الكتاب: عناية الأصول في شرح كفاية الأصول
المؤلف: السيد مرتضى الحسيني اليزدي الفيروز آبادي
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: السابعة
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٣٨٦
المطبعة:
الناشر: منشورات الفيروزآبادي - قم
ردمك:
ملاحظات: الطبعة الأولى في النجف الأشرف / الطبعة الثانية - ايران ١٣٩٥ - الطبعة الثالثة - بيروت ١٤٠٠ / الطبعة الرابعة - ايران - ١٤٠٠

العلامة الفقيه المتتبع حجة الاسلام والمسلمين آية الله في العالمين السيد مرتضى بن السيد محمد بن السيد محمد باقر بن الحسين الحسيني الفيروزآبادي المنتهي نسبه الشريف إلى سيد الساجدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام.
كان والده الفقيه آية الله العظمى السيد محمد " قده " من أجلاء فقهاء النجف الأشرف المراجع، له مكانة مرموقة في الأوساط العلمية النجفية، وآثاره التأليفية كتاب " أصول الفقه " و " إزاحة الشكوك في حكم اللباس المشكوك " و " مناسك الحج والعمرة "، توفي سنة 1345.
مولده ونشأته
ولد سيدنا المترجم له بالنجف الأشرف في آخر ربيع الأول سنة 1329 ونشأ وتربى في أحضان والده الشريف أحسن تربية وأطيب نشأة، وظهرت فيه مخايل النجابة وحب العلم من أولى سني حياته، حيث كان سابقا في الدارسة ميالا إلى الهدوء وهو لم يزل بعد في دور الطفولة المبكرة.
مقدمة الكتاب 1

وبعد أن تعلم مبادئ القراءة والكتابة في الكتاب، بدأ بقراءة العلوم الاسلامية الدارجة في الحوزات العلمية، فدرس العلوم الأدبية وطرفا صالحا من الفقه والأصول والفلسفة الإلهية والكلام على أساتذة النجف الأشرف الأفاضل وبرز بين أقرانه بما أوتي من الجلد على التحصيل والصبر على الدراسة الجادة والشوق إلى المزيد من العلم والمعرفة.
ولما أكمل دراسة " الكفاية " و " المكاسب " و " الرسائل " تهيأ للحضور في الحلقات الدراسية العالية، فحضر في الأصول خارج " كفاية الأصول " على آية الله الحاج ميرزا علي الإيرواني صاحب " حاشية المكاسب " وآية الله الشيخ ميرزا أبو الحسن المشكيني صاحب " حاشية الكفاية " وحضر في الفقه على آية العظمى السيد أبو الحسن الأصبهاني وآية الله العظمى الشيخ كاظم الشيرازي قدس الله سرهما.
تدريسه
تصدى سيدنا المترجم له - بعد ان جاز مراحله الدراسية بنجاح ونبوغ - للتدريس على شباب الطلاب، وكانت حلقة تدريسه في مقبرة المرجع الديني الفقيه الشهير السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي " قده " من الحلقات الثرية بالمباحث العلمية الدقيقة والمطالب العالية.
درس " كفاية الأصول " سطحا أكثر من ست مرات وكتب السطوح أكثر من مرة، كما درس الكفاية أيضا خارجا مرة واحدة لخيرة تلامذته، وكان الطلاب يعشقون دروسه لما يمتاز به من حسن البيان وجمال التعبير ورحابة الصدر.
وعندما هاجر في سنة 1391 - بضخط من حزب البعث العراقي - إلى
مقدمة الكتاب 2

مدينة قم، اشتغل بتدريس الفقه خارجا سنين إلى أن تركه على أثر الابتلاء ببعض الأمراض وضعف المزاج، فكان هذا خسارة مني بها جماعة من طلاب العلوم الذين كانوا يرتوون من منهل علمه الفياض.
مؤلفاته القيمة:
تمتاز مؤلفات سيدنا المؤلف بالجدة في الموضوع والتحقيق في مختلف المصادر المهمة، كما تمتاز كتاباته الأصولية والفقهية بعمق البحث والشمول وطلاوة التعبير، وهي بصورة عامة تدل على ذوق جيد في الاختيار والعرض والتنسيق، ولذا حضيت باقبال الباحثين والقراء عليها واشتهرت في الحوزات العلمية والأوساط الدينية، وكانت موضع قبول وعناية لدى كبار العلماء وجهابذة العلم.
وإليك أسماء المؤلفات:
1 - عناية الأصول، في شرح كفاية الأصول، وهو شرح مهم مقبول في ستة أجزاء، طبع بالنجف الأشرف وطهران وبيروت مكررا.
2 - فضائل الخمسة من الصحاح الست وغيرها من الكتب المعتبرة، وهو في ثلاثة أجزاء، طبع بالنجف الأشرف وطهران وبيروت مكررا.
3 - السبعة من السلف، جزء واحد، طبع ببيروت وقم.
4 - منتخب المسائل، في مسائل فقهية وفروع الاحكام، طبع بقم.
5 - خلاصة الجواهر، شرح استدلالي كبير للكتاب السابق، نجز منه إلى مسائل من كتاب الحج، طبع كتاب الطهارة منه بقم في ثلاثة اجزاء.
6 - الفروع المهمة في أحكام الأئمة، فقه استدلالي مفصل جدا، نجز منه كتاب الطهارة في ثلاث مجلدات كبار.
مقدمة الكتاب 3

إلى غير ذلك من الكتابات المبعثرة ومن التعاليق والشروح التي كتبها للكتب الدراسية المختلفة أو في موضوعات متفرقة.
المدرس الناجح:
يتمتع سيدنا المترجم له بفضائل أخلاقية عالية، فهو حسن العشرة طلي المنطق عذب الحديث يؤنس جليسة بأحاديثه الأخاذة، مجلسه حافل بموضوعات علمية ممتازة وقضايا تاريخية غريبة وقصص اجتماعية طريفة، يرغب السامع فيها وتهش النفوس إليها.
في محاضراته العلمية ودروسه على تلامذته يمتاز بالبيان الجيد القريب لأذهان طلبته، فهو يجيد اختيار مقدمات المسألة المبحوث فيها وترتيبها لاستنساخ النتائج المطلوبة منها، فيكون العرض سهلا قريب التناول. هذا بالإضافة إلى مرونته في تلقي أسئلة التلامذة والإجابة عنها وهدوئه معهم وحفظ جانبهم في الرد والايراد.
لقد كانت حلقات دروسه الأصولية والفقهية تضم جماعة من أفاضل الطلبة والمشتغلين بالعلوم الاسلامية، وكان يلقي عليهم المسائل العلمية العميقة بطريقته السهلة
الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا التباس. ولذا شعر المستفيدون منه بخسارة كبيرة اذمني بالأمراض المتتالية واضطر على التخلي عن التدريس.
حفظه الله بعينه التي لا تنام ووقاه من شر الآلام والاسقام بحق محمد وآله خير الأنام عليه وعليهم الصلاة والسلام.
الناشر
مقدمة الكتاب 4

عناية الأصول
في
شرح كفاية الأصول
هوية الكتاب 1

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف والناشر
الطبعة الأولى في النجف الأشرف
الطبعة الثانية - إيران 1395 هجرية
الطبعة الثالثة - بيروت 1400 ه‍
الطبعة الرابعة - إيران 1400 ه‍
هوية الكتاب 2

عناية الأصول
في
شرح كفاية الأصول
الجزء الأول
من موضوع العلم إلى آخر الأوامر
بقلم سماحة حجة الإسلام والمسلمين
السيد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي
النجفي مولدا ومسكنا
هذه التعليقة هي ستة أجزاء وهي لا تدع في الكفاية مشكلة الا وقد حلتها ولا معضلة الا وأوضحتها بل وتتكفل هي حل مطالب شيخنا الأنصاري أيضا أعلى الله مقامه وقد أخذت آراؤه الشريفة في مباحث الألفاظ من التقريرات المعروفة لبعض أجلاء تلامذته وفي الأدلة العقلية من كتاب الرسائل وهو بقلمه الشريف هذا مضافا إلى تكفل هذه التعليقة لحل جملة من مطالب الفصول وغيره أيضا حيثما يشير إليه المصنف قدس سره والله ولى التوفيق.
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وعترته المعصومين النجباء الطاهرين واللعنة على أعدائهم ومعادي أوليائهم وموالي أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول العبد المتفضل عليه ربه بالإحسان مرتضى بن محمد الحسيني اليزدي الفيروزآبادي إن هذه تعليقة علقتها على كفاية الأصول وهي في ستة اجزاء الأول من موضوع العلم إلى آخر الأوامر والثاني من أول النواهي إلى آخر المجمل والمبين والثالث يشتمل على مباحث القطع والظن والرابع على مباحث البراءة والتخيير والاشتغال والخامس على مباحث الاستصحاب فقط والسادس على مباحث التعادل والتراجيح والاجتهاد والتقليد وليعلم انه لا تدع هذه التعليقة مشكلة في الكفاية الا وقد حلتها ولا معضلة الا وأوضحتها بل وتتكفل هي حل مطالب شيخنا الأنصاري أيضا أعلى الله مقامه وقد أخذت آراؤه الشريفة في مباحث الألفاظ من التقريرات المعروفة لبعض أجلاء تلامذته وفي الأدلة العقلية من كتاب الرسائل وهو بقلمه الشريف هذا مضافا إلى تكفل هذه التعليقة لحل جملة من مطالب الفصول وغيره حيثما يشير إليه المصنف قدس سره كل ذلك بعبارات واضحة جلية
2

خالية عن الإطناب الممل والإيجاز المخل رجاء ان ينتفع بها عموم الطلاب والمشتغلين وان يذكروني بالخير عند ما حلت لهم مشكلة واتضحت لهم معضلة وان يستغفروا لي ربهم حيا كنت أو ميتا فيقولوا غفر الله له، غفر الله لكم أيها الإخوان جميعا.
في موضوع العلم
(قوله أما المقدمة ففي بيان أمور الأول إن موضوع كل علم إلخ) إن موضوع كل علم وهو الذي من العلم كالقطب من الرحى نحول فيه حوله ونبحث فيه عن عوارضه الذاتية كما سيأتي بشرحها هو عين موضوعات مسائله أو الكلي المتحد مع موضوعاتها خارجا وان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي وأفراده وهكذا محمول العلم فهو عين محمولات مسائله أو الكلي المتحد مع محمولاتها خارجا وإن كان يغايرها أيضا مفهوما تغاير الطبيعي ومصاديقه.
(قوله عوارضه الذاتية أي بلا واسطة في العروض إلخ) المقصود من تفسير العوارض الذاتية بقوله أي بلا واسطة في العروض هو التنبيه على المسامحة الواقعة في تفسير العرض الذاتي (وتفصيله) إن العرض وإن كان له تقسيمات كتقسيمه إلى العرض الخاص والعام وإلى اللازم والمفارق واللازم تارة إلى لازم الماهية كالزوجية
للأربعة أو لازم الوجود الخارجي كالإحراق للنار أو لازم الوجود الذهني كالكلية للإنسان وأخرى إلى اللازم البين أو الغير البين والمفارق إلى ما يدوم كحركة الفلك أو ما يزول أما بسرعة كحمرة الخجل وصفرة الوجل أو ببطء كالشباب ولكن المقصود منه في المقام
3

تقسيمه بنحو آخر فيقال إن العرض (تارة) يكون عارضا للشيء بلا واسطة أصلا لا في الثبوت ولا في العروض بل بمجرد اقتضاء الذات كالزوجية للأربعة (وأخرى) يكون مع الواسطة في الثبوت وهي أما أمر داخلي مساوي للمعروض كالتكلم العارض للإنسان بواسطة كونه ناطقا أو أعم منه كالمشي العارض للإنسان بواسطة كونه حيوانا ولا ثالث للأمر الداخلي بان يكون أخص إذ الداخلي لا يخلو من كونه فصلا يساوي الشيء أو جنسا أعم منه وأما أمر خارجي مساوي للمعروض أي في الاجتماع كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب فان التعجب مما لا يجتمع مع غير الإنسان أصلا أو أعم منه كالتعب العارض للإنسان بواسطة المشي فان المشي مما يجتمع مع الإنسان وغيره أو أخص منه كالضحك العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا فان النطق مما يجتمع مع بعض أفراد الحيوان لا جميعها فضلا عن غيرها أو مباين معه كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار التي يستحيل اجتماعها مع الماء أبدا (وثالثة) يكون مع الواسطة في العروض بان لا يكون العارض عارضا للشيء حقيقة بل لغيره وإنما ينسب إليه تجوزا لعلاقة بينه وبين ذلك الغير الذي هو المعروض الحقيقي كالجري العارض للميزاب فإنه ينسب إليه بالعرض والمجاز لعلاقة بينه وبين الماء الذي هو المعروض الحقيقي للجري فهذه ثمانية أقسام للعرض في هذا التقسيم والظاهر أنه لا كلام عندهم في كون العارض بلا واسطة والعارض بواسطة أمر داخلي أو خارجي مساوي هو من الأعراض الذاتية وأن العارض بواسطة أمر خارجي أعم أو أخص أو مباين والعارض مع الواسطة في العروض هو من الأعراض الغريبة وأما العارض بواسطة أمر داخلي أعم فقد اختلفوا فيه فالقدماء منهم على ما نسب إليهم عدوه من الأعراض الغريبة والمتأخرين منهم عدوه من الأعراض الذاتية وأما المصنف فجميع هذه
4

الأعراض كلها عنده ذاتية سوى العارض مع الواسطة في العروض وذلك لما فسر العرض الذاتي بقوله أي بلا واسطة في العروض وهو جيد متين لا نتعدى عنه وإن العرض الغريب منحصر بما كان عروضه مع الواسطة في العروض ومن الغريب عد ما سوى ذلك من الأعراض الغريبة فتأمل جيدا.
(قوله وما يتحد معها خارجا إلخ) ولو قال أو ما يتحد معها خارجا لكان أولى بل كان هو الصحيح فان موضوع العلم بناء على كونه نفس موضوعات مسائله متعدد بتعدد موضوعات مسائله وبناء على كونه هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله أمر وجداني صادق على الجميع وبينهم فرق عظيم فلا وجه لجعل الثاني عبارة أخرى عن الأول وهذا واضح.
في مسائل العلم ومباديه
(قوله والمسائل عبارة عن جملة من قضايا إلخ) إن مسائل كل علم ومنه علم الأصول عبارة عن جملة من قضايا متفرقة مندرجة تحت غرض واحد الذي لأجله دون ذلك العلم فمسائل النحو مثلا هي المسائل التي يجمعها صون اللسان عن الخطاء في المقال ومسائل المنطق هي المسائل التي يجمعها صون الإنسان عن الخطاء في الفكر وهكذا إلى غيرهما (ثم) إن ما يذكر في العلم قسمان مسائل ومبادئ (أما المسائل) فقد عرفت شرحها (وأما المبادي) فهي على قسمين فما يوجب معرفة الموضوع والمحمول فهو من المبادي التصورية، وما يوجب التصديق بثبوت المحمول للموضوع فهو من المبادي التصديقية وقد ذكر لعلم الأصول مبادئ أخر. (منها) المبادي الأحكامية وهي المسائل
5

الباحثة عن حقيقة الحكم وماهيته كما يظهر من البهائي رحمه الله في الزبدة أو عن حالاته وعوارضه مثل أن وجوب الشيء هل يستلزم عقلا وجوب مقدمته أم لا أو الوجوب هل يجوز اجتماعه مع الحرمة أم لا كما يظهر ذلك من صاحب التقريرات رحمه الله (قال) في مقدمة الواجب إن الترتيب الطبيعي يقضى بان تكون أي مقدمة الواجب ملحقة بالمسائل المذكورة في المبادي الأحكامية كما صنعه العضدي تبعا للحاجبي فان من المناسب عند تحقيق الحكم الشرعي وتقسيمه إلى الوضعي والتكليفي وتنويعه إلى الأنواع الخمسة المعروفة تحقيق لوازم تلك الأحكام من حيث أن الوجوب المتعلق بشيء يستلزم وجوب مقدماته أولا (وقال) في مسألة الاجتماع والأولى أن يقال بان البحث فيها انما هو بحث عن المبادي الأحكامية حيث يناسب عند ذكرها وتحقيقها ذكر بعض أحكامها وأوصافها من ملازمة وجوب شيء لوجوب مقدمته ومن جواز اجتماع الحكمين مع تضادهما كما تقدم شطر من الكلام في ذلك في بحث المقدمة وذلك هو الوجه في ذكر العضدي له في المبادي الأحكامية كشيخنا البهائي قدس سره انتهى.
(أقول) والحق أن المسألتين هما من المسائل الأصولية كما سيأتي في محلهما ومجرد اشتمالهما على جهة المبادي الأحكامية لا يوجب خروجهما عن المسائل الأصولية كما لا يخفى (ومنها) المبادي اللغوية وهي كما يظهر من الفصول عبارة عن مباحث الحقيقة والمجاز والمشترك والمنقول والمترادف ومباحث الوضع وعلائم الحقيقة والمجاز وما أشبه ذلك إلى آخر المشتق (قال) في الفصول ورتبته على مقدمة ومقالات وخاتمة (إلى أن قال) أما المقدمة ففي تعريف العلم وبيان موضوعه وذكر نبذ من مباديه اللغوية ثم لما فرغ من تعريف العلم وبيان موضوعه قال القول في المبادي اللغوية وشرع في المباحث.
6

المذكورة إلى آخرها (ومنها) المبادي المنطقية وهي كما يظهر من البهائي أيضا هي المسائل الباحثة عن تعريف الدليل والعلم تصديقه وتصوره ومباحث الجزئي والكلي والجنس والفصل والعرض ومباحث القضايا من الحملية والشرطية والشخصية والطبيعية إلى غير ذلك (قال) في الزبدة المطلب الأول في نبذ من أحواله ومباديه المنطقية ثم لما فرغ من ذكر حد الأصول وموضوعه وثمرته شرع في المباحث المذكورة فلاحظ وتدبر.
(قوله فلذا قد يتداخل بعض العلوم إلخ) أي فلأجل أن القضايا جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل.
(قوله لا يقال علي هذا يمكن تداخل علمين إلخ) أي لا يقال إذا جاز تداخل بعض العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين جاز تداخل علمين في تمام مسائلهما فيما كان مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا وهو مما لا محصل له (لأنه يقال) أو لا أن ذلك بعيد جدا بل يمتنع عادة وثانيا لو فرض اتفاقه فلا يصح حينئذ تدوين علمين وتسميتهما باسمين كي يلزم تداخل علمين في تمام مسائلهما بل يدون علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمين وأخرى لأحدهما وهذا بخلاف ما إذا تداخلا في بعض المسائل أو أزيد فان حسن تدوين علمين حينئذ وتسميتهما باسمين مما لا يخفى.
في تمايز العلوم وتمايز مسائلها
(قوله وقد انقدح بما ذكرنا أن تمايز العلوم إلخ) أي وقد انقدح بما ذكرنا من أن القضايا جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون
7

هذا العلم أن تمايز العلوم بعضها عن بعض هو بتمايز الأغراض الداعية إلى التدوين لا بتمايز موضوعات العلم ولا بتمايز محمولاته والا لزم أن يكون كل باب بل كل مسألة من كل علم علما على حده (وفيه) أن ذلك إنما يلزم إذا كان موضوع العلم هو عين موضوعات مسائله وهكذا محموله وأما إذا قلنا أن موضوع العلم هو أمر وحداني وهو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتحد معها اتحاد الكلي ومصاديقه كما أشار بذلك قبلا بقوله وما يتحد معها خارجا وسيأتي التصريح به أيضا بقوله وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل إلخ وهكذا لو قلنا بمثله في محموله فلا يكاد يلزم ذلك وأما معرفة موضوع العلم أي الكلي المنطبق على موضوعات مسائله وهكذا معرفة محموله فهي وان كانت تتوقف على معرفة المسائل وتحديدها سعة وضيقا كما أن معرفتها وتحديدها كذلك لا يكاد يمكن الا بالغرض فإذا لا مميز الا الغرض ولكن بعد ما ميزنا وحددنا المسائل سعة وضيقا بوسيلة الغرض وأخذنا الجامع بين موضوعاتها وكان هو موضوع العلم وأخذنا الجامع بين محمولاتها وكان هو محمول العلم كان المميز حينئذ للعلم أمور ثلاثة الغرض والموضوع والمحمول (ثم) إن مما ذكرنا يظهر أن تمايز مسائل كل علم عن مسائل ساير العلوم أيضا يكون بتمايز الأغراض والموضوعات والمحمولات فان العلم ليس الا عبارة عن جملة من المسائل فإذا كان تمايز العلم بتمايز هذه الأمور الثلاثة كان تمايز مسائله أيضا عن مسائل ساير العلوم بتمايز هذه الأمور الثلاثة فكل مسألة من مسائل هذا العلم يمتاز عن مسائل ساير العلوم بترتب غرض هذا العلم عليه وبانطباق موضوع هذا العلم على موضوعه ومحموله على محموله (نعم) تمايز مسائل علم واحد بعضها عن بعض لا يكون بتمايز الأغراض إذا المفروض هو ترتب غرض واحد على جميع مسائله المختلفة فكيف يكون تمايز بعضها عن بعض بتمايز الغرض بل يكون
8

تمايزه بتمايز موضوعه أو محموله أو بتمايز كليهما فكل مسألة من مسائل هذا العلم يمتاز عن مسألة أخرى لهذا العلم بامتياز موضوعها أو محمولها أو كليهما.
(قوله فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول إلخ) تفريع على قوله لا الموضوعات ولا المحمولات أي فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا لتعدد العلم كما لا تكون وحدتهما في مسألة موجبة لأن تكون المسألة من علم واحد لإمكان دخلها في مهمين فتكون من علمين مستقلين
(قوله بكل ما دل عليه إلخ) أي من العناوين المشيرة إليه مثل أن يقال أن موضوع العلم هو الجامع بين موضوعات مسائله المتحد معها خارجا اتحاد الكلي ومصاديقه والطبيعي وأفراده.
في موضوع علم الأصول
(قوله وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الأصول إلخ) أي وقد انقدح بما تقدم آنفا من أنه ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة وإن لم يكن له عنوان خاص واسم مخصوص.
(قوله لا خصوص الأدلة الأربعة إلخ) أي الكتاب والسنة والإجماع والعقل كما نسب ذلك إلى المشهور من حصر موضوع علم الأصول بها
(قوله ولا بما هي هي إلخ) كما يظهر من الفصول فإنه صرح أن المراد من الأدلة الأربعة التي هي موضوع علم الأصول ذات الأدلة لا هي مع وصف كونها أدلة ولعل الثمرة تظهر في مثل البحث عن حجية الإجماع أو نحوه فإنه
9

إن كان بما هو دليل موضوعا للأصول فالبحث عن حجيته يكون خارجا عنها ضرورة أن البحث عن دليلية الدليل ليس بحثا عن عوارض الدليل وأما إذا كان بما هو هو موضوعا للأصول فالبحث عن حجيته بحث عن عوارض الموضوع
(قوله كعمدة مباحث التعادل والتراجيح إلخ) ولعل وجه التعبير بعمدة مباحث التعادل والتراجيح أن عمدة مسائلها باحثة هي عن تعارض الخبرين وهما ليسا من السنة وقلما يتفق أن يبحث فيها عن تعارض الآيتين أو السنتين بما لهما من الظهور كي يكون بحثا في الحقيقة عن عوارض الكتاب والسنة.
(قوله ورجوع البحث فيهما إلخ) إشارة إلى ما صنعه الشيخ أعلى الله مقامه في الرسائل فإنه أرجع البحث عن حجية خبر الواحد إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد وعدمه ليكون بحثا عن عوارض السنة وحيث أنه إذا جاز هذا الإرجاع في خبر الواحد جاز في التعادل والتراجيح أيضا قال المصنف ورجوع البحث فيهما إلى أن قال غير مفيد (ووجه) عدم الفائدة أن المراد من ثبوت السنة بخبر الواحد أو بأي الخبرين في باب التعارض إن كان هو الثبوت الواقعي فهو مفاد كان التامة وليس من العوارض وإن كان هو الثبوت التعبدي فمرجعه إلى وجوب العمل بخبر الواحد وحجيته وهو من عوارض الخبر لا من عوارض السنة.
(أقول) إن الثبوت الواقعي ليس الا بمعنى انكشاف الشيء حقيقة بنحو العلم واليقين في قبال الثبوت التعبدي الشرعي الذي هو بمنزلة الانكشاف العلمي اليقيني ومن المعلوم ان انكشاف الشيء حقيقة هو من عوارض الشيء فان الشيء قد يكون مكشوفا محرزا وقد يكون مستورا مخفيا وعليه فإذا كان البحث في خبر الواحد وفي باب التعارض هو عن ثبوت السنة بخبر الواحد أو بأي الخبرين ثبوتها الواقعي كان ذلك بحثا عن عوارض السنة ولكن الشأن في إثبات
10

ذلك وان البحث فيهما بحث عن ثبوت السنة واقعا وعدمه بل بحث عن الثبوت التعبدي وهو من عوارض الخبر.
(قوله وأما إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها إلخ) هذا في قبال قوله المتقدم لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم إلخ.
(قوله وجملة من غيرها إلخ) أي من غير مباحث الألفاظ كبحث الإجزاء وبحث مقدمة الواجب وبحث الضد فان هذه الأبحاث كما ستعرف هي مباحث عقلية وان كانت مذكورة في مباحث الألفاظ وهكذا يلزم خروج بحث حجية القطع ومباحث الأصول العملية وغيرها عن علم الأصول إذ ليست هي باحثة عن أحوال خصوص الأدلة الأربعة.
في تعريف علم الأصول
(قوله ويؤيد ذلك تعريف الأصول إلخ) أي ويؤيد ما تقدم آنفا من أن البحث في غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ وجملة من غيرها لا يخص الأدلة بل يعم غيرها تعريف الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ووجه التأييد أن مقتضى هذا التعريف أن كل قاعدة مهدت لاستنباط الحكم الشرعي فهو من علم الأصول سواء كانت باحثة عن عوارض الأدلة الأربعة أم لا فلو كان موضوع الأصول هي الأدلة الأربعة لكان الأنسب في تعريفه أن يقال هو العلم بالمسائل الباحثة عن أحوال الكتاب والسنة والعقل والإجماع ولعل وجه عدم جعل المصنف ذلك دليلا برأسه أن هذا التعريف من نفس المشهور القائلين بكون موضوع الأصول هي الأدلة الأربعة فكيف يمكن الاستشهاد بتعريفهم لكون الموضوع هو الأعم
11

