل الإمامة في ذريته بعد طلبه ذلك
أو استفهامه عنه، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر من الآية، بحمل العهد
على الفعلي الشخصي، لا الكلي المنحل إلى أفراد تقديرية لا تكون فعلية إلا
بنصب الامام في وقته. بل هو كالصريح من النبوي المتقدم وغيره.
وعليه: يكون مفاد الآية أن العهد الذي قطعه الله تعالى لإبراهيم (عليه
السلام بالإمامة لذريته قد جعل بنحو لا يتناول الظالم منهم.
وليس المراد به الظالم حين قطع العهد، لعدم وجوده بعد، بل يتعين حمله
على من يكون ظالما حين وجوده، وإن اختص صدقه عليه بحال تلبسه بالظلم،
فيعم بإطلاقه من يبقى عليه ومن يفارقه.
وذلك كما يقتضي عدم مقارنة الإمامة للتلبس بالظلم كذلك يقتضي
عدم تأخرها عنه أو سبقها عليه واليه يرجع اعتبار العصمة في الإمامة.
أما لو كان المراد بالعهد العهد بالإمامة فلا تنهض الآية الثاني إلا بناء
على عموم المشتق لحال الانقضاء الذي هو محل الكلام، ولا بالثالث إلا بناء
على عمومه للتلبس في الاستقبال، الذي لا مجال له بلا كلام.
247

بقي في المقام أمران:
أحدهما: أن ظاهر الآية الشريفة كون الإمامة مجعولة منه تعالى
للشخص ابتداء، لعلمه بأهليته لها، كما هو مذهب الإمامية أعز الله دعوتهم،
لا إمضاء لبيعة الناس بها، كما هو مذهب العامة، لعدم صحة النسبة له تعالى
في الامضائيات كما سبق عند الكلام في المعاملات من مبحث الصحيح
والأعم. ولما هو المعلوم من عدم توقف إمامة إبراهيم (عليه السلام) على
البيعة.
وهو المناسب لرفعة مقام الإمامة وجلالتها وأهمية الآثار المترتبة عليها.
ودعوى: أن ثبوت ذلك منه تعالى لا ينافي إمضاءه سبحانه لبيعة الناس
بالإمامة.
مدفوعة: باحتياج الامضاء للدليل. ولا سيما مع ظهور الآية في أن
جعل الإمامة لإبراهيم (عليه السلام) بعد ابتلائه له بالكلمات وإتمامه لهن،
حيث يظهر منه تبعيتها لأهلية الامام التي تظهر باختباره وامتحانه تعالى له.
وعليه يلزم تنزيل ما ورد في أحكام الإمامة - كالنبوي المشهور بين
الفريقين: (من من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) (1) - على ما تضمنته
الآية الشريفة.
ثانيهما: ذكر الرازي في تفسيره أن المراد بالإمامة في الآية الشريفة
النبوة لا الخلافة لوجوه:
الأول: ظهورها في كون الامام إماما لجميع الناس، وذلك لا يكون

(1) الكافي 1: 377.
248

إلا الرسول المستقل بالشرع، إذ لو كان تابعا لرسول آخر كان مأموما لذلك
الرسول.
الثاني: أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شئ ولا يكون كذلك
إلا النبي.
الثالث: أن إمامة النبوة أعلى مراتب الإمامة، فيجب الحمل عليها،
لذكرها في مقام الامتنان، فلا بد أن تكون تلك النعمة من أعظم النعم،
ليحسن نسبة الامتنان. قال بعد ذلك: (فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة).
والكل كما ترى! لاندفاع الأول بأن غير النبي من الأئمة إمام لجميع
الناس اللذين في عصره، وذلك هو المنساق من عموم الآية، ولذا لا يقدح في
إمامة النبي المستقل بالشريعة عدم إمامته لمن سبق عصره أو تأخر عن شريعته،
فلا يقدح في إمامة الامام عدم إمامته لنبي شريعته غير الموجود حين إمامته، بل
هو كسائر من سبق عصرها من الناس.
نعم، لو تضمنت الآية أن الامام لا يكون مأموما ولو لغير أهل عصره
اتجه قصوره عن الامام التابع لنبي شريعته. لكن الآية لم تتضمن ذلك، بل
تضمنت أنه إمام لجميع الناس، كما هو ظاهر الجمع المحلى باللام.
وأما الثاني فهو يبتني على مباينهم من اختصاص الإمامة بعد النبي (صلى
الله عليه وآله) بنظم أمر الدنيا، ولا يجري على مبانينا معشر الامامية من
عمومها لشؤون الدين والدنيا تبعا لعموم الحاجة فيهما.
كما أن الثالث موهون بأن كون النبوة أعلى المراتب لا يقتضي إرادتهما،
لعدم اختصاص الامتنان بالمراتب العالية من النعم، فإن كل نعمة مورد
للامتنان.
249

بل لا امتنان في الاقتصار على المراتب العالية منها. وإلا لزم الاختصاص
بأعلى مراتب النبوة وأشرفها، كالنبوة الخاتمة.
هذا كله مع أن النبوة مباينة للإمامة مفهوما، فان الامام هو الذي يجب
على الناس متابعته والاخذ منه والاقتداء به، والنبوة لا تستلزم ذلك، إذ قد
يختص النبي بأحكام من دون أن يجب الاخذ منه على الناس متابعته والاخذ
منه على الناس، بل قد يكون عليه إمام، كما تضمنه صحيح هشام بن سالم
المتقدم وغيره.
بل سبق فيه أن إبراهيم (عليه السلام) كان نبيا وليس بإمام، كما هو
ظاهر صدر الآية الشريفة أيضا المتضمن أن جعله إماما كان بعد ابتلائه
بالكلمات، قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني
جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي...) (1). ولا إشكال ظاهرا في أنه ابتلي
بالكلمات وهو نبي.
نعم، بناء على ما حكاه من قراءة ابن عباس برفع (إبراهيم) ونصب
(ربه) يكون المراد ظاهرا اختبار إبراهيم (عليه السلام) لله سبحانه في إجابة
دعائه، إذ يمكن حينئذ أن يكون قد دعا الله قبل نبوته، وجعل نبيا حين جعله
إماما، لا قبل ذلك. لكنها شاذة والاستدلال إنما يكون بالقراءة المشهورة.
وقد خرجنا في الحديث عن الآية عما يقتضيه البحث رغبة في استكمال
الفائدة. وبذلك ينتهي الكلام في بحث المشتق، وإن أطال مشايخنا في بعض
ما يتعلق به من المباحث مما لا دخل له بمحل الكلام، ولا يتضح ترتب فائدة

(1) سورة البقرة: 124.
250

معتد بها عليه ينبغي لأجلها صرف الوقت. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون
والتوفيق.
251

المقصد الثاني
في الأوامر والنواهي
253

المقصد الثاني
في الأوامر والنواهي
وقد جرى أهل الفن على التفريق بين الأوامر والنواهي وتخصيص كل
منهما بمقصد، مع أن النواهي تشارك الأوامر أو تناظرها في جل المباحث
المذكورة في مقصدها، كمباحث مفاد المادة والصيغة والجمل الخبرية،
ومباحث تقسيمات الواجب إلى النفسي والغيري، والأصلي والتبعي، والمطلق
والمشروط، والعيني والكفائي وغيرها، ومباحث المرة والتكرار والفور
والتراخي وغيرهما، ولم يذكروا تلك المباحث في مقصد النواهي اكتفاء بما
ذكروه في مقصد الأوامر.
وأهم ما ذكروه في مقصد النواهي مسألتا اجتماع الأمر والنهي،
واقتضاء النهي الفساد، اللذان هما من مباحث الملازمات العقلية حسب
التبويب الذي جرينا عليه، مع أن نسبة الأولى لكل من المقصدين واحدة.
ومن هنا كان الأنسب جمعهما في مقصد واحد، كما جرينا عليه هنا،
مع تعميم موضوع البحث لهما في مورد الاشتراك، وتخصيصه بأحدهما في
مورد الانفراد.
255

مقدمة
الظاهر أن الامر والني متقابلان مفهوما واقتضاء، فالامر نحو نسبة بين
الامر والمأمور والماهية المأمور بها تقتضي تحقيق المأمور للماهية وإيجادها في
الخارج، والنهي نحو نسبة بينهما وبين الماهية المنهي عنها تقتضي ترك المنهي
للماهية وعدم إيجادها في الخارج.
فتقابلهما بلحاظ سنخهما وأثرهما، لا بلحاظ متعلقهما، نظير التقابل
بين الإرادة والكراهة في حقيقتهما واقتضائهما للمراد والمكروه.
وقد يظهر من بعض عباراتهم اتحاد نسبتيهما مفهوما وأثرا وأن التقابل
إنما هو في متعلقهما، فقد ذكر بعضهم في بيان مفاد النهي أنه لا فرق بينه وبين
الامر إلا في أن المطلوب في الامر الوجود وفي النهي العدم، كما حكي عن
آخرين في مسألة الضد أن الامر بالشئ عين النهي عن ضده العام وهو
الترك.
وذلك كله مناف للمرتكزات العقلائية والعرفية في حقيقة النسبتين
ومفاد الدال عليهما:
وكأنه يبتني على نحو من التسامح أو الاشتباه في حقيقة كل من
النسبتين بلازمها في مقام الامتثال أو العمل على طبقها. ولا معدل عما
ذكرنا.
إذا عرفت هذا فالكلام يقع في فصول.
256

الفصل الأول
في ما يتعلق بمادة الأمر والنهي
ذكروا لمادة الامر معاني كثيرة، كالطلب والشأن والحادث والشئ
وغيرها.
والظاهر أنه مشترك لفظا بين معنيين: نحو من الطلب أو ما يرجع إليه،
ويأتي الكلام في بعض الخصوصيات المأخوذة فيه، والشأن أو ما يجري مجراه،
وليطلق على الأول الامر الطلبي، وعلى الثاني الامر الشأني.
وهو الجامع بين بقية المعاني المذكورة له، فذكر كل من تلك المعاني
بخصوصياتها يبتني على اشتباه المفهوم بالمصداق، حيث يبعد استقلال كل
منها بالوضع مع تقاربها ذهنا بنحو يدرك العرف رجوعها لجامع واحد، بل
لا ريب في عدم الوضع لبعضها، وأن الاستعمال فيه لاندراجه في مفهوم خاص
جامع بينهما.
وصعوبة تحديده تفصيلا لا ينافي إداركه ارتكازا، ككثير من المفاهيم
العرفية.
هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنه عبارة عن الواقعة التي لها
أهمية في الجملة، وأرجع الامر الطلبي إليه، باعتباره من الأمور ذات الأهمية،
فلا يكون لمادة الامر إلا معنى واحد، وليست مشتركة لفظا بين معنيين.
لقضاء الوجدان بأن الاستعمال في جميع الموارد في معنى واحد.
257

ويشكل ما ذكره: بأنه - مضافا إلى عدم أخذ الأهمية في المعنى -
لا مجال لارجاع الامر الطلبي للمعنى الاخر، وتخصيص المادة بمعنى واحد، لان
الامر الطلبي مصدر اشتقاقي يجمع على أوامر، كما يجمع النهي على نواهي،
والامر الشأني جامد يجمع على أمور، حيث يكشف ذلك عن اشتراك اللفظ
بين معنين متباينين مفهوما، وإن كان الامر الطلبي من مصاديق الامر الشأني
ببعض الاعتبارات كالنهي والاستفهام وغيرهما.
وأما ما في منتهى الأصول من إمكان اختلاف جمع المفهوم الواحد
باختلاف مصاديقه، كما يمكن اختلافه بحسب الاشتقاق باختلاف نسبه
حسب اختلاف الحاجة، فإذا كانت اختلافات النسب في معنى كثيرة كثرت
اشتقاقاته، وإن كانت قليلة قلت.
ففيه: أن الجمع يرد على المفهوم باعتبار تعدد أفراده، لا على الافراد
ليختلف باختلافها. وكذا الحال في الاشتقاق، فمع وحدة المعنى لابد من
كونه على وجه واحد، والاختلاف في مقدار الاشتقاق إنما يكون مع تعدده،
كما يختلف اللازم مع المتعدي في بعض الاشتقاقات.
على أن الامر ليس في قلة الاشتقاق وكثرته، بل في اشتقاق أحد المعنيين
وجمود الاخر، ومباينة المعنى الاشتقاقي للجامد أوضح من أن تخفى.
وقابلية بعض أفراد المعنى الجامد للاشتقاق بلحاظ خصوصيته الفردية
لا تصحح الاشتقاق من مادته الجامدة، ولذا لا يصح الاشتقاق من الامر
الشأني لو أريد من النهي أو الاستفهام أو نحوهما مما يكون فردا له بملاك
فردية الامر الطلبي له.
ولعله لذا اعترف بعدم خلو ما ذكره عن المناقشات.
258

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في تباين المعنيين مفهوما، واشتراك مادة الامر
بينهما اشتراكا لفظيا. نعم قد يكون الامر الطلبي مأخوذا من الامر الشاني
بحسب الأصل، كما في كثير من المواد المشتركة، كمادة شجر التي يرجع إليها
الشجر الجامد، والشجار المشتق.
والامر ليس بمهم، إنما المهم تحقيق حال الامر الطلبي وتحديد مفاده،
والمنظور في ذلك إنما هو المفاد اللغوي والعرفي، الذي يحمل عليه في كلام
الشارع الأقدس ونحوه مما له دخل في الاستنباط.
وإلا فقد ادعي أن المراد به اصطلاحا القول المخصوص، وهو (افعل)
أو ما بمعناه، وهو غير مهم لو تم.
هذا، وأما النهي فهو مختص ظاهرا بالمعنى المقابل للامر، ويشاركه في
أكثر الجهات المبحوث عنها فيه أو في جميعها.
إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم:
تارة: في اتحاد الامر مع الإرادة النفسية أو مباينة لها لتقومه بالانشاء.
وأخرى: في أخذ علو الامر أو استعلائه في مفهومه.
وثالثة: في دلالته وضعا أو إطلاقا على الالزام.
ويجري نظير ذلك في النهي، حيث يقع الكلام في اتحاده مع الكراهة
النفسية، وفي اعتبار علو الناهي أو استعلائه فيه، وفي دلالته على الالزام.
والذي ينبغي أن يقال: لا إشكال بعد النظر في المرتكزات العقلائية
والعرفية في مباينة الأمر والنهي مفهوما وخارجا للإرادة والكراهة النفسيتين
وتقومهما بالجعل والانشاء الذي قد لا يكون مسببا عن الإرادة والكراهة
للمتعلق، بل يكون بداعي الامتحان أو غيره. نظير ما سبق عند الكلام في
259

حقيقة الاحكام الاقتضائية - في مقدمة علم الأصول - من أن الإرادة والكراهة
التشريعيتين اللذين هما منشأ انتزاع التكليف مباينتان سنخا للإرادة والكراهة
النفسيتين الحقيقيتين.
فليس الأمر والنهي إلا عبارة عن الخطاب بالحث نحو الشئ أو الزجر
عنه من دون أن يستلزما إرادته أو كراهته فضلا عن أن يتحدا معهما مفهوما
أو خارجا، كما يظهر من بعضهم.
نعم الظاهر عدم الاكتفاء فيهما بمطلق الحث والزجر، بل يختصان بما
يبتني منهما على فرض المخاطب نفسه بمرتبة من ينبغي متابعته وتنفيذ خطابه،
إما لسطان غالب، أو لقوة قاهرة، أو لحق لازم عرفا أو شرعا.
لكن لا بمعنى لزوم بلوغه لذلك حقيقة، بل يكفي تخيله ذلك أو ادعاؤه
له، لان المعيار على ابتناء الخطاب عليه.
ولذا لا يكفي وجوده الواقعي من دون أن يبتني عليه الخطاب. فلو
وجب شرعا إطاعة الأب فطب الراجي غافلا عن ذلك لم يصدق على
طلبه الامر، كما لا يصدق على زجره النهي، وإن وجبت إطاعته.
كما أنه لو طلب طلب السلطان القاهر صدق الأمر والنهي وإن
لم تجب إطاعته شرعا ولم يخش سلطانه.
ومرجعه إلى اعتبار الاستعلاء دون العلو، خلافا لما ذكره غير واحد
من العكس.
بل يجري ذلك حتى في الأوامر والنواهي الارشادية إذا ابتنت على ادعاء
المرشد بلوغة أهلية الارشاد لمعرفته بمرتبة تلزم بمتابعته.
أما لو ابتنت على محض معرفته بالواقع المرشد إليه ولو صدفة من دون
260

ادعاء لذلك لم يصدق الأمر والنهي.
هذا هو الظاهر بحسب المرتكزات العرفية.
ومن هنا كان الظاهر أخذ الالزام في مفهوم الأمر والنهي، كما هو
المتبادر من إطلاقه، بل الظاهر صحة السلب عن الطلب غير الإلزامي، وإن
صح إطلاقه على ما يعمه بنحو من العناية، كما في مقام التقسيم.
وقد يشهد بما ذكرنا جملة من الآيات التي تضمنت ترتب استنكار
المخالفة والتحذير منها والذم عليها، بنحو يظهر منها كون هذه الأمور من
لوازم المفهوم، كقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) * (1) وقوله عز وجل: * (ما منعك ان لا تسجد
إذ أمرتك) * (2) وقوله سبحانه: * (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) * (3).
وكذا الروايات الظاهرة في المفروغية عن اقتضاء الامر الالزام، كقوله
(صلى الله عليه وآله): " لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند
وضوء كل صلاة " (4) أو: " مع كل صلاة " (5) وما في حديث بريرة: فقال لها
النبي (صلى الله عليه آله): " لو راجعتيه فإنه أبو ولدك "، فقالت: يا رسول
الله أتأمرني؟ قال: " لا إنما أنا شفيع "، فقالت: لا حاجة لي فيه (6).

(1) سورة النور: 63.
(2) سورة البقرة: 27.
(3) سورة الأعراف: 12.
(4) الوسائل ج 1، باب: 3 من أبواب السواك، حديث: 4.
(5) الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب السواك، حديث: 3.
(6) مستدرك الوسائل باب: 36 من أبواب نكاح العبيد والإماء، حديث: 3.
261

فإن الاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة، إلا أن ابتناء الاستعمالات
المذكورة في الخصوصية على القرينة دون حاق اللفظ بعيدا جدا، ولا سيما في
النبويات. ولا أقل من كونها مؤيدة للمدعى، كما ساقها في الكفاية.
هذا، ولو فرض عدم تمامية ذلك كان ما يأتي في وجه الالزام
من الصيغة بالاطلاق ونحوه جاريا في المقام. كما أن الظاهر مشاركة النهي
للامر في جميع ما تقدم، للتقابل بينهما عرفا.
262

الفصل الثاني
في ما يتعلق بمادة الطلب
الطلب لغة السعي نحو الشئ لمحاولة تحصيله والوصول إليه. وهو
المناسب لموارد إطلاقه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة واستعمال أهل
العرف، كقوله تعالى: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) (1) وقوله عز اسمه:
(ضعف الطالب والمطلوب) (2) وقولهم (عليهم السلام): " طلب العلم
فريضة " (3) وما ورد من وجوب طلب الماء لمن يجده وعدم مشروعية التيمم
بدونه (4)، وقول الشريف الرضي:
لو على قدر ما يحاول قلبي طلبي لم يقر في الغمد عضبي
إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة.
والظاهر عدم خروجه عن المعنى المذكور عند إطلاقه في مورد الحث

(1) سورة الأعراف: 24.
(2) سورة الحج: 73.
(3) راجع الوسائل ج 18، باب: 4 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.
(4) راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب التيمم.
263

على الشئ، لان الحث على الشئ نحو من السعي لتحصيله. ومن هنا كان
الظاهر اتحاده خارجا مع الحث المذكور.
وليس هو متحدا مع الإرادة النفسية، لا مصداقا ولا مفهوما.
لكن في لسان العرب: " وطلب إلي طلبا: رغب " وقد يظهر منه اتحاد
الطلب مع الرغبة التي هي أمر نفسي مباين للحث الانشائي.
إلا أنه في غير محله، لوضوح أن مراده ليس مجرد الرغبة النفسية، بل
إبداؤها للشخص المطلوب إليه في مقام حثه على تحيق المرغوب فيه، الذي
يعبر عنه بقولنا: رغب إليه، ومن الظاهر أن الابداء المذكور هو الحث
الانشائي، فيطابق ما ذكرنا.
بل لا يبعد صدق الطلب عرفا على الحث المذكور وإن لم يكن بداعي
السعي لتحصيل المطلوب، لعدم إرادته، بل بداع آخر، كالامتحان.
ودعوى: أنه حينئذ طلب صوري لا حقيقي. غير ظاهرة، وإنما يكون
الخطاب طلبا صوريا لو أوهم الحث ولم يكن واردا مورد الحث حقيقة، كما
في موارد التقية ونحوها.
وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في عدم اتحاده مفهوما ولا خارجا مع
الإرادة، بل غاية الامر كونه ملازما لها لو غض النظر عما ذكرنا من صدقة
في مورد الامتحان.
فما في كلام بعضهم من أنه عبارة عن الإرادة ومتحدا معها، في غير
محله قطعا.
ومثله في الضعف ما عن الأشاعرة من أنه أمر قائم بالنفس غير الإرادة،
264

وهو المسمى عندهم بالكلام النفسي والمدلول بنظرهم للكلام اللفظي.
وقد ذكروا أنه هو المعيار في التكليف دون الإرادة، وبذلك وجهوا
تخلف الامتثال عن التكليف مع امتناع تخلف مراده تعالى.
لاندفاعه: بأنه لا واقع للكلام النفسي ارتكازا، فضلا عن أن يكون هو
الطلب والمعيار في التكليف.
وتخلف الامتثال عن التكليف ليس لان الكلام النفسي هو المعيار في
التكليف، بل لان المعيار فيه هو الخطاب بداعي جعل السبيل، الذي فسرنا به
الإرادة التشريعية، وذكرنا أنه غير مستلزم للإرادة، على ما سبق في بيان
حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول.
وبذلك نستغني عن البحث فيما أطالوا الكلام فيه هنا من إبطال كلام
الأشاعرة، وفيما جر إليه ذلك من الكلام في شبهة الجبر، ولا سيما مع
خروجه عما هو محل الكلام هنا من تشخيص الظهورات، ومع كون الشبهة
المذكورة من مزال الاقدام، حتى ورد النهي عن الكلام في القدر، وأنه يجر
عميق فلا يلجه، وطريق مظلم فلا تسلكه، وسر الله فلا تكلفه (1). فلا ينبغي
الكلام في ذلك إلا لرفع الشبهة لو طرأت على بعض الناس، لا التنبيه إلى
الشبهة ثم محاولة رفعها، حيث قد لا يوفق الانسان لرفعها، فتبقى عليه تبعة
التنبيه إليها. عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.
ثم إن الظاهر أن مادة الطلب لا تقتضي العلو من الطالب
ولا الاستعلاء، فيصدق الطلب على الدعاء والرجاء وغيرهما. كما لا تختص

(1) كتاب التوحيد للصدوق ص: 296، طبع النجف الأشرف سنة: 1386.
265

بالالزام، ومن ثم كان الطلب أخص من الامر.
نعم، ما يأتي في وجه استفادة الالزام من الصيغة مع عدم اختصاصها به
وضعا لو تم جار في مادة الطلب، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية له،
على ما يتضح إن شاء الله تعالى.
266

الفصل الثالث
في ما يتعلق بصيغة الأمر والنهي
المراد بصيغة الامر في كلماتهم هي هيئة فعل الامر ثلاثيا كان أو غيره.
والحق بها لام الامر الداخلة على الفعل المضارع، لاتحادهما فيما هو
المهم من محل الكلام، وهو الدلالة على الطلب والالزام، أما النهي فلا هيئة
تخصه، وإنما يستفاد من (لا) الناهية، كما يستفاد الامر من اللام.
وقد ذكروا لصيغة الامر معاني متعددة، كالطلب - الذي هو الشايع من
موارد استعمالها - والإباحة، كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (1)،
والتمني، كقول الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل الا انجلي......
والتعجيز، كقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (2)، والتهديد، كقوله
تعالى: (وانتظروا إنا منتظرون) (3)، والاحتقار، كقوله سبحانه: (فاقض
ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (4) وغيرها.

(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة البقرة: 23.
(3) سورة هود: 122.
(4) سورة طه: 22.
267

كما يجري نظيرها في لام الامر. بل في (لا) الناهية، حيث تصلح
للاستعمال في تلك المعاني، مع استبدال الطلب بالنهي.
وقد وقع الكلام بينهم في اشتراكها بين المعاني لفظا، أو اختصاصها
بالأول مع كونها مجازا في الباقي.
وإن كان الظاهر - تبعا لجمع من المحققين - أنها موضوعة لنحو نسبة
خاصة لا تخرج عنها إلى غيرها في مقام الاستعمال، لا حقيقة ولا مجازا،
واختلاف المعاني المذكورة لها راجع لاختلاف دواعي الاستعمال، فكما أن
القضية الحملية تستعمل تارة بداعي الاخبار والحكاية، وأخرى بداعي
الاستهزاء والسخرية، مع عدم خروج هيئتها عن معناها، كذلك الحال في
المقام، وفي كثير من الهيئات والحروف، على ما يشهد به التدبر في المرتكزات
الاستعمالية.
والنسبة المذكورة حيث كان من المعاني الحرفية التي سبق اختلافها
سنخا مع المعاني الاسمية فلا يكون شرحها بالاسم، كالطلب والبعث والزجر
ونحوها إلا لفظيا لضيق التعبير على ما سبق في مبحث المعنى الحرفي.
ولعل الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها هيئة الامر ولأمه بالنسبة
البعثية، دون الطلبية، لأنها أقرب ارتكازا للبعث الصاد من الباعث والقائم بين
المبعوث والمبعوث إليه منها إلى الطلب القائم بالطالب والامر المطلوب، وليس
المطلوب منه إلا آلة له من دون أن يكون طرفا له.
وبهذا كانت مقابلة ل‍ (لا) الناهية التي يكون الأنسب التعبير عن النسبة
التي تؤديها بالنسبة الزجرية، لقيام الزجر بالمزجور عنه، وليس الزاجر
إلا فاعل له.
268

نعم، الخطاب بالنسبة المذكورة والحث بها يصدق عليه الطلب، بلحاظ
ما سبق من معناه، لان الحث المذكور سعي نحو المطلوب، وإن لم تكن النسبة
المؤداة طلبية.
ولا يهم تحقيق ذلك بعد عدم الريب ظاهرا في أن الأصل حمل هيئة
الامر وأداته على استعمالها بداعي الحث على الفعل، وحمل أداة النهي على
استعمالها بداعي الزجر عنه، دون بقية الدواعي المتقدمة من إباحة أو تهديد
أو غيرهما، من دون فرق بين القول بوحدة معنى الصيغة وأداة الأمر والنهي
مع اختلاف الدواعي والقول بتعدده.
وإنما المهم استفادة الالزام منها بالوضع أو الاطلاق أو غيرهما، بحيث
يكون هو الأصل الذي يحمل عليه الكلام مع عدم القرينة الصارفة عنه،
لأهميته في مقام العمل جدا. ومن ثم كان ذلك حقيقا بالكلام في المقام،
وبالنقض والابرام.
والظاهر أن النزاع لا ينحصر بالالزام المساوق لاستحقاق العقاب
عقلا، المتفرع على كون المخاطب بالصيغة ممن تجب إطاعته عقلا، كالشارع
الأقدس، بحيث لا موضوع له في خطاب غيره - كما قد يظهر من بعض
الوجوه الآتية وقد يوهمه التعبير عنه بالوجوب - بل يجري في مطلق الالزام
ولو من الموالي العرفيين الذين لا تجب إطاعتهم، بل ولو من غير الموالي،
كالداعي والملتمس والشافع.
وتوضيح ذلك..
أن الطلب تارة: يبتني على نسبة المطلوب للطالب، بحيث يصحح إضافة
المطلوب إليه، فيؤتى به لأجله وعلى حسابه، ويكون الممتثل مستحقا للشكر
269

منه.
وأخرى: لا يبتني على ذلك، بل على محض الكشف عن واقع لا دخل
للطالب له.
والثاني هو الطلب الارشادي، أما الأول فهو الطلب المولوي إن صدر
من المولى، بل قد يطلق على كل طلب صادر ممن يهتم بإطاعته ولو لخوف
عقابه أو رجاء ثوابه - كالسلطان - بل من كل من كان مستعليا وإن لم يكن
عاليا في نفسه، وإن صدر من السافل للعالي كان دعاء أو عرضا، وإن صدر
من النظير للنظير كان شفاعة والتماسا ونحوهما.
ثم إن الالزام في الطلب الارشادي تابع ثبوتا للواقع الذي يرشد إليه،
حيث لابد فيه من الأهمية بمرتبة خاصة، مع عدم المزاحم، أما في المولوي وما
يجري مجراه فهو تابع لخصوصية في الطلب الصادر من الطالب، بأن يبتني على
نحو من الاصرار على المطلوب زائدا على إضافة المطلوب للطالب وجعله في
حسابه، بحيث يكون عدم امتثاله مخالفة له وردا على الطالب، وإن لم يوجب
استحقاق العقاب عقلا أو عرفا، لعدم كون الطالب لازم الإطاعة.
ولذا يكون خروجا عن مقتضى المولوية التي يبتني عليها الطلب المولوي،
على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.
وأما خصوصية الملاك فهي علة لخصوصية الطلب المذكورة التي يتبعها
الالزام، لا أنها السبب المباشر له، كما في الطلب الارشادي.
وتمام ما سبق جار في النهي.
هذا كله في منشأ الالزام في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات فقد وقع الكلام في دلالة الصيغة على الالزام
270

وضعا أو إطلاقا، أو عدم دلالتها عليه.
قال في الكفاية: " في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب،
أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال ".
ولا ينبغي التأمل في عدم اختصاصها بالطلب غير الإلزامي بعد عدم
تبادره منها وعدم العناية في استعمالها في الإلزامي.
كما أن الظاهر عدم اشتراكها لفظا بين الطلب الإلزامي وغيره، لوجود
القدر المشترك بينهما عرفا، وهو مطلق الحاصل من النسبة البعثية، فلو أريد
العموم لهما كان الظاهر الاكتفاء بالوضع للقدر المشترك المذكور، ولا سيما
مع بعد الاشتراك اللفظي في نفسه، خصوصا في الهيئات والحروف.
والمهم في المقام القولان الآخران..
الأول: أنها حقيقة في الطلب الإلزامي، بمعنى أنها موضوعة لنحو من
النسبة البعثية لا تلائم غيره، وإلا فالالزام أو الوجوب بما هو معنى اسمي
لا يكون مفاد الحرف.
الثاني: أنها حقيقة في مطلق الطلب الحاصل مع الالزام وغيره، بأن
تكون موضوعة للنسبة البعثية المطلقة الملائمة لكل منهما.
ومرجع أدلة الأول وجهان:
أولهما: التبادر للالزامي مع عدم القرينة الحالية أو المقالية الصارفة عنه.
ولذا يصح في مورد الصيغة إطلاق الامر الذي سبق أنه موضوع للالزام، كما
يصح الذم على المخالفة، وقد وردا في ترك إبليس السجود لآدم مع كون
الخطاب به بالصيغة، كما لا يحسن عرفا الاعتذار عن المخالفة باحتمال
الندب.
271

ثانيهما: استعمالها في كثير من الآيات والروايات ولسان أهل العرف في
مقام بيان الالزام من دون حاجة إلى ضم القرينة بالوجدان.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن الاستعمال أعم من الحقيقة. إذ هي
إنما تتجه مع احتمال القرينة لا مع القطع بعدمها كما لا مجال لمعارضة ذلك
باستعمالها في الندب، بعد عدم الاشكال ظاهرا في بناء العرف والمتشرعة على
احتياجه للقرينة.
نعم، إنما ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع لخصوص ما يناسب
الطلب الإلزامي لو لم يكن الطلب الإلزامي مقتضى الأصل في مفاد الصيغة
أو القرينة العامة التي يلزم الحمل عليها مع عدم المخرج عنها حتى لو كانت
موضوعة لما يناسب مطلق الطلب، حيث ينحصر منشؤهما حينئذ بالوضع،
فيستدل بهما عليه.
أما إذا احتمل ذلك أو ثبت فلا ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع،
لامكان استنادهما للأصل أو القرينة المذكورين، بأن لا يكون فهم الالزام من
إطلاق الصيغة من باب تبادر معنى اللفظ الموضوع له منه، ولا الاكتفاء في
بيانه بها لأدائها له بمقتضى وضعها لها، بل هما مسببان عما ينضم إليها من
الأصل أو القرينة المذكورين، مع وضعها لما يناس مطلق الطلب، كما جرى
عليه غير واحد من محققي المتأخرين.
ويناسبه أن إرادة الطلب غير الإلزامي من الصيغة وإن احتاجت للقرينة
إلا أنها لا تبتني ارتكازا على العناية والخروج بها عن معناها، بل هي لا تدل
بمقتضى المرتكزات الاستعمالية إلا على محض البعث القابل للامرين.
وقد يناسبه ما هو ديدنهم فيما لو خوطب بجملة أمور قام الدليل على
272

عدم الالزام ببعضها من البناء على الالزام في الباقي، مع أنه لو ابتنت إرادة
الطلب الإلزامي من الصيغة على إفادتها له وضعا وإرادة الطلب غير الإلزامي
منها على الخروج بها عما وضعت له، لم يمكن استفادة الالزام منها بالإضافة
إلى ما لم تقم القرينة على عدم الالزام به في الفرض، كما لعله ظاهر.
ومن هنا كان الظاهر وضع الصيغة للنسبة البعثية المطلقة لمطلق
الطلب. ولزم الكلام في وجه الحمل على الالزام مع عدم القرينة الصارفة عنه.
ولهم في ذلك طرق:
الأول: الانصراف لخصوص الالزام لكثرة الاستعمال فيه، أو لغلبة
وجوده، أو لأكمليته.
وفيه: أن معيار الانصراف لبعض الافراد هو شدة أنس الذهن به، وهو
لا يلازم شيئا من هذه الأمور وإن كان قد يتحقق معها أو مع بعضها.
مع أن الاستعمال في الطلب غير الإلزامي ليس بأقل، بل هو في
خطابات الشارع أكثر، فان المندوبات والمكروهات وأدلتها أكثر من
الواجبات والمحرمات وأدلتها.
وأما الأكملية فهي مبنية على كون المعيار في الالزام شدة الإرادة
أو الطلب وتأكدها وقد سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية المنع
من ذلك، وأن المعيار فيه أمر آخر ذكرناه هناك وهنا. فراجع.
الثاني: حكم العقل. وقد قرر بوجهين:
أولهما: ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) وربما يوجد في كلام
غيره من أن الوجوب هو الثبوت، وهو يكون في التشريعيات عقليا تبعا
لصدق عنوان الإطاعة على الفعل، فإذا صدر بعث من المولى نحو شئ
273

ولم تقم قرينة على كون المصلحة غير لزومية انطبق عنوان الإطاعة على
الانبعاث عن بعثه، فيجب عقلا.
نعم، لو قامت قرنية على كون المصلحة غير لزومية لم يكن الانبعاث
إطاعة فلا يجب عقلا.
ولا يخفى أنه لابد من حمله على الإطاعة التي يصدق بعدمها العصيان،
لأنها هي الواجبة عقلا تبعا لقبح المعصية، وهي التي لا تصدق في مورد عدم
كون المصلحة لزومية، وإلا فمطلق الإطاعة تصدق على الانبعاث عن بعث
المولى فيما إذا لم تكن المصلحة لزومية، وهي لا تتصف عقلا بالوجوب، بل
بمحض الحسن.
ولعله لذا قال بعض المعاصرين في أصوله: " فان العقل يستقل بلزوم
الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره قضاء لحق المولوية والعبودية،
فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لابد للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم
يرخص في تركه ويأذن في مخالفته ".
وكيف كان، فيشكل ذلك بأن محل الكلام ليس هو الوجوب العقلي
التابع لوجوب إطاعة الامر، بل ما يساوق الالزام التابع لواقع الخطاب ثبوتا،
والذي لا يختص بالخطابات الشرعية، كما سبق.
على أن الوجوب العقلي تابع للالزام المذكور، فلابد من إحرازه،
لا لعدم وصول الترخيص في الترك.
ولو فرض حكم العقل بوجوب الانبعاث مع الشك في الالزام وعدم
وصول الترخيص، فليس هو لتحقق موضوع وجوب الإطاعة واقعا، بل هو
حكم آخر ظاهري طريقي في طول الحكم بوجوب إطاعة البعث الإلزامي
274

واقعا، نظير الحكم بوجوب الاحتياط مع الشك في الامتثال، الذي هو في
طول وجوب الامتثال الواقعي، ومن المعلوم من مذهبه عدم بنائه عليه بل
المرجع عنده البراءة في مثل ذلك، كما لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في
الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب، أو كان محتفا بما يصلح قرينة على
الترخيص من دون أن يكون ظاهرا فيه، حيث يعلم بصدور البعث من المولى
ويشك في الترخيص في الترك.
مضافا إلى أن مقتضى الوجه المذكور أن يكون ورود الترخيص بل
وصوله رافعا للوجوب، لا كاشفا عن عدمه من أول الامر، مع أنه لا يظن
بهم البناء عليه في غير مورد النسخ المبتني على تبدل حال الطلب من الالزام
لغيره.
كما أن لازمه كون تصريح الشارع بالوجوب تنبيها على أمر خارج
عن حقيقة حكمه متمحض للارشاد إلى حكم العقل، مع وضوح بطلان
ذلك ومخالفته للنصوص والأدلة المتضمنة لبيان الفرائض، لصراحتها في كون
الافتراض أمرا تابعا للشارع مجعولا له.
ثانيهما: ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد الصيغة إبراز جعل المادة في
عهدة المكلف واعتبارها في ذمته، فيجب عقلا السعي لتحقيقها، والخروج
عما انشغلت به ذمته ما لم يرخص المولى نفسه في الترك، فيكون الوجوب
مستفادا من حكم العقل لا من الصيغة، بل هي مطلقا للابراز المذكور. وليس
الفرق بين الوجوب والاستحباب إلا في لزوم المصلحة وعدمه ثبوتا، وفي
الترخيص وعدمه إثباتا.
ويشكل: بأن ما ذكره - لو تم - إنما يصلح أن يكون بيانا لحقيقة الحكم
275

الشرعي، ولا مجال لان يكون مفادا للصيغة، لوضوح عدم الفرق في مفهومها
بين أن تقع في كلام الشارع وكلام غيره ممن لا يستتبع إنشاؤه التكليف، بل
حتى في الخطابات الارشادية، فلابد أن يكون مفادها المطابقي أمرا آخر
مشتركا بين جميع الموارد مصحح لانتزاع التكليف - بالمعنى المتقدم أو غيره -
لو صدر من المولى الواجب الطاعة عقلا، كالبعث أو نحوه، فيقع الكلام في
وجه حمله على الالزام مع صلوح مفاد الصيغة لغيره.
ولذا سبق أن محل الكلام لا يختص بالالزام المساوق لاستحقاق العقاب،
بل يجري في جميع الخطابات.
على أن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مقدمة الأصول في بيان
حقيقة الأحكام التكليفية. وقد سبق المنع من تفسير الحكم التكليفي بذلك
ثبوتا، وأن لازمه كون الفرق بين الاستحباب والوجوب بالترخيص وعدمه
في مقام الثبوت، لا في مقام الاثبات، كما ادعاه.
كما أنه إذا كان وجوب أداء ما في الذمة عقليا كان تنبيه الشارع
على الوجوب بيانا لأمر عقلي خارجا عن حقيقة حكمه، كما يمتنع ترخيصه في
الترك إلا بنحو النسخ الذي لا وجه معه لبقاء الاستحباب، نظير ما تقدم في
الوجه السابق.
إلا أن يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلا بنحو خاص من الجعل
دون غيره، وأنه بالترخيص وعدمه يستكشف نوع الجعل، وحينئذ يكون
الفرق ثبوتا بين الوجوب والاستحباب راجعا إلى ذاتيهما ولا ينحصر بلزوم
المصلحة وعدمه.
كما يقع الكلام في وجه حمل الجعل المدلول للصيغة على ما يجب معه
276

الأداء عقلا مع فرض صلوحه لغيره، ولا ينهض الوجه المذكور ببيان ذلك.
مضافا إلى أنه إذا كان مفاد الصيغة اعتبار المادة في ذمة المكلف، وكان
العقل حاكما بوجوب الخروج عن ذلك ما لم يثبت الترخيص لزم البناء على
الوجوب لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في
الاستحباب، أو احتف بما يصلح قرينة على الترخيص من دون ان يكون
ظاهرا فيه، حيث يعلم باعتبار المولى المادة في ذمة المكلف، ويشك في ترخيصه
في تركه، نظير ما سبق في الوجه الأول.
الثالث: أن الالزام مقتضى الاطلاق فيما لو كان المتكلم في مقام البيان.
وقد يقرب بوجوه:
أولها: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الندب كأنه يحتاج
إلى مؤنة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، حين
لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد.
وفيه: أن عدم المنع من الترك في الندب ليس من سنخ القيد للطلب،
لينفى بالاطلاق، بل هو أمر مقارن له خارج عنه مطابق للأصل، فلا ينهض
الاطلاق بنفيه.
نعم، لو كان مرجع الندب إلى عدم الطلب مع عدم إرادة المخاطب
الامتثال كان مستلزما لتقييد الطلب، فينفي بالاطلاق. لكن لا مجال لتوهم
ذلك.
ثانيها: ما يظهر من غير واحد من أن الطلب الإلزامي طلب تام لا حد
له وغيره مرتبة من الطلب محدودة بحد من حدود النقص، فإذا كان المتكلم في
مقام البيان لزم حمل ما يدل على الطلب في كلامه على الطلب التام الذي
277

يكون ما به امتيازه من سنخ ما به الاشتراك، لصلوح الكلام لبيان كلا حديه،
دون الطلب الناقص الذي يكون ما به امتيازه مباينا لما به الاشتراك، لعدم
صلوح الكلام إلا لبيان أحد حديه.
وفيه: أولا: أنه يبتني على كون الفرق بين الطلب الإلزامي وغيره
بالشدة والضعف، وقد سبق المنع من ذلك.
وثانيا: أن ذلك ليس بأولى من أن يقال: لما كان الشديد يبتني على
تأكد وجود الماهية بما يزيد على ما يتوقف عليه صدقها ويدل عليه لفظها
كان الاقتصار في مقام بيان إحدى الخصوصيتين على اللفظ الدال عليها
والذي يكفي في صدقه صرف الوجود مناسبا لإرادة الضعيف الذي يتحقق به
صرف الوجود وتحتاج المرتبة الزائدة عليه إلى مرتبة زائدة في البيان.
وإن كان كلا الوجهين غير خال عن الاشكال بل المنع بعد صدق
الماهية على كلا الفردين بنحو واحد.
وثالثا: أن ذلك لو تم موقوف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان
إحدى الخصوصيتين، وعدم الاقتصار على بيان القدر المشترك بينهما،
ولا طريق لاحراز ذلك بعد صلوح القدر المشترك لان يترتب عليه العمل،
لكفايته في الداعوية عقلا وإن لم يحرز كونه إلزاميا، غايته أن داعويته لا تكون
إلزامية.
نعم، لو لم يكن القدر المشترك صالحا لان يترتب عليه العمل اتجه حمل
الكلام على بيان إحدى الخصوصيتين مما يترتب عليه العمل.
ومن هنا ذكروا أن المطلق يحمل على الماهية المرسلة، لان حمله
على الماهية المبهمة من حيثية الارسال والتقييد مستلزم لعدم صلوحه لترتب
278

العمل عليه، وكذا الماهية المقيدة بعد عدم التعرض للقيد، فتتعين الماهية المرسلة
الصالحة لان يترتب عليها العمل.
ولذا كان تعيين أن الماهية المرسلة استغراقية أو بدلية محتاجا إلى قرينة
زائدة على كون المتكلم في مقام البيان، لصلوح القدر المشترك لان يترتب
عليه العمل.
وبالجملة: ليس بناء العرف على حمل الاطلاق على الفرد الأكمل بعد
صدق عنوان المطلق بغيره، وصلوح القدر المشترك لان يترتب عليه العمل،
ولذا لا يضن بهم البناء في مثل المقام على الحمل على أعلى مراتب الوجوب
وأشدها.
ثالثها: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن غرض
الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فلابد من وفاء الطلب بذلك، ويختص ذلك
بالالزامي، فيكون هو المستفاد بمقتضى إطلاق الطلب، ولو كان هناك مانع
من الالزام لوجب بيانه، لكونه على خلاف مقتضى الأصل في الطلب.
وفيه: أولا: أن غرض الطالب المباشر ليس هو إيجاد مطلوبه في الخارج،
بل إرشاد الطالب المخاطب لفائدة المطلوب في الطلب الارشادي، وإضافة
المطلوب للطالب بنحو يمكن الاتيان به لأجله وعلى حسابه بنحو يستحق منه
الشكر عليه في غيره من أنواع الطلب، على ما سبق.
نعم، قد يكون الغرض من الارشاد أو الإضافة المذكورين هو ايجاد
المطلوب في الخارج وقد يكون أمرا آخر كالامتحان، ولذا قد يطلب ممن يعلم
بعد امتثاله.
ثم إن الغرض من الطلب الإلزامي في غير الارشادي زائدا على ما سبق
279

جعل المسؤولية من قبل الطالب، بنحو تكون عدم الامتثال ردا لطلبه.
لكن المفروض الشك في كونه غرضا في الطلب بعد فرض الشك في
كون الطلب إلزاميا، فلا يكون قرينة على كون الطلب إلزاميا.
وثانيا: أنه لو سلم كون غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج، فليس
الغرض دائما إيجاده مطلقا وإلا لم يكن الطلب إلا إلزاميا، بل الغرض من
الطلب غير الإلزامي هو إيجاده من دون حرج على المطلوب منه، فحيث
يفرض الشك في كون الطلب إلزاميا لزم الشك في كون الغرض هو إيجاد
المطلوب مطلقا، ليستكشف به كون الطلب الزاميا.
وبالجملة: فرض كون الغرض من الطلب مطلقا مناسبا للالزام
لا يناسب فرض انقسام الطلب إلى إلزامي وغيره، وفرضه في مورد الصيغة
مناسبا له لا يناسب الاعتراف بدلالة الصيغة على أصل الطلب الصالح
للامرين.
ولعل الأولى أن يقال: لما كان المعيار في الظهور هو طريقة أهل اللسان
في مقام التفاهم لم يهم معرفة منشئه بعد استيضاح طريقتهم.
ومن الظاهر من سيرتهم في المقام هو الاكتفاء في بيان الطلب الإلزامي
بإطلاق ما يدل على الطلب والبعث من دون حاجة للتنبيه على الالزام، وأنه
لو بين كان من سنخ التأكيد المستغنى عنه، وليس المحتاج للبيان إلا عدم
الالزام.
وعليه يبتني ما تقدم من الاستدلال على الوضع لخصوص الالزام، الذي
تقدم التسليم به في نفسه، وأن الاشكال إنما هو في نهوضه باثبات الوضع،
الذي لو تم لا ينافي الظهور فيه بنحو يستفاد من الاطلاق.
280

وربما يكون الوجه في بنائهم على ذلك وجريهم عليه أن عدم الالزام
ناشئ عما هو من سنخ المانع عن تأثير الملاك في الالزام، فلا يعتنى باحتماله
مع إحراز المقتضي بنفس البعث.
أو أن البعث والطلب لما كان مقتضيا للانبعاث كان الاقتصار عليه من
دون تنبيه على الترخيص الذي هو قد يمنع من فعليته ظاهرا في إرادة الالزام
المناسب لفعليته تبعا للمقتضي، ولذا يكون الترخيص عرفا من سنخ
الاستدراك على خلاف مقتضى البعث والطلب، فلا يعتني باحتماله مع
المقتضي المذكور.
فالمورد من صغريات قاعدة المقتضي التي قد يجري عليها العقلاء في
بعض الموارد.
لكن لا بأن تكون بنفسها دليلا على الالزام عند إحراز البعث، بل
تكون من القرائن العامة التي يحتف بها الكلام المشتمل على الصيغة، والتي
توجب انعقاد الظهور في الالزام، مع كون الدليل هو الظهور المنعقد للاطلاق
على طبقها، فلو لم ينعقد الظهور لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على
عدم الالزام من دون أن يكون ظاهرا فيه، أو لم يحرز لتردد الكلام بين ما هو
ظاهر في الالزام وما هو ظاهر في عدمه، لا مجال للبناء على الالزام، لعدم
التعويل على قاعدة المقتضي بنفسها، ليستغني بها عن الظهور الاطلاقي
المذكور، بل الأصل عدم الالزام.
كما أن جري أهل اللسان على ما يناسب القاعدة المذكورة في المقام
لا يكون قرينة على استعمال الصيغة في الطلب الإلزامي، بل هو موجب
لانعقاد الظهور الاطلاقي للكلام في الالزام مع كونه خارجا عن مفاد الصيغة،
281

وليس مفادها إلا النسبة البعثية المناسبة للامرين.
ويظهر أثر ذلك فيما لو تضمنت الصيغة البعث نحو جملة من الأمور
قامت القرينة الخارجية على عدم الالزام ببعضها، حيث لا مجال للبناء على
الالزام في الباقي بناء على الأول، لامتناع استعمال الصيغة فيه في فرض عدم
الالزام ببعض ما تضمنت البعث له، أما بناء على ما ذكرنا فحيث لا تكون
القرينة الخارجية رافعة للظهور الاطلاقي تعين العمل عليه في غير مورد القرينة
على خلافه، وعليه سيرتهم، على ما سبق.
نعم، لو كانت القرينة المذكورة متصلة مانعة من انعقاد الظهور
الاطلاقي في الالزام تعين التوقف عن استفادة الالزام حتى في غير موردها.
تنبيهات
الأول: ما تقدم كما يجري في صيغة الامر وأداته يجري في أداة النهي،
كما أشرنا إليه في بعض الموارد، حيث يظهر بالتأمل في الوجوه المذكورة
مشاركتها لهما في تلك الجهات الموجبة للانصراف للالزام أو استفادته من
حكم العقل أو الاطلاق، أو في نظائرها.
فمثلا: إذا كان الفرق بين الوجوب والاستحباب تأكد الإرادة أو
البعث، كان الفرق بين الحرمة والكراهة تأكد الكراهة أو الزجر.
وإذا كان مفاد صيغة الامر البعث نحو المادة، وكان منشأ لصدق
الإطاعة عليها الواجبة عقلا عليها ما لم يرخص المولى في الترك، كما سبق من
بعض الأعاظم (قدس سره)، كان مفاد أداة النهي الزجر عن المادة ويكون
282

منشأ لصدق المعصية القبيحة أو المحرمة عقلا عليها ما لم يرخص المولى فيها.
كما أنه إذا كان مفاد صيغة الامر إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف،
ويجب الخروج عما في الذمة عقلا ما لم يرخص المولى في تركه - كما سبق من
بعض مشايخنا - كان مفاد أداة النهي حرمان المكلف من المادة فيقبح عقلا
التبس بها ما لم يرخص فيه المولى.
وهكذا الحال في بقية الوجوه وأجوبتها، وإنما لم يتعرضوا لذلك، لأنهم
بصدد البحث في الأوامر.
الثاني: الظاهر أن الوجوه المذكورة تجري في مادة الطلب بعين
التقريبات المتقدمة، وكذا في مادة الأمر والنهي بناء على عدم اختصاصهما
وضعا بالالزام، كما صرح به بعضهم في مادة الامر، وأشرنا إليه آنفا.
بل تجري في كل ما يشاركها في مادة البعث نحو الفعل أو الزجر عنه.
الثالث: بعد أن اختار في المعالم اختصاص الصيغة لغة بالوجوب،
واستدل على ذلك قال: " فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن
الأئمة (عليهم السلام) أن استعمال صيغة الامر في الندب كان شايعا في
عرفهم، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ
لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات
وجوب أمر بمجرد ورود الامر (به) منهم (عليهم السلام) ".
ولا يبعد تمامية ما ذكره بناء على وضع الصيغة بحسب الأصل للالزام،
وأنه هو الوجه في حملها عليه مع التجرد عن القرينة، لان كثرة الاستعمال
بالنحو المذكور تناسب صيرورة الندب أو مطلق الطلب مجازا مشهورا،
لو لم يحصل النقل لأحدهما بنحو الاشتراك اللفظي أو مع هجر المعنى الأول.
283

وما في الكفاية من أن الاستعمال فيه وإن كثر إلا أنه لما كان مع القرينة
لم يوجب صيرورة المجاز مشهورا مانعا من انعقاد ظهور الكلام في المعنى
الحقيقي عند التجرد منها، كما ترى! لان لازمه امتناع المجاز المشهور، لتوقفه
حينئذ على شيوع الاستعمال المجازي المجرد عن القرينة، ولا طريق لاحراز
كون الاستعمال مجازيا مع التجرد عنها.
ومن هنا فالظاهر أن القرينة في المجاز لما لم تكن جزء من الدال على
المعنى المجازي والحاكي عنه، بل هي قرينة على سوق اللفظ ذي القرينة
للدلالة عليه بنفسه خروجا به عما وضع له، كانت كثرة استعماله فيه موجبة
لتحقق العلاقة بينهما حتى يصير مجازا مشهورا له أو يتحقق النقل إليه،
بخلاف ما لو فرض كون القرينة جزءا من الدال على المعنى المجازي الحاكي
عنه، حيث تكون كالقيد الوارد على الماهية الذي يكون جزءا من الدال على
إرادة المقيد منها، الذي لا تكون كثرة الاستعمال معه بنفسها سببا لتجدد
العلاقة بين اللفظ الدال على الماهية مع تجرده عن القيد وبين المقيد، إلا
بمقارنات أخر زائدة على كثرة الاستعمال.
نعم، بناء على ما ذكرنا من عدم وضع الصيغة لخصوص الوجوب، بل
لما يناسب مطلق الطلب، وأن الحمل على الوجوب لأنه مقتضى الاطلاق عند
عندم القرينة، فكثرة الموارد التي تقوم فيها القرينة المتصلة أو المنفصلة على
الاستحباب لا توجب تبدل مقتضى الاطلاق، لعدم منافاتها للجهة الموجبة
لحمل المطلق على الوجوب، حيث لا موضوع للاطلاق معها، نظير ما
ذكرناه في كثرة الاستعمال مع القيد.
ولذا كان ديدن الأصحاب على استفادة الوجوب عند التجرد عن
284

القرينة في أخبار الأئمة (عليهم السلام)، كما هي سيرة جميع المسلمين على
ذلك في النبويات مع شيوع إطلاق الصيغة فيها في مورد الاستحباب أيضا،
بل لعله كذلك في الكتاب المجيد أيضا.
بل الانصاف أن كثرة الاستعمال في موارد الندب مع السيرة المذكورة
من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من عدم اختصاص الصيغة بالوجوب
وضعا، وحملها عليه مع الاطلاق والتجرد عن القرينة. فلاحظ.
الرابع: الظاهر أن وقوع صيغة الامر وأداته عقيب النهي أو في مورد
توهمه مانع من ظهورها في البعث نحو الفعل، فضلا عن الالزام به.
كما أن وقوع أداة النهي عقيب الامر أو في مورد توهمه مانع من
ظهورها في الزجر عن الفعل، فضلا عن كونه بنحو الالزام.
لأنها وإن لم تخرج عما استعملت فيه من النسبة البعثية أو الزجرية، إلا
أن ما سبق من أصالة كون الداعي للاستعمال هو البعث أو الزجر بمقتضى
بناء أهل اللسان لا يجري في الموردين المذكورين، بل المتيقن لهم كون الداعي
رفع النهي أو الامر السابقين أو بيان عدمهما.
ولا مجال لما يحكى عن بعض العامة من عدم خروج صيغة الامر في
المورد المذكور عن الدلالة على الوجوب، فضلا عن أصل الطلب.
ومثله ما عن المشهور من دلالتهما على الإباحة لو أريد بها الإباحة
بالمعنى الأخص التي هي أحد الأحكام الخمسة، لعدم المنشأ لذلك.
وإن أريد بها الإباحة بالمعنى الأعم، التي هي محض الاذن في الفعل
وعدم النهي عنه طابق ما ذكرناه.
هذا، وعن بعضهم أن الامر إن علق بزوال علة النهي كان ظاهرا في
285

رجوع الحكم الثابت قبل النهي، كما في قوله تعالى: (وإذا حللتم
فاصطادوا) (1) وقوله سبحانه: (فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم
الله) (2). ويجري نظيره في النهي، فهو لو علق بزوال علة الامر كان ظاهرا في
رجوع الحكم الثابت قبله.
وهو قد يتجه لو كانت علة النهي أو الامر المرتفعين من سنخ العنوان
الثاني الطارئ على العنوان الأولي والمانع عن تأثير مقتضيه، كما في الآيتين
المتقدمتين، لان مقتضى انتهاء أثر العنوان الثانوي المذكور بارتفاعه فعلية
الحكم الأولي، لارتفاع المانع عنه.
ولا مجال له في غير ذلك بأن تكون علة النهي أو الامر المرتفعين من
سنخ العنوان المعاقب للعنوان الموجب للحكم الأول، لا طارئا عليه مجتمعا
معه.
فمثلا لو كان السلام على الصبية مستحبا، ونهي عن السلام على
الشابة، ثم ورد: فإذا شابت المرأة فسلم عليها، لا مجال لدعوى ظهوره في
عود استحباب السلام عليها الثابت حين صباها، لان ارتفاع حكم الشابة
عنها لا يستلزمه.
بل عود الحكم الأولى في الأول لا يستند لظهور الصيغة، بل لاطلاق
دليله أو عمومه الأحوالي، حيث يقتصر في الخروج عنه على صورة ثبوت
الحكم المنافي له بطورء العنوان الثانوي، وإلا فمجرد ارتفاع الحكم الثانوي

(1) سورة المائدة: 2.
(2) سورة البقرة: 223.
286

تبعا لارتفاع عنوانه لا ينافي ثبوت حكم ثانوي آخر تبعا لطروء عنوان ثانوي
آخر، مانع من فعلية الحكم الأولي، ولا دافع لاحتمال ذلك إلا الاطلاق
أو العموم المذكور.
ومن هنا ليس مفاد الصيغة والأداة في جميع الموارد إلا رفع الحكم
السابق، ويرجع في الحكم الجديد إلى القرائن أو أدلة أخر خارجة عنه.
نعم، لو كان النهي أو الامر السابقين غير إلزاميين فكما يكون ظاهر
صيغة الامر وأداته وأداة النهي ارتفاعهما يكون ظاهرها عدم ثبوت الإلزامي
منهما أيضا. إذ لا يحسن الامر من الحرمة، ولا النهي مع الوجوب، بل يدور
الامر بين الأحكام الثلاثة الباقية، كما لعله ظاهر.
287

الفصل الرابع
في الجمل الخبرية
لا إشكال في استعمال الجمل الخبرية في مقام بيان مطلوبية مضمونها
من نسبة ثبوتية أو سلبية.
وقد وقع الكلام في ظهورها في اللزوم وعدمه، حيث صرح بعضهم
بعدم ظهورها فيه، بل تحمل على مطلق الطلب، لدعوى: أنه بعد فرض
الخروج بها عن معناها الذي وضعت له وهو الاخبار، فلا مرجح للوجوب
من بين المجازات، والمتيقن إرادة أصل الطلب والبعث، لا بمعنى ظهورها فيه،
ليتجه ما تقدم في تقريب استفادة الالزام من الصيغة من أنه مقتضى إطلاق
كل ما سبق لبيان البعث أو الزجر، جريا على قاعدة المقتضي في المقام.
بل بمعنى ترددها بين الاستعمال فيه وفي كل من الوجوب أو
الاستحباب بخصوصيته، ومع إجمالها لا مجال للاطلاق المتقدم، لأنه فرع
الظهور في مطلق الطلب. وليس الاقتصار على مطلق الطلب إلا لأنه المتيقن في
البين.
لكن هذا الوجه يبتني على الخروج بالصيغة عن معناها، وقد أشهر المنع
منه في العصور المتأخرة.
وقد ذكروا في توجيه المنع المذكور وتوجيه الدلالة على الالزام معه
وجوها.
289

الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أنها مستعملة في
معناها لكن لا بداعي الاعلام بالامر المخبر به - كما هو الأصل في الجمل
الخبرية - ليلزم الكذب، بل بداعي البعث نحو المطلوب بوجه آكد من البعث
بالصيغة، حيث أخبر المتكلم بوقوع مطلوبه في الخارج لبيان أنه لا يرضى إلا
بوقوعه.
ويشكل: بأن النكتة المذكورة غير ملتفت إليها، ولا مقصودة ارتكازا،
في غالب الاستعمالات، لا من المتكلم ولا من المخاطب، ولا من غيره ممن
يطلع على الاستعمال المذكور.
بل ما ذكره من كونه آكد في البعث، وما يلزمه من عدم ملائمتها إلا
للوجوب كالمقطوع بعدمه، حيث لا إشكال ظاهرا في قابليتها لان يراد منها
الاستحباب، كما تحمل عليه مع قيام الدليل على الترخيص في الترك
كالصيغة، مع أن لازم ذلك التصادم مع الدليل المذكور والاستعمال المزبور
وتعذر الجمع بينهما بالاستحباب.
نعم، ذكر (قدس سره) أن الجهة المذكورة إن لم توجب ظهورها في
الوجوب فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين المحتملات عند الاطلاق
بمقدمات الحكمة، لان شدة مناسبة الاخبار بالوقوع للوجوب توجب تعين
إرادته إذا كان المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره.
وكأنه راجع إلى أن الجهة المذكورة لو لم تكن هي المصححة
للاستعمال في مقام البعث والطلب، بل كان المصحح له جهة أخرى تجتمع
مع مطلق البعث والطلب وإن لم يكن إلزاميا، إلا أن مقتضى الاطلاق
بمقدمات الحكمة هو ملاحظة هذه الجهة - زائدا على الجهة المصححة لإرادة
290

البعث والطلب - لكمال مناسبتها للاخبار، وعليه لو قامت القرينة على عدم
ملاحظتها لزم الحمل على البعث والطلب غير الإلزامي، لوجود المصحح له
غيرها.
لكنه يشكل: بأن ذلك قد يتم لو أحرز كون المتكلم بصدد بيان إحدى
الخصوصيتين، حيث يتعين اتكاله على المناسبة المذكورة - لو تمت - في بيان
خصوصية الالزام، ولا طريق لاحراز ذلك بعد كون أصل البعث والطلب
موردا للعمل.
ومجرد كون إحدى الخصوصيتين أنسب لا تقتضي حمل المطلق عليها
بعد صلوح القدر الجامع لان يترتب عليه العمل، نظير ما تقدم في الوجه
الأول من وجوه تقريب كون الالزام مقتضى إطلاق الصيغة. فراجع.
نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى أن المصحح للاستعمال من سنخ
المناسبة المذكورة إلا أنه ذو مراتب أدناها يجتمع مع عدم الالزام وأقواها
يناسب الالزام، فيكون الالزام أقرب للاخبار من غيره، فمع عدم القرينة
المخرجة عنه يكون هو الظاهر في نفسه لا بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
نظير ظهور نفي الحقيقة في الشرعيات في نفي الاجزاء، لأنه أقرب إليه
من نفي الكمال.
ولعله إليه يرجع ما قيل من أن الاستعمال في المقام من باب الاخبار
بالشئ تعويلا على وجود مقتضيه، وهو الإرادة نظير إخبار الطبيب بالموت
تعويلا على وجود مقتضيه، وهو المرض، وإلا لم يمكن الالتزام بظاهره،
لاستلزامه الكذب مع تخلف المقتضي عن التأثير بسبب المزاحمات، كما هو
الحال في النظير.
291

وكيف كان، فلا مجال لدعوى ذلك أيضا، لعين ما سبق من عدم لحاظ
الجهة المذكورة في مقام الاستعمال، فإن الظاهر أنها كما لا تكون ملحوظة
بنفسها لا يكون الملحوظ سنخها مما يناسب مطلق الطلب.
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن هيئة الفعل الماضي
موضوعة للنسبة التحققية التي تكون تارة: في مقام الاخبار: وأخرى: في مقام
الانشاء، فتفيد في الأول وجود المادة خارجا، وفي الثاني إما أن يراد منها
إنشاء وجود المادة باللفظ اعتبارا، كما في صيغ العقود والايقاعات أو يراد
منها إنشاء تحقق المادة في عالم التشريع، فتفيد طلب المادة من المكلف.
وأما هيئة المضارع فهي موضوعة للنسبة التلبسية الراجعة لتلبس الفاعل
بالمادة فعلا، فتفيد في مقام الاخبار التلبس خارجا، وفي مقام الانشاء إما تلبس
الفاعل بالمادة اعتبارا، كما في صيغ العقود والايقاعات، أو في مقام التشريع،
كما في المقام، فتفيد طلب المادة أيضا.
وبالجملة: الماضي والمضارع موضوعان ومستعملان في النسبة التحققية
أو التلبسية لا غير، إما في الخارج أو في عالم الاعتبار أو في عالم التشريع،
والاخبار والانشاء من المداليل السياقية لا اللفظية.
وحينئذ إذا أفيد بهما الطلب كان محمولا على الوجوب بحكم العقل
بالتقريب المتقدم منه في حمل الصيغة عليه.
ولا يخلو ما ذكره عن غموض وإشكال، لابتنائه..
أولا: على عدم الفرق في مدلول الكلام بين الخبر والانشاء، وقد سبق
في ذيل الكلام في المعنى الحرفي ثبوت الفرق بينهما فيه.
وثانيا: على ما سبق منه في توجيه حمل الصيغة على الوجوب، الذي
292

سبق أيضا المنع منه.
مضافا إلى أن صلوح الكلام لمقام التشريع موقوف على كونه مبرزا
للإرادة أو نحوها مما هو مقوم للتكليف، فلابد من بيان الوجه في صلوح
الجملة الخبرية لذلك. فتأمل.
وإلى أن لازم ذلك صحة الطلب بالفعل الماضي مطلقا كما يصح
الاخبار وإنشاء المادة به كذلك، وقد اعترف بعدم العثور على ذلك في غير
القضايا الشرطية، ومن الظاهر أن الفعل الماضي فيها ينسلخ عن الدلالة على
الزمان الماضي، حيث يكشف ذلك عن عدم صلوح نسبته بنفسها لمقام
التشريع.
الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الجملة
الخبرية الفعلية مستعملة تعبا لوضعها في ايقاع النسبة، غايته أن الداعي لايقاع
النسبة إن كان هو الكشف عن وقوعها في الخارج تمحضت في الخبرية، وإن
كان هو التوسل لوقوعها في الخارج قامت مقام الجملة الانشائية في الطلب،
لدلالتها عليه بالملازمة.
والطلب المذكور وإن أمكن كونه غير إلزامي إلا أنها ظاهرة عند
الاطلاق بمقدمات الحكمة في كونه إلزاميا، للتقريب الثاني أو الثالث المتقدمين
في وجه حمل إطلاق الصيغة عليه.
ويشكل: بأنه التوسل إلى تحقق المضمون في الخارج ليس من دواعي
الكلام عرفا بمقتضى طبعه، بل ليس الداعي له طبعا إلا الحكاية.
وأما إنشاء نفس النسبة وإيجادها بالكلام - كما في صيغ العقود
والايقاعات - فهو يبتني على نحو من التوسع والتصرف في مفاد الكلام على
293

ما سبق في الفرق بين الخبر والانشاء في ذيل الكلام في المعنى الحرفي.
كما أن التوسل بالوجه الذي ذكره من لوازم إبراز الإرادة أو نحوها
مما يقوم التكليف بالكلام، فلابد من توجيه صلوح الكلام، للابراز المذكور،
ولم ينهض كلامه بذلك.
مضافا إلى ما سبق من الاشكال في الوجهين السابقين لاستفادة الالزام
من إطلاق الصيغة.
هذا، وقد جزم بعض مشايخنا باختلاف معنى الجملة الخبرية حين
استعمالها في مقام بيان الطلب عما هي عليه حين استعمالها في مقام الاخبار،
فهي في مقام الاخبار مستعملة في إبراز قصد الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدم
ثبوتها جريا على مقتضى وضعها، وفي مقام بيان الطلب مستعملة في إبراز
الطلب النفسي واعتبار المادة على ذمة المكلف، وإنما تحمل على الوجوب
للوجه المتقدم منه في الصيغة من لزوم امتثال ما أمر به المولى عقلا ما لم
يرخص فيه منه.
ويشكل: بما سبق من أنه ليس مفاد التكليف اعتبار المادة في ذمة
المكلف، وأن ذلك - لو تم - إنما يصلح تفسيرا للتكليف المبرز بالجمل الخبرية،
لا لمفاد الجمل الخبرية أو غيرها من مبرزات التكليف حين إبرازه بها، كيف
وإلا لزم ترادف جميع المبرزات للتكليف؟! فلابد من كون الابراز المذكور
مدلولا التزاميا لها ومن سنخ الداعي منها، مع اختصاص كل منها بمدلول
لفظي يباين مدلول الاخر.
ومن ثم كان المناسب بيان مدلول الجمل الخبرية اللفظي أولا، ثم بيان
وجه صلوحه للابراز المذكور.
294

مضافا إلى ما سبق من الاشكال في الوجه العقلي المذكور لاستفاد
الوجوب.
ولعل الأولى أن يقال: إذا تم استعمال الجمل الخبرية في محل الكلام في
إنشاء الطلب وخروجها عن مقام الاخبار فلا ينبغي التأمل في الخروج بها عن
معانيها الموضوعة لها، لتبادر الحكاية بها عن النسب التامة الخارجية، دون
طلب المادة والبعث إليها، فإرادة الطلب والبعث بها تبتني على عناية خارجة
عما هي موضوعة له، ويكون متبادرا منها، كما أشرنا إليه عند الكلام في
الفرق بين الخبر والانشاء في لواحق المعنى الحرفي.
نعم لا يبعد عدم خروجها في المقام عن الخبرية، فهي مستعملة في مقام
الحكاية والاخبار عن حال المطلوب منه أو المنهي بلحاظ ما ينبغي وقوعه منه
بسبب الطلب أو النهي المتوجهين له، فكأن حضوره للامتثال وكونه في
مقامه قد اخذ مفروض الوجود، والاخبار بوقوع الفعل منه أو عدمه يبتني
على المفروغية عن ذلك، إما لاعتقاد المتكلم ذلك فيه، أو لادعائه له بسبب
ظهور حاله فيه أو تشجيعا أو ترغيبا أو تخويفا.
أو أن الاخبار يكون تعليقيا لبا منوطا بكونه في مقام الامتثال وعدم
الخروج عما يراد منه.
وعلى كلا الوجهين يكشف عن ثبوت الطلب أو النهي، ويصلح لبيان
أحدهما، لكونهما ملزومين للمدلول اللفظي للجملة، وهو وقوع الفعل أو
عدمه من المكلف من حيثية كونه مطيعا.
وبهذا يمكن توجيه دلالة الجملة الاسمية على الطلب، وإن أهمل التعرض
لها في بعض الوجوه المتقدمة، كما في مثل قوله تعالى: (فمن فرض فيهن
295

الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (1)، فيحمل على الاخبار
بعدم وقوع هذه الأمور ممن فرض الحج للمفروغية عن كونه في مقام القيام
بوظائف الحج وفروضه. فلاحظ.
وكيف كان، فبعد فرض ظهور الجمل المذكورة في بيان الطلب
أو الزجر، إما لسوقها في مقام الانشاء مجازا، أو للاخبار بالوجه المتقدم
فالظاهر من المرتكزات الاستعمالية سوقها لبيان أصل الطلب والزجر،
لا خصوص الإلزامي أو غير الإلزامي منهما، ولا بنحو تكون مرددة بينهما
فقد أو مع مطلق الطلب أو الزجر، لتكون مجملة، لعين ما سبق في الصيغة من
صلوحها للالزامي وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة له ارتكازا.
وحينئذ يتجه حمل إطلاقها على خصوص الإلزامي منهما للوجه المتقدم
في الصيغة من دون خصوصية لها في ذلك.
كما أنه يتجه حمل الجمل الاثباتية منها الواردة عقيب النهي أو في مورد
توهمه على مجرد الترخيص في الفعل، وحمل الجمل السلبية منها الواردة عقيب
الامر أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الترك، لان المتيقن سوقها
لبيان أحد الامرين دون الطلب أو الزجر، لعدم ظهورها في أحدهما.
فهي إما أن تكون مستعملة في إنشاء الاذن والسعة مجازا، أو مسوقة
للاخبار عن حال الفاعل في فرض تعلق إرادته بالفعل أو الترك جريا على
مقتضى السعة والاذن المقصود بيانهما بالجمل الذكورة.

