الكتاب: مصباح الأصول
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للبهسودي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع: ١٤١٧
المطبعة: العلمية - قم
الناشر: مكتبة الداوري - قم
ردمك:
ملاحظات: تقرير بحث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

مصباح الأصول
تقرير بحث سماحة سيدنا الأستاذ العلامة
آية الله حضرة السيد أبو القاسم الخوئي
من الاستصحاب إلى آخر الاجتهاد والتقليد
بقلم
السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي
منشورات
مكتبة الداوري
قم - إيران
تلفن 32174
1

هوية الكتاب:
اسم الكتاب: مصباح الأصول / ج 3
المؤلف: السيد محمد سرور الواعظ
الناشر: مكتبة الداوري - قم تليفون 732178
المطبعة: العلمية - قم
الطبعة: الخامسة - 1417 ه‍. ق
العدد: 1000 نسخة
السعر: 1500 تومانا
2

بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علما وألحقني بالصالحين، واجعلني مقرر صدق أكن من الشاكرين،
فإنك في الدارين رجائي وجل قدسك عن حمدي وثنائي، وصل اللهم على أشرف
أنبيائك المرسلين وأفضل سفرائك المرضيين محمد وآله الأطهار المعصومين.
أما بعد فهذه ثمرات اقتطفتها من شجرة طيبة، ودرز كلمات تلقيتها من أبحاث
قيمة لحضرة سيدنا الأستاذ العلامة صراف نقود العلم بأفكاره الباكرة، غواص
بحار الفضل بأنظاره العالية، المحدث الخبير، والفقيه البصير، والأصولي الشهير،
حجة الاسلام والمسلمين آية الله العظمى في العالمين سيدنا ومولانا حضرة (الحاج
السيد أبو القاسم الخوئي) أدام الله ظله العالي ومتع المسلمين بوجوده الشريف.
4

الكلام في الاستصحاب
وتحقيق القول فيه يقتضي التكلم في جهات:
(الجهة الأولى) في تعريفه، وقد ذكر شيخنا الأنصاري (ره) عدة
من التعاريف التي عرفوه بها، وقال: " إن أسدها وأخصرها إبقاء ما كان "، وليس
المراد من الابقاء هو الابقاء التكويني الخارجي، بل المراد هو حكم الشارع بالبقاء،
فالمراد من الابقاء هو الابقاء بحكم الشارع. وقال صاحب الكفاية (ره): " إن عباراتهم
في تعريفه وان كانت شتى، إلا انها تشير إلى مفهوم واحد وهو الحكم ببقاء حكم
أو موضوع ذي حكم شك في بقائه ".
أقول أما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من التعريف، فهو شرح لما ذكره
الشيخ (ره) لا غيره. وأما ما ذكره من كون التعاريف مشيرة إلى معنى
واحد، فغير صحيح، لاختلاف المباني في الاستصحاب، وكيف يصح تعريف
الاستصحاب بأنه حكم الشارع بالبقاء في ظرف الشك بناء على كون الاستصحاب
من الامارات؟ فان الامارات ما ينكشف الحكم بها فلا يصح تعريفها بالحكم.
والذي ينبغي ان يقال: ان البحث في الاستصحاب راجع إلى أمرين لا إلى أمر
واحد: (الأول) البحث عنه بناء على كونه من الامارات. و (الثاني) البحث عنه بناء
على كونه من الأصول، أما على القول بكونه من الامارات المفيدة للظن النوعي،
فالصحيح في تعريفه ما نقله الشيخ (ره) عن بعضهم من أن الاستصحاب كون الحكم
متيقنا في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق. فان كون الحكم متيقنا
في الان السابق امارة على بقائه ومفيدة للظن النوعي، فيكون الاستصحاب كسائر
الامارات المفيدة للظن النوعي، ويكون المثبت منه حجة أيضا على ما هو المعروف بينهم
5

وان كان لنا كلام في حجية الاستصحاب المثبت حتى على القول بكونه من الامارات.
وسيجئ الكلام فيه انشاء الله تعالى، كما أنه على القول باعتباره من باب إفادته الظن
الشخصي، فالصحيح في تعريفه أن يقال: إن الاستصحاب هو الظن ببقاء حكم يقيني
الحصول في الان السابق مشكوك البقاء في الان اللاحق، فيكون الاستصحاب
كبعض الظنون الشخصية المعتبرة شرعا في بعض المقامات، كالظن في تشخيص القبلة
وكالظن بالركعات في الصلوات الرباعية. وهذا المعنى هو المأخوذ من الكبرى في كلام
شارح المختصر على ما نقله الشيخ (ره) من قوله: " الحكم الفلاني قد كان متيقنا سابقا،
وشك في بقائه، وكلما كان كذلك فهو مظنون البقاء ". وأما على القول بكونه
من الأصول، فلابد من تعريفه بالحكم كما وقع في كلام الشيخ وصاحب الكفاية،
لكن لا بما ذكراه من أنه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، فان الاستصحاب
على هذا التقدير مأخوذ من الاخبار وعمدتها صحاح زرارة وليس فيها ما يدل على الحكم
ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم، بل المستفاد منها حرمة نقض اليقين بالشك من حيث
العمل، والحكم ببقاء اليقين من حيث العمل في ظرف الشك، فالصحيح في تعريفه
على هذا المسلك أن يقال إن الاستصحاب هو حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك
من حيث الجري العملي.
(الجهة الثانية) في أن البحث عن الاستصحاب هل يكون بحثا عن مسألة أصولية أو فقهية؟
فنقول أما على القول باختصاص حجية الاستصحاب بالشبهات الموضوعية وعدم حجيته
في الاحكام الكلية الإلهية كما هو المختار، فالبحث عنه يرجع إلى البحث عن قاعدة
فقهية مستفادة من الاخبار، فيكون الاستصحاب من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة
وقاعدة التجاوز، ويعتبر فيه حينئذ اليقين السابق والشك اللاحق من المقلد، ولا يكفي
تحققهما من المجتهد بالنسبة إلى تكليف المقلد، فلو كان المقلد متيقنا بالطهارة من الحدث
6

وشك في الحدث فرجع إلى المجتهد، فلابد له من الافتاء بابقاء الطهارة عملا وان كان
المجتهد متيقنا بكونه محدثا. نعم اليقين والشك من المجتهد انما يعتبران في جريان
الاستصحاب بالنسبة إلى تكليف نفسه لا بالنسبة إلى المقلد، وكذا جميع القواعد الفقهية
كقاعدة الفراغ من الصلاة في ما إذا شك في نقصان ركن من أركان صلاته، فيفتي له المجتهد
بالصحة لأجل الفراغ وان كان هو عالما بنقصان ركن من أركان صلاته، ولا يقبل قوله بنقصان
الركن إلا من باب الشهادة إذا اعتبرنا شهادة العدل الواحد في أمثال هذه المقامات. وأما
على القول بحجيته في الاحكام الكلية أيضا بان يقال الشك المأخوذ في الاستصحاب
شامل لما كان منشأه عدم وصول البيان من قبل الشارع، أو الأمور الخارجية. ويشمل
الصورتين دليل واحد، كما مر نظيره في شمول حديث الرفع للشبهات الحكمية
والموضوعية، لكون المراد منه كل حكم مجهول سواء كان منشأ الجهل عدم تمامية البيان
من قبل الشارع كاجمال النص، أو الأمور الخارجية. ولا يلزم استعمال اللفظ في المعنيين
فيكون الاستصحاب حينئذ ذا جهتين: فمن جهة كونه حجة في الاحكام الكلية يكون
البحث عنه بحثا عن مسألة أصولية، لما ذكرناه في أول هذه الدورة من أن الميزان - في المسألة
الأصولية - امكان وقوع النتيجة في طريق استنباط الأحكام الشرعية بلا احتياج
إلى مسألة أخرى: أي أن المسألة الأصولية ما يمكن أن تقع نتيجتها في كبرى القياس
الذي ينتج نفس الحكم الشرعي بلا احتياج إلى شئ آخر، وحينئذ يعتبر فيه اليقين
السابق والشك اللاحق من المجتهد كما في سائر القواعد الأصولية، فبعد تحقق اليقين
السابق والشك اللاحق من المجتهد بالنسبة إلى حكم شرعي كلي كنجاسة الماء المتمم كرا
وحرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال، يستصحب هذا الحكم الكلي
ويفتي بنجاسة الماء وحرمة وطء الحائض، ويجب على المقلد اتباعه من باب رجوع
الجاهل إلى العالم. ومن جهة كونه حجة في الاحكام الجزئية والموضوعات الخارجية
7

يكون البحث عنه بحثا عن مسألة فقهية، كما ذكرناه سابقا، ولا مانع من اجتماع
الجهتين فيه، فإنه يثبت كونه قاعدة أصولية وقاعدة فقهية بدليل واحد وهو قوله (ع):
(لا تنقض اليقين بالشك) فان اطلاقه شامل لليقين والشك المتعلقين بالأحكام الكلية،
واليقين والشك المتعلقين بالأحكام الجزئية أو الموضوعات الخارجية كما مر نظيره
في بحث حجية الخبر الواحد، بناء على حجية الخبر في الموضوعات أيضا. فان اطلاق
دليل الحجية يشمل ما لو تعلق الخبر بالأحكام وما لو تعلق بالموضوعات، فبدليل واحد
يثبت كونها قاعدة أصولية وقاعدة فقهية، ولا مانع منه أصلا:
(الجهة الثالثة) في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي
والمانع، فنقول: اليقين والشك متضادان، بل باعتبار خصوصية فيهما متناقضان، لان
اليقين يعتبر فيه عدم احتمال الخلاف، والشك يعتبر فيه احتمال الخلاف. وبين هاتين
الخصوصيتين تناقض وإن كان بين اليقين والشك المتخصصين بهما هو التضاد. وكيف
كان لا يمكن اجتماع اليقين والشك لشخص واحد بالنسبة إلى شئ واحد، فإذا اجتمع
اليقين والشك لشخص: فاما أن يكون متعلق اليقين والشك متبائنين بلا ارتباط
لأحدهما بالآخر، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد والشك باجتهاده أو باجتهاد شخص
آخر، وهذا لا يتعلق بالبحث عنه غرض في المقام. وإما أن يكون بينهما نوع ارتباط
بأن يكون متعلق اليقين جزء علة لمتعلق الشك فيكون متعلق اليقين هو المقتضي
بالكسر ومتعلق الشك هو المقتضى بالفتح، فبعد اليقين بتحقق المقتضي بالكسر
يشك في تحقق المقتضى بالفتح، لاحتمال وجود المانع. وهذا هو مورد
قاعدة المقتضي والمانع، وسيأتي الكلام فيها بعد الفراغ عن الاستصحاب
انشاء الله تعالى. وإما أن يكون متعلق اليقين والشك متحدا ذاتا ومتغايرا زمانا
فتارة يكون متعلق اليقين مقدما ومتعلق الشك مؤخرا، بأن يكون الشئ متيقنا
8

في زمان سابق مشكوكا في زمان لاحق. وبعبارة أخرى يكون متيقن الحدوث
ومشكوك البقاء، ويسمى الشك حينئذ بالشك الطارئ، وهذا هو مورد للاستصحاب،
ولا فرق فيه بين أن يكون اليقين في حدوثه مقدما على الشك من حيث الزمان أو مؤخرا
عنه أو يكونا متقارنين في الزمان. وأخرى يكون متعلق الشك مقدما على متعلق
اليقين بان يكون الشئ مشكوكا في زمان سابق متيقنا في زمان لا حق، وهذا مورد
الاستصحاب القهقري، ولا يشمله دليل حجية الاستصحاب، لان قوله (ع) -:
" لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت " - صريح في تقدم متعلق اليقين
على متعلق الشك، فلا يدل على حجية الاستصحاب فيما إذا تقدم المشكوك على المتيقن، فهذا
الاستصحاب لا يكون حجة إلا في موضع واحد، وهو ما إذا كان معنى اللفظ متيقنا
في العرف فعلا وشك في أنه هل كان في اللغة أو عرف الأئمة عليهم السلام كذلك
أم لا؟ فيحكم بكون اللفظ حقيقة في اللغة وعرف الأئمة عليهم السلام أيضا بأصالة عدم
النقل. وحجية هذا الاستصحاب في خصوص هذا المورد ثابتة ببناء العقلاء، ولولا
حجيته، لا نسد علينا باب الاستنباط، لاحتمال كون ألفاظ الاخبار - في عرفهم
عليهم السلام - ظاهرة في غير ما هي ظاهرة فيه في عرفنا الحاضر. وكذا ألفاظ
التسجيلات المذكورة في كتب القدماء. وإما ان يكون متعلق اليقين والشك متحدا ذاتا
ومقارنا زمانا، وهذا لا يتصور إلا مع اختلاف اليقين والشك من حيث الزمان، فتارة
يكون الشك مقدما على اليقين كما إذا شككنا يوم الخميس في عدالة زيد يوم الأربعاء ثم
علمنا يوم الجمعة عدالته يوم الأربعاء، وهذا مما لا اشكال فيه، فإنه يجب عليه العمل
بوظيفة الشاك ما دام شاكا، والعمل بوظيفة المتيقن بعد تبدل شكه باليقين، وأخرى
يكون اليقين مقدما على الشك، ويسمى بالشك الساري، لسريانه إلى نفس متعلق اليقين
كما إذا علمنا يوم الخميس بعدالة زيد يوم الأربعاء وشككنا يوم الجمعة في عدالته يوم
الأربعاء لاحتمال أن يكون علمنا السابق جهلا مركبا وهذا مورد قاعدة اليقين، وسيجئ
9

الكلام - فيها من حيث شمول أدلة الاستصحاب لها وعدمه، ومن حيث دلالة دليل
آخر عليها وعدمها - بعد الفراغ من بحث الاستصحاب انشاء الله تعالى.
(الجهة الرابعة) في تقسيم الاستصحاب على أنحاء: فتارة يقسم باعتبار المستصحب،
فإنه قد يكون حكما شرعيا، وقد يكون غيره، والحكم الشرعي قد يكون تكليفيا،
وقد يكون وضعيا. وكذا قد يكون كليا، وقد يكون جزئيا. وأخرى باعتبار منشأ
اليقين، فإنه قد يكون العقل وقد يكون غيره من الكتاب والسنة أو السماع والرؤية،
كما إذا كان المستصحب من الأمور الخارجية. وثالثة باعتبار منشأ الشك فإنه قد يكون
الشك ناشئا من احتمال انقضاء استعداده ذاتا، ويسمى بالشك في المقتضي، وقد يكون
ناشئا من احتمال طرو المانع مع اليقين بوجود المقتضي، ويسمى بالشك في الرافع، وغير
ذلك من التقسيمات التي تعرض لها الشيخ (ره)، وقد وقع الخلاف بينهم في حجية
الاستصحاب مطلقا، وعدمها مطلقا، والتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره تارة، وبين
ما كان سبب اليقين بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره أخرى، وبين الشك في المقتضي
والشك في الرافع ثالثة. واختار الشيخ (ره) التفصيل باعتبارين: (الأول) التفصيل
بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، و (الثاني) التفصيل بين ما كان سبب اليقين
بالحكم الشرعي الدليل العقلي وغيره، فأنكر حجية الاستصحاب في الأول في التفصيلين
وإن كان إرجاع التفصيل الثاني إلى الأول ممكنا. وحيث إن استقصاء هذه التفاصيل
تطويل بلا طائل، فالعمدة هو النظر إلى الأدلة التي أقاموها على حجية الاستصحاب،
فان تمت فننظر إلى مقدار دلالتها من حيث الشمول لجميع التقادير المتقدمة أو بعضها:
فنقول: قد استدل على حجية الاستصحاب بأمور: (الأول) دعوى السيرة
القطعية من العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة، بل عمل الانسان - على طبق الحالة
السابقة - ليس من حيث كونه انسانا بل من حيث كونه حيوانا، لاستقرار سيرة
10

سائر الحيوانات على ذلك، فان الحيوان يمشي إلى المرتع السابق ويرجع إلى دار صاحبه
عملا بالحالة السابقة.
والكلام في هذا الدليل يقع في مقامين: (الأول) في ثبوت هذه السيرة،
و (الثاني) في حجيتها، أما الأول، فالتحقيق عدم ثبوت هذه السيرة من العقلاء،
فان عملهم على طبق الحالة السابقة على أنحاء مختلفة: (فتارة) يكون عملهم لاطمينانهم بالبقاء
كما يرسل تاجر أموالا إلى تاجر آخر في بلدة أخرى لاطمينانه بحياته، لا للاعتماد
على مجرد الحالة السابقة، ولذا لو زال اطمينانه بحياته كما لو سمع - أنه مات جماعة من التجار
في تلك البلدة - لم يرسل إليه الأموال قطعا، و (أخرى) يكون عملهم رجاء واحتياطا، كمن
يرسل الدرهم والدينار إلى ابنه الذي في بلد آخر ليصرفهما في حوائجه، ثم لو شك
في حياته فيرسل إليه أيضا للرجاء والاحتياط حذرا من وقوعه في المضيقة على تقدير
حياته، و (ثالثة) يكون عملهم لغفلتهم عن البقاء وعدمه فليس لهم التفات حتى يحصل لهم
الشك، فيعملون اعتمادا على الحالة السابقة، كمن يجئ إلى داره بلا التفات إلى بقاء
الدار وعدمه، ومن هذا الباب جري الحيوانات على الحالة السابقة، فإنه بلا شعور والتفات
إلى البقاء وعدمه، فلم يثبت استقرار سيرة العقلاء على العمل اعتمادا على الحالة السابقة.
ويدل على ما ذكرنا أن ارتكاز العقلاء ليس مبنيا على التعبد، بأن كان رئيسهم قد
أمرهم بالعمل على طبق الحالة السابقة، بل هو مبني على منشأ عقلائي، كما أن جميع ارتكازيات
العقلاء ناشئة من المبادي العقلائية، ولو كانت هنا جهة عقلائية تقتضي العمل على طبق
الحالة السابقة، لفهمناها، فانا من جملتهم. وذكر المحقق النائيني (ره) أن عملهم
على طبق الحالة السابقة انما هو بالهام إلهي حفظا للنظام. وفيه أن المنكرين لحجية الاستصحاب
لم يختل النظام عليهم بعد، ولو كان حفظ النظام يقتضي ذلك، لاختل على المنكرين.
(وأما الكلأ) في المقام الثاني وهو حجية السيرة على تقدير ثبوتها، فالحق هو
حجيتها، لان الشارع مع القدرة على الردع لم يردعهم عن ذلك. وعدم الردع - مع
11

القدرة عليه - يدل على الرضا. وأما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أنه تكفي
في الردع الآيات الناهية عن العمل بغير علم، فهو ينافي ما تقدم منه في بحث حجية
الخبر الواحد من أن الآيات واردة في أصول الدين أولا، وأن الردع بها لا يكون الا
على وجه دائر ثانيا. فما ذكره - من الجوابين عن الآيات الناهية عن العمل بغير علم
في بحث حجية الخبر - هو الواجب في المقام أيضا، مضافا إلى جواب ثالث ذكرناه
في بحث حجية الخبر، وهو أن الآيات الناهية ارشادية إلى عدم العمل بالظن، لاحتمال
مخالفة الواقع والابتلاء بالعقاب، كما في حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فلا
تشمل الظن الذي يكون حجة ببناء العقلاء، للقطع بالأمن من العقاب حينئذ والعقل،
لا يحكم بأزيد مما يحصل معه الامن من العقاب. وهذا الجواب أيضا جار في المقام، نعم
ما ذكره - في هامش الكفاية من التمسك باستصحاب حجية الخبر لو قيل بسقوط كل
من السيرة والآيات عن الاعتبار - لا يجري في المقام، لان الكلام في حجية
الاستصحاب ولا يمكن اثباتها بالاستصحاب، كما هو ظاهر.
(الثاني) أن ثبوت شئ في السابق - مع الشك في بقائه - موجب للظن
ببقائه، وكلما كان كذلك يجب العمل به. وفيه منع الصغر والكبرى، أما الصغرى
فلانه لو كان المراد هو الظن الشخصي، فهو واضح البطلان في جميع الموارد، ولو كان
المراد هو الظن النوعي الناشئ من غلبة الافراد، فهو أيضا كذلك، إذ لا تتصور جهة جامعة
بين جميع الأشياء من حيث البقاء النوعي فان البقاء النوعي لافراد الانسان إلى مدة كالستين
سنة مثلا، ولا يكون البقاء النوعي لغيره من الحيوانات إلى هذه المدة، بل في بعضها الأقل
من ذلك وفي بعضها الأكثر منه، فليس لنا سبيل إلى إحراز غلبة البقاء في جميع الأشياء
الثابتة حتى يحصل لنا الظن النوعي بالبقاء في الفرد المشكوك بقاؤه. وأما الكبرى
فلحرمة العمل بالظن بالأدلة الأربعة على ما تقدم بيانه في بحث الظن، إلا ما دل الدليل
على اعتباره بالخصوص، وليس لنا دليل على حجية الظن في خصوص المقام.
12

(الثالث) دعوى الاجماع على حجية الاستصحاب. وفيه أن حجية
الاستصحاب عند القائلين بها مستندة إلى مبان مختلفة مذكورة في كلامهم، فليس هناك
اجماع تعبدي كاشف عن رضا المعصوم عليه السلام، فلابد من ملاحظة المدرك،
مضافا إلى أنه لا اتفاق في المسألة فإنها محل للخلاف. ومما ذكرنا ظهر عدم حجية
الاجماع المنقول في المقام وان قلنا بحجيته في غير هذا المقام.
(الرابع) وهو العمدة هي الاخبار: (فمنها) صحيحة زرارة، قال قلت له:
" الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال (ع):
يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن وإذا نامت العين والاذن فقد وجب
الوضوء، قلت: فان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم قال (ع): لا، حتى يستيقن انه
قد نام حتى يجئ من ذلك أمر بين، والا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين
بالشك أبدا، ولكنه ينقضه بيقين آخر. ".
ويقع الكلام في سند الرواية أولا، وفي دلالتها ثانيا. (أما الأول) فربما يستشكل
فيه من جهة كونها مضمرة، فيحتمل كون المسؤول غير المعصوم، وهو مدفوع (أولا) بما
ذكره جملة من الاعلام من عدم كونها مضمرة، وأن المسؤول هو الباقر عليه السلام، فالرواية:
قلت للباقر عليه السلام، كما ذكره السيد الطباطبائي (ره) في الفوائد، والفاضل النراقي (ره)
على ما ذكره الشيخ (ره) في تنبيهات الاستصحاب، وغيرهما من الأفاضل. ومن البعيد
أن مثل السيد (ره) نقلها مسندة ولم يعثر على أصل من الأصول، بل من المحتمل أنه عثر
على أصل نفس زرارة، كما أنه قد يوجد بعض الأصول في زماننا هذا أيضا. و (ثانيا) بأن
الاضمار من مثل زرارة لا يوجب القدح في اعتبارها، فإنه أجل شأنا من أن يسأل غير
المعصوم ثم ينقل لغيره بلا نصب قرينة على تعيين المسؤول، فان هذا خيانة يجل مثل زرارة
عنها، فاضماره يدل على كون المسؤول هو المعصوم يقينا، غاية الامر أنه لا يعلم كونه
13

الباقر أم الصادق عليهما السلام. وهذا شئ لا يضر باعتبارها، ولا إشكال في سندها
إلا من جهة الاضمار فان جميع الرواة اما ميون ثقات. و (أما الثاني) فنقول قد ذكر فيها
فقرتان: (الفقرة الأولى) هي قول الراوي الرجل ينام (الخ...) وهذا سؤال عن شبهة
حكمية، وهي أن الخفقه والخفقتان توجب الوضوء أم لا؟.
ووجه الشبهة أمران: (الأول) هو الاشتباه المفهومي في النوم بان يكون الراوي
لا يعلم أن النوم هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا؟ فيكون من قبيل دوران بين الأقل
والأكثر (الثاني) احتمال كون الخفقة والخفقتين ناقضا للوضوء مستقلا كسائر النواقض
من دون أن يكون داخلا في مفهوم النوم، وعلى كل حال أجابه الإمام عليه السلام بعدم
انتقاض الوضوء بالخفقة والخفقتين بقوله (ع) يا زرارة (الخ...) وإنما جمع بين نوم العين
والاذن، وترك نوم القلب للتلازم بين نوم القلب ونوم الاذن على ما ذكره بعضهم،
فذكر نوم الاذن يكفي عن ذكر نوم القلب، وهذه الفقرة لا دخل لها بالمقام. (الفقرة
الثانية) هي قول الراوي: فان حرك في جنبه شئ (الخ...) وهذا سؤال عن شبهة
موضوعية، مع العلم بأصل الحكم باعتبار أنه قد تحصل للانسان حالة لا يرى فيها
ولا يسمع. لاشتغال قلبه بشئ، ولا سيما قبل عروض النوم، فيشك في تحقق النوم،
فأجاب الإمام عليه السلام - بعدم وجوب الوضوء مع الشك في تحقق النوم - بقوله (ع):
لا، حتى يستيقن أنه قد نام، اي لا يجب عليه الوضوء في صورة الشك إلى أن يتيقن.
ولا إشكال في دلالة الرواية على حجية الاستصحاب في موردها، فان البناء
على الوضوء مع الشك في الحدث مما لا اشكال فيه ولا خلاف، إنما الكلام في التعدي
عن المورد والحكم بالتعميم، وهو مبني على أحد أمرين: (الأول) ما ذكره الشيخ (ره)
ووافقه صاحب الكفاية (ره)، وهو أن الجواب - للشرطية المذكورة بقوله (ع)
وإلا - محذوف، اي لا يجب عليه الوضوء وقام التعليل - وهو قوله (ع): فإنه على يقين
14

من وضوئه - مقام الجواب، وهو كثير في الآيات وغيرها، كقوله تعالى: " ومن كفر
فان الله غني عن العالمين ". ومن المعلوم أنه ليس الجواب هو قوله تعالى فان الله غني
عن العالمين لعدم ترتبه على الشرط المذكور، فان الله غني عن العالمين كفروا أم لم يكفروا،
فالجواب محذوف وهو (لن يضر الله) وقوله تعالى - فان الله غني - تعليل، قام مقام
الجواب، ونقل الفاء من الجواب وادخل على التعليل لقيامه مقام الجواب، وكذا
في المقام حيث أن الجواب يعلم مما ذكر قبل الشرط، وهو قوله (ع) لا حتى يستيقن،
فحذف وأقيم التعليل مقامه، ولهذا التعليل - وهو قوله (ع): " فإنه على يقين من وضوئه
ولا ينقض اليقين بالشك " في بدو النظر - احتمالات ثلاثة:
(الأول) أن يكون المراد - من اليقين والشك في قوله (ع) ولا ينقض
اليقين بالشك - هو اليقين والشك المذكورين، اي اليقين المتعلق بالوضوء والشك
المتعلق بالنوم المفروضين في كلام زرارة، فيكون المراد لا ينقض يقينه بالوضوء بالشك
في النوم. وهذا الاحتمال بعيد جدا، لان مفاد التعليل حينئذ يكون عين الحكم المغلل
به، فيلزم التكرار المستهجن، إذ يصير مفاد مجموع الكلام من الحكم المعلل والتعليل
أنه لا يجب الوضوء على من تيقن بالوضوء وشك في النوم، لأنه على يقين من وضوئه
ولا ينقض يقينه بالوضوء بالشك في النوم، ومعنى عدم نقض هذا اليقين بذاك الشك
هو عدم وجوب الوضوء، وهذا هو التكرار.
(الثاني) أن يكون المراد من اليقين هو اليقين السابق، أي اليقين المتعلق
بالوضوء، ولكن المراد من الشك مطلق الشك في الناقض لا خصوص الشك في النوم
بالغاء الخصوصية عن الشك، للقطع بعدم دخل خصوصية النوم في الحكم بعدم وجوب
الوضوء، فيكون المراد أن المتيقن بالوضوء لا ينقض يقينه بالوضوء بالشك في الحدث،
سواء كان الشك في النوم أم في غيره من النواقض، فيكون قوله (ع) لا ينقض اليقين
15

بالشك قاعدة كلية في باب الوضوء فقط.
(الثالث) أن يكون المراد من اليقين هو مطلق اليقين لا خصوص اليقين
بالوضوء بالغاء الخصوصية عن اليقين أيضا، كالغاء الخصوصية عن الشك، فيكون المعنى
أن المتيقن بشئ - سواء كان الوضوء أم غيره - لا ينقض يقينه بالشك فيه، فيكون
قاعدة كلية في الوضوء وغيره، وهو المطلوب. والظاهر أن الاحتمال الثالث هو المتعين،
لظهور التعليل في العموم لان قوله (ع) - " فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض
اليقين بالشك " - جواب مقنع لزرارة، ومن المعلوم أن سؤاله لم يكن مبنيا على خصوصية
الوضوء، بل بناء سؤاله على أن المتطهر إذا شك في الحدث هل يجب عليه تحصيل الطهارة
أم لا؟ سواء كان متطهرا بالوضوء أم بالغسل، فكما تعدينا عن الشك في النوم إلى غيره
من النواقض لعدم دخل لخصوصية النوم في الحكم، كذلك نتعدى عن خصوصية الوضوء
أيضا إلى غيره، فيكون حاصل جواب الإمام عليه السلام أن هذا المتيقن بالوضوء الشاك
في النوم لا يجب عليه الوضوء، لأنه كان متيقنا بالوضوء، وكل من تيقن بشئ لا ينقض
يقينه بالشك فيه، فيكون التعليل راجعا إلى قاعدة ارتكازية وهي عدم نقض الامر
المبرم وهو اليقين بالامر غير المبرم وهو الشك، ويتم المطلوب من عدم جواب نقض اليقين
بالشك بلا اختصاص بمورد الرواية.
(الامر الثاني) أن لا يكون الجواب محذوفا، بل الجواب هو قوله (ع): ولا
ينقض اليقين بالشك، ويكون قوله (ع) - فإنه على يقين من وضوئه - توطئة
للجواب، أو الجواب هو قوله (ع): فإنه على يقين من وضوئه. ويقع الكلام
في موضعين: (الأول) في صحة هذا التركيب، و (الثاني) في استفادة حجية الاستصحاب
على تقدير صحته. أما الكلام في الموضع الأول، فالظاهر عدم صحة كون الجواب
أحد المذكورين، أما قوله (ع): ولا ينقض اليقين بالشك، فلكون الواو مانعا عن كونه
16

جوابا، وأما قوله (ع): فإنه على يقين من وضوئه، فلانه إن بني على ظاهره
من كونه جملة خبرية، فلا يصح كونه جوابا، لعدم ترتبه على الشرط المستفاد
من قوله (ع): وإلا، لان المراد - من اليقين في قوله (ع): فإنه على يقين
من وضوئه - هو يقينه بالوضوء السابق، وهذا اليقين حاصل له على الفرض سواء
استيقن بالنوم بعده أم لا، فلا يكون مترتبا على الشرط المستفاد من قوله (ع)
وإلا، أي وإن لم يستيقن أنه قدم نام، فلا يصح كونه جوابا عنه. وإن بني على كونه
جوابا وكونه إنشاء في المعنى، أي يجب عليه المضي على يقينه من حيث العمل
كما ذكره المحقق النائيني (ره)، فالظاهر عدم صحته أيضا، لأنا لم نعثر على استعمال الجملة
الاسمية في مقام الطلب، بأن يقال زيد قائم مثلا ويراد به يجب عليه القيام. نعم
الجمل الخبرية الفعلية استعملت في مقام الطلب كثيرا: أعاد، أو يعيد، أو من زاد
في صلاته استقبل استقبالا. وأما الجملة الاسمية فلم يعهد استعمالها في مقام إنشاء الطلب،
نعم الجملة الاسمية تستعمل لانشاء المحمول، كما يقال أن طالق، أو أنت حر في مقام
إنشاء الطلاق، وإنشاء الحرية، وكذا غيرهما من الانشاء آت غير الطلبية، مضافا
إلى أنا لو سلمنا كونها في مقام الطلب، لا يستفاد منها وجوب المضي والجري العملي
على طبق اليقين، بل تكون طلبا للمادة أي اليقين بالوضوء، كما أن الجملة الفعلية
في مقام الطلب تكون طلبا للمادة، فان قوله - أعاد أو يعيد - طلب للإعادة،
فيكون قوله (ع) فإنه على يقين من وضوئه طلبا لليقين بالوضوء، ولا معنى له،
لكونه متيقنا بالوضوء على الفرض.
(وأما الكلام في الموضع الثاني) فالظاهر استفادة حجية الاستصحاب
من الصحيحة على تقدير كون الجواب هو قوله (ع): فإنه على يقين من وضوئه،
أو قوله (ع): ولا ينقض اليقين بالشك، وإن كانت دلالة الصحيحة - على حجية
17

الاستصحاب على تقدير كون الجواب محذوفا - أظهر إلا أنها دالة عليها على تقدير
كون الجواب أحد الامرين المذكورين أيضا، للقرينة الخارجية والداخلية:
أما القرينة الخارجية، فهي ذكر هذه الفقرة الدالة على عدم جواز نقض اليقين
بالشك في روايات متعددة واردة في أبواب اخر، غير مسألة الشك في الحدث
كما يأتي ذكرها إنشاء الله تعالى، فتدل على أن عدم جواز نقض اليقين بالشك قاعدة
كلية لا اختصاص لها بباب الوضوء.
وأما القرينة الداخلية، فأمور: (أحدها) أن اليقين والشك من الصفات
ذات الإضافة، كالحب والبغض وغيرهما من ذوات الإضافة، وهي مشتركة مع باقي
الاعراض الخارجية في الاحتياج إلى الموضوع، وممتازة عنها بالاحتياج إلى المتعلق
مضافا إلى الموضوع، فان اليقين كما يحتاج في وجوده إلى الموضوع وهو المتيقن
بالكسر، كذا يحتاج إلى المتعلق وهو المتيقن بالفتح، فلا وجود لليقين إلا متعلقا
بشئ، فكلما ذكر اليقين في كلام، لابد من ذكر متعلقه، وإلا لم يتم الكلام
في الإفادة. فذكر الوضوء - في قوله (ع): فإنه على يقين من وضوئه -
لا يدل على اعتبار خصوصية الوضوء في عدم جواب نقض اليقين بالشك، بل ذكر
المتعلق إنما هو لعدم تمامية الكلام بدونه، وذكر خصوص الوضوء إنما هو لكون
مورد السؤال والجواب هو الوضوء، فبعد كون ذكر الوضوء لما ذكرنا لا لاعتبار
الخصوصية، يكون اطلاق قوله (ع) - وينقض اليقين بالشك - هو المتبع،
فلا اختصاص للاستصحاب بباب الوضوء.
(ثانيها) نفس لفظ النقض في قوله (ع): ولا ينقض اليقين بالشك، فإنه
يدل على أن العبرة باليقين إنما هو باعتبار أن اليقين أمر مبرم مستحكم، والشك تحير
وغير مبرم، ولا يجوز نقض المبرم بأمر غير مبرم بلا اعتبار خصوصية الوضوء.
18

(ثالثها) قوله (ع): أبدا، فإنه إشارة إلى أن عدم جواز نقض اليقين
بالشك قاعدة كلية ارتكازية لا اختصاص لها بمورد دون مورد، وتكون هذه
الكلمة في الصحيحة بمنزلة لا ينبغي في رواية أخرى، كما يأتي ذكرها
انشاء الله تعالى.
وربما يتوهم أن كون هذه القاعدة ارتكازية ينافي ما ذكرنا سابقا من عدم تحقق
السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب، وأن عملهم مبني على الاطمينان أو الاحتياط
أو الغفلة. وهو مدفوع، بأن قاعدة - عدم جواز نقض اليقين بالشك - قاعدة
ارتكازية مسلمة، فان اليقين والشك بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأمونا من الضرر
والاخر محتمل الضرر، فإذا دار الامر بينهما، لا إشكال في أن المرتكز هو اختيار
الطريق المأمون. وما أنكرناه سابقا إنما هو تطبيق هذه الكبرى الكلية
على الاستصحاب، لعدم صدق نقض اليقين بالشك عرفا، لان اليقين متعلق بالحدوث
فقط، والشك متعلق بالبقاء فلم يتعلق اليقين بما تعلق به الشك، حتى لا يجوز نقض
اليقين بالشك فلا يصدق نقض اليقين بالشك عرفا. فتطبيق هذه الكبرى الارتكازية
على الاستصحاب إنما هو بالتعبد الشرعي لأجل هذه الصحيحة وغيرها من الروايات
الآتية. ولا مانع من كون الكبرى مسلمة ارتكازية، مع كون بعض الصغريات غير
واضحة، فان اجتماع الضدين ما لا إشكال ولا خلاف في كونه محالا، مع أنه وقع
الخلاف بينهم في جواز اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد من جهة أنه هل يكون
اجتماعهما من قبيل اجتماع الضدين أم لا؟
فتحصل مما ذكرنا أن الصحيحة تدل باطلاقها على حجية الاستصحاب مطلقا
بلا فرق بين الاحكام الكلية والجزئية، والموضوعات الخارجية، فإنها باطلاقها تدل
على عدم جواز نقض اليقين بالشك سواء كان متعلق اليقين هو الحكم الكلي أو الجزئي
19

أو الموضوع الخارجي، ولا يلزم استعمال اللفظ في معنيين أصلا. وقد ذكرنا نظير
ذلك في حديث الرفع من أنه باطلاقه شامل للشبهة الحكمية والموضوعية، ولا يلزم
استعمال اللفظ في معنيين، على ما نقله الشيخ (ره) عن بعضهم، فإنه يدل
على أن الحكم المجهول مرفوع، سواء كان سبب الجهل عدم تمامية البيان من قبل الشارع
كما في الشبهات الحكمية، أو كان سبب الجهل هي الأمور الخارجية. وما نختاره
من عدم حجية الاستصحاب في الاحكام الكلية إنما هو للمانع الخارجي كما سنتعرض له
انشاء الله، لا من جهة عدم شمول الصحيحة له.
ثم إن الكلام في ذيل هذه الصحيحة يتم ببيان أمور:
(الأول) قد أشرنا إلى الاختلاف في حجية الاستصحاب: بين الاثبات
مطلقا، والنفي مطلقا، والتفصيلات الكثيرة التي أطال الكلام في بيانها الشيخ (ره).
واختاره التفصيل في مقامين: (الأول) التفصيل بين الشك في المقتضي والشك
في الرافع. و (الثاني) التفصيل بين لدليل العقلي والشرعي في ما إذا كان المستصحب
حكما شرعيا، فأنكر حجية الاستصحاب في الأول في المقامين ووافقه المحقق النائيني (ره)
في التفصيل الأول دون الثاني.
ونحه نقتصر على التكلم في التفصيلين المذكورين، والتفصيل بين الحكم
الكلي الإلهي وغيره - كما هو المختار - وبعض التفصيلات المهمة، ونعرض
عن كثير من التفصيلات، لوضوح فسادها. فنقول: أما التفصيل بين الشك
في المقتضي والشك في الرافع، فيقع الكلام فيه مقامين: (الأول) في تعيين
مراد الشيخ (ره) من المقتضي، و (الثاني) في صحة التفصيل المذكور وفساده
من حيث الدليل. أما الكلام في تعيين مراد الشيخ (ره)، ففيه احتمالات:
(الأول) أن يكون المراد من المقتضي هو المقتضي التكويني الذي يعبر عنه
20

بالسبب ويكون جزء للعلة التامة، فان العلة مركبة في اصطلاحهم من أمور ثلاثة:
السبب، والشرط، وعدم المانع. والسب هو المؤثر، والشرط عبارة عما يكون
له دخل في فعلية التأثير وان لم يكن هو منشأ للأثر، والمانع عبارة عما يزاحم المؤثر
في التأثير ويمنعه عنه، فالنار سبب للاحراق، ومما ستها شرط، لكونها دخيلة في فعلية
الاحراق، والرطوبة مانعة عنه. وهذا المعنى ليس مراد الشيخ (ره) قطعا، لأنه
قائل بجريان الاستصحاب في العدميات، والعدم لا مقتضي له. وأيضا هو قائل به
في الأحكام الشرعية، ولا يكون لها مقتض تكويني، فان الاحكام عبارة عن اعتبارات
وضعها ورفعها بيد الشارع.
(الثاني) أن يكون مراد الشيخ (ره) من المقتضي هو الموضوع، فإنه
ثبت اصطلاح من الفقهاء بالتعبير عن الموضوع بالمقتضي، وعن كل قيد اعتبر وجوده
في الموضوع بالشرط في باب التكليف، وبالسبب في باب الوضع، وعن كل قيد اعتبر
عدمه في الموضوع بالمانع. فيقولون إن المقتضي لوجوب الحج هو المكلف،
والاستطاعة شرط لوجوبه، هذا في باب التكليف. وفى باب الوضع يقولون إن البيع
وموت المورث سبب للملكية، وكذا يقولون إن الحيض مانع عن وجوب
الصلاة، وتعبيرهم - عن القيد الوجودي بالشرط في باب التكليف وبالسبب
في باب الوضع - مجرد اصطلاح لا نعرف له وجها ومأخذا، لعدم الفرق بينهما أصلا
كما ترى، ولا نعرف مبدأ هذا الاصطلاح.
وبالجملة، يحتمل أن يكون مراد الشيخ (ره) من المقتضي هو الموضوع،
ففي موارد الشك في وجود الموضوع لا يجري الاستصحاب، وفى موارد الشك
- في رافع الحكم مع العلم بوجود الموضوع - لا مانع من جريانه، ولا يمكن
أن يكون هذا المعنى أيضا مراد الشيخ (ره) لأنه وإن كان صحيحا في نفسه إذ
21

لابد في جريان الاستصحاب من إحراز الموضوع كما سنذكره انشاء الله تعالى،
إلا أنه لا يكون تفصيلا في حجية الاستصحاب، فان إثبات الحكم - لموضوع مع العلم
بكونه غير الموضوع الذي كان الحكم ثابتا له - قياس لا تقول به الإمامية، ومع
احتمال كونه غيره احتمال للقياس، فلا مجال للاخذ بالاستصحاب إلا مع إحراز الموضوع
حتى يصدق في تركه نقض اليقين بالشك، فإنه إنما يصدق فيما كانت القضية المتيقنة
والمشكوكة متحدة. والشيخ أيضا يصرح في مواضع من كلامه بأن الاستصحاب
لا يجري إلا مع إحراز الموضوع، ومع ذلك يقول بالتفصيل بين الشك في المقتضي
والشك في الرافع، فلا يمكن أن يكون مراده من المقتضي هو الموضوع.
(الثالث) أن يكون مراده من المقتضي هو ملاكات الاحكام من المصالح
والمفاسد، ففي موارد الشك في بقاء الملاك لا يجري الاستصحاب، وفي موارد الشك
- في وجود ما يزاحم الملاك في التأثير المسمى بالرافع - لا مانع من جريان
الاستصحاب، ولا يكون هذا المعنى أيضا مراد الشيخ (ره) لأنه قائل بالاستصحاب
في الموضوعات الخارجية، ولا يتصور لها ملاك حتى يقال بالاستصحاب مع العلم ببقائه،
بل هذا المعنى - من التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع - سد لباب
الاستصحاب، لعدم العلم ببقاء الملاك لغير علام الغيوب إلا في بعض موارد نادرة
لأدلة خاصة. والشيخ يقول باستصحاب الملكية في المعاطاة بعد رجوع أحد المتعاملين،
ويصرح بكون الشك فيه شكا في الرافع، وينكر الاستصحاب في بقاء الخيار في خيار
الغبن لكون الشك فيه شكا في المقتضي، فمن أين علم الشيخ (ره) ببقاء الملاك
في الأول دون الثاني؟ فهذا المعنى ليس مراده قطعا ولعل السيد الطباطبائي (ره)
حمل المقتضي على هذا المعنى، حيث رد استصحاب الملكية في المعاطاة بأنه من موارد
الشك في المقتضي لعدم العلم ببقاء الملاك، مضافا إلى أن التفصيل - بين الشك
22

في المقتضي بمعنى الملاك في الأحكام التكليفية - إنما يتصور على ما هو المشهور
من مذهب الإمامية من كونها تابعة للمصالح والمفاسد التي تكون في متعلقاتها، وأما
على القول بكونها تابعة للمصالح التي تكون في نفس الأحكام التكليفية، كالأحكام
الوضعية التي تكون تابعة للمصلحة في نفس الجعل والاعتبار، كالملكية والزوجية دون
المتعلق، فلا معنى للتفصيل المذكور، لأن الشك في الحكم يلازم الشك في الملاك
بلا فرق بين الأحكام التكليفية والوضعية، فيكون الشك في الحكم الشرعي شكا
في المقتضي دائما ولم يبق مورد للشك في الرافع، فيكون حاصل التفصيل المذكور
المذكور إنكارا للاستصحاب في الأحكام الشرعية بقول مطلق.
فتحصل مما ذكرنا أنه ليس مراد الشيخ (ره) من المقتضي هو السبب أو الموضوع
أو الملاك على ما توهموه ونسبوه إليه، ومنشأ الوقوع - في هذه الأمور - توهم
أن مراد الشيخ (ره) من المقتضي هو المقتضي للمتيقن، فذكر بضعهم أن المراد
منه السبب، وبعضهم أن المراد منه الموضوع، وبعضهم أن المراد منه الملاك.
والظاهر أن مراد الشيخ (ره) ليس المقتضي للمتيقن، بل مراده من المقتضي
هو المقتضي للجري العملي على طبق المتيقن، فالمراد من المقتضي نفس المتيقن الذي يقتضي
الجري العملي على طبقه فحق التعبير أن يقال: الشك من جهة المقتضي لا الشك
في المقتضي.
وملخص الكلام - في بيان الميزان الفارق بين موارد الشك في المقتضي والشك
في الرافع - أن الأشياء (تارة) تكون لها قابلية البقاء في عمود الزمان إلى الأبد لو لم يطرأ رافع
لها كالملكية والزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة، فإنها باقية ببقاء الدهر ما لم يطرأ رافع
لها كالبيع والهبة وموت المالك في الملكية والطلاق في الزوجية، وكذا الطهارة
والنجاسة. فلو كان المتيقن من هذا القبيل، فهو مقتض للجري العملي على طبقه
23

ما لم يطرأ طارئ فإذا شك في بقاء هذا المتيقن، فلا محالة يكون الشك مستندا
إلى احتمال وجود الرافع له، وإلا كان باقيا دائما فهذا من موارد الشك في الرافع،
فيكون الاستصحاب فيه حجة. و (أخرى) لا تكون لها قابلية البقاء بنفسها،
كالزوجية المنقطعة مثلا، فإنها منقضية بنفسها بلا استناد إلى الرافع، فلو كان
المتيقن من هذا القبيل وشك في بقائه، فلا يستند الشك فيه إلى احتمال
وجود الرافع، بل الشك في استعداده للبقاء بنفسه، فيكون الشك في أن هذا
المتيقن هل له استعداد البقاء بحيث يقتضي الجري العملي على طبقه أم لا؟ فهذا
من موارد الشك في المقتضي فلا يكون الاستصحاب حجة فيه. وهذا المعنى هو مراد
الشيخ (ره) من الشك في المقتضي والشك في الرافع. ولذا جعل الشك في بقاء
الملكية بعد رجوع أحد المتبائعين في المعاطاة من قبيل الشك في الرافع، فتمسك
بالاستصحاب وجعل الشك في بقاء الخيار في الآن الثاني من ظهور الغبن من قبيل الشك
في المقتضي، لاحتمال كون الخيار مجعولا في الآن الأول فقط، فلا يكون له استعداد
البقاء بنفسه، فلم يتمسك فيه بالاستصحاب.
وظهر بما ذكرنا - من مراد الشيخ من الشك في المقتضي - أن إشكال
السيد الطباطبائي - على الشيخ (ره) في التمسك بالاستصحاب في المعاطاة بان الشك
فيها من قبيل الشك في المقتضي، فلا يكون الاستصحاب حجة فيه على مسلك الشيخ (ره) -
في غير محله، لأن الشك في بقاء الملكية في المعاطاة ليس من قبيل الشك في المقتضي
بالمعنى الذي ذكرناه، وكذا غير المعاطاة من الموارد التي تمسك فيها الشيخ (ره)
بالاستصحاب واستشكل عليه السيد (ره).
ولنذكر لتوضيح المقام أمثلة فنقول: إن الاحكام على ثلاثة أقسام: (الأول)
أن يكون الحكم معلوم الدوام في نفسه لو لم يطرأ رافع له، فلا إشكال في جريان
24

الاستصحاب مع الشك في بقاء هذا النوع من الحكم كالشك في بقاء الملكية لاحتمال زوالها
بناقل. (الثاني) أن يكون الحكم معني بغاية. (الثالث) أن يكون الحكم مشكوكا من هذه
الجهة، كما إذا تحققت زوجية بين رجل وامرأة ولم يعلم كونها دائمة أو منقطعة. أما القسم
الثالث فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه على مسلك الشيخ (ره) لكون الشك فيه شكا
في المقتضي. وأما القسم الثاني فمع الشك في البقاء قبل تحقق الغاية لاحتمال وجود الرافع
يجري الاستصحاب بلا إشكال، وبعد تحقق الغاية ينقضي بنفسه، وأما إذا شك في تحقق
الغاية: (فتارة) يكون الشك من جهة الشبهة الحكمية، كما إذا شك في أن الغاية
- لوجوب صلاة المغرب والعشاء مع الغفلة - هي نصف الليل أو طلوع الفجر
وإن كان عدم جواز التأخير عن نصف الليل مع العمد والالتفات مسلما، و (أخرى)
يكون الشك من جهد الشبهة المفهومية، كما إذا شك في أن الغروب الذي جعل غاية
لصلاة الظهرين هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقة؟ و (ثالثة) يكون
الشك من جهة الشبهة الموضوعية، كما إذا شك في طلوع الشمس الذي جعل غاية
لوجوب صلاة الصبح. ففي الأولين يكون الشك من موارد الشك في المقتضي،
فلا يجري الاستصحاب فيهما، والثالث وإن لم يكن من الشك في الرافع حقيقة لان
الرافع لا يكون نفس الزمان بل لابد من أن يكون زمانيا وليس في المقام إلا الزمان،
لكنه في حكم الشك في الرافع عرفا، فيجري فيه الاستصحاب.
فتحصل مما ذكرنا أن مراد الشيخ (ره) من المقتضي كون الشئ ذا استعداد
للبقاء ما لم يطرأ رافع له من الانقلابات الكونية من الوجود إلى العدم أو العكس،
فكلما شك في بقاء شئ لاحتمال طرو هذه الانقلابات، فهو شك في الرافع، وكلما
شك فيه مع العلم بعدم طرو شئ من الأشياء، فهو شك في المقتضي. فمسألة انتقاض
التيمم بوجدان الماء في أثناء الصلاة من موارد الشك في الرافع، فان الطهارة من الحدث
25

التي تحققت بالتيمم باقية ما لم يطرأ وجدان الماء. هذا تمام الكلام في المقام الأول،
وهو تعيين مراد الشيخ (ره) من المقتضي.
الكلام في المقام الثاني، وهو ذكر الدليل للتفصيل بين الشك في المقتضي
والشك في الرافع في حجية الاستصحاب. فنقول: الوجه - في هذا التفصيل
على ما يستفاد من ظاهر كلام الشيخ (ره) كما فهمه صاحب الكفاية وغيره -
أن المراد من اليقين في قوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك هو المتيقن، ففي مورد
يكون المتيقن مما له دوام في نفسه يكون أمرا مبرما مستحكما ويصح إسناد النقض
إليه، وفى مورد لا يكون المتيقن كذلك لا يصح إسناد النقض إليه، لان النقض
حل شئ مبرم مستحكم، كما في قوله تعالى: (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة
أنكاثا) فلا يكون مشمولا لقوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك.
ويرد عليه ما في الكفاية من أنه لاوجه لارتكاب المجاز بإرادة المتيقن من لفظ
اليقين مع صحة إرادة نفس اليقين وصحة اسناد النقض إليه بماله من الابرام والاستحكام،
ولكن يمكن ان يكون مراد الشيخ (ره) ما نذكره - وان كان ظاهر عبارته
قاصرا عنه - وهو أن المراد من لفظ اليقين هو نفس اليقين لا المتيقن، لما فيه
من الابرام والاستحكام كما في الكفاية، فان اليقين بمعنى الثابت من اليقين بمعنى
الثبوت، فيصح إسناد النقض إليه دون العلم والقطع، وإن كان الجميع حاكيا
عن شئ واحد وهو الصورة الحاصلة من الشئ في النفس، إلا أن العلم يطلق باعتبار
انكشاف هذا الشئ في قبال الجهل، والقطع يطلق باعتبار الجزم القاطع للتردد والحيرة،
واليقين يطلق باعتبار كون هذا الانكشاف له الثبات والدوام بعد ما لم يكن بهذه المرتبة.
ولعله لما ذكرنا لا يطلق القاطع والمتيقن عليه تعالى لاستحالة الحيرة وعدم ثبات الانكشاف
في حقه تعالى. ويطلق عليه العالم لكون الأشياء منكشفة لديه، فالمراد من اليقين هو
26

نفسه لا المتيقن إلا أن اسناد النقض إلى اليقين ليس باعتبار صفة اليقين ولا باعتبار الآثار
المترتبة على نفس اليقين.
(أما الأول) فلان اليقين من الصفات الخارجية وقد انتقض بنفس الشك
إن اخذ متعلقه مجردا عن الزمان، ولا يمكن نقضه إن اخذ مقيدا بالزمان،
فإنا إذا ء لمنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا ثم شككنا في بقائها يوم السبت،
فان اخذ اليقين بعدالة زيد مجردا عن التقييد بيوم الجمعة، فقد انتقض هذا اليقين
بالشك، فلا معنى للنهي عنه، وإن اخذ مقيدا بيوم الجمعة فهو باق، فطلب عدم نقضه
طلب للحاصل:
(وأما الثاني) فلعدم ترتب حكم شرعي على وصف اليقين من حيث هو،
ولو فرض فهو يقين موضوعي خارج من مورد أخبار الاستصحاب، إذ من المعلوم
أن موردها القطع الطريقي، لعدم ترتب الحكم - المأخوذ في موضوعه صفة اليقين -
على الشك قطعا، فلابد من أن يكون المراد من عدم نقض اليقين هو ترتيب آثار
المتيقن والجري العملي بمقتضاه، على ما تقدم في أول بحث القطع من أنه بنفسه طريق
إلى المتيقن وموجب للجري العملي وترتيب آثار المتيقن، فيكون رفع اليد عن ترتيب
الآثار على المتيقن نقضا لليقين، وقد نهى الشارع عنه. هذا فيما إذا كان المتيقن
مما له الدوام والثبات في نفسه لولا الرافع، وأما إذا لم يكن المتيقن بنفسه مقتضيا
للجري العملي لاحتمال كونه محدودا بزمان معين، فلا يكون عدم ترتيب الآثار عليه
نقضا لليقين، فلا يشمله قوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك. هذا هو الوجه
في التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.
وقد يقال في المقام - ردا على الشيخ (ره) في التفصيل المذكور -: إن دليل
الاستصحاب غير منحصر في الاخبار المشتملة على لفظ النقض حتى يختص بالشك
27

في الرافع، بل هناك خبر ان آخر ان لا يشتملان على لفظ النقض، فيعمان موارد الشك
في المقتضي أيضا: (الأول) رواية عبد الله بن سنان الواردة في من يعير ثوبه للذمي
وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: " فهل علي أن اغسله؟ فقال (ع):
لا، لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه نجسه " (الثاني) خبر محمد بن
مسلم عن الصادق عليه السلام (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان اليقين
لا يدفع بالشك).
والجواب عنهما واضح، (أما الأول) فمورده هو الشك في الرافع، لان الطهارة
مما له دوام في نفسه لولا الرافع، فلاوجه للتعدي عنه إلى الشك في المقتضي.
وأما التعدي عن خصوصية الثوب إلى غيره وعن خصوصية الذمي إلى نجاسة أخرى
وعن خصوصية الطهارة المتيقنة إلى غيرها، فإنما هو للقطع بعدم دخل هذه الخصوصيات
في الحكم، ولكن التعدي - عن الشك في الرافع إلى الشك في المقتضي يكون
بلا دليل. و (اما الثاني) ففيه الامر بالامضاء وهو مساوق للنهي عن النقض،
لان الامضاء هو الجري فيما له ثبات ودوام، ويشهد له ما في ذيل الخبر من أن اليقين
لا يدفع بالشك، لان الدفع إنما يكون في شئ يكون له الاقتضاء. هذا غاية
ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الشيخ (ره)، وللنظر فيه مجال واسع، تارة
بالنقض وأخرى بالحل.
أما النقض فبأمور: (الأول) استصحاب عدم النسخ في الحكم الشرعي
فان الشيخ قائل به، بل ادعي عليه الاجماع حتى من المنكرين لحجية الاستصحاب،
بل هو من ضرورة الدين على ما ذكره المحدث الاسترآبادي، مع أن الشك فيه من قبيل الشك
في المقتضي، لأنه لم يحرز فيه من الأول جعل الحكم مستمرا أو محدودا إلى غاية،
فان النسخ في الحقيقة انتهاء أمد الحكم، وإلا لزم البداء المستحيل في حقه تعالى.
28

(الثاني) الاستصحاب في الموضوعات، فإنه قائل به مفصلا بين الشك
في المقتضي والشك في الرافع كما ذكره في أول تنبيهات الاستصحاب. ومثل للشك
في الرافع بالشك في كون الحدث أكبر أو أصغر، فتوضأ فيكون الشك شكا
في الرافع، فيجري استصحاب الحدث. ومثل للشك في المقتضي بالشك في كون
حيوان من جنس الحيوان الفلاني الذي يعيش خمسين سنة أو من جنس الحيوان الفلاني
الذي يموت بعد ثلاثة أيام مثلا، مع أنه يلزم من تفصيله عدم حجية الاستصحاب
في الموضوعات كحياة زيد وعدالة عمرو مثلا، فان إحراز استعداد أقراد الموضوعات
الخارجية مما لا سبيل لنا إليه، وان اخذ مقدار استعداد الموضوع المشكوك بقاؤه
من استعداد الجنس البعيد أو القريب، فتكون أنواعه مختلفة الاستعداد، وكيف
يمكن احراز مقدار استعداد الانسان من استعداد الجسم المطلق أو الحيوان مثلا؟
وإن اخذ من الصنف فافراده مختلفة باعتبار الأمزجة والأمكنة وسائر جهات الاختلاف،
فيلزم الهرج والمرج. وهذا هو الاشكال الذي أورده على المحقق القمي بعينه،
وحاصله عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات لكون الشك فيها شكا في المقتضي،
لعدم احراز الاستعداد فيها.
(الثالث) استصحاب عدم الغاية ولو من جهة الشبهة الموضوعية، كما إذا
شك في ظهور هلال شوال أو في طلوع الشمس، فان الشك فيه من قبيل الشك
في المقتضي، لأن الشك - في ظهور هلال شوال في الحقيقة - شك في أمر شهر
رمضان كان تسعة وعشرين يوما أولا، فلم يحرز المقتضي من أول الامر، وكذا الشك
في طلوع الشمس شك في أن ما بين الطلوعين ساعة ونصف حتى تنقضي بنفسها أو أكثر
فلم يحرز المقتضي مع أن الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه، بل الاستصحاب مع الشك
في هلال شوال منصوص بناء على دلالة قوله (ع): " صم للرؤية وأفطر
29

للرؤية " على الاستصحاب.
واما الحل، فبيانه أنه إن لو حظ متعلق اليقين والشك بالنظر الدقي، فلا يصدق
نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في الرافع، لان متعلق اليقين إنما هو حدوث
الشئ والمشكوك هو بقاؤه، لأنه مع وحدة زمان المتيقن والمشكوك لا يمكن أن يكون
متعلق الشك هو متعلق اليقين، إلا بنحو الشك الساري الذي هو خارج عن محل
الكلام، فبعد كون متعلق الشك غير متعلق اليقين لا يكون عدم ترتيب الأثر
على المشكوك نقضا لليقين بالشك، ففي مثل الملكية - وغيرها من أمثلة الشك
في الرافع - متعلق اليقين هو حدوث الملكية، ولا يقين ببقائها بعد رجوع أحد
المتبائعين في المعاطاة، فعدم ترتيب آثار الملكية - بعد رجوع أحدهما - لا يكون
نقضا لليقين بالشك، وهكذا سائر أمثلة الشك في الرافع.
وإن لو حظ متعلق اليقين والشك بالنظر المسامحي العرفي والغاء خصوصية الزمان
بالتعبد الشرعي على ما أشرنا إليه سابقا من أن تطبيق نقض اليقين بالشك - على مورد
الاستصحاب - إنما هو بالتعبد الشرعي، وإن كان أصل القاعدة من ارتكازيات
العقلاء، فيصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في المقتضي، فان خيار
الغبن كان متيقنا حين ظهور الغبن وهو متعلق الشك بعد الغاء الخصوصية، فعدم
ترتيب الأثر عليه في ظرف الشك نقض لليقين بالشك. وحيث إن الصحيح هو الثاني
لان متعلق اليقين والشك ملحوظ بنظر العرف، والخصوصية من حيث الزمان ملغاة
بالتعبد الشرعي، فتستفاد من قوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك حجية
الاستصحاب مطلقا، بلا فرق بين موارد الشك في المقتضي وموارد الشك في الرافع.
هذا ملخص الكلام في التفصيل الأول الذي اختاره الشيخ (ره) تبعا للمحقق
الخوانساري (ره).
30

واما التفصيل الثاني الذي تفرد به الشيخ (ره)، فهو التفصيل بين الحكم
الثابت بالدليل الشرعي كالكتاب والسنة والاجماع، والحكم الثابت بالدليل العقلي،
فأنكر حجية الاستصحاب في الثاني. والوجه - في هذا التفصيل على ما ذكره
الشيخ (ره) بتوضيح منا - أنه لابد في جريان الاستصحاب من اتحاد الموضوع
في القضيتين، فإنه لولا اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة، لا يصدق نقض اليقين بالشك،
وحيث إنه مع بقاء الموضوع بجميع خصوصياته وعدم عروض التغير فيه أصلا لا يمكن
عروض الشك في الحكم، فلابد من حدوث تغير ما بحيث يوجب الشك في الحكم،
فإنه مع بقاء التغير - في الماء المتنجس بالتغير وعدم حدوث شئ يحتمل كونه مطهرا
له كتتميمه كرا - لا يمكن الشك في طهارته، وهذا التغير الذي أوجب الشك
في الحكم " تارة " يوجب تعدد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة، فلا يجري
الاستصحاب فيه، و (أخرى) لا يوجبه، فلا مانع من جريانه، فان كان الحكم
ثابتا بالدليل الشرعي، فالمرجع - في التحاد الموضوع في القضيتين وصدق نقض اليقين
بالشك - هو العرف. ففي مورد حكم العرف بتعدد الموضوع لا يصدق نقض اليقين
بالشك، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه وفي مورد حكم العرف بوحدة الموضوع
في القضيتين وصدق النقض يجري فيه الاستصحاب، ونظر العرف في ذلك مختلف:
فربما يحكم بكون وصف تمام الموضوع للحكم وإن لم يوجد في الخارج إلا في الموصوف،
فبعد زواله لا يمكن جريان الاستصحاب، كما في العدالة التي هي الموضوع لقبول
الشهادة، والاجتهاد الذي هو الموضوع لجواز التقليد، فلو كان زيد عادلا ثم صار
فاسقا لا يمكن جريان الاستصحاب في قبول شهادته، لان العرف يرى العدالة تمام
الموضوع لقبول الشهادة، والفسق موضوع آخر في نظرهم، فعدم ترتيب هذا الأثر
- أي قبول الشهادة - لا يكون نقضا لليقين بالشك، وكذا الاجتهاد بالنسبة
31

إلى جواز التقليد، فالوصف تمام الموضوع للحكم في نظر العرف وإن لم يوجد في الخارج
إلا متعلقا بموصوف.
و (إن شئت قلت) إن الوصف بالنسبة إلى ثبوت الحكم للموصوف
من قبيل الواسطة في العروض، ففي الحقيقة نفس الوصف موضوع للحكم، ولأجله
يعرض الحكم للموصوف بالعرض. وقد يحكم العرف بأن الوصف دخيل في ثبوت
الحكم للموصوف ويكون الموصوف هو الموضوع فالوصف من قبيل الواسطة في الثبوت
كالتغير للماء، فإنه واسطة لثبوت النجاسة للماء والموضوع هو الماء لا التغير، فإنه يقال
في العرف ان الماء تنجس لتغيره، ولا يقال ان المتغير تنجس. ففي مثل ذلك لا اشكال
في جريان الاستصحاب فيحكم بنجاسة الماء بعد زوال التغير. وقد يشك في كون
الوصف من القسم الأول لئلا يجري الاستصحاب أو من القسم الثاني ليجري
الاستصحاب، كما في المسافر الذي كان مسافرا في أول الوقت وبلغ إلى وطنه آخره،
فمع قطع النظر عن النصوص الواردة في المقام نشك في أن الواجب عليه التمام أو القصر،
فيحتمل كون وصف السفر تمام الموضوع لوجوب القصر، فلا يجري الاستصحاب،
وكونه من قبيل الواسطة في الثبوت لوجوب القصر فيستصحب وجوبه. ففي مثل ذلك
لا يمكن جريان الاستصحاب أيضا، لعدم إحراز صدق النقض فيه، فيكون التمسك
- بقوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك - تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
هذا كله فيما إذا ثبت الحكم بالدليل الشرعي.
وأما إذا ثبت الحكم بالدليل العقلي والعقل لا يحكم بحكم للموضوع المهمل،
لان الاهمال في مقام الثبوت لا يتصور من الحاكم، فلابد في حكم العقل من إدراك
الموضوع بجميع قيوده، فلا يحكم العقل بحكم إلا للموضوع المقيد بقيود لها دخل
في الحكم، فمع عدم انتفاء شئ من هذه القيود لا يمكن الشك في الحكم،
32

ومع انتفاء أحدها ينتفي الحكم العقلي يقينا. والمفروض أن الحكم الشرعي في المقام
مستفاد من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة، فبانتفاء الحكم العقلي ينتفي الحكم الشرعي
لا محالة، فلا يبقى لنا شك في بقاء الحكم الشرعي حتى نرجع إلى الاستصحاب، بل
هو مقطوع العدم. نعم يحتمل ثبوت الحكم الشرعي للموضوع المذكور بعد انتفاء
أحد القيود بجعل جديد من الشارع، لكنه شك في حدوث الحكم
لا في بقائه، ومجرى الاستصحاب انما هو الشك في البقاء لا الشك في الحدوث، وجريان
الاستصحاب - في الحكم الشرعي الأعم من الحادث والباقي - متوقف على جريان
الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي الذي لا نقول به. هذا توضيح مرام الشيخ
في هذا التفصيل.
فتحصل أن إنكاره جريان الاستصحاب في الحكم الثابت بالدليل العقلي مبتن
على مقدمتين: " الأولى " أن الاهمال في حكم العقل لا يتصور، و " الثانية "
أن حكم الشارع تابع له وينتفي بانتفائه. وقد أورد المحقق النائيني (ره) عليه في المقدمة
الأولى مرة، وفي المقدمة الثانية أخرى، واكتفى صاحب الكفاية (ره) بالايراد
على الثانية. أما إشكاله على المقدمة الأولى فهو أن حكم العقل على قسمين: (الأول)
أن يحكم على نحو القضية الشرطية ذات مفهوم، بان يحكم بثبوت الحكم للموضوع مع
وجود القيد، وبعدمه مع انتفاء القيد. و (الثاني) أن يحكم يحكم لموضوع
من باب القدر المتيقن فليس له مفهوم حينئذ، فيحكم بثبوت حكم لموضوع مع اجتماع
قيوده، ولا يحكم بعدم الحكم مع انتفاء أحدها، لاحتمال بقاء الملاك، فلا إهمال
في حكم العقل بحسب مقام الاثبات لادراكه وجود الملاك، إنما الاهمال بحسب مقام
الثبوت لعدم احاطته بجميع ماله دخل في الحكم، فحيث لا يحكم العقل بعم الحكم
مع انتفاء أحد القيود، يحتمل بقاء الحكم الشرعي، فيكون موردا لجريان
33

الاستصحاب. هذا ملخص الاشكال على المقدمة الأولى.
أقول: إن كان مراد الشيخ (ره) - من الحكم العقلي المستفاد منه الحكم
الشرعي - حكم العقل بوجود الملاك، بأن كان مراده ان العقل إذا حكم بوجود
الملاك في موضوع - أي المصلحة الملزمة غير المزاحمة بشئ من الموانع، أو المفسدة
كذلك - فلا محالة يترتب عليه الحكم الشرعي على ما هو المشهور من مذهب العدلية:
من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فبعد إدراك العقل وجود الملاك
يترتب الحكم الشرعي، لكون الصغرى وجدانية والكبرى برهانية، فيقال هذا
الشئ مما له المصلحة الملزمة، وكلما كان كذلك فهو واجب. فما أورده المحقق
النائيني (ره) عليه حق لا مجال لانكاره، لامكان أن يحكم العقل بوجود الملاك
من باب القدر المتيقن، فبعد انتفاء أحد القيود لا يحكم العقل بانتفاء الحكم، لاحتمال
بقاء الملاك، فيكون موردا للاستصحاب، إلا أن هذا مجرد فرض، لأنا لم نجد
إلى الان موردا حكم فيه العقل بوجود الملاك، وأنى للعقل هذا الادراك. وقد ذكرنا
في بحث القطع أن الاخبار - الدالة على أن دين الله لا يصاب بالعقول وأنه ليس
شئ أبعد عن دين الله من عقول الرجال - ناظرة إلى هذا المعنى، وهو استكشاف
الحكم الشرعي من حكم العقل بوجود الملاك، وإن كان الحكم الشرعي مترتبا لا محالة
لو فرض القطع بوجود الملاك بادراك العقل، لكنه مجرد فرض كما ذكرنا. وإن كان
مراد الشيخ (ره) من الحكم العقلي المستكشف به الحكم الشرعي حكمه بالحسن أو القبح
على ما هو محل الخلاف، فذهب الأشاعرة إلى أن الحسن والقبح بيد الشارع، فما
حسنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، ولا سبيل للعقل إلى ادراك الحسن والقبح
أبدا، وذهب أهل الحق والمعتزلة إلى أن العقل يدرك الحسن والقبح، فيرى الظلم
قبيحا ولو لم يكن شرع والعدل حسنا كذلك حتى بالنسبة إلى أفعال الله سبحانه،
34

فيرى العقل أن الظلم قبيح لا يصدر منه تعالى وأن العدل حسن لا يتركه، فكما
أن العقل يدرك الواقعيات ويسمى عند أهل المعقول بالعقل النظري، فكذلك يدرك
ما يتعلق بالنظام من قبح الظلم وحسن العدل ويسمى بالعقل العملي. فلا يرد عليه اشكال
المحقق النائيني، لان حكم العقل بالحسن أو القبح لا يمكن أن يكون مهملا،
فان العقل لا يحكم بحسن شئ إلا مع تشخيصه بجميع قيوده، وكذلك القبح.
والظاهر أن مراد الشيخ " ره " هو الثاني على ما ذكره في تنبيهات الاستصحاب،
فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (ره).
وأما الاشكال على المقدمة الثانية، فبيانه - على ما ذكره صاحب الكفاية
والمحقق النائيني - أنه لو سلم إدراك العقل ملاك الحكم الشرعي بحيث يكون حكمه
بوجود الملاك دائرا مدار جميع القيود وينتفي بانتفاء أحدها، لا يلزم من انتفاء الحكم
العقلي انتفاء الحكم الشرعي، لامكان بقاء ملاك الحكم الشرعي في الواقع، فان انتفاء
ما يراه العقل ملاكا للحكم الشرعي لا يوجب انتفاء الملاك الواقعي له.
وبعبارة أخرى الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي إنما هي بحسب
مقام الاثبات دون مقام الثبوت، لان العقل كاشف عن وجود الملاك للحكم الشرعي،
وبعد انتفاء حكم العقل بانتفاء بعض القيود ترتفع كاشفية العقل، ويحتمل بقاء الملاك
الواقعي للحكم الشرعي، لان الشرع قد حكم بأمور كثيرة لا يدرك العقل ملاكها
أصلا، كتقبيل حجر الأسود، وحرمة الارتماس في شهر رمضان، وغيرهما
من التعبديات. مضافا إلى ما في الكفاية من أنه لو سلمنا - انتفاء الملاك الواقعي
الذي أدركه العقل - يحتمل بقاء الحكم الشرعي، لاحتمال وجود ملاك آخر
لنفس هذا الحكم، فنجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الشخصي لا في الملاك
حتى يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي. وهذا الاشكال لا دافع له.
35

وعليه فالصحيح عدم الفرق في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي بين كونه مستفادا
من الدليل الشرعي أو الدليل العقلي.
ثم إنه ذكر الشيخ (ره) أنه إذا اشتبه موضوع حكم العقل وشك في بقائه:
كما إذا شك في بقاء الاضرار في السم الذي حكم العقل بقبح شربه يجري استصحاب
الضرر، ويحصل منه الظن بالضرر، فيحكم بالحرمة الشرعية.
وفيه أولا عدم إفادة الاستصحاب الظن بالضرر لا شخصيا - كما اعترف
هو به - ولا نوعيا. وثانيا أن الحرمة الشرعية ليست منوطة بالظن بالضرر، بل بخوف
الضرر، وهو ينطبق على مجرد الشك والاحتمال العقلائي. هذا في الضرر. وأما غيره
فإذا شك في بقاء موضوع حكم العقل: كما إذا حكم العقل بحسن إكرام العالم العادل
مثلا، وحكم الشرع بوجوب إكرامه بقاعدة الملازمة، وكان زيد عالما عادلا ثم
شككنا في بقاء عدالته، فلا إشكال في جريان الاستصحاب والحكم بعدالته بالتعبد
الشرعي فيحكم بوجوب إكرامه.
التفصيل الثالث في حجية الاستصحاب هو التفصيل بين الاحكام الكلية الإلهية
وغيرها من الاحكام الجزئية والموضوعات الخارجية، وهو الذي اختاره الفاضل
النراقي في المستند، فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية مجعولة في الشبهات الموضوعية،
نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهية. وهذا هو الصحيح،
وليس الوجه فيه قصور دلالة الصحيحة وغيرها من الروايات، لان عموم التعليل
في الصحيحة والاطلاق في غيرها شامل للشبهات الحكمية والموضوعية، واختصاص
المورد بالشبهات الموضوعية لا يوجب رفع اليد عن عموم التعليل، بل الوجه في هذا
التفصيل أن الاستصحاب في الاحكام الكلية معارض بمثله دائما.
بيانه: أن الشك في الحكم الشرعي تارة يكون راجعا إلى مقام الجعل ولو لم
36

يكن المجعول فعليا، لعدم تحقق موضوعه في الخارج، كما إذا علمنا بجعل الشارع
القصاص في الشريعة المقدسة ولو لم يكن الحكم به فعليا لعدم تحقق القتل، ثم شككنا
في بقاء هذا الجعل، فيجري استصحاب بقاء الجعل ويسمى باستصحاب عدم النسخ.
وهذا الاستصحاب خارج عن محل الكلام. وإطلاق قوله (ع): - " حلال
محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " - يغنينا
عن هذا الاستصحاب. و (أخرى) يكون الشك راجعا إلى المجعول بعد فعليته بتحقق
موضوعه في الخارج، كالشك في حرمة وطء المرأة بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال.
والشك في المجعول مرجعه إلى أحد أمرين لا ثالث لهما، لأن الشك في بقاء
المجعول إما أن يكون لأجل الشك في دائرة المجعول سعة وضيقا من قبل الشارع،
كما إذا شككنا في أن المجعول من قبل الشارع هل هو حرمة وطء الحائض حين
وجود الدم فقط، أو إلى حين الاغتسال؟ والشك في سعة المجعول وضيقه يستلزم
الشك في الموضوع لا محالة، فانا لا ندري أن الموضوع للحرمة هل هو وطء، واجد
الدم أو المحدث بحدث الحيض؟ ويعبر عن هذا الشك بالشبهة الحكمية. وإما أن يكون
الشك لأجل الأمور الخارجية بعد العلم بحدود المجعول سعة وضيقا من قبل الشارع،
فيكون الشك في الانطباق، كما إذا شككنا في انقطاع الدم بعد العلم بعدم حرمة
الوطء بعد الانقطاع ولو قبل الاغتسال. ويعبر عن هذا الشك بالشبهة الموضوعية.
وجريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية مما لا اشكال فيه ولا كلام، كما هو مورد
الصحيحة وغيرها من النصوص.
واما الشبهات الحكمية: فان كان الزمان مفردا للموضوع وكان الحكم انحلاليا
كحرمة وطء الحائض مثلا، فان للوطء افرادا كثيرة بحسب امتداد الزمان من أول
الحيض إلى آخره، وينحل التكليف وهو حرمة وطء الحائض إلى حرمة أمور
37

متعددة، وهي افراد الوطء الطولية بحسب امتداد الزمان. فلا يمكن جريان
الاستصحاب فيها حتى على القول بجريان الاستصحاب في الاحكام الكلية، لان هذا
الفرد من الوطء وهو الفرد المفروض وقوعه بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال لم تعلم حرمته
من أول الامر حتى نستصحب بقاءها. نعم الافراد الاخر كانت متيقنة الحرمة،
وهي الافراد المفروضة من أول الحيض إلى انقطاع الدم، وهذه الافراد قد مضى
زمانها إما مع الامتثال أو مع العصيان، فعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم ظاهر،
وإن لم يكن الزمان مفردا ولم يكن الحكم انحلاليا، كنجاسة الماء القليل المتمم كرا،
فان الماء شئ واحد غير متعدد بحسب امتداد الزمان في نظر العرف، ونجاسته حكم
واحد مستمر من أول الحدوث إلى آخر الزوال، ومن هذا القبيل الملكية والزوجية،
فلا يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا، لابتلائه بالمعارض، لأنه إذا شككنا
في بقاء نجاسة الماء المتمم كرا فلنا يقين متعلق بالمجعول ويقين متعلق بالجعل، فبالنظر
إلى المجعول يجري استصحاب النجاسة، لكونها متيقنة الحدوث مشكوكة البقاء،
وبالنظر إلى الجعل يجري استصحاب عدم النجاسة، لكونه أيضا متيقنا، وذلك
لليقين بعدم جعل النجاسة للماء القليل في صدر الاسلام لا مطلقا ولا مقيدا بعدم التتميم،
والقدر المتيقن انما هو جعلها للقليل غير المتمم. أما جعلها مطلقا حتى للقليل المتمم
فهو مشكوك فيه، فنستصحب عدمه، ويكون المقام من قبيل دوران الامر بين الأقل
والأكثر، فنأخذ بالأقل لكونه متيقنا، ونجري الأصل في الأكثر لكونه
مشكوكا فيه، فتقع المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل،
وكذا الملكية والزوجية، ونحوهما، فإذا شككنا في بقاء الملكية بعد رجوع أحد
المتبائعين في المعاطاة: فباعتبار المجعول وهي الملكية يجري استصحاب بقاء الملكية، وباعتبار
الجعل يجري استصحاب عدم الملكية، لتمامية الأركان فيهما على النحو الذي ذكرناه.
38

وظهر بما ذكرنا من تقريب المعارضة أنه لا يرد على الفاضل النراقي ما ذكر
في الكفاية من أنه نظر تارة إلى المسامحة العرفية فاجرى استصحاب الوجود، وأخرى
إلى الدقة العقلية فاجرى استصحاب العدم، لكون الماء غير المتمم غير الماء
المتمم بالدقة العقلية. فاعترض عليه بأن المرجع في وحدة الموضوع وتعدده هو العرف،
والعرف يرى الموضوع واحدا، والكثرة والقلة من الحالات، فلا مجال لانكار
استصحاب النجاسة. هذا وأنت ترى أن المعارضة المذكورة لا تتوقف على لحاظ
الموضوع بالنظر الدقي، بل بعد النباء على المسامحة والقول بوحدة الموضوع يجري
استصحاب بقاء النجاسة واستصحاب عدم جعل النجاسة بالنسبة إلى حال الكثرة،
لكون المتيقن هو جعل النجاسة لما لم يتمم، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع أخذ
الموضوع أمرا عرفيا.
وظهر بما ذكرنا أيضا عدم ورود اعتراض الشيخ (ره) على الفاضل النراقي
بما حاصله: أن الزمان إن كان مفردا فلا يجري استصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع
ويجري استصحاب العدم، وان لم يكن الزمان مفردا فيجري استصحاب الوجود
لاتحاد الموضوع ولا يجري استصحاب العدم، فلا معارضة بين الاستصحابين أصلا.
وذلك، لما قد أوضحناه من وقوع المعارضة مع عدم كون الزمان مفردا ووحدة
الموضوع. فيقال: إن هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا وشك في بقائه فيجري
استصحاب بقائه، ويقال أيضا: إن هذا الموضوع لم يجعل له حكم في الأول لا مطلقا
ولا مقيدا بحال، والمتيقن جعل الحكم له حال كونه مقيدا فيبقى جعل الحكم له بالنسبة
إلى غيرها تحت الأصل، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع حفظ وحدة الموضوع.
وما ذكرناه عين ما ذكره الشيخ (ره) من الوجه لعدم جريان الاستصحاب
في الشبهات الموضوعية إذا كان الشك من ناحية المفهوم، كما إذا قال المولى: أكرم العلماء
39

وكان زيد عالما فزالت عنه ملكة العلم، وشككنا في وجوب إكرامه من جهة الشك
في شمول مفهوم العالم للمنقضي عنه المبدأ واختصاصه بالمتلبس، فليس في المقام شك
في شئ من الأمور الخارجية، بل الشك إنما هو في جعل الشارع سعة وضيقا، فيجري
التعارض بين الاستصحابين على النحو الذي ذكرناه حرفا بحرف.
فتلخص مما ذكرنا أنه لا مجال لجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية،
بخلاف الشبهات الموضوعية، لعدم الشك فيها في الجعل. وإنما الشك في بقاء الموضوع
الخارجي، فيجري الاستصحاب فيها بلا معارض، مثلا إذا شككنا في تحقق النوم
بعد اليقين بالوضوء، فلا شك لنا في الجعل ولا في مقدار سعة المجعول، لأنا نعلم
أن المجعول هو حصول الطهارة بالوضوء إلى زمان طرو الحدث، وإنما الشك في حدوث
النوم في الخارج، فيجري استصحاب عدمه بلا معارض.
بقي الكلام في الاشكالات التي ذكروها في المقام:
(الأول) ما أورده الفاضل النراقي على نفسه، وهو أنه يعتبر في الاستصحاب
اتصال زمان الشك بزمان اليقين، لقوله (ع): " لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت " فان الفاء يدل على التعقيب واتصال الشك باليقين، ولازم ذلك عدم
جريان استصحاب عدم الجعل، لأن الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم متصل
باليقين بحرمة الوطء لا باليقين بعدم حرمته، لان اليقين بعدم الحرمة قد انتقض باليقين
بالحرمة، فلا مجال لجريان استصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.
وأجاب عنه بأن اليقين بعدم الحرمة - بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع - لم ينتقض
باليقين بالحرمة، نعم اليقين بعدم الحرمة - بالنسبة إلى زمان وجود الدم - قد
انتقض باليقين بالحرمة. وأما ليقين بعدم الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع، فهو باق
بحاله حتى بعد اليقين بالحرمة حال رؤية الدم، فالشك في الحرمة متصل باليقين بعدم
40

الحرمة، فلا مانع من جريان استصحاب عدم جعل الحرمة بالنسبة إلى ما بعد الانقطاع.
واعترض عليه المحقق النائيني (ره) بأنه لا يعتبر اتصال زمان الشك باليقين
وإنما المعتبر اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن، وفي استصحاب عدم الجعل ليس المشكوك
فيه متصلا بالمتيقن، لفصل المتيقن الاخر بينهما، فان المتيقن الأول هو عدم الحرمة،
والمتيقن الثاني هو الحرمة، والمشكوك فيه متصل بالمتيقن الثاني دون الأول، فيجري
الاستصحاب في الحرمة دون عدمها، نظير ما إذا علمنا بعدم نجاسة شئ ثم علمنا بنجاسته
ثم شككنا في نجاسته، فلا مجال لجريان استصحاب عدم النجاسة، لانفصال زمان
المشكوك فيه عن المتيقن ويجري استصحاب النجاسة بلا معارض.
أقول: أما ما ذكره من جهة الكبرى وهو عدم اعتبار اتصال زمان نفس
الشك بزمان اليقين نفسه، فهو حق كما ذكره، فانا لو علمنا بعدالة زيد مثلا ثم غفلنا
عنها يوما أو أزيد، ثم شككنا في بقائها، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مع
عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين، بل يمكن جريان الاستصحاب مع وحدة زمان
الشك واليقين على ما ذكرنا سابقا في بيان الفرق بين موارد الاستصحاب وقاعدة اليقين،
فالمعتبر هو اتصال زمان المشكوك فيه بالمتيقن لا اتصال زمان الشك باليقين.
وأما ما ذكره من حيث الصغرى، فيرد عليه أن زمان المشكوك فيه متصل
بزمان المتيقن في المقام، لان لنا شكا ويقينين، والمشكوك فيه متصل بكلا المتيقنين
لا بأحدهما فقط، لان اليقين بعدم جعل الحرمة واليقين بالحرمة مجتمعان معا في زمان
واحد، فلنا يقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع في زمان، ويقين بالحرمة حال
رؤية الدم، وشك في الحرمة بعد الانقطاع، ومن المعلوم أن اليقين بالحرمة حال
روية الدم لا يوجب نقض اليقين بعدم جعل الحرمة لما بعد الانقطاع. وهذا هو مراد
الفاضل النراقي بقوله: إن اليقين بعدم الحرمة لم ينتقض باليقين بالحرمة.
41

(الثاني) أن استصحاب عدم الجعل معارض بمثله في رتبته، فان استصحاب
عدم جعل الحرمة في المثال المتقدم معارض باستصحاب عدم جعل الحلية، لوجود العلم
الاجمالي بجعل أحدهما في الشريعة المقدسة فيبقى استصحاب بقاء المجعول وهي
الحرمة بلا معارض.
ويمكن الجواب عنه بوجوه: (الوجه الأول) أنه لا مجال لاستصحاب
عدم جعل الحلية، لان الحلية والرخصة كانت متيقنة متحققة في صدر الاسلام،
والاحكام الالزامية قد شرعت على التدريج، فجميع الأشياء كان على الإباحة بمعنى
الترخيص والامضاء كما يدل عليه قوله (ع): " اسكتوا عما سكت الله "
وقوله (ع): " كلما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم " نعم بعض الأحكام
الذي شرع لحفظ النظام كحرمة قتل النفس، وحرمة أكل أموال الناس،
وحرمة الزنا، وغيرها من الاحكام النظامية غير مختص بشريعة دون شريعة، وقد
ورد في بعض النصوص أن الخمر مما حرمت في جميع الشرائع. والحاصل أن وطء
الحائض مثلا كان قبل نزول الآية الشريفة " فاعتزلوا النساء في المحيض " مرخصا
فيه، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية.
(الوجه الثاني) أنه لا معارضة بين استصحاب عدم جعل الحلية واستصحاب
عدم جعل الحرمة لامكان التعبد بكليهما بالتزام عدم الجعل أصلا لا جعل الحرمة ولا جعل
الحلية، وذلك، لما مر غير مرة ويأتي في أواخر الاستصحاب انشاء الله تعالى
من أن قوام التعارض بين الأصلين بأحد أمرين على سبيل منع الخلو، وربما يجتمعان:
(أحدهما) أن يكون التنافي بين مفاد الأصلين في نفسه مع قطع النظر عن لزوم
المخالفة القطعية العملية، كما إذا كان مدلول أحد الأصلين الإباحة ومدلول الاخر
الحرمة، أو كان مدلول أحدهما الإباحة ومدلول الاخر عدمها، فلا يصح التعبد
42

بالمتنافيين فيقع التعارض بينهما ويتساقطان، لعدم امكان شمول دليل الحجية لكليهما،
وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح. و (ثانيهما) أن تلزم من العمل بهما المخالفة
العملية القطعية ولو لم يكن التنافي بين المدلولين، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين،
فجريان أصالة الطهارة في كل واحد منهما وان لم يكن نفسه منافيا لجريانها في الاخر،
إلا أنه تلزم من جريانه في كليهما المخالفة العملية القطعية، وكذا في سائر مقامات العلم
الاجمالي بالتكليف الإلزامي، وكلا الامرين مفقود في المقام، لعدم المنافاة بين أصالة
عدم جعل الحلية وأصالة عدم جعل الحرمة، لان الحلية والحرمة متضادان، فلا يلزم
من التعبد بكلا الأصلين إلا ارتفاع الضدين. ولا محذور فيه. فنتعبد بكليهما
ونلتزم بعدم الجعل أصلا، ولا تلزم مخالفة عملية قطعية أيضا. غاية الامر لزوم المخالفة
الالتزامية للعلم الاجمالي بجعل أحد الحكمين في الشريعة المقدسة، ولا محذور فيه،
فنلتزم بعدم الجعل في مقام العمل، وفي مقام الافتاء نرجع إلى غيرهما من الأصول كاصالة
البراءة مثلا في المقام، فنفتي بعدم حرمة الوطء لأصالة البراءة، ونظير ذلك ما تقدم
في دوران الامر بين المحذورين، فان في الحكم بالتخيير هناك مخالفة التزامية لما هو معلوم
بالوجدان من الحرمة أو الوجوب، ولا محذور فيه بعد كون الحكم بالتخيير بالتعبد
الشرعي، ولا تلزم المخالفة العملية القطعية، لأنه لا يخلو إما من الفعل المطابق لاحتمال
الوجوب أو الترك المطابق لاحتمال الحرمة. ولولا ذلك، لما جاز الافتاء من المجتهد
بما في رسالته العملية المشتملة على المسائل الكثيرة، للعلم الاجمالي بمخالفة بعض ما في
الرسالة للحكم الواقعي، فلابد له من التوقف عن الافتاء. نعم من ليس له هذا العلم
الاجمالي - ويحتمل مطابقة الواقع لجميع ما في رسالته على كثرة ما فيها من المسائل -
جاز له الافتاء، ولكنه مجرد فرض، ولعله لم يوجد مجتهد كان شأنه ذلك. فالسر
في جواز الافتاء هو ما ذكرنا من أنه لا مانع من الافتاء بعد كونه على الموازين الشرعية
43

وبرخصة من الشارع، ولا محذور في المخالفة الالتزامية والمخالفة العملية القطعية غير
ثابتة، لاحتمال كون ما صدر منه مخالفا للواقع هو الافتاء بحرمة المباح الواقعي، ولا تلزم
منه مخالفة عملية، فان المخالفة العملية إنما تتحقق فيما علم الافتاء بإباحة الحرام الواقعي،
وليس له هذا العلم. غاية ما في الباب علمه بكون بعض ما في الرسالة مخالفا للواقع:
اما الافتاء بحرمة المباح الواقعي أو بإباحة الحرام الواقعي.
(الوجه الثالث) أنه لو تنزلنا عن جميع ذلك، فنقول: إنه يقع التعارض بين هذه
الاستصحابات الثلاث في مرتبة واحدة، لا أنه يقع التعارض بين استصحاب عدم
جعل الحرمة واستصحاب عدم جعل الحلية في مرتبة متقدمة على استصحاب بقاء المجعول.
وبعد تساقط الاستصحابين في مقام الجعل تصل النوبة إلى استصحاب بقاء المجعول،
ويتم المطلوب، وذلك، لان جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية لا يكون متوقفا
على تحقق الموضوع في الخارج، بحيث يكون استصحاب بقاء الحرمة متوقفا على وجود
زوجة انقطع دمها ولم تغتسل، بل يجري الاستصحاب على فرض وجود الموضوع،
فان جميع فتاوى المجتهد مبني على فرض وجود الموضوع، فلا يتوقف الاستصحاب
المذكور إلا على فعلية اليقين والشك على فرض وجود الموضوع، وكل مجتهد التفت
إلى الحكم المذكور - أي حرمة وطء الحائض بعد انقطاع دمها - يحصل له اليقين
بحرمة الوطء حين رؤية الدم، واليقين بعدم جعل الحرمة قبل نزول الآية الشريفة
(فاعتزلوا النساء)، واليقين بعدم جعل الإباحة في الصدر الأول من الاسلام،
ويحصل له الشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال. وكان واحد من هذه
الأمور فعلي عند الافتاء على فرض وجود الموضوع، فيقع التعارض بين الاستصحابات
الثلاثة في مرتبة واحدة ويسقط جميعها.
وربما يقال في المقام: ان أصالة عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء
44

المجعول، لكون الأول أصلا سببيا بالنسبة إلى الثاني، فان الشك في بقاء الحرمة مسبب
عن الشك في سعة جعل الحرمة وضيقها، فأصالة عدم جعل الحرمة موجبة لرفع الشك
في بقاء المجعول، فلا يبقى للاستصحاب الثاني موضوع.
وهذا الكلام وإن كان موافقا للمختار في النتيجة، إلا أنه غير صحيح
في نفسه، لما مر غير مرة ويأتي انشاء الله تعالى من أن الملاك في الحكومة ليس
مجرد كون أحد الأصلين سببيا والاخر مسببيا، بل الملاك كون المشكوك فيه في أحد
الأصلين أثرا مجعولا شرعيا للأصل الاخر، كما في المثال المعروف وهو ما إذا غسل
ثوب نجس بماء مشكوك النجاسة، فالشك في نجاسة الثوب مسبب عن الشك في طهارة
الماء، وجريان أصالة الطهارة في الماء موجب لرفع الشك في طهارة الثوب، لان
من الآثار المجعولة لطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به، فأصالة الطهارة في الماء
تكون حاكمة على استصحاب النجاسة في الثوب، بخلاف المقام، فإنه ليس عدم حرمة
الوطء من الآثار الشرعية لأصالة عدم جعل الحرمة، بل من الآثار التكوينية له،
لان عدم الحرمة خارجا ملازم تكوينا مع عدم جعل الحرمة، بل هو عينه حقيقة،
ولا مغايرة بينهما إلا نظير المغايرة بين المهية والوجود، فلا معنى لحكومة أصالة عدم
جعل الحرمة على استصحاب بقاء المجعول.
(الثالث) ما ذكره المحقق النائيني " ره " وهو أن استصحاب عدم الجعل
غير جار في نفسه، لعدم ترتب الأثر العملي عليه، لان الجعل عبارة عن إنشاء الحكم
في مقام التشريع، والاحكام الانشائية لا تترتب عليها الآثار الشرعية، بل
ولا الآثار العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم بها فضلا عن التعبد بها
بالاستصحاب، فإنه إذا علمنا بأن الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب،
لا يترتب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقق ملكية في الخارج. وعليه فلا يترتب الأثر
45

العملي على استصحاب عدم الجعل، فلا مجال لجريانه.
و (الجواب) عنه يظهر بما ذكرناه في الواجب المشروط والتزم هو " ره "
به أيضا من أن الأحكام الشرعية اعتبارية لا وجود لها إلا في عالم الاعتبار القائم بالمعتبر
وهو المولى، وليست من سنخ الجواهر والاعراض الخارجية، بل وجودها بعين
اعتبارها من المعتبر، والاعتبار إنما هو بمنزلة التصور، فكما أن التصور تارة يتعلق
بمتصور حالي وأخرى بمتصور استقبالي، فكذا الاعتبار تارة يتعلق بأمر حالي وأخرى
يتعلق بأمر استقبالي بحيث يكون الاعتبار والابراز في الحال والمعتبر في الاستقبال
كالواجبات المشروطة قبل تحقق الشرط، فان الاعتبار فيها حالي والمعتبر وهو الوجوب
استقبالي، لعدم تحققه إلا بعد تحقق الشرط، ونظيره في الوضع الوصية فان اعتبار
الملكية في موردها حالي، إلا أن المعتبر أمر استقبالي وهي الملكية بعد الوفاة.
فتحصل مما ذكرنا أن الواجب المشروط مالا يكون فيه قبل تحقق الشرط إلا مجرد
الاعتبار، وجميع الأحكام الشرعية بالنسبة إلى موضوعاتها من قبيل الواجب المشروط،
فقبل تحققها لا يكون بعث ولا زجر ولا طاعة ولا معصية، فتحقق الأحكام الشرعية
الذي نعبر عنه بالفعلية يتوقف على أمرين: الجعل وتحقق الموضوع، فإذا انتفى أحدهما
انتفى الحكم، مثلا وجوب الصلاة بعد زوال الشمس يتوقف على جعل الوجوب
من المولى وتحقق الزوال في الخارج، فإذا زالت الشمس ولم يحكم المولى بشئ يكون
الحكم منتفيا بانتفاء الجعل، فما لم يتحقق الموضوع وإن كان لا يترتب أثر
على استصحاب عدم الجعل إلا أنه إذا تحقق الزوال يترتب الأثر على استصحاب عدمه
لا محالة. وعليه فإذا وجد الموضوع في الخارج وشككنا في بقاء حكمه من جهة الشك
في سعة المجعول وضيقه، أمكن جريان استصحاب عدم الجعل في غير المقدار المتيقن
لولا معارضته باستصحاب بقاء المجعول. وإن شئت قلت كما أن استصحاب بقاء
46

الجعل يجري لاثبات فعلية التكليف عند وجود موضوعه، كذلك استصحاب عدم
الجعل يكفي في إثبات عدم فعليته. هذا تمام الكلام في دفع الاشكالات الواردة
في المقام.
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية
- مختص بالأحكام الالزامية من الوجوب والحرمة، وأما غير الإلزامي فلا مانع
من جريان الاستصحاب فيه، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة، لما ذكرنا
سابقا من أن الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، فان الأشياء كلها على الإباحة، ما لم يجعل
الوجوب والحرمة، لقوله (ع): (اسكتوا عما سكت الله عنه) وقوله (ع):
(كلما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) وقوله (ع): (إنما هلك
الناس لكثرة سؤالهم) فالمستفاد من هذه الروايات أن الأشياء على الإباحة ما لم يرد
أمر أو نهي من قبل الشارع، فان الشريعة شرعت للبعث إلى شئ والنهي عن الاخر
لا لبيان المباحات، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة، لكون الإباحة متيقنة،
فالشك في بقائها، فيجري استصحاب بقاء الإباحة بلا معارض، بل يكون
استصحاب عدم جعل الحرمة موافقا له.
وظهر بما ذكرنا أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية
كالطهارة من الخبث والحدث، كما إذا شككنا في انفعال الماء العالي بملاقاة النجاسة
السافلة، فنجري استصحاب الطهارة ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة،
لان الطهارة نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، بل الأشياء كلها على الطهارة ما لم تعتبر
النجاسة فيها من قبل الشارع، بل الطهارة بحقيقتها العرفية كون الشئ باقيا بطبيعته
الأولية، والنجاسة والقذارة شئ زائد، بل استصحاب عدم جعل النجاسة معاضد
لاستصحاب بقاء الطهارة. وكذا لا مانع من جريان استصحاب الطهارة من الحدث،
47

كما إذا شككنا في بقائها بعد خروج الذي ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة،
لان النقض هو المحتاج إلى الجعل. وأما الطهارة المجعولة فهي الوضوء - أي الغسلتان
والمسحتان - وقد أتينا بها، فهي باقية بحالها ما لم يصدر منا ما جعله الشارع ناقضا لها،
بل استصحاب عدم جعل الذي ناقضا موافق لاستصحاب بقاء الطهارة.
وبعبارة أخرى إنما الشك في أن الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية
- أي الحاصلة بعد خروج الذي - أو مشروطة بالأعم منها ومن الطهارة الأولى
- أي الحاصلة قبل خروج الذي - والأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية.
نعم إذا شككنا في بقاء النجاسة المتيقنة كمسألة تتميم الماء القليل النجس كرا، لا مجال
لجريان استصحاب بقاء النجاسة، للمعارضة باستصحاب عدم جعل النجاسة بعد التتميم.
فتحصل أن المختار - في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية - هو
التفصيل على ما ذكرنا، لا الانكار المطلق كما عليه الأخباريون والفاضل النراقي،
ولا الاثبات المطلق كما عليه جماعة من العلماء.
ثم إنه بقي هنا شئ طفيف نتعرض له تبعا للمحقق النائيني وهو أنه ذكر بعضهم
إشكالا على الاستدلال بالصحيحة المذكورة وغيرها من الصحاح، وهو أن المراد
من اليقين - في قوله (ع): لا تنقض اليقين بالشك - هو الجنس المراد منه
العموم، وبعد دخول لا عليه يكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، فيكون
المعنى لا تنقض جميع أفراد اليقين بالشك، فتكون دالة على حجية الاستصحاب
على نحو الايجاب الجزئي لا مطلقا.
وهذا الاشكال بمكان من السقوط، فإنه يرد عليه (أولا) أن ما ذكر إنما يصح
فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيدا للعموم، فبعد دخول النفي عليه يكون سلبا للعموم،
بخلاف المقام، فان اليقين نفسه لا يدل على العموم، لان المراد منه الجنس، والعموم
48

يستفاد من النفي، فيكون بمنزلة قولنا لا رجل في الدار في إفادته عموم السلب
لا سلب العموم.
و (ثانيا) أنه لا نسلم سلب العموم حتى فيما إذا كان المدخول بنفسه مفيدا
للعموم، لما ذكرنا في بحث العام والخاص من أن الظاهر من العمومات هو العموم
الاستغراقي لا المجموعي، إلا إذا قامت قرينة على إرادته، فمثل قولنا لا تهن العلماء
ظاهر في عموم السلب لا سلب العموم وإن كان المدخول بنفسه مفيدا للعموم.
و (ثالثا) أنا لو سلمنا ظهوره في سلب العموم فإنما هو فيما لم تكن قرينة
على الخلاف، والقرينة في المقام موجودة، وهي أن الإمام عليه السلام بعد ما حكم بعدم
وجوب الوضوء على من شك في النوم. علله بقوله (ع): " فإنه على يقين
من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك أبدا " فلو كان المراد سلب العموم لم ينطبق
على المورد وكان لزرارة أن يقول إنه لا ينقض جميع أفراد يقينه بالشك بل بعضها،
وليكن هذا اليقين من هذا البعض.
ومن جملة ما استدل به للاستصحاب صحيحة ثانية لزرارة " قال قلت له:
أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء،
فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال (ع):
تعيد الصلاة وتغسله، قلت: فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته
ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال (ع): تغسله وتعيد، قلت: فان ظننت
أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فرأيت فيه؟ قال (ع):
تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟ قال (ع): لأنك كنت على يقين
من طهارتك فشككت فليس ينبغي لك أن تنتقض اليقين بالشك أبدا، قلت: فاني
قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال (ع): تغسل من ثوبك
49

الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك، قلت: فهل علي
إن شككت في أنه أصابه شئ أن أنظر فيه؟ قال (ع): لا، ولكنك إنما
تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك، قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال (ع): تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك
ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ
أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ".
ويقع الكلام أولا في فقه الحديث ثم في وجه الاستدلال به للاستصحاب
فنقول: أما فقه الحديث، فهو أن زرارة سأل الإمام عليه السلام أسئلة عديدة
عن أحكام متعددة.
(السؤال الأول) عن حكم الاتيان بالصلاة مع النجاسة نسيانا مع العلم بالنجاسة
أولا، فأجاب (ع) بوجوب إعادة الصلاة ووجوب الغسل. وهذا الحكم قد
ورد في روايات اخر أيضا، وعلل في بعضها بأن الناسي تهاون في التطهير دون الجاهل.
وكيف كان لا إشكال في الحكم المذكور.
(السؤال الثاني) عن العلم الاجمالي بنجاسة الثوب والصلاة معها، فأجاب
عليه السلام بوجوب الإعادة وعدم الفرق بين العلم الاجمالي بالنجاسة والعلم
التفصيلي بها.
(السؤال الثالث) عن الظن بالنجاسة والصلاة معها، فأجاب (ع) بوجوب
الغسل وعدم وجوب الإعادة، لكونه على يقين من الطهارة فشك وليس ينبغي نقض
اليقين بالشك، وهذا مبني على أن يكون المراد من الشك عدم اليقين الشامل للظن
المفروض في السؤال، كما سنذكره في أواخر الاستصحاب انشاء الله تعالى، وإلا لم
ينطبق على المورد.
50

(السؤال الرابع) عن كيفية التطهير مع العلم الاجمالي بالنجاسة، فأجاب
عليه السلام بوجوب تطهير الناحية التي علم اجمالا بنجاستها حتى يحصل له اليقين بالطهارة.
(السؤال الخامس) عن وجوب الفحص وعدمه مع الشك في الإصابة،
فأجاب (ع) بعدم وجوب بل بعدم وجوب النظر كما هو المذكور في السؤال فضلا
عن الفحص، فإنه يحتاج إلى مؤونة زائدة عن مجرد النظر، وملخص الجواب أنه ليس
عليك تكليف بالفحص والنظر إلا أن تريد إذهاب الشك ولو من جهة عدم الوقوع
في الحرج والمشقة إذا ظهر كونه نجسا وملاقاته أشياء اخر فلك النظر ولكنه
لا يجب عليك.
(السؤال السادس) عن رؤية النجاسة وهو في الصلاة، فأجاب (ع)
بأن هذه الرؤية إن كانت بعد العلم الاجمالي بالنجاسة والشك في موضعها قبل الصلاة،
وجبت الإعادة، وإن كانت الرؤية غير مسبوقة بالعلم فرأى النجاسة وهو في الصلاة
ولم يدر أكانت النجاسة قبل الصلاة أم حدثت في الأثناء، فلا تجب عليه الإعادة،
بل يغسلها ويبني على الصلاة إذا لم يلزم ما يوجب البطلان، كالاستدبار مثلا. وعلل الحكم
بعدم وجوب الإعادة باحتمال حدوث النجاسة في الأثناء، فلا ينبغي نقض اليقين بالشك،
وهذا الحكم - أي حكم رؤية النجاسة في أثناء الصلاة - له صورتان: (الصورة
الأولى) رؤية النجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصلاة. و (الصورة الثانية) هي
الصورة الأولى مع الشك في كونها قبل الصلاة واحتمال عروضها في الأثناء. أما الصورة
الثانية فهي التي ذكرت في الرواية وحكم الإمام عليه السلام بعدم وجوب الإعادة فيها.
وأما الصورة الأولى، فهي غير مذكورة في صريح الرواية، لان المذكور فيها حكم
العلم بالنجاسة قبل الصلاة مع الشك في موضعها، وحكم رؤية النجاسة في الأثناء مع الشك
في كونها قبل الصلاة. وأما رؤية النجاسة في الأثناء مع العلم بكونها قبل الصلاة،
51

فغير مذكورة فيها من حيث المنطوق، ولذا اختلفت كلماتهم في حكمها، وذكر
الشيخ (ره) أن الحكم بعدم وجوب الإعادة - فيما لو علم بالنجاسة بعد إتمام
الصلاة - يدل على عدم وجوب الإعادة فيما لو رآها في الأثناء بطريق أولى، لأنه
لو لم تجب الإعادة مع وقوع جميع أجزاء الصلاة مع النجاسة، فعدم وجوب الإعادة مع
وقوع بعضها مع النجاسة أولى.
والتحقيق عدم صحة الاعتماد على الأولوية المذكورة، لان وجوب الإعادة
حكم تعبدي لا يعلم ملاكه حتى يتمسك بالأولوية، فلعله كانت خصوصية تقتضي
عدم وجوب الإعادة فيما لو وقع جميع أجزاء الصلاة مع النجاسة وعلم بها بعد الصلاة،
وكانت تلك الخصوصية مفقودة فيما لو رآها في الأثناء، بل التحقيق أن الصورة
المذكورة وإن كانت غير مذكورة في صريح الرواية، إلا أنها تدل على حكمها وهو
وجوب الإعادة دلالة قوية، لان الإمام عليه السلام علل عدم وجوب الإعادة في الصورة
الثانية وهي صورة رؤية النجاسة في الأثناء مع الشك في كونها قبل الصلاة، باحتمال
عروض النجاسة في الأثناء، وقال (ع): " لعله شئ أوقع عليك " فيدل
على وجوب الإعادة مع العلم بكونها قبل الصلاة، وكذا قوله (ع) بعد التعليل
المذكور: " فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك " فان ظاهره أن عدم وجوب
الإعادة إنما هو للشك في كونها قبل الصلاة، فيدل على وجوب الإعادة مع العلم بكونها
قبل الصلاة.
أما وجه الاستدلال، فهو أن قوله (ع): " فليس ينبغي لك ان تنقض
اليقين بالشك " يدل على حجية الاستصحاب، بل أوضح دلالة من الصحيحة الأولى
لاشتماله على كلمة (لا ينبغي) والتصريح بالتعليل في قوله (ع): " لأنك
كنت على يقين من طهارتك " وهو صريح فيما ذكرناه من أن التعليل بأمر ارتكازي،
52

وهذا بخلاف الصحيحة الأولى، فإنه لم يصرح فيها بالتعليل غايته أن التعليل كان
أظهر المحتملات.
ثم إن قوله (ع): (فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك) مذكور
في موردين من الصحيحة: (الأول) بعد الجواب عن السؤال الثالث، والثاني
بعد الجواب عن السؤال الأخير. وأما المورد الثاني فلا إشكال في دلالته على حجية
الاستصحاب. وأما المورد الأول فقد استشكل في دلالته على حجية الاستصحاب
بأن الإمام (ع) علل عدم وجوب الإعادة بعدم نقض اليقين بالشك مع أن الإعادة
لو كانت واجبة لما كانت نقضا لليقين بالشك بل نقضا لليقين باليقين، للعلم بوقوع
الصلاة مع النجاسة، فهذا التعليل لا ينطبق على المورد، ولذا حمل الرواية بعضهم
على قاعدة اليقين، وذكر أن التمسك بها للاستصحاب غير ظاهر كما في الكفاية.
وهذا الكلام بمكان من العجب من قائله، لان قاعدة اليقين قوامها بأمرين:
(الأول) اليقين السابق والثاني الشك الساري بمعنى سريان الشك إلى ظرف المتيقن،
كما إذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد يوم الخميس، ثم شككنا في عدالته يوم الخميس لاحتمال
كون علمنا السابق جهلا مركبا، وكلا الامرين مفقود في المقام. أما الشك ففقدانه
واضح، لأن المفروض هو العلم بوقوع الصلاة مع النجاسة، فليس هنا شك. وأما اليقين
فان كان المراد منه اليقين بطهارة الثوب قبل عروض الظن بالنجاسة، فهو باق بحاله
ولم يتبدل بالشك، فان المكلف في فرض السؤال يعلم بطهارة ثوبه قبل عروض هذا
الظن. وإن كان المراد هو اليقين بعد الظن المذكور بأن كان قد ظن بالنجاسة فنظر
ولم يجدها فتيقن بالطهارة، فهذا اليقين غير مذكور في الحديث الشريف، ومجرد النظر
وعدم الوجدان لا يدل على أنه تيقن بالطهارة، فالصحيحة أجنبية عن قاعدة اليقين
وظاهرة في الاستصحاب. غاية الامر أنه إن أمكننا التطبيق على المورد فهو،
53

وإلا فلا نفهم كيفية التطبيق على المورد، وهو غير قادح في الاستدلال بها.
وقيل في وجه التطبيق كما في الكفاية: أن شرط الصلاة هو إحراز الطهارة
لا الطهارة الواقعية، ومقتضى إحراز الطهارة بالاستصحاب عدم وجوب الإعادة.
ولو انكشف بعد الصلاة وقوعها مع النجاسة.
وتحقيق المقام يقتضي التكلم في ترتب الثمرة على النزاع المعروف بينهم
من أن الطهارة شرط في الصلاة، أو أن النجاسة مانعة عنها. فقال بعضهم بالأول
وبعضهم بالثاني، وبعضهم جمع بينهما فقال بشرطية الطهارة ومانعية النجاسة. أما القول
الأخير فلا يمكن الالتزام به، لما تقدم في بحث اجتماع الأمر والنهي من أنه يستحيل
جعل الشئ شرطا وضده مانعا ولا سيما في ضدين لا ثالث لهما، فلا يمكن جعل
الطمأنينة شرطا والحركة مانعا، والقيام شرطا والقعود مانعا، وهكذا، فيدور
الامر بين القولين الآخرين.
فنقول: لا إشكال في أن الغافل خارج عن محل الكلام على كلا
التقديرين، لعدم الاشكال في صحة صلاة الغافل عن نجاسة الثوب مثلا على كلا
القولين، ولم نجد من استشكل في صحة صلاة الغافل من القائلين بشرطية الطهارة،
ولا من القائلين بمانعية النجاسة. ولا اشكال أيضا في أن النجاسة الواقعية
مع عدم إحرازها ليست مانعة عن الصلاة، فمن صلى مع القطع الوجداني بطهارة
ثوبه أو مع الطهارة الظاهرية لأجل التعبد الشرعي بالامارة كاخبار ذي اليد والبينة
أو الأصول العملية كاصالة الطهارة والاستصحاب فانكشف بعد الصلاة وقوعها مع
النجاسة، لا إشكال في عدم وجوب الإعادة، للنصوص الواردة في المقام، ومن جملتها
هذه الصحيحة، ولم أجد من التزم بالإعادة في هذه الصور لا من القائلين بالشرطية
ولا من القائلين بالمانعية.
54

فتلخص مما ذكرنا أن المانع على القول بالمانعية هو النجاسة المحرزة لا النجاسة
الواقعية، وإلا تلزم الإعادة في الصور المذكورة، ولم يلتزم بها القائلون بالمانعية.
وعلى القول بالشرطية ليس الشرط هي الطهارة الواقعية - وإلا تلزم الإعادة في الصور
المذكورة - ولا إحراز الطهارة، فإنه من تيقن بنجاسة ثوبه وصلى معه للاضطرار لبرد
ونحوه، ثم انكشفت بعد الصلاة طهارة ثوبه فلا إشكال في عدم وجوب الإعادة عليه،
ولو انكشف عدم تضرره بالبر ولم يلبس الثوب المذكور، مع أنه لم يحرز الطهارة
حين الاتيان بالصلاة، وكذا لو لم يكن عنده إلا ثوب واحد متنجس، فإنه محل
الخلاف بينهم، فالمشهور أنه يجب عليه الاتيان بالصلاة عريانا. وقالت جماعة (منهم
صاحب العروة) بوجوب الصلاة مع الثوب التنجس، فعلى قول الجماعة لو صلى مع
الثوب ثم انكشفت طهارته، لا اشكال في صحة صلاته حتى مع انكشاف عدم انحصار
الثوب فيه مع أنه لم يحرز الطهارة حين الاتيان بالصلاة، بل الشرط هو الجامع الأعم
من الطهارة الواقعية والظاهرية المحرزة بالقطع الوجداني أو بالامارات والأصول،
فعلى القول بالشرطية الشرط هي الطهارة بالمعنى الأعم، لا خصوص الطهارة الواقعية
ولا خصوص الطهارة المحرزة، على ما ذكره صاحب الكفاية وأطال الكلام
في الاستشكال عليه والجواب عنه، وعلى القول بالمانعية المانع هو خصوص النجاسة
المحرزة، فإذا لا ثمرة بين القولين، لان الغافل تصح صلاته مع النجاسة على القولين،
والملتفت إذا أحرز الطهارة بأحد الوجوه المتقدمة ثم انكشف وقوع الصلاة مع النجاسة،
تصح صلاته أيضا على القولين، والملتفت غير المحرز للطهارة ولو بالأصل تبطل صلاته مع
انكشاف وقوعها مع النجاسة على القولين.
وربما يتخيل ظهور الثمرة فيما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الثوبين فصلى صلاتين
في كل من الثوبين، ثم انكشفت نجاسة كلا الثوبين، فإنه علي القول بشرطية الطهارة
55

يلزم بطلان كلتا الصلاتين، لوقوعهما مع النجاسة الواقعية مع عدم إحراز
الطهارة ولو بالأصل، لتساقط الأصل في الطرفين للمعارضة، للعلم الاجمالي
بنجاسة أحدهما. وكذا على القول بأن المانع هو النجاسة الواقعية. واما على القول
بأن المانع هو إحراز النجاسة، فيحكم بصحة إحدى الصلاتين، لعدم إحراز نجاسة
كلا الثوبين قبل الصلاة.
والتحقيق عدم تمامية الثمرة المذكورة، لما ذكرنا في بحث العلم الاجمالي من أن العلم
الاجمالي مانع عن جريان الأصل في كل طرف بخصوصه لأجل المعارضة. ولا مانع
من جريان الأصل في أحد الطرفين أو الأطراف لا بقيد الخصوصية إذا كان له أثر
عملي، كما في المقام. فنقول بعد العلم بنجاسة أحد الثوبين مع احتمال نجاسة الآخر:
إن أحد الثوبين نجس قطعا، وأما الآخرة فالأصل طهارته، فيحكم بصحة إحدى
الصلاتين في المثال، وكذا لو علمنا ببطلان إحدى الظهرين بعد الفراغ منهما مع احتمال
بطلان الأخرى، فالعلم الاجمالي ببطلان إحداهما مانع من جريان قاعدة الفراغ في خصوص
كل من الظهر والعصر، ولا مانع من جريانها في إحداهما لا بعينها. فنقول: إحداهما
باطلة قطعا وأما الأخرى فقاعدة الفراغ قاضية بصحتها، فيحكم بصحة إحدى الصلاتين،
فيأتي بصلاة واحدة بلا تعيين أنها الظهر أو العصر، وكذا في غيرها مما توافقت
الصلاتان من حيث الركعة، كما إذا أتى بقضاء صلاتين من الصبح مثلا، ثم علم إجمالا
ببطلان إحداهما مع احتمال بطلان الأخرى، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في إحداهما
لا بعينها، فإذا لا ثمرة بين القول بشرطية الطهارة والقول بمانعية النجاسة،
وإن كان الصحيح هو الأول، نظرا إلى الاعتبار الشرعي المستفاد من قوله (ع)
في صحيحة زرارة: " لا صلاة إلا بطهور ويجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار،
بذلك جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله، وأما البول فإنه لابد من غسله "
56

فان المراد بالطهور ما يطهر به، كما أن الوقود ما يوقد به، فالمراد به الماء والتراب
كما ورد أن الماء أحد الطهورين، فتدل الصحيحة على اشتراط الصلاة بالطهارة من الخبث
أيضا، لما في ذيلها من التفصيل بين موضع البول وموضع الغائط.
إذا عرفت ذلك فنقول ذكر الشيخ (ره) في وجه تطبيق التعليل في الصحيحة
على المورد، أنه مبني على دلالة الامر الظاهري على الاجزاء، فعدم وجوب الإعادة
للاجزاء المستفاد من الامر الظاهري وهو حرمة نقض اليقين بالشك المعبر عنها
بالاستصحاب. وأورد عليه في الكفاية بأن التعليل في الصحيحة إنما هو بوجود الامر
الظاهري لا بدلالته على الاجزاء. اللهم إلا أن يقال أن دلالته على الاجزاء كان مفروغا
عنه بين الإمام عليه السلام والراوي، فعلل (ع) عدم وجوب الإعادة بوجود الامر
الظاهري، بل التعليل مبني على أن الشرط هو إحراز الطهارة ولو بالأصل، لا خصوص
الطهارة الواقعية. وقال المحقق النائيني (ره): يصح تطبيق التعليل على المورد بكل
من الوجهين - أي الاجزاء وكون الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية.
أقول كل ذلك لا يخلو من الاشكال، لان معنى دلالة الامر الظاهري
على الاجزاء، هو كون الشرط أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية والاختلاف بينهما
في مجرد التعبير، وذلك، لان الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري مقتض للاجزاء
عن الامر ما دام الشك موجودا بلا اشكال. وأما بعد زوال الشك وكشف الخلاف،
فلا معنى للاجزاء عن الامر الظاهري، لان الامر الظاهري حينئذ منتف بانتفاء
موضوعه وهو الشك، فليس هنا أمر ظاهري حتى نقول بالاجزاء عنه أو بعدمه،
فان قلنا بالاجزاء عن الامر الواقعي فمعناه كون الشرط أعم من الطهارة الواقعية
والظاهرية، لأنه لو كان الشرط هو الواقعي فقط، لا يعقل الاجزاء عنه بشئ
آخر، فمن صلي إلي جهة لقيام البينة علي أنها هي القبلة، ثم انكشف بعد الصلاة كون
57

القبلة في جهة أخرى، فمعنى إجزاء هذه الصلاة - التي أتى بها إلى غير جهة القبلة
عن الصلاة إلى جهة القبلة - كون الشرط هم الأعم من القبلة الواقعية والظاهرية الثابتة
بالبينة، لأنه لا معنى للقول بأن الشرط هو القبلة الواقعية وتجزي عنها جهة أخرى.
فظهر أن اشكال صاحب الكفاية على الشيخ (ره) والعدول عن الجواب
بالاجزاء إلى الجواب بكون الشرط هو الأعم، ليس على ما ينبغي. وكذا ظهر عدم
صحة ما ذكره المحقق النائيني من أن التعليل يصح على كلا الوجهين، فإنه ليس هنا
إلا وجه واحد ذو تعبيرين.
وملخص الجواب عن الاشكال المذكور أن التعليل المذكور ناظر إلى وجود
الامر الظاهري حال الصلاة لا ما بعد الصلاة، بعد كون الاجزاء مفروغا عنه عند
الراوي، فالتعليل ناظر إلى الصغرى بعد كون الكبرى مسلمة من الخارج.
فحاصل التعليل - بعد سؤال الراوي عن علة عدم وجوب الإعادة في هذه
الصورة مع وجوب الإعادة في الصورتين السابقتين - أن المصلي في هذه الصورة محرز
للطهارة الظاهرية حال الصلاة، لكونه متيقنا بها فشك ولا يجوز نقض اليقين بالشك،
بخلاف الصورتين السابقتين للعلم التفصيلي بالنجاسة في إحداهما والاجمالي في الأخرى،
فتنجز عليه التكليف، ولم يستند إلى أمر ظاهري، فتجب عليه الإعادة، ودلالة
الامر الظاهري على الاجزاء في باب الطهارة مما لا إشكال فيه ولا خلاف، فمراد
الشيخ (ره) من دلالة الامر الظاهري على الاجزاء هي الدلالة في باب الطهارة لا مطلقا
ولا يرد عليه شئ.
فتحصل من جميع ما ذكرنا في المقام صحة الاستدلال بهذه الصحيحة أيضا
على حجية الاستصحاب، ويجري فيها جميع ما ذكرنا في الصحيحة الأولى من عدم الفرق
بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، وبيان الفرق بين الشبهات الحكمية والموضوعية
58

وغيره مما تقدم الكلام فيه.
ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب صحيحة ثالثة لزرارة " وإذا لم
يدر في ثلاث هو أو أربع، وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى، ولا شئ
عليه ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر،
ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين، فيبني عليه، ولا يعتد بالشك
في حال من الحالات ".
والاستدلال بها مبني على كون المراد باليقين في قوله (ع) -: ولا ينقض
اليقين بالشك - هو اليقين بعدم الاتيان بالركعة الرابعة، فيكون المراد أنه كان
متيقنا بعدم الاتيان بها فشك، ولا ينقض اليقين بالشك، بل يبني على عدم الاتيان
فيقوم ويضيف إليها ركعة أخرى.
وقد استشكل في الاستدلال بهذه الصحيحة باشكالين:
(أحدهما) أنها مختصة بالشك في عدد الركعات، بل بخصوص الشك
بين الثلاث والأربع، لان الضمائر - في قوله (ع): قام فأضاف وقوله (ع):
لا ينقض اليقين بالشك وغيرها مما هو مذكور إلى آخر الصحيحة - راجعة إلى المصلي
الذي لا يدري في ثلاث هو أو أربع. ولا وجه للتعدي عن المورد إلى غيره، إذ ليس
فيها اطلاق أو عموم نتمسك به كعموم التعليل في الصحيحتين السابقتين.
وربما يجاب عنه بأن ذكر هذا اللفظ - (أي لا ينقض اليقين بالشك) في روايات
اخر واردة في غير الشك بين الثلاث والأربع - يشهد بعدم اختصاص هذه الصحيحة بالشك
بين الثلاث والأربع. وفيه أنه إن تمت دلالة الروايات الاخر على حجية الاستصحاب،
فهي المعتمد عليها دون هذه الصحيحة، وإلا فكيف تكون قرينة على عدم اختصاص
هذه الصحيحة بالشك بين الثلاث والأربع مع ظهورها في الاختصاص.
59