(قوله وان كان الأولى تعريفه إلخ) ولعل وجه العدول عن التعبير بالأولوية أن أمثال هذه التعاريف كما سيأتي من المصنف مكررا تعاريف لفظية لمجرد حصول الميز في الجملة من قبيل تعريف السعدانة بأنها نبت فلا تجب أن تكون جامعة مانعة لها العكس والطرد فلا ينبغي إطالة الكلام فيها بالنقص والإبرام بل التعاريف الحقيقية لا يعرفها الا الله العالم بكنه الأشياء وحقائقها كما ستأتي منه الإشارة إلى ذلك في صدر الاجتهاد والتقليد نعم حيث أنه مع ذلك يحسن التعريف بالأقرب فالأقرب فعدل المصنف عن تعريف المشهور إلى تعريف آخر وقال وان كن الأولى تعريفه إلخ.
(قوله بأنه صانعة إلخ) وكأن وجه العدول عن التعبير بالعلم إلى الصناعة هو التنبيه على أن علم الأصول ليس مجرد الإدراك بل هو فن فوق العلم كالصياغة والنجارة والبناء ونحو ذلك فكما أن الصياغة مثلا صناعة يتمكن بها من صنع المصوغات فكذلك الأصول صناعة يتمكن بها من استنباط الأحكام الشرعية.
(قوله التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام إلخ) ولعل وجه العدول عن التعبير بالممهدة إلى التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام هو التنبيه على أن الأصول لا تنحصر بالمسائل التي مهدها السابقون لاستنباط الأحكام الشرعية بل تشمل كل مسألة يمكن أن يستنبط بها الحكم الشرعي ولو لم تمهد بعد بل يمهدها المتأخرون اللاحقون.
(ثم) لا فرق في استنباط الحكم الشرعي بالمسألة الأصولية بين أن يكون بلا واسطة كما في قولك شرب التتن مشكوك الحرمة وكل مشكوك الحرمة حلال ظاهرا فشرب التتن حلال ظاهرا أو مع الواسطة كما في قولك أقم الصلاة أمر وكل أمر للوجوب فأقم الصلاة للوجوب فتجب الصلاة نعم يجب
12

أن لا تكون الوسائط كثيرة بحيث تخرج المسألة عن كونها مسألة أصولية كما في المسائل النحوية والصرفية واللغوية وغيرها مما يستنبط به الحكم الشرعي لكن بوسائط عديدة.
(قوله أو التي ينتهى إليها في مقام العمل إلخ) الغرض من زيادة هذه العبارة هو إدراج مسألة حجية الظن على الانسداد والحكومة ومسائل الأصول العملية العقلية الجارية في الشبهات الحكمية في تعريف علم الأصول (وتوضيحه) أنه إذا قلنا بحجية مطلق الظن بوسيلة مقدمات الانسداد فتارة نقول بالكشف أي أن المقدمات مما توجب الكشف عن كون الظن طريقا منصوبا من قبل الشارع في ظرف الانسداد كخبر الواحد أو ساير الأمارات المعتبرة بالخصوص عند الانفتاحي وأخرى نقول بالحكومة أي أن العقل يستقل حينئذ في الحكم بحجية الظن في هذا الحال كحجية العلم في حال الانفتاح فان قلنا بالأول فالمسألة مما يستنبط به الحكم الشرعي كمسألة حجية خبر الواحد ونحوها ولا كلام لنا فيها وإن قلنا بالثاني فهي قاعدة ينتهى إليها في مقام العمل وليست هي مما يستنبط به الحكم الشرعي فتكون خارجة عن تعريف علم الأصول وهكذا الكلام في الأصول العملية العقلية كقاعدة قبح العقاب بلا بيان وقاعدة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين وقاعدة الاحتياط عند العلم الإجمالي بالتكليف فان جميع هذا كله قواعد ينتهى إليها في مقام العمل وليست هي مما يستنبط به الحكم الشرعي فتكون خارجة أيضا عن تعريف علم الأصول فالمصنف انما زاد في التعريف كلمة أو التي ينتهى إليها في مقام العمل كي يشمل هذه المباحث المهمة الجليلة.
(قوله الأصول العملية إلخ) مقصوده من الأصول العملية هي العقلية منها والا فالأصول العملية الشرعية داخلة بنفسها في تعريف علم الأصول
13

لكونها مما يستنبط به الحكم الشرعي فلا يحتاج إلى ما يدخله في التعريف.
(قوله في الشبهات الحكمية إلخ) وجه التقييد بالحكمية أن الأصول العملية الجارية في الشبهات الموضوعية ليست هي مما يستنبط به الحكم الشرعي الكلي بل الجزئي كطهارة هذا وطهارة ذاك أو حلية هذا وحلية ذاك فتكون من القواعد الفقهية لا الأصولية فان القاعدة الأصولية هي التي يستنبط بها الأحكام الشرعية الكلية كوجوب صلاة الجمعة أو حرمة العصير الزبيبي ونحوهما لا الجزئية ومن هنا يعرف أن مقصود المشهور من الحكم الشرعي في تعريفهم هو الحكم الشرعي الكلي لا الجزئي ثم أن للقاعدة الفقهية ضابطة أخرى غير ما يستنبط به الحكم الشرعي الجزئي وهي ما صح إعطاؤه بيد العامي المقلد ولا ينحصر أعماله بالمجتهد المفتي وذلك كقاعدة الطهارة وقاعدة الحل وقاعدة الاستصحاب الجارية كلها في الشبهات الموضوعية فيقول العامي هذا الشيء الخارجي مشكوك الطهارة والنجاسة وكل مشكوك الطهارة والنجاسة
طاهر شرعا ولو لما أفتى به المفتي فهذا طاهر شرعا وهكذا الأمر في مشكوك الحلية والحرمة أو يقول إن وضوئي مشكوك البقاء وكل مشكوك البقاء باق شرعا ولو لما أفتى به المفتي فوضوئي باق شرعا فيجوز الصلاة معه وهكذا.
في الوضع
(قوله الأمر الثاني الوضع هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما إلخ) قد يخطر بالبال أن يكون الوضع عبارة عن تخصيص اللفظ المعنى فيكون معنى مصدريا وفعلا من أفعال الواضع لا نتيجة الفعل والأثر
14

الحاصل منه وهو الاختصاص والارتباط الخاص الحاصل من التخصيص ولكن التحقيق في لفظ الوضع وفي ساير ألفاظ المعاملات كالنكاح والطلاق والبيع والعتاق ونحو ذلك من المفاهيم القابلة للإنشاء بأقوال خاصة أو بافعال مخصوصة مما يقضى بكون تلك الألفاظ هي أسامي للمسببات والآثار الحاصلة من تلك الأسباب أي من تلك الأقوال أو الأفعال لا لنفس الأسباب بعينها فان تلك الأسباب هي مما ينشأ به تلك المفاهيم لا محالة فلو كانت ألفاظ تلك المفاهيم هي للأسباب لكان المنشأ بالفتح وما ينشأ به أمرا واحدا وهو غير معقول (وعليه) فالنكاح هي العلاقة الخاصة الحاصلة بين الزوج والزوجة بقولك زوجت فلانا من فلان والطلاق هي البينونة الحاصلة بين الزوجين بقولك زوجة موكلي طالق والبيع هي الملكية الحاصلة للمالك بقولك ملكتك كذا وكذا وهكذا الوضع فيكون هو الاختصاص والربط الخاص الحاصل بين اللفظ والمعنى بقولك وضعت اللفظ الفلاني لكذا وكذا.
(اللهم) الا أن يقال أن لفظ الوضع وساير ألفاظ المعاملات وإن لم تكن هي موضوعة للأسباب والا لزم اتحاد المنشأ بالفتح وما ينشأ به بالتقريب المتقدم ولكنها ليست هي موضوعة للمسببات أيضا فان لنا أسباب تصدر من الإنسان مباشرة ولنا أفعال توليدية تصدر من الإنسان بوسيلة تلك الأسباب ويتولد من تلك الأسباب ولنا مسببات أي آثار خاصة مترتبة على تلك الأسباب فتلك الألفاظ هي موضوعة لتلك الأفعال لا للأسباب ولا للمسببات فقولك مثلا ملكتك كذا وكذا سبب والتمليك الحاصل بسببه وهو إدخالك المبيع في ملكه بهذه الوسيلة بيع وهو فعلك التوليدي في قبال السبب وهو فعلك المباشري وأما الملكية الحاصلة للمشتري وهي الإضافة المخصوصة والعلامة الخاصة الحاصلة بين المملوك والمالك بهذا السبب فهو المسبب والأثر
15

الوضعي وهكذا الأمر في النكاح والطلاق والعتاق ونحو ذلك (وان شئت) التوضيح أكثر من ذلك فقس المقام بمثل الإحراق قلنا إلقاء في النار وهو السبب والفعل المباشري ولنا فعل توليدي يحصل بواسطة هذا السبب وهو الإحراق فإنه ليس أمرا مقدورا للإنسان بالمباشرة الا بالتسبيب ولنا أثر خاص يترتب على هذا السبب وهو الموت وإزهاق الروح وهو المسبب (ففي المقام) قولك وضعت اللفظ الفلاني للمعنى الفلاني سبب وتخصيصك اللفظ بالمعنى بهذه الوسيلة وبهذا السبب فعل توليدي منك وهو المسمى بالوضع وأما الاختصاص والربط الخاص الحاصل بهذا القول فهو أثر ومسبب (وعلى هذا كله) فالوضع ليس هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما كما أفاد المصنف بل هو تخصيص اللفظ بالمعنى بوسيلة قولك المذكور وبإنشائك المخصوص فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله ناش من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيه أخرى إلخ) هذا تقسيم للوضع بلحاظ كيفيته فقد بوضع اللفظ بإزاء المعنى بالتصريح بإنشائه فيقول الواضع قد وضعت اللفظ الفلاني للمعنى الفلاني ويحصل به الاختصاص والارتباط الخاص ويسمى بالوضع التعييني وقد يكثر استعمال اللفظ في المعنى من شخص واحد أو من أشخاص متعددة إلى أن يحصل به الاختصاص والارتباط الخاص ويسمى بالوضع التعيني.
(أقول) وسيأتي في الحقيقة الشرعية من المصنف أن الوضع التعييني أيضا على قسمين فقد يحصل بالتصريح بإنشائه وقد يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له بان يقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى في محله فانتظر.
(قوله وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني إلخ) أي وبمعنى
16

الاختصاص والارتباط الخاص صح تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني فالارتباط الخاص قد يحصل من التخصيص دفعة واحدة بفعل واحد وقد يحصل من الاستعمال الكثير تدريجا شيئا فشيئا. (وفيه) أن الوضع بمعنى التخصيص أيضا مما صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني فالتخصيص قد يكون بفعل شخص واحد دفعة واحدة وقد يكون بافعال كثيرة واستعمالات عديدة تدريجا شيئا فشيئا من شخص واحد ومن أشخاص عديدة فالوضع سواء كان بمعنى الاختصاص والارتباط الخاص أو كان بمعنى التخصيص هو مما صح تقسيمه إلى كل من التعييني والتعيني والتخصيصي والتخصصي وهذا واضح.
(قوله ثم أن الملحوظ حال الوضع أما يكون معنى عاما إلخ) هذا تقسيم لمجموع الوضع والموضوع له من حيث العموم والخصوص وحاصل تحقيق المصنف أن الواضع (قد يلحظ) معنى عاما فيوضع اللفظ له كما في أسامي الأجناس كالرجل والمرأة والإنسان والحيوان ونحو ذلك فيكون كل من الوضع والموضوع له عاما (وقد يلحظ) معنى عاما ويوضع اللفظ بإزاء أفراده ومصاديقه كما ادعى ذلك في الحروف وما الحق بها من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات والهيئات كما سيأتي فيكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا (وقد يلحظ) معنى خاصا فيوضع اللفظ له خاصة كما في وضع الأعلام فتكون الأقسام ثلاثة ولا يعقل أن يلحظ المعنى الخاص ويوضع اللفظ بإزاء العام كي تكون الأقسام أربعة والسر فيه أن المعنى العام آلة للحاظ أفراده ووجه من وجوده مصاديقه فإذا لوحظ المعنى العام فقد لوحظت الأفراد والمصاديق ولو إجمالا وصح وضع اللفظ لها بخلاف الخاص فإنه ليس آلة للحاظ العام ولا وجها ولا مرآتا له فلا يصح وضع اللفظ للعام الا بعد لحاظه بنفسه وإذا لوحظ بنفسه فيكون من القسم الأول أي من الوضع العام والموضوع له العام
17

غايته أنه قد أوجب لحاظ الخاص لحاظ العام فوضع اللفظ له.
(أقول) أولا لا معنى للتفكيك بين الوضع والموضوع له من حيث العموم والخصوص أصلا فان الوضع ليس مجرد لحاظ المعنى كي إذا لوحظ المعنى العام كان الوضع عاما سواء كان الموضوع له عاما أيضا أم لا وإذا لوحظ المعنى الخاص كان الوضع خاصا سواء كان الموضوع له خاصا أيضا أم لا بناء على جواز القسم الرابع كما ستأتي الإشارة إليه.
(وثانيا) أن لحاظ الموضوع له على الدقة والتفصيل عند الوضع لازم عقلا ولا يكفى اللحاظ الإجمالي المرآتي وإلا فكما أنه يصح القسم الثاني أي الوضع العام والموضوع له الخاص فكذلك يصح القسم الرابع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام إذ لم يعلم أن مرآتية الفرد للطبيعي هي أقل من مرآتية الطبيعي للافراد فكما أنه إذا لاحظ الطبيعي جاز وضع اللفظ لأفراده نظرا إلى كونه وجها من وجوهها فكذلك إذا لاحظ الفرد الخاص جاز وضع اللفظ لكليه المنطبق عليه وعلى أقرانه لكونه وجها من وجوهه.
(ثم) أن الظاهر أن تجويز القسم الثاني بدعوى كون العام وجها من وجوه أفراده ومصاديقه قد أخذه المصنف من صاحب المعالم رحمه الله فإنه ذكر في بحث تعقب المخصص متعددا كلاما طويلا في أقسام الوضع لا بأس بذكر جملة منه مما يناسب المقام.
(قال) في ما أفاده في العام والخاص ما لفظه أصل إذا تعقب المخصص متعددا سواء كان جملا أو غيرها وصح عوده إلى كل واحد كان الأخير مخصوصا قطعا وهل يختص معه الباقي أو يختص هو به أقوال وقد جرت عادتهم بفرض الخلاف والاحتجاج في تعقب الاستثناء ثم يشيرون في باقي أنواع المخصصات (إلى أن قال) والذي يقوى في نفسي أن اللفظ محتمل لكل من
18

الأمرين لا يتعين أحدهما الا بالقرينة (إلى أن قال) ولنقدم على توجيه المختار مقدمة يسهل بتدبرها كشف الحجاب عن وجه المرام وتزداد بتذكرها بصيرة في تحقيق المقام وهي أن الواضع لا يد له من تصور المعنى في الوضع فان تصور معنى جزئيا وعين بإزائه لفظا مخصوصا أو ألفاظ مخصوصة متصورة تفصيلا أو إجمالا كان الوضع خاصا لخصوص التصور المعتبر فيه أعنى تصور المعنى والموضوع له خاصا أيضا وهو ظاهر لا لبس فيه وأن تصور معنى عاما تندرج تحته جزئيات إضافية أو حقيقة فله أن يعين لفظا معلوما أو ألفاظا معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء ذلك المعنى العام فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه والموضوع له أيضا عاما وله أن يعين اللفظ أو الألفاظ بإزاء خصوصيات الجزئيات المندرجة تحته لأنها معلومة إجمالا إذا توجه العقل بذلك المفهوم العام نحوها والعلم الإجمالي كاف في الوضع فيكون الوضع عاما لعموم التصور المعتبر فيه والموضوع له خاصا فمن القسم الأول من هذين يعنى الأخيرين المشتقات (إلى أن قال) ومن القسم الثاني المبهمات كأسماء الإشارة (إلى أن قال) ومن هذا القبيل أيضا وضع الحروف فإنها موضوعة باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة لكل واحدة من خصوصياته (إلى أن قال) وفي معناها الأفعال (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه ومقصوده من الأفعال هيئاتها كما يظهر بمراجعة باقي كلامه.
(قوله وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص إلخ) فلا يوجب تصور العام تصور الخاص بنفسه وهذا في الحقيقة دفع لما قد يقال من أنه لو سلم أنه ربما يوجب تصور الخاص تصور العام بنفسه فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما كما اعترف به المصنف وصرح به فليكن الوضع العام والموضوع له الخاص أيضا من هذا القبيل
19

فتصور العام قد أوجب تصور الخاص بنفسه فيوضع له اللفظ فيكون الوضع خاصا كما كان الموضوع له خاصا فيكون الوضع على هذا على قسمين لا على أقسام ثلاثة.
(فيقول) في الدفع ما حاصله أنه فرق بين المقامين فان تصور الخاص قد يوجب تصور العام بنفسه فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص فان تصور العام مما لا يوجب تصور الخاص بنفسه كي يوضع له اللفظ ويكون الوضع خاصا كما كان الموضوع له خاصا بل تصوره بوجهه وفرق واضح بين تصور الشيء بنفسه وبين تصوره بوجهه.
(قوله ولعل خفاء ذلك على بعض الأعلام إلخ) الظاهر أن المراد من بعض الأعلام هو صاحب البدائع رحمه الله فإنه الذي أصر في البدائع على ثبوت القسم الرابع وان كان يظهر من الفصول وجود القائل به من قبل بان يشاهد الواضع حيوانا خاصا فيوضع اللفظ بإزاء نوعه.
(قوله ثم أنه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص إلخ) لا يخفى أن المصنف من أول قوله ثم أن الملحوظ حال الوضع إلى هاهنا كان بصدد بيان إمكان الأقسام الثلاثة من الوضع العام والموضوع له العام والوضع العام والموضوع له الخاص والوضع الخاص والموضوع له الخاص وهاهنا صار بصدد بيان ما وقع في الخارج من تلك الأقسام الثلاثة فيقول ما محصله أن الواقع في الخارج قسمان الوضع الخاص والموضوع له الخاص كما في وضع الأعلام والوضع العام والموضوع له العام كما في وضع أسامي الأجناس واما الوضع العام والموضوع له الخاص فلم يقع في الخارج وإن ادعى وقوعه وانه وضع الحروف وما الحق بها من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات والهيئات كما أشرنا ولكنه خلاف التحقيق كما ستعرف.
20

في وضع الحروف ومعانيها
(قوله وأما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد توهم أنه وضع الحروف وما الحق بها من الأسماء كما توهم أيضا أن المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما... إلخ) فيكون الأقوال في وضع الحروف وما الحق بها من المبهمات كأسماء الإشارة والضمائر والموصولات ومن الهيئات ثلثه (الوضع العام والموضوع له الخاص) كما هو المشهور بين المتأخرين ومنهم صاحب الفصول وصاحب المعالم وقد تقدم تصريح الأخير به (والوضع العام والموضوع له العام والمستعمل فيه الخاص) وهذا القول لم نعرف له قائلا غير أنه يظهر من الفصول وجود القائل به.
(قال) ما هذا لفظه وما يقال من إنها وضعت للمفاهيم الكلية ثم استعملت في الجزئيات بقرائن مقامية أو مقالية فكل من الوضع والموضوع له فيها عام والمستعمل فيه خاص فمدفوع انتهى (والوضع العام والموضوع له العام والمستعمل فيه العام) كما هو مختار المصنف على ما ستعرفه بل والقدماء أيضا كما ستأتي الإشارة إليه من المصنف وفي الفصول أنه اشتهرت حكاية هذا القول عن المتقدمين.
(قوله والتحقيق حسبما يؤدى إليه النظر الدقيق إن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء... إلخ) وحاصل تحقيق المصنف في وضع الحروف أن كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عام كما في أسامي الأجناس وذلك لأن الخصوصية المتوهمة في الحروف (إن كانت خصوصية خارجية) بان يكون معنى الحروف أو المستعمل فيه فيها جزئيا
21

خارجيا فكثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك كما إذا وقعت الحروف في تلو الأمر فقال مثلا سر من البصرة إلى الكوفة فان الامتثال يحصل بأي فرد من ابتداء البصرة.
(أقول) بل مطلقا لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك حتى فيما إذا وقع في تلو الخبر لا في تلو الأمر كما في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة فان كلمة (من) فيه وان استعملت في النقطة الخارجية التي وقع السير منها في الخارج ولكنها من قبيل استعمال لفظة رجل في الفرد الخارجي في مثل قولك جاءني رجل فكما يقال فيه أن لفظة رجل لم تستعمل فيه بما هو هو بل بما هو تلك الطبيعة ولذا لم يدع أحد أن الموضوع له أو المستعمل فيه في أسماء الأجناس خاص بل عام فكذلك يقال في المقام عينا (وإن كانت خصوصية ذهنية) بان يكون لفظة (على) مثلا موضوعة للفوقية الملحوظة حالة للغير ومن خصوصياته القائمة به وهو المستعلى والمستعلى عليه فان الفوقية إذا لوحظت بما هي هي فهي معنى اسمي قد وضع له لفظة (فوق) وإذا لوحظت بما هي من حالات زيد والسطح مثلا كما في مثل زيد على السطح فهي مفاد لفظة (على) قد وضع لها هذه اللفظة فالمعنى حينئذ وان كان لا محالة يصير جزئيا ذهنيا لتقيده باللحاظ فما لم يلحظ كونه حالة للغير لم يكن المعنى حرفيا ولكن يرد عليه (أولا) أن هذا اللحاظ خارج عن الموضوع له والمستعمل فيه جدا والا لزم أن يكون في مقام استعمال الحروف لحاظان (أحدهما) يتعلق بالفوقية وهو لحاظ كونها من حالات الغير كي يصير المعنى بذلك حرفيا لا اسميا (ثانيهما) لحاظ آخر يتعلق بالمجموع فان لحاظ الموضوع له والمستعمل فيه حين الاستعمال لازم قطعا والمفروض أن الموضوع له أو المستعمل فيه فيها مركب من أمرين أحدهما الفوقية والآخر لحاظ كونها من حالات الغير ومن الواضح أنه ليس
22

لنا في مقام الاستعمال لحاظان يتعلق أحدهما بالمعنى والآخر بالمجموع وبعبارة أخرى كما يقال في أسماء الأجناس كلفظ رجل الذي هو مسلم عند الكل أنه موضوع لمعنى عام ومستعمل في المعنى العام ان لحاظ المعنى حين الاستعمال خارج عن الموضوع له وعن المستعمل فيه جميعا فان اللحاظ في مثل قولك الرجل خير من المرأة يتعلق بالطبيعة المبهمة المهملة ثم بعد اللحاظ يقع الاستعمال في عين تلك الطبيعة المبهمة المهملة لا في الطبيعة الملحوظة التي صارت بسبب اللحاظ جزئيا ذهنيا كي يلزم الاستعمال في الجزئي الذهني فكذلك يقال في الحروف حرفا بحرف (وبالجملة) المعنى الذي قد وضع له اسم الجنس أو الحروف وان كان بعد لحاظه عند الاستعمال يصير جزئيا ذهنيا ولكن لا يستعمل الاسم ولا الحرف في المجموع أي في المعنى الملحوظ الذي صار جزئيا بسبب اللحاظ بل في نفس المعنى الذي قد تعلق به اللحاظ أو لا فمتعلق اللحاظ والاستعمال شيء واحد وهو مجرد المعنى بلا ضم اللحاظ إليه.
(وثانيا) لو كان لحاظ المعنى حالة للغير جزءا للموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف لزم أن لا يصدق الحرف على الخارجيات ويمتنع الامتثال إذا وقع تحت الأمر كما في مثل سر من البصرة إلى الكوفة وذلك لتقيد المعنى المأمور به باللحاظ والمقيد باللحاظ لا موطن له الا في الذهن لا في الخارج وهذا واضح.
(وثالثا) ان لحاظ المعنى حالة للغير في الحروف ليس الا كلحاظ المعنى بما هو هو في نفسه في الأسماء فكما أنه في الأسماء لا يكون اللحاظ داخلا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه وانما هو من مسوغات الاستعمال وشرائطه فكذلك في الحروف حرفا بحرف (فتلخص) ان الاسم والحرف ككلمة (فوق) وكلمة (على) أو كلمة (الابتداء) وكلمة (من) أو كلمة (الانتهاء)
23

وكلمة (إلى) إلى غير ذلك من الأسماء مع ما يقابلها من الحروف الموضوعة لمعانيها قد وضعا لمفهوم واحد غير أن الاسم قد وضع ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه والحرف بما هو حالة للغير ومن خصوصياته القائمة به بمعنى أن الواضع وضعهما لمعنى واحد ولكن المعنى مما لا بد من لحاظه عند الاستعمال بأحد اللحاظين فهو إما أن يلحظ بما هو هو استقلالا وإما أن يلحظ حالة للغير وآلة له فان لوحظ بما هو هو استقلالا فقد وضع الاسم ليستعمل فيه وإن لوحظ حالة للغير وآلة له فقد وضع الحرف ليستعمل فيه ومن هنا يندفع ما قد يقال أن الاسم والحرف إن كانا موضوعين لمعنى واحد لزم جواز استعمال كل منهما مكان الآخر مع أنه لا يصح قطعا ووجه الاندفاع أن الاسم والحرف وأن اتفقا فيما وضعا له ولكنهما قد اختلفا في شرط الاستعمال ومسوغة وهو اللحاظ ومن المعلوم ان التعدي عن حدود الوضع مما يوجب الاختلال في الإفادة والاستفادة هذا غاية تحقيق المصنف في المقام بأحسن بيان.
(أقول) إن المصنف وإن أحسن وأجاد في إبطال الخصوصية المتوهمة في الحروف سواء كانت خارجية أو ذهنية وسواء كانت الموضوع له أو للمستعمل فيه ولكنه قد سامح فيما ادعاه أخيرا من عدم الفرق بين الاسم والحرف بحسب المعنى الا في مسوغ الاستعمال ومجوزه وهو اللحاظ وذلك لأن المنسبق إلى الذهن من الاسم غير المنسبق إليه من الحرف فان المتبادر من كلمة (فوق) غير المتبادر من كلمة (على) والمتبادر من كلمة (الابتداء) غير المتبادر من كلمة (من) والمتبادر من كلمة (الانتهاء) غير المتبادر من كلمة (إلى) وهكذا إلى غير ذلك من الأسماء وما يقابلها من الحروف وعليه فنفس المعنى في حد ذاته مختلف فيهما يتفاوت أحدهما عن الآخر لا انهما متحدان بحسب المعنى لا فرق بينهما الا في مسوغ الاستعمال ومجوزه فلو كان المعنى فيهما شيئا
24