(1) سورة البقرة: 197.
296

الفصل الخامس
في سعة كل من الأمر والنهي موضوعا وحكما
لا يخفى أن ورود الامر أو النهي على الطبيعة يرجع إلى نحو نسبة بين
الامر والمأمور والمأمور به، أو بين الناهي والمنهي والمنهي عنه، وبتلك النسبة
قوام الحكم الشرعي الذي هو محل الكلام في المقام.
ومن الظاهر أن كلا من الامر والناهي والمأمور والمنهي لا سعة فيه، بل
هو شخصي لا ينطبق على كثيرين ولا يقبل الاطلاق والتقييد، والذي يقبل
السعة والضيق أحد أمرين:
الأول: المأمور به والمنهي عنه، لأنهما عبارة عن الطبيعة الكلية القابلة
للاطلاق والتقييد.
الثاني: نفس النسبة التي يتقوم بها الحكم الشرعي، لأنها وإن كانت
جزئية إلا أنها تقبل نحوا من السعة لاطلاقها أو الضيق لتقييدها بشرط أو غاية
أو نحوهما، على ما سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي. فراجع. والمتبع في
تحديد سعة كل من الامرين في مقام الاثبات ظاهر الدليل على ما يتضح
المعيار فيه في محله.
ثم إنه بعد تحديد سعة كل منهما إطلاقا أو تقييدا فالظاهر المصرح به في
كلام جماعة اختلاف الأمر والنهي في جهتين:
297

الأولى: أنه يكفي في موافقة الامر والجري على مقتضاه تحقيق صرف
الوجود للماهية المأمور بها مطلقة كانت أو مقيدة، ولا يعتبر استيعاب
أفرادها بخلاف النهي، حيث لابد من موافقته، والجري على مقتضاه من
استيعاب تمام أفراد الماهية المنهي عنها بالترك، ولا يكفي ترك بعضها مع فعل
غيره.
الثانية: أن مقتضى الامر الجري عليه وموافقته - بتحقيق صرف الوجود
- في بعض أزمنة وجوده.
أما النهي فهو يقتضي الجري عليه - بترك تمام أفراد الطبيعة - في تمام
أزمنة وجوده، ولا يكفي ترك تمام الافراد في بعض أزمنة وجوده مع فعل
شئ منها في بقيتها.
والظاهر أن الفرق المذكور ليس عقليا ممتحضا لمقام الطاعة ومن
شؤون الامتثال، مع عدم اختلافها في مقام الجعل، بل هو متفرع ثبوتا على
الفرق بينهما في مقام الجعل تبعا للفرق بينهما في الملاك، وإثباتا على ظهور
دليل كل منهما فيما يناسبه.
ومن هنا يقع الكلام في وجه الفرق بينهما من الجهتين المذكورتين وقد
سبق في مقدمة الكلام في هذا المقصد أن الفرق بين الأمر والنهي ليس من
جهة المتعلق، بل متعلقهما واحد، وهو الطبيعة، وليس الاختلاف بينهما إلا
ذاتيا مستتبعا للفرق في الاقتضاء، فالامر يقتضي الفعل والنهي يقتضي
الترك، فلابد من استناد الفرق بينهما لذلك.
وقد ذكروا في منشأ الفرق المذكور وجوها لا يخلو بعضها عن إشكال
في نفسه، وبعضها وإن كان تاما في نفسه إلا أن الفرق لا يستند إليه ارتكازا،
298

للغفلة عنه، ولابد في القرينة من أن تلحظ ولو ارتكازا في مقام الإفادة
والاستفادة، ومن هنا لا مجال لإطالة الكلام فيما ذكروه.
ولعل الأولى أن يقال: الطبيعة التي يتعلق بها الأمر والنهي لما لم تكن
مقيدة بنحو خاص تعين حملها على الماهية الخارجية بما لها من حدود مفهومية
تكون بها صالحة للانطباق على تمام أفرادها وعلى بعضها بنحو واحد، وهي
المعبر عنها بالماهية المرسلة، لا خصوص الماهية المقيدة بالسريان أو بالبدلية،
لان السريان المتقوم باجتماع الافراد، والبدلية المتقومة بالاكتفاء ببعضها،
قيدان زائدان على الطبيعة خارجان عن مفهومها، لا قرينة على كل منهما
ولا مرجع لأحدهما، بل مقتضى الاطلاق عدم أخذهما في متعلق كل من
الأمر والنهي.
نعم، حيث كان مقتضى الامر إيجاد متعلقه، ومقتضى النهي تركه،
فسعة انطباق الماهية مستلزمة للاكتفاء بصرف الوجود منها، الحاصل بالفرد
والافراد، وعدم الاكتفاء في امتثال النهي إلا بترك جميع الافراد، لان إيجاد
أي فرد لها لا يجتمع مع ترك الماهية المذكورة، بل هو إيجاد لها.
ومن هنا يظهر أن حمل الامر على البدلية، والنهي على السريان
والاستغراق، ليس لان متعلق الأول الماهية البدلية، ومتعلق الثاني الماهية
السارية، كي يطالب بوجه الفرق بينهما، بل قد لا يناسب ما سبق من وحدة
متعلقهما، بل لان سعة الماهية التي هي المتعلق لهما مع اختلاف الأمر والنهي
في الاقتضاء - لان الأول يقتضي الفعل والثاني يقتضي الترك - مستلزمان
للاختلاف بينهما في كيفية الامتثال، فيكفي في امتثال الامر بتحقق صرف
الوجود، ولا يكتفى في امتثال النهي إلا بترك تمام الافراد.
299

ولذا كان التحقيق أن ما زاد على الفرد الواحد لا يكون خارجا عن
الامتثال، كما هو لازم كون متعلق الامر الماهية البدلية.
ويؤكد الوجه الذي ذكرناه ويؤيده ما ذكره غير واحد من أن تعذر
تحقيق جميع أفراد الطبيعة الطولية والعرضية بضميمة عدم التقييد في متعلق
الأمر والنهي بأفراد معينة يمكن الجمع بينها، كاشف عن عدم كون الامر بها
بنحو الاستغراق، بل بنحو يكفي في امتثاله أي فرد، وعن عدم كون النهي
عنها بنحو البدلية، لتحقق ترك بعض الافراد قهرا، بل بنحو الاستغراق.
وإن كان الظاهر عدم كون ذلك منشأ للفرق لعدم دخله ارتكازا في
فهم الكلام، ولابد في القرينة من أن تلحظ في مقام الإفادة والاستفادة، كما
سبق.
ومما ذكرنا يتضح توجه الفرق المذكور حتى بناء على أن اختلاف الأمر والنهي
إنما يكون في المتعلق، وأن الامر عبارة عن طلب الفعل والنهي عبارة
عن طلب الترك، إذ لما كان يكفي في فعل الطبيعة إيجاد بعض أفرادها تعين
الاكتفاء به في امتثال طلب الفعل، ولما كان تركها لا يتحقق إلا بترك تمام
أفرادها تعين توقف امتثال طلب تركها عليه.
لكن هذا الوجه كأكثر الوجوه المذكورة في كلماتهم إنما ينهض ببيان
الفرق من الجهة الأولى دون الثانية، لوضوح أن توقف ترك الماهية على ترك
تمام الافراد إنما يقتضي توقف امتثال النهي على تركها، أما لزوم استمرار
الترك المذكور في تمام أزمنه النهي فهو أمر آخر لا يقتضيه الوجه المتقدم.
ودعوى: أن ترك الماهية كما يتوقف على ترك أفرادها العرضية يتوقف
على ترك أفرادها الطولية، وهو لا يكون إلا باستمرار الترك في تمام الأزمنة.
300

مدفوعة: بأن ترك تمام أفراد الماهية في بعض الأزمنة ترك لتمام أفرادها
الطولية فيه وإن كان لتعذرها، ولا يعتبر في امتثال النهي كون تمام الافراد
المتروكة اختيارية مقدورة.
وليس منشأ الفرق من الجهة الثانية توقف ترك الماهية على ترك أفرادها
الطولية والعرضية، بل اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام أزمنة وجود
موضوعه، بخلاف الامر، حيث لا يقتضي إلا الفعل في بعض أزمنة وجود
موضوعه.
ولا ينهض ببيان الفرق من هذه الجهة الوجه المتقدم ولا غيره مما سبق
في مساقه، كما يظهر بالتأمل فيها، حتى المؤيد السابق، لوضوح أن تعذر
استيعاب أفراد الماهية بالايجاد إنما يقتضي امتناع الامر بها بنحو يقتضي الجمع
بينهما ولغوية النهي عنها بنحو يقتضي الاكتفاء بترك بعضها، لا امتناع الامر
بنحو يقتضي الاشتغال في تمام أزمنته بإيجاد بعض الافراد، ولا لغوية النهي
بنحو يقتضي ترك الجميع في خصوص بعض أزمنته كما لعله يظهر بالتأمل.
ولعل الأولى في وجه الفرق بينهما من الجهة الثانية ما نبه له سيدنا
الأعظم (قدس سره) وتوضيحه: أن مقتضى الأمر والنهي ليس هو الفعل
والترك بمعناهما الاسمي، كي يكون مقتضى إطلاق النهي الاكتفاء بتحقق
الترك - لتمام الافراد - ولو في بعض الأزمنة، كما أن مقتضى إطلاق الامر
الاكتفاء بتحقق الفعل - لبعض الافراد - في بعضها، لما هو الظاهر من عدم
أخذ الفعل والترك بمعناهما الاسمي في متعلق الأمر والنهي، بل ليس متعلقهما
إلا الطبيعة، مع اختلاف نحو النسبة فيهما إليها بالنحو المقتضي ارتكازا للفعل
والترك بمعناهما الحرفي المطابق لنسبة القضية الحملية الموجبة أو السالبة، فيكون
301

امتثال الامر بتحقيق مفاد القضية الموجبة، وامتثال النهي بتحقيق مفاد القضية
السالبة.
ولذا ناسب قيام الجملة الخبرية الحملية الموجبة أو السالبة مقام الجملة
الطلبية المفيدة للامر والنهي، خصوصا بناء على ما سبق في توجيه قيامها
مقامها.
كما لم يكن الفرق ارتكازا بين أداة النفي والنهي إلا في سوق الأولى في
مقام الحكاية، والثانية في مقام الزجر، مع التطابق بينهما في سعة المفاد.
وحينئذ يتجه الفرق المذكور بين الأمر والنهي، لما هو المعلوم من أنه
يكفي في صدق القضية الموجبة تحقق النسبة ولو في بعض أزمنتها، ولا يكفي
في صدق السالبة إلا استمرار السلب في تمام أزمنتها، ولا يكفي تحققه في
بعضها إلا مع تقييدها الذي هو خلاف الفرض.
ولذا كان التناقض ارتكازيا بين قولنا: ضرب زيد، وقولنا: لم يضرب
زيد، وبين قولنا: يضرب زيد، وقولنا: لا يضرب زيد، بخلاف قولنا: فعل
الضرب، و: تركه، و: يفعل الضرب، و: يتركه، لان الترك فيهما مأخوذ
بمعناه الاسمي، الذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول، والذي يكتفى فيه
بالترك في بعض الأزمنة ولو مع الفعل في بعضها.
ويؤيد هذا الوجه غلبة استمرار المكلف في فعل المنهي عنه في تمام
أزمنة النهي، فلو أريد من النهي ما يكتفي في امتثاله بالترك في بعض الأزمنة
كان ترتب الأثر عليه نادرا.
ولعل ما ذكرنا هو الوجه في تبادر إرادة استمرار الترك من لفظ التحريم
ومن مادة النهي ونحوهما مما يقتضي ترك الفعل، لظهور أن المراد بها ما يراد
302

بأداة النهي.
بل لعله هو الوجه في انسباق ذلك من الامر بالترك - مع أن الجمود
على مدلوله اللفظي الحقيقي لا يقتضيه كما سبق - لان المستفاد منه إرادة
تحريم العمل لا وجوب تركه.
هذا حاصل ما تيسر لنا في وجه الفرق بين الأمر والنهي من الجهتين
المذكورتين، الذي هو من الوضوح بحد يستغني عن التوجيه لولا طروء
بعض الشبه والمناقشات التي يكفي في دفعها ما سبق.
ومن هنا ينبغي الكلام فيما يتعلق بذلك ويترتب عليه مما وقع موردا
للبحث في كلامهم في مباحث الأوامر والنواهي.
واستيفاؤه يكون في ضمن مسائل..
المسألة الأولى: في المرة والتكرار
اختلفوا في أن الامر هل يقتضي المرة في الامتثال أو التكرار أو
لا يقتضي شيئا منهما.
والظاهر أن البحث راجع إلى مقام الجعل وتشخيص حال الامر، الذي
يتفرع عليه مقام الامتثال، لا إلى مقام الامتثال رأسا بعد الفراغ من عدم
اقتضاء أحد الامرين في مقام الجعل، لتكون من لواحق مسالة الاجزاء، لخروج
ذلك عن ظاهر كلامهم ومساق حججهم.
هذا، وفي الفصول أن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة، بل نص جماعة
على اختصاصه بها، ولذلك عدها من مباحث الصيغة.
إلا أن بعض حججهم لا يناسب الاختصاص المذكور.
ولهذا ألحقناها بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي
303

مطلقا مع قطع النظر عن الصيغة.
إذا عرفت هذا فالمرة والتكرار تارة: يجعلان من شؤون المكلف به
المستفاد من المادة أو نحوها.
وأخرى: يجعلان من شؤون التكليف المستفاد من الصيغة أو نحوها.
أما على ا لأول الذي هو ظاهرهم فالظاهر - كما صرح به جماعة - عدم
اقتضاء التكليف بنفسه المرة ولا التكرار.
إذ ما دل على التكليف - كالصيغة وغيرها - لا يتعرض له.
وما دل على المكلف به - كالمادة ونحوها - إنما يدل على الماهية من
حيث هي، والمرة والتكرار خارجان عنها، فينهض الاطلاق بنفي اعتبار
التكرار، كما ينهض بنفي اعتبار المرة لو أريد به ما يساوق مانعية التكرار.
وكذا لو أريد به كون ما زاد على المرة خارجا عن المكلف به وإن
لم يكن مانعا منه، لمنافاته لاطلاق الماهية المستلزم لصدقها على القليل والكثير.
نعم، لو لم يكن للتكليف إطلاق فالأصل إنما ينهض بنفي اعتبار التكرار
ونفي مانعيته لا غير، من دون أن يتعرض لخروج ما زاد على المرة في المكلف
به أو دخوله فيه في ضرف وجوده، لعدم اقتضاء كل منهما زيادة كلفة في
مقام العمل.
نعم، يأتي تقريب حكم العقل بالمرة في الجملة في مقام الفراغ والامتثال
لا في مقام الجعل.
وأما على الثاني فلا إشكال في المرة بمعنى وحدة التكليف المجعول بعد
ما سبق من كون المكلف به هو الطبيعة من حيث هي، لاستحالة اجتماع
المثلين، ولابد في تعدده من تعدد متعلقه، لقيام القرينة على أن المكلف به ليس
304

هو الطبيعة من حيث هي، بل بنحو الاستغراق لجملة من الافراد، حيث يمكن
حينئذ تعدد التكليف تبعا لها، كما يمكن وحدته وتعلقه بها بنحو المجموعية،
والمتبع في إثبات أحد الامرين ظاهر الدليل.
وكذا لو ابتنى التكليف على الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد
الموضوعات المفروضة، كما في القضايا الحقيقية، كقوله تعالى: (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل...) (1) حيث كان ظاهره تعدد الموضوع
بتعدد أفراد الدلوك، فيتجدد التكليف بتجدده في كل يوم، المستلزم لتعدد
الصلاة الواجبة تبعا لتعدد التكليف، وعدم كون الواجب طبيعة الصلاة من
حيث هي الصادقة بالفرد الواحد، لامتناع تعدد التكليف بها، كما ذكرنا،
وتمام الكلام فيه في مبحث التداخل من مفهوم الشرط. فلاحظ.
ولعل ذلك هو منشأ القول بالتكرار، لان الشائع في الأحكام الشرعية
أن يكون تشريعها بنحو القضية الحقيقة.
وإلا فمن البعيد جدا البناء على لزوم التكرار من دون أن يتجدد
موضوع التكليف، مع وضوح خروجه عن طريقة العقلاء في فهم دليل
التكليف وامتثاله بنحو يلحق بالبديهيات.
لكن البناء على التكرار لتجدد موضوع التكليف لا يرجع إلى إفادة
الامر التكرار، الذي هو ظاهر تحرير محل النزاع، بل إلى ظهور القضية في
الحقيقية المنحلة إلى قضايا متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة، وهو أجنبي
عن محل الكلام جار في غير الامر أيضا.

(1) سورة الإسراء: 78.
305

وكيف كان، فلا ينبغي التأمل فيما ذكرنا، وإن أطال غير واحد في
استطراد حجج القولين بما لا مجال للتعرض له بعد ما سبق، لظهور ضعفها
بأدنى تأمل.
نعم، قد يستدل على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الامر تارة: بقوله
(صلى الله عليه وآله): " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ".
وأخرى: باستصحاب وجوب الطبيعة بعد الاتيان بها مرة.
ويظهر اندفاع الأول مما ذكرناه في تعقيب الاستدلال بالحديث على
قاعدة الميسور من ضعفه في نفسه وظهوره في الاستحباب.
وأما الثاني فهو - مع أنه لا يقتضي لزوم التكرار إلا بناء على الفور،
وإلا فلا يمنع من الاكتفاء بالمرة في آخر الوقت، كما لا يخفى - مندفع: بأن
فرض تعلق الوجوب بالطبيعة على إطلاقها مستلزم للعلم بسقوطه بالمرة كما
يأتي. واحتمال بقاء الوجوب إنما يكون لاحتمال تعلقه بالطبيعة بقيد التكرار
الذي سبق أنه مخالف للاطلاق والأصل.
تنبيهان
الأول: بناء على ما ذكرنا من تعلق الامر بالطبيعة من حيث هي من
دون تقييد بمرة أو تكرار، سواء أحرز عدم التقييد بالاطلاق أم بالأصل،
فلا إشكال في تحقق الامتثال بفرد واحد، لصدق الطبيعة به.
وكذا بأفراد متعددة إذا كانت في دفعة واحدة - بأن يفرغ منها في
زمان واحد - لصدق الطبيعة المرسلة عليها بعين صدقها على الفرد الواحد.
وإليه يرجع ما قيل من الاكتفاء في الامتثال بصرف الوجود الصادق
على القليل والكثير.
306

وإن لم تكن في دفعة واحدة - بأن يفرغ من بعضها قبل الفراغ من
الاخر - فلا إشكال في تحقق الامتثال بالفرد الذي يسبق الفراغ منه وإن تأخر
الشروع فيه، لانطباق الطبيعة عليه الموجب لسقوط التكليف بتحقق مقتضاه.
ومعه يمتنع الامتثال بالفرد اللاحق، فلا يكون امتثالا مستقلا بعد
الامتثال بالأول، ولا يكون دخيلا في الامتثال الواد، بحيث يكون الامتثال
بكلا الفردين، كما لو كانا في دفعة واحدة، لان سقوط الامر وخروج
المكلف عن عهدته أمر غير قابل للتعدد عقلا، فإذا استند للفرد السابق
لانطباق الطبيعة عليه وتحقق مقتضى الامر به يمتنع استناده للفرد اللاحق، على
ما هو الحال في جميع موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد، حيث
يستند المعلول للجميع مع تقارنها وللأسبق مع ترتبها.
والتخيير بين الأقل والأكثر لو تم مبني على تقييد الطبيعة المأمور بها
بنحو يمنع من انطباق المأمور به على الفرد الواحد في ظرف وجود فرد بعده،
وهو خلاف فرض إطلاق الطبيعة في المقام.
وأما ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في توجيه عدم صلوح الفرد
الثاني للامتثال من أن إطلاق المادة يقتضي أن يراد بها صرف الوجود
الصادق على القليل والكثير، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق، لأنه وجود
بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم.
ففيه: أن المأمور به ليس هو صرف الوجود بالمعنى الذي ذكره، الذي
لا ينطبق على الوجود اللاحق، لعدم أخذ مفهومه في المأمور به بل ليس
المأمور به إلا الطبيعة بما لها من حدود مفهومية بعد لحاظها خارجية بنحو
الارسال، ولا إشكال في صدقها على الافراد المتعاقبة، كما تصدق على
307

الافراد المقارنة وعلى الفرد الواحد.
وقد يراد بصرف الوجود ذلك.
وإن شئت قلت: عدم الامتثال بالفرد اللاحق ليس لعدم انطباق المأمور
به في مقام الجعل عليه، بل لامتناع دخله في سقوط الامر بعد استقلال الفرد
السابق بالامتثال بسبب انطباق المأمور به عليه.
فهو أمر عقلي من شؤون مقام الامتثال، ولا يرجع إلى مقام الجعل.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن الحق بلحاظ نفس التكليف هو المرة
بمعنى الفرد، في مقام الجعل. وإما بلحاظ المكلف به فلا مجال للبناء على المرة
أو التكرار في مقام الجعل، بل يتعين البناء على المرة بمعنى الدفعة - مع وحدة
الفرد أو تعدده - في مقام الامتثال بحكم العقل. والمعيار في الدفعة مع تعدد
الافراد هو التقارن في الفراغ عنها ولو مع الترتب في الشروع فيها.
الثاني: مبنى الأصحاب في جملة من المقامات على حمل الأوامر الندبية
على السريان والاستغراق فيسري الامر إلى جميع الافراد الطولية والعرضية،
بنحو يقتضي التكرار دون صرف الوجود، لانحلال الامر بالطبيعة إلى أوامر
متعددة بعدد الافراد، كما في الامر بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والبر
والاحسان وغيرها، مع أن ما ذكرناه في الأوامر الوجوبية آت فيها.
وقد وجهه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بناء على ما ذكرناه في
الأوامر، من أن مقتضى القاعدة حمل الاطلاق فيها على السريان لولا تعذر
الجمع بين الافراد الملزم بحمله على صرف الوجود. وهو مختص بالأوامر
الوجوبية، أما الندبية في محذور في حملها على السريان مع تعذر الجمع بين
الافراد، لأنها حيث لا تقتضي الالزام بصرف القدرة لامتثالها لا تمنع من فعلية
308

الامر بما يزاحمها، فيتعين حمل إطلاقها على السريان بعد أن كان هو مقتضى
القاعدة.
وقد يناسبه - أيضا - الوجه المتقدم في تأييد الوجه المختار في الفرق بين
الأمر والنهي.
لكن لمما سبق أن القاعدة لا تقتضي حمل الاطلاق على السريان
بعد أن كان أمرا زائدة على الماهية، بل يلزم الحمل على الماهية المرسلة،
ولازمة الاكتفاء في امتثال الامر بصرف الوجود مع قطع النظر عن قرينة تعذر
الجمع بين الافراد، فلا يختص بالأوامر الوجوبية، بل يجري في الندبية، كما
ذكرنا.
ومن هنا كان الظاهر العمل بما يقتضيه الاطلاق المذكور في الأوامر
الندبية كالوجوبية، والحمل فيها على السريان والاستغراق إنما يكون لقرينة
خاصة خارجية تقتضي ذلك، وهي كثيرة في مواردها، مثل ما تضمن أن
الصلاة خير موضوع، وأن ذكر الله حسن على كل حال، أو المناسبات
الارتكازية العرفية أو المتشرعية التي قد تقتضي ذلك فيها، كما قد تقتضيه في
الأوامر الوجوبية، كما أنه قد تقتضي الاكتفاء بصرف الوجود، كما في مثل
غسل اليدين قبل الطعام، لارتكاز أن المراد به التنظيف الذي يكفي فيه ذلك.
المسألة الثانية: في الفور والتراخي
مما وقع الكلام بينهم أن الامر هل يقتضي الفور - بمعنى المبادرة للامتثال
في الزمن الثاني من الخطاب، أو في أول أزمنة الامكان - كما عن الشيخ
(قدس سره) وجماعة، أو التراخي بمعنى جواز التأخير.
وأما بمعنى لزوم التأخير فلم أعثر عاجلا على قائل به، وإنما يظهر من
309

الفصول وجود متوقف فيه يرى أن التأخير هو المتيقن من الامتثال.
هذا وقد صرح في الفصول بأن النزاع إنما هو في استفادة أحد الامرين
من خصوص الصيغة، وهو المناسب لاخذ غير واحد لها في موضوع النزاع
عند تحريره.
لكن ملاحظة مجموع كلماتهم وحججهم تشهد بعدم اختصاص النزاع
بها، بل يعم استفادة أحد الامرين من دليل خارجي شرعي أو عقلي يقتضي
أحدهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.
بل قد يعم لزوم الفور عقلا في مقام الامتثال، لا شرعا في مقام الجعل.
ولذا ألحقنا هذه المسألة بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي
مطلقا، لا بالفصل الثالث الذي يبحث فيه عن الصيغة.
إذا عرفت هذا، فالحق ما ذكره جماعة من عدم لزوم الفور ولا التراخي،
لا شرعا في مقام الجعل، ولا عقلا في مقام الامتثال.
أما في مقام الجعل فلخروجها عن مفاد المادة والهيئة ونحوهما مما يدل
على المكلف به والتكليف، لعدم دلالة المادة ونحوها مما يدل على المكلف به
إلا على الماهية الصادقة بنحو واحد على الافراد الطولية والعرضية، ومقتضى
إطلاقها الاجتزاء بكل منها.
كما أن الهيئة ونحوهما مما يدل على التكليف لا تدل إلا على البعث نحو
المكلف به وطلبه على ما هو عليه من السعة، فلا تقتضي وجوب خصوص
فردها السابق زمانا بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.
ودعوى: أن البعث الاعتباري يستتبع الانبعاث حين تحققه للتلازم
بينهما عرفا، كملازمة البعث الخارجي للانبعاث حقيقة.
310

ممنوعة، لان البعث والانبعاث الخارجيين متلازمان تلازم المتضايفين،
فيمتنع انفكاك أحدهما عن الاخر عقلا، أما البعث الاعتباري بالخطاب
بالتكليف فهو غير ملازم للانبعاث بمعنى فعلية الإطاعة لا عقلا ولا عرفا،
لوضوح تخلفها عنه كثيرا، وإنما يلازم الانبعاث بمعنى إحداث الموضوع
للإطاعة بالنحو الصالح للداعوية للعمل، أما نحو العمل المدعو إليه فهو تابع
للمأمور به سعة وضيقا، فمع فرض ظهور إطلاقه في إرادة الطبيعة على سعتها
لا وجه لكون البعث سببا لاحداث الداعي نحو خصوص بعض أفراده بالنحو
الملازم للبدار.
ولذا لا إشكال ظاهرا في عدم اقتضاء الامر بنفسه البدار لو كان
الواجب موقتا بوقت واسع - بناء على ما هو المعروف من إمكانه - مع
وضوح إمكان البدار للطبيعة المقيدة بالوقت المذكور كالطبيعة المطلقة.
نعم، لو كان المدعى ظهور الصيغة أو نحوها في البعث نحو العمل بنحو
البدار كان راجعا لتقييد المأمور به بالفرد السابق.
لكن لا طريق لاثبات ذلك، بل المرتكزات تقضي بتمحضها في البعث
نحو الطبيعة.
فلا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب.
كما لا مجال لاستفادته من الامر بالمسارعة والاستباق في قوله
تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات
والأرض) (1) وقوله سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها

(1) سورة آل عمران: 133.
311

كعرض السماء والأرض) (1) وقوله عز اسمه: (فاستبقوا الخيرات...) (2).
بدعوى: أنه ليس المراد من المغفرة والجنة إلا سببهما ومنه فعل
الواجبات، التي هي أيضا من الخيرات.
لاندفاعها: بأن سببية فعل الواجبات للمغفرة والجنة وكونه من الخيرات
- بناء على أن المراد بها الأخروية، كما هو الظاهر، وعليه يبتني الاستدلال -
في رتبة متأخرة عن تعلق الامر بها، فلا يصلح الامر بالمسارعة والاستباق إليها
- الذي هو متأخر رتبة عن سببيتها وعن صدق عنوان الخيرات عليها - لتقييد
المأمور به منها شرعا، بنحو يكون عدم المسارعة والاستباق مخرجا لها عن
كونها سببا للمغفرة والجنة ومن الخيرات، لعدم الامر بها بدونهما.
مع أنها لو حملت على الالزام المولوي لزم تخصيص الأكثر، لخروج
الواجبات الموسعة والمستحبات، مع إباء عمومها ارتكازا عن التخصيص،
كما نبه له غير واحد.
ودعوى: أن خروجها تخصص لا تخصيص، لاستحالة وجوب المبادرة
لما يجوز تركه، فلا يهم كثرته.
ممنوعة، لان استحالة شمول الحكم لبعض أفراد العام لا يقتضي خروجه
تخصصا، بل هو تخصيص عقلي قد يستبشع إذا كثر أو كان العام آبيا عن
التخصيص، فيكون قرينة على إرادة ما لا يلزم منه ذلك.
ومنه يظهر أنه لا مجال لحملها على وجوب الفور بنحو تعدد المطلوب

(1) سورة الحديد: 21.
(2) سورة البقرة: 148.
312

- لا بنحو وحدة المطلوب الراجع إلى تقييد المأمور به - وإن لم ينهض بمنعه
الوجه الأول. بل يتعين حملها على الارشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن
البدار للطاعات مطلقا وانتهاز الفرصة في اكتساب الخيرات وإن لم تكن
واجبات.
هذا، وربما يدعى استفادة التقييد بالفور من حكم العقل لبعض الوجوه
التي أغنى ضعفها عن إطالة الكلام فيها، ولا سيما مع التصدي لدفعها في
المعالم والفصول. فراجع.
وأما الاستدلال للزوم التراخي بما قيل: من أن الواجب غالبا يحتاج إلى
مقدمات مستلزمة للتراخي في امتثاله.
فهو كما ترى! لان الاضطرار للتراخي غالبا لا يكشف عن مطلوبية
بنحو تعدد المطلوب فضلا عن وحدته بنحو لا يجزي الفعل لو وقع في أول
أزمنة التكليف، لعدم احتياجه إلى مقدمات تقتضي صرف الوقت أو لتحققها
قبله.
ومن هنا كان الظاهر عدم لزوم الفور ولا التراخي.
نعم، قد يستفاد الفور العرفي من شاهد الحال، كما يكثر في الخطابات
الشخصية غير المبنية على القوانين العامة، حيث يغلب صدورها عند حضور
وقت العمل وتحقق الحاجة للامر به، لا لمحض بيان تحقق موضوع التكليف،
ولا يبعد كون الغلبة المذكورة قرينة على حمل الخطابات المذكورة على
ذلك عند الشك، سواء كانت الخطابات تنجيزية، كما في قول القائل: ناولني
ماء أو أغلق الباب، أم تعليقية، كما في قوله: إن جاء زيد فأكرمه، وإن
أحسن إليك فكافئه، وإن كانت المناسبات العامة الارتكازية والقرائن الخاصة
313

قد تقتضي تعيين وقت خاص.
وهذا بخلاف الخطابات المتضمنة للقوانين العامة، كما في الأحكام الشرعية
وغيرها، فان الظاهر سوقها - تبعا لمدلولها اللفظي - لمحض بيان تحقيق
موضوع التكليف، من دون نظر لوقت العمل به، بل مقتضى الاطلاق المتقدم
السعة فيه.
هذا كله لو كان للخطاب بالتكليف إطلاق، أما بدونه فلا ينبغي التأمل
في أن مقتضى البراءة عدم وجوب الفور لو احتمل وجوبه بنحو تعدد
المطلوب، بأن يكون تكليفا زائدا على التكليف بالواجب.
وأما لو احتمل وجوبه قيدا في الواجب بنحو وحدة المطلوب فالكلام
فيه هو الكلام في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الذي كان
التحقيق فيه جريان البراءة.
وحينئذ لو لم يأت به فورا يتجه استصحاب التكليف بالطبيعة في الان
الثاني وما بعده على ما هو عليه من التردد بين الفور وعدمه، لأنه صالح
للداعوية عقلا لأصل الطبيعة، نظير صلوح التكليف المردد بين الأقل والأكثر
للداعوية نحو الأقل.
وبه ينحل العلم الاجمالي إما بوجوب الفعل فورا أو بقاء التكليف به
لو لم يأت به فورا، المقتضي للاحتياط بالمبادرة ثم التدارك مع عدمها
لولا الانحلال بالاستصحاب المذكور. فتأمل جيدا.
هذا كله في استفادة أحد الامرين - من الفور أو التراخي - في مقام
الجعل شرعا.
وأما في مقام الفراغ والامتثال فقد يدعى حكم العقل بلزوم الفور
314

ولو مع السعة في مقام الجعل، لان الإطاعة من حقوق المولى، ويجب المبادرة
بأداء الحق ولا يجوز المماطلة به.
وفيه: أن وجوب المبادرة بأداء الحق شرعي مختص بالاستحقاق المساوق
للملكية الاعتبارية، كاستحقاق الدين في الذمة، لما في حبسه من التصرف في
الملك بغير إذن صابه المنافي لسلطنته.
أما استحقاق الإطاعة عقلا فهو نحو آخر من الاستحقاق تابع بنظر
العقل لداعوية التكليف سعة وضيقا، فإذا كان الامر يدعو للطبيعة على ما هي
عليه من السعة بنحو تنطبق على الافراد اللاحقة كالسابقة لا يحكم العقل
بوجوب المبادرة والاقتصار في الإطاعة على الافراد السابقة.
ولذا لا إشكال ظاهر في عدم لزوم الفور في الموقتات الموسعة، مع
كون أدائها حقا للمولى أيضا، لعدم الفرق بينها وبين المطلقات إلا في استفادة
السعة فيها في مقام الجعل من صريح الخطاب، وفي المطلقات من الاطلاق،
ولا دخل لذلك بالفرق في مقام الفراغ والامتثال.
وبالجملة: لا مجال للبناء على لزوم الفور في مقام الامتثال مع فرض
السعة في مقام الجعل.
نعم لو علم بالعجز عما عدا الفرد الأول لزمت المبادرة إليه بمقتضى
لزوم الإطاعة، كما هو الحال في سائر موارد انحصار القدرة ببعض أفراد
الواجب.
بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ والامتثال المبادرة مع احتمال تجدد
العجز عن الطبيعة في الزمن اللاحق، لولا أصالة السلامة المعول عليها عند
العقلاء في سائر الموارد، إلا أن يكون هناك مثير لاحتمال العجز بنحو يعتد به
315

العقلاء، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة وفتاوى الأصحاب بلزوم المبادرة
لتفريغ الذمة مع ظهور أمارات الموت.
لكنه لا يرجع إلى وجوب المبادرة واقعا في مقام الفراغ والامتثال، كما
هو محل الكلام، بل ظاهرا عند الشك في القدرة على الامتثال بدونها.
المسألة الثالثة: فيما يتعلق بالنهي
حيث سبق أن امتثال النهي إنما يكون بترك تمام أفراد الطبيعة المنهي عنها
في تمام أزمنة النهي كان مناسبا للفور والتكرار على خلاف ما سبق في الامر،
وليس هو موردا للاشكال عندهم.
وإنما وقع الكلام في أمرين:
الامر الأول: في أنه هل يكتفي في امتثال النهي وموافقته بمحض الترك
ولو مع الغفلة عن العمل المنهي عنه أو تعذره، أو لابد فيه من كف النفس
عنه الموقوف على الالتفات إليه ثم الاعراض عنه.
وقد يظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى حاق اللفظ هو الاكتفاء
بمحض الترك. وكأنه لما أشرنا إليه آنفا من أن مقتضى النهي عرفا هو مفاد
القضية الحملية السالبة.
ودعوى: أن النهي لما كان مسوقا لاحداث الداعي للترك كان مقتضاه
صدور الترك بداعية، المستلزم للكف، لا بداع آخر ولا غفلة.
مدفوعة: بأن مرجع ذلك إلى حمل النهي على التعبدي، فيجري فيه
ما يجري في أصالة التعبدية في الامر مما يأتي الكلام فيه، بل لا يظن ممن التزم
بأصالة التعبدية في الامر الالتزام بها في النهي.
على أن ذلك لا يقتضي لزوم الكف مطلقا، بل في خصوص صورة
316

الاطلاق، لما هو المعلوم من إمكان كون التكليف توصليا، بل كثرته، وإنما
الكلام في الحمل عليه مع الاطلاق. فتأمل.
وكيف كان، فالظاهر ما ذكرناه من المفروغية عن أن الاكتفاء بمحض
الترك هو مقتضى الاقتصار على المدلول اللفظي للخطاب، وأن منشأ القول
بلزوم الكف هو دعوى: أن محض الترك غير مقدور للمكلف، لأنه أمر أزلي
سابق على القدرة فلا يستند إليها ليمكن التكليف به، بل يلزم حمل النهي
على التكليف بالكف، الذي هو أمر وجودي مستند للمكلف مقدور له.
ولو تم ذلك فقد يجري فيما لو لم يكن الترك أزليا، بل كان المكلف
متلبسا بالفعل قبل النهي، لان ذلك لما كان نادرا وكان الغالب ورود النهي
مورد أزلية الترك فقد تكون الغلبة المذكورة موجبة لظهور النهي في إرادة
الكف مطلقا، لعدم الفرق ارتكازا في مفاده بين الموردين.
لكن الوجه المذكور غير تام في نفسه، لما ذكره جماعة من أن أزلية الترك
إنما تستلزم عدم كونه اختياريا قبل حصوله القدرة للمكلف، ولا تنافي تعلق
الاختيار به بلحاظ حال استمراره الذي هو ظرف التكليف وتوجه النهي،
لان القدرة على الفعل تستلزم القدرة على الترك، وبدونها يكون الفعل واجبا
أو ممتنعا لا مقدورا قابلا لان ينهى عنه.
الامر الثاني: حيث سبق أن النهي مع إطلاقه يقتضي الترك في تمام
الأزمنة، فهل يختص ذلك بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة، فإن خولف سقط
رأسا ويحتاج بقاؤه إلى قرينة مخرجة عن الاطلاق، أو لا بل يبقى مع المخالفة
بنحو يقتضي العود للترك، ما لم نقم قرينة مخرجة عن مقتضى الاطلاق؟
صرح المحقق الخراساني (قدس سره) بعدم دلالته على أحد الامرين في
317

نفسه، قال: " بل لابد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من
هذه الجهة... " ولم يتعرض لبيان مقتضى الاطلاق ولا لتوجيهه.
لكن سيدنا الأعظم (قدس سره) ذكر أن مقتضى إطلاق المتعلق لحاظه
بنحو صرف الوجود، نظير ما تقدم منه في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار،
قال " فكما أن إطلاق قوله: اضرب، يقتضي البعث إلى صرف الوجود
ولا يقتضي التكرار كذلك إطلاق قوله: لا تضرب، يقتضي الزجر عن صرف
الوجود، فإذا خولف بالوجود لم يقتض الزجر عن الوجود بعد ذلك، فإنه
وجود بعد وجود، لا وجود بعد العدم الذي هو صرف الوجود.
نعم الغالب في المفسدة أن تكون قائمة بكل حصة بحيالها، وفي المصلحة
أن تكون قائمة بصرف الوجود، فلعل هذه الغلبة تقتضي كون مقتضى
الاطلاق هو الثاني، لان الأول حينئذ يحتاج إلى بيان. فتأمل "
ويظهر الاشكال فيما ذكره أولا مما تقدم هناك من أن إطلاق المتعلق
لا يقتضي الحمل على صرف الوجود، بل على الطبيعة بحدودها المفهومية،
إلا أن سعة انطباقها تستلزم تحققها بصرف الوجود فيكون امتثالا للامر بها
وعدم تحقق تركها إلا بترك تمام أفرادها، فلا يكون امتثال النهي عنها
إلا بذلك.
أما أن فعل بعض الافراد في بعض الأزمنة يوجب سقوط النهي رأسا
فهو أمر آخر يحتاج إلى دليل، ومجرد تعلق الامر بالطبيعة لا يقتضيه.
وأما ما ذكره أخيرا من أن غلبة تعلق المفسدة بالافراد بنحو الانحلال هو
الذي قد يوجب الصرف عن مقتضى الاطلاق الأولي والبناء على بقاء النهي
لو خولف.
318

فهو غير ظاهر، لعدم وضوح الغلبة المذكورة مع قطع النظر عن موارد
الأحكام الشرعية، لتكون من القرائن العرفية العامة الصارفة عن مقتضى
الاطلاق. وثبوتها في موارد الأحكام الشرعية لما كان بسبب قيام الأدلة
الخاصة لم يكن من القرائن العامة التي يستند إليها الظهور، ويخرج بها عن
مقتضى الاطلاق. فلاحظ.
هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن ترك الطبيعة تارة: يكون
مطلوبا استقلالا وملحوظا بنحو المعنى الاسمي، بأن يكون المطلوب خلو
صفحة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الافراد حينئذ ملازما للمطلوب
لا نفسه.
وأخرى: يكون مرآة وملحوظا بنحو المعنى الحرفي توصلا به إلى طلب
ترك أفرادها، فالمطلوب حقيقة هو ترك نفس الافراد المستلزم لخلو صحيفة
الوجود عن الطبيعة.
وعلى الأول لو عصي النهي بإيجاد فرد من تلك الطبيعة سقط، إذ ليس
هناك إلا نهي واحد متعلق بالطبيعة الواحدة، والمفروض عصيانه.
وعلى الثاني حيث كان النهي منحلا إلى نواه متعددة بعدد الافراد
فسقوط بعضها بالعصيان لا يقتضي سقوط غيره. وهذا القسم هو الغالب في
موارد النهي، لان منشأه غالبا هو المفسدة في متعلقه، ولا محالة يشترك جميع
الافراد في تلك المفسدة، ومن ثم كان هذا هو ظاهر النهي دون الوجه الأول.
هذا كله بالإضافة إلى الافراد العرضية.
وأما بالإضافة إلى الافراد الطولية فبقاء النهي بعد مخالفته كما يمكن أن
يكون لاخذ الزمان قيدا في الافراد موجبا لتكثرها، يمكن أن يكون لاستمرار
319

نفس النهي عن الطبيعة في جميع الأزمنة.
وحيث لا دليل على أخذ الزمان في المتعلق، ولا معنى لتحريم شئ
يسقط بامتثاله آنا ما، كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة
اللاحقة أيضا.
هذا حاصل ما ذكره أثبتناه عن تقرير بعض مشايخنا لدرسه بأكثر
ألفاظه.
وكأن مراده من الفرق بين لحاظ ترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي
ولحاظه بنحو المعنى الحرفي ليس هو الفرق المذكور في محله بين المعنى الاسمي
والحرفي، لبداهة عدم خروج الطبيعة المتعلقة للنهي عن كونها معنى اسميا، بل
مجرد لحاظ الطبيعة في الأول استقلالا موردا للنهي والغرض، وفي الثاني طريقا
لملاحظة الافراد التي هي في الحقيقة مورد لهما، والتعبير بالمعنى الاسمي والحرفي
لمجرد المناسبة لما اشتهر من استقلالية الأول وآلية الثاني.
وكيف كان فيرد على ما ذكره..
أولا: أن تصور الطبيعة بالوجهين غير ظاهر، بل هي لا تلحظ
إلا بحدودها المفهومية لكن بنحو تكون خارجية متحدة مع الافراد، غايته أنها
تارة: تلحظ متحدة مع الافراد بنحو المجموعية، فلا يكون النهي عنها
إلا واحدا له طاعة واحدة ومعصية واحدة. وأخرى: تلحظ متحدة مع الافراد
بنحو الانحلال، فيختص كل فرد منها بنهي له طاعته ومعصيته.
وثانيا: أن غلبة صدور النهي عن مفسدة يشترك فيها جميع الافراد
لا يستلزم كون الغالب في النهي الانحلال، بل كما يمكن أن يكون لكل فرد
مفسدته القائمة به المستلزمة للنهي عنه، فيكون النهي عن الطبيعة انحلاليا،
320

كذلك يمكن أن تكون المفسدة واحدة تحصل بكل فرد ولا تستدفع إلا بترك
تمام الافراد، فيكون النهي عن الطبيعة واحدا واردا على افرادها بنحو
المجموعية.
وثالثا: أن ما ذكره في وجه عدم تكثر الافراد بلحاظ الزمان من عدم
الدليل على أخذ الزمان في المتعلق يدفعه أن تكثر الافراد الخارجية والفرضية
التي يشملها الحكم تابع لاختلاف الخصوصيات واقعا وإن لم تلحظ تلك
الخصوصيات ولم تؤخذ تفصيلا أو إجمالا في المتعلق، وإلا فالافراد العرضية
متقومة بخصوصيات لا دليل على أخذها في المتعلق أيضا.
نعم، مجرد شمول الحكم للافراد الطولية وتكثرها تبعا لاختلاف
الخصوصيات الزمانية لا يكفي في بقاء الحكم بعد مخالفته ما لم يكن بنحو
الانحلال، بحيث يكون لكل فرد نهيه المختص به والذي لا يكون فعليا
إلا بالقدرة عليه، ولا ينهض كلامه بإثبات ذلك.
كما أن ما ذكره من أنه حيث لا معنى لتحريم شئ يسقط بامتثاله آنا
ما كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة أيضا، لا ينفع في إثبات
عدم سقوط النهي بعد مخالفته، وذلك لان مقدمات الحكم وإن اقتضت مع
عدم ذكر القيد بقاء المحكمة في تمام الأزمنة اللاحقة، إلا أن بقاء النهي كما
يكون لتجدد الغرض فيه في كل آن، بحيث يكون وجوده في كل آن لغرض
مستقل قائم به، فلا يلزم من مخالفته في بعض الآنات سقوطه في بقيتها بعد
استقلالها بغرضها، كذلك يكون مع وحدة الغرض منه بحيث لا يتحصل
شئ من غرضه إلا بموافقته في جميع الآنات، فيلزم سقوطه بالمخالفة في
بعضها، وكلامه (قدس سره) لا ينهض بإثبات أحد الوجهين.
321

نعم، الظاهر أن المفهوم عرفا من الاطلاق هو الثاني، ولذا يعد التارك في
الان الأول مطيعا عرفا، لا أن إطاعته مراعاة باستمراره على الترك، كما
تكون إطاعة من يشرع في امتثال الواجب الارتباطي مراعاة بإكماله.
وكأنه لابتناء الارتباطية على نحو من العناية الموجب لاحتياجها لمزيد
بيان، وبدونه ينهض الاطلاق بدفع احتمالها.
ونظير ذلك يجري في المجموعية بين الافراد الراجع للارتباطية بينها في
مقام النهي، فإنها تبتني على نحو من العناية - أيضا - التي يدفعها الاطلاق،
ويترتب على ذلك زيادة بزيادة الافراد المأتي بها من الطبيعة المنهي
عنها ولو كانت في دفعة واحدة، فمن ينظر لامرأتين في آن واحد أكثر معصية
ممن ينظر لامرأة واحدة.
والرجوع للمرتكزات العرفية في فهم إطلاق النهي كاف في استيضاح
الجهتين وإن فرض عدم وضوح وجههما.
322

الفصل السادس
في تقسيمات المأمور به والمنهي عنه
قد ذكروا للواجب تقسيمات كثيرة، كتقسيمه إلى نفسي وغيري، وإلى
مطلق ومشروط، وإلى تعييني وتخييري، وغير ذلك.
والبحث في كل تقسيم..
تارة: في حقيقة الأقسام المتحصلة فيه.
وأخرى: فيما يقتضيه إطلاق الخطاب أو الأصل مع عدم القرينة على
تعيين أحد الأقسام.
والظاهر أن تلك التقسيمات لا تختص بالواجب، بل تجري في
المستحب، وإنما تعرضوا لها في الواجب لأهميته مع المفروغية عن كون
المستحب على غراره.
بل أكثرها يجري في المنهي عنه أيضا محرما كان أو مكروها.
ولعلهم إنما لم يذكروها فيه لتقديم الكلام عندهم في الأوامر فأغنى
الكلام فيها عن الكلام في النواهي، كما أغنى في كثير من المباحث السابقة
واللاحقة مما سبق ويأتي عمومه للنواهي.
ومن هنا عممنا عنوان البحث.
بل قد ينفع الكلام في بعض تلك الأقسام في غير التكليفيات، كما قد
323

يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
وكيف كان فيقع الكلام في مباحث:
324

المبحث الأول
في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى
مطلق ومشروط
لا إشكال في إمكان إطلاق المأمور به والمنهي عنه، بنحو يشمل تمام
أفراد الماهية، كما يمكن تقييدهما بقيد يرجع إلى تضييق الماهية وقصر مورد
الامر أو النهي منها على بعض الافراد.
كما لا إشكال في وقوع كلا الامرين، تبعا لظاهر دليليهما
أو صريحهما، وليس هو محل الكلام في المقام.
وإنما الكلام في إطلاق التكليف بالامر والنهي بنحو لا تتوقف فعليته
وصلوحه للبحث والزجر على أمر مفقود، وتقييده بنحو لا يصلح للبعث
والزجر إلا بعد وجود القيد من دون أن يؤخذ القيد في متعلقه.
فإن أمكن كل من الامرين ثبوتا تعين الرجوع في تعيين كل منهما إثباتا
لظاهر دليلهما، وإن امتنع الاشتراط تعين رفع اليد عن ظهور الدليل فيه
وتنزيله على تقييد نفس المأمور به مع فعلية الامر بدون القيد.
فمحل الكلام في الحقيقة مختص بما إذا كان ظاهر الدليل اشتراط نفس
الامر أو النهي.
أما لو كان ظاهره تقييد نفس المأمور به أو المنهي عنه فهو خارج عن
325

محل الكلام، حيث لا إشكال في العمل بالظهور المذكور بعد إمكان مؤداه.
هذا، ومن الظاهر أنه لا تكليف مطلق من جميع الجهات، إذ لا أقل
اشتراطه بالشروط العامة.
ومن هنا اختلفت كلماتهم في تعريف الواجب المطلق الذي هو محل
كلامهم، بنحو يظهر من بعضهم أن الكلام في خصوص بعض الشروط
وخروج بعضها عن محل الكلام، كالشروط العامة.
لكن حيث كان المهم من هذا التقسيم معرفة حال الواجب المشروط
وكيفية النسبة بينه وبين الشرط في مقام الجعل في الكبريات الشرعية المستتبع
لنحو النسبة بينهما في الخارج من دون فرق بين الشروط كان الأنسب
ما ذكره المحقق الخراساني واحتمله شيخنا الأعظم (قدس سرهما) من أن
وصفي الاطلاق والاشتراط إضافيان.
فالواجب مع كل شئ تارة: يكون له دخل فيه، فيكون مشروطا
بالإضافة إليه، وأخرى: لا يكون له دخل فيه، فيكون مطلقا بالإضافة إليه
وإن كان مشروطا بالإضافة إلى غيره.
ولا يهم تحديد الواجب المطلق بعد كون الغرض من التقسيم معرفة
الواجب المشروط، بل مطلق الخطاب المشرط أمرا كان أو نهيا إلزاميا كان أو
غيره، كما سبق، فاللازم صرف الكلام إليه.
وقد ذكرنا أن الكلام إنما هو في فرض ظهور الدليل في تقييد التكليف،
كما في موارد القضية الشرطية، لان مفاد أداة الشرط نحو نسبة - بين نسبة
جملة الشرط التي مطابقها في الخارج وجود الشرط، ونسبة جملة الجزاء التي
مطابقها في الخارج الحكم الفعلي الصالح للبعث والزجر - تقتضي إناطة الثانية
326

بالأولى، ولازم ذلك عدم فعلية الحكم إلا بفعلية الشرط.
وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط عنوانا للموضوع في قضية حقيقية
مرجعها إلى جعل الحكم على ما يعم الافراد المقدرة للموضوع، كما
في: يجب على المستطيع الحج، وعلى الزوج الانفاق، لوضوح أن عنوان
الموضوع مقوم للنسبة التي تتضمن الحكم، لا قيد زائد عليها كالشرط.
ورجوعها للقضية الشرطية لبا لا ينافي كونها أظهر منها في كون
الوصف دخيلا في الحكم، لا في متعلقه.
ومن هنا كان المشهور رجوع الشرط للتكليف المستفاد من هيئة الأمر والنهي
أخذا منهم بظاهر الأدلة، بل ظاهر من سبق على شيخنا الأعظم
(قدس سره) المفروغية عن ذلك، حيث لم يتصدوا لاثبات ذلك، بل لآثاره،
وقد جرى على ذلك جملة ممن تأخر عنه وتصدوا لاثباته، وإن اختلفوا في
مفاد الشرطية وحقيقة الحكم المشروط وواقعه في مقام الجعل والخارج، وقد
تعرضنا لذلك في مبحث استصحاب الحكم عند الشك في نسخه، ومبحث
الاستصحاب التعليقي، لمسيس الحاجة إليه هناك، ولا مجال لإطالة الكلام فيه
هنا بعد اتفاقهم على ما هو المهم هنا من عدم فعلية الحكم بنحو يصلح
للداعوية والبعث والزجر مع عدم تحقق الشرط، بناء على رجوعه للهيئة.
وخالف في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) حيث حكي عنه بدعوى
رجوع الشرط للمكلف به الذي هو مفاد المادة في الخطاب، فيقتضي تقييده
وقصره على الماهية الواجدة للشرط، دون التكليف، بل هو فعلي صالح
للداعوية والبعث حتى قبل وجود الشرط بعد الاعتراف بأن مقتضى القواعد
العربية ما عليه المشهور، كما سبق توضيحه.
327

والمستفاد مما حكي عنه في التقريرات أن الملزم بالبناء على رجوع
الشرط للمادة وجهان:
أحدهما: أنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الامر الذي هو مفاد الهيئة،
ليقبل التقييد بالشرط، لما اختاره (قدس سره) من أن المعاني الحرفية جزئية،
بخلاف الواجب الذي هو مفاد المادة، فإنه مفهوم كلي قابل للاطلاق
والتقييد، فيتعين رجوع الشرط إليه وتقييده له.
لكن سبق في التنبيه الأول لمبحث المعنى الحرفي الكلام في امتناع تقييده،
وذكرنا جملة من الوجوه المذكورة في كلماتهم لامكان تقييده ودفع ما ذكره
شيخنا الأعظم (قدس سره)، وأن التحقيق اختلاف سنخ القيود، والذي يمتنع
تقييد المعنى الحرفي به بعضها، دون مثل الشرط.
كما ذكرنا هناك أنه لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) هنا
من أن كون المعنى الحرفي آليا مانع من تقييده بالشرط أو غيره. فراجع.
على أن مانعية جزئية المعنى الحرفي وآليته من تقييده لو تمت إنما تمنع من
رجوع الشرط للتكليف إذا كان التكليف مستفادا من الهيئة أو الحرف، دون
ما إذا كان مستفادا من معنى اسمي، كالوجوب والفرض والتحريم، فإذا قيل:
يجب عليك الحج إن استطعت، فكما لا محذور في تقييد الحج بالاستطاعة،
لكونه معنى اسميا، كذلك لا محذور من تقييد الوجوب بها، لأنه معنى اسمي
أيضا. فلاحظ.
وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط مأخوذا عنوانا للموضوع في قضية
حملية حقيقية، كما لو قيل: ليحج المستطيع، لوضوح أن عنوان الموضوع
طرف النسبة التي هي معنى حرفي لا قيد زائد عليها، ليتجه دعوى امتناع
328

تقييدها به مع جزئيتها أو آليتها.
ولعله لذا احتمل (قدس سره) عدم فعلية التكليف قبل تحقق العنوان،
لعدم تحقق موضوعه.
فراجع ما ذكره في توجيه وجوب المقدمات قبل الوقت لو لزم من
الاخلال بها فوت الواجب في وقته.
ثانيهما: أن اختلاف ما يدل على الطلب ثبوتا وظهور بعضه في رجوع
الشرط للتكليف - كالقضية الشرطية - وظهور بعضه في رجوعه للواجب
- كهيئة التوصيف - لا أثر له في الفرق بعد كون الطلب المنكشف به على
وجه واحد ثبوتا لا اختلاف فيه وجدانا، سواء بين بدليل لفظي أو لبي أم بقي
كامنا في النفس ولم يبين أصلا لمانع من بيانه.
فإن العاقل إذا توجه إلى أمر فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلا
وهو خارج عن محل الكلام، وإما أن يتعلق غرضه به فيطلبه فعلا إما بلحاظ
مصلحته - كما هو الحال بناء على تبعية الاحكام للملاكات الواقعية -
أو اعتباطا وليس هناك صورة أخرى يكون الطلب فيها بنفسه مشروطا
ليمكن العمل بظاهر ما دل على ذلك.
نعم، إذا تعلق غرضه به فطلبه، فإما أن يكون ذلك الامر موردا لطلبه
على جميع وجوهه وأحواله، فيكون مطلقا، أو على تقدير خاص اختياري،
للمكلف - كالسفر في القصر، والطهارة في الصلاة - أو غير اختياري،
كالزمان.
فإن كان اختياريا فتارة: يتعلق الغرض بالتكليف به مطلقا بنحو تكون
الخصوصية موردا للتكليف، فيجب تحصيلها مقدمة لها، فيكون واجبا مطلقا،
329

كالأول، وإن افترق عنه بأخذ الخصوصية فيه دونه.
وأخرى: يتعلق الغرض بالتكليف به بنحو لا يجب تحصيل الخصوصية،
بل يكتفي بحصولها من باب الاتفاق، فيجب تحصيله على تقدير حصول
الخصوصية، كما في القصر مع السفر، وهو الواجب المشروط.
وكذا الحال لو كانت الخصوصية غير اختيارية، لاستحالة التكليف
بها حينئذ.
فالفرق بين الواجب المشروط والمطلق الذي تؤخذ الخصوصية فيه ليس
بكون الخصوصية قيدا للتكليف في الأول وللمكلف به في الثاني، بل بكونها
موردا للتكليف في الثاني دون الأول، مع كونها قيدا في المكلف به في
كليهما، سواء كان دليل الطلب ظاهرا في رجوع الخصوصية للتكليف
أم للمكلف به، إذ ليس الموجود وجدانا إلا ما ذكرنا.
ثم إن هذا الوجه لو تم لم يفرق فيه بين استفادة التكليف من معنى
حرفي، كمفاد الهيئة والحرف، واستفادته من معنى اسمي، كالوجوب
والتحريم.
كما لا يفرق فيه بين أخذ الخصوصية شرطا للتكليف في قضية شرطية
وأخذها عنوانا لموضوعه في قضية حقيقية، بخلاف الوجه السابق.
ومن هنا لا يتجه منه (قدس سره) ما سبق من احتمال عدم فعلية
التكليف لو كانت الخصوصية عنوانا للموضوع إلا بعد حصولها، ويتجه
ما ذكره مقرر درسه من إنكار الفرق وجدانا بينه وبين مفاد الشرطية.
هذا، ويشكل ما ذكره..
أولا: بأن فرض أخذ الخصوصية المقدورة في المكلف به مع كون
330

التكليف به بنحو لا يدعو إليها، بل يكتفي بحصولها من باب الاتفاق غير
ظاهر، وإن أقره عليه غيره، بل مع فرض تعلق الغر بالمقيد وإمكان تحصيله
بتحصيل قيده يتعين كون القيد مطلوبا بتبعه، وعدم تعلق الغرض بتحصيل
الخصوصية ملازم لعدم تعلقه بتحصيل المقيد بها الذي لا يحصل بدونها، ولذا
كانت داعوية التكليف بالشئ لتحصيل مقدماته عقلية، لا شرعية.
نعم، قد يوجه عدم التكليف بالقيد، بأن ما هو المعتبر في المكلف به
ليس هو مطلق وجود الخصوصية، ليتعين البعث إليها بتبعه، بل وجودها من
باب الاتفاق الذي لا يتحقق مع البعث إليها، فعدم داعوية التكليف بذي
الخصوصية إليها ليس لقصور في داعويته، بل لقصور في القيد، حيث
لا يترتب الغرض عليه لو وجد بداعي التوصل للمكلف به.
لكنه يندفع: بأن لازم ذلك عدم ترتب الغرض على القيد لو أتي به
بداعي التوصل للمكلف به، فلا يكون من أفراد القيد، ولا يتحصل به المكلف
به المقيد، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.
مضافا إلى ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن لازمه كون
الوجود من باب الاتفاق كسائر القيود واجدا لجميع مبادي الإرادة وإن
لم يصح البعث إليه، مع أنه قد يكون مبغوضا، كما لو قيل: إن ظاهرت
أو أفطرت أو قتلت مؤمنا فكفر.
ومن هنا كان الظاهر كون الشروط التي لا يجب تحصيلها مع القدرة
عليها شروطا للتكليف لا للمكلف به، فلا يصلح التكليف للداعوية إليها،
لعدم فعليته قبلها، ولأنه إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه.
ولذا كان عدم وجوب تحصيل الشرط تابعا ثبوتا لظهور الدليل
331

في كونه قيدا لنفس التكليف، لاخذه عنوانا لموضوعه في قضية حقيقية
أو شرطا له في ضمن قضية شرطية أو نحوهما، مع وضوح أنه لو بني على
تنزيل ما ظاهره رجوع الشرط للتكليف على رجوعه للمكلف به لم يكن
وجه لاستفادة عدم وجوب تحصيل الشرط منه، ولزم توقف البناء عليه على
دليل خاص، وليس بناؤهم على ذلك.
وثانيا: أن ما ذكره (قدس سره) يبتني على الخلط بين شروط التكليف
وشروط المكلف به ثبوتا، مع وضوح الفرق بينهما بالتأمل في المرتكزات وفي
الأمثلة العرفية، كما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره).
فإن الخصوصية تارة: تكون دخيلة في تعلق الغرض بالماهية وفي الحاجة
إليها بلحاظ أثرها وفائدتها، فبدونها لا يحتاج إليها ولا يرغب في أثرها،
كالمرض بالإضافة إلى شرب الدواء، والجوع والعطش بالإضافة إلى تناول
الطعام والماء.
وأخرى: تكون دخيلة في ترتب أثرها وفائدتها في فرض تعلق الغرض
بها والحاجة إليها وإلى أثرها، كالغليان للدواء والطهي للطعام والتبريد للماء.
فالأولى: تكون من قيود التكليف وشروطه، لتبعية التكليف بالشئ
لتعلق الغرض به، والمفروض عدم تعلق الغرض بدونها ولذا لا يجب تحصيلها،
لعدم فعلية التكليف قبل حصولها، ولأن التكليف لا يدعو إلى موضوعه، بل
إلى متعلقه، بل قد يكون مبغوضا للمولى، كالمحرمات التي تكون موضوعا
لبعض التكاليف، كوجوب الكفارة ونحوها.
والثانية: تكون من قيود الواجب، لتبعية المكلف به سعة وضيقا لمورد
الغرض والفائدة والأثر المرغوب فيه، فيجب تحصيلها تبعا للواجب المقيد بها
332

في فرض فعلية التكليف بالواجب، لتمامية موضوعه.
إلا أن تكون خارجة عن الاختيار كالخصوصية الزمانية، حيث يأتي
إن شاء الله تعالى في الواجب المعلق الكلام في فعلية التكليف بالمقيد قبل
حصوله وعدمها.
وحيث اتضح الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلف به يتضح
حال ما ذكره شيخنا الأعظم من أن العاقل إذا توجه إلى شئ فإما أن
لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلا، أو يتعلق به غرضه فيطلبه فعلا.
إذ ظهر بذلك أن هناك صورة ثالثة يكون فيها الملتفت إليه موردا
للغرض تعليقا، لتبعيته لأمر قد لا يكون حاصلا، فيتعين إناطة التكليف به تبعا
للغرض، ولا يكون التكليف بدونه فعليا.
وعليه ينزل جميع ما هو ظاهر أو صريح في اشتراط نفس التكليف،
كالشرط في القضية الشرطية وعنوان الموضوع في القضية الحقيقية، ولا ملزم
بالخروج عن ظاهره.
على أن ما ذكره (قدس سره) لا يناسب ما اعترف به من أن مقتضى
القواعد العربية رجوعه للتكليف.
لوضوح أن مقتضى القواعد المذكورة ظهورات نوعية ارتكازية، فكيف
يمكن انعقادها على ما هو ممتنع عقلا مخالف للوجدان وليست هي
كالظهورات الشخصية التي قد تنعقد على خلاف الواقع لخلل في البيان
أو في فهمه.
بل الظهورات النوعية تكشف عن كون ما ينافيها كالشبهة في مقابل
البديهة، لابد من ثبوت خلل في بعض مقدماته إجمالا لو لم يعلم تفصيلا.
333

بل ما ذكره (قدس سره) لا يناسب ما صرح به غير مرة من فرض
مقدمة الوجوب، وأنها التي يتوقف عليها الوجوب دون الوجود، وأنه يمتنع
ترشح الطلب عليها من الواجب لاستلزامه طلب الحاصل.
إلا أن يكون ذلك من مماشاة للقوم مع كونها عنده مقدمة للوجود،
لتوقف خصوصية الواجب عليها، كما ربما يظهر من بعض عباراته، غايته أن
الخصوصية الموقوفة عليها قد اخذت بنحو لا تكون موردا للتكليف، على
ما سبق منه التعرض له.
لكن لازم ذلك الاستدلال على عدم وجوبها بلزوم الخلف، لا بطلب
الحاصل، كما سبق منه، الظاهر في المفروغية عن عدم وجوبها قبل وجودها،
لعدم وجوب ذيها.
ومن هنا كان كلامه (قدس سره) في غاية الاضطراب والاشكال،
ولا معدل عما ذكرنا.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من رجوع الشرط للهيئة،
لما سبق في الوجه الأول من أن المعنى الحرفي آلي غير قابل للتقييد، كما منع
من رجوعه للمادة بنفسها المستلزم لتقييد المكلف به مع فعلية التكليف قبل
تحقق القيد، لما بنى عليه من ابتناء القضية الشرطية والحقيقية على أخذ
الموضوع والشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم المستلزم لعدم فعليته قبل
تحقق الشرط والموضوع، على ما فصله وأطال الكلام فيه، ومن هنا ادعى
رجوع الشرط للمادة المنتسبة.
قال بعض مشايخنا (دامت بركاته) في تقريره لدرسه: " المراد منه هو
تقييد المادة المنتسبة فإن الشئ قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير
334

تقييد، وقد يكون متعلقا حين اتصافه بقيد في الخارج.
مثلا: الحج المطلق لا يتصف بالوجوب، بل المتصف هو المتصف
بالاستطاعة الخارجية، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به
وكونه طرفا للنسبة الطلبية، فالقيد راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى
الفاعل ".
بل أنكر (قدس سره) كون مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) ما هو
ظاهر التقريرات من رجوع القيد للمادة، بنحو يكون من قيود الواجب مع
إطلاق الوجوب وفعليته، حاكيا عن السيد الشيرازي (قدس سره) عدم صحة
النسبة المذكورة.
لكنه لا يناسب تصدي شيخنا الأعظم (قدس سره) بما ذكره للرد على
صاحب الفصول (قدس سره) الذي فرق بين المشروط والمعلق بأن القيد في
الأول للتكليف وفي الثاني للمكلف به مع إطلاق التكليف وفعليته قبل
الشرط، فرد عليه بأن القيود وإن اختلفت لفظا في مقام الاثبات، إلا أنها
لا تختلف لبا في مقام الثبوت، بل هي راجعة للمكلف به مطلقا مع فعلية
التكليف على كل حال، وإنما تختلف في كونها موردا للتكليف تارة، وعدمه
أخرى.... إلى آخر ما تقدم، بنحو يظهر للناظر فيه انتظام المطلب وتناسقه،
حيث يبعد معه اشتباه المقرر فيه جدا، بل يكاد يقطع بعدمه.
على أن ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) لا يخلو عن غموض
وإشكال، إذ لحاظ المادة بما هي منتسبة راجع إلى تقييدها بالنسبة، وإذا كانت
آلية المعنى الحرفي مانعة من تقييده كانت مانعة من التقييد به، إذ لابد من
لحاظ كل من القيد والمقيد استقلالا، لان التقييد نحو من النسبة التي لا تقوم
335

إلا بالمعاني الاسمية الاستقلالية.
نعم، حيث عبر هو (قدس سره) عن النسبة بمفاد الاسم ولحظها بما هي
معنى اسمي أمكن التقييد بها كما يمكن تقييدها. وهو خارج عن مفروض
الكلام من كون الدال على النسبة الهيئة أو الحرف وكونها معنى اسميا آليا.
وأما لو أراد أن القيد راجع إلى المادة في ظرف انتسابها، على نحو نتيجة
التقييد.
أشكل: بأن ذلك جار في قيود الواجب أيضا، لوضوح أن التقييد
لا يصح إلا في ضمن القضية المتضمنة للحكم ولانتساب المادة، ولا معنى
لاعتباره مع قطع النظر عن ذلك، فلابد من بيان الفرق بين شرط الوجوب
وشرط الواجب من وجه آخر.
مضافا إلى أن تقييده المادة المنتسبة لا يقتضي إناطة التكليف بالقيد،
لفرض كون نسبة الحكم للمادة سابقة رتبة على التقييد.
كما أن ما ذكره من أن المتصف بالوجوب ليس هو الحج المطلق، بل
المقيد بالاستطاعة الخارجية، راجع إلى تقييد الواجب كتقييد الصلاة
بالطهارة، إذ لا يراد به إلا تقييدها بالطهارة الخارجية من دون أن يقتضي
إناطة التكليف بها
ودعوى: لزوم وجود الموضوع في رتبة سابقة على الحكم.
مدفوعة: بأن ذلك لا يتم في الموضوع الذي هو بمعنى متعلق التكليف
ومعروضه وهو المكلف به وقيوده، لاستحالة بقاء التكليف مع وجوده، وإنما
يتم فيما يناط به التكليف مما هو خارج عن المكلف به، كالمكلف وقيوده،
وإرادته في المقام موقوفة على تقييد الهيئة المفيدة للتكليف على ما ذكرناه في
336

القضية الشرطية.
إلا أن يراد برجوع القيد للمادة المنتسبة رجوع القيد لانتساب المادة،
فلا تكون المادة منتسبة وطرفا للطلب إلا بوجود القيد، ومن الظاهر أن
الانتساب مستفاد من الهيئة فتقييده لا يكون إلا برجوع القيد إليها، كما
ذكرنا.
نعم، لا يراد برجوع القيد إليها رجوعه لها بنفسها مع قطع النظر عن
أطرافها، لوضوح عدم قيامها بنفسها لا لحاظا ولا خارجا، بل رجوعه لها بما
هي قائمة بأطرافها من المكلف والمكلف به.
ولذا كان مفاد الشرطية تعليق جملة بجملة، في قبال رجوعه للمادة التي
هي مفهوم إفرادي طرف للنسبة.
وبالجملة كلامه (قدس سره) في غاية الغموض والاشكال، ولعله ناشئ
عن ضيق التعبير واختلاط بعض أنحاء التقييد ببعض، على ما سبق الكلام فيه
في مبحث المعنى الحرفي.
والامر لا يخرج عما ذكرنا من رجوع الشرط للهيئة المستلزم لكونه
جزء من موضوع التكليف الذي يناط فعليته به.
ثم إنه كما يمكن تقييد الهيئة للحكم بالشرط يمكن تقييدها
بغيره، كالغاية التي يلزم من أخذها فيه ارتفاعه بحصولها، وكذا غيرها.
وربما يأتي في مبحث مفهوم الغاية ما ينفع في المقام. ومنه سبحانه
وتعالى نستمد العون والتوفيق.
337

بقي شئ
وهو أنه لا ريب ظاهرا في أنه إذا تمت مقدمات الحكمة في الخطاب لزم
حمل المأمور به والمنهي عنه على الاطلاق، وأن الاشتراط يحتاج إلى قرينة
خاصة وعناية في البيان مخرجة عن ذلك، كالتقييد في المفاهيم الاسمية
الافرادية. وكذا الحال في سائر قيود الهيئة من غاية أو نحوها.
وأما مع عدم تمامية مقدمات الحكمة وإجمال الخطاب أو الاهمال فيه،
أو كون الدليل لبيا، فمقتضى الأصل البراءة من التكليف مع فقد القيد
المحتمل، بل مقتضى الاستصحاب عدمه، على ما أوضحناه في محله من مبحث
البراءة.
نعم، مع الشك في التقييد بالغاية إذا أحرزت فعلية التكليف قبلها
فمقتضى الاستصحاب بقاؤها بعدها بعد فرض عدم أخذه قيدا في متعلق
الحكم، حيث يحرز حينئذ وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة، وعدم
اختلاف موضوعيهما بالاطلاق والتقييد، على ما أوضحناه في محله في
مبحث الاستصحاب.
338

المبحث الثاني
في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى
معلق ومنجز
قسم صاحب الفصول (قدس سره) الواجب إلى معلق ومنجز، فالأول
ما يكون زمانه متحدا مع زمان وجوبه، والثاني ما يكون زمانه متأخرا عن
زمان وجوبه، فيكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا.
وقد ذكر (قدس سره) هذا التقسيم للتنبيه على الفرق بين المعلق
والمشروط بأن التكليف في المشروط غير فعلي، بخلافه في الأول فإنه فعلي،
فهو من أقسام المطلق المقابل للمشروط.
وغرضه بذلك التمهيد لما يأتي إن شاء الله تعالى من ظهور الثمرة بين
القسمين في المقدمات المفوتة، وهي التي يتعذر حصول الواجب في وقته إذا
لم تحصل قبل الوقت، كالغسل من الحدث الأكبر لمن عليه الصوم في النهار،
حيث لا إشكال في وجوبها قبل الوقت تبعا لوجوب ذيها لو كان من المعلق.
وإنما ينحصر الاشكال في وجوبها لو كان وجوب ذيها مشروطا
غير فعلي قبل الوقت.
ومن هنا لا مجال لما أورده عليه المحقق الخراساني (قدس سره) من عدم
الثمرة لهذا التقسيم، لعدم الفرق بين المعلق والمنجز في الغرض المهم بعد كون
التكليف في كليهما حاليا، لان الثمرة المذكورة مترتبة على إطلاق التكليف
339

وفعليته المشترك بين القسمين، ولا يصح التقسيم إلا بلحاظ ترتب الثمرة على
الفرق بين القسمين، وإلا لكثرت التقسيمات.
لاندفاعه: بأنه يكفي في صحة هذا التقسيم بيان الفرق بين المشروط
والمعلق، وظهور الثمرة بلحاظه بعد خفائها.
نعم، كان الأنسب بصاحب الفصول (قدس سره) أن يجعل هذا
التقسيم من لواحق تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط، لأنه تقسيم لاحد
قسميه، وهو المطلق، وليس تقسيما في مقابله.
كما أن شيخنا الأعظم (قدس سره) حيث أنكر رجوع الشرط للهيئة
في المشروط والتزم برجوع جميع الشروط للمادة، أنكر الفرق بين
المشروط والمعلق.
ومرجع كلامه إلى إنكار المشروط بالمعنى المشهور، لا إلى إنكار المعلق
وإنما أراد من المشروط المعلق.
إذا عرفت هذا، فيقع الكلام تارة: في إمكان المعلق ثبوتا. وأخرى: في
الدليل عليه إثباتا.
المقام الأول: في إمكان المعلق
حيث سبق في الوجه الثاني لمناقشة شيخنا الأعظم (قدس سره) في
إنكاره رجوع الشرط للهيئة تقريب الفرق الارتكازي بين شروط الوجوب
وشروط الواجب، يتضح أن الخصوصية الزمانية ونحوها من الخصوصيات
المستقبلة إذا كانت دخيلة في تعلق الغرض بالواجب، بحث لا حاجة إليه
قبلها، فهي خارجة عن محل الكلام، حيث لا إشكال في دخلها في التكليف
340

حينئذ ويكون من المشروط بالمعنى المتقدم.
وإنما الكلام، فيما إذا لم تكن الخصوصية دخيلة ي تعلق الغرض
بالواجب لو توقف تحقق الواجب عليها تارة: لكونها من قيوده الشرعية
الدخيلة في ترتب مصلحته عليه كالطهارة من الحيض التي يتوقف عليها
الصوم الواجب بكفارة قد تحقق سببها حال الحيض.
وأخرى: لكونها ظرفا للقدرة عليه، لتوقفه تكوينا على أمر استقبالي
خارج عن الاختيار.
وثالثة: لتوقفه على مقدمات اختيارية تحتاج إلى زمن.
هذا، وصريح الفصول تعميم المعلق للصورة الأخيرة، وظاهر غير واحد
ممن وافقه في إمكان المعلق أو خالفه خروجها عنه، مع اتفاق الكل
ومفروغيتهم عن إمكانها ووقوعها وشيوعها، لوضوح أن الانبعاث
للمقدمات إنما هو بسبب فعلية التكليف لذيها فدخولها في المعلق محض
اصطلاح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
فالعمدة الكلام في الصورتين الأوليين اللتين تشتركان في توقف المكلف
به على أمر غير اختياري مع فرض تجدد القدرة عليه بعد ذلك، لتحقق
ما يتوقف عليه في الزمن المستقبل، حيث يقع الكلام في أن ذلك هل يمنع من
فعلية التكليف أو لا؟
ومرجعه إلى أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف زائدا على فعلية الملاك
والغرض هل هي القدرة على المكلف به في وقته ولو كان هو الزمن المستقبل
أو خصوص القدرة الفعلية حين فعلية التكليف؟
ثم إنه لا إشكال في أن البعث نحو الامر الاستقبالي الموقوف على أمر
341

غير اختياري لا يصح على الاطلاق وبلحاظ جميع المقدمات، بنحو يقتضي
الداعوية للانبعاث إليه من حيثيتها، حتى مع حيثية المقدمة غير الاختيارية،
لاستحالة ذلك، والقائل بإمكان المعلق إنما يلتزم بإمكان البعث للامر
الاستقبالي من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية، بنحو يقتضي الانبعاث إليه في
وقته بعد تحققها لا مطلقا، كما فيما تكون جميع مقدماته اختيارية.
ومنه يظهر أنه لا مجال للمنع من المعلق تارة: لقبح التكليف بما
لا يطاق. وأخرى: لان الغرض من التكليف جعل الداعي العقلي لموافقته،
ومع تعذر موافقته يمتنع تحقق الداعي إليها، فيلغو جعل التكليف والخطاب به،
لتخلف غرضه.
لوضوح أن الوجهين المذكورين إنما يتوجهان لو كان المدعى فعلية
التكليف في المقام بالنحو المقتضي للداعوية على الاطلاق حتى مع حيثية
المقدمة المذكورة، حيث يقبح مع فرض تعذر الانبعاث، ويكون لا غيا لتخلف
غرضه.
أما حيث كان المدعى أن فعلية التكليف إنما تقتضي الانبعاث للمكلف
به في وقته الذي يقدر عليه فيه، لان ذلك هو الغرض منه، فلا يلزم التكليف
بما لا يطاق، ولا يكون لاغيا.
نعم، قد يدعى أن داعوية التكليف لتمام مقدماته ارتباطية، فلا يمكن
التفكيك بينها في الداعوية. ولذا سبق منا في رد ما ذكره شيخنا الأعظم
(قدس سره) في الواجب المشروط امتناع تعلق التكليف بالمقيد من دون أن
يقتضي التكليف بتحصيل القيد المقدور.
كما لا إشكال في أن تعذر بعض مقدمات الواجب رأسا مانع من
342

التكليف به بنحو يقتضي تحصيل باقي المقدمات، بل يسقط رأسا.
لكنه يندفع: بأن المنشأ في الارتباطية المذكورة أن فعلية تعلق غرض
المولى بالشئ المستتبعة لتحصيله بالتكليف به تقتضي الداعوية لتمام مقدماته
التي يتوقف عليها حصوله.
وهو إنما يقتضي الداعوية لتمام مقدماته في ظرف القدرة عليها،
ولا ينافي عدم الداعوية إليها في ظرف تعذرها، لان ذلك لا يرجع لقصور في
داعوية التكليف، بل للمانع من فعليتها.
وأما سقوط التكليف بتعذر بعض مقدماته فلان تعذر المقدمة رأسا
مستلزم لتعذر المكلف به فيمتنع التكليف به، لما سبق من قبح التكليف
بما لا يطاق ولغويته، ولا معنى للتكليف به لأجل باقي مقدماته، لان تعلق
الغرض بالمقدمات وداعوية التكليف إليها في طول تعلق الغرض بذيها وداعوية
التكليف، فمع امتناع داعوية التكليف إليه لتعذره لا موضوع للداعوية إليها،
بل يتعين سقوط التكليف.
وهذا بخلاف المقام المفروض فيه تحقق المقدمة غير الاختيارية في
المستقبل المستلزم للقدرة على المكلف به حينئذ، فلا يقبح التكليف به
ولا يكون لاغيا، وإذا صدر التكليف كان صالحا للداعوية للمكلف به في
وقته، فيدعو في طول داعويته له إلى بقية المقدمات الدخيلة في ترتبه.
هذا، وقد يستدل لامتناع المعلق بأن التكليف إنما ينتزع من الإرادة
التشريعية، وهي لا تكون إلا مع فعلية القدرة على المكلف به، ليمكن معها
السعي إليه بتهيئة المقدمات، نظير الإرادة التكوينية التي لا تكون فعلية القدرة
على المراد، ولذا عرفت بأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد.
343

وفيه: - مضافا إلى عدم وضوح توقف الإرادة التكوينية على فعلية
القدرة، بحيث لا تتعلق بالامر الاستقبالي، وإلى إمكان السعي نحو المعلق بتهيئة
مقدماته الاختيارية - أنه لا مجال لقياس الإرادة التشريعية التي هي المعيار في
التكليف بالإرادة التكوينية، حيث سبق في بيان حقيقة التكليف اختلافهما
سنخا، وأن الإرادة التشريعية متقومة بالخطاب بداعي جعل السبيل المستتبع
لحدوث الداعي العقلي للإطاعة، وعدم صحة الخطاب في المقام بنحو يدعو
للمكلف به من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية أو الكلام.
ومن هنا لم يتضح بعد ملاحظة كلماتهم في المقام والتأمل فيما ذكرنا
ما ينهض بإثبات امتناع المعلق عقلا.
نعم، قد يدعى لغوية البعث بالتكليف الفعلي ارتكازا في ظرف تعذر
الواجب وامتناع السعي إليه ولو بالشروع في مقدماته، حين لا يكفي في
فعلية التكليف بالشئ فعلية تعلق الغرض به، ما لم يكن للتكليف به بالبعث
إليه دخل في إحداث الداعي للسعي له.
وبذلك يظهر الفرق بين المعلق الذي يتوقف على أمر غير اختياري،
وغيره مما كانت جميع مقدماته اختيارية تحتاج إلى زمن، فإنهما وإن اشتركا
في كون الواجب استقباليا يتعذر تحصيله فعلا، إلا أن إمكان السعي للثاني
بالشروع في مقدماته كاف في الفرق بينه وبين الأول ارتكازا ورفع لغوية
التكليف به.
لكنه يخلو عن إشكال، حيث لا يبعد الاكتفاء في رفع اللغوية بإحداث
الداعي لفعل الواجب في وقته.
ولا سيما مع أن المعلق إنما يتعذر السعي إليه من حيثية مقدمته غير
344

الاختيارية، دون بقية المقدمات، سواء كانت موسعة يتأتى فعلها بعد وقت
الواجب - كالوضوء والتستر للصلاة - أم لا، كالمقدمات المفوتة التي
لا إشكال في صلوح التكليف للداعوية إليها وفي لزوم تحصيلها، ولا يتضح
مع ذلك لغوية فعلية التكليف بالمعلق.
بل لو كان لزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل الوقت موقوفا على فعلية
التكليف لكان وضوح لزوم تحصيلها كافيا في استيضاح فعليته، وفي إمكان
المعلق ووقوعه، بل شيوعه.
إلا أنه حيث يتأتى - إن شاء الله تعالى - عدم توقفه على ذلك افتقر
إثبات فعلية التكليف بالمعلق وعدم لغويته للرجوع للوجدان فيها بنفسها.
ولا يبعد قضاء الوجدان بها، كما قد يوضحه قياس التعذر حين
حدوث التكليف بالتعذر بعد حدوثه، كما لو تعذرت بعض مقدمات الصلاة
بعد دخول وقتها بنحو يستلزم تأخيرها مدة في ضمن الوقت، أو تعذر قضاء
الصلاة والصوم الثابتين في الذمة في وقت خاص لطارئ من حيض أو نفاس
أو نحوهما.
فإن الالتزام بعدم فعلية التكليف في ذلك وسقوطه بالتعذر وتجدده
بتجدد القدرة بعيد جدا عن المرتكزات، والفرق بين الحدوث والبقاء
أبعد عنها.
وبالجملة: بعد عدم نهوض ما ذكروه بالاستدلال على امتناع المعلق
عقلا وإمكانه، فمرجع حديث اللغوية وعدمها إلى الرجوع للوجدان والتأمل
في المرتكزات العرفية، وهي لا تثمر إلا قناعات شخصية غير قابلة للاستدلال
والالزام، إلا بنحو من التقريب للوجدان وتنبيه بعض التنظيرات ونحوها.
345

والظاهر بعد التأمل في ذلك عدم لغوية التكليف بالمعلق وإمكانه
ووقوعه، بل شيوعه، لما ذكرنا. فلاحظ.
تنبيهان
الأول: حيث سبق عدم الاشكال في اعتبار أصل القدرة في التكليف،
وأن البناء على إمكان المعلق راجع للاكتفاء بالقدرة الاستقبالية، فلو قيل به في
مورد كانت فعلية التكليف مع التعذر الفعلي منوطة ثبوتا بتحقق القدرة عليه
في المستقبل، وإثباتا بإحرازها بالعلم أو بطريق معتبر، ومنه أصالة السلامة
المعول عليها عند العقلاء، فيبنى لأجلها على فعلية التكليف ظاهرا، فيجب
ترتيب آثارها عقلا.
الثاني: لا يختص ما ذكر بالواجب وان اقتصروا عليه في عنوان محل
كلامهم - على ما هو ديدنهم في كثير من مباحث المقام - بل يجري في
المستحب أيضا، لأنه يشارك الواجب في اعتبار القدرة عليه من حيثية لغوية
البعث نحو ما يتعذر تحصيله ويمتنع إحداث الداعي العقلي له، وإن لم يشاركه
فيه مع حيثية قبح التكليف بما لا يطاق، لفرض عدم ابتنائه على الالزام
المستتبع للالزام والمؤاخذة.
كما يجري في المنهي عنه أيضا، أما بلحاظ تعذر ترك المنهي عنه فلعين
ما سبق في الواجب والمستحب، وأما بلحاظ تعذر فعله فلان تعذر فعل
الشئ يستلزم لغوية النهي عنه، لامتناع حدوث الداعي العقلي معه، ومثله
الحال في الواجب بالإضافة إلى تعذر الترك، كما لا يخفى.
وحينئذ يجري الكلام السابق في أن المعتبر هو القدرة الفعلية أو ما يعم
القدرة في المستقبل.
346