ويمكن القول بعدم اختصاص الصحيحة بالمورد، لما في ذيلها من قوله (ع):
ولا يعتد بالشك في حال من الحالات، فإنه قرينة على أن المراد أن الشك مما لا يجوز
نقض اليقين به في حال من الحالات، بلا اختصاص بشئ دون شئ.
(ثانيهما) ما ذكره الشيخ (ره) وهو أنه إن كان المراد من قوله (ع):
قام فأضاف إليها أخرى هي الركعة المنفصلة كما عليه مذهب الإمامية، فليس المراد
من اليقين هو اليقين بعدم الاتيان بالركعة الرابعة، بل المراد منه اليقين بالبراءة بالبناء
على الأكثر، ثم الاتيان بركعة أخرى منفصلة، فإنه حينئذ يتيقن ببراءة ذمته،
إذ على تقدير الاتيان بالثلاث تكون هذه الركعة متممة لها، ولا تقدح زيادة التكبير
والتشهد والتسليم، وعلى تقدير الاتيان بالأربع تكون هذه الركعة نافلة، بخلاف
ما إذا بنى على الأقل وأضاف ركعة متصلة، فإنه يحتمل حينئذ الاتيان بخمس ركعات،
أو بنى على الأكثر ولم يأت بركعة منفصلة، لاحتمال النقصان فلا يقين له بالبراءة،
فقد علمه الإمام عليه السلام طريق الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة كما صرح بهذا
المعنى في رواية أخرى بقوله (ع): " ألا أعلمك شيئا إذا صنعته ثم ذكرت أنك
نقصت أو أتممت لم يكن عليك شئ؟... " وقد أطلق اليقين على هذا
المعنى - أي الاحتياط واليقين بالبراءة - في روايات اخر كما في قوله (ع):
" وإذا شككت فابن على اليقين " وتكون الصحيحة على هذا المعنى دالة على وجوب
الاحتياط وأجنبية عن الاستصحاب، وان كان المراد هي الركعة المتصلة فلابد
من حمل الجملة على التقية، لكون مفادها مخالفا للمذهب وموافقا للعامة، وعليه فالمراد
باليقين وان كان هو اليقين بعدم الاتيان بالركعة الرابعة، إلا أنه يمكن الاستدلال
بها على حجية الاستصحاب لورودها مورد التقية، والالتزام بأن أصل القاعدة - وهي
عدم جواز نقض اليقين بالشك، قاعدة واقعية، وإنما التقية في تطبيقها على المورد
60

- أي الشك بين الثلاث والأربع في عدد الركعات - مخالف للأصل من جهة أخرى،
فان الأصل في التطبيق هو التطبيق الحقيقي، لا التطبيق تقية، فتلزم مخالفة الأصل
من وجهين. هذا ملخص ما ذكره الشيخ (ره) من الاشكال على الاستدلال
بالصحيحة.
وأجاب عنه صاحب الكفاية بأن الصحيحة ساكتة عن كون الركعة الأخرى
متصلة أو منفصلة، بل تدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك، والبناء على الأقل،
والآتيان بركعة أخرى بلا قيد الاتصال أو الانفصال، وأخذنا قيد الانفصال
من روايات اخر دالة على وجوب البناء على الأكثر والآتيان بالمشكوك فيها منفصلة، فمقتضى
الجمع بين الصحيحة وهذه الروايات هو تقييد الصحيحة بها والحكم بوجوب الاتيان
بركعة أخرى منفصلة.
وذكر بعض الأعاظم أن الاستصحاب في الشك في عدد الركعات غير جار
في نفسه، مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة الدالة على وجوب الاحتياط، وذلك،
لوجوب التشهد والتسليم في الركعة الرابعة وفى الشك بين الثلاث والأربع، غاية
ما يثبت بالاستصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة، وبعد الاتيان بركعة أخرى
لا يمكن اثبات كونها هي الركعة الرابعة ليقع التشهد والتسليم فيها، إلا على القول بالأصل
المثبت، ولا نقول به. ولعل هذا هو السر في الغاء الفقهاء الاستصحاب في الشكوك
الواقعة في عدد الركعات على ما هو المعروف بينهم، انتهى. هذه هي كلمات الأساطين
في المقام. وكلها قابل للمناقشة: أما الأخير وهو أن الاستصحاب في الشك في عدد
الركعات قاصر في نفسه مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة، ففيه (أولا) أنه ليس
لنا دليل على وجوب وقوع التشهد والتسليم في الركعة الرابعة حتى نحتاج إلى إثبات
كون هذه هي الركعة الرابعة. غاية ما دل الدليل عليه هو الترتيب بين أفعال الصلاة
61

بأن يقع الحمد به التكبير، والسورة بعد الحمد، والركوع بعد السورة، والسجدة
بعد الركوع، والتشهد بعد السجدة الثانية من الركعة الرابعة مثلا، والتسليم بعد
التشهد. ومحصل هذا الترتيب وجوب الاتيان بالتشهد والتسليم بعد الركعة الرابعة
مثلا. فإذا شك المكلف بين الثلاث والأربع وبنى على الثلاث للاستصحاب وأتى
بركعة أخرى، فهو متيقن بالاتيان بالركعة الرابعة فيجوز له الاتيان بالتشهد والتسليم.
غاية الامر أنه لا يدري أنه أتى بالأربع فقط أو مع الزيادة، وهو غير قادح في وقوع
التشهد والتسليم بعد الركعة الرابعة وحصول الترتيب.
و (ثانيا) - على فرض تسليم أنه يجب وقوع التشهد والتسليم في الركعة
الرابعة - أنه لا مانع من جريان الاستصحاب لولا الأخبار الخاصة، فإنه بعد الاتيان
بركعة أخرى - بمقتضى استصحاب عدم الاتيان بالرابعة - يتيقن بكونه في الركعة
الرابعة، غاية الامر أنه لا يدري أن الكون في الركعة الرابعة هو الآن أو قبل ثلاث
دقائق مثلا، وخرج عنه فعلا فيجري استصحاب عدم الخروج عن الكون في الركعة
الرابعة، ويترتب عليه وجوب التشهد والتسليم، ولا يضر بالاستصحاب المذكور عدم
العلم بخصوصية الكون كما في القسم الثاني من استصحاب الكلي.
فتحصل أن المانع عن جريان الاستصحاب في الشك في عدد الركعات هي
النصوص الخاصة الواردة في الشكوك الصحيحة ولولاها لجرى الاستصحاب كما عليه العامة.
وأما في غير الشكوك الصحيحة كالشك بين الأربع والست مثلا فالوجه في عدم جواز
الرجوع إلى الاستصحاب هو صحيحة صفوان الدالة على وجوب الإعادة لمطلق الشك
في عدد الركعات، وهي: قوله (ع): " إن كنت لا تدري كم صليت، ولم يقع
وهمك على شئ فأعد الصلاة " ونقيدها بغير المشكوك الصحيحة لأجل النصوص الخاصة،
وفى غيرها نحكم بالبطلان لأجل هذه الصحيحة، ولولا الصحيحة والنصوص الخاصة لم يكن
62

مانع عن الرجوع إلى الاستصحاب كما عليه العامة.
وأما ما ذكره صاحب الكفاية من أن الصحيحة ساكتة عن قيد الاتصال
والانفصال فنقيد إطلاقها بروايات اخر دالة على وجوب الاتيان بركعة منفصلة، ففيه
أن مقتضى أدلة الاستصحاب هو البناء على اليقين السابق وعدم الاعتناء بالشك الطارئ،
وفرض وجوده بمنزلة العدم، ولازم ذلك وجوب الاتيان بركعة أخرى متصلة،
فليس التنافي - بين الصحيحة على تقدير دلالتها على الاستصحاب وبين الروايات
الاخر - بالاطلاق والتقييد، حتى يجمع بينهما بتقييد الصحيحة بها، بل بالتباين،
لدلالة الصحيحة على وجوب الاتيان بركعة أخرى متصلة، والروايات الاخر على وجوب
الاتيان بها منفصلة. فالأخذ بالصحيحة يستلزم رفع اليد عن الروايات الاخر التي
عليها اعتماد المذهب.
وأما ما ذكره الشيخ من الاشكال على الاستدلال بالصحيحة، ففيه أنه لا تلزم
من الاستدلال بها مخالفة المذهب، وذلك، لما مر آنفا من أن معنى دلالة الامر الظاهري
على الاجزاء هو توسعة الواقع، لعدم معقولية التحفظ على الواقع مع اجزاء شئ آخر
عنه، فمعنى اجزاء الصلاة الواقعة فيها زيادة التشهد والتسليم عن الواقع هو توسعة الواقع
بمعنى أن الواجب على المتيقن هو الصلاة بلا زيادة التشهد والتسليم، وعلى الشاك بين
الثلاث والأربع مثلا، هو الصلاة الواقعة فيها زيادة التشهد والتسليم، لكن مع التقييد
بعدم الاتيان بالركعة الرابعة في الواقع، لان المستفاد من الروايات أن وجوب
الاتيان - بالركعة المنفصلة على الشاك بين الثلاث والأربع - مختص بما إذا لم يأت
بالرابعة في الواقع، فمن شك - بين الثلاث والأربع، وبنى على الأربع وتشهد
وسلم، ثم لم يأت بالركعة المنفصلة نسيانا أو عمدا، ثم انكشف أنه اتى بالركعة
الرابعة - ليس عليه شئ، فيكون الموضوع لوجوب الركعة المنفصلة المكلف
63

المقيد بأمرين: الأول كونه شاكا الثاني كونه غير آت بالرابعة، فإذا شك المكلف
بين الثلاث والأربع، فقد حصل أحد القيدين بالوجدان وهو الشك، والقيد الآخر
- وهو عدم الاتيان بالرابعة - يحرز بالاستصحاب، لكونه متيقنا بعدم الاتيان
وشك فيه، فيحكم بوجوب الاتيان بالركعة المنفصلة.
فتلخص مما ذكرنا أن مقتضى الاستصحاب بملاحظة الأخبار الخاصة هو الاتيان
بالركعة المنفصلة لا الاتيان بالركعة المتصلة، حتى يكون العمل به مخالفا للمذهب،
بل في نفس الصحيحة قرينة على أن المراد من قوله (ع): قام وأضاف إليها ركعة
أخرى، هي الركعة المنفصلة، وهي قوله (ع) في صدر الصحيحة لبيان حكم
الشك بين الاثنين والأربع: يركع ركعتين بفاتحة الكتاب، فان تعيين الفاتحة يدل
على كون المراد ركعتين منفصلتين، وإلا كان مخيرا بين الفاتحة والتسبيحات، بل لعل
الأفضل الاتيان بالتسبيحات، فيكون المرد من قوله (ع): قام وأضاف إليها
ركعة أخرى، أيضا هي الركعة المنفصلة، لكون هذه الركعة في الشك بين الثلاث
والأربع من سنخ الركعتين السابقتين في الشك بين الاثنين والأربع. وفى الصحيحة
قرينة أخرى على كون المراد هي الركعة المنفصلة، وهي قوله (ع): " ولا يدخل
الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر " فان ظاهر عدم خلط الشك باليقين وبالعكس
هو الاتيان بالركعة المشكوكة منفصلة عن الركعات المتيقنة.
فتلخص مما ذكرنا صحة الاستدلال بالصحيحة، غاية الامر أن مقتضى
الاستصحاب بملاحظة الأخبار الخاصة هو الاتيان بالركعة المشكوك فيها منفصلة.
وظهر بما ذكرنا صحة الاستدلال بموثقة عمار عن أبي الحسن عليه السلام
" قال (ع): إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل؟ قال (ع):
نعم " فان المراد منها البناء على المتيقن والآتيان بالمشكوك فيها منفصلة، لأجل الاخبار
64

الخاصة بالبيان المتقدم. ولا اختصاص لها بالشك في عدد الركعات، بل قاعدة كلية
في باب الصلاة وغيرها مما شك فيه، فليس المراد من اليقين هو اليقين بالبراءة بالبناء
على الأكثر، والآتيان بالمشكوك فيها منفصلة على ما ذكره الشيخ (ره) فان الداعي
إلى الحمل على هذا المعنى في الصحيحة كون الحمل على الأقل مخالفا للمذهب. وبعد
ما ذكرنا من عدم اختصاص الموثقة بالشك في عدد ركعات الصلاة لاجه للحمل
على هذا المعنى، وفى نفس الموثقة ظهور في أن المراد من اليقين هو اليقين الموجود،
لا تحصيل اليقين فيما بعد، فان قوله (ع): - فابن على اليقين - أمر بالبناء
على اليقين الموجود لا امر بتحصيل اليقين، غاية الامر أنه في الشك في عدد الركعات
بعد البناء على اليقين يجب الاتيان بالمشكوك فيها منفصلة، للأخبار الخاصة. ولا تنافي
بينها وبين الاستصحاب على ما ذكرنا من التوجيه.
ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب رواية الخصال عن أمير المؤمنين
عليه السلام قال (ع): " من كان على يقين فشك، فليمض على يقينه، فان الشك
لا ينقض اليقين " وفى نسخة أخرى " من كان على يقين فأصابه شك فليمض
على يقينه، فان اليقين لا يدفع بالشك ".
واستشكل في دلالتها على حجية الاستصحاب بأن صريحها سبق زمان اليقين
على زمان الشك، فهي دليل على قاعدة اليقين لاعتبار تقدم اليقين على الشك فيها،
بخلاف الاستصحاب، فان المعتبر فيه كون المتيقن سابقا على المشكوك فيه، أما اليقين والشك
فقد يكونان متقارنين في الحدوث، بل قد يكون الشك سابقا على اليقين على ما تقدم
في ضابطة الفرق بين القاعدة والاستصحاب.
وأجاب عنه صاحب الكفاية بما حاصله: أن اليقين طريق إلى المتيقن،
والمتداول في التعبير عن سبق المتيقن على المشكوك فيه هو التعبير بسبق اليقين على الشك
65

لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد، فالمراد هو سبق المتيقن على المشكوك فيه.
وذكر في هامش الرسائل جوابا آخر وربما ينسب إلى المرحوم الميرزا الشيرازي
الكبير (ره) وهو أن الزمان قيد في قاعدة اليقين وظرف في الاستصحاب، وحيث
أن الأصل في الزمان هو الظرفية فكونه قيدا يحتاج إلى الاثبات، ولم يدل دليل
على كون الزمان قيدا في المقام، فالمتعين كونه ظرفا، فتكون الرواية دالة على حجية
الاستصحاب دون قاعدة اليقين.
وفيه ما تقدم في ضابطة الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين. وملخصه
أن الزمان ليس قيدا في شئ منهما، بل ظرف في كليهما. والفرق بينهما أن متعلق
الشك في الاستصحاب هو البقاء وفي قاعدة اليقين هو الحدوث. وتقدم تفصيل الكلام
في الفرق بينهما في أوائل بحث الاستصحاب.
ويمكن أن يجاب عن الاشكال المذكور بأن ظاهر قوله (ع): فليمض
على يقينه هو الاستصحاب لا قاعدة اليقين، لكونه أمرا بالبناء على اليقين الموجود
نظير ما مر في قوله (ع): فابن على اليقين، وليس في مورد القاعدة يقين فعلي
حتى يؤمر بالبناء عليه، بل كان يقين وقد زال بالشك الساري بل لم يعلم أنه كان
يقينا لاحتمال كونه جهلا مركبا، ويعتبر في اليقين مطابقته للواقع، بخلاف القطع،
غاية الامر أنه كان تخيل اليقين ولا يصح التعبير عن التردد النفساني الموجود فعلا
باليقين، لعدم صحة اطلاق الجوامد إلا مع وجود المبدأ، واطلاق المشتق
على المنقضي عنه المبدأ حقيقة وإن كان محلا للكلام، إلا أنه ليس في الرواية لفظ
المتيقن، حتى يقال أنه شامل لمن كان متيقنا باعتبار المنقضي عنه المبدأ على أحد القولين
في المشتق، هذا.
ولكن الذي يسهل الامر أن الرواية ضعيفة غير قابلة للاستدلال بها، لكون
66

قاسم بن يحيى في سندها، وعدم توثيق أهل الرجال إياه بل ضعفه العلامة (ره) ورواية
الثقات عنه لا تدل على التوثيق على ما هو مذكور في محله.
ومن جملة ما استدل به للمقام مكاتبة علي بن محمد القاساني قال: " كتبت إليه
وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب (ع)
اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية ". وتقريب الاستدلال بها
أن الإمام عليه السلام حكم بأن اليقين بشئ لا ينقض بالشك ولا يزاحم به، ثم فرع
على هذه الكبرى قوله (ع): " صم للرؤية وأفطر للرؤية ".
وذكر الشيخ (ره) أن هذه الرواية أظهر ما في الباب من أخبار الاستصحاب.
واستشكل عليه في الكفاية بأن المراد من اليقين في هذه الرواية ليس هو اليقين السابق،
بل المراد هو اليقين بدخول شهر رمضان وأنه لا يجب الصوم إلا مع اليقين ولا يدخل
المشكوك فيه في المتيقن، كما ورد في عدة من الروايات أنه لا يصام يوم الشك بعنوان أنه
من رمضان، وأن الصوم فريضة لابد فيها من اليقين، ولا يدخلها الشك.
وذكر المحقق النائيني (ره) تأييدا لصاحب الكفاية أن قوله (ع):
- اليقين لا يدخله الشك - ظاهر في عدم دخول اليوم المشكوك كونه من رمضان
فيه وحمله على الاستصحاب - بدعوى أن المراد منه أن اليقين لا ينقض بالشك - بعيد
لغرابة هذا الاستعمال.
والتحقيق هو ما ذكره الشيخ (ره) من ظهور الرواية في الاستصحاب،
لأنه لو كان المراد عدم إدخال اليوم المشكوك فيه في رمضان، لما كان التفريع بالنسبة
إلى قوله (ع): وأفطر للرؤية صحيحا، فان صوم يوم الشك في آخر شهر رمضان
واجب، لقوله (ع): وأفطر للرؤية، مع أنه يوم مشكوك في كونه من رمضان،
فكيف يصح تفريع قوله (ع): وأفطر للرؤية الدال على وجوب صوم يوم الشك
67

في آخر شهر رمضان على قوله (ع): اليقين لا يدخله الشك، بناء على أن المراد
منه عدم دخول اليوم المشكوك فيه في رمضان. فالصحيح أن المراد من قوله (ع): اليقين
لا يدخله الشك، أن اليقين لا ينقض بالشك فلا يجب الصوم في يوم الشك في آخر
شعبان، ويجب الصوم في يوم الشك في آخر شهر رمضان، لليقين بعدم وجوب
الصوم في الأول واليقين بوجوبه في الثاني، واليقين لا ينقض بالشك، فيصح التفريع
بالنسبة إلى قوله (ع): صم للرؤية، وبالنسبة إلى قوله (ع): وأفطر للرؤية.
وأما ما استشهد به صاحب الكفاية من الروايات الدالة على عدم صحة الصوم
في يوم الشك بعنوان أنه من رمضان، فمدفوع بأن هذه الروايات وإن كانت صحيحة
معمولا بها في موردها، إلا أنها لا تكون قرينة على كون هذه الرواية أيضا واردة
لبيان هذا المعنى مع ظهورها في الاستصحاب.
وأما ما ذكره المحقق النائيني (ره) من غرابة هذا الاستعمال، فيدفعه وقوع هذا
الاستعمال بعينه في الصحيحة الثالثة المتقدمة في قوله (ع): " ولا يدخل الشك
في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر " ووقع هذا الاستعمال في كلمات العلماء أيضا
في قولهم دليله مدخول أي منقوض، واللغة أيضا تساعده، فان دخول شئ في شئ
يوجب التفكيك بين أجزائه المتصلة، فيكون موجبا لنقضه وقطع هيئته الاتصالية.
ومن جملة ما استدل به على حجية الاستصحاب روايات تدل على الحلية ما لم تعلم
الحرمة وعلى الطهارة ما لم تعلم النجاسة، وهي طوائف ثلاث: (منها) ما يدل
على حلية كل شئ ما لم تعلم الحرمة، كقوله (ع): " كل شئ حلال حتى تعرف
أنه حرام ". و (منها) ما يدل على طهارة كل شئ ما لم تعلم النجاسة. كقوله
عليه السلام: " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر ". و (منها) ما يدل
على طهارة خصوص الماء ما لم تعلم نجاسته، كقوله (ع): " الماء كله طاهر حتى تعلم
68

أنه نجس "، والاحتمالات المتصورة في مثل هذه الأخبار سبعة:
(الأول) أن يكون المراد منها الحكم بالطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها
الأولية، بأن يكون العلم المأخوذ غاية طريقيا محضا، والغاية في الحقيقة هو عروض
النجاسة، فيكون المراد أن كل شئ بعنوانه الأولي طاهر حتى تعرضه النجاسة، وأخذ
العلم غاية لكونه طريقا إلى الواقع ليس بعزيز، كما في قوله تعالى: (وكلوا واشربوا
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) - سورة 2 آية 187 -
فان المراد منه بيان الحكم الواقعي وجواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، وذكر التبين
بناء على كونه بمعنى الانكشاف إنما هو لمجرد الطريقية، وإن أمكن حمل التبين على معنى
آخر مذكور في محله.
(الثاني) أن يكون المراد منها هو الحكم بالطهارة الظاهرية للشئ المشكوك
كما عليه المشهور، بأن يكون العلم قيدا للموضوع دون المحمول، فيكون المعنى
أن كل شئ لم تعلم نجاسته طاهر.
(الثالث) أن يكون المراد بها قاعدة الاستصحاب، بأن يكون المعنى
أن كل شئ طهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة - أي كل شئ ثبتت طهارته الواقعية
أو الظاهرية فطهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة.
(الرابع) أن يكون المراد بها الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية بأن يكون
المعنى أن كل شئ معلوم العنوان أو مشكوكه طاهر بالطهارة الواقعية في الأول،
وبالطهارة الظاهرية في الثاني إلى زمان العلم بالنجاسة.
(الخامس) أن يكون المراد منها الطهارة الظاهرية والاستصحاب، كما عليه
صاحب الفصول، بأن يكون المعنى أن كل شئ مشكوك العنوان طاهر ظاهرا وطهارته
مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة، فيكون الغنى - وهو قوله (6): طاهر -
69

إشارة إلى الطهارة الظاهرية، والغاية إشارة إلى استصحاب تلك الطهارة إلى زمان
العلم بالنجاسة.
(السادس) أن يكون المراد بها الطهارة الواقعية والاستصحاب كما في الكفاية،
بأن يكون المعني إشارة إلى الطهارة الواقعية، وأن كل شئ بعنوانه الأولي طاهر
وقوله (ع): حتى تعلم إشارة إلى استمرار الحكم إلى زمان العلم بالنجاسة.
(السابع) أن يكون المراد منها الطهارة الواقعية والظاهرية والاستصحاب،
كما اختاره صاحب الكفاية في هامش الرسائل، ويجري جميع ما ذكرنا من الصور
والاحتمالات في قوله (ع): " كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام " ويقع
الكلام أولا في صحة هذا الوجه الأخير وعدمها. وملخص ما ذكر في وجهه أن كلمة
كل شئ شاملة لما هو معلوم العنوان كالحجر والماء مثلا ولما هو مشكوك العنوان كالمايع
المردد بين الماء والبول مثلا، فحكم الإمام عليه السلام بالطهارة في الجميع، فلا محالة
تكون الطهارة بالنسبة إلى الأول واقعية، وبالنسبة إلى الثاني ظاهرية، ويكون
قوله (ع): حتى تعلم إشارة إلى استمرار الطهارة إلى زمان العلم بالنجاسة.
وأورد عليه المحقق النائيني باشكالات: (الأول) أن الحكم الواقعي
والظاهري لا يمكن اجتماعهما في جعل واحد، لان الحكم الظاهري متأخر عن الحكم
الواقعي بمرتبتين، لان موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي،
والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، كما أن موضوع الحكم الظاهري
متأخر عن موضوع الحكم الواقعي بمرتبتين فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك
في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، وهو متأخر
عن موضوعه الواقعي، وبعد كون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي لا يمكن
تحققهما بجعل واحد، وإلا يلزم كون المتأخر عن الشئ بمرتبين معه في رتبته، وهو خلف.
70

وهذا الاشكال لا دافع له على مسلك صاحب الكفاية والمحقق النائيني (ره)
ومن وافقهما في أن الانشاء ايجاد المعنى باللفظ، فإنه لا يمكن ايجاد شيئين يكون أحدهما
في طول الآخر بجعل واحد وانشاء فارد. وأما على ما سلكناه من أن الانشاء ليس
بمعنى ايجاد المعنى باللفظ إذ ليس اللفظ، إلا وجودا لنفسه والمعنى اعتبار نفساني لا يكون
اللفظ موجدا له بل هو مبرز له ولافرق بين الخبر والانشاء من هذه الجهة، فكما أن الخبر
مبرز لأمر نفساني، فكذا الانشاء، إنما الفرق بينهما في المبرز بالفتح، فان المبرز
في الانشاء مجرد اعتبار نفساني، وليس وراءه شئ ليتصف بالصدوق والكذب،،
وهذا بخلاف الجملة الخبرية، فان المبرز بها هو قصد الحكاية عن شئ في الخارج،
فهنا شئ وراء القصد وهو المحكي عنه، وباعتباره يكون الخبر محتملا للصدق والكذب.
وقد ذكرنا تفصيل ذلك في مقام الفرق بين الخبر والانشاء، فلا مانع من أن يبرز
حكمين يكون أحدهما في طول الآخر بلفظ واحد، بأن يعتبر أولا الحكم الواقعي
لموضوعه، ثم يفرض الشك فيه فيعتبر الحكم الظاهري، وبعد هذين الاعتبارين
يبرز كليهما بلفظ واحد، ولا يلزم منه محذور.
(الاشكال الثاني) أنه لا يمكن إرادة الحكم الواقعي والظاهري معا،
نظرا إلى الغاية وهي قوله (ع): حتى تعلم أنه قذر، لأنه إنه كان المراد هو الحكم
الواقعي، يكون العلم المأخوذ في الغاية طريقيا كما ذكرناه في أول الاحتمالات،
فان الحكم الواقعي لا يرفع بالعلم، ولافرق فيه بين العالم والجاهل كما عليه أهل الحق
خلافا لأهل التصويب، ولا يرتفع الحكم الواقعي في غير موارد النسخ إلا بتبدل
موضوعه بأن يلاقي الجسم الطاهر نجسا، أو يرتد مسلم نعوذ بالله، أو يصير ماء العنب
خمرا مثلا وإن كان المراد هو الحكم الظاهري يكون العلم المأخوذ في الغاية قيدا
للموضوع وغاية له، لان موضوع الحكم الظاهري هو الشك وغايته العلم، إذا الشك
71

يرتفع بالعلم، فيكون العلم ملحوظا بنحو الاستقلال والموضوعية، ولا يمكن اجتماع
الطريقية والموضوعية في العلم، لان معنى الموضوعية ارتفاع الحكم بالعلم، ومعنى
الطريقية عدم ارتفاعه به، فيكون الجمع بينهما كالجمع بين المتناقضين.
وهذا الاشكال مندفع بما ذكرناه في تقريب هذا الوجه من أن العلم ليس غاية
للحكم الواقعي ولا للحكم الظاهري، بل غاية للحكم بالبقاء والاستمرار، فيكون
دالا على استصحاب الحكم السابق سواء كان واقعيا أو ظاهريا، فبقوله (ع):
كل شئ نظيف، تمت إفادة الحكم الواقعي والظاهري لشمول الشئ الشئ المعلوم
والشئ المجهول على ما ذكرنا، ويكون قوله (ع): حتى تعلم، إشارة إلى الحكم
ببقاء الحكم الثابت سابقا واستمراره إلى زمان العلم بالنجاسة، فيكون العلم موضوعيا
وقيدا للاستصحاب، لأنه بالعلم يرتفع الشك، وبارتفاعه لم يبق موضوع للاستصحاب
كما هو ظاهر.
(الاشكال الثالث) أنه لا يمكن اجتماع الحكم الواقعي والظاهري في نفسه
مع قطع النظر عن الغاية، وذلك، لأنه إذا استند الحكم إلى العام الشامل للخصوصيات
الصنفية والخصوصيات الفردية، فلا محالة يكون الحكم مستندا إلى الجامع بين
الخصوصيات لا إلى الافراد بخصوصياتها، فإنه إذا قيل أكرم كل إنسان، فهذا الحكم
وإن كان شاملا لجميع أصناف الانسان وأفراده، إلا أنه مستند إلى الجامع لا إلى
الخصوصيات الصنفية أو الفردية، فإنه يقال هذا يجب إكرامه لأنه إنسان لا لأنه عربي
أو لأنه زيد مثلا، فلا دخل للخصوصيات في الحكم، فقوله (ع): كل شئ
نظيف، وإن كان شاملا للشئ المشكوك، إلا أنه بعنوان أنه شئ لا بعنوان
أنه مشكوك، إذ كونه مشكوكا من الخصوصيات الصنفية، وقد ذكرنا عدم دخلها
في الحكم المستند إلى العام، فلا يكون هناك حكم ظاهري، لان موضوعه الشئ
72

بما هو مشكوك فيه، فلا يكون في المقام إلا الحكم الواقعي الوارد على جميع الأشياء المعلومة
أو المشكوك فيها، بل يمكن أن يقال إن الحكم المذكور في قوله (ع): كل شئ
نظيف لا يكون شاملا للشئ المشكوك فيه أصلا، لان عموم قوله (ع): كل شئ
قد خصص بمخصصات كثيرة دالة على نجاسة بعض الأشياء كالكلب والكافر والبول
وسائر النجاسات. والمائع المردد بين الماء والبول مثلا لا يمكن التمسك لطهارته بعموم
قوله (ع): كل شئ نظيف، لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية،
فالشئ المشكوك فيه لا يكون داخلا في عموم قوله (ع): كل شئ نطيف لامن حيث
الحكم الظاهري، لان الموضوع هو الشئ لا المشكوك فيه، ولا من حيث الحكم الواقعي،
لكونه مشكوكا بالشبهة المصداقية.
وهذا الاشكال متين جدا ولا دافع له، وظهر منه عدم صحة الاحتمال الرابع،
وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية، والطهارة الظاهرية
للأشياء المشكوك فيها، لعدم امكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما تقدم.
وأما الاحتمال السادس الذي اختاره في الكفاية، وهو أن يكون المراد الطهارة
الواقعية والاستصحاب على ما تقدم بيانه وأيده بقوله (ع) في موثقة عمار: فإذا
علمت فقد قذر، بدعوى ظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها، فيكون بيانا
لمفهومها وأن الحكم باستمرار الطهارة ينتفي بعد العلم بالنجاسة، ففيه أنه لا يمكن الجمع
بين الطهارة الواقعية والاستصحاب في الاستفادة من الأخبار المذكورة، لان
قوله (ع): حتى تعلم إما ان يكون قيدا للموضوع أو للمحمول، ولا تستفاد
الطهارة الواقعية والاستصحاب على كلا الوجهين. أما إن كان قيدا للموضوع كما
في قوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... " فان الغاية قيد للموضوع
وهو اليد وتحديد للمغسول، لان اليد قد تطلق على جميع العضو إلى المنكب، وقد
73

تطلق عليه إلى المرفق، وقد تطلق على الزند كما في آية التيمم، وقد تطلق على الأصابع
كما في آية السرقة، فقيدها في هذه الآية الشريفة لتعيين المراد من اليد، فالغاية
تحديد للموضوع لا غاية للغسل. فيكون المراد من قوله (ع): " كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه نجس " أن كل شئ لم تعلم نجاسته فهو طاهر، فيكون المراد قاعدة
الطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها، فان الشئ الذي لم تعلم نجاسته عبارة أخرى
عن الشئ المشكوك فيه، وكذلك إن كان قيدا للمحمول، لان المراد حينئذ
أن الأشياء طاهرة ما لم تعلم نجاستها - أي ما دام مشكوكا فيها - فيكون مفاد
الرواية هو الحكم بالطهارة الظاهرية للأشياء المشكوك فيها على التقديرين، ولا ربط لها
بالطهارة الواقعية ولا الاستصحاب. نعم لو كان في الكلام تقدير وكان قوله (ع):
- حتى تعلم - متعلقا به وقيدا له، وكان التقدير هكذا " كل شئ طاهر وطهارته
مستمرة حتى تعلم أنه نجس " كان الكلام دالا على الطهارة الواقعية والاستصحاب،
ولكن التقدير خلاف الأصل ولا موجب للالتزام به.
وظهر بما ذكرناه من بطلان الجمع بين الطهارة الواقعية والاستصحاب بطلان
الوجه الأول، وهو أن يكون المراد الطهارة الواقعية فقط فلا حاجة إلى التعرض له.
وأما الاحتمال الخامس الذي ذكره صاحب الفصول من الجمع بين الطهارة الظاهرية
والاستصحاب بالبيان المتقدم، ففيه أن الحكم بالطهارة الظاهرية للشئ المشكوك فيه
باق ببقاء موضوعه، وهو الشك بلا احتياج إلى الاستصحاب، فان المستفاد من الاخبار
هو جعل الحكم المستمر - أي الطهارة الظاهرية للشئ المشكوك فيه ما دام مشكوكا
فيه، لا استمرار الحكم المجعول، إذ ليس الحكم بالطهارة في الخبر بملاحظة الطهارة
السابقة وبعناية الطهارة الثابتة حتى يكون استصحابا، فليس مفاد الخبر إلا الطهارة
الظاهرية المجعولة بلحاظ الشك.
74

وظهر بطلان الاحتمال الثالث أيضا، وهو أن يكون المراد الاستصحاب
فقط. فتحصل أن الأخبار المذكورة متمحضة لقاعدة الطهارة الظاهرية للأشياء
المشكوك فيها.
بقي الكلام فيما ذكره الشيخ (ره) من أن خصوص الخبر الوارد في طهارة
الماء يدل على الاستصحاب، وهو قوله (ع): " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه
نجس... " لان طهارة الماء معلومة، ويكون المراد الحكم ببقائها إلى زمان العلم
بالنجاسة. وفيه أن طهارة الماء وان كانت معلومة، إلا أن الحكم بطهارته في الرواية
ليس مستندا إلى طهارته السابقة حتى يكون استصحابا، بل الحكم بطهارته إنما هو بملاحظة
الشك، فلا يستفاد منه أيضا إلا الطهارة الظاهرية في خصوص الماء. نعم لا مانع
من استفادة الاستصحاب من رواية أخرى ذكرها الشيخ (ره) وهي ما ورد في إعارة
الثوب للذمي، لان الحكم بالطهارة في الثوب مستند إلى طهارته السابقة، لقوله (ع):
" لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه... " لكنه مختص بباب
الطهارة، ولا وجه للتعدي عن المورد إلا عدم القول بالفصل، وأنى لنا باثباته،
فلم يبق لنا دليل صالح للاستصحاب إلا الاخبار التي ذكرناها، وعمدتها
الصحاح الثلاث.
والمتحصل مما ذكرناه حجية الاستصحاب بلا اختصاص لها بباب دون باب
على ما تقدم، إلا أنه ينبغي لنا التعرض لتفصيلين آخرين ذكرا في المقام: (الأول)
التفصيل في الشك في الرافع بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود
بالالتزام بحجية الاستصحاب في الأول دون الثاني. (الثاني) التفصيل بين الأحكام التكليفية
والوضعية.
أما التفصيل الأول فقد التزم به المحقق السبزواري (ره) بتقريب أن الشك
75

إذا كان في وجود الرافع كان رفع اليد عن اليقين نقضا لليقين بالشك. فمن كان
متيقنا بالطهارة من الحدث وشك في تحقق النوم مثلا، فرفع اليد عن الطهارة وعدم
ترتيب آثارها إنما هو للشك في النوم ومستند إليه، فيصدق عليه نقض اليقين بالشك:
فيكون مشمولا لقوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك... " وأما إذا كان
الشك في رافعية الموجود فليس رفع اليد عن الطهارة مستندا إلى الشك بل إلى اليقين
بوجود ما يحتمل كونه رافعا، لان المعلول يستند إلى الجزء الأخير من العلة، فلا يكون
من نقض اليقين بالشك. بل من نقض اليقين باليقين. سواء كان الشك في رافعية الموجود
من جهة الشبهة الموضوعية. كما إذا شك بعد الطهارة في أن الرطوبة الخارجة بعدها
بول أو مذي. أو من جهة الشبهة الحكمية. كما إذا شك في أن الرعاف ناقض للطهارة
أم لا. فرفع اليد عن الطهارة في المثالين مستند إلى اليقين بوجود ما يحتمل كونه رافعا
لا إلى الشك في رافعيته، لأنا لو فرضنا عدم تحقق اليقين المذكور، لا يكون مجرد
الشك في رافعية الرطوبة المرددة أو في رافعية الرعاف مثلا ناقضا لليقين بالطهارة ورفع
اليد عنها. فالموجب لرفع اليد عن الطهارة إنما هو اليقين بوجود ما يحتمل
كونه رافعا.
والجواب عنه أن كل يقين لا يوجب رفع اليد عن اليقين بالطهارة لولا احتمال
كون المتيقن رافعا لها، فان اليقين بشئ أجنبي لا يوجب نقض اليقين بالطهارة،
حتى يكون من نقض اليقين باليقين، بل نقض اليقين باليقين إنما يصدق فيما إذا كان
اليقين الثاني متعلقا بارتفاع متعلق اليقين الأول، كما إذا تيقن بالطهارة ثم تيقن بارتفاعها
بالنوم مثلا، كما أن الشك الموجب لرفع اليد عن اليقين الذي يصدق عليه نقض اليقين
بالشك، إنما هو فيما إذا تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين، كي تتحد القضية
المتيقنة والقضية المشكوكة، فرفع اليد عن الطهارة المتيقنة في المثالين مستند إلى الشك
76

في رافعية الشئ الموجود، لا إلى اليقين بوجوده، إذ اليقين بوجود شئ بمجرده
لا يوجب رفع اليد عن الطهارة.
وأما ما ذكره - من أنه لو فرض الشك في نقض الرعاف مثلا للطهارة مع عدم
اليقين بوجوده في الخارج، لم يكن مجرد الشك موجبا لرفع اليد عن الطهارة، لعدم
التنافي بين اليقين بالطهارة الفعلية والشك في كون الرعاف ناقضا لها، فالناقض إنما هو
العلم بوجود الرعاف في الخارج، فرفع اليد عن اليقين السابق به نقض لليقين باليقين
لا بالشك - فهو مغالطة ظاهرة، لأن الشك المفروض في كلامه إنما هو الشك
في كبرى انتقاض الطهار بالرعاف، وهو لا يوجب رفع اليد عن الطهارة البتة، لاجتماعه
مع اليقين بالطهارة الفعلية، وإنما الموجب لرفع اليد عن الطهارة المتيقنة هو الشك
في انتقاض الطهارة بالرعاف الموجود خارجا بالفعل الذي لا يجتمع مع اليقين بالطهارة
الفعلية، وبعد كون رفع اليد عن الطهارة المتيقنة مستندا إلى الشك، كان مشمولا
لدليل حرمة نقض اليقين بالشك، فلا يبقى فرق في حجية الاستصحاب بين الشك
في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود.
وأما التفصيل الثاني، فقبل التعرض له لابد من بيان حقيقة الحكم والفرق
بين الحكم التكليفي والوضعي، فنقول: الحكم الشرعي من سنخ الفعل الاختياري
الصادر من الشارع، وليس هو عبارة عن الإرادة والكراهة، أو الرضا والغضب،
فإنها من مبادي الاحكام، تعرض للنفس بغير اختيار، وليست من سنخ الأفعال الاختيارية
، فالحكم عبارة عن اعتبار نفساني من المولى، وبالانشاء يبرز هذا الاعتبار
النفساني، لا أنه يوجد به كما مر، فهذا الاعتبار النفساني تارة يكون بنحو الثبوت
وأن المولى يثبت شيئا في ذمة العبد، ويجعله دينا عليه، كما ورد في بعض الروايات
أن دين الله أحق أن يقضى، فيعبر عنه بالوجوب، لكون الوجوب بمعنى الثبوت،
77

وأخرى يكون بنحو الحرمان، وأن المولى يحرم العبد عن شئ ويسد عليه سبيله،
كما يقال في بعض المقامات: إن الله تعالى لم يجعل لنا سبيلا إلى الشئ الفلاني، فيعبر
عنه بالحرمة، فان الحرمة هو الحرمان عن الشئ، كما ورد أن الجنة محرمة على آكل
الربا مثلا، فان المراد منه المحرومية عن الجنة، لا الحرمة التكليفية، وثالثة يكون
بنحو الترخيص وهو الإباحة بالمعنى الأعم، فإنه تارة يكون الفعل راجحا على الترك،
وأخرى بالعكس، وثالثة لا رجحان لأحدهما على الآخر، وهذا الثالث هو الإباحة
بالمعنى الأخص.
فهذه هي الأحكام التكليفية، والعبارة الجامعة أن الأحكام التكليفية عبارة
عن الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء والتخيير، كما هو مذكور في بعض
الكلمات، وما سواها كله أحكام وضعية، سواء كان متعلقا بفعل المكلف،
كالشرطية والمانعية والصحة والفساد أم لا كالملكية والزوجية وغيرهما، فكل اعتبار
من الشارع سوى الخمسة المذكورة حكم وضعي.
وبعد ما عرفت المراد من الحكم، والفرق بين التكليفي منه والوضعي. فهل
الحكم الوضعي مجعول بالاستقلال أو منتزع من التكليف أو فيه تفصيل؟ وقد ذكر
صاحب الكفاية (ره) تفصيلا في المقام. حاصله أن الأحكام الوضعية
على أقسام ثلاثة:
(الأول) ما لا يكون مجعولا بالجعل التشريعي أصلا. لا استقلالا ولا تبعا
للتكليف. وإن كان مجعولا بالجعل التكويني تبعا لجعل موضوعه. كالسببية والشرطية
والمانعية والرافعية للتكليف.
(الثاني) ما يكون منتزعا من التكليف، كالشرطية والمانعية للمكلف به،
فان المولى تارة يأمر بشئ بلا تقييده بشئ وجودي أو عدمي، وأخرى يأمر بشئ
78

مع التقييد بشئ وجودا، كالطهارة مثلا فتنتزع منه الشرطية، أو عدما كالنجاسة
مثلا، فتنتزع منه المانعية.
(الثالث) ما يكون مجعولا بالجعل التشريعي مستقلا، كالملكية والزوجية،
وذكر أن الوجه - في عدم كون القسم الأول مجعولا بالجعل التشريعي -
أن اتصاف الأسباب والشروط بالسببية والشرطية ليس قابلا للجعل الشرعي،
ولا منتزعا من التكليف، لكونه متأخرا عنه حدوثا وبقاء، بل الاتصاف إنما
هو لخصوصية مؤثرة في التكليف، وإلا يلزم أن يكون كل شئ مؤثرا في كل شئ،
وهذه الخصوصية والربط شئ خارجي لا يحصل بمجرد الجعل التشريعي والانشاء،
ولا يكون منتزعا من التكليف، لكونه متأخرا عنه، كما ذكرنا، هذا ملخص
كلامه (ره).
وقبل التعرض لتحقيق الأقسام المذكورة، لابد من التنبيه على أمر، وهو
أنه كما تنتزع الأمور الانتزاعية من الأشياء الخارجية، كذلك تنتزع من الأمور
الاعتبارية، فإنه إذا ترتب وجود شئ على شئ آخر في الخارج، تنتزع منه السببية
والمسببية لهما، فكذلك الحال في الأمور الاعتبارية، فإذا جعل المولى حكمه مترتبا
على شئ، كما إذا قال: " من حاز ملك "، أو " من مات فما تركه لوراثه "،
فتنتزع منه السببية ويقال: إن الحيازة سبب لملكية الحائز، وموت المورث سبب
لملكية الوارث، وهكذا، فلا فرق من هذه الجهة بين الأمور الخارجية والأمور
الاعتبارية، فإنها أيضا من الأمور الواقعية المحققة التي تترتب عليها الآثار، غاية
الامر أن تحققها إنما هو في عالم الاعتبار، وأمرها بيد المولى.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الأمور الاعتبارية والانتزاعية، فان الأمور
الانتزاعية ليس بإزائها شئ سوى منشأ الانتزاع، بخلاف الأمور الاعتبارية، فان
79

لها تحققا في عالم الاعتبار، وتترتب عليها الآثار، وليست من الأمور الخيالية.
فتحصل مما ذكرنا أن ههنا أمورا أربعة: (الأول) الأمور المتأصلة الخارجية،
كالجواهر والاعراض، (الثاني) الأمور الاعتبارية التي أمرها بيد المولى،
(الثالث) الأمور الانتزاعية، وهي على قسمين، لان منشأ الانتزاع لها إما
أن يكون من الأمور الخارجية. وإما أن يكون من الأمور الاعتبارية. وقد ذكرنا
مثال القسمين
إذا عرفت ذلك فنقول:
(أما القسم الأول) من الأحكام الوضعية الذي ذكره صاحب الكفاية (ره)
فهو من قيود التكليف، فان المولى تارة يجعل التكليف بلا قيد فيكون مطلقا، وأخرى
يجعله مقيدا بوجود شئ في الموضوع فيكون شرطا، وثالثة بعدمه فيكون مانعا.
فالسببية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من جعل التكليف مقيدا بوجود
شئ في الموضوع، أو عدمه. والفرق بين السبب والشرط مجرد اصطلاح، فإنهم
يعبرون عما اعتبر وجوده في الحكم التكليفي بالشرط، ويقولون: إن البلوغ شرط
لوجوب الصلاة مثلا، والاستطاعة شرط لوجوب الحج، وهكذا، ويعبرون عما
اعتبر وجوده في الحكم الوضعي بالسبب، ويقولون: إن الملاقاة سبب للنجاسة،
والحيازة سبب للملكية، فكلما اعتبر وجوده في الحكم فهو شرط في باب التكليف
وسبب في باب الوضع، سواء عبر عن اعتباره بلفظ القضية الشرطية أو الحملية،
فإنه لافرق بين قول المولى: من كان مستطيعا وجب عليه الحج، وقوله: المستطيع
يجب عليه الحج فيما يفهم منهما، فان القضية الشرطية ترجع إلى الحملية، كما أن القضية
الحملية ترجع إلى الشرطية التي مقدمها تحقق الموضوع، وتاليها ثبوت المحمول له.
وبالجملة، كلما اعتبر وجوده في الموضوع فهو شرط للتكليف، كالاستطاعة
80

لوجوب الحج، وكلما اعتبر عدمه في الموضوع فهو مانع عن التكليف، كالحيض،
فالشرطية والمانعية بالنسبة إلى التكليف منتزعة من جعل المولى التكليف مقيدا بوجود
شئ في الموضوع أو عدمه، فتكون الشرطية والسببية والمانعية مجعولة بتبع التكليف.
فظهر أن ما ذكره صاحب الكفاية (ره) - من عدم كون الشرطية والمانعية
والسببية بالنسبة إلى التكليف قابلة للجعل أصلا، لا بالاستقلال ولا بالتبع -
خلط بين الجعل والمجعول، فان ما ذكره صحيح بالنسبة إلى أسباب الجعل، وشروطها،
من المصالح والمفاسد والإرادة والكراهة والميل والشوق، فإنها أمور واقعية باعثة لجعل
المولى التكليف ومبادئ له، وليس قابلة للجعل التشريعي، لكونها من الأمور
الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي بها، بل ربما تكون غير اختيارية،
كالميل والشوق والمصلحة المفسدة مثلا، وهي خارجة عن محل الكلام، فان الكلام
في الشرطية والسببية والمانعية بالنسبة إلى المجعول، وهو التكليف، وقد ذكرنا أنها
مجعولة بتبع التكليف، فكلما اعتبر وجوده في الموضوع، فتنتزع منه السببية
والشرطية، وكلما اعتبر عدمه فيه فتنتزع منه المانعية.
وظهر بما ذكرناه حال القسم الثاني من الأحكام الوضعية، فإنه أيضا منتزع
من التكليف، والفرق بينه وبين القسم الأول، أن الشرطية والمانعية بالنسبة
إلى التكليف إنما تنتزعان من اعتبار شئ وجودا أو عدما في الموضوع وهو المكلف،
بخلاف الشرطية والمانعية بالنسبة إلى المكلف به، فإنهما منتزعتان من اعتبار شئ
في متعلق الامر وهو المكلف به، فان اعتبر فيه شئ وجودا، فتنتزع منه الشرطية،
ويقال: إن الاستقبال مثلا شرط للصلاة، أو التستر شرط لها، وإن اعتبر فيه شئ
عدما، فتنزع منه المانعية، ويقال: إن اجزاء غير مأكول اللحم مانعة
عن الصلاة.
81

فتلخص مما ذكرناه أنه إذا أمر المولى بشئ ولم يقيده بشئ وجودا ولا عدما،
فليس هنا شرط ولامانع، لا للتكليف ولا للمكلف به، وإذا أمر بشئ مقيدا
بوجود شئ في الموضوع كالاستطاعة، فهو شرط للتكليف، أو بعدمه فيه، فهو
مانع عنه، كالحيض، وإذا أمر بشئ مقيدا بوجود شئ في المكلف به، فهو شرط
للمكلف به، كالاستقبال، أو بعدمه فيه، فهو مانع عنه، كاجزاء غير المأكول،
وإذا لم يقيد المولى المكلف به بشئ فهو مطلق. وظهر بما ذكرنا أن الجزئية أيضا
أمر منتزع من أمر المولى بالمركب، فإذا أمر بعدة أمور من التكبير والقراءة
والسورة والركوع والسجود وغيرها، تنتزع منه الجزئية ويقال: إن السورة مثلا
جزء للصلاة.
وأما القسم الثالث فالامر فيه كما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن الملكية
والزوجية وأمثالهما مجعولة بالاستقلال، لا أنها منتزعة من التكليف، كما اختاره
الشيخ (ره) فان انتزاعها من التكليف وإن كان ممكنا في مقام الثبوت،
إلا أن مقام الاثبات لا يساعد عليه، لكونه خلاف ظاهر الأدلة، إذ المستفاد
من قوله (ع): " الناس مسلطون على أموالهم " أن جواز التصرف مسبوق
بالملكية ومن أحكامها، لا أن الملكية منتزعة من جواز التصرف، فان الحكم
بجواز التصرف يستفاد من قوله (ع): مسلطون، والملكية من الإضافة
في قوله (ع): أموالهم، فظاهر الحديث أن الملكية متقدمة على جواز التصرف
تقدم الموضوع على الحكم، وكذا عدم جواز التصرف في ملك الغير الذي يستفاد
من قوله (ع): " لا يحل مال امرء إلا بطيب نفسه " فظاهره ان عدم جواز
التصرف من آثار الملكية ومتأخر عنها رتبة تأخر الحكم عن موضوعه، لا أنها منتزعة
من عدم جواز تصرف الغير، وكذا الزوجية والرقية وغيرهما من الأحكام الوضعية،
82

فان الرجوع إلى الأدلة يشهد بأن جواز الاستمتاع من آثار الزوجية ومتفرع عليها،
لا أن الزوجية منتزعة من جواز الاستمتاع له، أو عدم جواز الاستمتاع للغير،
مضافا إلى أنه لا تلازم بين الملكية وجواز التصرف، ولا بينها وعدم جواز تصرف
الغير، فان النسبة بين الملكية وجواز التصرف هو العموم من وجه، إذ قد يكون
الشخص مالكا ولا يجوز له التصرف كالسفيه والعبد، على القول بملكه، وكذا
في العين المرهونة، وقد يجوز التصرف له مع عدم كونه مالكا كما في المباحات الأصلية،
وكذا النسبة بين الملكية وعدم جواز تصرف الغير أيضا هو العموم من وجه، فقد
يكون الشخص مالكا لشئ ويجوز لغيره التصرف فيه، كما في حق المارة والاكل
عند المخمصة، وقد لا يجوز للغير التصرف مع عدم كون هذا الشخص مالكا كما في العين
المرهونة، فإنه لا يجوز التصرف فيها للراهن مع عدم كونها ملكا للمرتهن، فكيف
يمكن القول بأن الملكية منتزعة من جواز التصرف أو من عدم جواز تصرف الغير.
هذا كله - مضافا إلى أنه يلزم على ما ذكره الشيخ (ره) عدم جريان
الاستصحاب فيما إذا زوج أحد صغيرة ثم بلغت وشك في أنه طلقها أم لا، فإنه
لا يجري الاستصحاب في الحكم الوضعي، وهو الزوجية، لكونه منتزعا من التكليف،
فيكون تابعا لمنشأ الانتزاع حدوثا وبقاء، ولا في الحكم التكليفي، وهو جواز الوطء
لكونه مسبوقا بالمعدم، لعدم جواز وطء الزوجة الصغيرة، إلا أن يقال: إنه
يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي بنحو التعليق بناء على حجية الاستصحاب التعليقي
فيقال: إن هذه المرأة لو بلغت سابقا، كان وطؤها جائزا والآن كما كان،
وعلى ما ذكرنا من كون الزوجية مجعولة بالاستقلال، يجري الاستصحاب فيها بلا اشكال
ويترتب عليه جواز الوطء.
فالمتحصل مما ذكرناه في المقام أن الأحكام الوضعية على قسمين: قسم منها مجعول
83

بالاستقلال، كالملكية والزوجية، وقسم منها منتزع من التكليف إما باعتبار شئ
في الموضوع أو في المتعلق.
بقي الكلام في أمور قد اختلف في أنها من الأحكام الوضعية أم لا:
(منها) الطهارة والنجاسة، فذهب الشيخ (ره) إلى أنهما من الأمور
الواقعية، فالطهارة عبارة عن النظافة الواقعية، والنجاسة عبارة عن القذارة الواقعية،
وكشف عنهما الشارع، كخواص بعض الأدوية التي لا يعرفها إلا أهل الخبرة
والتجربة، فالطهارة والنجاسة من هذا القبيل، وليستا من الأمور المجعولة،
كالأحكام التكليفية.
وفيه أولا أنه خلاف ظواهر الأدلة، إذ ظاهرها أن الشارع حكم بالنجاسة
في شئ وبالطهارة في شئ آخر بما هو شارع، لا أنه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو
من أهل الخبرة.
وثانيا أنه خلاف الوجدان بالنسبة إلى بعض الموارد، فإنه وان كان يمكن
القول به في مثل البول والغائط والكلب وغيرها بأن يقال: أن الحكم بنجاسة هذه
الأشياء إخبار عن قذارتها الواقعية، إلا أنه لا يمكن القول به في مثل ولد الكافر
المحكوم بالنجاسة للتبعية، فان القول - بأن الحكم بنجاسة الولد قبل اقرار الوالد
بالشهادتين، اخبار عن قذارته الواقعية، والحكم بطهارته بعده إخبار عن نظافته
الواقعية - خلاف الوجدان، وكيف تتبدل قذراته الواقعية الخارجية بمجرد
تلفظ والده بالشهادتين، سيما إذا كان بعيدا عنه، وإن كان تبدل القذارة الواقعية
بالنظافة الواقعية بالتلفظ بالشهادتين بالنسبة إلى نفس الوالد ممكنا، وأما التبدل الخارجي
بالنسبة إلى الولد فلعله خلاف المقطوع به، نعم لا ننكر كون الحكم بالطهارة والنجاسة
من قبل الشارع لأجل خصوصية وملاك في الموضوع، كما في الأحكام التكليفية عند
84

العدلية، ولا يبعد أن يكون الملاك والمصلحة في الحكم بنجاسة الكفار، تنفر المسلمين
عنهم لئلا يتخذوا أخلاقهم وعاداتهم، فان الحكم بنجاستهم يوجب تنفر المسلمين عنهم
لئلا يبتلى برطوباتهم في البدن واللباس، حتى يحتاجون إلى التطهير للصلاة وغيرها،
فيأمنون من أخلاقهم الردية وعاداتهم الرذيلة، ولم يراع المسلمون في يومنا هذا الحكم،
حتى صاروا متخلقين بأخلاقهم، وصاروا بمنزلتهم في المآكل والمشارب، ويمكن
ان يكون الحكم بنجاسة الخمر أيضا بهذا الملاك وهو التنفر، فبعد حكم الشارع بحرمته
حكم بنجاسته أيضا ليوجب التنفر عنه، وهذا المعنى مراد الشهيد (ره) من عبارته
التي نقلها الشيخ (ره) في المكلب، من أن " النجاسة ما حرم استعماله
في الصلاة والأغذية للاستقذار أو للتوصل بها إلى الفرار " فالظاهر أن مراده
من التوصل بها إلى الفرار هو ما ذكرناه.
وثالثا أنه لا يمكن القول بأن الحكم بالطهارة اخبار عن النظافة الواقعية
في الطهارة الظاهرية، إذ الحكم - بطهارة الشئ المشكوك فيه الذي يمكن أن يكون
نجسا في الواقع - لا يمكن أن يكون اخبارا عن النظافة الواقعية، ولابد من القول
بمجعولية الطهارة، في مثله.
فتحصل أن الصحيح كون الطهارة مجعولة من قبل الشارع، غاية الامر
أن الطهارة الواقعية مجعولة للشئ بعنوانه الأولي، والطهارة الظاهرية مجعولة له بعنوان
أنه مشكوك فيه.
و (منها) الصحة والفساد، فهل هما مجعولتان مطلقا أو ليستا بمجعولتين
كذلك، أو يفصل بين العبادات والمعاملات، بالالتزام بعدم الجعل في الأولى،
والجعل في الثانية؟ فيه خلاف، اختار صاحب الكفاية (ره) التفصيل، بدعوى
أن الصحة والفساد في العبادات عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها، والمطابقة
85

وعدمها أمران تكوينيان لأربط لهما بالجعل الشرعي، بخلاف المعاملات فان الصحة
والفساد فيها عبارة عن ترتب الأثر وعدمه، والحكم بترتب الأثر - كما في البيع
وبعدمه كما في الربا - مجعول شرعي. هذا.
والصحيح أن الصحة والفساد ليستا من المجعولات الشرعية مطلقا، فان الطبيعة
الكلية المجعولة لا تتصف بالصحة والفساد. وإنما المتصف بهما هو الفرد الخارجي المحقق
أو المقدر. فيقال: ان البيع الفلاني صحيح لكونه واجدا للشرائط، أو فاسد،
لعدم كونه واجدا لها، فالصحة والفساد من أوصاف الفرد الخارجي المحقق وجوده
أو المقدر. فكل فرد يكون مطابقا للطبيعة المجعولة صحيح، وكل فرد لم يكن من مصاديقها
فاسد بلا فرق بين العبادات والمعاملات. فالصحة والفساد في العبادات والمعاملات منتزعتان
من انطباق الطبيعة المجعولة على الفرد الخارجي وعدمه، وليستا مجعولتين. هذا في الصحة
والفساد الواقعيتين، وأما الصحة والفساد الظاهريتين، فحيث أن موضوعهما الفرد المشكوك
فيه، فللشارع أن يحكم بترتيب الأثر عليه، وأن يحكم بعدمه. فلا محالة تكونان مجعولتين
من قبل الشارع، فقد حكم بالصحة الظاهرية في بعض الموارد كما في الشك بعد تجاوز
المحل وبعد الفراغ، وحكم بالفساد في موارد أخرى كما في بعض الشكوك في ركعات الصلاة.
فتحصل مما ذكرناه أن الصحيح هو التفصيل بين الصحة والفساد الواقعيتين
والظاهريتين. والالتزام بكون الأول غير مجعول والثاني مجعولا بلا فرق
بين العبادات والمعاملات.
و (منها) العزيمة والرخصة على ما ذكره بعضهم، ولابد من شرح المراد
منهما حتى يظهر كونهما من الأحكام الوضعية أو عدمه، فنقول: العزيمة عبارة
عن سقوط الامر بجميع مراتبه، والرخصة عبارة عن سقوطه ببعض مراتبه، فإذا أمر
المولى بشئ ثم أسقط الامر رأسا، كما في الركعتين الأخيرتين للمسافر، فيكون
86

الاتيان به استنادا إلى المولى تشريعا محرما، وهذا هو العزيمة، وإذا أمر بشئ وجوبا
ثم سقط وجوبه وبقي رجحانه فهذا هو الرخصة. وكذا ان كان مستحبا مؤكدا ثم سقط
تأكده، كما في بعض موارد سقوط الأذان والإقامة.
وظهر بما ذكرناه من معنى العزيمة والرخصة عدم كونهما من الأحكام الوضعية
المجعولة، بل هما أمران راجعان إلى التكليف، فسقوط التكليف رأسا عزيمة،
وسقوطه ببعض مراتبه رخصة، فلا وجه لذكرهما في جملة الأحكام الوضعية.
ثم إنه ذكر جماعة أن المجعولات الشرعية ثلاثة: الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية
، والماهيات المخترعة، كالصوم والصلاة. قال الشهيد (ره): " الماهيات
الجعلية كالصوم والصلاة لا يطلق على الفاسد إلا الحج لوجوب المضي فيه ". وهو أول
من قال بالماهيات الجعلية، ووافقه جماعة منهم المحقق النائيني (ره). والانصاف
أنه لا يتعقل معنى لجعل الماهيات تشريعا، فإنها غير قابلة للجعل التشريعي. وذلك،
لان معنى جعل الماهية على ما ذكروه هو تصور أمور متعددة مجتمعة ومنضما بعضها مع بعض،
ثم الامر بها بعنوان أنها شئ واحد. ومرجع هذا المعنى إلى شيئين: (الأول)
تصور الأمور المتعددة كالتكبير والقيام والقراءة مثلا بتصور واحد. (الثاني) الامر
بهذه الأمور المتعددة، ولا يصلح شئ منهما لان يكون جعلا للماهية. (أما الأول)
فهو عبارة عن ايجاد الماهيات المتعددة في الذهن، فان الوجود الذهني للأشياء هو عين
تصورها لاجعل الماهيات تشريعا، فيكون تصورها جعلا تكوينيا لها في الذهن بتبع
ايجادها فيه. كما أن الجعل التكويني الخارجي لماهية إنما يكون بتبع ايجادها في الخارج.
والفرق بين الوجود الذهني والخارجي أن وجود الأشياء في الخارج متمايز ومنحاز
بعضها عن بعض، بخلاف وجودها الذهني، فإنه يمكن تصورها في الذهن بتصور
واحد بلا امتياز لبعضها عن بعض. و (أما الثاني) فهو عبارة عن التكليف
87

فهو المجعول تشريعا دون الماهية. فتحصل أن المجعول الشرعي منحصر في الأحكام التكليفية
والوضعية.
ثم إن الحكم التكليفي قد يكون مجعولا بنحو القضية الحقيقية والكبرى الكلية.
كقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت... " وقد يكون مجعولا بنحو القضية
الشخصية. كما في أمر الرسول صلى الله عليه وآله الشيخين بالخروج مع جيش أسامة.
وكذا الحكم الوضعي تارة يكون مجعولا بنحو القضية الحقيقية كما في قوله تعالى:
" أحل الله البيع... " بناء على كون المراد بحليته الحلية الوضعية. وكما في القضاة
العامة المجعولة بنحو القضية الحقيقية المستفادة من قوله (ع): " انظروا إلى رجل
قد نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا... إلى قوله (ع): فاني قد جعلته
حاكما " وأخرى يكون مجعولا بنحو القضية الشخصية. كما في نصب الإمام عليه السلام
شخصا معينا قاضيا في بلدة معينة. وبالجملة، في كل مورد حكم فيه الرسول بما هو
رسول أو الامام بما هو إمام. فهو حكم شرعي يجب امتثاله، وان كان الحق عندنا
وجوب إطاعة الرسول أو الامام حتى فيما إذا حكم بما هو هو لا بما هو رسول
أو بما هو إمام.
إذا عرفت ما ذكرناه من الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية وأقسامهما، تعلم
صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية أيضا.
أما الحكم الوضعي المجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية، فأمره واضح،
لكونه كالحكم التكليفي من جميع الجهات، فان قلنا بجريان الاستصحاب في الاحكام
الكلية التكليفية، نقول به في الأحكام الوضعية أيضا، سواء كان الشك من جهة
احتمال النسخ أو من جهة احتمال الرافع، وإن قلنا باختصاص الاستصحاب بالشبهات
الموضوعية، نقول به في الأحكام الوضعية،
88

وأما الحكم الوضعي المجعول بالتبع كالشرطية والسببية والمانعية، فجريان
الاستصحاب فيه وإن كان لا مانع منه من حيث المقتضي وشمول الدليل من قوله (ع):
" لا تنقض... " إلا أنه لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه، بل يجري
الاستصحاب في منشأ انتزاعه. فإذا شككنا في بقاء شرطية الاستقبال للصلاة مثلا،
لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في نفس الشرطية، بأن يقال: الشرطية
كانت متيقنة والآن كما كانت، لجريان الاستصحاب في منشأ انتزاعها، وهو كون
الامر بالصلاة مقيدا بالاستقبال، فنقول: الامر بالصلاة كان مقيدا بالاستقبال
والآن كما كان، فيحكم بكون الاستقبال شرطا ظاهريا للصلاة للاستصحاب،
فان الشرطية الواقعية منتزعة من الامر الواقعي بالمقيد، والشرطية الظاهرية منتزعة
من الامر الظاهري بالمقيد.
فتحصل أن التفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعية في جريان الاستصحاب
مما لاوجه له. هذا تمام الكلام في حجية الاستصحاب وبعض التفصيلات المهمة،
وأعرضنا عن ذكر أكثر التفصيلات لعدم أهميتها، ثم يقع الكلام في التنبيه على أمور:
(التنبيه الأول) - أنه لافرق في جران الاستصحاب بين أن يكون المتيقن سابقا
والمشكوك فيه فعليا، كما إذا علمنا بعدالة زيد سابقا وشككنا في بقائها فعلا، أو يكون
المتيقن فعليا والمشكوك فيه استقباليا، كما إذا علمنا بعدالة زيد الآن، وشككنا
في بقائها إلي اليوم الآتي مثلا، ويسمى بالاستصحاب الاستقبالي، ومورد بعض
أدلة الاستصحاب وإن كان هو القسم الأول بالخصوص، كما في قوله (ع):
"... لأنك كنت على يقين من طهارتك... " إلا أن عموم التعليل في بعضها
يقتضي عدم الفرق بين القسمين، إذ قوله (ع): " إن اليقين لا ينقض بالشك "
يدل على أن ملاك الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بالشك، بلا فرق بين كون
89

المتيقن سابقا والمشكوك فيه فعليا، وكون المتيقن فعليا والمشكوك فيه استقباليا. نعم
لابد في جريان الاستصحاب الاستقبالي من الثمرة الفعلية، ففي مثال العلم بعدالة زيد
الآن مع الشك في بقائها إلى اليوم الآتي لا مجال لجريان الاستصحاب، لعدم ترتب
ثمرة فعلية على عدالته في اليوم الآتي مع عدالته الآن يقينا، فجريان الاستصحاب
الاستقبالي مختص بموارد الثمرة الفعلية.
ومن جملة هذه الموارد مسألة جواز البدار لذوي الاعذار، فمن كان عاجزا
عن بعض الاجزاء أو الشرائط في أول الوقت مع العلم ببقاء عجزه إلى آخر الوقت،
يجوز له البدار بلا إشكال، لأنه مأمور بالعمل الفاقد، ومخير عقلا بين الافراد
الطولية والعرضية لهذا العمل الفاقد، كما كان مخيرا بين الافراد الطولية والعرضية للعمل
الواجد في صورة عدم العجز، ولو كان عالما بزوال عذره إلى آخر الوقت، لا يجوز
له البدار بل يجب عليه الانتظار، إذ ليس مأمورا باتيان العمل في خصوص أول الوقت
حتى ينتقل إلى البدل فيه، بل هو مأمور بطبيعي العمل، فليس له الانتقال إلى البدل إلا بعد
تعذر جميع أفراد المبدل منه، أما مع الشك في بقاء عذره لا يجوز له البدار لعدم العلم
بكون البدل مأمورا به في هذا الوقت، إلا أن استصحاب بقاء العذر يكون بمنزلة
العلم ببقائه بالتعبد الشرعي، فيجوز له البدار، فان لم يظهر الخلاف إلى آخر الوقت،
فليس عليه شئ، وإن انكشف الخلاف وزال عذره قبل خروج الوقت، فالاجتزاء
بالبدل وعدمه مبني على القول بالاجزاء في الامر الظاهري، فان قلنا به فلا تجب عليه
الإعادة، وإن قلنا بعدمه كما هو التحقيق فتجب عليه الإعادة. هذا في غير التيمم
من الابدال الاضطرارية. وأما التيمم، فقد ورد في بعض الروايات ما يدل باطلاقه
على جواز البدر، كما في صحيحة الحلبي أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
إذا أجنب ولم يجد الماء قال (ع): " يتيمم بالصعيد، فإذا وجد الماء فليغتسل
90

ولا يعيد الصلاة " ونحوها صحيحة أخرى للحلبي، ولكن بعض الروايات نص
في عدم جواز البدار كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته
يقول (ع): " إذا لم تجد ماء وأردت التيمم، فأخر التيمم إلى آخر الوقت،
فان فاتك الماء لم تفتك الأرض " وحيث أن مورد الثانية هو الشك في زوال العذر،
إذ عدم جواز البدل إنما هو مع رجاء زوال العذر لامع العلم ببقائه. والرواية الدالة
على جواز البدار مطلقة شاملة لصورتي اليأس والرجاء، فيتعين حملها على صورة اليأس.
والحكم بعدم جواز البدر مع رجاء زوال العذر، إذ مقتضى الجمع بين المطلق والمقيد
حمل المطلق على المقيد، فتكون النتيجة عدم جواز البدار إلى التيمم مع الشك في زوال
العذر إلى آخر الوقت. وأفتى السيد (ره) في العروة عكس ما ذكرناه من التفصيل
بين التيمم وغيره، فقال بجواز البدل في التيمم دون غيره من الابدال الاضطرارية.
ولم يظهر لنا وجهه.
(التنبيه الثاني) - لا ينبغي الاشكال في أن مقتضى أدلة الاستصحاب هو
اعتبار اليقين والشك الفعلي، فان الأدلة المتكلفة لبيان الاحكام الواقعية أو الظاهرية
واردة بنحو القضية الحقيقية التي يحكم فيها على تقدير وجود الموضوع، لو دل دليل
على أن الخمر حرام مفاده أن الحرمة ثابتة للخمر الفعلي، ولا يدل على حرمة شئ
لا يكون خمرا بالفعل وإن كان إذا غلا يكون خمرا. وكذا لو دل دليل على وجوب
تقليد العالم مثلا، فمعناه وجوب تقليد العالم بالفعل لا تقليد من يكون له استعداد العلم
بحيث لو تعلم يصير عالما، كما هو واضح، فلابد في جريان الاستصحاب من اليقين
والشك الفعلي، إذ لو أجري الاستصحاب مع الشك التقديري لكان جاريا مع عدم
الشك، وهو خلف، لكون موضوعه اليقين والشك، وفرع الشيخ (ره)
على اعتبار اليقين والشك الفعلي في جريان الاستصحاب فرعين، وتبعه
91

صاحب الكفاية (ره):
(الفرع الأول) - أنه لو كان أحد محدثا فغفل وصلى ثم شك في أنه
تطهر قبل الصلاة أم لا، فيجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الأعمال الآتية، وأما
بالنسبة إلى الصلاة التي أتى بها فلا يجري استصحاب الحدث، لأنه كان غافلا قبل
الصلاة ولم يكن له الشك الفعلي حتى تكون صلاته واقعة مع الحدث الاستصحابي.
وبعد الصلاة وإن كان الشك موجودا، إلا أن قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب
أو مخصصة له، على ما يأتي في أواخر التنبيهات انشاء الله تعالى، فيحكم بعدم
وجوب الإعادة عليه:
(الفرع الثاني) - أنه لو التفت قبل الصلاة ثم غفل وصلى فتكون صلاته
باطلة، لتحقق الشك الفعلي قبل الصلاة، فقد وقعت مع الحدث الاستصحابي.
وفي كلا الفرعين نظر:
أما الفرع الأول، فلان قاعدة الفراغ لا تخلو من أمرين: فاما أن تكون
من الأصول التعبدية الشرعية، وإما أن تكون من الامارات العقلائية كما هو الظاهر،
لان ترك الجزء أو الشرط عمدا لا يتصور بالنسبة إلى من هو في مقام الامتثال،
فان تركا لا يستند تركهما إلى إلى الغفلة والنسيان. وهو خلاف الأصل، فان مقتضى
طبيعة الانسان هو الذكر في حال العمل، لا السهو والنسيان كما في الأمور العادية،
فالفراغ عن العمل امارة كاشفة نوعا عن عدم وقوع الغفلة والسهو. ويؤيد هذا المعنى
قوله (ع): " هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " وكذا قوله (ع):
في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في الشك في عدد ركعات الصلاة بعد الفراغ:
" وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك ".
فعلى القول بكون قاعدة الفراغ امارة نوعية على عدم وقوع الغفلة والسهو،
92

لا مجال للاخذ بها مع العلم بالغفلة كما هو المفروض في المقام، فعدم جريان الاستصحاب
في حال الغفلة مسلم، لعدم الشك الفعلي، إلا أنه لا مانع من جريانه بعد الصلاة حتى
بالنسبة إلى الصلاة التي اتى بها، لاختصاص قاعدة الفراغ بصورة عدم العلم بالغفلة،
فلا تجري في المقام حتى تكون حاكمة على الاستصحاب أو مخصصة له. ولما ذكرنا
من اختصاص قاعدة الفراغ بموارد عدم العلم بالغفلة، لا تجري فيما لو شك في صحة
العمل بعد الفراغ عنه، مع العلم بكيفية وقوع العمل والشك في انطباقه على الواقع:
كما إذا شك بعد الوضوء في أنه توضأ بالماء أو بمائع آخر مع علمه بأنه توضأ بهذا المائع
الموجود، لكنه لا يدري أنه ماء أو مائع آخر، فلا مجال للحكم بصحة الوضوء،
لقاعدة الفراغ، لعدم كون احتمال البطلان مستندا إلى الغفلة بل إلى عدم المصادفة
الاتفاقية للماء.
وأما على القول بكون قاعدة الفراغ من الأصول التعبدية الشرعية وعدم
اختصاصها بموارد احتمال الغفلة لاطلاق بعض النصوص الدالة على أن ما مضى فأمضه
كما هو، فتكون قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب، ولو قلنا بعدم اعتبار الشك
الفعلي في الاستصحاب، إذ لا اختصاص لحكومة القاعدة على الاستصحاب الجاري
بعد الصلاة، بل تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري قبلها أيضا.
وأما الفرع الثاني، ففيه أن بطلان الصلاة في الفرض مسلم، إلا أنه ليس
مستندا إلى جريان الاستصحاب قبل الصلاة، بل إلى عدم جريان قاعدة الفراغ في نفسها
لاختصاصها بما إذا حدث الشك بعد الفراغ، وهذا الشك الموجود بعد الفراغ كان
قبل الصلاة، فان هذا الشك متحد عرفا مع الشك الذي كان قبل الصلاة، وان كان
غيره بالدقة العقلية، ومع قطع النظر عما ذكرناه فالاستصحاب الجاري قبل الصلاة
لا يقتضي البطلان، لأنه بعد الالتفات وتحقق الالتفات وتحقق الشك عرضت له الغفلة ثانيا على الفرض،
93

وبمجرد عروض الغفلة لا يجري الاستصحاب، لأنه كما يعتبر في الاستصحاب اليقين
والشك حدوثا، كذا يعتبران بقاء، فما دام شاكا يكون محدثا بالحدث الاستصحابي،
وبمجرد طرو الغفلة يسقط الاستصحاب، فلا يكون محدثا بالحدث الاستصحابي،
والمفروض أنه بعد الشك غفل ودخل في الصلاة. فظهر بما ذكرناه ما في الكفاية
من تعليل البطلان بأنه دخل في الصلاة محدثا بالحدث الاستصحابي، فإنه لا استصحاب
حين الدخول في الصلاة لغفلته، فينتفي الاستصحاب بانتفاء موضوعه وهو
الشك الفعلي.
نعم لو عرض له شك آخر بعد الصلاة يمكن القول بصحة صلاته لقاعدة
الفراغ، كما لو شك في المثال المذكور بعد الصلاة في أنه هل تطهر بعد الشك في الطهارة
قبل الصلاة أم لا؟ بأن كان محدثا والتفت فشك في الطهارة قبل الصلاة، ثم غفل
وصلى، وبعد الفراغ شك في أنه هل تطهر بعد الشك في الطهارة قبل الصلاة أم لا؟
فيحكم بصحة صلاته، لقاعدة الفراغ، لكون الشك الحادث بعد الصلاة غير الشك
قبلها، فيكون هذا الشك الحادث بعد الفراغ موردا لقاعدة الفراغ، ولا يكون
الحدث الاستصحابي قبل الصلاة أولى من الحدث اليقيني قبلها، فلو كان محدثا قبل
الصلاة يقينا فغفل وصلى وشك بعد الصلاة في أنه توضأ بعد الحدث المتيقن أم لا، يحكم
بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، والحكم بصحة الصلاة في المقام أولى، لعدم كونه متيقنا
بالحدث، بل محكوم به للاستصحاب قبل الصلاة.
فتحصل مما ذكرناه أن اعتبار اليقين والشك الفعلي وإن كان مسلما، إلا أنه
لا يتفرع عليه الفرعان المذكوران، بل الحكم بالصحة أو البطلان في المثالين تابع
لجريان قاعدة الفراغ وعدمه، ففي الفرع الأول لو قلنا يكون القاعدة من الامارات
وعدم جريانها في المقام لاختصاصها بموارد احتمال الغفلة، يحكم ببطلان الصلاة. ولو لم
94

نقل بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة لعدم الشك الفعلي، فان استصحاب الحدث
الجاري بعد الصلاة كاف في الحكم ببطلانها، ولو قلنا بجريان قاعدة الفراغ، يحكم
بصحة الصلاة، ولو قلنا بجريان استصحاب الحدث قبل الصلاة، لعدم اعتبار الشك
الفعلي، لكونه محكوما بالقاعدة. وفى الفرع الثاني إن كانت قاعدة الفراغ جارية،
كما إذا كان الشك الحادث بعد الفراغ غير الشك الذي كان قبل الصلاة، كانت
الصلاة صحيحة حتى مع جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة. ولو لم تكن القاعدة
جارية، كما إذا كان الشك الحادث بعد الصلاة هو الشك الذي كان قبلها، كانت
الصلاة باطلة ولو لم يكن الاستصحاب قبل الصلاة جاريا، لاعتبار الشك حدوثا وبقاء،
فالحكم بالصحة دائر مدار جريان قاعدة الفراغ في كلا الفرعين.
(التنبيه الثالث) - إذا علمنا وجدانا بحدوث شئ ثم شككنا في بقائه،
فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب، وأما إذا شك في بقاء شئ على تقدير
حدوثه ولم يحرز حدوثه بالوجدان، كما إذا قامت الامارة على حدوث شئ ثم شك
في بقائه على تقدير حدوثه، ففي جريان الاستصحاب اشكال، لعدم اليقين بالحدوث.
وهو واضح، بل لعدم الشك في البقاء أيضا، لأن الشك المأخوذ في موضوع
الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن، لا مطلق الشك، وليس في المقام شك
في بقاء المتيقن، بل الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فلا يجري الاستصحاب،
لانتفاء كل من اليقين والشك المأخوذين في موضوعه، ولا اختصاص لهذا الاشكال
بطريقية الامارات، بل يجري على بعض صور الموضوعية أيضا.
(توضيحه): أنه بناء على الطريقية لا يقين بالحكم، لاحتمال عدم
مصادفة الامارة للواقع، بل ولا شك في البقاء على ذكرناه، فلا مجال لجريان
الاستصحاب. وأما بناء على الموضوعية على ما هو المشهور بينهم من أن ظنية الطريق
95

لا تنافي قطعية الحكم، فموضوعية الامارات وسببيتها تتصور على وجهين:
(الوجه الأول) - أن يكون قيام الامارة على وجوب شئ مثلا موجبا
لحدوث مصلحة في ذات الفعل، بأن يكون قيام الامارة من قبيل الواسطة في الثبوت
لعروض المصلحة الملزمة في ذات الفعل، ولا اشكال في جريان الاستصحاب على هذا
المبنى، إذ بعد قيام الامارة يكون الوجوب متيقنا، فإذا شك في بقائه لا مانع
من جريان الاستصحاب بالنسبة إلى هذا الوجوب الحادث لأجل قيام الامارة، وإن كان
الوجوب الواقعي مشكوكا من أول الامر.
(الوجه الثاني) - أن يكون قيام الامارة على وجوب شئ مثلا موجبا
لعروض المصلحة للفعل المقيد بكون وجوبه مؤدى الامارة، بأن يكون قيام الامارة
من قبيل الواسطة في العروض للمصلحة، ولا يجري الاستصحاب على هذا المبنى،
إذ الوجوب الواقعي لم يكن متيقنا حتى نجري الاستصحاب فيه، والوجوب الحادث
لقيام الامارة معلوم العدم، لأنه كان مقيدا بقيام الامارة، والمفروض عدم دلالة
الامارة على الحكم في الزمان الثاني، وإلا لم يقع الشك فيه، فلا مجال لجريان
الاستصحاب، بلا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية، والأولى - كما إذا أفتى
مفت بوجوب شئ في زمان، مع تردده في الزمان الثاني، فلا يجري استصحاب
الوجوب في الزمان الثاني، لكون الوجوب الواقعي مشكوكا من أول الامر،
والوجوب الحادث لفتوى المفتي كان مقيدا بالفتوى، والمفروض كونه مترددا في الزمان
الثاني فهو معلوم الانتفاء. والثانية كما إذا قامت البينة على نجاسة ماء في الأمس مثلا،
ثم شككنا في بقاء نجاسته في اليوم، فلا مجال لجريان الاستصحاب، إذ النجاسة
الواقعية مشكوكة من أول الامر، والنجاسة الحادثة لقيام الامارة مقيدة بحال قيام
الامارة. والمفروض قيام البينة على النجاسة في الأمس دون اليوم، فالنجاسة الحادثة
96

منتفية يقينا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الاشكال.
وقد أجاب عنه صاحب الكفاية (ره) بأن اعتبار اليقين إنما هو لأجل
التعبد بالبقاء لا بالحدوث، فمفاد أدلة الاستصحاب هو جعل الملازمة بين الحدوث
والبقاء، فيكفي في جريان الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الثبوت، ولا يلزم
الشك الفعلي في البقاء، فان صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها. ثم استشكل
على نفسه بأنه اليقين جعل موضوع الاستصحاب في لسان الأدلة، فكيف يصح
جريانه مع عدم اليقين؟ فأجاب بأن اليقين المأخوذ في أدلة الاستصحاب ليس موضوعا
لاستصحاب، بل طريق إلى الثبوت، فيكون التعبد بالبقاء مبنيا على الثبوت
لا على اليقين بالثبوت، وذكر اليقين في أدلة الاستصحاب لمجرد كونه طريقا إلى الثبوت،
ففيما إذا قامت الامارة على الثبوت يتعبد بالثبوت للامارة، وبالبقاء لأدلة الاستصحاب
الدالة على الملازمة بين الثبوت والبقاء.
وفيه (أولا) - أن ظاهر أدلة الاستصحاب كون اليقين موضوعا له
كالشك، ولا تنافي بين كونه موضعا للاستصحاب وطريقا إلى متعلقه. ولا اشكال
في أن اليقين في مورد الاستصحاب طريقي بالنسبة إلى متعلقه، لكنه موضوعي بالنسبة
إلى الاستصحاب وعدم جواز نقض اليقين بالشك، لما ذكرنا سابقا من أن قوله (ع):
" لا ينبغي نقض اليقين بالشك " راجع إلى القضية الارتكازية، وهي أن الامر
المبرم لا يرفع اليد عنه لأمر غير مبرم. والمراد من الامر المبرم في المقام هو اليقين،
ومن غير المبرم هو الشك، فلابد من وجود اليقين والشك.
و (ثانيا) - أن الملازمة المدعاة بين الثبوت والبقاء في كلامه ان كان المراد
منها الملازمة الواقعية بأن يكون مفاد أدلة الاستصحاب هو الاخبار عن الملازمة الواقعية
بين الحدوث والبقاء فهو - مع كونه مخالفا للواقع، لعدم الملازمة بين الحدوث والبقاء
97

في جميع الأشياء لكونها مختلفة في البقاء غاية الاختلاف فبعضها آني البقاء وبعضها يبقى
إلى ساعة وبعضها إلى يوم وهكذا - مستلزم لكون أدلة الاستصحاب من الامارات
الدالة على الملازمة الواقفية بين بين الحدوث والبقاء، وبعد إثبات هذه الملازمة، تكون
الامارة الدالة على الثبوت دالة على البقاء، إذ الدليل على الملزوم دليل على اللازم، والاخبار
عن الملزوم اخبار عن اللازم وان كان المخبر غير ملتفت إلى الملازمة، كما سيجئ
في بحث الأصل المثبت انشاء الله تعالى، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا به للامارة لا للأصل العملي
المجعول في ظرف الشك، فينقلب الاستصحاب امارة بعد كونه من الأصول العملية،
وتكون الملازمة في المقام نظير الملازمة الواقعية الثابتة بين قصر الصلاة وإفطار الصوم
بمقتضى الروايات الدالة على أنه كلما أفطرت قصرت وكلما قصرت أفطرت، فبعد
ثبوت هذه الملازمة يكون الدليل على وجوب القصر دالا على وجوب الافطار وبالعكس،
فكذا في المقام بعد ثبوت الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء بمقتضى أدلة الاستصحاب
يكون نفس الدليل على الحدوث دليلا على البقاء، فيكون التعبد بالبقاء تعبدا به للامارة
لا للأصل العملي. وإن كان المراد من الملازمة هي الملازمة الظاهرية بين الحدوث
والبقاء، فلازمه الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز وبقائه، ولا يمكن الالتزام
بها، إذ في موارد العلم الاجمالي بالحرمة مثلا يكون التكليف منجزا، ثم لو قامت بينة
على حرمة بعض الأطراف بالخصوص ينحل العلم الاجمالي، وبانحلاله يرتفع التنجز، فإنه تابع
للمنجز ومقدر بقدره، فلا ملازمة بين حدوث التنجيز وبقائه ولا يلتزم بها صاحب
الكفاية (ره) أيضا، فإنه وغيره أجابوا - عن استدلال الأخباريين لوجوب
الاحتياط بالعلم الاجمالي بواجبات ومحرمات كثيرة - بأن العلم الاجمالي قد انحل بالظفر
بالمقدار المعلوم بالاجمال من الواجبات والمحرمات، وبعد انحلاله تنقلب الشبهة المقرونة بالعلم
الاجمالي إلى الشبهة البدوية، فيرجع إلى البراءة وهذا الجواب ينادي بعدم الملازمة
98

بين حدوث التنجز وبقائه كما ترى.
فالانصاف أنه - على القول بأن معنى جعل حجية الامارات ليس إلا التنجيز في صورة الإصابة والتعذير مع المخالفة كما عليه صاحب الكفاية وجماعة من الأصحاب -
لا دافع لهذا الاشكال.
نعم يمكن الجواب بمسلك آخر، وهو أن معنى جعل حجية الامارات
هو جعل الامارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار، فيكون لليقين حينئذ فردان:
اليقين الوجداني، واليقين الجعلي الاعتباري، فكما أن لليقين الوجداني اثرين:
الأول - آثار الواقعية للمتيقن، والثاني - آثار نفس لليقين إذا كان له اثر، كما إذا كان
موضوعا لحكم من الاحكام، فكذا اليقين الجعلي يكون له هذان الاثران، فكما
لو علمنا بحكم من الاحكام، ثم شككنا في بقائه نرجع إلى الاستصحاب، كذلك
إذا قلمت الامارة على حكم ثم شككنا في بقائه لا مانع من جريان الاستصحاب.
واليقين المذكور في أدلة الاستصحاب وإن كان موضوعا للاستصحاب، إلا أنه مأخوذ
في الموضوع بما هو كاشف لا بما هو صفة خاصة. وقد ذكرنا في مبحث للقطع
أن الامارة تقوم مقام القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع بما هو كاشف،
وذكرنا أن كل مورد أخذ فيه القطع موضوعا ظاهره أنه موضوع بما هو كاشف،
لا بما هو صفة خاصة، لمناسبة الحكم والموضوع بحكم العرف، فإنه
إذا قيل: إن تيقنت بنجاسة ثوبك بعد الصلاة تجب عليك الإعادة، فظاهره أن اليقين
بما هو كاشف عن النجاسة قد اخذ في موضوع وجوب الإعادة، لا بما هو صفة خاصة،
فإذا كان اليقين مأخوذا في موضوع الاستصحاب بما هو كاشف، فلا مانع من جريان
الاستصحاب في كل مورد ثبت الحكم فيه بكاشف ثم شك في بقائه، والذي يدلنا
على هذا المعنى مع وضوحه قوله (ع): في بضع أدلة الاستصحاب: " بل تنقضه
99

بيقين آخر " فان المراد من هذا اليقين ليس صفة اليقين يقينا، إذا لا اشكال في نقض
اليقين بالامارة، كما إذا كان متيقنا بطهارة شئ فقامت البينة على نجاسته، فلا اشكال
في وجوب الاجتناب عنه، وكذا إذا كان متيقنا بالنجاسة فقامت البينة على الطهارة
لا اشكال في عدم وجوب الاجتناب، فإذا صح الالتزام بقيام الامارة مقام اليقين
الوجداني في قوله (ع): " بل تنقضه بيقين آخر " لصح الالتزام بقيامها مقامه
في قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك ". والسر في الموضعين هو ما ذكرناه
من كون الامارة يقينا بالجعل الشرعي. هذا كله في الامارات.
وأما الأصول فتحقيق الحال في جريان الاستصحاب في مواردها، أنها
على قسمين:
(القسم الأول) - ما يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان
الأول متكفلا له في الان الثاني والثالث إلى زمان العلم بالخلاف، ففي مثل ذلك لا معنى
لجريان الاستصحاب، مثاله قاعدة الطهارة، فإذا شككنا في مائع أنه بول أو ماء،
وحكمنا بطهارته لقاعدة الطهارة، ثم شككنا في بقاء طهارته لاحتمال ملاقاته النجاسة،
فإنه لا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ، إذ قاعدة الطهارة كما تدل على طهارته في الزمان
الأول، تدل على طهارته في الزمان الثاني والثالث إلى زمان العلم بالنجاسة. وبعبارة
أخرى إن أردنا جريان الاستصحاب في الطهارة الواقعية، فلم يكن لنا يقين بها،
وإن أردنا جريانه في الطهارة الظاهرية، فلا يكون لنا شك في ارتفاعها حتى نحتاج
إلى الاستصحاب، بل هي باقية يقينا. ومن هذا القبيل قاعدة الحل بل الاستصحاب
أيضا، فإذا كان ثوب معلوم الطهارة ثم شككنا في ملاقاته البول مثلا فاستصحبنا طهارته،
ثم شككنا في ملاقاته الدم مثلا، فلا معنى لاستصحاب الطهارة بعد تحقق هذا الشك
الثاني، إذ نفس الاستصحاب الأول متكفل لبيان طهارته إلى زمان العلم بالنجاسة.
100

هذا إذا قلنا في أمثال المقام بجريان الاستصحاب في الحكم وهو الطهارة. وأما إذا قلنا
بجريان الاستصحاب في الموضوع دون الحكم أي عدم ملاقاة النجاسة، لكون الشك
في الطهارة مسببا عن الشك في الملاقاة، فلا اشكال في جريان الاستصحاب بعد الشك
الثاني في المثال، فبالاستصحاب الأول نحكم بعدم ملاقاة البول وتترتب عليه الطهارة
من هذه الجهة، وبعد الشك في ملاقاة الدم نجري استصحاب عدم ملاقاة الدم ونحكم
بالطهارة من هذه الحيثية، وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام،
إذ الكلام في جريان الاستصحاب في موارد الأصول العملية، والاستصحاب المذكور
بما أنه مسبوق بالعلم الوجداني فهو استصحاب في مورد العلم الوجداني لا في مورد الأصل.
(القسم الثاني) - أن لا يكون الأصل متكفلا لبيان الحكم في الزمان
الثاني والثالث، كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته للاستصحاب أو لقاعدة
الطهارة ثم غسلنا به ثوبا متنجسا، فلو لا جريان الاستصحاب أو القاعدة في الماء،
لكان مقتضى الاستصحاب في الثوب هو النجاسة، لكن الحكم بطهارة الثوب
من آثار طهارة الماء الثابتة بالاستصحاب أو القاعدة، فيكون الأصل الجاري في الماء
حاكما على استصحاب النجاسة في الثوب لكونه سببيا، ويكون الأصل الجاري في الماء
متكفلا لحدوث الطهارة في الثوب فقط ولا يكون متكفلا لطهارته في الزمان الثاني
والثالث، فبعد غسل الثوب بالماء المذكور لو شككنا في ملاقاته مع النجاسة لا مانع
من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب أو في عدم ملاقاته النجاسة.
(التنبيه الرابع) - المستصحب قد يكون جزئيا وقد يكون كليا، وجريان
الاستصحاب في الكلي لا يتوقف على القول بوجود الكلي الطبيعي في الخارج،
فان البحث عن وجود الكلي الطبيعي وعدمه بحث فلسفي، والأحكام الشرعية مبتنية
على المفاهيم العرفية. ولا اشكال في وجود الكلي في الخارج بنظر العرف.
101

ثم إنه لا فرق في جريان الاستصحاب في الكلي بين أن يكون الكلي من الكليات
المتأصلة أو من الكليات الاعتبارية ومنها الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية
على ما ذكرناه من أنها من الأمور الاعتبارية، فلا مانع من استصحاب الكلي الجامع
بين الوجوب والندب مثلا، أو من الكليات الانتزاعية كالعالم مثلا بناء على ما ذكرنا
في بحث المشتق، من أن مفاهيم المشتقات من الأمور الانتزاعية، فان الموجود
في الخارج هو ذات زيد مثلا وعامه، وأما عنوان العالم فهو منتزع من اتصاف الذات
بالمبدأ وانتسابه إليه، ولا وجود له غير الوجودين. ثم إن الأثر الشرعي قد يكون
للكلي بلا دخل للخصوصية فيه كحرمة مس كتابة القرآن، وعدم جواز الدخول
في الصلاة بالنسبة إلى الحدث الأكبر أو الأصغر، وقد يكون الأثر للخصوصية
لا للجامع، كجرمة المكث في المسجد والعبور عن المسجدين، فإنهما من آثار
خصوص الجنابة لا مطلق الحدث، ففيما كان الأثر للجامع لا معنى لاستصحاب
الخصوصية، وفيما كان الأثر للخصوصية لا يصح استصحاب الكلي، بل جريان
الاستصحاب تابع للأثر، فإذا كان الشخص جنبا ثم شك في ارتفاعها وهو يريد الدخول
في الصلاة أو مس كتابة القرآن، لا يصح له استصحاب الجنابة، لعدم ترتب الأثر
على خصوصيتها، بل يجري استصحاب الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر.
وإن أراد الدخول في المسجد، فلا معنى لاستصحاب الحدث لعدم ترتب حرمته
على الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر، بل لابد من استصحاب خصوص الجنابة،
فبالنسبة إلى الأثر الأول يجري الاستصحاب في الكلي، وبالنسبة إلى الأثر الثاني يجري
الاستصحاب في الجزئي، فتحصل مما ذكرنا أنا لسنا مخيرين في اجراء الاستصحاب
في الكلي والجزئي على ما يظهر من عبارة الكفاية، بل جريان الاستصحاب تابع
للأثر على ما ذكرنا.
102

ثم إن أقسام استصحاب الكلي أربعة:
(القسم الأول) - ما إذا علمنا بتحقق الكلي في ضمن فرد معين، ثم
شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه، فلا محالة نشك في بقاء الكلي وارتفاعه أيضا،
فإذا كان الأثر للكلي، فيجري الاستصحاب فيه، مثاله المعروف ما إذا علمنا بوجود
زيد في الدار فنعلم بوجود الانسان فيها ثم شككنا في خروج زيد عنها فنشك في بقاء
الانسان فيها، فلا اشكال في جريان الاستصحاب في بقائه إذا كان له أثر.
(القسم الثاني) - ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فرد مردد بين متيقن
الارتفاع ومتيقن البقاء، كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار مع الشك في كونه زيدا
أو عمرا، مع العلم بأنه لو كان زيدا لخرج يقينا ولو كان عمرا فقد بقي يقينا، ومثاله
في الحكم الشرعي ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني فتوضأنا، فنعلم أنه
لو كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع، ولو كان هو الأكبر فقد بقي، وكذا
لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنه لو كان الحدث هو الأكبر فقد ارتفع، وإن كان هو
الأصغر فقد بقي، لعدم ارتفاعه بالغسل، فنجري الاستصحاب في الحدث الجامع
بين الأكبر والأصغر ونحكم بترتب أثره، كحرمة مس كتابة القرآن وعدم جواز
الدخول في الصلاة. وهذا هو القسم الثاني الذي ذكره الشيخ (ره) وتبعه جماعة
ممن تأخر عنه، والظاهر أن تخصيص هذا القسم - بأن يكون الفرد مرددا بين متيقن
الارتفاع ومتيقن البقاء - إنما هو لمجرد التمثيل، وإلا فيكفي في جريان الاستصحاب
مجرد احتمال البقاء، فلو كان الفرد مرددا بين متيقن الارتفاع ومحتمل البقاء لكان
الاستصحاب جاريا في الكلي، ويكون أيضا من القسم الثاني.
(القسم الثالث) - ما إذا علمنا بوجود الكلي في ضمن فرد معين وعلمنا
بارتفاع هذا الفرد لكن احتملنا وجود فرد آخر مقارن مع وجود الفرد الأول أو مقارن
103

مع ارتفاعه، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وعلمنا بخروجه عنها، لكن احتملنا
بقاء الانسان في الدار لاحتمال دخول عمرو فيها. ولو مقارنا مع خروجه عنها.
(القسم الرابع) - ما إذا علمنا بوجود فرد معين وعلمنا بارتفاع هذا الفرد،
ولكن علمنا بوجود فرد معنون بعنوان يحتمل انطباقه على الفرد الذي علمنا ارتفاعه،
ويحتمل انطباقه على فرد آخر، فلو كان العنوان المذكور منطبقا على الفرد المرتفع،
فقد ارتفع الكلي، وإن كان منطبقا على غيره فالكلي باق. وامتياز هذا القسم
عن القسم الأول ظاهر. وامتيازه عن القسم الثاني أنه في القسم الثاني يكون الفرد
مرددا بين متيقن الارتفاع ومتيقن البقاء أو محتمله على ما ذكرنا، بخلاف القسم الرابع،
فإنه ليس فيه الفرد مرددا بين فردين، بل الفرد معين، غاية الامر أنه يحتمل انطباق
عنوان آخر عليه. وامتيازه - عن القسم الثالث بعد اشتراكهما في احتمال تقارن
فرد آخر مع هذا الفرد المعين الذي علمنا ارتفاعه - أنه ليس في القسم الثالث علمان،
بل علم واحد متعلق بوجود فرد معين، غاية الامر نحتمل تقارن فرد آخر مع حدوثه
أو مع ارتفاعه، بخلاف القسم الرابع، فان المفروض فيه علمان: علم بوجود فرد
معين، وعلم بوجود ما يحتمل انطباقه على هذا الفرد وعلى غيره: مثاله ما إذا علمنا
بوجود زيد في الدار وعلمنا بوجود متكلم فيها، ثم علمنا بخروج زيد عنها، ولكن
احتملنا بقاء الانسان فيها لاحتمال أن يكون عنوان المتكلم منطبقا على فرد آخر: مثاله
في الأحكام الشرعية ما إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلا، واغتسلنا منها، ثم رأينا
المني في ثوبنا يوم الجمعة مثلا، فنعلم بكوننا جنبا حين خروج هذا المني، ولكن نحتمل
أن يكون هذا المني من الجنابة التي اغتسلنا منها، وأن يكون من غيرها، هذه هي
أقسام استصحاب الكلي.
(أما القسم الأول) فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيه كما تقدم.
104

و (أما القسم الثاني) فيجري فيه الاستصحاب أيضا، ففي مثال الحدث
المردد بين الأكبر والأصغر نجري الاستصحاب في الكلي ونحكم بعدم جواز الدخول
في الصلاة. وحرمة مس كتابة القرآن. وأما عدم جواز المكث في المسجد، فليس
أثرا لجامع الحدث، بل لخصوص الجنابة، ولا مجال لجريان الاستصحاب فيها لعدم
اليقين بها. نعم لا يجوز له المكث في المسجد، لأجل العلم الاجمالي بحرمته أو بوجوب
الوضوء للصلاة، وهو شئ آخر لا ربط له بمسألة الاستصحاب.
واستشكل بعضهم في جريان الاستصحاب في القسم الثاني بأن الاستصحاب فيه
وإن كان جاريا في نفسه لتمامية موضوعه من اليقين والشك، إلا أنه محكوم بأصل
سبني، فان الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، والأصل
عدمه، ففي المثال يكون الشك في بقاء الحدث مسببا عن الشك في حدوث الجنابة،
فتجري أصالة عدم حدوث الجنابة. وبانضمام هذا الأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع
الحدث، فان الحدث الأصغر مرتفع بالوجدان، والحدث الأكبر منفي بالأصل.
وأجيب عنه بوجوه:
(الأول) - ما في الكفاية من أن الشك في بقاء الكلي ليس مسببا عن الشك
في حدوث الفرد الطويل، بل مسبب عن الشك في كون الحادث طويلا أو قصيرا.
وبعبارة آخري الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في خصوصية الفرد الحادث،
وليس له حالة سابقة حتى يكون موردا للأصل، فتجري فيه أصالة عدم كونه طويلا،
فما هو مسبوق بالعدم وهو حدوث الفرد الطويل ليس الشك في بقاء الكلي مسببا عنه،
وما يكون الشك فيه مسببا عنه وهو كون الحادث طويلا ليس مسبوقا بالعدم، حتى يكون
موردا للأصل. وهذا الجواب مبني على عدم جريان الأصل في العدم الأزلي. وأما
إذا قلنا بجريانه كما هو الصحيح على ما ذكرنا في محله، فلا مانع من جريان أصالة عدم
105

كون الحادث طويلا، ولذا بنينا في الفقه على عدم جريان استصحاب الكلي،
للأصل السببي الحاكم عليه في موارد: (منها) - ما إذا شك في كون نجس بولا أو عرق
كافر مثلا، فتنجس به شئ، فغسل مرة واحدة، فلا محالة نشك في بقاء النجاسة
وارتفاعها على تقدير اعتبار التعدد في الغسل في طهارة المتنجس بالبول، إلا أنه مع ذلك
لا نقول بجريان الاستصحاب في كلي النجاسة ووجوب الغسل مرة ثانية، لأنه تجري
أصالة عدم كون الحادث بولا فنحكم بكفاية المرة، للعمومات الدالة على كفاية الغسل
مرة واحدة وخرج عنها البول بأدلة خاصة.
(الثاني) - ما ذكره أيضا في الكفاية: وهو أن بقاء الكلي عين بقاء
الفرد الطويل، فان الكلي عين الفرد لا أنه من لوازمه، فلا تكون هناك سببية ومسببية.
وفيه أن العينية لا تنفع، بل جريان الاستصحاب في الكلي على العينية أولى بالاشكال
منه على السببية.
(الثالث) - ما ذكره العلامة النائيني (ره) وهو أن الأصل السببي
معارض بمثله، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل معارض بأصالة عدم حدوث الفرد
القصير، وأصالة عدم كون الحادث طويلا معارض بأصالة عدم كون الحادث قصيرا،
وبعد سقوط الأصل السببي للمعارضة تصل النوبة إلى الأصل المسببي، وهو استصحاب
بقاء الكلي.
وفيه أن دوران الامر بين الفرد الطويل والقصير يتصور على وجهين:
(الوجه الأول) - أن يكون للفرد الطويل أثر مختص به وللفرد القصير
أيضا أثر مختص به، ولهما أثر مشترك بينهما كما في الرطوبة المرددة بين البول والمني،
فان الأثر المختص بالبول هو وجوب الوضوء وعدم كفاية الغسل للصلاة، والأثر
المختص بالمني هو وجوب الغسل وعدم كفاية الوضوء، وعدم جواز المكث في المسجد،
106

وعدم جواز العبور عن المسجدين، والأثر المشترك هو حرمة مس كتابة القرآن،
ففي مثل ذلك وإن كان ما ذكره من تعارض الأصول صحيحا، إلا أنه لا فائدة
في جريان الاستصحاب في الكلي في مورده، لوجود الجمع بين الوضوء والغسل
في المثال بمقتضى العلم الاجمالي، فان نفس العلم الاجمالي كاف في وجوب إحراز الواقع،
ولذا قلنا في دوران الامر بين المتبائنين بوجوب الاجتناب عن الجميع للعلم الاجمالي،
فهذا الاستصحاب مما لا يترتب عليه أثر.
(الوجه الثاني) - أن يكون لهما أثر مشترك ويكون للفرد الطويل أثر
مختص به، فيكون من قبيل دوران الامر بين الأقل والأكثر، كما في المثال الذي
ذكرناه من كون نجس مرددا بين البول وعرق الكافر، فان وجوب الغسل في المرة
الأولى أثر مشترك فيه، ووجوب الغسل مرة ثانية أثر لخصوص البول، ففي مثله
لو جرى الاستصحاب في الكلي وجب الغسل مرة ثانية، ولو لم يجر كفى الغسل مرة،
لكنه لا يجري لحكومة الأصل السببي عليه، وهو أصالة عدم حدوث البول أو أصالة
عدم كون الحادث بولا، ولا تعارضها أصالة عدم كون الحادث عرق كافر أو أصالة
عدم حدوثه، لعدم ترتب أثر عليها، إذا المفروض العلم بوجوب الغسل في المرة الأولى
على كل تقدير، فإذا لا يجري الأصل في القصير حتى يعارض جريان الأصل في الطويل.
وأما إثبات حدوث الفرد الطويل بأصالة عدم حدوث الفرد القصير، فهو متوقف
على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.
وملخص الاشكال على هذا الجواب أنه في القسم الأول، وإن كانت الأصول
السببية متعارضة متساقطة، إلا أنه لا أثر لجريان الاستصحاب في الكلي، لتنجز
التكليف بالعلم الاجمالي. وفي القسم الثاني يكون الأصل السببي حاكما على استصحاب
الكلي ولا يكون له معارض، لعدم جريان الأصل في الفرد القصير لعدم
107

ترتب الأثر عليه.
(الرابع) - ما ذكره أيضا في الكفاية وجعله ثالثا من الأجوبة، وهو
أن الشك في بقاء الكلي وإن سلم كونه مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل،
إلا أن مجرد السببية لا تكفي في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، بل الميزان
في الحكومة أن يكون ثبوت المشكوك الثاني أو انتفاؤه من الآثار الشرعية للأصل
السببي، ليكون الأصل السببي رافعا للشك المسببي بالتعبد الشرعي، فلا يجري
الأصل فيه، لانتفاء موضوعه وهو الشك بالتعبد الشرعي. و (الأول) وهو ما كان
ثبوت المشكوك الثاني من اللوازم الشرعية للأصل السببي، كما في استصحاب الطهارة
بالنسبة إلى قاعدة الطهارة، فان استصحاب الطهارة يرفع الشك في الطهارة ويثبتها شرعا،
فلا مجال لجريان قاعدة الطهارة، لانتفاء موضوعها وهو الشك بالتعبد الشرعي.
و (الثاني) وهو ما كان انتفاء المشكوك الثاني من الآثار الشرعية للأصل السببي كما
في تطهير ثوب متنجس بماء مستصحب الطهارة، فان طهارة الثوب المغسول به من الآثار
الشرعية لاستصحاب الطهارة فيه، فلا يبقى معه شك في نجاسة الثوب ليجري فيها
الاستصحاب، فإنها قد ارتفعت بالتعبد الشرعي. وهذا بخلاف المقام فان عدم بقاء
الكلي ليس من الآثار الشرعية لعدم حدوث الفرد الطويل، بل من لوازمه العقلية،
فلا حكومة لأصالة عدم حدوث الفرد الطويل على استصحاب الكلي.
وهذا هو الجواب الصحيح، فلا ينبغي الاشكال في جريان القسم الثاني
من استصحاب الكلي.
ثم لا يخفى أن ما ذكرنا من جريان الاستصحاب في الكلي إنما هو فيما إذا لم يكن
أصل يعين به الفرد، وإلا فلا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي، كما إذا كان أحد
محدثا بالحدث الأصغر، فخرجت منه رطوبة مرددة بين البول والمنى ثم توضأ فشك
108

في بقاء الحدث، فمقتضى استصحاب الكلي وإن كان بقاء الحدث، إلا أن الحدث
الأصغر كان متيقنا، وبعد خروج الرطوبة المرددة يشك في تبدله بالأكبر، فمقتضى
الاستصحاب بقاء الأصغر وعدم تبدله بالأكبر، فلا يجري الاستصحاب في الكلي، لتعين
الفرد بالتعبد الشرعي، فيكفي الوضوء. نعم من كان متطهرا ثم خرجت منه الرطوبة المرددة
لا يجوز له الاكتفاء بالوضوء فقط، بل يجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل فما ذكره صاحب
العروة من عدم كفاية الوضوء فقط محمول على هذه الصورة كما يظهر من مراجعة كلامه (ره).
ولا يتوقف ما ذكرنا - من تعين الأصغر بالأصل وعدم جريان الاستصحاب في الكلي -
على كون الحدث الأصغر والأكبر من قبيل المتضادين بحيث لا يمكن اجتماعهما، بل الفرد
يعين بالأصل على جميع الأقوال فيهما، فان الأقوال فيهما ثلاثة: (الأول) - كونهما
متضادين (الثاني) - كونهما شيئا واحدا وإنما الاختلاف بينهما في القوة والضعف،
فالأصغر مرتبة ضعيفة من الحدث، والأكبر مرتبة قوية منه، كما قيل في الفرق بين
الوجوب والاستحباب: ان الوجوب مرتبة قوية من الطلب والاستحباب مرتبة ضعيفة
منه (الثالث) - كونهما من قبيل المتخالفين بحيث يمكن اجتماعهما كالسواد
والحلاوة مثلا، فعلى الأول نقول حيث أن الأصغر كان متيقنا وشك في تبدله بالأكبر
فالأصل عدم تبدله به. وعلى الثاني نقول الأصل عدم حدوث المرتبة القوية بعد كون
المرتبة الضعيفة متيقنة. وعلى الثالث نقول الأصل عدم اجتماع الأكبر مع الأصغر،
فعلى جميع الأقوال يعين الفرد فلا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.
بقي الكلام في إشكال آخر على استصحاب الكلي منسوب إلى السيد الصدر (ره)
وهو المعروف بالشبهة العبائية، ومبني على القول بطهارة الملاقي لاحد أطراف الشبهة
المحصورة، وملخص هذا الاشكال: أنه لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد طرفي العباء ثم
غسلنا أحد الطرفين، فلا اشكال في أنه لا يحكم بنجاسة الملاقي لهذا الطرف المغسول،
109

للعلم بطهارته بعد الغسل، إما بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغسل، وكذا
لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر، لأن المفروض عدم نجاسة الملاقي لاحد أطراف
الشبهة المحصورة، ثم لو لاقى شئ مع الطرفين، فلابد من الحكم بعدم نجاسته أيضا،
لأنه لاقى طاهرا يقينيا واحد طرفي الشبهة، والمفروض أن ملاقاة شئ منهما لا توجب
النجاسة، مع أن مقتضى استصحاب الكلي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين،
فلابد من رفع اليد عن جريان الاستصحاب في الكلي، أو القول بنجاسة الملاقي لاحد
أطراف الشبهة المحصورة، لعدم امكان الجمع بينهما في المقام.
وقد أجاب عنه المحقق النائيني (ره) بجوابين في الدورتين:
(الجواب الأول) - أن الاستصحاب الجاري في مثل العباء ليس
من استصحاب الكلي في شئ، لان استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان الكلي
المتيقن مرددا بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردد
بين البق والفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام، فان التردد فيه في خصوصية محل
النجس مع العلم بخصوصية الفرد، والتردد في خصوصية المكان أو الزمان لا يوجب
كلية المتيقن، فليس الشك حينئذ في بقاء الكلي وارتفاعه حتى يجري الاستصحاب فيه،
بل الشك في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان. وذكر لتوضيح مراده
مثالين: (الأول) - ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، فانهدم الطرف الشرقي
منها فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حي، فحياة
زيد وان كانت مشكوكا فيها إلا أنه لا مجال معه لاستصحاب الكلي. والمقام من هذا
القبيل بعينه (الثاني) - ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلا، ثم
تلف أحد الدراهم، فلا معنى لاستصحاب الكلي بالنسبة إلى درهم زيد، فإنه جزئي
واشتبه بين التالف والباقي.
110

وهذا الجواب غير تام، فان الاشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري
في مسألة العباء باستصحاب الكلي، بل الاشكال إنما هو في أن جريان استصحاب
النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لاحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب
من قبيل استصحاب الكلي أو الجزئي، فكما أنه لا مانع من استصحاب حياة زيد
في المثال الأول، كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباء. وأما المثال
الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله، فان أصالة عدم تلف درهم زيد معارض بأصالة
عدم تلف درهم غيره، ولو فرض عدم الابتلاء بالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب
فيه، كما إذا اشتبه خشبة زيد مثلا بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصلية
فتلف أحدها، فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض.
و (الجواب الثاني) - أن الاستصحاب المدعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد
كان الناقصة، بأن يشار إلى طرف معين من العباء ويقال: إن هذا الطرف كان
نجسا وشك في بقائها، فالاستصحاب يقتضي نجاسته. وذلك، لان أحد طرفي العباء
مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أول الامر، وليس لنا يقين
بنجاسة طرف معين يشك في بقائها ليجري الاستصحاب فيها. نعم يمكن اجراؤه
في مفاد كان التامة بأن يقال إن النجاسة في العباء كانت موجودة وشك في ارتفاعها
فالآن كما كانت، إلا أنه لا تترتب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلا على القول
بالأصل المثبت، لان الحكم بنجاسة الملاقي يتوقف على نجاسة ما لاقاه وتحقق الملاقاة
خارجا. ومن الظاهر أن استصحاب وجود النجاسة في العباء لا يثبت ملاقاة النجس
إلا على القول بالأصل المثبت، ضرورة أن الملاقاة ليست من الآثار الشرعية لبقاء
النجاسة، بل من الآثار العقلية. وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباء. ونظير ذلك
ما ذكره شيخ (ره) في استصحاب الكرية فيما إذا غسلنا متنجسا بماء يشك في بقائه
111

على الكرية، من أنه إن أجري الاستصحاب في مفاد كان الناقصة: بأن يقال إن
هذا الماء كان كرا فالآن كما كان، فيحكم بطهارة المتنجس المغسول به، لان
طهارته تتوقف على أمرين: كرية الماء، والغسل فيه، وثبت الأول بالاستصحاب
والثاني بالوجدان، فيحكم بطهارته، بخلاف ما إذا أجري الاستصحاب في مفاد كان
التامة: بأن يقال كان الكر موجودا والآن كما كان، فإنه لا يترتب على هذا
الاستصحاب الحكم بطهارة المتنجس إلا على القول بالأصل المثبت، لان المعلوم بالوجدان
هو غسله بهذا الماء وكريته ليست من اللوازم الشرعية لوجود الكر، بل من اللوازم
العقلية له.
وفى هذا الجواب أيضا مناقشة ظاهرة، إذ يمكن جريان الاستصحاب في مفاد
كان الناقصة مع عدم تعيين موضع النجاسة، بأن نشير إلى الموضع الواقعي، ونقول:
خيط من هذا العباء كان نجسا والآن كما كان، أو نقول: طرف من هذا العباء كان
نجسا والآن كما كان، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب والملاقاة
ثابتة بالوجدان، إذ المفروض تحقق الملاقاة مع طرفي العباء، فيحكم بنجاسة
الملاقي لا محالة.
وما ذكره (ره) - من أنه لا يمكن جريان الاستصحاب بنحو مفاد كان
الناقصة لان أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أول
الامر - جار في جميع صور استصحاب الكلي، لعدم العلم بالخصوصية في جميعها،
ففي مسألة دوران الامر بين الحدث الأكبر والأصغر يكون الحدث الأصغر مقطوع
الارتفاع بعد الوضوء، والحدث الأكبر مشكوك الحدوث من أول الامر، وهذا
غير مانع عن جريان الاستصحاب في الكلي، لتمامية أركانه من اليقين والشك.
فالانصاف في مثل مسألة العباء هو الحكم بنجاسة الملاقي لا لرفع اليد عن الحكم
112

بطهارة الملاقي لاحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيد الصدر (ره) من أنه
على القول بجريان استصحاب الكلي لابد من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لاحد
أطراف الشبهة، بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارة الملاقي في المقام،
لان الحكم بطهارة الملاقي إما أن يكون لاستصحاب الطهارة في الملاقي، وإما أن يكون
لجريان الاستصحاب الموضوعي وهو أصالة عدم ملاقاته النجس. وكيف كان يكون الأصل
الجاري في الملاقي في مثل مسألة العباء محكوما باستصحاب النجاسة في العباء، فمن آثار
هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي. ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي
في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام، للأصل الحاكم على الأصل الجاري
في الملاقي، فان التفكيك في الأصول كثير جدا، فبعد ملاقاة الماء مثلا لجميع أطراف
العباء نقول: إن الماء قد لاقى شيئا كان نجسا، فيحكم ببقائه على النجاسة للاستصحاب
فيحكم بنجاسة الماء، فتسمية هذه المسألة بالشبهة العبائية ليست على ما ينبغي.
ثم إن هنا فرعين لا بأس بالإشارة إليهما: (الفرع الأول) - إذا علمنا
بنجاسة شئ فعلا، وشككنا في أن نجاسته ذاتية غير قابلة للتطهير أو عرضية قابلة له،
كما إذا علمنا بأن هذا الثوب من الصوف نجس فعلا، ولكن لا ندري أن نجاسته لكونه
من صوف الخنزير، أو لملاقاة البول مثلا. فعلى القول بجريان الاستصحاب في العدم
الأزلي كما هو المختار، نحكم بعدم كونه من صوف الخنزير وبطهارته بعد الغسل.
وأما على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فيحكم بنجاسته بعد الغسل
لاستصحاب كلي النجاسة، لدوران النجاسة حينئذ بين فرد مقطوع الارتفاع بعد الغسل
وفرد متيقن البقاء.
(الفرع الثاني) - إذا علمنا بطهارة شئ فعلا لقاعدة الطهارة ثم عرضت له
النجاسة فطهرناه، فشككنا في ارتفاعها لاحتمال كون النجاسة ذاتية غير قابلة للتطهير،
113

كما في الصابون الذي يؤتى به من الخارج ويحتمل كونه مصنوعا من شحم الخنزير والميتة،
فإنه محكوم بالطهارة فعلا لقاعدة الطهارة، فإذا عرضت له النجاسة فغسلناه، فلا محالة
نشك في طهارته، لاحتمال كونه مصنوعا من نجس العين، ولكنه مع ذلك محكوم بالطهارة
بعد الغسل، ولا مجال لجريان استصحاب الكلي حتى على القول بعدم جريان
الاستصحاب في العدم الأزلي، لأنه قبل طرو النجاسة العرضية عليه كان محكوما بالطهارة
لقاعدة الطهارة، وبعد كونه طاهرا بالتعبد الشرعي يجري عليه أحكام الطاهر.
ومن جملتها أنه يطهر من النجاسة العرضية بالتطهير، وبالجملة بعد الحكم بكونه
طاهرا بالتعبد الشرعي يدخل تحت العمومات الدالة على أن المتنجسات تطهر بوصول المطر
أو الماء الجاري إليها، فلا مجال لجريان استصحاب الكلي، لكونه محكوما بالأصل
الموضوعي. هذا تمام الكلام في القسم الثاني من استصحاب الكلي.
و (أما القسم الثالث)، فقد يتوهم جريان الاستصحاب فيه، بدعوى
تمامية أركانه من اليقين والشك بالنسبة إلى الكلي، واختار الشيخ (ره) التفصيل
بين احتمال حدوث فرد آخر مقارن مع حدوث الفرد المعلوم، واحتمال حدوثه مقارنا
مع ارتفاع الفرد الأول، فقال بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني، بدعوى
أنه في الصورة الأولى يكون الكلي المعلوم سابقا مرددا بين أن يكون وجوده على نحو
لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد،
فيحتمل كون الثابت في الان اللاحق عين الموجود سابقا، فيجري الاستصحاب فيه،
بخلاف الصورة الثانية، فان الكلي المعلوم سابقا قد ارتفع يقينا، ووجوده في ضمن
فرد آخر مشكوك الحدوث من الأول، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه.
والصحيح عدم جريان الاستصحاب في الصورتين، لان الكلي لا وجود له
إلا في ضمن الفرد، فهو حين وجوده متخصص بإحدى الخصوصيات الفردية، فالعلم
114

بوجود فرد معين يوجب العلم بحدوث الكلي بنحو الانحصار - أي يوجب العلم بوجود
الكلي المتخصص بخصوصية هذا الفرد. وأما وجود الكلي المتخصص بخصوصية فرد
آخر، فلم يكن معلوما لنا، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقينا، وما هو محتمل للبقاء
لم يكن معلوما لنا، فلا يكون الشك متعلقا ببقاء ما تعلق به اليقين، فلا يجري
فيه الاستصحاب.
وبما ذكرناه من البيان ظهر الفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث، فان اليقين
في القسم الثالث قد تعلق بوجود الكلي المتخصص بخصوصية معينة، وقد ارتفع
هذا الوجود يقينا. وما هو محتمل للبقاء فهو وجود الكلي المتخصص بخصوصية أخرى
الذي لم يكن لنا علم به، فيختلف متعلق اليقين والشك. وهذا بخلاف القسم الثاني،
فان المعلوم فيه هو وجود الكلي المردد بين الخصوصيتين، فيحتمل بقاء هذا الوجود
بعينه، فيكون متعلق اليقين والشك واحدا، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.
وبما ذكرناه عرفت ما في كلام الشيخ (ره) من التفصيل هذا.
وربما يقال نقضا على الشيخ (ره): إنه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته
في حال النوم، لم يجز له الدخول في الصلاة مع الوضوء، بناء على جريان الاستصحاب
في الصورة الأولى من القسم الثالث من استصحاب الكلي. وذلك، لجريان
استصحاب الحدث حينئذ بعد الوضوء، لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة،
وهي لا ترتفع بالوضوء. ولا يلتزم بهذا الحكم الشيخ (ره) ولا غيره، فان كفاية
الوضوء حينئذ من الواضحات. وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحاب
في القسم الثالث مطلقا.
ولكن الانصاف عدم ورود هذا النقض على الشيخ (ره). وذلك، لان
الواجب على المحدث هو الوضوء، لقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا...)
115

والجنب خارج من هذا العموم ويجب عليه الغسل لقوله تعالى: (فان كنتم جنبا
فاطهروا...) فيكون وجوب الوضوء مختصا بغير الجنب، فان التقسيم قاطع للشركة،
فالمكلف بالوضوء هو كل محدث لا يكون جنبا، فهذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه
جنبا حين النوم تجري في حقه أصالة عدم تحقق الجنابة، فكونه محدثا محرز بالوجدان،
وكونه غير جنب محرز بالتعبد الشرعي، فيدخل تحت قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم...)
فيكون الوضوء في حقه رافعا للحدث. ولا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي،
لكونه محكوما بالأصل الموضوعي.
ثم إنه قد استثنى الشيخ (ره) صورة أخرى من القسم الثالث، والتزم
بجريان الاستصحاب فيها وهي ما يتسامح فيه العرف، فيعدون الفرد اللاحق مع الفرد
السابق كالمستمر الواحد، كما إذا علم السواد الشديد في محل وشك في تبدله بسواد ضعيف
أو بالبياض، فيستصحب مطلق السواد، وكذا لو كان الشخص في مرتبة عالية
من العدالة، وشك في تبدلها بالفسق أو بمرتبة نازلة من العدالة، فيجري الاستصحاب
في مطلب العدالة.
وفيه أن جريان الاستصحاب في مثل الأمثلة المذكورة وإن كان مما لا اشكال
فيه، إلا أنه لا يصح عده من القسم الثالث من استصحاب الكلي، فإنه بعد كون
الفرد اللاحق هو الفرد السابق بنظر العرف وكون الشدة والضعف من الحالات، يكون
الاستصحاب من الاستصحاب الجاري في الفرد، أو القسم الأول من استصحاب الكلي
إذا كان الأثر له لا لخصوصية الفرد.
ثم إن الفاضل التوني (ره) رد تمسك المشهور في الحكم بنجاسة الجلد المطروح
باستصحاب عدم التذكية بما حاصله: أن عدم التذكية لازم لامرين: الحياة، والموت
بحتف الانف، والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو، بل ملزومه الثاني
116

أعني به الموت حتف الانف، فعدم التذكية لازم أعلم لموجب النجاسة، فهو قد يتحقق
في فرض الحياة، وقد يتحقق في فرض الموت بحتف الانف. ومن المعلوم أن ما علم
ثبوته في الزمان السابق هو الأول، والمفروض أنه غير باق في الزمان الثاني. نعم
يحتمل عدم تذكية الحيوان الذي هو لازم لموته حتف أنفه. ومن الظاهر أنه غير متيقن
الثبوت، فلا يجري الاستصحاب فيه. والمتمسك بهذا الاستصحاب ليس إلا كمن
تمسك باستصحاب بقاء الضاحك المتحقق بوجود زيد في الدار لاثبات وجود عمرو فيها،
مع القطع بخروج زيد عنها. وفساده غني عن البيان، انتهى.
وأجاب عنه الشيخ (ره) بأن نظر المشهور إلى أن الحرمة والنجاسة قد رتبتا
في الشرع على مجرد عدم التذكية، كما يرشد إليه قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم...)
الظاهر في أن المحرم هو لحم الحيوان الذي لم تقع عليه التذكية، وكذا قوله تعالى:
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه...) وفي ذيل موثقة ابن بكير:
" إذا كان ذكيا ذكاه الذابح " وغيرها من الآيات والروايات الدالة على ترتب
الحرمة والنجاسة على عدم التذكية. ولا ينافي ذلك ما دل على كون حكم النجاسة مرتبا
على موضوع الميتة بمقتضى أدلة نجاسة الميتة، لان الميتة عبارة عن كل ما لم يذك، فان
التذكية أمر شرعي توقيفي، فما عدا المذكى ميتة. هذا ملخص جواب الشيخ (ره).
وفيه أن كلام الفاضل التوني ناظر إلى خصوص النجاسة، والمترتب على عدم
تذكية الحيوان في الآيات والروايات هو حرمة الاكل وعدم جواز الصلاة فيه،
ولا ملازمة بينهما وبين النجاسة، فان جملة من أجزاء الحيوان المذكى يحرم أكلها مع
أنها طاهرة، ولا تجوز الصلاة في شعر غير المأكول من الحيوان مع طهارته في الأكثر.
وما النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة، والموت في عرف المتشرعة على ما صرح به
في مصباح المنير زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي، كخروج الروح بحتف
117