واحدا لكان المتبادر منهما شيئا واحدا وهو خلاف الوجدان فالحق ان الحرف موضوع المربط والنسبة بين المنتسبين فكما أن كلمة (زيد) و (السطح) في زيد على السطح تحكيان عن الجسمين الخارجين فكذلك كلمة (على) في المثال تحكى عن الربط والنسبة بينهما وهي النسبة بين المستعلى والمستعلى عليه وكما أن كلمة (السير) و (البصرة) و (الكوفة) في سرت من البصرة إلى الكوفة تحكى عن تلك المفاهيم المستقلة في حد ذاتها فكذلك كلمة (من) وكلمة (إلى) في المثال تحكيان عن الربط والنسبة بين تلك المفاهيم وهي النسبة بين المبتداء والمبتداء منه والمنتهى والمنتهى إليه (وبالجملة) الأسماء تتكفل أداء تلك المعاني المستقلة الغير المرتبطة بعضها ببعض والحروف تتكفل أداء ذلك الربط الخاص والنسب الكائنة بينها (ودعوى) أن الحروف معانيها إيجادية والا لكانت اخطارية فتكون هناك معاني متعددة اخطارية فما الرابط بينهما (ضعيفة) جدا فان الأخطارية مما لا تنافي الرابطية ففي مثل زيد على السطح كل من لفظة (زيد) و (السطح) و (على) معناه إخطاري حاك عن شيء مخصوص لا موجد لشيء خاص غير أن الأولين يحكيان عن الجسمين المخصوصين والأخير يحكى عن ذلك الربط الخاص الحاصل بينهما وهو كون أحدهما فوق والآخر تحته (ومثلها) في الضعف دعوى أن الحروف موجدة للربط الكلامي بين المعاني فإنها لو كانت موجدة لذلك فما الحاكي عن ذلك الربط الخارجي الواقع بين تلك المعاني وهذا بخلاف ما إذا قلنا أن الحروف حاكية عن ذلك الربط الخارجي فبحكايتها عنه يحصل الربط الكلامي أيضا فان الكلام المربوط بعضها ببعض ليس الا ما كان حاكيا عن المعاني المرتبطة في الخارج بعضها ببعض وهذا واضح.
(قوله كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك... إلخ) وجه
25

تعرضه لخصوص المستعمل فيه أنه إذا ثبت عموم المستعمل فيه ثبت عموم الموضوع له أيضا إذ لا قائل يكون المستعمل فيه عاما والموضوع له خاصا وإن قيل بالعكس أي يكون الموضوع له عاما والمستعمل فيه خاصا كما تقدم.
(قوله ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا... إلخ) الظاهر ان المراد من بعض الفحول هو صاحب الفصول فإنه الذي التزم بالجزئي الإضافي في الموضوع له (قال) ما هذا لفظه وان لاحظ أمرا كليا فالوضع عام وحينئذ فان وضع اللفظ بإزائه من غير اعتبار خصوصية غير معينة نوعية أو شخصية معه شطرا أو شرطا فالموضوع له عام كما في أسماء الأجناس وان وضعه بإزائه مع اعتبارها فالموضوع له خاص لكونه جزئياته الحقيقية أو الإضافية (انتهى) ويحتمل أن يكون المراد منه صاحب المعالم حيث قال في عبارته المتقدمة وإن تصور معنى عاما تندرج تحته جزئيات إضافية أو حقيقية فله أن يعين لفظا معلوما أو ألفاظ معلومة بالتفصيل أو الإجمال بإزاء ذلك المعنى العام إلى آخر ما أفاد فراجع.
(قوله مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات... إلخ) إشارة إلى الجواب الثاني على تقدير كون الخصوصية المتوهمة في الحروف خصوصية ذهنية فتفطن.
(قوله لامتناع صدق الكلي العقلي عليها... إلخ) هذا التعبير بما لا يخلو عن مسامحة فان تقيد المعنى باللحاظ وان كان مما يوجب امتناع صدقه على الخارجيات إذ المقيد باللحاظ لا موطن له الا في الذهن ولكن لا يصيره كليا عقليا فان الكلي العقلي هو الكلي الطبيعي المقيد بالكلي المنطقي أي بنفس الكلية لا باللحاظ فان الكلية أي الصدق على كثيرين كلي منطقي ومعروضها كالإنسان كلي طبيعي والمركب منهما كالإنسان المقيد بالكلية كلي عقلي لا
26

موطن له إلا في الذهن ضرورة أن الموجود في الخارج هو الإنسان لا الإنسان الصادق على كثيرين.
(قوله هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء... إلخ) إشارة إلى الجواب الثالث على تقدير كون الخصوصية المتوهمة في الحروف خصوصية ذهنية ونحن قد أوضحنا الجميع بحمد الله فاضبطه.
في الفرق بين الخبر والإنشاء وفي بيان معاني الهيئات
(قوله ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضا كذلك... إلخ) بان يكون مثل قولك أنكحت إخبارا وقولك أنكحت إنشاء قد وضعا لمعنى واحد غايته أن الأول وضع ليراد منه حكاية المعنى والثاني وضع ليراد منه إيجاد المعنى فكما أن الاسم والحرف قد وضعا لمعنى واحد وكل من لحاظ الاستقلالية ولحاظ الآلية خارج عن جرم المعنى فكذلك الخبر والإنشاء قد وضعا لمعنى واحد وكل من الحكاية والإيجاد خارج عن جرم المعنى (وفيه ما لا يخفى) ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فتأمل بل ضعفه أظهر من أن يحتاج إلى التأمل فان الذي للاخبار أو الإنشاء في المثال ليس الا هيئة أنكحت ومفاد الهيئة في الاخبار ليس الا نفس الحكاية ومفاد الهيئة في الإنشاء ليس الا نفس الإيجاد فليس للهيئة معنى آخر سوى الحكاية والإيجاد كي يقال أن الحكاية والإيجاد خارجان عن جرم المعنى وأصل المعنى مما يشترك فيه
27

الخبر والإنشاء (وبالجملة) أن الهيئات على قسمين (فمنها) للحكاية عن الربط والنسبة كهيئة ضرب وضربا وضربوا ويضرب ويضربان ويضربون إلى آخر صيغ الماضي والمضارع وغيرهما فالمادة تحكى عن المبدأ والهيئة تحكى عن قيام المبدأ بمفرد مذكر أو مؤنث أو باثنين أو بجماعة (ومنها) لإنشاء المعاني الاعتبارية وإيجاد المفاهيم المقابلة للجعل كهيئة بعت أو زوجت أو هي طالق لإنشاء البيع أو الزوجية أو الطلاق ونحو ذلك أو هيئة افعل أو لا تفعل لإنشاء طلب الفعل أو الترك والظاهر ان هيئة بعت وأخواته موضوعة لغة للحكاية ولكنها قد تستعمل في الإنشاء مجازا ويحتمل الاشتراك فيه وضعا وعلى كل حال لا ريب في أنها إذا استعملت في مقام الإنشاء سواء كان على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز ليس مفادها الا الإنشاء المحض ومتعلق الإنشاء من البيع أو الزوجية أو الطلاق هو خارج عن مدلول الهيئة ويستفاد من نفس المادة كما لا يخفى نعم ربما يقع الكلام في هيئة افعل أو لا تفعل التي هي لإنشاء طلب الفعل أو الترك من حيث أن الطلب الذي هو متعلق الإنشاء هل هو داخل في مدلول الهيئة بحيث كان لمدلولها جزءان أحدهما الإنشاء والآخر الطلب فهي تدل على الطلب بالتضمن أو هو خارج عن مدلول الهيئة وإنما هي تدل عليه بالالتزام وأما مدلولها المطابقي فهو مجرد الإنشاء المضاف إلى الطلب من قبيل دلالة العمى على البصر بالالتزام وأن مدلوله المطابقي هو مجرد العدم المضاف إلى البصر والظاهر أن
الثاني أقرب.
(قوله فتأمل... إلخ) قد أشرنا إلى وجه قوله فتأمل فلا تغفل.
28

في أسماء الإشارة والضمائر
(قوله ثم أنه قد انقدح مما حققناه أنه يمكن أن يقال أن المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام... إلخ) وحاصل الكلام أنه كما قلنا في الحروف أن الحرف والاسم قد وضعا لمعنى واحد غايته أنه وضع الحرف ليراد منه معناه بما هو حالة لغيره ووضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه فكذلك نقول في أسماء الإشارة والضمائر أن كلا من لفظة (هذا) و (هو) و (إياك) موضوع للمفرد المذكر غايته أن اسم الإشارة وضمير الغائب وضعا ليراد منهما الإشارة إليه وضمير المخاطب وضع ليراد منه التخاطب معه فكما أن كلا من لحاظ الآلية والاستقلالية خارج عن متن المعنى في الحرف والاسم فكذلك الإشارة والتخاطب خارجان عن أصل المعنى في أسماء الإشارة والضمائر وكما قلنا في الاسم والحرف أن المستعمل فيه فيهما عام وأن تشخصه الذهنية قد نشأ من جهة اللحاظ الآلي أو الاستقلالي الخارج عن أصل المعنى والمستعمل فيه فكذلك نقول في المقام أن المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام وهو المفرد المذكر وأن تشخصه الخارجية قد نشأ من قبل الإشارة والتخاطب الخارجين عن جرم المعنى.
(أقول) لو سلم صحة ما ادعاه المصنف في الحرف من أنه مع الاسم موضوعان لمعنى واحد غايته أن الحرف ليلحظ حالة لغيره والاسم ليلحظ بما هو هو وفي نفسه وإن كلا من اللحاظين خارج عن جرم المعنى فلا يقاس عليهما أسماء الإشارة والضمائر قطعا إذ ليسا موضوعين لمعنى واحد وهو المفرد المذكور ونحوه ويكون الإشارة والتخاطب خارجين عن جرم المعنى بل الأمر
29

بالعكس فلفظ (هذا) أو لفظ (هو) موضوع لنفس الإشارة إلى المفرد المذكر الحاضر أو الغائب ولفظ (إياك) موضوع لنفس التخاطب مع المفرد المذكر وأما المفرد المذكر فهو بنفسه خارج عن متن المعنى ومن المعلوم أن كلا من الإشارة والتخاطب معنى كلي عام لا جزئي خاص فيكون حال أسماء الإشارة والضمائر حال أسامي الأجناس فكل من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عام (نعم) قد يقال أن لفظة (هذا) في هذا زيد أو لفظة (هو) في هو عمرو أو لفظة (إياك) في إياك أعنى قد استعملت في الإشارة والتخاطب الخارجين فالمستعمل فيه فيها خاص (ولكن) يجاب عنه بان حال الألفاظ المذكورة كحال لفظة (رجل في مثل جاءني رجل فكما يقال فيه أن لفظة رجل قد استعملت في الجائي الخارجي لكن لا بما هو هو كي يلزم التجوز بل بما هو طبيعة الرجل كما تقدم قبلا فكذلك يقال فيها أن لفظة (هذا) أو (هو) أو (إياك) قد استعملت في الإشارة أو التخاطب الخارجية لكن لا بما هي هي بل بما هي طبيعة الإشارة أو التخاطب (وبالجملة) أن أسماء الإشارة موضوعة للإشارة إلى الحاضر وضمائر الغائب موضوعة للإشارة إلى الغائب وضمائر الخطاب موضوعة للتخاطب مع الحاضر وكل من الإشارة والتخاطب معنى كلي عام كمعاني أسامي الأجناس عينا غير ان أسامي الأجناس معانيها اخطارية وأسماء الإشارة والضمائر كحروف النداء والتمني والترجي والاستفهام معانيها إيجادية فكما ان النداء والتمني والترجي وطلب الفهم هي معاني مخصوصة تنشأ بتلك الحروف الخاصة فكذلك الإشارة والتخاطب معنيان مخصوصان تنشئان بتلك الأسماء الخاصة (نعم) لا يبعد ان يقال ان أسماء الإشارة والضمائر كما ان لهما معنيين إيجاديين وهما الإشارة والتخاطب يدلان عليهما بالمطابقة فكذلك لهما معنيان إخطاريان يدلان عليهما بالالتزام وهما المشار إليه و
30

نظير دلالة العمى على البصر بالالتزام فكما ان العمى هو نفس العدم المضاف إلى البصر والبصر خارج عن متن المعنى مدلول له التزاما فكذلك أسماء الإشارة والضمائر مدلولهما نفس الإشارة إلى المفرد المذكور ونحوه أو التخاطب معه والمفرد المذكر خارج عن متن المعنى يدلان عليه بالالتزام (ولعل) بلحاظ هذا المدلول الالتزامي صح حملهما على الغير وصح حمل الغير عليهما فتقول هذا زيد وزيد هذا أو هو عمرو وعمرو هو أو أنت بكر وبكر أنت وهكذا.
في استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له
(قوله الثالث صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له هل هو بالوضع أو بالطبع... إلخ) بمعنى أن صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له مما يناسبه هل هي تحتاج إلى الوضع النوعي كما ادعى في المجازات أم لا تحتاج إلى ذلك بل يكفيها مجرد استحسان الطبع له (وجهان) أظهرهما الثاني وذلك بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيما يناسب ما وضع له مما استحسنه الطبع وإن منع عنه الواضع وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسب ما وضع له مما لا يستحسنه الطبع وإن رخص فيه الواضع وعليه فالمعيار في صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له وعدمها هو استحسان الطبع له وعدمه لا ترخيص الواضع فيه وعدمه.
(أقول) نعم ولكن الظاهر أن المجاز مع ذلك مما يحتاج إلى الوضع النوعي كما صرح به المحقق القمي في ذيل الاطراد وعدم الاطراد بمعنى أن اللفظ إذا استعمل في غير ما وضع له بإحدى العلائق المعهودة فهو مجاز قطعا وإذا استعمل فيه بمجرد المناسبة مع الموضوع له وباستحسان الطبع له بلا
31

رعاية إحدى العلائق المعهودة فهو ليس بحقيقة ولا مجاز وسيأتي تصريح المصنف في الحقيقة الشرعية بان استعمال اللفظ في غير ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز لا يكون بحقيقة ولا مجاز (وعليه) فالمعيار في صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له وان كان هو استحسان الطبع له ولكن المعيار في الاستعمال المجازي هو الوضع النوعي ورعاية إحدى العلائق المعهودة.
(قوله والظاهر أن صحة استعمال اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله... إلخ) أقول بل وفي صنفه كما ستأتي الإشارة إلى تفصيله.
في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه
(قوله الرابع لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به كما إذا قيل ضرب مثلا فعل ماض... إلخ) فان ضرب في المثال ليس فعلا قد استعمل في معناه الحدثي بل اسم لكونه مبتدأ في الكلام قد استعمل في النوع أي نوع ضرب فعل ماض من غير اختصاص بصنف دون صنف نعم لا يعم الحكم شخص ضرب المذكور في القضية بعد عدم كونه فعلا كما سيأتي الإشارة إليه من المصنف في آخر هذا الأمر الرابع ولو قال مثلا ضرب كلمة لعم الحكم حتى شخص ضرب المذكور في القضية.
(قوله أو صنفه كما إذا قيل زيد في ضرب زيد فاعل... إلخ) فان زيدا في المثال قد أريد منه الصنف دون النوع لأن زيدا في ضرب زيد المتصف بالفاعلية هو قسم خاص من زيد وهو الواقع عقيب الفعل وليس كل زيد بفاعل بل قد يقع مفعولا كما في قولك ضرب عمرو زيدا وهذا واضح.
(قوله إذا لم يقصد به شخص القول... إلخ) أي إذا لم يقصد بقوله
32

زيد في ضرب زيد فاعل شخص القول والظاهر أن المراد من شخص القول شخص قول متكلم آخر ليكون من استعمال للفظ وإرادة مثله كما إذا قال متكلم ضرب زيد فقلت زيد في ضرب زيد فاعل وقد عنيت بزيد شخص القول الذي تكلم به آخر وليس المراد منه شخص قول اللافظ فان شخص قول اللافظ ليس بفاعل بل مبتدأ في الكلام والمثال الصحيح لشخص قول اللافظ هو ما سيأتي من المصنف من قضية زيد لفظ فان شخص قول اللافظ لفظ قطعا
(قوله أو مثله... إلخ) عطف على قوله نوعه أي لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به أو صنفه أو مثله.
(قوله كضرب في المثال فيما إذا قصد... إلخ) الظاهر أنه سهو من المصنف ويحتمل كونه من الناسخ والمناسب بحسب سياق العبارة هو أن يقال كزيد في المثال فيما إذا قصد... إلخ فيكون محصل الكلام هكذا لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به أو صنفه كما إذا قيل زيد في ضرب زيد فاعل إذا لم يقصد بزيد شخص قول متكلم آخر أو مثله كزيد في المثال فيما إذا قصد به شخص قول متكلم آخر.
(قوله وقد أشرنا... إلخ) قد أشار بذلك في آخر الأمر الثالث حيث قال والظاهر أن صحة استعمال اللفظ وإرادة نوعه أو مثله من قبيله كما تأتي الإشارة إلى تفصيله.
(قوله والا كانت المهملات موضوعة لذلك... إلخ) أي ولو كانت صحة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله بالوضع لا بالطبع لكان مثل لفظ (ديز) أو (بيز) أو نحوهما من الألفاظ المهملة موضوعة للنوع أو الصنف أو المثل فيما إذا استعمل وأريد منه أحد هذه الأمور وهو كما ترى فان المهمل مما لم يمسه الوضع أصلا لا شخصا ولا نوعا فكيف يكون موضوعا
33

للنوع أو الصنف أو المثل.
(قوله وأما إطلاقه وإرادة شخصه كما إذا قيل زيد لفظ وأريد منه شخص نفسه ففي صحته بدون تأويل نظر لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركب القضية من جزءين كما في الفصول... إلخ) لا يخفى إنه من أول الأمر الرابع إلى هنا كان الكلام في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ومن هنا إلى الآخر يقع الكلام حول إطلاق اللفظ وإرادة شخصه فان في صحته بدون تأويل على ما ادعاه الفصول نظر (قال) ما لفظه وأما لو أطلق وأريد به شخص نفسه كقولك زيد لفظ إذا أردت به شخصه ففي صحته بدون تأويل نظر لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركب القضية من جزءين مع عدم مساعدة الاستعمال عليه (انتهى) وحاصل وجه التنظر كما بينه المصنف أن لفظ زيد في قولك زيد لفظ إن جعل حاكيا عن نفسه لزم اتحاد الدال والمدلول وإن لم يجعل حاكيا عن شيء بل جعل نفس لفظ زيد بدون كونه حاكيا عن شيء موضوعا والمحمول كلمة لفظ فتكون القضية المحكية بالقضية اللفظية مركبة من جزءين أي المحمول والنسبة وهو غير معقول لامتناع ثبوت النسبة بين المنتسبين إلا بثلاثة أجزاء (وقد أجاب) عنه المصنف بجوابين (أحدهما) ما أشار إليه بقوله قلت يمكن أن يقال... إلخ وحاصله كفاية تعدد الدال والمدلول اعتبارا وان اتحدا ذاتا فمن حيث أنه لفظ صدر عن لافظه دال ومن حيث أن نفسه وشخصه قد أريد به مدلول (وفيه ما لا يخفى) فان الدال لا بد وأن يكون متقدما على المدلول ولو رتبة فإذا كان الدال والمدلول شيئا واحدا لزم تقدم الشيء على نفسه ولو رتبة وهو محال.
(ثانيهما) ما أشار إليه بقوله مع ان حديث تركب القضية من جزءين... إلخ وحاصله أنه إذا جعلنا نفس اللفظ أي لفظ زيد من دون كونه حاكيا عن
34

شيء موضوعا قد حمل عليه كلمة لفظ بما لها من المعنى لم يلزم تركب القضية من جزءين بل كانت الأجزاء الثلاثة تامة في كل من القضية اللفظية والمحكية بمعنى أن المحمول في القضية المحكية يكون منتسبا إلى نفس اللفظ الذي هو موضوع القضية اللفظية فيكون شيء واحد موضوعا لكلتا القضيتين وهذا غير كون القضية المحكية بلا موضوع أصلا فتأمل جيدا.
(قوله غاية الأمر أنه نفس الموضوع لا الحاكي عنه... إلخ) أي غاية الأمر أن شخص اللفظ نفس الموضوع لا اللفظ الحاكي عنه كما هو الحال في القضايا المتعارفة مثل قولك زيد قائم أو بكر قاعد ونحو ذلك فان الموضوع فيه ليس شخص اللفظ ضرورة أن شخص اللفظ ليس بقائم أو قاعد بل الموضوع فيه هو اللفظ الحاكي عن ذلك الجسد الخاص والجسم المخصوص فهو المحمول عليه كلمة قائم أو قاعد والمتصف بالقيام أو القعود والمتلبس به ومن هنا يظهر الفرق بين المقامين فإطلاق زيد في زيد لفظ ليس من استعمال اللفظ في المعنى بخلاف إطلاق زيد في زيد قائم ونحوه فيكون من استعمال اللفظ في المعنى.
(قوله بل يمكن أن يقال أنه ليس أيضا من هذا الباب ما إذا أطلق اللفظ وأريد به نوعه أو صنفه... إلخ) المصنف بعد ما صح إطلاق اللفظ وإرادة شخص نفسه في جوابه الثاني عن الفصول بنحو لا يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى بدا له أن يدعى ذلك حتى في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه بان لا يكون أيضا من باب استعمال اللفظ في المعنى ففي مثل ضرب كلمة يكون الموضوع نفس لفظ ضرب غايته أنه لا بما هو هو كي يختص الحكم بشخص لفظه المذكور في القضية بل بما هو مصداق لكلي لفظ ضرب كي يشمل الحكم لنوع لفظ ضرب أو لصنفه جميعا وقد استدل لذلك بان لفظ
35

ضرب فرد من أفراد نوع ضرب أو صنف ضرب ومصداق له حقيقة لا لفظه وذاك معناه كي يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى نعم في إطلاق اللفظ وإرادة مثله لا بد وأن يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى كما سيأتي اعتراف المصنف به ضرورة أن اللفظ لا يكون فردا لمثله ولا مصداقا له حقيقة (هذا) ولكن سيأتي تنزل المصنف عن هذا الدليل قريبا بقوله اللهم الا أن يقال... إلخ.
(قوله لا لفظه... إلخ) أي لا لفظ النوع أو الصنف بمعنى أن في مثل ضرب فعل ماض الذي ادعى المشهور أن لفظ ضرب قد استعمل في النوع يكون اللفظ نفس الموضوع من دون كونه حاكيا عن شيء لا لفظ النوع بما هو حاك عنه كي يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى.
(قوله اللهم الا أن يقال... إلخ) هذا تنزل من المصنف عما استدل به آنفا لما ادعاه من أن إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه ليس أيضا من باب استعمال اللفظ في المعنى وحاصله أن لفظ ضرب مثلا وان كان فردا من أفراد نوع ضرب أو صنفه ولكن لا ينافي ذلك كونه لفظه وذاك معناه المستعمل فيه إذا قصد به الحكاية عنه وجعل ذاك مرآة له كما لا يخفى فيكون نتيجة هذا التنزل هو جريان كلا الوجهين في إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه فيجوز أن يكون من باب استعمال اللفظ في المعنى ويجوز أن لا يكون من هذا الباب وقد أشار المصنف إلى نتيجة هذا التنزل بقوله في المتن وبالجملة فإذا أطلق... إلخ.
(قوله لكن الإطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك كما لا يخفى... إلخ) استدراك عن قوله وإن أطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه لا بما هو لفظه وبه حكايته فليس من هذا الباب... إلخ ومحصله أن في إطلاق
36

اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه وإن جاز الوجهان جميعا من كون لفظ ضرب مثلا لفظا قد أطلق وأريد منه النوع أو الصنف فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنى أو كونه فردا قد حكم عليه في القضية بما هو فرد كليه ومصداقه لا بما هو لفظه وبه حكايته فلا يكون من هذا الباب ولكن الإطلاقات المتعارفة ليست ظاهرا من الثاني فيكون نتيجة هذا الاستدراك هي التنزل درجة أخرى غير ما تقدم بل ويتنزل عن ذلك درجة ثالثة أيضا قد أشار إليه بقوله وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك... إلخ أي وفي إطلاقات المتعارفة ما لا يكاد يصح ما ادعيناه من كون الموضوع هو نفس اللفظ غايته أنه لا بما هو هو بل بما هو فرد كليه ومصداقه وذلك كما في مثل ضرب فعل ماض فان المحمول فيه مما لا يمكن حمله على شخص اللفظ فإنه ليس فعل ماض قطعا بعد وقوعه مبتدأ في الكلام كما أشرنا قبلا بل لا بد وأن يكون لفظا قد أريد منه النوع نعم يصح ما ادعاه المصنف في مثل ضرب كلمة فان المحمول فيه مما صح حمله حتى على شخص اللفظ كما لا يخفى.
في وضع الألفاظ لمعانيها بما هي لا بما هي مرادة
(قوله الخامس لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها... إلخ) قد عقد لهذا النزاع في الفصول فصلا على حده.
(فقال) فصل هل الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها وجهان (انتهى) ومحصله أن الألفاظ هل هي موضوعة بإزاء معانيها بما هي هي أم موضوعة بإزاء المعاني المرادة للافظها
37