هذا، وأما اشتراط نفس الحكم فعدم اختصاصه بالوجوب وجريانه في
جميع الأحكام التكليفية بل الوضعية ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
المقام الثاني: في إحراز المعلق
وحيث كان المعيار فيه فعلية التكليف مع تعذر الواجب فلابد فيه من
إحراز فعلية التكليف، ولو بإطلاق دليل الخطاب به.
ولو كان مقتضى الاطلاق عدم تقييد التكليف ولا الواجب لكن علم
بتقييد أحدهما فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن اللازم البناء على
رجوعه للواجب الذي هو مفاد المادة، دون الوجوب الذي هو مفاد الهيئة،
واستدل على ذلك بوجهين. والظاهر عدم تماميتهما، وإن لم يسع المقام إطالة
الكلام فيهما.
بل يتعين التوقف للعلم الاجمالي بتقييد أحد الاطلاقين المانع من حجية
كل منهما.
بل لو كان القيد مذكورا في الكلام وتردد بين الامرين كان مانعا من
انعقاد كلا الاطلاقين، لان احتفاف الكلام بما يصلح للقرينة مانع من انعقاد
الاطلاق، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الأولية، على ما يأتي
إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد، ومبحث الظواهر.
نعم، ذكر في الفصول أن مقتضى القواعد العربية رجوع ظرف الزمان
للمادة دون الهيئة المستلزم لكون الواجب معلقا، قياسا على ظرف المكان،
فكما أنه إذا قيل: صل في المسجد، أو فوق السطح، كان ظاهرا في رجوع
القيد للواجب مع إطلاق الوجوب، فيجب تحصيله مقدمة للامتثال، كذلك
إذا قيل: صم غدا، أو سافر في شهر رجب، كان ظاهرا في إطلاق الوجوب
347

وفعليته قبل تحقق الخصوصية الزمانية، وكون القيد راجعا للواجب، وإن
لم يجب تحصيله، لخروجه عن الاختيار وكأنه لاتحاد هيئة ظرفي الزمان والمكان
ارتكازا المقتضي لاتحاد مفادهما ومتعلقهما في الكلام.
وبهذا فرق (قدس سره) بين ما إذا كانت الخصوصية الزمانية أو غيرها
مأخوذة بلسان الظرف، وما إذا كانت مأخوذة شرطا في جملة شرطية، حيث
يتعلق رجوعها في الثاني للتكليف الذي هو مفاد بمقتضى القواعد
العربية، على ما سبق توضيحه في الواجب المشروط.
لكنه يشكل: بالفرق بين ظرف الزمان وظرف المكان، لا من جهة
اختلاف مفاد هيئتيهما وضعا، فإنه بعيد جدا بعدما سبق، بل لأنه لا معنى
لظرفية المكان للحكم بل لا تكون ظرفية المكان من شؤون الحكم إلا بتأويل
القضية الظرفية بقضية شرطية يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف، بأن
يرجع قولنا: صل في المسجد - مثلا - إلى قولنا: صل إن كنت في المسجد،
وهو تكلف مستبعد، فكان الأولى صرف الظرفية للمكلف به، بأن يكون
الظرف متعلقا به وقيدا له، فمرجع قولنا: صل في المسجد، إلى قولنا: صل
صلاة واقعة في المسجد.
أما ظرفية الزمان فكما يمكن رجوعها للمكلف به يمكن رجوعها
للحكم، فيتعين البناء على رجوعها إليه لو كان هو مقتضى الظهور الأولى،
كما هو الظاهر.
ولذا كان هو الظاهر التركيب لو كانت الخصوصية الزمانية اختيارية،
كما لو قيل: صل حين دخولك المسجد، أو وقت سفرك.
ومن ثم لا يكون التكليف فعليا قبل تحقق الخصوصية، ولا يجب
348

تحصيلها مقدمة لامتثاله.
وبعبارة أخرى: مقتضى الظهور الأولي للكلام رجوع الظرف مطلقا
زمانا كان أو مكانا للحكم، وحيث لا ملزم بالخروج عن ذلك في ظرف
الزمان كان هو مقتضى الظهور الفعلي، ولذا لا يجب تحصيل الخصوصية
الزمانية لو كانت اختيارية.
أما في ظرف المكان فلابد من الخروج عنه، لامتناع ظرفية المكان
للحكم، حيث يكون ذلك قرينة عامة على إرجاعها للمكلف به بعد كونه
أقرب عرفا من تنزيل مفاد القضية الظرفية على مفاد القضية الشرطية التي
يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف.
ثم إن ما ذكره (قدس سره) من اقتضاء القواعد العربية رجوع ظرف
الزمان للمكلف به - لو تم - لا يقتضي كون الواجب معلقا إلا بضميمة إحراز
فعلية الوجوب الذي لا دليل عليه إلا إطلاق الهيئة، والتمسك به فرع إمكان
الواجب المعلق، كما جرى عليه هو (قدس سره).
أما لو كان ممتنعا لدعوى اللغوية أو غيرها من المحاذير العقلية
الارتكازية، فيكون ذلك قرينة عامة صارفة عن مقتضى الاطلاق، ولا يصلح
الاطلاق للدلالة على إمكانه، لتوقف الاطلاق على عدم القرينة العامة
الصارفة عن مقتضاه.
بخلاف ما سبق من اقتضاء القواعد العربية رجوع الشرط في الشرطية
للهيئة، فإنه ظهور نوعي ارتكازي مستند للوضع لا يمكن عادة قيامه على
ما هو ممتنع في نفسه.
ولذا سبق منا الاستدلال به على إمكان تقييد الهيئة، وأنه يكشف عن
349

خلل في وجه المنع إجمالا لو لم يتضح تفصيلا، فهو كالشبهة في مقابل
البديهة. فلاحظ.
350

المبحث الثالث
في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى
نفسي وغيري
قسم الأصوليون الواجب إلى القسمين المذكورين، بسبب تعرضهم
لذلك في مباحث الأوامر، واهتمامهم بخصوص الوجوب منها.
مع أنه لا إشكال في جريانه في المستحب.
بل الظاهر جريانه في الجملة في المحرم والمكروه، على ما يتضح في
مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.
وهم إن اختلفوا في تعريف كل من القسمين، إلا أن خلافهم ليس
للخلاف في مصاديق كل منهما، بل في التعريف المطابق لها.
ولعل الأولى أن يقال: الامر بالشئ إن كان لمقدميته لمأمور به فهو
غيري، وإلا فهو نفسي، سواء كان مسببا عن حسن ذلك الشئ ذاتا
أم عرضا، بلحاظ المصالح المترتبة عليه التي لا تكون بنفسها موردا للتكليف.
وكذا الحال في النهي، فهو إن تعلق بالشئ لمقدميته لمنهي عنه كان
غيريا، وإلا كان نفسيا.
والامر سهل بعدما ذكرنا من أن النزاع في التعريف لا في المعرف.
هذا، والامر والنهي الغيريان إنما يكونان منشأ لانتزاع التكليف الغيري
المولوي بناء على ثبوت الملازمة بين التكليف بالشئ والتكليف بمقدمته الذي
351

يأتي الكلام فيه في مباحث الملازمان العقلية إن شاء الله تعالى.
وحيث يأتي هناك عدم ثبوت الملازمان المذكورة وأن المقدمة إنما تجب
أو تحرم عقلا لا شرعا فلا تكليف غيري.
وأمر المولى بمقدمة المأمور به ونهيه عن مقدمة المنهي عنه لو صدر
لا يكون بداعي التكليف، بل بداع آخر، كالارشاد للإطاعة، أو لبيان
المقدمية.
إذا عرفت هذا، فيقع الكلام في أن ظاهر الأمر والنهي لو جردا عن
القرينة هل يقتضي الحمل على كونهما نفسيين أو لا؟ بل لا دافع لاحتمال
كونهما مقدميين، سواء قلنا بثبوت التكليف الغيري للبناء على الملازمة،
أم لم نقل، على ما سبق.
وقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أن مقتضى إطلاق الصيغة كون
التكليف نفسيا، لما هو المعلوم من توقف التكليف الغيري بالمقدمة على فعلية
التكليف النفسي بذيها، فلا يصح البعث إليها إلا مقيدا بذلك، وهو خلاف
إطلاق الصيغة.
ولا يخفى أن ذلك لا يتجه لو احتمل كون الامر أو النهي لبيان
المقدمية، لوضوح أن المقدمة لو كانت لا تختص بحال دون حال، فيصح
إطلاق البعث الوارد لبيانها، ولا تنافي إطلاق الصيغة.
إلا أن يدفع الاحتمال المذكور بأن سوق الأمر والنهي لبيان المقدمية من
سنخ الكنايات التي لا يحمل الكلام عليها إلا بالقرينة، لما تقدم من وضع
صيغة الأمر والنهي للنسبة البعثية أو الزجرية، أو يدعى خروج الاحتمال
المذكور عن محل الكلام، وأن الكلام في فرض صدور الأمر والنهي بداعي
352

البعث والزجر، مع التردد في حالهما وأنهما نفسيان أو غيريان.
فالعمدة في المقام: أن الوجه المذكور إنما يتم لو كانت الغيرية مستلزمة
لتقييد البعث أو الزجر، لكون التكليف النفسي الذي تحتمل المقدمية بالإضافة
إليه مشروطا بشرط غير حاصل ولا مذكور في الخطاب، كما لو أطلق طلب
الوضوء - الذي يحتمل كونه غيريا بالإضافة إلى طب الصلاة - بنحو يتناول
ما قبل الوقت، دون ما لو كان مشروطا بشرط حاصل أو مذكور في
الخطاب، مكا لو أمر بعد الوقت بالكون على طهارة، أو أمر به مشروطا
بالوقت، حيث لا ينفع في الوجه المذكور، لعدم منافاة الغيرية لاطلاق البعث
حينئذ، كما هو ظاهر.
فالأولى أن يقال: إنه وإن لم يكن في ذلك مجال للاطلاق المقابل
للتقييد، إلا أنه يمكن إثبات كون الامر نفسيا بالاطلاق السياقي للامر، فإن
المستفاد عرفا من إطلاق الامر بالشئ كونه بنفسه موردا للغرض، بحيث
يدعو أمره له استقلالا، ويحصل الغرض الأقصى من الامر بالاتيان به، ويسقط
التكليف به تبعا لذلك بلا حاجة إلى ضم شئ إليه، كما هو الحال في المأمور
به النفسي، بخلاف المأمور به الغيري، لوضوح أنه لا يدعو إلى متعلقه إلا في
طول داعوية الامر النفسي إلى متعلقه، لان الغرض منه في طول الغرض من
المأمور به النفسي، فما لم يحصل المأمور به النفسي لا يسقط الامر الغيري،
إما لان الامر الغيري متعلق بخصوص المقدمة الموصلة - كما هو الظاهر -
أو لتوقف حصول الغرض الأقصى منه على ذلك، بنحو يكون سقوط الامر
بامتثاله مراعى بحصوله، وهو خلاف المنسبق من الامر ارتكازا.
نعم، هذا هو الوجه كسابقه إنما يحرز كون الامر نفسيا، ولا ينفي احتمال
353

كونه متعلقه مأمورا به غيريا أيضا، لكونه قيدا في الواجب النفسي، لامكان
اجتماع الجهتين في أمر واحد، وغيريا بالإضافة إلى العصر، لأنها من قيودها،
لوجوب الترتيب بينهما، ولا دافع للاحتمال المذكور إلا إطلاق دليل ذلك
الواجب لو كان.
هذا كله في غير المسببات التوليدية التي لا تنفك عن أسبابها، ولا تنفك
أسبابها عنها، كالوضوء والطهارة، فلو ورد الامر بالسبب، وتردد بين
مطلوبيته لنفسه ومطلوبيته غيريا لأجل مطلوبية مسببه، فلا أثر عملي للشك
المذكور، لا في السبب، لغرض ترتب غرضه عليه مطلقا بسبب عدم انفكاكه
عن مسببه، ولا في المسبب، لغرض عدم انفكاكه عن سببه، ليحتاج إلى تقييده
به، فلا ينهض إطلاق كل منهما بإثبات أحد الامرين أو نفيه.
نعم، قد يشعر التعبير بالسبب بمطلوبيته بعنوانه الأولي، لا الثانوي
المنتزع من ترتب مسببه عليه. لكنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة.
ولعله خارج عن محل الكلام. فلاحظ.
هذا كله مع ثبوت إطلاق لدليل الخطاب بالشئ وبما يحتمل مقدميته
له، أما مع عدمه فالصور مختلفة.
مثلا: إذا علم بوجوب الوضوء إما نفسيا أو غيريا لمقدميته لقراءة
القرآن بسبب تقييد الواجب منها به فتارة: يعلم بعدم وجوب القراءة فعلا.
وأخرى يعلم بوجوبها. وثالثة: يشك فيه.
لا إشكال في جريان البراءة في الصورة الأولى من وجوب الوضوء،
للعلم بعدم فعلية وجوبه غيريا بسبب عدم وجوب القراءة، فالشك في وجوبه
نفسيا متمحض في الشك في التكليف الاستقلالي الذي هو مجرى البراءة بلا
354

إشكال.
نعم، لو علم بوجوب القراءة بعد ذلك جرى حكم الصورة الثانية على
ما يأتي توضيحه.
وأما الصورة الثانية فمرجعها إلى العلم بوجوب القراءة في الجملة
إما مطلقة أو مقيدة بالوضوء، مع العلم الاجمالي بوجوب الوضوء نفسيا
أو تقييد القراءة الواجبة به، وحيث كان في كل منهما زيادة كلفة مقتضى
البراءة عدمها كان العلم الاجمالي المذكور منجزا لكلا طرفيه، فيجب الفراغ
عنهما بتقديم الوضوء على القراءة والآتيان بها حاله، ولا يكتفي بالوضوء
الذي لا تحقق به القراءة عن طهارة، كما لو وقع بعدها أو تخلل
بينهما الحدث.
ودعوى: جواز الاقتصار على الوضوء من دون محافظة على قيديته
للقراءة، لان العلم الاجمالي المذكور يستلزم العلم بوجوب الوضوء تفصيلا
وإن تردد بين كونه نفسيا وغيريا، فينحل به العلم الاجمالي، ولا يكون منجزا
لاحتمال قيديته للقراءة.
مدفوعة: بأن وجوب الوضوء غيريا كما يتفرع ثبوتا على وجوب
القراءة المقيد به نفسيا يتفرع عليه في مقام التنجيز، لما أشرنا إليه آنفا من
تفرع داعوية الامر الغيري على داعوية الامر النفسي إلى متعلقه، وأنها
في طولها، فلا يتنجز وجوب الوضوء على كل حال إلا بتنجز احتمال وجوبه
غيريا الموقوف على تنجز احتمال وجوب القراءة المقيدة به بسبب العلم
الاجمالي، فلا يكون مانعا من تنجزه.
وبعبارة أخرى: العلم بوجوب الوضوء على كل حال لا يكون منجزا
355

له إلا بمنجزية كل من احتمالي وجوبه النفسي والغيري، وحيث كان تنجز
احتمال الوجوب النفسي للقراءة المقيدة به لا يكون مانعا منه.
ونظير المقام ما لو علم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو الصلاة المقيدة
به، حيث لا مجال لدعوى انحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب الوضوء على كل
حال إما نفسيا أو غيريا، فيجتزأ به ولا يؤتى بالصلاة لعين ما ذكر.
هذا، وحيث كان التحقيق منجزية العلم الاجمالي في التدريجات يظهر
أنه لا يعتبر العلم بفعلية وجوب القراءة في الحال، بل يكفي العلم بفعلية
وجوبها بعد ذلك، المستلزم للعلم الاجمالي بأحد الامرين من وجوب الوضوء
نفسيا في الحال، ووجوب القراءة المقيد به بعد ذلك، فيتنجز كل منهما، كما
أشرنا إليه في الصورة الأولى.
وأما الصورة الثالثة فحيث لا يعلم فيها بوجوب نفسي في الحال،
لا للوضوء، لاحتمال كون الامر به غيريا، ولا للقراءة بالفرض المستلزم لعدم
العلم بفعلية وجوب الوضوء الغيري فلا مانع فيها من الرجوع للبراءة من كل
من التكليفين.
ومجرد العلم بأنه لو وجبت القراءة في الحال لكان الوضوء واجبا فعلا
نفسيا أو غيريا لا يكفي في تنجز شئ من الامرين بعد فرض عدم العلم
بوجوب القراءة.
نعم، لو علم بوجوبها بعد ذلك دخلت في الصورة الثانية، كما سبق.
وربما كانت في المقام صور أخرى يظهر الحال فيها مما تقدم،
ولا مجال لاستقصائها.
356

تذنيب
أشرنا آنفا إلى أن داعوية الامر الغيري في طول داعوية الامر النفسي،
فلا بد في مقربية موافقته وتحقق الإطاعة بها من وقوعها بداعي امتثال الامر
النفسي، فتكون مقربيته بلحاظ كونه شروعا في امتثال الامر النفسي
واستحقاق الثواب به بلحاظ ذلك، لا لكونه موجبا للاستحقاق بنفسه، لعدم
قيام غرض به في قبال غرض الامر النفسي. فزيادة الثواب به ليس لكونها
عوضا عنه في قبال عوضية أصل التواب لامتثال الامر النفسي، بل لامتثال
الامر النفسي بلحاظ طول مدة الاشتغال به، لما هو المرتكز من أن أفضل الأعمال
أشقها.
نعم، ليس معنى استحقاق الزيادة به لزومها عقلا على المولى، بحيث
يكون حبسها ظلما منه، نظير استحقاق الأجرة على المؤجر. بل كون العبد
أهلا لها لقيامه بما هو موضوع للتعويض، ولذا يصدق عليها الثواب والاجر
والجزاء على العمل.
وليست هي ابتداء تفضل من المولى كتفضله بنعمة الخلق والرزق
ونحوهما مما لا يصدق عليه الجزاء بل الظاهر أن ذلك هو مرجع الاستحقاق
على امتثال التكليف النفسي أيضا، وليس هو لازما على المولى، لان لزومه
لا يناسب وجوب الإطاعة على العبد، ولا هو ابتداء تفضل.
وقد يشير إلى الفرق بين الاستحقاق بالنحو الذي ذكرنا وابتداء
التفضل قوله في الدعاء: " اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل
أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شئ ".
357

ثم إنه تعرض غير واحد في المقام لتوجيه اعتبار التقرب في الطهارات
الثلاث، واستحقاق الثواب عليها بما لا مجال لإطالة الكلام فيه، وربما يفي
البحث في الفقه ببعض ذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.
358

المبحث الرابع
في تقسيم المأمور به إلى
تعييني وتخييري
وموضوع هذا التقسيم في كلماتهم وإن كان خصوص الوجوب،
إلا أنه ناشئ عن اهتمامهم به، وإلا فوضوح عمومه للاستحباب مانع من
احتمال بنائهم على تخصيصه بالوجوب.
نعم، الظاهر عدم جريانه في النهي وإن جرى نظيره فيه على ما نتعرض
له في ذيل هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وكيف كان، فالمراد بالمأمور به التعييني ما يتعلق به الامر على نحو
يقتضي تحقيقه بعينه من دون أن يقوم مقامه فيه بشئ آخر، كالصلاة والصوم
والحج، وبالتخييري ما يتعلق به الامر بنحو يقتضي الاجتزاء عنه بعدل له يقوم
مقامه في امتثاله، كما في خصال الكفارة.
هذا، وحيث كان متعلق التكليف مطلقا فعل المكلف الذي هو كلي
ذو أفراد كثيرة يتحقق امتثاله بأي فرد منها من دون مرجح لبعض الأصناف
أو الافراد على بعض كان التكليف مطلقا مبنيا على التخيير، لكن التخيير
المذكور عقلي، ومحل الكلام التخيير الشرعي.
ومحصل الفرق بينهما: أن الغرض الداعي للتكليف إن كان قائما
بما به الاشتراك بين الأطراف، بحيث يكون وافيا به، من دون دخل لما به
359

الامتياز بينها فيه، بل هي مقارنة لموضوع الغرض لا غير، كان التكليف
متعلقا بما به الاشتراك بعينه، وهو الجامع، وكان التخيير بين الأطراف عقليا،
بملاك تحقق الإطاعة مع كل منها، وقبح الترجيح من غير مرجح، من دون أن
يستند للمولى، لأنه ليس من شؤون تكليفه.
وإن كان قائما بما به الامتياز بينها على البدل - ولو بضميمة ما به
الاشتراك - بحيث يكون لكل منها دخل فيه حين وجوده لزم تعلق التكليف
بها على نحو وفائها بالغرض، ويكون التخيير بينها شرعيا، لتبعيته لنحو تكليفه
بها. وهو محل الكلام في المقام.
ولو فرض تعذر الخطاب تعيينا بالجامع في الأول لعدم إدراك العرف
له تعين الخطاب بأفراده تخييرا، لكن لا يكون التخيير شرعيا وإن أصر عليه
بعض الأعاظم (قدس سره)، بل هو عقلي، لتبعية الحكم للملاك والغرض
ثبوتا، بل يكون الخطاب بالافراد عرضيا للوصول بها للجامع الذي هو
المكلف به ثبوتا، ويكون التخيير عقليا.
ومن هنا ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أن التكليف التخييري لو
كان ناشئا عن غرض واحد يقوم به كل واحد من الأطراف لزم كون التخيير
عقليا، لان امتناع صدور الواحد عن المتعدد ملزم بكون الغرض الواحد
مستندا للجامع بين الأطراف من دون دخل لخصوصياتها المتباينة فيه، فيكون
هو المكلف به تعيينا تبعا للغرض المذكور، وليس ذكر الأطراف بخصوصياتها
إلا لتعيينه وحصره، لا لقيام التكليف بها، ليكون التخيير شرعيا.
لكن ما ذكره مبني على ما سبق منه في مبحث الصحيح والأعم من
ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر، وقد سبق هناك الاشكال في وجهه، وأنه قد
360

أنكره غير واحد.
مع أنه لا يتم لو اختلف نحو تأثير كل منهما في الغرض الواحد، كما
لو كان غرض المولى إعداد الطعام للاكل، ليرفع به الجوع، فأمر بشراء طعام
مطبوخ أو طبخ طعام مملوك، فإن أثر الأول رفع المانع الشرعي من الانتفاع
بالطعام، وأثر الثاني تحقيق شرطه الخارجي، وهما مختلفان ماهية، وإن اشتركا
في الغرض الأقصى المذكور الذي هو الملاك الداعي لجعل الحكم، فلا مانع من
اختلاف مؤثر كل منهما من دون أن يستند لجامع واحد.
وكالتأديب والردع الذي يكون بمثل الموجب للألم البدني،
وبمثل الصدقة والعتق الموجبين للخسارة المالية، مع عدم الجامع الماهوي بين
الاثرين المذكورين.
اللهم إلا أن يكون ذلك خارجا عن فرض وحدة الغرض في كلامه
وداخلا في فرض تعدده، الذي يكون التخيير فيه شرعيا عنده، بأن يريد من
الغرض الأثر المباشر لكل منهما الذي يراد من كل منهما في طول الغرض
الأقصى، والمفروض تعدده فيهما وإن اشتركا في الغرض الأقصى المترتب
بالواسطة، ولا يدخل في وحدة الغرض في مفروض كلامه إلا ما إذا اشتركا
حتى في الغرض المباشر، كما لو خير في الفرض بين شراء الطعام واستيهابه،
حيث يكون الغرض منهما والأثر المباشر لهما رفع المانع الشرعي.
لكنه بعيد جدا عن ظاهر كلامه، حيث جعل مورد التخيير الشرعي
ما إذا تعدد الغرض وامتنع حصول غرض كل منهما في ظرف حصول غرض
الاخر، مع وضوح عدم امتناع حصول كلا الغرضين المستندين لكلا الطرفين
بالمباشرة في المثال المتقدم، فلو لم يدخل في صورة وحدة الغرض لكانت
361

القسمة غير مستوعبة، وهو بعيد.
ومن هنا كان الظاهر أن مراده بالغرض هو الغرض الأقصى الذي هو
الملاك الداعي لجعل الحكم، والذي قد يكون واحدا، كما في المثال السابق،
وقد يكون متعددا يمتنع حصول أكثر من واحد منه، كما لو احتاج إلى
استعمال دواء ينفع بصره آخر ينفع سمعه، وكان استعمال أحد الدوائين
مانعا من تأثير الاخر وإن أمكن استعماله معه، فيتعين عليه الامر بالاتيان
بأحدهما تخييرا.
إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في حقيقة الوجوب التخييري على
أقوال قد تظهر الثمرة بينها في فرض الشك في كون الوجوب تخييريا، على
ما تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين.
ويجري نظيرها في الاستحباب التخييري وإن كان خارجا عن عنوان
كلامهم.
الأول: ما يظهر من من المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه سنخ خاص
من الوجوب مباين للوجوب التعييني سنخا ثابت لجميع أطراف التخيير،
فلكل منها وجوبه الخاص به، يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه
إلا إلى الآخر، وترتب الثوابت على فعل الواحد منها والعقاب بتركها بتمامها،
لا أن الوارد عليها بمجموعها وجوب واحد يقتضي التخيير بينها في مقام
العمل.
ولعله راجع إلى ما أوضحه بعض الأعيان من المحققين (قدس سره) من
أن الوجوب التخييري طلب ناقص ناشئ عن إرادة ناقصة لمتعلقه لا تقتضي
وجوده إلا في ظرف عدم الاخر، بخلاف الطلب التعييني، فإنه طلب تام ناشئ
362

عن إرادة تامة لمتعلقه تقتضي وجوده مطلقا ومن جميع الجهات.
نعم، استشكل بعض المحققين (قدس سره) في كون التخيير شرعيا في
تعدد الغرض وتعذر استيفاء أكثر من غرض واحد، بأن مرجع ذلك إلى
التزاحم الملاكي، والتخيير فيه عقلي كالتخيير في التزاحم بين التكليفين
المتساويين في الأهمية في مسألة الضد.
لكنه يندفع: بأنه مرجع التخيير العقلي في التزاحم بين التكليفين
والتزاحم الملاكي - لو تم - إما إلى حكم العقل بالتخيير في قبال لزوم الجمع
أو ترجيح أحد المتزاحمين بعينه واكتفاء الشارع بذلك من دون أن يتصدى
للتخيير في مقام الجعل، أو إلى إدراك العقل تخيير الشارع في مقام الجعل جمعا
بين قدرة المكلف وقبح الترجيح بلا مرجح، من دون حاجة إلى بيان شرعي.
أما مرجع التخيير العقلي في المقام فهو التخيير في مقام الامتثال للتكليف
بالقدر الجامع الذي يفي بالغرض من دون دخل للخصوصيتين في المكلف به
والغرض، ولو بنحو البدلية، في قبال التخيير الشرعي التابع لدخل
الخصوصيتين في المكلف به بنحو البدلية تبعا لدخلهما في الغرض - كما سبق -
وإن كان التخيير الشرعي بالمعنى المذكور عقليا بالمعنى الأول الراجع لحكم
العقل بالتخيير أو إدراكه تخيير الشارع، لان ذلك لا يستلزم عدم دخل
الخصوصيتين في الغرض والمكلف به، بل هو يبتني على ذلك.
كما استشكل فيه بعض مشايخنا تارة: بما ذكره سيدنا الأعظم (قدس
سره) - أيضا - من أن تعدد الغرض بالنحو المذكور مستلزم لتعدد العقاب
في صورة العصيان وعدم استيفاء كلا الغرضين، لتفويت كل منهما في ظرف
القدرة على تحصيله لعدم الانشغال بالآخر.
363

وأخرى: بأن التضاد بين الغرضين إن رجع إلى أن سبق تحصيل أحدهما
مانع من تحصيل الاخر مع إمكان تحصيلهما معا دفعة واحدة لزم على المولى
الامر بالاتيان بالطرفين دفعة واحدة محافظة على كلا الغرضين الالزاميين.
وإن رجع إلى تعذر الجمع بينهما مطلقا ولو مع الاتيان بالطرفين دفعة
واحدة لزم عدم الامتثال بالاتيان بالطرفين دفعة واحدة، لامتناع وجود أحد
الغرضين معه، لأنه بلا مرجح.
لكن الأول يبتني على أن المعيار في تعدد العقاب على تعدد الغرض
الفائت لا على قدرة المكلف على الجميع بين الغرضين، ويأتي في بحث الترتب
إن شاء الله تعالى أن الحق الثاني.
وأما الثاني فهو يندفع: بأنه لما كان مقتضى الاطلاق تحقق الامتثال
بالجمع بين الطرفين كشف عن مرجح لأحدهما يقتضي تحقق الامتثال به عند
الاتيان بهما دفعة، لأنه أسبق تأثيرا في غرضه من الاخر، فيمنع من تأثير الاخر
في غرضه.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من استبعاد التزاحم بين
الغرضين مع القدرة على الجمع بين الفعلين، وانه من باب فرض أنياب
الأغوال.
فهو استبعاد خال عن المنشأ، إذ لا اطلاع لنا على خصوصيات
ملاكات الأحكام الشرعية، ولا سيما مع قرب وقوعه في الأمور العرفية.
نعم، لا ملزم في فرض تعدد الاغراض بالتزام تعذر تحصيل أكثر من
غرض واحد، حيث قد يكون منشأ التخيير مع تعدد الغرض وإمكان تحصيل
الجميع وجود المانع من الالزام بالجمع بين الاغراض، كالحرج النوعي،
364

ومصلحة الارفاق بالمكلف ونحوهما مما لا يتوقف على تعذر الجمع وبه
لا يبقى موضوع للاستبعاد، لشيوع ذلك كثيرا، ولا للاشكالين المتقدمين من
بعض مشايخنا.
إذ لا يكون كل منهما بنفسه غرضا مستقلا، بل ليس هناك إلا غرض
واحد متعلق بهما بدلا، فلا يفوت بتركهما معا إلا غرض واحد فليس عليه
إلا عقاب واحد.
كما لا مانع حينئذ من ترتب غرض كل منهما عند الجمع بينهما دفعة
أو تدريجا وإن لم يكن لازما.
ودعوى: أن ذلك راجع إلى وحدة الغرض، وهو أحد الامرين، لان
المراد بالغرض ليس مجرد المقتضي للتكليف، المفروض تعدده في المقام، بل
ما يبلغ مرتبة الفعلية بلحاظ سائر الجهات الدخيلة في الملاك، ومنها مثل
مصلحة الارفاق، وبلحاظ ذلك لا يكون الملاك إلا أحد الامرين.
مدفوعة: بأن أحد الامرين ليس عنوانا جامعا حقيقيا ماهويا، لتكون
وحدته مستلزمة لوحدة المؤثر - بناء على ما سبق من المحقق الخراساني - وهو
الجامع بين الأطراف، كي يكون هو المكلف به، ويكون التخيير عقليا، بل هو
جامع انتزاعي يحكي عن كل من الغرضين بخصوصيتيهما المتباينتين، فالغرض
الفعلي هو أحدهما على البدل، فلا يستلزم وحدة المؤثر وهو الجامع بين طرفي
التخيير، بل يكون التخيير شرعيا بين الطرفين بخصوصيتيهما المؤثرين للغرضين
بخصوصيتيهما.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن التخيير الشرعي بالمعنى المتقدم
لا يتوقف على ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من تعذر الجمع بين
365

الغرضين، بل يجري معه ومع إمكان الجمع بينهما. كما لا يتوقف على
ما ذكره من تعدد الغرض، بل يجري مع وحدته أيضا.
ويشكل: بعدم وضوح الفرق بين التكليف التعييني والتخييري سنخا،
كعدم وضوح تعدد التكليف التخييري بعدد الأطراف، وعدم تعقل الطلب
الناقص والإرادة الناقصة، بل الإرادة والطلب مطلقا يقتضيان تحقيق متعلقهما،
وهما على نحو واحد في التعييني والتخييري وليس التخيير ناشئا من اختلاف
سنخ الطلب، بل من اختلاف نحو من تعلقه بمتعلقه.
هذا ما تقتضيه المرتكزات العرفية في المقام التي ينحصر المرجع
في أمثاله بها.
الثاني: أنه راجع إلى وجوب كل طرف تعيينا، لكن وجوب كل منها
مشروط بعدم فعل الاخر.
والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين وحدة الغرض وتعدده مع عدم
التكليف بما يحصل الغرضين لتعذر استيفائهما، أو للمانع من التكليف بالجمع
بينهما، على ما سبق في بيان مورد التخيير الشرعي.
إذ مع وحدة الغرض لا ينحصر تحصيله بكل طرف إلا في ظرف عدم
غيره فلا يدعو الغرض للتكليف به إلا مشروطا بعدم حصول غيره، ومع
تعدده لا يكون كل غرض فعليا قابلا للتكليف بما يحصله تعيينا إلا في ظرف
عدم حصول غيره، لعدم تحقق ما يحصله، فلا يدعو كل غرض للتكليف بما
يحصله إلا مشروطا بذلك.
وأما دعوى: أن لازمه كون الجمع بين طرفين دفعة واحدة لتكليفين،
لتحقق شرط فعليتهما معا في ظرف موافقتهما، فيتحقق امتثالهما، ولازمه
366

استحقاق المكلف ثوابين ولا يظن من أحد الالتزام بذلك، بل هو ارتكازا
كالجمع بين فردين من الماهية المأمور بها تعيينا، لا يستحق به
إلا ثواب واحد.
فقد تندفع: بأن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد الغرض
الحاصل، أما مع وحدته، لوحدة الغرض الداعي للتكاليف أو لتعذر تحصيل
أكثر من واحد منها، فلا مجال لتعدد الثواب، لتبعية الثواب للغرض
لا للتكليف.
نعم، يشكل فيما إذا أمكن تحصيل جميع الاغراض وكان عدم الالزام
بالجمع بينها للمانع، لوضوح أنه مع فعلية التكليف بكل طرف لفعلية غرضه
وحصوله بالامتثال لا وجه لوحدة الثواب.
الثالث: أنه راجع إلى وجوب كل من الأطراف تعيينا مطلقا، مع كون
امتثال بعضها مسقطا للتكليف بالباقي، حيث قد يسقط التكليف بغير
الامتثال لارتفاع موضوعه ونحوه.
وفيه: - مضافا إلى ما تقدم في سابقه من استلزامه تعدد الامتثال والثواب
على ما فصل - أنه مع إمكان استيفاء غرض الباقي وعدم المانع من بقاء
التكليف به لا وجه لسقوطه، ومع تعذر استيفاء غرضه أو تحقق المانع من بقاء
التكليف به - كالحرج النوعي - لا وجه لاطلاق التكليف به من أول الامر،
بل لابد من تقييد التكليف به بالنحو المناسب لغرضه، نظير ما تقدم في الوجه
الثاني، كما أورد به في الجملة المحقق الخراساني (قدس سره).
هذا، مضافا إلى أن ما يبتني عليه هذا الوجه وسابقه من تعدد التكليف
المستلزم لتعدد الامتثال في ظرف الاتيان بالفعلين دفعة واحدة - ولو مع وحدة
الثواب - بعيد عن المرتكزات العرفية، تبعا لظهور الأدلة اللفظية الظاهرة في
367

وحدة التكليف مع التخيير في المكلف به، كما هو مفاد العطف ب‍ (أو)
أو نحوه، لا في تعدد التكليف، فلا مجال لارتكابه إلا مع امتناع الحمل على
الظاهر المذكور. وربما يأتي لذلك توضيح في الوجه الخامس.
الرابع: أن المكلف به أحد الأطراف المعين عند الله تعالى، وهو الذي
يأتي به المكلف في مقام الامتثال.
وهو وإن أمكن عقلا لو أريد به ظاهره من تعين المكلف به ثبوتا ابتداء
وليس إتيان المكلف بأحد الأطراف إلا كاشفا عن كونه هو المكلف به في
حقه والذي يفي بالغرض، حيث لا يلزم منه تبعية التكليف للامتثال، ولا عدم
تعين المكلف به على تقدير عدم إتيان المكلف بشئ من الأطراف أو جمعه
بينها دفعة المستلزم لعدم التكليف.
وإنما يرد ذلك لو أريد استناد التعيين لفعل المكلف ثبوتا، الذي هو
خلاف ظاهر هذا القول.
إلا أنه مخالف لظواهر الأدلة، ولما هو المقطوع به في حقيقة التكليف
التخييري في العرفيات، فإن مقتضاهما عدم الفرق بين الأطراف في نسبة
التكليف، وعدم الفرق بين أفراد المكلفين في المكلف به منها.
وكأن ذلك هو الذي أوجب وهن القول المذكور حتى قيل إنه تبرأ منه
كل من المعتزلة والأشاعرة ونسبه إلى الاخر.
ومثله في ذلك ما قيل: من أن الواجب أحد الأطراف المعين عند
الله تعالى، ولا يتعين إثباتا حتى بفعل المكلف، وإنما الاخر مسقط له من دون
أن يكون مكلفا به في عرضه، نظير طلاق الزوجة المسقط لوجوب
الانفاق عليها.
368

مضافا إلى ما يرد عليهما: من أن اللازم عدم وجوب الاتيان بالممكن
منهما عند تعذر أحدهما، لعدم العلم بكونه مكلفا به، وعدم وجوب فعل
المسقط عند تعذر المكلف به.
الخامس: أن مرجعه إلى التكليف بأحد الامرين لا بعينه من دون أن
يكون لأحدهما اختصاص به في مقام الثبوت، خلافا للوجه السابق، كما
لا يختلف عن التعييني سنخا، خلافا للوجه الأول، ولا يكون متعددا بعدد
الأطراف، خلافا للوجوه الثلاثة الأول.
هذا وقد أشرنا إلى أن عنوان أحد الامرين منتزع من الامرين
بخصوصيتيهما، ويحكى عنهما كذلك بنحو الترديد، من دون أن يحكي تعيينا
عن جهة مشتركة بينهما، كما هو الحال في العناوين الذاتية - كالانسان
والحيوان - والعرضية الحقيقية - كالعالم - أو الاعتبارية - كالزوج أو
الانتزاعية - كالفوق - حيث تنتزع بأجمعها من جهة مشتركة بين الافراد.
ومن هنا لا يكون عنوان أحد الامرين بنفسه موردا للغرض ولا للإرادة
ولا للتكليف، بحيث يكون هو المكلف به تعيينا ويكون التخيير بين الأطراف
عقليا، كما قد يظهر من بعض كلماتهم.
وحينئذ لا مجال لارجاع هذا الوجه إليه، المستلزم لعدم الفرق بين
التخييري والتعييني إلا في المتعلق، حيث يكون متعلق التعييني عنوانا منتزعا من
جهة مشتركة بين الأطراف، ومتعلق التخييري عنوان أحدها.
وما ذكره بعض مشايخنا من إرجاع التكليف التخييري لذلك لدعوى
أن الوجوب لما كان أمرا اعتباريا أمكن تعلقه بالعناوين الانتزاعية، كما ترى!
لأنه مع عدم وجود منشأ انتزاع للعنوان لا يكون موطنا للغرض، ليكون
369

مورد للتكليف.
ومثله ما ذكره بعض الأعاظم من إمكان التكليف بالمفهوم المذكور وإن
لم يكن له منشأ انتزاع موجود في الخارج.
هذا مضافا إلى أن عنوان أحد الأمور كثيرا ما لا يؤخذ في موضوع
التكليف التخييري، بل يرد التكليف على الأطراف بخصوصياتها مع العطف
بينها ب‍ (أو) التي لا تفيد مفهوما اسميا صالحا لان يكون متعلق التكليف، مع
وضوح عدم الفرق بين المفادين، الكاشف عن عدم كون المراد - في صورة
أخذه - تعلق التكليف به، بل محض العبرة به لبيان التعلق بالأطراف بالنحو
الذي يؤديه العطف ب‍ (أو).
فلابد من رجوع هذا الوجه إلى تعلق التكليف بمصداق أحدهما - كما
ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) - بمعنى تعلقه بكل من الخصوصيتين بنحو
خاص من التعلق يقتضي التخيير بينهما في مقام العمل والاكتفاء بكل
منهما بدلا.
فالفرق بينه وبين التكليف التعييني في المتعلق وكيفية التعلق، فمتعلق
التعييني واحد، ومتعلق التخييري متعدد، وتعلق التخييري بالواد بنحو يصح
نسبة التكليف إليه ويقتضي تحقيقه لا غير، وتعلق التخييري بالمتعدد بنحو
يقتضي تحقيق طرف منه على البدل من دون أن يصح نسبته إليه إلا مع بقية
الأطراف بنحو البدلية.
وكأنه إليه يرجع ما قيل: من تعلقه بالواحد المردد، وإلا فالترديد، ظاهر
في الابهام، الممتنع ثبوتا والممكن إثباتا، وهو مباين للتخيير سنخا.
ومن هنا لا مجال لرده بامتناع البعث نحو المردد كما لا تتعلق الإرادة
370

به، إذ لو أريد بالبعث نحو المردد البعث نحو المبهم فليس منه المقام، وإن أريد
به البعث التخييري فامتناعه أول الكلام.
نعم، يمتنع البعث الخارجي نحو المردد، لأنه إضافة شخصية متقومة
بأطرافها من الباعث والمبعوث والمبعوث إليه، فمع عدم تشخص بعضها
فلا تتشخص، فلا توجد. ولذا لا يتعلق بالجزئي، مع تعلق البعث
الاعتباري بالكلي.
هذا، وقد يدعى امتناع تعلق التكليف بأحد الامرين بنحو الترديد
والتخيير، لأنه ناشئ عن الإرادة التشريعية، وهي لا تتعلق إلا بالمعين، فتقتضي
تحقيقه تعيينا، قياسا على الإرادة التكوينية التي لا تتعلق إلا بالمعين القابل
للايجاد، فتقتضي إيجاده.
لكن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من قياس الإرادة التشريعية
بالتكوينية في ذلك، لان الإرادة التكوينية لما كانت علة لايجاد المراد لزم كون
متعلقها معينا قابلا للايجاد خارجا، بخلاف التشريعية لتبعيتها للغرض سعة
وضيقا، وبهذا اختلفا في تعلق الثانية بالكلي، دون الأولى.
والذي ينبغي أن يقال: الإرادة التكوينية في مرتبة الغرض تابعة له
سعة وضيقا وتعيينا وتخييرا، فكما تتعلق تعيينا بالكلي الواحد ذي
الخصوصيات الفردية المتكثرة، لوفائه بالغرض، كذلك تتعلق بالأكثر بنحو
التخيير والبدلية تبعا لنحو دخله في الغرض.
نعم، في مرتبة تحقيق المراد لا تكفي الإرادة المذكورة بأحد النحوين،
بل لابد من أن ينضم إليها اختيار إحدى الخصوصيات تعيينا من الكلي
الواحد الذي تعلق به الغرض والإرادة تعيينا، أو من أحد الكليات المتعددة التي
371

تعلق بها الغرض والإرادة بنحو التخيير والبدلية.
لكن اختيار الخصوصية تعيينا في المقام المذكور ليس ناشئا من الغرض
الأول، بل من جهات خارجية زائدة عليه، ككون الخصوصية المذكورة
أسهل أو أفضل أو غيرهما.
وهذا لا ينافي تحقق الإرادة التكوينية الناشئة عن الغرض وبقائها على
سعتها بالنحو السابق، ولذا قد تتمحض في الداعوية للسعي نحو الامتثال بفعل
المقدمات المشتركة قبل الاحتياج للتعيين.
مثلا: لو أراد الشخص شراء الطعام تعيينا أو أراد شراء الفراش أو بيع
الثياب بنحو التخيير والبدلية، لغرض قائم بأحد النحوين، ولم يحدد ما ينبغي
اختياره من الخصوصيات، فإنه قد يذهب للسوق الذي هو مقدمة مشتركة
بين الخصوصيات مندفعا عن الإرادة المفروضة بأحد النحوين محضا، فإذا
وصل إلى السوق وصار في مقام تحقيق ما أراده تبعا لغرضه فلابد له من
اختيار إحدى خصوصيات الطعام في الفرض الأول، أو اختيار إحدى
الخصوصيات من أحد الامرين من البيع والشراء في الفرض الثاني، لأمر زائد
على الغرض الذي تسببت عنه الإرادة الأولى، ككون ما يختاره أسهل أو أنفع
له أو لمن يهمه أمره أو نحو ذلك. هذا في الإرادة التكوينية.
أما الإرادة التشريعية فمن الظاهر أنها - بأي معنى فسرت - لما كانت
مسببة عن الغرض فهي نظير الإرادة التكوينية التي تكون في مرتبة تعلق
الغرض، تابعة له سعة وضيقا وتعيينا وتخييرا، وليست نظير الإرادة التكوينية
التي تكون في مرتبة تحقيق المراد، بل ليس النظير لها إلا الإرادة الحاصلة من
المكلف حين الامتثال، والتي هي مسببة عن التكليف لا منشأ له.
372

ومما ذكرنا يظهر أن ما سبق من منع تعلق الإرادة التشريعية بالمتعدد
بنحو الترديد، والتخيير، قياسا على الإرادة التكوينية، وما سبق من بعض
الأعاظم (قدس سره) من الفرق بين الإرادتين، ناشئان عن الخلط بين الإرادة
التكوينية التابعة للغرض، والإرادة الحاصلة حين تحقيق المراد.
ومن هنا لا مخرج عما هو ظاهر الأدلة من تعلق التكليف التخييري
بالأطراف بخصوصياتها المتباينة بنحو البدلية والتخيير.
بل لما كان الظهور المذكور نوعيا ارتكازيا كان بنفسه صالحا لدفع
بعض التوهمات والشبه المنافية له والكشف عن خلل فيها إجمالا. فلاحظ.
بقي في المقام أمور
الأول: من الظاهر أن مقتضى الاطلاق البناء على كون الامر بالشئ
تعيينا، سواء استفيد الامر من هيئة افعل أو نحوها، أم من مادة الامر
أو الوجوب أو الاستحباب أو نحوها من المفاهيم الاسمية.
لكن لا بمعنى الاطلاق المقابل للتقييد كما يظهر من المحقق الخراساني
(قدس سره) وغيره، بل بمعنى ما يستفاد من الكلام مع التجرد عن القرينة،
لما أشرنا إليه من أن نحو تعلق الامر التخييري بمتعلقه يقتضي عدم نسبته لبعض
الأطرف، بل لتمامها بنحو يفيد التخيير، فالاقتصار على نسبته للواحد ظاهر
في التعيينية.
وكذا الحال بناء على الوجه الأول، لان سنخ الوجوب التخييري الذي
عبر عنه بالطلب الناقص يبتني على نحو عناية لا يحمل عليها الكلام
إلا بالقرينة.
373

نعم، بناء على الوجه الثاني يكون ذلك مستفادا من الاطلاق المقابل
للتقييد، إذ لا يكون الامر بالشئ تخييريا إلا إذا كان مقيدا بعدم فعل بقية
الأطراف، الذي هو خلاف مقتضى إطلاق الهيئة أو نحوها مما يدل على الامر.
وكذا على الوجه الرابع المبتني على رجوع الامر التخييري إلى وجوب
المعين عند الله تعالى الذي يفعله المكلف لوضوح أنه عليه يلزم اختلاف أفراد
المكلفين فيما هو الواجب من الأطراف، فإذا ورد الامر بشئ كان مقتضى
إطلاق الموضوع اشتراك جميع المكلفين في المأمور به.
أما بناء على الوجه الثالث فلا ينهض الاطلاق ابتداء بنفي كون
الوجوب تخييريا، لابتناء الوجوب التخييري عليه على كون وجوب كل
طرف مطلقا، وأن سقوطه بالطرف الاخر ليس لكونه مقيدا بعدم فعله.
نعم، ينهض بنفي لازمه وهو السقوط بفعل الطرف الآخر، لان
مقتضى الاطلاق الأحوالي بقاء التكليف بعد فعل الطرف الآخر، المستلزم
لعدم كونه تخييريا.
مع أن سقوط الامر بغير الامتثال مع فرض إطلاقه لو أمكن فهو
خلاف الأصل فيه، لان الامر يدعو إلى متعلقه. فلاحظ.
هذا إذا كان الامر واردا لبيان الحكم الكلي بنحو القضية الحقيقية،
أما إذا كان واردا لبيان الحكم الشخصي في قضية خارجية، واحتمل كونه
تخييريا وإنما اقتصر على بعض الأطراف لتعذر غيره على الشخص المذكور،
فلا مجال للتمسك بأحد الوجوه المتقدمة لاثبات كونه تعيينا بحسب أصل
الجعل، بعد فرض عدم تصدي المتكلم لبيان الحكم بحسب أصل الجعل.
لكن حمل الخطاب في القضايا الشرعية على القضية الشخصية الخارجية
374

مخالف للظاهر، لان الخطاب وإن كان كثيرا ما يوجه لشخص خاص إلا أن
المفهوم منه عدم خصوصيته في الحكم، بل يشاركه فيه كل واجد للجهة
المشار إليها في موضوع الحكم.
ثم إنه لو فقد الاطلاق فالكلام في أن مقتضى الأصل التعيين أو التخيير
موكول إلى مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، لشدة ارتباطه بها،
فلا مجال معه لإطالة الكلام فيها هنا.
الثاني: وقع الكلام بينهم في إمكان التخيير بين الأقل والأكثر، وربما
يمنع بأنه بعد وجود الأقل ووفائه بالغرض وسقوط الامر به لا مجال لدخل
الزائد في الامتثال.
ومنه يظهر اختصاص الكلام بما إذا كان الاتيان بالزيادة بعد تمامية
الأقل، دون ما إذا كانت في أثنائه - كما في التخيير بين القصر والتمام، حيث
يؤتى بالركعتين الأخيرتين قبل التسليم الذي تتم به الصلاة المقصورة -
أو مصاحبة له - كالتخيير بين كتابة القرآن فقط وكتابته مع قراءته دفعة -
لعدم تحقق الأقل الذي يسقط به الامر إلا مع الزيادة، فلا محذور في استناد
الامتثال إليهما في ظرف اجتماعهما، وإن كان الأقل وحده صالحا لان
يتحقق به الامتثال، فيخير بينهما وبين الأقل وحده في مقام الامر.
فما قد يظهر من بعض كلماتهم من عموم الكلام لذلك لعله في غير
محله.
ودعوى: أنه لا مجال لدخل الزيادة في الامتثال بعد فرض وفاء الأقل
به، لترتب الغرض عليه دونها، بل لابد من كونها خارجة عنه مطلقا ولو
لم يكن الاتيان بها بعد الفراغ منه.
375

نعم، لو كانت الزيادة فردا آخر من أفراد المأمور به صالحة لان يترتب
عليها الغرض ويتحقق بها الامتثال - كما لو أمر بالضرب، فضرب شخصين
دفعة واحدة - تعين استناد الامتثال للفردين في ظرف اجتماعهما، لعدم
المرجح.
مدفوعة: بأن وفاء الأقل بالغرض وتحقق الامتثال به حين الاتيان به
وحده لا ينافي عدم وفائه به حين الاتيان به مع الزيادة، بل يستند إليهما معا
حين اجتماعهما، ولا وجه مع ذلك لاستناد الامتثال لخصوص الأقل،
بل يتعين استناده لهما، لابتناء الامر على التخيير بينهما معا وبين الأقل وحده،
تبعا لنحو ترتب الغرض عليهما.
وبالجملة: ما ينبغي الكلام فيه صورة الاتيان بالزيادة بعد تمامية الأقل
الصالح لان يفي بالغرض ويتحقق به الامتثال، كالتخيير بين صوم يوم واحد
وصوم يومين، بلحاظ المحذور المتقدم.
والظاهر اندفاع المحذور المذكور: بأن الملاك الموجب للتكليف بالفعل
لا يلزم أن يكون هو أثره المترتب عليه بالمباشرة والمسبب التوليدي له،
كانكسار الزجاج المترتب على ضربه بالحجر، بل هو الغرض الأقصى الذي
قد لا يترتب عليه إلا بوسائط ومقدمات متعددة، كالأكل المترتب على شراء
الطعام، وحينئذ يمكن أن يكون ترتب الغرض الأقصى على الأقل مشروطا
بعدم انضمام الزائد إليه، أما مع انضمامه ولو بعد وجوده فالغرض
الأقصى يستند إليهما معا، ولا وجه مع ذلك لاختصاص التكليف بالأقل
وحده وكونه تعيينيا، بل لابد من التخيير بينه وبين الأكثر، تبعا لنحو ترتب الغرض عليهما.
376

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من رجوع ذلك في الحقيقة إلى التخيير بين
المتباينين، لان الأقل حينئذ مقيد بعدم كونه في ضمن الأكثر، فيباين الأكثر.
ففيه: أن دخوله في التخيير بين المتباينين لا ينافي امتناعه للوجه المذكور
واحتياج إمكانه لدفعه بما تقدم، والمراد بالتخيير بين الأقل والأكثر ذلك، بل
لا يكون إلا كذلك، وإلا فلو اخذ الأقل لا بشرط، بحيث يترتب الغرض عليه
وحده سواء كانت الزيادة معه أم لم تكن، لم يكن من التخيير بين الأقل
والأكثر، بل بين المطلق والمقيد الذي لا إشكال في امتناعه، لتحقق المطلق في
ضمن الواجد للقيد، فمع وفائه بالغرض بنفسه يكون دخل القيد فيه خلفا.
وبعبارة أخرى: المراد من الأقل والأكثر ما ينتزع من الاجزاء الخارجية
في مقابل المتباينين بالإضافة إليها كالعتق والصدقة، لا ما ينتزع من الجزء
التحليلي، وهو التقييد. فما ذكره أشبه بالاشكال اللفظي.
وإن كان يحسن ملاحظة كلامه، حيث قد يظهر منه منع ما ذكرناه من
التخيير بالنحو السابق واختصاص الممكن بمثل التخيير بين القصر والاتمام
الذي لا يمكن فيه إلحاق الزيادة بعد الفراغ من الأقل، فينهض ما سبق منا
بدفعه. فتأمل جيدا.
ثم إن التخيير المذكور لما كان على خلاف المتعارف ولم تأنس به
أذهان العرف كان الحمل عليه محتاجا إلى عناية وكان الأظهر عرفا حمل دليل
التخيير بين الأقل والأكثر على أفضلية الزيادة، سواء كانت من سنخ الأقل
كالصوم يوما أو يومين، أم غير سنخه كالصلاة مع التعقيب أو بدونه،
فضلا عما إذا لم يكن الدليل بلسان التخيير، بل كان الامر بكل منهما بلسان
ظاهر في التعيين، حيث لا يجمع بينهما بالحمل على التخيير، بل على
377

الأفضلية.
بل لعل ذلك يجري - أيضا - فيما إذا كان الاتيان بالزيادة قبل
الفراغ من الأقل الذي عرفت أنه خارج عن محل الكلام، حيث يكون
الأقرب الحمل على أفضلية الأكثر وإن كان طرفا للتخيير، لعدم سقوط الامر
إلا بإتمام العمل.
نعم، قد يشكل في مثل القصر والاتمام مما كان مقتضى الأصل
أو الدليل مبطلية الزيادة، حيث يكون المتيقن من التخيير فيه بيان مشروعية
الأكثر وإجزائه، ولا مجال لاستفادة أفضليته إلا بدليل خاص.
ثم إن التخيير بين الأقل والأكثر كما يكون شرعيا، لكون كل منهما
دخيلا بخصوصيته في ترتب الغرض الواحد أو المتعدد، يكون عقليا، كما
لو كان الأثر مستندا لجهة مشتركة تصدق على الكثير بعين صدقها على
القليل، كعنوان الجماعة والورد ونحوهما.
وقد سبق أن هذا هو المعيار في الفرق بين التخييرين، ولا يناط بما ذكره
المحقق الخراساني (قدس سره) من تعدد الغرض ووحدته.
الثالث: من الظاهر أنه كما يمكن كون الملاك الموجب للامر بنحو
يقتضي الاكتفاء بأحد الامرين، فيكون الامر تخييريا، كذلك يمكن كون
الملاك الموجب للنهي مقتضيا للاكتفاء بترك أحد الامرين، لكنه لا يوجب
النهي التخييري، لعدم مناسبة التخيير للنهي عرفا، بل يوجب النهي عن الجمع
بين الامرين.
نعم، يمكن كون الترخيص تخييريا، كما فيما لو كان ناشئا عن مصلحة
مخرجة عن مقتضى الحكم الأولي، تقتضي الترخيص في فعل أحد الامرين دون
378

الجمع بينهما، ولا يكون الترخيص الناشئ عن عدم المقتضي.
والنهي عن الجمع والترخيص التخييري وإن كانا متفقين عملا،
إلا أنهما يختلفان منشأ وموردا، فإن كان مقتضى الحكم الأولي الترخيص في
الأطراف لولا المفسدة المانعية من الجمع بينها لزم الأول، كما في النهي عن
الجمع بين الأختين في النكاح، وإن كان مقتضى الحكم الأولي المنع من
الأطراف لولا المصلحة المقتضية للترخيص في أحدها لزم الثاني، كما في
التخيير بين القصاص وأخذ الدية.
379

المبحث الخامس
في تقسيم المأمور به إلى عيني وكفائي
وهذا التقسيم كسابقه في عدم الاختصاص بالوجوب، بل يعم
لاستحباب وإن قصرت عنه عناوينهم، كما لا يجري في النهي، بل يجري
نظيره، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
وكيف كان، فالمراد بالعيني ما يطلب فعله من جميع المكلفين، بنحو
لا يغني امتثال أحدهم عن امتثال غيره، بل لكل منهم امتثاله ومعصيته،
كالصلاة والصوم، وبالكفائي ما يكتفى فيه بامتثال بعض المكلفين، ولو تركه
الكل لعوقبوا عليه، كالصلاة على الميت.
وقد اختلفوا في حقيقة الوجوب الكفائي - الذي هو موضوع
كلامهم - على أقوال يجري نظيرها في الاستحباب.
الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه سنخ خاص
من الوجوب يعرف بآثاره، نظير ما سبق منه في الوجوب التخييري.
ويشكل بنظير ما سبق هناك من عدم وضوح الفرق بين الوجوب العيني
والكفائي سنخا.
الثاني: أنه عبارة عن وجوبات عينية بعدد أفراد المكلفين يكون بقاء
كل منها مشروطا بعدم امتثال غيره لتكليفه، فمع امتثال أحدها من أحدهم
381

تسقط بقيتها عن غيره، نظير ما سبق في الواجب التخييري.
وبهذا البيان يتضح أنه لو انشغل به أكثر من واحد وفرغوا دفعة واحدة
كان الكل ممتثلين، لعدم تحقق مسقط تكليف كل منهم إلا بعد امتثاله له.
ولا مجال للاشكال فيه بأن لازمه عدم تحقق الامتثال لو أتى به أكثر من
واحد دفعة، لعدم تحقق شرط تكليف كل منهم.
نعم، يتجه الاشكال المذكور لو كان المراد بهذا الوجه كون عدم
امتثال أحدهم من جميع الأزمنة شرطا في أصل ثبوت التكليف، لا في بقائه.
حيث يكون امتثال كل منهم مانعا من ثبوت تكليف الآخرين المانع من
صدق الامتثال على فعلهم المستلزم لعدم امتثال الكل، لعدم المرجح، فيبقى
التكليف.
لكن يبعد جدا إرادتهم ذلك، كيف ولازمه كون امتثال أحدهم في
بعض الأزمنة كاشفا عن عدم ثبوت التكليف في حق الآخرين من أول الامر،
لا مسقطا له بعد ثبوته؟!
نعم، يشكل الوجه المذكور بأن الذي يكلف به كل مكلف إن كان
هو الماهية على إطلاقها في مقابل العدم المحض والتي يكفي في تحققها فعل أحد
المكلفين، فلا مجال لارجاعه للتكاليف العينية في حق جميع المكلفين، لوضوح
ابتناء التكاليف العينية في حقهم إلى تكاليف كل منهم بفعله المباين لفعل غيره،
والمقابل لعدم فعله، لا للعدم المحض.
كما لا يحتاج معه مسقطية امتثال أحدهم لتكاليف الباقين إلى تقييدها
بعدمه، لعدم بقاء موضوعها معه.
وإن كان هو الماهية الصادرة منه في مقابل عدم فعله هو لها، بحيث
382

يكلف كل فرد منهم بفرد من الماهية غير ما يكلف به الاخر، فمن الظاهر
عدم تعلق الغرض الفعلي قبل فعل أحدهم إلا بفعل واحد منهم، إما لوحدة
الغرض من الامر ذاتا وحصوله بفعل الواحد، أو تعدده بعدد أفعال المكلفين
مع تعذر حصول أكثر من واحد الراجع إلى كون الغرض واحدا بنحو البدلية،
مستتبعا للاكتفاء بمطلق وجود الماهية في قبال عدمها المطلق.
لا أن الغرض من أول الامر متعلق بفعل الكل بنحو يقتضي إتيان كل
منهم بفرد غير ما يأتي به الاخر، غايته أنه يسقط بفعل بعضهم، نظير: ما لو
أمر جماعة بأن يسقي كل منهم أرض الزرع دلوا من الماء، فسقاها المطر
وأرواها.
كيف وقد لا يكون المكلف به قابلا للتعدد، كتطهير المسجد وحفظ
المال وكسر الاناء ونحوها؟!
وأما الاشكال على ذلك: بأن لازمه استحقاق ثواب واحد مع امتثال
الكل دفعة لوحدة الغرض الحاصل من فعلهم، لما سبق في نظير هذا الوجه من
الواجب التخييري من أن تعدد الامتثال إنما يوجب تعدد الثواب مع تعدد
الغرض الحاصل به، لا مع وحدته.
فهو مندفع: بالفرق ارتكازا بين تعدد الامتثال مع وحدة الممتثل، كما
في الواجب التخييري، وتعدده مع تعدد الممتثل، كما هنا، حيث يستحق كل
منهم أجر عمله بعد فرض وقوعه في محله وكونه دخيلا في حصول غرض
المولى وإن كان واحدا.
وإلا فلو كان إتيان الكل به دفعة موجبا لحصول أغراض بعددهم لزم
التكليف به محافظة عليها.
383

وبالجملة: لا ريب بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية والنظر في
الواجبات الكفائية العرفية في ابتناء الوجوب الكفائي على وحدة الغرض من
فعل الكل المستلزم للاكتفاء بفعل أحدهم في مقابل العدم المحض، لا في مقابل
عدم فعله بنفسه.
كما يشكل هذا الوجه وما قبله: بأن الواجب الكفائي قد يتعذر قيام
شخص واحد به دائما أو في بعض الحالات، كالجهاد بالمقدار الذي يدفع به
الخطر عن المسلمين، والحج بالمقدار الذي تتعطل بدونه المشاعر، فيمتنع
رجوع التكليف به إلى تكاليف متعددة بعدد أفراد المكلفين، سواء كانت
مباينة للتكليف العيني سنخا - كما هو مقتضى الوجه الأول - أم من أفراده مع
كونها مشروطة بعدم امتثال الآخرين - كما هو مقتضى الوجه الثاني -
بل لابد من كونه بنحو خاص صالح لتكليف كل فرد بالقيام به استقلالا
أو مع غيره حسب اختلاف الافراد والأحوال.
الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الوجوب الكفائي
لما كان ناشئا عن غرض واحد تعين كونه وجوبا واحدا متعلقا بصرف وجود
المكلف، نظير تعلقه بصرف وجود المكلف به، فبامتثال أحدهم يتحقق الفعل
من صرف الوجود فيسقط الغرض ولا يبقى مجال لامتثال الباقين، كما أنهم
بامتثالهم جميعا يثابون جميعا، لانطباق صرف الوجود عليهم بأجمعهم.
وفيه: أنه لا يتعقل تكليف صرف الوجود، بل هو غير قابل للخطاب
والتكليف، لان التكليف من الإضافات الخارجية التي لا تتعلق إلا بالمكلف
الخارجي المعين، كما لا تصدر إلا من المكلف الخارجي المعين، وإنما أمكن
تعلقه بالمكلف به على إطلاقه بنحو يكتفي في امتثاله بصرف الوجود لأنه
384

لا يتعلق به في ظرف وجوده، بل في ظرف عدمه بنحو يقتضي إيجاده، لان
وجوده ليس ظرفا لثبوت التكليف، بل ظرف سقوطه بالامتثال، فلا وجه
لقياس المكلف على المكلف به في إمكان كونه الطبيعة التي يكتفي فيها
بصرف الوجود.
الرابع: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وجوب واحد متعلق بأحدهم
على تردده، نظير تعلق الوجوب التخييري بأحد الأطراف على تردده.
وفيه: أنه مرجع الترديد في الواجب التخييري إلى التخيير، وهو إنما
يتعقل في المكلف به دون المكلف، نظير ما تقدم في الوجه الثالث.
على أن استحقاق العقاب والثواب فرع التكليف، فإذا كان المكلف
هو أحدهم مرددا لزم كون الثواب أو العقاب واحدا ثابتا لأحدهم كذلك
حتى في فرض إطاعتهم أو عصيانهم جميعا. وهو كما ترى! لا معنى له، بل
لا يلتزم به هو ولا غيره.
هذا، مضافا إلى الاشكال في جميع الوجوه المتقدمة: بأن لازمها أنه
لو فرض عجز بعض المكلفين عن امتثال التكليف الكفائي بنفسه لم يجب عليه
السعي في امتثال غيره بالنحو الذي يقدر عليه، لسقوط التكليف عنه بالتعذر
لو كان له تكليف يخصه مباين للتكليف العيني سنخا أو فرد منه مشروط
بعدم امتثال الغير - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - وخروجه عن موضوعه
لو كان مشاركا للغير في التكليف الواحد الثابت لصرف الوجود أو للمردد
- كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لوضوح امتناع تكليفه بأي وجه في
ظرف عجزه.
ولا دليل على وجوب السعي لامتثال الغير لتكليفه، غاية الامر أنه
385

يجب إعلام الجاهل بتشريع التكليف به، كما يجب الامر بالمعروف، وقد
لا يتم موضوع كل منهما، كما قد لا ينفعان في ترتب امتثال الغير لتكليفه،
ولا يجب غير ذلك من وجوه السعي في امتثاله، كإعلامه بتحقق موضوع
التكليف، وإقناعه بوجه آخر لا يقتضيه الامر بالمعروف، وتهيئة مقدمات
الامتثال له.
كما لا يجب السعي لتحقيق مسقط التكليف عند تعذر امتثاله،
مثلا: لو تعذر على أحد الزوجين القيام بحقوق الاخر في ظرف مطالبته
لم يجب عليه السعي للطلاق لتسقط الحقوق المذكورة عنه، ولو وجب على
زيد مشايعة صديقه إذا سافر لم يجب عليه عند تعذر مشايعته له إقناعه
بالعدول عن السفر، وهكذا.
مع أنه لا إشكال ظاهرا في أن تعذر امتثال الواجب الكفائي على
بعض أفراد المكلفين لا يسقطه عنه رأسا، بل يجب عليه السعي لقيام غيره من
المكلفين به بأي وجه أمكن، إلا بدليل مخرج عن ذلك.
وهذا كاشف عن عدم تمامية شئ من الوجوه المتقدمة في توجيهه،
وأنه مجعول بنحو خاص يقتضي وجوب السعي بالوجه المذكور وإن لم تقتضه
الوجوه المذكورة.
فلعل الأولى أن يقال: إن التكليف الكفائي عبارة عن تكليف كل فرد
بالماهية لا بنحو يقتضي تكليفه بفرد منها مباين لما كلف به غيره - كما في
التكليف العيني - بل بنحو يقتضي مطلق وجودها في مقابل عدمها المحض،
لوفاء ذلك بالغرض الداعي للتكليف، كما سبق توضيحه عند الكلام في
الوجه الثاني.
386

فالفرق بينه وبين التكليف العيني ليس في السنخ - كما هو مقتضى
الوجه الأول - ولا في إطلاق التكليف وتقييده - كما هو مقتضى الوجه الثاني
- ولا في المكلف - كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - بل في المكلف به،
حيث يكون المكلف به في العيني في حق كل فرد يخصه من الماهية مباين للفرد
الذي يكلف به الاخر - يقوم به هو بالمباشرة أو يكتفي بقيام غيره مقامه فيه -
وفي الكفائي أصل وجود الماهية الحاصل بفعل أي منهم بانفراده أو بمشاركة
غيره له.
ودعوى: امتناع ذلك، لان وحدة المكلف به تمنع من تعدد التكليف،
وتعدد المكلف يمنع من وحدة التكليف.
ممنوعة، بل يتعين تعدد التكليف في المقام، لان التكليف، كما ذكرناه
غير مرة - إضافة قائمة بين المكلف والمكلف والمكلف به، ومن الظاهر أنه
لا يعتبر في تعدد الإضافة اختلاف تمام الأطراف، بل يكفي اختلاف بعضها.
ومن هنا يتجه تعدد الثواب أو العقاب مع امتثال الكل دفعة
أو عصيانهم، لامتثال كل منهم لتكليفه الذي يخصه أو عصيانه له.
ومثلها دعوى: امتناع تكليف الانسان بين فعله وفعل غيره، لخروج
فعل غيره عن قدرته، بل لابد من تقييد المأمور به بخصوص فعله المباين لفعل
غيره، لأنه المقدور له.
لاندفاعها: بأنه لا يعتبر القدرة على تمام أفراد المأمور به، بل يكفي
القدرة عليه بالقدرة على بعض أفراده.
على أن فعل الغير قد يكون مقدورا للمكلف صالحا لان يخاطب به
ويكلف بتحصيله فيما لو كان قادرا على إحداث الداعي له للفعل في ظرف
387

قدرته عليه، أو إقداره عليه في ظرف تحقق الداعي له، أو كليهما.
ولذا يصح التكليف بما لا يقدر على مباشرته له إذا كان قادرا على
تفريغ ذمته منه بالاستنابة فيه. وعليه تبتني صحة الإجارة على العمل بنحو
تنشغل به ذمة الأجير من دون اعتبار مباشرته له، بل مع تعذرها عليه.
وبهذا يتجه في المقام لزوم السعي لحصول الواجب الكفائي من الغير
على العاجز عن القيام به، لان عجزه عن فعله بالمباشرة لا ينافي قدرته على
الوجود المطلق المتحقق بفعل غيره بالأعلام والاقناع وتهيئة المقدمات، وحيث
كان الوجود المذكور هو المكلف به فلا وجه لسقوطه مع القدرة عليه بالنحو
المذكور، وليس هو متمحضا في السعي لامتثال الغير لتكليفه، كي لا يجب.
كما ظهر الوجه في لزوم استقلال شخص بالفعل تارة، والاشتراك فيه
أخرى، والتخيير بينهما ثالثة، لان الوجود المطلق يتحقق بالوجهين، فيتخير
بينهما مع القدرة عليهما معا ويتعين أحدهما مع اختصاص القدرة به.
نعم، لا يبعد كون الاشتراك في الفعل الواحد موجبا للاشتراك في
ثواب واحد، لوحدة الامتثال وإن تعددت التكاليف، ولا يستقل كل مشارك
فيه بثواب الامتثال التام، للفرق الارتكازي في مقدار الثواب الذي يستحقه
الشخص بين استقلاله بالفعل ومشاركة غيره له فيه.
بل لا يبعد ذلك مع استقلال كل منهم بفعل تام دفعة واحدة، لان
كلا منها وإن كان امتثالا تاما لتكليفه، إلا أن وحدة الغرض واشتراكهم في
تحقيقه تناسب وحدة الثواب واشتراكهم فيه، بل قد يدعى ذلك في العقاب
وإن كان لا يخلو عن إشكال، خصوصا الثاني.
والامر سهل، لعدم تعلق ذلك بمقام العلم، بل هو وظيفة المولى الحكيم
388

الذي لا يخفى عليه مقدار الاستحقاق، ورحمته وسعت كل شئ.
بقي في المقام أمور
الأول: أشرنا آنفا إلى أن الوجوب الكفائي تارة: يكون مع وحدة
الغرض ذاتا، فلابد من ترتبه على الوجود المطلق المكلف به من دون دخل
لخصوصيات أفعال المكلفين، فيكون هو المكلف به.
وأخرى: يكون مع تعدده بعدد أفعال المكلفين مع تعذر استيفاء تمام
الاغراض المستلزم لفعلية غرض واحد على البدل، والموجب للاكتفاء بفعل
واحد من المكلفين على البدل.
لكن الثاني يختلف، لان الغرض البدلي المذكور تارة: يقتضي حفظه
من كل أحد، فيكلف الكل بتحصيله بتحقيق أحد أفعال المكلفين على البدل،
والاكتفاء بالوجود المطلق لأنه لا ينفك عنه، لا لقيام الغرض به كما في
الصورة الأولى.
وأخرى: يقتضي حفظ كل مكلف للغرض الحاصل بفعله على تقدير
عدم حفظه الاخر لغرض فعله.
وعلى الأول يكون التكليف كفائيا يجري ما فيه ما تقدم.
أما على الثاني فيكون التكليف في حق كل واحد عينيا مقيدا بعدم
امتثال غيره، ولازمه أنه مع تعذر الامتثال على أحدهم لا يجب عليه السعي
لامتثال الآخرين إلا بدليل خاص. فلاحظ.
الثاني: أن المكلف به حيث كان هو الوجود المطلق تعين أنه مع تعذر
389

القيام بالفرد التام على شخص لا يشرع له الامتثال بالفرد الناقص
الاضطراري مع قدرة غيره على الامتثال بالفرد التام وحضوره له، لعدم صدق
الاضطرار مع ذلك للناقص، فلا يجزي.
وهذا بخلاف ما لو كان كل فرد مكلفا بفعله، حيث يصدق
الاضطرار في حقه، فيشرع له الفعل الناقص، وحينئذ يتجه سقوط التكليف
عن الآخرين لو كان لدليل السقوط إطلاق يشمل الاتيان بكل مشروع وإن
كان ناقصا، فتأمل جيدا.
الثالث: حيث كان الفرق بين التكليف العيني والكفائي بإطلاق
المكلف به في الكفائي بنحو يكتفي فيه بصرف الوجود الصادر من كل أحد،
وتقييده في العيني بفرد خاص يختص بالمكلف الواحد، أو أفراد متعددة يختص
كل منها بفرد من المكلفين، فإن كان هناك إطلاق يقتضي الأول،
كما لو كان الخطاب بالفعل المبني للمجهول - مثل: ليصل في المسجد ويحج
البيت - عمل به، وإلا فإن كان هناك ظهور يقتضي تكليف بعض المكلفين
أو جميعهم بأفراد تخصهم، كما هو ظاهر الخطاب بالفعل المبني للفاعل - مثل:
صلوا في المسجد وحج البيت - عمل عليه أيضا.
وإن فقد الأمران كان المرجع الأصول العملية، وهي تختلف باختلاف
الموارد.
فلو علم الشخص بتكليفه بالشئ في الجملة فحيث كانت العينية
مستلزمه لخصوصية زائدة في المكلف به، وهي الفرد المباين للفرد الذي كلف
به أو يأتي به الغير، كان مقتضى الأصل عدمها والاجتزاء بالوجود المطلق
الصادر من أي شخص، بناء على ما هو التحقيق من أن المرجع البراءة مع
390

الشك في اعتبار الخصوصية في المأمور به، على ما يذكر في مبحث الأقل
والأكثر الارتباطيين.
نعم، لو كان الفعل متعذرا عليه ودار الامر بين كون التكليف عينيا
يسقط بالتعذر المذكور وكونه كفائيا لا يسقط به، بل يجب عليه السعي
لتحصيله من غيره كان مقتضى البراءة الأول، للشك في أصل التكليف.
وكذا لو علم الشخص بتكليف غيره بشئ ودار الامر بين كونه عينيا
مختصا به وكونه كفائيا يشترك هو معه فيه، كما لو دار الامر بين اختصاص
أحكام الميت بالولي وعمومها لجميع المكلفين، فإن مقتضى الأصل براءة ذمة
غير الولي من التكاليف المذكورة.
الرابع: كما أن الامر بالطبيعة يقتضي تكليف كل فرد من أفراد
الموضوع تارة: بفرد منها يخصه. وأخرى: بوجودها المطلق المقابل للعدم
المحض من أي فرد فرض، فيكون في الأول عينيا وفي الثاني كفائيا. كذلك
النهي عن الطبيعة يقتضي نهي كل فرد تارة: عن إيجادها هو لها. وأخرى: عن
أصل وجودها.
وعلى الأول يكتفى في امتثال كل فرد بتركه هو، ولا يجب عليه منع
غيره إلا بدليل خاص، كدليل الامر بالمعروف.
أما على الثاني فكما يلزم كل مكلف ترك الطبيعة يلزمه منع الغير من
القيام بها، تجنبا لأصل وجودها.
فهو نظير الوجوب الكفائي في نحو توجيه التكليف بالماهية، وإن افترقا
في كيفية الامتثال، حيث يكتفى في امتثال الوجوب الكفائي بفعل الواحد،
ويعتبر في امتثال النهي المذكور ترك الكل.
391

لكن الفرق المذكور متفرع على الفرق بين الأمر والنهي مطلقا في
كيفية الامتثال، حيث يكتفي في امتثال الأول بصرف الوجود، ويعتبر في
امتثال الثاني ترك تمام الافراد.
نعم، الغالب في موارد النهي المذكور ثبوت النهي عن الخصوصية
أيضا، وهي المباشرة في حق كل فرد. فمثلا: النهي عن قتل المؤمن راجع إلى
نهيين: نهي عن مباشرة قتله عينا على كل أحد، يكفي في امتثاله في كل
مكلف تجنبه له، ونهي للكل عن تحقق ذلك، بنحو يجب على الكل منع كل
أحد منه، وهو راجع لوجوب حفظه عليهم، فمن لم يقتله ومنع من قتله امتثل
النهيين، ومن لم يقتل ولم يمنع من قتله امتثل الأول دون الثاني، ومن قتله
خالفهما معا، ولذا يكون أشد معصية من الأول.
أما الوجوب الكفائي فكثيرا ما يصاحب استحبابا عينيا للمباشرة،
كما في أحكام الميت. فلاحظ.
392

المبحث السادس
في تقسيم المأمور به إلى
مطلق وموقت
وهذا التقسيم كسابقه وإن ذكر في الواجب إلا أنه لا يختص به، بل
يعم المستحب، بل قد يجري في المنهي عنه، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء
الله تعالى.
إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن الزمان لابد منه في كل فعل حادث،
ومنه الفعل المأمور به، فهو من لوازم المأمور به العقلية التي يمتنع أخذها فيه
شرعا للزوم اللغوية.
إلا أنه تارة: لا تؤخذ فيه خصوصية زمانية، بل يكون مطلقا من حيثية
الزمان.
وأخرى: تؤخذ فيه خصوصية زمانية زائدة على ما يستلزمه عقلا من
أصل الزمان.
والأول هو المطلق، والثاني هو الموقت.
ولعل هذا هو المراد مما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن
الزمان وإن كان مما لابد منه عقلا في الواجب، إلا أنه تارة يؤخذ فيه شرعا،
وأخرى لا يؤخذ.
وإلا فلا مجال لما يظهر من كلامه من أن الزمان الذي لابد منه عقلا
393

قد يؤخذ في الواجب، لما ذكرنا من أن ما لابد منه عقلا - وهو أصل
الزمان - يمتنع أخذه شرعا، وما يمكن أخذه شرعا - وهو الخصوصية الزمانية -
لا يقتضيه العقل.
هذا، وقد تقدم في المسألة الثانية من الفصل الخامس ما يتعلق بالمطلق،
وأن إطلاق الامر هل يقتضي الفور في مقام الجعل أو الامتثال أو لا يقتضيه؟
ومن ثم كان المهم في المقام الكلام في الموقت.
وقد قسموا إلى قسمين:
الأول: الموسع، وهو الذي يكون وقته أوسع منه، كالصلاة اليومية.
الثاني: المضيق، وهو الذي يكون وقته بقدره، كالصوم في نهار
شهر رمضان.
وقد استشكل في الأول بما عن بعض القدماء من أنه يؤدي إلى جواز
ترك الواجب، كما في المعالم.
فإن كان المراد به أنه يؤدي إلى جواز تركه في أول الوقت، وهو ينافي
وجوبه فيه. فهو ليس محذورا، لان وجوبه لما كان مبنيا على السعة، تبعا
للغرض الداعي له، فجواز الترك عن أول الوقت لا ينافيه، نظير جواز ترك
الواجب التخييري إلى بدله.
وإن كان المراد به أن سعة الوقت لما كانت تقتضي جواز التأخير عن
أوله فقد يتعذر بعد ذلك، فيفوت الواجب رأسا فوتا لا عقاب معه، وهو
ينافي وجوبه، لفرض القدرة عليه في الجملة.
فهو مندفع: بأن السعة إنما تقتضي جواز تأخيره عن أول الوقت مع
القدرة عليه في آخره، لا مع العجز عنه. نعم، يجوز تأخيره ظاهرا مع عدم
394

