الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء الأول
1

اسم الكتاب
منتقى الأصول ج 1
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الحمد ثنا لنعمائه، ومعاذا من بلائه، والصلاة والسلام على رسوله نبي الرحمة
وإمام الأئمة، وعلى أهل بيته الطاهرين، مصابيح الظلم، وعصم الأمم، واللعنة الدائمة على أعدائهم
الذين بهم ظهر الفساد في الأرض وعم.
وبعد، فقد أجلت النظر، وسرحت البصر، فيما كتبه العلامة، الحجة، المحقق، المجتهدين
الورع، التقى، الشهيد، السعيد، السيد عبد الصاحب الحكيم، نور الله مثواه، وجعل الجنة مستقره
ومأواه، تقريرا لأبحاثنا الأصولية، فألفيته مستوعبا لما نقحناه، جامعا لكل ما باحثناه وحققناه
محيطا بدقائق البحث ونكاته، حاويا لأسراره وبيناته، ملما بتقرير المباني وتحديدها، موفقا في تحرير
ما جاء في تفنيدها أو تشييدها، ولا بدع في ذلك، فقد كان - رحمه الله - مناط الآمال ومعقد
الرجاء، بفضل ما من الله تعالى به عليه، من ذكاء متوقد، وعلم جم، ومواهب نادرة، بيد
أد الأيدي الأثيمة اختطفته ولما يتحقق به للرجاء والامل، فحالت بذلك دون أن تؤتي هذه النبعة
الطيبة أكلها كل حين باذن ربها. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله أسأل ان يفتح
بهذه البحوث بغاة العلم، وأن يعود بالأجر والمثوبة لروح مؤلفه الطاهر، جزاه الله تعالى عناوين
العلم وأهله خير جزاء المحسنين بتاريخ بالمحرم الحرام 1412. محمد الروحاني
5

بسم الله الرحمن الرحيم
طلب إلي - ولعل الأصح كان من المفروض علي - تقديم الكتاب، علما
بأن ذلك من الصعب جدا، إذ كان المعني به: تقويم الكتاب، وتقييم مؤلفه.. وهذا
ما يعوزني - جدا - متطلباته، وأراني فاقدا للصلاحيات المفروضة فيه. ولكن
حيث لم يكن الامر بالخيار، فلا مبرر للاعتذار.
1 - تمهيد:
[1]
ان علم (أصول الفقه) في المصطلح الحوزوي يعنى به: مجموعة من
المسائل يقع عليها - بالدرجة الأولى - ثقل علم (الفقه)، أي: اثبات الوظائف
الشرعية العملية للمكلفين. ولا ضير إذا اكتفينا - في هذا المجال - بهذا المقدار في تعريف العلم، حيث لا يتطلب منا الموقف تحديده بالدقة، بل هو ما يتكفله
الكتاب نفسه اذن فعلم (أصول الفقه) - في الحقيقة - من العلوم الالية لعلم
(الفقه)، رغم أنه - في نفسه - يمثل مرتبة سامية من المعرفة بلغها الادراك البشري
عبر تاريخه الطويل.
وقد مر على هذا العلم - شأن لداته من سائر العلوم والفنون - أدوار
ومراحل، دور الابداع والتأسيس، دور التطور والتكامل، السريع منهما والمتلكئ
7

القريب من الجمود في بعض الأحايين. كما كان له - إلى جانب ذلك - نصيبه من
التوسع والانكماش حسب تبائن الاتجاهات والنزعات، ونتيجة اختلاف الظروف
والأحوال السائدة في الحوزات والمعاهد العلمية.
[2]
جرت العادة في التقديم لأمثال علم (أصول الفقه) على تحديد المراحل
التي مر بها العلم منذ فجر تأسيسه، وحتى عصر المؤلف، معتبرين له دور
التأسيس والابداع، ودور النضج والكمال.. ومحددين كل ذلك بزمان خاص،
وعصر أحد أعلام ذلك العلم.. واعتبار كل ذلك بوجه الدقة، مدعوما بشواهد
وأدلة لا ترضخ للنقد والتمحيص، ويكون بعيدا كل البعد عن ذهنيات الكاتب
وميوله، واتجاهاته الموافقة أو المعاكسة لأولئك الاعلام شئ يصعب المصادقة
عليه. وهي سبيل ترتكز - على أغلب الظن - على الحدس والاجتهاد أكثر مما
تعتمد الحقائق والواقعيات، بالإضافة إلى ما قد يستلزمه ذلك من البخس بحق
بعض، والايفاء فوق اللازم لحق الآخرين.
فارتأيت لذلك - وانا لا بد لي من تقديم الكتاب - تجنب الطريقة
الكلاسيكية المتبعة من أغلبية الكتبة، وأن ألج الموضوع من باب آخر، كي لا
أرمى بالاندفاع العاطفي، وليأتي حديثي أبعد ما يكون من التخرص بالغيب
ولذلك أعرضت عن تحديق إلى الزمن البعيد، وتجنبت الكلام عن العصور
الساحقة الضاربة في القدم، واعتبرت موضوع حديثي عن سير هذا العلم في
العصر القريب من عصرنا الحاضر، المشهود حاله أو بالامكان التعرف عليه -
لكل أحد - علما بان هذا العلم مدين بالكثير للمساعي المشكورة التي بذلها أئمة
هذا الفن الأقدمون، كشيخنا المفيد (336 - 948 / 413 - 1022) والشريف
علم الهدى، المرتضى (355 - 966 / 436 - 1044) وشيخ الطائفة، الشيخ
الطوسي (385 - 995 / 460 - 1067) وآية الله على الاطلاق، العلامة الحلي
8

(648 - 1250 / 726 - 1325) وغيرهم، شكر الله مساعيهم الجميلة.
[3]
لقد طرء على علم (أصول الفقه) منذ عهد المرحوم، الشيخ محمد تقي
الأصفهاني (- / 1348 ه‍ - 1833 م) في جلساته على كتاب (معالم
الأصول) للشيخ حسن، بن زين الدين، الشهيد الثاني (قدهما) (959 ه‍ -
1553 م / 1011 ه‍ - 1602 م) تطور ملحوظ، سواء أكان ذلك في بحوثه
ومسائله، أم في نوعية التدليل والبرهنة عليها. وهذا شئ لا ينكره كل من لاحظ
الكتاب المذكور، وقارنه بما سبقه من كتب الأصول.
ثم بدى - وهو أكثر جدة، وتهذيبا، وتنقيحا في البحوث والأدلة - فيما كتبه
شيخنا العلامة الأنصاري (قده) (1214 ه‍ - 1800 م / 1281 ه‍ - 1864 م)
في (فرائد الأصول) المشتهر في الأوساط الحوزوية باسم ال‍ (رسائل).
ويجدر بنا في هذا المجال أن لا ننسى دور جملة من أفاضل تلامذة الشيخ
الأنصاري (قده) ممن كان لهم الدور الفعال، والاسهام المشكور في تطوير العلم،
كالمحقق الرشتي، المرحوم ميرزا حبيب الله (1234 ه‍ - 1819 م / 1312 ه‍ -
1894 م) والسيد المجدد، ميرزا حسن الشيرازي (1320 ه‍ - 1815 م /
1312 ه‍ - 1895 م) وغيرهم. جزاهم الله تعالى عن العلم وأهله خير الجزاء.
ثم جاء دور المحقق، الآخوند، ملا محمد كاظم الخراساني (1255 ه‍ -
1839 م / 1329 ه‍ - 1911 م) المشتهر في العرف الحوزوي باسم كتابه (كفاية
الأصول) بالمحقق صاحب الكفاية. فقد قطع علم (أصول الفقه) على عهده
شوطا كبيرا في مجال التطوير والتقدم، بالإضافة إلى ما امتاز به المحقق
المذكور (قده) من القدرة على التلخيص والتهذيب.
ومن هنا أصبح كتابه (كفاية الأصول) بجزئيه، مع كتاب (فرائد الأصول)
لشيخنا الأنصاري (قده) محور الدراسات الأصولية في كافة الحوزات العلمية،
9

في المرحلة الأخيرة من الدراسة التمهيدية، المصطلح عليها في العرف الحوزوي
باسم: (دراسة السطح العالي). ولا يزال هذا الامر قائما حتى يومنا هذا في كل
الحوزات العلمية بلا استثناء.
وان من الاعتراف بالجميل: الإشادة بدور المحقق الكبير، المرحوم،
السيد محمد الفشاركي الأصفهاني (1253 ه‍ - 1837 م / 1316 ه‍ - 1899 م)
الذي لا ينكر اسهامه الوافر في هذا المجال. جزاه الله سبحانه وتعالى خير
الجزاء.
[4]
لقد برز على الساحة - بعد انتهاء دور المحقق صاحب الكفاية (قده) -
بمستوى الدراسات الأصولية العليا، ثلاثة من الاعلام، يعدون بحق العصب
الرئيس لعلم الأصول في عصرنا الحاضر، وهم:
المحقق، الميرزا، حسين، النائيني (قده) (1277 ه‍ - 1860 م /
1355 ه‍ - 1936 م) والمحقق، الشيخ، محمد حسين، الأصفهاني، المعروف
ب‍ (الكمپاني) (قده) (1296 ه‍ - 1878 م / 1361 ه‍ - 1942 م) فقد أسهموا
- بجد وجهد - في تطوير العلم، ونضجه، وتعميقه.. كما كان لهم الفضل في تكوين
الصفوة القيادية للحوزات العلمية، سواء أكانوا بمستوى المرجعية العامة، أم
كانوا بمستوى أساتذة للدراسات العليا - وقد خلفوا للأجيال القادمة ثروة
علمية طائلة، لا ينضب معينها.
2 - الكتاب! دورة كاملة محاضرات في (أصول الفقه) بكلا قسميه الرئيسيين: اللفظي
والعقلي - حسب التجزئة الكلاسيكية - ألقاها، سماحة آية الله العظمى، الأستاذ
10

الأعظم، المحقق العبقري، السيد محمد الروحاني، دام ظله الوارف، من دورات
محاضراته الأصولية، بالإضافة إلى ما تجدد له - دام ظله - من نظريات علمية،
وأبانه من دقائق لم تسبق إليها الفكر، وأجلاه من غوامض وتحقيقات رشيقة لم
يهتد إليها النظر من الدورة الثالثة. وندعو الله العلي القدير أن يتفضل على
سيدنا - دام ظله - بالدوام والاستمرارية في إفاداته، وإتمام الدورة الحاضرة من
بحوثه - وهي الدورة الرابعة - وأن يليها دورات مقبلة، ان شاء الله تعالى.
وأرى نفسي في غنى من الإفاضة في الحديث حول الكتاب، وحول
شخصية الأستاذ الأعظم - دام ظله - فسطور الكتاب - بل كلماته - تنطق كلها
بذلك، وتصدق ما كان هو المعتقد والمعترف به في الأوساط العلمية من عد درس
هذا الأستاذ العظيم مجالا خصبا للنمو العلمي بمستوى الدراسات الحوزوية
العليا فلا غرو - إذن - إذا كان قد التف حوله - دام ظله - في مختلف بحوثه
ومحاضراته سواء أكانت بمستوى الدراسة التمهيدية العالية - السطح العالي
حسب المصطلح الحوزوي - أم كانت بمستوى الدراسات العليا - بحث الخارج
- بالاصطلاح المشار إليه. لا غرو، إذا ما التف حوله ذوو الذكاء المتوقد، والنشاط
العلمي المتوثب...
هذا، ومن فروض القول علي انه ليس لي الاسترسال في الحديث بأكثر
من هذا فقد عرفته - دام ظله - بعيدا كل البعد عن السماح بذكر ما يرجع إليه
أو يخصه.. ولكنني وجدت الاغضاء عن هذا اليسير جفاء بحق هذا الأستاذ
العظيم. فليمنحني عفوه ودعاءه، كما منحني من ذي قبل رشحات من سحاب
علمه الماطر، وغيظا من فيض فضله الهاطل.. أمد الله تعالى في عمره الشريف.
11

3 - المؤلف!
[1]
العلامة، الحجة، فقيد الفضيلة، والعلم، والتقى، الشهيد، السعيد آية الله، السيد عبد الصاحب الحكيم، نجل سماحة آية العظمى، الفقيد الراحل،
السيد محسن الطباطبائي، الحكيم، طيب الله ثراهما.
(1360 ه‍ 1941 م / 1403 ه‍ 1983 م)
[2]
إذا كان من مقومات الشخصية، والتي ترسم معالمها وتخطط لها: الأسرة،
البيئة. التربية والتعليم. فان المترجم له - تغمده الله تعالى بوافر رحمته - كان قد
حظي من ذلك كله بالنصيب الأوفى، ونال منها الحظ الأوفر:
الف - الأسرة!
انحدر المترجم له من أسرة، شريفة، علمية، تتمتع بالكثير من أعلام
الأمة ورجالاتها ولعل في القمة منهم: والده، الفقيد الراحل، آية الله العظمى،
السيد محسن الطباطبائي الحكيم، طاب ثراه، الذي أشغل دست المرجعية العليا
للطائفة لمدة ربع قرن من الزمن تقريبا.
وقد نشأ المترجم له من أحضان هذه الأسرة العريقة بشرفها، المتميزة
بتاريخها والمحافظة على أصالتها، وقد تجلت فيه كل الدوافع الخيرة والعواطف
النبيلة التي كانت تحملها الأسرة، كما تمثلت فيه المواهب العقلية والنفسية التي
كانت تتمتع بها أعيان الأسرة ورجالاتها.
ب - البيئة!
هي: النجف الأشرف، مثوى باب مدينة علم رسول الله، صلى الله عليه
وآله وسلم، رباني الأمة، وامام الأئمة، امام المتقين، وقدوة أهل النهى واليقين، أمير
12

المؤمنين، علي بن أبي طالب، صلوات الله وسلامه عليه. حاضرة الشيعة العلمية
الكبرى ما يربو على الألف سنة. تلك المدينة التي أنجبت الألوف من العلماء، والأدباء.. وأنتجت الألوف ضعف الألوف من الكتب العلمية، والأدبية،
والتاريخية.. وساهمت مساهمة قيادية في ما لا تعد ولا تحصى من الحوادث
والقضايا الاسلامية، التي كانت بحق نقطة عطف في تاريخ الأمة الاسلامية
جمعاء.
ولد المترجم له في هذه المدينة المقدسة، ونشأ وتعلم بها، والتحق بحوزتها
العلمية، التي هي - بحق - حوزة الاسلام العلمية الكبرى. وتدرج فيها من دور
النشئ الصالح، إلى مرحلة التلميذ الذكي اليقظ، ومن مرحلة الطالب الحوزوي
إلى دور الأستاذ للدراسات التمهيدية العليا (تدريس السطح العالي) إلى أستاذ
الدراسات العليا (تدريس الخارج).
ج - التربية والتعليم!
حظي المترجم له بتربية وثقافة اسلاميتين، منذ الطفولة وحتى أخريات
أيام دراسته. فقد استهل حياته في رعاية أبوين حريصين على اشباع وليدهما
بالتربية الاسلامية، ضمن مراعاتهما لمتطلبات دور الطفولة وحداثة السن. ثم
بقي يتقلب في أدوار تالية من حياته خاضعا لاشراف معلمين أكفاء، وأساتذة هم
قدوة في تطبيق مناهج التربية الاسلامية فيما كان يبدو عليه (قده) معالم تلك
التربية الصالحة حتى اللحظات الأخيرة من حياته.
[3]
تتمثل شخصية الفقيد - ره - في ثلاث معالم.
1 - شخصيته الخلقية!
كان - رحمه الله - خلقيا - أو متخلفا، وهو لا يقصر به عن الفضيلة في
13

شئ - بالمعني الذي تحبذه الشريعة، وتهيب بالناس إليه حليما، صبورا، يدارى
الناس ويحسن صحبتهم، بعيدا عن الأنانية الظاهرة المنفرة، متميزا بين أقرانه
بالجدية والابتعاد عن الانشغالية بالأمور التي لا تهمه ولا تمس هدفه، مثابرا على
وظائفه وأعماله وقورا، رزينا، لم تحرجه معاكسات الحياة عن وقاره ورزانته، محافظا
على ظواهر الشريعة في سلوكه، متفانيا في طلب العلم، مع عزة النفس وعلو الهمة.
متحرجا عما يراه ترفعا على الغير رغم ما كان يفرضه منطق المجتمع الذي كان
يعيشه بحكم انتمائه إلى المرجعية، متباعدا - كل البعد - عن معطيات الزعامة
الدينية المتمثلة في عميد بيته وسيد الأسرة.
دع عنك حديث مواظبته التامة على التقيد بالاتيان بالفرائض اليومية
في أوقاتها والاستغفار بالاسحار (صلاة الليل)، وقراءة القرآن الكريم كل يوم...
هذا بعض من كل لمسته منه - رحمه الله - خلال صلتي به فترة تتجاوز
الربع قرن: كزميل لا يدانيه في مجلس الدرس، وشريك لا يجاريه في مجلس
البحث وصديق لا يحاكي ما كان فيه من فضائل وفواضل.
شخصيته العلمية!
الف - درس المقدمات: العلوم العربية والأدبية، والمنطق، على أساتذة
الحوزة كما وحضر في الدراسة التمهيدية العليا (أو دراسة السطح العالي في
المصطلح الحوزوي) على أساتذة، بعضهم من أفاضل أسرته، كالعلامة، الحجة،
آية الله السيد محمد علي الحكيم والعلامة الحجة، السيد محمد باقر الحكيم.
واختص في الدراسات العليا (أو دراسة الخارج) بآية الله العظمى السيد
الروحاني، دام ظله، فقها، وأصولا. وحضر قليلا - في الفقه - على آية الله
العظمى، السيد الخوئي، دام ظله، تقريبا منذ سنة 1975.
ب - قام بتدريس السطح العالي: الرسائل، والمكاسب، والكفاية سبع
14

دورات. كما وبدء بتدريس الخارج - فقها وأصولا - منذ: (1399 ه‍ - 1979 م)
وحتى قبض عليه - رحمه الله - من قبل السلطة الظالمة. فبلغ في الأصول إلى
مسألة حجية الخبر الواحد وأتم من الفقه كتابي الاجتهاد والتقليد والطهارة،
وكان موضوع بحثه الفقهي، كتاب (منهاج الصالحين) لوالده آية الله العظمى
السيد محسن الطباطبائي الحكيم طاب ثراه (1306 ه‍ - 1886. / 1390 ه‍ -
1970 م).
وكان - رحمه الله - إلى جانب ذلك كله يقوم بالقاء محاضرات توجيهية
أسبوعية - في العقائد والاخلاق - على جملة من أفاضل طلبة الحوزة العلمية،
والشباب المثقف، وكان دأبه تحرير كل ما يقوم بتدريسه أو القاء محاضرة بشأنه.
ج - آثاره ومؤلفاته:
1 - تقريرات بحث أستاذه، آية الله العظمى الروحاني، دام ظله، فقها
وأصولا. وبهذه المناسبة نؤكد على أملنا في التوفيق لنشر سائر كتبه - رحمه الله
- تقريرا لمباحث الخيارات، والصوم، والزكاة، والخمس، والحج، وغير ذلك، إن
شاء الله تعالى.
2 - محاضراته - رحمه الله - في (أصول الفقه) من أوله إلى مسألة حجية
الخبر الواحد، وكتاب الطهارة من الفقه.
3 - رسالة في طهارة الخمر، كتبها بارشاد من سماحة والده، المرحوم آية
الله العظمى الطباطبائي الحكيم (قده).
4 - محاضراته التوجيهية في العقائد والاخلاق.
3 - شخصيته الاجتماعية!
كان - رحمه الله - بحكم ابتعاده عن مظاهر الحياة المادية ومتطلباتها، إلا
ما اقتضته الضرورة ومست به الحاجة إليه منها في استمرارية المعيشة. وبحكم
15

عزوفه عن أعراف الذي كان يعيشه، حسبما تتطلبه موقعيته الاجتماعية
- ولا أعني بذلك العزوف الشاذ، بل عزوف الزهد والرغبة عنه - لا يهمه سوى
طلب العلم والتزود منه بما أوتي من حول وطول، فكان مغداه بهذا الامل وممساه
على هذه النية. وحينما وجد لنفسه من ذلك الرصيد الكافي واللازم كان همه
الانفاق بما اكتسبه وتزود منه على أهله، وفي سبيل رضاه تعالى. وكأنه كان بعمله
هذا يهدف إلى ما أرشدت إليه الحكمة المأثورة، عن امام الأئمة، أمير المؤمنين،
عليه الصلاة والسلام: (المال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الانفاق).
ولو شئنا أن نوجز حياة الفقيد طاب ثراه، لحق أن يقال: إنه - رحمه الله
- في ابتغائه العلم كان أحد المنهومين اللذين عنتهما الكلمة المأثورة عن أمير
المؤمنين عليه السلام (منهومان لا يشبعان: طالب علم...)، وكان في حياته
الاجتماعية، مصداقا حيا لقوله عليه السلام: (خالطوا الناس مخالطة، إن متم
معها بكوا عليكم وان عشتم حنوا إليكم). طيب الله مثواه.
خاتمة المطاف:
لقد قضي - وللأسف - على حياة الفقيد - رحمه الله - التي كانت معقد
الآمال في الحوزة العلمية، بقيام الفئة الباغية المجرمة باعتقال الذكور من أسرة
آية الله العظمى الحكيم طاب ثراه، كهولا، وشيوخا، وشبانا، وأطفالا منذ العاشرة
من العمر، ومن بينهم سيدنا الفقيد، في ليلة الثلاثاء 26 رجب 1403.
وقتل مظلوما صابرا مع اثنين من اخوته وثلاثة من أبناء اخوته في (7 /
شعبان / 1403 ه‍ - 20 / 5 / 1983) ثم تلى ذلك وجبات أخرى من
الاعدامات بحق أنجال، وأحفاد.. آية الله العظمى الحكيم، ولا حول ولا قوة الا
بالله العلي العظيم. (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون * ألم تر كيف
فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين
16

جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا
فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد * ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) صدق الله العلي العظيم.
هذا، وان قضى الظالمون بعملهم الاجرامي على معقد آمال الأمة، لكنهم
لم يقضوا على آمالها وأمانيها، ففي أنجال سيدنا الفقيد الشهيد، طاب ثراه
الأفاضل الاعلام: السيد علي، والسيد جعفر، والسيد أحمد، كل أمل ورجاء. أمد
الله تعالى في أعمارهم، وجعلهم عند آمال الأمة وأمانيها والسلام على جميع الأنبياء
والمرسلين، وجميع الشهداء والصديقين، وعباد الله الصالحين، ورحمة الله وبركاته.
محمد صادق الجعفري
22 / شهر رمضان المبارك / 1412 ه‍
17

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
محمد وعلى آله الميامين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
(رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وأحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي).
19

تمهيد
اعتاد الاعلام أن يبتدؤا بالبحث عن بعض الأمور وما يتعلق بها،
كموضوع العلم وخصوص علم الأصول والمائز بين العلوم ونحوها. إلا أنها حيث
كانت عديمة الفائدة رأينا أن الاغماض عن ذكرها والبحث عنها أولى. ورأينا
أن تكون بداية الكلام في الوضع وما يتعلق به من أبحاث، وقبل الشروع في ذلك
لا بد من البحث في جهة واحدة من تلك الجهات المذكورة بدائيا، وهي معرفة
الضابط للمسألة الأصولية التي به تتميز عن غيرها. فان البحث فيها وإن لم يكن
بذي فائدة عملية وأثر تطبيقي، إلا أنه حيث جرت سيرة القوم على التعرض لها
في كل مسألة بالبحث عن أصولية المسألة وعدمها، كان البحث فيها ههنا لازما
للحاجة إليها فيما يأتي.
ضابط المسألة الأصولية:
اختلف الاعلام في تعيين الضابط للمسألة الأصولية،
وقد حكي عن المشهور ان المسائل الأصولية هي القواعد الممهدة لاستنباط
21

الأحكام الشرعية، وقد كان هذا التعريف هو السائد إلى أن خالفه صاحب
الكفاية، فعرف المسائل الأصولية: بأنها ما يعرف بها القواعد التي تقع في طريق
استنباط الاحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل (1). والنقطة التي يفترق بها
صاحب الكفاية في تعريفه عن تعريف المشهور - غير الاختلاف اللفظي
والمفارقة في التعبير بين التعريفين -، هي زيادته القيد الأخير في تعريفه، وهو (أو
التي ينتهي إليها في مقام العمل). وقد أشار (قدس سره) إلى الوجه الذي حدى
به إلى هذه الزيادة، فان تعريف المشهور وتحديده لضابط المسألة عن علم
الأصول بمقتضاه ولا وجه لذلك، إذ لا موجب لخروجها عنه والتزام كون البحث
فيها في الأصول بحثا استطراديا، وهي بهذا القيد المضاف إلى تعريفهم تكون
من مسائل الأصول. وتلك المسائل كما ذكرها (قدس سره) هي مسائل الأصول
العملية في الشبهات الحكمية، ومسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.
وقد وجه خروج هذه المسائل عن الأصول بتعريف المشهور، ودخولها فيه
بتعريف صاحب الكفاية، فأن الأصول العملية بين ما لا يكون مفادها حكما
شرعيا ولا يتوصل بها إلى حكم شرعي كالأصول العقلية من براءة واشتغال،
فإن مفادها ليس إلا المعذرية أو المنجزية، وظاهر أن ذلك لا يكون واسطة في
الاستنباط، وبين ما يكون نفس مفادها حكما شرعيا كالأصول الشرعية من
أصالة الحل ونحوها والاستصحاب بناء على كونه يتكفل اثبات حكم مماثل - كما
قد يظهر من بعض عبارات الكفاية في محله (2) -، فان أصالة الحل لا يستنبط
بواسطتها حكم شرعي، بل هي عينها حكم شرعي وهو الحلية.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 9 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
22

وتوهم: ان أصالة الحل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، ويتوصل
بواسطتها إليه باعتبار وقوعها في كبرى قياس استنتاج الحكم، فيقال: هذا
مشكوك الحلية وكل ما كان مشكوك الحلية فهو حلال، فينتج بهاتين المقدمتين
حلية المشكوك ويعرف بهما هذا الحكم، ومثل هذا يكفي في كون القاعدة مما
يستنبط بها حكم شرعي.
مندفع: فأن أصالة الحل وان كانت كبرى القياس المذكور، الا ان ذلك
لا يعني كونها مما يستنبط بها الحكم الشرعي، إذ النتيجة وهي حلية المشكوك
المعين عين مفاد القاعدة، فكان ذلك القياس قياسا لتطبيق الحكم الكلي على
موارده الجزئية وصغرياته ومنه الصغرى. ولم يستنبط من القياس المذكور بواسطة
القاعدة حكم آخر غير مفادها. فلا يصدق الاستنباط.
واما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة - فلانه - لا يتوصل
بواسطة نتيجة هذه المسألة إلى حكم شرعي، سواء أريد من الظن على الحكومة
حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظني الملازم
للاتيان بالمظنونات والمشكوكات، أو أريد ان العقل يرى بمقدمات الانسداد
حجية الظن حيث يقتصر في مقام الامتثال على المظنونات.
اما على الأول فواضح، لان حكم العقل بجواز الاقتصار على الامتثال
الظني وعدم لزوم الامتثال اليقيني لا يرتبط أصلا بعالم استنباط الاحكام، بل هو
انما يرتبط بعالم افراغ الذمة والامتثال والتعذير عن الواقع لو كان في طرف
الموهومات.
واما على الثاني، فلان مرجع حجية الظن بنظر العقل إلى جعله منجزا
بحيث يكون حجة على العبد، فلا يستنبط منه اي حكم من الاحكام.
فاتضح، ان هذه المسائل لا تندرج في علم الأصول بناء على تعريف
المشهور لعدم وقوعها في طريق استنباط الاحكام، ولكنها مما ينتهى إليها في مقام
23

العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل، فتندرج في علم الأصول بناء على تعريف
صاحب الكفاية بملاحظة ما أضافه من القيد إلى تعريف المشهور.
بهذا التوجيه وجه المحقق الأصفهاني نظر صاحب الكفاية في ذكر هذا
القيد (1) - ولكنه ذكره بنحو مجمل كان ما ذكرناه توضيحا له -، ثم أفاد (قدس
سره) بان الاشكال المذكور يسري إلى جل مسائل الأصول بما محصله: ان الامارات غير العلمية سندا ودلالة يتطرق إليها هذا الاشكال، وهو ان مرجع
حجيتها اما إلى الحكم الشرعي بناء على كون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم
المماثل للمؤدي، أو غير منته إليه ابدا بناء على كون المجعول فيها هو المنجزية
والمعذرية فهي على كلا التقديرين لا تقع في طريق استنباط الاحكام.
وتخلصا عن هذا الاشكال في جميع موارده، وجه الاستنباط بمعنى يحصل
بهذه المسائل، وذلك بدعوى: ان حقيقة الاستنباط ليس إلا تحصيل الحجة على
الحكم الشرعي بلا توقف على احراز الحكم. وظاهر ان حجية الامارات بأي
معنى كانت لها الدخل في إقامة الحجة على حكم العمل، وبذلك جعل الضابط
للمسائل الأصولية هو القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي.
وتابعه بذلك في تفسير الاستنباط السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات درسه - (2).
ولا يخفى ان ما ذكره (قدس سره) وان كان بظاهره التزاما بوجهة نظر
صاحب الكفاية التي ابان عنها اللثام، الا انه في الحقيقة اشكال عليه في اقتصاره
في الاشكال على بعض الموارد، مع كون الاشكال ساريا إلى جل المسائل.
فالتحقيق: انه يمكن أن يكون نظر صاحب الكفاية إلى جهة تختص
بهذه الموارد التي نبه إليها في كلامه، ولا تسري إلى غيرها، كما لا ترتفع تلك الجهة
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 11 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 9 - الطبعة الأولى.
24

بما وجه به معنى الاستنباط.
اما جهة الاشكال في الأصول، فهي ما قرره في مبحث الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري: من أن مفاد دليل الامارة هو جعل المنجزية والمعذرية أو
الحكم المماثل دون مفاد دليل الأصل الشرعي. فإنه ليس إلا جعل حكم ظاهري
يصير به فعليا. واما الواقع، فلا يكون فعليا لحكم العقل بارتفاع فعليته بفعلية
الحكم الظاهري.
وعليه، فإذا لم يكن الواقع مع الأصل فعليا لم يتصور قيام المنجز له أو
المعذر عنه، لأنها فرع فعليته، فتحصيل الحجة على الواقع بواسطة الأصل لا
أساس له.
ودعوى: ان نفي فعلية الواقع بقيام الأصل كاف في كون الأصل معذرا
عن الواقع.
فاسدة: لان نفي فعلية الواقع ليس مفادا للأصل، بل يستفاد بحكم
العقل باستحالة طلب الضدين. ولو كان مثل هذا كافيا في أصولية المسألة لكان
كل حكم شرعي من المسائل الأصولية، لان ثبوته يستلزم نفي غيره بحكم
العقل.
والسر في المطلب، ان نفس الحكم لا يتكفل نفي حكم آخر ولو بواسطة
الملازمة، بل الدليل الدال عليه يتكفل بالملازمة نفي غيره، فنفي الواقع بالدليل
على الحكم لا بنفس حكم الأصل، ونفس الدليل مسألة أصولية لأنه من
الامارات. وان كان نفس المفاد أعني الحكم مسألة فرعية.
وهكذا الكلام في مسألة الظن الانسدادي، فان نتيجتها أجنبية عن
المنجزية والمعذرية كأجنبيتها عن الانتهاء إلى الحكم الشرعي.
وذلك لان الواقع يتنجز بالعلم الاجمالي المستلزم للاتيان بجميع
25

المحتملات حتى الموهوم منها، وشان هذه المقدمات هو بيان عدم الالزام بالاتيان
بالموهومات أو هي والمشكوكات - على الخلاف الذي أشرنا إليه -، واما لزوم
الاتيان بخصوص المظنون فهو ليس مفاد هذه المقدمات، بل هو أمر ينتج من
ضم العلم الاجمالي ومنجزيته إلى حكم العقل بعدم لزوم الاتيان بالموهومات
والمشكوكات، فليس نتيجة المسألة حجية الظن أصلا.
وبالجملة: فما عرفته من توجيه خروج المسألتين لا يسري إلى غيره
من المسائل. إذ ليس الوجه هو كون نتيجة هذه المسائل أما حكما شرعيا أو
المنجزية كي ينقض بالامارات، بل الوجه انه لا ترتبط بالحكم الشرعي الواقعي
بحال لا كشفا عنه ولا حجة عليه، فلا يصح النقض بالامارات والالتزام بوسعة
الاشكال. كما لا يندفع بما وجه به معنى الاستنباط، إذ ليس من هذه المسائل ما
نتيجته حصول الحجة على الحكم الواقعي نفيا واثباتا كما لا يخفى فلاحظ.
ثم إن المحقق الأصفهاني بعد ما بين ضابط المسألة الأصولية بما عرفته،
أورد على تعريف صاحب الكفاية بأنه يستلزم محذورين:
الأول: انه لا بد من فرض جامع بين الغرضين المذكورين أعني
الاستنباط والمرجعية في مقام العمل، إذ مع عدم الجامع يستلزم تعدد الغرض تعدد
فن الأصول، لان التمايز بين العلوم - على رأي صاحب الكفاية - بالتمايز بين
الأغراض، والجامع مفقود لتباين الغرضين.
الثاني: ان الانتهاء في مقام العمل، اما أن يكون مقيدا بأنه بعد اليأس
عن الظفر بالدليل على الحكم، أو لا يكون مقيدا بذلك، بل يكون مطلقا. فأن
قيد بذلك لم تدخل الامارات فيه، إذ الرجوع إليها ليس بعد اليأس وحجيتها
لا تتوقف على ذلك، فإنه شرط في صحة الرجوع إلى الأصول العملية فقط. وإن لم
يقيد به وعرى عنه لزم دخول جميع القواعد الفقهية العامة في التعريف لأنها
26

مما ينتهي إليها المجتهد في مقام العمل والتطبيق (1). ولكن الانصاف انه لا يستلزم كلا من المحذورين.
اما المحذور الثاني: فحاصل المناقشة فيه أنه يلتزم بإضافة القيد المذكور.
وخروج الامارات عن الذيل بذلك ليس بمحذور، لأنه انما يكون محذورا لو فسر
الاستنباط باحراز الحكم الشرعي واستخراجه بحيث لا يشمل تحصيل الحجة
عليه. إذ بذلك تخرج الامارات عن صدر التعريف أيضا، لان المجعول فيها -
كما عرفت - اما المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل، وهي بكلا الوجهين لا تقع في طريق استنباط الاحكام - كما تقدم تقريبه -، فيلزم من ذلك خروج مسائل
الامارات عن علم الأصول بالمرة.
اما لو التزم بان المراد بالاستنباط المعنى الأعم، وهو تحصيل الحجة على
الواقع، فمسائل الامارات تدخل في الأصول بصدر التعريف - كما أشرنا إليه
سابقا -، فخروجها عن الذيل لا محذور فيه، إذ المحذور المتخيل هو خروجها
بذلك عن علم الأصول، وهو غير تام لشمول الصدر لها، فتكون من مسائل
علم الأصول.
وبالجملة: فالاشكال المذكور يبتني على جعل نظر المحقق الخراساني
إلى ما وجهت به عبارته أولا، وقد عرفت عدم التسليم به والمناقشة فيه.
وأما المحذور الأول: فهو يرتفع بتصور غرض خارجي جامع بين
الغرضين، ويترتب على جميع مسائل علم الأصول. وذلك الغرض هو ارتفاع التردد والتحير الحاصل للمكلف من احتمال الحكم.
توضيح ذلك: ان المكلف إذا التفت إلى شئ بلحاظ حكمه، فقد يحتمل
وجوبه أو يحتمل حرمته، ومن هذا الاحتمال ينشأ في نفسه التردد والعجز بالنسبة
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 12 - الطبعة الأولى.
27

إلى العمل فهل يفعل أو لا؟ أو هل يترك أو لا؟ والذي يترتب على المسألة
الأصولية سواء كانت واقعة في طريق الاستنباط أو لم تكن هو ارتفاع هذا
التردد، أما ما أوجب العلم منها كالملازمات العقلية فواضح لانكشاف الواقع بها
وارتفاع التردد بذلك لارتفاع منشئه تكوينا.
واما الامارات غير العملية، فلان نتيجة حجيتها هو تنجيز الواقع بها أو
التعذير عنه - اما لاجل أن المجعول فيها ذلك، أو لأنه مما يترتب على المجعول
فيها - وهي بذلك ترفع الحيرة والتردد في مقام العمل.
اما الأصول العملية، فالعقلية منها يكون مفادها التعذير أو التنجيز وهي
بذلك ترفع التحير، لان مفادها ان المكلف في أمان من الواقع أو في عهدة الواقع،
وهي بكلا المفادين ترفع التردد. واما الشرعية فبناء على انها تفيد حكما شرعيا
تترتب عليه المنجزية والمعذرية، أو ان التعبد بها يرجع إلى جعل المنجزية
والمعذرية، فكونها رافعة للتحير واضح. وأما بناء على ما ذهب إليه صاحب
الكفاية من عدم نظرها إلى الواقع أصلا وان مفادها حكم ظاهري، فلان نفس
جعل الحكم الظاهري كالحلية في مقام التردد والشك رافع للتردد ومعين للوظيفة
العملية.
واما مسألة الظن الانسدادي بناء على الحكومة، فلان حكم العقل بعدم
لزوم الاتيان بغير المظنونات أو غير الامتثال الظني رافع للتحير في مقام العمل،
لان حقيقته التعذير عن الواقع الثابت في مورد الوهم أو الشك.
فالمتحصل ان مسائل الأصول كلها تنتهي بنا إلى غاية واحدة وهي
ارتفاع التردد الحاصل من احتمال الحكم الشرعي، سواء كانت نتيجتها
الاستنباط أو لم تكن كذلك وبذلك يرتفع المحذور المذكور.
نعم يبقى ههنا سؤال وهو: انه لم عدل صاحب الكفاية إلى هذا التعريف
المفصل وذكر كلا القيدين، مع أن نظره لو كان إلى هذه الجهة المذكورة لكان
28

يكفي في تعريف علم الأصول أن يقول: (هو القواعد التي يرتفع بها التحير
الحاصل للمكلف من احتمال الحكم الشرعي)، إلا أن الامر في ذلك سهل، فإنه
لا يعدو كونه اشكالا لفظيا. ولعل نظره (قدس سره) إلى الإشارة إلى قصور
تعريف المشهور وانه يحتاج إلى إضافة قيد، لا إلى بطلانه كما قد يشعر به تبديله
وتغييره.
والذي يمكن استفادته مما تقدم امكان بيان تعريف المسائل الأصولية
وضابطها بنحو يكون جامعا للمسائل المدونة ومانعا عن دخول القواعد الفقهية
العامة. تقريب ذلك: انه قد عرفت أن المكلف إذا احتمل ثبوت الحكم الشرعي
واقعيا كان أو غيره يحصل في نفسه التردد والحيرة بالنسبة إلى وظيفته العملية
تجاه هذا الحكم المحتمل.
فههنا مقامات ثلاث: أحدها: مقام الحيرة والتردد. والاخر: مقام
الاحتمال الموجب للتردد. والثالث: مقام واقع الحكم المحتمل من ثبوت ونحوه.
وعليه، فالقواعد الأصولية ما كانت رافعة بلا ان تكون بمفادها ناظرة
إلى نفس الحكم المحتمل بتعيين أحد طرفيه. بل اما ان تكون بمفادها ناظرة إلى
مقام التردد والتحير، بجعل ما يرفعه بلا ارتباط بكيفية الواقع كمسائل الأصول
العملية والامارات، بناء على جعل المنجزية والمعذرية أو الحكم المماثل ونحوها
من المسائل كما تقدم تقريبه. لأنها تستوجب رفع أساس التردد وهو الاحتمال،
اما تكوينا كالملازمات العقلية، لأنها تستوجب العلم بالحكم فيرتفع التردد
بارتفاع منشئه ولا نظر لها إلى نفس المحتمل، إذ لا تعين أحد طرفي الاحتمال
ثبوتا، بل تكون واسطة في الاثبات باستلزامها العلم لا واسطة في الثبوت الحقيقي
للحكم. واما تعبدا كالامارات، بناء على جعل الطريقية وتتميم الكشف، فإنه بها
يتحقق العلم تعبدا بالحكم بلا أن يكون النظر إلى نفس الحكم وثبوته حقيقة في
واقعه.
29

فالجامع بينهما هو ارتفاع التردد بها اما ابتداء أو بواسطة رفع منشأ
التحير، بلا أن يكون لها نظر إلى تعيين الحكم المحتمل بأحد طرفيه.
ومن هنا يظهر الفرق بين المسائل الأصولية والمسائل الفقهية فان الثانية
ما يكون نظرها إلى المحتمل، بمعنى ان مفادها نفس الحكم المحتمل، وهي بذلك
لا ترفع التردد، إذ نفس الحكم لا يرفع التردد وانما دليله يرفعه وهو مسألة
أصولية، فمقام إحداهما يختلف عن مقام الأخرى، فالفرق بينهما حقيقي وذاتي.
وبهذا التحقيق يندفع النقض بجملة من القواعد الفقهية العامة، كقاعدة
ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، وقاعدة الطهارة، وقاعدة لا ضرر،
وقاعدة نفي العسر والحرج، ونحوها.
بدعوى: انه قد يستفاد من هذه القواعد حكم كلي، كاستفادة عدم
الضمان في الهبة الفاسدة من قاعدة (ما لا يضمن)، فإنه حيث يشك في ذلك يرجع
إلى هذه القاعدة ويستفاد منها عدم الضمان باعتبار عدم الضمان في الهبة
الصحيحة.
وكاستفادة طهارة المتولد من الكلب والشاة غير الملحق بأحدهما،
والمشكوك طهارته من قاعدة الطهارة.
وكاستفادة حرمة أو عدم وجوب الوضوء الضرري من قاعدة نفي
الضرر.
وكاستفادة عدم وجوب الوضوء الحرجي من قاعدة نفي الحرج. فان
المستفاد من هذه القواعد حكم كلي، ومقتضى ذلك دخول هذه القواعد في
الأصول لأنها مما يستنبط بها حكم كلي.
وجه الاندفاع: ما عرفت من عدم كون الملاك في أصولية القاعدة ايصالها
إلى حكم كلي لا جزئي، بل الملاك هو رفعها الحيرة مع كون نظرها إلى مقام غير
الحكم المحتمل. فلا يتجه النقض بالتقريب المذكور.
30

وتحقيق الحال في هذه القواعد على المسلك الذي قربناه:
أما قاعدة (ما لا يضمن) ونحوها، فهي انما تنظر إلى نفس المحتمل وهو
الضمان وعدمه، ومدلولها نفس الحكم لا رفع الحيرة والتردد.
واما قاعدة نفي الضرر أو العسر، فهي تارة تجري في الحكم الكلي
الفرعي كنفي وجوب الوضوء الضرري أو الحرجي. وأخرى تجري في الحكم
الأصولي كجريانها في نفي وجوب الفحص عن المعارض إذا كان مستلزما
للضرر أو العسر، المساوق لاثبات حجية الخبر الفعلية، فان وجوب الفحص من
المسائل الأصولية. وكجريانها في نفي وجوب الاحتياط عند انسداد باب العلم
لاستلزامه الضرر أو الحرج.
وعليه، فهي بلحاظ جريانها في الحكم الفرعي تكون من المسائل
الفقهية، وبلحاظ جريانها في الحكم الأصولي تكون من المسائل الأصولية. ولا
مانع من أن تكون مسألة واحدة من مسائل علمين، إذ كان فيها ملاكا العلمين
- كما يقال في مسألة الاستصحاب من أنها أصولية بلحاظ الاستصحاب في
الشبهات الحكمية، وفقهية بلحاظه في الشبهات الموضوعية -.
وأما قاعدة الطهارة فالتخلص عن النقض بها - لثبوت الملاك المزبور
فيها لكون المجعول فيها حكما ظاهريا في مقام التردد والشك بلا نظر إلى نفس
الواقع المحتمل - بما أشار إليه صاحب الكفاية من أن المسألة الأصولية يعتبر
فيها ان تكون سارية في جميع أبواب الفقه أو جلها فلا يختص باجرائها بباب
دون آخر ولا كذلك أصالة الطهارة لاختصاصها بمشكوك الطهارة فلا تجري في
أبواب المعاملات ولا أبواب الفقه الأخرى كما لا يخفى (1). ان انه يعتبر في أصولية
المسألة أن تكون نظرية ومحور النزاع ومحل الكلام، لا واضحة كل الوضوح
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 337 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
31

كقاعدة الطهارة إذ لا كلام في ثبوتها ولا نظر.
وبالجملة: فالمسألة الأصولية ما كان نظرها إلى رفع التردد في مقام
العمل لا إلى الواقع المحتمل، فما كان من المسائل ذلك كان من المسائل
الأصولية بلا أي محذور في هذا الالتزام.
ويقع الكلام بعد هذا في جهتين يرتبطان بالتعريف والضابط المذكور:
الجهة الأولى: في تخصيص مسائل علم الأصول بما كان مجراها الشبهة
الحكمية لا الموضوعية وانه بلا موجب، بل الوجه هو التعميم، وذلك لان الظاهر
كون الداعي لاخذه في تعريفات القوم هو التحرز عن دخول كثير من المسائل
الفقهية في علم الأصول، إذ لولا أخذه وكون المسألة الأصولية مما يتوصل بها
إلى حكم شرعي كليا كان أو جزئيا يلزم دخول أكثر موارد الفقه في الأصول
للتوصل بالقواعد الفقهية إلى احكام جزئية كوجوب الصلاة ونحوه. وبزيادة قيد
التوصل إلى الحكم الكلي تخرج هذه المسائل.
ولا يخفى ان هذا المحذور لا يتأتى على ما ذكرناه من ضابط المسألة كما
هو ظاهر جدا، فلا موجب لاخذ الوصول إلى الحكم الكلي في ضابط المسألة
الأصولية، وعليه فيكون الاستصحاب في الشبهات الموضوعية من المسائل
الأصولية بلا كلام، لان نظره إلى مقام الحيرة لا مقام المحتمل.
ومن هنا يظهر عدم الموجب لتقييد المسألة الأصولية، بما كان المتوصل بها
إلى الحكم هو المجتهد، وما كان اجراؤها بيده دون المقلد، إذ التطبيق في الشبهات
الموضوعية بيد المقلد لا المجتهد، ولا مانع منه لكون الملزم لاخذه في التعريفات
غير متأت على ما ذكرناه فلاحظ.
الجهة الثانية: في دفع وهم.
أما الوهم فهو، ان المراد من كون المسألة الأصولية ما يقع في طريق
الاستنباط - كما هو تعريف القوم -، أو ما يرتفع به التحير والتردد - كما هو
32

التعريف الذي اخترناه -، اما أن يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو ما يرتفع
به التحير والتردد مطلقا ولو كان بالواسطة، بمعنى ان يتخلل بينه وبين استنباط
الحكم بعض المسائل الأخرى. أو يكون ما يقع في طريق الاستنباط أو يرتفع
به التردد في مقام العمل مباشرة وبلا واسطة، بحيث يترتب عليها الحكم الشرعي
رأسا. وكل من التقديرين يستلزم محذورا.
اما التقدير الأول: فلانه يستلزم دخول كثير من القواعد الفلسفية
واللغوية والمنطقية وغيرها في مسائل الأصول، لوقوعها في طريق تنقيح بعض
القواعد الأصولية، فيترتب عليها الاستنباط ويرتفع بها التحير بالواسطة.
واما التقدير الثاني: فلانه يستلزم خروج كثير من المسائل المحررة في
كتب الأصول عن علم الأصول. كمسألة الصحيح والأعم، ومسألة المشتق
ومسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة ان الامر ظاهر في الوجوب أو لا، ومسألة
العام والخاص في بعض الحالات، ومسائل المفاهيم.
توضيح ذلك: ان المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعم. وهو ثبوت
وضع اللفظ الشرعي إلى المعاني الشرعية وعدمه، لا يترتب عليه مباشرة الحكم
الشرعي، إذ لا يعدو هذا البحث البحث عن أمر لغوي. وانما تترتب عليه مسألة
أصولية، وهي جواز التمسك بالاطلاق على القول بالأعم وعدم جوازه على
القول بالصحيح. بتقريب: ان أساس التمسك بالاطلاق - قبل ملاحظة تمامية
مقدمات الحكمة - هو احراز صدق عنوان المطلق على الفرد الفاقد للخصوصية
المشكوك من جهة اخذها في متعلق الحكم، فمع القول بالصحيح يكون اللفظ
مشكوك الصدق على الفاقد للخصوصية المشكوكة، باعتبار ان كا لما له دخل في
متعلق الحكم له دخل في صدق اللفظ. بخلاف القول بالأعم، لان صدق المطلق
على الفاقد لا يتوقف على احراز عدم دخل الخصوصية في المتعلق، لأنه يصدق
على الأعم من واجد الأجزاء والشرائط بتمامها والفاقد لبعضها فليكن هذا منها،
33

فان عدمه لا يخل بصدقه.
وعليه، فالبحث في مسألة الصحيح والأعم ينتهي بنا إلى اثبات أساس
الاطلاق ونفيه، وهذا لا يترتب عليه حكم شرعي، بل يترتب عليه ما عرفت من
المسألة الأصولية، وهي جواز التمسك بالاطلاق مع الشك بأخذ خصوصية في
متعلق الحكم وعدم جوازه، لأنه تنقيح لموضوعها.
واما مسألة المشتق، فلان البحث فيها بحث لغوي عن تحقيق الموضوع
له اللفظ المشتق، وظاهر ان الحكم الشرعي لا يترتب عليه مباشرة، بل بضميمة
مقدمات أخرى بلا اشكال.
واما مسألة اجتماع الأمر والنهي، فلان ما ينتهي إليه بتنقيح أحد طرفيها
جوازا أو منعا هو تحقيق موضوع لمسألة أصولية لا معرفة حكم شرعي أو رفع
تردد فيه، وذلك لأنه ان قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي بالالتزام بعدم كفاية
تعدد العنوان في تصحيحه كان المقام من موارد التعارض، لتعارض دليلي الحرمة
والوجوب. وان قيل بجوازه في نفسه لكنه باعتبار عدم القدرة على امتثال كلا
الحكمين لا بد من ارتفاع أحدهما كان المورد من موارد التزاحم، ومسألة التزاحم
كمسألة التعارض من المسائل الأصولية.
أما المسائل اللفظية الأخرى، كمسألة ظهور الامر في الوجوب، أو ظهور
الجملة الشرطية أو الوصفية في انتفاء الحكم بانتفاء الشرط أو الوصف، أو ظهور
العام في الباقي بعد التخصيص فيكون حجة فيه، أو ظهوره في العموم
الاستغراقي أو المجموعي، وغيرها من المسائل المشاكلة لها، فايصالها إلى الحكم
أو ارتفاع التردد بها انما يكون بضميمة كبرى أصولية وهي حجية الظاهر، إذ
بدونها لا يتوصل إلى المطلوب، فان ظهور الامر في الوجوب لا يستفاد منه في
نفسه الحكم بل لا بد ان يضم إليه ان الظاهر حجة فيثبت الوجوب ويرتفع
التردد، وهكذا غيرها، فان مجرد ثبوت الظهور لا يجدي في اثبات الحكم، بل
34

يتوقف على ضم كبرى أصولية وهي كون الظاهر حجة، فيكون ذلك الظاهر
حجة في مدلوله. فظهر بهذا البيان: أن اعتبار رفع التردد بالمسألة الأصولية أو
استنباط الحكم مباشرة وبلا واسطة يستلزم خروج هذه المسائل، وهو مما لا يلتزم
به أحد، كما أن إلغاء هذا الشرط يستلزم دخول غير المسائل الأصولية في الأصول،
وهو أيضا مما يفر عنه الاعلام.
واما الدفع فهو، بالالتزام باعتبار هذا الشرط، أعني: ترتب الأثر المزعوم
عليها مباشرة بلا واسطة.
وخروج مسألتي الصحيح والأعم والمشتق لا محذور فيه، بل ذلك هو
الظاهر من اعتياد ذكرها في مقدمة الأصول، وأما الوجه في أصل التعرض إليها
مع عدم التعرض إلى نظائرها فهو لاجل عدم استيفاء البحث في تحقيقها في
محلها أو لعدم التعرض لها في غير محل.
وأما استلزامه لخروج المسائل اللفظية المذكورة، ومسألة اجتماع الأمر والنهي
، فهو ممنوع. اما المسائل اللفظية، فلان ترتب الحكم عليها وان كان
بواسطة الكبرى المزبورة، الا انها حيث كانت من الجلاء والتسليم بحد يرى ان الحكم يترتب بمجرد تنقيح موضوعها وهو أصل الظهور لم تخل وساطتها
الارتكازية في أصولية هذه المسائل، إذ الواسطة المعتبر عدمها في أصولية المسألة
الواسطة النظرية التي تلحظ في ترتب الحكم على الصغرى بضمها إليها لا
الارتكازية التي لا تلحظ في ترتيب الحكم على الصغرى، بل يرى ان الحكم
مترتب بمجرد تمامية الصغرى.
واما مسألة اجتماع الأمر والنهي، فلان المذاهب فيها ثلاثة:
الأول: الجواز مطلقا.
الثاني: الامتناع من جهة اجتماع الضدين، بدعوى عدم كفاية تعدد
العنوان في جواز تعلق الأمر والنهي.
35

والثالث: الامتناع من جهة التزاحم، لعدم القدرة على امتثال كلا
التكليفين لا في نفسه، بدعوى: كفاية تعدد العنوان لتصحيح تعلق الأمر والنهي
بذي العنوانين. وهي على القولين الأخيرين وإن لم تنته إلى رفع التردد في مقام
العمل، بل تحقق موضوع المسألتين، لكنها بالقول الأول مما يترتب عليها هذا
الأثر لاثباتها صحة العمل الرافع للتردد. ويكفي هذا في أصولية المسألة، إذ لا
يعتبر انها تكون مما يترتب عليها الأثر الأصولي بجميع محتملاتها، بل يكفي فيها
ان يترتب عليها الأثر الأصولي ولو بلحاظ بعض محتملاتها.
ومن هنا يظهر عدم الموجب للالتزام بخروجها من مسائل الأصول
وكونها من المبادي التصديقية للمسألة الأصولية - كما عليه المحقق النائيني (1) -
، فإنه اغماض عن وجود المذهب الأول في المسألة الموجب لكونها من الأصول.
فتدبر.
إلى هنا يتحصل لدينا ان المسألة الأصولية هي المسألة النظرية التي
يتوصل بها إلى رفع التحير في مقام العمل بلا واسطة نظرية، سواء كان جريانها
في الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية.
ومنه يتضح الفرق بينه وبين الضابط المذكور في الكفاية (2)، فإنه يخصص
المسألة الأصولية بما يجري في الشبهات الحكمية، كما هو مقتضى قيد كون
الانتهاء في مقام العمل بعد الفحص والياس عن الظفر بالدليل، إذ جريان
الأصول في الشبهات الموضوعية لا يشترط فيه الفحص واليأس عن الدليل،
فمقتضى القيد اخراج الأصول والامارات في الشبهات الموضوعية عن مسائل
علم الأصول. وهذه هي الجهة الفارقة بين ما ذكرناه من الضابط وما ذكره
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 333 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 9 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
36

صاحب الكفاية، والا فقد عرفت أن نظر صاحب الكفاية في ما ذكره من المائز
يمكن أن يكون إلى ما ذكرناه، من كون الغاية من المسألة الأصولية هو رفع
التردد في مقام العمل.
كما أن ما ذكرناه من الضابط أجمع لمسائل الأصول مما افاده المحقق
الأصفهاني (قدس سره) في بيان الضابط، من انه هو القواعد الممهدة لتحصيل
الحجة على الحكم الشرعي (1). إذ قد عرفت أنه لا يشمل مسألة أصل الإباحة
بناء على كون المجعول فيها الحلية الظاهرية بلا نظر إلى الواقع لا المعذرية ولا
الحكم المماثل لعدم تحصيل الحجة على الواقع بها، ومسألة الظن الانسدادي على
الحكومة بالمعنى الذي عرفته للحكومة، لأنها لا تنتهي بنا إلى تحصيل الحجة على
الحكم الشرعي كما تقدم تقريبه وقد عرفت دخولها في مسائل علم الأصول على
الضابط الذي ذكرناه لارتفاع التحير بها في مقام العمل.
وقد جعل المحقق النائيني (قدس سره) ضابط المسألة الأصولية، ما يقع
كبرى في قياس الاستنباط للحكم، وأضاف إلى ذلك قيدين:
الأول: أن تكون النتيجة حكما كليا.
الثاني: أن لا تصلح هذه المسألة لالقائها إلى العامي (2).
والسر في إضافة هذين القيدين، هو أنه مع الاقتصار في الضابط على ما
يقع كبرى استنباط الحكم أعم من أن يكون كليا أو جزئيا يلزم دخول أكثر
المسائل الفقهية، كوجوب الصلاة ونحوها، فإنه يستنتج منها احكاما جزئية في
الموارد الجزئية الخاصة، ولكنها بقيد كون المستنبط حكما كليا لا تندرج في الضابط، وبذلك تكون أجنبية عن علم الأصول.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 12 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 3 - الطبعة الأولى.
37

الا انه لما كان هذا القيد بخصوصه لا يجدي في خروج جميع مسائل الفقه
عن علم الأصول، لوجود بعض المسائل الفقهية التي تكون نتيجتها حكما كليا،
كقاعدة (نفي الضمان بالعقد الفاسد الذي لا ضمان بصحيحه) وشبهها كما
عرفت تقريبه، احتاج في اخراج مثل هذه المسائل إلى إضافة القيد الاخر - أعني:
ما لا يصلح إلقائها إلى العامي -، إذ المسائل الأصولية، إذ معرفة العامي
حجية الخبر أو الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته لا تفيده شيئا، فلا
تصلح لالقائها إليه، بخلاف معرفته لنفي الضمان في الفاسد الذي لا ضمان
بصحيحه.
ولكنه يشكل بوجود بعض المسائل الفقهية لا تصلح لالقائها إلى
العامي، وهي بهذا الضابط لا بد ان تكون من المسائل الأصولية.
وذلك كمسألة بطلان الشرط المخالف للكتاب والسنة، فان العامي
بمعرفة هذه المسألة لا يستطيع ان يتوصل بها في الموارد الجزئية أو الكلية التي
تنطبق عليها ولو بعد بيان المراد بالمخالفة وانها المخالفة للنص أو الظاهر.
وكمسألة التسامح في أدلة السنن، فان لها عنوانين بأحدهما تدخل في علم
الأصول، وبالاخر تندرج في مسائل الفقه.
اما العنوان الذي به تدخل في علم الأصول، فهو عنوان التسامح في أدلة
السنن، لان مرجع هذا البحث إلى البحث عن دلالة اخبار (من بلغه...) على
كون موضوع الحجية في اخبار السنن أوسع من غيرها، فيشمل الضعيف وغيره.
وعدم دلالتها، فيكون موضوع الحجية فيها كغيرها فيقتصر فيه على الصحيح
والموثق. ومن الظاهر أن البحث عن حجية الخبر الضعيف ونحوه في مقام وعدم
حجيته أصولي لارتباطه بمقام الحيرة والتردد.
اما العنوان الذي به تدخل في علم الفقه، فهو عنوان استحباب العمل
38

الذي قام على استحبابه أو وجوبه خبر لا يعتمد عليه عملا، إذ مرجع البحث
إلى أن هذه الأخبار تدل على استحباب هذا العمل أو لا تدل، ومثل هذا
البحث بحث فقهي، لأنه يدور حول الحكم الشرعي ونتيجته ذلك - أعني: الحكم
الشرعي - إثباتا أو نفيا.
ولا يخفى ان المسألة لو كانت بالنحو الثاني المبحوث عنه في الفقه، لا
تكون مما يصلح القاؤه إلى العامي، إذ لا يستطيع العامي ان يستفيد بذلك شيئا
كيف؟ وهو يتوقف على معرفة الخبر الضعيف من غيره المتوقف ذلك على
الاطلاع في أحوال رجال الحديث وشؤونهم.
وإذا عرفت ما في تعريفات المحققين من قصور، وانها ما بين غير جامع
لمسائل الأصول، وغير مانع عن غيرها من مسائل الفقه، يتضح لك ان الأوجه
تعريفه بما ذكرناه وتحديد الضابط بما قررناه. فقد عرفت جمعه ومنعه، فليكن على
ذكر منك والتفات.
* * *.
39

الوضع
41

.
42

الوضع
والكلام فيه يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في حقيقة الوضع. وقد اختلف فيها المحققون، فقيل: انه
أمر واقعي تكويني (1). وقيل إنه أمر وسط بين التكويني والجعلي وبرزخ
بينهما (2). وقيل: انه أمر جعلي ويتفرع أقوال أربعة:
الأول: انه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى واعتباره بينهما (3).
الثاني: انه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى (4).
الثالث: انه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى.
الرابع: انه عبارة عن التعهد، والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
المعنى الخاص (5).
فالأقوال على هذا ستة.
.

(1) وهو مذهب عباد بن سليمان الصميري وأصحاب التكسير على ما في قوانين الأصول 1 / 194 -
الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 10 - الطبعة الأولى.
(3) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 29 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 14 - الطبعة الأولى.
(5) وهو الملا علي النهاوندي في كتابه تشريح الأصول كما في محاضرات في أصول الفقه 1 / 48.
43

والذي يمكن ثبوتا من هذه الانحاء المتعددة هو القول الأخير والثالث،
أعني: (كونه عبارة عن اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى، وكونه عبارة عن
التعهد والالتزام) ومقام الاثبات دائر بينهما.
أما الانحاء الأخرى فلا يتصور لها معنى معقول يمكن فرضه اثباتا.
ولا بد في وضوح ذلك من معرفة حقيقة كل نحو والمراد منه وبيان جهة
المناقشة فيه.
أما القول الأول: أعني القول بأنه أمر حقيقي تكويني واقعي، فلا بد في
معرفة أنحائه والمناقشة فيها، من بيان المراد من الامر الحقيقي والامر الجعلي،
فنقول: المراد بالحقيقي التكويني، ما كان له نحو ثبوت في نفس الامر والواقع
بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل ويقابله
الامر الجعلي، فان ثبوته بجعل الجاعل من دون أن يكون له تقرر في نفس
الامر.
ويترتب على هذا ان اختلاف الانظار في ثبوت الامر الحقيقي لا يوجب
تغيرا في ثبوته ولا يستلزم التبدل فيه، بل هو على ما هو عليه من التقرر والثبوت،
والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كل من المختلفين للاخر في نظره وعلمه
بثبوته أو عدم ثبوته، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه، بل يكون كما كان بلا تغير
ولا تبدل، بخلاف اختلافه في الامر الجعلي، فإنه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره،
فيوجب تبديلا فيه ويكون ثابتا بالنسبة إلى بعض وغير ثابت بالنسبة إلى
آخرين ولا يرجع إلى التخطئة في النظر، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته
بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر. نظير ما لو اعتبر قوم شخصا رئيسا لهم ولم يعتبره
آخرون واعتبروا غيره رئيسا، فان اختلاف النظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة
كل الاخر في دعواه، إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار، وانما يرجع إلى الاختلاف
في الاعتبار والجعل وذلك يستلزم أن يكون الرئيس لكل غيره للاخر لعدم
44

اعتباره رئيسا عليهم.
فاللازم الظاهر الذي يختلف فيه الامر الحقيقي التكويني مع الامر الجعلي
الاعتباري، هو ان اختلاف النظر في الامر الحقيقي لا يوجب تغيرا فيه، بل هو
على واقعه واختلافه في الامر الجعلي يوجب تبدله وتغيره.
وبعبارة جامعة: ان الأمور الاعتبارية تختلف باختلاف الانظار دون
الأمور الواقعية الحقيقية، فإنها لا تختلف باختلاف الانظار، وان اختلفت فيها
الانظار.
ثم إن الأمور الحقيقية على نحوين:
الأول: ما يكون لها وجود في الخارج، ويعبر عنه بما يكون الخارج ظرفا
لوجوده، وهي المقولات العشر الجوهر والاعراض التسعة.
الثاني: ما لا وجود له منحازا ولا ما بإزاء، ويعبر عنه بما يكون الخارج
ظرفا لنفسه كالملازمات العقلية، فان الملازمة بين شيئين من الأمور الحقيقية التي
لها تقرر في نفس الامر ولا ترتبط بجعل جاعل، الا انه لا وجود لها في الخارج
ينحاز عن وجود المتلازمين.
إذا عرفت هذا فنقول: ان المراد من كون الوضع والارتباط الخاص بين
اللفظ والمعنى من الأمور الحقيقية.
ان كان انه من النحو الأول الذي له وجود في الخارج، فهو ممتنع. إذ قد
عرفت أن ما يكون بهذا النحو لا يخرج عن المقولات العشر وليس الارتباط
من أحدها، أما عدم كونه من الجواهر فبديهي، إذ لا وجود لشئ بين اللفظ
والمعنى من قبيل الجسم ونحوه من الجواهر كي يعبر عنه بالارتباط.
وأما عدم كونه من المقولات العرضية، فلان وجود المقولات يتقوم
بالموجودات، بمعنى انه لا وجود لها الا في ضمن الموجود، والمفروض ان الارتباط
المدعى كونه من الأمور الحقيقية انما هو بين طبيعي اللفظ والمعنى، لا بين اللفظ
45

والمعنى، لان استعمال اللفظ متأخر عن الوضع وثبوت الارتباط بينه وبين
المعنى، ووجود اللفظ انما يكون بالاستعمال، فالارتباط المدعى حاصل قبل وجود
اللفظ، لأنه ثابت قبل الاستعمال ولو لم يحصل الاستعمال بعد، وهذا يعني انه ليس
من سنخ الاعراض، وإلا لكان ثبوته متوقفا على وجود اللفظ - والى هذا
الاشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) -.
وان كان انه من النحو الثاني الذي لا وجود له، بل ليس له الا التقرر
في نفس الامر والواقع، فان ادعى انه من الأمور الواقعية التي لا دخل لجعل
للجاعل في ثبوتها أصلا، كالملازمات لثبوتها في نفسها، سواء اعتبرها المعتبر أو لم
يعتبرها، وبذلك تكون من الموجودات الأزلية. إذا ادعى ذلك فهو واضح
البطلان، لوضوح وقوع النقل في الألفاظ الموضوعة لبعض المعاني الموجب
لتحديد العلقة الوضعية والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى وتبديل أحد طرفيه
وهو المعنى، وهذا ينافي واقعية الارتباط وذاتيته بنحو لا تمسه يد الجاعل ولا تصل
إليه. ألا ترى ان الملازمة بين وجود الزوجية ووجود الأربع خارجا من الأمور
التي لا تتغير ولا تتبدل، بل هي متقررة ولو لم يعتبرها معتبر، وهكذا الملازمة بين
تعدد الآلهة ووجود الفساد، فإنها ثابتة من دون أن تتغير بالاعتبار، بل من دون
أن يكون للاعتبار دخل في ثبوتها؟ وان ادعى انها من الأمور الواقعية المنتهية
إلى الجاعل، بمعنى ان ثبوتها الحقيقي كان بسبب الجعل لا بحسب ذاتها، فهو
معنى معقول ولا يرد عليه النقض السابق، لفرض كون ثبوته الواقعي بالجعل،
فمع إلغائه وجعل نحو آخر من الارتباط تتبدل العلقة لا محالة. الا ان هذه
الدعوى لا شاهد عليها ولا برهان، فالقائل بها مجازف.
وقد نسبت هذه الدعوى - في تقريرات بحث السيد الخوئي (2) - إلى
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 12 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 41 - الطبعة الأولى
46

المحقق العراقي (قدس سره) وأورد عليه بما ستعرفه.
إلا أن الانصاف يقضي بان نظر المحقق العراقي يمكن أن يكون إلى
جهة أخرى، وهي ان الوضع أمر اعتباري الا انه يختلف عن الأمور الاعتبارية
الأخرى، بان ما يتعلق به الاعتبار يتحقق له واقع ويتقرر له ثبوت واقعي كسائر
الأمور الواقعية. فهو يختلف عن الأمور الواقعية، من جهة انه عبارة عن جعل
العلقة واعتبارها. ويختلف عن الأمور الاعتبارية، بان ما يتعلق به الاعتبار لا
ينحصر وجوده بعالم الاعتبار، بل يثبت له واقع في الخارج.
توضيح ذلك: ان الملازمة بين الماهيتين والطبيعتين كالملازمة بين طبيعتي
النار والحرارة، كما يكون بلحاظ اشتمال كل من الماهيتين في وجودها الخارجي
على خصوصية توجب عدم انفكاك وجود إحداهما خارجا عن وجود الأخرى
بين النار والحرارة في الوجود الخارجي، كذلك تحصل بالملازمة بين الوجود الذهني
لإحداهما ووجوده للأخرى وعدم الانفكاك بينهما في عالم الذهن، كما إذا كان
تصور إحداهما لا ينفك عن تصور الأخرى كما يقال في العمى والبصر فان
تصور العمى لا ينفك عن تصور البصر.
فكما ينتزع عن عدم الانفكاك بين الوجودين الخارجيين والملازمة بينهما
الملازمة بين نفس الماهيتين الموجودتين، كذلك ينتزع ذلك عن عدم الانفكاك بين
الوجودين الذهنيين. وهذه الملازمة لها تقرر في نفس الامر وثبوت واقعي لا تصل
إليه يد التغيير والتبديل.
وعليه، فالمدعى ان الجاعل اعتبر مفهوم الملازمة والعلقة بين اللفظ
والمعنى - كما هو شأن كل جعل، فإنه يتعلق بالمفاهيم -، وقد نشأ من اعتبار هذه
الملازمة ملازمة حقيقية واقعية بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى، بلحاظ ان ذلك
الاعتبار أوجب عدم انفكاك العلم بالمعنى وتصوره عن العلم باللفظ وتصوره، وتلازم الانتقال إلى المعنى مع الانتقال إلى اللفظ وهذا، يعني حدوث ملازمة واقعية
47

بين اللفظ والمعنى.
ولم تبق الملازمة رهينة وحبيسة في عالم الاعتبار، إذ نشأ منها واقع له ثبوت
حقيقي. فاختلف الوضع بهذا عن غيره من الأمور الاعتبارية، إذ المعتبر فيها لا
يخرج عن عالم الاعتبار والجعل.
ثم إن هذا قد يكون مورد التساؤل، فإنه لو كان الناشئ من اعتبار
الملازمة ملازمة حقيقية ذاتية مرجعها إلى عدم انفكاك تصور اللفظ عن تصور
المعنى، لزم أن لا يختص في فهم معاني الألفاظ اهل اللغة الموضوع فيها تلك
الألفاظ ومن يعلم الوضع، إذ الاختصاص خلف فرض الملازمة، ولا اشكال في
وقوعه، بداهة عدم علم كل انسان بلغات العالم بأجمعها.
لذلك نبه عليه في كلامه، والتزم بتخصيص المجعول وتقييده بمورد العلم
بالجعل، بمعنى: ان الجاعل يجعل الملازمة بين اللفظ والمعنى في صولة العلم بهذا
الجعل، بنحو يكون العلم قيد المجعول لا قيد الجعل، كي يقال: بان اخذ العلم
بالشئ في موضوع نفسه محال. وذلك - أعني اخذ العلم بالجعل قيدا للمجعول -
أمر ممكن لا محذور فيه، كما يقرر في بحث التعبدي والتوصلي.
وعليه، فاختصاص تحقق الملازمة المزبورة بمن يعلم بالوضع والجعل، انما
هو لتقييد المجعول به وقد عرفت أنه منشأ الملازمة الواقعية، فتقييده يستلزم
تقييدها.
فدعوى المحقق العراقي تتلخص في ضمن أمور:
الأول: أن الوضع عبارة عن أمر اعتباري، وهو جعل الملازمة بين اللفظ
والمعنى.
الثاني: انه ينشأ من هذه الملازمة الاعتبارية ملازمة حقيقية، وبذلك
يختلف الوضع عن غيره من الاعتباريات.
الثالث: ان المجعول مقيد بصورة العلم بالجعل.
48

وظاهر ان هذه الدعوى لا محذور فيها ثبوتا ولا اثباتا، فتتعين لو كان
غيرها ممتنعا، وسيتضح الحال شيئا فشيئا فانتظر.
ومن هذا البيان يظهر الاشكال في كلام السيد الخوئي من جهات:
الأولى: نسبته القول بان الوضع أمر واقعي حصل بالجعل إلى المحقق
العراقي، مع أنه غير ظاهر من كلامه، بل الظاهر خلافه، وحدوث الملازمة
الواقعية لا يستلزم واقعية الوضع، إذ المجعول رأسا ليس هو هذه الملازمة، بل
مفهومها.
الثانية: الترديد في الايراد عليه، بين أن يكون اختياره حدوث الملازمة
مطلقا بلا تقييد بالعلم بالجعل، وأن يكون اختياره حدوثها في صورة العلم إذ لا
وجه لهذا الترديد بعد أن عرفت أن المحقق المزبور قد تنبه للاشكال وقيد حدوث
الملازمة بصورة العلم، فلا اجمال في كلامه من هذه الجهة كي يكون مجال الترديد.
الثالثة: الاشكال عليه بعد فرض اختياره الشق الثاني من شقي الترديد
أعني اختصاص حدوث الملازمة بصورة العلم بالوضع، بان الامر وان كان كذلك
الا انها ليست بحقيقة الوضع، بل هي متفرعة عليها ومتأخرة عنها رتبة، ومحل
كلامنا هنا في تعيين حقيقته التي ترتبت عليها الملازمة.
فان هذا الاشكال مندفع بما عرفت، من عدم ادعاء المحقق المزبور كون
هذه الملازمة هي حقيقة الوضع، بل ما ذكره - كما أوضحناه - ظاهر في أنها نتيجة
الوضع وأثره فلاحظ وتدبر.
واما القول الثاني - أعني: القول بان الوضع برزخ بين الواقعي والجعلي
-، فهو الذي ذهب إليه المحقق النائيني كما في تقريرات بحثه (1).
وتقريب ما ذكره: انه لما لم يكن واضع الألفاظ لهذه المعاني من البشر
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 10 - الطبعة الأولى
49

لجهتين: إحداهما: - وهي ترتبط بمقام الثبوت - هو ان الألفاظ المتداولة
الموضوعة لمعانيها بحد من الكثرة يمتنع عادة ان يوجد من البشر من يستطيع
لحاظها جميعا بمعانيها ووضعها لها، مع أن الوضع يتوقف على لحاظ كل من اللفظ
والمعنى. والأخرى: - وهي ترتبط بمقام الاثبات - هي ان عملية الوضع المذكورة
لو سلم امكانها من الأمور المهمة، والحوادث الجليلة التي تستدعي انتباه الناس
وتداول ذكرها من ألسنتهم ومعرفة من قام بها، فلو كان لها اثر في الخارج لسجلت
في أمهات الكتب كما تسجل الحوادث التي هي أقل منها شأنا ولتناقلتها الألسن
في مختلف الدهور، مع أن الامر ليس كذلك، إذ لم يجئ في خبر ان شخصا قام
بهذا العمل الجبار، وهو يكشف عن عدم وقوعه من أحد.
وعليه، فينحصر أن يكون الواضع هو الله جل وعلا، ويكون الوضع من
مجعولاته واعتباراته جل شأنه. إلا أنه جرت العادة أن يكون ايصال المجعولات
الشرعية إلى البشر بواسطة الرسل والأنبياء، وحيث إنه لم يثبت ان رسولا ما
أخبر عن الله تعالى بوضع لفظ خاص لمعنى خاص كان ادراك هذه الحقيقة
الثابتة بالالهام لا بالتبليغ، فالوضع ليس بالأمر التكويني الواقعي، لأنه من
اعتبارات الله عز وجل ومجعولاته وليس مما يحتاج إلى جعل، كما أنه ليس كسائر
الأمور الاعتبارية، لان ايصالها بواسطة الرسل، مع أنه ايصاله بالالهام، فهو بهذا
اللحاظ برزخ بين الامر الحقيقي والجعلي.
وظاهر ان الايراد على الوسطية المزبورة، بأنه لا يتصور وجود أمر وسط
بين الواقعي والجعلي، لان الامر إما أن يكون له ثبوت وتقرر في نفس الامر
والواقع، بحيث لا تصل إليه يد الجعل ولا يختلف باختلاف الانظار، فهو واقعي،
أو لا يكون كذلك، بل كان أمرا دائرا مدار الجعل ويختلف باختلاف الانظار، فهو
اعتباري جعلي ولا وسط بينهما، إذ لا ثالث بين النفي والاثبات.
غير وجيه: فان المحقق المزبور لم يدع ان حقيقة الوضع حقيقة ثالثة
50

ليست بواقعية ولا جعلية وان الوضع وسط بين الواقعي والجعلي في حقيقته، إذ
التزم بأنه امر اعتباري بيد الشارع. وانما الدعوى كونه وسطا بلحاظ عدم ترتب
الآثار العادية المترتبة على الاعتباريات الشرعية عليه فهو وسط من حيث
اللوازم والآثار لا من حيث الحقيقة كما توهم.
الا ان الذي يرد عليه (قدس سره) في جهات كلامه الأخرى ظاهر،
وبيانه:
أما ما ذكره من المانع الثبوتي لكون الواضع من البشر، فلانه انما يتم لو
التزم بان وضع الألفاظ لابد وأن يكون دفعة واحدة، وهو غير مسلم إذ الوضع
انما يحتاج إليه لحصول التفهيم والتفاهم بين الافراد في أمورهم الاجتماعية،
والحاجة إلى الألفاظ الموضوعة تختلف سعة وضيقا باختلاف المحيط والمجتمع كما
انها تزداد بمرور الزمن وكثرة المواد المألوفة المتداولة في ما بين الافراد.
وعليه، فوضع هذه الألفاظ للمعاني لم يكن بنحو دفعي، بل بنحو تدريجي
حسب ما يتطلبه كل زمن من سعة ما يتفاهم به، كما أنه لم يكن شخصيا، بل كان
عاما. فوضع أولا قسم من الألفاظ لقسم من المعاني، ثم حصلت الحاجة لوقوع
التفاهم ببعض المعاني الأخرى فوضع لها بعض الألفاظ وهكذا كما أن هذا
المجتمع يضع هذه الألفاظ لهذه المعاني وغيره يضع غيرها لمعاني أخرى لاختلاف
حاجتهم وتنوعها.
وظاهر ان المحذور المذكور لا يتأتى في مثل هذا النحو.
ومن هنا يتضح الاشكال في الوجه الاثباتي، فإنه مجد في فرض دعوى
وحدة الواضع وانفراده دون فرض دعوى عدم تعينه بشخص دون آخر ولا
مجتمع دون غيره ولا زمان دون زمان، إذ مثل هذا العمل لم تجر العادة بتسجيله
والتنبيه عليه من الوضع التاريخ. بل لعله يكون مستهجنا في عرفهم.
واما ما ذكره من كون الوضع من الله، وان ايصاله يكون بالالهام - بعد
51

تسليم كونه ممتنعا في حق البشر -، فلان الهام المتكلم الأول تحقق الوضع وان
معنى هذا اللفظ هو هذا المعنى لا يجدي بمجرده في حصول التفاهم ما لم يعلم
المخاطب بذلك، فيدور الامر بين أحد ثلاثة: اما ان يلهم المخاطب أيضا بذلك
بلا ان يحتاج تفهيمه إلى تنبيه. أو يلهم المستعمل عملية الوضع فيضع. أو يلهم
المستعمل فيخبر بتحقق الوضع.
والأول: باطل، إذ من البديهي ان المخاطب لا يتمكن من فهم معنى
اللفظ بلا تنبيه سابق.
والثاني: خلف فرض كون الواضع هو الله تبارك وتعالى.
والثالث: ممنوع التحقق، إذ لم يعهد من المستعمل الأول الاخبار بالوضع
منه تعالى.
وهذا مضافا إلى أن ما ذكره خلاف الضرورة في مثل وضع الاعلام، إذ
من البديهي ان وضعها من قبل البشر، وانه لا يعبر عن الذات بأي لفظ قبل
وضع شخص لفظا لها.
ثم إنه (قدس سره) بعد أن قرر كون الواضع هو الله تعالى، أفاد بان
قضية الحكمة البالغة كون وضع اللفظ الخاص للمعنى الخاص، انما هو لمناسبة
ذاتية بينهما، وغاية ما يقرب به ذلك: بأنه مع عدم المناسبة لم يكن وجه لوضع
خصوص هذا اللفظ دون غيره فوضعه ترجيح بلا مرجح وهو محال.
وأورد عليه: بان المحال هو الترجح بدون المرجح كوجود المعلول بدون
العلة، لا الترجيح بدون المرجح لامكان تساوي الافراد في تحصيل غرض واحد
مطلوب، كتساوي الرغيفين من الخبز في الاشباع، فيؤتى بأحدها تخييرا لحكم
العقل بالتخيير حينئذ والا لزم فوات هذا الغرض، إذ مقتضى محالية الترجيح
بلا مرجح فواته مع تساوي الدخيل فيه من جميع الجهات، بل عدم امكان الاتيان
بواحد مما له دخل فيه - كما هو مقتضى المحالية -، مع أنه خلاف الوجدان
52

والعقل لامكان الاتيان بأحدهما بداهة، كما أنه لا وجه لتفويت الغرض المطلوب.
وثبوت هذا الايراد وعدمه موكول إلى محله من محالية الترجيح بلا مرجح
وعدمها.
فالايراد الجزمي عليه (قدس سره) فيما افاده هو: ان مقتضى محالية
الترجيح بلا مرجح لزوم جهة ما في المرجح تصلح للترجيح، سواء كانت ذاتية
فيه أو غير ذاتية، فلا وجه للحكم بوجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى، مع أنه
يمكن أن يكون الترجيح ووضع خصوص هذا اللفظ لجهة خارجة عن واقع
اللفظ والمعنى ترتبط بعالم المصالح والمفاسد الخارجية فلاحظ. والنتيجة الحاصلة
مما ذكرناه: انه لا يعلم لما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) وجه محصل فتدبر.
وبذلك يعلم ان الوضع ليس من الأمور الحقيقية الواقعية، ولا وسطا بين
الحقيقي والاعتباري بالمعنى الذي قرره المحقق النائيني، بل من الأمور
الاعتبارية المحضة التي تختلف باختلاف الاعتبارات والانظار. فيدور الامر بين
الاحتمالات الأربعة المزبورة، وقد عرفت تقريب كلام المحقق العراقي بما يمكن
ارجاعه إلى الأول وسيأتي تحقيقه، فيقع الكلام في الاحتمال الثاني، وهو كون
الوضع جعل اللفظ على المعنى، وقد التزم به المحقق الأصفهاني (1).
وقد مهد لكلامه تمهيدا، وهو وإن لم يرتبط بالنتيجة التي ذكرها الا اننا
نذكره لما يترتب عليه من اثر فيما بعد، وذلك في مبحث الانشاء، حيث قيل إن
معنى الانشاء تسبيب إلى جعل الشارع واعتباره، ومقتضى هذا عدم كون الوضع
من المعاني الانشائية، لأنه اعتبار مباشري كما تلاحظ.
وهو: ان الأمور الاعتبارية ما لا واقع لها ولا ثبوت الا في عالم الاعتبار،
بحيث لا يخرج المعنى المعتبر عن مفهوميته وطبيعته، ولا يوجد في الخارج وانما
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 14 - الطبعة الأولى
53

ينسب الوجود له باعتبار صيرورته طرفا لاعتبار المعتبر.
وهذه الأمور الاعتبارية تارة تكون من الأمور التسبيبية، بمعنى ان
المنشئ والمعتبر لا يقصد حصول الامر الاعتباري بمجرد اعتباره، بل يقصد
التسبيب بهذا الانشاء إلى الاعتبار العقلائي أو الشرعي أو غيرهما. وذلك
كالملكية ونحوها من الاعتبارات الشرعية، فان الملكية توجد في عالم الاعتبار من
الشارع مباشرة، بمعنى ان من يتولى الاعتبار هو نفسه ومن المتعاقدين
بالتسبيب. وأخرى تكون من الأمور المباشرية، بمعنى ان المعنى المعتبر يحصل
بنفس اعتبار الفرد لا باعتبار العقلاء أو الشارع وكان الفرد بانشائه سببا لذلك.
ومن النحو الثاني الاختصاص الوضعي، فإنه لا يحتاج في وجوده الا إلى
اعتبار الواضع والاعتبار، كما هو واضح قائم في نفس المعتبر بالمباشرة لا
بالتسبيب، وان توقف اثره في بعض الأوضاع على امضاء العقلاء أو مشاركتهم
له فيه، لكنه لا بنحو يكون وضعه تسبيبا لاعتبارهم، بل يكون حاصلا بوضعه
واعتباره مباشرة ولا يتوقف تحقق الاختصاص في عالم الاعتبار على الاعتبار
العقلائي، بحيث يكون اعتبار الفرد تسبيبا له كتسبيب المتعاقدين لاعتبار
الملكية.
وبعد هذا أفاد: (بأنه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه
بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال، كالعلم المنصوب
على رأس الفرسخ، فإنه أيضا ينتقل من النظر إليه إلى أن هذا الموضع رأس
الفرسخ، غاية الامر ان الوضع فيه حقيقي وفي اللفظ اعتباري، بمعنى كون
العلم موضوعا على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر، بخلاف اللفظ
فإنه كأنه وضع على المعنى ليكون علامة عليه، فشأن الواضع اعتبار وضع لفظ
خاص على معنى خاص) (1).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 14 - الطبعة الأولى
54

والنكتة التي تظهر لنا من عبارته الواضحة هي: انه مع اتحاد سنخ دلالة
اللفظ على المعنى مع سنخ دلالة سائر الدوال على مدلولاتها، فلا مفرق حقيقي
بينهما الا ان الجعل والوضع في سائر الدوال حقيقي واقعي دونه في اللفظ، فإنه
جعلي واعتباري، فالفرق لا بد وان ينحصر بين هذين في هذه الجهة فقط.
وقد أورد عليه السيد الخوئي بوجهين: أحدهما: أن هذا المعنى من المعاني الدقيقة للوضع التي لا يلتفت إليها
العرف في أوضاعهم، فلا يتناسب مع كون الوضع من الأمور العرفية التي يتولاها
افراد العرف.
ثانيهما: أن ما ذكره يقتضي أن يكون التعبير عن المعنى بالموضوع عليه
لا بالموضوع له، مع أن المتداول التعبير بالثاني دون الأول، بل ادعاء عدم صحة
الأول غير مجازفة (1).
ولا يخفى ان كلا الوجهين غير واردين:
أما الأول: فلانه ينقض بكثير من الأمور العرفية التي قام الخلاف فيها
على قدم وساق كالخبر والانشاء، فان استعمال العرف للجمل الخبرية والانشائية
مما لا يخفى، مع أن الخلاف في معنى الانشاء والخبر مما لا ينكر، وهكذا الكلام في
معاني الحروف، فان استعمال العرف للحروف أكثر من أن يحصى، مع وقوع
الخلاف في معنى الحرف ودورانه في كلام القوم بين المعاني الدقيقة التي قد لا يصل
إلى مداها الاعلام فضلا عن افراد العرف، فهذا دليل على أن كون المعنى من
الأمور الدقيقة لا يتنافى مع كونه عرفيا. بل التعهد الذي التزم به من أدق ما
ذكر للوضع من معان كما ستعرف، للاختلاف في تحديده والتعبير عنه. والسر في
ذلك الذي يكون حلا للجميع: هو ان لهذه الأمور معان عرفية ارتكازية،
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 43 - الطبعة الأولى
55

والخلاف والنزاع انما هو في تفسير ذلك المعنى والكشف عنه وتحديده بنحو جامع
مانع، والدقة في هذا المقام لا في نفس المعنى كي يدعى عدم ادراك العرف
ووصوله إليه.
وأما الثاني: فلان ما أفاده المحقق المزبور لا ينافي صحة التعبير عن المعنى
بالموضوع له، باعتبار ان اللفظ انما وضع على المعنى للدلالة على المعنى
والانتقال إليه عند ذكر اللفظ، فالمقصود من كون المعنى موضوعا له انه قد وضع
اللفظ للدلالة عليه فاللام بمعنى الغاية. فالمعنى بهذا البيان موضوع عليه
وموضوع له، والتعبير عنه عادة بالموضوع له، انما هو لاجل كون الغرض من
الوضع هو إفادة المعنى والدلالة عليه باللفظ، ونفس الوضع ملحوظ طريقا إلى
هذه الجهة كما لا يخفى. ولكنه مع هذا يصح التعبير عنه بالموضوع عليه بلحاظ
جهة نفس الوضع ولا محذور فيه.
فالأولى ان يورد على المحقق الأصفهاني:
أولا: بان الموضوع عليه في سائر الدوال غير المنكشف، بخلافه في
اللفظ. فان العلم انما يوضع على نفس المكان ووجوده كذلك يكون كاشفا عن أن
هذا المكان رأس فرسخ. وبعبارة أخرى: ان المكان بوضع العلم عليه يتصف
بوصف وهو كونه موضوعا عليه العلم، وهو بهذا الوصف يكشف عن صفة أخرى
فيه كانت مجهولة وهو كونه رأس فرسخ، وليس الموضوع عليه المكان بوصف
كونه رأس فرسخ، لان هذا الوصف وصف عنواني لا مدخلية له في تحقق الوضع،
بل الوضع يتقوم بذات المكان، وهذا بخلاف اللفظ فان الموضوع عليه اعتبارا
نفس المعنى والمنكشف به هو نفس المعنى أيضا، وعليه فلا ينحصر الفرق بين
الألفاظ وسائر الدوال بما ذكره، بل هذا وجه فارق أيضا.
وثانيا: وهو العمدة، بان الوضع التكويني الواقعي لا يقتضي دلالة
الموضوع على الموضوع له بنفسه، والا للزم أن يكون كل علم دالا على رأس
56

فرسخ وهو بديهي المنع. وانما يتوقف أيضا عن سبق بناء وقرار على جعل العلم
على رأس فرسخ، فتحصل الدلالة بسبق هذا القرار والبناء.
وعليه، فالوضع الاعتباري الجعلي أولى بعدم انتهائه إلى دلالة اللفظ على
المعنى بنفسه وتوقفه على سبق القرار والبناء على دلالة اللفظ على المعنى عند
الوضع. وإذا انتهى الامر إلى اعتبار الدلالة وجعلها وعدم كفاية مجرد الوضع
تكوينا أو اعتبارا، فيقتصر عليه ولا احتياج إلى وضع اللفظ على المعنى اعتبارا.
وأما الاحتمال الثالث: فغاية تصويره، أن اللفظ يعتبر ويجعل وجودا آخر
للمعنى في قبال الوجود الحقيقي الواقعي له. وقد اختلف التعبير عن هذا المعنى،
فعبر عنه تارة باعتبار اللفظ نفس المعنى وأخرى بتنزيله منزلة المعنى وجعله
وجودا تنزيلا له.
وقد ذكر لهذا الوجه مؤيدات وشواهد لا يهمنا البحث عنها قبل معقولية
هذا المعنى وامكانه ثبوتا، فان البحث عن المؤيدات الاثباتية فرع الامكان
الثبوتي، فلا بد من وقوع البحث أولا عن معقوليته.
وقد التزم السيد الخوئي بمعقوليته في نفسه، ولكن أورد عليه بوجهين:
الأول: ما تقدم في مقام الايراد على المحقق الأصفهاني من انه معنى دقيق
لا تصل إليه أذهان افراد العرف، مع أن عملية الوضع يقوم بها الصغار فضلا عن
الكبار، بل قد يقوم بها بعض الحيوانات التي لا شعور عندها.
والثاني: ان الغرض المقصود من عملية الوضع هو تحقيق دلالة اللفظ على
المعنى لحصول التفهيم بها، والدلالة كما لا يخفى تقتضي إثنينية الدال والمدلول.
وعليه، فاعتبار الوحدة بين الدال والمدلول يكون لغوا وعبثا، لأنه بلا أثر.
إذ لا يترتب عليه أثر الوضع لأنه يقتضي التعدد (1).
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 41 - الطبعة الأولى
57

والمناقشة في الوجه الأول قد عرفتها فلا نعيد.
وأما الوجه الثاني: فالمناقشة فيه واضحة، بيان ذلك: ان اعتبار شئ شيئا
آخر يقتضي تحقق الانتقال إلى المعنى المعتبر في ذلك الشئ عند الانتقال إلى
ما اعتبر، سواء كان المعنى الاعتباري مما له وجود حقيقي كاعتبار شخص
جاهل عالما، أو لم يكن له وجود الا في عالم الاعتبار كاعتبار شخص رئيسا. فان
الانتقال إلى الشخص الجاهل المعتبر عالما ملازم للانتقال إلى العالم، وهكذا الانتقال إلى من اعتبر رئيسا ملازم للانتقال إلى الرئيس، فالتلازم بين الانتقال
إلى المعتبر والانتقال إلى ما اعتبر من الآثار التكوينية للاعتبار. ثم إن اعتبار
شئ شيئا آخر يكون غالبا بلحاظ ترتيب آثار المعتبر على ما اعتبر، كترتيب
آثار العالم على الجاهل وآثار الرئيس على زيد مثلا. وقد لا يكون بهذا اللحاظ،
بل بلحاظ ترتب الأثر التكويني على نفس الاعتبار، أعني الملازمة في الانتقال،
وهكذا الحال في اعتبار اللفظ نفس المعنى - على هذا القول -، فان اعتبار كون
اللفظ هو المعنى ليس بلحاظ ترتيب آثار المعنى على اللفظ، بل بلحاظ ترتب
الأثر التكويني للاعتبار، أعني التلازم بين الانتقال إلى اللفظ والانتقال إلى
المعنى، وظاهر ان هذا لا يتحقق إلا باعتبار الوحدة وان أحدهما عين الاخر،
فاعتبار الوحدة ليس بلا اثر كي يكون لغوا، بل له تمام الدخل في ترتب
الغرض، وهو حصول التفهيم والتفهم بحصول الانتقال إلى المعنى عند الانتقال
إلى اللفظ. كما أنه لا يتنافى مع اقتضاء الدلالة للتعدد، إذ الدال ههنا غير المدلول
ذاتا، فان الدال هو اللفظ والمدلول هو المعنى واعتبار الوحدة لا يضير في التعدد
الذاتي المعتبر في مقام الدلالة.
فالتحقيق ان يقال: ان التنزيل قد يطلق ويراد به ما هو أعم من
الاعتبار، وقد يطلق ويراد به معنى يقابل الاعتبار.
فالأول: بأن يؤخذ شئ، فيعتبر كونه شيئا آخر، فان الاعتبار - كما تحقق
58

- امر خفيف المؤونة لأنه لا يخرج عن الفرض غاية الامر ان الفرض قد لا
يكون له اثر عقلائي فيكون خيالا ويعبر عنه بالخيال. وقد يكون ذا أثر عقلائي
أو شرعي فيقال عنه الاعتبار، فاعتبار ان هذا الجاهل عالم لا مؤونة فيه، ويطلق
عليه بأنه تنزيل لوجوده منزلة وجود العالم فيترتب عليه آثار العالم المجعولة من
قبل المعتبر.
والثاني: أن يكون شئ بديل شئ آخر في ترتب آثاره عليه التكوينية
أو غيرها ويقوم مقامه في ذلك، وهذا أمر واقعي لا جعلي، الا انه تارة ينشأ من
أمر واقعي أيضا، كما إذا كان الأثر المترتب عليه والمترتب على غيره من الآثار
التكوينية، كترتب الحرارة على النار والشمس، فيقال ان النار بمنزلة الشمس
وتقوم مقامها - ولا يخفى ان مراعاة الأسبقية أو الأكملية في الأثر لا بد منها في
الحكم، بان المتأخر أو الضعيف بمنزلة الأسبق، والا كان كل منهما بمنزلة الاخر
-. وأخرى ينشأ من أمر جعلي، كما إذا كان ترتب الأثر المترتب على آخر
بواسطة جعل الشارع (الجاعل) أو غيره، فيعبر عنه بالتنزيل بهذا اللحاظ،
فنفس البدلية أمر واقعي وان كان منشؤها اعتبار ترتب الأثر على البدل فيكون
بدلا.
وبالجملة: التنزيل تارة يراد به الاعتبار. وأخرى يراد به ترتيب أثر
الغير عليه مع المحافظة على واقع الموضوع حتى في عالم الاعتبار. وهو بالمعنى
الأول اعتباري، وبالمعنى الثاني حقيقي واقعي، فان كون هذا ذاك بالاعتبار دون
كون هذا بمنزلة ذاك - أعني نفس عنوان المنزلية والبدلية -، فإنه أمر واقعي
انتزاعي.
وعليه، فهذا القائل اما ان يقصد اللفظ منزلة المعنى التنزيلي
بالمعنى الثاني، فهو غير معقول، لان تنزيل اللفظ منزلة المعنى يكون حينئذ
بمعنى ترتيب آثار المعنى على اللفظ، ومن الواضح انه لا أثر جعليا يترتب على
59

المعنى كي يكون قابلا لاعتبار ترتبه على اللفظ كي يحصل به غرض الوضع من
التفهيم والتفهم. وترتب انتقال المعنى على وجوده لا يمكن اعتبار ترتبه على
اللفظ، لأنه امر تكويني وترتبه على وجود المعنى تكويني لا جعلي، فهو غير قابل
للجعل ولا يتحقق واقعه - وهو المرغوب - بواسطة جعله. فلاحظ.
أو يقصد القائل بالتنزيل المعنى الأول، يعني: اعتبار اللفظ نفس المعنى،
فيكون للمعنى وجودان أحدهما واقعي والاخر اعتباري. فهو أيضا مما لا يمكن
الالتزام به وذلك لان من آثار اعتبار الشئ نفس آخر هو صحة اطلاق المعنى
المعتبر على ما اعتبر كما لو كان نفسه حقيقة وواقعا، بلا فرق من حيث صحة
الاطلاق وحقيقته، وكونه بلا مسامحة وتجوز، فيكون التجوز في نفس المعنى
وادعاء ثبوته لغيره، فإذا اعتبر زيد الجاهل عالما صح اطلاق العالم على زيد بلا
مسامحة ولا تجوز، بل التجوز في نفس الادعاء والاعتبار كما هو شأن كل حقيقة
ادعائية.
وعليه، فاعتبار اللفظ نفس المعنى يستلزم صحة اطلاق المعنى على اللفظ
وصحة حمله عليه بالحمل الأولي الذاتي ان كان الاعتبار بين الماهيتين، بان
اعتبرت طبيعة اللفظ نفس طبيعة المعنى، كما هو مقتضى الاتحاد في الماهية فيقال
للفظ الماء بما أنه لفظ جسم سيال خاص، ويحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي، أو
بالحمل الشائع الصناعي ان كان المعتبر نفس المعنى هو وجود اللفظ، كما هو
شأن الاتحاد في الوجود فيحمل واقع الماء - أعني الجسم السيال الخاص - على
لفظه بالحمل الشائع.
وظاهر ان الاطلاق والحمل المزبور باحدى صورتيه من بديهي البطلان،
وهذا يكشف عن عدم ملزومهما، وهو الاعتبار المدعى.
والمتحصل: ان هذا الوجه في تحديد حقيقة الوضع غير وجيه أيضا.
يبقى الكلام في الوجهين الآخرين، وهو كون الوضع عبارة عن اعتبار
60

الملازمة والارتباط بين اللفظ والمعنى، وكونه عبارة عن التعهد والبناء على تفهيم
المعنى باللفظ.
وقد كان الثابت لدينا في الدورة السابقة هو معقولية كلا الوجهين ثبوتا
واثباتا، وان ترجيح أحدهما لا بد فيه من مرجح.
الا ان الذي نراه فعلا بطلان القول بالتعهد.
وتوضيح ذلك: ان المراد من التعهد يتصور بأنحاء:
النحو الأول: ان يراد به التعهد، والبناء على ذكر اللفظ بمجرد تصور
المعنى والانتقال إليه.
فمتعلق التعهد هو ذكر اللفظ.
وهذا المعنى لا يمكن الالتزام به، إذ من البديهي الذي لا انكار فيه أن
الانسان إذا تصور بعض المعاني ولم يذكر اللفظ لم يعد مخالفا لتعهده وناقضا
لبنائه، إذ لا يرى الشخص ملزما بذكر اللفظ لم يعد مخالفا لتعهده وناقضا
لبنائه، إذ لا يرى الشخص ملزما بذكر ألفاظ بذكر ألفاظ جميع ما يتصوره من المعاني ولو
بلغت من الكثرة إلى حد كبير، كما لو قرأ الشخص كتابا طويلا في ليلة واحدة،
أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها.
النحو الثاني: ان يراد به التعهد والبناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
المعنى.
وهذا باطل لوجهين:
أحدهما: أن ذلك يستلزم أن يكون مدلول اللفظ هو نفس إرادة التفهيم
لا المعنى، وانما يكون المعنى من قيود المدلول لا نفسه، بمعنى ان المدلول هو
الحصة الخاصة من الإرادة، وهي الإرادة المتعلقة بهذا المعنى - نظير ما إذا تعهد
بالإشارة بالإصبع عند مجئ زيد، فان مدلول الإشارة يكون نفس المجئ لا
زيد، بل زيد يكون من قيود المدلول -.
وهذا - أعني كون المدلول والموضوع له هو الإرادة - ينافي دعوى وضع
اللفظ للمعنى، كما هو محور الكلام كما أنه مما لا يلتزم به القائل، فإنه يلتزم بان
61

اللفظ موضوع إلى المعنى، غاية الامر المعنى الذي تعلقت به الإرادة دون غيره،
فالموضوع له بالتزامه هو الحصة الخاصة من المعنى، وقد عرفت بان إرادة المعنى
المزبور من التعهد تستلزم كون المعنى من قيود الموضوع له لا نفسه، وان
الموضوع له هو الحصة الخاصة - وهو الإرادة المعلقة بالمعنى، لا الحصة الخاصة
من المعنى - وهي المعنى المتعلق للإرادة -.
وثانيا: أنه من المتقرر امتناع وضع اللفظ للموجودات الخارجية بما هي
كذلك، بل لا بد من تعلقه بالمفهوم، لان المقصود منه تحقق انتقال المعنى
الموضوع له بالانتقال إلى اللفظ، والمعنى القابل للانتقال هو المفهوم دون
الموجود، إذ لا يقبل الموجود وجودا آخر ذهنيا كان أو خارجيا، والانتقال عبارة
عن الوجود الذهني. وعليه فلا يمكن دعوى كون الموضوع له هو إرادة المتكلم
التفهيم، لأنها من الأمور الخارجية الواقعية لا من المفاهيم، فلا تقبل الوجود
الذهني وهو الانتقال. فلاحظ.
النحو الثالث: ان يراد به التعهد والبناء على تفهيم المعنى باللفظ عند
إرادة تفهيمه، فيكون متعلق التعهد هو نفس التفهيم لا ذكر اللفظ، فلا يرد عليه
ما ورد علي سابقه، إذ العلاقة مفروضة بين اللفظ ونفس المعنى لا بينه وبين إرادة
تفهيمه كما لا يخفى.
ولعله لاجل التقصي عن ما ورد على سابقه غير القائل - هو السيد
الخوئي (دام ظله) (1) - التعبير الأول السابق، وعبر بهذا التعبير أو بما يشاكله
كالتعهد بابراز المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه.
ولكنه بابراز المعنى باللفظ عند إرادة تفهيمه.
ولكنه مع هذا لا يسلم عن المحذور.
بيان ذلك: انه انما يصح في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ
.

(1) الفياض محمد إسحاق، محاضرات في أصول الفقه 1 / 45 - الطبعة الأولى
62

الخاص، بان كان هناك دال آخر عليه من لفظ أو غيره، فيكون لهذا التعهد معنى
معقول، كما يقع التعهد باستعمال خصوص هذه الآلة في الضرب دون غيرها. أما
مع انحصاره فيه بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الذي يحتمل
مفهميته بالتعهد، كان هذا التعهد غير معقول، وذلك لأنه يشترط في صحة
التعهد معقولية متعلقة في ظرفه بحيث يصح ان يتعلق به البناء والتعهد، ومع عدم
ذلك لا يصح التعهد، وما نحن فيه يرجع إلى هذا القبيل، لان المتعهد به اما ان
يرجع إلى ذكر اللفظ، وقد عرفت ما فيه. واما ان يرجع إلى مفهمية اللفظ وهي
غير اختيارية. واما ان يرجع إلى نفس التفهيم - مطلقا - وهو لا معنى له، إذ
لا معنى لان يقال: التعهد عند إرادة التفهيم بالتفهيم كما هو واضح، فينحصر ان
يراد التعهد بالتفهيم باللفظ الخاص.
ولا يخفى انه مع انحصار المفهم به لا مجال لهذا التعهد، فان المفهمية -
يعني مفهمية اللفظ - وان نشأت بواسطته، الا انه حيث كان المفهم منحصرا به
كان التعهد بالتفهيم به عند إرادة التفهيم بلا وجه ولا محصل، إذ لا مجال للتفهيم
بغيره تعهد أو لم يتعهد، فالتفهيم به قهري لا محيص عنه فلا معنى للتعهد به.
وبعبارة أخرى: يكون التعهد بذلك مما يلزم من وجوده عدمه، لأنه
بحدوثه كان اللفظ مفهما للمعنى، وتحصل العلاقة بينه وبين المعنى، ولما كان
المفهم منحصرا باللفظ كان التعهد بقاء لغوا، فيرتفع التعهد قبيل الاستعمال،
فيلزم من وجوده عدمه وهو محال.
هذا مضافا إلى ما يرد على هذا النحو من محذور الدور، وتقريبه: ان
التعهد يتوقف على مقدورية متعلقه وهو التفهيم، إذ مع عدم مقدورية التفهيم
يستحيل التعهد، والقدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير حاصلة قبل التعهد، إذ
المفروض ان قابلية اللفظ للدلالة على المعنى تكون بالوضع وهو التعهد على
هذا القول، فالقدرة على تفهيم المعنى باللفظ متوقفة على التعهد، وقد عرفت
63

انها مما يتوقف عليها التعهد فيلزم الدور.
وقد أجيب: بأنه يكفي في صحة التعهد القدرة على التفهيم في ظرف
الحاجة والعمل وهو ظرف الاستعمال، ولا يلزم حصولها في ظرف التعهد نفسه،
وهي حاصلة في ظرف الاستعمال، إذ العلاقة بين اللفظ والمعنى تحصل بالتعهد
قهرا ويكون اللفظ قابلا للدلالة على المعنى بواسطته فيحصل الشرط في ظرفه.
ولكن هذا الجواب انما يتم لو كان اخذ القدرة على التفهيم في ظرف
العمل شرطا لصحة التعهد من باب رفع اللغوية، إذ مع عدم القدرة يلغو التعهد.
واما لو كان الملاك ليس ذلك، بل شيئا يرجع إلى نفس التعهد، بمعنى
ان قوام التعهد بذلك، فتكون القدرة على التفهيم في ظرف الاستعمال شرطا
مقوما للتعهد من قبيل الشرط المتأخر فلا يصح الجواب، إذ القدرة وان كانت
متأخرة زمانا عن التعهد الا انها بمقتضى شرطيتها المتأخرة من اجزاء علة
حصول التعهد، فيستحيل ان تكون ناشئة عن التعهد لاستلزامه الدور.
وتحقيق هذا المعنى ليس محله ههنا، بل محله مبحث اخذ قصد القربة في
متعلق الامر، وانما ذكرناه ههنا إشارة إلى تصور الخدشة في الجواب.
وعلى كل، فلا نستطيع ان نقول بان ما ذكر من محذور الدور دليل على
بطلان النحو المذكور للتعهد، إذ لم يتضح لدينا اخذ القدرة من اي النحوين
وبأي الملاكين، كما أنه لم يتضح لنا بذلك بطلان الدور، فالفرض هو الإشارة إلى
تصور محذور آخر في النحو المذكور، فتدبر.
والذي ينتج بطلان الالتزام بالتعهد بأحد الانحاء الثلاثة المذكورة.
ويجمعها كون متعلق التعهد جانب اللفظ من ذكره أو التفهيم به في فرض
تصور المعنى أو قصد تفهيمه. يبقى ههنا احتمالات ثلاثة للتعهد، وذلك بعكس
فرض التعهد وموضوع ثبوته في الانحاء الثلاثة بجعله متعلقا له ومعروضا له،
وعكس متعلقه بجعله فرض ثبوته، فيكون المراد بالتعهد هو التعهد بتصور
64

المعنى عند ذكر اللفظ، أو التعهد بقصد تفهيمه عند ذكره، أو التعهد بقصد تفهيم
المعنى عند تفهيمه باللفظ.
وسخافة المحتمل الأخير وركاكته لا تحتاج إلى بيان.
وأما الاحتمال الأول، فيبطله ان بقاء التصور غالبا لا يكون من الأمور
الاختيارية التي تقبل ان يتعلق بها التعهد، ومعه يلزم ان يقيد التعهد المزبور بما
إذا لم يكن قد سبق تصور المعنى على ذكر اللفظ واستمر إليه، إذ لا معنى للتعهد
به مع تحققه بغير اختياره، بل تصور المعنى حدوثا قد لا يكون اختياريا فيما لم
يكن لتصوره مبادئ ومعدات كي يكون تصوره اختياريا تهيئها، فلا معنى لان
يتعهد المتكلم بتصور المعنى عند ذكر اللفظ. هذا مضافا إلى أن المتكلم مع التفاته
إلى التعهد لا بد وان يسبق تصوره المعنى قبل التكلم ومع عدم التفاته لا يحصل
له تصور المعنى حتى بعد ذكر اللفظ. فهذا الاحتمال مما لا محصل له.
وأما الاحتمال الثاني، فيدفعه ما أوردناه على الاحتمال الثاني من تلك
المجموعة، وهو كون التعهد عبارة عن البناء على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
المعنى، من استلزامه كون طرف الملازمة والعلقة والدلالة هو إرادة التفهيم لا
نفس المعنى، وهو لا يلتزم به القائل مع أنه خلاف الفرض، كما أنه غير صحيح
في باب الوضع، لان الموضوع له لا بد وأن يكون من المفاهيم القابلة للتصور
والانتقال لا من الأمور الخارجية الموجودة لأنها لا تقبل الانتقال.
كما يرد عليه وعلى سابقه، من احتمال انه تعهد تصور المعنى عند ذكر
اللفظ، بل وعلى الكل أن ما يترتب على الملازمة الوضعية والعلاقة بين اللفظ
والمعنى هو تحقق انتقال المعنى عند ذكر اللفظ من دون اعتبار تحقق العلم بثبوت
المعنى هو تحقق انتقال المعنى عند ذكر اللفظ من دون اعتبار تحقق العلم بثبوت
المعنى، بل قد يكون مما يستحيل ثبوته، فالفائدة المترقبة من عملية الوضع ليس إلا
تصور المعنى والانتقال إليه عند ذكر اللفظ، والتعهد بالمعنى المذكور يترتب
عليه العلم بطرف الملازمة، وذلك لان الملازمة ان قررت بين فعلين وثبتت بنحو
65

الجزم بينهما كان العلم بحصول أحدهما موجبا للعلم بحصول الاخر.
وحيث أن طرفي الملازمة في التعهد هو الفعلين، وهما ذكر اللفظ وإرادة
التفهيم أو تصور المعنى، كان ذكر اللفظ موجبا لحصول العلم بالإرادة والتصور
- والانتقال إليهما وان حصل إلا أنه باعتبار كونه من مقدمات العلم -.
وعليه، فلا يمكن الالتزام بكون العملية الوضعية هي التعهد، لان أثر
العملية الوضعية المترقب ترتبه بلحاظها يختلف عن أثر التعهد وما يترتب عليه.
فلاحظ.
وبهذا البرهان الجلي يتضح بطلان القول، بان حقيقة الوضع هي التعهد
والقرار.
ويؤيد ذلك بعض الموارد العرفية.
فان تحقق الوضع من شخص أخرس لا يستطيع الكتابة ولا يأمل البقاء
بنحو يتمكن به من الاستعمال مما لا ينكر عرفا، لو كان مما يعتنى بوضعه كما لو
كان قد وضع اسما لولده. مع أنه لا تعهد لديه بذكر اللفظ والتفهيم به عند قصد
التفهيم.
كما أنه قد يضع الوالد لولده اسما مباركا للتفاؤل وهو لا يقصد بذلك
استعماله في مقام التفهيم، بل يضع لفظا آخر لذلك. أو يضع اسما قبيحا لردع
العين الحسودة وإطالة البقاء ولا يرضى بان يتأذى بهذا الاسم أصلا، وقد يعاقب
على استعماله لو كان من شأنه ذلك.
وبالجملة: قد يضع الوالد لولده اسما لا لغرض استعماله فيه، فيعد
وضعا لدى العرف مع عدم التعهد. فتدبر جيدا وتفهم.
ونتيجة بطلان ما ذكر من هذه الوجوه لحقيقة الوضع، يتعين الالتزام بان
حقيقة الوضع هي جعل العلقة واعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى، فإنه معنى
معقول لا محذور في الالتزام به ثبوتا ولا اثباتا.
66

وتوضيحه: أن عدم الانفكاك بين تصور شيئين والتلازم بين وجوديهما
الذهنيين، بحيث إذا انتقل إلى أحدهما ينتقل الاخر، انما ينشأ من ارتباط خاص
بين نفس الشيئين وعلاقة بينهما تسبب التلازم بينهما في الوجود الذهني أو
الخارجي، فمنشأ التلازم في الوجود الذهني هو وجود الرابطة بين الشيئين، وعليه
فكما تكون الرابطة والعلاقة ثابتة في نفس الامر والواقع، كسائر الملازمات
المعهودة مثل الملازمة بين الحرارة والنار، كذلك يمكن أن يكون الارتباط متحققا في عالم الاعتبار والفرض العقلائي، فتنشأ الملازمة على أثر تحقق الربط في عالم
الاعتبار.
وبعبارة أخصر وأوضح، لما كان منشأ الملازمة هو نفس الارتباط بين
الشيئين لم يفرق في تحققها بتحققه واقعا أو اعتبارا، فحقيقة الوضع اعتبار
الارتباط والعلقة بين اللفظ والمعنى، فينشأ قهرا بهذا الاعتبار تلازم واقعي بين
تصور اللفظ وتصور المعنى لمن يلتفت إلى وجود الربط الاعتباري.
وهذا المعنى لا يرد عليه اي محذور، كما أنه يتناسب مع الامر الحقيقي
الذي يكون منشأ التلازم في الوجود الذهني - أعني الربط -.
وقد مر استفادة هذا المعنى لحقيقة الوضع - من كلام المحقق العراقي -،
وهذا يؤيد الالتزام به خصوصا بملاحظة ان الاعتبار خفيف المؤونة سهل
التحقق لا يحتاج إلى كلفة.
نعم يبقى سؤال وهو: أن الاعتبار انما يكون بلحاظ الآثار الاعتبارية
العقلائية، وليس في مورد الوضع ما يكون أثرا عقلائيا اعتباريا لاعتبار الربط.
والجواب: انه يكفي في رفع لغوية هذا الاعتبار ترتب الأثر التكويني للربط
المرغوب وهو الانتقال عند الانتقال والملازمة الواقعية الناشئة به، بل ترتبه هو
الملحوظ في هذا الاعتبار دون غيره فلا لغو.
والذي يتحصل بأيدينا: ان الوضع عبارة عن جعل الربط والملازمة
67

والعلقة بين اللفظ والمعنى، وينشأ من هذا الاعتبار مصداق حقيقي للملازمة كما
هو واضح.
ومن هنا ظهر: ان الاختصاص والارتباط الحقيقي والواقعي من آثار
ونتائج الوضع لا نفس الوضع، كما يظهر من صاحب الكفاية، حيث قال:
(الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه
به تارة، وكثرة استعماله فيه أخرى) (1).
نعم لو كان المراد من الاختصاص الاختصاص الاعتباري الذي يكون
متعلق الاعتبار، أمكن أن يصحح جعله معنى الوضع، بحمل كلامه على إرادة
الوضع بمعنى اسم المصدر، لا الوضع بمعنى المصدر، فإنه غير الاختصاص
اعتبارا.
الا ان ظاهر دعواه نشوء الاختصاص تارة من كثرة الاستعمال ينافي حمل
الاختصاص على المعنى الاعتباري، إذ لا اعتبار في الاستعمال ينافي حمل
الاختصاص على المعنى الاعتباري، إذ لا اعتبار في الاستعمال أصلا بل
الاختصاص الناشئ منه، ليس إلا الاختصاص الواقعي الحقيقي فتدبر والأمر سهل.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 9 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
68

(اللفظ والاستعمال)
هذا البحث لم يعنون في الأبحاث بعنوان مستقل، وانما يشار إليه في ضمن
الأبحاث الأخرى المتعلقة بالاستعمال.
والمقصود منه بيان حقيقة استعمال اللفظ في المعنى. والأقوال فيها
متضاربة - فمنهم من يرى أنه افناء اللفظ في المعنى والقاء المعنى باللفظ (1).
ومنهم من يرى أنه جعل اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات (2) - والمتعارف
على الألسن في تحرير النزاع المذكور، هو ان الاستعمال هل هو من قبيل جعل
اللفظ علامة للمعنى كغيره من العلامات أو لا؟ وظاهر ان تحرير النزاع على
هذا النحو لا يخلو عن شائبة المنع، لافتراق وضع سائر العلامات عن وضع
اللفظ والدلالة الوضعية فيهما من جهتين: الأولى: ان الدلالة الوضعية الناشئة بالاستعمال دلالة تصورية، إذ لا
يترتب على ذكر اللفظ سوى تصور المعنى لا غير، بخلاف دلالة العلامات، فإنها
دلالة تصديقية لان الانتقال منها إلى مدلولها انتقال تصديقي كما هو ظاهر.
الثانية: ان دلالتها ليست بالاستعمال، فان واضع العلامة لم يقصد حال
الوضع التفهيم والكشف عن المدلول بها، وانما وضعها لينتقل بملاحظة وجودها
إلى ذي العلامة، فالانتقال المتأخر عن الوضع ليس من توابع استعمال ما بل
من توابع نفس وجود العلامة والعلم بالوضع لهذه الجهة.
وبالجملة: فتحرير الكلام بهذا النحو غير وجيه، بل لا بد من تحريره
بنحو يكون جميع أطراف احتمالاته من نحو الاستعمال وقبيله.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 36 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 208 - الطبعة الأولى
69

وتحقيق المطلب: ان استعمال شئ للإراءة والكشف عن شئ آخر..
تارة: يكون بنحو يكون المستعمل فانيا في المستعمل فيه، بحيث لا
يلتفت إليه أصلا مع الالتفات إلى المستعمل فيه ويكون في حال الاستعمال
مغفولا عنه، وذلك كالمرآة بالنسبة إلى الوجه المرتسم بها، فإنه مع استعمالها
للكشف عنه يكون الملتفت إليه خصوص الوجه، وأما نفس المرآة فهي مغفول
عنها ولا يلتفت إليها أصلا، فلا يلتفت في لونها وخصوصيتها في هذا الحال، فلو
التفت إليها كان المستعمل فيه - أعني الوجه - مغفولا عنه وغير ملتفت إليه.
وأخرى: يكون بنحو يكون المستعمل ملتفتا إليه مستقلا مع الالتفات
إلى المستعمل فيه، وذلك كالاستعمالات الكنائية والملزوم في هذا الاستعمال ملحوظان مستقلا
وملتفت إليهما معا، ولذا يصح الحكم على كل منهما بحكم في آن واحد وتتعلق بهما
الإرادة والقصد في حين واحد.
إذا عرفت هذا، فهل سنخ استعمال اللفظ في المعنى كاستعمال المرآة في
الوجه، فيكون اللفظ حال الاستعمال فانيا في المعنى ولا يلتفت إليه أصلا؟ أو
انه كاستعمال الملزوم وإرادة اللازم، فيكون كل منهما متعلقا للحاظ مستقل
والتفات كامل في نفسه؟ أو لا هذا ولا ذاك، بل سنخ ثالث؟.
الحق هو الأخير.
أما انه ليس من قبيل استعمال المرآة، فلانه من البديهي انه يمكن
الالتفات إلى اللفظ وخصوصياته حال الاستعمال، ولذلك يختار الخطيب الألفاظ
الرشيقة والعبارات الشيقة في مقام أداء المعاني، كما أنه قد يجري على طبق
القواعد العربية المرسومة في باب الاستعمال التي يتوقف الجري عليها على نحو
التفات إلى اللفظ، كقواعد النحو والصرف والبلاغة.
وأما انه ليس من قبيل الاستعمالات الكنائية، فلانه من الظاهر أن اللفظ
70

في حال الاستعمال لا يكون ملتفتا إليه بالاستقلال وملحوظا في نفسه، لظهور
عدم امكان الحكم عليه بما أنه لفظ في ذلك الحال، ولو كان ملحوظا استقلالا
لصح الحكم عليه بلا اشكال.
وبذلك يعلم أن اللفظ في حال الاستعمال يكون ملحوظا، لكن باللحاظ
الطريقي الآلي لا باللحاظ الاستقلالي النفسي، فالاستعمال على هذا ليس افناء
اللفظ في المعنى والقاء المعنى باللفظ، ولا ذكر اللفظ مستقلا فينتقل منه إلى
المعنى كالكنايات، بل هو ايجاد اللفظ في الخارج بداعي حصول الانتقال إلى
المعنى، فهو منظور طريقا وعبرة للمعنى لا مستقلا ولا مغفولا عنه، فليكن جميع هذا نصب عينيك لتنتفع به في مبحث جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
* * * الجهة الثانية: في أقسام الوضع.
71

الوضع التعييني والتعيني
اشتهر بين الاعلام تقسيم الوضع إلى قسمين تعييني وتعيني. وعرف الأول
بأنه: تخصيص اللفظ بالمعنى من قبل واضع معين. وعرف الثاني: بأنه الارتباط
الخاص الحاصل بين اللفظ والمعنى الناشئ من كثرة الاستعمال.
ولكن الذي يختلج في النفس ان الوضع التعيني لا أساس له، فإنه لا
يتصور له معنى معقول، إذ لا وجه لان يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بكثرة
الاستعمال، مع أن الدلالة في هذه الاستعمالات الكثيرة لا ينفرد بها اللفظ، بل
يشترك معه القرينة. ولو كان لمثل هذا مثال ملموس وواقع ثابت لأمكن ان نقول
بأن ملاكه شئ معقول لا تصل إليه أذهاننا إذ انكار الواقع مكابرة ظاهرة، الا
انه لم يتضح لدينا وجود لفظ كذلك، يعني استعمل في معنى مع القرينة كثيرا
بحيث صار دالا على المعنى بلا قرينة. فلا نستطيع الجزم بمعقولية الوضع التعيني
بسهولة.
ثم إنه قد ورد في تقريرات بحث السيد الخوئي (حفظه الله)، ان التعهد
ان كان ابتدائيا فالوضع تعييني، وان كان منشؤه كثرة الاستعمال فالوضع
تعيني (1).
ولم يعلم الوجه في الكلام الأخير، لان كثرة الاستعمال كما لا يخفى من
الأمور التشكيكية الصادقة على عدد وأقل منه وأكثر. فان بلغت الكثرة بحد
يتحقق به ارتباط بين اللفظ والمعنى وعلاقة بحيث إذا أطلق اللفظ ينتقل المعنى
بواسطته إلى الذهن فلا ملاك للتعهد، لان الغرض به حاصل بدونه وهو قابلية
اللفظ للتفهيم. وإن لم تصل إلى ذلك الحد فلم يثبت مقدار ما يكون للتعهد، كما
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 49 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
72

انه لم يعلم الوجه في كون الكثرة المزبورة منشئا للتعهد وجهة سببيتها له.
وعلى كل حال فالأمر سهل جدا.
تقسيم الوضع بلحاظ الملحوظ حاله
لا يخفى ان الوضع على جميع المباني فيه لا يخرج عن كونه حكما وعملية
ترتبط بطرفين أحدهما اللفظ والاخر المعنى. وهذا يقتضي ان عملية الوضع
تتوقف على ملاحظة كل من الطرفين والالتفات إليهما، إذ الحكم والحمل لا
يتحقق في عالم النفس الا بتحقق ما يحمل ويحكم عليه فيها. ويختلف الوضع
عموما وخصوصا باختلاف المعنى الملحوظ حال الوضع فتعدد أقسامه.
وهي في مرحلة التصور أربعة: الأول: ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لذلك المعنى العام.
الثاني: ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ لذلك المعنى الخاص.
الثالث: ان يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لمصاديقه وافراده الجزئية.
الرابع: ان يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ للعام المنطبق عليه.
ويعبر عن القسم الأول بالوضع العام والموضوع له عام. وعن الثاني
بالوضع الخاص والموضوع له خاص. وعن الثالث بالوضع العام والموضوع له
خاص. وعن الرابع بالوضع الخاص والموضوع له عام. هذا في مرحلة التصور.
اما في مرحلة الثبوت والامكان، فالقسمان الأولان مما لا اشكال في امكان
ثبوتهما إذ لا يتصور فيهما أي محذور، فيمكن ان يلحظ الواضع معنى عاما أو خاصا ويضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاص بأي معنى من
معاني الوضع، فيعتبر الارتباط بينهما أو ينزل اللفظ منزلة المعنى أو يجعله على
المعنى أو يتعهد بتفهيم المعنى به.
73

وأما القسم الثالث: فقد يشكل في امكانه بأنه حيث يعتبر لحاظ المعنى
الموضوع له في الوضع كما عرفت، فاما أن يكون الخاص الذي يقصد وضع اللفظ
بإزائه ملحوظا مع لحاظ العام أو غير ملحوظ أصلا. فعلى الثاني يمتنع الوضع له.
وعلى الأول يلزم أن يكون الوضع خاصا للحاظ الخاص نفسه وهو خلف
الفرض.
الا انه يدفع: بان لا يعتبر في الوضع أو اي حكم الالتفات تفصيلا إلى
المحكوم عليه، بل يمكن الحكم عليه بواسطة عنوان عام مشير إليه بلا التفات
إلى نفس المعنون بالمرة، اما للجهل بجميع خصوصياته الموجبة لجزئيته، أو لعدم
امكان الالتفات إليه، كما لو كان الحكم على مصاديق العام وكانت بحد لا يمكن
الالتفات إليها بخصوصياتها جميعا.
وعليه، فيمكن الوضع للافراد بلا التفات تفصيلا، بل بواسطة
العنوان العام المشير إليها، فيلحظ طريقا إلى افراده ويوضع لها اللفظ بتوسيطه
بلا ان يتعلق بها بخصوصياتها اللحاظ. ببيان: ان العام وجه للافراد وتصوره
تصور لها بوجه، وذلك كاف في صحة الوضع لها بلا لحاظها بخصوصياتها.
وبهذا التقريب بين امكان القسم الثالث.
لكن الحق انه لا يدفع الاشكال هنا، لان الموضوع له الخاص ليس هو
الفرد بوجوده الخارجي ولا بوجوده الذهني، لان المقصود من الوضع هو التفهيم
وانتقال المعنى الموضوع له عند ذكر اللفظ وخطوره في ذهن السامع ووجوده فيه،
والوجود الخارجي يمتنع أن يكون معروضا للحاظ، والوجود الذهني، بمعنى انه
يوجد هنا في الذهن لقيام البرهان على أن المقابل لا يقبل المقابل، ومثله الوجود
الذهني يمتنع ان يعرض عليه اللحاظ وان يوجد في الذهن ثانيا بوصف وجوده
لقيام الدليل على أن المماثل لا يقبل المماثل، وعليه فما يفرض وضع اللفظ له لا
بد أن يكون هو المفاهيم الجزئية بلا وصف وجودها في الخارج أو في الذهن، فإنها
74

تقبل الوجود وعروض اللحاظ عليها.
ولا يخفى ان العام لو سلم كونه وجها اجماليا لافراده، فهو وجه لها
بوجودها الخارجي أو الذهني (وبعبارة أخرى: هو وجه لمصاديقه الخارجية
والذهنية)، لأنه يتحد معها نحو اتحاد، ولذا يصح حمله عليها بملاك الاتحاد في
الوجود، وليس هو وجها لافراده في مرحلة مفهوميتها ومعراة عن وجودها، لان
المفاهيم في مرحلة مفهوميتها متباينة، ولذلك لا يصح حمل المفهوم الكلي على
المفهوم الجزئي لا بالحمل الأولي لتغيرهما ذاتا - وملاك الحمل الأولي الاتحاد في
المفهوم -، ولا بالحمل الشائع لكون الملاك فيه الاتحاد في الوجود، والمفروض
كون المفهوم ملحوظا معرى عن الوجود وان الحمل بين المفهومين، وإذا تبين عدم
ثبوت الاتحاد بين مفهوم العام ومفهوم الفرد وتحقق المباينة بينهما، امتنع أن يكون
تصور العام تصورا لافراده بوجه كي يصح الوضع للافراد بتوسيط تصور العام،
إذ المباين لا يصلح لان يكون وجها للمباين كي يكون تصوره تصورا له بوجه.
والجواب ان يقال: ان تحقق الوضع لا يتوقف على لحاظ الموضوع له حتى
اجمالا، بل يمكن الوضع لمعنى مع عدم لحاظه بالمرة أصلا، وذلك بواسطة الإشارة
إليه بأدوات الإشارة كأسماء الإشارة والموصولات وبعض الضمائر.
وعليه، فلو ثبت عدم امكان لحاظ الافراد وتصورها، وعدم كفاية تصور
العام في لحاظها وتصورها ولو اجمالا، لمباينته لما يراد الوضع له وهو المفاهيم
الجزئية، أمكن الوضع لها بلا لحاظها أصلا، بل بتوسيط الإشارة إليها، ولا تمتنع
الإشارة إلى غير الملحوظ والمتصور أصلا فيما لو لم يمكن تصوره ولحاظه
كالافراد، لعدم تناهيها عرفا، فيقال: (لفظ الانسان موضوع لما هو من افراد
الحيوان الناطق) فقد أشير إلى الافراد بالموصول - أعني: (ما) - ووضع اللفظ
بواسطة الإشارة ومعونتها بلا لحاظها أصلا.
والحاصل: ان الوضع بحكم كونه حكما على الموضوع له لا يستدعي
75