بحيث ما لم يكن المعنى مرادا له ولم يتعلق به إرادته خارجا لم يكن المعنى معنى حقيقيا للفظ ولا اللفظ موضوعا له أصلا.
(قال) في الفصول بعد عبارته المتقدمة بأسطر ما لفظه ثم إن قلنا بأنها موضوعة للمعاني من حيث كونها مرادة سواء اعتبرناها شرطا أو شطرا اتجه أن لا يكون للألفاظ معان حقيقة عند عدم إرادتها ضرورة أن الكل عدم عند عدم جزئه والمفيد من حيث كونه مقيدا عدم عند عدم قيده (انتهى).
(قوله لما عرفت بما لا مزيد عليه... إلخ) هذا أول دليل أقامه المصنف لعدم كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي مرادة للافظها وحاصله أنه كما عرفت في الحرف والاسم أن لحاظ المعنى حالة لغيره أو بما هو هو وفي نفسه خارج عن الموضوع له والمستعمل فيه بل هو من مقومات الاستعمال ومسوغاته فكذلك إرادة اللافظ في المقام خارج عن الموضوع له والمستعمل فيه ويكون من مقومات الاستعمال ومسوغاته فان إرادة اللافظ ليست شيئا آخر ما وراء اللحاظ الذي قد عرفت خروجه عن الموضوع له والمستعمل فيه.
(قوله هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه... إلخ) هذا دليل ثان قد أقامه المصنف لعدم كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي مرادة للافظها وهو جيد متين.
(قوله والمسند إليه في ضرب زيد... إلخ) أي والمسند إلى زيد في ضرب زيد وهو كلمة ضرب فلا تغفل.
(قوله مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ... إلخ) هذا
38

دليل ثالث قد أقامه المصنف لعدم كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي مرادة للافظها وهو أيضا متين فان إرادة اللافظ لو كانت جزء الموضوع له أو المستعمل فيه أو كان قيده كما أشار إلى هذا الترديد صاحب الفصول في كلامه المتقدم بقوله سواء اعتبرناها شرطا أو شطرا... إلخ كان الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا أي جزئيا ذهنيا بخلاف ما إذا كانت إرادة اللافظ من مسوغات الاستعمال ومجوزاته.
(قوله فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه... إلخ) أي فيما وضع له اللفظ كي لا يوجب أخذه فيه كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا بل المأخوذ فيه على القول بالأخذ هو مصداق الإرادة ومن المعلوم أنه مما يوجب كون الموضوع له لعامة الألفاظ خاصا أي جزئيا ذهنيا كما ادعى في الحروف.
(قوله وهكذا الحال في طرف الموضوع... إلخ) هذا مربوط بقوله السابق بداهة أن المحمول على زيد في زيد قائم والمسند إليه في ضرب زيد مثلا هو نفس القيام
والضرب لا بما هما مراد ان فيقول وهكذا الحال في طرف الموضوع أي فيكون الموضوع هو نفس زيد بما هو هو لا بما هو مراد للافظ والأولى كان ذكر ذلك ذيل الدليل الثاني قبل ذكر الدليل الثالث.
(قوله وأما ما حكى عن العلمين الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة فليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة كما توهمه بعض الأفاضل... إلخ) المتوهم هو صاحب الفصول.
(قال) بعد عبارته المتقدمة ثم إن قلنا بأنها موضوعة للمعاني من حيث كونها مرادة... إلخ ما هذا لفظه والظاهر أن ما حكى عن الشيخ الرئيس
39

والمحقق الطوسي من مصيرهما إلى إن الدلالة تتبع الإرادة ناظرا إلى هذا (انتهى)
(قوله بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها... إلخ) (أقول) والحق أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصورية وهي كما سيأتي التصريح به من المصنف كون سماعها موجبا لإخطار معانيها الموضوعة لها ولو كانت من وراء جدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار كما انها لا تتبع الإرادة من اللافظ فكذلك دلالتها على معانيها بالدلالة التصديقية وهي دلالتها على كون المعاني مرادة للافظها لا تتبع الإرادة بمعنى أنه يجوز دلالتها على كون المعاني مرادة للافظها إثباتا مع عدم كونها مرادة للافظها ثبوتا من دون ملازمة بين مقامي الإثبات والثبوت عقلا وذلك لأن الدلالة التصديقية وهي على قسمين (فتارة) تكون ظنية كما إذا كان الكلام من جهة ظهوره في المعنى بسبب الوضع أو بسبب القرائن الحالية أو المقالية موجبا للظن بكون المعنى مرادا للمتكلم (وأخرى) تكون قطعية كما إذا كان الكلام من جهة صراحته في المعنى أو بسبب القرائن والشواهد الداخلية أو الخارجية موجبا للقطع بكون المعنى مرادا للمتكلم وشئ من الدلالتين مما لا تتبع الإرادة ثبوتا أما الدلالة التصديقية الظنية فواضح واما الدلالة التصديقية القطعية فكذلك لمكان خطأ القطع وعدم أصابته الواقع (ودعوى) المصنف فيما سيأتي من أنه في صورة الخطأ لا يكون دلالة بل تكون هناك جهالة وضلالة (مما لا وجه له) فان الكلام قد دل حقيقة ظنا أو قطعا على كون المعنى مرادا للمتكلم غير أن دلالته لم تصب الواقع بل دلالته موجودة حتى الآن أي بعد كشف الخلاف بمعنى أن الكلام فعلا هو على نحو لو ألقى إلى المخاطب قد عرف منه ظنا أو قطعا أن المعنى مراد للمتكلم وهذا هو معنى الدلالة التصديقية للكلام و
40

هنا يظهر ما في دعواه الأخرى من تبعية مقام الإثبات للثبوت وتفرع الكشف على الواقع المكشوف فإنه وإن كان حقا لكنه بنظر القاطع ومن حصل له الكشف ما لم ينكشف له الخلاف والخطأ لا ثبوتا وواقعا (وبالجملة) كل من الدلالة التصديقية الظنية والقطعية وإن كانت حجة يعمل بها ويعتمد عليها ما لم ينكشف الخلاف بحيث يظهر عدم اصابتها للواقع ولكن شيئا منهما مما لا يستلزم الإرادة ثبوتا وواقعا بل جاز الانفكاك بينهما عقلا.
(قوله ولذا لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة والا لما كانت لكلامه هذه الدلالة... إلخ) هذا شاهد لقوله فإنه لو لا الثبوت في الواقع لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال وبعبارة أخرى شاهد لتبعية الدلالة التصديقية للإرادة وهو كما ترى ضعيف فان وجوب إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة ولو بأصل عقلائي في انعقاد الدلالة التصديقية لكلامه مما لا يشهد لتبعية الدلالة التصديقية للإرادة وأنه لو لا الإرادة ثبوتا لما كان للدلالة مجال إثباتا إذ من الجائز إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة وانعقاد الدلالة التصديقية لكلامه على نحو لو ألقى إلى المخاطب قد حصل له الظن أو القطع بإرادة ما هو ظاهر كلامه ومع ذلك لم يكن المتكلم مريدا له ثبوتا بل أراد غيره واقعا.
في وضع المركبات
(قوله السادس لا وجه لتوهم وضع للمركبات غير وضع المفردات... إلخ) لا إشكال في وضع المفردات بموادها شخصيا كوضع الزاء والياء والدال في لفظ زيد لشخص خاص ووضع الراء والجيم واللام في لفظ رجل لطبيعة
41

مخصوصة وهذا القسم من الوضع يسمى بوضع المادة وهو لا يخلو عن مسامحة فإنه لدى الحقيقة وضع لمجموع المادة والهيئة (كما لا إشكال) في وضع المفردات بهيئاتها نوعيا كهيئات الأفعال وهيئات الأسامي المشتقة فان الأفعال والأسامي المشتقة كما أن لمادتها وضع شخصي وهو وضع مصادرها السيالة في جميع ما يشتق منه فكذلك لهيئاتها وضع نوعي أي في ضمن أي مادة كانت فهيئة فعل بالتحريك وضعت لقيام المبدأ بفاعل مذكر في ضمن أي مادة كانت من فعل أو ضرب أو قتل ونحو ذلك من المصادر وهكذا هيئة فاعل ومفعول بل وهكذا الأمر في هيئة بعض الأسامي الجامدة كهيئة رجيل فإنها موضوعة نوعيا للتصغير أو التعظيم بل وهيئات تمام الأسامي الجامدة هيئاتها الإعرابية كهيئة زيد للفاعل وزيدا للمفعول وزيد للمضاف إليه بناء على أن للهيئات الإعرابية وضع خاص كما يظهر من المصنف (وهكذا لا إشكال) في وضع هيئات المركبات أي الجمل التركيبية نوعيا لخصوصيات النسب والإضافات كالتأكيد في الجملة الاسمية مطلقا وكالحصر في مثل إياك نعبد وإياك نستعين وكالدوام والثبوت ونحو ذلك (وأما وضع) المركبات بجملتها أي بموادها وهي مفرداتها وبهيئاتها من حيث المجموع فقد وقع فيه الخلاف وبنوا عليه أمر المجاز المركب على ما في الفصول نظرا إلى أن مثل جملة أريك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ان كان مجازا في المتردد المتحير فهو فرع وضعه لمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى حقيقة فان المجاز فرع الوضع للمعنى الحقيقي وقد أنكر المصنف ذلك أي وضع المركبات بجملتها وهي مجموع المادة والهيئة نظرا إلى عدم الحاجة إليه لاستلزامه دلالتها على المعنى مرتين مرة بملاحظة وضع مفرداتها ومرة بملاحظة وضع نفسها.
(أقول) بل ولاستلزامه الوضع في المركبات فوق الإحصاء بل فوق ما يتناهى فان وضع المفردات وان كان مما يتناهى ولكن المركب منها مما لا
42

يتناهى وأما استعمال الجملة المذكورة في المتردد الذي ادعى أنه فرع وضعها لمعنى حقيقي آخر وهو من يقدم رجلا ويؤخر أخرى حقيقة فنجيب عنه بان الجملة لم
تستعمل في المتردد كي يستلزم وضعها لمعنى حقيقي آخر بل قد أسند التقدم والتأخر فيها إلى المتردد مجازا فالتجوز في الإسناد لا في الكلمة كي يستكشف منه وضع الجملة لمعنى حقيقي آخر.
(قوله بعد وضعها بموادها... إلخ) أي بعد وضع المفردات بموادها شخصيا وبهيئاتها نوعيا.
(قوله ومنها خصوص الهيئات المركبات... إلخ) أي ومن الهيئات المخصوصة خصوص الهيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات
(قوله ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك... إلخ) أي ولعل المراد من العبارات الموهمة لوضع المركبات بجملتها من موادها وهيئاتها هو وضع الهيئات أي هيئات المركبات الذي اعترفنا به لخصوصيات النسب والإضافات لا وضع المركبات بجملتها علاوة على وضع كل من مفرداتها وهيئاتها
في علائم الحقيقة والمجاز
(قوله السابع لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه وبلا قرينة علامة كونه حقيقة فيه... إلخ) وقد ذكر المحقق القمي أول العلائم تنصيص أهل اللغة بان اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني ولكنه مبنى على حجية قول اللغوي وهي كما سيأتي في بحث الظنون الخاصة محل كلام بل منع ما لم يفد الوثوق والاطمئنان وعلى كل حال أول علائم الحقيقة حسب ذكر المصنف لها هو التبادر وهو أقواها وأشهرها والمراد من التبادر
43

تبادر المعنى وانسباقه إلى الذهن من حاق اللفظ لا بمعونة القرينة ولو كانت هي كثرة الإطلاق والاستعمال أو غلبة الوجود أو الأكملية كما في الانصرافات المستندة إليها فالمعيار هو التبادر الحاقي لا الإطلاقي وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله من نفسه وبلا قرينة.
(قوله لا يقال كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بأنه موضوع له... إلخ) وقد أورد على التبادر من وجوه عديدة كما في الفصول أوجهها ما أشار إليه المصنف وهو الدور وتقريبه أن تبادر المعنى من اللفظ يتوقف على العلم بالمعنى الموضوع له والا فكيف يتبادر وأي شيء يتبادر فلو توقف العلم بالمعنى الموضوع له على التبادر بمقتضى كونه علامة للوضع لزم الدور.
(قوله فإنه يقال الموقوف عليه غير الموقوف عليه... إلخ) هذا جواب عن الدور أي فإنه يقال إن الموقوف على التبادر غير الموقوف عليه التبادر فالموقوف على التبادر هو العلم التفصيلي بالموضوع له والموقوف عليه التبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي بالمعنى فلا دور والظاهر أن المراد من العلم الإجمالي الارتكازي في المقام هو العلم بالمعنى إجمالا من غير معرفة بأنه معنى حقيقي موضوع له أو معنى مجاري قد استعمل فيه اللفظ بالعناية فالتفصيل يعرف بالتبادر والتبادر يتوقف على العلم الإجمالي فتأمل جيدا.
(قوله هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة فالتغاير أوضح... إلخ) بمعنى أن تبادر المعنى من اللفظ عند أهل المحاورة يكون علامة للحقيقة للجاهل المستعلم وعليه فالموقوف على التبادر هو علم المستعلم والموقوف عليه التبادر هو علم أهل المحاورة فلا دور
(قوله ثم أن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة... إلخ) وحاصله أنه إذا علم أن تبادر المعنى مستند
44

إلى حاق اللفظ أو إلى القرينة فلا كلام وأما إذا شك ولم يعلم أن تبادر المعنى هل هو مستند إلى حاق اللفظ كي يكون اللفظ حقيقة فيه أو إلى القرينة كي لا يكون حقيقة فيه فلا يجدى أصالة عدم القرينة في إحرازها كون الاستناد إلى حاق اللفظ لا إلى القرينة كما يظهر ذلك من المحقق القمي بل ومن الفصول أيضا (نعم) إذا عرف المعنى الحقيقي واستعمل اللفظ وشك في إرادته منه لاحتمال وجود القرينة الصارفة عنه فحينئذ تجري أصالة عدم القرينة ويحرز بها إرادة المعنى الحقيقي وهذا معنى قول المصنف في المتن لعدم الدليل عليها الا في إحراز المراد لا الاستناد.
(قوله ثم ان عدم صحة سلب اللفظ... إلخ) هذه هي العلامة الثانية للحقيقة وسنذكر تفصيلها كما ينبغي.
(قوله كذلك عن معنى... إلخ) كان الأولى تأخير كلمة كذلك من كلمة عن معنى أي ثم ان عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا عن معنى كذلك تكون علامة كونه حقيقة فيه كالتبادر بعينه.
(قوله كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة والتفصيل... إلخ) (قوله في الجملة راجع إلى كل من عدم صحة سلب اللفظ وصحة سلب اللفظ وذلك بقرينة ما سيأتي من التفصيل (وحاصل) تفصيله أن عدم صحة سلب اللفظ عن معنى وصحة حمله عليه بالحمل الأولى الذاتي الذي ملاكه الاتحاد المفهومي كما في قولك الإنسان بشر علامة كون الموضوع هو معنى المحمول وعدم صحة سلبه عنه وصحة حمله عليه بالحمل الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد الوجودي كما في قولك زيد ضاحك علامة كون الموضوع من مصاديق المحمول ومن أفراده الحقيقة هذا في عدم صحة السلب (وأما) صحة السلب كصحة سلب الأسد عن الرجل الشجاع فهو علامة عدم كون المسلوب عنه من مصاديق المسلوب ومن
45

أفراده الحقيقية غايته أنه ان قلنا بمقالة السكاكي في الاستعارات فاستعمال المسلوب في المسلوب عنه يكون من باب الحقيقة الادعائية والا فهو من باب المجاز في الكلمة والظاهر أن حاصل كلام السكاكي في مثل قولك رأيت أسدا يرمي مع كون الرامي رجلا شجاعا لا حيوانا مفترسا أن لفظ الأسد لم يستعمل في الرجل الشجاع كي يكون ذلك تصرفا في اللغة بلحاظ كونه استعمالا له في غير الموضوع له بل نزل الرجل الشجاع أو لا منزلة الأسد بدعوى أنه هو بعينه ثم استعمل اللفظ فيه فيكون ذلك تصرفا في أمر عقلي واستعمالا للفظ في المعنى الحقيقي الادعائي لا في المعنى المجازي كما هو المشهور.
(أقول) الحمل الأولى الذاتي على قسمين فتارة يكون الموضوع والمحمول فيه متحدين مفهوما وماهية كما في الإنسان بشر وأخرى يكون الموضوع والمحمول فيه
متحدين ماهية لا مفهوما كما في الإنسان حيوان ناطق فإنهما متحدان بحسب الماهية دون المفهوم كيف ومفهوم الإنسان بسيط ومفهوم الحيوان الناطق مركب وعليه فملاك الحمل الأولى الذاتي هو الاتحاد الماهوي لا المفهومي وحينئذ فالحمل الأولى الذاتي مطلقا يكون علامة لاتحاد الموضوع والمحمول ماهية لا لكون المحمول حقيقة في الموضوع بحيث كان هذا لفظا وذاك معناه فان هذا لا يكون الا في القسم الأول من الحمل الأولى الذاتي وهو حمل أحد المترادفين على الآخر كما في الإنسان بشر بل صح أن يقال أن الحمل الأولى الذاتي مطلقا سواء كان من القسم الأول أو الثاني مما لا يصلح لأن يكون علامة لشيء أصلا حتى لاتحاد الماهوي فضلا عن الاتحاد المفهومي وذلك لأن العلم بكون الحمل أوليا ذاتيا مما يتوقف على العلم بكون الموضوع والمحمول متحدين بحسب الماهية أو بحسب المفهوم والماهية فلو كان العلم باتحادهما ماهية أو مفهوما وماهية مما يتوقف على العلم بالحمل الأولى الذاتي
46

لدار (ودعوى) التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل مما لا تنفع المقام فان العلم بكون الحمل أوليا ذاتيا مما يتوقف على العلم التفصيلي باتحاد الموضوع والمحمول بحسب الماهية أو بحسب المفهوم والماهية لا على العلم الإجمالي الارتكازي هذا كله في الحمل الأولى الذاتي (وأما الحمل) الشائع الصناعي فتارة يكون الموضوع فردا والمحمول كليا كما في زيد ضاحك وأخرى يكون الموضوع كليا أخص من المحمول كما في الزنجي ضاحك وثالثة يكون كليا مساويا مع المحمول كما في الإنسان ضاحك ولا رابع للأقسام فضلا عن الخامس لعدم جواز حمل الأخص على الأعم وعليه فخصوص القسم الأول من الحمل الشائع يكون علامة لكون الموضوع من مصاديق المحمول ومن أفراده الحقيقية كما ذكر المصنف بخلاف القسم الثاني والثالث ومن هنا تفطن في تعليقته على الكتاب (فقال) معلقا على قوله وأفراده الحقيقية ما هذا لفظه فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كليا وفردا لا فيما إذا كانا كليين متساويين أو غيرهما كما لا يخفى (انتهى) نعم في القسم الثاني يكون الحمل علامة لكون الموضوع من أصناف المحمول ومن أقسامه الحقيقية كما أنه في القسم الثالث يكون الحمل علامة لاتحاد الموضوع مع المحمول وجودا وخارجا (وبالجملة) ان الجاهل المستعلم منهما رأى أنه صح حمل شيء على شيء بلا عناية ولا رعاية علاقة فيمكنه أن يعرف بذلك أحد أمور ثلاثة فان كان الموضوع فردا فيعرف منه أنه من مصاديق المحمول ومن أفراده الحقيقية وإن كان كليا أخص فيعرف منه أنه من أصنافه ومن أقسامه الحقيقية وإن كان كليا مساويا مع المحمول فيعرف منه أن الموضوع متحد مع المحمول وجودا وخارجا.
(قوله بنحو من أنحاء الاتحاد... إلخ) كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور أو الإيجاد على ما سيأتي تفصيله في المشتق ففي مثل العالم يكون
47

الاتحاد بين الذات والمبدأ حلوليا وفي مثل الحادث والسابق واللاحق يكون انتزاعيا بمعنى كون المبدأ منتزعا عن الذات ومتحدا معها نحو اتحاد وفي مثل الضارب والقاتل ونحوهما يكون صدوريا وفي مثل المتكلم يكون إيجاديا (هذا) ولكن الظاهر أن أنحاء الاتحاد في باب المشتق إنما يكون بين المبدأ والذات لا بين المحمول والموضوع كما في المقام فان الاتحاد بينهما ليس الأعلى نحو واحد دائما وهو الاتحاد الوجودي الخارجي ففي كل من زيد عالم أو حادث أو ضارب أو متكلم يكون المحمول متحدا مع الموضوع وجودا وخارجا لا حلولا أو انتزاعا أو صدورا أو إيجادا وعليه فكان الأولى ترك قوله بنحو من أنحاء الاتحاد وأن يقتصر على ذكره في باب المشتق فقط.
(قوله ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا... إلخ) هذه هي العلامة الثالثة للحقيقة والمجاز وحاصل كلام المصنف فيها أن ما ذكروه من كون الاطراد علامة للحقيقة وعدم الاطراد علامة للمجاز لعله يكون بملاحظة نوع العلائق فمثلا استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس مطرد وفي نوع المشابه له غير مطرد بمعنى أنه قد يستعمل كما في الرجل الشجاع وقد لا يستعمل كما في الرجل الأبخر مع كون كل منهما مشابها له وهكذا اسناد السؤال إلى ذوي العقول فهو مطرد وإلى نوع المحل والمقر لهم غير مطرد فقد يسند إليه كما في واسئل القرية وقد لا يسند إليه كما في واسئل البساط مع كون كل من القرية والبساط محلا لذوي العقول ومقرا لهم وأما إذا كان بملاحظة الصنف الخاص من العلاقة الذي صح معه الاستعمال كالشجاعة من بين أصناف الشباهة أو المسكن من بين أصناف المحل والمقر فاستعمال اللفظ في المعنى المجازي مطرد كالحقيقة فكما أن استعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس مطرد فكذلك استعماله في الرجل الشجاع بل في كل شجاع مطرد وهكذا الأمر في
48

اسناد السؤال فكما أن إسناده إلى ذوي العقول مطرد فكذلك إسناده إلى كل مسكن لهم مطرد فيقال واسئل القرية واسئل المحلة واسئل الدار وهكذا فإذا لم يكن الاطراد من خصائص الحقيقة بل كان مشتركا بين الحقيقة والمجاز بان كان موجودا في كل منهما فلا يكون الاطراد علامة للحقيقة ولا عدم الاطراد علامة للمجاز بل يكون عدم الاطراد علامة لعدم جواز الاستعمال رأسا لا حقيقة ولا مجازا فيكون غلطا مستهجنا كما في قولك واسئل البساط أو هذا أسد مشيرا إلى الرجل الأبخر.
(قوله وزيادة قيد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة... إلخ) هذه الزيادة من صاحب الفصول فيقول المصنف واعترف به صاحب الفصول أيضا أخيرا أن زيادة هذا القيد مما لا يجدى فإنها وإن كانت توجب اختصاص الاطراد مع القيد المذكور بالحقيقة إلا أنه حينئذ لا يكون علامة للحقيقة فان الاطراد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة مما يتوقف على العلم بالمعنى الحقيقي فلو توقف العلم بالمعنى الحقيقي على الاطراد كذلك بمقتضى كونه علامة للوضع لدار ولا يمكن التفصي عن الدور في المقام مما تقدم من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل إذ من المعلوم أن الاطراد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة مما يتوقف على العلم التفصيلي بأنه معنى حقيقي موضوع له وأن الاستعمال فيه يكون بلا تأويل وعلى وجه الحقيقة لا على العلم الإجمالي الارتكازي.
في تعارض الأحوال
(قوله الثامن أنه اللفظ أحوال خمسة وهي التجوز والاشتراك
49

والتخصيص والنقل والإضمار... إلخ) هاهنا مقامات ثلاثة من الكلام ينبغي الإشارة إلى كل منها مختصرا فنقول:
المقام الأول
إذا استعمل اللفظ في معنى ولم يعلم وضعه له (فهل يحكم) بمجرد استعماله فيه كونه حقيقة فيه كما نسب ذلك إلى السيد نظرا إلى ظهور الاستعمال فيه (أو يحكم) بكونه مجازا فيه كما نسب ذلك إلى بعض المتأخرين نظرا إلى أن أغلب لغة العرب مجازات والظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب (أو يفصل) بين ما إذا كان المعنى المستعمل فيه واحدا فيحكم بكونه حقيقة فيه نظرا إلى أن المجاز مستلزم للحقيقة فلا يمكن القول بمجازيته وبين ما كان متعددا فيحكم بكونه حقيقة في أحد المعاني ومجازا في البقية نظرا إلى كون المجاز خيرا من الاشتراك والتمييز بين المعنى الحقيقي وما عداه بأمارات الحقيقة والمجاز (أو يتوقف) مطلقا نظرا إلى كون الاستعمال أعم من الحقيقة وجوه أظهرها وأشهرها الأخير.
المقام الثاني
إذا علم المعنى الحقيقي وهكذا المعنى المجازي على التفصيل والدقة واستعمل اللفظ ودار الأمر بين إرادة المعنى الحقيقي وبين إرادة المعنى المجازي فلا يصار إلى المعنى المجازي الا بدليل خاص أي بقرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وذلك لأصالة الحقيقة المعمولة بها عند الشك والترديد بين إرادة المعنى الحقيقي والمجازي (وهكذا) إذا دار الأمر بين إرادة المعنى الحقيقي المعلوم وبين الاشتراك اللفظي بان احتمل وضع اللفظ لمعنى آخر قد أريد منه هنا فلا يعتنى بهذا الاحتمال وذلك لأصالة عدم الاشتراك (وهكذا) إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين التخصيص أو التقييد فيؤخذ بالمعنى الحقيقي ولا يعتنى باحتمال التخصيص أو التقييد وذلك لأصالة العموم أو الإطلاق وان لم يكن التخصيص أو التقييد مجازا كما سيأتي في محله (وهكذا) إذا دار الأمر
50