ظهور أمارات العجز عنه في آخر الوقت لأصالة السلامة المعول عليها عند
العقلاء - كما سبق في مسألة الفور والتراخي - وتعذر الواجب بعد ذلك وإن
استلزم فوت الواجب، إلا أنه يكشف عن عدم جواز تأخيره عن أول الوقت،
فهو لا يرجع إلى جواز تفويته واقعا، لينافي وجوبه، بل تفويته مستند إلى خطأ
أصالة السلامة، كخطأ سائر الطرق الظاهرية الذي قد يستلزم فوت امتثال
التكليف فوتا لا عقاب معه من أن ينافي ثبوته.
ثم إن الظاهر أن الامر بالموسع راجع إلى الامر بالطبيعة المقيدة بما في
الوقت بما لها من أفراد متكثرة طولية وعرضية، وكما يكون التخيير بين
أفرادها العرضية عقليا بسبب عدم دخل خصوصياتها في الغرض، كذلك
التخيير بين أفرادها الطولية.
وما قد ينسب إلى جماعة - منهم العلامة - من كون التخيير بين الافراد
الطولية شرعيا في غير محله.
على إشكال في النسبة، لان الذي حكاه في الفصول عنهم أن الواجب
الموسع ينحل إلى واجبات تخييرية.
ولعل مرادهم بذلك مجرد بيان سعة المكلف به والاجتزاء بأي فرد منه
في مقام العمل، لا التخيير الشرعي المقابل للتخيير العقلي. والامر سهل.
كما استشكل في الثاني - وهو المضيق - بما أشار إليه بعض الأعاظم
(قدس سره) وغيره من أنه لا بد من تقدم البعث على الانبعاث ولو آنا ما،
فإن كان حدوث البعث والتكليف سابقا على الوقت لزم تقدم المشروط على
شرطه، وإن كان مقارنا لأوله لزم تأخر الانبعاث عنه، فيكون الوقت أوسع
من الواجب لا بقدره.
395

وقد يدفع بوجهين:
الأول: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن لزوم تقدم البعث
على الانبعاث وإن كان بديهيا، إلا أنه ليس تقدما زمانيا، بل رتبيا، كما هو
الحال في جميع العلل مع معلولاتها، وحينئذ لا مانع من كون أول الوقت زمانا
لكل من التكليف والانبعاث للمكلف به.
نعم، لابد من العلم قبل الوقت بحدوث التكليف عنده، ليتمكن من
الانبعاث فيه، بخلاف العلم بالموضوع - وهو الوقت - فلا يعتبر تقدمه عليه.
بل أنكر بعض مشايخنا لزوم التقدم الزماني حتى للعلم بالتكليف،
مدعيا أن العلم بالتكليف المستلزم للعلم بترتب العقاب متقدم على الامتثال
والانبعاث طبعا، لا زمانا.
لكنه يشكل: بأن الاندفاع لما كان مشروطا بالعلم بالتكليف الفعلي
فهو موقوف على العلم بجعل التكليف كبرويا، وبتحقق موضوعه، ومنه
الوقت - بناء على كونه شرطا للتكليف أيضا - فلا وجه لما ذكره بعض
الأعاظم (قدس سره) من الفرق بين العلم بالحكم والعلم بالموضوع.
كما أن الظاهر أنه لابد في تأثير العلم بالحكم الفعلي - المترتب على
العلم بالامرين - في النفس بنحو يستلزم فعلية الاندفاع من مضي زمان ما،
كما هو الحال في سائر الدواعي للعمل، حيث لابد من مضي زمان ما على
الالتفات إليها، لتستحكم في النفس ويترتب عليها الاندفاع، كما قد يتضح
بالرجوع للمرتكزات.
الثاني: أن الكلام فيما إذا كان الوقت قيدا للواجب، لا للوجوب،
وحينئذ لا مانع من دعوى سبق الوجوب على الوقت بنحو الواجب المعلق.
396

اللهم إلا أن يكون مبنى الاشكال على امتناع الواجب المعلق، كما هو
مختار بعض الأعاظم (قدس سره).
لكن عمدة الاشكال في المعلق هو امتناع فعلية التكليف بالامر المتأخر،
لعدم كونه اختياريا فلا يمكن الانبعاث نحوه، كي يمكن البعث إليه، وهو إنما
يقتضي امتناع تأخر المكلف به عن التكليف مدة أطول مما يقتضيه الترتب بين
البعث والانبعاث، أما مع فرض لزوم تأخر الانبعاث عن البعث آنا ما - كما
هو مبنى الاشكال في المضيق - فلا محذور في تأخر زمان الواجب عن زمان
الوجوب بقدر ذلك، بل لا فائدة حينئذ في سعة زمان الواجب بحيث يقارن
الوجوب زمانا.
وعلى ذلك لا مانع من البناء على كون زمان الواجب بقدره، مع
تقدم زمان الوجوب عليه بالقدر اللازم في الترتب بين العلم بالحكم الفعلي
والانبعاث.
نعم، كثيرا ما لا يتيسر العلم بدخول الوقت وخروجه مقارنا لأوله
وآخره، بل لا يعلم بدخوله إلا بعد مضي شئ منه، ولا بخروجه إلا بعد مدة
من مضيه، لعدم وضوح حدوده - كالفجر والظهر والمغرب - بنحو التدقيق.
كما أن الفعل المأمور به قلما يتيسر تهيئة جميع مقدماته، بحيث يشرع
فيه بمجرد دخول وقته كالصوم، بل كثيرا ما يحتاج لبعض المقدمات القريبة
التي تستغرق زمنا ولو قليلا، كالتخطي لدخول المسجد.
ومن هنا كان الظاهر انحصار الواجب المضيق عادة بما إذا كان أمرا
استمراريا يمكن الشروع فيه قبل الوقت والبقاء عليه بعده، لا بنية الوجوب في
تمامه، بل ليقع ما يجب منه في تمام الوقت، كما في مثل الامساك للصوم
397

والكون في المسجد للاعتكاف، حيث يمكن الشروع فيهما قبل الفجر والبقاء
عليهما لما بعد المغرب ليحصل المطلوب منهما في تمام وقته وبين الحدين،
ويكون الطرفان المكتنفان له مقدمة علمية، ليتيسر بها إحراز الامتثال، وفي
مثل ذلك لا يهم البناء على مقارنة البعث للانبعاث أو على الترتب بينهما.
وهذا بخلاف مثل الصلاة، حيث لا مجال لتوقيتها بوقت خاص بنحو
يشرع بها في أوله، ويفرغ منها في آخره، وتطابقه دقة، لتعسر امتثالها بالنحو
المذكور، بل تعذره عادة.
بقي في المقام أمور
الأول: لا ريب في عدم دلالة الامر بالموقت بوجه على وجوب تداركه
بعد الوقت لو فات فيه، كما ذكره غير واحد، لان التوقيت من أنحاء التقييد
وحيث كان تعذر القيد موجبا لتعذر المقيد تعين قصور دليل الامر بالمقيد عن
إثبات وجوب فاقد القيد عند تعذره، بل قد يكون ظاهرا في عدم وجوبه،
كما لو كان مفاد التقييد حصر الفعل المشروع بالمقيد لا مجرد الامر به، كما
في مثل: " لا صلاة إلا بطهور " (1) فلابد في وجوب التدارك بعد الوقت من
دليل آخر غير دليل الامر بالموقت.
وتوضيح الكلام في ذلك يقتضي الكلام أولا في أنحاء التقييد بالوقت
الممكنة ثبوتا، ثم في مفاد الأدلة إثباتا.
المقام الأول: في مقام الثبوت
لما كان أخذ الوقت في الواجب عبارة عن تقييده به فأخذ القيد في
الواجب يكون..
398

تارة: لغرض مستقل عن غرضه موقوف على الاتيان بالواجب مقارنا
للقيد، من دون أن يكون القيد دخيلا في مصلحة الواجب، كما لو وجبت
الصلاة في المسجد لمصلحة إشغال المسجد من دون دخل له بمصلحة الصلاة.
وهو راجع إلى كون القيد واجبا في واجب.
وأخرى: لتوقف غرض الواجب عليه في ظرف التمكن منه، بنحو
لو أخل به حينئذ فقد أخل بغرضه، لكنه مع تعذره يسقط دخله فيه رأسا،
ويكون الفاقد للقيد حينئذ محصلا لتمام الغرض.
وثالثة: كالثانية إلا أنه مع التعذر يسقط دخله بالإضافة إلى بعض
مراتب الغرض، فيكون الفاقد في ظرف تعذر القيد محصلا لبعض الغرض
بالنحو اللازم الحفظ.
ورابعة: يكون لتوقف غرض الواجب عليه مطلقا حتى في ظرف
تعذره، بحيث لا يكون الفاقد مع التعذر محصلا لشئ من الغرض، لكن
يحدث بفوت الغرض غرض آخر مباين له يقتضي تكليفا آخر مباينا للتكليف
بالمقيد من سنخ التدارك له، كالضمان بسبب الاتلاف، أو العقوبة عليه،
كالحد والتعزير والكفارة.
وخامسة: كالرابعة، لكن من دون أن يحدث غرض يقتضي تكليفا
آخر.
وربما كانت هناك بعض الصور الأخرى، إلا أنه لا أثر لها أو يظهر
حكمها من الصور التي ذكرناها.
وهذه الصور تختلف من جهات..
الأولى: أنه في الصورتين الأخيرتين لو تعذر القيد لا يجب الفاقد أصلا،
399

بخلاف الصور الثلاث الأول.
الثانية: أنه في الصورة الثانية يجوز تعجيز النفس عن القيد، لحصول
تمام الغرض بالفاقد في ظرف العجز عنه، بخلاف بقية الصور.
الثالثة: أنه في الصور الأربع الأخيرة لو أتى بالفاقد للقيد في ظرف
القدرة عليه لم يكن مشروعا ولا امتثالا، لعدم مطابقته للمأمور به، فلا يجتزأ
به إلا بدليل خاص من باب الاجتزاء بغير المأمور به عنه، بخلاف الصورة
الأولى، لفرض عدم توقف غرض أصل الواجب على القيد، فيصح ويقع
امتثالا لامره، وإن لم يمتثل أمر القيد.
وحينئذ إن كان موضوع الامر بالقيد هو الاتيان بذات الواجب مقارنا
له وجبت إعادته مع القيد وإن سقط أمره، تحصيلا لمصلحة القيد، وإن كان
موضوعه الاتيان بالواجب بما هو واجب مقارنا له تعين سقوط أمر القيد،
لتعذر امتثاله بارتفاع موضوعه بعد فرض سقوط أمر المقيد بالامتثال.
وعليه يتجه عدم صحة الفاقد للقيد لو كان عبادة مع الالتفات لذلك،
لان استلزامه تفويت مصلحة القيد الواجب موجب لمبعديته، فيمتنع
التقرب به.
الرابعة: أنه لو شك بعد تعذر القيد في الامتثال بالمقيد حين القدرة
عليه كان مقتضى قاعدة الاشتغال في الصورة الأولى الاتيان بذات الواجب،
لما عرفت من رجوعها إلى تكليفين أحدهما بالذات والاخر بالقيد، فسقوط
الثاني بالامتثال أو التعذر لا ينافي بقاء الأول، وحيث كان الشك في امتثاله
كان مقتضى قاعدة الاشتغال الاتيان به.
كما أنه في الصورة الرابعة والخامسة لا مجال لقاعدة الاشتغال، للعلم
400

بسقوط التكليف المعلوم بالامتثال أو التعذر، غاية الامر أنه يحتمل حدوث
تكليف جديد في الصورة الرابعة، وهو أجنبي عن مفاد قاعدة الاشتغال.
بل قد يدعى ذلك أيضا في الصورة الثانية والثالثة، للعم سابقا
بالتكليف بالمقيد، والمفروض سقوطه بالامتثال أو التعذر، مع الشك في تجدد
التكليف بالفاقد للقيد.
لكنه لا يخلو عن إشكال، لان اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد
تعذره مع التكليف بالواجد له حين القدرة عليه في تمام الغرض في الصورة
الثانية مستلزم لرجوعهما إلى تكليف واحد تخييري تابع لغرض واحد يشك
في امتثاله.
ومرجع التكليف المذكور إلى التكليف بأحد أمرين: الاتيان بالواجد
للقيد حين القدرة عليه، والآتيان بالفاقد له حين تعذره، ولذا لا يجب حفظ
القدرة على القيد، نظير التخيير من أول الامر بين الاتيان بالتمام حين الحضر،
والآتيان بالقصر حين السفر، فتعذر القيد على تقدير عدم الامتثال لا يوجب
تبدل التكليف، بل تبدل الامتثال لتبدل طرف التخيير المقدور، وحيث فرض
الشك في امتثال التكليف بالطرف الأول كان مقتضى قاعدة الاشتغال إحراز
الفراغ عنه بامتثاله بالطرف الثاني، نظير ما لو شك المكلف بعد السفر في
أنه صلى تماما قبله.
كما أن اشتراك التكليف بالفاقد للقيد بعد تعذره مع التكليف بالواجد
له حين القدرة عليه في بعض الغرض في الصورة الثالثة مستلزم لانحلال
التكليف - تبعا للغرض - إلى تكليفين: تعييني بالواجد للقيد بلحاظ توقف
بعض مراتب الغرض عليه، وتخييري بأحد أمرين: الاتيان بالواجد له في ظرف
401

القدرة عليه، والآتيان بالفاقد له في ظرف العجز عنه، ومع الشك في الامتثال
في ظرف القدرة على القيد وإن كان يعلم بسقوط الأول إما بالامتثال
أو التعذر، إلا أنه لا يعلم بسقوط الثاني، بل يحتمل بقاؤه وعدم امتثاله،
فيجب إحراز الفراغ عنه بالاتيان بالفاقد، نظير ما سبق في الصورة الثانية.
فلاحظ.
المقام الثاني: في مقام الاثبات
من الظاهر أنه لا مجال لحمل التقييد بالوقت على الصورة الثانية،
لما سبق من أن لازمها جواز التعجيز عن القيد، مع وضوح لزوم المحافظة على
الوقت في الموقت وعدم جواز تأخيره عنه. فيدور أمره بين الصور الأربع
الأخرى.
وحينئذ فتارة: يكون لدليل الواجب الموقت إطلاق يقتضي وجوبه
خارج الوقت، بأن استفيد التوقيت من دليل منفصل. وأخرى: لا يكون له
إطلاق يقتضي ذلك.
كما أن دليل التوقيت تارة: يكون ظاهرا في انحصار الواجب بالوقت،
بحيث لا يجب بعده، نظير قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (1) في
عدم مشروعيتها بدونها. وأخرى: لا يكون ظاهرا في ذلك، بل في مجرد لزوم
الاتيان به في الوقت.

(1) راجع الوسائل ج 1، باب: 1 و 2 من أبواب الوضوء.
402

فإن كان لدليل الواجب إطلاق يقتضي وجوبه خارج الوقت، ولم يكن
لدليل التوقيت ظهور في انحصار الواجب الموقت، لزم البناء على وجوبه بعد
الوقت لو لم يؤت به فيه، عملا بالاطلاق المذكور.
وأمكن حينئذ حمله على الصورة الأولى، وإن لم يظهر أثرها المتقدم،
وهو صحة الفعل الفاقد للقيد مع التمكن منه، لامتناع فرض ذلك في الوقت،
لاستحالة انفكاك الفعل عنه مع القدرة عليه، وليس هو كسائر القيود -
كالطهارة - مما يمكن خلو الفعل عنه مع القدرة عليه، ليكون عدم صحته
حينئذ مانعا من حمل التقييد به على الصورة المذكورة.
كما يمكن حمله على الصورة الثالثة الراجعة لكونه قيدا حال القدرة
عليه، دون حال تعذره.
ودعوى: أنه يلغو التقييد بالنحو المذكور في الوقت، لأنه في حال
وجوده يمتنع انفكاك الفعل عنه، وليس هو كغيره من القيود التي يمكن انفكاك
الفعل عنها حال القدرة عليها كي يمنع التقييد منه.
مدفوعة: بأنه يكفي في رفع لغوية التقييد بالوقت في خصوص حال
القدرة عليه لزوم المحافظة عليه، الذي سبق أنه اللازم في هذه الصورة.
وإنما يتجه لزوم اللغوية في الصورة الثانية التي لا يجب فيها المحافظة على
القيد، والتي سبق عدم احتمالها في المقام.
وإن كان لدليل التوقيت ظهور في الانحصار لزم البناء على عدم وجوبه
بعد الوقت وإن كان لدليله إطلاق، لوجوب رفع اليد عن المطلق بالمقيد،
ويتردد بين الصورة الرابعة والخامسة.
وأما لو لم يكن له ظهور في الانحصار ولا كان لدليل الواجب إطلاق،
403

فلا طريق لاثبات وجوبه بعد الوقت ولا لنفيه، بل يتردد بين جميع الصور
الأربع المذكورة.
وربما يدعى أن مقتضى قاعدة الميسور - بناء على شمولها للشروط -
وجوبه بعد الوقت، وان تعذر خصوصية الوقت حينئذ لا يوجب سقوط
الواجب من أصله.
بل لو تمت كانت مقتضاها وجوبه بعده حتى لو كان لدليل التوقيت
ظهور في الانحصار، لحكومتها على أدلة الاجزاء والشرائط الظاهرة في
الارتباطية بينها مطلقا، المستلزم لسقوط الواجب بتعذر بعضها.
لكن الظاهر عدم تمامية القاعدة من أصلها، على ما ذكرناه في التنبيه
الخامس من مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.
ومن هنا كان المرجع فيما لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق ولا لدليل
التوقيت ظهور في الانحصار هو الأصول العملية. والظاهر أن المحكم أصل
البراءة.
ولا مجال لاستصحاب وجوب الواجب بعد الوقت، لاحتمال كون
الوقت قيدا في الواجب، لا واجبا فيه مستقلا عنه - كما في الصورة الأولى -
فيكون ما بعد الوقت مباينا لما علم وجوبه سابقا، ومع احتمال تعدد الموضوع
لا يجري الاستصحاب، ولا عبرة بالتسامح العرفي في وحدة الموضوع، على
ما ذكره في محله.
الامر الثاني: لو فرض قصور دليل الواجب عن إثبات وجوبه بعد
الوقت، لعدم الاطلاق فيه، أو لظهور دليل التوقيت في الانحصار فقد ورد
404

في كثير من الفرائض والنوافل، كالصلاة والصوم وغيرهما.
وحينئذ يقع الكلام في أن القضاء من سنخ الأداء، إما لوفائه بتمام
غرضه مع كون مصلحة الوقت مباينة لمصلحة الواجب - كما هو مقتضى
الصورة الأولى - أو لوفائه ببعض مصلحته، لكون الوقت دخيلا في بعض
مراتبها - كما هو مقتضى الصورة الثالثة - أو أنه من سنخ آخر لا يكون
محصلا لشئ من مصلحة الأداء، لفوتها بتمامها بفوت الوقت، وإنما هو
تدارك لفوته، نظير تدارك فوت الصحة بالدواء، فيناسب الصورة الرابعة.
وقد سبق ظهور الفرق في جريان قاعدة الاشتغال عند الشك بعد
الوقت في الامتثال فيه، حيث تجري في الصورة الأولى والثالثة، دون الرابعة.
إذا عرفت هذا فقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن الصورة الأولى
والثالثة وإن كانتا ممكنتين ثبوتا إلا أن ظاهر أدلة القضاء هو الصورة الرابعة،
لان ظاهر لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته، ولا معنى للتدارك في
الصورتين المذكورتين، حيث يكون الفعل خارج الوقت مأمورا به بنفس
الامر فيهما.
وفيه: أنه إن أريد بتدارك ما فات في وقته مجرد الاتيان بالواجب بعد
وقته، فهو لا ينافي الصورتين المذكورتين، وان أريد به تدارك النقص الحاصل
بسبب فوت الواجب، بحيث يكون الفرق بين الأداء والقضاء هو الفرق بين
حراسة المال المانعة من تلفه وضمانه بعد تلفه بسبب التفريط في الحراسة، فهو
بعيد عن المرتكز عرفا لمعنى القضاء، بل المرتكز عرفا أن ما يؤتى به قضاء
لشئ من سنخه لا مباين له، ولذا لا يصدق القضاء في المثال المذكور
ونظائره من الأمثلة العرفية والشرعية، ويطلق عند العرف على مثل أداء الدين
405

بعد وقته وعند المتشرعة على الصوم بعد شهر رمضان لمن تركه فيه لمرض
أو سفر مع ظهور دليله في أنه من سنخه.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا
أو على سفر فعدة من أيام أخر... شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..
فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة..) (1)
فإنه ظاهر في وحدة الامر تبعا لوحدة الغرض والملاك، وإن اختلف الزمان
الواجب فيه الصوم باختلاف الأحوال، كما يناسبه صدره المتضمن فرض
الصيام أياما معدودات، وذيله المتضمن تعليل القضاء بقوله: (ولتكملوا
العدة)، حيث لا يناسب اختصاص الفرض بصوم رمضان وأن صوم المسافر
والمريض بعده جبر لما حصل لهما من نقص بسبب الافطار فيه، نظير الضمان
في المثال المتقدم.
ويؤيد ما ذكرنا تفسير اللغويين للقضاء بالأداء والوفاء للدين أو للعهد
أو نحوهما. وهو الظاهر من قوله تعالى: (فلما قضى موسى الاجل) (2)
وقوله: (فمنهم من قضى نحبه) (3) وقوله: (إلا حاجة في نفس يعقوب

(1) سورة البقرة: 183 - 185.
(2) سورة القصص: 29.
(3) سورة الأحزاب: 23.
406

قضاها) (1) وقوله: (فإذا قضيتم مناسككم) (2) وقوله: (فإذا قضيتم
الصلاة فاذكروا الله) (3) وقوله (صلى الله عليه وآله): " مرحبا بقوم قضوا
الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر " (4) إلى غير ذلك من الاستعمالات
الكثيرة في الكتاب والسنة وغيرهما الظاهرة في أن قضاء الشئ هو أداؤه
بنفسه، والظاهر عدم خروج المعنى المتشرعي الحادث عن ذلك، وإن اختص
بما إذا كان بعد الوقت.
هذا، وقد أيد (قدس سره) مدعاه بثبوت القضاء في الحج والصوم
المنذورين، مع أن الوجوب تابع لقصد الناذر، وهو في الفرض لم يتعلق
إلا بالفعل المقيد بزمان خاص، فيستحيل بقاء الامر التابع لقصده بعد فوت
الوقت المقصود.
ويندفع: بأن قضاء الحج المنذور ليس عليه دليل إلا الاجماع كما قيل،
ولا يعلم من حال المجمعين إرادة المعنى الخاص من القضاء، بل لعلهم نزلوا
البدلية منزلة القضاء.
واما قضاء الصوم المنذور فأكثر نصوصه قد تضمنت وجوب يوم بدل
يوم أو مكان يوم (5)، ولم أعثر على ما تضمن لفظ القضاء إلا خبر صالح بن
عبد الله: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): إن أخي حبس فجعلت

(1) سورة يوسف: 68.
(2) سورة البقرة: 200.
(3) سورة النساء: 103.
(4) راجع الوسائل ج 11، باب: 1 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه.
(5) الوسائل ج 7، باب: 7 من أبواب بقية الصوم الواجب، و ج 16، باب: 10 من كتاب
النذر والعهد.
407

على نفسي صوم شهر، فصمت. فربما أتاني بعض إخواني فأفطرت أياما
أفأقضيه؟ قال: " لا بأس " (1).
ومرسل عبد الله بن جندب عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سأله
عن رجل جعل على نفسه نذرا صوما فحضرته نية في زيارة أبي عبد الله؟
قال: " يخرج ولا يصوم في الطريق، فإذا رجع قضى ذلك " (2).
وهما - مع عدم صراحتهما في الصوم المعين - قد يحملان على نحو من
التسامح في الاطلاق.
هذا، مع قرب أن يكون تشريع القضاء مبنيا على لحاظ الشارع القيود
المأخوذة في المنذور بنحو الانحلال تعبدا، وإن كانت مأخوذة في النذر بنحو
الارتباطية، ولذا ورد وجوب أداء المنذور مع تعذر بعض قيوده الاخر غير
الوقت (3).
فلا يخرج بذلك عما ذكرنا من كون القضاء ارتكازا من سنخ الأداء
ناشئ عن ملاكه وغرضه.
وأما ما ذكره بعض أفاضل العصر (رحمه الله) من أن القضاء لما كان
هو تدارك ما فات فهو مختص بالصورة الرابعة، لان ما فات من مصلحة
الوقت في الصورة الأولى والثالثة لا يقبل التدارك، وما يقبل التدارك - وهو

(1) الوسائل ج 7، باب: 17 من أبواب بقية الصوم الواجب، حديث: 2.
(2) الوسائل ج 16، باب: 13 من أبواب كتاب النذر والعهد، حديث: 1.
(3) راجع الوسائل ج 7، باب: 13 و 16 من أبواب بقية الصوم الواجب، و ج 16، باب: 8
وباب: 20 من كتاب النذر والعهد وغيرهما.
408

أصل الواجب - لا فوت بالإضافة إليه، بل هو كالواجبات المطلقة متى
ما أتي به يكون أداء.
ففيه: أن تفسير القضاء بذلك لم يرد في كلام الشارع أو نحوه ممن
يؤمن عليه الخطأ في تحديد المفهوم، وإنما ورد في كلام بعضهم للتعبير عما
ارتكز في معنى القضاء، فلا مجال للخروج به عما ذكرنا من المعنى
الارتكازي له، بل لابد من كون ذكر الفوت مبتنيا على ملاحظة فوت
الوقت من حيثية دخله في بعض مراتب ملاك الواجب، لا لتحقق الفوت
بلحاظ أصل الواجب، وإلا لم يصدق معه القضاء لما سبق.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد الرجوع للمرتكزات العرفية والمتشرعية
في كون القضاء من سنخ الأداء، وإن كان فاقدا لخصوصيته الدخيلة في بعض
مراتب مصلحته.
ومن هنا كان المنصرف من إطلاق دليل القضاء أخذ جميع ما يعتبر في
الأداء فيه لو فرض إجمال أمره من هذه الجهة.
نعم، اشتهر عند المتشرعة إطلاقه تبعا لكثير من الاستعمالات الشرعية
على خصوص ما إذا كان الفائت مصلحة الوقت، دون غيره من القيود
الشرعية التي لا يكون تعذرها مسقطا لأصل الواجب، حيث لا يصدق على
فاقدها عند التعذر بالمعنى المذكور.
كما لابد من كون مصلحة الوقت من مراتب مصلحة الواجب، بحيث
يكون الوقت وقتا للواجب، كما في الصورة الثالثة، فلو لم تكن من مراتبها
وكانت مستقلة عنها لم يصدق القضاء، كما في الصورة الأولى.
فلو نذر المكلف أن يأتي بالصلاة في وقتها الفضيلي فلم يأت بها فيه
409

لا يصدق على الاتيان بها بعد ذلك القضاء، كما لا يصدق الفوت بالإضافة
إليها، لعدم كون النذر موجبا لتوقيتها.
ومنه يظهر عدم صدقه مع الاخلال بالفورية - بناء على وجوبها -
لو كانت واجبة بملاك آخر، لا قيدا في الواجب.
ولذا لا يكون وفاء المماطل بالدين قضاء، إلا إذا كان الدين موقتا، وإن
وجبت المبادرة في الوفاء مع إطلاق الدين - أيضا - بملاك حرمة حبس الحق
عن أهله.
كما ظهر بذلك - أيضا - أنه لا بأس بإطلاق الفوت والقضاء فيما
لو استفيد وجوب الواجب خارج الوقت من إطلاق دليل الواجب مع عدم
ظهور دليل الوقت في الانحصار. ولا مجال لما يظهر من غير واحد من
الاشكال في ذلك.
نعم، لابد من كون المستفاد من دليل الوقت توقيت الواجب به، بحيث
يكون دخيلا في ملاكه، لا مجرد وجوب إيقاعه فيه بملاك آخر، من باب أنه
واجب في واجب.
هذا كله لو كان الامر بالفعل خارج الوقت متضمنا لعنوان القضاء،
أما لو لم يكن كذلك، بل تضمن مجرد الامر به بعنوانه فالظاهر أن المنصرف
منه عرفا كونه من سنخ ما وجب في الوقت لاتحاد سنخ الغرض منهما،
لا مباينا له، كما في الصورة الرابعة، فالوقت دخيل في بعض مصلحة
الواجب، لا في تمامها، ليكون الوجوب بعد الوقت بلحاظ مصلحة أخرى
مباينة لمصلحة الواجب في الوقت. وعليه يكون قضاء بالمعنى المتقدم وإن
لم يصرح بلفظه.
410

كل ذلك بسبب مألوفية ذلك وشيوعه عند العرف والمتشرعة،
واستبعاد اختلاف سنخ الغرض مع الاتفاق في الجنس.
وقد تحصل من جميع ما سبق: أنه مع إطلاق دليل الواجب وعدم ظهور
دليل الوقت في الانحصار يكون وجوب الاتيان بالموقت بعد الوقت مستفادا
من نفس دليل الواجب بلا حاجة إلى دليل آخر. وفي غير ذلك لا بد فيه من
دليل خاص، وهو دليل القضاء.
لكن الدليل المذكور لا يكشف عرفا عن أمر مباين للامر الأول، تبعا
لتباين متعلقيهما واختلاف سنخ الغرض منهما، بل عن حال الامر الأول،
وأنه بنحو يقتضي التكليف بالموقت بعد الوقت قضاء له، لامكان استيفاء
بعض مصلحته، وأن المأتي به بعد الوقت من سنخ المأتي به قبله.
وعليه فما اشتهر من أن القضاء بأمر جديد - في غير صورة الاتفاق
المتقدمة - إنما يصح لو أريد به أنه محتاج للامر في مقام الاثبات من دون تعدد
فيه ثبوتا. فتأمل جيدا.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الامر الثالث: كما يمكن أن يكون الموقت بنحو يجب قضاؤه بعد
الوقت يمكن أن يكون بنحو يجزي تقديمه عليه.
وإجزاء ذلك تارة: يكون لوفاء الفعل السابق بالغرض، فلا يجب الفعل
في وقته لاستيفاء غرضه.
وأخرى: يكون لمانعية من تحصيل الغرض بنحو يتعذر استيفاؤه بالفعل
في الوقت.
أما الأول فلابد فيه من كون الوقت شرطا للتكليف، ليمتنع الامتثال
411

بالفعل السابق عليه ويكون من تقديم الفعل على وقته، إذ لو لم يكن الوقت
شرطا له وكان التكليف فعليا قبله فلا مجال لتوقيت نفس الواجب به بعد
فرض وفاء الفعل السابق عليه بغرضه، ومع إطلاق التكليف والمكلف به معا
بالإضافة إلى الوقت لا يكون الفعل السابق عليه مقدما على وقته، بل امتثالا
لتكليفه في وقته.
وأما الثاني فكما يمكن مع اشتراط التكليف بالوقت يمكن مع إطلاقه،
حيث يكون الوقت شرطا للواجب بسبب عدم ترتب غرضه عليه إلا فيه،
فيكون تقديمه عليه تقديما للواجب على وقته مطلقا.
لكن لا بد من النهي عنه لو كان التكليف فعليا أو علم بتحقيق شرط
فعليته بعد ذلك، لما فيه من تفويت الغرض الفعلي في وقته، وإن كان مسقطا
للواجب في وقته لو جئ به وخولف النهي.
هذا، وحيث كان ظاهر الاجزاء هو الوفاء بالغرض كان ظاهر التعبير
به في الأدلة إرادة الوجه الأول، لا الثاني.
الامر الرابع: حيث سبق أن الموسع هو الذي يكون وقته أوسع منه،
والمضيق هو الذي يكون وقته بقدره فقد قال سيدنا الأعظم (قدس سره) في
حقائقه: " ويمتنع أن يكون الزمان أضيق، لان التكليف بالفعل تكليف بالمحال،
نعم، قد يكون الزمان وقتا لبعضه، كما في من أدرك ركعة من الوقت، بناء
على كون خارج الوقت ليس وقتا لباقي الفعل، كما هو الظاهر، لعدم التلازم
بين التنزيلين، كما ذكرناه في محله ".
وكأنه أشار إلى ما ذكروه في مستمسكه في شرح المسألة الحادية عشرة
من فصل أوقات الفرائض التي تعرض فيها لذلك.
412

قال (قدس سره): " ثم إن الظاهر من النص والفتوى تنزيل الصلاة
الواقع منها في الوقت ركعة منزلة الصلاة الواقع تمامها فيه، ومقتضاه ترتيب
أحكامها عليها، لا تنزيل خارج الوقت المساوي لثلاث ركعات - مثلا -
منزلة نفس الوقت، ليكون مفاده ترتيب أحكامه عليه. فلاحظ ".
وما ذكره (قدس سره) في محله، لعدم تعرض الأدلة للوقت بنحو
تقتضي سعته، بل لنفس الصلاة بنحو تقتضي إجزاءها وتماميتها، ففي خبر
الإصبع بن نباته: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " من أدرك من الغداة ركعة
قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة " (1). لكن لم يتضح عاجلا الأثر
العملي لذلك.
وقد يستفاد منه (قدس سره) هناك ظهور الأثر في وجوب المبادرة،
إذ بناء على استفادة سعة الوقت من النصوص يجوز تأخير الصلاة إليه اختيارا،
حيث تقع في وقتها، وبناء على دلالتها على كون الوقت لبعض الصلاة،
لتمحضها في تنزيل الصلاة الواقع بعضها خارج الوقت منزلة الصلاة الواقع
تمامها فيه، يجب المبادرة بالصلاة وإيقاعها بتمامها في الوقت، عملا بمقتضى
التوقيت.
ويشكل: بعدم الفرق بين الوجهين في ذلك، لان مفاد دليل التوقيت
تعيين الوقت ووجوب إيقاع الصلاة بتمامها فيه، فإن كان مفاد التنزيل
توسيع الوقت كان حاكما على دليل التوقيت بلحاظ مفاده الأول، وإن كان
مفاده تنزيل الصلاة الواقع بعضها في الوقت منزلة الصلاة الواقعة فيه بتمامها
كان حاكما عليه بلحاظ مفاده الثاني.
فالظاهر عدم تبعية وجوب المبادرة وعدمه لاحد الوجهين، بل إن كان

(1) الوسائل ج 3، باب: 30 من أبواب المواقيت، حديث: 2.
413

للتنزيل المذكور إطلاق يشمل حال الاختيار - كما هو مقتضى الخبر المتقدم -
لم تجب المبادرة، لما ذكرنا من حكومته على دليل التوقيت بلحاظ أحد
مفاديه.
وإن لم يكن له إطلاق كذلك، بل كان مختصا بحال الاضطرار، وجبت
المبادرة مع التمكن، عملا بدليل التوقيت، حيث لا يكون دليل التنزيل حاكما
عليه إلا في حال التعذر لضيق الوقت - ولو بسوء الاختيار - فتجب المبادرة
معه إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها بعد الوقت محافظة على الوقت الاضطراري
بعد تعذر الاختياري.
الامر الخامس: أشرنا في أول الكلام في هذا التقسيم إلى عدم
اختصاصه بالواجب، بل يجري في المستحب.
وأما المنهي عنه - من المكروه والمحرم - فالظاهر جريانه فيه أيضا،
لامكان اختصاص الفعل المنهي عنه بزمان خاص، تبعا لاختصاص المفسدة به،
ولا إشكال فيه مع كون الوقت مضيقا، حيث يقتضي تركه في تمام الوقت.
وأما فرض كونه موسعا بنحو تكون المفسدة مقتضية لترك الفعل في
بعض الوقت غير المعين لا في تمامه، فهو وإن كان ممكنا، إلا أنه لا يناسب
النهي، لما سبق من ابتنائه على استيعاب أفراد المنهي عنه بالترك، لا البدلية
فيها، فلابد من مطابقة التكليف للملاك من أن يكون بصورة الامر بالترك مدة
من الزمان في ضمن الوقت، كالأمر بترك الماء ساعة من يوم خاص، أو ترك
السفر يوما من شهر خاص، فتكون السعة في المأمور به لا في المنهي عنه.
كما أنه يمكن فيه تشريع القضاء وإجزاء الترك قبل الوقت عن الترك فيه
على النحو المتقدم في الواجب.
414

المبحث السابع
في تقسيم المأمور به إلى
تعبدي وتوصلي
وينبغي تمهيد الكلام بذكر أمور:
الامر الأول: المراد بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره
على موافقته بوجه قربي من الامر - على الكلام الآتي في تحديد الوجه القربى
- والتوصلي بخلافه، فيسقط أمره بمجرد حصوله.
ولعله إلى ذلك ترجع عباراتهم على اختلافها الذي قد يكون ناشئا من
اختلافهم في كيفية أخذ الوجه القربى واعتباره، وهو أمر يأتي الكلام فيه،
ولا ينبغي التعرض له هنا، بل يقتصر هنا على التعريف بالرسم بذكر الأثر
المتفق عليه عند الكل.
وأما تفسير التوصلي بما يمكن الاتيان به لأجل فائدته للعلم بها،
والتعبدي بما لا يمكن أن يؤتى به إلا للتعبد بأمر المولى من دون أن يعلم
بالفائدة الموجبة للامر به - كما قد ينسب للقدماء - فهو مصطلح آخر خارج
عن محل الكلام في المقام.
الامر الثاني: هذا التقسيم ككثير من التقسيمات السابقة لا يختص
بالواجب، بل يجري في المستحب بلا إشكال، وإن قصرت عنه بعض
كلماتهم.
415

وأما جريانه في المنهي عنه فهو مبني على ما يأتي الكلام فيه من أن
القصد القربى في التعبدي هل هو من شؤون المتعلق المأخوذة فيه، أو هو أمر
خارج عنه يعتبر فيه شرعا بأمر آخر، أو عقلا في مقام الامتثال.
فعلى الثاني يجري التقسيم في النهي، حيث لا يقتضي النهي عن الماهية
إلا محض الترك، وإن أمكن لزوم التقرب فيه لأمر خارج عنه تارة فيكون
تعبديا، وعدمه أخرى فيكون توصليا.
أما على الأول - الذي هو الظاهر - فلا يجري في النهي، بل لا يكون
النهي إلا توصليا، ولا يكون التعبدي إلا أمرا، لان قصد التقرب أمر
وجودي ومقتضى الخطاب تحقيقه لا تركه، وما يقتضي فعل المتعلق هو الامر
لا النهي.
غايته أن المأمور به التعبدي تارة: يكون هو الفعل المقيد بالقصد
القربى، كالصلاة. وأخرى: يكون هو الترك المقيد به، كالصوم. ولعل
ارتكازية الأول هي المنشأ لعدهم الصوم مأمورا به تعبديا من دون أن يبدلوا
ذلك بعد ما يمسك عنه الصائم محرمات تعبدية.
الامر الثالث: ذكروا للمقربية وجوها كثيرة، كقصد الامتثال، وقصد
المصلحة، وطلب الثواب وخوف العقاب - الأخرويين أو الدنيويين -
وغيرها.
وفي الجواهر أن الجميع محمول على إرادة قصد الامتثال وراجع إليه.
وظاهر شيخنا الأستاذ (قدس سره) موافقته، كما قد يظهر من غيره، وعن
شيخنا الأعظم (قدس سره) موافقته فيما عدا قصد المصلحة وأنه في عرضه،
وربما قيل: إنها جميعا في عرض واحد.
416

كما ربما يمنع من تحقق التقرب وصحة العبادة مع الأخيرين، بل نسب
للمشهور، وعن السيد رضي الدين بن طاووس القطع به، وعن قواعد الشهيد
نسبته إلى قطع الأصحاب أو أكثرهم، وعن الرازي اتفاق المتكلمين عليه،
وعن العلامة في جواب المسائل المهنائية اتفاق العدلية على عدم استحقاق
الثواب معهما.
هذا، ولا ينبغي التأمل في أن المعيار في المقربية عند العرف قصد ملاك
المحبوبية للمتقرب منه بما هو كذلك، وهو عبارة عن الجهة الموجبة لمحبوبية
الفعل أو الترك لمن يراد التقرب منه، وهي أسبق مرتبة من أمره وعلة له، وقد
تستكشف تارة به، وأخرى بغيره، كما لو تعذر الامر منه لعجز أو غفلة
أو غيرهما.
لكن لابد من فعلية الملاك بحيث يبلغ مرتبة استتباع الإرادة والخطاب
لولا المانع.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن جميع الدواعي القربية
في عرض واحد، وأن الجامع بين الجميع كون العمل لله سبحانه، كما يستفاد
من قوله (عليه السلام): " وكان عمله بنية صالحة يقصد بها ربه ".
فيدفعه: أن إضافة العمل لله سبحانه بحيث يحسب عليه إنما تصح مع
ملاحظة نحو علاقة له به، والظاهر أن العلاقة المصححة له ما ذكرنا من كونه
واجدا لملاك المحبوبية، فلابد من قصده.
إن قلت: هذا لا يناسب ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من
انتزاع التكليف من الإرادة التشريعية التي هي منتزعة من الخطاب بداعي جعل
السبيل وجعل مقتضاه في حساب المخاطب منتسبا إليه، والتي سبق أنها مباينة
417

للإرادة التكوينية سنخا وإن كانت في بعض الموارد مسببة عنها. إذ المحبوبية
من شؤون الإرادة التكوينية، لا من شؤون الخطاب بالوجه المذكور، مع أنه
لا إشكال في أنه يكفي في التقرب المعتبر في التعبدي قصد امتثال التكليف
المنتزع من الإرادة التشريعية المذكورة.
قلت: المراد بملاك المحبوبية ما يعم ملاك التكليف الموجب للإرادة
التشريعية، فكما أن قصد ملاك المحبوبية الموجب للإرادة التكوينية يكون مقربا
من باب تقرب المحسن بإحسانه لمن أحسن إليه، كذلك قصد ملاك الإرادة
التشريعية يكون مقربا من باب تقرب العبد للمولى والمكلف للمكلف، فإذا
علم العبد بثبوت الملاك بالنحو المذكور وبلوغه مرتبة جعل التكليف كفى
قصده في تقربه من المولى بما هو مولى، وإن لم يخاطبه المولى - تبعا للملاك
المذكور - لمانع من غفلة أو عجز أو نحوهما - لو كان ممكنا في حقه - لان
ذلك كاف في حسن الطاعة أو وجوبها، ولا يتوقف وجوبها وحسنها على
الخطاب فعلا، كما يظهر بأدنى تدبر في المرتكزات العقلائية.
وعليه يبتني ما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم بقصد
الملاك، فيصح لو كان عبادة، وإن قيل بعدم الامر به بسبب المزاحمة للأهم
وعدم ثبوت الامر الترتبي على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
ومن هنا ظهر أن مقربية قصد الامتثال إنما هي لكونه في طول قصد
ملاك المحبوبية، فهو راجع إليه. كما أن قصد المصلحة إن أريد به قصدها بما
هي هي فهو ليس مقربا من المولى، لعدم دخله به، وإن أريد به قصدها بما أنها
ملاك للتكليف المولوي فهو عبارة أخرى عما ذكرناه من قصد ملاك
المحبوبية.
418

وأما قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب فهما في طول قصد موافقة
ملاك المحبوبية ومبنيان عليه لا في عرضه، وتوضيح ذلك: أن موافقة ملاك
المحبوبية لما لم يكن داعيا ذاتيا للمكلف لم يصلح للداعوية إلا بلحاظ جهات
خاصة تكون داعية في طول داعويته.
وتلك الجهات تارة: ترجع إلى المولى نفسه، ككونه أهلا للطاعة،
أو لحب العبد له المقتضي لسعيه فيما يحبه، أو شكرا منه لنعمه، أو نحوها.
وأخرى: ترجع للعبد نفسه، كطلب الرفعة عند المولى، واستحقاق
الشكر منه، ودفع المحذور واستجلاب المحبوب الدنيويين أو الأخرويين.
والظاهر عدم منافاة شئ منها للتقرب، فتصح العبادة مع الجميع إذا
كان قصدها في طول قصد ملاك المحبوبية، بنحو داعي الداعي، كما هو محل
الكلام.
ودعوى: أن العمل برجاء المحبوب أو دفع المكروه الدنيويين
أو الأخرويين من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مقام السيد المستحق للعبادة،
ولا يتحقق بها التقرب، بل لا يكون التقرب إلا مع صدور العمل لأجله.
مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم إذا لم يلحظ رضا المولى ومحبوبيته داعيا
للعمل، بل كان الداعي بالمباشرة هو دفع المكروه وجلب المحبوب على أنه أثر
العمل، نظير اللوازم الخارجية الطبعية، أو عوضه، نظير أجرة الأجير، حيث
تكون داعويتها لعمله بالمباشرة، لا في طول محبوبية المستأجر لعمله.
بخلاف ما إذا كان جلب المحبوب ودفع المكروه ملحوظا على أنه داعي
الداعي مع كون الداعي بالمباشرة هو محبوبية المولى، بأن يأتي العبد بالعمل
لأنه محبوب للمولى وطاعة له، كي يرضى عنه ويكون أهلا لرحمته وبعيدا عن
419

نقمته فإن ذلك لا يمنع من التقرب للمولى واستحقاق الشكر منه بالاحسان
للعبد والانعام عليه ودفع المكروه عنه.
نظير التحبب للعشيرة بالاحسان إليهم، لأنهم جناحه الذي به يطير
ويده التي بها يصول، حيث لا إشكال في كونه مقربا منهم ومستوجبا
لشكرهم وامتنانهم واستحقاق الجزاء منهم.
إن قلت: قد تقرر في محله أن داعي الداعي هو الداعي الحقيقي، فإذا
أمر زيد بإطاعة عمرو، فأمر عمرو بشئ، فمن أتى به إطاعة له بداعي إطاعة
زيد، كان الداعي الحقيقي له هو إطاعة زيد، فيكون متقربا له لا لعمرو، فإذا
كان الداعي لامتثال أمر المولى وإرضائه هو تحصيل ثوابه أو دفع عقابه، كان
الداعي الحقيقي تحصيل الثواب أو دفع العقاب، ولا ينظر إلى داعوية إرضائه،
ليكون مقربا منه.
قلت: هذا إنما يتم إذا كان الداعي الأول مجرد موافقة أمر الامر، نظير
موافقة أمر المستأجر، دون ما إذا كان هو موافقته من حيثية محبوبيته المستتبعة
لرضاه والتحبب إليه، فإنها لا تنافي التقرب منه وإن كان الداعي الحقيقي هو
ما وراء ذلك من موافقة أمر الغير أو تحصيل الثواب وتجنب العقاب.
ولذا كان الاحسان للمؤمنين رغبة في إرضائهم وتحصيل محبوبهم
بداعي أمر الشارع موجبا للتقرب منهم واستحقاق شكرهم والجزاء منهم
بحسب المرتكزات العقلائية والمتشرعية، وإن كان الداعي الحقيقي هو أمر
الشارع.
بل لا ينبغي التأمل في عدم منافاة داعوية تحصيل المحبوب ودفع المكروه
الدنيويين والأخرويين للتقرب والعبادية بعد الرجوع للمرتكزات العقلائية،
420

وسيرة المتشرعة، والآيات والروايات الحاثة على الطاعة والزاجرة عن المعصية
ببيان ما يترتب على الأولى من أنواع خير الدنيا وثواب الآخرة، وعلى الثانية
من أنواع ضرر الدنيا وعذاب الآخرة. لوضوح أن بيانهما ليكونا داعيين
للعمل، وكذا نصوص قاعدة التسامح في السنن (1) الظاهرة والصريحة في كون
الداعي للعمل هو الثواب الموعود به، وما تضمن بيان مراتب العبادة (2)
كالصحيح الآتي وغيره.
بل تضمن بعض النصوص الترغيب على العمل طلبا لما عند الله تعالى،
ففي النبوي: " إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء
ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا
أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى " (3)، وفي صحيح الحسين بن أبي سارة:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول،: " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون
خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو " (4).
نعم، العمل بقصد دفع المحذور وجلب المحبوب مرتبة دانية - كأهليته والحب
له - أو للعبد - كالتحبب للمولى وطلب الرفعة عنده - لأنها أظهر في تعظيمه
وتقديسه، بل هي ملازمة لسمو نفس العبد المتقرب وعلو همته.

(1) راجع الوسائل ج 1، باب: 18 من أبواب مقدمة العبادات.
(2) راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات.
(3) الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10.
(4) الوسائل ج 11، باب: 13 من أبواب جهاد النفس، حديث: 5.
421

ففي صحيح هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليه السلام): " قال:
العبادة [ان العباد] ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا، فتلك عبادة العبيد،
وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء، وقوم
عبدوا الله عز وجل حبا له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة " (1)،
وقريب منه غيره، لكنه أمر آخر لا ينافي الاجزاء الذي نحن بصدده، بل
يستلزمه.
هذا، وقد يستظهر من غير واحد ممن منع من التقرب مع قصد جلب
المحبوب ودفع المكروه إرادة قصده عوضا بلا توسط قصد التحبب للمولى
بفعل ما يحبه، بل هو صريح بعضهم.
كما أن من القريب ان يكون مراد من بنى على الصحة معه إرادة
ما ذكرناه من كون قصده في طول قصد ملاك المحبوبية للتحبب للمولى، كما
هو صريح بعضهم.
ومن ثم لا يبعد اختلاف موضوع النزاع، المستلزم لعدم كون النزاع
حقيقا، إلا أن يرجع للنزاع في إمكان اجتماع القصدين أو التنافي بينهما.
ولا مجال لاستقصاء كلماتهم، والمهم ما ذكرناه من التفصيل.
ثم إن الظاهر ابتناء عمل المتشرعة مع قصد جلب الثواب ودفع العقاب
الأخرويين على الوجه الذي ذكرناه الراجع إلى كون ترتبهما فرع التحبب
بالعمل للمولى، ليكون العبد أهلا لرحمته وبعيدا عن نقمته، لان ذلك هو
الوجه في ترتبهما حسب ارتكازياتهم.

(1) الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 1.
422

وكذا الحال في قصد دفع وجلب جملة من المضار والمنافع الدنيوية.
ولو فرض كون ترتب بعضها بنظرهم لا بالوجه المذكور، بل لأنه من
سنخ اللوازم والآثار الطبيعية للعمل المترتبة عليه بنفسه، أو من سنخ الاجر
المحض من دون توسط التحبب للمولى، فلابد في صحة العبادة مع قصده من
ضم الداعي القربى بنحو يستقل بالتأثير، بحمل النفس على ذلك، ولو
بترويضها عليه لأجل الغرض الدنيوي المذكور، وإلا أشكل صحة العبادة،
كما هو الحال في جميع الدواعي المباحة غير القربية، على ما يذكر في مباحث
النية من الفقه.
الامر الرابع: وقع الكلام بينهم في وجود العبادة الذاتية التي لا تناط
بقصد التقرب للمعبود الذي سبق توقفه على محبوبية العمل له، بل تصدق
على العمل ولو مع نهي المعبود عنه، المستلزم لمبعديته منه.
وهي وإن كانت خارجة عن محل الكلام، لما سبق من أن المراد
بالتعبدي في هذا التقسيم ما يتوقف سقوط أمره على امتثاله بوجه قربي،
إلا أن مناسبتها له تقتضي ذكرها في المقام استطرادا.
فاعلم أنه صرح بعضهم بوجود العبادة الذاتية، ومثل لها بالركوع
والسجود ونحوهما.
ومنع منها آخرون، منهم سيدنا الأعظم (قدس سره) مدعيا أن المعيار
في العبادية قصد ملاك المحبوبية للمولى، ولا تصدق بدونه. بل ذكر أن الالتزام
بتحقق العبادة الذاتية له تعالى مانع من النهي عنها لحسنها ذاتا.
والذي ينبغي أن يقال: الظاهر أن العبادة متقومة عرفا بخضوع العابد
للمعبود بمرتبة عالية بحيث يكون فانيا أمامه، ولا استقلال له معه.
423

ولعله إليه يرجع ما في مجمع البيان، قال في تفسير سورة الفاتحة:
" والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع بأعلى مراتب الخضوع
مع التعظيم بأعلى مراتب التعظيم.
ولا يستحق إلا بأصول النعم التي هي الحياة والقدرة والشهوة،
ولا يقدر عليه غير الله تعالى، فلذلك اختص سبحانه بأن يعبد، ولا يستحق
بعضنا على بعض العبادة، كما يستحق بعضنا على بعض الشكر، وتحسن
الطاعة لغير الله تعالى ولا تحسن العبادة لغيره.
وقول من قال: إن العبادة هي الطاعة للمعبود، يفسد بأن الطاعة موافقة
الامر، وقد يكون موافقا لامره ولا يكون عابدا له، ألا ترى أن الابن يوافق
أمر الأب ولا يكون عابدا له، وكذلك العبد يطيع مولاه ولا يكون عابدا له
بطاعته إياه، والكفار يعبدون الأصنام، ولا يكونون مطيعين لهم، إذ لا يتصور
من جهتهم الامر ".
ولذلك مظهران: الأول: ذاتي، وهو إطاعة أمر المعبود ونهيه بنحو
يبتني على الفناء فيه ومنتهى الخضوع له لاستحقاقه ذلك عليه لذاته متفرعا
على ملكيته بالذات لنفس المطيع، دون ما لو كان استحقاقه للإطاعة لأمر
خارج عن ذاته، كشكر إحسان سابق أو بجعله ممن يجب إطاعته، كإطاعة
النبي والامام والمولى والمستأجر بأمر الله تعالى، أو لاستحقاق ذاتي لا يتفرع
على استحقاق نفس المطيع، كاستحقاق الأب الإطاعة على الولد، فضلا عما
لو ملم يبتن على الاستحقاق، كإطاعة شخص لاخر برجاء إحسانه أو لدفع
شره، أو تفضلا منه عليه.
الثاني: عرفي، وذلك بالاتيان بأمور تباني العرف والعقلاء على كونها
424

مظهرا للخضوع الخاص أزاء الطرف المقابل ومبرزة لذلك، كالركوع له
والسجود وتقديسه وتمجيده بما يناسب بلوغه المقام المذكور.
ولا مجال لدعوى: أن عبادية هذه الأمور ذاتية. لاختلافها باختلاف
الأعراف على حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة. وهي كسائر الأمور العرفية
التي تقبل إمضاء المعبود وردعه واختراعه، فله أن يردع عن طريق خاص،
فلا يكون مظهرا لعبادته، كما أن له أن يخترع طريقا خاصا، فيكون مظهرا
لها، لنفوذ جعله على من يعبده بعد فرض خضوعه له وفنائه فيه.
وهذا بخلاف الأول، حيث لا مجال للردع عنه، بحيث يخرج عن كونه
عبادة بعد كون عباديته ذاتية.
هذا، وأما النهي عن العبادة تكليفا أو لمبغوضيتها من دون ردع عن
كيفية أدائها، بل مع فرض كون العمل مؤديا، فإن كان من المعبود مع عدم
استحقاقه لذلك فلا مانع منع، بل هو في غاية الحسن، كنهي المعصومين
(عليهم السلام) عن عبادة الناس لهم. من دون فرق بين نوعي العبادة الذاتية
والعرفية.
ونهيه عن العبادة الذاتية التي هي الإطاعة بالنحو الخاص للامر والنهي
لا ينافي صدور الأمر والنهي منه، لأنهما إنما يقتضيان أصل الإطاعة، دون
النحو الخاص منها، وإنما يحسن النحو الخاص تبعا لاستحقاق الآمر والناهي
العبادة، فمع فرض عدم استحقاقه لا مانع من نهيه عنه.
وكذا الحال في نهي غير المعبود، كنهيه تعالى عن عبادة غيره ونهي
المعصومين (عليهم السلام) عن عبادة الملائكة والأصنام.
كما أن النهي المذكور لا يوجب انسلاخ عنوان العبادية عن العمل
425

الذي تؤدى به العبادة وإن صدر من المعبود، خلافا لما سبق من سيدنا الأعظم
(قدس سره)، ولذا لا يكون نهي المعصومين (عليهم السلام) عن عبادتهم
بالركوع والسجود ونحوهما مخرجا لها عن كونها عبادة لهم.
نعم، يكون مانعا من التقرب بها للناهي، فهي عبادة مبعدة عن المعبود
لو نهى عنها.
وإن كان مع استحقاق المعبود للعبادة كالنهي عن عبادته تعالى بنحو
من الأنحاء فحيث كانت عبادته حسنة ذاتا فلا يحسن النهي عنها إلا مع
مزاحمة جهة الحسن الذاتية بجهة قبح عرضية ترجح عليها، حيث لا مانع من
مزاحمة الجهة الذاتية للحسن والقبح، إلا أن تكون علة تامة لأحدهما، وليس
هو المدعى في المقام، بل المدعى كون عبادة المستحق مجرد مقتص للحسن يقبل
المزاحمة كالصدق. وحينئذ لا يخرج العمل عن كونه عبادة بالنهي المذكور.
غاية الامر أنه يمتنع التقرب به من الناهي ويكون مبعدا عنه، وإن كان
هو المعبود نفسه.
إذا عرفت فالكلام في المقام تارة: في الفرق بين التعبدي والتوصلي
في مقام الثبوت بحسب حقيقتهما، وإلا فالفرق بينهما بحسب أثرهما وكيفية
امتثالهما قد سبق في الامر الأول.
وأخرى: فيما يقتضيه الاطلاق أو الأصل عند الدوران بينهما في مقام
الاثبات.
426

المقام الأول: في الفرق بينهما في مقام الثبوت
وحيث سبق توقف امتثال التعبدي وسقوطه على الاتيان به بوجه
قربي، بخلاف التوصلي، يقع الكلام في أن الفرق بينهما في ذلك هل يتفرع
على الاختلاف بينهما في متعلق الامر فهو مطلق في التوصلي ومقيد في
التعبدي بنحو يقتضي الاتيان بالوجه القربى، أو على الاختلاف بينهما في
الماهية والسنخ، نظير الاختلاف بين الوجوب والاستحباب، فالامر التوصلي
نحو من الامر يقتضي محض الموافقة، والتعبدي نحو آخر يقتضي المتابعة بالنحو
القربى، من دون فرق بينهما في المتعلق، أو على الاختلاف بينهما في الغرض،
فيتأدى الغرض من التوصلي بمجرد موافقته، ولا يتأدى الغرض من التعبدي
إلا بالموافقة عن القصد القربى، من دون فرق بينهما في المتعلق ولا في السنخ.
واللازم النظر في جميع هذه الوجوه.
الوجه الأول: في أن الفرق بينهما باطلاق المتعلق وتقيده والظاهر أنه
هو المرتكز بدوا والمتعين في نفسه لو أمكن، وليس البناء من بعضهم على أحد
الوجهين الآخرين إلا للبناء على امتناعه.
وما يظهر بعد التأمل في كلماتهم في وجه امتناعه: أن أخذ الدواعي
القربية في المأمور به يشكل...
تارة: في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة، السابقة على الامر.
وأخرى: في مقام توجيه الخطاب وإنشاء الامر. وثالثة: في مقام فعلية
التكليف. ورابعة: في مقام الامتثال.
والبحث في ذلك يكون بالكلام في جهات...
427

الجهة الأولى: في وجه الاشكال في مقام فعلية الملاك والغرض والإرادة
ونحوها مما يكون سابقا على الامر.
والظاهر أن عمدة الاشكال في هذا المقام: أن الداعي للفعل لما كان هو
الامر الذي يكون قصده علة في إرادة الفعل ووجوده في الخارج معلولا
للفعل، فداعوية الشئ للفعل في رتبة متأخرة عن فرض ترتبه عليه، فكيف
يكون دخيلا في ترتبه عليه؟! فما لم يكن تطهير الثوب مترتبا على غسله
لا يتأتى داعوية التطهير للغسل، وما لم يكن إحراق الورقة مترتبا على إلقائها
في النار لا يكون الاحراق داعيا للالقاء، ولازم ذلك ترتب الداعي على الفعل
وإن لم يقصد منه ولم يكن داعيا له.
وحيث كانت الدواعي القربية المقصودة - كامتثال الامر وموافقة ملاك
المحبوبية ونحوهما - مستلزمة الفعلية الغرض والملاك والإرادة امتنع دخل
قصدها في فعلية هذه الأمور بحيث يختص متعلقها بما يكون مشتملا على
القصد المذكور.
لكن هذا إنما يلزم لو كان الداعي القربى هو كون الفعل بنفسه علة
تامة لتحقق محبوب المولى وامتثال أمره أو نحوهما من الدواعي القريبة، كما
هو الحال في التقرب بالمأمور به التوصلي.
أما لو كان الداعي كونه مقتضيا لذلك فلا محذور، لوضوح أن قصد
الداعي القربى لا يكون دخيلا فيما هو المقصود، وهو كون العمل العبادي
مقتضيا لمحبوبية المولى أو امتثال أمره، بل هو دخيل في فعلية محبوبيته وامتثال
أمره، بناء على ما هو الظاهر من كونه شرطا في المأمور به.
وبهذا يتجه دخل قصد الأثر في ترتبه في الأمور العرفية، كترتب التعظيم
428

على القيام المقصود منه التعظيم، والتأديب على الضرب المقصود به التأديب،
حيث لا يراد به قصد كون القيام والضرب علة تامة للتعظيم والتأديب،
وإلا امتنع دخل قصدهما في ترتبهما على القيام والضرب، بل قصد كونهما
مقتضيين لهما، مع كون القصد شرطا ودخيلا في فعليتهما، لا في مجرد اقتضاء
القيام والضرب لهما.
هذا، وأما بناء على أن القصد القربى جزء من المأمور به فهو دخيل في
مقتضي المحبوبية والامتثال، ولابد حينئذ من كون الداعي القربى هو الاتيان
بجزء المحبوب وما به الامتثال لا بتمامه، فيكون المقصود هو التقرب بالامر
الضمني الوارد عليه، لا بالامر بالمركب التام، حيث لا يكون الداعي القربى
دخيلا في جزئية العمل من المحبوب والامتثال بل تماميتهما.
وبالجملة: ليس الداعي القربى المقصود حين العمل والدخيل في تمامية
الغرض والمحبوب والامتثال هو تحقيق ما يكون القصد دخيلا سفيه، الذي هو
تمام موضوع الغرض والمحبوبية والامتثال، بل ما يستقل العمل به مع قطع
النظر عن الداعي القربى، وهو كونه مقتضيا لها أو جزءا منها، فلا يتوجه
المحذور المذكور.
إن قلت: التقرب من المولى إنما هو بتحقيق غرضه، وحيث لا يترتب
شئ من غرض المأمور الارتباطي إلا بتماميته بتمام أجزائه وشروطه فلا مجال
للتقرب بالجزء والمقتضي إلا في ضمن قصد التقرب بتمام المركب، ولا يكون
قصد الجزء أو المقتضي بدونه مقربا، لعدم وفائه بالغرض، كما ذكر ذلك
المحقق الخراساني (قدس سره) في بعض جهات الكلام في المقام.
قلت: هذا إنما يقتضي امتناع التقرب بالجزء والمقتضي في ظرف عدم
429

تمامية المركب الارتباطي، لعدم ترتب شئ من الغرض عليه حينئذ،
ولا يقتضي لزوم التقرب به في ضمن التقرب بتمام المركب، بل يكفي تمامية
المركب ولو بوجه غير قربي، فإذا وجب غسل الثوب مرتين بنحو الارتباطية
يمتنع التقرب بغسله مرة واحدة في ظرف غسله مرة أخرى، أما مع غسله مرة
أخرى سابقا أو لا حقا بوجه غير قربي فيمكن التقرب بغسلة واحدة، لكونها
دخيلة في ترتب غرض المولى وفعليته، وإن لم يستند ترتب الغرض إليه وحده.
وفي المقام حيث كان قصد التقرب بالجزء أو المقتضي متمما للمطلوب
لعلة الامتثال وموافقة ملاك المحبوبية أمكن التقرب بالجزء أو المقتضي، لكونه
دخيلا في فعلية الغرض وترتبه.
بل هو راجع حينئذ للتقرب بفعلية الغرض في طول التقرب بجزء علته،
لان تحقيق المقتضي أو جزء العلة وإن كان هو الداعي المباشر للعمل، إلا إن
تحقيق الغرض المعلول وفعليته بإتمام علته يكون ملحوظا من باب داعي
الداعي، الذي تقدم أنه الدواعي الحقيقي، وإن لم يتقارب ببقية إجزاء العلة،
ولبعض مشايخنا كلام لا يبعد رجوعه لذلك.
الجهة الثانية: في وجه الاشكال في مقام توجه الخطاب وإنشاء الامر.
والمذكور في كلماتهم وجهان يرجعان إلى امتناع تقييد الامر بقصد
الامتثال.
أحدهما: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) - كما في التقريرات -
وتبعه غير واحد على اختلاف عباراتهم، ومرجع الكل إلى أن قصد الامتثال
لما كان من شؤون امتثال الامر كان متأخرا رتبة، وحيث كان متعلق الامر
متقدما على الامر رتبة تقدم الموضوع على عرضه، كان قصد الامتثال متأخرا
430

عن متعلق الامر بمرتبتين، فيمتنع أخذه فيه، لامتناع أخذ المتأخر في المتقدم.
ولا ينفع في دفع ذلك ما سبق في أن المأخوذ في المتعلق هو قصد امتثال
الامر الضمني الوارد على الجزء أو الذات، لا قصد امتثال الامر الاستقلالي
الوارد على المركب بتمامه بما فيه قصد الامتثال المذكور، والذي هو متأخر
عن المتعلق رتبة تأخر العرض عن معروضه.
والوجه في عدم نفعه: أن الامر الضمني ليس له تقرر في مرتبة الانشاء،
ليمكن لحاظه وأخذه في المتعلق، بل هو مستفاد بحسب التحليل العقلي في
المرتبة المتأخرة عن الانشاء، الذي لا يكون إلا للامر الاستقلالي بالمركب
التام، فأخذه في المتعلق يستلزم أخذ ما هو متأخر عنه في الرتبة.
ومثله ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن العارض على المتعلق
المتأخر عنه رتبة هو الحكم بوجوده الخارجي، والمدعى أخذه فيه ليس
داعويته، لتكون من شؤونه المتوقفة عليه والمتأخرة عنه رتبة، بل داعوية
صورته الذهنية غير المتوقفة عليه، لان الداعي هو الحكم بوجوده العلمي.
لاندفاعه: بأن الداعي ليس هو الصورة الذهنية للامر بنفسها، بل بما
هي عبرة لوجوده الخارجي، وإن كان قد يختلف عنها، فلابد في أخذ داعوية
الامر في المتعلق من تصور الامر له مفروض التقرر والوجود، وهو ممتنع في
مقام إنشائه، لعدم تقرره بشخصه إلا في رتبة متأخرة عن الانشاء، كما يظهر
بأدنى تأمل في المرتكزات العرفية.
وهناك بعض الوجوه الأخرى مذكورة في دفع الاشكال المذكور
لا مجال لإطالة الكلام فيه مع تعقده وعدم وضوح نهوضه.
والذي ينبغي أن يقال: حيث لا يرجع هذا الاشكال إلى امتناع
431

اختصاص متعلق الامر بالواجد لقصد الامتثال، بل إلى امتناع لحاظ القصد
المذكور قيدا في المتعلق حين الامر، فالمتعين مع تعلق الغرض بخصوص الواجد
للقيد عدم التكليف بالمطلق، بل بخصوص الواجد بنتيجة التقييد، لتبعية الامر
للغرض، غايته أنه لا يبين بلسان التقييد، بل بلسان آخر يكشف عن حال
المتعلق من بيان لفظي أو لبي.
وكأن ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في التخلص عن الاشكال
راجع إلى ذلك.
ثانيهما: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) - كما في تقرير درسه
لبعض مشايخنا - وحاصله: أنه لا بد من أخذ موضوع التكليف مفروض
الوجود في مقام الانشاء، بحيث يجعل التكليف في فرض وجوده، ولذا
لا يقتضي التكليف إيجاده، بل لا يثبت التكليف إلا في رتبة متأخرة عنه،
بخلاف متعلق التكليف، حيث يثبت التكليف بدونه ويقتضي إيجاده بماله من
أجزاء وشرائط.
أما متعلق متعلق التكليف، كالزوجة التي هي متعلق الانفاق الواجب
والعقد الذي هو متعلق الوفاء الواجب ونحوهما، فلابد أن يكون جزءا من
موضوع التكليف ملحوظا في مقام الانشاء مفروض الوجود في رتبة سابقة
عليه، ولذا لا يجب على المكلف الزواج ليمتثل التكليف بالانفاق، ولا إيقاع
العقد ليمتثل التكليف بالوفاء، بل يجب الانفاق والوفاء في فرض تحقق
الزوجية والعقد.
ومن الظاهر أن تقييد العمل بقصد امتثال الامر راجع إلى كون الامر
متعلقا لقصد الامتثال الذي هو معتبر في العمل المتعلق للتكليف، فيلزم أخذه
432

موضوعا للتكليف مفروض الوجود في مرحلة الانشاء، وهو ممتنع، لاستلزامه
تقدم الامر على نفسه وكونه موضوعا لنفسه.
وما ذكره (قدس سره) - لو تم - امتنع اختصاص التكليف بالواجد
لقصد الامتثال ثبوتا، ولو بنحو نتيجة التقييد، لان تقدم الامر على نفسه
وأخذه موضوعا لها مفروض الوجود في رتبة سابقة عليها ممتنع ثبوتا، بأي
وجه فرض بيانه.
لكنه يشكل: بأن كون متعلق متعلق الحكم مأخوذا موضوعا فيه
مفروض الوجود في مرتبة سابقة في مقام الانشاء ليس لازما عقلا، ولذا
لو وجب الغسل بالماء الطاهر أو التستر باللباس المنسوج أو التصدق بالخاتم
المصوغ، لم يرد وجوبها على تقدير وجود الأمور المذكورة، بل بنحو يقتضي
إيجادها.
نعم، كثيرا ما يستفاد ذلك لبعض القرائن اللفظية أو العقلية
أو الارتكازية.
ولعل تعريف المتعلق كثيرا ما يكون ظاهرا في أخذه مفروض الوجود،
لما فيه من معنى العهد، ولذا كان الفرق ظاهرا بين قولنا: يجب على الرجل
الانفاق على زوجته، وقولنا: يجب عليه الانفاق على زوجة له.
كما قد يكون للحكم المجعول أو لكيفية جعله دخل في ذلك، كما في
وجوب الوفاء بالعقود، الظاهر في كونه إمضاء للقضية الارتكازية العرفية،
التي لا يراد بها إلا الوفاء على تقدير وجوده، لا بنحو يقتضي إيجاده.
مع أنه حيث كان المراد به الوفاء بكل عقد، لا الاكتفاء بالمسمى،
ويعلم بعدم وجوب إيقاع جميع أفراد العقود، كان المتعين إرادة الاكتفاء بكل
433

عقد بعد فرض وقوعه.
ومن هنا لا مجال لاثبات لزوم ذلك في المقام، ليمتنع اختصاص التكليف
ثبوتا بالواجد لقصد الامتثال.
نعم، قد يكون منشأ ذلك ما أشير إليه في تقرير درسه للكاظمي من أن
الامر لما كان خارجا عن اختيار المكلف كانت قدرته على قصد امتثاله
مشروطة بوجوده، فلابد من أهذه مفروض الوجود موضوعا للامر، إذ لا بد
في الامر من قدرة المكلف في رتبة سابقة عليه.
لكنه - مع توقفه على امتناع الواجب المعلق - يندفع: بأن أخذ منشأ
القدرة في موضوع التكليف ولحاظه مفروض الوجود في رتبة سابقة عليه
لما لم يكن لدخله في ملاكه، بل لامتناع التكليف بما لا يطاق، فهو مختص
بما إذا كان أمرا خارجا عن التكليف وغير ملازم له، كالوقت، أما إذا كان
هو التكليف بنفسه - كما في المقام - أو ملازما له، فلا ملزم بأخذه في
موضوعه، لملازمة جعل التكليف للقدرة حينئذ، فلا يلزم من عدم أخذه في
موضوعه التكليف بما لا يطاق، كما نبه لذلك في الجملة بعض الأعيان
المحققين (قدس سره).
هذا، ولا يخفى أن الوجهين معا مبنيان على انحصار الداعي القربى
بقصد الامتثال.
أما بناء على ما سبق منا من أن المعيار في قصد ملاك المحبوبية فلا يلزم
من التقييد به شئ من المحذورين المذكورين، لان الملاك المذكور سابق في
الرتبة على الامر، فلا محذور في أخذه في موضوعه، كما يلزم من أخذ قصده
في متعلقه اخذ ما هو من شؤون الامر في متعلقه، كما اعترف بذلك في
434

الجملة غير واحد.
الجهة الثالثة: في وجه الاشكال في مقام الفعلية.
وقد وجهه بعض الأعاظم (قدس سره) بناء على ما سبق منه من
الاشكال في مقام الخطاب وإنشاء الامر بأنه إذا كان لازم التقييد المذكور
أخذ الامر في موضوع نفسه، يلزم فعليته في رتبة سابقة على فعلية نفسه،
لما هو المعلوم من أن فعلية الموضوع بتمام أجزائه وشرائطه سابقة رتبة على
فعلية حكمه.
هذا، وحيث سبق عدم تمامية المحذور المذكور في مقام الخطاب وإنشاء
الامر، خصوصا بناء على أن المعتبر ملاك المحبوبية فلا موضوع له في هذا
المقام.
الجهة الرابعة: في وجه الاشكال في مقام الامتثال.
وقد يقرب بوجوه:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن قصد الامتثال
خارج عن الاختيار، لما تقرر من خروج الإرادة عنه، وإلا لتسلسلت.
وهو لو تم جرى في قصد غير الامتثال أيضا.
لكنه يندفع بأن لزوم التسلسل إنما يكشف عن عدم لزوم كون كل
إرادة اختيارية بنحو الايجاب الكلي، ولا يقتضي امتناع تعلق الاختيار بالإرادة
والقصد بنحو السلب الكلي، بل لا مانع من كون بعض الإرادات اختيارية،
كالإرادة المتعلقة بالفعل الاختياري، بنحو يمكن كونها قيدا في المطلوب
أو جزءا منه.
كيف ولولا ذلك لامتنع ما اختاره من كون قصد الامتثال واجبا عقلا
435

في العبادة، لدخله في غرض المولى، لامتناع تحقق الدواعي العقلية نحو الأمور
غير الاجتماعية؟!
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن داعوية قصد امتثال
الامر للعمل فرع تحقق الامتثال به في مرتبة سابقة على داعويته، لكونه واجدا
لتمام أجزاء المأمور به وشرائطه، فإذا كان قصد داعويته دخيلا فيه جزءا
أو شرطا لزم كون داعويته في مرتبة متأخرة عن قصدها.
وهو راجع إلى ما تقدم منا من المحذورة في مرتبة تعلق الغرض والملاك.
والذي سبق عدم الفرق فيه بين الدواعي، كما نبه له (قدس سره) في هذا
المقام.
ومما سبق هناك يظهر اندفاعه: بأن المقصود في مقام الامتثال تبعا لما هو
المعتبر في مقام الجعل ليس هو قصد كون العمل علة تامة للجهة المقصودة في
الداعوية، بل مجرد مقتض لها، وما يتوقف على القصد المذكور هو فعلية ترتب
تلك الجهة عليه، فالقصد المذكور دخيل في تمامية العلة، لا في الاقتضاء
المقصود من العمل.
ومنه يظهر أنه لا مجال للاشكال بالعجز عن الامتثال، بتقريب: أن
الاتيان بالعمل بقصد امتثال أمره متوقف على كونه مأمورا به بنفسه،
والمفروض عدم الامر به بنفسه، بل مقيدا بالقصد المذكور.
لاندفاعه: بأنه إنما يتجه لو كان المعتبر قصد كونه علة تامة للامتثال،
أما حيث كان المعتبر قصد كونه مقتضيا له فيكفي فيه الامر به مقيدا بالقصد
المذكور.
الثالث: ما ذكره هو (قدس سره) - أيضا - من أن قصد الداعي أيا
436

ما فرض فهو في مرتبة سابقة على الإرادة، لأنه علة لها، فيمتنع كونه في
عرض العمل المتعلق لها والمسبب عنها، بحيث يكون مرادا معه لأنه جزء منه
أو قيد فيه.
وفيه: أنه إن كان المراد تعلق الإرادة بشخص الداعي الذي هو علة لها،
فهو مسلم، إلا أنه لا ينفع في المقام، لما تقدم من أن الداعي المعتبر هو قصد
كون العمل جزءا من الجهة الملحوظة - من الامتثال أو موافقة ملاك المحبوبية
أو نحوهما - أو مقتضيا لها، وهو علة للإرادة المتعلقة بذات العمل، من دون
أن يكون الداعي المذكور مرادا بالإرادة المذكورة ولا من شؤون متعلقها،
وإنما هو مراد بالإرادة المتعلقة به، وهي غير مسببة عن الداعي المعتبر في
العمل، وكلتا الإرادتين في طول إرادة المركب التام الذي هو علة تامة لتلك
الجهة الملحوظة.
فمثلا: الداعي لإرادة فعل الصلاة بذاتها هو كونها مقتضية للامتثال
أو جزءا، وهو المعتبر في متعلق الامر - جزءا أو شرطا - وليس هو مرادا
بالإرادة المذكورة، بل علة لها، وإنما هو معلول للإرادة المتعلقة به، التي هي
إرادة فعل شرط الامتثال أو جزئه الاخر، وكلتا الإرادتين في طول إرادة
المركب التام، والتي يكون الداعي لها قصد العلة التامة للامتثال، وقد سبق في
الجهة الأولى أن قصد جزء العلة للامتثال كاف في المقربية في ظرف تمامية
العلة.
وإن كان المراد امتناع تعلق الإرادة بالداعي وإن لم يكن علة لها فالدليل
المذكور لا ينهض به، بل هو مخالف للوجدان، حيث لا إشكال في أن الداعي
قد يقصد ويراد بإرادة مسببة عن داع آخر، كالاتيان بالمأمور به التوصلي
437

بقصد الامتثال لأجل تحصيل الثواب عليه.
بل لولا ذلك لامتنع التعبدي مطلقا حتى مع توجيهه بما سيأتي منه
(قدس سره) من ابتنائه على تعدد الامر، لان امتناع تعلق الإرادة بالداعي
القربى مانع من تعلق الامر به، لان الغرض من الامر إحداث الداعي العقلي
نحو المأمور به، ويمتنع حدوث الداعي العقلي نحو ما يمتنع تعلق الإرادة به.
على أن هذا الايراد إنما يتوجه لو كان الداعي القربى جزءا من العبادة
المأمور بها، حيث يلزم كونه مرادا للمكلف كسائر أجزاء المأمور به.
أما بناء على كونه شرطا فيها فمن الظاهر أنه لا يعتبر تعلق الإرادة
والاختيار بالشرط، بل يعتبر المشروط اختياريا مرادا للمكلف في ظرف
تحقق الشرط، كالصلاة إلى القبلة وإن لم يكن الاستقبال اختياريا، فعدم تعلق
الإرادة بالداعي القربى لا يمنع من كونه شرطا في العبادة بها بعد كون
العبادة الواجدة له اختيارية مرادة للمكلف.
وتوهم: أن القيد إذا لم يكن موجودا فخروجه عن الاختيار مستلزم
لعدم كون المقيد اختياريا.
مدفوع: بأنه لا مجال لذلك في الاختيار، فإن العمل المقيد به اختياري،
وإن لم يلزم كونه هو اختياريا. فلاحظ.
هذا، وفي المقام وجه آخر ذكره غير واحد لعله لا يختص بمقام الامتثال،
بل يرجع إلى استحالة تقييد متعلق الامر بقصد امتثاله ذاتا.
وهو أنه لما كان الامر يدعو إلى متعلقه ذاتا فلو كانت داعويته مأخوذة
في متعلقه لزم كونه داعيا إلى داعوية نفسه، وهو كعليته لعلية نفسه محال.
وقد دفعه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بالتفكيك الذي تقدم
438