الانف أو بالضرب أو بشق البطن ونحوها، وعليه يكون الموت أمرا وجوديا، فعند
الشك فيه يجري استصحاب عدمه، ولا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية. نعم
لو كانت الميتة عبارة عما مات ولم يستند موته إلى السبب الشرعي، لصح جريان
استصحاب عدم التذكية لاثبات النجاسة، لكنه غير ثابت، بل الصحيح عدمه.
فما ذكره الفاضل التوني (ره) - من عدم صحة إثبات نجاسة الجلد المطروح باستصحاب
عدم التذكية - متين جدا. وقد تقدم تفصيل ذلك في بحث البراءة فراجع،
هذا تمام الكلام في القسم الثالث.
و (أما القسم الرابع) وهو ما إذا علمنا بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما
على فرد واحد على ما مثلنا به، فالظاهر أنه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه،
لتمامية أركانه من اليقين والشك، فان أحد العنوانين وإن ارتفع يقينا، إلا أن لنا
يقينا بوجود الكلي في ضمن عنوان آخر ونشك في ارتفاعه، لاحتمال انطباقه على فرد
آخر غير الفرد المرتفع يقينا، فبعد اليقين بوجود الكلي المشار إليه والشك في ارتفاعه،
لا مانع من جريان الاستصحاب فيه. نعم قد يبتلى هذا الاستصحاب بالمعارض، كما
فيما ذكرنا من المثال، وهو أنه إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس مثلا وقد اغتسلنا منها،
ثم رأينا منيا في ثوبنا يوم الجمعة، فنعلم بكوننا جنبا حين خروج هذا المني، ولكن
نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي قد اغتسلنا منها، وأن يكون من غيرها،
فاستصحاب كلي الجنابة مع الغاء الخصوصية وإن كان جاريا في نفسه، إلا أنه معارض
باستصحاب الطهارة الشخصية، فانا على يقين بالطهارة حين ما اغتسلنا من الجنابة ولا يقين
بارتفاعها، لاحتمال كون المني المرئي من تلك الجنابة، فيقع التعارض بينه وبين
استصحاب الجنابة فيتساقطان، ولابد من الرجوع إلى أصل آخر. وأما في مالا معارض
له كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وبوجود متكلم فيها يحتمل انطباقه على زيد
118

وعلى غيره، فلا مانع من جريان استصحاب وجود الانسان الكلي فيها، مع القطع
بخروج زيد عنها إذا كان له أثر شرعي.
وبالجملة كلامنا إنما هو في جريان الاستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارض،
وقد عرفت أن جريانه هو الصحيح. وأما عدم الجريان من جهة الابتلاء بالمعارض،
فهو مشترك فيه بين هذا القسم والأقسام الاخر، فان الاستصحاب فيها أيضا قد يبتلى
بالمعارض، فلا يكون جاريا.
وقد يفصل في جريان الاستصحاب في هذا القسم بين ما إذا علم بوجود فردين
وشك في تعاقبهما وعدمه، وبين ما إذا لم يعلم به، بل علم بوجود عنوانين يحتمل
انطباقهما على فردين وعلى فرد واحد، فالتزم في الأول بجريان الاستصحاب دون
الثاني، مثال الأول: ما إذا علم أحد بوضوءين وبحدث، ولكن لا يدري أن
الوضوء الثاني كان تجديديا ليكون الحدث بعدها وباقيا فعلا، أو كان رافعا للحدث
ليكون متطهرا فعلا، فالوضوء الأول في هذا الفرض قد انتقض بالحدث يقينا، وإنما
الشك في بقاء الطهارة حين الوضوء الثاني، لاحتمال كونه بعد الحدث، وحيث أن
هذا الشخص متيقن بالطهارة حينه إما بسببية الوضوء الأول لو كان تجديديا، وإما
بسببيته لو كان رافعا للحدث، وشاك في ارتفاعها، فلا مانع من استصحابها. وكذا
الحال فيما إذا علم بالجماع مثلا مرتين وبغسل واحد، لكن لا يدري أن الجماع الثاني
وقع بعد الاغتسال حتى يكون جنبا بالفعل، أو قبله ليكون متطهرا بالفعل.
فهو يعلم بارتفاع الجنابة الحاصلة بالجماع الأول بالغسل، ويشك في بقاء الجنابة حال
الجماع الثاني، لاحتمال حدوثه بعد الغسل، وحيث أنه يعلم بجنابته حين الجماع الثاني
ويشك في ارتفاعها، فلا مانع من استصحابها. وهذا بخلاف الصورة الثانية، وهي
ما إذا لم يعلم بوجود فردين، ولكنه يعلم بعنوانين يحتمل انطباقهما على فرد واحد،
119

كمن رأى في توبه منيا واحتمل أنه من جنابة أخرى غير التي اغتسل منها، فإنه لا يجري
فيه الاستصحاب، لان الجنابة المتيقنة قد ارتفعت يقينا، والجنابة الأخرى مشكوكة
الحدوث من الأول. هذا.
ولكن الانصاف جريان الاستصحاب في الصورتين والفرق المذكور ليس
بفارق فيما هو ملاك الاستصحاب من تعلق اليقين والشك بأمر واحد. وذلك، لان
الكلي متيقن حين اليقين بوجود العنوان الثاني، وارتفاعه مشكوك فيه، لاحتمال
انطباق العنوان الثاني على فرد آخر غير الفرد المرتفع يقينا، وما ذكره - من أن أحد
الفردين مرتفع يقينا والفرد الاخر مشكوك الحدوث - إنما يقدح في جريان الاستصحاب
في الفرد دون الكلي، لتمامية أركانه من اليقين في الحدوث والشك في البقاء بالنسبة
إلى الكلي. ولعل وجه الفرق بين الصورتين ما يظهر من عبارته، بل هو مصرح به
من أنه في فرض العلم بوجود فردين يكون وجود الكلي متيقنا حين وجود الفرد الثاني،
إما بوجود الفرد الأول أو بوجود الفرد الثاني، وارتفاعه مشكوك فيه، لاحتمال كون
وجوده بوجود الفرد الثاني، فيجري الاستصحاب في الكلي، وهذا بخلاف الصورة
الثانية، فإنه لا علم فيها إلا بوجود فرد واحد وهو متيقن الارتفاع، والفرد الاخر
مشكوك الحدوث والأصل عدمه، فالشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك
في حدوث الفرد الاخر، وهو مدفوع بالأصل، فلا مجال لاستصحاب الكلي، لكونه
مرتفعا بالتعبد الشرعي.
والجواب عن ذلك يظهر مما ذكرناه في دفع الاشكال عن القسم الثاني
من استصحاب الكلي. وملخص ما ذكرنا هناك: أن منشأ الشك في بقاء الكلي
ليس هو الشك في حدوث الفرد الطويل، بل منشأه الشك في أن الحادث هل هو الفرد
الطويل أو القصير؟ ولا يجري فيه أصل يرفع به الشك في بقاء الكلي، مضافا
120

إلى أن بقاء الكلي ليس من الآثار الشرعية لحدوث الفرد الطويل حتى ينفى بالأصل،
ففي المقام نقول: إن منشأ الشك في بقاء الكلي ليس هو الشك في حدوث الفرد
الاخر، بل منشأه هو الشك في أن الحدوث بهذا العنوان هل هو الفرد المرتفع يقينا
أو غيره؟ فالشك في بقاء الجنابة في المثال نشأ من الشك في أن الجنابة الموجودة حال
خروج المني المرئي في الثوب هل هي الجنابة التي قد ارتفعت، أو أنها غيرها؟
ولا يجري أصل يرتفع به الشك في بقاء الكلي، مضافا إلى أن بقاء الكلي ليس
من الآثار الشرعية لحدوث فرد آخر ليحكم بعدم بقائه بأصالة عدم حدوث فرد آخر.
وعليه فلا مانع من جريان استصحاب بقاء الكلي.
وربما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم من أقسام استصحاب الكلي،
نظرا إلى أنه لابد في جريان الاستصحاب من إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشك
على رفع اليد عن اليقين السابق، وفى المقام لم يحرز هذا، لأنه بعد اليقين بارتفاع
الفرد المتيقن واحتمال انطباق العنوان الاخر عليه، يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين
به من نقض اليقين باليقين، فلا يمسكن التمسك بحرمة نقض اليقين بالشك، فإنه
من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وجوابه: أن احتمال الانطباق إنما هو في نفس العنوان لا بوصف أنه متيقن،
فإنه بهذا الوصف يستحيل انطباقه على الفرد الأول بالضرورة، ففي المثال المتقدم إنما
تحتمل انطباق نفس عنوان المتكلم على زيد، إلا أنه بوصف أنه متيقن لا يحتمل أن
ينطبق عليه، فبعد اليقين بوجود المتكلم في الدار لا يرتفع هذا اليقين باليقين بخروج
زيد عنها، بل الشك في بقائه فيها موجود بالوجدان، فلا مانع من جريان
الاستصحاب فيه. وبالجملة الشبهة المصداقية غير متصورة في الأصول العملية، لان
موضوعها اليقين والشك، وهما من الأمور الوجدانية: فاما أن يكونا موجودين أولا،
121

فلا معنى لاحتمال اليقين واحتمال أن يكون رفع اليد من اليقين السابق من نقض اليقين
باليقين. ونظير المقام ما إذا علمنا بموت شخص معين، واحتمل أنه هو المجتهد الذي
نقلده، فهل يصح أن يقال: إنه لا يمكن جريان استصحاب حياة المجتهد لاحتمال أن
يكون هذا الشخص الذي تيقنا بموته منطبقا عليه، فنحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين
بحياته من نقض اليقين باليقين، مع أن اليقين بحياة المجتهد والشك في بقائها موجودان
بالوجدان، فكما لا مانع من جريان الاستصحاب فيها لتمامية أركانه، فكذا في المقام
بلا فرق بينهما.
(التنبيه الخامس) - في جريان الاستصحاب في التدريجيات. ويقع
الكلام فيه في مقامين: (المقام الأول) - في الزمان و (المقام الثاني) - في غيره
من التدريجيات كالحركة.
(أما المقام الأول) فتفصيل الكلام فيه أنا إذا قلنا بأن الزمان موجود
واحد مستمر متقوم بالانصرام، ولذا يعبر عنه بغير القار، فلا مانع من جريان
الاستصحاب فيه، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بالدقة العقلية فضلا عن نظر العرف،
فإذا شككنا في بقاء النهار مثلا يجري استصحاب وجوده بلا إشكال، وإن قلنا بأن
الزمان مركب من الآنات الصغيرة المنصرمة: نظير ما ذكره بعضهم من تركب الأجسام
من الأجرام الصغيرة غير القابلة للتجزئة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا،
لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة بنظر العرف. والمدار في جريان الاستصحاب على وحدة
الموضوع بنظر العرف لا بالدقة العقلية. وهذا المسلك وان كان باطلا في نفسه، لان
بعض الأدلة الدالة على ابطال الجزء الذي لا يتجزى يبطله أيضا، إلا أن الالتزام به
لا يمنع من جريان الاستصحاب في الزمان. هذا كله بالنسبة إلى الآثار المترتبة على نفس
الزمان، وأما الآثار المترتبة على عدم ضده: كجواز الاكل والشرف في ليالي
122

شهر رمضان المترتب على عدم طلوع الفجر، لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى
يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود...) فلا اشكال في ترتبها باستصحاب عدم
العند: فإذا شك في طلوع الفجر، فلا اشكال في جريان استصحاب عدمه حتى
على القول بعدم جريانه في الزمان. ومن هذا القبيل ما ورد من الروايات الدالة على امتداد
وقت صلاة الظهرين إلى غروب الشمس، وامتداد وقت صلاة العشاءين إلى انتصاف
الليل: فإذا شك في الغروب أو انتصاف الليل يجري استصحاب العدم بلا اشكال.
وهذا الاستصحاب في الحقيقة خارج عن محل الكلام، لان الكلام إنما هو
في استصحاب نفس الزمان بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليه. وأما جريان استصحاب
العدم عند الشك في الحدوث، فلا يفرق الحال فيه بين الزمان وغيره.
ثم إن ما ذكرناه - من عدم المانع في جريان الاستصحاب في الزمان - إنما
هو فيما إذا كان الزمان متمحضا في الشرطية: بأن كان شرطا للحكم الشرعي من التكليف
أو الوضع. وأما إذا كان قيدا لمتعلق التكليف كما إذا كان ظرفا للواجب مثلا:
كما إذا أمر المولى بالامساك الواقع في النهار، فإذا شك في بقاء النهار، ففي جريان
الاستصحاب فيه إشكال، لأنه باستصحاب النهار لا يثبت وقوع الامساك في النهار
إلا على القول بالأصل المثبت، فان وقوع الامساك في النهار لازم عقلي لبقاء النهار.
ولذا عدل الشيخ وتبعه المحقق النائيني (ره) عن جريان الاستصحاب في الزمان في مثله
إلى جريانه في الحكم، بأن نقول بعد الشك في بقاء النهار: إن وجوب الامساك
الواقع في النهار كان ثابتا قبل هذا، فالآن كما كان. وهذا العدول مما لا يسمن ولا يفيد
في دفع الاشكال، لان استصحاب الحكم إن كان يمكن به إثبات أن الامساك واقع
في النهار، فيمكن إثباته باستصحاب الزمان، لأنه باستصحابه يترتب الحكم وهو
الوجوب، وباثباته يثبت أن الامساك واقع في النهار على الفرض، فلا نحتاج إلى العدول
123

إلى جريان الاستصحاب في الحكم، بل لا يصح جريانه فيه، لأن الشك فيه مسبب
عن الشك في الزمان. وجريان الاستصحاب فيه يرفع الشك في الحكم، وإن كان
استصحاب الحكم لا يمكن إثبات وقوع الامساك في النهار به، لكونه من الأصل
المثبت، لان بقاء النهار لازم عقلي لبقاء وجوب الامساك الواقع في النهار بمعنى أن العقل
يحكم - بعد أمر المولى بوجوب الامساك الواقع في النهار - بأن النهار باق لا محالة،
فالعدول غير مفيد في دفع الاشكال.
ومن هنا عدل صاحب الكفاية (ره) عن جريان الاستصحاب في الزمان
وعن جريانه في الحكم إلى جريانه في فعل المكلف المفيد بالزمان، بأن يقال بعد الشك
في بقاء النهار: إن الامساك قبل هذا كان واقعا في النهار والآن كما كان. وهذا
الاستصحاب وإن كان جاريا في مثل الامساك، إلا أنه غير جار في جميع موارد الشك
في الزمان، فإنه من أخر صلاة الظهرين حتى شك في بقاء النهار، لا يمكنه إجراء
الاستصحاب في الفعل، بأن يقال: الصلاة قبل هذا كانت واقعة في النهار والآن كما
كانت، إذ المفروض أن الصلاة لم تكن موجودة إلى الان، اللهم إلا أن يتشبث بذيل
الاستصحاب التعليقي، فيقال لو أتي بالصلاة قبل هذا لكانت واقعة في النهار، فالآن
كما كانت، ولكن الاستصحاب التعليقي مع عدم صحته في نفسه مختص عند قائله
بالأحكام، فلا يجري في الموضوعات كما يأتي التعرض له قريبا انشاء الله تعالى.
فهذه الوجوه التي ذكرها هؤلاء الاعلام لا تفيد في دفع الاشكال، فلابد من بيان وجه
آخر وهو يحتاج إلى ذكر مقدمة: وهي أن الموضوع المركب على قسمين: فتارة يكون
الموضوع مركبا من المعروض وعرضه، كالماء السكر، فإنه موضوع للاعتصام وعدم
الانفعال، فلابد في ترتب الحكم على هذا الموضوع من إثبات العارض والمعروض
بنحو مفاد كان الناقصة، إما بالوجدان أو بالتعبد، فإذا شككنا في بقاء كرية الماء
124

لا يجدي جريان الاستصحاب في مفاد كان التامة، بأن يقال: الكرية كانت
موجودة والآن كما كانت، فان موضوع عدم الانفعال ليس هو الماء ووجود الكرية
ولو في غير الماء، بل الموضوع له كرية الماء وهي لا تثبت باستصحاب الكرية في مفاد
كان التامة، إلا على القول بالأصل المثبت، فلابد حينئذ من إجراء الاستصحاب
في مفاد كان الناقصة بأن يقال: هذا الماء كان كرا فالآن كما كان. وأخرى يكون
الموضوع مركبا بنحو الاجتماع في الوجود من دون أن يكون أحدهما وصفا للاخر،
كما إذا أخذ الموضوع مركبا من جوهرين مثل زيد وعمرو، أو من عرضين سواء كان
أحدهما قائما بموضوع والاخر قائما بموضوع آخر، كما في صلاة الجماعة، فان الموضوع
لصحة الجماعة اجتماع ركوعين في زمان واحد أحدهما قائم بالامام والاخر قائم بالمأموم،
أو كانا قائمين بموضوع واحد كالاجتهاد والعدالة المأخوذين في موضوع جواز التقليد،
أو مركبا من جوهر وعرض قائم بموضوع آخر، ففي جميع هذه الصور يكون الموضوع
هو مجرد اجتماع الامرين في الوجود ولا يعقل اتصاف أحدهما بالآخر، فلابد في ترتب
الحكم على مثل هذا الموضوع المركب من إحراز كلا الامرين، إما بالوجدان أو بالتعبد،
فإذا شك في أحدهما يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان التامة بلا احتياج
إلى جريانه في مفاد كان الناقصة، بل لا يصح جريانه فيه، لما ذكرناه من عدم معقولية
اتصاف أحدهما بالآخر. ومن هذا القبيل الصلاة والطهارة، فان كلا منهما فعل
للمكلف وعرض من أعراضه، ولا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، والموضوع هو
مجرد اجتماعهما في الوجود الخارجي، فإذا شك في بقاء الطهارة يكفي جريان الاستصحاب
فيها بنحو مفاد كان التامة فيحرز الموضوع المركب من الصلاة والطهارة أحدهما بالوجدان
وهو الصلاة، والاخر بالتعبد الشرعي وهو الطهارة.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن اعتبار الزمان قيدا لشئ من هذا القبيل، فان
125

معنى الامساك النهاري هو اجتماع الامساك مع النهار في الوجود، إذ النهار موجود
من الموجودات الخارجية، والامساك عرض قائم بالمكلف، فلا معنى لاتصاف
أحدهما بالآخر، فإذا شك في بقاء النهار يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان
التامة، ولا يكون من الأصل المثبت في شئ. نعم لو أردنا إثبات اتصاف الامساك
بكونه نهاريا باستصحاب النهار بنحو مفاد كان التامة، كان من الأصل المثبت، لكنه
لا تحتاج إليه، بل لا معنى له على ما ذكرناه. نعم قد يؤخذ في لسان الدليل الشرعي
عنوان انتزاعي موضوعا لحكم من الاحكام كالتقدم والتأخر والتقارن، فإذا شك
في بقاء الزمان فباستصحابه لا يمكن إثبات هذا العنوان إلا على القول بالأصل المثبت،
ولا اختصاص له باستصحاب الزمان، بل بجري في غيره أيضا، فإذا كان الموضوع
لإرث الولد تأخر موته عن موت أبيه وعلمنا بموت والده في شهر رمضان مثلا، وشككنا
في أن موت الولد كان متأخرا عنه أم لا، فباستصحاب حياة الولد لا يمكن إثبات
عنوان التأخر، إلا على القول بالأصل المثبت. فالمتحصل مما ذكرناه في المقام صحة
جريان الاستصحاب في الزمان مطلقا.
(المقام الثاني) - في جريان الاستصحاب في غير الزمان من التدريجيات،
وهو على قسمين: لان الامر التدريجي إما أن يكون مثل الزمان بحيث يكون تقومه
بالانصرام والانقضاء، ولا يمكن اجتماع جزءين منه في زمان واحد، بل يوجد جزء
منه وينعدم فيوجد جزء آخر، ويعبر عنه بغير القار كالحركة والجريان والتكلم ونحوها.
وإما أن يكون بنفسه غير منصرم وله ثبات في نفسه، ولكنه من حيث تقيده بالزمان
يكون غير قار، فكونه غير قار إنما هو باعتبار قيده وهو الزمان، كما إذا أمر المولى
بالقيام إلى الظهر أو بالجلوس إلى المغرب مثلا.
(أما القسم الأول) فقد ظهر الكلام فيه مما ذكرنا في الزمان، لأنه إن قلنا
126

بكون الحركة المتصلة موجودا واحدا، وأن الاتصال مساوق الوحدة، فلا اشكال
في جريان الاستصحاب فيها، حتى بناء على اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية فضلا
عن اعتبار الوحدة العرفية. وان قلنا بكون الحركة مركبة من الحركات اليسيرة
الكثيرة بحيث يكون كل جزء من الحركة موجودا منحازا عن الجزء الاخر، فلا ينبغي
الاشكال في جريان الاستصحاب فيها أيضا، لكون الموضوع واحدا بنظر العرف
وان كان متعددا بالدقة العقلية.
ثم انه بناء على ما ذكرناه من عدم اختصاص حجية الاستصحاب بموارد الشك
في الرافع، يجري الاستصحاب في الحركة سواء كان الشك في بقائها مستندا إلى الشك
في المقتضي، كما إذا علمنا بحركة زيد من النجف إلى الكوفة وشككنا في أنه قاصد
للحركة إليها فقط أو إلى الحلة أيضا، فبعد الوصول إلى الكوفة نشك في بقاء الحركة
من جهة الشك في المقتضي، أو كان الشك في بقاء الحركة مستندا إلى الشك في الرافع،
كما إذا علمنا بكونه قاصدا للحلة ولكن لا ندري أنه هل عرض له مانع أم لا؟ أو كان
الشك في بقاء الحركة مستندا إلى احتمال حدوث المقتضي الجديد مع العلم بارتفاع المقتضي
الأول، كما إذا علمنا بأنه كان قاصدا للكوفة فقط، لكن نحتمل حدوث البداء له
في الحركة إلى الحلة، فاحتمال بقاء الحركة مستند إلى احتمال حدوث المقتضي الجديد،
وتجري هذه الصور الثلاث عند الشك في بقاء جريان والسيلان أيضا، فان الشك
في بقاء جريان الماء مثلا أو سيلان الدم في باب الحيض تارة يكون مستندا إلى الشك
في المقتضي، كما إذا شككنا في بقاء الجريان من جهة الشك في بقاء المادة للماء،
وأخرى يكون مستندا إلى الشك في الرافع، كما إذا علمنا بقاء الماء وشككنا في بقاء
الجريان لاحتمال حدوث مانع منه، وثالثة يكون مستندا إلى احتمال حدوث مادة أخرى
مع العلم بانتفاء المادة الأولى، فيجري الاستصحاب في جميع هذه الصور.
127

ومنع العلامة النائيني (ره) عن جريان الاستصحاب في القسم الثالث، بدعوى
أن الحافظ للوحدة في الأمور التدريجية غير القارة كالحركة هو الداعي، فمع وحدة
الداعي تكون الحركة واحدة، ومع تعدده تكون الحركة متعددة، وحيث أن الداعي
الأول قد انتفى في القسم الثالث يقينا، فتكون الحركة الحادثة بداع آخر على تقدير
وجودها غير الحركة الأولى، فلا يصح جريان الاستصحاب، لاختلاف القضية
المتيقنة والمشكوكة.
وقد ظهر جوابه مما ذكرنا، فان الحافظ للوحدة ليس هو الداعي، بل هو
الاتصال، فما لم يتخلل العدم فالحركة واحدة وان كان حدوثها بداع وبقاؤها بداع
آخر، وإذا تخلل العدم، كانت الحركة متعددة وإن كان الداعي واحدا. وقد
نقضنا عليه (ره) في الدورة السابقة بالسجدة، فمن سجد في الصلاة بداعي الامتثال
ثم بعد اتمام الذكر بقي في السجدة آنا ما للاستراحة مثلا، فهل يمكن القول ببطلان
الصلاة لأجل زيادة السجدة؟
وربما يتوهم في المقام أن الاستصحاب في هذا القسم وإن كان جاريا في نفسه
إلا أنه محكوم بأصل آخر، فان الشك في بقاء الحركة مسبب عن الشك في حدوث
داع آخر والأصل وعدمه.
وفساد هذا التوهم أوضح من أن يخفى، فان ارتفاع الحركة ليس من الآثار
الشرعية لعدم حدوث الداعي الاخر، فلا يمكن اثبات ارتفاعها بأصالة عدم حدوثه،
إلا على القول بالأصل المثبت، فتحصل أن الصحيح جريان الاستصحاب في جميع
الصور الثالث ما لم يتخلل العدم، ومع تخلله لا يبقى موضوع لجريانه.
ثم إنه ذكر صاحب الكفاية (ره): أنه لا مانع من جريان الاستصحاب
في مثل الحركة ولو بعد تخلل العدم إذا كان يسيرا، لان المناط في الاستصحاب هو
128

الوحدة العرفية ولا يضر السكون القليل بوحدة الحركة عرفا.
وفيه أن بقاء الموضوع في الاستصحاب وإن لم يكن مبنيا على الدقة العقلية، بل
على المسامحة العرفية. ونظر العرف أوسع من لحاظ العقل في أكثر الموارد، إلا أنه
لافرق بين العقل والعرف في المقام، فالمتحرك إذا سكن ولو قليلا لا يصدق عليه أنه
متحرك عرفا، لصدق الساكن عليه حينئذ، ولا يمكن اجتماع عنواني الساكن والمتحرك
في نظر العرف أيضا. وعليه فلو تحرك بعد السكون لا يقال عرفا أنه متحرك بحركة
واحدة، بل يقال إنه متحرك بحركة أخرى غير الأولى، فلو شككنا في الحركة بعد
السكون، لا يمكن جريان الاستصحاب، لان الحركة الأولى قد ارتفعت يقينا، والحركة
الثانية مشكوكة الحدوث. نعم قد يؤخذ في موضوع الحكم عنوان لا يضر في صدقه
السكون في الجملة، كعنوان المسافر، فان القعود لرفع التعب مثلا بل النزول في المنازل
غير قادح في صدق عنوان المسافر فضلا عن السكون ساعة أو ساعتين، فإذا شك في بقاء
السفر لا اشكال في جريان الاستصحاب فيه ولو بعد السكون، بخلاف ما إذا اخذ
عنوان الحركة في موضوع الحكم، فإنه لا يجري الاستصحاب بعد السكون، بل يجري
فيه استصحاب السكون، ويجري جميع ما ذكرناه - من جريان الاستصحاب في الحركة
ما لم يتخلل العدم وعدمه بعد السكون - في مثل الجريان والسيلان. فلا نحتاج
إلى الإعادة.
بقي الكلام في جريان الاستصحاب في التكلم، ولا يخفى أنه يمتاز - عما قبله
بعد الاشتراك معه في كونه موجودا غير قار - بأنه ليست له وحدة حقيقية من جهة
تخلل السكوت ولو بقدر التنفس في أثنائه لا محالة بحسب العادة، نعم له الوحدة الاعتبارية،
فتعد عدة من الجملات موجودا واحدا باعتبار أنها قصيدة واحدة أو سورة واحدة مثلا،
وتكفي في جريان الاستصحاب الوحدة الاعتبارية، فإذا شرع أحد بقراءة قصيدة
129

مثلا، ثم شككنا في فراغه عنها، لم يكن مانع من جريان استصحابها سواء كان الشك
مستندا إلى الشك في المقتضي، كما إذا كانت القصيدة مرددة بين القصيرة والطويلة،
فلم يعلم أنها كانت قصيرة فهي لم تبق أم هي طويلة فباقية، أو كان الشك مستندا
إلى الشك في الرافع. كما إذا علمنا بعدم تمامية القصيدة ولكن شككنا في حدوث مانع
خارجي عن اتمامها، وذلك لما ذكرناه من عدم اختصاص حجية الاستصحاب بموارد
الشك في الرافع. وكذا الكلام في الصلاة فإنها وإن كانت مركبة من أشياء مختلفة،
فبعضها من مقولة لكيف المسموع كالقراءة، وبعضها من مقولة الوضع كالركوع،
وهكذا إلا أن لها وحدة اعتبارية، فان الشارع قد اعتبر عدة أشياء شيئا واحدا وسماه
بالصلاة، فإذا شرع أحد في الصلاة وشككنا في الفراغ عنها، لم يكن مانع من جريان
استصحابها والحكم ببقائها سواء كان الشك في المقتضي، كما إذا كان الشك في بقاء
الصلاة لكون الصلاة مرددة بين الثنائية والرباعية مثلا، أو كان الشك في الرافع،
كما إذا شككنا في بقائها لاحتمال حدوث قاطع كالرعاف مثلا.
و (أما القسم الثاني) من الزماني وهو ما يكون له الثبات في نفسه ولكنه
قيد بالزمان في لسان الدليل، كالامساك المقيد بالنهار، فقد يكون الشك فيه من جهة
الشبهة الموضوعية، وقد يكون من جهة الشبهة الحكمية (أما القسم الأول) فتارة
يكون الفعل فيه مقيدا بعدم مجئ زمان، كما إذا كان الامساك مقيدا بعدم غروب
الشمس، أو كان جواز الأكل والشرب في شهر رمضان مقيدا بعدم طلوع الفجر.
وعليه فلا اشكال في جريان الاستصحاب العدمي، فباستصحاب عدم غروب الشمس
يحكم بوجوب الامساك، كما أنه باستصحاب عدم طلوع الفجر يحكم بجواز الأكل والشرب،
وأخرى يكون الفعل مقيدا في لسان الدليل بوجود الزمان لا بعدم ضده، كما إذا كان
الامساك مقيدا بالنهار وجواز الأكل والشرب مقيدا بالليل، فيجري الاستصحاب
130

في نفس الزمان على ما تقدم. و (أما القسم الثاني) وهو ما كان الشك فيه في بقاء
الحكم لشبهة حكمية، فقد يكون الشك فيه لشبهة مفهومية، كما إذا شككنا في أن
الغروب الذي جعل غاية لوجوب الامساك هل هو عبارة عن استتار القرص، أو عن ذهاب
الحمرة المشرقية؟ وقد يكون الشك فيه لتعارض الأدلة، كما في آخر وقت العشاءين
لتردده بين انتصاف الليل كما هو المشهور أو طلوع الفجر كما ذهب إليه بعض، مع الالتزام
بحرمة التأخير عمدا عن نصف الليل.
وكيف كان، فذهب الشيخ - وتبعه جماعة ممن تأخر عنه منهم صاحب
الكفاية (ره) - إلى أن الزمان إذا اخذ قيدا للفعل فلا يجري الاستصحاب فيه،
وإذا اخذ ظرفا فلا مانع من جريانه، ولكن المحقق النائيني (ره) أنكر جريان
الاستصحاب في كلا التقديرين، لما اختاره سابقا من عدم جريان الاستصحاب في الشك
في المقتضي مع تفسيره بالشك في استعداد الشئ للبقاء في نفسه بلا حدوث شئ موجب
لانعدامه، والشك في بقاء الليل والنهار من قبيل الشك في المقتضي بالمعنى المذكور،
فان الزمان المحدود كالليل والنهار مما يرتفع بنفسه بلا احتياج إلى وجود رافع.
وهذا الكلام صحيح لو تم المبنى المذكور، لكنه غير تام، لما تقدم من أن أخبار
الاستصحاب لا تختص بالشك في الرافع، فلا مانع من جريان الاستصحاب من هذه الجهة.
نعم هنا جهة أخرى تقتضي عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام: وهي أن
الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما مر غير مرة، فالامر بشئ إما أن يكون مطلقا
وإما أن يكون مقيدا بزمان خاص ولا تتصور الواسطة بينهما، ومعنى كونه مقيدا بذلك
الزمان الخاص عدم وجوبه بعده، فاخذ الزمان ظرفا للمأمور به - بحيث لا ينتفي
المأمور به بانتفائه قبالا لاخذه قيدا للمأمور به - مما لا يرجع إلى معنى معقول،
فان الزمان بنفسه ظرف لا يحتاج إلى الجعل التشريعي، فإذا أخذ زمان خاص
131

في المأمور به فلا محالة يكون قيدا له، فلا معنى للفرق بين كون الزمان قيدا
أو ظرفا، فان أخذه ظرفا ليس إلا عبارة أخرى عن كونه قيدا، فإذا شككنا في بقاء
هذا الزمان وارتفاعه من جهة الشبهة المفهومية أو لتعارض الأدلة، لا يمكن جريان
الاستصحاب لا الاستصحاب الحكمي ولا الموضوعي. أما الاستصحاب الحكمي فلكونه
مشروطا باحراز بقاء الموضوع وهو مشكوك فيه على الفرض، فان الوجوب تعلق بالامساك
الواقع في النهار، فمع الشك في بقاء النهار كيف يمكن استصحاب الوجوب، فان
موضوع القضية المتيقنة هو الامساك في النهار، وموضوع القضية المشكوكة هو الامساك
في جزء من الزمان يشك في كونه من النهار، فيكون التمسك بقوله (ع): " لا تنقض
اليقين بالشك " لاثبات وجوب الامساك فيه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
وأما الاستصحاب الموضوعي بمعنى الحكم ببقاء النهار، فلانه ليس لنا يقين وشك
تعلقا بشئ واحد، حتى نجري الاستصحاب فيه، بل لنا يقينان: يقين باستتار
القرص ويقين بعدم ذهاب الحمرة المشرقية، فأي موضوع يشك في بقائه بعد العلم
بحدوثه حتى يكون مجرى للاستصحاب، فإذا لا شك لنا إلا في مفهوم اللفظ. ومن الظاهر
أنه لا معنى لجريان الاستصحاب فيه. ونظير المقام ما إذا شككنا في معنى العدالة وأنها
عبارة عن ترك الكبائر فقط أو هو مع ترك الصغار، فإذا كان زيد عادلا يقينا فارتكب
صغيرة، نشك في بقاء عدالته للشبهة المفهومية، فلا معنى لجريان الاستصحاب
الموضوعي، لعدم الشك في شئ من الموضوع حتى يجري فيه الاستصحاب، فان
ارتكابه الصغيرة معلوم، وارتكابه الكبيرة معلوم الانتفاء، فليس هنا شئ يشك
في بقائه ليجري فيه الاستصحاب. وقد صرح الشيخ (ره) في بعض تحقيقاته بعدم
جريان الاستصحاب الموضوعي في موارد الشبهة المفهومية.
وربما يتوهم في المقام جريان الاستصحاب في الغاية بوصف كونها غاية، فان الغاية
132

المجعولة الشرعية مشكوكة الحدوث، والأصل عدم تحققها. وفيه أن استصحاب
عدم تحقق الغاية بوصف كونها غاية ليس إلا عبارة أخرى عن استصحاب الحكم،
فان عدم الغاية بوصف كونها غاية عبارة عن بقاء الحكم، فاستصحابه هو استصحاب
الحكم، فيجري فيه الاشكال المتقدم. هذا كله في الشبهة الحكمية، مع كون الشك
في الحكم ناشئا من الشك في المفهوم أو من تعارض الأدلة.
وأما إذا كان الشك في الحكم ناشئا من احتمال حدوث تكليف آخر مع اليقين
بتحقق الغاية، كما إذا علمنا بوجوب الجلوس إلى الزوال، وعلمنا بتحقق الزوال،
وشككنا في وجوب الجلوس بعد الزوال لاحتمال حدوث تكليف جديد، فقد يستفاد
من طي كلام الشيخ (ره) عدم جريان استصحاب وجود التكليف فيه، بل يجري
فيه استصحاب عدم التكليف، لأن الشك في حدوث تكليف جديد، والأصل عدمه.
وأنكر المحقق النائيني (ره) كلا الاستصحابين، وقال: لا يجري استصحاب الوجود
ولا استصحاب العدم، بل لابد من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال،
أما عدم جريان استصحاب الوجود، فلارتفاع التكليف السابق يقينا، فلو ثبت
وجوب بعد الغاية فهو تكليف آخر. وأما عدم جريان استصحاب العدم، فلانه
إن أريد به استصحاب عدم المجعول - أي الحكم - فهو وإن كان معدوما
سابقا إلا أنه بعدم موضوعه، ولا يجري الاستصحاب في العدم الأزلي الثابت عند عدم
موضوعه المعبر عنه بالعدم المحمولي. وإنما يجري في العدم المنتسب إلى المحمول بعد العلم
بوجود موضوعه المعبر عنه بالعدم النعتي: وإن أريد به استصحاب عدم الجعل، حيث
أن جعل وجوب الجلوس بعد الزوال مشكوك فيه - والأصل عدمه - فلا أثر لهذا
الاستصحاب إلا الحكم بعدم المجعول. واثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يتوقف
على القول بالأصل المثبت، فان عدم المجعول من لوازم عدم الجعل.
133

وفيه أنه يمكن اختيار كل من الشقين: أما الشق الأول، فلما عرفت في بحث
العام والخاص من أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية. وأما الشق
الثاني فلانه لافرق بين الجعل والمجعول إلا بالاعتبار، نظير الفرق بين الماهية والوجود
أو الايجاد والوجود، فلا يكون استصحاب عدم الجعل لاثبات عدم المجعول من الأصل
المثبت في شئ. فالتحقيق ما ذكره الشيخ (ره) من جريان استصحاب عدم التكليف
في المقام، فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاشتغال.
بقي هنا شئ وهو أنه لو كان الحكم مقيدا بالزمان، وشككنا في بقاء الحكم
بعد الغاية لاحتمال كون التقيد بالزمان من باب تعدد المطلوب ليبقى طلب الطبيعة بعد حصول
الغاية، فهل يجري فيه الاستصحاب أم لا؟ الظاهر جريانه مع الغض عما ذكرنا سابقا
من عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية الإلهية. والوجه في ذلك أن تعلق
طبيعي الوجوب بالجامع بين المطلق والمقيد معلوم على الفرض. والتردد إنما هو في أن
الطلب متعلق بالمطلق وايقاعه في الزمان الخاص مطلوب آخر ليكون الطلب باقيا بعد
مضيه، أو أنه متعلق بالمقيد بالزمان الخاص ليكون مرتفعا بمضيه؟ وعليه فيجري فيه
الاستصحاب، ويكون من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي. ومن ثمرات
جريان هذا الاستصحاب تبعية القضاء للأداء وعدم الاحتياج إلى أمر جديد. وليكن
هذا نقضا على المشهور، حيث إنهم قائلون بجريان الاستصحاب في الاحكام الكلية.
وبجريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي، ومع ذلك يقولون: إن القضاء ليس
تابعا للأداء، بل هو بأمر جديد. نعم على المسلك المختار من عدم جريان الاستصحاب
في الاحكام الكلية، لا يجري الاستصحاب هنا أيضا، فيحتاج القضاء إلى أمر جديد.
هذا تمام الكلام في جريان الاستصحاب في التدريجيات من الزمان والزمانيات.
(التنبيه السادس) - في الاستصحاب التعليقي، اعلم أن الحكم (تارة)
134

يكون فعليا من جميع الجهات، و (أخرى) يكون فعليا من بعض الجهات دون بعض.
ويعبر عن الثاني بالحكم التعليقي مرة وبالحكم التقديري أخرى، كما يعبر عن الأول
بالحكم التنجيزي. والكلام في جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي إنما هو بعد
الفراغ عن جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية التنجيزية، لأنه مع الالتزام بعدم
جريان الاستصحاب فيها - كما هو المختار - كان البحث عن جريان الاستصحاب
في الاحكام التعليقية ساقطا. وقبل التكلم في جريان الاستصحاب التعليقي وعدمه
لابد من بيان مقدمة، وهي أن العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام على أقسام:
فتارة يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى حقيقة المعنون بلا دخل للعنوان في ثبوت
الحكم، بحيث يفهم العرف من نفس الدليل الدال على الحكم أن الحكم ثابت
لهذا الموضوع، مع تبدل العنوان المأخوذ بعنوان آخر، كعنوان الحنطة والشعير مثلا،
فإنه إذا دل دليل على أن الحنطة حلال، يستفاد منه عرفا أن الحلية ثابتة لحقيقة
الحنطة - ولو مع تبدل هذا العنوان - كما إذا صار دقيقا ثم عجينا ثم خبزا، فيستفاد
من حليتها الحلية في جميع هذه التبدلات، ففي مثل ذلك لا نشك في بقاء الحكم في حال
من الحالات، حتى نحتاج إلى الاستصحاب، و (أخرى) يكون الامر بعكس
ذلك - أي يفهم العرف من نفس الدليل أن الحكم دائر مدار العنوان فيرتفع
بارتفاعه - كما في موارد الاستحالة كاستحالة الكلب ملحا ونحوها من موارد
الاستحالات. وقد يستفاد ذلك في غير موارد الاستحالة، كما في حرمة الخمر، فإنها
تابعة لصدق عنوانه، فإذا تبدل عنوانه لم يحتمل بقاء حكمه، ففي أمثال ذلك نقطع
بارتفاع الحكم بمجرد تبدل العنوان، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب. و (ثالثة)
لا يستفاد أحد الامرين من نفس الدليل، فنشك في بقاء الحكم بعد تبدل العنوان،
لاحتمال مدخلية العنوان في ترتب الحكم، وهذا كالتغير المأخوذ في نجاسة الماء،
135

فإنه لا يعلم أن النجاسة دائرة مدار التغير حدوثا وبقاء، أو انها باقية بعد زوال التغير
أيضا لكونه علة لحدوثها فقط. وهذا القسم هو محل الكلام في جريان الاستصحاب.
وظهر بما ذكرنا من تحقيق موارد الاستصحاب التعليقي: أن تمثيلهم له بماء الزبيب
غير صحيح، فان الاستصحاب إنما هو فيما إذا تبدلت حالة من حالات الموضوع فشك
في بقاء حكمه، والمقام ليس كذلك، إذ ليس المأخوذ في دليل الحرمة هو عنوان
العنب ليجري استصحاب الحرمة بعد كونه زبيبا، بل المأخوذ فيه هو عصير العنب
وهو الماء المخلوق في كامن ذاته بقدرة الله تعالى، فان العصير ما يعصر من الشئ
من الماء، وبعد الجفاف وصيرورته زبيبا لا يبقى ماؤه الذي كان موضوعا للحرمة بعد
الغليان. وأما عصير الزبيب، فليس هو إلا ماء آخر خارج عن حقيقته وصار حلوا
بمجاورته، فموضوع الحرمة غير باق ليكون الشك شكا في بقاء حكمه، فيجري فيه
الاستصحاب. وبعد الغض عن المناقشة في المثال نقول: إن الشك في بقاء الحكم
الشرعي يتصور على وجوه ثلاثة لا رابع لها:
(الأول) - ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي في مرحلة الجعل
لاحتمال النسخ.
(الثاني) - ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الجزئي لاحتمال عروض تغير
في موضوعه الخارجي، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية، كما إذا علمنا بطهارة ثوب واحتملنا
نجاسته لاحتمال ملاقاته البول مثلا.
(الثالث) - ما إذا كان الشك في بقاء الحكم الكلي المجعول لأجل الشك
في سعة موضوعه وضيقه في مقام الجعل، ويعبر عنه بالشبهة الحكمية، كما إذا شككنا
في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال لاحتمال أن يكون الموضوع
لحرمة الوطء خصوص المرأة حال رؤيتها الدم، أو المحدث بحدث الحيض، ليعم
136

من لم يغتسل بعد وإن انقطع الدم عنها.
(أما القسم الأول) فلا اشكال في جريان الاستصحاب التعليقي فيه إذا قلنا
بجريان الاستصحاب التنجيزي فيه، فكما إذا شككنا في بقاء حرمة الخمر لاحتمال
النسخ يجري استصحاب عدم النسخ، كذلك إذا شككنا في بقاء حكمه التعليقي،
كوجوب الحد على من شربه يجري استصحاب عدم النسخ أيضا، ولكنا سنذكر عدم
صحة جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ مطلقا. وكذا القسم الثاني، فإنه
مع الشك في بقاء الموضوع الخارجي على ما كان عليه، يحكم ببقائه على ما كان بمقتضى
الاستصحاب، ويترتب عليه جميع أحكامه المنجزة والمعلقة.
إنما الكلام في القسم الثالث، والظاهر ابتناء هذا البحث على أن القيود
المأخوذة في الحكم هل هي راجعة إلى نفس الحكم ولا دخل لها بالموضوع، أو راجعة
إلى الموضوع؟ فعلى تقدير القول برجوعها إلى نفس الحكم، يكون الحكم الثابت
للموضوع حصة خاصة من الحكم، فيثبت الحكم عند تحقق موضوعه، فإذا وجد
العنب في الخارج في مفروض المثال، كان الحكم بحرمته الخاصة فعليا لا محالة،
فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه عند الشك في بقائه. وأما على تقدير القول برجوعها
إلى الموضوع، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه لكون الموضوع حينئذ مركبا
من العصير وغليانه. وفعلية الحكم - المترتب على الموضوع المركب - متوقفة
على وجود موضوعه بتمام أجزائه، لان نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته،
ولا يمكن تحقق المعلول إلا بعد تحقق العلة بما لها من الاجزاء، فوجود أحد جزئي
الموضوع بمنزلة العدم، لعدم ترتب الحكم عليه، فلم يتحقق حكم حتى نشك في بقائه
ليكون موردا للاستصحاب. وحيث أن الصحيح في القيود هو كونها راجعة إلى الموضوع
على ما ذكرنا في مبحث الواجب المشروط، فلا مجال لجريان الاستصحاب في المقام.
137

ولا فرق فيما ذكرناه من كون القيود راجعة إلى الموضوع بحسب اللب بين أن يكون
القيد مذكورا في الكلام بعنوان الوصف، كما إذا قال المولى يجب الحج على المستطيع،
أو بعنوان الشرط، كما إذا قال يجب الحج على المكلف إن استطاع. نعم بينهما فرق
من جهة ثبوت المفهوم في الثاني دون الأول، لكنه لا دخل له فيما نحن فيه من كون
القيد راجعا إلى الموضوع دون الحكم.
فتحصل مما ذكرناه عدم تمامية الاستصحاب التعليقي. نعم هنا شئ وهو أنه
إذا كان الحكم مترتبا على الموضوع المركب. ووجد أحد اجزائه، فيحكم العقل بأنه
إن وجد جزؤه الاخر، لترتب عليه الأثر، وهذا - مع كونه حكما عقليا -
معلوم البقاء في كل مركب وجد أحد أجزائه، فلا معنى لاستصحابه. وبالجملة جريان
الاستصحاب التعليقي متوقف على القول بكون القيود راجعة إلى الحكم، وهو في غاية
السقوط على ما تقدم في مبحث الواجب المشروط، فلا يبقى مجال للاستصحاب التعليقي،
ولعله لذلك عدل الشيخ (ره) عن الاستصحاب التعليقي في مسألة العصير الزبيبي
إلى جريان الاستصحاب التنجيزي في السببية، بدعوى أن الغليان حال العنبية كان
سببا للحرمة، فالاستصحاب يقتضي بقاء السببية حال الزبيبية أيضا. وهذه السببية
لم تكن معلقة على تحقق الغليان في الخارج، حتى يقال: إن استصحاب السببية أيضا
من الاستصحاب التعليقي. وذلك لان السببية مستفادة من حكم الشارع بأن العصير
يحرم إذا غلا. ومن المعلوم أن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق الطرفين.
وفيه أن السببية من الأحكام الوضعية، وقد التزم الشيخ (ره) بأن الأحكام الوضعية
بأجمعها منتزعة من الأحكام التكليفية، فلا معنى للالتزام بعدم جريان
الاستصحاب في منشأ الانتزاع وهو التكليف. وجريان الاستصحاب في الامر الانتزاعي
وهو السببية، مع أن الامر الانتزاعي تابع لمنشأ الانتزاع. وكذا الحال على مسلكنا،
138

فانا وإن قلنا بأن بعض الأحكام الوضعية مجعول بالاستقلال على ما تقدم تفصيله، إلا أنه
قد ذكرنا أن السببية والشرطية والملازمة من الأمور الانتزاعية قطعا، وتنتزع السببية
والشرطية عن تقييد الحكم بشئ في مقام الجعل. وقد ذكرنا أن الفرق بين السبب
والشرط مجرد اصطلاح، فإنهم يعبرون عن القيد المأخوذ في التكليف بالشرط،
فيقولون: إن الاستطاعة شرط لوجوب الحج، وعن القيد المأخوذ في الوضع بالسبب،
فيقولون: العقد سبب للزوجية أو الملكية.
وبالجملة بعد الالتزام بكون الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية،
لا معنى لاستصحاب السببية. والمفروض في المقام عدم تحقق التكليف الفعلي حتى تنتزع
منه السببية. هذا. مضافا إلى أنه لا يمكن جريان الاستصحاب في السببية ولو قيل بأنها
من المجعولات المستقلة. وذلك، لأن الشك في بقاء السببية إن كان في بقائها في مرحلة
الجعل لاحتمال النسخ، فلا اشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، ولكنه
خارج عن محل الكلام، وإن كان في بقائها بالنسبة إلى مرتبة الفعلية، فلم تتحقق
السببية الفعلية بعد حتى نشك في بقائها، لان السببية الفعلية إنما هي بعد تمامية الموضوع
باجزائه، والمفروض في المقام عدم تحقق بعض اجزائه وهو الغليان، فالتحقيق أن
الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له.
بقي في المقام أمور:
(الأول) - ذكر الشيخ (ره) أن العقود التي لها آثار فعلية إذا شك
في لزومها وجوازها، يتمسك لاثبات اللزوم باستصحاب بقاء تلك الآثار الفعلية،
وإذا تمسك باستصحاب بقاء الملكية في المعاطاة وفى غير موضع من أبواب الخيارات.
وأما العقود التي ليس لها آثار فعلية، بل لها آثار تعليقية، كالوصية والتدبير والسبق
والرماية، فإنه لا يترتب على هذه العقود والايقاعات أثر فعلا، بل الأثر متوقف
139

على شئ آخر من الموت، كما في الوصية والتدبير، أو حصول السبق أو إصابة الهدف
في الخارج كما في عقد السبق والرماية، فإذا شك في لزوم هذه العقود وجوازها،
لا يجري الاستصحاب لاثبات اللزوم، لعدم ترتب أثر فعلي على هذه العقود حتى نقول:
الأصل بقاء هذا الأثر، فيكون الاستصحاب تعليقيا ولا مجال لجريانه. هذا ملخص
ما ذكره الشيخ (ره) في المقام، فالمتحصل من كلامه (ره) هو التفصيل في جريان
الاستصحاب التعليقي بين مسألة الزبيب وموارد العقود التعليقية، بالقول بجريانه في الأولى
بنحو استصحاب السببية على ما تقدم، دون الثانية.
والتحقيق يقتضي الالتزام بعكس ما ذكره الشيخ (ره)، فان ما ذكرناه
- من المانع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مسألة الزبيب - لا يجري في موارد
العقود التعليقية، لان ملخص ما ذكرناه من المانع في مسألة الزبيب، هو أن موضوع
الحرمة مركب. والمفروض أنه لم يتحقق بتمام اجزائه، فلم يتحقق حكمه لنستصحبه
وتحكم ببقائه. وهذا بخلاف موارد العقود التعليقية، فان الالتزام بمفاد العقد
من المتعاقدين قد وقع في الخارج، وأمضاه الشارع، فقد تحقق هو في عالم الاعتبار:
فإذا شك في بقائه وارتفاعه بفسخ أحد المتعاقدين، فالأصل يقتضي بقاءه وعدم ارتفاعه
بالفسخ. وبالجملة الفسخ في العقود نظير النسخ في التكاليف. وقد ذكرنا أنه لا مانع
من جريان الاستصحاب التعليقي في النسخ، فكذا لا مانع من جريانه في الفسخ.
نعم إذا بنينا على عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ، كان موارد الشك
في بقاء الحكم بعد الفسخ أيضا مثلها.
(الثاني) - لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه، فهل يعارضه
الاستصحاب التنجيزي فيسقطان بالمعارضة أم لا؟ ربما يقال بالمعارضة، فلا ثمرة للقول
بجريان الاستصحاب التعليقي. (بيان المعارضة): أن مقتضى الاستصحاب التعليقي
140

في مسألة الزبيب مثلا هو حرمته بعد الغليان، ولكن مقتضى الاستصحاب التنجيزي
حليته، فإنه كان حلالا قبل الغليان ونشك في بقاء حليته بعده، فمقتضى الاستصحاب
بقاؤها، فيقع التعارض بين الاستصحابين فيسقطان.
وقد أجيب عن المعارضة بجوابين:
(الجواب الأول) - ما ذكره المحقق النائيني (ره)، وهو أن الاستصحاب
التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي، لأن الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان
مسبب عن الشك في أن الحرمة المجعولة للعنب بعد الغليان هل هي مختصة بحال كونه
عنبا فلا تشمل حال صيرورته زبيبا، أو هي مطلقة؟ فإذا حكم بكونها مطلقة للاستصحاب
التعليقي، لم يبق شك في حرمته الفعلية، ليجري فيه الاستصحاب التنجيزي.
وفيه (أولا) - أن الشكين في رتبة واحدة، وليس أحدهما مسببا
عن الاخر، بل كلاهما مسبب عن العلم الاجمالي بأن المجعول في حق المكلف في هذه
الحالة إما الحلية أو الحرمة، وحيث أن الشك في حرمة الزبيب بعد الغليان مسبوق
بأمرين مقطوعين: أحدهما حلية هذا الزبيب قبل الغليان. وثانيهما حرمة العنب
على تقدير الغليان، فباعتبار حليته قبل الغليان يجري الاستصحاب التنجيزي، ويحكم
بحليته. وباعتبار حرمته على تقدير الغليان يجري الاستصحاب التعليقي، ويحكم بالحرمة.
وحيث لا يمكن اجتماعهما فيتساقطان بالمعارضة.
وثانيا - أنه لو سلمنا السببية والمسببية، فليس كل أصل سببي حاكما على كل
أصل مسببي، وإنما ذلك في مورد يكون الحكم في الشك المسببي من الآثار الشرعية
للأصل السببي، كما إذا غسلنا ثوبا متنجسا بماء مشكوك الطهارة، فان أصالة طهارة الماء
أو استصحابها يكون حاكما على استصحاب نجاسة الثوب، لكون طهارة الثوب
من الآثار الشرعية لطهارة الماء. بخلاف المقام فان حرمة الزبيب بعد الغليان ليست
141

من الآثار الشرعية لجعل الحرمة للعنب على تقدير الغليان مطلقا وبلا اختصاص لها بحال
كونه عنبا، بل هي من اللوازم العقلية فلا مجال للحكومة فيبقى التعارض بحاله.
(الجواب الثاني) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره). وبيانه بتوضيح منا:
أن الحلية الثابتة للزبيب قبل الغليان غير قابلة للبقاء، ولا يجري فيها الاستصحاب،
لوجود أصل حاكم عليه. وذلك، لان الحلية في العنب كانت مغياة بالغليان، إذ
الحرمة فيه كانت معلقة على الغليان، ويستحيل اجتماع الحلية المطلقة مع الحرمة على تقدير
الغليان كما هو واضح، وأما الحلية في الزبيب، فهي وإن كانت متيقنة إلا أنها
مرددة بين أنها هل هي الحلية التي كانت ثابتة للعنب بعينها - حتى تكون مغياة
بالغليان - أو أنها حادثة للزبيب بعنوانه - فتكون باقية ولو بالاستصحاب؟ والأصل
عدم حدوث حلية جديدة وبقاء الحلية السابقة المغياة بالغليان، وهي ترتفع به،
فلا تكون قابلة للاستصحاب، فالمعارضة المتوهمة غير تامة، ونظير ذلك ما ذكرناه
في بحث استصحاب الكلي: من أنه إذا كان المكلف محدثا بالحدث الأصغر،
ورأى بللا مرددا بين البول والمني فتوضأ، لم يمكن جريان استصحاب كلي الحدث،
لوجود أصل حاكم عليه، وهو أصالة عدم حدوث الجنابة وأصالة عدم تبدل الحدث
الأصغر بالحدث الأكبر، والمقام من هذا القبيل بعينه. وهذا الجواب متين جدا.
(الثالث) - لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي في الاحكام، فهل يجري
في موضوعات الاحكام ومتعلقاتها؟ فإذا وقع ثوب متنجس في حوض كان فيه الماء
سابقا، وشككنا في وجوده فيه بالفعل، فهل لنا أن نقول بأنه لو وقع الثوب في هذا
الحوض سابقا لغسل؟ ومقتضى الاستصحاب التعليقي تحقق الغسل في زمان الشك
أيضا. وكذلك إذا صلينا في اللباس المشكوك في كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه،
فهل لنا أن نقول بأن الصلاة قبل لبس هذا اللباس لو وقعت في الخارج. لم تقع في أجزاء
142

مالا يؤكل لحمه والآن كما كانت؟ وهذا المثال مبني على أن يكون مركز الاشتراط
هو نفس الصلاة كما هو ظاهر أدلة الاشتراط. وأما بناء على كون مركزه هو اللباس
أو الشخص المصلي، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب التعليقي. (بيان ذلك):
أنا إذا شككنا في كون اللباس من أجزاء غير المأكول، فبناء على كون محل الاشتراط
هو اللباس، لا يجري الاستصحاب أصلا، لعدم الحالة السابقة له، فإنه مشكوك
فيه حين وجد. نعم إذا كان اللباس من غير أجزاء مالا يؤكل يقينا فطرأ عليه طارئ.
يحتمل كونه من أجزاء مالا يؤكل، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب فيه،
بتقريب أن اللباس لم يكن فيه من أجزاء مالا يؤكل قبل طرو المشكوك فيه، والآن كما
كان بمقتضى الاستصحاب. وبناء على كون محل الاشتراط هو المكلف، يجري
الاستصحاب فيه، لكونه غير لا بس لما يكون من أجزاء غير المأكول يقينا، فبعد
لبس المشكوك فيه نشك في أنه لبس لباسا من غير المأكول أم لا، فنستصحب عدمه.
ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الشك في أصل اللباس أو فيما طرأ عليه طارئ،
فالتمسك بالاستصحاب التعليقي إنما يتصور فيما إذا كان الاشتراط راجعا إلى نفس الصلاة.
نعم إذا لبس اللباس المشكوك فيه في أثناء الصلاة، لم يكن مانع من جريان الاستصحاب
التنجيزي، فان الصلاة لم تكن مع أجزاء غير المأكول قبل لبس هذا اللباس يقينا،
ونشك في بقائها على ما كانت بعد اللبس، فالأصل بقاؤها عليه. وكيف كان، فقد
أنكر المحقق النائيني (ره) جريان الاستصحاب التعليقي في المقام، لأنه يعتبر
في الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ببقاء الجزء المقوم للموضوع مع التغير
في الحالات والأوصاف غير المقومة عرفا، والمقام ليس كذلك، لان الموضوع
في مفروض المثال إنما هو الصلاة، وليس لنا يقين بتحققها مع عدم أجزاء غير المأكول
وشك في بقائها على هذه الصفة حتى تكون موردا للاستصحاب، لعدم تحقق الصلاة
143

على الفرض، ومحل كلامه (ره) - وإن كان اللباس المشكوك فيه - ولكن يمكن
تسريته إلى مسألة الثوب المتنجس الواقع في الحوض أيضا، فان الموضوع فيها هو الغسل،
وهو لم يكن متيقنا سابقا حتى يكون مجرى للاستصحاب.
وللمناقشة فيما أفاده مجال واسع. وذلك، لما ذكرناه غير مرة وفاقا لما ذهب (ره)
إليه من أن متعلقات الاحكام ليست هي الافراد الخارجية، بل هي الطبائع الكلية
مجردة عن الخصوصيات الفردية، والفرد الخارجي مسقط للوجوب، لكونه مصداقا
للواجب لا لكونه بخصوصيته هو الواجب، فليس الموضوع للاستصحاب في المقام هو
الصلاة الواقعة في الخارج حتى يقال: إنها لم تكن موجودة حتى يشك في بقائها على صفة
من صفاتها كي تكون مجرى للاستصحاب، بل الموضوع للاستصحاب هو الطبيعة،
فنقول: إن هذه الطبيعة لو وقعت في الخارج قبل لبس هذا اللباس لكانت غير مصاحبة
مع أجزاء غير المأكول والآن كما كانت بمقتضى الاستصحاب. وليس المراد من وحدة
القضية المتيقنة والقضية المشكوكة هو بقاء الموضوع في الخارج، وإلا لم يجر الاستصحاب
فيما إذا كان الشك في بقاء نفس الوجود، كحياة زيد مثلا أو كان الشك في بقاء العدم،
مع أن جريان الاستصحاب فيهما مما لا اشكال فيه، بل المراد من وحدة القضيتين كون
الموضوع فيهما واحدا، بحيث لو ثبت الحكم في الان الثاني لعده العرف بقاء للحكم
الأول لا حكما جديدا. وفى المقام كذلك على ما ذكرناه، وكذا الكلام في مسألة
غسل الثوب، فإنه لو تحقق وقوع هذا الثوب في الحوض سابقا، لكان مغسولا
والآن كما كان بمقتضى الاستصحاب. فلا اشكال في جريان الاستصحاب التعليقي
في الموضوعات من هذه الجهة.
نعم يمكن المنع عن جريانه فيها لوجهين آخرين:
(الوجه الأول) - معارضته بالاستصحاب التنجيزي دائما ولا يجري
144

هنا الجواب الذي ذكرناه عن المعارضة بين الاستصحابين في الاحكام من أن الحكم
المنجز كان مغيى بحسب جعل المولى، فلا يجري فيه الاستصحاب التنجيزي في ظرف
تحقق الغاية. وذلك، لان الموضوع ليس قابلا للجعل التشريعي، ولا معنى لكونه
مغيى بغاية، بل هو تابع لتكونه الواقعي، فيجري فيه الاستصحاب التنجيزي
ويكون معارضا للاستصحاب التعليقي، فإنه في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك فيه
وإن اقتضى تحقق صلاة متصفة بعدم كونها مصاحبة لاجزاء غير المأكول، إلا أن مقتضى
الاستصحاب التنجيزي عدم تحقق صلاة متصفة بهذه الصفة، للعلم بعدم تحققها قبل
الاتيان بالصلاة في اللباس المشكوك فيه والآن كما كان، فتقع المعارضة بينهما لا محالة.
(الوجه الثاني) - أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه
حكما شرعيا ليقع التعبد ببقائه للاستصحاب، أو يكون ذا أثر شرعي ليقع التعبد
بترتيب أثره الشرعي، والمستصحب في المقام ليس حكما شرعيا وهو واضح ولا ذا أثر
شرعي، لان الأثر مترتب على الغسل المتحقق في الخارج، وعلى الصلاة المتحققة
في الخارج المتصفة بما يعتبر فيها من الاجزاء والشرائط. والمستصحب في المقام أمر
فرضي لا واقعي، ولا يمكن إثباتهما بالاستصحاب المذكور إلا على القول بالأصل
المثبت، فان تحققهما في الخارج من لوازم بقاء القضية الفرضية. ولا يجري هذا الاشكال
على جريان الاستصحاب التعليقي في الاحكام، لان المستصحب فيها هو المجعول الشرعي
وهو الحكم المعلق على وجود شئ، ويكون الحكم الفعلي بعد تحقق المعلق عليه ونفس
هذا الحكم المعلق لا لازمه، حتى يكون الاستصحاب المذكور بالنسبة إلى إثبات الحكم
الفعلي من الأصل المثبت. فالذي تحصل مما ذكرناه عدم جريان الاستصحاب التعليقي
في الموضوعات - ولو على فرض تسليم جريانه في الاحكام - مع أن التحقيق عدم
جريانه في الاحكام أيضا على ما تقدم بيانه، ولو قيل بجريان الاستصحاب التنجيزي
145

في الاحكام الكلية الإلهية. وقد عرفت أن التحقيق عدم جريانه فيها أيضا.
(التنبيه السابع) - في استصحاب عدم النسخ، والمعروف صحة جريان
الاستصحاب عند الشك فيه، بل عده المحدث الاسترآبادي من الضروريات، ولكنه
قد استشكل فيه باشكالين: (الأول) - مشترك بين الاستصحاب في أحكام هذه
الشريعة المقدسة، وبين الاستصحاب في احكام الشرائع السابقة، فلو تم لكان مانعا
عن جريان الاستصحاب في المقامين. و (الثاني) - مختص باستصحاب أحكام
الشرائع السابقة.
(أما الاشكال الأول)، فهو أنه يعتبر في الاستصحاب وحدة القضية
المتيقنة والمشكوكة، كما مر مرارا. والمقام ليس كذلك، لتعدد الموضوع في القضيتين،
فان من ثبت في حقه الحكم يقينا قد انعدم، والمكلف الموجود الشاك في النسخ لم يعلم
ثبوت الحكم في حقه من الأول، لاحتمال نسخه، فالشك بالنسبة إليه شك في ثبوت
التكليف لا في بقائه بعد العلم بثبوته، ليكون موردا للاستصحاب، فيكون اثبات
الحكم له اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر. وهذا الاشكال يجري في أحكام
هذه الشريعة أيضا، فان من علم بوجوب صلاة الجمعة عليه هو الذي كان موجودا
في زمان الحضور. وأما المعدوم في زمان الحضور، فهو شاك في ثبوت وجوب صلاة
الجمعة عليه من الأول.
وقد أجاب الشيخ (ره) عن هذا الاشكال بجوابين:
(الأول) - أنا نفرض الكلام في من أدرك الشريعتين أو أدرك
الزمانين، فيثبت الحكم في حقه بأصالة عدم النسخ، وفى حق غيره بقاعدة الاشتراك
في التكليف.
وفيه أن إثبات الحكم بقاعدة الاشتراك إنما هو مع عدم الاختلاف في الصفة
146

المعبر عنه بالوحدة الصنفية، فلا يجوز اثبات تكليف المسافر للحاضر وبالعكس بقاعدة
الاشتراك. والحكم في المقام بما أنه ليس من الحكم الواقعي المستفاد من الامارة
بلا لحاظ اليقين والشك، بل من الاحكام الظاهرية المستفادة من الاستصحاب على الفرض،
فلا يمكن تسرية الحكم الثابت على من تيقن وشك إلى غيره، فان قاعدة الاشتراك
وإن كانت جارية في الاحكام الظاهرية أيضا، إلا أنها إنما تجري مع حفظ الموضوع
للحكم الظاهري: مثلا إذا ثبت الحكم بالبراءة لاحد عند الشك في التكليف، يحكم
لغيره أيضا بالبراءة إذا شك في التكليف، لقاعدة الاشتراك. ولا يعقل إثبات الحكم
بالبراءة لغير الشاك بقاعدة الاشتراك، ففي المقام مقتضى قاعدة الاشتراك ثبوت الحكم
لكل من تيقن بالحكم ثم شك في بقائه، لا ثبوته لجميع المكلفين حتى من لم يكن
متيقنا بالحكم وشاكا في بقائه. فالحكم الثابت في حق من أدرك الشريعتين أو الزمانين
لأجل الاستصحاب لا يثبت في حق غيره لقاعدة الاشتراك، لعدم كونه من مصاديق
الموضوع، فان مفاد القاعدة عدم اختصاص الحكم بشخص دون شخص، فيعم كل
من تيقن بالحكم فشك في بقائه، لا أن الحكم ثابت للجميع ولو لم يكن كذلك،
بل كان شاكا في حدوثه كما في المقام.
(الثاني) - ما ذكره الشيخ (ره) وارتضاه غير واحد من المتأخرين أيضا،
وهو أن توهم دخل خصوصية هؤلاء الأشخاص مبني على أن تكون الاحكام مجعولة
على نحو القضايا الخارجية، وليس الامر كذلك، فان التحقيق أنها مجعولة على نحو
القضايا الحقيقية، فلا دخل لخصوصية الافراد في ثبوت الحكم لها، بل الحكم ثابت
للطبيعة أين ما سرت من الافراد الموجودة بالفعل وما يوجد بعد ذلك، فلو كان
هذا الشخص موجودا في زمان الشريعة السابقة، لكان الحكم ثابتا في حقه بلا اشكال،
فليس القصور في ثبوت الحكم من ناحية المقتضي، إنما الكلام في احتمال الرافع وهو
147

النسخ، فيرجع إلى أصالة عدم النسخ، ولا مانع منه من جهة اعتبار وحدة الموضوع
في القضيتين، إذ الوحدة حاصلة بعد كون الموضوع هي الطبيعة لا الافراد. هذا.
وفيه أن النسخ في الأحكام الشرعية إنما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم،
لان النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا غير مرة أن الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول، فلما أن يجعل
المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد، وإما أن يجعله ممتدا إلى وقت معين.
وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين
في زمان الحضور. وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فان الشك في نسخها
شك في ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين لا شك في بقائه بعدم العلم بثبوته، فان احتمال
البداء مستحيل في حقه تعالى، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب.
وتوهم أن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين،
مدفوع بأن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية معناه عدم دخل خصوصية الافراد
في ثبوت الحكم، لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة، فإذا شككنا في أن
المحرم هو الخمر مطلقا، أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب، كان الشك في حرمة
الخمر المأخوذ من غير العنب شكا في ثبوت التكليف. ولا مجال لجريان الاستصحاب
معه. والمقام من هذا القبيل، فانا نشك في أن التكليف مجعول لجميع المكلفين أو هو
مختص بمدركي زمان الحضور، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غير المدركين شكا
في ثبوت التكليف لا في بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب حينئذ إلا على نحو
الاستصحاب التعليقي، بأن يقال: لو كان هذا المكلف موجودا في ذلك الزمان لكان
هذا الحكم ثابتا في حقه، والآن كما كان. لكنك قد عرفت عدم حجية
الاستصحاب التعليقي.
148

فالتحقيق: أن هذا الاشكال لا دافع له، وأن استصحاب عدم النسخ
مما لا أساس له، فان كان لدليل الحكم عموم أو اطلاق يستفاد منه استمرار الحكم،
فهو المتبع، وإلا فان دل دليل من الخارج على استمرار الحكم كقوله (ع):
" حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة "
فيؤخذ به، وإلا فلا يمكن اثبات الاستمرار باستصحاب عدم النسخ. فما ذكره المحدث
الاسترآبادي - من أن استصحاب عدم النسخ من الضروريات - إن كان مراده
الاستصحاب المصطلح، فهو غير تام، وان كان مراده نتيجة الاستصحاب ولو من جهة
الأدلة الدالة على الاستمرار، فهو خارج عن محل الكلام.
و (أما الاشكال الثاني) على استصحاب عدم النسخ المختص باستصحاب احكام
الشرائع السابقة، فهو ما ذكره المحقق النائيني (ره). وحاصله أن تبدل الشريعة
السابقة بالشريعة اللاحقة إن كان بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة - بحيث
لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقا لما في الشريعة السابقة. لكان الحكم المجعول
في الشريعة اللاحقة مماثلا للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاء له - فيكون مثل
إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع مجعولا في كل شريعة مستقلا، غاية
الامر أنها أحكام متماثلة، فعدم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ واضح،
للقطع بارتفاع جميع أحكام الشريعة السابقة، فلا يبقى مجال للاستصحاب. نعم يحتمل
أن يكون المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلا للمجعول في الشريعة السابقة، كما يحتمل
أن يكون مخالفا له. وكيف كان لا يحتمل بقاء الحكم الأول، وإن كان تبدل الشريعة
بمعنى نسخ بعض أحكامها لا جميعها، فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وإن كان
محتملا، إلا أنه يحتاج إلى الامضاء في الشريعة اللاحقة، ولا يمكن اثبات الامضاء
باستصحاب عدم النسخ إلا على القول بالأصل المثبت.
149

وفيه أن نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة - وإن كان مانعا عن جريان
استصحاب عدم النسخ - إلا أن الالتزام به بلا موجب، فإنه لا داعي إلى جعل
إباحة شرب الماء مثلا في الشريعة اللاحقة مماثلة للإباحة التي كانت في الشريعة السابقة.
والنبوة ليست ملازمة للجعل، فان النبي هو المبلغ للأحكام الإلهية.
وأما ما ذكره من أن بقاء حكم الشريعة السابقة يحتاج إلى الامضاء في الشريعة
اللاحقة، فهو صحيح، إلا أن نفس أدلة الاستصحاب كافية في اثبات الامضاء،
وليس التمسك به من التمسك بالأصل المثبت، فان الأصل المثبت إنما هو فيما إذا وقع التعبد
بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب. وفي المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الامضاء،
فكما لو ورد دليل خاص على وجوب البناء على بقاء أحكام الشريعة السابقة إلا فيما علم
النسخ فيه، يجب التعبد به، فيحكم بالبقاء في غير ما علم نسخه، ويكون هذا الدليل
الخاص دليلا على الامضاء. فكذا في المقام، فان أدلة الاستصحاب تدل على وجوب
البناء على البقاء في كل متيقن شك في بقائه، سواء كان من أحكام الشريعة السابقة
أو من أحكام هذه الشريعة المقدسة. أو من الموضوعات الخارجية، فلا اشكال
في استصحاب عدم النسخ من هذه الجهة. والعمدة في منعه هو ما ذكرناه.
وأما ما قيل - في وجه المنع من أن العلم الاجمالي بنسخ كثير من الاحكام مانع
عن التمسك باستصحاب عدم النسخ - فهو مدفوع بأن محل الكلام إنما هو بعد انحلال
العلم الاجمالي بالظفر بعدة من موارد النسخ. والاشكال من ناحية العلم الاجمالي غير مختص
بالمقام، فقد استشكل به في موارد: (منها) - العمل بالعام مع العلم الاجمالي بالتخصيص
و (منها) - العمل بأصالة البراءة مع العلم الاجمالي بتكاليف كثيرة. و (منها) - المقام.
والجواب في الجميع هو ما ذكرناه من أن محل الكلام بعد الانحلال.
(التنبيه الثامن) - في البحث عن الأصل المثبت، وأنه هل تترتب
150

بالاستصحاب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية للمتيقن؟ ولا يخفى
أن مورد البحث ما إذا كانت الملازمة بين المستصحب ولوازمه في البقاء فقط، لأنه
لو كانت الملازمة بينهما حدوثا وبقاء، كان اللازم بنفسه متعلق اليقين والشك،
فيجري الاستصحاب في نفسه بلا احتياج إلى الالتزام بالأصل المثبت. وأما إذا كانت
الملازمة في البقاء فقط، فاللازم بنفسه لا يكون مجرى للاستصحاب، لعدم كونه متيقنا
سابقا، فهذا هو محل الكلام في اعتبار الأصل المثبت وعدمه. وذلك: كما إذا شككنا
في وجود الحاجب وعدمه عند الغسل، فبناء على الأصل المثبت يجري استصحاب عدم
وجود الحاجب، ويترتب عليه وصول الماء إلى البشرة، فيحكم بصحة الغسل - مع
أن وصول الماء إلى البشرة لم يكن متيقنا سابقا - وبناء على عدم القول به، لابد
من اثبات وصول الماء إلى البشرة من طريق آخر غير الاستصحاب، وإلا لم يحكم بصحة
الغسل. وحيث إن المشهور حجية مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول، فلابد
من بيان الفرق بين الأصل والامارة، ثم بيان وجه حجية مثبتات الامارة دون الأصل،
فنقول: المشهور بينهم أن الفرق بين الأصول والامارات: أن الجهل بالواقع والشك
فيه مأخوذ في موضوع الأصول دون الامارات، بل الموضوع المأخوذ في لسان أدلة
حجيتها هو نفس الذات بلا تقييد بالجهل والشك، كما في قوله تعالى: (إن جاء كم
فاسق بنبأ فتبينوا...) فان الموضوع للحجية بمفاد المفهوم هو إتيان غير الفاسق بالنبأ
من دون اعتبار الجهل فيه، وكذا قوله (ع): " لا عذر لاحد في التشكيك فيما
يرويه ثقاتنا " فان موضوع الحجية فيه هو رواية الثقة بلا تقييد بأمر آخر.
هذا هو المشهور بينهم.
وللمناقشة فيه مجال واسع، لان الأدلة الدالة على حجية الامارات وان كانت
مطلقة بحسب اللفظ، إلا أنها مقيدة بالجهل بالواقع بحسب اللب. وذلك، لما ذكرناه
151

غير مرة من أن الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول، فلا محالة تكون حجية
الامارات إما مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل، أو مقيدة بالعالم، أو مختصة بالجاهل.
ولا مجال للالتزام بالأول والثاني، فإنه لا يعقل كون العمل بالامارة واجبا على العالم
بالواقع، وكيف يعقل أن يجب على العالم بوجوب شئ أن يعمل بالامارة الدالة
على عدم الوجوب مثلا، فبقي الوجه الأخير، وهو كون العمل بالامارة مختصا بالجاهل،
وهو المطلوب. فدليل الحجية في مقام الاثبات وإن لم يكن مقيدا بالجهل، إلا أن
الحجية مقيدة به بحسب اللب ومقام الثبوت. مضافا إلى أنه في مقام الاثبات أيضا مقيد
به في لسان بعض الأدلة، كقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
فقد استدل به على حجية الخبر تارة، وعلى حجية فتوى المفتي أخرى. وكلاهما
من الامارات وقيد بعدم العلم بالواقع. فلا فرق بين الامارات والأصول من هذه الجهة.
فما ذكروه - من أن الجهل بالواقع مورد للعمل بالامارة وموضوع للعمل بالأصل - مما
لا أساس له.
وذكر صاحب الكفاية (ره) وجها آخر: وهو أن الأدلة الدالة على اعتبار
الامارات تدل على حجيتها بالنسبة إلى مدلولها المطابقي ومدلولها الالتزامي، فلا قصور
من ناحية المقتضي في باب الامارات. بخلاف الاستصحاب. فان مورد التعبد فيه هو
المتيقن الذي شك في بقائه، وليس هذا إلا الملزوم دون لازمه، فلا يشمله دليل
الاستصحاب، فإذا قد رجل تحت اللحاف نصفين ولم يعلم أنه كان حيا، فباستصحاب
الحياة لا يمكن إثبات القتل، لان مورد التعبد الاستصحابي هو المتيقن الذي شك
في بقائه وهو الحياة دون القتل. وكذا غيره من الأمثلة التي ذكرها الشيخ (ره).
ولا يمكن الالتزام بترتب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية - لأجل
القاعدة المعروفة، وهي أن أثر الأثر أثر على طريقة قياس المساواة، لان هذه الكلية
152

مسلمة فيما كانت الآثار الطولية من سنخ واحد، بأن كان كلها آثارا عقلية، أو آثارا
شرعية، كما في الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ونجاسة ملاقي الملاقي وهكذا، فحيث
أن لازم نجاسة الشئ نجاسة ملاقيه ولازم نجاسة الملاقي نجاسة ملاقي الملاقي وهكذا، فكل
هذه اللوازم الطولية شرعية، فتجري قاعدة أن أثر الأثر أثر، بخلاف المقام،
فان الأثر الشرعي لشئ لا يكون أثر شرعيا لما يستلزمه عقلا أو عادة، فلا يشمله
دليل حجية الاستصحاب.
وفيه أن عدم دلالة أدلة الاستصحاب على التعبد بالآثار الشرعية المترتبة
على اللوازم العقلية أو العادية - وإن كان مسلما - إلا أن دلالة أدلة حجية الخبر
على حجيته حتى بالنسبة إلى اللازم غير مسلم، لان الأدلة تدل على حجية الخبر - والخبر
والحكاية من العناوين القصدية - فلا يكون الاخبار عن الشئ إخبارا عن لازمه،
إلا إذا كان اللازم لازما بالمعنى الأخص، وهو الذي لا ينفك تصوره عن تصور
الملزوم، أو كان لازما بالمعنى الأعم مع كون المخبر ملتفتا إلى الملازمة. فحينئذ يكون
الاخبار عن الشئ اخبارا عن لازمه، بخلاف ما إذا كان اللازم لازما بالمعنى الأعم
ولم يكن المخبر ملتفتا إلى الملازمة، أو كان منكرا لها، فلا يكون الاخبار عن الشئ
إخبارا عن لازمه، فلا يكون الخبر حجة في مثل هذا اللازم، لعدم كونه خبرا
بالنسبة إليه، فإذا أخبر أحد عن ملاقاة يد زيد للماء القليل مثلا، مع كون زيد كافرا
في الواقع، ولكن المخبر عن الملاقاة منكر لكفره، فهو مخبر عن الملزوم وهو الملاقاة،
ولا يكون مخبرا عن اللازم وهو نجاسة الماء، لما ذكرناه من أن الاخبار من العناوين
القصدية، فلا يصدق إلا مع الالتفات والقصد، ولذا ذكرنا في محله وفاقا للفقهاء:
أن الاخبار - عن شئ يستلزم تكذيب النبي أو الامام عليهم السلام - لا يكون كفرا،
إلا مع التفات المخبر بالملازمة. وبالجملة إن ما أفاده (ره) - في وجه عدم حجية المثبت
153

في باب الاستصحاب - متين، إلا أن ما ذكره - في وجه حجيته في باب الامارات
من أن الاخبار عن الملزوم اخبار عن لازمه فتشمله أدلة حجية الخبر - غير
سديد، لما عرفت.
وذكر المحقق النائيني (ره) وجها ثالثا وهو أن المجعول في باب الامارات هي
الطريقية واعتبارها علما بالتعبد، كما يظهر ذلك من الاخبار المعبرة - عمن قامت
عنده الامارة - بالعارف كقوله (ع): " من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف
أحكامنا... " فيكون من قامت عنده الامارة عارفا تعبديا بالأحكام، فكما أن العلم
الوجداني بالشئ يقتضي ترتب آثاره وآثار لوازمه، فكذلك العلم التعبدي الجعلي،
بخلاف الاستصحاب، فان المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق،
وحيث أن اللازم لم يكن متيقنا، فلا وجه للتعبد به، فالفرق بين الامارة والأصل
من ناحية المجعول.
وفيه (أولا) - عدم صحة المبنى، فان المجعول في باب الاستصحاب
أيضا هو الطريقية، واعتبار غير العالم عالما بالتعبد، فإنه الظاهر من الامر بابقاء اليقين
وعدم نقضه بالشك، فلا فرق بين الامارة والاستصحاب من هذه الجهة، بل التحقيق
أن الاستصحاب أيضا من الامارات، ولا ينافي ذلك تقديم الامارات عليه، لان كونه
من الامارات لا يقتضي كونه في عرض سائر الامارات، فان الامارات الاخر أيضا
بعضها مقدم على بعض، فان البينة مقدمة على اليد، وحكم الحاكم مقدم على البينة،
والاقرار مقدم على حكم الحاكم. وسيأتي وجه تقديم الامارات على الاستصحاب
انشاء الله تعالى:
و (ثانيا) - أنا ننقل الكلام إلى الامارات، فإنه لا دليل على حجية
مثبتاتها. وما ذكره - من أن العلم الوجداني بشئ يقتضي ترتب جميع الآثار
154

حتى ما كان منها بتوسط اللوازم العقلية أو العادية، فكذا العلم التعبدي - غير تام،
لان العلم الوجداني إنما يقتضي ذلك، لأنه من العلم بالملزوم يتولد العلم باللازم بعد الالتفات
إلى الملازمة، فترتب آثار اللازم ليس من جهة العلم بالملزوم، بل من جهة العلم بنفس
اللازم المتولد من العلم بالملزوم. ولذا يقولون: إن العلم بالنتيجة يتولد من العلم بالصغرى
والعلم بالكبرى، فان العلم بالصغرى هو العلم بالملزوم، والعلم بالكبرى هو العلم
بالملازمة، فيتولد من هذين العلمين العلم الوجداني باللازم وهو العلم بالنتيجة، بخلاف
العلم التعبدي المجعول، فإنه لا يتولد منه العلم الوجداني باللازم - وهو واضح -
ولا العلم التعبدي به، لان العلم التعبدي تابع الدليل التعبد، وهو مختص بالملزوم دون
لازمه، لما عرفت من أن المخبر إنما أخبر عنه لا عن لازمه.
فالذي تحصل - مما ذكرناه في المقام - أن الصحيح عدم الفرق بين الامارات
والاستصحاب، وعدم حجية المثبتات في المقامين، فان الظن في تشخيص القبلة
وان كان من الامارات المعتبرة بمقتضى روايات خاصة واردة في الباب، لكنه إذا ظن
المكلف بكون القبلة في جهة، وكان دخول الوقت لازما لكون القبلة في هذه الجهة
لتجاوز الشمس عن سمت الرأس على تقدير كون القبلة في هذه الجهة، فلا ينبغي الشك
في عدم صحة ترتيب هذا اللازم وهو دخول الوقت، وعدم جواز الدخول في الصلاة. نعم
تكون مثبتات الامارة حجة في باب الاخبار فقط، لأجل قيام السيرة القطعية من العقلاء
على ترتيب اللوازم على الاخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الاقرار
والبينة وخبر العادل يترتب جميع الآثار ولو كانت بوساطة اللوازم العقلية أو العادية،
وهذا مختص بباب الاخبار، وما يصدق عليه عنوان الحكاية دون غيره
من الامارات.
بقي أمران لابد من التنبيه عليهما:
155

(الامر الأول) - أنه لو قلنا بحجية الأصل المثبت في نفسه بمعنى ترتب
الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية أو العادية، فهل يكون معارضا باستصحاب
عدم تلك اللوازم لكونها مسبوقة بالعدم فتكون الأصول المثبتة ساقطة عن الحجية
لابتلائها بالمعارض دائما أم لا؟ ذكر الشيخ (ره) أنه على تقدير القول بحجية الأصل
المثبت لا معنى لمعارضته باستصحاب عدم اللازم، لكون استصحاب بقاء الملزوم حاكما
على استصحاب عدم اللازم، فان استصحاب بقاء الملزوم على تقدير حجية الأصل المثبت
يرفع الشك في اللازم، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب فيه، فان الآثار الشرعية
الثابتة بتوسط اللوازم العقلية أو العادية، تكون حينئذ كالآثار الشرعية التي ليست لها
واسطة في عدم معقولية المعارضة بين استصحاب بقاء الملزوم واستصحاب عدم اللازم،
فلو تم التعارض هنا، لتم هناك أيضا، لكونها أيضا مسبوقة بالعدم، فكما أن
استصحاب الطهارة في الماء يرفع الشك في نجاسة الثوب المغسول به - ولا مجال لجريان
استصحاب النجاسة كي يقع التعارض بينه وبين استصحاب طهارة الماء - فكذا الحال
في الآثار الشرعية مع الوسائط العقلية أو العادية على القول بحجية الأصل المثبت هذا.
والصحيح في المقام هو التفصيل: فان اعتبار الأصل المثبت يتصور على أنحاء:
(الأول) - أن نقول باعتباره من جهة القول بأن حجية الاستصحاب
لأجل إفادته الظن بالبقاء، وأن الظن بالملزوم يستلزم الظن باللازم لا محالة. وعليه
فلا معنى للمعارضة بين الاستصحابين، لأنه بعد حصول الظن باللازم بجريان الاستصحاب
في الملزوم لا يبقى مجال لاستصحاب عدم اللازم، ولا يمكن حصول الظن بعدمه من الاستصحاب
المذكور، لعدم إمكان اجتماع الظن بوجود شئ مع الظن بعدمه. فما ذكره الشيخ (ره)
صحيح على هذا المبنى.
(الثاني) - أن نقول بحجية الأصل المثبت، لأجل أن التعبد بالملزوم
156

بترتيب آثاره الشرعية يقتضي التعبد باللازم بترتيب آثاره الشرعية أيضا، فتكون
اللوازم كالملزومات موردا للتعبد الشرعي، ولا معنى للتعارض على هذا المبنى أيضا،
فإنه بعد البناء على تحقق اللازم تعبدا لا يبقى شك فيه حتى يجري الاستصحاب
في عدمه. فما ذكره الشيخ (ره) من الحكومة وإن كان صحيحا على هذا المبنى
أيضا، إلا أن اثبات هذا المعنى على القول بحجية الأصل المثبت دونه خرط القتاد.
(الثالث) - أن نقول به من جهة أن التعبد بالملزوم - المدلول عليه بأدلة
الاستصحاب - عبارة عن ترتب جميع آثاره الشرعية حتى الآثار مع الواسطة، فان
هذه الآثار أيضا آثار للملزوم، لان أثر الأثر أثر. وعلى هذا المبنى يقع التعارض
بين الاستصحابين، لان اللازم على هذا المبنى ليس بنفسه موردا للتعبد بالاستصحاب
الجاري في الملزوم، وحيث كان مسبوقا بالعدم، فيجري استصحاب العدم فيه،
ومقتضاه عدم ترتب آثاره الشرعية، فيقع التعارض بينه وبين الاستصحاب الجاري
في الملزوم في خصوص هذه الآثار.
وبعبارة أخرى على هذا المبنى لنا يقينان: يقين بوجود الملزوم سابقا، ويقين
بعدم اللازم سابقا، فبمقتضى اليقين بوجود الملزوم يجري الاستصحاب فيه، ومقتضاه
ترتيب جميع آثاره الشرعية حتى آثاره التي تكون مع الواسطة، وبمقتضى اليقين بعدم
اللازم يجري استصحاب العدم فيه، ومقتضاه عدم ترتيب آثاره الشرعية التي كانت
آثارا للملزوم مع الواسطة، فيقع التعارض بين الاستصحابين في خصوص هذه الآثار.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا يمكن القول باعتبار الأصل المثبت من جهة عدم المقتضي،
لعدم دلالة أدلة الاستصحاب على لزوم ترتيب الآثار مع الواسطة العقلية أو العادية،
ومن جهة وجود المانع والابتلاء بالمعارض على تقدير تسليم بوجود المقتضي له.
(الامر الثاني) - أنه استثنى الشيخ (ره) من عدم حجية الأصل المثبت
157

ما إذا كانت الواسطة خفية، بحيث يعد الأثر أثرا لذي الواسطة في نظر العرف
- وإن كان في الواقع أثرا للواسطة - كما في استصحاب عدم الحاجب، فان صحة
الغسل ورفع الحدث وان كان في الحقيقة اثرا لوصول الماء إلى البشرة، إلا أنه بعد صب
الماء على البدن يعد اثرا لعدم الحاجب عرفا.
وزاد صاحب الكفاية موردا آخر لاعتبار الأصل المثبت، وهو ما إذا كانت
الواسطة بنحو لا يمكن التفكيك بينها وبين ذي الواسطة في التعبد عرفا، فتكون بينهما
الملازمة في التعبد عرفا، كما أن بينهما الملازمة بحسب الوجود واقعا، أو كانت الواسطة
بنحو يصح انتساب أثرا إلى ذي الواسطة، كما يصح انتسابه إلى نفس الواسطة، لوضوح
الملازمة بينهما. ومثل له في هامش الرسائل بالعلة والمعلول (تارة) وبالمتضائفين
(أخرى) بدعوى أن التفكيك بين العلة والمعلول في التعبد مما لا يمكن عرفا، وكذا
التفكيك بين المتضائفين، فإذا دل دليل على التعبد بأبوة زيد لعمرو مثلا، فيدل
على التعبد ببنوة عمرو لزيد، فكما يترتب اثر أبوة زيد لعمرو كوجوب الانفاق لعمرو
مثلا، كذا يترتب أثر بنوة عمرو لزيد كوجوب إطاعة زيد مثلا، لأنه كما يجب على الأب
الانفاق للابن، كذلك يجب على الابن إطاعة الأب. والأول أثر للأبوة، والثاني
أثر للبنوة مثلا، أو نقول إن أثر البنوة أثر للأبوة أيضا، لوضوح الملازمة بينهما،
فكما يصح انتساب وجوب الإطاعة إلى البنوة، كذا يصح انتسابه إلى الأبوة أيضا.
وكذا الكلام في الاخوة، فإذا دل دليل على التعبد بكون زيد أخا لهند مثلا، فيدل
على التعبد بكون هند أختا لزيد، لعدم امكان التفكيك بينهما في التعبد عرفا، أو نقول
يصح انتساب الأثر إلى كل منهما لشدة الملازمة بينهما، فكما يصح انتساب حرمة
التزويج إلى كون زيد أخا لهند، كذا يصح انتسابها إلى كون هند أختا لزيد. وهكذا
سائر المتضائفات.
158

أقول: أما ما ذكره الشيخ (ره) - من كون الأصل المثبت حجة مع خفاء
الواسطة لكون الأثر مستندا إلى ذي الواسطة بالمسامحة العرفية - ففيه أنه لا مساغ
للاخذ بهذه المسامحة، فان الرجوع إلى العرف إنما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشك
فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة، لان موضوع الحجية هو الظهور العرفي،
فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف، سواء كان الظهور من جهة الوضع
أو من جهة القرينة المقالية والحالية، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والاخذ بمسامحاتهم
بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي، كما هو المسلم في مسألة الكر، فإنه بعد
ما دل الدليل على عدم انفعال الماء إذا كان بقدر الكر الذي هو الف ومأتا رطل،
ولكن العرف يطلقونه على أقل من ذلك بقليل من باب المسامحة، فإنه لا يجوز الاخذ
بها والحكم بعدم انفعال الأقل، بل يحكم بنجاسته. وكذا في مسألة الزكاة بعد تعيين
النصاب شرعا بمقتضى الفهم العرفي من الدليل لا يمكن الاخذ بالمسامحة العرفية، ففي مثل
استصحاب عدم الحاجب إن كان العرف يستظهر من الأدلة أن صحة الغسل من آثار
عدم الحاجب مع صب الماء على البدن، فلا يكون هذا استثناء من عدم حجية الأصل
المثبت، لكون الأثر حينئذ أثرا لنفس المستصحب لا للازمه، وإن كان العرف
معترفا بأن المستظهر منها أن الأثر أثر للواسطة - كما هو الصحيح - فان رفع
الحدث وصحة الغسل من آثار تحقق الغسل لامن آثار عدم الحاجب عند صب الماء،
فلا فائدة في خفاء الواسطة بعد عدم كون الأثر أثرا للمستصحب، فهذا الاستثناء
مما لا يرجع إلى محصل.
وأما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) - من حجية الأصل المثبت فيما إذا لم يمكن
التفكيك في التعبد بين المستصحب ولازمه عرفا، أو كانت الواسطة بنحو يعد أثرها
أثرا للمستصحب لشدة الملازمة بينهما - فصحيح من حيث الكبرى، فإنه لو ثبتت
159

الملازمة في التعبد في مورد، فلا اشكال في الاخذ بها، إلا أن الاشكال في الصغرى،
لعدم ثبوت هذه الملازمة في مورد من الموارد، وما ذكره في المتضائفات - من الملازمة
في التعبد مسلم إلا أنه خارج عن محل الكلام، إذ الكلام فيما إذا كان الملزوم
فقط موردا للتعبد ومتعلقا لليقين والشك، كما ذكرنا في أول هذا التنبيه. والمتضائفان
كلاهما مورد للتعبد الاستصحابي، فإنه لا يمكن اليقين بأبوة زيد لعمرو بلا يقين ببنوة
عمرو لزيد، وكذا سائر المتضائفات فيجري الاستصحاب في نفس اللازم بلا احتياج
إلى القول بالأصل المثبت. هذا إن كان مراده عنوان المتضائفين كما هو الظاهر،
وإن كان مراده ذات المتضائفين، بأن كان ذات زيد وهو الأب موردا للتعبد
الاستصحابي، كما إذا كان وجوده متيقنا فشك في بقائه وأردنا أن نرتب على بقائه وجود
الابن مثلا. بدعوى الملازمة بين بقائه إلى الان وتولد الابن منه، فهذا من أوضح
مصاديق الأصل المثبت، ولا تصح دعوى الملازمة العرفية بين التعبد ببقاء زيد والتعبد
بوجود ولده، فان التعبد ببقاء زيد وترتيب آثاره الشرعية، كحرمة تزويج زوجته
مثلا، وعدم التعبد بوجود الولد له بمكان من الامكان عرفا، فإنه لا ملازمة بين بقائه
الواقعي ووجود الولد، فضلا عن البقاء التعبدي.
وأما ما ذكره - من عدم امكان التفكيك في التعبد بين العلة والمعلول: فان كان
مراده من العلة هي العلة التامة - ففيه ما ذكرنا في المتضائفين من الخروج عن محل
الكلام، لعدم امكان اليقين بالعلة التامة بلا يقين بمعلولها، فتكون العلة والمعلول
كلاهما متعلقا لليقين والشك وموردا للتعبد بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت. وإن
كان مراده العلة الناقصة (اي جزء العلة) بأن يراد بالاستصحاب اثبات جزء العلة
مع ثبوت الجزء الاخر بالوجدان، فبضم الوجدان إلى الأصل يثبت وجود المعلول ويحكم
بترتب الأثر، كما في استصحاب عدم الحاجب، فإنه بضم صب الماء بالوجدان
160

إلى الأصل المذكور، يثبت وجود الغسل في الخارج ويحكم برفع الحدث، ففيه أنه
لا ملازمة بين التعبد بالعلة الناقصة والتعبد بالمعلول عرفا، كيف؟ ولو استثني من الأصل
المثبت هذا، لما بقي في المستثنى منه شئ، ويلزم الحكم بحجية جميع الأصول المثبتة،
فان الملزوم ولازمه إما أن يكونا من العلة الناقصة ومعلولها، وإما ان يكونا معلولين لعلة
ثالثة. وعلى كلا التقديرين يكون استصحاب الملزوم موجبا لاثبات اللازم بناء على الالتزام
بهذه الملازمة، فلا يبقى مورد لعدم حجية الأصل المثبت.
فالذي تحصل مما ذكرناه عدم حجية الأصل المثبت مطلقا، لعدم دلالة اخبار
الباب على أزيد من التعبد بما كان متيقنا وشك في بقائه، فلا دليل على التعبد بآثار
ما هو من لوازم المتيقن.
ثم إنه قد تمسك جماعة من القدماء في عدة من الفروع بالأصل المثبت،
إما لأجل الالتزام بحجيته، وإما لأجل عدم الالتفات إلى عدم شمول الأدلة له، فان
مسألة عدم حجية الأصل المثبت من المسائل المستحدثة، ولم تكن معنونة في كلمات
القدماء. وكيف كان ينبغي لنا التكلم في جملة من هذه الفروع التي نسب إليهم التمسك
فيها بالأصل المثبت:
(الفرع الأول) - ما إذا لاقى شئ نجسا أو متنجسا، وكان الملاقي
أو الملاقى رطبا قبل الملاقاة، فشككنا في أن الرطوبة كانت باقية حين الملاقاة أم لا؟
فتمسكوا باستصحاب الرطوبة وحكموا بنجاسة الملاقي، فان قلنا بكون موضوع التنجس
بالملاقاة مركبا من الملاقاة والرطوبة في أحد الطرفين، فلا اشكال في جريان استصحاب
الرطوبة ولا يكون من الأصل المثبت، لان أحد جزئي الموضوع محرز الوجدان وهو
الملاقاة، والجزء الاخر محرز بالأصل وهو الرطوبة، فيترتب الأثر حينئذ وهو الحكم
بنجاسة الملاقي. وان قلنا بأن موضوعه هي السراية وأنه لا يحكم بنجاسة الملاقي - ولو مع العلم
161

بالرطوبة إذا كانت ضعيفة غير موجبة للسراية - فلا مجال لاستصحاب الرطوبة،
لكونه من الأصل المثبت، فان الأثر الشرعي على هذا المبنى مترتب على السراية،
وهو شئ بسيط ولم يكن متيقنا حتى يكون موردا للتعبد الاستصحابي، بل هو من اللوازم
العادية لبقاء الرطوبة، فالحكم بالنجاسة لاستصحاب الرطوبة متوقف على القول بالأصل
المثبت. والصحيح من الوجهين هو الثاني، لأنه لم يرد بيان من الشارع يستفاد منه
موضوع التنجس، فلا محالة يكون بيانه موكولا إلى العرف. ومن الظاهر أن العرف
لا يحكم بالقذارة العرفية إلا في مورد السراية. هذا كله في غير الحيوان. وأما في الحيوان
كما إذا وقع ذباب على النجاسة الرطبة، فطار ووقع في الثوب أو في إناء ماء مثلا،
وشككنا في بقاء رطوبتها حين الملاقاة، ففيه تفصيل: فإنه إن قلنا بأن الحيوان لا ينجس
أصلا كما هو أحد القولين: فان كانت الرطوبة باقية حين الملاقاة، صار الثوب أو إناء
الماء نجسا لملاقاته هذه الرطوبة لا لأجل ملاقاته للذباب، فإذا شك في وجودها فلا مجال
للتمسك باستصحابها، لكونه من أوضح مصاديق الأصل المثبت، حتى على القول
بكون الموضوع مركبا من الملاقاة والرطوبة، لعدم احراز ملاقاة النجاسة حينئذ،
لاحتمال جفاف الرطوبة، فلا تكون هناك نجاسة حتى تتحقق ملاقاتها. واستصحاب
الرطوبة لا يثبت ملاقاة النجاسة إلا على القول بالأصل المثبت.
وبعبارة أخرى بناء على القول بعدم تنجس الحيوان، لا يمكن الحكم بنجاسة
الملاقي في مفروض المثال حتى على القول بكون موضوع التنجس هي الملاقاة. ورطوبة
أحد المتلاقيين، فان ملاقاة النجس غير محرزة بالوجدان لينضم إليها إحراز الرطوبة
بالأصل، فلابد من إثبات الملاقاة بجريان الاستصحاب في الرطوبة. ولا ينبغي الشك
في أنه من أوضح مصاديق الأصل المثبت.
وأما إذا قلنا بأن الحيوان ينجس بملاقاة النجاسة ولكنه يطهر بزوال العين
162

وجفاف الرطوبة بلا احتياج إلى الغسل، للسيرة القطعية بعدم غسل الحيوانات مع العلم
بنجاستها بملاقاة دم النفاس حين الولادة. ولجملة من الروايات (1) الدالة على طهارة الطير
بعد زوال عين النجاسة عن منقاره فان كان الملاقي له في مفروض المثال يابسا كالثوب
والبدن، فالكلام فيه هو الكلام في غيره من أن جريان الاستصحاب وعدمه منوط
بالقول بكون الموضوع مركبا أم بسيطا، فلا حاجة إلى الإعادة. وإن كان الملاقي له رطبا،
كما إذا وقع الذباب المذكور في ظرف الماء أو على الثوب الرطب مثلا، فلا ينبغي الاشكال
في جريان الاستصحاب حتى على القول بكون موضوع التنجس هو السراية، لان
الملاقاة مع رطوبة الملاقي محرزة بالوجدان، والسراية أيضا كذلك على الفرض، وتحرز
نجاسة الملاقى بالأصل، فان المفروض أن الحيوان كان نجسا وشك في بقاء نجاسته،

(1) نقل في الوسائل ص 88 عن الكليني (ره) عن أحمد بن إدريس ومحمد بن
يحيى جميعا عن محمد بن أحمد بن أحمد بن الحسن بن فضال عن عمرو بن سعيد عن مصدق
ابن صدقة عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه السلام قال سئل عن ما تشرب منه
الحمامة؟ فقال (ع): " كل ما اكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب، وعن ماء شرب
منه باز أو صقر أو عقاب؟ فقال (ع): كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن
ترى في منقاره دما، فان رأيت في منقاره دما، فلا توضأ منه ولا تشرب ".
ونقله عن الشيخ (ره) باسناده عن محمد بن يعقوب وزاد وسأل عن ماء شربت
منه الدجاجة؟ قال (ع): (إن كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب،
وان لم يعلم أن في منقارها قذرا، توضأ منه واشرب).
وعن محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن أحمد بالاسناد، وذكر الزيادة وزاد:
(وكل ما يؤكل لحمه فليتوضأ منه وليشربه. وسأل عما يشرب منه باز أو صقر أو عقاب؟
فقال " ع ": " كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره
دما، فلا تتوضأ منه ولا تشرب ".
163

لاحتمال طهارته بالجفاف، فيحكم ببقاء نجاسته للاستصحاب، ويترتب عليه الحكم
بنجاسة الملاقي.
وظهر بما ذكرناه أن ما ذكره المحقق النائيني (ره) - من عدم الفرق بين القول
بعدم نجاسة الحيوان والقول بطهارته بزوال العين في جريان الاستصحاب وعدمه -
ليس على ما ينبغي، بل التحقيق ما ذكرناه من عدم جريانه على القول الأول، وجريانه
على القول الثاني إذا كان الملاقي رطبا. وأما إذا كان يابسا فجريانه مبني على القول
بكون الموضوع مركبا على ما تقدم تفصيله في غير الحيوان.
(الفرع الثاني) - ما إذا شك في يوم أنه آخر شهر رمضان، أو أنه
أول شهر شوال، فلا ريب في أنه يجب صومه بمقتضى استصحاب عدم خروج
شهر رمضان، أو عدم دخول شهر شوال. وهل يمكن إثبات كون اليوم الذي بعده
أول شهر شوال، ليترتب عليه أثره كحرمة الصوم مثلا بهذا الاستصحاب أم لا؟ فيه تفصيل:
فانا إذا بنينا على أن عنوان الأولية مركب من جزءين: (أحدهما) وجودي، وهو كون
هذا اليوم من الشوال، و (ثانيهما) عدمي، وهو عدم مضي يوم آخر منه قبله،
ثبت بالاستصحاب المذكور كون اليوم المشكوك فيه أول شوال، لان الجزء الأول
محرز بالوجدان، والجزء الثاني يحرز بالأصل، فبضميمة الوجدان إلى الأصل
يتم المطلوب.
وأما إذا بنينا على أن عنوان الأولية أمر بسيط منتزع من وجود يوم من الشهر
غير مسبوق بيوم آخر منه، كعنوان الحدوث المنتزع من الوجود المسبوق بالعدم،
وغير مركب من الوجود والعدم السابق، لم يمكن اثبات هذا العنوان البسيط بالاستصحاب
المذكور، إلا على القول بالأصل المثبت، فان الأولية بهذا المعنى لازم عقلي للمستصحب،
وغير مسبوق باليقين، وحيث أن التحقيق بساطة معنى الأولية بشهادة العرف، لا يمكن
164

اثباتها بالاستصحاب المزبور.
وقد ذكر المحقق النائيني (ره) أن إثبات كون المشكوك فيه أول شوال
- وإن لم يمكن الاستصحاب لكونه مثبتا - إلا أنه يثبت لأجل النص الدال
على ثبوت العيد برؤية الهلال، أو بمضي ثلاثين يوما من شهر رمضان، فكلما مضى
ثلاثون يوما من شهر رمضان، فيحكم بكون اليوم الذي بعده يوم العيد. وهذا الجواب
وان كان صحيحا، إلا أنه مختص بيوم عيد الفطر، لاختصاص النص به، فلا يثبت
به أول شهر ذي الحجة مثلا، بل لا يثبت غير اليوم الأول من سائر أيام شوال،
فإذا كان أثر شرعي لليوم الخامس من شهر شوال مثلا، لم يمكن ترتيبه عليه، لعدم
النص فيه، إلا أن يتمسك فيه بعدم القول بالفصل. ولكنا في غنى عن هذا الجواب،
لامكان إثبات عنوان الأولية بالاستصحاب بنحو لا يكون من الأصل المثبت، بتقريب
أنه بعد مضي دقيقة من اليوم الذي نشك في أوليته، نقطع بدخول أول الشهر، لكنا
لا ندري أنه هو هذا اليوم ليكون باقيا، أو اليوم الذي قبله ليكون ماضيا؟ فنحكم
ببقائه بالاستصحاب، وتترتب عليه الآثار الشرعية، كحرمة الصوم مثلا. ولا اختصاص
لهذا الاستصحاب باليوم الأول، بل يجري في الليلة الأولى وفى سائر الأيام من شهر شوال
ومن سائر الشهور، لو كان لما في البين أثر شرعي، فإذا شككنا في يوم أنه الثامن
من شهر ذي الحجة أو التاسع منه، حكمنا بكونه اليوم الثامن، بالتقريب المزبور.
وكذلك نحكم بكون اليوم الذي بعده هو التاسع منه، لأنه بمجرد مضي قليل من هذا اليوم
نعلم بدخول اليوم التاسع، ونشك في بقائه، فنستصحب بقاءه، وتترتب عليه آثاره.
وتوهم - ان الاستصحاب المزبور لا يترتب عليه الحكم بكون اليوم المشكوك فيه يوم عرفة
أو يوم العيد في المثال الأول، فإنه لازم عقلي للمستصحب وهو كون يوم عرفة أو يوم
العيد باقيا، وليس هو مما تعلق به اليقين والشك كما هو ظاهر - مدفوع بما بيناه
165

في جريان الاستصحاب في نفس الزمان. وحاصله: أنا لا نحتاج في ترتب الأثر الشرعي
إلى إثبات كون هذا اليوم هو يوم عرفة أو يوم العيد، بل يكفي فيه احراز بقائه بنحو
مفاد كان التامة، فراجع.
(الفرع الثالث) - ما إذا شك في وجوب الحاجب حين صب الماء لتحصيل
الطهارة من الحدث أو الخبث، كما إذا احتمل وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة
حين الاغتسال، أو احتمل خروج المذي بعد البول ومنعه عن وصول الماء إلى المخرج،
فربما يقال فيه بعدم الاعتناء بهذا الشك، نظرا إلى جريان أصالة عدم الحاجب،
ولكنه غير سديد، إذ من الواضح أن الأثر الشرعي وهو رفع الحدث أو الخبث
مترتب على وصول الماء إلى البشرة وتحقق الغسل خارجا، وهو لا يثبت بالأصل المزبور،
إلا على القول بحجية الأصل المثبت. وقد ذكر بعضهم: أن عدم وجوب الفحص
عن الحاجب غير مستند إلى الاستصحاب، ليرد عليه ما ذكر، بل هو مستند إلى السيرة
القطعية الجارية من المتدينين على عدم الفحص. ويرد عليه (أولا) - أنه لم تتحقق
هذه السيرة، فان عدم الفحص من المتدينين لعله لعدم التفاتهم إلى وجود الحاجب،
أو للاطمينان بعدمه، فلم يعلم تحقق السيرة على عدم الفحص مع احتمال وجود الحاجب.
و (ثانيا) - أنه مع فرض تسليم تحقق السيرة لم يعلم اتصالها بزمان المعصوم (ع)،
لتكون كاشفة عن رضاه، فلعلها حدثت في الأدوار المتأخرة لأجل فتوى جمع من الاعلام
به تمسكا بأصالة عدم الحاجب، كما صرح به في بعض الرسائل العملية. فالتحقيق
وجوب الفحص في موارد الشك في وجوب الحاجب، حتى يحصل العلم
أو الاطمينان بعدمه.
(الفرع الرابع) - ما إذا وقع الاختلاف بين الجاني وولي الميت،
فادعي الولي موته بالسراية، وادعى الجاني موته بسبب آخر كشرب السم مثلا،
166

وكذا الحال في الملفوف باللحاف الذي قد نصفين، فادعى الولي أنه كان حيا قبل
القد، وادعى الجاني موته، فنسب إلى الشيخ (ره) التردد، نظرا إلى معارضة
أصالة عدم سبب آخر في المثال الأول، وأصالة بقاء الحياة في المثال الثاني بأصالة عدم
الضمان في كليهما. وعن العلامة (ره) القول بالضمان. وعن المحقق اختيار
عدم الضمان.
والتحقيق أن يقال: إنه إن قلنا بأن موضوع الضمان هو تحقق القتل - كما هو
الظاهر - لترتب القصاص والدية في الآيات والروايات عليه، فلابد من الالتزام بعدم
الضمان في المقام، لأصالة عدمه، ولا يمكن اثباته بأصالة عدم سبب آخر ولا باستصحاب
الحياة، إلا على القول بالأصل المثبت، فان القتل لازم عادي لعدم تحقق سبب آخر
ولبقاء حياته. وإن قلنا بأن الموضوع له أمر مركب من الجناية وعدم سبب آخر
في المثال الأول، ومن الجناية والحياة في المثال الثاني، فلا اشكال في جريان الاستصحاب
واثبات الضمان، فان أحد جزئي الموضوع محرز بالوجدان والاخر بالأصل، لكن
هذا خلاف الواقع، لعدم كون الموضوع مركبا من الجناية وعدم سبب آخر ولا من
الجناية والحياة، بل الموضوع شئ بسيط وهو القتل. فما ذكره المحقق (ره) من عدم
الضمان هو الصحيح، وأما العلامة (ره) فلعله قائل بحجية الأصل المثبت، وأما التردد
المنسوب إلى الشيخ (ره)، فلا وجه له أصلا، فإنه على تقدير القول بالأصل المثبت
لا اشكال في الحكم بالضمان، كما عليه العلامة (ره)، وعلى تقدير القول بعدم حجيته
لا اشكال في بعدمه، كما عليه المحقق (ره). فالتردد في غير محله على كل تقدير،
إلا أن يكون تردده لأجل تردده في حجية الأصل المثبت، لكنه خلاف التعليل
المذكور في كلامه (ره) فإنه علل التردد بتساوي الاحتمالين (أي احتمال كون القتل
بالسراية، واحتمال كونه بسبب آخر) فلا يكون منشأ تردده في الحكم بالضمان
167

هو التردد في حجية الأصل المثبت.
(الفرع الخامس) - ما إذا تلف مال أحد تحت يد شخص آخر، فادعى
المالك الضمان، وادعى من تلف المال عنده عدم الضمان. ثم إن الضمان المختلف فيه
تارة يكون ضمان اليد، وأخرى ضمان المعاوضة. وبعبارة أخرى (تارة) يدعي المالك
الضمان بالبدل الواقعي من المثل أو القيمة، (وأخرى) يدعي الضمان بالبدل الجعلي المجعول
في ضمن معاوضة. و (الأول) - كما إذا قال المالك: إن مالي كان في يدك
بلا اذن مني، فتلفه يوجب الضمان ببدله الواقعي، وادعى الاخر كونه أمانة في يده
فلا ضمان عليه. و (الثاني) - كما إذا قال المالك: بعتك مالي بكذا، وادعى
الاخر أنه وهبه إياه، ولا ضمان له باتلافه أو تلفه عنده، فالمعروف بين الفقهاء هو
الحكم بالضمان في المقام، ولكنه اختلف في وجهه: فقيل: إنه مبني على القول بحجية
الأصل المثبت، فان أصالة عدم اذن المالك لا يثبت كون اليد عادية كي يترتب عليه
الضمان، إلا على القول بالأصل المثبت. وقيل: مبني على قاعدة المقتضي والمانع،
حيث إن اليد مقتضية للضمان، واذن المالك مانع عنه. والأصل عدمه فيحكم بالضمان.
وقيل: إنه مبني على التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فان عموم قوله (ص):
" على اليد ما أخذت حتى تؤدي " يقتضي ضمان كل يد، والخارج منه بالأدلة هو
المأخوذ باذن المالك، وحيث أن إذن المالك في المقام مشكوك فيه، كان الحكم بالضمان
استنادا إلى عموم قوله (ص): " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " تمسكا بالعام
في الشبهة المصداقية. قال المحقق النائيني (ره): ليس الحكم بالضمان مستندا إلى شئ
من هذه الوجوه، بل هو لأجل أن موضوع الضمان يحرز بضم الوجدان إلى الأصل،
(بيان ذلك): أن موضوع الضمان مركب من تحقق اليد والاستيلاء على مال الغير،
ومن عدم الرضا من المالك. وأحد الجزءين محرز بالوجدان وهو اليد، والاخر محرز
168

بالأصل وهو عدم الرضا به من المالك، فيحكم بالضمان لاحراز موضوعه تعبدا.
وهذا الذي ذكره (ره) متين في المثال الأول، فان موضوع الضمان ليس
هو اليد العادية، بل اليد مع عدم الرضا من المالك، واليد محرزة بالوجدان، وعدم
الرضا محرز بالأصل، فيحكم بالضمان، لكنه لا يتم في المثال الثاني، فان الرضا فيه
محقق اجمالا: إما في ضمن البيع أو الهبة، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة عدمه،
بل لابد من الرجوع إلى أصل آخر، ولا يمكن التمسك بأصالة عدم الهبة لاثبات الضمان،
ضرورة أنه غير مترتب على عدم الهبة، بل مترتب على وجود البيع وهي لا تثبته،
ولو قلنا بحجية الأصل المثبت، لمعارضتها بأصالة عدم البيع، فان كلا من الهبة والبيع
مسبوق بالعدم. وأما قاعدة المقتضي والمانع، فهي مما لا أساس له، كما أن التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية مما لا وجه له على ما حقق في محله. وعليه فلابد من الرجوع
إلى الأصل الجاري في كل مورد بلحاظ نفسه، وهو في المقام أصالة عدم الضمان.
هذا فيما إذا لم يكن نص بالخصوص، وإلا فالمتعين الاخذ به كما في مسألة
اختلاف المتبائعين في مقدار الثمن، كما إذا قال البائع: بعتك بعشر دنانير،
وقال المشتري: اشتريت بخمسة دنانير، ففي المقدار المتنازع فيه يرجع إلى النص (1)
الصحيح الدال على تقديم قول البائع ان كانت العين موجودة، وتقديم قول المشتري
إن كانت العين تالفة.
ثم إن صاحب الكفاية (ره) ذكر موارد، وبنى على أن التمسك بالأصل

(1) وهو ما نقله في الوسائل عن الكليني عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد
ابن أبي نصر عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يبيع الشئ فيقول
المشتري هو بكذا وكذا بأقل مما قال البائع؟ فقال (ع): " القول قول البائع مع يمينه
إذا كان الشئ قائما بعينه ".
169

فيها لا يكون تمسكا بالأصل المثبت:
(الأول) - جريان الاستصحاب في الفرد، لترتب الاحكام المترتبة
على الكلي، فان الأثر الشرعي وان كان مترتبا على الطبيعة الكلية، إلا أن الكلي
لا يعد لازما عقليا للفرد كي يكون الاستصحاب الجاري فيه - لأجل ترتب هذا الأثر
- من الأصل المثبت، بل الكلي عين الفرد وجودا ومتحد معه خارجا، فإذا كان
في الخارج خمر وشككنا في صيرورته خلا، فباستصحاب الخمرية نحكم بحرمته ونجاسته
مع كون الحرمة والنجاسة من أحكام طبيعة الخمر، لان الكلي عين الفرد لا لازمه.
(الثاني) - جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع، فتترتب عليه الاحكام
المترتبة على الأمور الانتزاعية، وهي الأمور التي ليس بحذائها شئ في الخارج،
ويعبر عنها بخارج المحمول، كالملكية والزوجية، فان الأثر الشرعي وان كان أثرا
للامر الانتزاعي، إلا أنه حيث لا يكون بحذائه شئ في الخارج، كان الأثر
في الحقيقة أثرا لمنشأ الانتزاع. وهذا بخلاف الاعراض التي تكون بأنفسها موجودة
في الخارج، ويعبر عنها بالمحمول بالضميمة، فإذا كان الأثر أثرا لسواد شئ،
لم يكن ترتيبه على استصحاب معروضه على تقدير كون السواد لازما لبقائه دون حدوثه،
فإنه من أوضح مصاديق الأصل المثبت.
(الثالث) - جريان الاستصحاب في الجزء والشرط، فترتب عليه
الجزئية والشرطية، فان الجزئية والشرطية وان لم تكونا مجعولتين بالاستقلال،
لكنهما مجعولتان بالتبع، ولا فرق في ترتب الأثر المجعول على المستصحب بين أن
يكون مجعولا بالاستقلال أو بالتبع. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المستصحب وجوديا
أو عدميا. انتهى كلامه (ره)
أقول: أما ما ذكره أولا من جريان الاستصحاب في الفرد فهو مما لا اشكال
170

فيه، كيف؟ ولو منع منه لا نسد باب الاستصحاب، إلا أن جريانه في الفرد ليس
مبنيا على ما ذكره من اتحاد الكلي والفرد خارجا، بل الوجه فيه أن الأثر أثر لنفس
الفرد لا للكلي، لان الاحكام وان كانت مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، إلا أن
الحكم فيها ثابت للأفراد لا محالة. غاية الامر أن الخصوصيات الفردية لا دخل لها
في ثبوت الحكم، وإلا فالكلي بما هو لا حكم له، وإنما يؤخذ في موضوع الحكم
ليشار - به إلى أفراده، مثلا إذا حكم بحرمة الخمر، فالحرام هو الخمر الخارجي لا الطبيعة
الكلية بما هي.
وأما ما ذكره في المورد الثاني، فان كان مراده منه أن الاستصحاب يصح
جريانه في الفرد من الامر الانتزاعي لترتيب اثر الكلي عليه، فيصح استصحاب
ملكية زيد لمال لترتيب آثار الملكية الكلية من جواز التصرف له وعدم جواز تصرف
الغير فيه بدون اذنه، فالكلام فيه هو الكلام في الامر الأول، مع أن هذا لا يكون
فارقا بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة، فإذا شك في بقاء فرد من أفراد المحمول
بالضميمة كعدالة زيد مثلا، فباستصحاب هذا الفرد تترتب آثار مطلق العدالة كجواز
الاقتداء به ونحوه، فلا وجه للفرق بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة.
وإن كان مراده أن الاستصحاب يجري في منشأ الانتزاع ويترتب عليه أثر
الامر الانتزاعي الذي يكون لازما له على فرض بقائه، فهذا من أوضح مصاديق
الأصل المثبت، فإذا علمنا بوجود جسم في مكان، ثم علمنا بوجود جسم آخر في أسفل
من المكان الأول، مع الشك في بقاء الجسم الأول في مكانه، لم يمكن ترتيب آثار
فوقيته على الجسم الثاني باستصحاب وجوده في مكانه الأول، فإنه من أوضح أنحاء الأصل
المثبت. وكذلك لا يمكن اثبات زوجية امرأة خاصة لزيد مع الشك في حياتها، وإن
علم أنها على تقدير حياتها تزوجت به يقينا. نعم لو كان الامر الانتزاعي أثرا شرعيا
171

لبقاء شئ، لترتب على استصحابه بلا اشكال. وهذا كما إذا علم بأن الفرس المعين
كان ملكا لزيد وشك في حياته حين موت زيد، أو في بقائه على ملكه حين موته،
فباستصحاب الحياة أو الملكية نحكم بانتقاله إلى الوارث ولا مجال حينئذ لتوهم كونه مثبتا،
لان انتقاله إلى الوارث من الآثار الشرعية لبقائه، غاية الامر أنه اثر وضعي
لا تكليفي، وهو لا يوجب الفرق في جريان الاستصحاب وعدمه.
وأما ما ذكره - في المورد الثالث من ترتب الأمور المجعولة بالتبع على الاستصحاب
كالأمور المجعولة بالاستقلال فباستصحاب الشرط تترتب الشرطية وباستصحاب المانع
تترتب المانعية - فالظاهر أنه أراد بذلك دفع الاشكال المعروف في جريان
الاستصحاب في الشرط والمانع. (بيان الاشكال): أن الشرط بنفسه ليس مجعولا
بالجعل التشريعي، بل لا يكون قابلا للجعل التشريعي، لكونه من الأمور الخارجية
التكوينية كالاستقبال والتستر للصلاة مثلا، ولا يكون له أثر شرعي أيضا، فان جواز
الدخول في الصلاة مثلا ليس من الآثار الشرعية للاستقبال، بل الاحكام العقلية،
فان المجعول الشرعي هو الامر المتعلق بالصلاة مقيدة بالاستقبال، بحيث يكون التقيد
داخلا والقيد خارجا. وبعد تحقق هذا الجعل من الشارع، يحكم العقل بجواز الدخول
في الصلاة مع الاستقبال، وعدم جواز الدخول فيها بدونه، لحصول الامتثال معه
وعدمه بدونه. وحصول الامتثال وعدمه من الاحكام العقلية، فليس الشرط بنفسه
مجعولا شرعيا، ولا مما له أثر شرعي، فلابد من الحكم بعدم جريان الاستصحاب فيه.
وكذا الكلام بعينه في المانع، فأراد صاحب الكفاية (ره) دفع هذا الاشكال
بأن الشرطية من المجعولات بالتبع، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الشرط،
لترتب الشرطية عليه، لان المجعولات بالتبع كالمجعولات بالاستقلال في صحة ترتبها
على الاستصحاب.
172

أقول: أما ما ذكره - من حيث الكبرى من صحة جريان الاستصحاب
باعتبار الأثر المجعول بالتبع - فهو صحيح، لعدم الدليل على اعتبار كون الأثر
مجعولا بالاستقلال. وأما من حيث الصغرى وتطبيق هذه الكلية على محل الكلام،
فغير تام، لان الشرطية ليست من آثار وجود الشرط في الخارج كي تترتب
على استصحاب الشرط، بل هي منتزعة في مرحلة الجعل من أمر المولى بشئ مقيدا
بشئ آخر، بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا، فشرطية الاستقبال للصلاة
تابعة لكون الامر بالصلاة مقيدا بالاستقبال، سواء وجد الاستقبال في الخارج أم لا،
فكما أن أصل وجوب الصلاة ليس من آثار الصلاة الموجودة في الخارج، فان الصلاة
واجبة أتى بها المكلف في الخارج أم لم يأت بها، فكذا اشتراط الصلاة بالاستقبال
ليس من آثار وجود الاستقبال في الخارج، فان الاستقبال شرط للصلاة وجد في الخارج
أم لا. وعليه فلا تترتب الشرطية على جريان الاستصحاب في ذات الشرط.
وهذا بخلاف الحرمة والملكية ونحوهما من الأحكام التكليفية أو الوضعية المترتبة
على الوجودات الخارجية، فإذا كان في الخارج خمر وشككنا في انقلابه خلا، تجري
الاستصحاب في خمريته فنحكم بحرمته ونجاسته بلا اشكال.
وظهر بما ذكرناه أنه لا يجري الاستصحاب في نفس الشرطية أيضا، إذا شك
في بقائها لاحتمال النسخ، أو لتبدل حالة من حالات المكلف، فان الشرطية كما عرفت
منتزعة من الامر بالمقيد، فيجري الاستصحاب في منشأ الانتزاع، وتنتزع منه
الشرطية، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في نفس الشرطية. هذا إذا قلنا
بجريان الاستصحاب عند الشك في النسخ وفي الاحكام الكلية، وإلا فلا مجال للاستصحاب
عند الشك في بقاء الشرطية أصلا.
فالمتحصل مما ذكرناه أنه لا يندفع الاشكال المعروف في جريان الاستصحاب
173