بين المعنى الحقيقي وبين النقل بان احتمل نقل اللفظ عن المعنى الحقيقي الذي نعلمه بالتفصيل إلى معنى آخر لا نعلمه وأنه قد أريد منه هنا فلا يعتنى باحتمال النقل ويؤخذ بالمعنى الحقيقي المعلوم بالتفصيل وذلك لأصالة عدم النقل (وهكذا) إذا دار الأمر بين المعنى الحقيقي وبين الإضمار كما في قوله طاب زيد فيحتمل أن يكون المراد هو نفس زيد ويحتمل الإضمار وأن يكون المراد طاب أخلاق زيد فيؤخذ بالأول دون الثاني لأصالة عدم الإضمار (ثم أن) مرجع تمام هذه الأصول اللفظية من أصالة الحقيقة وأصالة عدم الاشتراك وأصالة العموم أو الإطلاق وأصالة عدم النقل وأصالة عدم الإضمار إلى أصل واحد وهو أصالة الظهور فيكون هو الأصل الأصيل المعتبر عند العرف والعقلاء فيعتمدون عليه من باب العمل بظاهر الكلام الذي سيأتي حجيته في الظنون الخاصة إن شاء الله تعالى.
المقام الثالث
إذا دار الأمر بين أحد الأحوال الخمسة للفظ المخالفة كلها للأصل وبين بعضها الآخر كما إذا دار الأمر بين المجاز والاشتراك أو بين الاشتراك والنقل أو بين التخصيص والإضمار إلى غير ذلك من الصور فالأصوليون قد ذكروا لترجيح بعض الأحوال على الآخر أمورا (مثل) كون المجاز خيرا من الاشتراك لكثرته وأوسعيته في العبارة وكونه أفيد لأنه لا توقف فيه أبدا أو كون الاشتراك خيرا من المجاز حيث أنه أبعد من الخطأ إذ مع عدم القرينة يتوقف بخلاف المجاز فيحمل على الحقيقة ولعلها غير مرادة في نفس الأمر (ومثل) كون الاشتراك خيرا من النقل لأن النقل يقتضى الوضع في المعنيين مع نسخ الوضع الأول بخلاف الاشتراك أو كون النقل خيرا من الاشتراك لأن مفاسد النقل أقل من مفاسد الاشتراك لأن المنقول محمول على المعنى الثاني إذا كان مجردا عن القرينة بخلاف المشترك فإنه إذا تجرد
51

عنها كان محملا فيكون فائدة النقل أكثر (ومثل) كون التخصيص خيرا من الإضمار لكونه خيرا من المجاز المساوي للإضمار أو لكونه أغلب فيقدم على الإضمار إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في ساير الصور الا أن الكل كما يقول المصنف أمور استحسانية لا اعتبار بها فلا يمكن التعويل عليها في تشخيص المراد من اللفظ اللهم الا إذا صارت موجبة لظهور اللفظ في أحد طرفي الاحتمال فعند ذلك يؤخذ بالطرف الراجح لأجل ظهور اللفظ فيه ولحجية الظهور عند العرف والعقلاء والشارع قد أمضاه كما سيأتي في الظنون الخاصة لا لتلك المزايا والوجوه الاستحسانية (ثم أن المصنف) لم يؤشر في هذا الأمر الثاني إلى المقام الأول من الكلام غير أنه في طي جملة من المباحث الآتية يؤشر إليه ويقول إن الاستعمال أعم من الحقيقة يعنى به هذا المقام الأول من الكلام الذي فيه نزاع معروف بين السيد والمشهور وقد أشار إلى المقام الثاني بقوله لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي... إلخ كما أنه قد أشار إلى المقام الثالث بقوله وأما إذا دار الأمر بينها... إلخ.
في الحقيقة الشرعية
(قوله التاسع انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه... إلخ) بمعنى أن ألفاظ العبادات كالصلاة والزكاة والحج ونحوها وهكذا بعض ألفاظ المعاملات كالطهارة والنجاسة والفسق والعدالة والخلع والمباراة ونحو ذلك هل هي صارت حقائق في المعاني المذكورة في لسان الشارع أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كي تحمل عليها إذا وقعت في كلامه مجردا عن كل قرينة أم لا فلا
52

يحمل عليها الا بالقرينة.
(قوله على أقوال... إلخ) فأثبتها قوم ونفاها آخرون وفصل ثالث بين الألفاظ المتداولة وغيرها فقال بها في الأول دون الثاني ورابع بين العبادات والمعاملات فنفاها في الثاني وأثبتها في الأول بعد تسالم الباقين ظاهرا على ثبوت الحقيقة المتشرعة أي في لسان المتشرعين في الجملة وان اختلفوا في زمان تحققها من زمان الشارع إلى زمان الصادقين عليهما السلام نعم نسب إلى الباقلاني كما سيأتي في الصحيح والأعم أن تلك المعاني أمور لغوية قديمة قد أضاف إليها الشارع أجزاء وشرائط وعليه فتلك الألفاظ في تلك المعاني حقائق لغوية لا شرعية ولا متشرعة.
(قوله لا بأس بتمهيد مقال وهو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له... إلخ) وحاصله ان الوضع كما يحصل بتصريح الواضع بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له بان يجعل الحاكي عن المعنى والدال عليه نفس اللفظ لا
القرينة وإن كان لا بد في المقام من نصب قرينة لكن للدلالة على الاستعمال في غير ما وضع له كما إذا وضع له لا على إرادة المعنى كما في المجاز هذا حاصل ما أفاده المصنف (وفيه) أن القرينة في المجاز أيضا لا تكون حاكية عن المعنى ولا دالة عليه بل الحاكي عنه والدال عليه هو نفس اللفظ غايته أن القرينة تدل على أن اللفظ قد أريد منه ذاك المعنى المجازي لا الآخر الحقيقي وليست هي بنفسها مما تدل على المعنى وتحكى عنه ولعله لذلك قال قدس سره كما سيأتي (فافهم) فالأولى في مقام الفرق بين القرينتين أن يقال إن القرينة في ساير المقامات تدل على أن اللفظ قد استعمل في غير ما وضع له تجوزا وفي المقام تدل على استعماله فيه بقصد حصول الوضع به لا تجوزا
53

(ودعوى) أن الاستعمال حينئذ لا يكون بحقيقة ولا مجاز لعدم كون المعنى موضوعا له في السابق كي يكون حقيقة ولا المستعمل قد راعى العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي الأول كي يكون مجازا إذ المفروض أنه استعمله فيه قاصدا به الوضع لا على نحو التجوز (غير ضائرة) بعد ما عرفت في الأمر الثالث من أن صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له هو بالطبع لا بالوضع النوعي كما في المجازاة طرا.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشرنا آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله وقد عرفت سابقا... إلخ) أي قد عرفت في الأمر الرابع بل وأشير في آخر الأمر الثالث أيضا أن استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل ليس بحقيقة ولا مجاز إذ لم يوضع له اللفظ لا شخصا كي يكون حقيقة فيه ولا نوعا كي يكون مجازا فيه والا لزم كون المهملات موضوعة لذلك وهو باطل جدا نعم لم يسبق التصريح بذلك هناك وانما هو أمر يعرف مما حققناه هناك فتفطن.
(قوله إذا عرفت هذا فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا... إلخ) بل بعيد جدا وانما القريب هو دعوى الوضع التعيني الناشئ من استعمال الشارع تلك الألفاظ في تلك المعاني مرارا عديدة إلى أن حصل الوضع فان الوضع التعييني التصريحي كما أنه بعيد من الشارع فكذلك الوضع التعييني الاستعمالي أي الحاصل باستعمال اللفظ قاصدا به حصول الوضع والحقيقة.
(قوله ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته... إلخ) نعم يدل عليه التبادر لكن يدل على حصول الوضع في لسان الشارع لا على حصوله بالكيفية الخاصة التي ادعاها المصنف من الوضع التعييني الناشئ
54

بالاستعمال في غير ما وضع له كما إذا وضع له بان يقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه لا بالقرينة.
(قوله ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية... إلخ) ولعل وجه عدم الاستدلال به أن مجرد فقد العلائق المعتبرة في المجاز بين المعاني الشرعية واللغوية لا يكون دليلا على أن استعمال تلك الألفاظ في تلك المعاني كان بقصد الوضع وذلك لجواز كونه لا بقصد الوضع ولا بنحو التجوز بل من قبيل استعمال اللفظ في النوع أو الصنف أو المثل بعد ما عرفت أن صحة استعماله فيه انما هو بالطبع لا بالوضع الشخصي ولا بالوضع النوعي المعتبر في المجازاة.
(قوله ما يعتبر من علاقة الجزء والكل... إلخ) فان علاقة الجزء والكل انما هي فيما كان الجزء مما ينتفي بانتفائه الكل فإذا كان الجزء بهذه الخصوصية فيصح استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل كالرقبة في الإنسان ومن المعلوم أن الدعاء ليس بهذه الخصوصية أي على نحو إذا انتفى الدعاء انتفت الصلاة كي يدعى أن استعمال لفظ الصلاة الموضوع للدعاء في الصلاة المشتملة عليه يكون من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل مجازا.
(قوله هذا كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا... إلخ) بمعنى أن النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه وأن الشارع هل هو قد وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني أو استعملها فيها مجازا انما يجري بناء على كون تلك المعاني مستحدثة في شرعنا وأما إذا قلنا بثبوتها في الشرائع السابقة كما دلت عليه آيات من الكتاب فتلك الألفاظ حقائق لغوية في معانيها لا شرعية (وفيه ما لا يخفى) فان النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه مما لا يبتنى على ذلك فان تلك المعاني هب أنها كانت ثابتة في الشرائع السابقة
55

بمقتضى الآيات الشريفة ولكن لم تكن بهذه الألفاظ قطعا فالصلاة والزكاة والحج مثلا وإن فرض كونها ثابتة في الشرائع السابقة بمقتضى (قوله تعالى) وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (وقوله تعالى) واذن في الناس بالحج ولكنها لم تكن بهذه الألفاظ جدا بل بألفاظ أخر سريانية أو عبرانية ولفظ الصلاة والزكاة والحج في اللغة العربية كانت موضوعة لمعاني أخر وهي الدعاء والنمو والقصد فحينئذ من الممكن أن صاحب شرعنا صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي نقل لفظ الصلاة والزكاة والحج من الدعاء والنمو والقصد إلى المعاني الثابتة في الشرائع السابقة فتكون الألفاظ حقائق شرعية لا لغوية وهكذا الأمر في ساير الألفاظ من الصوم وغيره (وبالجملة) دعوى ابتناء النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه على القول بكون تلك المعاني مستحدثة في شرعنا لا في الشرائع السابقة مما لا وجه له بل النزاع يجري حتى على القول بثبوتها في الشرائع السابقة فتفطن.
(قوله ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال... إلخ) أي مع احتمال كون المعاني ثابتة في الشرائع السابقة كما هو قضية غير واحد من الآيات لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقائق شرعية لكن قد عرفت منا ضعف ذلك آنفا فلا تغفل.
(قوله ومنه انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه... إلخ) أي ومما ذكر انقدح حال دعوى الوضع التعيني الحاصل من كثرة استعمال الشارع إلى أن يحصل الوضع مع هذا الاحتمال المتقدم.
(قوله ومع الغض عنه فالإنصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع فتأمل... إلخ) هذا في قبال
قوله المتقدم ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال...
56

إلخ فيكون المعنى هكذا ان مع احتمال كون المعاني ثابتة في الشرائع السابقة لا مجال لدعوى الوثوق فضلا عن القطع بكونها حقائق شرعية ومع الغض عن هذا الاحتمال فالإنصاف أن منع حصول الوضع في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع.
(أقول) ويرد عليه حينئذ من وجوه:
(الأول) ان المصنف قد ادعى في صدر البحث الوضع التعييني في خصوص لسان الشارع فقال فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا فقوله في المقام نعم حصوله في خصوص لسانه ممنوع يكون منافيا لما أفاده هناك.
(الثاني) ان المصنف قد ادعى الوضع التعييني الحاصل من الاستعمال في غير ما وضع له كما إذا وضع له ومن المعلوم أن هذا النحو من الوضع التعييني لا يكاد يحصل الا في لسان شخص واحد اما الشارع أو أحد تابعيه ولا معنى لدعوى حصوله في لسان الشارع ولسان تابعيه جميعا كما يظهر من قوله فالإنصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة نعم لو قلنا بالوضع التعيني الحاصل من كثرة الاستعمال فهذا مما يمكن دعوى حصوله في لسان الشارع ولسان تابعية جميعا ولكن المصنف لم يقل به في المقام.
(الثالث) ان الوضع إذا حصل في لسان الشارع ولسان تابعيه جميعا فالحقيقة حينئذ ليست شرعية بل متشرعة ونحن كلامنا في الحقيقة الشرعية ولعله إلى هذه الوجوه كلا أو بعضا قد أشار أخيرا بقوله فتأمل.
(قوله وأما الثمرة... إلخ) قد أشرنا إليها في صدر البحث بقدر الحاجة فلا نعيد الكلام فيها ثانيا.
57

(قوله وأصالة تأخر الاستعمال... إلخ) ومحصل كلام المصنف أن في أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع فيما إذا جهل تاريخهما إشكالان.
(أحدهما) معارضتها بأصالة تأخر الوضع عن الاستعمال.
(ثانيهما) ان أصالة تأخر الاستعمال عن الوضع ان قيل باعتبارها من باب التعبد بان كانت عبارة عن استصحاب عدم الاستعمال إلى بعد الوضع فهي مما تحتاج إلى القول بالأصل المثبت كي يكون استصحاب عدم الاستعمال إلى بعد لوضع مثبتا لإرادة المعنى الشرعي الجديد لا اللغوي القديم وسيأتي في محله أن حجية الأصل المثبت محل خلاف بل منع وأن الاستصحاب مما لا يثبت به الا الآثار الشرعية المترتبة على نفس المستصحب بلا واسطة لا اللازم أو الملازم أو الملزوم العقلي أو العادي وان قبل ان أصالة تأخر الاستعمال بنفسها أصل عقلائي مستقل غير مربوط بالاستصحاب ليبتني على القول بالأصل المثبت قلنا لم يثبت بناء من العقلاء على تأخر الاستعمال عند الشك في تقدمه وتأخره نعم أصالة عدم النقل أصل عقلائي مستقل ولكنها مما تجري عند الشك في أصل النقل كما تقدم في الأمر الثاني لا عند العلم الإجمالي بأصل النقل والشك في تقدمه وتأخره.
(قوله فتأمل... إلخ) ولعله إشارة إلى أنه إذا سلم استقرار بناء العقلاء على عدم النقل عند الشك في أصله فلا يبعد استقرار بنائهم على تأخر النقل أيضا عند العلم الإجمالي بأصله والشك في تقدمه وتأخره وعليه فينحصر الإيراد حينئذ بالإشكال الأول وهو معارضة أصالة تأخر الاستعمال بأصالة تأخر الوضع والإشكال الثاني على تقدير القول باعتبار أصالة تأخر الاستعمال من باب التعبد وأما على التقدير الآخر فيقال ان الأصل العقلائي بالعكس هو تأخر الوضع عن الاستعمال.
58

في الصحيح والأعم
(قوله العاشر أنه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات أسامي لخصوص الصحيحة أو للأعم منها... إلخ) بل يظهر من التقريرات أن الخلاف مما يعم ألفاظ المعاملات أيضا (قال) ما لفظه وهل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات كما هو المأخوذ في العنوان أو يعم ألفاظ المعاملات ظاهر جماعة منهم الشهيدان هو الثاني وارتضاه بعض الأجلة (انتهى) والظاهر أنه يعنى ببعض الأجلة صاحب الفصول وعلى كل حال قد ذكر صاحب التقريرات في المسألة أقوالا ثلاثة (قولا) بالصحيح (وقولا) بالأعم (وقولا) بالتفصيل بين الأجزاء والشرائط فيلتزم بالصحيح في الأول وبالأعم في الثاني (قال) في صدر المسألة ما لفظه قد اختلفت إنظار أهل النظر في ان ألفاظ العبادات هل هي أسامي للصحيح أو الأعم منه ومن الفاسد على أقوال ثالثها التفصيل بين الأجزاء والشرائط بالمصير إلى الأول في الأول وإلى الثاني في الثاني (انتهى) أقول وسيأتي من المصنف في آخر المسألة في الأمر الثالث الإشارة إلى هذا التفصيل فانتظر.
(قوله منها أنه لا شبهة في تأتي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية وفي جريانه على القول بالعدم إشكال... إلخ) بل حكى المنع الصريح عن غير واحد وما قيل في وجه المنع أو صح أن يقال وجوه ثلاثة.
(قال) في التقريرات لا إشكال في جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية وهل جريانه موقوف عليه فلا يجري على تقدير عدمه أو لا قولان ظاهر بعض الأفاضل هو الأول وهو المحكي عن بعض الأجلة تبعا
59

لبعض أفاضل سادات المتأخرين والحق وفاقا لصريح جماعة من المحققين هو الثاني (قال) واستظهر الأول من ملاحظة العناوين فان في التعبير بالأسامي تلويحا بل تصريحا بالوضع ويؤيده أدلة الطرفين من دعوى التبادر وغيره من خواص الحقيقة والمجاز. (ثم قال) مضافا إلى عدم تعقل النزاع على تقدير عدم الوضع لأن القائل بالأعم حينئذ ان أراد صحة استعمال اللفظ في الأعم أو وقوعه مجازا فهو مما لا سبيل لإنكاره فان القائل بالصحيح يعترف في الجواب عن أدلة الأعمي بوقوعه وصحته كما أنه لا سبيل لإنكار استعمال اللفظ في الصحيح إذ لم يدع القائل به أنه على وجه الحقيقة (انتهى) أقول ومرجع هذا كله إلى وجوه ثلاثة كما أشرنا وهي التعبير في
عنوان البحث بالأسامي واستدلال الطرفين بالتبادر ونحوه من علائم الوضع وعدم تعقل النزاع على القول بعدم الحقيقة الشرعية وسيأتي الجواب من نفس التقريرات عن كل من هذه الوجوه جميعا فانتظر.
(قوله وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره... إلخ) قد عرفت آنفا ان ما قيل أو يمكن أن يقال في وجه عدم جريان النزاع على القول بعدم الحقيقة الشرعية وجوه ثلاثة (أما الأول والثاني) فقد أجاب عنهما في التقريرات (بما هذا لفظه) أقول الوجه في اختصاص العنوان بعد تسليم دلالة الاسم على الوضع أن عنوان النزاع انما هو من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية وانما تبعهم في العنوان من لا يقول بها جريا على ما هو المعنون في كلامهم (إلى أن قال) ومنه يظهر الوجه في اختصاص الأدلة يعنى بها أدلة الطرفين من التبادر ونحوه (قال) فإنها تابعة لما هو الواقع في العنوان ولم يظهر من النافي للحقيقة الشرعية مع ذهابه في المقام إلى أحد الوجهين التمسك بما ينافي ما اختاره من العدم (انتهى) (وأما الوجه الثالث) وهو عدم تعقل النزاع على
60

بعدم الحقيقة الشرعية فيظهر من مجموع كلمات التقريرات في دفعه وجوها ثلاثة (الأول) أن يقع النزاع في أن المجاز الغالب في لسان الشارع هل هو الصحيح على وجه يحمل عليه اللفظ عند وجود الصارف عن المعنى الحقيقي أو الأعم.
(الثاني) ان يقع النزاع في ان الذي استعمل الشارع فيه اللفظ لعلاقة بينه وبين المعنى اللغوي كعلاقة الإطلاق والتقييد ونحوها ثم استعمل في الآخر لعلاقة أخرى بينه وبين المجازي الأول من مشابهة ومشاكلة هل هو الصحيح أو الأعم وعلى هذا الوجه يلزم سبك المجاز عن المجاز كما لا يخفى.
(الثالث) عين الصورة لكن إذا استعمل اللفظ في الآخر لا يكون لعلاقة أخرى بينه وبين المجازي الأول كي يلزم سبك المجاز عن المجاز بل لعين العلاقة المرعية بين المجازي الأول والمعنى اللغوي بتنزيل الآخر منزلة الأول بان يدعى الصحيحي مثلا ان الذي استعمل الشارع فيه اللفظ مجازا لعلاقة بينه وبين المعنى اللغوي هو الصحيح ثم استعمل اللفظ في الأعم لا لعلاقة أخرى بل لعين هذه العلاقة بتنزيل الأعم منزلة الصحيح بوجه من وجوه التنزيل كتنزيل ما هو المعدوم من الاجزاء والشرائط منزلة الموجود وهذا هو مختار صاحب التقريرات ولكن الظاهر من قول المصنف في المتن بمعنى أن أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته... إلخ هو الوجه الثاني المستلزم لسبك المجاز عن المجاز.
(قوله وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا الا إذا علم أن العلاقة انما اعتبرت كذلك... إلخ) وحاصل اشكاله أن ذلك يبتنى على أمرين.
(أحدهما) أن الشارع انما اعتبر العلاقة بين الصحيح مثلا وبين المعاني اللغوية دون الآخر.
61

(ثانيهما) أن بناء الشارع قد استقر عند وجود القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى معينة لأحد المعينين من الصحيح أو الأعم على إرادة الصحيح مثلا دون الآخر بحيث كان ذلك قرينة عامة على إرادته من غير حاجة إلى قرينة أخرى معينة وانى لهم بإثبات هذين الأمرين.
(أقول) والظاهر أن الصحيحي أو الأعمي إذا أثبت أن الشارع قد اعتبر العلاقة بين الصحيح مثلا وبين المعاني اللغوية دون الآخر فهو مما يكفيه عند وجود القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية لظهور اللفظ حينئذ في المعنى الذي اعتبر العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي ابتداء إذ المفروض ان استعماله في المعنى الآخر انما كان بتبع الأول وبمناسبته فلا يعقل أن يكون اللفظ ظاهرا فيه دون الأول أو كان ظهوره فيه في عرض ظهور اللفظ في الأول كي يجمل الكلام ويحتاج إلى قرينة معينة.
(قوله على إرادته... إلخ) متعلق بقوله استقر لا بقوله قرينة أخرى فلا تغفل.
(قوله وقد انقدح بما ذكرنا تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلاني... إلخ) والظاهر أن حاصل ما نسب إلى الباقلاني أن الصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك من العبادات ليست هي أمورا مخترعة مستحدثة لا في شرعنا ولا في الشرائع السابقة وانما هي معاني لغوية قديمة وهي الدعاء والنمو والقصد ونحو ذلك غايته أن الشارع قد أضاف إليها اجزاء وشرائط فتلك الألفاظ في لسان الشارع مستعملة دائما في معانيها اللغوية والاجزاء والشرائط الزائدة انما هي تستفاد من قرينة مضبوطة في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم هذا محصل ما نسب إلى الباقلاني (وأما) المصنف فحاصل كلامه أنه قد انقدح بما ذكرنا في تصوير النزاع على القول بعدم الحقيقة الشرعية تصويره على القول الباقلاني
62

أيضا فيقع النزاع في أن مقتضى القرينة المضبوطة الواقعة في كلام الشارع الدالة على الاجزاء والشرائط التي أضافها على المعاني اللغوية هل هو تمام الاجزاء والشرائط أو الأعم من التمام والناقص في الجملة (هذا) وقد أنكر التقريرات جريان النزاع على مذهب الباقلاني فيكون كلام المصنف هذا تعريضا لما اختاره التقريرات (قال) ما لفظه وهل هو يعنى النزاع في الصحيح والأعم موقوف على ثبوت تصرف من الشارع في المعنى فلا وجه للنزاع بناء على ما نسب إلى الباقلاني أو لا فيجري على مقالته أيضا الظاهر هو الأول ثم أطال الكلام في توضيح ذلك بما لا يسع المقام ذكره فراجع.
(قوله ومنها أن الظاهر أن الصحة... إلخ) وحاصل كلام المصنف أن الصحيح عند الكل بمعنى واحد وهو التمام أي الجامع لجميع الاجزاء والشرائط الفاقد لتمام الموانع والقواطع فاختلاف الفقهاء والمتكلمين في تفسير الصحيح حيث ينسب إلى الأول أن الصحيح ما أسقط القضاء وإلى الثاني ان الصحيح ما وافق الشريعة مما لا يكشف عن تعدد المعنى وإنما هو تفسير بالأثر المهم في نظر المفسر وقد أخذ المصنف هذا المعنى من صاحب التقريرات (قال) في المقام ما هذا لفظه ليس المراد به يعنى الصحيح ما هو المنسوب إلى الفقهاء من أن الصحيح ما هو أسقط القضاء أو إلى المتكلمين من أنه ما وافق الشريعة (إلى أن قال) بل المراد به الماهية الجعلية الجامعة للاجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتب ما هو الباعث على الأمر بها عليها ويعبر عنه بالفارسية (بدرست) وهو معناه لغة وقد ذكرنا في محله ان الفقهاء والمتكلمين أيضا لم يصطلحوا على إبداع معنى جديد غير ما هو المعهود منه في اللغة (انتهى).
(قوله كما لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر والحضر والاختيار والاضطرار إلى غير ذلك... إلخ) أي كما لا يوجب تعدد المعنى
63

اختلاف الصحة بحسب الحالات ففي السفر تكون الصلاة ركعتان وفي الحضر أربع وفي حال الاختيار تكون الصلاة عن وضوء أو عن قيام وفي حال الاضطرار عن تيمم أو عن جلوس أو عن اضطجاع إلى غير ذلك من الحالات كالذكر والنسيان والعلم والجهل فالصحيح في الكل بمعنى واحد وهو التمام غايته ان التمام يختلف باختلاف الحالات ومن هنا (قال) المصنف بعد هذا ومنه ينقدح أن الصحة والفساد أمر ان إضافيان فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى (انتهى) وسيأتي الكلام حول الصحة والفساد في بحث النهي عن العبادات والمعاملات بنحو أبسط فانتظر.
(قوله ومنها أنه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا... إلخ) وجه الأبدية انه لا إشكال في اختلاف أقسام الصلاة كما وكيفا اختلافا فاحشا بحسب اختلاف الحالات والأوقات (فان قلنا) ان اللفظ مشترك موضوع بإزاء كل قسم منها على حده على أن يكون كل منها معنى خاصا غير الآخر نظير وضع لفظ العين بإزاء معاني متعددة من الذهب والميزان والركبة ونحو ذلك فهذا باطل جدا ضرورة صحة حمل لفظ الصلاة على كل من تلك الأقسام بمعنى واحد نظير صحة حمل لفظ الإنسان على كل من الزنجي والرومي والقصير والطويل بمعنى واحد لا بمعاني متعددة (وان قلنا) بالاشتراك المعنوي فان التزمنا بان الوضع فيها عام والموضوع له خاص فهذا مضافا إلى احتياجه إلى قدر جامع في البين يكون هو الملحوظ أو لا وان لم يوضع له اللفظ بل وضع بإزاء أفراده المختلفة ومصاديقه المتشتتة هو بعيد جدا كما سيأتي في الأمر اللاحق وان التزمنا بان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام فعلى هذا القول لا بد من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا وكان هو
64