التنبيه له غير مرة، بدعوى: أن الامر بالمركب لا يدعو إلى داعوية نفسه، بل
الحصة من الامر المتعلقة بقصد الامتثال تدعو إلى داعوية الحصة المتعلقة بنفس
العمل، لما سبق من أن المعتبر هو قصد كون العمل جزءا من الامتثال
أو مقتضيا له، لا أنه تمام الامتثال وعلته التامة، ليكون امتثالا للامر بتمام
المركب.
وعليه لا يلزم إلا داعوية إحدى الحصتين من الامر لداعوية الأخرى،
ولا محذور فيه.
وهو وإن كان مسلما - لما سبق - إلا أنه يشكل بما تقدم في الوجه
الأول لمحذور التقييد في مقام توجيه الخطاب، من أنه يمتنع لحاظ الامر الانحلال
والتفكيك في الامر في مقام إنشائه، ليأخذ داعوية بعض حصصه في موضوع
الأخرى.
إلا أن يدعى أخذه لبا بنحو نتيجة التقييد لا بصريحة، نظير ما تقدم في
الوجه المذكور.
مع أن داعوية الامر - وإن كان ضمنيا إلى متعلقه - من لوازمه الذاتية،
فيمتنع استنادها إلى أمر خارج عنه.
وهذا هو العمدة في المحذور، لأنه ثبوتي لا يختلف باختلاف ألسنة جعل
الحكم، بخلاف الأول.
فالأولى: دفع المحذور المذكور: بأن داعوية الامر إلى متعلقه التي هي من
لوازمه الذاتية ليست هي داعويته الفعلية في نفس المكلف، فإنها من شؤون
المكلف، لا من لوازم الامر الذاتية، بل هي بمعنى اقتضائه تحصيله، والداعوية
المأخوذة في المأمور به ليست بهذا المعنى، لعدم كونه من شؤون المكلف، بل
439

هي بمعنى فعلية داعويته في نفس المكلف، بحيث يكون اندفاعه عنه، ولا مانع
من استنادها لأمر خارج عن ذات الامر، وهو خصوصية متعلقه، فيكون
الامر داعيا - بالمعنى الأول - لها في ضمن متعلقه. فلاحظ.
هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام لمنع اختصاص متعلق الامر
بالقصد القربى، وقد ظهر عدم تماميتها في أنفسها أو عدم نهوضها بالمنع منه.
ومن هنا ينبغي البناء على إمكانه، غايته أنه لو كان القصد القربى
مختصا بقصد امتثال الامر امتنع أخذه بلسان التقييد في مقام جعل الحكم
وتوجيه الخطاب، للوجه الأول، المتقدم في محذور التقييد في المقام المذكور،
بل يتعين قصور المتعلق بنتيجة التقييد، فلابد منه بيان ذلك بلسان آخر.
أما بناء على ما سبق من أن المدار فيه على قصد ملاك المحبوبية فلا مانع
من أخذه بلسان التقييد، كما تقدم.
بقي شئ
وهو أنه ربما يدعى أنه بناء على امتناع اختصاص متعلق الامر بالقصد
القربى فلو كان الغرض مختصا به يتعين تعدد الامر محافظة على الغرض
المذكور.
وهو الذي أصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره) وجعله من صغريات
متمم الجعل الذي التزم به في غير مورد من موارد امتناع التقييد.
وحاصله: أن جعل المولى وأمره تارة: يكون تاما ووافيا بغرضه
وملاكه. وأخرى: لا يكون وافيا به، لتعذر استيفاء الغرض بأمر واحد، فلابد
من تتميم الجعل بجعل آخر، بأن يكون له أمران يحصل بهما غرضه ويستوفي
الملاك الملحوظ له.
440

وفي المقام إذا كان الملاك الملحوظ للمولى يقتضي التعبدية فحيث
يستحيل استيفاؤه بأمر واحد يتعين للمولى أن يأمر أولا بذات العبادة، ثم يأمر
ثانيا بالاتيان بها بقصد امتثال الامر الأول الذي لا يلزم منه شئ من المحاذير
السابقة، وحيث فرض أن الامرين ناشئان عن غرض واحد كانا ارتباطيين في
مقام الامتثال، ويمتنع سقوط أحدهما بالامتثال دون الاخر.
وقد أورد المحقق الخراساني (قدس سره) على تعدد الامر في مثل ذلك
بعدم الحاجة إلى الامر الثاني حينئذ، بل على الامر أن يتكل على ما يحكم به
العقل من أنه مع عدم حصول الغرض بمجد موافقة الامر الأول يجب على
المكلف موافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض بالاتيان بجميع ما يكون دخيلا
فيه، وإن لم يؤخذ في الامر.
وقد دفعه سيدنا الأعظم (قدس سره) بأنه إنما يتم مع علم المكلف بعدم
حصول الغرض، وكذا مع الشك لو قيل بحكم العقل بالاحتياط، أما
لو قيل بحكمه بالبراءة فلا مانع من الامر الثاني مولويا، ليكون رافعا لحكم
العقل.
بل ول قيل بأن حكم العقل بالاحتياط منوط بعدم البيان من الشارع
الأقدس صح الامر مولويا وكان واردا على حكم العقل.
والظاهر رجوع ما ذكره بعض الأعيان المحققين إلى ذلك، بل لا يبعد
رجوع ما ذكره بعض المحققين إليه في الجملة أيضا.
لكن لا يخفى أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) ناظر إلى مقام
الثبوت، لا الاثبات، فمرجعه إلى أنه بعد فرض عدم وفاء مجرد موافقة الامر
الأول بالغرض يحكم العقل بموافقته بالنحو الذي يحصل به الغرض من دون
441

حاجة إلى أمر شرعي، بل هو يلغو معه.
أما مقتضى الوظيفة الظاهرية عناد الشك في حصول الغرض بمحض
الموافقة فهو أمر آخ يأتي في المقام الثاني المعد لمقام الاثبات، فإن قلنا هناك
بتوقف عدم الاكتفاء بمحض الموافقة على البيان الشرعي - وحكم العقل
بالبراءة بدونه - لزم على المولى البيان محافظة على الغرض.
بل قد يلزم البيان عليه أو يحسن حتى لو قيل بلزوم الاحتياط تجنبا
لفوت الغرض بسبب قصور بعض المكلفين على استيضاح الحكم المذكور
أو غفلته عن احتمال عدم حصول الغرض بمجرد الموافقة.
لكن البيان لا يكون بالجعل الاخر والامر الثاني الذي هو محل الكلام،
بل بمحض الكشف عن حال الغرض، لتنقيح صغر حكم العقل المذكور.
وبعبارة أخرى: مراد المحقق الخراساني (قدس سره) اكتفاء الشارع في
مقام الثبوت بحكم العقل بلزوم تحصيل الغرض عن الامر الثاني، لا اكتفاؤه في
مقام الاثبات بحكم العقل بالاحتياط في تحصيل الغرض عند الشك فيه عن
بيان حال غرض الامر الأول.
ومثله ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن شأن العقل إدراك
أن الشئ قد أراده الشارع، وليس من شؤونه الامر والتشريع حتى يكون
شارعا في قبال الشارع.
لاندفاعه: بأن المدعى هو إلزام العقل بقصد الامتثال ابتداء، ليكون
شارعا في قبال الشارع، بل بتوسط فرض توقف غر ض الشارع عليه، نظير
حكمه بوجوب الإطاعة في فرض ورود الامر الشرعي.
ومرجع ذلك إلى أن موضوع وجوب الإطاعة عقلا لا يختص بالامر،
442

بل يعم تحصيل الغرض ولو بدونه.
إلا إن يكون مراده إنكار ذلك وتخصيص موضوع وجوب الإطاعة
بالامر.
لكنه في غير محله، على ما يأتي في الوجه الثالث من وجوه الفرق بين
التعبدي والتوصلي إن شاء الله تعالى.
فالعمدة في دفع ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) أن حكم العقل
بلزوم غرض المولى وإن تم إلا أنه لا يمنع من أمر المولى بما يتوقف عليه حصول
غرضه، ولا يستلزم لغويته، وإلا لزم اكتفاء المولى ببيان موضوعات أغراضه
عن جميع أحكامه، ولا يحتاج في التعبد حتى إلى الامر الأول الذي يعترف
(قدس سره) به.
بل يأتي في الوجه الثالث أن تعلق غرض المولى بشئ بعد فرض عدم
غفلته مستلزم للامر به استقلالا، أو في ضمن غيره جزءا أو شرطا، فلا
موضوع لما ذكره (قدس سره).
نعم، ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) مبني على إمكان الاهمال في
مقام الثبوت وعدم انحصار أمر الجعل بالاطلاق والتقييد، إذ حينئذ لا يكون
عدم تقييد متعلق الامر الأول مستلزم لاطلاقه ثبوتا، ليكون مخلا بالغرض،
بل يكون المتعلق مهملا من هذه الجهة ثبوتا، فلا يلزم إلا قصوره عن استيفاء
الغرض، ويتوقف استيفاؤه على متمم الجعل وهو الامر الثاني.
أما بناء على امتناع الاهمال، وإن المتعلق لا يخرج عن الاطلاق والتقييد
- كما يأتي في المقام الثاني - فعدم تقييد متعلق الامر الأول مستلزم لاطلاقه،
المستلزم لاخلاله بالغرض الممتنع في نفسه، ولكون الامر الثاني من سنخ
443

الناسخ لاطلاق الامر الأول لا المتمم له، وهو خلاف الفرض.
ولأجله لابد من البناء على قصور متعلق الامر الأول ابتداء واختصاصه
بواجد القيد ثبوتا وإن لم يؤخذ بلسان التقييد، فلا يكون الامر الأول قاصرا
عن استيفاء الغرض، ليحتاج إلى متمم الجعل بالامر الثاني، بل وافيا به، غاية
الامر أنه يحتاج إلى بيان قصور متعلقه في مقام الاثبات، نظير ما ذكرناه آنفا
بناء على اختصاص القصد القربى بقصد الامتثال.
مضافا إلى أن الامر الأول لما لم يكن وافيا بغرض المولى - بالفرض -
فقصد امتثاله لا يكوم مقربا، إلا بلحاظ ما سبق في الجهة الأولى من إمكان
التقرب بقصد بعض ما يحصل الغرض أو مقتضيه في ضرف تمامية الامتثال وموافقة
الامر الضمني الوارد على ذات العبادة، الذي سبق منا أنه معه لا يتم ما ذكره
(قدس سره) في وجه امتناع تقييد متعلق الامر مع وحدته.
ومن هنا كان الظاهر عدم تمامية ما ذكره (قدس سره) من ابتناء
التعبدي على متمم الجعل وتعدد الامر. فلاحظ.
الوجه الثاني: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في ماهية الامر
وسنخه.
قد يدعى أن التعبدي سنخ من الامر يقتضي إيجاد متعلقه بقصد
امتثاله، بخلاف التوصلي فإنه سنخ آخر منه يقتضي تحقيق متعلقه مطلقا،
فالفرق بينهما نظير الفرق بين الوجوب والاستحباب، حيث يقتضي الأول
منهما لزوم الإطاعة بخلاف الثاني من دون فرق بينهما في المتعلق.
ولا يخفى أن تخصيص مقتضى التعبدي بقصد الامتثال مبني على
444

ما هو المشهور من انحصار القصد القربي به، أما بناء على الاكتفاء فيه بوجه
آخ ر فيكون هو الفارق في المقام.
ومن هنا لا مجال للاشكال فيه من بعض الأعاظم (قدس سره) بعدم
اختصاص الداعي القربى بالقصد المذكور، كي يدعى كونه من لوازم ذات
الامر.
نعم، استشكل فيه - أيضا - باستحالة كون دعوة الامر موجودة
بوجوده وفي عرضه وإلا لتقدم الشئ على نفسه.
وكأنه راجع إلى أن تأخر داعوية الامر رتبة تمنع من إفادة الامر نفسه
لزومها بحيث يوجد بإنشائه.
لكنه - مع ابتنائه على اختصاص الداعي القربى بقصد امتثال الامر الذي
سبق الكلام فيه - إنما يتم لو كان المدعى دخل لزوم الداعوية في مفهوم الامر
التعبدي، بحيث يكون به امتيازه، ويكون مقوما له وينشأ بإنشائه، أما لو كان
المدعى أن ما به امتيازه عن التوصلي أمر آخر يستلزم لزوم داعوية الامر في
مقام الامتثال فلا مانع من ذلك، نظير اقتضاء كل أمر لان يمتثل مع أن امتثال
الامر متأخر عنه رتبة كداعويته.
ومجرد التأخر الرتبي لا يمنع من وجود المتأخر بإيجاد المتقدم، كما هو
الحال في جميع اللوازم وإن كانت متأخرة رتبة عن ملزوماتها.
ومن هنا كان الظاهر أن اختلاف ماهية بالنحو المذكور بمكان
من الامكان.
نعم، لا شاهد عليه، بل لا يدرك العقل للامر إلا حقيقة واحدة، وأن
إطاعته مطلقا تكون بتحقيقه متعلقه في الخارج، ولا يعتبر في مقام الإطاعة
445

إلا ما اعتبر في المتعلق شطرا أو شرطا.
هذا ما تقتضيه المرتكزات المحكمة في المقام، والتي هي المرجع في مثل
ذلك من دون حاجة للبرهان.
الوجه الثالث: في أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي
للامر.
من الظاهر أن اختلاف التعبدي والتوصلي في الغرض الداعي للامر
ليس موردا للاشكال في نفسه، وإنما الاشكال في أن الاختلاف بينهما في
الغرض هل يستلزم الاختلاف بينهما في المتعلق مع وحدة بالامر أو تعدده
- كما هو مقتضى الوجه الأول - أو في سنخ الامر - كما هو مقتضى الوجه
الثاني - أولا يستلزمه، بل يكون حتى مع وحدة سنخ الامر ومتعلقه.
وقد اختار الثاني المحقق الخراساني (قدس سره) حيث أصر على وحدة
الامر والمتعلق فيهما من دون أن يشير للاختلاف بينهما في السنخ، ومع ذلك
ذكر أن الامر التوصلي يحصل غرض الامر منه بمجرد موافقته، فيسقط بذلك
تبعا لحصول الغرض.
بخلاف التعبدي فإن حصول غرضه منه يتوقف على موافقته بقصد
الامتثال، فلا يسقط بدونه، لتبعية الامر للغرض حدوثا وسقوطا، فيجب قصد
الامتثال عقلا وإن لم يؤخذ فيه شرعا، لاستقلال العقل مع عدم حصول
غرض الامر بمجرد موافقة الامر بوجوب موافقته بنحو يحصل به الغرض كي
يسقط الامر.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الكلام في تعدد الامر.
لكن استشكل فيه بعض الأعاظم (قدس سره)، أولا: بابتنائه على
446

اختصاص القصد القربى بقصد الامتثال.
وثانيا: باستحالة كون دعوة الامر غرضا منه وموجودة بوجوده.
وثالثا: بعدم لزوم متابعة الغرض.
إلا أنه يظهر حال الأول مما تقدم في الوجه الثاني.
كما أن ظاهره كون المراد بالثاني ما تقدم منه في دفع الوجه المذكور.
ويظهر اندفاعه مما تقدم.
مضافا إلى أنه - لو تم - إنما يمنع من استناد لزوم داعوية الامر للامر
نفسه، بنحو يكون هو المقتضي لها - كما تقدم في الوجه الثاني - وليس هو
محل الكلام هنا، بل المدعى استناده إلى تعلق الغرض المستكشف بالامر
أو بغيره وأنه هو المقتضى للموافقة بالوجه المذكور.
ومجرد صدور الامر عن مثل هذا الغرض لا يستلزم استناد لزوم الداعوية
للامر المذكور، كما لعله ظاهر. ولعله لذا أهمل في تقرير درسه للكاظمي.
وأما الثالث فهو وإن ذكر في تقريري درسه، وقد أصر عليه شيخنا
الأستاذ (قدس سره)، مدعيا أن موضوع الإطاعة الواجبة عقلا يختص بالامر
الشرعي، وأن الشارع إنما عبدنا بأحكامه دون أغراضه ومرغوباته، إلا أنه
حكي عنه (قدس سره) العدول عن ذلك مدعيا إلزام العقل بموافقة غرض
المولى، لاندراجه تحت الكبرى العقلية بلزوم الإطاعة، وعليه جرى غير واحد
من الأكابر، بل يظهر من بعضهم المفروغية عنه.
وهو الموافق للمرتكزات من بعضهم المفروغية عنه.
وهو الموافق للمرتكزات العقلية القطعية في باب الإطاعة والمعصية.
بل لزوم موافقة الأمر والنهي ارتكازا إنما هو بلحاظ كاشفيتهما عرفا
عن غرض الامر والناهي، الذي هو الموضوع الحقيقي لوجوب الإطاعة عقلا،
447

لا لخصوصيتهما فيه، فيجب القيام بغرض المولى لو علم به وإن لم يصدر أمر
أو نهي من قبله، لعجزه عنهما أو تخيله عدم الفائدة فيهما.
بل يكفي في ذلك عندهم بلوغ الملاك مرتبة لو التفت المولى إلى بلوغها
لتعلق غرضه به وأمر أو نهي على طبقه، وإن كان غافلا لسهو أو نوم
أو نحوهما - لو أمكن في حقه - على ما أشرنا إليه عند الكلام في
معيار المقربية.
وقد تقدم في الامر الخامس من الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية
ما ينفع في المقام.
وأما ما سبق من شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الشارع إنما عبدنا
بأحكامه، فالمراد به غير ظاهر، إذ لم يصدر من الشارع تعبد بالأحكام في
قبال جعلها، كي يصلح لان يكون بيانا لما ينبغي إطاعته - لو كان من
شأنه التعرض لذلك - بل ليس وراء جعله الاحكام إلا حكم العقل بلزوم
الإطاعة، فاللازم النظر في موضوعه، وقد ذكرنا أن المعيار فيه الغرض.
نعم، عدم مطابقة الامر للغرض سعة وضيقا إنما تمكن مع غفلة المولى
وجهله بعدم استيفاء غرضه بالامر، ولا يعقل في حق الملتفت العالم
- كالشارع الأقدس - إلا بناء على إمكان الاهمال في مقام الثبوت، حيث
لا يكون الامر مخالفا للغرض في مورد الاهمال.
أما بناء على امتناع الاهمال - كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقام
الثاني - فعدم مطابقة الامر للغرض وعدم وفائه به مستلزم لمخالفة الامر
للغرض، الذي هو ممتنع في نفسه، بل لابد معه من التطابق بينهما وقصور
متعلق الامر عما لا يحصل به الغرض لبا وبنتيجة التقييد لو فرض امتناع
448

تحديده بلسان التقييد، على ما يظهر بالرجوع لما تقدم عند الكلام في تعدد
الامر، وحينئذ لا أثر للنزاع في لزوم موافقة الغرض.
كما لا مجال لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن القصد
القربى إنما يجب عقلا لتوقف غرض الشارع عليه من دون أن يؤخذ في متعلق
الامر، بل لابد من البناء على اختصاص متعلق الامر بالواجد للقصد المذكور،
ويجب الاقتصار عليه عقلا لوجوب إطاعة الامر.
ومن هنا لا معدل عن الوجه الأول، الذي سبق إمكانه في نفسه
ومطابقته للمرتكزات. فلاحظ. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق.
المقام الثاني: في الدوران بين التعبدي والتوصلي في مقام الاثبات
والكلام في هذا المقام إنما يكون في مقتضى الدليل والأصل بعد الفراغ
عن الفرق بينهما في مقام الثبوت بأحد الوجوه المتقدمة وهو ينحصر بجهتين.
الجهة الأولى: في مفاد الدليل.
ومن الظاهر أن مقتضى الاطلاق التوصلية بناء على إمكان التقييد
بالقصد القربى، لأنه يكون كسائر القيود التي شأن الاطلاق نفيها.
إما بناء على امتناع التقييد فقد ذكر غير واحد أنه لا مجال للتمسك
بالاطلاق، بل هو ممتنع في ظرف امتناع التقييد، لان الاطلاق ليس هو محض
عدم التقييد، كي يلزم في مورد امتناعه، بل عدم التقييد في المورد القابل
للتقيد، فليس التقابل بينهما من تقابل النقيضين، بل من تقابل العدم والملكة،
449

فمع امتناع التقييد يمتنع الاطلاق أيضا.
ولا يخلو المراد بذلك عن إجمال.
إذ تارة: يراد به أن امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق في مقام
الثبوت، وفي مرحلة ورود الحكم على الماهية واقعا، فلا يكون الحكم مطلقا
ولا مقيدا لبا، بل يكون مهملا من هذه الجهة ثبوتا، فيعمل به على إهماله
تبعا للغرض الموجب له - كما تقدم من المحقق الخراساني (قدس سره) - أو
يحتاج إلى جعل آخر، وهو الذي عبر بعض الأعاظم ب‍ (متمم الجعل)،
وجعل منه الامر الثاني في المقام.
وأخرى: يراد به أن امتناع التقييد مانع من ظهور الكلام في الاطلاق
في مقام الاثبات، فلا يكون بيانا على سريان الحكم، بل يكون مجملا من هذه
الجهة، ويحتاج إلى بيان آخر، وإن كان دائرا بين الاطلاق والتقييد ثبوتا غير
خارج عنهما، لامتناع الاهمال.
فالواسطة بين الاطلاق والتقييد على الأول الاهمال، وعلى الثاني
الاجمال. ولا بأس بالكلام في الامرين، فإن محله طبعا وإن كان هو مبحث
المطلق والمقيد، إلا أن ابتناء الكلام في هذه المسألة عليه وأهميتها وتشعب
مبانيها تلزم باستيفاء الكلام فيها بالبحث في كلا الامرين.
أما الأول: فعمدة الوجه فيه ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من
أن الاطلاق وإن كان عبارة عن عدم التقييد، إلا أنه لابد فيه من ورود الحكم
عن المقسم، لأنه هو القابل للامرين، فالتقابل بينهما تقابل العدم والملكة،
فيمتنع كل منهما مع امتناع ورود الحكم على المقسم، كما هو المفروض في
المقام، لان انقسام المتعلق إلى ما يؤتى به بقصد امتثال الامر وما يؤتى به
450

لا بقصده إنما هو في رتبة متأخرة عن ورود الامر عليه، ولا يقبل الانقسام إلى
ذلك في مرتبة ورود الامر عليه.
وهكذا الحال في جميع القيود المنتزعة في مرتبة متأخرة عن ورود الحكم،
كالعلم به والالتفات إليه، بل يتعين الاهمال بالإضافة إليها.
وفيه: أن التقابل بين الاطلاق والتقييد وإن كان من تقابل العدم
والملكة، فلابد فيهما من فرض موضوع قابل لهما، إلا أن موضوعهما هو
الماهية الخارجية القابلة للوجود في ضمن أفراد كثيرة، دون الماهية المجردة التي
لا وجود لها في الخارج، والجزئي الذي لا يقبل الانطباق على كثيرين.
وحينئذ فالماهية المذكورة المأخوذة موضوعا للحكم أو متعلقا له إن
لحظت بنفسها ولم يؤخذ فيها ما يمنع من انطباقه على بعض الافراد لزم
سريان الحكم لتمام أفرادها، ولزم الاطلاق البدلي أو الشمولي الانحلالي
أو المجموعي، وإن أخذ فيها ما يوجب قصورها عن بعض الافراد إن كان وافية
بنفسها بالغرض الموجب لجعل الحكم بنظر الحاكم لزم الاكتفاء بها وتعين
الاطلاق، وإن لم تكن وافية به فلا مجال للاكتفاء بها بعد كون انطباقها
على تمام الافراد قهريا، فيلزم من الاكتفاء بها الاخلال بالغرض، وهو ممتنع،
بل لابد من أخذها بنحو تقصر في موضوعيتها عما لا يفي بالغرض،
إما بالتقييد صريحا بالعنوان الدخيل في الغرض لو أمكن أو بنتيجة التقييد
بقصر الحكم على الحصة المقارنة للقيد بواقعها لا بعنوانها المنتزع من القيد.
فأن أراد من الاهمال مجرد عدم التقييد صريحا مع قصور الموضوع
بنتيجة التقييد، فهو خلاف ما نفهمه من الاهمال، ولا يستلزم قصور الجعل
451

ثبوتا بنحو يحتاج إلى المتمم الذي ذكره، بل غاية الامر احتياج الحصة التي هي
موضوع الحكم إلى البيان بوجه غير التقييد.
وإن أراد منه عدم شمول الحكم ولا قصوره، بل يكون مسكوتا عنه في
المورد الذي لا يفي بالغرض، كالفرد الخارج عن الماهية تخصصا، فلا مجال له
بعد فرض لحاظ الماهية وكون انطباقها على جميع أفرادها قهريا.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أنه لابد في الاطلاق من ورود الحكم
على المقسم، فيندفع: بأن المقسم في المقام ليس إلا الماهية المفروض ورود
الحكم عليها لان مقسمية الماهية لتمام حصصها واقعي قهري.
ومجرد امتناع تعنون الحصة بالقيد في مرتبة ورود الحكم على الماهية إنما
يمنع من مقسمية الماهية للحصة بعنوانها المنتزع من القيد، لا من مقسميتها لها
بواقعها، المستلزم لشمول الاطلاق لها بالواقع المذكور أو قصوره عنها
كذلك، ولا يعقل الاهمال، كما ذكرنا.
ولولا ذلك لزم الاهمال بالإضافة إلى ما يفي بالغرض وهو الواجد
للقيد أيضا، لأنه يشارك ما لا يفي به في عدم مقسمية الماهية له بعنوانه المنتزع
من القيد في مرتبة ورود الحكم عليها، ولازمه لغوية الجعل. فلاحظ.
ثم إن ما ذكرنا كما يجري بناء على أن الاطلاق عبارة عن عدم التقييد
في موضوعه، وأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - كما هو الظاهر -
كذلك يجري بناء على أن الاطلاق عبارة عن لحاظ سريان الحكم لتمام أفراد
الماهية، وأن التقابل بينه وبين التقييد تقابل الضدين.
إذ لا يراد - على المبنى المذكور - بلحاظ السريان لتمام أفراد الماهية
لحاظ السريان إليها بعناوينها المنتزعة من كل قيد يفرض فيها، بنحو يستلزم
452

السريان في مورد كل قيد لحاظه في مقام جعل الحكم، كي يمتنع السريان في
مورد القيود التي يمتنع لحاظها في مقام الجعل.
بل المراد لحاظ السريان إلى الافراد بواقعها المقارن لأي عنوان يفرض
من دون لحاظ العنوان، ولذا لا إشكال في بنائهم على الاطلاق بالإضافة إلى
القيود التي يمكن لحاظها، لكن يعلم غفلة المتكلم عنها حين الخطاب والجعل
- لو أمكن في حقه الغفلة - ولا يعتبر في التعميم بلحاظ كل قيد إلى إحراز
التفات الحكم إليه عند الاطلاق وتعميمه بالإضافة إليه.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع الاهمال ثبوتا، بل لابد من كون
الحكم الوارد على الماهية مجعولا واقعا بنحو الاطلاق أو التقييد، بمعنى قصوره
عن بعض الحصص واقعا ولو بنتيجة التقييد، وإن لم تلحظ بعناوينها المنتزعة
من بعض القيود، لامتناع لحاظه في مرتبة جعل الحكم.
وأما الثاني فعمدة الوجه فيه: أن ظهور المطلق في الاطلاق إنما يتم
بمقدمات الحكمة التي منها كون عدم التقييد مع دخله في الغرض منافيا
للحكمة، لأنه بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان المستتبع للعمل يلزمه
ذكر تمام ما هو الدخيل في مراده، ليقع العمل تبعا له مطابقا لغرضه.
وهذا إنما يتم إذا كان التقييد ممكنا في نفسه، إذ لو كان ممتنعا لا يكون
الاخلال به مع دخله في الغرض منافيا للحكمة، فلا يكون عدم ذكره كاشفا
عن عدم إرادته، لينعقد للكلام ظهور في الاطلاق.
وفيه: أن تعذر التقييد في المقام لا يستلزم تعذر بيان إرادة المقيد، بل
يمكن بيانه بطريق آخر، فعدم بيانه بالطريق المذكور كاشف عن عدم إرادته
ومستلزم لانعقاد الاطلاق، كعدم التقييد، مع إمكانه.
453

على أن التعذر لا يمنع من ظهور المطلق في الاطلاق لو ورد في مقام
البيان، بل لو لم يكن مرادا لا ينبغي الخطاب به، ويلزم البيان بطريق آخر
يطابق المراد ويوافق الغرض.
ومجرد كون قرينة الحكمة من مقدمات الاطلاق لا ينافي ذلك، على
ما يتضح في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.
ومن هنا لا يكون امتناع التقييد - بعد ما سبق من امتناع الاهمال ثبوتا
- مانعا من ظهور المطلق في الاطلاق لو ورد في مقام البيان.
وعليه يكون الاطلاق في المقام التوصلية، ويحتاج البناء على كون
المأمور به تعبديا إلى الدليل الخاص.
وينبغي تتميم البحث في المقام بذكر أمور..
الأول: أن ما تقدم في تقريب الاطلاق مبني على أن الفرق بين التعبدي
والتوصلي في متعلق الامر.
أما بناء على أن الفرق بينهما في سنخ الامر فلا موضوع للتمسك
بإطلاق المأمور به، بل غاية الامر التمسك بإطلاق الامر، لدعوى: أن كون
الامر تعبديا يحتاج إلى مؤنة بيان، نظير التمسك بإطلاقه لاثبات كونه
وجوبيا، لدعوى: أن الاستحباب يحتاج إلى مؤنة البيان، كما تقدم من
بعضهم.
لكن حيث كان المحكم في مفاد الاطلاق الارتكازيات المتفرعة في المقام
على إدراك الفرق في سنح الطلب ثبوتا، وقد سبق عدم إدراكنا للفرق بينهما،
فلا يتيسر لنا التصديق بمفاد الاطلاق المذكور ولا دفعه، بل يختص الجزم بأحد
الامرين بمن يدعى الفرق المذكور.
454

وأما بناء على أن الفرق بينهما في الغرض الداعي له وأنه في التوصلي
يحصل بمجرد الموافقة وفي التعبدي لا يحصل إلا بالموافقة بالوجه القربى من
دون فرق في المتعلق، فمن الظاهر أن الاطلاق إنما ينهض بتعيين متعلق الامر،
وأما كاشفيته عن مورد الغرض فهي بضميمة لزوم مطابقة الامر للغرض، فمع
فرض ابتناء الكلام على عدم لزوم التطابق بينهما، وإمكان قصور متعلق الامر
عنه فلا مجال لاستفادة مورد الغرض من الاطلاق.
إلا أن يدعى بناء العقلاء على أن الأصل التطابق بينهما في فرض الشك
فيه، ليتم بضميمته استفادة مورد الغرض من الاطلاق.
لكن التصديق بمفاد الأصل المذكور فرع وضوح إمكان عدم التطابق
بينهما، وهو غير متعقل لنا في فرض التفات الحاكم، بل الظاهر امتناعه.
بل سبق منا عند الكلام في الوجه المذكور أن عدم مطابقة الامر للغرض
إنما تمكن بناء على إمكان الاهمال ثبوتا، ومع فرض الاهمال لا موضوع
للاطلاق في مقام الاثبات، ليقع الكلام في مفاده، ويمكن دعوى كاشفيته عن
موضوع الغرض.
الثاني: بناء على عدم جواز التمسك بإطلاق المادة في فرض امتناع
التقييد، إما للزوم الاهمال ثبوتا، أو لعدم صلوح الاطلاق للبيان في مقام
الاثبات فقد يدعى ظهور الامر في التوصلية، لا من جهة الاطلاق المذكور،
كما جرى على ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) على ما في التقريرات.
فإنه بعد أن منع من التمسك بالاطلاق للقيود المنتزعة في رتبة
متأخرة عن تعلق الامر بالفعل قال: " فالحق الحقيق بالتصديق هو أن ظاهر
الامر يقتضي التوصلية، إذ ليس المستفاد من الامر إلا تعلق الطلب الذي هو
455

مدلول الهيئة للفعل (بالفعل. ظ) على ما هو مدلول المادة، وبعد إيجاد المكلف
نفس الفعل في الخارج لا مناص من سقوط الطلب، لامتناع طلب الحاصل ".
لكن ما ذكره إن ابتنى على ظهور الصيغة في طلب المادة بنفسها بنحو
يطابق الغرض فهو عبارة أخرى عن الرجوع لاطلاق المادة الذي أنكره في
صدر كلامه.
وإن ابتنى على ظهورها في طلب المادة في الجملة من دون أن ينهض
بالاطلاق من حيثية القيد المذكور، بل لابد من الاهمال أو الاجمال - ليناسب
ما سبق منه - فمن الظاهر أن طلب المادة في الجملة لا يستلزم إجزاء المأتي به
لا بقصد التقرب، لعدم ثبوت صدق المطلوب عليه، ليلزم من عدم سقوط
الطلب به طلب الحاصل.
وإن ابتنى على خروج قصد التقرب عن المأمور به ودخله في الغرض
الذي على المدار في سقوط الامر، بنحو لا يلزم من إطلاق المأمور به مطابقته
للغرض، فلابد من التزام عدم امتناع طلب الحاصل إذا لم يحصل به الغرض،
وأنه يلزم عقلا تحقيق المطلوب بالوجه الذي يحصل به الغرض، وإلا لزم امتناع
التعبدي.
نعم، قال: - بعد كلام له - " وأما الشك في التقييد المذكور فبعد ما
عرفت من أنه لا يعقل أن يكون مفادا بالكاشف عن الطلب لابد له من بيان
زائد على بيان نفس الطلب، والأصل عدمه. واحتمال العقاب على ترك
الامتثال يدفع بقبح العقاب من دون بيان - كما هو المحرر في أصالة البراءة -
من غير فرق في ذلك بين الكواشف اللفظية أو غيرها ".
وظاهره الرجوع في العمل على التوصلية للأصل العملي، وهو
456

لا يناسب ما قربه في كلامه السابق من ظهور الامر في التوصلية، ومن هنا
كان كلامه (قدس سره) مضطربا.
بل يظهر بمراجعة من كلماته في فرائده وما نسب له في التقريرات
شدة اضطراب مبانيه في المسألة، حيث يظهر من بعضها كون القصد القربى
معتبرا في المأمور به شطرا أو شرطا وإن احتاج إلى بيان آخر، ويظهر من
بعضها كونه خارجا عنه وعن شؤون الامتثال لتوقف الغرض عليه، مع
اختلافها فيما هو المرجع عند الشك فيه من ظهور الامر أو الأصل العملي
المقتضي للبراءة أو الاشتغال.
وقد ذكرنا جملة منها في تعليقتنا على الكفاية، ولا مجال لاستقصائها
هنا.
أما بعض الأعاظم (قدس سره) فبعد ما سبق منه من امتناع كل من
الاطلاق والتقييد من حيثية القيد الخاص ولزوم الاهمال، وأنه لابد في
الواجب تعبديا من تتميم الجعل بالامر الثاني، ذكر أن مقتضى الاطلاق
المقامي التوصلية.
بدعوى: أنه إذا كان المولى في مقام بيان تمام جعله ولم ينصب قرينة
على الجعل الثاني المتمم للجعل الأول فمقتضى إطلاق المقام تمامية الجعل
الأول وعدم احتياجه للمتمم، فيحرز بذلك التوصلية.
لكنه يشكل: بأنه لما كان مبنى كلامه على الاهمال وعدم الاطلاق
ثبوتا، فلا معنى لكشف الاطلاق المقامي عن تمامية الجعل التي لا تكون إلا
بالاطلاق أو التقييد، بل لابد للجعل من متمم يفيد فائدة التقييد أو فائدة
الاطلاق.
457

غاية الامر أن يكون الاطلاق المقامي كاشفا عن كون الجعل المتمم
بخصوص أحد الوجهين، ولم يتعرض (قدس سره) في كلامه لذلك
ولا لوجهه.
ولا يسعنا الجزم بأحد الوجهين بعدما استوضحناه من عدم تمامية مبنى
المسألة في كلامه.
الثالث: ذهب جماعة منهم الكلباسي في الإشارات - على ما حكي -
إلى أن مقتضى الأصل اللفظي التعبدية.
ويستدل على ذلك بوجوه:
أولها: أن غرض المولى من الامر جعله محركا للعبد نحو العمل المأمور
به، فلابد في موافقة الغرض المذكور من الاتيان بالمأمور به بداعي امتثال
الامر، فيكون الامر تعبديا، ويحتاج الاكتفاء به بدونه إلى دليل مخرج عن
ذلك.
وبهذا الوجه لا يبقى مجال لأطلق المادة الذي تقدم أن مقتضاه
التوصلية.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من ابتنائه على لزوم قصد
الامتثال في التعبدي، وقد تقدم عدم لزومه.
فيدفعه: أن عدم لزوم قصد الامتثال والاكتفاء بالقصد القربى - بالوجه
الذي تقدم منا أو منه - إنما هو لعدم الدليل على وجوبه والاقتصار على
القصد القربى، أما لو فرض نهوض هذا الوجه بإثبات وجوبه لزم البناء عليه
ورفع اليد عما تقدم.
فالعمدة الاشكال فيه تارة: بأن الالتزام بذلك في الامر يقتضي الالتزام
458

به في النهي، إذ لو كان الغرض من الامر جعله محركا للعبد نحو المأمور به
كان الغرض من النهي كونه داعيا لترك المنهي عنه، بل يلتزم بنظيره في
الترخيص، حيث يكون الغرض منه اعتماد العبد عليه في السعة في مقام
العمل، مع وضوح عدم كون النهي والترخيص تعبديين.
ولا يظن بأحد الالتزام بأن ذلك للدليل الخاص مع ظهور الخطاب بهما
في التعبدية.
وأخرى: بأنه ليس الغرض من الشئ إلا ما يترتب عليه ولا يتخلف
عنه، ومن الظاهر أن فعلية محركية الامر قد تتخلف عنه بالمعصية أو غيرها،
فلا تكون غرضا منه، بل ليس الغرض منه إلا إحداث الداعي العقلي الصالح
للمحركية نحو العمل، وهو مشترك بين التعبدي والتوصلي.
وثالثة: بأن الغرض الذي يجب متابعته ويلزم مطابقة المأمور به له سعة
وضيقا وإطلاقا وتقييدا هو الغرض من المأمور به، وهو الملاك المترتب عليه،
لا الغرض من الامر نفسه، كمحركية المأمور أو إحداث الداعي العقلي له
أو نحوهما، فلو كان غرض الامر من الامر تحبب الفعل للمكلف - لتخيل أنه
لا يفعل لو لم يحبه - لم يستلزم ذلك تقييد المأمور به بداعي الحب، فلو فعل
المأمور به لا بداعي الحب امتثل وسقط الامر.
كيف ولا ريب في أن الداعي المذكور هو الداعي في جميع الأوامر حتى
التوصلية، فلولا عدم ملازمته لتقييد المتعلق بقصد الامتثال لامتنع كون الامر
توصليا؟!
ودعوى: أن جميع الأوامر تعبدية، وأن قيام الدليل على عدم اعتبار
قصد الامتثال في سقوط الامر لا يكشف عن عدم اعتبار القصد المذكور في
459

متعلقه، بل غاية الامر أن يكون الفعل الخالي عنه رافعا لموضوع الامتثال،
فيسقط الامر به لتعذر امتثاله، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولا يكون
الفعل المذكور امتثالا له. وإليه ترجع جميع الأوامر التوصلية.
غريبة جدا، وإن ادعاها من لا يستهان به في مجالس المذاكرة
أو الدرس، على ما ببالي.
لوضوح أن سقوط الامر بالعمل الخالي عن القصد المذكور في تلك
الموارد ليس لتعذر استيفاء الملاك معه، نظير سقوط أحكام الميت بحرقه، ولذا
لا يكون محرما، بل لحصول الملاك به، كما يحصل مع القصد المذكور، ومع
عموم مورد الملاك لا وجه لتقييد المتعلق.
ثانيها: قوله تعالى: (وما أمروا دلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (1).
ويشكل بأن الظاهر من الاخلاص لله تعالى في الدين في غير مورد من
الكتاب المجيد هو التوحيد في مقابل الشرك، وأما التقرب بالعمل فهو إخلاص
العمل له.
ويناسب إرادة ما ذكرنا في المقام قوله تعالى: (حنفاء) حيث تضمن
جملة من الآيات أخذ الحنيفية في التدين بدين الاسلام، ومقابلتها بالشرك.
كما يناسبه - أيضا - عطف الصلاة والزكاة اللتين هما من الواجبات
الاستقلالية الزائدة على التوحيد المطلوبة معه، والمعتبر فيهما الاخلاص بمعنى
التقرب، فلا يناسب عطفهما عليه لو كان هو المراد بالاخلاص، ولا سيما مع

(1) سورة البينة: 5.
460

كون الامر به إرشاديا لبيان شرطيته، من دون أن يكون مطلوبا مولويا
استقلاليا.
على أنه لو سلم إرادته من الآية فهي لا تنفع فيما نحن فيه، لان اللام في
قوله: (ليعبدوا) إن كانت للغاية بلحاظ نفس الامر أو لتقوية العامل - التي
قد تكون هي لام الإرادة التي ذكرها بعضهم - فهي لبيان المأمور به، وتدل
الآية على أنهم لم يؤمروا إلا بالعبادة الخالصة لله تعالى - إن كان الحصر
حقيقيا - أو لم يؤمر بالعبادة إلى على وجه الاخلاص - لو كان الحصر إضافيا -
لا أنه يعتبر في الواجبات أن تقع على وجه الاخلاص، فهي ظاهرة في بيان
قضية خارجية أخبر بها عن حال أحكامهم والتشريعات الثابتة لهم، لا قضية
حقيقية تشريعية تتضمن اعتبار الاخلاص في المأمور به، لتنفع في حقنا.
فالمقام نظير ما لو قال: لم نأمرهم إلا بالصلاة عن طهارة، فإنه
لا يقتضي اعتبار الطهارة في كل صلاة حتى غير ما أمروا به، بخلاف ما لو
قيل: وجعلنا عليهم أن لا صلاة إلا بطهور، فإنه يقتضي شرطية الطهور في
كل صلاة تفرض وإن لم تجب عليهم.
وإن كانت اللام للغاية بلحاظ المأمور به فهي ظاهرة في أنهم أمروا
بأشياء فائدتها التوفيق للعبادة الخالصة، نظير ما تضمن بيان فوائد كثير من
الواجبات والمستحبات، ولا دلالة لها على تعيين ما أمروا به وأنه عبادي
أو غيره.
مع أنه وارد لبيان حكم أهل الكتاب، فالاستدلال به في حقنا مبني على
جريان استصحاب أحكامهم أو أصالة عدم النسخ فيها، وهو - مع أنه
خلاف التحقيق - لا ينفع في الخروج عن الاطلاق الذي تقدم أنه يقتضي
461

التوصلية.
اللهم إلا أن يستفاد من قوله تعالى: (وذلك دين القيمة) ثبوت
الحكم المذكور في جميع الأديان. فينهض حينئذ برفع اليد عن الاطلاق
المذكور.
ثالثها: ما في غير واحد من النصوص من أنه لا عمل إلا بنية، وأن
الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى (1).
وربما يظهر من بعضهم الاستدلال به بحمله على النفي الحقيقي بلحاظ
دلالته على توقف الأفعال الاختيارية على النية.
لكنه - مع بعده في نفسه، لأنه أمر تكويني خارجي لا غرض ببيانه -
أجنبي عما نحن فيه، لان النية المعتبرة في التعبدي عبارة عن قصد الفعل بنحو
مقرب، ولا يتوقف الفعل الاختياري على ذلك.
مع أن لزوم كون الفعل اختياريا بالمعنى الذي يتوقف على النية أول
الكلام، بل مقتضى الاطلاق عدمه، كما كان مقتضى إطلاق أدلة الضمان
- مثلا - ترتبه على الاتلاف ولو لم يكن عن قصد.
فالأولى تقريب الاستدلال به في الحث على النية بلسان نفي
الموضوع ادعاء، لعدم ترتب أثره، وهو راجع إلى تقييد إطلاق موضوع الأثر
بالواجد للنية، نظير قولهم عليهم السلام: " لا صلاة إلا بطهور " (2) وحيث
كان ظاهر النصوص المذكورة إرادة قصد القربة من النية كان مقتضى
إطلاقها التعبدية في الواجبات.

(1) راجع الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات.
(2) راجع الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الوضوء.
462

لكنه يشكل: بأنه بعد تعذر حمله على الحقيقة فليس حمله على إناطة
الاجزاء بالنية الراجع لشرطيتها في متعلق الحكم الشرعي بأولى من حمله على
إناطة الثواب ونحوه بها، لان كلا منهما مورد لغرض مهم صالح لان يبين
ويصح نفي الحقيقة توسعا بلحاظه.
ودعوى: منافاة ذلك لما ذكروه من أن نفي الصحة أقرب إلى نفي
الحقيقة من نفي الكمال.
ممنوعة، للفرق بأن الكمال مرتبة زائدة على الصحة، وتعلق الغرض به
متفرع على تعلقه بها، فنفي الموضوع لأجله معها مبتن على تنزيل الموجود
منزلة المعدوم، وليس كذلك الثواب والاجزاء، بل هما أمران متباينان بينهما
عموم من وجه موردي يمكن تعلق الغرض بكل منهما بانفراده.
ومثلها دعوى: أن مقتضى الاطلاق العموم لكلا الامرين. لاندفاعها
بعدم الجامع بينهما عرفا، إذ لو أريد نفي الثواب كانت القضية ارتكازية،
ولو أريد نفي الاجزاء تعبدية محضة ترجع إلى تقييد إطلاقات التشريع
بالنية.
وبهذا يظهر أن الأول في نفسه، لان انس الذهن بالقضايا
الارتكازية يوجب انصراف الذهب إليها مع صلوح الكلام لها، فإرادة غيرها
يحتاج إلى قرينة صارفة، وبدونها يحمل الكلام عليها عرفا.
ولا سيما مع استلزام الثاني كثرة التخصيص بنحو ظاهر عند الخطاب
بالكلام، لان عدم العبادية في كثير من الأعمال في الجملة من الواضحات التي
لا تخفى بحال، خصوصا مع شمول إطلاقها للمستحبات، بل لموضوعات
الأحكام الوضعية التي يرغب المكلف في ترتبها بتحقيق موضوعاتها.
463

ومن ثمن كان ظاهر القضية آبيا عن التخصيص ارتكازا، لوضوح أن
الابي عنه هو المعنى الأول الارتكازي.
على أن هذا المعنى هو المتعين من قولهم عليهم السلام: " إنما الأعمال
بالنيات " و " لكل امرئ ما نوى ". لظهورها في اختلاف العمل باختلاف
النية، لا في نفي العمل عند عدمها، ليصلح للحمل على عدم الاجزاء بدونها.
ومن الغريب ما في الجواهر من الاستدلال بالنبوي: " إنما الأعمال
بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على
الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له
إلا ما نوى " (1)، مع صراحته في إرادة الثواب، ووروده في الجهاد الذي هو
توصلي.
رابعها: ما تضمن الامر بالإطاعة، بدعوى: أن الإطاعة لا تكون إلا
بقصد الامتثال، فيصلح لتقييد الاطلاق المقتضي للتوصلية.
وفيه: أن الظاهر من الإطاعة في المقام محض الموافقة في مقابل المخالفة،
فتكون الأوامر المذكورة للارشاد، كما يظهر من مقابلته بالمخالفة في مثل
قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتهم فإنما على رسولنا
البلاغ المبين) (2) ومن عطف الرسول وحده أو مع أولي الامر في كثير من
الآيات، مع وضوح عدم اعتبار قصد امتثال أمر غيره تعالى.
ويناسبه ظهور الأوامر المذكورة في مطلوبية الإطاعة استقلالا، لا في

(1) الوسائل ج 1، باب: 5 من أبواب مقدمة العبادات، حديث: 10.
(2) سورة التغابن: 12.
464

الارشاد لقيديتها في متعلق الأوامر الأخرى.
وظهور شمولها للنواهي مع عدم الاشكال في عدم اعتبار قصد الامتثال
فيها، ككثير من الأوامر.
والتزام خروجها تخصيصا - مع استلزامه تخصيص الأكثر - ليس بأولى
من حملها على المعنى الذي ذكرناه.
بل ما ذكرناه أولى بعد كونه ارتكازيا ينصرف الذهن إليه، نظير
ما ذكرناه في الوجه السابق، ولذا كانت آبية عن التخصيص ارتكازا.
وقد تحصل من جميع ما سبق: أنه لا قرينة عامة داخلية أو خارجية
مخرجة عن الاطلاق الذي ذكرناه المقتضي للتوصلية.
فلابد من العمل عليه إلا في الموارد التي يخرج عنه فيها بالأدلة الخاصة
المقتضية للتعبدية.
الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي، الذي هو المرجع مع عدم
الأصل اللفظي.
ولا ينبغي التأمل بناء على ما سبق من دخل القصد القربى في متعلق
الامر العبادي بنحو التقييد أو بنتيجة في كون المقام من صغريات مسألة
الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان التحقيق فيها جريان البراءة
من الامر المشكوك والاكتفاء في مقام الامتثال بالأقل الذي يعلم التكليف به.
وكذا بناء على وجوبه بأمر ثان، لان الامر الثاني لما كان متمما للجعل
الأول فالشك فيه شك فيما يعتبر في الواجب المستفاد من الامرين
معا.
كما أنه بناء على أن الفرق بين التعبدي والتوصلي في سنخ الامر
465

فلا يبعد البناء على عدم منجزية العلم الاجمالي بأحد التكليفين إلا للأثر
المشترك بينهما المتيقن في مقام العمل، وهو لزوم محض الموافقة، دون ما يمتاز
به التكليف التعبدي من لزوم التقرب به، فهو نظير ما لو علم إجمالا بوجوب
شئ أو استحبابه، حيث لا ينهض العلم المذكور لتنجيز خصوصية الوجوب
وما به امتيازه من لزوم الموافقة، بل تختص منجزيته بالأثر المشترك بينهما،
وهو حسن الموافقة.
وأما لو كان الفرق بينهما في الغرض للتكليف - كما جرى
عليه المحقق الخراساني (قدس سره) وسبقه إليه شيخنا الأعظم (قدس سره)
على اضطراب في كلامه أشرنا إليه عند الكلام في ظاهر الامر بناء على عدم
الرجوع للاطلاق - فقد ذكروا أنه لا مجال للرجوع للبراءة والبناء عملا على
التوصلية، حتى لو قيل بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
وما يظهر منهم في وجه الفرق بينهما: أن الشك هناك في تحديد
المكلف به، فقد يتجه دعوى الرجوع في عدم التكليف بالزائد للبراءة، لعدم
المنجز له، فيكون العقاب عليه بلا بيان، وللأدلة الشرعية المتضمنة عدم
المؤاخذة على ما لا يعلم، ويقتصر على الأقل لتنجزه بالعلم بالتكليف به على
كل حال.
أما هنا فحيث فرض عدم الشك في مقدار الواجب، لعدم دخل القصد
القربى فيه مطلقا وإن كان تعبديا، فلا موضوع معه للبراءة من التكليف
بالزائدة لا العقلية، ولا الشرعية لاختصاصهما بالشك في التكليف.
بل حيث كان الشك في المقام في سقوط التكليف المعلوم بدون القصد
المذكور، لاحتمال اعتباره في مقام الامتثال تبعا لدخله في الغرض لزم
466

الاحتياط به، لاحراز الفراغ عن التكليف المعلوم بحدوده.
لكن لا يخفى أن احتمال عدم سقوط التكليف لعدم حصول الغرض في
المقام لما كان متفرعا على احتمال دخل القصد القربى في الغرض وعلى لزوم
موافقة غرض المولى وتبعية التكليف لحصول غرضه، فهو يجري في
الشك في دخل شئ في المأمور به، الذي هو موضوع مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين، لما هو المعلوم من ملازمة احتمال دخل شئ في المأمور به
لاحتمال دخله في غرض الامر به، ومع فرض اختصاص أدلة البراءة في الشك
في التكليف فهي لا تقتضي إلا السعة من حيثية التكليف، لا من حيثية
الغرض، بل يرجع الشك من حيثية الغرض للشك في سقوط التكليف بدونه
بعين البيان المذكور هنا.
ومن هنا ذكرت شبهه الغرض وجها للاحتياط في مسألة الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين.
فلابد في البناء على البراءة من دفعها، وقد ذكر جملة من الوجوه لذلك
تنفع كلها أو جلها في المقام لو تمت.
وعمدتها - حسبما ذكرناه في محله - أن بيان تمام ما هو الدخيل في
الغرض من وظيفة المولى بعد فرض تصديه لحفظ غرضه بالتكليف، ولا يجب
حفظه على المكلف إلا من حيثية ما بين دخله فيه، دون غيره من الجهات،
فمع قصور بيانه عن دخل بعض الأمور فيه لا يتنجز وجوب حفظه من
حيثيته، كما لا يتنجز احتمال عدم امتثال التكليف لاحتمال دخل ما لم يبين
المولى دخله في متعلقه من الاجزاء والشرائط.
ومن الظاهر أن هذا الوجه يجري في المقام لأن المفروض تصدي المولى
467

لحفظ غرضه بالتكليف، وقصور بيانه عن إثبات دخل قصد التقرب فيه،
فلا يتنجز حفظ الغرض من حيثيته بعين البيان المتقدم.
ومن هنا كان الظاهر على جميع المباني البناء على البراءة عند احتمال
كون الواجب تعبديا، إما لان هذه المسألة من صغريات مسألة الدوران بين
الأقل والأكثر الارتباطيين - التي كان التحقيق فيها البراءة - أو لأنها نظيرها.
بل ربما كان جريان البراءة فيها أظهر منه في تلك المسألة، بناء على أن
الفرق بين التوصلي والتعبدي في سنخ الامر، لما تقدم.
وقد تحصل من جميع ما تقدم أن التحقيق كون خصوصية التعبدية
كسائر الخصوصيات المأخوذة في المتعلق، والتي يكون مقتضى الاطلاق نفيها،
ومقتضى الأصل البراءة منها.
وإنما أطلنا الكلام فيها لكثرة الشبهات التي أثيرت حول ذلك من
الأعيان والأكابر في العصور المتأخرة، والتي أوجبت تعقد هذه المسألة
وغموض الحال فيها واضطراب مبانيها.
ونأمل منه تعالى أن نكون قد وفقنا للخروج منها بالوجه المناسب.
وهو ولي العصمة والسداد، ولا حول ولا قوة إلا به.
بقي في المقام أمور
الأول: ذكرنا في الامر الثالث من مقدمات الكلام في هذه المسألة أنه
يكفي في التقرب قصد ملاك المحبوبية وإن لم يقصد امتثال الامر.
ولا إشكال في الاكتفاء بذلك في التعبدي لو كان الدليل المثبت لكونه
تعبديا ظاهرا في الاكتفاء بقصد التقرب، أما لو كان مجملا من هذه الجهة
468

فيتوقف الاكتفاء به على أن تكون التوصلية مقتضى الاطلاق أو الأصل، لأنها
إن كانت مقتضى الاطلاق كان دليل التعبدية مقيدا له، ومع دوران القيد بين
الأقل والأكثر يتعين الاكتفاء بالأقل، اقتصارا في الخروج عن الاطلاق على
المتيقن.
وكذا إذا كانت مقتضى الأصل، لمشاركته للاطلاق في لزوم الاقتصار
في الخروج عنه على المتيقن.
أما إذا كان مقتضى الدليل العام أو الخاص المثبت لكون الواجب تعبديا
هو اعتبار ما زاد على قصد التقرب فلابد من البناء عليه، كما أشرنا إليه عند
الكلام في الوجه الأول من وجوه الاستدلال على أصالة التعبدية.
كما أنه بناء على أن التعبدية مقتضى الأصل، لرجوع الشك فيها
للشك في سقوط التكليف والفراغ عنه، فاللازم مع عدم الدليل الخاص
أو العام على التوصلية الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل دخله مما زاد على قصد
التقرب، كقصد الامتثال وغيره.
ومنه يظهر الحال في قصد الوجه - الذي هو عبارة عن قصد الامر
بخصوصيته من الوجوب أو الاستحباب داعيا - والتمييز - الذي هو عبارة عن
قصد الفعل بعنوانه المنتزع من كونه متعلقا للوجوب أو الاستحباب
بخصوصيته، أو تمييز الاجزاء الواجبة أو المستحبة - فإنهما كقصد الامتثال
زائدان على قصد التقرب، فيدفعان بالاطلاق أو الأصل، بناء على ما سبق من
أنهما يقتضيان التوصلية.
ومثلهما الكلام في الاجتزاء بالامتثال الاحتمالي إذا أصاب الواقع
بالامتثال الاجمالي مع التكرار وبدونه، لأنه يكفي في التقرب بالفعل الاتيان به
469

لاحتمال كونه مطلوبا بنحو الشبهة البدوية أو المحصورة، فعدم الاجتزاء بذلك
لاعتبار أمر زائد على التقرب يحتاج إلى دليل مخرج عن مقتضى الاطلاق
والأصل.
وقد ذكرنا في الفصل الخامس من مباحث القطع الكلام في وجوه
الاستدلال على ذلك. فراجع.
الثاني: لا يخفى أن إشكال التعبدي والنقض والابرام فيه يختص بما إذا
كان الامر نفسه تعبديا بمعنى أنه قد اخذ في متعلقه التقرب به من حيثيته، إما
بقصد امتثاله أو بقصد ملاك المحبوبية المستكشف به أو نحوهما، أما لو كان
الامر توصليا وقد اعتبر التقرب في موضوعه ولو من غير جهته، أو اعتبر
التقرب به في موضوع حكم آخر فلا إشكال أصلا، بل هو كسائر القيود
غير المرتبة على الحكم المقيد والتي يمكن لحاظها في مرتبة سابقة عليه.
ومن ذلك عبادية الطهارات، لوضوح أن أمرها النفسي - وهو الامر
بالكون على الطهارة - توصلي لا يعتبر في امتثاله التقرب به فيها، بل هو
راجع إلى استحباب الكون على الطهارة بالمعنى الاسم المصدري، وإن كان
إحداث الطهارة بالمعنى المصدري بداعي أمر آخر غير الاستحباب المذكور.
وكذا الحال في مطلوبيتها الغيرية، سواء قيل بثبوت الامر الشرعي
الغيري، أم بعدمه وأن لزوم المقدمة عقلي لتوقف امتثال ذي المقدمة عليها،
ومقربيتها بلحاظ كونها شروعا في امتثاله - كما هو التحقيق - لما هو المعلوم
من أن مطلوبية المقدمة ليست تعبدية، فلا يعتبر في مقدمية المقدمة التقرب
بأمرها المقدمي، بل يكفي حصولها بأي وجه اتفق.
غاية الامر قيام الدليل على أن سببية أسباب الطهارات لها مشروطة
470

بإيقاعها بوجه عبادي، ومن الظاهر أن عبادية الطهارة لا تتفرع على سببية
أسبابها لها، لتتوجه شبهة امتناع تقييدها بها، على نحو ما سبق في التعبدي.
ومن هنا لو فرض الشك في معيار التعبدية المعتبرة وأنه يكفي محض
التقرب أو ما زاد عليه فالمتعين الاكتفاء بمحض التقرب اقتصارا في الخروج
عن إطلاق دليل سببية أسباب الطهارة لها على المتيقن.
ومن الظاهر أن يكفي في الجهة المصححة للتقرب العلم بالامر بالشئ
أو بمقدميته لما هو المأمور به، ولو كانا توصليين، كما يكفي في ذلك اعتقاد
أحد الامرين أو احتماله - بنحو يؤتى بالفعل لرجاء حصوله - وإن انكشف
خطأ الاعتقاد المذكور أو عدم مطابقة الاحتمال للواقع.
بل يكفي في ذلك التهيؤ لامتثال أمر غير فعلي بما يتوقف عليه يعلم
أو يتوقع فعليته بعد ذلك.
فيتجه صحة الطهارات في جميع ذلك، ولا ملزم بتوقفها على ثبوت
الامر واقعا وفعليته.
وبهذا يظهر الحال في كثير من الفروع المترتبة على اعتبار النية في
الطهارات، والتي تعرض لها الفقهاء في محالها المناسبة.
الثالث: ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن التوصلي قد يطلق ويراد
به، تارة: ما لا يعتبر صدوره عن قصد واختيار. وأخرى: ما سقط بفعل الغير
باستنابة أو تبرع. وثالثة: ما يسقط بالفرد المحرم.
وقد أطال الكلام في مقتضى الاطلاق والأصل لو شك في كون المأمور
به توصليا بأحد المعاني المذكورة وعدمه.
والذي ينبغي أن يقال: ظاهر الامر بفعل شئ لزوم صدوره عن
471

المأمور، بحيث يصح نسبته إليه، وإن لم يقصده بذاته، فضلا عن أن يقصده
بعنوانه الخاص الذي اخذ في متعلق الامر كعنوان الغسل.
ولذا كان إطلاق دليل ضمان المتلف للمثل أو القيمة والقاتل للدية
شاملا لمن يقع منه أحد الامرين من دون قصد إليهما.
نعم، لابد فيه من استناد الفعل إليه بحيث يستقل به ولو بفعل سببه
التوليدي الذي لا يحتاج معه إلى توسط فعل الغير، وبدون ذلك لا يصح نسبة
الفعل للشخص، فمن أوقع على شخص فقتل أو على مال فتلف لا يصح
نسبة القتل والاتلاف إليه، بل إلى موقعه.
ومنه يظهر أن مقتضى الظهور المذكور عدم الاجتزاء بفعل الغير مع
الاستنابة فضلا عن التبرع، بل لابد فيه من دليل عام أو خاص يقتضي بدلية
فعل المستناب والمتبرع عن فعل المكلف.
نعم، قد لا يكون ظاهر الدليل تكليف الشخص بفعل المأمور به، بل
بتحققه في الخارج بأي وجه اتفق، كما لو قيل: يجب عليك أن تكون أرض
الدار طاهرة يوم الجمعة، بناء على ما سبق في مبحث الواجب الكفائي من
إمكان التكليف بوجود الماهية في مقابل عدمها المطلق، من دون أن يقتضي
التكليف بخصوصية إيجادها.
وحينئذ يتجه الاكتفاء بفعل الغير مع عدم الاستنابة ولا التبرع، فضلا
عما إذا كان مع أحدهما.
بل الاكتفاء بحصول المكلف به في الخارج ولو من غير فاعل مختار،
كما لو طهر المطر في المثال المتقدم أرض الدار.
غايته أنه لا يكون المكلف معه ممتثلا ولا مشاركا في الامتثال، بل
472

يسقط التكليف عنه بحصول المكلف به وتحقق الغرض الداعي له.
ودعوى: أنه من باب سقوط التكليف بتعذر الامتثال، لارتفاع
موضوعه من دون حصول المكلف به، نظير تعذر إجراء أحكام الميت عليه
بتلفه. ولذا يكون خلاف الأصل للشك معه في المسقط، بل خلاف الاطلاق،
لان مقتضى الاطلاق بقاء التكليف وإمكان امتثاله ما دام المكلف به مقدورا.
مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في فرض عدم حصول الغرض وتعذر
تحصيله، ولذا يجب على المكلف المنع منه، لما فيه من التعجيز عن الامتثال،
كما في حرق الميت في المثال، لا في مفروض الكلام من حصول الغرض
المستلزم لحصول المكلف به، لتبعيته له، ولذا لا يجب المنع منه.
هذا، ولو فرض إجمال الدليل وعدم الاطلاق فحيث كانت خصوصية
المباشرة زائدة على الماهية كان الأصل عدم التكليف بها.
ودعوى: أن الشك في المقام حيث كان في سقوط التكليف فالمرجع
معه الاشتغال.
مدفوعة: باختصاص الاشتغال بما إذا كان الشك في السقوط للشك في
الامتثال مع تحديد المكلف به، دون مثل المقام مما كان الشك فيه للشك في
حدود المكلف به.
بل هو من صغريات مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، التي كان
التحقيق فيها البراءة.
وأصالة عدم سقوط التكليف بغير الامتثال، لا أصل لها، وإنما الأصل
عدم سقوطه مع عدم حصول المكلف به الذي يتنجز التكليف به، والمفروض
حصوله في المقام وإن لم يكن امتثالا، كما يظهر مما ذكرنا.
473

وأما السقوط بالفرد المحرم فهو موقوف على أن يكون الفرد المحرم
واجدا لملاك الوجوب، ولا يكون تحريمه مستلزما لخروجه عن إطلاق الواجب
رأسا، بل يكون واجدا لكلتا الجهتين المقتضيتين لكل من الوجوب والتحريم،
وإن فرض عدم فعلية وجوبه، لامتناع اجتماعه مع التحريم الفعلي، لان عدم
فعلية وجوبه لا تنافي إجزاءه بعد فرض واجديته للملاك.
والمعيار في إحراز حال الفرد، وأنه واجد للملاك أو لا موكول لمسألة
اجتماع الأمر والنهي، لأنه راجع لاحراز موضوعها، وقد ذكرناه في مبحث
التزاحم في مقدمات الكلام في تعارض الأدلة. ولا مجال للكلام فيه هنا مع
ذلك. والحمد لله رب العالمين. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
474

الفصل السابع
في أن متعلق الأمر والنهي هو الطبائع أو الافراد
قد اختلفت كلماتهم في تحرير محل النزاع في المقام، بنحو قد يظهر
منه عدم الاتفاق عليه في كلام المتنازعين وأن كل طرف يختار ما لا يدفعه
الاخر ويدفع ما لا يختاره.
ومن هنا كان المناسب التعرض لما ينبغي البناء عليه في ضمن أمور قد
يتضح بها الحال.
الأول: لا ريب في أن محط الاغراض والملاكات هو الوجود الخارجي،
دون الماهية بنفسها مع قطع النظر عنه، فلا يعقل تعلق الأمر والنهي بالماهية
من حيث هي. ولا يظن من أحد النزاع في ذلك.
نعم، قد يظهر من استدلال القائلين بتعلق الأمر والنهي بالافراد بأن
الطبيعة من حيث هي لا وجود لها في الخارج، منافاة القول بتعلقهما بالطبائع
لما ذكرنا.
لكن الظاهر أنه في غير محله، ولعله يبتني على الجمود على لفظ الطبيعة
ومقابلتها بالفرد.
كما أن الاستدلال المذكور قد يكشف عن كون مراد القائلين بتعلق
الامر بالافراد تعلقه بالطبيعة الخارجية الموجودة بوجود الفرد، في مقابل تعلقه
475

بالطبيعة من حيث هي، دون ما يأتي مما قد ينسب لهم، وهو يناسب
ما ذكرنا من عدم تحديد محل النزاع.
الثاني: قيام الغرض والملاك والمصالح والمفاسد بأفراد الماهية بنحو
يقتضي الأمر والنهي تارة: يكون لاستناد الغرض إلى خصوص ما به الاشتراك
بينها، ويكون ما به امتياز كل منها مقارنا لمورد الملاك غير دخيل فيه، كما
لو كان منشأ تعلق الغرض بإكرام العلماء بنحو البدلية أو الاستغراق مجرد
العلم المشترك بينهم، بحيث لو فرض - ولو محالا - تجرده عن كل خصوصية
لكفى في تعلق الغرض بالاكرام.
وأخرى: يكون لدخل ما به امتياز كل منها فيه بنحو البدلية، كما
لو كان كل من العلم والاحسان والكرم والشرف كافيا في تعلق الغرض
بإكرام من اتصف بها، وكان من في الدار بين عالم ومحسن وكريم وشريف،
فيتعلق الغرض بإكرام من فيها.
وحيث كان متعلق الأمر والنهي هو موضوع الغرض تعين في الصورة
الأولى تعلق الامر بالجهة المشتركة بين الافراد، دون خصوصياتها، وفي الثانية
تعلقه بالخصوصيات بنحو الاستغراق أو البدلية، وعدم الاكتفاء بالجهة
المشتركة - كالكون في الدار في المثال - بعد عدم وفائها بالغرض.
ولو كان الامر بدليا كان التخيير في الأولى عقليا، وفي الثانية شرعيا،
على ما ذكرناه في أول مبحث الواجب التخييري ضابطا في الفرق بين
التخييرين.
لكن يظهر من غير واحد أن مراد القائلين بتعلق الأمر والنهي بالافراد
دخل الخصوصيات الفردية في متعلقهما مطلقا حتى في الصورة الأولى.
476

وهو بعيد جدا، بل أنكره بعضهم أشد الانكار، قال بعض المحققين
(قدس سره): " جعل اللوازم الغير دخيلة في الغرض مقومة للمطلوب بعيد
جدا عن ساحة العلماء والعقلاء ".
ولعل منشأ النسبة إليهم الجمود على لفظ الافراد من دون ملاحظة بقية
كلماتهم، وقد سبق أن استدلالهم المتقدم يناسب كون مرادهم بذلك ما يقابل
تعلقهما بالطبيعة من حيث هي.
هذا كله في مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات فمن الظاهر أن جعل
الطبيعة متعلقا للامر والنهي ظاهر في الصورة الأولى، دون الثانية، لرجوع
الثانية إلى أن ذكر الطبيعة لمحض الإشارة بها للافراد، من دون أن تكون
بنفسها موردا للغرض، والحكم، وهو خلاف الظاهر جدا، بل خلاف
المقطوع به في غالب الموارد.
الثالث: لا يخفى أن قياما الوجودات الخارجية بلحاظ الجهة المشتركة
بينها بالملاكات من المصالح والمفاسد الموجبة لتعلق الغرض بتحقيقها أو بتركها
هو الموجب لتعلق الأمر والنهي بتلك الجهة المعبر عنها بالماهية الخارجية، بمعنى
أن الحاكم يلحظ تلك الجهة بما لها من حدود مفهومية ويجعلها موضوعا
لامره ونهيه، وحيث كان مقتضى الامر تحقيق متعلقه في الخارج ومقتضى
النهي تركه كان الامر داعيا للوجود الخارجي بلحاظ واجديته للجهة
المشتركة، والنهي داعيا لتركه بلحاظ ذلك.
وحينئذ فبلحاظ تعلق الأمر والنهي بالجهة المشتركة يتجه دعوى
تعلقهما بالطبيعة، وبلحاظ داعويتهما لتحقيق الوجود الخارجي أو لتركه يتجه
دعوى تعلقهما بالافراد.
477

ولم يتحصل لنا بعد النظر في كلماتهم وجود مخالف في ذلك، كما
لم يتضح لنا وجود نزاع جوهري يصح الكلام فيه في هذه المسألة زائد على
ما بينا، بل يقرب كون النزاع المذكور فيها شبيها بالنزاع اللفظي ناشئا عن
عدم تحديد محل النزاع.
نعم، ربما يكون النزاع فيها مبتنيا على بعض مباحث المعقول، كما
يظهر من بعض المحققين (قدس سره) حيث ذكر: أنه إما أن يبتني على النزاع
في إمكان وجود الكلي الطبيعي في الخارج وامتناعه، فمن يقول بإمكانه يقول
بإمكان تعلق الأمر والنهي بالماهية. للقدرة عليها، ومن يقول بامتناعه يقول
بتعلقهما بالافراد، لأنها المقدورة، دون الماهية.
أو على النزاع في أصالة الماهية أو الوجود، فمن يقول بالأول يقول
بتعلق التكليف بالماهية، ومن يقول بالثاني يقول بتعلقهما بالافراد.
وحيث لا يسعنا الكلام في تحقيق أحد الامرين، بل لا يبعد عدم رجوع
النزاع فيهما إلى محصل، فلا مجال لإطالة الكلام في هذه المسألة بأكثر مما
ذكرنا.
الرابع: لا يخفى أن تعلق التكليف بمتعلقه ليس على حد تعلق سائر
الاعراض بمتعلقها، لوضوع أن العرض الخارجي لا يقوم إلا بمعروضه
الخارجي، ويمتع فعليته مع عدم فعليته، أما التكليف فوجود متعلقه موجب
لسقوطه بالامتثال أو العصيان، ولا يكون فعليا إلا في رف عدم وجوده.
بل هو يتعلق بمتعلقه بما له من حدود مفهومية، كما سبق - من دون أن
يكون موجودا في الخارج، لكن بنحو يدعو إلى إيجاده أو إلى تركه. فإضافته
إليه نظير إضافة التناقض للنقيضين والتضاد للضدين.
478

ويشاركه في ذلك من الأحكام الوضعية الملكية المتعلقة بالكليات من
الأعمال والأعيان، دون المتعلقة بالأمور الشخصية ودون بقية الأحكام الوضعية.
ومنه يظهر أنه لا موقع للاشكال في تعلق الطلب بالوجود بأنه إن كان
سابقا على المطلوب لزم وجود العرض دون معروضه، وإن كان متأخرا عنه
لزم طلب الحاصل، إذ يفي ما ذكرناه ببيان الحال، ولا ينبغي معه إطالة الكلام
فيما ذكره بعضهم في دفعه.
479

الفصل الثامن
في أن نسخ الوجوب أو التحريم هل يقتضي
بقاء جواز الفعل أو الترك
قد وقع الكلام بينهم في أنه مع نسخ الوجوب هل يبنى على بقاء
الجواز بالمعنى الأعم، الراجع لعدم التحريم، أو الأخص الذي هو عبارة عن
الإباحة التي هي أحد الأحكام الخمسة. ويجري نظير ذلك في نسخ التحريم
بالإضافة إلى بقاء جواز الترك.
وحيث لا يكثر الابتلاء بهذه المسألة فالمناسب إيجاز الكلام فيها
بالاقتصار على بيان ما تقتضيه القاعدة على مبانينا في حقيقة الحكمين
المذكورين من أنهما بسيطان منتزعان من الخطاب بداعي جعل السبيل،
لا مركبان من الاذن في الفعل أو الترك والمنع من النقيض ولا أن الاذن المذكور
من مراتبهما.
فنقول: حيث كانت الأحكام الخمسة متباينة في أنفسها احتاج كل
منها لجعل مستقل، ومن الظاهر أن رفع كل من الوجوب والتحريم إنما
يستلزم جعل غيره من الاحكام ولو كان هو الحكم الاخر منهما، لا خصوص
أحد الأحكام الثلاثة الباقية المستلزمة للجواز بالمعنى الأعم، فضلا عن
خصوص الجواز بالمعنى الأخص الذي هو الإباحة.
481

ودعوى: أن جواز الفعل لما كان لازما أعم للوجوب وجواز الترك
لازما أعم للتحريم، ونسخ الحكم لا يستلزم نسخ لازمه الأعم كان مقتضى
الأصل بقاء اللازم المذكور وعدن نسخه.
مدفوعة: بأن الوجوب والتحريم لا يستلزمان جواز الفعل وجواز ا لترك
على أنهما حكمان شرعيان، لتجري أصالة عدم النسخ فيهما، لوضوح
انحصار الاحكام في الخمسة، بل على أنهما حكمان عقليان، كما أنهما
يستلزمان ثبوت ملاكيهما، وكلاهما ليس موضوعا لأصالة عدم النسخ.
نعم، لو حكم شرعا بجواز الفعل قبل جعل الوجوب، وبجواز الترك قبل
جعل التحريم، لا يكون جعل الوجوب مستلزما لارتفاع الأول،
ولا جعل التحريم مستلزم لارتفاع الثاني، لعدم التنافي بينهما عرفا، أمكن
الرجوع فيهما لأصالة عدم النسخ بعد نسخ الوجوب والتحريم.
وهذا بخلاف ما إذا ورد الخطاب بهما بعد جعل الوجوب أو التحريم،
لأنه حيث يلغو جعلهما معهما لزم حمل الخطاب بهما على محض بيان اللازم
العقلي للحكم المجعول، أو على بيان عدم جعل التحريم، وكلاهما ليس
موضوعا لأصالة عدم النسخ. فتأمل.
وحينئذ يكون المرجع هو الأصل المقتضي للبراءة، ولو لاستصحاب عدم
التحريم مع نسخ الوجوب، وعدم الوجوب مع نسخ التحريم، بناء على
جريانه في مورد البراءة، على ما ذكرناه في مبحث أصل البراءة.
ولا مجال لمعارضته باستصحاب عدم كل من الاستحباب والإباحة
والكراهة.
482

لأنه لا يستلزم التحريم شرعا، بل عقلا بضميمة العلم بانتفاء الوجوب
وليس الأصل حجة في اللازم غير الشرعي لمؤداه.
483

الفصل التاسع
في الامر بالامر
قد وقع الكلام في أن الامر بالامر بشئ هل يكون أمرا بذلك الشئ
في حق المأمور الثاني أو لا؟
ويجري نظيره في الامر بالنهي عن الشئ، وأنه هل يقتضي النهي عنه
من قبل الامر في حق المنهي أو لا؟
ولا وجه لتخصيص الكلام بالأول إلا ذكره في مبحث الأوامر.
وحيث كان مبنى الكلام فيهما فيهما واحدا فلنجر في تحريره على ما جروا
عليه من الكلام في الامر بالامر، لأنه أيسر بيانا، وبه يتضح الحال في الامر
بالنهي.
وينبغي الكلام في صور ذلك ثبوتا، ثم فيما هو الظاهر منها في ضمن
مقامين:
المقام الأول: إذا أمر زيد عمرا بأن يأمر بكرا بالسفر فهو يقع على
وجوه...
الأول: أن يكون أمرا نفسيا حقيقيا ناشئا عن ملاك مستقل به من دون
ملاك يقتضي أمر زيد لبكر بالسفر حتى بعد أمر عمرو له، ولا يكون سفره
موردا لغرضه أصلا، كما لو أراد استكشاف حال بكر وأنه يطيع
485

عمرا أولا.
وعليه يكون الامر من عمرو لبيان مراده، دون مراد زيد، وتكون
إطاعة بكر أو معصيته له لا لزيد.
كما لا أثر لهذا الامر في حق بكر، بل إن كان من شأنه أن يطيع عمرا
أطاعه وإن لم يأمر زيد عمرا بأمره، وإلا لم يطعه وإن أمره زيد بذلك.
الثاني: أن يكون أمرا نفسيا حقيقيا من دون أن يكون مستقلا بالملاك،
بل لتوقف ترتب الملاك المقتضي لأمر زيد بكرا بالسفر على أمر عمرو به له،
فهو راجع في الحقيقة إلى أمر زيد بكرا بالسفر المترتب على أمر عمرو به له،
إلا أنه حيث كان الترتب المذكور موقوفا على تحقق الامر به من عمرو أمر
عمرا بتحقيق ذلك، فهو نظير أمر شخص بتهيئة شرط ما يجب على غيره.
لكن هذا موقوف على وجوب إطاعة عمرو على بكر من قبل زيد،
نظير وجوب إطاعة المولى على العبد شرعا، وإلا لم يمكن التوصل بأمر عمرو
للغرض المذكور، بل يكون كالوجه الخامس.
وعليه يكون أمر عمرو بكرا بالسفر محققا لموضوع أمر زيد له به،
فيكون شرط الواجب والوجوب معا، ويكون السفر من بكر بعد أمر عمرو
له به إطاعة لزيد وعمرو وتركه معصية لهما معا.
كما أنه لو علم بكر بصدور الامر بالامر من زيد ولم يأمره عمرو
بالسفر لم يجب عليه السفر، لا من جهة زيد، لعدم تحقق موضوع أمره،
ولا من جهة عمرو، لعدم صدور الامر منه.
الثالث: أن يكون طريقيا يراد به محض التبليغ وإيصال تكليف زيد
لبكر بالسفر من طريق الامر المذكور، مع تمامية الملاك في السفر المقتضي لأمر
486