سوى تعيين الموضوع له وتشخيصه، والتعيين كما يكون بواسطة احضار نفس
المعنى والحكم عليه مباشرة كذلك يكون بواسطة الإشارة إليه بمشير ما بلا
حضوره بنفسه في الذهن كما لو لم يمكن حضوره.
والواضع إلى الافراد من هذا القبيل، فإنه يمكن وضع اللفظ لها بلا
توسيط لحاظها، لعدم امكانه أحيانا، ولا توسيط العام المتصور، لعدم صلاحيته
للإراءة والكشف، بل بواسطة الإشارة الذهنية إليها، بمعنى ان نشير إلى الافراد
المندرجة تحت العام المتصور ونضع اللفظ بإزائها فيكون الوضع عاما باعتبار
كون الملحوظ حال الوضع عاما وهو المفهوم العام دون غيره إذ لم تتصور الافراد
- كما هو المفروض - والموضوع له خاصا، لان الوضع كان بإزاء المفاهيم الجزئية
المندرجة تحت العام.
وقد صور المحقق العراقي (قدس سره) الاشكال في الوضع العام
والموضوع له الخاص بنحو آخر، تقريره: ان العام باعتبار انتزاعه عما به
الاشتراك بين الافراد، لا يصلح لان يكون وجها لافراده بخصوصياتها، ولا
يكون تصوره تصورا للخاص بوجه، لتقوم الافراد بالخصوصيات المفروض
اغفالها وتجريد الافراد عنها في انتزاع المفهوم العام، فهو لا يحكي إلا عن القدر
المشترك والجامع بينها لا أكثر (1).
وقربه السيد الخوئي (حفظه الله) بنحو ثالث يشابه ما ذكرناه، وبيانه -
كما جاء في تقريرات درسه (2) -: ان المفهوم في مرحلة مفهوميته لا يحكي إلا عن
نفسه، فيستحيل ان يحكي مفهوم - كليا كان أو جزئيا - عن مفهوم آخر - كليا
كان أو جزئيا -، فكما لا يعقل ان يحكي المفهوم الخاص بما هو خاص عن مفهوم
آخر خاص أو عام، فكذلك لا يعقل ان يحكي المفهوم العام بما هو عن مفهوم
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 39 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 50 - الطبعة الأولى
76

خاص أو عام آخر، بداهة ان لحاظ كل مفهوم وتصوره عين تصور شخصه
وإراءته لا إراءة شئ آخر به، فكيف يكون معرفة لغيره بوجه.
وقد أجاب العراقي عما ذكره من الاشكال: بأنه تام في بعض المفاهيم
العامة دون بعض، فان المفاهيم - على ما ذكره (قدس سره) (1) -، منها ما يكون
منتزعا عن خصوصية مشتركة بين الافراد ذاتية كانت، كمفاهيم الجواهر
والاعراض كالانسان والبياض، أو انتزاعية كبعض المفاهيم الانتزاعية كمفهوم
الفوق والتحت ونحوهما. ومنها ما يكون منتزعا عن الافراد والخصوصيات
المفردة كمفهوم الفرد، والمصداق، والشخص.
فالنحو الأول لا يصلح للحكاية عن افراده ولو اجمالا، ولا يكون تصورا
لها بوجه أصلا، بل لا يكون حاكيا إلا عن القدر الجامع بينها.
والنحو الثاني بخلافه، فإنه يصلح للحكاية الاجمالية عن الافراد
والخصوصيات لأنها منشأ انتزاعه ومقوماته. فصحة الوضع العام والموضوع له
الخاص تتصور في ما إذا كان المفهوم الملحوظ حال الوضع من النحو الثاني دون
الأول، لان الثاني هو الصالح للحكاية عن الافراد اللازمة في عملية الوضع دون
الأول.
وعليه، فالالتزام بامكان هذا النحو من الوضع هو المتعين بلحاظ وجود
مثل نحو الثاني من المفاهيم.
وبعين مضمون هذا الجواب أجاب السيد الخوئي عن الاشكال الذي
قربه، فقد جاء في تقريرات درسه بعد تقرير الاشكال: (ان المفهوم في الجملة بما
هو سواء كان عاما أو خاصا وان كان لا يحكي في مقام اللحاظ لا عن نفسه،
الا ان تصور بعض المفاهيم الكلية يوجب تصور افراده ومصاديقه. وتفصيل
ذلك..... واما العناوين الكلية التي تنتزع من الافراد والخصوصيات الخارجية
* (1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 37 - 39 - الطبعة الأولى.
(*).
77

كمفهوم الشخص والفرد والمصداق، فهي تحكي في مقام اللحاظ عن الافراد
والمصاديق بوجه وعلى نحو الاجمال، وتصورها في نفسها تصور لها بوجه وعنوان.
وبتعبير آخر: ان مرآتيتها للافراد والاشخاص ذاتية لها فتصورها لا محالة تصور
لها إجمالا بلا اعمال عناية في البين. فإذا تصورنا مفهوم ما ينطبق عليه مفهوم
الانسان - مثلا - فقد تصورنا جميع افراده بوجه، ومن ثم جاز الحكم عليها في
القضية الحقيقية، فلو لم يحك المفهوم عن افراده لاستحال الحكم عليها مطلقا مع أن
الاستحالة واضحة البطلان) (1). والناظر في هذا الكلام لا يرى اختلافا بينه
وبين ما افاده المحقق العراقي الا في التعبير، فجواباهما يرجعان إلى مطلب واحد
ومفاد متحد.
ولكنه قاصر عن رفع المحذور المقرر، واثبات معقولية الوضع العام
والموضوع له الخاص، ما لم ينضم إليه ما ذكرناه من الاستعانة في الوضع بالإشارة
الذهنية إلى واقع الافراد والمصاديق.
وذلك: فان هذه المفاهيم المنتزعة عن الخصوصيات المنطبقة عليها -
بتعبير -، والكاشفة عنها كشفا ذاتيا - بتعبير آخر -، مفاهيم عامة وضع بإزائها
بعض الألفاظ الدالة عليها كلفظ الفرد والشخص ونحوهما.
ومن الواضح، ان وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المفاهيم من الوضع العام
والموضوع له العام، لعموم الملحوظ والموضوع له.
ففيما نحن فيه، لو لاحظ الواضع أحد هذه المفاهيم العامة، ووضع اللفظ
بإزاء الافراد بلا توسيط الإشارة الذهنية إليها بل اكتفى بلحاظ المفهوم وحده
فقط، فقال مثلا: (وضعت اللفظ الكذائي لفرد الانسان) كان الموضوع له عاما
لا خاصا، إذ الوضع دائما يكون بإزاء الكلي والمفهوم العام لا نفس الافراد،
ويكون حال الوضع ههنا حال وضع الألفاظ الخاصة بإزائها في كونه من الوضع
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 50 - الطبعة الأولى
78

العام والموضوع له العام، إذ لا معين للوضع للافراد كي يصرف الوضع عن
المفهوم إليها سوى الإشارة الذهنية، والمفروض انتفاؤها، ومجرد صلاحية المفهوم
للانطباق والكشف عن افراده لا تكفي في صرف الوضع للافراد ما لم يوجد
صارف بعين الافراد موضوعا له.
وإلا لزم أن يكون وضع الألفاظ الخاصة بها -
كلفظ الفرد - من الوضع العام والموضوع له الخاص، لعدم انفكاك هذه الجهة
عن هذه المفاهيم، مع أنه لا يلتزم بذلك أحد.
وعليه، فلا بد في صرف الوضع للافراد وكونه بإزائها من الاستعانة
بالإشارة إلى المفاهيم الجزئية، إذ بدونها لا وجه لمعرفة كون الوضع لها، بل الوضع
يكون للمفهوم العام لو اكتفى بلحاظه في مقام الوضع، إذ كل ما يتصور مما هو
حاك عن الافراد يكون كليا والوضع بإزائه يستلزم عموم الموضوع له كما لا
يخفى، فيعود الاشكال والمحذور. والحاصل: ان تعين كون الافراد هي الموضوع
له لا يكون بمجرد لحاظ الكلي وتصوره فوضع اللفظ بإزائه ولو بما أنه كاشف
عن الافراد يكون من الوضع العام والموضوع له العام، فلا بد في تعيين كون
الموضوع له الافراد من معين وهو الإشارة إليها بما يصلح للإشارة. وبذلك اتضح
الاحتياج إلى توسيط الإشارة الذهنية في امكان الوضع العام والموضوع له
الخاص. ومن هنا ظهر أيضا ما في كلام المحقق الخوئي، من امكان الحكم على الافراد
في القضية الحقيقية باعتبار حكاية المفهوم الكلي عنها، ولولا الحكاية لاستحال
الحكم عليها. فان الحكم على الافراد لا يتم الا بتوسيط الإشارة الذهنية، وهي
امر ارتكازي للحاكم عند إرادة جعله الحكم على الافراد، ولولا الإشارة لما صح
الحكم على الافراد بتوسيط المفهوم العام، بل يكون الحكم على المفهوم بنفسه.
ونتيجة ما ذكرناه: ان الالتزام بامكان الوضع العام والموضوع له الخاص، من باب انا نملك الإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية المندرجة تحت ما نتصوره
من المفاهيم العامة.
79

ومما ينبغي الالفات إليه: ان الإشارة الذهنية لا بد من ارتباطها بالمفهوم
العام المتصور، وذلك بتوسيط مفهوم آخر يكون رابطا بينهما. فمثلا، إذا تصورنا
مفهوم الانسان واردنا الوضع لافراده الجزئية نأتي بما يشير إليها ونربطه بمفهوم
الانسان بواسطة مفهوم آخر فنقول: (ما هو فرد للانسان) أو (ما ينطبق عليه
الانسان) ونحوهما.
والسر فيه واضح: فان الاتيان بالإشارة بلا ربطها بالمفهوم العام المتصور
وهو (الانسان) - مثلا - يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الانسان في عدم
الأثر والمناسبة، ولا يصح الوضع بذلك أصلا لعدم تعين الموضوع له وانه افراد
مفهوم معين فلا تتحقق به نتيجة الوضع وغرضه، وهو حصول الانتقال إلى
الموضوع له عند ذكر اللفظ للجهل به. مضافا إلى عدم كونه من الوضع العام
والموضوع له الخاص، لعدم ارتباط المفهوم العام المتصور بالموضوع له.
وبالجملة: فضرورة ربط الإشارة بالمفهوم العام المتصور بواسطة رابط
ما امر لا يحتاج إلى مزيد بيان، فإنه من مقتضيات طبيعة الوضع وغرضه.
واما القسم الرابع: - وهو الوضع الخاص والموضوع له العام - فالحق
امتناعه وعدم امكانه.
وذلك: لما عرفت في الوضع العام والموضوع له الخاص، من أن امكانه
كان بواسطة الاستعانة بالإشارة الذهنية إلى المفاهيم الجزئية، ولا طريق لامكانه
غير هذا الطريق.
وهذا الطريق لا يتأتى في هذا القسم، وذلك لأنه لو تصورنا مفهوما جزئيا
كمفهوم (زيد) واردنا الوضع لكلية المنطبق عليه بلا تصوره فلا بد لنا من
الإشارة إليه، وقد عرفت ضرورة ربط الإشارة بالمعنى المتصور، وكل مفهوم
نفرضه رابطا للإشارة بالمفهوم الجزئي المتصور يكون كليا وذلك كمفهوم (كلي) أو (منطبق)، فنقول: (ما هو كلي زيد أو ما هو منطبق على زيد)، ومن الواضح
80

كون هذه المفاهيم كلية. وعليه، فلا يكون الوضع من الوضع الخاص والموضوع
له العام، لان المتصور حال الوضع كان معنى عاما والموضوع له أيضا كان عاما.
والحاصل: ان الملحوظ حال الوضع لا يكون خصوص المفهوم الجزئي،
بل ينضم إليه لحاظ مفهوم عام يتحقق به الربط، وبذلك يكون الوضع عاما لا
خاصا.
هذا، ولا يخفى ان الالتزام بالامتناع في هذا القسم يبتني على تصحيح
القسم الثالث بالإشارة الذهنية، إذ لا يتأتى تصحيح هذا القسم بها كما عرفت.
واما لو كان تصحيح القسم الثالث من جهة ما قرروه من أن تصور العام
تصور لافراده بوجه فيكتفي في الوضع لها بتصوره فقط - أمكن الالتزام بامكان
هذا القسم بنحو البيان المذكور في إفادة امكان القسم الثالث، وذلك لان الخاص
عبارة عن الطبيعي مع الخصوصيات، فتصور الخاص تصور للطبيعي في ضمنه
كما أن تصور مفهوم الدار تصور لاجزائه ضمنا من الغرفة والسطح وغيرهما.
وعليه، فيمكن وضع اللفظ للطبيعي المتصور في ضمن تصور الفرد، كما أمكن
الوضع للفرد المتصور بتصور الطبيعي.
وبالجملة: فبنحو البيان المذكور في تقريب امكان الوضع العام
والموضوع له الخاص يقرب امكان الوضع الخاص والموضوع له العام.
وقد عرفت عدم قابلية التقريب المذكور للنهوض لاثبات امكان الوضع
العام والموضوع له الخاص، وان الوجه فيه ما ذكرناه، وقد تحقق عدم تأتيه في
الوضع الخاص والموضوع له العام.
وبذلك: تثبت محالية هذا القسم من الوضع وامتناعه.
وقد ذكر: لبيان محاليته وامتناعه وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره): من انه لما كان
تصور العام بنفسه ممكنا لم يحتج الوضع له الا إلى ملاحظته، بخلاف الوضع
81

للافراد غير المتناهية فان لحاظ غير المتناهي غير معقول، فلا بد من لحاظها
بجامع يجمع شتاتها ويشمل متفرقاتها وهو الكلي المنطبق عليها، فان لحاظها
بالوجه لحاظها بوجه (1).
ولا يخفى ان للاشكال في ما افاده (قدس سره) مجالا، بيان ذلك: انه ان
التزم بكفاية اللحاظ الاجمالي للافراد بلحاظ العام في الوضع لها بحيث يكون
الوضع عاما والموضوع له خاصا، فالالتزام بكفاية اللحاظ الاجمالي للعام في
ضمن الخاص في الوضع له بحيث يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما متعين
ولا محيص عنه، لان مبنى الأول على كفاية التصور الاجمالي للموضوع له في
الوضع له وعدم تعين التصور التفصيلي، وهو يقتضي كفايته في النحو الثاني.
وامكان لحاظ العام تفصيلا لا يقتضي تعين لحاظه بعد فرض كفاية التصور
الاجمالي.
والحاصل: لا وضوح للفرق بين النحوين بعد اتحادهما ملاكا.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) ببيان: ان الخاص
بما هو خاص لا يكون وجها للعام بنحو يكون تصوره تصورا للعام ولو بنحو
الاجمال، وذلك: لان الخصوصية المقومة للخاص تناقض العموم وتنافيه، إذ العموم لا يتحصل في معنى الا بإلغاء الخصوصية، ومعه كيف يمكن أن يكون
الشئ مرآة ووجها لنقيضه (2).
وما ذكره (قدس سره) لا يخلو عن غموض لوجوه:
الأول: ان اشكال المناقضة جارية في الوضع العام والموضوع له
الخاص، إذ كما يستحيل أن يكون الخاص وجها للعام لأنه نقيضه والنقيض لا
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 15 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 39 - الطبعة الأولى
82

يكون وجها لنقيضه، كذلك يستحيل أن يكون العام وجها للخاص للمناقضة
فإنها من الطرفين، فايراد هذا المحذور في خصوص هذا القسم من الوضع بلا
وجه لسريانه في القسمين، فكيف لا يلتزم بمحالية الوضع العام والموضوع له
الخاص بهذا الملاك؟!.
الثاني: ان دعوى المناقضة ممنوعة، لان لفظ العام لا يوضع للطبيعة بصفة
العموم الملازم لالغاء الخصوصية المقومة للخاص فيلزم التناقض، بل يوضع
لذات الطبيعة وصرفها بلا تقييدها بأي قيد. وعليه فلا يكون الخاص مناقضا
للعام، بل يكون متضمنا للعام لاخذه - أي العام - لا بشرط، فلا ينافيه طرو
الخصوصية عليه، ويكون تصوره - اي الخاص - تصورا ضمنيا للعام، لأنه أحد
اجزائه.
الثالث: ان المناقضة حيث كانت بملاك تقوم العموم بإلغاء الخصوصية
التي بها يكون الخاص خاصا ويتقوم الخاص، لا تكون مطردة في جميع انحاء العمومات، لان من العمومات ما يكون منتزعا عن الخصوصيات - كما عرفت -،
فيستحيل تقومها بإلغاء الخصوصية المخصصة والمفردة. فلا تناقض بين مثل هذا
العام وبين الافراد.
وعليه، فإذا كان المانع من مرآتية الخاص للعام هو المناقضة، لم يجر المانع
في مثل هذا القسم من العمومات، فلا يستحيل أن يكون الفرد وجها للعام
المزبور، وبذلك يوضع له اللفظ بواسطة لحاظ فرده، فيوضع لفظ (الفرد) لمفهوم
الفرد بواسطة لحاظ الفرد الخارجي الذي هو مصداق لمفهوم الفرد.
الثالث: ما ذكره السيد الخوئي (حفظه الله) من أن مفهوم الخاص
مهما كان لا يحكي بما هو خاص عن مفهوم عام أو خاص آخر، فان تصور
المفهوم بما هو لا يكون الا تصورا لنفسه فيستحيل أن يكون تصورا لغيره بوجه،
بخلاف مفهوم العام كمفهوم الفرد والشخص وغيرهما فإنه وجه للمصاديق، ومن
83

هنا التزم بامكان الوضع العام والموضوع له الخاص، واما الخاص فلما لم يكن
كذلك فلا يمكن الوضع الخاص والموضوع له العام (1).
ولا يخفاك ان ما ذكره لا يختلف في المضمون عما نص عليه في الكفاية،
وان اختلف التعبير، فقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) ان: (العام يصلح
لان يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك فإنه من وجوهها ومعرفة
وجه الشئ معرفته بوجه. بخلاف الخاص فإنه بما هو خاص لا يكون وجها للعام
ولا لسائر الافراد فلا تكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا ولو بوجه) (2).
وقد عرفت مما سبق الخدشة فيما ذكراه، فان نفي مرآتية الخاص للعام بلا
برهان ولا دليل، وقد تقدم ان التصور الضمني لو التزم بكفايته في الوضع للافراد
فالالتزام بكفايته في الوضع للعام متعين، وقد عرفت أن تصور الخاص تصور
ضمني للعام. فتدبر جيدا.
وقد التزم المحقق الرشتي (قدس سره)، والمحقق الحائري اليزدي (رحمه
الله) بامكان الوضع الخاص والموضوع له العام.
واستدل الأول على رأيه بما حاصله: ان الخاص إذا وضع لفظ له، فتارة
يوضع اللفظ بحذائه لنفسه ولأنه الموجود المتعين. وأخرى يوضع بإزائه باعتبار
اشتماله على خصوصية فيه، فيسري الوضع إلى كل ما اشتمل على تلك
الخصوصية، بلحاظ ان الوضع قد لوحظ فيه تلك الخصوصية العامة السارية في
الافراد الخاصة، وضرب لذلك مثالا من أسماء الأدوية، فان الاسم قد يوضع بإزاء
ادواء معين لكن باعتبار تأثيره الخاص وفائدته المخصوصة، وبذلك يتعدى الاسم
إلى كل ما كان له هذا الأثر من الأدوية وان اختلف عن الموضوع له في اجزائه
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 15 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 10 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
84

وخصوصياته. كما مثل له بالأحكام الشرعية المنصوصة العلة، فان الحكم إذا رتب
على شئ وعلل بعلة سارية نظير قولهم: (الخمر حرام لأنه مسكر) يسري شرعا
إلى كل مسكر ولو لم يكن خمرا، ولا يكون هناك فرق بين هذا وبين قوله: (كل
مسكر حرام) الا كيفية البيان. والوضع كذلك، فان الوضع التوقيفي كالحكم
التوقيفي، قد يكون ثابتا لموضوع لأنه ذلك الموضوع، وقد يكون ثابتا له باعتبار
مناط موجود فيه، بل هو في النتيجة اثبات للحكم بإزاء ذلك الملاك والمناط (1).
وفيه أن كلا من الوضع والحكم من الأمور الاختيارية للواضع والحاكم.
وعليه، فتمتنع سراية الوضع وتعديه إلى المناط والملاك مع تعيين اللفظ ووضعه
بإزاء فرد خاص وبالأحرى تمتنع سرايته إلى فرد آخر وان شاركه في الأثر. نعم
لو كان الوضع لا لخصوص الفرد المعين، بل لكل ما اشترك معه في الفائدة والأثر
المعين بحيث يكون الجامع هو التأثير في الأثر الخاص، وكان الفرد الخاص
واسطة لتصور الجامع، سرى إلى جميع الافراد، الا انه لا يكون من الوضع
الخاص والموضوع له العام، بل يكون الوضع عاما للحاظ العام حال الوضع
ووضع اللفظ بإزائه.
ومثل الوضع الحكم الشرعي، فان سراية الحكم في جميع موارد وجود العلة
انما هو لاجل فهم العرف من التعليل بالاسكار - مثلا -، ان الحكم في الحقيقة
معلق على كلي المسكر لا خصوص الخمر، وانما بين هذا الحكم في لسان الدليل
بالنحو الخاص - أعني: بترتيبه على فد معين وهو الخمر - مع بيان جهة الحكم
التي يتضح بها ان الحكم على هذا الفرد لا خصوصية فيه، بل من باب انه أحد
مصاديق كلي المسكر المنطبق عليه وعلى غيره.
وبالجملة: ان الوضع والحكم بيد الواضع والحاكم وباختياره، فان اعتبر
.

(1) الرشتي المحقق ميرزا حبيب الله. البدائع / 40 - الطبعة الأولى
85

العلقة بين اللفظ وخصوص هذا المعنى، استحال تعديه إلى غيره وكان الموضوع
له كالوضع خاصا. وان اعتبرها بين اللفظ والعام المنطبق على هذا الفرد، كان
الوضع كالموضوع له عاما لكون الملحوظ عاما. وهكذا الحال في ترتيب الحكم
على شئ فلاحظ وتدبر.
واستدل الثاني بما تقريبه: بانا قد نرى شبحا من بعيد من دون ان نعلم
بنوعه ولا بجنسه ولا بأي عنوان ينطبق عليه، بل لا ينطبق عليه في علمنا فعلا
سوى عنوان (الشبح) فإذا وضع اللفظ بإزاء العنوان الواقعي المنطبق على هذا
الشبح الذي لم نتصوره أصلا الا بعنوان ما ينطبق على هذا الشبح، كان من
الوضع الخاص، إذ الملحوظ حال الوضع هذا الموجود الخاص وهو الشبح
والموضوع له عام لأنه الكلي المنطبق على الشبح (1).
وهذا حاصل ما أفاده (رحمه الله). ولكنه لا يفي بالمقصود، لان الوضع
للعام عند تصور الخاص يتوقف على الإشارة الذهنية إلى العام ليتعين الوضع
بإزائه، وقد عرفت احتياج الإشارة إلى رابطة يربطها بالمتصور والملحوظ حال
الوضع، فلا بد من رابط يربطها - فيما نحن فيه - بالخاص، ولا يخفى ان الرابط
لا يكون الا مفهوما عاما ك‍ (ما ينطبق على هذا الشبح أو ما هو كليه ونحوهما)،
والمفهوم الرابط الذي أتى به (قدس سره) في كلامه عام أيضا وهو (ما هو متحد
مع هذا الشخص)، وإذا كان الرابط مفهوما عاما كان الوضع عاما لكونه
ملحوظا حال الوضع وهو من عناوين الكلي الموضوع له اللفظ. فتدبر.
واما مرحلة الوقوع والتحقق في الخارج: فقد ثبت بلا كلام وقوع الوضع
العام والموضوع له العام، والوضع الخاص والموضوع له الخاص، ومثل للأول
بأسماء الأجناس، وللثاني بالاعلام. ووقع الكلام في وقوع الوضع العام والموضوع
.

(1) الحائري المحقق الشيخ عبد الكريم. درر الفوائد 1 / 5 - الطبعة الأولى
86

له الخاص - واما الوضع الخاص والموضوع له العام فلا معنى للبحث في وقوعه
بعد ثبوت امتناعه واستحالته -، وقد ادعى ان وضع الحروف من الوضع العام
والموضوع له الخاص.
ولما كان تحقيق ذلك يتوقف على معرفة معاني الحروف وما هو الموضوع
له فيها، لا بد من نقل الكلام إلى تلك المرحلة - كما فعل الاعلام (قدس سرهم) -.
المعنى الحرفي
وقد اختلف فيها إلى مذاهب ثلاثة:
الأول: ان الموضوع له في الحروف عين الموضوع له في الأسماء، وان الكل
عام.
الثاني: ان الحروف لم توضع إلى أي معنى، وان حالها حال علامات
الاعراب.
الثالث: ان معاني الحروف تختلف ذاتا وحقيقة عن المعاني الاسمية.
أما المذهب الأول: فقد تبناه المحقق الخراساني (قدس سره) - ونسب
إلى المحقق الرضي (قدس سره) - فقال: (والتحقيق حسبما يؤدي إليه النظر
الدقيق ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء) (1)، وقد نفى
اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له، سواء كانت هي
الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ. اما الأول فلوضوح انه
كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي كما إذ وقع في حيز الانشاء والحكم، نظير
(سر من البصرة إلى الكوفة)، فإنه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأي
نقطة من نقاط البصرة والانتهاء إلى اي نقطة من نقاط الكوفة، كوضوح تحققه
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 11 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
87

في السير بأي نحو كان مع عدم القرينة على التعيين. وهذا ظاهر في عموم
الموضوع له الحرف، وإلا لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص وهو ما
قصده الامر، ولا قائل به. واما الثاني فقد نفى اخذه في الموضوع له بوجوه: -
وينبغي ان يعلم بان اللحاظ المتوهم اخذه هو اللحاظ الآلي كما نص عليه
(قدس سره) -.
أحدها: ان الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه، فلو كان اللحاظ
الآلي مقوما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ وهو باطل، ضرورة أن الموجود
لا يقبل الوجود ثانيا.
ثانيها: ان اللحاظ لو كان مقوما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات،
لا بالتجريد، لان المقيد بالوجود الذهني لا وجود له الا في الذهن وبدون
التجريد يمتنع الامتثال الخارجي، وهذا - أعني التجريد - يستلزم أن يكون
استعمال الحروف بلحاظ الخارج - اخباريا كان أو انشائيا - استعمالا مجازيا وهو
خلاف الضرورة.
ثالثها: ان اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء.
فكما أن الأخير لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك الأول، فان ادعى عدم اخذ
الاستقلالي في معنى الاسم، يقال: فليكن معنى الحرف كذلك مجردا عن اللحاظ
الآلي، إذ لم يتضح وجه التفريق بين المعنيين.
وبعد ما أفاد هذا أورد على نفسه: بان لازم اتحاد الحرف والاسم في المعنى
الموضوع له والمستعمل فيه في كونه عاما، بحيث لا فرق ذاتيا بين لفظ (من)
ولفظ (الابتداء)، صحة استعمال أحدهما مكان الاخر، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان،
وهو يقتضي بطلان الملزوم وثبوت الفرق الجوهري بينهما.
وأجاب عن هذا الايراد بما نصه: (الفرق بينهما انما هو في اختصاص كل
منهما بوضع، حيث إنه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف
88

ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره كما مرت الإشارة إليه غير مرة،
فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال
أحدهما في موضع الاخر، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه
ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته) (1). ولم
يتضح فوقع موضوع التفاسير والترديد بين احتمالات. وهي ثلاثة:
الأول: ما يظهر من بعض كلمات المحقق النائيني (قدس سره) من:
ارجاع التقييد باللحاظ الآلي والاستقلالي إلى اشتراط الواضع ذلك في
الاستعمال، فشرط الواضع أن لا يستعمل لفظ الابتداء الا مع لحاظه استقلالا
وان لا يستعمل لفظ: (من) في الابتداء الا مع لحاظه آله (2).
ومع تفسير كلام صاحب الكفاية (ره) بهذا التفسير يرد عليه:
أولا: ان الشرط المأخوذ في الحكم، ومثله المأخوذ في الوضع، اما ان يرجع
إلى المتعلق والموضوع له بحيث يكون من قيودهما أولا.
فعلى الأول: يلزم تقييد متعلق الحكم به، وتقييد الموضوع له فيما نحن فيه
بحيث يكون مقوما له، وهذا رجوع عما فر منه فإنه هو الذي كان بصدد نفيه
وفي مقام الايراد عليه.
وعلى الثاني: يرجع الشرط إلى تعدد المطلوب، وكان متعلق الحكم مطلقا
غير مقيد بالشرط، بل يتعلق حكم آخر بالمقيد، فيكون هناك حكمان، أحدهما
تعلق بذات الشئ، والاخر تعلق به مقيدا. ولا يخفى ان الاتيان بالفعل بدون
القيد - بعد فرض تعدد المطلوب - يكون امتثالا للحكم الأول. ومنه يظهر الحال
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 12 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 15 - الطبعة الأولى
89

في الوضع، فان الشرط إن لم يرجع إلى الموضوع له كان المعنى الموضوع له في
الحرف والاسم مطلق المعنى بلا قيد ولا شرط. وانما ثبت الاشتراط بالاستعمال
الآلي في الحرف، والاستقلالي في الاسم بنحو الاستقلال بلا دخل له في الموضوع
له، وذلك يقتضي صحة استعمال أحدهما موضع الاخر، إذ الشرط المزبور لم يحدد
ما يقتضيه وضع كل منهما بنفسه بعد أن كان خارجا عن دائرة الموضوع له
والاعتبار الوضعي، بل هو مستقل له اقتضاء مستقل عن الاقتضاء الوضعي.
وعليه، فيرجع المحذور كما هو بلا اندفاع.
وثانيا: لو سلم ان هذا الشرط وان كان مأخوذا بنحو تعدد المطلوب الا
انه لازم الاتباع لجهة ما، ككون الواضع هو الله، وان ذلك - أعني الاشتراط -
يرجع إلى إلزامه تعالى بالاستعمال بهذه الكيفية، لو سلم ذلك فهو انما يقتضي في
صورة المخالفة وعدم الالتزام بالشرط المزبور مخالفة حكم شرعي وعصيان
تكليف إلهي، لا انه يقتضي عدم صحة الاستعمال ان كان الموضوع له هو المعنى
المطلق، فان الشرط يرجع إلى الالزام منه تعالى - كما عرفت - فمخالفته مخالفة
إلزام لا أكثر.
الثاني: ارجاع القيد باللحاظ الآلي أو الاستقلالي إلى العلقة الوضعية.
وتقريب ذلك: ان العلقة الوضعية المصححة للاستعمال الناشئة عن الاعتبار
والوضع، قد تكون ثابتة في مطلق الأحوال بين اللفظ والمعنى، فيصح استعمال
اللفظ في المعنى مطلقا وفي كل حال. وقد تكون ثابتة في حال معين فلا يصح
استعمال اللفظ في المعنى الا في ذلك الحال دون غيره من الأحوال. فالفرق بين
الأسماء والحروف، ان الأسماء وضعت للمعاني ولكن قيدت العلقة الوضعية -
بمعنى قيد حصولها - بين الاسم والمعنى في حال اللحاظ الاستقلالي، فلا تحصل
الا في هذا الحال، فمع اللحاظ الآلي لا علقة بين الاسم والمعنى فلا يصح
الاستعمال، والحروف وضعت لمعانيها ولكن قيد حصول العلقة بينهما في حال
90

اللحاظ الآلي، فلا تحصل الا في هذا الحال، فمع اللحاظ الاستقلالي لا علقة بين
الحروف والمعنى فلا يصح الاستعمال. فالموضوع له في كل من الحروف والأسماء
واحد الا ان العلقة بينه وبين الحرف في حال، وبينه وبين الاسم في حال آخر.
والعبارة بهذا التفسير لا تخلو عن خدشة أيضا، وذلك لان ما ذكر يقتضي
أن يكون حدوث العلقة الوضعية وحصولها بين اللفظ والمعنى متوقفا على
الاستعمال، لوضوح كون المراد باللحاظ الآلي والاستقلالي اللحاظ في حال
الاستعمال، فيكون حدوث العلقة الوضعية بين لفظ الاسم ومعناه عند إرادة
استعماله في المعنى ولحاظ المعنى مستقلا. ويكون حدوثها بين لفظ الحرف والمعنى
عند إرادة استعماله في المعنى ولحاظه آلة، ولازم ذلك أنه لا وضع - علقة وضعية -
بين اللفظ والمعنى قبل الاستعمال، وبطلانه لا يحتاج إلى بيان.
الثالث: ربط اللحاظ الآلي والاستقلالي بالموضوع له لكن لا بنحو
التقييد وبيانه: أن يكون الموضوع له لفظ الحرف ولفظ الاسم واحد لا يختلف
بحسب الذات، ولكن يختلف الموضوع له لفظ الحرف عن الموضوع له لفظ
الاسم، في أن الموضوع له الحرف هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ
الآلي به، والموضوع له الاسم هو ذات المعنى ولكن في حال تعلق اللحاظ
الاستقلالي به، فالموضوع له في كل منهما هو الذات ونفس الماهية بلا دخل
للتخصص الخاص فيه وان كان طرف العلقة هو المتخصص لكن بذاته.
فاللحاظ الآلي والاستقلالي خارج عن الموضوع له ولكنه لازم له لا ينفك عنه،
ونظيره ثابت في مثل حمل (نوع) على (الانسان) فان الموضوع والمحمول عليه
انما هو الماهية بنفسها بلا دخل للحاظ فيه مع أن اللحاظ لا ينفك عنه، إذ حمل
النوع على الانسان أو غيره موطنه الذهن، إذ لا يصح حمل النوع على الانسان
الخارجي، ومعه لا ينفك المحمول عليه عن اللحاظ، وظاهر ان ما يحمل عليه
النوع هو نفس الماهية بلا تقييدها باللحاظ، إذ الماهية المقيدة باللحاظ جزئي
91

ذهني لا نوع، فكيف يصح حمل نوع عليها مقيدة باللحاظ؟!.
إذا ظهر أن الموضوع له في كل من الاسم والحرف واحد ذاتا، وانما يختلف
من حيث اللحاظ بالنحو الخاص الذي صححناه، يظهر عدم صحة استعمال
أحدهما مكان الاخر، إذ العلقة الوضعية إذا كانت بين الحرف والمعنى الملحوظ
باللحاظ الآلي فلا علقة بينة وبين الملحوظ استقلالا، فلا يصح الاستعمال.
وهكذا الكلام في الاسم.
وهذا التفسير لكلام صاحب الكفاية أوجه من أخويه، وان كان ارتباطه
بالعبارة أبعد، ولكنه غير صحيح في نفسه كأخويه، بيان ذلك: ان حال الوضع
بالنسبة إلى اللحاظ الآلي والاستقلالي يختلف عن حال حمل مثل نوع على
الانسان بالنسبة إلى اللحاظ، فان المتحقق في الذهن في حال حمل النوع هو
واقع اللحاظ لا مفهومه، بخلاف المتحقق في حال الوضع فإنه مفهوم اللحاظ
الآلي أو الاستقلالي، ولذلك يتعلق بهما واقع اللحاظ.
ثم إن هناك موردين يلازم فيهما شئ شيئا آخر ولا ينفك عنه ولا يكون
دخيلا فيما رتب على ذلك الشئ الملزوم من أثر وما تعلق به من حكم.
أحدهما: ما تقدم من حمل مثل (نوع) على (الانسان) المعبر عنه في الاصطلاح ب‍ (حمل المعقولات الثانوية) فان هذا الحمل بحكم كون موطنه
الذهن وان الاتصاف المصحح للحمل وملاكه في الذهن لا الخارج، كان المحمول
عليه هو الحصة الملحوظة كما عرفت خروج اللحاظ عن دائرة المحمول عليه،
وإلا لكان جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا.
ثانيهما: الماهيات الجزئية الخارجية، فان كل ماهية خارجية مباينة لماهية
خارجية أخرى، فالحصة الموجودة بوجود عمرو غير الحصة الموجودة بوجود
بكر، وتحقق جزئيتها انما يكون بالوجود، فإذا رتب اثر أو علق حكم على الماهية
الجزئية الخاصة كان الحكم مترتبا عليها بلا دخل للوجود اللازم لها - إذ بدونه لا
92

تخصص لها - في ترتبه مع عدم تعديه إلى غيرها من الحصص، فإذا وضع لفظ زيد
للحصة الخاصة كان الموضوع له هو ذات الحصة بلا تقيد بالوجود الملازم لها غير
منفك عنها، إذ قد عرفت ما في تقيد الموضوع له بالوجود. ولا يتعدى الوضع عن
هذه الحصة إلى غيرها من الحصص.
ولا يخفى ان ما نحن فيه لا يشابه أحد الموردين.
أما عدم كونه من قبل الماهيات الجزئية فلان الالتزام به ملازم للالتزام
بخصوصية الموضوع له، وان الموضوع له في الحرف هو الحصص والجزئيات، وقد
عرفت أنه لا يلتزم به وينكر عليه.
واما عدم كونه من قبيل حمل المعقولات الثانوية، فقد عرفت أن هناك
فرقا موضوعيا ينتج عن أن اللحاظ المعتبر في الحمل انما هو واقع اللحاظ فلا
يتصور فيه التقييد والاطلاق، بخلاف اللحاظ الآلي والاستقلالي فيما نحن فيه،
فان المراد به مفهوم اللحاظ لا واقعه فكما يتصور الواضع حال الوضع مفهوم
الموضوع له، كذلك يتصور مفهوم اللحاظ الآلي أو الاستقلالي لو أراد جعل
الارتباط بينهما، وحينئذ يقال: إنه مع ملاحظة كل من المفهومين - مفهوم الموضوع
له ومفهوم اللحاظ -، وبعد فرض امكان انفكاكه عن الاخر، فاما ان يقيد المعنى
باللحاظ، واما ان يضع اللفظ للمعنى مطلقا أو يهمل.
والثالث، ممتنع لامتناع الاهمال في مقام الثبوت. والثاني، يلزم منه
الترادف وصحة استعمال كل منهما موضع الاخر وهو ما بصدد التفصي عنه في
كلامه. والأول، ما نفاه وشدد النكير عليه فالالتزام به رجوع عما فر منه.
ثم إنه قد أورد على صاحب الكفاية (رحمه الله): بأنه إذا كان الموضوع
له في كل من الحرف والاسم واحدا وانما الاختلاف من حيث اللحاظ، فلازم ذلك
حدوث علاقة بين معنى الاسم والحرف وثبوتها بنحو يصح استعمال كل منهما في
معنى الاخر مجازا، بل العلاقة الثابتة أقوى العلاقات، إذ علقة الاتحاد الذاتي
93

والماهوي بين المعنيين لا تفوقها العلقة الناشئة عن مناسبة ما بين معنيين يختلفان
حقيقة وذاتا، فإذا صححت هذه الاستعمال المجازي فتصحيح تلك العلاقة بين
معنى الاسم والحرف للاستعمال المجازي لكل منهما في معنى الاخر أولى، مع أن
الوجدان قاض باستهجان استعمال الاسم موضع الحرف أو الحرف موضع الاسم
ولو مجازا، وعدم صحته.
ولكن هذا الايراد لا يخلو عن مناقشة، فان العلاقة المصححة للاستعمال
المجازي إنما تكون اثباتا ونفيا بنظر العرف لا بالنظر الدقي العقلي، لان
الاستعمالات عرفية فالحكم في تصحيحها بمصحح هو العرف. ومعنى الاسم وان
كان في الحقيقة والدقة يتحد مع معنى الحرف الا انه حيث كان عرفا وبالنظر
العرفي مباينا لمعنى الحرف لم يصح استعمال أحدهما موضع الاخر مجازا، وكان
ذلك غلطا ومستهجنا لعدم العلاقة المصححة لتباينهما بنظره.
واما المذهب الثاني: فقد عرفت أنه يتلخص في أن الحروف لم توضع إلى
أي معنى، بل هي علامات على حالات خاصة تعرض على مدخولاتها، فهي على
هذا كحركات الاعراب غير الموضوعة لاي معنى، وانما كانت علامات لبعض
حالات الاسم والفعل.
وقد نفي هذا المذهب بمنع ما ذكر في المقاس - أعني الحروف - وفي
المقاس عليه - أعني حركات الاعراب - أما منعه في الحروف، فلان هناك معان
خارجة عن مدلول الأسماء وتفهم عند انضمام الحرف إلى الاسم، وبعبارة أخرى:
انه بضم الحرف إلى الاسم يفهم معنى وخصوصية ما خارجة عن مدلول الاسم
ولا تفهم بذكر الاسم وحده، فيتعين أن يكون الدال عليها هو الحرف، إذ ليس
في الكلام غيره مما يمكن القول بكونه دالا على المعنى.
واما منعه في حركات الاعراب، فلنفس الوجه، فإنه يستفاد من حركات
الاعراب معان وخصوصيات خارجة عن أصل مدلول الاسم. ولذلك يتغير
94

المعنى بتغيرها وتبدلها وذلك ظاهر جدا.
واما المذهب الثالث ففيه أقوال:
القول الأول: ما اختاره المحقق النائيني (1) (رحمه الله)، وبيان ما افاده
(قدس سره): انه كما أن للعرض الخارجي في مقام قيامه رابط يربط بموضوعه
ونسبة ما بينه وبين موضوعه، كذلك المفاهيم في مرحلة التصور والوجود الذهني
لا بد في قيام بعضها ببعض ذهنا من تحقق الربط بينها، ولا يخفى ان الرابط بين
الموجودات الخارجية والمفاهيم خارج عن حقيقة الموجود الخارجي والمفهوم،
فالربط بين زيد والقيام في الخارج ليست حقيقته من سنخ حقيقة زيد والقيام،
فليس له ماهية وتقرر يعرض عليه الوجود كزيد والقيام، والا لاحتاج في وجوده
إلى رابط يربطه بغيره لعدم صلاحيته للربط حينئذ بل حقيقته لا تخرج عن حد
الوجود، ومن سنخ الوجود. فالنسبة والربط بين زيد والقيام من خصوصيات
وجوديهما. وهكذا الربط بين مفهومي زيد والقيام في الذهن فإنه ليس من سنخ
المفاهيم التي يتعلق بها التصور واللحاظ، والا لاحتاج إلى رابط يربطه بغيره، إذ
يكون حينئذ كغيره من المفاهيم فلا يصلح للربط، وانما هو من سنخ اللحاظ
والتصور ومن خصوصيات لحاظ المفهومين.
وبالجملة: كما أن النسبة الخارجية - أعني النسبة بين الموجودين خارجا -
لا تخرج عن حد الوجود وليس لها ماهية يعرض عليها الوجود، كذلك النسبة
الذهنية - أعني النسبة بين المفهومين ذهنا - لا تخرج عن حد اللحاظ وليس لها
مفهوم يتعلق به اللحاظ والتصور، فصح حينئذ ان يعبر عن النسبة الذهنية
بالنسبة الكلامية بلحاظ انها النسبة بين المفهومين المدلولين للكلام وانه لا واقع
لها الا الكلام، حيث إنه لا تقرر لها في نفسها ولا وجود لها قبل وجود المفهومين.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 16 - الطبعة الأولى
95

فالذي وضع له الحرف هو النسبة الكلامية، أعني النسبة بين المفهومين في الذهن
والربط الحاصل بينهما، وبذلك يختلف المعنى الحرفي جوهرا وحقيقة عن المعنى
الاسمي، فان المعنى الاسمي عبارة عن مفهوم له تقرر في وعائه الخاص يتعلق
به اللحاظ ويعرض عليه التصور، بخلاف المعنى الحرفي فإنه من سنخ اللحاظ
والتصور لا مفهوم يتعلق به اللحاظ.
وبعبارة أخرى: الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي كالفرق بين
الربط الخارجي والموجودات الخارجية. فكما انه لا ماهية للربط الخارجي يعرض
عليها الوجود، بل هو من سنخ الوجود، كذلك لا مفهوم للنسبة الذهنية والربط
الذهني يتعلق به التصور، بل هو من سنخ التصور.
وبهذا يعلم ان المعنى الحرفي له أركان ثلاثة يختلف بها عن المعنى
الاسمي:
الركن الأول: ان المعاني الحرفية ايجادية بخلاف المعاني الاسمية فإنها
اخطارية.
والوجه فيه: ان المعنى الحرفي كما عرفت هو الربط الذهني بين المفهومين،
وقد عرفت أن الربط الذهني ليس شيئا غير الوجود الذهني ومن أنواعه. وعليه،
فهو غير قابل للانتقال والخطور في الذهن، بل هو يتحقق في الذهن ويوجد،
بخلاف المعنى الاسمي فان له مفهوما يتعلق به اللحاظ والتصور وله تقرر في
وعائه المناسب له. وعليه فهو قابل للخطور في الذهن وتعلق التصور به.
وبهذا البيان يتضح ان سنخ دلالة الحروف على المعاني ليس سنخ دلالة
سائر الألفاظ على معانيها، وبعبارة أخرى: ليس سنخ الدلالة الوضعية وهي
الدلالة التصورية، لعدم قابلية المعنى الحرفي للتصور والانتقال، بل نفس المعنى
الحرفي يتحقق بذكر الحرف ويوجد في ذهن السامع، فإذا قيل: (زيد في الدار)
96

تحقق اللحاظ الخاص في الذهن عند السامع.
وعليه، فكون المعنى الحرفي ايجاديا يصح أن يكون بلحاظ انه من سنخ
الوجود غير القابل للخطور والتصور، وأن يكون بلحاظ انه بذكر الحرف يوجد
المعنى ويحدث في ذهن السامع، لا انه - اي الحرف - يوجب تصور معنى ومفهوم
ما والانتقال إليه كغيره من الألفاظ. فهي ايجادية بالنسبة إلى المتكلم بالمعنى
الأول وبالنسبة إلى السامع بالمعنى الثاني.
ودلالة الحرف على المعنى في ذهن المتكلم لا تكون من باب دلالة المفهوم
على مصداقه والعنوان على معنونه، بل من باب حكاية الفرد عن الفرد المماثل
الاخر، وهكذا دلالته على النسبة الخارجية والربط الخارجي.
الركن الثاني: ان المعاني الحرفية لا واقع لها بما هي معان حرفية في غير
التراكيب الكلامية، بمعنى انه لا مفهوم لها متقرر في وعائه يتعلق به الوجود
الذهني، بخلاف المعاني الاسمية فإنها مفاهيم لها تقرر في عالم المفهومية، وقد
اتضح ذلك ببيان ايجادية الحروف، فان ذلك لازم كونها ايجادية ومن سنخ الوجود
، فإنه لا واقع لها حينئذ غير واقع الوجود، وليست المعاني الاسمية كذلك، بل
واقعها غير واقع الوجود، ولذا لا تنعدم بانعدام التصور واللحاظ.
الركن الثالث: ان المعنى الحرفي مغفول عنه وغير ملتفت إليه بخلاف
المعنى الاسمي.
ووجهه: ان المعنى الحرفي بعد أن كان من سنخ اللحاظ والتصور وكيفية
من كيفياته ولم يكن من المفاهيم المتقررة كان غير قابل لتعلق اللحاظ
الاستقلالي به والالتفات إليه، لان اللحاظ في ظرفه غير ملتفت إليه أصلا
ومغفول عنه والالتفات لنفس الملحوظ، فما يكون من سنخ اللحاظ ومن كيفياته
كالنسبة والربط لم يكن قابلا للالتفات كما هو ظاهر جدا.
97

وقد ذكر المحقق النائيني للمعنى الحرفي ركنا رابعا (1) لا يتعلق لنا بذكره
غرض، ولذلك أرجأناه إلى محله في مبحث الخبر والانشاء. فانتظر.
وقد ناقش السيد الخوئي (حفظه الله) في الأركان الثلاثة: فناقش في
الركن الثاني، أعني انها لا واقع لها الا في التراكيب الكلامية.
وقد حمل السيد الخوئي (حفظه الله) كلام المحقق النائيني (رحمه الله) على أن
الحرف موضوع لايجاد الربط بين الكلمات التي تتألف منها الجملة، وان
الربط لا يحصل بدون الحرف ويكون الحرف سببا لحدوثه، ولذلك كان معنى
الحرف لا واقع له الا في ضمن التراكيب الكلامية، لأنه الربط بين اجزاء الكلام.
فاستشكل عليه: بان هذا مما لا اشكال فيه وان الألفاظ لا تكون مرتبطة
بعضها ببعض الا بواسطة الحرف، الا ان ذلك باعتبار دلالة الحرف على معنى
بذلك المعنى يكون الحرف موجدا للربط، ونحن في مقام تشخيص ذلك المعنى
والكشف عن حقيقته، فالربط بين الكلمات الذي هو ايجادي ولا واقع له الا في
ضمن التراكيب الكلامية أمر مسبب عن معنى الحرف لا انه هو معنى الحرف.
ثم ذكر بعد ذلك أن المعنى الحرفي سنخ مفهوم، الا انه غير مستقل يخطر
في الذهن بتبع غيره، وهذا وإن لم يوجب كونه اخطاريا - بلحاظ ان الاخطاري
ما كان يخطر في الذهن استقلالا وبنفسها -، الا انه ليس ايجادا لكونه ذا تقرر
في وعائه قبل ذكر الحرف فليس الحرف موجدا له فلا وجه لفرض كونه ايجاديا
باعتبار انه لو لم يكن ايجاديا لكان اخطاريا لتصور الواسطة وان لا يكون المعنى
اخطاريا ولا ايجاديا. كما أنه يظهر ان ما ذكره من أن المعنى الحرفي لا واقع له
في غير التراكيب الكلامية غير سديدة.
هذا ما ذكره السيد الخوئي في مقام مناقشته للركنين الأولين - كما يستفاد
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 21 - الطبعة الأولى
98

من تقريرات الفياض - (1).
ولكن المناقشة فيه واضحة بعد ما عرفت من توجيه كلام المحقق النائيني،
فان المحقق النائيني لم يذهب إلى أن معنى الحرف هو الربط بين الكلمات - كما
تخيله السيد الخوئي - كي يرد عليه ما ذكر، بل ذهب إلى أن معنى الحرف هو
النسبة والربط بين المفهومين ولما كان هذا من سنخ الوجود كان المعنى الحرفي
ايجاديا لا يقبل الخطور أصلا، كما أنه لا يكون له واقع في غير التراكيب
الكلامية، بمعنى انه لا تقرر له في وعاء ما يتعلق به التصور، بل هو موجود
بوجود المفهومين، وبهذا الاعتبار صح التعبير بأنه لا واقع له في غير التراكيب
الكلامية، بلحاظ المحكي بالكلام وهو المفهوم، لا بلحاظ نفس الكلام كما توهم،
ولعل هذا التعبير وما يماثله كالتعبير بالنسبة الكلامية هو الذي أوهم السيد
الخوئي بما تقدم منه. ولكن مراده (قدس سره) غير ما ذكر والتعبير المزبور
اصطلاحي يمكن أن يكون بلحاظ المحكي بالكلام من المفاهيم، إذ واقع النسبة
والربط في وجود المفاهيم لأنه كيفية وجودها، لا بلحاظ نفس الكلام واللفظ.
وبالجملة: لا وجه لما ذكره بعد ملاحظة ما بيناه من مراد المحقق
النائيني.
ثم إنه (حفظه الله) ناقش في الركن الثالث - أعني كون المعنى الحرفي
مغفولا عنه - بأنه خلاف الوجدان لان المعاني الحرفية كثيرا ما يكون اللحاظ
الاستقلالي والقصد الأولي متعلقين بإفادتها ويكون ذكر الاسم مقدمة لإفادة تلك
الخصوصية والتحصص. فتقول في جواب من سألك عن كيفية ركوب زيد مع
العلم بأصل تحققه: انه ركب على الدابة أو مع الأمير ونحو ذلك.
ولكن الاشكال فيما ذكره بعد تقرير لزوم الالية للمعنى الحرفي بما تقدم
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 68 - الطبعة الأولى
99

لا يحتاج إلى بيان.
واما الاستشهاد بالمثال المذكور فلا وجه له، لأنه مع العلم بأصل الركوب
يعلم جزما بتحقق نسبة ما بينه وبين شئ آخر من زمان أو مكان أو وسيلة أو
صاحب ونحو ذلك، فالسؤال في الحقيقة عن طرف النسبة الاخر المجهول لا
عن النسبة كي يكون الجواب ناظرا إلى بيانها المقتضي لتعلق اللحاظ
الاستقلالي، فلا يصلح المثال للاستشهاد على ما ادعاه.
نعم هناك مثال آخر أقرب للاستشهاد مما ذكره، وهو ما إذا رأينا شخصا
في طريق بين البصرة والكوفة ولم نعلم انه آت من البصرة أم ذاهب إليها؟ فنسأله
: (أمن البصرة أم إليها) فان السؤال ههنا يتعين أن يكون عن النسبة بين السير
والبصرة وانها النسبة الابتدائية أو الانتهائية لا عن أحد الطرفين للعلم بهما
والمجهول هو النسبة كما هو ظاهر. ولكن هذا المثال قابل للمناقشة كسابقه
لوجهين:
الأول: ما هو المقرر في علم العربية من تعلق الجار بعامل مقدر،
فالسؤال عنه لا عن النسبة.
الثاني: إنه بعد أن عرفت أن النسبة من المعاني الالية المغفول عنها حال
الاستعمال - والمعنى الحرفي انما كان كذلك باعتبار انه النسبة والربط - سواء
كان الحرف موضوعا لها أو لم يكن - وهو أمر لا كلام فيه -، امتنع أن يتعلق بها
الالتفات واللحاظ الاستقلالي، فلا بد من حمل ما ظاهره تعلق الالتفات بالنسبة
- كالمثال لو سلم ذلك - على غير ظاهره مما يتلائم مع ما يقتضيه حال النسبة
والربط.
وبالجملة: فالايراد المذكور على الالتزام بآلية النسبة والغفلة عنها
الذي هو أمر لازم لواقع النسبة ولا ينكره أحد حتى من لا يقول بوضع الحرف
لها، ولا يكون ايرادا على الالتزام بوضع الحرف للنسبة، لان السؤال في المثال
100

عن نفس النسبة الحاصلة بين الطرفين بلا لحاظ انها معنى الحرف أو غيره.
وعليه، فإذا ثبت بالبرهان القطعي عدم قابلية النسبة للالتفات، فلا بد
من توجيه المثال بما لا يتنافى مع مقتضى البرهان. فتدبر.
ثم إنه لا ينافي ما ذكرناه من آلية المعنى الحرفي - والغفلة عنها تعلق القصد والغرض بها نفسها حال الاستعمال، إذ تعلق الغرض بما يكون آلة
وطريقا لا يكاد ينكر كما يتعلق بالنظارة أو المرآة فيما لو قصد معرفة جنسها
وكيفية كشفها.
وجه عدم المنافاة: ان تعلق الغرض بما لا يقبل اللحاظ الاستقلالي
لا يقتضي تعلق اللحاظ الاستقلالي به كي يتنافى مع فرضه ليس كذلك، بل
يمكن تعلق الغرض به مع عدم انفكاكه عن الالية وعدم الالتفات الاستقلالي،
وذلك نظير (النظارة) فان الغرض بوضعها على العينين للرؤية وإن لم يتعلق
بنفس الرؤية وانما تعلق بها لمعرفة جودتها ورداءتها في مقام الرؤية، الا أنها في
مقام الاستعمال لا تكون ملحوظة استقلالا، بل الملحوظ بالاستقلال انما هو
المرئي وهي مغفول عنها حال الرؤية والاستعمال وان تعلق بها الغرض، إذ الجودة
والرداءة تعرف بالتجربة بالرؤية والاستعمال.
وبالجملة: إذا كان المعنى آليا وغير ملتفت إليه حال الاستعمال، فتعلق
الغرض به حال الاستعمال لا ينافي آليته وعدم لحاظه بالاستقلال، بل الغرض
يتعلق به بهذا النحو - اي بنحو استعماله وهو الاستعمال باللحاظ الآلي لا
الاستقلالي -، وبعبارة أخرى: الغرض أمر يترتب على الاستعمال بواقعه وبنحوه،
فلا يقتضي تغيير نحو الاستعمال: إذ لا يتنافى حينئذ مع طور الاستعمال كيفما
كان. فالغرض من استعمال النظارة يترتب عليه وهو لا يكون الا باللحاظ الآلي
ولا يتنافى ذلك مع تعلق الغرض به.
وقد ناقش المحقق العراقي اختيار المحقق النائيني ايجادية المعنى الحرفي
101

بوجوه أربعة:
الأول: ان المعاني التي تتصورها النفس اما ان تكون مرتبطة بعضها
ببعض أو غير مرتبطة، فما تصورته النفس مرتبطا فلا يعقل احداث الربط بين
اجزائه لأنه تحصيل للحاصل. وما تصورته غير مرتبط لم يعقل احداث الربط
فيه لان الموجود لا ينقلب عما هو عليه. نعم يمكن ان يفنى ويحدث في اثره وجود
آخر بخصوصية أخرى. وعليه فلو أراد المتكلم إفادة السامع مفاد: (زيد في
الدار)، فحين تلفظه ب (زيد) يتصور السامع مفهومه مستقلا لعدم علمه بعد
بالربط وبمفاد الجملة. فإذا تلفظ في اثره ب‍ (في الدار) فلا يخلو مدعي ايجادية
الحرف من أن يلتزم بأحد أمرين: اما احداث الربط في الموجود غير المرتبط
وقد عرفت امتناعه. أو احداث موجود آخر مرتبط غير المتصور الأول وهو
خلاف الوجدان.
الثاني: ان الهيئات الدالة على معنى لا بد وأن يكون مدلولها معنى حرفيا،
وعلى فرض كون المعنى الحرفي ايجاديا يلزم أن يكون معنى الهيئة متقدما في
حال كونه متأخرا وبالعكس وهو خلف. وبيان ذلك: ان الهيئة التي تطرأ على
المادة متأخرة بالطبع عن المادة التي مدلولها معنى اسمي، وبما انها دالة عليه
تكون متأخرة عنه تأخر الدال عن المدلول. وعليه فتكون الهيئة متأخرة عن
المعنى الاسمي برتبتين لتأخرها عن المادة المتأخرة عن المعنى الاسمي. وبما أن
الهيئة توجد معناها في المعنى الاسمي كان معناها متأخرا عنها تأخر المعلول عن
علته: وعليه فالمعنى الحرفي متأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب، بوما انه مقوم
لموضوعه وهو المعنى الاسمي لأنه من خصوصيات وجوده لزم كونه في رتبته فهو
في نفس الوقت متأخر ومتقدم.
الثالث: انه لو التزم بايجادية المعنى الحرفي لزم أن يكون معنى الحرف
في حيز الطلب وصقعه لا في حيز المطلوب وصقعه، لأنه يوجد باللفظ كالطلب
102

فيكون متحققا حال تحقق الطلب وظاهر تأخر الطلب عن المطلوب رتبة لعروضه
عليه، فعليه يلزم أن يكون المعنى الحرفي متقدما ومتأخرا في حال واحد، لأنه
بملاحظة كونه موجودا مع الطلب كان في رتبة الطلب ومتأخرا عن المطلوب،
وبملاحظة كونه من قيود المطلوب كان متقدما على الطلب وفي رتبة المطلوب وهو
خلف.
الرابع: ان كل لفظ سواء كان ذا مدلول افرادي ك‍: (زيد)، أو ذا مدلول
تركيبي ككل كلام يدل على معنى مركب تام ك‍: (زيد قائم) أو ناقص ك‍: (غلام
زيد). لا بد أن يكون له مدلول بالذات وهو المفهوم الذي يحضر في الذهن عند
سماع اللفظ، ومدلول بالعرض وهو ما يكون المفهوم فانيا فيه مما هو خارج عن
الذهن. وهذه الدلالة والمدلول هما المقصودان بالوضع والاستعمال وتأليف الكلام
والمحاورة به دون الأول، ولو التزم بايجادية معنى الحرف لزم ان ينحصر مدلول
الكلام بالعرض في المعاني الافرادية التي لا يحصل بها شئ من الإفادة
والاستفادة.
وذلك: لان كل كلام لا بد ان يشتمل على نسبة ما وهي التي يحصل بها
الربط بين مفرداته. فاما مفرداته فهي بما انها معان اسمية اخطارية يكون لها
مدلول بالذات وهو مفهومها ومدلول بالعرض وهو ما يفنى فيه ذلك المفهوم مما
هو خارج عن الذهن وهو المعنى الافرادي. واما النسبة التي تربط تلك
المفردات فهي بما انها من المعاني الحرفية الايجادية حسب الفرض لا يكون لها
الا مدلول بالذات وهو الوجود الرابط بين المعاني الاسمية. وعليه لا يكون لشئ
من الكلام دلالة يصح السكوت عليها ويحصل بها التفاهم أصلا وهو خلاف
الضرورة والوجدان.
هذه هي الوجوه الأربعة، وقد ذكرناها بنفس عبارة تقريرات بحثه
103

بتصرف قليل (1)، الا ان كلا منها لا يخلو عن خدش:.
اما الأول: فلان الربط كما عرفت من خصوصيات نفس اللحاظ
والتصور. وعليه فبذكر لفظ (زيد) يتحقق تصوره ولحاظه بلا اي تقيد، وبعد
ذكر (في الدار) تضاف إلى ذلك اللحاظ والوجود الذهني خصوصية، وذلك
لا يستلزم أحد المحذورين المذكورين لأنه ليس باحداث موجود مرتبط جديد
كما لا يخفى ولا ايجادا للربط في الموجود غير المرتبط، لان الربط من
خصوصيات الوجود لا الموجود كما عرفت، وانما هو إضافة خصوصية إلى
الوجود، فهو نظير حدوث الأوصاف على الوجود الخارجي فإنها ليست احداثا
لموجود غير الأول كما انها ليست احداثا لربط في غير المرتبط فلاحظ.
وأما الثاني: فلان المعنى الحرفي ليس مقوما لموضوعه كي يدعى أنه في
رتبته، بل هو من خصوصيات وجود المعنى الاسمي الذهني وطوارئه. وعليه فلا بد
من فرض وجود معنى اسمي يتعلق به اللحاظ الخاص فهو متأخر رتبة عن
المعنى الاسمي لا محالة، فلا يلزم تقدمه أو تأخره على نفسه بثلاث رتب.
وأما الثالث: فلان تقدم المطلوب على الطلب انما هو في ذهن الامر
المتكلم، وقد عرفت أن الحروف ليست بموجودة لمعانيها ومحدثة لها في ذهنه،
وانما هي موجدة لها في ذهن السامع وليس المطلوب في ذهنه متقدما رتبة على
الطلب. فلا يلزم تقدم المعنى الحرفي على نفسه ولا تأخره كما ادعى، لأنه وان
كان في صقع الطلب بالنسبة إلى السامع الا انه لا تقدم للمطلوب على الطلب
في ذهنه، وأما بالنسبة إلى المتكلم فهو ليس في صقع الطلب لأنه متحقق قبل
التلفظ.
وأما الرابع: فلما عرفت من اختلاف دلالة الحروف عن دلالة الأسماء،
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 43 - 45 - الطبعة الأولى
104

فان الأسماء توجب خطور معانيها في الذهن وتحكي عن الخارج حكاية الكلي
عن فرده ومصداقه وما ينطبق عليه. بخلاف الحروف، فان دلالتها على النسبة
الخارجية بواسطة النسبة الذهنية من باب دلالة الفرد عن الفرد المماثل له،
فللحرف مدلول بالعرض الا انه بهذه الكيفية من الدلالة لا بكيفية دلالة الأسماء.
والمتحصل: عدم نهوض أي ايراد من هذه الايرادات.
القول الثاني: ما اختاره المحقق الأصفهاني (رحمه الله)، ومحصله: ان
المعنى الحرفي والاسمي متفاوتان ومختلفان بحسب ذاتيهما وحقيقتهما، والفرق
بينهما كالفرق بين الوجود في نفسه والوجود لا في نفسه، أعني الوجود الرابط في
قبال الوجود المحمولي.
وبيان ذلك: ان الفلاسفة - كما قيل - قسموا الوجود إلى أقسام أربعة:
الأول: الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه وهو وجود الواجب تعالى شأنه،
فإنه موجود قائم بذاته وليس معلولا لغيره.
الثاني: الوجود في نفسه ولنفسه ولكن بغيره وهو وجود الجوهر، فإنه قائم
بذاته ولكنه معلول لغيره.
الثالث: الوجود في نفسه ولكن لغيره وهو وجود العرض، فإنه غير قائم
بذاته بل متقوم بموضوع في الخارج، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع
متحقق في الخارج. ويعبر عن هذا القسم في الاصطلاح بالوجود الرابطي.
الرابع: الوجود لا في نفسه وهو المعبر عنه بالوجود الرابط في قبال
الوجود الرابطي، وهو وجود النسبة والربط، فان حقيقة النسبة لا توجد في
الخارج الا بتبع وجود المنتسبين بلا استقلال لها أصلا. فهي بذاتها متقومة
بالطرفين لا في وجودها. بخلاف العرض فإنه بذاته غير متقوم بموضوعه، وانما
ذلك - أعني التقوم بموضوع - من لوازم وجوده وضرورياته.
وقد استدل بتحقق الوجود الرابط خارجا، بانا قد نتيقن بوجود الجوهر
105

كزيد والعرض كالقيام، ولكن نشك في ثبوت العرض المقطوع وجوده للموضوع
المقطوع وجوده أيضا. ومن البديهي لزوم تغاير متعلق الشك واليقين لأنهما ضدان
فاتحاد متعلقهما يستلزم اجتماع الضدين في واحد وهو محال.
وعليه، ففرض تعلق الشك في ارتباط العرض بالمعروض مع اليقين
بوجودهما يكشف عن كون متعلق الشك وهو الربط والنسبة ذا وجود غير وجود
الطرفين، وبذلك يثبت تحقق القسم الرابع من الوجود خارجا.
والذي التزم به المحقق الأصفهاني (قدس سره): هو ان المعنى الحرفي
كالوجود الرابط في كونه معنى متقوما بالطرفين لا وجود ولا تحقق له الا في ضمن
طرفين وليس له وجود منحاز عن وجوديهما. الا ان نقطة الاختلاف بينهما هو ان
المعنى الحرفي موطنه الذهن والوجود الرابط موطنه الخارج.
بل يصح ان يقال: ان المعنى الحرفي قسم من الوجود الرابط وهو الوجود
الرابط في الذهن القائم بمفهومين الذي يعبر عنه في طي كلماته بالنسبة والربط
بين المفاهيم، دون الوجود الرابط في الخارج المعبر عنه بالنسبة الخارجية، والذي
يشهد على أن اختياره كون المعنى الحرفي الربط الذهني ما ذكره في كتابه
(الأصول على النهج الحديث) من أن الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي كالفرق
بين الوجود الرابط و المحمولي. وما ذكره في نهاية الدراية من توهين تنظيرهما
بالجوهر والعرض لان العرض موجود في نفسه لغيره، وكن الصحيح تنظيرهما
بالوجود المحمولي والوجود الرابط لا الرابطي، كما أنه كان يصرح بذلك في
مجلس درسه (1).
وأورد عليه المحقق الخوئي (حفظه الله) بوجهين:
.

الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث / 24 - 22 - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي - نهاية الدراية 1 / 16 - 19 - الطبعة الأولى
106

الأول، انه لو سلمنا تحقق وجود للرابط والنسبة خارجا غير وجود
الجوهر والعرض، فلا نسلم وضع الحروف والأدوات لها، لما تقدم امتناع الوضع
للموجودات الذهنية والخارجية وتعين وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيات،
لان المقصود من الوضع هو التفهيم، والتفهيم بحصول صورة المعنى في الذهن
باستعمال اللفظ، والموجود الخارجي لا يقبل الاحضار في الذهن لأنه حلف كونه
خارجيا، والموجود الذهني غير قابل للاحضار ثانيا لان الموجود الذهني لا يقبل
وجود ذهنيا آخر.
وعليه، فيمتنع الوضع للموجود خارجيا كان أو ذهنيا للغويته وعدم ترتب
اثر الوضع عليه.
الثاني: انه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا امكان الوضع للموجود بما هو
موجود، فلا نسلم وضع الحرف للنسبة، لاستعماله بلا مسامحة في موارد يمتنع
فيها تحقق نسبة ما حتى بمفاد (هل) البسيطة. فلا فرق بين قولنا: (الوجود
للانسان ممكن) و (لله تعالى ضروري) و (لشريك الباري مستحيل)، فان كلمة
(اللام) مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد بلا عناية في أحدها، مع أنه
يستحيل فرض استعمالها في النسبة في بعضها حتى بمفاد كان التامة، لعدم
تحقق اي نسبة بين الواجب وصفاته، لان النسبة انما تتحقق بين ماهية ووجودها
نظير (زيد موجود)، فلاحظ (1).
ولكن الحق عدم ورود كلا الوجهين:
أما الأول: فلان امتناع وضع اللفظ للموجود مما أسسه المحقق
الأصفهاني والتزم به وقربه بما تكرر من: (ان المقابل لا يقبل المقابل والمماثل
لا يقبل المماثل). إلا أن ذلك يختص بالأسماء دون الحروف، فإنه التزم بكون
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 76 - الطبعة الأولى
107

الموضوع له فيها هو الوجود الذهني، والايراد المزبور بدفع بما أشرنا إليه من
أن دلالة الحروف وحكايتها تختلف عن دلالة الأسماء، فإنها من قبيل دلالة
المماثل على المماثل، فلا يرد فيه المحذور.
واما الثاني: فلانه يبتني على اخذ الموضوع له هو الوجود الخارجي، وقد عرفت خلافه وان الموضوع له هو الربط الذهني فلا يرد عليه الاشكال، لان
عروض النسبة بين الذات المقدسة والوجود انما يستحيل في الخارج، وأما في
الذهن وعروضها بين المفاهيم المتصورة عنهما، فلا امتناع فيه. والربط الذهني
قوامه بالمفاهيم لا بالوجودات الخارجية.
ثم إنه (حفظه الله) استشكل في أصل تحقق قسم رابع في الخارج يعبر
عنه بالوجود الرابط وحكم: بان الصحيح عدم وجود للربط والنسبة خارجا
قبال وجود الجوهر والعرض - وعليه فينهدم أساس هذا الاختيار، أعني اختيار
وضع الحرف للنسبة -، والوجه في ذلك عدم وجود الدليل عليه سوى ما ذكر من
البرهان وهو غير تام، وذلك: لان صفتي اليقين والشك وان كانتا متضادتين فلا
يكاد يمكن ان تتعلقا بشئ في آن واحد من جهة واحدة. الا ان تحققهما في
الذهن لا يكشف عن تعدد متعلقهما في الخارج، فان الطبيعي عين فرده ومتحد
معه خارجا، ومع ذلك يمكن أن يكون أحدهما متعلقا لصفة اليقين والاخر متعلقا
لصفة الشك، كما إذا علم اجمالا بوجود انسان في الدار ولكن شك في أنه زيد
أو عمرو، فلا يكشف تضادهما عن تعدد متعلقيهما بحسب الوجود الخارجي،
فإنهما موجودان بوجود واحد حقيقة، وذلك الوجود الواحد من جهة انتسابه إلى
الطبيعي متعلق اليقين. ومن جهة انتسابه إلى الفرد متعلق للشك. أو إذا أثبتنا
ان للعالم مبدأ ولكن شككنا في أنه واجب أو ممكن، على القول بعدم استحالة
التسلسل فرضا. أو أثبتنا انه واجب ولكن شككنا في أنه مريد أولا، إلى غير
ذلك. مع أن صفاته تعالى عين ذاته خارجا وعينا كما أن وجوبه كذلك.
108

وما نحن فيه من هذا القبيل، فان اليقين متعلق بثبوت طبيعي العرض
للجوهر والشك متعلق بثبوت حصة خاصة منه له، فليس هنا وجودان أحدهما
متعلق لليقين والاخر للشك، بل وجود واحد حقيقة مشكوك فيه من جهة ومتيقن
فيه من جهة أخرى. وتلخص ان تضاد صفتي اليقين والشك لا يستدعي إلا
تعدد متعلقهما في أفق النفس، واما في الخارج عنه فقد يكون متعددا وقد يكون
واحدا. انتهى كلامه كما جاء في تقريرات بحثه للفياض (1).
القول الثالث: - وهو ما اختاره المحقق العراقي - وقد أطال (قدس
سره) في بيان دعواه، وحاصل اختياره: - بعد أن قرر التغاير الذاتي بين المعنى
الاسمي والمعنى الحرفي، وأنكر على الرأي القائل باتحادهما في الذات والحقيقة،
وان التغاير بينهما في مرحلة الاستعمال من جهة اللحاظ الاستقلالي واللحاظ
الآلي - ان الحروف موضوعة للاعراض النسبية، وهي الاعراض المتقومة في
وجودها إلى طرفين - كالأبوة والبنوة -، فلفظ (في) - مثلا - موضوعة للظرفية
المتقومة بالظرف والمظروف، و (من) موضوعة للابتداء المتقوم بالمبتدأ والمبتدأ
منه.
وأفاد: بان الموضوع إلى نفس الربط والنسبة هو الهيئة التركيبية دون الحروف، فإنها موضوعة إلى المعنى النسبي المعبر عنه في الاصطلاح بالوجود
الرابطي.
وبذلك يندفع ما قد يرد من: ان المعاني الافرادية تحتاج في إفادة المعنى
التركيبي الجملي إلى رابط بعضها ببعض، فإذا كان معنى الحرف نفس
العرض النسبي احتاج الكلام إلى رابط يربط بعض اجزائه ببعض، لعدم
صلاحيته للربط إذا كان معناه نفس العرض، فما الذي يكون الرابط إذن ان
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 75 - الطبعة الأولى
109

لم يكن الحرف؟، فإنه بما افاده يتبين ان ما يؤدي وظيفة الربط هو الهيئة التركيبية
وقد قرب (قدس سره) هذه الدعوى - كما في تقريرات بحثه - بما نصه
: (والسيرة العقلائية حسب الاستقراء تدل على أن العقلاء لم يهملوا معنى من
المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة، من حيث جعل الطريق لها
والكاشف عنها وهو الكلام. ولا يخفى ان المعاني الحرفية من أهم المعاني التي
يحتاج الانسان إلى الدلالة عليها في مقام الإفادة والاستفادة. وأيضا حسب
الاستقراء والفحص عما يدل من الألفاظ الموضوعة على المعاني المذكورة، قد
وجدنا الأسماء تدل على الجواهر وجملة من الاعراض، ووجدنا الحروف تدل على
جملة الاعراض الإضافية النسبية، ووجدنا الهيئات سواء كانت من هيئات
المركبات أم من هيئات المشتقات تدل على ربط العرض بموضوعه، مثلا لفظ
(في) يدل على العرض الأيني العارض على زيد في مثل قولنا: (زيد في الدار)
وهيئة مثل (عالم) و (ابيض) و (مضروب) تدل على ربط العرض بموضوع ما
وكذلك بقية الحروف تدل على إضافة خاصة وربط مخصوص بين المفاهيم
الاسمية) (1).
والذي يتحصل من مجموع كلامه، ان الهيئات موضوعة للربط والنسبة
بين العرض ومحله. والحروف موضوعة للاعراض الإضافية النسبية.
وبذلك يتفق مع المحققين النائيني والأصفهاني في جهة - وهي جهة وضع
الهيئات - ويختلف معهما في أخرى - وهي جهة وضع الحروف - وذلك واضح.
والذي يرد عليه أولا: ان المعنى الحرفي إذا كان هو العرض النسبي فهو
لا يفترق عن المعنى الاسمي أيضا، إذ يكون المعنى الموضوع له لفظ (في) ولفظ
(الظرفية) واحد وهو العرض النسبي، وهو يناهض الوجدان الحاكم بثبوت
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 49 - الطبعة الأولى
110

الفرق بين معنى اللفظين، فان العرف يرى فرقا شاسعا بين معنييهما عند القاء
الكلام إليه، ويرى ان الاعراض التسع بجملتها النسبية من الوجودات
المستقلة في ذاتها وانها من المعاني الاسمية.
وثانيا: انه لا يظهر هناك فرق ذاتي بين الاسم والحرف في المعنى، فان
لفظ الابتداء لم يوضع لسوى الابتداء الذي يكون من الاعراض النسبية
والموضوع له الحرف. فما قرره للحرف من معنى لا يخلو عن مناقضة لما افاده في
صدر كلامه من وجود الفرق الذاتي بين المعنى الاسمي والحرفي.
وعلى أي حال، فما أفاده (قدس سره) في معنى الحرف وتقريبه دون
مقامه العلمي الرفيع وفكره السامي الدقيق.
وقد أورد عليه السيد الخوئي بثبوت استعمال الحرف في موارد يستحيل
تحقق العرض النسبي فيه كالواجب تعالى، كقوله تعالى شأنه: (الرحمن على
العرش استوى) (1)، ومثل: (الله عالم بكذا) فان اتصاف الذات المقدسة بالعرض
النسبي مما لا اشكال في امتناعه، فلو بنى على وضع الحرف للعرض النسبي يدور
الحال في مثل هذه الاستعمالات بين الالتزام بعدم صحة الاستعمال والالتزام
بمجازيته وكونه استعمالا مسامحيا، وكلاهما خلاف الضرورة العرفية، فان
العرف لا يرى في هذا الاستعمال اية مسامحة وتجوز، ويرى ان استعمال الحروف
في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد بلا لحاظ أية عناية ولا رعاية علاقة
ومناسبة مما يكشف عن كون الموضوع له الحرف معنى آخر غير ما ذكره، والا
لاختلف الاستعمال حقيقة وتجوز باختلاف موارده كما لا يخفى (2).
الا ان الانصاف أن هذا الايراد لا يوجب الانصراف عن الالتزام بهذا
.

(1) سورة طه، الآية: 56.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 79 - الطبعة الأولى
111

القول لأنه يرد على غيره، وهو ما التزم به نفس المورد - أعني السيد الخوئي -
كما سيتضح فيما يأتي ان شاء الله تعالى، ولا يختص به. كما أنه لا يختص بهذه
الناحية، بل هو ثابت من ناحية أخرى وهي نفس النسبة والربط فإنه مما يمتنع
في حق الواجب لتقومها باثنين، ولا اثنينية بين الصفة والذات المقدسة. فلا بد
من ايجاد الحل له، وبذلك يندفع الايراد ولا يبقى لذكره مجال. مضافا إلى أن
ما يطلق في أكثر الموارد المذكورة هو الهيئة التي ترد في الصفات دون الحروف،
فإنها قل ما تتعلق بطرفين أحدهما الذات الواجبة، ولا يلتزم (قدس سره) بوضع
الهيئة للعرض النسبي إذ يرى اختصاص ذلك بالحروف فلا يتجه الايراد المزبور
القول الرابع: - وهو اختيار السيد الخوئي (دام ظله) - وقد قرره بقلمه
في تعليقته على تقريراته لبحث أستاذه النائيني (قدس سره)، فقال: (والتحقيق
ان يقال: ان الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود
خارجة عن حقائقها، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجية، بل التضييق
انما هو في عالم المفهومية وفي نفس المعاني، كان له وجود في الخارج أو لم يكن،
فمفاهيمها في حد ذاتها متعلقات بغيرها ومتدليات بها قبال مفاهيم الأسماء التي
هي مستقلات في أنفسها، توضيح ذلك: ان كل مفهوم اسمي له سعة واطلاق
بالإضافة إلى الحصص التي تحته، سواء كان الاطلاق بالقياس إلى الخصوصيات
المنوعة أو المصنفة أو المشخصة. أو بالقياس إلى حالات شخص واحد، ومن
الضروري ان غرض المتكلم كما يتعلق بإفادة المفهوم على اطلاقه وسعته كذلك
قد يتعلق بإفادة حصة خاصة منه، كما في قولك: (الصلاة في المسجد حكمها
كذا). وحيث إن حصص المعنى الواحد فضلا عن المعاني الكثيرة غير متناهية،
فلا بد للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصص المعنى وتقيده، وليس ذلك
الا الحروف والهيئات الدالة على النسب الناقصة كهيئات المشتقات وهيئة
الإضافة أو التوصيف، فكلمة: (في) في قولنا: (الصلاة في المسجد) لا تدل الا
112

على أن المراد من الصلاة ليس هي الطبيعة السارية إلى كل فرد بل خصوص
حصة منها، سواء كانت تلك الحصة موجودة في الخارج أم معدومة، ممكنة كانت
أم ممتنعة، ومن هنا يكون استعمال الحروف في الممكن والواجب والممتنع على
نسق واحد وبلا عناية في شئ منها. فتقول: (ثبوت القيام لزيد ممكن) و (ثبوت
العلم لله تعالى ضروري) و (ثبوت الجهل له تعالى مستحيل) فكلمة (اللام) في
جميع ذلك يوجب تخصص مدخوله فيحكم عليه بالامكان مرة وبالضرورة أخرى
وبالاستحالة ثالثة.
فما يستعمل في الحرف ليس إلا تضييق المعنى الاسمي من
دون لحاظ نسبة خارجية حتى في الموارد الممكنة، فضلا عما يستحيل فيه تحقق
نسبته كما في الممتنعات وفي أوصاف الواجب تعالى ونحوهما) (1).
وقد ذكر الفياض في تقريرات بحثه: ان السبب في اختيار هذا القول
أمور أربعة:
الأول: بطلان سائر الأقوال.
الثاني: ان المعنى المشار إليه يشترك فيه جميع الموارد لاستعمال الحرف
من الواجب والممكن والممتنع. على نسق واحد، وليس في المعاني ما يكون كذلك.
الثالث: انه نتيجة ما سلكناه في حقيقة الوضع من انه التعهد، ضرورة
ان المتكلم إذا قصد تفهيم حصة خاصة فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.
الرابع: موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفي، فان الناس يستعملونها
لإفادة حصص المعاني وتضييقاتها في عالم المعنى غافلين عن وجود تلك المعاني في
الخارج أو عدم وجودها، وعن امكان تحقق النسبة بينها أو عدم امكانها، ودعوى
اعمال العناية في جميع ذلك يكذبها صريح الوجدان والبداهة. فهذا يكشف كشفا
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 18 - الطبعة الأولى
113

قطعيا عن أن الموضوع له الحرف ذلك المعنى لا غيره (1).
ولا بد من التكلم فيما ذكره من جهات:
الأولى: في أنه هل يمكن تصحيح كلامه بغير ارجاعه إلى ما افاده
المحققان النائيني والأصفهاني، بحيث يكون المراد به أمرا معقولا غير ذاك، أو
انه لا يصح الا بفرض كون المراد به ذاك المعنى دون غيره.
الثانية: في بيان صحة ما رتب عليه من الأثر.
الثالثة: في بيان صحة الدليل الذي تمسك به وعدمها.
أما الجهة الأولى: فالحق انه لا يتصور لكلامه معنى معقول غير ما افاده
المحقق النائيني، بيان ذلك: - بعد العلم بان ما ورد في تقرير الفياض من التعبير
بالوضع للحصة الخاصة غير مراد قطعا، لان الحصة لا تخرج بالتحصص عن
المفهومية الاسمية، وانما المراد الوضع للتضييق والتحصيص ونحوهما مما هو
خارج عن ذات الحصة كما هو صريح كلامه في تعليقته - ان التضييق من الأفعال
التسبيبية التوليدية التي تتحقق بأسبابها بلا توسيط الإرادة والاختيار في تحققها،
بل الإرادة انما تتعلق بنفس السبب نظير نسبة الاحراق إلى الالقاء، وه
- أعني التضييق - مسبب عن الربط والنسبة بين المفهومين بلا اختيار. فالتضييق
على هذا مسبب، والخصوصية والربط سبب، ولا يمكن حصول التضييق بدون
حصول الربط والنسبة بين المفهوم ومفهوم آخر، فما لم تحصل النسبة بين زيد
والدار لا يتضيق مفهوم زيد.
وعليه، فمراد السيد الخوئي من وضع الألفاظ الحرفية لتضييق المعاني
والمفاهيم الاسمية، ان كان هو وضعها للمسبب - أعني نفس التضييق - دون
السبب فهو غير معقول، لان الحرف اما ان يوضع لمفهوم التضييق أو لمصداقه
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 84 - الطبعة الأولى
114

وواقعه.
ويبطل الأول - أعني الوضع لمفهوم التضييق - وضوح التباين بين ما
يفهم من الحرف ومفهوم التضييق بنظر العرف، مع استلزام الوضع له الترادف
بين اللفظين في المعنى، مضافا إلى أن مفهوم التضييق من المفاهيم الاسمية التي
يتعلق بها اللحاظ أصالة واستقلالا.
ويبطل الثاني - أعني الوضع للمصداق - وجوه:
الأول: ما أشرنا إليه من امتناع الوضع بإزاء الوجود، لكون الغرض
منه تحقق انتقال المعنى عند القاء اللفظ، والوجود خارجيا كان أو ذهنيا لا يقبل
الانتقال ويأبى الوجود الذهني من باب ان المقابل لا يقبل المقابل أو ان المماثل
لا يقبل المماثل. فيمتنع الوضع بإزاء مصداق التضييق الذي هو فعل خارجي.
الثاني: ان الوضع كذلك لا يتلاءم مع الحكمة الداعية إلى الوضع - أعني
وضع الحرف -، إذ الغرض منه هو التمكن من تفهيم الحصة الخاصة من المفهوم
الاسمي العام، ولا يخفى ان الغرض لا يتعلق الا بتفهيم ذات الحصة بلا دخل
لعنوان تحصصها وتضيقها إذ لا يترتب الأثر على ذلك، وعليه فمقتضى الحكمة
وضع الحرف لنفس الخصوصية الموجبة للتضييق كي يحصل تفهيم الحصة الخاصة
من مجموع الكلام وبضميمة الاسم إلى الحرف، لا الوضع لنفس التضييق
والتحصيص فإنه خارج عن دائرة الغرض والداعي.
الثالث: انه لو كان الموضوع له الحرف نفس المصداق لزم تحقق الترادف
بين لفظ الحرف وبين الألفاظ الاسمية الدالة على مصداق التضييق، فيكون
لفظ: (في) مرادفا للفظ: (مصداق التضييق) وحصة منه. والوجدان قاض بعدم
الترادف وكون المفهوم من أحدهما يختلف عن المفهوم من الاخر (1).
.

(1) هذا الايراد لا يختص بهذا القول، بل يجري بناء على ما التزم به النائيني أيضا
فان لازم الالتزام
بان الحرف موضوع لواقع النسبة تحقق الترادف بين الحرف وما يدل على واقع النسبة من لفظ: (واقع
النسبة) ونحوه، ولا اشكال في فساده. والحل: هو ان كل لفظ يشار به إلى واقع النسبة ونفس المعنى
الخارجي موضوع لمفهوم كلي كمفهوم واقع النسبة أو مصداقها ونحوه، وهكذا الحال في مصداق
التضييق، ولم يوضع للفرد الخاص من النسبة، وانما الموضوع له هو لفظ الحرف فقط، فلا يلزم
الترادف حينئذ بين لفظ الحرف ولفظ المصداق ونحوه، مما لم يوضع إلى واقع المصداق وخارجه، بل
إلى مفهومه المنطبق على كثيرين، فلا يتفق معناه مع معنى الحرف، فان الأول مفهوم اسمي فلاحظ
115

الرابع:
ان المعنى الاسمي والمفهوم العام لا يخرج عن الاسمية
بالتحصص والوجود، والا لزم أن يكون جميع المصاديق من المعاني الحرفية،
فوضع الحرف لمصداق التضييق والتحصيص لا يوجب كون المصداق من المعاني
الحرفية بعد أن كان مفهومه من المعاني الاسمية. وما هو المائز بينه وبين المعنى
الاسمي؟ ومجرد الوضع له لا يكون سببا لكونه معنى حرفيا ومائزا بينه وبين
المعنى الاسمي كما لا يخفى.
والحاصل، ان فرض وضعها للمسبب وهو التضييق مفهوما ومصداقا لا
يعرف له وجه وجيه أصلا.
وان أراد وضعها للسبب، أعني نفس الربط والنسبة - كما قد يظهر من
بعض عبارة التقريرات - فهو عبارة أخرى عما قرره أستاذه النائيني، ولا يكون
الاختلاف بينهما الا بالتعبير والبيان.
واما الجهة الثانية: فالتحقيق ان ما رتبه على دعواه من صحة عموم
استعمالات الحروف حتى في الموارد غير القابلة للنسبة والربط كصفات الباري،
بدعوى: ان الحرف على هذا موضوع للتضييق وهو يتعلق بالمفاهيم لا
بالوجودات كي يتوقف - كالنسبة - على تعدد الوجود الممتنع في ذات الواجب
وصفاته. غير تام، اما مع الالتزام بان الموضوع له هو نفس السبب وهو الربط
فواضح جدا، واما مع الالتزام بان الموضوع له هو المسبب وهو التضييق،
116

فلوضوح ان المقصود من وضع الحروف للتضييق ليس وضعها لكلي التضييق
ومفهومه العام الشامل لجميع الافراد، بحيث تكون جميع الحروف مترادفة، بل
الموضوع له كل حرف تضييق من جهة خاصة للمفهوم فالموضوع له لفظ: (في)
تضييق المفاهيم الاسمية من جهة الظرفية، والموضوع له لفظ: (من) تضييقها
من جهة خاصة أخرى وهي الابتداء، وهكذا. وظاهر ان التضييق الخاص
يتوقف على ثبوت خصوصية وارتباط بين المفهومين الاسميين بحيث ينشأ منه
التضييق الخاص فيصح استعمال الحرف فيه، فلا يحصل تضييق مفهوم زيد بكونه
في الدار، الا بتحقق الارتباط والنسبة الخاصة بينه وبين الدار. فيعبر عن ذلك
التضييق بالحرف. وعليه فاستعمال الحرف في صفات الله تعالى يتوقف على ثبوت
النسبة والارتباط بين الصفة والذات كي تتحقق التضييق المعبر عنه بالحرف.
فيرجع الاشكال كما هو، ولا بد من حله بحل عام يرتفع به الاشكال في جميع
الأقوال. وبعبارة أخرى: ان قولنا: (الوجود لله واجب) يحتاج إلى ثبوت نسبة
بين الوجود والذات المقدسة تصحح فرض التضييق في الوجود ونسبته إلى الله،
كما يحتاج قولنا: (الوجود لزيد ممكن) إلى ذلك. وهذا واضح لا خفاء فيه ولا
غبار عليه.
ثم إنه بناء على أن يكون الموضوع له في الحروف هو التضييق يكون
معنى الحرف من المعاني الايجادية، وهو الامر الذي فر منه مكررا مدعيا - في
مقام ايراده على المحقق النائيني في دعواه تعين الايجادية لعدم الاخطارية - ثبوت
الواسطة بين المعاني الاخطارية المستقلة وبين المعاني الايجادية وهي المعاني
الاخطارية غير المستقلة التي عبر عنها بغير الاخطارية أيضا لعدم استقلالها.
فانتفاء كون معنى الحروف اخطارية مستقلة لا يعين كونها ايجادية، بل يمكن ان
تكون اخطارية غير مستقلة، بل هو المتعين وليس معناها ايجاديا.
وبالجملة: فقد التزم بان المعاني الحرفية من المفاهيم غير المستقلة وان
117

الفرق بينها وبين المعاني الاسمية بالاستقلال وعدمه.
والوجه في لزوم كونها ايجادية على البناء المزبور: ان المفروض عدم
وضعها لمفهوم التضييق لعدم معقوليته، كما عرفت فهي موضوعة اما لواقع
التضييق أو لسببه وهو واقع النسبة والربط.
فعلى الثاني: فايجادية المعنى الحرفي واضحة فقد تقدم بيانها.
واما على الأول: فحيث إنه لا اشكال في تحقق النسبة عند ذكر الحرف،
وقد عرفت أن النسبة سبب لحدوث التضييق فبوجودها يحدث واقع التضييق
ويوجد فتحققه في ذهن السامع انما يكون بتبع تحقق النسبة والربط، وقد عرفت
ايجادية النسبة والربط وانها تحصل في ذهن السامع بنفس اللفظ فكذلك التضييق
يكون ايجاديا يحصل في ذهن السامع بواسطة اللفظ باعتبار تبعية وجوده لوجود
النسبة وهي معنى ايجادي كما عرفت.
كما أنه لا واقع له الا في ضمن المفاهيم لأنه مسبب عن الربط والنسبة
والقائم بالمفاهيم والذي لا حقيقة له الا في ضمنها لأنه من كيفيات وجودها.
كما أنه بناء على الالتزام بما ذكر يكون المعنى الحرفي من المعاني الالية لا
الاستقلالية.
وذلك: فان وضع الحرف للتضييق باعتبار كون المقصود تفهيم الحصة
الخاصة من المفهوم دون المفهوم على سعته، ظاهر في أن نفس التضييق ملحوظ
آلة لتفهيم الحصة، وإلا فلا يتعلق غرض مستقل به بخصوصه، بل الغرض
واللحاظ الاستقلالي متعلق بتفهيم الحصة وإفادة التضييق طريق إلى ذلك.
ولا يجدي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الحرفي في بعض الأحيان،
لأنه وان كان ممكنا لان الالية ليست من لوازم التضييق التي لا تنفك عنه كما
كانت من لوازم الربط والنسبة، الا انه إذا ثبت كون الأغلب بحسب مقتضى
الاستعمال كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة وطريقا لا مستقلا لم ينفع لحاظه
118

الاستقلالي في بعض الأحيان في ترتب الثمرة عليه، وهي ما سيأتي من امكان
الاطلاق في معناه، إذ ما يأتي من الحروف يحمل على الفرد الغالب. وهو الملحوظ
آلة فلا يصح التمسك باطلاقه.
وبالجملة: فنتيجة هذا القول عين نتيجة الالتزام بان الموضوع له هو
النسبة وان الالية من لوازم الموضوع له التي لا تنفك عنه من عدم التمسك
بالاطلاق في غير مورد العلم بتعلق اللحاظ استقلالا كما هو الامر الغالب في
الحروف حيث لا يعلم تعلق اللحاظ الاستقلالي بمعناها. فتدبر جيدا.
واما الجهة الثالثة: فقد اتضح وهن ما اعتمد عليه.
أما الأول: فهو مضافا إلى وهنه في نفسه، إذ بطلان الوجوه
الأخرى لا يعني صحة هذا الوجه وتعينه، ممنوع إذ قد عرفت تصحيح ما ذهب
إليه المحقق الأصفهاني والنائيني وتوجيه كلامهما بنحو لا يرد عليه اي ايراد مما
ذكره السيد الخوئي أو غيره، وقد عرفت توجه بعض ما أورده عليهما على كلامه
نفسه.
وأما الثاني: فقد عرفت أن اختياره لا يصحح استعمال الحرف في جميع
الموارد، وان الاشكال الذي وجهه على المحقق العراقي والأصفهاني من عدم
صحة استعمال الحرف في صفات الباري يتوجه على مختاره أيضا.
وأما الثالث: فصدوره منه عجيب، إذ البحث عن حقيقة المعنى الحرفي
ومعرفة الموضوع له الحرف وانه التضييق أو غيره، انما يأتي في المرتبة المتأخرة
عن بيان أصل الوضع وحقيقته بحيث يكون فرض وضعه لهذا المعنى على جميع
التقادير لحقيقة الوضع، فالالتزام بمعنى خاص للوضع لا يقتضي وضع اللفظ
إلى معنى معين بحيث يكون نتيجة تعيين الوضع هو الوضع المذكور،
فالوضع للتضييق على تقدير تماميته يصلح على جميع تقادير معنى الوضع ولا
يتعين أن يكون نتيجة الالتزام بمعنى معين، وإذا لم يصح في التضييق لا يصلح
.
119

على جميع التقادير، ولا يقتضي كون معنى الوضع هو التعهد الوضع للتضييق
، إذ الاشكال والكلام في معقولية تعلق التعهد بذكر الحرف عند إرادة التضييق
كالاشكال في معقولية اعتبار العلقة بينهما أو جعل الحرف على المعنى المذكور.
وبالجملة: الاشكال يتأتى على جميع تقادير الوضع حتى على تقدير
التعهد، ويحتاج الدعوى إلى دليل ولا يكتفى في صحتها باختيار كون الوضع
هو التعهد، إذ الاشكال في صحة خصوص التعهد المذكور.
وأما الرابع: فهو دعوى مجازفة، إذ بعد أن عرفت ما يرد من الاشكال
على المبنى المزبور، فكيف يكون ارتكازيا؟!.
والذي ننتهي إليه أخيرا هو الالتزام بما التزم به المحققان النائيني
والأصفهاني من انه موضوع للربط والنسبة بين المفهومين الذي هو من سنخ الوجود، فإنه مضافا إلى معقوليته في نفسه وعدم الوصول إلى اي اشكال فيه
امر ارتكازي وجداني لا يحتاج إلى إقامة برهان، وذلك فان المعنى المزبور يتبادر
إلى الذهن عند القاء الجملة، والدال عليه منحصر بالحرف لعدم وجود ما يصلح
للدلالة عليه من اجزاء الجملة غيره، إذ الاسم يدل على نفس المفهوم المرتبط
بالاخر لا على الارتباط.
(كيفية الوضع للحروف)
ثم إنه يتضح بذلك ان الموضوع له في الحروف خاص لا عام - كما ادعاه
صاحب الكفاية (1) - لان الموضوع له إذا كان عاما لم يكن معنى حرفيا بل كان
معنى اسميا، إذ كل ما يفرض كونه عاما يكون من المفاهيم - إذ الوجود لا
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 11 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
120

يقبل العموم والسعة -، وقد عرفت أن المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بل
من سنخ الوجود وان المفاهيم معان اسمية. وبتقريب آخر: ان تصور كون
الموضوع له عاما انما يكون بلحاظ الوضع للجامع بين الوجودات الخاصة، وهو
- اي الجامع - غير متحقق ولا يتصور فيما نحن فيه الا بإلغاء خصوصية الطرفين
ليكون الجامع كلي الوجود، إذ مع ملاحظة الطرفين يكون كل وجود مباينا
للوجود الاخر لأنه فرد آخر وكل فرد بخصوصيته مغاير للفرد الاخر. ولا يمكن
تجريده عن الطرفين والوضع الكلي، لتقوم المعنى بهما كما عرفت.
وبالجملة: ان لوحظ الطرفان انعدم الجامع، وإن لم يلحظ لم يكن الجامع
من المعاني الحرفية فلا وجه لوضع الحرف له، لان المعنى الحرفي متقوم بالطرفين
كما عرفت.
ثمرة المبحث:
وقد قررت بأنه مع الالتزام بعموم الموضوع له في الحروف يتصور
الاطلاق والتقييد في معانيها ويظهر ذلك في موردين: أحدهما: الواجب
المشروط ودوران الامر في القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة.
والاخر: في مفهوم الشرط والاستدلال على ثبوته باطلاق أداة الشرط - كما يقرر
في محله -. وهذا بخلاف ما لو التزم بخصوص الموضوع له فإنه لا يكون قابلا
للاطلاق والتقييد، فيعلم بعدم رجوع القيد إلى الهيئة، كما لا يمكن التمسك في
اثبات المفهوم باطلاق الأداة لعدم ثبوت الاطلاق فيها. وقررت بنحو آخر:
وهو انه مع الالتزام بآلية المعنى الحرفي لم يصح الاطلاق فيه لاقتضاء الاطلاق
والتقييد اللحاظ الاستقلالي لأنه حكم على الطبيعة وهو يقتضي لحاظ المحكوم
عليه بالاستقلال.
وقد نوقش في التقرير الأول: بان خصوصية الموضوع له لا تنفي صحة
121

التقييد، إذ العموم والاطلاق الافرادي هو الذي لا يتصور في الخاص دون
الاطلاق الأحوالي فيمكن التقييد والاطلاق فيه بلحاظ الأحوال.
وفي التقرير الثاني: بأنه كثيرا ما يكون المعنى الحرفي ملحوظا
بالاستقلال وأثرا للحكم بنفسه. وعليه فلا تظهر الثمرة بلحاظ الجهتين.
والتحقيق: انه مع الالتزام بان معاني الحروف ايجادية ومن سنخ الوجود
يمتنع تصور الاطلاق والتقييد فيها، لا من جهة خصوصية الموضوع له أو آليته،
بل من جهة ان الاطلاق من شأن المفاهيم، لان الاطلاق عبارة عن السعة في
الصدق، والتقييد التضييق في الصدق وهذا شأن المفاهيم - كلية كانت أو جزئية -
دون الوجود غير القابل للصدق على شئ بالمرة، بل ليس هو الا نفسه.
مضافا إلى أنه يكون آليا ولا يتصور أن يكون استقلاليا في حال من الأحوال
كما عرفت تحقيقه، فالثمرة موجودة كما لا يخفى.
هذا كله بالنسبة إلى الحروف الداخلة على المفردات.
وأما الحروف الداخلة على الجمل كحروف التمني الترجي والاستفهام
وغيرها فقد اتفق الجميع - تقريبا - على أن معانيها انشائية ايجادية، وقال بذلك
من لا يلتزم بايجادية معنى الحرف ووجه ذلك بان الجملة تكون بدخولها انشائية.
وعليه، فلا بد في تحقيق الحال فيها من معرفة مدلول الجملة الانشائية
وأختها الخبرية، فنقول:
122

الانشاء والاخبار
ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله) ان الفرق بين الجملة الانشائية والجملة
الخبرية كالفرق بين الاسم والحرف في كونه خارجا عن دائرة الموضوع له، فان
كلا منهما موضوع للنسبة الا انها ان قصد بها الاخبار كانت خبرية وان قصد بها
ايجاد النسبة كانت انشائية من دون أن يكون قصد الاخبار وقصد الايجاد دخيلا
في الموضوع له (1).
والذي يظهر انه (رحمه الله) اخذ الموضوع له في الجملة الخبرية
والانشائية ونفس الاخبار والانشاء مفروغا عنه، وجهة الاشكال هو الفارق
بينهما وان الانشاء والاخبار دخيلان في معنى الجملة الخبرية والانشائية أولا؟
فأناط اللثام عن ذلك بما عرفت.
ولأجل تحقيق الحال ينبغي الكلام في مقامين:
المقام الأول: في تحقيق معنى الاخبار والانشاء.
والمقام الثاني: في تحقيق معنى الجملة الخبرية والانشائية.
اما المقام الأول، فتحقيق الكلام فيه: ان الاحتمالات المذكورة في معنى
الانشاء أربعة:
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 12 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
123

الأول: انه ايجاد المعنى باللفظ في نفس الامر.
الثاني: انه ايجاد المعنى باللفظ بالعرض، فلا يخرج عن حقيقة الاستعمال،
بل هو الاستعمال - كما يتضح فيما بعد -.
الثالث: انه ايجاد المعنى باللفظ في وعائه المناسب له.
الرابع: انه ابراز الصفات النفسانية باللفظ.
أما القول الأول: فهو مختار صاحب الكفاية وقد أسهب في بيانه في الفوائد،
وبيانه بتصرف: ان الانشاء ايجاد المعنى في نفس الامر لا الحكاية عن ثبوته
وتحققه في موطنه من ذهن أو خارج، بخلاف الخبر فإنه الحكاية عن ثبوت المعنى
في موطنه، والمراد من وجوده في نفس الامر هو ما لا يكون بمجرد فرض فارض،
لا انه ما يكون بحذائه شئ في الخارج. فملكية المشتري للمبيع لم يكن لها
أي ثبوت قبل انشاء التمليك وانما ثبوتها لا يعدو الفرض كفرض انسانية الجماد
أو جمادية الانسان، ولكن بعد انشائها حصل لها ثبوت وخرجت عن مجرد
الفرض وإن لم يكن لها ما بإزاء في الخارج.
وبعبارة أخرى: ان المعنى بالانشاء يوجد بوجود انشائي ويحصل له نحو
تقرر في عالم الانشاء، وهذا الوجود الانشائي من سنخ الاعتباريات، وإذا كان
الانشاء هو ايجاد المعنى باللفظ بنحو وجود فعبر عنه بالوجود الانشائي لم يختص
الانشاء بالمعاني الاعتبارية كالملكية ونحوها، بل يعم المعاني الحقيقية الواقعية
كالتمني والاستفهام فيمكن انشاء الصفات النفسانية الواقعية كما يمكن انشاء
الأمور الاعتبارية، إذ لم يعتبر في حقيقة الانشاء ايجاد نفس المعنى في عالمه كي
يتوقف في امكان انشاء مثل التمني من الأمور الواقعية لتبعية وجودها للأسباب
التكوينية دون الانشاء، بل الانشاء يتحقق ولو لم يكن للصفة الحقيقية وجود
في الخارج أصلا ويترتب عليه آثاره لو كانت. كما أنه لا يعتبر في الوجود
الانشائي ترتب أثر شرعي أو عرفي عليه، ولذلك لو أنشأ المعنى الواحد بلفظ
124

واحد مكررا لا يخرج كل منها عن الانشاء، وإن لم يترتب على الأول اثر غير
التأكيد في المورد القابل للتأكيد، بل يوجد المعنى بكل انشاء بوجود انشائي
مستقل غير الاخر، ولا يكون من قبيل ايجاد الموجود كي ينفي كونه انشاء كما
تخيله الشهيد رحمه الله في القواعد (1) ونفى كون العقد المكرر انشاء لعدم
حصول الايجاد به. ونظيره صدوره ممن لا يترتب على قوله أثر شرعا وعرفا
كالمجنون إذا تأتي منه القصد، فإنه لا يخرج عن الانشاء وان كان لغوا.
وبالجملة: فالانشاء عبارة عن ايجاد المعنى بوجود انشائي اعتباري
غير ايجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع ولذلك كان خفيف المؤنة ولا
يتوقف على ترتب اثر عقلائي عليه، كما أنه يصلح لان يسري في الصفات
الحقيقية الواقعية، ولا تتوقف صحته على ثبوت تلك الصفات في نفس الامر
والواقع في عالمها الخارجي (2).
ثم إنه (رحمه الله) ذكر في فائدة أخرى ان الفرق بين الانشاء والاخبار
من جهتين:
إحداهما: ان مفاد الانشاء مفاد كان التامة لا مفاد كان الناقصة كما هو
مفاد الخبر.
ثانيتهما: ان مفاد الانشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن ومفاد الخبر يحكى
به بعد أن كان أو يكون.
هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) (3). والذي يتحصل منه انه يريد
بالانشاء ايجاد المعنى باللفظ بوجود انشائي من قبيل الاعتباريات. فليكن على
ذكر منك.
.

(1) الشهيد الأول محمد بن مكي. القواعد والفوائد 1 / 112 - قاعدة 86 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 285 - المطبوعة ضمن الحاشية.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 289 - المطبوعة ضمن الحاشية
125

وأما القول الثاني: فهو الذي اختاره المحقق الأصفهاني، وادعى انه مراد
صاحب الكفاية بتقرير إليك نصه: (ان المراد من ثبوت المعنى باللفظ، اما ان
يراد ثبوته بعين ثبوت اللفظ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات والى المعنى
بالعرض، واما ان يراد ثبوته منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ بحيث ينسب
الثبوت إلى كل منهما بالذات، لا مجال للثاني إذ الوجود المنسوب للماهيات
بالذات منحصر في العيني والذهني وسائر انحاء الوجود من اللفظي والكتبي
وجود بالذات للفظ والكتابة. وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى. ومن
الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات لا بد من أن يكون في
أحد الموطنين من الذهن والعين، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على
حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه. والواقع خلافه إذ لا يوجد
باللفظ موجود آخر يكون مطابقا للمعنى أو مطابقا لمنشأ انتزاعه ونسبة الوجود
بالذات إلى نفس المعنى مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشأه غير معقول.
ووجوده في الذهن بتصوره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني والانتقال من سماع
الألفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى مع أن ذلك ثابت في
كل لفظ ومعنى ولا يختص بالانشاء، فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه
الأول، وهو ان ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول وبالعرض
في الثاني، وهو المراد من قولهم: ان الانشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس
الامر وانما قيدوه بنفس الامر مع أن وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه
أيضا بالعرض، تنبيها على أن اللفظ بواسطة العلقة الوضعية وجود المعنى تنزيلا
في جميع النشآت، فكأن المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في
مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الامر حد ذات الشئ من باب وضع
الظاهر موضع المضمر.
فان قلت: هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون
126

اختصاص بالانشائيات.
قلت: الفرق ان المتكلم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة
في موطنها باللفظ المنزل منزلتها، وقد يتعلق غرضها بايجاد نفس هذه النسبة
بايجاد اللفظ المنزل منزلتها، مثلا مفاد: (بعت) اخبارا وانشاء واحد وهي النسبة
المتعلقة بالملكية وهيئة (بعت) وجود تنزيلي لهذه النسبة الايجادية القائمة بالمتكلم
والمتعلقة بالملكية، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها التنزيلي الجعلي
اللفظي فليس وراء قصد الايجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الانشاء. وقد
يقصد زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا وهو
الاخبار، وكذلك في صيغة افعل وأشباهها فإنه يقصد بقوله (اضرب) ثبوت
البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة فيوجد البعث في الخارج
بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي فيترتب عليه إذا كان من اهله وفي محله ما يترتب
على البعث الحقيقي الخارجي مثلا. وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني
الخبرية والانشائية، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها، فإنها
كالانشائيات من حيث عدم النظر فيها الا إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيا، غاية
الامر انها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الانشائية المقابلة للمعاني
الخبرية. وهذا أحسن ما يتصور في شرح حقيقة الانشاء. وعليه يحمل ما افاده
أستاذنا العلامة لا على أنه نحو وجود آخر في قبال جميع الانحاء المتقدمة فإنه
غير متصور. ومما ذكرنا في تحقيق حقيقة الانشاء تعلم ان تقابل الانشاء و
الاخبار ليس تقابل مفاد كان التامة ومفاد كان الناقصة، نظرا إلى أن الانشاء
اثبات المعنى في نفس الامر والاخبار ثبوت شئ لشئ تقريرا وحكاية. وذلك
لان طبع الانشاء كما عرفت لا يزيد على وجود المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي وهو
قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال، فان القائل بعت اخبارا أيضا يوجد معنى
اللفظ بوجوده العرضي اللفظي والحكاية غير متقومة بالمستعمل فيه، بل خارجة
127

عنه فهي من شؤون الاستعمال، بل الفرق انهما متقابلان بتقابل العدم والملكة
تارة بتقابل السلب والايجاب أخرى، فمثل: (بعت) وأشباهه من الجمل
المشتركة بين الانشاء والاخبار يتقابلان بتقابل العدم والملكة، لان المعنى الذي
يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لان يحكى به عن ثبوت في موطنه، فعدم
الحكاية والتمحض فيما يقتضيه طبع الاستعمال عدم ملكة، ومثل (افعل) وأشباهه
المختصة بالانشاء عرفا يتقابلان تقابل الايجاب والسلب، إذ المفروض ان
البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها نظير البعث الخارجي، غير البعث الملحوظ
بعنوان المادية في سائر الاستعمالات كما سمعت منا في أوائل التعليقة، فمضمون
صيغة (اضرب) مثلا غير قابل لان يحكى به عن ثبوت شئ في موطنه بل
متمحض في الانشائية، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للإيجاب).
هذا نص ما افاده (قدس سره) في تعليقته على الكفاية وهو واضح لا يحتاج
إلى توضيح (1). والكلام فيه من جهتين:
الجهة الأولى: في صحة نسبة الوجه المذكور إلى صاحب الكفاية، والتحقيق
عدم الصحة لأنه خلاف ما هو الصريح لكلام صاحب الكفاية، من أن المراد من
نحو الوجود هو الوجود الاعتباري بحيث يكون الانشاء من سنخ الاعتبار،
فنسبة إرادة الوجود بالعرض الساري في الجمل الخبرية والانشائية إلى صاحب
الكفاية لا وجه لها، خصوصا بملاحظة ما يصرح به من أن هذا النحو من
الوجود لا يتحقق بالجملة الخبرية.
وأما ما ذكره من الوجه في حمل كلام صاحب الكفاية على ذلك فهو لا يفي
بذلك، إذ لم يدع صاحب الكفاية ان المعنى يوجد بالذات بالانشاء بوجود
حقيقي مقولي كي يرد عليه ان الوجود بالذات ينحصر في الحقيقي والذهني.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 113 - الطبعة الأولى
128

والحقيقي لا يكون الا إذا كان له ما بإزاء في الخارج أو له منشأ اسراع له ما بإزاء
وهو غير متحقق فيما نحن فيه. والذهني علته التصور لا اللفظ وهو سار في جميع
الاستعمالات دون خصوص الاستعمال الانشائي.
بل قد عرفت أنه يريد من نحو الوجود الحاصل للمعنى بالانشاء نحو
وجود اعتباري، فلا يرد عليه ما ذكر إذ الاعتبار خفيف المؤنة، وتحقق الوجود
الاعتباري مما لا ينكره (قدس سره)، كما أنه يظهر بأنه لا وجه لحمل (نفس
الامر) على إرادة حد ذات الشئ وان اللفظ وجود للمعنى في جميع النشآت،
خصوصا بملاحظة تعرض صاحب الكفاية في كلامه إلى بيان المراد منه وانه
اخراج الشئ من مجرد الغرض. فتدبر.
الجهة الثانية: في تحقيق حصة هذا الوجه في نفسه وإن لم يكن مرادا
لصاحب الكفاية. والحق انه غير وجيه لوجهين:
الأول: انه لو كان الانشاء هو ايجاد المعنى باللفظ بلحاظ ان وجود
اللفظ وجود للمعنى بالعرض، بقيد أن لا يكون الغرض الحكاية عن الخارج
أو الذهن، بل الغرض كان في نفس هذا الوجود العرضي للمعنى، لزم ان تكون
الجملة الخبرية غير المستعملة بقصد الحكاية، بل بداعي استمرار ارتكاز مدلولها
في ذهن المخاطب بتكرارها بلا ان يقصد بها الحكاية، إذ ليس الداعي الا عدم
شرود هذا المعنى من ذهن المخاطب، لزم ان تكون مثل هذه الجملة انشاء على
هذا القول، مع أنها لا تعد في العرف من الجمل الانشائية كما لا يخفى.
الثاني: ان كون الانشاء هو ايجاد المعنى عرضا بوجود اللفظ يبتني
امكانه الثبوتي على ثبوت كون الوضع هو تنزيل اللفظ منزلة المعنى، فيكون
اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، وبذلك يكون وجوده وجودا للمعنى بالعرض، إذ
المنزل نحو وجود للمنزل عليه بالعرض والمسامحة، فيمكن تصور أن يكون
الانشاء هو هذا النحو من ايجاد المعنى. ولكنك عرفت عدم ثبوت هذا المعنى
129

للوضع والمناقشة فيه وعدم ارتضائه حتى من المحقق الأصفهاني نفسه، وكون
الوضع هو اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى أو اعتبار اللفظ على المعنى أو
غيرهما. ولا يخفى ان اللفظ لا يكون على هذا وجودا للاخر بالعرض للمعنى، إذ طرف
العلقة الوضعية لا يكون وجودا بالعرض لطرفها الاخر - نظير طرفي السلسلة
المشدودين بها فان أحدهما لا يكون وجودا للاخر بالعرض، والوضع كذلك فإنه
عبارة عن ربط اللفظ والمعنى برابط وجعل كل منهما طرفا للارتباط -، وإلا لكان
المعنى وجودا بالعرض للفظ، ولا يلتزم به أحد.
وبالجملة: فأساس هذا المعنى للانشاء وهو كون اللفظ وجودا للمعنى
بالعرض غير ثابت فلا: تتجه دعوى أن الانشاء هو هذا النحو من ايجاد المعنى
وأما ما ذكره صاحب الكفاية: فالالتزام به يتوقف على نفي المحذور فيه
ثبوتا واثباتا.
اما المحذور الثبوتي: فلم يتعرض أحد إلى بيان محذور ثبوتي فيه، ولعله
لاجل عدم اهتمامهم فيما ذكره (رحمه الله) أو صرفه إلى معنى غير ما ذكرناه.
نعم يمكن استفادة دعوى المحذور الثبوتي في الجهة الثانية في البحث ممن يدعي
ان الجمل الانشائية لها من المعنى ما لا يتلاءم مع تفسير الانشاء بما فسره به
صاحب الكفاية، فتنقيح وجهة النظر فيه نوكلها إلى الجهة الثانية.
وأما المحذور الاثباتي: فمعرفة وجوده وعدمه تتوقف على ذكر القولين
الآخرين ومعرفة ايها التام، فان في بطلان الأقوال الأخرى ومعقولية قول
الآخوند مؤيدا له وترجيحا للالتزام به كما لا يخفى.
وأما القول الثالث: فهو المشهور في تفسير الانشاء، ومحصله كما أشرنا
إليه: هو أن الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي،
بمعنى ان المعنى الاعتباري في نفسه يوجد له فرد حقيقي بواسطة اللفظ،
فيكون القاء اللفظ سببا لتحقق اعتبار العقلاء للمعنى. فالانشاء هو التسبيب
130

باللفظ إلى الاعتبار العقلائي للمعنى. فيتفق مع قول صاحب الكفاية في أنه
ايجاد للمعنى بنحو وجود وفي عالم آخر غير عالم اللفظ أو الخارج أو الذهن.
لكنه يختلف عنه في أن وجوده على اختيار صاحب الكفاية نحو وجود انشائي
من سنخ الاعتباريات بحيث يختلف عن سائر الاعتباريات، فالملكية بانشائها
ب‍: (ملكت) توجد - على اختيار صاحب الكفاية - بوجود انشائي اعتباري غير
وجودها الاعتباري في نفسها وفي وعائها المفروض لها. واما على هذا القول فهي
توجد بوجودها الاعتباري الثابت لها في حد ذاتها، وتتحقق في وعائها المقرر لها
وهو عالم الاعتبار العقلائي.
والثمرة الفقهية المترتبة على كلا القولين تظهر فيما يحرر من بطلان
الصيغة مع التعليق، وانه يعتبر في صحة العقد أو نفوذه تنجيزه، ويستثنى من
ذلك ما إذا كان التعليق قهريا فإنه لا يضر التعليق عليه وعدمه، بل لا ثمرة
فيه بعد أن كان قهريا وذلك كالتعليق على رضا المالك في بيع الفضولي، فان
الأثر بحسب اعتبار العقلاء انما يترتب مع رضا المالك فالانشاء لا ينفذ الا على
تقدير الرضا.
وجه ظهور الثمرة في هذا المبحث: انه إذا التزم بان معنى الانشاء ما هو
المشهور من انه استعمال اللفظ بقصد ايجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائي،
يتصور حينئذ قهرية تعليق هذا على أمر ما، كما لو كان الاعتبار العقلائي
متوقفا على شئ - نظير المثال السابق -، واما لو التزم بان معناه ما اختاره
صاحب الكفاية من انه استعمال اللفظ بقصد ايجاد المعنى بوجود انشائي، فلا
يتصور فيه قهرية التعليق على شئ لأنه مرتبط بنفس المنشئ - بمعنى ان هذا
الوجود الانشائي وان كان عقلائيا الا انه بقصد الانشاء فارتباطه بالمنشئ - لا
بالعقلاء كي يتوقف عندهم في بعض الصور على شئ ما، لان ما يقصد ايجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباري العقلائي، بل المقصود ايجاده هو المعنى
131

بوجود انشائي غير وجوده في وعائه المقرر له من اعتبار أو غيره، وذلك لا يتوقف
على شئ من رضا المالك ونحوه كما لا يخفى.
وبالجملة: فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقق مصداق لصورة
التعليق القهري، بخلاف ما لو التزم بمختار صاحب الكفاية، فيلتزم ببطلان
العقد مع التعليق - على القول بالبطلان مع التعليق - مطلقا بلا استثناء. فلاحظ
ثم إنه قد يتشكل في الالتزام بما هو المشهور من جهتين:
الأولى: انه يلزم اختصاص الانشاء بما كان وعاؤه الاعتبار كالعقود
والايقاعات، لمعقولية التسبيب لايجادها واعتبارها من العقلاء. ولا يشمل ما
كان من الأمور الحقيقية الواقعية التكوينية التي لها ما بإزاء في الخارج، كبعض
الصفات النفسانية مثل التمني والترجي والطلب والاستفهام، لان وجودها في
وعائها تابع لتحقق أسبابها التكوينية سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق، إذ
ليست هي من الاعتباريات التي تدور مدار الاعتبار وجودا وعدما، فلا معنى
للتسبيب لايجادها باللفظ كما لا يخفى. مع أن عدها من الانشائيات وكون
صيغها من الجمل الانشائية مما لا ينكر ويخفى.
الثانية: ان معرفة تحقق الاعتبار العقلائي تكون بترتيب الآثار من
العقلاء عليه ومعاملته معاملة الثابت حقيقة لو تصور له ثبوت حقيقي. ومع عدم
ترتب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار، لأنه يلغو مع عدم ترتيب الأثر.
وعليه، فيلزم عدم تحقق الانشاء في المورد الذي يعلم بعدم ترتيب الأثر،
لعدم تحقق قصد التسبيب من المنشئ مع علمه بعدم تحقق المسبب، والمفروض
تقوم الانشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائي. وذلك يستلزم خروج موارد
متعددة عن الانشاء مع عدها عرفا انشاء بلا كلام.
منها: الانشاء المكرر والصيغ المتكررة، لوجود المعنى في عالم الاعتبار
بأول انشاء، فلا يوجد بالانشاء الثاني والثالث، إذ لا يوجد المعنى في عالم
132

الاعتبار العقلائي مرة ثانية مع فرض ثبوته للغوية الاعتبار ثانيا.
ومنها: بيع الغاصب، فإنه يعلم بعدم ترتيب الأثر على انشائه.
ومنها: بيع الفضولي مع علمه بعدم لحوق الإجازة، فان العقلاء لا
يعتبرون الملكية بأثر انشائه.
ومنها: بيع غير المقدور تسليمه عادة.
ومنها: المعاملة الغررية.
وغير هذه الموارد مما لا يترتب الأثر العقلائي على الانشاء مع صدقه
عرفا، ولذلك يقال: لا يصح انشاء الغاصب أو المجنون أو الصبي وهكذا.
ولا يخفى ان هاتين الجهتين لا تردان على مختار صاحب الكفاية، إذ
الانشاء على مختاره ايجاد المعنى باللفظ بوجود انشائي لا في وعائه المقرر له من
اعتبار أو غيره، فيمكن تحقق هذا الايجاد وقصده بلا توقف على تحققه في عالم
الاعتبار العقلائي كي ينتفي في مورد لا يتحقق فيه الاعتبار من العقلاء.
ولغويته مع عدم الأثر العقلائي ولا تنفى صحة تحقيقه. كما أنه يمكن ان يطرأ
على الصفات الحقيقية، إذ يمكن ان توجد بوجود انشائي غير وجودها الحقيقي
وفي وعائها المقرر لها، فلا يقال: ان تحقق هذه الصفات في وعائها تابع للأسباب
التكوينية ولا يرتبط باللفظ والاعتبار، إذ ليس المقصود بانشائها تحققها في
وعائها بل تحققها بتحقق انشائي اعتباري في غير وعائها. وقد أشرنا إلى ذلك
في بيان كلامه، وقد تعرض هو إلى الانشاء المكرر باعتبار. فراجع (1).
وقد تفصى (2) عن الاشكال من الجهة الأولى - أعني اختصاصه
بالاعتباريات - بان معنى الانشاء ليس هو استعمال اللفظ في المعنى بقصد ايجاده
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 287 - المطبوعة ضمن الحاشية.
(2) المتفصي هو المدقق الشيخ هادي الطهراني (قده)
133

في عالم الاعتبار، بل استعماله لا بقصد الحكاية، سواء قصد به الايجاد أو لم
يقصد، فالمأخوذ في معنى الانشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الايجاد.
واما الاشكال من الجهة الثانية - أعني لزوم خروج بعض الانشائيات
عن الانشاء - فقد أجيب عنه في مورد الصيغ المكررة بالالتزام فيما لا يقبل
التأكيد والشدة والضعف كالملكية، بلغوية الانشاء الاخر وانه لا يعد انشاء.
وفيما يقبل الشدة والضعف كالطلب ونحوه، بان الانشاء الاخر تأكيد للأول
بحيث يكون كل منهما دالا على مرتبة ما من الإرادة والطلب فيتأكد ولا يكون
لغوا (1).
وأما بيع الغاصب فقد أجيب عن الاشكال به بما ذكره الشيخ في بعض كلماته في المكاسب: من أن الغاصب وان علم بعدم ترتب الأثر العقلائي على
تمليكه لعدم كونه مالك المال، الا انه حيث يكون في مقام الانشاء يدعي لنفسه
الملكية ويبنى على أنه هو المالك ومن له حق التصرف من باب الحقيقة الادعائية.
وعليه فيترتب عليه ما يترتب على المالك من امكان قصد الايجاد ولو لم يتحقق
الايجاد حقيقة. وهذا الجواب لا يتأتى في بيع الفضولي لأنه لا يدعي لنفسه
الملكية كالغاصب، فيبقى الاشكال من جهته على حاله، كما يبقى الاشكال في
الموارد الأخرى.
والتحقيق انه يمكن دفع الاشكال في سائر الموارد، بان يقال: إنه ليس
المراد من الانشاء هو استعمال اللفظ بقصد ايجاد المعنى في عالمه على أن يكون
ايجاد المعنى بمنزلة الداعي - ويراد من القصد معنى الداعوية -، كي يقال
باقتضاء ذلك ترتب الايجاد على الانشاء مباشرة وفعلا كما هو شأن كل داع،
فإنه سابق بوجوده التصوري متأخر بوجوده العيني الخارجي ومترتب فعلا على
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 287 - المطبوعة ضمن الحاشية
134

الفعل. فيقع الاشكال حينئذ في بعض الموارد الانشائية لتخلف الايجاد عن
الانشاء، بل المراد به استعمال اللفظ في مقام ايجاد المعنى في وعائه المقرر له.
والمقصود به أن يكون المنشئ بانشائه في هذا المقام وبهذا الصدد - لا أن يكون
غرضه ذلك - فينشئ ما يقتضي الايجاد لو انضم إليه سائر ما له دخل في تحقق
المعنى، فإن كان ذلك ثابتا حال الايجاد أو لم يكن هناك ما يتوقف ترتب الأثر
على انضمامه تحقق المعنى فعلا، وإلا روعي في تحققه ثبوت ما له دخل فيه،
فالانشاء ليس دائما علة تامة لترتب الأثر وللايجاد كي يرد الاشكال المذكور،
بل قد يكون جزء العلة للإيجاد فيترتب عليه الأثر مع انضمام سائر ما له دخل
في التأثير، ويوجد المعنى المنشأ في وعائه بعد انضمامها، فالتعبير بالقصد في
تفسير الانشاء بلحاظ تأثيره ودخالته في ترتب الأثر اما بنفسه أو مع غيره
واطلاق القصد في مثله متعارف لا بلحاظ انه علة تامة لتحققه كي يشكل عند
تخلف الأثر في صدق الانشاء، ولو عبر بأنه استعمال اللفظ في مقام ايجاد المعنى
كان أوضح. واندفاع الاشكال - على هذا التوجيه لكلام المشهور - في موارد
الجهة الثانية واضح.
أما الانشاء المتكرر فلان المنشئ العاقل انما ينشئ ثانيا بقصد تحقق
المعنى في عالم الاعتبار لو لم يكن الانشاء الأول كافيا في تحققه لاحتمال تحقق
الخلل فيه. ولا يفرق في ذلك بين ما يقبل الشدة والضعف فيؤكد وما لا يقبل كما
لا يخفى.
وأما في بيع الغاصب والفضولي، فلأنهما ينشئان ما يقتضي الايجاد لو
انضم إليه رضا المالك فيتحقق منهما القصد بالمعنى الذي ذكرناه ويكونان في مقام
الايجاد. وهكذا الحال في سائر موارد الاشكال.
نعم لا يندفع بهذا التوجيه الاشكال من الجهة الأولى، فان الانشاء
يختص بما كان المعنى المنشأ من المعاني الجعلية الاعتبارية لا الواقعية التكوينية
135

كالتمني وغيره، إذ لا معنى لجعلها واعتبارها، بل وجودها يتبع أسبابها التكوينية
اعتبرها معتبر أولا. والتوجيه المزبور لم ينظر فيه إلى هذه الجهة من الاشكال،
بل النظر فيه مرتكز على الجهة الأخرى.
وعلى أي فلا ضير في خروج الصيغ الدالة على التمني وغيره مما يشاكله
عن الانشاء وليس هو بمحذور فسيأتي تحقيق الحال فيها.
وإذا تبين عدم ورود اي اشكال في الوجه المشهور للانشاء دار الامر بينه
وبين مختار صاحب الكفاية.
والذي يقرب الالتزام به ويبعد مختار صاحب الكفاية: انه لا دليل لما
ذكره صاحب الكفاية اثباتا، بل هو وجه ثبوتي صرف لا شاهد له في مقام
الاثبات، بل ظاهر المرتكز من أن المنشئ ينشئ نفس المعنى قاصدا ايجاده في
وعائه المناسب له بحيث يرى نفسه بمنزلة موجد السبب للامر التكويني، لا
انه ينشؤه لايجاده في عالم غير عالمه ثم يترتب عليه وجوده في عالمه الخاص.
ظاهر ذلك اثبات الرأي المشهور ونفي رأي صاحب الكفاية، وبذلك
يترجح التفسير الثالث على التفسير الثاني (1).
.