الموضوع له للأسامي والألفاظ فان قلنا بالصحيح فلا بد أن يكون جامعا لتمام الافراد الصحيحة وان قلنا بالأعم فلا بد أن يكون شاملا لتمام الافراد الصحيحة والفاسدة.
في الجامع الصحيحي
(قوله ولا إشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة... إلخ) وتوضيح ذلك أنه لا إشكال في ترتب أثر واحد كالنهي عن الفحشاء على تمام الافراد الصحيحة على اختلافها كما وكيفا بحسب الحالات والأوقات كما لا إشكال في أن ترتب أثر واحد على أمور متعددة مختلفة كاشف عن وجود قدر جامع بين تلك الأمور كان كل منها مؤثرا في ذلك الأثر الوحداني بذلك الجامع وذلك لقاعدة الواحد لا يصدر الا من الواحد ومدرك هذه القاعدة مقدمتان عقليتان.
(إحداهما) أنه لا شك في أنه لا بد من وجود ربط وسنخية بين العلة والمعلول أي بين المؤثر والأثر والا لصدر كل شيء من كل شيء وهو باطل.
(ثانيتهما) أنه من المستحيل عقلا أن يكون شيء واحد بما هو واحد مرتبطا ومتسنخا مع أمور مختلفة متباينة بما هي مختلفة متباينة وعليه فيجب أن يكون بين تلك الأمور المختلفة قدر جامع كان هو المؤثر في ذلك الأثر الوحداني فإذا شاهدنا مثلا ان الإحراق يترتب على كل من الشمس والنار والاحتكاك فنقول لا بد من ربط وسنخية بين الإحراق وبين كل من الشمس والنار والاحتكاك والا لصدر الإحراق من كل شيء ولم يختص صدوره من الأمور المذكورة فقط ومن المعلوم ان الإحراق بما هو شيء واحد لا يمكن ان
65

يكون مرتبطا ومتسنخا مع أمور مختلفة متباينة فلا بد من أن يكون بين الشمس والنار والاحتكاك قدر جامع كان كل منها مؤثرا في الإحراق بذاك الجامع فإذا تقرر هذه القاعدة المشتهرة بقاعدة الواحد (فنقول) ان النهي عن الفحشاء مثلا إذا ترتب على كل من صلاة الوتر والصبح والظهرين والعشاءين أو على صلاة المسافر والحاضر والمختار والمضطر إلى غير ذلك من الأقسام المختلفة بحسب الحالات والأوقات فنستكشف أن بين تلك الصلوات المختلفة قدر جامع كان هو المؤثر في النهي عن الفحشاء فإذا كان بينها ذاك الجامع كان قهرا هو الموضوع له للفظ الصلاة والمسمى بلفظها عند الصحيحي.
(أقول) هذا ولنا طريقة أخرى لاستكشاف القدر الجامع بين الأفراد الصحيحة ولعلها أسهل وتقريبها أنه لا إشكال في صحة حمل لفظ الصلاة بمفهوم واحد على أمور متعددة مختلفة بحسب الكم والكيف والحالات والأوقات كما لا إشكال في عدم صحة حمل اللفظ بمفهوم واحد على أمور متعددة مختلفة ما لم يكن بينها قدر جامع كان حمل اللفظ عليها واتحاده معها وجودا وخارجا بذاك الجامع وعليه فمن صحة حمل لفظ الصلاة بمفهوم واحد على الأقسام المختلفة والأصناف المتشتتة نستكشف أن بينها قدر جامع كان حمل لفظ الصلاة على كل منها بذاك الجامع ونظير ذلك ما إذا صح حمل لفظ الإنسان بماله من المفهوم الوحداني على كل من الزنجي والرومي والطويل والقصير والصغير والكبير واتحد مع كل من هذا الأقسام وجودا وخارجا فانا نستكشف من ذلك أن بين تلك الأقسام المختلفة قدر جامع كان حمل لفظ الإنسان بمفهومه الوحداني على كل منها واتحاده معه وجودا وخارجا بذاك الجامع إذ لا يعقل أن يكون الإنسان بمعنى واحد متحدا وجودا وخارجا مع أمور متعددة متباينة (نعم) يصح حمل المشترك كالعين على أمور متعددة متباينة ويتحد مع كل منها وجودا
66

وخارجا مع عدم وجود الجامع بين تلك الأمور المتباينة لكن ليس حمله على الأمور المتعددة بمفهوم واحد بل يحمل على كل منها بمفهوم خاص غير المفهوم الذي به يحمل على الآخر وهذا واضح.
(قوله والإشكال فيه بان الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا... إلخ) هذا الإشكال من صاحب التقريرات وهو إشكال طويل لخصه المصنف وحاصله أن الجامع بين الأفراد الصحيحة الذي قد وضع له لفظ الصلاة (ان كان مركبا) من أجزاء خاصة فهذا باطل جدا إذ ليس لنا اجزاء مخصوصة معينة تكون ملاكا للصحة بحيث كلما وجدت هي صحت الصلاة وكلما انتفت هي بطلت الصلاة إذ كلما فرض جامعا من الاجزاء كان صحيحا في حال وفاسدا في آخر هذا إذا كان الجامع مركبا من أجزاء (وأما إذا كان) بسيطا فهو لا يخلو أما أن يكون هو عنوان المطلوب أو أمرا آخر يلزمه ذلك ويساويه في الصدق كعنوان الصحيح أو التام ونحو ذلك (فان كان الجامع)
هو المطلوب فيرد عليه حينئذ أمور (منها) استحالة أخذه في متعلق الطلب فان عنوان المطلوب مما لا يتأتى الا من قبل الطلب فإذا أخذ في متعلق الطلب الذي هو سابق على الطلب رتبة لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين وهو غير معقول (ومنها) أن تكون لفظة الصلاة ولفظة المطلوب مترادفتين وهو باطل قطعا لوضوح عدم الترادف بينهما (ومنها) أن لا تجري البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط لأن الشك حينئذ يكون في المحصل أي فيما يتحقق به المأمور به لا في ذات المأمور به فان الأمر على هذا تعلق بأمر بسيط وهو مما لا إجمال فيه وانما الإجمال فيما يحققه ويحصله وفي مثله لا بد من الاشتغال كما سيأتي في محله مع أن القائلين بالصحيح هم قائلون بالبراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط هذا كله ان كان الجامع البسيط هو عنوان المطلوب (وأما إذا كان) ملزوما مساويا معه في الصدق
67

كعنوان الصحيح والتام فيرد عليه حينئذ خصوص الإشكال الأخير إلى عدم جريان البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط أقول بل والإشكال الثاني أيضا وهو الترادف.
(قوله مدفوع... إلخ) وحاصل الدفع بتوضيح منا أنا نلتزم بان الجامع هو أمر بسيط وهو مفهوم الصلاة أي ما يدركه الإنسان من لفظة الصلاة عند إطلاقها منتزع عن الأجزاء والشرائط المختلفة كما وكيفا بحسب الحالات والأوقات ولكنه متحد مع الأجزاء والشرائط نحو اتحاد أي خارجا ومصداقا فان الصلاة في الخارج هي عين تلك الاجزاء والشرائط بشهادة صحة الحمل عليها وفي مثله تجري البراءة بلا مانع عنها لأن المفهوم البسيط إن كان متحدا مع الاجزاء والشرائط فالامر المتعلق بالبسيط متعلق بالاجزاء والشرائط وإذا تعلق الأمر بالاجزاء والشرائط كان الأمر المتعلق بهما منحلا لا محالة إلى أوامر متعددة بتعدد الاجزاء والشرائط فإذا شك في وجوب بعضها جرت البراءة عنه شرعا وعقلا لكونه شكا في أصل التكليف نعم لو كان البسيط الذي تعلق به الطلب أمرا مباينا مع الاجزاء والشرائط كالطهارة المسببة عن الغسل أو الوضوء لأن الطهارة أمر بسيط تحصل بافعال مخصوصة وأمور خاصة وليست هي عين تلك الأفعال المخصوصة والأمور الخاصة فعند ذلك إذا شك في وجوب بعض الاجزاء والشرائط فلا محيص عن الاشتغال عقلا لكون الشك حينئذ في المحصل لا في أصل التكليف.
(أقول) بل الحق كما سيأتي منا في الأقل والأكثر الارتباطيين ان شاء الله تعالى أنه عند الشك في المحصل أيضا تجري البراءة شرعا وعقلا فانتظر.
68

في الجامع الأعمي
(قوله وأما على الأعم فتصوير الجامع في غاية الإشكال فما قيل في تصويره أو يقال وجوه... إلخ) هذه الوجوه سوى الخامس منها قد ذكرها صاحب التقريرات لتصوير القول بالأعم لا لتصوير الجامع الأعمي ومن هنا ترى ان ما سوى الوجه الأول والثاني أجنبي عن تصوير الجامع الأعمي وانما هو تصوير لمذهب الأعم كما لا يخفى.
(قوله أحدها أن يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان في الصلاة... إلخ) (قال) في التقريرات أحدها ما يظهر من المحقق القمي وهو كون ألفاظ العبادات أسماء القدر المشترك بين أجزاء معلومة كالأركان الأربعة في الصلاة وبين ما هو أزيد من ذلك وان لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زائد عليها صحيحة في الخارج فجميع هذه الافراد أعنى الصحيحة المشتملة على الأركان وتمام الزائدة عليها والفاسدة المقتصرة عليها فقط أو عليها وبعض الزائدة عليها من حقيقة الصلاة ويطلق على جميعها لفظ الصلاة على وجه الاشتراك المعنوي (انتهى).
(قوله وفيه ما لا يخفى فان التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها... إلخ) وحاصل جوابه عن الوجه الأول ان التسمية بالصلاة لا تدور مدار الأركان ضرورة صدق الصلاة عند الأعمي مع الإخلال ببعض الأركان كما إذا أتى بصلاة جامعة لجميع الاجزاء والشرائط سوى تكبيرة الإحرام مثلا فإنه حينئذ يصدق عليها الصلاة مع عدم تحقق الأركان بتمامها بل وعدم صدق الصلاة على الأركان حتى عند الأعمي مع الإخلال بسائر الاجزاء والشرائط كما إذا
69

نوى وكبر وركع وسجد ثم انصرف من غير أن يأتي بشيء من ساير الاجزاء والشرائط فإنه حينئذ لا يصدق عليها الصلاة وإن كانت الأركان متحققة بتمامها هذا محصل الجواب وقد أخذه المصنف من صاحب التقريرات (قال) أعلى الله مقامه ما لفظه فجعل يعنى المحقق القمي الأركان مدار صدق التسمية ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد الأركان وان اشتملت على بقية الأجزاء والصدق مع وجودها وان لم يشتمل على شيء من الأجزاء والشرائط وهو مما ينبغي القطع بفساده لأنه منقوض طردا وعكسا كما لا يخفى (انتهى)
(قوله مع أنه يلزم أن يكون الاستعمال فيما هو المأمور به باجزائه وشرائطه مجازا عنده... إلخ) هذا جواب ثاني عن الوجه الأول ومحصله أنه لو كانت لفظة الصلاة مثلا موضوعة للأركان لكان استعمالا لها في الصلاة الصحيحة الجامعة لتمام الاجزاء والشرائط مجازا لكونه استعمالا لها في غير ما وضع له وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل لا من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلي في الفرد كي لا يكون مجازا كاستعمال لفظ إنسان في زيد في مثل قولك هذا إنسان مشيرا إليه أو جاءني إنسان وكان الجائي زيدا وقد أخذ المصنف هذا الجواب من التقريرات أيضا (قال) أعلى الله مقامه في ذيل الرد على الوجه الأول ما لفظه فان قلت نحن لا نقول بان تلك الأركان المخصوصة قدر مشترك بين الزائد والناقص ليلزم ما ذكر من المحذور بل نقول ان لفظة الصلاة مثلا موضوعة للأركان المخصوصة وباقي الأجزاء خارجة عنها وعن المسمى لكن مقارنتها لغيرها لا يمنع من صدق اللفظ على مسماه قلت ذلك أيضا مما لا يلتزم به القائل المذكور إذ بناء على ذلك يصير استعمال اللفظ في الصحيحة المستجمعة للشرائط والأجزاء من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل وهو مجاز قطعا والظاهر من كلامه كونه
70

(انتهى) موضع الحاجة من كلامه.
(قوله ولا يلتزم به القائل بالأعم فافهم... إلخ) ولعل قوله فافهم إشارة إلى احتمال التزام القائل بالأعم بالتجوز فيما إذا استعمل اللفظ في الواجد لتمام الاجزاء والشرائط بنحو كان ساير الاجزاء والشرائط جزء المستعمل فيه أو إشارة إلى ما يرد من النقض على القائل بالصحيح أيضا فيما إذا استعملت لفظة الصلاة في الواجد لتمام
المستحبات الدخيلة في تشخيص المأمور به الخارجة عن ماهية الصلاة كما سيأتي تحقيقه في آخر الصحيح والأعم فكما أن في مثله لا يلتزم الصحيحي بالتجوز نظرا إلى أن اللفظ قد وضع لمعناه الخاص لا بشرط عن الاجتماع مع الاجزاء الخارجة عن الماهية فكذلك الأعمي يدعى أن لفظة الصلاة مثلا موضوعة للأركان لا بشرط عن الاجتماع مع ساير الاجزاء الدخيلة في صحة المأمور به الخارجة عن ماهيتها وعليه فإذا استعملت في الواجد لها فلا يكون مجازا.
(قوله ثانيها ان تكون موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا... إلخ) وهو المنسوب إلى جماعة من الأعميين (قال) في التقريرات الثاني ما نسبه البعض إلى جماعة من القائلين بالأعم بل قيل وهو المعروف بينهم أن لفظة الصلاة موضوعة لمعظم الاجزاء وهو ما يقوم به الهيئة العرفية ومعها لا يصح سلب الاسم عنها فكلما حصل صدق الاسم عرفا يستكشف به عن وجود المسمى فيه فعلى هذا عكسه وطرده سليمان عن الانتقاض (انتهى) موضع الحاجة من كلامه.
(قوله وفيه مضافا إلى ما أورد أخيرا أنه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى... إلخ) هذان جوابان عن الوجه الثاني.
(أحدهما) عبارة عما أورد على الوجه الأول أخيرا من لزوم كون
71

استعمال اللفظ في المستجمع لتمام الاجزاء والشرائط مجازا لكونه استعمالا له في غير ما وضع له وكان من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل.
(ثانيهما) ما حاصله أن معظم الأجزاء ليس أمرا مضبوطا له واقع معين في الكل كي يمكن دعوى كون اللفظ موضوعا له حقيقة بل يتبادل باختلاف المصاديق فان معظم الأجزاء في صلاة الوتر مثلا غير معظم الأجزاء في صلاة الصبح ومعظم الأجزاء في صلاة الصبح غير معظم الأجزاء في الظهرين أو العشاءين وهكذا في صلاة المسافر والحاضر والمختار والمضطر والعام والجاهل والذاكر والناسي وحينئذ قد يكون شيء واحد كالقيام مثلا داخلا في معظم الأجزاء بالنسبة إلى صلاة تشتمل عليه كصلاة المختار وخارجا عن معظم الأجزاء بالنسبة إلى صلاة لا تشتمل عليه كصلاة المضطر العاجز عن القيام بل يلزم أن يكون شيء واحد في صلاة واحدة مستجمعة لتمام الأجزاء والشرائط مرددا بين أن يكون هو الداخل في معظم الأجزاء وكان الخارج منه غيره أو يكون بالعكس وهو كما ترى باطل هذا محصل الجوابين وقد أخذهما المصنف من صاحب التقريرات (قال) أعلى الله مقامه في مقام الجواب عن الوجه الثاني ما لفظه لكن يرد عليه أنه ان أريد أن اللفظ موضوع لمفهوم معظم الأجزاء الذي لا يختلف ذلك المفهوم باختلاف مصاديقه ففساده غني عن البيان بداهة أن لفظ الصلاة لا يرادف لفظ معظم الأجزاء وان أريد أنه موضوع لمصداقه فلا ريب في اختلاف تلك المصاديق بواسطة تبادل الأجزاء وجودا وعدما (إلى أن قال) مضافا إلى استلزامه أن يكون استعمال اللفظ فيما زاد عن معظم الاجزاء مجازا صحيحة كانت أو فاسدة (انتهى) موضع لحاجة من كلامه.
(أقول) أما الجواب الأول من لزوم التجوز إذا استعمل اللفظ في
72

المستجمع لتمام الأجزاء والشرائط بل مطلق ما زاد على معظم الأجزاء فقد عرفت أنه لم يتم لما يرد من النقض على الصحيحي أيضا إذا استعمل اللفظ في المستجمع لتمام المستحبات الخارجة عن ماهية الصلاة فما به الجواب على القول بالصحيح يكون هو الجواب على القول بالأعم وأما الجواب الثاني فهو في مثل الصلاة التي لها الاختلاف الفاحش بحسب الحالات والأوقات وإن كان صحيحا واردا على الأعمي لعدم كون معظم الأجزاء فيها أمرا مضبوطا معينا كي يمكن دعوى وضع اللفظ له حقيقة ولكن في غير الصلاة من ساير المركبات التي ليس لها هذا الاختلاف هو أمر مضبوط معين واقعا يمكن دعوى وضع اللفظ له حقيقة (وبالجملة) ان لسائر المركبات أجزاء رئيسية معينة مضبوطة لا متبادلة ولا مرددة هي مدار التسمية والصدق العرفي وعليه فمذهب الأعمي في غير مثل الصلاة مما ليس له هذا الاختلاف أمر معقول ثبوتا بعد تصور القدر الجامع له ولكنه مع ذلك هو خلاف التحقيق لما سيأتي من قيام الدليل بل الأدلة على القول بالصحيح فانتظر.
(قوله ثالثها أن يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصية كزيد فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته كذلك فيها... إلخ) هذا الوجه الثالث لم يذكره المصنف كما هو حقه والصحيح ما ذكره صاحب التقريرات (قال) الثالث أن يكون اللفظ موضوعا للمركب من جميع الأجزاء لكن لا من حيث هو بل من حيث كونه جامعا لجملة أجزاء هي ملاك التسمية ومناطها فإذا فقد بعض الأجزاء وصدق الاسم عرفا يعلم منه أن مناط التسمية باق نظير الأعلام الشخصية التي يوضع للأشخاص فان زيدا إذا سمى بهذا الاسم في حال صغره كان الموضوع له هذه الهيئة الخاصة ولكن لا من حيث انها تلك الهيئة ولذا لا يفترق في
73

التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئات غير متناهية بين الرضاع والشيخوخة وليس ذلك بأوضاع جديدة بل تلك الاستعمالات في تلك المراتب من توابع الوضع الأول (انتهى) وملخصه أن ألفاظ العبادات موضوعة للمركب من جميع الأجزاء كما يقول الصحيحي لكن لا بما هي هي بل من حيث كونها واجدة لجملة أجزاء هي ملاك التسمية كما في الأعلام الشخصية فإنها موضوعة كذلك ولذا ترى أن مع تبادل الحالات بل ونقص بعض الأجزاء يصدق الاسم ما دام كون الأجزاء التي هي مناط التسمية باقية محفوظة.
(قوله وفيه أن الأعلام إنما تكون موضوعة للأشخاص والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا وأن تغيرت عوارضه... إلخ) هذا الجواب الذي ذكره المصنف قد عبر عنه صاحب التقريرات بالتخيل ورد عليه حلا ونقضا (قال) بعد ذكر الوجه الثالث بعبارته المتقدمة ما لفظه ولا وجه لما قد يتخيل من أن الأعلام الشخصية ليست موضوعة للمركبات بل إنما هي موضوعة للنفوس الناطقة المتعلقة بالأبدان فان من المعلوم كون زيد حيوانا ناطقا ولازمه أن يكون جسما وليس زيدا من المجردات كما لا يخفى مضافا إلى أن الوضع في جميع المركبات الكمية الخارجية كذلك كما في لفظ السرير والبيت والمعاجين فالتزام ذلك في الأعلام الشخصية مما لا يجدى في دفع المحذور (انتهى) موضع الحاجة من كلامه (ومحصله) أن زيدا ونحوه من الأعلام الشخصية ليس هو من المجردات كي صح
فيه دعوى الوضع للنفس الناطقة بل هو جسم خارجي له نفس ناطقة فالجسم جزء الموضوع له وهو مركب من أجزاء خارجية (مضافا) إلى أنه لو سلم ذلك في الأعلام الشخصية وانها موضوعة للنفوس الناطقة وهي باقية محفوظة مع تبادل الحالات فما الحيلة في ساير المركبات الخارجية فإنها عبارة
74

عن جملة من أجزاء معينة كالسرير ونحوه مقتضى الوضع لها انتفاء الاسم بانتفاء بعضها مع أنه لا ينتفي فيعرف من ذلك أن اللفظ موضوع للمركب من جميع الأجزاء لكن لا من حيث هو بل من حيث كونه جامعا لجملة أجزاء هي ملاك التسمية كما ادعى صاحب الوجه الثالث.
(أقول) والصحيح في الجواب عن هذا الوجه الثالث أن يقال انه لا يعقل أن يكون الاسم موضوعا للمركب من جميع الأجزاء كما يدعى الصحيحي وكان مناط التسمية حقيقة جملة من الأجزاء نعم يعقل ذلك في التسمية العرفية المسامحية فيكون الموضوع له جميع الأجزاء ومناط التسمية العرفية المبنية على التسامح والتجوز جملة من الأجزاء وأما الأعلام الشخصية فحالها كحال ساير المركبات الخارجية بعد وضع الألفاظ فيها لمجموع النفس والبدن وتركب البدن من أجزاء خارجية فصدق الاسم فيها مع نقص بعض الأجزاء من يد أو رجل ونحوهما ليس إلا كصدق الاسم في ساير المركبات مع نقص بعض الأجزاء وهو على نحو المسامحة والعناية بحيث كلما زاد النقص ظهرت العناية وكلما قل النقص خفيت العناية حتى كاد ان لا يرى هناك عناية كما أن صدق الاسم فيها مع زيادة بعض الأجزاء من لحم أو شعر ونحوهما ليس إلا من جهة الوضع لتلك الأجزاء الخاصة لا بشرط عن الاجتماع مع الأجزاء الزائدة المتجددة بعد الوضع والتسمية كما لا يخفى.
(قوله ولا يكاد يكون موضوعا له إلا ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها كما عرفت في الصحيح منها... إلخ) أي ولا يكاد يكون شيء من العبادات موضوعا له إلا ما كان جامعا لشتات العبادات وحاويا لمتفرقاتها كما عرفت في الصحيح منها بعد تصوير القدر الجامع بينها وإمكان الإشارة إليه بخواصه وآثاره كالناهية عن الفحشاء أو ما هو معراج المؤمن ونحو ذلك.
75

(قوله رابعها أن ما وضعت له الألفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء والشرائط إلا أن العرف يتسامحون... إلخ) ومحصل هذا الوجه بطوله أن اللفظ موضوع للصحيح التام كما يقول الصحيحي ولكن يستعمل اللفظ في الفاقد الناقص أيضا لا على سبيل المجاز بل على سبيل الحقيقة أما بتنزيل الفاقد منزلة الواجد فلا تجوز على ما تقدم من السكاكي أو لصيرورة اللفظ حقيقة فيه تعينا باستعماله فيه دفعة أو دفعات معدودة وهذا الوجه قد ذكره صاحب التقريرات وغيره المصنف في اللفظ (قال) في التقريرات بعد ما ذكر الوجوه الثلاثة المتقدمة ما لفظه وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم وهو أن يكون الموضوع له هو المركب من جميع الاجزاء من حيث هو لكن العرف تسامحوا في إطلاق اللفظ على فاقد بعض الاجزاء لما هو المودع في سجاياهم والمركوز في طبائعهم من عدم ملاحظتهم في إطلاق الألفاظ الموضوعة للمركبات أن يكون المستعمل فيه جامعا لجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا بل يطلقون على الناقص اسم الكامل مسامحة لكن لا على سبيل المجاز بل على سبيل الحقيقة بأحد من الوجهين أحدهما تنزيل ما هو المعدوم منزلة الموجود ثم إطلاق اسم الكامل على الناقص فان ذلك لا يستلزم مجازا في اللفظ كما في الاستعارة على ما يراه السكاكي بل التصرف إنما هو في أمر عقلي وثانيهما دعوى حصول الوضع للناقص على وجه التعين دون التعيين الا أنه ليس كسائر الأوضاع التي يتوقف على كثرة الاستعمال وامتداد مدة طويلة بل يكفى فيه عدة استعمالات من حيث المشابهة الصورية والأنس وذلك مما لا ينبغي أن يستبعد عند الملاحظ المتأمل في طريقة المحاورات العرفية (انتهى) موضع الحاجة من كلامه.
(قوله على ما ذهب إليه السكاكي في الاستعارة... إلخ) قد بينا ما
76

ذهب إليه السكاكي في ذيل علائم الحقيقة والمجاز فلا نعيد.
(قوله وفيه أنه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية... إلخ) وحاصل الجواب ان ما ذكر في الوجه الرابع من كون اللفظ موضوعا في بدو الأمر للصحيح التام ثم استعمل في الناقص لا على سبيل المجاز أما بتنزيل الناقص منزلة التام أو لصيرورة اللفظ حقيقة فيه تعينا إنما يتم في مثل المعاجين وساير المركبات الخارجية مما كان صحيحة في بدو الأمر أمرا واحدا معينا مضبوطا لا في مثل العبادات كالصلاة ونحوها مما كان صحيحة في بدو الأمر مختلفا باختلاف الحالات والأوقات.
(أقول) هذا مضافا إلى أن استعمال اللفظ في الناقص لا على سبيل المجاز بل على سبيل تنزيل الفاقد منزلة الواجد فلا يكون مجازا على مذهب السكاكي مما لا يتحاشى عنه الصحيحي لأن دعواه هو مجرد الوضع للصحيح التام وان الاستعمال فيما سواه يكون بالعناية سواء كان ذلك بنحو المجاز في الكلمة كما هو المشهور أو بنحو التنزيل والحقيقة الادعائية كما يقول به السكاكي فتأمل جيدا.
(قوله خامسها أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان مثل المثقال والحقة والوزنة إلى غير ذلك... إلخ) والفرق بين هذا الوجه وسابقة أن المدعى بالفتح في الوجه السابق كان وضع اللفظ في بدو الأمر للصحيح التام ثم استعماله في الناقص اما تنزيلا أو حقيقة تعينا والمدعى في هذا الوجه أن اللفظ من الأول موضوع للأعم من الزائد والناقص بمعنى أن الواضع في أسامي المقادير والأوزان وان لاحظ أو لا مقدارا خاصا ولكن لم يضع اللفظ له بل للأعم منه ومن الزائد والناقص (نعم) ليس بين الشق الثاني من هذا الوجه الذي قد أشار إليه المصنف بقوله أو انه وان خص به أو لا إلا أنه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية انهما منه قد صار حقيقة في الأعم... إلخ)
77