زيد بكرا به مطلقا من دون تعليق للتكليف ولا تقييد للمكلف به، نظير أمر
الله سبحانه الرسل بأمر أممهم بما شرعه تعالى عليهم.
وعليه لا يكون الامر من عمرو لبيان مراده، بل لبيان مراد زيد،
فلا تكون إطاعة بكر ومعصيته له بل لزيد، عكس الوجه الأول.
كما أنه لو علم بكر بصدور الامر المذكور من زيد كان موضوعا
لاطاعته ولو لم يأمره عمرو.
الرابع: أن يكون طريقيا لتحصيل إطاعة بكر للامر بالسفر من زيد في
فرض ثبوته في حقه وعدم قيامه بامتثاله، لتأكيد داعي الامتثال كما في باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهو يشارك الوجه الثاني في كون الإطاعة والمعصية لزيد وعمرو معا،
ويفارقه في عدم توقف لزوم الإطاعة - من حيثية أمر زيد - على صدور الامر
من عمر، لفرض ثبوت التكليف في حقه، وأن أثر أمر عمرو تأكيد داعي
الامتثال، لا تحقيق موضوعه، كما في الوجه الثاني.
الخامس: أن يكون طريقيا لتحصيل السفر من بكر من دون أن يكلف
به من قبل زيد مطلقا حتى بعد أمر عمرو له به، لمانع من تكليف زيد له به،
من إحلال أو احتقار أو غيرهما مما يمنع من فعلية ملاك التكليف في حقه، بل
يختص الامر بالسفر بعمرو وتكون الإطاعة له لا لزيد.
وبهذا يفارق الوجوه الثلاثة الأخيرة ويشارك الوجه الأول.
لكن يفارقه في كون تحقق السفر من بكر هو الغرض الأقصى من
الامر، على خلاف ما ذكرناه في الوجه الأول.
ومن هنا يفترقان في أن حصول السفر من بكر من دون أمر عمرو به
487

في الأول مفوت لملاك أمر عمرو بالامر به بعد تعذر امتثاله معه، بخلافه في
الثاني، حيث يستلزم سقوط الامر بحصول غرضه، وإن لم يمتثل.
هذا وقد اقتصر المحقق الخراساني (قدس سره) على الوجوه الثلاثة
الأول، كما اقتصر بعض الأعاظم (قدس سره) على الأول والثالث ولم يشيرا
للأخيرين، بل لم أعثر عاجلا على من أشار إليهما في المقام، مع شيوعهما
وأهميتهما.
وربما كان هناك بعض الوجوه الاخر لا مجال لإطالة الكلام فيها، وقد
يظهر الحال فيها مما ذكرنا في هذه الوجوه.
المقام الثاني: حيث ظهر اختلاف وجوه الامر بالامر ثبوتا ودورانه بين
الوجوه الخمسة فالظاهر أن الوجه الأول بعيد عن نفسه ومخالف لظاهر إطلاق
الامر، لان ارتكاز اقتضاء الامر لتحصيل متعلقه موجب لظهور الامر به في
تعلق الغرض بمتعلقه الذي هو كالمعلول له، كسائر موارد الامر بالعلة، كما
لا يبعد ذلك في الوجه الثاني أيضا، لان استبعاد تقييد المطلوب بخصوصية علة
له، بحيث لا يراد منه إلا ما يصدر عنها يوجب انصراف إطلاق الامر عنه
وظهوره في تعلق الغرض بالمعلول من حيث هو ولو صدر بتوسط غير تلك
العلة.
مع أن توقفه على فرض تكليف الامر الأول للمأمور الثاني بإطاعة
الامر الثاني يوجب عدم الأثر المهم لاحتماله، إذ مع عدم ثبوت تكليفه
بذلك لا موضوع لها الوجه، ومع ثبوته لابد له من إطاعة الامر الثاني
- كعمرو في المثال - إذا أمره.
نعم، يظهر الأثر لو لم يأمره الثاني، حيث لا يجب عليه الاتيان بالفعل
488

على هذا الوجه والوجه الخامس، ويجب على الوجه الثالث والرابع. وهو ليس
بمهم، فيتردد الامر بين الوجوه الباقية.
وقد ذهب غير واحد إلى ظهور الامر في الثالث.
قال سيدنا الأعظم (قدس سره): " الظاهر ثبوت القرينة النوعية على
كون الامر بالامر من قبيل الامر بالتبليغ الملحوظ فيه التبليغ طريقا، وليس
جاريا مجرى الأوامر في كون الغرض في متعلقاتها ".
ولعله ناشئ من عن عدم تعرضهم للوجهين الأخيرين، حيث يتعين الثالث
بعد ما سبق وأشير إليه في كلماتهم من بعد الوجهين الأولين.
وإلا فهو غير ظاهر إلا في ظرف كون وظيفة المأمور بالامر التبليغ عن
الامر الأول، كما في الأنبياء والأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم، حيث
ينصرف أمره والامر منه إلى إعمال وظيفته.
وأما في غيره فلا يتضح وجه ظهور الامر في إرادة التبليغ، بل هو
مخالف لظاهره لغة وعرفا.
ولذا يفهم منه لزوم قيام المأمور به بوظيفة الامر الذي يدعو لتحصيل
مطلوبه من ترغيب أو ترهيب أو نحوهما مما يحقق في نفس المأمور داعي
الامتثال، ولا يكتفي بمجرد التبليغ.
ومن هنا كان الظاهر تردد الامر المذكور بين الوجهين الأخيرين.
وحيث كان الوجه الرابع مبتنيا على تكليف الامر الأول للمأمور الثاني
بالفعل احتاج إلى قرينة ومؤنة بيان، وبدون ذلك يتعين الوجه الخامس، لأنه
مقتضى الأصل.
وأولى بذلك ما لو كانت هناك قرينة على عدم كونه بصدد تكليفه،
489

فضلا عما لو علم بذلك.
ثم إنه ذكر غير واحد أن ثمرة النزاع المذكور تظهر في عبادات الصبي،
وأنه بناء عليث الوجه الثالث - الذي عرفت من غير واحد دعوى ظهور الامر
بالامر فيه - يمكن استفادة شرعيتها من قوله عليه السلام: " فمروا صبيانكم
بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين " (1) وقوله عليه السلام: " فمروا صبيانكم إذا
كانوا بني تسع سنين بالصوم ما أطاقوا من صيام " (2) وغيرهما مما ورد في أمر
الولي للصبي بالعبادات.
ولابد لأجله من حمل حديث رفع القلم على رفع الالزام مع ثبوت
أصل المشروعية، وهذا بخلاف ما لو بني على الوجه الأول، حيث يكون
الصبي مأمورا بها من قبل الولي دون الشارع.
وفيه: أنه لو بني على ذلك فمقتضى الجمع العرفي حينئذ تخصيص عموم
حديث رفع القلم بأدلة الأوامر المذكورة، لأنها أخص مطلقا، حيث تختص
بالصلاة والصيام، ويعم حديث الرفع جميع التكاليف، ولا وجه معه للجمع
برفع اليد عن ظهور هذه الأوامر في الالزام.
خصوصا مع قوة ظهور بعضها وصراحة بعضها في الالزام، حيث
تضمن أنهم يؤخذون بذلك ويجبرون عليه ويضربون (3)، إذ لو كان ذلك

(1) الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، حديث: 5.
(2) الوسائل ج 7، باب: 29 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 3.
(3) راجع الوسائل ج 3، باب: 3 من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، و ج 3، باب: 29 من
أبواب من يصح منه الصوم.
490

طريقيا مبتنيا على محض تبليغ الحكم الشرعي فلا معنى لابتنائه على الالزام مع
عدم كون الحكم الشرعي إلزاميا.
مع أنه لا يظن بأحد كما لم يعرف من الأصحاب البناء على ذلك
أو فهمه من الأدلة.
ولا منشأ لذلك إلا أن المستفاد من الأوامر المذكورة بحسب المرتكزات
ليس هو الوجه الثالث، لظهورها بل صراحة بعضها في عدم إرادة محض
التبليغ، بل الامر الحقيقي المبتني على الترغيب والترهيب، الذي هو اللازم في
الوجه الرابع والخامس، وحيث كانت المفروغية عن عدم تكليف الصبي
بضميمة ظهور وصراحة نصوص الأوامر المذكورة في إرادة إلزام الولي للصبي
تمنع من الوجه الرابع فيتعين الوجه الخامس.
كما هو المتعين فيما تضمنته النصوص أو قام عليه الاجماع واقتضته
المرتكزات من لزوم منعه وتعزيره على بعض المستنكرات كالزنا واللواط
وشرب الخمر وقتل النفس المحترمة وغيرها.
فهو نظير ما تضمن الامر بمنع الصبيان والمجانين عن دخول المسجد
لا يكون المراد به إلا تجنب ذلك من دون خطاب لهم بحرمته أو بكراهته.
نعم، يمكن مشروعية العبادات من الأوامر المذكورة لا من جهة
ما ذكروه، بل من جهة ظهور نسبة العبادات المذكورة للصبيان في أنهم
يؤمرون بها على ما هي عليه بحقائقها المعهودة المستلزم للقدرة عليها كذلك،
لا أن المأمور به صورها لمحض التمرين، وحينئذ يلزم مشروعيتها، لتعذر
التقرب بها بدونها.
ولا يفرق في ذلك بين جميع الوجوه المتقدمة للامر بالامر.
491

هذا، مضافا إلى أنه إذا بني على تنزيل حديث الرفع على مجرد رفع
الالزام إما لأنه الظاهر فيه - كما هو التحقيق - أو للجمع بين الأدلة أمكن
إثبات مشروعية عبادات الصبي بإطلاق أدلة تشريعها، حيث يكون مقتضى
الجمع بينها وبين الحديث المذكور البناء في حق الصبي على أصل المشروعية.
تمام الكلام في محله.
492

الفصل العاشر
في الامر بعد الامر
ذكرنا غير مرة أن التكليف نحو من الإضافة القائمة بين المكلف
والمكلف والمكلف به، وحيث كانت وحدة الإضافة تابعة لوحدة أطرافها،
والمفروض وحدة المكلف والمكلف فلابد في تعدد التكليف من تعدد المكلف
به، ومع وحدة المكلف به من جميع الجهات يتعين وحدة التكليف وحينئذ
نقول:
إذا ورد الامر بالماهية الواحدة مرتين - مثال - فالامر مردد ثبوتا بين
وجوه ثلاثة:
الأول: أن يراد بهما بيان تكليف واحد تابع لموضوع واحد، وتكرار
البيان للتأكيد أو غيره مما يأتي من دون أن يكشف عن تأكد في التكليف
المبين لغرض وحدة موضوعه.
الثاني: أن يراد بهما معا بيان تكليف واحد تابع لموضوعين كل منهما
صالح لترتبه عليه، فيراد بكل منهما بيان تحقق التكليف من حيثية موضوع
خاص مباين للموضوع الذي بين بالآخر تحقق ذلك التكليف من حيثيته.
فيلزمه تأكد التكليف المبين تبعا لتعدد المقتضي له، من دون تأكيد في البيان،
لفرض عدم اشتراك البيانين في مبين واحد.
493

الثالث: أن يراد بكل منهما بيان تكليف مستقل تابع لموضوعه مباين
للتكليف المبين بالآخر.
وحيث سبق استلزام تعدد التكليف لتعدد المكلف به، فلابد من كون
متعلق كل منهما مباينا لمتعلق الاخر وإن كانا تحت ماهية واحدة، بأن يراد
من كل منهما فرد منها مباين للفرد المراد من الاخر، في مقابل الاكتفاء
بصرف الوجود.
ومرجع الثالث إلى عدم تداخل التكليفين في مقام الامتثال، والثاني إلى
التداخل فيه، لا بمعنى تداخل التكليفين فيه، لفرض وحدة التكليف، بل بمعنى
التداخل مع تعدد الموضوع، إذ لا يراد بالتداخل إلا ذلك على ما يتضح في
محله من مبحث مفهوم الشرط.
أما في الأول فلا موضوع لمسألة التداخل لفرض وحدة التكليف تبعا
لوحدة موضوعه، فليس له إلا امتثال واحد.
إذا عرفت هذا، فمقتضى إطلاق متعلق التكليف في كل من الخطابين
هو الاكتفاء بصرف الوجود المستلزم لوحدة التكليف مع تعدد موضوعه
المقتضي له أو وحدته، فيتردد الامر بين الوجهين الأولين.
بل في فرض اتحاد موضوع الامر في الخطابين - كما لو ورد مرتين: من
ظاهر فليكفر - يتعين الوجه الأول، لتوقف الوجه الثاني معه على عدم كون
الموضوع المذكور موضوعا للحكم في أحدهما أو في كليهما، بل هو مقارن
له، فيكن فرض ثبوت الحكم من جهتين معه، وهو خلاف الظاهر.
وكذا الحال لو كان الامر فعليا لفعلية موضوعه - كما قال مرتين
لشخص مظاهر: كفر - في فرض عدم غفلة الامر - كالشارع الأقدس - حيث
494

يبعد جدا إرادته بيان التكليف من حيثية أحد الموضوعين دون الاخر في كل
خطاب لو كان الموضوع متعددا.
بل حيث يكون الموضوع في مثل ذلك جهة تعليلية غير مقصودة
بالبيان، لا يكون المقصود بالبيان إلا ثبوت الحكم فعلا، فيكون المبين بالبيانين
واحدا كما في الوجه الأول وإن كان الداعي للبيان متعددا.
ودعوى: أن التأكيد في البيان خلاف الأصل، بل الأصل فيه التأسيس
وتعدد المبين إما لتعدد التكليف أو لتعدد الجهة الموجبة له مع وحدته، وحيث
يأتي في مبحث مفهوم الشرط أن الثاني خلاف الأصل، وأن الأصل عدم
التداخل تعين البناء على تعدد التكليف، كما هو مقتضى الوجه الثالث.
مدفوعة: أولا: بأن أصالة التأسيس ليست بنحو تنهض برفع اليد عما
ذكرنا.
وثانيا: بأن تكرار البيان في الوجه الأول قد لا يكون للتأكيد، بل لغفلة
الامر - لو أمكن في حقه الغفلة - أو المأمور أو جهل أحدهما بالامر الأول،
كما قد يكون لاختلاف مقام البيان لتعدد المناسبة المقتضية له، كما لو أمر
بالسجود عند قراءة آية العزيمة في مقام بيان أحكام ذلك، لاختصاص التأكيد
بالبيان اللاحق المبتني على البيان السابق، دون ما لا يبتني عليه، ومن الظاهر
أنه لا أصل ينفي ذلك، ليخرج به عما ذكرنا.
وثالثا: أن منشأ البناء على أصالة عدم التداخل - كما يأتي إن شاء الله
تعالى - هو ظهور دليل كل أمر في أن الموضوع الذي تضمنه سبب مستقل
لتكليف مستقل، وبذلك يخرج عن إطلاق المتعلق الذي سبقت الإشارة إليه،
495

فمع فرض وحدة الموضوع، أو عدم ذكره - وفعلية الامر، لا منشأ للبناء على
عدم التداخل، ليخرج به عن إطلاق المتعلق للاجتزاء بصرف
الوجود.
نعم، لو كان ظاهر الخطاب تعدد الجهة الموجبة للامر، بأن اختلف
موضوعه أو شرطه - كما في مثل: إن أفطرت فكفر، وإن ظاهرت فكفر -
فلا مجال للوجه الأول، لظهور كل منهما في بيان الامر من حيثية الشرط
أو الموضوع المذكور فيه، فالتعدد في المبين مع انفراد كل بيان بمبين واحد.
بل يتردد الامر بين الوجهين الآخرين.
ويأتي في مبحث مفهوم الشرط إن شاء الله تعالى أن البناء في مثل ذلك
على الوجه الثالث إلي هو مرجع أصالة عدم التداخل.
هذا، وأما النهي بعد النهي فلا مجال فيه للوجه الثالث، لفرض كونه
استغراقيا يقتضي ترك تمام الافراد سواء اتحدت أمت عدد، بل يتردد الامر فيه بين
الوجهين الأولين، ولا أثر للتردد المذكور عملا، على أنه مما سبق يتضح لزوم
حمله على الثاني مع تعدد الموضوع أو الشرط وعلى الأول بدون ذلك،
خصوصا مع اتحاد الموضوع أو الشرط. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم
العاصم.
وبهذا انتهى ما أردنا إيراده في مباحث الأوامر والنواهي، فإنه وإن ذكر
جماعة من الأصحاب مسائل الاجزاء مقدمة الواجب والضد في مباحث
الأوامر، ومسألتي اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي الفساد في مباحث
النواهي، إلا أنه حيث كان منهجنا الاقتصار على المباحث اللفظية فلا مجال
لبحث هذه المسائل هنا، بل توكل لمباحث الملازمات العقلية لابتناء عمدة
496

الكلام فيها عليها.
ولو كان فيها بعض الجهات المتعلقة بالألفاظ يشار إليها هناك تبعا،
لا بنحو يقتضي ذكرها في مباحث الألفاظ، والله سبحانه ولي التوفيق.
وكان الفراغ منه ضحى الجمعة، الثلاثين من شهر ربيع الأول،
سنة: (1401 ه‍)، وانتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأربعاء، الخامس من شهر
ربيع الثاني من السنة المذكورة. والحمد لله رب العالمين.
497

المقصد الثالث
في المفاهيم
499

المقصد الثالث
في المفاهيم
تمهيد فيه أمور
الأول: من الظاهر أن المنطوق لغة يختص باللفظ المؤدى بآلة النطق،
والمفهوم بالمعنى المدرك بقوة الفهم، وليس كل منهما بالمعنى المذكور موردا
للكلام في المقام، وإنما يراد بمحل الكلام مصطلح خاص لكل من العنوانين
يختص بالجمل المتضمنة لحكم خبري أو إنشائي.
وهما متقابلان في الكلام الواحد، فالكلام الذي له مفهوم له منطوق،
وغيره لا منطوق له ولا مفهوم بهذا المصطلح، وإن كان الحكم الذي تضمنه
مفاد بالجملة المنطوقة.
ويستفاد من غير واحد أن المنطوق هو الحكم الذي تضمنته القضية
بما لها من مدلول مطابقي، والمفهوم هو الحكم الذي لم يذكر، وإنما استفيد
بالملازمة من خصوصية قد تضمنتها، فمنطوق قولنا: إنما زيد قائم، ثبوت
القيام لزيد الذي هو مدلوله المطابقي، ومفهومه عدم قيام غيره الملازم للحصر
الذي تضمنه بسبب اشتماله على أداة (إنما).
لكن الظاهر أن الخصوصية التي تستلزم المفهوم لا يلزم أن تتضمنها
القضية، بل يكفي استفادتها منها بدلالة الاقتضاء أو غيرها، فمفهوم الوصف
501

- مثلا لو قيل به - يبتني على أن ذكر الوصف قيدا في موضوع الحكم يفيد
عليته للحكم أو إناطته به، المستلزمين لانتفائه بانتفائه، مع أنه لا يصرح في
القضية بالعلية والإناطة المذكورتين، ولا تدل عليها أداة أو هيئة في الكلام، بل
يستفادان عرفا منها.
كما لا يعتبر في المنطوق أن يكون مدلولا مطابقيا لها، فإن منطوق
بعض الجمل وإن كان كذلك كالمنطوق في الجملة الوصفية وذات مفهوم
الموافقة، إلا أنه لا يطرد في جميعها، بل قد يكون لازما لمفاد القضية، مثلا
منطوق القضية الشرطية ثبوت الجزاء حال ثبوت الشرط - إلي هو مفاد
قضية حملية مقيدة بحال ثبوته - وهو ملازم لمفاد الشرطية بسبب تضمها إناطة
الجزاء بالشرط، لا عينها.
وأما التعبير عنه في جملة من كلماتهم بنفس الشرطية فهو مبني على نحو
من التسامح، وتجريد الشرطية المنطوقة عن خصوصية الإناطة، لما هو المعلوم
من تباين المنطوق والمفهوم وعدم تضمن الأول للثاني، وإن استفيدا معا
من الشرطية.
ومثله في ذلك منطوق جملة الاستثناء، فإنه عبارة عن ثبوت الحكم
لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه الذي يعبر عنه بلسان التقييد، وليس هو
مدلولا مطابقيا للجملة، بل لازما لها، لوضوح التباين بين مفاد التقييد
والاستثناء مفهوما.
ومن هنا فالظاهر أن اختلاف المنطوق والمفهوم اصطلاحا ليس بلحاظ
كون الأول مذكورا في القضية، والثاني ملازما للخصوصية المذكورة فيها،
بل بلحاظ كيفية استفادتهما من القضية، لكن لا بلحاظ خصوص مضمونها
502

اللفظي المطابقي، بل ما يعم مضمونها العرفي التابع للملازمة الذهنية العرفية
أو نحوها، وإن لم يكن لازما حقيقيا.
فالمنطوق هو الأقرب عرفا لمضمونها من المفهوم، إما لأنه المدلول
المطابقي لها، كمنطوق القضية بالإضافة إلى مفهوم الموافقة والوصف، أو لأنه
الأقرب لمدلولها المطابقي، كمنطوق القضية الشرطية بالإضافة إلى مفهومها.
على أنه لم يتضح بعد عموم ذلك واطراده في كل ما هو الأقرب
للمضمون والأبعد، ليصح تعريف المنطوق والمفهوم بذلك، وإنما المتيقن
أن ذلك قدر جامع بين جميع الموارد التي أطلق فيها المفهوم مقابل المنطوق،
ووقع الكلام فيها في مباحث المفاهيم.
الثاني: حيث كان مقصد المفاهيم من مباحث الألفاظ، وتقدم في
التمهيد للدخول في هذا العلم أن المبحوث عنه فيها تشخيص الظهورات
النوعية فالبحث في المقام إنما يكون عن ظهور الكلام في المفهوم لا عن حجيته
بعد فرض الظهور فيه، فإنه من صغريات البحث عن حجية الظهور الذي
يأتي في القسم الثاني من هذا العلم.
وما في جملة من الكلمات من التعبير عن مسائل هذا المقصد بمسألة
حجية مفهوم الوصف أو الشرط أو نحوهما إنما يراد به ذلك، كما يظهر
بأدنى تأمل في كيفية تحريرهم الكلام في تلك المسائل.
الثالث: قسموا المفهوم إلى قسمين:
أولهما: مفهوم الموافقة، وهو الذي يطابق المنطوق في الايجاب والسلب.
ثانيهما: مفهوم المخالفة، وهو الذي يخالفه فيهما.
وذكروا في الأول مفهوم الأولوية العرفية، والمعيار فيه أن يستفاد عرفا
503

من الخطاب بالحكم في الأدنى ثبوته في الأقوى أو العكس بسبب إدراك
العرف جهة الحكم من نفس الخطاب به، نظير: دلالة تحليل وطء الجارية على
تحليل ما دونه من الاستمتاع كالتقبيل، وإن فرض غفلة المتكلم عنه حين
التحليل، حيث يفهم العرف أن الجهة الموجبة لتحليله الاهتمام بمتعة المحلل له
وإشباع رغبته، ورفع الحرج لأجل ذلك عن الأهم تستلزم عرفا ورفعه عن
الأخف.
وأظهر من ذلك ما لو فهم العرف سوق الخطاب لبيان عموم الحكم
ببيان ثبوته في الفرد الأدنى أو الاعلى، لينتقل لغيره بالأولوية، كما هو الظاهر
في قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف...) (1) حيث يفهم عرفا أن الغرض بيان
عموم النهي عن الإهانة والايذاء بالنهي عن الفرد الضعيف منهما.
وبهذا كان المفهوم مقتضى ظهور الكلام، لان الفهم العرفي بأحد
الوجهين من سنخ القرينة الحالية، بخلاف الانتقال من أحد الفردين للاخر
بالأولوية التي هي من الأدلة العقلية، حيث لا يعتبر فيه فهم ذلك من الدليل،
بل يكفي فيه إدراك أقوائية الملاك في الفرد الاخر منه في مورد الدليل.
ولذا لابد فيه من القطع بالملاك أو قيام الحجة عليه بالخوص، أما في
مفهوم الموافقة فلا يعتبر إلا ظهور الدليل بأحد الوجهين، ومن ثم يمكن رفع
اليد عنه بظهور أقوى منه، كما هو الحال في سائر الظهورات في موارد
الجمع العرفي.
ومنه يتضح عدم اختصاص مفهوم الموافقة بمفهوم الأولوية العرفية،

(1) سورة الإسراء: 23.
504

بل يجري في جميع موارد فهم عموم الحكم في الدليل الوارد في خصوص بعض
الافراد، لالغاء خصوصيتهما عرفا، إذ يستفاد من الدليل المذكور نظير الحكم
الذي تضمنه في بقية الموارد، وهو شائع في الأدلة.
ونظيره تسرية الحكم عن مورده بتنقيح المناط، وإن كان الفرق بينهما
نظير الفرق المتقدم بين التعدي بالأولوية العرفية الذي هو من مفهوم الموافقة
والتعدي بالأولوية الذي هو من الأدلة العقلية.
بل من مفهوم الموافقة - أيضا - التعدي عن مورد الدليل لجميع موارد
العلة المنصوصة، حيث يستفاد من التعليل دوران الحكم مداره وجودا وعدما،
كما في قولنا: (لا تأكل الرمان لأنه حامض) حيث يستفاد منه عموم النهي
لغير الزمان من أفراد الحامض، وعدم النهي في الرمان غير الحامض، ولما كان
الأول مطابقا للحكم المنطوق في الايجاب كان من مفهوم الموافقة، ولما كان
الثاني مخالفا له فيه كان من مفهوم المخالفة.
لكن أهل الفن اقتصروا في مفهوم الموافقة على مورد الأولوية العرفية.
ولعله لعدم كونهم بصدد حصر أفراده، لوضوح الحال فيها وعدم
الخلاف في التعدي عن مورد أدلتها.
أو لان التعدي بفهم عدم الخصوصية بسبب ارتكازيته لم يلتفت إليه
تفصيلا، لينبه على كبراه الجامعة بين أفراده، والتعدي في مورد العلة المنصوصة
قد تعرضوا له في الجملة في مباحث القياس، فاستغنوا بذلك عن التنبيه له في
مباحث المفاهيم، أو غفلوا عن كونه منها.
كما لعله لاحد الوجهين لم يذكروا قصر الحكم عن الموضوع الفاقد
للعلة المنصوصة في مفهوم المخالفة.
505

وكيف كان، فلا مجال لإطالة الكلام في مفهوم الموافقة بعد الاتفاق
على موارده - كما ذكرنا - مع عدم وضوح الضوابط العامة لتشخيص
صغرياته، بل هو من الظهورات الشخصية الموكولة لنظر الفقيه في كل مورد
مورد.
وإنما نقتصر على الكلام في مفهوم المخالفة، تبعا لأهل الفن، حيث
تعرضوا لجملة من الموارد وقع البحث في دلالة الكلام على المفهوم فيها.
والبحث فيها يقع في ضمن فصول..
506

الفصل الأول
في مفهوم الشرط
لا إشكال في دلالة القضية الشرطية على ثبوت الجزاء عند ثبوت
الشرط، وهو منطوقها، وإنما الكلام في دلالتها على انتفاء الجزاء عند انتفاء
الشرط الذي هو مفهومها بمصطلحهم، فقد أصر على ذلك جماعة، ومنعه
آخرون.
ومحل الكلام إنما هو دلالتها بالوضع أو الاطلاق، بحيث يكون المفهوم
مقتضى الظهور النوعي للجملة الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة، وإلا فلفهم
ذلك منه في كثير من الموارد وتجردها عنه في موارد أخرى ليس محلا للكلام
ظاهرا.
كما أن اتفاق جميع القضايا الشرطية من حيثية الدلالة على المفهوم
أو عدمها واختلافها في الحيثية المذكورة محل كلام يأتي إن شاء الله تعالى،
والذي هل فعلا محل الكلام ما اقترن ب‍ (إن) أو نحوها.
هذا، والمستفاد من كلام شيخنا الأعظم (قدس سره) وجملة ممن تأخر
عنه أن المناط في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ظهورها في كون الشرط
علة منحصرة للجزاء، وبدونه لا دلالة لها عليه.
وظاهر صابح الفصول - بل صريحه - أنه يكفي فيه ظهورها في مجرد
507

لزوم الشرط للجزاء بمعنى عدم حصول الجزاء إلا مع حصول الشرط،
إما لكون الشرط علة منحصرة للجزاء، أو لكون الجزاء علة للشرط،
أو لكونهما معلولين لعلة واحده، ووافقه على ذلك سيدنا
الأعظم (قدس سره).
ولا ريب أنا ما ذكراه هو المتعين، إذ لو فرض أن الجزاء علة تامة
للشرط أو متمما لعلته - مع وجود بقية أجزائها - فعدمه مستلزم لعدم الجزاء.
وكذا لو اشتركا في العلة المنحصرة أو العلل المتعددة، حيث يستلزم انتفاء
الشرط انتفاء علته، فينتفي معلولها الاخر وهو الجزاء.
بل لو فرض ظهورها في عدم الانفكاك بينهما خارجا بالنحو المذكور
كفي في الدلالة على ا لمفهوم وإن كان اتفاقيا لا لزوميا بناء على ما يأتي في
معنى الاتفاقية، إذ يكفي في المفهوم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وإن
لم يكن ممتنعا.
ومما ذكرنا حال ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن
الشرط لو كان معلولا للجزاء لم يقتض المفهوم، لان وجود المعلول وإن كان
كاشفا عن وجود العلة، إلا أن عدم المعلول لا يكشف عن عدم ذات العلة،
لجواز استناده إلى وجود المانع.
فإنه إنما يتم لو كان الجزاء جزء من علة الشرط غير متمم لها،
كالمقتضي، حيث يمكن وجوده في ظرف عدم المعلول للمانع، دون ما إذا
كانت علته أو متمما للعلة - كما ذكرنا - حيث لابد حينئذ من انتفاء
الشرط عند انتفائه.
وبالجملة: لا ينبغي للتأمل في كفاية دلالة الشرطية على لزوم الشرط
508

للجزاء بالنحو المتقدم في دلالتها على المفهوم.
ومن هنا كان هو المهم في محل الكلام، إلا أن المناسب التعرض
لما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من الكلام في دلالتها على العلية
المنحصرة، لأنها وإن كانت أخص من اللزوم المذكور إلا أن تحقيق مفاد
الشرطية من هذه الجهة لا يخلو في نفسه عن فائدة، ولا سيما مع كون تماميته
مستلزمة للظهور في المفهوم الذي هو محل الكلام في المقام.
وعليه يقع الكلام في دلالتها على أمور مترتبة في أنفسها..
الأول: اللزوم، في مقابل كون الشرطية اتفاقية.
وقد أصر غير واحد على ظهور الشرطية في كونها لزومية، بل ذكر
بعض الأعاظم (قدس سره) أن استعمالها في الاتفاقية نادر جدا، بل هو غير
صحيح في نفسه، ولابد في صحة الاستعمال في تلك الموارد من رعاية علاقة
وإعمال عناية، ضرورة أنه لا يصح تعليق كل شئ على كل شئ، وسبقه
إلى ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره).
لكن قال سيدنا الأعظم (قدس سره): " الاتفاق المقابل للزوم إن أريد
به أن لا يكون بين الشرط والجزاء علاقة تقتضي اقترانهما فذلك مما أحاله
جماعة، لان كل موجودين إما أن يكون أحدهما علة للاخر أو يكونا معلولي
علة واحدة - ولو بوسائط - لامتناع تعدد الواجب. ولذلك أنكر هؤلاء
الاتفاقية بهذا المعنى - التي هي أحد قسمي المتصلة -.
وإن أريد به أن لا يكون بينهما علاقة ظاهرة في نظر العقل - كما هو
معنى الاتفاقية عند هؤلاء الجماعة - فالمراد من اللزومية حينئذ ما يكون بينهما
علاقة ظاهرة.
509

وعليه فدعوى ظهور القضية الشرطية فج اللزومية بهذا المعنى في غاية
السقوط لا دعوى كونها اتفاقية.
وفيه: أولا: أن ما ذكره من عدم خروج الموجودين عن الفرضين
المذكورين في كلامه لا يستلزم إنكار الاتفاقية التي لا علاقة بين طرفيها
أصلا، حيث تتعين فيما إذا كان أحد طرفي الشرطية أو كلاهما نسبة منتزعة
من مقام ذات الموضوع أو لازمها، نحو: إن كان الانسان ناطقا كان الحمار
ناهقا، وإن كان زيد ممكنا كان شريك الباري ممتنعا، وإن كان زيد جميلا
كانت الأربعة زوجا، وغيرها لوضوح أن النسبة المنتزعة من مقام الذات غير
معلولة لأمر خارج عنها، لتردد بين الفرضين المذكورين في كلامه، بل هي
قائمة بنفسها غير مرتبطة بغيرها.
وثانيا: أن امتناع الاتفاقية الحقيقية لا يستلزم كون المراد بها مطلق
ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة بنظر العقل، بل قد يراد بها خصوص
ما كانت العلاقة فيها غير ظاهرة أصلا ولو عرفا، كالعلاقة بين وجود زيد
وجريان النهر، المستلزم لعدم قصد أدائها بالجملة الشرطية وتمحضها في بيان
تقارن النسبتين، لان مجرد وجود العلاقة واقعا لا يوجب الظهور في
الاستعمال فيها ما لم تقصد بالاستعمال، ولابد في قصدها من إدراكها،
ويكون المراد باللزومية ما كانت العلاقة فيها مدركه ولو إجمالا عرفا
وعقلا، كما في مثل: إذ أراد اله تعالى شيئا كان، أو عرفا فقط، كما في
قولنا: إن وقع الثوب في الماء ابتل، فيقصد أداؤها بالجملة الشرطية زائدا على
التقارن بين النسبتين، والظاهر أن هذا هو مراد من يدعي ظهور الشرطية
في اللزومية.
510

إذا عرفت هذا، فلا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في اللزوم زائدا على
التقارن، والمعيار فيه ما ذكرنا. بل الظاهر عدم صحة استعمالها في الاتفاقية إلا
بعناية، كما تقدم ممن ذكرنا.
والظاهر أن مبنى تقسيم المنطقيين الشرطية إلى لزومية واتفاقية إرادتهم
بالشرطية ما تضمن مجرد الاتصال بين النسبتين الذي يكفي فيه تقارنهما،
أو الانفصال بينهما الذي يكفي فيه التردد بينهما، ولذا تؤدى المتصلة عندهم
بقولنا: كلما كان كذا كان كذا، والمنفصلة ب‍ (إما) ومن الظاهر أن (ما) في
(كلما) ظرفية مصدرية، متمحضة في الدلالة على الزمان، وليست كأدوات
الشرط خصوصا (إن) التي سبق أن الكلام فعلا فيها، لا إشكال في أن
المفهوم منها عرفا معنى زائد على الظرفية لا يصدق في الاتفاقية.
ومنه يظهر حال ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من أن الشرطية
لا تلازم اللزوم، لشهادة الوجدان بعدم العناية في إرادة الاتفاقية منها، لأنها
ليست إلا لبيان مصاحبة المقدم مع التالي.
ولا يبعد أن يكون ذلك منه مبتنيا على النظر للشرطية عند المناطقة
المألوفة في استعمالاتهم.
الثاني: ترتب الجزاء على الشرط دون العكس، أو كونهما في مرتبة
واحدة، كالمتضايفين.
وقد أصر غير واحد على ظهور الجملة الشرطية في الترتب، وإن
اختلفوا في كونه بالوضع أو بغيره، كما سيأتي.
وظاهر المحقق الخراساني (قدس سره) إنكار ذلك، لعدم العناية في
استعمال الشرطية في مطلق اللزوم من دون ترتب، كما في قولنا: إن صارت
511

هند زوجة لك صرت زوجا لها، وإن جاء زيد جاء عمرو لو كان علة
مجيئهما فصل الخصومة المشتركة بينهما. بل مع عكس الترتب، كما في قولنا:
إن عوفي زيد فقد استعمل الدواء، وإن أفطر زيد فهو مريض.
لكن قال سيدنا الأعظم (قدس سره): " ظهور الجملة الشرطية في
الترتب مما لا ينبغي أن ينكر، بشهادة دخول الفاء في الجزاء ".
وهو كما ترى! فإن ذلك إنما يشهد بالترتب في مورد دخول الفاء،
ولعله مستند إليها لا إلى هيئة الجملة الشرطية أو أداتها.
فلعل الأولى أن يقال: لا ينبغي التأمل في عدم صحة استعمال الشرطية
فيما لو كان الجزاء متقدما رتبة على الشرط واستهجان ذلك، فلا يصح أن
يقال: إن انكسر الاناء وقع على الأرض، وإن طهر الثوب غسل.
وأما مثل الاستعمال المتقدم في تقريب ما ذكره المحقق الخراساني فليس
الجزاء فيه علة للشرط، بل معلول له، لان مفاد نسبة الجزاء فيه ليس محض
الحدوث الذي هو علة الشرط، ولذا لو قيل بدلا لمثال الأول: إن عوفي زيد
شرب الدواء، وبدل الثاني: إن أفطر مرض، كان مستهجنا أو ينقلب المعنى،
بل مفادها نسبة التحقيق والاتضاح التي هي مفاد (قد) في الأول أو نسبة
التقرر والثبوت التي هي مفاد الجملة الاسمية في الثاني، وكلاهما ليس
علة للشرط.
وهما مسوقان لبيان أنه ينبغي العلم بمفاد الجملة المبني على الانتقال من
وجود المعلول إلى وجود العلة، ومن الظاهر أن العلم بالعلة معلول للعلم
بالمعلول في ذلك. ويشهد به دخول الفاء على الجزاء الظاهرة في تفرعه تعلى
الشرط، ولا معنى لتفرع العلة على المعلول، إلا بلحاظ تفرع العلم بها عليه.
512

وكأنه إلى ذلك يرجع ما عن المحقق القمي (قدس سره) وغيره من أن
الشرط في مثل ذلك سبب للعلم بالجزاء.
ولا واقع للايراد عليه - كما يظهر من التقريرات - بأن محل الكلام هو
علية الشرط للجزاء، لا علية العلم به للعلم به.
إذ بناء على ما ذكرنا يكون الجزاء معنى العلم ومسوقا للكناية عنه،
فيكون الجزاء بنفسه معلولا للشرط.
وأما استعمالها فيما إذا كان متحدي الرتبة - كالمثالين المتقدمين -
فلا يبعد ابتناؤه على التنزيل وادعاء ترتب الجزاء على الشرط، بسبب سبق
فرضه، حيث يستتبع فرض الجزاء بضميمة التلازم بينهما، كما يناسبه الفرق
ارتكازا في كل طرف بين جعله شرطا وجعله جزاء، فلا يتمحض الفرق بين
قولنا: إن صارت هند زوجة لك صرت زوجا لها، وقولنا: إن صرت زوجا
لهند صارت زوجة لك، في مجرد التقديم والتأخير الذكري، نظير الفرق بين
قولنا: اشترك زيد وعمرو، وقولنا: اشترك عمرو وزيد، بل يزيد عليه
باختلاف نحو التبعية اللحاظية الادعائية.
وإلا فمن البعيد جدا إفادتها القدر المشترك بين خصوص ترتب الجزاء
على الشرط وتساويهما في الرتبة، لعدم كونه عرفيا ولا مفهوما منها،
بل ليس الجامع العرفي بينهما إلا محض التلازم الذي يعم صورة ترتب الشرط
على الجزاء، وحيث عرفت استهجان الاستعمال فيها تعين اختصاصها بترتب
الجزاء على الشرط وابتناء استعمالها مع تساويهما رتبة على الادعاء،
كما ذكرنا.
ولذا لو لم تقم قرينة ملزمة بحمل الترتب على الادعائي - بالوجه المتقدم
513

أو عيره - كان ظاهر الشرطية الترتب الحقيقي بينهما، فيستفاد من
مثل: إن جاء زيد جاء عمرو، تبعية مجئ عمرو لمجئ زيد وترتبه عليه
ومعلوليته له.
وأما ما ذكره بعض المعاصرين في أصوله من أن المترتب على الشرط في
القضايا الشرطية الخبرية هو الاخبار والحكاية عن الجزاء لا نفس الجزاء، سواء
كان الجزاء مترتبا على الشرط ثبوتا، أم كان الشرط مترتبا عليه أم كانا في
رتبة واحدة.
فلا مجال للبناء عليه، لان التعليق إنما هو بين الشرط والجزاء المحكيين،
فكما يكون المعلق عليه هو الشرط لا الحكاية عنه يكون المعلق هو الجزاء
لا الحكاية عنه.
ولذا التزم بأن الجزاء لو تضمن إنشاء حكم تكليفي أو وضعي كان
المعلق هو الحكم لا إنشاؤه.
بل الاخبار والانشاء فعليان لا تعليق فيهما، ولذا يتصف الاخبار فلا
بالصدق أو الكذب والانشاء بالنفوذ أو البطلان، وإنما التعليق في المخبر عنه
والمنشأ.
ولو تم ما ذكره لصح استعمال الشرطية مع عكس الترتيب، في مثل
قولنا: إن انكسر الاناء وقع على الأرض، وقد عرفت استهجانه، كما عرفت
أن مثل: إن عوفي زيد فقد استعمل الدواء، ليس من الاستعمال في عكس
الترتيب.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على
الشرط، كما يظهر من جماعة استيضاحه.
514

وإنما اختلفوا في أن ذلك مستند للوضع أو لغيره، كما أشرنا إليه آنفا،
فقد استوضح بعض الأعاظم (قدس سره) عدم استناده للوضع، وإلا لزم أن
يكون الاستعمال في غيره مجازا مبنيا على عناية، وهو باطل بالضرورة.
ومن ثم ادعى أنه مستند إلى سياق الكلام، لان ظاهر جعل شئ
مقدما وجعل شئ آخر تاليا هو ترتب التالي على المقدم.
ويشكل بأن مجرد تقديم الشئ في الذكر - مع أنه لا يطرد في الشرطية،
حيث قد يتم الجزاء فيها - لا يوجب ظهور الكلام في تقدمه ثبوتا، بل غايته
الاشعار به غير البالغ مرتبة الحجية، فلا بد أن يكون ذلك مختصا بالشرط
والجزاء في الجملة الشرطية، وحيث كان ذلك مستندا ارتكازا لنفس الجملة
الشرطية بهيئتها وأداتها فالظاهر منشئه بالوضع.
وما ذكره من أن لازمه كون الاستعمال في خلاف الترتيب مجازا يظهر
الحال فيه مما سبق من قرب ابتناء الاستعمال مع التساوي في الرتبة على
الادعاء والتنزيل، وعدم ثبوت الاستعمال مع عكس الترتيب، بل هو
مستهجن، وأن ما يوهم ذلك ليس منه في الحقيقة، وإلا لزم كونه مخالفا
لظاهر الشرطية، للجهة التي ذكرها، مع وضوح عدم كونه كذلك.
ومن ثم كان الظاهر استناد ظهورها في الترتب للوضع، كما قربه
شيخنا الأعظم (قدس سره).
الثالث: كون الترتب بنحو العلية.
وظاهر كلام جملة أن الكلام فيه هو الكلام في أصل الترتب، حيث
لم يفصلوا بينهما. وكأنه لأنه ليس المراد بالعلية هي خصوص العلية التامة،
إذ لا إشكال في صدقها مع كون الشرط جزءا من العلة في ظرف تحقق بقية
515

أجزائها، ولا مطلق المقدمية المتقومة بكون أحد الامرين جزءا من علة الاخر
ودخيلا في ترتبه، لان ذلك لا يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط،
الذي لا إشكال في دلالة الشرطية عليه، وقد سبق أنه المراد بالمنطوق بل
مطلق ما يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، الذي هو القدر المشترك
بين العلة التامة وتتميم العلة، ولو لملازمة الشرط لتحقق آخر أجزاء العلة.
ومن هنا لا مجال لحمل الترتب - الذي تقدم البناء عليه - على التقدم
بالشرف، فإنه - مع عدم التفات العرف العام له، وقيامه بالمفردات كالحيوان
والجماد والنور والظلام، لا بين مفاد الجمل من النسب، كما في الترتب التي
تفيده الشرطية - لا يستلزم حصول الجزاء عند حصول الشرط، ولا على
الترتب بالزمان، لأنه مستلزم للانفكاك بينهما.
وأما الترتب بالطبع فالذي يظهر منهم أن المعيار فيه كون المتقدم جزءا
من علة المتأخر، فقد يعد منه تقدم الموضوع على العرض، مع وضوح توقف
العرض على موضوعه، فهو جزء علته المعد له، كما عد منه تقدم الجزء على
الكل، مع أن الجزئية والكلية منتزعتان من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة،
فالجزء بما هو جزء غير متقدم على الكل طبعا، بل هما متضايفان متلازمان،
لوحدة منشأ انتزاعهما.
وأما الجزء بذاته فهو متقدم على الكل تقدم الموضوع على عرضه، لان
الكلية حيث كانت منتزعة من فرض الوحدة بين الأمور المتكثرة فالوحدة
المذكورة قائمة بذات الاجزاء قيام العرض بموضوعه.
وعليه لا مجال لإرادة التقدم الطبعي في المقام، لما سبق من أن مجرد
المقدمية لا يكفي فج حصول الجزاء عند حصول الش ط، بل المعيار ما ذكرنا
516

من العلية.
على أنه حيث كان الشرطية دالة على حصول الجزاء عند حصول
الشرط، فمن الظاهر أن ما يلزم حصول الشئ عند حصوله ليس إلا علته
أو لازمها أو معلوله، وحيث فرض ظهور الشرطية في ترتب الجزاء على
الشرط تعين ظهورها في علية الشرط للجزاء، إذ لو كان معلولا له لزم عكس
الترتب، ولو كان لازما لعلته فلا ترتب بينهما.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن المراد بالترتب في المقام ليس إلا الترتب
بالعلية بالمعنى الجامع بين العلة التامة ومتمم العلة، كما ذكرنا.
ومن هنا كان ما سبق في وجه دلالة الشرطية على الترتب كافيا فيها،
بل لا ينبغي التأمل في ظهور الشرطية في دخل الشرط في الجزاء وترتب الجزاء
على الشرط وتفرعه عليه حتى لو غض النظر عن انحصار الترتب بالعلية.
نعم، قد يدعى أن ذلك غير مستند للوضع، بل للاطلاق، إما لان
علاقة العلية أكمل أفراد العلائق، وحيث كانت الشرطية دالة على اللزوم
لعلاقة كان إطلاقها منصرفا لأكمل العلائق، وإما لظهور الشرطية في وجود
الجزاء عند وجود الشرط على وجه الاستقلال من دون حاجة إلى أمر آخر
معه، وهو مستلزم لاستناد وجوده إليه.
ولو تم هذان الوجهان كانا صالحين لاثبات الترتب، وتعين لأجلهما
رفع اليد عما سبق في استناده للوضع، إذ لا يتعين استناد الظهور للوضع
إلا مع عدم القرينة العامة أو الخاصة التي يمكن استناده إليها.
كما أنه قد ذكر هذان الوجهان لاثبات الترتب والعلية معا، لما سبق
من وحدة كلامهم فيهما.
517

لكن يندفع الأول: - مضافا إلى منع كون علاقة العلية أكمل، وإلى أنها
لا تستلزم ترتب الجزاء على الشرط، بل تكون مع العكس، كما في
التقريرات - بأن مجرد الأكملية ثوبتا لا تقتضي انصراف الاطلاق في مقام
الاثبات، كما تقدم نظيره عند الكلام في وجه دلالة صيغة الامر على الالزام.
والثاني: بأن عدم الحاجة إلى انضمام شئ مع الشرط في وجود الجزاء
لا يستلزم استقلاله بالتأثير فيه، بل يكون مع محض التلازم بينهما من دون
ترتب، فضلا عن العلية.
كيف ولو تم ذلك لزم كون الشرط علة تامة للجزاء؟! ولا يظن من
أحد احتماله، خصوصا في الأحكام الشرعية التي كان أهم أجزاء علتها جعل
الشارع الأقدس لها على موضوعاتها، وليس الشرط إلا متمما لعلتها
ومستلزما لفعليتها.
ومن هنا كان الظاهر استناد الظهور في العلية بالمعنى المتقدم للوضع،
لأنه المتبادر من الشرطية ارتكازا من دون ضم قرينه خاصة أو ارتكازية.
نعم، ليس المراد بالعلية في الأحكام الشرعية إلا كون الشرط موضوعا
للحكم الذي يتضمنه الجزاء، حيث يكون هو المتمم لعلة فعليته في فرض جعله
شرعا على موضوعه.
ولذا لا إشكال ظاهرا بفي بنائهم على كون الشرط موضوعا للحكم
الذي يتضمنه الجزاء، فيكفي التعبد به ظاهرا في التعبد بالحكم، ولا يبتني على
الأصل المثبت.
وما عن بعضهم من كون الأسباب الشرعية معرفات، لا مؤثرات
حقيقة، قد يراد به كونها معرفات عن مورد الجعل الشرعي، أو عن
518

الملاكات الداعية له، لملازمة موضوع الحكم لملاكه، في قبال استقلالها بالتأثير
بعد الجعل كبرويا، أو كونها بنفسها ملاكا للحكم.
لا أنها معرفات عن الموضوعات من دون أن تكون موضوعات
حقيقة، فإنه خلاف ظاهر الشرطية وغيرها من القضايا المتكفلة بجعل
الأحكام الشرعية على موضوعاتها.
بل خلاف ما سبق من ظهور الشرطية في الترتب، لان لازم موضوع
الحكم لا يتقدم على الحكم رتبة.
الرابع: كون العلية بنحو الانحصار.
وقد احتمل شيخنا الأعظم (قدس سره) أن النزاع في المفهوم راجع
للنزاع في دلالة الشرطية على ذلك، للاتفاق على ما قبله، وإن كان قد يظهر
من بعض كلماتهم التشكيك فيما قبله أيضا.
وقد أصر غير واحد من القدماء والمتأخرين عل ظهور الشرطية فيه، ومنه منه آخرون.
وقد ذكرنا في أول الفصل أن المعيار في دلالة الشرطية على المفهوم ليس
هو دلالتها على العلية المنحصرة، بل على لزوم الشرط للجزاء بنحو
لا يتحقق الجزاء بدونه ولو اتفاقا.
ومن الظاهر أن ظهور الشرطية في ذلك مستلزم لظهورها في كون
الشرط علة منحصرة، بناء على ما سبق من ظهورها في كون الشرط علة
للجزاء، ولظهورها في كون الشرط لازما مساويا للجزاء، بناء على ظهورها
في مجرد اللزوم دون العلية.
ومن هنا كان المناسب الكلام في ظهور الشرطية في ذلك، سواء رجع
519

إلى ظهورها في العلية المنحصرة أم لا.
وقد يستدل عليه بوجوه، وإن ذكر بعضها أو كلها في كلماتهم دليلا
على ظهور الشرطية في العلية المنحصرة.
الأول: أن الظاهر من إطلاق العلاقة اللزومية إرادة الفرد الأكمل منها،
وهو الناشئ عن انحصار العلة في الشرط.
ويشكل: - مضافا إلى ما سبق من عدم انصراف الاطلاق للأكمل -
بأنه لا دخل لانحصار العلية في اللزوم بنحو يقتضي أكمليته - كما ذكره
المحقق الخراساني (قدس سره) - لابتناء اللزوم على عدم انفكاك الجزاء عن
الشرط الحاصل مع انحصار العلية وعدمه بنحو واحد.
وكذا الحال في العلية لتقومها بتأثير العلة في المعلول، ولا أثر للانحصار
في ذلك.
نعم، قد يكون لمنشأ اللزوم دخل في كماله، فاللزوم الذاتي أكمل عرفا
من اللزوم لأمر خارج عن الذات، ولا دخل لذلك بما نحن فيه.
الثاني: أن مقتضى إطلاق نسبة اللزوم، كما كان مقتضى إطلاق هيئة
الامر الحمل على الوجوب التعييني دون التخييري.
ويشكل: بالفرق بأن هيئة الامر حيث كانت متضمنة لنسبة البعث نحو
المأمور به بنحو يقتضي الانبعاث نحوه كانت ظاهرة في كون التكليف به
تعيينيا مقتضيا للاتيان به لا غير، لا تخييريا يجزي فيه غيره، إذ مقتضاه عدم
الانبعاث إليه في ظرف الانبعاث للطرف الآخر، وهو خلاف إطلاق نسبة
البعث، أو خلاف مقتضاها لو بقيت على إطلاقها.
أما في المقام فحيث فرض عدم دلالة الشرطية إلا على لزوم تحقق الجزاء
520

عند تحقق الشرط فهو بنفسه لا يقتضي الانحصار، لان تحقق الجزاء عند تحقق
أمر آخر لا ينافي اللزوم المذكور بوجه أصلا، كما لا ينافي إطلاقه.
وإنما يتجه القياس في فرض التسليم بظهور الشرطية في الانحصار
والإناطة، لان قيام شئ آخر مقام الشرط مخالف لظهور الاقتصار في بيان
العلة المنحصرة على الشرط، نظير مخالفة قيام شئ مقام المأمور به لظهور
الاقتصار عليه في بيان المطلوب الذي لابد من الاتيان به، بل يحتاج كل
منهما للبيان بمثل العطف بأو.
ومثله في ذلك تقريب هذا الاستدلال بإطلاق الشرط، بدعوى: أن
مقتضى إطلاقه تعينه، كما كان مقتضى إطلاق الواجب تعينه.
لاندفاعه: بأنه لا دخل للانحصار وعدمه في الشرط بنحو يكون من
شؤونه التابعة لاطلاقه وتقييده.
ومجرد احتياج عدم الانحصار للبيان لا يكفي في كونه مقتضى الاطلاق
ما لم يكن من شؤون موضوع الاطلاق وأنحائه، وليس هو كإرسال الماهية
وسريانها الذي يكون مقتضى إطلاقها.
على أن الانحصار يحتاج إلى بيان لو فرض كون مفاد الشرطية
وضعا مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط ولزومه له.
واستفادة التعيين في الواجب دون التخيير ليس من إطلاق الواجب،
بل من إطلاق الهيئة بالوجه المتقدم، وقد سبق عدم صحة قياس المقام عليه.
وكذا تقريبه بإطلاق نسبة الجزاء، بدعوى: أن الاقتصار في تقييدها
على الشرط وعدم تقييدها بغيره بمفاد (أو) ظاهر في انحصار العلة به، كما
كان عدم تقييدها بغيره بمفاد الواو ظاهر في استقلال الشرط بالتأثير وعدم
521

توقف نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه، فيكون علة تامة أو متمما للعلة،
كما تقدم.
لاندفاعه: بأن الاطلاق إنما ينهض بدفع القيد لرجوعه إلى تضييق
موضوعه الذي هو مفاد المفرد أو الهيئة، ومن الظاهر أنه كما يكون اشتراط
نسبة الجزاء بالشرط راجعا إلى تضييق النسبة المذكورة، فيكون مدفوعا
بإطلاقها، كذلك يكون عدم استقلال الشرط في فرش التقييد به، فإن توقف
فعلية نسبة الجزاء على انضمام غيره إليه موجب لزيادة في تضييقها، فيكون
زيادة في تقييدها، ويدفع بالاطلاق.
أما عدم انحصار العلية بالشرط وقيام شئ آخر مقامه في تحقيق نسبة
الجزاء فهو لا يستلزم التضييق في النسبة المذكورة، بل هي باقية على سعتها،
فلا يكون قيدا فيهما، ليدفع بإطلاقها، بل تكون الشرطية ساكتة عن ذلك، فلا
وجه لجعل الامرين من باب واحد.
وبالجملة: لا مجال للاستدلال بالاطلاق المذكور، سواء أريد به إطلاق
نسبة اللزوم، أم إطلاق الشرط، أم إطلاق الجزاء، على اختلاف كلمات
المستدلين واضطرابها.
ومجرد الحاجة في بيان الشرط إلى العطف بمفاد (أو) لا يكفي في ذلك،
ولا يصحح قياسه على حمل إطلاق الامر على التعييني دون التخييري.
ولذا لو صرح باللزوم بالمفاد الاسمي - كما لو قيل: مجئ زيد مستلزم
لان يجب إكرامه - لم ينفع الاطلاق في استفادة المفهوم، سواء أريد به إطلاق
اللازم أم الملزوم أم الملازمة، بخلاف ما لو صرح بالوجوب بالمفاد الاسمي،
فقيل: يجب الصدقة، حيث يحمل على الوجوب التعييني كهيئة الامر.
522

الثالث: أن مقتضى إطلاق الشرطية تأثير الشرط للجزاء دائما، ولازم
ذلك انحصار العلة به، إذ لو كان غيره مؤثرا له لزم انفراد الغير به لو كان
أسبق، ولا يكون هو مؤثرا لو تأخر، وهو خلاف الاطلاق المذكور.
وأما تقريره بأن مقتضى الاطلاق استقلال الشرط بالتأثير، ولو كان
غيره مؤثرا، لزم استناد الأثر إليهما معا لو تقارنا، كما هو الحال في سائر
موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد.
فهو كما ترى! موقوف على ظهور الشرطية في كون الشرط علة تامة
للجزاء، وقد سبق أنه لا مجال للبناء على ذلك، وأنه قد يكون متمما للعلة،
فلا يستقل بالتأثير، فاستناد الجزاء للشرط وللامر الاخر عند اجتماعهما
لا ينافي إطلاق الشرطية، ويتعين الاقتصار في تقريبه على الوجه الأول.
ومن الظاهر أنه يبتني على دلالة الشرط على العلية، ولا موضوع
له بناء على تمحضها في الدلالة على الملازمة ولو مع كون الجزاء هو العلة.
هذا، والظاهر أنه لا مجال للاستدلال بالوجه المذكور...
أولا: لان المنصرف من إطلاق تأثير المؤثر للأثر بيان تحققه تبعا له في
فرض عدمه، لا مطلقا بنحو يقتضي عدمه قبله. فإذا قيل: وقوع الاناء سبب
لانكساره، كان ظاهره تأثير الوقوع في الانكسار لو لم ينكسر قبله، لا أنه
لا ينكسر قبله بسبب آخر بل انكساره قبله كالرافع لموضوع الاطلاق من
دون أن ينافيه عرفا، وكذا الحال في الشرطية غير المسوقة للمفهوم ونحوها
مما لا يتضمن إلا سببية شئ لحدوث آخر.
ولعله إلى هذا يرجع ما ذكره غير واحد في المقام من ظهور الكلام في
بيان المؤثرية الاقتضائية الراجعة إلى قابلية المؤثر للتأثير. وإلا فلا إشكال في
523

ظهور الكلام في المؤثرية الفعلية، لتمامية العلة حين وجود الشرط وعدم المانع
من التأثير.
وثانيا: لان ذلك إنما يمنع من استناد الجزاء لأمر سابق على الشرط
بنحو لا يبقى معه موضوع لتأثير الشرط في ظرف وجوده، ولا يمنع من
استناده لأمر لا يجتمع مع الشرط، كما لو قيل: إن جاء زيد من سفره هذا
يوم الجمعة وجب إكرامه، واحتمل وجوب إكرامه أيضا لو جاء من هذا
السفر يوم الثلاثاء، أو يجتمع معه في ظرف لا يمنع من تأثيره، لتعدد الموضوع،
كما لو قيل: رحب بالقادم إن كان عالما، واحتمل وجوب الترحيب به إن
كان كريما، أو قيل: إن ذبح الحيوان بالحديد حل أكله، واحتمل حليته أيضا
لو ذبح بالذهب.
وحيث لا إشكال في عدم الفرق في دلالة الشرطية على المفهوم
وعدمها بين الموارد، ولا مجال لاستناد الدلالة والظهور لعدم الفصل لزم عدم
نهوض هذا الوجه بإثبات المفهوم، كما يناسبه الغفلة عنه بحسب المرتكزات
في مقام الشرطية أو استفادة المفهوم منها، ولو استفيد المفهوم منها فمن وجه
آخر يعم جميع الموارد.
الرابع: ما ذكره بعض المحققين وسيدنا الأعظم (قدس سرهما) من أن
ظهور القضية الشرطية في دخل خصوصية الشرط في تحقيق الجزاء موجب
لظهورها في كونه علة منحصرة له، إذ لو قام مقامه أمر آخر كان الجزاء
مستندا للجامع بينهما بلا دخل للخصوصية.
وفيه: أولا: أن ذلك منتقض بغير الشرطية من القضايا المتكفلة ببيان
موضوعات الاحكام الدخيلة فيها، فكما كان ظاهر قولنا: أكرم زيدا إن
524

كان فقيرا دخل الفقر في الحكم، كذلك قولنا: أكرم الفقير، وأظهر منهما
قولنا: فقر المرء سبب لوجوب إكرامه، مع عدم بنائهم على ثبوت المفهوم لغير
الشرطية.
وثانيا: أنه يبتني على أن وحدة الأثر تستلزم وحدة المؤثر، وقد سبق منا
ومن بعض المحققين نفسه المنع من ذلك في مبحث الصحيح والأعم.
ولو تم، فهو أمر برهاني لا يدركه أهل اللسان ليترتب عليه الظهور
النوعي في المفهوم، لوضوح أن الظهورات النوعية تبتني على الارتكازيات
المدركة لعامة أهل اللسان.
على أن ذلك إنما يقتضي كون الشرط هو القدر المشترك لو كان دخل
كل من الشرطين في الملاك بنحو واحد، أما لو اختلف نحو دخلهما فيه فهو
راجع إلى اختلاف الأثر حقيقة، ولا ملزم معه باستناد الأثر للقدر المشترك، بل
يتعين دخل خصوصية كل منهما فيه.
مثلا: إذا كان فقيرا ينبغي الانفاق عليه، إلا أن إساءته مانعة من
وجوب ذلك إلا مع اضطراره، صح الحكم بوجوب الانفاق عليه مع عدم
إساءته ومع اضطراره من دون ملزم برجوع عدم الإساءة والاضطرار الجامع
واحد، لان تأثير عدم الإساءة في الوجوب بلحاظ ارتفاع المانع من تأثير
المقتضي للملاك، وتأثير الاضطرار فيه بلحاظ كونه العلة التامة له، فلا تمنع
الإساءة من تأثيره، ولا ملزم بوجود القدر الجامع الحقيقي بين عدم المانع
والعلة التامة، بل هو ممتنع في نفسه.
والذي ينبغي أن يقال: ظهور القضية في دخل خصوصية الموضوع
أو غيره من القيود في الحكم إنما هو بمعنى دخلها في شخص الحكم المنشأ
525

والمبين، ولا ظهور لها في دخلها في سنخه، بحيث لا يثبت مع خصوصية
أخرى تشاركها في جامع عرفي، فضلا عما إذا كانت مشاركة لها في جامع
عقلي مستكشف بقاعدة استلزام وحدة الأثر لوحدة المؤثر لو تمت.
ودلالة القضية على دخيل الخصوصية في سنخ الحكم تحتاج إلى عناية
لابد من إثباتها في المقام وغيره. ويأتي في بعض تنبيهات المسألة توضيح ذلك.
الخامس: ما حكاه في منتهى الأصول عن بعض الأعيان المحققين
(قدس سره) من أن الكلام في ثبوت المفهوم في المقام وغيره لا يبتني على
ظهور القضية في كون ما اخذ فيها موضوع أو شرط أو وصف أو غيرها علة
منحصرة للحكم، لاشتراك جميع القضايا في ذلك، لظهور أخذ الشئ في
الحكم في كونه دخيلا بخصوصه، وأنه تمام بما يعتبر في الحكم، فلا يخلفه شئ
آخر، كما لا يعتبر معه شئ آخر، من دون فرق بين القضايا في ذلك،
بل الذي يبتني على ثبوت المفهوم هو أن المنشأ سنخ الحكم أو شخصه،
فإن كان الأول كان انتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة مستلزما لانتفاء تمام أفراد
الحكم، فيثبت المفهوم، وإن كان الثاني فانتفاؤه بانتفاء علته المنحصرة لا ينافي
ثبوت فرد آخر من الحكم، فلا يثبت المفهوم.
وحينئذ فالقضية بطبعها لا تتضمن إلا إشاء الحكم بنحو القضية المهملة
على موضوعه، وهي في قوة الجزئية لا إطلاق لها يشمل جميع وجودات سنخ
الحكم، ليثبت المفهوم.
نعم، لو تضمنت القضية جهة زائدة على ربط الحكم بموضوعه أمكن
دعوى الاطلاق من هذه الجهة الزائدة وخروجه عن الاهمال وظهور القضية
في إنشاء سنخ الحكم المستلزم لثبوت المفهوم، لا شخصه، كما هو الحال في
526

القضية الشرطية والمتضمنة للغاية والحصر، لاشتمالها على خصوصية زائدة
على ربط الحكم بالموضوع، بخلاف القضية المشتملة على الوصف، لان
الوصف لما كان من شؤون الموضوع، بل بلحاظ عينه ونفسه، فلا يفيد أكثر
من ربط الحكم بالموضوع، ليدل على إنشاء سنخ الحكم ويخرج به عن مفاد
القضية بطبعها.
ويشكل ما ذكره..
أولا: بأنه لا مجال للتفريق بين القضايا في ظهور بعضها في إنشاء سنخ
الحكم وظهور الاخر في إنشاء شخصه، بعد أن كان الحكم نحوا من النسبة
المتقومة بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوع وقيود، بل ليس المنشأ
أو المخبر عنه إلا النسبة المتشخصة والمتقومة بتمام ما أخذ فيها من أطراف،
ولا مجال لاحتمال تكفل القضية بإنشاء سنخ الحكم بنو يشمل
صورة فقد الموضوع أو بعض قيوده، ليحتاج في استفادة أن المجعول هو الحكم
الجزئي، إلى دعوى إهمال الحكم المنشأ بحسب طبع القضية، وأن المهملة في
قوة الجزئية، بل لا معنى للاهمال في القضايا المتضمنة للانشاء والجعل،
لامتناع الاهمال في المجعول ثبوتا، وعموم الحكم وخصوصه تابع لعموم
موضوعه وخصوصه، لا لكون الحكم المنشأ أوسع من موضوعه.
ومن ثم كان لازم ذلك الحكم المنشأ بارتفاع موضوعه
أو قيوده، وهو معنى كونها علة منحصرة، له - حسبما تقدم منه - لا بمعنى
ظهور القضية في ذلك، بل لا تتكفل القضية إلا ربط الحكم بالموضوع والقيد
بنحو يقتضي قصوره عن غيرهما.
ولذا لا يكون مرادهم بالنزاع في كون بعض القيود علة منحصرة
527

ذلك، لبداهة اشتراك جميع القضايا فيه - كما ذكره - ولوضوح أن ارتفاع
الحكم لارتفاع موضوعه أو قيده لا ينافي ثبوت حكم آخر مثله لموضوع آخر
أو في حال آخر، فلا يكون هو المعيار في المفهوم، بل المعيار فيه أن يستفاد من
القضية انحصار سنخ الحكم بالموضوع أو القيد المذكور فيها، بحيث لا يثبت
إلا معها، كما أشرنا إليه في ذيل الكلام في الوجه السابق، وهو مرادهم
بالانحصار الذي يقع الكلام فيه في بعض القضايا، ومنها الشرطية.
وثانيا: أن مجرد اشتمال القضية الشرطية على خصوصية زائدة على
ربط الحكم بموضوعه لا يكفي في ظهورها في إنشاء السنخ الذي جعله معيارا
في الدلالة على المفهوم، كما لا يكفي في ظهورها في انحصار السنخ
بالخصوصية المذكورة، الذي عرفت أنه المعيار في الدلالة عليه، وإلا لاطرد
ذلك في سائر القيود الزائدة على الموضوع من ظرف أو حال أو غيرهما، بل
لجرى في الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع، بل لابد فيه من جهة أخرى
تستلزم الانحصار، ولو لم يكن انحصار العلية، ولذا اهتم أهل الفن بتحقيق
ذلك، والكلام فيه إثباتا ونفيا.
هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم لاثبات ظهور الجملة الشرطية
في الانحصار بضميمة الاطلاق من دون أن تكون موضوعة لذلك، بل مع
عدم وضعها عند بعضهم حتى لإفادة العلية.
وحيث ظهر وهنها فلعل الأولى ما يظهر من شيخنا الأعظم (قدس
سره) وسبقه إليه جماعة كثيرة من القدماء والمتأخرين من ظهورها بنفسها في
الانحصار، بمعنى لزوم الشرط للجزاء، بحيث ينتفي الجزاء بانتفائه الذي سبق
أنه المعيار في المفهوم.
528

لقضاء الوجدان بذلك بعد التأمل في المرتكزات الاستعمالية، للفرق
ارتكازا بين الشرط وغيره من قيود النسبة، كالظرف والحال وغيرهما في أن
التقييد به لا يبتني على مجرد إفادة ثبوتها عنده، بل تعليقها عليه وإناطتها به،
ولذا أطلق عليه الشرط عندهم وعلى القضية انها شرطية، لوضوح أن شرط
الشئ ليس مجرد ما يحصل عنده، بل ما يتوقف وجوده عليه، فلو لا ارتكاز
أن مفاد الشرطية الإناطة والتعليق بالنحو الذي ذكرناه لم يكن وجه للاطلاق
المذكور. نعم، لا إشكال في كثرة موارد تجريد الشرطية عن الخصوصية المذكورة
وسوقها لبيان مجرد حصول الجزاء عند حصول الشرط، من دون تعليق عليه
ولا إناطة به.
ولعل ذلك هو منشأ بناء من تقدم على كون الخصوصية المستلزمة
للمفهوم خارجة عن مفاد القضية وضعا، وبسبب ارتكاز ظهورها في
الخصوصية المذكورة تكلف من تكلف توجيه كونها مقتضى الاطلاق
بمقدمات الحكمة، على اختلاف الوجوه المتقدمة.
لكن الارتكاز المذكور - بعدما عرفت بمن عدم تمامية تلك الوجوه -
كاف في إثبات إفادتها لها وضعا، من دون أن ينافيه كثرة موارد تجريدها
عنها، لشيوع التوسع في الاستعمالات، نظير التوسع في غير الشرطية
مما تضمن التقييد بالوصف والظرف وغيرهما، فيساق لبيان الإناطة والتعليق
بنحو يقتضي المفهوم، مع وضوح عدم إفادته لذلك لا وضعا ولا إطلاقا.
وبالجملة: قياس الشرطية على غيرها شاهد بالفرق بينهما في إفادة
الإناطة وعدمها، وكما لا ينافي ذلك سوق غير الشرطية لإفادة الإناطة في
529

كثير من الاستعمالات لا ينافيه تجريد الشرطية عنها في الاستعمالات الكثيرة،
لان المعيار في الوضع التبادر، لا الاستعمال.
ثم إنه قد يستدل لما ذكرنا ببعض النصوص الظاهرة في المفروغية عن
إفادة الشرطية المفهوم، كصحيح عبيد بن زرارة: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) قوله عز وجل: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)؟ قال: " ما
أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه " (1).
وما في صحيح أبي أيوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير
قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم
عليه) (2) من قوله (عليه السلام) " فلو سكت لم يبق أحد إلا تعجيل، ولكنه
قال: ومن تأخر فلا إثم عليه " (3).
وصحيح أبي بصير: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشاة تذبح
فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال: " لا تأكل، إن عليا (عليه
السلام) كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل " (4)، وغيرها.
وهي إن لم تبلغ مرتبة الاستدلال، فلا إشكال في قوة تأييدها
للمطلوب، ولا سيما الأولين، وخصوصا الثاني، لظهوره في فهم الناس الإناطة
بأنفسهم.