في الشرط بما ذكره صاحب الكفاية (ره). والذي ينبغي أن يقال في دفعه:
أن الاشكال المذكور إنما نشأ مما هو المعروف بينهم من أنه يعتبر في الاستصحاب أن يكون
المستصحب بنفسه مجعولا شرعيا أو موضوعا لمجعول شرعي، فيتوجه حينئذ الاشكال
في جريان الاستصحاب في الشرط، لعدم كونه مجعولا بالجعل التشريعي، وليس
له أثر جعلي.
والتحقيق في الجواب: أنه لا ملزم لاعتبار ذلك، فإنه لم يدل عليه دليل
من آية أو رواية، وإنما المعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب قابلا للتعبد.
ومن الظاهر أن الحكم بوجود الشرط قابل للتعبد. ومعنى التعبد به هو الاكتفاء بوجوده
التعبدي وحصول الامتثال، فان لزوم احراز الامتثال وإن كان من الاحكام العقلية
إلا أنه معلق على عدم تصرف الشارع بالحكم بحصوله، كما في قاعدتي الفراغ والتجاوز،
فإنه لولا حكم الشارع بجواز الاكتفاء بما اتى به المكلف فيما إذا كان الشك بعد الفراغ.
أو بعد التجاوز، لحكم العقل بوجود الإعادة، لاحراز الامتثال من باب وجوب
دفع الضرر المحتمل، لكنه بعد تصرف الشارع وحكمه بجواز الاكتفاء بما أتى به
ارتفع موضوع حكم العقل، لكونه مبنيا على دفع الضرر المحتمل، ولا يكون هناك
احتمال ضرر، فكذا الحال في المقام، فان معنى جريان الاستصحاب في الشرط هو
الاكتفاء بوجوده الاحتمالي في مقام الامتثال بالتعبد الشرعي، فلا محذور فيه أصلا،
وتكون حال الاستصحاب حال قاعدة الفراغ والتجاوز في كون كل منهما تصرفا
من الشارع، غاية الامر أن الاستصحاب لا يختص بمقام الامتثال، فيجري في ثبوت
التكليف تارة وفى نفيه أخرى وفى مقام الامتثال ثالثة، بخلاف قاعدة الفراغ والتجاوز،
فإنها مختصة بمقام الامتثال.
ثم ذكر صاحب الكفاية (ره): أنه لافرق في المستصحب أو الأثر المترتب
174

عليه بين أن يكون ثبوت التكليف ووجوده أو نفيه وعدمه، فاجريان الاستصحاب
ليس منوطا بكون المستصحب أو اثره وجوديا، بل منوط بكون المستصحب أو أثره
قابلا للتعبد وأن يكون ثبوته ونفيه بيد الشارع. ومن المعلوم أن نفي التكليف قابل
للتعبد كثبوته، إذ نفي التكليف وثبوته بيد الشارع، لاستواء القدرة بالنسبة إلى طرفي
الوجود والعدم. ثم فرع على ذلك الاشكال على شيخنا الأنصاري (ره) فيما ذكره
في أواخر البراءة من منع الاستدلال على البراءة باستصحابها وباستصحاب عدم المنع.
أقول: أما ما ذكره - من عدم الفرق بين كون الأثر وجوديا أو عدميا -
فصحيح، وقد ذكرنا أن ما هو المعروف - من اعتبار كون المستصحب حكما شرعيا
أو موضوعا ذا أثر شرعي - مما لا أساس له، بل المعتبر في الاستصحاب كون
المستصحب قابلا للتعبد الشرعي، بلا فرق بين كونه وجوديا أو عدميا، فان نفي التكليف
بيد الشارع وقابل للتعبد به كثبوته. وأما ما ذكره من الاشكال على الشيخ (ره) فغير
وارد، لان منع الشيخ (ره) عن الاستدلال بالاستصحاب للبراءة ليس مبنيا على عدم
جريان الاستصحاب في العدمي، كيف؟ وقد ذكر في أوائل الاستصحاب في جملة
الأقوال القول بالتفصيل بين الوجودي والعدمي، ورده بعدم الفرق بينهما من حيث
شمول أدلة الاستصحاب لهما. بل منعه (ره) عن استصحاب البراءة مبني على ما ذكره
هناك من أنه بعد جريان الاستصحاب إما أن يحتمل العقاب، وإما أن لا يحتمل،
لكون الاستصحاب موجبا للقطع بعدم استحقاقه. وعلى الأول فلابد في الحكم بالبراءة
من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلتكن هي المرجع من أول الامر
بلا حاجة إلى جريان الاستصحاب، فان الرجوع إليه حينئذ لغو محض. والثاني غير
صحيح، لان عدم استحقاق العقاب ليس من الاحكام المجعولة الشرعية حتى يصح ترتبه
على الاستصحاب، بل هو من الاحكام العقلية، فلا يترتب على الاستصحاب المزبور.
175

ثم أورد على نفسه بأن استصحاب عدم المنع تترتب عليه الرخصة والاذن، فأجاب بأن
المنع عن الفعل والاذن فيه متضادان، فلا يمكن اثبات أحدهما بنفي الآخر، إلا على القول
بالأصل المثبت. انتهى ملخصا.
وحق الجواب عنه هو ما ذكره صاحب الكفاية (ره) في التنبيه التاسع
من أن عدم ترتب الأثر غير الشرعي بالاستصحاب إنما هو بالنسبة إلى الآثار الواقعية
للمستصحب، وأما إذا كانت الآثار آثارا للأعم من الوجود الواقعي والظاهري،
فلا مانع من ترتبها على الاستصحاب. واستحقاق العقاب وعدمه من هذا القبيل، فإنه
وان كان من الاحكام العقلية، إلا أنه اثر لمطلق عدم المنع أعم من الواقعي والظاهري،
فان العقل كما يحكم بعدم استحقاق العقاب بفعل ما ليس بحرام واقعا، كذلك يحكم بعدم
استحقاق العقاب بفعل ما ليس بحرام ظاهرا، فلا مانع من ترتب عدم استحقاق العقاب
على استصحاب البراءة وعدم المنع، فإنه بعد ثبوت البراءة من التكليف وعدم المنع
من قبل الشارع عن الفعل، يحرز موضوع حكم العقل بعدم استحقاق العقاب بالوجدان.
وملخص الكلام في المقام أن ما ذكره الشيخ (ره) - من أنه بعد جريان
الاستصحاب إما أن يحتمل العقاب وإما أن يجزم بعدمه - مندفع باختيار الشق الثاني،
فإنه بعد إحراز عدم التكليف ظاهرا بالاستصحاب، يكون عدم استحقاق العقاب
محرزا بالوجدان، لتحقق موضوعه، فلا اشكال في التمسك بالاستصحاب
لاثبات البراءة.
(التنبيه التاسع) - ذكر صاحب الكفاية (ره) أنه لابد في جريان
الاستصحاب من كون المستصحب حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء، ولا يقدح
فيه عدم كونه حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي حدوثا، لصدق نقض اليقين بالشك
على رفع اليد عنه حينئذ، فالتعبد ببقاء الحالة السابقة لا يتوقف على ثبوت أثر لحدوثها،
176

بل يكفي فيه ثبوت أثر لبقائها، فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم التكليف،
فإنه وان كان غير مجعول في الأزل وغير قابل للتعبد به، لكنه قابل للتعبد به بقاء،
لان ثبوت التكليف في الحال قابل للجعل، فنفيه أيضا كذلك، لاستواء نسبة
القدرة إلى الطرفين، وكذا لا مانع من جريان الاستصحاب في موضوع لم يكن له أثر
في مرحلة الحدوث، مع كونه ذا أثر في مرحلة البقاء، كما إذا علمنا بموت الوالد
وشككنا في حياة الولد، فلا مانع من استصحاب حياته وان لم يكن لحياته أثر حال
حياة الوالد، لكن الأثر مترتب على تقدير حياته بعد موت الوالد وهو انتقال أموال
الوالد إليه بالإرث انتهى ملخصا.
وهذا الذي ذكره (ره) متين لا شبهة فيه، فان أدلة الاستصحاب وحرمة
نقض اليقين بالشك ناظرة إلى البقاء، فلو لم يكن المستصحب قابلا للتعبد بقاء، لا يجري
فيه الاستصحاب، ولو كان قابلا له حدوثا، ولو كان قابلا للتعبد بقاء يجري
الاستصحاب فيه، ولو لم يكن قابلا له حدوثا.
(التنبيه العاشر) - لا اشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا كان الشك
في أصل تحقق حكم أو موضوع، وكذا فيما إذا كان الشك في ارتفاع حكم أو موضوع بعد
العلم بتحققه. أما إذا شك في تقدمه وتأخره - بعد العلم بتحققه - أو شك في تقدم
الارتفاع وتأخره بعد العلم بأصله، فالكلام فيه يقع (تارة) فيما إذا لو حظ التأخر والتقدم
بالنسبة إلى اجزاء الزمان. و (أخرى) فيما إذا لو حظ بالنسبة إلى حادث آخر.
فهنا مقامان:
(أما المقام الأول) فلا اشكال فيه في جريان استصحاب العدم إلى زمان العلم بالتحقق،
فتترتب آثار العدم حينئذ، كما إذا علمنا بوجود زيد يوم الجمعة وشككنا في حدوثه يوم
الخميس أو يوم الجمعة، فيجري الاستصحاب وتترتب آثار العدم إلى يوم الجمعة، لكن لا يثبت
177

بهذا الاستصحاب تأخر وجوده عن يوم الخميس إن كان لعنوان التأخر أثر، فان التأخر
عن يوم الخميس لازم عقلي لعدم الحدوث يوم الخميس، فاثباته باستصحاب عدم الحدوث
يوم الخميس متوقف على القول بالأصل المثبت، وكذا لا يثبت به الحدوث يوم الجمعة،
فان الحدوث عبارة عن الوجود الخاص، وهو أول الوجود.
وبعبارة أخرى: الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم، فاثبات الحدوث
يوم الجمعة باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس متوقف على القول بالأصل المثبت.
نعم لو كان الحدوث مركبا من أمرين (أي الوجود يوم الجمعة مثلا، وعدم الوجود
يوم الخميس) لترتبت آثار الحدوث بالاستصحاب المذكور، لكون أحد الجزءين
محرزا بالوجدان (وهو الوجود يوم الجمعة) والجزء الآخر بالأصل (وهو عدم الوجود
يوم الخميس) لكنه خلاف الواقع، فان الحدوث أمر بسيط وهو الوجود المسبوق
بالعدم. ويجري ما ذكرناه فيما إذا شك في تقدم الارتفاع وتأخره مع العلم بأصل تحققه،
فلا مانع من جريان أصالة عدم الارتفاع إلى زمان العلم به، ولا يمكن إثبات تأخر الارتفاع
ولا حدوثه بهذا الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت.
و (أما المقام الثاني) وهو ما إذا كان الشك في تقدم حادث وتأخره بالنسبة
إلى حادث آخر، كما إذا علمنا بموت الوالد وإسلام الولد، وشككنا في أن الاسلام
متقدم على الموت ليرث الولد من والده أو أنه متأخر عنه لئلا يرث منه، فتحقيق
الكلام فيه يقتضي ذكر مقدمة، وهي: ما أشرنا إليه آنفا من أن الموضوع إذا كان
بسيطا لا يمكن ترتيب أثره باستصحاب يجري في ملزومه، وإن كان الموضوع مركبا
من أمرين، فلا مانع من جريان الاستصحاب وترتيب اثر هذا الموضوع المركب إذا كان أحد
الجزءين محرزا بالوجدان والآخر بالأصل، كما إذا شككنا في حياة الولد حين موت والده،
فان الموضوع للإرث مركب من أمرين: موت الوالد، وحياة الولد حين موت الوالد.
178

وأحد الجزءين محرز بالوجدان (وهو موت الوالد) والجزء الآخر (وهو حياة الولد)
يحرز بالاستصحاب، فيترتب عليه الحكم لا محالة. وكذا الحال في موضوع جواز
التقليد، فإذا كان زيد عادلا ولم يكن عالما فصار عالما، وشككنا في بقاء عدالته،
فنحرز عدالته بالاستصحاب وعلمه بالوجدان، فيحكم بجواز تقليده، وكذا الكلام
في متعلق الحكم، فإنه إذا كان مركبا لا مانع من جريان الاستصحاب في أحد جزءيه
مع إحراز الجزء الآخر بالوجدان، كما هو الحال في الصلاة، فان الواجب علينا الاتيان
بها مع الستر والطهارة من الحدث والخبث مثلا، فباحراز الطهارة مثلا بالأصل والباقي
بالوجدان يترتب الأثر (وهو جواز الاكتفاء بما أتى به في مقام الامتثال). وربما
يقال بأن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم تحقق المجموع المركب، فإذا صلينا
مع الشك في الطهارة مثلا نستصحب عدم تحقق الصلاة مع الطهارة في الخارج.
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بأن الشك في تحقق المجموع مسبب
عن الشك في تحقق الجزء المشكوك فيه، فإذا جرى الاستصحاب فيه، كان حاكما
على استصحاب عدم تحقق المجموع.
وفيه أن الاستصحاب السببي إنما يكون حاكما على الاستصحاب المسببي فيما إذا
كانت السببية شرعية، كما إذا غسلنا ثوبا متنجسا بماء شك في بقاء طهارته، فان طهارة
الماء سبب شرعي لطهارة الثوب المغسول به، فباستصحاب الطهارة في الماء يرتفع الشك
في طهارة الثوب. وهذا بخلاف ما إذا كانت السببية عقلية - كما في المقام -
فلا حكومة لاحد الأصلين على الآخر.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه إذا كان عنوان المجموع المركب موضوعا
لحكم، فهو لا محالة عنوان بسيط لا يمكن إثباته باستصحاب أحد الجزءين، مع قطع
النظر عن المعارضة كما تقدم، وهو خارج عن محل الكلام، وأما إذا كانت ذوات
179

الاجزاء دخيلة في الحكم ولم يكن لعنوان المجموع دخل فيه، فليس لنا شك في موضوع
الحكم، إذا المفروض أن أحد الجزءين محرز بالوجدان، والآخر محرز بالأصل.
إذا تمهدت هذه المقدمة، فنقول: إذا شك في تقدم حادث وتأخره بالنسبة
إلى حادث آخر، فالصور المتصورة فيه ثمان: فان الحادثين إما ان يكونا مجهولي
التاريخ، أو يكون تاريخ أحدهما معلوما، وعلى كلا التقديرين: إما أن يكون الأثر
مترتبا على الوجود الخاص من السبق واللحوق، أو على العدم. وعلى التقادير الأربعة:
إما أن يكون الأثر مترتبا على الوجود والعدم بمفاد كان وليس التامتين، أو على الوجود
والعدم بمفاد كان وليس الناقصتين. ويقع الكلام أولا في مجهولي التاريخ فنقول:
إذا كان الأثر للوجود بمفاد كان التامة، كما إذا فرض ان الإرث مترتب على تقدم
موت المورث على موت الوارث، فلا مانع من التمسك بأصالة عدم السبق، فيحكم
بعدم الإرث. وهذا واضح فيما كان الأثر لسبق أحد الحادثين على الآخر ولم يكن
لسبق الحادث الآخر على هذا الحادث أثر. وأما إذا كان الأثر لسبق كل منهما
على الآخر. فيتمسك أيضا بأصالة عدم السبق في كل منهما ولا معارضة بين الأصلين،
لاحتمال التقارن. نعم لو كان الأثر لسبق كل منهما على الآخر وكان لنا علم اجمالي
بسبق أحدهما على الآخر، لا تجري أصالة عدم السبق في أحدهما، للمعارضة بأصالة
عدم السبق في الآخر، فجريان الأصل فيهما موجب للمخالفة القطعية، وفى أحدهما
ترجيح بلا مرجح.
وأما لو كان الأثر لسبق أحدهما على الآخر وكان لتأخير عن الآخر أيضا أثر،
فلا مانع من جريان الاستصحاب في عدم السبق والتأخر، ولا معارضة بينهما، لاحتمال
التقارن. نعم في مورد العلم الاجمالي بسبق أحدهما على الآخر لا مجال للرجوع إلى أصالة
عدم السبق، للمعارضة بأصالة عدم التأخر.
180

وأما ان كان الأثر للوجود بمفاد كان الناقصة، كما إذا فرض ان الإرث مترتب
على كون موت المورث متصفا بالتقدم على موت الوارث، فاختار صاحب الكفاية (قده)
عدم جريان الاستصحاب فيه، لعدم كون الوجود بمفاد كان الناقصة متعلقا لليقين
والشك، فإنه لم يكن لنا علم باتصاف أحدهما بالسبق على الآخر ولا بعدم اتصافه به
حتى يكون موردا للاستصحاب. وهذا الكلام مخالف لما ذكره في بحث العام والخاص:
من أنه إذا ورد عموم بان النساء تحيض إلى خمسين عاما إلا القرشية، وشككنا في كون
امرأة قرشية، فلا يصح التمسك بالعموم المذكور،، لكون الشبهة مصداقية، إلا أنه
لا مانع من ادخالها في العموم للاستصحاب، فنقول: الأصل عدم اتصافها
بالقرشية، لأنها لم تتصف بهذه الصفة حين لم تكن موجودة، ونشك في اتصافها بها
الآن. والأصل عدم اتصافها بها. هذا ملخص كلامه في مبحث العام والخاص وهو
الصحيح على ما شيدناه في ذلك المبحث، خلافا للمحقق النائيني (ره) فلا مانع من جريان
الاستصحاب في المقام.
فنقول: الأصل عدم اتصاف هذا الحادث بالتقدم على الحادث الآخر،
لأنه لم يتصف بالتقدم حين لم يكن موجودا، فالآن كما كان، ولا يعتبر في استصحاب
عدم الاتصاف بالسبق وجوده في زمان مع عدم الاتصاف به، بل يكفي عدم اتصافه به
حين لم يكن موجودا، فان اتصافه به يحتاج إلى وجوده. واما عدم اتصافه به،
فلا يحتاج إلى وجوده، بل يكفيه عدم وجوده، فان ثبوت شئ لشئ وان كان فرع
ثبوت المثبت له، إلا ان نفي شئ عن شئ لا يحتاج إلى وجود المنفي عنه. وهذا معنى
قولهم: ان القضية السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع.
فتحصل مما ذكرناه جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضا. ويجري فيه
ما ذكرناه في القسم الأول: من عدم المعارضة إلا مع العلم الاجمالي، فلا حاجة إلى الإعادة.
181

وان كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر (فتارة) يكون الأثر للعدم بمفاد
ليس التامة الذي يعبر عنه بالعدم المحمولي. و (أخرى) للعدم بمفاد ليس الناقصة
المعبر عنه بالعدم النعتي: فان كان الأثر للعدم النعتي، لا يجري الاستصحاب فيه
على مسلك صاحب الكفاية (ره) لعدم اليقين بوجود هذا الحادث متصفا بالعدم
في زمان حدوث الآخر، ومن الظاهر أن القضية إذا كانت معدولة، فلابد فيها
من فرض وجود الموضوع، بخلاف القضية السالبة، كقولنا: زيد ليس بقائم،
فان صدقها غير متوقف على وجود الموضوع، لان مفاد القضية السالبة سلب الربط،
فلا يحتاج إلى وجود الموضوع. وأما معدولة المحمول، فيما أن مفادها ربط السلب،
لزم فيه وجود الموضوع لا محالة، هذا توضيح مراده (ره).
والانصاف أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا القسم أيضا، فإنه وان
لم يمكن ترتيب آثار الاتصاف بعدم وصف باستصحاب عدم ذلك الوصف، لأنه
لا يثبت به العدم المأخوذ نعتا، إلا أنه يمكن ترتيب عدم الاتصاف بذلك الوصف
باجراء الاستصحاب في عدم الاتصاف، فان الاتصاف مسبوق بالعدم - كما مر -
فحال القسم الثالث حال القسم الثاني في جريان الاستصحاب.
وأما إن كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر بنحو مفاد ليس التامة - المعبر
عنه بالعدم المحمولي - فيجري فيه الاستصحاب في نفسه على مسلك شيخنا الأنصاري
(رحمه الله) وجماعة من المحققين ولكنه يسقط بالمعارضة فيما إذا كان عدم كل واحد
منهما في زمان الآخر ذا أثر شرعي. وذهب صاحب الكفاية (ره) إلى عدم جريان
الاستصحاب في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة، فإذا لا ثمرة عملية فيما إذا كان عدم
كل من الحادثين في زمان الآخر ذا أثر شرعي، كموت المتوارثين، لعدم جريان
الاستصحاب على كل حال: إما لأجل المعارضة - كما عليه الشيخ - (ره) واتباعه -
182

وإما لعدم شمول الأدلة له - كما عليه صاحب الكفاية (ره) - فهو بحث علمي بحت.
نعم فيما إذا كان الأثر لأحدهما دون الآخر، كان البحث ذا أثر عملي،
فإنه يجري الاستصحاب في طرف ماله أثر على مسلك الشيخ (ره)، لعدم المعارض،
ولا يجري على مسلك صاحب الكفاية (ره) وأمثلته كثيره: (منها) - ما لو علمنا
بموت أخوين لأحدهما ولد دون الآخر، وشككنا في تقدم كل منهما على الآخر،
فاستصحاب عدم موت من له ولد إلى زمان موت الآخر يترتب عليه إرثه منه، بخلاف
استصحاب عدم موت من لا ولد له إلى زمان موت الآخر، فإنه لا يترتب عليه أثر،
لكون الوارث له ولد ولو كان موته قبل موت من لا ولد له. و (منها) - ماذا
شككنا في تقدم موت الوالد على اسلام الولد، فان استصحاب عدم اسلام الولد
إلى زمان موت الوالد يترتب عليه عدم إرثه منه، بخلاف استصحاب عدم موت الوالد
إلى زمان اسلام الولد، فإنه لا يترتب عليه أثر، إذ قد يكون الوالد حيا بالوجدان وله
وارث مسلم، ولا يترتب عليه أثر، لان الأثر مترتب على الموت عن وارث مسلم،
فكيف بالحياة الاستصحابي مع وارث مسلم؟ ففي مثل هذه الأمثلة يجري الاستصحاب
على مسلك الشيخ (ره) في أحد الطرفين، لعدم المعارض لعدم الأثر للاستصحاب
في الطرف الآخر. ولا يجري الاستصحاب على مذهب صاحب الكفاية (ره).
وملخص ما ذكره في الكفاية في توجيه عدم جريان الاستصحاب: انه لابد
في جريان الاستصحاب من اتصال زمان الشك بزمان اليقين فإنه هو المستفاد من كلمة (فاء)
في قوله (ع): " لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت " فلا تشمل أدلة
الاستصحاب موارد انفصال زمان الشك عن زمان اليقين، بل ولا موارد احتمال
الانفصال. أما موارد الانفصال اليقيني، فعدم جريان الاستصحاب فيها واضح،
فإنه إذا تيقنا بالطهارة ثم بالحدث ثم شككنا في الطهارة، لا مجال لجريان استصحاب
183

الطهارة مع وجود اليقين والشك بالنسبة إليها، لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين
بل يجري فيه استصحاب الحدث. وأما موارد احتمال الانفصال، فلان الشبهة حينئذ
مصداقية، فلا يمكن الرجوع معه إلى العموم حتى على القول بجواز التمسك به فيها،
فان القائل به انما يدعي ذلك فيما إذا انعقد للعام ظهور وكان المخصص منفصلا، كما إذا دل
دليل على وجوب إكرام العلماء ثم ورد دليل آخر على عدم وجوب اكرام الفساق منهم،
وشككنا في أن زيدا عادل أو فاسق. وأما إذا كان المخصص متصلا ومانعا عن انعقاد
الظهور في العموم من أول الامر، كما إذا قال المولى: أكرم العالم العادل، وشككنا
في عدالة زيد، فلم يقل أحد بجواز التمسك بالعموم فيه. والمقام من هذا القبيل،
لما ذكرناه من أن أدلة حجية الاستصحاب قاصرة عن الشمول لموارد الانفصال فإذا لم يحرز
الاتصال لم يمكن التمسك بها. وحيث أن الحادثين في محل الكلام مسبوقان بالعدم
ويشك في المتقدم منهما مع العلم بحدوث كل منهما، فلم يحرز اتصال زمان الشك بزمان
اليقين، فلا مجال لجريان الاستصحاب.
وتوضيح ذلك يحتاج إلى فرض أزمنة ثلاثة: زمان اليقين بعدم حدوث كل
من الحادثين، وزمان حدوث أحدهما بلا تعيين، وزمان حدوث الآخر كذلك.
فنفرض أن زيدا كان حيا في يوم الخميس، وابنه كان كافرا فيه، فعدم موت المورث
وعدم اسلام الوارث كلاهما متيقن يوم الخميس، وعلمنا بحدوث أحدهما لا بعينه يوم الجمعة
وبحدوث الآخر يوم السبت. ولا ندري أن الحادث يوم الجمعة هو اسلام الولد حتى
يرث أباه، أو موت الوالد حتى لا يرثه، لكونه كافرا حين موت أبيه، فان لو حظ
الشك في حدوث كل من الحادثين بالنسبة إلى عمود الزمان، يكون زمان الشك متصلا
بزمان اليقين، فان زمان اليقين بالعدم يوم الخميس وزمان الشك في حدوث كل واحد
من الحادثين يوم الجمعة وهما متصلان، فلا مانع من جريان استصحاب عدم حدوث الاسلام
184

يوم الجمعة. إلا أنه لا أثر لهذا الاستصحاب، فان عدم إرث الولد من والده ليس
مترتبا على عدم اسلامه يوم الجمعة، بل على عدم اسلامه حين موت أبيه، فلابد
من جريان الاستصحاب في عدم الاسلام في زمان حدوث موت الوالد. وزمان حدوث
موت الوالد مردد بين الجمعة والسبت، فان كان حدوثه يوم الجمعة، فزمان الشك
متصل بزمان اليقين، وان كان يوم السبت، فزمان الشك غير متصل بزمان اليقين،
لان زمان اليقين يوم الخميس على الفرض وزمان الشك يوم السبت، فيوم الجمعة
فاصل بين زمان اليقين وزمان الشك، ومع احتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين
لا مجال للتمسك بدليل حجية الاستصحاب، لما عرفت من أن الشبهة مصداقية. هذا ملخص
ما ذكره في الكفاية متنا وهامشا.
والانصاف أنه لا يرجع إلى محصل، لما عرفت سابقا من أنه لا يعتبر في الاستصحاب
سبق اليقين على الشك، لصحة جريان الاستصحاب مع حدوثهما معا، وإنما المعتبر تقدم زمان
المتيقن على زمان المشكوك فيه، بأن يكون المتيقن هو الحدوث، والمشكوك فيه هو البقاء.
وما يستفاد من ظاهر قوله (ع): " لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت " من حدوث
الشك بعد اليقين، فهو ناظر إلى غلبة الوقوع في الخارج، لا أنه معتبر في الاستصحاب.
نعم فيما إذا كان الشك حادثا بعد اليقين يعتبر في جريان الاستصحاب فيه اتصال زمان الشك
بزمان اليقين، بمعنى عدم تخلل يقين آخر بينهما، كما في المثال المتقدم، وإلا لم يصدق نقض
اليقين بالشك، بل يصدق نقض اليقين باليقين. وعليه فلا مانع من جريان الاستصحاب
في المقام، فإنه بعد اليقين بعدم اسلام الولد يوم الخميس نشك في بقائه إلى زمان موت
والده، ولم يتخلل بين اليقين والشك يقين آخر حتى يكون فاصلا بين اليقين الأول
والشك. ولا تتصور الشبهة المصداقية في الأمور الوجدانية من اليقين والشك وغيرهما
من الادراكات، فإنه لا معنى للشك في أن له يقين أم لا، أوفى أن له شك أم لا.
185

نعم الشبهة المصداقية متصورة في الأمور الخارجية، كعدالة زيد وفسق عمرو مثلا،
فلا معنى للشك في أن زمان الشك هل هو يوم الجمعة حتى يكون متصلا بزمان اليقين،
أو يوم السبت فيكون منفصلا عنه؟ بل الشك في حدوث الاسلام في زمان حدوث
الموت موجود يوم السبت - مع اليقين بعدم الاسلام يوم الخميس - فليس لنا تردد
في زمان الشك أصلا. نعم لنا شك في زمان الموت واقعا، لاحتمال كونه يوم الجمعة
أو يوم السبت: فان كان الموت يوم الجمعة، فلا محلة يكون الاسلام يوم السبت،
وان كان الموت يوم السبت، فيكون الاسلام يوم الجمعة، للعلم الاجمالي بكون أحدهما
يوم الجمعة والآخر يوم السبت، وهذا التردد لا يضر باستصحاب عدم الاسلام حين
الموت، لتمامية أركانه من اليقين والشك بلا تخلل يقين آخر بينهما. كيف؟ ولو كان
مثل هذا التردد مانعا عن جريان الاستصحاب، لكان مانعا عنه في سائر المقامات
أيضا، كما إذا علمنا بان زيدا إن شرب السم الفلاني فقد مات قطعا، وان لم يشرب
فهو حي، فاحتمال شرب السم وعدمه صار منشأ للشك في بقاء حياته، ولا يضر
باستصحاب حياته، فكذا التردد في كون الموت يوم الجمعة أو يوم السبت في المقام
صار موجبا للشك في حدوث الاسلام حين الموت، ولا يضر بالاستصحاب، لتمامية
أركانه من اليقين والشك.
وربما يقال في توجيه كلام صاحب الكفاية (ره): إن الشك في المقام لا يعرض
إلا بعد اليقين بالانتقاض، لأن الشك في حدوث الاسلام حين الموت لا يعرض
إلا بعد العلم بالموت، ولا علم بالموت إلا في يوم السبت، ومعه نعلم بوجود الاسلام أيضا،
فيكون زمان الشك هو يوم السبت، وزمان اليقين بعدم الاسلام يوم الخميس. ويوم
الجمعة فاصل بينهما، فيكون المقام مما انفصل زمان الشك عن زمان اليقين يقينا،
لا مما يحتمل الانفصال، حتى يقال: أن الشبهة المصداقية غير متصورة في الأمور الوجدانية.
186

وهذا التوجيه - مع أنه ليس بمراد لصاحب الكفاية (ره) وإلا علل عدم
جريان الاستصحاب باحراز الانفصال، لا بعدم احراز الاتصال - غير تام في نفسه،
لما ذكرناه مرارا من أنه لا يعتبر في الاستصحاب كون اليقين سابقا على الشك، بل يكفي
حدوثهما في زمان واحد، بأن يكون اليقين متعلقا بالحدوث والشك متعلقا بالبقاء،
والمقام كذلك، فإنه في يوم السبت بعد العلم بوجود الموت والاسلام فعلا لنا يقين بعدم
الاسلام وبعدم الموت يوم الخميس، وشك في حدوث الاسلام حين الموت، فعدم
الاسلام حين الموت متعلق لليقين حدوثا، ومتعلق للشك بقاء، ومعنى اتصال الشك
باليقين عدم تخلل يقين آخر بينهما. وليس في المقام يقين آخر فاصل بين اليقين الأول
والشك، حتى يكون من نقض اليقين باليقين، لان اليقين الآخر متعلق بوجود
الاسلام فعلا، وهو ليس بناقض لليقين الأول، لعدم كونه متعلقا بعين ما تعلق به
اليقين الأول، لان متعلق اليقين الأول حدوثا ومتعلق الشك بقاء هو عدم الاسلام
حين الموت. ومتعلق هذا اليقين هو وجود الاسلام فعلا، فلا يرتبط أحدهما بالآخر.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا مانع من جريان الاستصحاب فيما إذا كان الأثر
لأحدهما، ويسقط للمعارضة فيما إذا كان الأثر لكل واحد منهما، كما عليه الشيخ (ره)
وجماعة من المحققين.
ثم انه ربما يمنع من جريان الاستصحاب في موردين بتوهم أنهما من الشبهة المصداقية
من حيث اعتبار عدم تخلل يقين آخر بين اليقين السابق والشك اللاحق، ونتعرض لهما
بالمناسبة وإن لم يكن لهما دخل بمسألة مجهولي التأريخ:
(أحدهما) - ما ذكره بعض الأكابر، وهو ما إذا علمنا بعدالة زيد
مثلا في زمان، وشككنا في بقائها الآن، ولكن نحتمل كوننا متيقنين بفسقه بعد
اليقين بعدالته، فلا يجري استصحاب العدالة، لاحتمال تخلل اليقين بالفسق بين اليقين
187

بالعدالة والشك في بقائها، فتكون الشبهة مصداقية.
وفيه ما مر مرارا من أنه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشك،
بل يكفي حدوثهما معا، فمع فرض اليقين الفعلي بحدوث العدالة والشك في بقائها
لا يمنع من جريان الاستصحاب احتمال وجود اليقين بفسقه سابقا، بل لا يقدح
في الاستصحاب اليقين بوجود اليقين بفسقه، مع احتمال كون اليقين بالفسق مخالفا للواقع،
فضلا عن احتمال اليقين بفسقه. فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد، ثم علمنا بفسقه
يوم السبت، ثم تبدل اليقين بفسقه بالشك الساري فيه يوم الأحد، فيوم الأحد نعلم
بحدوث عدالته يوم الجمعة ونشك في بقائها الآن، لاحتمال كون اليقين بفسقه يوم السبت
مخالفا للواقع، فباعتبار هذا اليقين الفعلي يوم الأحد بحدوث العدالة يوم الجمعة والشك
في بقائها يجري الاستصحاب. ولا يقدح فيه اليقين بالفسق بعد تبدله بالشك الساري،
فكيف باحتمال اليقين بالفسق. مضافا إلى أنه لو كان احتمال اليقين مانعا عن جريان
الاستصحاب، لمنع منه في كثير من الموارد التي لا يلتزم - بعدم جريان الاستصحاب
فيها - أحد، وهي الموارد التي يكون ارتفاع المتيقن السابق فيها مستلزما للعلم بالارتفاع،
فيكون احتمال الارتفاع ملازما لاحتمال العلم بالارتفاع، كما إذا كان زيد محدثا، وشك
في الطهارة من الوضوء أو الغسل، فان احتمال ارتفاع الحدث بالوضوء أو الغسل ملازم
لاحتمال العلم، لان الوضوء والغسل من الأمور العبادية التي لا يمكن تحققها إلا مع العلم
والالتفات، فلابد من القول بعدم جريان الاستصحاب على المبنى المذكور، لاحتمال
العلم بالانتقاض. ولا يلتزم به أحد.
(ثانيهما) - ما ذكره المحقق النائيني ردا على السيد (ره) في العروة.
وبيانه: ان السيد (ره) ذكر في العروة أنه إذا علمنا بنجاسة إناءين مثلا، ثم علمنا
بطهارة أحدهما، فيتصور ذلك بصور ثلاث: (الأولى) - ان نعلم بطهارة أحدهما
188

علما تفصيليا فاشتبه الطاهر المعلوم بالتفصيل بغيره (الثانية) - ان نعلم بطهارة أحدهما
لا بعينه بحيث لا يكون للطاهر تعين وامتياز بوجه من الوجوه، بل يمكن أن لا يكون
له في الواقع أيضا تعين، كما إذا كان كلاهما طاهرا في الواقع (الثالثة) - أن نعلم
بطهارة أحدهما بعنوان معين، ونشك في انطباقه، كما إذا علمنا بطهارة اناء زيد،
وشككنا في انطباق هذا العنوان على هذا الاناء أو ذاك.
وحكم السيد (ره) بنجاسة الإناءين في جميع هذه الصور الثلاث
عملا بالاستصحاب.
ورد عليه المحقق النائيني (ره) واختار عدم جريان الاستصحاب في جميعها،
لكن لا بمناط واحد، بل حكم بعدم جريانه في الصورة الأولى والثالثة، لكون
الشبهة مصداقية، فانا نعلم بانتقاض اليقين بالنجاسة باليقين بالطهارة بالنسبة إلى أحد
الإناءين إما باليقين التفصيلي - كما في الصورة الأولى - وإما باليقين المتعلق بعنوان
معين شككنا في انطباقه - كما في الصورة الثالثة - فلا مجال لجريان الاستصحاب
في شئ من الإناءين، لان كل واحد منهما يحتمل ان يكون هو الاناء الذي انتقض العلم
بنجاسته بالعلم بطهارته. واما الصورة الثانية فحكمه بعدم جريان الاستصحاب فيها ليس
مبنيا على احتمال انفصال زمان الشك عن زمان اليقين - بيقين آخر - كما في الصورة
الأولى والثالثة - فان الشك في بقاء النجاسة في كل منهما متصل باليقين بالنجاسة،
ولم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك يقين آخر. والعلم الاجمالي بطهارة أحدهما
لا بعينه يكون منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما، بخلاف الصورة الأولى والثالثة،
فان منشأ الشك في بقاء النجاسة فيهما هو اجتماع الإناءين واشتباه الطاهر بالنجس لا العلم
بطهارة أحدهما، فان متعلق العلم كان معلوما بالتفصيل أو بالعنوان، فحكمه بعدم
جريان الاستصحاب في الصورة الثانية مبني على أن العلم الاجمالي بنفسه مانع عن جريان
189

الاستصحاب، ولو لم تلزم منه مخالفة عملية قطعية، كما اختاره الشيخ خلافا
لصاحب الكفاية (ره) هذا ملخص مرام المحقق النائيني (قدس سره) في المقام.
أقول: أما ما ذكره في الصورة الثانية من أن العلم الاجمالي بنفسه مانع
عن جريان الاستصحاب - ولو لم تلزم منه مخالفة عملية - فهو وان كان خارجا عن محل
الكلام فعلا، لان الكلام في بيان الشبهة المصداقية المانعة عن جريان الاستصحاب،
إلا ان الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لا مانع من جريان الاستصحاب
في أطراف العلم الاجمالي ما لم تلزم منه مخالفة عملية، فان مؤدى الاستصحاب هو الحكم
بنجاسة كل من الطرفين بخصوصه. وليس لنا علم بطهارة كل منهما بخصوصه. والمثبت
منه لا يكون حجة حتى على القول بكونه من الامارات - كما هو المختار - فلا يكون
مفاد استصحاب النجاسة في أحدهما بخصوصه هو الطهارة في الطرف الآخر، حتى يكون
معارضا لاستصحاب النجاسة في الطرف الآخر. وسنتعرض لتفصيل ذلك في أواخر
بحث الاستصحاب انشاء الله تعالى.
وأما ما ذكره في الصورة الأولى والثالثة من عدم جريان الاستصحاب لكون
الشبهة مصداقية، ففيه أن الشبهة المصداقية غير متصورة في الأمور الوجدانية من اليقين
والشك، فإنه ان احتملت الطهارة في كل واحد من الإناءين في المثال المذكور، فهو شك
بالوجدان، وإن لم تحتمل الطهارة، فهو يقين كذلك. وقد مر غير مرة أنه لا يعتبر
في الاستصحاب كون اليقين سابقا على الشك، بل المعتبر كون المتيقن سابقا على المشكوك
فيه، فالميزان في جريان الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي في البقاء.
وهما موجودان بالنسبة إلى كل واحد من الإناءين بخصوصه. ولا يقدح في الاستصحاب
احتمال كون هذا الاناء متعلقا لليقين بالطهارة سابقا، فان الاستصحاب جار باعتبار
اليقين الفعلي بحدوث النجاسة مع الشك في بقائها لا باعتبار اليقين السابق. وقد ذكرنا
190

ان اليقين - بكون هذا الاناء متعلقا لليقين بالطهارة سابقا - لا يقدح في الاستصحاب
مع وجود اليقين الفعلي بالنجاسة والشك في بقائها، فضلا عن احتمال كون هذا الاناء
متعلقا لليقين السابق بالطهارة. نعم اليقين السابق بالطهارة كان مانعا عن استصحاب
النجاسة حين وجوده.
وبالجملة بعد كون الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشك الفعلي
في البقاء، لا يضره اليقين السابق علما أو احتمالا. نعم احتمال وجود اليقين الفعلي بالطهارة
قادح في استصحاب النجاسة، ولكنه غير متصور، لكون اليقين من الأمور الوجدانية،
فلا يتصور فيه الاحتمال - كما تقدم - هذا كله فيما إذا كان أحد الإناءين متعلقا
لليقين التفصيلي بالطهارة، ثم اشتبه مع المتنجس.
ومنه يظهر الكلام فيما إذا كان اليقين متعلقا بعنوان شك في انطباقه، فان عدم
قدح احتمال انطباق عنوان تعلق به اليقين في جريان استصحاب النجاسة أوضح من عدم
قدح احتمال اليقين التفصيلي بطهارة أحدهما بعد كون الميزان في الاستصحاب هو اليقين
الفعلي لا اليقين السابق. وقد ذكرنا سابقا نقضا في المقام، وهو: أنه إذا رأينا جنازة
عالم نحتمل انطباق هذا العنوان (أي العالم) على المقلد، فهل يكون هذا الاحتمال مانعا
عن استصحاب حياة المقلد؟ ولا أظن أن يلتزم به أحد.
ومن متفرعات هذا الكلام مسألة دوران الامر بين كون الدم من المسفوح
أو من المتخلف، بناء على كون الدم مطلقا نجسا ولو في الباطن، كما هو المعروف.
ولذا يعدون خروج الدم المتعارف من المطهرات، لكونه مطهرا للدم المتخلف، فإذا رأينا
دما في ثوبنا مثلا، وشككنا في كونه من المسفوح أو من المتخلف: فربما يقال بجريان
استصحاب النجاسة، لان الدم كله نجس ولنا يقين بطهارة الدم المتخلف، ونشك
في انطباقه على هذا الدم، فيجري استصحاب النجاسة. ولا يقدح فيه احتمال انطباق
191

العنوان الذي كان متعلقا لليقين بالطهارة. وقد يقال بجريان الاستصحاب الموضوعي،
وهو أصالة عدم خروج هذا الدم من الذبيحة، فيحكم بطهارته. وقد منع المحقق
النائيني (ره) جريان كلا الاستصحابين، لاحتمال انطباق عنوان المسفوح، فيكون مانعا
عن جريان الاستصحاب الموضوعي، ولاحتمال انطباق عنوان المتخلف، فيكون مانعا
عن جريان الاستصحاب الحكمي (أي استصحاب النجاسة).
وقد ظهر مما ذكرناه أنه لا مانع من جريان الاستصحاب من هذه الجهة، إلا أنه
مع جريان الاستصحاب الموضوعي لا تصل النوبة إلى الاستصحاب الحكمي، فيكون الدم
المذكور محكوما بالطهارة. هذا ملخص الكلام في مجهولي التاريخ.
وأما إذا كان أحد الحادثين معلوم التاريخ والآخر مجهول التاريخ فقد ذكرنا
أنه يتصور بصور أربعة، لان الأثر (تارة) مترتب على الوجود الخاص من السبق
أو اللحوق. (وأخرى) على العدم. وعلى الأول فاما ان يكون الأثر مترتبا على الوجود
المحمولي المعبر عنه بمفاد كان التامة، واما أن يكون مترتبا على الوجود النعتي بمعنى
الانصاف بالسبق أو اللحوق المعبر عنه بمفاد كان الناقصة. وعلى الثاني إما أن يكون الأثر
مترتبا على العدم المحمولي المعبر عنه بمفاد ليس التامة. وإما ان يكون مترتبا على العدم
النعتي المعبر عنه بمفاد ليس الناقصة. وتفسير العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة مجرد تعبير،
فان معنى العدم النعتي هو الاتصاف بالعدم، فيكون مفاده القضية الموجبة معدولة
المحمول لا القضية السالبة على نحو مفاد ليس الناقصة.
أما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود بمفاد كان التامة، فلا اشكال في جريان
الاستصحاب في نفسه، إلا أنه يسقط بالمعارضة فيما إذا كان الأثر للطرفين مع العلم
الاجمالي بسبق أحدهما على الآخر وعدم احتمال التقارن على ما تقدم بيانه في مجهولي التأريخ،
فلا حاجة إلى الإعادة.
192

وأما إذا كان الأثر مترتبا على الوجود النعتي بمعنى الاتصاف بالسبق أو اللحوق،
أو كان مترتبا على العدم النعتي بمعنى الاتصاف بالعدم، فقد استشكل صاحب
الكفاية ره) في جريان الاستصحاب فيهما، لما تقدم منه في مجهولي التأريخ: من أن
الاتصاف بالوجود أو العدم ليست له حالة سابقة، حتى يجري الاستصحاب فيه. وقد
تقدم جوابه من أن عدم الاتصاف له حالة سابقة، فنستصحب عدم الاتصاف، ونحكم
بعدم ترتب أثر الاتصاف - على ما تقدم بيانه في مجهولي التاريخ.
واما إن كان الأثر مترتبا على العدم المحمولي المعبر عنه بمفاد ليس التامة: بأن
كان مترتبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر، كمسألة موت المورث واسلام
الوارث، فان موضوع الإرث مركب من وجود الاسلام وعدم الحياة. ففصل الشيخ
وصاحب الكفاية والمحقق النائيني (ره) بين معلوم التاريخ ومجهوله، فاختاروا
جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ، وعدمه في معلومه. أما جريانه
في مجهول التاريخ، فواضح، لان عدمه متيقن، ونشك في انقلابه إلى الوجود
في زمان وجود الآخر. والأصل بقاؤه. وأما عدم جريانه في معلوم التاريخ، فقد
ذكر صاحب الكفاية (ره) له وجها، والمحقق النائيني (ره) وجها آخر تبعا للشيخ (ره)
أما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) فهو ما تقدم منه في مجهولي التاريخ من عدم إحراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين، فتكون الشبهة مصداقية، فانا إذا علمنا بعدم الموت
وعدم الاسلام يوم الجمعة، وعلمنا بالموت يوم السبت، وشككنا يوم الأحد في أن
الاسلام وقع ليلة السبت حتى يرث أو يوم الأحد حتى لا يرث. وحيث إن الأثر لعدم
الموت في زمان وجود الاسلام لا للعدم مطلقا في عمود الزمان ويكون زمان وجود الاسلام
مرددا بين ليلة السبت ويوم الأحد، لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين،
لأنه إن كان حدوث الاسلام ليلة السبت، فزمان الشك متصل بزمان اليقين، وإن كان
193

حدوث الاسلام يوم الأحد، فزمان الشك منفصل عن زمان اليقين.
هذا وقد تقدم الجواب عنه في مجهولي التاريخ من أن الميزان في الاستصحاب هو
اليقين الفعلي مع الشك في البقاء، لا اليقين السابق. والمراد من اتصال زمان الشك
بزمان اليقين عدم تخلل يقين آخر بين المتيقن السابق والمشكوك اللاحق. وفي المقام
كذلك، فان يوم الأحد لنا يقينا بعدم الموت يوم الجمعة، ولنا شك في بقائه إلى زمان
حدوث الاسلام، فهذا المتيقن مشكوك البقاء بلا تخلل يقين آخر بينهما. فلا مانع
من جريان الاستصحاب، فان حدوث الموت يوم السبت وإن كان متيقنا لنا، إلا أن
وجوده حين وجود الاسلام مشكوك فيه، فالأصل عدم وجوده حين الاسلام، ومقتضاه
عدم الإرث.
وأما ما ذكره العلامة النائيني (ره) فهو: أن مفاد الاستصحاب هو الحكم
ببقاء ما كان متيقنا في عمود الزمان وجره إلى زمان اليقين بالارتفاع، وليس لنا شك
في معلوم التاريخ باعتبار عمود الزمان حتى نجره بالتعبد الاستصحابي، فان عدم الموت
متيقن يوم الجمعة وحدوثه معلوم يوم السبت، وبقاؤه معلوم إلى يوم الأحد، فليس لنا
شك متعلق بالموت حتى نجري الاستصحاب.
وفيه أن الموت وإن كان معلوم الحدوث يوم السبت، إلا أن الأثر لا يترتب
عليه، فان الأثر لعدم حدوث الموت في زمان الاسلام، وحدوثه - حين الاسلام -
مشكوك فيه، ولا منافاة بين كونه معلوما باعتبار ذاته ومشكوكا فيه باعتبار وجوده
حين الاسلام، فإنه لا تنافي بين كون شئ معلوما بعنوان ومشكوكا فيه بعنوان آخر،
كما ذكرنا مثاله سابقا من انا نعلم بموت عالم ونشك في انطباقه على المقلد، فموت العالم
بعنوان انه عالم معلوم، وبعنوان انه مقلد مشكوك فيه، فلا مانع من جريان
الاستصحاب في المقام، بلا فرق بين معلوم التاريخ ومجهوله. غاية الامر سقوطه
194

بالمعارضة في بعض الصور على ما تقدم تفصيله في مجهولي التاريخ.
بقي الكلام في فرع ذكروه في المقام، وهو انه إذا كان الماء قليلا طاهرا
فعلمنا بتتميمه كرا وبملاقاته مع النجاسة، وشككنا في تقدم الكرية على الملاقاة حتى
يكون طاهرا، أو تقدم الملاقاة على الكرية فيكون نجسا، بناء على أن تتميم الماء النجس
كرا لا يوجب طهارته كما هو الظاهر (فتارة) تكون الملاقاة والكرية مجهولتي التاريخ
و (أخرى) تكون الكرية معلومة التاريخ، والملاقاة مجهولة التاريخ. (وثالثة)
تكون الملاقاة معلومة التاريخ والكرية مجهولة. والأقوال في المسألة ثلاثة:
(القول الأول) - هو الحكم بطهارة الماء في جميع الصور الثلاث.
أما في صورة الجهل بتاريخ الكرية والملاقاة، فلعدم جريان الاستصحاب
في نفسه - كما عليه صاحب الكفاية (ره) - أو لسقوطه بالمعارضة، لكون
الأثر مترتبا على الطرفين - كما عليه الشيخ (ره) - فلا مجال للرجوع
إلى الاستصحاب على كل تقدير، فيرجع إلى قاعدة الطهارة المستفادة من قوله (ع):
" كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر ".
وأما في صورة العلم بتاريخ إحداهما، فلما ذكرنا من عدم الفرق بين
معلوم التاريخ ومجهوله في جريان الاستصحاب، فيسقط الاستصحاب، للمعارضة ويرجع
إلى قاعدة الطهارة.
(القول الثاني) - هو الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور، وهو الذي اختاره
المحقق النائيني (ره) ببيان سنذكره إن شاء الله تعالى.
(القول الثالث) - هو الحكم بطهارة الماء في الصورتين، وهما صورة
الجهل بتاريخ كل منهما، وصورة العلم بتاريخ الكرية. وأما في صورة العلم بتاريخ
الملاقاة، فحكم بالنجاسة.
195

أما في صورة الجهل بتاريخ كل منهما، فلتساقط الاستصحابين للمعارضة،
فيكون المرجع قاعدة الطهارة على ما تقدم. وأما في صورة العلم بتاريخ الكرية، فلما
بنى عليه سابقا من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ، فلا يجري استصحاب
عدم الكرية حين الملاقاة لمعلومية تاريخ الكرية، ويجري استصحاب عدم الملاقاة حين
الكرية، فيحكم بالطهارة.
وأما في صورة العلم بتاريخ الملاقاة، فلا يجري استصحاب عدم الملاقاة حين
الكرية، لمعلومية تاريخ الملاقاة، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة،
فيحكم بالنجاسة. وحيث إن مبنى هذا التفصيل هو الفرق بين معلوم التاريخ ومجهوله
في جريان الاستصحاب، فقد تقدم ما فيه من عدم الفرق بينهما في جريان الاستصحاب
على ما تقدم بيانه مفصلا.
أما القول الثاني وهو الحكم بنجاسة الماء في جميع الصور، فاختاره المحقق
النائيني (ره) وذكر لكل واحدة من الصور وجها (بيانه): انه في صورة الجهل
بتاريخ كل منهما لا يجري استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية، لعدم ترتب الأثر
الشرعي - وهو الحكم بالطهارة عليه - لان الحكم بالطهارة مترتب على كون
الكرية سابقة على الملاقاة، لقوله (ع): " إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه شئ "
فان المستفاد منه انه يعتبر في عدم انفعال الماء بالملاقاة كونه كرا قبلها، ولا يمكن
إثبات كون الكرية سابقة على الملاقاة باستصحاب عدمها إلى حين الكرية،
إلا على القول بالأصل المثبت، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة، فيحكم
بالنجاسة لاحراز الملاقاة بالوجدان، وعدم الكرية بالأصل.
وأما في صورة العلم بتاريخ الملاقاة والجهل بتاريخ الكرية فلا يجري استصحاب
عدم الملاقاة، لمعلومية تاريخها، ويجري استصحاب عدم الكرية حين الملاقاة، فيحكم
196

بالنجاسة، بل الحكم في هذه الصورة أولى منه في الصورة السابقة، لان المانع من جريان
استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية في هذه الصورة أمران: (الأول) -
كونه مثبتا على ما تقدم. (والثاني) - معلومية تاريخ الملاقاة.
وأما في صورة العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة، فلا يجري استصحاب
عدم الكرية، لمعلومية تاريخها ولا استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية، لكونه
مثبتا على ما تقدم بيانه من اعتبار الكرية قبل الملاقاة. ولذا اختار هو وغيره عدم كفاية
التتميم في طهارة الماء القليل الملاقي للنجس، وبعد عدم جريان كلا الاستصحابين لا يمكن
الرجوع إلى قاعدة الطهارة. وذلك لما أسسه من الأصل، وهو انه إذا استثني من حكم
إلزامي عنوان وجودي، يفهم منه العرف أن احراز هذا العنوان جزء للموضوع،
فلو لم يحرز العنوان المذكور يرجع إلى حكم العام، فإذا قال المولى لعبده: لا تأذن
في الدخول علي إلا للعالم مثلا، يفهم منه العرف ان الموضوع لجواز الاذن هو احراز
عنوان العالم. والمقام من هذا القبيل، لأنه حكم في الشريعة المقدسة بوجوب الاجتناب
عن الماء الملاقي للنجاسة، واستثني منه ماء الكر، فيفهم العرف منه ان الموضوع لعدم
وجوب الاجتناب هو احراز الكرية. وفي صورة عدم احراز الكرية يرجع إلى حكم
العام، وهو وجوب الاجتناب. وفرع على هذا الأصل فروعا كثيرة:
(منها) - ما لو علمنا بقلة ماء وكريته، وشككنا في أن المتقدم هو الكرية
حتى يحكم بنجاسته فعلا للملاقاة، أو القلة حتى يحكم بعدم نجاسته، فيتعارض استصحاب
عدم الكرية حين الملاقاة باستصحاب عدم القلة، وبعد التساقط لا يمكن الرجوع
إلى قاعدة الطهارة، لما تقدم من الأصل، فيحكم بالنجاسة. وكذا الكلام في الماء
الذي ليس له حالة سابقة، كالمخلوق دفعة فرضا، أو الماء الذي لا نعلم حالته السابقة،
(ومنها) - ما لو شككنا في كون دم أقل من الدرهم، فيحكم بوجوب
197

الاجتناب عنه، لان المستثنى من وجوب الاجتناب عن الدم هو الأقل من الدرهم،
ويفهم منه العرف أن المستثنى هو احراز كونه أقل من الدرهم، فمع عدم الاحراز يرجع
إلى حكم العام لا للتمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بل لان المستثنى هو احراز كونه
أقل من الدرهم بحسب فهم العرف.
(ومنها) - ما لو شككنا في كون امرأة من المحارم، فيحكم بحرمة النظر
إليها، لان المستثنى من حرمة النظر هو احراز كونها من المحارم بحسب فهم العرف،
فمع عدم الاحراز يرجع إلى حكم العام - انتهى ملخص كلامه (قدس سره).
وفيه مواقع للنظر:
(الموقع الأول) - فيما أسسه من الأصل، فإنه إن كان مراده ان
الموضوع للحكم الواقعي هو الاحراز، فيلزم منه انتفاء الطهارة واقعا في صورة الشك
في الكرية، لكون موضوع الطهارة الواقعية هو احراز الكرية على الفرض، فلو توضأ
بماء مشكوك الطهارة مع الغفلة، يلزم الحكم ببطلان وضوئه، ولو انكشف بعد الوضوء
كونه كرا في الواقع. وهذا شئ لم يلتزم به أحد. وإن كان مراده ان الموضوع
للحكم الظاهري هو احراز الكرية، وان الحكم الظاهري مجعول طريقا إلى الحكم
الواقعي نظير وجوب الاحتياط. وان قوله (ع): " إذا بلغ الماء قدر كر... الخ "
منحل إلى بيان حكمين: (أحدهما) - الحكم الواقعي وموضوعه الكر الواقعي.
(ثانيهما) - الحكم الظاهري الطريقي، وموضوعه احراز الكرية، فكل ما
لم تحرز كريته محكوم بالانفعال ظاهرا (ففيه) ان استفادة الحكمين من مثل قوله
عليه السلام: " إذا بلغ الماء قدر كر... " دونه خرط القتاد، فانا لانفهم منه
بعد مراجعة العرف إلا حكما واحدا واقعيا، وهو ان الكر لا ينجس بملاقاة شئ
من النجاسات، وبعد عدم تمامية ما ذكره - من الأصل وعدم جريان أصالة
198

عدم الملاقاة لكونها من الأصول المثبتة على ما ذكره (قدس سره): وعدم جريان أصالة
عدم الكرية لكونها معلومة التأريخ - لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة، ولذا ذهب
المشهور إلى الحكم بطهارة الماء في هذه الصورة (أي صورة العلم بتاريخ الكرية، والجهل
بتاريخ الملاقاة). وأما ما فرعه على الأصل المذكور من الموارد، فالحكم فيها وان كان
كما ذكره، إلا أنه ليس مبنيا على ما ذكره من الأصل، بل مبني على جريان
الأصل الموضوعي، ففي مثل المرأة المرددة بين الأجنبية والمحرم، يحكم بحرمة النظر إليها
لأصالة عدم كونها من المحارم، فان النسب من الأمور الحادثة. وكذا الكلام في الفروع
الاخر. غاية الامر أن الأصل الموضوعي يختلف باختلاف الموارد، ففي بعض الموارد
يكون من قبيل أصالة العدم الأزلي - كما في المرأة المرددة - وفى بعض الموارد يكون
من قبيل أصالة العدم النعتي - كما في المثال المذكور في كلامه - من الشك في كون
أحد عالما مع قول المولى لا تأذن في الدخول علي إلا للعالم، فالأصل عدم كونه عالما،
فإنه حين تولده لم يكن عالما يقينا، والأصل بقاؤه على ما كان.
(الموقع الثاني) - ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ،
ففيه ما تقدم من عدم الفرق في جريانه بين معلوم التاريخ ومجهوله، لان الأثر
ليس مترتبا على عدم الحادث في عمود الزمان كي يمنع من جريان الاستصحاب في معلوم
التاريخ، لعدم الشك فيه بلحاظ عمود الزمان، بل الأثر مترتب على عدم أحد الحادثين
حين وجود الحادث الآخر، ووجود معلوم التاريخ في زمان وجود الحادث الآخر
مشكوك فيه، لان العلم بتاريخه في عمود الزمان لا ينافي الشك في وجوده حين وجود
الحادث الآخر، فلا مانع من جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضا. وقد تقدم
تفصيل ذلك.
(الموقع الثالث) - ما ذكره في مجهولي التاريخ من جريان أصالة عدم
199

الكرية حين الملاقاة، فيحكم بالنجاسة وعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى حين الكرية،
لكون الأثر مترتبا على كون الكرية سابقة على الملاقاة، ولا يمكن اثباته باستصحاب
عدم الملاقاة إلى حين الكرية، إلا على القول بالأصل المثبت.
وفيه (أولا) - منع اعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة، ولا يستفاد ذلك
من قوله (ع): " إذا بلغ الماء قدر كر... " بل المستفاد منه اعتبار الكرية حين
الملاقاة، فلا أثر لكريته السابقة على الملاقاة. والحكم بعدم كفاية التتميم كرا
في طهارة الماء القليل المتنجس ليس لاعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة، بل لعدم كونه
كرا حين الملاقاة، فلا فائدة في تتميمه كرا بعد الملاقاة، بل المستفاد من قوله (ع):
" إذا بلغ الماء قدر كر... " هو الحكم بنجاسة هذا الماء المتمم (بالكسر) فان
مفهوم قوله (ع): " إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ " انه إذا لم يبلغ الماء
قدر كر ينجسه شئ من النجاسات وهذا الماء المتمم (بالكسر) لم يكن كرا، وقد لاقاه
الماء المتنجس،، فلابد من الحكم بنجاسته بمقتضى المفهوم، فيصير المجموع نجسا.
ومقتضى ما ذكرنا - من عدم اعتبار كون الكرية سابقة على الملاقاة وكفاية الكرية
حين الملاقاة - هو الحكم بالطهارة فيما إذا اتحد زمان التتميم والملاقاة، بحيث كانت
الملاقاة والتتميم في آن واحد، لكونه كرا حين الملاقاة.
و (ثانيا) - على فرض تسليم ذلك أنه لا يكون الأصل المذكور مثبتا،
لان عدم الانفعال وان كان متوقفا على كون الكرية سابقة على الملاقاة، إلا أن الطهارة
أعم منه، فان موضوع عدم الانفعال أمران: الكرية والملاقاة، لأنه في صورة
عدم الملاقاة لا يكون هناك مقتض للانفعال حتى تكون الكرية مانعة عنه، فلا يصدق
عدم الانفعال إلا مع الملاقاة والكرية، بخلاف الطهارة، فإنها غير متوقفة على الكرية
ولا على الملاقاة، لامكان ان يكون ماء قليلا وطاهرا مع عدم الملاقاة، فإذا لا مانع
200

من جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية، فيحكم بالطهارة. فلا حاجة إلى اثبات
عنوان عدم الانفعال حتى يقل: انه متوقف على كون الكرية سابقة على الملاقاة.
واثباته باستصحاب عدم الملاقاة إلى حين الكرية متوقف على القول بالأصل المثبت.
فالذي تحصل مما ذكرنا أن الأوفق بالقواعد هو الحكم بطهارة الماء في جميع
الصور الثلاث، لتساقط الاستصحاب للمعارضة، فيكون المرجع أصالة الطهارة،
وعلى فرض تسليم عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ، يكون الصحيح هو القول
بالتفصيل على ما تقدم بيانه.
(تنبيه)
إن ما ذكرناه هو الذي ذكره سيدنا الأستاذ دام ظله في محاضرته الأصولية.
وعدل عنه دام ظله في حاشيته على العروة وحكم بنجاسة الماء في جميع الصور الثلاث.
والوجه فيه ما ذكره في دراساته الفقهية في خيار العيب على ما في تقريرات بعض أفاضل
مقرري بحثه. وحيث انه مشتمل على تحقيق أنيق منطبق على موارد كثيرة، أحببنا
أن نذكره بنص عباراته واليك نص:
ذكر المحقق الأنصاري - في مبحث خيار العيب عند البحث في اختلاف
المتبائعين في المسقط - أنه لو اختلفا في تأخر الفسخ عن أول الوقت بناء على فورية الخيار،
ففي تقديم مدعي التأخير لأصالة بقاء العقد وعدم حدوث الفسخ في أول الزمان أو مدعي
عدمه لأصالة الصحة وجهان. ثم ذكر أن هذه المسألة نظير ما لو ادعى الزوج الرجوع
في عدة المطلقة الرجعية، وادعت هي تأخره عنها.
أقول: هذه المسألة سيالة في كل مورد كان موضوع الحكم أو متعلقه مركبا
من جزءين، وقد علمنا بتحقق أحدهما ثم بتحقق الجزء الآخر وارتفاع الجزء الأول،
201

ولكن لم يعلم تقدم أحدهما على الاخر، كما إذا شك في أن الفسخ هل وقع قبل التفرق
عن مجلس العقد أو بعده، أو شك في أن فسخ المشتري العقد في بيع الحيوان هل
وقع قبل انتهاء ثلاثة أيام أو بعده، أو شك في أن القبض في بيع الصرف والسلم هل وقع
قبل التفرق عن مجلس العقد أو بعده، أو شك في أن بيع الراهن العين المرهونة هل وقع
قبل رجوع المرتهن عن إذنه أو بعده، أو شك في أن ملاقاة النجاسة للماء المسبوق بالقلة
هل وقع قبل عروض الكرية أو بعده، أو شك المتطهر إذا صلى وعلم بصدور حدث
منه في تقدم الصلاة على الحدث وتأخرها عنه، ولم يمكن اجراء قاعدة الفراغ ولو من جهة
العلم بغفلة المصلي حين إتيانه بها - إلى غير ذلك من الموارد؟ فنظير ما ذكره المحقق
الأنصاري (ره) في خيار العيب من أصالة عدم حدوث الفسخ في أول الزمان جار
في جميع تلك الموارد.
وذهب بعض المحققين إلى خلاف ما ذهب إليه العلامة الأنصاري. ومحصل
كلامه: أن الموضوع في الموارد المزبورة بما أنه مركب من جزءين لا يفرق الحال
في ترتب الحكم بين إحراز كلا الجزءين بالوجدان، وإحراز أحدهما بالوجدان،
والاخر بالأصل، فإذا تحقق الفسخ في الخارج وشك في حدوثه في أول زمان الخيار
- بناء على فوريته ليكون مؤثرا - أو بعده لكي لا يكون مؤثرا فيستصحب الخيار
إلى زمان وقوع الفسخ فيلتئم الموضوع المركب منهما، ويترتب عليه انفساخ العقد،
وكذلك يستصحب بقاء الجزء المتيقن في جميع تلك الموارد إلى زمان تحقق الجزء الاخر،
ويترتب عليه حكمه، فيحكم بنجاسة الماء في الفرض المزبور وبصحة الصلاة لاستصحاب
بقاء قلة الماء إلى زمان ملاقاة النجاسة، واستصحاب بقاء الطهارة إلى زمان تحقق
الصلاة. وهكذا.
لا يقال: إن الأصل المذكور معارض بأصل آخر، وهو عدم حدوث الجزء الثاني
202

إلى انقضاء زمان الجزء الأول وإن الأصل عدم تحقق الفسخ في الخارج إلى انقضاء زمان
الخيار، والأصل عدم وجود الصلاة إلى زمان حدوث الحدث، والأصل عدم ملاقاة
النجاسة إلى زمان الكرية، وهكذا بقية الموارد.
فإنه يقال: إن عدم تأثير الفسخ وبطلان الصلاة وعدم تنجس الماء بالملاقاة
مترتبة على وقوع الفسخ بعد انقضاء زمان الخيار، ووقوع الصلاة بعد زوال الطهارة،
ووقوع الملاقاة بعد حصول الكرية. ومن الظاهر أن أصالة عدم حصول الفسخ في زمان
الخيار، وأصالة عدم وقوع الصلاة في زمان الطهارة، وأصالة عدم الملاقاة في زمان
الكرية لا يترتب عليها شئ مما ذكر، إلا على القول بالأصل المثبت. وبما أنا لا نقول
به، فلا معارض لاستصحاب بقاء الجزء المتيقن إلى زمان حدوث الجزء الثاني هذا.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الحادثين - الذين يتركب منهما موضوع
الحكم أو متعلقه - قد يكون كلاهما زمانيا من دون دخل شئ آخر في موضوع الحكم
أو متعلقه سوى وجود أحدهما في زمان وجود الاخر، وقد يكون أحدهما زمانا والاخر
زمانيا لم يعتبر فيه إلا وجوده في ذلك الزمان من دون اعتبار عنوان آخر فيه، وقد
يكونان على نحو اخذ أحدهما مقيدا بعنوان خاص زائدا على وجود أحدهما مع فرض
وجود الاخر.
(أما الصورة الأولى) فلا شبهة في لزوم ترتيب الأثر فيها إذا أحرزنا أحد
الحادثين بالوجدان والاخر بالأصل، كما إذا تحقق الفسخ في الخارج، وشك في وقوعه
في أول زمان خيار العيب أو بعده، فانا إذا أحرزنا بقاء الخيار إلى زمان الفسخ،
ترتب عليه نفوذ الفسخ من غير احتياج إلى شئ آخر، بداهة أن المستفاد من الأدلة
هو نفوذ الفسخ بوقوعه في الخارج مع بقاء الخيار. والمفروض احراز ذلك بضم الوجدان
إلى الأصل، فان الفسخ وجداني، وبقاء الخيار محرز بالاستصحاب، ولم يعتبر
203

في الموضوع غير ذلك، وتوهم - معارضته باستصحاب عدم تحقق الفسخ في زمان
الخيار - باطل، لا لما ذكر من أنه مثبت، فإنه مبني على كون عدم نفوذ الفسخ مترتبا
على وقوعه في غير زمان الخيار، مع أنه ليس كذلك، لأنه مترتب على عدم وقوعه
في زمان الخيار من غير حاجة إلى اثبات وقوعه في غيره، بداهة أن أثر العقد باق
على حاله ما لم يصدر الفسخ في زمان الخيار، بل لان الفسخ قد تحقق خارجا في زمان
حكم الشارع بكونه زمان الخيار، فلا شك لنا في تحققه في ذلك الزمان ليحكم بعدمه.
وبعبارة أخرى بعد فرض أنه لم يؤخذ في موضوع الحكم غير تحقق الفسخ
في الخارج وبقاء زمان الخيار، فإذا حكم الشارع ببقاء زمان الخيار، وعلم بتحقق
الفسخ، لم يبق شك في تحقق موضوع الحكم، فلا مجال لاجراء أصالة عدم الفسخ
في زمان الخيار. ومما يدل على ذلك أنه لو كان الأصل المزبور جاريا، لجرى حتى مع
عدم العلم بانقضاء زمان الخيار، فتعارض به أصالة بقاء الخيار إلى زمان الفسخ، مع
أنه لا يمكن الالتزام به، مثلا إذا شككنا في بقاء الخيار وسقوطه، جرى استصحاب
بقائه وعدم انقضائه، فلو فسخ المشتري - والحال هذه - لحكمنا بنفوذ الفسخ،
مع أنه على التوهم المزبور أمكن الالتزام بمعارضته باستصحاب عدم تحقق الفسخ في زمان
الخيار، وهكذا الحال في بقيه الموارد المتقدمة، فان استصحاب بقاء الطهارة إلى زمان
الصلاة أو استصحاب بقاء القلة إلى زمان الملاقاة، لا يمكن معارضته باستصحاب عدم
تحقق الصلاة في زمان الطهارة أو باستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلة، وإلا كان
الاستصحابان متعارضين ولو مع الشك في حدوث الكرية والحدث. ومن الظاهر
أن القائل بالمعارضة في المقام لا يلتزم به.
و (أما الصورة الثانية) أعني بها ما كان الموضوع مركبا من ذات الزمان
والزماني، فلا شبهة فيها أيضا في إثبات أحد الجزءين الذي هو الزمان بالأصل، والجزء
204

الاخر الذي هو الزماني بالوجدان، فيلتئم الموضوع المركب منهما، ويترتب عليه الحكم.
وذلك كما إذا شك في أن الفسخ في خيار الحيوان هل وقع قبل الثلاثة أو بعدها؟ فإنه
يحكم حينئذ ببقاء الثلاثة وعدم انقضائها فيترتب عليه انفساخ العقد، فان الظاهر
- من قوله (ع): " صاحب الحيوان - المشتري - بالخيار ثلاثة أيام " - هو
أن موضوع انحلال العقد مركب من فسخ المشتري وعدم انقضاء ثلاثة أيام، بمعنى
وقوع الفسخ في زمان لم تنقض فيه ثلاثة أيام من زمان العقد، فإذا أحرز هذا بالتعبد
الشرعي، حكم بنفوذ الفسخ ولا يعارض استصحاب بقاء الثلاثة باستصحاب عدم وقوع
الفسخ في ضمن الثلاثة، وإلا تحققت المعارضة فيما إذا لم يعلم انقضاء الثلاثة أيضا، ولا يلتزم
به. وبالجملة حال الاستصحاب في هذا القسم حاله في القسم الأول بعينه. وبذلك
يظهر الحال في بقية الموارد.
و (أما الصورة الثالثة) أعني بها ما إذا كان موضوع الحكم مركبا
من حادثين مع تقيد أحدهما بعنوان خاص، فلا يمكن فيها إحراز أحد الجزءين بالأصل،
والاخر بالوجدان، كي يلتئم الموضوع المركب منهما، فيترتب عليه الأثر. والوجه
في ذلك أن استصحاب الزمان مثلا لا يثبت ذلك العنوان ليترتب عليه الأثر الشرعي،
إلا على القول بحجية الأصول المثبتة. وعليه، فلا وجه هنا لمنع جريان الأصل بمعارضته
بأصالة عدم وقوع الزماني فيه، لما عرفت من عدم جريان استصحاب الزمان فيه في نفسه
فلا تصل النوبة إلى المعارضة. وبالجملة استصحاب الزمان أو الزماني لاحراز الموضوع
المركب منه ومن جزء آخر، إما أن لا يكون جاريا في نفسه، وإما أن لا يكون
معارضا باستصحاب عدم الجزء الاخر في زمانه.
ثم إنه لا يفرق الحال في هذه الصور الثلاث بين ما إذا كان تاريخ أحدهما
معلوما، وما إذا كان تاريخ كليهما مجهولا - كما هو واضح - انتهى نص كلامه
205

حفظه الله تعالى. أقول: لم يبين وجه عدم الفرق ايكالا إلى وضوحه، وقد تقدم
الوجه فيه في كلامنا من أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين معلوم التاريخ ومجهوله.
هذا تمام الكلام في أصالة تأخر الحادث فيما كان الموضوع مركبا من عدم أحد
الحادثين ووجود الاخر. وأما إذا كان الموضوع بسيطا، كما إذا علمنا بوجود الحدث
والطهارة منه، وشككنا في المتقدم منهما، فاختار صاحب الكفاية (ره) عدم جريان
الاستصحاب في مجبولي التاريخ. أما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ والاخر مجهوله،
فاختار أيضا عدم جريان الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ، لما ذكره سابقا
من عدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. غاية الامر أن عدم احراز الاتصال
في المسألة السابقة إنما هو لعدم احراز زمان الشك. وفى المقام لعدم احراز زمان اليقين.
وذلك لان الاستصحاب الجاري في المسألة السابقة كان عدميا، وزمان اليقين بعدم
الحادثين كان معلوما، إنما الشك في بقاء هذا العدم في زمان وجود الحادث الاخر.
وحيث أن زمان وجود الحادث الاخر غير معلوم لنا، فلا محالة زمان الشك غير معلوم
لنا، فلم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. بخلاف المقام، فان الاستصحاب
الجاري فيه وجودي، وزمان الشك في البقاء معلوم، لكن زمان اليقين بالحدوث غير
معلوم، لكونه مجهول التاريخ على الفرض، فلم يحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.
وفيه ما تقدم من أنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب اتصال زمان الشك واليقين
بالمعنى المذكور، بل الميزان في الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث مع الشك
في البقاء على ما تقدم بيانه، ولا يعتبر في جريان الاستصحاب كون زمان الحدوث
معلوما بالتفصيل، فانا لو علمنا بحدوث الطهارة ولم نعلم بكونها حادثة في الساعة الأولى
من النهار أو الساعة الثانية أو الثالثة، وشككنا في بقائها أول الظهر مثلا، فهل يمكن
المنع عن جريان الاستصحاب لعدم احراز زمان الحدوث؟ ولا يلتزم هو (ره) أيضا
206

بعدم جريانه في المثال المذكور، فيعلم أن مناط الاستصحاب انما هو اليقين الفعلي
بالحدوث مع الشك في البقاء، لا اليقين السابق فلا دخل لمعلومية زمان اليقين السابق
أو مجهوليته في الاستصحاب.
فتحصل مما ذكرناه في المقام أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في نفسه في مجهولي
التأريخ، ولا في معلومه، ولكنه يسقط بالمعارضة، لعدم امكان التعبد بالمتضادين
معا، والالتزام بالطهارة والحدث في آن واحد. وبعد سقوط الاستصحاب للمعارضة،
لابد من الرجوع إلى أصل آخر من الاشتغال أو البراءة. وذلك يختلف باختلاف
الموارد، ففي مثل الصلاة لابد من الوضوء تحصيلا للفراغ اليقيني، لكون الاشتغال
يقينيا. وفي مثل مس المصحف تجري البراءة عن الحرمة. وكذا إذا علمنا بوجود
الجنابة والغسل، وشككنا في المتقدم منهما، فبالنسبة إلى الصلاة يكون مورد قاعدة
الاشتغال، وبالنسبة إلى المكث في المسجد يكون مورد البراءة.
وبالجملة كل مورد علم توجه التكليف فيه وشك في مقام الامتثال، فهو من موارد
قاعدة الاشتغال، وكل مورد شك في التكليف يكون من موارد البراءة. هذا كله
في الطهارة من الحدث وما قابلها.
واما الطهارة من الخبث وما قابلها، فلا ينبغي الاشكال في أنه بعد تساقط
الاستصحاب للمعارضة، يكون المرجع هو قاعدة الطهارة المستفادة من قوله (ع):
" كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " فإذا علمنا بطهارة ماء ونجاسته، وشككنا
في المتقدم منهما، يكون المرجع - بعد تساقط الاستصحابين - هو أصالة الطهارة،
فيترتب جميع آثار الطهارة بالتعبد الشرعي.
ثم لا يخفى أن الاستصحاب الجاري في معلوم التأريخ يكون من الاستصحاب
الشخصي، وهو واضح. واما الاستصحاب الجاري في مجهول التاريخ (فتارة) يكون
207

من القسم الثاني من استصحاب الكلي و (أخرى) من القسم الرابع منه (بيان ذلك)
أنه إن كان معلوم التاريخ موافقا للحالة السابقة على الحالتين. كما إذا قام أحد من النوم
في الساعة الأولى من النهار، ثم صدر منه وضوء وبول مثلا، وشك في المتقدم منهما مع العلم
بأن البول صدر منه في الساعة الثالثة من النهار، ولكنه لا يدري أن الوضوء هل صدر
في الساعة الثانية أو الرابعة؟ فيكون استصحاب الحدث من الاستصحاب الشخصي،
واستصحاب الطهارة من القسم الثاني من استصحاب الكلي، لان الطهارة إن كانت
صادرة في الساعة الثانية فقد ارتفعت يقينا، وإن كانت في الساعة الرابعة فهي
باقية يقينا، فتكون الطهارة مرددة بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث، وهو
المورد للقسم الثاني من استصحاب الكلي. وأما إن كان معلوم التاريخ مخالفا للحالة
السابقة، كما إذا علم بتحقق الوضوء في الساعة الثالثة في المثال السابق، ولم يعلم
بأن البول صدر في الساعة الثانية أو الرابعة، فيكون الاستصحاب الجاري
في الطهارة من الاستصحاب الشخصي، واستصحاب الحدث من القسم الرابع
من استصحاب الكلي، لان الحدث المتيقن أولا - وهو حدث النوم - قد
ارتفع بالوضوء يقينا، وهو يعلم بتحقق حدث عند البول، ولكنه لا يدري أنه
حدث النوم أو حدث آخر حادث بالبول، لأنه لو كان صدور البول في الساعة الثانية
فالحدث المتحقق عند البول هو حدث النوم المرتفع بالوضوء، لان البول بعد النوم مما
لا أثر له، ولا يوجب حدثا آخر، ولو كان صدور البول في الساعة الرابعة، فالحدث
المتحقق عند البول حدث جديد، فلنا يقين بفرد من الحدث - وقد ارتفع يقينا -
ويقين بحدث بعنوان آخر - وهو المتحقق عند البول - ويحتمل انطباق هذا
العنوان على الفرد المرتفع وعلى غيره، فيكون باقيا. وهذا هو المورد للقسم الرابع
من استصحاب الكلي على ما ذكرناه عند التعرض لاقسام استصحاب الكلي فراجع.
208

ثم انه إذا اشتبه اناء من الماء الطاهر باناء من الماء النجس، فقد ورد في النص الامر
باهراقهما والتيمم، فذكر صاحب الكفاية (ره) في مبحث اجتماع الأمر والنهي:
أن هذا الحكم المنصوص ليس حكما تعبديا على خلاف القاعدة، بل لا يصح الوضوء
بهما مع قطع النظر عن النص، فإنه لو توضأ بأحدهما ثم غسل بالآخر مواضع الوضوء فتوضأ به،
لا يجوز له الدخول في الصلاة، لأنه يعلم تفصيلا بنجاسة بدنه حين وصول الماء الثاني:
إما لنجاسة الماء الأول، وإما لنجاسة الماء الثاني. ويشك في حصول الطهارة بعد
انفصال الغسالة. ومقتضى الاستصحاب هو الحكم ببقاء النجاسة، فلا يجوز له الدخول
في الصلاة. انتهى ملخصا.
أقول: هذا الذي ذكره صحيح على مسلكه من عدم جريان الاستصحاب
في مجهول التاريخ: وأما على المختار - من عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين معلوم
التاريخ ومجهوله - فيكون الحكم المذكور على خلاف القاعدة، فان استصحاب
النجاسة معارض باستصحاب الطهارة، لأنه كما يعلم بنجاسة بدنه بمجرد وصول الماء
الثاني، كذلك يعلم بطهارة بدنه أيضا حين التوضي بالماء الطاهر، وإن كان لا يدري
أن الماء الطاهر هو الثاني أو الأول، إذ لو كان الماء الأول طاهرا فبدنه طاهر حين
التوضي به - كما هو واضح - ولو كان الماء الثاني طاهرا فكذلك بدنه طاهر حين
التوضي به، لأنه طهر بدنه به قبل التوضي به على الفرض. غاية الامر أن تاريخ الطهارة
مجهول، وبعد تساقط الاستصحابين - للمعارضة - يكون المرجع أصالة الطهارة،
فمقتضى القاعدة صحة الوضوء على الكيفية المذكورة وجواز الدخول في الصلاة.
نعم يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي مانع عن الدخول في الصلاة بالوضوء
على الكيفية المذكورة، فان وصول الماء إلى الأعضاء تدريجي، فبمجرد وصول الماء
إلى وجهه - مثلا - يعلم اجمالا بنجاسة وجهه أو رجله، إذ لو كان الماء الأول نجسا
209

كانت رجله نجسة في هذا الحال، ولو كان الماء الثاني نجسا كان وجهه نجسا، ولا دافع
لهذا العلم الاجمالي بعد كون الاستصحاب مبتلى بالمعارض، فيكون الحكم المنصوص
على وفق القاعدة من هذه الجهة، لا من جهة الاستصحاب على ما ذكره
صاحب الكفاية (ره).
ويمكن الجواب عنه، بأن العلم الاجمالي المذكور غير مانع عن الوضوء بهما
مع تكرار الصلاة، بأن توضأ بأحدهما وصلى، ثم غسل المواضع بالآخر وتوضأ به وصلى،
فإنه حينئذ يعلم تفصيلا باتيان صلاة صحيحة، ولا أثر للعلم الاجمالي المذكور بعد العلم
بصحة الصلاة.
إلا أن يقال: إن التوضي بهما على الكيفية المذكورة حرج على المكلف،
إذ يجب عليه تطهير بدنه وثوبه وغيرهما مما وصل إليه ماء الوضوء للصلوات الآتية، إذ كل ما
وصل إليه ماء الوضوء من البدن والثوب يكون طرفا للعلم الاجمالي. ولكنه قد ذكرنا
غير مرة أن الحرج شخصي، فيكون الحكم المنصوص مطابقا للقاعدة بالنسبة
إلى من يوجب التوضي بهما - على الكيفية المذكورة - حرجا عليه دون غيره، كمن يعلم
بأنه يتمكن من تطهير بدنه وثوبه بماء جار بلا لزوم حرج عليه.
فتحصل مما ذكرناه أن الحكم المنصوص تعبدي إلا في بعض الموارد
من جهة الحرج.
(التنبيه الحادي عشر) - في استصحاب الصحة عند الشك في المانع.
إعلم أنه ذكر الشيخ (ره) ما ملخصه: أنه إذا شك في مانعية شئ للصلاة
مثلا، لا يجري استصحاب الصحة لرفع الشك في مانعية هذا الشئ، لان الصحة
- بمعنى تمامية مجموع الاجزاء والشرائط - مشكوكة الحدوث، لاحتمال اعتبار
هذا الجزء العدمي فيها، فلا علم لنا بحدوث الصحة حتى نحكم ببقائها للاستصحاب.
210

وأما صحة الاجزاء السابقة التي هي عبارة عن الصحة التأهلية بمعنى كونها قابلة لانضمام باقي
الاجزاء إليها فهي لا تكون محتملة الارتفاع، بل هي باقية يقينا، فان الشئ لا ينقلب
عما وقع عليه. فلا مجال لجريان الاستصحاب إلا على نحو التعليق، بان يقال:
إن الاجزاء السابقة لو كان قد انضم إليها سائر الأجزاء قبل حدوث هذا الشئ،
لحصل الامتثال، فالآن كما كان.
هذا كله في الشك في المانع الذي هو عبارة عما اعتبر عدمه في الصلاة. وأما إذا
شك في القاطع الذي هو عبارة عما يوجب قطع الاتصال ونقض الهيئة الاتصالية المعتبرة
في الصلاة، فان تعبير الشارع - عن بعض ما اعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع كالحدث والقهقهة
يدل على أن للصلاة هيئة إتصالية ينافيها حدوث بعض الأشياء خلال أجزائها، فكما أن
للمركبات الخارجية هيئة إتصالية بحيث لو انقطع الاتصال لم يصدق اسم المركب عليها
كالسرير، فإنه على تقدير انفصال اجزائه لا يسمى سريرا، بل يسمى خشبا،
كذلك للمركبات الاعتبارية - كالصلاة مثلا - هيئة إتصالية باعتبار من الشارع.
فإذا شك في قاطعية شئ لها، فلا مانع من جريان الاستصحاب والحكم ببقائها.
ويتفرع عليه عدم وجوب استيناف الاجزاء السابقة. انتهى ملخصا.
أقول: أما ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المانعية،
فمتين جدا. ولا يمكن جريان استصحاب الصحة إلا على نحو التعليق. وقد تقدم عدم
حجية الاستصحاب التعليقي ولا سيما في الموضوعات، كما في المقام. واما ما ذكره من جريان
الاستصحاب عند الشك في القاطع، فغير تام لوجوه:
(الأول) - ان القاطع ليس إلا هو المانع بعينه، فان الأمور المعتبرة في الصلاة
إما وجودية كالقيام والركوع والسجود وغيرها. واما عدمية كعدم القهقهة. وما اعتبر
عدمه يعبر عنه بالمانع. ولم يعتبر سوى هذه الأمور - الوجودية والعدمية - شئ
211

في الصلاة يسمى بالقاطع. ولا نضائق عن الفرق بين المانع والقاطع اصطلاحا، فان
الأمور العدمية المعتبرة في الصلاة على قسمين: قسم منها ما اعتبر عدمه في حال الاشتغال
بالاجزاء الوجودية فقط: كالحركة، فان عدمها - المعبر عنه بالطمأنينة - معتبر
في حال الاشتغال بالقراءة والذكر مثلا، ولا بأس بها في الأكوان المتخللة بين الاجزاء
الوجودية. وقسم منها ما اعتبر عدمه مطلقا كالحدث والقهقهة، فيعبرون عن الأول
بالمانع، وعن الثاني بالقاطع. وهذا مجرد اصطلاح لا يوجب الفرق في جريان
الاستصحاب.
(الثاني) - أنه على فرض تسليم كون القاطع غير المانع، وأنه ناقض
للهيئة الاتصالية المعتبرة في الواجب، نقول: إن ما سمي بالقاطع هل اعتبر عدمه
في الصلاة أو لا؟ لا يمكن الالتزام بالثاني بالضرورة، فإنه بعد اعتبار الهيئة الاتصالية
في الصلاة وكون هذا الشئ قاطعا لها، لا يمكن الالتزام بأن عدمه غير معتبر في الصلاة،
فإنه مساوق للالتزام بعدم اعتبار الهيئة الاتصالية في الصلاة، وهو خلف. فتعين
الأول، فيكون القاطع ذا حيثيتين: فمن حيث أنه اعتبر عدمه في الصلاة يكون مانعا،
ومن حيث أن وجوده ناقض للهيئة الاتصالية، يكون قاطعا. فلو سلمنا جريان
الاستصحاب فيه من الحيثية الثانية، لا يجري الاستصحاب فيه من الحيثية الأولى،
فلا يصح القول بجريان الاستصحاب فيه بقول مطلق.
(الثالث) - أنه على فرض تسليم كون القاطع غير المانع، وأنه ليس فيه
إلا حيثية واحدة، يرد على جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية عين الاشكال
الذي ذكره الشيخ (ره) في جريان الاستصحاب عند الشك في المانع، فنقول: إن
كان المراد جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصالية لمجموع الاجزاء، فهي مشكوكة
الحدوث، فلا معنى لجريان الاستصحاب فيها. وان كان المراد جريان الاستصحاب
212

في الهيئة الاتصالية للاجزاء السابقة، فهي غير محتملة الارتفاع، لان الشئ لا ينقلب
عما وقع عليه.
هذا كله في الشبهات الحكمية. وأما الشبهات الموضوعية، فلا مانع من جريان
الاستصحاب فيها، سواء كان الشك في وجود المانع بعد الفراغ عن كونه مانعا، كما
إذا شككنا في وجود البكاء مثلا، أو كان الشك في مانعية الوجود، كما إذا شككنا
في أن الذي صدر من المصلي كان بكاء أم لا؟ ففي كلتا الصورتين تكون الاجزاء
الوجودية محرزة بالوجدان، والجزء العدي محرز بالأصل، فيحكم بصحة الصلاة،
كما ذكرنا نظير ذلك في استصحاب وجود الشرط، كالطهارة من الحدث فان المشروط
- وهو الصلاة - محرز بالوجدان، والشرط محرز بالأصل، فبضميمة الوجدان
إلى الأصل يحكم بصحة الصلاة.
(التنبيه الثاني عشر) - في جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية وعدمه.
وقد ذكرنا أن جريان الاستصحاب منوط باليقين بالحدوث، والشك في البقاء وكون
الأثر قابلا للتعبد، فبعد تمامية هذه الأمور يجري الاستصحاب، سواء كان المستصحب
من الأمور الخارجية، أم من الأمور النفسانية. وتوهم اختصاصه بالأمور الخارجية
- لكونه من الأصول العملية، فلا يجري إلا في أفعال الجوارح المعبر عنها بالاعمال -
مدفوع، بأن معنى كونه من الأصول العملية: أنه ليس من الأدلة الاجتهادية التي
هي كاشفة عن الواقع، فان الأصول العملية وظائف عملية للجاهل بالواقع، وليست
كاشفة عنه، لا أنها مختصة بالأمور الجوارحية، فلو كان التباني القلبي على شئ
واجبا، وشككنا في بقائه من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية، لا مانع من جريان
الاستصحاب. نعم لا مجال لجريان الاستصحاب في الأمور التي يجب فيها الاعتقاد
والمعرفة: كالنبوة مثلا، لعدم كون الأثر حينئذ قابلا للتعبد، فلا يترتب
213

على الاستصحاب.
ومما ذكرنا ظهر الجواب عن استدلال الكتابي لاثبات دينه بالاستصحاب.
وتفصيل الكلام في المقام: أن استدلال الكتابي لا يخلو من وجهين: فاما أن يكون
استدلاله لمعذوريته في البقاء على اليهودية. وإما أن يكون لالزام المسلمين ودعوتهم
إلى اليهودية، فان كان مراده الأول، فنقول له: أنت شاك في بقاء نبوة نبيك
أم لا؟ فان اختار الثاني، فلا معنى للاستصحاب - وهو ظاهر - وإن اختار
الأول، فنقول له: لا بد لك من الفحص، فان النبوة ليست بأقل من الفروع التي
يتوقف جريان الاستصحاب فيها على الفحص، وبعد الفحص يصل إلى الحق ويزول
الشك عنه، فان لله الحجة البالغة. وقال سبحانه: " ومن جاهد فينا لنهدينهم
سبلنا " ومع فرض بقاء شكه، لا فائدة في الاستصحاب، لكون النبوة من الأمور
التي تجب المعرفة بها، فليست قابلة للتعبد الاستصحابي. ومع فرض كفاية الظن فيها،
نقول: الاستصحاب لا يفيد الظن أولا، ولا دليل على حجية الظن الحاصل منه ثانيا.
هذا كله في استصحاب النبوة. وأما استصحاب بقاء أحكام الشريعة السابقة،
فغير جار أيضا إذ نقول له: إن كنت متيقنا على بقاء أحكام الشريعة السابقة، فلا معنى
للاستصحاب - وهو اضح - وإن كنت شاكا فيه، فلابد من الفحص - كما
تقدم - وعلى فرض الفحص وبقاء الشك، لا يجري الاستصحاب إلا فيما إذا ثبت حجية
الاستصحاب في الشريعتين، لأنه إن كان الاستصحاب حجة في الشريعة السابقة فقط،
لا يمكن التمسك بالاستصحاب لبقاء أحكام الشريعة السابقة، إذ حجية الاستصحاب
من جملة تلك الأحكام، فيلزم التمسك به، لاثبات بقاء نفسه. وهو دور ظاهر.
وإن كان الاستصحاب حجة في الشريعة اللاحقة فقط، فصحة التمسك بالاستصحاب
- لاثبات بقاء أحكام الشريعة السابقة - فرع حقية الشريعة اللاحقة. وبعد
214

الالتزام بحقيته لم يبق مجال للاستصحاب، لليقين بارتفاع أحكام الشريعة
السابقة حينئذ.
وإن كان مراده الثاني (أي كان استدلاله لالزام المسلمين ودعوتهم إلى اليهودية)
فنقول له: جريان الاستصحاب متوقف على اليقين بالحدوث والشك في البقاء، وليس
لنا يقين بنبوة موسى إلا من طريق شريعتنا، فان التواتر لم يتحقق في جميع الطبقات
من زمان موسى إلى زماننا هذا. والتوراة الموجودة عند اليهود ليس هو الكتاب
المنزل من الله سبحانه على موسى. ومن راجعه يجد فيه ما يوجب العلم له بعدم كونه
من عند الله من نسبة الزنا والفواحش إلى الأنبياء وغيرها مما يجده من راجعها.
نعم لنا علم بنبوة موسى لاخبار نبينا بنبوته، فتصديقه يوجب التصديق بنبوته.
وهذا الاعتراف من المسلمين لا يضرهم، ولا يوجب جريان الاستصحاب في حقهم
- كما هو ظاهر - وهذا المعنى هو المحتمل من الحديث المتضمن لجواب الرضا عليه السلام
عن احتجاج الجاثليق بالاستصحاب، من أنا معترفون بنبوة كل موسى وعيسى أقر
بنبوة نبينا صلى الله عليه وآله، وننكر نبوة كل من لم يقر بنبوة نبينا، فلا يرد
- على الجواب المذكور - ما ذكره الشيخ (ره) من أن موسى بن عمران أو عيسى
ابن مريم ليس كليا حتى يصح الجواب المذكور، بل جزئي حقيقي اعترف المسلمون
بنبوته، فعليهم إثبات نسخها.
والحاصل أنه ليس لنا علم بنبوة موسى إلا باخبار نبينا صلى الله عليه وآله،
وهو كما يخبر بها يخبر بارتفاعها، فلا مجال للاستصحاب. ومع فرض حصول اليقين
من غير هذا الطريق ليس لنا شك في بقائها، بل نعلم بارتفاعها، فان المسلم لا يكون
مسلما مع الشك في بقاء نبوة موسى أو عيسى، فلا يمكن الكتابي الزام المسلم باستصحاب
النبوة، لعدم تمامية أركانه من اليقين والشك. هذا في استصحاب النبوة. وأما أحكام
215

الشريعة السابقة، فالمسلم مجال لاجراء الاستصحاب فيها على المسلك المعروف، بخلاف
ما سلكناه: من عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية الإلهية، ولا سيما في أحكام
الشريعة السابقة. وقد تقدم وجهه في التنبيه السابع، فراجع.
(التنبيه الثالث عشر) - في جريان استصحاب حكم المخصص مع العموم
الأزماني وعدم، فنقول: إذا ورد حكم عام ثم خرج عنه بعض الافراد في بعض
الأزمنة، فشك في حكم هذا الفرد بالنسبة إلى ما بعد ذلك الزمان، فهل يرجع إلى العموم
أو إلى استصحاب حكم المخصص؟ ذهب إلى كل جماعة. ولا يخفى أن انعقاد
هذا البحث ليس من جهة ملاحظة التعارض بين العموم والاستصحاب، فان الاستصحاب
أصل عملي لا مجال المرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم أو إطلاق. ولا مانع
من الرجوع إليه ان لم يكن هناك دليل، بل انعقاد البحث انما هو لتعيين موارد
الرجوع إلى العموم وتمييزها عن موارد التمسك بالاستصحاب، فالاشكال والخلاف انما
هو في الصغرى بعد الاتفاق في الكبرى.
إذا عرفت تحرير محل النزاع، فاعلم أنه ذكر الشيخ (ره) ان العموم الأزماني
(تارة) يكون على نحو العموم الاستغراقي، ويكون الحكم متعددا بتعدد الافراد
الطولية، وكل حكم غير مرتبط بالآخر امتثالا ومخالفة، كوجوب الصوم ثلاثين يوما،
كما أن الامر في الافراد العرضية كذلك، فإنه إذا قال المولى: أكرم العلماء مثلا،
يكون الحكم متعددا بتعدد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد، ولكل حكم
إطاعة ومعصية وامتثال ومخالفة. و (أخرى) يكون على نحو العموم المجموعي،
ويكون هناك حكم واحد مستمر، كوجوب الامساك من طلوع الفجر إلى المغرب،
فإنه لا يكون وجوب الامساك تكليفا متعددا بتعدد آنات هذا اليوم. فان كان
العموم من القسم الأول، فالمرجع بعد الشك هو العموم، لأنه بعد خروج أحد الافراد
216

عن العموم، لا مانع من الرجوع إليه، لاثبات الحكم لباقي الافراد. وان كان
من القسم الثاني. فالمرجع هو الاستصحاب، لان الحكم واحد على الفرض، وقد
انقطع يقينا. واثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل. ومقتضى الاستصحاب بقاء
حكم المخصص.
هذا ملخص كلامه (ره) وذكر صاحب الكفاية (ره) أن مجرد كون العموم
الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب، بل لابد
من ملاحظة الدليل المخصص أيضا، فان أخذ الزمان فيه بعنوان الظرفية، كما أنه
بطبعه ظرف لما يقع فيه كالمكان، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، وان كان
الزمان مأخوذا على نحو القيدية، فلا يمكن التمسك بالاستصحاب، لأنه مع فرض كون
الزمان قيدا للموضوع يكون إثبات الحكم في زمان آخر من اسراء حكم ثابت لموضوع
إلى موضوع آخر، وهو قياس محرم، فلابد من الرجوع إلى أصل آخر من البراءة
أو الاشتغال حسب ما يقتضيه المقام.
هذا كله على تقدير كون العموم على نحو العموم المجموعي. وأما إن كان العموم على نحو
العموم الاستغراقي، فالمتعين الرجوع إلى العام إن لم يكن له معارض، وإلا فيتمسك
بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصص مأخوذا بنحو الظرفية، وإن كان
مأخوذا بنحو القيدية، لا يمكن التمسك بالاستصحاب أيضا، فلابد من الرجوع إلى أصل
آخر، فتكون الصور على ما ذكره أربع:
(الأولى) - أن يكون العام من قبيل العموم الاستغراقي مع كون الزمان
مأخوذا في دليل التخصيص بنحو الظرفية.
(الثانية) - هي الأولى مع كون الزمان مأخوذا على نحو القيدية. وحكمهما
الرجوع إلى العام مع عدم المعارض، وإلا فيرجع إلى الاستصحاب في الصورة الأولى،
217

والى أصل آخر في الصورة الثانية.
(الثالثة) - ان يكون العموم من قبيل العام المجموعي مع كون
الزمان ظرفا.
(الرابعة) - هي الثالثة مع كون الزمان قيدا، وحكمهما الرجوع
إلى الاستصحاب في الثالثة والى أصل آخر في الرابعة. وتشتركان في عدم إمكان الرجوع
إلى العام فيهما إلا فيما إذا كان التخصيص من الأول، كخيار المجلس مع قطع النظر
عن النص الدال بلزوم البيع بعد الافتراق، وهو قوله (ع): " فإذا افترقا وجب
البيع " فيصح في مثله الرجوع إلى العام، لعدم كون التخصيص في هذه الصورة قاطعا
لاستمرار الحكم حتى يكون إثبات الحكم بعده محتاجا إلى الدليل، فيرجع إلى استصحاب
حكم الخاص، بل التخصيص يوجب كون استمرار الحكم بعد هذا الزمان، فيتعين
الرجوع إلى العام بعد زمان التخصيص، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط،
كخيار الغبن على ما هو المعروف من كون مبدأه زمان الالتفات إلى الغبن، فان التخصيص
قاطع للاستمرار. وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل. هذا ملخص ما ذكره
صاحب الكفاية (ره).
أقول: أما ما ذكره من أن مجرد كون العموم مجموعيا لا يكفي في جريان
الاستصحاب، بل يحتاج إلى كون الزمان ظرفا لا قيدا، فمتين. وأما ما ذكره
من إمكان الرجوع إلى العموم المجموعي مع كون التخصيص في الأول، فهو صحيح
فيما إذا كان العموم والاستمرار مستفادا من الدليل الخارجي بأن يدل دليل على اثبات
الحكم في الجملة، ودليل آخر على استمراره، فحينئذ يمكن الفرق بين كون التخصيص
في الأول وكونه في الوسط، بامكان الرجوع إلى العام في الأول، لكون التخصيص
دالا على أن الاستمرار ثابت للحكم المذكور بعد هذا الزمان، بخلاف ما إذا كان
218

التخصيص في الوسط، فان الاستمرار قد انقطع. وإثبات الحكم بعده يحتاج
إلى دليل. أما إذا كان الاستمرار مستفادا من نفس الدليل الدال على ثبوت أصل
الحكم كما في المقام، فان اللزوم والاستمرار كليهما مستفاد من قوله تعالى: " أوفوا
بالعقود " فلا فرق بين كون التخصيص في الأول أو في الوسط، لان الدليل يدل
على حكم مستمر، فإذا انقطع يحتاج إثباته - بعد التخصيص - إلى دليل على مذاقه.
ثم إنه لا يمكن المساعدة على ما تسالم عليه الشيخ وصاحب الكفاية (ره) من أنه
إذا كان العموم من قبيل العموم المجموعي لا يمكن الرجوع إليه، ويتعين الرجوع
إلى الاستصحاب إما مطلقا - كما عليه الشيخ أو فيما إذا كان الزمان في الدليل المخصص
ظرفا - كما عليه صاحب الكفاية (ره) وذلك، لما نقحناه في بحث العام والخاص
من عدم الفرق في جواز الرجوع إلى العام بين كونه استغراقيا، أو مجموعيا. فكما
لا فرق بينهما في الافراد العرضية ويرجع إلى العموم في غير ما علم خروجه بمخصص
متصل أو منفصل، سواء كان بنحو العموم الاستغراقي، كما إذا قال المولى: أكرم
العلماء، وكان مراده إكرام كل واحد من العلماء على نحو الاستقلال، ثم خرج منه
زيد يقينا، وشك في خروج فرد آخر فنرجع إلى العموم، ونحكم بعدم خروجه،
لان التخصيص بالنسبة إلى فرد لا يمنع شمول العام للأفراد الاخر، أو كان بنحو العموم
المجموعي كما إذا قال المولى: أكرم هذه العشرة، وكان مراده إكرام مجموع العشرة
من حيث المجموع، ثم علمنا بخروج زيد من هذه العشرة، وشككنا في خروج
جزء آخر، فنرجع إلى العموم ونحكم بعدم الخروج، إذا التخصيص باعتبار جزء
لا يمنع شمول العام للاجزاء الاخر. فكذا لافرق بين العموم الاستغراقي والعموم
المجموعي بالنسبة إلى الافراد الطولية في جواز الرجوع إلى العام، مع الشك في التخصيص.
غاية الامر أنه يثبت بالرجوع إلى العموم الاستغراقي حكم استقلالي، وبالعموم المجموعي
219

حكم ضمني للجزء المشكوك فيه، فلا فرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي
من هذه الجهة.
(لا يقال): انه في العموم المجموعي يكون الحكم واحدا، وقد انقطع،
وإثباته ثانيا يحتاج إلى دليل (فإنه يقال): إن الحكم الواحد قد انقطع بالنسبة إلى جزء
واحد، وخروج باقي الاجزاء يحتاج إلى دليل، كما يقال في العموم الاستغراقي:
إن خروج فرد واحد إنما هو للمخصص، وخروج باقي الافراد يحتاج إلى دليل.
وحيث أن ظاهر كلام الشيخ (ره) في المقام مخالف للقاعدة الثابتة في بحث
العام والخاص من صحة التمسك بالعموم، بلا فرق بين العموم الاستغراقي، والعموم
المجموعي. فتصدى المحقق النائيني (ره) لتوجيه كلامه، وقال: إن ظاهر كلامه
في الرسائل وإن كان موهما للفرق بين العام الاستغراقي والعام المجموعي، إلا أن هذا
الظاهر ليس مراده، بل مراده - على ما يظهر من كلامه في بحث خيار الغبن
من المكاسب - الفرق بين ما إذا كان الاستمرار قيدا لمتعلق الحكم، وما إذا كان
قيدا لنفس الحكم.
(بيان ذلك): أن الحكم - كالوجوب - يحتاج إلى متعلق كالصوم،
والى موضوع كالمكلف أو الماء والحجر مثلا، وحيث أن الموضوع غالبا من الجواهر
غير المتقدرة بالزمان، لا يعقل كون الزمان مفردا له، فان الماء يوم الجمعة ويوم السبت
شئ واحد لا فردين من الماء. وكذا غيره من الموضوعات الخارجية. نعم كون
الزمان مفردا يتصور في نفس الحكم وفى متعلقه، فان الحكم من الأمور الاعتبارية،
وأمر وحدته وتعدده بيد الجاعل - وهو الشارع - فيمكن أن يعتبر الوجوب مقيدا
بزمان خاص، فيكون الوجوب في غير هذا الزمان فردا آخر من الوجوب. ويمكن
أن يعتبر الوجوب غير مقيد بزمان خاص، فيكون وجوبا واحدا في جميع الأزمنة.
220

وكذا في المتعلق له أن يعتبر الصوم مقيدا بزمان خاص متعلقا للوجوب، فيكون الصوم
في غير هذا الزمان فردا آخر. ويمكن أن يعتبره غير مقيد بزمان خاص، فيكون
الصوم المستمر متعلقا للوجوب.
إذا عرفت ذلك، ففي العموم الأزماني (تارة) يكون الاستمرار مأخوذا
في متعلق الحكم، ويكون الحكم واردا على الاستمرار، كما إذا قال المولى: الصوم
الأبدي واجب. و (أخرى) يكون الاستمرار واردا على الحكم وحكما من أحكامه،
كما إذا قال المولى: يجب عليكم الصوم، ثم قال: إن هذا الحكم أبدي، فيكون الحكم
موضوعا للاستمرار. والفرق بين كون الاستمرار واردا على الحكم وكونه مأخوذا
في متعلقه من وجهين:
(الأول) - أن الاستمرار المأخوذ في متعلق الحكم يمكن إثباته بنفس
الدليل المتكفل لاثبات الحكم. والاستمرار المأخوذ في الحكم لا يمكن إثباته بنفس
الدليل المتكفل لبيان الحكم على ما تقدم.
(الثاني) - أنه إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار مأخوذا في متعلق
الحكم، لا مانع من الرجوع إلى الدليل الدال على الاستمرار عند الشك في خروج
بعض الافراد، فان أصالة عدم التخصيص من الأصول المحكمة في مقام الشك، سواء
كان العموم استغراقيا أو مجموعيا. وأما إذا ورد التخصيص فيما إذا كان الاستمرار
مأخوذا في نفس الحكم، لا يمكن الرجوع إلى دليل الاستمرار عند الشك في التخصيص،
لما ذكرناه من أن الاستمرار قيد للحكم فلا مجال للرجوع إلى دليل
الاستمرار بعد الشك في أصل الحكم، فإنه إذا ورد حكم من الاحكام كالإباحة مثلا،
ثم دل دليل على أن الإباحة المذكورة دائمية، فعند الشك في ثبوت الإباحة لبعض
الافراد لا مجال للرجوع إلى دليل الاستمرار، فإنه متكفل لبيان الاستمرار للإباحة
221

الثابتة، فلا يصح الرجوع إليه لاثبات الإباحة، كما أنه إذا شككنا في إباحة شرب
التتن مثلا، فهل يمكن اثبات إباحته بمثل قوله (ع): " حلال محمد صلى الله عليه وآله
حلال إلى يوم القيامة... "؟ والمقام من هذا القبيل بعينه.
هذا ملخص ما ذكره توجيها لكلام الشيخ (ره) ثم ذكر كلاما طويلا لبيان
الضابطة لتمييز موارد كون الاستمرار قيدا للحكم عن موارد كونه قيدا للمتعلق، ليرجع
إليها عند الشك في كون الاستمرار قيدا للحكم أو للمتعلق.
أقول: لا حاجة لنا إلى ذكر الضابطة والتعرض لها، لما سنبينه من عدم الفرق
في جواز الرجوع إلى العام بين كون الاستمرار قيدا للحكم أو للمتعلق، فلا أثر للشك
في كونه قيدا للحكم أو للمتعلق حتى نحتاج إلى بيان الضابطة. فنقول: أما ما ذكره
من الفرق الأول، فغير تام وخلط بين مرحلتي الجعل والمجعول، فلان ما ذكره
- من عدم إمكان إثبات الاستمرار من نفس الدليل المتكفل لبيان الحكم - إنما
يصح بالنسبة إلى الجعل، فان استمراره عبارة أخرى عن عدم النسخ. ولا يمكن
إثباته بنفس الدليل الدال على الحكم، بل لابد من التماس دليل آخر من استصحاب
- على القول بجريانه عند الشك في النسخ - أو من نحو قوله (ع): حلال
محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القيامة... " وهذا لا دخل له بالمقام، فان الكلام
في تخصيص المجعول لا في تخصيص الجعل الراجع إلى النسخ، ولا مانع من إثبات
استمرار المجعول من نفس دليله، إذ الاستمرار من قيوده، ولا منع من أخذه
في الدليل الدال عليه كبقية القيود. والجعل والمجعول يختلفان من حيث الاستمرار
وعدمه (فتارة) يكون الجعل مستمرا دون المجعول: كالزوجية الانقطاعية،
فان المجعول - وهو الزوجية غير مستمر. وأما الجعل (أي جواز العقد الانقطاعي)
فهو مستمر إلى يوم القيامة. و (أخرى) يكون بعكس ذلك كالزوجية الدائمية مع
222

فرض نسخ جواز العقد الدائمي، فيكون المجعول - وهو الزوجية - مستمرا، والجعل
- وهو جواز العقد الدائمي - غير مستمر.
وملخص الكلام في المقام: أنه لا يمكن إثبات استمرار الجعل بمعنى عدم
النسخ بنفس الدليل الدال على الحكم، بل لو صرح في الدليل بكون الحكم دائميا
لا يمكن إثبات عدم النسخ بهذا الدليل، فان للمولى نسخ هذا الحكم الدائمي.
ولكنه خارج عن محل الكلام كما تقدم. وأما استمرار المجعول فلا مانع من إثباته
بنفس الدليل.
وأما ما ذكره - من الفرق الثاني بين كون الاستمرار راجعا إلى نفس الحكم
وكونه راجعا إلى المتعلق - من أنه لا مانع من الرجوع إلى العام عند الشك
في التخصيص في الثاني دون الأول، ففيه أنه لا مانع من الرجوع إلى العام في المقامين:
أما في الثاني، فباعتراف منه (ره) وأما في الأول، فلان العام ظاهر في الشمول
لجميع الافراد العرضية والطولية قبل ورود التخصيص. وهذا الظهور حجة في غير
ما خرج بالدليل.
(توضيح ذلك): أن الاحكام (تارة) تتعلق بأفعال المكلفين كما
في الأحكام التكليفية، فان حرمة الخمر مثلا متعلقة بالشرب، ففي مثل ذلك يكون
الاستمرار راجعا إلى متعلق الحكم، كما أن التقييد بزمان خاص أيضا راجع إلى المتعلق،
إذ قد يكون الشرب المقيد بزمان خاص متعلق للتكليف، وقد يكون الشرب غير
المقيد متعلق للتكليف. وعلى تقدير كون الشرب المستمر متعلقا للحرمة يسري الاستمرار
إلى الحرمة أيضا لا محالة، فيكون شرب الخمر حراما مستمرا، فإذا خرج من هذا
الاستمرار والعموم الأزماني فرد كما إذا قال المولى: لا بأس بشرب الخمر حال المرض
مثلا، وشككنا في الحرمة بعد البرء، فلا مانع من التمسك بالعموم والحكم بحرمة
223

شرب الخمر في غير ما خرج يقينا. و (أخرى) تتعلق بغير الافعال الخارجية،
كبعض الأحكام الوضعية كاللزوم، فإنه متعلق بالملكية وهي من الأمور الاعتبارية،
ويكون الاستمرار في مثل ذلك راجعا إلى نفس الحكم، فإذا دل دليل على استمرار
هذا الحكم ثم خرج منه فرد، لا مانع من الرجوع إلى العام في غير هذا الفرد الخارج،
سواء كان العموم مستفادا من نفس الدليل الدال على الحكم أو من الدليل الخارج
بلا فرق بين العموم المجموعي والاستغراقي. وما ذكره المحقق النائيني (ره) - من أن
الدليل الدال على الاستمرار ناظر إلى بقاء الحكم فلا يصح الرجوع إليه عند الشك
في ثبوت الحكم كما في موارد الشك في التخصيص - مندفع بأن العام يدل بظاهره
على ثبوت الحكم لجميع الافراد الطولية والعرضية قبل ورود التخصيص عليه. وهذا
الظاهر هو المتبع ما لم يدل دليل على خلافه، فلا مانع من الرجوع إليه في غير ما خرج
بالتخصيص القطعي.
فتحصل مما ذكرناه جواز الرجوع إلى العام بلا فرق بين كون الاستمرار راجعا
إلى الحكم أو راجعا إلى المتعلق، وأن ما ذكره المحقق النائيني (ره) - من الفرق
بينهما - غير تام في نفسه. ومن الغريب جعله توجيها لكلام الشيخ (ره) فإنه ليس
مراد الشيخ (ره) قطعا، ولا يوافقه كلامه في الرسائل ولا في المكاسب، فان
صريح كلامه هو الفرق بين العموم الاستغراقي والمجموعي. وقد عرفت ما فيه أيضا.
هذا كله من حيث الكبرى. وأما من حيث الصغرى وأن قوله تعالى:
" أوفوا بالعقود " هل هو من قبيل العموم الاستغراقي أو العموم المجموعي؟ فيقع
الكلام فيها من جهتين:
(الجهة الأولى) - أنه لا ينبغي الشك في أن المستفاد من قوله تعالى:
" أوفوا بالعقود " هو حكم واحد متعلق بالوفاء لا أحكام متعددة متعلقة بالوفاء
224

في كل آن من الآنات إذ الوفاء لا يصدق على عدم الفسخ في كل آن من الآنات،
فان الوفاء بشئ عبارة عن إتمامه وإنهائه، فمعنى الوفاء بالنذر هو إتمام ما التزم على نفسه
لله سبحانه وتعالى، وكذا الوفاء بالعقد عبارة عن إنهاء ما التزم على نفسه بالعقد،
فلا يصدق الوفاء إلا مع إتمام مضمون العقد إلى الاخر، فلا تكون هناك تكاليف متعددة،
حتى يكون من قبيل العموم الاستغراقي، بل تكليف واحد على ما عرفت.
(الجهة الثانية) - أنه لا ينبغي الشك في أن وجوب الوفاء - المستفاد
من الآية المباركة - ليس حكما تكليفيا بحيث يكون الفسخ حراما تكليفيا، بل هو
إرشاد إلى اللزوم، وأن الفسخ لا يؤثر شيئا، فيكون بمنزلة قوله (ع): " دعي
الصلاة أيام أقرائك " فإنه أيضا ارشاد إلى مانعية الحيض وعدم صحة الصلاة منها
في أيام الحيض وبعد كونه دليلا على اللزوم في كل مورد ورد التخصيص، يؤخذ به.
وفى غيره لا مانع من الرجوع إلى عموم أوفوا بالعقود، والحكم باللزوم كما عليه
المحقق الثاني (ره).
(التنبيه الرابع عشر) - هل المراد من الشك المأخوذ في الاستصحاب
خصوص تساوي الطرفين، أو عدم اليقين الشامل للظن غير المعتبر؟ وحيث أن
الاستصحاب متقوم باليقين والشك، فلابد من التكلم فيهما. أما اليقين فقد تقدم
الكلام فيه في التنبيه الثاني، وذكرنا أن اليقين التعبدي كاليقين الوجداني في صحة
جريان الاستصحاب معه. ومنه يظهر أنه لا مجال لجريان الاستصحاب مع قيام الامارة
المعتبرة على ارتفاع الحالة السابقة، فإنه بمنزلة اليقين بالارتفاع بجعل الشارع، ويكون
رفع اليد عن اليقين السابق بها من نقض اليقين باليقين، لامن نقض اليقين بالشك.
وأما الشك فالظاهر أن المراد منه خلاف اليقين الشامل للظن، فإنه هو المتعارف في لغة
العرب، وجعل الظن - مقابلا للشك واليقين - اصطلاح مستحدث، فالشك بمفهومه
225

العرفي شامل للظن، مضافا إلى وجود القرينة على جريان الاستصحاب مع الظن بارتفاع
الحالة السابقة في أدلة الاستصحاب، وهي أمران:
(الأول) - ترك الاستفصال في صحيحة زرارة في قوله (ع): " لا حتى
يستيقن أنه قد نام " بعد سؤاله بقوله: " فان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم "
فان قوله (ع): - " لا " (أي لا يجب عليه الوضوء) بلا استفصال بين الشك
والظن - يدل على عدم وجوب الوضوء مطلقا، مع أن الغالب - فيما إذا حرك
في جنبه شئ وهو لا يعلم - هو حصول الظن بالنوم، ولا أقل من الكثرة بمكان
لا يصدق معها الندرة، فلا يقال: إن ترك الاستفصال إنما هو لندرة حصول الظن،
فهو ناظر إلى الغالب.
(الثاني) - قوله (ع): " حتى يستيقن " إذ جعل اليقين بالنوم
غاية لعدم وجوب الوضوء، فيدخل الظن في المغيى، فلا يجب الوضوء ما لم يحصل
اليقين - وان حصل الظن - وهو المطلوب.
هذا. وذكر الشيخ (ره) وجهين آخرين لجريان الاستصحاب في صورة الظن
بارتفاع الحالة السابقة:
(الوجه الأول) - دعوى الاجماع على ذلك من القائلين بحجية الاستصحاب
تعبدا للاخبار. وفيه (أولا) - عدم تحقق هذا الاجماع، فان من جملة الأقوال
هو القول بالتفصيل بين الشك بارتفاع الحالة السابقة والظن به على ما نقله هو (ره).
ومن المحتمل كون هذا المفصل من القائلين بحجية الاستصحاب من باب التعبد للاخبار.
و (ثانيا) - عدم حجية مثل هذا الاجماع المعلوم مدركه، بل الاجماع المحتمل مدركه
لا يكون اجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام.
(الوجه الثاني) - أن الظن بارتفاع الحالة السابقة إن كن مما دل دليل
226

على عدم اعتباره كالظن القياسي، فوجوده كالعدم بالتعبد الشرعي، فيترتب
على وجوده كل ما كان مترتبا على عدمه من الآثار، ومنها الحكم ببقاء الحالة السابقة
بمقتضى الاستصحاب. وان كان الظن مما لم يدل دليل على اعتباره، كالظن الحاصل
من الشهرة مثلا، فحيث أن اعتباره مشكوك فيه، يكون رفع اليد عن اليقين السابق به
من نقض اليقين بالشك.
وفيه أن الكلام في وجود المقتضي، ومقدار دلالة الأدلة الدالة على حجية
الاستصحاب، وأنها هل تشمل صورة الظن بارتفاع الحالة السابقة أم لا؟ وما ذكره (ره)
ليس إلا بيان عدم المانع، ولا فائدة في إحراز عدم المانع مع الشك في وجود المقتضي.
ومع إحراز المقتضي وشمول الأدلة له - على ما ذكرناه - لا مجال لتوهم كون غير الحجة
- وهو الظن غير المعتبر - مانعا عن الحجة وهي الاستصحاب. وبعبارة أخرى معنى عدم
اعتبار الظن - من جهة الدليل على عدم الاعتبار أو عدم الدليل على الاعتبار الراجع
إليه بضميمة أصالة عدم الحجية - هو عدم إثبات المظنون، وهو يوجب الرجوع
إلى الأصول العملية. وحينئذ لابد من ملاحظة أدلة الاستصحاب: فان كانت شاملة
لموارد الظن بارتفاع الحالة السابقة، فهو وإلا فيرجع إلى أصل آخر. فمجرد كون الظن
غير معتبر لا يوجب شمول أدلة الاستصحاب لموارد الظن.
وأما ما ذكره أخيرا من أن رفع اليد عن اليقين للظن المشكوك في اعتباره يكون
من نقض اليقين بالشك، فيرد عليه أنه لابد في صدق نقض اليقين بالشك كون متعلق
الشك واليقين واحد. وفى المقام ليس كذلك، فان اليقين متعلق بحدوث شئ،
والظن متعلق بارتفاعه. أما الشك، فهو متعلق بحجية هذا الظن، فليس الشك متعلقا
بما تعلق به اليقين. وهذا ظاهر.
(التنبيه الخامس عشر) يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة
227

والقضية المشكوك فيها موضوعا ومحمولا، إذ المستفاد من أدلته هو وجوب المضي على اليقين
السابق وعدم جواز نقضه بالشك، ولا يصدق المضي والنقض إلا مع اتحاد القضيتين
موضوعا ومحمولا، فإذا تيقنا بعدالة زيد مثلا، ثم شككنا في عدالة عمرو، لا يكون
الجري العملي - على طبق عدالة عمرو - مضيا على اليقين السابق، وهو اليقين بعدالة
زيد، ولا عدم الجري عليه نقضا له. وكذا في صورة اختلاف القضيتين في المحمول
كما إذا تيقنا بعدالة زيد ثم شككنا في علمه مثلا، فترتيب آثار العلم لا يكون جريا
على اليقين السابق ولا عدمه نقضا له. وهذا ظاهر لا مجال لانكاره، فليس تعبير
العلماء - عن هذا الشرط ببقاء الموضوع - مبنيا على كفاية اتحاد القضيتين
في الموضوع، ولو كان المحمول فيهما مختلفا، فان هذا ليس مرادهم قطعا. ولعل
تعبيرهم ببقاء الموضوع مبني على أهمية الموضوع، أو على أن المراد بقاء الموضوع
بوصف الموضوعية، وبقاؤه بوصف الموضوعية عبارة أخرى عن بقاء الموضوع والمحمول،
إذ لا يتصور بقاء الموضوع مع الوصف بدون المحمول، أو على أن المراد من الموضوع
هو الموضوع المأخوذ في أدلة الاستصحاب من المضي والنقض. وبقاء هذا الموضوع
أيضا عبارة أخرى عن اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا، وإلا لا يصدق المضي والنقض
كما ذكرناه في الأمثلة المتقدمة.
و (كيف كان) اعتبار اتحاد القضيتين - في الموضوع والمحمول - يستفاد
من نفس أدلة الاستصحاب على ما ذكرناه. ومن الغريب ما صدر عن الشيخ (ره)
من الاستدلال عليه بالدليل العقلي من أن قيام العرض - في الخارج بلا موضوع -
محال، وهو يستلزم استحالة انتقال العرض من موضوع آخر، إذا بعد
الانفصال - عن الموضوع الأول وقبل الاتصال بالموضوع الثاني - يلزم وجوده
بلا موضوع، فيعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع، وإلا يلزم انتقال عرض من موضوع
228