وبين الشق الثاني من الوجه السابق فرق أصلا.
(قوله وفيه ان الصحيح كما عرفت في الوجه السابق يختلف زيادة ونقيصة... إلخ) وحاصل الجواب عن الوجه الخامس انك قد عرفت فيما أجيب به عن الوجه السابق أن الصحيح في العبادات كالصلاة ونحوها ليس أمرا واحدا معينا مضبوطا كي يتخذ مقياسا ويكون هو الملحوظ أو لا عند الواضع ثم يوضع اللفظ بإزاء الأعم منه
ومن الزائد والناقص بل هو مختلف بحسب اختلاف الحالات والأوقات.
(أقول) هذا مضافا إلى أن ملاحظة المقدار الخاص عند الوضع ووضع اللفظ بإزاء الأعم منه ومن الزائد والناقص مستلزم لثبوت القسم الرابع من الوضع وهو الوضع الخاص والموضوع له العام وقد عرفت منا في بحث الوضع بطلان الوضع العام والموضوع له الخاص فكيف بالوضع الخاص والموضوع له العام والعجب من المصنف أنه كيف غفل عن هذا الجواب الواضح ولم يتفطن أن دعوى ملاحظة المقدار الخاص ووضع اللفظ للأعم منه ومن الزائد والناقص مما يستلزم القسم الرابع من الوضع وقد أنكره هناك أشد الإنكار فتذكر.
(قوله ومنها أن الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامين واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا... إلخ) الظاهر ان المقصود من بيان هذا الأمر هو دفع ما قد يتوهم من عدم وجوب تصوير قدر جامع بين الافراد بدعوى أن الموضوع له في ألفاظ العبادات خاص فالواضع وان لاحظ في وضع لفظ الصلاة مثلا معنى عاما ولكن لم يضع اللفظ له بل وضع بإزاء أفراده ومصاديقه من صلاة الصبح والظهرين والعشاءين والآيات والعيدين إلى غير ذلك فلا نحتاج إذا إلى قدر جامع بين
78

الأقسام المختلفة بحسب الحالات والأوقات بعد ما تعدد الموضوع له (وحاصل) الدفع أن الوضع العام والموضوع له الخاص في ألفاظ العبادات بعيد جدا نظرا إلى أنه لو استعمل اللفظ حينئذ في الجامع كما في قوله الصلاة تنهى عن الفحشاء أو الصلاة معراج المؤمن أو قربان كل تقي ونحو ذلك مما ليس المراد فيه قسم خاص وصنف مخصوص لزم أن يكون مجازا أو نمنع استعمالها في الجامع في الأمثلة المذكورة وكل منهما بعيد إلى الغاية.
(أقول) هذا مضافا إلى أنه لو قلنا بالوضع العام والموضوع له الخاص فمع ذلك لا محيص عن تصوير القدر الجامع إذ الواضع لا بد وأن يلحظ أو لا معنى عاما كليا ثم يضع اللفظ بإزاء أفراده وأقسامه فيقع الكلام حينئذ في أنه ما الجامع بين الأفراد المختلفة والأقسام المتشتتة الذي تصوره الواضع عند الوضع ووضع اللفظ بإزاء أفراده وأقسامه وقد أشرنا إلى ذلك قبلا عند التعليق على قوله ومنها أنه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا... إلخ فلا تغفل.
في ثمرة النزاع
(قوله ومنها أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول الصحيحي وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه... إلخ) وتوضيحه أنه لا إشكال في عدم جواز التمسك بالإطلاق في الشبهات المفهومية ولا في الشبهات المصداقية فإذا قال مثلا أكرم عالما وشك في إكرام زيد للشك في أصل معنى العالم أو للشك في انطباقه عليه فلا يمكن التمسك بإطلاق القول المذكور لوجوب إكرامه وذلك لكون المسمى حينئذ مشكوكا في كلتا الصورتين نعم إذا شك في اعتبار أمر خارج
79

عن المسمى كاعتبار العدالة في زيد فعند ذلك يمكن التمسك بإطلاق القول المذكور لرفع اعتباره فيه إذا كان الخطاب واردا مورد البيان على ما سيأتي لك شرحه في محله (وعليه) فإذا قال في المقام أقم الصلاة وشك في اعتبار السورة فيها فان قلنا بالصحيح كان الخطاب مجملا مفهوما مرددا بين الأقل والأكثر ولم يجز التمسك بإطلاقه لرفع اعتبارها فيها إذ صلاتية الصلاة حينئذ بدون السورة مشكوكة بخلاف ما إذا قلنا بالأعم فان الخطاب إذا فرض كونه واردا مورد البيان فحينئذ يمكن التمسك بإطلاقه لرفع اعتبارها فيها لأن الشك على هذا القول واقع في اعتبار أمر خارج عن المسمى فان المسمى عند الأعمي هو الأركان مثلا وليست السورة منها نعم إذا شك في دخالة شيء في نفس المسمى لم يجز للأعمي أيضا التمسك بالإطلاق (وان شئت) التوضيح أكثر من ذلك فنقول (تارة) يكون المولى في مقام بيان ما يعتبر في ماهية الشيء من الاجزاء والشرائط كما في صحيحة حماد ونحوها بالنسبة إلى الصلاة فإذا شك في وجوب جزء أو شرط فيتمسك بإطلاق كلامه لرفعه ويسمى ذلك بالإطلاق المقامي وهذا النحو من الإطلاق ليس محل الكلام قطعا فان كلا من الأعمي والصحيحي يتمسك به على حد سواء فان عدم البيان في مقام البيان بيان على العدم (وأخرى) يكون المولى في مقام بيان ما يعتبر في الشيء مما هو خارج عن ماهيته وحقيقته من الخصوصيات والقيود اللازمة في المأمور به كما إذا كان في مقام بيان ما يعتبر في العالم الواجب إكرامه أو الرقبة الواجبة عتقها وقال أكرم العالم أو قال أعتق رقبة ولم يذكر له قيد في كلامه فإذا شك حينئذ في اعتبار العدالة في العالم أو الإيمان في الرقبة فيتمسك بإطلاق لفظ العالم الشامل لكل من العالم العادل والعالم الغير العادل أو بإطلاق لفظ الرقبة الشامل لكل من الرقبة المؤمنة والرقبة الغير المؤمنة على حد سواء وهذا
80

من الإطلاق يسمى بالإطلاق اللفظي يتمسك به عند الشك في أمر خارج عن حقيقة الشيء وماهيته من الخصوصيات والقيود (وحينئذ) إذا شك في المقام في وجوب مثل السورة في الصلاة فان قلنا بالصحيح لم يجز التمسك بإطلاق لفظ أقم الصلاة لرفع اعتبارها فيها إذ صلاتية الصلاة حينئذ بدونها مشكوكة فكيف يتمسك بإطلاق لفظها ويدعى أن لفظ الصلاة يشمل كلا من الصلاة مع السورة وبلا سورة وان قلنا بالأعم فالشك حينئذ في أمر خارج عن ماهية الصلاة بعد عدم كون السورة من الأركان المخصوصة أو من معظم الأجزاء فيتمسك بإطلاق لفظ الصلاة الشامل لكل من الصلاة مع السورة وبلا سورة على حد سواء لكن بشرط كون المولى في مقام البيان كما أشرنا (هذا) ملخص الثمرة الأولى وقد أشار الشيخ أعلى الله مقامه في الرسائل إلى هذه الثمرة الجليلة في الأقل والأكثر الارتباطيين (قال) في آخر المسألة الأولى منها فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمي هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح وحكم المجمل هو مبنى على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئية لأصالة عدم التقييد على القول بالأعم (انتهى).
(قوله وبدونه لا مرجع أيضا إلا البراءة أو الاشتغال... إلخ) أي وبدون كون الخطاب واردا مورد البيان لا مرجع للأعمي أيضا إلا البراءة أو الاشتغال كما لم يكن للصحيحي مرجع إلا أحد الأمرين بعد أن لم يجز له التمسك بالإطلاق.
(قوله وقد انقدح بذلك أن الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال... إلخ) مقصود المصنف من ذلك إبطال الثمرة الثانية التي التزم بها المحقق القمي وهي أنه على الأعم
يرجع إلى البراءة وعلى الصحيح يرجع إلى الاشتغال (قال)
81

أعلى الله مقامه بعد الفراغ عن التكلم فيما نسب إلى بعض المنكرين للحقيقة الشرعية القائل بان الشارع لم يستعمل تلك الألفاظ في المعاني المخترعة بل استعملها في المعاني اللغوية والزوائد شروط لصحة العبادة وهو الباقلاني على الظاهر وان لم يصرح باسمه (ما لفظه) ثم بعد القول ببطلان مذهب هذا النافي والبناء على المشهور من كون تلك العبادات ماهيات محدثة فهل يجوز إجراء أصل العدم فيها بمعنى انا إذا شككنا في كون شيء جزءا لها أو شرطا لصحتها فهل يمكن نفيه بأصالة العدم أو لا بد من الإتيان بما يوجب اليقين بحصول الماهية في الخارج فيه خلاف ولا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمة وهي أنهم اختلفوا في كون العبادات أسامي للصحيحة أو للأعم منها (إلى أن قال) والثمرة في هذا النزاع يظهر فيما لم يعلم فساده فهل يحصل الامتثال بمجرد عدم العلم بالفساد لصدق الماهية عليها أو لا بد من العلم بالصحة فمع الشك في مدخلية شيء في تلك الماهية جزءا كان أو شرطا فلا يحكم بمجرد فقدان ذلك بالبطلان على الثاني بخلاف الأول للشك في الصحة (انتهى) ثم إنه رحمه الله بعد ما اختار كونها أسامي للأعم واستدل له بأدلة ومؤيدات قد أطال الكلام في تقريب إجراء أصل العدم يعنى به البراءة في ماهية العبادات (وحاصل) إبطال المصنف لهذه الثمرة بتوضيح منا أن الرجوع إلى البراءة والاشتغال في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين هي مسألة أخرى غير مربوطة بمسألة الصحيح والأعم فمن الممكن أن يلتزم في المقام بالصحيح ويلتزم هناك بالبراءة كما فعل المشهور لانحلال العلم الإجمالي على التقريب الآتي في محله كما أنه من الممكن أن يلتزم في المقام بالأعم ويلتزم هناك بالاشتغال اما لعدم انحلال العلم الإجمالي أو لعدم العلم بحصول الغرض الداعي إلى الأمر أو لغير ذلك من الجهات التي سيأتي شرحها في محلها إن شاء الله تعالى فانتظر.
82

(قوله وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا... إلخ) القائل هو المحقق القمي رحمه الله (قال) فيما أفاده في المقام وتظهر الثمرة حينئذ فيما لو نذر أحد أن يعطي شيئا لمن رآه يصلي فرأى من صلى ونقص طمأنينته في إحدى السجدتين مثلا أو لم يقرأ السورة في إحدى الركعتين فبرء النذر بذلك لا يستلزم كون تلك الصلاة مطلوبة للشارع ومأمورا بها (انتهى) ويظهر من ذلك أنه على الأعم يحصل البرء ولو مع العلم بفساد صلاته ولكن له عبارة أخرى يظهر منها أن الثمرة تظهر في الصلاة التي لا يعلم فسادها لا فيما علم فساده وعلى كل حال حاصل كلام المصنف حول هذه الثمرة أنها وإن كانت صحيحة ولكنها ليست بثمرة للمسألة الأصولية لما عرفت من أن المسألة الأصولية هي التي تقع في طريق استنباط حكم شرعي والبرء وعدمه ليسا حكمين شرعيين.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أن مرجع البرء وعدم البرء هو إلى الحكم الشرعي فمع البرء لا أمر شرعا بالوفاء ومع عدمه يكون الأمر به باقيا على حاله الا أن الإنصاف أنها مع ذلك ليست هي بثمرة مهمة على نحو يعقد لأجلها مثل هذه المسألة الجليلة.
في أدلة الصحيحي
(قوله وكيف كان فقد استدل للصحيحي بوجوه... إلخ) وهي وجوه ثمانية قد ذكرها في التقريرات واحدا بعد واحد غير أن المصنف قد انتخب من بينها وجوها أربعة فذكرها في الكتاب واقتصر عليها وهي عمدتها وأصحها.
(قوله أحدها التبادر... إلخ) وهو الوجه الثاني من الوجوه الثمانية
83

(قال) في التقريرات الثاني دعوى تبادر خصوص الصحيحة عند الإطلاق بلا قرينة (انتهى).
(قوله ولا منافاة بين دعوى ذلك وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات... إلخ) هذا جواب عما قد يعترض على دعوى تبادر الصحيح من ألفاظ العبادات من أن الألفاظ على هذا القول مجملات إذ من الواضح وقوع الشك في جملة من أجزاء الصلاة وشروطها فعلى القول بالوضع للصحيح التام يكون معناها مجملا مرددا بين الأقل والأكثر فكيف يدعى الصحيحي تبادر الصحيح التام من ألفاظها وأيهما الصحيح التام أفهل هو الأقل أو الأكثر (وحاصل الجواب) أن معاني الألفاظ وان كانت على هذا القول مجملات ولكنها مبينات في الجملة من ناحية بعض الخواص والآثار فتكون الصلاة مثلا هي التي تنهى عن الفحشاء أو تكون معراجا للمؤمن أو عمودا للدين أو نحو ذلك وهذا المقدار من البيان الإجمالي يكفى في صحة التبادر (وأصل هذا الاعتراض) مذكور في التقريرات بل وذكر له جوابا عن بعضهم يقرب من جواب المصنف من حيث كفاية البيان الإجمالي ولكن صاحب التقريرات صار بصدد تأييد الاعتراض ودفع ما أجيب به عنه (فقال) في جملة ما أفاده في هذا المقام ما ملخصه أنه ان قيل إن المتبادر من الألفاظ هو مفهوم تمام الاجزاء والشرائط فهذا فاسد جدا لوضوح عدم ترادف مثل لفظ الصلاة مع لفظ تمام الاجزاء والشرائط وان قيل إن المتبادر منها مصداق تمام الاجزاء والشرائط فهذا فرع تعينهما على الضبط والدقة والمفروض إجمال الألفاظ وعدم تعينهما كذلك.
(أقول) والصحيح أن المتبادر ليس هو مفهوم تمام الاجزاء والشرائط لوضوح عدم الترادف كما أفاد ولا مصداق الاجزاء والشرائط لعدم تعينهما
84

على الضبط والدقة كما ذكر مضافا إلى أن مصداق الاجزاء والشرائط أمر مركب والمتبادر من لفظة الصلاة ونحوها أمر بسيط فكيف يصح دعوى كون مصداق الاجزاء والشرائط هو المتبادر منها بل نقول ان المتبادر منها هو أمر يساوي تمام الاجزاء والشرائط ماهية وخارجا لا مفهوما وإدراكا كما هو الشأن في كل محدود وحد كالإنسان والحيوان الناطق فيتبادر من المحدود أمر بسيط يساوي الحد ماهية وخارجا لا مفهوما وإدراكا كيف ومفهوم الأول بسيط والثاني مركب ومن هنا يفرق بينهما بالإجمال والتفصيل فالأول مجمل والثاني مفصل فتأمل جيدا.
(قوله ثانيها صحة السلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض أجزائه أو شرائطه بالمداقة وان صح الإطلاق عليه بالعناية... إلخ) وهذا الدليل للقول بالصحيح هو أقوى من سابقة بكثير نظرا إلى سلامته من الاعتراض المتقدم على التبادر من أن ألفاظ العبادات على الصحيح مجملات فكيف يتبادر منها الصحيح فان الاعتراض المذكور وإن
كان ضعيفا كما عرفت ولكنه على كل حال مما لا يتوجه إلى صحة السلب أصلا لعدم المنافاة بين إجمال المعنى وبين صحة سلبه على إجماله عن مورد خاص وقد اعترف بذلك صاحب التقريرات الذي أيد الاعتراض المذكور (فقال في ذيل) صحة السلب ما لفظه ولا يرد فيه ما أوردناه على التبادر فان الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض المورد فيعلم بذلك أن المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة ذلك المسمى وذلك لا يلازم تعيينه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح (انتهى) وبالجملة صحة السلب عن الفاسد بسبب الإخلال ببعض الأجزاء أو الشرائط بالمداقة دليل قوى جدا على الصحيح فلو كان اللفظ للأعم لم يصح السلب عن الفاسد بالمداقة وان صح إطلاق الاسم عليه بالمسامحة والعناية لا على وجه الدقة
85

والحقيقة وآية ذلك أنه كلما زاد الإخلال بانت المسامحة وظهرت العناية وكلما نقص الإخلال خفيت المسامحة ولم تظهر العناية حتى كاد أن لا يرى هناك مسامحة وعناية.
(قوله ثالثها الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن والصوم جنة من النار إلى غير ذلك... إلخ) ولو ضم إلى الأخبار بعض الآيات مثل قوله تعالى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كان أولى وعلى كل حال تقريب الاستدلال بها أنه لا إشكال في أن الأخبار المذكورة ظاهرة في إثبات تلك الخواص والآثار للمسميات وحيث أنا نعلم من الخارج أن تلك الخواص والآثار لا تكون إلا للصحيح فيعرف منها أن المسمى والصحيح شيء واحد فلو كان المسمى أمرا آخر أوسع من الصحيح كما يدعيه الأعمي لم تثبت الأخبار تلك الخواص والآثار للمسمى بل أثبتها للصحيح فقط فكانت تقول الصلاة الصحيحة عمود الدين أو معراج المؤمن وهكذا.
(قوله أو نفى ماهيتها وطبائعها مثل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ونحوه مما كان ظاهرا في نفى الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا... إلخ) ولو ذكر المصنف هذه الطائفة الثانية في ذيل صحة السلب كما فعل التقريرات كان أنسب (قال) الثالث صحة سلب الاسم عن الفاسدة كما يشهد به بعد مساعدة العرف والاعتبار طائفة من الأخبار كقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع لما تقرر في محله من ظهور هذه التراكيب في نفى الحقيقة والماهية فالخبر المحذوف هو الموجود بل ربما نسب إلى المحققين أن (لا) غير محتاجة إلى الخبر فيكون العدم المستفاد منه عدما محموليا وهو أقرب لتسميته بنفي الجنس حيث أن المنفي هو نفس الجنس
86

لا وجوده وان صح الثاني أيضا (انتهى) وعلى كل حال هذه الطائفة الثانية التي تنفي الماهية بمجرد فقد جزء أو شرط هي دليل مستقل في المسألة للقول بالصحيح غير الطائفة الأولى المثبتة لبعض الخواص والآثار للمسميات ولكن المصنف كأنه قد أراد بذكر الطائفة الثانية في ذيل الطائفة الأولى أن يجعل مجموع الأخبار من المثبت والنافي دليلا واحدا.
(قوله وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ونفى الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب في نفى مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر... إلخ) أصل الإشكال كما في التقريرات مختص بالطائفة الثانية النافية للماهية ولكن المصنف عمم الإشكال إلى الطائفة الأولى أيضا (وحاصله) أن من المحتمل أن يكون المراد من الصلاة مثلا في الطائفة الأولى كقوله عليه السلام الصلاة عمود الدين أو معراج المؤمن ونحوهما هو خصوص الصحيح لا المسميات كي يثبت به المطلوب وهكذا من المحتمل أن يكون المراد من النفي في الطائفة الثانية مثل قوله عليه السلام لا صلاة الا بطهور أو لا صلاة الا بفاتحة الكتاب هو نفى الصحة أي لا صلاة صحيحة الا بطهور أو بفاتحة الكتاب لا نفى الحقيقة والماهية كي يثبت به المطلوب وذلك لشيوع استعمال هذا التركيب في نفى الصفة كما في لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد (وقد أجاب) عنه المصنف بما حاصله أن إرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى ونفى الصحة من الطائفة الثانية خلاف الظاهر لا يصار إليه مع عدم نصب قرينة عليه وقد أخذ هذا الجواب من التقريرات (قال) بعد ما ذكر الطائفة الثانية في ذيل صحة السلب كما أشرنا ما لفظه وبما ذكرنا يظهر اندفاع ما أورد على الاحتجاج بان هذه التركيب ظاهرة في نفى الكمال والصفات اما بدعوى الوضع الثانوي وأما بملاحظة النظائر والاستقراء في أخوات هذا التركيب (إلى أن قال)
87

ووجه الاندفاع حكم العرف بظهور التركيب في نفى الحقيقة فلا يصغى إلى دعوى الوضع الثانوي ولا إلى ملاحظة النظائر فان بعد تسليم أن الحكم في النظائر كما زعمه لا وجه لتعديه إلى ما ليس نظيرا له بحكم العرف فان المجاز مع القرينة لا يوجب رفع اليد عن أصالة الحقيقة عند عدمها وبعد ظهور التركيب في نفى الذات عرفا يصير دليلا على الصحيح (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.
(قوله واستعمال هذا التركيب في نفى الصفة ممكن المنع حتى في مثل لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد... إلخ) هذا جواب ثاني عن خصوص الطائفة الثانية قد تفرد به المصنف ولم يذكره صاحب التقريرات (وحاصله) أنه يمكن منع استعمال هذا التركيب في نفى الصفة رأسا حتى في مثل لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد ووجه المنع دعوى استعماله في نفى الحقيقة والماهية في مثله أيضا بنحو من الادعاء على التقريب المتقدم في علائم الحقيقة والمجاز لكلام السكاكي من تنزيل المعنى المجازي منزلة المعنى الحقيقي أو لا ثم يستعمل اللفظ فيه فلا يكون استعمالا للفظ في غير ما وضع له كي يكون تجوزا في الكلمة كما زعم المشهور بل استعمالا له في المعنى الحقيقي الموضوع له غايته أنه ادعاء ففي المقام ينزل صلاة جار المسجد المأتية بها في غير المسجد منزلة العدم الحقيقي أو لا مبالغة في نقصها ثم يستعمل كلمة (لا) في نفى ماهيتها وحقيقتها فلا تجوز في الكلمة أصلا.
(قوله فافهم... إلخ) (قال) المصنف في تعليقته على الكتاب لدى التعليق على قوله فافهم ما لفظه إشارة إلى أن الأخبار المثبتة للآثار وان كانت ظاهرة في ذلك لمكان أصالة الحقيقة ولازم ذلك كون الموضوع له للأسماء هو الصحيح ضرورة اختصاص تلك الآثار به الا أنه لا يثبت بأصالتها كما
88

لا يخفى لإجرائها العقلاء في إثبات المراد لا في أنه على نحو الحقيقة أو المجاز فتأمل جيدا (انتهى) ومحصله أن كلمة فافهم إشارة إلى ضعف الاستدلال بالطائفة الأولى وهي الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات نظرا إلى أن مرجع ذلك إلى الأخذ بلازم أصالة الظهور حيث يقال انها ظاهرة في إثبات الخواص للمسميات ونحن نعلم من الخارج ان الخواص ليست هي الا للصحيح فلازم ذلك أن يكون المسمى والصحيح شيئا واحدا وأن يكون اللفظ موضوعا للصحيح دون الأعم وهو لا يخلو عن مناقشة بل منع فان الثابت من العقلاء هو الأخذ بظاهر الكلام والعمل بأصالة الحقيقة في تشخيص المراد وفهم مقصود المتكلم لا الأخذ بما هو لازم الظهور من كون اللفظ موضوعا لكذا ومجازا في غيره.
(قوله رابعها دعوى القطع بأن طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة كما هو قضية الحكمة الداعية إليه... إلخ) وقد جعله في التقريرات أول الوجوه الثمانية بل جعله المعتمد من بين ساير الوجوه (قال) ما لفظه هداية في ذكر احتجاج القول بالصحيح وهو من وجوه أحدها وهو المعتمد قضاء الوجدان الخالي عن شوائب الريب بذلك فانا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبع أوضاع المركبات العرفية والعادية واستقرائها وفرضنا أنفسنا واضعين اللفظ لمعين مخترع مركب نجد من أنفسنا في مقام الوضع عدم التخطي عن الوضع لما هو المركب التام فإنه هو الذي يقتضيه حكمة الوضع وهي مساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا (إلى أن قال) وأما استعماله في الناقص فلا نجده الا مسامحة تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود فان الحاجة ماسة إلى التعبير عن المراتب الناقصة أيضا (إلى أن قال) فان قلت إن ما ذكر على تقدير التسليم لا يقضى بان يكون وضع الشارع لتلك الأسماء مطابقا لما تجده
89

من نفسك في أوضاعك قلت أما المنع المستفاد من أول الكلام يعنى به ما أشار به المستشكل بقوله على تقدير التسليم فدفعه موكول إلى الرجوع إلى الوجدان وأما ما ذكره أخيرا يعنى به قوله لا يقضى... إلخ فهو مدفوع انا نقطع بان الشارع لم يسلك في إرضاعه على تقدير ثبوته مسلكا آخر غير ما هو المعهود من أنفسنا في أوضاعنا (انتهى) موضع الحاجة من كلامه.
(قوله ولا يخفى أن هذه الدعوى وإن كانت غير بعيدة الا انها قابلة للمنع... إلخ) ويعنى بهذه الدعوى دعوى القطع بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة كما هو قضية الحكمة الداعية إليه... إلخ) (قوله فتأمل... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف قوله الا انها قابلة للمنع فان المصنف إذا راجع وجدانه بعد ما تتبع أوضاع المركبات العرفية والعادية واستقرأها وفرض نفسه واضع اللفظ لمعنى مخترع مركب يجد من نفسه في مقام الوضع عدم التخطي عن الوضع لما هو المركب التام كما ذكر صاحب التقريرات وعليه فلا يبقى وجه لقوله الا انها قابلة للمنع.
في أدلة الأعمي
(قوله وقد استدل للأعمي أيضا بوجوه... إلخ) قد ذكر في التقريرات للأعميين وجوها عشرة بل ذكر اثني عشر وجها فان الوجه الأول مركب من وجوه ثلاثة التبادر وعدم صحة السلب عن الفاسدة وصحة التقسيم إليها وإلى الصحيحة (قال) هداية في ذكر احتجاج القائلين بالأعم وهو وجوه أحدها دعوى وجود الأمارات الدالة على الوضع للأعم من التبادر وعدم صحة السلب عن الفاسدة وصحة التقسيم إليها وإلى الصحيحة الظاهرة في أن لفظ
90