(1) لا يخفى انه قد وقع الاتفاق على أن للانشاء نحو ثبوت قبل تحقق شرائط فعليته، فللحكم ثبوت
قبل تحقق شرط الفعلية، وهو المعبر عنه بالحكم الكلي في قبال عدمه، وللملكية نحو وجود بمجرد
الانشاء قبل فعليتها واعتبارها من العقلاء أو الشارع، وهذا أمر وجداني يعترف به كل أحد على
الاختلاف في المراد في الانشاء.
وهذا ما نعبر عنه بالوجود الانشائي وبملاحظة هذه الجهة يمكن ان ننفي سائر الأقوال في
الانشاء.
اما القول الأول: فمقتضاه انعدام الانشاء بتصرم اللفظ، لان ما به وجود المعنى هو اللفظ
والمفروض تصرمه، الذي ينافي ما قلناه من وجود المنشأ بنحو مستمر.
واما قول المشهور: فلان ثبوته يتوقف على تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي في وعائه المناسب
له. وهذا قد يتوقف على شرائط خاصة، فإذا لم تتوفر لم يتحقق الاعتبار للمنشأ وهو خلاف للوجدان
لصدور البيع والتمليك عند عقد الفضولي مع الجزم بعدم تحقق الإجازة فضلا عن عدم تحققها فعلا.
واما القول الرابع: فان مقتضاه انه لو رفع المنشئ يده عن اعتباره يرتفع المنشأ، مع أن إجازة
المالك تتعلق ببيع الفضولي وعدمه ولو مع رفع الفضولي يده عما أنشأه، فلو لم يكن الوجود الانشائي
غير الاعتبار الشخصي لم يكن معنى صحيح لتعلق الإجازة بالبيع الفضولي إلا وجود لشئ حال
الإجازة على بعض الأقوال.
للوجدان،
136

وأما القول الرابع: - فهو الذي التزم به السيد الخوئي (دام ظله) - وهو كون
الانشاء ابراز ما في النفس من الصفات من اعتبار أو غيره بواسطة اللفظ (1).
وقد قرب مدعاه بنفي ما ذهب إليه المشهور، بدعوى أن الاعتبار
الشخصي بيد المعتبر نفسه فلا يناط باللفظ، والاعتبار العقلائي يتوقف على
استعمال اللفظ في المعنى فلا بد من تشخيص المعنى. هذا مع أن من الأمور
الانشائية ما لا يقبل الاعتبار كالتمني والترجي ونحوهما من الصفات الحقيقة.
ولا يخفى ان توقف الاعتبار العقلائي على استعمال اللفظ في معنى
لا يلازم فرض الانشاء كما ذكره، إذ يمكن ان يفرض ان معنى الهيئة هو قصد
الايجاد كما التزم في الهيئة الخبرية بان معناها قصد الحكاية، فإذا استعملت الهيئة
الانشائية في قصد الايجاد ترتب عليه الاعتبار العقلائي، فلا يلزم فرض الانشاء
عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني. فتدبر.
وقد خلط في مقام تعريفه بين المقام الثاني - أعني معنى الجملة - والمقام
الأول، حيث ادعى ان الصيغ الانشائية وضعت لابراز الصفات الموجودة في
النفس وان الأثر انما يترتب عليها مع ابرازها لا عليها فقط ولو لم تبرز. والذي
يستفاد من كلامه ان الشخص يتحقق منه الاعتبار - مثلا - ثم يبرزه بالصيغة.
فالانشاء عنده هو نفس الاعتبار أو ان الاعتبار مقوم للانشاء.
ولذلك يرد عليه:
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 93 - الطبعة الأولى
137

أولا: ان الاعتبار الشخصي وان التزم به بعض الأكابر، إلا أنه لا أساس
له ولا وجه بعد امكان التوصل إلى الاعتبار العقلائي باللفظ مباشرة كما هو
مقتضى الرأي الثالث المشهور، إذ لم يثبت فيه أي محذور، فالاعتبار الشخصي
بعد هذا يكون لغوا محضا وليس بذي أثر. نعم لو فرض امتناع الاحتمال الثالث
وثبوت المحذور فيه أمكن دعوى صحة الاعتبار الشخصي من باب أنه يكون
موضوع الاعتبار العقلائي، لكن عرفت أنه لا محذور فيه.
وثانيا: ان معنى الاعتبار هو بناء المعتبر على ما اعتبره، فيقال عند اعتبار
العقلاء الملكية لزيد انهم بنوا على أنه مالك وانهم يرونه مالكا. ونحو ذلك من التعبيرات المرادفة، وعليه فاعتبار الشخص زيدا مالكا - عند إرادة بيعه شيئا -
معناه انه بنى على أنه مالك وبعد ذلك يبرز هذا الاعتبار باللفظ.
وهذا المعنى يخالف الوجدان والضرورة، فان الشخص قبل التلفظ
بالصيغة لا يبني على أن زيدا مالك ولا يرتب آثار الملكية عليه في نفسه ولا ينظر
إليه نظر المالك بل هو يقصد تمليكه بالصيغة بحيث يبني على مالكيته بعد ذكرها
لا قبله كما لا يخفى.
وثالثا: ان من المعاني الانشائية ما لا يقبل الجعل والاعتبار أصلا كالانفاذ،
فان نفوذ المعاملة معناه تأثيرها وترتب الأثر المرغوب عليها، والتأثير غير قابل
للاعتبار لما قرر في منع جعل السببية ونحوها من الأمور الانتزاعية، من أنها ان
جعلت بنفسها بلا جعل المسبب كان ذلك منافيا للسببية، لان معناها تحقق
المسبب عند وجود السبب، وان جعل المسبب استغني عن جعلها بجعله لتحققها
قهرا لانتزاعها عن وجود المسبب عند وجود السبب. والنفوذ مثل السببية من
الأمور الانتزاعية، بل هو في معناها لأنه عبارة عن تأثير العقد في المسبب،
فاعتباره ممتنع، بل المجعول انما يكون هو الأثر وينتزع من جعله التأثير والنفوذ.
ولا يخفى ان إجازة المعاملة الفضولية قد تكون بلفظ: (أنفدت)، وهو - أعني
138

الانفاذ - لا يقبل الاعتبار كما عرفت، فيلزم أن لا تكون انشاء على هذا التفسير
مع أن كون الإجازة من الانشائيات مما لا يخفى.
واما لو كانت بلفظ القبول مثل: (قبلت) فالايراد لا يتأتى، إذ قد يدعى
بان الاعتبار تعلق بنفس المسبب، والمنشأ هو نفسه لا التأثير والسببية. بدعوى:
ان القبول عرفا في معنى الاقرار بالتمليك الحاصل وجعل طرفه نفسه لا المنشئ
الفضولي، فيكون انشاء التمليك مباشرة.
وبالجملة: من مجموع ما ذكرنا ومما سيأتي من الاشكال على معنى
الصيغة الانشائية يحصل الجزم بعدم صحة هذا الاختيار. هذا مع أنه (حفظه الله)
لم يتعرض لنفي ما ذكره صاحب الكفاية وابطاله، وانما تعرض لنفي المذهب
المشهور خاصة، وهذا على خلاف أسلوب التحقيق.
فالمتعين في معنى الانشاء من بين الآراء هو الرأي الثالث المشهور بين
الاعلام لارتكازه في الأذهان.
هذا كله في الانشاء. واما الاخبار فلا خلاف في معناه، وانه هو استعمال
اللفظ في المعنى بقصد الحكاية عن ثبوته في موطنه ووعائه من ذهن أو خارج.
وأما المقام الثاني، فتحقيق الكلام فيه: انه قد نسب إلى المشهور دعوى
كون الموضوع له الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج، فمدلولها
ثبوت النسبة في الخارج أو لا ثبوتها. فالثبوت معنى الجملة الايجابية وعدم الثبوت
معنى الجملة السلبية.
وأورد السيد الخوئي على ذلك بوجهين:
الأول: ان مقتضى كون مدلول الجملة الخبرية ثبوت النسبة أو لا ثبوتها
حصول العلم بثبوتها أو عدمه بمجرد اطلاق الجملة، مع أن الوجدان قاض بعدم
ذلك، وانه لولا القرائن الخارجية أو الاطمئنان الشخصي بصدق المخبر لا يحصل
العلم من الجملة لو خليت ونفسها، بل لا يحصل الظن.
139

والتفصي عنه بان وضع الجملة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها لا يقتضي سوى
تصوره وانتقال الذهن إليه عند اطلاق الجملة كالوضع للمفردات، إذ العلم الذي
يقتضيه الوضع انما هو العلم التصوري لا التصديقي، وحصول تصور ثبوت
النسبة أو لا ثبوتها عند اطلاق الجملة لا يكاد ينكر من أحد.
مندفع: بما تقرر من أن دلالة الجملة على معناها تختلف عن دلالة الألفاظ
المفردة، فان دلالة الألفاظ المفردة تصورية، ودلالة الجملة تصديقية، والتصديق
يعتبر فيه العلم والاذعان، فمقتضى وضع الجملة لثبوت النسبة - بضميمة كون
دلالتها على معناها تصديقية - حصول العلم التصديقي بثبوت النسبة في الخارج
عند اطلاق الجملة، وقد عرفت عدم حصوله.
الثاني: ان الوضع كما عرفت تحقيقه عبارة: عن التعهد بشئ عند ذكر
اللفظ، ولا يخفى ان التعهد لا بد ان يتعلق بامر اختياري يمكن فعله للمتعهد،
وعليه فيمتنع الوضع لثبوت النسبة، لان مقتضاه تعهد الواضع ثبوت النسبة في
الخارج عند ذكر الجملة، وثبوت النسبة ليس من الأمور الاختيارية فلا يصح
تعلق التعهد به.
ولأجل ورود هذين الاشكالين عدل عن اختيار المشهور إلى اختيار كون
الموضوع له الجملة الخبرية قصد الاخبار عن ثبوت النسبة والحكاية عنها، وهو
امر اختياري يمكن تعلق التعهد به، كما أن الدلالة تكون تصديقية، إذ باطلاق
الكلام والقائه يعلم بان المتكلم يقصد الحكاية والاخبار.
فيمكن الالتزام بهذا الرأي بلا ورود المحذورين السابقين، واختيار كون
الموضوع له الجملة الانشائية ابراز الصفات النفسية من طلب أو تمن أو اعتبار
شئ، فالصيغ الخبرية والانشائية تتفقان في كون الموضوع له هو ابراز شئ، وان
لهما دلالة تصديقية إلا انهما يختلفان، في أن موضوع الابراز في الخبرية امر يحتمل
فيه التحقق وعدمه ويحتمل فيه الصدق والكذب، والمنظور في ما يقال من أن
140

الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب هو هذا المعنى، والا فنفس مدلول الجملة
غير قابل للصدق والكذب. بخلافه في الانشائية فإنه لا يحتمل فيه ذلك.
ويتلخص الفرق بين هذا الالتزام وبين الالتزام الاخر في امرين:
الأول: ان الموضوع له على هذا الالتزام هو قصد الحكاية عن ثبوت
النسبة. واما الموضوع له على الالتزام الاخر فهو نفس النسبة أو ثبوتها المحكي
عنه.
الثاني: ان قصد الحكاية على الالتزام الاخر يكون بمنزلة داعي الداعي
للاستعمال، إذ الداعي الأول للاستعمال هو تفهيم النسبة وايجاد صورة النسبة في
الذهن، وهذا التفهيم والابراز، تارة يكون بداعي الحكاية عنه، وأخرى يكون
بداعي الاستهزاء - مثلا -. فداعي الحكاية يكون داعيا إلى التفهيم الذي هو
داع للاستعمال.
واما على هذا الالتزام فهو الداعي الأولي للاستعمال والتكلم، إذ يوضع
الكلام لامر آخر غيره، فلاحظ (1).
والكلام مع السيد الخوئي يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في تمامية ما ساقه سببا للعدول من تعريف المشهور للجملة
الخبرية واختيارهم في الموضوع له الجملة وعدم تماميته، والحق انه غير تام.
أما الوجه الأول: فلان المراد من كون دلالة الجملة الخبرية تصديقية
ليس انها بالقائها توجب الاذعان بالنسبة، بل إن مدلولها أمر لو تعلق به العلم
كان تصديقيا، بخلاف مدلول المفردات فإنه لا يتعلق به الاذعان أصلا.
ويشهد لما ذكرناه: انهم لا يلتزمون بان دلالة الجملة الانشائية تصديقية،
حتى من يلتزم بما التزم به السيد الخوئي من وضع الصيغ الانشائية للطلب ونحوه.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 85 - الطبعة الأولى.
141

فإنه لو كان المراد من الدلالة التصديقية ما ذكره من حصول العلم بمدلولها
بالقائها لم يصح الالتزام به الا الالتزام بالوضع لتفهيم النسبة لا نفس النسبة،
والالتزام بذلك يقتضي الالتزام بتصديقية الدلالة في الجملة الخبرية والانشائية،
وقد عرفت انهم لا يلتزمون بذلك في الجملة الانشائية، فيكشف عن كون المراد
من الدلالة التصديقية معنى غير ما ذكر، وهو ما بيناه.
وأما الوجه الثاني: فلانه - مضافا إلى ما عرفت من الاشكال في أصل
المبنى. وتقريبه بنحو آخر أوجه منه وإن لم يسلم عن الاشكال أيضا، وهو جعل
متعلق التعهد ذكر اللفظ لا المعنى فراجع - منقوض بالوضع للمفردات، فان
الذوات والطبائع التي توضع بإزائها الألفاظ غير اختيارية للواضع المتعهد،
فيمتنع الوضع له بمقتضى كون الوضع هو تعهد المعنى عند ذكر اللفظ،
لاستلزامه تعلق التعهد بامر غير اختياري وهو ممتنع.
وبتعبير آخر: ان متعلق التعهد ان كان لا بد أن يكون نفس الموضوع له
فلا بد أن يكون اختياريا، انتقض ذلك بالوضع للمفردات من الذوات والطبائع
ونحوهما. وإن لم يلزم أن يكون هو الموضوع له، بل متعلقه قصد تفهيم المعنى،
وذلك يصحح كون المعنى هو الموضوع له كما هو المفروض، فليكن الامر كذلك
فيما نحن فيه - أعني الجملة الخبرية -، فيكون المتعهد به قصد الاخبار عن ثبوت
النسبة والموضوع له نفس ثبوت النسبة، كما كان المتعهد به في لفظ: (زيد) لذاته
قصد تفهيم الذات والموضوع له نفس الذات، فلاحظ جيدا.
الجهة الثانية: في صحة ما اختاره معنى للجملة الخبرية والانشائية وعدم
صحته.
والحق عدم تماميته أيضا.
أما عدم صحة ما اختاره للجملة الخبرية من معنى، وهو كونه قصد
الحكاية عن ثبوت النسبة وانها موضوعة لابراز هذا القصد دالة عليه وعلى كون
142

المتكلم في مقام الاخبار، فلوجهين:
الأول: تخلفه في بعض الصيغ الخبرية غير المستعملة في قصد الحكاية عن
مدلولها، كجملة: (أن زيدا قائم) في قول القائل: (سمعت أن زيدا قائم)، فان
مجموع الجملة اخبار عن السماع بقيام زيد الا ان جملة (ان زيدا قائم) غير
مقصود بها الحكاية عن ثبوت النسبة بين: (زيد) و (قائم)، بل هي دالة على
ثبوت النسبة فقط، وهي بهذا اللحاظ كانت متعلقا للسماع، وبهذا الاعتبار صح
الاخبار عن السماع بها. لان متعلق السماع هو النسبة والمقصود الحكاية عن
السماع بها، فلو لم تكن دالة على النسبة لم يتم الكلام، إذ ليس ما يدل على النسبة
غيرها، وكقوله (أخبرني بكر بان عمرا قائم)، وهو يعلم يكونه زيدا، فإنه ليس
بصدد الاخبار عن قيام عمرو، مع أن جملة (ان عمرا قائم) مستعملة في معناها
قطعا.
وكالاستعمالات الكنائية، فان المقصود الحكاية عن اللازم دون الملزوم مع
دلالة الجملة على الملزوم فلو لم تدل على الملزوم وهو ثبوت النسبة الملزومة لنسبة
أخرى المقصود الحكاية عنها لما صحت الكناية.
والحاصل: ان من الجمل ما لا يستعمل في قصد الحكاية، بل لا
يدل الا على النسبة، فمقتضى الالتزام المذكور عدم كونها من الجمل الخبرية مع أنها
كذلك بلا كلام وتوقف.
يضاف إلى ذلك، أولا: ان نتيجة الوضع لمعنى هو حكاية اللفظ عنه
وتفهيمه به وابرازه به ودلالته عليه، فلو كان الموضوع له الجملة الخبرية هو قصد
الاخبار كان مدلولها ذلك بحيث يكون المحكي بها هو قصد الحكاية، وذلك
مخالف لما عليه الوجدان والعرف، فان العرف يرى ان مدلول الجملة الخبرية هو
ثبوت النسبة لا قصد الاخبار عنها، فيرى أن المتكلم حكى عن ثبوت النسبة
لا انه حكى قصد الحكاية عن ثبوت النسبة، بل هذا المدعى يمكن ان يستفاد
143

من كلامه هو، حيث صرح بان المتكلم يقصد الحكاية عن ثبوت النسبة بالجملة.
وثانيا: ان الدليل الذي ساقه لاختيار هذا الوجه هو دعوى أنه يستفاد
عند اطلاق الجملة الخبرية كون المتكلم في مقام الاخبار وانه يقصد الحكاية.
ونظير هذا موجود في استعمال الألفاظ المفردة، فان المتكلم في مقام الاخبار وانه يقصد الحكاية.
ونظير هذا موجود في استعمال الألفاظ المفردة، فان المتكلم إذا أطلق اللفظ المفرد
يفهم انه في مقام تفهيم معناه وابرازه، فلما لم يلتزم في المفردات بأنها موضوعة
لقصد تفهيم المعنى كما التزم بذلك في الجملة الخبرية؟، وانما التزم بأنها موضوعة
لذات المعنى لكن مقيدة بتعلق الإرادة والقصد.
ولو أراد أن يلتزم بان الموضوع له في المفردات هو قصد التفهيم والابراز
كما لا تأباه بعض عبارات بعض تقريراته (1)، للزم ان يلتزم ان الدلالة في باب
المفردات تصديقية أيضا كما في باب الجمل، لوحدة الملاك وهذا مما لا يلتزم به.
فيكشف ذلك عن أن ما استند إليه في اثبات مدعاه غير مجد وانه لازم
أعم للوضع فلا يكشف عن الوضع.
وثالثا: ان النسبة المقصود تفهيمها معنى من المعاني التي تحتاج إلى وضع
شئ لها، فإذا كانت الجملة موضوعة لقصد تفهيمها فما هو الموضوع لها؟.
الثاني: ان المتصور في قصد الحكاية الموضوع لها الصيغة أمور ثلاثة:
أحدها: التصميم والعزم على الاخبار. ثانيها: كون المتكلم بصدد الاخبار وفي
مقام الحكاية. ثالثها: كونه قاصدا الحكاية والاخبار بهذه الجملة بحيث يكون
الاخبار والحكاية داعيا لذكر الجملة. ومراد القائل هو الثالث دون الأولين، لأنه
يذهب إلى أنه بالقصد المذكور يكون الكلام خبرا وفردا من افراد الاخبار، مع أنه
قد لا يترتب مباشرة على أصل العزم أو كونه في مقام الاخبار استعمال الصيغة
الخبرية بل يستعمل الصيغة الانشائية ولا يكون اخبارا بلا كلام. فالمتعين هو
.

(1) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 59 - الطبعة الأولى
144

الثالث، فإنه المساوق لاستعمال الجملة الخبرية وبه تكون الجملة من افراد
الاخبار، ومصداقا للخبر. ولا يخفى ان الداعي ما يكون بوجوده الذهني سابقا
وبوجوده الخارجي لاحقا مترتبا على الشئ بلا فصل. فإذا كانت الحكاية
المأخوذة في معنى الجملة الخبرية من قبيل الداعي فلا بد من فرض كون الحكاية
عن ثبوت الجملة للنسبة امرا يترتب على الجملة في نفسه كي يكون داعيا إلى
الاستعمال، ويكون الاستعمال بلحاظه، وهذا انما يتلاءم مع الوضع لنفس ثبوت
النسبة لا لقصد الحكاية، إذ بعد فرض كون القصد ههنا بمعنى الداعي فلا بد
ان يفرض مدلول الجملة أمرا غير القصد يكون مدعاة للاستعمال وموضوعا
للقصد.
وقد يقال: إذا كان الموضوع له هو قصد الحكاية عن ثبوت النسبة كان
ثبوت النسبة قيد الموضوع له، فصح أن يكون داعيا ولو بلحاظ دلالة الكلام
عليه بالالتزام وبتبع دلالته على المقيد به وهو نفس القصد.
لكنه غير وجيه: لان ما أخذ قيد الموضوع له هو ثبوت النسبة بنحو
الاطلاق وبلا تقييده بنسبة خاصة. والداعي الباعث للاستعمال هو تفهيم النسبة
الخبرية الخاصة، لوضوح تفاوت انحاء النسب وتفاوت الجمل في الدلالة عليها،
فنحو النسبة المدلول عليها بجملة: (قام زيد) غير نحو النسبة المدلول عليها
بجملة: (زيد قائم) أو (ان زيدا قائم). فالمدلول عليه بالالتزام هو كلي النسبة
وهو لا يصلح للداعوية، فلا يمكن فرض كون الداعي الحكاية عن النسبة
الخبرية الخاصة الا بفرض قابلية الكلام بنفسه لتفهيمه في مرحلة سابقة على
الداعوية، وهو يقتضي الوضع لثبوت النسبة.
ومن هنا تتضح تمامية الايراد على الوجه المزبور - أعني الوجه في وضع
الجملة الخبرية - بأنه نرى بالوجدان بأنه عند اطلاق جملة: (زيد قائم) نفهم
معنى آخر غير نفس المعاني الافرادية وهو ثبوت النسبة بينهما. والدال منحصر
145

بالهيئة التركيبة وذلك يقتضي وضعها لذلك.
إذ الجواب عنه: بان الدلالة على ذلك انما كان بواسطة الدلالة على قصد
تفهيم النسبة، إذ تصور ثبوت النسبة يكون مع ذلك قهريا للعلم بقصد تفهيمه.
فلا دلالة لانسباق ثبوت النسبة على الوضع له لأنه يتلاءم مع الوضع لقصد
الحكاية عن ثبوتها.
لا يتجه بعد ما عرفت من أن القيد المأخوذ والمدلول عليه بالالتزام - لو
تم الوجه المزبور - هو كلي النسبة، والمتبادر عند اطلاق الجملة ثبوت النسبة
الخاصة والتبادر علامة الوضع، إذ لا مقتضى سواه في المقام.
نعم، الايراد عليه: بان المراد بالابراز ان كان مفهومه، فيلزم الترادف بين
الهيئة وبين لفظ الابراز وهو باطل كما لا يخفى، وان كان مصداقه، فهو مما لا يلتزم
به القائل لأنه لا يرى صحة الوضع للموجود الخارجي لعدم قابليته للانتقال
الذهني الذي هو غاية الوضع، لان الانتقال يتعلق بالمفاهيم لا بالمصداق.
غير وجيه: لان الابراز الوارد في التعبير غالبا لم يؤخذ في الموضوع له،
بل الموضوع له هو القصد، والابراز بمنزلة الداعي للوضع، فاللام في قوله: (وضع
لابراز..) لام التعليل لا لام الإضافة والملك. ومثله الحال في الابراز في الجمل
الانشائية، إذ قد توهم بعض عبارته انه هو الموضوع له بمعنى كونه طرفا للعلقة
الوضعية، ولكن مراده انه الموضوع لاجله، إذ لا معنى لكون الابراز طرفا للعلقة
الوضعية، مع أنه لا يوجد الا بالاستعمال. فالاستعمال موجد للابراز لا كاشف
عنه فتدبر.
ولكن يرد عليه نظيره بالنسبة إلى قصد الحكاية الذي فرضه موضوعا له،
فيقال ان المراد ان كان هو مفهوم قصد الحكاية لزم صحة الترادف بين الهيئة
وقصد الحكاية وهو باطل جزما، لعدم صحة وضع أحدهما موضع الاخر. وان كان
هو واقع قصد الحكاية فهو خلاف ما التزم به القائل من لزوم كون الوضع
146

للمفاهيم.
واما عدم صحة ما اختاره للجملة الانشائية من معنى - الذي يتلخص
في أن الجملة الانشائية موضوعة بقصد ابراز الصفات النفسانية الحاصلة في
النفس من تمن وترج واستفهام واعتبار، فهي موضوعة لواقع هذه الصفات لا
لمفهومها، بمعنى ان الواضع تعهد بأنه متى ما كان في نفسه احدى هذه الصفات
ذكر الهيئة الخاصة بها، ولذلك يكون الاتيان بالجملة الانشائية موجبا للعلم
بحصول هذه الصفة في نفس المتكلم فيرتب عليه آثارها، وليس موجبا للتصور
والخطور، فإنه من شأن المفاهيم لا الوجودات - فلوجهين:
الأول: ان ذلك انما يتم في غير ما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة
النفسانية الموضوع لها الهيئة نظير: (ملكت)، فان الهيئة تدل على الاعتبار القائم
بالنفس، والمادة تدل على الملكية، وهي غير مفهوم الصفة النفسانية أعني
الاعتبار كما لا يخفى، فالمجموع من الهيئة والمادة يدل على اعتبار الملكية.
وأما فيما إذا كانت المادة موضوعة لمفهوم الصفة النفسانية مثل:
(اعتبرت) ان قصد بها الانشاء أو: (اتمنى) المقصود بها انشاء التمني، فلا يتم ما
ذكر، لان معنى الكلام - بمقتضى ما ذكر بملاحظة المجموع من الهيئة والمادة -
اعتبار الاعتبار وتمني التمني ولا ريب في فساده ولا يلتزم به القائل مع أنه لازم
قوله.
وهكذا لا يتم ما ذكر فيما كان المنشأ لفظا غير المقصود اعتباره مثل
(بعت) فان المقصود اعتبار الملكية، والصيغة بمادتها وهيئتها انما تدل على اعتبار
البيع ولا معنى له، إذ البيع من الأفعال التكوينية الخارجية لا من الاعتباريات،
لأنه يدل على ايجاد التمليك ويشير إلى صدور التمليك عن البائع، وهو امر
تكويني ليس باعتباري، وبعبارة أخرى: التمليك بلحاظ جهة الصدور ليس
اعتباريا كالملكية كما لا يخفى.
147

الثاني: ان لازم هذا الاختيار أن لا يكون للجملة الانشائية مدلول تام
جملي في عالم المفهومية والتصور، بل لا يكون هناك الا مفهوم المادة الافرادي.
بيان ذلك: ان الصيغة إذا كانت موضوعة لواقع الصفة النفسانية، وهي - مثلا -
الاعتبار القائم بالنفس، كان وجود الصيغة كاشفا عن ذلك الواقع وموجبا للعلم
به بلا خطوره في الذهن، لفرض كونه موجودا وهو لا يقبل التحقق في الذهن.
وعليه فليس في الجملة الانشائية ما يتعلق به التصور والانتقال سوى مفهوم
المادة وهو ما تعلق به الاعتبار. مثلا قول الامر (صل) يكشف بهيئته عن اعتبار
الصلاة في عهدة المكلف ويوجب العلم به، والمادة توجب الانتقال إلى مفهوم
الصلاة وتصوره.
وإذا لم يكن للجملة الانشائية مفهوم جملي تام، بل ليس لها الا مفهوم
افرادي، خرج بابها عن باب استعمال الألفاظ الموجب لخطور المعنى في الذهن
والانتقال إليه، إذ يكون حال الهيئة حال الكاشف التكويني عن الصفة، فلو
فرض وجود الكاشف تكوينا عن الصفة غير الهيئة اللفظية واتى به مع لفظ:
(صلاة) لم يكن ذلك من باب الاستعمال أصلا، بل المستعمل ليس إلا لفظ
الصلاة في مفهومه. ومثله لو فرض وجود الكاشف الجعلي غير اللفظ بان يتعهد
الشخص بأنه متى ما اعتبر شيئا رفع يده وذكر اسم ذلك الشئ، فان رفع اليد
وذكر اسم ذلك الشئ لا يكون من باب الاستعمال في الصفة النفسانية، بل هو
أجنبي عنه بالمرة، فالحال كذلك في الجملة الانشائية فإنها تكون - على هذا
القول - خارجة عن باب الاستعمال وأن المستعمل فيه ليس لا مفهوم المادة
كالصلاة ونحوها. فلاحظ جيدا وتدبر.
فالتحقيق: ان الموضوع له الجملة والهيئة التركيبية خبرية كانت أو
انشائية هو نفس النسبة بين الموضوع والمحمول التي يصح التعبير عنها في الجمل
الاسمية بلفظ الاتحاد، فيقال في (زيد قائم): (زيد وقائم متحدان)، وهذه النسبة
148

يعرض عليها الثبوت وعدم الثبوت، والايجاب والسلب، والاخبار والانشاء،
بمعنى انه ان قصد بالجملة الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع المقرر لها كانت
الجملة خبرية، وان قصد بها ايجاد معناها وهو النسبة في وعائه المناسب له كانت
الجملة انشائية، ومدلول الجملة والمستعمل فيه في كلا الحالين واحد وهو النسبة.
فالمستعمل فيه: (أنت حر) أو (زوجتي طالق) اخبارا وانشاء واحد وهو النسبة
لا يختلف في حال الاخبار عنه في حال الانشاء.
فالاخبار والانشاء خارجان عن الموضوع له والمستعمل فيه في الجملة
الخبرية والانشائية، بل هما من أطوار الاستعمال وأنحائه، ولعل مراد المشهور ما
ذكرناه من الوضع لنفس النسبة التي يعرض عليها الثبوت وعدمه (1) - لا الوضع
لثبوت النسبة أو لا ثبوتها، لوضوح ان أداة السلب في الجملة الخبرية انما ترد
على نفس النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول، لا ان الهيئة المركبة من
المجموع من الموضوع والمحمول وأداة السلب موضوعة للا ثبوت النسبة، إذ
وجود النسبة بين الموضوع والمحمول في الجملة السلبية مما لا يكاد ينكر - من
دون اخذ الاخبار والانشاء في الموضوع له والمستعمل فيه. ويشهد لذلك انهم لا
يفرقون بين الجملة الخبرية والانشائية الا في كون المتكلم في مقام الاخبار وعدمه.
ومن هنا يظهر المراد مما قرر من أن الخبر ما كان لنسبته خارج تطابقه
أو لا تطابقه دون الانشاء، فان الجملة الخبرية إذا كانت هي الجملة المستعملة في
.

(1) لم يبت - سيدنا الأستاذ (مد ظله) - في الدورة اللاحقة بهذا الامر، وان أوكل تحقيقه إلى مجال آخر، وانما
كان همه نفي ما ذهب إليه السيد الخوئي من معنى الجملة الخبرية.
والذي يبدو لي هو اعتبار الثبوت في مدلول الجملة الايجابية، لان المفهوم من الجملة النسبة
وثبوتها لا مجرد النسبة، والدال منحصر بالهيئة، إذ لا دال آخر في البين يدل على الثبوت. ولعله مما يدل
على ذلك أن النسبة بين المحمول والموضوع ليست أمرا تصديقيا. نعم ثبوتها أمر تصديقي يقبل
التصديق. واما السلبية، فهي أيضا مستعملة في ثبوت النسبة، وحرف السلب يتوجه إلى مدلول الهيئة،
فهو ينفي الثبوت، ولا محذور في ذلك. (منه عفي عنه)
149

النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها في الواقع، فلا بد أن يكون الملحوظ هو الواقع،
فاما ان تكون النسبة في الواقع مطابقة للنسبة الكلامية أو لا تكون، بخلاف
الانشاء، إذ ليس المقصود منه الحكاية عن الواقع كي يكون الواقع منظورا فيه
وتلحظ المطابقة له وعدمها.
ولا يخفى ان هذا الرأي في الجملة الخبرية والانشائية هو الامر
الارتكازي لمعناها والمتبادر من الجملة كما يشهد له ملاحظة الاستعمالات العرفية
بلا كلام، كما أنه سالم عن جميع المحاذير السابقة وشامل لجميع موارد الاستعمال
بلا استثناء.
نعم، تبقى هناك موارد لا تدخل في الاخبار ولا الانشاء، وهي ما أشرنا
إليه مما لا يكون المبدأ من الأمور الاعتبارية، بل كان من الأمور التكوينية ولم
يكن القصد هو الحكاية عن تحققه كالتمني والترجي، فان الجملة في هذه الموارد
لا تكون خبرية، إذ ليس المستعمل فيه هو النسبة بقصد الحكاية عن ثبوتها. ولا
انشائية، إذ لم تستعمل النسبة بقصد ايجادها المعنى في عالمها، إذ هي لا تقبل
الايجاد والاعتبار، بل وجوده يدور مدار تحقق أسبابه التكوينية، مع أن المقرر انه
لا واسطة بين الانشاء والخبر في الجمل، بل يمكن ان يقرب هذا الكلام ايرادا
على ما اخترناه أو اختاره المشهور في معنى الانشاء، وذلك ببيان: انه من المسلم
ان موارد التمني والترجي من الانشائيات، ومن الواضح انها أمور حقيقة توجد
بأسبابها التكوينية ولا توجد باللفظ والاستعمال، وبضميمة ان الانشاء في جميع
موارده بمعنى واحد يكشف عن بطلان المختار وصحة الالتزام به، بأنه عبارة عن
ابراز الصفة النفسانية غير قصد الحكاية.
وحيث انجر الكلام إلى ذلك، فلا بد من التكلم فيها من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: في تصحيح الارتباط الحاصل بين معنى الحرف ومعنى
الجملة المدخولة للحرف. إذ لا اشكال في وجود الربط بين معنى (ليت) ومعنى
150

الجملة التي تدخل عليها، والمفروض ان معنى الجملة - وهو النسبة - معنى حرفي
آلي لا يقبل التقييد والاطلاق، فلا يصح ربطه بشئ، فلا بد من الكلام في
تصحيح هذا الارتباط الحاصل.
الجهة الثانية: في بيان معنى نفس الحرف.
الجهة الثالثة: في تصحيح صدق الانشاء بالمعنى المختار أو المشهور على
الجملة.
أما الجهة الأولى: فتحقيق الكلام فيها موكول إلى محله في مبحث
الواجب المشروط، فان أساس البحث هناك في هذا الشأن وتصحيح أداة الشرط
بالهيئة، وقد صحح ذلك بجهات، كالالتزام بعموم الموضوع له كما التزم به صاحب
الكفاية (1)، والالتزام بعدم آلية المعنى الحرفي وامكان استقلاله في اللحاظ كما
ذهب إليه السيد الخوئي (2)، والالتزام برجوع القيد إلى المادة المنتسبة لا نفس
النسبة كما اختاره المحقق النائيني (3)، وليس الكلام في ذلك محله ههنا، بل يتضح
الحال في مبحث الواجب المشروط فانتظر.
وأما الجهة الثانية: فالتحقيق ان يقال: ان الموضوع له الحرف هو النسبة
بين التمني والمتمني - بالفتح - (الأمنية) لان تعلق التمني بشئ لازمه تحقق نسبة
بين التمني وما تعلق به، فاللفظ موضوع إلى هذه النسبة، وهو أمر مرتكز عرفا
كما أنه الأقرب إلى معنى الحرف لتوفر جهات المعنى الحرفي فيه من الالية
والايجادية ونحوهما. خصوصا بعد وضوح بطلان ما التزم به المحقق صاحب
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 97 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 321 - الطبعة الأولى.
بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 308 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 130 - الطبعة الأولى.
151

الكفاية من وضعها إلى مفهوم التمني كلفظ: (التمني). وما التزم به السيد الخوئي
من وضعها إلى نفس الصفة النفسانية أو ابرازها. فلاحظ.
وأما الجهة الثالثة: فقد عرفت أنه لا اشكال في امكان كونها من
الانشائيات بناء على ما التزم به صاحب الكفاية من معنى الانشاء، لقابلية كل
شئ اعتباريا كان أو تكوينيا لوجود انشائي.
وهكذا الحال بناء على ما التزم به بعض، من كون الانشاء استعمال اللفظ
لا بقصد الحكاية وإن لم يكن بقصد الايجاد، لوضوح عدم تأتي قصد الحكاية في
جمل التمني والترجي.
وانما الاشكال في ذلك بناء على المذهب المشهور، لان التمني من الأمور
الواقعية التابع وجودها لأسبابها التكوينية، سواء تحقق اعتبارها أو لم يتحقق،
ولا يكون للاستعمال دخل في وجودها أصلا كي يقصد به ايجادها في عالمها.
وعليه، فصدق الانشاء عليها يتوقف على تصور وجود اعتباري لها غير
وجودها الحقيقي التكويني، ويمكن تقريب ثبوت مثل هذا الوجود لها بأمور: -
وهي لو تمت لدلت أيضا على صحة الالتزام بالوجود الانشائي في هذه الموارد -.
الأول: ما يلاحظ في الاستعمالات والمحاورات العرفية العقلائية التي هي
الحكم في مثل هذه الأمور من عدم صدق التمني الا بعد الكلام وصدور الجملة،
فيقال للشخص انه تمنى بعد صدور الجملة، فإنه ظاهر في أن للتمني معنى عندهم
يتحقق بالجملة، وليس هو الا الوجود الاعتباري، ولذا لا يقال إنه للتفهيم إذا
لم يصدر منه ما يدل على الاستفهام النفسي.
الثاني: ان الفعل المشتق من التمني يسند عرفا إلى الفاعل، بنحو نسبة
صدورية المرادف في الفارسية ل‍: (تمنى كرده يا ميكند) مع أنه إذا كان الملحوظ
في المعنى الاشتقاقي هو الصفة النفسانية لم يصح اسناد الفعل إلى الفاعل
باسناد صدوري، لان نسبة الصفة النفسانية نسبة حلولية المرادف في الفارسية
152

ل‍: (تمنى شده) لا صدورية، كغيرها من الصفات النفسانية مثل العلم. فلا بد أن يكون
الملحوظ في الاسناد المزبور معنى للتمني يتناسب مع الاسناد الصدوري
وهو الوجود الاعتباري.
الثالث: انه لا اشكال في أنه يطلق لفظ التمني على نفس الكلام الصادر.
وهذا لا يصح الا بملاحظة ان التمني يوجد بوجود اعتباري عقلائي باللفظ،
فيصدق لفظه على الجملة من باب صدق لفظ المسبب على السبب وهو متعارف.
ولا يمكن توجيهه: بان صدقه بملاحظة انكشاف الصفة النفسانية
باللفظ، فيصدق على الجملة من باب صدق لفظ المنكشف على الكاشف.
لان مثل هذا الاستعمال غير متعارف، ولا اشكال في عدم صحة صدق
اللفظ الموضوع لمعنى على لفظ آخر كاشف عن ذلك المعنى.
والمتحصل: انه من ملاحظة مجموع ما ذكرنا يحصل الجزم بان للتمني
وجودا آخر غير وجوده الحقيقي يتحقق باللفظ، فيصدق الانشاء بالمعنى
المشهور على جملة التمني بهذا الاعتبار، فتدبر جيدا.
هذا بالنسبة إلى حروف التمني والترجي.
وأما حروف النداء، مثل: (يا). فالتحقيق فيه: ان النداء ان كان معناه
هو التصويت بقصد جلب توجه المخاطب المراد في الفارسية ل‍ (صدا كردن)،
كان حرف النداء بمجرد حصوله محققا للنداء باعتبار انه صوت في هذا المقام -
أعني في مقام جلب توجه المخاطب - بلا ان تصل النوبة إلى تعيين وضعه إلى
معنى، بل لا اثر لذلك. وان كان معناه جلب توجه المخاطب فقط أمكن البحث
في الموضوع له لفظ النداء بحيث يفهم منه ان المتكلم في مقام جلب التوجه.
والتحقيق ان يقال: إنه موضوع كسائر الحروف للنسبة الحاصلة بين جلب
التوجه والمنادى والربط القائم بهما، فإنه لا اشكال في حصول نسبة وربط بينهما
حين يكون المتكلم في مقام جلب التوجه وقاصدا تحقيق هذا الامر.
153

واما الاستفهام: فكونه من المعاني الانشائية الحاصلة بالاستعمال مما لا
اشكال فيه، لوضوح عدم صدقه قبل الكلام الاستفهامي، فإنه لا يقال للشخص
انه استفهم الا بعد الكلام وانشائه المعنى. واما حروف الاستفهام، فهي موضوعة
للنسبة الحاصلة بين المتكلم وبين المعنى المقصود فهمه فإنها تحصل بمجرد كونه
في مقام طلب الفهم.
ولا يخفى ان المخاطب عند القاء الكلام المشتمل على حرف النداء أو
الاستفهام أو التمني ونحوها لا يوجد في ذهنه مماثلة للنسبة الحاصلة في ذهن
المتكلم كسائر الحروف، لفرض تقوم النسبة المزبورة بالمتكلم لأنه أحد طرفيها
دون النسب بين المفاهيم التي هي مدلول الحروف الأخرى، كما أنه لا تحصل في
ذهنه نفس تلك النسبة لامتناع تعلق اللحاظ بنفس الموجود بما هو موجود، وانما
تحصل في ذهنه صورة تلك النسبة فيرتب عليه الأثر لو كان له أثر.
ومن جميع ما ذكرنا يتحصل ان الحروف بأسرها موضوعة لأنحاء النسب
والربط، وبذلك كانت معانيها متقومة بالآلية والايجادية كما تقدم تفصيله.
يبقى الكلام في الأسماء الملحقة بالحروف، كأسماء الإشارة وضميري
المخاطب والغائب، وتعيين الموضوع له فيها وبيان عمومه أو خصوصه.
وقد التزم المحقق الخراساني (رحمه الله) بان الموضوع له فيها عام
كالحروف لا خاص، بدعوى: ان الموضوع له فيها انما هو المعنى الكلي الذي
تتعلق به الإشارة والتخاطب، وتشخصه الحاصل عند الإشارة انما ينشأ من طور
الاستعمال، ونفس الإشارة أو التخاطب لاستدعاء كل منهما الشخص ليس
مأخوذا في الموضوع له. فالموضوع له لفظ: (هذا) انما هو المفرد المذكر،
والمستعمل فيه هو ذلك أيضا، وهو وإن تشخص بالاستعمال، الا انه لاجل كونه
من شؤون الاستعمال حيث كان بالإشارة وهي لا تكون الا إلى الشخص، لا
المستعمل فيه.
154

وبالجملة: أسماء الإشارة موضوعة لمعاني يشار إليها بها من دون أخذ
الإشارة والتشخص الخارجي في الموضوع له، كما لم يؤخذ اللحاظ في معنى
الحرف والاسم (1).
ويرد على ما ذكره - بحسب النظر الأولي - وجهان:
الأول: ان الإشارة الخارجية إنما تتعلق بالفرد دون الطبيعة والكلي بما هو
كلي، وعليه فيمتنع ان تكون أسماء الإشارة موضوعة ليشار بها إلى معانيها مع
الالتزام بان معانيها كلية.
ولا مجال لتوهم امكان إرادة الفرد من اللفظ وان كان موضوعا للكلي -
فيمكن دعوى تعلق الإشارة بمعنى اسم الإشارة بهذا الاعتبار لان الفرد يكون
على هذا معنى اسم الإشارة في مرحلة الاستعمال - كسائر الألفاظ الموضوعة
للطبائع، فإنه يمكن إرادة الفرد منها كقولك: (أكلت الخبز) و (دخلت السوق)،
إذ الأكل والدخول انما يتعلقان بفرد الخبر والسوق لا بالطبيعة.
لان ذلك - أعني دعوى إرادة الفرد من اللفظ - خلاف المدعى أيضا، إذ
المدعى ان المستعمل فيه عام كالموضوع له.
مضافا إلى أنه ممنوع في نفسه، فان اللفظ الموضوع للطبيعة لا يستعمل
في الفرد في أي مورد كان لاستلزامه شيوع المجاز في المحاورات، لكثرة إرادة
الفرد من اللفظ مع أنه غير الموضوع له، فالالتزام باستعمال اللفظ فيه التزام
بالمجاز في جميع هذه الموارد وهو خلاف الوجدان، لذلك التزم القوم في مثل هذه
الموارد بان المستعمل فيه ليس هو الفرد، بل هو الكلي لكن بلحاظ انطباقه على
هذا الفرد وبتطبيقه على الشخص المعين، فذكر اللفظ الموضوع للمعنى الكلي
وإرادة الفرد يكون من باب الاطلاق لا من باب الاستعمال في الفرد، فلا يكون
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 12 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
155

الاستعمال مجازيا، لأنه فيما وضع له وهو الكلي.
وبالجملة: ففيما نحن فيه الإشارة الحسية لا تتعلق بالكلي لعدم قابليته
لها، بل كل ما يشار إليه فهو فرد لتقومه بالوجود، ففرض كون المعاني - وضعا
واستعمالا - كلية ينافي فرض تعلق الإشارة بها، لان ما تتعلق به الإشارة هو الفرد
وهو ليس بمعنى اسم الإشارة لا وضعا ولا استعمالا كما عرفت تحقيقه.
الثاني: ما قد يستشعر من كلام المحقق الأصفهاني، وهو: انه لا اشكال
في عدم إرادة الإشارة الناشئة من قبل وضع اللفظ لمعنى والمساوقة لبيان المعنى
باللفظ - كما يقال المعنى المشار إليه، أو أشرنا إلى ذلك فيما تقدم، فان المراد
المعنى المبين وبيان المعنى -، لأنه أمر عام وثابت في جميع الألفاظ الموضوعة ولا
يختص بأسماء الإشارة، وانما المراد معنى آخر لا تحقق له في غير لفظ ولا تقتضيه
طبيعة الوضع، وهو - كما يظهر من ذيل كلامه وتعبيره باستلزام الإشارة
التشخص الخارجي - الإشارة الحسية لأنها هي الموجبة للتشخص الخارجي. ولا
يخفى ان هذه الإشارة الحسية ليست من آثار اللفظ وخصوصياته التكوينية، والا
كان كل لفظ كذلك. بل لا تتحقق باللفظ الا بالجعل والاعتبار. وعليه فلا بد من
تحقق الإشارة الحسية بلفظ اسم الإشارة من اعتبار الإشارة واخذها في الموضوع
له، إذ لا يمكن تحققها بدونه (1). وللمحقق الأصفهاني في المقام كلام لا يخلو عن
غموض اخذه المقرر الفياض وصاغه بعبارة أخرى (2). الا انه لم يؤد المطلب
بتمامه ولعله لم يصل إلى فهم مراده، ولما لم يكن في التعرض إلى تفصيل ذلك اثر
فيما نحن فيه، فالاعراض عنه أولى وأجدر، وفي الإشارة إلى ذلك كفاية.
ثم إن المحقق الأصفهاني بعد أن استشكل في كلام صاحب الكفاية، قال:
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 21 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 90 - الطبعة الأولى
156

(بل التحقيق ان أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلق
الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو من الانحاء، فقولك هذا لا يصدق على زيد مثلا
الا إذا صار مشارا إليه باليد أو بالعين مثلا، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه
ولفظ هذا هو الفرق بين العنوان والحقيقة، نظير الفرق بين لفظ المشار إليه
ولفظ هذا هو الفرق بين العنوان والحقيقة، نظير الفرق بين لفظ الربط والنسبة،
ولفظ من وفي وغيرهما، وحينئذ فعموم الموضوع له لا وجه له أصلا، بل الوضع
حينئذ عام والموضوع له خاص كما عرفت في الحروف) (1). وتابعه على هذا
الاختيار السيد الخوئي، الا انه خص الموضوع له بما تعلقت به الإشارة الخارجية
كما هو صريح تقريرات الفياض (2).
والذي يرد على هذا الاختيار وجهان:
أولهما: وهو جدلي، انه يستلزم الوضع إلى الموجود بما أنه موجود، وذلك لان
الإشارة لا تتعلق الا بالموجود، فإذا كان الموضع له هو المعنى المقارن للإشارة
إليه كان معنى اسم الإشارة هو الموجود لا المفهوم، والوضع للموجود - وإن لم
يتضح لدينا امتناعه الا انه - مما يلتزم بامتناعه كلا المحققين.
وثانيهما: انه إذا كان الموضوع له هو المعنى المقارن للإشارة الخارجية -
كما يلتزم به السيد الخوئي - امتنع استعمال اسم الإشارة في الكليات والأمور
الذهنية، لامتناع تحقق الإشارة الخارجية إليها، مع أن استعمال اسم الإشارة في
الكليات والأمور الذهنية مما لا يحصى بلا تجوز ولا مسامحة، فيقال: (هذا الكلي
كذا وذاك كذا) و: (المعنى الذي في ذهنك لا اقصده) وغير ذلك من الأمثلة. هذا
مع أنه قد يستعمل لفظ الإشارة في المعنى الخارجي بلا انضمام إشارة خارجية
إليه، كما لو لم يكن المتكلم قاصدا اطلاع غير المخاطب على ارتباط الحكم
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 21 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 91 - الطبعة الأولى
157

بالمشار إليه، فيأتي بلفظ الإشارة بلا ان يضم إليه الإشارة الخارجية، فيقول:
(هذا عالم أو جاهل). ولا يخفى انه لا يرى في هذا الاستعمال تجوز ومسامحة، مع أن
لازم مختاره أن يكون مثل هذا الاستعمال مسامحيا.
والتحقيق ان يقال: اما في اسم الإشارة: فالموضوع له لفظ الإشارة هو
نفس الإشارة الذهنية، وبيان ذلك بعد ذكر أمرين:
الأول: في بيان معنى الإشارة الذهنية، والمراد بها هو توجه النفس نحو
المعنى الحاضر بنحو توجه يختلف عن أصل التصور واللحاظ، فإنه قد يكون
هناك معاني كثيرة متصورة، الا انه قد يتوجه إلى بعضها بسنخ توجه ويحكم عليه
بحكمه، ولا نستطيع التعبير عن حقيقة هذا التوجه باللفظ، الا انه يمكن تقريبه
بتشبيهه بالإشارة الخارجية إلى المعنى الخارجي، فان نحو الإشارة الذهنية
كالإشارة الخارجية بالعين مثلا في اشتمالها على خصوصية تختلف بها عن أصل
التوجه والتصور، كاشتمال الإشارة بالعين على خصوصية تختلف عن أصل النظر.
الثانية: ان كلا من الإشارة الذهنية والخارجية فعل من الأفعال، الا انه
يختلف عن سائر الأفعال بان الالتفات والتوجه لا يتعلق به بنفسه، بل يتعلق بما
جعل طريقا إليه وآلة لتعيينه - أعني المعنى المشار إليه -، فالالتفات المتعلق
بالإشارة بما هي إشارة طريقي وآلي لا استقلالي، وانما التوجه الاستقلالي يتعلق
بنفس المعنى، بخلاف سائر الأفعال كالقيام والأكل والشرب ونحوها، فإنه يتعلق
بها اللحاظ الاستقلالي لا الآلي.
إذا تبين ذلك فنقول: ان اسم الإشارة موضوع لنفس الإشارة الذهنية،
فيكون ذكر اللفظ كاشفا عنها وموجبا للعلم بها، فينتقل منها إلى المشار إليه
- كما ينتقل الذهن إلى المشار إليه بالإشارة الخارجية بمجرد رؤيا الإشارة الخارجية -،
وهذا المعنى - أعني الإشارة الذهنية - من المعاني الالية كما تقدم، وبذلك شابه
اسم الإشارة الحروف. وهذا المعنى لاسم الإشارة معنى معقول وارتكازي تصوره
158

مساوق للتصديق به فإنه قريب إلى الأذهان، فلا يحتاج إلى إقامة برهان.
وأما ما قيل في تقريب دعوى السيد الخوئي: من أن مقارنة استعمال اسم
الإشارة للإشارة باليد أو العين أم ر ارتكازي في الاستعمالات ولا ينفك عن
الاستعمال فيكشف ذلك أن كون الموضوع له هو المعنى حال مقارنته للإشارة
الخارجية.
فهو لا يكشف عن المدعى ولا يدل عليه بعد ما عرفت، وذلك لأنه من
المتعارف في الاستعمالات اقتران اللفظ بما يرادف معناه من الأفعال الخارجية لو
كان له مرادف، فان رفع الرأس إلى أعلى في استعمال كلمة: (فوق) وتشبيه
المتكلم حركات من ينقل عنه بعض الأفعال من جلوس واكل وشرب، أمر لا
يكاد يخفى، وعليه فإذا كان اسم الإشارة موضوعا للإشارة الذهنية ولم يكن في
الخارجيات ما يصلح للتعبير عنها غير الإشارة الخارجية لكونها من سنخ واحد
كان من الطبيعي انضمام الإشارة الخارجية للفظ الإشارة مثل: (هذا).
وبالجملة: فالاستعانة باليد والعين وغيرهما من أعضاء الجسم في تأكيد
الكشف عن المعاني عند استعمال اللفظ الموضوع إلى المعنى امر متعارف، ولا
يكون دليلا على الوضع للمعنى بقيد المقارنة للفعل الخارجي. فلاحظ.
159

استعمال اللفظ فيما يناسب الموضوع له
هذا البحث لا أثر له في المجال العملي أصلا، وقد أطال القوم فيه، ولكنه
تطويل بلا طائل، لذلك رأينا الاقتصار على بيان مطلب الكفاية لا أكثر. فنقول:
ان موضوع النزاع، هو ان صحة استعمال اللفظ فيما يناسب المعنى
الموضوع له هل هي أمر يرجع إلى الطبع والذوق أم انه أم يرجع فيه إلى
الواضع؟ فان رخص فيه الواضع صح والا لم يصح، سواء كان سليما وغير
مستهجن لدى الطبع والذوق أو كان لم يكن كذلك، وأما على الأول فالامر على
العكس، فان صحة الاستعمال تدور مدار جريانه على طبق الذوق والطبع، فان
حسنه الطبع صح وإن لم يرخص الوضع، وان استهجنه الطبع لم يصح وان
رخص الواضع وأجاز. وهو الذي اختاره صاحب الكفاية مؤكلا تعيينه إلى
الوجدان، وانه يرى ان صحة الاستعمال كذلك أمر يرتبط بالطبع ولا دخل
للواضع فيه أصلا، وان الوجدان قد يحسن استعمال كذلك لم تثبت فيه إجازة
الواضع - كما يمثل له باستعمال لفظ (حاتم) في الكريم مع أنه يعلم بان أب حاتم
أو غيره ممن وضع لفظ حاتم لذاته لم يتصور استعمال هذا اللفظ في غير ولده
فضلا عن تحقق الإجازة منه، بل لعل المرتكز في وضع الاعلام والوضع لنفسه دون
غيره من الذوات بحيث يمنع ارتكاز استعماله في غير ذات، مع أن صحة هذا
الاستعمال لا يختلف فيها اثنان -. وقد يقبح استعمال كذلك وان ثبتت فيه إجازة
الواضع، كما يمثل له - وان نوقش في المثال - باستعمال لفظ: (العذرة) في الأكل
بلحاظ علاقة الأول، فان هذه العلاقة ثابتة لغة في الاستعمالات المجازية، مع
وضوح عدم صحة مثل هذا الاستعمال في المثال المزبور. وليس ذلك الا من جهة
160

ارتباط صحته بالطبع لا بالوضع (1).
اطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه
هذا المبحث كسابقه في عدم الأثر والجدوى العملية، ولهذه الجهة رأينا
وجاهة الاقتصار على مجرد الإشارة إلى أصل البحث ببيان عبارة الكفاية،
والكلام فيه في مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في اطلاق اللفظ وإرادة شخصه، كما يقال (زيد لفظ)
ويقصد به نفس الزاء والياء والدال الصادر من اللافظ فعلا.
واستشكل في صحته صاحب الفصول (رحمه الله) بتقريب: ان القضية
الذهنية مركبة من اجزاء ثلاثة موضوع ومحمول ونسبة كالقضية الخارجية
واللفظية.
وعليه، فان التزم بوجود الدال في القضية اللفظية أعني (زيد لفظ) وهو
الموجب لانتقال صورة المدلول في الذهن، لزم اتحاد الدال والمدلول، إذ المدلول
ليس إلا نفس موضوع القضية اللفظية وهو لفظ (زيد)، والمفروض انه هو
الدال، فيكون الدال عين المدلول وهو ممتنع لامتناع اتحاد الحاكي والمحكي، لان
الدلالة والحكاية من سنخ العلية واتحاد العلة والمعلول ممتنع. وان التزم بعدم
الدلالة والحكاية عن ذات الموضوع باللفظ لزم تركب القضية الذهنية من جزئين
النسبة والمحمول، لعدم الحكاية عن الموضوع كي ينتقل إلى الذهن، وتركبها من
جزئين ممتنع لان النسبة متقومة بطرفين فلا توجد بطرف واحد (2).
وأجاب صاحب الكفاية عن هذا الاستشكال: بأنه لنا ان نختار كلا
الشقين ولا يلزم اي محذور. فنلتزم بوجود الدلالة ولا يلزم محذور اتحاد الدال
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 13 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 22 - الطبعة الأولى
161

والمدلول، لكفاية التغاير الاعتباري بين الدال والمدلول وان اتحدا ذاتا، وهو
موجود فيما نحن فيه، إذ في اللفظ جهتان: جهة كونه صادرا من اللافظ. وجهة
كونه مقصودا له، فهو بالجهة الأولى دال وبالجهة الثانية مدلول.
كما أنه يمكن ان نلتزم بعدم الدلالة ولا يلزم محذور تركب القضية من
جزئين، لان انتقال الذهن إلى ذات الموضوع لا يتوقف على ثبوت الحاكي عنه،
بل يتحقق باحضار نفس الموضوع خارجا، والحكم عليه وما نحن فيه يمكن أن يكون
من هذا القبيل، فان ذات الموضوع نفس لفظ (زيد) وقد أحضر بنفسه،
فتتحقق صورته في الذهن بواسطة ذلك. ثم يحكم عليه بواسطة اللفظ الحاكي
عن معناه الذي يكون به الحكم.
الا ان هذا النحو يخرج عن كونه من استعمال اللفظ في المعنى، لأنه
احضار لنفس المعنى (1).
المقام الثاني: في اطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه. والأول: كقولك:
(ضرب فعل ماض) قاصدا نوع هذا اللفظ، والثاني كقولك: (ضرب) في: (ضرب
زيد فعل ماض) قاصدا كل ضرب تأتي في هذا المثال لا خصوص ضرب في
المثال المزبور - والمراد بالصنف هو النوع متخصصا بخصوصية عرضية كما اتضح
بالمثال -.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى: انه يمكن ان يلتزم ان مثل هذا الاطلاق من باب الاستعمال والحكاية، بان يستعمل اللفظ ويراد به نوعه بحيث يجعل
حاكيا عنه ودالا عليه دلالة اللفظ على المعنى، وان يلتزم انه من باب احضار
نفس الموضوع - كاطلاق اللفظ وإرادة شخصه - بان يكون (يجعل) الموضوع
نفس اللفظ ويحكم عليه، لكن لا بما هو، بل بما أنه فرد لنوعه فيسري الحكم إلى
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 14 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
162

سائر الافراد، لأنه في الحقيقة حكم على النوع، وبتقريب آخر: انه يحكم على
نفس النوع الموجود في ضمن فرده بلحاظ ان وجود الفرد وجود للكلي.
هذا ثبوتا، واما اثباتا فالأنسب بملاحظة موارد الاطلاق هو أن يكون
من باب الاستعمال، بل هناك موارد لا يمكن الا ان تكون من هذا الباب كالمثال
المزبور - أعني (ضرب فعل ماض) - لان ضرب في نفس المثال ليس فعلا ماضيا
بل هي مبتدأ، فيمتنع الحكم عليها بأنها فعل ماض، بل لا بد ان يلحظ فيها
الحكاية (1).
المقام الثالث: في اطلاق اللفظ وإرادة مثله، مثل: (ضرب) في: (ضرب
زيد): (فعل ماض) وقصد بها ضرب في خصوص المثال.
وهذا يتعين أن يكون من باب استعمال، لان المفروض فيه هو الحكم على
الفرد المماثل، وكل فرد يغاير الاخر، فيمتنع أن يكون وجودا له، فلا بد ان يقصد
الحكاية به عن المماثل (2).
ثم إن صحة الاطلاق في هذه المقامات الثلاثة هل ترتبط بالاستحسان
والطبع أو ترتبط بترخيص الواضع واجازته؟ ذهب صاحب الكفاية إلى الأول،
واستشهد على ذلك بأنه قد يطلق اللفظ المهمل على نوعه أو غيره فيقال: (ديز
مهمل) أو: (لفظ)، فلو ارتبط صحة الاستعمال بالوضع لزم أن يكون مثل: (ديز)
من المهملات موضوعا وهو خلف فرض كونه مهملا.
هذا بيان مطلب الكفاية في كلا الامرين (3)، وقد أطيل الكلام حوله
ونوقش في بعض خصوصياته، وقد تقدم ان الإطالة فيه بلا طائل فالاكتفاء بما
ذكرناه متعين.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 14 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 15 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 13 - 16 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
163

الإرادة والموضوع له
الكلام يمكن ان يقع في جهات:
الجهة الأولى: في أن الموضوع له هل هو ذات المعنى أو انه المعنى
المتعلق للإرادة. وبتعبير آخر: - كما ورد في الكفاية - ان اللفظ موضوع للمعنى
بما هو أو بما هو مراد؟ (1).
الجهة الثانية: في أن الوضع هل يقتضي دلالة اللفظ والكلام على تحقق
الإرادة أو لا؟.
الجهة الثالثة: في أن العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى هل هي مقيدة
بصورة تعلق الإرادة بالمعنى أو لا؟، وبتعبير آخر ان الدلالة هل تتبع الإرادة أو
لا؟.
والفرق بين الجهة الأولى والأخريين هو انه لو بنى على كون الألفاظ
موضوعة للمعنى بما هي مرادة لم يكن اللفظ كاشفا عن ثبوت الإرادة في الخارج،
بل لا يقتضي سوى حصول صورة المعنى المتعلق للإرادة في الذهن، كما لو وضع
اللفظ لا ينفس واقع الإرادة مستقلا، فان استعماله لا يدل على ثبوت نفس
المعنى خارجا، لان شأن الوضع ليس إلا وساطته في حصول صورة المعنى في
الذهن دون دلالة الكلام على تحققه خارجا، إذ لا تتوقف صحة الاستعمال على
تحقق المعنى في الخارج.
وهذه غير نتيجة البحث في الجهتين الأخريين، فان نتيجتهما على أحد
القولين - أعني القول بدلالته على تحقق الإرادة والقول بالتبعية - هو ثبوت
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 16 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
164

الإرادة عند الكلام اما من جهة كشفه عنها أو تبعية دلالته لتحققها.
وبعبارة أخرى: ان البحث في كلتا الجهتين ممكن على كلا القولين في
الجهة الأولى، لان الالتزام بكون اللفظ موضوع للمعنى بذاته أو بما أنه مراد لا
يتنافى مع الالتزام بان الكلام لا يدل على تحقق الإرادة، أو أن العلقة الوضعية
انما تكون في صورة ثبوت الإرادة وانه مع عدمها لا علقة وضعية، فالالتزام بكلا
القولين في الجهة الأولى لا ينفي تحقق الكلام في الجهتين الأخريين.
وأما الفرق بين الجهة الثانية والثالثة. فواضح، لان مقتضى الالتزام بتبعية
الدلالة للإرادة هو توقف الدلالة على ثبوت الإرادة واحرازها بغير طريق اللفظ،
وهذا بخلاف مقتضى الجهة الثانية فان الالتزام بدلالة اللفظ على الإرادة يقتضي
صلاحية اللفظ للكشف عنها وان طريق احرازها يكون هو اللفظ، فالجهتان
يختلفان اثرا ونتيجة.
وإذ تبين الفرق بين هذه الجهات وصلاحية كل منها للبحث في عرض
الأخرى، فلا بد من تحقيق منهما على حدة.
وقد اقتصر صاحب الكفاية في كلامه على الجهة الأولى، وقد وقع الخلط
في بعض الكلمات بين الجهات، والمهم تحقيق كل مبحث بنفسه. فنقول:
اما الجهة الأولى من جهات البحث: فقد التزم صاحب الكفاية بكون
اللفظ موضوعا للمعنى بما هو لا بما هو مراد، لاستلزام الأخير بعض المحاذير:
منها: ان الإرادة من شؤون الاستعمال كاللحاظ، فيمتنع أخذها في
الموضوع له جزءا أو قيدا كامتناع اخذ اللحاظ فيه كذلك كما بين.
ومنها: لزوم التصرف في ألفاظ أطراف القضية من موضوع ومحمول، لأنه
من الظاهر أن حمل الوصف على ذات ما انما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجي
على الذات الخارجية، فالمراد من (زيد قائم) حمل الذات المتلبسة بالقيام في
الخارج على ذات زيد الخارجية، وإذا كان الموضوع له لفظ (زيد) و (قائم) هو
165

المعنى المتعلق للإرادة كان المعنى امرا ذهنيا لتقيده بما هو ذهني وهو الإرادة،
فلا بد من الالتزام بتجريده عن الخصوصية عند الحمل وهو يستلزم المجازية بل
لغوية اخذ الخصوصية في الموضوع له.
ومنها: لزوم كون الموضوع له مطلقا خاصا، لان الإرادة المدعى اخذها
في الموضوع له انما هي واقع الإرادة لا مفهومها، فيلزم أن يكون المعنى جزئيا،
لتقيده بواقع الإرادة وهو خلاف الوجدان والتسالم على ثبوت الموضوع له العام.
ثم إنه بعد ذلك تعرض لما حكي عن كلام العلمين - الشيخ الرئيس
والخواجة نصير الدين - من أن الدلالة تتبع الإرادة، وانه لا ينافي ما التزم به من
عدم الوضع للمعاني بما هي مرادة، فإنه ناظر إلى الدلالة التصديقية وهي دلالة
الكلام على إرادة المتكلم تفهيم المعنى وقصده له. لا الدلالة التصورية وهي مجرد
خطور المعنى في الذهن التي هي محل الكلام. وتبعية الدلالة التصديقية للإرادة
لا يكاد ينكر، بل هو مما لا شبهة فيه كتبعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت و
الكاشف عن المنكشف، لان كشف الكلام عن تحقق الإرادة متفرع على أصل تحققها وثبوتها كما لا يخفى (1).
هذا محصل كلام الكفاية بتوضيح.
ولا يخفى عليك ان الذي يظهر منه انه لم يتصور لفرض تبعية الدلالة
للإرادة وجه سوى اخذ الإرادة في الموضوع له.
ولذا حاول ان يوجه كلام العلمين ويحمله على غير الدلالة الوضعية
لوضوح بطلان اخذها في الموضع بنحو لا يمكن اسناد ذلك إلى مثلهما من
العلماء.
ولكن سيجئ في تحقيق الجهة الثالثة بيان امكان فرض الدلالة الوضعية
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 16 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
166

تابعة للإرادة من دون اخذها في الموضوع له.
ثم إنه قد يورد على ما ذكره (قدس سره) من الوجه الأول: ان دخل
أخذ الإرادة في الموضوع له لا ينحصر بأخذها جزءا أو قيدا كي يرد عليه ما
ذكر، بل يمكن تقريبه بنحو ما قرب دخل اللحاظ الآلي والاستقلالي في معنى
الاسم والحرف من كون الموضوع له هو الحصة الخاصة ونحوه، فلا وجه لنفيه
حينئذ بما ذكر.
ومن هنا يندفع الوجه الثاني من وجوه الاشكال لترتبه على قيدية الإرادة
للمعنى، وقد عرفت عدمها وامكان دعوى دخل الإرادة مع الالتزام بان
الموضوع له هو ذات المعنى.
نعم يبقى الاشكال الثالث، الا انه ليس بمحذور ولا ضير في الالتزام به.
وعليه، فإذا ثبت امكان دخل الإرادة في الموضوع له ثبوتا تصل المرحلة
في الكلام إلى مقام الاثبات، وانه هل هناك ما يقتضي دخلها أو لا؟ قيل: نعم،
باعتبار ان الحكمة الداعية إلى الوضع انما هي حصول التفهيم والتفهم بواسطة
اللفظ. وإذا كان المنظور في الوضع ذلك كان مقتضاه حصر الوضع في الحصة
الخاصة من المعنى وهي المعنى الذي تعلقت به إرادة التفهيم دون مطلق المعنى
لعدم تحقق ملك الوضع فيه.
هذا ما أورد به على صاحب الكفاية وهو بمقدار كونه إلزاما لصاحب
الكفاية، وجيه، الا انه حيث عرفت في الكلام حول عبارة صاحب الكفاية في
المعنى الحرفي عدم تصور وجه معقول لدخل اللحاظ في الموضوع له بلا أن يكون
قيدا أو جزءا للموضوع له كان دخل الإرادة في المعنى بلا أن يكون جزءا
أو قيدا له كذلك.
وعليه، فيرد ما ذكره صاحب الكفاية من المحاذير الثبوتية، ومعه لا تصل
النوبة إلى الكلام في مرحلة الاثبات لامتناع دخله ثبوتا.
167

وبالجملة: ما ذكره صاحب الكفاية متين في موضوع بحثه، وهو اخذ
الإرادة في الموضوع له. وبذلك يكون اختيارنا هو كون اللفظ موضوعا لذات
المعنى وبما هو هو.
واما ما وجه به صاحب الكفاية كلام العلمين من حمله على أن الدلالة
التصديقية تتبع الإرادة، فبظني انه واضح الاشكال بلا حاجة إلى اثبات خلافه
من تصريحاتهم وتكلف المشقة في نقل كلامهم. وذلك لان تفرع الدلالة التصديقية
عن الإرادة أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان كما لا يحتاج تفرع الكاشف عن
المنكشف، إليه فيبعد تصديهم بهذا الكلام إلى بيان مثل هذا الامر البديهي، وعلى
كل فالأمر سهل.
واما الجهة الثانية من جهات البحث، فتحقيقها: أنه لا وجه لدعوى كون
مقتضى الوضع هو تحقق الإرادة التفهيمية حال الاستعمال الا ما ذكره السيد
الخوئي (حفظه الله): من أن ذلك مقتضى الالتزام بان الوضع هو التعهد، فإنه
إذا كان الوضع هو التعهد بذكر اللفظ عند قصد التفهيم وتحقق ارادته كان ذكر
اللفظ بمقتضى الالتزام النفسي والعهد الذي أخذه الواضع على نفسه كاشفا لا
محالة عن تحقق الإرادة. والا كان مخالفا لعهده وهو خلاف الأصل العقلائي (1).
ولا يخفى انه يرد عليه:
أولا: ان أصل المبنى - أعني كون حقيقة الوضع هو التعهد بذكر اللفظ
عند قصد التفهيم، أو بتعبير آخر: وهو التعهد بقصد التفهيم عند ذكر اللفظ -
فاسد كما عرفت.
وثانيا: لو سلم أصل المبنى لم يثبت المدعى، لان التعهد المذكور انما يثبت
كون قصد التفهيم سببا لذكر اللفظ، وهذا لا ينافي أن يكون لذكر اللفظ سبب
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 104 - الطبعة الأولى
168

آخر غير قصد التفهيم، فلا يكون ذكره مع تعدد السبب كاشفا عن خصوص
أحدها وهو التفهيم. وبتعبير آخر: ان التعهد المزبور محصله: انه متى ما قصد
التفهيم ذكر اللفظ، لا انه لا يذكر اللفظ الا عند قصد التفهيم، ولا يخفى انه
إذا ذكر اللفظ ولم يكن قاصدا للتفهيم لا يعد انه خالف تعهده، وانما يخالف
تعهده فيما لو قصد التفهيم ولم يذكر اللفظ. فلا بد من ثبوت المدعى بذلك من
الالتزام بكون قصد التفهيم علة منحصرة لذكر اللفظ، ولكنه لا اثر لذلك في
كلام القائل. ولو التزم به تنزلا فيرد عليه:
ثالثا: ان انحصار السبب لذكر اللفظ بقصد التفهيم امر يخالف
الوجدان، لوضوح انه كثيرا ما يذكر اللفظ مع عدم قصد التفهيم كموارد الحفظ
والتذكر، أو موارد التلقين ونحوها.
وعليه، فالمتعين هو الالتزام بعدم اقتضاء الوضع لثبوت حقيقة الإرادة عند
ذكر اللفظ.
وأما الجهة الثالثة: - وهي الظاهرة من كلمات القوم، والأوفق بصيغة
البحث - فالكلام فيها من جهتين الثبوت والاثبات. أمت ثبوتا فالالتزام بالتبعية
معقول - كما تقدم في المعنى الحرفي لتوجيه كلام الكفاية - فيلتزم بان العلقة
الوضعية بين اللفظ والمعنى مقيدة بإرادة التفهيم، فلا يكون الوضع والاختصاص
فعليا الا عند الإرادة، وبدونها يكون انشائيا وهو مما لا محذور فيه. واما اثباتا
فغاية ما يقرب به الالتزام المذكور، بأنه يتناسب مع حكمة الوضع الداعية إليه،
لان الحكمة فيه التوسعة في طريق ابراز المقاصد والتفهيم، وهو يقتضي تقييد
الاختصاص الوضعي بصورة الإرادة التفهيمية. وقربه السيد الخوئي أيضا بأنه
ضرورة حتمية لمبناه في الوضع، وانه عبارة عن التعهد، لان التعهد بذكر اللفظ
انما هو عند إرادة التفهيم. واما اشكال تحقق الدلالة ولو كان اللفظ صادرا من
غير ذي شعور، فقد أجيب عنه: بان ذلك ناش من الانس الحاصل في الذهن لا
169

من الوضع.
ولا يخفى عليك ان مقتضى الالتزام بذلك هو تبعية الدلالة للإرادة بحيث
لا تتحقق الدلالة الا بعد احراز الدلالة، ولا يكون اللفظ بمقتضى الوضع دالا
على الإرادة، ولكن جاء في تقريرات الفياض دعوى أن التزامه المزبور يستلزم
كون اللفظ دالا بمقتضى الوضع على الإرادة وكاشفا عنها (1). ونحن لا نعرف
أي وجه للملازمة أصلا، بل مقتضى الوجه المزبور كما عرفت هو توقف دلالة
اللفظ وحدوث العلقة الوضعية على تحقق الإرادة واحرازها، لان احراز المشروط
يتوقف على احراز شرطه.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) بعد أن صور اخذ الإرادة في
الموضوع له بأنحاء: منها: أن تكون مأخوذة في الموضوع له بنحو التقييد، على
أن يكون التقيد داخلا والقيد خارجا. أورد على هذا النحو: بأنه يستلزم أن يكون
اللفظ موضوعا للمركب من المعنى الاسمي وهو ذات المعنى والمعنى الحرفي وهو
التقيد. وهو امر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبع (2).
وقد ذكر المقرر الفياض هذا المطلب وأورد عليه:
أولا: بان الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي بالذات لا
باللحاظ الاستقلالي والآلي، فالمعنى الاسمي اسمي وان لوحظ آليا، والمعنى
الحرفي حرفي وان لوحظ مستقلا. وعليه فالإرادة معنى اسمي وان لوحظت آليا
ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسمي إلى المعنى الحرفي حتى يلزم وضع اللفظ
للمركب من معنى اسمي وحرفي.
إلا أن يكون مراده من المعنى الحرفي نفس التقيد بالإرادة لا نفس
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 104 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 92 - الطبعة الأولى
170

الإرادة فإنه معنى حرفي. ولكنه مدفوع. أولا: بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني
المركبة أو المقيدة، فان معانيها متضمنة للمعنى الحرفي لا محالة، إذ كل جزء مقيد
بجزء آخر والتقيد معنى حرفي. وثانيا: انه لا مانع من وضع لفظ لمعنى مركب من
معنى اسمي وحرفي إذ دعت الحاجة إليه، والاستقراء على تقدير تماميته لا يدل
على استحالة الوضع المزبور.
وثانيا: انه لا أساس لهذا الابراد، فإنه مبتن على اخذ الإرادة في الموضوع
له، واما إذا لم تؤخذ فيه أبدا، بل كانت مأخوذة في العلقة الوضعية فلا مجال
للايراد (1).
وأمت خبير: بان ما ذكره أولا لا وجه له، بعد أن كان مفروض كلامه هو
دخل التقيد لا نفس الإرادة، فحمل كلامه على ذلك - أعني على دخل الإرادة
- والايراد عليه ثم إبداء احتمال إرادة دخل التقيد تصحيحا لكلامه لم يعرف له
معنى محصل أصلا.
وأما ما ذكره من النقض بالوضع للمعاني المركبة، فتماميته تبتني على دخل
ارتباط الاجزاء بعضها ببعض في الموضوع له. واما بناء على كون اللفظ موضوعا
لذوات الاجزاء بلا لحاظ ارتباط بعضها بالبعض والارتباط في بعض المركبات
مأخوذ في موضوع الامر لا في الموضوع له اللفظ، فلا يتم ما ذكره. وتحقيق أحد
الوجهين قد يتضح في ضمن بعض المباحث اللاحقة، كمبحث الوضع للصحيح
أو للأعم، ومبحث مقدمة الواجب، وشمولها - أي المقدمة - للاجزاء فإنه يبتني
على كون المركب هل هو ذوات الاجزاء بالاسر أو انه الاجزاء بوصف الاجتماع،
فانتظر. ثم إن العراقي (قدس سره) لم يدع استحالة ما ذكر من الوضع للمعنى
المركب من معنى اسمي وحرفي بالاستقراء، بل إن دعواه ترجع إلى استكشاف
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 107 - الطبعة الأولى
171

عدم الوضع لمثل ذلك بمعرفة مذاق الواضع بالتتبع، فلا وجه لدعوى أن
الاستقراء لا يستلزم المحالية لأنها نفي ما لم يدع. واما الايراد الأخير وهو كون
الإرادة مأخوذة في العلقة الوضعية لا الموضوع له، فهو لا يعد اشكالا ونفيا لما
ذكره العراقي، لان ما ذكره العراقي مرتب على خصوص فرض اخذ الإرادة في
الموضوع له بهذا النحو، وليس مرتبا على فرض دخل الإرادة في الموضوع له
بجميع أنحائها كي ينفى بأنه تام على بعض التقادير دون بعض. فتدبر جيدا.
وضع المركبات
موضوع البحث هو تحقق وضع المركب من المادة والهيئة، وبعبارة أخرى:
تحقق الوضع للجملة التركيبية بهيئتها ومادتها. والذي لا اشكال فيه هو تحقق الوضع
للمواد، فان المفردات موضوعة لمعانيها كلية أو جزئية، وكذلك تحقق الوضع
للهيئات - أعني هيئة الجملة -، فإنها موضوعة للنسبة كما عرفت.
وعليه، فإذا ثبت الوضع لمجموع اجزاء الجملة من موضوع ومحمول
ونسبة بوضع كل المادة والهيئة، كان وضع المركب من الهيئة والمادة - مع غض
النظر عن أصل ثبوت المحذور فيه وعدمه - عديم الفائدة ولغوا محضا بلا كلام،
وهو لا يتحقق لان الوضع من الاعمال العقلائية الملحوظ فيها ترتب الأثر وتحقق
الفائدة. فلاحظ. ولا يحتاج المبحث إلى أكثر من هذا البيان لأنه بغير طائل وانما
كان المقصود الإشارة إليه بهذا المقدار من الكلام.
172

علامات الحقيقة
هذا المبحث كبعض سوابقه عديم الأثر في مجال العمل، وذلك لان المدار
في معرفة المراد من الكلام على ظهور الكلام في المعنى سواء كان حقيقيا أو
مجازيا، فان الظاهر حجة بلا كلام، أما مجرد كون المعنى حقيقيا فلا يجدي في
الحكم بكونه مرادا من اللفظ ما لم يكن للفظ فيه ظهور.
نعم تظهر الفائدة بناء على الالتزام بأصالة الحقيقة تعبدا، فإنه يلتزم
بكون المراد هو المعنى الحقيقي ولو لم يكن اللفظ ظاهرا فيه، فتعيين المعنى
الحقيقي باحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء. لكن التحقيق عدم
البناء على أصالة الحقيقة تعبدا، وكون المدار في تعيين المراد ظهور الكلام، وهو
لا يرتبط بتعيين الحقيقة، لان ما يكون الكلام ظاهرا فيه يكون متبعا وإن لم يكن
معنى حقيقيا، وما لا يكون ظاهرا فيه لا يبنى على ارادته وان كان معنى حقيقيا
قد وضع اللفظ له.
وبهذا اللحاظ كان البحث اللازم في علامات الحقيقة بحثا سطحيا لا
أكثر.
وعليه، فنقول: قد ذكر للحقيقة والوضع علامات.
منها: التبادر، وهو انسباق المعنى من اللفظ حال اطلاقه بلا قرينة، فإنه
173

دليل الوضع لذلك المعنى. لان انسباق المعنى منه لا يخلو سببه، اما أن يكون
علاقة ذاتية بين اللفظ والمعنى وهي منتفية كما تقدم. أو يكون قرينة صارفة، وهو
خلاف المفروض لان الفرض عدم القرينة، فيتعين أن يكون السبب هو الوضع
والعلاقة الجعلية، إذ لا يتصور سبب آخر لذلك، وذلك هو المطلوب، ويكون
التبادر على هذا علامة للوضع بطريق الإن وكاشفا عنه كشف المعلول عن علته.
ويرد على كون التبادر علامة للوضع بان ذلك يستلزم الدور، لان التبادر
لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على
التبادر كما هو فرض علامية التبادر، لزم الدور.
وأجاب عنه صاحب الكفاية: بان التبادر المفروض كونه علامة، اما ان
يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم، واما ان يراد به التبادر لدى العالم
وأهل اللغة فيكون علامة له على الوضع.
فعلى الأول: فالتبادر وان توقف على العلم بالوضع الا انه العلم
الارتكازي الاجمالي، وهو حصول صورة الشئ في النفس ارتكازا من دون
التفات إليها - فان كثيرا من الصور تكون مخزونة في النفس بلا التفات إليها وانما
يلتفت إليها بموجبات - والعلم الذي يتوقف على التبادر هو العلم التفصيلي
بالوضع والالتفات إليه. وعليه فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على
التبادر بالاجمال والتفصيل وهو كاف في رفع غائلة الدور.
وعلى الثاني: فالتغاير واضح، لان الموقوف عليه التبادر هو العلم الحاصل
لدى اهل اللغة، و العلم الموقوف على التبادر والحاصل به هو علم المستعلم،
وتغايرهما لا يحتاج إلى تنبيه وبيان (1).
ثم إن السيد الخوئي أضاف إلى ذلك أمرين:
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم، كفاية الأصول / 18 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
174

الأول: أن التبادر انما يكون كاشفا عن الوضع وعلامة له في ظرفه. يعني:
انه يكشف عن الوضع في زمان التبادر أما قبله فلا يكشف عن الوضع. وعليه
فتبادر المعنى فعلا من اللفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في اثبات انه هو
المعنى الموضوع له سابقا وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بان الشارع
اراده، فلا بد من ضم أصل عقلائي للتبادر ينفع في المقصود وهو الاستصحاب
القهقري، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان، وهذا الاستصحاب وان
كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع لان ملاكها اليقين السابق
والشك اللاحق، على العكس في هذا الاستصحاب لان الشك سابق واليقين
لاحق وبهذا الاعتبار سمي بالقهقري، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب،
لكنه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور، ولولاه لما قام لاستنباط
الأحكام الشرعية من النصوص أساس، إذ ظهورها في معنى في زماننا لا يكون
دليلا على الحكم ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان الاستعمال، ولا مثبت لذلك
سوى هذا الاستصحاب، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط.
الثاني: - وهو ما أشار إليه في الكفاية - ان التبادر كما عرفت علامة
للوضع إذا كان مستندا إلى حاق اللفظ بلا انضمام قرينة إليه، فلو شك في استناده
إلى قرينة أو إلى حاق اللفظ لم يكن علامة للوضع إذ لم يعلم انه مستند إلى حاق
اللفظ المقوم لكونه علامة.
والتمسك بأصالة الحقيقة، وان الأصل أن يكون الاستعمال حقيقيا.
غير صحيح، لان المرجع في هذا الأصل اما أن يكون هو الشارع أو بناء
العقلاء، فإن كان المرجع هو الشارع لم يصح اجراؤه، إذ لا يثبت كون المتبادر
مستندا إلى حاق اللفظ وبلا قرينة الا بالملازمة كما لا يخفى، فيكون من الأصول
المثبتة وهي غير معتبرة شرعا. وان كان بناء العقلاء، فهم انما يتمسكون بأصالة
الحقيقة في مورد يشك فيه في أصل المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي الناشئ
175

من احتمال نصب قرينة على خلاف المعنى الحقيقي، اما مع العلم بالمراد والشك
في أنه معنى حقيقي أو مجازي للشك في نصب قرينة فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة،
ولذلك اشتهر ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
وبالجملة: للشك في نصب قرينة موردان: أحدهما ما يشك فيه في أصل
المراد، فإنه ينشأ من الشك في القرينة. والاخر: ما يشك في نحو المراد وانه حقيقة
أو مجاز للشك في نصب قرينة. وأصالة الحقيقة تجري في الأول دون الثاني الذي
هو موضوع الكلام فيما نحن فيه، فأصالة الحقيقة انما تجري لاثبات إرادة المعنى
الحقيقي، ولا تجري لاثبات حقيقة المعنى المراد (1).
منها: عدم صحة السلب وصحته، أو صحة الحمل وعدم صحته: فان الأول
علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.
ولا بد قبل تقريب ذلك من بيان المراد من صحة الحمل أو السلب، إذ قد
يتوهم عدم المعنى له، إذ الغرض معرفة وضع لفظ لمعنى فما هو شأن المحمول
والموضوع؟ والحقيقة ان المراد منه هو حمل المعنى المشكوك وضع اللفظ له على
اللفظ بما له من معنى ارتكازي أو بالعكس، بان يحمل اللفظ بما له من المعنى على
المعنى المشكوك وضعه له، فان صح الحمل كان دليلا على الحقيقة والا كان قرينة
على عدم وضع اللفظ له. فالمأخوذ محمولا أو موضوعا هو اللفظ بما له من معنى،
لا اللفظ بما أنه لفظ كي يقال بأنه لا معنى للحمل. وإذا تبين ذلك: فتقريب
كون صحة الحمل علامة للحقيقة هو ان الحمل على نحوين:
الأول: حمل أولي ذاتي، وملاكه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما.
والثاني: حمل شائع صناعي، وملاكه الاتحاد بينهما وجودا.
وعليه، فإذا شك في لفظ كلفظ (انسان) في أنه موضوع لمعنى ك‍:
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 114 - الطبعة الأولى
176

(الحيوان الناطق) أولا، فإذا حمل الانسان بما له من المعنى على الحيوان الناطق
أو بالعكس فقيل: (الانسان حيوان ناطق، أو الحيوان الناطق انسان) بالحمل الأولي
الذاتي وصح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الانسان الارتكازي مع
الحيوان الناطق وانه عينه، فيستكشف بذلك وضع لفظ الانسان للحيوان
الناطق. فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع لأنه بملاك الاتحاد المفهومي،
فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الذي يشك في وضع
اللفظ له، وذلك دليل الوضع له كما لا يخفى.
وأما الحمل الشائع الصناعي، فدلالته على الوضع من جهة ان ملاكه
الاتحاد في الوجود، فإذا علم أن هذا الفرد وجود لمعنى معين، فإذا حمل عليه اللفظ
بما له من المعنى على الفرد بما أنه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني ان الفرد
بما أنه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ، وذلك معناه اتحاد المعنيين
الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين والا لما كان الفرد بما أنه وجود لأحدهما
وجودا للاخر. وذلك نظير حمل الانسان لما له من المعنى على زيد بما أنه وجود
للحيوان الناطق، فان صحته كاشفة عن وضع لفظ الانسان للحيوان الناطق
بالتقريب الذي ذكرناه. وبذلك يظهر اختصاص دلالة الحمل الشائع على
الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي وفرده، أما إذا كان بين كليين متساويين أو
بينهما عموم وجه فصحة حمل أحدهما على الاخر لا تكشف عن الوضع، وذلك
لان أساس الكشف يبتني على أن الموضوع لوحظ فيه كونه وجودا للمعنى الذي
يشك في وضع اللفظ له، وأخذ موضوعا بهذا القيد، ولا يبتني على مجرد دلالة
الحمل على الاتحاد في الوجود، إذ قد يكون فرد واحد فردا لكليين متغايرين من
جهتين لكنه بما هو فرد لأحدهما ليس فردا للاخر.
وعليه، ففي صورة حمل أحد المتساويين على الاخر أو أحد العامين من
وجه على الاخر، لم يفرض الا بيان اتحاد الموضوع والمحمول وجودا لا غير - لا
177

أن الموضوع بما أنه كذلك وجود للمحمول بما هو محمول، والا لم يصح الحمل
كما لا يخفى -. وقد عرفت أنه لا يكفي في الكشف عن الوضع. وقد تعرض
بعضهم لتفصيل الكلام في صور الحمل والاتحاد، لكننا أهملناه لعدم الأثر
بالتطويل.
ثم إن اشكال الدور المتقدم بيانه في التبادر يأتي هاهنا أيضا، لان صحة
الحمل تبتني على العلم بمعنى اللفظ وإلا فلا يعلم صحة الحمل من عدمها،
فكون العلم بالوضع موقوفا على صحة الحمل يستلزم الدور. والإجابة عنه كما
تقدم اما بالفرق بالاجمال والتفصيل بين العلم الموقوف عليه صحة الحمل والعلم
الموقوف على صحة الحمل. أو بالفرق بالعالم والمستعلم. فلا نعيد.
ثم إن المحقق الأصفهاني بعد أن أشار إلى حمل اللفظ بما له من المعنى
الارتكازي بلا قرينة، ذكر ان التحقيق يقضي جعل نفس الحمل والسلب علامة
للحقيقة والمجاز فيما كان النظر إلى صحة الحمل وعدمها عند العرف، لا جعل
صحة الحمل وصحة السلب علامة للحقيقة والمجاز، لان العلم بصحة الحمل
يحتاج إلى سبب آخر من تنصيص اهل اللسان أو التبادر أو نحوهما، فيخرج
عن كونه علامة ابتدائية مستقلة، بخلاف نفس الحمل والسلب فإنه بنفسه علامة
الاتحاد والمغايرة من دون توقف على امر آخر (1).
كما أن السيد الخوئي أنكر دلالة صحة الحمل بنوعيه الأولي والصناعي
على الحقيقة والوضع. ببيان: ان الحمل الأولي لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع
والمحمول ذاتا، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال، وانه حقيقي أو مجازي،
فقولنا: (الحيوان الناطق انسان) لا يدل الا على اتحاد معنييهما حقيقة، أما ان
استعمال لفظ الانسان فيما أريد به حقيقي أو مجازي فذلك أجنبي عن مفاد
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 28 - الطبعة الأولى
178

الحمل، فلا يدل على الوضع، إذ قد يكون المعنى المراد باللفظ مجازيا. وهكذا
الحال في الحمل الشائع، فإنه لا يكشف إلا عن اتحاد الموضوع والمحمول وجودا
بلا نظر إلى حال استعمال المحمول في ما أريد به وانه حقيقي أو مجازي، وظاهر
ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز. وبعبارة أخرى: - كما قال - ان صحة
الحمل وعدم صحته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتحاد المفهومين ذاتا
يصح الحمل وإلا فلا، واما الحقيقة والمجاز فيهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدال.
وبين الامرين مسافة بعيدة (1).
وأنت خبير بضعف هذا الكلام، فان المفروض ان المحمول هو اللفظ بما
له من معنى ارتكازي وبلا قرينة، ولا يخفى أن ذلك معناه فرض حمل اللفظ
بمعناه الموضوع له المرتكز في النفس، لا الأعم من الحقيقي والمجازي، كما أشار
إلى ذلك المحقق الأصفهاني، وبعد هذا الفرض في أصل الكلام في صحة الحمل
لا وجه لما ذكره وقرره فإنه عجيب جدا كما لا يخفى فلاحظ.
منها: الاطراد، وبيانه: هو ان يستعمل لفظ في شئ أو يطلق عليه بلحاظ
معنى، فإذا اطرد استعمال ذلك اللفظ بلحاظ هذا المعنى بحيث صح استعماله
مطلقا ومطردا بلحاظه كان ذلك علامة ودليلا على كون اللفظ موضوعا لذلك
المعنى.
لكنه يشكل: بان الاطراد حاصل بالنسبة للمعاني المجازية، فان اللفظ
يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة، ويطرد في جميع موارد وجود
العلاقة بلحاظها، نظير استعمال أسد في زيد بلحاظ الشجاعة، فإنه يصح
استعمال لفظ أسد في غير زيد من افراد الانسان أو غيره بلحاظ الشجاعة.
فجعل الاطراد علامة الحقيقة ينتقض بالمجاز:
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 117 - الطبعة الأولى
179

وقد يدفع النقض - كما احتمله صاحب الكفاية (1) - بان الملحوظ في
الاستعمال المجازي نوع العلاقة، وبملاحظتها لا يطرد الاستعمال، فالملحوظ في
استعمال أسد في زيد علاقة المشابهة لا خصوص المشابهة بالشجاعة. وظاهر انه
لا يصح استعمال لفظ أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة، إذ لا يصح استعماله
في الجبان الأبخر ولا الجبان ذي العينين وهكذا.
لكنه فاسد ببطلان أساسه: فان الملحوظ والمصحح للاستعمال المجازي
هو العلاقة الخاصة لا نوعها، كالمشابهة في الشجاعة في استعمال أسد في زيد. لا
كلي المشابهة - وإلا لكان مطردا -، وظاهر ان الاستعمال بلحاظ خصوص
المشابهة مطرد.
ومن هنا - اي من الانتقاض بالاستعمال المجازي - زاد بعضهم قيد، على
وجه الحقيقة أو بدون تأويل - بلحاظ الخلاف في حقيقة المجاز، وانه مجاز في
الكلمة أو في الادعاء -، فيكون الاطراد علامة الحقيقة إذا كان على وجه الحقيقة
أو بلا تأويل، فلا ينتقض بالاستعمال المجازي لأنه مطرد لكنه لا على وجه
الحقيقة.
واستشكل فيه صاحب الكفاية باستلزامه الدور: لان معرفة الحقيقة
والوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة ومعرفة ذلك تتوقف على
معرفة الحقيقة الدور. (2).
والتفصي عن اشكال الدور في التبادر بالاجمال والتفصيل بين الموقوف
عليه التبادر والموقوف على التبادر لا يتأتى فيما نحن فيه، لأنه بعد أن أخذت
معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع، فلا بد من حصولها
تفصيلا، وحصول الالتفات إليها بعلم بحصول الدليل والعلامة بها إلى مدلولها،
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 20 (طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 20 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
180

والعلم الارتكازي الاجمالي لا يجدي في التوصل إلى المطلوب، إذ لا يعلم به ثبوت
العلامة والدليل فلاحظ جيدا. وللاعلام في المقام بعض التحقيقات أعرضنا عن
ذكرها لأنه يستلزم التطويل بلا طائل، واكتفينا بهذا المقدار لمجرد الإشارة إلى
المطلب.
أحوال اللفظ
ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): انه قد ذكر للفظ أحوال خمسة:
المجاز، والنقل، والاشتراك، والتخصيص، والاضمار. والمراد من كل منها واضح لا
يحتاج إلى بيان والكلام فيها في مقامين:
الأول: فيما إذا دار أمر اللفظ بينها، كما إذا دار بين أن يكون مستعملا في
هذا المعنى بنحو المجاز أو الاشتراك، أو دار بين ان الامر بين المجاز والنقل،
وهكذا...
وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض مرجحات الا انها لا تغني ولا تسمن
من جوع، لعدم الدليل على الترجيح بها تعبدا، كما انها لا توجب الجزم
بالترجيح، نعم إذا أوجب المرجح ظهور اللفظ في أحد النحوين كان ذلك النحو
متعينا تحكيما لأصالة الظهور.
الثاني: فيما إذا دار امر اللفظ بين أحد هذه الأحوال وبين المعنى الحقيقي
كدورانه بين الحقيقة والمجاز وانه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي (1).
وقد التزم صاحب الكفاية بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة
الحقيقة. وهذا في الجملة واضح، وانما الاشكال والالتباس في فرضه دوران الامر
بين المعنى الحقيقي وبين سائر الأحوال، لأنه ظاهر في دوران الامر بين الحقيقة
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 20 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
181

والمجاز، أما دوران الامر بين المعنى الحقيقي والاشتراك والنقل فلا يتصور
له معنى، لان المعنى المشترك حقيقي، وهكذا المعنى المنقول فإنه معنى حقيقي
لأنه موضوع له اللفظ، ومثله الحال في دوران الامر بين المعنى الحقيقي
والتخصيص، لان التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يعد
قسيما ومقابلا للمعنى الحقيقي. نعم على بعض الآراء يكون موجبا للمجازية
فيصح عده قسيما للمعنى الحقيقي.
وتوجيه مراده: بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز، بل
يريد به المعنى الأصلي والذي جعل اللفظ بإزائه أولا، ففي مورد تعدد الحقيقة
كمورد النقل والاشتراك والتخصيص يراد دوران الامر بين المعنى الحقيقي
الأولي والمعنى الحقيقي الثانوي وهو المعنى المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له
اللفظ ثانيا أو المعنى الخاص. وان كان يجدي في ردع الاشكال في العبارة، لكنه
يورد عليه:
بأنه لم يثبت حمل الكلام على المعنى الحقيقي الأولي في صورة دوران
الامر بينه وبين الاشتراك - وان ثبت تقديم العموم على الخصوص في مورد الشك
بأصالة الظهور، والتزم بتقديم المعنى الحقيقي الأولي في مورد احتمال النقل
بأصالة عدم النقل -، لعدم جريان أصالة الظهور في المقام، لان اللفظ لا يكون
ظاهرا في أحدهما الا بقرينة على تقدير الاشتراك، فاحتماله مانع من تمامية
الظهور، كما أنه لا أصل عقلائيا ينفي الاشتراك نظير الأصل النافي للنقل - لو
سلم بجريانه -.
وعليه، فالحكم بالصيرورة إلى المعنى الحقيقي مطلقا لو دار الامر بينه
وبين غيره من أحوال اللفظ لا يخلو من جزاف.
182

الحقيقة الشرعية
183

الحقيقة الشرعية
هذا المبحث كسوابقه غير ذي ثمرة عملية كما سيتضح فيما بعد، لذلك
كان الاكتفاء، بذكر مطلب الكفاية وما يتعلق به هو المتعين كغيره من المباحث
المتقدمة التي لا ثمرة فيها.
وموضوع البحث: هو انه لا اشكال في وجود معان شرعية مستحدثة قد
استعمل الشارع فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة إلى معان معينة، فهل نقل
الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية ووضعها للمعاني
الشرعية فتثبت الحقيقة الشرعية، أو لم ينقلها بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني
الشرعية بنحو المجاز وبالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية؟ وذلك كلفظ
(الصلاة) فإنه موضوع لغة إلى الدعاء - كما يقال - وقد استعملت في لسان
الشارع في الواجب الخاص والفعل المعهود المشتمل على اجزاء وشرائط.
فهل وضع الشارع - ناقلا - لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين، أو انه
لم يضع اللفظ للفعل الخاص بل استعمله فيه مجازا وبالقرينة؟.
وقد ذكر صاحب الكفاية ان في المسألة أقوالا، ثم شرع بيان الحق في
المسألة، الا انه قبل بيانه تعرض إلى بيان شئ دخيل في التحقيق، وهو: ان الوضع
التعييني يتصور حصوله بنحوين:
185

الأول: ان ينشأ بالقول، ثم بعد تحققه بذلك يستعمل اللفظ في المعنى
فينشأ بصورة (وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى) شأنه غيره من الانشائيات
والاعتباريات، لأنه كما عرفت امر اعتباري.
الثاني: ان ينشأ بالاستعمال، بان يستعمل اللفظ في المعنى رأسا، ويقصد
بهذا الفعل - أعني الاستعمال - تحقق الوضع له وانشائه بلا ان يسبق الاستعمال
تصريح بالوضع أصلا. وتقريب ذلك: ان استعمال اللفظ في معنى وقصد دلالته
عليه بنفسه لمكان من لوازم الوضع، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى
بنفسه، كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع وموجبا لحضوره في
ذهن المخاطب بالالتزام، وعليه فيقصد ايجاد الوضع وتحققه خارجا بهذه الدلالة
الالتزامية، وينشأ الوضع بهذه الواسطة، إذ لا يعتبر في المنشأ أن يكون مدلولا
عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.
ثم إنه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال، الا انها على تحقق الوضع
بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى واستعماله فيه، وبذلك اختلفت
هذه القرينة عن قرينة المجاز.
والاشكال في هذا الاستعمال بأنه ليس استعمالا حقيقيا، لأنه ليس فيما
وضع له لفرض تحقق الوضع به، ولا مجازيا لعدم كونه فيما يناسب الموضوع له،
إذ قد لا يكون اللفظ موضوعا إلى معنى آخر أو كان ولكن لا مناسبة بينه وبين
المستعمل فيه.
غير وجيه، بعد ما عرفت من امكان أن لا يكون الاستعمال حقيقيا ولا
مجازيا، كاستعمال اللفظ في مثله ونحوه. ثم إنه ادعى بعد ذلك: ان دعوى الوضع
التعييني بهذا النحو غير مجازفة للتبادر، وقد عرفت أنه علامة الحقيقة. وانما لم
يلتزم بالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني مع صلاحية الدليل لاثباته وهو
التبادر بل هو لا يكشف عن النحو الثاني، وانما يكشف عن أصل الوضع لا
186

كيفيته، لوجود المانع الثبوتي عنه، وذلك لان النحو الأول لما كان فعلا صريحا
مستقلا من الشارع وبادرة ملفتة منه. كان تحققه مستلزما لظهوره عندنا بالنقل،
إذ قد نقل إلينا من أفعال النبي (صلى الله عليه وآله) ما هو أقل من الوضع أهمية.
وحيث إنه لم ينقل ذلك نجزم بعدم كون الوضع بهذا النحو، ومن هنا تظهر الثمرة
في تعرض صاحب الكفاية إلى بيان هذا القسم من الوضع - أعني الوضع
بالاستعمال -، فإنه لو لم يثبت لم تثبت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني، للجزم بعدم
تحققه انشاء بالقول، إذ لو كان لبان.
وعليه، فالوضع التعييني بالنحو الثاني ثابت بأمرين منضمين: أحدهما:
التبادر المثبت لأصل الوضع، والاخر: العلم بعدم ثبوت الوضع التعييني بالنحو
الأول بعدم نقله النافي للنحو الأول والمعين للنحو الثاني. ثم إنه أيد دعواه الوضع
بأنه لو لم يلتزم بالوضع كانت الاستعمالات الواردة في لسان الشارع مجازية وهو
ممتنع في بعض الاستعمالات، لشرط العلاقة المصححة بين المعنى الحقيقي اللغوي
والمعنى الشرعي المستعمل فيه اللفظ، وقد لا تكون، كما في الصلاة فإنها لغة
موضوعة للدعاء ولا علاقة بينه وبين المعنى الشرعي.
وما قد يدعى من وجود علاقة الجزء والكل، إذ الدعاء من اجزاء الصلاة
شرعا.
لا يفيد في صحة الاستعمال، لان جواز استعمال اللفظ الموضوع للجزء في
الكل انما يثبت في فرض كون الجزء أساسيا وذا أهمية في تحقيق الكل، وليس
الدعاء كذلك، لأنه ليس من أركان الصلاة.
ولو تنزل عن دعوى الوضع التعييني،
فدعوى حصول الوضع التعييني باستعمال الشارع هذه الألفاظ في معانيها
الشرعية ليست دعوى جزاف، لكثرة استعماله.
ثم إنه حيث كان المراد بالحقيقة الشرعية وضع الألفاظ لهذه المعاني في
شرعنا، كان ثبوت الحقيقة الشرعية يتوقف على عدم ثبوت هذه المعاني قبل
187

شرعنا وكونها مستحدثة من قبله.
ولكن الذي يظهر من بعض الآيات ثبوتها في الشرائع السابقة، كما يدل
عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: (وأذن في الناس بالحج) (1)، وقوله تعالى
حكاية عن عيسى ويحيى: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (2)، وقوله
تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) (3). وعليه،
فتكون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.
والتخلص من ذلك باختلاف نحو العبادات السابقة عن نحوها في
شريعتنا لا يجدي. لان الاختلاف في المصداق - كاختلاف الصلاة عندنا بحسب
اختلاف الحالات -، فإنه لا يدل على اختلاف المعنى بل المعنى واحد. غاية الامر
ان المصداق في شرعنا يختلف عن المصداق في الشرائع السابقة كاختلاف المصاديق
في شرعنا (4).
هذا بيان ما ذكره صاحب الكفاية في المقام وتوضيحه. واتضح بذلك ان
أساس ثبوت الوضع التعييني والحقيقة الشرعية به ركنان:
الأول: اثبات نحو آخر للوضع التعييني وهو الانشاء بالاستعمال.
والثاني: عدم ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة.
وقد أورد على الركن الأول - أعني امكان تحقق الوضع التعييني
بالاستعمال - من جهتين: الجهة الأولى: ان ذلك يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ
واحد. وقد قرب ذلك بوجهين:
الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله): من أن الوضع جعل
.

(1) سورة الحج، الآية: 27.
(2) سورة مريم، الآية: 31.
(3) سورة البقرة، الآية: 183.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 21 - 22 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
188

اللفظ بحيث يحكى عن المعنى، فالحكاية والدلالة مقصودة في الوضع وملحوظة
بنحو الاستقلال، لان الحكاية المأخوذة فيه ليست الحكاية الفعلية التي تحصل
مغفولا عنها، بل الحكاية الشأنية. بخلافها في الاستعمال فإنها ملحوظة ومقصودة
على الوجه الآلي دون الاستقلالي، لان النظر الاستقلالي فيه متعلق بالمعنى. واما
ما به الحكاية وهو اللفظ ونفس الحكاية، فهما متعلقان للحاظ الآلي.
وعليه، فإذا أريد انشاء الوضع بنفس الاستعمال لزم اجتماع اللحاظين
الآلي والاستقلالي في شئ واحد، وهو الدلالة، في حين واحد (1).
ويندفع: أولا: بان حيثية الدلالة لم تؤخذ في معنى الوضع أصلا، بل الوضع
كما تقدم ليس إلا مجرد اعتبار العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى، أو اعتبار
اللفظ على المعنى، أو اعتباره المعنى، وليس للدلالة أي دخل في عملية الوضع ولم
يؤخذ النظر إليها من شرائطه كما لا يخفى.
وثانيا: لو سلم أخذ الدلالة في الوضع وتعلق النظر والقصد الاستقلالي
بها، فلا يخفى ان متعلق اللحاظ والقصد فيه هو طبيعي الدلالة ومفهومها لا
مصداقها إذ لا تلحظ الدلالة الفعلية، إذ متعلق الوضع هو طبيعي اللفظ للمعنى.
وظاهر ان الدلالة الملحوظة حينئذ هو مفهومها لا مصداقها لعدم قابلية طبيعي
اللفظ بما هو طبيعي للدلالة فعلا.
كما أنه من الظاهر كون الدلالة الملحوظة حال الاستعمال هي الدلالة
الفعلية، فمتعلق اللحاظ فيه هو مصداق الدلالة.
وعليه، فلا يستلزم انشاء الوضع بالاستعمال تعلق اللحاظين بشئ واحد،
بل اللحاظ الاستقلالي يتعلق بمفهوم الدلالة، والآلي بمصداقها، وهما متغايران.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث / 32 - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 31 - الطبعة الأولى
189

وهذا هو الصحيح في الجواب، لا ما ذكره المرحوم الأصفهاني من أن
انشاء الوضع حيث كان بالمدلول الالتزامي للاستعمال لأنه لازم الوضع، كانت
الحكاية متعلقة للحاظ الآلي في مقام يختلف عن مقام تعلق اللحاظ الاستقلالي،
فإنها ملحوظة استقلالا فمرحلة التسبيب إليها بانشاء لازمها، وملحوظة آليا في
مرحلة نفس الاستعمال وهو لازمها (1).
وذلك: لان تعدد مرحلة تعلق اللحاظ واختلاف مقامه لا يجدي في رفع
غائلة المحذور وهو اجتماع اللحاظين في شئ واحد في زمان واحد، إذ اختلاف
المرحلة لا يوجب اختلاف الزمان.
الثاني: ما ذكره المحقق العراقي (رحمه الله): من أن الوضع لما كان جعل
الارتباط بين اللفظ والمعنى أو نظير ذلك، كان اللفظ في حال الوضع متعلقا
للحاظ الاستقلالي لأنه طرف الحكم والاعتبار، وحيث إن الاستعمال جعل اللفظ
حاكيا عن المعنى وفانيا فيه كان اللفظ في حال الاستعمال ملحوظا آلة نظير المرآة.
إذ النظر الاستقلالي يتعلق بالمحكي دون الحاكي. وعليه فانشاء الوضع
بالاستعمال يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اللفظ في زمان واحد.
وهو محال.
ويندفع بما قرره المحقق العراقي: من أن متعلق اللحاظ الاستقلالي في
حال الوضع هو طبيعي اللفظ، لان الوضع جعل العلقة بين طبيعي اللفظ لا
مصداقه الخاص. ومتعلق اللحاظ الآلي في حال الاستعمال هو مصداق اللفظ، إذ
به تكون الحكاية. وعليه فلا يلزم في انشاء الوضع بالاستعمال اجتماع لحاظين في
شئ واحد، لاختلاف متعلق كل منهما عن متعلق الاخر (2).
وهذا هو الوجه في الاندفاع لا ما ذكره السيد الخوئي من تأخر الاستعمال
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية / 31 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 33 - الطبعة الأولى
190

رتبة عن الوضع (1).
لان التأخر الرتبي لا يستلزم عدم اجتماع اللحاظين في شئ واحد في
زمان واحد. كما أنه لا يرفع المحذور بنفسه، فان فرض تأخر أحد الضدين عن
الاخر رتبة لا يسوغ اجتماعهما في شئ واحد في آن واحد. فلاحظ وتأمل.
الجهة الثانية: انه لما كان أساس صحة انشاء الوضع بالاستعمال هو كون
الاستعمال ودلالة اللفظ بنفسه على المعنى من لوازم الوضع، فيكون الاستعمال دالا
بالالتزام على الوضع وينشأ الوضع بهذه الواسطة، لما كان أساسه ذلك كان مبتنيا
على الالتزام بان قرينة المجاز جزء الدال على المعنى المجازي. إذ اللفظ لا يدل
بنفسه على المعنى المجازي، فتكون الدلالة بنفسها من لوازم الوضع.
ولكنه غير ثابت، بل التحقيق على أن القرينة تكون على إرادة المعنى
المجازي من اللفظ، فيكون اللفظ بنفسه دالا على المعنى، والقرينة تدل على
دلالته عليه وإرادة المعنى منه، فنفس (الأسد) في قولنا (هذا الأسد) مشيرا إلى
زيد مستعمل في زيد ودال على زيد، والإشارة ليست دخيلة في الدال بل هي تعين
الدلالة، والدال هو اللفظ.
وعليه، فدلالة اللفظ بنفسه ليست من لوازم الوضع، بل هي امر مشترك
بين صورتي الوضع وعدمه. فلا يكون الاستعمال موجبا لخطور الوضع في الذهن
لأنه لازم أعم. فليس لانشاء الوضع بالاستعمال من سبيل.
وأنت خبير بوهن هذا الاشكال، فان المراد من كون دلالة اللفظ بنفسه
من لوازم الوضع، هو دلالته على المعنى بلا معونة واسطة، كما في المجاز فإنه
بمعونة القرينة، وليس المراد دلالة اللفظ ذاته ومستقلا الذي هو امر مشترك
بين الحقيقة والمجاز، كي يرد ما ذكر.
وبالجملة: تارة يراد من (دلالة اللفظ بنفسه) دلالته على المعنى بلا
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 128 - الطبعة الأولى
191

واسطة في البين، بارجاع (بنفسه) إلى الدلالة لا اللفظ.
وأخرى: يراد دلالته بذاته ومستقلا على المعنى بلا اشتراك لغيره معه،
بارجاع القيد إلى اللفظ الدال، والمعنى الأول من خصائص الوضع ولوازمه، إذ
دلالة اللفظ على المعنى المجازي بمعونة القرينة، والمعنى الثاني مشترك بين
الوضع وغيره فهو لازم أعم للوضع. والمراد في تقريب انشاء الوضع بالاستعمال
هو الأول، فان الغرض بالاستعمال المقصود انشاء الوضع به، جعل اللفظ دالا
بنفسه وبلا قرينة على المعنى، وهو من لوازم الوضع، والايراد المزبور يبتني على
الخلط بين المعنيين واشتباه المراد منهما وتخيل انه الثاني. فلاحظ.
وأورد على الركن الثاني - بما هو منسوب إلى ولده (1) -: من أن ثبوت هذه
المعاني في الشرائع السابقة لا يكفي في ثبوت كون هذه الألفاظ فيها حقائق
لغوية، إذ ثبوت المعاني سابقا لا يستلزم وضع هذه الألفاظ المخصوصة لها، ونقل
القرآن ليس بدليل على تحقق وضعها لها، إذ يمكن أن يكون نقلا بالترجمة وبذكر
المرادف لما كان موضوعا سابقا لهذه المعاني من الألفاظ، كما هو شأنه في نقل
المحاورات الكلامية باللغة العربية، إذ يعلم بان التفاهم لم يكن سابقا باللغة
العربية (2).
والايراد على هذا: بان الظاهر أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين كان
يلقي هذه الألفاظ بالآيات، كان العرب يفهمون منها معانيها الشرعية، ولم
يكونوا يرونها غريبة عن أذهانهم، ولو لم تكن معلومة الوضع لديهم، لم يكادوا
يفهمون معانيها منها ولرأوها غريبة عن أذهانهم.
مندفع: بأنه من جهة ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد أعلمهم قبل

(1) ولد صاحب الكفاية.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول 1 / 33 (في الهامش) - الطبعة المحشاة بحاشية المشكيني (ره).
192

نقل الآيات بهذه المعاني بأسمائها الشرعية وبحكمها في الشريعة، ثم كان يذكر
الآية استشهادا وبيانا لحكمه. وهذا لا يدل على كون هذه الألفاظ موضوعة لهذه
المعاني سابقا، فتأمل.
والمتحصل: هو ان دعوى الوضع التعييني بالاستعمال غير بعيدة، ولو
تنزل عنه فدعوى الوضع التعيني لا تخلو من وجاهة.
لكن الانصاف انه لا طريق لدينا لاحراز الوضع التعيني الاستعمالي،
بحيث يحرز به انه قصد الوضع في أول استعمال، إذ لا طريق لاحراز التبادر في
الاستعمال الأول.
ثم إنه قد ذكر لهذا المبحث ثمرة: وهي انه مع الشك في إرادة المعنى
الشرعي أو غيره من اللفظ الوارد في كلام الشارع بلا قرينة تعين أحد المعنيين.
يحمل اللفظ على المعنى الشرعي بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية، وعلى المعنى
اللغوي بناء على عدم ثبوتها لأصالة الحقيقة.
لكن الظاهر أنه لا مورد لهذه الثمرة - كما أفاد ذلك المحقق النائيني - (1)،
فان جميع الاستعمالات الواردة في كلام الشارع مما يعلم بمراد الشارع فيها،
وليس هناك مورد يشك فيه في مراده كي تصل النوبة إلى ما ذكر. وبعبارة أخرى:
ان الكبرى وان كانت ثابتة الا ان تحقق الصغرى غير ثابت، لعدم الشك في مورد
ما وظاهر ان ذلك ينفي كون الكبرى ثمرة عملية.
وعليه، فمبحث الحقيقة الشرعية مبحث علمي صرف ليس بذي ثمرة
واثر عملي.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر امرا آخر: وهو ان الثمرة المزبورة انما تتم في
مورد العلم بتاريخ الوضع وتأخر الاستعمال عنه. واما مع الجهل بتأريخهما، فلا
اثر. إذ غاية ما يمكن ان يذكر في اثبات تأخر الاستعمال وجهان:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 33 - الطبعة الأولى.
193

أحدهما: أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع. وهو مردود لوجهين:
أولهما: معارضته بأصالة تأخر الوضع.
وثانيهما: انه من الأصول المثبتة، لان مرجع هذا الأصل إلى استصحاب
عدم الاستعمال إلى حين الوضع، ولا يخفى ملازمة ذلك لتأخر الاستعمال عن
الوضع وثبوته بعده، فثبوت تأخر الاستعمال بهذا الأصل يبتني على ثبوت الأصل
المثبت. وتحقيق ذلك في أوائل التنبيه الحادي عشر من تنبيهات الاستصحاب في
الكفاية فراجع (1).
الوجه الثاني: أصالة عدم النقل، بمعنى انه يستصحب عدم النقل إلى ما
قبل الاستعمال، فإنه أصل عقلائي، وهو المسمى بالاستصحاب القهقري،
ويثبت به تأخر الاستعمال عن الوضع وكون الوضع قبله، وان كان ذلك بالملازمة
لحجية الأصول العقلائية في لوازم مفادها.
ولكنه مردود: بان الثابت بناء العقلاء على عدم النقل مع الشك في أصل
النقل، اما مع العلم به والشك في تقدمه وتأخره فلم يثبت بناء العقلاء على
استصحاب عدم النقل إلى زمان ما، فلا دليل على حجية أصالة عدم النقل فيما
نحن فيه (2).
ومنه يعلم انه لا بد من أن يكون المراد من التبادر المستدل به على ثبوت
الوضع التعييني، هو التبادر في زمان الشارع لا في زماننا، إذ التبادر في زماننا لا
يثبت الوضع من الشارع الا بأصالة عدم النقل، وقد عرفت عدم ثبوتها في
مورد العلم بأصل النقل والشك في زمانه.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 419 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
194

الصحيح والأعم
195

الصحيح والأعم
موضوع البحث والكلام: هو ان الألفاظ هل هي موضوعة للصحيح من
معانيها أو للأعم من الصحيح والفاسد؟.
وقد ذكر صاحب الكفاية أمورا قبل الخوض في أصل المطلب، رأى
ضرورة الاطلاع عليها وتحقيقها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.
الامر الأول: في تصوير النزاع. ولا يخفى ان تصويره على القول بثبوت
الحقيقة الشرعية واضح، إذ يقال: ان الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح
أو للأعم منه ومن الفاسد؟ ولكن تصويره على القول بعدم ثبوت الحقيقة
الشرعية صار محل الخلاف، إذ لا وضع كي يقال بان الموضوع له هو الصحيح
أو الأعم - ولا يخفى انه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص
النزاع بالقول بثبوتها، لا يكون هذا المبحث مبحثا مستقلا في مقابل المبحث
السابق - أعني مبحث الحقيقة الشرعية -، بل يكون من فروعه ومترتبا عليه،
لأنه نتيجة أحد القولين في تلك المسألة -.
والذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم امكان تصوير
النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه، وبصورة تتناسب مع علمية
المبحث والنزاع، إذ ادعى ان تصويره في غاية الاشكال.
وقد صوره بعض بما بيانه - كما في الكفاية -: ان النزاع يكون في أن
197

الأصل في الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع، هو استعمالها في خصوص
الصحيح أو الأعم بمعنى ان أيهما اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء
ولوحظت المناسبة بينهما أولا، ثم استعمل اللفظ في الاخر بتبعه ومناسبته، فينزل
كلام الشارع عليه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي فقط وعدم قرينة
أخرى معينة للاخر، بلا احتياج لقرينة معينة له بخصوصه.
وقد استشكل صاحب الكفاية هذا التصوير: بأنه ليس تصويرا للبحث
العلمي الذي يتصور لكلا شقيه وجه للثبوت، وذلك لان اثبات كلا الشقين على
هذا التصوير، أعني كون الأصل في الاستعمال هو الاستعمال في الصحيح أو كونه
الاستعمال في الأعم، يتوقف على أمرين لا سبيل علمي لاثبات كل منهما. وهما:
أولا: ثبوت اعتبار العلاقة أولا بين المعنى اللغوي وأحد المعنيين الصحيح
والأعم بعينه.
وثانيا: تنزيل كلام الشارع على ما لوحظت العلاقة ابتداء بينه وبين
المعنى اللغوي - لو ثبت ذلك - بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم
القرينة المعينة للمعنى الاخر، بلا حاجة إلى قرينة خاصة معينة كغيره.
فإنه لا يخفى انه ليس لدينا من الطرق المتعارفة في باب الظهورات
وغيرها ما يثبت أحد هذين الامرين، فكيف يكون النزاع المتوقف عليهما نزاعا
علميا يقصد فيه تحقيق أحد طرفيه؟! (1).
ويمكن النظر فيما افاده (قدس سره): بان التقريب المزبور بأسلوبه
العلمي الصناعي قد يبدو مشكل الاثبات. ولكنا نغض النظر عن ذلك، ونقول: ان
طريق اثبات أولوية أحد المعنيين هو الظهور الثابت لأحدهما ولو كان مجازيا، فإنه
لا اشكال في ظهور الكلام في أحد المعنيين، وبضميمة عدم القول بالوضع
الشرعي نعلم ان المعنى الظاهر مجازي، فإذا ثبت الظهور ولو كان مجازيا حمل
اللفظ عليه كما قد يقال بمثله في المجاز الراجح أو المشهور. فتدبر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 23 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
198

وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لتصوير النزاع لا يتوقف الا على
اثبات الامر الأول، ولا يعنينا التعرض إليه بشئ بعد أن اعترف مقرره بتوقفه
على ما لا طريق لاثباته عادة (1).
وللمحقق النائيني وجه في رفع الاشكال في التصوير المذكور للنزاع،
وحاصله: ان طريق اثبات لحاظ العلاقة ابتداء بين أحد المعنيين بعينه والمعنى
اللغوي ممكن، وذلك لأنه إن لم تثبت الحقيقة الشرعية فثبوت الحقيقة لدى
المتشرعة لا ينكر، لتبادر هذه المعاني من الألفاظ عندنا. ولا يخفى ان الحقيقة
الشرعية انما حصلت بكثرة الاستعمال من زمان الشارع إلى زمان المتشرعة،
وعليه فيلحظ ما هو المتبادر عندنا نحن المتشرعة من الصحيح أو الأعم، فينزل
كلام الشارع عليه ويبنى على أن الأصل استعماله فيه، لان التبادر والوضع
التعيني عندنا انما حصل بتبع استعمال الشارع والمتشرعة بتبعه، فيكشف عن
الأصل في استعمالات الشارع وان كانت مجازا (2).
وهذا الوجه ضعيف للغاية لوجوه:
الأول: انه لا وجه لاستكشاف الأصل في استعمالات الشارع بما هو
المتبادر عندنا، لان التبادر انما نشأ من كثرة الاستعمال الناشئ من كثرة الحاجة
إلى تفهيم المعنى، ولا يبعد أن يكون الشارع قد استعملها في الصحيح مثلا، الا
ان الاستعمال من قبل المتشرعة كان في الأعم بكثرة لكثرة الحاجة إلى تفهيمه،
فيتحقق الوضع التعيني لدى المتشرعة في الأعم دون الصحيح، فالمتبادر منه معنى
معين لا يكون كاشفا عن أن ذلك المعنى هو الأصل في استعمالات الشارع،
لامكان أن يكون الأصل غيره، لكن تبدل ذلك عند المتشرعة للحاجة الكثيرة
لتفهيم غيره.
الثاني: ان الوجه المذكور على تقدير تسليمه في اثبات نحو استعمال
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 34 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 34 - الطبعة الأولى
199

الشارع، فهو لا يثبت كون الأصل فيه ذلك الاستعمال، وان العلاقة لوحظت
ابتداء بين المعنى المعين والمعنى اللغوي، إذ يمكن ان تكون العلاقة لوحظت أولا
بين غيره والمعنى اللغوي، لكن كثر الاستعمال من الشارع في هذا المعنى لكثرة
الحاجة إليه.
الثالث: انه على تقدير تسليم كشفه عن المعنى الذي لوحظت العلاقة
فيه ابتداء، فهو لا يجدي ما لم يقم الدليل على ثبوت كون المعنى الذي لوحظت
العلاقة فيه ابتداء، هو الأصل في الاستعمال، وان الكلام يحمل عليه بمجرد
القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي وعدم القرينة المعينة للاخر. وقد عرفت أنه
لا طريق عادة إلى اثبات ذلك.
وبالجملة: فمن مجموع ما ذكرناه يتضح ضعف ما ذكره (قدس سره).
وبذلك تكون النتيجة هي ما انتهى إليه صاحب الكفاية من عدم تحقق
النزاع المزبور على القول بعدم الحقيقة الشرعية، وكون هذه المسألة من متفرعات
مسألة الحقيقة الشرعية.
والعجب من السيد الخوئي انه يبني على جريان النزاع بالوجه المذكور
في الكفاية، بلا تعرض لدفع ما استشكله صاحب الكفاية وكلام أستاذه
النائيني (1)، مع أن القواعد تقضي بضرورة التعرض إلى مثل ذلك نفيا أو اثباتا
كما لا يخفى.
ثم إنه لو بنى على تصوير النزاع وجريانه على القول بعدم ثبوت الحقيقة
الشرعية بما ذكر في الكفاية، يتضح جريانه على الرأي المنسوب إلى الباقلاني
القائل بان الألفاظ دائما مستعملة في معانيها اللغوية وإفادة إرادة الأجزاء والشرائط
بقرينة خاصة، كما أشار إليه في الكفاية فراجعه (2).
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 134 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 23 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
200

الامر الثاني: في معنى الصحة وتحديد موضوع النزاع والبحث.
اتفق الكل على أن معنى الصحة هو التمامية، الا انه وقع الكلام في
جهات:
الأولى: انه هل للتمامية واقع مستقل غير ما ذكر من الآثار كموافقة
الامر واسقاط القضاء والإعادة، أو انها أمر ينتزع عن مقام ترتب الأثر؟. وبعبارة
أخرى: ان موافقة الامر ونحوها من الآثار هل هي من لوازم التمامية وآثارها، أم
انها من مقومات معناها؟. ذهب صاحب الكفاية إلى أن هذه الآثار لوازم التمامية
ومن آثارها، وان تفسير الصحة في كلام الفقهاء باسقاط الإعادة والقضاء، وفي
كلام المتكلمين بموافقة الامر، تفسير لها بلوازمها وآثارها التي هي محط النظر، وان
ذلك لا يكون دليلا على أن للصحة معنى غير التمامية (1). وظاهر كلامه في
مبحث دلالة النهي على الفساد، ان اتصاف العمل بالتمامية انما هو بلحاظ
ترتب الأثر (2).
وذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني، فادعى ان مثل موافقة الامر
واسقاط الإعادة من مقومات التمامية حيث إنه لا واقع للتمامية الا التمامية من
حيث موافقة الامر أو اسقاط الإعادة والقضاء أو ترتب الأثر المرغوب، فالتمامية
متقومة بهذه الحيثية المضافة إلى الأثر، ولا يخفى انه يمتنع أن يكون الأثر حينئذ
من لوازم التمامية، لان ما يكون من مقومات الشئ لا يكون من لوازمه وآثاره،
لان نسبة اللازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة المعلول إلى العلة، وهو خلف
فرض كونه مقوما للشئ.
ثم إنه تعرض في حاشية له على المقام لبيان الفرق بين لازم الماهية ولازم
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 24 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 182 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
201

الوجود، ولما لم يكن ذا علاقة ماسة بما نحن فيه أهملنا ذكره (1).
وقد ذهب السيد الخوئي إلى أن للتمامية واقعا مع قطع النظر عن هذه
الآثار (2)، وهي التمامية بمعنى جامعية الأجزاء والشرائط فإنها بهذا المعنى لا تتقوم
بشئ من الآثار، بل لها وجود في ذاتها. واما موافقة الامر واسقاط الإعادة والقضاء
وغيرهما من الآثار، فهي من لوازم التمامية بهذا المعنى وآثارها. وادعى ان ما ذكره
المحقق الأصفهاني ناشئ من الخلط بين تمامية الشئ في نفسه المراد بها جامعيته
للاجزاء والشرائط. وتماميته بلحاظ مرحلة الامتثال والاجزاء فإنه لا واقع لهذه
التمامية مع قطع النظر عن هذه الآثار واللوازم، بل كونه تاما في مقام الامتثال
والاجزاء لا يعنى به الا كونه مسقطا للإعادة والقضاء وموافقا للامر. أو من
الخلط بين واقع التمامية وعنوانها، فان عنوان التمامية عنوان انتزاعي ينتزع عن
الشئ بلحاظ اثره، فحيثية ترتب الآثار متممات حقيقة هذا العنوان. ولكنه
خارج عن محل الكلام، فان كلمة (الصلاة) مثلا لم توضع بإزاء ذلك العنوان
ضرورة، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه وهو الأجزاء والشرائط، ومن الظاهر أن
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 35 - الطبعة الأولى.
(2) - أشرنا في التحقيق الوارد في ذيل الكلام: انه استجماع الأجزاء والشرائط، لا واقع له الا ملاحظة
جهة واحدة، بالإضافة إليها يقال إنه تام أو ناقص، وإلا فلا وجه لان يقال عن الركعة الواحدة انها
مركب ناقص، وإذا لم تكن جهة الوحدة هي الأثر، أو موافقة الامر كما هو الفرض، فلا بد ان تكون
هي التسمية، بان يلاحظ تسمية مجموعة من الأجزاء والشرائط باسم الصلاة مثلا. ولا يمكن ان يراد
ذلك في المقام، إذ لا معنى، لان البحث عما هو الموضوع له وما هو المسمى باسم الصلاة، ولا معنى
لان يقال ان الموضوع له لفظ الصلاة هو التام بلحاظ اسم الصلاة، بل لا مجال للنزاع حينئذ.
وبتقرير آخر: نقول إن الجزئية تنتزع عن ملاحظة الجزء مع غيره أمرا واحدا. فإذا كانت جهة
الوحدة هي التسمية باسم واحد، كان الجزء جزء المسمى، ولا معنى للكلام في الوضع حينئذ.
هذا مع أن النقصان والتمامية في الاجزاء لا يستلزم مطلقا صدق الفساد والصحة، فليس الجسم
الناقص فاسدا، إذ الفساد يصدق بلحاظ عدم ترتب الأثر، فالفساد أخص من النقصان. والكلام
ههنا في الصحة في مقابل الفساد لا مقابل النقصان
202

حيثية ترتب الآثار ليست من متممات حقيقة تمامية هذه الأجزاء والشرائط. هذا
بيان ما ذكره السيد الخوئي ايرادا على أستاذه الأصفهاني بعبارة تقريرات
الفياض تقريبا (1).
والتحقيق في المقام: ان الجزئية والشرطية ليس لهما واقع، وانما هما ينتزعان
عن الشئ بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الأمور المتكثرة واحدا
بالإضافة إليه والتي ينتزع لها عنوان المركب، كالأثر التكويني أو اسقاط القضاء
أو الامر. فالركوع مثلا بنفسه وبلحاظه، ذاته لا يعد جزءا، بل هو فعل تام
مستقل، وانما يعد جزءا بلحاظ دخله في حصول المأمور به ومتعلق الامر، فهو جزء
المأمور به، فجهة تعلق الامر الواحد بالأمور المتكثرة دفعة واحدة ملحوظة في
انتزاع الجزئية ولولاها لما كان جزءا، أو بلحاظ دخله في حصول الأثر كالنهي عن
الفحشاء فهو جزء المؤثر، أو بلحاظ دخله في ترتب سقوط القضاء، فهو جزء ما
يترتب عليه اسقاط القضاء والمؤثر فيه. وهكذا لو وضع لفظ (زيد) مثلا للذات
وأمر خارج عن حقيقتها، فان عد ذلك الامر جزءا انما يكون بلحاظ مقام
التسمية ودخله في المسمى بلفظ (زيد). وإذا ثبت ان الجزئية والشرطية تنتزع عن
الشئ بلحاظ نحو دخله في حصول ما لوحظت الوحدة بالإضافة إليه، لم يكن
للتمامية من حيث استجماع الأجزاء والشرائط تحقق في عرض التمامية بلحاظ
ترتب الأثر وموافقة الامر واسقاط القضاء ونحو ذلك، لان انتزاع الأجزاء والشرائط
انما يكون بلحاظ أحد هذه الأمور، فتكون التمامية من حيثية اجتماع
الأجزاء والشرائط في طول التمامية بلحاظ أحد هذه الأمور، فلا وجه لجعلها في
عرضها والبحث عن إرادة ايها، كما وقع في كلام المحققين الأصفهاني والخوئي.
وبعد ذلك نقول: ان التمامية أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة الملحوظة
في الشئ، فلا يكون الشئ تاما وناقصا في نفسه وبلا لحاظ اي جهة خارجية
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 135 - الطبعة الأولى
203

أصلا، من ترتب اثر أو حصول شئ منطبق على المركب كالمأمور به والمسمى
ونحو ذلك. فلا يقال للصلاة ذات الركعة انها ناقصة بلحاظ ذاتها وبلا لحاظ أي
شئ، إذ هي وجود مستقل، غاية الامر انه غير وجود الصلاة ذات الركعتين،
وانما يقال لها انها ناقصة بلحاظ عدم حصور الأثر المترقب منها، لعدم اجتماع
جميع ما له الدخل في حصوله. أو بلحاظ عدم حصول المأمور به ومتعلق الامر
المترتب على الركعتين مثلا وهكذا.
وعليه، فالتمامية لا يتصف بها الشئ في نفسه أصلا، بل اتصاف الشئ
بها وبالنقصان انما هو بلحاظ جهة خارجية عن الشئ يترقب حصولها من
الشئ، أو تكون ملحوظة في مقام لحاظ الوحدة والتركيب.
وأما الصحة، فهي نحو من انحاء التمامية، لا التمامية بقول مطلق، وهو
التمامية من حيث ترتب الأثر المترقب لا من حيثية أخرى، لوضوح عدم صدق
الفاسد على ناقص بعض الاجزاء بلحاظ شئ أجنبي عن ترتب الأثر المترقب
مع حصول الأثر، بل يصدق عليه الصحيح بلحاظ تماميته من حيث ترتب الأثر
المترقب، وان صدق عليه النقصان من حيثية أخرى وهي حيثية الحكم أو غيرها.
وبهذا البيان يظهر ما في كلام السيد الخوئي من الضعف وعدم الوضوح.
إذ اتضح تقوم التمامية بالحيثيات المزبورة وكونها من مقومات معناها. كما يظهر ما
في اطلاق الكل بان الصحة هي التمامية، فإنك عرفت أن الصحة ليست هي
التمامية بقول مطلق بل التمامية من حيث الأثر المرغوب والمترقب.
والمحصل: ان هناك جهة اشكال في كلام الأصفهاني والخوئي وهي فرض التمامية من حيث استجماع الأجزاء والشرائط في عرض التمامية من الحيثيات
الأخرى، وجهة مختصة في كلام السيد الخوئي، وهي فرض التمامية للشئ في
نفسه بلا لحاظ أية جهة خارجية، وجهة عامة في كلام الكل، وهي فرض الصحة
بمعنى التمامية بقول مطلق فلاحظ.
204

ويقع الكلام بعد ذلك في الجهة الثانية: وموضوع البحث فيها تشخيص
الملحوظ من افراد التمامية في معنى المأخوذة في موضوع البحث في
المسألة، وانه هل التمامية من حيث موافقة الامر، أو التمامية من حيث اسقاط
الإعادة والقضاء، أو التمامية من حيث ترتب الأثر التكويني، وهو النهي عن
الفحشاء - مثلا -؟.
والتحقيق: عدم امكان إرادة الصحة بمعنى التمامية من حيث موافقة
الامر، أو من حيث اسقاط الإعادة والقضاء، وعدم كونها من احدى هاتين
الحيثيتين محلا للبحث.
وذلك لان الشئ لا يتصف بموافقة الامر أو اسقاط القضاء الا بعد
تعلق الامر. فلا يمكن الالتزام بان اللفظ موضوع للشئ الصحيح من حيثية
موافقة الامر أو اسقاط القضاء، لان المفروض اخذ المسمى في موضوع الامر،
ويمتنع أخذ الشئ بما أنه موافق للامر في موضوع الامر فإنه خلف كما لا يخفى،
فلا بد ان يفرض المسمى مما يمكن أخذه في حيز الامر ومما يمكن فرضه في مرتبة
متقدمة عليه، وهو غير الصحيح من احدى الحيثيتين المزبورتين.
وعليه، فيتعين أن يكون موضوع الكلام ومحل البحث هو الصحيح بمعنى
التمام من حيث ترتب الأثر، وان الموضوع له هو الصحيح بهذا المعنى أو الأعم، إذ
لا محذور فيه سوى ما يتوهم من انه يلزم اخذ ما هو خارج عن الذات فيها،
وذلك لان الصحيح بهذا المعنى انما ينتزع عن الشئ بلحاظ ترتب الأثر عليه،
فالأثر خارج عن ذات الشئ لأنه بمنزلة المعلول لها، وظاهر خروج المعلول
عن العلة.
وعليه، فأخذه في المسمى ولو بلحاظ تقيده ودخل التقيد به وان كان نفس
القيد خارجا يلزم أخذه في الذات، وهو خلف فرض خروجه عن ذات المؤثر.
وهو مندفع: بان خروج الأثر عن حقيقة المؤثر وتأخره رتبة عن وجود
205

المؤثر، لا يمنع من امكان دخله في المسمى واعتباره في التسمية، بان يوضع اللفظ
للفعل القائم به الأثر والمترتب عليه، إذ لا يلزم من ذلك فرض دخله في حقيقة
المؤثر كي يكون خلفا.
وبعبارة أخرى: ان الخروج عن الذات والتأخر الرتبي عن المؤثر، انما
هو في مقام الوجود والتحقق، وهو أجنبي عن مقام التسمية. فلا يمتنع ان يوضع
للأثر والمؤثر لفظ واحد مع الاحتفاظ بما لكل منهما من مرتبة ووجود. لان الدخل
في المسمى لا يوجب الدخل في الذات. كما هو شأن كل لفظ موضوع لمركب،
فان كل جزء دخيل في المسمى لكنه ليس دخيلا في حقيقة الجزء الاخر كما لا
يخفى. فلاحظ.
وبالجملة: الصحيح هو ملاحظة التمامية بالإضافة إلى الأثر.
ولا يخفى انه تارة يفرض كون الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر بالفعل.
وبعبارة أخرى: ما هو المؤثر، وفي مثله لا يمكن فرض الأثر من لوازم الصحة،
بل من مقوماتها نظير المبدأ الملحوظ في اطلاق المشتق على الذات. وأخرى يكون
بمعنى الحصة الملازمة لترتب الأثر، يعني بلوغ المركب حدا يترتب عليه الأثر،
كما هو الحال في العلة التامة فان بلوغ العلة التمامية بمعنى بلوغ العلة حدا يترتب
عليه المعلول، وفي مثله يصح ان يقال: ان المعلول من لوازم العلة وآثارها، في
الوقت الذي يكون الاتصاف بالتمامية بلحاظ المعلول.
وبالجملة: تارة يراد بالصحيح ما هو المؤثر، وأخرى يراد به وصوله إلى
حد يترتب عليه الأثر. ففي الأول يكون الأثر مقوما لصدق الصحة بخلافه في
الثاني فان الأثر من لوازم الصحة، لان الصحة منتزعة عن ذات المؤثر لا عن
ترتب الأثر عليه فعلا. وبذلك يمكن الجمع بين ما افاده في الكفاية هنا من أن
اسقاط القضاء ونحوه من لوازم التمامية، وبين ما ذكره في مبحث دلالة النهي على
الفساد من كون التمامية بلحاظ الأثر. إذ عرفت امكان الجمع، فلا وجه لايراد
الأصفهاني عليه هنا، فان الأثر إذا كان ملحوظا في الصحة كان مقوما لها لا اثرا
206

لها، كالمبدأ في قولنا (قائم) (1). ومن الغريب انه يذكر ما ذكرناه من معنى
الصحة الاخر في ذيل مطلبه، مع أنه يمكن حمل كلام الكفاية عليه.
وإذا تعين كون موضوع البحث هو الصحة بمعنى التمامية من حيث
ترتب الأثر، فعليك ان تعرف ان المراد بها الصحة الشأنية لا الفعلية، بمعنى ان
اللفظ - على القول بوضعه للصحيح - يكون موضوعا لما يترتب عليه الأثر لو
وجد، الذي هو معنى الصحة الشأنية، لا انه موضوع لما ترتب عليه الأثر فعلا،
لأنه - يعني ترتب الأثر - يتوقف على الوجود، وظاهر ان اللفظ لا يوضع للفرد
الموجود بل لنفس الطبيعة المأخوذة في متعلق الامر.
وبعد هذا يقع البحث في الجهة الثالثة من جهات الكلام، وموضوع
الكلام فيها: تعيين كون المبحوث عنه - بعد فرض كون حقيقة الصحة بمعنى
التمامية من حيث ترتب الأثر - هل هو الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب
الأثر من جميع الجهات وبقول مطلق أو لا؟. بيان ذلك: انه يعتبر في ترتب الأثر
على العبادة أمور: تحقق الأجزاء والشرائط، وعدم النهي، وعدم المزاحم، وقصد
القربة. فالكلام يقع في أن الموضوع له هل هو التام من حيث ترتب الأثر من جميع
هذه الجهات وبقول مطلق، فلا يحتاج في ترتبه عليه فعلا سوى وجوده خارجا.
أو انه التام من حيث ترتب الأثر من بعض هذه الجهات، فيكون الموضوع له
هو ما يترتب عليه الأثر لو انضم إليه سائر الجهات والوجود؟ ثم يقع الكلام في أنه
خصوص التام من حيث ترتب الأثر من جهة الاجزاء فقط. أو الأجزاء والشرائط
، أو الأجزاء والشرائط وعدم النهي والمزاحم؟.
والمنسوب إلى الشيخ هو تخصيص النزاع بالاجزاء، وان الكلام في وضع
اللفظ لواجدها بالخصوص أو للأعم، وخروج الشروط عن محل النزاع، لان
الشرط في رتبة متأخرة عن الاجزاء، باعتبار كون الاجزاء بمنزلة المقتضي
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 35 - الطبعة الأولى
207

للتأثير، والشرط متأخر عن المقتضي بحسب الرتبة، لأنه ما به تكون فعلية
التأثير، والفعلية انما تفرض في صورة وجود ما يقتضي التأثير كي يصير الشرط
فعلي التأثير. وعليه فأخذ الشرط في المسمى مع الاجزاء يلزم فرض كونهما في رتبة
واحدة، وهو خلف (1).
وأجيب عنه: بان الاختلاف الرتبي بين المقتضي والشرط انما هو في مقام
التأثير في المعلول، وهو أجنبي عن مقام التسمية كما لا يخفى، فلا يلزم من اخذهما
معا في المسمى واعتبار اللفظ لهما نفي اختلافهما في الرتبة في مقام التأثير، بل هما
على ما عليه في ذلك المقام، فان ذلك نظير وجود العلة والمعلول في مكان واحد أو
الحكم عليهما معا بحكم واحد، فإنه لا يتنافى مع تأخر المعلول عن العلة رتبة وهذا
واضح جدا (2).
وعليه، فلا مانع من دخول الشرائط في محل النزاع.
وأما عدم النهي وعدم المزاحم، فقد ذهب المحقق النائيني إلى خروجهما
عن مورد البحث، لعدم امكان أخذهما في المسمى جزما، فلا مجال للكلام، بيان:
انهما فرع المسمى لفرض تعلق النهي به ووجود المزاحم له فينتفي أمره، فلا بد
من فرضه في رتبة سابقة على تعلق النهي وعدمه ووجود المزاحم وعدمه، فيمتنع اخذ
عدم النهي عنه في المسمى وكذلك عدم المزاحم له (3).
والتحقيق: أما في عدم النهي فلا يتجه ما ذكره، إذ تعلق النهي لا يلزم أن يكون
بما هو المسمى بما هو كذلك. وبعبارة أخرى: لا يلزم أن يكون هو الأجزاء والشرائط
بما انها صلاة مثلا، بل يمكن ان يتعلق بذوات الأجزاء والشرائط
بلا لحاظ تسميتها بلفظ ما، فليس عدم النهي في نفسه في رتبة متأخرة عن
المسمى، إذ لا ملزم لفرض متعلقه المسمى كي يكون متفرعا عليه. نعم هو متفرع
.