إلى موضوع آخر، وهو محال.
ويرد عليه (أولا) - أن المستصحب لا يكون من الاعراض القائمة
بالموضوعات الخارجية دائما، بل قد يكون من الجواهر، وقد يكون من الأمور
الاعتبارية كالملكية والزوجية، وقد يكون من الأمور العدمية، فالدليل المذكور
أخص من المدعى.
و (ثانيا) - أن استحالة وجود العرض بلا موضوع إنما هو في الوجود
التكويني لا الوجود التشريعي التعبدي، فان الوجود التعبدي ليس إلا التعبد بالوجود
بترتيب آثاره بأمر الشارع، فلا استحالة في التعبد بانتقال عرض من موضوع
إلى موضوع آخر، فإذا أمر المولى بأنه إن كنت على يقين من عدالة زيد، فتعبد بعدالة
أبيه بترتيب آثارها، فلا استحالة فيه أصلا.
و (ثالثا) - أن هذا الاستدلال على تقدير تماميته تبعيد للمسافة،
إذ نفس أدلة الاستصحاب وافية باعتبار اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا على ما تقدم.
ثم إن المستصحب قد يكون من الموضوعات، وقد يكون من الاحكام.
وعلى الأول، فقد يكون المحمول في القضية المتيقنة والمشكوك فيها ما هو من قبيل مفاد
كان أو ليس التامة المعبر عنهما بالمحمولات الأولية باعتبار أن كل متصور لابد وأن
يحمل عليه الوجود أو العدم، لاستحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما (فتارة) يكون
المحمول هو الوجود، كما إذا تيقنا بوجود زيد ثم شككنا في بقائه. و (أخرى) يكون
هو العدم، كما إذا تيقنا بعدمه ثم شككنا في بقائه وانقلابه إلى الوجود، ففي مثل
ذلك يكون الموضوع هو المهية المجردة عن قيد الوجود والعدم ومحموله الوجود أو العدم،
فيقال: إن هذه المهية كانت موجودة، فشك في بقائها والآن كما كانت،
أو يقال: إن هذه المهية كانت معدومة، فشك في بقائها. ومقتضى الاستصحاب
229

بقاؤها. ولا يعقل في مثله اعتبار بقاء الموضوع في الخارج، إذ مع العلم ببقاء زيد
في الخارج لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، لعدم الشك حينئذ في البقاء. وقد يكون
المحمول في القضيتين ما هو من قبيل مفاد كان أو ليس الناقصة - المعبر عنهما بالمحمولات
الثانوية قبالا للمحمولات الأولية - فتشمل المحمولات الثالثية أو الرابعية وهكذا.
فمنها - قيام زيد مثلا، فإنه لا يحمل عليه إلا بعد حمل الوجود عليه. ومنها - سرعة
حركة زيد، فإنها متوقفة على حمل الحركة على زيد المتوقف على حمل الوجود عليه،
وهكذا سائر المحمولات المترتب بعضها على بعض في سلسلة الوجود، فان جميعها
من المحمولات الثانوية بهذا المعنى المقابل للمحمولات الأولية، فإذا كان المحمول
في القضيتين من هذا القبيل، فهو على ثلاثة اقسام:
(القسم الأول) - ما يكون الشك في بقائه ناشئا من الشك في بقاء
الموضوع مع العلم ببقائه على تقدير بقاء الموضوع، كما إذا شككنا في بقاء عدالة زيد
للشك في حياته مع العلم بعدالته على تقدير حياته.
(القسم الثاني) - ما لا يكون الشك في بقائه ناشئا من الشك في بقاء
الموضوع، بل يشك في بقائه ولو على تقدير وجود الموضوع. وهذا (تارة) يكون
مع إحراز بقاء الموضوع، كما إذا شككنا في بقاء عدالة زيد مع العلم بحياته،
و (أخرى) يكون مع الشك في بقاء الموضوع أيضا، كما إذا شككنا في بقاء عدالة
زيد مع الشك في حياته.
(أما القسم الثاني) وهو ما إذا كان الشك في بقاء المحمول مع إحراز الموضوع،
فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيه لتمامية أركانه.
(أما القسم الأول) فقد يشكل جريان الاستصحاب فيه، لأنه لا يجري
الاستصحاب في المحمول كالعدالة - في مفروض المثال - لعدم إحراز الموضوع،
230

ولا معنى للتعبد بالعدالة بلا موضوع، ولا يجري الاستصحاب في الموضوع كحياة زيد
في المثال، لعدم كون العدالة من الآثار الشرعية لحياة زيد، بل من اللوازم العقلية
من باب الاتفاق للعلم بعدالته على تقدير حياته. ومما ذكرناه ظهر الاشكال في جريان
الاستصحاب في القسم الثالث أيضا، فإنه لا يجري الاستصحاب في العدالة، لعدم
إحراز الموضوع ولا في الموضوع لترتيب العدالة، لعدم كونها من الآثار الشرعية،
بل ولا من اللوازم العقلية في هذا القسم، لعدم العلم فيه بعدالته على تقدير حياته،
فمن المحتمل عدم عدالته على تقدير حياته. ولا يجرى الاستصحاب في الموضوع مقدمة
لجريانه في العدالة بأن يحرز الموضوع أولا بالاستصحاب، ثم يجري الاستصحاب
في العدالة، لعدم ترتب أثر شرعي على جريانه في الموضوع. ومن هنا قد يتوهم أنه
يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع في الخارج زائدا على اعتبار
اتحاد القضيتين.
هذا. والتحقيق جريان الاستصحاب في القسم الأول والثالث أيضا.
(أما القسم الأول) فيجري الاستصحاب فيه في الاتصاف وثبوت الوصف للموضوع،
بأن يقال: ثبوت العدالة لزيد كان متيقنا فالآن كما كان. وبعبارة أخرى: زيد
المتصف بالعدالة كان موجودا يقينا، والآن كما كان. ونظيره ما إذا شككنا في بقاء
الزوجية بين امرأة وزوجها الغائب لاحتمال موته، فيجري استصحاب بقاء الزوجية
وتترتب عليه آثارها. نعم لا يترتب على هذا الاستصحاب الأثر الشرعي المتوقف
على تحقق الموضوع في الخارج، كجواز الاقتداء بزيد - في مفروض المثال -
فإنه متوقف على وجود زيد العادل في الخارج ليركع بركوعه. وليس هذا من ناحية
القصور في الاستصحاب، بل من ناحية القصور في الأثر، ولذا لا تكفي في ترتبه
الامارة كالبينة أيضا، لتوقفه على العلم الوجداني بوجود زيد العادل في الخارج.
231

و (أما القسم الثالث) - فيجري الاستصحاب أيضا، لان الأثر
الشرعي مترتب على الموضوع المركب من وجود زيد وعدالته. وقد ذكرنا في المباحث
السابقة: أنه إذا كان الموضوع مركبا (فتارة) يحرز أحدهما بالوجدان والاخر
بالأصل، كما إذا شككنا في بقاء كرية ماء موجود في الخارج، فان وجود الماء
محرز بالوجدان، وكريته محرزة بالاستصحاب، فيترتب عليه الحكم وهو عدم
الانفعال، وكذا إذا شككنا في بقاء اطلاقه مع العلم بكونه كرا، فيحرز إطلاقه
بالأصل، وكريته بالوجدان. و (أخرى) يحرز كلاهما بالأصل، كما إذا شككنا
في بقاء كريته مع الشك في بقاء اطلاقه. والمقام من هذا القبيل، فبعد الشك في بقاء
العدالة مع الشك في بقاء الحياة، يجري الاستصحاب في كليهما. ومجرد كون أحدهما
في طول الاخر - بحسب الوجود الخارجي - لا يمنع من جريان الاستصحاب فيهما
معا. ولا يخفى أنه يجري في القسم الأول كل ما ذكرناه في القسم الثالث وبالعكس،
فيمكن جريان الاستصحاب فيهما بكيفيتين: ذكرنا إحداهما في القسم الأول، والأخرى
في القسم الثالث من باب التفنن. هذا كله في جريان الاستصحاب في الموضوعات.
أما جريانه في الاحكام فبيانه: أن الحكم المشكوك فيه (تارة) يكون
من الاحكام الجزئية كما في الشبهات الموضوعية. و (أخرى) يكون من الاحكام
الكلية. وهذا على قسمين: لأن الشك في بقاء الحكم الكلي إما أن يكون في ناحية
الجعل لاحتمال النسخ، وإما أن يكون في ناحية المجعول فهذه هي أقسام ثلاثة:
أما إذا كان الشك في الحكم الجزئي، فلا يجري فيه الاستصحاب، لكونه
محكوما بالأصل السببي، إذا الشك في الحكم - في الشبهات الموضوعية - مسبب
عن الشك في بقاء الموضوع، فبجريان الأصل الموضوعي يترتب الحكم ولا تصل
النوبة إلى جريان الاستصحاب في الحكم، بل لا يجري الاستصحاب في الحكم
232

ولو لم يجر الاستصحاب في الموضوع لمانع كابتلائه بالمعارض. وذلك، لعدم احراز
بقاء الموضوع، فلم يحرز اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها. وأما إذا كان الشك
في الحكم الكلي لاحتمل النسخ، فلا يجري الاستصحاب فيه، لان النسخ بمعنى
الرفع مستحيل في حقه تعالى. والنسخ بمعنى الدفع يرجع الشك في حدوث التكليف
لا في بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه، فان كان لدليل الحكم إطلاق يتمسك
به ويحكم ببقاء الحكم المجعول فهو، وإلا فيرجع إلى الأدلة الخارجية من قوله (ع):
" حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى يوم القامة... " وقد تقدم تفصيل ذلك
في التنبيه السابع، فراجع.
وأما إذا كان الشك في الحكم الكلي من غير ناحية النسخ، ففيه تفصيل،
إذ الشك - في بقاء الحكم من غير ناحية النسخ - لا يعقل إلا مع حدوث تغير
في الموضوع. وهذا التغير الذي أوجب الشك في الحكم على ثلاثة أقسام:
(الأول) - أن يكون القيد الذي تغير بانقلاب الوجود إلى العدم أو العكس
مقوما للموضوع بنظر العرف، بحيث لو ثبت الحكم مع عروض التغير كان حكما جديدا
لموضوع آخر لا بقاء الحكم للموضوع الأول - كما في جواز التقليد - فان موضوعه العالم،
فلو زال عنه العلم وصار جاهلا يكون موضوعا آخر، إذا العلم مقوم لموضوع جواز التقليد
في نظر العرف. والعالم والجاهل موضوعان لا موضوع واحد تغيرت حالة من حالاته، ففي مثل
ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب لعدم صدق النقض على عدم ترتيب أثر اليقين السابق
حين الشك، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب. وظهر بما ذكرناه فساد الاستدلال
على نجاسة أولاد الكفار بالاستصحاب، لكونهم نجسين حل كونهم منيا أو دما
ولم يدل دليل على طهارتهم بعد ذلك، كما دل على طهارة ولد المسلم. وذلك، لتعدد
الموضوع وعدم اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها فولد الكافر - على تقدير نجاسته -
233

موضوع آخر للنجس غير المني والدم، كما هو ظاهر.
(الثاني) - أن يكون القيد من الحالات وغير دخيل في قوام الموضوع
في نظر العرف، كما إذا قال المولى: أكرم هذا القائم، فشك في وجوب إكرامه
بعد الجلوس، فان العرف يرى القيام والقعود من الحالات، بحيث لو ثبت وجوب
الاكرام حال جلوسه كان بقاء للحكم الأول لا حدوث حكم جديد. ولا إشكال
في جريان الاستصحاب في هذا القسم، كما هو ظاهر. هذا كله مع قطع النظر عما
ذكرناه من معارضته باستصحاب عدم الجعل على ما تقدم بيانه.
(الثالث) - أن يشك في أن القيد مقوم للموضوع أو من الحالات كالماء
للتنجس بالتغير، فبعد زوال التغير يشك في بقاء النجاسة، لعدم العلم بأن التغير مقوم
لموضوع الحكم بالنجاسة، أو من قبيل الحالات. وبعبارة أخرى الشك في أن التغير
هل هو علة لثبوت النجاسة للماء، فلا يكون بقاؤها منوطا ببقائه، أو قيد للموضوع
لتكون النجاسة دائرة مداره وجودا وعدما؟ وربما يكون الشك في بقاء الحكم في هذا
القسم من جهة الشبهة المفهومية، فإنها أيضا من الشبهات الحكمية، كما إذا شككنا
في أن الغروب الذي هو الغاية لوقت صلاة الظهرين هل هو عبارة من استتار القرص،
أو عن ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس؟ ولا يجري الاستصحاب في هذا القسم
كما في القسم الأول، إذ مع الشك في كون القيد الزائل مقوما للموضوع لم يحرز اتحاد
القضيتين، فلم يحرز صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق،
فيكون التمسك بأدلة الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، بلا فرق
بين الشبهة المفهومية وغيرها من الشبهات الحكمية. وكما لا يجري الاستصحاب الحكمي
في الشبهة المفهومية - لما ذكرناه من عدم إحراز اتحاد القضيتين - لا يجري الاستصحاب
الموضوعي أيضا، لعدم الشك في شئ راجع إلى الموضوع حتى يكون موردا
234

للاستصحاب، فان استتار القرض متحقق يقينا، وذهاب الحمرة لم يتحقق كذلك.
وأما استصحاب الموضوع بوصف الموضوعية، فهو عبارة أخرى عن استصحاب الحكم،
إذا بقاء الموضوع بوصف الموضوعية ليس إلا عبارة أخرى عن بقاء الحكم، ولا يخفى
أن الشك في بقاء نجاسة المتنجسات بعد استحالتها داخل في هذا القسم فلو تنجست خشبة
مثلا، ثم احترقت فصارت رمادا فشك في بقاء نجاستها لم يمكن التمسك باستصحابها،
إذ المتصيد من أبواب الفقه: أن كل جسم لاقى نجسا، فهو نجس. ولا ندري أن
الموضوع لهذا الحكم هل هو الجسم بما هو جسم - لتكون النجاسة باقية ببقاء الجسمية -
أو الموضوع له هي الصورة النوعية الخشبية، وأن أخذ الجسم في قولهم: " كل جسم
لاقى... " إنما هو للإشارة إلى عموم الحكم وعدم اختصاصه بنوع دون نوع آخر؟
وأما النجاسات العينية فهي من القسم الأول، فان النجاسات العينية أمور مخصوصة
كالكلب مثلا، فإذا وقع في مملحة وصار ملحا، لا يصدق عليه الكلب، بل هو نوع
من الملح، ولذا حكم المحقق الثاني (ره) - على ما حكاه الشيخ (ره) عنه - بارتفاع
النجاسة بالاستحالة في باب النجاسات دون المتنجسات.
وتحصل مما ذكرناه أنه يعتبر - في جريان الاستصحاب العلم بكون القيد غير
مقوم للموضوع، كما في القسم الثاني ليحرز اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها.
ومن هنا وقع الكلام بينهم في أن الموضوع المعتبر بقاؤه في جريان الاستصحاب هل هو
مأخوذ من العقل، أو من الدليل الشرعي، أو من العرف؟ وليعلم أن الترديد بين
الأمور الثلاثة إنما هو في الشبهات الحكمية فقط، إذ الموضوع في الشبهات الموضوعية
هي الأمور الجزئية الخارجية. وليس الدليل الشرعي متكفلا ببيانها، فإنه من المعلوم
ان الدليل الدال على حرمة الخمر - مثلا - لا يدل على أن هذا المائع خمر أو ليس
بخمر، فلا يمكن اخذ الموضوع في الشبهات الموضوعية من الدليل الشرعي. فالترديد
235

فيها بين العقل والعرف. وذكر الشيخ (ره): انه لو اقتصر بالدقة العقلية، لكان
جريان الاستصحاب مختصا بموارد الشك في الرفع. وذكر صاحب الكفاية (ره):
أنه لو اقتصر بالدقة العقلية، لما بقي - لجريان الاستصحاب - مورد أصلا، إذ لو لم يقع
التغير في الموضوع بوجه من الوجوه، لم يقع الشك في الحكم. ومع التغير بانقلاب
وجود إلى العدم أو العكس، لا يكون الموضوع باقيا بالدقة العقلية، فلا يجري
الاستصحاب.
ويرد على ظاهر كلام الشيخ - مضافا إلى ما ذكره صاحب الكفاية (ره) - ان
الشيخ (ره) قائل باختصاص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع، مع قطع
النظر عن اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية، فلا يلزم محذور من الالتزام بوحدة
الموضوع بالدقة العقلية. مع أنه ذكر هذا الكلام اي (لو اقتصر بالدقة العقلية
لكان الاستصحاب مختصا بموارد الشك في الرافع) استبعادا للقول بلزوم بقاء الموضوع
بالدقة العقلية. ولذا تصدى المحقق النائيني (ره) لتوجيه كلام الشيخ (ره)
في المقام. وحاصل ما ذكره: أن الرافع (تارة) يطلق ويراد به ما يقابل المقتضي،
فيراد به ما يمنع عن تأثير المقتضي لبقاء المقتضى بعد تأثيره في الحدوث، سواء كان
وجوديا أو عدميا. وهذا المعنى مراد الشيخ (ره) في مقام التفصيل بين موارد الشك
في المقتضي وموارد الشك في الرافع في حجية الاستصحاب، فإذا كان شئ باقيا بنفسه
إلى الأبد - ما لم يقع شئ موجب لارتفاعه كالنجاسة والطهارة - وشككنا في بقائه،
فلا محالة يكون الشك شكا في وجود الرافع، فيجري الاستصحاب. وإذا شككنا
في بقاء شئ لاحتمال انتهاء أمده لا لاحتمال وجود رافع له - كخيار الغبن بعد الاطلاع
والتأخير في النسخ - فلا يجري الاستصحاب، لكونه من موارد الشك في المقتضي.
و (أخرى) يطلق الرافع ويراد به ما يقابل المانع، فيراد به الامر الوجودي الذي
236

يوجب رفع شئ عن صفحة الوجود وإعدامه بعد حدوثه، والمانع عبارة عما يمنع
عن حدوث الشئ.
وبعبارة أخرى المانع عبارة عن ما أخذ عدمه في حدوث شئ، والرافع
عبارة عما أخذ عدمه في بقاء شئ بعد حدوثه، كالطلاق بالنسبة إلى علاقة الزوجية.
وهذا المعنى من الرافع مراد الشيخ (ره) ههنا، والنسبة بين الرافع بهذا المعنى المقابل للمانع
والرافع المقابل للمقتضي هو العموم المطلق، لكون الرافع المقابل للمقتضي أعم من الوجودي
والعدمي - كما تقدم - بخلاف الرافع المقابل للمانع، فإنه مختص بالوجودي كالمانع.
هذا ملخص ما ذكره في توجيه كلام الشيخ (ره). ولكن الصحيح
ما ذكره صاحب الكفاية (هر) من أنه والتزمنا بالدقة العقلية، لما بقي مورد لجريان
الاستصحاب في الشبهات الحكمية، إذا الرافع التكويني - في الأحكام الشرعية - غير
معقول، فإنها من الاعتبارات التي وضعها ورفعها بيد الشارع، فإذا شك في بقاء
حكم شرعي بعد العلم بحدوثه لطرو تغير في موضوعه، كان الشك راجعا إلى اعتبار قيد
في بقاء الحكم بجعل الشارع. وبعد البناء على أخذ الموضوع بالدقة العقلية، لا يجري
الاستصحاب لا محالة.
وربما يقال في المقام: إنه لابد من أخد الموضوع من الدليل الشرعي، لان
العقل مما لا مسرح له في الأحكام الشرعية، وليس له التصرف في موضوعها.
وإنما يرجع إليه في الاحكام العقلية: من الاستحالة، والامكان وغيرهما. وأما العرف
فان كان المراد - من أخذ الموضوع منه - أن موضوع الحكم الشرعي ما يفهمه العرف
من الدليل الشرعي ولو بمعونة القرائن الداخلية أو الخارجية، فلا ينبغي ذكره مقابلا
لاخذ الموضوع من لسان الدليل، إذ المراد من الموضوع المأخوذ من الدليل ليس
إلا ما يكون الدليل ظاهرا فيه بحسب فهم العرف، ولو بمعونة القرائن. وإن كان
237

المراد اتباع المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على الفرد الخارجي، فان العرف
- بعد تشخيص الموضوع الكلي من لسان الدليل - ربما يتسامح في تطبيقه على الخارج،
فلا ينبغي الارتياب في عدم جواز الاعتماد على هذه المسامحة العرفية، إذ العرف ليس
مشرعا ولا يتبع نظره في قبال الدليل الشرعي، وإنما يتبع في تعيين مراد الشارع،
لان خطابه وارد على طبق متفاهم العرف، فالمتعين أخذ الموضوع من لسان
الدليل الشرعي.
وهذا الذي ذكره - وإن كان صحيحا - إلا أنه خارج عن محل الكلام
ولا ربط له بالمقام، إذ الكلام - في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلة
الاستصحاب الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك - من حيث أن جريان الاستصحاب
والحكم بالبقاء متوقف على صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق،
وصدقه متوقف على بقاء الموضوع واتحاده في القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها، فهل
المرجع في بقاء الموضوع هو الدليل الأول الدال على ثبوت الحكم - بأن كان جريان
الاستصحاب تابعا لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه - أو الدليل الثاني الدال على الابقاء
في ظرف الشك؟ فان الموضوع فيه النقض والمضي، فيكون جريان الاستصحاب تابعا
لصدق النقض والمضي في نظر العرف بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدليل الأول.
فالمراد من أخذ الموضوع من العرف: أن جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض
عرفا بلا نظر إلى الدليل الأول. والمراد من أخذه - من الدليل الشرعي - هو
الرجوع إلى الدليل الأول.
(توضيح المقام): أن لسان الدليل - الدال على ثبوت الحكم -
مختلف، (فتارة) يقول المولى مثلا: إن المسافر يقصر. و (أخرى) يقول:
إن المكلف إن سافر قصر، فمفاد هذين الكلامين وإن كان واحدا بحسب اللب،
238

وهو وجوب القصر على المسافر. وقد ذكرنا غير مرة أن الوصف المأخوذ في الموضوع
يرجع إلى القضية الشرطية، وكذا القضية الشرطية ترجع إلى اعتبار قيد في الموضوع،
إلا أن لسانهما مختلف بحسب مقام الاثبات، فان الموضوع في الأول هو عنوان المسافر،
وفي الثاني عنوان المكلف مع كون السفر شرطا لوجوب القصر عليه، فلو سافر أحد
في أول الوقت ووصل إلى وطنه آخره، وشك في أن الواجب عليه هل هو القصر
لكونه مسافرا في أول الوقت، أو التمام لكونه حاضرا في آخره؟ فان كان بيان
وجوب القصر على المسافر بمثل الكلام الأول، لا يمكن جريان الاستصحاب فيه،
إذ الموضوع لوجوب القصر هو المسافر، وهو حاضر حين الشك، فلا يكون
موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها واحدا. وكذا لا يمكن الحكم بعدم وجوب القصر
عليه تمسكا بمفهوم الوصف، إذ الوصف الذي ربما قيل بحجيته هو الوصف المعتمد
على الموصوف، كقولنا: المكلف المسافر يقصر، بخلاف الوصف غير المعتمد،
كما في المقام، فإنه ليس له مفهوم اتفاقا. وإن كان بيان وجوب القصر بمثل الكلام
الثاني، فلا مانع من جريان الاستصحاب، لكون الموضوع المأخوذ فيه هو المكلف،
وهو باق في ظرف الشك، ولا يمكن التمسك بمفهوم الشرط وإن كان حجة، إذا مفاده
عدم وجوب القصر على من لم يسافر، ولا يستفاد منه عدم وجوب القصر في مفروض
المثال، لاحتمال أن يكون السفر دخيلا في حدوث وجوب القصر عليه فقط، فيكون
القصر واجبا عليه بعد تحقق السفر - ولو بعد انعدامه - كما في المثال، وأن يكون
دخيلا في وجوب القصر حدوثا وبقاء، فيكون وجوب القصر دائرا مدار وجود
السفر، فلا يجب عليه القصر في مفروض المثال، فتصل النوبة إلى استصحاب وجوب
القصر. ولا مانع منه كما ذكرناه. هذا كله بناء على أخذ الموضوع من الدليل
الأول الدال على ثبوت الحكم. فلا يمكن جريان الاستصحاب إن كان من قبيل الكلام
239

الأول ولا مانع منه إن كان من قبيل الكلام الثاني. وأما إن قلنا بأن المرجع
في بقاء الموضوع هو الدليل الثاني الدال على الابقاء في ظرف الشك، فجريان
الاستصحاب تابع لصدق نقض اليقين بالشك، ففي مورد يصدق نقض اليقين بالشك
على رفع اليد عن الحكم السابق عرفا يجري الاستصحاب، ويحكم بالبقاء. وان كان
الدليل الدال على ثبوت الحكم من قبيل الكلام الأول، وفى مورد لا يصدق النقض
المذكور عرفا، لا يجري الاستصحاب، وإن كان الدليل الدال على ثبوت الحكم
من قبيل الكلام الثاني. وهذا هو الفارق بين كون الموضوع مأخوذا من الدليل وبين
كونه مأخوذا من العرف.
وظهر بما ذكرناه - من تحقيق الفرق - أن الحق في المقام كون الموضوع
مأخوذا من العرف، بمعنى أن جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفا بمقتضى
دليله الدال على حرمة نقض اليقين بالشك. وقد ذكرنا أن الأوصاف مختلفة في نظر
العرف (فمنها) - ما هو مقوم للموضوع، فبعد انتفائه لا يصدق النقض، فلا مجال
لجريان الاستصحاب فيه. و (منها) - ما هو غير مقوم، فبانتفائه يصدق نقض
اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.
ولذا ذكرنا في مباحث الفقه: أنه لو قال البائع: بعتك هذا الفرس، فان كونه شاة،
يكون البيع باطلا، لكون الصورة النوعية مقومة للمبيع، ولو قال: بعتك هذا العبد
الكاتب أو بشرط أن يكون كاتبا فانكشف الخلاف فالبيع صحيح، لعدم كون الوصف مقوما
للمبيع بنظر العرف، بل من أوصاف الكمال، فللمشتري الخيار. هذا تمام الكلام في اعتبار
الوحدة في القضية المتيقنة والمشكوك فيها.
ولنختم الكلام في الاستصحاب بذكر أمور:
(الامر الأول) - قد ذكرنا مرارا: أن المستفاد من أدلة الاستصحاب
240

حرمة نقض اليقين بالشك، ولا يصدق النقض المذكور إلا فيما إذا كان الشك متعلقا
بعين ما تعلق به اليقين. غاية الامر أن اليقين قد تعلق به حدوثا، والشك قد تعلق
به بقاء. وبهذا يظهر أن أخبار الاستصحاب لا تشمل موارد قاعدة المقتضي والمانع،
إذ اليقين فيها متعلق وجود المقتضي، والشك فيها متعلق بوجود المانع، فإذا صببنا الماء
لتحصيل الطهارة من الخبث مثلا، وشككنا في تحقق الغسل لاحتمال وجود مانع
من وصول الماء، فلنا يقين بوجود المقتضي - وهو انصباب الماء - وشك في وجود المانع،
فعدم ترتيب آثار الطهارة لا يصدق عليه نقض اليقين بالشك، لعدم تعلق اليقين
بالطهارة، بل بوجود المقتضي. وليست الطهارة من آثار وجوده فقط، بل تتوقف
على عدم المانع أيضا. والمفروض أنه لا يقين بوجود المقتضي وعدم المانع لتكون الطهارة
متيقنة. وبالجملة بعد كون اليقين متعلقا بشئ والشك متعلقا بشئ آخر، لا يكون
عدم ترتيب الأثر على الشك من نقض اليقين بالشك، فلا يكون مشمولا لأدلة
الاستصحاب. وهو ظاهر.
وقد يتمسك في موارد قاعدة المقتضي والمانع بأصالة عدم المانع، فبعد إحراز
صب الماء بالوجدان وعدم المانع بالأصل، يحكم بوجود الطهارة وفيه أن الأثر الشرعي
ليس مترتبا على عدم الحاجب، بل على الغسل. ولا يمكن إثبات الغسل بأصالة عدم
الحاجب إلا على القول بالأصل المثبت.
وقد يتمسك لاثبات هذه القاعدة بسيرة العقلاء بدعوى استقرارها على الحكم
بوجود المعلول بعد العلم بوجود المقتضي مع الشك في وجود المانع.
وفيه أنه لم يثبت لنا استقرار هذه السيرة، بل ثبت خلافها، فإنه لو رمى حجرا
إلى أحد، وشك في وجود المانع عن وصوله إليه مع العلم بأنه لو وصل إليه لقتله، فهل
يحكم العقلاء بتحقق القتل وجواز القصاص؟
241

فتحصل مما ذكرناه أن قاعدة المقتضي والمانع ليست مشمولة لأدلة الاستصحاب.
ولم يتضح لنا دليل آخر على حجيتها. والعمدة في المقام هو الكلام في أن أدلة
الاستصحاب شاملة لقاعدة اليقين وموارد الشك الساري أم لا؟ وليعلم أن احتمال
اختصاص الاخبار بقاعدة اليقين ساقط، لكون مورد جملة منها هو الاستصحاب
والشك الطارئ، كصحيحتي زرارة (الأولى. والثانية) وعدة من الروايات الاخر.
ولا يمكن الالتزام بخروج المورد، فيدور الامر بين اختصاص الاخبار بالاستصحاب
وشمولها له ولقاعدة اليقين أيضا.
وذكر المحقق النائيني (ره) - لاختصاصها بالاستصحاب وعدم شمولها
للقاعدة - وجوها:
(الوجه الأول) - أن التعبد الاستصحابي ناظر إلى البقاء في ظرف الشك
فيه بعد كون الحدوث محرزا، بخلاف القاعدة، فان التعبد فيها إنما هو بالحدوث
بعد كونه غير محرز، وفرض الاحراز وفرض عدمه لا يمكن جمعهما
في دليل واحد.
(الوجه الثاني) - أن اليقين في القاعدة ليس مغائرا لليقين في الاستصحاب،
إذ تغاير أفراد اليقين إنما هو بتغاير متعلقاته، كعدالة زيد وقيام عمرو. ومتعلق اليقين
في القاعدة والاستصحاب شئ واحد كعدالة زيد يوم الجمعة مثلا، فإذا تيقنا بعدالة
زيد يوم الجمعة وتعقبه الشك في البقاء المعبر عنه بالشك الطارئ، يكون موردا
للاستصحاب. وإذا تعقبه الشك في مطابقته للواقع المعبر عنه بالشك الساري يكون
موردا للقاعدة، فهذا اليقين الواحد محكوم بحرمة النقض حال وجوده في باب
الاستصحاب، ومحكوم بحرمة النقض حال عدم في القاعدة. ولا يمكن انشاء حكم
واحد على وجود الشئ وعدمه في دليل واحد. وحيث أن قوله (ع): " لا تنقض
242

اليقين بالشك " ناظر إلى جهة طريقية اليقين، كما أنها ذاتية له، فلا يشمل موارد
القاعدة، لان طريقية اليقين فبها قد زالت بتبدله بالشك الساري. ودعوى - أن المشتق
موضوع للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ فيشمل موارد الاستصحاب باعتبار وجود
اليقين الفعلي وموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين السابق - مدفوعة، بأن الوضع للأعم
على تقدير التسليم إنما هو في المشتقات الاصطلاحية كاسم الفاعل والمفعول وأمثالهما،
لا في الجوامد وما هو شبيه بها. والمذكور في الاخبار لفظ اليقين وهو من الجوامد،
أو شبيه بها في عدم كونه موضوعا للقدر المشترك بين وجود صفة اليقين وعدم وجودها.
نعم لو كان المذكور في الاخبار لفظ المتيقن، لأمكن دعوى شموله للمتيقن باليقين
السابق باعتبار كون المشتق موضوعا للأعم من المتلبس والمنقضي عنه المبدأ.
(إن قلت): لا مانع من شمول الاخبار لموارد القاعدة باعتبار وجود اليقين
سابقا، فيكون المعنى لا تنقض اليقين الذي كان موجودا بالشك. (قلت): هذا
المعنى خلاف الظاهر، فان ظاهر قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك " هو
حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك.
(الوجه الثالث) - أن المتيقن غير مقيد بالزمان في باب الاستصحاب
ومقيد به في القاعدة، فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد. (توضيح ذلك) أن
اجتماع اليقين والشك في شئ واحد - على نحو يكون زمانهما واحدا مع وحدة زمان
متعلقهما - مستحيل بالضرورة، فلابد في اجتماعهما في شئ واحد من الاختلاف
في الزمان: إما من حيث المتعلق كما في موارد الاستصحاب، فان متعلق اليقين هو
عدالة زيد يوم الجمعة مثلا، ومتعلق الشك هو عدالته يوم السبت سواء كان حدوث
اليقين والشك في زمان واحد، أو في زمانين. وإما من حيث نفس اليقين والشك كما
في موارد القاعدة، فان متعلق اليقين والشك فيها هو عدلة زيد يوم الجمعة مثلا،
243

مع كون الشك متأخرا عن اليقين زمانا، فيكون بالزمان في موارد القاعدة قيدا للمتيقن،
وفى موارد الاستصحاب ظرفا لا قيدا، فكيف يمكن اعتبار كون الزمان قيدا وغير قيد
في دليل واحد؟
هذه هي الوجوه التي ذكرها العلامة النائيني (ره) لاختصاص الاخبار
بالاستصحاب وعدم شمولها للقاعدة. وللنظر في كل واحد منها مجال واسع.
(أما الوجه الأول) ففيه أن الموضوع هو اليقين المتعقب بالشك. وحكمه
حرمة نقضه به. وكون الحدث محرزا أو غير محرز مما لا دخل له في الحكم المذكور،
بل هما من خصوصيات الموارد، إذ الشك المسبوق باليقين قد يكون متعلقا ببقاء
ما تعلق به اليقين، فيكون حدوثه محرزا باليقين في ظرف الشك، وقد يكون متعلقا
بعين ما تعلق به اليقين، فيكون حدوثه غير محرز، لكون الشك متعلقا بحدوثه.
والاختلاف الناشئ من خصوصيات الموارد لا يمنع عن التمسك باطلاق القضية الدالة
على حرمة نقض اليقين بالشك، كما أن اختلاف خصوصيات موارد الاستصحاب لا يمنع
عن شمول اطلاق أدلته لها، فيكون مفاد قوله (ع): " لا تنقض... " هو
الغاء للشك تعبدا، فان كان متعلقا بالبقاء فمفاده التعبد بالبقاء، وان كان متعلقا بالحدوث
فمفاده التعبد بالحدوث.
و (أما الوجه الثاني) ففيه أن اليقين في موارد القاعدة أيضا كان موجودا،
فلا مانع من شمول الاخبار لها حال وجود لليقين، فالمتيقن بوجود شئ مكلف بعدم
نقض يقينه بالشك، سواء كان الشك متعلقا بالبقاء أو بالحدوث. وما ذكره - من أن
طريقية اليقين قد زالت في موارد القاعدة بتبدله بالشك - مدفوع بأن الطريقية
الوجدانية مفقودة في مورد الاستصحاب أيضا، لكون الشك متعلقا بالبقاء - ومجرد
اليقين بالحدوث لا يكون طريقا وجدانيا إلى البقاء، كما هو ظاهر. وأما الطريقية
244

التعبدية فيمكن جعلها من قبل الشارع في المقامين، فلا فرق بين القاعدة والاستصحاب
من هذه الجهة أيضا.
و (أما الوجه الثالث) فيرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأول، فان كون
الزمان قيدا أو ظرفا إنما هو من خصوصيات المورد. (فتارة) يكون الشك متعلقا
بالحدوث لاحتمال كون اليقين السابق مخالفا للواقع، فيكون متعلق الشك واليقين واحدا
حتى من حيث الزمان، وهو معنى كون الزمان قيدا. و (أخرى) يكون متعلقا
ببقاء ما تعلق به اليقين، وهو معنى كون الزمان ظرفا، ولم يؤخذ في قوله (ع):
" لا تنقض... " كون الزمان قيدا أو ظرفا كي يقال: لا يمكن اعتبار الزمان
قيدا وغير قيد في دليل واحد، بل الموضوع فيه هو اليقين المتعقب بالشك والحكم
حرمة نقضه به. وإطلاقه يشمل ما كان الزمان فيه قيدا أو ظرفا (أي ما كان الشك
متعلقا بالحدوث أو بالبقاء).
فتلخص مما ذكرناه في المقام: أنه لا مانع من شمول جعل واحد لقاعدة اليقين
والاستصحاب في مقام الثبوت. نعم لا يمكن شمول أخبار الباب للقاعدة في مقام
الاثبات، لامرين: (أحدهما) - راجع إلى عدم المقتضي. (ثانيهما) - راجع
إلى وجود المانع.
(أما الأول) فلان ظاهر قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك "
عدم جواز نقض اليقين الفعلي بالشك الفعلي، إذ ظاهر القضايا إثبات الاحكام
للموضوعات الفعلية بلا فرق بين كونها متكفلة لبيان الاحكام الواقعية أو الظاهرية،
فان ظاهر قولنا: الخمر حرام إثبات الحرمة للخمر الفعلي لا لما كان خمرا في وقت
وان لم يكن خمرا بالفعل، وكذا ظاهر قوله (ع): " رفع عن أمتي ما لا يعلمون "
رفع ما هو مجهول بالفعل لا رفع ما كان مجهولا في وقت، فظاهر قوله (ع):
245

" لا تنقض اليقين بالشك " حرمة نقض اليقين الفعلي بالشك. ولفظ النقض المستفاد
من قوله (ع): " لا تنقض " ظاهر في وحدة متعلق اليقين والشك من جميع الجهات حتى
من حيث الزمان، وإلا لا يصدق النقض. والتحفظ على هذين الظهورين مستحيل، لعدم
إمكان اجتماع اليقين والشك الفعليين في شئ واحد من جميع الجهات حتى من حيث الزمان.
فلابد من رفع اليد عن أحدهما. ومن المعلوم أن رفع اليد عن الظهور الأول يوجب اختصاص
الاخبار بموارد القاعدة، لعدم اليقين فيها، كما أن رفع اليد عن الظهور الثاني يوجب اختصاصها
بالاستصحاب، لاختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان في موارد الاستصحاب. وحيث
أن الإمام عليه السلام طبقها على موارد اختلاف متعلق اليقين والشك من حيث الزمان،
فإنه (ع) حكم بعدم جواز نقض اليقين بالشك في جواب سؤال الراوي بقوله:
" فان حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم " ومن المعلوم أن متعلق اليقين هو الطهارة قبل
حركة شئ في جنبه، ومتعلق الشك هو الطهارة بعدها. فعلم أن الظهور الثاني ليس
بمراد قطعا، فبقي الظهور الأول بحاله، فلا يشمل موارد قاعدة اليقين، لعدم وجود
اليقين الفعلي فيها.
(وأما الثاني) - أي عدم شمول الاخبار للقاعدة لوجود المانع - فلان
القاعدة معارضة بالاستصحاب دائما، إذ الشك في موارد القاعدة مسبوق بيقينين يكون
باعتبار أحدهما موردا للاستصحاب، وباعتبار الاخر موردا للقاعدة، فيقع التعارض
بينهما، فإذا تيقنا بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا، وشككنا يوم السبت في عدالته يوم الجمعة
لاحتمال كون اليقين السابق جهلا مركبا: فباعتبار هذا اليقين تجري القاعدة،
ومقتضاها الحكم بعدالة زيد يوم الجمعة، وحيث أنه لنا يقين بعدم عدالته سابقا وشك
فيها يوم الجمعة، يجري الاستصحاب. ومقتضاه الحكم بعدم عدالته يوم الجمعة. فلا محالة
يقع التعارض بينهما، فلا يمكن اجتماعهما في دليل واحد، إذ جعل الحجية - للمتعارضين
246

بجعل واحد - غير معقول. نعم لو دل دليل آخر - غير أدلة الاستصحاب -
على حجية القاعدة، لم يكن مانع من الاخذ به. وتوهم - أن التعبد بالمتعارضين
مما لا يمكن ولو بدليلين - مدفوع بأنه مع تعدد الدليل نخصص دليل الاستصحاب
بدليل القاعدة، بخلاف ما إذا كان الدليل واحدا، فان شموله للمتعارضين مما لا معنى
له. نعم يمكن فرض جريان القاعدة في مورد لا يكون فيه معارضا بالاستصحاب،
ولكنه نادر لا يمكن حمل الاخبار عليه.
وظهر بما ذكرناه عدم إمكان شمول دليل واحد للاستصحاب وقاعدة المقتضي
والمانع أيضا، مع قطع النظر عما ذكرناه سابقا، فان قاعدة المقتضي والمانع أيضا معارضة
بالاستصحاب دائما، فلا يمكن شمول دليل واحد لكليهما.
(الامر الثاني) - أنه لا إشكال ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الامارة
على ارتفاع المتيقن، بل يجب العمل بها. وإنما الكلام في وجه تقديم الامارة على الاستصحاب،
وأنه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة؟ فذهب بعضهم إلى أنه من باب
التخصيص بدعوى أن النسبة بين أدلة الاستصحاب وأدلة الامارات وإن كانت هي
العموم من وجه، إلا أنه لابد من تخصيص أدلة الاستصحاب بأدلة الامارات وتقديمها
عليها، لان النسبة المتحققة بين الامارات والاستصحاب هي النسبة بينها وبين جميع
الأصول العملية، فلو عمل بالأصول لم يبق مورد للعمل بالامارات، فيلزم الغاءها،
إذ من الواضح أنه لا يوجد مورد من الموارد إلا وهو مجرى لأصل من الأصول العملية مع
قطع النظر عن الامارة القائمة فيه.
وفيه (أولا) - أن أدلة الاستصحاب في نفسها بعيدة عن التخصيص،
فان ظاهر قوله (ع): " ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك " إرجاع
الحكم إلى قضية ارتكازية، وهي عدم جواز رفع اليد عن الامر المبرم بأمر غير مبرم.
247

وهذا المعنى آب عن التخصيص، إذ مرجعه إلى أنه في مورد خاص يرفع اليد عن الامر
المبرم بأمر غير مبرم، وهو خلاف الارتكاز. ونظير المقام أدلة حرمة العمل بالظن،
فان مثل قوله (تعالى): " إن الظن لا يغني عن الحق شيئا " غير قابل للتخصيص،
إذ مرجعه إلى أن الظن الفلاني يغني عن الحق. ولا يمكن الالتزام به، كما هو ظاهر.
و (ثانيا) - مع الغض عن إبائها عن التخصيص أن التخصيص في رتبة
متأخرة عن الورود والحكومة، لان التخصيص رفع الحكم عن الموضوع، ومع
انتفاء الموضوع بالوجدان - كما في الورود - أو بالتعبد - كما في الحكومة -
لا تصل النوبة إلى التخصيص. وسنبين انه لا موضوع للاستصحاب مع الامارة
على وفاقه أو على خلافه.
وذهب صاحب الكفاية (ره) وبعض من المحققين إلى أن تقديم الامارات
على الأصول من باب الورود لوجوه:
(الوجه الأول) - أن ذكر اليقين - في قوله (ع): " ولكن تنقضه
بيقين آخر " - ليس من باب كونه صفة خاصة، بل من باب كونه من مصاديق الحجة،
فهو بمنزلة أن يقال: انقضه بالحجة، وإنما ذكر خصوص اليقين، لكونه أعلى أفراد
الحجة، لكون الحجية ذاتية له وغير مجعولة، فخصوصية اليقين مما لا دخل له في رفع
اليد عن الحالة السابقة، بل ترفع اليد عنها مع قيام الحجة على الارتفاع بلا فرق بين اليقين
وغيره من الامارات المعتبرة، فموضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء مع عدم قيام
الحجة على الارتفاع أو البقاء، فمع قيام الامارة ينتفي موضوع الاستصحاب. والورود
ليس إلا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.
وفيه أن تصور هذا المعنى وإن كان صحيحا في مقام الثبوت، إلا أن مقام
الاثبات لا يساعد عليه. إذ ظاهر الدليل كون خصوص اليقين موجبا لرفع اليد عن الحالة السابقة.
248

وكون اليقين مأخوذا من باب الطريقية مسلم، إلا أن ظاهر الدليل كون هذا الطريق
الخاص ناقضا للحالة السابقة.
(الوجه الثاني) - أن المحرم هو نقض اليقين استنادا إلى الشك على ما هو
طاهر قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك " ومع قيام الامارة لا يكون النقض
مستندا إلى الشك، بل إلى الامارة، فيخرج عن حرمة النقض خروجا موضوعيا،
وهو معنى الورود.
وفيه (أولا) - أن دليل الاستصحاب لا يساعد على هذا المعنى،
إذ ليس المراد من قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك " حرمة نقض اليقين
من جهة الشك واستنادا إليه، بحيث لو كان رفع اليد عن الحالة السابقة بداع آخر،
كإجابة دعوة مؤمن مثلا لم يحرم النقض، بل المراد حرمة نقض اليقين عند الشك
بأي داع كان.
و (ثانيا) - أن المراد من الشك خلاف اليقين، كما ذكرناه سابقا.
واختار صاحب الكفاية (ره) أيضا، فيكون مفاد الرواية عدم جواز النقض بغير
اليقين ووجوب النقض باليقين. والنتيجة حصر الناقض في اليقين، فيكون مورد
قيام الامارة مشمولا لحرمة النقض لعدم كونها مفيدة لليقين على الفرض.
(الوجه الثالث) - أن رفع اليد - عن المتيقن السابق لقيام الامارة
على ارتفاعه - ليس إلا لأجل اليقين بحجية الامارة، إذ الأمور الظنية لابد وان تنتهي
إلى العلم، وإلا يلزم التسلسل. وقد ذكرنا عند التعرض لحرمة العمل بالظن: أن المراد
حرمة العمل بما لا يرجع بالآخرة إلى العلم: إما لكونه بنفسه مفيدا للعلم وإما للعلم
بحجيته، فبعد العلم بحجية الامارات يكون رفع اليد - عن المتيقن السابق لأجل قيام
الامارة - من نقض اليقين باليقين، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.
249

وفيه أن ظاهر قوله (ع): " ولكن تنقضه بيقين آخر " كون اليقين
الثاني متعلقا بارتفاع ما تعلق بحدوثه اليقين الأول، ليكون اليقين الثاني ناقضا لليقين
الأول، بل بعض الاخبار صريح في هذا المعنى، وهو قوله (ع) في صحيحة
زرارة: " لا حتى يستيقن أنه قد نام " فجعل فيه الناقض لليقين بالطهارة - اليقين
برافعها وهو النوم. وليس اليقين الثاني في مورد قيام الامارة متعلقا بارتفاع ما تعلق به
اليقين الأول، بل بشئ آخر - وهو حجية الامارات - فلا يكون مصداقا لنقض
اليقين باليقين، بل من نقض اليقين بغير اليقين.
فتحصل مما ذكرناه في المقام: أن تقديم الامارات على الاستصحاب لابد من أن
يكون من باب الحكومة، لما ظهر من بطلان التخصيص والورود. وتقريب كونه
من باب الحكومة يحتاج إلى بيان الفرق بين التخصيص والورود والحكومة.
فنقول: التخصيص هو رفع الحكم عن الموضوع بلا تصرف في الموضوع،
كقوله (ع): " نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر " فإنه تخصيص
لقوله تعالى: " وأحل الله البيع " لكونه رافعا للحلية بلا تصرف في الموضوع
بأن يقال: البيع الغرري ليس بيعا مثلا، وكذا سائر أمثلة التخصيص. ويقابله
التخصص مقابلة تامة، إذ هو عبارة عن الخروج الموضوعي التكويني الوجداني بلا اعمال
دليل شرعي، كما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء، فالجاهل خارج عنه خروجا
موضوعيا تكوينيا بالوجدان بلا احتياج إلى دليل شرعي. وما بين التخصيص والتخصص
أمران متوسطان: وهما الورود، والحكومة. أما الورود فهو عبارة عن انتفاء
الموضوع بالوجدان لنفس التعبد لا لثبوت المتعبد به - وإن كان ثبوته لا ينفك
عن التعبد - إلا أن ثبوته إنما هو بالتعبد. وأما نفس التعبد فهو ثابت بالوجدان
لا بالتعبد، وإلا يلزم التسلسل. وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الأصول العقلية:
250

كالبراءة العقلية والاحتياط العقلي والتخيير العقلي، فان موضوع البراءة العقلية عدم
البيان. وبالتعبد يثبت البيان وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة بالوجدان. وموضوع
الاحتياط العقلي احتمال العقاب. وبالتعبد الشرعي وقيام الحجة الشرعية يرتفع احتمال
العقاب، فلا يبقى موضوع للاحتياط العقلي. وموضوع التخيير العقلي عدم الرجحان
مع كون المورد مما لابد فيه من أحد الامرين: كما إذا علم بتحقق الحلف مع الشك في كونه
متعلقا بفعل الوطء أو تركه، فإنه لابد من الفعل أو الترك، لاستحالة ارتفاع
النقيضين كاجتماعهما. ومع قيام الامارة على أحدهما يحصل الرجحان وينتفي موضوع حكم
العقل بالتخيير وجدانا. وأما الحكومة فهي عبارة عن انتفاء الموضوع لثبوت المتعبد به
بالتعبد الشرعي. وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الأصول الشرعية التي منها الاستصحاب،
فإنه بعد ثبوت ارتفاع المتيقن السابق بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب،
إذ موضوعه الشك. وقد ارتفع تعبدا. وإن كان باقيا وجدانا لعدم كون الامارة
مفيدة للعلم على الفرض. وكذا سائر الأصول الشرعية، فإنه بعد كون الامارة علما
تعبديا لما في تعبير الأئمة - عليهم السلام عمن قامت عنده الامارة بالعارف والفقيه والعالم -
لا يبقى موضوع لأصل من الأصول الشرعية تعبدا.
فتحصل مما ذكرناه: أن تقديم الامارات على الاستصحاب ليس من باب
الورود، إذ بمجرد ثبوت التعبد بالامارة لا يرتفع موضوع التعبد بالاستصحاب،
لكونه الشك وهو باق بعيد قيام الامارة على الفرض، بل تقديمها عليه إنما هو من باب
الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه.
(توضيح ذلك) أن القضايا الحقيقية متكفلة لاثبات الحكم على تقدير وجود
الموضوع، وليست متعرضة لبيان وجود الموضوع نفيا وإثباتا - بلا فرق بين كونها
من القضايا الشرعية أو العرفية: إخبارية كانت أو انشائية - فان مفاد قولنا:
251

- الخمر حرام - إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر. وأما كون هذا المائع خمرا أو ليس
بخمر، فهو أمر خارج عن مدلول الكلام. وحيث أن دليل الحاكم شأنه التصرف
في الموضوع، فلا منافاة بينه وبين الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير
وجود الموضوع، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على أن هذا
المائع ليس بخمر. وكذا لا منافاة بين قوله تعالى: " وحرم الربا " وبين قوله (ع):
" لا ربا بين الوالد والولد " إذ مفاد الأول ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا.
ومفاد الثاني عدم وجوده. وبعد انتفاء الربا بينهما بالتعبد الشرعي تنتفي الحرمة لا محالة.
وكذا لا منافاة بين أدلة الاستصحاب والامارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة، فان مفاد
أدلة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء على تقدير وجود الشك فيه. ومفاد الامارة هو
الارتفاع وعدم البقاء. وبعد ثبوت الارتفاع بالتعبد الشرعي لا يبقى موضوع
للاستصحاب. ولا فرق في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الامارة بين كونها قائمة
على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها، إذ بعد ارتفاع الشك بالتعبد الشرعي لا يبقى
موضوع للاستصحاب في الصورتين، فكما لا مجال لجريان استصحاب النجاسة بعد قيام
البينة على الطهارة، فكذا لا مجال لجريانه بعد قيام البينة على بقاء النجاسة. وظهر بما
ذكرناه فساد ما في الكفاية من أن لازم القول - بكون تقديم الامارات
على الاستصحاب من باب الحكومة - جريان الاستصحاب فيما إذا قامت الامارة
على بقاء الحالة السابقة.
وقد يتوهم أن كون الامارة حاكمة على الاستصحاب إنما يصح على المسلك
المعروف في الفرق بين الامارات والأصول من أنه قد أخذ في موضوعها الشك،
بخلاف الامارة، فان أدلتها مطلقة، فان الامارة مزيلة للشك بالتعبد الشرعي،
فينتفي موضوع الاستصحاب. والاستصحاب لا يوجب ارتفاع موضوع الامارة،
252

إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك، بخلاف ما سلكناه من المسلك من أن الجهل بالواقع
مأخوذ في موضوع الامارات أيضا على ما بيناه سابقا. وهو مدفوع بما ذكرناه في المقام،
لتقريب حكومة الامارة على الاستصحاب من أن مفاد الحكومة عدم المنافاة حقيقة
بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم، لان مفاد الحاكم انتفاء موضوع المحكوم
بالتعبد الشرعي. ومفاد المحكوم ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع، فلا منافاة
بينهما. وعليه تكون الامارة حاكمة على الاستصحاب على المسلك المختار أيضا،
فان الامارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة تثبت انتفاء المتيقن السابق تعبدا، فلا يبقى
موضوع للاستصحاب.
(الامر الثالث) - في تعارض الاستصحاب مع غيره. ويقع الكلام
في مراحل:
(المرحلة الأولى) - في تعارض الاستصحاب مع الامارات. وقد تقدم
الكلام فيه، وان الامارة حاكمة على الاستصحاب، ولا يكون تقديمها عليه من باب
التخصيص ولا من باب الورود - لما تقدم ولا من باب التوفيق العرفي لعدم ثبوت
التوفيق سوى الا وجه الثلاثة: من التخصيص والورود والحكومة.
(المرحلة الثانية) - في تعارض الاستصحاب مع سائر الأصول العملية،
ولا إشكال في تقدم الاستصحاب على جميع الأصول الشرعية والعقلية إنما الكلام
في وجه تقدمه عليها. والظاهر أن تقدم الاستصحاب على الأصول العقلية من باب
الورود، لارتفاع موضوعها بالتعبد الاستصحابي. فان موضوع البراءة العقلية عدم
البيان، ومع حكم الشارع بالبناء على الحالة السابقة يثبت البيان، وينتفي موضوع حكم
العقل بالبراءة. وكذا الكلام في سائر الأصول العقلية من الاحتياط والتخيير.
وأما الأصول الشرعية، فحال الاستصحاب معها حال الامارات مع الاستصحاب
253

في أن تقدمه عليها من باب الحكومة. ووجهه يظهر مما تقدم، ولا سيما مع كونه
من الامارات في الحقيقة.
(المرحلة الثالثة) - في تعارض الاستصحابين. وقبل التعرض لحكم
تعارض الاستصحابين لابد من التنبيه على امر قد تقدم ذكره في بحث الترتب، وهو:
ان تنافي الحكمين (تارة) يكون في مقام الجعل، وهو على قسمين (أحدهما) - ان
يكون التنافي بينهما ذاتيا بحيث يلزم من جعلهما اجتماع النقيضين أو الضدين، كما إذا دار
الامر بين وجوب شئ وعدم وجوبه، أو بين وجوب شئ وحرمته. (ثانيهما) -
أن يكون التنافي بينهما عرضيا، كما في دوران الامر بين وجوب الظهر والجمعة،
إذ لا منافاة بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة ذاتا بحيث يلزم من اجتماعهما محذور اجتماع
النقيضين أو الضدين، إلا أنه بعد العلم الاجمالي بعدم جعل أحدهما، يكون جعل
أحدهما منافيا لجعل الاخر، ولذا يسمى بالتنافي العرضي. والحكم في كليهما الرجوع
إلى المرجحات السندية. وسيأتي الكلام فيها في مبحث التعادل والترجيح إن شاء الله
تعالى. و (أخرى) يكون التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال لعدم قدرة المكلف
على امتثالهما، والحكم فيه وجوب الاخذ بالأهم، أو بما لا بدل له، أو ما أخذت
فيه القدرة العقلية، وترك ما أخذت فيه القدرة الشرعية على ما يأتي أيضا في مبحث
التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن التنافي بين الاستصحابين أيضا قد يكون بحسب مقام الجعل
وقد يكون بحسب مقام الامتثال، فان كان التنافي بينهما في مقام الامتثال لعجز المكلف عن العمل
بكليهما، كما إذا شك في بقاء نجاسة المسجد وارتفاعها بالمطر مثلا - مع الشك في اتيان
الصلاة وهو في الوقت - فالحكم فيه ما تقدم من الاخذ بالأهم وبغيره من الأمور
المذكورة. وقد يتوهم عدم جواز الاخذ بالأهم وبغيره من الأمور المذكورة في المقام،
254

إذ الاستصحاب شئ واحد. ونسبة قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك "
إلى جميع أفراده على حد سواء، بلا فرق بين كون المورد أهم أو غيره وبين كونه
مما لا بدل له أو مما له بدل، وبين كون المأخوذ فيه القدرة العقلية أو الشرعية.
لكنه مدفوع بأن الاستصحاب وإن كان شيئا واحدا، إلا أن العبرة - في الرجوع
إلى الأمور المذكورة - بما تعلق به اليقين والشك، لا بنفس الاستصحاب، فكما
أنه إذا أحرز وجوب الصلاة ووجوب الإزالة بالوجدان، يجب الاخذ بالأهم منهما،
فكذا إذا أحرزا بالاستصحاب.
ولا يخفى أن هذا النوع من التنافي - بين الاستصحابين - خارج عن محل
الكلام. وإنما ذكر لتمامية الأقسام، إذ الكلام في تعارض الاستصحابين. وهذا
التنافي خارج عن باب التعارض وداخل في باب التزاحم. وملخص الفرق بينهما
أن التعارض عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الجعل بحسب مقام الثبوت، فيكون
بين دليليهما التكاذب في مقام الاثبات، كما إذا دل دليل على وجوب شئ والاخر
على عدم وجوبه أو على حرمته، أما التزاحم، فهو عبارة عن تنافي الحكمين بحسب
مقام الفعلية دوم مقام الجعل، فلا يكون بين دليليهما التكاذب. ولكن فعلية
أحدهما مانعة عن فعلية الاخر، لانتفاء موضوعه، فان وجوب الإزالة عن المسجد
يوجب عجز المكلف عن الاتيان بالصلاة، فينتفي وجوب الصلاة فعلا بانتفاء موضوعه
- وهو القدرة - إذ القدرة مأخوذة في موضوع جميع التكاليف، وفعلية كل حكم
بفعلية موضوعه. وإن كان التنافي بين الاستصحابين بحسب مقام الجعل لا بحسب
مقام الامتثال، فقد يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الاخر، وقد لا يكون
كذلك، فان كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الاخر يجري الاستصحاب
في السبب فقط دون المسبب. وليس المراد من السبب في المقام هو السبب التكويني،
255

إذ مجرد كون الشئ مسببا عن الاخر لا يوجب عدم اجتماعه مع السبب في الحكم، فإنه
لا منافاة بين كونه مسببا عنه تكوينا وبين كونه معه من حيث الحكم في عرض واحد،
بل المراد هو السبب الشرعي المعبر عنه بالموضوع، فان كان المستصحب في أحد
الاستصحابين موضوعا للمستصحب في الاستصحاب الاخر، فجريان الاستصحاب
في الموضوع يغني عن جريانه في الحكم، إذ بعد ثبوت الموضوع بالتعبد الشرعي يكون
ثبوت الحكم من آثاره، فلا حاجة إلى جريان الاستصحاب فيه. والسر في ذلك
أن الاحكام مجعولة بنحو القضايا الحقيقية، فإذا ثبت الموضوع بالوجدان أو بالامارة
أو بالأصل. يترتب عليه الحكم لا محالة. فإذا ثبت كون شئ خمرا وهو الصغرى،
فتنضم إليه الكبرى المجعولة بنحو القضايا الحقيقية، وهي قولنا الخمر حرام، فتترتب
النتيجة لا محالة. غاية الامر أن ثبوت الصغرى (تارة) يكون بالوجدان و (أخرى)
بالتعبد، فإذا غسلنا ثوبا متنجسا بماء مستصحب الطهارة مثلا يحكم بطهارة الثوب، لان
الموضوع للحكم بطهارته غسله بماء طاهر. وقد ثبتت طهارة الماء بالتعبد، والغسل به
بالوجدان، فيترتب عليه الحكم بطهارة الثوب في مرحلة الظاهر، وإن احتملت
نجاسته في الواقع، وهذا الذي ذكرناه - من الحكم بالطهارة في الظاهر - هو مراد
صاحب الكفاية من قوله: إن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به، إذ ليس
مراده حصول الطهارة الواقعية للثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة
كما هو ظاهر.
وربما يتوهم أنه من هذا القبيل ما إذا شك في جواز الصلاة في جلد حيوان
للشك في كونه مأكول اللحم، فان الشك في جواز الصلاة في جلده مسبب عن الشك
في حلية لحمه، وجوازها فيه أثر من آثار حلية لحمه، فإذا أحرزت حليته بأصالة الحل
يترتب عليها الحكم بجواز الصلاة في جلده أو غير الجلد من اجزائه. لكنه فاسد،
256

لان أصالة الحل إنما تفيد الترخيص الفعلي بمعنى عدم العقاب عليه على تقدير حرمته واقعا.
وجواز الصلاة ليس مترتبا على الحلية الفعلية، بل على حلية لحم الحيوان بطبعه، فإنه
إذا اضطر انسان إلى أكل لحم الأسد مثلا يحل له أكله. ومع ذلك لا تجوز الصلاة
في جلده يقينا، وإذا كان لحم الغنم حراما على أحد فعلا لكونه مضرا له لا تكون
هذه الحرمة موجبة لعدم جواز الصلاة في جلده. نعم لو كان حيوان مما حل لحمه بطبعه،
وشك في بقاء حليته للشك في عروض ما يوجب حرمته كالجلل ووطء الانسان، فيجري
فيه استصحاب عدم عروض ما يوجب حرمته ويحكم ببقاء حليته الأصلية، ويترتب
عليه جواز الصلاة في جلده أيضا.
وأما إن لم يكن الشك في مورد أحد الاستصحابين مسببا عن الشك في المورد
الاخر، بل كان التنافي بينهما للعلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع، فكون أحدهما
مطابقا للواقع يوجب مخالفة الاخر للواقع، فهو على قسمين:
(أحدهما) - ما تلزم - من اجراء الاستصحاب في الطرفين - المخالفة
العملية القطعية، كما إذا علمنا بطهارة إناءين ثم علمنا بطرو النجاسة على أحدهما إجمالا،
فان إجراء استصحاب الطهارة - في كلا الإناءين - موجب للمخالفة العملية القطعية،
ففي مثل ذلك يسقط كلا الاستصحابين عن الحجية ولا يمكن التمسك بواحد منهما،
لعين ما ذكرناه من الوجه في عدم جريان البراءة في أطراف العلم الاجمالي، فان إجراء
الاستصحاب في كلا الطرفين موجب للمخالفة القطعية والترخيص في المعصية وهو قبيح.
وجريانه - في أحدهما المعين - ترجيح بلا مرجح. وفى أحدهما المخير يحتاج إلى دليل،
وإن كان المحذور العقلي منتفيا.
(ثانيهما) - ما لا تلزم فيه - من إجراء الاستصحاب في الطرفين - مخالفة عملية
وتلزم المخالفة الالتزامية فقط، وهو العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع، كما إذا
257

علمنا بنجاسة إناءين تفصيلا ثم علمنا بطهارة أحدهما اجمالا، فإنه لا تلزم - من إجراء
استصحاب النجاسة في كليهما والاجتناب عنهما مخالفة عملية، ففي مثل ذلك ذهب
الشيخ (ره) إلى عدم جريان الاستصحاب فيهما، وتبعه المحقق النائيني (ره) واختار
صاحب الكفاية (ره) جريان الاستصحاب فيهما، لوجود المقتضي وهو شمول أدلة
الاستصحاب، وعدم المانع وهو لزوم المخالفة العملية. ولا تظهر ثمرة بين القولين في نفس
الإناءين، لوجوب الاجتناب عنهما على كلا القولين. أما على مختار الشيخ (ره)
فللعلم الاجمالي بالنجاسة. وأما على مختار صاحب الكفاية (ره) فلاستصحابها. وإنما
تظهر الثمرة بينهما في الملاقي لاحد الإناءين، إذ يحكم بنجاسته على مسلك صاحب الكفاية،
فإنه بعد الحكم بنجاسته بالتعبد يحكم بنجاسة الملاقي أيضا، بخلاف مسلك الشيخ (ره)
فان الملاقي لبعض أطراف العلم الاجمالي لا يكون محكوما بالنجاسة على ما تقدم ذكره.
ولأجل هذه الثمرة لابد من تحقيق المقام والتكلم في جريان الاستصحاب وعدمه،
فنقول: استدل الشيخ (ره) لعدم جريان الاستصحاب باجمال دليل الاستصحاب
بالنسبة إلى المقام، بتقريب أن مقتضى اطلاق الشك في قوله (ع): " لا تنقض
اليقين بالشك " هو شموله للشك المقرون بالعلم الاجمالي وجريان الاستصحاب في الطرفين.
ومقتضى إطلاق اليقين في قوله (ع): " ولكن تنقضه بيقين آخر " هو شموله
للعلم الاجمالي وعدم جريان الاستصحاب في أحدهما. ولا يمكن الاخذ بكلا الاطلاقين،
لان مقتضى الاطلاق الأول هو الايجاب الكلي وجريان الاستصحاب في الطرفين،
ومقتضى الاطلاق الثاني هو السلب الجزئي وعدم جريانه في أحدهما. ولا خفاء في مناقضة
السلب الجزئي مع الايجاب الكلي، ولا قرينة على تعيين الاخذ بأحدهما، فالدليل
يكون مجملا من هذه الجهة، فلا يمكن التمسك به لجريان الاستصحاب في المقام.
وفيه (أولا) - أن الظاهر كون المراد من اليقين في قوله (ع):
258

" ولكن تنقضه بيقين آخر " هو خصوص اليقين التفصيلي لا الأعم منه ومن الاجمالي،
إذ المراد نقضه بيقين آخر متعلق بما تعلق به اليقين الأول، وإلا لا يكون ناقضا له،
فحاصل المراد هكذا: كنت على يقين من طهارة ثوبك. فلا تنقضه بالشك في نجاسة
الثوب، بل انقضه باليقين بنجاسته، فلا يشمل اليقين الاجمالي لعدم تعلقه بما تعلق به
اليقين الأول، بل تعلق بعنوان أحدهما، فلا مانع من التمسك باطلاق الشك
في قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك " وجريان الاستصحاب
في الطرفين.
و (ثانيا) - أنه ليس هذا الذيل - وهو قوله (ع): " ولكن
تنقضه بيقين آخر " - موجودا في جميع أدلة الاستصحاب. واجمال الدليل - الموجود
فيه هذا الدليل - لا يمنع من التمسك بدليل آخر ليس فيه هذا الذليل الموجب للاجمال،
فان إجمال الدليل عبارة عن عدم الدلالة لا الدلالة على العدم.
وهذا الذي ذكره الشيخ (ره) راجع إلى المانع الاثباتي من جريان
الاستصحاب في المقام، وقد عرفت جوابه. وذكر المحقق النائيني (ره) مانعا
ثبوتيا عن جريانه بمعنى عدم إمكان التعبد بالاستصحاب في الطرفين مع العلم الوجداني
بمخالفة أحدهما للواقع. (بيانه): أن الأصل لو كان من الأصول غير المحرزة
(أي الأصول التي ليست ناظرة إلى الواقع، بل مفادها تعيين الوظيفة الفعلية في ظرف
الشك كاصالة الاحتياط) فلا مانع من جريانه في أطراف العلم الاجمالي، فان العلم
الاجمالي بحلية النظر إلى إحدى الامرأتين لكونها من المحارم لا يمنع من جريان أصالة
الاحتياط في الطرفين، إذ معنى الاحتياط هو ترك الحلال مقدمة لترك الحرام،
فلا تنافي بين العلم الاجمالي وأصالة الاحتياط، بخلاف ما إذا كان الأصل من الأصول
المحرزة الناظرة إلى الواقع كالاستصحاب، فان جريانه - في الطرفين مع العلم بمخالفة
259

أحدهما للواقع - غير معقول، فان التعبد بالبناء العملي على نجاسة كلا الإناءين
لا يجتمع مع العلم بطهارة أحدهما، فاطلاق دليل الاستصحاب وإن كان ظاهرا في الشمول
للشك المقرون بالعلم الاجمالي، فلا قصور في مقام الاثبات، إلا أنه لابد من رفع اليد
عن هذا الظهور لأجل المحذور الثبوتي.
ويمكن الجواب عنه نقضا وحلا. أما النقض فهو أنه إذا كان أحد جنبا وأتى
بالصلاة، فشك بعد الفراغ عنه في أنه اغتسل قبل الصلاة أم لا؟ فيحكم بصحة الصلاة
المأتي بها بمقتضي قاعدة الفراغ، وبوجوب الغسل عليه للصلوات الآتية وسائر الواجبات
المشروطة بالطهارة من الحدث الأكبر بمقتضى استصحاب بقاء الحدث مع العلم الاجمالي
بمخالفة أحد الأصلين للواقع، مع أن قاعدة الفراغ أيضا من الأصول المحرزة لو لم تكن
من الامارات.
وأما الحل، فهو أنه إن أريد جريان الاستصحاب في الطرفين بنحو الكلي
المجموعي بان يتعبد بنجاسة مجموع الإناءين من حيث المجموع، فلا اشكال في عدم
جريان الاستصحاب في الطرفين بهذا المعنى، إذ موضوع الاستصحاب هو الشك
وليس لنا شك في نجاسة المجموع من حيث المجموع، بل لنا علم بعدم نجاسة المجموع
من حيث المجموع، إذ المفروض العلم الاجمالي بطهارة أحدهما، فبعد العلم بعدم نجاسة
المجموع من حيث المجموع كيف يمكن جريان استصحاب النجاسة في المجموع من حيث
المجموع؟ بل لا مجال لجريان الأصول غير المحرزة أيضا في أطراف العلم الاجمالي بهذا
المعنى المجموعي، لما ذكرناه من انتفاء الشك باعتبار لحاظ المجموع من حيث المجموع،
ليكون موردا لأصل من الأصول المحرزة أو غير المحرزة، وإن أريد جريان
الاستصحاب في الطرفين بنحو الكلي الاستغراقي بأن يتعبد بالاستصحاب في كل واحد
من الطرفين مع قطع النظر عن الاخر، فلا محذور فيه أصلا، لوجود الشك في كل واحد
260

من الطرفين مع قطع النظر عن الاخر. والعلم الاجمالي بطهارة أحدهما لا يمنع عن جريان
استصحاب النجاسة في خصوص كل منهما. غاية الامر أن العلم المذكور هو السبب
لعروض الشك في كل واحد من الطرفين، ولولا العلم الاجمالي لكانت نجاسة كل منهما
محرزة بالعلم التفصيلي.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في المقام لا اثباتا
- على ما ذكره الشيخ (ره) ولا ثبوتا - على ما ذكره المحقق النائيني (ره).
ومن العجب أنهما (ره) قد التزما بجريان الاستصحاب في المتلازمين مع العلم الاجمالي
بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع، كما إذا توضأ أحد - غفلة - بمائع مردد بين
الماء والبول، فالتزما بكونه محدثا وبطهارة بدنه، للاستصحاب فيهما مع العلم بمخالفة
أحد الاستصحابين للواقع، للملازمة الواقعية بين بقاء الحدث ونجاسة البدن، وبين
طهارة البدن ورفع الحدث. ولم يظهر وجه للفرق بين المقام وبين المثال المذكور فيما
ذكراه (ره) من المانع الثبوتي أو الاثباتي. وإن شئت قلت: في المقام أيضا تلازم
بين نجاسة أحد الإناءين وطهارة الاخر. غاية الامر أن التلازم في المقام عرضي للعلم
الاجمالي بطهارة أحدهما. والتلازم في المثال ذاتي بين بقاء الحدث ونجاسة البدن. وهذا
لا يوجب التفكيك بينهما في ما هو ملاك جريان الاستصحاب.
نعم لا يمكن جريان الاستصحاب في المتلازمين فيما إذا دل دليل من الخارج
على عدم جواز التفكيك بينهما في الحكم مطلقا لا في الحكم الواقعي ولا في الحكم
الظاهري، كما في الماء المتمم كرا، فإذا لم نستفد من الأدلة طهارته ولا نجاسته ووصلت
النوبة إلى الأصل، يكون مقتضى الاستصحاب في المتمم بالفتح هو النجاسة، وفي المتمم
بالكسر هو الطهارة مع العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع، ولا يمكن الاخذ
بكلا الاستصحابين لا للعلم الاجمالي المذكور، بلا للاجماع على عدم جواز التفكيك
261

بين أجزاء ماء واحد في الحكم بنجاسة بعض وطهارة بعض، فيسقط الاستصحابان
عن مقام الحجية، إذ الاخذ بهما مخالف للاجماع، وبأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح،
وبأحدهما المخير يحتاج إلى دليل، فلابد من الرجوع إلى أصل آخر كاصالة الطهارة.
فالذي تحصل مما ذكرناه: أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في أطراف
القلم الاجمالي إلا المخالفة العملية القطعية، أو الدليل الخارجي الدال على عدم جواز
التفكيك كما مثلناه.
وأما الامارات فلا يمكن الاخذ بها في أطراف العلم الاجمالي ولو لم تلزم منه المخالفة
العملية، كما إذا قامت بينة على نجاسة هذا الاناء بخصوصه، وقامت بينة أخرى
على نجاسة ذاك الاناء مع العلم الاجمالي بطهارة أحدهما. وذلك، لحجية الامارات
بالنسبة إلى اللوازم، فتدل الامارة الدالة على نجاسة هذا الاناء على طهارة الاناء الآخر
بالملازمة. وكذا الامارة الأخرى، فيقع التعارض بينهما باعتبار الدلالة المطابقية
في أحدهما، والالتزامية في الآخر، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.
(المرحلة الرابعة) - في تعارض الاستصحاب مع بعض قواعد اخر
مجعولة في الشبهات الموضوعية: كاصالة الصحة وقاعدتي الفراغ والتجاوز
والقرعة وقاعدة اليد.
(اعلم) أن التباني على صحة العمل الصادر من الغير هو المسمى بأصالة الصحة،
والتباني على صحة العمل الصادر من نفس المكلف هو المسمى بقاعدة الفراغ أو التجاوز،
فإذا وقع التعارض بين الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز، لا إشكال في تقدم
قاعدة الفراغ والتجاوز عليه. وانما الكلام في وجه التقدم. فنقول: الظاهر
من الأدلة كون القاعدة من الامارات، فان الشك في صحة العمل بعد الفراغ أو بعد
التجاوز ناشئ من احتمال الغفلة والسهو، إذ ترك الجزء أو الشرط عمدا لا يجتمع مع
262

كون المكلف في مقام الامتثال، وأصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية الناظرة
إلى الواقع، فان سيرة العقلاء جارية على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة. والأخبار الواردة
في قاعدة الفراغ والتجاوز أيضا دالة على كونها من الامارات لامن الأصول المقررة
للشاك في مقام العمل، فان قوله (ع): - " بلى قد ركعت " في خبر (1)
الفضيل بن يسار الوارد في الشك في الركوع - إخبار عن الواقع، وكذا قوله (ع): (2)
هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك... " وكذا قوله (ع): (3) " وكان حين

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن فضالة عن ابان عن الفضيل
ابن يسار قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استتم قائما فلا أدرى ركعت أم لا؟ قال
عليه السلام: " بلى قد ركعت فامض في صلاتك " وأيضا في الوسائل عنه
عن صفوان عن جماد بن عثمان قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشك وأنا ساجد
فلا أدري. ركعت أم لا؟ فقال (ع): " قد ركعت امضه " وأيضا في الوسائل عنه
عن أبي جعفر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن
ابن أبي عبد الله قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر
أركع أم لم يركع؟ قال (ع): " قد ركع ".
(2) نقل في الوسائل عن المفيد باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن ابان
ابن عثمان عن بكير بن أعين قال قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال (ع):
" هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ".
(3) نقل في الوسائل عن محمد بن علي بن الحسين باسناده عن محمد بن مسلم
عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: " إذا شك الرجل بعدما صلى فلم يدر أثلاثا صلى
أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم لم بعد الصلاة وكان حين انصرف
أقرب إلى الحق منه بعد ذلك ".
263

انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك... ".
وبالجملة لا ينبغي الاشكال في كون القاعدة من الامارات، وحينئذ إن قلنا
يكون الاستصحاب من الأصول، فقد ظهر وجه تقدمها عليه مما ذكرناه في تقدم سائر
الامارات على الأصول من أن الأصول وظائف مقررة للشاك في مقام العمل، فلا مجال
للاخذ بها بعد إثبات الواقع - ولو بالتعبد الشرعي - لقيام الأمارة، وإن قلنا
بكون الاستصحاب أيضا من الامارات - كما التزم به المحقق النائيني (ره) وتبعناه -
فقد ذكر المحقق المزبور أن القاعدة حاكمة على الاستصحاب، لان أدلة القاعدة واردة
في موارد جريان الاستصحاب، كما في الشك في الركوع بعد الدخول في السجود،
فأدلة القاعدة ناظرة إلى أدلة الاستصحاب وشارحة لها.
وفيه أن الحكومة بالمعنى المصطلح هو كون الحاكم بمدلوله اللفظي ناظرا
إلى المحكوم وشارحا له، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجودا لكان الدليل
الحاكم لغوا، كقوله (ع): " لاشك لكثير الشك... " فإنه حاكم
على قوله (ع): " إذا شككت فابن على الأكثر... " لكونه شارحا له
بمدلوله اللفظي، إذ لو لم يكن للشك حكم من الاحكام، لكان قوله (ع):
" لاشك لكثير الشك " لغوا. والمقام ليس كذلك، إذ قوله (ع):
" بلى قد ركع " ليس شارحا لقوله (ع): " إن كنت على يقين من طهارتك
فلا تنقض اليقين بالشك " بحيث لو لم يكن قوله (ع): " لا تنقض اليقين بالشك "
لزم كون قوله (ع): " بلى قد ركع " لغوا، فإنه لا مانع من جعل قاعدة
كلية، وهي البناء على صحة العمل مع الشك في صحته بعد الفراغ عنه، ولو لم يكن
الاستصحاب مجعولا أصلا. وما ذكره (ره) - من أن أدلة القاعدة واردة في موارد
جريان الاستصحاب - صحيح، إلا أنه لا يقتضي الحكومة بالمعنى المصطلح، كما هو ظاهر.
264

والتحقيق أن تقديم القاعدة على الاستصحاب إنما هو من باب التخصيص.
وذلك، لان أغلب موارد العمل بالقاعدة يكون موردا لجريان الاستصحاب،
كما في الشك في الركوع بعد الدخول في السجود، فإنه مع الغض عن قاعدة التجاوز
كان مقتضى الاستصحاب الحكم بعدم الاتيان بالركوع، فلابد من تخصيص أدلة
الاستصحاب بأدلة القاعدة، وإلا يلزم حمل القاعدة على النادر. ولا يمكن الالتزام به.
ولا يمنع من التخصيص كونهما عامين من وجه، إذ وجه التخصيص في العموم المطلق
أنه لو لم يخصص لزمت لغوية الخاص رأسا. وفي المقام لو لم يخصص أحد العامين من وجه
- وهو أدلة الاستصحاب - يلزم حمل العام الآخر - وهو أدلة القاعدة -
على الفرد النادر. وهو بحكم اللغو، فليس الملاك في التخصيص كون النسبة هي العموم
المطلق، بل الملاك لزوم لغوية أحد الدليلين على تقدير عدم الالتزام بتخصيص الدليل
الآخر على ما ذكرناه. ولم يوجد مورد من موارد العمل بالقاعدة لم يكن الاستصحاب
فيه مخالفا لها، إلا موردين: (أحدهما) - ما إذا كان لشئ حالتان متضادتان،
وشك في المتقدم والمتأخر منهما بعد الفراغ من العمل، كمن كان محدثا ومتوضئا قبل
الصلاة، وبعد الفراغ منها شك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه، ففي مثله
يحكم بصحة الصلاة، لقاعدة الفراغ. ولا مجال لجريان الاستصحاب، للتعارض
على مسلكنا، ولعدم المقتضي لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين على مسلك
صاحب الكفاية (ره) على ما تقدم (ثانيهما) - ما إذا كان الاستصحاب
مطابقا للقاعدة، كما إذا شك بعد الفراغ من الصلاة في طرو مانع من موانع الصلاة حين
الاشتغال بها، فان استصحاب عدم طرو المانع موافق لقاعدة الفراغ كما هو ظاهر.
هذا تمام الكلام في تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ. وحيث أن قاعدة
الفراغ من القواعد المهمة. وتكون نظرية من جهات شتى ينبغي صرف عنان الكلام
265

إليها والتعرض لها من تلك الجهات استطرادا، وان كان خارجا عن محل الكلام،
فيقع الكلام فيها في جهات:
(الجهة الأولى) - هل هي من المسائل الأصولية أو من القواعد الفقهية؟
وقد ذكرنا في محله أن الميزان في كون المسألة أصولية، أمران كل واحد منهما
يرجع إلى الآخر:
(الأول) - أن تكن كبرى المسألة بعد ضم الصغرى إليها منتجة للحكم
الفرعي الكلي، كالبحث عن حجية الخبر مثلا، فإنه بعد ضم الصغرى - وهي قيام
الخبر على وجوب شئ مثلا - إلى الكبرى - وهي حجية الخبر - تكون النتيجة
وجوب هذا الشئ، فيقال: هذا ما دل الخبر على وجوبه، وكل ما دل الخبر
على وجوبه واجب لكون الخبر حجة، فينتج أن هذا واجب. وهذا بخلاف
المسائل الفقهية، فان ضم الصغرى إليها لا ينتج إلا الحكم الجزئي كالحكم بطهارة
الماء مثلا، فيقال: هذا ماء، وكل ماء طاهر، فينتج أن هذا طاهر.
وليس هو إلا حكم جزئي.
(الثاني) - أن تطبيق القواعد الأصولية على المصاديق إنما هو بيد المجتهد
وليس للمقلد حظ فيه، فان تطبيق حلية ما لا نص فيه على شرب التتن مثلا بيد المجتهد،
فإنه بعد الفحص وعدم وجدان نص فيه، يحكم بأنه مما لا نص فيه، فهو حلال.
وهذا بخلاف المسائل الفقهية، فان تطبيقها بيد المقلد كحرمة الخمر مثلا، فان المجتهد
يفتي بها. وأما تطبيق الخمر على مائع في الخارج فهو بيد المقلد، وربما يقع الاختلاف
بين المجتهد والمقلد في التطبيق، فيرى أحدهما أنه خمر والآخر أنه خل مثلا، ولكل
منهما العمل بعلمه. وليس للمقلد الرجوع إلى المجتهد في التطبيق إلا من باب الرجوع
إلى العادل، بناء على حجية خبر العادل في أمثال هذه الموضوعات.
266

إذا عرفت ما ذكرناه من الضابطة للمسائل الأصولية، تعرف ان قاعدة
الفراغ ليست من المسائل الأصولية، بل من المسائل الفقهية، فان ضم الصغرى إليها
لا ينتج إلا الحكم الجزئي، فيقال: هذا الشك شك بعد الفراغ، والشك بعد الفراغ
مما لا أثر له ولا يعتنى به. وأيضا تطبيق قاعدة الفراغ على الجزئيات إنما هو بيد
المقلد، فإنه يرى أن هذا الشك المتعلق بعدد الركعات مثلا إنما حدث بعد الفراغ
من الصلاة.
فتحصل أن قاعدة الفراغ من القواعد الفقهية، وإن كانت هي بنفسها
من نتائج المسائل الأصولية، لكونها مستفاد من الاخبار بمقتضى حجية الظواهر
وحجية الاخبار من حيث السند. والبحث عن حجية الظواهر وحجية السند
من المسائل الأصولية.
(الجهة الثانية) - في أن قاعدة الفراغ من الأصول العملية المقررة للشاك
في مقام العمل، أو من الامارات الناظرة إلى الواقع الكاشفة عنه كشفا ناقصا وتممه
الشارع؟ وقد ظهر - مما ذكرناه في وجه تقديمها على الاستصحاب - كونها من الامارات،
ولكنه لا تترتب ثمرة على هذا النزاع، إذ لا اشكال في تقدمها على الاستصحاب
وإن قلنا بكونها من الأصول، ولا في تأخرها عن الامارات وان قلنا بكونها منها،
فإذا شككنا - بعد الفراغ من صلاة المغرب مثلا - بين الثلاث والأربع، وقامت
بينة على كونها أربع، فلا اشكال في تقديم البينة على قاعدة الفراغ والحكم بفسادها.
فإذا لا ثمرة بين القول بكونها من الأصول، والقول بكونها من الامارات. وتوهم
ظهور الثمرة - بينهما بالنسبة إلى اللوازم لحجية مثبتات الامارات دون الأصول، فإذا
شككنا بعد الفراغ من الصلاة في اتيان الوضوء قبلها يحكم بصحة الصلاة المأتي بها لقاعدة
الفراغ، وبوجوب الوضوء للصلاة الباقية على القول بكونها من الأصول، بخلاف
267

القول بكونها من الامارات، فإنه لا يجب الوضوء حينئذ للصلاة الآتية أيضا، إذ لازم
صحة الصلاة المأتي بها كونها متطهرا - مدفوع بما ذكرناه في بحث الأصل المثبت
من أنه لافرق بين الامارات والأصول من هذه الجهة أصلا، ولا حجية لمثبتات الامارات
أيضا إلا في باب الألفاظ، لاستقرار سيرة العقلاء على الاخذ باللوازم في الاقرار
ونحوه من الألفاظ، لا لما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن الاخبار عن الملزوم
إخبار عن اللازم، لما ذكرناه سابقا من أن الاخبار من العناوين القصدية، فلا يكون
الاخبار عن الملزوم إخبارا عن اللازم إلا مع العلم بالملازمة والالتفات إليها. فالمتحصل
مما ذكرناه في المقام أنه لا ثمرة بين القول بكون القاعدة من الأصول، والقول
بكونها من الامارات.
(الجهة الثالثة) - في أن مورد بعض النصوص الواردة في قاعدة الفراغ
- وإن كان هو الطهارات والصلاة - إلا أنه نتعدى عنها، لامرين: (الأول) -
العموم الوارد في موثقة ابن بكير من قوله (ع): " كل ما شككت فيه مما قد
مضى فأمضه كما هو ". (الثاني) - عموم التعليل في بعض الاخبار كقوله (ع):
" هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " وكقوله (ع): " وكان حين انصرف
أقرب إلى الحق منه بعد ذلك " فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في الطواف وغيره،
بل لا مانع من جريانها في العقود والايقاعات، بل في المعاملات بالمعنى الأعم الشامل
للعقود والايقاعات وغيرهما كالتطهير من الخبث. فتجري قاعدة الفراغ في الجميع بمقتضى
عموم الدليل على ما ذكرناه.
هذا كله في قاعدة الفراغ. وأما قاعدة التجاوز، فقد وقع الكلام بين الاعلام
في أنها مختصة بباب الصلاة، أو أنها من القواعد العامة، ولا اختصاص لها بالصلاة؟
فذكر شيخنا الأنصاري وجماعة من الفقهاء أنها من القواعد العامة، إلا أنه قد خرج
268

عنها الوضوء للنصوص الخاصة الدالة على وجوب غسل العضو المشكوك فيه وما بعده،
وقد الحق بالوضوء الغسل والتيمم لتنقيح المناط أو للاجماع على ما يأتي التعرض له قريبا
انشاء الله تعالى. واختار المحقق النائيني (ره) اختصاصها بالصلاة، وأن عدم
جريانها في الطهارات الثلاث إنما هو بالتخصص لا بالتخصيص. ونحن نذكر - مقدمة
لهذا البحث - أمرا آخر، وهو أن قاعدتي الفراغ والتجاوز هل هما قاعدة
واحدة يعبر عنها بقاعدة الفراغ (تارة) وبقاعدة التجاوز (أخرى)، أو قاعدتان
مجعولتان بالاستقلال؟ إذ على تقدير كونهما قاعدة واحدة لا نحتاج إلى البحث عن كون
قاعدة التجاوز قاعدة عامة أو مختصة بالصلاة بعد الفراغ من كون قاعدة الفراغ
من القواعد العامة على ما تقدم فنقول: استدلوا على كونهما قاعدتين مجعولتين
بالاستقلال بوجوه:
(الوجه الأول) - أن المجعول في قاعدة الفراغ مخالف للمجعول في قاعدة
التجاوز بحيث لا يمكن الجمع بينهما في جعل واحد. وذلك، لان المجعول في قاعدة
الفراغ هو البناء على الصحة ولا تعبد بها بعد فرض الوجود. والمجعول في قاعدة التجاوز
هو البناء على الوجود والتعبد به مع فرض الشك فيه. وبعبارة أخرى مورد التعبد
في قاعدة الفراغ مفاد كان الناقصة، ومورد التعبد في قاعدة التجاوز مفاد كان التامة،
فلا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد، إذ لا يمكن اجتماع فرض الوجود مع فرض الشك
في الوجود في دليل واحد.
وأجاب عنه الشيخ (ره) بأن المجعول - في قاعدة الفراغ أيضا - هو البناء
على وجود الصحيح، فان مفادها التعبد بوجود الصحيح، فيكون مورد التعبد فيها
أيضا مفاد كان التلعة، فلا فرق بين القاعدتين من هذه الجهة.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بوجهين: (الأول) - أن إرجاع
269

قاعدة الفراغ إلى التعبد بوجود الصحيح خلاف ظاهر أدلتها، فان ظاهر قوله (ع):
" كل ما مضى صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه ولا إعادة عليك " - هو الحكم
بصحة ما مضى من الصلاة والطهور، فيكون مفادها التعبد بصحة الموجود لا التعبد بوجود الصحيح.
ووجود الصحيح وان كان لازما لصحة الموجود، إلا أن مفاد الأدلة هو التعبد بالثاني.
(الثاني) - أن الارجاع المذكور على تقدير التسليم إنما
يصح في باب التكليف، فان هم العقل فيه هو افراغ الذمة منه. ووجود العبادة
الصحيحة - ولو بالتعبد - كاف في الحكم بالفراغ. بخلاف المعاملات، فان
الآثار المجعولة على نحو القضايا الحقيقة إنما تترتب على صحة شخص المعاملة المشكوك
فيها، فلا يكفي في ترتب الأثر التعبد بوجود معاملة صحيحة، بل لابد من إحراز
صحة المعاملة الشخصية ولو بالتعبد. فلا يتم ارجاع قاعدة الفراغ إلى التعبد بوجود
الصحيح في باب المعاملات على فرض تسليم تماميته في العبادات.
أقول: أما اعتراضه الأول، فمتين، لان ظاهر قوله (ع): - " كلما
مضى من صلاتك إلى قوله (ع): فأمضه " - هو الحكم بصحة ما مضى، فارجاعه
إلى الحكم بوجود الصحيح خلاف الظاهر. وأما اعتراضه الثاني، فلا يرجع
إلى محصل، لان مفاد قاعدة الفراغ - على تقدير الارجاع المذكور - هو الحكم بوجود
الصحيح مما تعلق به الشك، وهو كاف في ترتب الأثر، فإذا باع زيد داره من عمرو
بثمن معين، وشك في صحة هذه المعاملة وفسادها، كان مقتضى قاعدة الفراغ
- بعد الارجاع المذكور - هو الحكم بوجود بيع صحيح يكون المبيع فيه الدار بالثمن
المعين. والتعبد بوجود هذا البيع كاف في ترتب الأثر وان لم تثبت صحة هذه المعاملة
الشخصية الخارجية، كما هو الحال في العبادات، فإنه على تقدير الشك - في صحة
صلاة الظهر بعد الفراغ منها - يحكم بوجود صلاة الظهر صحيحة بمقتضى قاعدة الفراغ
270

بعد الارجاع المذكور، وهو كاف في حكم العقل بالفراغ وان لم تثبت صحة الصلاة
الشخصية. ولولا أن مفاد قاعدة الفراغ هذا المعنى، لما كان للحكم بالفراغ مجال،
إذ لو كان مفادها هو الحكم بوجود صلاة صحيحة مطلقة ولو غير صلاة الظهر، لم يكن
مجال للحكم بالفراغ من صلاة الظهر في مفروض المثال، فلا فرق بين العبادات والمعاملات
من هذه الجهة. فالعمدة هو الاعتراض الأول.
والتحقيق أن الاستدلال المذكور ساقط من أصله، لما ذكرناه مرارا
من أن معنى الاطلاق هو الغاء جميع الخصوصيات لا الاخذ بجميعها، فإذا جعل حكم
لموضوع مطلق معناه ثبوت الحكم له بالغاء جميع الخصوصيات، كما إذا جعلت الحرمة
للخمر المطلق مثلا، فإنه عبارة عن الحكم بحرمة الخمر بالغاء جميع الخصوصيات من كونه
أحمر أو اصفر أو مأخوذا من العنب أو من التمر وغيرها من الخصوصيات، لا الحكم
بحمرة الخمر مع لحاظ الخصوصيات والاحتفاظ بها، بمعنى أن الخمر بما هو أحمر حرام،
وبما هو اصفر حرام، وهكذا. وحينئذ لا مانع من جعل قاعدة كلية شاملة لموارد
قاعدة الفراغ وموارد قاعدة التجاوز بلا لحاظ خصوصيات الموارد، بأن يكون
موضوع القاعدة مطلق الشك في شئ بعد التجاوز عنه بلا لحاظ خصوصية كون الشك
متعلقا بالصحة أو بالوجود، فيكون المجعول عدم الاعتناء بالشك في الشئ بعد التجاوز
عنه بلا لحاظ كون الشك متعلقا بالوجود أو بالصحة وغيرهما من خصوصيات المورد،
بل يمكن أن يقال: إن وصف الصحة من الأوصاف الانتزاعية التي ليس في الخارج
بإزائها شئ، إذ هو منتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به، فالشك في الصحة دائما
يرجع إلى الشك في وجود جزء أو شرط، فلا مانع من جعل قاعدة شاملة لموارد الشك
في الوجود وموارد الشك في الصحة، لكون الشك في الصحة راجعا إلى الشك في الوجود،
فتكون قاعدة الفراغ راجعة إلى قاعدة التجاوز.
271

وقد يستشكل في ذلك بأن ارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز إنما يصح
فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا من الشك في وجود الجزء، بخلاف ما إذا كان
ناشئا من الشك في وجود الشرط كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة، إذ لو شككنا
في صحة صلاة الظهر مثلا بعد الفراغ منها للشك في تحقق الطهارة من الحدث، كان
مقتضى قاعدة الفراغ - بعد ارجاعها إلى قاعدة التجاوز - هو التعبد بوجود الطهارة
من الحدث، ولازمه جواز الدخول في صلاة العصر من غير حاجة إلى تحصيل الطهارة.
ولا يمكن الالتزام به. ولم يقل به أحد. ولا يلزم ذلك على تقدير كون قاعدة الفراغ
غير قاعدة التجاوز، إذ مقتضاها حينئذ الحكم بصحة صلاة الظهر لا الحكم بوجود
الطهارة من الحدث.
والجواب عن هذا الاشكال يحتاج إلى توضيح معنى الجزئية والشرطية، وهو
أن الجزء عبارة عما تعلق به الامر منضما إلى سائر الأجزاء، فان الامر بأكل ينبسط
إلى أوامر متعددة متعلقة بكل واحد من الاجزاء، بخلاف الشرط، فإنه لا يكون
متعلقا للامر كيف؟ وقد يكون غير مقدور للمكلف كالوقت، فمعنى اشتراط المأمور به
بشرط، هو تعلق الامر بالطبيعة المقيدة بوجوده على نحو يكون التقييد داخلا والقيد
خارجا، فمعنى اشتراط الصلاة بالطهارة هو تعلق الامر بايجادها مقترنة مع الطهارة.
إذا عرفت ذلك، يظهر لك الجواب عن الاشكال المذكور، فان مورد التعبد
هو اقتران صلاة الظهر بالطهارة لا وجود الطهارة، وهو وان كان لازما لاقتران الصلاة
بها، إلا أنه لا يثبت اللوازم بهذه القاعدة كالاستصحاب، فلا يلزم - من ارجاع
قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز - التعبد بوجود الطهارة وعدم الاحتياج إليها بالنسبة
إلى الصلاة الآتية.
(الوجه الثاني) ما ذكره المحقق النائيني (ره)، وهو أن مورد قاعدة الفراغ
272

هو الشك في صحة الكل، كالشك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها. ومورد قاعدة
التجاوز هو الشك في وجود الجزء، فجعل قاعدة الفراغ يحتاج إلى لحاظ الكل
بالاستقلال، ولحاظ الجزء بالتبع، وبالتصور التبعي الاندكاكي. وجعل قاعدة
التجاوز يحتاج إلى لحاظ الجزء باللحاظ الاستقلالي، فالجمع بين القاعدتين يستلزم تعلق
اللحاظ الاستقلالي والتبعي بشئ واحد، وهو مما لا يمكن.
ويمكن الجواب عنه بوجوه: (الأول) - أنه لا اختصاص لقاعدة
الفراغ بالشك في صحة الكل، بل تجري عند الشك في صحة الجزء أيضا. ولعله
المشهور، فعلى تقدير تعدد القاعدتين أيضا يلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي والتبعي بالجزء
في جعل نفس قاعدة الفراغ، فما به الجواب على تقدير التعدد يجاب به على تقدير الاتحاد
أيضا. (الثاني) - أن الجمع بين القاعدتين ممكن بالغاء الخصوصيات على ما ذكرناه.
فان لحاظ الكل والجزء بما هما كل وجزء يستلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والتبعي
في الجزء، بخلاف لحاظهما مع الغاء خصوصية الجزئية والكلية، بأن يلاحظ لفظ
عام شامل لهما كلفظ الشئ، ويحكم بعدم الاعتناء بالشك فيه بعد الخروج عن محله،
فإنه لا محذور فيه أصلا. (الثالث) - ما ذكرناه أخيرا من أن الشك في صحة
الصلاة مثلا بعد الفراغ منها يكون ناشئا من الشك في وجود الجزء أو الشرط، فيكون
موردا لقاعدة التجاوز، ويحكم بوجود المشكوك فيه، فلا حاجة إلى جعل قاعدة
الفراغ مستقلا.
(الوجه الثالث) - أن الجمع بين القاعدتين يستلزم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي
والمعنى العنائي. وهو لا يجوز. وذلك، لان التجاوز عن الشئ في مورد قاعدة الفراغ
هو التجاوز الحقيقي، إذ الشك متعلق بصحته مع العلم بوجوده، فيصدق التجاوز عنه
حقيقة. بخلاف التجاوز في مورد قاعدة التجاوز، فإنه لا يصدق التجاوز الحقيقي
273

عن الشئ مع الشك في وجوده، فلابد من إعمال عناية، بأن يكون المراد من التجاوز
عن الشئ هو التجاوز عن محله على طريقة المجاز في الكلمة، أو في الاسناد،
أو في الحذف، بأن يراد من الشئ محله، أو يسند التجاوز إليه بالاسناد المجازي،
أو يقدر المضاف وهو لفظ المحل، فالجمع - بين القاعدتين في جعل واحد - يستلزم
الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي، وهو لا يجوز.
ويظهر الجواب عن هذا الاستدلال مما ذكرناه: من أن الشك في الصحة دائما
ناشئ من الشك في وجود الجزء أو الشرط، فالتجاوز في مورد قاعدة الفراغ أيضا
هو التجاوز عن محل الشئ المشكوك فيه، سواء كان جزء أو شرطا، فلا فرق
بين قاعدة الفراغ والتجاوز من هذه الجهة، ولا يلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي.
(الوجه الرابع) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو أن الجمع
- بين القاعدتين في جعل واحد - يستلزم التدافع بينهما فيما إذا شك في جزء بعد
الدخول في جزء آخر، ولا يلزم ذلك لو كانتا مجعولتين بالاستقلال. (بيان ذلك):
أنه إذا شك في الركوع مثلا بعد الدخول في السجود، كان مقتضى مفهوم قاعدة
الفراغ الاعتناء بالشك والآتيان بالمشكوك فيه، لكونه قبل الفراغ من الصلاة. وقد
صرح بهذا المفهوم في قوله (ع): " إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه " ومقتضى
منطوق قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بهذا الشك، لكونه شكا بعد الدخول في الغير،
وبعد التجاوز عن محل المشكوك فيه على الفرض. وهذا هو التدافع. واما على تقدير
كون القاعدتين مجعولتين بالاستقلال فلا محذور، إذ يقدم منطوق قاعدة التجاوز
على مفهوم قاعدة الفراغ بالحكومة أو بالتخصيص، لان أدلة قاعدة التجاوز واردة
في موارد مفهوم قاعدة الفراغ، فلو لم تقدم قاعدة التجاوز على مفهوم قاعدة الفراغ،
لم يبق لقاعدة التجاوز مورد. وبعد تقديم قاعدة التجاوز والحكم بتحقق الركوع
274

- في مفروض المثال - لا يلزم محذور أصلا.
والجواب عنه: أن الشك في صحة الصلاة - في مفروض المثال - مسبب
عن الشك في وجود الركوع، لما ذكرناه من أن الشك في الصحة دائما ناشئ
من الشك في وجود الجزء أو الشرط، فبعد الحكم بوجود الركوع لقاعدة التجاوز،
لا يبقى شك في صحة الصلاة حتى يكون موردا لمفهوم قاعدة الفراغ. ويقع التدافع
بينه وبين منطوق قاعدة التجاوز. وكذا الحال في الشك في صحة كل جزء لأجل
الشك في وجود جزء آخر، فان الشك في تحقق الركوع في المثال يوجب الشك
في صحة السجود، إذ يشترط في السجود وقوعه بعد الركوع، فالشك في صحة
السجود وإن كان موردا لمفهوم قاعدة الفراغ ويجب الاعتناء به لكونه قبل الفراغ،
إلا أنه حيث يكون مسببا عن الشك في تحقق الركوع، ومقتضى قاعدة التجاوز التعبد
بوجوده، وبه يرتفع الشك في صحة السجود، فان صحة السجود من الآثار الشرعية
للتعبد بوجود الركوع.
والذي تحصل - مما ذكرناه في المقام - إمكان كون القاعدتين قاعدة واحدة
بارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز، لرجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود
على ما ذكرناه. والتزم المحقق النائيني (ره) بوحدة القاعدتين على عكس ما ذكرناه،
وأرجع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ.
(بيانه) - أن قاعدة الفراغ قاعدة كلية، ومفادها عدم الاعتناء بالشك
في صحة المركب بعد الفراغ منه، ولا اختصاص لها بباب دون باب. وقاعدة
التجاوز قاعدة مجعولة في خصوص باب الصلاة، ومفادها عدم الاعتناء بالشك في جزء بعد
التجاوز عنه والدخول في جزء آخر، فأدلة قاعدة التجاوز قد ألحقت الجزء بالكل
في عدم الاعتناء بالشك فيه بعد الدخول في الجزء الآخر في خصوص باب الصلاة،
275

فهي حاكمة على أدلة قاعدة الفراغ على نحو توسعة الموضوع وإلحاق الجزء بالكل،
فيكون مورد قاعدة التجاوز من صغريات قاعدة الفراغ بالتنزيل والتعبد الشرعي،
مثلا قد استفدنا من موثقة (1) ابن أبي يعفور أن الشك في الشئ إذا لم يكن بعد الفراغ
منه يجب الاعتناء به، لكن صحيحة (2) زرارة، وموثقة (3) إسماعيل بن جابر
- الدالتان على عدم الاعتناء بالشك في الجزء بعد الدخول في الجزء الآخر في خصوص

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه
عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر
عن عبد الكريم بن عمرو عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال (ع):
" إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ إنما الشك
إذا كنت في شئ لم تجزه ".
(2) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن أحمد بن محمد عن أحمد بن
محمد بن أبي نصر عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن زرارة قال: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في الاذان، وقد دخل في الإقامة؟ قال (ع):
يمضي. قلت: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟ قال (ع): يمضي.
قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال (ع): يمضي. قلت: شك في القراءة
وقد ركع؟ قال (ع): يمضي. قلت: شك في الركوع وقد سجد؟ قال (ع):
يمضي على صلاته، ثم قال (ع): يا زرارة " إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره
فشككت فليس بشئ ".
(3) وفي الوسائل أيضا عن محمد بن الحسن باسناده عن سعد عن أحمد بن محمد عن أبيه
عن عبد الله بن المغيرة عن إسماعيل بن جابر قال قال أبو جعفر عليه السلام: " إن شك
في الركوع بعدما سجد، فليمض، وإن شك في السجود بعد ما قام، فليمض. كل شئ
شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ".
276

الصلاة - قد دلتا على أن حال اجزاء الصلاة حال المركبات المستقلة في عدم الاعتناء
بالشك فيها فيما إذا كان الشك بعد الدخول في الجزء الآخر، وعليه يكون التجاوز
عن محل الجزء المشكوك فيه بمنزلة التجاوز عن المركب. هذا ملخص كلامه (ره).
وفيه أنه لا وجه لتخصيص قاعدة الفراغ بالشك في صحة الكل، لشمول
أدلتها للشك في صحة الجزء أيضا بعد الفراغ منه، كما إذا شك في صحة التكبير بعد
الدخول في القراءة، فان مثل قوله (ع) - في موثقة ابن بكير: " كل ما شككت
فيه مما قد مضى فأمضه كما هو " - يشمل الشك في صحة الجزء أيضا، لان لفظ الشئ
يعم الجزء والكل. ولو قلنا بكون قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتين مستقلتين،
لم يكن الميز بينهما باختصاص قاعدة الفراغ بالشك في الكل واختصاص قاعدة التجاوز
بالشك في الجزء، بل الفرق بينهما إنما هو باختصاص قاعدة الفراغ بالشك في الصحة
مع فرض الوجود، واختصاص قاعدة التجاوز بالشك في الوجود دون الصحة.
وإن كان التحقيق رجوع الشك في الصحة أيضا إلى الشك في الوجود، ولذا التزمنا
بامكان كونهما قاعدة واحدة. وأما موثقة ابن أبي يعفور، فلا يصح الاستدلال بها
لقاعدة الفراغ، لان الضمير في قوله (ع): " وقد دخلت في غيره " إن كان
راجعا إلى الشئ، كان مفادها قاعدة التجاوز في باب الوضوء. وهو خلاف الاجماع
والنصوص الدالة على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء. وإن كان راجعا
إلى الوضوء، كان مفادها قاعدة الفراغ كما ذكره. والظاهر رجوعه إلى الشئ
كسائر الروايات المذكورة فيها التجاوز عن الشئ المشكوك فيه، ولا أقل من تساوي
احتماله مع احتمال الرجوع إلى الوضوء، فلا يكون ظاهرا في الرجوع إلى الوضوء،
فهي مجملة ساقطة عن مقام الاستدلال بها. ولو سلمنا كونه ظاهرا أو صريحا في الرجوع
إلى الوضوء، فكان مفادها قاعدة الفراغ أصلا وعكسا، بمعنى عدم وجوب الاعتناء
277

بالشك بعد الفراغ من الوضوء ووجوب الاعتناء به قبل الفراغ منه، فيقع التعارض
بينها عكسا وبين الروايات الدالة على قاعدة التجاوز، فإنها بعمومها تدل على عدم
الاعتناء بالشك في جزء بعد الدخول في جزء آخر، فلا وجه لجعل أدلة قاعدة التجاوز
حاكمة على أدلة قاعدة الفراغ.
فتحصل مما ذكرناه في المقام إمكان أن يكون المجعول أمرا واحدا يسمى بقاعدة
الفراغ (تارة) وبقاعدة التجاوز (أخرى) بارجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة
التجاوز، لا العكس على ما ذكره المحقق النائيني (ره). هذا كله في مقام الثبوت
والامكان. وأما مقام الاثبات والوقوع، فهل المستفاد من الأدلة كون المجعول
أمرا واحدا أو أمرين؟ فلابد من النظر إلى الأدلة والبحث عن مفادها.
فنقول: أما الروايات الواردة في قاعدة الفراغ، فهي كثيرة يختص بعضها
بالطهارات، وبعضها بالصلاة. وهناك روايتان: (إحداهما) - (1) خاصة بالطهارة
والصلاة. (ثانيتهما) - (2) لا تختص بمورد، بل هي شاملة للطهور والصلاة وغيرهما.
والظاهر من لفظ المضي في هذين الخبرين هو مضي الشئ المشكوك فيه حقيقة. وجمله

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن سعد بن عبد الله عن موسى
ابن جعفر عن أبي جعفر عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي عن الحسن بن علي بن فضال
عن عبد الله بن بكير عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: " كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه، ولا إعادة
عليك فيه ".
(2) وفي الوسائل أيضا عن محمد بن الحسن عن الحسين بن سعيد عن صفوان
عن ابن بكير عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال (ع): " كل ما شككت
فيه مما قد مضى فأمضه كما هو " موثقة.
278

- على مضي محل المشكوك فيه بتقدير لفظ المحل أو من باب الاسناد المجازي - يحتاج
إلى القرينة، فيكون مفادهما عدم الاعتناء بالشك في شئ بعد مضي هذا الشئ
المشكوك فيه. ولا يصدق المضي إلا بعد الوجود، فإنه من الواضحات المعروفة أن
ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فيكون مفادهما قاعدة الفراغ فقط. دون
قاعدة التجاوز. نعم لا نضائق عن دلالتهما على قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الجزء
أيضا، كما إذا شك في صحة التكبير مع العلم بوجوده لشمول لفظ الشئ للكل
والجزء كما تقدم.
وبالجملة لو كنا وهذين الخبرين، لم نستند منهما قاعدة التجاوز أصلا، إلا أنه
هناك روايتان تدلان على قاعدة التجاوز: (الأولى) - صحيحة زرارة
(الثانية) - موثقة إسماعيل بن جابر. وقد تقدمت الإشارة (1) إليهما عند نقل
كلام المحقق النائيني (ره). ومن المعلوم أن المراد من الخروج من الشئ المشكوك فيه
المذكور في الصحيحة هو الخروج عن محله، إذ لا يصدق الخروج عن الركوع
مثلا مع فرض الشك في وجوده، فالمراد هو الشك في وجوده مع الخروج عن محله.
وكذا المراد من التجاوز عن الشئ المشكوك فيه المذكور في الموثقة هو التجاوز
عن محله، فيكون مفادهما قاعدة التجاوز بمعنى عدم الاعتناء بالشك في شئ بعد
التجاوز عن محله.
فتحصل مما ذكرناه أن المستفاد من ظواهر الأدلة كون القاعدتين مجعولتين
بالاستقلال، وأن ملاك إحداهما غير ملاك الأخرى، فان ملاك قاعدة الفراغ وهو الشك
في صحة الشئ مع إحراز وجوده، وملاك قاعدة التجاوز هو الشك في وجود الشئ
بعد التجاوز عن محله، وإذا لابد من البحث عن كل واحدة منهما منفردة من حيث

(1) قد تقدم ذكرهما هناك في ذيل الصفحة (276) فراجع.
279

كونهما من القواعد العامة، أو مختصة بباب دون باب، ومن حيث الشرائط،
إذ يمكن أن تكون إحداهما من القواعد العامة، والأخرى مختصة بباب دون باب،
وكذا يمكن أن يعتبر في إحداهما مالا يعتبر في الأخرى.
فنقول: أما قاعدة الفراغ فقد تقدم كونها من القواعد العامة فلا نعيد،
وأما قاعدة التجاوز فاستظهر المحقق النائيني (ره) من الأدلة اختصاصها بالصلاة
كما تقدم. وربما يقال في وجه الاختصاص إن دليل قاعدة التجاوز هي صحيحة زرارة
وموثقة إسماعيل بن جابر، ولا يستفاد العموم منهما. أما الصحيحة، فلان المذكور
فيها لفظ الشئ مع التنكير في قوله (ع): " إذا خرجت من شئ ثم دخلت
في غيره... " وهو مطلق لا يستفاد منه العموم إلا بجريان مقدمات الحكمة.
وأما الموثقة، فلان المذكور فيها وإن كان من ألفاظ العموم وهو لفظ كل في قوله
عليه السلام: " كل شئ شك فيه مما قد جاوزه... " إلا أن عمومه تابع لما يراد
من مدخوله على ما ذكره صاحب الكفاية (ره) فان أريد منه خصوص شئ من أجزاء
الصلاة، فالمراد من لفظ كل عموم الحكم لجميع أجزاء الصلاة. وإن أريد منه
الطبيعة المطلقة (أي مطلق ما يطلق عليه الشئ) فالمراد من لفظ كل عموم الحكم
لجميع أفراده، فاستفادة عموم الافراد منه يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخوله،
وهي غير جارية في المقام، إذ من جملة المقدمات عدم وجود القدر المتيقن في مقام
التخاطب، وهو موجود في الصحيحة والموثقة. وهو الشك في الاذان بعد الدخول
في الإقامة انى آخر ما ذكر في الصحيحة من الفروض. وكذلك الحال في الموثقة،
فان المذكور فيها الشك في الركوع بعد الدخول في السجدة. والشك في السجود بعد
القيام. ومع هذا لا يمكن التمسك بالاطلاق.
وفيه (أولا) - أن وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب غير مانع
280

من التمسك بالاطلاق، فان المانع هو القرينة على التعيين. ومجرد وجود القدر المتيقن
لا يوجب التعيين مع إطلاق الحكم عند التخاطب. ولذا تسالم الفقهاء على التمسك
بالاطلاق مع وجود القدر المتيقن في موارد كثيرة: (منها) - الرواية (1) الدالة
على عدم جواز الصلاة في اجزاء مالا يؤكل لحمه، مع كون مورد السؤال هو الثعالب
والفنك والسنجاب، فهل يظن فقيه أو متفقه عدم جواز التمسك باطلاق قوله (ع):
" وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك اكله فالصلاة في كل شئ
منه فاسد " لوجود القدر المتيقن، وهو الحيوانات المذكورة في السؤال؟. وبالجملة
وجود القدر المتيقن لا يمنع من التمسك بالاطلاق مع كون الكلام ظاهرا في أن الإمام عليه السلام
في صدد بيان ضابطة كلية.
و (ثانيا) - أنه على فرض تسليم عدم جريان مقدمات الحكمة لا مانع
من التمسك بموثقة إسماعيل بن جابر، إذ العموم فيه وضعي لا يحتاج إلى جريان مقدمات

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه
عن ابن أبي عمير عن ابن بكير " قال: سأل زرارة أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة
في الثعالب والفنك السنجاب وغيره من الوبر،، فاخرج (ع) كتابا زعم أنه إملاء
رسول الله صلى الله عليه وآله إن الصلاة في وبر كل شئ حرام اكله، فالصلاة
في وبره وشعره وجلده ويوله وروثه وكل شئ منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي
في غيره مما أحل الله اكله، ثم قال (ع): يا زرارة هذا عن رسول الله صلى الله
عليه وآله فاحفظ ذلك، يا زرارة! فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله
وشعره وروثه وألبانه وكل شئ منه جائز، إذا علمت أنه ذكي وقد ذكاه النابح،
وان كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك اكله فالصلاة في كل شئ منه
فاسد أو ذكاه الذابح أو لم يذكه ".
281

الحكمة. وما ذكره صاحب الكفاية (ره) - من أن استفادة العموم من لفظ
كل يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مدخوله - قد أبطلناه في مبحث العام
والخاص بما ملخصه: أن لفظ كل موضوع للعموم، فيكون قرينة على أن المراد
من مدخوله مطلق الشئ لا خصوص الصلاة، فاستفادة العموم من قوله (ع):
" كل شئ شك فيه مما قد جاوزه... " لا يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة.
فتحصل أن قاعدة التجاوز ليست مختصة بباب الصلاة، بل تجري في كل
مركب شك في أحد اجزائه بعد الدخول في الجزء الاخر إلا الوضوء للنص الخاص،
وفي إلحاق الغسل والتيمم به - في عدم جريان قاعدة التجاوز - كلام نتعرض له
قريبا انشاء الله تعالى.
ثم إنه يعتبر في قاعدة التجاوز الدخول في الغير، لكونه مأخوذا فيها
في صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتين، مضافا إلى أنه لو لم يذكر الدخول
في الغير فيهما، لأمكن استفادة اعتباره منهما. وذلك، لان المذكور فيهما هو الخروج
عن الشئ والتجاوز عنه، ولا يتصور الخروج عن الشئ حقيقة، والتجاوز عنه
كذلك، مع فرض الشك في وجوده، فلا محالة يكون المراد الخروج عن محله والتجاوز
عنه من باب الاسناد المجازي، أو باعتبار تقدير المحل. ولا يتحقق الخروج أو التجاوز
عن محل الشئ المشكوك فيه، إلا بعد الدخول في غيره، فيكون ذكر الدخول
في الغير - بعد الخروج في الصحيحة وبعد التجاوز في الموثقة - قيدا توضيحيا
من العطف التفسيري، فاعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز مما لا ينبغي الارتياب
فيه. إنما الكلام في اعتباره في قاعدة الفراغ. والكلام فيه يقع في مقامين:
(الأول) - في المقتضي، والبحث عن شمول اطلاق الدليل لموارد عدم الدخول
في الغير. (الثاني) - في المانع. والبحث عما يصلح لتقييد الدليل وتخصيصه بموارد
282

الدخول في الغير بعد الالتزام باطلاقه.
(أما المقام الأول) فقد قيل بعدم اطلاق الأدلة، واستدل له بوجوه:
(الوجه الأول) - أن المطلق منصرف إلى الافراد الغالبة، فلا يشمل
الفرد النادر. والغالب في الشك في الصحة بعد الفراغ هو الشك بعد الدخول
في الغير.
وفيه أن الممنوع هو اختصاص الحكم بالفرد النادر لا شموله له، إذ كون الفرد
نادرا لا يوجب خروجه عن الطبيعة المطلقة. ولذا لا مجال لتوهم اختصاص الحكم بعدم
جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول باجزاء الحيوانات التي يبتلي المكلف بها غالبا،
فان إطلاق قوله (ع): - " وان كان مما قد نهيت عن اكله، فالصلاة
في كل شئ منه فاسد " - يشمل الحيوانات النادرة أيضا كالكر كدن مثلا.
(الوجه الثاني) - أن شمول الاطلاق - في مثل قوله (ع) في موثقة
ابن بكير: " كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو " للشك قبل الدخول
في الغير - يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة على ما تقدم نقله عن صاحب الكفاية (ره).
وقد تقدم الجواب عن هذا الوجه عند التكلم في كون قاعدة التجاوز من القواعد العامة،
فلا حاجة إلى الإعادة.
(الوجه الثالث) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) واعتمد عليه، وهو أن شمول
الحكم لجميع أفراد الطبيعة إنما هو فيما إذا كانت الطبيعة غير مشككة في الصدق كالماء،
فان صدقه على ماء البحر والمطر والبئر وغيرها من أفراد الماء على حد سواء، فالحكم
بأن الماء طاهر يشمل جميع الافراد، بخلاف ما إذا كانت الطبيعة مشككة في الصدق
كالحيوان، فان صدقه على الانسان لا يخلو من خفاء في نظر العرف، مع كونه عبارة
عن جسم ذي حياة، والانسان كذلك، لكن صدقه عليه لا يخلو من خفاه
283

عرفا. ولذا لو خوطب انسان بيا أيها الحيوان لتضجر، ولا تشمله الأدلة الدالة
على عدم جواز الصلاة في شعر ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات، فالانسان تجوز الصلاة
في شعره قطعا مع كونه حيوانا لا يؤكل لحمه.
والمقام من هذا القبيل، فان صدق المضي على المضي مع عدم الدخول في الغير
لا يكون في رتبة صدقه مع الدخول في الغير، فلا يكون المضي مع عدم الدخول في الغير
مشمولا لأدلة قاعدة الفراغ.
وفيه أن مجرد التشكيك ليس مانعا من شمول الاطلاق لجميع الافراد. نعم
التشكيك بالظهور والخفاء يوجب اختصاص الحكم بالظاهر دون الخفي - كالحيوان
بالنسبة إلى الانسان - بخلاف ما إذا كان التشكيك بالأظهرية والظاهرية - كما
في المقام - فإنه لا يوجب اختصاص الحكم بالأظهر، وإلا لزم حمل الأدلة الدالة
على قاعدة الفراغ على قاعدة الحيلولة التي مفادها عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت
فان صدق المضي على المضي مع خروج الوقت أظهر من صدقه قبله ولو مع الدخول
في الغير. ومن المعلوم أن صدق المضي مع عدم الدخول في الغير ظاهر وإن كان صدقه
مع الدخول أظهر.
فتحصل مما ذكرناه أن اطلاق الأدلة يشمل موارد عدم الدخول في الغير أيضا.
هذا تمام الكلام في المقام الأول والبحث عن المقتضي.
(أما المقام الثاني) والبحث عما يمكن ان يكون مانعا عن العمل بالاطلاق
ومخصصا له بموارد الدخول في الغير، فربما يقال: إن المقيد لاطلاقات أدلة قاعدة
الفراغ هو صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر، فإنه قيد عدم الاعتناء بالشك
فيهما بما إذا كان الشك بعد الدخول في الغير.
وفيه (أولا) - أن مورد الروايتين انما هو قاعدة التجاوز على ما تقدم الكلام
284

فيهما. وحيث أنا استظهرنا من الأدلة - في مقام الاثبات - أن قاعدة الفراغ
وقاعدة التجاوز قاعدتان مستقلتان. وأن ملاك إحداهما الشك في الصحة مع إحراز
الوجود، وملاك الأخرى الشك في الوجود، فلا مجال لتوهم كون أدلة قاعدة التجاوز
مقيدة للاطلاقات الواردة في قاعدة الفراغ. ومجرد إمكان كونهما مجعولتين بجعل واحد
في مقام الثبوت لا يوجب ذلك.
و (ثانيا) - ان الدخول في الغير مما لابد في اعتباره في قاعدة التجاوز
مع قطع النظر عن الصحيحة والموثقة. إذ المراد من التجاوز في قاعدة التجاوز هو التجاوز
عن محل الشئ المشكوك فيه. وهو لا يتحقق إلا بالدخول في الغير. ولذا ذكرنا
أن ذكر الدخول في الغير قيد توضيحي. وأنه يفهم اعتبار الدخول في الغير من اعتبار
نفس التجاوز عن محل الشئ المشكوك فيه. بخلاف المضي المذكور في قاعدة الفراغ،
فان المراد منه مضي نفس المشكوك فيه، وهو يتحقق بالفراغ منه ولو مع عدم الدخول
في الغير، فاعتبار الدخول في الغير في موارد قاعدة التجاوز إنما هو لكونه مقوما
لموضوع التجاوز لا لأمر آخر اعتبر في جريان القاعدة بعد صدق التجاوز خارجا.
فلو فرض تحقق عنوان التجاوز - بدون الدخول في الغير كما في موارد قاعدة الفراغ -
لم يكن موجب لتقييده بالدخول في الغير.
ومما يتوهم كونه مقيدا للاطلاق موثقة ابن أبي يعفور، وهي قوله (ع):
" إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره، فليس شكك بشئ،
إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه " فان موردها قاعدة الفراغ، لعدم جريان
قاعدة التجاوز في الوضوء للنص الخاص. وبما انه قد ذكر فيها الدخول في الغير،
فلابد من اعتباره في جريانها.
وفيه (أولا) - ما ذكرناه سابقا من إجمال هذه الموثقة وعدم صلاحيتها
285

للاستدلال، لاحتمال رجوع الضمير في قوله (ع): " وقد دخلت في غيره... "
إلى الشئ لا إلى الوضوء، ولو لم نقل بظهور رجوعه إلى الشئ فلا أقل من الاحتمال.
وكون الموثقة غير معمول بها - على تقدير رجوع الضمير إلى الشئ لعدم جريان قاعدة
التجاوز في الوضوء للنص الخاص - لا يوجب ظهورها في رجوع الضمير إلى الوضوء،
فهي باقية على إجمالها غير صالحة للاستدلال بها.
و (ثانيا) - لو سلمنا عود الضمير إلى الوضوء، وأن الرواية واردة
لبيان قاعدة الفراغ، فالنظر إلى مجموع الرواية يوجب ظهورها في أن موضوع عدم الاعتناء
بالشك هو التجاوز، لقوله (ع) في ذيلها: " إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه "
فيكون ذكر الدخول في الغير من باب كونه أحد مصاديق التجاوز لا لكونه دخيلا
في موضوع الحكم، وإلا لزم التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في شئ
من الوضوء بعد الفراغ عنه وقبل الدخول في الغير، إذ مقتضى الصدر - واعتبار
الدخول في الغير - الاعتناء بهذا الشك، ومقتضى الحصر - المذكور في الذيل
بقوله (ع): " إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه " - هو عدم الاعتناء به.
و (ثالثا) - ان من اعتبر - في جريان قاعدة الفراغ الدخول في الغير -
ان أراد به اعتبار الدخول في خصوص الفعل المترتب كالدخول في الصلاة عند الشك
في صحة الوضوء، فالموثقة لا تدل عليه. وإن أراد به اعتبار الدخول في مطلق الغير،
فاعتباره لغو، إذ لا ينفك الدخول فيه عن الفراغ، فإنه بمجرد الفراغ يتحقق الدخول
في الغير لا محالة ولو كان الغير هو السكون أو الحركة، فان الانسان لا يخلو من الأكوان
الأربعة: الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.
و (رابعا) - أنه على تقدير دلالة الموثقة - على اعتبار الدخول في الغير -
نعمل بها في خصوص موردها وهو الوضوء، فلا مانع في غير الوضوء من العمل
286