(1) الوسائل ج 7، باب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، حديث: 8.
(2) سورة البقرة: 203.
(3) الوسائل ج 10، باب: 9 من أبواب العود إلى منى، حديث: 4.
(4) الوسائل ج 16، باب: 12 من أبواب الذبائح، حديث: 1.
530

هذا، وأما ما ذكره المنطقيون في القياس الاستثنائي من أن رفع المقدم
في المتصلة لا يستلزم رفع التالي. فهو مبني على إرادتهم بها ما تتضمن مجرد
اتصال نسبة الجزاء بنسبة الشرط، ولذا تؤدي عندهم بقولنا: كلما كان كذا
كان كذا، مع أن (ما) في (كلما) مصدرية ظرفية متمحضة في الدلالة على
الزمان، ولذا صح منهم تقسيمها إلى اللزومية والاتفاقية، وليس الملحوظ لهم
المعنى اللغوي والعرفي لمفاد الأداة أو الهيئة، كما أشرنا إليه عند الكلام في أدلة
الشرطية على اللزوم، فلا مجال للخروج بما ذكروه عما ذكرنا من التبادر.
بقي في المقام تنبيهات..
التنبيه الأول: أشرنا في أول الفصل إلى أن المتيقن من محل الكلام
الجملة المقترنة ب‍ (إن) ونحوها، وذلك لان (إن) بسبب شيوع استعمالها اتضح
مؤداها حتى صارت أظهر أدوات الشرط في إفادة الإناطة والتعليق المستلزمين
للمفهوم.
ولكن الظاهر مشاركة كثير من أدوات الشرط لها، سواء كانت جازمة
للمضارع ك‍ (من) و (ما) أم لا ك‍ (إذا)، كما يشهد به أو يؤيده النصوص
المتقدمة.
ولا ينافي ذلك ما صرح به النحويون من أن (إذ) ظرف مضاف
للجملة التي بعدها معمولة للجزاء. لأنه لو تم فتضمن (إذا) معنى الظرف
لا ينافي إفادتها الإناطة أيضا.
نعم، ما يقل استعماله في أعرافنا ك‍ (أيان وحيثما وإذ ما ومتى ومهما)
لا يتسنى لنا تحديد مفاد بالتبادر، ليتضح ظهوره في المفهوم وعدمه.
531

ولا يتسنى لنا الجزم بتلازم أدوات الشرط في ذلك، وإن كان مظنونا
لعدم وضوح كون المعيار في جعلهم لها من أدوات الشرط ملاحظتهم إفادتها
الخصوصية المستلزمة للمفهوم، بل لعله ناشئ عن مجرد إفادتها الارتباط بين
المقدم والتالي، نظير ما تقدم من المنطقيين، فيكون مصطلحا نحويا لا يصلح
لتحديد المفهوم اللغوي والعرفي للأدوات المذكورة.
هذا، والظاهر استفادة المفهوم من الشرطية الخالية عن الأداة، وهي
المتضمنة لجواب الطلب، نحو: أسلم تسلم، لقوة ظهور هيئتها في الإناطة
والتعليق، ويؤيده صحيحة جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له رجل:
جعلت فداك إن الله يقول: (ادعوني أستجب لكم) وإنا ندعو
فلا يستجاب لنا، قال: " لأنكم لا توفون بعهده، وإن الله يقول: (أوفوا
بعهدي أوف بعهدكم) والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم " (1).
نعم، يشكل استفادته من الحملية المشعرة بالشرط، وهي التي يكون
المبتدأ فيها موصولا والخبر مقترنا بالفاء، نحوا لذي يأتي فله درهم، فإنهم وإن
ذكروا أن دخول الفاء مشعر بتضمن الموصول معنى الشرط، إلا أن المتيقن منه
تضمنه له من حيثية إفادة كون الصلة علة للخبر، لا من حيثية الإناطة
والتعليق.
التنبيه الثاني: أشرنا آنفا إلى أن المعيار في استفاده المفهوم من القضية
دلالتها على انتفاء سنخ الحكم حال عدم الشرط، لا انتفاء شخصه. فقولنا:
أكرم زيدا إن جاءك لما كان دالا على وجوب الاكرام عند المجئ، فانتفاء
الوجوب المذكور حال عدم المجئ لعدم تحقق موضوعه لا ينافي ثبوت فرد
آخر من وجوب الاكرام في حال المرض مثلا، ليستلزم المفهوم، وإنما المستلزم

(1) تفسير القمي: ج 1، ص 46.
532

للمفهوم انتفاء مطلق وجوب الاكرام حال عدم المجئ.
وهكذا الحال في جميع المفاهيم، فمفهوم الغاية يتوقف على ظهور
القضية في ارتفاع مطلق الحكم بحصول الغاية، لا خصوص الحكم الثابت قبل
حصولها، ومفهوم الاستثناء والوصف يتوقف على ظهورها في ارتفاع مطلق
الحكم في المستثنى أو فاقد الوصف، لا خصوص الحكم الوارد على الباقي من
المستثنى منه وعلى الموصوف، ومفهوم اللقب على ظهورها في ارتفاع مطلق
الحكم الكلي الوارد على الموضوع العام بنحو الانحلال، كنجاسة الملاقي
للنجس، لاختلاف القضايا المتضمنة للأحكام في ذلك، بل الحكم المقارن
للخصوصية المذكورة في القضية من موضوع أو قيد أو غيرهما مما يكون
منشأ للمفهوم، في مقابل ذات الحكم مع قطع النظر عن تلك الخصوصية.
هذا، ولا ينبغي التأمل في أن مفاد القضية إنشائية كانت أم خبرية جعل
الامر المحكوم به أو الحكاية عنه مقارنا لتمام ما اخذ في القضية من موضوع
أو قيد أو غيرهما، لتقوم النسبة التي تتضمنها القضية بأطرافها، فلا معنى
لعمومها لحال، عدم بعض تلك الأطراف.
إلا أن يخرج بعض تلك الأطراف عن كونه قيدا في القضية، كالوصف
المذكور المحض بيان حال الموضوع اللازم أو ا لغالب. أو تكون خصوصية
القيد ملغية لذكره في القضية عبرة لبيان قيدية الماهية التي يندرج تحتها.
533

لكن كلاهما - مع مخالفته للظاهر واحتياجه للقرينة - لا ينافي ما ذكرنا
من دخل القيد في الحكم الذي تتضمنه القضية، وأنها لا تفيد إلا الحكم
المتقوم به.
ومرجع ذلك إلى كون المجعول فيه القضية الانشائية والمحكي عنه
في الخبرية شخص الحكم لا سنخه.
وعليه يبتني منع ما سبق عن بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أنه
قد يستفاد من بعض القضايا إنشاء سنخ الحكم لاشتماله على خصوصية
زائدة على جعل الحكم على موضوعه.
هذا، ولا فرق في ذلك بين القول بعموم المعنى الحرفي والقول
بخصوصه، لوضوح أن عموم المعنى الحرفي مفهوما لا ينافي كون المنشأ فردا
خاصا من الحكم متقوما بجميع ما يؤخذ في القضية من موضوع وقيود، لان
إطلاقه بالإضافة إليها لا يجتمع مع أخذها فيه.
وليس الفرق بين جزئية المعنى الحرفي وكليته إلا في كون الخصوصية
خارجة عن مفهومه مقارنة له وكونها مأخوذة في المفهوم - نظير الفرق بين
قولنا: أكرم زيدا، وقولنا: أكرم الرجل، في كونه مفهوميا محضا - مع كون
المؤدى واحدا مطابقا للنسبة المتقومة بالأطراف.
فما قد يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من كون المنشأ سنخ
الحكم، لعموم المعنى الحرفي، في غير محله.
ومثله ما قد يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من الالتزام بذلك
فيما لو كان الحكم الذي يتضمنه الجزاء مستفادا من معنى اسمي، كالوجوب
والتحريم، لعموم المعنى المذكور مفهوما، وليس كالمعنى الحرفي شخصيا
534

جزئيا.
وكذا ما في التقريرات من أن الكلام المشتمل على المفهوم إذا كان
خبريا، كقولنا: يجب كذا إن كان كذا، فالمخبر عن ثبوته في المنطوق ليس
شخصيا خاصا من الحكم، بل هو كلي الحكم، وإنما يكون شخصا خاصا منه
إذا كان إنشائيا كقولنا: أكرم زيدا إن جاءك.
لابتناء جميع ذلك على تعقل كون المنشأ أو المخبر عنه كلي الحكم
وسنخه بالنحو الذي يشمل فاقد الخصوصية التي تضمنتها القضية، وقد
عرفت أنه غير معقول، وأن أخذ القيد في القضية مستلزم لاختصاص الحكم
الذي تضمنته في مقام الاخبار أو الانشاء بما يقارنه، ومرجعه إلى كون مفاد
القضية شخص الحكم لا سنخه.
على أن لازم ما في التقريرات المفهوم لكل قضية خبرية، ولازم
ما ذكره بعض الأعاظم ثبوته لكل قضية يستفاد الحكم من معنى اسمي فيها،
ولازم ما ذكره المحقق الخراساني ثبوته في كل قضية، ولا يختص - بناء على
ما ذكروه - بالشرطية ونحوها، لأنه بعد أن كان الحكم الذي تتضمنه القضية
هوا لسنخ، والمفروض أن مفادها ارتباطه بالموضوع أو القيد الخاص المذكور
فيها، ولازم ذلك انتفاؤه بانتفائه، وامتناع وجوده في موضوع آخر أو في غير
مورد القيد. فلاحظ.
ويترتب على ما ذكرنا أن ثبوت شخص الحكم في الموضوع أو مورد
القيد إذا كان منافيا لثبوت مثله في غيرهما تعين البناء على عدم ثبوته
واختصاص سنخ الحكم بالموضوع ومورد القيد، من دون فرق بين القضايا.
لكنه ليس من المفهوم المصطلح الذي يبتني ع لي اختلاف مفاد القضية،
535

بل لخصوصية في الحكم، وذلك ما في الوقوف، لوضوح أن العين إذا وقفت
على وجه امتنع وقفها على وجه آخر. فإذا قال: هذه الدار وقف على أولادي
الفقراء، اختص بها أولاده الفقراء، ولم يدخل في الموقوف عليهم غير الفقراء
من أولاده، وإن لم نقل بمفهوم الوصف، ولا غير أولاده، وإن لم نقل بمفهوم
اللقب، لا بوقفية أخرى، لامتناع وقف العين مرتين، ولا بالوقفية، الأولى،
لتوقف دخول غير الفقراء من أولاده فيها على عدم سوق الوقف للتقييد، بل
لمحض التوصيف بالغلبة، وتوقف دخول غير أولاده على إلغاء خصوصية
الأولاد، وأن ذكرهم للأعم منهم كأرحامه، أو مطلق الناس، وقد عرفت
أنهما خلاف ظاهر الكلام، بل قد يكونا خلاف المقطوع به منه.
ولا يفرق في ذلك بين كون القضية إنشائية وكونها إخبارية عن حال
الوقفية الواقعة، كما في مقام الاقرار والشهادة.
وما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من عدم الدلالة على الانتفاء في
الاخبار إلا أن تكون القضية ذات مفهوم.
في غير محله بعد ظهور القضية في بيان تمام الموقوف عليهم، لان
الاقتصار في بيان طرف الإضافة على شئ ظاهر في كونه تمام الطرف،
لا بعضه.
نعم، يتجه ذلك لو لم تتضمن الموقوف عليهم، بل مجرد استحقاقهم
التصرف في الوقف، لان استحقاقهم بالوقفية الواحدة لا ينافي استحقاق
غيرهم بها.
ونظير الوقف في ذلك ما يتضمن الملكية أو يستلزمها، كالهبة والوصية
ونحوهما، مع اتحاد موضوع الملكية. أما مع تعدد فلا يتم ذلك، بل تتوقف
536

الدلالة على الانتفاء على سوق القضية للمفهوم، لعدم التنافي بين الملكيتين.
وعليه هذا فلو أوصى بإعطاء داره لجيرانه، ثم أوصى بإعطائها لجيرانه
الفقراء أو إن كانوا فقراء، كانت الوصية الثانية ناسخة للأولى، من دون نظر
إلى ظهور القضية المتضمنة لها في المفهوم.
أما إذا أوصى بإعطاء كل رجل منهم عشرة دراهم، ثم أوصى بإعطاء
كل رجل من فقرائهم عشرة دراهم لم تكن ناسخة للأولى إلا إذا كانت
القضية المتضمنة لها ظاهرة في المفهوم.
ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما عن الشهيد الثاني في محكي تمهيد القواعد
من عدم الاشكال في دلالة القضية على المفهوم في مثل الوقف والوصايا
والنذور والايمان، قال: " كما إذا قال: وقفت داري على أولادي الفقراء،
أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك. ولعل الوجه في تخصيص المذكور هو عدم
دخول غير الفقراء في الموقوف عليهم، وفهم التعارض فيما لو قال بعد ذلك:
وقفت على أولادي مطلقا ".
إذا عرفت هذا، فقد حاول غير واحد توجيه دلالة الشرطية على انتفاء
سنخ الحكم بانتفاء الشرط مع فرض كون المنشأ هو شخصه، إما مطلقا، كما
ذكرنا، أو إذا كانت واردة في مقام الانشاء، كما يظهر من التقريرات، أو إذا
استفيد الحكم مع معنى حرفي، كما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره).
والمذكور في كلماتهم وجوه:
أحدهما: ما يظهر من التقريرات قال: " وأما ارتفاع مطلق الوجوب
فيما إذا كان الكلام إنشائيا فهو من فوائد العلية والسببية المستفادة من الجملة
الشرطية، حيث إن ارتفاع شخص الطلب والوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع
537

العلة والسبب المأخوذ في الجملة الشرطية، فإن ذلك يرتفع ولو لم يؤخذ
المذكور في حيال أداة الشرط علة له، كما هو ظاهر في اللقب والوصف،
فقضية العلية والسببية ارتفاع نوع الوجوب الذي أنشأه الامر وصار بواسطة
إنشائه شخصا.. ".
وظاهره أنه لما لم يكن ارتفاع شخص الحكم بارتفاع الخصوصية
المأخوذة فيه موقوفا على سوقها علة له، بل يكفي فيه سوقها قيدا في القضية
بأي نحو اتفق، فأخذها علة له - كما هو ظاهر الشرطية - لابد أن يكون
لبيان ارتفاع أصل الحكم وسنخه بارتفاعها، لا ارتفاع خصوص شخصه.
وفيه: أولا: أن مرجع ذلك إلى أن دلالة الشرطية على انتفاء السنخ
المستلزم للمفهوم - ليست بالوضع، بل بدلالة الاقتضاء دفعا للغوية ذكر
الشرط بصورة العلة، وهو موقوف على انحصار فائدة البيان بصورة العلة
بذلك، لكنه غير ظاهر، بل قد يكون بنفسه محطا للغرض وموردا للفائدة،
ولو بلحاظ نكتة بيانية.
على أن لازم ذلك دلالة الشرطية على المفهوم وإن لم نقل بدلالتها على
الانحصار. ومن ثم جعل بعض المحققين (قدس سره) استفادة انتفاء السنخ من
فوائد بيان انحصار العلة، لا من فوائد بيان أصل العلية.
وثانيا: أن ذلك لو تم اقتضى دلالة الشرطية المسوقة لتحقيق الموضوع
على المفهوم، بحيث تقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الشرط. بل هي أولى
بذلك، للاستغناء فيها عن ذكر الشرط مطلقا بعد تقوم موضوع الجزاء به،
بخلاف غيرها، حيث يحتاج فيها لذكره إما بصورة قيد الموضوع أو بصورة
العلة، فذكره بصورة العلة مع الاستغناء عنه أولى بالدلالة على انتفاء سنخ
538

الحكم من ذكره بصورته مع الحاجة إلى ذكره ولو بصورة أخرى. فلاحظ.
ثانيها: ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن المعلق في الشرطية
ليس هو مفاد الهيئة، لأنه معنى حرفي وملحوظ آلي ب، بل هو نتيجة القضية
المذكورة في الجزاء، وإن شئت عبرت عنها بالمادة المنتسبة، على ما تقدم
تفصيله في بحث الواجب المشروط.
وعليه يكون المعلق في الحقيقة هو الحكم العارض للمادة، كوجوب
الصلاة في قولنا: إذا دخل الوقت فصل.
لكنه حيث يبتني على ما تقدم منه في الواجب المشروط يظهر الاشكال
فيه مما تقدم هناك في وجه ضعف المبنى المذكور.
مع أنه لا ينهض بدفع الاشكال، لان الحكم المذكور هو نتيجة الهيئة عنده
هو الوجوب الشخصي الخارجي، لفرض جزئية مفهوم الهيئة عنده، فكيف
يكون المتحصل منها سنخ الحكم؟!
ثالثها: ما يظهر من سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن ظاهر القضية
تعليل سنخ الجزاء لا شخصه، سواء كان الانشاء واردا على الطبيعة أم على
الشخص، مستشهدا على ذلك بأن المشهور - مع بنائهم على أن الصيغة
مستعملة في المعنى الجزئي - قائلون بدلالة القضية الشرطية على الانتفاء عند
الانتفاء. وقد يظهر منه توجيه ما سبق من التقريرات بذلك.
لكنه كما ترى! إذ لا إشكال في أن مفاد الشرطية نحو نسبة بين الشرط
ونفس الجزاء، لا سنخه ومجرد بناء المشهور على ما سبق لابد من النظر في
وجهه، ولا يصلح بنفسه وجها للمدعى.
والذي ينبغي أن يقال: حيث سبق أن شخص الحكم هو الحكم
539

المتحصل من القضية المتقوم بتمام ما أخذ فيها من موضوع وقيود، فلا مجال
لكونه موضوعا للتقييد الذي تتضمنه القضية، لتفرعه عليه، بل ليس
موضوع التقييد إلا الذات بنفسها، الصالحة لطروء القيد وعدمه وهي
المساوقة لسنخ الحكم بالمعنى الذي تقدم، وإن لم يكن مجعولا أو مخبرا عنه
على سعته، لامتناعه تقييده بعد إطلاقه إلا بنسخه.
فمثلا الوجوب في قولنا: يجب إكرام زيد، قد لحظ في مرتبة وروده
على إكرام زيد بذاته على ما هو عليه من سعة في المفهوم، وتضييقه إنما يكون
بتقييده بموضوعه، وهو إكرام زيد، وفي مرتبة متأخرة عنه.
فهو في المرتبة الأولى سنخ الحكم وطرف للتقييد غير مجعول على سعته،
وفي الثانية شخصه الذي تناوله الجعل.
كما أن وجوب إكرام زيد الذي هو مفاد الجزاء في قولنا: أكرم زيدا
إن جاءك، قد لحظ في مرتبة تقييده بالمجئ بذاته، على ما هو عليه من
سعة، وتضييقه بالشرط الذي يتحصل منه شخص الحكم إنما يكون في المرتبة
اللاحقة لتقييده بالشرط، وهكذا الحال في جميع القيود التي تتضمنها القضية.
وحينئذ إذا فرض ظهور التقييد ببعض القيود في الانحصار والإناطة بها
فليس المراد بهما إلا الانحصار والإناطة بالإضافة إلى موضوع التقييد وهو
السنخ المستلزم للمفهوم، وإن كان الحكم المتحصل من القضية المنشأ
أو المخبر عنه بها هو التشخص.
فكون الحكم المجعول أو المخبر عنه هو الشخص لا يستلزم كونه هو
المنوط بالقيد والمعلق عليه، بل لا يمكن ذلك بعد كونه متحصلا منهما
ومتأخرا عنهما رتبة، بل ليس موضوعهما إلا السنخ، والذات القابلة للامرين.
540

وعلى هذا يكون المعيار في سعة المفهوم، فإنها تابعة لسعة الحكم الذي
يكون طرفا للتقييد.
فحيث كان مفهوم اللقب مبنيا على ظهور تقييد الحكم بموضوعه في
انحصاره به، وكان الموضوع قيدا للحكم بذاته غير بشئ أصلا، كان
مفهوم اللقب على تقدير القول به أوسع المفاهيم، لرجوعه إلى انتفاء ذات
الحكم عن غير الموضوع المذكور في القضية.
أما غيره من القيود فحيث كان واردا على الحكم بعد تقييده بموضوعه
المذكور في القضية فمفهومه - لو قيل به - انتفاء الحكم عن ذلك الموضوع في
غير مورد القيد، لا انتفاء مطلق الحكم في غير مورد القيد، بحيث يستلزم
انتفاءه عن موضوع آخر.
ولذا كان مفهوم الشرط في قولنا: أكرم العالم إن كان عادلا، ومفهوم
الوصف في قولنا: أكرم العالم العادل، عدم وجوب إكرام العالم غير العادل.
لا عدم وجوب إكرام غير العالم مطلقا، بل هو يبتني على مفهوم
اللقب.
ولا عدم وجوب إكرامه إذا لم يكن عادلا، بل هو يبتني على كون
الشرط أو الوصف وهو العدالة تمام العلة المنحصرة - الذي سبق أنه لا مجلا
للبناء عليه في الشرطية، ولا يظن من أحد البناء عليه في الوصفية - إذ لو كان
متمما للعلة أمكن اختصاص الاحتياج إليه بالعالم، لكونه متمما لمقتضى
الحكم فيه، أو شرطا لتأثير مقتضيه فيه، أو رافعا للمانع منه، دون غيره
- كالفقير الجاهل - بل يكون واجدا لتمام مقتضى الحكم من دون أن يحتاج
تأثيره للشرط، أو يمتنع بمانع.
541

وبذلك يظهر الحال في الشرطية لتحقيق الموضوع، فإن ظهور
الشرطية في المفهوم لما سبق إنما يقتضي إفادتها إناطة ثبوت الحكم لموضوعه
بالشرط المفروض عدم انفكاكه عن الموضوع، ومقتضى الإناطة المذكورة
ارتفاع الحكم عن موضوعه بارتفاع الشرط بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.
وأما ارتفاع الحكم عن غير موضوعه بارتفاع الشرط فهو أمر
لا تقتضيه الشرطية ليصح النقض بها في المقام، كما عن بعضهم.
فإذا قيل: إن قدم العالم فاستقبله، كان مفهومه عدم وجوب استقبال
العالم عند عدم قدومه بنحو السالبة بانتفاء الموضوع - إذ لا موضوع
للاستقبال مع عدم القدوم - لا عدم وجوب استقبال غيره، وإنما يستفاد ذلك
لو قيل استقبل القادم من السفر إن كان عالما. فلاحظ.
التنبيه الثالث: من الظاهر أن المفهوم لما كان يبتني على إناطة الجزاء
بالشرط وتعليقه عليه كان عبارة عن ثبوت نقيض الجزاء عند عدم الشرط.
وهو ظاهر فيما لو كان الجزاء حكما خاصا تبعا لخصوصية موضوعه،
كما في قولنا: أكرم زيدا إن جاءك.
وكذا لو كان حكما عاما منحلا إلى أحكام متعددة بعدد أفراد
موضوعه، وكان الشرط منحلا إلى شروط متعددة تبعا لها، كما في قولنا:
أكرم العالم إن كان عادلا، حيث يستفاد منه إناطة وجوب إكرام كل عالم
بعدالته.
أما لو كان مفاد الجزاء حكما عاما، ولم يكن الشرط منحلا إلى
شروط متعددة بعدد أفراد العام الذي تضمنه الجزاء، فهل يكون مقتضى
المفهوم قضية كلية مختلفة مع المنطوق في الايجاب والسلب، أو مهملة في قوة
542

الجزئية؟
فمقتضى مفهوم قولهم (عليهم السلام): " إذا بلغ الماء قدر كر
لم ينجسه شئ " (1) على الأول تنجس غير الكر بكل نجس، وعلى الثاني
مجرد تنجسه في الجملة ولو ببعض النجاسات، ومقتضى مفهوم قولنا: إن جاء
زيد فأكرم ولده، على الأول أن جميع أولاد زيد لا يجب إكرامهم عند عدم
مجيئه، وعلى الثاني مجرد عدم وجوب إكرام جميعهم، وإن وجب إكرام
بعضهم.
إذا عرفت هذا فالظاهر الثاني، لان إناطة العام بالشرط إنما تستلزم عدم
ثبوته مع ارتفاع الشرط، وهو إنما يكون بسلب العموم، لا بعموم السلب من
دون فرق في ذلك بين أن يكون العموم انحلاليا وأن يكون مجموعيا.
والمعلق على الشرط في الأول وإن كان أحكاما متعددة حقيقة وعرفا،
بخلافه في الثاني بل هو حكم واحد حقيقة وعرفا، وتحليله إلى أحكام متعددة
ضمنية إنما هو بالتحليل العقلي، إلا أن ذلك لبيس فارقا في المقام بعد كون
المعلق والمنوط في القسمين هو العام.
نعم، لو كان المعلق والمنوط كل واحد من الاحكام الانحلالية في العام
الانحلالي، بحيث يرجع إلى إناطات متعددة بعدد تلك الأحكام، ويكون كل
منها منوطا مع قطع النظر عن غيره، اتجه عموم المفهوم، لان إناطة كل حك
بنفسه تستلزم ارتفاعه بارتفاع الشرط، فيلزم ارتفاع الجميع بارتفاعه. لكنه

(1) راجع الوسائل ج 1، باب: 9 من أبواب الماء المطلق، وفيه: (إذا كان) بدل (إذا بلغ).
543

يحتاج إلى عناية خاصة زائدة على مفاد العام، وقرينة مخرجة عن ظهور الكلام
الأولي في كون المعلق هو العام.
ومجرد كون العموم انحلاليا لا يستلزم ذلك، لان انحلالية العام لا تنافي
جعله بنفسه طرفا للتعليق، ولا تستلزم النظر إلى احكام افراده وإناطتها
بأنفسها مع قطع النظر عنه، بحيث تنحل إناطته إلى إناطات متعددة بعددها.
ولذا لا إشكال في أنه إذا لم يأخذ سلاحه خاف في الجملة، لا من كل أحد، مع أن
العموم فيه انحلالي بلا إشكال.
فما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن العموم إذا كان انحلاليا
كان المعلق كل واحد من الاحكام، بنحو يستلزم كون المفهوم قضية عامة،
في غير محله.
وأشكل من ذلك ما ذكره معيارا في م قام الاثبات من أن العموم الذي
يتضمنه الجزاء إذا استفيد من معنى اسمي - كلفظ - (كل) - أمكن أن يكون
المعلق نفس العموم، فيكون المفهوم قضية بجزئية، كما يمكن أن يكون هو
الحكم العام بتمام أفراده، فيكون المفهوم قضية كلية.
أما إذا كان مستفادا من معنى حرفي - كهيئة الجمع المعرف باللام،
والنكرة في سياق النهي أو النفي، كحديث الكر المتقدم - فلا يمكن أن يكون
المتعلق هو العموم، بل هو الحكم العام بما له من أفراد ينحل إليها.
إذ يرد عليه: أولا: أن العموم المستفاد من معنى حرفي كما يكون
انحلاليا يكون مجموعيا، ولا يختص العموم المجموعي بما يستفاد من معنى
اسمي، بل هو تابع لقرائن تختلف باختلاف الموارد.
544

وثانيا: إن كون العموم مستفادا من معنى حرفي لا يمنع من تعليقه
بنفسه على الشرط، إما لما سبق منا في الواجب المشروط من قابلية المعنى
الحرفي للتعليق، أو لما سبق منه في التنبيه الثاني من أن المعلق نتيجة القضية
المذكورة في الجزاء، فإذا كانت نتيجتها العموم أمكن أن يكون هو المعلق على
الشرط.
وبالجملة: النظر في الأمثلة العرفية - كالمثال المتقدم - شاهد بأن المعلق
هوا لعام، وأن تعليق الافراد بأنفسها كل على انفراده يحتاج إلى عناية يفتقر
ظهور الكلام فيها إلى قرينة.
ومما ذكرنا يظهر أن الجزاء لو كان قضية مهملة أو جزئية كان مقتضى
المفهوم قضية عامة مخالفة لها في الايجاب والسلب، لان نقيض الجزئية كلية إلا
أن يراد بها الإشارة إلى أفراد خاصة، فيكون المفهوم قضية جزئية أيضا مرادا
بها خصوص تلك الافراد.
لكن الظاهر عدم الاشكال في احتياجه إلى قرينة خاصة لمخالفته
للظهور الأولي للكلام.
التنبيه الرابع: إذا تعددت الشرطية مع وحدة الجزاء واختلاف الشرط،
لزم التنافي بناء على ظهور الشرطية في المفهوم، لان مقتضى مفهوم كل
شرطية انتفاء الجزاء بانتفاء شرطها وإن تحقق شرط الأخرى، وهو ينافي
إطلاق منطوق الأخرى.
ولا إشكال في ذلك مع عدم قابلية الجزاء للتعدد، كما في قولنا: إذا
خفي الاذان فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر.
أما مع قابليته له، فقد يدعى عدم التنافي بين الشرطيتين أو الأكثر، كما
545

في قولنا: إن ظاهرت فاعتق رقبة، وإن أفطرت فأعتق رقبة، حيث يمكن تعدد
التكليف بالعتق تبعا لتعدد السبب، فمع تحقق أحد الشرطين أو الأكثر يتحقق
التكليف التابع له، دون التكليف التابع للاخر، وبانتفائه ينتفي التكليف التابع
له، وإن لم ينتف التكليف التابع له، ولا تنافي، لان المنوط بكل شرط تكليفه
التابع له.
لكنه يشكل: بأن تعدد التكليف لما كان موقوفا على تعدد المكلف به،
بحمل المكلف به في كل شرطية على فرد من الماهية مباين للفرد المكلف به في
الأخرى، فهو مخالف لاطلاق المكلف به في كل شرطية، لان مقتضى
الاطلاق إرادة أصل الماهية التي يكفي في امتثالها صرف الوجود، ومع وحدة
المكلف به يمتنع تعدد التكليف، بل يتعين وحدته ويلزم التنافي، لان مقتضى
مفهوم كل شرطية عدم تحققه في ظرف عدم تحقق شرطها، وإن تحقق شرط
الأخرى.
وبالجملة: تعدد التكليف وإن لم يناف ظهور هيئة الطلب في كل من
الشرطيتين، دلا أنه مناف لاطلاق المادة التي يراد بها المكلف به في كل منهما،
وهو كاف في التنافي في المقام.
م إنه بما ذكرنا يتضح أن التنافي لا يختص بتعدد الشرطية، بل يجري
فيما لو كانت إحدى القضيتين شرطية والأخرى حملية قد تضمنت موضوعا
للحكم غير الشرط الذي تضمنته الشرطية، كما لو قيل: يجب على من خفي
عليه الاذان التقصير، وقيل: إن خفيت الجدران فقصر، لان ثبوت الجزاء مع
غير الشرط ينافي بظهور الشرطية في إناطته به.
بل يجري - أيضا - في غير الشرطية مما تضمن حصر الحكم بموضوعه مع
546

ما تضمن ثبوته مع غيره، كقولهم (عليهم السلام): " ليس ينقض الوضوء إلا
ما خرج من طرفيك.. " مع ما تضمن ناقضية النوم (1).
فملاك التنافي ظهور أحد الدليلين في حصر الحكم بموضوع وظهور
الاخر في ثبوته مع غيره بدونه.
وذكرهم لذلك في ذيل مفهوم الشرط ليس لاختصاص التنافي به،
بل لابتناء ظهور الشرطية في المفهوم على ظهورها في الإناطة والانحصار الذي
هو الملاك في التنافي.
نعم، قد تختص الشرطية ببعض الجهات الدخيلة فيما ذكروه في المقام.
ومن ثم ينبغي متابعتهم في جعلها موضوع الكلام هنا، وإن أمكن
استفادة حال غيرها مما يذكر فقيها تبعا، وإن امتاز بشئ ينبغي أن ينبه عليه.
إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم في كيفية الجمع بين الشرطيتين
ورفع التنافي بينهما.
والوجوه المحتملة ثلاثة:
الأول: المحافظة على مفهوم كل من الشرطيتين مع تقييد منطوق كل
منهما به، فيبنى على عدم ثبوت الجزاء إلا بتحقق الشرطين معا، وانتفائه
بانتفاء كل منهما.
الثاني: المحافظة على إطلاق منطوق كل منهما مع تنزيل مفهوم كل
منهما على ما لا ينافيه، فيبنى على كفاية كل من الشرطين في ثبوت الجزاء،
وأنه ينتفي بانتفائهما معا.

(1) راجع في الامرين الوسائل ج 1، باب: 2 و 3 من أبواب نواقض الوضوء.
547

الثالث: رفع اليد عن المفهوم رأسا، فتحمل الشرطية على بيان مجرد
ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، دون إناطته به، فيبنى على كفاية كل من
الشرطين في ثبوت الجزاء من دون نظر إلى حال انتفائهما.
ومنه يظهر الاشكال فيما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من رجوع
هذا الوجه لسابقه، بلحاظ اشتراكهما في استقلال الشرط في التأثير بالجزاء
وموضوعيته له.
إذ فيه: أن مجرد اشتراكهما في ذلك لا يستلزم رجوع أحدهما للاخر
بعد اختلافهما عملا في فرض انتفاء كلا الشرطين، تبعا لاختلافهما مفهوما،
لابتناء هذا الوجه على رفع اليد عن ظهور الشرطية في المفهوم والإناطة رأسا،
وابتناء ما قبل على المحافظة عليه مع تنزيله على ما يناسب المنطوق في القضية
الأخرى.
والظاهر أن الأقرب عرفا هو الثالث، لابتناء الثاني على ما لا مجال
للبناء عليه، كما يأتي إن شاء الله تعالى، وابتناء الأول على التصرف في
ظهور الشرطية في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط واستقلاله في التأثير فيه،
وهو أقوى من ظهورها في الإناطة، ولذا سبق شيوع استعمالها مجردة عنها
خالية عن المفهوم، ويتعين في الجمع العرفي المحافظة على أقوى الظهورين ورفع
اليد عن أضعفهما.
ولا يبعد مفروغيتهم عن ذلك فيما لو أمكن تعدد الجزاء، كالمثال
المتقدم في أول هذا التنبيه، ولذا غفل بعضهم عن التنافي بين الشرطيتين بدوا
بسبب وضوح الجمع بهذا الوجه وارتكازيته.
نعم، قد يقوى ظهور الشرطية في الإناطة وبيان توقف الجزاء على
548

الشرط المستلزم لانتفائه بانتفائه بنحو لا يمكن رفع اليد عنه رأسا، كما لو
ورد في مورد يفرغ معه عن ثبوت الجزاء ويشك في حده، حيث يغلب عدم
التصدي لبيان مجرد ثبوته بثبوت الشرط، بل بيان توقفه عليه، المستلزم
للمفهوم.
كما هو الحال فيما ت ضمن أنه إذا خفي الاذان فقصر، وإذا خفي
الجدارن فقصر (1)، لوضوح أن مجرد وجوب القصر حينئذ مقتضى إطلاق
وجوب القصر على المسافر، الذي يظهر المفروغية عنه في مقام البيان،
فلا غرض ببيانه، بل المناسب لذلك حمله على بيان توقف وجوب القصر على
الشرط المستلزم للمفهوم، فلا مجال لرفع اليد عنه في مقام الجمع العرفي كما
هو مقتضى الوجه الثالث، بل يتعين الوجه الأول أو غيره تبعا للقرائن الخاصة
المختلفة باختلاف الموارد، وقد يأتي التعرض لبعض الوجوه المناسبة فيه.
لكن الكلام في المقام من حيثية طبع الشرطية، التي عرفت أن ظهورها
في الإناطة والمفهوم دون ظهورها في ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط بنحو
يقتضي استقلاله بالتأثير فيه وفي موضوعيته له من دون حاجة إلى انضمام
غيره إليه، فيتعين رفع اليد عن الظهور الأضعف في مقام الجمع العرفي.
هذا، ولم أعثر عاجلا على من اختار الوجه الأول.
نعم، حيث سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) رجوع الوجه الثالث
للثاني لزم تردد الامر عنده بين الوجه الأول والثاني، وقد ذكر أنه لا مرجح
لأحدهما بعد مخالفة كل منهما للاطلاق، لابتناء الأول على تقييد الشرط

(1) بناء على ورود نص بهذا المضمون، وهو محل كلام موكول إلى محله من الفقه.
549

بمفاد (الواو) الراجع للزوم انضمام أحد الشرطين للاخر في ترتب الجزاء،
والثاني على تقييده بمفاد (أو) الراجع لقيام أحد الشرطين مقام الاخر في ترتب
الجزاء، وحينئذ يتعين الاجمال والرجوع للأصول العملية مع تحقق أحد
الشرطين دون الاخر.
لكن عرفت عدم رجوع الثالث للثاني وأنه يتعين البناء عليه، مضافا إلى
ما سبق في الاستدلال على المفهوم من أن الوجه في دلالة الشرطية عليه ليس
هو الاطلاق المقابل للتقييد بأو، لان مفاد (أو) لا ينافي الاطلاق، فلا مجال
لمعارضته للاطلاق المقابل للتقييد بالواو، بل الوجه فيه ظهور الشرطية في
الإناطة الذي سبق أنه دون ظهورها في استقلال الشرط في موضوعيته
للجزاء، فيلزم الجمع العرفي برفع اليد عن الظهور في الإناطة، لأنه أضعف
الظهورين.
وأما الوجه الثاني فهو الذي جرى عليه غير واحد، وهو يبتني على
أحد وجوه..
الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) وغيره من تقييد مفهوم
كل من الشرطيتين بمنطوق الأخرى.
وقد اعترف (قدس سره) كما ذكر غيره بأن المفهوم ليس مفاد قضية
قابلة للتقييد، بل هو لازم لمفاد الشرطية فلابد من التصرف في ملزومه
المدلول للشرطية بحمله على ما ينتج نتيجة التقييد المذكور. وهو وإن لم يشر
إلى كيفية التصرف إلا أنه قد يقرب بوجهين:
أحدهما: حمل الإناطة على الإناطة الناقصة بالمقدار الذي لا ينافي
ثبوت الجزاء مع الشرط الاخر.
550

لكنه كما ترى! لان الإناطة والتوقف أمر بسيط لا يقبل الانحلال
والتبعيض عرفا، ليمكن رفع اليد عن بعض مراتبه مع المحافظة على الباقي في
مقام الجمع العرفي بين الأدلة المتعارضة.
ثانيهما: ما أشار إليه سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن المعلق على
الشرط لما كان هو السنخ أمكن التفكيك فيه، بأن يكون المعلق كل فرد منه
عدا واحد، فإنه يثبت مع الشرط الاخر.
وقد ذكر (قدس سره) أنه معقول في نفسه وإن لم يمكن الالتزام به في
الجمع بين الشرطيتين.
لكن الظاهر أنه غير معقول في نفسه، إذ ليس سنخ الجزاء - كما
سبق - إلا عبارة عن مفاد قضيته مع قطع النظر عن تقييدها بالشرط، وهو مما
لا أفراد له، كي يمكن التفكيك بينها في إناطة بعضها دون الاخر، فإن النسبة
في نفسها ليست كالماهية الكلية ذات أفراد، بل هي أمر واحد تلحظ على نحو
السعة أو الضيق بالقيد.
وليس توقفها على أحد أمرين راجعا إلى توقف قسم من أفرادها على
أحدهما بخصوصه، والقسم الاخر على الثاني بخصوصه، نظير اتصاف الماهية
في الخارج بأحد وصفين - كالعلم والجهل - الراجع لاتصاف كل قسم من
أفرادها بأحدهما معينا، كما لعله ظاهر.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال فيما ذكره بعض مشايخنا من أن بعد امتناع
التصرف في المفهوم نفسه، لما سبق من كونه لازما لمفاد الشرطية فلابد من
رفع اليد عن ملزومه الذي هو مفادها بالمقدار الذي يرتفع به التعارض، ولا
يكون ذلك إلا بتقييد المنطوق بمفاد (أو) ورفع اليد عن إطلاقه من هذه
551

الجهة.
وجه الاشكال: أن ملزوم المفهوم لما كان هو الإناطة غير القابلة
للانحلال والتبعيض عرفا فلا مجال للاقتصار في رفع اليد عنها على ما يرتفع به
التعارض، بل لابد إما من رفع اليد عنها رأسا والبناء عليها ورفع التعارض
بوجه آخر.
ومجرد كون نسبة المفهوم اللازم لها مع منطوق الشرطية الأخرى العموم
المطلق لا يكفي في الجمع بالتقييد ما لم يكن جمعا عرفيا.
كما أن الحمل على مفاد (أو) ليس من سنخ التقييد ولا تصرفا في نفس
الإناطة التي هي المنشأ في الدلالة على المفهوم، بل هو تصرف في موضوعها
يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
الثاني: ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) - كما في التقريرات - من
تقييد إطلاق الشرط في كل منهما بعدم الاخر. فمثل: إذا أخفي الاذان
فقصر، و: إذا خفي الجدران فقصر، يحمل على أنه: إذا خفي الاذان ولم يخف
الجدران فقصر، وإذا خفي الجدران ولم يخف الاذان فقصر.
وفيه: أنه إن أريد بذلك إبقاء ظهور الشرطيتين في الإناطة المستلزمة
للمفهوم، فهو وإن نفع في دعوى أن مقتضاهما عدم تحقق الجزاء عند عدم
تحقق الشرطين - كما لو لم يخف الاذان ولا الجدران في المثال المتقدم - لأنه
من صور ارتفاع الشرط المقيد لكل من الشرطيتين.
إلا أنه مستلزم للتعارض بين الشرطيتين، لان شرط كل منهما لما كان
هو المقيد فتحققه من أفراد ارتفاع شرط الأخرى.
كما يستلزم البناء على عدم ثبوت الجزاء عند تحقق كلا الامرين - كما
552

لو خفي الاذان والجدران معا في المثال المتقدم - لأنه من صور ارتفاع الشرط
المقيد لكل من الشرطيتين، وهو خلاف المقطوع به.
مع أنه مستلزم - أيضا - لرفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال
شرطها في التأثير في الجزاء وموضوعيته له، وقد سبق أنه أقرى من ظهورها في
الإناطة والمفهوم.
وإن أريد به رفع اليد عن ظهور الشرطية في الإناطة كفى ذلك في رفع
التنافي بلا حاجة إلى تقييد الشرط ورجع إلى الوجه الثالث الذي ذكرناه.
كما أن التقييد المذكور لا ينفع حينئذ في إثبات المفهوم المدعى على
تقدير ارتفاع لكلا الشرطين، وإنما يستلزم إخراج صورة تحقق كلا الشرطين
- كما لو خفي الاذان والجدران معا - عن مفاد الشرطيتين، وتكون مسكوتا
عنها، وهو خلاف المقطوع به أيضا.
الثالث: تقييد كل من الشرطيتين بعدم تحقق شرط الأخرى. فإن
الشرطية كسائر القضايا قابلة للتقييد بالشرط وغيره، كما في قولنا: إن سألك
زيد فإن كان فقيرا فأعطه، ولازم ذلك قصور مفهومها عن صورة فقد القيد،
فلو وجب إعطاء زيد مع عدم سؤاله وإن كان غنيا لم يكن منافيا لمفهوم
الشرطية المذكورة.
فإذا قيدت كل من الشرطيتين في المقام بعدم تحقق شرط الأخرى قصر
مفهومها عن صورة تحققه، فلا يصلح لمعارضة منطوق الأخرى، وإنما يكون
مفهومهما مختصا بصورة فقد الشرطين، كما هو مبنى الوجه الثاني.
وفيه: أن ذلك إنما يتجه لو كان القيد قيدا للشرطية بتمامها، كالمثال
المتقدم، دون ما إذا كان شرطا لخصوص جزائها، كما هو المفروض في ا لمقام،
553

إذ لا وجه حينئذ لصرفه إلى أصل الشرطية.
مع أن تقييد الشرطية كما يقتضي قصور مفهومها عن صورة فقد القيد
يقتضي منطوقها أيضا، فلو لم يجب في المثال المتقدم زيد إذا
لم يسأل وإن كان فقيرا لم يكن منافيا لمنطوق الشرطية، ولازم ذلك خروج
صورة تحقق كلا الشرطين في المقام - بأن خفي الاذان والجدران معا - عن
موضوع الشرطيتين، فلا يحكم بترتب الجزاء فيها، بل تكون مسكوتا عنها،
وقد سبق أنه خلاف المقطوع به.
الرابع: حمل الشرط على القدر الجامع بين الشرطين وهو راجع إلى
التصرف في ظهور الشرط في الخصوصية، وحمله في كلتا الشرطيتين على
القدر الجامع مع المحافظة على ظهورها في الإناطة، ولازمه انتفاء الجزاء
بانتفاء القدر الجامع.
قال في التقريرات: " ولعل العرف يساعد على ذلك بعد الاطلاع
على التعدد ".
ويشكل: بأن المراد بذلك إن كان جعل تعدد الشرطية قرينة على أن
المراد بكل شرط هو القدر الجامع، بحيث يكون مسوقا عبرة له، نظير ما لو مر
بشخص حيوان، فقال: اسم هذا أرنب، حيث لا يراد به انه اسم لشخصه،
بل لجنسه.
فهو بعيد جدا إلا في نادر من الموارد، لقوة ظهور العنوان في الحكاية
عن معنونه استقلالا واحتياج فنائه في غيره إلى عناية خاصة يصعب البناء
عليها في غالب الموارد، بل يمتنع ذلك فيما لو لم يكن بين الشرطين جامع
عرفي، لتفرع مقام الاثبات على مقام الثبوت.
554

وإن كان المراد جعل تعدد الشرطية قرينة على أن موضوع الحكم الذي
يتضمنه الجزاء هو القدر الجامع وأن ذكر كل من الشرطين لأنه فرد منه،
لا لدخل خصوصيته فيه.
فهو وإن كان قريبا عرفا فيما لو كان بين الشرطين جامع عرفي،
بل متعينا مطلقا بناء على ما تكرر من بعضهم - كالمحقق الخراساني (قدس
سره) - من امتناع تعدد موضوع الحكم الواحد حقيقة، لامتناع تأثير المتعدد
في الواحد.
إلا أنه لا ينفع في المحافظة على ظهور الشرطية في المفهوم، ليكون
مقتضى الشرطيتين انتفاء الجزاء كلا الشرطيتين، حيث لا يصح تعليق
الحكم على بعض أفراد موضوعه وإناطته به، وإنما يصح الحكم بمجرد
ثبوته له.
فإذا صح ملك ولد مطلق المملوك، عبدا كان أو أمة صح أن يقال:
يملك ولد العبد، ولا يصح أن يقال: يملك الانسان إن كان ولد عبد.
إلا أن يراد بالعبد مطلق المملوك، ولو كان أمه، بحيث يساق لبيانه
ويجعل عبرة له.
ومنه يظهر الحال فيما ذكره غير واحد - منهم بعض الأعاظم (قدس
سره) وبعض مشايخنا - من تقييد الشرط بمفاد (أو) فقد ذكرنا آنفا أن ذلك
ليس من التقييد، وإن كان نحوا من التصرف في متعلق الإناطة.
وحينئذ يشكل بأن كفاية أحد الامرين في ثبوت الحكم إنما يصحح
تعليقه على أحدهما بنحو الترديد بالتصريح بالعطف ب‍ (أو) ولا يصحح تعليقه
على أحدهما بعينه، بل لابد من تنزيل الشرطية المقتصر فيها على أحدهما
555

بعينه على مجرد الثبوت عند الثبوت دون الإناطة.
إلا أن يفرض الإشارة بالمعين إلى المردد بين الامرين، لمعهودية الترديد
بينهما، وهو محتاج إلى عناية خارجة عن المتعارف ليس بناء العرف على
الحمل عليها بمجرد اختلاف الشرطية في الشرطيتين أو الأكثر قطعا، بل لابد
فيها من قرينة خاصة نادرة التحقق.
هذا ما عثرنا عليه وتيسر لنا الوصول إليه من الوجوه لتقريب الوجه
الثاني المبتني على المحافظة على المفهوم في كل من الشرطيتين بالنحو الذي
لا ينافي عموم منطوق الأخرى.
وحيث ظهر عدم تماميتها يدور الامر بين الوجه الأول والثالث،
وقد سبق أن الثالث هو الأظهر نوعا، لان ظهور الشرطية في استقلال الشرط
في التأثير أقوى من ظهورها في الإناطة المستتبعة للمفهوم.
كما سق أن الشرطية قد تحتف بما يوجب قوة ظهورها في الإناطة
والتوقف المستلزمين للمفهوم، فلا مجال حينئذ للوجه الثالث، بل لابد من
الجمع بوجه آخر، تبعا لخصوصيات القرائن المختلفة باختلاف الموارد من دون
ضابط لها.
ولا يسعنا استقصاء الوجوه الممكنة، وإنما نكتفي بالإشارة إلى ما
يحضرنا منها، ليستعين به الفقيه في مقام الجمع بين الأدلة.
منها: الوجه الأول المبتني على رفع اليد عن ظهور الشرطية في استقلال
الشرط في التأثير، وتقييد الشرط في كل منهما بالآخر، ومرجعه إلى توقف
ثبوت الجزاء على اجتماع الشرطين، وانتفائه بانتفاء أحدهما.
ومنها: البناء على اختلاف الحكم المعلق في كل من الشرطيتين سنخا،
556

نظير ما تضمن توقف حلية السمك على ما إذا كان له فلس، مع ما تضمن
توقفها على إخراجه من الماء حيا، فيحمل الأول على الحلية الاقتضائية بلحاظ
ذات الحيوان، والثاني على الحلية الفعلية.
ومنها: حمل الشرطيتين أو أحداهما على الحصر الإضافي الذي هو
شايع في استعمالات العرف للقضايا المسوقة للحصر، فيقتصر مفهومه على
مورد الإضافة نظير حمل ما تضمن حصرنا قضية الوضوء بما يخرج من الطرفين
الأسفلين على كونه بالإضاءة إلى سائر ما يخرج من البدن، كالقئ
والرعاف، فيبنى على عدم ناقضيتها، من دون أن ينافي ناقضية ما لا يخرج
منه، كالنوم.
ففي المقام يحمل ما تضمن اشتراط القصر بخفاء الاذان تارة، وبخفاء
الجدران أخرى - مثلا - على الحصر بالإضافة إلى محض السفر، لبيان عدم
كفايته بنفسه في القصر.
نعم، لازم ذلك سقوط إطلاق سببية السفر للقصر عن الحجية في غير
مورد خفاء الجدران والاذان، لكشفه عن عدم كونه تمام الموضوع للسفر، بل
هو مقتض له، لابد في فعليته معه من انضمام أمر آخر إليه.
فلابد من الرجوع إلى دليل آخر، كإطلاق وجوب التمام أو غيره.
وليس المقام من صغريات العام المخصص الذي هو حجة في الباقي،
لابتناء التخصيص على إخراج بعض أفراد العام عن عمومه الراجع لعدم كفاية
عنوان العام في ثبوت حكمه في خصوص مورده، لا مطلقا، بخلاف الحصر
الإضافي في المقام، فإن المفروض سوقه لبيان عدم كفاية السفر بنفسه في
القصر مطلقا، بل لابد فيه من انضمام شئ آخر إليه في تتميم موضوعه.
557

وحينئذ فالبناء على القصر في غير مورد خفاء الاذان والجدران إن كان
لأجل محض السفر - كما هو مقتضى العموم المذكور - كان منافيا للحصر
المذكور، وإن كان لأجل خصوصية زائدة عليه - كالتعب مثلا - فمن
الظاهر عدم نهوض ا لعام ولا غيره بإثبات دخله في موضوعه. فلاحظ.
ومنها: التصرف في خصوص إحدى الشرطيتين إما بتقييد الشرط فيها
بشرط الأخرى لو كان أخص منه، أو بحمل الشرط فيها على كونه علامة
على تحقق شرط الأخرى في مورد الشك، مع كون شرط الأخرى هو
المنحصر به الحكم حقيقة.
ولذا احتمل في التقريرات كون ذلك هو الوجه لما في السرائر وعن غيره من أن التعويل على خفاء الاذان، دون خفاء الجدران، بأن يكون خفاء
الجدران أمارة على خفاء الاذان.
إلى غير ذلك مما لا يتيسر ضبطه، ويوكل لنظر الفقيه في الموارد
المختلفة، ولو فرض عدم وضوح وجه الجمع لزم التوقف والرجوع للأدلة
الاخر، أو الأصول العملية.
التنبيه الخامس: لا إشكال في ترتب الحكم تبعا لترتب موضوعه بتمام
حدوده المأخوذة في الكبرى الشرعية المستفادة من دليل واحد أو من أدلة
متعددة بعد الجمع بينها.
وقد وقع الكلام بينهم في أن تعدد وجود الموضوع في الخارج هل
يستلزم تعدد الحكم بنحو يقتضي تعدد الامتثال، أو لا فيكتفى بامتثال واحد؟
وقد عنونت المسألة في كلماتهم بمسألة التداخل.
والمعيار في موضوعها على تعدد وجود موضوع الحكم في الخارج، إما
558

من سنخ واحد يختص الحكم به كبرويا - كما لو قيل: إنما يجب إكرام زيد
بمجيئه، فجاء مرتين - أو لا يختص به - كما لو ظاهر الشخص مرتين بالإضافة
لوجوب الكفارة - أو من سنخين كل منهما موضوع له كبرويا - كما لو
ظاهر الشخص وقتل خطأ بالإضافة للكفارة - لعدم الفرق في ملاك النزاع بين
الأقسام المذكورة بعد اشتراكها في تعدد السبب خارجا ووحدة المسبب.
ومنه: يظهر عدم تفرع هذه المسألة على الكلام في المسألة السابقة، لان
البحث في تلك المسألة إنما هو عن أنه مع تعدد الشرط ووحدة الجزاء هل يبنى
على استقلال كل من الشرطين في موضوعيته للحكم الذي يتضمنه الجزاء،
فيكون الموضوع متعددا كبرويا، أو عدم استقلاله، بل ليس الموضوع كبرويا
إلا المركب من الشرطين، ومحل الكلام هو تعدد الموضوع صغرويا ولو مع
وحدته كبرويا، كما عرفت.
نعم، لو وجد فرد من كل من الشرطين في الخارج كان تحقق موضوع
هذه المسألة مبتنيا إثباتا على الكلام في تلك المسألة، فإن بني على استقلال
كل من الشرطين في الموضوعية تحقق موضوع هذه المسألة، وإلا فلا.
فتلك المسألة إنما تصلح لتنقيح بعض صغريان هذه المسألة، لاتمام
موضوعها، كما يظهر من كيفية تحريرها في بعض كلماتهم.
بل لا يختص موضوع الكلام في هذه المسألة بالشرطية، بل يجري في
الحملية والأدلة اللبية، لاشتراكها معها في تعيين موضوع الحكم كبرويا، ولا
مناسبة لذكرهم لها في ذيل الكلام في مفهوم الشرط وبعد الكلام في المسألة
السابقة إلا ما أشرنا إليه من تفرع بع صغرياتها إثباتا على تلك المسألة
المتفرعة على المفهوم، وإلا فلا دخل للمفهوم فيها بعد كون تعيين موضوع
559

الحكم من شؤون المنطوق لا المفهوم.
هذا، ومحل الكلام الحكم القابل للتعدد تبعا لتعدد متعلقه، كالوجوب
والاستحباب الواردين على الماهية بنحو البدل، والتي يكفي في امتثالهما
تحقيقها بتحقيق فرد منها، حيث يمكن تعددهما تبعا لتعدد الموضوع، فيلزم
تعدد الامتثال بتعدد الفرد من تلك الماهية.
ومثلهما الضمان الذي قد يتعلق بقدر معين من المال الكلي، حيث
يمكن تعدده بتعدد المضمون من ذلك المقدار.
دون ما لا يقبل التعدد لوحدة متعلقه، إما لكونه كليا قد تعلق الحكم
به بنحو الاستغراق كمتعلق التحريم والكراهة، أو لكونه شخصيا، كمتعلق
النجاسة، وضمان اليد والاتلاف وهو الجسم الخارجي غير القابل للتعدد،
حيث لا إشكال في التداخل في مثل ذلك، لامتناع تعدد الحكم من سنخ
واحد مع وحدة متعلقه، لاستلزامه اجتماع المثلين.
إلا أن يفرض الاختلاف بين الحكمين في الخواص والآثار، نظير
اختلاف النجاسة المسببة عن ملاقاة البول مع النجاسة المسببة عن ملاقاة الدم
في كيفية التطهير، واختلاف الحرمة المسببة عن الاسكار مع الحرمة المسببة عن
الغصبية في ترتب الحد والسقوط بإذن المالك في التصرف، لرجوع ذلك في
الحقيقة إلى الاختلاف في سنخ الحكم، فلا يلزم من التعدد معه اجتماع المثلين.
فتأمل.
إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم التداخل مطلقا، وهو المنسوب للمشهور،
وعن جماعة - منهم المحقق الخوانساري - اختيار التداخل مطلقا، وعن الحلي
التفصيل بين اتحاد الموضوعات جنسا واختلافها فالتداخل في الأول دون
560

الثاني، وقد يناسبه النظر في كلماتهم في بعض فروع الفقه.
وكيف كان، فقد يدعى أن مقتضى إطلاق الواجب في كل دليل
متكفل ببيان الموضوع هو التداخل والاكتفاء في امتثال التكليف الذي بصرف
الوجود ولو مع تعدد الموضوع في الخارج، لا لكون متعلق التكليف هو
صرف الوجود، لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) وسبق منا في التنبيه
الأول لمسألة المرة والتكرار من منع ذلك، بل لأنه مع تعلق التكليف بالماهية
المعراة عن كل قيد - كما هو مقتضى فرض الاطلاق - يتعين الاكتفاء في
امتثاله بصرف الوجود، لتحققها به.
لكن يظهر من تقرير بعض مشايخنا لدرس بعض الأعاظم (قدس سره)
أن الاكتفاء بصرف الوجود في امتثال التكليف بالماهية إنما هو مع وحدة
الطلب المتعلق بها، أما مع تعدده - كما هو مقتضى ظهور كل دليل في تحقق
التكليف تبعا لوجود موضوعه بنحو الانحلال، المستلزم لتكثره بتكثر وجوده -
فالمتعين عدم الاكتفاء بصرف الوجود، بل لابد من تعدد إيجادها تبعا لتعدد
التكليف الوارد عليها.
وفيه: أولا: أنه يمتنع تعدد التكليف الوارد على الماهية المعراة عن كل
قيد يقتضي تعدد المتعلق، لقيام التكليف بالاعتبار العرفي، والعرف لا يعتبر
تعدد التكليف إلا في ظرف اختلاف ما يدعو إليه، أما مع وحدته من جميع
الجهات، فيلغو اعتبار التعدد عرفا، غايته أن يلتزم بتأكد التكليف حينئذ.
وإليه يرجع ما سبقت الإشارة إليه من استلزام تعدد الحكم مع وحدة
متعلقه اجتماع المثلين، لان استحالة الاجتماع في الاعتباريات فرع عدم
صحة اعتبار الامرين عرفا، وليس هو كامتناع الاجتماع في الأمور الحقيقية
561

تابعا لجهة حقيقية يدركها العقل، ليكون امتناع الاجتماع عقليا.
ومن هنا كان الظاهر أنه مع اجتماع الوجوب والاستحباب على
متعلق واحد لا يلتزم بتعدد الطلب، بل بتأكده، لان ما به الاشتراك بين
الطلبين لا يقبل التعدد عرفا، بل التأكد، وإن كان الحكمان متباينين حقيقة
وليسا متماثلين.
نعم، لابد من كونه لزوميا، بلحاظ كون اللزوم ما يمتاز به الوجوب،
فيثبت تبعا لتحقق مقتضي الوجوب.
وبالجملة: لابد مع وحدة المتعلق - وهو الماهية المطلقة - من وحدة
الطلب.
أما مع تعدد الطلب فلابد من تقييد الماهية بما يوجب التعدد، ولو بتعدد
الفرد أو الدفعة، بحيث يكون المطلوب بكل من الطلبين مقيدا بكونه غير ما
يمتثل به الاخر، وإن كان مطلقا من سائر الجهات، فالتباين بين متعلقيهما
بمحض اختلاف التحصص، لا بلحاظ اختلاف القيود والمقارنات الخارجية.
لكن لا إشكال في كون التقييد بذلك مدفوعا بالاطلاق المذكور،
وإن مقتضى الاطلاق هو التكليف بأصل الماهية الصادقة بصرف الوجود.
وأما ما عن بعض مشايخنا من تأييد ما سبق عن شيخه بثبوت النظير له
في مثل ما إذا أتلف زيد من عمر درهما ثم اقترض منه آخر، حيث تنشغل
ذمته من طبيعة الدراهم بدرهمين قد استقل كل منهما بأمره، ومثله ما لو
فات المكلف صوم يومين حيث تنشغل ذمته بتكليفين كل منهما متعلق بقاء
يوم من دون تميز لمتعلق كل من الحكمين في الموردين، ولذا تبرأ الذمة من أحد
التكليفين بفعل فرد واحد من دون حاجة إلى تمييزه.
562

فهو كما ترى! لا يشهد بتعدد الطلب مع وحدة المطلوب وهو الماهية
المطلقة، بل بكفاية تعدد الفرد في التعدد المعتبر في المتعلق من دون حاجة إلى
مميز زائد على ذلك، وهو مما لا إشكال فيه، كما لا إشكال في كونه نحوا
من التقييد المدفوع بإطلاق الواجب، كما ذكرنا.
وثانيا: أنه لو أمكن تعدد الطلب مع وحدة المطلوب، وهو الماهية
المطلقة فلا ملزم بتعدد الامتثال بالتكرار، لان كل طلب إنما يدعو إلى نقض
عدمها، الحاصل بصرف الوجود وبالفرد الواحد، وحكم العقل بالامتثال
لا يقتضي أكثر من تحقيق ما يدعو إليه الطلب.
ولذا لا إشكال في الاكتفاء به مع تعدد الطالب وصحة اعتبار تعدد
التكليف عرفا، بلحاظ اختلاف طرف النسبة الطلبية ومع ذلك يكون مقتضى
إطلاق المطلوب في كل منهما الاكتفاء بصرف الوجود، ولا يحتاج إلى التعدد
إلا مع التقييد بما يناسب تعدد الفرد، الذي سبق أنه مدفوع بالاطلاق.
وبالجملة: الاكتفاء بصرف الوجود مع وحدة الطلب، ولزوم تعدد
الامتثال بتعدد الفعل مع تعدد الطلب، ليس لمحض حكم العقل مع وحدة
المتعلق في مقام الجعل في الموردين، بل لاختلاف المتعلق، فهو مع وحدة
الطلب الماهية المطلقة التي يكفي في تحقيقها صرف الوجود، ومع تعدده الماهية
المقيدة بما يستلزم التعدد، بحيث لا يتحقق الامتثال إلا به.
ومن ذلك يظهر الاشكال فيما ذكره غير واحد في تحرير محل الكلام
من أن الكلام يقع تارة 6 في تداخل الأسباب، فيرجع إلى أن تعدد وجود
الموضوع في الخارج هل يوجب تعدد الحكم أو لا؟ والمرجع فيه ظهور
الدليلين، ومع فقده فالأصل التداخل والاقتصار في التكليف على
563

المتيقن، وهو الواحد.
وأخرى: في تداخل المسببات، فيرجع إلى أنه بعد فرض تعدد الحكم
تبعا لتعدد الموضوع هل يلزم تعدد الفعل الممتثل به، أو لا بل يكفي في امتثال
التكاليف المتعددة فعل واحد؟ ومع الشك فالمتعين البناء على عدم التداخل،
للشك في سقوط التكاليف المتيقنة بالفعل الواحد، بل مقتضى قاعدة الاشتغال
عدمه.
ولا مجال للرجوع فيه لظهور الدليل بعد كونه من شؤون الامتثال،
لا من شؤون الجعل الذي يتكفل به الدليل، كما هو الحال في المقام الأول.
وجه الاشكال: أنه بعدما سبق من امتناع تعدد التكليف مع وحدة
المتعلق، وهو الماهية المطلقة، وانه لابد من تعدده معه بتقييد الماهية في كل
منهما بما يقتضي التباين بين المتعلقين ويستلزم امتثال كل من التكليفين بفرد
مباين لما يمتثل به الاخر، يمتنع البناء على عدم التداخل في الأسباب مع التداخل
في المسببات.
إذ مع وحدة المتعلق يتعين وحدة التكليف، الراجع للتداخل في
الأسباب، فيلزم الاكتفاء في امتثاله بصرف الوجود، ومع تعدد التكليف بتعين
تعدد المكلف به وعدم الاجتزاء في الامتثال بالفرد الواحد، بل لابد من التعدد
الراجع لعدم التداخل في المسببات.
إلا أن يكون الاجتزاء بالفرد الواحد لاسقاط أحد التكليفين،
لا بامتثاله، وهو خارج عن محل الكلام. مع أنه لو فرض إمكان تعدد
التكليف مع وحدة المكلف به فقد سبق أن اللازم الاكتفاء في امتثال التكليفين
بصرف الوجود، ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال بالتكليف.
564

نعم، قد يتجه البحث في المقامين المذكورين فيما لو كان ترتب
التكليف على الموضوع بتوسط أثر يستتبع التكليف، كما في ترتب التكليف
بأسباب الطهارات على تحقق سبب الحدث، حيث يتجه فيه الكلام.
أولا: في تعدد الحدث بتعدد سببه، الراجع للكلام في تداخل الأسباب.
وثانيا: في لزوم تعدد المطهر - كالغسل - في فرض تعدد الحدث،
أو في عدمه والاكتفاء في إزالة الاحداث المتعددة بالمطهر الواحد، الراجع للكلام
في تداخل المسببات.
لكن الثاني - كالأول - حيث كان تابعا للجعل الشرعي يتجه الرجوع
فيه لأدلته، وليس هو من شؤون الامتثال، لينحصر المرجع فيه بقاعدة
الاشتغال.
ويأتي تفصيل الكلام فيه - إن شاء الله تعالى - بعد الكلام في التكليف
ونحوه - كالضمان - الذي هو عمدة الكلام في ا لمقام.
هذا، وحيث سبق أن مقتضى إطلاق متعلق الحكم هو التداخل فاللازم
النظر فيما يخرج به عن الاطلاق المذكور، فاعلم أنه حيث سبق امتناع تعدد
الحكم مع وحدة متعلقه، وهو الماهية المطلقة التي يقتضيها الاطلاق، بل اللازم
مع ذلك وحدة الحكم، كان لازم الاطلاق المذكور استناد الحكم لاسبق
الموضوعات وجودا، أما اللاحق فهو لا يستلزم حدوث الحكم، بل يكون
خاليا عن الأثر لو لم يقبل الحكم التأكد - كالضمان - وإن كان الحكم قابلا
له - كالتكليف - يكون أثر الموضوع اللاحق تأكيده، من دون أن يستند إليه
حكم حادث بحدوثه.
ومن الظاهر أن ذلك مخالف لظاهر دليل موضوعية الموضوع وسببية
565

السبب، لظهور القضية الشرطية والحملية الحقيقية ونحوهما مما يتضمن سببية
الموضوع للحكم في ترتب الحكم على الموضوع، بحيث يستند إليه حدوثه بعد
العدم، لا ما يعم تأكيد حكم سابق عليه، فضلا عن عدم ترتب شئ عليه
أصلا لو لم يقبل ا لحكم التأكيد، كما لا إشكال ظاهرا في أن الظهور المذكور
أقوى من الاطلاق المتقدم، فيقدم عليه، ويلتزم بتقييد المتعلق بما يستلزم
التعدد، ليمكن تعدد الحكم وتجدده بتجدد الموضوع.
وأما ما قيل: من أن الأسباب ليست أسبابا حقيقية، بل معرفات،
فيمكن تعدد المعرف مع وحدة المعرف.
فقد سبق عند الكلام في ظهور الشرطية في العلية أنه إن رجع لعدم
موضوعيتها في الحكم فهو خلاف ظاهر الأدلة، وإن رجع إلى كونها معرفات
عن الملاكات مع موضوعيتها، فهو لا ينافي ما ذكرناه من ظهور الكبريات
الشرعية في ترتب الاحكام عليها وحدوثها بحدوثها.
على أنه لو فرض كونها معرفات فهي معرفات لحدوث الحكم مقارنا
لها، المستلزم لتعدد الحكم الحادث بتعاقبها، ولا مجال لاحتمال كونها معرفات
عن وجود الحكم في الجملة ولو سابقا عليها.
هذا كله في فرض تعاقب وجود الأسباب، أما في فرض تقارنها فلابد
في عدم التداخل مع ما ذكرنا من ظهور دليل السببية في استقلال السبب في
التأثير في المسبب، حيث لابد معه من تعدد المسبب، ليستقل كل سبب بأثره،
أما لو لم يتم الظهور المذكور فمجرد ظهور الدليل في تأثير السبب وترتب
المسبب عليه لا يقتضي تعدد المسبب، لا مكان اشتراك كل من السببين في
مسبب واحد يستند إليهما ويترتب عليهما، ويلزم التداخل.
566

وأما ما يظهر من التقريرات من أن ذلك هو مقتضى فرض كونه سببا
تاما لا يتوقف ترتب المسبب عليه على انضمام غيره إليه، وأن السبب ليس
هو المركب من الامرين.
فهو كما ترى! لان عدم استقلال السبب بالتأثير يكون تارة: لقصور
فيه، بحيث يحتاج تأثيره إلى انضمام شئ آخر إليه وأخرى: لقصور في
المسبب، لوحدته واجتماع الأسباب المتعددة عليه، حيث لابد من استناده
لمجموعها وعدم استقلال كل واحد منها به، وإن كان كافيا في ترتبه
لو انفرد.
والمفروغية في المقام عن كون الموضوع سببا تاما إنما تنافي الأول الذي
يكفي في منعه ظهور الأدلة في فعلية ترتب المسبب عليه وحدوثه بحدوثه، دون
الثاني الذي يتوقف عليه عدم التداخل في محل الكلام.
بل لابد فيه من ظهور الأدلة - مضافا إلى ذلك - في كون المترتب فرد
مستقل من الحكم، بحيث لا يشركه في التأثير فيه سبب آخر حتى لو اجتمع
معه، ولا تلازم بين الامرين.
فالعمدة في ذلك: أن الدليل المتكفل بسببية السبب كما يظهر في تأثيره
في المسبب وترتبه عليه كذلك يظهر في استقلاله به، لان ذلك هو مقتضى
طبع السبب التام السببية، وإنما تشترك الأسباب التامة في مسبب واحد لعدم
قابلية المسبب للتعدد المانع من تمامية مقتضاها، كما لو ضرب الزجاج دفعة
ضربتين تصلح كل منهما لكسره، حيث لا يستقل كل منهما بالكسر في
ظرف تقارنهما وإن استقل في ظرف انفراده.
وحيث كان عدم الاستقلال في مثل ذلك للمانع فهو لا ينافي ظهور
567

الدليل في نفسه في الاستقلال بنحو يرفع به اليد عما تقدم من إطلاق المتعلق.
ثم إن تحقق موضوع المسألة - وهو تعدد الأسباب - مع تعدد أفراد
سنخ واحد يبتني على أخذ الموضوع بنو الانحلال، بحيث يكون كل فرد
موضوعا مستقلا، لظهور دليل ا لسببية في ذلك، لا في كون الدخيل في الحكم
هو مطلق الوجود الناقض للعدم المطلق لماهية السبب، الذي لا يقبل التعدد
والتكرار، وهو مما يختلف باختلاف الأدلة.
إلا أن المفروض في محل الكلام ذلك، ولذا لو تجدد الموضوع بفرد آخر
بعد امتثال الحكم المسبب عن الفرد الأول لاقتضى تجدد الحكم ولزوم الامتثال
بفرد آخر بلا إشكال ظاهر، مع أنه لو اخذ الموضوع بالنحو الاخر لم يكن
الوجود اللاحق موردا للأثر حتى بعد الامتثال، لعدم ناقضيته للعدم المطلق.
ومنه يظهر أنه لا مجال للتفصيل في التداخل وعدمه بين تعدد الموضوع
من سنخ واحد ومن سنخين، كما تقدم عن الحلي، إذ مع أخذ الموضوع
بنحو الانحلال يتعين عدم التداخل، ومع أخذه بالنحو الاخر يخرج عن مسألة
تداخل الأسباب، ويتعين عدم تأثير الفرد اللاحق حتى بعد امتثال الحكم
المسبب عن الفرد السابق، وهو مخالف لمفروض الكلام في المقام.
هذا، ومن جميع ما تقدم يظهر أن البحث في المسألة من مباحث
الألفاظ، المبتنية ثبوتا على تشخيص الظهور، فالتداخل يبتني على ظهور
الواجب في الاطلاق، كما أن عدمه يبتني على ظهور دليل السببية في السببية
المطلقة بالنحو المقتضي لكون المترتب على وجود الموضوع هو الحكم المستقل
مطلقا وكان مسبوقا بوجود مثله تبعا لوجود موضوع سابق، وفي أخذ
الموضوع بنحو الانحلال.
568

ولا مجال مع ذلك لما في التقريرات من أن النزاع في هذه المسألة
إنما يؤول إلى النزاع في اقتضاء معنى السببية عند التعدد تعدد المسببات،
وإن لم يكن ذلك المعنى مدلولا عليه بدلالة لفظية كما إذا قام الاجماع على
سببية أمرين لوجوب شئ، ولا يبتني على تحقيق مفاد الاطلاق.
إذ فيه: أن السببية تختلف باختلاف الموارد، والقطع بثبوتها في الجملة
لا يكفي في البناء على التداخل أو عدمه بل لابد في البناء على أحد الامرين
من الرجوع لظواهر الأدلة، فما لم يتم ظهور دليل السببية في السببية المطلقة
وفي أخذ الموضوع بنحو الانحلال لا مجال للبناء على عدم التداخل، بل يتعين
البناء على التداخل عملا بإطلاق الواجب.
هذا، ولو لم يكن للواجب إطلاق حينئذ كان مقتضى الأصل التداخل،
لوضوح أن مقتضى أصل البراءة الاقتصار في التكليف على المتيقن، وهو
التكليف الواحد الذي يكفي في امتثاله الفرد الواحد.
ولا مجال معه لقاعدة الاشتغال، لأن الشك في الفراغ ليس للشك في
امتثال تكليف معلوم، بل للشك في ثبوت التكليف الزائد.
ودعوى: أن المقام يبتني على الكلام في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين،
لان تعدد التكليف لما كان مستلزما لتقييد المكلف به بما يقتضي التعدد يكون
احتماله مستلزما للشك في تقييد المكلف به الذي هو موضوع تلك المسألة.
مدفوعة: بأن الشك في التقييد إنما يكون موضوعا للمسألة المذكورة
إذا كان التقييد المحتمل ناشئا من دخل القيد في الغرض الذي هو منشأ
للتكليف المتيقن، دون مثل المقام مما كان منشأ التقييد تعدد الفرض المستتبع
لتعدد التكليف والمكلف به، من دون أن يؤخذ في أحد التكليفين أو كليهما
569

خصوصية زائدة على الماهية دخيلة في الغرض، فيكون الفرد الواحد محققا
لاحد الغرضين قطعا حتى لو كان التكليف متعددا.
ومنه يظهر أنه في مورد عدم التداخل يكون الاتيان بفرد واحد موجبا
لسقوط أحد التكليفين، لأنه وإن لم يكن امتثالا لاحد التكليفين بخصوصه،
لعدم المرجع له بعد صلوح الفرد المذكور لان يقع امتثالا لكل منهما، إلا أن
عدم دخل الخصوصية في الغرض وعدم التميز بين موضوعي الغرضين ثبوتا
بأكثر من تعدد الوجود مستلزم لسقوط أحد الغرضين بالاتيان بأحد الفردين
قهرا، المستلزم لسقوط أحد التكليفين وبقاء التكليف بفرد واحد كما يتضح
بالقياس على الإرادة التكوينية المتعلقة بالوجود المتعدد بنحو الانحلال دون
الارتباطية.
واعتبار قصد خصوص أحد الامرين في امتثاله محتاج إلى دليل خاص
دال على دخل القصد المذكور في ترتب غرضه، والاطلاق والأصل يدفعان
ذلك.
نعم، لو اختص امتثال أحد التكليفين بأثر - كما في من عليه صوم يوم
من سنته وآخر من السنة السابقة، حيث يكون أثر قضاء الأول قبل مجئ
رمضان اللاحق عدم ثبوت الفدية - يتعين توقف ترتب الأثر المذكور على
سقوط خصوص أمره إما بقصد امتثاله بالفرد الأول، أو بالاتيان بالفردين
الموجب لحصول كلا الغرضين وسقوط كلا الامرين، فتأمل جيدا.
بقي في المقام أمور:
الأول: إذا كان الحكم غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه، فإن لم يقبل
التأكيد فلا إشكال في استناده لاسبق الأسباب، واحدا كان أو متعددا، من
570

دون أثر للاحق.
وإن كان قابلا له لم يبعد البناء عليه، لأنه بعد تعذر البناء على مقتضى
ظهور دليل سببيته في ترتب حكم مستقل عليه لم يبعد التنزل إلى تأثيره تأكيد
الحكم الواحد، كما هو مقتضى طبع السببية في مثل ذلك وهو أقرب عرفا
من رفع اليد عن ظهور الدليل في تأثير المتأخر رأسا تخصيصا لعموم السببية.
بل لا ينبغي التأمل في تعينه مع تقارن السببين، لان اشتراك المتقارنين في
المسبب الواحد ليس إلا لأنه مقتضى طبع السببية، وهي تقتضي التأكيد مع
قابلية المسبب له.
الثاني: ما تقدم إنما هو مع اتحاد متعلق التكليف المسبب عن الأسباب
المتعددة مفهوما ومصداقا، أما إذا اختلف المتعلق مفهوما ولو بلحاظ اختلاف
القيود المأخوذة في الماهية الواحدة، فإن كان المتعلقان متباينين موردا، كما لو
كان الواجب في أحدهما الصدقة بدرهم، وفي الاخر الصدقة بدينار فلا
إشكال في عدم التداخل.
وإن كانا متصادقين موردا في الجملة فالنسبة بينهما تكون تارة: العموم
من وجه، كما لو كان الواجب في أحدهما إكرام العالم في الاخر ضيافة
الهاشمي، حيث يجتمعان في إكرام عالم هاشمي بالضيافة.
وأخرى: العموم المطلق، كما لو كان الواجب في أحدهما عتق مطلق
الرقبة، وفي الاخر عتق خصوص المؤمنة.
وثالثة: التساوي، كما لو كان الواجب في أحدهما لبس الخاتم وفي
الاخر لبسه، مع فرض كون الاختلاف بينهما معنويا، لتعلق كل من العوضين
بإحدى الخصوصيتين، فتكون هي مورد التكليف دون الأخرى، وإن كانت
571

ملازمة لها، لا لفظيا محضا راجعا إلى سوق إحداهما في الدليل كناية عن
الأخرى، وإلا لم يكن بين الواجبين اختلاف مفهومي، وخرج عما نحن فيه
ودخل فيما سبق.
أما في الأولى فالظاهر أنه لا مانع من التداخل، بمعنى إمكان امتثال
كلا الامرين بفرد واحد من مورد الاجتماع، عملا بإطلاق الواجب في كل
منهما، ولا ينهض إطلاق دليل السببية بالخروج عنه، إذ لا مانع من تأثير كل
سبب لحكمه المستقل بعد اختلاف متعلقي الحكمين مفهوما وموردا.
ومجرد اجتماع العنوانين في بعض الافراد لا يمنع من إطلاق كل منهما
بنحو يشمل محل الاجتماع، لوجود الأثر المصحح للتكليف بكل منهما على
إطلاقه، بلحاظ إمكان الامتثال بالفرد الذي به الافتراق، ولا ملزم بالتقييد في
كل منهما بما إذا لم يمتثل به الاخر، لامكان وفاء المجمع بكلا الغرضين
الموجب لسقوط كلا الامرين وتحقق امتثالهما به.
وبعبارة أخرى: قد سبق أن محذور اجتماع المثلين مع تعدد التكليف
بالماهية الواحدة راجع إلى عدم اعتبار العرف تعدد التكليف من إلا في ظرف
تعدد ما يدعو إليه كل منهما، ولا مجال لذلك في المقام بعد اختلاف ما يدعو
إليه كل منهما في الجملة وانطباقه على ما لا ينطبق عليه الاخر، وإن تطابقا في
بع الافراد لان تطابقهما فيه وإن اقتضى دعوة كل منهما إلى وجوده،
إلا أن كلا منهما إنما يدعو إليه بنحو البدلية بينه وبين ما به الافتراق من كل
من المتعلقين، فاختلاف نحو داعويتهما إليه باختلاف طرف البدلية.
نعم، لو كان كلا التكليفين استغراقيا انحلاليا اتجه امتناع تعدد الحكم
فيه، لداعوية كل منهما إليه عينا، ولا أثر لانضمام غيره إليه في داعوية
572

التكليف له، فاتحد نحو الداعوية.
ولأجل ذلك لا يبعد البناء على التداخل في الثانية أيضا، لان الأخص
وإن كان مدعوا إليه بكل من التكليفين، إلا أن التكليف الوارد عليه يدعو إليه
عينا، والتكليف الوارد على العام يدعو إليه بنحو التخيير والبدلية، فاختلف
نحو داعويتهما إليه، فلا يلغو التكليف بكل منهما على إطلاقه، ليتعين تقييد
كل منهما بما يباين الاخر المستلزم لعدم التداخل - محافظة على تعدد التكليف
الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية.
ومما تقدم في هاتين الصورتين يظهر أن مقتضى القاعدة البناء على
التداخل لو كان التكليفان تخييريين مشتركين في بعض الأطراف وينفرد كل
منهما بطرف، أو كان أحدهما تخييريا والاخر تعيينيا متعلقا بأحد أطراف
التخيير، كما لو خير في أحدهما بين العتق والصدقة، وألزم في الاخر بالعتق،
أو خير بينه وبين الصوم.
بل يتعين ذلك في جميع موارد اختلاف نحو تعلق الحكم بالمتعلق الواحد،
ككونه مطلوبا استقلاليا في أحدهما وضمنيا في الاخر، وغيره ذلك.
وأما الثالثة فقد يمنع التداخل فيها، لامتناع تعدد التكليف بالعنوانين مع
التلازم بينهما خارجا، للغويته، بسبب كفاية امتثال أحدهما في تحقق متعلق
الاخر، بل لابد في تعدد التكليفين الذي هو مقتضى إطلاق دليل السببية من
تقييد متعلق كل منهما بما يقتضى تعدد الامتثال، كما في صورة اتحاد متعلقي
التكليفين مفهوما.
لكنه يشكل: بأن التلازم بين الواجبين لا يمنع من تعدد التكليف بهما
عرفا، لان كلا منهما إنما يدعو إلى متعلقه ذاتا وإلى لازمه تبعا، فاختلف
573

سنخ الداعوية، بل ليست الداعوية التبعية داعوية حقيقية.
وفائدة تعدد التكليف تبعا لتعدد الملاك تعدد ما يستتبعه من إحداث
الداعي العقلي والعقاب والثواب، فيكون أدعى للامتثال، كتأكيد التكليف
الواحد. ولذا يصح عرفا نسبة التكليف إلى كل منهما، لا إلى خصوص
أحدهما، لعدم المرجح، ولا إلى قدر مشترك بينهما، لعدم إدراك العرف له.
وإنما الممتنع هو اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي، إذ مع تعذر الجمع
بينهما، لكون كل منهما اقتضائيا على خلاف مقتضى الاخر يلغو جعلهما
معا، بل قد يستلزم التكليف بما لا يطاق، كما لو كان أحدهما وجوبيا
والاخر تحريميا ومع إمكان الجمع بينهما لكون أحدهما اقتضائيا دون الاخر
يلغو جعل غير الاقتضائي، لعدم صلوحه لمزاحمة غير الاقتضائي.
نعم، قد يتجه ما ذكر من امتناع تعدد التكليف لو كان ما ينطبق عليه
العنوانان في الخارج أمرا واحدا، لا أمرين متلازمين، كما لو وجب إكرام
أصغر أولاد زيد، وأكبر أولاد هند، واتحدا في الخارج، حيث يتجه لزوم
وحدة التكليف ونسبته للذات التي هي مجمع العنوانين، ويتوقف تعدد
التكليف على التقييد بما يقتضى تعدد الامتثال المستلزم لعدم التداخل.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن مقتضى إطلاق المتعلق في الأقسام
الثلاثة التداخل، وإطلاق دليل السببية لا ينهض بالخروج عنه في الأولين، لان
اجتماع العنوانين في بعض الافراد لا يمنع من تعدد الحكمين، وكذا في الثالث
لو كان ما ينطبق عليه العنوانان متلازمين في الخارج من دون أن يتحدا، لعدم
المحذور في تعدد حكم المتلازمين.
فلابد في البناء على عدم التداخل فيها من قرينة أخرى مخرجة عن
574

مقتضى إطلاق المتعلق، ولا ضابط لذلك، بل يوكل للفقه.
نعم، كثيرا ما تقوم القرينة على كون الواجبات المسبب وجوبها عن
الأسباب المختلفة ما هيات شرعية متباينة في أنفسها، نظير تباين صلاتي الظهر
والعصر، وحجة الاسلام وغيرها، وأقسام الكفارات، وإن اشتركت في
الاجزاء والشرائط، وليس تباينها لمجرد تعدد الامر بها أو اختلاف سبب الامر
ولازم ذلك عدم انطباقها على فرد واحد في الخارج ليمكن أن يمتثل به
أوامرها المتعددة.
وهذا أمر خارج عن محل الكلام، لان الكلام في مفاد نفس القضية
المتكفلة ببيان موضوعية الموضوع للتكليف مع قطع النظر عن القرائن
الخارجية.
الثالث: أشرنا آنفا إلى أن محل الكلام في التداخل وعدمه ما إذا كان
التكليف مسببا عن الموضوع بالمباشرة، دون ما إذا كان مسببا عنه بتوسط
أثره، كما في أسباب الخبث والحدث بالإضافة إلى وجوب التطهير بالغسل أو
الوضوء والغسل، لوضوح أن موضوع التطهير هو الخبث والحدث المسببان
عن أسبابهما المعهودة، لا نفس حدوث تلك الأسباب.
وحينئذ نقول: إذا ورد: من بال فليتوضأ، ومن نام فليتوضأ، فمقتضى
إطلاق المأمور به هو الاكتفاء بوضوء واحد بحدوث كل من السببين،
ولا ينهض إطلاق دليل السببية برفع اليد عن مقتضى الاطلاق المذكور، لان
سببية كل من النوم والبول لوجوب الوضوء لما كان بتوسط سببيتهما للحدث
فمقتضى إطلاق سببيتهما إنما هو تعدد الحدث المسبب عن كل منهما،
وحيث لا مانع من رفع الحدث الواحد للاحداث المتعددة فلا ملزم بالخروج
575

عن إطلاق الوضوء في الدليلين المقتضي للتداخل.
ودعوى:، أن ذلك إنما يتجه لو لم يتضمن الدليلان إلا بيان السببية،
كما لو قيل: من بال فالوضوء رافع لحدثه، ومن نام فالوضوء رافع لحدثه، أما
إذا تضمن الامر بالوضوء بسبب الحدث فيجري ما سبق في وجه عدم
التداخل، لأنه لو لم يكن الوضوء الواجب بكل منهما ما يباين الاخر، بل
مطلق ماهيته لم يكن الحدث الثاني موجبا لحدوث الامر المستقل بالوضوء،
لما سبق من امتناع تعدد الامر مع وحدة المتعلق، بل غايته تأكيد الامر الأول،
وهو - كما سبق - مخالف لظاهر إطلاق دليل السببية.
مدفوعة: بأن الامر المذكور إن كان للارشاد إلى كون السبب محققا
للحدث الذي يرفعه الوضوء - كما هو الغالب - فمن الظاهر أن ما سبق
الكلام له - وهو الحدث - متعدد ولو مع وحدة الوضوء.
وإن كان لبيان الامر المولوي برفع الحدث المسبب عن السبب المذكور
نفسيا - كما في الامر بالكون على الطهارة - أو غيريا - لتوقف مثل الصلاة
عليه - فهو غيري بلحاظ مقدمية الوضوء لرفع الحدث المطلوب، ولا مانع من
تعدد الامر الغيري بالمقدمة الواحدة مع تعدد ذي المقدمة، لان داعويته في
طول داعوية الامر النفسي وبينهما نحو من الارتباطية، فمع تعدد الامر النفسي
لتعدد ذي المقدمة تختلف نحو داعوية الامرين بالمقدمة، وقد سبق أنه لا محذور
في تعدد الامر مع اختلاف نحو الداعوية.
هذا بناء على ثبوت الامر الغيري المولوي، وأما بناء على عدمه وأنه
ليس الامر بالمقدمة إلا عقليا لأنها من شؤون إطاعة الامر النفسي - كما هو
التحقيق - فالامر أظهر، حيث ليس في البين إلا أمرين نفسيين برفع كل من
576