(1) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 7 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 138 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 35 - الطبعة الأولى
208

على ذوات الأجزاء والشرائط، لكنه لم يفرض بعد كونها هي المسمى فإنه محل
كلامنا، فتدبر.
وأما بالنسبة إلى عدم المزاحم، فان أريد من المزاحم هو المزاحم لنفس
الشئ بلحاظ انه متعلق لامر أقوى داعوية فيزاحم نفس العمل الاخر، فلا
يتجه ما ذكره أيضا، إذ لا يتوقف فرض المزاحم على تحقق التسمية كي يكون
عدمه فرع المسمى، إذ المزاحمة تتعلق بنفس العمل، وهو ذوات الأجزاء والشرائط
بلا توقف على كونها مسماة بلفظ ما أصلا. فلا مانع من اخذ عدم
المزاحم في المسمى. وان أريد به المزاحم لامر الشئ، فالازالة مزاحمة لامر
الصلاة لا نفس الصلاة. كان ما ذكره وجيها، لان المزاحمة على هذا المعنى متفرعة
على تحقق الامر، لأنه موضوع المزاحمة، والمفروض - كما أشرنا إليه - ان الامر
يتعلق بالمسمى. فتكون المزاحمة متأخرة عن التسمية، فيمتنع ان يؤخذ عدم
المزاحم في التسمية لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه. الا انه بعد
تصور المعنى الأول للمزاحمة، لنا ان نلتزم به وبلازمه من كون اخذ عدم المزاحم
في المسمى موضوع الكلام. ولعله هو الذي يظهر من كلامه ههنا، حيث فرع
المزاحمة على المسمى رأسا ورتب عليها انتفاء الامر، فإنه ظاهر في كون طرف
المزاحمة هو الفعل المسمى لا أمره. فلاحظ.
وأما قصد القربة، فقد نفى المحقق النائيني دخوله في محل النزاع أيضا،
بتقريب: انه متأخر عن المسمى برتبتين، لأنه متأخر عن الامر وهو واضح، وهو
- أي الامر - متأخر عن المسمى لتعلقه به، فلا يعقل ان يؤخذ في المسمى فإنه
خلف (1).
وأنت خبير بان هذا البيان لا يجدي في نفي امكان أخذ قصد القربة في
المسمى، لأنما هو متأخر عن المسمى برتبتين هو واقع قصد القربة، لأنه هو
المتفرع عن الامر والمتأخر عنه. والذي يراد أخذه في المسمى هو مفهوم قصد
.

(1) المحقق الخوئي أسيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 35 - الطبعة الأولى
209

القربة، وهو لا يتفرع على الامر كي يتأخر عن المسمى.
وعلى هذا، فلا مانع من أخذ قصد التقرب في المسمى من هذه الجهة، وانما
الاشكال من جهة أخرى، وهي عدم امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر،
فإنه ينافي أخذه في المسمى، لان المفروض كون الامر متعلقا بالمسمى، وان تعيين
المسمى لاجل تشخيص متعلق الامر. فيمتنع أن يكون المسمى هو الفعل بجميع
جهاته حتى قصد القربة، لامتناع أن يكون الفعل بقيد قصد القربة متعلقا
للامر.
لكن هذا يختص بالرأي القائل بعدم امكان أخذ قصد القربة في متعلق
الامر الأول، أما من لا يلتزم بذلك ويرى امكانه فلا اشكال لديه في امكان اخذ
قصد القربة في المسمى. فتدبر جيدا.
تنبيه: بعد أن عرفت أن الصحة بمعنى التمامية من حيث ترتب الأثر
المترقب لا مطلقا، تعرف ان الصحة والفساد أمران إضافيان يختلفان باختلاف
الانظار والحالات، إذ قد يختلف النظر في الأثر فيكون الأثر المترقب بنظر شيئا
خاصا ويكون غيره بنظر آخر، فترتب أحدهما دون الاخر موجب لاتصافه
بالصحة بالإضافة إلى أحد النظرين، وبالفساد بالإضافة إلى النظر الاخر، كما
أنه قد يختلف ترتب الأثر المترقب بحسب الحالات، فيترتب على الشئ في حالة
دون أخرى، فيكون صحيحا بالإضافة إلى حالة وفاسدا بالإضافة إلى الأخرى.
وهذا هو مراد صاحب الكفاية (رحمه الله).
وهل يترتب على كونهما اضافيين أو غير اضافيين ثمرة عملية، أو لا
يترتب فيكون كلاما علميا محضا؟. هذا ما لم نتوصل إليه بعد، ولم نعرف مدى
النتيجة العملية التي تلمس بتحقيق أحد النحوين.
الامر الثالث: في تصوير القدر الجامع بين الافراد الصحيحة، وبين
الافراد الصحيحة والفاسدة. وقبل الخوض في أصل المطلب يجدر بنا التعرض
لحل ما قد يظهر من التهافت في عبارة الكفاية، حيث حكم صاحبها (قدس
سره) في هذا المطلب بلا بدية تصوير الجامع على كلا القولين، في الوقت الذي لا
210

يجزم بكون الموضوع له في ألفاظ العبادات عاما، بل يلتزم به من باب الاستظهار
واستبعاد كونه خاصا لبعض الجهات المبعدة، كما يلاحظ في المطلب الذي يعقب هذا،
والذي موضوعه تعيين عموم الموضوع له أو خصوصه (1)، مع كون لزوم تصوير
الجامع ولا بديته فيما نحن فيه مترتب على الجزم بان الموضوع له عام.
وقد حاول المحقق النائيني توجيه كلام الكفاية - وإن لم يصرح بذلك في
التقريرات -: بان ضرورة تصوير جامع للافراد الصحيحة أو للأعم منها ومن
الفاسدة لا تترتب على الالتزام بعموم الموضوع له، بل لا بد من تصوير الجامع
ولو التزم بان الموضوع له خاص.
اما على الالتزام بعموم الموضوع له، فضرورة تصوير الجامع لا تحتاج إلى
بيان، فإنه لتعيين الموضوع له، إذ الموضوع له يكون هو الجامع على الالتزام
المزبور.
وأما على الالتزام بان الموضوع له هو الخاص وانه هو الافراد الخاصة
الجزئية، فلان الوضع لها يستدعي لحاظها وتصورها بأجمعها، ولا يمكن ذلك لعدم
تناهيها أو حصرها، وعليه فلا بد من فرض جامع لها مشير إليها يكون واسطة في
الوضع للافراد، ويكون الحكم الوضعي على الافراد بواسطة ذلك الجامع (2).
وأنت خبير بان هذا لا يصلح رافعا وحلا لما يظهر في عبارة الكفاية من
التهافت وان كان في نفسه تاما -، لان الظاهر من عبارة الكفاية ان الكلام في
تعيين الجامع الذي حكم بلا بدية تصويره، انما هو لاجل تعيين الموضوع له ومن
جهة فرض وضع اللفظ له، كما هو ظاهر جدا من ايراد صاحب الكفاية على كون
الجامع للأعم هو معظم الاجزاء، بأنه يستلزم أن يكون الشئ الواحد داخلا في
المسمى تارة وخارجا عنه أخرى، فإنه صريح في أن الكلام في تعيين المسمى كما أنه
في تعيين الجامع، وان فرض الجامع فرض المسمى، لا ان البحث في مقامين كما
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 24 - 27 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 35 - الطبعة الأولى
211

هو ظاهر المحقق النائيني.
وعليه، فالحكم بضرورة تعيين الجامع وتصويره المساوق للمسمى لابد وان
يلاءم مع عدم جزمه بعموم الموضوع له، بغير هذا البيان، فإنه غير مفيد في رفع
الاشكال في العبارة.
والذي أراه حلا للمشكلة: ان صاحب الكفاية أخذ الموضوع له أمرا
مفروغا عنه على القول بالوضع للصحيح أو للأعم. فحكم بضرورة ولا بدية
تصوير الجامع مترتبا على ذلك، وقد علق اللابدية على كلا القولين، والمفروض
انه لا قائل بالوضع للخاص والافراد.
وبعبارة أخرى: حكم باللا بدية معلقا ومرتبا على كلا الادعائين والقولين،
وليس من أحد من المختلفين من يلتزم بخصوص الموضوع له، فالحكم باللا بدية
أشبه بالحكم الشرطي والبنائي، لا الجزمي الفعلي، وعليه فلا تهافت. فلاحظ.
وبعد هذا فيقع الكلام في المهم في المقام.
وقد ذهب المحقق النائيني إلى امكان الالتزام بما لا تصل النوبة معه إلى
تصوير الجامع على كلا القولين وحصول النزاع في الوضع لايهما، وهو الالتزام
بوضع لفظ العبادة كالصلاة للمرتبة العليا من مراتبها بالخصوص، وهي المرتبة
الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط. وكون الاستعمال في غيرها من المراتب
الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها من باب الادعاء والتنزيل.
فالموضوع له على كلا القولين هو المرتبة العليا، وأما باقي المراتب الصحيحة أو
الأعم فيستعمل اللفظ فيها من باب الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد، كما
في بعض الاستعمالات. أو من باب اكتفاء الشارع به والمشاركة في الأثر كما في
مثل صلاة الغرقى، إذ لا يصح استعمال اللفظ فيها من باب تنزيل الفاقد منزلة
الواجد، لفقدان جل الأجزاء والشرائط لو لم يكن كلها. نعم استعمال لفظ الصلاة
في فاسد صلاة الغرقى من باب تنزيل الفاقد منزلة الواجد المنزل منزلة التام
الأجزاء والشرائط من باب الاكتفاء في مقام الامتثال، فبعد البناء على كون
212

الصحيح فردا للطبيعة من جهة الاجزاء يصح تنزيل الفاقد منزلته أيضا، ولا
يكون من سبك مجاز في مجاز كما لا يخفى. نعم هذا الكلام لا يجري بالنسبة إلى
القصر والاتمام، لأنهما بالقياس إلى المرتبة العليا في عرض واحد، إذ ليس الامر
بأحدهما تنزلا وفي فرض عدم التمكن من الاخر، بل كل منهما تام الأجزاء والشرائط
، ولكن الامر فيهما سهل فإنه يمكن تصوير الجامع بينهما فقط. وعلى ما
ذكره (قدس سره) يبطل نزاع الأعمي والصحيحي رأسا، لان ثمرة النزاع كما
سيجئ ان شاء الله تعالى صحة التمسك بالاطلاق عند الشك في جزئية شئ أو
شرطيته على القول بالأعم لو تمت مقدمات الحكمة، لصدق المسمى على الفاقد،
وعدم صحته على القول بالصحيح لاجمال الخطاب وعدم صدق المسمى على
الفاقد. وهذا الكلام لا يتأتى على ما ذكره (قدس سره)، لأنه بعد الالتزام بان
الصلاة موضوعة لخصوص المرتبة العليا وكون اطلاقها على غيرها من المراتب
من باب المسامحة والتنزيل لا الحقيقة، يكون اللفظ مستعملا في المرتبة العليا
دائما، والقائل بالأعم انما يلتزم باستعماله في غير الصحيح هاهنا والتنزيل، فصحة
التمسك بالاطلاق على القول بالأعم بالادعاء انما تثبت في صورة احراز ثبوت
الادعاء والتنزيل وملاحظتهما، إذ اللفظ مستعمل في المرتبة العليا وإرادة غيرها
تكون بواسطة تنزيلها منزلة المرتبة العليا، ولا طريق لدينا إلى احراز تحقق
التنزيل وإرادة الأعم بهذه الواسطة. وعليه فلا يمكن التمسك بالاطلاق في نفي
اعتبار جزئية شئ أو شرطيته، لان اللفظ المطلق مستعمل في المرتبة العليا ولم
يثبت إرادة الأعم ادعاء كي يتمسك باطلاقه فيكون مجملا، لفرض دخل الجزء
أو الشرط لو كان دخيلا في المأمور به واقعا في المرتبة العليا كما لا يخفى.
ثم إنه (قدس سره) استشهد على ما افاده بالوجدان العرفي وقربه ونفى
البعد عنه، بأنه أمر عرفي ليس في مقام فهم المفاهيم امر أوضح منه. فاختياره هذا
المذهب ليس لامكانه ثبوتا، بل لقيام الوجدان عليه اثباتا. ولعله لاجل كون
الطريقة العرفية في الوضع للماهيات المخترعة جارية على الوضع لأقصى ما
213

يتصوره المخترع من المراتب والجامع للاجزاء والشرائط بكاملها، ثم يستعمل
اللفظ في غيرها من المراتب مسامحة وادعاء.
هذا تقرير ما افاده (قدس سره) نقلناه بأغلب عباراته مع بعض
التوضيح (1).
والذي يؤاخذ به هذا المسلك، ويرد عليه بوضوح: ان افراد المرتبة العليا
كثيرة وليست متعينة ومنحصرة في خصوص القصر والاتمام، كما نبه عليه (قدس
سره)، فان صلاة الصبح، والظهر، والمغرب، والصلاة اليومية، وصلاة الآيات،
وصلاة العيدين، كلها في عرض واحد بالقياس إلى المرتبة العليا، فان الامر بكل
منها في عرض الامر بالأخرى وليس تنزلي كصلاة الغريق بالنسبة إلى صلاة
غيره.
وعليه، فلا بد لنا من فرض جامع لهذه الافراد يكون اللفظ موضوعا
بإزائه، ولا يكون ما افاده (قدس سره) موجبا للتخلص من مرحلة تصوير
الجامع وكون وصول النوبة إلى تصويره بعد التنزل عنه. ومن العجيب منه انه
(قدس سره) غفل عن ذلك وانتبه إلى ورود الاستشكال في خصوص القصر
والاتمام وحله بان تصوير الجامع بينهما سهل وممكن كما تقدم.
وعلى كل فالالتزام بما افاده (قدس سره) لا يغني عن لزوم تصوير الجامع
بين الافراد الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة. فيقع الكلام حينئذ في مقامين:
المقام الأول: في ثبوت الجامع للافراد الصحيحة، وقد ذكر في تصويره
وجوه:
الوجه الأول: ما جزم به صاحب الكفاية من وجود جامع حقيقي مقولي
بسيط للافراد الصحيحة، الا انه ليس لدينا طريق إلى تعيينه بالاسم ومعرفة
حقيقته، وانما الثابت هو وجود جامع بسيط مقولي متحد مع الافراد وجودا
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 36 - الطبعة الأولى
214

وخارجا. والدليل على ذلك، هو ما نراه من ترتيب بعض الآثار على العبادة
كترتيب النهي عن الفحشاء على الصلاة، والذي يقتضيه قانون السنخية الثابت
في باب العلية هو كون المعلول والأثر الواحد لا يصدر إلا عن علة واحدة ومؤثر
واحد، واستحالة صدور الواحد عن متعدد بما هو متعدد يعني دخل الخصوصيات
المفردة في التأثير. وعليه فمقتضى وحدة الأثر المترتب على الصلاة مثلا وقانون
السنخية، هو أن يكون المؤثر في الأثر الخاص هو جهة جامعة بين الافراد،
بحيث يستند تأثير الفرد إلى وجودها فقط بلا دخل خصوصيته فيه، إذ يلزم بذلك
صدور الواحد عن متعدد وقد عرفت امتناعه، وعليه فلا بد من فرض جامع يكون
هو المؤثر والموضوع له، إذ لا يمكن فرض المؤثر كل فرد بخصوصه. ثم إن عدم
معرفة حقيقة هذا الجامع وحده لا يضير فيما نحن فيه، إذ يمكن التوصل
إلى الوضع له بواسطة بعض العناوين المشيرة إليه بلحاظ آثاره، كعنوان الناهي
عن الفحشاء في الصلاة.
ثم إن صحاب الكفاية (قدس سره) - و - بعد أن ذكر هذا المطلب،
تعرض إلى ذكر ايراد الشيخ الأنصاري (قدس سره) على تصوير الجامع
للافراد الصحيحة والرد عليه.
أما الايراد، فبيانه: ان الجامع المفروض اما أن يكون مركبا أو بسيطا.
فعلى الأول: لا يتصور أن يكون جامعا للافراد الصحيحة، إذ كما يفرض
جامعا يختلف صحة وفسادا بحسب الحالات، ولا يكون صحيحا مطلقا وفي
جميع الحالات. فيمتنع كونه جامعا للافراد الصحيحة.
وعلى الثاني: اما أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له.
ويرد على الالتزام بالأول وجوه:
أحدها: لزوم الخلف، بأخذ ما لا يتأتى الا من قبل الطلب في متعلق
الطلب، لان عنوان المطلوب انما يتحقق وينتزع عن الشئ بعد تعلق الطلب
215

به، إذ قبله لا يكون الشئ مطلوبا، والمفروض كون الجامع هو المأخوذ في متعلق
الامر، لأنه المسمى، فيلزم اخذ المطلوب في متعلق الطلب، وهو خلف لأنه فرض
المتأخر في رتبة سابقة عليه.
ثانيها: استلزامه حصول الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ المطلوب، وهو
ممنوع إذ لا ترادف عرفا بينهما، كما هو ظاهر.
ثالثها: استلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شئ أو
شرطيته وجريان الاشتغال. وذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل
لا في المأمور به، لان المأمور به أمر بسيط معلوم لا اجمال فيه، فلا يكون الشك
في جزئية شئ شكا في المأمور به، إذ ذلك خلف كونه بسيطا غير ذي اجزاء،
فيرجع الشك إلى المحصل والمحقق للامتثال، ومقتضاه جريان قاعدة الاشتغال
ولزوم الاحتياط، وذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع
للصحيح غالبا، وهذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني، لأنه يرتبط ببساطة
الجامع بلا خصوصية كونه عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له (1).
وأما الرد: - فهو بعد اختيار كونه بسيطا وانه ملزوم المطلوب لا عنوانه -
ان جريان قاعدة الاحتياط فيما كان المأمور به أمرا بسيطا، انما يكون في المورد
الذي يكون وجود ذلك الامر البسيط منحازا عن وجود الأجزاء والشرائط
ومسببا عنها، بحيث يكون الشك فيها شكا في المحصل والفراغ حقيقة، كما قد
يقال في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء أو الغسل. واما في المورد الذي يكون وجوده
بوجود الأجزاء والشرائط وليس له وجود مستقل منحاز عن وجودها، كان الأصل الجاري عند الشك هو البراءة لا الاشتغال، لان الشك في الحقيقة شك
.

(1) - حمل السيد الأستاذ (دام ظله) عبارة الكفاية - في الدورة المتأخرة - على إرادة الجامع الحقيقي، وانه
رد الشيخ، بان الجامع لا ينحصر فيما فرضت، من المركب، والبسيط العنواني، بل يمكن فرض الجامع
الحقيقي المدلول عليه بالآثار وهو المتحد مع الخارج
216

في المأمور به، لان المأمور به في الحقيقة والنتيجة هو الأجزاء والشرائط والامر
متعلق بها حقيقة، لأنه يتعلق به بلحاظ وجوده، والمفروض ان وجوده وجود
الأجزاء والشرائط. فالشك في جزئية شئ شك في المأمور به، ويكون الشك
المذكور موجبا للاجمال في نفس المأمور به لا في محققه، وهو مورد أصالة البراءة.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لان نسبة الجامع البسيط إلى الأجزاء والشرائط
نسبة الكلي إلى الفرد، وعليه فوجوده بوجودها وليس له وجود منحاز عن
وجودها، فالشك في جزئية شئ شك في المأمور به، لأنه يشك في دخالة هذا
الشئ في وجود المأمور به، فيشك في تعلق الامر به والمرجع في مثل الحال إلى
البراءة.
وعليه، فلا يلزم من الالتزام ببساطة الجامع، الالتزام بجريان قاعدة
الاشتغال عند الشك في جزئية شئ أو شرطيته، دون البراءة، المنافي لما عليه
المشهور من القول بالبراءة مع القول بالصحيح.
هذا بيان ما قرره صاحب الكفاية (رحمه الله) في تصوير الجامع وما يتعلق
به من الاشكال والرد، والذي يتلخص: انه يلتزم بوجود جامع بسيط حقيقي
متحد مع الافراد خارجا، ولا طريق إلى معرفته بحدوده وانما يشار إليه بعنوان
مشير منتزع عن مقام ترتب الأثر، كعنوان الناهي عن الفحشاء، والدليل على
ذلك وحدة الأثر المترتب على الافراد (1).
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجوه:
الأول: انه لا يتصور وجود جامع ذاتي مقولي لافراد الصلاة، وذلك لان
الصلاة مؤلفة من عدة مقولات متباينة كمقولة الكيف ومقولة الوضع ومقولة
الفعل ونحوها. وليست اجزاء الصلاة من مقولة واحدة، وعليه فلا يمكن فرض
جامع مقولي لمرتبة واحدة من مراتب الصلاة فضلا عن فرض الجامع لجميع
مراتب الصلاة المتنوعة، ووجهه: ما تقرر في محله، من أن المقولات أجناس عالية
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 24 - 25 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
217

فلا جنس لها وفرض الجامع فيما نحن فيه مساوق لفرض جنس أعلى من
المقولات يكون جامعا بينها، وهو خلاف المقرر الثابت. ويمتنع أن يكون المركب
نفسه مقولة برأسها لاعتبار الوحدة والبساطة في المقولات.
الثاني: أن فرض الجامع البسيط المقولي المتحد مع الافراد خارجا، يلزم
منه فرض اتحاد البسيط مع المركب، وكون المركب وجودا للبسيط وهو ممتنع، ولو
فرض وحدة المقولة في جميع الاجزاء. وذلك لان المفروض ان وجود الجامع بوجود
الافراد الخارجية، والفرد الخارجي مؤلف ومركب من اجزاء، فيلزم أن يكون
البسيط متحدا مع المركب وموجودا بوجوده، وهو ممتنع، لأنه خلف كونه بسيطا.
ولان معنى البسيط ما لا جزء له، فاتحاده مع الاجزاء يلزم أن يكون ذا جزء، وذلك
أشبه باجتماع المتناقضين إن لم يكن بعينه، ونتيجة كل من هذين الوجهين عدم
معقولية الجامع البسيط المقولي. ولو تنزل عن ذلك والتزم بمعقوليته، فيرد
الوجه...
الثالث: الذي يرجع إلى المطالبة بالوجه الاثباتي والدليل على ثبوت مثل
هذا الجامع إذ معقوليته لا تعني تحققه وثبوته. والاشكال فيما ذكره لاثباته من
وحدة الأثر المترتب على الافراد الكاشف عن وحدة المؤثر وانه جهة جامعة
حقيقية بين الافراد. بان ما يكشف عن وحدة المؤثر حقيقة انما هو وحدة الأثر
ذاتا وحقيقة إما شخصا أو نوعا، واما وحدة الأثر بالعنوان وتعدده حقيقة فلا
يكشف إلا عن وحدة المؤثر بالعنوان لا وحدته بالحقيقة، وما نحن فيه من هذا
القبيل، فان الأثر المترتب وهو النهي عن الفحشاء ليس أثرا واحدا بالحقيقة
والذات، بل هو اثر واحد عنوانا، لاختلاف انحاء الفحشاء المنفية بالصلاة من
كون بعضها من الصفات كالرياء والشرك النفسي ونحوهما، وبعضها من
الأفعال كالغصب ونحوه، وتغاير انحاء الفحشاء يوجب تغاير نحو النهي عنها
ونفيها وحقيقته، فحقيقة النهي عن الغصب تختلف عن حقيقة النهي عن الرياء
والشرك ومغايرة لها، وانما يجمعهما عنوان واحد وهو عنوان النهي عن الفحشاء،
218

كما أن كل مرتبة من مراتب الصلاة تؤثر في النهي عن مرتبة من مراتب الفحشاء
وتختلف عن المرتبة التي تؤثر فيها مرتبة أخرى من الصلاة.
وعلى الجملة: فالنهي عن الفحشاء اثر واحد عنوانا لا حقيقة، لاختلاف
أنحائه حقيقة باختلاف مراتب انحاء المنكر والفحشاء، وعليه فلا يكشف عن
وحدة المؤثر حقيقة، بل عنوانا وهو عنوان الناهي عن الفحشاء.
الرابع: ان كل ما يفرض جامعا للصحيح يمكن فرضه جامعا للأعم،
وذلك لان الجامع المفروض يفرض اتحاده مع ذات الأجزاء والشرائط، بلا لحاظ
جهة اضافتها إلى الفاعل وصدورها من المكلف، لان هذه الجهة اعتبارية، ولا
يعقل دخل الاعتبارية في فرض الجامع المقولي، إذ يمتنع تأثير الامر الاعتباري
في أمر حقيقي واقعي، وإذا فرض ان الملحوظ ذات الأجزاء والشرائط، فهي في
نفسها قابلة للصحة والفساد بلحاظ اختلاف حالها، إذ لم تقيد بصدورها من
الفاعل المكلف بها كي تلازم الصحة، فالجامع المفروض لها المتحد معها قابل لان
يكون جامعا للأعم في الوقت الذي يكون جامعا للصحيح (1).
وقد أضاف المحقق النائيني ايرادا خامسا، يتلخص: في أن الغرض انما
هو تصوير جامع للافراد الصحيحة يدركه العرف ويتوصل إليه لفرض كونه هو
المسمى والمأمور به ولا بد من أن يفرض المسمى والمأمور به امرا عرفيا وجدانيا
يتوصل إليه الذهن العرفي، لا أن يكون طريق اثباته قاعدة فلسفية لا يعرفها
العامة ولا تدركها أذهان العرف لأول وهلة، فلا يجدي تصوير الجامع بالطريق
المزبور، بل لا بد من تصويره بنحو عرفي قريب إلى الذهن (2).
والذي يتحصل من مجموع ما ذكر، عدم وجاهة ما ذكره صاحب الكفاية
وعدم تماميته.
وقد ذكر السيد الخوئي هذه الايرادات بترتيب آخر لا يخلو عن اشكال
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 38 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 37 - الطبعة الأولى
219

من الناحية العلمية، لأنه قدم الايراد الثالث على الأولين، ثم ذكر الأولين بنحو
التنزل عن الايراد الأول (1)، ولا يخفى انه بعد تسليم عدم ورود الثالث، وان
الواحد بالعنوان كاشف عن وحدة المؤثر بالحقيقة، لا وجه للايراد بعد ذلك بما
هو مقتضى الأولين من عدم معقولية الجامع، لحصول التصادم بين الامرين والعلم
بعدم تمامية أحدهما، وهذا بخلاف النحو الذي ذكرناه وذكره المحقق الأصفهاني
في ترتيب ذكر الايرادات. فتدبر، والأمر سهل.
الوجه الثاني - من وجوه تصوير الجامع - أن يفرض للافراد الصحيحة
جامع عنواني لا حقيقي مقولي كعنوان الناهي عن الفحشاء ويكون اللفظ
موضوعا بإزائه، ولا يرد عليه المحاذير السابقة الواردة على الجامع المقولي.
الا ان تصويره بذلك يشكل من وجوه:
الأول: لزوم الترادف بين لفظ الصلاة وعنوان الناهي عن الفحشاء، وهو
غير متحقق عرفا.
الثاني: لزوم كون استعمال اللفظ في الذات المعنونة بالعنوان مسامحيا
ومجازيا لأنه موضوع للعنوان لا المعنون، فاستعماله في المعنون يكون استعمالا له
في غير ما وضع له. مع أن العرف لا يرى أي مسامحة وعناية في استعمال اللفظ
في المعنون.
الثالث: لزوم اجراء قاعدة الاشتغال عند الشك في جزئية شئ للمأمور
به، لان المأمور به انما هو العنوان الانتزاعي، وهو يتحصل وبتحقق بالاجزاء
والشرائط جمعا، فيكون الشك في جزئية شئ مستلزما للشك في تحققه
وحصوله عند عدم الاتيان به، فيكون المورد من موارد الاحتياط لقاعدة
الاشتغال لا من موارد البراءة. وبعبارة أخرى: لما كان العنوان الانتزاعي انما
ينتزع عن مجموع الأجزاء والشرائط ولا يحصل بحصول أول جزء ويكون
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 144 - الطبعة الأولى
220

تدريجي الحصول فمع الشك في جزئية شئ يشك في تحقق منشأ انتزاعه، فيشك
في حصول العنوان المأمور به والمطلوب تحصيله وايجاده - إذ المطلوب تحصيل
العنوان -، فيكون المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة، ولا يلتزم به
المشهور القائلون بالوضع للصحيح.
ولعل نظر الشيخ الأعظم (قدس سره) في ايراده على كون الجامع
بسيطا، باستلزامه عدم جريان البراءة إلى ذلك أعني فرض الجامع البسيط جامعا
عنوانيا لا حقيقيا مقوليا، وكأن الجامع المقولي معلوم الاستحالة لديه، وانما البحث
في الجامع العنواني كما قد يشعر به فرض أحد طرفي الترديد في الجامع هو العنوان
المطلوب. ولا يندفع هذا الاشكال بجواب المحقق صاحب الكفاية، لان المأمور به
هو نفس الجامع البسيط، وهو غير متحد مع الأجزاء والشرائط حقيقة وذاتا
كالجامع الحقيقي، كي يكون الامر به امرا بالاجزاء والشرائط، باعتبار انه
ليس شيئا غير الأجزاء والشرائط، بل هو أمر منتزع عنها باعتبار تلبسها بعرض
خاص فهو غيرها.
الوجه الثالث: ما قرره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية، من
انه يمكن فرض جامع مبهم من جميع الجهات الا بعض الجهات المعرفة كجهة
النهي عن الفحشاء ونحوها، ولا يكون هذا جامعا مقوليا ولا عنوانيا، بل هو
جامع مركب من جملة أجزاء.
وتوضيح مراده: ان المفاهيم والعناوين المنتزعة عن الخارجيات...
منها: ما يكون متعينا ومبينا بجميع جهاته كمفهوم الانسان ونحوه.
ومنها: ما يكون مرددا بين فردين أو افراد، بمعنى انه مفهوم ينطبق عليها
بنحو البدلية بلحاظ ذاته، وهو المعبر عنه بالمفهوم المردد، كمفهوم أحدها
واحدهما أو هذا أو ذاك. وهذا - أعني المفهوم المردد - لا وجود له في الخارج كما
حقق في محله، بل ليس الموجود الا كل فرد بنفسه وبذاته لا هو أو غيره، وهناك
قسم ثالث، وهو المفاهيم المبهمة غير المتعينة والمحددة وغير المرددة بحسب
221

حقيقتها، القابلة للانطباق على كل فرد محتمل، فهي من حيث الصدق تتلاءم
مع الترديد، وهي ثابتة في الخارج وتكون نسبتها إلى الافراد نسبة الطبيعي إلى
فرده، ومن هنا لم تكن من المفاهيم المرددة، إذ لا وجود لهذه في الخارج كما عرفت،
كما لم تكن من المفاهيم المبينة المعينة لابهامها، ويمكن الاستشهاد لوجود هذا
النوع من المفاهيم بما ينتزع عن رؤيا الشبح من بعيد من صورة اجمالية مبهمة
غير معينة قابلة للانطباق على كل فرد يحتمل ان يكونه الشبح فان هذه الصورة
ليست من المفاهيم المعينة كما لا يخفى، كما انها ليست بالمفهوم المردد لثبوتها
وجدانا وانطباقها على الخارج ضرورة وبلا كلام. فهي صورة مبهمة اجمالية. ثم إنه
لا يخفى ان دائرة الصدق تختلف سعة وضيقا باختلاف سعة الابهام وضيقه،
فكلما زاد الابهام وقلت جهات التعيين كانت دائرة الصدق أوسع وأشمل، وكلما
قل الابهام بكثرة القيود المعينة كانت دائرة صدق المفهوم المبهم أضيق.
فالمدعى في باب العبادات: ان اللفظ موضوع إلى جامع محصله، انه سنخ
عمل مبهم من جميع الجهات الا من جهة كونه ناهيا عن الفحشاء ونحوه،
فيصدق اللفظ بذلك على جميع مراتب العمل القليل منها والكثير من حيث
الأجزاء والشرائط. فإنه مضافا إلى الالتجاء إلى الالتزام به من القائل بالوضع
للصحيح - بعد عدم معقولية الجامع الحقيقي وعدم الوضع للجامع العنواني بما
عرفت -، هو المتبادر عرفا من لفظ الصلاة مثلا، فإنه إذا وقعت الصلاة في متعلق
الامر يتبادر منها عرفا تعلق الامر بسنخ عمل مبهم قابل للانطباق على مراتب
الصلاة وأنحائها.
كما أنه ليس عديم النظير في العرفيات، بل له في العرف نظير، كلفظ
الخمر.
فان الخمر فيه جهات كجهة اللون، وجهة المادة كاتخاذه من التمر أو
العنب، وجهة الرائحة وغيرها من الجهات التي يختلف افراد الخمر فيها. والمتبادر
من لفظ الخمر عند اطلاقه هو سنخ مائع مسكر لا أكثر، بحيث يكون من
الجهات الخاصة مبهما، فلذلك يقبل الانطباق على كل نحو من انحاء الخمر
وأصنافه.
222

وبالجملة: فيمكن الالتزام بثبوت جامع للافراد الصحيحة لا يكون
جامعا حقيقيا ولا عنوانيا، وهو ان يلتزم بأنه سنخ عمل مبهم يعرفه جهة نهيه
عن الفحشاء، وبذلك يقتصر في صدقه على خصوص الافراد الصحيحة ويكون
جامعا لها بخصوصها دون الأعم كما أن نظيره لفظ الدار والكلمة فتدبر.
هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) فيما يهم المقام وهو
بظاهره لا اشكال فيه ولا محذور في الالتزام به (1).
وأما ما جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي (حفظه الله) من الايراد
عليه:
أولا: من انكار الابهام في الماهيات الاعتبارية، وان للصلاة حقيقة متعينة
لدى مخترعها، بل لا يعقل دخول الابهام في تجوهر ذات الشئ فان الشئ في
مرتبة ذاته متعين، وانما الابهام يكون بلحاظ الطواري الخارجية، وعليه فالعمل
المبهم لا يمكن أن يكون جامعا ذاتيا، لعدم معقوليته، ولا عنوانيا لما عرفت من
نفيه.
وثانيا: من أن المقصود في تصوير الجامع تعيين المسمى المأخوذ في متعلق
الامر، وظاهر عدم كون الجامع المزبور متعلقا للامر، وانما متعلق الامر هو نفس
الاجزاء المتقيدة ببعض القيود. ومن هنا كان المتبادر عرفا كمية من الأجزاء والشرائط
المأخوذة في متعلق الامر، لا العمل المبهم الا من حيث كونه مطلوبا
كما يدعيه المحقق الأصفهاني.
وثالثا: بان المقصود بالنهي عن الفحشاء المأخوذ في هذا الجامع، ان كان
هو النهي الفعلي توقف ذلك على قصد القربة في المسمى لدخالته في فعلية النهي
عن الفحشاء، ولا يلتزم بدخوله القائل لامتناع أخذه في متعلق الامر. وان كان
النهي الاقتضائي كان ذلك أعم من الصحيح والفاسد، لان العمل الفاسد
بالنسبة إلى شخص فيه اقتضاء النهي عن الفحشاء، بحيث لو صدر من اهله
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 39 - الطبعة الأولى
223

كان مؤثرا فعلا (1).
ما جاء في التقريرات مما عرفت لا يرجع إلى محصل.
أما الأول: فقد عرفت وجود نحو ثالث من المفاهيم ليس من المفاهيم
المقولية ولا العنوانية، وهو مفهوم مركب، ولا مجال لانكاره بل نفس السيد
الخوئي يلتزم بنظيره في الجامع الأعمي. وعليه فلا دوران بين الجامع الحقيقي
والمقولي وبين الجامع العنواني، بل هناك شق ثالث وهو الجامع المبهم، وهو ينطبق
على الافراد انطباق الكلي على الفرد، نظير الصورة الناشئة من الشبح، إذ
ليست هي بصورة عنوانية ولا مقولية لعدم تميز الشبح كي يخترع له صورة
كذلك.
واما الثاني: فقد اتضح الاشكال فيه إذ بعد فرض انطباق هذا الجامع
على الافراد انطباق الكلي على الفرد، واتحاده معها خارجا، كان متعلق الامر في
الحقيقة هو الأجزاء والشرائط أما ما ذكره من كون المتبادر كمية من الأجزاء والشرائط
لا العمل المبهم، فهو عجيب إذ ما الفرق بين العمل المبهم وكمية من
الأجزاء والشرائط، كي ينكر تبادر الذهن إلى الأول ويثبت تبادره إلى الثاني؟ 1!.
واما الثالث: فلان المأخوذ هو النهي اقتضاء لا فعلا، لكن بنحو خاص،
وهو ما أشرنا إليه من أن الصحيح ما ترتب عليه الأثر لو انضم إليه قصد
القربة ونحوه من الشرائط التي لا يمكن أخذها في متعلق الامر، وعليه فينحصر
هذا الجامع بخصوص افراد الصحيح، لان الفاسد لا يترتب عليه الأثر ولو انضم
إليه قصد القربة وغيره، فلاحظ ما تقدم يتضح لك الحال واما ما ذكره في ضمن
كلامه من اشكال لزوم الترادف بين الصلاة والعمل المبهم. فيدفعه: ان المقصود
بالعمل المبهم ليس هو بمفهومه، بل هذا العنوان اخذ مشيرا إلى امر واقعي مبهم،
وهو عدة اجزاء فصاعدا القابل للانطباق على الكثير والقليل.
وبالجملة: فلا نعرف فيما افاده المحقق الأصفهاني وجها للاشكال،
فالمتعين الالتزام به.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 154 - الطبعة الأولى
224

ومن الغريب ان المحقق النائيني يلتزم به في الجامع الأعمي، ويدعي
بنفس الوقت استحالة تصوير الجامع على القول بالصحيح، مع أنه يمكن تأتي
نفس تصوير الأعمي على الصحيح بزيادة قيد يخص العمل المبهم
بالصحيح (1).
ثم إن المحقق العراقي صور الجامع بتصوير آخر، الا انه صرح بأنه انما
يلتزم به مع بعده عرفا، باعتبار الضرورة وانحصار التصوير الصحيح به - لاجل
انه لم يرتض تصويره بما ذكره المحقق الأصفهاني - وبما أنه قد عرفت تصوير
الجامع بنحو صحيح خال عن الاشكال وقريب عرفا، فلا حاجة إذا للتعرض
إلى ما ذكره المحقق العراقي بعد تصريحه نفسه بأنه كان من جهة الالتجاء.
فتدبر (2).
المقام الثاني: في ثبوت الجامع للأعم من الصحيح والفاسد، وقد صور
بوجوه ذكرها في الكفاية:
الوجه الأول: ما ينسب إلى المحقق القمي، من كونه خصوص الأركان،
واما باقي الأجزاء والشرائط فهي دخيلة في المأمور به لا في المسمى، بل المسمى
خصوص الأركان (3).
وناقشه في الكفاية بوجهين:
الأول: عدم اطراده وانعكاسه، إذ لازمه عدم صدق الصلاة على فاقد
ركن مع استجماعه لسائر الأجزاء والشرائط لعدم الموضوع له وهو مجموع
الأركان، وصدق الصلاة على فاقد جميع الأجزاء والشرائط سوى الأركان، مع أن
صدق الصلاة في الأول وعدم صدقه في الثاني مما لا ينكر عرفا.
الثاني: لزوم مجازية استعمال اللفظ في مجموع الأجزاء والشرائط، لان
* (هامش) (1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 43 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 80 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) المحقق القمي ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول 1 / 44 - الطبعة الأولى (*).
225

اللفظ موضوع إلى خصوص الأركان فاستعماله في المجموع واطلاقه على
الواجد لجميع الأجزاء والشرائط استعمال للفظ الموضوع للجزء في الكل وهو
مجاز (1).
وناقشه المحقق النائيني (رحمه الله) بما حاصله: ان الدعوى المذكورة
تنحل إلى دعويين: إحداهما: الوضع للأركان. الثانية: عدم دخول سائر الأجزاء والشرائط
في الموضوع له.
اما الدعوى الأولى فيردها: كون المراد بالأركان جميع مراتبها بحسب
اختلاف الموارد من القادر والعاجز والغريق ونحوهم، فلا بد على هذا من تصوير
جامع للأركان بجميع مراتبها ليكون هو الموضوع له، فيرجع الاشكال.
واما الدعوى الثانية فيردها: انه اما ان يلتزم بخروج سائر الأجزاء والشرائط
مطلقا ودائما، واما ان يلتزم بخروجها عند عدمها.
فالأول: ينافي الوضع للأعم وكون المسمى ما يصدق على الصحيح
والفاسد، إذ لازمه عدم صدق اللفظ على الصحيح.
والثاني: يلزمه أن يكون شئ واحد داخلا في الماهية عند وجوده وخارجا
عنها عند عدمه. وهو محال (2).
ومن مجموع ما ذكر يظهر وهن هذا الوجه لتصوير الجامع.
الوجه الثاني: ما ينسب إلى المشهور من كون الجامع والموضوع له هو
معظم الاجزاء.
وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين:
الأول: ما أورده ثانيا على الوجه الأول، من لزوم المجازية في استعمال
اللفظ في الكل.
الثاني: - ما ذكرناه توضيحا لعبارة الكفاية، إذ لم يتعرض للشق الأول،
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 25 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 41 - الطبعة الأولى
226

ولعله للمفروغية عن عدم الوضع له ولا ادعاء الوضع له، وانما المنظور واقع
المعظم. فلاحظ. - ان الموضوع له اما أن يكون مفهوم معظم الاجزاء أو واقعه.
فان قيل إنه المفهوم، فيرده انه يستلزم الترادف بين لفظ الصلاة ولفظ معظم
الاجزاء، وبطلانه واضح. وان قيل إنه واقع المعظم وحقيقته، فيرده ان معظم
الاجزاء لا تعين له بكمية معينة من الاجزاء، بل يختلف باختلاف الحالات
والافراد، وعليه فيلزم التبادل في الماهية والمسمى وأن يكون شئ واحد داخلا
فيه تارة وخارجا أخرى. بل يلزم التردد في تعيين الداخل والخارج عند اجتماع
جميع الأجزاء والشرائط، إذ لا معين لدخول أحدها دون الاخر، فكل جزء يصلح
أن يكون دخيلا في المعظم (1).
وبعين هذا الايراد أورد المحقق النائيني على الوجه المذكور، لكنه صحح
كون الجامع هو المعظم بنحو آخر سنشير إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى (2).
الوجه الثالث: ان يلتزم بكون وضع ألفاظ العبادات كوضع الاعلام
الشخصية كزيد، فكما لا يضر في التسمية في باب الاعلام تبادل الحالات المختلفة
من الصغر والكبر والصحة والمرض والنوم واليقظة وغيرها ونقص بعض الاجزاء
وزيادته، بل يكون الاسم صادقا بنحو واحد في جميع هذه الأحوال، كذلك الحال
في ألفاظ العبادات فلا يضر في صدق الاسم اختلاف الحال وزيادة الاجزاء
ونقصها.
وناقش فيه صاحب الكفاية بثبوت الفرق بين المقامين، وان الموضوع له
في باب الاعلام أمر معين محفوظ في جميع الحالات، دون باب العبادات، بيان
ذلك: ان الموضوع له العلم هو الشخص، ولا يخفى ان التشخيص يكون
بالوجود الخاص، فما دام الوجود باقيا كان الشخص باقيا وان تغيرت عوارض
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 26 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 42 - الطبعة الأولى
227

الوجود من زيادة ونقصان وغيرهما من الحالات، فالموضوع له وهو الشخص أمر
ثابت محفوظ في جميع هذه الحالات، صدق الاسم لصدق المسمى دائما، وليس
الامر كذلك في ما نحن فيه، لاختلاف المركبات بحسب الحالات فلا بد من أن
يفرض ما يجمع الشتات كي يوضع اللفظ بإزائه، وهو ما نحن بصدده الآن (3).
لكن الذي يؤاخذ به صاحب الكفاية، هو ان وضع العلم اما أن يكون
بإزاء الوجود أو بإزاء الشخص - أعني العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها
بالوجود -. فإن كان الموضوع له هو الشخص، فاما أن يكون مفهوم الشخص
أو واقعه ومصداقه.
فالأول: ممنوع، إذ لازمه الترادف بين لفظ (زيد) مثلا ومفهوم الشخص
وفساده ظاهر.
والثاني، يره: أن الشخص اما ان تلحظ فيه عوارضه الخارجية بحيث
كانت دخيلة في الموضوع له أو لا تلحظ، بل كانت خارجة عنه.
فعلى الثاني: يلزم أن يكون صدق اللفظ على الشخص بخصوصيته مجازا
لعدم وضع اللفظ له.
وعلى الأول: يسأل عن مقدار العوارض الملحوظة ونحوها، وهل هي
بعض معين كي يلزم عدم الصدق مع انتفائها أو غير معين، بل الكل، فما هو
الجامع؟.
وان كان الموضوع له هو الوجود، فلا بد من عدم إرادة الوجود المطلق
غير الله تعالى شئ، لان الوجود المطلق هو الله تعالى، بل المراد وجود شئ
معين، فيقع السؤال عن ذلك المضاف إليه الوجود ما هو؟ فهل هو المبهم الخاص،
فيلزم عدم الصدق مع نقصه أو تغير حاله، أو الأعم، فما هو؟ وما هو الجامع؟.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 26 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
228

وبالجملة: لا يظهر لما ذكره صاحب الكفاية محصل.
واما ما قيل: من أن الموضوع له العلم هو النفس المتعلقة بالبدن،
وتشخص البدن ووحدته محفوظ بوحدة النفس وتشخصها، إذ المعتبر مع النفس
مطلق البدن، بتقريب فلسفي ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية
لا داعي إلى ذكره (1).
فهو لو تحقق في محله وبلحاظ القواعد الفلسفية لا يمكننا الالتزام به،
لان ذلك المعنى مما لم تدركه افهام بعض الاعلام - كما يقول الأصفهاني - فكيف
يلتفت إليه أقل العوام ذهنا، لان وضع الاعلام يصدر من العوام ذهنا، لان وضع الاعلام يصدر من العوام والجهلة. فلا بد
ان يلتزم بكون الوضع فيها لمعنى مبهم الا من جهة امتيازه عن سائر المعاني،
وهي التشخص الخاص، كما قرره المحقق الأصفهاني في الجامع الصحيحي.
الوجه الرابع: ان الموضوع له ابتداء هو الصحيح التام الواجد لجميع
الأجزاء والشرائط، الا ان العرف يتسامحون - كما هو شأنهم - فيطلقون اللفظ
على الفاقد تنزيلا له منزلة الواجد، بل يمكن ان يدعى صيرورة اللفظ حقيقة
فيه بالاستعمال دفعة أو دفعات للانس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو
المشاركة في الأثر، نظير أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لمركبات خاصة بحدود
معينة، فإنه يصح اطلاقها على فاقد بعض الاجزاء أو حقيقة للمشابهة
أو المشاركة.
وقد ناقش صاحب الكفاية بمثل ما أوردنا به على اختيار المحقق النائيني
في التزامه بالوضع للمرتبة العليا، وحاصله: وجود الفرق بين المقيس والمقيس
عليه، فان الصحيح التام في أسماء المعاجين معلوم الحد والمقدار، فيمكن الوضع
بإزائه واستعمال اللفظ في الفاقد منه بلحاظه. وليس الصحيح في العبادات معلوم
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 48 - الطبعة الأولى
229

الحد لاختلاف مراتب الصحة وافراد كل مرتبة بحسب اختلاف الحالات، فلا بد
من فرض جامع بينهما يوضع بإزائه اللفظ (1).
الوجه الخامس: أن يكون حالها حال أسماء المقادير والأوزان، فإنها
حقيقة في الزائد والناقص في الجملة، اما بوضع الواضع أو بكثرة الاستعمال في
الأعم.
والمناقشة فيه واضحة، إذ الصحيح الذي يحاول فرض لحاظ الزيادة
والنقصان بالإضافة إليه يختلف في باب العبادات كما عرفت دون باب المقادير
والأوزان.
وعلى كل، فنفس التقريب والايراد عليه واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
والذي تلخص عدم تمامية الوجوه المذكورة لتصوير الجامع بين افراد
الأعم.
وقد حاول السيد الخوئي (دام ظله) ان يصحح اخذ الأركان جامعا وان
تكون هي الموضوع له، فقد جاء في تقريرات الفياض بعد ذكر كلام المحقق
القمي والمحقق النائيني وصاحب الكفاية، ما نصه: (والصحيح هو ما افاده
المحقق القمي (رحمه الله)، ولا يرد عليه شئ من هذه الايرادات أما الايراد
الأول - يريد به الايراد من المحقق النائيني باستلزامه أخذ الاجزاء الأخرى في
الموضوع له عند وجودها، وعدم اخذها عند عدمها، باستلزامه لدخول شئ في
الماهية تارة وخروجه عنها أخرى -، فلان فيه خلطا بين المركبات الحقيقية
والمركبات الاعتبارية، فان المركبات الحقيقية التي تتركب من جنس وفصل ومادة
وصورة، ولكل واحد من الجزئين جهة افتقار بالإضافة إلى الاخر، لا يعقل فيها
تبديل الاجزاء بغيرها، ولا الاختلاف فيها كما وكيفا،... فما ذكره (قدس سره)
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 27 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
230

تام في المركبات الحقيقة ولا مناص عنه، واما المركبات الاعتبارية التي تتركب
من امرين مختلفين أو أزيد وليس بين الجزئين جهة اتحاد حقيقة ولا افتقار ولا
ارتباط، بل إن كل واحد مهما موجود مستقل على حياله ومبائن للاخر في
التحصل والفعلية، والوحدة العارضة عليهما اعتبارية لاستحالة التركب الحقيقي
بين امرين أو أمور متحصلة بالفعل، فلا يتم فيها ما افاده (قدس سره)، ولا مانع
من كون شئ واحد داخلا فيها عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه.
وقد مثلنا لذلك في الدورة السابقة بلفظ ال‍ (دار)، فإنه موضوع لمعنى
مركب، وهو ما اشتمل على حيطان وساحة وغرفة، وهي اجزاؤها الرئيسية، ومقومة
لصدق عنوانها، فحينئذ ان كان لها سرداب أو بئر أو حوض أو نحو ذلك فهو
من اجزائها وداخلة في مسمى لفظها وإلا فلا.
وبالجملة: فقد لاحظ الواضع في مقام تسمية لفظ الدار معنى مركبا
من اجزاء معينة خاصة، وهي الحيطان والساحة والغرفة، فهي أركانها ولم يلحظ
فيها موادا معينة وشكلا خاصا من الاشكال الهندسية، واما بالإضافة إلى الزائد
عنها فهي مأخوذة لا بشرط، بمعنى ان الزائد على تقدير وجوده داخل في
المسمى، وعلى تقدير عدمه خارج عنه، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على
القليل والكثير والزائد والناقص على نسق واحد...
وبتعبير آخر: ان المركبات الاعتبارية على نحوين: أحدهما: ما لوحظ
فيه كثرة معينة من جانب القلة والكثرة، وله حد خاص من الطرفين كالاعداد،
فان الخمسة - مثلا - مركبة من اعداد معينة بحيث لو زاد عليها واحد أو نقص
بطل الصدق لا محالة. وثانيهما: ما لوحظ فيه اجزاء معينة من جانب القلة
فقط وله حد خاص من هذا الطرف، واما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد
أخذ لا بشرط، وذلك مثل الكلمة والكلام والدار وأمثال ذلك، فان فيها ما أخذ
مقوما للمركب، وما اخذ المركب بالإضافة إليه لا بشرط، ومن الظاهر أن اعتبار
231

اللا بشرطية في المعنى كما يمكن أن يكون باعتبار الصدق الخارجي كذلك يمكن
أن يكون باعتبار دخول الزائد في المركب، كما أنه لا مانع من أن يكون المقوم
للامر الاعتباري أحد أمور على سبيل البدل. وقد مثلنا لذلك في الدورة السالفة
بلفظ الحلوى، فإنه موضوع للمركب المطبوخ من سكر وغيره، سواء كان ذلك
الغير دقيق أرز أو حنطة أو غير ذلك.
ولما كانت ال‍ (صلاة) من الأمور الاعتبارية فإنك عرفت انها مركبة من
مقولات متعددة، كمقولة الوضع ومقولة الكيف ونحوها، وقد برهن في محله ان
المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات فلا تندرج تحت مقولة واحدة،
لاستحالة تحقق الاتحاد الحقيقي بين مقولتين، بل لا يمكن بين افراد مقولة واحدة
فما ظنك بالمقولات، فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعدا.
والوجه في ذلك: هو ان معنى كل مركب اعتباري لا بد ان يعرف من قبل مخترعه
سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره، وعليه فقد استفدنا من
النصوص الكثيرة ان حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان الصلاة مدارها
وجودا وعدما، عبارة عن التكبير والركوع والسجود والطهارة من الحدث، على
ما سنتكلم به عن قريب انشاء الله تعالى. واما بقية الأجزاء والشرائط، فهي عند
وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضر بصدقه، وهذا معنى
كون الأركان مأخوذة لا بشرط بالقياس إلى الزائد. وقد عرفت أنه لا مانع من
الالتزام بذلك في الماهيات الاعتبارية، وكم له من نظير. وإن شئت فقل: ان المركبات الاعتبارية أمرها سعة وضيقا بيد معتبرها، فقد يعتبر التركيب بين
أمرين أو أمور بشرط لا كما في الاعداد. وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا
بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد كما هو الحال في كثير من تلك المركبات،
فالصلاة من هذا القبيل فإنها موضوعة للأركان فصاعدا، ومما يدل على ذلك هو
ان طلاقها على جميع مراتبها المختلفة كما وكيفا على نسق واحد بلا لحاظ عناية
232

في شئ منها، فلو كانت الصلاة موضوعة للأركان بشرط لا لم يصح اطلاقها على
الواجد لتمام الأجزاء والشرائط بلا عناية، مع انا نرى وجدانا عدم الفرق بين
اطلاقها على الواجد واطلاقها على الفاقد. وقد تلخص من ذلك: ان دخول
شئ واحد في ماهية مركبة مرة وخروجه عنها مرة أخرى، انما يكون مستحيلا في
الماهيات الحقيقية دون المركبات الاعتبارية. وعلى ضوء ذلك قد ظهر الجواب عن
الايراد الثاني أيضا يريد به الايراد على القائل - وهو المحقق النائيني - بالحاجة
إلى جامع الأركان بخصوصها -، فان لفظ ال‍ (صلاة) موضوع لمعنى وسيع جامع
لجميع مراتب الأركان على اختلافها كما وكيفا، وله عرض عريض فباعتباره
يصدق على الناقص والتام والقليل والكثير على نحو واحد، كصدق كلمة (الدار)
على جميع افرادها المختلفة زيادة ونقيصة كما وكيفا، إذا لا نحتاج إلى تصوير جامع
بين الأركان ليعود الاشكال. وبتعبير واضح: ان الأركان وان كانت تختلف
باختلاف حالات المكلفين كما أفاده شيخنا الأستاذ - قدس سره - الا انه لا
يضر بما ذكرناه من أن لفظ الصلاة موضوع بإزاء الأركان بعرضها العريض،
ولا يوجب علينا تصوير جامع بين مراتبها المتفاوتة، فإنه موضوع لها كذلك على
سبيل البدل، وقد عرفت أنه لا مانع من أن يكون مقوم المركب الاعتباري أحد
الأمور على سبيل البدل... فما ذكرناه أمر على طبق المرتكزات العرفية في أكثر
المركبات الاعتبارية) (1).
والكلام معه في نقطتين:
إحداهما: ما التزم به من جواز فرض بعض الاجزاء دخيلا في المسمى
حال وجوده وغير دخيل حال عدمه. فإنه عجيب. وذلك لأنه يقتضي ان الوضع
انما يتحقق لسائر الاجزاء، وأن العلقة بينها وبين اللفظ انما تحدث بعد وجودها،
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 159 - 162 - الطبعة الأولى
233

لأنها انما تكون جزء المسمى والموضوع له بعد وجودها، ولا يلتزم بذلك - أعني
كون حدوث العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى حال وجوده خارجا - أحد حتى
القائل المزبور، لان العلقة بين اللفظ وطبيعي المعنى، سواء وجد أم لم يوجد، بل
سواء أمكن وجوده أم لم يمكن. ولا يفترق الحال في ذلك بين المركبات الاعتبارية
وغيرها. هذا مع أنه خلاف ما صرح به في بعض الموارد من عدم الوضع للموجود
بما هو موجود، بل للمفهوم والطبيعي.
ثانيتهما: ما التزم به من عدم لزوم فرض جامع بين الأركان، لجواز كون
مقوم الامر الاعتباري أحد الأمور على سبيل البدل. فإنه بظاهره غريب جدا،
لان الفرد على البدل مفهوما غير مراد لهذا القائل جزما، إذ لا ترادف بين معنى
اللفظ ومفهوم أحدهما على البدل، والفرد على البدل مصداقا لا وجود له ولا تقرر
حتى يكون مقوما (للمسمى) للمركب وموضوعا له اللفظ. فيمتنع أن يكون
المسمى هو أحدها على البدل، إذ لا وجود له، فلا ينطبق على الافراد الخارجية
المفروض صدق اللفظ عليها.
نعم لو كان المقصود - ما لا يظهر منه - ان المسمى معنى جامع بين سائر
الأركان وسائر الاجزاء، بحيث يصدق على الافراد المتبادلة بنحو البدل، لا انه
أحد هذه الافراد على البدل، كان وجيها لكنه يرجع إلى ما التزم به المحقق
الأصفهاني من كون الجامع معنى مبهم قابل للصدق على القليل والكثير، ووافقه
عليه المحقق النائيني فيرد عليه:
أولا: أنه لا يصلح ايرادا على المحقق النائيني لتوافقهما في المدعى.
وثانيا: إن عليه ان يلتزم بمثله في الافراد الصحيحة، لأنه نفاه بدعوى
انحصار الجامع في الجامع المقولي والعنواني. والأول غير معقول. والثاني لم يوضع
له اللفظ جزما، فيرد عليه مثله ههنا، فإذا فرض انه تصور ههنا نحو ثالث
للجامع، وهو الجامع المبهم الزم به في الصحيح، ومما ذكرنا يظهر: ان ما أورده من
234

الأمثلة كلفظ الدار والكلام والحلوى وانها موضوعة لمعنى معين اخذ لا بشرط
بمعنى دخول غيره في المسمى لو وجد غير وجيه، لان الكلام في هذه الموارد
ونظائرها عين الكلام في الصلاة، ولا نلتزم بان الموضوع له فيها معنى معين أخذ
لا بشرط بالمعنى الذي يذكره لهذا الاصطلاح، بل الموضوع له فيها معنى مبهم
من جميع الجهات لا بعضها قابل للانطباق على الكثير والقليل.
واما ما ساقه دليلا على كون الموضوع له الأركان من النص الدال على أن
الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود، بضميمة ما دل
على تقوم الصلاة بالتكبير، فهو مما لا يمكن الالتزام به لوجوه:
الأول: ان تصدي الإمام (ع) لبيان الموضوع له لفظ الصلاة بعد مدة
طويلة من ظهور الاسلام، وايجاب الصلاة على المسلمين، وخلو سائر النصوص
عن ذلك، مما لا نتصور له اثرا عمليا، فلو نسلم ظهوره في ذلك فلا بد من صرفه
إلى جهة أخرى.
الثاني: ان ظهور كلام المعصوم (عليه السلام) في كون بصدد التشريع،
ينافي حمله على بيان الموضوع له لفظ الصلاة، إذ لا يترتب على هذه الثلاثة
بمجموعها اي حكم شرعي.
الثالث: منافاة هذا النص للنصوص الظاهرة في مغايرة الطهارة للصلاة،
كالنصوص الدالة على أنه إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور، فإنه
لا يصح هذا العطف لو كان الطهور جزءا للصلاة، فإنه نظير ان يقال: يجب
الركوع، والصلاة.
الرابع: انه لو كان مفاد النص: ان الصلاة عبارة عن
الطهور والركوع والسجود حقيقة، كان ذلك منافيا - لا محالة - لدخالة التكبير
فيها. فإذا وجد ما يدل على دخالة التكبير فيها كان ذلك مصادما لظهور النص
في التثليث مباشرة، فإنه - حينئذ - لا تكون الصلاة ثلاثة أثلاث، بل أربعة أرباع
235

. فيعلم منه: عدم إرادة المعنى المذكور من النص، وأنه لا بد من حمله على بيان
أهمية الأمور الثلاثة في الصلاة، وكونها العمدة من اجزائه، فكأنها هي هي. فتدبر.
وبعد هذا كله يتضح انه لا يمكن تصوير الجامع بنحو يكون معقولا
وخاليا عن المحذور ثبوتا واثباتا، الا ما التزم به المحقق الأصفهاني ووافقه عليه
المحقق النائيني، من كونه سنخ عمل مبهم الا من بعض الجهات، وهو قابل
للانطباق على الكثير والقليل، وتكون نسبته إلى الافراد نسبة الكلي إلى افراده
والطبيعي إلى مصاديقه، وقد مر توضيحه في المقام الأول فلا نعيد.
الامر الرابع: في بيان الثمرة العلمية لهذا النزاع. وقد ذكر له ثمرات
عديدة.
منها: امكان التمسك بالاطلاق على القول بالأعم، وعدم امكانه على
القول بالصحيح. بيان ذلك: ان شرط التمسك باطلاق اللفظ في مورد الشك هو
احراز صدق اللفظ بمعناه على المورد المشكوك فيه، بحيث يكون الشك في أخذ
خصوصية زائدة على أصل المعنى في موضوع الحكم المانع من ثبوت الحكم للفرد
المشكوك فيه، فيتمسك باطلاق اللفظ في نفي الخصوصية، ويثبت الحكم لمورد
الشك، نظير ما لو ورد: (أكرم العالم) وشك في ثبوت الحكم للعالم النحوي للشك
في اخذ العالم الفقيه في موضوعه، جاز التمسك باطلاق (العالم) لنفي أخذ
الخصوصية، فيثبت الحكم للنحوي المحرز كونه عالما.
أما مع عدم احراز صدق اللفظ بمعناه على الفرد المشكوك فلا وجه
للتمسك بالاطلاق في اثبات الحكم له، إذ ليس الشك في خصوصية زائدة كي
تنفى بالاطلاق، بل الخصوصية المشكوك فيها على تقدير دخلها، فهي مقومة
لمعنى المطلق وثبوته في الفرد المشكوك فيه، فلو تمسك بالاطلاق واثبت ان المراد
هو المعنى المطلق غير المقيد، لم يثبت بذلك ثبوت الحكم للفرد المشكوك فيه، إذ
لا يعلم انه من أفراد المطلق أصلا.
236

وبعد هذا نقول: انه لما لم يكن صدق العنوان المطلق على الفرد المشكوك
فيه، مع الشك في اعتبار جزء أو شرط محرزا على القول بالوضع للصحيح، لان
كل ما يفرض دخله في المأمور به فهو دخيل في المسمى، فالشك في اعتبار جزء
مساوق للشك في تحقق المسمى بدونه، إذ على تقدير اعتباره واقعا يكون دخيلا
في المسمى. فلا يجدي التمسك بالاطلاق عند الشك في اعتبار جزء أو شرط في
المأمور به، إذ نفي اعتباره لا يجدي في ثبوت الحكم للمشكوك فيه للشك في صدق
عنوان المطلق عليه، فشرط التمسك بالاطلاق غير محرز على القول الصحيحي،
وهو احراز صدق المطلق على المشكوك فيه، فليمكن التمسك به. وهذا بخلاف
القول بالوضع للأعم، إذ صدق اللفظ على المشكوك فيه مع التمسك في إعتبار
جزء محرز، إذ المفروض انه يصدق على الأعم من الصحيح والفاسد فعلى تقدير
دخالة الجزء المشكوك فيه واقعا في المأمور به كان العنوان صادقا على فاقده بلا
كلام. فالتمسك بالاطلاق في نفي الخصوصية الزائدة المشكوك فيها يجدي
في اثبات الحكم للمشكوك فيه، لأنه من أفراد المطلق على كل حال، كانت
الخصوصية ثابتة واقعا أو لم تكن. نعم ينبغي أن يكون الجزء المشكوك فيه مما لا
يكون مقوما للموضوع له حتى على القول بالأعم - كما لو كان المشكوك فيه
على تقدير دخالته ركنا للصلاة، فإنه دخيل في المسمى على القول بالوضع للأركان
-، والا تساوى القولان الأعمي والصحيحي في عدم امكان التمسك بالاطلاق.
ثم إن ما ذكرناه لا يعني فعلية التمسك بالاطلاق عند الشك على القول
الأعمي، بل هو لا يقتضي الا قابلية المورد للتمسك بالاطلاق، فإذا تمت مقدمات
التمسك به من كون المتكلم في مقام البيان وعدم البيان، صح التمسك به فعلا.
وعليه، فلا وجه للايراد على هذه الثمرة ونفيها، بأنه لا يتمسك بالاطلاق،
سواء قلنا بالأعم أم بالصحيح، لعدم وجود مورد من موارد استعمال اللفظ يكون
المولى فيه في مقام البيان، فلا يصح التمسك بالاطلاق حتى على القول بالأعم
237

لاشتراط كون المتكلم في مقام البيان في صحة التمسك بالاطلاق.
أو بما يقرره المحقق العراقي: بان النصوص الواردة بين ما ليس في مقام
البيان وما هو في مقام بيان الأجزاء والشرائط ببيانها بخصوصياتها. فالأول لا
يصح التمسك باطلاقه حتى على القول بالأعم، والثاني يصح التمسك باطلاقه
حتى على القول بالصحيح، لأنه إذا علم أن المولى في مقام بيان ما هو دخيل في
المأمور به فسكوته عن المشكوك فيه دليل على عدم ارادته، إذ ارادته وعدم بيانه
خلف فرض كونه في مقام بيان جميع ما له الدخل (1).
وجه عدم توجه الايراد: ما أشرنا إليه من أن المفروض في الثمرة امكان
التمسك بالاطلاق، لا فعليته، فعدم فعلية التمسك لعدم تمامية بعض مقدمات
الحكمة لا ينفي امكان التمسك وقابلية المورد في نفسه - لا فعلا - للتمسك
بالاطلاق فيه. واما ما ذكره المحقق العراقي من امكان التمسك بالاطلاق على
الصحيح في مورد بيان الأجزاء والشرائط، فهو لا ينفي ما ذكرناه، إذ الثمرة هي
عدم امكان التمسك بالاطلاق اللفظي على الصحيح، وما يتمسك به في نفي
دخالة المشكوك في المورد المفروض هو الاطلاق المقامي وهو غير المنفي.
نعم الايراد المزبور صالح لنفي عملية الثمرة وكونها علمية محضة، لا نفي
أصل الثمرة فلاحظ.
ثم إن هناك وجها آخر ذكر لنفي الثمرة المزبورة، بيانه:
ان اللفظ وان كان ينطبق على الصحيح والفاسد على القول بالوضع
للأعم، الا ان المأمور به خصوص الصحيح، ومعه لا يصح التمسك بالاطلاق
على هذا القول عند الشك، وذلك: لان تقييد المراد الجدي كتقييد المراد
الاستعمالي، وظهور اللفظ مانع من التمسك بالمطلق مع الشك في دخوله في المقيد
.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 96 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
238

أو غيره، فكما انه إذا قيد المراد الاستعمالي بالصحيح وقيل: (ائت بالصلاة
الصحيحة) وشك في دخالة جزء في المأمور به يمتنع التمسك بالاطلاق، لعدم
احراز كون الفاقد صحيحا، لان الجزء على تقدير اعتباره دخيل في الصحة كما
لا يخفى، فلا يحرز صدق المطلق على المشكوك فيه، كذلك إذا قيد المراد الجدي
دون المراد الاستعمالي، بان كان اللفظ مطلقا، لكن قيد المراد الحقيقي منه
بخصوص الصحيح، وعلم أنه لا يراد منه غير الصحيح، فمع الشك في اعتبار
جزء لا يصح التمسك بالاطلاق، لأنه انما يتمسك به في المورد الذي يحرز كون
المراد الجدي على طبقه، والمفروض انه لا يعلم كون المراد الجدي على طبق
المطلق الا في خصوص الصحيح، فلا بد من احراز كون الفرد المشكوك فيه
صحيحا كي يتمسك باطلاق اللفظ فيه، والفرض انه لا يحرز صدق الصحيح
على الفاقد للجزء المشكوك اعتباره، فلا يصح التمسك بالاطلاق.
وعليه، فنحن نعلم بحكم العقل ان المأمور به ليس إلا الفرد الصحيح
وان كان اللفظ في لسان الدليل أعم من الصحيح والفاسد، إذ الشارع لا يأمر
بالفاسد، فلا يسعنا - مع هذا - التمسك باطلاق اللفظ عند الشك في اعتبار جزء
أو شرط بالتقريب الذي ذكرناه.
وبكلمة واحدة: يكون التمسك بالاطلاق في مورد الشك بعد احراز
تقييده بالصحيح من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية وهو ممنوع.
وقد اختلف كلمات الاعلام في الإجابة عن هذا الايراد وقد قيل في رده
وجوه:
الأول: انه لا مانع من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية، إذا كان
المقيد لبيا لا لفظيا.
وهو غير وجيه، إذ التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في المقيد اللبي
لا يلتزم به الا بعض قليل من الاعلام، والمفروض ان المشهور يتمسكون
239

بالاطلاق في مورد الشك، وهو ينافي التزام الأكثر بعدم جواز التمسك بالمطلق في
الشبهة المصداقية. فلا بد من جواب آخر.
الثاني: - وهو ما جاء في تقريرات بحث العراقي - ان الصحة على
الصحيح قيد من قيود المعنى المأمور به، فهي دخيلة في قوام المعنى، ولهذا لا
يصح التمسك بالاطلاق. واما على الأعم فهي غير دخيلة في قوام المعنى المأمور
به، وانما تعلق الامر بشئ مشروط بأمور أخرى، فإذا أتى المكلف بالمأمور به
على وجهه المعين له شرعا ينتزع العقل من المأتي به انه صحيح لمطابقته للمأمور
به، فالصحة على الصحيح متقدمة رتبة على الامر، وعلى الأعم متأخرة رتبة على
الامر، وفي مثله يصح التمسك بالاطلاق لتقدم موضوعه.
وأورد عليه في التقريرات: بان الصحة على الصحيح لم تؤخذ قيدا
للموضوع له أو للمستعمل فيه، لا على نحو دخول القيد والتقييد ولا على نحو
دخول التقييد فقط، بل الموضوع له أو المستعمل فيه هي الحصة المقارنة للصحة،
والمأمور به على الأعم أيضا تلك الحصة، لاستحالة الامر بالفاسد واستحالة
الاهمال في متعلق إرادة الطالب. فلا فرق في متعلق الامر بين القول بالصحيح
والقول بالأعم الا بالوضع لخصوص الحصة المقارنة للصحة على الأول، وعدم
الوضع لخصوصها على الثاني، وفي مثل هذا الفرق لا اثر له في جواز التمسك
بالاطلاق وعدمه (1).
الثالث: ما ذكره الشيخ في الرسائل، وسيأتي بيانه.
والتحقيق ان يقال: - بعد فرض كون المراد بالصحة ترتب الأثر كما تقدم
دون غيرها من المعاني - ان ما ذكر من مانعية تقييد المراد الجدي عن التمسك
بالمطلق في مورد الشك مسلم. كمانعية تقييد المراد الاستعمالي، ولا كلام فيه لما
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 130 - الطبعة الأولى
240

تقدم من تقريبه.
الا انه يمكن الالتزام في ما نحن فيه بما يتفق مع التقييد في النتيجة بلا
تقييد المراد الجدي أصلا، وعليه فلا يجري فيه الحكم.
بيان ذلك: ان للصلاة فردين: أحدهما يترتب عليه الأثر. والاخر لا
يترتب عليه الأثر، وكل منهما عبارة عن كمية خاصة من الأجزاء والشرائط، وقد
علمنا بان الامر انما تعلق بالكمية الخاصة التي يترتب عليها الأثر، ولكن بلا أن يكون
ترتب الأثر ملحوظا في مقام تعلق الامر ومأخوذا في المأمور به، وذلك لان
ترتب الأثر على الكمية المعينة في نفس المولى أمر تكويني قهري، فلا يكون
المورد قابلا للاطلاق والتقييد، إذ الاطلاق والتقييد انما يكونان في المورد الذي
يمكن فيه اخذ القيد وعدم أخذه، فيقال: ان المراد الجدي اما أن يكون مطلقا
أو مقيدا لامتناع الاهمال من حيث القيد. اما المورد الذي لا يقبل التقييد
لقهرية حصول القيد فلا يجري فيه ما ذكر، إذ عدم الاطلاق والتقييد لا يستلزم
الاهمال لثبوت القيد لا محالة بلا توقف على لحاظه واخذه.
وعليه، فالمأمور به ليس إلا الكمية الخاصة الملازمة لترتب الأثر، بحيث
تكون جهة ترتب الأثر جهة معرفة للمأمور به لا دخيلة فيه. والمراد الجدي انما
هو مقدار معين في نفس المولى من الأجزاء والشرائط، فإذا تردد المراد الجدي بين
الأقل والأكثر وانه الاجزاء التسعة أو العشرة، وكان هناك ظهور يعين لنا مقداره
كان التمسك به متعينا، كما فيما نحن فيه. لان لفظ الصلاة على الأعم يصدق
على الأقل والأكثر فهو ظاهر فيهما، فإذا تردد المراد الجدي من هذا الظاهر -
إذ الفرض حصول العلم بكون المراد الجدي منه كمية معينة من الأجزاء والشرائط
والتردد في مقدارها وانه الأقل أو الأكثر - أمكن التمسك بظهوره
الاطلاقي في تعيين المراد الجدي وانه الأقل دون الأكثر لعدم القرينة عليه، كما
هو شأن كل ظاهر حيث إنه تحقق بناء العقلاء على كشف المراد الجدي بظاهر
241

الكلام، ولا يأتي هذا الكلام على القول بالصحيح، لان اللفظ موضوع لتلك
الحصة المعينة واقعا المرددة عندنا، فهو ظاهر في تلك الحصة ولم يعلم انها الأقل
كي يتمسك بظهوره فيه في تعيين المراد الجدي، بل يكون مجملا من جهة الأقل والأكثر
. بخلاف القول بالأعم، إذ اللفظ ظاهر في الأقل، فيعين انه المراد الجدي
بالظهور.
وبالجملة: ليس ما نحن فيه - على ما ذكرناه - من باب التمسك بالعام
بعد احراز المراد الجدي منه في الشبهة المصداقية كي يمنع ذلك، بل من باب
التمسك بظهور المطلق في الاطلاق في احراز المراد الجدي وهو لا محذور فيه،
ويفترق الحال فيه بين القول بالصحيح والأعم كما عرفت.
ويمكن ان يقرب الجواب بنحو آخر وهو: انه لا اشكال في أن الامر لم
يتعلق بذات الصلاة وماهيتها المطلقة من كل قيد وشرط، بل تعلق بها مقيدة
ببعض الأجزاء والشرائط، وقد علمنا بحكم العقل عدم تعلق الامر إلا بما يترتب
عليه الأثر. ونحتمل أن يكون ما يترتب عليه الأثر هو خصوص الكمية المعلومة
فعلا دون الأكثر منها ولا نعلم بأنها الكمية الأكثر ودخل بعض الاجزاء في ترتب
الأثر.
وعليه، فلا يعلم بان المراد الجدي، وهو خصوص الأجزاء والشرائط
المعلومة، مقيد أصلا، لاحتمال أنه هو الذي يترتب عليه الأثر بلا دخل لشئ
آخر فيه.
وعليه، فلا مانع من التمسك باطلاق اللفظ في نفي القيد الزائد وكون
المقدار المعلوم هو المأمور به لعدم البيان - نظير ما لو قال: (أكرم جيراني)
وعلمت بأنه لا يريد إكرام أعدائه، ولكن لم اعلم بوجود عدو له من جيرانه، بل
يحتمل أن يكون الجميع غير أعداء له، فبذلك لا أعلم بتقييد المراد الجدي من
العام وهو: (الجيران). وعليه فيمكن التمسك باطلاقه في اثبات وجوب اكرام من
242

يحتمل عداؤه من جيرانه -. ولا يتأتى ذلك على القول بالصحيح، إذ المفروض
ان اللفظ موضوع للحصة الملازمة لترتب الأثر، فمع احتمال عدم كون هذه
الحصة المعلوم تعلق الامر بها مما يترتب عليها الأثر بخصوصها، بل تتوقف على
تحقق الجزء المشكوك لا يمكن التمسك باطلاق اللفظ لعدم احراز صدقه على
المشكوك.
وبهذا البيان يرتفع الاشكال الذي لا أعلم من تصدى لحله بنحو يرتفع
به الايراد من الاعلام.
ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأنصاري في جوابه عن الاشكال حيث
قال: (ودفعه يظهر مما ذكرناه: من أن الصلاة لم تقيد بمفهوم الصحيحة وهو
الجامع لجميع الأجزاء والشرائط، وانما قيدت بما علم من الأدلة الخارجية اعتباره،
فالعلم بعدم إرادة الفاسدة يراد به العلم بعدم إرادة هذه المصاديق الفاقدة للأمور
التي دل الدليل على تقييد الصلاة بها، لا ان مفهوم الفاسدة خرج عن المطلق
وبقي مفهوم الصحيحة، فكلما شك في صدق الصحيحة والفاسدة وجب الرجوع
إلى الاحتياط لاحراز مفهوم الصحيحة...) (1). إذ لا يظهر له وجه وجيه غير ما
ذكرناه فلاحظ وتدبر.
هذا، ولكن الانصاف ان الوجهين المذكورين لا يخلوان عن بحث،
فالعمدة في الجواب ان يقال: ان الحكم العقلي بعدم تعلق الامر الا بالصحيح بمعنى
واجد الملاك والمصلحة لا ينافي دليل تعلق الامر بالعمل كي يكون مقيدا له
ببعض حصصه، إذ التقييد فرع المنافاة بين الدليلين بنحو لا يمكن اجتماعهما.
وذلك لان دليل الامر بالعمل يدل بالملازمة على ثبوت الملاك في الفعل، فيكون
بجميع افراده صحيحا واجدا للملاك. وبذلك تكون نسبة دليل الامر إلى الحكم
.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 281 - الطبعة الحجرية
243

العقلي نسبة الوارد إلى المورود وموجبا لارتفاع موضوعه.
وبالجملة، لا يكون الحكم العقلي المزبور موجبا لاخراج بعض افراد
دليل الامر، إذ لا يقتضي ذلك أصلا، فتدبر تعرف.
الرابع: ما ذكره المحقق الخوئي من: ان هذا الايراد يبتني على أخذ
الصحة الفعلية التي هي منتزعة عن انطباق المأمور به على المأتي به خارجا، وهي
غير مأخوذة قطعا، بل لا يعقل أخذها - لما تقدم منه -، وانما المأخوذ في المأمور
به الصحة الاقتضائية التي هي الصحة بمعنى تمامية الأجزاء والشرائط، وعليه
فيفترق الحال بين القول بالصحيح والقول بالأعم، إذ لا يحرز صدق اللفظ على
الفاقد الجزء المشكوك اعتباره بناء على الصحيح فيمتنع التمسك بالاطلاق.
بخلافه على القول بالأعم، إذ صدقه على الفاقد محرز فيكون الشك في أمر زائد
لا في أصل تحقق المعنى كما هو على القول بالصحيح -. وعليه فلا مانع من
التمسك بالاطلاق في اثبات كون المأمور به هو الطبيعي الجامع بين الفاقد
والواجد (1).
وأنت خبير بان هذا تقرير لأصل الثمرة وليس جوابا على الايراد الموجه
عليها وحلا للاشكال فيها. فان المستشكل يعلم بصدق الصلاة على الفاقد بناء
على الأعم، إلا أنه لا يرى صحة الاخذ بظهور الكلام الاطلاقي لتقييد المراد
الجدي بالصحيح، فلا يكون ما ذكر جوابا، بل هو تقرير لموضوع الاشكال.
واما ما ذكره المحقق النائيني في دفع الاشكال من: ان المأمور به أو قيده
البسيط على الصحيح مشكوك الصدق على الفاقد كما عرفت، فلا يمكن معه
التمسك بالاطلاق، بخلافه على الأعم فان المأمور به على هذا ليس إلا نفس
الأجزاء والشرائط، والصحة ليست إلا منتزعة عن كون الشئ موافقا للمأمور
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 181 - الطبعة الأولى
244

به، فالصحة متأخرة عن تعلق الامر ويستحيل أخذها في المأمور به (1).
ففيه: انه لا يخلو عن غرابة، لان الصحة لا تختلف حقيقتها على القول
بالصحيح أو بالأعم، فكيف يفرض تعلق الامر بالعمل بوصف الصحة على
القول بالصحيح واستحالة ذلك على القول بالأعم لتأخر وصف الصحة عن
الامر رتبة؟ فلاحظ.
فالذي ينبغي ان يقال في الجواب ما عرفت.
وبذلك يظهر: ان الايراد على الثمرة ينحصر بالوجه الأول، وهو انها
ثمرة غير عملية بل علمية محضة، وهو لا يكفي في تحرير المسألة الأصولية فان
المقصود بها مقام الاستنباط والعمل.
وقد تصدى السيد الخوئي لدفع هذا الايراد باثبات كون الثمرة عملية
بإنكار دعوى عدم وجود المطلق في الكتاب والسنة الوارد مورد البيان، وأن
دعوى ذلك رجم بالغيب، إذ قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم) (2)، وارد مورد البيان، فيكون موردا للثمرة المزبورة، إذ المفهوم
من كلمة الصيام عرفا كف النفس عن الأكل والشرب وهو المعنى اللغوي، وهو
بهذا المعنى ثابت في الشرائع السابقة، وهو وان اختلف بكيفيته باختلاف
الشرائع، لكن الاختلاف يرجع إلى الخارج عن ماهية الصيام، بل قد يعتبر فيه
كما في الشرع الاسلامي الكف عن بعض القيود الاخر، كالجماع والارتماس
وغيرهما. فإذا شك في اعتبار شئ قيدا أمكن التمسك بالاطلاق في نفيه كما
يتمسك باطلاق قوله تعالى: (أحل الله البيع) (3) مع الشك في اعتبار شئ في
المعاملة البيعية. ومثل قوله تعالى ما في السنة من الروايات الموردة مورد البيان
.

(1) المحقق الخوئي أسيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 46 - الطبعة الأولى.
(2) سورة البقرة: الآية: 183.
(3) سورة البقرة: الآية: 275
245

كقوله (عليه السلام) في التشهد: (يتشهد) (1) فان مقتضى اطلاقه نفي الخصوصيات الزائدة على أصل الشهادة مع الشك في اعتبارها (2).
ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به..
اما الآية الشريفة: فلا نسلم ورودها مورد البيان، بل هي واردة لبيان
أصل الوجوب وبيان اشتراك المكلفين به فعلا مع غيرهم ممن سبقهم، وانه ليس
تكليفا مختصا بهم تخفيفا لوطئة التكليف على نفوسهم، فوزانه وزان قوله تعالى:
(أقيموا الصلاة) (3) وقوله: (وآتوا الزكاة) (4) ونحوهما. والاستشهاد بقوله
تعالى: (أحل الله البيع) في غير محله، إذ لم نلتزم في محله بأنه في مقام البيان كما
هو ظاهر، إذ هو في مقام التفرقة بين البيع والربا في الحكم وان الأول حلال
والثاني حرام ردا على من ادعى الفرق والتسوية بينهما في الحكم. فلاحظ
الآية تعرف.
مضافا إلى أنه لا يمكن الاستشهاد بآية: (كتب عليكم الصيام..) في
اثبات الثمرة العملية، حتى لو كانت واردة في مقام البيان. إذ التمسك باطلاقها
ممكن على القول بالصحيح. وذلك لان الصوم - على القول بالصحيح - لا بد ان
يلحظ فيه جميع ما له دخل فيه من اجزاء وشرائط. ولما كنا نسلم بان الواجب في
شريعتنا يختلف عما كان هو الواجب في الشرائع السابقة ولو قيدا، وقد قرر في
الآية ثبوته علينا كثبوته في السابق، فيعلم ان المراد من الصيام في الآية غير
الصوم الصحيح، إذ لا يتلائم مع القول بالاختلاف.
وعليه، فيمكن التمسك بالاطلاق فيها ولو قيل بالصحيح، لعدم ارادته
.

(1) وسائل الشيعة 4 / باب: 13 من أبواب التشهد، حديث: 1 و 2 و 3 و 4.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 178 - الطبعة الأولى.
(3) سورة المزمل: الآية: 20
(4) سورة المزمل: الآية: 20
246

من اللفظ المانع من الثمرة. فالثمرة لا تظهر في المقام فلا يصلح نقضا على انكار
وجود المورد للثمرة.
واما الرواية: فلا تصلح شاهدا على ما يقول، إلا بناء على شمول النزاع
المزبور لاجزاء العبادة وعدم اختصاصه بنفس العبادة. وهو فاسد، إذ لا ملزم له
بل يمكن الالتزام بالوضع اللغوي لها من دون تغيير، كما هو ظاهر في مثل
التشهد، فان اطلاق لفظ التشهد على ذكر الشهادتين انما كان بالوضع اللغوي
لا الشرعي كما لا يخفى.
منها: جريان البراءة عند الشك في جزئية شئ أو شرطيته على القول
الأعمي دون القول الصحيحي، بل لا بد من الاحتياط.
بيان ذلك: انه إذا دار الامر بين الأقل والأكثر بان علم اجمالا بكون
المأمور به اما الاجزاء الخمسة أو الستة، فهل يكون المورد من موارد البراءة أو
الاحتياط؟.
قيل: بجريان الاحتياط للعلم الاجمالي المنجز الموجب للاحتياط بقاعدة
الاشتغال التي تقتضي لزوم اليقين بالامتثال، وهو لا يحصل الا بالاحتياط
بالاتيان بالأكثر.
وقيل: بالبراءة بدعوى انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب
الأقل - وهو الخمسة - وشك بدوي في وجوب الزائد فيكون مورد البراءة. ثم إن
دعوى الانحلال تارة تكون في حكم العقل. وأخرى في حكم الشرع. وليس
محل تحقيقه هنا.
وانما المهم ان نقول: ان الثمرة المدعاة مترتبة على القول بالانحلال،
بمعنى: انه بعد تسليم الانحلال وعدم العلم الاجمالي المنجز الموجب للاحتياط،
يدور الامر في الالتزام بالبراءة والاشتغال، مدار القول بالوضع للصحيح والأعم،
فان قلنا بالوضع للصحيح كان المتعين هو قاعدة الاشتغال. وان قلنا بالوضع
247

للأعم كان المتعين هو قاعدة البراءة.
وذلك ببيان: ان مرجع الشك في الزائد على القول بالصحيح إلى الشك
في محقق المأمور به ومحصله، لان المأمور به ليس هو نفس الأجزاء والشرائط، بل
امر يتحقق بها ويحصل، والشك في المحقق والمحصل مورد الاشتغال للعلم
بالتكليف والشك في الفراغ. ومرجع الشك على القول بالأعم إلى الشك في
المأمور به، لان المأمور به عين الأجزاء والشرائط فيرجع الشك في الجزء الزائد إلى
الشك في تعلق الامر به وهو مورد البراءة.
وبتقرير أوضح: ان العنوان المأخوذ في متعلق الامر..
تارة: تكون نسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة الكلي إلى الفرد ويكون
وجوده بوجودها، بحيث يكون وجودها وجوده بلا انحياز له عنها أصلا في الخارج
لاتحادهما حقيقة، ولذلك يصدق على الأجزاء والشرائط ويحمل عليها.
وأخرى: تكون نسبته إلى الأجزاء والشرائط نسبة المسبب إلى السبب،
فلا يكون وجودها وجوده، بل لكل منهما وجود مستقل عن الاخر لكن أحدهما
المعين يحقق الاخر فلا يصلح لان يكون عنوانا للاجزاء والشرائط، كما لا يصلح
أن يكون المعلول عنوانا للعلة، وذلك نظير ما يقال في الطهارة بالنسبة إلى
الوضوء، فإنها عنوان بسيط يتحقق بالوضوء طهارة ولا للطهارة
وضوء.
فالشك في جزء زائد على الأول يرجع إلى الشك في المأمور به، لان المأمور
به حقيقة هو الأجزاء والشرائط، فيكون مورد البراءة لكون الشك شكا في
التكليف.
واما على الثاني، فالشك يرجع إلى المحقق والمحصل، إذ المأمور به امر
معلوم متقرر في نفسه والاجزاء والشرائط سبب وعلة لوجوده، فالشك فيها شك
في محقق المأمور به وهو مورد الاشتغال والاحتياط، إذ بترك المشكوك يشك في
248

الفراغ الذي يحكم العقل بلزوم إحرازه.
وهناك نحو ثالث من العناوين يشابه النحو الأول في كون نسبته إلى
الأجزاء والشرائط نسبة العنوان إلى المعنون والطبيعي إلى مصداقه، ويختلف عن
النحو الثاني في هذه الجهة، لكنه يشابهه ويختلف عن النحو الأول في عدم اتحاده
حقيقة مع الأجزاء والشرائط، وعدم اتحاده ذاتا معها، بل هي من محققاته وسبب
لوجوده، فهو عنوان بسيط مسبب عنها، نظير عنوان الوفاء بالنذر فإنه ينطبق
على واقع الوفاء، وهو أداء المال لزيد المنذور، انطباق الكلي على فرده، لكنه غير
متحد مع أداء المال لزيد ذاتا وحقيقة، بل بالأداء يتحقق عنوان الوفاء ويحصل.
ومثله: عنوان الناهي عن الفحشاء في الصلاة فإنه غير الأجزاء والشرائط حقيقة
وذاتا. وهكذا عنوان الدار لو قلنا بأنه موضوع لما يسكن، فان ما يسكن عنوان
ينطبق على الغرف والساحة والحيطان لكنه يختلف عنها في ذاته وحقيقته.
وهذا النحو:
تارة: لا يكون تشكيكا، بمعنى انه لا ينطبق على القليل والكثير ولا
بتحقق بهما، بل انما يتحقق بمجموع الأجزاء والشرائط، كعنوان الناهي عن
الفحشاء، فإنه لا يتحقق إلا بتحقق جميع الأجزاء والشرائط.
وأخرى: يكون تشكيكيا يتحقق بالأقل والأكثر وينطبق عليهما بنحو
واحد، كالدار فان عنوان ما يسكن يتحقق بغرفة وساحة وحيطان فقط، ويتحقق
بغرف وساحات وسرداب وغيرها من الاجزاء، وينطبق على الثاني كما ينطبق على
الأول.
فعلى الأول: لو شك في دخل جزء أو شرط في المأمور به يكون الشك في
المحقق، إذ يشك في تحقق العنوان البسيط بالخمسة أو بخصوص الستة، فيكون
المورد من موارد الاشتغال.
وعلى الثاني: يكون الشك في المأمور به لتحقق العنوان بالأقل، فيكون
249

الشك في الزائد شكا في التكليف الزائد وهو مورد البراءة.
فالشك على الأول مورد الاشتغال. وعلى الثاني مورد البراءة.
وفي حكم هذا العنوان: ما إذا تعلق الامر بنفس الأجزاء والشرائط ولكن
مقيدة بالأمر البسيط، ولم يتعلق بنفس العنوان المنتزع بان تعلق الامر بالحصة
المتقيدة بتحقق الامر البسيط، كما لو تعلق الامر بالاجزاء والشرائط التي تنهى
عن الفحشاء ويترتب عليها النهي عن الفحشاء. فإنه مع الشك في اعتبار جزء
أو شرط يشك مع عدم اتيانه في حصول التقيد بالأمر البسيط للشك في تحققه
نفسه. وبعبارة أخرى: المأمور به هو المقيد، وبدون الاتيان بالمشكوك لا يحرز
تحقق المقيد بما هو كذلك، فيكون من الشك في المحصل، وهو مورد قاعدة
الاشتغال.
نعم إذا كان الامر البسيط المأخوذ قيدا من الأمور التشكيكية الحاصلة
ببعض الأجزاء والشرائط، لم يكن الشك في المورد شكا في المحصل لاحراز تحقق
المقيد وانما الشك في تعلق الامر بجزء أو شرط زائد فالأصل البراءة لأنه شك في
التكليف.
بعد وضوح هذا الامر نقول: انه لو التزم بان الجامع على القول
بالصحيح جامع بسيط حقيقي ذاتي مقولي كما التزم به صاحب الكفاية (رحمه
الله) (1)، كان مورد دوران الامر بين الأقل والأكثر من موارد أصالة البراءة لا
الاشتغال، لاتحاد المأمور به - وهو الجامع - مع الأجزاء والشرائط ذاتا ووجودا،
فهي في الحقيقة المأمور به، فيكون الشك في الأكثر شكا في التكليف.
وهكذا لو التزم بأنه جامع مركب يعرفه النهي عن الفحشاء لا مقيد به
وهو الجامع المبهم، لأنه متحد مع الافراد وجودا وحقيقة ومنطبق عليها انطباق
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 25 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
250

الكلي على الفرد كما عرفت، فيكون الشك فيها شكا في المأمور به.
واما لو التزم بأنه جامع بسيط عرضي عنواني منتزع عن الذات بلحاظ
ترتب أثر خاص عليها كعنوان الناهي عن الفحشاء، فالشك في اعتبار جزء شك
في تحقق العنوان البسيط بدونه، إذ هو ليس تشكيكيا، بل ينطبق على المجموع
ويحصل به، فيكون المورد من موارد الاشتغال بلا كلام، إذ المأمور به امر معلوم
والشك في حصوله.
ومثله لو التزمنا بان المأمور به في باب الصلاة والجامع هو الأجزاء والشرائط
مقيدة بحصول النهي عن الفحشاء كما عرفت.
وبالجملة: بناء على كون الجامع الصحيحي جامعا بسيطا مقوليا أو مركبا
مبهما يعرفه النهي عن الفحشاء، يكون الشك في الأقل والأكثر من موارد البراءة.
وبناء على كونه جامعا بسيطا عنوانيا أو مركبا مقيدا بالنهي عن الفحشاء يكون
مورد الشك في الأقل والأكثر من موارد الاشتغال.
والمحقق النائيني (قدس سره) لما لم يتصور جامعا يوضع له اللفظ ويتعلق
به الامر على القول الصحيحي، إلا بأحد النحوين الأخيرين - أعني الجامع
البسيط العنواني، والمركب المقيد بالنهي عن الفحشاء - جعل مما يترتب على
القول بالصحيح هو الالتزام بعدم جريان البراءة عند الشك في الجزئية أو
الشرطية وجريان قاعدة الاشتغال.
ولما كان الجامع المفروض للأعم - بأي نحو كان - مما يتحد مع الاجزاء
حقيقة كان مما يترتب على القول بالأعم هو الالتزام بالبراءة عند الشك في
الجزئية أو الشرطية، لان الشك في نفس المأمور به.
فجعل (رحمه الله) ثمرة النزاع هو جريان البراءة على الأعمي،
والاشتغال على الصحيحي (1).
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 45 - الطبعة الأولى
251

ولا يرد على المحقق النائيني في فرضه هذه الثمرة شيئا، إذ لا اشكال فيها
بناء على ما التزم به من عدم امكان فرض جامع للصحيح يتعلق به الامر الا
بأحد ذينك النحوين، وعدم جريان البراءة مع الالتزام بأحدهما لا ينكر.
لكن الايراد على أصل المبنى لا البناء إذ عرفت امكان تصوير جامع
مركب بنحو مبهم يعرفه النهي عن الفحشاء ولا يكون قيدا له.
وعليه، تجري البراءة عند الشك في الجزئية.
والمتحصل: ان الثمرة مما قررها المرحوم النائيني (رحمه الله)
لالتزامه بما يستلزمها، ما قد عرفته، وهي بمقدار كونها ثمرة مبنائية لا اشكال
فيها، الا ان الاشكال في المبنى كما عرفت.
ومن هنا يظهر انه لا وجه لما جاء في تقريرات الفياض من انكار فرض
الثمرة على المحقق النائيني (قدس سره) بدعوى: ان الجامع الصحيحي اما ان
يفرض من الماهيات المتأصلة المركبة أو البسيطة أو من الماهيات الاعتبارية،
والبراءة تجري عند الشك في الجزئية أو الشرطية على جميع التقادير. اما على
تقدير كونه جامعا حقيقيا بسيطا، فلانه متحد مع افراده خارجا، فالامر به أمر
بها، فالشك فيها شك في المأمور به كما سبق تقريبه. واما على تقدير كونه جامعا
مركبا، فلانه عين الأجزاء والشرائط، فالاجزاء والشرائط تكون بنفسها متعلقة
للامر. فيرجع الشك في اعتبار جزء زائد إلى الشك في التكليف. واما على تقدير
كونه جامعا انتزاعيا عنوانيا، فلان الامر الانتزاعي ليس له ما بإزاء في الخارج
فلا يصح تعلق الامر به، وانما الامر متعلق في الحقيقة بمنشأ انتزاعه وهو نفس
الأجزاء والشرائط، فيكون الشك في الجزئية شكا في المأمور به والتكليف (1).
فان ما ذكر غير وجيه لوجهين:
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 171 - الطبعة الأولى
252

الأول: ان الجامع المركب لا يمكن جعله هو نفس الأجزاء والشرائط
بذاتها، إذ كل مقدار يفرض يمكن وقوعه صحيحا وفاسدا، بل لا بد من تقييدها
بجهة بسيطة كالنهي عن الفحشاء.
ومعه لا مجال لجريان البراءة عند الشك في الجزئية لرجوعه إلى الشك في
المحصل، وقد صرح المحقق النائيني بما ذكرناه، فاغفاله عجيب.
الثاني: ان الامر الانتزاعي وإن لم يكن له وجود في الخارج وكان الموجود
منشأ انتزاعه، إلا أنه من الواضح ان منشأ انتزاع عنوان (الناهي عن الفحشاء)
ليس نفس الأجزاء والشرائط بلحاظها ذاتها، بل بلحاظ ترتب النهي عن
الفحشاء عليها، إذ العناوين الانتزاعية انما تنتزع عن الذات بلحاظ تلبسها
بوصف أو جهة تصحح انتزاع العنوان عنها، فعنوان العالم والقائم انما ينتزع عقلا
عن الذات بلحاظ اتصافها بوصف العلم أو القيام، لا بلحاظها نفسها، والا
لصح انتزاع العنوان المذكور من جميع الذوات حتى ممن لم يتلبس بالعلم أو القيام
وبطلانه واضح.
وعليه، فالمأمور به - لو سلم انه لا يكون نفس العنوان بل المعنون - هو
الأجزاء والشرائط مقيدة بالنهي عن الفحشاء التي هي جهة الانتزاع، ومعه
يكون مورد الشك في الجزئية من موارد الاشتغال لرجوعه إلى الشك في المحصل
كما عرفت. هذا مع أن ترتب الحكم على العناوين الانتزاعية كثير بحيث لا يلتزم
بإناطته بمنشأ الانتزاع، ولذا لا يلتزمون باجداء الأصل الجاري في منشأ
الانتزاع في ترتب الحكم المعلق في لسان الدليل، على العنوان الانتزاعي كعنوان
الفوت في القضاء، و عنوان الوفاء في النذر، ونحو ذلك.
نعم، على تقدير كون الجامع حقيقيا بسيطا يكون المورد من موارد
البراءة، لكن المحقق النائيني لا يلتزم بأصل التقدير كما عرفت.
والخلاصة: انه عرفت فعلا ان لهذا المبحث ثمرتين:
253

إحداهما: امكان التمسك بالاطلاق وعدمه.
والأخرى: جريان البراءة وعدمه.
وكلتاهما ثمرتان مهمتان تصححان تحرير مثل هذا البحث وتنقيح أحد
قوليه.
اما الثانية: فواضح لما عرفت من ترتبها على بعض تقادير الصحيحي،
ويكفي في ثمرة البحث ترتبها ولو على بعض التقادير. وهي ثمرة عملية كما لا
يخفى.
واما الأولى: فهي وان تقدم الاشكال فيها من جهة عدم كونها عملية
لعدم المورد لها، الا ان التحقيق ان ذلك لا ينفي كونها ثمرة مهمة، وذلك فان
الفقيه لا يستغني عن تنقيح هذا المبحث للوصول إلى نتجته المزبورة، إذ قد يرى
بعض المطلقات واردة في مقام البيان كما ادعي في آية: (كتب عليكم الصيام)،
وعدم العثور فعلا على مثل ذلك لا ينفي ما ذكرنا، إذ قد يتبدل نظر الفقيه
فيرى أن هذا المطلق في مقام البيان بعد أن لم يكن يرى ذلك. أو قد يختلف
الفقهاء في نظرهم فيرى أحدهم بخلاف ما يرى الاخر في هذا الموضوع. وعليه
فيتوقف استنباطه من معرفة جواز التمسك بالاطلاق وعدم جوازه، وهو يتوقف
على تحقيق أحد قولي المسألة، فتدبر.
نعم الايراد على الثمرة بأنها ليست ثمرة للمسألة الأصولية، لان ثمرتها
لا بد ان تكون استنباط حكم فرعي كلي - على رأي - أو رفع التحير الحاصل للمكلف
في الحكم بلا واسطة - على المختار - كما أشرنا إلى ذلك في تحقيق ضابط المسألة
الأصولية، وهذه المسألة ليست كذلك، إذ لا يترتب عليها الاستنباط مباشرة، بل
لا تقع في طريق الاستنباط، لان مسألة جواز التمسك بالاطلاق وعدمه مسألة
أصولية بنفسها، كما أنه لا يرتفع بها التحير إلا بواسطة المسألة الأصولية أعني
جواز التمسك بالاطلاق وعدمه.
254

وبالجملة: ما يترتب على المسألة ليس مسألة فقهية بل مسألة أصولية وهو
ليس بثمرة للمسألة الأصولية، والكلام بنفسه يجري بالنسبة إلى ترتب جريان
البراءة وعدمه، لأنه من المسائل الأصولية التي يتوصل فيها إلى حكم شرعي أو
إلى رفع الحيرة في مقام العمل.
والايراد بذلك له وجه - كما عرفت تقريبه، وقد ذكرنا ذلك في مبحث
ضابط المسألة الأصولية فراجع -. الا انه لا يعني نفي الثمرة وكون البحث أشبه
بالعلمي منه بالعملي، بل غاية ما ينفى أصولية المسألة وكونها من المبادي، وهو
غير نفي ثمرة المسألة من حيث العمل، فلاحظ.
ومنها: مسألة النذر، كما لو نذر شخص بان يعطي درهما لمن صلى، فإنه
بناء على الصحيح لا يحصل الوفاء بالنذر الا باعطاء الدرهم لمن صلى صلاة
صحيحة. وبناء على الأعم يحصل الوفاء بالنذر باعطاء الدرهم لمن صلى مطلقا
ولو صلاة فاسدة.
وأورد على هذه الثمرة بوجهين:
الأول: ان الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر دون ما تلفظ به، فان قصد من
الصلاة خصوص الصلاة الصحيحة لم يحصل الوفاء الا باعطاء الدرهم لمن صلى
صلاة صحيحة ولو قلنا بالأعم. وان قصد الأعم من الصلاة الصحيحة والفاسدة
يحصل الوفاء باعطاء الدرهم لمطلق المصلي ولو كانت صلاته فاسدة وان قلنا
بالصحيح. فلا يبتني تحديد موضوع وجوب الوفاء وانه الضيق أو الواسع على
البحث المتقدم بل على معرفة قصد الناذر.
الثاني: انه لو سلم ابتناء معرفة موضوع وجوب الوفاء على البحث
المذكور، لا انه لا يتناسب مع المسألة الأصولية، لان ذلك أجنبي عن الاستنباط
المأخوذ في ثمرة المسألة الأصولية، إذ هو يرتبط بتنقيح موضوع الحكم وتطبيقه
على موارده، وذلك ليس من شأن الأصولية بل أي مسألة علمية ولو كانت
255

من المبادئ.
ولكن التحقيق يقضي بعدم ورود كلا الوجهين:
اما الأول: فلانه وان كان موضوع وجوب الوفاء بالنذر يتبع قصد الناذر
سعة وضيقا، الا انه إنما يجدي في نفي الثمرة فيما لو تعلق قصده بمعنى معين
حاضر في ذهنه من الصحيح أو الأعم - كما فرض في الايراد -، اما إذا قصد
اعطاء الدرهم لمن جاء بمسمى الصلاة عرفا ولمن جاء بما يصدق عليه اسم
الصلاة في العرف، كانت سعة موضوع الحكم وضيقه دائرة مدار تحقيق ان
الموضوع له عرفا لفظ الصلاة هل هو الأعم أو خصوص الصحيح؟. فترتب
الثمرة المذكورة بلا اشكال. ونظيره في باب المعاملات ما يقال في ما لو باع مالك
النصف المشاع النصف بلا تعيين انه المشاع أو المفرز - إذ تختلف النتيجة على
الحالين -، من انه لا عبرة بلفظ انشائه، بل العبرة بقصده وترتيب الأثر عليه، فإن كان
قاصدا بيع النصف المشاع أخذ به، وان كان قاصدا بيع النصف المفرز كان
المبيع نصفه المشاع لأنه يملك نصفه بنحو الإشاعة، ويجاب عنه في محله: بأن
مورد التردد ما لو لم يقصد نصفا معينا من المشاع أو المفرز وانما قصد بيع ما يدل
عليه لفظ النصف وما هو ظاهر فيه عرفا، فيقع التردد في أن الظاهر عرفا بحسب
حاله هل هو بيع النصف المشاع أو المفرز؟.
واما الثاني: فلانه وان اشتهر في العبارات وعلى الألسن حتى بلغ
المسلمات التي لا يشكك فيها أحد، الا انه الذي يقرب إلى الذهن عدم تماميته
وانه لا يخلو عن مغالطة، وذلك لان مرجع الشك في أن موضوع الحكم هل هو
الأعم أو خصوص الصحيح إلى الشك في التعيين والتخيير، فتعيين أحد الطرفين
في المسألة التزام بأحد شقي الشك من التعيين والتخيير، وهو يرجع إلى
الاستنباط. بيان ذلك: انه إذا ورد دليل يدل على وجوب التيمم على الصعيد،
وتردد الموضوع له لفظ الصعيد بين أن يكون خصوص التراب أو الأعم منه ومن
256

الجص، فان مرجع التردد المذكور إلى التردد في أنه هل يتعين على المكلف التيمم
بالتراب أو يتخير فيه بين التراب والجص. فإذا كان هناك مبحث يعين المراد من
الصعيد وانه خصوص التراب، فإنه يترتب على معرفة تعيين كون الملحوظ في
موضوع الحكم هو خصوص التراب. أو أنه الأعم من التراب والجص فيترتب
عليه الحكم بالتخيير وان التيمم يكون بالتراب أو الجص.
وبعبارة أخرى: ان التردد في معنى الصعيد يرجع إلى التردد في أن
الملحوظ في موضوع الحكم هو خصوص التراب أو التراب والجص مخيرا.
فتعيين معنى الصعيد يترتب عليه استفادة تعلق الحكم بخصوص التراب أو
بأحدهما مخيرا. وما نحن فيه كذلك، فان التردد في معنى الصلاة يرجع إلى التردد
في التعيين والتخيير في الحكم بوجوب الوفاء، فتعيين معنى الصلاة يستفاد منه
أحد النحوين في الحكم، إما تعيين الوفاء باعطاء الدرهم لمن صلى صحيحا أو
التخيير فيه باعطاء مطلق المصلي ولو فاسدا. وهذا حكم شرعي وليس هو مجرد
تطبيق للحكم على موضوعه كي يكون أجنبيا عن الاستنباط.
وبعبارة واضحة: يكون حال المسألة بالنسبة إلى النذر وتعيين أحد
الطرفين من التعيين والتخيير حال مسألة الأصل الجاري في مورد الشك في
التعيين والتخيير وتعيين أحدهما، فكما أن مسألة تعيين الأصل في مورد الشك بين
التعيين والتخيير من المسائل الأصولية بلحاظ ما يترتب عليها من الأثر كذلك
مسألة الصحيح والأعم، إذ حال الالتزام بالصحيح أو الأعم حال الأصل العملي
أو الدليل الاجتهادي القائم على التعيين أو التخيير.
نعم، يكون الاشكال في أصولية المسألة من جهة أخرى، وهي انها مختصة
بباب النذر ونحوه ولا تعم أبواب الفقه، نظير قاعدة الطهارة، إذ قد تقدم
اشتراط سريان نتيجة المسألة في جميع أبواب الفقه في أصولية المسألة.
هذا كله مضافا إلى امكان دعوى عدم الحاجة إلى ترتب ثمرة المسألة
257

الأصولية على مسألة الصحيح والأعم، إذ لم يلتزم بنحو متسالم عليه بأصوليتها،
بل يمكن دعوى كونها من المبادئ، ولذلك تذكر في مباحث المقدمة والتعرض
إليها بخصوصها باعتبار عدم البحث فيها في غير مكان.
وعليه، فيكفي في صحة البحث فيها ترتب أثر فقهي عليها ولو كان في
مورد خاص، إذ ذلك يرفع لغويتها، وهو ثابت في مسألة النذر ولو كان من باب
التطبيق بلا كلام.
منها: فيما ورد من النهي عن الصلاة وبحذائه امرأة تصلي، فإنه بناء على
الصحيح يختص المنع عن الصلاة بصلاة المرأة الصحيحة، فإذا كانت صلاتها
فاسدة لا تمنع من صحة صلاة الرجل. واما بناء على الأعم فيكون المانع من
صحة صلاة الرجل الأعم من الصلاة الصحيحة التي تؤديها المرأة أو الفاسدة.
وقد أورد على هذه الثمرة: بعدم كونها ثمرة للمسألة الأصولية لأنها ترجع
إلى تطبيق الحكم الثابت على موضوعه بتنقيح موضوعه وتعيينه، وذلك أجنبي
عن مقام الاستنباط.
وقد اتضح الجواب عن هذا الايراد بما تقدم:
أولا: من انه يكفي مجرد الترتب الأثر الفقهي على المسألة ولو لم يكن
بأثر المسألة الأصولية، لعدم الالتزام بأصولية المسألة.
وثانيا: بان الأثر المترتب أثر المسألة الأصولية، لأنه يعين أحد طرفي
الشك من التعيين والتخيير، فلاحظ.
وبعد كل هذا يقع الكلام في تعيين الموضوع له وأنه الصحيح أو الأعم
منه ومن الفاسد، وإقامة البرهان على ذلك.
ولا يخفى ان من يلتزم بثبوت الجامع بين خصوص الافراد الصحيحة
وعدم إمكانه بين الأعم كالمحقق صاحب الكفاية (1). أو بثبوته بين افراد
* (هامش) (1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 24 - 25 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع) (*).
258

الأعم دون خصوص الافراد الصحيحة كالمحقق النائيني (1). - بعد التنزل عن
دعواه في الموضوع له السابقة -، في راحة عن الاستدلال لكلا الطرفين
بل حدهما، إذ عدم امكان تصور الجامع على الطرف الاخر كاف في نفيه وتعيين
الوضع للطرف الذي أمكن تصوير الجامع بين افراده وهو الصحيح على رأي
صاحب الكفاية والأعم على رأي المحقق النائيني، بلا حاجة لإقامة الدليل على
الوضع له، لان عدم امكان تصور الجامع يلزمه عدم امكان الوضع له ثبوتا.
فلا تصل النوبة إلى مرحلة الاثبات، فالذي يحتاج إلى إقامة الدليل على الوضع
لأحدهما اما الصحيح أو الأعم من يلتزم بامكان تصوير الجامع على كلا القولين
كالمحقق الأصفهاني (2)، الذي تابعناه على رأيه، لامكان كل منهما إثباتا، فتعين
أحدهما يحتاج إلى دليل معين.
وقد ذكر صاحب الكفاية أدلة الطرفين واليك بيانها مع توضيح ما يحتاج
إلى توضيح:
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 40 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 40 - الطبعة الأولى
259

أدلة القول بالصحيح
الأول: تبادر الصحيح من اللفظ وهو علامة الحقيقة.
الثاني: صحة سلب اللفظ عن الفاسد بالحمل الشائع الصناعي بنحو الدقة، مما يكشف عن عدم كونه من افراد الموضوع له الكاشف عن عدم الوضع
للأعم والوضع لخصوص الصحيح، والا لما صح سلبه.
الثالث: الروايات الظاهرة في تحقق الوضع للصحيح، وهي على طائفتين:
إحداهما: ما مفادها إثبات بعض الآثار للمسميات، وهي لا تترتب على
غير الصحيحة، مثل ما ورد من: (ان الصلاة عمود الدين)، أو: (انها تنهى
عن الفحشاء والمنكر)، ونحوهما (1).
والأخرى: ما مفادها نفي الطبيعة والماهية بمجرد انتفاء جزء أو شرط
نظير: (لا صلاة إلا بطهور) و: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (2)، ولو كان
الموضوع له لفظ الصلاة هو الأعم لم يلزم انتفاء الطبيعة بانتفاء أحد اجزائها
وشرائطها، إذ لا يلزم بانتفائه إلا انتفاء الصحة وهو لا يلازم انتفاء الطبيعة بعد أن
كانت تنطبق على الفاسدة.
ودعوى: إرادة نفي الصحة أو الصلاة الصحيحة في هذه الطائفة والصلاة
الصحيحة من الطائفة الأولى باعتبار شيوع مثل هذا الاستعمال في نفي الكمال
لا الحقيقة أو الصحة، نظير ما ورد من انه: (لا صلاة لجار المسجد إلا في
المسجد) (3).
.

(1) الكافي 3 / 99 باب النفساء الحديث 4.
(2) غوالي اللآلي 1 / 196 الحديث 2.
(3) تهذيب الأحكام 3 / 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فيها، الحديث 55
260

ممنوعة، بعدم الوجه في التقدير المذكور بلا قيام قرينة خاصة، بل يمكن
دعوى أن المراد من نفي الصلاة في الموارد التي يعلم بإرادة نفي الكمال هو نفي
حقيقة الصلاة لكن بنحو الادعاء، لكي يكون آكد في الدلالة على المبالغة التي
تقصد بالحديث كما لا يخفى.
الرابع: دعوى أن طريقة الواضعين في الوضع للمركبات هو الوضع
للمركبات التامة بلحاظ الحكمة الداعية إليه وهي غلبة الحاجة إلى تفهيمه، دون
الناقص فإنه وان دعت الحاجة إلى تفهيمه أحيانا الا انه ليس غالبا، فيمكن
الاستعمال فيه بنحو المجاز أو الادعاء، والشارع لم يتخط هذه الطريقة العقلائية،
فيثبت الوضع للصحيح.
إلا أن هذه الدعوى عهدتها على مدعيها، وقد ناقش فيها صاحب
الكفاية، بدعوى كونها قابلة للمنع (1). ولعل الوجه فيه ما قيل: من أنه على تقدير
تسليم مجاراة الشارع مسيرة العقلاء وعدم تخطيه طريقتهم، إلا أن أساس تحقق
الوضع للتام - في هذه الدعوى - هو كونه قضية الحكمة الناشئة من كثرة الحاجة
إلى تفهيمه وقلة الحاجة إلى تفهيم الفاسد، وهذا غير مسلم في المركبات الشرعية
لكثرة الحاجة إلى تفهيم الفرد الفاسد منها، فالوضع للأعم لا ينافي الحكمة
الداعية إلى الوضع، فتدبر.
وعليه، فالوجوه التي يظهر اعتماد صاحب الكفاية عليها في اثبات الوضع
للصحيح هي الثلاثة الأول (2).
اما الوجه الأول والثاني: فهما وجهان يرجعان إلى تحكيم الوجدان، لذلك
كانت المناقشة فيهما سهلة لامكان انكار التبادر وصحة السلب ودعوى العكس
وان المتبادر هو الأعم، كما حدث فعلا، فقد جاء في استدلال الأعمي على دعواه
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 30 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 29 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
261

إدعاء التبادر وعدم صحة السلب.
وعليه، فالالتزام بأحد الطرفين مما لا يمكن الجزم به وفرضه، بل أمر
يوكل إلى ما يلمسه وجدان كل فرد من أهل العرف.
واما الوجه الثالث: فهو وجه أشبه بالبرهاني، والاستدلال بالطائفة
الثانية واضح التقريب، ولكنه قابل للخدشة بأنه من المعلوم ان الصلاة
الصحيحة يتحقق بدون فاتحة الكتاب في بعض الحالات، فلا يمكن ان يراد نفي
الحقيقة بانتفاء فاتحة الكتاب حتى على القول بالصحيح، إذ الجامع يشمل
الفاقدة والواجدة فكيف يقيد بالواجدة؟. فلا بد أن يكون النفي راجعا إلى غير
الحقيقة من الكمال أو غيره. فتدبر.
وانما الاشكال في تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى من الاخبار. فقد
قرب: بأنه حيث يعلم بان المراد من: (الصلاة) في الحديث خصوص الصلاة
الصحيحة، لان الأثر انما يترتب عليها، وعليه فيدور الامر بين الوضع لخصوص
الصحيح فيكون الاستعمال حقيقيا والوضع للأعم فيكون مجازيا لعدم إرادة
الأعم. وبما أن ظاهر الاستعمال كونه حقيقيا - كما هو مقتضى أصالة الحقيقة -
يستكشف من استعمال اللفظ في الرواية في خصوص الصحيح الوضع لخصوصه.
وللاشكال في هذا التقريب مجال واسع، فان أصالة الحقيقة انما تجري مع
الشك في المراد وانه المعنى الحقيقي أو المجازي. اما في مورد يعلم بالمراد إلا أنه
يشك في كونه بنحو الحقيقة أو المجاز فلم يثبت جريان أصالة الحقيقة فيه، وما
نحن فيه من قبيل الثاني للعلم بان المراد هو الصلاة الصحيحة وانما الشك في
كونه بنحو الحقيقة أو المجاز للشك في الوضع لخصوص الصحيح أو الأعم فلا
تجري فيه أصالة الحقيقة، بل هو مورد لما اشتهر من قولهم: (الاستعمال أعم من
الحقيقة والمجاز).
مضافا إلى أن الامر لا يدور بين الحقيقة والمجاز، لان إرادة الصحيح مع
262

الوضع للأعم لا تستلزم المجاز، إذ هي من باب التطبيق كما هو شأن كل لفظ
موضوع للكلي ويراد به فرده، لا من باب الاستعمال فلا مجاز في البين كي ينفى
بأصالة الحقيقة.
وقد أشير إلى التقريب المذكور والاشكال فيه أولا في حاشية منسوبة إلى
صاحب الكفاية (رحمه الله) على المقام (1). لكنه يبعد منه ذلك لوضوح الاشكال
في التقريب المذكور، فيبعد ان يلتزم به وهو مما لا يخفى على مثل صاحب الكفاية.
فالأولى - بل المتعين - ان يقال في تقريبه: إن الأثر رتب على الصلاة
بما لها من معنى مرتكز في الأذهان، وحيث إنه يعلم ان هذا الأثر الذي رتب على
الصلاة انما يترتب على الصحيح منها يكون ذلك كاشفا عن كون معنى الصلاة
هو الصحيح. وبعبارة أخرى: انه حين أطلق لفظ: (الصلاة) كان لها معنى اجمالي
في الذهن غير متميز من حيث كونه خصوص الصحيح أو الأعم، وقد رتب الأثر
وحمل العنوان المنتزع عن مقام ترتب الأثر على اللفظ بما له من المعنى الاجمالي،
ونحن نعلم بان الأثر انما يترتب على الصحيح دون الأعم، فقد علمنا بان ذلك
المعنى الارتكازي هو الصحيح دون الأعم، ولم يحدث بذلك أي تغيير في المنتقل
له من لفظ الصلاة قبل الحكم والحمل، بل المنتقل إليه واحد في كلا الحالين -
قبل الحكم وبعده -، فيعلم بالوضع للصحيح فيكون الحمل المزبور نظير التبادر
الموجب للعلم التفصيلي بان المعنى الارتكازي الاجمالي هو الصحيح.
وهذا وجه متين - في نفسه -، وهو لا يرجع إلى التبادر ونحوه كما لا يخفى
على من تأمل فيه واستوضحه.
ومن مجموع ما ذكرنا يتضح ان عمدة أدلة القول بالوضع للصحيح هو
الوجه الثالث.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 30 هامش رقم (1) - طبعة مؤسسة آل البيت
(ع)
263

أدلة القول بالأعم
الأول: التبادر، واستشكل فيه صاحب الكفاية بما تقدم من دعوى تبادر
الصحيح، مضافا إلى امتناع دعواه هاهنا بعد امتناع تصوير الجامع الأعمي، إذ
ليس هناك ما يتبادر إليه مما يجمع بين الصحيح والفاسد.
الثاني: عدم صحة السلب عن الفاسد، ومنعه صاحب الكفاية لما تقدم
من صحة السلب.
الثالث: صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والفاسد، فيقال: (الصلاة اما
صحيحة أو فاسدة).
وقد منعه صاحب الكفاية بما نصه: (وفيه: انه انما يشهد على انها للأعم
لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح وقد عرفتها، فلا بد أن يكون
التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ ولو بالعناية) (1).
وقد حملت عبارته (قدس سره) على أن نظره في تقريب الاستدلال إلى أنه
حيث استعمل اللفظ في الأعم كما يدل عليه التقسيم، فيدور الامر بين كونه
حقيقيا - فيثبت اللفظ في الأعم كما يدل عليه التقسيم، فيدور الامر بين كونه
حقيقيا - فيثبت الوضع للأعم لأنه لازمه - أو مجازيا، فلا يثبت الوضع للأعم،
وأصالة الحقيقة تعين الأول فيثبت الوضع للأعم.
فيشكل فيه بما ذكره من: ان أصالة الحقيقة انما تجري مع عدم وجود
الدليل على خلافها لان موضوعها الشك وهو يرتفع بالدليل. وقد عرفت قيام
الدليل على الوضع للصحيح من التبادر ونحوه الموجب للعلم بمجازية
الاستعمال، فلا مجال لاجراء أصالة الحقيقة.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 30 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
264

ولكن يبعد أن يكون نظره ذلك، لما عرفت من وضوح وهن جريان أصالة
الحقيقة في اثبات كون الاستعمال حقيقيا، فيبعد ان يستدل بهذا الطريق أحد،
وذلك مما لا يخفى عليه (قدس سره). مضافا إلى أنه أهمل الاشكال فيه بما هو
واضح، وما تكرر منه مرارا من أن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز وان أصالة
الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد لا مع العلم به والشك في كيفيته، مع أنه
أولى بالذكر.
والذي يخطر في البال في تقريب الدليل هو: ان من المعلوم كون التقسيم
بلحاظ ما للصلاة من معنى، ولا يخفى انه لا يرى في استعمال لفظ الصلاة في
المثال المزبور أي تجوز وعناية، فهو دليل على أن معنى الصلاة هو الأعم وقد
وضع له اللفظ، وإلا لكان استعمال اللفظ فيه عنائيا وهو خلاف الفرض. ولا
يخفى ان هذا أجنبي عن التمسك بأصالة الحقيقة، كما أنه لا يعرف لعبارة الكفاية
وجه يتلاءم - في مقام الاشكال - مع هذا التقريب فتدبر.
الرابع: استعمال الصلاة وغيرها في الاخبار في الأعم، فقد جاء في الخبر:
(بني الاسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، ولم يناد أحد
بشئ كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه. فلو أن أحدا صام
نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة) (1). ومركز الاستشهاد
موردان:
الأول: قوله (ع): (بالأربع)، فإنه ناظر إلى الأربع المذكورة في صدر
الحديث، ولا يخفى انه بقرينة ترك الولاية يعلم ان المراد ليس الصحيح، إذ لا
صحة بدون الولاية، فكان يلزم ان يقال لم يأخذ الناس بشئ منها، بل المراد منها
الأعم.
.