بالاطلاقات. ولعل الوجه - في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء - أن الظاهر
من قوله (ع): " إذا شككت في شئ من الوضوء... الخ " كون الشك
في وجود شئ من أجزاء الوضوء أو شرائطه، والشك في الوجود مورد لقاعدة
التجاوز. وحيث أن قاعدة التجاوز غير جارية في الوضوء للنصوص الخاصة، فما لم
يتحقق الدخول في غير الوضوء يجب الاعتناء بالشك، فعدم الاعتناء بالشك في باب
الوضوء متوقف على الدخول في الغير.
ومما يتوهم كونه مقيدا للاطلاقات صحيحة (1) زرارة الواردة في الوضوء بدعوى
أن مفاد قوله (ع): - " وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت... "
إلى قوله (ع): " لا شئ عليك " - هو اعتبار الدخول في الغير.
والجواب عنها (أولا) - عدم تمامية دلالتها في نفسها على اعتبار الدخول في الغير،
لان ظاهر قوله (ع): " ما دمت في حال الوضوء " أن الميزان في عدم الاعتناء
بالشك إنما هو الفراغ من الوضوء، فيكون ذكر الدخول في الغير - المستفاد
من قوله (ع): " وقد صرت إلى حال أخرى... " - من باب كونه
من أوضح أفراد الفراغ أو الفرد الغالب منه لا من باب كونه موضوعا للحكم، وإلا لزم

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن عن المفيد عن أحمد بن محمد عن أبيه
عن أحمد بن إدريس وسعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن حماد
عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال (ع): " إذا كنت قاعدا
على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه
أنك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء
وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى
الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شئ عليك فيه... الخ "
287

التدافع بين الصدر والذيل فيما إذا شك في صحة الوضوء بعد الفراغ منه وقيل الدخول
في الغير، إذ مقتضى مفهوم (ع): " ما دمت في حال الوضوء... " عدم
الاعتناء بهذا الشك. ومقتضى قوله (ع): " وقد صرت إلى حال أخرى... "
هو الاعتناء به، لعدم الدخول في الغير، فيستكشف من ذلك أن قوله (ع):
" فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه ". بيان لمفهوم قوله (ع): " ما دمت في حال
الوضوء " وذكر قوله (ع): " وقد ضرت إلى حال أخرى " إنما هو لتوضيح
المفهوم بذكر أوضح الافراد أو الفرد الغالب.
و (ثانيا) - على تقدير تسليم دلالتها على اعتبار الدخول في الغير، فهو
مختص بالوضوء. والوجه - في اعتبار الدخول في الغير في خصوص الوضوء - هو
ما ذكرناه في الجواب عن موثقة ابن أبي يعفور، فان المذكور في هذه الصحيحة أيضا
هو الشك في وجود الغسل أو المسح. ويجب الاعتناء بمثل هذا الشك ما لم يدخل
في الغير بمقتضى الأدلة الدالة على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.
فالمتحصل مما ذكرناه عدم اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ، لعدم
وجود ما يصلح لتقييد الاطلاقات الواردة فيها، فيكون المتبع هو الاطلاق.
بقي الكلام في ذكر أمور:
(الامر الأول) - لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء
بالنص والاجماع. وهل يلحق به الغسل والتيمم في عدم جريان قاعدة التجاوز فيهما؟
التزم بالالحاق جماعة من متأخري المتأخرين على ما نقله الشيخ (ره) في كتاب الطهارة -
وليس له تعرض في كلمات القدماء على ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره.
و (كيف كان) فقد ذكر للالحاق وجهان: (الأول) - ما ذكره
المحقق النائيني (ره) من اختصاص أدلة قاعدة التجاوز بباب الصلاة، فعدم جريانها
288

في الطهارات الثلاث إنما هو من باب التخصص لا التخصيص.
ويظهر الجواب عنه مما ذكرناه في إثبات كون قاعدة التجاوز من القواعد العامة،
فلا حاجة إلى الإعادة. (الثاني) - ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) وهو أن
التكليف إنما تعلق بالطهارة. وإنما الغسل والمسح مقدمة لحصولها، فالشك في تحقق
شئ من الغسل أو المسح يرجع إلى الشك في حصول الطهارة، وهي أمر بسيط،
فلا تجري فيه قاعدة التجاوز، فلابد من الاحتياط، لكون الشك شكا في المحصل.
وهذا الكلام جار في التيمم والغسل أيضا، فان المكلف به في الجميع هو الطهارة.
وفيه (أولا) - أن ظاهر الآيات والروايات كون نفس الوضوء متعلقا
للتكليف كقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... الخ)
وكقوله (ع): " افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم " والوضوء
مركب، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه.
و (ثانيا) - على تقدير تسليم كون الطهارة هي المأمور به وأن الوضوء
مقدمة لها - أن عدم جريان قاعدة التجاوز في المقدمة مع كون ذيها بسيطا إنما هو
في المقدمات العقلية الخارجية، كما إذا أمر المولى بقتل أحد، وتوقف القتل على عدة
من المقدمات، فالشك في بعض هذه المقدمات لا يكون موردا لقاعدة التجاوز، لان
المأمور به - وهو القتل - بسيط لا تجري فيه قاعدة التجاوز. والشك في المقدمات شك
في المحصل، فلابد من الاحتياط. هذا. بخلاف المقام، فان الوضوء من المقدمات
الشرعية لحصول الطهارة، إذ الشارع جعله مقدمة لها وأمر به. وبعد تعلق الامر
الشرعي به وكونه مركبا لا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه. نعم لو شك في الجزء
الأخير منه، لا مجال لجريان قاعدة التجاوز فيه إلا مع الدخول في الغير، أو فوات
الموالاة بجفاف الأعضاء، لعدم صدق التجاوز عند الشك في وجود الجزء الأخير
289

إلا مع أحد الامرين.
فتحصل مما ذكرناه عدم لحوق التيمم والغسل بالوضوء، فلا مانع من جريان
قاعدة التجاوز فيهما بمقتضى عموم أدلتها. نعم لا تجري قاعدة التجاوز في الغسل
فيما إذا شك في غسل الجانب الأيمن حين الاشتغال بغسل الجانب الأيسر بناء على القول
بعدم الترتيب بين الجانبين، كما أنه ليس ببعيد، لعدم صدق التجاوز عن المحل
على هذا القول. فيجب غسل الجانب الأيمن بعد الجانب الأيسر أو قبله، ويكون
هذا الشك بمنزلة الشك في غسل اليد حين الاشتغال بغسل الرجل من جانب واحد،
فإنه لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز، لعدم الترتيب بين الأعضاء من جانب
واحد، فيجب غسل اليد بعد الفراغ من غسل الرجل أو قبله.
(الامر الثاني) - بعدما عرفت من عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء
الوضوء بالنص والاجماع، فهل تلحق بها قاعدة الفراغ في عدم جريانها في اجزاء الوضوء أم لا؟
التحقيق هو الثاني، لعموم الأدلة وعدم المانع عن العمل بها. أما عموم الأدلة،
فقد تقدم. وأما عدم المانع، فلان عمدة الأدلة المانعة عن جريان قاعدة التجاوز
في الوضوء هي قوله عليه السلام في صحيحة زرارة المتقدمة: " فأعد عليهما وعلى جميع
ما شككت فيه... الخ " ومفادها وجوب الاعتناء بالشك والآتيان بالمشكوك فيه
- فيما إذا كان الشك في أصل الغسل أو المسح - لا ما إذا كان الشك في صحة الغسل
أو المسح. فالصحيحة تدل على عدم جريان قاعدة التجاوز فقط في الوضوء، لا على عدم
جريان قاعدة الفراغ أيضا، فإذا شك في غسل الوجه - مع الاشتغال بغسل اليد اليسرى
مثلا - يجب غسل الوجه مع ما بعد، لعدم جريان قاعدة التجاوز. وأما إذا شك في صحة
غسل الوجه كما إذا شك في وقوعه من الأعلى مثلا، فلا مانع من الرجوع إلى قاعدة
الفراغ والحكم بالصحة. ولا فرق في جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بين
290

الجزء الأخير وغيره، لعموم الأدلة على ما ذكرناه. نعم لا تجري قاعدة الفراغ فيما
إذا شك في صحة غسل الوجه مثلا، لاحتمال كون الماء المغسول به مضافا، لكون
المأمور به وما سماه الله هو الغسل بالماء، لقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم... الخ)
بضميمة قوله تعالى: (وإن لم تجدوا ماء فتيمموا... الخ) فيكون الشك المذكور
شكا في وجود ما سماه الله وأمر به، لا في صحته، فلا تجري قاعدة الفراغ فيه،
وكذا لا تجري قاعدة الفراغ فيما إذا شك في صحة غسل اليد اليمنى بعد الاشتغال بغسل اليد
اليسرى، لاحتمال وقوع الغسل من الأعلى بناء على كون الغاية في قوله تعالى:
(... وأيديكم إلى المرافق...) غاية للغسل. إذ المأمور به وما سماه الله حينئذ
هو الغسل من الأسفل، فيكون الشك المذكور شكا في وجوده، فلا يكون موردا
لقاعدة الفراغ، ولكنه مجرد فرض، إذ لا قرينة على كون الغاية غاية للغسل،
بل القرينة - على كونها غاية للمغسول - موجودة وهي قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم
وأرجلكم إلى الكعبين) فإنه لا خلاف ظاهرا في كون الغاية فيه غاية للممسوح
لا للمسح ولذا التزموا بجواز المسح من الكعبين إلى الأصابع. ووحدة السياق تشهد
بأن الغاية في قوله تعالى: " وأيديكم إلى المرافق " غاية للمغسول لا للغسل،
وإنما أوجبنا الغسل من الأعلى للروايات الواردة في المقام.
وقد يستدل لعدم جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بموثقة ابن أبي يعفور
من قوله (ع): " إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره،
فليس شكك بشئ... الخ " بتقريب أن الضمير في قوله (ع): " في غيره "
راجع إلى الوضوء وأن الشئ في قوله (ع): " إذا شككت في شئ " باطلاقه
شامل للوجود والصحة، فيكون مفادها أن الشك في جزء من أجزاء الوضوء سواء
كان متعلقا بوجوده أو بصحته إنما لا يعتنى به إذا كان الشك بعد الفراغ، ومفهومه
291

الاعتناء به إذا كان قبل الفراغ من الوضوء.
والجواب عنه (أولا) - ما تقدم من عدم صحة الاستدلال بهذه الموثقة،
لاجمالها لاحتمال رجوع الضمير إلى الشئ.
و (ثانيا) - أنه لا إطلاق لها من هذه الجهة، إذ لظاهر انها في مقام
بيان أن الشك إذا كان حين العمل يعتني به، وإذا كان بعد الفراغ منه لا يعتنى به.
وليس إلا في مقام بيان هذا المقدار من المعنى. وأما كون المشكوك فيه هو الوجود
أو الصحة، فليست الموثقة في مقام بيانه، فليس لها إطلاق من هذه الجهة حتى يؤخذ
به، ويحكم بأن الشك مطلقا سواء كان متعلقا بالوجود أو بالصحة يعتنى به إذا كان حين
العمل، ولا يعتنى به إذا كان بعد الفراغ منه.
و (ثالثا) - أنه على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاعتناء بالشك
في الصحة أيضا إذا كان حين العمل يقع التعارض بينها وبين الروايات الدالة بعمومها
على جريان قاعدة الفراغ في أجزاء الوضوء أيضا. والنسبة بينها وبين الموثقة هي
العموم من وجه، فان مفاد الموثقة وجوب الاعتناء بالشك في اجزاء الوضوء حين
الاشتغال به، سواء كان الشك متعلقا بالوجود أو بالصحة. ومفاد بقية الروايات
عدم الاعتناء بالشك في الصحة إذا كان الشك بعد الفراغ من المشكوك فيه، سواء كان
من اجزاء الوضوء أو من غيرها، فمورد الاجتماع هو الشك في صحة جزء من الوضوء
بعد الفراغ منه، وقبل الفراغ من الوضوء. ولا ينبغي الشك في تقدم تلك الروايات
على الموثقة، إذ دلالتها بالعموم، ودلالة الموثقة بالاطلاق.
(الامر الثالث) - بعد ما ذكرناه من أن الدخول في الغير معتبر في قاعدة
التجاوز لابد من تحقيق معنى الغير، وأنه بماذا يتحقق؟ ويقع الكلام في مقامين:
(المقام الأول) - في الشك في الجزء الأخير. (المقام الثاني) - في الشك
292

في غيره من الاجزاء.
(أما المقام الأول) - فتفصيل الكلام فيه: أن الشك في الجزء الأخير
يتصور على وجوه:
(الأول) - أن يشك فيه مع عدم الاشتغال بشئ وعدم تحقق السكوت
الطويل الموجب لفوات محل التدارك. ولا مجال فيه لجريان قاعدة التجاوز، لعدم
الدخول في الغير على الفرض، فلا يصدق التجاوز عن المحل. وكذا لا تجري قاعدة
الفراغ أيضا، لاحتمال كونه في أثناء العمل، فلم يحرز الفراغ. وهذا واضح.
(الثاني) - أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر غير مرتب
على الجزء الأخير وغير مانع من تداركه. والحكم فيه هو الحكم في الوجه السابق،
فلا تجري فيه قاعدة التجاوز، لعدم تجاوز المحل وإمكان التدارك، ولا قاعدة الفراغ
للشك في تحقق الفراغ واحتمال كونه في أثناء العمل على ما تقدم. ومن هذا القبيل
مما إذا اتى بشئ من المنافيات التي لا يكون الاتيان بها سهوا موجبا للبطلان كالتكلم.
والتزم المحقق النائيني (ره) في هذه الصورة بجريان قاعدة الفراغ، بدعوى أن المعتبر
في قاعدة الفراغ أمران: الدخول في الغير، وصدق المضي. وهما متحققان
في المقام. أما الدخول في الغير فتحققه ظاهر. وأما تحقق المضي فلصدقه عند مضي
معظم الاجزاء:
وفيه أن المعتبر في قاعدة الفراغ هو صدق المضي حقيقة. ومعه كيف يصدق
المضي مع الشك في تحقق الجزء الأخير؟ وأما الدخول في الغير فقد تقدم انه لا يعتبر
في جريان قاعدة الفراغ.
وقد يتوهم جريان قاعدة الفراغ بدعوى أن المراد بالمضي هو المضي بحسب الاعتقاد
لا المضي بحسب الواقع، وإلا لم يبق مورد لجريان قاعدة الفراغ، إذ مع الشك
293

في الصحة لا يحرز المضي الواقعي، والمضي الاعتقادي موجود في المقام، فإنه حين اشتغاله
بأمر غير مرتب كان معتقدا بالمضي، وإلا لم يشتغل به، فجري قاعدة الفراغ.
وهو مندفع بأن ظاهر قوله (ع): " كل ما مضى... " هو المضي
الحقيقي الواقعي لا المضي الخيالي. غاية الامر كون الماضي أعم من الصحيح والفاسد
بقرينة الشك المذكور في الرواية. إذ لا يتصور مضي الصحيح مع فرض الشك
في الصحة والفساد.
(الثالث) - أن يشك في الجزء الأخير مع الاشتغال بأمر مرتب على الجزء
الأخير غير مانع من تداركه على تقدير عدم الاتيان به، كما إذا شك في التسليم
مع الاشتغال بالتعقيب، أو شك في مصح الرجل للوضوء مع الاشتغال بالدعاء المأثور
بعد الوضوء. واختار المحقق النائيني (ره) أنه لو شك في الجزء الأخير من الصلاة
- وهو التسليم - مع الاشتغال بالتعقيب لا يعتنى به، لصدق الدخول في الغير،
فيكون موردا لجريان قاعدة التجاوز. واستشهد على ذلك بصحيحة زرارة المتقدمة
الدالة على عدم الاعتناء بالشك في الاذان مع الدخول في الإقامة، بدعوى أن الحكم
- بعدم الاعتناء بالشك في الاذان مع الدخول في الإقامة - يشرف الفقيه على القطع
بعدم الاعتناء بالشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب، لعدم الفرق بين الإقامة
والتعقيب، لخروج كليهما عن حقيقة الصلاة.
وللمناقشة فيه مجال، لعدم الملازمة بين المقامين في جريان قاعدة التجاوز،
إذ هو منوط بمضي المحل، وهو لا يصدق إلا فيما إذا كان محل المشكوك فيه بحسب
الجعل الشرعي سابقا على الغير الذي وقع الشك بعد الدخول فيه، وكان محل ذلك
الغير مؤخرا عن المشكوك فيه ولو باعتبار كونه أفضل الافراد. وهذا المعنى موجود
في الشك في الاذان بعد الدخول في الإقامة، فان الاذان مقدم بحسب الجعل الشرعي
294

عن الإقامة، بحيث لو لم يأت بالإقامة بعد الاذان لم يأت بوظيفته الاستجابية المتعلقة
بالاذان. وكذا محل الإقامة مؤخر عن الاذان بمعنى أن أفضل افراد الإقامة هي
الإقامة الواقعة بعد الاذان، وإن كانت مستحبة في نفسها ولو بدون الاذان،
فيكون الشك - في الاذان بعد الدخول في الإقامة - شكا فيه بعد مضي المحل والتجاوز
عنه. وهذا بخلاف الشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب، فان التعقيب وإن اعتبر
بحسب الجعل الشرعي مؤخرا عن التسليم، إلا أنه لم يعتبر مقدما على التعقيب،
إذ من المعلوم أنه لا يعتبر في التسليم وقوعه قبل تسبيح الزهراء سلام الله عليها مثلا.
ومثل التسليم والتعقيب مثل صلاة الظهر والعصر. فان صلاة لعصر قد اعتبرت في الشريعة
المقدسة مؤخرة عن صلاة الظهر، إلا أن صلاة الظهر لم يعتبر فيها التقدم على صلاة العصر كما هو
مذكور في محله، فلا يكون الشك - في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب - شكا بعد مضي
المحل، لبقاء محل التدارك. ولذا من تذكر حال التعقيب أنه لم يأت بالتسليم يجب
عليه التدارك ولم يلزم منه اخلال أصلا ولا شئ عليه حتى سجدة السهو. ويؤيد ما ذكرناه
- من عدم جريان قاعدة التجاوز في المقام - أنه لو شك في الاتيان بأصل الصلاة مع الاشتغال
بالتعقيب، لا تجري قاعدة التجاوز قطعا ولا أظن أحدا من الفقهاء يلتزم بجريانه.
فيجب عليه الاعتناء بالشك والآتيان بالصلاة، لكون الشك في الوقت. ولا فرق
بين الشك في أصل الصلاة والشك في التسليم مع الاشتغال في التعقيب في جريان
قاعدة التجاوز وعدمه:
فتلخص مما ذكرناه عدم جريان قاعدة التجاوز في هذه الصورة أيضا كالصورتين
السابقتين. وكذا لا تجري قاعدة الفراغ أيضا، إذ مع الشك في الجزء الأخير لم يحرز
الفراغ من العمل حتى يكون موردا لقاعدة الفراغ، إلا في باب الوضوء، فإنه تجري
قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير منه مع الاشتغال بشئ آخر ولو لم يتجاوز
295

محل التدارك. كما إذا شك في مسح الرجل مع الاشتغال بالصلاة، أو بالدعاء المأثور
بعد الوضوء. وذلك، لقوله (ع) في صحيحة زرارة: " فإذا قمت من الوضوء
وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو في غيرها، فشككت في بعض
ما سمى الله مما أوجب الله عليك وضوءه لا شئ عليك فيه... الخ " فان مفاده عدم
الاعتناء بالشك في اجزاء الوضوء بعد الاشتغال بشئ آخر، بلا فرق بين الجزء
الأخير وغيره. وحيث أن هذا الحكم على خلاف القاعدة، يجب الاقتصار في مورد
النص وهو الوضوء. فلو شك في الجزء الأخير من الغسل من الاشتغال بشئ آخر
كالصلاة، لا مجال لجريان قاعدة الفراغ، بل لابد من الاعتناء بالشك.
(الرابع) - أن يشك في الجزء الأخير بعد الاتيان بالمنافي العمدي
والسهوي، كما إذا شك في التسليم بعد الحدث أو الاستدبار أو السكوت الطويل.
ولا تجري فيه قاعدة التجاوز، لما ذكرناه في الصورة السابقة من أن المعتبر في قاعدة
التجاوز أن يكون محل المشكوك فيه سابقا على الغير بحسب الجعل الشرعي. والمقام
ليس كذلك، إذ لم يعتبر في التسليم كونه قبل المنافي العمدي والسهوي بحيث لو لم يقع
المنافي بعده لم يصح، وإن اعتبر فيه عدم وقوع المنافي قبله. فلا مجال لجريان
قاعدة التجاوز.
نعم تجري قاعدة الفراغ، فان الصلاة قد مضت حقيقة، وشك في صحتها
وفسادها، فيحكم بصحتها لقاعدة الفراغ. هذا على القول بفساد الصلاة بوقوع مثل
الحدث والاستدبار بعد التشهد قبل التسليم - كما اختاره المحقق النائيني (ره) - وأما
على القول بصحة الصلاة - كما اختاره السيد (ره) في العروة وليس ببعيد -
فلا ثمرة لجريان قاعدة الفراغ، لصحة الصلاة مع قطع النظر عنها على الفرض، فيكون
الشك في التسليم مع وقوع الحدث أو الاستدبار خارجا عن محل الكلام على هذا القول.
296

فليفرض الكلام فيما إذا شك في السجدتين الأخيرتين وما بعدهما من التشهد والتسليم
بعد وقوع الحدث أو الاستدبار.
ثم إن ما ذكرناه - من جريان قاعدة الفراغ عنه الشك في الجزء الأخير بعد
السكوت الطويل - إنما يتم في المركبات التي اعتبرت الموالاة بين اجزائها كالصلاة
والوضوء، دون المركب الذي لا تعتبر الموالاة بين أجزائه كالغسل، فلو شك
في الجزء الأخير منه كغسل الطرف الأيسر، لابد من الاعتناء بالشك والآتيان
بالمشكوك فيه، ولو كان الشك بعد زمان طويل، إذ بعد عدم اعتبار الموالاة يحتمل
كونه الان في أثناء العمل، فلم يحرز الفراغ لتجري قاعدته.
(المقام الثاني) - في تحقيق معنى الغير عند الشك في الاجزاء الاخر غير
الجزء الأخير. فهل المراد بالغير - الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز -
هو خصوص الاجزاء المستقلة التي اعتبرت اجزاء بحسب الأدلة الشرعية، أو يشمل
جزء الجزء أيضا؟ وعلى تقدير الشمول هل يختص بمثل الحمد والسورة، أو يشمل
كل آية بالنسبة إلى آية أخرى؟ وعلى تقدير الشمول هل يشمل كل كلمة بالنسبة إلى كلمة
أخرى بل كل حرف بالنسبة إلى حرف آخر من كلمة واحدة؟ وعلى كل تقدير هل هو
مختص بالاجزاء أو يشمل المقدمات أيضا؟ كما إذا شك في القراءة بعد الهوي
إلى الركوع، أو شك في الركوع بعد الهوي إلى السجود، أو شك في السجود بعد
النهوض إلى القيام، بل يشمل الزيادات المأتي بها سهوا كما اختاره السيد (ره)
في العروة، وحكم بأنه لو شك في السجدة مع عدم الاتيان بالتشهد سهوا - فقام -
لا يعتنى به، لكونه بعد الدخول في الغير - وهو القيام - مع كونه مجرد زيادة سهوية.
وعلى تقدير الاختصاص بالاجزاء، فهل هي مختصة بالاجزاء الواجبة أو تشمل المستحبات
أيضا؟ كما إذا شك في السورة بعد الدخول في القنوت.
297

فنقول: القدر المتيقن هي الاجزاء المستقلة، كالأمثلة المذكورة في صحيحة زرارة
المتقدمة من الشك في الاذان بعد الدخول في الإقامة، والشك في الإقامة بعد الدخول
في التكبير إلى آخر ما ذكر فيها من الفروض. ولا يجب الاقتصار على الاجزاء المذكورة
فيها، بل تجري قاعدة التجاوز عند الشك في غيرها من الاجزاء المستقلة، كما إذا شك
في السجود بعد الدخول في التشهد. وذلك، لان الأمثلة المذكورة في الصحيحة
مذكورة في السؤال، والمتبع إنما هو اطلاق قوله (ع) في الجواب: " يا زرارة
إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ " ولا يتوهم اختصاص
جريان القاعدة عند الشك في السجود بما إذا شك فيه بعد الدخول في القيام، لأنه هو
المذكور في كلام الإمام عليه السلام في موثقة إسماعيل بن جابر، فلا تجري عند الشك
في السجود بعد الدخول في التشهد. وذلك، لعموم قوله (ع) في ذيل الموثقة:
" كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره، فليمض عليه " ولعل الشك
في السجود المفروض في الموثقة هو الشك فيه في الركعة الأولى، فيكون صدق الدخول
في الغير منحصرا بالدخول في القيام، لعدم التشهد في الركعة الأولى.
وبالجملة لا مجال لتوهم اختصاص القاعدة بالأمثلة المذكورة في الصحيحة والموثقة
بعد عموم الجواب في كلام الإمام عليه السلام، بل تجري في جميع الاجزاء المستقلة
ومنها الحمد والسورة، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الحمد بعد الدخول
في السورة، فان جزئية الحمد ثابتة بقوله (ع): " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "
وجزئية السورة ثابتة بأدلة أخرى دالة على وجوب قراءة سورة تامة بعد الحمد، فاعتبر
الحمد بحسب الدليل الشرعي جزء والسورة جزء آخر وان كانت القراءة بأجمعها قد
تعد جزء واحدا وهي شاملة لهما، فتجري القاعدة عند الشك في الحمد بعد الدخول
في السورة. ولا ينافي ذلك أن المذكور في الصحيحة جريان القاعدة عند الشك في القراءة
298

بعد الدخول في الركوع، لأن المفروض فيها هو الشك في جميع القراءة من الحمد والسورة،
فلا محالة جريان القاعدة فيه متوقف على الدخول في الركوع، فلا منافاة بينه وبين
جريانها فيما إذا شك في الحمد وحده بعد الدخول في السورة باعتبار عموم الجواب
كما ذكرناه.
وهل تجري قاعدة التجاوز فيما إذا شك في آية بعد الدخول في آية أخرى أم لا؟
الظاهر جريانها فيه، إذ يصدق عليه الشك في الشئ بعد التجاوز عنه والدخول
في غيره.
واختار المحقق النائيني (ره) عدم الجريان - بعدما بنى عليه من رجوع قاعدة
التجاوز إلى قاعدة الفراغ - بدعوى أن قاعدة الفراغ مختصة بالشك في الكل، وانما
تجري في الاجزاء المستقلة في باب الصلاة لدليل خاص حاكم، بتنزيل الجزء منزلة
الكل في جريان القاعدة، فلابد من الاقتصار على مقدار يدل عليه دليل التنزيل،
وهو الأمثلة المذكورة في الرواية، فلا تجري في غيرها.
وفيه (أولا) - ما تقدم من عدم تمامية المبنى، وأن قاعدة التجاوز غير قاعدة
الفراغ بحسب مقام الاثبات.
و (ثانيا) - على تقدير تسليم المبنى أن الدليل على التنزيل هي صحيحة
زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر المتقدمتان (1) والمتبع هو اطلاق قوله (ع) في الصحيحة:
" يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ " وعموم
قوله (ع) في الموثقة: " كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره
فليمض عليه " فلا وجه للاقتصار على الأمثلة المذكورة فيهما.
نعم لا نضائق عن الاعتناء بالشك وعدم جريان قاعدة التجاوز فيما إذا شك

(1) تقدمتا في ص 276 فراجع.
299

في كلمة بعد الدخول في كلمة أخرى من كلام واحد، فضلا عما إذا شك في حرف
من كلمة بعد الدخول في حرف آخر منها، وذلك، لعدم صدق التجاوز والمضي عرفا،
وان كان التجاوز متحققا بحسب الدقة العقلية، إلا أن الميزان هو الصدق العرفي
لا الدقة العقلية.
وأما إذا شك في شئ من أجزاء المركب بعد الدخول في جزء مستحب منه،
كما إذا شك في القراءة بعد الدخول في القنوت، فقد اختار السيد (ره) في العروة
جريان قاعدة التجاوز، وقرره المحشون، ولم نجد التصريح بخلافه. ولكن للمناقشة
فيه مجال واسع، لما ذكرناه سابقا من أن جريان القاعدة متوقف على صدق المضي
والخروج عن محل المشكوك فيه والتجاوز عنه، ولا يصدق إلا فيما إذا اعتبر المشكوك فيه
سابقا على الغير، كالقراءة بالنسبة إلى الركوع. وهذا المعنى مفقود في المقام،
إذ لم يعتبر في القراءة وقوعها سابقا على القنوت، وإن كان المعتبر في القنوت تأخر
عنها. فمثل القنوت بالنسبة إلى القراءة مثل التعقيب بالنسبة إلى التسليم. (توضيح
ذلك): أن الجزئية والاستحباب مما لا يجتمعان. ولا يعقل كون شئ جزء للواجب
ومستحبا، إذ الاهمال في مقام الثبوت غير متصور، فاما أن تكون الطبيعة المأمور بها
مطلقة بالنسبة إلى الخصوصيات أو تكون مقيدة بوجود خصوصية على نحو يكون التقيد
والقيد كلاهما داخلين في المأمور به، أو على نحو يكون التقيد داخلا، والقيد خارجا
فيكون جزء على الأول وشرطا على الثاني، أو تكون مقيدة بعدم شئ، فيكون
مانعا، ففيما إذا لم تكن الطبيعة المأمور بها مقيدة بوجود خصوصية ولا بعدمها، يكون
المكلف مخيرا في تطبيقها في ضمن أي خصوصية من الخصوصيات. غاية الامر
كون الخصوصية (تارة) راجحة و (أخرى) مرجوحة و (ثالثة) بلا رجحان
ولا مرجوحية، كايقاع الصلاة في المسجد أو في الحمام أو في الدار، وكالصلاة مع القنوت
300

أو بدونه، فجميع هذه الخصوصيات غير داخلة في المأمور به. ومعنى كون القنوت مثلا
جزء مستحبا للصلاة أنه قد أمر به استقلالا. غاية الامر كون الصلاة ظرفا لوقوعها،
وأن وقوعها في الصلاة موجب لكثرة ثوابها. وبهذا يفترق عن الدعاء المأثور
في شهر رمضان، فان الصوم وإن كان ظرفا لوقوعه أيضا، إلا أن الدعاء المذكور
عبادة بنفسه، ويترتب الثواب عليه، كما يترتب على الصوم، لا أنه يوجب
كثرة ثواب الصوم.
فتلخص بما ذكرناه أن إطلاق الجزء على الأمور المستحبة مسامحة في التعبير،
وليست باجزاء حقيقة. ولا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في جزء من المركب
بعد الدخول في أمر مستحب، كالشك في القراءة مع الدخول في القنوت، وكذا
الشك في التكبير بعد الدخول في الاستعاذة. ويعرف مما ذكرناه حكم جملة من الفروع
التي ذكرها السيد (ره) في العروة في الختام المتعلق بالعلم الاجمالي، فراجع.
أما المقدمات - كما إذا شك في الركوع حال الهوي إلى السجود، أو شك
في السجود حال النهوض إلى القيام - فاختار بعضهم جريان قاعدة التجاوز في المقامين،
لشمول الغير للمقدمات أيضا. وذهب جماعه - منهم المحقق النائيني (ره) - إلى عدم
جريانها في المقامين. وهذا هو الصحيح - أما مع قطع النظر عن النصوص الواردة
في المقامين، فلان جريان القاعدة منوط بصدق التجاوز والخروج عن محل الشئ
المشكوك فيه، كما تقدم. ولا يصدق هذا المعنى عند الدخول في المقدمات، لعدم
كونها من الاجزاء، إذ لم يدل دليل على كون الهوي أو النهوض معتبرا في الصلاة،
بل لا يعقل كونهما من الاجزاء وتعلق الامر الضمني بهما، إذ بعد الامر بالسجود
يكون الهوي حاصلا لا محالة، لامتناع الطفرة. وعلى تقدير إمكانها في نفسها لا تكون
مقدورة للمكلف، فيكون الامر به لغوا. وكذا النهوض مما لابد منه بعد الامر
301

بالقيام، لامتناع الطفرة أو عدم كونها مقدورة للمكلف، فلا حاجة إلى الامر به
بعد الامر بالقيام. وأما مع ملاحظة النصوص، فلما سيجئ قريبا انشاء الله تعالى.
وفصل صاحب المدارك بين المقامين: فقال بجريان القاعدة في المقام الأول،
وعدمه في الثاني. واعترض عليه صاحب الحدائق بما حاصله أن التفصيل بين المقامين
كالجمع بين المتناقضين، لان لفظ الغير المذكور في الروايات الدالة على قاعدة التجاوز
إن كان شاملا للمقدمات، فتجري القاعدة في المقامين، وإلا فلا تجري فيهما.
والانصاف أن هذا الاعتراض مما لا ينبغي صدوره من مثله، إذ ليست قاعدة
التجاوز من القواعد العقلية التي لا تكون قابلة للتخصيص، كاستحالة اجتماع الضدين
مثلا، بل من القواعد الشرعية التي تعميمها وتخصيصها بيد الشارع، فله أن يخصصها
بمورد دون مورد، كما حكم بجريانها في الصلاة، وبعدمه في الوضوء، فلابد
من ملاحظة الدليل الذي أقامه صاحب المدارك، للتفصيل المذكور، وأنه واف
بالتفصيل أم لا؟ فنقول: نظره في هذا التفصيل إلى روايتين: (الأولى) - رواية (1)
عبد الرحمن بن أبي عبد الله الدالة على عدم جريان القاعدة ووجوب الاعتناء بالشك

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن عن سعد عن أحمد بن محمد عن أحمد
ابن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله " قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رفع رأسه من السجود، فشك قبل أن يستوي
جالسا، فلم يدر أسجد أم لا يسجد؟ قال عليه السلام: يسجد، قلت فرجل
انهض من سجوده فشك قبل أن يستوى قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال (ع):
يسجد ".
302

في المقام الثاني. (الثانية) - صحيحة (1) عبد الرحمن، فادعى دلالتها على جريانها
في المقام الأول.
أما الرواية الأولى، فدلالتها على عدم الجريان في المقام الثاني واضحة.
مضافا إلى ما ذكرناه من أن عدم الجريان هو الصحيح، مع قطع النظر
عن النص الخاص.
وأما الثانية، فأجاب عنها المحقق النائيني (ره) بأنها مطلقة من حيث الوصول
إلى السجود وعدمه. وتكون موثقة إسماعيل بن جابر المتقدمة مقيدة لاطلاقها،
فان المذكور في الموثقة هكذا: " إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض... الخ ".
وفيه أن الموثقة غير صالحة لتقييد الصحيحة، أما من حيث المنطوق فواضح،
إذ لا منافاة بين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الدخول في السجود،
وبين الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود مطلقا سواء
وصل إلى السجود أم لا. وأما من حيث المفهوم، فلان مفهوم الشرط في قوله
عليه السلام: " إن شك في الركوع بعدما سجد " إن لم يشك في الركوع بعدما
سجد، فيكون الحكم في المفهوم منتفيا بانتفاء الموضوع وهو الشك. نعم لو كانت
عبارة الموثقة هكذا: " إن كان الشك في الركوع بعدما سجد فليمض... " كان
مفهوما: إن لم يكن الشك في الركوع بعدما سجد، بل كان الشك في الركوع قبل ما
سجد فلا يمض. إذ الشك مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم، فيكون مفهوم

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن بن أبي جعفر عن أحمد بن محمد
ابن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله " قال قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لا يركع؟ قال (ع):
قد ركع ".
303

الموثقة مقيدا لاطلاق الصحيحة. وقد تقدم نظير هذا الكلام في البحث عن الاستدلال
بمفهوم آية النبأ لحجية خبر العادل من أن مفهوم قوله تعالى: " إن جاءكم فاسق
بنبأ... " إن لم يجئ فاسق بنبأ. فيكون خبر العادل خارجا عن المفهوم. نعم
لو كان النبأ مفروض الوجود في المنطوق والمفهوم. كما إذا كان المنطوق هكذا:
إن النبأ إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا، كان مفهومه أن النبأ إن لم يكن الجائي به
فاسقا لا يجب التبين، فيدل المفهوم على حجية خبر العادل. والمقام من هذا
القبيل بعينه.
والصحيح في الجواب عن الصحيحة أن يقال: إن دلالتها غير تامة على المدعى
في نفسها، وهو جريان قاعدة التجاوز في الشك في الركوع بعد الدخول في الهوي،
مع عدم الوصول إلى السجود. وذلك، لان التعبير في الصحيحة إنما هو (أهوى
إلى السجود) بلفظ الماضي، ومفاده تحقق الهوي إلى السجود، فيكون موردها الشك
في الركوع بعد الوصول إلى السجود، فلا تدل على جريان القاعدة وعدم الاعتناء
بالشك في الركوع حال الهوي ولو لم يصل إلى السجود. نعم لو كان التعبير (يهوي
إلى السجود) بلفظ المضارع، كان مفاده المعنى المذكور. ومراجعة الاستعمالات
العرفية تشهد بما ذكرناه من الفرق بين الماضي والمضارع، فان معنى قولنا: زيد
يصلي أنه مشغول بالصلاة ولم يفرغ منها بعد، بخلاف قولنا: زيد صلى، فان مفاده
تحقق الصلاة والفراغ منها. وعلى تقدير عدم ظهور الصحيحة في ما ذكرناه من المعنى،
لا أقل من احتماله الموجب لاجمالها، فلا تكون قابلة للاستدلال بها للمقام.
فتحصل مما ذكرناه أن الصحيح عدم جريان قاعدة التجاوز في المقامين، ولو مع
ملاحظة النصوص.
304

(فرع)
لو قام عن الانحناء وشك في أنه وصل إلى حد الركوع الشرعي فقام أم لا؟
ذهب صاحب الحدائق إلى عدم جريان قاعدة التجاوز للنصوص (1) الدالة على وجوب
الاتيان بالركوع عند الشك فيه حال القيام. ولكن التحقيق جريانها، إذ القيام
- الذي بعد الركوع - جزء للصلاة بلا إشكال، ويكون محل الركوع قبله بحسب
الجعل الشرعي، ومحله بعد الركوع كذلك، فيكون الشك المذكور شكا في الركوع
بعد التجاوز عن محله والدخول في الغير، فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز، مضافا
إلى ورود نص خاص في المقام، وهو صحيحة (2) فضيل بن يسار. وأما رواية
عمران الحلبي ونحوها مما تدل على وجوب الاتيان بالركوع عند الشك فيه حال القيام،
فهي أجنبية عن المقام، إذ موردها الشك في الركوع حال القيام مع عدم العلم بأن القيام

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة
عن حماد عن عمران الحلبي: " قال قلت: الرجل يشك وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟
قال (ع): فليركع ".
ونقل أيضا عنه وعن فضالة عن حسين ومحمد بن سنان جميعا عن ابن مسكان
عن أبي بصير " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل شك وهو قائم، فلا يدري
أركع أم لا يركع؟ قال (ع): يركع ويسجد ".
(2) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن عن فضالة عن ابان عن الفضيل بن يسار،
قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: " أستتم قائما ولم أدر أركعت أم لا؟ قال (ع):
بلى قد ركعت... الخ ".
305

هو القيام بعد الركوع أو القيام قبله، فلم يحرز التجاوز عن المحل حتى تجري
قاعدة التجاوز. وهذا بخلاف المقام، فإنه يدري أن القيام إنما هو بعد الانحناء،
ولكن لا يدري أنه وصل إلى حد الركوع فقام أم لا؟ فيكون شكه بعد تجاوز المحل
على ما ذكرناه، فلا مانع من جريان القاعدة.
(الامر الرابع) - هل يشترط جريان قاعدة الفراغ والتجاوز بعدم العلم
بالغفلة حين العمل - ليكون احتمال الفساد من جهة احتمال الغفلة، واحتمال الصحة
لاحتمال عدم الغفلة - أم تجري حتى مع العلم بالغفلة حين العمل، فيكون احتمال
الصحة من جهة احتمال مصادفة الواقع من باب الاتفاق؟
ذهب جماعة منهم المحقق النائيني (ره) إلى الثاني، لاطلاق النصوص، كقوله
عليه السلام في موثقة ابن بكير: " كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو "
والتحقيق هو الأول، لعدم اطلاق في النصوص من هذه الجهة، لما ذكرناه سابقا
من أن قاعدة الفراغ والتجاوز ليستا من القواعد التعبدية، بل من الأمور الارتكازية
العقلائية، فان سيرة العقلاء جارية على عدم الاعتناء بالشك في العمل بعد وقوعه،
باعتبار أن الغالب عدم وقوع الغفلة حين الاشتغال بالعمل، فيكون مرجع قاعدة
الفراغ إلى أصالة عدم الغفلة الكاشفة نوعا عن صحة العمل، فلا مجال لجريانها مع العلم
بالغفلة. وقد ذكرنا سابقا أن الأدلة الشرعية وافية بهذا المعنى. ولذا استظهرنا منها
كون القاعدة من الامارات لامن الأصول التعبدية. وعلى تقدير تسليم الاطلاق - للنصوص -
يكون التعليل الوارد في بعض الأدلة مقيدا له. وهو قوله (ع): " هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك " وقوله (ع): " وكان حين انصرف أقرب
إلى الحق منه بعد ذلك ". فان مقتضى هذا التعليل هو الاقتصار على موارد يكون
المكلف فيها أذكر وأقرب إلى الواقع حين العمل منه حين الشك، فلا مجال لجريانها
306

مع العلم بالغفلة حين العمل، لعدم كونه أذكر حين العمل مع الغفلة،
كما هو ظاهر.
وأجاب المحقق النائيني (ره) عن هذا التعليل بأنه من قبيل الحكمة لا من قبيل
العلة، فلا يكون الحكم دائرا مدار وجوده.
وفيه أن الميزان في الحكمة والعلة هو فهم العرف، ففي كل مورد فهم العرف
من الكلام دوران الحكم مدار التعليل فهو علة، وإلا فهو حكمة. ولا ينبغي الاشكال
في أن المستفاد - من التعليل المذكور عرفا - كون عدم الاعتناء بالشك دائرا مدار
كونه أذكر، لما ذكرناه من كونه ناظرا إلى أصالة عدم الغفلة الكاشفة نوعا
عن الواقع.
ومما يتوهم دلالته - على جريان قاعدة الفراغ حتى مع العلم بالغفلة والنسيان حال العلم
- الخبر (1) المذكور في الوسائل، ومضمونه لزوم تحويل الخاتم في الغسل وإدارته
في الوضوء. وفى ذيله: " فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة "
فيدعى أن مفاده جريان قاعدة الفراغ، مع علم المكلف بكونه ناسيا حين العمل.
ولكن الظاهر عدم دلالة الخبر على المدعى، إذ ليس فيه ما يدل على أن السؤال
إنما كان من جهة الشك في وصول الماء، وأن الحكم بالتحويل والإدارة إنما كان
من هذه الجهة، بل ظاهره كون التحويل - في الغسل والإدارة في الوضوء - مطلوبا
في نفسه، لا لرفع الشك في وصول الماء، وإلا لم يكن لذكر خصوص التحويل

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد
عن علي بن الحكم عن الحسين بن أبي العلاء، قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام
عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال (ع): حوله من مكانه، وقال (ع): في الوضوء
تدبره، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة، فلا آمرك أن تعيد الصلاة ".
307

- في الغسل والإدارة في الوضوء - وجه، لكفاية العكس أيضا في ايصال الماء،
بل يكفي كل واحد من التحويل والإدارة فيهما، فاعتبار هذه الخصوصية يشهد بكونهما
مطلوبين في نفسهما. غاية الامر أنه علم من الخارج عدم وجوبهما في الغسل والوضوء،
بل نفس هذا الخبر يدل على عدم وجوبهما، فان مفاد قوله (ع): - " فان نسيت
فلا آمرك أن تعيد الصلاة " - أنهما ليسا شرطا لصحة الغسل والوضوء، بل من الأمور
الراجحة المستحبة، فليس الخبر المذكور راجعا إلى الشك في وصول الماء، فإذا شك
في وصول الماء يجب تحصيل العلم بوصوله بنزع الخاتم أو تحريكه، على ما هو مذكور
في خبر (1) علي بن جعفر.
فتلخص مما ذكرناه اختصاص جريان قاعدة الفراغ بموارد احتمال الغفلة، إذ لم
يدل دليل على جريانها مع العلم بالغفلة والنسيان حال العمل.
(الامر الخامس) - أن الشك - في صحة العمل وفساده بعد الفراغ منه -
يتصور على وجوه ثلاثة:
(الوجه الأول) - أن يكون منشأ الشك احتمال عدم صدور الامر
من المولى، فان صحة العبادة متوقفة على أمرين: صدور الامر من المولى، وتطبيق
المأمور به على المأتي به. ولا اشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا القسم،

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن العمركي عن علي
ابن جعفر عليه السلام عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام " قال سألته عن المرأة
عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف تصنع
إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال (ع): تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. وعن الخاتم
الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال (ع): إن علم
أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ ".
308

فان قاعدة الفراغ - على ما ذكرناه - امارة على وقوع الفعل من المكلف تاما من حيث
الاجزاء والشرائط، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى فعل المولى وصدور الامر منه.
ويدل على ما ذكرناه - مع وضوحه - التعليل الوارد في بعض الروايات المتقدمة من كونه
أذكر حين العمل أو أقرب إلى الحق، إذ من المعلوم أن كونه أذكر حين العمل إنما
هو بالنسبة إلى عمله الصادر منه لا بالنسبة إلى فعل المولى وصدور الامر منه، كما هو
ظاهر. ويتفرع على هذا أنه لو اغتسل أحد للجنابة، ثم شك في أنه كان جنبا
ليصح غسله أم لا، لا مجال للحكم بصحته استنادا إلى قاعدة الفراغ، فلا يجوز له
الدخول في الصلاة إلا بالوضوء. وكذا لو شك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها للشك
في دخول الوقت وعدمه.
(الوجه الثاني) - أن يكون منشأ الشك في صحة العمل هو الشك في تطبيق
المأمور به على المأتي به بعد العلم بصدور الامر من المولى. وهذا على قسمين: إذ الشك
في التطبيق (تارة) يكون راجعا إلى أمر اختياري للمكلف من ترك جزء أو شرط
أو ايجاد مانع. و (أخرى) يكون راجعا إلى أمر اختياري له، ويعبر عنه
بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة. (أما القسم الأول) فهو القدر
المتيقن من مجرى قاعدة الفراغ. و (أما القسم الثاني) فالظاهر عدم كونه موردا
لجريان قاعدة الفراغ، إذ كونه أذكر حين العمل إنما هو بالنسبة إلى ما يصدر منه
لا بالنسبة إلى شئ لم يصدر منه، فان نسبته إليه حين العمل وحين الشك على حد
سواء، فلو صلى إلى جهة باعتقاد أنها القبلة، ثم بعد الفراغ شك في كونها القبلة،
لا مجال لجريان قاعدة الفراغ، لان صورة العمل الصادر منه محفوظة، وهو غير شاك فيه،
إنما الشك في الصحة من جهة أمر غير اختياري له، وهو كون الكعبة المعظمة في هذه
الجهة التي صلى إليها. وليس هو حين العمل أذكر منه حين ما يشك بالنسبة إلى كون
309

الكعبة في هذه الجهة، فلابد من إعادة الصلاة، عملا بقاعدة الاشتغال بعد عدم
حجية قاعدة اليقين على ما ذكرناه. وكذا لو شك في صحة الوضوء بعد الفراغ منه،
لاحتمال كون المائع الذي توضأ به مضافا. نعم لو علم بكون جهة خاصة هي القبلة وشك
في أنه صلى إليها أو إلى جهة أخرى، تجري قاعدة الفراغ بلا إشكال، لكون الشك
راجعا إلى كيفية صدور العمل منه لا إلى امر غير اختياري. وكذا لو علم بأن هذا الماء
مطلق وذاك مضاف، وشك بعد الوضوء في أنه توضأ بأيهما، لا اشكال في جريان
قاعدة الفراغ.
ومن القسم الأول - الذي تجري فيه قاعدة الفراغ - ما لو صلى أحد
بلا سورة مثلا مدة من عمره، وشك في صحتها من جهة الشك في أنه هل صلى
بلا سورة تقليدا لمن أفتى بعدم وجوبها، أم صلى بلا تقليد؟ فان صورة العمل وإن كانت
محفوظة ظاهرا، إلا أن الشك راجع إلى أمر اختياري له، وهو الاستناد إلى التقليد،
ففي الحقيقة صورة العمل غير محفوظة. وكذا لو صلى المسافر تماما ثم شك في أنه أتم
الصلاة مع نية الإقامة أم بدونها؟ فان الشك فيه أيضا راجع إلى أمر اختياري له،
وهو صدور نية الإقامة، فلا تكون صورة العمل محفوظة حقيقة، وان كانت محفوظة
ظاهرا. وبالجملة كل مورد يرجع الشك فيه إلى ما يصدر منه اختيارا، فهو مورد
لجريان قاعدة الفراغ.
(الامر السادس) - أنه لا فرق في جريان قاعدة الفراغ - فيما إذا شك
في صحة العمل وفساده بعد الفراغ منه - بين الشك في الجزء والشك في الشرط،
لعموم قوله (ع): " كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو " أما الشك
في الجزء فقد مضى الكلام فيه في الجزء الأخير وغيره من الاجزاء. وملخصه
أن الشك المتعلق بالجزء إن كان في صحته بعد العلم بتحققه، تجري قاعدة الفراغ،
310

وإن كان في وجوده، فان كان الشك بعد تجاوز المحل لا يعتنى به لقاعدة التجاوز.
وإن كان الشك في المحل، لابد من الاعتناء به والآتيان بالمشكوك فيه. وقد اتضح
كل ذلك مما تقدم.
وأما الشك في الشرط، فملخص الكلام فيه أن الشرط على أقسام ثلاثة:
لأنه إما أن يكون مما قد اعتبر تحققه قبل العمل، فيكون محله - حسب الجعل الشرعي -
مقدما على المشروط، كالإقامة بناء على كونها شرطا للصلاة على ما التزم به بعض.
وإما أن يكون مما اعتبر تقارنه مع العمل، فيكون من قبيل الشرط المقارن. والثاني
إما أن يكون شرطا للاجزاء، بمعنى أنه اعتبر تحققه حال وجود الاجزاء فقط ولم يعتبر
وجوده في الأكوان المتخللة. وإما أن يكون شرطا للمجموع، بمعنى أنه اعتبر تحققه
من أول العمل إلى آخره حتى في الأكوان المتخللة.
(مثال الأول) - الاستقرار في الصلاة، إذ المعتبر هو الاتيان بالاجزاء
مع الاستقرار. ولم يدل دليل على اعتباره في الأكوان المتخللة. وكذا النية سواء
كان المراد منها قصد التقرب أو قصد عنوان العمل من الصلاة والصوم مثلا، فإنها
وإن كانت معتبرة في العبادات بكلا المعنيين، إلا أن المعتبر اقتران الاجزاء بها،
فلا يضر فقدانها في الأكوان المتخللة، لعدم الدليل على اعتبارها إلا في حال وجود الاجزاء،
فمن اشتغل بالوضوء ثم بدا له في أثنائه، وعزم على عدم اتمامه، ثم رجع إلى العزم
على اتمامه قبل فوات الموالاة، صح وضوءه بلا اشكال. وكذا الكلام في الصلاة على الظاهر.
نعم لا يتصور هذا المعنى في الصوم، إذ ليس له كون متخلل. فمن أمسك مقدارا
من النهار بنية الصوم، ثم عزل على الافطار، ثم رجع إلى نية الصوم قبل الاتيان
بالمفطر، لا يصح صومه، لما ذكرناه من أنه ليس للصوم كون متخلل، فقد وقع
جزء منه بدون نية، وهو الامساك الذي وقع في زمان العزم على الافطار.
311

(مثال الثاني) - الاستقبال في الصلاة، فإنه معتبر في مجموع الصلاة حتى
في الأكوان المتخللة، لان الاستدبار - ولو في الأكوان المتخللة - مانع عن اتصال
الاجزاء اللاحقة بالاجزاء السابقة، فتكون الصلاة مع باطلة. وكذا الطهارة
من الحدث، فان طرو الحدث - ولو في الأكوان المتخللة - موجب لبطلان الصلاة،
بلا فرق بين القول بكون الطهارة عبارة عن الحالة النفسانية المسببة عن الغسل والمسح
على ما هو المعروف، أو القول بكونها عبارة عن نفس الغسل والمسح على ما هو المختار،
فان الطهارة على هذا المعنى وان كانت متصرمة الوجود، إلا أنه لها بقاء في نظر
الشارع، كما تدل عليه جملة من الاخبار: (منها) الأخبار الدالة على أن الشئ
الفلاني ناقض للوضوء، فان النقض لا يصدق على شئ ينعدم بنفسه، بل لابد في صدقه
من أن يكون له بقاء في نفسه. و (منها) - ما يدل على استحباب النوم مع الوضوء،
فان النوم مع الوضوء لا يتصور إلا أن يكون الوضوء بقاء في نظر الشارع. هذه هي
أقسام الشرط.
ثم إن الشك في الشرط إن كان بعد الفراغ من العمل، لا اشكال في جريان
قاعدة الفراغ وعدم الاعتناء بالشك، بلا فرق بين الأقسام الثلاثة للشرط. وأما
إن كان الشك في الشرط في أثناء العمل، فان كان الشرط المشكوك فيه من القسم
الأول (أي مما اعتبر تحققه قبل العمل وكان محله بحسب الجعل الشرعي مقدما
على العمل) لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز، إذ مع كون الشك بعد تجاوز
المحل يكون مشمولا لقوله (ع): " إذا خرجت من شئ ودخلت في غيره فشكك
ليس بشئ " فلا فرق بين الشرط والجزء في هذه الجهة، بل الجزء أيضا
شرط، بمعنى أن كل جزء شرط لصحة الاجزاء الاخر كما هو معنى
الواجب الارتباطي.
312

وأما إن كان الشرط مما اعتبر تقارنه للعمل، فالشك فيه يتصور على وجهين:
(الأول) - أن يكون شاكا في وجود الشرط حين الاشتغال بالاجزاء السابقة
مع احرازه فعلا، ويحكم فيه بصحة الصلاة. إذ شكه - في تحقق الشرط بالنسبة
إلى الاجزاء السابقة - مورد لقاعدة الفراغ بلا اشكال. ووجود الشرط حين الاشتغال
بالاجزاء اللاحقة محرز بالوجدان على الفرض. ولا فرق في هذه الصورة بين كون
الشرط المشكوك فيه من قبيل شرائط الاجزاء، أو من قبيل شرائط المجموع، فإذا شك
في وقوع الركعة الأولى مع الاستقبال مع إحرازه حين الاشتغال بالركعة الثانية مثلا.
تجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركعة الأولى، والاستقبال في الركعة الثانية محرز
بالوجدان، فيحكم بصحة الصلاة. هذا في الشك في شرط المجموع. وكذا الحكم
في الشك في شرط الاجزاء، كما إذا شك في تحقق النية في الركعة الأولى مع إحرازها
حين الاشتغال بالركعة الثانية، فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الركعة الأولى.
وأما الركعة الثانية فاقترانها بالنية محرز بالوجدان، فيحكم بصحة الصلاة.
(الثاني) - أن يكون شاكا في تحقق الشرط فعلا أيضا. ولا مجال لجريان
قاعدة الفراغ فيه، إذ هو شاك في صحة الجزء الذي هو مشغول به. ولم يفرغ
منه، فلابد من الاعتناء بالشك واستئناف العمل، لقاعدة الاشتغال. ولا فرق
أيضا بين كون الشرط المشكوك فيه من شرائط الاجزاء فقط، أو من شرائط المجموع.
نعم لو كان شاكا في تحقق الشرط حين الاجزاء السابقة ولم يدخل بعد
في الجزء اللاحق، بل كان في الأكوان المتخللة، تجري قاعدة الفراغ وإن لم يكن
محرزا للشرط فعلا فيما إذا كان الشرط شرطا للاجزاء فقط، كالنية فيحكم بصحة
الصلاة، فان شكه في تحقق النية مثلا - بالنسبة إلى الاجزاء السابقة - مورد لقاعدة
الفراغ، وفى الاجزاء اللاحقة تجدد النية. وفى الأكوان المتخللة - وان كانت
313

النية غير محرزة - إلا انها غير معتبرة فيها، بخلاف ما إذا كان الشرط المشكوك فيه
شرطا للمجموع كالاستقبال، فلا تجري فيه قاعدة الفراغ، إذ هو شاك في تحقق
الاستقبال فعلا مع اعتباره حتى في الأكوان المتخللة. وهذا هو مورد الفرق بين شرط
الاجزاء وشرط المجموع من حيث الحكم.
والذي تحصل مما ذكرناه أن الشرط إن كان من شرائط المجموع، تجري
قاعدة الفراغ مع احرازه فعلا، ولا تجري مع عدم احرازه كذلك، بلا فرق بين
كونه حين الشك في الأكوان المتخللة أو مشغولا بالجزء اللاحق وإن كان الشرط
من شرائط الاجزاء فقط، فان كان حين الشك مشغولا بالجزء اللاحق، فالامر كما
تقدم (أي تجري قاعدة الفراغ مع احراز الشرط فعلا. ولا تجري مع عدمه كذلك)
وإن كان حين الشك في الأكوان المتخللة، فتجري قاعدة الفراغ حتى مع عدم
احراز الشرط فعلا. وقد ظهر وجه كل ذلك مما ذكرناه.
وتبين بما ذكرناه حكم الشك في الطهارة من الحدث في أثناء الصلاة، فإنه
لا يتصور الشك في تحققها حين الاتيان بالاجزاء السابقة مع احرازها فعلا، فهو شاك
في تحقق الطهارة فعلا أيضا، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ، لكونه شاكا في صحة
الجزء الذي هو فيه، ولم يفرغ منه، فلابد من الاعتناء بالشك واستئناف العمل،
وتوهم - جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، ووجوب الوضوء
للاجزاء اللاحقة مع التمكن منه وعدم فوات الموالاة - مدفوع بما ذكرناه من كون
الطهارة من الشرائط المعتبرة في الأكوان المتخللة أيضا، فهو شاك في تحقق الطهارة
في الان الذي هو مشغول بتحصيل الطهارة الجديدة. ولا تجري فيه قاعدة الفراغ،
لعدم تحقق الفراغ بالنسبة إليه، فلابد من استئناف العمل، لقاعدة الاشتغال.
وقد يتوهم ان الشك - في اقتران الاجزاء بالطهارة - مسبب عن الشك
314

في تحقق الغسل والمسح قبل الصلاة، وحيث أن محل الغسل والمسح مقدم على الصلاة
بحسب الجعل الشرعي، يكون الشك - في تحقق الغسل والمسح قبل الصلاة - موردا
لقاعدة التجاوز، لكون الشك فيهما شكا بعد تجاوز المحل. وبعد الحكم بوجود
الغسل والمسح لقاعدة التجاوز، يرفع الشك في اقتران الاجزاء بالطهارة. فان اقترانها
بالطهارة من الآثار الشرعية لتحقق الغسل والمسح، فيحكم بصحة الصلاة.
وهو مدفوع بعدم جريان قاعدة التجاوز في الغسل والمسح، إذ ليس محلهما
بحسب الجعل الشرعي قبل الصلاة، فان المعتبر شرعا هو تقارنها مع الطهارة. وأما
وجوب تحصيلها قبل الشروع في الصلاة، فهو عقلي بمعنى عدم تحقق اقتران جميع اجزاء
الصلاة بالطهارة، إلا مع تحصيلها قبل الشروع في الصلاة.
(إن قلت): ما المانع عن جريان قاعدة التجاوز فيما إذا كان محل المشكوك
فيه مقدما عقلا؟ فان عموم التعليل بالأذكرية والأقربية إلى الحق شامل له أيضا.
(قلت): ليس الميزان في جريان قاعدة التجاوز مطلق كونه أذكر، ولو كان
الشئ المشكوك فيه خارجا عن المأمور به، بل الميزان فيه كون المشكوك فيه جزء أو شرطا
قد تجاوز محله. والمفروض في المقام أن الشرط هو اقتران الصلاة بالطهارة ولم يتجاوز
محله. وأما الغسل والمسح، فهما خارجان عن المأمور به ولم يعتبرا فيه جزء ولا شرطا،
فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز عند الشك فيهما. ولذا التزم الفقهاء (قده) بعدم جريان
قاعدة التجاوز فيما إذا كان الشك بعد التجاوز عن المحل العادي مع كونه مشمولا لعموم
التعليل. فمن كانت عادته ان يستنجي في بيت الخلاء مثلا، وشك فيه بعد تجاوز محله
العادي لا تجري قاعدة التجاوز في حقه وكذا من كان من عادته الاتيان بالصلاة في أول
الوقت وشك فيه بعد تجاوزه لم يكن مجال لجريان قاعدة التجاوز في حقه. وبالجملة جريان قاعدة
التجاوز مشروط بأمرين: - 1 - كون المشكوك فيه جزء أو شرطا للمأمور به
315

- 2 - كون المكلف في مقام الامتثال والامر الأول مفقود في المقام، فلا مجال لجريانها.
(الامر السابع) - لو كان بين الواجبين ترتيب بحسب الجعل الشرعي
- كما في الظهر والعصر - وشك في الاتيان بالواجب الأول بعد الدخول في الثاني،
فقد يتوهم جريان قاعدة التجاوز فيه، بدعوى أن الظهر من قبيل الشرط المتقدم للعصر،
فيكون الشك فيه بعد الدخول في العصر شكا بعد تجاوز المحل.
وهذا التوهم فاسد. (أما أولا) فلما ذكره شيخنا الأنصاري وغيره " ره "
من أن الترتيب بين الظهر والعصر مختص بحال الذكر. والمفروض في المقام هو الشك
في تقديم العصر على الظهر غفلة، فلا يكون العصر مشروطا بتقدم الظهر عليه في هذا
الحال، فلا يكون الشك في الظهر حينئذ من الشك في الشرط المتقدم ليكون بعد تجاوز
المحل، فلابد من الاعتناء بالشك والآتيان بالظهر، لقاعدة الاشتغال، أو لاستصحاب
عدم الاتيان به على ما ذكرناه سابقا.
(وأما ثانيا) على فرض التسليم كون الترتيب بينهما هو الترتيب الواقعي كما
اختاره السيد " ره " في العروة. فلان لصلاة الظهر حيثيتين:
(الأولى) - حيثية وجوبها النفسي. ولا يعتبر تقدمها على العصر من هذه
الحيثية، إذ لا يشترط في الظهر تقدمه على العصر، بل العصر مشروط بتقدم الظهر
عليه. فلو أتى بالظهر وترك العصر عمدا أو نسيانا، لم يفت منه من وظيفة الظهر شئ،
وحصل الامتثال بالنسبة إليه، مع أنه لم يتقدم على العصر.
(الثانية) - حيثية وجوبها الغيري لكونه مقدمة للعصر، فلو شك في الظهر
بعد الدخول في العصر لا تجري قاعدة التجاوز من الحيثية الأولى، لعدم تجاوز محله
من هذه الحيثية، فيجب الاتيان به، لقاعدة الاشتغال، أو للاستصحاب على ما ذكرناه.
وبعد الحكم بوجوب الاتيان به من الحيثية الأولى لا مجال لجريان قاعدة التجاوز
316

من الحيثية الثانية، إذ مفاد قاعدة التجاوز من الحيثية الثانية هو الحكم بصحة العصر،
ولا يمكن الحكم بها مع التعبد بعدم الاتيان بالظهر للاشتغال أو الاستصحاب، للروايات (1)
الدالة على أن هذه قبل هذه. والمراد كون العصر بعد الظهر كما لا يخفى.
نعم بعد الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز تصل النوبة إلى قاعدة العدول،
فيعدل إلى الظهر ويأتي بالعصر بعده لصحيحة (2) زرارة الدالة على ذلك.
(الامر الثامن) - في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الموالاة وعدمه.
وتفصيل الكلام فيه: أن الموالاة المعتبرة في الصلاة على ثلاثة اقسام: لأنها إما أن تكون

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن الحسن باسناده عن سعد بن عبد الله
عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد البرقي والعباس بن معروف جميعا
عن القسم بن عروة عن عبيد بن زرارة " قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وقت
الظهر والعصر؟ فقال (ع): إذا زالت الشمس، فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعا،
إلا أن هذه قبل هذه، ثم أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس " ونقل مثله
عن الكليني أيضا.
(2) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد
ابن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر
عليه السلام " قال (ع): إذا نسيت صلاة أو صليتها بغير وضوء وكان عليك
قضاء صلوات، فابدأ بأولهن، فأذن لها وأقم، ثم صلها ثم صل ما بعدها بإقامة لكل
صلاة. وقال قال أبو جعفر عليه السلام: وإن كنت قد صليت الظهر وقد فاتتك الغداة،
فذكرتها، فصل الغداة أي ساعة ذكرتها ولو بعد العصر. ومتى ما ذكرت صلاة
فاتتك صليتها. وقال (ع): إذا نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت
في الصلاة أو بعد فراغك، فانوها الأولى ثم صل العصر فإنما هي أربع مكان أربع... الخ "
317

معتبرة بين الاجزاء المستقلة، كالموالاة بين القراءة والركوع، وبينه والسجود.
وإما أن تكون معتبرة بين الكلمات من كلام واحد. وإما أن تكون معتبرة بين
الحروف من كلمة واحدة.
أما الموالاة بين الاجزاء المستقلة، فهي معتبرة شرعا، إذ لو لم يدل الدليل
الشرعي على اعتبار الاتصال بين الاجزاء المستقلة، لأمكن الامتثال باتيان كل جزء
مع الفصل الطويل عن الجزء الاخر، كما هو الواقع في الغسل. ولكن الدليل الشرعي
دل على اعتبارها في الصلاة. وحينئذ، فان شك فيها بعد الفراغ من الصلاة، فلا
اشكال في جريان قاعدة الفراغ وعدم الاعتناء بالشك. وإن شك فيها في أثناء الصلاة،
فان كان شكه بعد الدخول في الجزء اللاحق، تجري قاعدة التجاوز، إذ محلها بحسب
الجعل الشرعي قبل الدخول في الجزء اللاحق، فيكون من قبيل الشرط المتقدم بالنسبة
إليه. فيكون الشك فيها شكا بعد تجاوز المحل، وإن كان شكه فيها قبل الدخول
في الجزء اللاحق، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز، لكون الشك فيها شكا في المحل،
فلابد من الاعتناء بالشك واستئناف العمل لولا استصحاب عدم تحقق الفصل الطويل.
ويكون الشك المذكور - في الحقيقة - شكا في وجود المانع، وهو الفصل الطويل
- والأصل عدمه - فيحكم بصحة الصلاة لأجل الاستصحاب لا لقاعدة التجاوز.
وأما الموالاة بين الكلمات من كلام واحد أو بين الحروف من كلمة واحدة،
فهي من الأمور المعتبرة عقلا لا من الشرائط الشرعية، لأنها مما لابد منه في صدق
الكلام والكلمة عرفا، فإنه لو تكلم بكلمة من كلام ثم تكلم بكلمة أخرى منه بعد مدة
طويلة مانعة عن صدق الكلام عرفا، لا يكون كلاما مفهما للمعنى. وكذا الامر
في الموالاة بين الحروف من كلمة واحدة، فلو شك في تحققها بعد الفراغ من الصلاة،
لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ. وأما لو شك في الأثناء، فلا مجال لجريان قاعدة
318

الفراغ ولا قاعدة التجاوز، بلا فرق بين كون الشك بعد الدخول في كلمة لاحقة
أو حرف لا حق أو قبله، لأن الشك في الموالاة ههنا يكون في الحقيقة شكا في وجود
الكلام أو الكلمة مع عدم تجاوز المحل، فلا تجري قاعدة الفراغ لعدم كون الشك
شكا في الصحة، بل في الوجود. ولا قاعدة التجاوز لعدم تجاوز المحل، فلابد
من الاعتناء بالشك.
وظهر بما ذكرناه حكم الشك في النية، فان النية بمعنى قصد القربة من الأمور
المعتبرة في العبادات شرعا لا من الشرائط العقلية على ما ذكرناه في محله، فلو شك
في تحققها بعد الفراغ من العمل تجري قاعدة الفراغ بلا اشكال. وكذا لو شك
في أثناء العمل في تحققها حين الاتيان بالاجزاء السابقة، تجري قاعدة الفراغ أيضا
ويحكم بصحة الاجزاء السابقة.
وأما النية بمعنى قصد العنوان، فهي من الأمور المعتبرة عقلا، لتوقف صدق
عنوان المأمور به على قصده، فلو شك - بعد الفراغ من ذات العمل - في أنه أتى
به بقصد عنوان المأمور به أم لا؟ كما إذا أتى بركعتين من الصلاة ثم شك بعد الفراغ
في أنه أتى بهما بعنوان صلاة الصبح مثلا أو أتى بهما للتمرين مثلا، فلا مجال لجريان
قاعدة الفراغ، إذا الشك في قصد العنوان شك في وجود المأمور به، لعدم تحقق
عنوان الصلاة إلا بالقصد فلابد من الاعتناء بالشك والآتيان بالمأمور به، لقاعدة
الاشتغال. وله فروع كثيرة في الفقه: (منها) - ما لو شك بعد الارتماس في الماء
في أنه قصد به الغسل أو أتى به للتبريد مثلا، فلا تجري قاعدة الفراغ على ما ذكرناه.
وكذا لو شك في أثناء الصلاة في قصد العنوان بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، كما إذا
شك بعد الدخول في الركوع في أنه أتى بالقراءة بقصد عنوان الصلاة أم بعنوان آخر،
لا تجري قاعدة الفراغ، لكون الشك شكا في الوجود على ما ذكرناه.
319

نعم لو كان محرزا لقصد العنوان في الجزء الذي هو مشغول به فعلا، وشك
في قصد العنوان بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، كما إذا علم بأنه قصد عنوان الصلاة
في الركوع مع الشك في قصد العنوان بالنسبة إلى القراءة، لا مانع من جريان
قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، لكون الشك بالنسبة إليها شكا في الوجود
بعد الدخول في الغير، فيكون موردا لقاعدة التجاوز.
(فرع)
ذكر في أول ختام العروة ما حاصله أنه إذا شك في أثناء الصلاة في أنه أتى بها
بعنوان الظهر أو العصر، فان كان عالما بعدم الاتيان بصلاة الظهر أو شاكا فيه
فيجعلها ظهرا بلا اشكال فيه، إذ على تقدير قصد عنوان الظهر في الواقع، فهو.
وعلى تقدير قصد عنوان العصر، يعدل إلى الظهر. لعدم الاتيان به علما أو تعبدا.
وأما إن كان عالما باتيان صلاة الظهر، فيحكم ببطلان صلاته، إذ على تقدير قصد
عنوان الظهر في الواقع لا يصح العدول إلى العصر، فيكون شكه في قصد عنوان العصر
شكا في الوجود، مع عدم تجاوز المحل فلا تجري قاعدة التجاوز، فلابد من الاعتناء
بالشك واستئناف العمل. انتهى ملخص ما في العروة.
وظهر بما ذكرناه الحكم بصحة صلاته في بعض الصور، وهو ما إذا كان محرزا
لقصد عنوان العصر في الجزء الذي هو مشغول به فعلا، مع الشك في قصد العنوان
بالنسبة إلى الاجزاء السابقة، لجريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الاجزاء السابقة
على ما ذكرناه.
(الامر التاسع) - أن جريان قاعدة التجاوز والفراغ مختص بما إذا كان
320

الشك ناشئا من احتمال الغفلة والسهو، فلا مجال لجريانهما فيما إذا احتمل ترك الجزء
أو الشرط عمدا، لما ذكرناه من أنهما ليستا من القواعد التعبدية، بل امضاء لقاعدة
ارتكازية عقلائية، وهي أصالة عدم الغفلة، لظهور حالهم حين الامتثال في عدم
الغفلة. ولا يستفاد من الأدلة أزيد من هذا المعنى، مضافا إلى دلالة التعليل المذكور
في بعض الروايات على الاختصاص، فان كونه أذكر إنما ينافي الترك السهوي لا الترك
العمدي، كما هو واضح. ففي موارد احتمال الترك العمدي لا تجري قاعدة الفراغ ولا
قاعدة التجاوز، بل لابد من الرجوع إلى أصل آخر. والحكم بمفاده من الصحة أو الفساد.
ويختلف باختلاف المقامات.
وملخص الكلام فيها أنه إن كان الشك في الصحة لاحتمال ترك شئ اعتبر
- وجوده في المأمور به جزء أو شرطا يحكم بالبطلان لأصالة عدم تحقق هذا الشئ
المشكوك فيه. وإن كان الشك في الصحة لاحتمال الاتيان بشئ اعتبر عدمه في المأمور به
الذي يعبر عنه بالمانع يحكم بالصحة. لأصالة عدم تحقق المانع. هذا تمام الكلام
في قاعدة الفراغ والتجاوز.
(الكلام في أصالة الصحة ويقع البحث فيها في جهات):
(الجهة الأولى) - في بيان امتيازها عن قاعدة الفراغ. والميز بينهما من وجهين:
(الأول) - أن قاعدة الفراغ جارية بالنسبة إلى العمل الصادر من نفس الشاك على ما هو
المستفاد من أدلتها، ومورد أصالة الصحة هو عمل الغير. (الثاني) - أن قاعدة الفراغ
مختصة بما إذا كان الشك بعد الفراغ من العمل. غاية الامر أنا عممناها للجزء أيضا،
فتجري عند الشك في صحة الجزء أيضا بعد الفراغ منه على ما ذكرناه. وأما أصالة
الصحة، فلا اختصاص لها بالشك بعد الفراغ، بل هي جارية عند الشك في صحة العمل
في أثنائه أيضا، كما إذا كان أحد مشغولا بالصلاة على الميت، وشككنا في صحة هذه
321

الصلاة، لاحتمال كون الميت مقلوبا مثلا، فتجري أصالة الصحة بلا اشكال.
(الجهة الثانية) - في مدرك أصالة الصحة، فنقول: قد يطلق الصحيح
في مقابل القبيح. فمعنى أصالة الصحة هو الحمل على الحسن المباح في مقابل الحمل على القبيح
المحرم. وأصالة الصحة بهذا المعنى مستفادة من الآيات والروايات أما الآيات،
فكقوله تعالى: " اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " وقوله تعالى:
" وقولوا للناس حسنا " بضميمة ما ورد في تفسيره في الكافي من قوله (ع): " لا تقولوا
إلا خيرا " وأما الروايات. فكثيرة: (منها) - قوله (ع): " ضع امر أخيك
على أحسنه... الخ " و (منها) - قوله (ع): " إن المؤمن لا يتهم أخاه
المؤمن... الخ " و (منها) - قوله (ع): " كذب سمعك وبصرك عن أخيك،
فان شهد عندك خمسون قسامة أنه قال. وقال: لم أقله، فصدقه وكذبهم " والمراد
من تصديقه هو الحمل على الصديق لا ترتيب آثار الواقع، إذ لابد من حمل خبر الجماعة
على الصحيح من الاشتباه والسهو، لكونهم أيضا من الاخوة المؤمنين. والحمل على الصحيح
- بمعنى ترتيب آثار الواقع - مما لا يمكن في الطرفين. وفى طرف واحد مستلزم
لترجيح الواحد على الخمسين. وأصالة الصحة بهذا المعنى مختصة بعمل المؤمن، فلا تجري
في حق غير المؤمن من سائر فرق المسلمين، فضلا عن الكافرين، إذ الحمل على الصحة
بهذا المعنى إنما هو من حقوق الاخوة، ولا اخوة بين المؤمن وغيره من المسلمين فضلا
عن الكافرين. وأصالة الصحة بهذا المعنى ليست محلا للكلام، لعدم ترتب أثر عملي
عليها. فإنه لو دار الامر بين كون الكلام المسموع من مؤمن سلاما أو شتما لا يترتب
على الحمل على الصحيح وجود رد السلام.
وقد يطلق الصحيح في مقابل الفاسد، فمعنى أصالة الصحة هو ترتيب الأثر
على العمل الصادر من الغير. وهذا هو محل الكلام، ولا اختصاص لأصالة الصحة
322

بهذا المعنى بعمل المؤمن، بل جارية في حق جميع المسلمين بل الكافرين أيضا في بعض
الموارد كما في بعض المعاملات الصادرة منهم. والكلام فعلا في مدرك أصالة الصحة بهذا
المعنى. واستدل لها بوجوه:
(الأول) - دعوى الاجماع المحصل من تتبع فتاوى العلماء.
وفيه (أولا) - أن تحقق الاجماع على أصالة الصحة وان كان مسلما في الجملة،
إلا أن تحصيل الاجماع - من تتبع الفتاوى في جميع موارد جريان أصالة الصحة حتى
العقود والايقاعات بل المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للطهارة والنجاسة - دونه خرط القتاد.
و (ثانيا) - أنه على تقدير تسليم تحقق الاجماع في جميع الموارد لم يتضح
كونه اجماعا تعبديا كاشفا عن رضا المعصوم عليه السلام، لاحتمال كون المدرك عند
المجمعين هي الأدلة الآتية.
(الثاني) - قوله تعالى: " أوفوا بالعقود... " وقوله تعالى: " إلا أن تكون
تجارة عن تراض... " بناء على أن الخطاب ليس مختصا بالمتعاقدين، بل جميع المكلفين
مخاطبون به، ومأمورون بالوفاء بالعقد الصادر من المتعاقدين، بمعنى ترتيب آثار
الصحة عليه.
وفيه (أولا) - أن الخطاب مختص بالمتعاقدين على ما ذكرناه في بحث المكاسب.
و (ثانيا) - على تقدير تسليم كون الخطاب عاما - أن الدليل المذكور
مختص بالعقود، فلا يشمل الايقاعات. وعلى تقدير تسليم شموله لها - بناء على أن
المراد هو العقود بالمعنى اللغوي لا العقود الاصطلاحي المقابل للايقاعات - لا يشمل
المعاملات بالمعنى الأعم، كالطهارة والنجاسة. والمقصود اثبات أصالة الصحة في جميع
هذه الموارد، فالدليل المذكور - على تقدير تمامية دلالته - أخص من المدعى.
و (ثالثا) - أن الشبهة - في موارد جريان أصالة الصحة - مصداقية، فان
323

أصالة الصحة من الأصول المجعولة في الشبهات الموضوعية فقط دون الشبهات الحكمية،
كما هو واضح. وقد ذكرنا في محله عدم صحة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
(الثالث) - عموم التعليل الوارد في قاعدة اليد من أنه لو لم يعمل بها لم يستقم
للمسلمين سوق، فأنه شامل لأصالة الصحة أيضا، إذ لو لم يعمل بها يلزم عدم استقامة
سوق المسلمين أيضا.
وهذا الدليل أيضا أخص من المدعى، لان استقامة سوق المسلمين متوقفة على العمل
بأصالة الصحة في العقود والايقاعات فقط، إذ لو لم يعمل بها في العبادات بل في المعاملات
بالمعنى الأعم كالطهارة والنجاسة، لم يلزم اختلال في السوق أصلا.
(الرابع) - دعوى السيرة القطعية من جميع المسلمين المتدينين على ترتيب آثار
الصحة على اعمال الناس من العبادات والمعاملات والعقود والايقاعات. ولذا لا يقدم
أحد على تزويج امرأة، لاحتمال كون العقد الواقع بينها وبين زوجها باطلا. وهده
السيرة متصلة بزمان المعصوم عليه السلام، ولم يردع عنها. وهذا الدليل هو الدليل
التام الوافي في إثبات المقام.
(الجهة الثالثة) - أن المراد من الصحة في المقام هي الصحة الواقعية لا الصحة عند
العامل على ما نسب إلى المحقق القمي (ره). وذلك، لقيام السيرة على ترتيب
آثار الواقع على العمل الصادر من الغير. والصحة عند العامل لا توجب ترتب الآثار
عند الحامل على الصحة، فان أصالة الصحة لا تكن أزيد من العلم بالصحة. والعلم
بصحة العمل عند العامل لا يوجب ترتب الأثر عند غيره. فلو علم المأمون ببطلان صلاة
امامه باجتهاد أو تقليد، أو من جهة اخلال الامام بها من جهة الشبهة الموضوعية، لم
يجز الائتمام به وان كانت الصلاة صحيحة عند الامام.
(الجهة الرابعة) - ان الحمل على الصحة - باعتبار العلم بحال العامل وعدمه من حيث
324

علمه وجهله بالصحة - يتصور على صور:
(الصورة الأولى): - أن يعلم أن العامل جاهل بصحة عمله وفساده، إما
من جهة الجهل بالحكم، أو من جهة الجهل بالموضوع، فيكون احتمال الصحة لمجرد
احتمال المصادفة الاتفاقية للواقع.
(الصورة الثانية) - أن لا يعلم علمه بالصحة والفساد وجهله بهما.
(الصورة الثالثة) - أن يعلم كون العامل عالما بالصحة والفساد. وهذه الصورة
أيضا تتصور على أقسام: إذ مع العلم بكونه عالما إما أن يعلم موافقته مع الحامل، وإما
أن يعلم مخالفة العامل والحامل، وإما أن لا يعلم الموافقة ولا المخالفة.
(أما الصورة الأولى) فالظاهر عدم جريان أصالة الصحة فيها، إذ ليس لنا
دليل لفظي نتمسك بعمومه أو اطلاقه، بل الدليل على أصالة الصحة انما هو السيرة
على ما عرفت، وهي دليل لبي لابد فيه من الاقتصار على القدر المتيقن. ولم يحرز
قيام السيرة على ترتيب الآثار على عمل كان عامله جاهلا بصحته وفساده، فان الحمل
على الصحة انما هو من باب ظهور الحال (اي ظاهر حال المسلم) أنه لا يقدم على العمل
الفاسد. وليس لحاله ظهور مع الجهل بالصحة والفساد، فلا مجال لجريان أصالة الصحة
بلا فرق بين كونه جاهلا بالحكم أو جاهلا بالموضوع. وكونه معذورا أو غير معذور
كما في موارد العلم الاجمالي.
و (أما الصورة الثانية) فالظاهر جريان أصالة الصحة فيها، فان السيرة قائمة
على ترتيب الآثار على اعمال الناس بلا تفحص عن حال العامل من حيث كونه عالما
أو جاهلا.
و (أما الصورة الثالثة) فمع العلم بالموافقة تجري أصالة الصحة بلا اشكال، وهو
القدر المتيقن. وكذا مع الجهل بالموافقة والمخالفة، لقيام السيرة على ترتيب الآثار بلا
325

تفحص عن الموافقة والمخالفة. وأما مع العلم بالمخالفة (فتارة) تكون المخالفة بينهما
بالتباين، بأن يكون الصحيح عند أحدهما فاسدا عند الآخر. ولا مجال للحمل على الصحة
في مثله، إذ مفاد أصالة الصحة هو الحمل على الصحة عند الحامل، لعدم ترتب الأثر
على الصحة عند العامل على ما ذكرناه. والحمل على الصحة عند الحامل يكون حملا
على الفساد عند العامل، فيكون مخالفا لظاهر حاله. و (أخرى) لا تكون المخالفة
بينهما بالتباين، كما إذا رأى أحدهما اشتراط العمل بشئ، والآخر عدم اشتراطه
به لا كونه مانعا كما في تثليث التسبيحات الأربعة، فيرى أحدهما اعتباره في الصلاة،
والآخر عدمه لا أنه مبطل لها، فيكون الصحيح عند أحدهما باطلا عند الآخر دون
العكس. وفى مثله يظهر من كلام شيخنا الأنصاري جريان أصالة الصحة. (قده)
وللمناقشة فيه مجال، لعدم احراز قيام السيرة فيه. وبمجرد الشك في قيام
السيرة تسقط أصالة الصحة، لعدم الدليل عليها، فلو رأى أحد اعتبار تثليث التسبيحات
في الصلاة، لا يجوز له الاقتداء بمن يرى عدم اعتباره فيها عملا بأصالة الصحة. نعم
لو رأى اعتباره في خصوص حال العلم، يجوز له الاقتداء بمن لا يرى اعتباره أصلا لأصالة
الصحة، بل لكون صلاته صحيحة حينئذ عند المأموم أيضا، بلا احتياج إلى إعمال
أصالة الصحة.
(الجهة الخامسة) - أن الشك في الصحة إما أن يكون من جهة الشك في قابلية
الفاعل، وإما أن يكون من جهة الشك في قابلية المورد، وإما أن يكون من جهة
احتمال عدم الشرط أو وجود المانع مع احراز قابلية الفاعل والمورد. والقدر المتيقن
من موارد جريان أصالة الصحة هي الصورة الأخيرة. وأما الصورتان الأوليان، فقد
وقع الخلاف بينهم في جريان أصالة الصحة فيهما، فذهب العلامة والمحقق الثاني إلى عدم
جريانها فيهما، بدعوى أن الحمل على الصحة إنما هو فيما إذا كان الشك في الصحة الفعلية
326

بعد احراز الصحة التأهلية، لا فيما إذا كان الشك في الصحة التأهلية. وتبعهما في ذلك
جماعة. واختار شيخنا الأنصاري وتبعه جماعة أخرى " ره " جريان أصالة الصحة فيهما
بدعوى قيام السيرة على ترتيب الآثار على المعاملات الصادرة من الناس، مع الشك
في كون البائع مالكا أو غاصبا مثلا، فالسيرة قائمة على الحمل على الصحة مع عدم
إحراز قابلية الفاعل.
ثم إن قابلية الفاعل إما عرفية بمعنى اعتبارها في نظر العرف وأمضاه الشرع
ككون البائع مميزا، لعدم صحة بيع الصبي غير المميز عند العرف أيضا. وإما شرعية
بمعنى اعتبارها بتأسيس من الشارع فقط، ككون البائع بالغا، فان اعتبار البلوغ
إنما هو من جهة الشرع، لعدم الفرق في نظر العرف بين العقد الواقع من البالغ والعقد
الصادر من غيره، ولا سيما إذا كان التفاوت بينهما بمقدار لا يعتد به. وكذا القابلية
المعتبرة في المورد (تارة) عرفية ككون المبيع مالا بناء على اعتبار المالية في البيع العرفي
كما يظهر من تعريف المصباح البيع بمبادلة مال بمال. و (أخرى) شرعية كعدم كون
المبيع خمرا مثلا، فان الشارع الغى مالية الخمر دون العرف. ولا يصح حمل كلام
العلامة والمحقق الثاني (ره) على اعتبار احراز القابلية العرفية فقط في الفاعل والمورد
في جريان أصالة الصحة. وذلك، لأنهما مثلا للشك في قابلية الفاعل بالشك
في البلوغ، والتزما بعدم جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عمل من جهة الشك
في بلوغ العامل. ومن المعلوم أن اعتبار البلوغ شرعي على ما ذكرناه، فلابد
في جريان أصالة الصحة عندهما من احراز القابلية العرفية والشرعية في الفاعل والمورد.
والصحيح ما ذهبا إليه، لما ذكرناه سابقا من أنه ليس لأصالة الصحة دليل
لفظي يتمسك بعمومه أو اطلاقه، ولم يحرز قيام السيرة على ترتيب الآثار مع الشك
في القابلية، بل المحرز قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار معه، فإذا باع زيد دار عمرو
327

مع الاعتراف بكونها دار عمرو، وشك في أنه وكيل عن عمرو أم لا، فهل يقدم
العقلاء على الشراء واعطاء الثمن له والتصرف في الدار؟ كلا. وكذا إذا طلق زيد
زوجة عمر ومثلا، فالسيرة جارية في أمثال هذه الموارد - مما شك فيه في القابلية -
على عدم ترتيب الآثار، ولا أقل من الشك. وهو كاف في الحكم بعد جريان أصالة
الصحة، لعدم الدليل عليها. وأما ما ذكره الشيخ (ره) من قيام السيرة على ترتيب
الآثار على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق، مع عدم احراز قابلية الفاعل،
فهو وإن كان مسلما، لا أنه من جهة قاعدة اليد، فإنه لولاها لما استقام للمسلمين سوق،
فلا ربط له بأصالة الصحة، وإن شئت قلت: قابلية الفاعل في الموارد المذكورة
محرزة بقاعدة اليد، لا أن أصالة الصحة جارية مع عدم احراز القابلية، فالأمثلة
المذكورة خارجة عن محل الكلام. والمثال المطابق لمحل الكلام هو الذي ذكرناه مما ليس
موردا لقاعدة اليد. وقد ذكرنا أن السيرة قائمة في مثله على عدم ترتيب الآثار،
ولا أقل من الشك وهو كاف في المدعى، ولذا لو أنكر عمرو توكيل زيد في الطلاق
في المثال الذي ذكرناه، فانجر الامر إلى الترافع يحكم بفساد الطلاق، الا أن تثبت
الوكالة. ولو كانت أصالة الصحة جارية في أمثال المقام، لكان اثبات الفساد على عهدة
الزوج، فيحكم بصحة الطلاق، إلا أن يثبت الزوج عدم التوكيل وهو كما ترى.
ثم إن الشيخ " ره " بعد ما التزم - بجريان أصالة الصحة ولو مع الشك
في القابلية - ذكر أنه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم جريانها مع الشك في القابلية،
لا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد
من الموجب والقابل، مع احراز قابلية الآخر، إذ بعد إحراز قابلية الموجب مثلا
لو شك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل، لاحتمال كونه غير بالغ مثلا
تجري أصالة الصحة في الايجاب، لكون قابلية الموجب محرزة على الفرض، فيحكم
328

بكون الايجاب ايجابا مؤثرا. وهو معنى صحة العقد. وبالجملة على فرض تسليم اعتبار
إحراز القابلية يكفي احراز قابلية أحد الطرفين. هذا ملخص كلامه (ره).
ولا يمكن المساعدة عليه بعد اعتبار احراز القابلية، كما هو المختار، فان صحة
كل شئ بحسبه. وصحة الجزء عبارة عن كونه قابلا للجزئية، ولا يثبت بها وجود
الجزء الآخر ولا صحته، فصحة الايجاب عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه القبول،
لكان العقد المركب منهما مؤثرا قالا لفساده، فجريان أصالة الصحة في الايجاب لا يثبت
وجود القبول ولا صحته. وبالجملة الحمل على الصحة ليس أولى من إحرازها بالوجدان.
ولو أحرزنا صحة الايجاب بالوجدان وشككنا في وجود القبول أو في صحته، لا يمكن
اثبات القبول ولا صحته بصحة الايجاب المحرزة بالوجدان، فكيف بالصحة المحرزة
بالأصل؟ وهذا الذي ذكرناه مع وضوحه قد اعترف به الشيخ (ره) بعد كلامه
السابق بسطور. ونتعرض لتفصيله قريبا انشاء الله تعالى.
ومما يتفرع - على اعتبار إحراز القابلية في جريان أصالة الصحة - أنه لو شك
في صحة بيع عين موقوفة للشك في كون المورد من الموارد التي قد استثنيت من عدم
جواز بيع الوقف، لا تجري أصالة لصحة، إذ قابلية المحل غير محرزة بعد كون
الوقف غير قابل للبيع، إلا في موارد مخصوصة.
(تنبيه)
ليس المراد من الفاعل الذي اعتبرنا قابليته هو العاقد (أي الذي يصدر منه
انشاء العقد) بل المراد منه في البيع مثلا هو مالك المبيع، فإنه هو الذي ينتقل منه المبيع
وينتقل إليه الثمن، فلا مانع من جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في صحة البيع من جهة
329

الشك في قابلية العاقد، لاحتمال كونه غير بالغ مثلا، مع إحراز قابلية المالك، ولا
تجري أصالة الصحة في عكس هذه الصورة، وهو ما إذا شك في كون المالك قابلا مع
إحراز قابلية العاقد.
(الجهة السادسة) - صحة كل شئ بحسبه وباعتبار آثار نفسه، فلا تترتب
- على جريان أصالة الصحة في جزء - الآثار المترتبة على المركب، إلا بعد إحراز
بقية الاجزاء بالوجدان أو بالأصل. ولذا ذكرنا آنفا: أنه لا تترتب آثار العقد
بجريان أصالة الصحة في الايجاب، إلا بعد إحراز صحة القبول أيضا. وعليه فإذا
علمنا بوقوع انشاء البيع من غير المالك -، وشككنا في كونه مأذونا من قبل المالك،
لا يثبت الاذن بجريان أصالة الصحة في الانشاء، لان صحة الانشاء عبارة عن كونه
جامعا للشرائط المعتبرة في نفسه من العربية والماضوية مثلا. والاذن من المالك شرط
لصحة البيع لا لانشاء العقد. فعدم ترتب الأثر - على البيع لعدم الاذن من المالك
قبله ولا الإجازة بعده - لا يضر بصحة الانشاء. وكذا لو شك في صحة الهبة أو
بيع الصرف والسلم من جهة الشك في تحقق القبض، فان جريان أصالة الصحة في انشاء
الهبة أو البيع لا يثبت تحقق القبض، فلا يمكن ترتيب آثار الهبة والبيع، إذ لا تترتب
على صحة الجزء آثار الكل.
وظهر بما ذكرناه عدم تمامية ما ذكروه - في النزاع المعروف عند الشك في صحة
بيع الرهن من جهة الشك في تقدم البيع على رجوع المرتهن عن إذنه وتأخره عنه -
من التمسك لصحة البيع بجريان أصالة الصحة في الاذن (تارة) - كما عن جماعة -
ولفساده بجريان أصالة الصحة في الرجوع (أخرى) - كما عن جماعة أخرى. وذلك،
لان صحة الاذن لا تثبت وقوع البيع قبل الرجوع. كما أن صحة الرجوع لا تثبت وقوع
البيع بعده، فان صحة الاذن عبارة عن كونه بحيث لو وقع البيع بعده جامعا لسائر
330

الشرائط، لترتب عليه الأثر، كما أن صحة الرجوع عبارة عن كونه بحيث لو وقع
البيع بعده، لكان فاسدا.
هذا على القول ببقاء حق الرهانة مع الاذن في البيع. وأما على القول بعدمه
لكون الاذن في البيع اسقاطا لحق الرهانة، فلا مجال لجريان أصالة الصحة في الرجوع
أصلا، لعدم كونه قابلا للصحة بعد سقوط حق الرهانة. وظهر بما ذكرناه عدم جريان
أصالة الصحة في أصل البيع أيضا، لعدم إحراز قابلية البائع حين البيع، لاحتمال كون
الرجوع قبل البيع، فلا يكون مأذونا من قبل المالك، ولا يكفي إحراز القابلية آنا ما،
بل لابد من إحرازها حين البيع، كما هو الحال في جميع الشرائط، فان الطهارة لابد
من تحققها حين الصلاة، ولا يكفي تحققها في آن من الآنات، كما هو واضح.
فتحصل ان التمسك بأصالة الصحة في هذه المسألة، إما غير صحيح، أو غير
مفيد، كما أنه لا يصح التمسك باستصحاب بقاء الاذن إلى زمان وقوع البيع، لأنه (1)
معارض باستصحاب عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع، فلابد من الرجوع إلى أصل
آخر، وهو أصالة بقاء ملكية الراهن وعدم الانتقال إلى المشتري، فيحكم بفساد
البيع لأجل هذا الأصل.
(الجهة السابعة) - لابد في جريان أصالة الصحة من إحراز أصل العمل الجامع
بين الصحيح والفاسد، إذ السيرة قائمة على الحمل على الصحة فيما إذا أحرز أصل العمل،
وشك في صحته وفساده، لا فيما إذا شك في تحقق العمل. ومن هنا ظهر أنه
لو كان العمل من العناوين القصدية - كالصوم والصلاة والغسل - لا مجال لجريان
أصالة الصحة فيما إذا لم يحرز القصد، لكون الشك حينئذ في تحقق العمل لا في صحته
وفساده بعد احراز وجوده، كما تقدمت الإشارة إليه في قاعدة الفراغ، بل لا تجري

(1) بناء على ما تقدم منه، لا معارضة بين الاستصحابين، فراجع ص 201
331

أصالة الصحة مع عدم إحراز قصد العنوان، ولو لم يكن العمل من العناوين القصدية
كالطهارة من الخبث، فإنها لا تحتاج إلى قصد العنوان أصلا. ومع ذلك لو رأينا أحدا
يصب الماء على ثوب متنجس، ولم نعلم بأنه قصد تطهيره أو إزالة الوسخ مثلا، لا مجال
لجريان أصالة الصحة. نعم - بعد إحراز كونه قاصدا التطهير - لو شككنا في حصول
الطهارة الشرعية لاحتمال الاخلال بشرط من شروطها، كالعصر والتعدد، يحكم
بحصولها حملا لفعله على الصحة.
وظهر بما ذكرناه أنه لو استأجر الوصي أو الولي أحدا لاتيان الصوم أو الصلاة
عن الميت فأتى الأجير بعمل لا يدري الوصي أنه قصد به النيابة عن الميت أم لا؟
لا مجال لجريان أصالة الصحة والحكم بفراغ ذمة الميت، لان النيابة من العناوين القصدية
لابد من احرازها في جريان أصالة الصحة على ما ذكرناه، فبعد إحراز قصد النيابة
لو شك في صحة العمل المأتي به عن الميت لاحتمال اختلال فيه جزء أو شرطا، يكون
موردا لجريان أصالة الصحة والحكم بفراغ ذمة الميت.
ثم إنه ذكر شيخنا الأنصاري (ره) في المقام كلاما، حاصله: أن العمل الصادر
عن النائب ذو حيثيتين: (الأولى) - حيثية المباشرة وصدور العمل منه. (الثانية) -
حيثية النيابة وكون العمل عن الغير، ولكل من الحيثيتين احكام. فمن احكام
الحيثية الأولى وجوب مراعاة تكليف نفسه من حيث الجهر والاخفات ولو كان نائبا
عن امرأة. وكذا بالنسبة إلى الستر، فيجوز له الاكتفاء بستر العورتين، ولا يجوز
لبس الحرير مع كون المنوب عنه امرأة، لان هذه احكام جعلت للمباشر للصلاة،
سواء كانت لنفسه أو لغيره. ومن احكام الحيثية الثانية وجوب مراعاة تكليف المنوب
عنه من حيث القصر والاتمام، فإذا شك في صحة العمل الصادر عن النائب مع عدم
إحراز قصد النيابة، فالرجوع إلى أصالة الصحة لا يفيد بالنسبة إلى الحكم بفراغ ذمة
332

الميت، إذ مفادها صحة هذا العمل ولا يثبت بها قصد النيابة عن الميت. نعم يحكم
باستحقاق النائب للأجرة بمقتضى أصالة الصحة، لان مورد الإجارة هو العمل الصحيح
واصل العمل محرز بالوجدان. وصحته بأصالة الصحة. انتهى ملخصا.
أقول: التفكيك - بين الحكم بفراغ ذمة الميت واستحقاق الأجرة - غريب
جدا، فان مورد الإجارة ليس هو الاتيان بالعمل الصحيح مطلقا، بل الاتيان به نيابة
عن الميت ولا يثبت بأصالة الصحة قصد النيابة باعتراف منه (ره) فكيف يحكم باستحقاق
الأجرة لجريان أصالة الصحة؟ فالصحيح عدم الفرق بينهما في عدم ترتبهما على أصالة الصحة
إلا مع إحراز قصد النيابة.
ثم إن طريق إحراز هذا القصد إخبار العامل ليس إلا، فان العلم الوجداني
به وقيام البينة عليه متعذر، لكونه أمرا قلبيا لا يعلمه إلا العامل، فهل يكفي إخباره
مطلقا لانحصار الطريق فيه، أو بشرط العدالة، أو بشرط الوثاقة؟ وجوه:
أما اعتباره مطلقا - ولو كان فاسقا - غير متحرز عن الكذب، فلم يدل
عليه دليل. واعتبار الاخبار مطلقا - في موارد مخصوصة لانحصار الطريق فيه - مختص
بموارد النص، كما في إخبار المرأة عن كونها طاهرا أو حائضا أو حاملا أو غير ذلك،
فلا وجه للتعدي عن مورد النص إلى غيره.
وأما اعتبار العدالة، فلم يدل عليه دليل أيضا، فالمتعين هو الاكتفاء باخبار
العامل إذا كان ثقة، لما ذكرناه في بحث حجية الخبر من استقرار السيرة العقلائية
على العمل بخبر الثقة. ولم يردع عنه الشارع.
(الجهة الثامنة) - قد ذكرنا في بعض تنبيهات الاستصحاب: أنه لا أصل لما
هو المشهور بينهم من حجية مثبتات الامارات دون الأصول، إذ لم يدل دليل على حجية
المثبت من الامارات أيضا إلا في باب الاخبار، لاستقرار سيرة العقلاء على الاخذ
333

باللوازم في باب الاخبار على ما تقدم. فالبحث - عن كون أصالة الصحة من الامارات
أو من الأصول - مما لا تترتب عليه ثمرة، لعدم قيام السيرة على الحمل على الصحة
بالنسبة إلى اللوازم، سواء كانت من الامارات أو من الأصول. مضافا إلى وضوح
عدم كونها من الامارات، إذ ليس لها جهة كاشفية عن الواقع أصلا. غاية الامر
أن ظاهر حال المسلم - في مقام الامتثال - كاشف عن أنه لا يقدم إلا على الاتيان بما
هو صحيح عنده، لا أنه كاشف عن الصحة الواقعية. وقد ذكرنا أن مفاد أصالة الصحة
هو ترتيب آثار الواقع، لا الحمل على الصحة عند العامل. وبالجملة عدم جواز الاخذ
باللوازم - في أصالة الصحة - مما لا اشكال فيه. ولا يحتاج إلى ذكر أمثلة، إلا
أن الشيخ (ره) ذكر في المقام أمثلة ثلاث. ونحن نتبعه بذكرها.
(المثال الأول) - ما إذا شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك،
كالخمر والخنزير أو بعين معينة من أعيان ماله، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته،
لجريان أصالة الصحة في البيع، لكونه لازما لصحة البيع.
(أقول): ما ذكره من عدم الحكم بخروج العين عن ملكه مما لا اشكال فيه،
إلا أن ابتناء ذلك - على عدم حجية أصالة الصحة بالنسبة إلى اللوازم - ليس على ما
ينبغي، إذ المثال المذكور ليس موردا لجريان أصالة الصحة أصلا، لما ذكرناه سابقا من أن
جريانها متوقف على احراز قابلية الفاعل والمورد، فمع احتمال وقوع البيع على الخمر
والخنزيز لا مجال لجريان أصالة الصحة.
(المثال الثاني) - ما نقله عن العلامة (ره) وهو ما إذا اختلف المؤجر والمستأجر،
فقال المؤجر: آجرتك الدار مثلا كل شهر بكذا، وقال المستأجر: آجرتني سنة
بكذا، فالمؤجر يدعي فساد الإجارة، لعدم تعيين المدة. والمستأجر يدعي صحتها،
ففي تقديم قول المستأجر نظر. ومحل استشهاد الشيخ (ره) هو قول العلامة، ففي تقديم
334

قول المستأجر نظر، إذ الوجه في تقديمه أصالة الصحة، وكون منافع الدار في هذه
السنة للمستأجر لازم عقلي لصحة الإجارة المذكورة، للعلم بأن الإجارة - المرددة بين ما يقوله
المؤجر وما يقوله المستأجر - لو كانت صحيحة، لوقعت على ما يقوله المستأجر. وتحقيق
هذا البحث يقتضي التكلم في مقامين: (المقام الأول) - في صحة الإجارة وفسادها
فيما إذا قال المؤجر آجرتك كل شهر بدرهم. (المقام الثاني) - في حكم الاختلاف
المذكور على القول بالصحة وعلى القول بالفساد.
(أما المقام الأول) فالمشهور فيه فساد الإجارة، لعدم تعيين المدة. وهو شرط
في صحة الإجارة. وذهب بعضهم إلى صحتها بالنسبة إلى الشهر الأول، وفسادها
بالنسبة إلى غيره، وهو التحقيق، أما الفساد بالنسبة إلى غير الشهر الأول، فلعدم معلومية
المدة، بل ربما تكون غررية، كما إذا اختلفت الأجرة في الشهور كما في المشاهد
المشرفة، فان إجارة الدار في أيام الزيارة ليست متساوية مع غيرها، وأما الصحة
بالنسبة إلى الشهر الأول، فلان عقد البيع والإجارة وأمثالهما وان كان بحسب اللفظ
واحدا، إلا أنه بحسب اللب ينحل إلى عقود متعددة بتعدد المتعلق. فقوله: - آجرتك
الدار كل شهر بدرهم - ينحل إلى إجارات متعددة بتعدد الشهور، فلا مانع من صحة
الإجارة بالنسبة إلى الشهر الأول، لكون المدة معلومة، ولا يضر بها بطلان الإجارة
بالنسبة إلى غيره. ولذا ذكرنا أن بيع ما يملك وما لا يملك وبيع ما يملك وما لا يملك
صحيح، بالنسبة إلى ما يملك وما يملك. و (الأول) - كما إذا باع منا من الحنطة
من ماله، ومنا من الحنطة من مال زيد بدرهمين، وقال: بعتك منين من الحنطة كل
من بدرهم، فلم يمضه زيد. و (الثاني) - كما إذا باع شاة وخنزيرا، وقال: بعتك
الشاة والخنزير كل واحدة منهما بدرهم، فالبيع - من هذه الجهة نظير العام الاستغراقي -
ينحل إلى بيوع متعددة بحسب تعدد افراد المبيع، بل ينحل بحسب اجزاء مبيع واحد
335

على تقدير تساوي الاجزاء من حيث القيمة.
و (أما المقام الثاني) فعلى القول بالفساد يكون المؤجر مدعيا للفساد والمستأجر
مدعيا للصحة. ولا وجه لتقديم قول المستأجر، لعدم إحراز وقوع الإجارة على السنة
ليحكم بصحتها بمقتضى أصالة الصحة. وجريانها - في الإجارة على اجمالها - لا يثبت
وقوعها على السنة، وكون منفعة الدار المستأجر فيها، الا على القول بالأصل المثبت.
ولا نقول به - كما تقدم - فيحكم بتقديم قول المؤجر وفساد الإجارة الا أن يثبت المستأجر
صحتها. وأما على القول بصحة الإجارة بالنسبة إلى الشهر الأول، فيكون المؤجر أيضا
مدعيا للصحة، فيدخل في باب التداعي، إذ المؤجر يدعي فردا من الإجارة الصحيحة،
والمستأجر يدعي فردا آخر منها، فلو لم تقم البينة من طرف أصلا، تصل النوبة
إلى التحالف، فيتحالفان، وتنفسخ الإجارة بالتحالف، نظير ما إذا اختلف البائع
والمشتري في المثمن مع الانفاق على صحة البيع، أو اختلفا في أثمن، فبعد التحالف
ينفسخ البيع، ويرد كل من الثمن والمثمن إلى مالكه. وأما التقييد - بقوله هنا بعد
قوله: فالأقوى صحة العقد في الشهر الأول على ما في جامع المقاصد - وإن لم يكن
في عبارة الشيخ (ره)، فلم يتضح لنا إلى الآن وجهه.
(المثال الثالث) - ما نقله الشيخ أيضا عن العلامة (ره) وهو ما إذا اختلف
المؤجر والمستأجر في تعيين المدة أو الأجرة، فادعى المستأجر التعيين، وانكره المؤجر،
واستشكل في تقديم قول المستأجر لأصالة الصحة، ثم قال: والأقوى التقديم فيما لم يتضمن
دعوى. وقال في جامع المقاصد في شرح هذه العبارة: إن المستأجر إن ادعى تعيين
المدة أو الأجرة بأجرة المثل أو أزيد منها، لم يتضمن قوله دعوى شئ سوى صحة
الإجارة، فيقدم قوله بمقتضى أصالة الصحة. وان ادعى التعيين بأقل من أجرة المثل
يكون مدعيا لشئ زائد - على صحة الإجارة - يكون ضررا على المؤجر، فلا وجه
336

لتقديم قوله، إذا الزائد المذكور من لوازم صحة الإجارة، وليست أصالة الصحة حجة
بالنسبة إلى اللوازم كما ذكرنا.
ورده المحقق النائيني " ره " أنه لو ادعى المستأجر التعيين بأجرة المثل أو أزيد،
لا مجال لجريان أصالة الصحة، لعدم ترتب اثر عليها، فان أجرة المثل ثابتة في ذمة
المستأجر، سواء كانت الإجارة صحيحة أم فاسدة. أما في صورة الصحة، فواضح. وأما
مع الفساد، فلقاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده).
(أقول): ما ذكره المحقق النائيني (ره) يتم فيما إذا كان اختلاف المؤجر
والمستأجر بعد انقضاء المدة. وأما لو كان اختلافهما في أثناء المدة. فلا يكون جريان
أصالة الصحة لغوا: فإنه لو استأجر دارا في شهر مثلا، واختلفا في الأجرة في أثناء
الشهر. فادعى المستأجر تعيين الأجرة، وأنكره المؤجر، فأصالة الصحة وان كانت
- بالنسبة إلى ثبوت أجرة المثل - غير مثمرة. إلا أنها تثمر بالنسبة إلى تسليم العين، فعلى تقدير
جريانها ليس للمؤجر مطالبة العين المستأجرة إلى انقضاء المدة، وللمستأجر الانتفاع بها
في بقية المدة. بخلاف ما إذا حكمنا بعدم جريانها، إذ عليه للمؤجر مطالبة العين.
وعلى المستأجر تسليمها. والظاهر أن مورد كلام العلامة هو ما إذا كان الاختلاف قبل
انقضاء المدة، فالوجه في شرح مراده هو ما ذكره في جامع المقاصد.
(الجهة التاسعة) - في حكم معارضة أصالة الصحة مع الاستصحاب، وهي
المقصود بالبحث هنا، فنقول: الاستصحاب المعارض بأصالة الصحة إما حكمي،
وإما موضوعي. أما الاستصحاب الحكمي، فلا ينبغي الاشكال في تقديم أصالة الصحة عليه،
كما إذا شك في صحة بيع لاحتمال الاختلال في شرط من شروطه، مع احراز قابلية
الفاعل والمورد، فلا مجال للتمسك بالاستصحاب الحكمي (أي استصحاب عدم الانتقال
المعبر عنه بأصالة الفساد) بل المتعين هو الحكم بالصحة لأصالة الصحة. ولا تترتب
337

- على البحث عن أن تقديمها على الاستصحاب الحكمي هل هو من باب الحكومة أو
التخصيص؟ - ثمرة عملية فلا نتعرض للتكلم في هذه الجهة إذ بعد استقرار السيرة
على الحمل على الصحة - في مثل المثال المذكور - تكون أصالة الصحة مقدمة على الاستصحاب
سواء كان من باب الحكومة أم التخصيص، فلا فائدة في البحث عن هذه الجهة. وأما
الاستصحاب الموضوعي - كما إذا شك في صحة بيع لكون المبيع خمرا سابقا. وشك
في انقلابه خلا حين البيع - فلا إشكال في جريان الاستصحاب الموضوعي، فيحكم
ببقائه على الخمرية بالتعبد، فلا يبقى شك في فساد الجميع، لكونه واقعا على ما هو خمر
بحكم الشارع. وكذا لو شك في صحة بيع لاحتمال كون أحد المتبايعين غير بالغ، فبأصالة
عدم بلوغه يحرز كون البيع صادرا من غير البالغ، فيحكم بفساده. ولا مجال لجريان
أصالة الصحة في مثله لا لتقديم الاستصحاب الموضوعي عليها، بل لعدم جريانها في نفسها
مع قطع النظر عن الاستصحاب المذكور، لما ذكرناه من أنها متوقفة على احراز قابلية
الفاعل والمورد، فمع الشك في قابلية المورد - كما في المثال الأول. أو في قابلية الفاعل
كما في المثال الثاني - لا تجري أصالة الصحة، لعدم تحقق السيرة على الحمل على الصحة
إلا بعد إحراز القابلية، فهي غير جارية ولو لم يجر الاستصحاب أيضا، فعدم جريان
أصالة الصحة في هذه الأمثلة إنما هو لعدم المقتضي، لا لوجود المانع.
واعلم أن المحقق النائيني (ره) ذكر في المقام أنه - على القول بكون أصالة الصحة
من الامارات، والاستصحاب من الأصول - لا إشكال في تقديمها عليه. وعلى القول
بالعكس لا إشكال في العكس. وأطال الكلام في تقديم أحدهما على الآخر على القول
بكون كليهما من الامارات أو من الأصول.
وظهر بما ذكرناه أن هذه التفصيلات لا ترجع إلى محصل، لأنا ذكرنا أن الدليل
على أصالة الصحة هي السيرة، ففي كل مورد جرت السيرة فيه على الحمل على الصحة،
338

فلا محالة تكون أصالة الصحة جارية ومقدمة على الاستصحاب، ولو على القول بكونها
من الأصول والاستصحاب من الامارات، إذ تحقق السيرة على الحمل على الصحة كالنص
المخصص لدليل الاستصحاب وفى مورد لم يحرز قيام السيرة على الحمل على الصحة فيه
- كما في موارد الشك في القابلية - يقدم الاستصحاب عليها حتى على القول بكونها
من الامارات، والاستصحاب من الأصول، لعدم جريانها في نفسها لا لمعارضة
الاستصحاب كما ذكرناه آنفا، فعلى القول بكونها من الامارات تكون حينئذ من الامارات
غير المعتبرة. ولا إشكال في تقديم الأصل عليها. هذا تمام الكلام في أصالة الصحة
ومعارضتها مع الاستصحاب.
(الكلام في تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد)
وملخص الكلام فيه: أنه إن قلنا بكون قاعدة اليد في عرض سائر الامارات
وفي رتبتها، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب، لكونه متأخرا عن سائر
الامارات، بناء على كونه منها، فضلا عن القول بكونه من الأصول. وإن قلنا
بتأخر قاعدة اليد عن سائر الامارات، وأنها في رتبة الاستصحاب، فلابد من تقديمها
على الاستصحاب أيضا، لورود أدلتها في موارد الاستصحاب. فان الغالب العلم
بكون ما في أيدي الناس مسبوقا بكونه ملكا للغير، إلا في المباحات الأصلية، بل
يمكن جريان استصحاب عدم الملكية فيها أيضا على وجه، فلابد من تخصيص الاستصحاب
بها. وإلا يلزم حمل أدلة قاعدة اليد على الوارد النادرة، بل يلزم المحذور المنصوص،
وهو اختلال السوق.
نعم لا مانع من الرجوع الاستصحاب في موردين، لا لتقدمه على قاعدة
اليد، بل لعدم جريان القاعدة بنفسها لقصور المقتضي:
(المورد الأول) - ما إذا تقارنت اليد بالاقرار، كما إذا اعترف ذو اليد
339

بكون المال ملكا للمدعي، وادعى انتقاله إليه بالشراء أو الهبة، فينقلب ذو اليد مدعيا
والمدعي منكرا، فيحكم بكون المال للمدعي بمقتضي الاستصحاب، إلا أن يثبت ذو اليد
انتقاله إليه. ولا مجال للاخذ بقاعدة اليد، لعدم الدليل عليها مع اقتران اليد بالاعتراف
فان الدليل عليه هي السيرة، ورواية (1) حفص بن غياث الدالة على الحكم - بالملكية
على ما في أيدي المسلمين - المعلل بأنه لولا ذلك لما قام للمسلمين سوق. أما السيرة،
فلم يحرز قيامها في المقام (أي فيما إذا اقترنت اليد بالاعتراف) وأما الرواية، فلا اطلاق
لها يشمل المقام، إذ لا يلزم تعطيل السوق لو لم يؤخذ بها في مثل المقام.
(المورد الثاني) - ما إذا كانت اليد مسبوقة بكونها غير يد ملك، كما إذا
كانت أمانية أو عدوانية. بأن كان المال في يده بالإجارة أو العارية أو غصبا، فادعى
الملكية، فلا يمكن الاخذ بقاعدة اليد. بل يحكم ببقاء ملكية المالك بمقتضى الاستصحاب
لا لتقدمه على قاعدة اليد، بل لما ذكرناه من عدم المقتضي للقاعدة مع قطع
النظر عن الاستصحاب، إذ لم يحرز قيام السيرة في المقام، ولا يكون مشمولا للرواية
المتقدمة على ما ذكرناه في المورد الأول، فلا حاجة إلى الإعادة.