الحدثين، إذ لا مانع من تعدد الامر مع تعدد المأمور به ولو مع التلازم بين
المتعلقين، نظير ما تقدم في الصورة الثالثة من الامر السابق.
نعم، لو لم يكن الامر غيريا لرفع الأثر - كالحدث في المثال السابق -
بل نفسيا بسبب تحقق الأثر من دون أن يراد به رفعه كما لو قيل: من بال
فليتصدق بدرهم، ومن نام فليتصدق بدرهم، كان الأصل عدم التداخل، لعين
ما سبق، ولا أثر لتوسط الأثر حينئذ إلا أن يثبت من الخارج وحدة الأثر،
فيلزم عدم تأثير السبب اللاحق فيه، فلا تعدد في موضوع التكليف، فيكون
نظير فعل المفطر في نهار شهر رمضان بالإضافة إلى الكفارة، الذي فهم من
الأدلة أن موضوعيته للكفارة بلحاظ مبطليته للصوم غير القابلة للتعدد.
وكذا لو ثبت تعدد الأثر وعدم سببية اللاحق للتكليف المستقل،
وكلاهما مخالف للاطلاق دليل السببية، لما تقدم من أن مقتضاه تأثير كل
سبب لفرد مستقل من المسبب.
الرابع: قد ظهر من جميع ما سبق أن التداخل في مورد يبتني إما على
وحدة متعلق التكليف - وهو الماهية المطلقة - المستلزمة لوحدة التكليف
واستناده لاسبق الأسباب، وإما على تعدده وتعدد التكليف تبعا له مع حصول
المتعدد بفعل واحد يمتثل به التكاليف المتعددة، وعلى كلا الوجهين يتعين كون
التداخل عزيمة بمعنى عدم مشروعية تكرار الامتثال بفعل آخر، إذ لا موضوع
للامتثال بعد سقوط الامر الواحد أو الأوامر المتعددة بالفعل الأول.
ولا يتعقل كونه رخصة يشرع معه تكرار الامتثال، كما قد يتردد في
بعض الكلمات، إذ لا امتثال إلا في فرض وجود الامر، ومع فرض وجوده
بعد الفعل الأول لا تداخل.
577

نعم، لو ابتنى التداخل على تعدد الامر تبعا لتعدد متعلقه مع تحقق
المتعلق المتعدد بفعل الواحد - كما هو مبنى الوجه الثاني - فلو كان سقوط
أحد الامرين أو كليهما مشروطا بقصد امتثاله يتعين عدم سقوط ما لم يقصد
امتثاله ويلزم تكرار الفعل بقصده، كما ذكره في التقريرات.
لكنه راجع إلى التفصيل في التداخل وتوقفه على قصد الامتثال،
لا على كون التداخل في ظرف ثبوته رخصة لا عزيمة.
وكذا لو فرض التداخل بأحد الوجهين السابقين، مع استحباب التكرار
لتعدد الأسباب، حيث لا يكون التداخل رخصة، بل عزيمة بالإضافة إلى
التكليف المسبب عن السببين، وإنما يكون التكرار لامتثال الاستحباب
المفروض من دون تداخل فيه.
578

الفصل الثاني
في مفهوم الوصف
وقع الكلام في أن أخذ الوصف في موضوع الحكم هل يدل على إناطته
به وانتفائه بانتفائه، أو لا، بل على مجرد ثبوته في ظرف ثبوته.
وكلامهم في تحديد محل النزاع لا يخلو عن اضطراب، حيث
وقع الكلام..
تارة: في اختصاصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أو عمومه لغير
المعتمد مما اخذ بنفسه في موضوع الحكم لا قيدا في موضوعه.
وأخرى: في أن المفهوم المتنازع فيه انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف
من خصوص أفراد الذات المقيدة به، أو مطلقا ولو من غيرها، فلو قيل: أحب
العسل الحلو، وتجب في الغنم السائمة الزكاة، كان ظاهر عدم محبوبية كل غير
حلو ولو من الرمان، وعدم وجوب الزكاة في كل غير سائم ولو من الإبل.
وقد حاول غير واحد تخصيص النزاع في الموردين لبعض الوجوه
الصالحة في الحقيقة لبيان ضعف عموم القول بالمفهوم، لا لبيان قصور مورد
النزاع، بل لا وجه له بعد ظهور عمومه من ذهاب بعضهم لعموم ثبوت
المفهوم أو عموم بعض استدلالاتهم عليه.
بل يتعين تعميم محل النزاع، والنظر في حال كل دليل بنفسه من حيثية
579

عموم مفاده أو خصوصه.
بل قد يتجه تعميمه للوصف الضمني، كما في النبوي: " لان يمتلئ بطن
الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا " لان امتلاء البطن كناية عن الكثرة،
فلو كان له مفهوم كان مقتضاه عدم البأس بالشعر القليل.
بل لعل ملاك النزاع بملاحظة بعض تصريحاتهم واستدلالاتهم يشمل
غير الوصف من القيود، كالحال والظرف وغيرهما، كما يظهر عند
استقصاء الأدلة.
إذا عرفت هذا، فقد ذكرنا في الوجه الرابع والخامس لتقريب دلالة
الشرطية على الإناطة وفي التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط أن مفاد
القضية جعل الحكم الشخصي المتقوم بتمام ما اخذ فيها من قيود وشروط
وخصوصيات، أو الحكاية عنه، وأنها لا تتضمن جعل الحكم بنحو أوسع من
ذلك، ولا الحكاية عنه.
إلا أن يخرج بعض الأطراف عن كونه قيدا في القضية، كالوصف
المذكور لبيان الحال اللازم للموضوع أو الغالب، كتقييد الربائب المحرمة على
زوج الام في الآية الشريفة بكونها في حجره، أو تكون خصوصية الطرف
ملغية، بحيث يكون مسوقا لبيان دخل ما هو الأعم منه، كما لو قال
العطشان: جئني بماء أشربه، والجائع: جئني بخبز آكله، وأرادا بذلك طلب
مطلق ما يرفع العطش والجوع من السوائل والطعام، وكلاهما مخالف لظاهر
أخذ العنوان في القضية.
والظاهر رجوع الأول إلى ما قيل من أن الأصل في القيد أن يكون
احترازيا، والثاني إلى ما قيل من ظهور أخذ العنوان في دخله بخصوصيته في
580

الحكم.
كما ذكرنا آنفا أن ذلك وحده لا يكفي في الدلالة على ا لمفهوم، لان
انتفاء الحكم الذي تضمنته القضية بانتفاء بعض أطرافها لا ينافي ثبوت مثله في
مورد الانتفاء، بل لابد مع ذلك من ظهور القضية في كون الطرف المأخوذ
فيها دخيلا في سنخ الحكم، بحيث ينتفي بانتفائه.
وحينئذ فالظاهر أن الوصف ككثير من القيود المذكورة في القضية
- من الحال والظرف وغيرهما - لا ظهور له في ذلك وضعا، لعدم فهم ذلك
من نفس الكلام، بل ليس المفهوم من حاق الكلام إلا ثبوت الحكم
بثبوت القيد.
ومما سبق يظهر أن ذلك لا ينافي ما قيل من أن الأصل في القيد أن
يكون احترازيا، وأن ظاهر العنوان دخله بخصوصيته في الحكم، لما ذكرنا من
أن ذلك إنما هو بالإضافة إلى شخص الحكم لا سنخه.
ومن هنا لا بد من الاستدلال على مفهوم الوصف أو غيره من القيود
بوجوه اخر لا ترجع إلى دعوى كونه مقتضى الوضع.
والمذكور في كلماتهم وجوه:
الأول: دعوى لزوم اللغوية بدونه، إذ لو كان الحكم يعم حال فقد
القيد لم يكن لتكلف ذكره فائدة.
وهو - لو تم - لا يختص بالوصف، بل يجري في سائر القيود التي
تتضمنها القضية.
نعم، قد يختص بالوصف المعتمد على الموصوف ونحوه من القيود
الزائدة على الموضوع، حيث قد تتجه دعوى لغوية تكلف ذكرها زائدا على
581

ذكر الموضوع لو كان الحكم ثابتا للموضوع مطلقا ولو مع فقدها، أما غير
المعتمد فلا وجه للغوية جعله موضوعا بمجرد عموم الحكم لغيره، لان بيان
ثبوت الحكم في مورده كاف في الفائدة الرافعة للغويته، وإلا لزم البناء على
حجية مفهوم اللقب لأجلها، ولم يعرف منهم الاستدلال عليه بها، وليس هو
كالمعتمد الذي يكفي الاطلاق في بيان ثبوت الحكم في مورده.
كما أن المفهوم اللازم من الاستدلال المذكور هو كون انتفاء القيد
موجبا لانتفاء الحكم عن بقية أفراد الموضوع وأحواله، لكفايته في رفع اللغوية
المدعاة، وإن لم يرتفع الحكم عن موضوع آخر حال فقد القيد، كما لعله
ظاهر.
وكيف كان، فمن الظاهر أن توقف رفع اللغوية على المفهوم غير
مطرد، ليكون المفهوم مقتضى الظهور النوعي الذي لا يخرج عنه إلا بالقرينة،
بل قد يكون ذكره لدفع توهم عدم ثبوت الحكم في مورده، لكونه من أفراد
المطلق الخفية، أو لكونه مورد اهتمام الحاكم لأولويته بالملاك، أو لكونه موردا
للابتلاء أو السؤال أو نحو ذلك.
مضافا إلى أنه يكفي في رفع اللغوية دخل القيد في الحكم بنحو
لا يثبت لفاقده مطلقا، ولا يتوقف على عموم انتفائه بانتفائه، بحيث لا يخلفه
قيد آخر متمم لموضوع الحكم بدلا عنه، فإذا قيل: أكرم الرجل العالم،
لا يعتبر في رفع لغوية ذكر الوصف توقف وجوب الاكرام عليه وانحصاره
بمورده - كما هو مدعى القائل بالمفهوم - بل يكفي في رفعها عدم وجوب
إكرام مطلق الرجل، بحيث لا دخل للعلم فيه أصلا، حيث يكن فائدة ذكر
الوصف حينئذ بيان دخيله في تمامية موضوع وجوب الاكرام، وإن لم تنحصر
582

به، بل يشاركه فيها غيره، كالفقر والتدين وحسن الخلق وغيرها.
الثاني: دلالة الوصف على العلية قال في التقريرات: " قد ملا الاسماع
قولهم: ان التعليق على الوصف يشعر بالعلية ".
وهو - لو تم - يختص بالوصف الحاكي عن جهة عرضية زائدة على
الذات، ولا يعم غيره من القيود. نعم، لا يختص بالوصف المعتمد على
الموصوف.
كما أن المفهوم الذي يقتضيه انتفاء الحكم بانتفاء الوصف مطلقا
لو لم يكن معتمدا.
وأما إن كان معتمدا فإن رجع الوجه المذكور إلى دعوى عليته
المنحصرة للحكم أعم من أن يكون تمام العلة أو متممها - كما تقدم منا في
العلية المدعاة للشرط - اتجه اختصاص المفهوم بانتفاء الحكم عن الموضوع
الفاقد للوصف، دون غيره مما يفقده، لامكان احتياج الموضوع إلى تتميم علية
الحكم بالوصف دون غيره من الموضوعات، بل هي علة تامة له.
وإن رجع إلى دعوى كونه تمام العلة المنحصرة للحكم من دون دخل
لخصوصية الموضوع في عليته اتجه عموم المفهوم، وانتفاء الحكم تبعا لانتفاء
الوصف مطلقا ولو في غير الموضوع.
لكنه يشكل..
أولا: بأن الاشعار لا يبلغ مرتبة الحجية.
وثانيا: بأنه غير مطرد، بل يختص بالوصف المناسب ارتكازا للحكم،
كالعلم والعدالة بالإضافة إلى وجوب الاكرام، دون مثل: تقل الثياب البيض
والمياه العذبة، وتكثر الرجال الطوال والنساء القصار.
583

وثالثا: بأن العلية بمجردها لا تكفي في المفهوم، ما لم تكن بنحو
الانحصار، ولا إشعار للوصف بكونه علة منحصرة.
نعم، قد يستفاد ذلك من قرينة خاصة أو من سوقه مساق التعليل،
كما لو قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض، ويتعين البناء حينئذ على المفهوم.
ولعله إليه يرجع ما عن العلامة من التفصيل في ثبوت المفهوم وعدمه
بين كون الوصف علة وعدمه.
لكنه خارج عن محل الكلام، لوضوح أن الكلام في ظهور الوصف
بنفسه في المفهوم.
الثالث: أنه لولا ظهور الوصف في المفهوم لم يكن وجه لحمل المطلق
على المقيد المثبتين، لعدم التنافي بينهما بدوا، مع أن بناء الفقهاء وأهل
الاستدلال على التنافي البدوي بينهما ولزوم الجميع بذلك.
ولا يخفى أنه لو تم فالمفهوم اللازم له هو انتفاء الحكم بانتفاء الوصف
عن الموضوع - إذا كان معتمدا - لا عن غيره.
كما أنه لا يختص بالوصف المعتمد، بل يجري في غيره أيضا، كما يجري
في غير الوصف من القيود، لعموم البناء على الجمع بين المطلق والمقيد فيها.
لكنه تقرر في محله أن التنافي بين المطلق والمقيد غير المختلفين في الايجاب
والسلب مختص بما إذا كان الحكم الذي تضمناه واحدا واردا على الماهية
بنحو البدلية، كما في مثل: من ظاهر فليعتق رقبة، و: من ظاهر فليعتق رقبة
مؤمنة، بخلاف ما إذا كان واردا عليها بنحو الاستغراق، كما في مثل: من
أحرم حرم عليه الصيد، ومن أحرم حرم عليه صيد الوحش.
والوجه في التنافي المذكور: أن الحكم الوارد على الماهية بنحو البدلية
584

كالوارد عليها بنحو المجموعية واحد له نحو نسبة خاصة مع جميع أفرادها،
وليس هو حكما منحلا إلى أحكام مستقلة متعددة بعدد الافراد، كما هو
الحال في الحكم الوارد على الماهية بنحو الاستغراق.
ومن الظاهر أن الحكم الواحد البدلي أو المجموعي يمتنع تعلقه بالعام
والخاص معا، لا من جهة ظهور القيد في الانتفاء عند الانتفاء بحسب تركيبه
اللفظي، بل لان تعلقه بالخاص تعين الامتثال بفرد منه لو كان الحكم بدليا،
والاكتفاء بتمام أفراده لو كان مجموعيا، وتعلقه بالعام يقتضى الاكتفاء بفرد
منه - ولو من غير الخاص - لو كان بدليا، وتعين الامتثال بتمام أفراده لو كان
مجموعيا، عكس الأول.
ولذا يقع التنافي بين العام والخاص مطلقا وإن لم يكن الخاص وصفا
ولا مقيدا، بل اسما جامدا، كما لو قيل: إن ظاهرت فأعتق رقبة، و: إن
ظاهرت فأعتق رجلا، مع وضوح أن أخذ الاسم الجامد في موضوع الحكم
لا يدل على الانتفاء عند الانتفاء إلا بناء على مفهوم اللقب، الذي هو خارج
عن محل الكلام.
وهذا بخلاف الحكم الاستغراقي فإنه حيث كان منحلا إلى أحكام
متعددة بعدد أفراد الماهية لكل منها إطاعته ومعصيته، فلا تنافي بين تعلقه
بالعام وتعلقه بالخاص، إلا أن يكون لدليل تعلقه بالخاص ظهور في الانحصار
والانتفاء عند الانتفاء.
ومن ثم كان عدم البناء على حمل المطلق على المقيد في ذلك، لعدم
التنافي بينهما، والاقتصار في البناء على التنافي على ما إذا كان الحكم بدليا
شاهدا بعدم ابتنائه على مفهوم الوصف، بل على خصوصية الحكم.
585

هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم.
وربما استدل بعضهم بفهم أهل اللسان المفهوم في بعض الموارد وهو
كما ترى! لا ينهض بالاستدلال، لعدم حجية فهمهم، واحتمال استناده
لقرائن خاصة خارجة عن مفاد التوصيف.
ومن هنا يتعين البناء على عدم دلالة الوصف على المفهوم، بحيث يكون
من الظهورات النوعية.
وإن كان قد يحمل الكلام عليه لقرائن خاصة مقالية أو حالية غير
منضبطة.
هذا، وعن بعض مشايخنا أن الوصف وإن لم يدل على المفهوم بمعنى
انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف إلا أنه يدل على عدم ثبوت الحكم لذات
الموصوف على الاطلاق، بل لابد في تتميم موضوعيتها من انضمام أمر آخر
إليها سواء كان هو الوصف أم غيره.
فمثلا قولنا: أكرم الرجل العالم، وإن لم يدل على انحصار وجوب
الاكرام، بل لابد في موضوعيته للوجوب المذكور من انضمام أمر زائد عليه
من العلم أو غيره مما يقوم مقامه، فالقضية المذكورة تنافي عموم وجوب إكرام
الرجل، وإن لم تناف عموم وجوب بعض أصنافه الأخرى، كالفقير والمتدين
وغيرهما.
وقد وجه ذلك: بأن ظاهر القيد أن يكون احترازيا، وخروجه في بعض
الموارد عن ذلك محتاج للقرينة المخرجة عن الظهور المذكور، وثبوت الحكم
لمطلق الذات الوارد عليها العقد من دون أن يكون القيد دخيلا فيه ينافي
586

احترازية القيد.
ومن ثم خصه بالوصف المعتمد على الموصوف، أما غيره فحيث
لم يسق لتقييد موضوع الحكم فلا ظهور له في الاحترازية، بل هو كسائر الموضوعات
التي يرد عليها الحكم ابتداء، لا مجال لظهوره في المفهوم بناء على
عدم القول بمفهوم اللقب، الذي هو خارج عن محل الكلام.
لكنه كما ترى! إذ المراد بأصالة الاحترازية في القيد إن كان بالإضافة
إلى شخص الحكم - كما تقدم أنه الظاهر - فقد سبق أنه لا ينفع في المفهوم
أيضا، وإن كان بالإضافة إلى سنخ الحكم فهو يقتضي انحصاره بواجد القيد
المستلزم للمفهوم، لان مرجعه إلى الاحتراز بالمقيد عن شمول الحكم لغير
موارده، ولا يقتضي التفصيل الذي ذكره.
نعم، يتجه ذلك لو كان المدعى عدم ظهور القيد في الاحترازية
بالإضافة إلى سنخ الحك م، بل في دخله في ثبوت الحكم في مورده زائدا على
تحديده لمورد الحكم، لاستلزام دخله عدم كفاية الذات في ترتب الحكم وعدم
كونها تمام الموضوع له وإن أمكن أن يخلفه أمر آخر يقوم مقامه في الدخل في
الحكم وتتميمه لموضوعه.
لكن الظهور في ذلك يبتني على أحد الاستدلالين الأولين لو غض النظر
عن الوجه الأول في دفع الأول، وعن الوجهين الأولين في دفع الثاني، كما
يظهر بملاحظتها والتأمل فيهما.
وحيث لا مجال للغض عنها فلا مجال للبناء على التفصيل المذكور.
587

الفصل الثالث
في مفهوم الغاية
وقع الكلام في أن التقييد بالغاية هل يدل على انتفاء الحكم بحصولها
أولا؟
وقد ذكر غير واحد أن الغاية تارة: تكون قيدا للحكم.
وأخرى: تكون قيدا للموضوع، وبنوا على ذلك الكلام في المفهوم.
وينبغي الكلام في هذا التقسيم وإيضاح حدوده فنقول:
الظاهر أن المراد بالأول رجوع الحكم للنسبة التي يتضمنها الكلام،
لا للمحمول، ففي مثل: كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر، وكل مسافر
مستوحش حتى يتخذ سكنا، يكون المراد استمرار النسبة إلى حصول الغاية،
لا الحكم بحصول الطهارة والوحشة المستمرتين إلى حصول الغاية، لان لازم
الثاني توقف صدق القضية على حصول الغاية، لان صدق الحملية كما
يتوقف على تحقق المحمول يتوقف على تحقق قيوده، وليس كذلك على الأول،
لعدم توقف صدق القضية على تحقق قيود النسبة التي تضمنتها من شرط
أو غاية أو ظرف أو غيرها، بل غاية الامر أنه لابد في ظرف تحقق القيود
أو عدمها في الخارج من مطابقة النسبة في الخارج قيديتها، فتتحقق
النسبة بتحقق الشرط والظرف وترتفع بتحقق الغاية، ولا تتحقق النسبة مع
589

عدم تحقق الشرط، كما لا يعلم تحققها مع عدم تحقق الظرف، ولا ترتفع
- بعد تحققها - مع عدم تحقق العناية.
وحيث لا ظهور للقضية في تحقق الغاية، ولذا لا تكذب مع عدم
تحققها، لزم رجوعها إلى النسبة.
وما يظهر من بعض عباراتهم من أنها قد ترجع إلى المحمول، في غير
محله على الظاهر، لعدم معهوديته في القضايا المتعارفة المعهودة.
وأما الثاني فقد تردد في بعض كلماتهم أن الغاية ترجع..
تارة: لمتعلق الحكم كالسير في قولنا: سر من الكوفة إلى البصرة.
وأخرى: لموضوع المتعلق، كالأيدي والأرجل في قوله تعالى:
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين) (1)، حيث لا تكون غاية للغسل والمسح، ولذا لا يجب الانتهاء
فيهما بالمرفق والكعب وإليه يرجع ما قيل من أنها لتحديد المغسول.
لكن الظاهر رجوع الثاني للأول، وأن المراد بمثل الآية بيان غاية
الغسل، غاية الامر أنه ليس بلحاظ التدرج في وجود أجزائه، الذي يكون
معيار الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى سبق الوجود وتأخره، بل بلحاظ محض
التحديد وبيان المقدار، الذي يكون الفرق فيه بين المبدأ والمنتهى بمحض
الاعتبار، نظير تحديد الأمكنة والبقاع، حيث يصح أن يقال في تحديد البحر
الأبيض المتوسط مثلا: إنه يمتد من جبل طارق إلى بلاد الشام، كما يصح أن
يقال: يمتد من بلاد الشام إلى جبل طارق، فيكون المراد بالآية بيان مقدار

(1) سورة المائدة: 6.
590

الغسل بلحاظ سعة المغسول.
وإلا فحملها على تقييد نفس الموضوع الخارجي بلحاظ أجزائه بعيد
عن المرتكزات غير معهود النظير.
ومنه يظهر أن غاية الموضوع كغاية الحكم راجعة للنسبة، لوضوح أن
متعلق الحكم هو فعل المكلف، ورجوع الغاية إليه إنما هو بلحاظ قيام المكلف
به وصدوره منه وانتسابه إليه.
وليس الفرق بين رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع إلا في أن
مرجع الغاية في الأول هي النسبة بين الحكم ومتعلقه، أما في الثاني فهي النسبة
التي يرد عليها الحكم وتكون متعلقا له.
فإذا قيل: يجب أن تجلس من طلوع الشمس إلى الظهر، فإن كان
التوقيت للنسبة بين الوجوب والجلوس - مع إطلاق الجلوس - كانت الغاية
راجعة للحكم، وإن كان للنسبة الصدورية بين المكلف والجلوس التي هي
متعلق للوجوب - مع إطلاق نسبة الوجوب إليها - كانت الغاية راجعة
للموضوع.
ولعله لذا ذكر النحويون أن الجار والمجرور لابد أن يتعلق بالفعل
وما يقوم مقامه من الأسماء المتضمنة معنى الحدوث والتجدد، حيث لا يبعد
كونه بلحاظ تضمن تلك الأسماء معاني حدثية قد لحظ انتسابها
لموضوعاتها. فلاحظ.
إذا عرفت هذا فيقع الكلام في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت، الراجع لبيان حال واقع كل من القسمين من
حيثية الدلالة على المفهوم.
591

وقد ذكر غير واحد أن الغاية إن رجعت للحكم لزم انتفاؤه بحصول
الغاية، وكانت القضية دالة على المفهوم، وإن رجعت للموضوع كانت
كسائر قيوده لا مفهوم لها.
أما الأول: فقد استدل عليه المحقق الخراساني (قدس سره) بأن فرض
كون الشئ غاية لشئ ملازم لارتفاعه بارتفاعه، وإلا لم يكن غاية له.
ولا مجال للاشكال عليه: بأن ذلك فرع كون الغاية غاية لسنخ الحكم،
لا لشخصه، فلابد من إثبات ذلك.
لظهور اندفاعه مما سبق في التنبيه الثاني من تنبيهات مفهوم الشرط من
أن ما تتضمنه القضية وإن كان هو شخص الحكم المتقوم بتمام ما اخذ فيها
من قيود، إلا أن موضوع التقييد الذات على سعتها المساوقة للسنخ بالمعنى
المتقدم، فتضيق بالقيد، فالقيد يرد على السنخ، وإن كان المتحصل من القضية
المتضمنة له هو الشخص. فراجع.
فالعمدة في الاشكال على الاستدلال المذكور: أنه مع فرض كون
الشئ غاية لابد من ثبوت المفهوم، ولا مجال للنزاع فيه، ومرجع النزاع
المذكور إلى النزاع في ظهور الكلام في كون الشئ غاية، فإن التعبير بالغاية
إنما وقع في كلام أهل الفن من دون أن يتضمنه الكلام الذي وقع النزاع في
دلالته على المفهوم، وإنما تضمن أدوات خاصة مثل: (إلى) و (حتى)، ومرجع
النزاع في المقام إلى النزاع في ظهور تلك الأدوات في كون ما بعدها غاية
للنسبة، بحيث ترتفع بعدها، وعدمه وأنها إنما تدل على مجرد استمرار النسبة
إليها سواء انتهت بها أم بقيت بعدها.
ونظير ذلك تعبيرهم عن مدخول أدوات الشرط بالشرط، فإن فرض
592

كونه شرطا ملازم لدلالة القضية الشرطية على المفهوم، والنزاع في دلالتها
عليه راجع للنزاع في ظهور الأدوات في شرطيته للجزاء أو مجرد تحققه حينه
وإن أمكن أن يتحقق بدونه.
وحينئذ لا يبعد عدم دلالة الأدوات المذكورة بنفسها إلا على مجرد
الاستمرار، دون الانتهاء، كما يشهد به النظر في استعمالاتها فيما لو كانت
قيودا لفعل المكلف، لا للحكم.
ففي قولنا: سرت من الكوفة إلى البصرة، أو حتى دخلت البصرة،
لا يستفاد انتهاء السير بالبصرة، بحيث لا سير بعد الدخول إليها وكذا
لو قيل: سر من الكوفة إلى البصرة، لا يستفاد إلا تقييد السير الواجب بأن
يستمر للبصرة وإن لم ينته إليها.
وكذا الحال في الغاية الزمانية في مثل: سرت إلى ساعة، أو سر
إلى ساعة.
ودعوى: أن دخول البصرة ومضي الساعة وإن لم يكن بهما انتهاء
السير بواقعه إلا أن بهما انتهاء السير المخبر عنه والواجب.
مدفوعة: بأن السير بواقعه إذا لم يطابق السير المخبر عنه والواجب
لم يصدق به الخبر ولم يمتثل به الواجب.
إلا أن يراد بذلك أن دخول البصرة ومضي الساعة يكفي في تحقق
المخبر عنه وامتثال الواجب، بحيث ينتهيان بلا حاجة لاستمراره بعدهما.
لكنه - وإن تم - غير ناشئ من دلالة الأداتين على الانتهاء، بل يكفي
فيه دلالتهما على مجرد الاستمرار، لان السير المستمر لمكان أو زمان يحصل
بالوصول إليهما وإن استمر السائر بعدهما.
593

وأما اللازم من دلالتهما على الانتهاء فهو أخذ الانتهاء لمدخولهما قيدا
في المخبر عنه والمطلوب، بحيث لا ينطبق على ما لا ينتهي إليه، كما لو قال:
سرت سيرا منتهيا بالبصرة أو بالساعة، أو: سر سيرا كذلك، والظاهر عدم
دلالتهما على ذلك، كما ذكرنا.
إلا بقرينة خارجة عن ذلك، كورود الكلام في مقام التحديد، حيث
يستفاد المفهوم معه حتى في اللقب والعدد، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
ولعل كثرة ورودهما في المورد المذكور هو الموهم لدلالتهما على
الانتهاء والغاية زائدا على الاستمرار.
لكن تشخيص المفاد الوضعي إنما يكون بملاحظة الموارد الخالية عن
القرائن الخارجية، وأظهرها موارد الاستفهام، كما لو قيل: هل صادف أن
سرت من الكوفة إلى البصرة، أو كنت في الدار من الظهر إلى المغرب، حيث
لا إشكال ظاهرا في أن المنسبق منه الاستفهام عن مجرد استمرار السير بين
البلدين، وقضاء تلك المدة في الدار، لا عن تحقق السير والكون المحدودين
بالحدين، بحيث لا يريد عليهما، كما لا ينقص عنهما.
ثم إن ما ذكرناه من الأمثلة وإن كان فيما إذا كانت الأدوات قيودا
للفعل الذي هو خارج عما نحن فيه من فرض كونا قيودا للحكم، إلا أن
اختلاف مفاد الأدوات وضعا باختلاف متعلق التقييد بها بعيد جدا، بل هو
كالمقطوع بعدمه.
نعم، لا إشكال في انسباق المفهوم في موارد تقييد الحكم بالأداتين،
بل ظهورها فيه أقوى من ظهور موارد التقييد بأدوات الشرط فيه، كما
صرح به غير واحد، ويشهد به كثرة استعمال أدوات الشرط معراة عن
594

المفهوم، بخلاف الأداتين المذكورتين، وظهور التعارض مع اختلاف الغاية
بالزيادة والنقيصة، كما لو قيل: كل شئ ظاهر حتى يشهد شاهدان أنه
قذر، و: كل شئ طاهر حتى يشهد أربعة شهود أنه قذر، مع وضوح عدم
التنافي لو تمحضت الأداة ببيان الاستمرار، كما هو مفادها الوضعي، كما
سبق، فلابد من استناد الظهور في المفهوم لأمر آخر غير الوضع.
ولا يهم تحقيق منشأ الظهور المذكور، لعدم تعلق الغرض به، بل بنفس
الظهور الذي هو أمر وجداني لا يقبل الانكار أو الاشكال.
نعم، لا يبعد أن يكون منشؤوه أنه لما كان مقتضى إطلاق جعل الحكم
على موضوعه استمراره باستمراره كان بيان مجرد الاستمرار مستغنى عنه
ولاغيا عرفا، وذلك أوجب مألوفية استعمال الأداتين المذكورتين في مقام
التحديد زائدا على بيان أصل الاستمرار الذي هو مفادهما الوضعي، حتى
صار لهما ظهور ثانوي في ذلك زائدا على ظهورهما الوضعي في الاستمرار.
ولا يرجع ذلك إلى كون اللغوية هي القرينة الموجبة للظهور في
التحديد، ليتجه ما سبق في وجه منع استناد مفهوم الوصف إليها من عدم
انحصار الغرض المصحح لذكر القيد بالتحديد، بل إلى كونها علة في مألوفية
استعمالها في التحديد بين أهل اللسان بنحو أوجب ظهورها فيه نوعا،
لاغفالهم بقية الاغراض المصححة لبيان مجرد الاستمرار.
وبعبارة أخرى: اللغوية في المقام نظير علة التسمية التي لا يلزم اطرادها،
مع كون منشأ الظهور مألوفية الاستعمال في مقام التحديد بين أهل اللسان،
وليست هي القرينة التي يستند الظهور إليها، ليلزم اطرادها، ويتجه النقض
بلزوم البناء لأجلها على ثبوت المفهوم للوصف.
595

وأما الثاني: - وهو عدم المفهوم فيما إذا رجعت الغاية للموضوع - فقد
وجه في كلماتهم بأن ثبوت الحكم للموضوع المقيد لا ينافي ثبوت مثله لفاقد
القيد، نظير ما تقدم في مفهوم الوصف.
هذا، وحيث سبق عدم ظهور الأداتين في الغاية والنهاية فلا إشكال في
عدم دلالة التقييد بهما على كون متعلق الحكم هو الفعل المنتهى بمدخولهما،
بحيث لا ينطبق على ما يزيد على ذلك، وتكون الزيادة عليه مانعة من
الامتثال به.
وإنما الكلام في أن التقييد بهما هل يدل على انتهاء متعلق الحكم
بحصول مدخولهما، بحيث لا يكون ما بعده موردا للحكم، أو لابل يكون
مسكوتا عنه محتملا لذلك؟ فإذا قيل: اجلس إلى الظهر هل يكون ظاهر
الكلام خروج الجلوس بعد الظهر عن الواجب، أو لا بل يكون مسكوتا عنه،
بحيث لو دل دليل آخر على دخوله في الواجب لم يكن منافيا له؟
وحينئذ نقول: لا ينبغي التأمل في الظهور في المفهوم مع وحدة الحكم،
بأن كان بالإضافة لاجزاء الزمان بدليا، كما لو قيل: يجب أن تجلس في
المسجد ساعة من طلوع الشمس إلى الظهر، أو مجموعيا ارتباطيا، كما في
قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) (1)، لان مقتضى إطلاق متعلق
الحكم تحديده سعة وضيقا على طبق القيود المأخوذة في الخطاب من دون
خصوصية لأدوات الغاية، فلو كان بدليا كان مقتضاه تعين الامتثال بفرد من
الماهية المقيدة التي اخذت موردا للتكليف والاجتزاء به، وإن كان مجموعيا
كان مقتضاه الاجتزاء بالماهية المذكورة، وعدم لزوم ما زاد عليها المستلزم

(1) سورة البقرة: 187.
596

لعدم لزوم ما بعد الغاية في المقام.
وأما لو كان الحكم متعددا، لكونه بالإضافة لاجزاء الزمان استغراقيا
انحلاليا راجعا إلى أحكام متعددة بعددها لكل منها إطاعته ومعصيته فالاطلاق
إنما يقتضي ثبوت الحكم للفعل في كل جزء من أجزاء الزمان أو المكان الواقعة
قبل مدخول الأداتين بحياله واستقلاله من دون نظر إلى غيره، فلا ينهض بنفي
الحكم عما بعد مدخولهما.
إلا أن يستفاد من ذكرهما إرادة التحديد زائدا على الاستمرار، وهو
غير بعيد بالنظر إلى ما تقدم في توجيه دلالتهما على ذلك لو رجعا للحكم
لا للموضوع، ولذا لا يفرق ارتكازا في ظهور مثل آية الصوم في عدم وجوب
ما زاد على الحد بين كون الامساك الواجب في تمام النهار مجموعيا وكونه
انحلاليا فتأمل.
بل لا ينبغي التأمل في ذلك إذا كانت الغاية راجعة لموضوع متعلق
التكليف، لكونها جزءه، كما في آية الوضوء، وكما في مثل: اغسل المسجد
إلى نصفه، لو فرض مطلوبية غسل كل جزء بنحو الانحلال، لان نسبة الفعل
للموضوع، كالغسل للأيدي أو المسجد تقتضي الاستيعاب وضعا
لا بالاطلاق، فذكر الغاية بلحاظ بعض الاجزاء كالمرافق والنصف لو كان
لمجرد بيان الاستيعاب له كان أبعد عن الفائدة عرفا مما سبق، ولذا يكون
المستفاد منه تحديد الواجب وبيان انتهائه بالغاية، فهو نظير الاستثناء لما بعد
الغاية من الاستيعاب المستفاد وضعا.
ومن هنا يتعين البناء على ظهور الأداتين في المفهوم من دون فرق بين
كونهما قيدا للحكم وكونهما قيدا للموضوع، كما أطلقه بعضهم.
597

غاية الامر أنه لا يستند لوضع الأداتين للغاية والانتهاء، بل لاستعمال
العرف لهما في مقام التحديد، زائدا على الاستمرار والاستيعاب الذي هو
المفاد الوضعي لهما، بنحو يكون ذلك منشأ لثبوت ظهور ثانوي لهما فيه.
وإن كانت الموارد مختلفة في مراتب الظهور في ذلك، فأظهرها ما كان
الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الوضع، كما في التحديد بجزء موضوع
المتعلق، ثم ما كان الاستيعاب والاستمرار فيه مقتضى الاطلاق، كما في
تحديد الحكم، وفي غيرهما قد يحتاج إلى قرينة زائدة. فتأمل جيدا.
نعم، إذا ذكر سبب للحكم فتقييده هو أو موضوعه بهما لا ينافي
الاطلاق في حكم آخر ثابت بسبب آخر، فتحديد وجوب الامساك
أو الامساك الواجب بدخول الليل من حيثية الصوم المعهود لا ينافي إطلاق
وجوب الامساك بسبب آخر بنحو يشمل الليل لو فرض احتماله.
لان الاطلاق مع وحدة الحكم لكونه بدليا أو مجموعيا إنما يقتضي
تحديد متعلق التكليف المبين لا متعلق غيره، كما أن بناء العرف على استعمال
الأداتين في مقام التحديد من جهة لغوية بيان محض الاستمرار لا تقتضي
ما زاد على ذلك. ولعل ذلك خارج عن محل الكلام.
الثاني: في مقام الاثبات. ومرجع الكلام فيه إلى تشخيص موارد كل
من رجوع الغاية للحكم ورجوعها للموضوع، وإنما يحتاج إلى الكلام في
ذلك بناء على الفرق بينهما في الدلالة على المفهوم، أما بناء على ما سبق منا
من عدم الفرق بينهما فيه فهو مستغنى عنه، وإنما نتعرض له لاستيعاب الكلام
على تمام مباني المسألة مع عدم خلوه في نفسه عن الفائدة.
فنقول: لا ينبغي التأمل في رجوع الغاية المكانية للموضوع، دون
598

الحكم، ومثلها في ذلك مطلق الظرف المكاني، لان الحكم وضعيا كان
أو تكليفا من الاعتباريات غير القابلة عرفا للتحديد بالمكان، فإذا قيل: تجب
على زيد الصلاة في المسجد أو السير إلى البصرة، لا معنى لكون الوجوب
مظروفا للمسجد، أو محدودا بالبصرة.
إلا أن ترجع الظرفية المكانية إلى الظرفية الزمانية بالإضافة إلى الحكم،
فيراد في المثالين ثبوته في زمان كون زيد في المسجد، أو إلى زمان وصوله
للبصرة لكنه مبتن على عناية وتقدير محتاج للقرينة.
وبدونها يتعين البناء على تقييد الموضوع وهو - في المثالين - الصلاة
والسير مع إطلاق الحكم.
ومثله ما إذا كانت الغاية جزءا من موضوع متعلق الحكم، كالمرافق
والكعبين في قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) (1).
لوضوح أن موضوع المتعلق من شؤونه، لا من شؤون حكمه، ولذا
تقدم منا رجوعها لبا للمتعلق.
وأما الغاية الزمانية فهي كسائر الظروف الزمانية تصلح لتقييد كل من
الحكم والموضوع.
لكنها إنما ترجع للمعاني الاسمية الحدثية المنتسبة، لا لنفس النسب، فإذا
كان الحكم مستفاد من الهيئة، كما في قولنا: صم يوم الجمعة، أو إلى الليل
تعين رجوع الظرف للمتعلق الذي هو الموضوع، وهو الصوم بما هو صادر
من المكلف، لا لوجوبه، لان الدال على الوجوب ليس إلا الهيئة المتمحضة في

(1) سورة المائدة: 6.
599

الدلالة على النسبة.
أما إذا كان الحكم مستفادا من معنى اسمي، كما في قولنا: يجب الصوم
يوم الجمعة أو إلى الليل، أمكن رجوع الظرف له، كما يمكن رجوعه لمتعلقه.
وحينئذ مقتضى ظهور الكلام رجوعه للسابق منهما، ففي قولنا: الصوم
يوم الجمعة أو إلى الليل واجب، يرجع الصوم، وفي قولنا: يجب يوم الجمعة أو
إلى الليل الصوم، يرجع للوجوب، ولو كان متأخرا عنهما معا لا يبعد رجوعه
للأقرب إليه منهما، ففي قولنا: يجب الصوم يوم الجمعة أو إلى الليل، يرجع
للصوم، وفي قولنا: الصوم يجب إلى الليل أو يوم الجمعة، يرجع إلى الوجوب.
وقد يخرج عن ذلك بقرائن خاصة لا مجال لضبطها. فلاحظ.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: لا إشكال في أن من أدوات الغاية التي هي محل الكلام (إلى)
واللام التي بمعناها و (حتى) الجارة، دون العاطفة التي هي الفرد الخفي، كما
في قولنا: مات الناس حتى الأنبياء، فإنها لتأكيد العموم، من دون نظر
للاستمرار والغاية.
وأما (أو) التي ذكر النحويون أنها بمعنى (إلى) أو (إلا) فالظاهر أنها
لا تخرج عن معناها من الترديد، الذي يراد به في المقام مانعة الخلو، غايته
أنها إن تعقبت فعلا لا يقبل الاستمرار دلت على الترديد بين وقوع ما قبلها
ووقوع ما بعدها، فتناسب مفاد (إلا)، وإن تعقبت فعلا قبل الاستمرار دلت
على استمراره إلى أن يتحقق مدخولها، فيناسب مفاد (إلى) من دون نظر
لارتفاعه بعد حصوله، كما هو حال مانعة الخلو، ولا تدل حينئذ على
المفهوم.
600

الثاني: وقع الكلام في دخول مدخول أدوات الغاية في حكم المغيى
وعدمه، بمعنى أن مفاد الأدوات هل هو الاستمرار إلى ما قبل المدخول مع
كون نفس المدخول مسكوتا عنه أو مبدأ لانقطاع الاستمرار - على الكلام
في المفهوم - أو أن مفادها الاستمرار حتى بالإضافة إليه، وأن المسكوت عنه
أو مبدأ الانقطاع هو ما بعده؟
ولا يخفى أن البحث في ذلك يرجع لتحديد المنطوق، ويرجع لتحديد
المفهوم بتبعه، لا ابتداء.
كما أن محل الكلام هو صورة فقد القرينة على أحد الامرين،
وإلا فكثيرا ما تتحكم القرائن الخاصة الحالية والمقالية في تعيين أحدهما.
وربما استدل على الأول بما عن نجم الأئمة من أن الغاية من حدود
المغيى، فيتعين خروجها عنه.
وهو كما ترى! لان كونها حدا بالمعنى المذكور أول الكلام،
بل للقائل بالوجه الثاني دعوى كونها آخره الذي ينتهي به، لا الذي
ينتهي إليه.
أما ابن هشام فقد فصل في المغني بين (إلى) و (حتى) مدعيا البناء على
الدخول في الثانية دون الأولى، حملا على الغالب في البابين.
لكن الغلبة إنما تنفع إذا أوجبت الظهور النوعي، لان مجرد الغلبة مع
القرائن الخاصة ليست من القرائن العامة التي يلزم العمل عليها في مورد فقد
القرينة، وكون الغلبة في المقام - لو سلمت - بالنحو المذكور غير ظاهر.
فلعل الأولى التوقف في مورد فقد القرينة.
والذي يهون الامر كثرة احتفاف الكلام بما يصلح شاهدا على أحد
601

الامرين وإن كان هو مساق الكلام الذي هو من سنخ القرينة الحالية.
الثالث: الظاهر أن (من) المذكورة للابتداء في مساق أدوات الغاية،
بالإضافة إلى ما قبل مدخولها تشترك مع أدوات الغاية بالإضافة إلى ما بعد
مدخولها في الكلام المتقدم في المفهوم.
كما أنها بالإضافة إلى نفس مدخولها تشترك مع تلك الأدوات
في الكلام المتقدم في الامر الساق الراجع إلى دخوله في حكم المغيى
وخروجه عنه.
602

الفصل الرابع
في مفهوم الحصر
لا يخفى أن حصر الحكم بمورد ملازم لانتفائه عن غيره وثبوت نقيضه
فيه، الذي هو عبارة أخرى عن المفهوم، فلا معنى للنزاع في مفهوم الحصر.
فلابد من رجوع الكلام في المقام إلى الكلام في تشخيص مفاد أدوات
خاصة وهل أنها دالة على الحصر، ليكون لها مفهوما أولا، بل هي متمحضة
في الدلالة على ثبوت الحكم في المورد من دون أن تتضمن الحصر.
وهي عدة أدوات..
منها: أدوات الاستثناء مثل (إلا) و (غير) و (سوى) و (عدا) وغيرها
مما ذكره النحويون، وإنما تقع موردا للكلام إذا وردت للاستثناء، دون
ما إذا وقعت للتوصيف، بل تبتني دلالتهما على المفهوم حينئذ على الكلام في
مفهوم الوصف.
هذا، والظاهر شيوع استعمال (غير) للتوصيف دون الاستثناء
ومألوفيته، كما في قوله تعالى: (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا
نعمل) (1)، وقولنا: أكرم عالما غير فاسق، و: أكرمت رجلا غير فاسق،

(1) سورة فاطر: 37.
603

لتوقف الاستثناء على شمول الحكم لتمام الافراد أو الأحوال، ولا يجري مع
كونه بدليا أو واردا على المبهم الذي لا عموم فيه، كما في الأمثلة المذكورة،
ولا سيما الأول حيث كان ما بعد (غير) فيه مباينا لما قبلها لا من أفراده،
فيراد بالوصف فيه بيان حال الموضوع، لا تقييده مع شيوعه، كما في
الأخيرين.
ومن هنا يشكل البناء على الاستثناء في المورد الصالح له وللوصف،
كما في قولنا: أكرم العلماء غير العدول. إلا أن يعين أحد الامرين بكيفية
الاعراب أو بقرينة خارجية.
وأما (إلا) فقد ذكر النحويون أنها قد تكون وصفية مستشهدين بقوله
تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (1) على كلام لا مجال للإطالة
فيه، كما ذكروا ورودها عاطفة وزائدة.
وكيف كان، فلا ينبغي التأمل في أن المتبادر منها الاستثناء ولو بسبب
شيوع استعمالها فيه، فيتعين الحمل عليه في غير مورد امتناعه، الذي لا مجال
للكلام في ضبطه.
كما أن الظاهر عدم استعمال بقية الأدوات في التوصيف.
إذا عرفت هذا، فلا إشكال في ظهور الاستثناء في ثبوت الحكم لما عدا
المستثنى من أفراد المستثنى منه، وهو المراد بالمنطوق في المقام.
وأما بالإضافة إلى المستثنى فقد وقع الكلام في ظهوره في ثبوت نقيض
الحكم السابق له، بحيث يدل على الحصر بالإضافة إليه، ليكون له مفهوم كما

(1) سورة الأنبياء: 22.
604

هو المعروف بل عن جماعة دعوى الاجماع عليه. أو عدمه، بل يكون مسكوتا
عنه، لتمحض الاستثناء في تضييق دائر الموضوع، كما عن أبي حنيفة.
والحق الأول، لتبادر ذلك منه، حيث يتضح بالنظر إليه الفرق بين
الاستثناء ومثل الوصف مما يتمحض في تضييق الموضوع، ويأتي مزيد توضيح
له بعد الكلام في حجة القول الثاني.
ومعه لا حاجة إلى الاستدلال عليه بقبول إسلام كل من قال كلمة
الاخلاص، مع وضوح أنه لولا دلالة الاستثناء على ذلك لم تدل على
التوحيد إذا صدرت ممن لا يعترف بوجود مدبر للكون، كالدهرية. لان
الاستدلال المذكور وإن كان تاما، إلا أن الامر أوضح من أن يتشبث له به.
وأما الاشكال في الاستدلال بذلك بأن مجرد الاستعمال لا يدل على
الوضع، لامكان استناد الدلالة عليه لقرينة حال أو مقال.
فهو كما ترى! لوضوح أن قبول الاسلام بذلك لم يكن مشروطا
باطلاع القائل على القرينة واستناده إليها.
ومثله دعوى: أن قبول الاسلام بذلك شرعا لا يستلزم دلالته على
التوحيد لغة، بل هو نظير الشعار الذي يعتمد على التباني، والاصطلاح.
لوضوح اندفاعها بما هو المعلوم من أن قبول الاسلام بها شرعا فرع
دلالتها على إقرار القائل بالتوحيد إما لدلالتها عليه لغة أو بالقرينة، وحيث
سبق المنع من الثاني تعين الأول.
وهو المناسب للنصوص الشارحة للاسلام بالشهادتين (1)، ولتأكيد

(1) راجع الكافي ج 2، ص 18 - 25، طبع الحروف في إيران.
605

كلمة الاخلاص بقولنا: (وحده لا شريك له)
هذا، وقد يستشكل في دلالتها على التوحيد بأن خبر (لا) إن قدر
(موجود) لم تدل على امتناع إله غيره تعالى، وإن قدر (ممكن) لم تدل على
فعلية وجوده تعالى.
وقد حاول غير واحد الجواب عن ذلك، ولعل أقرب الوجوه ما ذكره
في التقريرات وغيرها من أنه لا يعتبر في التوحيد المعتبر في الاسلام إلا إثبات
الألوهية له تعالى فعلا ونفيها عن غيره كذلك.
وأما نفي إمكان ألوهية غيره فهو بواسطة ملازمة واقعية لا يضر
خفاؤها وعدم العلم بها في جريان حكم الاسلام، وليس الاذعان به مأخوذا
في التوحيد الذي هو أول ركني الاسلام.
نعم، لا يبعد كونه من ضروريات الاسلام الزائدة على أركانه،
فلا يعتبر الالتفات إليها والاذعان بها فيه، وإن كان إنكارها بعد الاطلاع
على حالها من الدين موجبا للخروج منه، لمنافاته للاذعان به، كما يشهد به
الرجوع لارتكازيات المتشرعة، وللاستدلال عليه في الكتاب والسنة بقضايا
برهانية واضحة عند المسلمين كقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا) (1).
على أنه لو فرض أخذ نفي إمكان ألوهية غيره تعالى في التوحيد الذي
هو ركن الاسلام أمكن ذلك بحمل القضية على بيان الانحصار به تعالى
خارجا مع كون الضرورة جهة لها بتمامها ارتكازا، لا أن الامكان قيد في
موضوع عقد السلب منها، كي لا تدل على فعلية وجوده وألوهيته تعالى.

(1) سورة الأنبياء: 22.
606

هذا وقد استدل على ما سبق عن أبي حنيفة من عدم ظهور الاستثناء
في ثبوت نقيض الحكم السابق للمستثنى ليكون له مفهوم بمثل: لا صلاة
إلا بطهور.
بدعوى: أنه لو كان له مفهوم لدل على حصول الصلاة مع الطهارة
ولو مع فقد بقية الاجزاء والشرائط، ولا إشكال في عدم دلالته على ذلك.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه.
الأول: أن الاستعمال مع عدم إرادة المفهوم لا ينافي الوضع للمفهوم،
لان الاستعمال مع القرينة المعينة للمراد أعم من الحقيقة.
وفيه: أنه لا مجال لاحتمال الاعتماد على القرينة في مثل هذا التركيب،
لشيوعه مع عدم ظهور العناية والقرينة المخرجة عن مقتضى الظهور الأولى
فيه، وليس هو كالاستعمالات الشخصية التي قد يستند فهم المراد منها إلى
القرائن المكتنفة للكلام.
وبعبارة أخرى: الاستدلال ليس بعدم إرادة المفهوم من هذا التركيب،
كي يمكن استناد فهم ذلك للقرينة، بل بعدم ظهوره بنفسه فيه مع قطع النظر
عن القرينة.
الثاني: أن المفروض في موضوع الحصر في مثل هذا التركيب تمامية بقية
الاجزاء والشرائط، فعدم تحقق الصلاة مع الطهارة - مثلا - لفقد بعض الاجزاء
أو الشرائط الاخر لا يكون منافيا للمفهوم، بل خارجا عن موضوعه.
والظاهر رجوع ما في التقريرات والكفاية لهذا الوجه وما قبله.
ويندفع: بأنه بعيد عن المرتكز الاستعمالي لهذا التركيب، لعدم الالتفات
فيه للتقييد بتمامية الاجزاء والشرائط.
607

بل لا مجال للبناء عليه، لان لازم خروج فاقد بعض الاجزاء والشرائط
الاخر موضوعا قصور المنطوق والمفهوم معا عنه، فكما لا يقتضي المفهوم
حصوله مع الطهارة لا يقتضي المنطوق عدم حصوله بدونها، مع أنه لا ريب
في عموم المنطوق له. فإذا قيل: لا صلاة إلا بطهور، و: لا صلاة إلا بركوع،
كان مقتضاهما بطلان الصلاة الفاقدة للطهارة والركوع معا من جهتين،
لا أنهما ساكتان عنها لخروجها عن موضوع كل منهما.
الثالث: ما في هامش بعض نسخ الكفاية من أن المراد من مثله نفي
الامكان، لا الوجود، ولازمه في المثال إمكان الصلاة مع الطهارة، لا ثبوتها
فعلا، لينافي ما سبق.
وفيه: أن التركيب بنفسه إنما يقتضي نفي الوجود دون الامكان، كما
هو الحال في مثل: لا يأتي زيد إلا أن يجئ عمرو، و: لا آكل إلا أن أغسل
يدي ونحوهما، وإنما استفيد عدم الامكان في المقام بلحاظ كون القضية
تشريعية مسوقة لبيان شرطية الطهارة للصلاة، ويمتنع تحقق المشروط مع عدم
شرطه، ومن الظاهر أن ذلك يجري في جميع الاجزاء والشروط، فكما
لا تمكن الصلاة مع فقد الطهارة لا تمكن مع فقد بعض الاجزاء والشروط
الاخر وإن كانت الطهارة موجودة، فتنافي المفهوم، فوجود الطهارة
كما لا يستلزم وجود الطهارة مطلقا لا يستلزم إمكانها كذلك، ولم ينفع
ما ذكره في دفع الاشكال.
على أن الاشكال لا يختص بالمثال المتقدم، بل يجري في نظائره
من التراكيب مما هو ظاهر في نفي الوجود دون الامكان، كالمثالين المتقدمين،
كما هو ظاهر.
608

الرابع: ما عن بعض مشايخنا من أن المستثنى في المقام لما كان هو
الظرف مثل: (بطهور) فلابد من تقدير متعلق له، فيكون المعنى: لا صلاة إلا
صلاة بطهور.
ومرجع ذلك إلى أن الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور، لا أنها يلزم
أن تقع مع جميع أفراده.
ويندفع: بأن كون الصلاة لو وقعت وقعت مع الطهور ليس هو مفاد
المفهوم، بل لازم المنطوق، وأما مفاد المفهوم فهو وقوع الصلاة مع الطهور
بنحو القضية التنجيزية، كما كان مفاد المنطوق سلبها بدونه كذلك، وحيث
هو غير مطرد في فاقد بعض الاجزاء والشرائط الأخرى يعود الاشكال.
وأما تقدير متعلق الظرف المستثنى بنفس الصلاة فهو إنما يتم لو كان
الاستثناء من عموم أفراد الصلاة المنفية، وليس كذلك، بل الظاهر أنه استثناء
من عموم أحوال نفي الصلاة، فكأنه قيل: لا صلاة في جميع الأحوال
إلا حال وجود الطهور.
فلعل الأولى أن يقال في الجواب: إن حكم المستثنى منه لما كان هو
السلب المطلق للصلاة بدون الطهارة بنحو الاستيعاب والاستغراق فمفهومه
المستفاد من الاستثناء ليس إلا نقيضه وهو وجودها في الجملة مع الطهارة،
لا وجودها معا مطلقا، إذ ليس نقيض السلب الكلي إلا الايجاب الجزئي
دون الايجاب الكلي، وهكذا الحال في نظير المثال من التراكيب. وقد تقدم
توضيح ذلك في التنبيه الثالث من مبحث مفهوم الشرط. فراجع.
نعم، لو لم يدل الكلام على وجود الصلاة مع الطهارة حتى في الجملة
بحيث يكون مسكوتا عنه اتجه سوقه شاهدا لعدم الدلالة على المفهوم.
609

لكن لا مجال لانكار دلالته على ذلك.
وبالجملة: وضوح دلالة الاستثناء على ثبوت نقيض الحكم للمستثنى
مانع من رفع اليد عنه بمثل هذه الاستعمالات الشائعة وكاشف عن ابتنائها
على ما لا ينافيه إجمالا لو لم يتسن معرفته تفصيلا.
ومما يوضح ذلك ويؤكده ما اشتهر تبعا للمرتكزات الاستعمالية من
دلالة الاستثناء على الحصر، إذ لا حصر مع كون المستثنى
مسكوتا عنه.
ولا سيما وأنه لا يراد به دلالته على انحصار الحكم بما عدا المستثنى،
بل على انحصار نقيضه بالمستثنى المبتني على المفروغية عن ثبوت النقيض له،
بل كونه المقصود بالأصل منه، كما يناسبه حسن تأكيده بما يدل على
انحصاره به، مثل (وحده) و (لا غير)، إذ انصراف التأكيد إليه شاهد بكونه
هو المقصود بالأصل، وأن ذكر حكم المستثنى منه للتمهيد له. فلاحظ.
نعم، الحصر المذكور إنما هو بالإضافة إلى أفراد المستثنى منه دون
غيرها، إلا أن يكون الاستثناء منقطعا، فيدل على الحصر بالإضافة إلى
ما يناسبه مما يدخل معه ومع المستثنى منه تحت جامع عرفي واحد، فلو قيل:
ما في الدار رجل إلا حمار، كان ظاهره نفي وجود ما يناسب الحمار من غير
أفراد الرجل، كالجمل والثور، لان الظاهر عدم خروج (إلا) فيه عن الاستثناء
الذي لا يصح عرفا إلا بعموم المستثنى منه للمستثنى المستلزم لإرادة الجامع
العرفي بينهما، كما ذكرنا.
وما في بعض الكلمات من كون (إلا) فيه بمعنى (لكن) بعيد عن
المرتكزات الاستعمالية.
610

ولازم ما ذكرنا دلالة الاستثناء المفرغ - وهو الذي يحذف المستثنى منه
وفيه ويختص بالنفي - على الحصر الحقيقي وعموم النفي لجميع ما عدا المستثنى،
لان حذف المتعلق مع عدم القرينة يقتضي المل على العموم.
غاية الامر أنه كثيرا ما يراد به الحصر الإضافي، بلحاظ خصوص جهة
ملحوظة للمتكلم يقتضيها سياق الكلام أو غيره من القرائن المحيطية به، والتي
لا مجال لضبطها، بل تختلف باختلاف خصوصيات الموارد.
ومنها: (إنما) حيث كان المعروف فيها إفادة الحصر، على ما يظهر من
تصريح أهل اللغة، بل عن بعضهم أنه لم يظهر مخالف فيه، وعن آخر دعوى
إجماع النحاة عليه، كما ذكر في التقريرات أنه المنقول عن أئمة التفسير.
ويقتضيه التبادر، حيث لا إشكال في ظهورها في انحصار المتقدم
بالمتأخر.
غاية الامر أنها - كسائر أدوات الحصر - كثيرا ما تستعمل في الحصر
الإضافي بلحاظ خصوص بعض الجهات المقصودة بالنفي مما يقتضيه قرينة
حال أو مقال، بل هو المتعين دائما في حصر الموصوف بالصفة، نحو: إنما زيد
شاعر أو تاجر أو عامل، حيث لا يراد به نفي كل صفة أخرى عنه، لما هو
المعلوم من عدم خلوه عن كثير من الصفات، كالحياة والتكلم وغيرهما،
بل نفي خصوص بعض الصفات مما تقتضيه قرينة السياق، كالعلم
أو الشجاعة أو غيرهما.
وذلك لا ينافي دلالتها على الحصر بما هو نسبة خاصة، لان الفرق بين
الحصر الحقيقي والإضافي في طرف النسبة المذكورة لا في أصلها.
ولذا لا يصح الاتيان بها لمحض بيان ثبوت الحكم للموضوع من دون
611

حصر أصلا.
نعم، الحصر الإضافي محتاج إلى قرينة، وبدونها يتعين الحمل على الحصر
الحقيقي.
لكن استشكل في التقريرات في دلالتها على الحصر. قال: " والانصاف
أنه لا سبيل لنا إلى ذلك، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة، ولا يعلم بما
هو مرادف لها في عرفنا حتى يستكشف منها ما هو المتبادر منها، بخلاف ما
هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربية، كما في أداة
الشرط وأما النقل المذكور فاعتباره في المقام موقوف على اعتبار قول اللغوي
في تشخيص الأوضاع.. ".
وكأن الذي أوجب التباس الحال عليه شيوع استعمالها في الحصر
الإضافي، وإلا فتبادر الحصر منها في الجملة مما لا ينبغي أن ينكر، كشيوع
استعمالها فيه في عرفنا.
على أنه يكفي إدراكه من استعمالاتها فيه في العصور السابقة، حيث
قد يتيسر الاطلاق على معاني الألفاظ المستعملة لهم إذا كان استعمالها كثيرا
شائعا، حيث قد يدرك من مجموعها مفاد اللفظ بنفسه مع قطع النظر عن
القرينة.
هذا، وقد أنكر الرازي دلالتها على الحصر في مقام الجواب عن
استدلال الامامية بقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) قال: " لا نسلم أن الولاية

(1) سورة المائدة: 55.
612

المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلم أن كلمة (إنما) للحصر. والدليل عليه
قوله: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) (1) ولا شك إن
الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثال. وقال: (إنما الحياة الدنيا
لعب ولهو) (2)، ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها ".
لكن الآيتين الكريمتين لا تنافيان دلالة (إنما) على الحصر.
اما الأولى فلان وجود أمثال اخر للدنيا في الحصر المذكور لو كان
حقيقيا، دون ما لو كان إضافيا - كما هو الظاهر منه - لدفع توهم ابتنائها
على البقاء الذي هو مقتضى الاهتمام بها والركون إليها من عامه الناس، فإن
ذلك منهم مظهر لغفلتهم عن حالها، فحسن حصرها بالمثل المذكور في الآية
لردعهم عن ذلك وتنبيههم لما يخالف مقتضى حالهم وإن كان لها أمثال اخر.
ولذا حسن الحصر ب‍ (إلا) بنظيره في قول الشاعر:
وما الدهر إلا منجنونا بأهله.........
ومنه يظهر الحال في الآية الثانية، فإن المراد بها الحصر الإضافي أيضا
توهينا لحالها، وردعا لمن يرغب فيها ويعتد بها، لكن مع ابتنائه على التغليب
- ولو ادعاء - إغفالا لما يكسبه أهل البصائر والكمال من الدرجات العالية
والتجارة السامية.
ولذا حسن الحصر المذكور ب‍ (إلا) قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا

(1) سورة يونس: 24.
(2) سورة محمد (ص): 36.
613

لعب ولهو) (1) وقوله سبحانه: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) (3).
وأما ما ذكره من أن اللهو واللعب قد يحصل في غيرها.
فهو إنما ينافي حصر اللهو واللعب بها، لا حصرها بهما الذي تضمنته
الآية الشريفة.
هذا، وقد ذكر بعضهم من أدوات الحصر (بل) على بعض وجوهها
التي ذكرها أهل اللغة.
ولا يسعنا تفصيل الكلام في وجوهها وتمييز موارد استعمالها، بل نحيل
في ذلك على ما ذكروه.
كما أنه قد تكون هناك بعض الأدوات الأخرى تدل على الحصر
بنفسها أو بالقرينة لا مجال لنا لاستقصائها، بل توكل لمباحث اللغة ونظر
الفقيه في مقام الرجوع للأدلة.
ومنها: تعريف المسند إليه باللام، حيث يدل على اختصاصه بالمسند،
نحو: العالم زيد، والنجس من الميتة ما كان له نفس سائلة، ونحوهما.
ومحل الكلام ما إذا لم تكن اللام للعهد، وإلا اقتضت انحصار المعهود
بالمسند، دون أصل الماهية بلا كلام.
وقد استشكل في ثبوت المفهوم في المقام بما قد يرجع إليه ما أشار إليه
المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه موقوف إما على كون الحمل أوليا ذاتيا،
لملازمة التطابق المفهومي للتساوي المصداقي في الخارج أو على كون اللام

(1) سورة الأنعام: 32.
(2) سورة العنكبوت: 64.
614

للاستغراق، أو كون الماهية ملحوظة بنحو الارسال، حيث يلزمهما اتحاد تمام
أفراد الماهية في الخارج بالمسند، المستلزم لمباينتها لما يباينه.
لكن الحمل الأولي خلاف الأصل في القضايا المتعارفة، بل الأصل فيها
هو الحمل الشايع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد الخارجي، بل هو المتعين في
غالب الموارد، حيث يعلم بعدم التطابق المفهومي بين طرفي الحمل.
كما أن الأصل في اللام أن تكون للجنس، وحملها على الاستغراق
محتاج إلى القرينة، كحمل الماهية على الارسال، بناء على إمكانهما ذاتا وقيام
القرينة عليهما في بعض الموارد، على ما لعله يأتي الكلام فيه في مبحث المطلق
والمقيد.
وعلى ذلك فليس مفاد القضايا المفروضة في محل الكلام إلا حمل المسند
على الجنس والماهية وحمل الشئ على الجنس والماهية لا يقتضي اختصاصها
به، ولا يدل عليه.
لكنه يشكل: بأنه إن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما
بغيره مما يجتمع معه في الخارج، فإذا قيل: الكاتب متحرك الأصابع، لم يناف
اتصافه بغير ذلك كالأكل والمشي، فهو مسلم، إلا أنه لا ينافي الحصر المدعى
في المقام، إذ ليس المراد به في المقام إلا كون تمام أفراد الماهية مطابقة للمسند،
بحيث لا يباينه منها شئ، فإذا قيل: العالم زيد، كان ظاهره اتحاد تمام أفراد
العالم مع زيد، وإن أمكن اتحادها مع عنوان آخر يجتمع معه، كالعادل
والمتكلم.
وإن أريد من عدم اختصاصهما به إمكان اتصافهما بغيره مما يباينه
ولا يجتمع معه في الخارج المستلزم لمباينة بعض أفرادها للمحمول، فهو في
615

غاية المنع، إذ لا ريب في ظهور حمل الشئ على الجنس في اتصاف تمام أفراده
به ولو بضميمة مقدمات الاطلاق، فإذا قيل: الانسان أبيض، كان ظاهره
اتصاف تمام أفراده بالبياض، وعدم اتصاف بعضها بغيره مما يضاده، فليس فيها
أحمر ولا أسود.
وبذلك يتم المدعى، لأنه إذا كان ظاهر قولنا: العالم زيد، كون تمام
أفراد العالم متصفا بأنه زيد لزم عدم عالمية غير زيد من أفراد الانسان المباينة
له، كما لا يخفى.
ومن هنا لا ينبغي التأمل في الدلالة على الحصر بالوجه المذكور،
ولا سيما بعد مطابقته للمرتكزات الاستعمالية.
قال سيدنا الأعظم (قدس سره) في حقائقه تعقيبا على ما ذكره المحقق
المذكور: " ظهور قولنا: القائم زيد، في الحصر أقوى من كثير من الظهورات
التي بنى عليها المصنف (قدس سره) وغيره، والرجوع إلى العرف شاهد عليه،
وكفى بإجماع البيانيين مؤيدا له، فلا مجال للتأمل فيه. بل الظاهر من كلام
جماعة ممن تعرض للمقام المفروغية عن ثبوت المفهوم، وأن الكلام في وجهه،
فالنقص والابرام إنما يكون فيه، لا في ثبوت المفهوم ".
هذا، مضافا إلى شئ، وهو أن الظاهر من حمل أحد الشيئين على
الاخر ليس محض انطباق أحدهما على الاخر، غير المستلزم لاختصاصه به، بل
التطابق بينهما، بحيث يكون أحدهما عين الاخر - مفهوما لو كان الحمل
أوليا ذاتيا، وخارجا لو كان الحمل شايعا صناعيا - كما هو مفاد (هو هو)،
ولازم ذلك اختصاص أحدهما بالآخر وعدم انطباقه على ما يباينه.
وعلى هذا يبتني التعريف بالرسم في مثل قولنا: الانسان هو حيوان
616

الضاحك، أو الخفاش هو الطائر الولود، مع وضوح أن الحمل فيه شايع
صناعي، ولو لم يكن مقتضى الحمل التطابق لم يصلح الحمل للتحديد،
لامكان كون أحدهما أعم من الاخر مطلقا أو من وجه.
ولا مجال للنقض على ذلك بالحمل مع تنكير أحدهما، كما في قولنا:
الانسان ماش، وزيد عالم، لان مفاد النكرة - التي هي أحد الطرفين - ليس
نفس الجنس ارتكازا، كمفاد المعرف باللام، بل ما يعم مفاد الحصة منه،
فلا يدل الحمل المذكور، إلا على التطابق بين الانسان والماشي وبين زيد
والعالم في الجملة، ولو بلحاظ التطابق بينهما وبين حصة من كل منهما،
ومرجعه إلى مجرد انطباق جنس الماشي على الانسان، وجنس العالم على زيد،
وإن لم يطابقاهما ولم يختصا بهما.
ومثله في ذلك الحكم بالشئ على الموضوع بنسبة أخرى غير نسبة
الحمل، حيث يكفي حصوله له وإن لم يختص به نحو قولنا: زيد في الدار،
أو جاء، أو: جاء زيد، أو غير ذلك.
وبذلك يتضح عدم الفرق في الدلالة على الحصر بين كون المعرف بلام
الجنس مسندا إليه، الذي هو محل الكلام وكونه مسندا، كما في قولنا: زيد
العالم، والخفاش هو الطائر الولود، وهو المطابق للمرتكزات العرفية
الاستعمالية التي هي المعيار في الظهور الحجة.
وأما ما في التقريرات من أن الماهية قد تعتبر على وجه لا يستفاد منها
الحصر، سواء كانت موضوعا، أم محمولا معرفا، كما إذا قيل لمن سمع الأسد
ولم يشاهد فردا منه: الأسد هذا، أو: هذا الأسد.
فيندفع: بأن المحمول في الأول والموضوع في الثاني وإن كان هو الفرد
617

المشار إليه بلفظ (هذا) والذي لا تختص به الماهية، إلا أنه مسوق عبرة للماهية
على عمومها، كما في قولنا: هذا اسمه أسد.
ومن هنا فالحمل المذكور في الحقيقة أولي ذاتي، أو واجد لملاكه إن
لم يكن منه اصطلاحا.
ولو أريد به الحمل على الفرد بنفسه لم يصح إلا أن يقال: هذا أسد،
أو: أسد هذا، أو: هذا من أفراد الأسد، لما ذكرناه من أن مفاد النكرة ما يعم
الفرد من الجنس والماهية، لا نفس الجنس على ما هو عليه.
ثم إن ما ذكرنا كما يجري في المعرف باللام يجري فيما يشبهه
مما يحكي عن الجنس والماهية في مقام التعريف، كالموصول في قولنا: الذي
يجب إكرامه زيد، أو: زيد هو الذي يجب إكرامه. ومثله المضاف إذا أريد به
العهد الجنسي، نحو قول الشاعر:
إن أخاك الحق من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك
نعم، قد لا يراد بالإضافة العهد، بل محض النسبة بين الطرفين، كما هو
كثير فيما يقع خبرا نحو قولنا: زيد أخو عمرو أو عدوه أو جاره
أو نحوها، حيث لا يراد به إلا أنه أخ له أو عدو أو جار من دون إشارة
للجنس، أو لفرد معهود.
ولعله خارج عن أصل معنى الإضافة، كما تعرض له بعض البانيين.
ومنها: تقديم ما حقه التأخير. فقد ذكر البيانيون أنه يدل على حصر
المتأخر بالمتقدم، كتقديم المفعول في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك
نستعين) (1).

(1) سورة الفاتحة: 4.
618

وقد صرح في التلخيص وشرحه أن دلالته ليست بالوضع، بل بفحوى
الكلام حسبما يدركه منه ذو الذوق السليم.
لكنهم ذكروا - أيضا - في وجه تقديم المسند وغيره من متعلقات الفعل
التي حقها التأخير وجوها أخرى، كالتشويق في مثل قول الشاعر:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
والاهتمام كقولنا: أمير جاءني، وغيرهما.
ومرجع ذلك إلى تبعية الدلالة على التخصيص للمناسبات والقرائن
المكتنفة للكلام والتي لا يتيسر لنا ضبطها.
وقد تعرضوا لضوابطها واختلفوا فيها، وقد يبلغ بعضها مرتبة الاشعار،
الذي يكفي في البلاغة، دون الظهور الحجة الذي هو المهم في المقام.
كما أن ذلك قد يجري في تقديم ما حقه التقديم، كالمسند إليه، على ما
ذكروه.
ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك، بل يوكل تشخيصه للفقيه عند النظر
في الأدلة، مستعينا في فهمها واستظهار المراد منها بما ذكروه، مع تحكيم ذوقه
وسليقته.
619

الفصل الخامس
في مفهوم اللقب
قال في التقريرات: " والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام، كالفاعل
والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك ".
وكأن مراده بأركان الكلام مطلق ما كان طرفا لنسبة قد تضمنها ولو
كان فضلة من دون خصوصية المفعول، كالحال والظرف وغيرهما، كما
عممه لذلك سيدنا الأعظم (قدس سره).
وإليه يرجع ما ذكره في الفصول من أن مفهوم اللقب عبارة عما
لا يتناوله الاسم.
ولا يخرج من ذلك إلا ما سبق الكلام في دلالته على المفهوم، كالشرط
والوصف.
والظاهر عدم ثبوت المفهوم لذلك بنفسه مع قطع النظر عن القرينة،
كما نسبه في التقريرات إلى أهل الحق وجماعة من مخالفينا، قال: " وذهب
جماعة منهم الدقاق والصيرفي وأصحاب أحمد إلى ثبوت المفهوم فيه ".
ويشهد لما ذكرنا عدم تبادر المفهوم من حاق الكلام وبحسب أصل
التركيب مع قطع النظر عن القرينة.
غاية الامر أنه تقدم في مفهوم الشرط أن أخذ شئ في موضوع الحكم
621

يقتضي تقوم شخص الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه.
وحينئذ قد يكون له نحو من المفهوم لخصوصية في الحكم، كما لو اخذ
قيدا في متعلق أمر بدلي، فلو ورد الامر بعتق رجل، أو السفر للحج ماشيا،
أو يوم الجمعة، استفيد عدم إجزاء عتق المرأة، ولا السفر راكبا، ولا في غير
يوم الجمعة، ولزم رفع اليد عن الاطلاق المقتضي لاجزاء أحد هذه الأمور
لو ثبت.
لكنه ليس لإفادة التقييد الذي هو محل الكلام بل لظهور الامر بشئ في
كونه تعيينيا، كما تقدم توضيحه في مفهوم الوصف. ولذا لا ينافي الامر
بالمطلق بسبب آخر.
كما أنه قد يستفاد منه المفهوم وانتفاء سنخ الحكم في غير الموضوع
المذكور في القضية، إما للزوم اللغوية بدونه عرفا، ولا ضابط لذلك.
أو لوروده في مقام التحديد، كما في صحيح عاصم بن حميد عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " قال: قال رجل لعلي بن الحسين: أين يتوضأ الغرباء؟ قال: تتقي شطوط الأنهار والطرق النافذة وتحت الأشجار المثمرة
ومواضع اللعن... " (1) لان ظاهر السؤال طلب تمام ما ينبغي اجتنابه.
هذا، وكثيرا ما يكون أخذ شئ في موضوع الحكم مشعرا بثبوت
نقيضه في غيره، فقول القائل في مقام التعريض بشخص: الحمد لله الذي
نزهني عن السرقة، مشعر بأن ذلك الشخص قد سرق.
بل قد يبلغ مرتبة الظهور الحجة بضميمة خصوصية حال أو مقام

(1) الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 1.
622

لا مجال لضبطها.
وكأن بعض ما تقدم هو الذي أوهم من سبق ثبوت المفهوم للقب،
كما يظهر مما أشار إليه في الفصول والتقريرات من استدلالهم.
623

الفصل السادس
في مفهوم العدد
الظاهر أنه لا مفهوم للعدد بنفسه، كما نسبه في التقريرات لجمع كثير
من أصحابنا ومخالفينا، قال: " بل وادعي وفاق أصحابنا فيه. وحكي القول
بالاثبات مطلقا، ولم نعرف قائله ".
ويقتضيه ما سبق في اللقب من عدم تبادره من حاق اللفظ، فقوله
(صلى الله عليه وآله) في النبوي: " ان الله كره لكم أيتها الأمة أربعا
وعشرين خصلة ونهاكم عنها... " (1) لا دلالة له على عدم كراهة ما زاد
عليها.
وقد أشار في الفصول والتقريرات إلى احتياج القائلين بالمفهوم فيه
بوجوه ظاهرة الضعف لا مجال لإطالة الكلام فيها.
نعم، ما سبق في اللقب من الدلالة عليه في خصوص بعض الموارد
وإشعاره به في بعضها جار هنا، بل لا يبعد هنا كونه أظهر وأكثر، وخصوصا
التحديد، حيث يكثر سوق العدد له.
بل لا إشكال في ظهور الكلام فيه لو ورد طرفا للحمل كقولنا: حد
الزنا مائة جلدة، لان مقتضى الحمل الاتحاد والتطابق بين طرفيه. وكذا

(1) الوسائل ج 1، باب 15 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 11.
625

لو وقع جوابا عن السؤال عن الكم، كبعض الأمثلة الآتية. إلى غير ذلك من
طرق استفادة التحديد.
غاية الامر أن التحديد تارة: يكون لنفي الزيادة والنقيصة معا، كما هو
الأصل عند فقد القرينة، لكن بنحو يقتضي خروج الزائد عن الحد، دون المنع
عنه إلا لجهة خارجة، كحرمة المسلم في المثال المتقدم.
وأخرى: لنفي النقيصة دون الزيادة، كما في حديث العيص عن أبي
عبد الله (عليه السلام): " قال في التقصير: حده أربعة وعشرون ميلا " (1).
وثالثة: بالعكس، كحديث حماد: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في
أدب الصبي والمملوك، فقال: " خمسة أو ستة وارفق " (2).
ولابد في تعيين أحد الأخيرين من قرينة مقالية أو حالية ولو كانت هي
المناسبات الارتكازية.
هذه هي المفاهيم المذكورة في كلماتهم بعناوينها الخاصة.
وربما يستفاد المفهوم - الذي هو عبارة عن ثبوت نقيض الحكم
المذكور في غير مورده - في بعض الألفاظ والموارد الخاصة من دون أن يدخل
تحت عنوان أحدها ولو بضميمة قرينة خارجية.
وحيث لا ضابط لذلك لا يسعنا استقصاء موارده، كما لا مجال لإطالة
الكلام فيه، بل يوكل للناظر في الاستعمالات الممارس لها. والحمد لله رب العالمين.

(1) الوسائل ج 5، باب 1 من أبواب صلاة المسافر، حديث: 14.
(2) الوسائل ج 18، باب 8 من أبواب بقية الحدود والتعزيرات، حديث: 1.
626

انتهى الكلام في مباحث المفاهيم صبح السبت، السابع عشر من شهر
شعبان المعظم، من السنة الأولى بعد الألف والأربعمائة للهجرة النبوية، على
صاحبها وآله أفضل الصلاة والتحية، في النجف الأشرف، على مشرفه الصلاة
والسلام، بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل حجة الاسلام
والمسلمين السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته.
وكان الفراغ من تبييضه - بعد تدريسه - صبح الأحد الثامن عشر من
الشهر المذكور بقلم مؤلفه حامدا مصليا مسلما.
627