(1) الكافي 2 / 18 باب: دعائم الاسلام، حديث: 3
265

الثاني: قوله (ع): (فلو أن أحدا صام نهاره)، فان المفروض ان الصيام
هاهنا بدون ولاية وهو غير صحيح، فيكشف عن إرادة الأعم من اللفظ
لا خصوص الصحيح.
وجاء في الخبر أيضا: (دعي الصلاة أيام أقرائك) (1)، فان النهي قد تعلق
بالصلاة، وليس المراد بها الصحيحة، إذ الحائض لا تقدر عليها وأخذ القدرة في
متعلق النهي - كسائر أنواع التكليف - ضروري، فلا بد أن يكون المراد هو
الأعم.
وجهة الاستدلال بالاستعمال في الأعم في الروايتين ليس ما قد يتوهم من
ظهوره في كونه بنحو الحقيقة، كي يستشكل فيه رأسا بان الاستعمال أعم من
الحقيقة والمجاز:
بل هي: انه مما لا ينكر ان اللفظ قد استعمل في الأعم بلا عناية ومسامحة
في البين، إذ لا يرى بهذا الاستعمال أي تجوز وعناية، بل مما تقتضيه طبيعة اللفظ.
وقد استشكل صاحب الكفاية في الرواية الأولى بإنكار المقدمة الأولى
- أعني الاستعمال في الأعم - بدعوى: ان المراد بها خصوص الصحيح، وذلك
بقرينة كونها مما بني عليها الاسلام، وظاهر ان الاسلام انما بني على الصحيح
دون الأعم.
واما قوله (ع): (فاخذ الناس بالأربع)، فلا يتنافى مع ذلك، إذ يمكن ان
يراد به الاخذ بحسب اعتقادهم لا الاخذ حقيقة، فيكون المستعمل فيه هو
الصحيح. وهكذا قوله (فلو أن أحدا صام نهاره)، فان المراد به يمكن أن يكون
أنه صام بحسب اعتقاده لا حقيقة، فيكون الاستعمال في الصحيح، ويمكن أن يكون
الاستعمال في الأعم ولكن يكون مجازيا بعلاقة المشابهة والمشاكلة في
.

(1) تهذيب الأحكام 1 / 384 باب 19 الحيض والاستحاضة والنفاس
266

الصورة.
واما الرواية الثانية، فقد استشكل في الاستدلال بها أيضا بإنكار كون
الاستعمال في الأعم، بدعوى: ان النهي هاهنا ارشاد إلى عدم قدرة الحائض على
الصلاة الصحيحة لحدث الحيض. وعليه فالمستعمل فيه هو خصوص الصحيح،
وليس مولويا كي يأتي فيه ما ذكر، والا للزم منه ما لا يلتزم به أحد، وهو حرمة
الاتيان بصورة الصلاة وما يصدق عليه لفظ الصلاة بلا قصد القربة ذاتا، لتعلق
النهي بالأعم (1).
الخامس: ان هناك امرين وقع التسالم عليهما:
أحدهما: انعقاد النذر وشبهه - العهد واليمين - إذا تعلق بترك الصلاة في
مكان تكره فيه، كالصلاة في الحمام.
والاخر: حصول الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان الذي تعلق النذر
بترك الصلاة فيه كالحمام. وذلك يدل على أن متعلق النذر ليس هو الصلاة
الصحيحة بل الأعم، وذلك لأنه لو كان المنذور تركه هو الصلاة الصحيحة لزم...
أولا: عدم حصول الحنث أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لتعلق الحرمة بها
بعد النذر، فلا يكون المأتي به هو المنذور تركه فلا يحصل الحنث.
وثانيا: المحال، وذلك لان انعقاد النذر يستلزم عدم تحقق الصلاة
الصحيحة للنهي عن الصلاة، وذلك يعني عدم القدرة على الصلاة الصحيحة، وهو
يستلزم عدم انعقاد النذر لاشتراط القدرة على متعلقه في انعقاده. وعليه، فيكون
انعقاد النذر مستلزما لعدم انعقاده، واستلزام وجود الشئ لعدمه محال.
واستشكل فيه صاحب الكفاية: أولا: بان غاية ما يثبته هذا الوجه هو
امتناع تعلق النذر بالصحيح، وهو أجنبي من نفي الوضع له، فإنه يمتنع ذلك ولو
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 31 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
267

قلنا بالوضع للأعم. فهذا الوجه لا يثبت الوضع للأعم كما لا يخفى، لأنه أجنبي
عن مقام التسمية.
وثانيا: بإنكار امتناع تعلقه بالصحيح، فان متعلق النذر - على تقدير كونه
هو الصحيح - هو الصحيح لولا تعلق النذر وهو الجامع لجميع ما يعتبر من اجزاء
وشرائط في مرحلة سابقة على النذر، فلا ينفيه تعلق النهي به من قبل النذر.
وعليه، فيحصل الحنث بالاتيان بما هو جامع لجميع الأجزاء والشرائط سوى عدم
النهي من قبل النذر. كما أنه لا يلزم من وجوده عدمه، لان الفساد الناشئ من قبل
النذر لم يؤخذ عدمه في متعلق النذر كي لا يكون مقدورا بعد النذر فيلزم ذلك.
ومما يدل على أن المتعلق هو الصحيح بهذا المعنى لا الفاسد ولا الأعم: ان الناذر
لا يقصد نذر ترك العمل الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط ولذا لو صلى بدون
طهارة لم يكن حنثا لنذره (1).
لكن الذي ينبغي ان يقال: هو انكار صحة تعلق النذر بترك الصلاة في
الحمام ومثله. وذلك لان الصلاة في الحمام وان تعنونت بعنوان مرجوح وهو الكون
في الحمام، إلا أنه لا يستلزم مرجوحيتها بنفسها، بل انما يستلزم تقليل جهة
رجحانها وكون غيرها من افراد الصلاة أرجح منها - كما هو معنى الكراهة في
العبادة - فان مرجوحية الصلاة لا تتحقق الا باستلزامها لجهة مبغوضة شرعا.
وبعبارة أخرى: استلزامها لجهة محرمة بحيث يرتفع الامر بها. وليس الكون في
الحمام كذلك، والا لما تحقق الامر بها لعدم ملاكه. وعليه، فإذا اعتبر أن يكون
متعلق النذر راجحا كما هو المفروض امتنع تعلق النذر بمثل ترك الصلاة في
الحمام، لان تركها ليس براجح بعد أن كان فعلها راجحا. فلا وجه للالتزام بصحة
تعلق النذر وحصول الحنث كي يفرض ذلك دليلا على الوضع للأعم.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 32 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
268

نعم، إذا فرض كون متعلق النذر عنوانا ملازما لترك الصلاة في الحمام -
وهو الاتيان بالصلاة في غير الحمام - فإنه امر راجح في نفسه صح النذر لتحقق
شرطه، الا انه يستلزم حصول الحنث بالصلاة في الحمام وفسادها، بل يحصل
التزاحم بين الامر النذري بخصوص الصلاة التي تعلق النذر بها والامر بالصلاة
في الحمام المحرز بالاطلاق، فتبتني صحة الصلاة فيه وفسادها على ما يتقرر في
باب المزاحمة من صحة المزاحم المهم وعدم صحته، والمتأخرون على صحته وعدم
تعلق النهي به، فيكون الاتيان بالصلاة الصحيحة بعد النذر مقدورا.
وهكذا لو فرض كون متعلقه هو الكون في الحمام الملازم للصلاة. وبتعبير
آخر: الحصة الخاصة من الكون في الحمام، فإنه لا مانع من صحة النذر لمرجوحية
متعلقه، الا انه لا يستلزم النهي عن العبادة وعدم صحتها لعدم تعلق النذر
بتركها، بل تقع صحيحة ولو بملاك الامر، لو التزم بعدم الامر للنهي عن الملازم
وامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم.
ومحصل ما ذكرناه: ان النذر ان فرض متعلقه ترك نفس العبادة - كما هو
ظاهر كلامهم حيث يلتزمون بحرمة العبادة وحصول الحنث بها بنفسها -،
فصحته ممنوعة لعدم رجحان متعلقه لبقاء العبادة على رجحانها وان قلت مرتبته.
وان فرض متعلقه ترك الكون الملازم للعبادة فهو وان صح لرجحان متعلقة لكنه
لا يستلزم فساد العبادة بل تكون صحيحة. وان فرض متعلقه الاتيان بالعبادة في
غير الحمام الملازم لتركها في الحمام، فهو وان صح أيضا لكن لا يستلزم بطلان
العبادة، بل تكون صحيحة على التحقيق.
وعليه، فما ذكر من الوجه لا يظهر له محصل.
ومن مجموع ما ذكرناه يتضح: ان عمدة أدلة القول بالأعم هو الثالث -
أعني صحة التقسيم -. كما أن عمدة أدلة القول بالصحيح هو الثالث أيضا،
أعني الروايات المثبتة للآثار. اما دعوى التبادر وصحة السلب فقد عرفت انها
269

دعاو ليست برهانية يسهل انكارها ودعوى خلافها، كما ثبت ذلك بدعوى تبادر
الأعم وعدم صحة السلب عن الفاسد.
وقد عرفت تقريب الوجه الثالث من أدلة القولين بنحو متشابه ومن جهة
واحدة، فقد قربت دلالة الروايات: بان الأثر أثبت الصلاة بما لها من المعنى
المرتكز في الأذهان، وهو لازم خاص للصحيح. وقربت صحة التقسيم بان
التقسيم للصلاة بما لها من المعنى. وعليه فهما دليلان وجيهان أحدهما ينفي
الاخر، ولا مجال لنا لنفي أحدهما وتعيين الاخر فإنه بلا وجه ظاهر.
لكن الذي نستطيع ان نقوله فاصلا في المقام هو: ان أسامي العبادات
عند العرف لا تفترق عن سائر أسامي المركبات وكون حالها حال غيرها، ونحن
نرى بالوجدان القاطع بان اللفظ لا يختص في المركبات العرفية بالصحيح فقط،
بل يصدق عليه وعلى الفاسد، فيقال: بيض صحيح وفاسد، ودار عامرة وخربة -
صحيحة وفاسدة - ونحو ذلك. ولا أرى أن هذا مما يقبل الانكار، وحال أسامي
العبادات حال أسامي المركبات الأخرى عند العرف بمعنى ان العرف لا يرى لها
نحوا آخر من الصدق والوضع، ولا يراها تفترق في الانطباق على الصحيح
والفاسد عن غيرها. وهذا يثبت الوضع للأعم، وهو غاية ما يقال في اثباته.
ويبقى في المقام شئ وهو: انه بعد ثبوت الوضع للأعم لا بد من تعيين
المقدار الذي يتقوم به معنى الصلاة ويتحقق به الصدق لوضوح وجود بعض
الموارد من الفاسد لا يصدق عليه اللفظ أصلا كالاتيان بالتكبير والقراءة فقط،
فهناك مقدار يتقوم به الصدق ومعنى الصلاة، وهو يدور في كلمات الاعلام بين
أن يكون معظم الاجزاء، وأن يكون اجزاء معينة خاصة. والتزم السيد الخوئي
بالثاني وان المقدار الذي يتقوم به معنى الصلاة على الأعم هو التكبير والركوع
والسجود والتسليم والطهارة.
والوجه فيه ما ذكره: من أن المرجع في تعيين قوام المسمى هو نفس
270

المخترع للعمل المركب، وعليه فالمرجع في تعيين قوام مسمى الصلاة هو الشارع،
وقد ورد في النصوص ما يدل على أن الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم (1).
وان ثلثها ركوع وثلثها سجود وثلثها الطهارة (2). وذلك ظاهر في أن قوام الصلاة
بهذه الخمسة. هذا مجمل ما ذكره (3).
ولكنه غير ظاهر، ولا يمكن الالتزام به، وذلك فان ما ذكره تمهيدا لمدعاه
من كون المرجع في تعيين المسمى هو المخترع، يمكن منعه بان المرجع انما هو
الواضع سواء كان هو المخترع أو غيره، إذ لا ملازمة بين الاختراع والوضع فقد
يختلف الواضع عن المخترع.
وهذا الامر ليس بذي أهمية، وانما المهم ما ذكره دليلا على الدعوى من
ورود النص الدال على تقوم الصلاة بهذه الخمسة، وهو واضح المنع، فإنه من
الظاهر كون الشارع ليس في مقام بيان قوام المسمى، بل في مقام بيان قوام
المأمور به. وذلك: فان الظاهر من النص ابتداء وان كان ما ذكره من أن قوام
الصلاة بهذه خمسة، الا انه بملاحظة مقام الشارع وما يتناسب معه بما أنه شارع
المقتضي لعدم كونه في مقام بيان المسمى، فإنه لا يرتبط به بما أنه شارع، بل كونه
في مقام بيان المأمور به وأهمية هذه الاجزاء فيه وفي دخلها في الأثر المترتب عليه،
فإنه هو الذي يتناسب معه بما أنه شارع، بملاحظة هذا الامر يكون النص
ظاهرا في أن هذه الخمسة قوام المأمور به لا المسمى ولا يبقى الظهور الابتدائي
للكلام.
ويؤيد هذا المطلب، بل يدل عليه: انه لم تكن لبيان المسمى وتحديده حاجة
في تلك العصور - أعني عصور الأئمة (عليهم السلام) - اما لاجل وضوح
.

(1) وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث: 4.
(2) وسائل الشيعة 1 / 366 باب وجوب الوضوء للصلاة حديث: 8.
(3) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 162 - الطبعة الأولى
271

المسمى في ذلك العرف لقربهم من زمان الشارع واطلاعهم على كيفية استعماله،
أو لعدم ترتب أثر عملي على معرفته بالنسبة إليهم من تمسك باطلاق ونحوه،
لقربهم من الأئمة وامكان استفسارهم عن كل شئ يشك فيه عندهم، فلا يعقل
مع هذا أن يكون الإمام (عليه السلام) في مقام بيان المسمى للسائل.
وبالجملة: لا يظهر لما ذكره السيد الخوئي وجه وجيه، فالمتعين الالتزام بان
المقوم للمسمى هو معظم الاجزاء بلا تعيين جزء خاص دون غيره، وأما تحديد
المعظم فذلك أمر مرجعه العرف وتعيينه بنظره.
ومن هذه الجهة فقط يكون الجامع المبهم المفروض لافراد الأعم مبينا،
فهو عمل مبهم من جميع الجهات الا من جهة كونه يشتمل على معظم الاجزاء،
وبذلك لا ينطبق على الجزء الواحد أو الجزئين ونحوهما في القلة، فلاحظ وتدبر
والله ولي التوفيق، هذا تمام الكلام في العبادات.
ويقع الكلام بعد ذلك في المعاملات.
وقد ذكر صاحب الكفاية: ان ألفاظ المعاملات إن قلنا بأنها موضوعة
للمسببات فلا يقع النزاع أصلا في الوضع للصحيح أو للأعم، لعدم اتصاف
المسببات بالصحة والفساد، بل إنما تتصف بالوجود والعدم. وان قلنا بأنها
موضوعة للأسباب، فللنزاع مجال لقابلية السبب للصحة والفساد.
ثم التزم بالوضع للعقد المؤثر - يعني الصحيح - المؤثر لاثر ما شرعا أو
عرفا. ثم تعرض إلى دفع ما قد يتوهم من: انه من المتسالم عليه ان
الشارع ليس له اختراع خاص في باب المعاملات، بل المعاملات عرفية عقلائية
أمضاها الشارع. ومن الواضح ان العقد الصحيح المؤثر قد يختلف لدى الشارع
عنه في العرف، فعقد الصبي مؤثر عرفا، ولكنه غير مؤثر شرعا. وعليه فان التزم
بالوضع للأعم من الصحيح والفاسد فلا اشكال، وان التزم بالوضع لخصوص
الصحيح فيلزمه ان يختلف الموضوع له شرعا عن الموضوع له عرفا، وهذا خلاف
272

ما تقرر أولا من أن الشارع في باب المعاملات جرى مجرى العرف وليس له
استقلال في الوضع والجعل.
وبيان ما ذكره من الدفع: هو ان اختلاف الشرع والعرف في صحة العقد
لا يرجع إلى الاختلاف في أصل الموضوع له ومفهومه، بل يرجع إلى الاختلاف
في مصداق الصحيح وتخطئة الشرع العرف في اعتباره الفرد مصداقا للصحيح
لمعرفته بدقائق الأمور واطلاعه الأوسع على خصوصيات الأشياء، فمفهوم
الصحيح لدى كل من الشرع والعرف واحد وهو العقد المؤثر، لكن اختلافهما
في المصداق وان أي العقود هو المؤثر، فالعرف باعتبار عدم معرفته بدقائق الأمور
يبني على تأثير عقد، ولكن الشرع بما أنه مطلع على الدقائق يرى عدم قابلية
العقد للتأثير فيخطئ العرف في ذلك. نظير ما يفرض ان اللفظ المخصوص
موضوع للدواء المسهل، فيرى بعض الأطباء ان التركيب الخاص مسهل، ولكن
طبيبا آخر أوسع علما يرى عدم تأثيره في الاسهال لبعض الخصوصيات التي
اطلع عليها فيه دون الطبيب الأول، فان ذلك لا يعدو أن يكون اختلافا في
المصداق ومن باب تخطئة الثاني للأول دون أن يكون اختلافا في المفهوم بل هما
متفقان على وحدة المفهوم.
هذا مجمل ما ذكره في الكفاية (1)، وقد أوضحنا الجهة الأخيرة في كلامه.
ولا بد في تحقيق الحال من الكلام في كل جهة من جهات كلامه وبيان ما
لا بد ان يذكر فيها.
اما ما ذكر (قدس سره) من: عدم جريان النزاع لو التزم بوضع الألفاظ
للمسببات وجريانه لو التزم بوضعها للأسباب. فتوضيحه يتوقف على بيان المراد
من السبب والمسبب، وبيان ذلك: ان في كل معاملة يحصل أمران:
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 32 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
273

أحدهما القول أو الفعل المقصود به ايجاد المعنى في وعائه المناسب له،
كالايجاب والقبول أو إشارة الأخرس.
ثانيهما: المعنى المقصود ايجاده كالملكية الحاصلة بعقد البيع أو التمليك -
إذ لا فرق بينهما ذاتا، بل الاختلاف اعتباري كالاختلاف بين الايجاد والوجود -
ويصطلح على الأول - أعني ما يستعمل لغرض ايجاد المعنى به في عالم
الاعتبار - سبب، لأنه يتسبب به إلى حصول المعنى وبدونه لا يحصل. كما يصطلح
على الثاني مسبب، لأنه يحصل بالعقد وينشأ من حصوله، فهو مسبب عن العقد
لترتبه عليه كما يترتب المسبب على السبب.
وإذا عرفت المراد من المسبب وانه الملكية أو التمليك ونحوهما، يتضح
الوجه في عدم جريان النزاع لو قيل بالوضع للمسبب، وذلك لان جريان النزاع
انما يجري في المورد القابل للاتصاف بالصحة والفساد بان يكون له وجودان
أحدهما يترتب عليه الأثر والاخر لا يترتب عليه الأثر، إذ يقال حينئذ بان اللفظ
موضوع لخصوص ما يترتب عليه الأثر أو للأعم منه ومن غيره. اما ما لا يقبل
الاتصاف بهما لعدم تعدد نحو وجوده، بل ليس له إلا نحو وجود واحد فلا مجال
للنزاع فيه في الوضع للصحيح أو للأعم، إذ هو لا يقبل الصحة والفساد بل
الوجود والعدم، وما نحن فيه كذلك، لان الملكية لا تتصف بالصحة والفساد، إذ
ليس لها نحو وجود، بل هي ان وجدت ترتبت عليها الآثار العقلائية والا فهي
معدومة، فأمرها دائر بين الوجود والعدم، لا بين الصحة والفساد.
وهذا هو الوجه العرفي الواضح لبيان عدم جريان النزاع لو قيل بوضع
اللفظ للمسبب، فلا حاجة إلى تكلف الدقة في بيانه، كما نهجه المحقق الأصفهاني،
وان كان ما ذكره متينا في نفسه، فراجع حاشيته على الكفاية (1).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 57 - الطبعة الأولى
274

واما الأسباب، فحيث انها تقبل الاتصاف بالصحة والفساد، لان لها
وجودين أحدهما يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر ممن له أهلية الانشاء
شرعا. والاخر لا يترتب عليه الأثر كالعقد التام الصادر من غير من له أهلية
الانشاء شرعا كالصبي، فان العقد في كليهما واحد وهو له شأن التسبيب لايجاد
المعنى، الا انه فعلي التسبيب في صورة ويترتب عليه الأثر، وليس بفعلي التسبيب
ولا يترتب عليه الأثر في صورة أخرى، وبذلك يقال: هذا العقد صحيح وذاك
فاسد.
كان للنزاع فيه مجال، إذ يمكن ان يقال: بان اللفظ موضوع لخصوص
العقد المؤثر أو للأعم منه ومن غير المؤثر كما لا يخفى. لكن قد يقال: إن امكان
جريان النزاع ثبوتا لا يصحح فعلية جريانه وتحققه إثباتا، إذ ذلك يتوقف على
فرض ترتب ثمرة عملية على النزاع، والا لما تحقق، لصيرورته لغوا، والثمرة
العملية منتفية - برأي صاحب الكفاية (1) - في المعاملات، لأنه يرى امكان
التمسك بالاطلاق حتى على الصحيح، فلا ثمرة. ففرض النزاع بمجرد القول
بالوضع للأسباب ليس بوجيه بعد أن بنى على عدم الثمرة، لان القول بالوضع
للأسباب انما يوجب قابلية المورد للنزاع، اما فعلية النزاع فيه فهي تتوقف على
ترتب ثمرة عملية عليه.
ويدفع: بان ما ذكر انما يتجه لو كان التمسك بالاطلاق في المعاملات على
الصحيح من الأمور البديهية المسلمة التي لا تقبل المناقشة والخلاف، اما لو كان
من الأمور النظرية المبتنية على بعض المقدمات التي يمكن ان يقع فيها الخلاف
والمناقشة - كما هو الحال فيما نحن فيه، إذ لم يؤخذ امكان التمسك بالاطلاق بنحو
مسلم لا جدال فيه ولا مراء، بل كان موضع المناقشة والرد والبدل -، فلا يتجه ما
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 33 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
275

ذكر، إذ يمكن فرض ترتب الثمرة على النزاع ولو عند بعض، فلا بد من تعيين
أحد طرفي الخلاف كي تترتب عليه الثمرة.
وبالجملة: من لا يرى جواز التمسك بالاطلاق على الصحيح يلزمه تنقيح
هذه المسألة واختيار أحد طرفيها ليتوصل إلى النتيجة، وذلك كاف في تحرير
النزاع كما لا يخفى.
ثم إنه هل يتصور الوضع للأسباب أو المسببات بالمعنى الذي ذكرناه لهما،
أو لا يتصور ذلك ثبوتا؟. التحقيق عدم امكان الالتزام به.
اما السبب: فقد عرفت أنه اللفظ المستعمل بقصد ايجاد المعنى في وعائه،
أو انه استعمال اللفظ بهذا القصد. ولا يخفى ان كلا من اللفظ والاستعمال ليس
من المعاني الانشائية، بل من الأمور الواقعية التي لا تقبل الانشاء.
وعليه: فدعوى أن البيع - مثلا - موضوع للفظ المستعمل في ايجاد المعنى
في عالم الاعتبار أو للاستعمال وانشاء المعنى باللفظ، يردها استعمال لفظ البيع في
الانشاء، فيقال: (بعت)، وذلك لا يتفق مع وضع المادة لما ذكر، إذ قد عرفت أن
معناها غير انشائي فلا معنى لانشائه. مضافا إلى أن معنى: (بعت) يكون بذلك
: استعملت اللفظ في المعنى بقصد ايجاده، أو نفس اللفظ المستعمل في معناه
بقصد ايجاده اعتبارا، وهو مما لا محصل له ظاهرا.
واما المسبب: فقد عرفت أنه الأثر المترتب على الانشاء الحاصل باعتبار
العقلاء، كالملكية المترتبة على البيع. ولا يخفى ان ذلك من فعل الشارع أو
العقلاء، وليس من فعل الشخص، فوضع اللفظ له ينافيه اسناد اللفظ بما له
المعنى للشخص، فيقال: ان الشخص قد باع، إذ لازمه ان يقال: الشارع باع،
أو العقلاء باعوا، لان البيع بهذا المعنى من فعلهم لا من فعل الشخص. كما أنه
بذلك يمتنع توجه النهي عنه إلى المكلف، كما يفرض ذلك، بل تفرض دلالة النهي
عن المسبب على صحة المعاملة - كما هو رأي صاحب الكفاية تبعا لابي
276

حنيفة (1) -، إذ ليس من أفعاله، فلا معنى لنهيه عنه.
وبالجملة: فلا يتصور وجه معقول يتضح به جواز الوضع للسبب أو
المسبب بالمعنى المشهور لهما.
وعلى كل، وللتخلص عن الاشكال الذي ذكرناه ينبغي ان يقال: ان الانشاء كما عرفت عبارة عن استعمال اللفظ بقصد ايجاد المعنى، وقد عرفت أن
صاحب الكفاية يختلف عن المشهور في أن المعنى يوجد بوجود انشائي من قبيل
الاعتباريات يكون موضوعا لوجوده في عالم الاعتبار العقلائي - لو كان من
المعاني الاعتبارية كالملكية -، بخلاف المشهور فإنهم يذهبون إلى أن المعنى يوجد
بالانشاء في وعائه المناسب له وهو الاعتبار العقلائي، ولذلك يشكل عد صيغ
التمني ونحوها من الانشائيات كما عرفت. فالملكية بقول الموجب: (بعت) توجد -
على رأي صاحب الكفاية - بوجود انشائي غير وجودها في وعائها المقرر لها، ثم
يترتب على ذلك الاعتبار العقلائي. وتوجد - على الرأي المشهور - في عالم
الاعتبار وهو الوعاء المناسب لها. وعلى ذلك: فالاشكال ينحل على رأي صاحب
الكفاية في الانشاء بوضوح وسهولة، إذ يمكن دعوى أن الموضوع له هو الشئ
بوجوده الانشائي، فإنه قابل للانشاء ويستند إلى نفس الشخص فلا محذور فيه،
كما أن هذا الوجود الانشائي بلحاظ ترتبه على الايجاب والقبول يسمى
بالمسبب، وبلحاظ انه موضوع للاعتبار العقلائي ويترتب عليه الاعتبار من قبل
العقلاء يسمى بالسبب، فهو بلحاظ مسبب وبلحاظ آخر سبب.
وعليه، فلا يبقى فرق بين دعوى الوضع للمسبب والوضع للسبب في
الحقيقة، وانما الفرق في الملحوظ حال الوضع، فمن لاحظ جهة ترتبه على العقد
ادعى الوضع للمسبب لان الموضوع له بهذا اللحاظ مسبب، ومن لاحظ جهة
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 189 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
277

ترتب الاعتبار العقلائي عليه ادعى الوضع للسبب لأنه بهذا اللحاظ سبب.
وبما أن هذا الوجود قابل للاتصاف بالصحة والفساد، إذ قد يترتب عليه
الاعتبار العقلائي فيكون صحيحا وقد لا يترتب فيكون فاسدا، كان للنزاع مجال
على كلا القولين، القول بالوضع للسبب والقول بالوضع للمسبب، بالمعنى المشار
إليه.
ويمكن ان يقال: إنه ان أريد من المسبب هو الوجود العقلائي للأثر
أمكن ان يتصف بالصحة والفساد أيضا، إذ الأثر الشرعي ان ترتب عليه كان صحيحا
وإن لم يترتب عليه كان فاسدا، فالنزاع في الوضع للصحيح أو للأعم كما يجري
بناء على إرادة الوجود الانشائي، كذلك يجري بناء على إرادة الوجود العقلائي.
واما ما تقدم من الاشكال: بان الوجود العقلائي ليس من فعل الشخص
والحال ان لفظ المعاملة يسند إلى الشخص نفيه، فيقال: (باع زيد داره).
فيمكن دفعه: أولا: بالنقض باسناد الأحكام الشرعية الصرفة إلى
المكلف، كالطهارة والنجاسة والحل والحرمة، فيقال: طهر الثوب ونجسه وحلل
الذبيحة وحرم الأكل على نفسه، بل وقع التكليف لحرمة تنجيس المسجد.
وثانيا: بالحل، بأنه بعد جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية على الموضوع
المقدر الوجود تكون فعلية الحكم منوطة بوجود موضوعه، فمن يوجد الموضوع
يصح إسناد الحكم إليه، نظير من رمى رصاصة فدفع شخص شخصا وجعله في
طريق الرصاصة فاصابته، فان القتل كما يسند إلى الرامي يسند إلى الدافع
أيضا.
هذا ولكن لا ينفع ذلك في فرض اتصاف المسبب بالصحة والفساد.
واما على الرأي المشهور، فقد يشكل حل الاشكال، باعتبار عدم تحقق
وجود للمنشأ غير وجوده في وعائه، كي يدعى الوضع له.
الا انه من المسلم انه ينتزع من انشاء المنشئ وجود إنشائي للمنشأ غير
278

وجوده الاعتباري بل هو الذي يكون موضوعا للاعتبار، فان من المسلم انه
يتحقق بقول البائع: (بعت أو ملكت) تمليك انشائي غير التمليك الاعتباري،
وهو يسند إلى نفس الشخص، فيقال: ملكه انشاء ونحوه.
وعليه، فيمكن ان يدعى كون اللفظ موضوعا بإزائه، وهو - أيضا -
بلحاظ ترتبه على الانشاء مسبب وبلحاظ ترتب الاعتبار عليه سبب، والى
اختلاف اللحاظ يرجع الاختلاف في الوضع للسبب والمسبب لا إلى اختلاف
واقع الموضوع له وحقيقته، ولا يرد على الالتزام بذلك أي محذور مما تقدم، فإنه
قابل للانشاء ومن فعل الشخص نفسه، ولذلك يسند إليه، فيمكن الوضع له.
وبالجملة: الموضوع له هو المعنى الانشائي، فلفظ البيع موضوع
للتمليك الانشائي لا للعقد ولا للتمليك الاعتباري، وهو قابل للاتصاف بالصحة
والفساد، إذ قد لا يترتب عليه الأثر العقلائي، فللنزاع مجال حينئذ على كلا
القولين أيضا.
وبما ذكرنا ينحل الاشكال ويتجه الالتزام بالوضع للسبب وللمسبب
بالمعنى الذي ذكرناه أخيرا لهما، ولا نعرف وجها آخر لحل الاشكال ولا طريقا
يلتزم به بلا ورود محذور.
هذا بناء على تفسير الانشاء بما عرفت. واما بناء على تفسيره بالاعتبار
الشخصي القائم بالنفس وابرازه باللفظ، وانه متقوم بهذين الامرين: الاعتبار
النفساني، والمبرز. وانه ليس هناك شئ آخر وراء هذين الامرين، فلا يبقى
موضوع للاشكال وحله، إذ لا سبب ولا مسبب في البين، إذ ليس هناك الا ما
عرفت من الاعتبار النفساني واللفظ المبرز، فليس أحدهما سببا للاخر، إذ وظيفة
اللفظ ليس إلا الابراز والكشف، والاعتبار حاصل بأسبابه التكوينية لأنه فعل
الشخص ولا يترتب على اللفظ، فلا يكون مسببا عنه ولا اللفظ سببا له، فلا
مجال بعد هذا لدعوى كون الموضوع له هو السبب أو المسبب.
279

وللمحقق النائيني (قدس سره) كلام حول سببية العقد للأثر لا يخلو عن
ارتباك كما سيتضح، فإنه جرى أولا مجرى المشهور من دعوى كون العقد سببا
والأثر مسببا. ثم ادعى ان التحقيق خلاف ذلك، وان نسبة العقد إلى المعاملة
والأثر نسبة الآلة إلى ذي الآلة لا نسبة السبب التوليدي إلى المسبب، ولذلك
فهما موجودان بوجود واحد، وليس هناك موجودان خارجيان هما السببية
والمسببية. وعليه بن كون إمضاء - المعاملة - المسببات على الرأي المشهور
امضاء للأسباب - للعقد -.
ثم ذكر بعد ذلك أن الفرق بين العقد والمعاملة كالفرق بين المصدر واسم
المصدر، وان العقد بمنزلة المصدر والمعاملة بمنزلة اسم المصدر.
والذي يظهر منه هو اطلاق السبب على نفس العقد. غاية الامر ان
الاختلاف في كونه سببا أو آلة.
وقد قرب (قدس سره) كون نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذيها
لا السبب إلى المسبب، بان المسبب التوليدي ما كان يترتب على سببه بمجرد
وجوده بلا توسط أي إرادة له، بل ترتبه قهري، ولذلك لم يكن بنفسه متعلقا
للإرادة بل الإرادة تتعلق به بتبع تعلقها بالسبب، وذلك نظير الاحراق بالنسبة
إلى الالقاء، فإنه يترتب قهرا على الالقاء أريد أم لم يرد، بخلاف ذي الآلة فإنه
اختياري بنفسه وبالمباشرة فلا يترتب على تحقق الآلة قهرا، بل تتعلق به الإرادة
بنفسه، نظير الكتابة بالنسبة إلى القلم والقطع بالنسبة إلى السكين، فان آلة
الكتابة القلم وآلة القطع السكين وهما - أعني الكتابة والقطع - من الأمور
الاختيارية بنفسها والتي تتعلق بها الإرادة مباشرة، فلا تترتب على وجود القلم
والسكين قهرا - كما لا يخفى -. ومن ذلك العقود والايقاعات، فان البيع والأثر
من الأمور الاختيارية، التي يتعلق بها الاختيار بنفسها ولا تتحقق بمجرد تحقق
العقد ما لم تتعلق به الإرادة كما لا يخفى. فلا تكون النسبة بينهما نسبة السبب
280

التوليدي إلى المسبب (1).
ولا بد لنا ان نعرف أولا: مدى ما ذكره من كون النسبة بين العقد والمعاملة
نسبة الآلة إلى ذيها. وثانيا: مدى ما رتبه على ذلك من نفي تعدد الوجود، وانه
ليس لدينا موجودان متغايران. وثالثا: مدى صحة ما قرره من كون الفرق بينهما
كالفرق بين المصدر واسم المصدر.
اما الأول: فهو غير متجه، لان الفرق بين الآلة والسبب بحسب الفهم
العرفي في أن السبب فعل اختياري للشخص والآلة ليست من أفعال الشخص،
بل هي من الأمور التكوينية التابعة في وجودها لأسبابها التكوينية، فآلة القطع
هي السكين وهي ليست من الأفعال، وسببه تحريك السكين وهو من الأفعال،
فالعرف يرى ان الآلة هي السكين والسبب هو التحريك دون العكس. وعليه
فكون العقد من قبيل الآلة إذا لوحظ بألفاظه من دون لحاظ الاستعمال
والانشاء، وليس الامر كذلك، فان جهة الانشاء واستعمال اللفظ هي الدخيلة في
التأثير، ومقومة للعقد، وليس العقد عبارة عن ذات الألفاظ بنفسها. وعليه
فبمقتضى ما ذكرنا يكون العقد من الأسباب لأنه من الأفعال الاختيارية.
واما الثاني: فهو غريب جدا، فان كون العقد آلة لا يعني انه ليس
بموجود آخر غير الأثر، إذ لا ملازمة بين الالية واتحاد الوجود، إذ وجود السكين
غير وجود القطع، ووجود القلم غير وجود الكتابة، وتغاير وجود نفس الانشاء
والعقد مع وجود الملكية أمر لا يكاد يخفى، وكون العقد آلة لا يغير هذا الواقع عما
هو عليه، فان الأثر أمر اعتباري والآلة امر تكويني، فكيف يكون وجودهما
واحدا؟!. هذا ان أراد اتحاد وجوديهما كما قد يظهر من ذيل عبارته. وان أراد اتحاد
ايجاديهما مع تعدد الوجود. ففيه: ان تغاير الايجاد والوجود اعتباري، والا فهما
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 49 - الطبعة الأولى
281

متحدان واقعا فكيف يتحد الايجاد ويتعدد الوجود؟.
واما الثالث: فهو مما لا محصل له ان كان المراد به ما هو ظاهره. والمصرح
به في غير هذا المكان - في النهي عن المعاملة - من كون الفرق بين العقد والأثر
فرقا اعتباريا غير حقيقي، كالفرق بين المعنى المصدري والمعنى الاسمي
المصدري، نظير الايجاد والوجود، فان حقيقتهما واحدة والفرق بينهما اعتباري،
فان الايجاد ينتزع من إضافة الشئ إلى الفاعل والوجود ينتزع من اضافته إلى
المورد القابل. ووجه بطلانه: هو استلزامه لان يكون الشئ مؤثرا في نفسه، وهو
ممتنع، إذ الشئ لا يكون علة لنفسه، وذلك لان ذلك لازم اتحاد العقد المؤثر والأثر
في الوجود وعدم تغايرهما في جهة حقيقة، ولو تنزلنا عن محذور وحدة الوجود -
كما هو الفرض - فهو غير متجه أيضا. وان أريد ان العقد مرتبط بالجهة المصدرية
لا انه هو الجهة المصدرية، بتقريب: ان هناك ملكية وتمليك، فالملكية بمعنى اسم
المصدر والتمليك بمعنى المصدر والعقد المسمى بالسبب أو الآلة يترتب عليه
التمليك، فهو مرتبط بالجهة المصدرية. وعليه فامضاء الملكية امضاء للتمليك لعدم
الفرق بينهما الا اعتبارا، وامضاء التمليك امضاء للعقد لأنه ناشئ منه ومترتب
عليه - ان أريد ذلك كما هو المناسب لمقام المحقق النائيني العلمي -، فهو معقول،
الا انه ممنوع: بان ما يترتب على العقد هو الملكية، والتمليك ينتزع عن ترتبها
على العقد الصادر من المنشئ كما لا يخفى. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجه الارتباك
في كلامه (قدس سره) بلا خفاء.
واما ما ذكره صاحب الكفاية من: كون الموضوع له اللفظ هو العقد
المؤثر لاثر كذا شرعا وعرفا (1). فالكلام يقع أولا: في معرفة المراد من كلامه. وثانيا
في تمامية دعوى الوضع للصحيح وعدم تماميتها.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 33 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
282

وتحقيق المقام الأول: ان الظاهر من العبارة ان الموضوع له اللفظ هو
العقد المؤثر عند العرف والشرع، بحيث يكون قوله: (عرفا وشرعا) قيدا للمؤثر.
فيكون التأثير لدى الشرع والعرف معا مقوما للموضوع له.
ولا يمكن الالتزام بهذا الظاهر لوجهين:
الأول: ان المفروض انه ليس للشارع اختراع خاص في باب المعاملات،
بل لم يكن منه سوى إمضاء المعاملات العرفية أو الردع عنها، وهذا يعني ان هذه
المعاملات كانت ثابتة قبل زمان الشارع، وعليه فلا معنى لان يوضع اللفظ لها
في تلك الأزمنة ويكون الموضوع له هو المؤثر عند الشرع والعرف، إذ لا شارع
في زمان الوضع ولا يعترف به كي يكون التأثير عنده مقوما للموضوع له.
الثاني: ان الغرض من تعيين الموضوع له في ألفاظ المعاملات هو تنزيل
استعمالات الشارع عليه، وهذه النتيجة لا تحصل على هذا البيان للموضوع له،
إذ استعمالات الشارع لألفاظ المعاملات بين ما تكون في مقام الامضاء، نظير
قوله تعالى: (أحل الله البيع) (1)، وما تكون في مقام الردع والالغاء نظير ما ورد:
(نهى النبي (ص) عن بيع الغرر) (2). ولا يخفى ان البيع إذا كان معناه العقد المؤثر
شرعا وعرفا لم يقبل الامضاء ولا الالغاء، إذ لا معنى لامضاء الشارع ما هو مؤثر
عند الشارع للغويته، كما لا وجه لالغاء الشارع ما هو مؤثر عنده، لأنه تهافت
واضح وتناقض ظاهر.
وإذا تبين ان هذا الظاهر لا يمكن الالتزام به، فلا بد من توجيه الكلام
بنحو لا يرد عليه شئ في نفسه ولو احتاج ذلك إلى تكلف وتقدير، ويمكن ان
توجه العبارة بان المراد كون الموضوع له هو المؤثر عرفا. والشارع تابع العرف
على ذلك، فالتأثير شرعا لم يلحظ قيدا للموضوع له، ولكن هذا التوجيه بعيد
.

(1) سورة البقرة: الآية: 275.
(2) وسائل الشيعة 12 / 330 باب: 40 من أبواب آداب التجارة، حديث: 3
283

جدا عن ظاهر العبارة كما لا يخفى. مضافا إلى أنه لا يتلاءم مع ما ذكره بعد ذلك
من رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى التخطئة، إذ لا موضوع للتخطئة
على هذا التوجيه لفرض تبعية الشارع للعرف وعدم استقلاله في شئ ما.
فالمتعين ان يحمل مراد صاحب الكفاية على أن الموضوع له اللفظ عند
الشرع والعرف هو العقد المؤثر بنحو الاقتضاء لا بنحو الفعلية، ويراد من اقتضاء
التأثير هو كون العقد تام الجهات بنحو لو التفت إليه العاقل الحكيم رتب عليه
الأثر بلا توقف، وذلك هو العقد الصحيح. فقوله: (عرفا وشرعا) لا يرجع
إلى تقييد التأثير، بل إلى تقييد الموضوع له، بمعنى ان الموضوع له عند الشرع
والعرف هو العقد المؤثر. والوجه في حمل التأثير على التأثير الاقتضائي لا
الفعلي هو ظهور ذلك من عمل العقلاء، فان العقلاء حين يمضون المعاملة
ويرتبون الأثر عليها، يرون بحسب ارتكازياتهم أنهم يمضون البيع - مثلا - وهذا
يقتضي ان البيع موضوع لما له التأثير اقتضاء، إذ لو كان موضوعا لما هو مؤثر فعلا
كان صدق البيع مترتبا على تحقق الامضاء منهم واعتبار الأثر بأثر العقد، وهو
يتنافى مع ما يرونه من ورود الامضاء على البيع وترتبه عليه وان موضوعه هو البيع
وهذا المعنى لعبارة الكفاية ليس ببعيد عن الظاهر، وهو خال عن المحذور
السابق كما لا يخفى. وبذلك يتضح جدا رجوع الاختلاف بين الشرع والعرف
إلى التخطئة، وذلك لان مرجع اختلاف الشارع مع العرف إلى أن الشارع
يرى عدم اقتضاء العقد للتأثير بدون الشرط الذي يعتبره لاطلاعه على دقائق
الأمور وتأثيراتها التكوينية. بخلاف العرف فان اطلاعه محدود جدا، فيرى أن
للعقد اقتضاء التأثير بدون الشرط، فالشارع باعتباره شرطا يخطئ العرف في
نظره الراجع إلى تأثير العقد بدون ذلك الشرط. ولا يرجع الاختلاف إلى
الاختلاف في الموضوع له فإنه عندهما واحد وهو العقد المؤثر بنحو
الاقتضاء في اثر ما، بل يرجع إلى الاختلاف في تعيين مصداق المؤثر بنحو
284

الاقتضاء. ولا يختلف الحال فيما ذكرنا فيما إذا كان الأثر من الأمور الواقعية أو
كان من الأمور الاعتبارية، لان الاختلاف في تحقق الاقتضاء للتأثير وعدمه وهو
أمر واقعي تختلف فيه الانظار ويقبل التخطئة والتصويب لان النظر طريق إليه.
وهو أجنبي عن نفس الأثر وتحققه كي يقال - كما أفاد المحقق الأصفهاني -
بان الاختلاف انما يكون من باب التخطئة لو كانت الملكية مثلا من الأمور
التكوينية الواقعية دون ما إذا كانت - كما هو الحق - من الأمور الاعتبارية،
وذلك: لان الأمور الواقعية لها تقرر في الواقع وفي حد ذاتها ويكون النظر طريقا
إليها وكاشفا، وبذلك تتصور التخطئة والتصويب، إذ قد يرى جماعة أو شخص
تحقق هذا الامر في مورد ما ويرى آخرون أو آخر عدم تحققه بلحاظ اطلاعه
على بعض الخصوصيات. وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية فإنه لا وجود لها
الا بالاعتبار والجعل، فالنظر له موضوعية بالنسبة إليها وليس طريقا إليها، إذ
لا واقع لاعتبار كل معتبر الا نفسه، فالملكية الموجودة باعتبار العرف موجودة عند
كل أحد ولا مجال لإنكارها لأنها حصلت بالاعتبار الذي هو فعل العرف، نعم
هي لا وجود لها في اعتبار الشارع في بعض الأحيان وذلك لا يعني التخطئة ونفي
الوجود والتحقق إذ تحققها في اعتبار العرف امر لا ينكره الشارع المفروض ان
واقع الامر الاعتباري واقع الاعتبار ونفسه.
وملخص الفرق: ان للأمور الواقعية واقعا محفوظا في نفسه تختلف فيه
الانظار، وليس للأمور الاعتبارية واقع وتقرر، بل واقعها لا يعدو الاعتبار وواقعه،
فلا تختلف فيه الانظار. ولأجل ذلك قيل: إن الامر الواقعي تختلف فيه الانظار
والامر الاعتباري يختلف باختلاف الأنظار.
وقد حمل المحقق الأصفهاني - بعد ذلك - كلام المحقق صاحب الكفاية
على التخطئة في مقام آخر، وهو مقام اقتضاء السبب للتأثير. ببيان: ان الأثر وان
285

كان من الأمور الاعتبارية الا ان كون هذا السبب مقتضيا للاعتبار أمر تابع لما
يراه العقلاء من مصالح ومفاسد ومقتضيات قائمة بالسبب، وليس أمرا جزافا،
وإلا لكان على حد المعلول بلا علة.
وعليه، فالعقول متفاوتة في ادراك المصالح والمفاسد، ولا ريب ان نظر
العرف يقصر عن ادراك خصوصيات الأمور ودقائقها، فقد يرى بحسب نظره
القاصر صلاحية الشئ للتأثير ولكونه سببا للاعتبار، ولكن يرى الشارع
بحسب نظره الواسع الدقيق عدم صلاحية ذلك الشئ للسببية وخطأ العرف في
نظره فيخطؤه فيه، فالتخطئة والتصويب في هذه المرحلة دون غيرها، ويكون
المراد من عبارة الكفاية هو تخطئة الشارع العرف في الوجه الباعث على جعل
الشئ سببا لا في نفس السبب ولا المسبب (1).
ولكن عرفت أن عبارة الكفاية - بناء على ما حملناها عليه من المعنى -
لا تحتاج إلى هذا التكلف، بل التخطئة والتصويب في تشخيص مصداق الموضوع
له وهو العقد المؤثر، ولو كان الأثر من الأمور الاعتبارية.
واما المقام الثاني: فظاهر صاحب الكفاية كون الموضوع له هو الصحيح
بالمعنى الذي ذكرناه، وهو العقد الحاوي لجميع جهات التأثير، بحيث يترتب
عليه الأثر من قبل العقلاء بمجرد الالتفات إليه.
ولكن الانصاف عدم تمامية هذه الدعوى، فان المرتكز في الأذهان من
اللفظ هو المعنى الأعم من الصحيح والفاسد، فان اطلاق لفظ البيع على بيع
الغاصب الذي لا يرى العرف نفوذه لا يختلف عرفا عن اطلاقه على بيع المالك
في كون اطلاق كل مهما حقيقيا لا مسامحة فيه، وهذا أمر لا يقبل الانكار بحسب
الظاهر، ولا نعرف الوجه الذي به نفى صاحب الكفاية استبعاد الوضع للصحيح.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 59 - الطبعة الأولى
286

والذي تلخص من مجموع ما ذكرنا امران:
الأول: ان الموضوع له اللفظ ليس هو العقد ولا الأثر، بل التمليك
الانشائي ونحوه من الآثار بوجودها الانشائي، ويعبر عنه بالسبب وبالمسبب
باعتبار لحاظين. وعليه، لا بد ان تحمل دعوى صاحب الكفاية الوضع لسبب وان
كان ظاهرها الوضع للعقد، إذ قد عرفت أنه لا معنى لكون الموضوع له هو العقد.
الثاني: ان الموضوع له أعم من الصحيح والفاسد، وليس هو خصوص
الصحيح.
هذا كله بالنسبة إلى تعيين الموضوع له.
ويقع الكلام بعده في ثمرة النزاع وامكان التمسك بالاطلاق في ألفاظ
المعاملات وعدمه. وبيان الحال: انه قد يدعى عدم امكان التمسك باطلاق دليل
امضاء المعاملة لو شك في امضاء فرد خاص، بناء على الوضع للصحيح.
وذلك: لان اللفظ موضوع إلى ما هو المؤثر واقعا أو ما له اقتضاء التأثير
بنحو خاص من الاقتضاء - وهو الذي بيناه -، فالمراد به حينئذ العقد المؤثر في
الملكية الواقعية أو المقتضي للتأثير. فإذا شك في فرد أنه ممضى أو لا يشك - جزما -
في أنه مؤثر واقعا أو في أنه مقتضي التأثير أو لا. ومعه لا مجال للتمسك باطلاق اللفظ
في اثبات الامضاء له لعدم احراز صدق المطلق عليه، فلا مجال للتمسك بقوله
تعالى: (أحل الله البيع) في حلية بيع الغرر. إذ الشك في حلية بيع الغرر يرجع
إلى الشك في أنه مؤثر في الملكية الواقعية أو انه مقتضي للتأثير فيها بنحو يترتب
عليه الأثر بمجرد الالتفات إليه، فلا يحرز مع هذا صدق البيع عليه كي يتمسك
باطلاقه، إذ الفرض ان لفظ البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا أو ما هو مقتضي
للتأثير، ولا يحرز انطباق احدى الحقيقتين على بيع الغرر.
وقد تصدى المحقق صاحب الحاشية لتصحيح التمسك بالاطلاق بناء
على الوضع للصحيح، ودفع هذه الدعوى. وتقريب كلامه: ان المدلول المطابقي
287

للدليل المتكفل امضاء العقد وان كان هو امضاء العقد المؤثر واقعا وهو غير محرز
الصدق على الفرد المشكوك امضاؤه، فلا يصح التمسك بالاطلاق في اثبات الحكم
له، الا انه حيث لا طريق لدينا من الخارج لتعيين مصداق موضوع الامضاء
وتشخيصه بنحو جزمي فيعين ان هذا العقد مؤثر واقعا في الملكية بنحو يوجب
العلم والجزم. كان مقتضى عدم تعرض الشارع في الدليل إلى بيان مصاديق
الموضوع و العقد المؤثر وتحديدها بنظر العرف وبحسب الظهور العرفي، هو
الاعتماد على العرف في تشخيص المصداق، وان ما هو بنظر العرف مؤثر واقعا
فهو بنظر الشارع مؤثر. وعليه، فإذا شك في فرد انه ممضى أو لا، فإذا كان بنظر
العرف مؤثرا واقعا شمله الدليل لكونه من افراد الموضوع نعم إذا كان الشك
في اعتبار شئ عرفا لم يمكن التمسك بالاطلاق لعدم احراز كونه - أي الفاقد -
من المؤثر واقعا عند العرف أيضا، فلا يحرز انطباق المطلق عليه وهو مانع عن
التمسك بالاطلاق.
وبالجملة: دليل الامضاء يتكفل بيان أمرين: أحدهما: إمضاء العقد.
والاخر: ان ما هو المؤثر واقعا عند العرف مؤثر عند الشارع. والأول يتكفله
المدلول المطابقي للكلام. والثاني يتكفله المدلول الالتزامي الاقتضائي. وبذلك
يصح التمسك بدليل الامضاء مع الشك في اعتبار شئ في عقد شرعا لاحراز
التأثير واقعا عند العرف فينطبق عليه المطلق. دون الشك في اعتبار شئ عرفا
في العقد، لعدم احراز كون العقد بدونه مؤثرا واقعا.
وبهذا البيان يصحح التمسك بدليل الامضاء لو كان الموضوع له اللفظ
هو العقد المقتضي للتأثير، فإنه بمثل التقريب المذكور يحمل كلام الشارع على
إرادة العقد المقتضي للتأثير عرفا، وان ما هو كذلك عند العرف كذلك عند
الشرع، فيصح التمسك بدليل الامضاء مع الشك لاحراز انه مقتض للتأثير
288

عرفا، فلاحظ (1).
هذا هو الذي نعلمه في توضيح كلام المحقق صاحب الحاشية، وهو الذي
أشار إليه صاحب الكفاية (2). وبذلك يندفع الاشكال ويتضح ان التمسك بدليل
الامضاء ممكن على القول بالصحيح.
ولم يتعرض المحقق النائيني إلى بيان المطلب بشكل مفصل، بل لم يزد على
أكثر من أن الدليل إذا كان في مقام امضاء الأسباب العرفية ولم يزد شيئا على ما
هو سبب عند العرف، فلا مناص من التمسك باطلاق كلامه في دفع ما يتوهم
دخله (3).
واما المحقق الأصفهاني فقد تصدى لتوضيح كلام صاحب الحاشية بغير
ما بيناه. ومحصله: ان البيع موضوع لما هو المؤثر واقعا، ونظر العرف والشرع
طريق إليه، فإذا كان المولى في مقام البيان وحكم بنفوذ كل ما هو مؤثر واقعا في
الملكية بلا تقييده بمصداق خاص وسبب معين، يكون هذا الاطلاق حجة على أن
ما هو المملك في نظر العرف مملك في نظر الشارع ويكون المتبع في تعيين
المصداق هو العرف، ولا مجال لان يقال: بان المتبع من نظر العرف هو نظره في
المفاهيم دون المصاديق، وذلك لقيام الحجة الشرعية على جواز اتباعه في تعيين
المصداق والاخذ بنظره فيها، وتلك الحجة هي الاطلاق وعدم التقييد، وقد ارتضى
(قدس سره) هذا التقريب لولا المناقشة في أساسه من كون الملكية من الأمور
الواقعية، لبنائه على كونها أمرا اعتباريا (4).
وأنت خبير بان هذا التوجيه غير تام، إذ ليس على المتكلم ان يبين واقع
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين / 109 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 33 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 48 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 59 - الطبعة الأولى
289

المصاديق وتعيين محققات المفهوم المأخوذ موضوعا لحكم من الاحكام، بل الذي
عليه ان يبين ما هو الموضوع للحكم وقد بينه بأنه المؤثر في الملكية واقعا، اما
مصاديق هذا الموضوع وبيان افراد المؤثر فذلك ليس من وظائفه كي يكون عدم
تقييده اللفظ بمصداق معين دليلا على إرادة المصاديق العرفية، فالطبيب إذا أمر
المريض بأكل الحامض ولم يبين مصاديقه لا يعد ذلك دليلا على تحكيم نظر معين
في المصاديق. وإلا لكان خلف فرض كونه في مقام البيان.
نعم سكوت المولى عن بيان ما هو المصداق مع عدم الطريق إلى تعيينه
غير نظر العرف ظاهر عرفا في تحكيم نظر العرف، كما ذكرنا، ولكنه أجنبي عن
التمسك باطلاق الكلام في اثبات ذلك كما قرره المحقق الأصفهاني (قدس
سره)، فإنه غير وجيه كما عرفت، إذ عدم تقييده بمصداق مخصوص كاشف عن
امضاء جميع افراد المؤثر واقعا لا إرادة المؤثر بنظر العرف كما لا يخفى.
هذا كله بناء على كون ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب.
اما بناء على كونها موضوعة للمسببات، فهل يمكن التمسك باطلاق
الدليل في اثبات صحة المعاملة مع الشك في إمضاء السبب، كما إذا شك في صحة
العقد بالفارسية ونحوه. أو لا يمكن، بل دليل الامضاء يتكفل إمضاء المسبب دون
السبب؟.
وتقريب الاشكال في التمسك بالاطلاق ونفي تكفل دليل امضاء المسبب
امضاء السبب: ان الدليل انما يتكفل امضاء المسبب، وتكفله امضاء السبب
يتوقف على أن يكون نظره إلى ذلك، الا ان العرف في مثل ذلك لا يرى نظر
الدليل إلى ذلك، بل لا يرى سوى نظره إلى امضاء السبب بلا لحاظ أسبابه.
وعليه، فلا يمكن التمسك بالاطلاق في اثبات امضاء السبب المشكوك لعدم كونه
في مقام البيان من هذه الجهة، ويشهد لما ذكرنا ملاحظة الموارد العرفية، فان
الشخص إذا أمر أحد عبيده بقتل شخص وعلم من حاله انه يكره استعمال
290

السكين في القتل، فإنه لا يرى ان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال
السكين، ولو كان الدليل المتكفل لاثبات حكم على المسبب ناظرا إلى جهة
السبب لكان أمره بقتل الشخص منافيا لكراهة استعمال السكين بنظر العرف.
وليس كذلك، وما ذلك الا لان العرف لا يرى ان الدليل ناظر إلى جهة السبب
وامضائه.
بهذا الوجه لا بد ان يقرب الاشكال على التمسك بالاطلاق وحاصله: ان
العرف لا يرى ان الدليل المتكفل لحكم على المسبب من امضاء ونحوه ناظر إلى
اثبات ذلك الحكم أو لازمه للسبب.
وقد بين المحقق النائيني الاشكال بنحو آخر وهو: ان الدليل إذا كان
متكفلا لامضاء المسببات مع قطع النظر عن الأسباب التي يتوسل بها إليها،
فلا يدل على امضاء الأسباب العرفية مع وجود القدر المتيقن (1).
ولا يخفى ان هذا ليس تقريبا للاشكال بحسب القواعد، وأنه أشبه
بالقضية المأخوذ موضوعها بشرط المحمول، إذ فرض فيه عدم النظر إلى
الأسباب في الدليل وأنه مفروغ عنه. وعليه، فلا يتمسك بالاطلاق. وليس هناك
من يدعي - بعد هذا الفرض - إمكان التمسك بالاطلاق حتى يكون هذا تقريبا
للاشكال. ثم يدفع بما قرره: من أن نسبة العقد إلى المعاملة نسبة الآلة إلى ذي
الآلة لا نسبة السبب إلى المسبب، فليس هناك موجودان كي لا يكون إمضاء
أحدهما إمضاء للاخر، بل موجود واحد. غاية الامر انه يتنوع بتنوع آلته، فإذا
كان المتكلم في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون آخر يستكشف عمومه لجميع
الأنواع.
وأنت خبير بان هذا لا يدفع الاشكال بالنحو الذي ذكره، فإنه إذا ثبت
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 48 - الطبعة الأولى
291

ان الدليل ناظر إلى المسبب لا إلى جهة السبب أو الآلة - كما يسميه (قده) - لم
يصح التمسك باطلاق دليل امضاء المسبب والمعاملة في نفي الشك من جهة
العقد والآلة، لعدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، سواء كان العقد والمعاملة
من قبيل السبب والمسبب أو الآلة وذي الآلة، إذ وحدة وجودهما لا تصحح
التمسك بالاطلاق بعد أن فرض عدم النظر إلى جهة العقد في الدليل وان النظر
متمحض بجهة المعاملة، فما قرره من أن العقد والمعاملة موجودان بوجود واحد
وليسا موجودين بوجودين لا يجدي في تصحيح التمسك بالاطلاق بعد تقرير
الاشكال بما عرفته من نفي نظر الدليل إلى جهة العقد والسبب، إذ كونه آلة أو
سببا لا يغير واقعه وعدم النظر إليه.
هذا مع أن في ما افاده مواقع للنظر، منها: ان ما ذكره تحقيقا لدفع
الاشكال عن الشهيد الذي التزم بان الموضوع له العقود هو الصحيح. مدفوع
بما تقدم: من أن اشكال التمسك بالاطلاق يتوجه على بناء الأصحاب على
الرجوع إلى مطلقات المعاملات.
ولا يخفى عليك انه يبتني على الوضع للأسباب لا المسببات، فان الوضع
للمسببات مناف للاتصاف بالصحة باعترافه (قدس سره)، فلا ربط لهذا الكلام
بدفع الاشكال عن الشهيد.
وما يقال: من انه (قدس سره) في مقام تحقيق أصل المطلب، وليس بناظر
إلى خصوص دفع الاشكال عن الشهيد.
فهو خلاف ظاهر العبارة. وعليك بالملاحظة تعرف.
وقد حاول السيد الخوئي تصحيح التمسك بالاطلاق بوجه آخر بعد
إبطاله لما ذكره المحقق النائيني في وجه التصحيح.
ومحصله: ان ما ذكر انما يصح لو كان المسبب واحدا له أسباب عديدة،
فان امضاءه لا يقتضي امضاء أسبابه، بل لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن
292

ونفي تأثير المشكوك بأصالة عدم ترتب الأثر. نعم لو لم يكن قدر متيقن أمكن
القول باستلزام امضاء المسبب امضاء أسبابه جميعها، لان الحكم بإمضاء بعضها
دون آخر ترجيح بلا مرجح، والحكم بعدم امضائها كلها يستلزم اللغوية. واما بناء
على التحقيق من تعدد المسبب بتعدد السبب، بمعنى ان لكل سبب مسبب على
حده فانشاء زيد سبب لملكية غير الملكية الحاصلة بانشاء عمرو وهكذا، ولا
يختلف ذلك باختلاف مباني الانشاء فلا يتم ذلك - أعني عدم كون امضاء
المسببات امضاء الأسباب -، وذلك لان كل مسبب لا ينفك عن سببه، فالدليل
المتكفل لامضاء المسبب بقول مطلق يستلزم إمضاء المسبب مطلقا، إذ لا ينفك
إمضاء المسبب عن إمضاء سببه حينئذ، وإلا لكان امضاء المسبب لغوا (1).
ولا يخفى ما في هذا الوجه، فإنه لا يصلح ردا للاشكال الذي ذكرناه، فإنه
بعد ثبوت ان الدليل المتكفل لامضاء المسبب لا يكون ناظرا عرفا إلى جهة
السبب ويكون مجملا من هذه الجهة، فلا يجدي تعدد المسبب في اثبات امضاء
السبب المشكوك، لعدم العلم بإمضاء المسبب الناشئ من السبب المشكوك للشك
فيه من جهة السبب، والمفروض اجمال الكلام من هذه الجهة فلا اطلاق للكلام
كي يتمسك به.
ومن هنا يظهر انه لا يجدي في اثبات امضاء السبب كونه من قبيل المبرز
والكاشف عن الاعتبار النفساني لا السبب والمسبب - كما هو مذهب السيد
الخوئي في باب الانشاء -، وانه ليس لدينا سبب ومسبب، بل كاشف ومنكشف،
إذ امضاء الاعتبار النفساني لا يستلزم إمضاء كاشفه - بعد فرض دخله في تحقق
الأثر -، إذا ثبت عدم نظر الدليل عرفا إلى جهة العقد وسمي كاشفا أو سببا أو
آلة، لاجمال الدليل من جهة العقد. نعم لو ادعي - كما ثبت ذلك - كون الموضوع
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 188 - الطبعة الأولى
293

له اللفظ هو المركب من العقد والاعتبار النفساني، فيكون دليل الامضاء متكفلا
لامضاء الأسباب - أعني العقود -، لأنه يتكفل امضاء المعاملات بعناوينها الخاصة
كالبيع والنكاح، والمفروض صدق العناوين على المركب فيتمسك باطلاقها في
اثبات امضاء كل عقد شك في سببيته. لو ادعى ذلك فله وجه، لكن عرفت ما
في أصل المبنى من الوهن.
وللمحقق العراقي كلام مرتبك جدا لا يجدي ذكره وبيان ما فيه فلتلاحظ
تقريرات بحثه للآملي (1).
وعليه، فالذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال: ان المراد بالمسبب - كما
تقدم - هو التمليك الانشائي الحاصل بالعقد والذي يترتب عليه التمليك
الاعتباري العقلائي، ولا يخفى ان نسبة هذا التمليك إلى العقد نسبة العنوان إلى
المعنون، إذ يقال للعقد انه تمليك إنشائي، نظير نسبة التعظيم إلى الفعل الصادر
من المعظم، فان التعظيم أمر اعتباري لكنه ينطبق على الفعل ويتعنون به الفعل،
ولذلك يسند الفعل والتعظيم إلى الشخص لا العقلاء.
وعليه، فالذي نقوله: ان اخذ المسبب موضوعا وورود الحكم عليه بهذه
الكيفية كورود حكم الامضاء عليه يختلف عن سائر الاحكام المأخوذ فيها
المسبب متعلقا للحكم في كون العرف يرى نظر الدليل المتكفل للأول ناظرا إلى
ناحية السبب وجهته دون الدليل المتكفل للثاني. وبعبارة أخرى: ان الحكم إذا
رتب على المسبب بلحاظ تحققه في الخارج بحيث أخذ موضوعا يرى العرف ان
الدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية سببه، فإذا قال أحب التعظيم، يرى العرف
ثبوت الحكم لأسباب التعظيم. بخلاف ما إذا رتب الحكم على المسبب بلحاظ
ايجاده في الخارج بان أخذ متعلقا فان العرف لا يرى نظر الدليل إلى ناحية
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 140 - الطبعة الأولى
294

أسبابه كما لو قال: (عظم زيدا) فإنه لا يدل الا على طلب التعظيم ولا نظر له
الا إلى جهة التعظيم دون أسبابه، والمسبب فيما نحن فيه أخذ موضوعا للامضاء،
فالدليل المتكفل له ناظر إلى ناحية السبب بنظر العرف.
وجملة المدعى: ان الدليل المتكفل للامضاء ونحوه يختلف عن غيره بنظر
العرف، فان العرف يرى أنه ناظر إلى جهة الأسباب، ومعه يمكن التمسك
بالاطلاق لكون المتكلم في مقام البيان.
فالجواب يرجع إلى انكار أساس الاشكال من كون الدليل غير ناظر
إلى جهة الأسباب.
ونتيجة ما ذكرناه: انه يمكن التمسك باطلاق لفظ المعاملة سواء قلنا
بوضعه للسبب أو للمسبب، فلا ثمرة في البحث عن تعيين الموضوع له منهما.
يبقى في المقام أمر تعرض إليه صاحب الكفاية، ومحصله: ان الشئ الذي
يتعلق به الامر الدخيل في المأمور به..
تارة: يكون مقوما للمأمور به ونفس الماهية بنحو الجزئية أو الشرطية
كالسورة والطهارة.
وأخرى: يكون مقوما للفرد والتشخص بنحو الجزئية أو الشرطية أيضا،
كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والقنوت في الصلاة.
وثالثة: لا يكون مقوما لأحدهما، وانما تكون نسبة المأمور به إليه نسبة
الظرف إلى المظروف، بمعنى ان المأمور به اخذ ظرفا له لا أكثر، كالتصدق في
الصلاة فيما لو نذره، فان التصدق خارج عن حقيقة الصلاة ماهية وفردا (1).
ولا بد من معرفة صحة التقسيم إلى هذه الأقسام الخمسة ومعرفة المقصود
من هذا التقسيم.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 33 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
295

فنقول: ان جزء التشخص والفرد أو شرطه لا يعلم له محصل الا في بعض
الموارد المذكورة له، وذلك لان ما يتقوم به الفرد مع قطع النظر عن ماهيته عبارة
عن لوازم وجوده غير المنفكة عنه كالمكان والزمان، اما ما ينفك عنه فلا يعد مقوما
للفرد، بل من عوارضه. ولأجل ذلك لا يتصور أن يكون شيئا مأخوذا مقوما
للفرد إلا مثل كون الصلاة في المسجد باعتبار تقوم الفرد بمكان ما ومنه المسجد،
لان من لوازم وجود الصلاة وقوعها في مكان ما من الأمكنة. أما مثل الصلاة
جماعة أو القنوت في الصلاة فلا يعقل أن يكون مقوما للفرد، لأنه ليس من لوازم
وجوده بل يمكن ان ينفك عن الصلاة فلا تقع جماعة ولا يؤتى بالقنوت في
الصلاة. مضافا إلى أن وجوده لو كان لم يكن من باب اللزوم والقهر وعدم امكان
تجرد الوجود عنه، بل من جهة اعتباره شرعا والامر به من قبل الشارع، ومثل
هذا لا يعد من لوازم الوجود كي يكون من مقومات الفردية والتشخص.
والى هذا الاشكال أشار المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية، و
أجاب عنه بما لا يعد الألفاظ من دون أن يكون له معنى محصل ظاهر
فلاحظه (1).
ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بامكان تصور مثل القنوت مقوما للفرد و
التشخص، فالذي يظهر لنا بعد التأمل ان نظر صاحب الكفاية إلى الجزء
المستحب دون الجزء الواجب، وذلك لان الامر يتعلق بالمركب من الاجزاء،
فالجزء الواجب المدعى كونه جزء الفرد لا الطبيعة اما أن يكون متعلقا لوجوب
آخر غير الوجوب المتعلق بالاجزاء الأخرى فيكون من القسم الخامس - أعني
الواجب في واجب وليس جزء للفرد -، واما أن يكون متعلقا لنفس الوجوب
المتعلق بالاجزاء الأخرى فلا يعقل ان يختلف عنها، لان الوجوب يتعلق بها جميعا
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 61 - الطبعة الأولى
296

بنحو واحد وعلى شكل متحد، فيمتنع ان يفرض كون أحدها جزء الفرد
والأخرى اجزاء الطبيعة والمأمور به. مضافا إلى أنه لا يختلف عن سائر الاجزاء
في الأثر وان عد جزء الفرد لاتحاد الوجوب المتعلق بها. وعليه فلا بد ان يفرض
الجزء المأخوذ مقوما للفرد جزء مستحبا كي يرتفع الاشكال - كما سيتضح -.
وعليه فتبني صحة ذلك على تصور الجزء المستحب للواجب وامكانه ثبوتا. وقد
قيل بامتناعه في الواجب ذي الاجزاء الارتباطية، نظرا إلى أن مرجع الارتباطية
إلى ارتباط الاجزاء بعضها مع بعض في مقام الامتثال، الذي يعني: ان امتثال كل
جزء انما يحصل بالاتيان بالاجزاء الأخرى بحيث انه مع عدم الاتيان بأحدها
لا يحصل امتثال المجموع، فالارتباطية ترجع إلى تقيد امتثال كل منها بالاتيان
بالاخر.
وعليه، فامتثال الاجزاء الواجبة اما أن يكون متوقفا على الاتيان بالجزء
المستحب، بمعنى انها مرتبطة به في مقام الامتثال. واما أن لا يكون كذلك، بل
يتحقق الامتثال بدون الاتيان به.
فعلى الأول، يلزم أن يكون الجزء واجبا ولازما لا مستحبا لتوقف الامتثال
عليه وهو خلف الفرض.
وعلى الثاني، يلزم أن لا يكون جزءا للواجب.
وعليه، فالجزء المستحب للواجب غير معقول ثبوتا.
فما يعبر عنه بالجزء المستحب للصلاة كالقنوت اما ان يحمل على كونه
مستحبا في واجب، فيكون من القسم الخامس كالواجب في الواجب، بمعنى ان ظرفه الواجب لا انه جزء الواجب. واما ان يحمل - كما صرح به - على تعلق
امر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد المشتمل على هذه الخصوصية غير
الامر الوجوبي المتعلق بنفس الطبيعة. نظير ما يقال في توجيه الكراهة في بعض
العبادات، من أن الامر التنزيهي لم يتعلق بنفس العبادة كي يتنافى مع رجحانها
.
297

والامر بها وعباديتها، بل هو متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد الخاص، فالامر
التنزيهي متعلق بتطبيق الصلاة على الصلاة في الحمام لا بنفس الصلاة في الحمام،
ومثله ما نحن فيه، فان الامر الاستحبابي متعلق بتطبيق الطبيعة على الفرد
المشتمل على الخصوصية كالصلاة مع القنوت أو جماعة. فهناك أمران: أحدهما:
متعلق بذات الطبيعة وهو الوجوبي. والاخر: متعلق بتطبيقها على فرد خاص وهو
الاستحبابي.
لكن التحقيق يقضي بامكان تصور الجزء المستحب للواجب ومعقوليته
ثبوتا. بيان ذلك: ان الخصوصية الزايدة على أصل الطبيعة المتعلقة للإرادة والامر..
تارة: تكون ذات مصلحة مستقلة بلا ارتباط لمصلحة الطبيعة بها، بحيث
يكون وجودها وعدمها بالنسبة إلى تحقق مصلحة الطبيعة بحدها على حد سواء
وبلا تفاوت، فمصلحة الطبيعة تتحقق بتمام حدها جئ بالخصوصية أو لم يؤت بها.
ونظير ذلك ما إذا تعلق الامر والإرادة بالصلاة ثم تعلقت الإرادة بالتصدق حال
الصلاة باعتبار النذر، فان التصدق لا يزيد من مصلحة الصلاة ولا يوجب تفاوتها
عما لو لم يتحقق في أثنائها، لاستقلال مصلحته عن مصلحة الصلاة، ومثله ما لو
تعلقت الإرادة والامر بإعداد وليمة لزيد وكان الامر يرغب في نفسه لبس القباء
الأبيض، فان لبس المأمور به القباء الأبيض وعدمه في الوليمة لا يوجب تفاوت نفس
الوليمة في المصلحة، بل لكل منهما مصلحة وأمر يترتب عليه الثواب ونحوه، والامر
بهذا النحو يكون من المطلوب في مطلوب كالمستحب أو الواجب في واجب،
ويكون لكل من الامرين امتثال على حدة.
وأخرى: لا تكون لها مصلحة مستقلة، بل مصلحته ضمنية مرتبطة
بمصلحة الطبيعة، بحيث تتفاوت مصلحة الطبيعة بوجودها وعدمها، كما لو
تعلقت الإرادة باعداد الغذاء وكانت خصوصية كونه من الرز مرغوبا فيها، فان
وجود خصوصية الرز في الغذاء يوجب تفاوت مصلحة الغذاء عما لو لم تكن
298

موجودة بل كان من الحنطة.
ومثل هذه الخصوصية لا يمكن ان تكون متعلقة للامر الاستحبابي بنفسها
لعدم استقلالها في المصلحة، والامر تابع لملاكه من المصالح، فإذا لم يكن فيها
مصلحة مستقلة امتنع تعلق امر مستقل بها لعدم ملاكه. وعليه ففي هذه الصورة
لا يمكن ان يلتزم بكون الخصوصية من قبيل الطبيعة على الفرد المشتمل على
الخصوصية، أو يتعلق الامر الاستحبابي بنفس الطبيعة مشتملة على الخصوصية،
فيكون هناك أمران أمر وجوبي بذات الطبيعة وأمر استحبابي بالطبيعة بقيد
الخصوصية، ولما امتنع اجتماع أمرين في شئ واحد لأنه من اجتماع الضدين،
يتداخل هذا الأمران وينقدح عنهما امر وجوبي مؤكد بالطبيعة مع الخصوصية.
فالامر يدور بين هذين الاحتمالين: تعلق أمر استحبابي بتطبيق الطبيعة على الفرد
الخاص. وتعلق أمر وجوبي مؤكد بالطبيعة المشتملة على الخصوصية. ولا محذور في
هذا الأخير، بل هو الثابت في التكوينات، فان من يرغب في الغذاء ويرغب في
أن يكون من الرز يجد في نفسه إرادة مؤكدة تتعلق بالغذاء من الرز، وإرادة غير
مؤكدة تتعلق بأصل الغذاء، ومن هاتين الإرادتين ينقدح الامر، فيكون هناك امر
بنفس الطبيعة وأمر آكد بالغذاء من الرز.
وبعد هذا، ففيما نحن فيه حيث يظهر من الأدلة ان مثل القنوت ونحوه
من اجزاء الصلاة، فيكون مقتضى ذلك ارتباط مصلحة القنوت بمصلحة الصلاة
بحيث تتفاوت مصلحة الصلاة بوجود القنوت وعدمه. وعليه، فلا يمكن تعلق امر
مستقل به حيث يكون من قبيل المطلوب في مطلوب، لعدم وجود ملاك الامر
المستقل فيه، بل يدور الامر بين أن يكون الامر الاستحبابي متعلقا بتطبيق
الطبيعة على الفرد أو يكون متعلقا بالطبيعة مع الخصوصية ويتداخل مع الامر
الوجوبي المتعلق بالطبيعة الشامل لمورد الخصوصية فينقدح عنهما أمر وجوبي آكد
299

بالطبيعة بقيد الخصوصية، الا انه حيث كانت المصلحة الموجبة للتأكد غير ملزمة
- كما دل على ذلك الدليل - جاز ترك الخصوصية اختيارا لتعلق الامر بنفس
الطبيعة - إذ لو كانت ملزمة امتنع تعلق الامر بنفس الطبيعة، ولو كانت ذات
مصلحة ملزمة نظير الجهر، فان الالزام بالجهر مع الاكتفاء بالصلاة
الإخفاتية حال النسيان والغفلة كاشف عن أن الصلاة الإخفاتية ذات مصلحة
ملزمة، إلا أن الجهرية ذات مصلحة ملزمة آكد بحيث يلزم بها المكلف مع الالتفات
ويرتفع الامر بكلي الطبيعة ويتعين الامر بالطبيعة بخصوصية الجهر، وان اكتفى
بالاخفاتية مع الغفلة لعدم امكان تدارك مصلحة الجهر وان كانت ملزمة كما هو
مقتضى دليل الاكتفاء -، فيمتثل نفس الامر بالطبيعة دون الامر الآكد المتعلق
بها مشتملة على الخصوصية -، فيمتثل نفس الامر بالطبيعة دون الامر الآكد المتعلق بها مشتملة على الخصوصية. ومن هنا صح تسمية القنوت بالجزء المستحب، فإنه
وان كان متعلقا للامر الوجوبي الآكد كسائر الاجزاء، الا انه حيث علم بالدليل
جواز تركه وعدم العقاب على عدم اتيانه بحيث لا تترتب عليه آثار الواجب
كان مستحبا أو بمنزلة المستحب، لان المكلف وان ترك هذا الفرد الا انه جاء
بفرد آخر بديل له ومتعلق للامر بالطبيعة، والمصلحة التي يشتمل عليها هذا الفرد
الموجبة لتأكد الوجوب غير ملزمة فلا مانع من تركه. وبعبارة أخرى: المكلف لم
يخالف في الحقيقة إلا جهة التأكد لا أصل الامر، وهي غير ملزمة فلا مانع من
مخالفتها.
وعلى كل، فالامر ثبوتا يدور بين هذين الاحتمالين، إذ كل منهما معقول
ثبوتا، الا ان الثاني أولى اثباتا من الأول، وذلك لان الامر يتبع الملاك والمصلحة
وهو يتعلق بما فيه الملاك، ومقتضى ذلك أن يتعلق الامر الاستحبابي بالطبيعة
المشتملة على الخصوصية فإنها تحوى المصلحة والملاك، لا تعلقه بتطبيق الطبيعة
على الفرد، فان نفس التطبيق لا يشتمل على المصلحة وان أوصل إليها وأنهى إلى
حصولها.
300

وعليه، فتصور الجزء المستحب للواجب ممكن، إذ عرفت أن الامر
الوجوبي المؤكد يتعلق بالطبيعة بقيد الخصوصية، وتكون الخصوصية متعلقة للامر
الوجوبي ضمنا، لكنها في نفس الوقت يجوز تركها ومن هنا يسمى الجزء مستحبا
وان كان متعلقا للامر الوجوبي، بلحاظ عدم ترتب آثار الوجوب عليه.
وعلى هذا فلا بد من أن يكون الاتيان بالقنوت بداعي الامر الصلاتي لا
امره، إذ لا امر يتعلق به كما لا يخفى.
ثم إنه تظهر الثمرة في الالتزام بالجزء المستحب في موارد:
منها: عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في صحة الصلاة وهو في
التسليم - لو قيل باستحبابه - بناء على الالتزام بأنه جزء مستحب للصلاة، لعدم
تحقق الفراغ من الصلاة المقوم للقاعدة بخلاف ما لو التزم بأنه مستحب في
واجب أو كون المستحب تطبيق الطبيعة على الفرد الخاص فان القاعدة تجري
لتحقق الفراغ عن الصلاة بانتهاء التشهد لعدم تقوم الصلاة بالتسليم وكونه من
اجزائها.
ومنها: جريان قاعدة التجاوز فيما لو شك في السورة وهو في القنوت بناء
على الالتزام بأنه جزء مستحب فيما لو التزم في صحة جريان القاعدة أن يكون
كل من المشكوك والمدخول فيه مرتبطا بالاخر في المحل المجعول له، بمعنى أن يكون
الغير الداخل فيه مرتبا على المشكوك وأن يكون المشكوك مأخوذا سابقا
على الغير - ولأجل ذلك بني على عدم جريان القاعدة فيما لو شك في التسليم
أو الصلاة وهو في التعقيب، لان التعقيب وان كان محله متأخرا عن الصلاة شرعا
الا انه لم يؤخذ في الصلاة سبقها على التعقيب إذ لا اشكال في صحتها بدون
التعقيب - بخلاف ما لو لم يلتزم بكونه جزء مستحبا، بل كونه مستحبا في واجب
أو كالمستحب في الواجب، وذلك لأنه مع كونه من اجزاء الصلاة يكون كل منهما
مرتبطا بالاخر ويؤخذ السابق سابقا على القنوت ومقيدا بترتب القنوت عليه،
301

فيتحقق ملاك القاعدة. واما إذا كان مستحبا في واجب أو نحوه لم يكن مثل
السورة مأخوذا سابقا على القنوت لعدم لزوم الاتيان به وعدم كونه من اجزاء
الصلاة كي يفرض الترتب بينها.
ومنها: ما لو جاء بالقنوت فاسدا، أو لم يأت به بالمرة فإنه بناء على عدم
كونه جزء مستحبا بل مستحبا في واجب أو نحوه لا يوجب فساد القنوت فساد
الصلاة بالمرة، لأنه لا يرتبط بامر الصلاة، بل هو امتثل أمر الصلاة بالاتيان
بسائر الاجزاء وخالف امر القنوت وهو مستقل عن أمر الصلاة كما هو المفروض.
واما بناء على كونه جزء مستحبا فقد يقال بكون فساده موجبا لفساد
الصلاة لأنه جزؤها، والمركب ينتفي بانتفاء أحد اجزائه، الا انه ينبغي التفصيل
بين ما لو كان قصده الاتيان بالمأمور به بالأمر الصلاتي لكنه اعتقد أن القنوت دخيل
فجاء به فاسدا من باب الخطأ في التطبيق.
فعلى الأول، تبطل الصلاة، لان المقصود امتثاله، فلا يكون المأتي به امتثالا له.
وعلى الثاني، لا تبطل لأنه جاء بما يوافق الامر الصلاتي المقصود موافقته،
وترك القنوت أو فساده لا يضير فيه وان اعتقد لزوم الاتيان به ودخله في الصلاة.
وعلى كل، فالثمرة موجودة في هذا المورد ولو في بعض صور الفرض.
وهناك موارد كثيرة للثمرة، تظهر بملاحظة باب الخلل في الصلاة، ولا حاجة
لذكرها بعد بيان الموارد الثلاثة لها. ولعل نظر صاحب الكفاية في عقد هذا الامر إلى بيان الجزء المستحب
وامكانه فلاحظ. اما دخول أي الأقسام في المسمى وعدمه فذلك معلوم مما تقدم
في بيان معنى الصحة وتحديدها، فلا نعيد فلاحظ، وتأمل والله ولي التوفيق
والتسديد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
302

الاشتراك
هذا المبحث عديم الجدوى والأثر، وانما تعرض إليه الاعلام تمهيدا
للمبحث التالي وهو: (استعمال اللفظ في أكثر من معنى) وإن لم يبتن عليه، ولأجل
هذا كان الاعراض عن تحقيق الأقوال فيه أولى، وان كان امكانه، بل وقوعه من
الأمور البديهية تقريبا، وما قيل في امتناعه أو وجوبه يعلم وهنه مما جاء في رده في
الكفاية (1) وغيرها. ولكن السيد الخوئي جزم باستحالته بناء على ما ذهب إليه في
معنى الوضع من انه تعهد تفهيم المعنى عند ذكر اللفظ ببيان مفصل مذكور في
تقريراته (2). ولا يهمنا التعرض إليه بعد أن تقدم منا بيان فساد أصل المبنى ووهن
كون الوضع عبارة عن التعهد بجميع محتملاته، وبالخصوص المحتمل الذي يبني
عليه هنا، فلاحظ وراجع.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 35 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 202 - الطبعة الأولى
303

استعمال اللفظ في أكثر من معنى
هذا المبحث من المباحث المهمة التي تعرض لتحقيقها الاعلام، وله آثار
فقهية عملية تعرف في محلها من أبواب الفقه، فمن الموارد التي يظهر فيها اثر
هذا البحث ما إذا جاء امر واحد بالأذان والإقامة معا، فان مقتضى ظاهر الامر
كونه وجوبيا وكون الطلب المدلول له إلزاميا. ثم جاء دليل منفصل يدل على
عدم وجوب الأذان وكونه مستحبا وليس بواجب. فمقتضى الجمع العرفي تقديم
الدليل المنفصل وحمل الامر المتعلق بالأذان على الامر الاستحبابي لا الوجوبي
فيتصرف في ظاهره. فإذا بني على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أمكن
البناء على ظهور الامر في الوجوب بالنسبة إلى الإقامة لعدم الموجب لرفع اليد
عنه، والبناء على إرادة الاستحباب منه بالنسبة إلى الأذان للقرينة، إذ لا يمتنع
إرادة الوجوب والاستحباب من الامر في استعمال واحد. واما إذا بني على امتناع
استعمال اللفظ في أكثر من معنى كان الدليل المنفصل موجبا للتصرف في ظهور
الامر وحمله على الاستحباب أو على الطلب الجامع بين الوجوب بالنسبة
إلى الإقامة وحمله على الاستحباب بالنسبة إلى الأذان يلزم منه استعمال اللفظ
في أكثر من معنى وهو ممتنع كما هو الفرض، فلا بد ان يحمل على معنى واحد
305

بالنسبة إلى كليهما يتفق مع الدليل المنفصل وهو الاستحباب أو الجامع،
ويعلم إرادة الفرد الاستحبابي بالقرينة المنفصلة الموجودة.
هذا أحد الموارد التي يظهر فيها اثر هذا المبحث. وغيره كثير يشار إليه
في محله.
ثم إنه لا بد من معرفة محور الكلام وموضوع النزاع الذي يدور في كلمات
الاعلام بين النفي والاثبات أو التفصيل. لان تصور استعمال اللفظ في أكثر من
معنى بنحو واضح الامكان وبنحو واضح الاستحالة بحيث لا يكون الامكان
والامتناع بتقديرية امر يحتاج إلى بيان ومورد الخلاف، فإنه..
ان أريد باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعماله في معان متعددة
مستقلة غير مرتبطة الا انه بكشف واحد، نظير العام الاستغراقي الذي يراد به
كل فرد فرد بلا ارتباط له بغيره من الافراد ويجعل اللفظ العام كاشفا عن الجميع
- ان أريد من الاستعمال في أكثر من معنى ذلك -، فهو واضح الامكان، لبداهة
صحة استعمال العام وإرادة افراده بنحو الاستغراق والشمول ولا يرى في ذلك
أي محذور مما قد يتصور، ولا يتوقف في صحته أحد.
وان أريد منه استعماله في كل معنى على حدة ومستقلا بحيث لا يلحظ
مع معنى آخر ولا يستعمل اللفظ في غيره، فهذا واضح الاستحالة إذ الاستعمال
في المتعدد خلف فرض التزام أن لا يكون معه آخر ولا يلحظ غيره بلحاظ آخر.
إذن فما هو موضوع الكلام؟ وما الذي يتصور في استعمال اللفظ في أكثر
من معنى مما يقبل الخلاف والنزاع؟.
موضوع النزاع هو ما أشار إليه صاحب الكفاية: من انه استعمال اللفظ
في كل معنى بنحو الاستقلال، وبان يكون اللفظ كاشفا عن كل منهما مستقلا،
فيكون بمنزلة ان يستعمل فيهما مرتين وعلى حدة، بحيث يكون هناك كشفان،
ويكون هذا الاستعمال بمنزلة استعمالين لاشتماله على خصوصياتهما.
306

هذا هو محل النزاع، فقد اختلف في امكانه وامتناعه، وظاهر صاحب
الكفاية هو ابتناء الامكان والامتناع على حقيقة الاستعمال (1)، فإن كان
الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا، إذ
لا يمتنع أن يكون الشئ الواحد علامة وكاشفا عن أمرين مع كونه ملحوظا
بلحاظ واحد، كما هو شأن العلامة، فإنه من الظاهر امكان نصب العلم لغرض
بيان جهتين كرأس الفرسخ وأرض بني فلان. وان كان الاستعمال إفناء اللفظ في
المعنى بجعله مرآة ووجها له بحيث يكون كأنه هو الملقى رأسا كان الاستعمال
في المتعدد ممتنعا، وذلك لان الاستعمال إذا كان كذلك استدعى ان يلحظ اللفظ
آلة وطريقا إلى المعنى لفنائه فيه فناء الوجه في ذي الوجه. وعليه فاستعماله في
معنيين يستلزم افناءه مرتين، وهو يقتضي ان يلحظ بلحاظين آليين وهو ممتنع
لاستحالة اجتماع المثلين في شئ واحد في آن واحد - كما تحقق في محله -،
ولامتناع ان يعرض الوجود على الموجود بما هو كذلك، فيمتنع ان يتعلق اللحاظ
بما هو ملحوظ، إذ الموجود لا يوجد ثانيا بوجود آخر، كما لا يخفى، ولا يتأتى هذا
الكلام بناء على كون الاستعمال جعل اللفظ علامة، إذ لا يستلزم لحاظ اللفظ
آلة، بل يمكن تعلق اللحاظ الاستقلالي به ويقصد به تفهيم معنيين كما هو
واضح.
الا انه قد ذكر لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى، بناء على كونه جعل
اللفظ علامة، محذور.
وتقريبه - كما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني (2) -: ان جعل اللفظ
علامة للمعنى معناه انه سبب لحصول العلم والانتقال إلى المعنى، فهو سبب
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 36 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 63 - الطبعة الأولى
307

للاعلام والتفهيم الذي معناه ايجاد العلم والفهم. وعليه، فيمتنع أن يكون اللفظ
محققا لاعلامين وتفهيمين لامتناع أن يكون الوجود الواحد ايجادين لاتحاد
الوجود والايجاد حقيقة وتغايرهما اعتبارا.
ولكنه يشكل أولا: بان اتحاد الوجود والايجاد ذاتا وحقيقة لا يرتبط بما
نحن فيه أصلا، إذ الوحدة بلحاظ ما يضاف إليه الوجود والايجاد معا، وهو مختلف
فيما نحن فيه فان الوجود الواحد هو وجود اللفظ خارجا، والايجاد المتعدد هو
ايجاد المعنى واحضاره في الذهن، وأي شخص يدعي ضرورة وحدة الوجود
الخارجي مع الايجاد الذهني كي يستحيل تعدد أحدهما وحدانية الاخر.
ولو تنزل ولوحظ اللفظ بوجوده الذهني في ذهن المخاطب بحيث يكون
كل منهما موطنه الذهن وهو ذهن المخاطب.
فيشكل ثانيا: بان الوجود الواحد وجود للفظ، وهو انما يقتضي وحدانية
ايجاده لا ايجاد المعنى، إذ وجود اللفظ في الذهن يباين ويغاير وجود المعنى فيه،
ومتقضى وحدة الوجود والايجاد في الذات مغايرة ايجاد اللفظ لايجاد المعنى حقيقة
لتغاير وجوديهما كذلك، فلا محذور في وحدة وجود اللفظ وايجاده مع تعدد وجود
المعنى وايجاده. فلاحظ وتدبر.
وقد أورد (1) على دعوى امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى بالنقض
بموردين:
المورد الأول: العموم الاستغراقي، ويتصور النقض به بوجهين:
أحدهما: ان كل فرد من افراد العام ملحوظ مستقلا وعلى انفراده، فكما
صح تعلق الحكم الواحد بكل فرد على انفراده كذلك يصح استعمال اللفظ
الواحد في كل معنى على انفراده عند لحاظ المعاني كل على حدة.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 64 - الطبعة الأولى
308

وفيه: ان نحو تعلق الحكم يختلف عن الاستعمال، فان اللفظ في حال
الاستعمال يكون فانيا في المستعمل فيه، وليس كذلك الحكم، فإنه لا يفنى في
موضوعه، بل لا يتوقف الا على تصور موضوعه بأي نحو كان، فلا محذور في
الحكم على المتعدد.
ثانيهما: ان افراد العام قد لا تكون متناهية، فلا يمكن لحاظ كل منها بنحو
الاستقلال والحكم عليها، بل يحكم عليها بتوسط عنوان يكون كاشفا عنها،
ويكون لحاظه لحاظا لها. فعليه فكما يمكن أن يكون المفهوم الواحد فانيا في
افراده المتعددة كذلك يمكن أن يكون اللفظ الواحد فانيا في المعاني المتعددة. أو
يقرب: بان لحاظ العنوان إذا كان لحاظا لمطابقاته بوجه، وكان اللازم لحاظ
الافراد مستقلا في مقام الحكم، لزم تعلق لحاظات استقلالية بالعنوان متعددة
بعدد افراده الواقعية، فكما يصح ذلك فليصح تعدد اللحاظ في اللفظ.
وفيه: ان ألفاظ العموم غير فانية وحاكية عن كل فرد فرد مستقلا، أما
ما كان من قبيل: (كل عالم، والعلماء) فواضح، ضرورة عدم انطباق عنوان العلماء
على كل فرد من افراد العالم، وهكذا كل عالم بل هو عنوان لجميع الافراد، فليس
هذا العنوان الا فانيا في الجميع بفناء واحد. وأما ما كان من قبيل المطلق
الشمولي كالعالم، فلانه بمادته وهيئته بمادته وهيئته موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ، فهو
موضوع للطبيعة المهملة، فلا يمكن أن يكون عنوانا لكل فرد وفانيا فيه لعدم
انطباقه على الخصوصيات بعد أن كان موضوعا للطبيعة، فاستفادة العموم منه
بدليل آخر وقرينة خارجية.
وبالجملة: فليس من العمومات ما يكون عنوانا لكل فرد بانفراده كي
يكون فانيا فيه فيتعدد فناء العنوان ويصح النقض به على ما نحن فيه.
المورد الثاني من موردي النقض: الوضع العام والموضوع له الخاص،
فإنه كما يمكن وضع اللفظ إلى كل واحد من الافراد بخصوصه بتوسط عنوان
309

عام، فليكن كذلك باب الاستعمال، فيستعمل اللفظ في كل واحد من المعاني
بتوسط عنوان عام.
ويدفع هذا النقض: بالفرق بين باب الاستعمال وباب الوضع، بان اللفظ
يكون في باب الاستعمال فانيا في المعنى وليس كذلك في باب الوضع، فإنه ملحوظ
بالاستقلال. واما نفس الوضع فهو كالحكم لا يحتاج الا إلى لحاظ الموضوع له،
فلاحظ.
ثم إنه قد ذكر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى وجه آخر غير
ما أشار إليه المحقق صاحب الكفاية. وبيانه باجمال: ان لازم استعمال اللفظ في
أكثر من معنى اجتماع لحاظين للمعنيين في آن واحد وهو ممتنع (1).
ويندفع هذا الوجه بما حقق من قابلية النفس لحصول صورتين لمعنيين في
آن واحد، ويستشهد على ذلك بشواهد:
منها: ان الشخص قد يفعل فعلين في آن واحد، كأن يقرأ ويكتب مع أن
الفعل امر اختياري يتوقف على اللحاظ والتصور، فإنه من مبادئ الإرادة.
ومنها: الحكم على الموضوع بالحمول، فإنه يتوقف على لحاظ كل من
المحمول الموضوع كي يتجه حكمه به عليه وحمله على الموضوع.
وبالجملة: فاندفاع هذا الوجه واضح.
وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها آخر لامتناع استعمال اللفظ في أكثر
من معنى، توضيحه: إن الاستعمال عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ بوجود تنزيلي،
بمعنى أن يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، وبما أن الايجاد متحد مع الوجود
حقيقة وذاتا وان اختلف بحسب الاعتبار امتنع استعمال اللفظ في معنيين، إذ
يستحيل أن يكون الوجود الواحد ايجادا لكل من المعنيين بنحو يكون ايجادين
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 64 - الطبعة الأولى
310

للمعنيين، نعم الوجود الواحد يكون ايجادا لكلا المعنيين ممكن، لكن أن يكون
ايجادين ممتنع، لأنه إذا كان ايجادا لهذا المعنى فقد امتنع أن يكون في نفس الوقت
ايجادا آخر للمعنى الاخر.
هذا توضيح ما ذكره، وقد اختلف تعبيراته. فعبر في الحاشية: بان
الاستعمال ايجاد المعنى تنزيلا (1). وعبر في الأصول على النهج الحديث: بأنه ايجاد
للمعنى بالعرض (2). وعلى كل فغرضه ما ذكرناه من امتناع أن يكون الوجود
الواحد ايجادا لهذا المعنى وايجادا لذلك المعنى.
وقد أورد عليه:
أولا: بان الوجود الواحد لا يمكن أن يكون ايجادا لمعنيين انما هو في
الوجود الحقيقي العيني لا التنزيلي، لان التنزيل ترجع سعته وضيقه إلى المنزل،
فيمكن ان ينزل اللفظ منزلة المعنيين.
وثانيا: بان الشئ الواحد يمكن أن يكون وجودا بالعرض لمعان متعددة
إذ يمكن ان يتعنون الشئ بعناوين متعددة بلا كلام (3).
ويرد الأول: بان المدعى امتناع كون اللفظ الواحد ايجادين لمعنيين ولو
تنزيلا لا ايجادا لهما. فامكان تنزيل اللفظ منزلة المعنيين لا يعني امكان كون
اللفظ ايجادين لمعنيين.
ويرد الثاني: بان تعدد العناوين المنطبقة على شئ واحد انما هو لتعدد
الجهات التي يشتمل عليها الشئ، فينتزع عن كل جهة عنوان خاص، والا
فيمتنع انتزاع عناوين متعددة عن جهة واحدة في الشئ كما لا يخفى.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 64 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث / 42 - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
(3) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 148 - الطبعة الأولى
311

والمتحصل: ان ما ذكره المحقق الأصفهاني وجيه في نفسه، إلا أن
الاشكال في أصل مبناه، وهو كون الاستعمال ايجاد المعنى تنزيلا باللفظ، فإنه
وان وقع في كلام الفلاسفة، الا انه لا يعلم له وجه ظاهر ولم يذكر دليل عليه، بل
هو يقع في الكلمات بنحو إرسال المسلمات، فهو قابل للانكار لأنه دعوى بلا دليل،
بل قد مر عليك ما يوهنه من عدم تصور معنى معقول لتنزيل اللفظ منزلة المعنى
فراجع (1).
والذي ننتهي إليه ان امتناع الاستعمال في أكثر من معنى وامكانه يبتني
على تفسير الاستعمال وحقيقته، وكونها افناء اللفظ في المعنى أو جعله علامة
عليه، فيمتنع على الأول ويمكن على الثاني كما تقدم.
وقد بنى السيد الخوئي كون حقيقة الاستعمال أحد هذين المعنيين على ما
يختار في حقيقة الوضع، فان اختير انها تنزيل اللفظ منزلة المعنى كان الاستعمال
افناء للفظ في المعنى وايجادا للمعنى باللفظ، فيمتنع أن يكون الاستعمال في أكثر
من معنى كما عليه صاحب الكفاية. وان اختير - كما هو الحق لديه - ان حقيقة
الوضع هي التعهد والقرار كان الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنى، لان
الاستعمال ليس إلا فعلية ذلك التعهد وجعل اللفظ علامة لابراز ما قصد المتكلم
تفهيمه، فلا مانع من أن يكون علامة لإرادة المعنيين المستقلين. كما أن تفسير
الوضع باعتبار الملازمة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له أو بجعل اللفظ
على المعنى اعتبارا لا يستدعي فناء اللفظ في المعنى في مقام الاستعمال.
والذي ينتهي إليه أخيرا هو جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لأنه
يختار كون حقيقة الوضع هي التعهد الذي لازمه كون الاستعمال جعل اللفظ
علامة للمعنى المقتضي لامكان الاستعمال في أكثر من معنى (2).
.

(1) راجع 1 / 58 من هذا الكتاب.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 207 - الطبعة الأولى
312

هذا محصل كلامه. ولكنه غير سديد، وذلك لان حقيقة الاستعمال وكونها
افناء اللفظ في المعنى أو جعل اللفظ علامة للمعنى لا ترتبط بحقيقة الوضع ولا
تبتني عليها أصلا ولم يظهر وجه الملازمة بينهما، بل يمكن دعوى أن الاستعمال
افناء اللفظ في المعنى ولو ادعى ان الوضع هو التعهد، إذ ما يحصل بالوضع أيا
كانت حقيقته هو العلاقة بين اللفظ والمعنى والارتباط بينهما، فيكون اللفظ قابلا
للكشف عن المعنى، فيتكلم حينئذ ان الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة
للمعنى أو جعله مرآتا له؟، سواء كان الوضع هو التعهد أو غيره، وما يستدل به
على أحد الطرفين في باب الاستعمال جار على جميع تقادير الوضع، وما ادعي من
الملازمة لا يعلم له وجه.
ويشهد لذلك: بعض الموارد العرفية، فمثلا لو تعهد شخص بأنه متى ما
أراد أن يقرأ فهو يضع النظارة على عينيه ويستعملها، أو متى ما أراد أن يرى
وجهه يستعمل المرآة، فإنه إذا استعمل النظارة أو المرآة جريا على طبق تعهده
لا يشك أحد أن كلا من النظارة والمرآة يكون فانيا في المقصود الأصلي وملحوظا
طريقا وآلة إليه، مع أن الاستعمال كان جريا على طبق التعهد والالتزام النفسي
لا شئ آخر. فان ذلك دليل على أن التعهد لا يلازم تعلق النظر الاستقلالي
بالمستعمل ولا يتنافى مع تعلق النظر الآلي به.
كما يدل على ما ذكرناه: ان عنوان النزاع أعم من الوضع، لأنه يتعدى
إلى الاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي أو المعنيين المجازيين، مع أنه لا وضع
ههنا كي يبتنى جواز الاستعمال وعدمه على تحقيق حقيقته. ومقتضى ما ذكر عدم
جريان النزاع في ذلك المورد مع أن جريانه وتأتي كلا القولين في الاستعمال أمر
لا شبهة فيه ولا توقف عنده، فتدبر.
ونتيجة ما ذكرناه: ان البناء على امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى
وامتناعه يبتني على تحقيق ان الاستعمال هل هو جعل اللفظ علامة للمعنى أو
313

جعله فانيا فيه؟، فيجوز الاستعمال في أكثر من معنى على الأول لعدم المحذور
فيه كما قدمنا، ويمتنع على الثاني لمحذور اجتماع اللحاظين في آن واحد. وبما أن
صاحب الكفاية اختار الثاني بنى على الامتناع عقلا. كما أنه قد تقدم منا في
أوائل مبحث الوضع ان الاستعمال جعل اللفظ طريقا وفانيا في المعنى، فالمتعين
الالتزام بامتناع الاستعمال في أكثر من معنى عقلا ولا يفرق في ذلك بين المفرد
وغيره والمعنى الحقيقي والمجازي لسريان المحذور في جميع صور الاستعمال بلا
فرق.
ثم إنه لو تنزلنا وقلنا بامكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى بمقتضى
الحكم العقلي، فما هو حكم ذلك بحسب القواعد الأدبية وبمقتضى أصل
الوضع؟. الحق هو الجواز، إذ لا مانع من ذلك، الا ما قيل من أن اللفظ موضوع
للمعنى بقيد الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء لقيد الوحدة، فلا
يكون الاستعمال فيما وضع له اللفظ ولكنه موهون جدا، إذ فيه:
أولا: ان الموضوع له ذات المعنى بلا لحاظ قيد الوحدة فيه. ويدل على
ذلك مراجعة الوجدان، وتبادر أهل العرف في عملية الوضع، فان الانسان حال
الوضع لا يلحظ سوى ذات المعنى ويضع له اللفظ.
وثانيا: انه لو سلم كون الموضوع له هو المعنى بقيد الوحدة، فلا يستلزم
منع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ يكون حينئذ استعمالا مجازيا للمحافظة
على ذات الموضوع له ولا مانع منه. فتأمل. وهناك إيرادات تذكر على هذا
الاشكال لا حاجة إلى التعرض إليها لوضوح وهن الاشكال.
واما البحث في تحقيق مقتضى الظهور العرفي للكلام بعد تسليم الجواز،
وان الظاهر من الكلام عند عدم القرينة جميع المعاني الموضوع لها اللفظ أو
أحدها غير المعين فيكون الكلام مجملا؟ كما تعرض إليه السيد الخوئي (حفظه
.
314

الله) (1)، فهو غير متين بناء على الالتزام واقعا بالامتناع، إذ البحث التنزيلي
لا يجدي في تحقيق المطلب، لان الحكم على العرف باستظهاره وعدم استظهاره
لا بد وان يلحظ فيه استعمالات العرف ونظرهم في ترتيب الآثار عليها، فمع
الالتزام بامتناع الاستعمال وانه لا يصدر من أحد لا يمكن الحكم بان الظاهر
عند الاستعمال - لو قيل بالجواز - كذا، إذ هو رجم بالغيب ولا أساس له في
الخارج. نعم من يقول بالجواز وصدور الاستعمال خارجا - كالسيد الخوئي - اتجه
له البحث عن هذه الجهة. فتدبر.
ثم إن صاحب الكفاية (قدس سره) أشار إلى تفصيل صاحب المعالم
(رحمه الله) في المقام وناقشه.
اما تفصيل المعالم: فهو القول بالجواز بنحو المجاز في المفرد وبنحو
الحقيقة في التثنية والجمع. وعلله في المعالم: بان اللفظ موضوع للمعنى بقيد
الوحدة فاستعماله في أكثر من معنى فيه إلغاء للقيد المذكور، فيكون استعمالا في
غير ما وضع له، ويكون مجازيا بعلاقة الجزء والكل، إذ اللفظ الموضوع للكل
استعمل في الجزء. ولا يجئ هذا البيان في غير المفرد لان التثنية والجمع في قوة
تكرار اللفظ فيكون لهما حكم التكرار، فكما يصح إرادة معنى معين من لفظ:
(عين) وإرادة غيره من لفظ: (عين) آخر، يصح إرادة المعنيين معا من لفظ:
(عينين) بلا تجوز لأنهما في قوة قولك: (عين وعين) (2).
واما المناقشة: فبان اللفظ لم يوضع الا إلى نفس المعنى بلا لحاظ قيد
الوحدة، والا لامتنع استعمال اللفظ في الأكثر، إذ الأكثر يباين المعنى الموضوع
له مباينة الشئ بشرط لا والشئ بشرط شئ، إذ الموضوع له هو المعنى بشرط
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 209 - الطبعة الأولى.
(2) العاملي جمال الدين. معالم الدين / 32 - الطبعة الأولى
315

أن لا يكون معه غيره والمستعمل فيه هو الشئ بشرط أن يكون معه غيره،
فلا علاقة بينهما كما ادعي كي يصحح الاستعمال المجازي، بل بينهما المباينة المانعة
من الاستعمال.
هذا بالنسبة إلى المفرد، واما بالنسبة إلى التثنية والجمع، فالمناقشة فيهما
بوجهين:
أحدهما: ان التثنية والجمع وان كانا بمنزلة تكرار اللفظ، الا ان الظاهر أن
المراد من كل لفظ فرد من افراد معناه، فيراد من المثنى فردان من طبيعة
واحدة لا معنييان.
والايراد على ذلك بتثنية الاعلام فان المراد من المثنى معنييان، إذ
الموضوع له كل لفظ مباين للاخر، وليس الموضوع له هو الطبيعة كي يقبل
الافراد، بل الموضوع له هو الفرد، فلا معنى لان يراد به فردان بل معنييان.
مدفوع: بالتزام التأويل بورود التثنية على المسمى، فيكون المعنى من:
(زيدين) فردين من مسمى زيد مثلا، والمسمى طبيعة يتصور لها افراد.
ثانيهما: انه لو قلنا بعدم التأويل، وان الموضوع له المثنى هو المتعدد أعم
من أن يكون فردين من معنى واحد أو معنيين، بحيث يكون استعماله وإرادة
معنيين استعمالا حقيقيا، لو قلنا بذلك، لم يكن إرادة معنيين من المثنى من استعمال
اللفظ في أكثر من معنى، لأنه هو معنى اللفظ فيكون المستعمل فيه اللفظ معنى
واحد، كما لو أريد فردان من معنى واحد. نعم يكون استعمال اللفظ وإرادة فردين
من معنى وفردين من آخر من استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ولكنه لا دليل على
جوازه حقيقة، إذ حديث التكرار لا يجدي حينئذ لالغاء قيد الوحدة فيه، لان
الموضوع له هو المتعدد من معنيين أو فردين بقيد الوحدة. فتدبر.
هذا ملخص ما ذكره صاحب الكفاية وهو وجيه، كما لا يخفى (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 37 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
316

لكن السيد الخوئي (حفظه الله) نهج في مناقشته لصاحب المعالم نهجا
آخر، فقد جاء في مناقشته ما محصله: ان في التثنية والجمع وضعين: أحدهما للمادة.
والاخر للهيئة وهي الألف والنون أو الواو والنون. اما الهيئة فهي موضوعة
للدلالة على إرادة المتعدد من مدخولها. واما المادة فهي موضوعة للطبيعة المهملة
العارية عن جميع الخصوصيات حتى الخصوصية اللا بشرطية، فإذا أريد من العين
مثلا معنى واحد وهو الذهب، فلا يعقل ان يراد من المثنى أكثر من طبيعة واحدة،
إذ المراد بالمادة معنى واحد وطبيعة واحدة والمراد بالهيئة المتعدد من مدخولها،
فمقتضى ذلك إرادة فردين من مدخولها لان مدخولها طبيعة واحدة، فالتعدد فيها
يكون بإرادة فردين منها ولا دليل آخر يدل على إرادة طبيعتين كما لا يخفى (1).
ولكنه وان كان تاما في نفسه واقعا أو تنزلا، الا انه لا يتجه أن يكون
نقاشا مع صاحب المعالم، فإنه انما يصلح ذلك لو كان ما ذكره من تعدد الوضع
في التثنية والجمع وجهة الوضع أمرا مسلما لدى صاحب المعالم فيؤاخذ به ويلزم
بمقتضاه. ولكنه لم يثبت بناء صاحب المعالم عليه، فقد يرى ان التثنية ليس لها
الا وضع واحد والموضوع له هو المتعدد، ولعله هو المستظهر من كلامه، فالمتعين
هو المناقشة بما ذكره صاحب الكفاية فلاحظ.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) قد حرر النزاع في التثنية والجمع
بنحوين: الأول: الامتناع في المفرد والجواز في المثنى والجمع. الثاني: الجواز بنحو
المجاز في المفرد وبنحو الحقيقة في المثنى والجمع (2).
ولا يخفى ان تحرير النزاع بالنحو الثاني له وجه. واما تحريره بالنحو
الأول فلا يتناسب مع البحث العلمي - وان كان ذلك من جملة أقوال المسألة -،
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 211 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 152 - الطبعة الأولى
317

وذلك لأنه بعد اختيار الامتناع بالمحذور العقلي الذي ذكرناه لا تتجه دعوى
الجواز في التثنية والجمع، لسراية المحذور في جميع الصور كما تقدم. وعلى كل
فالأمر سهل جدا.
تذييل: ورد في الحديث: (ان للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا) (1). فقد
يتوهم منافاة ذلك لما قرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ ظاهره
ان المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد، وهو لا يجتمع مع الالتزام
بمحالية إرادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن
جوازه.
وقد دفع صاحب الكفاية (رحمه الله) هذا الوهم بعدم دلالة الحديث عن
كون قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ، بل يحتمل فيه أحد
وجهين:
الأول: ان يراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الاستعمال في المعنى
الواحد، لا انها مرادة من اللفظ.
الثاني: أن يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان
كانت تلك اللوازم المتعددة خفية بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها (2).
وقد رجح السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات بحثه - الاحتمال الثاني
ونفى الأول بوجهين:
الأول: ان إرادة المعاني في أنفسها لا توجب عظمة القرآن وعلو منزلته،
إذ يمكن ذلك في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية، بل يمكن
ذلك في مورد الكلام بالألفاظ المهملة، إذ يمكن ان ترد على الذهن في حال
.

(1) الكافي 2 / 599 باب فضل القرآن. حديث: 2.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 38 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
318

التكلم معان كثيرة.
الثاني: انه يلزم أن لا تكون هذه المعاني بطونا للقرآن، إذ هي بذلك تكون
أجنبية عنه.
وهذان الأمران يخالفان مقتضى الروايات الواردة في مقام بيان عظمة
القرآن بذلك، وان هذه المعاني معاني القرآن وبطونه لا انها أجنبية عنه. ثم ذكر
بعض الروايات الناطقة بذلك، وبعد ذلك رجح الثاني وادعى ظهور الروايات
الكثيرة فيه (1).
ونحن ان لاحظنا أصل المطلب من وجود البطون للقرآن وأغمضنا النظر
عن ما يكشف المطلب من نصوص، فان التحقيق في نحو دلالتها يحتاج إلى
بحث مفصل طويل، نرى ان الكفة الراجحة في جانب الاحتمال الأول لا
الثاني، إذ لا عظمة للقرآن بوجود لوازم لمعناه المقصود خفية عن أذهان الناس
لا تصل إليها عقولهم وادراكاتهم، فإنه لا يتصف بذلك بالعظمة وشرف المنزلة كما
لا يخفى. اما كون الجمل القرآنية قابلة في نفسها للتطبيق على معان متعددة
مرادة في نفسها ودالة في حد ذاتها على عدد كبير من المعاني وان أريد منها معنى
واحد لا الجميع، بحيث يمكن للفكر الدقيق الثاقب ان يصل إلى بعض تلك
المعاني بالتأمل والتعمق في آيات الكتاب، فهو من عظمة القرآن والتركيب
الكلامي لجمله، إذ قل من الجمل العرفية ما يمكن تطبيقه على متعدد من المعاني،
فايراد تركيب قابل للتطبيق على عدد كبير من المعاني وفرض ورود تلك المعاني
في نفس المتكلم والتفاته إليها وتحريه في ايراد ما يمكن تطبيقه عليها من
التراكيب الكلامية دليل على عظمة ذلك المتكلم وسعة أفق تفكيره في الاطلاع
على دقائق الألفاظ ومعانيها.
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 213 - الطبعة الأولى
319

وقد يضرب تقريبا لذلك بعض الأمثلة العرفية، ولا أظنني بعد هذا البيان
بحاجة إلى ذكرها فتدبر.
تتمة: يحسن بنا أن يكون ختام البحث في هذه المسألة تحقيق ما جاء في
بعض كلمات الفقهاء من عدم جواز قصد معاني آيات الكتاب الذي يقرأ في
الصلاة، لان ذلك محل الابتلاء ولعلاقته بالمسألة.
وقد وجه امتناع ذلك: بان المطلوب في الصلاة هو القراءة، وهي - أعني
القراءة - استعمال اللفظ في اللفظ، فإذا قصد بالآية المعنى التي استعملت فيه
كان ذلك من استعمال اللفظ في المعنى، وهو يوجب عدم تحقق القراءة لامتناع
استعمال اللفظ في أكثر من معنى، فإذا استعمل في المعنى امتنع استعماله في اللفظ
فلا تتحقق القراءة، مع أنه قد ورد في الروايات استحباب ذلك والحث عليه وان
كمال الصلاة بقصد المعنى والالتفات إليه (1).
وقد أجيب عن هذا الوجه بوجوه:
الأول: ان قصد المعنى من اللفظ لا يكون في عرض القراءة، بل في
طولها، بمعنى انه يقصد الحكاية عن اللفظ باللفظ ويقصد في نفس الوقت
الحكاية عن المعنى باللفظ المحكي لا الحاكي فلا محذور فيه، إذ لم يستعمل اللفظ
في معنيين بل كل لفظ مستعمل في معنى (2).
وهذا الوجه واه جدا. وقد قيل في ابطاله وجوه متعددة. والوجه الواضح
في الاشكال فيه: هو انه يستلزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ
واحد. بيان ذلك: ان اللفظ المحكي باللفظ بما أنه محكي ومستعمل فيه يكون
ملحوظا بالاستقلال، وبما أنه حاك عن المعنى وفان فيه يكون ملحوظا آلة،
.

(1) وسائل الشيعة 4 / 826 باب: 3 من أبواب قراءة القرآن. حديث: 6 و 7.
(2) ذهب إليه السيد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى 6 / 288 - 289
320

فيجتمع فيه اللحاظان في آن واحد. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لابطاله،
لا نطيل البحث بذكره، بعد وضوح بطلان الوجه (1).
الثاني: ان يحمل ما ورد من الروايات في هذا المقام على الحث على قصد
المعنى مقارنا للقراءة لا قصده بها، فتطلب الهداية مقارنا لقراءة: (اهدنا الصراط
المستقيم) (2)، لا انها تطلب بها (3).
وهذا الوجه وان كان يتخلص به عن المحذور المذكور، الا انه في الحقيقة
التزام به والتخلص بتأويل، كما لا يخفى.
الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في حاشيته على
الكفاية، واليك نص عبارته: (ويمكن ان يجاب أيضا: بان القراءة ليست الحكاية
عن الألفاظ بالألفاظ واستعمالها فيها، بل ذكر ما يماثل كلام الغير من حيث إنه
يماثله في قبال ذكره من تلقاء نفسه، وهذا المعنى غير مشروط بعدم انشاء المعنى
به حتى يلزم الجمع بين اللحاظ الاستقلالي والآلي فيما يماثل كلام الغير من
حيث إنه يماثله بقصد المعنى، فان من مدح محبوبه بقصيدة بعض الشعراء، فقد
قرء قصيدته ومدح محبوبه بها، نعم لو لم يلتفت إلى ذلك ومدحه بها أنشأ من تلقاء
نفسه لم يصدق القراءة وان كان مماثلا لما أنشأه الغير. فتدبر جيدا) (4).
والتحقيق في المقام ان يقال: ان القراءة ايجاد طبيعي المقروء بفرده مع قصد
ذلك.
بيان ذلك: ان الشعر عبارة عن تصوير المواد اللفظية بصورة خاصة، فإنه
هو عمل الشاعر. اما نفس المواد فهي موجودة في نفسها ولا يوجدها الشاعر،
والصورة التي يحدثها الشاعر للمواد اللفظية عارضة على طبيعي الألفاظ في
.

(1) و (3) و (4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 68 - الطبعة الأولى.
(2) سورة الحمد: الآية: 6
321

ذهنه، ثم بعد أن ينظمها بالنظم الخاص في ذهنه يلقيها خارجا بتلك الصورة،
فالموجود خارجا فرد من افراد الشعر لا نفس الشعر، وانما الشعر موجود في
الذهن فإنه الصورة الخاصة والكيفية المعينة لطبيعي الألفاظ. وعليه، فإذا جاء
المتكلم بتلك الألفاظ بصورتها الخاصة، فقد أوجد الشعر بوجود فرد من افراده،
فيقال: انه قرء الشعر بهذا الاعتبار. نعم شرطه ان يقصد ايجاد الشعر بفرده، فإذا
لم يقصد ذلك بل قصد القاء هذا الكلام على أنه منه لم يعد عرفا قارئا للشعر،
بل يعد سارقا لشعر غيره.
والقرآن كالشعر، فإنه الألفاظ المعينة المصورة بصورة خاصة، وتلك
الصورة واردة على طبيعي اللفظ أو متحققة في نفس الوحي أو النبي (ص)، وما
يلقيه خارجا من الكلام القرآني يعد فردا من افراد القرآن، ولذلك يقال: إنه قرآن
لوجوده به، فقراءة القرآن عبارة عن ايجاد طبيعي القرآن بفرده بهذا اللحاظ،
فيقال للقارئ انه قرأ القرآن لأنه قرأ ما يعبر عنه بالقرآن لكونه وجودا له لأنه
فرده.
وعليه، فليست القراءة من استعمال اللفظ في اللفظ وحكايته عنه فلا يمتنع
قصد المعنى معها.
واما ما ذكره المحقق الأصفهاني، فهو انما يتجه لو أريد من القرآن أو
الشعر نفس الكلام الملقى خارجا فيكون الفرد الاخر من المماثل له، ومعه لا نسلم
صدق القراءة على ايجاد المماثل بعنوان انه مماثل فقط، إذ ايجاد المماثل لا يعد عرفا
ايجاد المماثلة كي يقال إنه قرأ الشعر أو القرآن، بل يقال إنه أوجد ما يماثل شعر
فلان أو ما يماثل القرآن. نعم انما يكون ايجادا له ويعد عرفا كذلك لو قصد
الحكاية عنه والكشف بالمماثل، ولكنه بذلك يعود المحذور.
وبالجملة: فما ذكره المحقق الأصفهاني لا يمكننا التسليم به بسهولة، إذ
قراءة الشعر انما تكون بأحد نحوين: اما ايجاد اللفظ بقصد الحكاية عن الشعر،
فيقال انه قرأ الشعر. واما ايجاد فرد للشعر، فيقال عن الموجد انه شعر فلان وعلى
322

قرائته انها قراءة شعره، وهو ما حققناه وهو لا يتجه الا بفرض الشعر ونحوه
كليا يوجد بهذه الافراد. اما صدق قراءة الشعر بدون أحد هذين النحوين، بل
بايجاد فرد مماثل بعنوان المماثلة فهو ممنوع، بل لا يصدق سوى ايجاد فرد مماثل
للشعر وقرائته لا انه الشعر.
ونتيجة ما ذكرناه: انه لا مانع من قصد المعنى مع صدق القراءة في
الصلاة ولا وجه للاشكال فيه.
323

المشتق
325

المشتق
لا اشكال في أن المشتق ك‍: (العالم) حقيقة في المتلبس فعلا ومجاز في من
يتلبس في المستقبل. وانما الاشكال في أنه في المتلبس في الماضي بنحو الحقيقة أو
المجاز، والنزاع انما يقع في أن مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ هو خصوص
المتلبس، أو الأعم منه وممن انقضى عنه المتلبس، لا في مرحلة الصدق والحمل مع
عض النظر عن الجزم بمفهومه واسعا أو ضيقا بان يكون في أن صدق المشتق
على المنقضي هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز؟. إذ لا مجال للنزاع في ذلك بعد
معرفة مفهومه والموضوع له، فان المفهوم ان كان واسعا، بمعنى انه كان الأعم
من المنقضي والمتلبس كان صدقه على المنقضي عنه التلبس حقيقة بلا اشكال.
وان كان ضيقا كان صدقه عليه مجازا بلا ريب.
ولكن المحقق الشيخ هادي الطهراني حاول ان يجعل النزاع في هذه
المرحلة جاريا لا في مرحلة المفهوم. بتقريب: ان وجه النزاع في الحمل مع عدم
الاختلاف في المفهوم هو ان الذي يقول بعدم صحة الاطلاق على المنقضي عنه
التلبس يرى ان سنخ الحمل في المشتقات كسنخه في الجوامد، فلا يصح اطلاق
لفظ المشتق على من زال عنه التلبس بالمبدأ - كما لا يصح اطلاق لفظ الماء على
ما زالت عنه صورته المائية - باعتبار ان المشتق عنوان انتزاعي، فصدقه تابع لمنشأ
327

انتزاعه فبعد الانقضاء يرتفع منشأ الانتزاع فلا يتجه صدق المشتق. ومن يقول
بصحة الاطلاق يرى وجود الفرق بين حمل الجوامد وحمل المشتقات، فان الأول
حمل هو هو فلا يصح لان يقال للهواء انه ماء. والثاني حمل ذي هو وحمل انتساب
فيكفي فيه مجرد حصول الانتساب ولو في آن ما فيصح اطلاق المشتق على
المنقضي بهذا اللحاظ. بهذا التقريب وجه جريان النزاع في مرحلة الصدق مع
غض النظر عن المفهوم وحقيقته (1).
وقد تحامل عليه المحقق الأصفهاني بما لم يعهد منه بالنسبة إلى علم من
الاعلام كالمحقق الطهراني.
وحاصل الاشكال في كلامه: انه خلط بين حمل مبدأ الاشتقاق وبين حمل
نفس المشتق، فان حمل الأول حمل ذو هو، إذ لا يصح حمل البياض على الجسم
حمل مواطاة وحمل هو هو، بل يحمل عليه بواسطة ذي، فيقال: الجسم ذو بياض.
بخلاف نفس المشتق فان حمله حمل هو هو المعبر عنه بحمل المواطاة، إذ يمكن
اثبات المشتق للذات وانه هو الذات فيقال: الجسم أبيض، ولا يحتاج في حمله إلى
واسطة فلا يقال الجسم ذو أبيض، فليس حمل المشتق حملا ذا هو بل حملا هو هو،
فيكون كحمل الجوامد، فلاحظ جيدا (2).
وإذا اتضح موضوع النزاع وجهته وانه في سعة مفهوم المشتق وضيقه
فلا بد من بيان أمور:
الامر الأول: في بيان المراد من المشتق المأخوذ في موضوع المسألة.
والذي يراد به كل وصف يحمل على الذات ويجري عليها بملاحظة
اتصافها بمبدأ ما، سواء كان مشتقا في الاصطلاح وهو ما كان له وضع لمادته
.

(1) الطهراني المحقق الشيخ هادي. محجة الأصول / - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 69 - الطبعة الأولى
328

ووضع لهيئته كالعالم والقائم ونحوهما. أو كان جامدا بحسب الاصطلاح وهو ما
كان له وضع واحد بمادته وهيئته كالزوج والحر وغيرهما. اما ما لا يجري على
الذات من الأوصاف وغيرها فلا يدخل في محل النزاع وان كان مشتقا بحسب
الاصطلاح كالمصدر والفعل بأقسامه، إذ لا يصح حملها على الذات فلا يتجه
النزاع في صدقها على المنقضي عنه التلبس أو عموم مفهومها للمتلبس كما هو
واضح.
وبذلك يتبين كون النسبة بين المشتق في مورد النزاع والمشتق بحسب
الاصطلاح هي العموم من وجه، إذ يفترق الأول عن الثاني في الجوامد بحسب
الاصطلاح، ويفترق الثاني عن الأول في بعض المشتقات الاصطلاحية كالمصدر.
والوجه في تعميم النزاع في المشتق فيما نحن فيه لكل ما يجري على
الذات بملاحظة اتصافها بمبدأ ما ولو كان جامدا هو عموم الملاك لجميع
الأقسام، مضافا إلى ما جاء في كلمات الأصحاب مما يظهر منه تعميم النزاع، كما
ورد في الايضاح لفخر المحققين (1)، والمسالك للشهيد (2) من ابتناء حرمة الزوجة
الكبيرة الثانية للصغيرة على مسألة المشتق فيما لو كان له زوجتان كبيرتان
وزوجة صغيرة فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرة، فإنه تحرم عليه بذلك الكبيرة
والصغيرة، لصيرورة الكبيرة بالارضاع أم الزوجة والصغيرة بنت الزوجة، ثم
أرضعت الثانية الصغيرة، فان حرمتها تبتني على أن يكون المشتق حقيقة في
المنقضي، إذ يصدق على الكبيرة الثانية أنها أم زوجته فعلا، ومع عدم كونه حقيقة
في المنقضي لا تحرم الكبيرة لعدم صدق أم الزوجة عليها فعلا.
ونحن لسنا في مقام تحقيق صحة ترتيب هذه الثمرة بلحاظ المقام وعدمها
.