(1) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه، وعلي
ابن محمد القاساني جميعا عن القاسم بن يحيى عن سليمان بن داود عن حفص بن غياث
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يد رجل يجوز
لي أن اشهد أنه له؟ قال (ع): نعم، قال الرجل: اشهد أنه في يده ولا اشهد أنه له
فلعله لغيره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال
أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك؟
ثم تقول بعد الملك: هو لي. وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه
من قبله إليك، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ".
340

هذا، وذكر المحقق النائيني (ره) أن الوجه - في تقدم الاستصحاب
على قاعدة اليد في هذا المورد - أن أدلة قاعدة اليد مختصة بموارد الجهل بحال اليد، بأن
لا يعلم كونها مالكية أو غير مالكية. واليد في المقام غير مالكية سابقا، وبعد الشك
في صيرورتها مالكية يحكم ببقائها على ما كانت بمقتضى الاستصحاب، فيحرز كونها
غير مالكية بالتعبد، فلا يبقى موضوع لقاعدة اليد، لكون موضوعها اليد المجهولة
حالها على ما ذكرناه، فتقديم هذا الاستصحاب (أي أصالة عدم صيرورة اليد مالكية)
على قاعدة اليد إنما هو لكونه أصلا موضوعيا جاريا في موضوع قاعدة اليد. والاستصحاب
الذي تكون قاعدة اليد مقدمة عليه. هو الاستصحاب الجاري في مدلول قاعدة اليد
(أي الملكية) لا في نفسها.
وفيه أن لسان أدلة قاعدة اليد مطلق لم يؤخذ فيه قيد كون اليد مجهولة الحال.
نعم لا مجال للاخذ بقاعدة اليد مع العلم بكون اليد غير مالكية، كما أن الامر في جميع
الامارات كذلك، فإنه لا يمكن الاخذ بها مع العلم بمخالفتها للواقع. فالصحيح - في تقديم
الاستصحاب على قاعدة اليد في هذا المورد - هو ما ذكرناه: من عدم تمامية المقتضي
لها مع قطع النظر عن الاستصحاب، بحيث لا يمكن الاخذ بها، لو فرض عدم
جريان الاستصحاب، بل لابد من الرجوع إلى أصل آخر.
(الكلام في تعارض الاستصحاب مع القرعة)
والذي يستفاد - من مجموع الروايات الواردة في القرعة ومواردها - أنها
جعلت في كل مورد لا يعلم حكمه الواقعي ولا الظاهري. وهذا المعنى هو المراد من لفظ
المشكل في قولهم: " إن القرعة لكل امر مشكل " وإن لم نعثر على رواية بهذا اللفظ،
وهو المراد أيضا من لفظ المشكل المذكور في متون الكتب الفقهية، فان المراد - من قولهم:
هو مشكل أو فيه اشكال - عدم العلم بالحكم الواقعي، وعدم الاطمئنان بالحكم الظاهري
341

لجهة من الجهات، لا عدم العلم والاطمئنان بالحكم الواقعي فقط، إذ الاشكال بهذا
المعنى موجود في جميع الأحكام الفقهية، سوى القطعيات.
وبالجملة، مورد القرعة نظرا إلى مورد الروايات الواردة فيها هو اشتباه الحكم
الواقعي والظاهري، فالمراد - من المجهول في قوله (ع) في رواية: " كل مجهول
ففيه القرعة " - هو المجهول المطلق (أي المجهول من حيث الحكم الواقعي والظاهري).
وظهر بما ذكرناه أنه يقدم الاستصحاب على القرعة تقدم الوارد على المورود، إذ
بالاستصحاب يحرز الحكم الظاهري، فلا يبقى للقرعة موضوع بعد كون موضوعه الجهل
بالحكم الواقعي والظاهري على ما ذكرناه، بل يقدم على القرعة أدنى أصل من الأصول
كاصالة الطهارة وأصالة الحل وغيرهما مما ليس له نظر إلى الواقع، بل يعين الوظيفة
الفعلية في ظرف الشك في الواقع، إذ بعد تعيين الوظيفة الظاهرية تنتفي القرعة
بانتفاء موضوعه.
وظهر بما ذكرناه أيضا أنه لا أساس لما هو المعروف في ألسنتهم: من أن أدلة
القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة. وكثرة التخصيص صارت موجبة لوهنها، فلا
يمكن اخذ بها إلا في موارد انجبر ضعفها بعمل الأصحاب فيها. وذلك، لان الموارد
التي لم يعمل فيها بالقرعة إنما هو لعدم اشتباه الحكم الظاهري فيها لجريان قاعدة من القواعد
الظاهرية، لا لأجل تخصيص أدلة القرعة، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها.
نعم قد يعمل بالقرعة في بعض الموارد مع جريان القاعدة الظاهرية، للنص
الخاص الوارد فيه، كما إذا اشتبه غنم موطوء في قطيع، فإنه ورد نص دال على أنه
ينصف القطع ويقرع. ثم يجعل نصفين ويقرع، وهكذا إلى أن يعين الموطوء،
فيجتنب عنه دون الباقي. ولولا النص الخاص، لكان مقتضى القاعدة هو الاحتياط
والاجتناب عن الجميع.
342

وتحصل مما ذكرناه عدم جواز الرجوع إلى القرعة في الشبهات الحكمية أصلا.
إذ المرجع في جميع الشبهات الحكمية هي الأصول العملية التي مفادها احكام ظاهرية، فان
الشبهة الحكمية إن كانت لها حالة سابقة، فالمرجع فيها هو الاستصحاب. وإلا فان كان
الشك في التكليف. فيرجع إلى قاعدة البراءة. وإن كان الشك في المكلف به،
فلابد من الاحتياط. وأما التخيير في موارد دوران الامر بين المحذورين، فهو داخل
في البراءة، إذ معنى التخيير البراءة عن الوجوب والحرمة على ما ذكرناه في محله.
فالمورد الوحيد للقرعة هي الشبهات الموضوعية التي لا يعلم حكمها الواقعي. ولا تجري فيها
قاعدة من القواعد الظاهرية، كما إذا تداعى رجلان في مال عند ثالث معترف بأنه
ليس له، ولم يكن له حالة سابقة، فإنه ليس موردا لقاعدة اليد ولا الاستصحاب
ولا غيرهما من القواعد، فلابد من الرجوع إلى القرعة.
بقي شئ، وهو أن المستفاد من أدلة القرعة اختصاصها بموارد اشتباه الواقع،
بأن يكون له تعين. واشتبه على المكلف، كما في المثال الذي ذكرناه. ويدل عليه
قوله (ع): " ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله، ثم اقترعوا إلا خرج سهم المحق "
وقوله (ع) في ذيل رواية بعد قول الراوي: إن القرعة تخطئ وتصيب: " كلما حكم
الله به فليس بمخطئ ".
فلا يرجع إلى القرعة في مورد لا تعين له في الواقع أيضا، كما إذا طلق أحد
إحدى زوجاته بلا قصد التعيين، بأن يقول إحدى زوجاتي طالق، فعلى القول
بصحة هذا الطلاق لا يمكن الرجوع إلى القرعة، لتعيين المطلقة. هذا إذا لم يرد نص
خاص، والا فلا مانع من الرجوع إلى القرعة، وان كان المورد مما ليس له تعين
واقعي كما ورد النص - في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة - أنه
يقرع بينهم، فمن إصابة القرعة أعتق.
343

هذا تمام الكلام في بحث الاستصحاب وما يلحق به. والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الأطهار المعصومين.
344

مبحث
التعادل والترجيح
345

(الكلام في التعادل والترجيح)
ولا يخفى ان هذا البحث من أهم المسائل الأصولية لثبوت التعارض بين جملة
من الأدلة، فلا وجه لجعله خاتمة لعلم الأصول - كما عن بعض - المشعر بكونه
خارجا عنه، كمبحث الاجتهاد والتقليد. ولابد من التكلم في موضوع التعارض
وتعريفه (أولا) وفي حكمه من التساقط أو الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا (ثانيا).
فنقول: التعارض: تنافي مدلول دليلين بالتناقض، كما إذا دل أحدهما
على وجوب شئ، والاخر على عدم وجوبه، أو بالتضاد، كما إذا دل أحدهما
على وجوب شئ والاخر على حرمته. ويرجع التضاد أيضا إلى التناقض باعتبار الدلالة
الالتزامية، فان الدليل على الوجوب ينفى الحرمة بالالتزام وبالعكس، فيكون أحدهما
دالا على الوجوب بالمطابقة والاخر على عدمه بالالتزام. وكذا بالنسبة إلى الحرمة.
فإذا صح أن يقال: إن التعارض: تنافي مدلولي دليلين بالتناقض. غاية الامر
أن التناقض بينهما قد يكون باعتبار المدلول المطابقي فيهما، وقد يكون باعتبار المدلول
المطابقي في أحدهما والالتزامي في الاخر على ما ذكرناه.
ثم إن التنافي بين مدلولي دليلين إما ذاتي، وإما عرضي. والمراد بالتنافي
الذاتي ما كان التنافي بينهما باعتبار مفهومهما العرفي بالمطابقة أو بالالتزام على ما ذكرناه.
والمراد بالتنافي العرضي ما كان التنافي بينهما من جهة أمر خارج عن مدلولهما العرفي:
كالعلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع، كما إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة
يوم الجمعة تعيينا، والاخر على وجوب صلاة الظهر فيه كذلك، فإنه لا منافاة بينهما
بحسب المفهوم العرفي، لامكان وجوب كلتيهما، إلا أنا نعلم - بالضرورة من الدين -
عدم وجوب صلوات ست في يوم واحد، فلأجل هذا العلم يكون الدليل - الدال
346

على وجوب صلاة الجمعة - نافيا لوجوب صلاة الظهر بالالتزام. والدليل على وجوب
صلاة الظهر نافيا لوجوب صلاة الجمعة كذلك.
وظهر بما ذكرناه من معنى التعارض: أن موارد التخصص - والورود
والحكومة والتخصيص - خارجة عن التعارض، لعدم التنافي بين مدلول دليلين
في هذه الموارد، أما مورد التخصص، فخروجه - عن التعارض - واضح، فان
التخصص هو خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الاخر بالوجدان. فلا مجال
لتوهم التنافي بين الدليلين أصلا، فإذا دل دليل على حرمة الخمر مثلا، لا مجال لتوهم
التنافي بينه وبين ما يدل على حلية الماء، إذ الماء خارج عن موضوع الخمر بالوجدان.
وكذا الورود، فإنه أيضا عبارة عن الخروج الموضوعي بالوجدان. غاية الامر أن الخروج
المذكور من جهة التعبد الشرعي. (توضح ذلك): أنه بالتعبد الشرعي يتحقق أمران:
(أحدهما) - تعبدي. و (الاخر) وجداني. أما الامر التعبدي، فهو ثبوت
المتعبد به، فإنه ليس بالوجدان، بل بالتعبد. وأما الامر الوجداني، فهو نفس
التعبد، فإنه ثابت بالوجدان لا بالتعبد، وإلا يلزم التسلسل. ولذا ذكرنا في محله
أن حجية كل امارة ظنية لابد من أن تنتهي إلى العلم الوجداني، وإلا يلزم التسلسل.
مثلا إذا تعبدنا الشارع بحجية خبر العادل، فحجية الخبر تعبدي. وأما نفس التعبد
فهو ثابت بالوجدان، فالورود هو الخروج الموضوعي بنفس التعبد الثابت بالوجدان
كما في موارد قيام الدليل الشرعي بالنسبة إلى الأصول العقلية: كالبراءة والاشتغال
والتخيير، فان موضوع حكم العقل بالبراءة عدم البيان، إذ ملاك حكمه بها هو قبح
العقاب لا بيان. وقيام الدليل الشرعي يكون بيانا، فينتفي موضوع حكم العقل
بالوجدان ببركة التعبد بحجية هذا الدليل. وكذا الكلام بالنسبة إلى الاشتغال والتخيير،
فان موضوع حكم العقل بالاشتغال احتمال الضرر. وموضوع حكمه بالتخيير التحير
347

في مقام العمل، كما في دوران الامر بين المحذورين. وبعد قيام الحجة الشرعية لا يبقى
احتمال الضرر ولا التحير، ليكون موردا لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل، أو حكمه
بالتخيير من جهة اللاحرجية. وهذا مبني على كون التخيير أصلا في مقابل البراءة
والاحتياط. وأما بناء على كونه راجعا إلى البراءة، وأن العقل يحكم بقبح العقاب
على مخالفة خصوصية كل من التكليفين مع عدم بيانها، فهو ليس أصلا برأسه. وقد
مضى الكلام فيه. وأما إن كان الخروج الموضوعي بثبوت المتعبد به لا بنفس التعبد،
فهو قسم من الحكومة على ما نتكلم فيه قريبا انشاء الله تعالى. وأما الحكومة فهي
على قسمين:
(القسم الأول) - ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا للمراد
من الدليل الاخر، سواء كان مصدرا بكلمة مفسرة من نحو أي وأعني، أم لم يكن
مصدرا بها. ولكن كان لسانه شارحا، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم موجودا
لكان الدليل الحاكم لغوا، كقوله (ع): " لا ربا بين الوالد والولد " فإنه شارح
للدليل الدال على حرمة الربا، إذ لو لم يرد دليل على حرمة الربا، لكان الحكم - بعدم
الربا بين الوالد والولد - لغوا.
ثم إن الدليل الحاكم - الشارح للمراد من الدليل المحكوم قد يكون ناظرا
إلى عقد الوضع - كما في المثال الذي ذكرناه - فان قوله (ع): - " لا ربا بين
الوالد والولد " - ناظر إلى موضوع الحكم في الأدلة الدالة على حرمة الربا، وأن المراد
منه غير الربا بين الوالد والولد، فيكون نافيا للحكم بلسان نفي الموضوع، للعلم بتحقق
الموضوع فيما إذا تعاملا مع الزيادة. فالمقصود نفي حرمة الربا بينهما بلسان نفي الموضوع.
وكذا قوله (ع): " لا سهو للامام إذا حفظ عليه من خلفه " بالنسبة إلى قوله (ع):
" إذا شككت فابن على الأكثر ". وكذا بالنسبة إلى الأدلة الدالة على بطلان بالصلاة
348

بالشك. والمراد - بالسهو في هذه الرواية وأمثالها - هو الشك.
وقد يكون ناظرا إلى عقد الحمل، كما في قوله (ع): " لا ضرر ولا ضرار... "
وقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، وغيرهما من أدلة نفي الاحكام
الضررية والحرجية. فإنها حاكمة على الأدلة المثبتة للتكاليف بعمومها، حتى في موارد
الضرر والحرج، وشارحة لها بأن المراد ثبوت هذه التكاليف في غير موارد الضرر
والحرج.
(القسم الثاني) - من الحكومة أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الحكم
في الدليل الاخر - وإن لم يكن بمدلوله اللفظي شارحا له - كما في القسم الأول. وهذا
كحكومة الامارات على الأصول الشرعية: من البراءة والاستصحاب وقاعدة الفراغ
وغيرها من الأصول الجارية في الشبهات الحكمية أو الموضوعية، فان أدلة
الامارات لا تكون ناظرة إلى أدلة الأصول وشارحة لها، بحيث لو لم تكن الأصول
مجعولة لكان جعل الامارات لغوا، فان الخبر مثلا حجة، سواء كان الاستصحاب
حجة أم لا. ولا يلزم كون حجية الخبر لغوا على تقدير عدم حجية الاستصحاب، إلا
أن الامارات موجبة لارتفاع موضوع الأصول بالتعبد الشرعي. ولا تنافي بينهما
ليدخل في التعارض.
والوجه في ذلك أن كل دليل متكفل لبيان حكم لا يكون متكفلا لتحقق
موضوعه، بل مفاده ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع. وأما كون الموضوع
محققا أو غير محقق، فهو خارج عن مدلول هذا الدليل. ولذا ذكرنا في محله أن مرجع
القضايا الحقيقية إلى القضايا الشرطية مقدمها تحقق الموضوع، وتاليها ثبوت الحكم.
ومن المعلوم أن الموضوع المأخوذ في أدلة الأصول هو الشك. وأما كون المكلف شاكا
أو غير شاك، فهو خارج عن مفادها. والامارات ترفع الشك بالتعبد الشرعي، وتجعل
349

المكلف عالما تعبديا وان كان شاكا وجدانيا. فلا يبقى موضوع للأصول. ولا منافاة
بين الامارة والأصل، فان مفاد الأصل هو البناء العملي على تقدير الشك في شئ.
ومفاد الامارة ثبوت هذا الشئ وارتفاع الشك فيه. ولا منافاة بين تعليق شئ على شئ
وبين الحكم بعدم تحقق المعلق عليه، كما هو ظاهر. مثلا مفاد البراءة الشرعية هو البناء
العملي على عدم التكليف على تقدير الشك فيه، فإذا دل خبر معتبر على ثبوت التكليف،
لم يبق شك فيه بالتعبد الشرعي باعتبار حجية الخبر، فهو عالم بالتكليف بحكم الشارع،
فيتعين الاخذ بالخبر، بلا منافاة بينه وبين أدلة البراءة. وكذا الكلام في الأصول
الجارية في الشبهات الموضوعية: كقاعدة الفراغ مثلا، فان موضوعها الشك في صحة
العمل وفساده بعد الفراغ منه. ومع قيام البينة على الفساد يكون المكلف عالما بالفساد
بحكم الشارع، فلا يمكن الرجوع إلى قاعدة الفراغ، لارتفاع موضوعه بالتعبد
الشرعي. ولا منافاة بينها وبين البينة أصلا، إذ مفاد القاعدة هو البناء العملي على الصحة
على تقدير الشك في الصحة والفساد. ومفاد البينة ثبوت الفساد، فلا منافاة بينهما.
وظهر بما ذكرناه أن الدليل الحاكم يتقدم على المحكوم ولو كان بينهما عموم من وجه،
لارتفاع موضوع المحكوم في مادة الاجتماع، بلا فرق بين أن يكون الحاكم أقوى
دلالة من المحكوم، أو أضعف منه، بل لو كان المحكوم نصا والحاكم ظاهرا، يقدم
الحاكم على المحكوم، لما ذكرناه من عدم التنافي بينهما، لارتفاع موضوع المحكوم.
وأما التخصيص، فالوجه في خروجه عن التعارض: أن حجية العام - بل
كل دليل - متوقفة على أمور ثلاثة:
(الأول) - صدوره من المعصوم عليه السلام.
(الثاني) - إثبات أن ظاهره مراد للمتكلم، لاحتمال أن يكون مراده
خلاف الظاهر.
350

(الثالث) - اثبات الإرادة الجدية، وأنه في مقام بيان الحكم جدا، لاحتمال
أن يكون ظاهره مرادا بالإرادة الاستعمالية فقط دون الإرادة الجدية، لكونه في مقام
الامتحان أو التقية مثلا.
والمتكفل للامر الأول هو البحث عن حجية الخبر. وقد ثبتت حجية خبر
العادل أو الثقة - على اختلاف المباني - بالتعبد الشرعي على ما هو مذكور في ذلك
البحث. والأمران الآخران ثابتان ببناء العقلاء، فمن تكلم بكلام، ثم اعتذر
بأن ظاهره لم يكن مرادي - مع عدم نصب قرينة على الخلاف، أو اعتذر بأني لم أرد
ظاهره بالإرادة الجدية. وإنما قلته امتحانا مثلا - لا يقبل منه هذا الاعتذار.
وبالجملة لا ينبغي الاشكال في حجية الظهور من حيث الإرادة الاستعمالية،
ومن حيث الإرادة الجدية ببناء العقلاء. ويعبر عن الأول بأصالة الحقيقة، وعن الثاني
بأصالة الجهة أو أصالة الجد. ومن المعلوم أن بناء العقلاء على العمل بالظواهر إنما هو
في مقام الشك في المراد الاستعمالي أو المراد الجدي، إذ لم يتحقق بناء منهم على العمل
بالظواهر، مع العلم بأن مراد المتكلم خلاف الظاهر، أو مع العلم بأنه في مقام الامتحان
أو التقية. وليست له إرادة جدية، فلا يمكن الاخذ بالظهور مع قيام القرينة القطعية
على الخلاف من الجهة الأولى أو الجهة الثانية، بلا فرق بين كون القرينة متصلة
في الكلام أو منفصلة عنه. غاية الامر أن القرينة المتصلة مانعة عن انعقاد الظهور من أول
الامر. والقرينة المنفصلة كاشفة عن عدم كون الظاهر مرادا. هذا كله في القرينة
القطعية. وكذا الكلام في القرينة الظنية المعتبرة، كالخبر، فإنه أيضا قرينة قطعية.
غاية الامر أنه ليس قرينة قطعية وجدانية، بل قرينة قطعية تعبدية.
وغاية الفرق بين القرينة القطعية والقرينة الظنية: أن القرينة القطعية مقدمة
على العام مثلا بالورود لارتفاع موضوع حجية العام وهو الشك بالوجدان، إذ لا يبقى
351

شك مع القرينة القطعية. والقرينة الظنية مقدمة على العام بالحكومة، لارتفاع موضوع
حجيته وهو الشك بالتعبد الشرعي، فالدليل الخاص وان كان مخصصا بالنسبة إلى الدليل
العام، لكنه حاكم بالنسبة إلى دليل حجية العام، إذ الموضوع المأخوذ في دليل الحجية
هو الشك. والدليل الخاص يرفع الشك تعبدا، فمرجع التخصيص إلى الحكومة بالنسبة
إلى دليل الحجية، فلا منافاة بينهما على ما تقدم، كما أن مرجع الحكومة التخصيص،
فان مفاد قوله (ع): - " لا ربا بين الوالد والولد " - هو نفي حرمة الربا بينهما،
وإن كان لسانه نفي الموضوع، فهو تخصيص بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حرمة الربا
عموما، لكنه تخصيص بلسان الحكومة. وكذا الامر في كل قرينة مع ذيها، فإنه
إن كانت القرينة قطعية، فهي واردة على ذي القرينة، لكونها موجبة لارتفاع
موضوع حجيته بالوجدان، وإن كانت القرينة ظنية، فهي حاكمة على ذيها، لكونها
موجبة لارتفاع موضوع حجيته بالتعبد الشرعي. وظهر بما ذكرناه أنه لا تنافى بين
بين الأظهر والظاهر - فضلا عن النص والظاهر - فان الأظهر قرينة على إرادة
الخلاف من الظاهر.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا تنافي بين العام والخاص، وأن الخاص يقدم على العام
من باب الحكومة بالنسبة إلى دليل حجية العام وإن كان تخصيصا بالنسبة إلى نفس
العام. وهذا هو الفارق بين التخصيص والحكومة المصطلحة، فان الدليل الحاكم حاكم
على نفس الدليل المحكوم في الحكومة الاصطلاحية، بخلاف التخصيص، إذ الخاص
ليس حاكما على نفس العام، بل حاكم على دليل حجية العام، على ما عرفت. ولا
يتوقف تقديم الخاص على العام على كون الخاص أظهر والعام ظاهرا، على ما يظهر
من كلام الشيخ (ره) فإنه علل تقديم الخاص على العام بكون الخاص نصا أو أظهر،
فيقدم على الظاهر وهو العام. وذلك لما، ذكرناه من أن موضوع حجية العام هو الشك،
352

وبورود الخاص يرتفع الشك، فيسقط العام عن الحجية. ولو كان في أعلى مرتبة
من الظهور، فيقدم الخاص عليه وان كان في أدنى مراتبه، وكذا الامر في كل
قرينة من ذيها، فان القرينة مع إحراز قرينيتها مقدمة على ذي القرينة. ولو كان ظهوره
أقوى من ظهور القرينة. وظهر بما ذكرناه أن ما ذكره صاحب الحدائق - واحتمله
صاحب الكفاية (ره) أخيرا من أنه يعامل مع العام والخاص معاملة المتعارضين
من الرجوع إلى المرجحات، والى التخيير مع فقدها - ليس في محله، إذ مع وجود
الخاص يرتفع موضوع حجية العام، وبعد عدم كون العام حجة لا معنى للتعارض بينه
وبين الخاص، لان التعارض هو تنافي الحجتين من حيث المدلول.
(الكلام في الفرق بين التعارض والتزاحم)
(اعلم) أن التزاحم قد يطلق على تزاحم الملاكات، كما إذا كان في فعل
جهة مصلحة تقتضي ايجابه، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه، أو كان فيه جهة مصلحة
تقتضي ايجابه، وجهة مصلحة تقتضي إباحته، فان الإباحة لا تلزم أن تكون ناشئة
من عدم المصلحة وعدم المفسدة دائما، بل قد تكون ناشئة من مصلحة في الترخيص،
كما في قوله (ع): " لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك " يعني الترخيص،
في ترك السواك، وهو الإباحة بالمعنى الأعم، إنما هو لمصلحة التسهيل على الأمة.
والامر في هذا التزاحم بيد المولى، فهو الذي يلاحظ الجهات، ويجعل الحكم
طبقا لما هو الأقوى من الملاكات. وليس للعبد إلا الامتثال بلا ملاحظة المصلحة
أو المفسدة، بل لو فرض أن المولى قد اشتبه وجعل الوجوب بزعم كون المصلحة أقوى
من المفسدة، وعلم العبد بتساويهما أو بكون المفسدة أقوى من المصلحة. يجب عليه
الامتثال بحكم العقل، فإنه لو تركه معتذرا بكون المأمور به خاليا عن المصلحة، لا يسمع
منه الاعتذار ويكون معاقبا عند العقلاء، كما أن الامر في القوانين المجعولة من قبل
353

الحكومات كذلك، فإنه لو خالفها أحد من الرعايا - اعتذارا بوجود المفسدة أو بعدم
المصلحة - لا يسمع منه ويكون معاقبا عند الحكام. وحيث أنه ليس للمكلف دخل
في هذا التزاحم، فلا تترتب - على البحث عنه - ثمرة، فهو خارج عن محل البحث.
والتزاحم بهذا المعنى مختص بمذهب العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها
- كما عليه المشهور منهم - أو في نفس الاحكام كما عليه جماعة منهم. وأما على مذهب
الأشاعرة القائلين بعدم تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد أصلا، فلا يتصور التزاحم
بهذا المعنى.
وقد يطلق التزاحم على تزاحم الاحكام في مقام الامتثال، بأن توجه إلى المكلف
تكليفان: يكون امتثال أحدهما متوقفا على مخالفة الاخر لعجزه عن امتثال كليهما،
كما إذا توقف إنقاذ الغريق على التصرف في الأرض المغصوبة، أو كان هناك غريقان
لا يقدر المكلف إلا على انقاذ أحدهما. وتحقق هذا التزاحم لا يتوقف على وجود الملاك
في متعلقات الاحكام أو في نفسها، بل يمكن تحققه حتى على مذهب الأشاعرة القائلين
بعدم تبعية الاحكام للملاكات أصلا، كما هو واضح. وهذا التزاحم هو المقصود
بالبحث هنا.
وملخص الفرق بينه وبين التعارض: أنه ليس في باب التزاحم تناف بين
الدليلين من حيث المدلول أصلا، إذ من الواضح عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب
الانقاذ، والدليل الدال على حرمة التصرف في الغصب. نعم القدرة مأخوذة في موضوع
كلا الحكمين، إما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وإما من جهة اقتضاء نفس
التكليف ذلك، على خلاف بيننا وبين المحقق النائيني (ره). وحيث أن المكلف
لا يقدر على امتثال كلا التكليفين - على الفرض - يكون اختيار أحدهما - تعيينا
أو تخييرا - موجبا لعجزه عن امتثال الاخر، فيكون الحكم الاخر منتفيا بانتفاء موضوعه.
354

ولا يلزم منه التصرف في دليله، إذ مفاد الأدلة الشرعية مفاد القضايا الحقيقة الدالة
على ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع. والدليل الدال على حكم لا يكون متكفلا لبيان
موضوعه من حيث التحقق والعدم، فكون المكلف قادرا أو غير قادر خارج عن مفاد
الدليل، بل مفاده ثبوت التكليف عند تحقق القدرة، فنفي الحكم بانتفاء موضوعه
لا يكون رفع اليد عن الدليل الدال عليه. وهذا بخلاف باب التعارض، إذ التنافي
بين الدليلين من حيث المدلول ثابت فيه، سواء كان التنافي بينهما في تمام المدلول
- كما في المتباينين - أو في بعض المدلول - كالعامين من وجه - فان التنافي بينهما في مادة
الاجتماع فقط، فالأخذ بأحدهما - للترجيح أو التخيير - موجب لرفع اليد عن الاخر
والحكم بعدم ثبوت مدلوله، فيكون الحكم الاخر منتفيا مع بقاء موضوعه لا بانتفائه،
فان الاخذ - بالدليل الدال على طهارة شئ - موجب لرفع اليد عن الدليل
الدال على نجاسته، فيكون الحكم بالنجاسة منفيا عن موضوعه لا منتفيا بانتفاء موضوعه،
لبقاء الموضوع بحاله. وبعبارة أخرى ثبوت مدلول أحد الدليلين في باب التعارض
يوجب انتفاء مدلول الاخر في مقام الجعل، بخلاف باب التزاحم، فان ثبوت أحدهما
يوجب انتفاء موضوع الاخر، فيوجب انتفاءه في مرتبة الفعلية لانتفاء موضوعه،
لا انتفاءه في مقام الجعل. ولذا يمكن التفكيك باعتبار الأشخاص في باب التزاحم،
كما إذا كان أحد قادرا على إنقاذ كلا الغريقين، والاخر قادرا على إنقاذ أحدهما فقط
فيتحقق التزاحم بالنسبة إلى الثاني دون الأول، بخلاف باب التعارض، إذ لا يمكن
الحكم بالنجاسة في المثال الذي ذكرناه بالنسبة إلى شخص، وبالطهارة بالنسبة إلى آخر.
بل تقديم أحد الدليلين - على الاخر للترجيح أو التخيير - يوجب الحكم بمدلوله
من الطهارة أو النجاسة للجميع. وظهر بما ذكرناه - من أن التنافي بين الدليلين من حيث
المدلول مأخوذ في التعارض، وأنه لا تنافي بينهما في التزاحم أصلا - كمال الفرق
355

بينهما، فلا نحتاج إلى تأسيس أصل يكون مرجعا عند الشك في التعارض والتزاحم.
وكيف يمكن تأسيس الأصل للشك بينهما، مع عدم الجامع بينهما أصلا، بأن يكونا
داخلين في جامع فعلم بوجوده وشك في الخصوصية؟ وكان المحقق النائيني (ره) يقول:
إن القول - بأن الأصل التعارض أو التزاحم - أشبه شئ بأن يقال: إن الأصل
في الأشياء الطهارة أو صحة بيع الفضولي.
ثم إن المحقق النائيني (ره) ذكر قسما آخر من التزاحم، وسماه التزاحم من غير
ناحية القدرة، كما في القسم السابق. ومثله بما لو كان المكلف مالكا لخمس وعشرين
من الإبل في ستة أشهر، ثم ملك بعيرا آخر، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس
شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين، ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول
الست والعشرين. ولكن قام الدليل على أن المال لا يزكى في عام واحد مرتين، فيقع
التزاحم بين الحكمين من جهة هذا الدليل الخارجي، لا من جهة عدم قدرة المكلف
على امتثالهما معا. فلابد من سقوط ستة أشهر، إما من حول الخمس والعشرين، وإما
من حول الست والعشرين، إذ لولا السقوط يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين،
وهي الستة الوسطى من ثمانية عشر شهرا، لكونها منتهى لنصاب الخمس والعشرين،
ومبدءا لنصاب الست والعشرين، فيلزم احتسابها مرتين ووجوب الزكاة فيها مرتين.
وهذا هو التزاحم من جهة الدليل الخارجي لا من جهة عدم قدرة المكلف. ولا يكون
من باب التعارض، لعدم التنافي من حيث المدلول بين ما يدل على وجوب خمس شياه
في الخمس والعشرين، وما يدل على وجوب بنت مخاض في الست والعشرين. هذا
محصل كلامه زيد في علو مقامه.
ولم يتضح لنا وجه لكون هذا المثال من باب التزاحم، فإنه من قبيل تعارض
الدليلين في مسألة الظهر والجمعة بعينه، إذ لا تنافي بين ما يدل على وجوب الظهر وما يدل
356

على وجوب الجمعة، لامكان الجمع بينهما. ولكن التنافي بينهما إنما هو من جهة الدليل
الخارجي، وهو الاجماع والضرورة القاضية بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد،
كما تقدم. فالصحيح إدخال المثال المذكور في التعارض دون التزاحم، وانحصار التزاحم
بما إذا كان المكلف عاجزا عن امتثال الحكمين معا.
ثم إنه ينبغي التعرض لبعض مرجحات باب التزاحم، فنقول: إنهم ذكروا الترجيح
أحد المتزاحمين على الاخر أمورا: (الأول) - كون أحدهما مما لا بدل له، فيرجح
على ما يكون له البدل، سواء كان البدل طوليا أو عرضيا. والأول كالواجب الموسع،
فإذا وقعت المزاحمة بينه وبين الواجب المضيق، وجب ترجيح المضيق بلا لحاظ الأهمية
بينه وبين الموسع، بل ولو كان الموسع بمراتب من الأهمية بالنسبة إلى المضيق، كالصلاة
بالنسبة إلى جواب السلام مثلا، فإنه لا شبهة في كونها من أهم الفرائض وعمود الدين
كما في الخبر. ومع ذلك يجب تقديم جواب السلام عليها، لما لها من البدل الطولي
باعتبار الزمان.
(الثاني) - أي ما كان له البدل العرضي، كالواجب التخييري، فإذا وقع
التزاحم بينه وبين الواجب التعييني، وجب تقديم التعييني عليه، والاكتفاء بالبدل
العرضي للواجب التخييري، كما إذا وجب على المكلف أحد الكفارات الثلاث تخييرا
وكان عليه دين، ووقع التزاحم بين أدائه وبين الاطعام مثلا، فيجب تقديم الدين
على الاطعام، لما له من البدل العرضي وهو الصيام.
وهذا الذي ذكروه من تقديم الواجب المضيق على الموسع، وتقديم الواجب
التعييني على التخييري - وإن كان مما لا اشكال فيه - إلا أن ادراج المثالين -
في التزاحم والحكم بأن التقديم المذكور إنما هو لترجيح أحد المتزاحمين على الاخر - ليس
بصحيح، لما ذكرناه من أن ملاك التزاحم أن لا يكون المكلف متمكنا من امتثال
357

الحكمين معا، بحيث يكون امتثال أحدهما متوقفا على مخالفة الاخر كمسألة إنقاذ الفريقين.
والمثالان ليسا كذلك، بداهة أنه لا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق،
لقدرة المكلف على امتثال كليهما، إذ التكليف في الواجب الموسع متعلق بالطبيعة ملغى
عنها الخصوصيات الفردية. والمكلف قادر على امتثال التكليف بالطبيعة في ضمن الفرد
غير المزاحم للواجب المضيق. نعم الفرد الخاص من الطبيعة مزاحم للواجب المضيق،
وليس هو الواجب، بل الواجب هو الطبيعة، وهو فرد منه. وكذا الكلام
في الواجب التخييري والتعييني، فإنه لا مزاحمة بينهما، لقدرة المكلف على امتثال
كليهما، لان التكليف في الواجب التخييري أيضا متعلق بالجامع، وإن كان أمرا
انتزاعيا. كعنوان أحد الامرين. ولا مزاحمة بين التكليف بالكلي والواجب التعييني.
وإنما المزاحمة بين فرد خاص منه والواجب التعييني، وليس هو الواجب إلا على قول
سخيف في الواجب التخييري، وهو أن الواجب ما يختاره المكلف، وقد تبرأ من هذا
القول كل من الأشاعرة والمعتزلة، ونسبه إلى الاخر. فلا مزاحمة بين الواجبين في المثالين.
ووجوب التقديم فيهما إنما هو بحكم العقل، لكون المكلف قادرا على امتثال التكليفين،
فيجب عليه امتثالهما عقلا بتقديم المضيق. والآتيان بالموسع بعده، وباتيان الواجب
التعييني والعدل غير المزاحم له من أفراد الواجب التخييري. ولا يجوز تقديم الموسع
والواجب التخييري. فإنه يوجب فوات الواجب المضيق والواجب التعييني من قبل نفسه.
(المرجح الثاني) - كون أحد الواجبين غير مشروط بالقدرة شرعا، فيقدم
على واجب مشروط بها شرعا. والمراد بالثاني ما يكون ملاكه متوقفا على القدرة، ففي
صورة العجز ليس له ملاك أصلا. بخلاف الأول، فان المراد به ما يكون ملاكه غير
متوقف على القدرة، فهو تام لملاك ولو مع العجز، وإن كان المكلف معذورا
في فواته عقلا، كما إذا دار الامر بين حفظ النفس المحترمة من الهلاك، وبين الوضوء
358

فان ملاك حفظ النفس ومصلحته غير متوقف على القدرة، وان كان العاجز معذورا
عقلا، بخلاف الوضوء، فإنه مشروط بالقدرة شرعا بقرينة مقابلة الامر به للامر
بالتيمم المقيد بفقدان الماء. والمراد به عدم القدرة على الوضوء، إذ من المعلوم أن مجرد
وجدان الماء لا يرفع التكليف بالتيمم، ولو مع عدم القدرة على الاستعمال. وبعد
كون التكليف بالتيمم مشروطا بعدم القدرة على الوضوء يكون التكليف بالوضوء مشروطا
بالقدرة لا محالة، لان التقسيم قاطع للشركة، كما ذكرناه سابقا، فيجب تقديم حفظ
النفس وينتقل من الوضوء إلى التيمم، لأنه مع تقديمه لا تفوت عن المكلف مصلحة
أصلا، فان مصلحة حفظ النفس محفوظة بالامتثال. ومع صرف القدرة فيه ينتفي التكليف
بالوضوء بانتفاء موضوعه. وهو القدرة، فليس له ملاك ليفوت، بخلاف تقديم
الوضوء، فإنه يوجب تفويت مصلحة حفظ النفس، لعدم كونها مشروطة بالقدرة
على الفرض.
أقول: لو اعتبر في موضوع أحد التكليفين القدرة الشرعية، بمعنى أن لا يكون
المكلف بالفعل مشغول الذمة بواجب آخر، لا يجتمع معه في الوجود، فلا اشكال
في تقديم ما هو غير مشروط بها على المشروط، فان المفروض أن نفس توجه التكليف
- بما هو غير مشروط - يمنع عن تحقق موضوع المشروط. ولكن هذا الفرض خارج
عن التزاحم، لما ذكرناه سابقا من أن الملاك في التزاحم أن يكون امتثال أحد التكليفين
موجبا لارتفاع موضوع الاخر. وليس المقام كذلك، فان نفس التكليف بغير المشروط
رافع لموضوع المشروط وتعجيز للمكلف عنه. ولذا ذكرنا في بحث الترتب أنه لو لم
يصرف قدرته في غير المشروط، لا يصح المشروط ولو على القول بامكان الترتب.
وأما لو كانت القدرة - المعتبرة في موضوع أحد التكليفين - عبارة عن تمكن
المكلف من الاتيان بمتعلقه خارجا، فلا اشكال حينئذ في فعلية المشروط ووجود
359

المصلحة فيه. لتحقق موضوعه، كما أنه لا اشكال في فعلية غير المشروط بها. وبما
أن المكلف غير متمكن من الجمع بينهما، فلا محالة يتحقق التزاحم بينهما، إلا أنه
لا دليل حينئذ على تقديم غير المشروط على المشروط، إذ المفروض تمامية الملاك في الطرفين
وعدم تمكن المكلف من استيفائهما معا، فلابد من ملاحظة الأهمية في مقام الترجيح.
ثم انهم رتبوا على ما ذكر - من تقديم غير المشروط بالقدرة شرعا على المشروط
بها - أنه لو كان عند المكلف مقدار من الماء، ودار الامر بين صرفه في الوضوء
وصرفه في تطهير ثوبه أن بدنه، تعين صرفه في تطهير الثوب، وينتقل من الوضوء
إلى التيمم، لكونه مشروطا بالقدرة شرعا، بخلاف تطهير الثوب. ولكن الصحيح
أن الكبرى المذكورة لا تنطبق على المثال المذكور، لوجهين:
(الوجه الأول) - أن الوضوء ليس متعلقا للتكليف النفسي، وكذا تطهير
الثوب كي يتوهم التزاحم بينهما ويقدم أحدهما على الاخر للمرجح المذكور، بل الامر
المتعلق بهما ارشاد إلى شرطية كل منهما للصلاة. ولذا لا يعاقب المكلف على تركهما،
بل العقاب انما هو على ترك الصلاة المقيدة بهما، فالمأمور به هي الصلاة مع الطهارة المائية
مشروطة بالقدرة، ومع العجز يكون البدل هي الصلاة مع الطهارة الترابية. فقولنا:
- التيمم بدل عن الوضوء - مسامحة في التعبير. وكذا الامر بالنسبة إلى التطهير،
فان المأمور به هي الصلاة في ثوب طاهر مع القدرة، وفي صورة العجز يكون البدل هي
الصلاة في ثوب نجس - كما هو الصحيح - أو الصلاة عريانا - كما عليه المشهور -
فلا فرق بينهما من هذه الجهة، لاشتراط كل منهما بالقدرة، وثبوت البدل لكل
منهما مع العجز.
(الوجه الثاني) - أن المثال المذكور خارج عن باب التزاحم رأسا، فان
التزاحم إنما هو فيما إذا كان هناك واجبان لا يتمكن المكلف من امتثالهما معا. وليس
360

المقام كذلك، فان الواجب في المقام واحد، وهو الصلاة المقيدة بقيود: (منها) -
الطهارة من الحدث والخبث، ومع العجز عن الاتيان بها جامعة للشرائط - كما في المثال -
يسقط الامر رأسا، فان الامر بالمجموع تكليف بما لا يطاق. ووجوب الباقي يحتاج
إلى دليل. خرجنا عن ذلك في باب الصلاة بما دل على عدم سقوط الامر بها بحال. وعليه
فيقع التعارض بين اطلاق دليل شرطية الوضوء واطلاق دليل شرطية طهارة الثوب،
إذ لنا علم اجمالا بوجوب الصلاة في هذا الحال إما مع الطهارة المائية في ثوب نجس،
وإما مع الطهارة الترابية في ثوب طاهر. ولا ندري أن المجعول في الشريعة أيهما؟ وحيث
أن مقتضى اطلاق دليل الوضوء هو الأول، ومقتضى اطلاق دليل طهارة الثوب هو
الثاني، يقع التكاذب بينهما لا محالة. فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض
ومع فقدها يرجع إلى الأصل العملي. وحيث انا نعلم بتقييد الصلاة بأحد الامرين،
واعتبار خصوصية كل منهما مجهول يرفع بأصالة البراءة، فالمكلف مخير بين صرف الماء
في التطهير من الخبث. والآتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية، وصرفه في الوضوء والآتيان
بالصلاة في الثوب النجس أو عريانا، وإن كان الأول أحوط، لوجود القول بالتعيين.
(المرجح الثالث) - كون أحد المتزاحمين أهم من الاخر، فيجب تقديم الأهم
على المهم بحكم العقل. وهذا المرجح من القضايا التي قياساتها معها، فان تقديم المهم
يوجب تفويت المقدار الزائد من المصلحة، بخلاف تقديم الأهم. ومن الأمثلة الواضحة
دوران الامر بين إنقاذ ابن المولى وماله، فان العقل مستقل بتقديم الأول. وأوضح
منه دوران الامر بين إنقاذ نفس المولى وماله. و (بالجملة) لا يحتاج الترجيح بهذا المرجح
إلى مؤنة الاستدلال والبيان.
(المرجح الرابع) - كون أحد الواجبين سابقا على الاخر من حيث الزمان،
بأن يكون ظرف امتثال أحدهما مقدما على الاخر زمانا. مع كون الوجوب فعليا في كل
361

منهما بنحو التعليق. كما إذا نذر أحد صوم يوم الخميس ويوم الجمعة، ثم علم بعدم
قدرته على الصوم فيهما، فيختار صوم يوم الخميس، لكونه مقدما زمانا على صوم يوم
الجمعة. وكذا إذا دار الامر بين ترك القيام في صلاة الظهر وتركه في صلاة العصر
لعجزه عن القيام فيهما. فيقدم ما هو المقدم زمانا - وهو صلاة الظهر - ويأتي بصلاة العصر
جالسا. والوجه - في هذا الترجيح - ظاهر أيضا، فان الاتيان بالمقدم زمانا يوجب
عجزه عن المتأخر. فيكون التكليف به منتفيا بانتفاء موضوعه، وهو القدرة، إذ
المعتبر - من القدرة في صحة التكليف عقلا - هي القدرة في ظرف الواجب، وهي
مفقودة بالنسبة إلى المتأخر بعد الاتيان بالمتقدم، بخلاف الاتيان بالمتأخر زمانا، فإنه
لا يوجب عجزه عن المتقدم في ظرفه، فليس معذورا في تركه. فمن صام يوم الخميس
- في مفروض المثال - يكون معذورا في ترك الصيام يوم الجمعة لعجزه عنه فيه. وأما
من صام يوم الجمعة لا يكون معذورا في تركه يوم الخميس، لعدم عجزه عنه فيه، كما هو
واضح. ومن هنا لم يلتزم أحد بجواز ترك الصوم في أول شهر رمضان والآتيان به في آخره
لمن لا يقدر على الصيام الا في بعض أيامه.
نعم إذا كان الواجب المتأخر زمانا أهم من الواجب المتقدم، يجب عليه التحفظ
بقدرته على الأهم، فلا يجوز له الاتيان بالمهم، لأنه يوجب عجزه عن الاتيان بالأهم
في ظرفه، كما إذا دار الامر بين حفظ مال المولى الان، وحفظ نفسه غدا، فان
العقل في مثله مستقل بوجوب احتفاظ القدرة على حفظ نفس المولى بترك حفظ المال.
(فرع)
ذكر السيد (ره) في العروة في مبحث مكان المصلي أنه إذا دار الامر بين
الاتيان بالصلاة في مكان يتمكن فيه من القيام. دون الركوع والسجود لضيقه،
362

والآتيان بها في مكان يتمكن فيه منهما دون القيام لكون سقفه نازلا، فالمكلف مخير
بين المكانين إذا لم يتمكن من الاحتياط باتيان الصلاة فيهما. وكرر هذا الفرع في مبحث
القيام. واختار فيه أيضا ما ذكره في مبحث مكان المصلي من التخيير. وذكر المحقق
النائيني (ره) في حاشيته، على أحد الموضعين: أنه يجب تقديم القيام، وعلى الموضع
الاخر انه يجب تقديم الركوع والسجود. ونظره في الأول إلى كون القيام مقدما زمانا
على الركوع والسجود، وفى الثاني إلى كون الركوع والسجود أهم من القيام. وعلى كل
حال بين كلاميه تدافع ظاهر.
والتحقيق أن أمثال هذه المقامات - مما يكون الواجب فيها من الواجبات
الضمنية، لكونه جزء من مركب أو شرطا - خارجة عن التزاحم موضوعا، فلو
دار الامر بين جزءين من واجب واحد، أو بين شرطية، أو بين جزء وشرط منه،
لا يصح الرجوع إلى مرجحات باب التزاحم. والوجه في ذلك أن الواجب هو المركب
من جميع الاجزاء والشرائط، وبعد تعذر جزء أو شرط يسقط الوجوب رأسا.
ولا تصل النوبة إلى التزاحم، إذ الوجوب الأول كان متعلقا بالمجموع. وقد سقط
بالتعذر، ووجوب الباقي يحتاج إلى دليل. ولذا لو اضطر الصائم إلى الافطار في بعض
آنات اليوم، لم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوب الامساك في الباقي من آنات هذا اليوم.
نعم في خصوص باب الصلاة يجب الاتيان بالباقي لما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال،
بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حال إلا لفاقد الطهورين، فإنه
محل الخلاف بينهم، فإذا تعذر بعض اجزاء الصلاة أو بعض شروطها وكان المتعذر
متعينا، كما إذا لم يتمكن المصلي من القيام مثلا يجب عليه الاتيان بالباقي بلا اشكال.
وأما إذا كان المتعذر مرددا بين جزءين، كما في الفرع الذي نقلناه من العروة أو بين
شرطين أو بين جزء وشرط منها، فيكون داخلا في باب التعارض، إذ وجوب كلا
363

الجزءين معلوم الانتفاء، لعدم القدرة إلا على أحدهما. ولا ندري أن الواجب المجعول
في هذا الحال أيهما؟ فإذا لابد من الرجوع إلى الأدلة الدالة على الاجزاء والشرائط،
فان كان دليل أحد طرفي الترديد لفظيا ودليل الطرف الآخر لبيا، يجب الاخذ بالدليل
اللفظي، إذ الدليل اللبي يقتصر فيه بالقدر المتيقن، وهو غير مورد المعارضة مع الدليل
اللفظي: كما إذا دار الامر بين الاتيان بالصلاة قائما بدون الاستقرار، والآتيان
بها جالسا معه، فان الدليل على وجوب القيام لفظي، كقوله (ع): " من لم
يقم صلبه فلا صلاة له "، وعلى وجوب الاستقرار لبي وهو الاجماع، فيؤخذ بالدليل
اللفظي، ويحكم بوجوب الاتيان بالصلاة قائما ولو بدون الاستقرار. وكذا الكلام
فيما إذا كان كلا الدليلين لفظيا. ولكن كان أحدهما عاما والاخر مطلقا، فيجب الاخذ
بالعام، لكونه صالحا لان يكون بيانا للمطلق، فلا تجري مقدمات الحكمة ليؤخذ
بالمطلق وأما إذا كان الدليل في كليهما لبيا أو في كليهما لفظيا، وكان كلاهما مطلقا.
فيتساقطان ولابد من الرجوع إلى الأصل العملي. وحيث أنا نعلم بوجوب أحدهما
في الجملة من الخارج فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك، فتكون
النتيجة التخيير كما في العروة. وأما إن كان الدليل في كليهما لفظيا وكان كلاهما
عاما، فلابد من الرجوع إلى المرجحات السندية، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
هذا كله فيما إذا دار الامر بين المختلفين في النوع: كالقيام والركوع. وأما
إذا كان الامر دائرا بين فردين من نوع واحد، كما إذا دار الامر بين القيام في الركعة
الأولى والركعة الثانية، أو دار الامر بين الركوع في الركعة الأولى والركعة الثانية:
فلا يتصور فيه تعدد الدليل لتجري احكام التعارض، إذ الدليل على وجوب القيام
في كل ركعة واحد. وكذا الدليل على وجوب الركوع في كل ركعة واحد. أما
القيام، فالذي يظهر من دليله اختياره في الركعة الأولى، فان الظهر - من قوله (ع):
364

" المريض يصلي قائما فان لم يقدر على ذلك صلى جالسا... الخ " - وجوب القيام
مع القدرة الفعلية عليه، وأن المسقط له ليس إلا العجز الفعلي، فيجب عليه القيام
في الركعة الأولى لقدرته عليه بالفعل. وبعد تحقق القيام في الركعة الأولى يصير عاجزا
عنه في الركعة الثانية، فيكون معذورا لعجزه عنه فعلا.
وأما غير القيام من الركوع والسجود وغيرهما، فحيث أن الدليل لا يشمل
كليهما لعدم القدرة عليهما على الفرض. ووجوب أحدهما في الجملة معلوم من الخارج،
فالمرجع أصالة عدم اعتبار الخصوصية، وتكون النتيجة التخيير.
وبما ذكرناه - في المقام من الضابطة - يعرف حكم كثير من الفروع المذكورة
في العروة.
هذا تمام الكلام في بيان موضوع التعارض وامتيازه عن التزاحم، فلابد
من التكلم في حكمه. ويقع الكلام (أولا) في تأسيس الأصل مع قطع النظر عن الاخبار
العلاجية. ولا يخفى أنه لا ثمرة لتأسيس الأصل بالنسبة إلى الاخبار، إذ الاخبار
العلاجية متكفلة لبيان حكم تعارض الاخبار. ولا ثمرة للأصل مع وجود الدليل. نعم
الأصل يثمر في تعارض غير الاخبار، كما إذا وقع التعارض بين آيتين من حيث
الدلالة، أو بين الخبرين المتواترين كذلك، بل يثمر في تعارض الامارات في الشبهات
الموضوعية، كما إذا وقع التعارض بين بينتين أو بين فردين من قاعدة اليد، كما
في مال كان تحت استيلاء كلا المدعيين.
إذا عرفت ذلك فنقول: الأصل في المتعارضين التساقط وعدم الحجية. أما إذا
كان التعارض بين دليلين ثبتت حجيتهما ببناء العقلاء، كما في التعارض ظاهر الآيتين
أو ظاهر الخبرين المتواترين، فواضح، إذ لم يتحقق بناء من العقلاء على العمل بظاهر
كلام يعارضه ظاهر كلام آخر، فتكون الآية التي يعارض ظاهر بظاهر آية أخرى
365

من المجمل بالعرض، وإن كان مبينا بالذات. وكذا الخبر ان المتواتران. وأما
إن كان دليل حجية المتعارضين دليلا لفظيا - كما في البينة - فالوجه في التساقط هو
ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي: من أن الاحتمالات - المتصورة بالتصور الأولي -
ثلاثة: فاما أن يشمل دليل الحجية لكلا المتعارضين. ولا يشمل شيئا منهما، أو
يشمل أحدهما بعينه دون الاخر. لا يمكن المصير إلى الاحتمال الأول، لعدم امكان
التعبد بالمتعارضين، فان التعبد بهما يرجع التعبد بالمتناقضين، وهو غير معقول.
وكذا الاحتمال الأخير، لبطلان الترجيح بلا مرجح، فالمتعين هو الاحتمال الثاني.
ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي من عدم جريان الأصل في أطراف العلم
الاجمالي. فان شمول الدليل للطرفين موجب للمخالفة القطعية، والترخيص في المعصية،
وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجح، فلم يبق إلا عدم الشمول لكليهما.
وتوهم - أن مقتضى الأصل عند التعارض هو التخيير، لان كلا من المتعارضين
محتمل الإصابة للواقع، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما الا لزوم التعبد
بالمتناقضين. وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن اطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى كل
منهما بتقييده بترك الاخذ بالآخر - مدفوع بأن لازمه اتصاف كل منهما بصفة الحجية
عند ترك الاخذ بهما، فيعود محذور التعبد المتناقضين. مضافا إلى أنه على تقدير
تماميته يختص بما إذا كان دليل الاعتبار لفظيا ليمكن التمسك باطلاقه، بخلاف ما إذا
كان لبيا كالاجماع، إذا المتيقن منه غير صورة التعارض.
(لا يقال): يمكن تقييد الحجية في كل منهما بالأخذ به. ونتيجة ذلك هو
التخيير. وجواز الاخذ باي منهما شاء المكلف.
(فإنه يقال): كلا، فان لازمه أن لا يكون شئ من المتعارضين حجة
في فرض عدم الاخذ بهما أصلا، فيكون المكلف مطلق العنان بالنسبة إلى الواقع،
366

فيتمسك بالبراءة لو لم يكن في البين دليل آخر من عموم أو إطلاق أو أصل مثبت
للتكليف. ولا يلتزم القائل بالتخيير بذلك. ولا يقاس المقام على التخيير الثابت بالدليل
فإنه لو تمت الأخبار الدالة على التخيير في تعارض الخبرين، فهي بنفسها تدل على لزوم
الاخذ بأحدهما. وعند تركه يؤاخذ بمخالفة الواقع، نظير الشبهات قبل الفحص التي
لا تجري البراءة فيها. وهذا بخلاف ما إذا استفيد التخيير من تقييد دليل الاعتبار،
فان مفاده بناء على التقييد ليس إلا حجية كل من المتعارضين في صورة الاخذ بواحد
منهما، ولا تعرض له لوجوب الاخذ وعدمه.
بقي الكلام في نفي الثالث بالمتعارضين بعد سقوطهما عن الحجية بالنسبة إلى المؤدى
المطابقي للمعارضة، فإذا دل دليل على وجوب شئ، والاخر على حرمته، فهل يصح
الالتزام بحكم ثالث بعد تساقط الدليلين ولو للأصل، فيحكم بالإباحة لأصالة عدم
الوجوب والحرمة، أولا؟ وليعلم أن محل الكلام إنما هو فيما إذا لم يعلم بكون أحد
المتعارضين مطابقا للواقع، وإلا فنفس هذا العلم كاف في نفي الثالث. ففي فرض احتمال
مخالفة كلاهما للواقع ذهب صاحب الكفاية والمحقق النائيني (ره) إلى عدم امكان الالتزام
بالثالث لوجهين:
(الوجه الأول) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) وهو أن التعارض موجب
للعلم بكذب أحدهما لا بعينه، فيكون أحدهما لا بعينه، فيكون أحدهما لا بعينه معلوم الكذب، والاخر كذلك
محتمل الصدق والكذب، فيكون حجة، إذ موضوع الحجية الخبر المحتمل للصدق
والكذب. والعلم بكذب أحدهما لا يكون مانعا عن حجية الاخر، فأحدهما لا بعينه
حجة، وهو كاف في نفي الثالث. غاية الامر أنه لا يمكن الاخذ بمدلوله المطابقي
لعذم تعيينه.
وفيه ما ذكرناه في بحث العلم الاجمالي من أن أحدهما لا بعينه عنوان انتزاعي
367

ليس له مصداق في الخارج، فلا معنى لكونه حجة، فإنه بعد عدم حجية خصوص
الخبر الدال على الوجوب وعدم حجية خصوص الخبر الدال على الحرمة، لم يبق شئ
يكون موضوعا لدليل الحجية ونافيا للثالث. وقد مر تفصيل ذلك في بحث العلم الاجمالي.
(الوجه الثاني) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) ومحصله أن اللازم وإن كان
تابعا للملزوم بحسب مقام الثبوت والاثبات، فان وجود الملزوم يستتبع وجود اللازم.
وكل دليل يدل على ثبوت الملزوم يدل على ثبوت اللازم أيضا، إلا أنه ليس تابعا
للملزوم في الحجية، بحيث يكون سقوط شئ عن الحجية في الملزوم موجبا لسقوطه
عن الحجية في اللازم أيضا.
والوجه في ذلك أن الاخبار عن الملزوم بحسب التحليل إخباران: (أحدهما) -
إخبار عن الملزوم. و (ثانيهما) - إخبار عن اللازم. ودليل الحجية شامل لكليهما.
وبعد سقوط الاخبار عن الملزوم عن الحجية للمعارضة، لا وجه لرفع اليد عن الاخبار
عن اللازم، لعدم المعارض له، لموافقة المتعارضين بالنسبة إلى اللازم، فنفي الثالث
مستند إلى الخبرين. وهذا هو الفارق ين هذا الوجه والوجه الأول الذي ذكره
صاحب الكفاية (ره) فان نفي الثالث على مسلكه مستند إلى أحدهما لا بعينه. هذا
ملخص كلامه (ره).
وفيه ما ذكرناه غير مرة من أن اللازم تابع للملزوم في الحجية أيضا. كما أنه
تابع له بحسب مقام الثبوت والاثبات. وأما ما ذكره من الوجه لعدم سقوط حجية اللازم
فنجيب عنه (أولا) بالنقض. و (ثانيا) بالحل.
(أما النقض) فبموارد:
(منها) - ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب مثلا، وعلمنا
يكذب البينة وعدم وقوع البول على الثوب، ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشئ آخر،
368

كوقوع الدم عليه مثلا، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب لأجل البينة المذكورة؟ باعتبار
أن الاخبار عن وقوع البول على الثوب إخبار عن نجاسته، لكونها لازمة لوقوع البول
عليه. وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم للعلم بالخلاف، لا مانع من الرجوع إليها
بالنسبة إلى اللازم. ولا نظن أن يلتزم به فقيه.
و (منها) - ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر، فقامت
بينة على كونها لعمرو، وبينة أخرى على كونها لبكر، فبعد تساقطهما في مدلولهما
المطابقي للمعارضة، هل يمكن الاخذ بهما في مدلولهما الالتزامي، والحكم بعدم كون
الدار لزيد، وأنها مجهول المالك؟
و (منها) - ما لو أخبر شاهد واحد بكون الدار في المثال المذكور لعمرو،
وأخبر شاهد آخر بكونها لبكر، فلا حجية لاحد منهما في مدلوله المطابقي - مع
قطع النظر عن المعارضة - لتوقف حجية الشاهد الواحد على انضمام اليمين. فهل يمكن
الاخذ بمدلولهما الالتزامي. والحكم بعدم كون الدار لزيد، لكونهما موافقين فيه،
فلا حاجة إلى انضمام اليمين؟
و (منها) - ما لو أخبرت بينة على كون الدار لعمرو، واعترف عمرو
بعدم كونها له، فتسقط البينة عن الحجية، لكون الاقرار مقدما عليها، كما أنها مقدمة
على اليد، فبعد سقوط البينة عن الحجية في المدلول المطابقي. للاعتراف، هل يمكن
الاخذ بمدلولها الالتزامي، وهو عدم كون الدار لزيد مع كونها تحت يده؟ إلى غير
ذلك من الموارد التي لا يلتزم بأخذ اللازم فيها فقيه أو متفقه.
و (أما الحل) فهو أن الاخبار عن الملزوم وإن كان إخبارا عن اللازم، إلا
أنه ليس إخبارا عن اللازم بوجوده السعي، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له،
فان الاخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخبارا عن نجاسة الثوب بأي سبب كان
369

بل اخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول عليه، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها
عن وقوع البول على الثوب، يعلم كذبها في الاخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأما
النجاسة بسبب آخر، فهي وان كانت محتملة، الا انها خارجة عن مفاد البينة رأسا
وكذا في المقام الخبر الدال على الوجوب يدل على حصة من عدم الإباحة التي هي لازمة
للوجوب لا على عدم الإباحة بقول مطلق. والخبر الدال على الحرمة يدل على عدم
الإباحة اللازم للحرمة لا مطلق عدم الإباحة، فمع سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي
للمعارضة، يسقطان عن الحجية في المدلول الالتزامي أيضا، وكذا الحال في سائر
الأمثلة التي ذكرناها، فان إخبار البينة عن كون الدار لعمرو إخبار عن حصة من عدم
كونها لزيد اللازمة لكونها لعمرو. وكذا الاخبار بكونها لبكر، فبعد تساقطهما
في المدلول المطابقي تسقطان في المدلول الالتزامي أيضا.
فتحصل مما حققناه في المقام أنه بعد تساقط المتعارضين لا مانع من الالتزام بحكم
ثالث، سواء كان مدركه الأصل أو عموم الدليل. هذا كله على القول بالطريقية
في حجية الامارات - كما هو الصحيح والمشهور - وأما على القول بالسببية والموضوعية
فذكر شيخنا الأنصاري (ره) وتبعه بعض المتأخرين أنه عليه يدخل التعارض في باب
التزاحم. فلابد من الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا.
(أقول): قد يقال بحجية الامارات من باب السببية (بمعنى المصلحة السلوكية)
على ما التزم به بعض الامامية في مقام العجز عن جواب استدلال ابن قبة لحرمة العمل
بالظن بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال. وملخصه - على ما ذكره الشيخ (ره) في بحث
حجية الظن - أن تطبيق العمل على الامارة ذو مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة
الواقع على تقدير مخالفتها للواقع. وحيث أن المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على طبق
الامارة، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السلوك قلة وكثرة، فإذا فرض قيامها على وجوب
370

صلاة الجمعة وعمل بها المكلف، فانكشف خلافها قبل خروج الوقت، وأن الواجب
في يوم الجمعة هي صلاة الظهر، فلابد حينئذ من إتيان صلاة الظهر ولا يتدارك بالامارة
القائمة على وجوب صلاة الجمعة الا المصلحة الفائتة بالعمل بها. وهي مصلحة الصلاة
في أول وقتها. وأما مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت، فلا يتدارك
بها، لعدم فوتهما بسبب السلوك على طبق الامارة، لتمكن المكلف من إتيانها في وقتها
بعد انكشاف خلاف الامارة. ولو فرض انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت، فيتدارك
بها مصلحة الصلاة في الوقت دون مصلحة أصل الصلاة، لتمكن المكلف من تداركها
بعد خروج الوقت بقضائها. نعم لو لم ينكشف الخلاف أصلا لا في الوقت ولا في خارجه
يتدارك بها مصلحة أصل الصلاة أيضا الفائتة بسبب العمل بالامارة. وهكذا.
والقول بالسببية بهذا المعنى لا يوجب دخول التعارض في التزاحم، بل لا فرق
بينه وبين القول بالطريقية من هذه الجهة، لان المصلحة السلوكية تابعة لتطبيق العمل
بمقتضى الحجة، فلابد من إثبات الحجية أولا ليكون السلوك بطبقها ذا مصلحة. وقد
ذكرنا أن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين على ما تقدم.
وقد يقال بالسببية بمعنى التصويب المنسوب إلى الأشاعرة (تارة) والى المعتزلة
(أخرى) على اختلاف بينهم في المعنى، فان المنسوب إلى الأشاعرة إنكار الحكم
الواقعي رأسا. وأن ما تؤدي إليه الامارة هو الواقع. وهو الذي اعترض عليه العلامة
(ره) بأنه مستلزم للدور، إذ الواقع متوقف على قيام الامارة على الفرض. وهو
متوقف على الواقع بالضرورة، فإنه لو لم يكن في الواقع شئ فعما تكشف الامارة
وتحكي. وأما القول المنسوب إلى المعتزلة، فهو أن الحكم الواقعي المشترك بين العالم
والجاهل وإن كان موجودا، إلا أنه يتبدل بقيام الامارة على الخلاف، فرب واجب
يتبدل إلى الحرمة، لقيام الامارة على حرمته، ورب حرام يتبدل إلى الوجوب،
371

لقيام الامارة على وجوبه. وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام.
وتفصيل الكلام في المقام أن القائل - بالسببية بمعنى التصويب بمعنى كون
الحكم تابعا لقيام الامارة حدوثا على ما يقوله الأشاعرة، أو بقاء على ما يقوله المعتزلة
إما أن يقول بأن قيام الامارة على شئ يوجب حدوث المصلحة في متعلق التكليف
- وهو عمل المكلف - وإما أن يقول بحدوث المصلحة في الالتزام بمؤدى الامارة
وهو عمل القلب، وإما أن يقول بحدوثه في فعل المولى (أي قيام الامارة على وجوب
شئ مثلا يوجب حدوث المصلحة في ايجاب المولى ذلك الشئ) وعلى الأول إما أن
يكون التعارض بين الدليلين بالتناقض، كما إذا دل أحدهما على وجوب شئ والاخر
على عدم وجوبه أو بالتضاد. والتعارض بالتضاد إما أن يكون بدلالة أحدهما على وجوب
شئ، والاخر على حرمته أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شئ، والاخر
على وجوب شئ آخر، ولا يكون لهما ثالث، كما إذا دل أحدهما على وجوب
الحركة، والاخر على وجوب السكون، أو يكون بدلالة أحدهما على وجوب شئ،
والاخر على وجوب شئ آخر ويكون لهما ثالث، كما إذا دل أحدهما على وجوب
القيام والاخر على وجوب الجلوس، فان لهما ثالثا كالاضطجاع مثلا.
أما إن كان التعارض بالتناقض، فدخوله في التزاحم مستحيل، إذ التزاحم
عبارة عن كون المكلف عاجزا في مقام الامتثال مع صحة كل واحد من التكليفين في مقام
الجعل. واجتماع التكليفين في المقام محال في نفسه، مع قطع النظر عن عجز المكلف.
وذلك، لأن المفروض كون قيام الامارة على الوجوب موجبا لحدوث المصلحة الملزمة
في الفعل، وقيام الامارة على عدم الوجوب موجبا لعدم المصلحة الملزمة في الفعل،
أو موجبا لزوال المصلحة الملزمة عن فعل المكلف. واجتماع المصلحة وعدمها في شئ
واحد اجتماع نقيضين، ومحال في نفسه، مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال.
372

وظهر بما ذكرناه عدم صحة ما في الكفاية من أن الدليل الدال على عدم الوجوب
لا يزاحم الدليل الدال على الوجوب، لان اللا اقتضاء لا يزاحم الاقتضاء. وذلك،
لان اجتماع الاقتضاء واللا اقتضاء في نفسه محال، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة، ليقال:
إن اللا اقتضاء لا يزاحم الاقتضاء، فما ذكره من أنه لو وقع التزاحم بين الاقتضاء
واللا اقتضاء يقدم الاقتضاء، لعدم صلاحية اللا اقتضاء لمزاحمة الاقتضاء وإن كان
صحيحا بحسب الكبرى، إلا أن الصغرى غير محققة، لعدم إمكان اجتماع الاقتضاء
واللا اقتضاء ليقدم أحدهما على الاخر.
وأما إن كان التعارض بدلالة أحد الدليلين على وجوب شئ، والاخر
على حرمته، فان قلنا بأن النهي عبارة عن الزجر عن الشئ المعبر عنه في اللغة الفارسية
ب‍ (جلوگيري كردن) كما هو الصحيح على ما حققناه في محله من أن النهي عن الشئ
هو الزجر عنه، كما أن الامر بالشئ هو البعث والتحريك نحوه، فلا يمكن دخوله
في التزاحم كالصورة السابقة، لان قيام الامارة على وجوب شئ يوجب حدوث
المصلحة الملزمة فيه. وقيام الامارة على حرمته يوجب حدوث المفسدة الملزمة فيه. ولا
يمكن اجتماع المصلحة والمفسدة في شئ واحد بلا كسر وانكسار، فإنه من اجتماع
الضدين. ولا شبهة في استحالته، فلا يكون التعارض المذكور من باب التزاحم، لعدم
صحة اجتماع التكليفين في نفسه قبل أن تصل النوبة إلى عجز المكلف عن الامتثال.
وإن قلنا بأن النهي عبارة عن طلب الترك - على ما هو المعروف بينهم - فيكون
قيام الامارة على وجوبه موجبا لحدوث المصلحة في فعله، وقيام الامارة على حرمته
موجبا لحدوث المصلحة في تركه، واجتماع المصلحة في الفعل من المصلحة في الترك وإن
كان ممكنا، إلا أن التكليف بالفعل والترك معا مما لا يجتمعان، إذ التكليف بهما
تعيينا تكليف بغير مقدور، وتخييرا طلب للحاصل، لعدم خلو المكلف عنهما،
373

فتكليفه بأحدهما تخييرا لغو، فلا يكون من التزاحم في شئ. وكذا الحال إن كان
التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شئ والاخر على وجوب شئ آخر، مع عدم
ثالث لهما: كما إذا دل أحدهما على وجوب الحركة، والاخر على وجوب السكون
فان التكليف - بكل واحد من الحركة والسكون تعيينا - تكليف بغير مقدور،
وتخييرا طلب للحاصل، فلا يصح اجتماعهما في مقام الجعل، فلا يكون من باب التزاحم.
وأما إن كان التعارض بدلالة أحدهما على وجوب شئ والاخر على وجوب شئ آخر
وكان لهما ثالث: كما إذا دل أحدهما على وجوب القيام والاخر على وجوب الجلوس،
فقد يتوهم كونه من التزاحم، بدعوى أن قيام الامارة على وجوب القيام موجب
لحدوث المصلحة في القيام. وقيام الامارة على وجوب الجلوس موجب لحدوث المصلحة
في الجلوس. والمكلف عاجز عن امتثال كليهما. وحيث أنه قادر على ترك كليهما،
فلا محذور في أن يكلفه الشارع بهما تخييرا حذرا من فوت كلتا المصلحتين.
ولكن التحقيق أنه لا يمكن الالتزام بالتزاحم في هذه الصورة أيضا، لان
الامارة الدالة على وجوب القيام تدل على عدم وجوب الجلوس بالالتزام وكذا الامارة الدالة
على وجوب الجلوس تدل على عدم وجوب القيام بالالتزام، لعدم صحة التكليف
بالمتضادين في آن واحد، فثبوت أحدهما ينفي الاخر بالالتزام، لما بينهما من المضادة
فيكون المقام بعينه من قبيل تعارض دليلين: يدل أحدهما على وجوب صلاة الظهر،
والاخر على وجوب صلاة الجمعة، مع العلم الاجمالي بعدم أحد التكليفين، فيرجع
إلى التعارض بالتناقض. وقد تقدم استحالة دخول التعارض بالتناقض في التزاحم،
فإنه بعد دلالة أحد الدليلين على وجوب القيام بالمطابقة ودلالة الاخر على عدم وجوبه
بالالتزام، يلزم من قيام الامارة الأولى حدوث المصلحة الملزمة في القيام، ومن قيام
الامارة الثانية زوالها عنه، فيلزم اجتماع وجود المصلحة وعدمها في القيام، وهو اجتماع
374

نقيضين، وهو محال في نفسه مع قطع النظر عن عجز المكلف عن الامتثال. وكذا
الحال في طرف الجلوس. ولا حاجة إلى التكرار. هذا كله على القول بأن قيام الامارة
يوجب حدوث المصلحة في فعل المكلف.
وأما على القول بأن قيامها يوجب حدوث المصلحة في الالتزام بمؤدي الامارة
وهو عمل القلب، فيمكن أن يتوهم دخول التعارض في التزاحم في جميع الصور المتقدمة،
بدعوى أن قيام الامارة على وجوب القيام مثلا يوجب حدوث المصلحة في نفس الالتزام
بوجوب القيام. وكذا قيام الامارة على وجوب الجلوس يوجب حدوث المصلحة في الالتزام
بوجوبه، وبعد الالتزام بوجوب القيام وبوجوب الجلوس بمقتضى الامارتين، يقع
التزاحم في مقام الامتثال، لعدم قدرة المكلف عليهما في آن واحد.
وحيث أن هذا التوهم مبني على وجوب الموافقة الالتزامية، فهو التزام بباطل
في باطل، فان القول بالسببية باطل في نفسه، ومع الالتزام به لم يدل دليل على وجوب
الالتزام لتكون له مصلحة. مضافا إلى ما ذكرناه آنفا من التكاذب بين الدليلين بحسب
الدلالة الالتزامية، وأن الامارة - الدالة على وجوب القيام - تدل على عدم وجوب
الجلوس بالالتزام. والامارة - الدالة على وجوب الجلوس - تدل على عدم وجوب القيام
وكيف يمكن الالتزام بوجوب القيام وعدم وجوبه؟ وكذا في طرف الجلوس.
وأما على القول بأن قيام الامارة يوجب حدوث المصلحة في فعل المولى من الايجاب
والتحريم، فيمكن تصوير التزاحم، فإنه إذا قامت امارة على وجوب شئ وأمارة
أخرى على حرمته، فالامارة الأولى توجب حدوث المصلحة في الايجاب، والامارة
الثانية توجب حدوث المصلحة في التحريم، فتقع المزاحمة بين المصلحة في جعل الوجوب
والمصلحة في جعل الحرمة، إلا أن هذا التزاحم من التزاحم في الملاك الذي ذكرنا أنه
خارج عن محل الكلام. وليس المكلف دخل فيه، بل أمره بيد المولى. وحيث أنه
375

لا أهمية لإحدى المصلحتين على الأخرى على الفرض، إذ الموجب لحدوث المصلحة
قيام الامارة، وهي قائمة في الطرفين بلا تفاوت في البين، فللمولى أن يجعل الوجوب
وأن يجعل الحرمة. وأما بالنسبة إلى المكلف، فنتيجة هذا التزاحم هي نتيجة التعارض
من رفع اليد عن المتعارضين والرجوع إلى الأصول العملية، إذ بعد تنافي الامارتين
لا علم لنا بان المولى جعل الوجوب أو التحريم، فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي،
ففيما إذا قامت امارة على الوجوب، وأخرى على الحرمة، يدور الامر بين محذورين
ويحكم العقل في مثله بالتخيير. وأما إذا قامت امارة على الوجوب وأخرى على عدمه،
فيكون موردا لأصالة البراءة.
ولب المقال في المقام: أن رجوع التعارض إلى التزاحم - على القول
بالسببية - مما لا أساس له على جميع التقادير المتقدمة، إذ منشأه توهم أن القائل
بالسببية قائل بأن قيام الامارة موجب لحدوث المصلحة، ولو كانت الامارة غير معتبرة
وليس الامر كذلك، إذ من المعلوم أن القائل بالسببية قائل بأن قيام الحجة موجب
لحدوث المصلحة. وحينئذ يكون حدوث المصلحة في الفعل أو الالتزام أو فعل المولى
في رتبة متأخرة عن حجية الامارة. وقد ذكرنا أن دليل الحجية غير شامل للمتنافيين
على ما تقدم، فلم يبق مجال لتوهم رجوع التعارض إلى التزاحم على القول بالسببية.
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام أن الأصل في التعارض هو التساقط، بلا
فرق بين القول بالطريقية والقول بالسببية.
ثم إنه قد ظهر مما ذكرناه أن التعارض هو تنافي مدلولي دليلين بحيث لا يكون
أحدهما قرينة عرفية على الاخر بنحو الحكومة أو الورود أن التخصيص أو غيرها من أنحاء
القرينية العرفية. ففي كل مورد يكون أحدهما قرينة على الاخر بحسب متفاهم العرف،
فهو خارج عن التعارض. ولا ضابطة لذلك، بل يختلف باختلاف المقامات والخصوصيات
376

المحتفة بالكلام: من القرائن الحالية والمقالية، إلا انهم ذكروا من ذلك أمورا
نتعرض لها تحقيقا للحال وتوضيحا للمقام.
(منها) - ما ذكره الشيخ (ره) من أنه إذا كان أحد الدليلين عاما والاخر
مطلقا، يقدم العام على المطلق لكون ظهور العام تنجيزيا لان شموله لمورد الاجتماع
بالوضع وظهور المطلق تعليقيا، فان ظهوره في الاطلاق معلق على مقدمات الحكمة.
و (منها) - عدم البيان. والعام صالح لان يكون بيانا، فيسقط المطلق
عن الحجية بالنسبة إلى مورد يكون مشمولا للعام.
وأورد عليه صاحب الكفاية (ره) بأن ظهور المطلق معلق على عدم البيان
في مقام التخاطب لا على عدم البيان إلى الأبد، فمع انقطاع الكلام وعدم تحقق
البيان متصلا به ينعقد الظهور للمطلق، فيقع التعارض بينه وبين ظهور العام، فلا
وجه لتقديم العام على المطلق بقول مطلق.
هذا. والصحيح ما ذكره الشيخ (ره) إذ بعد كون العام صالحا للقرينية
على التقييد، كما اعترف به صاحب الكفاية في بحث الواجب المشروط لا فرق بين
كونه متصلا بالكلام أو منفصلا عنه. غاية الامر أنه مع ورود العام منفصلا يكون
الاطلاق حجة ما لم يرد العام لتحقق المعلق عليه. وهو عدم البيان إلى زمان ورود
العام. وبعده ينقلب الحكم من حين ورود العام لا من أول الامر، لا نقول: إن
حين وصول العام يحكم بأن الاطلاق غير مراد من هذا الحين، نظير الأصول العملية
بالنسبة إلى الامارات، فان الأصل متبع ما لم تقم امارة على خلافه. وبعد قيامها يرفع
اليد عن الأصل من حين قيام الامارة - وان كان مفادها ثبوت الحكم من الأول -
والمقام كذلك، غاية الامر أن العام المتصل مانع عن انعقاد الظهور في المطلق. والعام
377

المنفصل كاشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية بالاطلاق من لفظ المطلق. وهذا المقدار
لا يوجب الفرق في الحكم من وجوب تقديم العام على المطلق.
و (منها) - كون أحد الاطلاقين شموليا والاخر بدليا، فذكروا أنه يقدم
الاطلاق الشمولي ويقيد به الاطلاق البدلي. واختاره المحقق النائيني (رحمه الله)
وذكر له وجوها:
(الأول) - أن الحكم في الاطلاق الشمولي يتعدد بتعدد الافراد، لثبوت
الحكم لجميع الافراد على الفرض المعبر عنه بتعلق الحكم بالطبيعة السارية، فينحل الحكم
إلى الاحكام المتعددة على حسب تعدد الافراد، بخلاف الاطلاق البدلي، فان الحكم
فيه واحد متعلق بالطبيعة المعبر عنه بتعلق الحكم بصرف الوجود. غاية الامر أنه يصح
للمكلف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة في ضمن أي فرد شاء وهو معنى الاطلاق
البدلي، فتقديم الاطلاق البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة
إلى بعد الافراد. بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي. فإنه لا يوجب رفع اليد عن الحكم
في الاطلاق البدلي، إذ لا تعدد فيه بل يوجب تضييق دائرته. مثلا، إذا قال المولى:
أكرم عالما ولا تكرم الفاسق، يكون الحكم في الاطلاق البدلي واحدا، وهو وجوب
إكرام فرد من العالم. وفي الاطلاق الشمولي متعددا، وهو حرمة إكرام كل فرد
من أفراد الفاسق على فرض تمامية مقدمات الحكمة، فلو قدمنا الاطلاق البدلي في مادة
الاجتماع - وهو العالم الفاسق - لرفعنا اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة
إلى هذا الفرد، وهو العالم الفاسق، بخلاف ما إذا قدمنا الاطلاق الشمولي، فإنه
لا يوجب رفع اليد عن الحكم المذكور في الاطلاق البدلي بالنسبة إلى بعد الافراد،
لأنه ليس فيه إلا حكم واحد. غاية الامر أنه يوجب تضييق دائرته، فيجب
378

على المكلف في مقام الامتثال تطبيق الطبيعة بالعالم غير الفاسق هذا.
وفيه (أولا) - أنه مجرد استحسان. وقد ذكرنا أن الميزان في التقديم كون
أحد الدليلين قرينة على التصرف في الاخر بحسب فهم العرف، كالدليل الحاكم
بالنسبة إلى الدليل المحكوم، والمقام ليس كذلك، إذ الاطلاقان في مرتبة واحدة
من الظهور، لتوقف كليهما على جريان مقدمات الحكمة، فمجرد كون تقديم أحدهما
موجبا لرفع اليد عن الحكم دون الاخر، لا يوجب كون الاخر قرينة على التصرف فيه.
و (ثانيا) - أن الاطلاق البدلي لا ينفك عن الاطلاق الشمولي أبدا، فان
قوله - أكرم عالما - حكم بوجوب اكرام فرد من العالم على البدل. وهو يستلزم
ترخيص العبد بتطبيق هذه الطبيعة في ضمن اي فرد شاء. ولا خفاء في أن الحكم
الترخيصي أيضا من وظائف المولى، فان له أن يمنع عن التطبيق في ضمن فرد خاص
تحريما أو تنزيها، أو يجعل التطبيق في ضمن فرد مستحبا أو يرخص المكلف في التطبيق
في ضمن أي فرد شاء، كما هو ظاهر الاطلاق، فالحكم بوجوب إكرام فرد من العالم
على البدل يدل على الترخيص بتطبيق طبيعة العالم في ضمن أي فرد شاء. وهذا الحكم
الترخيصي متعلق بالمطلق على نحو الشمول، كما هو ظاهر، فكما أن تقديم الاطلاق
البدلي يوجب رفع اليد عن الحكم في الاطلاق الشمولي بالنسبة إلى بعض الافراد،
كذلك تقديم الاطلاق الشمولي أيضا يوجب رفع اليد عن الحكم بالنسبة إلى بعض الافراد
غاية الامر أنه يوجب رفع اليد عن الحكم الترخيصي لا الحكم الإلزامي.
(الثاني) - أن الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة زائدة عما تجري في الاطلاق
الشمولي من مقدمات الحكمة. وهي إحراز كون الافراد متساوية الاقدام في تحصيل
غرض المولي. والوجه في ذلك أن الافراد في الاطلاق الشمولي لا يلزم أن تكون
379

متساوية الاقدام في الغرض، بل قد تكون مختلفة: كما إذا قال: لا تقتل أحدا،
فان ترك قتل النبي (صلى الله عليه وآله) ليس مساويا لترك قتل غيره في غرض المولى.
وكذا إذا قال: لا تزن فان الزنا مع المحارم ليس مساويا الزنا بغيرها، والزنا
مع ذات البعل ليس مساويا للزنا بغير ذات البعل. وهكذا في سائر الاطلاقات
الشمولية، بخلاف الاطلاق البدلي فان الافراد فيه لابد من أن تكون متساوية الاقدام
في غرض المولى، وإلا يقبح توجيه الحكم نحو الطبيعة على البدل، بل لابد من الحكم
بالفرد الأقوى في الوفاء بالغرض، فالاطلاق البدلي يحتاج إلى إحراز التسوية بين
الافراد، وهي مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة الجارية في الاطلاق الشمولي. والاطلاق
الشمولي يوجب انتفاء هذه المقدمة، فإنه يثبت عدم التسوية بين العالم الفاسق والعالم غير
الفاسق، فيسقط الاطلاق البدلي عن الحجية في مورد التعارض مع الاطلاق الشمولي.
وفيه أن الاطلاق البدلي لا يحتاج في إحراز المساواة إلى مقدمة خارجية،
إذ نفس الاطلاق كاف لاثبات المساواة وأن جميع الافراد واف بغرض المولى، لأنه
لو كان بعض الافراد وافيا بغرضه دون بعض آخر، كان عليه البيان، فان الاطلاق
نقض لغرضه، فكما أن نفس الاطلاق في المطلق الشمولي يدل على شمول الحكم لجميع
الافراد مع تمامية مقدمات الحكمة، فكذا نفس الاطلاق - في المطلق البدلي مع تمامية
المقدمات المذكورة - يدل على كون كل واحد من الافراد وافيا بغرض المولى.
(الوجه الثالث) - ما يرجع إلى الوجه الثاني باختلاف بينهما في مجرد العبارة،
وهو أن تمامية الاطلاق في المطلق البدلي متوقفة على عدم المانع، إذ مع ثبوت المانع
عن تطبيق الطبيعة في ضمن فرد من الافراد، لا يصح التمسك بالاطلاق في الاكتفاء
بتطبيق الطبيعة في ضمن هذا الفرد. والاطلاق الشمولي صالح للمانعية عن الاطلاق
البدلي. والتمسك في دفع ما نعيته بالاطلاق البدلي مستلزم للدور، فان تمامية الاطلاق
380

متوقفة على عدم المانع، فلو توقف عدم مانعية الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي،
لزم الدور.
ويظهر الجواب عنه مما ذكرنا في الجواب عن سابقه، فان تمامية الاطلاق وانعقاد
الظهور للمطلق البدلي مع تمامية مقدمات الحكمة غير متوقفة على عدم المانع. غاية الامر
أن الاطلاق الشمولي مانع من العمل بالاطلاق البدلي، كما أن الاطلاق البدلي مانع
عن العمل بالاطلاق الشمولي، لعدم إمكان العمل بكليهما، فيكون بينهما التمانع.
وهذا شأن كل دليلين متعارضين.
و (بالجملة) توقف جواز العمل بالاطلاق البدلي على عدم المانع صحيح،
إلا أنه غير مختص به، فان العمل بالاطلاق الشمولي أيضا متوقف على عدم المانع،
إذ العمل بكل دليل موقوف على عدم المانع. وكما أن الاطلاق الشمولي مانع من العمل
بالاطلاق البدلي، كذلك الاطلاق البدلي مانع عن العمل بالاطلاق الشمولي.
وهو معنى التعارض.
و (منها) - دوران الامر بين النسخ والتخصيص، فقالوا بتقديم التخصيص
على النسخ. ثم إن دوران الامر بين النسخ والتخصيص (تارة) يكون بالنسبة إلى دليل
واحد، فيدور الامر بين كونه ناسخا أو مخصصا، كما إذا ورد الخاص بعد العام
فيدور الامر بين كون الخاص ناسخا للعام بأن يكون حكم العام شاملا لجميع الافراد
من أول الامر، لكنه نسخ بالنسبة إلى بعض الافراد بعد ورد الخاص، وبين
كونه مخصصا له، بأن يكون حكم العام مختصا بغير أفراد الخاص من أول الامر.
و (أخرى) يكون بالنسبة إلى دليلين (أي يدور الامر بين كون دليل مخصصا
لدليل آخر وبين كون الدليل الاخر ناسخا له) كما إذا ورد العام بعد الخاص، فيدور
381

الامر بين كون الخاص مخصصا للعام، كون العام ناسخا للخاص.
(اما الصورة الأولى) فليس البحث عنها مثمرا بالنسبة إلينا، فان العمل بالخاص
متعين، سواء كان مخصصا أو ناسخا، فإذا ورد عن الباقر (عليه السلام) أن الله
سبحانه خلق الماء طاهرا لم ينجسه شئ ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، ثم ورد
عن الصادق (عليه السلام) أن الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ، المستفاد منه انفعال
الماء القليل بملاقاة النجاسة، لا يجوز لنا الوضوء بالماء القليل الملاقي للنجاسة، وإن لم
نعلم كونه ناسخا أو مخصصا لما صدر عن الباقر (عليه السلام) نعم من عمل بالعام وتوضأ
بالماء القليل الملاقي للنجاسة، وبقي إلى زمان ورود الخاص، يثمر هذا البحث بالنسبة
إليه. فإنه على القول بكون الخاص ناسخا تصح أعماله السابقة، وعلى القول بكونه
مخصصا ينكشف بطلانها، لوقوع وضوئه بالماء النجس. و (بالجملة) لا تترتب ثمرة
عملية على هذا البحث بالنسبة إلينا، فينبغي الاضراب عنه.
و (أما الصورة الثانية) فتترتب عليها الثمرة بالنسبة إلينا، إذ لو ورد العام
المذكور في المثال بعد الخاص، لا يجوز لنا التوضي بالماء القليل الملاقي للنجاسة
على القول بكون الخاص مخصصا للعام، ويجوز التوضي به على القول بكون العام
ناسخا للخاص. وكذا ترتيب سائر آثار الطهارة، وتوهم عدم امكان النسخ
- بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لانقطاع الوحي - مدفوع بما ذكرناه في محله:
من أن النسخ في الحكم الشرعي هو بيان أمد الحكم، وهو ممكن بعد انقطاع الوحي،
بأن كان النبي (ص) أخبر الإمام (ع) بأن أمد الحكم الفلاني إلى زمان كذا، فيبينه
الإمام (عليه السلام). ولا نعني بالنسخ في الأحكام الشرعية إلا هذا المعنى، ففي
مثل ذلك يدور الامر بين الاخذ بظاهر الخاص وهو استمرار الحكم الثابت به،
فتكون النتيجة التخصيص، وبين الاخذ بظاهر العام، وهو شمول الحكم لجميع
382

الافراد، فتكون النتيجة النسخ. فذكروا في ذلك التخصيص مقدم على النسخ،
لكثرته حتى قيل: " ما من عام إلا وقد خص ".
وأورد عليه بأن كثرة التخصيص لا توجب إلا لظن به. ومجرد الظن لا يكفي
ما لم تكن قرينة على التخصيص بحسب متفاهم العرف. ولذا غير صاحب الكفاية
أسلوب الكلام، وقال: إن كثرة التخصيص توجب اقوائية ظهور الخاص من ظهور
العام، فتقديم التخصيص على النسخ إنما هو لأجل الاخذ بأقوى الظهورين،
لا لمجرد الكثرة.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بأن الخاص في نفسه لا يدل على الاستمرار،
إذ الدليل على ثبوت الحكم لا يكون متكفلا لبيان استمراره، لان الدليل على ثبوت
حكم لا يدل على عدم نسخه واستمراره، ضرورة أن جعل الحكم - بأي كيفية كان -
قابل للنسخ فيما بعد، فلا يمكن إثبات استمراره بالدليل الأول عند الشك في نسخه،
بل لابد من التمسك باستصحاب عدم النسخ، فيدور الامر بين العمل بالاستصحاب
والعمل بعموم العام. والمتعين حينئذ هو العمل بالعام، لكونه دليلا اجتهاديا،
والاستصحاب أصلا عمليا، فتكون النتيجة تقديم النسخ على التخصيص.
والانصاف عدم ورود هذا الاشكال على صاحب الكفاية (ره)، لما ذكرناه
في البحث عن استصحاب بقاء أحكام الشرايع السابقة من أن النسخ الحقيقي في الأحكام الشرعية
غير متصور، لاستلزامه البداء المستحيل في حقه تعالى، فالشك في النسخ
راجع إلى الشك في تخصيص الحكم المجعول من جهة الزمان فلا مانع من التمسك باطلاق
دليله، بلا احتياج إلى الاستصحاب، إذ الدليل يثبت الحكم للطبيعة، فيشمل
أفرادها العرضية والطويلة. وليس استمرار الحكم إلا عبارة عن ثبوته للأفراد
383

الطويلة للطبيعة. نعم يرد عليه إشكال آخر، وهو أن شمول الحكم للأفراد الطولية
إنما هو بالاطلاق المتوقف على جريان مقدمات الحكمة، وشمول العام لجميع الافراد إنما
هو بالوضع. وقد تقدم أنه إذا دار الامر بين العموم والاطلاق يقدم العموم
على الاطلاق. ولازمه في المقام تقديم النسخ على التخصيص.
وذكر المحقق النائيني (ره) وجها آخر لتقديم التخصيص على النسخ، وهو أن
دلالة ألفاظ العموم - على شمول الحكم لجميع الافراد - متوقفة على جريان مقدمات
الحكمة في مدخولها، والخاص مانع عنها، لكونه بيانا. وهذا الكلام مأخوذ
مما ذكره صاحب الكفاية في بحث العام والخاص: من أن لفظ كل - في قولنا:
أكرم كل عالم مثلا - لا يدل على شمول الكم لجميع افراد العالم الا بجريان مقدمات الحكمة
في مدخوله، فان كلمة كل إنما تفيد شمول الحكم لجميع أفراد ما أريد من المدخول،
فان كان المراد منه في المثال خصوص العالم العادل، فلا يدل لفظ الكل إلا على شمول
الحكم لجميع أفراد العالم العادل، وان كان المراد منه هو العالم باطلاقه، فيدل لفظ
كل على ثبوت الحكم لجميع أفراد العالم مطلقا.
ويرد على ما ذكرناه في ذلك البحث من أن ألفاظ العموم بنفسها متكفلة لبيان
شمول الحكم لجميع الافراد بلا احتياج إلى جريان مقدمات الحكمة. فان كلمة (كل)
بوضعها تدل على سريان الحكم لجميع افراد مدخولها، فمفاد قولنا: أكرم كل عالم
هو وجوب اكرام جميع افراد العالم من العادل وغيره، بلا احتياج إلى مقدمات الحكمة.
والمتحصل مما ذكرناه أن جميع الوجوه - التي ذكروها لتقديم التخصيص
على النسخ - غير تام. والصحيح في وجهه أمران:
(الأول) - أن الخاص - المقدم على العام على ما هو محل الكلام - مانع عن انعقاد
384

الظهور للعام من أول الامر، فيكون الخاص بيانا للمراد من العام بحسب فهم العرف،
فإنه إذا قال المولى: لا تكرم زيدا، ثم قال: أكرم العلماء يكون قوله: لا تكرم زيدا
قرينة على المراد من قوله: أكرم العلماء، ومانعا من انعقاد ظهوره بالنسبة إلى زيد
من أول الامر. وليس فيه إلا تقديم البيان على وقت الحاجة. ولا قبح فيه أصلا،
بخلاف تأخيره عنه، فإنه محل خلاف بينهم. ولذا اختلفوا فيما إذا ورد الخاص بعد
العام، فذهب بعضهم إلى كونه مخصصا مطلقا. واختار آخرون كونه مخصصا إن كان
وروده قبل وقت العمل، وناسخا إن كان بعده، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة
(الثاني) - وهو الأوضح من سابقه - أن كون العام ناسخا متوقف على دلالته
على ثبوت حكمه من حين وروده. إذ لو دل على ثبوته في أول الاسلام لا يكون ناسخا
البتة، فلا يحتمل النسخ في الاخبار التي بأيدينا الواردة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)
لان ظاهرها بيان الاحكام التي كانت مجعولة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله)،
إذ الأئمة (عليهم السلام) مبينون لتلك الأحكام لا مشرعون، إلا أن تنصب قرينة
على أن هذا الحكم مجعول من الان، فإذا ورد عن الباقر (عليه السلام): أن الطحال
مثلا حرام، وورد عن الصادق (عليه السلام): أن جميع أجزاء الذبيحة حلال لا يحتمل
كونه ناسخا للخاص المتقدم، لان ظاهره أن أجزاء الذبيحة حلال في دين الاسلام
من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لا أنها حلال من الان ليكون ناسخا لما ورد
عن الباقر (عليه السلام). ولا فرق في ذلك بين الخاص والعام، فلا يحتمل النسخ
في الخاص الوارد بعد العام، لعين ما ذكرناه في العام الوارد بعد الخاص.
و (بالجملة): الحكم المذكور في الاخبار المروية عن الأئمة (عليهم السلام) مقدم
بحسب مقام الثبوت وإن كان مؤخرا بحسب مقام الاثبات، فتكون الاحكام الصادرة
عن الأئمة سابقهم ولا حقهم (عليهم السلام) بمنزلة الاحكام الصادرة عن شخص واحد،
385

فلا يكون الحكم الصادر عن اللاحق ناسخا لما صدر عن السابق، لكون الجميع حاكيا
عن ثبوت الحكم في زمان النبي (صلى الله عليه وآله). نعم لو ورد خاص عن النبي
(صلى الله عليه وآله)، ثم ورد عام منه (ص) يحتمل كونه ناسخا للخاص، لكنه لم
يتحقق. ولعله لما ذكرناه - من عدم احتمال النسخ في الاخبار المروية عن الأئمة
(عليهم السلام) - لم يلتزم أحد من الفقهاء فيما نعلم بكون العام فيها ناسخا للخاص أو
الخاص فيها ناسخا للعام. هذا تمام الكلام في التعارض بين الدليلين.
أما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين، فهل تلاحظ الظهورات الأولية،
أو لابد من ملاحظة الاثنين منها، وعلاج التعارض بينهما، ثم تلاحظ النسبة بين
أحدهما والثالث المعارض له، فقد تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق،
أو بالعكس على ما سيذكر إن شاء الله تعالى؟ اختار الشيخ وصاحب الكفاية (ره)
عدم انقلاب النسبة، وأنه يلاحظ التعارض باعتبار الظهورات الأولية، بدعوى أنه
لا وجه لسبق ملاحظة أحد الدليلين مع الاخر على الثالث. ولكن الصحيح هو انقلاب
النسبة. وتحقيق هذا البحث يقتضي ذكر مقدمتين:
(المقدمة الأولى) - أن لكل لفظ دلالات ثلاث:
(الدلالة الأولى) - كون اللفظ موجبا لانتقال الذهن إلى المعنى وهذه الدلالة
لا تتوقف على إرادة اللافظ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال الذهن إلى المعنى، ولو
مع العلم بعدم إرادة المتكلم، كما إذا كان نائما أو سكرانا، أو نصب قرينة على إرادة
غير هذا المعنى، كما في قولنا: رأيت أسدا يرمي، فان ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان
المفترس بمجرد سماع كلمة (الأسد)، وإن كان يعلم أن مراد المتكلم هو الرجل الشجاع،
بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور، فان اللفظ الصادر من غير
لافظ شاعر أيضا، يوجب انتقال الذهن إلى المعنى.
386

و (بالجملة) هذه الدلالة - بعد العلم بالوضع - غير منفكة عن اللفظ ابدا،
ولا تحتاج إلى شئ من الأشياء. وهي التي تسمى عند القوم بالدلالة الوضعية، باعتبار
أن الوضع عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى، بان ينتقل الذهن إلى المعنى عند
سماع اللفظ. وإن كان المختار كون الدلالة الوضعية غيرها، فان هذه الدلالة لا تكون
غرضا من الوضع، لتكون وضعية. والا نسب تسميتها بالدلالة الانسية، فان منشأها
انس الذهن بالمعنى، لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع، لما ذكرناه في محله: من أن
الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأنه متى تكلم باللفظ الخاص، فهو يريد المعنى
الفلاني. وعليه فلا يكون خطوره - إلى الذهن عند سماعه من غير شاعر - مستندا إلى تعهده
بل إلى انس الذهن به. وقد تقدم الكلام في تحقيقها في بحث الوضع.
(الدلالة الثانية) - دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا للمتكلم بالإرادة
الاستعمالية (أي دلالة اللفظ على أن المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه) وهذه
الدلالة تسمى عند القوم بالدلالة التصديقية، وعندنا بالدلالة الوضعية، كما عرفت.
و (كيف كان) فهذه الدلالة تحتاج إلى احراز كون المتكلم بصدد التفهيم ومريدا
له، فمع الشك فيه ليست اللفظ هذه الدلالة، فضلا عما إذا علم بعدم الإرادة له، كما
إذا علم كونه نائما، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب قرينة على الخلاف متصلة
بالكلام، إذ مع ذكر كلمة يرمي في قوله: رأيت أسدا يرمى مثلا، لا تكون كلمة أسد
دالة على أن المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس، كما هو ظاهر.
(الدلالة الثالثة) - دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا للمتكلم بالإرادة الجدية
وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية، وقسم آخر من الدلالة التصديقية عند القوم.
وهي موضوع الحجية ببناء العقلاء المعبر عنها بأصالة الجد (تارة) وأصالة الجهة (أخرى)
وهذه الدلالة متوقفة - مضافا إلى عدم نصب قرينة متصلة - على عدم قيام قرينة
387

منفصلة على الخلاف أيضا، فان القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعة عن تعلق الإرادة
الاستعمالية، كالقرينة المتصلة، إلا أنها كاشفة عن عدم تعلق الإرادة الجدية، فكما
أن الاستثناء - في قوله: أكرم العلماء إلا الفساق - قرينة على عدم كون المولى
بصدد تفهيم جميع الافراد في هذا الاستعمال، فكذا قوله: - لا تكرم العالم الفاسق -
كاشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية من المولى باكرام جميع افراد العلماء في قوله:
أكرم العلماء.
و (بالجملة) هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب القرينة المتصلة والمنفصلة.
(المقدمة الثانية) - أن التعارض بين دليلين لا يتحقق الا باعتبار كون كل
منهما حجة ودليلا في نفسه لولا المعارضة، إذ لا معنى لوقوع التعارض بين ما هو حجة
وما ليس بحجة. وبضم هذه المقدمة إلى المقدمة الأولى يستنتج صحة القول بانقلاب
النسبة، فإنه إذا قام دليل عام ثم ورد دليل مخصص لذلك العام، وقام دليل آخر
معارض للعام، فلابد من ملاحظة النسبة بين العام ومعارضه، بعد اخراج ما يشمله
المخصص، لان العام لا يكون حجة بالنسبة إلى ما خرج منه بالمخصص، فالتصديق
بانقلاب بالنسبة لا يحتاج إلى أزيد من تصوره. وحيث أن بحث انقلاب النسبة كثير
الابتلاء في الفقه، لان التعارض في كثير من أبواب الفقه بين أكثر من دليلين،
فلابد لنا من التعرض لصور انقلاب النسبة، وتمييزها عن الصور التي لا تنقلب النسبة فيها.
فنقول: التعارض بين أكثر من دليلين على أنواع:
(النوع الأول) - ما إذا قام دليل عام، ومخصصان منفصلان وهذا النوع يتصور
بصور ثلاث: لان النسبة بين المخصصين إما أن تكون هي التباين، أو العموم من وجه،
أو العموم المطلق. مثال الصورة الأولى: قوله تعالى: (... وحرم الربا...) بملاحظة
ما يدل على أنه لا ربا بين الوالد والولد، وما يدل على أنه لا ربا بين الزوج وزوجته،
388

وكذا بين السيد ومملوكه. ومثال الصورة الثانية: ما إذا قال المولى: أكرم العلماء،
ثم قال: لا تكرم العالم الفاسق، وقال أيضا: لا تكرم العالم الشاعر. ومثال الصورة
الثالثة: ما إذا قال المولى: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم العالم العاصي لله سبحانه،
وقال أيضا: لا تكرم العالم المرتكب للكبائر.
(أما الصورة الأولى) فلا اشكال في وجوب تخصيص العام بكلا المخصصين
فيها، بلا فرق بين القول بانقلاب النسبة والقول بعدمه، إذ لا يفترق الحال بين لحاظ
العام مع كلا المخصصين في عرض واحد، وبين لحاظه مع أحدهما بعد لحاظه مع الاخر،
لان نسبة العام إلى كل من المخصصين هي العموم المطلق على كل تقدير، فيجب تخصيص
العام بكلا المخصصين، والحكم بعدم حرمة الربا بين الوالد وولده، وبين الزوج
وزوجته، وبين السيد ومملوكه. هذا فيما إذا لم يستلزم تخصيص العام بكليهما التخصيص
المستهجن، أو بقاء العام بلا مورد. وأما إذا استلزم ذلك: كما إذا قام دليل
على استحباب إكرام العلماء، وقام دليل على وجوب إكرام العالم العادل، وقام دليل
آخر على حرمة إكرام العالم الفاسق، فإنه إن خصصنا دليل الاستحباب بكل من دليلي
الوجوب والحرمة، يبقى دليل الاستحباب بلا مورد - على القول بعدم الواسطة بين
العدالة والفسق - بأن تكون العدالة عبارة عن ترك الكبائر. ويلزم حمله على الفرد
النادر على القول بثبوت الواسطة بينهما، بأن تكون العدالة عبارة عن الملكة. فمن لم
يرتكب الكبائر، ولم تحصل له الملكة - كما قد يتفق للانسان في أول بلوغه - فهو
لا يكون عادلا ولا فاسقا، فلا يمكن الالتزام بتخصيص العام بكل من المخصصين
في مثل ذلك، بل يقع التعارض بين العام والمخصصين، للعلم بكذب أحد هذه الأدلة
الثلاثة، فلابد من الرجوع إلى المرجحات السندية. ولا يخلو الامر من صور ست:
389

1 - أن يكون العام راجحا على كلا الخاصين.
2 - أن يكون مرجوحا بالنسبة إلى كليهما.
3 - أن يكون مساويا لكليهما.
4 - أن يكون راجحا على أحدهما ومساويا للاخر.
5 - أن يكون مرجوحا بالنسبة إلى أحدهما ومساويا للاخر.
6 - أن يكون راجحا على أحدهما ومرجوحا بالنسبة إلى الاخر.
أما إن كان العام مرجوحا بالنسبة إلى كلا الخاصين، فلا إشكال في طرحه
والعمل بهما. وأما إن كان راجحا على كليهما فالمعروف بينهم طرحهما لوقوع التعارض
بين العام ومجموع الخاصين. وحيث أن العام أرجح من كليهما فيجب طرحهما والاخذ
بالعام. ولكنه غير صحيح، لعدم وقوع التعارض بين العام ومجموع الخاصين
فقط، بل التعارض إنما هو بين أحد هذه الثلاثة وبين الآخرين، لان المعلوم
إنما هو كذب أحدها لا غير. فبعد الاخذ بالعام لرجحانه على كلا الخاصين، لا وجه
لطرحهما معا، لانحصار العلم بكذب أحدهما، فيقع التعارض العرضي بينهما، فان
كان أحد الخاصين راجحا على الاخر، يجب الاخذ بالراجح وطرح المرجوح، وان
كانا متساويين، يجب الاخذ بأحدهما تخييرا، وطرح الاخر، فتكون النتيجة
هو الاخذ بالعام وبأحد الخاصين تعيينا أو تخييرا، وطرح الخاص الاخر لا طرح
كلا الخاصين.
ولا يخفى أن ما ذكرناه - من التخيير في هذا الفرض وما سنذكره في الفروض
الآتية - مبني على تمامية الاخبار الدلالة على التخيير. وأما بناء على عدم تماميتها كما
سنذكره إن شاء الله تعالى، فالمتعين طرح كلا المتعارضين والرجوع إلى الأصول
العملية.
390

وأما إن كان العام راجحا على أحد الخاصين ومساويا للاخر، وجب الاخذ
بالعام والخاص المساوي، وطرح الخاص المرجوح. وظهر وجهه مما ذكرناه. وظهر
الحكم أيضا فيما إذا كان العام مرجوحا بالنسبة إلى أحدهما ومساويا للاخر، فإنه يجب
الاخذ بالخاص الراجح، ويتخير بين الاخذ بالعام والاخذ بالخاص المساوي له.
وأما إن كان العام راجحا على أحدهما ومرجوحا بالنسبة إلى الاخر، فالمكلف مخير بين
الاخذ بالعام وطرح كلا الخاصين، وبين الاخذ بكلا الخاصين وطرح العام
على ما ذكره صاحب الكفاية (ره) لان التعارض إنما هو بين العام ومجموع الخاصين.
وبعد كون أحد الخاصين راجحا على العام، والاخر مرجوحا تكون النتيجة - بعد
الكسر والانكسار - تساوي العام مع مجموع الخاصين، فيكون المكلف مخيرا بين الاخذ
بالعام وطرح كلا الخاصين، وبين الاخذ بكلا الخاصين وطرح العام. انتهى ملخصا.
وظهر فساده مما ذكرناه آنفا من عدم المعارضة بين العام ومجموع الخاصين
لعدم العلم الاجمالي بكذب العام أو مجموع الخاصين، بل العلم إنما هو بكذب أحد
هذه الثلاثة، فلابد من الاخذ بالعام والخاص الراجح وطرح الخاص المرجوح.
وظهر بما ذكرناه أيضا حكم ما إذا كان العام مساويا لكلا الخاصين، فإنه بعد
العلم بكذب أحد الثلاثة وعدم الترجيح بينهما، يتخير بين طرح العام والاخذ بكلا الخاصين،
والاخذ بالعام مع أحد الخاصين، وطرح الخاص الاخر. وظهر مما ذكرناه حكم
التعارض بالعرض إذا كان بين أكثر من دليلين، كما إذا دل دليل على وجوب شئ،
ودل دليل على حرمة شئ آخر، ودل دليل ثالث على استحباب شئ ثالث،
وعلمنا من الخارج بكذب أحد هذه الأدلة الثلاثة، فتجري الصور السابقة بعينها ويعلم
حكمها مما تقدم، فلا حاجة إلى الإعادة. ومجمل القول أنه يطرح أحد هذه الأدلة
الثلاثة على التعيين أو التخيير، ويؤخذ بالآخرين. هذا كله حكم الصورة الأولى.
391

و (أما الصورة الثانية) وهي ما إذا كانت النسبة - بين الخاصين - العموم
من وجه: كما إذا قال المولى: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم العالم الفاسق،
وقال أيضا: لا تكرم العالم الشاعر، فالحكم في هذه الصورة هو ما ذكرناه في الصورة
السابقة: من تخصيص العام بكلا المخصصين إذا لم يستلزم التخصيص المستهجن،
وبقاء العام بلا مورد، كما في المثال المذكور، فإنه بعد إخراج العالم الفاسق والعالم
الشاعر من عموم دليل وجوب إكرام العلماء، تبقى تحت العام أفراد كثيرة، وأما إذا
استلزم أحد المحذورين المذكورين، فيقع التعارض لا محالة، فتتصور بالصور السابقة،
ويعرف حكمها مما تقدم بلا حاجة إلى الإعادة.
وربما يتوهم في المقام انقلاب النسبة، وعدم جواز تخصيص العام بكلا المخصصين
- ولو لم يكن فيه محذور - فيما إذا تقدم أحد الخاصين زمانا على الاخر، كما إذا صدر
العام من أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحد الخاصين من الباقر (عليه السلام) والخاص
الاخر من الصادق (عليه السلام) فإنه يخصص العام بالخاص الصادر من الباقر (عليه
السلام) (أولا) إذا به يكشف عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول
له، فلا يكون العام حجة بالنسبة إليه، ثم تلاحظ النسبة بين العام والخاص الصادر
من الصادق (عليه السلام) وهي العموم من وجه حينئذ، ففي المثال المذكور - بعد
خروج العالم الفاسق من قوله: أكرم العلماء - يكون المراد منه العلماء العدول،
والنسبة - بينهم وبين العالم الشاعر - هي العموم من وجه، لاجتماعهما في العالم العادل
الشاعر، وافتراقهما في العالم العادل غير الشاعر، والعالم الشاعر غير العادل. وهذا
هو الفارق بين هذه الصورة والصورة الأولى، فان النسبة - بين العام وأحد الخاصين
بعد تخصيص العام بالخاص الاخر - هي النسبة بينهما قبله في الصورة الأولى، فلا
تنقلب النسبة أصلا، بخلاف الصورة الثانية كما عرفت.
392

وهذا التوهم مدفوع بما ذكرناه سابقا: من أن الأئمة (عليهم السلام) كلهم
بمنزلة متكلم واحد، فإنهم يخبرون من الاحكام المجعولة في الشريعة المقدسة في عصر
النبي (صلى الله عليه وآله) ولهذا يخصص العام الصادر من أحدهم بالخاص الصادر
من الاخر منهم (عليهم السلام) فإنه لولا أن كلهم بمنزلة متكلم واحد لا وجه لتخصيص
العام في كلام أحد بالخاص الصادر من شخص آخر، فإذا يكون الخاص الصادر
من الصادق (عليه السلام) مقارنا مع العام الصادر من أمير المؤمنين (عليه السلام)
بحسب مقام الثبوت، وإن كان متأخرا عنه بحسب مقام الاثبات. وكذا الخاص
الصادر من الباقر (عليه السلام) فكما أن الخاص المقدم زمانا يكشف عن عدم تعلق
الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار المشمول له، كذلك الخاص المتأخر أيضا يكشف
عن عدم تعلق الإرادة الجدية من لفظ العام بالمقدار الذي يكون مشمولا له. وكلاهما
في مرتبة واحدة. ويتضح ما ذكرناه بالمراجعة إلى الأوامر العرفية، فإنه لو صدر
من المولى عام وخاصان في زمان واحد مع كون النسبة بين الخاصين عموما من وجه،
فأرسل الخاصين إلى العبد في زمان واحد بتوسط شخصين، فوصل أحدهما إلى العبد
قبل وصول الاخر، لا يكون وصول أحدهما قبل الاخر موجبا لانقلاب النسبة بين
العام والخاص المتأخر، مع صدورهما من المولى في رتبة واحدة، بل لابد من تخصيص
العام بكليهما، كما هو واضح.
و (أما الصورة الثالثة) وهي إذا ما كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق،
فهل يجب تخصيص العام بالأخص (أولا) ثم ملاحظة النسبة بين العام والخاص،
فتنقلب النسبة من العموم المطلق إلى العموم من وجه، أو يخصص العام بكلا الخاصين؟
الظاهر هو الثاني، إذ بعد فرض كون نسبة الخاصين إلى العام على حد سواء، لاوجه
393

لتخصيص العام بأحدهما (أولا) ثم ملاحظة النسبة بين العام والخاص الاخر. ولا منافاة
بين الخاص والأخص، حتى يتقيد الأول بالثاني، فإذا ورد في رواية أنه يجب
اكرام العلماء، وفي رواية أخرى أنه لا يجوز إكرام العالم العاصي، وفي رواية الثالثة
أنه لا يجوز إكرام العالم المرتكب للكبائر يخصص العام بكلا المخصصين، ويحكم
بحرمة إكرام خصوص العالم المرتكب للكبائر، وحرمة اكرام العالم المعاصي بقول
مطلق. ولا منافاة بين حرمة إكرام خصوص العالم المرتكب للكبائر، وحرمة إكرام
مطلق العالم العاصي حتى يقيد العالم العاصي بالمرتكب للكبائر، فان توهم المنافاة بينهما
مبني على المفهوم، وقد ذكرنا في محله عدم حجية مفهوم الوصف واللقب. وتوهم لغوية
تخصيص العام بالأخص في عرض تخصيص العام بالخاص - فان تخصيص قوله يجب
إكرام العلماء بقوله: لا يجوز إكرام العالم العاصي يغني عن تخصيصه بقوله: لا يجوز
إكرام العالم المرتكب للكبائر - مدفوع بأنه يمكن أن يكون تخصيص العام بالأخص،
مع تخصيصه بالخاص لغرض من الاغراض كما إذا كان السؤال عن الأخص أو كان
محل الحاجة أو لأجل الأهمية أو لكونه الغالب، أو غير ذلك من الاغراض الموجبة
لذكر الأخص فقط. وقد ورد في الروايات ما يدل على عدم جواز الصلاة خلف شارب
الخمر، وورد أيضا ما يدل على عدم جواز الصلاة خلف الفاسق، فقوله (ع):
- " لا تصل خلف الفاسق " لا يوجب لغوية قوله (ع): " لا تصل خلف شارب
الخمر " ولا منافاة بينهما. غاية الامر أنه يكون تخصيص شارب الخمر بالذكر في قوله:
" لا تصل خلف شارب الخمر " لغرض من الاغراض. فكذا في المقام. هذا
كله فيما إذا كان كلا الخاصين منفصلا عن العام.
وأما إذا كان الأخص منهما متصلا بالعام: كما إذا ورد في رواية أنه يجب
394

اكرام العلماء إلا العالم المرتكب للكبائر، وفى رواية أخرى أنه يحرم إكرام العالم
العاصي، فتكون النسبة - بين العام المخصص بالمتصل والخاص المنفصل - العموم من وجه
فان اتصال الأخص بالعام كاشف عن عدم تعلق الإرادة الاستعمالية بالنسبة إلى ما يشمله
الأخص، فلا ينعقد للعام ظهور بالنسبة إليه من أول الامر، فتكون النسبة - بين
العام والخاص المنفصل - العموم من وجه، لاجتماعهما في العالم العاصي غير المرتكب
للكبائر، وافتراقهما في العالم العادل والعالم المرتكب للكبائر، فتقع المعارضة بينهما
في مادة الاجتماع، ويعامل معهما معاملة المتعارضين. وهذا هو الفارق بين المخصص
المتصل والمخصص المنفصل.
بقي شئ، وهو أنه - بعد ما عرفت أن الحكم - فيما إذا كان كلا الخاصين
منفصلا عن العام - عدم انقلاب النسبة وتخصيص العام بكليهما، وفيما إذا كان أخص
الخاصين متصلا بالعام هو انقلاب النسبة - لو فرض وجود عام لم يتصل به مخصص أصلا
وعام آخر اتصل به أخص الخاصين: كما إذا ورد في رواية انه يجب اكرام العلماء،
وفي رواية أخرى أنه يجب اكرام العلماء إلا العالم المرتكب للكبائر، وفى ثالثة أنه
يحرم إكرام العالم العاصي، فهل يعامل معاملة المخصص المنفصل وتخصيص العام بكلا
المخصصين باعتبار انفصالهما عن العام الأول، أو يعامل معاملة المخصص المتصل باعتبار
اتصال أخص الخاصين بالعام الثاني، فيخصص العام الأول بالمخصص المتصل بالعام
الثاني، ثم تلاحظ النسبة بينه وبين المخصص المنفصل، وهي العموم من وجه، فتقع
المعارضة بينهما في مادة الاجتماع، فيعامل معهما معاملة المتعارضين؟
اختار المحقق النائيني (ره) الثاني، لوجهين:
(الوجه الأول) - أن العام الأول قد تخصص بالمخصص المتصل بالعام الثاني
395

يقينا، لعدم المعارضة بين الخاصين بالنسبة إلى المقدار المشمول للأخص منهما، فيكون
مفاد العام الأول عين مفاد العام الثاني المتصل به أخص الخاصين. ومن الظاهر أن
النسبة - بينه وبين الخاص الاخر المنفصل - العموم من وجه.
(الوجه الثاني) - أن الخاص المنفصل بنفسه مبتلى بالمعارض وهو العام الثاني
المتصل به أخص الخاصين، فلا يكون صالحا لتخصيص العام الأول. انتهى ملخص
كلامه (ره).
(أقول): أما الوجه الأول، فقد ظهر ما فيه مما تقدم من أنه لا وجه
لتخصيص العام بأحد المخصصين (أولا) ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاص الاخر
على ما تقدم. و (أما الوجه الثاني) فهو وإن كان صحيحا، إلا أنه لا ينتج التعارض
بين العام الأول والخاص المنفصل، فإنه بعد ابتلاء الخاص المنفصل بالمعارض، لابد
من معالجة التعارض بينهما، ثم ملاحظة العام الأول فان قلنا بالتساقط، فلا مانع
من الرجوع إلى العام، وإن قلنا بالرجوع إلى المرجحات والى التخيير مع فقدها،
فان أخذنا بالعام المتصل به أخص الخاصين للترجيح أو التخيير، يطرح الخاص
المنفصل، فيبقى العام الأول بلا معارض أيضا. وإن أخذنا بالخاص المنفصل للترجيح
أو التخيير، يخصص به العام الأول، لكون أخص مطلقا بالنسبة إليه، فلا يكون
بين العام الأول والمخصص المنفصل تعارض على كل حال.
ثم انه لا بأس بالإشارة إلى الجمع بين الأدلة الواردة في ضمان العارية. فنقول:
الأخبار الواردة في ذلك الباب على طوائف:
(منها) - ما يدل على نفي الضمان في العارية بقول مطلق.
و (منها) - ما يدل على نفي الضمان مع عدم الاشتراط، وإثباته معه.
396

و (منها) - ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدراهم، وإثباته فيها.
و (منها) - ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدنانير واثباته فيها.
و (منها) - ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته في عاريتهما.
أما ما يدل على ثبوت الضمان مع الاشتراط، فنسبته - مع سائر المخصصات -
العموم من وجه، إذ ربما يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم والدينار. وربما يكون
الاشتراط في عاريتهما. وربما تكون عارية الدرهم أو الدينار بلا اشتراط. وكذا الحال
بالنسبة إلى ما يدل على الضمان في عارية الذهب والفضة، فان النسبة - بينه وبين ما يدل
على الضمان مع الاشتراط أيضا - العموم من وجه، فمقتضى القاعدة هو تخصيص العام
بجميع هذه المخصصات، لما ذكرناه سابقا: من أنه إذا كانت النسبة - بين المخصصات
- العموم من وجه، يخصص العام بجميعها.
وأما ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم، وإثباته فيها وما يدل
على نفي الضمان في غير عارية الدينار، وإثباته فيها، فهما بمنزلة رواية واحدة دالة
على نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار، وإثباته في عاريتهما، إذ الأول منهما
يدل على نفي الضمان في عارية الدنانير بالاطلاق، وعلى إثباته في عارية الدرهم بالتصريح
والثاني منهما يدل على نفي الضمان في عارية الدرهم بالاطلاق، وعلى إثباته في عارية
الدينار بالتصريح، وبين إطلاق السلب في كل منهما والايجاب في الاخر جمع عرفي
بتقييد إطلاق السلب في كل منهما بالايجاب في الاخر، فيجمع بينهما على النحو المزبور.
ويصير حاصل مضمونهما نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار، وإثباته في عاريتهما
وتقع المعارضة بينهما، وبين ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة،
واثباته في عاريتهما (أي العقد السلبي من الروايتين) معارض بالايجاب في ما يدل
397

على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة، واثباته في عاريتهما. والنسبة بينهما هي
العموم من وجه، لاختصاص العقد السلبي منهما بنفي الضمان في مثل عارية الكتب،
واختصاص الايجاب في هذه الرواية باثبات الضمان في عارية الدرهم والدينار. ويجتمعان
في عارية الذهب والفضة غير المسكوكين كالحلي. ومقتضى القاعدة تساقطهما فيه
والرجوع إلى العام الفوق الذي يدل على نفي الضمان بقول مطلق، الا أن في المقام
خصوصية تقتضي تقديم الايجاب في هذه الرواية على السلب فيهما. (بيان ذلك):
أنه سيجئ - عند التكلم عن المرجحات - أنه إذا كان تقييد أحد المتعارضين بالعموم
من وجه في مادة الاجتماع مستلزما لاستهجانه دون العكس، تقدم الاخر حذرا
من الاستهجان. والمقام كذلك، فان حمل ما يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب
والفضة على خصوص الدرهم والدينار حمل للمطلق على الفرد النادر. فان استعارة
الدرهم والدينار نادر جدا لو لم يكن منتفيا رأسا، لان استيفاء المنفعة المقصودة منهما
غالبا لا يمكن الا بالتصرف في عينهما. والمعتبر في العارية امكان الانتفاع مع بقاء
العين كما هو الحال في الوقف. ومن ثم ذهب بعض إلى عدم صحة وقفهما. وهذا
بخلاف مثل الحلي، فان عاريته أمر متعارف، فإذا يؤخذ بايجاب ما يدل على ثبوت
الضمان في عارية الذهب والفضة، ويخصص به العام الفوق، وهو ما يدل على عدم
الضمان بقول مطلق، ويحكم بالضمان في مطلق الذهب والفضة.
(النوع الثاني) من التعارض بين أكثر من دليلين - ما إذا وقع التعارض
بين عامين من وجه مع ورود مخصص ما. وهذا النوع أيضا يتصور على صور ثلاث:
(الصورة الأولى) - ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه وورد مخصص
على مورد الاجتماع. ولا محالة يكون المخصص المذكور أخص مطلقا بالنسبة إلى كلا
المتعارضين، فيقدم عليهما، وبه يرتفع التعارض، مثلا إذا دل دليل على وجوب
398

اكرام العلماء، ودل دليل آخر على حرمة اكرام الفساق، ودل دليل ثالث
على كراهة اكرام العالم الفاسق، فيقع التعارض بين الأولين في مادة الاجتماع، وهو
العالم الفاسق، والثالث أخص منهما، فيقدم عليهما. وبتقدمه يرتفع التعارض،
وتصير النتيجة وجوب اكرام العالم العادل، وكراهة اكرام العالم الفاسق، وحرمة
اكرام الفاسق الجاهل.
(الصورة الثانية) - ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه، وورد مخصص
على أحدهما (اي على مورد الافتراق من أحدهما) فيقدم الخاص على العام، فتنقلب
النسبة بين العامين من وجه إلى العموم المطلق لا محالة. وهذا أحد موارد انقلاب
النسبة، فيقدم العام - الذي خرج منه مادة الافتراق - على العام الاخر، إذ بعد
خروج مادة الافتراق من العام الأول يكون أخص مطلقا من العام الثاني، مثلا إذا
دل دليل على استحباب اكرام العلماء، ودل دليل آخر على حرمة اكرام الفساق،
ودل دليل ثالث على وجوب اكرام العالم العادل، يقع التعارض بين الأول والثاني
في مورد الاجتماع، وهو العالم الفاسق، وبعد تخصيص دليل الاستحباب بدليل
الوجوب واخراج العالم العادل عنه، ينحصر مورده بالعالم الفاسق، فيكون أخص
مطلقا من دليل الحرمة، فيقدم عليه لا محالة، فتكون النتيجة وجوب اكرام العالم
العادل، واستحباب اكرام العالم الفاسق، وحرمة اكرام الفاسق الجاهل.
هذا ان كان التخصيص واردا على مادة الافتراق بتمامها كما مثلناه. وأما ان
كان التخصيص واردا على بعضها: كما إذا دل الدليل الثالث في المثال السابق
على وجوب اكرام العالم العادل الهاشمي. فيبقى التعارض بحاله ولابد من علاجه
لان النسبة التي كانت بين المتعارضين - وهي العموم من وجه - لم تنقلب عما كانت
عليه. بل هي باقية بحالها بعد تخصيص أحدهما أيضا.
399

(الصورة الثالثة) - ما إذا وقع التعارض بين عامين من وجه، وورد المخصص
على مادة الافتراق في كل منهما، كما إذا دل دليل على استحباب اكرام العلماء، ودل
دليل آخر على كراهة إكرام الفساق. ودل دليل ثالث على وجوب اكرام العالم العادل
ودل دليل رابع على حرمة اكرام الفاسق الجاهل. فيقع التعارض بين دليل الاستحباب
ودليل الكراهة في مادة الاجتماع - وهي العالم الفاسق - وبعد تخصيص دليل
الاستحباب بدليل الوجوب لكونه أخص منه يكون مورد دليل الاستحباب منحصرا
في العالم الفاسق. وكذا الحال في دليل الكراهة، إذ بعد تخصيصه بدليل الحرمة
ينحصر مورده أيضا في العالم الفاسق، فتكون النسبة بينهما بعد تخصيصهما هو التباين،
لدلالة أحدهما على استحباب اكرام خصوص العالم الفاسق، والآخر على كراهته،
فلابد من الرجوع إلى المرجحات أو الحكم بالتخيير على ما سيجئ إن شاء الله تعالى.
وهل يلاحظ الترجيح أو التخيير بين العامين فقط، أو بين الأدلة الأربعة؟ ذهب
المحقق النائيني (ره) إلى الأول، لأنه بعد تخصيص كل من العامين بالنسبة إلى مادة
الافتراق ينحصر مفادهما في مادة الاجتماع، فيقع التعارض بينهما فيها بالتباين، فلابد
من ترجيح أحدهما على الآخر، أو الحكم بالتخيير بينهما.
والتحقيق هو الثاني، لما ذكرناه سابقا من أن منشأ التعارض - في أمثال هذه
المقامات - انما هو العلم الاجمالي بعدم صدور أحد المتعارضين. وفى المقام ليس لنا
علم اجمالي بعدم صدور خصوص أحد العامين من وجه، بل لنا علم بعدم صدور أحد
هذه الأدلة الأربعة، إذ لو لم يصدر أحد العامين أو أحد الخاصين لم يكن تناف بين
الثلاثة الباقية. اما لو لم يصدر أحد العامين، فواضح. واما لو لم يصدر أحد الخاصين
فلانه بعد تخصيص أحد العامين يصير أخص من العام الآخر، فيخصص به، فإذا
لابد من ملاحظة الترجيح بين الأدلة الأربعة، وطرح أحدها والاخذ بالثلاثة الباقية
400

ومع فقد المرجح والحكم بالتخيير، يتخير بين الأدلة الأربعة بطرح أحدها والاخذ بالباقي.
(النوع الثالث) - من التعارض بين أكثر من دليلين - ما إذا وقع التعارض
بين الدليلين بالتباين، وورد مخصص ما. وهذا أيضا يتصور على صور ثلاث:
(الصورة الأولى) - ما إذا ورد المخصص على أحدهما فيخصص به، وتنقلب
النسبة من التباين إلى العموم المطلق، فيقدم الخاص على العام ويرتفع التعارض. مثلا
إذا دل دليل على وجوب إكرام العلماء، ودل دليل آخر على عدم وجوب إكرام
العلماء، ودل دليل ثالث على وجوب إكرام العالم العادل، تكون النسبة بين الأولين
التباين، وبعد تخصيص الثاني بالثالث باخراج العالم العادل منه تنقلب النسبة بين الأول
والثاني من التباين إلى العموم المطلق، ويكون الثاني أخص مطلقا بالنسبة إلى الأول.
ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة من العقار، (فمنها) - ما يدل على أنها
لا ترث من العقار بقول مطلق. و (منها) - ما يدل على انها ترثها كذلك. (ومنها) -
ما يدل على أنها ترثها إذا كانت أم ولد.
(الصورة الثانية) - ما إذا وقع التعارض بين الدليلين بالتباين، وورد
المخصص على كل واحد منهما مع عدم التنافي بين المخصصين في أنفسهما أصلا، فتنقلب
النسبة من التباين إلى العموم من وجه، ويتعارضان في مادة الاجتماع، ويرجع
إلى الترجيح أو التخيير. مثلا إذا دل دليل على كفاية الغسل مرة واحدة في ارتفاع
النجاسة، وعدم اعتبار التعدد في حصول الطهارة، ودل دليل آخر على عدم كفايتها
واعتبار التعدد، ودل دليل ثالث على اعتبار التعدد في الغسل بالماء القليل، وهو المخصص
لما يدل على عدم اعتبار التعدد مطلقا، ودل دليل رابع على عدم اعتبار التعدد في الغسل
بالماء الجاري، وهو المخصص لما يدل على اعتبار التعدد مطلقا، فيقع التعارض بين
الأولين بالتباين. وبعد تخصيص كل واحد منهما تنقلب النسبة إلى العموم من وجه،
401

ويتعارضان في مادة الاجتماع - وهو الغسل بالكر - فان مقتضى ما يدل على اعتبار
التعدد إلا في الغسل بالماء الجاري هو اعتباره في الغسل بالكر. ومقتضى ما يدل على عدم
اعتبار التعدد إلا في الغسل بالقليل هو عدم اعتباره في الغسل بالكر، فيعامل معهما
معاملة المتعارضين من الترجيح أو التخيير.
(الصورة الثالثة) - ما إذا وقع التعارض بين دليلين بالتباين. وورد المخصص
على كل منهما مع التنافي بين المخصصين أيضا بالعموم من وجه، كما إذا دل دليل
على وجوب إكرام العلماء، ودل دليل آخر على عدم وجوب إكرامهم، ودل دليل
ثالث على وجوب إكرام العالم العادل، ودل دليل رابع على عدم وجوب إكرام العالم
النحوي. ولا أثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه في هذه الصورة، إذ على القول
بانقلاب النسبة، كانت النسبة - بين دليل وجوب إكرام العلماء ودليل عدم وجوب
إكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأول وخروج العالم العادل من الثاني - العموم
من وجه، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي. ويفترقان في العالم العادل غير النحوي
وفى العالم الفاسق النحوي، فيحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحوي، وبعدم
وجوب اكرام العالم الفاسق النحوي، ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير
في اكرام العالم العادل النحوي.
وأما على القول بانكار الانقلاب يسقط العامان عن الاعتبار رأسا، ويؤخذ
بالخاصين،، وحيث أن بينهما العموم من وجه يعمل بهما في مورد افتراقهما، ويرجع
إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع - وهو العالم العادل
النحوي - فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة. هذا تمام الكلام في بيان
صور التعارض بين أكثر من دليلين. ولو فرض التعارض بين أكثر من دليلين - سوى
ما ذكرناه من الصور - يعلم حكمه مما ذكرناه.
402

الكلام في علاج التعارض. (اعلم): أن الدليلين المتعارضين إما أن يكون
كلاهما قطعي الصدور، أو يكون كلاهما ظني الصدور، أو يكون أحدهما قطعيا
والآخر ظنيا.
أما إن كان كلاهما قطعي الصدور: كما إذا وقع التعارض بين ظاهر آيتين، أو
بين ظاهر آية وظاهر خبر متواتر أو محفوف بالقرينة القطعية، فلابد من رفع اليد
عن الظهورين وفرض الدليلين كالعدم في الرجوع إلى دليل آخر أو أصل عملي، لما
ذكرناه من عدم شمول دليل الحجية للمتعارضين على ما تقدم. وما ذكره الشيخ (ره)
- من أنه يجب تأويلهما والعمل على المعنى المؤول إليه - غريب منه، فإنه لا دليل
على وجوب التأويل والعمل على المعنى المؤول إليه، مع احتمال أن يكون المراد منهما
غير ما أولناهما إليه.
أما إن كان أحدهما قطعي الصدور والآخر ظنيا: كما إذا وقع التعارض بين
ظاهر آية والخبر الواحد المظنون صدوره، أو وقع التعارض بين خبر متواتر والخبر
المظنون صدوره، فلابد من الاخذ بظاهر الآية أو ظاهر الخبر المقطوع صدوره،
وطرح خبر الواحد بمقتضى الاخبار الكثير الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب أو
السنة. وليس ذلك من جهة ترجيح ظاهر الكتاب أو السنة على الخبر الواحد المخالف
لهما، بل من جهة أن الخبر الواحد - المخالف لهما بنحو لا يمكن الجمع بينه وبينهما -
لا يكون حجة بمقتضى قوله (ع): " إنه زخرف وباطل، أو لم نقله، أو فاضربوه
على الجدار " إلى غير ذلك من العبارات الدالة على عدم حجية الخبر المذكور، سواء
جاء به عادل أم فاسق. ولذا ذكرنا في بحث حجية الاخبار: أن من شرائط حجية
الخبر الواحد عدم مخالفته للكتاب والسنة.
وأما إن كان كلاهما ظني الصدور، فهذا هو الذي انعقد له بحث التعادل
403