(1) ايضاح الفوائد 3 / 52، احكام الرضاع.
(2) مسالك 1 / 379، كتاب النكاح
329

إذ لا يهمنا ذلك وهو موكول إلى بحث الرضاع بل كان المهم بيان جريان النزاع
في الجوامد وسريانه إليها، إذ عنوان الزوج والزوجة منها كما هو واضح.
نعم لا بد من بيان شئ، وهو ما ذكره المحقق الأصفهاني (1) من ابتناء
حرمة الكبيرة الأولى على مسألة المشتق وعدم اختصاص حرمة الثانية بذلك،
ببيان: ان التي تحرم هي أم الزوجة وبنتها، وأمومة المرضعة وبنتية المرتضعة
متضائفتان، فإنه لا يعقل صدق إحداهما بدون الأخرى، كما أن بنتية
المرتضعة للزوجة وزوجيتها متضادتان شرعا ولا يمكن اجتماعهما. وعليه ففي
مرتبة حصول أمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة للتضائف، وفي تلك المرتبة
تزول الزوجية لتضادها. وعليه، فالمرضعة لا تكون أم الزوجة فعلا لزوال الزوجية
في مرتبة حصول الأمومة، فتبتني الحرمة على تحقيق ان المشتق حقيقة في المنقضي
عنه التلبس فيصدق على الكبيرة انها أم الزوجة، وإلا فلا يصدق علها هذا
العنوان فلا تحرم بذلك فتدبر (2).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 70 - الطبعة الأولى.
(2) وتحقيق مسألة الرضاع بالنسبة إلى المرضعة الأولى: انه..
ان كان المقصود من بنت الزوجة وأم الزوجة هي بنت الزوجة فعلا وأمها فعلا، كان كل من الدليلين
رافعا لموضوع الاخر، لان تحريم بنت الزوجة يرفع صدق أم الزوجة على المرضعة، وتحريم أم الزوجة يرفع
صدق بنت الزوجة على المرتضعة، فيكون المورد من موارد التوارد والتحاكم، وفي مثله يسقط الدليلان عن
الاعتبار.
وان كان المقصود من بنت الزوجة بنت من كانت زوجة، كان دليل تحريم البنت رافعا لموضوع تحريم
الأم ولا عكس. فيعمل بأحدهما دون الاخر.
كما أنه لو بني على أن المشتق حقيقة في الأعم لم يكن كل من الدليلين رافعا لموضوع الاخر، فيعملان
معا وتحرمان معا.
هذا تحقيق المسألة. واما ما سلكه المحقق الأصفهاني، فهو أشبه بالمصادرة ونفس الدعوى، إذ كان
عليه ان يبين السر في تحريم بنت الزوجة دون أمها، وقد اخذ تحريم بنت الزوجة مفروغا عنه. مضافا إلى أنه
عبر بوحدة الرتبة بين البنتية وعدم الزوجية، مع أن عدم الزوجية حكم لبنت الزوجة، فهو متأخر عنه
330

ثم إنه لا يدخل في موضوع النزاع ما كان من الجوامد منتزعا عن نفس
الذات كالانسان والحجر والشجر، فإنها تنتزع عن مرحلة تحصل الأجناس
بفصولها وهي مرحلة الذات والتقرر. والوجه في عدم شمول النزاع لها هو: انه
بانعدام منشأ انتزاعها لا تبقى الذات كي يقع الكلام في صدق المشتق عليها أو
كون المشتق حقيقة فيها أولا؟ إذ مع عدم بقاء الذات في صورة زوال التلبس
يكون النزاع عديم الأثر والثمرة، بل لا معنى له إذا كان في الصدق لا في
المفهوم.
وبذلك يتضح ان موضوع النزاع ما كان من الأوصاف جاريا على الذات
ولم يكن منتزعا عن نفس الذات بحيث يكون ارتفاع منشأ الانتزاع مساوقا
لارتفاع الذات، لان النزاع في كون المشتق حقيقة في الذات المنقضي عنها
التلبس أو في صدقه عليها، ولازم ذلك فرض بقاء الذات بعد زوال التلبس في
موضوع الكلام. فلاحظ.
ومن هذه الجهة قد يشكل وقوع النزاع في أسماء الزمان باعتبار ان الزمان
ينقضي ويتصرم ولا استقرار له. وعليه فلا يتصور فيه وجود ذات انقضى عنها
التلبس كي يقال ان اسم الزمان حقيقة فيها أولا، فالذات غير محفوظة في كلتا
الحالتين.
وقد أجاب عنه في الكفاية بوجهين:
الأول: - حلي - وهو ان النزاع في مفهوم المشتق والموضوع له اللفظ وانه
هو خصوص المتلبس أو الأعم، وذلك لا يرتبط بتحقق مصداقي العام خارجا
وعدم تحققه، إذ البحث في المفهوم لا ينظر فيه إلى المصاديق فلا يكون عدم تحقق
المصداق وانحصاره في فرد موجبا لنفي صحة النزاع في المفهوم من جهة سعته
وضيقه.
الثاني: النقض بلفظ الواجب، فإنه موضوع للمفهوم العام مع انحصاره
331

في ذات الباري جل اسمه، وبوقوع النزاع في الموضوع له لفظ: (الله) وانه
هل هو مفهوم واجب الوجود أو انه علم للذات المقدسة؟، مع انحصاره خارجا
بالذات المقدسة (1).
والتحقيق ان يقال: ان صيغة: (مفعل)، كمقتل ومضرب ومرمى ونحوها،
اما ان يلتزم بأنه موضوع بوضعين أحدهما للزمان والاخر للمكان. أو يلتزم
بوضعها لمعنى واحد جامع بين الزمان والمكان، وهو وعاء المبدأ وظرفه سواء كان
زمانا أو مكانا. فمقتل موضوع لوعاء القتل سواء كان زمانا أو مكانا لا انه
موضوع بوضع مستقل لزمان القتل وبوضع آخر لمكان القتل.
فعلى الأول: لا يتجه النزاع في اسم الزمان للغويته وعدم ترتب الأثر
عليه، لعدم مصداق مورد الأثر، وهو الذات المنقضي عنها التلبس.
وعلى الثاني: يتجه النزاع، إذ يكفي في صحته ترتب الثمرة بالنسبة إلى
بعض المصاديق التي ينطبق عليها العنوان وهو المكان وإن لم تكن هناك ثمرة
بالنسبة إلى الزمان، إذ الوضع واحد فيبحث عن سعة دائرة الموضوع له وضيقه
لترتب الثمرة على ذلك ولو في بعض الموارد والمصاديق. فإنه كاف في تصحيح
وقوع النزاع.
ومن هنا يظهر الفرق بين اسم الزمان والوصف الجامد المنتزع عن
الذات. إذ الوصف الجامد موضوع لخصوص الذات لفرض كونه جامدا فلا يتجه
البحث عن خصوصية الموضوع له فيه بعد أن لم يكن للذات بقاء مع زوال المبدأ
ومنشأ الانتزاع. بخلاف اسم الزمان على المبنى الثاني، فإنه لم يوضع لخصوص
الزمان كي يكون البحث فيه لغوا كما هو مقتضى المبنى الثاني، بل وضع للأعم
من الزمان والمكان فيمكن وقوع البحث عنه ولو بلحاظ ترتب الثمرة في المكان.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 40 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
332

وبالجملة: البحث في النتيجة لا يكون عن الموضوع له اسم الزمان، بل
عن الموضوع له صيغة: (مفعل) التي تعم الزمان والمكان والأثر يترتب عليه
بالنسبة إلى المكان.
ومما ذكرنا يظهر: ما فيما قرره المحقق النائيني من خروج الأوصاف
المشتقة المنتزعة عن مقام الذات كالممكن والواجب، إذ زوال المبدأ وهو الامكان
يساوق زوال نفس الذات، إذ لا يعقل بقاء الذات وزوال صفة الامكان عنها بعد أن
كانت ثابتة لها. وعليه، فلا يتصور وجود الذات التي يزول عنها المبدأ كي يقال
ان المشتق حقيقة فيها أولا؟ أو انه يصدق عليها حقيقة أولا؟ (1).
فإنه قد اتضح وهن ذلك مما بيناه، إذ البحث لا يقع في وضع كل فرد من
افراد المشتق كالممكن والعالم والقائم وهكذا كي يلحظ ترتب الأثر ومعقولية
النزاع في كل فرد، إذ الهيئة موضوعة بالوضع النوعي كهيئة: (فاعل) لاسم
الفاعل ونحوها، ولم توضع في كل فرد فرد. فالمبحوث عنه وضع كل هيئة والنزاع
واقع فيها، ويكفي ترتب الأثر في بعض المصاديق وإن لم يترتب في البعض الاخر.
وبالجملة: المطلوب ترتب الأثر على النزاع في الموضوع له ولو بلحاظ
بعض الافراد، فالبحث لا يقع في أن لفظ الممكن موضوع لخصوص المتلبس أو
للأعم كي يقال إنه عديم الأثر، بل يقع في أن اسم الفاعل من المشتقات
موضوع لخصوص المتلبس أو للأعم، فيعم عنوان الممكن وغيره من العناوين.
ويترتب عليه الأثر المرغوب في بعض مصاديقه، فتدبر (2).
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 53 - الطبعة الأولى.
(2) بالنسبة إلى اسم الزمان: تحرير الاشكال كما في الكفاية غير وجيه. والعمدة في الاشكال هو: عدم تصور
الجامع بين حالتي الحدوث والبقاء في الزمان، إذ بعد فرض التصرم والانعدام فيه لا يمكن تصور البقاء له.
وبهذا الاشكال لا يرتبط جواب الكفاية.
ويمكن حل هذا الاشكال بما نسب إلى الشيخ هادي الطهراني من: تصور البقاء للزمان بملاحظة الاجزاء شيئا واحدا مستمرا بحيث يصدق الحدوث بحلول أول جزء، كالنهار والشهر والسنة وغير ذلك.
وعلى هذا الأساس يبتني استصحاب الزمان وغيره من الأمور التدريجية. إذن فيتصور انقضاء التلبس مع
بقاء الذات.
وبهذا الجواب يندفع اشكال اللغوية، إذ يتصور للزمان بقاء فيبحث عن صدق المشتق عليه.
نعم على ما جرى عليه القوم يرد اشكال اللغوية ولا حل له إلا ما في المتن من أن اسم الزمان لم
يوضع للزمان خاصة، بل للأعم من الزمان والمكان فراجع.
ثم إن ما افاده المحقق النائيني في حل الاشكال، وان كان مجملا وقد أورد عليه في التعليقة - راجع
أجود التقريرات 1 / 56 - لكن يمكن ارجاعه إلى ما أفاده الطهراني، وان مراده بالكلي والشخص هو
ملاحظة الزمان بكل آن آن منه، أو ملاحظة امرا واحدا مستمرا يحصل بأول جزء منه، بحيث تكون نسبته
إلى كل جزء نسبة الكلي إلى جزئياته لا نسبة المركب إلى اجزائه
333

الامر الثاني: في بيان خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن موضوع
النزاع.
وذلك لما قد عرفت من أن المراد بالمشتق المأخوذ موضوعا للكلام هو
الوصف الجاري على الذات والذي يصح حمله عليها، دون ما لا يصح، ولما كان
المصدر - المجرد والمزيد - لا يدل إلا على نفس الحدث والمبدأ مع نسبة الحدث
إلى ذات ما - وهو الفرق بينه وبين اسم المصدر، فإنه لا يدل الا على نفس الحدث
بلا جهة انتسابه كالغسل والغسل ومثل: (زدن) و (كتك) في الفارسية، فان الأولى
تدل على الحدث مع النسبة كالضرب، دون الثانية فإنها اسم لنفس الحدث بلا
دخول النسبة في معناه - لم يصح حمله على الذات وجريه عليها لتغاير وجود
الذات والمبدأ، كما أنهما متغايران مفهوما، فلا يصح ان يقال: (زيد ضرب أو أكل)
كما لا يخفى.
واما الأفعال، فهي كالمصادر لا تجري على الذات، لأنها لا تدل الا على
نسبة المبدأ إلى الذات وقيامه بها، ومعه لا يصح حملها على الذات وجريها عليها
للتغاير بين وجود الذات والنسبة وعدم الاتحاد بينهما بوجه ما، فلا يصح ان يقال:
(زيد ضرب) من باب الحمل بمفاد ان زيد هو ضرب وضرب هو زيد، وان صح
334

ذلك من باب الاسناد والنسبة، بمعنى نسبة الضرب إلى زيد، فلاحظ.
وحيث تعرضنا إلى الفعل في كلامنا، فلا بأس في تحقيق الكلام في معناه
ومعرفة مقدار صحة ما اشتهر من دلالته على الزمان، فقد بحث في ذلك الاعلام
في هذا المقام وليس له مقام آخر. فنكون بذلك قد عرفنا معنى الحرف والفعل
ويبقى الاسم الذي هو محل البحث فسيأتي تحقيق معناه، فان مسألة المشتق
معقودة لذلك.
فنقول: انه قد اشتهر في ألسنة النحاة وغيرهم دلالة الفعل على الزمان،
بل اخذت الدلالة على الزمان في مفهومه كما لا يخفى ذلك على من لاحظ
تعريفاتهم للفعل.
وقد استشكل في ذلك - كما جاء في الكفاية - ومنعت دلالة الفعل على
الزمان بتقريب: ان مفهوم الزمان مفهوم اسمي فيمتنع أن يكون مدلولا للهيئة
فإنها من الحروف، ويلزم أن يكون لها معنيان حرفي وهو النسبة واسمي وهو
الزمان وهو واضح المنع.
وأجيب عن ذلك: بأنه لم يؤخذ في مفهوم الفعل مفهوم الزمان، وانما مدلوله
هو الحصة الخاصة من الحدث، وهي الملازمة للزمان مع النسبة، فالمدلول ليس هو
مطلق الحدث بل الحدث المقيد بالزمان الخاص.
وقد قرب صاحب الكفاية عدم دلالة الفعل بأقسامه على الزمان ببيان:
ان فعل الامر لا يدل إلا على طلب الفعل أو تركه من دون دلالة له على الزمان
الحال أو المستقبل، إذ مادته تدل على الفعل والهيئة تدل على انشاء الطلب، فليس
فيه ما يوجب الدلالة على الزمان، نعم الانشاء يكون في الحال ولكنه أجنبي عن
الدلالة على الحال، إذ هو من باب انه فعل صادر من زماني فيقع قهرا في الزمان
كسائر الأفعال، مثل الاخبار بالماضي.
واما فعل الماضي والمضارع، فلا يمكن الالتزام بدلالته على الزمان، إذ
335

قد سند إلى ما لا يقع في الزمان كنفس الزمان، فيقال مضى الزمان، ويأتي،
وكالمجردات عن الزمان كالذات المقدسة، فيقال: علم الله سبحانه، فلو دل
الفعل على الزمان لم يصح اسناده إلى مثل الزمان والمجردات إلا بالتصرف فيه
بتجريده عن الخصوصية، في حين انه لا يرى العرف في الاستعمال المذكور
والاسناد أي تصرف ومسامحة.
وقد أيد صاحب الكفاية ما ذكره من نفي دلالة الفعل على الزمان: بأنه
لا معنى لما يقال من أن المضارع للحال والاستقبال إذا أريد منه انه يدل على
زمان يعمها، إذ لا جامع بينهما. كما أيده بأنه قد يكون زمان الفعل الماضي
مستقبلا وزمان المضارع ماضيا، وانما يكون الأول ماضيا والثاني مستقبلا
بالإضافة كما لو قيل: (يجئ زيد بعد أسبوع وقد ضرب قبله بيوم)، و: (جاء زيد
قبل سنة وهو يضرب بعده بيوم). فلاحظ (1).
وبالجملة ما ذكره صاحب الكفاية من نفي دلالة الفعل على الزمان مما
لا اشكال فيه. فيتسائل حينئذ: بأنه إذا لم يكن الفعل دالا على الزمان وانما كان
دالا على خصوص نسبة المبدأ إلى الذات، فما هي جهة الفرق المحسوس بين
الفعل الماضي والمضارع، إذ من الواضح وجود الفرق بينهما وعدم صحة استعمال
أحدهما مكان الاخر؟. وقد أجيب عن ذلك: بان لكل من الفعل الماضي
والمضارع خصوصية بحسب معناه تختلف عنها في الاخر تلازم هذه الخصوصية
الزمان الماضي في الفعل الماضي والحال أو الاستقبال في المضارع في ما يقبل
الزمان من الفواعل كالزمانيات. وتلك الخصوصية هي جهة الفرق بين الفعلين (2).
وقد وقع الكلام في الكشف عن هذه الخصوصية وبيان حقيقتها.
فقيل: انها تحقق الفعل في الماضي وترقبه في المضارع، وتحقق الفعل من
.

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 40 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
336

الفاعل الزماني لا بد أن يكون في الزمان الماضي كما أن ترقبه منه يلازم صدوره
منه فعلا أو بعد حين في الزمان المستقبل.
ولكنه يشكل ذلك: بان الفعل المضارع قد يستعمل في مورد لا يشتمل
فيه على هذه الخصوصية بلا مسامحة ولا عناية، مثل قول القائل: (إني أترقب
أن يعلم زيد، أو يأكل، أو يسافر)، فإنه لا معنى لاشتمال الفعل في مثل المثال
على خصوصية الترقب، إذ يكون المعنى معه (إني أترقب ترقب علم زيد) وهو
غير مقصود بلا كلام.
وقيل: إن الخصوصية ليست هي التحقق في الماضي والترقب في المضارع
كي يرد هذا الاشكال، بل هي بالنسبة التحققية في الماضي والنسبة الترقبية في
المضارع، بمعنى ان مدلول المضارع هو النسبة القابلة لورود الترقب عليها
والتي من شأنها تعلق الترقب بها، كما أن مدلول الماضي هو النسبة التحققية شأنا
لا فعلا.
وأنت خبير: بان هذا ليس تفريقا وبيانا لجهة الفرق بل هو عين المدعى،
إذ المطلوب بيان الجهة الواقعية التي بها كانت النسبة المدلولة للفعل الماضي
هي غير النسبة المدلولة للفعل المضارع والكشف عن حقيقة الخصوصية المفرقة،
وما ذكر لا يفي بذلك، إذ هو لا يعدو كونه بيانا لان مدلول الماضي والمضارع
هو النسبة ولكنها مختلفة فيهما بخصوصية ما بلا بيان لتلك الخصوصية، وظاهر
ان هذا هو عين التسائل السابق الذي صرنا في مقام الإجابة عنه. فلاحظ
جيدا.
فالتحقيق ان يقال: ان الخصوصية التي يدل عليها الفعل الماضي الملازمة
للزمان في الزمانيات هي السبق، فهو يدل على سبق تحقق النسبة، والخصوصية
التي يدل عليها الفعل المضارع هي اللحوق، فهو يدل على لحوق تحقق النسبة.
وتوضيح ذلك: ان السبق واللحوق لا يتقومان بالزمان كما قد يتوهم
337

بلحاظ ان السبق ينتزع عن وجود الشئ قبل آخر وفي زمان سابق على زمان
الاخر، بل هما أمران انتزاعيان ينتزعان عن وجود الشئ في فرض عدم الاخر،
وذلك يلازم الزمان الماضي والمستقبل في الفاعل الزماني الذي يحتاج في فعله إلى
الزمان ولا يمكن ان يقع في غير الزمان، فالشيئان إذا لوحظ أحدهما بالإضافة
إلى الاخر، فتارة: يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الاخر، وأخرى: لا
يكون أحدهما موجودا في فرض وجود الاخر، فعلى الأول ينتزع عنوان التقارن،
وعلى الثاني ينتزع عنوان السبق واللحوق، فالشئ الموجود فعلا يكون سابقا
والذي يوجد بعد أن لم يكن في فرض وجود الاخر يكون لاحقا، فالسبق
واللحوق عنوانان انتزاعيان ولا يتقومان بالزمان، بمعنى انهما يصدقان في المورد
غير القابل للزمان كالزمان نفسه، فيقال الزمان السابق واللاحق، نعم هما
يلازمان الزمان في الزماني الذي يحتاج في وجوده إلى الزمان، وعليه فالفعل
كالقيام - مثلا - حيث إنه قابل لان يوجد في فرض عدم الاخر فيكون سابقا
كما أنه يوجد بعد أن وجد غيره فيكون لاحقا فيمكن ان يراد تفهيم الحصة
الخاصة السابقة أو المقارنة للسبق، كما أنه يمكن ان يراد تفهيم الحصة المقارنة
للحوق، فوضع الماضي للأولى والمضارع للثانية، فيكون دالا على الزمان بالالتزام فيما
كان الفاعل زمانيا لملازمة السبق واللحوق للزمان في الزمانيات، تأمل تعرف (1).
.

(1) الكلام في الفعل ودلالته على الزمان: ما افاده في الكفاية. وما أفاده الأصفهاني من كونه مقيدا بالسبق
واللحوق كما أشرنا إليه في المتن - والفرق بين دعوى صاحب الكفاية ودعوى
الأصفهاني أو المشهور هو: ان مرجع دعوى الكفاية إلى اختلاف مدلول الماضي عن المضارع سنخا
وحقيقة، كالاختلاف في مدلول: (من وإلى). فمدلول الماضي أمر بسيط يختلف سنخا عن المضارع،
ونصطلح عليه بالتحقق والترقب اما مرجع دعوى المشهور أو الأصفهاني فهي إلى أن الاختلاف في القيد،
وإلا فذات المقيد واحدة وهي النسبة الصدورية، أو التلبس لكنه مقيد بالسابق في الماضي وباللحوق في
المضارع. فيكون السبق أو الزمان مدلولا ضمنيا للفعل. بخلافه على الأول، فإنه مدلول التزامي.
والصحيح هو ما افاده في الكفاية لوجهين:
الأول: ان اخذ التقيد بالسبق أو بالزمان في مدلول الفعل يستدعي لحاظ الطرفين تفصيلا، سواء قلنا إن
المعنى الحرفي عبارة عن الربط أو تضييق المفاهيم الاسمية، ومن الواضح ان عند استعمال الفعل لا
يلحظ السبق أو الزمان تفصيلا، والمفروض أخذ أحدهما طرفا للتقيد والنسبة.
الثاني: ان اختلاف نسبة المضارع والماضي إذا كانت بالتقيد، كان مقتضى ذلك جواز استعمال أحدهما
موضع الاخر مجازا كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية، مع بداهة غلطية قولنا: (يجي زيد أمس)
أو: (جاء زيد غدا): فيكشف ذلك عن اختلاف مفهوميهما سنخا وحقيقة وهو ما التزمنا به.
واما ما ذكره في الكفاية مؤيدا من أن المشهور كون المضارع للحال والاستقبال مع امتناع الاشتراك
اللفظي والمعنوي، فيلازم كون المدلول خصوصية تلازم الزمانين. توضيحه: ان الفعل إنما يقع في واقع
الزمان لا عنوانه. وعليه، فقد يقال: بان الجامع بينهما موجود وهو غير الماضي أو نحوه ولا يخفى ان عنوان
غير الماضي معرف إلى واقع الزمان وإلا فهو ليس ظرفا، وليس هناك زمان واقعي يكون جامعا بينهما.
وإنما ذكره مؤيدا لا دليلا، ولأجل احتمال عدم إرادة الحال الدقي، بل قيل إنه غير متصور، بل المراد
بالحال هو الحال العرفي وهو مستقبل دقة، فلا يكون للفعل زمان إلا زمان الاستقبال فيندفع الاشكال
338

الامر الثالث: قد عرفت أن النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس
بالمبدأ أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ، ودلالة الهيئة على خصوص المتلبس
أو عليه وعلى المنقضي عنه التلبس.
فقد يتوهم اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ فعليا كالضرب والأكل،
دون ما كان حرفة أو ملكة، كالصياغة والشعر، لوضوح صدق الصائغ على من
له حرفة الصياغة ولو لم يكن متلبسا بالصياغة فعلا، فلا نزاع في ذلك.
ولكنه توهم فاسد فان اختلاف المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بمورد دون آخر، بل هو يتأتى في الجميع، لكن الفرق في التلبس وعدمه، فان
المبدأ إذا كان فعليا كان التلبس به بمباشرته فعلا ويصدق الانقضاء عند عدم
مباشرته، واما إذا كان حرفة فالتلبس به يصدق ما دام محترفا ولو لم يباشر الفعل،
إذ لا يعتبر فيه المباشرة، ولا يصدق الانقضاء الا إذا انقطع عن الاحتراف.
فالنزاع يقع حينئذ في صدق المشتق على من انقضى عنه المبدأ بمعنى انقطع عن
الاحتراف.
339

وبالجملة: فالنزاع جار في الجميع، وانما الاختلاف في فعلية التلبس
والانقضاء، فإنها تختلف بحسب اختلافها كما عرفت.
الامر الرابع: في بيان المراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة.
وهذا الامر عديم الأثر والجدوى بالمرة، إذ لم تحرر المسألة كما حررها
صاحب الكفاية كي نحتاج إلى شرح المراد، إذ تحرير المسألة بان مفهوم المشتق
هل هو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا أو الأعم منه وممن انقضى عنه التلبس؟
لا يحتاج معه إلى تحرير هذا الامر بل وجوده كعدمه.
ولكنه حيث كانت عبارة الكفاية لا تخلو عن غموض وصارت محط
النقاش تعرضنا لشرح مراده فقط وتوضيح عبارة الكفاية لا غير.
وتوضيح ذلك: ان المراد بالحال ليس حال النطق، بمعنى انه لا يعتبر في
صدق المشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدأ حال النطق، إذ من المسلم ان قول
القائل: (كان زيد ضاربا أمس، أو سيكون ضاربا غدا) حقيقة إذا كان قد تلبس
بالضرب أمس أو يتلبس به في الغد، مع أنه لا تلبس في حال النطق والتكلم.
وانما المراد بالحال حال التلبس وليس المقصود زمان التلبس كما استظهر
- من عبارة الكفاية - المحقق النائيني (قدس سره)، فأورد عليه: بأنه يلزم اخذ
مفهوم الزمان في مفهوم الاسم، وهو مما قام الاجماع على خلافه (1).
بل المقصود هو اتحاد الجري والاسناد والتلبس بحيث يكون الاسناد
والجري في فرض فعلية التلبس، فالمراد بالحال فعلية التلبس، فيعتبر اتحادها
مع الجري والاسناد.
وقد أيد ما ذكره بالاتفاق الحاصل من أهل العربية القائم على عدم دلالة
الاسم على الزمان ومنه المشتق، فلو أريد من الحال حال النطق كان دالا على
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 57 - الطبعة الأولى
340

الزمان كما لا يخفى.
واما اشتراط العمل في اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال،
فهو لا يتنافى مع الاتفاق المزبور، إذ المراد انه بمعنى الحال أو الاستقبال بواسطة
القرينة، ويدل عليه اتفاقهم على مجازية اسم الفاعل في الاستقبال.
وقد يستشكل فيما ذكره المحقق الخراساني لوجهين:
الأول: الاتفاق القائم على مجازية مثل: (زيد ضارب غدا)، فإنه لو كان
المراد بالحال فعلية التلبس واعتبار اتحادها مع الجري لم يكن ذلك مجازا كما تقدم
نظيره.
الثاني: ان الظاهر من الحال عند اطلاقه وعدم تحديده بشئ هو زمان
الحال المساوق لحال النطق، كما أنه - أي زمان الحال - الظاهر من المشتق
لانصرافه من الاطلاق، أو لمقدمات الحكمة. وعليه فلا بد ان يراد بالحال في عنوان
النزاع حال النطق وزمان الحال.
ويدفع الأول: بان مجازية مثل المثال المزبور انما هو لاجل انفكاك الجري
عن فعلية التلبس، إذ الظاهر من الاطلاق وقضيته كون الجري في الحال، والقيد
المذكور وهو: (غدا) بيان لزمان التلبس، فالجري في الحال والتلبس في الاستقبال
وهو مجاز.
وبالجملة: الظاهر من المثال إسناد الضرب الحاصل في الغد إلى زيد في
الحال وذلك مجاز بلا كلام.
ويدفع الثاني: بان المقام مقام تعيين الموضوع له المشتق وبيانه، وانه هل
خصوص المتلبس في حال النطق أو مع فعلية التلبس، أو الأعم منه ومما انقضى
عنه، فلا يثبت بحديث الانسباق والقرينة العامة، فإنه وان سلم لكنه لا يجدي
فيما نحن بصدده من تعيين الموضوع بالعنوان المأخوذ في مورد الكلام وانه ما
هو؟.
341

وبالجملة: ثبوت الانسباق لا يرتبط بعالم الموضوع له وتعيينه، وان
المقصود في العنوان ما هو؟ بل هو أجنبي عنه فلاحظ وتدبر (1).
الامر الخامس: في تأسيس الأصل في المورد، بمعنى انه مع التردد وعدم
قيام الدليل على أحد الاحتمالين فهل هناك من الأصول ما يعين أحدهما أو
تكون نتيجته توافق أحدهما؟.
والكلام تارة: في قيام الأصل في المسألة الأصولية، أعني في مقام الوضع
والموضوع له. وأخرى: في الأصل في المسألة الفرعية، أعني في مقام ثبوت الحكم
للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له.
اما الأصل في المسألة الأصولية، فهو غير ثابت، إذ لا أصل لدينا. يعين
ان الموضوع له خصوص المتلبس أو الأعم منه.
وما يدعى من جريان أصالة عدم ملاحظة الخصوصية فيثبت بها الوضع
للأعم، يدفع:
.

(1) ذكر الاعلام: ان المراد بالحال في موضوع النزاع هو حال التلبس أو فعلية التلبس لا حال النطق،
واستشهدوا على ذلك بالمثالين. ولا يخفى ان المثالين لا يرتبطان بما نحن فيه بالمرة، إذ البحث فيما نحن
فيه اما عن حمل المشتق على المنقضي أو المتلبس، أو إطلاقه عليه. والمثالان أجنبيان، إذ لم يطلق: (ضارب)
على الذات ولم يحمل عليها فعلا، وانما يدل على كونه كذا أمس أو غدا لا انه كذا، فكأنه يقول: (ان زيدا
مصداق للضارب أمس) وهذا لا حمل فيه بالمرة، وكذا الحال في مثل: (زيد ضارب أمس) فان أمس بيان
لوقت انطباق ضارب عليه ولا حمل بالفعل أصلا، ومثله قد يتأتى في الجوامد التي لا نزاع في وضعها للأعم
أو المتلبس، بل هي مختصة بالمتلبس قطعا، فيقال: (سيكون هذا تمرا غدا وكان هذا رطبا أمس).. والشاهد
الذي ينبغي أن يكون للمقام هو مطلق العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام ك‍: (العالم يجوز تقليده).
و: (العادل يصح الائتمام به) وهكذا، فإنه لا اشكال في عدم إرادة خصوص المتلبس حال الكلام مع أنه
لا تجوز في الاستعمال أصلا.
واما ما ذكره في الكفاية تحت عنوان: (لا يقال... فإنه يقال).. فهو لا يخلو عن اجمال سؤالا
وجوابا، فان ارتباط السؤال بما تقدم لا يخلو عن إجمال. كما أن تسليم صاحب الكفاية بظهور المشتق في
الحال غير واضح، والمتيقن هو ظهور المشتق في الحال، بمعنى فعلية التلبس عند فعلية الحكم في قبال
التعليق لا الحال في قبال الاستقبال. فتدبر
342

أولا: بأنها معارضة بأصالة عدم ملاحظة العموم، إذ الوضع للأخص كما
يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنفى بالأصل، كذلك الوضع للأعم يستدعي لحاظ
العموم للزوم ملاحظة الموضوع له ولا يكتفى في لحاظه بعدم لحاظ الخاص، لان
الخاص والعام متباينان بحسب المفهوم، إذ لكل منهما حده الوجودي المميز له
عن غيره، فعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظا للاخر، فتنفي ملاحظة العموم
بالأصل أيضا.
وثانيا: ان الأصل المذكور ان كان المقصود منه الأصل العقلائي، فلا دليل
عليه إذ لم يثبت بناء العقلاء على نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك بها. وان كان
المقصود منه الاستصحاب فيستصحب عدم ملاحظة الخصوصية من باب أصالة
عدم الحادث، فيمنع: بأنه يعتبر في المستصحب أن يكون ذا أثر شرعي إن لم يكن
هو حكم شرعي، كما هو الحال فيما نحن فيه، وليس لعدم ملاحظة الخصوصية
أثر شرعي إلا بواسطة أو وسائط، لكنه لا ينفع في جريان الاستصحاب إلا بناء
على الأصل المثبت.
واما ما يدعى من ترجيح الاشتراك المعنوي اللازم للوضع للأعم على
الحقيقة والمجاز اللازم للوضع للأخص، عند الدوران بينهما، من جهة غلبة
الاشتراك المعنوي، فيدفع:
أولا: بمنع الصغرى، إذ لم تثبت الغلبة.
وثانيا: بمنع الكبرى، إذ لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلم ثبوتها.
واما الأصل في المسألة الفرعية، فقد ذكر صاحب الكفاية بأنه يختلف
باختلاف الموارد، فقد تكون نتيجته في بعض الموارد تلائم الوضع للأخص كما
لو ورد: (أكرم كل عالم) وكان زيد قد انقضى عنه العلم قبل الايجاب فإنه حيث
يشك في صدق العالم عليه فعلا للشك في الوضع يشك في ثبوت الحكم له أيضا،
فأصالة البراءة عن وجوب اكرامه تنفي ثبوت الحكم له. وقد تكون نتيجته تلائم
343

الوضع للأعم كالمثال المزبور وكان زيد متلبسا بالعلم حال الايجاب لكنه انقضى
عند بعد ورود الوجوب، فإنه حينئذ يشك في بقاء الحكم له للشك في عالميته
فيستصحب وجوب اكرامه (1).
هذا ما افاده (قدس سره) في المقام، وقد صار محل الاشكال بحكمه
بجريان استصحاب الوجوب وتحقيق المقام، لان الاستصحاب ذو جهتين: جهة
الحكم وجهة الموضوع. فيقع الكلام في امكان جريانه في الحكم وجريانه في
الموضوع، اما من يقول بعدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية فهو في
راحة من عدم جريان استصحاب الحكم هنا، فالكلام في جريان استصحاب
الحكم هاهنا وعدمه مبني على جريان الاستصحاب في نفسه في الشبهات الحكمية
ومنشأ التوقف في جريانه هو الشك في بقاء الموضوع. فالكلام يقع في جهتين:
الأولى: جريان الاستصحاب في الموضوع، بمعنى يستصحب كونه عالما
بعد أن كان كذلك للشك فيه.
وقد استشكل فيه هنا، بل في كل استصحاب للموضوع، ومنشأ الشك فيه
من جهة الشبهة المفهومية كاستصحاب النهار لتردده بين سقوط القرص وذهاب
الحمرة بان المستصحب اما أن يكون ذات الموضوع، أو الموضوع يوصف كونه
موضوعا للحكم. فإن كان ذات الموضوع وبقائه في العالم، فهو لا يثبت موضوعية
الموجود الا بنحو الأصل المثبت. وان كان الموضوع بما هو موضوع، فهو
كاستصحاب الحكم، لان الموضوعية انما تنتزع عن مقام ثبوت الحكم لموضوعه،
فهي عارضة على الذات فلا يمكن استصحابها للشك في بقاء معروضها، ويعتبر
في الاستصحاب بقاء المعروض لتقوم صدق النقض والابقاء ببقائه، إذ مع عدم
بقائه لا يكون عدم الحكم بثبوت عارضه في فرض الشك نقضا لليقين بالشك

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 45 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
344

كما أن الحكم بثبوته لا يعد ابقاء، بل اسراء للحكم الثابت لموضوع إلى موضوع
آخر. وعليه فإذا اعتبر بقاء المعروض في الاستصحاب فمع الشك في بقائه
لا يجري الأصل للشك في صدق النقض والابقاء، فتكون الشبهة مصداقية
لا يتمسك فيها بعموم دليل الاستصحاب.
والانصاف: أن هذا الاشكال لا يمنع من جريان الاستصحاب فيما نحن
فيه، لأنه وان سلم في نفسه، إلا أن الامر لا يدور بين الاحتمالين المذكورين بل
هناك شق ثالث، وهو جريان استصحاب انطباق المفهوم على الموجود الخارجي.
بل هو الذي يقصد استصحابه، فان المقصود استصحاب عالمية هذا الشخص،
فإنها كانت ثابتة له قبل الانقضاء، فمع الشك فيها بعد الانقضاء تستصحب.
وبعبارة أوضح: يستصحب كون هذا الشخص عالما واتصافه بالعالمية لليقين
السابق والشك اللاحق، ولا محذور فيه مما ذكر أصلا كما لا يخفى، فيثبت له
الحكم لتمامية الموضوع تعبدا.
نعم، هذا غير تام من جهة أخرى، وهي ان خصوصية التلبس لو كانت
مأخوذة في الموضوع له كانت مقومة للصدق والانطباق ودخيلة في موضوعه،
بحيث إذا انتفت ينتفي الانطباق والاتصاف لانتفاء موضوعه، فمع الشك في
دخالة هذه الخصوصية في الموضوع له لفظ المشتق، يحصل الشك عند انتفائها
في بقاء معروض الانطباق، فلا يصح استصحاب الانطباق لعدم العلم ببقاء
موضوعه، فلا يحرز انه ابقاء للحالة السابقة، بل يمكن أن يكون اسراء
للمستصحب من موضوع إلى آخر.
الثانية: جريان الاستصحاب في الحكم، وقد استشكل فيه من جهة
الشك في بقاء موضوعه وهو العالم في المثال المذكور، فلا يحرز كون اثبات الحكم
في صورة الشك ابقاء وعدمه نقضا كي يكون مشمولا لعموم الأدلة، بل يكون
المورد من موارد الشبهة المصداقية كما أشرنا إليه.
345

والانصاف: ان الحكم بعدم جريانه على اطلاقه ممنوع، بل يختلف
باختلاف موارده، فالمورد الذي يرى العرف تقوم الموضوع ومعروض الحكم
بالعنوان بحيث يكون العنوان في نظره من الجهات التقييدية، نظير جواز تقليد
المجتهد، يمتنع اجراء الاستصحاب للشك في بقاء معروض الحكم، واما المورد
الذي يرى العرف ان الحكم ثابت للذات وان معروض الحكم هو نفس الذات
وان العنوان جهة تعليلية للحكم نظير وجوب اكرام العالم، فان الاكرام يعرض
على نفس الذات، لم يمتنع اجراء الاستصحاب لاحراز بقاء الموضوع، إذ ليس
المراد بالموضوع الا معروض الحكم لاكل ما كان دخيلا في ثبوت الحكم.
وقد أوضحنا الكلام في الجهتين في الامر الأول من خاتمة الاستصحاب في
الدورة السابقة فلاحظ.
ولعل نظر المحقق صاحب الكفاية في اجراء استصحاب الحكم مع التزامه
باعتبار بقاء الموضوع في باب الاستصحاب إلى النحو الثاني، فتدبر (1).
وبعد هذا كله شرع صاحب الكفاية في تحقيق الحق في المسألة وبيان ان
الموضوع له هل هو خصوص المتلبس - كما ذهب إليه الأشاعرة ومتأخروا
الأصحاب -، أو الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ - كما ذهب إليه المعتزلة
ومتقدمو الأصحاب -؟. وقد أشار (قدس سره) إلى تفرع الأقوال وتكثرها
.

(1) في نفي أصالة عدم ملاحظة الخصوصية يقال: ان جريان الأصل يتوقف على..
أولا: على كون الحكم المردد موضوعه انحلاليا بلحاظ قيد المشكوك، كالوجوب المتعلق بالمركب، اما
إذا لم يكن انحلاليا كامضاء المعاملة المرددة بين كونها مطلق البيع أو البيع الخاص، فان إمضاء البيع الخاص
لا ينحل إلى امضاء ذات البيع وإمضاء الخصوصية كي يكون هناك قدر متيقن.
وثانيا: على كون التردد بالاطلاق والتقييد كالتردد بين العالم والعالم العادل. اما إذا كان التردد بالتباين
نظير زيد والانسان، لان زيد ليس عبارة عن كلي وإضافة، فلا يجري الأصل أيضا لعدم القدر المتيقن.
والوضع للمتلبس من هذا القبيل، فإنه ليس مما يقبل الانحلال أولا فهو كالامضاء، والأعم والمتلبس
متباينان مفهوما وليست النسبة هي الأقل والأكثر فلاحظ
346

أخيرا الناشئ من توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه، أو بتفاوت أحواله
من كون محكوما عليه أو محكوما به ونحوهما، وقد اتضح فساد هذا التوهم ونظيره
مما تقدم كما لا يخفى.
والذي اختاره (قدس سره) هو الوضع لخصوص المتلبس مستدلا على
ذلك بالتبادر وصحة السلب عن المنقضي، وصدق نقيض الصفة عليه حال
الانقضاء أو ضدها (1).
ووافقه المحقق النائيني (قدس سره) في هذا الاختيار، لكنه نهج في
استدلاله على المدعى نهجا برهانيا لا عرفيا وجدانيا.
ومحصل ما جاء في تقريرات بحثه للسيد الخوئي (دام ظله): ان النزاع في
الوضع لخصوص المتلبس أو للأعم منه ومن المنقضي عنه المبدأ يبتني على القول
بالبساطة أو التركيب..
فلازم القول بان مفهوم المشتق مفهوم مركب الوضع للأعم، إذ معنى المشتق يكون ذات المنتسب لها المبدأ، فالركن الركين حينئذ يكون هو الذات
وانتساب المبدأ إليها وان اخذ في مفهوم المشتق لكنه بنحو الجهة التعليلية، لصدق
المشتق على الذات ولم يؤخذ في النسبة التقييدية زمان دون زمان، فيكفى في صدق
المشتق تحقق التلبس والانتساب في الجملة مع بقاء الذات، فيكون صادقا على
المنقضي بحسب ذات المعنى في نفسه.
كما أن لازم القول ببساطة مفهوم المشتق الوضع للأخص، إذ مرجع
القول بالبساطة إلى القول بان مفهوم المشتق هو نفس المبدأ، وهو الركن الركين
فيه، فمعنى قائم هو القيام، غاية الامر انه ملحوظ بنحو يصح حمله على الذات
وجريه عليها دون نفس المصدر. وعليه فمفهوم المشتق بتقوم بالمبدأ، فمع انعدامه
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 45 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
347

لا يصدق المشتق لعدم معناه. فيكون المشتق أشبه بالجوامد من هذه الجهة.
ثم إنه بعد أن أوضح الفرق بين المشتق والجوامد من جهة أخرى، وبعد
ان ذكر الاستدلال بالتبادر وصحة السلب ذكر: ان القول بالوضع لخصوص
المتلبس بالمبدأ متعين حتى مع الالتزام بالتركيب، وان المسألة لا تبتني بقوليها
على القول بالبساطة والتركيب، بتقريب: ان من يقول بالتركب يدعى تركبه
من الذات والمبدأ ولكن لا على الاطلاق، بل الذات متضمنة لمعنى حرفي، وهو
نسبة المبدأ إلى الذات. وعليه، فوضع المشتق للأعم يتوقف على اخذ الزمان في
مفهوم المشتق، فإنه هو الجامع بين المتلبس والمنقضي ولا جامع غيره، ومن المقرر
والواضح ان مفاهيم المشتقات عارية عن الزمان فلا يكون هناك ما يجمع بين
الفردين فلا يصح الوضع للأعم لعدم الجامع، فيدور الامر حينئذ بين وضعه
لخصوص المنقضي، اوله بوضع آخر على سبيل الاشتراك، أو للمتلبس فقط،
والأولان لا يقول بهما أحد، بل هما خلاف الالتزام بالوضع للأعم، فيتعين
الثالث، وهو المطلوب (1).
وقد استشكل السيد الخوئي فيما ذكره (قدس سره) أخيرا من عدم
الجامع بدعوى: امكان تصور الجامع بين المنقضي والمتلبس بأحد وجهين:
الأول: ان يقال ان الجامع هو اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة أعم من
أن يكون فعليا أو قد انقضى في مقابل الذات التي لم تتصف بالمبدأ أصلا.
الثاني: ان يقال بوجود الجامع الانتزاعي لو أنكر وجود الجامع الحقيقي،
وهو عنوان أحدهما. وهو كاف في مقام الوضع فلا يتوقف على الجامع الحقيقي لان
المطلوب تصور الموضوع له بنحو ما وهو يحصل بالجامع العنواني (2).
.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 74 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 250 - الطبعة الأولى
348

والتحقيق: تمامية ما افاده المحقق النائيني من عدم امكان تصور الجامع
سوى الزمان.
بيان ذلك: انه قد عرفت فيما تقدم ان المعاني الحرفية من سنخ الوجود لا
المفاهيم. وعليه فكل منها يغاير الاخر لتغاير الوجودين، فلا يتصور الجامع بين
سنخين من النسبة والربط. نعم الجامع بين افراد سنخ واحد من الربط ممكن
كالجامع بين النسب الظرفية، وهو (النسبة الظرفية) وغيرها، ومن الظاهر أن
نسبة المبدأ إلى الذات في حال التلبس تختلف عنها في حال الانقضاء، فان الربط
بين المبدأ والذات في حال التلبس ربط حقيقي واقعي، وفي حال الانقضاء ربط
مسامحي ادعائي، إذ لا ارتباط حقيقة بينهما عند انعدام المبدأ لانعدام أحد طرفي
النسبة. وعليه، فسنخ نسبة المبدأ إلى الذات حال التلبس يختلف عن سنخ نسبته
إليها في حال الانقضاء، فالوضع للأعم مع أخذ النسبة في مفهوم المشتق يتوقف
على تصور جامع بين هاتين النسبتين يشار به إليهما ويوضع اللفظ إليها بواسطته،
وقد عرفت أن الجامع بين سنخين من النسبة مفقود لتغاير انحاء النسب وتباينها.
ولعل نظر المحقق النائيني إلى هذا المعنى.
وعليه، فيختص المشتق بالوضع لخصوص المتلبس كما لا يخفى. ومن هنا
يظهر عدم وصول النوبة إلى الاستدلال على الوضع لخصوص المتلبس بالتبادر
وصحة السلب ونحوهما، فلاحظ جيدا وتدبر (1).
.

(1) في بيان الحق لمسألة المشتق:
ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى استحالة الوضع للأعم على البساطة وعلى التركيب، لعدم تصور
الجامع.
ويمكن المناقشة بذلك بدوا..
اما على البساطة، فلانه انما يتم كلامه لو كان معنى المشتق هو المبدأ لا بشرط، لعدم تصور الجامع
حينئذ، اما إذا كان معناه واجدية الذات للصفة فيمكن تصور الجامع كما لا يخفى.
واما على التركيب، فيرد عليه:
أولا: النقض بقضايا الاحكام المثبتة للحكم على الموضوع بوجوده الحدوثي واستمرار الحكم بعد عدم
الموضوع، كالتغير في نجاسة الماء.
وثانيا: بالحل، فإنه لا نحتاج إلى تصور الجامع في الموضوع، بل الملحوظ وجود موضوع المطلق وتلبس
الذات بالمبدأ مطلقا ولو انقضى عنها بعد ذلك، ونقول في الوضع كذلك لأنه من سنخ الحكم على المعنى
فلاحظ.
وعليه، فلا بد من ايقاع الكلام في مرحلة الاثبات، وقد ذكر في الكفاية وجوها لاثبات الوضع للمتلبس
خاصة. وتعرض في ضمن استدلالاته للاستدلال بصحة السلب. وأورد عليه في ذيل كلامه وأجاب عنه.
وفي الجواب نظر، يرجع إلى تسليمه الاشكال لو رجع القيد إلى المسلوب، فان التسليم ممنوع، فان
رجوعه لا يضر، لان السلب إذا انصب على الموصوف، فان كانت الصفة لازمة كان مقتضاه نفي الطبيعة،
كما لو أخذ بياض زيد فقيل انه ليس انسان أبيض، فان معناه نفي الانسانية عنه. وما نحن فيه كذلك،
لان الفرض تحقق المبدأ، فقولنا: (ليس زيد بضارب الآن) مع تحقق الوصف فيه يكشف عن عدم اسناد
الطبيعة بقول مطلق إليه فلاحظ.
ثم إن ظاهر الكفاية اختيار صحة السلب مقيدا، وتسليم عدم سداد صحة السلب المطلق. وهو قابل
للخدشة أيضا، إذ يصح ان يقال: (زيد ليس بضارب) مع الانقضاء. ودعوى: انه لا يصح ان يقال: (زيد
ضارب أمس). تندفع: بما عرفت من عدم تكفل هذه الجملة للحمل أصلا، بل تتكفل صلاحية الحمل
أمس، فلا تتكفل الحمل الفعلي، إذ الحمل هو الاتحاد في الوجود، وضارب أمس معدوم، فكيف يتحد مع
زيد الفعلي. وعليه، فيصح السلب المطلق وعدم الحمل المطلق الآن بالنسبة إلى زيد، فيقال: (زيد ليس
بضارب) ولا اشكال فيه.
وكيف كان، فقد تحصل من جميع ما تقدم: امكان الوضع للمتلبس وامكان الوضع للأعم، ولكن الدليل
اثباتا يساعد على الأول. هذا والانصاف تمامية ما افاده المحقق النائيني مع عدم تصور الوضع للأعم.
واما ما ذكرناه سابقا - في المتن - من قياس الوضع بجعل الحكم على الموضوع بملاحظة حدوثه
خاصة.
ففيه: ان باب الوضع يختلف عن باب الحكم، لان الحكم يتعلق بالموضوع نحو القضية الحقيقية
ويصير فعليا بفعلية موضوعه، والملحوظ في الموضوع هو وجود العنوان الخارجي لا نفس المفهوم بما هو.
بخلاف الوضع فإنه يرتبط بالمفهوم ولا نظر له إلى الخارج، ولذا تتحقق العلقة الوضعية بالفعل ولو لم يكن
للمفهوم وجود أصلا، فالموضوع له هو المفهوم. ومن الواضح ان التلبس والانقضاء من عوارض الوجود
لا من عوارض المفهوم، فالموضوع له هو الطبيعي وهو لا يتصف بالتلبس والانقضاء، وما يتصف بالتلبس
والانقضاء لا يوضع له اللفظ
وعليه، فإذا فرض ملاحظة مفهوم الذات المتلبسة ووضع اللفظ لها فلا تنطبق مع غير المتلبسة، والوضع
للذات الأعم لا مجال له، لان نفس مفهوم الذات لم يوضع لها الذات، بل مع ملاحظة ارتباطها من مبدأ،
ولا جامع بين التلبس والانقضاء كي يوضع للمفهوم الجامع.
ولا بأس بالإشارة إلى وجوه تصور الجامع وملاحظتها، فقد ادعي وجود الجامع بوجوه:
الأول: دعوى أنه هو الذات المتصفة بنحو الموجبة الجزئية في قبال عدم الاتصاف بالمرة وهي تصدق
على المنقضي والمتلبس بالفعل.
وفيه: ان مفهوم الاتصاف لم يلحظ في الموضوع له جزما، وانما يراد به واقعه، وهو النسبة، ولا جمع بين
النسبتين كما لا يخفى، لان النسبة معنى حرفي ولا يتصور الجامع في الخارج لتباين النسب.
الثاني: الالتزام بالجامع العنواني نظير ما يلتزم به في الوجوب التخييري كعنوان أحدهما..
وفيه: انه يلزم وضع الهيئة لهذا العنوان ومقتضاه الترادف وهو باطل جزما مع أنه معنى اسمي والهيئة
من الحروف. ثم إن أريد أحدهما المعين في الواقع فهذا غير جامع. وان أريد على سبيل البدل فيلزم تعدد
الموضوع له وهو خلف. مع أنه لا وجود خارجا لو أريد واحد منهما لا كليهما. فتأمل.
الثالث: أن يكون الجامع من وجدت فيه الصفة.
وفيه: انه يلزم عدم صحة: (زيد ضارب الآن) لعدم صدق الماضي في حقه، مع استلزامه لبعض المحاذير
الأخرى التي أشار إليها المحقق الأصفهاني فراجع.
واما جواب الكفاية عن استدلال للأعم بالآية الكريمة. فهو قابل للمناقشة، بان يمكن للخصم ان
يدعي ان استدلال الإمام (ع) كان بسبب الظهور الأولى للكلام وضميمة ظهور الكلام في فعلية
الموضوع عند فعلية حكمه. نعم يثبت ان عنوان الظالم كان ينطبق على الخلفاء.
واما دعوى كون المورد ليس من تلك الموارد، فهذا خلاف الظاهر الأولي في كل قضية. ولا بد أن يكون
احتجاجه بملاحظة ذلك والا سهل على الخصم انكاره.
فالحق في الجواب: ان سؤال إبراهيم (ع) لا يمكن أن يكون لمن هو متلبس بالظلم فعلا ومن ينطبق
عليه عنوان الظالم فعلا، فلا بد أن يكون للأعم من المتلبس سابقا ولمن لم يتلبس أصلا. فالجواب هو
التفصيل فالمراد بالآية هو خصوص المتلبس سابقا فلاحظ.
ثم إنه لا عبرة لبعض الأجوبة المذكورة عن الاستدلال بالآية لوضوح الاشكال فيها.
واما الاستدلال على الوضع للمتلبس أو نفي الثمرة في الخلاف بعدم الاشكال في نفي الحكم بانقضاء
المتلبس، كما في موارد الحيض. فهو ضعيف، لان فعلية الحكم تدور مدار فعلية الموضوع، فإذا كان
الموضوع هو الأعم كان فعليا. واحكام الحيض انما لا تثبت، للأدلة القطعية على أن المانع حدث الحيض
لا عنوان الحائض. فلاحظ.
349

(تنبيهات المسألة)
التنبيه الأول: في بيان بساطة مفهوم المشتق أو تركيبه.
ولا بد قبل الخوض في المطلب من بيان المراد بالبساطة والتركيب وتعيين
محل الكلام فيهما.
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى تحديد المتنازع فيه، فذكر: ان المبحوث
عنه هو البساطة في عالم التصور واللحاظ لا الواقع وبحسب التعمل العقلي.
وبيان ذلك: ان الشئ قد يكون بسيطا في عالم اللحاظ بمعنى انه لا يتحقق في
الذهن عند التعبير عنه إلا صورة واحدة لا أكثر، ولكنه في الواقع والحقيقة قد
يكون كذلك كالبياض، فإنه في ذاته بسيط، كما أنه صورة ولحاظا كذلك. وقد
يكون مركبا بالتركيب الحقيقي كالانسان، فإنه حقيقة ذو جزئين الحيوان
والناطق، ولكنه واحد صورة ولحاظا، أو بالتركيب الاعتباري كالدار، فإنه بحسب
الاعتبار ذو اجزاء، إذ هو اصطلاح عرفي على مجموعة أمور كالساحة والغرفة
والسطح، ولكن صورته الذهنية واحدة. فالكلام في أن المشتق بسيط في عالم
التصور أو مركب؟، بمعنى انه حين اطلاق اللفظ هل تأتي في الذهن صورة
لشئ واحد أو أشياء؟ وليس الكلام في واقع المشتق وحقيقته (1).
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 54 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
353

ولكن ما ذكره (قدس سره) غير تام كما قيل (1).
والوجه فيه: انه لا كلام في بساطة المشتق بحسب التصور واللحاظ، إذ
الموضوع له إذا كان معنى واحدا لحاظا وان كان مركبا حقيقة أو اعتبارا، كان
المتصور عند اطلاق اللفظ ذلك المعنى الواحد والموجود في الذهن صورته لا
صورتان فشأن المشتق لا يقل عن شأن المركبات الاعتبارية في جهة كونها
بسيطة ادراكا، فلا اشكال في بساطته من حيث الادراك ولا كلام في هذه الجهة،
انما الكلام في بساطة وتركيب ذاته وحقيقته، وهي محط الكلام بين الاعلام، كما
تشعر به عباراتهم في المقام، فلاحظها.
وإذا اتضح لك موضوع الكلام، فقد وقع الكلام في بساطة المشتق
وتركيبه، وقد ذهب صاحب الكفاية إلى بساطته وفاقا للسيد الشريف، وتعرض
إلى ذكر استدلاله على البساطة ونفي التركيب: بان مقتضى التركيب أن يكون
معنى المشتق ذاتا لها المبدأ، فحينئذ يقال: بان الذات المأخوذة اما مفهوم الذات
أو مصداقها الخاص، فعلى الأول: يلزم دخول العرض العام في الفصل في مثل:
(الانسان ناطق). وعلى الثاني: يلزم انقلاب مادة الامكان الخاص في القضايا
إلى الضرورة، إذ يكون الموضوع جزء المحمول وحمل الشئ على نفسه
ضروري، لان المعنى يكون في مثل: (الانسان ضاحك) و (الانسان انسان له
الضحك) (2).
وأجاب في الفصول عن كلا شقي الاشكال:
اما عن الأول: فبان الناطق انما كان فصلا في عرف المنطقيين ولم يثبت
انه كذلك لغة ووضعا.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 91 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 51 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
354

واما عن الثاني: فبان المحمول ليس هو الموضوع على اطلاقه كي يكون
الحمل ضروريا، بل المحمول هو الموضوع المقيد بالضحك، وحيث إن ثبوت
القيد غير ضروري فلا يكون حمل المقيد ضروريا (1).
واستشكل صاحب الكفاية في الجواب الأول: بأنه من الواضح ان
المنطقيين جعلوا الناطق فصلا بما له من المعنى لغة وعرفا بلا نقله من معنى آخر.
واستشكل في الجواب الثاني: بان المحمول وان كان مقيدا، الا انه لا يخلو
الامر من أحد حالين، اما أن يكون المحمول هو ذات المفيد بلا دخل للقيد
والتقييد أصلا، بل لوحظ التقييد مرآتا وعنوانا للذات. واما أن يكون المحمول
هو المقيد، بما أنه مقيد، بحيث تكون جهة التقيد والقيد دخيلة في المحمول
وليست معرفة فقط. فعلى الأول يكون الحمل ضروريا لحمل الشئ على نفسه.
وعلى الثاني تنحل القضية إلى قضيتين، أحدهما: (الانسان انسان). والأخرى:
(الانسان له النطق). والقضية الأولى ضرورية، وجهة الانحلال: ما تقرر من أن
الوصف قبل العلم به خبر في الحقيقة، فقولنا: (زيد شاعر ماهر) يشتمل على
خبرين حقيقة الاخبار بالشعر وبالمهارة فيه، وإن لم تؤخذ المهارة بنحو الخبر بل
بنحو الوصف، فالقيد وان اخذ وصفا لكنه في الحقيقة اخبار، فينحل المحمول إلى
خبرين (2). وللانحلال تقريب آخر ليس محل ذكره هاهنا.
ثم إن صاحب الفصول نفسه تنظر في الجواب الثاني: بان المحمول وان
كان مقيدا، لكن الذات المقيدة به اما ان تكون مقيدة به واقعا أو لا. فعلى الأول
يصدق الايجاب بالضرورة. وعلى الثاني يصدق السلب بالضرورة. فالانقلاب
لازم لا محالة.
.

(1) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 61 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 52 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
355

وتنظر فيما ذكره صاحب الكفاية: بأن الانقلاب المدعى لا يثبت بما ذكر،
إذ المناط في الجهات ومواد القضايا انما هو ملاحظة نسبة المحمول إلى الموضوع
بحسب ذاته بلا لحاظ الواقع وثبوتها له واقعا وعدم ثبوتها له، بل لحاظ ثبوت
النسبة واقعا للموضوع يوجب صدق الضرورة في جميع القضايا، لان القضية
بشرط المحمول تكون ضرورية لا محالة. وما ذكره صاحب الفصول انما هو من
باب الضرورة بشرط المحمول، وهو أجنبي عن موضوع الكلام، كما عرفت (1).
ثم إن صاحب الكفاية (قدس سره) قد استشكل الشق الأول من
استدلال المحقق الشريف - أعني لزوم دخول العرض العام في الفصل -: بان
الناطق ونحوه مما يعد فصلا ليس فصلا في الحقيقة، فان معرفة الفصل الحقيقي
تكاد تخفى على كل أحد، كما قرر ذلك، ولا يعرفها سوى علام الغيوب، وانما هو
ونظائره من الآثار واللوازم الخاصة للفصل الحقيقي فتعرف بها الذات. وعليه،
فاخذ مفهوم الذات أو الشئ في مفهومه لا يستلزم سوى دخول العرض العام
في الخاصة ولا محذور فيه، إذ لا يلزم منه دخول العرضي في الذاتي (2). ولم يناقش
(قدس سره) في الشق الثاني من الدليل، ولكن المناقشة في الشق الأول كافية
في ابطال الدليل، إذ يمكن اختياره دون الشق الثاني.
ولكنه (رحمه الله) ذكر بعد كل هذا دليلا آخر على البساطة ونفي
التركيب، وهو: عدم تكرار الموصوف في مثل: (زيد كاتب) فان: (كاتب) لو كان
مركبا من الذات والنسبة والمبدأ لزم تعدد الموصوف مع أنه واحد ضرورة (3).
والذي يتحصل: ان الدليل على نفي التركيب بأخذ الذات في مفهوم
المشتق عند صاحب الكفاية انما هو عدم تعدد الموصوف وتكراره.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 53 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 52 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 54 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
356

ولكن هناك قولا آخر في التركيب لا يرجع إلى أخذ الذات في مفهوم
المشتق، بل إلى أخذ خصوص النسبة، فمفهوم المشتق مركب من النسبة
والمبدأ.
وقد أورد على هذا: بوجود موارد يصدق فيها المشتق بلا لحاظ النسبة فيها،
فإنه يقال للبياض: انه ابيض، قبل ملاحظة انه من الاعراض المتقومة بالغير
أو المتقومة بذاتها، بملاحظة ذاته. ومن هنا ادعي: أن مفهوم المشتق بسيط
وان مفهومه نفس المبدأ، فمفهوم قائم عين القيام وأبيض عين البياض، إلا انهما
يختلفان اعتبارا ولحاظا، فقد لوحظ المبدأ في المصدر بما أنه موجود مغاير للذات
ومباين لها، ولذلك لم يحمل عليها، ولوحظ في المشتق بما أنه من أحوال الذات
وأطوارها وعوارضها، فصار له مع الذات نحو اتحاد فصح حمله عليها.
وبالجملة: لا فرق بين قائم والقيام ونحوها إلا بالاعتبار، فإنهما بحسب
المعنى متحدان، واختلافهما اعتباري وهو الذي أوجب صحة حمل أحدهما على
الذات دون الاخر، فان المصدر ملحوظ بشرط لا والمشتق ملحوظ لا بشرط
الحمل.
وأورد عليه صاحب الفصول: بان ذات المعنى إذا كانت مغايرة للذات
وجودا ومفهوما ومباينة لها لم يفد لحاظها من عوارض الذات وأوصافه وأطواره في
تصحيح حمله عليها بالحمل الشايع، إذ هذا اللحاظ لا يرفع المغايرة الذاتية بين
الوجودين ولا يوجب وحدتهما في الوجود، وهذا يدل على أن للمشتق سنخ معنى
غير المبدأ متحد مع الذات في نفسه دون المصدر، كما لا يخفى (1).
وقد حمل صاحب الكفاية كلام أهل المعقول ودعواهم بان المشتق مأخوذ
لا بشرط والمصدر مأخوذ بشرط لا، على تغاير مفهوميهما سنخا، وان مفهوم
.

(1) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 62 - الطبعة الأولى
357

المشتق سنخ مفهوم لا يأبى الحمل على الذات ولا بشرط من حيث الحمل دون
مفهوم المصدر، فان مفهومه بنحو يأبى الحمل على الذات وبشرط لا (1).
ولكن استشكل المحقق الأصفهاني (رحمه الله): بان من يلاحظ كلام اهل
المعقول يجده صريحا في دعوى وحدة مفهوم المشتق ومبدئه، وان الاختلاف بينهما
باللا بشرطية وبالشرط لائية، اعتباري لا غير (2).
وعليه، فلا يتصور لدعوى البساطة بهذا المعنى وجه قريب.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني (رحمه الله) إلى بساطة مفهوم المشتق بمعنى
آخر وتصوير غير هذا التصوير (3). ومحصل دعواه: ان الموضوع له المشتق سنخ
معنى مبهم.
التنبيه الثاني: في ملاك الحمل.
وهو الاتحاد من جهة والتغاير من جهة، وذلك لان مقتضى الحمل هو
الهوهوية بين شيئين وبيان ان المحمول هو الموضوع، فمع التغاير من جميع
الجهات لا يصح فرض كون المحمول هو الموضوع، كما أنه مع الاتحاد من جميع
الجهات يمتنع الحمل لتقومه بفرض شيئين يكون أحدهما هو الاخر، ومع الاتحاد
عن جميع الجهات لا تعدد أصلا فلا محمول وموضوع. ثم إن الاتحاد المفروض في
ملاك الحمل ان كان هو الاتحاد مفهوما وحقيقة سمي الحمل بالأولي الذاتي، وان
كان هو الاتحاد في الوجود مع التغاير في المفهوم سمي بالحمل الشائع الصناعي،
- كما أشرنا إليه فيما سبق -.
هذا تمام الكلام في ملاك الحمل.
وقد أشار المحقق صاحب الكفاية إلى ما جاء في الفصول من: لزوم
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 55 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 95 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 92 - الطبعة الأولى
358

ملاحظة التركيب بين المتغايرين بملاحظتهما شيئا واحدا وحمل أحدهما على
الاخر (1).
وأورد عليه:
أولا: بان هذه الملاحظة توجب عدم صحة الحمل لاستلزامها مغايرة
المحمول للموضوع في الكلية والجزئية، إذ الكل والجزء متغايران، فإذا لوحظ
المجموع امرا واحدا كان كلا، فحمل أحدهما عليه حمل الجزء على الكل وهو
ممتنع للمغايرة بينهما.
وثانيا: انه من الواضح انه لا يلحظ في الموضوع والمحمول الا ذاتهما
ومعناهما بلا لحاظ شئ آخر معه في جميع القضايا وموارد الحمل (2).
وقد استشكل كلام المحقق الخراساني من جهتين:
الأولى: لفظية، وهي تعبيره ب‍: (لا يعتبر)، لان صاحب الفصول لم يفرض
اعتبار ذلك في ملاك الحمل، بل صحح به حمل أحد المتغايرين وجودا على الاخر،
فكان الأصح التعبير ب‍: (لا يكفي).
الثانية: فيما أورده أولا، فان صاحب الفصول لم يفرض حمل أحدهما على
المجموع كي يدعى تغاير الكل مع الجزء، بل فرض حمل أحدهما على الاخر،
وان هذا اللحاظ يوجب بينهما نوع اتحاد، كما لو قال: (زيد وعمرو واحد)، فان
حمل أحدهما على الاخر بهذا اللحاظ يؤدي معنى زيد وعمرو واحد كما لا يخفى.
فالأولى - كما قيل - الايراد عليه: بان صحة الحمل تابعة لتحقق ملاكه
وهو الاتحاد، وطبيعي أن الحمل بذلك تابع لظرف ملاكه، فإذا كان الاتحاد خارجيا
صح الحمل في الخارج، وإذا كانت الوحدة لحاظية لا خارجية كان ظرف الحمل
.

(1) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 62 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 56 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
359

وان هذا ذلك في اللحاظ والذهن لا الخارج، إذ لا وحدة بينهما خارجا كي يقال
ان هذا ذاك خارجا. فملاحظة المجموع واحدا لا تصحح الحمل في الخارج مع
المغايرة، وانما تصحح الحمل في ظرف الوحدة المفروضة وهو الذهن واللحاظ ولا
فائدة فيه. فتدبر.
وعلى كل فلا يحتاج المقام إلى زيادة تحقيق لعدم ترتب الأثر عليه.
التنبيه الثالث: في حمل صفات الباري كالعالم والقادر وصدقها على ذاته
المقدسة.
فقد يستشكل صحته من جهتين:
الجهة الأولى: ان الحمل لا بد فيه من تغاير المحمول والموضوع.
والمفروض ان صفاته جل اسمه عين ذاته فلا تغاير بينهما.
الجهة الثانية: ان المشتق يعتبر في صدقه تلبس الذات بالمبدأ وانتسابه
إليها، لاشتماله على النسبة بناء على التركيب كما هو واضح، وعلى جهتها بناء
على البساطة، إذ عليه يلحظ كون المبدأ بنحو من أطوار الذات وصفاتها، وهذا
يتقوم بفرض النسبة في صدقه وان كانت خارجة عن ذاته.
وبالجملة: فالمشتق انما يصدق في مورد تتحقق فيه النسبة بين المبدأ
والذات، وظاهر ان النسبة تقتضي التغاير والاثنينية كما لا يخفى، فلا تحقق لها بين
صفات الباري وذاته، لكون المفروض انها عين ذاته، ولا تغاير بينهما خارجا.
ولأجل ذلك التزم في الفصول بالتجوز أو النقل في صفات الله جل شأنه.
لكون استعمالها في معناها غير ممكن (1).
وقد تصدى صاحب الكفاية (قدس سره) لدفع الاشكال من جهتيه
وعقد لكل منهما تنبيها على حدة..
.

(1) الطهراني الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 61 - الطبعة الأولى
360

فدفع الجهة الأولى من الاشكال: بان صفات الباري عز وجل وان كانت
متحدة مع ذاته خارجا ووجودا إلا أن المبدأ يغايرها مفهوما، فان مفهوم العلم
يغاير مفهوم الذات المقدسة، وهذا التغاير المفهومي يصحح الحمل بلا اشكال
ولا ريب، كيف؟ وقد عرفت أن من أقسام الحمل ما كان التغاير فيه بين المفهومين
والاتحاد بين الوجودين وهو الحمل الشايع، فلا يعتبر التغاير بين الوجودين في
صحة الحمل كما لا يخفى (1).
والانصاف ان الامر كما ذكره، بل لا يحتاج إلى ذلك أصلا، فان حل هذه
الجهة أهون من أن يعقد لها تنبيه مستقل وتكون مورد الاهتمام بهذا النحو، ولم
تكن كفاية المغايرة المفهومية بين المبدأ والذات محل الاشكال بحسب الظاهر.
وعلى كل فيكفي في صحة الحمل مغايرة نفس المحمول مع الموضوع -
كما أشار إلى ذلك المحقق الأصفهاني (2) - ولا يحتاج إلى اثبات مغايرة مبدئه، فان
المعتبر هو وجود المغايرة بين المحمول والموضوع لا غير، ومن الواضح ان مفهوم
المشتق يختلف عن مفهوم الذات حتى فيما كان مبدؤه متحدا مع الذات مفهوما،
نظير: (السواد اسود والوجود موجود).
وعليه، ففي مثل صفات البارئ وان كان المبدأ متحدا مع الذات وجودا
إلا أن المحمول هو الصفة لا المبدأ، والصفة مغايرة للذات، ومغايرتها تكفي في
صحة الحمل.
وبالجملة: فاندفاع هذه الجهة من الاشكال في غاية الوضوح، فلا تحتاج
إلى مزيد بحث وتفصيل كلام.
واما الجهة الثانية: فقد دفعها المحقق صاحب الكفاية - بعد التزامه
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 56 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 99 - الطبعة الأولى
361

باعتبار التلبس وقيام المبدأ بالذات في صدق المشتق، ودفع توهم من توهم عدم
اعتباره لاجل صدقه في موارد لا يقوم المبدأ فيها بالذات، كالضارب والمؤلم فان
الضرب والألم يقومان بالمضروب والمؤلم، مع أن صدق الضارب والمؤلم على من
صدر منه الضرب والألم حقيقي لا اشكال فيه -: بان انحاء القيام والتلبس تختلف
باختلاف انحاء المبادي وأطوارها، فتارة: يكون القيام صدوريا. وأخرى: حلوليا.
وثالثة: بنحو الوقوع عليه. ورابعة: بنحو الوقوع فيه. وخامسة: يكون بنحو
الانتزاع. وسادسة: يكون بنحو الاتحاد خارجا. فالقيام على انحاء، ومنه القيام
بنحو الاتحاد خارجا كما في صفات الباري تعالى، فان العلم قائم بذاته، لكن
قيامه بنحو العينية والاتحاد. وعدم اطلاع العرف على مثل هذا النحو من التلبس
وكونه بعيدا عن الأذهان العادية لا يضر صدقها عليه، مع وجود مفهوم صالح
للصدق عليه حقيقة ولو بعد الدقة والتأمل العقلي، فان العرف مرجع في تشخيص
المفاهيم دون المصاديق وما ينطبق عليه المفهوم (1).
وأنت خبير بان ما ذكر صاحب الكفاية من صدق التلبس في صفات الله
عز اسمه وتحقق القيام وانه نحو قيام لا يدرك إلا بالدقة، امر لا يعدو هذه
الألفاظ ومعانيها، والا فهو غير قابل للتصور والتسليم بعد أن عرفت أن التلبس
يستتبع النسبة بين الذات والمبدأ ويتقوم بها، والنسبة تتوقف على وجود إثنينية
وتغاير بين المنتسب والمنتسب إليه ولا اثنينية بين صفات الله وذاته فلا تتصور
النسبة والتلبس بينهما، ففرض وجود التلبس والقيام بنحو خاص وهو القيام
بنحو الاتحاد أمر لا يسهل التسليم به ولا يعرف كنهه. وما ذكره (قدس سره)
أشبه بالفرار عن الاشكال والانحراف به إلى عالم آخر وجهة ثانية. فتأمل.
وقد تصدى المحقق الأصفهاني (ره) لدفع الايراد المزبور: بعنوان توضيح
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 57 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
362

عبارة الكفاية: بان من مصححات صدق المشتق عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع،
كما في صدق الأسود والموجود على الوجود، ببيان: ان اتصاف
الجسم بالأسود بواسطة أمر خارج عن ذاته يوجب أولوية اتصاف السواد به،
لان وجدان الشئ لنفسه ضروري، ومن هذا الباب صدق صفات الكمال والجمال
والجلال على ذات الباري عز اسمه، فان مبادئها عين ذاته، وهو نحو من القيام،
بل هو أعلى مراتب القيام (1).
والانصاف انه لا يخلو عن شئ من التوقف، فإنه إن كان المراد كما قد
يظهر انه لا يعتبر في صحة الحمل وصدق المشتق التلبس والنسبة، بل يكفي
واجدية الذات للمبدأ، فما ذكره من ضرورة واجدية الشئ لنفسه لا يكاد يتعقل،
فان الظاهر من الواجدية عرفا كونها إضافة خاصة تتقوم بالواجد والموجود،
وظاهر ان الإضافة بطبعها تقتضي الاثنينية، فلا معنى لان يقال ان الشئ واجد
لنفسه. بل - إذ هو عين نفسه - فواجديته لنفسه لا محصل لها. وعليه، فالتخلص
عن الايراد بما ذكر لا يتحقق، إذ ما ذكر يقتضي الاثنينية أيضا.
وقد تصدى السيد الخوئي (دام ظله) لتصحيح اعتبار الواجدية في صحة
الحمل وعدم اعتبار التلبس بتقريب: ان التلبس بمعنى قيام العرض بمعروضه
غير معتبر بلا اشكال، ضرورة صحة صدق المشتقات الاعتبارية مع عدم كونها
من الاعراض وليست قائمة بالذات قيام العرض بمعروضه، فلا بد أن يكون
المصحح للصدق واجدية الذات للمبدأ كي تشتمل المبادئ الاعتبارية، بل جاء
في تقريراته: ان المراد من التلبس هو ذلك، ثم ذكر ان واجدية الذات لنفسه
ضرورية (2).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 100 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 292 - الطبعة الأولى
363

ولا يخفى ان ما ذكره انما يتم لو دار الامر بين التلبس بمعنى قيام العرض
بمعروضه والواجدية بحيث لم يكن هناك واسطة، إذ نفي أحدهما يعين الاخر
قهرا، ولكن الامر ليس كذلك، إذ يمكن ان يؤخذ في تصحيح الحمل وجود
النسبة والربط بين المبدأ والذات فيعم المبادئ الاعتبارية ولا يرجع إلى
الواجدية، فنفي أخذ التلبس بذاك المعنى لا يعين الواجدية كما لا يخفى. بل
يمكن اعتبار التلبس ولكن بمعنى قيام المبدأ بالذات لا قيام العرض بمعروضه،
فيعم أيضا الأوصاف الاعتبارية.
ثم إن ما ذكر في كلام العلمين من تصحيح الحمل بواجدية الذات للمبدأ
بنحو واجدية الشئ لنفسه وكونه من الحمل اتحاد الواجدية يمكن ان يورد
عليه:
أولا: ان مقتضاه صحة حمل المشتق على ما يدل على المبدأ في جميع الموارد،
مع أنه لا يصح ان يقال: (القيام قائم، والعلم عالم، والضرب ضارب) ونحو ذلك.
وثانيا: ان المدار في تشخيص مفاهيم الألفاظ على الفهم العرفي، والعرف
يفهم من المشتق الواجدية المتقومة باثنين، والحاصلة بين أمرين، ولا يفهم منه ما
يعم واجدية الشئ لذاته ولو كان هذا ناشئا عن عدم ادراكه لها، وهذا ليس من
الرجوع إلى العرف في تشخيص المصاديق بل من الرجوع إليه في تعيين
المفاهيم. فلاحظ.
وبالجملة: ما ذكره لا يرجع إلى محصل.
والذي يتحصل: انه لم يتم لدينا وجه لدفع الاشكال في صدق صفات
الباري على ذاته حقيقة، لعدم النسبة والربط لعدم التغاير بين الذات والصفات،
فلا محيص عن الالتزام بما التزم به صاحب الفصول من كون استعمالها بنحو
المجاز أو النقل.
نعم يبقى هنا ايرادان:
364

الأول: ما ذكره صاحب الكفاية على الالتزام بالنقل، من لزوم الالحاد أو
التعطيل، وذلك لان المعنى الذي يراد استعماله فيه، اما أن يكون المعنى العرفي
المفهوم كمن ينكشف لديه العلم في عالم، أو ما يقابله كالجهل، أو لا يراد بها أي
معنى.
فالأول: هو المدعى والمفروض انه لا يقول به. والثاني، يستلزم نسبة
الجهل إليه تعالى وهو محال. والثالث، يستلزم أن يكون اللفظ صرف لقلقة
لسان (1).
ولا يخفى ان هذا الايراد انما يتأتى لو أراد صاحب الفصول بالنقل نقل
المادة، اما لو كان مراده نقل الهيئة وانها تستعمل في معنى آخر غير المعنى
الموضوعة له لم يلزم ما ذكر، فان المبدأ يراد به معناه، وهو من ينكشف لديه العلم،
وإنما التصرف في الهيئة، فإنها هي مورد الاشكال.
الثاني: ان التجوز لا يتصور في الحروف، إذ الموضوع له فيها هو النسبة
والربط وهو من سنخ الوجود، فإذا لم يستعمل فيه الحرف واستعمل في غيره،
فاما أن يكون الغير من المعاني الحرفية أو من المعاني الاسمية، فعلى الأول يعود
الاشكال. وعلى الثاني لا علاقة بين المعنين كي تصحح الاستعمال للتغاير الموجود
بينهما، مضافا إلى خروج الحرف عن كونه حرفا.
والجواب: انه لا ملزم لان يكون المجاز في الكلمة كي يورد ما ذكر، بل
يمكن أن يكون المجاز في الاسناد، بمعنى أن يكون في اسناد الصفة إلى الذات
مسامحة وتجوز، مع استعمالها هيئة ومادة في معناها الموضوع له.
وبالجملة: يتعين الالتزام بما التزم به صاحب الفصول، ولا محذور فيه
عقلا. والله العالم.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 58 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
365

تذييل: عقد صاحب الكفاية في آخر مبحث المشتق امرا لم يتضح المراد
به والأثر منه وعبارته لا تخلو من ارتباك وتهافت، إذ قال أولا: (الظاهر أنه لا
يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدأ حقيقة... بل
يكفى التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري)، ثم قال بعد ذلك: (فالمشتق
في مثل المثال بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي وان كان مبدؤه مسندا
إلى الميزاب بالاسناد المجازي) (1). إذ ظاهر العبارة الأولى عدم اعتبار التلبس
بالمبدأ حقيقة في جري المشتق على الذات حقيقة. وظاهر العبارة الثانية انه
لا يعتبر في صدق المشتق في نفسه وبما أنه مشتق حقيقة تلبس الذات بالمبدأ، بل
يكون التجوز في الاسناد لا في الكلمة، نظير اسناد الجريان بما له من المعنى إلى
الميزاب.
وعلى كل فليس ما افاده أخيرا بذي إفادة وأثر فلا يهمنا تحقيقه والبحث
فيه. والله ولي السداد والتوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم بحث المشتق درسا وحضورا يوم السبت 30 رجب سنة 1384 ه‍.
وقد تم تسويده يوم الثلاثاء 3 شعبان سنة 1384 ه‍. ويأتي الكلام بعده في
مبحث: (الأوامر) ونستمد من الله تعالى العون.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 58 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
366

الأوامر
367

الأوامر
الكلام في مطالب:
المطلب الأول: في مادة الامر.
ولأجل تحقيق الحال فيها يتكلم في جهات:
الجهة الأولى: في معنى الامر لغة وعرفا واصطلاحا.
وقد ذكر صاحب الكفاية: بأنه ذكر له معان عديدة، كالطلب. والشئ.
والشأن. والغرض. والحادثة. والفعل، إلا أنه (قدس سره) استشكل كون هذه
كلها من معاني الامر، وادعى أن عد بعضها من معانيه من باب اشتباه المفهوم.
بالمصداق، بمعنى: انه لم يستعمل في الموارد التي يستشهد بها في المفهوم، بل يراد
منه ما هو مصداق المفهوم، ولكن لا بما أنه مصداق المفهوم فيتخيل انه مستعمل
في المفهوم وموضوع له، فمثلا قوله: (جئت لامر كذا) لم يستعمل لفظ الامر في
مفهوم الغرض كما قيل. بل اللام دلت على الغرض لكونها تعليلية، و انما استعمل
في مفهوم آخر كان هذا بدلالة اللام مصداقا للغرض. ونحوه غيره، و من هنا خطأ
صاحب الفصول حيث التزم بان لفظ الامر حقيقة في الطلب والشأن (1).
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 61 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
369

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية تعبير صاحب
الكفاية عن الاشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق، ببيان: ان اشتباه
المفهوم بالمصداق انما يكون في مورد يوضع اللفظ للمصداق بما أنه مصداق وبما
هو كذلك ويستعمل فيه مع هذا اللحاظ، فيدعى وضعه للمفهوم كما لو وضع
اللفظ للغرض بالحمل الشائع، فيدعى وضعه للغرض بالحمل الأولي. اما مع
عدم الوضع للمصداق فلا يكون ادعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بين المفهوم
والمصداق. والحال في المعاني المذكورة كذلك، إذ لم يوضع اللفظ لمصاديقها جزما.
فالمتجه على هذا: التعبير بالاشتباه، لا غير (1).
وأنت خبير بان هذا التعبير كما يمكن ان يراد به ما ذكره المحقق
الأصفهاني يمكن ان يراد به ما قصده المحقق الخراساني، إذ يصح التعبير به عن
دعوى الوضع للمفهوم مع استعماله في المصداق لتخيل استعماله في المفهوم.
ويكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق في مقام الاستعمال الذي لوحظ طريقا لمعرفة الوضع.
وبالجملة: ليس في وضع التركيب المذكور ما يعين كون مفاده ما ذكره
الأصفهاني، بل هو تركيب يمكن ان يقصد منه ما يتلاءم معه. فلاحظ، والأمر سهل، لان الايراد أدبي لا جوهري علمي.
ثم إن صاحب الكفاية بعد هذا لم يستبعد كون الامر موضوعا للطلب في
الجملة - يعني بلا تعيين كونه الوجوبي أو الأعم أو غير ذلك من الخصوصيات
التي يتكلم في أخذها فيه - وللشئ وحقيقة فيهما (2).
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني: بان وضع الامر للشئ يقتضي
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 103 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 62 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
370

مرادفتهما الموجب لصحة استعمال كل منهما في كل موضع يستعمل فيه الاخر، مع أن
الامر ليس كذلك، فان هناك موارد يستعمل فيها الشئ ولا يستعمل فيها
الامر، كالأعيان الخارجية، فإنه لا يقال: (رأيت أمرا) إذا رأى فرسا، مع أنه يقال:
(رأيت شيئا) فان الامر يختص في صدقه بالصدق على الأفعال. كما أن من موارد
استعمال الامر ما لا يحسن إرادة الشئ فيه كقولك: (امر فلان غير مستقيم) فإنه
لا يحسن أن يقال: (شئ فلان غير مستقيم) (1).
واختار المحقق النائيني (قدس سره): ان معنى الامر هو الطلب والواقعة
ذات الأهمية في الجملة، ثم تدرج وادعى امكان القول بان الامر بمعنى الطلب
من مصاديق الواقعة ذات الأهمية، لان الطلب من الأمور التي لها أهمية. وعليه
فللأمر معنى واحد يندرج فيه الكل، وهو الواقعة ذات الأهمية، وهو ينطبق تارة
على الطلب. وأخرى على الغرض. وثالثة على الحادثة. وهكذا. نعم هو
لا يستعمل في الجوامد بل في خصوص الأفعال والصفات. وقد ذكر (قدس سره)
بان تصوير الجامع القريب بين الجميع وان كان صعبا، لكننا نرى الوجدان ان
الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد، فيكون الاشتراك اللفظي أبعد (2).
ولكن الانصاف يقتضي عدم تمامية ما ذكر، إذ يرد عليه:
أولا: انه من الواضح استعمال لفظ الامر فيما لا أهمية له من الوقائع
بلا لحاظ عناية وعلاقة ولا وجود مسامحة بحسب النظر العرفي، فيقال: (هذا الامر
لا أهمية له)، فدعوى كون الموضوع له هو الواقعة ذات الأهمية ممنوعة.
وثانيا: ان لفظ الامر يجمع بنحوين: الأول: بنحو أوامر. والاخر: بنحو
أمور. وهذا التعدد يكشف عن تعدد معنى الامر بحيث يختلف الجمع لاختلاف
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 103 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 86 - الطبعة الأولى
371

المعنى المقصود، فدعوى وحدة معنى الامر ممنوعة. فلاحظ.
وقد ذهب المحقق العراقي (رحمه الله) إلى أن لفظ الامر له معنييان:
أحدهما: عبارة عن مفهوم عرضي عام مساوق لمفهوم الشئ والذات من
جهة كونهما من المفاهيم العامة العرضية، ولكنه أخص مما يساوقه من هذين
العنوانين، وهو بهذا المعنى من الجوامد يجمع بنحو: (أمور).
والاخر: ما يساوق الطلب المظهر بالقول أو بغيره من كتابة أو إشارة،
لا مطلق الطلب ولو لم يظهر، ولا مطلق إظهاره ولو لم يكن في الواقع طلب، وهو
بهذا المعنى من المشتقات فيصلح الاشتقاق منه اسما أو فعلا، فيقال: أمر يأمر
فهو آمر. ويجمع بنحو: (أوامر) (1).
ولا يخفى انه لا يرد عليه ما ورد على صاحب الكفاية، لالتزامه بأخصية
معنى الامر عن مفهوم الشئ، بل هو مفهوم آخر يشارك مفهوم الشئ في كونه
مفهوما عاما عرضيا لا غير. كما لا يرد عليه ما ورد على المحقق النائيني من تعدد
الجمع، لالتزامه بتعدد المعنى المستتبع لتعدد الجمع. وقد التزم المحقق الأصفهاني
(رحمه الله) بوحدة معناه، وانه بمعنى الطلب والإرادة، وهو بهذا المعنى يصدق على
التكوينات، فإنها متعلقة لإرادة الله التكوينية ومشيئته الإلهية فيطلق عليها لفظ
المصدر، ويكون بمعنى المفعول بمعنى ان المقصود بالأمر فيها المراد. فيطلق على
الأعيان الخارجية بلحاظ هذا المعنى. ثم إنه (قدس سره) تعرض لابطال ما قيل
من أن معنى الامر هو الفعل. ببيان: ان الموضوع له اما أن يكون مفهوم الفعل
وما هو بالحمل الأولي فعل. أو يكون مصداقه وما هو بالحمل الشائع فعل. اما
الأول: فهو واضح المنع لوضوح عدم مرادفة الامر للفعل، فليس امر وفعل
بمعنى واحد لا محالة، واما الثاني: فالوضع لذوات المصاديق بلا جهة جامعة بينها،
.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 156 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
372

كالأكل والشرب والقيام وغيرها سخيف جدا ولا يلتزم به أحد.
والجهة الجامعة بين افراد الفعل بما هي كذلك ليست الا حيثية الفعلية
المتقومة بقابلية تعلق الإرادة بها، فإنها هي الجهة الفارقة بين الأفعال والصفات.
وعليه فيكون اطلاق الامر عليها من جهة قابليتها لان تكون موردا للإرادة
فيطلق لفظ الامر بمعناه المصدري المبني للمفعول على الأفعال، كما يطلق المقصد
والمطلب على ما يقع في معرض القصد والطلب وإن لم يكن هناك طلب ولا قصد.
وبالجملة: فالامر في جميع استعمالاته بمعنى واحد، وهو الإرادة والطلب،
لكنه يستعمل في متعلق الإرادة بمعنى المفعول.
يبقى اشكال اختلاف الجمع. ويدفع: بان الامر حين يطلق على الأفعال
لا يلحظ فيه تعلق الطلب بها تكوينا أو تشريعا فعلا، بل لا يلحظ الا قابليتها
لذلك، فيكون اللفظ متمحضا في معناه الأصلي الجامد، فيجمع على وزن أمور
كما هو الغالب فيما هو على هذا الوزن، بخلاف اطلاقه على الطلب، فان الطلب
فعلا ملحوظ فيه كيف؟ وهو المستعمل فيه، فلا يتمحض في معناه الأصلي فيجمع
على وزن أوامر.
ثم إنه (قدس سره) بعد تحقيق هذا بتفصيل اختصرناه، ذكر ان تحقيق
الحال لا اثر فيه ولا طائل تحته فالاقتصار على هذا المقدار متعين وأولى (1).
ومن الواضح ان مرجع ما ذكره (قدس سره) إلى عدم الملزم للالتزام
بتعدد المعنى للامر بنحو الاشتراك اللفظي، مع امكان فرض معنى واحد له بلا
ورود أي إشكال.
وما ذكره لا أرى فيه خدشا، فلا ضير في الالتزام به فتدبر.
هذا كله في بيان المعنى اللغوي والعرفي. اما المعنى الاصطلاحي: فقد
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 104 - الطبعة الأولى
373

نقل صاحب الكفاية بأنه موضوع في الاصطلاح للقول المخصوص، واستشكل
صاحب الكفاية بأنه على هذا لا يكون معنى الامر حدثيا بل جامدا. فلا يصح
الاشتقاق منه، مع ثبوت الاشتقاق الظاهر كونه بلحاظ ما له من المعنى عندهم،
وذلك يتنافى مع دعوى أن معناه القول المخصوص. ثم ذكر أنه يمكن ان يراد
بان المعنى الاصطلاحي للامر هو الطلب بالقول لا نفس القول، وانما ذكر
القول فقط تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه.
وبعد ان ذكر هذا، أفاد ان تحقيق المعنى الاصطلاحي غير مهم، بل الأمر سهل
، إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وانما المهم تحقيق معناه العرفي ليحمل عليه
الاستعمال الوارد في الآيات والروايات مع عدم القرينة على التعيين (1).
ثم إنه (قدس سره) ذكر أنه قد استعمل في غير واحد من معانيه. وهو
بظاهره يتنافى مع ما تقدم منه من انه حقيقة في خصوص الطلب والشئ،
فلاحظ. والأمر سهل كما ذكر فلنكتف بهذا المقدار، فالتطويل بلا طائل
الجهة الثانية: في أن الطلب الموجه من طرف - شخص - إلى آخر بلا علو
ولا استعلاء لا يعد عرفا أمرا، بل يسمى التماسا المرادف بالفارسية ل‍:
(خواهش). وانما الاشكال في أن الطلب الذي يكون معنى الامر هل هو الطلب
مع خصوص العلو، أو مع خصوص الاستعلاء، أو أحدهما؟.
ادعى صاحب الكفاية: بان الامر هو خصوص الطلب من العالي.
واستدل على دعواه بظهور ذلك عرفا، وان الطلب من العالي ولو كان مستخفضا
لجناحه يعد امرا (2).
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 62 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 63 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
374

وقد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الامر وعدم اعتبار العلو
بتقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه، وهو قد يقرب بوجهين:
أحدهما: ان نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب امرا، إذ أمر السافل
العالي قبيح.
والاخر: اطلاق الامر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم: (لم تأمره؟)،
فإنه كاشف عن كون طلبه أمرا، إذ الظاهر كون الاستعمال حقيقيا وبما له
من المعنى لا مجازيا.
ولكن كلا الوجهين مدفوعان:
اما الأول: فلان التوبيخ لم يكن على الامر، بل على استعلائه على من
هو أعلى منه واثبات ما ليس له من المقام لنفسه، لا على نفس الامر.
ومنه يتضح اندفاع الوجه الثاني، فان اطلاق الامر على طلبه جريا على
اعتقاده وبنائه لا حقيقة. فان الطالب السافل يدعى لنفسه مقام الامر والامر.
فيجرى في مقام توبيخه على مجرى بنائه ويوبخ على ما هو أمر بنظره. كما يقال
لمن يدعي الأعلمية وهو ليس كذلك: أيها الأعلم بين هذه المسألة بوضوح.
فلاحظ.
وأنت خبير بان تحقيق هذه الجهة لا اثر له أصلا، لان الامر الذي نبحث
فيه ما يصدر من المولى جل شأنه وهو مستجمع للعلو والاستعلاء كما لا يخفى.
وانما تعرضنا لها تبعا لصاحب الكفاية فالدقة فيها غير لازمة.
وانما الامر الذي لا بد من التنبيه عليه: ان مطلق الطلب من العالي لا
يسمى أمرا، وانما هو خصوص الطلب الصادر منه بحسب مقام مولويته أو علوه
دون ما يصدر منه بغير لحاظ هذه الجهة، كالتماسات الملوك لإخوانهم أو لغيرهم
لا بنحو الامر المستتبع لغضبهم وعقابهم، فإنها لا تسمى أوامر بلا اشكال.
الجهة الثالثة: قد عرفت أن الامر بمعنى الطلب من العالي، فهل هو
375

خصوص الطلب الالزامي والذي يكون بنحو الوجوب، أو الأعم منه ومن
الطلب الندبي، أو أنه خصوص الطلب الندبي.
ذهب صاحب الكفاية إلى الأول وان لفظ الامر حقيقة في الوجوب،
مستدلا على ذلك: بانسباقه عند اطلاقه. وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته
بمجرد مخالفة امره. وأيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب
المطولة، ولذلك جعلها تأييدا ومقربا لا دليلا وشاهدا.
وأنكر الاستدلال على الوضع للأعم بصحة تقسيم الامر للوجوب
والندب، فيقال: الامر وجوبي وندبي. بأنه انما يكون دليلا على إرادة الأعم من
لفظ الامر في مقام التقسيم ومن اللفظ المستعمل، والاستعمال أعم من الحقيقة
والمجاز.
كما أنكر الاستدلال على الوضع للأعم بان فعل المندوب طاعة وكل
طاعة فهي فعل المأمور به. بان المراد من المأمور به ان كان معناه الحقيقي،
فالكبرى ممنوعة لاختصاص الامر بالوجوب. وان كان الأعم من معناه
الحقيقي، فالكبرى وان سلمت لكن لا تفيد في اثبات المدعى (1).
ولكن الانصاف: ان صحة التقسيم إلى الايجاب والندب انما يكون
بلحاظ ما للامر من معنى عرفي لا بلحاظ ما يستعمل فيه اللفظ حال التقسيم.
وعليه، فهو دليل على كون اللفظ موضوعا للأعم من الطلب الوجوبي والندبي.
ولكن يعارض هذا الدليل بدوا صحة مؤاخذة العبد بمجرد مخالفة الامر،
فإنه ظاهر في ظهور الامر في الوجوب.
ويمكن الجمع بالالتزام بوضع لفظ الامر للأعم مع الالتزام بأنه ينصرف
مع عدم القرينة إلى الطلب الوجوبي والالزامي وينسبق إليه. فيتحفظ على
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 63 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
376

ظهور كلا الامرين المزبورين - أعني التقسيم والمؤاخذة -، وتكون النتيجة
موافقة لمدعى صاحب الكفاية وان خالفناه في المدعى والموضوع له. فتدبر.
الجهة الرابعة: هل الموضوع له لفظ الامر هو الطلب الحقيقي أو
الانشائي، أو الحقيقي المنشأ بقول أو بغيره من كتابة أو إشارة؟.
التحقيق كونه موضوعا للطلب الانشائي ولو لم يكن طلب حقيقي، وهو
مختار صاحب الكفاية (1). لوضوح عدم صدق الامر على مجرد حصول الطلب في
النفس لو علم به بلا إظهار له انشاء، كما أنه يصدق بلا مسامحة على الأوامر
الامتحانية، مع عدم ثبوت الطلب فيها حقيقة.
ولا بد من التنبيه على امرين:
الامر الأول: ان الامر إذا كان موضوعا للطلب الانشائي - كما اختاره
صاحب الكفاية وهو الظاهر -، امتنع انشاء الطلب بلفظ الاخر حقيقة، لان
الطلب الانشائي هو الطلب المنشأ باللفظ والموجود بوجود إنشائي بواسطته،
وهذا غير قابل للانشاء ثانيا، إذ ما هو موجود لا يقبل الايجاد، وانما الانشاء
والوجود الانشائي يطرء على ذات المعنى ونفس المفهوم. وعليه، فإذا كان لفظ
الامر موضوعا للطلب الموجود في عالم الانشاء - بأي معنى أريد من الانشاء -
امتنع ان يستعمل في انشاء الطلب حقيقة، لأنه يستلزم انشاء الطلب المنشأ
ويكون معنى: (أمرتك) انشاء الطلب المنشأ وقد عرفت امتناعه.
ونظير هذا الامر يورد على تعريف البيع: بأنه تمليك انشائي، فإنه يقتضي
عدم صحة انشاء التمليك بلفظ البيع، كقوله: (بعت)، لان التمليك الانشائي
الذي هو معنى البيع غير قابل للانشاء.
وقد غفل من وجه تعريف الشيخ للبيع في مكاسبه: بأنه انشاء التمليك
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 64 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
377

بكون مراده كون البيع هو التمليك الانشائي لا انشاء التمليك، لعدم قابلية
الانشاء للانشاء، لأنه عبارة عن استعمال اللفظ في مقام ايجاد المعنى - اعتبارا
أو انشاء - أو نفس ايجاد المعنى، وهو بذلك غير قابل للانشاء، بل لا معنى
لانشائه - كما لا يخفى ونبهنا عليه في بيان الاشكال في وضع لفظ المعاملة
للسبب (1) -. غفل من وجه كلام الشيخ (رحمه الله) بذلك عن ورود عين الاشكال
على ما وجهه به، إذ عرفت أن التمليك الانشائي غير قابل للانشاء كالطلب
الانشائي، وعليه فيشكل انشاؤه بلفظ البيع كما يقع كثيرا.
والطريق إلى التخلص عن هذا الايراد ينحصر في أحد امرين:
أحدهما: الالتزام بان لفظ الامر والبيع ونحوهما مستعمل في مقام الانشاء
في ذات المعنى كالطلب والتمليك بلا أخذ خصوصية انشائه فيه، وان وضع اللفظ
للمعنى مع الخصوصية، فتكون هذه الاستعمالات مجازية.
والاخر: التنزل عن دعوى وضع اللفظ للطلب الانشائي أو التمليك
الانشائي، والتزام ان الموضوع له لفظ الامر هو مفهوم الطلب، أعم من كونه
حقيقيا أو انشائيا، وان الموضوع له لفظ البيع هو كلي التمليك سواء كان حقيقيا
أو انشائيا. نعم ينصرف اللفظ إلى الفرد الانشائي من الطلب والتمليك، لكنه
مع عدم القرينة فهو مستعمل في مقام الانشاء في معناه الحقيقي، وهو نفس المفهوم، ولا ينصرف في هذا الحال إلى الفرد الانشائي، لان استعماله في مقام
الانشاء بضميمة عدم امكان انشاء المنشأ قرينة قطعية على عدم ارادته. وعليه
فيلتزم بانصرافه إلى الفرد الانشائي في مقام الاخبار لا في مقام الانشاء لوجود
القرينة في هذا المقام المانعة عن الانصراف. فتدبر.
وعلى كل فالاشكال متين، وهذان الطريقان فرار منه والتزام بوروده كما
.

(1) راجع 1 / 276 من هذا الكتاب
378

لا يخفى.
الامر الثاني: فيما يتعلق بعبارة الكفاية في المقام لظهور وجود تهافت بين
صدرها وذيلها.
وبيان ذلك: انه (قدس سره) ادعى ان الطلب الموضوع له لفظ الامر
ليس هو الطلب الحقيقي الذي يحمل عليه الطلب المطلق بالحمل الشائع
الصناعي، بل هو الطلب الانشائي الذي لا يحمل عليه الطلب بقول مطلق
بالحمل الشائع، بل يحمل عليه الطلب الانشائي. ثم ذكر أنه لو أبيت إلا عن
كونه موضوعا لمطلق الطلب الأعم من الحقيقي والانشائي، فلا أقل من دعوى
انصرافه إلى الطلب الانشائي، كما أن لفظ الطلب ينصرف إليه (1).
فان الذي يظهر من صدر العبارة ان للطلب مفهوما لا يشمل الطلب
الانشائي، ولذلك لا يحمل عليه بالحمل الشائع لأنه ليس فرده، وهذا ينافي ما جاء
في العبارة الأخرى من انصرافه إلى الطلب الانشائي، إذ مع عدم كونه من
افراده كيف ينصرف إليه؟!. فان الانصراف فرع فردية المنصرف إليه للمفهوم
الكلي كما لا يخفى. ثم إنه إذا لم يحمل عليه بقول مطلق عرفا، فكيف ينسبق عنه
إلى الذهن؟.
وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه العبارة ورفع ما يظهر من التهافت هو:
ان الحمل الشائع الصناعي ينصرف عرفا إلى ما كان الاتحاد بين المحمول
والموضوع في الوجود الخارجي الا ما قامت القرينة فيه على كون الاتحاد في غير
الخارج، بل نسب إلى صدر المتألهين: القول بان ملاكه الاتحاد في الخارج.
وعليه، فلا يحمل المفهوم على فرده غير الخارجي مع كونه فردا له. وبما أن
الطلب الانشائي ليس موجودا خارجا فلا يحمل عليه الطلب المطلق، وانما يحمل
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 64 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
379

على الطلب الحقيقي لأنه وجوده الخارجي.
واما الانصراف فهو لا يرتبط بعالم الحمل والصدق، وانما هو يرتبط بعالم
اللفظ واستعماله، فيجوز ان ينصرف اللفظ إلى الفرد الانشائي لكثرة استعماله
فيه، ولو لم يصح حمل المفهوم عليه.
وبالجملة: صحة الحمل لا ترتبط بالاستعمال، بل بالملاك الواقعي للحمل،
بخلاف الانصراف فان ملاكه كثرة الاستعمال ولو كان مجازيا، فالانفكاك بينهما
جائز. فلاحظ وتأمل.
إلى هنا ينتهي الكلام في جهات مادة الامر.
380

الطلب والإرادة
أقحم صاحب الكفاية مبحث الطلب والإرادة، وحديث اتحادهما
وتغايرهما، في البحث عن مادة الامر، وقد انتقل إليه بنحو واضح التكلف. فإنه
بعد ما انتهى من الحديث عن مادة الامر، وان الطلب الموضوع له لفظ الامر
هو الانشائي، أو انه هو المنصرف إليه من لفظ الامر كما أنه المنصرف من لفظ
الطلب، ذكر ان الامر في لفظ الإرادة بالعكس، فان المنصرف منها الإرادة
الحقيقية، وهو الذي أوجب ايهام تغايرهما ذاتا، فقيل به ثم بدأ بذكر ما اختاره
في المقام، والاستدلال عليه بشكل مفصل.
وعلى كل فقد تبعه في هذا المبحث سائر الاعلام ممن تأخر عنه، فاللازم
متابعتهم والبحث في هذا الموضوع.
وقد اختار صاحب الكفاية اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وانشاء وخارجا،
بمعنى ان مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، والإرادة الانشائية عين الطلب
الانشائي، وواقع الإرادة عين واقع الطلب، ولا فرق بينهما ذاتا ووضعا، وانما
الفرق بينهما لفظي لا أكثر، فلفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الانشائي ولفظ
الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية. وقد نسب (قدس سره) هذا الرأي إلى
المعتزلة، ونسب دعوى تغايرهما إلى الأشاعرة (1).
وتحقيق المقام: انه قد قيل: إن النزاع يمكن أن يكون بأنحاء ثلاثة:
الأول: أن يكون في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني غير الإرادة عند
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 64 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
381

الامر بشئ. وهو بهذا النحو يكون عقليا.
الثاني: أن يكون النزاع في أن مدلول الامر هل هو الإرادة والطلب متحد
معها، أو منطبق على الكاشف عنها كي يكون الصيغة كاشفة عن الإرادة،
فيترتب عليه ما يترتب على احراز إرادة المولى، أولا فتكون الصيغة كاشفة عن
الطلب المغاير للإرادة، فلا يترتب عليها ما يترتب على احراز إرادة المولى.
والمسألة بهذا النحو تكون أصولية.
الثالث: أن يكون النزاع في مرادفة لفظ الطلب للفظ الإرادة بلا نظر إلى
ثبوت صفة أخرى في النفس ولا إلى مدلول الصيغة. والمسألة بهذا النحو تكون
لغوية محضة.
وعليه فالكلام يقع في الانحاء الثلاثة:
اما في ثبوت صفة أخرى نفسانية غير الإرادة، فقد التزم به الأشاعرة،
وعبروا عنها بالكلام النفسي في الجمل الاخبارية وبالطلب في الانشائيات.
ومنشأ التزامهم بثبوت هذه الصفة في النفس هو: انه مما لا ريب فيه أن الله جل
اسمه يطلق عليه متكلم ويوصف بالتكلم كما يوصف بالعلم والإرادة وغيرهما. وبما أن
صفاته جل شأنه عين ذاته وجودا لزم ان تكون قديمة كقدم ذاته. فيلزم أن يكون
الكلام الموصوف به الله قديما، فيمتنع ان يراد به هو الكلام اللفظي
لوضوح حدوثه وتصرمه فليس هو بقديم، فلا بد أن يكون امرا قديما في نفس
المولى كشف عنه الكلام اللفظي، فهناك صفة أخرى في النفس غير الإرادة هي
الكلام النفسي، لأنه يوصف بهما فيقال: مريد ومتكلم، وهو يقتضي المغايرة. ومن
هنا قال شاعرهم:
(ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلا)
فالكلام اللفظي كاشف عن وجود صفة نفسانية من سنخه وحاك عنها، سواء
382

كان اخباريا أو انشائيا. وعليه ففي مورد الامر والانشاء تكون في النفس صفة
غير الإرادة يحكي عنها الكلام اللفظي الانشائي، فعبر عنها الأشاعرة بالطلب
لأنها من سنخ الكلام اللفظي، وبذلك يختلف الطلب عن الإرادة ذاتا وحقيقة.
هذا هو الأساس في ذهاب الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة، كما قيل.
والاشكال فيه واضح: فان ما ذكروه انما يتم لو كان التكلم من صفات
الذات لاتحادها مع الذات المستلزم لقدمها.
ولكنه ليس كذلك، بل هو من صفات الفعل التي يصح سلبها عن الذات
في حين ما، وهو الفارق - كما قيل - بينها وبين صفات الذات، كالرازق والخالق،
وهي لا يلزم ان تكون قديمة لعدم اتحادها مع الذات، بل هي حادثة ولذلك يقال:
(خلق الله زيدا الآن، ورزقه كذا فعلا)، ولم يكن كل من الخلق والرزق قديما كما
لا يخفى، فالكلام كذلك. وعليه فلا يمتنع ان يراد من الكلام هو الكلام اللفظي،
ولا موجب للالتزام بثبوت الكلام النفسي.
بل قيل: بامتناع الالتزام بالكلام النفسي وانه صفة من صفات النفس
غير الإرادة، لإقامة البرهان في محله على تعيين الكيفيات النفسانية وتحديد
صفات النفس وامتناع غيرها، وليس منها الكلام النفسي (1).
ولا موجب لذكر الدليل وملاحظة صحته أو سقمه.
وانما نقول: انه على تقدير تسليم الدليل على امتناع وجود صفة نفسانية
غير الإرادة والعلم وغيرهما مما قيل بانحصار الكيفيات النفسانية فيه، فيمكننا
الالتزام بالكلام النفسي، لا على أن يكون من صفات النفس، بل يكون من
أفعال النفس ومخلوقاتها وموجوداتها، فان النفس لها قابلية ايجاد الصور وحمل
أحدها على الأخرى، والحكم بان هذا ذاك والتصديق والجزم به، فان هذا مما لا
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 109 - الطبعة الأولى
383

ينكره أحد، فان كل شخص حين يحمل المحمول على الموضوع خارجا، لا بد له
من لحاظ الموضوع والمحمول والجزم بان هذا ذاك في نفسه، والبناء على ذلك،
والتصديق به، وكل من التصور والجزم أو الحمل أو الحكم - بأي لفظ يعبر عما
يجده في النفس حال الحمل - من موجودات النفس ومخلوقاتها. وقد أشار إلى هذا
المعنى أمير المؤمنين (ع) في قوله: (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق
لكم مردود إليكم) (1).
وعليه، فيمكن ان يدعى كونه كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي.
والاشكال فيه: بان الموجود الخارجي أو الذهني غير قابل للمدلولية وانما
هي شأن الماهيات، لان المدلولية مرجعها إلى انتقال المعنى إلى الذهن بواسطة
اللفظ والموجود غير قابل للانتقال، كما تقدم من أن المماثل لا يقبل المماثل
والمقابل لا يقبل المقابل.
يمكن التخلص عنه: بان استعمال اللفظ وإرادة الموجود الخارجي منه
كثيرا ما يقع في الكلام، كاستعمال الاعلام أو استعمال اللفظ الموضوع للكلي
وإرادة فرد منه معين. ويصحح ذلك: بان الموضوع له والمدلول للفظ هو نفس
الماهية الكلية أو الجزئية وإرادة الفرد المعين والموجود المتميز بالتطبيق. فليكن ما
نحن فيه كذلك، فالكلام اللفظي يكون دالا على نفس المفهوم وذاته لا بما أنه
موجود وإرادة ما هو موجود في النفس منه من باب التطبيق لا الاستعمال
والكشف والحكاية.
وعليه، فالالتزام بوجود فعل للنفس يسمى بالكلام النفسي، وهو الجزم
والحكم، ويكون مدلولا للكلام اللفظي، لا نرى فيه محذورا.
ولكن ما ذكرناه يختص بالجمل الخبرية كما لا يخفى، إذ الحكم والتصديق
.

(1) والكلام للإمام محمد الباقر (عليه السلام) كما في حق اليقين 1 / 47 للسيد الشبر
384

يرتبط بالاخباريات، فالالتزام به لا ينفع الأشاعرة فيما رتبوه عليه من تغاير
الطلب والإرادة، فإنه يتوقف على ثبوته في الانشائيات.
ولكن الالتزام في الانشائيات بوجود صفة نفسانية أو فعل للنفس غير
الإرادة ونحوها يكون مدلولا للكلام اللفظي ويعبر عنه بالكلام النفسي مشكل،
بل ممنوع، لان القوم ما بين منكر لوجود صفة في النفس غير الإرادة ومقدماتها
من تصور الشئ والجزم بفائدته وغيرهما. ومدع لوجود صفة أخرى تتوسط
الإرادة والفعل عبر عنها بالاختيار وسماها بالطلب.
وبيان ذلك: ان معظم الفلاسفة أو كلهم يدعون بأنه ليس في النفس غير
الإرادة ومقدماتها التي يحصل بها الفعل، فلا واسطة بين الفعل والإرادة وليس لهم
شاهد على ما ذهبوا إليه سوى دعواهم الوجدان، وان كل من يراجع وجدانه
يرى أنه لا يحصل لديه سوى تصور الشئ، والجزم بفائدته، والميل إليه والشوق
إليه، المستتبع للفعل بلا توقف. ولا يجد صفة أخرى غير هذه في نفسه. والوجدان
أكبر شاهد على اثبات المدعى. وتابعهم على ذلك صاحب الكفاية (1).
الا ان المتكلمين وبعض الأصوليين خالفوا الفلاسفة في ما ذهبوا إليه،
وادعوا وجود صفة أخرى بين الإرادة والفعل عبروا عنها بالاختيار وبحملة
النفس ومشيئتها.
وممن ذهب إلى ذلك المحقق النائيني (قدس سره) (2)، وقد قرب الدعوى:
بأنه لا اشكال ان العقلاء يفرقون بين حركة المرتعش والحركة الصادرة عن غيره
بفعله، فيسندون الثانية إلى الشخص، بحيث يقال إنه فعله ويلام عليها أو يثاب
على اختلاف موارده. دون الأولى فإنه لا يقال له: لم فعلت ذلك، أو حبذا ما
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 65 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 89 - الطبعة الأولى
385

فعلت. فالأفعال بنظر العقلاء على نحوين: نحو يستحق المدح والذم، كرمي
الشخص نفسه من شاهق. ونحو لا يستحق المدح والذم، بل لا يسند إلى
الشخص القائم به الفعل، كما لو رمي شخص من شاهق. فلو لم تكن هناك صفة
أخرى غير الإرادة ومقدماتها، للزم أن يكون الفعل الإرادي كغيره، فلا فرق بين
حركة المرتعش وحركة غيره، وذلك لان حصول الإرادة ومقدماتها التي هي العلة
التامة للفعل - كما يدعى - ليس أمرا بالاختيار، بل هو قهري الحصول، فالفعل
الحاصل بها يكون كعلته قهريا لعدم انفكاكه عنها، فتكون الإرادة التي تنشأ منها
الحركة كالمرض الذي ينشأ منه الارتعاش، فالفعلان بالنسبة إلى الشخص على
حد سواء. فلا بد أن يكون السبب في الفرق المحسوس وجود صفة أخرى بين
الإرادة والفعل يستطيع بها الشخص الفعل وعدمه، بحيث انه بعد الإرادة له ان
يفعل وله أن لا يفعل. تسمى هذه الصفة أو الفعل النفسي بالاختيار أو حملة
النفس أو مشيئة النفس، وهي المفرقة بين مثل حركة المرتعش وغيره، لأنه لا
اختيار للمرتعش في حركته فليس له ان يفعل وان لا يفعل، بخلاف غيره فان
له الاختيار، فتارة يفعل. وأخرى لا يفعل. وبذلك يستحق المدح والذم وغيرهما
من آثار الفعل الاختياري.
وبهذا التقريب وعلى أساسه تنحل مشكلة الجبر، إذ يثبت توسط الاختيار
بين أفعال الناس وإرادتهم، فلا جبر كما قد يتوهم. كما تنحل مشكلة التفويض
به مع إضافة شئ بسيط. وعلى كل فليس ذلك محل بحثنا، انما المهم هو التنبيه
على أن ذلك لا ينفع الأشاعرة.
اما على قول من لا يقول بوجود صفة غير الإرادة ومبادئها فواضح جدا.
واما بناء على الالتزام بوجود صفة أو فعل هو الاختيار المتوسط بين
الإرادة والفعل فلان المفروض في كلامهم ان الصفة يعبر عنها بالكلام النفسي
المدلول للكلام اللفظي، وليس الاختيار كلاما نفسيا، إذ لا دلالة للفظ عليه
386

بالمرة، فإنه مربوط بالفعل الخارجي لا بالكلام كما ستعرف.
هذا مضافا إلى: انه مما يلتزم به في أفعال الشخص الخارجية والتكوينات
دون مثل الامر من الانشائيات، إذ المفروض ان الاختيار يتعلق بنفس الفعل،
فله ان يفعل وله أن لا يفعل، وهو انما يتم لو كان الفعل فعل الشخص نفسه،
وفي مورد الامر لا يتصور ذلك، إذ الفعل ليس فعل الآمر كي يتعلق به اختياره،
وانما هو فعل المأمور، والذي يتعلق به اختيار نفس المأمور، وانما تتعلق به إرادة
الآمر فيأمر به العبد، فلا يتصور حصول صفة الاختيار في مورد التكليف والامر
فلا تحقق لها في مورده. وثبوتها في مورد آخر لا ينفع الأشاعرة.
والمتحصل: انه لا محذور في موافقة الأشاعرة في وجود صفة في النفس
غير الإرادة في الاخباريات دون الانشائيات.
لكن هذا لا يعني القول باتحاد الطلب والإرادة مفهوما، بل هما متغايران
مفهوما.
وقد قيل: إن التغاير بينهما بنحو العموم المطلق، فالطلب هو خصوص
الإرادة من الغير دون الإرادة، فإنها مطلق الشوق سواء كان من الغير أو لا.
ولكنه غير صحيح، لوضوح صدق الطلب في موارد لا تتعلق الإرادة فيها
بالغير، كما يقال: طلب الدنيا أو طلب العلم بواسطة المطالعة ونحو ذلك.
فالانصاف: ان الإرادة تطلق على الصفة النفسانية التي هي عبارة عن
الشوق والرغبة إلى الشئ مطلقا، والطلب يطلق على التصدي لحصول المراد
والمرغوب، ولذلك لا يقال طلب الضالة إلا لمن تصدى خارجا للبحث عنها دون
من أرادها نفسا فقط، فالطلب ليس هو الشوق نفسه، بل هو إظهاره وابرازه
بالتصدي لتحصيل المشتاق إليه. ولذلك يطلق الطلب على نفس صيغة الامر
لأنها تتعنون بعنوان التصدي وبها إظهار الإرادة. وبذلك يتضح اختلاف الطلب
والإرادة مفهوما، وانه ليس مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب، بحيث يكون
387

اللفظان مترادفين - كما ادعاه صاحب الكفاية - كما يتضح ان اطلاق الطلب
على الاختيار في التكوينات - كما ارتكبه المحقق النائيني - لا يخلو عن تسامح،
فان التصدي ينشأ عن الاختيار، وليس هو الاختيار كما لا يخفى. وقد نبه (قدس
سره) على ذلك بتقريب: ان التوجه والقصد لما كان إلى الغاية لا إلى المبدأ أطلق
اسم الغاية على المبدأ من باب أخذ الغاية وترك المبدأ، كما يطلق الأكل على مجرد
البلع بلا مضغ. فلاحظ.
يبقى الكلام في الجهة الثانية من جهات النزاع - أعني النزاع في مدلول
صيغة الامر -.
فقد تقدم الكلام فيما مضى عن معنى الحروف وهيئة الاسم وهيئة الماضي
والمضارع من الأفعال. وبقي الكلام في هيئة الامر ك‍: (افعل) و (صل) و (كل)
ونحوها وموضعه هاهنا.
وعلى كل فقد ذكر صاحب الكفاية: انها موجدة لمعناها في نفس الامر (1)،
وقد تقدم منه ان الصيغ الانشائية تتكفل ايجاد المعنى بوجود انشائي (2).
ولكن ما ذكره هنا ليس بيانا لمعنى الصيغة، إذ لم يعلم ما هو معناها الذي
توجده انشاء. وكلامنا في معرفة معناها وما هي موضوعة له لا في بيان أثرها
وعملها.
ولكنه قال في موضع آخر ما مضمونه: إن صيغة افعل تستعمل في انشاء
الطلب، وان معناها ذلك وان اختلفت دواعي انشائه، من طلب، وتهديد، وتجيز،
واستفهام، ونحوها (3).
ومن الواضح ان الالتزام بوضع الصيغة لانشاء الطلب مثار المناقشة، لان
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 66 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 286 - المطبوعة ضمن حاشية الفرائد.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 69 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
388

الانشاء كما عرفت غير قابل للانشاء والايجاد مرة أخرى. وعليه فلا تصلح الصيغة
لانشاء معناها كما ذكره، لان معناها هو الانشاء وهو غير قابل للإيجاد. ومن هنا
حاول البعض تصحيح كلامه بحمله على إرادة كون الموضوع له والمستعمل فيه
هو الطلب الانشائي لا انشاء الطلب، كما وجهت عبارة الشيخ الدالة على أن
البيع هو انشاء التمليك بإرادة التمليك الانشائي، كما أشرنا إليه. ولكنك قد
عرفت عدم ارتفاع الاشكال، فان الطلب الانشائي معناه هو الطلب الموجود
بوجود إنشائي، فلا يقبل الانشاء ثانيا لامتناع ايجاد الموجود. وعليه فلا تصلح الصيغة
لايجاد معناها لأنه غير قابل للإيجاد، إذ هو الطلب الانشائي.
فالأولى ان يقال في توجيه عبارته (قدس سره): ان الموضوع له
والمستعمل فيه هو الطلب، لكن قيد الوضع - بمعنى العلقة الوضعية - بان
تستعمل في مقام الانشاء والايجاد، فان الطلب تارة يقصد الاخبار عنه. وأخرى
يقصد ايجاده وانشاؤه. فصيغة افعل وضعت لنفس الطلب لكن بقيد استعمالها في
مقام الانشاء والايجاد، بحيث لا يجوز ان تستعمل في الاخبار عن الطلب، ولذلك
لا تدل عليه بوجه. فاللام في قوله: (لانشاء) لم يقصد بها لام الإضافة بل لام
الغاية، فمراده انها موضوعة للطلب لاجل إنشائه بتقييد الوضع بذلك. وإذا
كانت موضوعة لمفهوم الطلب صح استعمالها فيه بقصد ايجاده، ويتحقق الطلب
فيها بتحقق إنشائي كغيره من المفاهيم المنشأة.
وعليه، فلا اشكال في كلامه من هذه الجهة، انما الاشكال في أصل دعواه
الوضع لمفهوم الطلب المبتني على دعواه في مبحث الحروف بعدم الفرق الذاتي
بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي، وان كلا من الحرف والاسم موضوع لمعنى
واحد، والفرق في جهة خارجة عن الموضوع له، وهي اختصاص الاسم باللحاظ
الاستقلالي، والحرف باللحاظ الآلي.
فإنك قد عرفت فيما تقدم وجود الفرق الذاتي الجوهري بين معنى الاسم
389

والحرف، فيمتنع ان توضع الهيئة إلى مفهوم الطلب كلفظ الطلب، لان الهيئة من
الحروف.
ولكنه ليس بايراد خاص بهذه الدعوى، بل هو راجع إلى أصل المبنى،
فالهيئة والطلب ك‍: (من والابتداء) و (في والظرفية).
وعلى كل، فما ذكره في معنى الصيغة لا يمكن الالتزام به لما عرفت من أن
معنى الحروف ليس من سنخ المفاهيم، فيمتنع الالتزام بان الصيغة موضوعة
لمفهوم الطلب. فلاحظ.
وقد ادعي: انها موضوعة لابراز الاعتبار النفساني (1).
وتحقيق الحال فيه يقتضي التكلم في جهتين:
الجهة الأولى: في أن المعتبر ومتعلق الجعل هل هو كون الفعل في عهدة
المكلف، أو انه البعث نحو الفعل؟. وبعبارة أخرى: ان الامر هل هو جعل الفعل
في عهدة المكلف الذي يرجع ثبوته إلى اشتغال ذمة المكلف بالفعل، أو انه جعل
الباعث نحو العمل والمحرك إليه؟. ويترتب على تحقيق أحد الاحتمالين آثار
عملية في الأصول جمة تظهر بوضوح في باب التزاحم والعلم الاجمالي، فان
التكليف إذا كان من باب اشتغال الذمة لا يعتبر فيه القدرة على العمل، لعدم
توقفه عليه، بل يكون كالدين الذي في الذمة مع عدم القدرة على الأداء، بخلاف
ما إذا كان جعل الباعث، فان الباعثية والمحركية تتوقفان على القدرة لتوقف
الانبعاث عليها.
كما أنه بناء على الأول لا يعتبر في تنجز العلم الاجمالي كون جميع أطرافه
محل الابتلاء، لعدم اعتبار كون الشئ في موضع الابتلاء في صحة التكليف به،
بناء على أنه من باب اشتغال الذمة بالفعل. بخلاف ما لو كان جعل الباعث
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 130 - الطبعة الأولى
390

لاشتراط موضعية الشئ للابتلاء في التكليف به، فيعتبر في تنجيز العلم الاجمالي
كون جميع الأطراف محل الابتلاء.
وبالجملة: فالالتزام بالأول له آثار جمة قد تغير من سير الفقه والاستنباط
الفعلي.
والصحيح: انه لا يمكن ان يلتزم الفعل في العهدة - كما عليه السيد
الخوئي - ولا جعل البعث واعتباره تشبيها بالبعث التكويني - كما عليه المحقق
الأصفهاني -.
وتحقيق هذه الجهة ليس محله الآن بل يكون في مورد التزاحم أو نحوه
انشاء الله تعالى.
الجهة الثانية: في صحة كون الموضوع له الصيغة هو الاعتبار بأحد
احتماليه أو ابرازه. وقد تقدم تحقيق ذلك في مبحث الانشاء والاخبار، وتقدم ان
هذه الدعوى باطلة لا محصل لها. فراجع (1).
والمشهور كون الصيغة موضوعة للنسبة الطلبية كغيرها من الحروف
الموضوعة للنسب الخاصة.
وتوضيحه: ان الشخص حينما يطلب شيئا من غيره تكون هناك نسبة
ذات أطراف أربعة، وهي: الطالب، والمطلوب، والمطلوب منه. ويعبر عن
هذه النسبة بالنسبة الطلبية، وهي معنى ايجادي، كما عرفت في تحقيق حقيقة
النسب. ولها مماثل في الذهن، فالهيئة تستعمل في النسبة الطلبية المتحققة في ذهن
المتكلم بقصد ايجاد البعث وانشائه.
واما اعتبار البعث ففيه:
أولا: ان البعث التكويني لا يترقب منه سوى تحقق الفعل ولو بدون
.

(1) راجع 1 / 137 من هذا الكتاب
391

اختيار الشخص. وهذا لا يمكن ان يلتزم به في باب التكليف، فكيف يكون
متعلقا للاعتبار؟.
وثانيا: انه خلاف ما يصرح به القائل نفسه من كون الحكم المجعول هو
ما يمكن أن يكون داعيا الذي يرجع إلى جعل الداعي والباعث، وهو غير جعل
البعث.
وثالثا: ان الاعتبار شئ لا بد أن يكون بلحاظ ترتب أثر عليه بوجوده
الحقيقي، فيقصد ترتيبه عند اعتباره، كما في الملكية ونحوها. وهذا انما يكون إذا
لم يكن الأثر مما يترتب بدون الاعتبار والا كان لغوا، والأثر المترقب من جعل
التكليف هو لزوم الطاعة عقلا. وهذا يترتب بمجرد وجود الغرض الملزم مع
تصدي المولى لتحصيله، سواء تحقق اعتبار البعث أم لا، فإذا حصل التصدي
وجبت الطاعة ولو لم يعتبر أي شئ وعليه يكون الاعتبار لغوا لا أثر له.
ويتحصل من ذلك: ان مفاد الصيغة ليس امرا مجعولا، بل مفادها ما
عرفت من نسبة صدور الفعل إلى الإرادة النفسية وغيرها من الصفات، والمتكلم
حيث يستعملها في هذا المقام يتحقق به مصداق التصدي، فتلزم الحركة على طبق
الغرض الملزم، فالطلب عنوان الصيغة لا مدلول لها، كما انها لا تكشف إلا عن
أمر تكويني لا جعلي.
هذا هو المشهور. وقد نسب إلى المحقق الشيخ هادي الطهراني (رحمه
الله) دعوى كون الهيئة موضوعة للنسبة الصدورية بين الفعل والمخاطب بداعي
الطلب، فان استعمال الهيئة في النسبة الصدورية قد يكون بداعي الاخبار كما هو
الحال في الجمل الخبرية ك‍: (ضرب زيد) ونحوه. وقد يكون بداعي الانشاء
والايجاد، كما هو الحال في الألفاظ الموضوعة لما يقبل الايجاد ك‍: (بعت) ونحوه.
وقد لا يكون بكلا الداعيين بل بداع آخر، كداعي الطلب. فهيئة الامر مستعملة
في النسبة الصدورية ولكن بداع الطلب، وقصد تحقق الفعل، لا بداعي الاخبار،
392

ولا بداعي الايجاد، لعدم قابلية الطلب للإيجاد، وبذلك يحصل الانبعاث نحو
الفعل والتحريك إليه، كما لا يخفى.
والذي حدا به إلى هذه الدعوى: ما أشرنا إليه، من الاشكال في انشائية
بعض الصيغ كصيغ التمني لعدم كون معانيها قابلة للإيجاد، إلا بناء على رأي
صاحب الكفاية في الانشاء. وقد أشرنا هناك إلى تخلصه عن الاشكال بان
الانشاء ليس هو استعمال اللفظ بداعي الايجاد كي يستشكل في إنشائية بعض
الصيغ، بل هو استعمال اللفظ في المعنى لا بداعي الحكاية والاخبار. سواء كان
بداعي الايجاد أو غيره من الدواعي، كالتمني والطلب ونحوهما.
وقد عرفت امكان التخلص عن الاشكال بوجه آخر مع المحافظة على
ما هو المشهور من معنى الانشاء. فلاحظ تلك المباحث.
وعلى كل، فالوجه الذي ذكره في معنى الصيغة لا محذور فيه ثبوتا، فيدور
الامر اثباتا بين الالتزام به والالتزام بما هو المشهور، ولا دليل من الصناعة يعين
أحدهما.
فالأولى احالتهما على الوجدان، والذي يعينه الوجدان هو المعنى
المشهور، فان العرف لا يجد من الآمر انه استعمل اللفظ في صدور الفعل من
المخاطب بداعي الطلب، بل يرى أنه استعمل الهيئة في مقام أسبق من مقام
الصدور وهو مقام التسبيب إلى الصدور والبعث نحو الفعل.
وبعبارة أخرى: ان الذي يجده كل آمر من نفسه ويفهمه العرف منه هو
انه عند الامر واستعمال الصيغة لا يلاحظ نسبة صدور الفعل من المخاطب
بحيث يستعمل اللفظ فيها، بل لحاظه يتركز على ما هو السبب في ذلك وهو نسبة
الطلب والبعث.
وعليه، فالمتعين الالتزام بان الموضوع له صيغة الامر هو النسبة الطلبية،
على حد سائر الحروف من وضعها لأنحاء النسب والربط.
393

وهذا هو مراد من صرح بان الموضوع له الصيغة هو الطلب أو البعث
النسبي - وهو المحقق الأصفهاني (1) -، وليس مراده كون الموضوع له هو نفس
مفهوم البعث المتقوم بطرفين والملحوظ حالة لغيره في قبال البعث الملحوظ بنفسه
ومستقلا، إذ ذلك لا يخرجه - عند هذا القائل - عن كونه مفهوما اسميا لا حرفيا،
إذ اختلاف اللحاظ لا يوجب اختلافا في حقيقة المفهوم، بل يبقى اسميا وان
لوحظ حالة لغيره، لان الاختلاف بين المعنى الاسمي والحرفي لدى القائل
جوهري ذاتي. بدعوى أن المعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم بالمرة وانما هو
نحو وجود المفهوم في الذهن. وبتعبير أوضح: المعنى الحرفي هو النسبة الذهنية
بأنحائها، فلا بد أن يكون مراده من تعبيره بوضع الهيئة للبعث النسبي - بقرينة
ما سبق منه في المعنى الحرفي - هو النسبة الطلبية والبعثية، والا كان المعنى اسميا
وهو خلف كون الهيئة من الحروف.
وقد تابع المحقق المذكور في التعبير المزبور مقرر المحقق العراقي (رحمه
الله) فذكر: ان الهيئة موضوعة للبعث النسبي (2).
ويغلب الظن أنه اشتباه من المقرر، وانه ليس من تعبيرات نفس المحقق
العراقي، وانما أخذه المقرر من المحقق الأصفهاني، فإنه يختار في الهيئات
والحروف غير المستقلة كونها موضوعة للنسب كما تقدم، مضافا إلى استبعاد
توافق المحققين في التعبير الواحد وتوارد ذهنيهما على لفظ فارد، ولذلك لم يجئ
هذا التعبير في المقالات، وعبر بالوضع للنسبة الارسالية بين المبدأ والفاعل (3)،
فلاحظ (4).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 125 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 210 - الطبعة الأولى.
(3) العراقي المحقق الشيخ آقا ضياء. مقالات الأصول / 70 - الطبعة الأولى.
(4) لا يخفى انه يصرح (قدس سره) بكونها - الصيغة - موضوعة للنسبة الارسالية كما في نهاية الأفكار 1
178
394

وعلى كل فالأمر سهل.
المطلب الثاني: في صيغة الامر.
وتحقيق الحال فيها يستدعي بيان جهات:
الجهة الأولى: في بيان معنى الصيغة وما هو الموضوع له الهيئة.
وقد تقدم بيانه في ذيل مبحث الطلب والإرادة، وقد عرفت أنه النسبة
الطلبية.
وقد وقع الاشكال والكلام في استعمالها في موارد لا يكون هناك طلب
حقيقي، كاستعمالها في مقام التهديد أو الامتحان أو التعجيز أو السخرية
والاستهزاء.
وجهة الاشكال - كما أشار إليها صاحب الكفاية - هي: انها - أعني
الصيغة - في هذه الموارد هل هي مستعملة في هذه المعاني كالتهديد والتعجيز
والتمني والترجي وغيرها؟ فيكون الاستعمال مجازيا فيها لوضعها للطلب، إلا أن
يدعى الوضع لكل منها، أو الجامع ان كان. أو انها مستعملة في معناها الموضوعة
له بلا اختلاف؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني، فادعى: ان المستعمل فيه في الجميع
واحد وهو الموضوع له، واختلاف الموارد من جهة أخرى خارجة عن دائرة
المستعمل فيه. ببيان: ان الموضوع له الصيغة هو مفهوم الطلب بقصد ايجاده في
عالم الانشاء، وهذا المعنى قد تختلف الدواعي له، فتارة: يكون الداعي له هو
البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي. وأخرى: يكون الداعي له هو التهديد.
وثالثة: يكون هو التمني. ورابعة: التعجيز. وهكذا.. فالمستعمل فيه في جميع هذه
الموارد واحد وهو مفهوم الطلب بقصد الانشاء، وانما الاختلاف من جهة
395

الدواعي، وغاية ما يمكن دعواه: هو ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب بداعي
البعث والتحريك، فإذا كان الانشاء بداع آخر لزم المجاز، ولكنه لا بمعنى
استعمالها في التهديد ونحوه، بل كل هذه الأمور خارجة عن دائرة المستعمل فيه.
ثم أضاف (قدس سره) إلى ذلك تأتي ما ذكره في جميع الصيغ الانشائية،
فالمستعمل فيه صيغة الاستفهام هو مفهوم الاستفهام بقصد انشائه، وانما يختلف
الداعي إلى ذلك، فتارة: يكون ثبوت الاستفهام حقيقة. وأخرى: يكون بداع
آخر كالاستنكار أو التقرير أو نحوهما. وهكذا الحال في صيغ التمني والترجي
وغيرهما. ومن هنا يظهر انه لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ الاستفهام عن معانيها
إذا وردت في كلامه تعالى واستعمالها في غيرها - كما أشار إليه الشيخ في رسائله،
في مبحث حجية خبر الواحد، في آية النفر حيث قال: (ان لعل - بعد انسلاخها
عن معنى الترجي - ظاهرة في كون مدخولها محبوبا للمتكلم (1) -، لاستحالة ثبوت
الاستفهام حقيقة في حقه تعالى، لانتهائه إلى الجهل. واستحالة ثبوت الترجي
والتمني حقيقة في حقه لانتهائه إلى العجز كما لا يخفى، وتعالى الله عنهما علوا
كبيرا. وذلك لان معانيها ليس إلا الفرد الانشائي لا الحقيقي، والمستحيل في حقه
هو الحقيقي منها دون الانشائي، فالمستعمل فيه في كلامه تعالى وفي كلام غيره
واحد، إلا أن الداعي في كلامه لا يمكن أن يكون ثبوت الصفات حقيقة، بل
يكون شيئا آخر كالاستنكار وإظهار المحبة، كما يقال في سؤاله تعالى لموسى
(ع) عن ما في يمينه. فلاحظ (2).
والتحقيق: انه لا بد أولا من معرفة صحة ما ذكره من كون الصيغة
مستعملة لايجاد الطلب انشاء، وانما يختلف الداعي إليه، وان ذلك معقول ثبوتا
.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 78 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 69 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
396

أو غير معقول. ثم يقع الكلام إثباتا بعد ذلك.
والانصاف انه غير معقول ثبوتا، فان الداعي بحسب ما يصطلح عليه
هو العلة الغائية، بمعنى ما يكون في تصوره سابقا على الشئ وفي وجوده
الخارجي مترتبا على الشئ متأخرا عنه. فيقال: (أكل) بداعي تحصيل الشبع،
فان الشبع تصورا سابق على الأكل، وبلحاظ ترتبه على الأكل ينبعث
الشخص إلى الأكل، ولكنه وجودا يترتب على الأكل ويتأخر عنه.
وعليه، فصلاحية الأمور المذكورة من تمن وترج وتعجيز وتهديد وامتحان
وسخرية لان تكون داعيا للانشاء في الموارد المختلفة يصح في فرض ترتب هذه
الأمور على الانشاء وجودا وأسبقيتها عليه تصورا. وليس الامر فيها كذلك، فان..
منها: ما يترتب على صورة الامر ولو لم يكن استعمال أصلا كالامتحان في
مقام الإطاعة، لان الاختبار يتحقق بذكر ما صورته أمر ولو كان مجرد لفظ ولقلقة
لسان، إذ الانبعاث نحو الفعل يحصل بوجود ما يتخيل المنبعث كونه أمرا حقيقة،
فيعلم بذكر الصيغة ولو لم يقصد بها أي معنى انه في مقام الإطاعة أو العصيان.
ومنها: ما يترتب على الامر حقيقة وبداعي البعث والتحريك، كالامتحان
في المأمور به واختباره في مقدار معرفته في أداء المأمور به، فان المأمور به مراد واقعا
كامتحان الطفل بأمره بالكتابة أو القراءة.
منها: ما يكون في تحققه وترتبه أجنبي بالمرة عن الامر حقيقة وصورة،
كالتهديد والتمني والترجي ونحوها، فان هذه الأمور تحصل بأسبابها الخاصة ولا
تترتب على الامر، كما لا يخفى.
نعم في ما كان الداعي السخرية والاستهزاء، أمكن أن يدعى ترتب
الاستهزاء على استعمال الصيغة في معناها لا بداعي الجد والواقع، فيصلح
الاستهزاء للداعوية لو لم نقل بأنه - أعني الاستهزاء - يتحقق بمجرد الانشاء
صورة ولو لم يكن استعمال، فان إنشاء الامر صورة بلا قصد أي معنى من المعاني،
397

بل ليس المقصود الا هذه الألفاظ الخاصة، يعد استهزاء عرفا. فتأمل.
وإذا تبين ان جميع هذه الأمور لا تصلح للداعوية ما عدا الاستهزاء - على
اشكال فيه - فلا وجه لان يقال: ان الصيغة هنا مستعملة في معناها، ولكن لا
بداعي البعث والتحريك بل بداع آخر.
فالأولى ان يقال في هذه الموارد: ان الصيغة مستعملة فيها في معناها
الحقيقي وبداعي البعث والتحريك، إلا أن موضوع التكليف مقيد، فالتكليف
وارد على الموضوع الخاص لا مطلق المكلف، ففي مورد التعجيز يكون التكليف
الحقيقي معلقا على قدرة المكلف بناء على إدعائه، فيقال له في الحقيقة: (ان كنت
قادرا على ذلك فأت به)، فحيث إنه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون
مكلفا، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيا، بل بلحاظ انكشاف عدم توفر
شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقا لموضوع الحكم، فموضوع الحكم هاهنا
هو القادر لا مطلق المكلف. وهكذا يقال في التهديد فان الحكم فيه مشروط
بمخالفة الامر في مكروهه وما لا يرضى بفعله وعدم الخوف من عقابه، فيقول
له: (إفعل هذا إذا كنت لا تخاف من العقاب ومصرا على فعل المكروه عندي)،
فالموضوع خاص في المقام، وهكذا الكلام في البواقي.
ومثل هذا يقال في الأوامر الواردة في أجزاء الصلاة، فان المشهور على
انها أوامر ارشادية تتكفل الارشاد إلى جزئية السورة مثلا وغيرها.
ولكن للفقيه الهمداني تحقيق فيها لا بأس فيه وهو: انها أوامر مولوية
حقيقية إلا أنها واردة على موضوع خاص، وهو من يريد الاتيان بالمركب
الصلاتي كاملا وعلى وجهه، فكأنه قيل لهذا الشخص: (أئت بالسورة)، فمن لا
يريد ذلك لا يكلف بهذا التكليف، فالامر مولوي لكن موضوعه خاص (1).
.

(1) الهمداني الفقيه آغا رضا. مصباح الفقيه / 133 كتاب الصلاة - الطبعة الأولى
398

والمتحصل: انه إذا أمكن الالتزام بان الصيغة في هذه الموارد مستعملة في
النسبة بداعي البعث والتحريك جدا، فلا وجه لتكلف جهة أخرى في حل
الاشكال في هذه الموارد، كما تصدى لذلك صاحب الكفاية.
وبعد هذا نقول: ان ما ذكره صاحب الكفاية من كونها ظاهرة في الطلب
والبعث الحقيقي (1)، سواء ادعى انها موضوعة لمطلق النسبة الطلبية، أو النسبة
الطلبية إذا كان الداعي هو البعث الحقيقي، أمر لا ينكره أحد، فان العرف يفهم
ذلك من الصيغة بمجرد إطلاقها، ولا يهمنا بعد ذلك تحقيق الموضوع له، إذ الذي
يفيد الفقيه والأصولي تحقيق ظاهر الكلام المنسبق منه عند اطلاقها سواء كان
بالوضع أو بغيره، فلا يهمه تحقيق ان هذا الظهور وضعي أو ليس بوضعي.
الجهة الثانية: في ظهور الصيغة في الوجوب.
فقد وقع الخلاف في أنها ظاهرة في خصوص الطلب الالزامي المعبر عنه
بالوجوب، أو الطلب غير الالزامي المعبر عنه بالندب، أو مطلق الطلب بلا
خصوصية الالزام وعدمه فيحتاج تعيين كل منهما إلى قرينة خاصة وبدونها يكون
الكلام مجملا.
وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الخلاف واختار وضعها للطلب
الوجوبي (2).
إلا أن المحقق النائيني سلك نحوا آخر في تحقيق المسألة مدعيا عدم
الوجه في البحث في تشخيص الموضوع له وانه الوجوب أو الندب أو الأعم،
لان الطلب الوجوبي ليس سنخا آخر غير الطلب الندبي، بل هما من سنخ واحد
ومعنى فارد، فان الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة المولى.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 69 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 70 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
399

وعليه، فليس هناك نحوان من الطلب ثبوتا كي يتنازع في كون أيهما
الموضوع له دون الاخر. وبيان ما افاده - كما جاء في تقريرات بحثه للسيد
الخوئي -: إن بناء المتقدمين كان على كون كل من الوجوب والاستحباب معنى
مركبا، فالوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك، والاستحباب هو طلب
الفعل مع الترخيص في الترك. وقد رفض المتأخرون هذا القول وذهبوا إلى أنهما
أمران بسيطان وهما مرتبتان من الطلب، فمرتبة منه ضعيفة يعبر عنها
بالاستحباب ومرتبة شديدة يقال عنها الوجوب، والمنع من الترك والاذن فيه من
لوازم شدة الطلب وضعفه لا دخيلان في حقيقة الوجوب والاستحباب، وهذا
المعنى أمر عرفي ظاهر لا يقبل الانكار.
ولكنه (قدس سره) لم يرتض هذا المعنى ذاهبا إلى: ان الطلب غير قابل
للشدة والضعف، وان المستعمل فيه في كلا الحالين، سواء كان الفعل ضروري
الوجود أو غير ضرورية، ليس إلا النسبة الايقاعية بمعنى ايقاع المادة على
المخاطب من دون أن يكون شدة وضعف في المستعمل فيه، ولا يجد الآمر اختلافا
في المستعمل فيه في نفسه.
واما الطلب القائم بالنفس المتعلق بالأفعال التكوينية، فهي غير قابل
للشدة والضعف أيضا، لأنه - كما عرفت - عين الاختيار، وهو واحد في كل
الحالات.
واما الإرادة فهي وان كانت في نفسها قابلة للشدة والضعف، لكن الإرادة
فيما نحن فيه هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات، وغيره لا يكون إرادة،
وذلك غير قابل للشدة والضعف.
وبذلك يتبين ان الوجوب والاستحباب ليسا من كيفيات المستعمل فيه
حتى يدعى ظهور أو انصراف صيغة في أحدهما، بل المستعمل فيه واحد، وهو
النسبة الايقاعية، والاختلاف من حيث المبادئ، فان ايقاع المادة على المخاطب
400

ينشأ - تارة - عن مصلحة لزومية. وأخرى: عن مصلحة غير لزومية.
إذا تم ذلك، فاعلم أن الصيغة إذا صدرت من المولى يحكم العقل بمجرد
صدورها بلزوم امتثال التكليف والجري على طبقه، قضاء لحق العبودية والمولوية،
الا إذا صرح المولى بعدم لزوم الفعل وجواز الترك، وقد قرب هذا المعنى بوجه
فلسفي لا نعرف ارتباطه. فلاحظه. وعلى كل فالذي يتخلص من مجموع كلامه:
ان استفادة الوجوب انما هو من طريق حكم العقل بلزوم الإطاعة ولا يرتبط
بعالم اللفظ والمستعمل فيه (1).
ولتحقيق الحق لا بد ان نتكلم في امكان وجود الفرق بين الوجوب
والاستحباب ثبوتا واثباتا. فنقول: انه لا اشكال في أن صدور الصيغة الطلبية
من المولى يختلف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى..
اما من حيث المبدأ. فلان الامر وطلب الفعل انما يكون بلحاظ ما يترتب
على الفعل من مصلحة، وهذه المصلحة تختلف فقد تكون لزومية وقد تكون غير
لزومية، وباختلاف المصلحة من هذه الجهة تختلف الإرادة وتتفاوت شدة وضعفا،
فان إرادة الفعل الذي تكون مصلحته لزومية تكون أشد من إرادة الفعل ذي
المصلحة غير اللزومية، ويكون الشوق إليه آكد، وهذا أمر وجداني لا ينكر.
واما حديث ان الشوق ما لم يصل لحد تحريك العضلات لا يسمى إرادة،
ومع وصوله لا يقبل الشدة والضعف حينئذ. فهو ان سلم تام بالنسبة إلى الإرادة
التكوينية دون الإرادة التشريعية، إذ ليس في الإرادة التشريعية تحريك
العضلات، وإرادة الفعل من الغير يتصور فيها الشدة والضعف حسب
اختلاف المصالح الموجبة لانقداح الإرادة. فما ذكر - منه (قدس سره) - من
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 94 - الطبعة الأولى
401

الخلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.
واما من حيث المنتهى، فلان الامر ينشأ بداعي البعث والتحريك نحو
الفعل، فيمكن أن يكون المقصود تارة: هو البعث المسمى اللزومي، وأخرى:
البعث والتحريك غير الحتمي. ونظيره في البعث التكويني دفع الشخص غيره
بقوة وشدة، ودفعه دفعا خفيفا غير شديد، وعلى كل فاعتبار البعث والتحريك
بنحويه الحتمي وغير الحتمي متصور وليس فيه اشكال وريب، فالفرق من حيث
المنتهى ثابت أيضا، كما لا يخفى.
وإذا ثبت الاختلاف ثبوتا من حيث المبدأ والمنتهى، أمكن دعوى رجوع
اختلاف الوجوب والاستحباب إلى الاختلاف في المدلول اللفظي، بان يقال: ان
الوجوب هو الطلب الناشئ عن الإرادة الحتمية الأكيدة. والاستحباب هو
الطلب الناشئ عن الإرادة غير الحتمية، وان اللفظ موضوع للنسبة الطلبية
التي يكون انشاؤها عن إرادة حتمية أو عن مطلق الإرادة.
وبالجملة، يمكن دعوى اختلاف الوجوب والاستحباب وضعا، وان
الصيغة التي يراد بها الوجوب تستعمل في غير ما تستعمل فيه لو أريد بها الندب،
وبكلمة مختصرة: انه بعد فرض وجود نسبتين: إحداهما: طرفها الشوق الأكيد.
والأخرى: طرفها الشوق الضعيف. فيمكن أن يقع النزاع في أن الموضوع له
هذه النسبة أو تلك النسبة أو الجامع؟.
واما ما عن المحقق العراقي من تصوير النزاع بملاحظة الاختلاف في
مرتبة الشوق، فيقع الكلام في إرادة أي المرتبين (1).
ففيه: ان الكلام ليس مسوقا لبيان الشوق كي يتنازع في مدلوله من
مراتب الشوق. هذا بلحاظ مقام الثبوت.
.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 214 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
402

اما مقام الاثبات (1): فما ذكره (قدس سره) من أن العقل يحكم بلزوم
الإطاعة بمجرد انشاء الصيغة. بدعوى (2) جزافية، فإنك خبير بأنه بعد ادراك
العقل ان إنشاء الطلب يمكن أن يكون عن إرادة حتمية، كما يمكن أن يكون
عن إرادة غير حتمية، وان المنشأ عن إرادة غير حتمية لا يلزم امتثاله بعد ادراكه
هذا المعنى، كيف يحكم بلزوم الامتثال بمجرد الانشاء ما لم يدع ظهور الصيغة في
كون الانشاء عن إرادة حتمية، وهو خلاف المفروض؟!.
وإذن هل يجد الانسان في نفسه ذلك؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بل
يمكن الجزم بخلافه. وإذا ظهر وجود الاختلاف بين الوجوب والاستحباب ثبوتا
وعدم تعين أحدهما في نفسه إثباتا، لا بد من بيان ان أيهما الذي يظهر فيه اللفظ
بوضع أو اطلاق، كي يحمل عليه اللفظ إذا ورد بلا قرينة معينة للاخر ومن هنا
يتضح ان تحرير الكلام بنحو ما حرره صاحب الكفاية لازم.
وقد ادعى صاحب الكفاية تبادر الوجوب من اللفظ بلا قرينة. وقد
عرفت أن التبادر علامة الحقيقة. وأيد دعواه بعدم صحة اعتذار العبد عن مخالفة
الامر باحتمال إرادة الندب وعدم القرينة الحالية والمقالية عليه ثم أشار إلى بعض
الايرادات ودفعها.
كالايراد بكثرة الاستعمال في الندب في الكتاب مما يجب نقله إليه أو حمله
.

(1) التعرض إلى مقام الاثبات بعد بيان الفرق الثبوتي إنما هو لاجل بيان بطلان ما ذكره المحقق النائيني،
لأنه مع تماميته يلغو النزاع في ظهور الصيغة ووضعها وان ثبت الفرق ثبوتا لعدم الأثر عليه. فتدبر. (منه
عفي عنه).
(2) هذا ما ذكرناه سابقا. لكن نقول. فعلا: انه لا بد من القول بمقالة النائيني، لتوقف ما التزم به من تقديم
النص أو الأظهر على الظاهر - كتقديم دليل جواز الترك أو الفعل على الدليل الظاهر في الوجوب
أو التحريم - على الالتزام بهذه المقالة، إذ على المبني المشهور تكون دلالة الظاهر على المدلول قطعية
كدلالة النص أو الأظهر، فلا وجه لتقديم أحدهما على الاخر. وقد أوضحنا ذلك في بعض مباحث
التعادل والترجيح فراجع تعرف
403

عليه. وفيه أولا: بكثرة استعماله في الوجوب وثانيا: بان الاستعمال وان كثر في
الندب لكنه مع القرينة، والاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يستلزم صيرورته
مشهورا فيه كي يبنى على الخلاف في المجاز كما لم ينثلم ظهور العام بكثرة
استعماله في الخاص حتى قيل: ما من عام الا وقد خص.
وفيه: ان الوجه الثاني يبتني على أن الدال على المعنى المجازي هو
مجموع اللفظ والقرينة بحيث يكون اللفظ جزء الدال، وما إذا كان تمام الدال
هو بواسطة القرينة فلا يتم، لحصول الانس بين ذات اللفظ بكثرة الاستعمال.
وأما النقض بكثرة التخصيص تام بناء على مبناه في التفصيل في استعمال العام
في الخاص بين المخصص المتصل والمنفصل في باب العموم. فراجع.
وقد استشكل المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه (1) - وضع
الصيغة للوجوب لعدم العلم باستناد التبادر إلى حاق اللفظ ونشوئه عن الوضع،
ولكنه وافق صاحب الكفاية في نفس ظهور الصيغة في الوجوب مع عدم القرينة.
ووجه ذلك: بأنه مقتضى الاطلاق وجريان مقدمات الحكمة في الإرادة
التي تستتبع الانشاء. ببيان: ان الإرادة الوجوبية هي الإرادة التامة التي لا ضعف
فيها ولا نقصان، بخلاف الإرادة الاستحبابية، فإنها تشتمل على جهة نقص
لضعفها. وعليه فلا بد من حمل الكلام على ما يتمحض في الإرادة، بحيث كان ما
به امتيازه عن غيره عين ما به اشتراكه معه، وهو الإرادة، لان شدة الإرادة إرادة،
وهي الإرادة الشديدة التامة، لأنه لا يحتاج في بيانها إلى غير اللفظ، دون الإرادة
الضعيفة فإنها تحتاج في بيانها إلى غير لفظ الإرادة أو ما يؤدى معناه، لكي يبين
جهة النقص فيها وعدم وصولها إلى المرتبة الخاصة من الإرادة مما يكون امتيازها
بغير ما به اشتراكها، لان نقص الإرادة غيرها كما لا يخفى.
.

الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 212 - الطبعة الأولى
404

والى هذا البيان أشار صاحب الكفاية في أواخر كلامه (1).
وقد استشكل على نفسه: بان مقدمات الحكمة انما تجري في المفاهيم
لكونها قابلة للسعة والضيق الذي يرجع إليه الاطلاق والتقييد لا الاشخاص،
لأنها غير قابلة للاطلاق والتقييد، فإذا دار الامر بين أحد فردين خارجا كان من
دوران الامر بين المتباينين، والحال في الإرادة كذلك، فان الإرادة الموجودة في
نفس المولى أمر شخصي يدور أمره بين أحد نحوين، فيكون من دوران الامر
بين المتباينين، وليس اللفظ يقصد منه بيان مفهوم الإرادة كي يقبل الاطلاق
والتقييد.
والتفصي عن هذا الاشكال: بان الفد الخارجي وان كان بحسب مفهومه
غير قابل للاطلاق والتقييد، لكنه من حيث الأحوال قابل لهما، والشدة والضعف
من أحوال الإرادة الطارئة عليها، فيمكن لحاظ الاطلاق والتقييد من حيث
الأحوال.
ممنوع: لان الشدة والضعف في الإرادة من لوزم وجودها وليسا من
الأحوال الطارئة عليها بعد وجودها. فهي توجد إما شديدة أو ضعيفة، والمفروض
هو تعيين أحد النحوين في الفرد بالاطلاق، لا اثبات إرادة صرف الفرد بلا لحاظ
شدته وضعفه.
وانما الصحيح ان يجاب بما حررناه في محله، من جريان مقدمات الحكمة
في تعيين أحد الفردين، إذا دار الامر بينهما وكان أحدهما يحتاج في بيانه إلى مؤونة
زائدة على اللفظ الموضوع للطبيعي، فإنه بالاطلاق يثبت إرادة الفرد الاخر، كما
هو الحال فيما نحن فيه، هذا محصل كلامه.
وفيه أولا: انه يبتني على الالتزام بجريان مقدمات الحكمة في الاشخاص
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 72 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
405

إذا دار الامر بين فردين أحدهما يحتاج في بيانه إلى مؤونة والاخر لا يحتاج في بيانه
إليها. وتحقيق ذلك في محله.
وثانيا: ان أساس مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام البيان من الجهة
التي يقصد التمسك بالاطلاق فيها، وليس المتكلم فيما نحن فيه في مقام البيان
من جهة الإرادة شدة وضعفا، بل في مقام انشاء الطلب واستعمال اللفظ في النسبة
الطلبية. اما نحو الإرادة فليس الامر والمنشئ في مقام بيانه، كي يتمسك باطلاق
كلامه.
ثم إن المحقق النائيني، بعد ما أفاد ما عرفته، ذكر: انه بما عرفت يندفع
الاشكال المشهور في استعمال الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا، مثل:
(إغتسل للجمعة والجنابة) بل لا يرد الاشكال أصلا (1).
وتوضيح الاشكال: ان الطلب جنس لا بد في تحققه من الانفصال بفصل،
لان الفصل هو الذي يحصل الجنس وبه يتحقق. كما أنه لا بد ان يتحدد بحد من
الشدة والضعف، فلا يمكن ان يوجد في الخارج منفكا عنهما معا.
وعليه، فلا يمكن ان يلتزم ان المستعمل فيه مطلق الطلب، كما لا يمكن
ان يلتزم بان المستعمل فيه الطلب الوجوبي والطلب الاستحبابي، لأنه من
استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال، وإرادة أحدهما ممنوعة، لأنها خلف
فرض كون المتعلقين مختلفين وجوبا واستحبابا.
ولا يخفى انه يندفع بل لا يرد، بناء على ما التزم به المحقق النائيني كما
ذكر ذلك (قدس سره)، لان المستعمل فيه في حالتي الوجوب والاستحباب واحد
وهو النسبة الايقاعية، والاختلاف من جهة المبادئ، وهو لا يضير في المستعمل
فيه، واستفادة الوجوب بحكم العقل، ولا ربط له بالمستعمل فيه.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 96 - الطبعة الأولى
406

وبالجملة: نسبة المستعمل فيه إلى كلا المتعلقين بنحو واحد، والوجوب
والاستحباب أجنبيان عن عالم المستعمل فيه، إذ استفادتهما من الخارج لا من
اللفظ، فكون أحدهما واجبا والاخر مستحبا لا يستلزم أي اشكال، كما هو ظاهر
جدا.
ولكن اندفاع الاشكال لا ينحصر بالالتزام بما ذكره، بل يمكن دفعه بناء
على ما ذكرناه. فان اللفظ في حالتي وجود الإرادة الحتمية وغيرها انما يستعمل
في النسبة الطلبية. غاية الامر: ان منشأه تارة: يكون هو الإرادة الحتمية
المنبثقة عن وجود المصلحة اللزومية. وأخرى: يكون هو الإرادة غير الحتمية
الناشئة عن وجود المصلحة غير اللزومية.
وعليه، فيمكن ان يقال في دفع الاشكال: ان اللفظ مستعمل في النسبة
الطلبية في كلا المتعلقين بمقتضى وضعه لها، لكنه ناشئ عن إرادتين إحداهما:
حتمية وهي المتعلقة بالجنابة لكون مصلحتها لزومية، والثانية: غير حتمية وهي
المتعلقة بالجمعة لكون مصلحتها غير لزومية، فالمستعمل فيه واحد، وهو المعنى
الموضوع له اللفظ، أعني النسبة الطلبية، ولكن منشأ الاستعمال متعدد، ولا محذور
فيه، سوى مخالفته لمقتضى الوضع لو قيل: بان الموضوع له هو النسبة الناشئ
انشاؤها عن الإرادة الحتمية، فيكون الاستعمال مجازيا. لكنه خال عن المحذور،
كما قد يتوهم.
ودعوى كون الطلب جنسا، فلا بد ان يتحصل بأحد فصليه.
تندفع: بان الامر كذلك ثبوتا، وهو لا ينافي إرادة الكشف عن الكلي
خاصة دون فصله كما يقال: (الانسان والبقر حيوان). ولا يخفى ان مقتضى هذا
الجواب عدم امكان استفادة الوجوب من الكلام بالنسبة إلى غير ما قام الدليل
على استحبابه.
ويمكن الجواب بوجه آخر، وهو ان يقال: ان العطف في قوة تكرار
407

الصيغة فأداته تدل على نسبة أخرى غير النسبة المدلول عليها بنفس الصيغة.
وعليه، فلدينا نسبتان مدلول عليهما بدالين، فيمكن ان تكون إحداهما
وجوبية والأخرى ندبية، ويبقى ظهور الصيغة في الوجوب بالنسبة إلى غير ما
قام الدليل على استحبابه على حاله. فتدبر جيدا.
الجهة الثالثة: في تحقيق الكلام في مدلول الصيغة الخبرية الواردة في مقام
الطلب، وبيان ما تظهر فيه من وجوب أو استحباب أو غيرهما.
وبيان ذلك: انه كثيرا ما يجئ في النصوص في مقام الطلب صيغة خبرية
نظير: (يعيد) أو: (يتوضأ) ونحوهما. فهل هي ظاهرة في الوجوب أو لا؟.
قيل: بعدم ظهورها في الوجوب، باعتبار انها غير مستعملة في معناها
الحقيقي وهو الاخبار بثبوت النسبة، والمعاني المجازية المحتملة متعددة، ولا
مرجح للوجوب لعدم أقوائيته.
وقد التزم صاحب الكفاية بظهورها في الوجوب، بدعوى: ان الصيغة لم
تستعمل في غير معناها، بل انما استعملت في معناها وهو النسبة، الا إنه لم يكن
بداعي الاخبار والاعلام - وهو غير مقوم للموضوع له كما تقدم -، بل بداعي
البعث والتحريك بنحو آكد، فإنه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه
لا يرضى الا بوقوعه، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.
ثم تعرض بعد ذلك لايراد لزوم وقوع الكذب في كلامه تعالى - إذا كان
المستعمل فيه هو النسبة - لعدم وقوع المطلوب غالبا.
والجواب عنه: بان الكذب انما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الاعلام
لا بداعي البعث كما فيما نحن فيه، والا لزم الكذب في غالب الكنايات (1).
ولا يخفى ان ما ذكره (قدس سره) مجرد دعوى ليس لها صورة دليل
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 70 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
408

وبرهان، ولم يذكر لها تقريب وتوجيه، وذلك لا يكفي في اثبات المطلوب، بل
يمكن الايراد فيه: بان الاخبار بالوقوع لا يكشف إلا عن إرادة الوقوع باعتبار
المناسبة بينهما، اما كون الإرادة بنحو خاص بحيث لا يرضى بتركه فلا دلالة
للجملة على ذلك.
وقد قرب ظهور الصيغة في الوجوب بتقريب دقيق حاصله: انه قد تقرر
في علم الفلسفة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد، بمعنى: انه ما لم توجد علته التامة
المقتضية لضرورة وجوده - لعدم انفكاك المعلول عن العلة - لا يوجد الشئ
فإذا أخبر بوجود الشئ وتحققه كان ذلك كاشفا عن ضرورة وجوده ولا بديته،
والمناسب لذلك في مقام الطلب هو الوجوب التشريعي والطلب الالزامي، فيدل
الاخبار على الوجوب بالملازمة.
وأنت خبير بأن ما اعتمد عليه في اثبات دلالة الصيغة على الوجوب من
القاعدة المحررة، وهي ان الشئ ما لم يجب لم يوجد، ليس أمرا عرفيا واضحا،
بل هو أمر دقيق لا يدركه كل أحد بالادراك البدوي، فلا يمكن دعوى الظهور
العرفي للفظ استنادا إلى ذلك.
فالأولى في تقريب ظهور الصيغة في الوجوب ان يقال: ان وقوع الفعل
خارجا من المنقاد يلازم الوجوب والطلب الحتمي، فان الطلب غير الحتمي لا
يستلزم وقوع الفعل خارجا من المنقاد، إذ يمكن ان يفعل ويمكن أن لا يفعل،
لان عدم الفعل لا ينافي الانقياد لعدم الالزام. فالالزام والوجوب مستلزم وعلة
لوقوع الفعل، وعليه فالوجوب ملزوم ووقوع الفعل لازم، فيكون اللفظ
مستعملا في اللازم ويدل على الملزوم بالدلالة الالتزامية. فظهور الصيغة الخبرية
الواقعة في مقام البعث في الوجوب بنحو الالتزام والدلالة الالتزامية، لملازمة
الوقوع للإرادة الحتمية.
ولعل نظر صاحب الكفاية في دعواه إلى ذلك فتأمل.
409

ثم إن صاحب الكفاية ذكر: انه لو لم نقل بان المناسب المذكورة بين وقوع
الفعل وعدم الرضا بالترك موجبة لظهور الصيغة في الطلب الوجوبي، فلا أقل
من الالتزام باستلزامها بتعين الوجوب من سائر المحتملات عند الاطلاق وعدم
القرينة، فإذا تمت مقدمات الحكمة كان مقتضاها حمل الكلام على إرادة
الوجوب، لان شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب توجب تعين إرادة
الوجوب مع عدم القرينة على غيره وكون المتكلم في مقام البيان (1).
الجهة الرابعة: لو لم نقل بظهور الصيغة في الوجوب وضعا، فهل هي
ظاهرة فيه بسبب آخر من انصراف أو غيره؟.
أدعي انصرافها إليه باعتبار كثرة الاستعمال فيه، أو بلحاظ غلبة وجوده،
أو من جهة أكمليته.
واستشكل فيه صاحب الكفاية: بان استعمال الصيغة في الندب وهكذا
وجوده لا يقل عن استعمالها في الوجوب ووجوده لو لم يكن بأكثر، وأكملية
الوجوب بالمعنى بحيث يصير وجها ومرآة له، والأكملية وحدها لا توجب ذلك (2).
ثم إنه (قدس سره) قرب ظهور الصيغة في الوجوب عند الاطلاق وتمامية
مقدمات الحكمة بما مرت الإشارة إليه في كلام المحقق العراقي، وقد عرفت
الاشكال فيه فلا نعيد.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 71 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 72 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
410

التعبدي والتوصلي
الجهة الخامسة: الواجبات على قسمين: تعبدي وتوصلي.
وقد وقع الكلام في بيان المراد من التعبدي والتوصلي.
فقيل: ان الوجوب التعبدي ما لا يحصل الغرض فيه إلا باتيان متعلقه
بقصد القربة. ويقابله التوصلي، وهو ما يحصل منه الغرض بلا قصد القربة (1).
وقيل: بان الواجب التعبدي ما شرع الاتيان به بنحو العبادة وللتعبد به.
ويقابله التوصلي وهو ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة (2).
وقيل: بان التعبدي ما اعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي ما لم يعتبر فيه
قصد القربة (3).
ولا يخفى ان تحقيق كون التعبدي أي المعاني من هذه، أو تحقيق ان
التعبدية والتوصلية هل هي صفة الوجوب أو الواجب؟. ليس بذي أهمية فيما هو
المهم في الكلام كما سيتضح، كما لا يخفى ان هذه التفسيرات كلها تشير إلى معنى
واحد، وهو كون التعبدي ما لا يسقط به الامر إلا بقصد القربة دون التوصلي.
وعليه، فلا يهمنا اثبات أيها معنى للتعبدي والتوصلي، فليكن موضوع
الكلام فعلا، هو التعبدي، بمعنى ما يعتبر فيه قصد القربة. والتوصلي بمعنى ما
لا يعتبر فيه قصد القربة.
وقد أشير إلى أن للتعبدي معنى آخر، وهو: ما لا يسقط به الامر الا
بالمباشرة، وأن يكون عن إرادة واختيار، وان لا يكون بفعل محرم. بخلاف
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 72 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 96 - الطبعة الأولى.
(3) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 139 - الطبعة الأولى
411

التوصلي، فإنه ما يسقط الامر بمجرد وجوده وتحققه خارجا ولو كان بفعل الغير،
أو بلا إرادة واختيار، أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب (1).
إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم: ان محل الكلام في أن مقتضى الأصل - مع
الشك في كون الواجب تعبديا أو توصليا - هل هو العبادية أو التوصلية؟. والمراد
بالأصل الأعم من الأصل اللفظي والعملي، فان المناسب لمبحث الألفاظ وان
كان هو البحث في الأصل اللفظي دون العملي، لكن حيث جاء في كلام الاعلام
البحث عن كليهما جرينا على منوالهم.
ولا يخفى ان البحث لا بد أن يكون أولا عن الأصل اللفظي، وانه هل
هناك اطلاق أو نحوه يعين أحد النحوين؟، فإنه مع ثبوته ووجوده لا تصل النوبة
للأصل العملي، فإذا لم يثبت الأصل اللفظي يبحث ثانيا عما يقتضيه الأصل
العملي من أحد النحوين وما تكون نتيجته منها.
ثم إن البحث يقع أولا عن التعبدية بالمعنى الأول - أعني الجامع بين
الأقوال الثلاثة -. ثم نبحث أخيرا عن العبادية والتوصلية بالمعنى الاخر، فيتكلم
في أن الأصل هل يقتضي المباشرة في الواجب أو الإرادية أو عدم تحققه بالفعل
المحرم، أو لا يقتضي شيئا منها، أو بعضها؟. فان تحقيق ذلك مما له فائدة جمة في
مباحث الفقه.
وعلى كل، فيقع الكلام فعلا في: أن مقتضى الأصل هل هو اعتبار قصد
القربة في الواجب أو لا؟. والكلام في مرحلتين:
المرحلة الأولى: في الأصل اللفظي، ومحل البحث هو وجود أصل لفظي
كالاطلاق يعين أحد النحوين وعدمه. فالكلام في اقتضاء اطلاق الصيغة
التوصلية ونفي اعتبار قصد القربة وعدمه.
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 139 - الطبعة الأولى
412

والمشهور في كلامهم هو: عدم امكان التمسك بالاطلاق، لاجل عدم
امكان الاخذ قصد القربة في متعلق الامر، بضميمة كون الاطلاق انما يثبت في
المورد القابل للتقييد دون غير القابل له كالمورد.
ولا يخفى ان التقرب كما يحصل بقصد امتثال الامر كذلك يحصل بما
يكون موجبا للقرب من القصود، كقصد المحبوبية أو قصد الاتيان بالفعل له
تعالى ونحوه، إلا أن كلامهم أولا ينصب على تحقيق امكان وعدم امكان أخذ
قصد امتثال الامر والاتيان بالفعل بداعي الامر في متعلق الامر، ومنه يبتون في
الانحاء الأخرى من القصد.
ولأجل ذلك فيكون الكلام فيه أولا في امكان اخذ داعي الامر في متعلق
الامر نفسه وعدم امكانه، جريا على منوال القوم.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع أخذه في متعلق الامر شرعا، معللا
ذلك باستحالة اخذ ما لا يتأتى الا من قبل الامر في متعلق ذلك الامر، سواء
كان اخذه فيه بنحو الجزئية أو الشرطية، وأعقب ذلك بقوله: (فما لم تكن نفس
الصلاة متعلقة للامر، لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال أمرها) (1).
وكلامه في المقام لا يخلو عن اجمال، إذ لم يتضح منها ان وجه عدم امكان
اخذ داعي الامر في متعلق الامر شرعا هو استلزامه لمحذور واحد أو لمحذورين،
وعبارته قابلة للحمل على كلا الاحتمالين، كما أن لكل منهما قرينتين، فلا يمكن
الجزم بإرادته أحدهما، ويحسن بنا بعد أن نبهنا على ذلك الافصاح عما ذكرناه
فنقول:
يمكن حمل عبارته على استلزام اخذ قصد القربة في متعلق الامر
لمحذورين:
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 72 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
413

الأول: ان متعلق الامر لا بد وأن يكون في رتبة سابقة على نفس الامر،
لأنه معروض الامر، والعارض متأخر عن معروضه رتبة، وداعي الامر معلول
لوجود الامر لاستحالة تحققه بدونه فهو متأخر عنه تأخر المعلول عن علته.
وعليه فلا يمكن أخذه في متعلق الامر، لأنه متأخر عن الامر، ففرض كونه في
متعلق الامر يستلزم فرض تقدمه على الامر وهو خلف.
والثاني: ان الامر انما يتعلق بما هو مقدور دون ما هو ليس بمقدور،
والاتيان بالصلاة بداعي الامر غير مقدور إلا بتعلق الامر بذات الصلاة.
وأوضح ذلك فيما بعد بان الامر انما يدعو إلى ما تعلق به، وقد تعلق بالصلاة مقيدة
بقصد القربة، فلا يمكن الاتيان بالصلاة بداعي الامر، إذ لا أمر قد تعلق بها
كي يدعو إليها ويؤتى بها بداعية.
والى هذا المحذور أشار بقوله: (فما لم تكن نفس الصلاة...). والى الأول
أشار بقوله: (لاستحالة أخذ...).
كما أنه يمكن حمل عبارته على ذكر محذور واحد وهو محذور عدم القدرة
بتقريب: انه (قدس سره) ذكر أولا استحالة اخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الامر
في متعلقه، ولم يبين السر والوجه في الاستحالة، وانما ذكر ذلك بنحو الاجمال، لكنه
عقب ذلك ببيان مثال ذلك مشيرا في مثاله إلى نكتة الامتناع، وهي عدم القدرة،
وذلك بقوله: (فما لم تكن نفس الصلاة...).
وقرينة هذا الاحتمال:
أولا: ظهور الفاء في قوله: (فما لم تكن) في التفريع على ما سبق. وهو
يتناسب مع وحدة المحذور لا مع تعدده إذ على الثاني لا معنى للتفريع، بل كل
منهما محذور مستقل.
وثانيا: حكمه بفساد التوهم الذي ذكره مع تسليمه بجهة من جهاته، فلو
كان النظر إلى وجود محذورين لم يكن مجموع التوهم فاسدا، بل يكون دفعه
414

للمحذور الاخر فاسدا دون الأول، فحكمه المذكور ظاهر في وحدة المحذور، وانه
لا يندفع به المحذور. وان سلمت احدى الجهتين به، فهو واضح الفساد. ويؤيد
ذلك أنه أصر على ما ذكره من الكلية - أعني استحالة اخذ ما لا يكاد يتأتى إلا
من قبل الامر في متعلقه - في غير مكان من الكفاية، فلو كان نظره فيه إلى ما
ذكر من المحذور بنحو التعدد لم يتجه ذلك لاندفاعه بكفاية تصور المتعلق في
مرحلة الامر وتسليمه (قدس سره) به. فتأمل.
كما أنه على الاحتمال الأول قرينتان:
إحداهما: التعرض في التوهم إلى دفع جهتين والتخلص من اشكالين،
وهما اللذان ذكرناهما وهو ظاهر في تعدد المحذور.
ثانيتهما: عدم مناسبة التفريع مع الكلية المذكورة أولا، وذلك لان عدم
القدرة على الاتيان بقصد امتثال الامر لم ينشأ عن جهة كون قصد الامر مما لا
يتأتى الا من قبل الامر، بل لخصوصية في قصد الامر بنفسه، ولذا لا يسري إلى
كل ما لا يتأتى الا من قبل الامر كالعلم بالحكم ونحوه. فظاهر الكلية كون
المحذور ناشئا عن جهة كون قصد الامر مما لا يتأتى الا من قبل الامر، وهو
أجنبي عن عدم القدرة على المتعلق، بل ظاهره كون المحذور فيه هو المحذور في
غيره مما يشابهه في عدم تأتيه الا من قبل الامر وهو غير عدم القدرة. ولذا يلتزم
البعض بعدم استحالة اخذ العلم بالحكم في المتعلق ببعض التأويلات، مع أن
المحذور لو كان جهة القدرة لم يقبل التأويل كما هو واضح جدا. وبواسطة وجود
القرينة على كلا الاحتمالين يمكننا دعوى كون كلام صاحب الكفاية من
المجملات. فلاحظ.
وعلى أي حال فالمهم هو بيان ما ذكر من الوجوه لمنع اخذ قصد الامتثال
في متعلق الامر وهي كثيرة ربما أوصلها البعض إلى عشرة:
الأول: اشكال الدور الذي أوضحناه في مقام بيان عبارة الكفاية، والذي
415

محصله: ان الامر يتوقف على ثبوت متعلقه، وقصد الامر يتوقف على ثبوت الامر،
فأخذه في متعلق الامر يستلزم فرض توقف الامر عليه، وقد عرفت توقفه على
الامر. وهذا هو الدور أو الخلف وهو محال.
والجواب عنه واضح، وقد أشار إليه في الكفاية، وبيانه: ان الامر لا يتوقف
على وجود متعلقه خارجا، بل يتوقف على وجوده ذهنا وتصورا، فيتعلق به ويبعث
الامر بعد تصوره. وداعي الامر انما يتوقف على الامر بوجوده الخارجي لا
التصوري، إذ يمكن تصور داعي الامر ولو لم يكن أمر أصلا. وعليه فالذي
يتوقف عليه الامر هو قصد الامر بوجوده التصوري وهو لا يتوقف على الامر،
بل الذي يتوقف على الامر هو قصد الامر بوجوده الخارجي وهو لا يتصور
عليه الامر فلا دور، إذ الموقوف عليه الامر غير الموقوف على الامر.
الثاني: استلزامه الدور بلحاظ مقام الامتثال، وذلك لان الامر يتوقف
على القدرة على متعلقه، إذ لا يصح الامر مع عدم القدرة، مع أن القدرة على
قصد الامر تتوقف على الامر، إذ لا يتحقق قصد الامر بدون الامر.
وأجيب عن ذلك: بان القدرة المصححة للامر انما هي القدرة على المتعلق
في ظرف الامتثال لا في ظرف الامر.
وتوضيح النظر في الجواب يتوقف على بيان المقصود من شرطية القدرة.
فنقول: ان الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي، وما هو المصطلح
به عليه عند أهل ذلك الفن، وهو جزء العلة التامة وما يكون دخيلا في وجود
المشروط. وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك، بل ما يكون مصححا لايجاد
الفعل ورافعا للغويته وموجبا لكونه من الأفعال العقلائية وان أمكن وجود الفعل
بحسب ذاته بدونه، وذلك نظير ما يقال شرط اعتبار الملكية ترتب الأثر عليها،
فان ترتب الأثر ليس دخيلا في وجود الملكية، بل هو مصحح لايجادها من قبل
416

العقلاء وبه يخرج الفعل على تقدير وجوده عن اللغوية. ومن الواضح ان الشرط
بالمعنى الأول سابق رتبة على المشروط، فيمتنع ان يفرض تأخره عنه رتبة في
حال من الأحوال سواء كان في وجوده لاحقا أم سابقا على وجود المشروط.
واما الشرط بالمعنى الثاني، فليس هو في الرتبة سابقا على المشروط ولا
يتوقف المشروط عليه، فلا يمتنع ان يفرض تأخره عنه في الرتبة.
وشرطية القدرة للتكليف لو أريد بها المعنى الأول كان الاشكال في محله،
إذ القدرة على قصد الامر يتوقف عليها الامر مع أن قصد الامر معلول لوجود
الامر.
ولا ينحل الاشكال بان القدرة التي هي شرط الامر هي القدرة في مقام
الامتثال لا في ظرف التكليف والامر، إذ القدرة في مقام الامتثال على قصد الامر
معلولة للامر، فلا يمكن ان تؤخذ شرطا للامر وجزء علته، فان ذلك يستلزم الدور
والخلف كما هو واضح.
لكن الذي يهون الخطب ان شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها
المعنى الفلسفي للشرطية، بل المقصود بها المعنى الثاني، فالقدرة مصححة للامر
والتكليف، إذ بدونها يكون لغوا ومعها يخرج عن اللغوية، فهي شرط للتكليف
الصادر من المولى الحكيم، فلا يمتنع ان تكون ناشئة عن نفس التكليف، كما أنها
ثابتة، إذ ما هو شرط ومصحح للامر انما هو القدرة في مقام الامتثال لا في ظرف
الامر كي يدعي عدم القدرة عليه بدون الامر، والقدرة على قصد الامر في ظرف
الامتثال حاصلة لتحقق الامر.
وبالجملة: فاشكال الدور يبتني على الخلط بين الشرط بالمعنى
الفلسفي والشرط بمعناه الاخر. وبعد تبين الخلط والمراد بالشرط يتضح عدم
تأتي الاشكال، ويتبين ما هو محط النظر في الجواب المشار إليه فتبصر.
الثالث: وهو ما يرتبط بعدم القدرة على المأمور به أيضا. لكنه بتقريب
417

آخر، وهو ما أشار إليه في الكفاية أولا ثم أوضحه في طيات كلماته.
وبيانه: ان أخذ قصد الامر في متعلق الامر يستلزم عدم القدرة على
الاتيان بالفعل بقصد الامر. وذلك: لان قصد الامر إما ان يؤخذ بنحو الشرطية
للفعل أو بنحو الجزئية، بحيث يكون المأمور به مركبا من الفعل وقصد الامر.
فعلى الأول: فحيث إن الامر انما يتعلق بالمقيد بما هو مقيد بحيث لا
يكون الا أمر واحد متعلق بموضوع واحد وهو المقيد ولا ينحل الامر إلى أمرين
أحدهما يتعلق بذات الفعل والاخر بالخصوصية أو بتقيده بها، لان التجزء انما
يكون بالتحليل العقلي..
لم تكن ذات الفعل متعلقا للامر. وعليه فلا يمكن الاتيان بها بداعي
الامر المتعلق بها لعدم وجوده، والامر الموجود إنما يدعو إلى المقيد بما هو مقيد لأنه
متعلقه، لا إلى الذات إذ لم يتعلق بالذات، والمفروض ان المقيد - وهو الفعل بقصد
الامر - غير مقدور لتوقفه على تعلق الامر بذات الفعل حتى يصح الاتيان به
بداعي أمره.
وعلى الثاني: فالفعل وان كان بذاته متعلقا للامر لأنه جزء، والمفروض ان
الكل عين أجزائه فالامر المتعلق به متعلق بها، إلا أن في أخذه جزء محذورين:
أحدهما: لزوم تعلق الامر بغير الاختياري، وهو قصد القربة، لأنه إذا
كان جزء كان متعلقا للامر وهو غير اختياري، لان الإرادة ليست بالاختيار، وإلا
لزم التسلسل - وهو واضح - ويمتنع تعلق الامر بما هو غير اختياري.
ثانيهما: عدم القدرة على الاتيان بالمأمور به، وذلك لان المركب الارتباطي
لا يمكن الاتيان بكل جزء منه على حده ومستقلا، بل لا يتحقق امتثاله إلا
بالاتيان بكل جزء مع غيره من الاجزاء - ولذا لا يمكن قصد الامر في الاتيان
بالركوع وحده -.
وعليه، فلا يمكن الاتيان بذات الفعل بداعي وجوب الكل ما لم ينضم
418

إليه الجزء الاخر وهو قصد الامر، فيكون المأتي به هو الفعل بداعي الامر لداعي
الامر، وذلك محال لا من باب ان داعي الامر لا يمكن ان يتحقق بداعي الامر
- إذ ذلك بنفسه لا محذور فيه، ولذا يرتفع المحذور المذكور في صورة الالتزام
بتعدد الامر مع أنه يستلزم أن يكون داعي الامر عن الامر - بل من جهة ان
الامر لا يكون محركا نحو محركية نفسه، فإنه بوزان علية الشئ لعلية نفسه،
بيان ذلك: ان المفروض انه لا أمر إلا واحد، وعليه فإذا جئ بالصلاة - مثلا -
بقصد أمرها - وهو الامر بالمجموع المركب - وكان المحرك نحو ذلك هو الامر
بالمجموع، كان الاتيان بالصلاة بداعي الامر بالمركب منبعثا عن الامر
بالمركب، فالامر بالمركب يكون داعيا للاتيان بالصلاة بداعي الامر نفسه، فيلزم
أن يكون الامر داعيا لداعوية نفسه وهو محال بملاك علية الشئ لعلية نفسه (1).
وعلى هذا الوجه حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية وبين جهة المحالية بما
عرفته (2).
وهذا توضيح ما أفاده صاحب الكفاية ويقع الكلام في ما أفاده في موارد
ثلاثة:
الأول: فيما ذكره من عدم انحلال الامر بالمقيد وانبساطه، بل يكون امرا
واحدا متعلقا بالمقيد بما هو مقيد.
وتحقيق الكلام في صحة هذه الدعوى ليس محله ههنا، بل له محل آخر
في هذا العلم وهو مبحث البراءة والاشتغال عند البحث عن جريان البراءة مع
الشك في الشرطية، فان جريان البراءة الشرعية والاشتغال يبتني على تحقيق أن
الامر بالمشروط هل ينحل إلى أمرين ضمنيين، أمر بذات المشروط وأمر آخر
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 73 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 134 - الطبعة الأولى
419

بتقيده بالشرط، فيكون الحال في الشروط كالحال في الاجزاء، إلا أن الجزء يختلف
عن الشرط في أنه بذاته متعلق الامر الضمني دون الشط فان متعلق الامر
الضمني فيه هو التقيد به لا نفس الشرط؟. أو انه لا ينحل، بل لا يكون هناك
إلا أمر واحد متعلق بالمشروط بما هو كذلك، فنفس الفعل لا يكون مأمورا به
بالأمر الضمني أصلا، إذ المأمور به يكون أمرا بسيطا متعلقا لامر واحد ولا وجه
للانحلال حينئذ؟.
فعلى الأول: يتجه اجراء البراءة عند الشك في شرطية شئ، لأنه يعلم
تفصيلا بتعلق الامر بذات المشروط ويشك بدوا في تعلقه بالتقيد بالشرط، فيكون الشك شكا في التكليف وهو مجرى البراءة.
واما على الثاني: فلا مجال للبرائة، إذ العلم الاجمالي لا ينحل لفرض وحدة
الامر على تقدير تعلقه بالمشروط، فالامر دائر بين المتباينين، إما الامر بذات
المشروط، أو الامر بالمشروط بما هو كذلك، وهو مجرى الاشتغال.
وعليه، فالتزام المحقق الخراساني هنا بعدم انحلال الامر بالمشروط ينافي
التزامه بجريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية، وعلى كل فتحقيق الحال
فيما ذكره له محل آخر كما عرفت. والحق - كما سيأتي - هو الالتزام بالانحلال
ورجوع الشرطية إلى اخذ التقيد بالشرط جزء.
وعليه، فيبتني إمكان أخذه شرطا في متعلق الامر وعدمه على تحقيق
إمكان أخذه بنحو الجزئية أولا، إذ الملاك فيهما يتحد بعد ما عرفت من رجوع
الشرطية إلى جزئية التقيد بالشرط.
الثاني: فيما ذكره من عدم امكان تعلق الامر بقصد الامر لعدم اختياريته،
وهو ممنوع، إذ يرد عليه:
أولا: النقض بتعلق الالزام بقصد الامر ولو بحكم العقل، فان العبد يرى
نفسه ملزما بالاتيان بالفعل مع هذا القصد، بحيث يرى ان هناك فرقا بينه وبين
420

غيره من الواجبات غير العبادية في مقام الامتثال واسقاط التكليف، وإذا لم
يكن القصد اختياريا فكيف يتعلق به الالزام؟، سواء كان من العقل أو الشرع.
وثانيا: انكار عدم اختياريته،، فان ذلك يبتني على الخلط والاشتباه في
المراد منه، فان القصد يطلق ويراد به تارة: ما يرادف الإرادة والاختيار. وأخرى:
ما يرادف الداعي والباعث فيقال قصدي من هذا الفعل كذا. ومن الواضح ان
المراد بقصد امتثال الامر ليس الإرادة بل الداعي، بمعنى ان الاتيان بالمأمور
به حيث يترتب عليه موافقة الامر وامتثاله يكون الاتيان بداعي حصول الموافقة
والامتثال والتقرب إلى المولى ونحو ذلك.
فالمراد (1) بالقصد هو هذا المعنى لا الإرادة، لان امتثال الامر من
المسببات التوليدية فلا تتعلق بها الإرادة، بل انما تتعلق بالسبب بداعي تحقق
المسبب. ومن الواضح أن الداعي يمكن تعلق الامر به، فان الامر كثيرا ما يتعلق
بما يتقوم بالداعي كالتعظيم ونحوه مما يتقوم بالاتيان بالفعل بداعي التعظيم ولا
اشكال في اختياريته.
وثالثا: انكار عدم اختيارية الإرادة، والالتزام بما التزم به المتكلمون من
أن اختيارية الأشياء بالإرادة واختيارية الإرادة بنفسها بواسطة الالتزام بوجه
من الوجوه التي ذكروها لذلك، والا لوقع الاشكال في اختيارية الأفعال باعتبار
استنادها إلى ما ليس بالاختيار.
.

(1) علل سيدنا الأستاذ (دام ظله) في مجلس الدرس إرادة هذا المعنى من القصد دون الإرادة: بان الإرادة
انما تتعلق بفعل الشخص نفسه لا بفعل غيره، فلا معنى لتعلقها بالأمر. لأنه فعل المولى فلو أريد من
القصد الإرادة لم يكن معنى لقولهم قصد الامر.
لكنه عدل عن ذلك بعد مذاكرته، لان المفروض الاتيان بالفعل بقصد امتثال الامر لا بقصد الامر،
والامتثال أمر اختياري ومن فعل الشخص نفسه. مضافا إلى أن قصد الامر لا معنى له مطلقا، ولو أريد
من القصد الداعي، لان الامر لا يترتب على الفعل، والداعي ما يترتب خارجا على الفعل، وانما يكون
بوجوده الذهني سابقا عليه، فتأمل. (منه عفي عنه
421

وبالجملة: فلا محيص عن الالتزام باختيارية الإرادة بوجه من الوجوه،
وتحقيق ذلك موكول إلى محله في علم الكلام.
الثالث: فيما ذكره من عدم امكان الاتيان بالمركب من قصد الامتثال
بداعي امتثال أمره.
والذي علله المحقق الأصفهاني باستلزامه محركية الشئ لمحركية نفسه.
وقد جاء في تقريرات بحث السيد الخوئي (حفظه الله) نسبة هذا المحذور
إلى نفس المحقق الأصفهاني، وحمل كلام الكفاية على معنى آخر، ثم أورد عليه:
بان الامر بالكل ينحل إلى أوامر ضمنية تنبسط على الاجزاء وتتعدد بتعدد
الاجزاء، فيختص كل جزء بأمر ضمني لنفسه، ويكون محركا نحو الجزء وباعثا
إليه وعلى هذا فالامر بالمركب من الفعل وقصد الامتثال ينحل إلى أمرين
ضمنيين أحدهما يتعلق بذات الفعل والاخر يتعلق بقصد الامتثال، فيكون الامر
المتعلق بقصد الامتثال داعيا وباعثا إلى الاتيان بالفعل بقصد أمره الضمني
المتعلق به. فلا يكون الامر محركا نحو محركية نفسه بل محركا نحو محركية غيره،
فان الامر الضمني المتعلق بقصد الامتثال يكون محركا نحو محركية الامر الضمني
المتعلق بالفعل، فلا محذور (1).
ولكن صدور هذا الايراد من مثل السيد الخوئي عجيب جدا. بيان ذلك:
ان تمامية الايراد الذي ذكره تبتني على أمرين:
الامر الأول: الالتزام بانحلال الوجوب المتعلق بالمركب إلى أوامر ضمنية
يتعلق كل منها بجزء من أجزاء المركب، توضيح ذلك: انه وقع الكلام في أن الامر
بالمركب هل هو امر واحد بسيط متعلق بمجموع الاجزاء ولا يقبل التعدد
والانحلال بل ينسب إلى كل الاجزاء على حد سواء، ولا يقال عن كل جزء انه
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 163 و 170 - الطبعة الأولى
422

مأمور به، نظير الحمى التي تعرض على البدن، فإنه يتصف بها جميع اجزاء البدن
لكنها عرفا حمى واحدة، ولذا لا يقال لليد وحدها انها محمومة، بل يقال عن جميع
البدن انه محموم وان عرضت الحمى على كل الاجزاء؟ أو انه أوامر متعددة بتعدد
الاجزاء، بحيث يكون كل جزء متعلقا لامر مختص به، ويقال انه مأمور به
كالبياض الطارئ على الجسم الانساني فإنه يعرض على جميع الاجزاء ويوصف
به كل جزء، فيقال وجهه أبيض ويده بيضاء وهكذا، كما أنه يقال لمجموع جسمه
أنه أبيض؟.
فعلى الالتزام بعدم انبساط الامر بالمركب على الاجزاء، وانه ليس إلا
أمر واحد لا معنى لما ذكره من كون الحصة من الامر المتعلقة بقصد الامتثال
تكون محركة نحو محركية الحصة المتعلقة بذات الفعل، فلا يكون الامر محركا
نحو محركية نفسه، إذ لا يتحصص الامر وليس هو إلا امر واحد متعلق بالمركب
فلا يتجه الايراد. كما أنه لا يكفي في صحة الايراد الالتزام بتحصص الامر
وانحلاله وانبساطه على الاجزاء، بل يتوقف على ثبوت..
الامر الثاني: وهو الالتزام بان الامر الضمني المنحل عن الامر بالكل
يصلح للداعوية نحو ما تعلق به وإلا فلا يتم الايراد، لأنه وان كان كل من الفعل
وقصد الامتثال متعلقا للامر الضمني، لكن كلا منهما لا يصلح للمحركية كي
يكون أحدهما محركا نحو محركية الاخر، ويرتفع بذلك محذور محركية الشئ
نحو محركية نفسه، بل الذي يصلح للمحركية هو الامر الاستقلالي بالمجموع
فيعود المحذور.
والحاصل: ان الايراد يتم لو التزم بانبساط الوجوب وانحلاله وصلاحية
الامر الضمني للمحركية، إذ يقال حينئذ: ان كلا من الفعل وقصد الامتثال يكون
متعلقا للامر الضمني، ويكون الامر المتعلق بقصد الامتثال محركا نحو قصد
امتثال الامر الضمني المتعلق بالفعل عند اتيانه. فيكون الامر محركا نحو محركية
.
423

غيره لا نفسه كما عرفت تقريره.
إذا تبين ذلك، فبما ان الظاهر من كلام الكفاية هو عدم انبساط الوجوب
وانحلاله كما يشير إليه قوله: (ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل) (1).
وان كان هذا خلاف التزام المحقق الأصفهاني، فإنه يلتزم بانحلال
الوجوب وانبساطه (2).
وعليه، فان حملنا عبارة الكفاية على ما تقدم وكان الايراد عليه، كان
الايراد مبنائيا لما عرفت من انه يبتني على القول بانحلال الامر وصاحب
الكفاية لا يلتزم به. وإن لم يكن الايراد على صاحب الكفاية. بل كان على
المحقق الأصفهاني، بلحاظ ان المحذور منه نفسه لا مقصود الكفاية، فهو عجيب
جدا، لأنك عرفت أنه يبتني على الالتزام بداعوية الامر الضمني والمحقق
الأصفهاني لا يلتزم بها، بل انه يصرح في كلامه بابتناء المحذور على عدم داعوية
الامر الضمني، وذلك لا يفوت السيد الخوئي لاطلاعه على آراء أستاذه
الأصفهاني، وكذلك يكون نحو ايراده المزبور محل العجب منه، إذ كان المناسب
التصدي للمناقشة معه في هذه الجهة، أعني داعوية الامر الضمني وعدمها، لا
المناقشة معه في أصل المحذور مع اغفال جهة الداعوية بالمرة.
وإذا كانت النكتة - التي هي أساس المحذور - هي عدم صلاحية الامر
الضمني للداعوية، فلا بد لنا من تحقيق الحال في هذه الجهة، والذي يبدو لنا بع
التأمل موافقة المحقق الأصفهاني والالتزام بعدم داعوية الامر الضمني. والسر
في ذلك: ان الشئ انما يكون داعيا للعمل وباعثا نحوه، اما لكونه بنفسه أثرا
مرغوبا، فيقصد بالعمل ترتبه عليه. أو لكونه ذا أثر مرغوب، بحيث يكون تصور
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 73 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 264 - الطبعة الأولى
424

ترتبه على الفعل باعثا نحو العمل باعتبار ان لوجوده أثرا مرغوبا عقلا أو شرعا
أو عرفا أو نفسيا إلى غير ذلك.
وبالجملة: الشئ لا يصلح للداعوية ما لم يكن بوجوده ذا أثر محبوب،
أو كان هو بنفسه محبوبا، اما بدون ذلك فلا يصلح للداعوية نحو العمل بل
يكون العمل لغوا.
وعليه، فالامر الضمني انما يصلح للداعوية إذا كان لموافقته أثر مرغوب
شرعا أو عقلا من تحصيل مثوبة أو دفع عقوبة أو حصول التقرب ونحوها، اما
إذا لم يكن لموافقته أي أثر بل كانت هذه الآثار التي يترتب على الموافقة انما
يترتب على موافقة الامر بالكل لم يكن الامر الضمني صالحا للداعوية، والامر
كذلك، فان حصول الامتثال والطاعة والثواب انما يكون على موافقة الامر
بالمركب ولذا لا تتعدد الطاعة والمعصية ولا يتعدد الثواب والعقاب، بل ليس
هناك إلا إطاعة واحدة وعصيان واحد وثواب واحد وعقاب كذلك تترتب على
موافقة الامر بالمركب أو مخالفته، وليس لموافقة الامر بالجزء أي أثر من ذلك. ولا
يخفى ان موافقة الامر بالكل أمر بسيط غير قابل للتعدد لأنه ينتزع
عن الاتيان بجميع الأجزاء والشرائط، فهي تكون داعية للمجموع بما هو
كذلك وليست أمرا قابلا للتعدد كي يترتب الإطاعة والأثر على كل حصة بنفسها
فيصلح الامر بها للداعوية، لترتب الأثر على المجموع، فيكون كل جزء دخيلا
في ترتب الأثر، بل يترتب عليه بعض الأثر بنسبته. فلاحظ.
وبالجملة: مما ذكرنا يظهر ان الامر الضمني غير صالح للداعوية.
وعليه، فيتم المحذور المزبور - ويندفع الايراد -. وحاصله: ان الامر انما
يتعلق بمتعلقه ليكون داعيا إليه وباعثا نحوه، فإذا كان داعي امتثال الامر نفسه
جزء المتعلق كان الامر به للدعوة إليه مستلزما لان يكون الشئ داعيا لداعوية
نفسه.
425

وبهذا التقريب يكون الاشكال أجنبيا عن عدم القدرة على الامتثال وان
أمكن حمل عبارة الكفاية عليه وربطه بعدم القدرة لعدم الامر كما تقدم.
والمحصل: ان أخذ قصد الامر في متعلق الامر يستلزم داعوية الامر
لداعوية نفسه وهو محال، وهذا محذور تام يمنع من أخذ قصد الامر في متعلق
الامر ولا يهم فيه كونه مراد الكفاية أو لا، فلاحظ.
الرابع: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من استحالة أخذ قصد
امتثال الامر في متعلق الامر لاستلزامه المحذور في مقام الفعلية والانشاء
والامتثال. بيان ذلك: ان الأحكام الشرعية معلقة على موضوعاتها بنحو القضايا
الحقيقية، يعني ان الحكم يترتب على تقدير وجود موضوعه فلا يكون الحكم فعليا
الا بعد فعلية الموضوع وتحققه خارجا، فالموضوع في مرحلة ثبوت الحكم يكون
مفروض الوجود.
وعليه، فيمتنع أخذ ما يترتب على الحكم في وجوده في موضوع ذلك
الحكم، كالعلم بالحكم، فيستحيل تقييد موضوع الحكم بالعلم بالحكم بحيث لا
يترتب الحكم إلا في فرض تحقق العلم به. وذلك لان أخذ العلم بالحكم في
موضوع الحكم يستلزم أن تكون نسبة العلم بالحكم إلى الحكم نسبة العلة إلى
المعلول لما عرفت من أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه وعدم تحقق الحكم إلا
بتحقق موضوعه. فالحكم موقوف على العلم بالكم، ومن الظاهر أن العلم
بالحكم انما يثبت في فرض ثبوت الحكم، إذ مع عدمه لا معنى لتعلق العلم به،
فالعلم بالحكم موقوف على الحكم، فيكون الحكم موقوفا على العلم به والعلم به
موقوفا على الحكم وهو دور. فأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم يستلزم محذور
الدور. هذا بالنظر إلى مرحلة الفعلية، وقد اتضح عدم صحة أخذ العلم بالحكم
في موضوع الحكم نفسه.
واما بالنظر إلى مقام الانشاء فأخذ العلم بالحكم ممتنع أيضا لوجهين:
426

أحدهما: ان الانشاء جعل المنشأ وايجاده، فنسبة الانشاء إلى الحكم نسبة
الايجاد إلى الموجود، فإذا كان المنشأ مما يستحيل تحققه لما عرفت، امتنع ايجاده
وتحقيقه، إذ الايجاد لا يتعلق بالمحال، والمفروض ان الانشاء يتعلق بالأحكام الشرعية.
ثانيهما: ان باب انشاء الاحكام على موضوعاتها ليس من باب الفرض
والتقدير المحض كالخيال نظير: (أنياب الأغوال) كي يقال إنه خفيف المؤنة ولا
يستدعي أكثر من تصور الموضوع والحكم، بل إنما ينشأ الحكم على فرض وجود
موضوعه بلحاظ مرآتية هذا المفروض عن الخارج بحيث يكون الملحوظ حال
الانشاء ملحوظا طريقا للخارج فيرتب عليه الحكم.
وعليه، فلا بد ان يفرض وجود الموضوع ومنه العلم بالحكم في مقام
الانشاء، وفرض وجود العلم بالحكم فرض وجود نفس الحكم فيلزم أن يكون
الحكم مفروض الوجود قبل وجوده وهو محذور الدور وإن لم يكن دورا بنفسه.
هذا بالنسبة إلى العلم بالحكم ونحوه مما يترتب في وجوده على وجود
الحكم. وليس هذا هو محور الكلام بل هو تمهيد إلى ما نحن فيه من امتناع أخذ
قصد امتثال الامر في متعلقه. ولذلك شرع (قدس سره) بعد بيان ما عرفت في
بيان امتناع أخذ قصد الامر في متعلق التكليف. ولا بد قبل الشروع في بيان ما
أفاده في هذا الموضوع من بيان شئ، وهو: ان ما يكون في المرتبة السابقة على
الامر على نحوين: متعلق وموضوع. ويصطلح بالمتعلق على ما يكون التكليف
داعيا إليه وملزما للعمل والاتيان به، نظير الصلاة في: (صل)، فان الامر يدعو
إليها ولا بد من اتيانها بمقتضى الامر. ويصطلح بالموضوع على ما يكون في رتبة
سابقة على الامر ولا يدعو الامر إليه ولا يلزم الاتيان به، بل الحكم يحصل في
فرض وجوده سواء كان غير اختياري، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة فإنه تجب
الصلاة في الوقت، فالذي لا بد من الاتيان به هو ايقاع الصلاة في الوقت اما
427

نفس الوقت فليس كذلك، أو كان اختياريا كالعقد بالنسبة إلى وجوب الوفاء
بالعقد، فان المتعلق هو الوفاء، بمعنى انه إذا حصل العقد فيلزم الوفاء به، اما
نفس العقد فلا يلزم إتيانه وتحصيله بل الحكم يثبت على تقدير حصوله، ويعبر
عن هذا بمتعلق التكاليف، فان العقد متعلق الوفاء والوفاء متعلق
التكليف الوجوبي.
ولعل هذا الفصل بين هذين النحوين والاصطلاح عليهما بما عرفت من
مبتكرات المحقق النائيني (قدس سره)، إذ لم نعثر في كلام غيره على هذا
التفكيك، وكثيرا ما يقع الخلط في كلام الاعلام، فيعبر عن المتعلق بالموضوع.
وعلى كل فقد عرفت في مقدمة كلامه ان ما ينشأ عن الحكم يمتنع أخذه
في موضوع الحكم، لان الحكم انما يثبت في فرض وجود موضوعه، فالموضوع
يكون مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم. اما أخذه في متعلق الحكم فلا
محذور فيه من هذه الجهة، إذ المتعلق ليس مفروض الوجود كما لا يخفى.
وعليه، فما ارتباط ما ذكره من امتناع أخذ العلم بالحكم ونظيره في
موضوع الحكم بما هو محل البحث من أخذ قصد الامتثال في متعلق الحكم؟.
والجواب: ان الكلام في امتناع أخذ قصد الامتثال ليس مركزا على نفس
قصد الامتثال ومنظورا فيه ذلك كي يقال ان نسبة قصد الامتثال إلى الحكم نسبة
المتعلق لا نسبة الموضوع، بل هو مركز على الامر نفسه، وذلك لان فرض أخذ
قصد امتثال الامر في متعلق الحكم يلازم فرض كون الامر موضوعا لأنه متعلق
لمتعلق التكليف، لأنه متعلق لقصد الامتثال الذي هو متعلق الامر، وقد عرفت أن
مثل هذا يكون موضوعا للحكم، فقصد الامتثال وان كان متعلقا للحكم لكن
الامر الذي هو متعلق قصد الامتثال موضوع للحكم فالكلام فيه. فجهة ارتباط
ما ذكره أولا بمحل البحث هو استلزام أخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر
أخذ ما يتفرع على الامر في موضوع الامر، فموضوع الحديث في قصد الامتثال
428

هو: (الامر) وهو السر في الامتناع.
وإذا تبين ذلك، فقد أفاد (قدس سره): ان أخذ قصد امتثال الامر في
متعلق الامر ممتنع في مقام الانشاء ومقام الفعلية ومقام الامتثال. وذلك..
اما امتناعه في مقام الانشاء فلما عرفت من انه لا بد من فرض وجود
الموضوع في ذلك المقام. فيلزم فرض وجود الامر لأنه موضوع الحكم قبل
وجوده، وهو يستلزم تقدم الشئ على نفسه.
واما امتناعه في مقام الفعلية، فلما عرفت من أن فعلية الحكم تتوقف على
فعلية موضوعه، فإذا كان الامر دخيلا في موضوع الامر كانت فعلية الامر
متوقفة على فعليته، وهو يستلزم تقدم فعليته على فعليته وهو محال.
واما امتناعه في مقام الامتثال، فلان قصد الامتثال متأخر بالطبع عن تمام
الاجزاء، لأنه يكون بها فيقصد بالاجزاء قصد الامتثال، فإذا فرضنا ان من
الاجزاء قصد امتثال نفس الامر، فلا بد أن يكون المكلف في مقام امتثاله قاصدا
للامتثال قبل قصد امتثاله، فيلزم تقدم قصد الامتثال على نفسه.
فالمحذور المستلزم لاخذ قصد امتثال الامر في متعلقه في جميع المراحل،
هو لزوم تقدم الشئ على نفسه وهو محال كالدور (1).
هذا محصل وتوضيح ما أفاده المحقق النائيني، والذي يظهر ان عمدة
المحذور هو أخذ قصد امتثال الامر بلحاظ مرحلة الفعلية، وان تعليق فعلية
الحكم على فعلية ما لا يكون إلا به هو الأساس في الاشكال، إذ مقام الانشاء
يتفرع عليه كما عرفت. فان المحذور كما عرفت هو انه لا بد من فرض الموضوع
مطابقا لما هو الواقع في مقام الانشاء، وبما أن الواقع محال لم يمكن فرض ما هو
يطابقه لعدم تحققه، وما هو مفروض لا يكون مرآتا ومطابقا للواقع.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 105 - 108 - الطبعة الأولى.
429

وقد استشكل المحقق العراقي (رحمه الله) فيما افاده بان هذا الكلام إنما
يتأتى بالنسبة إلى ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف لا ما يكون متعلقا للتكليف
بقصد الامتثال، إذ مثله لا يكون مفروض الوجود، بل فرض وجوده مساوق
لسقوط الامر لا فعليته (1).
وأنت خبير بان نكتة المحذور في كلام المحقق النائيني والتي أوضحناها
أولا مغفول عنها في كلام المحقق العراقي. فان المحذور نشأ من جهة نفس الامر
باعتبار أنه يكون متعلق متعلق التكليف لا من جهة قصد الامتثال نفسه،
فالاشكال فيما افاده بهذا النحو بعيد عن كلام النائيني ومحط نظره. فالذي لا بد من
معرفته لتحقيق صحة ما أفاده المحقق النائيني (رحمه الله) هو انه هل كل ما
يكون متعلقا لمتعلق التكليف ولا يدعو الامر إليه لا بد من فرض وجوده وكونه
مفروض الوجود في فعلية الحكم؟ أو لا.
فإذا ثبت عدم الملازمة بين كونه متعلقا لمتعلق التكليف وفرض وجوده في
فعلية الامر، وامكان أن يكون أمر لا يدعو التكليف إليه ولا يحرك نحوه وليس
مفروض الوجود قبل الحكم، لم يثبت ما أفاده لان الامر وان كان متعلقا لمتعلق
التكليف ولا يصلح التكليف للداعوية إليه لأنه فعل المولى لا العبد إلا أنه لا
يلزم أن يكون مفروض الوجود وتكون فعلية الحكم متوقفة على فعليته.
وان ثبتت الملازمة بنحو الكلية، فالامر كما أفاده من امتناع أخذ قصد
الامتثال في متعلق الامر لما ذكر من لزوم تقدم الشئ على نفسه فمعرفة صحة
ما أفاده (قدس سره) تبتني على تحقيق هذه الجهة. هذا بالنسبة إلى مقام الفعلية.
واما بالنسبة إلى مقام الامتثال. فما أفاده من محذور أخذ قصد الامتثال
بالنسبة إليه لا يرتبط بمحذور مقام الفعلية، فإنه مرتبط بنفس المتعلق، أعني قصد
.

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 76 - الطبعة الأولى
430

الامتثال لا متعلقه أعني الامر.
ولكنه غير وجيه، فان قصد امتثال الامر الذي يؤخذ جزء إما ان يراد منه
امتثال الامر الضمني المتعلق بالاجزاء أو امتثال الامر الاستقلالي النفسي
المتعلق بالمركب.
فعلى الأول: لا يلزم ما ذكره من تقدم الشئ على نفسه فان قصد
الامتثال المأخوذ جزء هو قصد امتثال الامر الضمني المتعلق بذات الفعل، وقصد
امتثال الامر الذي يؤتي بالمجموع معه هو قصد امتثال الامر الاستقلالي المتعلق
بالكل، بمعنى ان الفعل يؤتى به بداعي أمره الضمني بقصد امتثال الامر بالكل
المتعلق به وبقصد امتثال امره فالذي يكون جزء وفي مرتبة الاجزاء غير الذي
يكون متأخرا عنها. فلم يفرض الشئ في رتبة سابقة عليه.
وعلى الثاني: فالمحذور انما يمكن القول به لو فرض ان قصد امتثال
الامر المعتبر واحد لا غير، فيقال ان اعتباره في مرتبة الاجزاء لا يتلاءم مع كونه
في رتبة متأخرة عن الاجزاء، إذ الفرض ان الاجزاء بمجموعها يؤتى بها بقصد
الامر. ولا ملزم بذلك، بل يمكن ان يدعي ان هناك قصدين لامتثال الامر
أحدهما متعلق للامر وفي مرتبة الاجزاء، والاخر يؤتى بالكل معه، فما هو في مرتبة
الاجزاء فرد آخر غير الذي يؤتى بالاجزاء معه. فلا يلزم ان يتقدم الشئ على
نفسه لتعدد الفرد وكون المتقدم فردا غير المتأخر، فيؤتى بالفعل بداعي الامر
بداعي الامر.
نعم، في ذلك محذور من جهة أخرى، وهي ما ذكرناها من استلزام كون
الامر داعيا لداعوية نفسه، ولكنه كلام آخر، والمهم بيان ان جهة المحذور ليست
ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من استلزام فرض الشئ سابقا على
نفسه.
431

وبالجملة: فأخذ قصد الامتثال لا يستلزم ما أفاده بالنسبة إلى مقام
الامتثال. والمهم تحقيق ما افاده في مقام الفعلية، وقد عرفت أنه يبتني على امرين:
الأول: ان كل ما يؤخذ في متعلق الحكم ولم يكن الامر داعيا إليه كان
مفروض الوجود: الثاني: ان كل ما هو مفروض الوجود يكون الحكم متأخرا عنه بحيث
لا يصير فعليا إلا بعد وجوده.
فإنه بتمامية هذين الامرين يثبت توقف فعلية الامر على الامر وهو محال.
ولا يخفى ان كلا الامرين محل بحث وكلام، فان تسليم الأول لا يستلزم تسليم
الثاني. والبحث في الامر الثاني ليس محله ههنا، بل محله مبحث الواجب المعلق،
وقد التزم به - كما التزم بالأول - المحقق الثاني، ولذلك بنى على أن وجوب الحج
مثلا لا يصير فعليا الا بحلول وقته للغوية فعلية الوجوب قبل الوقت مع عدم
امكان الامتثال إلا في الوقت.
وانما البحث مع المحقق (قدس سره) في الامر الأول - بفرض تسليم
الامر الثاني له وعدم مناقشته فيه لو ثبت الامر الأول -، فيقع الكلام فعلا في أن
كل ما يكون مأخوذا في متعلق الخطاب ولم يصلح الامر للداعوية إليه يلزم
أن يكون مفروض الوجود، فتتوقف فعلية الامر على فعليته، أو ليس الامر
كذلك، بل يمكن ان يتصور ما هو مأخوذ في متعلق الامر وليس الامر بصالح
للدعوة إليه ولم يكن مفروض الوجود؟.
ولا يخفى ان الكلام يقع أولا بلحاظ مقام الثبوت، اما مقام الاثبات فهو
متفرع على مقام الثبوت، فان ثبتت الملازمة بنحو الكلية فلا مجال لتحرير الكلام
اثباتا، واما إذا لم تثبت الملازمة الكلية فلا بد حينئذ من لحاظ الدليل على الحكم
واستظهار فرض وجود الشئ وعدمه. فالكلام بدوا في مرحلة الثبوت ومعرفة
وجود الملازمة كليا أو جزئيا.
432

وقد جزم السيد الخوئي بالثاني، فذهب إلى تصور ما لا يكون مفروض
الوجود مع أخذه في متعلق الخطاب وعدم صلاحية الامر للباعثية نحوه، بتقريب:
ان كون الشئ مفروض الوجود اما أن يكون لاجل قيام البرهان العقلي عليه
كالأمور غير الاختيارية، أو لظهور الدليل المتكفل لبيان الحكم في ذلك، ومع
عدم البرهان العقلي وظهور الدليل لا وجه لكون الشئ مفروض الوجود كما
لا يخفى (1).
ويرد عليه: بان مفروض الكلام اما أن يكون مرحلة الثبوت، بمعنى كون
البحث في ثبوت أصل الدعوى بان كل ما يؤخذ في متعلق الخطاب ولم يصلح
للداعوية إليه يكون مفروض الوجود مع غض النظر عن مقام الاثبات والدليل.
واما أن يكون مرحلة الاثبات وما يستفاد من دليل الحكم.
فإن كان فرض البحث مع المرحوم النائيني (قدس سره) في مرحلة
الثبوت - كما هو اللازم - فذلك لا يتلاءم مع ما ذكره من أن استفادة فرض
الوجود تكون بالبرهان العقلي وبظهور الدليل، فان البحث الثبوتي لا يلاحظ
فيه الدليل الخارجي وما يستفاد منه في موضوع الكلام، لأنه بحث عن الضرورة
والامكان بحسب ما يدركه العقل، وعالم الأدلة والنصوص مغفول عنه في هذا
البحث بالمرة، لأنها ترتبط بمقام الكشف عن الواقع وتشخيص الثابت فيه
واثباته، وان كا فرض البحث في مرحلة الاثبات بدعوى أن معرفة كون الشئ
مفروض الوجود والكشف عنه تكون تارة بواسطة برهان العقل. وأخرى
بواسطة ظهور الدليل الشرعي في ذلك ولا طريق آخر لتشخيص ذلك، فله وجه
ولا اشكال فيه من هذه الجهة - أعني جهة أسلوب الايراد -. لكن يورد عليه:
بان ما ينظر إليه من البرهان العقلي في الأمور غير الاختيارية لا يفي باثبات
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 158 - الطبعة الأولى
433

فرض الوجود في هذه الأمور. وذلك لان محصل الدليل العقلي هو لزوم التكليف
بما لا يطاق. بتقريب: ان التكليف اما ان يتحقق عند وجود الامر غير
الاختياري، كالوقت بالنسبة إلى وجوب الصلاة. أو قبله مع اشتراطه في الفعل.
فالأول هو المطلوب وهو معنى فرض الوجود وتوقف فعلية الحكم على تحقق ذلك
الامر. والثاني يستلزم التكليف بما لا يطاق، لان اشتراط الوقت ونحوه من
الأمور غير الاختيارية مع تحقق الحكم قبل حصولها يستلزم التكليف وتعلق
الحكم بغير المقدور فعلا، وهو محال على المولى الحكيم. فلا بد ان يترتب الحكم
على تحققه وذلك هو معنى فرض الوجود.
وأنت خبير: بان القدرة على المكلف به من الشرائط العامة المأخوذة في
موضوع الحكم على رأي الأكثر - ومنهم السيد الخوئي - فالحكم لا يصير فعليا
بدون القدرة على امتثاله. وعليه فإذا كان منشأ اخذ الأمور غير الاختيارية
مفروض الوجود في موضوع الحكم هو استلزام عدم ذلك للتكليف بغير المقدور،
كان أخذ شرط القدرة على الامتثال في موضوع الحكم ومفروض الوجود كاف
عن اخذ كل منها كذلك، إذ بدونها لا تحصل القدرة، فعدم التكليف يكون لاجل
عدم القدرة لا من جهة عدم الوقت مثلا، وان كان تحقق الوقت ملازما لحصول
القدرة، لكنه مع اخذ القدرة في الموضوع لا حاجة لاخذ الوقت ونحوه مما تتوقف
عليه القدرة في الموضوع أيضا. ولا يخفى ان الحكم وإن لم يحصل الا بحصولها
لتوقف القدرة عليها لكنه لا يستلزم ذلك كونها مأخوذة في الموضوع ومفروض
الوجود، بل تكون من ملازمات الموضوع لا من مقوماته، فلا يترتب عليها آثار
الموضوع وفرض الوجود في غير المقام.
وبالجملة: لا وجه ولا ملزم لاخذ الأمور غير الاختيارية في موضوع الحكم
بملاك لزوم التكليف بما لا يطاق بدونه بعد كون القدرة عند هذا القائل من
الشرائط العامة المأخوذة في موضوع الحكم، لان تحقق هذه الأمور محصل للقدرة
434

لا أكثر، فاشتراط القدرة يكفي عن اشتراطها، فتدبر.
فالأولى: في مقام الايراد على المحقق النائيني - في ذهابه إلى أن كل قيد
وارد في الخطاب، ولم تكن للامر صلاحية الدعوة إليه، يكون دخيلا في الموضوع
ويؤخذ مفروض الوجود - ان يقال: ان كون الشئ مفروض الوجود ودخيلا في
الموضوع لا بد أن يكون له منشأ يدعو إلى ذلك، وهو لا يخلو عن أحد وجهين:
إما أن يكون لاجل مطابقة الامر للإرادة، أو لاجل ترتب أثر مرغوب على ذلك.
بيان ذلك: انه قد ذكر - كما عليه المحقق النائيني (رحمه الله) - ان القيود
والأوصاف المرتبطة بالفعل الخارجي على نحوين. نحو يكون مقوما لاتصاف الفعل
بالمصلحة، بمعنى انه بدونه لا يكون الفعل ذا مصلحة نظير حدوث المرض
بالنسبة إلى الدواء فإنه بدون المرض لا يكون الدواء ذا مصلحة. ونحو يكون
منشأ لفعلية المصلحة وتحققها، بمعنى ان ترتب المصلحة فعلا يكون متوقفا عليه،
وان كان أصل ثبوت المصلحة في الفعل حاصلا بدونه، وذلك نظير إعداد الدواء
بطبخه أو نحو ذلك، فإنه بدون الاعداد لا تترتب عليه المصلحة فعلا وان ترتب
عليه شأنا.
وبالجملة: فالقيود منها ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة. ومنها
ما يكون دخيلا في فعلية المصلحة. فإرادة الفعل لا تتحقق الا بعد اتصافه
بالمصلحة، فهي متأخرة عن وجود النحو الأول من القيود، بمعنى ان تحققها انما
يكون بعد تحقق هذه القيود وبدونها لا تتعلق الإرادة بالفعل لخلوه عن المصلحة.
بخلاف النحو الثاني فان إرادة الفعل تكون محركة نحو الاتيان بها وتحقيقها،
كي تصير المصلحة فعلية ولا يتوقف حصول الإرادة على حصولها، وهذا أمر عرفي
وجداني لا اشكال فيه.
وحينئذ نقول: بان الامر حيث يكون على طبق الإرادة وينبعث عن تعلق
الإرادة بالفعل، بل هو الإرادة نفسها - على قول - فلا بد أن يكون جعله في
435

المورد التي تتحقق فيه الإرادة، فهو بالنسبة إلى القيود التي تكون دخيلة في
اتصاف الفعل بالمصلحة متأخر، بمعنى ان اعتباره وفعليته في فرض وجودها
وتحققها بخلاف القيود التي تكون دخيلة في فعلية المصلحة، فإنها تكون مأخوذة
في متعلق الامر ويكون الامر باعثا نحوها. فكون الشئ مأخوذا مفروض
الموجود من باب مطابقة الامر للإرادة ومن جهة كونه دخيلا في اتصاف الفعل
بالمصلحة.
وإذا لم يعترف بهذا المعنى، وقيل بان الاحكام قد لا تكون تابعة للمصلحة
في متعلقها كي يتأتى ما ذكر، ففرض الوجود في قيد وتأخر الامر عنه وعدم تحققه
بدونه لا بد وأن يكون بلحاظ ترتب أثر عقلائي والا لم يكن له داع لأنه ذو مؤنة
زائدة، وذلك نظير ايجاب الصلاة بالنسبة إلى الوقت، فإنه يتصور لفرض الوجود
في الوقت بالنسبة إلى الحكم وتوقف الحكم عليه أثر، وهو عدم صيرورة المكلف
قبل الوقت في عهدة التكليف، فإنه إذا تحقق الحكم قبل الوقت مع قيدية الوقت
في المتعلق يكون المكلف قبل الوقت من حين ثبوت الحكم في عهدة التكليف.
بخلاف ما إذا كان التكليف مترتبا على حصول الوقت، فإنه لا يكون قبل
الوقت في العهدة إذ لا تكليف، فترتيب الحكم على الوقت واخذه مفروض
الوجود يكون لاجل الأثر المترتب عليه وهو عدم كون المكلف قبل الوقت في
عهدة التكليف. اما مع عدم ترتب أثر على أخذه كذلك بالمرة فلا وجه له لأنه
يكون عملا لغوا.
والحاصل: ان كون القيد مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم اما أن يكون
منشؤه مطابقة الامر للإرادة، فيتحقق ذلك فيما كان دخيلا في اتصاف
الفعل بالمصلحة من القيود. واما أن يكون المنشأ ترتب أثر عقلائي عليه فينتفي
بالنسبة إلى ما لا يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كما ينتفي فيما لا أثر
على فرض وجوده في ترتب الحكم، لعدم المنشأ لاخذه كذلك. ومن هذا القبيل
436

نفس الامر، فإنه ليس دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة، بل هو ينبعث عن
المصلحة، لا ان الفعل به يكون ذا مصلحة، كما أنه لا يتصور لاخذه مفروض
الوجود أثر، فان الأثر المذكور للوقت لا يتأتى هنا، إذ لا يمر زمان على المكلف
يكون في عهدة التكليف قبل حصول القيد وهو الامر كما هو واضح جدا. ولا
يعرف لاخذه كذلك أثر آخر. وعليه فلا وجه لاخذ الامر مفروض الوجود وان
كان متعلقا لمتعلق التكليف.
والخلاصة: انه قد ظهر انه ليس كل ما يكون متعلقا لمتعلق التكليف
يكون مأخوذا مفروض الوجود ويصطلح عليه بالموضوع ومن ذلك نفس الامر،
فكونه متعلقا لمتعلق التكليف لا يستلزم اخذه في الموضوع بعد عدم المنشأ لذلك.
ومنه يظهر عدم تحقق المحذور في مقام الانشاء لتفرعه على ثبوت المحذور في مقام
الفعلية، وقد عرفت عدم ثبوته. وبذلك يتبين عدم تمامية الوجه الذي أقامه
المحقق النائيني على محالية أخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر. فتدبر جيدا
ولاحظ.
الخامس: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في حاشيته على
الكفاية وفي مقام بيان مراد الكفاية وهو محذور الخلف. بتقريب: ان متعلق الامر
متقدم بالطبع على نفس الامر تقدم المعروض على عارضه، لا بمعنى ان نسبته
إليه كذلك بلحاظ وجوده الخارجي، فان المتعلق بوجوده الخارجي معلول للامر
لا أن الامر يعرض عليه بوجوده الخارجي، بل المقصود من التقدم الطبعي هو
ان المتأخر لا يمكن فرض وجوده بلا فرض تقرر للمتقدم ولو ذهنا ولا عكس
، ولا يخفى انه لا يمكن فرض ثبوت الامر بدون المتعلق الذي يرد عليه الامر
- فالمتعلق له تقرر ونحو ثبوت ما في مرتبة سابقة على الامر -. بخلاف نفس
المتعلق فإنه يمكن فرض وجوده خارجا بلا أن يكون هناك امر، بل يوجد
بأسبابه التكوينية. وهذا نظير العلم والمعلوم، فإنه لا يمكن فرض تحقق العلم
437

بلا تحقق المعلوم وثبوته، ويمكن فرض ثبوت ذات المعلوم بلا ان يثبت العلم به.
وعلى كل: فمتعلق الامر متقدم طبعا على الامر، وقصد الامر حيث أنه معلول
الامر يكون متأخرا عن الامر تأخر المعلول عن العلة في الرتبة، فان داعوية
الامر فرع وجود الامر، فأخذه في متعلق الامر يستلزم اخذ المتأخر متقدما وفي
رتبة سابقة عليه وهو خلف.
وقد أجاب عنه: فان قصد الامر ليس معلولا للامر بوجوده الخارجي بل
للامر بوجوده العلمي - فان ذلك مقتضى برهان السنخية بين المعلول والعلة -،
فقصد الامر حيث إنه من الأمور النفسانية فيمتنع ان يؤثر فيه ما هو خارج عن
دائرة النفس وحيزها، بل لا بد أن يكون المؤثر أمرا في حدود النفس، فيتعين أن يكون
هو العلم بالأمر لا نفس الامر، فإنه موجود خارج عن أفق النفس. كما
يعضده الوجدان، فان القصد والدعوة انما تتحقق بعد الاطلاع على الامر
وانكشافه لا بمجرد وجوده خارجا، ولو لم يطلع عليه، نظير الخوف من الأسد،
فإنه انما يحصل وتترتب عليه آثاره إذا علم بوجود الأسد في الدار، ومع عدم العلم
لا يكون للخوف أي أثر، بل الانسان يكون على استقراره النفسي وان كان
الأسد موجودا في الدار حقيقة، فهو متأخر عنه رتبة، والامر الذي يفرض قصد
الامر في متعلقه هو الامر بوجوده الخارجي فلا يلزم الخلف ولا الدور، لان ما هو
متأخر عن قصد الامر غير ما يكون قصد الامر متأخرا عنه، كما أن ما يكون
متوقفا على قصد الامر غير ما يكون قصد الامر متوقفا عليه. فتدبر (1).
هذا توضيح ما أفاده المحقق الأصفهاني، وقد عرفت أنه لا يرتبط
بمحذور الدور المزبور، بل هو تقرير لمحذور الخلف. والسر في
ذكرنا له مع جوابه مع أنه تفسير لمطلب الكفاية وقد أشرنا إليه، هو معرفة
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. 1 / 131 - الطبعة الأولى
438

ارتباطه بما ذكره المحقق العراقي محذورا في المقام والتزم به.
فقد ذكر المحقق العراقي لاخذ قصد الامر في متعلق الامر محذورا بنى
عليه والتزم به. وهو وان اختلف صورة عما ذكره المحقق الأصفهاني إلا أنه في
الحقيقة يرجع إليه وهما بملاك واحد.
ومحصل ما أفاده المحقق العراقي هو: ان موضوع الامر متقدم على الامر
رتبة، فهو في اللحاظ متقدم بحيث يرى أنه متقدم على الامر. وقصد الامر حيث إنه
معلول للامر يرى متأخرا عن الامر، بمعنى انه في الذهن وبحسب اللحاظ
يرى أنه متأخر عن الامر، فيكون متأخرا عن موضوع الامر بحسب اللحاظ
بمرتبتين، فإذا اخذ في موضوع الامر لزم ان يلحظ متقدما على نفسه، فيلزم تقدم
المتأخر بحسب اللحاظ وذلك امر ممتنع، إذ يمتنع ان يرى الشئ الواحد متأخرا
ومتقدما، وقد ذكر ان ذلك لا يختص بقصد الامر بل بكل ما ينشأ عن الامر
كالعلم بالأمر ونحوه.
ثم ذكر ايراد المحقق الأصفهاني: بان قصد الامر معلول للامر بوجوده
العلمي ومتأخر عنه، والمفروض انه يقصد اخذه في موضوع الامر بوجوده
الخارجي فلا يلزم تقدم المتأخر لحاظا كما عرفت تقريبه.
وقد أجاب عنه - كما في تقريرات الآملي -: بان قصد الامر وان كان
معلولا للامر بوجوده العلمي، إلا أن العلم به لم يؤخذ بنحو الموضوعية، بل بنحو
الطريقية إلى الواقع ومن باب انكشاف الواقع به بحيث يكون العلم في مقام
الدعوة فانيا ومرآتا، ولا يرى المكلف المنقاد من نفسه إلا أنه منبعث عن نفس
الامر الثابت في الخارج، نظير حدوث الخوف في نفسه بعد علمه بوجود الأسد،
فإنه لا يلتفت إلى علمه بحيث لو سئل عن سبب خوفه لأجاب وجود الأسد لا
العلم به. وإذا كان دعوة الامر وقصده ناشئة في الحقيقة عن نفس الامر الخارجي
وكان العلم طريقا إليه لا أكثر، عاد المحذور، فان قصد الامر يكون متأخرا عنه
439

بوجوده الخارجي فاخذه في موضوعه يستلزم تقدم المتأخر بحسب اللحاظ وهو
خلف (1).
ولم يتعرض في المقالات إلى الاشكال ودفعه، وانما أشار إلى دفعه بما افاده
من أن العلم بالأمر متأخر بحسب اللحاظ عن الامر فكل ما يكون من شؤون
العلم ومتأخرا عنه كداعوية الامر، يكون متأخرا قهرا عن الامر كما لا يخفى (2).
والانصاف: تمامية ايراد المحقق الأصفهاني وعدم صحة الجواب المذكور،
فإنه ناشئ عن الغفلة عن نكتة دقيقة في المقام. بيان ذلك: ان ما يؤخذ في متعلق
الاحكام هو المفاهيم والطبائع لا المصاديق الخارجية كما لا يخفى. والعلم الذي
يكون فانيا في متعلقه ومرآتا له بحيث لا يلتفت إليه انما هو مصداق العلم والفرد
الخارجي منه، اما مفهوم العلم وطبيعته فليس كذلك، فان العلم الطريقي بحسب
مفهومه ليس فانيا في المعلوم ومرآتا له، بل يكون متعلقا للنظر الاستقلالي ولتوجه
النفس إليه بخصوصه. وهذا هو الذي يؤخذ في موضوعات الاحكام، فإذا قيل:
(إذا علمت بوجود زيد تصدق بدرهم) فان موضوع وجوب التصدق هو العلم
بوجود زيد بنحو الطريقية - مثلا -، إلا أنه في مرحلة موضوعيته لا يكون فانيا
في متعلقه ومرآتا له، بل يكون ملحوظا بنحو الاستقلال، والذي يكون فانيا في
متعلقه هو مصداق العلم وفرده الخارجي.
وعليه، فقصد الامر إذا ثبت انه معلول للامر بوجوده العلمي فيكون
مأخوذا في المتعلق بهذه الخصوصية، فالمتعلق يكون هو الفعل بقصد الامر المعلوم،
ولا يخفى ان العلم المأخوذ في المتعلق ليس مصداق العلم كي يقال إنه فان في
متعلقه، بل المأخوذ مفهومه وطبيعيه، وهو لا يفنى في متعلقه كما عرفت، فالقصد
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 229 - الطبعة الأولى.
(2) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 75 - الطبعة الأولى
440

متفرع في مرحلة موضوعيته عن الامر المعلوم لا الامر الخارجي، فلا خلف.
فالجواب ناشئ عن الخلط بين مفهوم العلم ومصداقه.
ونظير هذا الاشتباه ما جاء عن المحقق النائيني من عدم امكان اخذ
العلم الطريقي تمام الموضوع، لان العلم الطريقي فان في متعلقه، واخذه موضوعا
يستلزم لحاظه الاستقلالي وهو ممتنع، لاستلزامه اجتماع اللحاظ الآلي
والاستقلالي (1).
فإنه خلط بين مفهوم العلم ومصداقه، فان العلم الملحوظ آليا هو العلم
الخارجي ومصداق العلم لا مفهومه، والمأخوذ في موضوع الحكم هو مفهوم العلم
الطريقي وهو لا يلحظ آليا أصلا. فلا يستلزم كونه تمام الموضوع اجتماع
اللحاظين الاستقلالي والآلي فيه. وتوضيح الحال في محله.
وبالجملة: فما أفاده المحقق الأصفهاني في دفع المحذور لا نرى فيه
اشكالا ولا نعلم له جوابا. فيتعين أن يكون المحذور لاخذ قصد الامر في متعلق
الامر هو استلزام داعوية الامر لداعوية نفسه. فتدبر.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو: ان كلام التقريرات - أعني تقريرات الآملي -
يظهر منه ذكر المحذور بنحو آخر، وهو ان موضوع الامر حيث كان متقدما
في الرتبة على الامر لزم أن يكون لحاظه متقدما على الامر، وحيث إن قصد الامر
متأخر عن الامر رتبة كان لحاظه متأخرا عن لحاظ الامر، فأخذه في الموضوع
يستلزم تقدم لحاظه مع فرض تأخره، فجهة المحذور هو تقدم وتأخر نفس اللحاظ
لا الملحوظ.
ولا تخفى ركاكة هذا البيان، فان توقف الامر على موضوعه لا يستلزم أن يكون
لحاظ الموضوع قبل لحاظ الامر، كما أن معلولية قصد الامر لنفس الامر
.

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 2 / 5 - الطبعة الأولى
441

لا يستلزم تأخر لحاظه عن لحاظ الامر، فان المعلولية انما تستلزم التأخر الرتبي
لا اللحاظي، إذ يمكن لحاظ المعلول قبل لحاظ العلة، بل بدون لحاظ العلة بالمرة
وهذا أمر واضح.
ولكن عبارة المقالات تشير إلى ما ذكرناه في بيان المحذور من كون
التقدم والتأخر في الملحوظ لا اللحاظ فتدبر.
هذا كله في أخذ قصد الامر في متعلقه بنفس ذاك الامر. اما اخذه فيه بأمر
آخر: اخذ قصد الامر في متعلقه بأمر آخر
فقد قيل: بجوازه عقلا، فيجوز ان يتعلق الامر بذات الفعل وأمر آخر.
بتعلق بالفعل بداعي أمره الأول، إذ لا يرد عليه شئ من المحاذير السابقة كما
لا يخفى على المتأمل فلا حاجة إلى بيان ذلك (1).
إلا أن صاحب الكفاية (رحمه الله) استشكل في صحة ذلك عقلا. وانتهى
باشكاله إلى منعه بحكم العقل أيضا.
وتقريب ما أفاده: ان الغرض من الامر الثاني انما هو جعل الامر الأول تعبديا،
بمعنى عدم سقوطه وحصول الغرض منه بدون قصد القربة وليس له داع غير
ذلك كما هو الفرض. وعليه فإذا أتى العبد بالفعل بدون قصد امتثال امره فلا
يخلو الحال ثبوتا عن أحد نحوين: اما ان يسقط الامر الأول أو لا يسقط. فإذا
سقط الامر الأول وانتفى موضوع امتثال الامر الثاني كما لا يخفى كشف سقوطه
عن عدم صيرورته بالأمر الثاني تعبديا، إذ لو كان تعبديا لم يكن يسقط بدون
قصد القربة، فلا يحصل الغرض المطلوب من الامر الثاني وهو تعبدية الامر
الأول به، فيكون الامر الثاني لغوا لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه. وإن لم يسقط
.

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 60 - الطبعة الأولى
442

الامر كشف ذلك عن توقف حصول الغرض الباعث للامر الأول على الاتيان
بالفعل بقصد القربة، وبدونه لا يحصل الغرض فلا يسقط الامر، إذ لو حصل
بدونه لزم سقوط الامر لتبعية الامر للغرض حدوثا وبقاء.
وعليه، فإذا علم توقف حصول الغرض وتحقق امتثال الامر على الاتيان
بالفعل بقصد الامر، فالعقل يحكم حينئذ بلزوم الاتيان بقصد القربة تحصيلا
للغرض وتحقيقا للامتثال بمقتضى حكمه بوجوب إطاعة المولى. لتوقف الإطاعة
والامتثال على قصد القربة كما فرض.
ومع حكم العقل بذلك لا يسع الشارع الحكيم ان يأمر عبده به ويلزمه
مولويا بذلك، لأنه عمل لغو بعد إلزام العقل به تبعا للشارع في أمره الأول.
وبتعبير آخر: ان الأثر المولوي انما يكون بداعي جعل الداعي، ولا يخفى ان
داعويته ولزوم اتباعه بحكم العقل، والا فبدون إنضمام حكم العقل لا يكون
داعيا. والمفروض ان حكم العقل بلزوم الاتيان بقصد القربة لاسقاط الامر
موجود فلا داعي لانشاء الامر بذلك فيكون لغوا. فالمتحصل: ان الامر الثاني
المولوي على كلا التقديرين لغو محض فيستحيل على الحكيم وقوعه منه (1).
وقد استشكل الاعلام في ما أفاده صاحب الكفاية (رحمه الله)، وهم ما
بين من أغفل الشق الأول من الترديد واقتصر في الايراد على الشق الثاني، وما
بين من تصدى في إشكاله إلى كلا شقي الترديد وهو المحقق الأصفهاني (رحمه
الله). ولنذكر أولا ما جاء من الايراد على الشق الأول من الترديد.
فقد ذكر المحقق الأصفهاني: بان لنا الالتزام بهذا الشق - أعني سقوط
الامر الأول -، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء المجال لموافقة الامر الثاني -
كما أدعي - بيان ذلك: انه سيجئ من المصنف - في مبحث الاجزاء - ان الاتيان
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 74 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
443

بالفعل إذا لم يكن موجبا لحصول الغرض الأوفى من الامر جاز للعبد تبديل الامتثال
بالاتيان بفرد آخر غير الفرد الأول وان جاز له الاقتصار على الأول في مقام
الامتثال، مثلا لو أمر المولى عبده بالاتيان بالماء للشرب، فجاء العبد بماء غير
بارد كان للعبد أن يأتي بماء آخر بارد قبل أن يشرب المولى الماء الأول، نعم له
ان يقتصر على الأول ويعد ممتثلا. واما إذا كان الفعل سببا لحصول الغرض لم
يكن مجال لتبديل الامتثال لسقوط الامر به.
وعليه، فنقول: ان الامر الأول وان كان يسقط لو اقتصر على الاتيان
بمتعلقه، الا انه حيث لم يكن علة تامة لحصول الغرض الأوفى أمكن الاتيان
بالفعل بداهي امره ثانيا، فيمكن امتثال الامر الثاني وبمقتضاه يلزم العبد به
امتثالا للامر. وعليه فلا بد للعبد من الاتيان بالفعل بداعي الامر وان أتى به أولا
مجردا عن ذلك لبقاء الغرض الملزم وامكان الاستيفاء وإعادة الفعل بداعي
الامر، وتعلق الامر به. (1).
وفيه:
أولا: انه يبتني على التزام صاحب الكفاية بجواز تبديل الامتثال ولو مع
سقوط الامر.
اما مع الالتزام بجوازه من باب بقاء الامر لعدم حصول غرضه الأوفى
فلا يتأتى ما ذكر ههنا، لان المفروض سقوط الامر بمجرد الفعل فلا يكون
المورد قابلا لتبديل الامتثال بعد سقوطه، ومن العجيب انه (رحمه الله) يفرض في
كلامه امكان الاتيان بالفعل بداعي امره لبقاء الامر الأول، مع أن ذلك خلاف
فرض كلام صاحب الكفاية من سقوط الامر الذي صحح الالتزام به والقول
بتعدد الامر كما عرفت في صدر كلامه.
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 135 - الطبعة الأولى
444

وثانيا: ان هذا الايراد جدلي الزامي، لان جواز تبديل الامتثال انما يلتزم
به خصوص صاحب الكفاية دون من تأخر عنه، ومن البعيد أن يلتزم به المحقق
الأصفهاني. ولا يحضرني كلامه في مبحث الاجزاء فعلا لكن الذي ببالي انه لا
يلتزم به، فلا ينفع في رفع المحذور الذي ذكر في الكفاية بالنسبة إليه.
وقد أورد على الشق الأول: بان الامر الأول وان كان يسقط لحصول
متعلقه فيستحيل بقاؤه لكونه طلب الحاصل ويتبعه الامر الثاني في ذلك، لكن
حيث إن الغرض من تعدد الامر باق على حاله فيحدث أمران آخران، وهكذا
إلى أن يحصل الغرض بالاتيان بالفعل بداعي الامر.
ولا يخفى وهن هذا الايراد - كما جاء في حاشية الأصفهاني (1) -. لان
الغرض إذا كان علة لحصول الامر، فبدون حصوله لا يسقط الامر لأنه معلول
للغرض وبقاء المعلول ببقاء علته بديهي، ولا يلزم من بقائه طلب الحاصل لان
مقتضاه ليس الموجود الخارجي حتى يلزم من طلبه طلب الحاصل وإن لم يكن علة
لم يكن موجبا لحدوثه أولا فضلا عن ايجابه له ثانيا وثالثا كما هو المدعى. وبتعبير
آخر: إن لم يحصل الغرض من الامر بنفس الفعل لم يسقط الامر، وان حصل فلا
وجه لحدوث أمرين آخرين فتدبر.
واما الشق الثاني من الايراد. فقد أورد عليه المحقق العراقي (رحمه الله)
- كما جاء في تقريراته -: بعد بيان ان امكان تعدد الامر وصحته أو عدمها تبتني
على القول بالبراءة أو الاشتغال في مورد الشك في توصيلة الواجب وتعبديته،
فإنه إذا قيل بالاحتياط في مورد الشك لا مجال للامر الشرعي المولوي الثاني
لحكم العقل بلزوم الاتيان بما يكون مقوما للعبادية، فالامر الثاني لو كان يكون
أمرا ارشاديا إلى حكم العقل لا مولويا بمعنى صدوره بداعي جعل الداعي. واما
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 135 - الطبعة الأولى
445

إذا قيل بالبراءة كان الامر الثاني ممكنا ولا مانع منه بنحو المولوية لتحصيل غرضه
وبيان مرامه لعدم حكم العقل بلزوم التحصيل، وبيان ان بناء صاحب الكفاية
في التزامه بعدم صحة امر آخر مولوي لحكم العقل واستقلاله بلزوم الاتيان بكل
ما يحتمل دخله في امتثال الامر الأول على عدم جريان البراءة في مثل المقام.
أورد عليه بعد ذلك: بأنه منظور فيه مبنى وبناء، اما المبنى فلما سيأتي من
كون المرجع في مورد الشك في التعبدية والتوصلية هو البراءة. واما البناء فلمنع
ما ذكره من امتناع أمر ثان مولوي مع حكم العقل بلزوم الاحتياط، إذ لا
ينحصر غرض المولى المولوي في جعل الداعي إلى فعل ما يحصل به الغرض،
بل يمكن تصور أغراض أخرى تتوقف على الامر المولوي ونحوه، كمعرفة
المكلف به تفصيلا ورفع الشك عن المكلف ليعمل على بصيرة من أمره، فانتفاء
قابلية الامر للداعوية لا يستلزم امتناع ثبوته بعد تصور غرض آخر له كايضاح المأمور به للمكلف (1).
ولكن ما ذكره (قدس سره) من ابتناء التزام صاحب الكفاية بامتناع
الامر الثاني مولويا على عدم جريان البراءة في مورد الشك في التعبدية
والتوصلية واجراء الاحتياط فيها عجيب منه (قدس سره)، كيف؟ وصاحب
الكفاية انما لا يلتزم بالبراءة ويلتزم بالاحتياط، لاجل امتناع بيان العبادية
بالأمر شرعا. بيان ذلك: انه إذا دار الامر بين الأقل والأكثر فقد قيل: بان
مقتضى العلم الاجمالي الاحتياط ولا تتأتى البراءة العقلية، وقيل: بان المورد
مجرى البراءة العقلية لانحلال العلم الاجمالي، وصاحب الكفاية ممن لا يلتزم
بالبراءة العقلية في المورد المذكور، وانما يلتزم بالاحتياط عقلا بمقتضى العلم
الاجمالي. نعم يلتزم بجريان البراءة شرعا لكون المورد من مواردها. ومن الظاهر
.

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 232 - الطبعة الأولى
446

انهم يلتزمون بجريان البراءة شرعا - بل عقلا - في المورد القابل للجعل والوضع
شرعا، اما ما لا يقبل الوضع شرعا فلا يكون الشك فيه مشمولا لحديث الرفع،
لان ما لا يقبل الوضع شرعا لا يقبل الرفع. وتوضيح ذلك موكول إلى محله وانما
المهم هو الإشارة.
ومن ذلك يذهب صاحب الكفاية عند الشك في اعتبار قصد الامتثال في
سقوط الامر وتحصيل الغرض إلى كون المورد من موارد الاحتياط لا البراءة،
لعدم قابلية المرد للبيان الشرعي والجعل من قبل المولى لامتناع أخذه في متعلق
الامر، فالالتزام بالاحتياط دون البراءة بلحاظ عدم امكان البيان والوضع
شرعا (1)، فكيف يفرض ان التزامه بعدم امكان جعله شرعا وأخذه في متعلق
الامر مستند إلى التزامه بالاحتياط في مورد الشك في التعبدية والتوصلية؟ فإنه
فرض دوري كما لا يخفى.
اما مناقشته (قدس سره) في أصل المبنى فسيأتي الكلام في تحقيق
الأصل، فليس محله ههنا بل نوكله إلى ما سيأتي انشاء الله تعالى.
واما ما ذكره في مقام المناقشة له في البناء، فهو ممنوع بان الظاهر أن الأثر
العقلائي للامر ينحصر بجعل الداعي والمحركية نحو العمل، ولا نعرف له أثرا
عقلائيا يصححه غير هذا، فإذا فرض وجود الداعي كان الامر لغوا إلا أن يكون
ارشاديا واقعه الاخبار.
وقد أورد على هذا الشق المحقق النائيني (قدس سره): بأنه ليس وظيفة
العقل هي الالزام والحكم على العبد بلزوم العمل، بل ليس شأنه إلا ادراك تعلق
إرادة الشارع بشئ وعدمه، اما الآمرية فليست من شؤونه حتى يكون شارعا
في قبال الشارع. وعليه فلا بد في حصول غرض المولى واستيفائه من تعدد الامر
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 76 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
447

وكون الامر الثاني داعيا إلى ما لا يصلح الامر الأول للدعوة إليه، لعدم دعوة
العقل إليه ومحركيته نحوه (1).
وأنت خبير بان ما أفاده (قدس سره) بعيد عن كلام الكفاية، فإنه لم يدع
كون شأن العقل الآمرية والشارعية، بل ما أفاده يرجع إلى أن العقل يرى
بمقتضى لزوم إطاعة امر المولى - وهو الامر بذات العمل - لزوم الاتيان بالفعل
بداعي القربة خروجا عن عهدة الامر وتحقيقا للامتثال وإطاعة الامر - لا انه
يأمر العبد بلزوم قصد القربة مع غض النظر عن حكم الشارع -، بل هو يرى
لزوم إطاعة الامر الأول المتوقفة على الاتيان بقصد القربة لتوقف حصول الغرض
عليه، ومن الظاهر أن الالزام بوجوب الإطاعة حكم عقلي لا شرعي والا لزم
التسلسل -، سواء رجع هذا الحكم إلى ادراك تحقق المفسدة أو العقاب في
المخالفة، أو إلى الالزام والبعث بالفعل من جهة أخرى، والامر الظاهر على كلا
التقديرين ان الانبعاث والتحرك يحصل منه وهو مما لا اشكال فيه.
وبالجملة: فما أفاده انتقال بكلام صاحب الكفاية إلى ما لا يريده ولا
يظهر من عبارته. فان الظاهر منها ما عرفت وهو مما لا اشكال فيه.
وقد أورد السيد الخوئي (حفظه الله) - كما في مصابيح الأصول - على هذا
الشق: بانا نلتزم بعدم السقوط مع وجود الامر الثاني، ولكن حيث كانت أخصية
الغرض عن الفعل وعدم وفائه بذاته في حصول الغرض مما لا طريق إليه اثباتا
وخارجا إلا بنحوين: اما الاخبار والكشف عنه بالجملة الخبرية، أو بالانشاء
والامر بما يحصل الغرض والدعوة إليه، فلا امتناع من تحقق الامر الثاني بنحو
المولوية وبقصد جعل الداعي، لعدم تحقق الدعوة عقلا إلى قصد القربة بدونه
لعدم العلم بأخصية الغرض (2).
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 116 - الطبعة الأولى.
(2) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 239 - الطبعة الأولى
448

وفيه: انه إذا كان الموضوع قابلا للدعوة عقلا والتحريك بمقتضى حكم
العقل، وانما كان ذلك معلقا على تحقق موضوعه وهو العلم بأخصية الغرض وعدم
وفاء ذات الفعل بتمام الغرض، فلا يحتاج إلى الامر المولوي الثاني وجعل الداعي
لفرض وجود ملاك البعث والمحركية وقابلية المورد لذلك، بل يكفي الكشف عنه
بالجملة الخبرية أو الانشائية على أن يكون الامر ارشاديا لا مولويا، لعدم
الاحتياج إليه بعد تحقق الدعوة عقلا بمجرد الانكشاف، فلا تكون للامر وظيفة
الداعوية، بل وظيفة الكشف عن أخصية الغرض وبها يكون ارشاديا لا مولويا.
وقد حمل المحقق الأصفهاني (قدس سره) عبارة الكفاية على ما أفاده
المحقق العراقي تقريبا، فإنه بعد أن بين الفرق بين الجزء والشرط بان الأول ما
له دخل في أصل الغرض، والشرط ما له دخل في فعلية التأثير، وان الشرط تابع
في الإرادة والدعوة للجزء، فان ما يدعى إليه بالأصالة وأولا وبالذات هو ذات
ما يفي بالغرض، اما ما له دخل في فعلية التأثير فلا يدعو إليه الغرض في عرض
السبب، بل الدعوة إليها وايجادها انما تكون بأغراض تبعية تنتهي إلى الغرض
الأصلي وان من الشرائط قصد القربة - بعد أن ذكر هذا المعنى بنحو مفصل
تقريبا، اختصرناه لعدم كونه محل الكلام هنا بل الكلام فيه في مبحث مقدمة
الواجب -، ذكر: ان لزوم الاتيان بقصد القربة اما من باب حكم العقل بلزوم
الاتيان به بعنوانه، وهو ممنوع. أو من باب حكم العقل بلزوم الاتيان بما يحتمل
دخله في الغرض، وهو ممنوع أيضا، لأنه انما يحكم بذلك في المورد الذي لا يتمكن
الآمر من بيانه ولو بأمر آخر والمفروض امكانه بأمر ثان (1).
وقد أشرنا سابقا في مناقشة المحقق العراقي إلى: ان نظر المحقق صاحب
الكفاية ليس إلى حكم العقل من باب الاحتياط، بل من باب آخر، إذ التزامه
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 135 - الطبعة الأولى
449

بالاحتياط عقلا يبتني على امتناع الامر.
ولتوضيح ذلك لا بأس بالإشارة إلى بعض ملاكات حكم العقل في باب
الإطاعة مما يرتبط بما نحن فيه، فنقول: ان العقل..
تارة: يحكم بلزوم الاتيان بالفعل من باب لزوم تحصيل غرض المولى
الملزم، مع عدم الامر أصلا، كما إذا رأى العبد ابن مولاه في حالة الغرق ولم يكن
يعلم سيده بذلك، فإنه ملزم عقلا بانقاذه ولا حجة له في عدم انقاذه ولا يصح
اعتذاره بعدم امره له.
وأخرى: يحكم بلزوم الاتيان بالفعل من باب الاحتياط وتحصيل العلم
بالامتثال وموافقة الامر كما في موارد العلم الاجمالي.
وثالثة: يحكم بلزوم الاتيان بالفعل من باب وجوب إطاعة امر المولى
لتوقف حصول الامتثال وسقوط الامر عليه.
ومن الواضح ان الملاك لحكمه في جميع الصور الثلاث هو وجوب
الإطاعة، ولكنها تختلف موضوعا وأثرا كما سيتضح.
ولا يخفى ان مراد صاحب الكفاية من حكم العقل عند عدم سقوط امر
المولى بمجرد الفعل بلزوم الاتيان بالفعل بقصد القربة ليس الصورة
الأولى والثانية، بل الثالثة، وذلك لان حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى
انما يلتزم به عقلائيا في المورد الذي لا يتمكن المولى من الامر كالمثال الذي
سقناه. اما لو كان المولى متمكنا من الامر ولم يأمر عبده. فلا يرى العقل ان
العبد ملزم بالاتيان بالفعل، كما لو رأى السيد ابنه يغرق وكان العبد بمنظر منهما
ولم يأمر السيد عبده بانقاذ ولده، فإنه لا يحق للسيد مؤاخذة العبد على عدم
إنقاذه لولده، إذ للعبد ان يحتج بعدم الامر. وعليه فلا يمكن أن يكون نظر
صاحب الكفاية إلى هذا المعنى، إذ للمدعي ان ينكر حكم العقل بلزوم تحصيل
غرض المولى بدون الامر لتمكنه في نفسه مع غض النظر عن حكم العقل
450

المدعى.
وبالجملة: حكم العقل المذكور يبتني على عدم امكان الامر الثاني فلا
يمكن ان يستند إليه عدم امكان الامر.
واما عدم كونه من باب حكمه بلزوم الاحتياط، فلما ذكرناه من انه يبني
مسألة الاحتياط على عدم امكان الامر بقصد القربة ولو بأمر ثان، فيمتنع أن يكون
نظره في حكم العقل ههنا حكم العقل بالاحتياط، فان المسألة تكون
دورية كما أشرنا إليه.
وانما نظره في حكم العقل، هو حكم العقل بإطاعة أمر المولى ولزوم
الامتثال، فان المفروض ان المولى أمر عبده بالفعل، وكان هذا الامر معلولا
لغرض في نفس المولى لا يحصل إلا بالفعل مع قصد القربة، وبدون ذلك لا
يسقط الامر لعدم حصول الغرض ويمتنع انفكاك المعلول عن العلة (1). فيحكم
العقل من باب لزوم إطاعة امر المولى وامتثاله بلزوم الاتيان بالفعل بداعي الامر
بقصد الامتثال حتى يحصل الغرض ويسقط الامر، فلا يبقى مجال للامر الثاني
للغويته بعد داعوية العقل إلى متعلقه.
وهذا المعنى لا اشكال فيه ولا نعلم السبب في حمل كلام صاحب الكفاية
على غير هذا المعنى مع وضوحه من كلامه.
وبالجملة: فما ذكره صاحب الكفاية في منع تعدد الامر وأخذ قصد القربة
في متعلق الامر الثاني بالتقريب الذي ذكرناه لا نرى فيه إشكالا فالالتزام به
متجه. وبذلك يتبين ان أخذ قصد القربة في متعلق الامر ممنوع عقلا.
هذا كله في أخذ قصد امتثال الامر في متعلق الامر، اما أخذ غيره مما
يكون محققا للتقرب، كقصد المحبوبية ونحوه، فهل هو ممكن أو غير ممكن؟. ولا
.