والترجيح. ومقتضى القاعدة في مثل ذلك وان كان هو التساقط على ما ذكرناه، الا
أنه وردت نصوص كثيرة دالة على الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا على ما سنتكلم فيه
إن شاء الله تعالى.
ثم إن المعارضة بين الدليلين قد تكون على نحو التباين، وقد تكون على نحو
العموم من وجه، فيقع الكلام في مقامين:
(المقام الأول) - في المتباينين: كما إذا دل أحدهما على وجوب شئ، والآخر على عدم
وجوبه. وذكر صاحب الكفاية أن الأخبار الواردة في تعارض الخبرين على طوائف:
(منها) - ما يدل على التوقف، و (منها) - ما يدل على الاخذ بما يوافق الاحتياط
و (منها) - ما يدل على التخيير على الاطلاق، و (منها) - ما يدل على الترجيح
بالمرجحات المذكورة في الروايات.
أقول: أما التوقف، فليس في المقام ما يدل عليه، سوى روايتين:
(إحداهما) - مقبولة عمر بن حنظلة. و (الأخرى) خبر سماعة بن مهران. أما
المقبولة، فقد ورد فيها بعد فرض الراوي تساوي الحديثين من حيث موافقة القوم
ومخالفتهم " فارجئه حتى تلقى إمامك... " وأما خبر سماعة فقد ورد فيه بعد ما قال
الراوي يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه أنه قال " ع ":
" لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك، فتسأله " قال الراوي: قلت: لابد
أن نعمل بواحد منهما، قال (ع): " خذ بما فيه خلاف العامة ".
والتحقيق أنه لا يصح الاستدلال بهما على الحكم بالتوقف، أما المقبولة، فلأنها
- مع الغض عن سندها - وردت في مورد التخاصم. ومن الظاهر أن فصل التخاصم
لا يمكن بالحكم بتخيير المتخاصمين، إذ كل منهما يختار ما فيه نفعه فتبقى المخاصمة بحالها
مضافا إلى إن موردها صورة التمكن من لقاء الإمام عليه السلام.
404

وأما خبر سماعة فلانه ضعيف السند، فلا يصح الاعتماد عليه، مضافا إلى كونه
معارضا بالمقبولة، حيث حكم فيها بالتوقف بعد فقد المرجح لإحدى الروايتين. وهذا
الخبر يدل على وجوب التوقف من أول الامر والاخذ بما فيه الترجيح عند عدم امكان
التوقف، على أن مورده أيضا صورة التمكن من لقاء الإمام (عليه السلام) كما
في المقبولة.
وأما الروايات العامة الدالة على التوقف عند الشبهة، فهي وإن كانت كثيرة،
إلا أنه على تقدير تمامية دلالتها مخصصة بما دل على الاخذ بأحد الخبرين المتعارضين تعيينا
أو تخييرا، بل مع تمامية دلالة الدليل على التخيير أو الترجيح، لا يكون الاخذ
بأحد المتعارضين ارتكابا للشبهة، فيكون خارجا من تلك الروايات موضوعا.
وأما الاحتياط، فلم يدل عليه دليل، سوى مرفوعة زرارة التي رواها
ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب غوالي اللئالي عن العلامة (ره) مرفوعا إلى زرارة.
والمستفاد منها لزوم الاخذ بما يوافق الاحتياط عند تساوي الخبرين المتعارضين، حيث
يقول (ع) بعد فرض الراوي تساوي الحديثين: " إذا فخذ بما فيه الحائطة لدينك
واترك الآخر " ولكن لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية، فإنه - مضافا إلى أنها
لم توجد في كتب العلامة (ره) ولم تثبت وثاقة راويها، بل طعن فيه وفى كتابه
من ليس دأبه الخدشة في سند الرواية، كالمحدث الحبراني (ره) - أنها مرفوعة ساقطة
عن مقام الحجية.
فتبقى في المقام طائفتان من الاخبار: (إحداهما) - ما يدل على التخيير.
و (الأخرى) ما يدل على الترجيح. وذهب صاحب الكفاية (ره) إلى التخيير،
وأنكر لزوم الترجيح حيث جمل الأخبار الدالة على الترجيح على الاستحباب، وأصر
405

عليه، ونسبه إلى الكليني (ره) في الكافي، وذكر في وجه ما ذهب إليه وجوها:
(الأول) - أن الاخبار - الدالة على الاخذ بما يوافق الكتاب وطرح
ما يخالفه،، أو الاخذ بما يخالف القوم وطرح ما يوافقهم - ليست واردة في مقام
الترجيح، بل في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة بشهادة ما ورد من قوله (ع):
" انه زخرف وباطل أو لم نقله أو اضربوه على الجدار " إلى غير ذلك من التعبيرات
الدالة على عدم حجية الخبر المذكور. وكذا الامر في الأخبار الدالة على الاخذ بما
يخالف القوم وطرح ما يوافقهم، فان الوثوق بصدور الخبر الخالف للقوم يوجب اطمينان
النفس بان الخبر الموافق لهم إما غير صادر من المعصوم (عليه السلام) أو صدر تقية،
فيكون الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للقوم غير مشمول لأدلة الحجية.
ثم ذكر أنه لو سلم أن الاخبار - الآمرة بالأخذ بموافق الكتاب أو بمخالف
القوم - ظاهرة في بيان المرجح لاحد المتعارضين، فلا مناص من حملها على خلاف
ظاهرها، وأنها صدرت في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة، أو على الاستحباب،
لان حملها على الترجيح يوجب تقييدها، وهي آبية عنه. وكيف يمكن تقييد مثل
قوله (ع): " ما خالف قول ربنا لم نقله أو زخرف أو باطل "؟
(بيان ذلك): أن موافقة الكتاب ومخالفته - على تقدير كونهما
من المرجحات - متأخرتان عن الترجيح بالشهرة، كما هو مفاد المقبولة. وعليه فيقدم
الخبر المشهور - ولو كان مخالفا للكتاب - على الشاذ النادر، ولو كان موافقا له،
ويخرج مثل هذه الصورة عن قوله (ع): " لم نقله أو زخرف أو باطل " مع كونه
آبيا عن التخصيص، كما عرفت. وهذا بخلاف حملها على التمييز، فإنه بناء عليه لابد
من طرح الخبر المشهور في الفرض المذكور، لأنه غير حجة في نفسه كما لا يخفى.
406

وفيه أن الأخبار الآمرة بعرض الاخبار على الكتاب والسنة على طائفتين:
(الطائفة الأولى) - ما ذكره (ره) من الأخبار الدالة على أن مخالف
الكتاب زخرف أو باطل أو اضربوه على الجدار، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة
على عدم الحجية، وأن حجية الاخبار مشروطة بعدم كونها مخالفة للكتاب والسنة،
والمراد من المخالفة هي المخالفة بنحو لا يكون بينها وبين الكتاب والسنة جمع عرفي،
كما إذا كان خبر مخالفا للكتاب أو السنة على نحو التباين أو العموم من وجه.
وأما الاخبار المخالفة للكتاب أو السنة بالتخصيص أو التقييد، فليست مشمولة لهذه الأخبار
، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب والسنة، والمقيد لاطلاقاتهما عنهم
(عليهم السلام) فإنه لم يذكر في الكتاب إلا أساس الاحكام، كقوله تعالى:
(أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وأما تفصيل الاحكام وموضوعاتها وتخصيص عموماتها
وتقييد مطلقاتها، فهو مذكور في الاخبار المروية عنهم (ع) وإن شئت قلت: ليس
المراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بالتخصيص والتقييد، وإلا لزم تخصيصها
بموارد العلم بتخصيص الكتاب فيها، مع أنها آبية عن التخصيص، كما تقدم.
و (بالجملة): الاخبار - المخصصة لعمومات الكتاب أو المقيدة لاطلاقاته - لا تكون
مخالفة له في نظر العرف، بل قرينة على المراد منه.
(الطائفة الثانية) - الأخبار الواردة في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين
على الآخر، كقوله (ع): " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فاعرضوهما على كتاب
الله، فما وافق كتاب الله، فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه... الخ " وحيث
أن هذه الطائفة من الاخبار واردة في بيان المرجح لاحد الخبرين المتعارضين على الآخر،
قدم الإمام (عليه السلام) في المقبولة الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب،
407

وإلا لم يكن وجه للتقديم، إذ لو كان المراد بيان المميز للحجة عن اللاحجة، لكان
الخبر المشهور المخالف لعموم الكتاب غير حجة في نفسه، فكيف قدمه (ع)
على الشاذ الموافق لعموم الكتاب، كما هو مقتضى إطلاق المقبولة. والمراد من المخالفة
في هذه الطائفة هي المخالفة بنحو التخصيص والتقييد، فمفادها أنه إذا ورد خبران
متعارضان، وكان أحدهما موافقا لعمومات الكتاب أو اطلاقاته، وكان الآخر
مخالفا لها يجب ترجيح الخبر الموافق على الخبر المخالف.
وأما ما ذكره - من أن الخبر الموافق للقوم لا يكون حجة مع وجود الخبر
المخالف لهم، إذ معه يطمئن النفس بأن الخبر الموافق لهم إما غير صادر أو صدر
عن تقية، فيخرج عن دائرة اعتبار السند أو الظهور - ففيه أن مجرد وجود الخبر
المخالف للقوم لا يوجب حصول الاطمينان المذكور، لان الاحكام - المتفق فيها
الفريقان في نفسها - كثيرة جدا، فيحتمل أن يكون مضمون الخبر الموافق لهم هو
الحكم الواقعي، والخبر المخالف لم يصدر أو صدر بغير داعي الجد.
فظهر أن ذكر موافقة القوم ومخالفتهم إنما هو لترجيح أحد المتعارضين
على الآخر لا لتمييز الحجة عن اللاحجة، ويشهد لما ذكرناه أنه ذكر مخالفة العامة
في المقبولة متأخرة عن الشهرة. ولازم ذلك وجوب الاخذ بالمشهور ولو كان موافقا
لهم. ولو كان المراد تمييز الحجة عن اللاحجة لم يكن وجه لذلك، إذ الخبر الموافق لهم
لا يكون حجة حينئذ، فكيف أمر (ع) بالأخذ بالمشهور ولو كان موافقا للعامة
كما هو مقتضى الاطلاق؟
(الثاني) - أن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة والمرفوعة.
ولا يمكن الاستدلال بهما على لزوم الترجيح بين المتعارضين، لان موردهما في الحكومة
408

وفصل الخصومة. ولاوجه للتعدي منه إلى غيره. ومجرد مناسبة الترجيح لمقام
الفتوى لا يوجب ظهورهما في وجوب الترجيح ولو في غير مورد الحكومة. هذا مضافا
إلى اختلافهما في أنفسهما، حيث قدم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالأوثقية والأعدلية
في المرفوعة، ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة الكتاب، بخلاف المقبولة، فإنه قدم
فيها الترجيح بالأوثقية والأعدلية على الترجيح بالشهرة. وجعل موافقة الكتاب
مرجحة قبل الترجيح بمخالفة العامة. والى ضعف سند المرفوعة جدا. انتهى ملخصا.
وفيه أن الأخبار الدالة على الترجيح ليست منحصرة في المقبولة والمرفوعة،
بل هناك روايات اخر. وجملة منها صحاح لا إشكال في سندها ولا في دلالتها.
وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها. وسيجئ ذكره قريبا إن شاء الله تعالى. اما المرفوعة
فقد عرفت حالها من حيث السند عند التكلم في أدلة الاحتياط. ودعوى انجبار
ضعفها بعمل المشهور ممنوعة بما ذكرناه في محله: من عدم صحة ذلك على أنه لم يثبت
عمل المشهور بها، فانا لم نجد من عمل بما في آخرها من الامر بالأخذ بما فيه الحائطة.
ومع الغض عن ضعف سندها ليس موردها الحكومة على ما ذكره صاحب الكفاية (ره)
فراجع. وأما المقبولة فسندها وإن كان محل خدشة، إذ لم يذكر - في كتب الرجال
لعمر بن حنظلة - توثيق. ولا يمكن إثبات وثاقته مما رواه (1) في الوسائل في باب
الوقت عن الكليني (ره) في الكافي الدال على توثيق الإمام (عليه السلام) له،
لكونه ضعيف السند بنفسه، فلا يمكن اثبات وثاقة عمر بن حنظلة به. ولكنه

(1) نقل في الوسائل عن الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى
عن يونس عن يزيد بن خليفة، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عمر
ابن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا لا يكذب علينا "
409

يقال: إن الأصحاب تلقوها بالقبول، وعملوا بها قديما وحديثا. ويعلم استنادهم
إليها من الافتاء بمضمون ما ورد فيها من قوله (ع): " وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا
وان كان حقه ثابتا " حيث أن هذه الجملة لم ترد في سائر اخبار باب القضاء، فراجع.
وأما دلالتها، فلا ينبغي الاشكال في تماميتها، فان صدرها من الترجيح
بالأفقهية والأعدلية والأصدقية وان كان ناظرا إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر
عند الاختلاف، إلا أن ظاهر ذيلها هو ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى،
إذ الترجيح - بكون الرواية مجمعا عليها بين الأصحاب وبموافقة الكتاب والسنة
وبمخالفة العامة - قد اعتبر فيها بعد فرض سقوط حكم الحكمين بالمعارضة. فمفادها
أنه بعد سقوط الحكم يرجع إلى الروايتين ويؤخذ بالراجح منهما.
(الثالث) - أنه لو تمت دلالة الاخبار على لزوم الترجيح بين المتعارضين حتى
في مقام الافتاء، لابد من رفع اليد عن ظاهرها وحملها على الاستحباب، لوجهين:
(أحدهما) - أن الاخذ بظاهرها يوجب حمل اطلاقات أخبار التخبير على الفرد
النادر، إذ مورد تساوي الخبرين المتعارضين قليل جدا، وشمول المطلق لفرده
النادر وإن كان بلا محذور، إلا أن في اختصاصه به محذورا على ما ذكر في محله.
(ثانيهما) - أن ترك الاستفصال - عن التعادل والتفاضل في مقام الجواب
عن سؤال حكم المتعارضين في أخبار التخيير - قرينة على الاستحباب، إذ على تقدير
وجوب الترجيح يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة فان الحكم - باختصاص التخيير
بصورة فقد المرجح - مستفاد من دليل منفصل، وهو اخبار الترجيح.
وفيه أن ما ذكره - من أن الاخذ بظواهر أخبار الترجيح يوجب حمل إطلاقات
أخبار التخيير على الفرد النادر - إنما يتم على القوم بالتعدي عن المرجحات المنصوصة
410

إلى غيرها كما ذهب إليه الشيخ (ره) وتبعه بعضهم، فان تساوي الخبرين - المتعارضين
من جميع الجهات لو لم يكن مجرد فرض - غير متحقق ولا خفاء في ندرته. وأما على القول
بالاقتصار على المرجحات المنصوصة - كما هو الصحيح - فلا يلزم المحذور المذكور،
إذ المرجح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة على ما سنتكلم
فيه إن شاء الله تعالى. وموارد تساوي الخبرين - المتعارضين من حيث موافقة
الكتاب وعدمها - كثيرة جدا، فإنه لم يذكر في الكتاب الكريم من الاحكام
إلا عدة قليلة، فيمكن أن لا يكون الحكم - الذي تعارض فيه الخبران - مذكورا
في الكتاب أصلا، وكذا موارد تساوي الخبرين المتعارضين من حيث مخالفا العامة
أيضا في غاية الكثرة، إذ يمكن أن يكون أحدهما موافقا لطائفة، والآخر موافقا
لطائفة أخرى منهم، وكذا يمكن أن يكون الحكم الذي تعارض فيه الخبران
غير مذكور في كتبهم، فان فقه العامة ليس على بساطة فقه الخاصة. وكذا أخبارهم.
وأما ما ذكره - من لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة - ففيه أنه لا مانع
من تأخير البيان عن وقت الحاجة، لجواز أن يكون فيه مصلحة على ما ذكر في محله.
ولذا يكون تقييد الاطلاقات بالأدلة المنفصلة في أبواب الفقه في غاية الكثرة.
هذا وستسمع إن شاء الله تعالى أن الأخبار الواردة لا تنهض لاثبات التخيير
أصلا، فانتظر قليلا.
ثم لا يخفى أن هذا الوجه لو تم لزم الالتزام باستحباب الترجيح بالمرجحات،
بخلاف الوجهين المتقدمين، فان نتيجتهما تعين التخيير وعدم رعاية الترجيح لا لزوما
ولا استحبابا.
بقي الكلام فيما نسبه إلى الكليني من القول بالتخيير مطلقا، وعدم لزوم الترجيح.
411

ومراجعة الكافي تشهد بعدم صحة هذه النسبة، فإنه (ره) قال في ديباجة الكافي: " إعلم
يا أخي أنه لا يسع لاحد تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء (عليهم السلام)
برأيه، إلا ما أطلقه العالم (ع) بقوله: فاعرضوهما على كتاب الله عز وجل،
فما وافق الكتاب فخذوه، وما خالف الكتاب فردوه وقوله (ع): " دعوا
ما وافق القوم، فان الرشد في خلافهم " وقوله (ع): " خذوا بالمجمع عليه، فان
المجمع عليه لا ريب فيه " ونحن لا نعرف من ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئا أحوط
وأوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (عليه السلام) وقبول ما وسع الامر فيه
لقوله (ع): " وأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم " وأنت ترى أن ظاهر هذا
الكلام لزوم رعاية المرجحات والتخيير مع فقدها، فان ظاهر قوله (ره): نحن
لا نعرف... أنه سلم الترجيح بالاجماع وموافقة الكتاب ومخالفة القوم، ولكن ذكر
قلة الموارد التي نعرف فيها وجود تلك المرجحات، فلابد من رد علم كلها إلى العالم
(عليه السلام) وقبول التخيير.
فتحصل مما ذكرناه في المقام لزوم الترجيح بالمرجحات والتخيير مع فقدها.
بقي الكلام في تعيين المرجحات المنصوصة وترتيبها فنقول: أما الشهرة فالظاهر
عدم كونها من المرجحات، فان المذكور في المقبولة هو الاخذ بالمجمع عليه. والمراد
به الخبر الذي أجمع الأصحاب على صدوره من المعصومين (ع) فالمراد به الخبر المعلوم
صدوره من المعصوم (ع) بقرينة قوله (ع) بعد الامر بالأخذ بالمجمع عليه: " فان
المجمع عليه لا ريب فيه " وقوله (ع) بعد ذلك: " إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده
فيتبع. وأمر بين غيه فيجتنب. وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله... الخ " فان الإمام (عليه
السلام) طبق الامر البين رشده على الخبر المجمع عليه، فيكون الخبر المعارض له ساقطا
412

عن الحجية، لما دل على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة، فان المراد بالسنة هو
مطلق الخبر المقطوع صدوره عن المعصوم (ع) لا خصوص النبوي، كما هو ظاهر،
ولا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي الشهرة في كلتا الروايتين بعد أمره (ع) بالأخذ
بالمجمع عليه، فان الشهرة بمعنى الوضوح. ومنه قولهم: شهر فلان سيفه، وسيف
شاهر، فمعنى كون الروايتين مشهورتين أنهما بحيث قد رواهما جميع الأصحاب، وعلم
صدورهما عن المعصوم (ع). وظهر بما ذكرناه عدم صحة الاستدلال بما في المرفوعة
من قوله (ع): " خذ بما اشتهر بين أصحابك " على الترجيح بالشهرة الاصطلاحية،
إذ فرض الشهرة في إحدى الروايتين بالمعنى الذي ذكرناه يوجب دخولها تحت عنوان
السنة القطعية، فتكون الرواية الأخرى خارجة عن دائرة دليل الحجية طبعا، بمقتضى
ما دل على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة على ما تقدم. مضافا إلى ما عرفت
من عدم حجية المرفوعة لضعف سندها. وليس في غير المقبولة والمرفوعة من الاخبار
العلاجية ذكر من الترجيح بالشهرة أصلا، فلم يثبت كون الشهرة الاصطلاحية
من المرجحات. وظهر بما ذكرناه: أنه لا يمكن الاستدلال بالمقبولة ولا بالمرفوعة
على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، لكون موردهما الخبرين المشهورين
(أي المقطوع صدورهما) فلا تدلان على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة فيما إذا
كان الخبران مظنوني الصدور، كما هو محل الكلام. وما اشتهر - من أن المورد
لا يكون مخصصا - مسلم فيما إذا كان في كلام المعصوم إطلاق أو عموم، فيؤخذ بالاطلاق
أو العموم ولو كان المورد خاصا. وليس في المقبولة والمرفوعة عموم أو إطلاق بالنسبة
إلى الخبر الظني، فان الإمام (عليه السلام) أمر بالأخذ بما وافق الكتاب وخالف
العامة من الخبرين الذين فرض في كلام الراوي كون كليهما مشهورين.
413

وأما الترجيح بصفات الراوي كالأعدلية والأفقهية والأصدقية، فلم يدل عليه
دليل أيضا، إذ لم يذكر الترجيح بها في المقبولة والمرفوعة من الاخبار العلاجية:
أما المرفوعة، فقد عرفت حالها من عدم الحجية. وأما المقبولة، فالترجيح بالصفات
وان كان قد ذكر فيها، إلا أنها قد جعلت من مرجحات الحكمين لا من مرجحات
الروايتين، حيث قال (ع): " الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما... الخ "
ولذا لم يذكرها الكليني (ره) في جملة المرجحات، فراجع كلامه الذي نقلناه وما ذكره
الشيخ (ره) - من أن عدم ذكره الصفات المذكورة من المرجحات إنما هو لوضوح
كونها منها - غريب منه، فان الترجيح بها ليس بأوضح من الترجيح بموافقة الكتاب
ومخالفة العامة، مع أن الوضوح لا يوجب الغاء الشئ في مقام العداد. وما حكي
عن بعض الأخباريين - من أن الوجه في عدم ذكره الأوصاف انه يرى جميع روايات
كتابه مقطوعة من حيث السند - أغرب من سابقه، فإنه مع وضوح فساده لا يستلزم
تساوي رواة جميع روايات الكافي من حيث الصفات، فان تساوي رواة جميع روايات
الكافي - من حيث الأعدلية والأفقهية والأصدقية - غير محتمل، فضلا عن أن
يقطع به.
وظهر بما ذكرناه - من عدم كون الصفات من المرجحات - أن ما وقع - في كلام
المتأخرين من ترجيح الصحيحة على الموثقة - ليس له وجه.
وأما موافقة الكتاب ومخالفة العامة، فلا ينبغي الاشكال في أن كلا منهما
مرجح مستقل. وتوهم - كون مجموعهما مرجحا واحدا حيث جمع الإمام (عليه السلام)
بينهما في المقبولة بقوله (ع): " ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف
العامة. فيؤخذ به، ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة " فأمر بالأخذ
414

بالخبر الجامع لكليهما - مدفوع بأن المذكور في ذيل المقبولة الترجيح بمخالفة العامة
بنفسها، حيث قال (ع) بعد فرض الراوي تساوي الخبرين من حيث موافقة
الكتاب والسنة: " ما خالف العامة ففيه الرشاد " فإذا كانت مخالفة العامة بنفسها
من المرجحات بلا احتياج إلى انضمام موافقة الكتاب إليه، كانت موافقة الكتاب
أيضا مرجحة مستقلة، فإنه لو لم تكن موافقة الكتاب مرجحة مستقلة، لكان انضمامها
إلى مخالفة العامة من باب ضم الحجر إلى جنب الانسان. غاية الامر أن الإمام (عليه
السلام) فرض أحد الخبرين جامعا لكلا المرجحين، والاخر فاقدا لهما. وأمر
بالأخذ بالجامع وطرح الفاقد. وبعد سؤال الراوي عن الواجد لاحد المرجحين أمر
بالأخذ به أيضا.
ثم إنه لم يذكر في المقبولة حكم الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما موافقا
للكتاب، والاخر مخالفا للعامة، إذ المذكور فيها حكم الواجد والفاقد لكلا المرجحين
والواجد والفاقد لاحد المرجحين. وأما إن كان أحدهما واجدا لمرجح والاخر واجدا
للمرجح الاخر، كما إذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب والعامة، والاخر مخالفا
للكتاب والعامة، فلم يذكر حكمه في المقبولة، إلا ان حكمه يعلم من خبر صحيح رواه
الراوندي بسنده عن الصادق (عليه السلام) انه (ع) قال: " إذا ورد عليكم حديثان
مختلفان، فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف
كتاب الله فردوه، فان لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على اخبار العامة، فما وافق
اخبارهم، فذروه وما خالف اخبارهم فخذوه " فبمقتضى هذه الصحيحة يحكم بتقديم
الخبر الموافق للكتاب، وإن كان موافقا للعامة، وطرح الخبر المخالف للكتاب
وإن كان مخالفا للعامة. فالذي تحصل مما ذكرناه.
415

في موافقة الكتاب ومخالفة العامة، وانه لابد في مقام الترجيح من ملاحظة موافقة
الكتاب (أولا) ومع عدمها يعتبر الترجيح بمخالفة العامة، ولو لم يكن في أحد
المتعارضين شئ من المرجحين يؤخذ بأحدهما تخييرا لو تمت دلالة اخبار التخيير على ما
سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى، وإلا فيحكم بتساقطهما ويرجع إلى دليل آخر أو أصل عملي.
و (ينبغي التنبيه على أمور):
(الامر الأول) - انه قد ورد في بعض الروايات ما ربما يستظهر منه أنه
لو تعارض الخبر المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) والخبر المروي عن الإمام (عليه
السلام) فالترجيح للثاني: وهو موثقة محمد بن مسلم نقله في الكافي عن العدة
عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: فما بال أقوام يروون عن فلان وفلان
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا يتهمون بالكذب، فيجئ منكم خلافه؟
قال (ع): إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن " وكذلك ورد في بعض روايات اخر
ما يستظهر منه انه لو وقع التعارض بين الخبر المتقدم زمانا والخبر المتأخر بحسب الزمان
فالترجيح للثاني، كصحيحة أبي عمرو الكناني رواها الكليني (ره) عن محمد بن يحيى
عن أحمد بن محمد بن عيسى بن الحسين بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني
قال: " قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا عمرو! أرأيتك لو حدثتك بحديث -
العام - ثم جئتني بعد ذلك فتسألني عنه، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك، أو أفتيتك
بخلاف ذلك، بأيهما كنت تأخذ؟ قلت بأحدثهما وأدع الاخر، فقال (ع):
قد أصبت يا أبا عمرو! أبى الله إلا ان يعبد سرا، اما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير
لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا في دينه إلا التقية ".
416

أقول: أما الرواية الأولى، فلا يصح التمسك بها للترجيح، إذ لو كان المراد
من النسخ في هذه الرواية هو النسخ الاصطلاحي، بناء على إمكانه بعد انقطاع الوحي
أيضا، لكونه بمعنى بيان أمد الحكم لا ارتفاع الحكم المستمر، ولابد من أن يكون
المراد من الحديث الناسخ للحديث النبوي مقطوع الصدور، فان ضرورة المذهب
قاضية بعدم نسخ الكتاب والسنة بالخبر الظني، بل هذا مما اتفق عليه الفريقان
فإذا لو كان المراد من النسخ هو النسخ الاصطلاحي. فلابد من أن يكون المراد
من الناسخ المقطوع الصدور، وهو خارج عن محل الكلام. وإن كان المراد من النسخ
معناه اللغوي ليشمل التخصيص والتقييد - كما قد أطلق عليهما في بعض لاخبار - فكان
المراد تخصيص العموم المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بالمخصص المروي
عن الإمام (عليه السلام) أو تقييده به. ولا مانع منه. ولكنه أيضا خارج عن محل
الكلام، لان الكلام في المتعارضين الذين لا يكون بينهما جمع عرفي، كما تقدم.
و (أما الرواية الثانية) الدالة على وجوب الاخذ بالمتأخر من التعارضين،
فموردها المكلف العالم بصدور كلا الحكمين عن الإمام (عليه السلام) المعاصر له. ولابد
له من العمل بالمتأخر، لان المتقدم لو صدر عن تقية، لكان المتأخر صادرا لبيان
الحكم الواقعي، ولو كان المتأخر صادرا عن تقية يجب الاخذ به أيضا، لوجوب
رعايتها فان الإمام (عليه السلام) أعرف بمصالح الوقت. وهذا غير جار في حقنا،
فان المتقدم والمتأخر بالنسبة إلينا على حد سواء، إذ لا علم لنا بصدورهما، ونحتمل
أن لا يكون شئ منهما صادرا. وعلى تقدير صدورهما واقعا، لا نعم أن أيا منهما صدر
لبيان الحكم الواقعي ليكون عملنا عليه مع عدم المقتضي للتقية في حقنا، فلابد حينئذ
من الرجوع إلى مرجح آخر، مضافا إلى أنه لو كان المراد في هذه الرواية كون التأخر
مرجحا لاحد المتعارضين، لكانت منافية لجميع أخبار الترجيح، ضرورة تأخر
417

صدور أحد المتعارضين عن الاخر، فلابد من طرح هذه الرواية، إذ لو عمل بها
لم يبق مورد للعمل بأخبار الترجيح. نعم مجهولي التاريخ خارج عن مفاد هذه الرواية.
ولكن لا يعمل بسائر الترجيحات فيهما، لأنا نعلم بتأخر أحدهما عن الاخر. وقد
اشتبه علينا المتأخر، فيكون من باب اشتباه الحجة بغير الحجة، فلا يمكن الاخذ
بواحد منهما.
(اللهم إلا أن يقال): إن بقاء جميع الاخبار العلاجية بلا مورد مورد على تقدير
العمل بهذه الرواية قرينة على اختصاص هذه الرواية بصورة العلم بتاريخ المتعارضين.
وأما مع الجبل بالتاريخ كان المرجع بقية الروايات، فلا يلزم حينئذ طرح هذه الرواية
لمنافاتها معها.
(الامر الثاني) - أنه لو شك في اعتبار مرجح وعدمه، فعلى تقدير تمامية
دلالة أخبار التخيير يجب الاخذ بما فيه احتمال الترجيح، لدوران الامر فيه بين
التعيين والتخيير. وقد ذكرنا في محله أن مقتضى الأصل - عند دوران الامر بين
التعيين والتخيير - هو الثاني، إلا في موردين: (أحدهما) - باب التزاحم عند احتمال
أهمية أحد المتزاحمين. (ثانيهما) - دوران الحجة بين التعيين والتخيير، كما في المقام
هذا إذا لم يكن في أخبار التخيير إطلاق، وإلا فيتمسك به في رفع الشك في اعتبار
المرجح.
وأما على تقدير عدم تمامية أخبار التخيير وسقوط المتعارضين عن الاعتبار رأسا
مع عدم وجود المرجح لأحدهما - على ما سنذكره إن شاء الله تعالى - فلا يمكن
الاخذ بواحد منهما. أما الفاقد لما يحتمل كونه مرجحا، فللعلم بعدم كونه حجة، كما
هو ظاهر، وأما الواجد له، فللشك في حجيته، والأصل عدمها.
(الامر الثالث) - أنه بعد البناء على لزوم الترجيح، وقع الكلام بين الاعلام
418

في اعتبار الترتيب بين المرجحات وعدمه. وقسمها الشيخ (ره) على ثلاثة اقسام:
(منها) - ما يكون مرجحا، لصدور أحد المتعارضين ككون الرواية مشهورة.
و (منها) - ما يكون مرجحا لجهة صدوره، ككون إحدى الروايتين مخالفة للعامة.
و (منها) - ما يكون مرجحا لمضمونه بمعنى مطابقة المضمون للواقع، ككون إحداهما
موافقة للكتاب. ونسب إلى الوحيد البهبهاني (ره) أنه ذهب إلى تقديم الترجيح بجهة
الصدور، وهو مخالفة العامة، إذ مع كون أحد المتعارضين مخالفا للعامة نقطع بأن الاخر
الموافق لهم إما غير صادر عن المعصوم أو صدر عن تقية. وذكر صاحب الكفاية (ره)
أن إطلاقات أخبار الترجيح غير ناظرة إلى بيان الترتيب بين المرجحات، بل هي واردة
لبيان أصل الترجيح وأن هذا مرجح وذاك مرجح، فلاوجه للالتزام برعاية الترتيب
وذكر جماعة: منهم المحقق النائيني (ره) أن ما كان مرجحا للصدور كالشهرة يقدم
على مرجح جهة الصدور والمضمون. وما كان مرجحا لجهة الصدور يقدم على مرجح
المضمون، فمثل مخالفة العامة يقدم على الترجيح بموافقة الكتاب. وذكر في وجه ذلك
أن اعتبار مرجح جهة الصدور فرع اعتبار صدور المتعارضين، إذ مع عدم إحراز
الصدور لا تصل النوبة إلى ملاحظة جهة الصدور، كما أن اعتبار مرجح المضمون فرع
اعتبار صدورهما لبيان الحكم الواقعي. فما ذكرناه هو مقتضى الترتيب الطبيعي بين المرجحات.
هذه هي الأقوال التي ذكرها الاعلام في المقام. وللنظر في جميعها مجال واسع. أما
ما ذكره الوحيد البهبهاني (ره) ففيه أن مجرد كون إحدى الروايتين مخالفة للعامة لا يوجب القطع
بأن الخبر الموافق لهم لم يصدر أو صدر عن تقية، لان الاحكام المتفق عليها بين الفريقين
كثيرة في نفسها، فيحتمل كون الخبر الموافق لهم صادرا عن المعصوم لبيان الحكم الواقعي
وكون الخبر المخالف لهم غير صادر أو صدر عن غير جد. وأما ما ذكره صاحب
الكفاية (ره) ففيه أن مقتضى ظاهر صحيحة الراوندي تقديم الترجيح بموافقة الكتاب
419

على الترجيح بمخالفة العامة، فلا عبرة مع موافقة الكتاب بمخالفة العامة وعدمها. وأما
ما ذكره المحقق النائيني (ره) ففيه أنه مجرد استحسان، لا يصلح لرفع اليد عن ظهور
الرواية في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامة.
(الامر الرابع) - أنه هل يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة، أو يتعدى
إلى غيرهما مما يكون أحد المتعارضين معه أقرب إلى الواقع؟ ذهب الشيخ (ره)
إلى التعدي، وذكر في وجه ما ذهب إليه وجوها:
(منها) - أن في جعل الإمام (عليه السلام) - مثل الأصدقية والأوثقية
مرجحا لإحدى الروايتين - دلالة على أن المناط في الترجيح بهما كونهما موجبة لأقربية
إحدى الروايتين للواقع، فيتعدى إلى كل ما فيه هذا المناط.
و (منها) - أن الإمام (عليه السلام) علل وجوب الاخذ بالرواية المجمع
عليها بكونها مما لا ريب فيه. ومن الظاهر أن عدم الريب فيها ليس إلا إضافيا بمعنى
أن المشهور بالنسبة إلى الشاذ النادر لا ريب فيه لا أنه في نفسه مما لا ريب فيه، وإلا
لكان الخبر الشاذ مما لا ريب في كذبه، فيكون داخلا في بين الغي. وهو خلاف
ظاهر الاستشهاد، فان الإمام (عليه السلام) أدرجه في المشتبه، فعلى هذا تدل
المقبولة بعموم التعليل على أن كل خبرين ليس في أحدهما ريب بالنسبة إلى الاخر يلزم
الاخذ به، فالمنقول باللفظ مثلا مما لا ريب فيه بالنسبة إلى المنقول بالمعنى، فيجب
الاخذ به.
و (منها) - أن تعليل الإمام (عليه السلام) - الاخذ بمخالفة العامة بأن
الرشد في خلافهم - يدل على أن كل خبرين يكون في أحدهما الرشد غالبا يجب الاخذ
به، فإنه ليس الاخذ بمخالف العامة بحيث يكون فيه الرشد دائما لكثرة الاحكام
420

المتفق عليها الفريقان في نفسها.
وللنظر في جميع ما ذكره وجها للتعدي مجال واسع. أما ما ذكره من أن في جعل
الأوصاف مرجحة للرواية دلالة على التعدي، ففيه ما عرفت من عدم دلالة المقبولة
على كون الأوصاف من مرجحات الخبرين المتعارضين، فضلا عن دلالتها على أن ذكر
الأوصاف مثال لما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الصدق. وأما ما ذكره من أن تعليل
الاخذ بالمجمع عليه بكونه مما لا ريب فيه يدل على أنه كلما لم يكن في أحد الخبرين ريب
بالإضافة إلى الاخر يجب الاخذ به، ففيه - مضافا إلى ما تقدم من ضعف سند
المقبولة - أنه لا يمكن حمل قوله (ع): " مما لا ريب فيه " على نفي الريب بالإضافة
فإنه يوجب تقديم إحدى الروايتين على الأخرى إذا كانت الوسائط فيها أقل من وسائط
الأخرى ولو بواحد. ولا أظن أن يلتزم به أحد، فلابد من أن يكون المراد من قوله
عليه السلام: " مما لا ريب فيه " ما كان يكون فيه ريب حقيقة، فيكون المراد كونه
مقطوع الصدور كما ذكرناه سابقا. ولا ينافيه فرض الريب في الخبر الشاذ المعارض له
وعدم إدخاله في بين الغي، لاحتمال أن يكون هو الصادق. وإنما كان الخبر المجمع
عليه صادرا عليه تقية.
وإن شئت قلت: الاجماع في الرواية يوجب دخولها في سنة القطعية، فلابد
من طرح كل خبر يدل على خلافه، لما عرفت من أن مخالف الكتاب والسنة لا يكون
حجة. وهذا غير ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى في مقام المعارضة لوجود المرجح
فيها، كما لا يخفى. وأما ما ذكره من أن تعليل الاخذ بمخالف العامة - بأن الرشد
في خلافهم - يدل على لزوم ترجيح كل ما فيه مزية على الاخر، ففيه أن التعليل
المذكور لم يوجب في رواية. وإنما هو في عبارة الكافي التي نقلناها سابقا. نعم وقع
في المرفوعة ما يرادفه، وهو قوله (ع): " فان الحق فيما خالفهم " ولكن قد عرفت
421

ضعف سندها وعدم صحة الاعتماد عليها. وذكر أيضا في المقبولة لفظ ففيه الرشاد، ولكنه
ليس بعنوان التعليل، بل بعنوان الحكم حيث قال (ع): " ما خالف العامة ففيه
الرشاد " أي يجب الاخذ به، فلا تعليل فيه حتى يؤخذ بعمومه. ولو سلم ظهوره
في التعليل. فلا اشكال في أن الرشد في مخالفة العامة غالبي، حيث إنهم اعتمدوا
كثيرا في استنباط الأحكام الشرعية على الاستحسانات والأقيسة، واستغنوا بذلك
عن المراجعة إلى الأئمة (عليهم السلام) ووقعوا في مخالفة الأحكام الشرعية كثيرا.
فحينئذ لا مانع من التعدي إلى كل مزية تكون موجبة للرشد غالبا. ولكن الصغرى لهذه
الكبرى غير متحققة، إذ ليس في المرجحات ما يكون موجبا لغلبة مطابقة الواقع.
(الامر الخامس) أنه لو وقع الاختلاف في تفسير رواية لا ينبغي الريب
في أنه غير داخل في التعارض، فان تعدد التفسير لا يوجب تعدد الحديث حتى يكون
مشمول لقوله (ع): " إذا جاءكم حديثان مختلفان... الخ " أما لو اختلفت النسخ
كما إذا روى الكليني (ره) الخبر بنحو، ورواه الشيخ (ره) بنحو آخر مع وحدة
السند، أو كان الخبر في بعض نسخ التهذيب مثلا بلفظ، وفي بعضها الاخر بلفظ
آخر. فيظهر من المحقق الهمداني في كتاب صلاته: أن ذلك لا يكون من باب تعارض
الخبرين، بل من باب اشتباه الحجة بغيرها، للعلم بعدم صدور كليهما عن الإمام (عليه
السلام) ولكن التحقيق هو التفصيل في المقام والالتزام بأن اختلاف رواية الكافي
والتهذيب مثلا داخل في تعارض الخبرين، فإنهما خبران والعلم بعدم صدور كليهما لا يضر بتعدد
الخبر، كما في سائر موارد التعارض، فيكون المقام نظير ما إذا حكم الإمام (ع)
بحكم في مجلس، وخرج عنه راويان، ثم اختلفا فروى أحدهما حكمه بنحو، والاخر
بنحو آخر. وأما إن كان الاختلاف في نسخ كتاب واحد، فالامر كما ذكره، فانا
لا ندري في هذه الصورة أن ما أخبرنا به الشيخ (ره) مثلا أيهما؟ نعم لو أحرزت
422

الوثاقة في كل من ناسخي الكتاب لا يبعد دخوله في المتعارضين، كالقسم الأول.
بقي الكلام في الاخبار التي استدل بها على التخيير بين المتعارضين، ولم نجد
منها إلا ثمان روايات:
(منها) - ما عن فقه الرضا (عليه السلام): " والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل
أيام حيضة وهي عشرة أيام، وتستظهر بثلاثة أيام ثم نغتسل، فإذا رأت الدم عملت
كما تعمل المستحاضة، وقد روي ثمانية عشرة يوما، وروي ثلاث وعشرين يوما
وبأي هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز " ودلالة هذه الرواية وإن كانت تامة
إلا أنه قد ذكرنا في بحث الفقه أنه لم تثبت حجية الكتاب المذكور، فلا يمكن الاعتماد
على الروايات المذكورة فيه.
و (منها) - ما في ذيل المرفوعة من قوله (ع) بعد فرض الراوي كلا الخبرين
موافقا للاحتياط أو مخالفا له: " إذا فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الاخر " وفيه ما تقدم
من عدم صحة الاعتماد على هذه الرواية لضعفها من جهات، مضافا إلى أن حكم الإمام (عليه
السلام) فيها بالتخيير إنما هو بعد فرض الراوي الشهرة في كل من المتعارضين،
فيكون موردها الخبرين المقطوع صدورهما على ما ذكرناه من أن المراد بالشهرة هو
معناها اللغوي، وحكم الإمام (عليه السلام) - بالتخيير فيما إذا كان كل من المتعارضين
قطعي الصدور - لا يدل على التخيير فيما إذا كان كل منهما ظنيا من حيث الصدور،
كما هو محل الكلام. وتوهم أن المورد لا يكون مخصصا قد تقدم دفعه، فلا نعيد.
و (منها) - ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي عن الحسن بن الجهم
عن الرضا (عليه السلام) " قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين،
ولا نعلم أيهما الحق؟ قال (ع): فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت " وهذه الرواية
423

من جهة الدلالة لا بأس بها، إلا أنها مرسلة لا يعمل بها.
و (منها) - ما رواه أيضا مرسلا عن الحرث بن مغيرة عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: " إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك
حتى ترى القائم، فترد عليه ". وهذه الرواية - مضافا إلى ضعف سندها بالارسال -
لا دلالة لها على حكم المتعارضين، كما ترى. ومفادها حجية أخبار الثقة إلى ظهور
الحجة.
و (منها) - ما رواه الكليني (ره) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان
ابن عيسى عن حسن بن محبوب جميعا عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه: أحدهما
يأمر بالأخذ والاخر ينهاه. كيف يصنع؟ قال (ع): " يرجئه حتى يلقى
من يخبره. فهو في سعة حتى يلقاه " ومورد هذه الرواية دوران الامر بين المحذورين
حيث أن أحد الخبرين يأمر والاخر ينهى. والعقل يحكم فيه بالتخيير بين الفعل
والترك. وقول الإمام (عليه السلام): " فهو في سعة... الخ " لا يدل على أزيد منه.
و (منها) ما رواه الشيخ (ره) باسناده عن أحمد بن محمد عن العباس
ابن معروف عن علي بن مهزيار قال: " قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن
(عليه السلام) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ركعتي
الفجر في السفر، فروى بعضهم صلهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلهما إلا
على الأرض فوقع (ع): موسع عليك باية عملت " ومورد هذه الرواية هو التخيير
- في نافلة الفجر - بين الاتيان بها في المحمل. والآتيان بها على الأرض. وقد حكم
الإمام (عليه السلام) في الحقيقة بجواز الاتيان بها في المحمل، فان ظاهر حكمه (ع)
424

بالتخيير أن التخيير واقعي، إذ لو كان الحكم الواقعي غيره، لكان الأنسب
بيانه، لا الحكم بالتخيير بين الحديثين: ولا اطلاق لكلام الإمام (عليه السلام)
ولا عموم حتى يتمسك بهما ويتعدى عن مورد الرواية إلى غيره.
و (منها) - مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان
أرواحنا فداه على ما في احتجاج الطبرسي، وقد سئل في هذه المكاتبة عن استحباب
التكبير بعد التشهد الأول وعدمه - إلى أن قال (ع) في الجواب عن ذلك: " حديثان
أما أحدهما، فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير، وأما الاخر فإنه روي
أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام، فليس عليه في القيام بعد
القعود تكبير. وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى، بأيهما أخذت من باب
التسليم كان صوابا " ومورد هذه الرواية خارج عن محل الكلام، فان النسبة بين
الخبرين الذين دلت هذه الرواية على التخيير بينهما هي العموم المطلق. ومقتضى الجمع
العرفي هو التخصيص، والحكم بعدم استحباب التكبير في مورد السؤال، فحكم
الإمام (عليه السلام) بالتخيير إنما هو لكون المورد من الأمور المستحبة، فلا بأس
بالأخذ بكل من الخبرين، إذ مقتضى التخصيص وان كان عدم استحباب التكبير،
إلا أن الاخذ بالخبر والآتيان بالتكبير أيضا لا بأس به، لان التكبير ذكر في نفسه.
و (بالجملة) لابد من الاقتصار على مورد الرواية، إذ ليس في كلام الإمام (عليه
السلام) إطلاق أو عموم يوجب التعدي عن موردها إلى غيره.
و (منها) - مرسلة الكافي حيث قال: وفي رواية أخرى " بأيهما أخذت
من باب التسليم وسعك " وهذه المرسلة إن كانت إحدى الروايات السابقة،
فلا حاجة إلى الجواب المستقل عنها، وإن كانت غيرها، فهي مرسلة لا يمكن
الاعتماد عليها.
425

فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام أن التخيير بين الخبرين المتعارضين عند
فقد المرجح لأحدهما مما لا دليل عليه. بل عمل الأصحاب في الفقه على خلافه، فانا
لم نجد موردا أفتى فيه بالتخيير واحد منهم. فراجع.
ولا يخفى أن البحث - عن كون التخيير بين المتعارضين بدويا أو استمراريا -
ساقط بناء على ما ذكرناه من سقوط كلا المتعارضين عن الحجية مع فقد المرجح لأحدهما
كما هو ظاهر. وعلى تقدير تسليم تمامية أدلة التخيير، فهل التخيير ابتدائي،
أو استمراري؟ اختار صاحب الكفاية (ره) الثاني، لوجهين:
(أحدهما) - التمسك باستصحاب بقاء التخيير الثابت قبل الاخذ بأحدهما.
(ثانيهما) التمسك باطلاقات أدلة التخيير، فان مقتضاها ثبوته ولو بعد
الاخذ بأحدهما.
وفي كلا الوجهين ما لا يخفى (أما الأول) ففيه (أولا) - عدم حجية
الاستصحاب في الشبهات الحكمية على ما تقدم الكلام فيه في بحث الاستصحاب.
و (ثانيا) - أن استصحاب بقاء التخيير في نفسه لا يجري، لان التخيير الثابت
قبل الاخذ بأحدهما عبارة عن تفويض الشارع امر الحجية إلى المكلف بأن يجعل ما ليس
حجة في حقه حجة، إذ لا يكون أحد من الخبرين المتعارضين حجة قبل الاخذ.
وهذا المعنى من التخيير غير قابل للبقاء بعد الاخذ بأحدهما، فإنه بعد الاخذ بأحدهما
تتعين عليه الحجة، فليس له التخيير في سلب الحجية عن الحجة، فيجري استصحاب
بقاء حجية المأخوذ به بلا معارض.
و (أما الثاني) ففيه ان خطابات التخيير متوجهة إلى المكلف الذي جاءه
الحديثان المختلفان ولم يأخذ بشئ منهما، فان المخاطب بقوله (ع): " بأيهما اخذت
426

فموسع عليك " هو الذي لم يأخذ بواحد من الخبرين، فلا تشمل من أخذ بأحدهما.
و (بعبارة أخرى) هذا التخيير تخيير في تعيين الحجة لمن لا تكون عنده حجة معينة،
فلا يثبت لمن تعينت له الحجة.
(المقام الثاني) - فيما إذا كان التعارض بين دليلين بالعموم من وجه. ولم
يتعرض له الأصحاب إلا بعض المتأخرين. فقد يقال بأنه يؤخذ بالدليلين في مادتي
الافتراق، ويتساقطان في مادة الاجتماع، وقد يقال بأنه يرجع في مادة الاجتماع
إلى مرجحات جهة الصدور والمضمون دون مرجحات الصدور، فان الرجوع إليها
يوجب طرح أحدهما رأسا حتى في مادة الافتراق، أو التبعيض في السند والالتزام
بصدوره في مادة الافتراق. دون مادة الاجتماع. وكلا الامرين مما لا يمكن الذهاب
إليه (أما الأول) فلان طرح أحدهما في مادة الافتراق طرح للحجة بلا معارض.
و (أما الثاني) فلانه لا يعقل التعبد بصدور كلام واحد بالنسبة إلى بعض مدلوله دون
البعض الاخر. وأما التفكيك في جهة الصدور أو المضمون، لا مانع منه، بأن
يقال: صدور هذا الخبر بالنسبة إلى بعض مدلوله لبيان الحكم الواقعي، وبالنسبة
إلى البعض الاخر للتقية. وكذا التفكيك في المضمون، بأن يقال: بعض مدلول هذا
الخبر متعلق للإرادة الجدية دول البعض الاخر للتخصيص أو التقييد.
(أقول): إذا كانت النسبة بين المتعارضين هي العموم من وجه، فاما أن
يكون العموم في كل منهما مستفادا من الوضع، أو من الاطلاق، أو في أحدهما
من الوضع، وفي الاخر من الاطلاق. أما القسم الأخير فقد سبق الكلام فيه عند
البحث عن دوران الامر بين التخصيص والتقييد. وأما القسمان الأولان فتحقيق
الحال فيهما يحتاج إلى بيان مقدمة. وهي: أن الحكم الشرعي المتعلق بالكلام قد
427

يتعدد بتعدد الدال دون المدلول، بأن تكون وحدة الحكم وتعدده دائرا مدار وحدة
الدال وتعدده من دون أن يكون لوحدة المدلول وتعدده دخل فيهما، كما في حرمة
الكذب، فان الكذب لا يتعدد بتعدد المدلول، فإذا أخبر زيد بان عندي درهما،
وأخبر عمرو بأن عندي عشرة دراهم، ولم يكن عندهما شئ من الدرهم، فقد صدر
من كل منهما كذب واحد، وارتكب كل منهما حراما واحدا، وان كان مدلول
كلام عمرو متعددا. والسر فيه ان الكذب عبارة من كلام خبري لا يكون مطابقا
للواقع. ومن الظاهر أن وحدة الكلام لا تنثلم بتعدد المدلول. وقد يتعدد الحكم
بتعدد المدلول من دون تعدد الدال. كما في الغيبة، فإذا قال زيد: إن عمروا فاسق،
فقد اغتاب غيبة واحدة. ولو قال: إن عمروا وخالدا فاسقان، فقد اغتاب غيبتين
وارتكب حرامين، فان الغيبة عبارة عن كشف ما ستره الله من عيوب المؤمن، وهو
كشف عيب مؤمنين ولو بكلام واحد. والفرق بين القسمين: أنه لا يمكن التبعيض
باعتبار المدلول في الأول، فإذا قال زيد عندي درهمان، وكان عنده درهم واحد،
لا يصح القول بأن إخباره صدق وكذب، بل كذب ليس إلا، بخلاف القسم
الثاني، فإنه لا مانع من التفكيك فيه باعتبار المدلول، فإذا قال زيد: إن عمروا
وخالدا فاسقان، يمكن أن يقال: إن هذا الكلام غيبة ومحرمة بالنسبة إلى عمرو
لا بالنسبة إلى خالد، لكونه متجاهرا.
(إذا عرفت ذلك) فهل حجية الكلام من قبيل الأول حتى لا يمكن التفكيك
باعتبار المدلول، أو من قبيل الثاني ليمكن التفكيك؟ الظاهر هو الثاني. لا ترى أنه
لو قامت بينة على أن ما في يد زيد - وهي عشرة دراهم - لعمرو، ثم قامت بينة أخرى
على أن خمسة منها لبكر؟ لا إشكال في أنه يؤخذ بالبينة الأولى، ويحكم بأن خمسة
428

دراهم مما في يد زيد لعمرو، وتتعارض مع البينة الثانية في الخمسة الباقية. وكذلك
لو قامت بينة على أن هذين المالين لزيد وأقر زيد بأن أحدهما ليس له، يؤخذ بالبينة
في غير ما أقر به من المالين.
و (بالجملة) لا وجه بعد سقوط بعض المدلول عن الاعتبار لسقوط بعضه الاخر
وليس هذا تفكيكا في المدلول من حيث الصدور، بل تفكيك في المدلول من حيث
الحجية. ولا يقاس المقام (أي الدلالة التضمنية) على الدلالة الالتزامية التي ذكرنا
سابقا أنها تسقط عن الحجية عند سقوط الدلالة المطابقية. وذلك، لان الدلالة
الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وتابعة لها ثبوتا وإثباتا تبعية المعلول لعلته، بخلاف
المقام، فان دلالة اللفظ على بعض مدلوله ليست تابعة لدلالته على بعضه الاخر لا ثبوتا
ولا إثباتا. فلو قامت بينة على كون قباء وعباء لزيد، واعترف زيد بعدم كون القباء
له، لا يلزم منه عدم كون العباء أيضا له، لعدم كون ملكية العباء تابعة لملكية القباء
لا ثبوتا ولا اثباتا، وعلى هذا ففيما إذا كان التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه
يؤخذ بكل منهما في مادة الافتراق، ويرجع إلى المرجحات المنصوصة في مادة الاجتماع
ويؤخذ بما فيه الترجيح على الاخر. والقول - بعدم إمكان الرجوع إلى مرجحات
الصدور لان السند لا يتبعض - فاسد، لما عرفت من أنه ليس تفكيكا في الصدور
بل تفكيك في الحجية باعتبار المدلول.
و (بعبارة أخرى) نتعبد بصدوره دون عمومه، لا مكان أن يكون الكلام
صادرا عن الإمام (عليه السلام) على غير وجه العموم بقرينة لم تصل إلينا. هذا فيما
إذا كان العموم في كل منهما بالوضع.
وأما إذا كان العموم في كل منهما مستفادا من الاطلاق، فتسقط الروايتان
429

في مادة الاجتماع من الأول، بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات. وذلك، لان
الاطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ، إذ اللفظ
موضوع للمهية المهملة التي يعبر عنها باللا بشرط المقسمي، فلا يروي الراوي عن الإمام (عليه
السلام) الا بثبوت الحكم للطبيعة المهملة. وأما إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ،
ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة. وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار
نفس مدلوليهما، فإنه لا تنافي يبن الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الاهمال، وحرمة
إكرام الفاسق كذلك ليقع التعارض بين الخبرين الدالين عليهما. ولا سبيل للعقل
إلى الحكم بأن المراد منهما وجوب إكرام العالم ولو كان فاسقا، وحرمة إكرام الفاسق
ولو كان عالما فإنه حكم بالجمع بين الضدين. والحكم - بالاطلاق في أحدهما دون
الآخر - ترجيح بلا مرجح، فيسقط الدليلان معا في مادة الاجتماع، ويرجع
إلى دليل آخر من عموم أو اطلاق. ومع فقده يكون المرجع هو الأصل العملي.
(تنبيه)
قد عرفت من مباحثنا السابقة أن الخبر الواحد إذا كان مخالفا لظاهر الكتاب
أو السنة القطعية، وكانت النسبة بينهما التباين، يطرح الخبر ولو لم يعارضه خبر آخر
بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة وأنه زخرف
وباطل. وأما إن كانت النسبة بينهما العموم المطلق، فلا ينبغي الاشكال في تخصيص
الكتاب والسنة به ما لم يكن خبر آخر معارضا له، وإلا فيطرح ويؤخذ بالخبر الموافق
للكتاب والسنة بمقتضى أخبار الترجيح. وأما إن كانت النسبة بينهما العموم من وجه
فان كان العموم في كل منهما بالوضع، يؤخذ يظاهر الكتاب والسنة، ويطرح الخبر
430

بالنسبة إلى مورد الاجتماع، لأنه زخرف وباطل بالنسبة إلى مورد الاجتماع بمقتضى
ما ذكرناه: من التفكيك في الحجية باعتبار مدلول الكلام، وان كان العموم في كل
منهما بالاطلاق، يسقط الاطلاقان في مورد الاجتماع، لما ذكرناه من أن الاطلاق
غير داخل في مدلول اللفظ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن
جريانها في هذه الصورة. وذكرنا أن المستفاد من الكتاب ذات المطلق لا اطلاقه، كي
يقال: إن مخالف إطلاق الكتاب زخرف وباطل. ومن هنا يظهر أنه لو كان العموم
في الخبر وضعيا، وفى الكتاب أو السنة اطلاقيا يقدم عموم الخبر في مورد الاجتماع،
بعد ما ذكرناه سابقا من عدم تمامية الاطلاق مع وجود العموم الوضعي في قباله.
والحمد لله أولا وآخرا، فإنه المبدأ واليه المعاد.
431

الاجتهاد والتقليد
433

(خاتمة في الاجتهاد والتقليد)
ونقتصر على بعض مباحثهما المهمة. فنقول: قد عرف الاجتهاد في كلام
جماعة من العامة والخاصة باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي. وهذا
التعريف غلط، لعدم جواز العمل بالظن ما لم يقم دليل على اعتباره. وأما ما قام
الدليل على اعتباره، فيجب اتباعه سواء كان مفيدا للظن بالحكم الواقعي أم لا، إذا
لا عبرة في الحجية بوجود الظن شخصا. بل ولا نوعا كما في موارد الأصول العملية.
نعم يصح التعريف المذكور على أصول العامة من وجوب العمل بالظنون الحاصلة
من الاستحسانات والاستقراء والقياس ونحوها. ولعل التعريف المذكور أوجب
استيحاش الاخباري عن جواز الاجتهاد وعده من البدع والمحرمات وحينئذ استنكارهم
في محله لحرمة العمل بالاجتهاد المذكور (اي الظن بالحكم الشرعي).
والصحيح أن يعرف الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية
أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول إليها. والاجتهاد بهذا المعنى مما لا مناص
عن الالتزام به للأخباري والأصولي، فلا وجه لاستيحاش الاخباري عنه. غاية الامر
أنه ينازع في حجية ما يراه الأصولي حجة. وهو لا يضر في الاتفاق على صحته بالمعنى
الذي ذكرناه. ولعل النزاع - بين الاخباري والأصولي في صحة الاجتهاد وعدمها
- لفظي، لما ذكرناه من أن استنكار الاخباري راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل
الظن بالحكم الشرعي، واثبات الأصولي راجع إلى الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة
القطعية على الأحكام الشرعية.
ثم إنه لا يهمنا تحقيق مفهومه من حيث السعة والضيق بأن يقال: المراد منه تحصيل
الحجة فعلا، أو ملكة تحصيل الحجة ولو لم تحصل بعد. فإنه بعنوانه لم يقع موضوعا
434

لشئ من الأحكام الآتية في لسان الأدلة، كما ستسمع إن شاء الله تعالى، بل المهم
هو البحث عن تلك الأحكام المترتبة على الاجتهاد، فان سعتها وضيقها تابع للموضوع
الذي رتب عليه الحكم في الدليل، فنقول: الاحكام - التي يقع البحث عنها
في المقام - ثلاثة:
(أحدها) - جواز العمل بالاجتهاد وعدم جواز رجوع المتصف به إلى غيره.
(ثانيها) - جواز رجوع الغير إلى المجتهد وتقليده.
(ثالثها) - نفوذ قضاء المجتهد وحكمه.
أما جواز عمل المجتهد باجتهاده، فلا اشكال فيه، فان المفروض أنه عالم
بالحكم الواقعي وجدانا، كما إذا ظفر في مقام الاستنباط بما يفيد العلم به، أو عالم بقيام
حجة شرعية عليه كما في موارد الطرق أو الأصول المثبتة للحكم، أو عالم بأن الشارع
جعل له حكما ترخيصيا في مقام الظاهر، كما في موارد الأصول الشرعية النافية للتكليف،
أو عالم بمعذوريته في مخالفة الحكم على تقدير وجوده واقعا، كما في موارد الطرق
أو الأصول العقلية النافية. ومع علمه بما ذكر كيف يمكن القول بعدم جواز العمل
بعلمه؟ مع أن حجية العلم ذاتية. وهل يكون رجوعه إلى غيره إلا من قبيل رجوع العالم
إلى الجاهل، أو إلى مثله؟ وهذا كله واضح بالنسبة إلى العالم بالفعل. واما الجاهل
بالفعل المتمكن من استنباط الأحكام الشرعية، فادعى شيخنا الأنصاري (ره) - في رسالته
الخاصة بمباحث الاجتهاد والتقليد - قيام الاجماع على عدم جواز رجوعه إلى الغير، وأن
ما دل على جواز التقليد من الآية والرواية منصرف إلى الجاهل غير المتمكن من الاستنباط.
(أقول): إن تم ما ذكره (ره) من الاجماع، أو قلنا بانصراف أدلة
جواز التقليد والرجوع إلى العالم عن المتمكن من الاستنباط. فالموضوع لعدم جواز
435

الرجوع إلى الغير وان كان هو المتمكن من استنباط الاحكام، فيناسبه تعريف
الاجتهاد بأنه ملكة يقتدر بها على تحصيل الحجة على الوظيفة الفعلية من الاحكام
الواقعية أو الظاهرية، إلا ان هذا التعريف لا يناسب الحكمين الآخرين، لما ستعرف
من أنهما مختصان بالعالم بالفعل. فالصحيح تعريف الاجتهاد بأنه العلم بالأحكام الشرعية
- الواقعية أو الظاهرية أو بالوظيفة الفعلية عند عدم إحراز الحكم الشرعي - من الأدلة
التفصيلية. وبهذا يتحد تعريف الاجتهاد مع تعريف الفقه. غاية الامر أنه لا يلتزم
بعدم جواز التقليد لبعض أفراد غير المجتهد أيضا. وهو المتمكن من الاستنباط إن تم
الاجماع أو الانصراف المذكورين، وإلا كان موضوع عدم جواز التقليد أيضا
هو العالم بالفعل.
وأما جواز رجوع الغير إليه فان تمت دلالة مثل قوله تعالى -: (فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة طائفة... الخ)
ومثل قوله (ع) " فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه
مطيعا لأمر مولاه. فللعوام أن يقلدوه... الخ " - على جواز التقليد، فلا محالة يكون
موضوعه هو العالم بعدة من الاحكام، بحيث يصدق عليه عنوان أهل الذكر والفقيه
عرفا. ولا يضر في صدق العنوانين المذكورين عرفا عدم استنباط الاحكام النادرة،
بل يكفي استنباط الاحكام التي تكون محلا للابتلاء. ولا يصدقان على المتمكن بلا
استنباط فعلي. فإنه لا يكون فقيها ولا من أهل الذكر عرفا.
وأما لو لم تتم دلالتها وكان المدرك لجواز التقليد هو حكم العقل أو بناء العقلاء،
فسيأتي أن الموضوع فيه هو العالم بالحكم، سواء صدق عليه عنوان الفقيه أم لم يصدق.
والعالم لا يشمل المتمكن من العلم. فإنه جاهل متمكن من تحصيل العلم لا عالم.
436

وأما نفوذ حكمه وقضائه، فموضوعه العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها
عرفا، بحيث يصدق عليه عنوان العالم بالأحكام والناظر في الحلال والحرام. وأما
ما رواه الصدوق باسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكزم الجمال قال:
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا
إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه
بينكم، فاني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه " فهو دال على ما ذكرناه، فان كلمة
شئ مع التنكير، وان كانت ظاهرة في القلة في غير المقام، الا أنها كناية عن الكثرة
في المقام، باعتبار أنه لوحظت قلته بالنسبة إلى علوم الأئمة (عليهم السلام) فلابد من أن
يكون كثيرا في نفسه، وإلا لا يعد شيئا من علومهم (ع) فان علمهم (ع) بمنزلة بحر
محيط. وشئ منه لا يكون إلا كثيرا في نفسه، كما هو المتعارف، فإنه إذا قيل:
عند فلان شئ من الثروة والمال، يراد منه ما يكون كثيرا في نفسه، فإنه قليل بالنسبة
إلى مجموع الأموال والثروة الموجودة في الدنيا. ولعل السر في هذا التعبير هو الإشارة
إلى كثرة علمهم (ع)، بحيث يكون علم غيرهم بالنسبة إلى علمهم (ع) كالقطرة
من البحر.
ثم إنه ظهر مما ذكرناه عدم جواز تقليد من عرف الاحكام من غير الأدلة
المقررة كالرمل والجفر ونحوهما، وأنه لا اعتبار بقضائه، ولو فرض كونه معذورا
في تحصيلها منها لقصوره. والوجه في ذلك: أن الأئمة (عليهم السلام) أمروا
بالرجوع إلى رواة أحاديثهم، ونهوا عن الاعتماد على غيرهم، وقيدوه بكون الراوي
ناظرا في الحلال والحرام الظاهر في اعتبار كونه من أهل النظر والاستنباط في صحة
الرجوع إليه، كما في مقبولة عمر بن حنظلة، مضافا إلى أن راوي الأحاديث باعتبار نقله
437

ألفاظها لا يسمى من أهل الذكر، بل صدق هذا العنوان كعنوان الفقيه يتوقف
على استنباط الاحكام منها.
ومن هنا يظهر عدم جواز تقليد من يرى حجية الظن من جهة انسداد باب العلم
والعلمي. أما على الحكومة، فظاهر، لأنه لا يكون عالما بالأحكام الشرعية،
غاية الامر كونه معذورا في عمل نفسه، مع عدم التقصير في المقدمات، مضافا إلى أن
حجية الظن مختصة بمن تمت في حقه مقدمات الانسداد.
و (منها) - عدم جواز التقليد. وهذه المقدمة لا تتم في حق العامي المتمكن
من الرجوع إلى المجتهد الانفتاحي. وأما على الكشف، فلانه وإن كان عالما بجملة
من الأحكام الشرعية الظاهرية، إلا ان حجية الظن مختصة بمن تمت في حقه مقدمات
الانسداد. وقد عرفت عدم تماميتها في حق العامي المتمكن من الرجوع
إلى المجتهد الانفتاحي.
(إن قلت): إن المجتهد الانفتاحي يتمسك - عند فقدان الطرق والأصول
الشرعية - بالأصول العقلية. ومن الظاهر أنه في موارد التمسك بها لا علم له بالحكم
الواقعي، ولا بالحكم الظاهري، فيلزم مما ذكر أن يكون الرجوع إليه فيها من قبيل
رجوع الجاهل إلى مثله. مضافا إلى أن موضوع تلك الأصول لا تتم في حق العامي
المتمكن من الرجوع فيها إلى من يرى قيام الطرق أو الأصول الشرعية فيها، بل
لا يجوز رجوعه إليه في الموارد التي يتمسك فيها بالأصول الشرعية، مع وجود من يرى
قيام الطرق فيها، فان موضوع البراءة الشرعية مثلا في الشبهات الحكمية إنما هو عدم
التمكن من العلم بالحكم الواقعي. ومن الظاهر أن فتوى من يدعي قيام الطرق في الموارد
المذكورة علم به في حق العامي بعد الاخذ به، فهو متمكن من العلم، فلا يتم موضوع
البراءة في حقه.
438

(قلت): الرجوع إلى المجتهد في موارد الأصول العقلية ليس من جهة التقليد
في الحكم الشرعي، بل من جهة الرجوع إليه في تشخيص موضوع حكم العقل، حيث
أنه من أهل خبرة ذلك، فيرجع العامي إليه في تشخيص أن المورد الفلاني لم تقم فيه
حجة على التكليف المحتمل، ولم يثبت فيه حكم شرعي واقعي أو ظاهري، فيستقل
عقله بما استقل به عقل المجتهد بعينه. ولو فرض أنه لم يكن أهلا لادراك الاحكام
العقلية المستقلة، لم يكن مانع من الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة أيضا.
واما الاشكال على جواز الرجوع إليه في هذه الموارد، بل في موارد الأصول
الشرعية أيضا من جهة تمكن العامي من الرجوع إلى من يرى قيام الدليل على الحكم
الشرعي في هذه الموارد، فهو غير صحيح على اطلاقه، وان كان صحيحا في الجملة.
وتفصيل الكلام فيه ان من يفتي بعدم وجوب شئ لعدم تمامية الحجة على الوجوب
عنده، إما أن يكون أعلم من غيره (المفتي بالوجوب بزعم قيام الدليل عليه) وإما أن
لا يكون أعلم منه. وعلى الأول لا يكون قول غيره حجة في حق العامي ليكون مانعا
من الرجوع إلى الحكم المستفاد من الأصل العملي. والوجه في ذلك: ما سنبينه
إن شاء الله تعالى من أن دليل حجية الفتوى - أيا ما فرض غير السيرة العقلائية -
لا يشمل المتعارضين، فإذا ادعى أحد المجتهدين قيام الطريق على الوجوب. وادعى
الآخر عدم الدليل عليه، فأفتى بعدم الوجوب كانت الأدلة الدالة على حجية الفتوى
غير شاملة لشئ من الفتويين على ما تقدم سابقا: من أن مقتضى القاعدة هو سقوط
المتعارضين. واما السيرة فهي قائمة على لزوم الرجوع إلى الأعلم على ما نبينه قريبا
إن شاء الله تعالى.
و (كيف كان) فلا تكون فتوى غير الأعلم مانعة من الرجوع إلى ما ثبت
439

من الأصول العملية ما لم تثبت حجيتها كما هو المفروض. وعلى الثاني فاما أن يكون
العامي عالما بفتوى القائل بالوجوب مثلا أو يكون جاهلا بها. وعلى الثاني فالامر كما
ذكرناه، ضرورة أن الفتوى بالوجوب حينئذ لا تكون حجة في حقه مع عدم
وجوب الفحص عنها في حقه، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى، فلا مانع من الاخذ
بفتوى من يقول بعدم الوجوب اعتمادا على الأصل العملي، فان موضوع الأصل وهو
عدم قيام الحجة على الحكم موجود في حق العامي أيضا وجدانا. ولا يقاس ذلك بموارد
تمكن المجتهد من الوصول إلى الحجة في الشبهات الحكمية، حيث لا يجوز له الرجوع
إلى الأصل العملي فيها، فان موضوع الأصل عدم قيام الحجة على التكليف، وهو غير
محرز قبل الفحص، فان الحجة حجة بوجودها الواقعي لا بوصولها إلى المكلف وأين
هذا من محل الكلام الذي فرض فيه عدم حجية فتوى القائل بالوجوب مثلا قبل
وصولها إلى العامي؟ وأما على الأول وهو ما إذا وصل إلى العامي فتوى القائل بالوجوب
مثلا، فالصحيح في مورده عدم جواز الرجوع إلى من يرى عدم الوجوب،
لمعارضتها بفتوى من يقول بالوجوب، فلابد من الاحتياط، لكون الشبهة حكمية.
ولا مجرى للأصل في موردها قبل الفحص. والمفروض أن العامي عاجز عنه. نعم
لو تم ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) من الاجماع على عدم وجوب الاحتياط
على العامي، صح الرجوع إلى فتوى من يقول بعدم الوجوب، ويكون الاجماع
حينئذ هو الدليل في المسألة وان كان على خلاف القاعدة. وانتظر تمام الكلام
في محله إن شاء الله تعالى.
440

(الكلام في التجزي)
ويقع البث فيه في مقامين: (الأول) - في امكانه (الثاني) - في حكمه.
(أما المقام الأول) فقد ذهب جماعة إلى استحالته. بدعوى أن ملكة
الاستنباط أمر بسيط وحداني. والبسيط لا يتجزى. فان وجدت فهو الاجتهاد المطلق،
وإلا فلا اجتهاد أصلا. وكذا الامر لو كان الاجتهاد عبارة عن نفس الاستنباط
لا ملكته، فإنه أيضا بسيط غير قابل للتبعيض. وذهب الأكثر إلى امكانه. بل
ذهب بعضهم إلى وجوب كصاحب الكفاية (ره) بدعوى أن الوصول إلى المرتبة العالية
- وهو الاجتهاد المطلق - يتوقف على طي المراتب النازلة على التدريج، لبطلان الطفرة.
والتحقيق ما عليه الأكثر من إمكانه لا الامتناع ولا الوجوب، فان المراد
من التجزي هو التبعيض في افراد الكلي لا التبعيض في اجزاء الكل، إذ كما أن كل
حكم من الأحكام الشرعية في مورد مغاير للأحكام الاخر في موارد اخر، فكذلك
استنباطه مغاير لاستنباطها، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة، وملكة استنباط
تلك المسألة فرد آخر منها. وهكذا. وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي
بهذا المعنى، كما هو ظاهر. وحيث أن مدارك الأحكام مختلفة جدا، فرب حكم
يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة، فيصعب استنباطه. ورب حكم لا يبتني استنباطه
إلا على مقدمة واحدة، فيسهل استنباطه. ومع ذلك كيف يمكن أن يقال: إن القدرة
على استنباط حكم واحد لا تكون إلا مع القدرة على استنباط جميع الأحكام؟
و (بالجملة) حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الامكان
ولا يحتاج تصديقه إلى أكثر من تصوره. ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد
441

من التجزي في المقام، واشتبه تبعيض افراد الكلي بتبعيض اجزاء الكل، فان الثاني
هو الذي تنافيه البساطة. ولا دخل له بالمقام. وظهر بما ذكرناه فساد ما في الكفاية
من وجوب التجزي، لعدم إمكان حصول الاجتهاد المطلق دفعة لبطلان الطفرة. وذلك
لان الافراد كلها في عرض واحد، ولا يكون بعضها مقدمة لبعض آخر حتى يتوقف
الوصول إلى المرتبة العالية على طي المراتب النازلة، فلا مانع عقلا من حصوله دفعة وبلا
تدريج، - ولو بنحو الاعجاز من نبي أو إمام (ع) إلا أن يكون مراده الاستحالة
العادية لا العقلية، فإنه لا يمكن عادة حصول الاجتهاد المطلق دفعة، بل هو متوقف
على التدريج شيئا فشيئا لا أن حصول الجميع دفعة من المحالات العقلية كاجتماع الضدين
مثلا، فان كان مراده هذه فهو صحيح، لكنه خلاف ظاهر كلامه من الاستدلال
بلزوم الطفرة، فان ظاهره الاستحالة العقلية.
و (أما المقام الثاني) وهو البحث عن حكمه، فيقع الكلام (تارة) في جواز
عمله بفتواه في الموارد التي استنبط الحكم فيها و (أخرى) في جواز رجوع الغير إليه
في الموارد المذكورة. و (ثالثة) في نفوذ قضائه وحكمه في المرافعات. فنقول: أما جواز
عمله بفتواه، فهو مما لا ينبغي الاشكال فيه، فإنه بالإضافة إلى ما استنبطه من الحكم
عالم، فلا تشمله أدلة جواز التقليد، فان قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون) والسيرة العقلائية وغيرهما إنما يدلان على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم
لا رجوع العالم إلى مثله. وأما رجوع الغير إليه، فالظاهر عدم جوازه. والوجه فيه
أن السيرة العقلائية وإن كانت تقتضي جواز الرجوع إليه، فان العقلاء لا يفرقون
في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من يكون له خبرة في غير الامر المرجوع فيه، ومن لا
يكون له خبرة فيه. فالطبيب الحاذق في مرض العين يرجع إليه في معالجة مرض العين،
وان لم يكن له خبرة في أمراض القلب والمعدة وأمثالهما. ولكن مجرد قيام السيرة
442

لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء من الشارع. وقد ذكرنا أن الموضوع في أدلة الامضاء
إنما هو العارف بالأحكام والفقيه وأهل الذكر. ومن الظاهر عدم صدق هذه العناوين
إلا على العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها، فلا تشمل المتجزي. وتوهم
- أن قوله (ع): " من عرف شيئا من قضايانا... الخ " شامل للمتجزي -
مندفع بما ذكرناه سابقا، فلا نعيد. ومن هنا يظهر الوجه في عدم نفوذ قضائه أيضا.
(الكلام في ما يتوقف عليه الاجتهاد)
وهو معرفة العلوم العربية: من النحو والصرف واللغة في الجملة (أي بمقدار
يتوقف عليه فهم المعنى من الكتاب والسنة) ومعرفة الزائد على ذلك - كبعض المباحث
الدقيقة الصرفية أو النحوية وكيفية الاعلال - مجرد فضل، ولا يعتبر في تحقق الاجتهاد
وأما علم الرجال، فان قلنا بأن الملاك في جواز العمل بالرواية هو الاطمئنان
بصدورها عن المعصوم (ع) وأنه يحصل بعمل المشهور بها وإن كانت رواتها غير موثوق
بهم، وأن اعراضهم عنها يوجب الاطمئنان بعدم صدورها وإن كانت رواتها موثوقا
بهم، فتقل الحاجة إلى علم الرجال، إذ بناء عليه يكون الملاك في جواز العمل بالرواية
وعدمه هو عمل المشهور بها وعدمه، فان عمل الأصحاب بالرواية وعدمه يظهر من نفس
كتب الفقه، بلا حاجة إلى علم الرجال. نعم في الموارد التي لم يحرز عمل المشهور بالرواية
ولا إعراضهم عنها، كما إذا كانت المسألة غير معنونة في كلامهم، لابد في العمل بها
من معرفة رواة الحديث ليحصل الاطمئنان بوثاقتهم. وأما إن قلنا بأن الملاك في جواز
العمل بالرواية إنما هو ثبوت وثاقة رواتها، وأنه لا عبرة بعمل المشهور بها أو
إعراضهم عنها، فحينئذ تكثر الحاجة إلى علم الرجال واستعلام حال الرواة من حيث
443

الوثاقة وعدمها. وقد بينا صحة القول الثاني عند التكلم في حجية أخبار الآحاد.
وأما علم الأصول فتوقف الاستنباط عليه أوضح من أن يخفى، ضرورة أنه
لابد في استنباط الاحكام من الكتاب والسنة من معرفة المباحث الأصولية: من بحث
الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، ومباحث الحجج
والأصول العقلية والشرعية. والتعادل والترجيح. وقد أوضحنا ذلك كله عند التعرض
لتعريف علم الأصول. ولابد من تنقيح كل ذلك بالنظر والاجتهاد لا بالتقليد، وإلا
لا يصدق عليه عنوان العارف والفقيه.
(الكلام في التخطئة والتصويب)
لا خلاف في وقوع الخطأ في الاحكام العقلية، وأن من حكم بما يدعي استقلال
عقله به قد يصيب الواقع وقد لا يصيبه، سواء كان من المسائل العقلية المحضة التي
لا مساس لها بالأحكام الشرعية: كمسألة إعادة المعدوم التي ذهب جماعة إلى امكانها،
وأخرى إلى امتناعها، أو كان من المسائل العقلية التي لها دخل في الأحكام الشرعية:
كمسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه، فان التصويب - في الاحكام العقلية
مطلقا - مستحيل، بداهة أن القائل بامكان إعادة المعدوم والقائل بامتناعه، وكذا
القائل بجواز اجتماع الأمر والنهي والقائل بامتناعه، لو كانا مصيبين للواقع، للزم
كون شئ واحد ممكنا وممتنعا.
وأما الأحكام الشرعية فقد نسب القول بالتصويب فيها إلى العامة، بمعنى
أن لله سبحانه أحكاما عديدة في موضوع واحد بحسب اختلاف آراء المجتهدين، فكل
حكم أدى إليه نظر المجتهد ورأيه، فهو الحكم الواقعي في حقه، ويكفي في بطلان هذا
444

القول - مضافا إلى الاجماع والأخبار الكثيرة الدالة على أن لله حكما في كل واقعة
يشترك فيه العالم والجاهل - نفس إطلاقات أدلة الاحكام، فان مقتضى إطلاق ما يدل
على وجوب شئ أو حرمته ثبوته في حق من قامت عنده الامارة على الخلاف أيضا.
وتوهم - أنه بعد العلم بحجية ما دل على خلاف الحكم الواقعي من الطرق والامارات
لابد من رفع اليد عن تلك الاطلاقات، وإلا لزم اجتماع الضدين أو المثلين، وتفويت
المصلحة أو الالقاء في المفسدة - مدفوع بما ذكرناه في بحث حجية الظن: من أن المحاذير
- التي ذكرت لاثبات التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري - لا يتم شئ منه، فراجع.
نعم لا يتصور الخطأ في الاحكام الظاهرية، فلابد من الالتزام بالتصويب فيها، إذ
كل مجتهد عالم بوظيفته الفعلية. وجهله إنما هو بالإضافة إلى الحكم الواقعي. ولذا اخذوا
العلم في تعريف الفقه، فعرفوه بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها
التفصيلية.
(إن قلت): ليس الامر في الاحكام الظاهرية إلا كما في الاحكام الواقعية،
ولا تكون آراء المجتهدين كلها في الحكم الظاهري مصيبة. ألا ترى أنه لو بنى أحد
المجتهدين في دوران الامر بين المحذورين على أن الحكم الظاهري هو الاخذ بجانب
الحرمة اعتمادا على ما يظهر من بعض الموارد من تقديم الشاعر جانب الحرمة على جانب
الوجوب، وبنى الآخر على جريان البراءة الشرعية في كلا طرفي الوجوب والحرمة،
والتزم فيه بالتخيير، فإنه لا يكون المصيب إلا أحدهما. وكذا لو بنى أحدهما على حجية
الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي وتمسك الآخر في تلك الموارد بغير الاستصحاب
كالبراءة الشرعية، فان الحكم الظاهري في الموارد المذكورة في حق كليهما إما مفاد
الاستصحاب وإما مفاد البراءة. نعم لو كان موضوع الحكم الظاهري - في حق أحد
المجتهدين - فعليا دون الآخر، فالامر كما ذكر، فان الوظيفة الفعلية المقررة في الشرع
445

في حق كل منهما غير ما في حق الآخر. وأما فيما إذا كان موضوعه فعليا في حق
كل منهما، ولكن لم ير أحدهما ثبوت الحكم له، كما ذكرناه في المثالين، فلا محالة
يكون أحدهما مخطئا.
(قلت): ليس المراد بالتصويب في الاحكام الظاهرية أنه لا يمكن الخطأ
من المجتهد بالإضافة إلى الحكم المجعول في حق الشاك، فإنه كالحكم المجعول على ذوات
الافعال قد يصل إليه المجتهد وقد لا يصل، بل المراد به أن اختلاف المجتهدين
في الاحكام الظاهرية إنما هو من جهد الاختلاف في موضوعاتها، فكل يعمل بما هو
وظيفته بالفعل، ولا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة، فمن اعتقد أن أدلة البراءة
الشرعية لا تشمل موارد دوران الامر بين المحذورين لاعتقاده تقديم الشارع جانب
الحرمة على جانب الوجوب، لا تكون أدلة البراءة شاملة له، لعدم موضوعها وهو
الشك في الحكم، فلو ارتكب الفعل - والحال هذه - يعاقب على مخالفته على تقدير
ثبوت الحرمة في الواقع، ويكون متجريا على تقدير عدمها. وأما من لا يعتقد به ولم
يقم عنده دليل على تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب. فلا محالة يكون شاكا
في الحكم الواقعي. ومعه يرجع إلى البراءة بلا مانع. وبذلك يظهر الحال في المثال
الثاني وبقية الموارد، فان من بنى على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي
لم تكن أدلة البراءة معذرة له في العمل على خلاف يقينه السابق، لعدم تحقق موضوعها
في حقه. وأما من ذهب إلى عدم حجيته في تلك الموارد، فلا مانع له من الرجوع
إلى البراءة، لأنه شاك في الحكم ولم تقم عنده حجة عليه على الفرض.
(الكلام في التقليد)
ويقع الكلام (أولا) في معناه و (ثانيا) في احكامه. أما الكلام
446

في تعريفه فهو أنه عرف بتعاريف: (منها) - أنه العمل بقول الغير. و (منها) - انه
الاخذ بفتوى الغير للعمل به. و (منها) - أنه الالتزام بالعمل بفتوى الغير، وإن
لم يعمل، بل وان لم يأخذ. وقد ذكر السيد (ره) في العروة أنه يكفي في تحقق
التقليد أخذ الرسالة والالتزام بالعمل بما فيها.
و (لكن التحقيق) أن التقليد في العرف باق على معناه اللغوي، وهو جعل
الغير ذا قلادة. ومنه التقليد في حج القران، فان المحرم يجعل البعير ذا قلادة بنعل
قد صلى فيه. وفي حديث: " الخلافة قلدها رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عليا (عليه السلام) " أي جعل الخلافة قلادة له (ع) فكأن العامي يجعل عمله قلادة
المجتهد كناية عن كونه هو المسؤول عنه، وهو المؤاخذ بعمله لو قصر في فتواه، كما
يفصح عن ذلك قولهم (ع) في عدة روايات: " من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل
به " وقوله (ع) (1) في قضية ربيعة بعد افتائه وقول السائل: أهو في عنقك؟
" هو في عنقه قال أو لم يقل... الخ ".
وبالجملة لما كان وزر عمل العامي على المفتي، صح إطلاق التقليد على العمل بفتواه
باعتبار أنه قلادة له، فالصحيح في تعريفه أن يقال: هو العمل استنادا إلى فتوى الغير.
(1) نقل في الوسائل عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي
عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) قاعدا
في حلفة ربيعة الرأي، فجاء اعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة، فاجابه، فلما
سكت، قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئا،
فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت
ربيعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " هو في عنقه، قال أو لم يقل وكل
مفت ضامن ".
447

وما في الكفاية - من أنه لو كان عبارة عن نفس العمل بفتوى الغير، لزم أن يكون
العمل الأول بلا تقليد. فإنه غير مسبوق بالعمل - لاوجه له، فإنه لا دليل على سبق
التقليد على العمل، بل المعتبر أن لا يكون العمل بلا تقليد. وهذا المعنى موجود
في العمل الأول أيضا، فإنه عمل مستند إلى فتوى المجتهد.
وأما مسألة جواز البقاء على تقليد الميت وحرمة العدول عن تقليد الحي إلى الآخر
فليست متفرعة على أن معنى التقليد هو الالتزام بالعمل، بان يقال كما قيل: لو التزم
بالعمل ولم يعمل، فمات المجتهد لا يجوز البقاء على تقليده. وكذا لو التزم ولم يعمل،
يجوز العدول عنه إلى الآخر. وأما لو عمل يجوز البقاء في الأول ولا يجوز العدول
في الثاني. هذا إذا كان التقليد عبارة عن العمل. وأما لو كان عبارة عن الالتزام،
فيجوز البقاء في الأول، ولا يجوز العدول في الثاني بعد الالتزام ولو لم يعمل. وذلك،
لان الحكم - في كل واحدة من المسألتين من حيث السعة والضيق - تابع للمدرك
فيهما، بلا فرق بين أن يكون التقليد عبارة عن الالتزام أو العمل. وسنتعرض
للمسألتين عن قريب إن شاء الله تعالى.
(الكلام في احكام التقليد)
ويقع البحث عنها في مسائل:
(المسألة الأولى) - أنه لا ينبغي الريب في جواز التقليد للعامي في الأحكام الشرعية
العملية. وتدل عليه السيرة العقلائية، فإنها قد جرت على رجوع الجاهل
إلى العالم في أمورهم الراجعة إلى معادهم ومعاشهم، بل هو أمر فطري يجده كل
من راجع نفسه وارتكازه. وهذا كاف في اثبات الحكم بعد ما سنذكره من عدم
448

ثبوت الردع عنه من قبل الشارع، بل المعلوم امضاؤه للقطع بأنه لم تكن عادة السلف
حتى في عصر المعصومين (عليهم السلام) إلا على رجوع من لم يكن عارفا بالأحكام الشرعية
إلى العالم بها. وقد قررهم الأئمة (عليهم السلام) على ذلك.
وتدل
على الامضاء - مضافا إلى القطع به - الآيات والروايات.
أما الآيات (فمنها) - قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)
و (منها) - قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة طائفة... الخ) وتقييد جواز
العمل - بقول أهل الذكر المستفاد من آية السؤال بصورة حصول العلم بالواقع - يدفعه
الاطلاق. وكذا الحال في آية النفر. وما ورد في بعض الروايات - من تفسير أهل
الذكر بالأئمة (عليهم السلام) أو بعلماء اليهود كما في بعضها الآخر - لا يضر بالاستدلال
بالآية الشريفة للمقام، لما ذكرناه في بحث حجية خبر الواحد وفي مقدمات التفسير:
من أن نزول الآية في مورد خاص لا يوجب اختصاصها به، بمعنى أنه لا يوجب
انحصار المراد به، فان القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، ولا يختص بمورد دون
مورد، كما دلت عليه الروايات الكثيرة. وفي بعضها " إن القرآن لو نزل في قوم
فماتوا لمات القرآن " وهذه الروايات مذكورة في كتاب مرآة الأنوار المعروف بمقدمة
تفسير البرهان، فراجع.
و (أما الروايات) فكثيرة:
(منها) - قول الصادق (عليه السلام) لأبان بن تغلب: " اجلس في مسجد
المدينة وأفت الناس، فاني أحب أن أرى في شيعتي مثلك " ومن الظاهر أن جواز
الافتاء يلازم جواز العمل به عرفا.
و (منها) - الروايات الناهية عن الافتاء بغير علم، وهي كثيرة، فان المفهوم
449

منها ولو بقرينة الحكمة جواز الافتاء عن علم. وقد ذكرنا الآن أن جواز الافتاء يلازم
جواز العمل به عرفا، ولا يقاس ذلك بالامر باظهار الحق والنهي عن كتمانه
كما لا يخفى.
و (منها) - قول الرضا (عليه السلام) بعد ما سأله المسيب الهمداني وقال:
" شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ معالم ديني؟: " من زكريا
ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا ".
و (منها) - قوله (ع) أيضا: " نعم " في جواب عبد العزيز المهتدي حيث
سأله (ع) وقال: إن شقتي بعيدة، فلست أصل إليك في كل وقت، فآخذ معالم
ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ ونحوها غيرها مما يدل على جواز رجوع الجاهل
إلى العالم. نعم منع الأئمة (عليهم السلام) عن الرجوع إلى من كان دأبه
- في استنباط الأحكام الشرعية - استعمال الاستحسانات والأقيسة، وغيرهما من الظنون
غير المعتبرة، كما ذكرناه سابقا.
وقد استدل على عدم جواز التقليد بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وبما
دل على التوبيخ على التقليد، كقوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل الله
وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا... الخ) ولكن قد ذكرناه في البحث
عن حجية خبر الواحد: أن ما دل على النهي - عن اتباع غير العلم من الآيات
والروايات - لا يشمل العمل بما ثبت كونه حجة وعلما في نظر الشارع. وأما مثل قوله
تعالى: (وإذا قيل لهم... الآية) فهو أجنبي عن المقام، فان الكلام في رجوع
الجاهل إلى العالم لا إلى مثله، كما هو المفروض في الآية بقرينة ذيلها وهو قوله تعالى:
(أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) مضافا إلى أن بعض تلك الآيات
450

واردة في الأصول الاعتقادية التي لابد فيها من تحصيل العلم واليقين. ولا يقاس عليها
الأحكام الشرعية العملية، لقلة الأصول الاعتقادية وسهولة الوصول إليها بالعلم واليقين
لظهور برهانها، بخلاف الاحكام الفرعية فإنها مع كثرتها يصعب الوصول إليها
من مداركها المقررة في الشرع. ولذا يصرف قوم أعمارهم لتحصيل ملكة الاستنباط،
ولا تتيسر إلا للأوحدي منهم حسب ما اقتضته المصالح الإلهية.
ثم إن المراد من جواز التقليد هو الجواز بالمعنى الأعم، ضرورة أنه إذا انحصر
الطريق بالتقليد، كما إذا عجز العامي عن الاحتياط وجب التقليد في حقه تعيينا. وأما مع
تمكنه من الاحتياط نخير بينهما، كما لا يخفى.
(المسألة الثانية) - في وجوب تقليد الأعلم وعدمه. ويقع الكلام فيها في مقامين:
(المقام الأول) - في بيان تكليف العامي في نفسه من حيث أنه يتعين عليه
تقليد الأعلم، أو أنه يتخير بينه وبين تقليد غيره؟
(المقام الثاني) - في بيان تكليف المجتهد من حيث أنه يجوز له الافتاء بجواز
تقليد غير الأعلم أو لا؟
(أما المقام الأول) فلا ينبغي الاشكال في عدم جواز تقليد غير الأعلم للعامي،
لكونه عالما بحجية فتوى الأعلم وشاكا في حجية فتوى غيره. والشك في الحجية كاف
في الحكم بعدمها. وقد ذكرنا مرارا: أنه في مقام دوران الامر بين التعيين
والتخيير في الحجية، يكون مقتضى الأصل هو الحكم بالتعيين. وكذا لو أفتى غير
الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، لا يجوز تقليد غير الأعلم استنادا إلى فتواه، لعدم
ثبوت حجية نفس هذه الفتوى (أي الفتوى بجواز تقليد غير الأعلم) نعم لو أفتى الأعلم
بجواز تقليد غير الأعلم، جاز للعامي تقليد غير الأعلم استنادا إلى فتوى الأعلم،
451

إذ المفروض أن فتوى الأعلم حجة في حقه. وقد قامت الحجة على اعتبار فتوى غير
الأعلم. وما عن السيد (ره) في العروة من الاستشكال في ذلك لا نعرف له وجها،
ضرورة ان فتواه بجواز تقليد غير الأعلم كفتواه بجواز الرجوع إلى البينة في اثبات
الطهارة أو النجاسة مثلا. نعم لو حصل للعامي يقين بعدم جواز تقليد غير الأعلم، كما
إذا استقل عقله بأن نسبة المفضول إلى الفاضل هي نسبة الجاهل إلى العالم، لا يجوز له
تقليد غير الأعلم ولو مع فتوى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، لكونه عالما بخطأ الأعلم
في هذه المسألة، فلا يجوز اتباعه فيها. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام،
فان الكلام فيما إذا كان العامي شاكا في جواز تقليد غير الأعلم.
و (أما المقام الثاني) وهو جواز الافتاء بجواز تقليد غير الأعلم فيقع الكلام فيه
في موردين: (المورد الأول) - فيما إدا علم الاختلاف بين الأعلم وغيره في الفتوى
تفصيلا، أو اجمالا، وكان فتوى الأعلم موافقا للاحتياط. (المورد الثاني) - فيما
إذا لم يعلم اختلافهما أصلا، أو علم الاختلاف ولكن كان فتوى غير الأعلم موافقا
للاحتياط، كما إذ رأى الأعلم استحباب السورة في الصلاة، وغيره يرى
وجوبها فيها.
(أما المورد الأول) فالظاهر فيه عدم جواز تقليد غير الأعلم. والوجه فيه أن
أدلة حجية الفتوى - من الآيات والروايات - لا تشمل الفتويين المتخالفين، لما تقدم
في بحث التعادل والترجيح من سقوط المتعارضين عن الاعتبار، وأن دليل الاعتبار
لا يشمل شيئا منهما، فلابد في اثبات اعتبار أحدهما من التماس دليل آخر. ولا دليل
في المقام إلا السيرة العقلائية. ولا ينبغي الريب في قيام السيرة على الرجوع إلى الأعلم
في مورد الاختلاف بينه وبين غيره. ومع الغض عن ذلك تصل النوبة إلى الأصل.
452

ومقتضاه أيضا وجوب تقليد الأعلم، لكون المورد من موارد دوران الامر بين
التعيين والتخيير في الحجية. وقد تقدم ان مقتضى الأصل فيه هو الحكم بالتعيين.
و (أما المورد الثاني) فالتحقيق فيه أنه إذا علم الاختلاف بينهما، وكان فتوى
المفضول مطابقا للاحتياط، جاز للعامي الرجوع إلى الأعلم، لما تقدم من قيام السيرة
على اتباع الأعلم عند الاختلاف بينه وبين غيره، كما جاز له العمل بفتوى المفضول،
فإنه لا يقصر عن الاحتياط في بقية موارد الطرق والامارات. وقد قرر في محله أن
حجية الطريق لا تنافي حسن الاحتياط وجوازه. وأما إذ لم يعلم الاختلاف بينهما أصلا،
فقد يقال فيه بوجوب تقليد الأعلم، ويستدل عليه بأمور:
(منها) - أن فتوى الأعلم متيقن الاعتبار، وفتوى غيره مشكوك الاعتبار.
وذكرنا مرارا أن مقتضى حكم العقل - عند دوران الحجة بين التعيين والتخيير -
هو التعيين. وهذا الوجه إنما ينفع فيما لم يثبت التخيير بدليل، وإلا فلا تصل النوبة إلى
العمل بالأصل مع وجود الدليل.
و (منها) - قوله (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: " الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر "
حيث جعل (ع) الاعتبار بقول الأفقه دون غيره.
وفيه (أولا) - ضعف المقبولة من حيث السند كما تقدم. و (ثانيا) - انها
واردة في مورد الاختلاف، كما يفصح عنه قول السائل: " فاختلفا فيما حكما "
فموردها خارج عن محل الكلام، وهو صورة عدم العلم بالاختلاف و (ثالثا) - أن
موردها الحكومة وفصل الخصومة. ولاوجه للتعدي منه إلى الافتاء، بل قوله (ع):
" الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما... الخ. " يدل على الاختصاص من وجهين:
453

(الأول) - أن الإمام (عليه السلام) أمر بالأخذ بما يقوله أفقه الحكمين.
وهذا مختص بباب القضاء. وأما في مقام الافتاء، فلابد من الرجوع إلى أفقه جميع
المجتهدين لا إلى أفقه الشخصين.
(الثاني) - أن المقبولة دلت على وجوب الاخذ بما يقوله أورع الحكمين
وأصدقهما في الحديث. ومن الظاهر أن الترجيح بهما يختص بباب القضاء.
ومما ذكرناه يظهر الحال في الاستدلال بما روي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه
أفضل الصلاة والسلام) في عهده الطويل إلى مالك الأشتر من قوله (ع): " اختر
للحكم بين الناس أفضل رعيتك " ونهيه (ع) عن ايكال القضاء إلى أحد مع وجود
الأفضل منه في البلد، فان مورده الحكم لا الافتاء، كما هو ظاهر. ولا سيما مع
ملاحظة ان الافتاء موكول إلى أفضل الجميع، كما تقدم، لا إلى أفضل الرعية وأهل
البلد. وكذا الحال في الاستدلال بالروايات الدالة على ذم من يحكم مع العلم بوجود
من هو أعلم منه، فإنها أيضا واردة في الحكومة دون الفتوى.
و (منها) - ان فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره، فيجب
الاخذ به. وفيه منع الصغرى والكبرى. (اما الصغرى) فلمنع كون فتوى الأعلم
أقرب إلى الواقع من فتوى غيره دائما، بل ربما تكون فتوى غيره أقرب إلى الواقع
من فتوى الأعلم، كما إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقا للمشهور، أو مطابقا لفتوى
ميت كان اعلم من الأفضل الحي. و (أما الكبرى) فلانه لم يدل دليل على تعين
الاخذ بما هو أقرب، إذ ليس مناط الحجية هو الأقربية. ولذا لو وقع التعارض بين
البينتين، وكانت إحداهما أقرب إلى الواقع من الأخرى، لا يمكن القول بوجوب الاخذ
بالأقرب وطرح الأخرى.
454

فتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا دليل على وجوب الاخذ بفتوى الأعلم
في مفروض الكلام. نعم لو لم يثبت التخيير كان هو المتعين بمقتضى الأصل على ما تقدم،
إلا أن السيرة قائمة على الرجوع إلى كل من الأفضل والمفضول عند عدم العلم باختلافهما
فهي الدليل على التخيير. ألا ترى أن الطبيب المفضول لا يبقى عاطلا في بلد مع وجود
الأفضل منه فيه، فان العقلاء يراجعون المفضول كما يراجعون الأفضل. نعم لو أحرز
الاختلاف بينهما، لا يراجعون المفضول كما ذكرناه سابقا.
هذا، ويمكن الاستدلال على جواز الرجوع إلى غير الأعلم باطلاق مثل قوله تعالى:
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وتوهم - أنه لا يمكن التمسك باطلاق آية
السؤال ونحوها في المقام، لان صورة مخالفة فتوى الأعلم مع فتوى غيره خارجة
عن الاطلاقات، لما تقدم من أن أدلة الحجية من الآيات والروايات لا تشمل شيئا
من المتعارضين، وحيث أنا نحتمل في الفرض مخالفة فتوى الأعلم لفتوى غيره، كان
التمسك بالاطلاقات من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية - مدفوع بأنه يحرز عدم
الاختلاف بين الفتويين باستصحاب عدمه الأزلي، أن النعتي على ما ذكرناه غير مرة.
(فروع):
(الأول) - إذا علم اختلاف المجتهدين وأعلمية أحدهما اجمالا، وجب الفحص
عن الأعلم وتقليده، لما تقدم من اختصاص الحجية بفتواه عند مخالفته لفتوى غير
الأعلم، فان لم يتمكن من تعيينه، وجب الاحتياط بين القولين فيما إذا أمكن، وإلا
كان مخيرا بينهما. وإن تمكن من تعيين الأعلم بالظن، فإنه لا دليل على اعتباره،
كما لا يخفي.
(الثاني) - إذا علم الاختلاف بين المجتهدين، ولم تعلم أعلمية أحدهما، ولكنه
455

احتمل الأعلمية في كل منهما وتساويهما، فالمشهور على تخيير العامي في تقليدهما، بل
ادعي الاتفاق عليه، فان تم الاجماع. فهو، وإلا فالقاعدة تقتضي سقوطهما، فلابد
من الاحتياط إن أمكن. وإلا فالتخيير. وأما ما عن السيد (ره) - في العروة من أنه
إذا حصل الظن بأعلمية أحدهما تعين تقليده - لا يمكن المساعدة عليه، لما ذكرناه
من عدم الدليل على اعتباره.
(الثالث) - إذا علم اختلاف المجتهدين، واحتمل الأعلمية في أحدهما المعين
دون الآخر. يتعين تقليد من يحتمل كونه أعلم، فان الامر حينئذ دائر بين التعيين
والتخيير. وقد ذكرنا مرارا أن مقتضى حكم العقل - عند دوران الحجة بينهما -
هو التعيين. هذا بناء على التخيير عند اختلاف المجتهدين في الفتوى وتساويهما في العلم.
وأما بناء على المسلك الآخر. لزم الاحتياط إن أمكن، وإلا فالحكم كما ذكر.
(تذييل)
(في بيان المراد من الأعلم في المقام)
فنقول: ليس المراد من الأعلم من هو أكثر اطلاعا على الفروع الفقهية وحفظا
لمداركها من الآيات والروايات وغيرهما، بل المراد به من يكون استنباطه أرقى من الآخر
بأن يكون أجود فهما للاخبار والآيات، وادق نظرا في تنقيح المباني الفقهية من القواعد
الأصولية، وفي تطبيقها على المصاديق.
(المسألة الثالثة) - في اشتراط الحياة في المفتي، واختلفت كلماتهم في ذلك:
المنسوب إلى المشهور اشتراطها فيه مطلقا، والى المحدثين والمحقق القمي في أجوبة مسائله
عدمه مطلقا. وفصل جمع من محققي المتأخرين بين التقليد الابتدائي والاستمراري:
بأنها شرط في الأول، دون الثاني.
456

وتحقيق الحال يقتضي التكلم في مقامين: (المقام الأول) - فيما إذا لم تعلم مخالفة
الحي مع الميت في الفتوى (المقام الثاني) - فيما إذا علمت المخالفة بينهما تفصيلا أو اجمالا.
(أما المقام الأول) فقد يتمسك فيه لجواز تقليد الميت باستصحاب بقاء حجية
فتواه. وحيث أن جريان الاستصحاب يتوقف على أمرين: اليقين بالحدوث، والشك
في البقاء، فقد أجيب عن الاستصحاب المذكور (تارة) بعدم اليقين في الحدوث،
(وأخرى) بعدم الشك في البقاء.
(أما الأول) فهو أنه في موارد التقليد الابتدائي لم تعلم حجية فتوى المجتهد،
إلا في حق الموجودين في زمانه. وأما المعدومين، فلا علم لنا بحجية فتواه في حقهم،
لاحتمال اختصاصها بالموجودين.
وفيه أن مقتضى أدلة حجية الفتوى هو حجيته في حق الجاهلين على نحو القضية
الحقيقية، بمعنى أن كل من فرض وجوده في الخارج، واتصف بكونه مكلفا، فهو
في ظرف اتصال به تكون فتوى المجتهد حجة في حقه، فلا اختصاص لحجية فتواه بجاهل
دون جاهل، فلو فرض كون المعدومين في زمان المفتي موجودين فيه، لكانت فتواه
حجة في حقهم قطعا. غاية الامر أنه يحتمل ارتفاع الحجية المعلومة بارتفاع حياة المجتهد
لاحتمال كونها مقيدة بحياة المفتي، فلا مانع من جريان الاستصحاب.
و (بعبارة أخرى) من كان معدوما في زمان حياته إذا وجد وعلم بتوجه
التكليف إليه، فهو لا محالة يعلم بأن فتوى المجتهد المفروض مماته كانت حجة في زمان
حياته على نحو القضية الحقيقية، ويشك في بقاء حجيتها كذلك بعد مماته، فيجري
الاستصحاب في حقه، لتمامية كلا ركنيه. مضافا إلى أن الجوار المذكور على تقدير
تماميته يختص ببعض الموارد، ولا يجري بالإضافة إلى من كان موجودا في زمان حياة
المجتهد، ولم يقلده عصيانا أو غفلة، أو لكنه عاملا بالاحتياط، فأراد تقليده بعد
457

مماته، فان فتوى المجتهد كانت حجة في حقه على الفرض، فلا مانع من استصحاب
حجيتها بعد مماته.
و (أما الثاني) فقد ذكر في الكفاية ما حاصله: أنه لا مجال لاستصحاب بقاء
حجية فتواه بعد موته، إذ بموته يرتفع رأيه الذي هو موضوع الحجية، فإنه متقوم
بالحياة في نظر العرف، فالموضوع ليس باقيا في نظر العرف، وإن كان باقيا في الحقيقة
ولذا يرى المعاد من إعادة المعدوم، ثم إنه (ره) أورد على نفسه بأن الرأي والاعتقاد
وان كان يزول بالموت لانعدام موضوعه وهو الانسان، إلا أن حدوث الرأي في حال
حياته كاف في جواز تقليده بعد موته أيضا، كما هو الحال في الرواية. وأجاب عنه
بالفرق بين الرواية والفتوى. وحاصله أن الرواية إنما تكون حجة بحدوثها، فلا يضر
موت الراوي بحجيتها، بخلاف الفتوى، فان حجيتها تدور مدار بقاء الرأي،
للقطع بعدم جواز تقليد من زال رأيه بعروض الجنون أو الهرم، أو التبدل برأي
آخر، انتهى.
والتحقيق عدم تمامية هذا الجواب أيضا، لما ذكرناه في بحث الاستصحاب
من أن المراد ببقاء الموضوع هو اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوك فيها. ولا إشكال
في اتحادهما في المقام. وأما ما ذكره من عدم بقاء الرأي بعد موت الانسان بنظر العرف
فهو وان كان كما ذكره، إلا أن حدوثه كاف في حجيته حدوثا وبقاء، بمعنى ان حجية
رأي المجتهد لا تدور مدار بقائه، فان الفتوى مثل الرواية والشهادة من هذه الجهة.
(توضيح ذلك): أن الشئ قد يكون بحدوثه موضوعا لحكم من الاحكام،
بأن يكون حدوثه في زمان كافيا في ثبوت الحكم وبقائه كما في حكم الشارع - مثلا - بعدم
جواز الصلاة خلف المحدود، فان وقوع الحد على أحد في زمان كاف في عدم جواز
الائتمام به إلى الأبد. وقد لا يكون حدوثه كافيا في بقاء الحكم، بل يحتاج بقاؤه
458

إلى بقاء ذلك الشئ، فيدور الحكم مداره حدوثا وبقاء، كعدم جواز الصلاة خلف
الفاسق، فإنه يدور مدار فسقه. ولامانع من أن تكون فتوى المجتهد من قبيل الأول
كالرواية والشهادة. وعليه فيمكن التمسك باستصحاب حجية رأيه بعد موته. وما ذكره
- من القطع بعدم جواز تقليد من زال عنه الرأي بالتبدل أو بعروض الجنون أو الهرم
وهو دليل على أن الحجية دائرة مدار بقاء الرأي - غير تام، لاختصاص حجية
الرأي بما إذا لم يظهر بطلانه، وبعد تبدل الرأي يظهر خطأه، فكيف يكون حجة؟
والامر في باب الرواية أيضا كذلك، فان الراوي لو اعترف بخطأه في الرواية تسقط
الرواية عن الحجية بلا اشكال. وأما ارتفاع حجية الفتوى بزوال الرأي لهرم أو جنون
فهو لامرين:
(الأول) - القطع من الخارج بعدم جواز تقليد من طرأت عليه هذه الطوارئ،
فان المجنون لا يليق بمنصب الفتوى الذي هو فرع من فروع منصب الإمامة. وكذا
من التحق بالصبيان للهرم أو النسيان، فان الشارع لا يرضى بزعامة المجنون وكونه
مرجعا للمسلمين، ولو من جهة فتواه السابقة. وكما أن الجنون مانع عن الرجوع
إلى المتصف به في فتاواه السابقة على عروضه، كذلك الفسق. وهذا بخلاف الموت
فإنه ارتقاء للانسان وارتحال من عالم إلى عالم أرقي وأشرف. ولذا اتصف به الأنبياء
والأوصياء (ع)، فالفتوى تفترق عن الرواية من هذه الجهة، فان عروض الجنون
أو الفسق للراوي لا يمنع عن حجية روايته التي رواها قبل عروضهما له، كما هو المروي
بالإضافة إلى كتب بني فضال.
(الثاني) - الاجماع المحقق على عدم جواز تقليد من طرأت عليه هذه الطوارئ،
من الجنون والفسق.
هذا، ولكن التحقيق أنه لا يمكن إثبات جواز تقليد الميت بالاستصحاب:
459

(اما أولا) فلما ذكرناه في بحث الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات
الحكمية.
و (أما ثانيا) فلان مقتضى الاستصحاب عدم جواز تقليد الميت لا جوازه.
وذلك، لما ذكرناه عند البحث عن جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة:
من أن مرجع الشك في نسخها إلى احتمال ضيق دائرة الجعل وعدم سعتها بالإضافة
إلى من يوجد في زمان تشريع الشريعة اللاحقة، فيكون المراد من النسخ بيان أمد
الحكم بحسب الجعل الأول لا رفعه، لكونه مستلزما للبداء المستحيل في حقه تعالى.
وعليه، فلا علم بجعل الحكم في حقه، ولو بنحو القضية الحقيقية ليجري الاستصحاب
ويثبت به بقاء الحكم له، بل يجري في حقه استصحاب عدم الجعل بلا معارض.
والمقام من هذا القبيل بعينه، حيث نحتمل أن تكون حجية فتوى المجتهد مختصة (1)
بمن عاصره، وكان من وظيفته الرجوع إليه. وأما المكلف الموجود بعد موته،
فلا علم بحجية فتواه في حقه من الأول، فيجري استصحاب عدم جعل الحجية في حقه
بلا معارض.

(1) أي يكون الشك - في حجية فتوى المجتهد في حق من يوجد بعد مماته -
شكا في الحدوث لا في البقاء، فلا مجال لجريان استصحاب بقاء الحجية في حقه. ولا تنافي
بين ما أفاده سيدنا الأستاذ دام ظله هنا، وما ذكره سابقا من عدم كون المقام
من قبيل الشك في الحدوث، فان ما ذكره - دام ظله سابقا - راجع إلى أنه ليس
من قبيل الشك في الحدوث من جهة احتمال اختصاص حجية فتواه بجاهل دون جاهل
(أي بجاهل موجود في حياته دون جاهل موجود بعد مماته)، وما أفاده هنا راجع
إلى أن الشك شك في الحدوث من جهة احتمال أن تكون حجية فتواه مختصة بحال
حياته، فلاحظ.
460

و (أما ثالثا) فلان الاستصحاب إنما يجري عند عدم الدليل. وقد دل الدليل
على اشتراط الحياة في المفتي، وهو أمران:
(الأول) - الاجماع المدعى في كلمات جماعة من الأكابر: كالشهيد (ره)
وأمثاله. ولا يخفى أنه لا تضر - بدعوى الاجماع في المقام - مخالفة المحقق القمي (ره)
والأخباريين، لان مخالفته (ره) مبنية على ما ذكره: من أنه لا دليل على حجية
فتوى المفتي إلا دليل الانسداد الجاري في حق العامي. ومقتضاه جواز تقليد الميت
كالحي، وقد ذكرنا أن دليل جواز التقليد غير دليل الانسداد. وأما الأخباريون
فمخالفتهم إنما هو لأجل أن الرجوع إلى المفتي عندهم من قبيل الرجوع إلى الراوي،
لزعمهم أن التقليد بدعة. ولا مجال لأعمال الرأي والاجتهاد في الأحكام الشرعية.
وقد مر في تعريف الاجتهاد أن ما ذكروه إنما يتم على ما يراه العامة في معنى الاجتهاد
وأما على ما عرفناه، فلا محذور فيه أصلا.
(الثاني) - أن الآيات والروايات - الدالة على حجية فتوى المجتهد - ظاهرة
في اعتبار الحياة في المفتي، فان ظاهر قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون) هو اتصاف المسؤول بكونه أهل الذكر عند السؤال. ومن الظاهر عدم
صدق هذا العنوان على الميت. ومن هنا يظهر وجه الدلالة في مثل قوله (ع):
" من كان من الفقهاء... الخ " وقوله (ع): " انظروا إلى رجل قد روى
حديثنا... الخ " فالظاهر من هذه الأدلة اعتبار الحياة في المفتي. وهذا بخلاف الرواية
فإنه لم يعتبر في حجيتها حياة الراوي. والوجه في هذا الظهور: أنا المرجع في باب
التقليد هو المفتي، فلابد من أن يكون حيا حين الرجوع إليه لا الفتوى، بخلاف
باب الرواية، فان المرجع فيه هي الرواية لا الراوي. ويظهر هذا الفرق من مراجعة
أدلة المقامين، فان المستفاد - من الآيات والروايات الدالة على حجية الفتوى - أن
461

المرجع: الفقهاء ورواة الأحاديث والعارف بالأحكام، بخلاف أدلة حجية الرواية،
فان المستفاد منها وجوب الرجوع إلى الرواية لا الراوي. ألا ترى أن المستفاد
- من قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ... ألخ) - ان الموضوع هو النبأ لا المبني
وكذا قوله (ع): " لا عذر لاحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا " فان موضوع عدم
جواز التشكيك ما يرويه الثقات لا الثقات، فلاحظ.
وبالجملة لا وجه للتمسك بالاستصحاب في اثبات حجية فتوى المجتهد بعد موته.
وما قيل - من أن مقتضى السيرة العقلائية هو جواز الرجوع إلى فتوى المجتهد بعد موته
لأنهم لا يفرقون في الرجوع إلى أهل الخبرة ونظرهم بين حيهم وميتهم، ومن ثم
ترى أنهم يراجعون كتب الطب ويعملون بما فيها، ولو بعد موت مؤلفيها - مندفع
بما ذكرناه سابقا: من أن بناء العقلاء لا اعتبار له ما لم يقع موردا لامضاء الشارع.
وقد عرفت أن مقتضى ظاهر أدلة الامضاء من الآيات والروايات هو اعتبار الحياة
في حجية فتوى المجتهد.
ويمكن الاستدلال على عدم جواز تقليد الميت بوجه آخر. وهو أنه لو جاز
تقليد الأموات وجب تقليد اعلمهم. والتالي باطل، فالمقدم مثلة (بيان الملازمة):
أنا نعلم - ولو إجمالا - بمخالفة الأموات والاحياء في الفتوى. وقد ذكرنا سابقا أنه
مع العلم بالاختلاف يجب تقليد الأعلم، فإذا يجب الفحص عن أعلم جميع العلماء:
الأموات والاحياء وتقليده، وينحصر جواز التقليد بشخص واحد من عصر
المعصوم (ع) إلى زماننا هذا. أما بطلان التالي، فبضرورة المذهب القاضية بفساد
مسلك العامة الحاصرين لمنصب الفتوى في العلماء الأربعة. هذا كله في التقليد الابتدائي
وأما البقاء على تقليد الميت، فالظاهر جوازه، لما تقدم من أن السيرة
العقلائية جارية على الرجوع إلى نظر أهل الخبرة حيا كان أو ميتا. وما ذكرناه
462

- من الأدلة الدالة على اعتبار الحياة في المفتي - لا يشمل البقاء، أما الاجماع فظاهر، فان
مورده التقليد الابتدائي. وذهب جمع من المحققين إلى جواز البقاء على تقليد الميت،
فلا يمكن دعوى الاجماع على عدم جوازه. وأما الآيات والروايات، فإنها تدل
على اشتراط الحياة في المفتي عند التعلم منه والسؤال. وأما اعتبار أن يكون العمل أيضا
في حال حياته، فلا. وأما ما ذكرناه أخيرا من الوجه لعدم جواز تقليد الميت،
فهو أيضا لا يجري في البقاء، فان القول - بجواز البقاء على تقليد الميت - لا يستلزم
الانحصار المزبور، كما هو واضح، فلم يثبت ردع من الشارع عن السيرة القائمة
على الرجوع إلى رأي العالم، ولو بعد موته، بل لو أغمضنا النظر عن السيرة،
تكفي في إثبات بقاء حجية رأي المفتي - بعد مماته في حق من تعلم منه الاحكام في زمان
حياته - الاطلاقات الدالة على حجية الفتوى، فان مقتضاها جواز العمل برأي من تعلم
منه الاحكام في حياته مطلقا ولو بعد مماته. هذا تمام الكلام في المقام الأول.
و (أما المقام الثاني) وهو ما إذا علم الاختلاف بين الميت والحي تفصيلا أو اجمالا
ففي مورد التقليد الابتدائي لا يجوز الرجوع إلى فتوى الميت، سواء كان أعلم من الحي
أم كان الحي أعلم منه، لما تقدم من اعتبار الحياة في المفتي بالنسبة إلى التقليد الابتدائي
وأما في مورد البقاء، فحيث أنه لا دليل على اعتبار الحياة في المفتي حال العمل برأيه،
فان كان الحي أعلم من الميت يجب الرجوع إليه، لعدم اعتبار فتوى غير الأعلم في صورة
العلم بمخالفته لفتوى الأعلم، كما تقدم. وبذلك يظهر حكم ما لو كان الميت أعلم
من الحي، فإنه يجب البقاء حينئذ. ودعوى الاجماع - على عدم وجوب البقاء،
وأن الامر دائر بين جواز البقاء ووجوب العدول - غير مسموعة، لعدم ثبوت
هذا الاجماع، لعدم كون هذه المسألة معنونة في كلمات كثير من القدماء. نم لو كانت
فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط، جاز العمل على طبقها من باب الاحتياط لا لجواز
463

تقليده، كما تقدم سابقا. وأما إن كانا متساويين، فمع امكان الاحتياط، يجب.
ومع عدم، أو مع عدم وجوبه، للاجماع المدعى في كلام الشيخ (ره) يجب البقاء،
لدوران الامر بين التعيين والتخيير في الحجة، ويحكم العقل بالتعيين. وبالجملة يعامل
مع الميت والحي في هذه المسألة معاملة المجتهدين الحيين المتساويين، مع العلم بالمخالفة.
بقي في المقام أمران لابد من التعرض لهما:
(الأول) - أنه ذكر بعضهم انه يعتبر في جواز البقاء على تقليد الميت العمل
بفتواه حال حياته، فلو لم يعمل به في حياته، لم يجز البقاء على تقليده بعد موته.
ومنشأ هذا الاعتبار هو تعريف التقليد بالعمل، باعتبار أنه لا يصدق البقاء على تقليده
مع عدم العمل، لعدم تحقق التقليد بدونه، فيكون العمل على فتواه بعد موته تقليدا
ابتدائيا. ولا يخفى ما فيه. إذ لم يرد عنوان البقاء على تقليد الميت في لسان دليل
لفظي حتى نتكلم في مفهومه، وان البقاء هل يصدق مع عدم العمل في حال حياة
المفتي، أم لا يصدق، بل حكم جواز البقاء من حيث اعتبار العمل وعدمه تابع
للمدرك؟ فنقول: إن كان مدركه الاستصحاب، فهو على تقدير جريانه يقتضي
حجية فتوى الميت مطلقا: عمل المكلف بها حال حياته، أم لم يعمل، لان حجية
فتواه - على العامي حال حياته - لا تتوقف على العمل بها، فتستصحب. وأما إن
كان المدرك هي السيرة العقلائية القائمة على رجوع الجاهل إلى العالم، فعدم اشتراط
العمل في جواز البقاء أظهر، فان السيرة جرت على رجوع العالم إلى الجاهل، حيا
كان العالم أو ميتا، عمل الجاهل بفتواه في حال حياته أم لم يعمل. ولم يردع عنها
الشارع إلا في خصوص التقليد الابتدائي عن الميت حيث منع عنه، بمقتضى الأدلة
السابقة الدالة على اعتبار الحياة في المفتي، على ما تقدم. وكذا الحال فيما إذا اعتمدنا
في جواز البقاء على الاطلاقات الدالة على حجية فتوى العالم، فإنها تدل على اعتبار
464

كونه حيا حال السؤال والرجوع إليه، لا حال العمل. وإطلاقها ينفي اعتبار العمل
بفتواه قبل موته في جواز العمل بها بعد موته، مع كون التعلم والاخذ في حياته.
فتحصل أن جواز البقاء على تقليد الميت غير متوقف على العمل، وإن قلنا بكون
التقليد عبارة عن العمل.
(الثاني) - انه ذكر بعضهم أيضا أنه لا يجوز العدول عن الحي إلى مثله فيما إذا
عمل بفتوى المجتهد الأول، بخلاف ما إذا لم يعمل بها. ومنشأ هذا التفصيل أيضا هو كون
التقليد عبارة عن العمل، فمع عدم العمل بفتوى المجتهد الأول لا يصدق العدول
ليكون حراما.
وفيه أنه لم يرد عدم جواز العدول في لسان دليل حتى نبحث عن صدق العدول
مع عدم العمل وعدمه، فلابد من ملاحظة المدرك لحجية فتوى العالم. والذي ينبغي
أن يقال: انه إن كان المجتهد الثاني أعلم ممن قلده أولا، فمع العلم بالمخالفة ولو اجمالا
يجب العدول، سواء عمل بفتوى المجتهد الأول أم لم يعمل بها، إلا إذا كانت فتوى
الأول موافقة للاحتياط، وإن كان المجتهد الذي قلده هو الأعلم، لا يجوز العدول ولو
قبل العمل، إلا إذا كانت فتوى الثاني موافقة للاحتياط. وإن كانا متساويين، فمع العلم
بالمخالفة لابد من الاحتياط على ما ذكرناه سابقا، ومع عدم امكانه أو عدم وجوبه
للاجماع، لا يجوز العدول، لكون المورد من موارد دوران الامر بين التعيين
والتخيير. وقد سمعت مرارا أن مقتضى حكم العقل هو التعيين في دوران الامر بين
التعيين والتخيير في باب الحجة. ولافرق في ذلك أيضا بين العمل بفتوى المجتهد
الأول وعدمه. وأما إذا لم يعلم الاختلاف بينهما، فان لم يكن العامي حين العدول ذاكرا
لفتوى المجتهد الأول، جاز له العدول، سواء عمل بفتوى المعدول عنه أم لا،
لشمول اطلاق مثل قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) لفتوى كل
465

منهما. وأما إذا كان ذاكرا لها، لا يجوز العدول، لدوران الامر بين التعيين
والتخيير في الحجة، ويحكم العقل في مثله بالتعيين على ما مر، سواء عمل بفتوى
المجتهد الأول أم لا.
فتحصل مما ذكرناه انه لافرق في جواز العدول وعدمه بين العمل بفتوى المجتهد
الأول وعدمه في جميع الفروض المذكورة.
هذا آخر ما أفاده سيدنا الأستاذ - دام ظله الوارف - في هذه الدورة. وقد
ثم بيد مؤلفه الحقير محمد سرور بن الحسن رضا الحسيني البهسودي الأفغاني ليلة الثلاثاء
السابع عشر من جمادى الثانية في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة
النبوية. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله الأطهار المعصومين.
شكر وتقدير
لما كان الاعتراف بالجميل من أقدس الواجبات وأوجب الفرائض فاني ارفع
آيات الشكر والثناء والتقدير إلى الأستاذ الشيخ عبد الهادي الأسدي أيده الله تعالى
- صاحب مطبعة النجف، ومديرها - لما قام به من شدة الاعتناء بهذا الكتاب وسائر
الكتب الاسلامية من خدمة وعناية وبذل دقة في جودة الطبع وصدق المعاملة وجلب
أحدث الوسائل. وهذه الكلمة وإن لم آت فيها بما تستحقه همته السامية،
إلا انها رمز لاعترافي بحسن صنيعه.
المؤلف
466