(1) فلا يقال: ان العقل لا يحكم بلزوم تحصيل الغرض مع التمكن من الامر وعدم الامر، لان المفروض
تعلق الامر بالفعل، فلا بد من تحصيل غرضه منه. (منه عفي عنه)
451

يخفى انه لا بد من الكلام في تحقيق ما به يتحقق التقرب وما به يكون الفعل
عباديا، وسيأتي ذلك فيما بعد، وليكن الكلام فعلا في امكان أخذ قصد المحبوبية
في متعلق الامر، فإنه مما لا اشكال في مقربيته، واما غيره كقصد المصلحة ونحوه
فسيأتي الكلام فيه.
وقد التزم صاحب الكفاية بامكان أخذه في متعلق الامر لعدم ورود أي
محذور فيه مما سبق، لان قصد المحبوبية غير متفرع على الامر كي يلزم الدور،
كما لا يلزم داعوية الشئ لداعوية نفسه كما لا يخفى. لكنه ذهب إلى عدم
اعتباره قطعا، لأنه ان كان معتبرا فاما أن يكون معتبرا بنحو التعيين، أو بنحو
التخيير بينه وبين داعي الامر - كالواجب التخييري -. فإن كان معتبرا بنحو
التعيين لزم عدم صحة العمل بدونه كسائر الشروط المعتبرة. مع أنه لا اشكال
في كفاية داعي الامر في حصول الامتثال وإن لم تقصد المحبوبية. وان كان بنحو
التخيير لزم أخذ داعي الامر في متعلق الامر، لان النتيجة تكون: (صل) بقصد
المحبوبية أو بقصد الامر، فيعود المحذور المذكور في أخذ قصد الامر في متعلقه (1).
هذا ما يمكن ان توجه به عبارة الكفاية.
ويرد عيه.
أولا: إنا نلتزم باعتبار قصد المحبوبية بنحو التخيير بنحو لا يلزم منه ما
ذكر، وذلك لان أخذه بنحو التخيير يتصور بنحوين: أحدهما: ان يكونا من قبيل
الواجب التخييري، بحيث يتعلق الامر بهما بنحو التخيير ويدعو إليهما كذلك.
وثانيهما: ان يؤخذ عدم الاتيان بداعي الامر قيدا لموضوع الوجوب المتعلق
بقصد المحبوبية، بمعنى ان يقال: (صل بقصد المحبوبية إن لم تأت بها بداعي
الامر)، فان النتيجة نتيجة الوجوب التخييري لأنه إذا أتى بالصلاة بداعي
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 74 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
452

الامر لا يجب عليه الاتيان بقصد المحبوبية وإذا لم يأت بدعي الامر وجب عليه
الاتيان بقصد المحبوبية، لكن الامر لم يتعلق بداعي الامر ولم يدع إليه لأنه
مأخوذ في موضوعه لا في متعلقه، فيكون حاله حال السفر في قولك: (إن لم تسافر
فتصدق بدرهم) بالنسبة إلى عدم تعلق الامر بالسفر وعدم دعوته إليه، ولكن
المكلف نتيجة يرى نفسه مخيرا بين السفر وبين التصدق. نعم قد يدعى بثبوت
محذور الدور وهو لزوم اخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الامر في موضوعه. ولكنك
عرفت الاشكال فيه بكفاية تصور الامر وتسليم صاحب الكفاية بالاشكال
وتركز المحذور في كلامه في لزوم داعوية الامر لداعوية نفسه، وهو غير متحقق
في الفرض لفرض عدم تعلق الامر بقصد الامر.
وثانيا: لو تنزلنا وسلمنا ورود محذور الدور في المقام، فهو لا ينافي التخيير
أيضا، وذلك لأنه إذا فرض ان قصد الامر لا يمكن اخذه في متعلق الامر ولا
موضوعه كان الحكم بالنسبة إليه مهملا في مقام الثبوت لا مطلقا ولا مقيدا. وعليه
فإذا حكم الشارع بوجوب الفعل بقصد المحبوبية بلا تعليق له على عدم الاتيان
بقصد الامر لعدم تمكنه كان اعتبار القيد المذكور - أعني قصد المحبوبية بالنسبة
إلى تعليقه على عدم الاتيان بقصد الامر وعدم تعليقه عليه - مهملا غير مطلق،
فيرجع إلى حكم العقل في المقام. ومن الواضح ان العقل يرى كفاية قصد الامر
في تحقيق الامتثال، فينتفي موضوع قصد المحبوبية معه لسقوط الامر، فيكون
المكلف مخيرا عقلا بين قصد الامر وقصد المحبوبية، فلا مانع من أخذ قصد
المحبوبية في متعلق الامر وتكون النتيجة هي التخيير بينه وبين قصد الامر لا
تعينه كي يقال بكفاية غيره. ولا محذور في ذلك.
وقد جاء في تعليقة المحقق الأصفهاني (قدس سره) على الكفاية ما
حاصله: ان التسالم على الاكتفاء بالاتيان بالفعل بداعي أمره كاشف عن تعلق
الامر بذات الفعل لا به مع قصد المحبوبية ونحوه من الدواعي، لان تعلق الامر
453

بالمجموع يستلزم صدور الفعل عن داعيين أو يكون داعي المحبوبية في طول
دعي الامر، وكلاهما خلاف الفرض، لان المفروض الاكتفاء بداعي الامر وحده
وهو يستلزم تعلق الامر بذات العمل والألم يمكن الاتيان به وحده (1).
وفيه: أولا: انه لا ينسجم مع عبارة الكفاية، إذ لا ظهور لها في كون الاتيان
بالفعل بداعي امره كي يقال باستلزام ذلك لتعلق الامر بذات العمل، بل يمكن
أن يكون المراد الاتيان بالفعل بداعي الامر بالكل لا بداعي أمره، فلا ظهور
لكلامه في تعلق الامر بذات العمل.
وثانيا: ان ذهاب المشهور أو الكل إلى الاكتفاء بداعي الامر لا يكشف
عن تعلق الامر بذات العمل، بل يمكن أن يكون لاجل ذهاب البعض إلى
مقربية الامر الضمني وداعويته، أو إلى صحة الاتيان بالعمل بداع قربي أي
داعي الامر مع الغفلة عن اعتبار داعي المحبوبية ونحوه.
وبالجملة: الاتفاق على الاكتفاء بداعي الامر لا يكشف عن الاتفاق
على تعلق الامر بذات العمل.
وثالثا: ان ما ذكره لا يقتضي إلا عدم أخذ غير قصد الامر في متعلق
الامر لا عدم امكانه، ولا يخفى ان صاحب الكفاية بصدد اثبات عدم امكان اخذ
قصد القربة بقول مطلق في متعلق الامر لينتهي منه إلى النتيجة الأخيرة. وهي
عدم صحة التمسك بالاطلاق لاثبات التوصلية. فان هذه النتيجة لا تتم إلا
بثبوت عدم امكان اخذ قصد القربة بجميع أنحائه في متعلق الامر. لا بثبوت
عدم أخذه فلاحظ.
وبعد هذا الكلام كله يقع البحث في أصل المبحث، وهو صحة التمسك
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 136 - الطبعة الأولى
454

بالاطلاق في اثبات عدم اخذ قصد القربة في متعلق الامر فيكون الواجب
توصليا، وعدم صحته.
وقد أفاد البعض في مقام منع التمسك بالاطلاق: بأنه بعد ثبوت امتناع
اخذ قصد القربة في متعلق الامر بضميمة ان الاطلاق انما يصح في المورد الذي
يقبل التقييد، لان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة، فالاطلاق
عدم التقييد في المورد الذي يقبل التقييد فلا يصح الاطلاق في المورد الذي لا
يصح التقييد - بعد ذلك -، لا يصح التمسك باطلاق الكلام لنفي أخذ قصد
القربة لامتناع الاطلاق (1). وقد وقع الكلام في صحة ذلك - أعني كون التقابل
بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة -. كما وقع في استلزامه منع الاطلاق -
لو ثبت - عند امتناع التقييد.
والذي يبدو لنا عند التحقيق: انه لا وقع في المقام لهذه الكلمات أجمع،
فإنها بعيدة عن واقع المطلب. بيان ذلك: ان امتناع التقييد وورود الحكم على
الحصة المقيدة تارة: يكون من جهة عدم قابلية الذات الخاصة والحصة المعينة
لورود الحكم عليه، بان كان الحكم لا يتلائم مع نفس الذات الخاصة، فالامتناع
من جهة التنافي وعدم التلائم بين الحكم ونفس الذات. وأخرى لا يكون من
هذه الجهة، بان يكون ورود الحكم على نفس الذات لا محذور فيه، وانما المحذور
في تخصيص الحكم وقصر الحكم عليها، فالمحذور في نفس التقييد لا في ورود
الحكم على ذات المقيد.
فإن كان امتناع التقييد من الجهة الأولى - أعني لاجل عدم قابلية نفس
الذات المقيدة للحكم - لزم امتناع الاطلاق في موضوع الحكم أيضا، وذلك لان
الاطلاق معناه إسراء الحكم إلى جميع الافراد ومنها الفرد المقيد، وقد فرض عدم
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 113 - الطبعة الأولى
455

قابليته لورود الحكم عليه، فيمتنع الاطلاق، بل يختص الحكم بغير المقيد على
تقدير قابليته له.
وان كان امتناع ثبوت الحكم للحصة المقيدة من جهة نفس تخصيص
الحكم بها وقصره عليها لا من جهة منافاتها له بذاتها، فالاحتمالات ثبوتا ثلاثة:
اما ان يثبت الحكم لغير المقيد بخصوصه. أو يثبت الحكم للمطلق، أو يكون
مهملا. فيدور الامر ثبوتا بين هذه الاحتمالات الثلاثة. فإذا فرض امتناع
اختصاص الحكم بغير المقيد وثبوت المحذور فيه دار الامر حينئذ بين الاطلاق
والاهمال. وحينئذ فإن كان المحذور في التقييد من جهة امتناع لحاظ القيد امتنع
الاطلاق أيضا لتوقفه على لحاظ القيود وفرض عدم دخلها في الحكم، فإذا فرض
امتناع لحاظ القيد أصلا امتنع الاطلاق لامتناع موضوعه فيتعين
الاحتمال الثالث، أعني الاهمال في موضوع الحكم، لعدم تمكن المولى من تعيينه
مقيدا أو مطلقا.
اما إذا أمكن لحاظ القيد وكان محذور التقييد جهة أخرى غير اللحاظ،
تعين الاطلاق لامتناع الاهمال في مقام الثبوت والتردد في ثبوت الحكم في ما لا
يتعين فيه الاهمال بحسب ذاته لعدم امكان الاطلاق. فإنه إذا فرض امتناع
التقييد بالوجود والعدم وامتناع الاهمال فيما يقبل عدم الاهمال لان الحاكم لا
يمكن ان يتردد في حكمه تعين الاطلاق قهرا.
وبالجملة: مع امتناع التقييد وامكان الاطلاق يتعين الاطلاق ويمتنع
الاهمال.
إذا عرفت هذا، فيقع الكلام في تطبيقه على ما نحن فيه، فنقول: بناء على
امتناع كون المتعلق هو الفعل بقصد القربة، فالامتناع انما هو من جهة تقييد
الحكم لا من جهة منافاة نفس الذات المقيدة للحكم، إذ لا منافاة بين الامر
ونفس الصلاة المقيدة بقصد القربة، بل المحذور في أخذ القيد وتقييد المتعلق به،
456

وحينئذ يدور الامر ثبوتا بين أن يكون متعلق الامر هو الفعل مقيدا بعدم قصد
القربة أو ذات الفعل مطلقا سواء جئ به بقصد القربة أو بدونها، أو يكون
مهملا.
ومن الظاهر أن تقييد المتعلق بعدم قصد القربة، بمعنى الامر بالفعل
بشرط ان يؤتى به بداع آخر لا يرتبط بالأمر أصلا، ممتنع، لان الامر انما هو
لجعل الداعي وايجاد التحريك، فيمتنع ان يتعلق بشئ بقيد أن يكون الداعي
إليه غير الامر، فان ذلك مساوق لعدم الامر كما يظهر بقليل من التأمل.
وعليه، فيدور الامر بين الاطلاق والاهمال، فلو بنى على أن محذور أخذ
قصد القربة هو لزوم الخلف أو الدور للحاظ ما هو المتأخر عن الامر متقدما
على الامر تعين الاهمال، لامتناع لحاظ هذا القيد أصلا، فيمتنع الاطلاق لتوقفه
على لحاظ القيود ونفي دخلها في موضوع الحكم كما عرفت. ولكن حيث عرفت
دفع هذا المحذور وان المحذور يتمحض فيما هو خارج عن دائرة اللحاظ وهو
داعوية الشئ لداعوية نفسه، فلا يمتنع لحاظ قصد القربة. وعليه فيتعين
الاطلاق لامتناع الاهمال - كما عرفت -، فيكون متعلق الحكم واقعا هو ذات
العمل من دون دخل للقيد فيها، ولا محذور فيه كما لا يخفى.
والذي يتلخص إن امتناع أخذ قصد القربة في موضوع الامر ومتعلقه
يستلزم ضرورية الاطلاق، فلا شك في متعلق الامر لفرض تعين الاطلاق، وإذا
كان الامر كذلك فما هو معنى الشك في التعبدية والتوصلية؟ لتعين متعلق الامر
ومعرفته بمعرفة امتناع قصد القربة.
والإجابة عن هذا السؤال واضحة، فان مرجع الشك في التعبدية
والتوصلية إلى الشك في دخل قصد القربة في حصول غرض المولى من الامر
وإن لم يؤخذ في متعلقه، إذ قد عرفت امكان أن لا يكون متعلق الامر وافيا بتمام
الغرض.
457

وعليه، فمتعلق الامر وان كان معلوما،، إلا أن وفائه في الغرض بنفسه
بدون قصد القربة غير معلوم وهو موضع الشك.
وأنت خبير بعد هذا بان الشك وموضوعه أجنبي بالمرة عما هو متعلق
الحكم وموضوعه، كيف؟ والمفروض العلم بمتعلق الامر، ومعه لا يبقى مجال
للكلام في صحة التمسك باطلاق الكلام في نفي قصد اعتبار القربة، وان متعلق
الامر هو ذات العمل، لان ما يثبت بالاطلاق وما يتكفله الكلام بعيد عما هو
موضوع الشك ولا يرتبط به، فان ما يتكفله الاطلاق هو ثبوت الحكم لمتعلقه لا
أكثر، وقد عرفت أن مورد الشك غير هذا المعنى، بل هذا المعنى مقطوع به
ومعلوم بلا حاجة إلى بيان اثباته بالاطلاق أو عدم إمكان اثباته.
والخلاصة: ان مورد الشك بعيد عن مفاد الاطلاق وعالم الكلام. ومن هنا
نجزم بعدم صحة التمسك باطلاق الكلام، بل لا معنى له بعد الجزم بمفاده
بالتقريب الذي عرفته، فما سلكه الاعلام (قدس الله سرهم) في بيان عدم صحة
التمسك بالاطلاق من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا
فائدة فيه ولا وجه له.
ولعل ما ذكرناه هو مراد صاحب الكفاية، فإنه حكم بعدم صحة التمسك
بالاطلاق ولم يبين الوجه فيه، فيمكن أن يكون نظره (قدس سره) إلى ما ذكرناه
من أن مورد الشك لا يرتبط بعالم الاطلاق، ولذا استدرك بعد ذلك بأنه إذا علم
كون المولى بصدد بيان ما هو دخيل في الغرض وإن لم يؤخذ في متعلق الامر ولم
يذكر قصد القربة كان للتمسك باطلاقه الكلامي أو المقامي مجال واثر في نفي
دخالة قصد القربة في الغرض. وهو استدراك وجيه كما لا يخفى.
وقد قرب المحقق الأصفهاني (رحمه الله) عدم صحة التمسك بالاطلاق:
بان عدم امكان التقييد وإن لم يستلزم عدم امكان الاطلاق، إلا أن إمكانه لا
يجدي في صحة التمسك به لنفي التقييد، لان من مقدمات الحكمة عدم بيان ما
458

يمكن أن يكون بصدد بيانه، ولما كان المفروض عدم امكان بيان التقييد وان
أمكن الاطلاق ثبوتا لم يصح التمسك باطلاق الكلام في نفي القيد لعدم تمامية
احدى مقدماته، إذ يمكن أن يكون القيد دخيلا ولكنه لا يمكنه بيانه، فعدم
البيان لا يكون دليل الاطلاق لعدم امكانه البيان (1).
وقد تابعه في هذا التقريب السيد الخوئي - دام ظله - كما جاء في مصابيح
الأصول (2) -.
ولكن هذا التقريب عجيب منه (قدس سره)، فإنه انما يتم، لو كان اخذ
القيد ودخله في المتعلق ممكنا ثبوتا لكن كان هناك مانع من بيانه بواسطة الدليل.
وبعبارة أخرى: كان الممتنع هو اخذ القيد في المتعلق اثباتا لا ثبوتا، فإنه يقال:
ان عدم بيان الآمر القيد في كلامه لا يكشف عن عدم دخله في المتعلق لامكان
دخله وعدم تمكنه من بيانه لوجود محذور فيه.
واما في مثل ما نحن فيه من كون دخل القيد ثبوتا ممتنع، فلا معنى لهذا
الكلام بالمرة، إذ لا معنى لان يقال ان عدم ذكر القيد لا يدل على عدم دخله،
لامكان دخله وامتناع بيانه، كيف؟ والمفروض عدم إمكان دخله ثبوتا.
وبالجملة: فما ذكره (قدس سره) امر يرتبط بما إذا كان الامتناع اثباتيا
فلا ربط بما نحن فيه، لان الامتناع فيه ثبوتي والشك في أخصية الغرض
وأعميته، فلا يهم فيه تحقيق امكان بيان القيد وعدم امكانه، كيف؟ والمفروض انه
موجود مع احراز الاطلاق. فكان اللازم نقل الكلام إلى مرحلة الثبوت كما مر
عليك.
وعلى كل، فالذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه: انه ان بنى على امتناع
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 137 - الطبعة الأولى.
(2) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 232 - الطبعة الأولى
459

أخذ قصد القربة في متعلق الامر، لم يصح التمسك بالاطلاق في نفي دخل قصد
القربة في الغرض الذي هو موضوع الشك، وان بنى على امكانه كغيره من قيود
المتعلق نظير الطهارة في الصلاة، أمكن التمسك بالاطلاق في نفي دخله في
المتعلق الذي هو موضوع الشك مع تمامية مقدمات الحكمة، لأنه يكون كسائر
القيود المحتمل الاخذ، فمع الاطلاق ينفي أخذها. فالتمسك بالأصل اللفظي -
وهو الاطلاق - في نفي اعتبار قصد القربة على القول بامتناعه غير صحيح.
وقد ذكر لاثبات كون الأصل في الواجبات هو التعبدية - في قبال
التمسك بالاطلاق الذي يقتضي التوصلية - وجوه:
الوجه الأول: ان الامر لما كان من الأفعال الاختيارية للمولى، فلا بد من
صدورها عن غرض مصحح، والغرض من الامر ليس إلا جعل الداعي والمحرك
للعبد نحو العمل المأمور به. فلا بد من الاتيان بالعمل بداعي الامر تحصيلا
لغرض المولى ما لم يقم دليل خاص على حصوله بدون ذلك. فالأصل في الواجب
الاتيان بها بداعي الامر.
وقد أورد عليه المحقق النائيني (رحمه الله): بان المراد من كون الامر
بغرض جعل الداعي والمحركية..
ان كان ان الامر انما هو بدعي جعل ما يمكن أن يكون داعيا ومحركا
لو لم يكن له داع آخر من قبل نفسه، بمعنى ان العبد المنقاد إذا لم يكن في نفسه
ما يدعوه إلى الاتيان بالعمل فلا أمر صالح لداعويته إليه ومحركيته نحوه.
وبعبارة أخرى: ان كان المراد كون الغرض من الامر جعل ما يقتضي
الداعوية وما له قابلية المحركية وشأنيتها.
فهو مسلم لا ينكر، لكنه لا يثبت التعبدية لأنه مشترك بين جميع
الواجبات التوصلية والتعبدية، إذ لا ملزم فيه للاتيان بالفعل بداعي الامر كما لا
يخفى.
.
460

وان كان المراد جعل ما يكون داعيا فعلا بحيث لا بد من صدور الفعل
بداعي امر المولى دون غيره من الدواعي.
ففيه:
أولا: ان يبتني على انحصار التقرب بقصد الامر كما عليه صاحب
الجواهر (1) وهو ممنوع كما تقدم.
وثانيا: انه يستلزم المحال، وذلك لان الملحوظ حال الامر بالاستقلال هو
نفس العمل، اما إرادة المكلف للعمل فهي ملحوظة باللحاظ غير الاستقلالي
الآلي، فلو كان إرادة العبد العمل بداعي الامر ملحوظة حال الامر كان ذلك
مستلزما للحاظ الإرادة بنحو الاستقلال وهو خلف فرض لحاظها آليا (2).
والانصاف: ان ما ذكره أخيرا من استلزام المحال - وهو عمدة الايراد
على المدعى - غير وارد، فللمدعي ان يلتزم بالشق الثاني من شقي الترديد، أعني
كون الغرض هو المحركية والداعوية الفعلية لا الاقتضائية. بيان عدم وروده:
انه بنفسه يرد على الشق الأول الذي فرض التسليم به واختياره، وهو كون
الغرض هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا لو لم يكن هناك داع آخر، فان ذلك
يستلزم أيضا تعلق اللحاظ الاستقلالي بإرادة الفعل ولزوم صدورها عن داعي
الامر إذا لم يكن داع آخر.
وعليه، فاما ان يلتزم بكفاية اللحاظ الآلي في ذلك فهو جار في الشق
الثاني. واما أن لا يلتزم فيسري الاشكال إلى الشق الأول. فمحصل الايراد
عليه (قدس سره) هو النقض بالشق الأول. فتدبر.
ولعل هذا الوجه هو الذي حدا بالسيد الخوئي إلى عدم ارتضاء ايراده -
.

(1) النجفي الشيخ محمد حسين. جواهر الكلام 2 / 87 - 88 - الطبعة الثانية.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 114 - الطبعة الأولى
461

إذ لم يبين الوجه فيه - والايراد على المدعى بوجهين:
أحدهما: انه لا دليل على لزوم تحصيل غرض المولى من الامر، بل
الواجب عليه بحكم العقل الاتيان بما تعلق به التكليف وتحصيل الغرض في
نفس المأمور به، وهو - اي المأمور به - مطلق غير مقيد بداع من الدواعي. فلو
فرض ان غرض المولى ما ذكر فلا يلزم تحصيله، بل يكفي الاتيان بذات العمل
المتعلقة للامر.
والاخر: انكار كون الغرض من الامر جعل الداعي فعلا، لان الغرض
ما يترتب على الشئ ترتب المعلول على علته، ونحن نرى ان الاتيان بالفعل
بداعي الامر يتخلف كثيرا عن الامر كما في موارد الكفر والعصيان، فالغرض
انما هو جعل ما يمكن أن يكون داعيا وهو لا يتخلف عن الامر أصلا (1).
أقول: ما أورده أولا ليس محل بحثه هنا، بل له مجال آخر.
واما الوجه الثاني، فهو غير تام، بيان ذلك: ان الغرض قد يطلق ويراد
منه ما يساوق العلة الغائية وهو المعنى الاصطلاحي للغرض والداعي، وهو ما
يترتب على نفس الفعل ترتب المعلول على علته. وقد يطلق ولا يراد منه هذا
المعنى، بل يراد منه معنى عرفي يساوق المقصود، وقد يعبر عنه في الاصطلاح
بالغرض - الأصلي أو الأقصى، وهو بهذا المعنى قابل الانفكاك عن العمل وان
عبر عنه بالغرض، فيقال: غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا، مع عدم ترتبه
عليه، بل يمكن ان يترتب ويمكن أن لا يترتب، كأكل الخبز بغرض الشبع
وشرب شئ بقصد العافية من المرض والاتيان بالماء بغرض الوضوء ونحو ذلك.
ولا يخفى انه يطلق على مثل ذلك الغرض مع تخلفه عن العمل أحيانا، فقد يكون
مراد المدعي من كون الداعوية الفعلية غرضا للامر هذا المعنى من لفظ الغرض
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 189 - الطبعة الأولى
462

لا المعنى الاصطلاحي كي يورد عليه بما ذكره.
وبالجملة: الايراد المذكور يبتني على حمل لفظ الغرض على المعنى
الاصطلاحي، مع أنه بلا ملزم، فقد يكون المراد منه الغرض الأصلي والأقصى،
بل لا ملزم للتعبير بلفظ الغرض كي تحقق هذا الالتباس، بل نقول: ان النظر
والقصد الأصلي في الامر هو جعل الداعوية الفعلية، ولا يخفى صحة التعبير
بذلك عرفا. فيرجع الاشكال إلى التعبير بلفظ الغرض، وان هذا - أعني
الداعوية الفعلية - لا تسمى غرضا، وهو اشكال لفظي، والمهم هو الالتزام بواقع
الدعوى وما ذكر لا يصلح ايرادا عليها كما عرفت من كون الغرض الأصلي
ممكن التخلف عن العمل، بل مع الالتفات إلى هذه الجهة - أعني امكان التخلف -
يعبر عنه أيضا بالغرض الأصلي والمقصود بلا توقف، ويجيب الفاعل عند سؤاله
عن مقصوده في فعله، بان غرضي كذا. فتدبر.
وعليه، فالكلام مع المدعي يقع في أن الغرض الأصلي من الامر هل هو
جعل الداعي فعلا أو جعل ما يصلح للداعوية وما له اقتضاء الدعوة لا
فعليتها؟.
والحق هو الثاني، توضيح ذلك: انه قد تقرر في محله ان الأوامر تابعة
للمصالح الموجودة في متعلقاتها، فالغرض من الامر غرض تبعي وطريقي
للوصول إلى مصلحة المتعلق وليس له استقلالية في الغرض ولا انفراد به، ومن
الواضح ان المصلحة في المتعلق تارة: تتقوم بذات الفعل وتترتب عليه بأي نحو
تحقق وبأي صورة حصل. وأخرى: لا تترتب عليه الا إذا جئ به بنحو قربي
عبادي، فالامر الذي يتعلق بالنحو الأول لا يكون الغرض منه سوى جعل ما
يقبل التحريك وما من شأنه الباعثية والداعوية لا أكثر، إذ عرفت أنه يتبع
المصلحة في المتعلق، فإذا فرض ان المصلحة تتحقق بتحقق الفعل بأي كيفية
وبأي داع حصل، لم يكن الداعي من الامر سوى التحريك نحو العمل وجعل
463

ما يمكن أن يكون داعيا إذا لم يكن داع آخر، فإذا تحقق الفعل بداع آخر لا
ينافي غرض الامر لأنه يتبع الغرض من الفعل. وإذا لم يكن للعبد داع خارجي
للفعل يكون الامر صاحا للداعوية والمحركية.
وعليه، فإذا فرض امكان كون مصلحة المتعلق لا تقتضي سوى الامر
بهذا النحو - أعني بداعي جعل ما يمكن أن يكون داعيا -، فكيف يستظهر في
الأوامر كونها بداعي جعل الداعي الفعلي؟.
الوجه الثاني: - ويمكن أن يكون تقريبا آخر للوجه الأول -، وهو: ان
الامر لما كان بداعي جعل ما يمكن أن يكون داعيا لزم ان يقتصر في تعلقه بمن
لا يكون في نفسه داع خارجي غير الامر للفعل، فان من يكون في نفسه داع في
نفسه لتحقق الفعل قبل الامر يمتنع عقلا تعلق الامر به وتوجه البعث نحوه
للغويته بعد كونه منبعثا، أو في مقام الانبعاث، فلا معنى لامره بداعي جعل ما
يمكن أن يكون داعيا بعد تحقق الداعي الفعلي للعمل عنده.
وعليه، فالامر انما يصح في مورد لا يكون للمكلف داع آخر غير الامر
ولم يكن المكلف في مقام الاتيان بالعمل بدون الامر. والتقريب بهذا المقدار لا
تثبت به التعبدية، إذ غاية ما يثبت عدم صحة تعلق التكليف بمن له داع غير
الامر للفعل وانه انما يصح في المورد الذي لا يكون للمكلف أي داع ومحرك نحو
الفعل. وهذا لا يقتضي التعبدية كما لا يخفى، فلا بد من تتميمه بان يقال: إنه
حيث يعلم بان التكاليف مطلقة ولا تختص بطائفة من المكلفين دون غيرهم، بل
تشمل الجميع، وحيث إن شمولها للبعض ممتنع في ذاته لتحقق الدواعي النفسية
للفعل عندهم، فشمولها لهم يقتضي أن يكون مفاد الامر هو الاتيان بالفعل لا
عن هذه الدواعي، بل بداعي الامر فيرتفع عن اللغوية وتثبت به العبادية.
ويمكن الخدش فيه من وجهين:
أحدهما: ان تعلق الامر بجميع المكلفين مسلم لا ينكر، إلا أنه لا يمتنع
464

ان يختلف مفاده باختلاف المكلفين، فيكون مفاده الداعوية الفعلية والبعث
الفعلي بالنسبة إلى من لا داعي له نحو الفعل، ويكون مفاده الداعوية الشأنية
بالنسبة إلى من له داع آخر غير الامر، فيكون الامر متعلقا به بداعي جعل
الداعي على تقدير عدم الداعي الاخر أو عدم الانبعاث عنه. وهذا التعليق
مصحح للامر ولا تتوقف صحته ورفع لغويته على عدم الداعي الخارجي، لان
الغرض انه جعل للداعوية بنحو التعليق. وصدق الشرطية لا يتوقف على صدق
طرفيها. فلاحظ.
وبالجملة: لا مانع من الالتزام باختلاف نحو تعلق الامر بالمكلفين أجمع
إذ لا دليل على خلافه.
ثانيهما: انه سلمنا عدم امكان توجه الامر لمن له داع خارجي للفعل إلا
بان يكون مفاده تجريد الفعل عن هذه الدواعي والاتيان به بداعي الامر - كما
هو مفاد التقريب المزبور -.
فلا نسلم اقتضاء ذلك لتعبدية الامر، وذلك لان ارتفاع اللغوية لا يتوقف
على تعلق الامر بالفعل على أن يكون الامر نفسه داعيا، بل يكفي لزوم تحقق
الفعل عن الامر وكون الامر منشأ لوجود الفعل خارجا دون غيره من الدواعي،
وهذا لا يلازم العبادية، إذ يمكن أن يكون الاتيان بالفعل بتحريك الخوف من
العقاب أو الرغبة في الثواب الذي يقتضيه الامر لا بتحريك نفس الامر. وسيأتي
ان هذا الداعي ليس من الدواعي المقربة، مع صدور الفعل به عن الامر. وسيأتي
ان هذا الداعي ليس من الدواعي المقربة، مع صدور الفعل به عن الامر، إذ لولا
الامر لما جاء به. أو يكون الاتيان به رياء ولتعريف الناس انه يتمثل الامر،
فان هذا الداعي متفرع على وجود الامر، إذ موضوعه الامر، مع أنه ليس من
الدواعي المقربة بلا كلام.
وبالجملة: الدليل يقتضي لزوم صدور الفعل بمنشأية وجود الامر بحيث
لولا وجود الامر لا يتحقق الفعل خارجا - لارتفاع اللغوية بذلك -، وصدور
465

الفعل عن الامر لا يلازم العبادية والتقرب كما عرفت.
الوجه الثالث: الآية الشريفة: (وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين) (1). وتقريب الاستدلال بها على المدعى: حصر الأوامر في الآية
الكريمة في العبادية، وحصر جهة الامر والغاية منه في العبادة، فيقتضي أن يكون
الأصل هو العبادية، إلا إذا قام دليل خاص على عدمه فيخصص الآية الشريفة.
ولكن الاستدلال بها غير مستقيم لوجهين:
الأول: ما قيل من أن الآية بملاحظة صدر السورة وذيلها واردة في الكفار
وتفنيد ما زادوا في دينهم على عبادة الله، وبيان انهم لم يأمروا بغير عبادة الله وترك
الأوثان، وان ما يدعونه من الدين لم يأمرهم به الله. وبذلك تكون الآية بعيدة
وأجنبية عن اثبات تعبدية الأوامر وكونها عبادية كما لا يخفى.
الثاني: انه لو سلم عدم اختصاص الآية بالكفار وعمومها لجميع
المكلفين، فهي لا تدل على حصر الأوامر بالعبادية، بل انما تدل على حصر
الأوامر العبادية بعبادة الله، بمعنى ان الأوامر العبادية انما كانت ليعبدوا الله
تعالى لا ان نفس الأوامر كانت لاجل تحقق العبادة منهم، فهي لا تتكفل بيان
عبادية الأوامر، بل بيان جهة عبادة الله في الأوامر العبادية وهذا المعنى أجنبي
عن المدعى.
وتوضيح ما ذكرناه: انه إذا قال القائل: (ما أمرت زيدا إلا لاجل تحصيل
العافية التامة أو لاجل الذهاب إلى الطبيب الحاذق)، فإنه ظاهر في حصر
الأوامر بالذهاب إلى الطبيب أو بتحصيل العافية في الامر بالذهاب إلى الطبيب
الحاذق دون غيره، وبتحصيل العافية التامة لا الناقصة، نعم لو قال: (ما امرته
إلا لاجل الذهاب إلى الطبيب)، كان ظاهرا في حصر الأوامر في الذهاب إلى
.

(1) سورة البينة: الآية: 5
466

الطبيب، أو حصر أوامر الذهاب بالذهاب إلى الطبيب. فتأمل. وما نحن فيه من
قبيل الأول، فان الظاهر أن الغرض المسوق له الكلام هو بيان انحصار العبادة
بعبادة الله ونفي عبادة غيره، ولزوم الاخلاص في عبادته جل اسمه وعدم اشراك
غيره فيها، لا بيان أصل العبادة فتكون الآية ظاهرة في أن الامر العبادي انما
كان لاجل تحقق عبادة الله تعالى. فلا دلالة لها على أن مطلق الأوامر عبادية كما
لا يخفى.
الوجه الرابع: الروايات كقوله (ص): (انما الاعمال بالنيات) (1)
وقوله (ص): (لكل امرئ ما نوى) (2) وقوله (ص): (لا عمل إلا بنية) (3) ونحو
ذلك مما يدل على توقف العمل على نية القربة إلا ما خرج بالدليل الخاص
المخصص.
وقد ناقش الشيخ (رحمه الله) في دلالتها على المدعى بكلام مفصل
حاصله: ان الكلام لو حمل على ظاهره من توقف تحقق العمل على نية القربة
وقصد التقرب بحيث لا يتحقق عمل بدونها، فهو كاذب قطعا، لان الاعمال
تحصل بدون قصد القربة، بل بدون نية أصلا، لأنها أمور واقعية تحصل بأسبابها.
وان أريد منها نفي صحة العمل بدون نية القربة لا نفي أصل العمل لزم
تخصيص الأكثر بنحو مستهجن جدا، لان الاعمال الشرعية العبادية قليلة جدا
ونسبتها إلى غير العبادية منها نسبة متفاوتة جدا، فلا معنى لهذا العموم وبهذا
اللسان مع إرادة افراد قليلة منه لصحة الواجب التوصلي بدون نية القربة، إذ لا
يعتبر فيه قصد التقرب، وانما المتوقف صحته على قصد التقرب هو الأفعال
.

(1) وسائل الشيعة 1 / 34. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 7.
(2) وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
(3) وسائل الشيعة 1 / 324. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 9
467

العبادية وهي قليلة كما عرفت.
وان أريد من مثل قوله: (لا عمل الا بنية) ان نسبة الفعل إلى الفاعل
وكون الفعل فعلا له انما تكون إذا صدر الفعل عن قصد واختيار وبدونه لا
يكون العمل عملا اختياريا له، فيكون المراد من النية ما يساوق القصد
والاختيار لا نية القربة. ويكون المعنى: ان العمل الصادر عفوا وبلا إرادة لا
يكون عملا للشخص، بل الاسناد إلى الشخص بتقوم بالقصد ونية العمل، فلا
يقال لمن أكرم هاشميا مع عدم العلم بهاشميته أنه أكرم هاشميا بما هو هاشمي
لعدم القصد إلى العنوان ان أريد ذلك فهو معنى متجه، لكنه أجنبي عن المدعى
- أعني اثبات كون الأصل في الأوامر العبادية كما لا يخفى -. مضافا إلى أنه
يدفعه ظاهر بعض الروايات التي تقتضي عدم إرادة هذا المعنى، كقوله: (لا قول
إلا بعمل ولا عمل الا بنية ولا نية الا بإصابة سنة) (1)، فان ظاهر السياق عدم
إرادة نفي اختيارية العمل لعدم القصد لتحقق القول اختيارا بدون عمل، بل
الذي يظهر من الروايات بملاحظة موارد تطبيقها في النصوص كما ورد في باب
الجهاد من أن المجاهد ان كان قد جاهد لله فالعمل له تعالى، وان جاهد لطلب
المال والدنيا فله ما نوى (2) -. وهو كونها ناظرة إلى بيان توقف ترتب الإثابة على
نية كون العمل لله وان ظاهر نفس العمل لا يكفي في ترتب الأثر المرغوب ما لم
يقصد من ورائه ذلك. فلا يعد العمل لله ما لم ينو الله ويقصد به التقرب إليه، وان
ما يحصله المرء هو ما نواه وقصد، من خير أو شر. فلا ترتبط بالمرة بما نحن فيه
من تعبدية الأوامر (3).
وبهذه النتيجة أورد المحقق النائيني على الاستدلال بهذه الروايات مهملا
.

(1) وسائل الشيعة 1 / 33. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 2.
(2) وسائل الشيعة 1 / 35. الباب 5 من مقدمة العبادات - الحديث 10.
(3) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 63 - الطبعة الأولى
468

ما ذكره الشيخ مقدمة لها (1).
وبالجملة: الظاهر من الروايات الكثيرة هو ما أفاده الشيخ وتابعه غيره
عليه من أن تقدير الثواب وتحصيله على نية التقرب فقط. لا توقف صحة العمل
على نية القربة بحيث يترتب العقاب على تركها، بل نتائج الاعمال وغاياتها تتبع
النيات ولا تتحقق بدون النية بل تتبع النية.
وخلاصة ما تقدم: انه لا دليل تعبديا على كون الأصل في المأمور به أن يكون
عباديا، كما أنه - بناء على عدم إمكان أخذ قصد القربة في المتعلق - لا
يمكن التمسك بالاطلاق في اثبات التوصلية ونفي التعبدية. فلا دليل اجتهاديا
على أحد الامرين، فتصل النوبة قهرا عند الشك في التعبدية والتوصلية إلى
الأصل العملي من برائة أو اشتغال. فيقع الكلام فعلا في..
المرحلة الثانية: وهي في مقتضى الأصل العملي بعد فرض عدم امكان
التمسك بالاطلاق لنفي التعبدية الذي هو محور الكلام. وعدم قيام دليل على
اثبات التعبدية.
فنقول: ذهب صاحب الكفاية إلى أن الأصل العملي في المقام هو
الاشتغال، فلا بد من الاتيان بقصد القربة تحصيلا للعلم بالفراغ، وانه لا مجال
لجريان البراءة ولو قلنا بها في مسألة الأقل والأكثر. فان الشك في ما نحن فيه
يرجع إلى أن الوظيفة اللازمة هل هي الأقل أو الأكثر؟ لكنه لا يتأتى فيه حكم
الأقل والأكثر (2).
ووجه المحقق النائيني (قدس سره) كلامه بأنه ناظر إلى التفريق بين
الأسباب والمسببات العادية، والأسباب والمسببات الشرعية، فان للشارع
التصرف في الأسباب الشرعية وبيان حدها، فمع الشك فيها بين الأقل والأكثر
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 115 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 75 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
469

يرجع فيه إلى البراءة لأنها مجعولة شرعا. بخلاف الأسباب العادية، فإنه ليس
للشارع التصرف فيها باعتبار ان تأثيرها في المسببات تكويني لا جعلي، فإذا
تردد السبب العادي بين أن يكون الأقل أو الأكثر لم يكن المورد مجرى البراءة
لان المرفوع بها ما يمكن جعله شرعا وليس السبب العادي بخصوصياته من
مجعولات الشارع. وبما أن الشك فيما نحن فيه يرجع إلى الشك في دخل قصد
القربة في الغرض لا في المأمور به لفرض عدم امكان اخذه فيه، فمرجع الشك
في التعبدية إلى الشك في دخل قصد التقرب في الغرض، ولا يخفى ان تأثيره في
ترتب الغرض - لو كان - ليس بجعلي وانما تأثير تكويني، فليس للشارع رفعه
بالبراءة. فيكون مقتضى الأصل هو الاشتغال لا البراءة.
وأورد عليه بعد ذلك: بأنه فاسد مبنى وبناء.
اما المبنى، فلعدم الفرق بين المسببات العادية والشرعية في كون الشك
في ترتبها على أسبابها مجرى قاعدة الاحتياط، ولذا يقرر الاحتياط عند الشك
في تحقق الطهارة بفقدان بعض خصوصيات الوضوء وهو أمر مسلم.
واما البناء، فببيان ان متعلقات التكاليف ليست نسبتها إلى الغرض نسبة
السبب إلى المسبب، وانما نسبتها إليه نسبة المعد للمعد له (1). وقد بين ذلك بنحو
مفصل ليس تحقيقه محل بحثنا فعلا، وانما ذكرنا ملخص كلامه، فالايراد الصحيح
على الوجه المذكور ما ذكره من عدم الفرق بين الأسباب والمسببات الشرعية
والعادية في كون الشك في المسببات مطلقا مورد الاحتياط، فالتفريق بين ما نحن
فيه ومسألة الأقل والأكثر بهذا الوجه واللحاظ غير سديد.
لكن الحق ان هذا المعنى ليس مراد صاحب الكفاية، فإنه غير ظاهر من
العبارة أولا، ولا يلتزم بجريان البراءة عند الشك في المسبب الشرعي ثانيا، فلا
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 119 - الطبعة الأولى
470

يمكن ان يجعل وجه التفريق ما لا يلتزم به. فما ذكر في توجيه عبارته غير صحيح.
وقد حمل السيد الخوئي مراد الكفاية على معنى آخر محصله: انه ناظر إلى
جهة الفرق بين البراءة العقلية والبراءة الشرعية الموجبة لعدم جريان الأولى في
مسألة الأقل والأكثر وجريان الثانية، وهي ان الشك في الأقل والأكثر يرجع إلى
الشك في حصول غرض المولى بالأقل والبراءة العقلية لا توجب رفع هذا الشك،
فيلزم الاتيان بالأكثر تحصيلا للغرض اللازم تحصيله. بخلاف البراءة الشرعية
فإنها تقتضي اطلاق متعلق الامر في مرحلة الظاهر الذي يكشف عن حصول
الغرض به.
وعليه، فما نحن فيه حيث يشك في حصول الغرض بدون قصد القربة
فلا تجري البراءة العقلية لعدم ارتفاع الشك بها، كما أنه لا مجال لجريان البراءة
الشرعية، لان المرفوع بها ما يكون قابلا للوضع والجعل الشرعي، فغيره كقصد
القربة لا يكون من مواردها. فيتعين الاحتياط.
وأورد عليه: بان التفكيك بين البراءتين بهذا البيان غير صحيح، لأنه إذا
كان تحصيل غرض المولى لازما عقلا وإن لم يقم عليه دليل شرعي، فجريان
البراءة الشرعية لا يجدي، لان البراءة انما تتكفل نفي المشكوك عن متعلق
الامر، اما نفي دخالته في الغرض فهو أجنبي عن مفادها، فيبقى الشك على
حاله مع جريان البراءة الشرعية، وليس للشارع نفي لزوم تحصيله بعد حكم
العقل بلزومه. وإذا لم يكن تحصيل الغرض لازما إلا بالمقدار الذي تقوم عليه
حجة شرعية، فجريان البراءة العقلية ممكن ومجد، لنفي دخل المشكوك في المتعلق
بها، فيكون الغرض المتقوم به غير لازم التحصيل لعدم الحجة عليه شرعا وعقلا.
ودعوى: عدم امكان جريان البراءة العقلية فيما نحن فيه - كالبراءة
الشرعية - لفرض عدم امكان اخذ قصد القربة في المتعلق فلا يكون موردا
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لعدم امكان البيان.
471

مندفعة: بان المحقق عدم امكان اخذ قصد القربة في المتعلق، وهذا لا
يلازم عدم امكان بيان عدم دخله في الغرض ولو بالجملة الخبرية، فيمكن للمولى
بيان ذلك بنحو الاخبار كما لا يخفى (1).
والانصاف: ان ما حمل عليه كلام الكفاية خلاف ظاهر الكفاية جدا.
مضافا إلى أن الذي يخطر بالبال فعلا ان الوجه في نفي صاحب الكفاية اجراء
البراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر ليس هو الشك في حصول الغرض بدون
المشكوك، فيلزم الاتيان به تحصيلا للغرض، بل من باب العلم الاجمالي بان
متعلق التكليف اما الأقل أو الأكثر وعدم انحلال هذا العلم الاجمالي المانع من
جريان البراءة عقلا لعدم كون العقاب بلا بيان بعد وجود العلم الاجمالي. وهذا
المعنى كما لا يخفى لا ينطبق على ما نحن فيه، إذ لا علم اجماليا بل يعلم تفصيلا
بعدم أخذ قصد القربة في المتعلق، فالمسألة في الحقيقة يختلف موضوعا عن مسألة
الأقل والأكثر، لان متعلق التكليف معلوم الحد ولا شك فيه. نعم الامر يدور بين
الأقل والأكثر في مقام الامتثال لا في متعلق التكليف.
والحاصل: ان اجراء أصالة الاشتغال ليس من باب كون المقام من قبيل
المسببات التوليدية العبادية ولا من باب لزوم تحصيل الغرض، بل من جهة
أخرى وهي لزوم إطاعة امر المولى. بيان ذلك: انه بعد تعلق الامر بذات العمل
فقط دون قصد القربة، يشك في أن الامر هل يسقط بمجرد الاتيان بالفعل أو
لا بد من ضم قصد القربة إليه؟. ومنشأ الشك هو الشك في حصول الغرض بدون
قصد القربة، فإنه يوجب الشك في سقوط الامر لان الامر معلول للغرض
والمعلول تابع لعلته وجودا وعدما. فإذا تحقق الشك في سقوط الامر لزم الاحتياط
تحصيلا للعلم اليقيني بالامتثال والإطاعة، فإنه حكم عقلي مسلم من باب لزوم
.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 193 - الطبعة الأولى
472

إطاعة أمر المولى، فما ذكره يبتني على أمرين: أحدهما: حكم العقل بوجوب
إطاعة امر المولى المعلوم تفصيلا. والاخر: تبعية سقوط الامر لحصول الغرض
لأنه عليه ثبوته. فمع الشك في حصول الغرض يشك في حصول الإطاعة فيحكم
العقل بلزوم الاحتياط تحصيلا للإطاعة لا من باب لزوم تحصيل الغرض.
وبالجملة: حكم العقل بالاحتياط هنا بعين الملاك الذي قربنا حكمه فيما
تقدم بتحصيل غرض المولى.
ولا يخفى انه لو التزم بالبراءة العقلية في مسألة الأقل والأكثر بدعوى
انحلال العلم الاجمالي، فلا يلتزم بها هنا للعلم التفصيلي بالمكلف به وعدم الشك
في اخذ قصد القربة في متعلق الامر، وانما الشك في الأقل والأكثر بلحاظ مقام
امتثال التكليف المعلوم المبين لا في متعلق التكليف كي يكون مجرى البراءة
العقلية مع عدم البيان، كما أنه لا تجري البراءة الشرعية، لان موضوعها ما يكون
قابلا للوضع والجعل شرعا دون ما لا يقبل ذلك كقصد القربة.
وبهذا البيان الظاهر من عبارة الكفاية يظهر انه لو التزم بعدم امكان اخذ
قصد القربة في متعلق التكليف، فالأصل العملي هو الاشتغال بلا كلام للزوم
العلم بالامتثال.
واما لو التزمنا بامكان اخذ قصد القربة في متعلق التكليف، فيكون
كسائر الأجزاء والشرائط المشكوكة مجرى لأصالة البراءة فينفي اخذها في
المتعلق بالبراءة كما هو الحال في سائر موارد الأقل والأكثر على ما يأتي تحقيقه في
محله انشاء الله تعالى.
فخلاصة الكلام في الأصل العملي: انه إذا التزمنا بعدم امكان اخذ قصد
التقرب في متعلق الامر كان الأصل هو الاشتغال كما عليه صاحب الكفاية، وإذا
التزمنا بامكان اخذه في متعلق التكليف كان الأصل هو البراءة. فالأصل يختلف
باختلاف المبنيين فتدبر.
473

الدواعي القربية
وبعد كلا هذا لا بأس بصرف الكلام إلى تحقيق ما يتحقق به التقرب وما
به قوام العبادة.
وقد أفاد المحقق الأصفهاني في هذا المقام ما حاصله: ان استحقاق المدح
والثواب عقلا على شئ يتوقف على أمرين:
الأول: ان ينطبق عنوان حسن بالذات أو بالعرض عليه، والا فمجرد
المشي إلى السوق لا يمدح عليه العقلاء ما لم يتعنون بعنوان حسن، حتى إذا
جئ به بداعي الامر لان الداعي المذكور لا يوجب المدح ما لم يوجب تعنون
الفعل بعنوان حسن.
الثاني: ان يؤتى به مضافا إلى من يستحق من قبله الثواب والمدح، فان
الفعل بدون ارتباطه بالمولى نسبته إلى المولى وغيره على حد سواء. وارتباط
الفعل بالمولى تارة: يكون بنفسه كتعظيم المولى. وأخرى: بواسطة الامر
كالصلاة فإنها بنفسها لا يمكن ربطها بالمولى، لأنها ليست من الأفعال المضافة
إلى الغير نظير التعظيم.
وعليه، فالاتيان بالفعل بداعي الامر يكون موجبا لاستحقاق المدح،
لأنه بذلك يتعنون بما هو حسن في نفسه وهو الانقياد والاحسان مع ارتباطه
بالمولى بقصد امره. اما الاتيان به بالدواعي القريبة الأخرى كداعي أهلية
المولى أو الشكر والتخضع أو المصلحة أو تحصيل الثواب والفرار من العقاب،
فلا يوجب مدحا ولا ثوابا. بيان ذلك:
اما داعي أهلية المولى، فموضوعه العبادة الذاتية، وهو ما كان حسنا في
474

ذاته، لان ما لا يكون بذاته حسن لا يكون المولى أهلا له، وإذا فرض ان مورده
هو العبادة الذاتية وما هو حسن في ذاته فهو مرتبط ومضاف إلى المولى بذاته -
لغرض كونه عبادة للمولى -، فلا يكون هذا الداعي موجبا لربطه بالمولى ولا
لحسنه، بل هو في طول الداعي المقرب فيمكن أن يكون بنحو داعي الداعي.
ومثله الكلام في داعي الشكر والتخضع ونحوهما، فان الاتيان بالفعل
بهذه الدواعي يتوقف على كون الفعل بنفسه شكرا وتخضعا كي يؤتى به بهذا
الداعي، إذ لو لم يكن كذلك لا معنى لان يؤتى به للشكر، لأنه ليس شكرا، ومع
فرض كونه شكرا في نفسه أو تخضعا فيكون بنفسه ذا عنوان حسن ومرتبطا
بالمولى أو منتهيا إلى ما يكون كذلك، فلا يكون الداعي مقوما للتقرب بل هو
في طوله.
واما داعي استحقاق الثواب أو الفرار من العقاب، فهو أيضا في طول
العبادية والتقرب، لان الفعل بنفسه لا يوجب الثواب ما لم يكن عباديا وذا
عنوان حسن ومرتبطا بالمولى، ومعه يكون داعي الثواب غير مقوم لاستحقاقه
لفرض ان نفس الفعل مؤثر فيه لاجتماع كلا الجهتين فيه. وهكذا الفرار من
العقاب، فإنه إذا لم يكن بنفسه موجبا لمنع العقاب لا يتجه الاتيان به بهذا
القصد، ولا يكون الفعل مانعا عن العقاب إلا بكونه حسنا ومرتبطا بالمولى.
واما داعي المصلحة، فان قصدت المصلحة بما انها فائدة ونفع، فلا اشكال
في عدم كون الداعي مقربا، إذ لا ارتباط للفعل بالمولى كما أنه لا يكون حسنا
بمجرد ترتب فائدة عليه. اما إذا قصد الاتيان به بداعي المصلحة بلحاظ انها
داعية للمولى إلى الامر لولا المزاحمة بالأهم أو غفلته ومن باب رغبة المولى في
تحققها، فيكون مقربا لانطباق عنوان حسن عليه وهو الانقياد وارتباطه بالمولى،
بل الانقياد في هذا الحال أعظم منه في صورة وجود الامر كما لا يخفى (1).
.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 129 - الطبعة الأولى
475

هذا محصل كلامه (قدس سره). ويقع الكلام في جهات ثلاث من كلامه:
الجهة الأولى: فيما أفاده من تقوم استحقاق المدح والثواب على الفعل
باشتماله على أمرين العنوان الحسن وارتباطه بالمولى.
وتحقيق الحق فيها: ان الاستحقاق تارة: يراد منه أن يكون للمستحق
على غيره حقا في عهدته له المطالبة به ويلزم الوفاء به ممن عليه الحق. كالحق
الثابت بالمعاملة البيعية ونحوهما. وأخرى: يراد منه قابلية المستحق لما استحقه
وشأنيته ولياقته، بمعنى انه لو أعطي ذلك، كان في محله لا ان له حقا لازما في
عهدة غيره، وبعبارة أخرى: يراد بالاستحقاق تارة: انه له حق لازم في العهدة.
وأخرى: انه ذو لياقة للحق واستعداد. والمراد به فيما نحن فيه هو المعنى الثاني،
فالكلام في أن العبد بأي فعل يكون لائقا للمدح والثواب، بحيث إذا مدحه
العقلاء يكون المدح في محله ولا يكون ارتجاليا وبدون ما بإزاء، لا المعنى الأول
فإنه ليس محل الكلام، كما يصرح به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته.
بملاحظة المعنى الثاني يمكن الجمع بين القول بان الثواب على العمل من باب
الاستحقاق والقول بأنه من باب التفضل، فيراد من الاستحقاق اللياقة للثواب
لا لزومه وثبوته في عهدة المولى.
وعلى كل، فالكلام في ما تتحقق به لياقة العبد للثواب والمدح ولا يخفى
انه لا يلزم اشتمال الفعل المحقق لذلك على الامرين، بل كونه ذا عنوان حسن
كاف في لياقته للمدح من العقلاء، وذلك فان المكلف إذا جاء بما هو حسن عند
العقلاء يكون بنفس هذا الفعل وإن لم يربطه بأي جهة ذا لياقة للمدح، بحيث
إذا مدح وجوزي عليه كان ذلك عن لياقة ولا يكون كمن لم يفعل أصلا، وبما أن
الشارع سيد العقلاء ورئيسهم فالعبد يكون لائقا لمدحه الذي هو الثواب،
وعليه فلا يلزم أن يكون الفعل الحسن مرتبطا بالمولى، إذ لياقة الجزاء والمدح
تتحقق بفعل الحسن سواء أضافه إلى المولى أو لم يضفه. نعم قد يكون الفعل
476

بذاته لا يشتمل على عنوان حسن، وانما يتقوم حسنه بإضافته إلى المولى بالاتيان
به بداعي أمره أو بداعي محبوبيته للمولى، فيستحق العبد الثواب بذلك لكنه
غير لزوم اضافته إلى المولى في استحقاق الثواب، بل من باب انه لا يكون حسنا
- الذي هو ملاك الاستحقاق - إلا بإضافته لتعنونه حينئذ بعنوان الخضوع
والتخشع. ومن هنا يظهر ان البحث مع المحقق الأصفهاني علمي لا عملي، لان
سائر العبادات الفعلية من صلاة ونحوها ليست بنفسها ذات عناوين حسنه، بل
يتقوم حسنها بإضافتها إلى المولى بالاتيان بها بداعي الامر، فاستحقاق الثواب
عليها لا يكون الا مع اضافتها إلى المولى لتقوم حسنها بذلك.
وجملة القول: ان استحقاق الثواب والمدح بمعنى لياقة العبد لهما - الذي
هو المقصود بالبحث - لا يتوقف الا على الاتيان بفعل حسن. غاية الامر ان
الحسن قد يتوقف على اضافته للمولى ولكنه لا يعني تقوم الاستحقاق بالإضافة
إلى المولى فلاحظ.
الجهة الثانية: فيما أفاده من أن قصد الخضوع والتعظيم ونحوهما يتوقف
على أن يكون الفعل في نفسه قابلا لذلك كي يكون ذلك داعيا إليه، إذ لا يصلح
ما لا يكون مترتبا على نفس الفعل أن يكون داعيا إلى الفعل. فإنه قد وقع
الكلام بالنسبة إلى قصد التعظيم مع أن التعظيم لا يتحقق الا بالقصد
وبدونه لا يعد الفعل تعظيما، وجرى البحث في أن التعظيم هل هو من الأمور
الاعتبارية أم انه من الأمور الواقعية؟ وتحقيق هذه الجهة بالنسبة إلى التعظيم
ونحوه لا يهمنا فعلا وليس محله هنا، بل له مجال آخر فنوكله إليه.
الجهة الثالثة: فيما قرره من أن الانقياد الناشئ عن الاتيان بالفعل
لاحتمال الامر أو لملاكه مع عدمه أعظم لدى العقلاء من الانقياد الناشئ عن
الاتيان بالفعل للامر في صورة وجوده. فان هذا الامر وقع محل البحث في مسألة
جواز الاحتياط والامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي التي جزم
477

فيها المحقق النائيني (رحمه الله) بعدم جوازه وعدم تحقق الإطاعة به، لان
الإطاعة التفصيلية مقدمة على الاجمالية واكتفى بهذا المقدار من الدعوى
والدليل الذي هو دعوى أيضا (1). وفي قباله جزم المحقق الأصفهاني (رحمه
الله) بجواز الامتثال الاجمالي لان الانقياد عن احتمال الامر أعظم من الانقياد
عن وجود الامر.
ولم يحقق البحث بشكل يتضح به أحقية أحد الرأيين، بل اكتفى سلبا
وايجابا بما يشبه الدعوى. فلا بد لنا من تحقيقه هنا. كما أنه لا بد من معرفة
موضوع النزاع وما يدور عليه النفي والاثبات واقعا وفي الحقيقة، فنقول: الكلام
ليس في حسن الانقياد فإنه ليس من أحد ينكر حسن الانقياد ومقربيته. وانما
الكلام في أن الانقياد هل هو من صفات الفاعل فقط والفعل على ما هو عليه
في الواقع، أو انه يوجب تعنون الفعل بعنوان حسن ويستلزم طرو عنوان الحسن
على الفعل المنقاد به؟. فإذا كان الانقياد من صفات الفاعل ولا يسري حسنه
إلى الفعل لم يكن الفعل مقربا فلا يتحقق به الامتثال الا إذا كان بذاته حسنا.
وإذا كان حسنه يسري إلى نفس الفعل ويكون الانقياد من عناوين الفعل لا
من صفات الفاعل يكون نفس الفعل مقربا فيتحقق به الامتثال والإطاعة.
ومثل هذا الكلام يجري بالنسبة إلى التجري، فيقال ان التجري القبيح من
صفات الفاعل أو انه من العناوين المنطبقة على الفعل فيكون نفس الفعل
قبيحا؟. كما يجري نظيره في التشريع، فيقال انه هل ينطبق على نفس الفعل
فيكون الفعل محرما ولذا يفسد إذا كان عبادة، أو لا ينطبق عليه بل هو من
صفات الفاعل فلا يكون الفعل بنفسه محرما.
وبالجملة: فيقع البحث في أن الانقياد من صفات الفاعل أو من صفات
.

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 2 / 26 - الطبعة الأولى
478

الفعل وعناوينه المتقومة به، ولا بد من تحقيق هذه الجهة. ولا يخفى ان الشك في
ذلك يقتضي بعدم جواز الانقياد في مقام الامتثال للشك في تحقق الامتثال به مع
الشك في هذه الجهة. وعلى كل..
فالحق: ان الانقياد من صفات الفاعل وموجب لحسن الفاعل لا الفعل
ولا ينفك الفعل المنقاد به عن عنوانه المبغوض لو كان في نفسه كذلك. والسر في
ذلك: انا نرى بالوجدان ان الفعل قد يكون مبغوضا فعلا مع تحقق الانقياد به،
فلو كان الانقياد من صفات الفعل لزم أن يكون الفعل حسنا، وهو لا يجتمع مع
المبغوضية الفعلية. ومن هنا يقال إنه لو صلى في الدار المغصوبة جهلا - بناء على
امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة - لم تصح صلاته لأنها مبغوضة
في حال الاتيان بها، مع أنه يؤتى بها بقصد الإطاعة، فلا تكون مقربة.
وبالجملة: تحقق الانقياد بالفعل المذموم والمبغوض في نفسه بالفعل امر لا
اشكال فيه ويشهد له ملاحظة الأمثلة العرفية الكثيرة - فلو ضربك شخص
بداعي الاحترام لتخيل ان هذا مصداق الاحترام، فان الضرب لا يخرج
بمقارنته للداعي المذكور عن المبغوضية لديك - ولو كان حسن الانقياد يسري
إلى الفعل كان الفعل المنقاد به ممدوحا ومرغوبا فيه لا مبغوضا. فالحق ان الانقياد
من صفات الفاعل لا الفعل.
ومن هنا يكون الاحتياط من باب الانقياد غير مجز وليس بموجب
للامتثال، سواء كان الامتثال التفصيلي ممكنا أو لم يكن ممكنا، فلا يكون
الاحتياط في عرض الامتثال التفصيلي، كما لا يكون في طوله أيضا لعدم كون
الفعل به مقربا.
إلا أن يدعى: بان الاكتفاء به مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي،
لالزام العقل به بعد دوران الامر بينه وبين الاتيان بالفعل بداع آخر غير موجب
للحسن الفاعلي ولا الفعلي، والاتيان بالفعل لا بأي داع لأنه أفضل الافراد، إذ
479

يرى العقل انه مع التمكن من الاتيان بالفعل المأمور به جزما فلا أقل من
الاتيان بما يوجب الحسن الفاعلي والقرب من جهة الفاعل. فان الانقياد من
جهة الحسن الفاعلي أعظم من الإطاعة، لأنه يكشف عن زيادة قرب العبد من
المولى وكونه في مقام العبودية بنحو أشد وآكد.
وبالجملة: الاكتفاء بالاحتياط مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي
لاجل انه أيسر الافراد المقربة - ولو فاعليا لا فعليا - وأفضلها.
ولكن التحقيق هو صحة الاحتياط مطلقا حتى مع التمكن من الامتثال
التفصيلي، لكن لا بملاك الانقياد بل بملاك الإطاعة والموافقة. بيان ذلك: ان
الأثر في كفاية الاحتياط في مقام الامتثال والثمرة انما يظهر في مورد يكون الامر
المحتمل ثابتا في الواقع. فيقال: ان الامتثال الاجمالي هل يكفي في اطاعته
وسقوطه أم لا؟. اما مع عدم وجوده واقعا فلا أثر للكلام في الاكتفاء بالاحتياط
لعدم موضوع الاكتفاء وهو الامر الواقعي.
وعليه، فلما كان الاحتياط عبارة عن الاتيان بهذا الفعل بداعي موافقة
الامر الواقعي وامتثاله على تقدير وجوده واقعا، فإذا فرض ان الامر الواقعي
موجود واقعا فقد تحقق الاتيان بالفعل بداعي موافقته، لان المفروض انه علق
هذا المعنى وهو الاتيان بالفعل بداعي موافقة الامر الواقعي على تقدير حاصل،
وهو وجود الامر واقعا، وإذا وجد المعلق عليه يحصل المعلق قهرا طبعا، وقد علمت
ان المعلق هو الفعل بداعي موافقة الامر الموجود واقعا.
وبالجملة: المعتبر هو الاتيان بالفعل بداعي الموافقة، وقد تحقق عن قصد
واختيار لأنه قصد بنحو التعليق وفرض حصول المعلق عليه، - وهذا نظير ما لو
قصد تعظيم شخص إذا كان زيدا، فظهر انه زيد فإنه يقال إنه عظم زيدا، لأنه
قصد تعظيمه وإن لم يعلم بذلك، لكنه قصد معلقا وقد ثبت المعلق عليه -.
ولا
يخفى ان الفعل بذلك يكون حسنا ومقربا لأنه يتعنون بعنوان موافقة الامر
480

وتبعيته وأداء الوظيفة الثابتة في العهدة، وهو من العناوين المقربة المحسنة كما لا
يخفى.
وعليه، فالاحتياط والامتثال الاجمالي يكون في عرض الامتثال التفصيلي
بملاك الإطاعة والموافقة لا الانقياد.
وملخص الكلام: انه بعد الاحتياط والاتيان بالامتثال الاحتمالي اما أن يكون
هناك أمر في الواقع أو لا يكون. فإن كان أمر في الواقع فقد تحققت
اطاعته بالفعل وقصدت موافقته كما عرفت. وإن لم يكن امر فلا كلفة عليه.
فالاحتياط موجب للاطمئنان في مقام الامتثال وعدم بقاء العبد في الحيرة من هذه
الجهة، فيحكم العقل باجزائه كما يحكم باجزاء الامتثال الجزمي. فلاحظ.
يبقى الكلام في أمر خارج عما نحن فيه، لكن نذكره استطرادا لعدم
وقوع البحث عنه مستقلا، وهو التشريع.
ويقع الكلام في أنه من صفات الفعل أو الفاعل. والثمرة انه لو كان من
صفات الفعل كان مفسدا للعبادة لو تحقق فيها أو في بعض اجزائها. بخلاف ما
إذا كان من صفات الفاعل - كما التزم به صاحب الكفاية (1) - فإنه لا يسري
قبحه إلى الفعل كي يفسده إذا كان عبادة.
والحق انه من صفات الفاعل لا الفعل، وذلك لان التشريع كما يعرف
عبارة عن ادخال ما ليس في الدين في الدين. ولا يخفى ان الدين لا يتقوم
بالأفعال الخارجية وانما يتقوم بالاحكام الكلية، اما الفعل الخارجي الذي يطرء
عليه الحكم فليس من الدين، بل الدين هو الأحكام الكلية الشرعية. وعليه
فالادخال في الدين انما يتصور بالنسبة إلى الاحكام بالبناء والالتزام بحكم مع عدم
كونه ثابتا، ونسبته إلى الشارع مع عدم تحقق ثبوته، اما نفس موضوعه الخارجي
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 187 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
481

المطابق له فليس يتصف بعنوان التشريع إذ لا ينطبق عليه تعريفه. فالتشريع
صفة وعنوان للفعل النفسي أعني البناء والالتزام بان هذا حكم الله وليس من
صفات الفعل المأتي به خارجا الذي هو موضوع التشريع.
ويشهد لما ذكرنا: انهم استدلوا (1) على حرمة التشريع بالآية الكريمة:
(قل ء الله اذن لكم أم على الله تفترون) (2)، مع أن الافتراء على الله انما يكون
بنسبة امر له غير صادر منه، وليس الافتراء يتحقق بالفعل الخارجي، بل يتحقق
بالكذب على الله اما قولا أو بناء والتزاما كما لا يخفى.
وبالجملة: التشريع مساوق للبدعة المتحققة باثبات حكم في الشريعة
غير ثابت عن الله، وهو أجنبي عن موضوع الحكم المجهول ومتعلقه الخارجي.
فكون التشريع من صفات النفس والفاعل لا الفعل أمر ظاهر جدا، فلاحظ
وتدبر.
تذييل: هل يعتبر في صحة العبادة ومقبر بيتها وسقوط الامر بها إضافتها إلى
المولى من طريق الامر الثابت المقصود امتثاله واسقاطه، أو لا يعتبر ذلك، بل
يكفي في سقوط الامر وقوع العبادة بنحو قربي وبداع مقرب وإن لم يكن
بإضافته من طريق الامر؟.
بيان ذلك: ان الامر العبادي لا اشكال في سقوطه بالاتيان بمتعلقه بقصد
امتثاله وإطاعته، ولكنه هل يعتبر ذلك في سقوطه، أو انه يكفي فيه الاتيان
بمتعلقه مع ربطه بالمولى واضافته إليه ولولا من طريق هذا الامر بل بطريق
غيره؟. والكلام يقع في موردين:
المورد الأول: موارد التداخل، كما إذا تعلق أمران بطبيعة واحدة ولم يكن
.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 33 - الطبعة الأولى.
(2) سورة يونس الآية: 59
482

متعلق كل منهما قصديا يتوقف حصوله على القصد إليه، وقيل بامكان الاتيان
بفرد واحد بداعي امتثال كلا الامرين فيسقطان معا ويتحقق امتثالهما، وذلك
نظير ركعتي الغفيلة وركعتي النافلة، فان الامر قد تعلق بكل منهما، لكنه حقق انه
يجتزي مع قصد الغفيلة والنافلة بركعتين فقط ولا يحتاج إلى أربع ركعات، فيقال
حينئذ: انه هل يكفي في سقوط الامر بالنافلة الاتيان بركعتين بقصد الغفيلة
بدون قصد امتثال امر النافلة بدعوى كفاية إضافة الفعل إلى المولى من طريق
الامر بالغفيلة في امتثال الامر بالنافلة فتحتسب الركعتان غفيلة ونافلة، أو لا
يكفي في سقوطه إلا بقصد امتثال الامر بالنافلة؟، فلا تحتسب الركعتان إلا عن
الغفيلة لقصدها بخصوصها. ولا يخفى ان الكلام يبتني على أن لا يكون
عنوان النافلة من العناوين القصدية كعنوان التعظيم، بل من العناوين الواقعية
المتحققة بذات العمل، فإنه لو كان من العناوين القصدية لا يتحقق امتثال أمرها
بدون قصدها لعدم تحقق متعلق الامر - أعني النافلة - بدون قصده، بخلاف ما
لو كان من العناوين الواقعية، فان المتعلق حاصل وإن لم يقصد وانما الاشكال
في تحقق الامتثال به بدون قصد امره، كما أنه يبتني على عدم استظهار إرادة
فردين من الدليل لا فرد واحد، والا لم يصح التداخل، فلاحظ.
المورد الثاني: موارد توهم الامر والاتيان بالفعل بداعي الامر المتوهم، كما
لو تخيل انقضاء الوقت فصلى بنية القضاء ثم تبين ان الوقت باق وانه لا أمر
بالقضاء، فهل تكفي صلاته بنية القضاء في سقوط الامر بالأداء أو لا تكفي؟.
اما مورد تعدد الامر والاتيان بالفعل بداعي امتثال أحد الامرين فلا
اشكال في كونه مسقطا للامر الثاني غير المقصود امتثاله، لان الفعل المأتي به
متوفر على جوانب العبادية ومحققاتها على أي بناء في تحقق العبادة، سواء قلنا
بكفاية تعنون المأتي به بعنوان حسن في العبادية والمقربية أو اعتبرنا اضافته إلى
المولى. فإنه مضافا إلى كونه بعنوان حسن وهو عنوان تبعية المولى
483

واطاعته وموافقة أوامره مضاف إلى المولى ومرتبط به، لأنه قد أتى به بداعي
امتثال امره، فهو مقرب وعبادة بلا كلام، ولا يخفى ان الامر العبادي ما يسقط
بالاتيان بمتعلقه بنحو عبادي وقربي، فيسقط الامر الثاني غير المقصود، إذ قد
جئ بمتعلقه بنحو عبادي وقربي وإن لم يربط بالمولى من طريقه ولا دليل على
أكثر من ذلك.
واما مورد توهم الامر، فحيث إن الامر المقصود امتثاله لا وجود له فلا
يتعنون الفعل بعنوان موافقة الامر ولا يكون الفعل في نفسه ذا عنوان حسن ولا
يكون في البين سوى صفة الانقياد الحسنة، فان قلنا بان الانقياد من صفات
الفعل فيكون الفعل به حسنا، اكتفي بالفعل في امتثال الامر الموجود غير
المقصود لوقوعه بنحو عبادي مقرب، فيكون قد أتى بمتعلق الامر بنحو عبادي.
واما إذا قلنا - كما هو الحق على ما عرفت - بان الانقياد من صفات الفاعل لا
الفعل لم يكن الفعل بنفسه عباديا ومقربا، فلا يكفي في سقوط الامر فلاحظ
جيدا وتدبر.
هذا تمام الكلام في الواجب التعبدي والتوصلي بالمعنى الأول - أعني ما
لا يسقط الامر به الا بالاتيان به بقصد القربة ويقابله التوصلي -.
ويقع الكلام فعلا في التعبدي بالمعنى الثاني، وهو ما أشرنا إليه في صدر
المبحث من: انه ما لا يسقط به الامر الا بالمباشرة وأن يكون عن إرادة واختيار.
وان لا يكون بفعل محرم. ويقابله التوصلي وهو ما يسقط به الامر ولو لم يكن
بالمباشرة، أو عن إرادة واختيار. أو بفعل غير محرم. وموضوع الكلام هو ان
مقتضى الأصل في الواجبات هل يقتضي المباشرة، أو الإرادية أو عدم تحققه
بفعل محرم أو لا؟، فيقع الكلام في مقامات ثلاثة:
المقام الأول: في أن مقتضى الأصل الأولي في الواجب هل هو المباشرة
فلا يسقط الامر بفعل الغير أو لا؟.
484

وهذه الجهة لم تنقح في كلام الاعلام بالنحو اللازم، وقد وقع الخلط في
كلامهم بين ما يرتبط بها وما لا يرتبط، ولا بد من تحقيق النيابة قبل التعرض
لأصل الكلام في لزوم المباشرة وجواز الاستنابة. وتحقيق الحال في النيابة بنحو
تعرف وجه الغموض الذي سنشير إليه في كلمات بعض الاعلام: ان الكلام فيما
يرتبط بالنيابة..
تارة: يوقع في معنى النيابة وبيان حقيقة كون الشخص نائبا عن الاخر.
فهل النيابة تنزيل الشخص النائب نفسه منزلة المنوب عنه فيكون وجودا تنزيليا
للمنوب عنه؟، أو انها تنزيل النائب عمله منزلة عمل المنوب عنه؟. أو انها لا
ترتبط بالتنزيل، بل هي عبارة عن الاتيان بالعمل بداعي ترتب آثاره الوضعية
والتكليفية في حق المنوب عنه كالاتيان بالصلاة بداعي ترتب سقوط الامر
المتعلق بالمنوب عنه أو ترتب حصول الثواب عليه للمنوب عنه أو نحو ذلك؟.
ولا يخفى ان تحقيق معنى النيابة واختيار أحد هذه المعاني لا يرتبط بما نحن فيه
أصلا، بل الكلام فيما نحن فيه من كون الأصل صحة النيابة في الفعل الواجب
وعدمها جار على جميع هذه التقارير في معنى النيابة، فلا يهمنا فعلا تحقيق ذلك
فله محل آخر.
وأخرى: يوقع الكلام في أن ظاهر الدليل المتكفل للامر بشئ هل تعلق
الامر بالفعل أعم من أن يوجده المكلف مباشرة وتسببيا أو لا؟. وقبل ايضاح
ذلك نشير إلى شئ وهو ان الأفعال التسبيبية الصادرة من غير المسبب على
نحوين:
نحو ينسب إلى المسبب، كما ينسب إلى الفاعل على حد سواء كالقتل،
فإنه لو سبب شخص ان يقتل آخر شخصا، فإنه يقال عرفا أنه قتل ذلك
الشخص كما يقال ذلك لمن باشر القتل. ومثل هذا على قسمين: الأول: ما يكون
له ظهور - ولو بواسطة القرينة العامة - في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء
485

والخياطة ونحوهما، فان اطلاقهما ظاهر في إرادة التسبيب لا المباشرة. والاخر: ما
لا ظهور له في ذلك كالقتل فإنه لا ينصرف إلى القتل التسبيبي.
ونحو لا ينسب إلى المسبب مهما ضعفت إرادة الفاعل وقويت إرادة
المسبب كالأكل والمشي، فإنه لو سبب زيد ان يمشي عمرو أو يأكل بنحو أكيد
وشديد بحيث كان عمرو مسلوب الإرادة تقريبا، فلا يقال عن زيد انه مشى أو
اكل، بل ينسب الفعل إلى الفاعل فقط.
فالأفعال التسبيبية على نحوين: ما ينسب إلى المسبب كما ينسب إلى
المباشر. وما لا ينسب إلى المسبب وهذا امر عرفي واضح. ولولا خوف حصول
التطويل لأشرنا إلى ضابط كل نحو من الأفعال.
وعلى كل فكل فعل يمكن ان يكلف به الشخص بنحو المباشرة وعلى
ان يأتي به بنفسه، ويمكن ان يكلف به أعم من المباشرة والتسبيب بان يكلف
بايجاد هذا الامر في الخارج سواء بنفسه أو بتسبيبه لحصوله من الغير. فان امكان
صدور الفعل من الغير بتسبيبه بحيث يكون لتسبيبه جهة دخل في حصول
الفعل ولولاه لما حصل، يصحح تعلق الحكم بفعل الغير بلحاظ هذا المعنى.
فيقع الكلام في أن مقتضى الدليل الأولي هل هو تعلق الحكم بالفعل
المباشري أو الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. ويظهر مما ذكرنا أن ثبوت سقوط
التكليف بالفعل التسبيبي الصادر من الغير مرجعه إلى كون الواجب أمرا تخييريا
مرددا بين فعل الشخص مباشرة والفعل تسبيبا، فيصير المورد من دوران الامر
بين التعيين والتخيير، لان الفعل التسبيبي إذا كان محصلا للغرض فلا وجه
لتعيين الفعل المباشري على المكلف.
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) نفى ذلك بوجهين:
الأول: ان الاستنابة إذا كانت طرفا للوجوب التخييري كان مقتضى
ذلك سقوط الوجوب بمجرد الاستنابة، وهو باطل جزما لعدم فراغ ذمة الولي
486

بمجرد الاستنابة قطعا.
الثاني: ان الاجماع قام على جواز التبرع في كل ما تدخله النيابة، ولا
معنى لكون فعل الغير من أطراف الوجوب التخييري (1).
ويرد على الأول: ان طرق التخيير ليس هو الاستنابة، بل فعل الغير
الصادر بتسبيب المكلف، فلا يسقط التكليف بمجرد الاستنابة.
ويرد على الثاني: ان فعل الغير تبرعا إذا كان مسقطا يكون من مصاديق
سقوط الواجب بغيره، وهو ليس ممتنعا، بل قد التزم بسقوط وجوب الصلاة على
الميت بفعل الصبي المميز. وذلك لا ينافي كون الفعل التسبيبي طرفا للوجوب
التخييري.
ثم لا يخفى عليك ان محل الكلام في دوران الامر بين المباشرة أو الأعم
منها ومن التسبيب انما هو في غير القسم الأول من أقسام الأفعال التي أشرنا
إليها مثل البناء، لان هذا القسم عرفت أن الظهور الأولي فيه ما يعم الفعل
التسبيبي فلا شك فيه كما لا يتأتى في القسم الثالث إذ أضيفت المادة إلى المكلف
مثل: (كل) و: (قم) لان فعل الغير لا يسند بحال إلى المكلف فلا معنى للتخيير
فيه إذا كان المطلوب أكل وقيام المكلف نفسه وانما يقع البحث في هذا القسم إذا
لم يتعلق التكليف بالمادة المضافة إلى المكلف، بل توجه التكليف إلى الشخص
بايجاد المادة بلا إضافتها إليه، كما لو قال المولى: (أريد منك ايجاد أكل هذا
الطعام)، فإنه كما يتحقق بالايجاد المباشري يتحقق بالايجاد التسبيبي كما يقع
في القسم الثاني وهو ما ينسب إلى المكلف مع التسبيب لكن لا ظهور له أوليا في
الأعم منه كالقتل. فمحل الشك هذان القسمان وقد عرفت رجوع الشك إلى
دوران الامر بين التعيين والتخيير.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 98 - الطبعة الأولى
487

ولا يخفى ان صحة التسبيب واسقاطه الامر ولو دل الدليل عليها لا
يقتضي سقوط الامر بفعل الغير تبرعا وبدون تسبيب، بدعوى أن صحة السبب
تكشف عن أن المصلحة تتحقق بمجرد حصول الفعل في الخارج من أي شخص
كان.
وذلك لامكان أن لا تتقوم المصلحة بنفس الفعل وذاته بل بالفعل المستند
وجوده إلى هذا الشخص بنحو استناد، اما المباشرة أو بالتسبيب. فإذا دل
الدليل على إجزاء فعل الغير عن تسبيب فلا يلازم اجزاء فعل الغير لا عن
تسبيب، بل تبرعا لعدم استناده إلى المكلف، وامكان تقوم المصلحة بجهة استناد
وجود الفعل إليه.
كما أنه لا ملازمة بين صحة التسبيب وبين صحة النيابة في الفعل، فإذا
دل الدليل على اجزاء التسبيب فلا دلالة له على اجزاء الاستنابة، وذلك لان
جواز التسبيب يقتضي اجزاء فعل الغير وسقوط الامر به إذا وقع عن تسبيب
إليه، ومن الظاهر أن الغير لا يقصد بفعله النيابة عن المسبب، بل يأتي بالفعل
استقلالا فيسقط الامر بمجرد ذلك. ومن المعلوم أنه لا يكفي في باب النيابة مجرد
اتيان الغير بالفعل، بل لا بد من انضمام خصوصية قصد النيابة - بأي معنى
فسرنا النيابة - إليه، فاتيان الفعل لا يكفي في سقوط الامر - في باب
النيابة -، بل يعتبر أن يكون الاتيان به مع القصد الخاص في سقوط الامر. وعليه
فباب النيابة غير باب تعلق الامر بالفعل أعم من المباشري والتسبيبي.
وانما النيابة عبارة عن الاتيان بالفعل بقصد خاص، فيقع الكلام في أن
مقتضى الأصل الأولي والدليل المتكفل لثبوت الحكم للفعل هل هو عدم سقوطه
إلا بفعل الشخص نفسه أو يسقط بفعل الغير مع القصد الخاص؟.
وليعلم انه إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فلا ملازمة بينها وبين صحة
مطلق النيابة، فلا يدل على سقوط الامر بفعل الغير بقصد النيابة تبرعا وبدون
488

تسبيب، وذلك لجواز أن يكون الغرض الحاصل بهذا الفعل لا يتقوم بذات الفعل
مع القصد الخاص، بل انما يحصل بالفعل الخاص المستند إلى المكلف بنحو
استناد كالتسبيب، فدلالة الدليل على صحة الاستنابة لا تلازم دلالته على صحة
النيابة مطلقا ولو تبرعا لامكان دخل جهة التسبيب في تحقيق المصلحة وحصول
الغرض، فيكون الغرض حاصلا بفعل الشخص أو بفعل الغير الخاص عن
تسبيب إليه دون غير ذلك.
ومن هنا يعلم ان باب النيابة يرجع إلى أن الغرض من الامر يتحقق
بالفعل الصادر عن الغير بقصد النيابة، إما مطلقا ولو لم يكن عن تسبيب لو دل
الدليل على صحة النيابة بقول مطلق. أو في خصوص ما إذا كان عن تسبيب لو
دل الدليل على صحة الاستنابة فقط. ولكن النيابة في كلا الموردين لا يمكن
ارجاعها إلى الوجوب التخييري.
اما المورد الأول: وهو ما كان الغرض يحصل بالفعل الصادر من الغير
بقصد النيابة ولو لم يكن عن تسبيب، فلان فعل الغير بهذه الخصوصية إذا كان
وافيا بالملاك ومحصلا للغرض على نحو فعل الشخص نفسه وبحده بحيث لم يختلفا
في شئ من ذلك كي يتحقق ملاك الوجوب التخييري بينه وبين فعل الشخص
عن استنابة، لزم ان يتوجه الامر لذلك الغير بالفعل بالقصد الخاص لكونه
محصلا للغرض ووافيا بالملاك، فلا وجه لعدم تعلق الامر به أيضا كما تعلق بنفس
الشخص. ومن البديهي ان الامر لا يتعلق بالغير بالاتيان بالفعل النيابي وهو مما
يكشف عن أن الفعل النيابي وان كان محصلا للغرض ومسقطا للامر لكنه بنحو
لا يستلزم تعلق الامر به وقاصر عن جعله أهلا للامر، اما لوجود المانع أو لقصور
المقتضي نفسه. وعليه فكونه مسقطا للامر ومحصلا للغرض لا يستلزم أهليته
لتعلق الامر، وعليه فقيام الدليل على النيابة مطلقا لا تكشف عن كون الاستنابة
أحد طرفي الوجوب التخييري وتعلق الامر التخييري بالفعل والاستنابة، بل
489

غاية ما يدل عليه الدليل كفاية الاستنابة في حصول الغرض وسقوط الامر ولا
ملازمة بين ذلك وبين عليه الغرض الحاصل، للامر التخييري بها. وعليه فارجاع
النيابة إلى الوجوب التخييري لا وجه له ولا دليل عليه.
واما المورد الثاني: وهو ما إذا دل الدليل على صحة الاستنابة فقط لا
مطلق النيابة، فلانه وإن لم يستكشف كون الغرض بنحو غير مؤهل لتعلق الامر،
الا ان الالتزام بان فعل الغير التسبيبي متعلقا للامر التخييري وكونه عدلا لفعل
الشخص نفسه وفي عرضه ينافي قصد النيابة فيه. لان النيابة كما عرفت عبارة
عن تنزيل النائب نفسه أو عمله منزلة نفس المنوب عنه أو عمله. أو عبارة عن
الاتيان بالفعل بداعي ترتب آثاره في حق المنوب عنه، ولا يخفى ان قصد هذه
المعاني يتوقف على أن يكون الامر متعلقا بخصوص فعل الشخص كي ينزل
عمل آخر منزلته أو شخص آخر منزلة المكلف أو الاتيان بعمل بداعي ترتب
آثاره في حق غير الفاعل وهو المنوب عنه، اما إذا كان الامر متعلقا بنفس الفعل
النيابي، فلا معنى للاتيان به بهذه القصود لان فعل المنوب عنه مأخوذ في موضوع
الفعل النيابي الذي يستلزم كونه واجبا ومتعلقا للامر في حال النيابة، بحيث
يكون الداعي للنيابة اسقاط الامر المتعلق به، فيمتنع أن يكون الفعل النيابي
عدلا له - وفي عرضه، إذ معنى ذلك أنه لو جئ بالفعل النيابي كان فعل المنوب
عنه غير واجب أصلا وهو خلف الفرض.
وبالجملة: النيابة في طول تعلق الامر بفعل المنوب عنه، فيمتنع ان تؤخذ
عدلا له وفي عرضه كما هو شان الواجب التخييري.
والمتحصل: انه لا يمكن ارجاع الاستنابة - والمقصود منها عمل الغير
الخاص التسبيبي - إلى الواجب التخييري في كلا الموردين، بل الدليل الدال
على صحة النيابة أو الاستنابة انما يدل على ترتب الغرض على عمل الغير
النيابي مطلقا أو مع التسبيب إليه.
490

وعليه، فمع الشك في صحة النيابة أو الاستنابة لا يرجع ذلك إلى الشك
في التعيين والتخيير، بل يرجع ذلك إلى أن الغرض الباعث للامر هل يتحقق
بالفعل النيابي مطلقا أو عن تسبيب، فيسقط الامر به أو لا يتحقق فلا يسقط
الامر به؟. ومن الواضح ان دليل الحكم لا نظر له إلى هذه الجهة كي تنفى
باطلاقه أو لا تنفى. ولا يرتبط مدلوله بالمشكوك بالمرة، فالمرجع حينئذ هو
الأصل العملي، وهو يقتضي عدم صحة النيابة، لأنه يشك بالفعل النيابي في
سقوط الامر لحصول الغرض وعدم سقوطه لعدم حصول غرضه، فلا يجزم
بحصول الامتثال بالفعل النيابي، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم الاتيان بالعمل
مباشرة لتحصيل العلم بالامتثال. فلاحظ.
هذا تحقيق الكلام في المقام فيما يرتبط بالنيابة والاستنابة.
وقد نهج المحقق النائيني (قدس سره) في تحقيقه نحوا آخر من البيان لا
يخلو عن مؤاخذات. وهي: - مضافا إلى ما تعرض إليه من ذكر احتمالات النيابة
وبناء المسألة عليها، إذ قد عرفت أن تحقيق الكلام في النيابة ومتقضى الأصل
فيها لا يختلف فيه الحال على جميع احتمالات النيابة، فالكلام في معنى النيابة
وتحقيقه له مجال آخر غير ما نحن بصدده من تحقيق ما يقتضيه الأصل في النيابة
- في موارد متعددة من كلامه:
الأول: ما افاده من امتناع ارجاع الاستنابة إلى تعلق التكليف بالعمل
من المكلف، أعم من المباشرة والتسبيب. بتقريب: ان عمل الغير لا يعد عملا
تسبيبيا للمستنيب مع كون النائب ذا إرادة تامة مستقلة، بل العمل عمل النائب
والحال هذه، وليس للمستنيب غير التسبيب وهو غير الواجب، نعم انما يستند
عمل الغير إلى المسبب فيما إذا لم بكن للمباشرة إرادة أصلا أو كانت له ولكن
كانت ضعيفة جدا بحيث يعد العمل عملا للمسبب، كعمل المجانين والصبان
491

الذي يكون عن تسبيب المكلف (1).
وتتضح المؤاخذة في هذا التقريب بما عرفت: من المناط في استناد
العمل إلى الشخص المسبب ونسبته إليه ليس عدم توسط إرادة مستقلة من
المباشر.
إذ هناك من الأفعال ما لا يصح استناده إلى المسبب وإن لم يكن المباشر
بذي إرادة أصلا، أو كان ذا إرادة ضعيفة جدا بحيث تلحق بعدم الإرادة، كالأكل
والمشي ونحوهما من الأفعال والأسباب، فإنه لو سبب شخص ان يأكل مجنون
لا يقال عن المسبب انه أكل كما هو واضح جدا.
كما أن هناك من الأفعال ما تصح نسبتها إلى المسبب كما تنسب إلى
المباشر، وان كان المباشر ذا إرادة تامة مستقلة، كالاحراق والقتل ونحوهما من
المسببات التوليدية.
فالمناط على الاسناد وعدمه ليس على توسط الإرادة وعدمها كما عرفت.
هذا مضافا إلى أن استناد وجود الفعل إلى تسبيب المسبب بحيث لولا
تسبيبه لم يحصل، كاف في تعلق التكليف به وإن لم ينسب الفعل إلى المكلف ولا
يعد من أفعاله الاختيارية، فيكلف العبد بايجاد الفعل في الخارج بطريقه سواء
كان بنفسه أو باحداث الإرادة في نفس الغير المباشر فيأتي به بحيث لولا تسبيبه
لم يتحقق، فان التكليف بمثل ذلك معقول لا محذور فيه وإن لم يكن الفعل من
أفعال المكلف.
ويشهد لذلك صحة تعلق النذر بما لا يؤتى به مباشرة عادة، بل بتوسط
فعل الغير الإرادي، ووجوب الوفاء به لاستتباعه التكليف، كما لو نذر ان يبني
مسجدا، فان البناء لا يباشره المكلف المستنيب مع أنه مكلف به.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 97 - الطبعة الأولى
492

وبالجملة: التكليف لا يتقوم بنسبة الفعل المأمور به إلى المكلف، بل يتقوم
بتمكن المكلف من تحقيق هذا الفعل خارجا بتسبيبه اما بمال أو بغيره، بحيث
يستند وجوده خارجا إليه وإن لم ينسب نفس الفعل إليه. فالتكليف بفعل الغير
تسبيبا إليه جائز عقلا لتمكن المكلف من تحقيقه.
الثاني: ما افاده (قدس سره) من عدم كون النيابة عبارة عن ايجاب
العمل على المكلف، أعم من بدنه الحقيقي أو التنزيلي، بان ينزل النائب بدنه
منزلة بدن المنوب عنه، بتقريب: ان التنزيل المدعى مما لا يخطر ببال النائب
والمستنيب أصلا (1).
وموضوع المؤاخذة في ذلك هو ما يظهر منه (قدس سره) من الالتزام
بامكان التكليف فيه بنحو التخيير على هذا المبنى وتأتيه لولا فساده في نفسه،
باعتبار انه أمر على خلاف المرتكز العرفي في باب النيابة.
مع أنه يمكن المناقشة فيه، بان التكليف على هذا المبنى يتصور ثبوتا على
نحوين:
الأول: أن يكون متعلقا بالوجود الحقيقي للمكلف وبالوجود التنزيلي له
الذي هو الوجود الحقيقي للنائب، فيكون موضوعه كلا الشخصين على نحو
الوجوب الكفائي.
ولا يخفى انه بهذا النحو خلاف فرض باب النيابة ورجوعها إلى التخيير
في الواجب، كما أنه لا يلتزم به أحد حتى المحقق النائيني، إذ ليس من يلتزم بان
النيابة من باب الواجب الكفائي.
الثاني: أن يكون التكليف متعلقا بالشخص بوجوده الحقيقي، لكن يطلب
منه العمل أعم من الصادر عن وجوده الحقيقي أو وجوده التنزيلي فيرجع إلى
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 98 - الطبعة الأولى
493

التخيير في الواجب.
ويرد عليه ما أورده (قدس سره) على التصوير الأول للنيابة من: ان فعل
النائب الذي هو وجود تنزيلي للمستنيب ليس فعلا اختياريا له كي يتعلق به
تكليفه، ومجرد التنزيل والادعاء لا يوجب اختياريته، إذ لا يغير الواقع عما هو
عليه فلاحظ.
الثالث: ما اختاره من أن النيابة عبارة عن تنزيل النائب عمله منزلة
عمل المنوب عنه، ثم ارجاعها إلى الوجوب التخييري.
فإنه يرد عليه: بان فعل الغير إذا لم يكن اختياريا للمكلف - كما اختاره
أولا -، فتنزيل الغير عمله منزلة عمل المكلف المستنيب لا يصحح نسبة العمل
إلى المنوب عنه ولا يوجب كونه عملا اختياريا له بعد فرض كون عمل الغير
إراديا للغير، إذ التنزيل لا يغير الواقع ولا يزيله عما هو عليه.
الرابع: ما ساقه لتحقيق المطلب بعد اختياره لمعنى النيابة بما عرفته من أن
العمل الواجب على الولي فيه جهات ثلاثة:
الأولى: الوجوب التعييني من جهة المادة وهو نفس الصلاة مع قطع النظر
عن مصدره بمعنى ان المولى يريد أصل وجود الصلاة خارجا ولا تسقط بمجرد الاستنابة.
الثانية: التخيير من جهة المصدر، بمعنى ان الولي مخير بين اصدارها
بالمباشرة وبين الاستنابة.
الثالثة: الوجوب المشروط بعدم فعل الغير.
وبعد هذا أفاد انه مع الشك في سقوط الواجب بالاستنابة وعدمه،
فمرجع الشك إلى الشك في الوجوب التخييري من ناحية الاصدار. وهذا ينفى
بظهور الخطاب في المباشرة، لان نفس توجه الخطاب إلى المكلف من دون تقييد
يرفع الشك من هذه الجهة، وادعى ان الظهور من هذه الجهة أقوى من ظهور
494

الصيغة في التعيين من جهة المادة (1).
والمؤاخذة في هذا الكلام من جهات:
الأولى: سوقه مثال وجوب القضاء على الولي لمورد الاستنابة، فان المثال
أجنبي عن مقام الاستنابة، بل يرتبط بمقام المباشرة والتسبيب.
وذلك: لان قد عرفت أن النيابة عبارة عن الاتيان بالفعل الواجب على
الغير بقصد خاص، لا الاتيان به مطلقا بدون قصد النيابة كما هو الحال في باب
التسبيب، فالاستنابة عبارة عن تسبيب خاص وهو التسبيب للفعل بقصد
الخصوصية، لا تسبيب مطلق الذي يكفي فيه الاتيان بمجرد الفعل الواجب على
المسبب.
والذي يجب على الولي هو الاتيان بالصلاة بقصد النيابة عن الميت،
فالواجب عليه هو الفعل النيابي، فإذا جاء غير الولي بالصلاة عن الميت بدلا
عن الولي بتسبيب الولي فإنما يأتي بنفس ما وجب على الولي - أعني الفعل
النيابي - بلا ان يقصد فيه النيابة عن الولي، فهو في الحقيقة نائب عن الميت،
غاية الامر انه قام بالفعل الواجب على الولي، فاتيان الغير بالصلاة عن الميت
بدلا عن الولي ليس من باب النيابة عن الولي لعدم اعتبار قصد خصوصية
النيابة عن الولي في الفعل، بل من باب التسبيب بلحاظ ان الواجب على الولي
الفعل النيابي أعم من المباشري والتسبيبي. وعليه فالشك في إجزاء اتيان الغير
به عن تسبيب لا يرجع إلى الشك في صحة الاستنابة فيه وان الواجب هل هو
خصوص الاتيان به مباشرة أو انه مخير بين المباشرة والاستنابة؟. بل يرجع إلى
الشك في صحة التسبيب وان الواجب هل هو خصوص الفعل المباشري أو انه
الأعم منه ومن الفعل التسبيبي؟. والدليل الدال على صحة اتيان غير الولي لا
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 98 - الطبعة الأولى
495

يدل على التخيير بين المباشرة والاستنابة، بل يدل على التخيير بين المباشرة
والتسبيب.
والخلاصة انه ليس المثال من أمثلة موارد الشك في الاستنابة، بل من أمثلة
موارد الشك في التسبيب، إذ لا يعتبر في فعل الغير أكثر من الواجب على المسبب
المكلف به. نعم لا بد على الغير من قصد النيابة عن الميت، لكنه باعتبار كونها
دخيلة فيما يجب على الولي فايراد المثال للشك في الاستنابة غير سديد، ولعل
منشأ الاشتباه هو اعتبار قصد النيابة في فعل النائب والغفلة عن انه معتبر في
فعل الولي نفسه أيضا.
الثانية: ما ذكره من اشتمال التكليف النيابي على التخيير من جهة
الاصدار، وان المطلوب هو المادة سواء كانت منه مباشرة أو من غيره بنحو
الاستنابة.
فإنه يرد عليه: ان التكليف اما ان يتعلق بكلا الشخصين، بمعنى أن يكون
كل من المستنيب والنائب موضوعا للتكليف. أو انه يتعلق بخصوص
المستنيب لكنه مخير شرعا بين الاتيان به بنفسه أو بالاستنابة.
فالفرض الأول يرجع إلى الوجوب الكفائي، وهو مضافا إلى عدم
تناسبه، مع التعبير بالتخيير مما لا يلتزم به أحد في باب النيابة، إذ لا يلتزم بان
الفعل يجب كفاية على النائب بالاستنابة. نعم هو يجب عليه بالوجوب
الاستئجاري وهو غير الوجوب الكفائي.
والفرض الثاني يتنافى مع ما تقدم منه من أن فعل الغير الإرادي غير قابل
لتعلق التكليف به لعدم كونه فعل الشخص، فلا معنى - بناء على هذا - من توجه
التكليف إليه بالاصدار، اما بالاصدار مباشرة أو بالاصدار من الغير عن تسبيب
واستنابة.
الثالثة: ما أفاده من ظهور اعتبار المباشرة من نفس توجه الخطاب إلى
496

المكلف.
فإنه غير سديد، وذلك لان توجه الخطاب إلى المكلف أمر يشترك فيه
الوجوب التعييني والتخييري، فان الخطاب في كل منهما متوجه إلى المكلف خاصة
والتكليف متعلق به بخصوصه، إلا أنه تارة: يكون محركا نحو امر واحد معين.
وأخرى: نحو امرين على سبيل التخيير، فنفس توجه الخطاب إليه - على هذا -
لا يدل على تعيين الفعل عليه مباشرة ونفي التخيير بعد فرض ان كلا الفعلين
يسندان إليه وانه يمكن أن يكون مخيرا بين الاصدار بنفسه والاصدار بالواسطة،
لان الخطاب في الواجب التخييري متوجه إلى المكلف أيضا. فغاية ما يظهر فيه
توجيه الخطاب هو تعيين التكليف عليه ولزوم اتيانه بالفعل واما اتيانه بنحو
المباشرة أو بنحوها ونحو التسبيب، فهو خارج عن ظهور الخطاب. نعم توجيه
الخطاب إليه ينافي الوجوب الكفائي لعدم توجه الخطاب إلى أحدهما خاصة فيه،
لكنه غير الفرض وليس بمفروض في المقام.
وبالجملة: فدعوى ظهور توجيه الخطاب في تعيين المباشرة غير وجيهة.
ودعوى: ظهور ذلك عرفا كما يشهد بذلك ملاحظة موارد استعمال الجملة
الخبرية، فإذا قيل: (صام زيد أو صلى). فإنه لا اشكال في ظهورها في صدور
الفعل منه مباشرة وبنفسه، فكذلك الجملة الانشائية، فإذا قيل: (صم أو صل)
كانت ظاهرة في طلب الصيام أو الصلاة منه بنفسه. فليس ما ذكر جزافا، بل له
شاهد عرفي لا ينكر.
مندفعة: بما تقدم من بيان اختلاف الأفعال وأنها على أقسام، فالاستشهاد
على ظهور اسناد الفعل في إرادة المباشرة ببعض الأمثلة على حكم مطلق
الأفعال في غير محله، فان الأمثلة المسوقة من قبيل ما لا ينسب إلى الشخص
المسبب بالمرة مثل الأكل، وهي لا تكون قرينة على غيرها مما عرفت نسبتها إلى
المسبب كالقتل، بل عرفت ظهور بعضها في إرادة الفعل التسبيبي كالبناء. هذا
497

مع ما تقدم من أن الأفعال التي لا تنسب إلى المسبب داخلة في محل الكلام إذا
تعلق الامر بوجود الطبيعة من دون إضافة إلى المكلف، كما لو قال: (يجب عليك
ايجاد الصلاة أو الأكل). فإنه كما يصدق على الايجاد المباشري يصدق على
الايجاد التسبيبي.
وبالجملة: الأمثلة المسوقة أمثلة لما هو خارج عن موضوع البحث فلا
تصلح شاهدا عليه. فلاحظ.
وتندفع أيضا: بوجود الفرق بين الجمل الخبرية والانشائية الطلبية
باشتمال الجملة الخبرية على خصوصية تستدعي الظهور المذكور. وذلك لان هيئة
الفعل الماضي أو المضارع تدل على النسبة الصدورية والربط الخاص الصدوري
بين الفاعل والفعل، وهذا الربط يلازم صدور الفعل منه نظير هيئة الإضافة
مثل: (صوم زيد)، فان الإضافة تدل على ربط خاص ونسبة مخصوصة تلازم صدور
الفعل من الفاعل. وليس كذلك الجملة الانشائية الطلبية، إذ غاية ما تدل عليه
هي النسبة الطلبية بين الآمر والمأمور الملازمة للبعث نحو الفعل
والتحريك نحوه. اما نسبة الفعل إلى المأمور الفاعل فلا تتكفله هيئة الطلب،
فلا دلالة لها إلا على توجه الخطاب للمكلف لأنه طرف النسبة، اما كيفية الفعل
والاصدار لهو أجنبي عن مفاد الكلام. فالفرق بين الموردين واضح.
وعليه، فالدعوى بظهور خطاب الامر في إرادة الفعل المباشري غير
خالية عن الخدشة.
ويقع الكلام بعد ذلك في موضوعه، وهو ان مقتضى الأصل في الواجبات
هل يقتضي المباشرة أو انه لا يقتضيها فيسقط بفعل الغير عن تسبيب، أو لا
عن تسبيب بل عن تبرع من الغير؟، بلا نظر إلى النيابة، بل الكلام في مسقطية
اتيان الغير بنفس الفعل الواجب كأداء الدين وغسل الثوب ونحوه.
والبحث في مقامين:
498

المقام الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
فنقول: انه ان تصورنا امكان تعلق الحكم بفعل الغير التسبيبي بحيث
يمكن التخيير شرعا بينه وبين الفعل المباشري، بالتقريب الذي قدمناه من
استناد الوجود إلى المسبب وإن لم ينسب إليه الفعل، كان الشك في اعتبار
المباشرة أو عدم اعتبارها من الشك في التعيين والتخيير، لأنه يشك في تعلق
التكليف بخصوص الفعل المباشري أو به وبالفعل التسبيبي بنحو التخيير
بينهما، وقد تقرر في محله - كما سيأتي انشاء الله تعالى - انه مع دوران الامر بين
التعيين والتخيير فالاطلاق يقتضي التعيين ونفي التخيير، ولا كلام فيه.
وإن لم نلتزم بامكان التخيير بين فعل الشخص وفعل الغير التسبيبي، كما
لا يلتزم بامكانه بينه وبين فعل الغير التبرعي فمرجع سقوط الوجوب عن
الشخص بفعل الغير - على تقدير قيام الدليل عليه - ليس هو أخذه بنحو
الواجب التخييري وكونه عدلا للوجوب، بل إلى أنه محقق لملاك الحكم ومحصل
لغرضه فيسقط الامر لحصول غرضه وتبعية وجوده للغرض كما لا يخفى. وعليه
فمع اتيان الغير بالفعل يشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه، ومقتضى
اطلاق الدليل، ثبوت التكليف مطلقا حتى في حال اتيان الغير بالفعل، فالاطلاق
يقتضي المباشرة. وعدم كفاية التسبيب أو التبرع من الغير.
والمقام الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
اما في المورد الأول - أعني ما كان الشك فيه من الشك في التعيين
والتخيير -: فحيث إنه من موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير، فهو يتبع ما
يختار في تلك المسألة من أصالة البراءة أو الاحتياط. والذي ثبت بالتحقيق هو
اختيار الاحتياط الذي يقضي بالتعيين وعدم كفاية الفعل الاخر المشكوك.
وعلى كل، فالجزم به هنا تابع لما يجزم به في تلك المسألة، فان المورد من
مصاديقها.
499

واما المورد الثاني: فهل يتبع في الأصل مسألة التعيين والتخيير، أو انه
مجرى البراءة ولو كانت تلك المسألة مجرى الاحتياط؟ أو يجرى فيه الاحتياط
ولو كانت تلك المسألة مجرى البراءة؟. احتمالات ثلاثة. وتحقيق الكلام يقتضي
بيان الفرق الموضوعي بين المسألتين ليتضح مقدار ارتباط إحداهما بالأخرى
وعدم ارتباطهما.
فنقول: ان عمدة ما قيل في حقيقة الوجوب التخييري وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون وجوب كل من الفعلين مشروطا بعدم الاتيان بالاخر،
بحيث يكشف الاتيان بأحدهما عن عدم وجوب الاخر واقعا ومن أول الامر.
الثاني أن يكون متعلق الوجوب عنوان: (أحدهما)، وهو جامع انتزاعي
ينطبق على كل من الفعلين.
الثالث: أن يكون كل منهما متعلقا لوجوب خاص ومرتبة خاصة من
الإرادة وسط بين الوجوب التعييني الذي لا يجوز ترك متعلقه ولو إلى بدل،
والاستحباب الذي يجوز ترك متعلقه مطلقا ولولا إلى بدل.
تقتضي هذه المرتبة عدم جواز الترك إلا إلى بدل، فهو يختلف عن
الوجوب التعييني سنخا وهكذا عن الاستحباب.
وهذا اختيار صاحب الكفاية (1). الذي أورد عليه: بأنه خروج عن محل
الكلام في الوجوب التخييري (2)، إذ المقصود تعيين ذلك السنخ وتلك المرتبة، وقد
بينا في محله عدم تمامية الايراد. وسيأتي انشاء الله تعالى في محله.
ولا يخفى ان ما نحن فيه يختلف موضوعا عن الوجوب التخييري بكل
معانيه المتصورة الثلاثة، إذ ليس متعلق الوجوب فيه هو عنوان أحدهما والجامع
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 254 - الطبعة الأولى
500

الانتزاعي، بل متعلقه نفس الفعل بعنوانه الخاص.
كما أنه ليس الفعل متعلقا لسنخ وجوب لا يمنع من الترك إلى بدل، إذ
لا عدل له ولا بدل كما هو الفرض. وسيجئ تحقيق ذلك انشاء الله تعالى.
كما أن وجوبه ليس مشروطا بعدم فعل الاخر فإنه وان أمكن تصور ذلك
ثبوتا بان يكون وجوب الفعل على الشخص مشروطا بعدم فعل الغير له بحيث
لو فعله الغير كشف عن عدم تعلق الوجوب بالشخص أصلا ومن أول الامر،
لكنه مجرد تصور وخلاف الفرض، فان المفروض كون فعل الغير له شأنية
اسقاط التكليف عن الشخص لا بيان عدم وجوده، فلا بد من فرض ثبوت
التكليف على الشخص ثم يسقط بفعل الغير.
كما أنه لا يلتزم بذلك أحد في مورد الثابت، فلا يلتزم أحد بان قيام
شخص بوفاء دين الاخر كاشف عن عدم توجه التكليف للاخر في الواقع، إذ
من البديهي تعلق التكليف به قبل وفاء الغير كما لا يخفى، وعليه فالالتزام
بالبراءة في مسألة دوران الامر بين التعيين والتخيير على المسالك الثلاثة..
بتقريبها على المسلك الأول بأنه مع الاتيان بالفعل الاخر يشك في أصل
ثبوت الوجوب، فهو شك في التكليف وهو مجرى البراءة.
وبتقريبها على المسلك الثاني بان التكليف متعلق بالجامع والخصوصية
مشكوكة، فهو القدر المتيقن وان نوقش فيه بأن تعلق التكليف بالجامع غير
متيقن والتردد في تعلق الامر بهذه الخصوصية أو بالجامع فلا تجري البراءة.
وبتقريبها على المسلك الثالث بان البراءة كما تجري في مورد الشك في
زيادة التكليف تجري أيضا في مورد الشك في كيفيته ونحوه. وعلى كل فالالتزام
بالبراءة هناك لا يستلزم الالتزام بالبراءة هنا، لاختلاف الموردين موضوعا، ولعدم
جريان كل تقريب من هذه التقريبات هنا كما لا يخفى. فيرجع الشك ههنا إلى
الشك في سقوط التكليف بفعل الغير وارتفاعه به وهو مجرى الاستصحاب أو
501

الاشتغال لا البراءة، إذ ليس الشك في أصل التكليف، وبهذا التزم المحقق
النائيني (1). وبعكسه تماما التزم المحقق العراقي فذهب إلى كون المورد مجرى
البراءة وان التزم بالاحتياط في مورد الشك في التعيين والتخيير. وذلك ببيان: ان
منشأ القول بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير هو وجود العلم
الاجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة - مثلا - مطلقا
ولو مع صلاة الجمعة، واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر، ونتيجة هذا العلم
هو الاحتياط بفعل ما يحصل به الفراغ اليقيني وهو صلاة الظهر. وهذا العلم
الاجمالي غير موجود فيما نحن فيه، لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل
لعدم كون الفعل الاخر - أعني فعل الغير - عدلا له، لأنه ليس مقدورا له.
وحيث إنه يعلم بأنه مخاطب بالفعل في حال ترك الغير له ويشك في وجوبه عليه
في حال اتيان الغير به فله ان يجري البراءة في حال اتيان الغير به ولا يلزمه
الاتيان بالفعل لأصالة البراءة من وجوبه عليه (2).
ويقع الكلام معه في نقطتين:
إحداهما: في تقريبه جريان الاحتياط في مسألة الشك في التعيين والتخيير
بوجود العلم الاجمالي، فإنه غير وجيه، وذلك: لان طرف العلم الاجمالي ليس هو
أصل وجوب صلاة الظهر للعلم التفصيلي بوجوبها اما تخييرا أو تعيينا، وانما طرفه
هو اطلاق وجوب صلاة الظهر كما بينه (قدس سره) وشموله لصورة الاتيان
بصلاة الجمعة، فإنه يعلم اجمالا اما بوجوب صلاة الظهر مطلقا أو وجوب صلاة
الجمعة عند ترك الظهر، فطرفا العلم الاجمالي في الحقيقة هما وجوب الجمعة عند
ترك الظهر ووجوب الظهر عند الاتيان بالجمعة، وهذا العلم الاجمالي غير مجد
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 99 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 248 - الطبعة الأولى
502

في الالتزام بصلاة الظهر، وذلك لأنه اما ان يلاحظ فيه ظرف فعلية المعلوم وهو
حال الاتيان بصلاة الجمعة أو يلاحظ فيه ظرفه بمعنى انه يلحظ قبل الاتيان
باحدى الصلاتين، فالمكلف يعلم فعلا بوجوب الجمعة أو الظهر على تقدير
الاتيان بالجمعة، فان لوحظ فيه ظرف فعلية المعلوم - أعني ظرف الاتيان بالجمعة
بحيث يكون الظهر فعلي الوجوب - لو كان الوجوب تعيينيا - لا تقديري
الوجوب، كما كان قبل الاتيان به - ان لوحظ في هذا الظرف - فهو غير منجز
لان أحد أطرافه خرج عن محل الابتلاء للاتيان به، فلا يكون العلم الاجمالي
الحاصل بعد الاتيان بصلاة الجمعة بوجوبها أو وجوب الظهر منجزا، لان أحد
طرفيه لا بعث نحوه ولا تكليف فعليا بالنسبة إليه. وان لوحظ فيه ظرفه وقبل
الاتيان بصلاة الجمعة، فهو أيضا غير منجز، لان تنجيز العلم الاجمالي انما يتكلم
فيه ويحقق في المورد الذي يمكن ان تكون له مخالفة قطعية، اما الذي ليس له
مخالفة قطعية فلا يكون منجزا، والعلم الاجمالي المذكور لا مخالفة قطعية فيه، لأنه
ان جاء بصلاة الجمعة فترك الظهر يكون مخالفة احتمالية لأنه قد جاء بأحد طرفي
العلم الاجمالي، وإن لم يأت بصلاة الجمعة يكون قد خالف أحد الطرفين وهو
وجوب صلاة الجمعة، اما الطرف الاخر فلا مخالفة فيه فعلا وهو وجوب صلاة
الظهر لأنه معلق على الاتيان بصلاة الجمعة، والمفروض انه لم يأت بها.
وبالجملة: حيث إن التكليف في أحد الطرفين معلق على الاتيان بالطرف
الاخر فلا تمكن فيه المخالفة القطعية أصلا، لأنه اما ان يأت بالطرف المعلق عليه
الطرف الاخر أو لا؟ فان جاء به فقد وافق أحد الطرفين وإن لم يأت لم يكن
الطرف الاخر فعليا كي يخالف. فما ذكره من العلم الاجمالي وان كان شكلا لا
بأس به لكنه مخدوش عند التدبر.
ثانيهما: ما ذكره من جريان البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشك إلى
الشك في التكليف، وقد عرفت الخدشة فيه، فإنه مع اتيان الغير بالفعل وان شك
503

في تعلق التكليف، لكنه شك في ارتفاع التكليف لا شك في أصل ثبوت التكليف
من أول الامر، لان وظيفة فعل الغير اسقاط التكليف لا نفيه من أول الامر
واقعا، والشك في ارتفاع التكليف يكون مجرى الاستصحاب الموجب للزوم
المباشرة كما لا يخفى فتدبر.
المقام الثاني: في أن الأصل هل يقتضي عدم سقوط الواجب بما لا
يكون عن إرادة واختيار أو لا؟. وقد قرب وجه اعتبار كون الفعل عن إرادة
واختيار تارة: بان مادة الأفعال منصرفة إلى الفعل الإرادي، فإذا قيل: (الأكل)
انصرف إلى الآكل الاختياري. وأخرى: بان هيئة الأفعال منصرفة إلى ذلك، ولا
يخفى فساد الوجهين، فان المادة موضوعة إلى نفس الطبيعة المهملة غير الملحوظ
فيها أي قيد. ولذا نرى صدق الفعل على غير الإرادي فيقال: (فعل كذا) وان
صدر منه بلا إرادة، فدعوى الانصراف جزافية.
كما أن الهيئة موضوعة للربط والنسبة الخاصة القائمة بين المادة والطرف
الاخر لا غير بلا تقييد ولا انصراف إلى خصوص ما كانت المادة اختيارية.
وبالجملة: فدعوى الانصراف في المادة أو الهيئة بلا وجه.
والمهم في تقريب اعتبار صدور الفعل عن إرادة وجهان أفادهما المحقق
النائيني:
الأول: ان الغرض من الامر إنما هو جعل الداعي للمكلف إلى الفعل
والمحرك له نحو الفعل، ولا يخفى ان هذا انما يتصور في الأفعال الإرادية التي
تصدر عن اختيار، دون الأفعال غير الإرادية إذ لا معنى لجعل الداعي إليها،
فوظيفة الامر تقضي بتعلقه بالفعل الإرادي دون غيره.
الثاني: ما دل على اعتبار الإرادة والقدرة على متعلق التكليف في صحة
التكليف وتوجهه، فلا يتعلق التكليف بالفعل غير الاختياري بحكم العقل.
فهذان الوجهان يقضيان بان الأصل الأولي هو اعتبار صدور الفعل عن
504

اختيار في سقوط التكليف، لأنه هو متعلق التكليف دون غيره، فاسقاط غيره
يحتاج إلى دليل خاص (1).
ولا يخفى ان الايراد على الوجهين: بان حقيقة الامر ليس جعل الداعي
والمحرك وانما هو جعل الفعل في عهدة المكلف فيكون نظير اشتغال الذمة فلا
مانع من تعلقه بغير الاختياري من الأفعال، إذ لا يمتنع اشتغال الذمة بغير
الاختياري وغير المقدور.
وبعدم اعتبار الاختيارية والقدرة في صحة التكليف (2).
غير وجيه لأنه ايراد مبنائي.
فاللازم تحقيق صحة ما افاده بعد الجري على مبناه من كون الامر بداعي
جعل الداعي، واعتبار القدرة في متعلق الامر في صحة التكليف.
وقد أورد عليه بعد الجري على ما ذكره بما قرره في مبحث التزاحم (3) من:
انه يمكن الالتزام بصحة الواجب المهم مع عدم الالتزام بالأمر به بنحو الترتب،
وذلك باعتبار احتوائه على ملاك الحكم، وإن لم يتعلق به الامر والحكم بواسطة
المزاحمة لما هو الأهم. وبين انه يمكن التوصل لمعرفة وجود الملاك مع عدم الامر
بالتمسك باطلاق المادة، فإنها باطلاقها من هذه الناحية تقتضي ثبوت الملاك ولو
مع انتفاء الامر بالمزاحمة - وتحقيق ذلك وتوضيحه وبيان صحة ما أورد عليه
وسقمه في محله انشاء الله تعالى والمقصود الإشارة -.
وجه الايراد هو: ان يقال بأنه وان حكم العقل باعتبار القدرة في الواجب
ونفي الامر عن غير المقدور، إلا أنه يمكن التمسك باطلاق المادة في اثبات وجود
الملاك في غير الاختياري وإن لم يتعلق به الحكم، فان الاطلاق المذكور في جهة
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 101 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 101 - في التعليقة - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 264 - الطبعة الأولى
505

لا تنافي التقييد لأنه في جهة أخرى، فان الاطلاق من ناحية الملاك والتقييد في
ناحية الامر، ولا منافاة - كما قرره بنفسه (قدس سره) -، وإذا ثبت بالاطلاق
ثبوت الملاك في غير الاختياري كان الاتيان به مسقطا للتكليف وإن لم يكن
متعلقا للحكم، لتحصيله الملاك ومع حصول الغرض يسقط الامر.
وعليه، فمقتضى اطلاق المادة سقوط الوجوب بغير الاختياري
والإرادي (1).
والتحقيق: انه ذكر في فرض المزاحمة وانتفاء الحكم لاستكشاف بقاء الملاك ووجوده طريقان:
أحدهما: ما عرفت من اطلاق المادة.
ثانيهما: التمسك بالدلالة الالتزامية، وذلك ببيان ان دليل الحكم يتكفل
بالدلالة المطابقية ثبوت الحكم للمتعلق، وبالدلالة الالتزامية ثبوت الملاك في
المتعلق - لملازمة ثبوت الحكم لثبوت الملاك لأنه معلول للملاك - فإذا اقتضى
دليل نفي الدلالة المطابقية عن الحجية لم يستلزم ذلك نفي الدلالة الالتزامية عنها
أيضا، لأنها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. فالمزاحمة انما تقضي
ارتفاع الدلالة المطابقة عن حجيتها في ثبوت الحكم فتبقى دلالة الدليل
الالتزامية على ثبوت الملاك على حالها من الحجية.
ولا يخفى انه مع الالتزام بصحة التمسك باطلاق المادة، كان الايراد على
المحقق النائيني متوجها وتعين الالتزام بنتيجته وهو كون الأصل سقوط الوجوب
مع عدم صدور الفعل عن اختيار. ولكننا بينا في محله كما سيأتي انشاء الله تعالى
عدم صحة هذه الدعوى.
واما الطريق الثاني فهو كبرويا وجيه لكنه لا يتأتى فيما نحن فيه.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 101 - الطبعة الأولى
506

وذلك لأنه انما يجري فيما كان ارتفاع الحكم بدليل منفصل بحيث لا
يتصرف في ظهور الكلام، بل يقتضي نفي حجيته فقط. اما فيما إذا كان الدليل
متصلا أو كالمتصل بحيث أوجب التصرف في ظهور الكلام ورفع أصل الدلالة
المطابقية لا خصوص حجيتها، فلا يتأتى ما ذكر لأنه بانتفاء الدلالة المطابقية
تنتفي الدلالة الالتزامية لتبعيتها لها في الوجود كما لا يخفى.
وما نحن فيه من قبيل الثاني، وذلك لان حكم العقل باعتبار الاختيارية
والقدرة في متعلق التكليف امر ظاهر عرفا لا يحتاج إلى نظر، بل هو ارتكازي في
النفوس فيكون من قبيل القرينة المتصلة. وعليه فلا يكون ظهور للكلام في
الاطلاق من أول الامر، بل ينعقد للفظ ظهور في خصوص الفعل الاختياري.
فلا دلالة التزامية على ثبوت الملاك في غيره لانتفاء الدلالة المطابقية وجودا.
فالذي يتحصل بعد عدم الطريق لاحراز الملاك في الفعل غير
الاختياري هو عدم سقوط التكليف بغير الإرادي، لأنه متعلق بالفعل
الاختياري، فمع الشك في سقوطه بما لا يكون عن إرادة واختيار يرجع إلى
قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب لو التزم بجريانه هنا لحكومته على قاعدة
الاشتغال.
هذا إذا لم يكن اطلاق، والا كان هو المحكم، وهو يقتضي عدم سقوط
التكليف بالفعل غير الإرادي، لان مقتضى الاطلاق ثبوت التكليف مطلقا أتى
بفعل غير إرادي أو لم يؤت فلاحظ.
المقام الثالث: في أن مقتضى الأصل في الوجوب هل هو عدم سقوطه
بالفرد المحرم أو لا؟.
ومن الكلام في المقام الثاني اتضح الكلام في هذا المقام، فإنهما بملاك
واحد، وذلك: لأنه بعد فرض ان الفرد محرم يمتنع تعلق الوجوب به فلا يكون
من افراد الواجب ففرض تحريمه مساوق لفرض عدم فرديته للواجب. وعليه
507

فيرجع الشك فيه إلى الشك في اسقاط غير الواجب للوجوب، ومعه يتمسك
بالاطلاق في اثبات بقائه لو كان وبدونه تجري قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب
لو التزم بجريانه في المقام.
ومن هنا يظهر انه لا حاجة إلى التفصيل في هذا المقام بين ما إذا كانت
نسبة الدليل الدال على التحريم إلى دليل الوجوب نسبة الخاص إلى العام، أو
ما إذا كانت نسبته نسبة العموم من وجه - كما جاء في تقريرات المحقق
النائيني (1) - وتحقيق الكلام على كلا التقديرين، وذلك لما عرفت أنه بفرض كونه
فردا محرما يمتنع تعلق الوجوب به، سواء كانت النسبة بين الدليل العموم المطلق
أو العموم من وجه. والالتزام بجواز اجتماع الأمر والنهي يرجع في الحقيقة إلى
الالتزام بان متعلق الامر غير متعلق النهي، فالمأمور به ليس محرما، بل المحرم
غيره فلا يكون من الاتيان بالفرد المحرم للمأمور به. فالتفت. فالكلام في هذا
المقام لا يحتاج إلى أكثر مما ذكرنا فتدبر.
والذي يتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الأصل الأولي - في بعض
المقامات - والعملي يقتضي عدم سقوط التكليف إلا بالفعل المباشري
الاختياري المحلل فاعلم والله ولي التوفيق. هذا تمام الكلام في التعبدي
والتوصلي.
.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 102 - الطبعة الأولى
508

فصل
اطلاق الصيغة وتعيينية الوجوب ونفسيته وعينيته
ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) وتابعه غيره: ان اطلاق صيغة الامر
يقتضي أن يكون الوجوب تعيينيا نفسيا عينيا (1).
وهذا الامر قد يكون مثارا للبحث في أن كلا من التعيينية والنفسية
والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من
الوجوب التعييني والنفسي والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري
والكفائي، فكيف يكون مقتضى الاطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين
هذا الفرد دون ذاك؟. فان كلا منها فرد يقابل الاخر، وليس الوجوب العيني
النفسي التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية
كما لا يخفى.
وحل هذا الاشكال واضح: فان التعيينية والنفيسة والعينية وان كان كل
منها خصوصية طارئة على الوجوب، إلا أنها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 76 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
509

انحاء الاطلاق في الوجوب وتلازمه، فإذا ثبت ذلك الاطلاق ثبت هذا الفرد
الخاص بالملازمة، فحيث إن خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقا سواء
أتى به آخر أو لم يأت به كان اثبات اطلاق الوجوب في حال اتيان الغير بالمتعلق
وعدم اتيانه ملازما لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينيا، كما أن
خصوصية التعيينية ملازمة لاطلاق الوجوب من جهة الاتيان بشئ آخر وعدمه،
وخصوصية النفسية ملازمة لاطلاق الوجوب من جهة وجوب شئ آخر وعدمه،
فمع التمسك بالاطلاق في احدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له
فلاحظ.
ولا بد من التعرض لامر، وهو: ما قد يورد على صاحب الكفاية من وجود
التهافت في كلماته، وذلك ببيان: انه قرب في هذا المقام التمسك باطلاق الصيغة
في نفي الغيرية والكفائية والتخيير كما أنه صحح - في مبحث الواجب المشروط (1) -
رجوع القيد إلى الهيئة منكرا على الشيخ ما ذهب إليه من عدم امكانه، لان
معنى الهيئة معنى حرفي وهو غير قابل للتقييد (2).
ولكنه ذكر في مبحث مفهوم الشرط عدم امكان التمسك باطلاق هيئة
الشرط لاثبات المفهوم وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، لان الهيئة من الحروف
غير القابلة للاطلاق والتقييد (3). فكان هذا الكلام موردا للاشكال النقضي عليه من جل من علق على
الكفاية أو كلهم. ومطالبته بالفرق بين هيئة الامر وهيئة الشرط (4).
ولكن الذي يبدو بعد التأمل امكان الدفاع عن صاحب الكفاية ونفي ما
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 95 - 97 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 45 - 52 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 195 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 322 - الطبعة الأولى
510

يدعى ما التهافت في كلامه
وتوضيح ذلك: ان الاطلاق كما يتقوم بعموم المعنى كذلك يتقوم بتعلق
اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الذي يراد إفادة اطلاقه. وذلك لان من قوام الاطلاق
كون المتكلم في مقام البيان، وهذه المقدمة تقتضي توجه المتكلم نحو الجهة التي
يقصد اطلاقها، وذلك يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى.
وعليه، فصاحب الكفاية وان التزم بان الموضوع له الحرف كالموضوع له
الاسم في كونه عاما، لكنه التزم في الوقت نفسه بامتياز الاسم عن الحرف بان
الأول ملحوظ استقلالا والثاني ملحوظ آلة، وعليه فالمعنى الحرفي لا يمكن
التمسك باطلاقه لأنه ملحوظ آليا، وقد عرفت استلزام الاطلاق للحاظ
الاستقلالي، فمن هنا يظهر الوجه في كلامه في مبحث مفهوم الشرط، وان عدم
صحة التمسك باطلاق هيئة الشرط من جهة كون المعنى ملحوظا آليا لا من
جهة خصوص المعنى.
واما ما ذكره في مبحث الواجب المشروط، فهو لا يرجع إلى التمسك
باطلاق الهيئة، بل يرجع إلى قابلية معنى الهيئة للتقييد لعمومه.
واما البحث في اعتبار اللحاظ الاستقلالي في التقييد والكلام في قابلية
المعنى الحرفي لان يكون مقيدا مع عدم قابليته للاطلاق - باعتبار عدم تمامية
مقدمات الحكمة - فهو موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط ويتضح
هناك انشاء الله تعالى.
وعلى كل، فلو كان هناك اشكال في قابليته للتقييد فهو على الجميع، ولا
اختصاص له بصاحب الكفاية، لالتزام الكل به. والمهم دفع التهافت في كلام
صاحب الكفاية.
واما ما أفاده في هذا المبحث، فالايراد عليه انما يتم لو كان مراده (قدس
سره) التمسك باطلاق الهيئة، لأنها معنى حرفي لا يلحظ استقلاليا، ولكنه لم يعلم
511

منه ذلك فيمكن أن يكون نظره إلى التمسك باطلاق المادة - أعني الواجب -
فيكون المراد التمسك باطلاق الواجب وان الواجب هو الفعل مطلقا جاء به
شخص آخر أو لا، جئ بشئ آخر أو لا، وجب شئ آخر أو لا. ولا اشكال
في التمسك باطلاق المادة لأنها ليست من المعاني الحرفية الملحوظة آلة، ويمكن
استظهار هذا المعنى من بعض كلماته في مفهوم الشرط فراجع. اما ما ذكره هنا
فلا صراحة فيه في كون التمسك باطلاق الهيئة فلاحظ وتدبر.
512

فصل
الامر عقيب الحظر أو توهمه
قد عرفت ظهور الامر في الوجوب - اما ظهورا وضعيا أو اطلاقيا - إلا أن
تقوم قرينة على خلافه.
وعليه، فهل ورود الامر بفعل عقيب تحريمه أو تخيل تحريمه واحتماله
قرينة على عدم إرادة الوجوب وإرادة غيره أو لا؟. وبتعبير آخر: الكلام في تعيين
ما يظهر فيه الامر الوارد عقيب الحظر أو توهمه.
فقيل: انه ظاهر في الوجوب. وقيل: انه ظاهر في الإباحة. وقيل إنه ظاهر
في الحكم السابق على التحريم من وجوب أو إباحة أو غيرهما، ان علق الامر
على زوال علة النهي. وقيل: غير ذلك.
وقد ذهب صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى إجمالها وعدم ظهورها في شئ
مما ادعي إلا بقرينة خاصة (1).
ولكن التحقيق: ان الصيغة ظاهرة في رفع التحريم والترخيص في العمل
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 77 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
513

وتجويزه لا أكثر، كما يظهر من ملاحظة استعمالات العرف، فليست هي مجملة
ليست ظاهرة في شئ أصلا كما ذهب إليه صاحب الكفاية. فتدبر.
514

فصل
المرة والتكرار
موضوع البحث هو تشخيص دلالة الامر على المرة أو التكرار، بمعنى
انه يبحث في أن الامر هل يدل على طلب الفعل مرة واحدة، أو طلبه مكررا، أو
لا يدل على شئ منهما؟. والحق هو الأخير لظهور الامر في طلب ايجاد الطبيعة
لا أكثر.
وقد أسهب صاحب الكفاية في هذا البحث بما لا يغني ولا يسمن من
جوع لا علميا ولا عمليا (1).
نعم يتعرض بمناسبة البحث المذكور إلى جهتين:
إحداهما عملية وهي: البحث عن جواز تبديل الامتثال بفرد آخر غير
المأتي به أولا، وقد أشار إليها صاحب الكفاية في أواخر كلماته لمناسبة، وأوكل
تحقيقها إلى مبحث الاجزاء.
وسيأتي البحث فيها هناك لعدم ارتباطها بالمبحث المذكور موضوعا
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 79 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
515

وثانيتهما علمية وهي: بيان جهة الفرق بين الأمر والنهي المقتضية لاقتضاء
النهي التكرار والدوام دون الامر حيث يكتفى في امتثاله بالمرة. وقد حققها
صاحب الكفاية في أول مبحث النواهي (1). وتعرض إليها المحقق العراقي (قدس
سره) في هذا المبحث، ولعله لخلو المبحث المزبور عن جهة علمية عملية (2).
وعلى كال فالتعرض إلى هذه الجهة في مبحث النواهي أنسب.
ومنه يظهر انه لا طائل في تطويل الكلام في هذا البحث.
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 255 - الطبعة الأولى
516

فصل
الفور والتراخي
وموضوع البحث هو معرفة ان الامر هل يدل على فورية المأمور به، أو
لا يدل عليها بل يدل على جواز التأخير والتراخي فيه؟. وهذا المبحث كسابقه
في وضوحه وخلوه عن جهة علمية. ولكن ينبغي التعرض لجهات ثلاث في كلام
الكفاية (1).
الأولى: ما ذكره من عدم دلالة الامر على التراخي ولا على الفورية ثم
ذكره ان مقتضى اطلاق الصيغة هو جواز التراخي.
وهذا الكلام منه لا يخلو من مسامحة.
بيان ذلك: ان البحث تارة: يقع في أن الامر هل يقتضي لزوم الفورية أو
لزوم التراخي؟. وأخرى: يقع في أن الامر هل يقتضي لزوم الفورية أو لا يقتضي
لزومها بل يقتضي جواز التراخي؟. فطرفا الترديد تارة: يكونان هما لزوم الفور
ولزوم التراخي. وأخرى، يكونان لزوم الفور وعدم لزومه وجواز التراخي. ومن
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 80 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
517

الظاهر أن موضوع البحث هو الجهة الثانية لا الأولى، إذ لا وجه لتوهم دلالة
الامر على لزوم التراخي وعدم جواز الفورية. ولا يخفى انه مع الحكم بعدم دلالة
الامر على لزوم الفورية ولا على جواز التراخي - كما ذكره صاحب الكفاية أولا -
لا معنى لدعوى دلالة اطلاق الامر على جواز التراخي - كما ذكره ثانيا -
فإنه لا يخلو عن ركاكة واضحة (1).
نعم لو كان موضوع البحث هو الجهة الأولى كان ما ذكر صحيحا، إذ
عدم دلالة الامر بوجه من الوجوه على لزوم التراخي لا يتنافى مع دلالته
بالاطلاق على جوازه. لكن قد عرفت أن البحث في الجهة الثانية.
الثانية: ما ذكره في مقام الايراد على الاستدلال باية المسارعة والاستباق
على لزوم الفورية - بعد أن ذكر ظهور الامر في الارشاد إلى حسن المسارعة
والاستباق لا الالزام المولوي - بدعواه بعد التنزل عن ذلك بعدم كون الامر
إلزاميا، بل هو استحبابي باعتبار انه لو كانت المسارعة والاستباق واجبين كان
الأنسب بيان ذلك بذكر لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة رأسا.
فان ما ذكره قد يكون مثار الاشكال بان هذا سار في جميع الأوامر
الوجوبية، لان المقصود فيها بيان لزوم الفعل، فاللازم على ما ذكره بيان الوجوب
ببيان لازمه وهو لا يلتزم به. والا فما الفرق بين المقام وبين غيره.
والجواب عنه - كما قرر -: ان حسن المسارعة والاستباق إلى الخيرات
حيث إنه من الأمور المرتكزة في أذهان العرف بنحو الاستحباب وعدم اللزوم،
كان الكلام المتضمن للامر بهما محمولا عندهم على ما هو مرتكز في أذهانهم
لاستظهارهم جري الامر على ما يرونه إلا أن تقوم قرينة خاصة معينة صارفة
للكلام عما هو المرتكز، وليس في المقام قرينة دالة على إرادة الوجوب سوى بيان
.

(1) يمكن أن يكون النظر في موضع الكلام هو الظهور الوضعي للامر في الفور وعدم ظهوره، لا مطلق
الظهور، فالتفت. (منه عفي عنه)
518

لازم الوجوب من ترتب العقوبة على المخالفة.
الثالثة: ما أفاده أخيرا من انه على القول بلزوم الفورية لو عصى المكلف
وأخر المأمور به فهل يجب عليه الاتيان بالعمل فورا ففورا أو لا يجب؟. فقد أفاد
(قدس سره) بان لزوم الاتيان به ثانيا فورا ففورا وعدم لزومه يبتني على دلالة
الصيغة على اخذ الفورية بنحو وحدة المطلوب أو تعدده فلا يجب على الأول
ويجب على الثاني.
وقد انهى الكلام بهذا المقدار تقريبا.
ولتوضيح الحال نقول: انه لا بد من الكلام في جهتين طوليتين:
إحداهما: انه بناء على لزوم الفورية لو عصى وأخر، فهل يجب الاتيان
بذات العمل أو لا يجب؟. فان قيل بان الفورية مأخوذة بنحو وحدة المطلوب
بحيث يكون العمل الفوري مطلوبا واحدا. لا يجب الاتيان بذات العمل لو
أخر لفوات المأمور به بالعصيان. وان قيل بأنها مأخوذة بنحو تعدد المطلوب
بحيث يتعلق طلب بذات العمل وطلب آخر بالاتيان به فورا. كان التأخير
عصيانا للطلب الاخر دون الطلب المتعلق بذات العمل، فيلزم الاتيان بالعمل
لبقاء طلبه لعدم عصيانه.
ثانيتهما: انه بناء على كون الفورية مأخوذة بنحو تعدد المطلوب ولزوم
الاتيان بالعمل، فهل يلزم الاتيان به فورا أيضا أو لا؟. ولا يخفى ان الفورية
الثانية والثالثة وهكذا، لا يقتضيها أخذ الفورية في متعلق الامر بنحو تعدد
المطلوب، إذ ما يقتضيه تعدد المطلوب ليس إلا لزوم الاتيان بالعمل كما عرفت،
اما انه يلزم ان يؤتى به فورا ففورا فهو يحتاج إلى دليل آخر خاص.
وبالجملة: الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بعد التأخير أولا لا يرتبط
بالالتزام بأخذ الفورية بنحو تعدد المطلوب كما لا يخفى. فما جاء في الكفاية من
بناء ذلك على الالتزام بتعدد المطلوب لا يعلم له وجه.
519