حقيقة فيه (انتهى) وقد انتخب المصنف من بين تلك الوجوه وجوها خمسة وهي عمدتها وأقواها.
(قوله منها تبادر الأعم... إلخ) وقد أورد عليه المصنف بما حاصله أن تبادر الأعم من ألفاظ العبادات فرع تصوير القدر الجامع الموضوع له اللفظ المسمى بلفظ كذا وقد عرفت الإشكال في تصويره فكيف يتبادر الأعم وأي شيء يتبادر منها.
(أقول) مضافا إلى أنه لو سلم تصوير القدر الجامع له فقد عرفت أن المتبادر هو الصحيح التام لا الأعم من الصحيح والفاسد.
(قوله ومنها عدم صحة السلب عن الفاسد... إلخ) وقد أورد عليه المصنف بالمنع عنه نظرا إلى ما عرفت في أدلة الصحيحي من صحة السلب عن الفاسد بالمداقة وإن صح الإطلاق عليه بالعناية.
(قوله ومنها صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم... إلخ) وقد أورد عليها المصنف بما حاصله أن صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم في مثل قولك الصلاة اما صحيحة واما فاسدة وان كانت تشهد على أن الصلاة للأعم والا لم يصح تقسيمها إليهما ولكن ذلك فيما إذا لم يكن هناك أدلة قاطعة على الصحيح وقد عرفت وجودها فمع تلك الأدلة لا سيما صحة السلب عن الفاسدة بالمداقة لا بد وأن تكون لفظة الصلاة في التقسيم مستعملة في الأعم عناية لا حقيقة.
(قوله ومنها استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الأخبار في الفاسدة كقوله عليه الصلاة والسلام بنى الإسلام على الخمس... إلخ) (قال) في التقريرات الثالث يعنى من الوجوه التي احتج بها الأعميون إطلاق لفظ الصلاة وغيرها من العبادات في جملة من الأخبار على الأعم كقوله عليه السلام بنى الإسلام على الخمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد بشيء كما
91

نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة فان قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع ظاهر في الأربعة المتقدمة ولا شك أن عبادة هؤلاء فاسدة فلا بد أن يراد منها الأعم من الصحيحة والفاسدة إذ لو كان المراد. هو الصحيحة لم يكن التارك للولاية آخذا بالأربع (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.
(قوله وقوله عليه السلام دعى الصلاة أيام أقرائك ضرورة أنه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها... إلخ) وقد ذكر في التقريرات هذا الحديث الثاني مع تقريب الاستدلال به بعد الجواب عن الحديث الأول (قال) ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال بقوله عليه السلام دعى
الصلاة أيام أقرائك فإنه لا بد وأن يكون المراد بها الفاسدة إذ لو كان المراد بها الصحيحة لزم الأمر بترك ما لا يقدر عليه المكلف لعدم تمكنه من الصلاة المشروطة بالطهارة التي يمتنع حصولها بأقسامها في زمان حصول نقيضها وهو الحيض (انتهى) موضع الحاجة من كلامه.
(قوله وفيه ان الاستعمال أعم من الحقيقة... إلخ) هذا جواب عن كلا الحديثين أن الأول والثاني جميعا (وحاصله) ان غاية ما في الباب هو استعمال اللفظ في الحديثين الشريفين في الفاسدة والاستعمال أعم من الحقيقة ولا يكون علامة لها على ما تقدم منا في تعارض الأحوال خلافا لما نسب إلى السيد رحمه الله من كون الاستعمال علامة للحقيقة وقد أخذ المصنف هذا الجواب من التقريرات (قال) بعد ما ذكر الحديث الأول ما لفظه والجواب ان هذا مجرد استعمال ولا دليل فيه على المطلوب إذ لا وجه لإنكار الاستعمال في الأعم كما أنه لا نفع لإثباته (ثم ساق) الكلام إلى أن ذكر الحديث الثاني وصار بصدد الجواب
92

عنه فقال وتوضيح الجواب ان الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز (انتهى).
(قوله مع أن المراد في الرواية الأولى هو خصوص الصحيح بقرينة انها مما بنى عليها الإسلام... إلخ) هذا جواب ثاني عن الحديث الأول (وحاصله) ان المراد في قوله عليه السلام في صدر الحديث بنى الإسلام على الخمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية... إلخ هو خصوص الصحيح بقرينة انها مما بنى عليها الإسلام ولا ينافي ذلك قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع من جهة بطلان عبادات منكري الولاية (ووجه) عدم المنافاة أن من المحتمل أن يكون المراد من المأخوذ هي العبادات الصحيحة ولكن الأخذ بها زعمي تخيلي فإنهم زعموا انهم قد أخذوا بها ولم يأخذوا بها ما لم يعترفوا بالولاية فالمأخوذ لم يستعمل في الفاسد بل الأخذ قد استعمل في الأخذ الزعمي التخيلي.
(أقول) بل ويمكن أن يقال أن الأخذ أيضا قد استعمل في معناه الحقيقي لا في الأخذ الزعمي التخيلي غير أنه أسند الأخذ بما له من المعنى الحقيقي إلى هؤلاء المخالفين عناية فالتجوز يكون في الإسناد لا في الكلمة (وهكذا) الأمر في قوله عليه السلام فلو أن أحدا صام نهاره... إلخ فيكون المراد من الصوم هو الصحيح ولكن التلبس به زعمي تخيلي فهو زعم أنه صام ولم يصم والتجوز هاهنا ليس الا في الإسناد (ثم) ان صاحب التقريرات قد أجاب عن الحديث الشريف بعد ما ذكر الجواب الأول من كون الاستعمال أعم من الحقيقة بما هذا لفظه قال مع أن المستعمل فيه في الفقرة الأولى يعنى بها قوله عليه السلام بنى الإسلام على الخمس... إلخ لا بد وان يكون هو الصحيح إذ الإسلام غير مبنى على الفاسد قطعا واما الفقرة الثانية يعنى بها قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع... إلخ فالمراد من الأخذ بالأربع إن كان هو الاعتقاد بقرينة الولاية فلا دلالة فيها على مطلب الخصم فان إطلاق الأربع على ما اعتقدوه صلاة وزكاة وصوما
93

وحجا إطلاق على ما هو الصحيح منها باعتقادهم وإن كان غير مطابق للواقع (انتهى) ومحصله أن المراد من قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع أي فأخذ الناس بما اعتقدوه صلاة وزكاة وصوما وحجا فالإمام عليه السلام قد أطلق اللفظ على الصحيح الاعتقادي (والفرق) بين هذا وجواب المصنف ان الاعتقاد والتخيل على جواب المصنف كان في الأخذ وعلى جواب التقريرات يكون في المأخوذ (وعلى كل حال) يرد على جواب التقريرات ان إطلاق اللفظ على الصحيح الاعتقادي مما لا يوجب أن يكون إطلاقا حقيقيا إذ لم يستعمل اللفظ في الصحيح الواقعي وانما استعمل في الصحيح الاعتقادي وهو فاسد واقعا ومدعى الخصم هو عين ذلك أي الاستعمال في الفاسد فالجواب هو ما أجاب به المصنف من كون التجوز في الأخذ اما في الكلمة كما هو ظاهر المصنف واما في الإسناد كما احتملنا نحن وليس المراد من المأخوذ الا الصحيح فقط دون الفاسد.
(قوله أو للمشابهة وللمشاكلة... إلخ) الظاهر أنه راجع إلى خصوص قوله عليه السلام فلو ان أحدا صام نهاره... إلخ فيكون فيه احتمالان:
(الأول) أن يكون الاستعمال فيه بحسب اعتقادهم أي زعم أنه صام ولم يصم.
(الثاني) أن يكون الاستعمال فيه في الفاسد للمشابهة والمشاكلة ويحتمل أن يكون راجعا إلى كل من قوله عليه السلام فأخذ الناس بأربع وقوله عليه السلام فلو ان أحدا صام نهاره... إلخ ففي كلا الموضعين يكون الاحتمالان جاريين (وعلى كل حال) مرجع ذلك إلى جواب ثالث عن الحديث الأول.
(فالجواب الأول) ان الاستعمال أعم من الحقيقة.
(والجواب الثاني) ان اللفظ قد استعمل في الصحيح ولكن الأخذ أو
94

التلبس اعتقادي زعمي.
(والجواب الثالث) ان اللفظ قد استعمل في الفاسد عناية للمشابهة والمشاكلة.
(قوله وفي الرواية الثانية النهي للإرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة... إلخ) هذا جواب ثاني عن الحديث الثاني وحاصله ان النهي في قوله صلى الله عليه وآله دعى الصلاة أيام أقرائك إرشاد إلى عدم القدرة على الصلاة في تلك الأيام ولا يعتبر في النهي الإرشادي القدرة على المتعلق وليس نهيا مولويا كما زعم المستدل قد تعلق بالفاسد منها لأجل عدم القدرة على الصحيح منها والا لزم أن يكون مطلق ما سمى في العرف بالصلاة ولو مع الإخلال بما لا يضر بالتسمية محرما شرعا على الحائض وهو مما لا يظن أن يلتزم به المستدل فان المحرم على الحائض على القول بالحرمة الذاتية كما يظهر من بعض الروايات مثل قوله عليه السلام إذا كانت المرأة طامثا فلا تحل لها الصلاة هي الصلاة التي لو لم يكن الحيض لكانت صحيحة تامة لا مطلق ما سمى في العرف بالصلاة ولو كانت فاسدة مع قطع النظر عن الحيض (ثم) ان المصنف قد أخذ هذا الجواب من التقريرات (قال) أعلى الله مقامه بعد ما ذكر الحديث الثاني وذكر الجواب الأول عنه من كون الاستعمال أعما من الحقيقة ما لفظه مع احتمال ان يقال ان المستعمل فيه في الرواية هو خصوص الصحيحة ويكون النهي إرشادا إلى عدم وقوع العبادة المعهودة في أيام الحيض (انتهى).
(أقول) ويمكن أن يكون النهي مولويا قد تعلق بالصحيح منها دون الفاسد كما زعم المستدل ولكن تعلق بالصحيح لو لا النهي بمعنى أن الصلاة التي كانت صحيحة مع قطع النظر عن النهي وقبل تعلقه بها هي التي تعلق بها النهي وحرمت على الحائض ذاتا ومن المعلوم ان الصحيح كذلك أمر مقدور
95

لها حتى بعد النهي فيحرم عليها ذلك شرعا وعليه فلم يستعمل اللفظ في الفاسد أصلا بل قد استعمل في الصحيح التام كما لا يخفى.
(قوله ومنها أنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث بفعلها... إلخ) هذا الدليل مركب من مقدمتين.
(إحداهما) أنه لا ريب في صحة تعلق النذر أو الحلف بترك الصلاة في مكان تكره فيه كالحمام ونحوه.
(ثانيتهما) أنه لا ريب في حصول الحنث بفعلها في ذلك المكان بعد النذر أو الحلف وبهاتين المقدمتين يستنتج الخصم مطلوبه ومدعاه فيقول ان الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيح وكان النذر أو الحلف قد تعلق بترك الصحيح لم يحصل الحنث بفعل الصلاة في ذلك المكان المكروه لأنها بعد تعلق النذر أو الحلف بتركها فيه تحرم فتفسد وبالصلاة الفاسدة لا يكاد يحصل الحنث لأنه خلاف ما تعلق النذر بتركه مع أن حصول الحنث به أمر مسلم قطعي لا ريب فيه.
(قوله بل يلزم المحال فان النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها ولا تكاد تكون معه صحيحة وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال... إلخ) وتوضيح اللزوم أنه بناء على تعلق النذر بترك الصحيح يلزم من فرض الصحيح تحقق النذر ومن تحقق النذر عدم الصحة فيلزم من فرض الصحة عدم الصحة وهو محال (هذا) ويظهر من التقريرات تقريب لزوم المحال بنحو آخر بل يظهر منه أن هذا هو أصل الدليل الذي استدل به الأعمي وان ما ذكره المصنف من لزوم عدم الحنث على الصحيح شيء قد اقترحه من قبل نفسه (وحاصل) التقريب أن من تعلق النذر بالصحيح يلزم الحرمة ومن الحرمة الفساد ومن
96

الفساد عدم تعلق النذر به وهو محال.
(قوله قلت لا يخفى أنه لو صح ذلك لا يقتضى الا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعا... إلخ) هذا جواب عن كل من لزوم عدم الحنث ولزوم المحال جميعا أي لو صح ما تقدم في وجه لزوم عدم الحنث ولزوم المحال لاقتضى ذلك أن لا يصح تعلق النذر أو الحلف بالصحيح لا عدم كون الألفاظ موضوعة للصحيح وهذا واضح.
(قوله مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقة فلا يلزم من فرض وجودها عدمها... إلخ) هذا جواب عن خصوص لزوم المحال وهو جواب متين (ومحصله) أن النذر قد تعلق بالصحيح لو لا النذر ومن المعلوم أن الفساد الناشئ من قبل النذر لا ينافي الصحيح لو لا النذر بل يجتمعان في شيء واحد وفي حال واحد فلا يلزم من فرض وجود الصحيح عدم الصحيح فان الصحيح الذي تعلق به النذر باق حتى بعد النذر (ومنه) يظهر الجواب على تقريب التقريرات أيضا فان من تعلق النذر بالصحيح يلزم الحرمة ومن الحرمة الفساد ومن الفساد لا يلزم عدم تعلق النذر به فان الفساد الناشئ من قبل النذر لا ينافي الصحيح الذي تعلق به النذر فتأمل جيدا.
(قوله ومن هنا انقدح ان حصول الحنث انما يكون لأجل الصحة لو لا تعلقه... إلخ) هذا جواب عن خصوص عدم الحنث على الصحيح أي ومما ذكرنا في جواب لزوم المحال ينقدح الجواب عن ذلك أيضا فان النذر قد تعلق بالصحيح لو لا النذر أي بصلاة لو لا تعلق النذر بتركها في ذلك المكان المكروه لكانت صحيحة والصحيح الكذائي أمر ميسور حتى بعد النذر لما عرفت من اجتماعه مع الفساد الناشئ من قبل النذر في شيء واحد وفي حال واحد فيحصل به الحنث.
97

(قوله نعم لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان... إلخ) أي نعم لو فرض تعلق النذر بترك الصلاة المطلوبة بعد النذر حين الإتيان بها لم يمكن الحنث حينئذ إذ كلما أتى به بعد النذر فهو فاسد من جهة النذر الا أن صحة مثل هذا النذر لا تخلو عن إشكال بل منع إذ لا صلاة مطلوبة بعد النذر حين الإتيان بها كي ينعقد أصل النذر فان تحقق النذر بترك شيء هو فرع إمكان ذلك الشيء وقد أشار المصنف إلى ذلك في تعليقته على الكتاب (فقال) قدس سره لدى التعليق على قوله المطلوبة بالفعل ما لفظه أي ولو مع النذر ولكن صحته كذلك مشكل لعدم كون الصلاة معه صحيحة مطلوبة فتأمل جيدا (انتهى).
في أمور متعلقة بالصحيح والأعم
(قوله بقي أمور الأول أن أسامي المعاملات إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم... إلخ) قد عرفت منا في أول الوضع أن أسامي المعاملات ليست هي موضوعة للأسباب فان الأسباب كالعقد أو الإيقاع أو الفعل الخارجي في المعاطاة هي مما ينشأ به مفاهيم المعاملات كالبيع والصلح والهبة والوقف والنكاح والطلاق ونحو ذلك فلو كانت ألفاظ هذه المفاهيم أسامي للأسباب لزم اتحاد المنشأ بالفتح وما ينشأ به وهو غير معقول بل عرفت منا هناك انها ليست أسامي للمسببات أيضا بل هي أسامي للأفعال التوليدية التي تتولد من الأسباب الخاصة فالبيع مثلا ليس اسما للعقد المخصوص فإنه مما ينشأ به البيع ولا اسما للملكية أي الإضافة الخاصة الحاصلة بين المشتري والبائع فإنه أثر للبيع بل هو اسم للتمليك أي إدخال المبيع في
98

ملك المشتري بوسيلة العقد المخصوص وهو الإيجاب والقبول وهكذا ساير أسامي المعاملات (نعم) لا فرق في المقام بين أن تكون المعاملات هي أسامي للمسببات أو للأفعال التوليدية من حيث عدم جريان نزاع الصحيحي والأعمي فيها فان كلا منهما أمر بسيط يتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى وليس أمرا مركبا من اجزاء وشرائط كالأسباب قابلة للاتصاف بالصحة والتمامية تارة وبالفساد والنقصان أخرى كي يجري فيه النزاع (وعليه) فجريان نزاع الصحيحي والأعمي في ألفاظ المعاملات طرا متوقف على كونها موضوعة للأسباب لا للمسببات ولا للأفعال التوليدية فتأمل جيدا.
(قوله واما إن كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا... إلخ) وحاصل دعوى المصنف في ألفاظ المعاملات بناء على كونها للأسباب انها موضوعة للصحيح التام أي للعقد المؤثر لأثره الخاص واختلاف الشرع والعرف في مثل عقد الصبي أو الربوي أو نحوهما يكون اختلافا في
المصاديق فالشرع لا يراه عقدا مؤثرا لأثره الخاص والعرف يراه عقدا مؤثرا له (وبعبارة أخرى) ان الشرع والعرف متفقان في الكبرى وان الموضوع له للفظ البيع مثلا هو العقد المؤثر لأثر كذا ولكنهما يختلفان في الصغرى فبعض المصاديق لا يراه الشرع عقدا مؤثرا فلا يراه بيعا والعرف يراه عقدا مؤثرا فيراه بيعا (وفيه) أن مرجع اختلاف الشرع والعرف ليس إلى الاختلاف في الصغرى أيضا فان الشرع لا ينكر كون مثل عقد الصبي أو الربوي ونحوهما بيعا وانما ينكر صحته وتأثيره في اثره الخاص (ولعله) إليه أشار أخيرا بقوله فافهم (والصحيح) أن يقال ان ألفاظ المعاملات بناء على كونها للأسباب حيث أن معانيها أمور عرفية فهي موضوعة للصحيح التام عند العرف أي للعقد المؤثر لأثره الخاص في نظرهم
99

كالعقد المركب من الإيجاب والقبول والموالاة مثلا لا للصحيح التام الواقعي والعقد المؤثر في نفس الأمر فالشرع لا يخطأ العرف لا في الكبرى ولا في الصغرى أي لا ينكر كون البيع موضوعا لتلك الأمور الثلاثة ولا في كون مثل عقد الصبي أو الربوي ونحوهما بيعا عرفا بمقتضى وضعه لتلك الأمور الثلاثة وانما يخطئهم في زعمهم أن مثل عقد الصبي أو الربوي المركب من تلك الأمور الثلاثة صحيحا تاما مؤثرا في النقل والانتقال وهذا واضح.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشرنا آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله الثاني ان كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب إجمالها كألفاظ العبادات كي لا يصح التمسك بإطلاقها... إلخ) وفيه مسامحة واضحة فان ألفاظ المعاملات بناء على كونها للأسباب وكونها موضوعة للصحيح التام أي العقد المؤثر لأثره الخاص كما زعم المصنف لا للصحيح التام عند العرف أي العقد المؤثر لأثره الخاص في نظرهم إذا شك في اعتبار شيء في الأسباب بنحو الشبهة الحكمية كان الشك قهرا في مؤثرية العقد بدونه فتكون الشبهة مفهومية والخطاب مجملا قطعا نظير ما تقدم في ألفاظ العبادات عينا فلا يصح التمسك بالإطلاق (ودعوى) أن إطلاق كلام الشارع لو كان مسوقا في مقام البيان ينزل على ان المؤثر عنده هو المؤثر عند أهل العرف انما تجدي إذا قلنا بوضع اللفظ للمؤثر عند العرف فإذا كان المؤثر عند العرف أمرا محرزا وشك في اعتبار شيء في تأثيره شرعا كان الشك في أمر خارج عن المسمى فيجوز التمسك حينئذ بالإطلاق واما إذا قلنا بوضع اللفظ للصحيح التام الواقعي أي العقد المؤثر لأثره الخاص في نفس الأمر كما زعم المصنف وشك في اعتبار شيء في السبب كان الشك قهرا في أصل المسمى فلا يمكن التمسك حينئذ بالإطلاق فتدبر جيدا.
100

(بقي شيء) وهو أنه إذا قلنا بكون ألفاظ المعاملات للمسببات لا للأسباب ولكن للمسببات العرفية أي ما يراه العرف متحققا بأسباب مخصوصة كما هو الحق والصواب على هذا القول لا ما يراه الشرع متحققا بها ثم شك في اعتبار شيء في تأثير السبب شرعا كالعربية ونحوها فيمكن التمسك حينئذ بإطلاق مثل أحل الله البيع لرفع اعتباره فان المسمى حينئذ محرز محقق والشك واقع في أمر خارج عن المسمى والبيع مطلق يشمل كلا من البيع الحاصل بالعقد العربي والبيع الحاصل بالعقد الفارسي فيرتفع إذا بالإطلاق تعين خصوص البيع الحاصل من العقد العربي ولكن الشأن في إثبات كون مثل أحل الله البيع في مقام البيان كي يصح التمسك بإطلاقه (ثم) ان مثل ذلك كله يجري فيما إذا قلنا بكون ألفاظ المعاملات للأفعال المتولدة في نظر العرف من الأسباب الخاصة لا لنفس الأسباب ولا للمسببات فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة
(قوله لأصالة عدم الأثر بدونه... إلخ) أي لاستصحاب عدم حصول الأثر بدون ما شك في اعتباره في السبب وهذا هو معنى أصالة الفساد في المعاملات بعد اليأس عن الإطلاق ولكن سيأتي منا في بحث دلالة النهي على الفساد في الأمر السابع ما يضعف هذا الأصل نظرا إلى وجود أصل سببي مقدم عليه وهو أصل البراءة الجارية عما شك في اعتباره في السبب شرعا.
(قوله الثالث إن دخل شيء وجودي أو عدمي في المأمور به... إلخ) وحاصله أن دخل شيء في المأمور به يكون على أنحاء (فتارة) يكون الشيء مما يتركب منه ومن غيره المأمور به وهذا هو المسمى بالجزء سواء كان وجوديا كالقراءة والركوع والسجود وغير ذلك في الصلاة أو عدميا كالتروك المخصوصة في الصوم (وأخرى) يكون الشيء مما لا يحصل الخصوصية المأخوذة في المأمور به الا به كالطهارة والستر والقبلة وغير ذلك في الصلاة بحيث كان نفس القيد
101

خارجا عن المأمور به والتقيد أي الخصوصية الحاصلة من القيد داخلا في المأمور به وهذا هو المسمى بالشرط ويقال له المقدمة أيضا سواء كان مقارنا مع المأمور به كالأمور المذكورة أو سابقا عليه أو لاحقا به كالأغسال الليلية للمستحاضة لصومها الآتي أو الماضي على الخلاف بين القائلين باشتراطها فيه (وثالثة) يكون الشيء دخيلا في تشخص المأمور به وامتيازه عما عداه من دون أن يكون دخيلا في حقيقة المأمور به وماهيته وهذا كمستحبات الصلاة فيما كان ذلك الشيء سببا لحصول مزية في المأمور به كالاستعاذة قبل البسملة أو كمكروهاتها فيما كان ذلك الشيء سببا لمنقصة فيه كقراءة القرآن في الركوع سواء كان دخل كل منهما بنحو الجزئية كما في المثالين أو بنحو الشرطية كالصلاة في المسجد أو في الحمام.
(قوله بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه... إلخ) ولا يخفى أن ذلك لا يكون الا فيما كان دخله في تشخص المأمور به بنحو الجزئية كالاستعاذة قبل البسملة وقراءة القرآن في الركوع فإنهما مع كونهما مما له دخل في التشخص لا في أصل الماهية مما يصدق عليهما عنوان الصلاة ولو في ضمن صدقه على المجموع ولا يكون ذلك في مطلق ما كان له دخل في تشخص المأمور به ولو بنحو الشرطية كالمكان الخاص الموجب لمزية المأمور به كالمسجد أو لانحطاطه كالحمام.
(قوله فيكون الإخلال مما له دخل بأحد النحوين... إلخ) يعنى الأولين وهما دخل الجزء ودخل الشرط.
(قوله ثم أنه ربما يكون الشيء مما يندب إليه فيه... إلخ) وحاصله أنه قد يكون الشيء مطلوبا في أثناء المأمور به من دون أن يكون دخيلا في المأمور به لا في أصل ماهيته بنحو الجزئية أو الشرطية ولا في تشخصه
102

وامتيازه بل المأمور به مما له دخل في مطلوبيته بحيث لا يكون ذلك الشيء مطلوبا الا فيه ويحتمل أن يكون ذلك كالقنوت في الصلاة أو المضمضة في الوضوء والفرق
بينه وبين الأمور المستحبة في الصلاة ان الأمور المستحبة فيها مطلوبة غيريا لأجل الصلاة وهذا مطلوب نفسي في حد ذاته ولو في خصوص ما إذا وقع في أثناء الصلاة.
(قوله إذا عرفت هذا كله فلا شبهة... إلخ) المقصود من قوله هذا بل من هذا الأمر الثالث بطوله هو إبطال القول الثالث في المسألة الذي قد أشرنا إليه في صدر البحث وهو التفصيل بين الأجزاء والشرائط بان يلتزم بالصحيح في الأجزاء ويلتزم بالأعم في الشرائط بمعنى ان الأجزاء دخيلة في التسمية فمهما اختل بعضها اختل المسمى وان الشرائط غير دخيلة فيها فإذا اختل بعضها أو كلها لم يخل ذلك بالتسمية (وحاصل) إبطال المصنف له انك قد عرفت فيما تقدم ان الصحيح هو اعتبار كل من الجزء والشرط في التسمية والظاهر ان غرضه من ذلك هو الإشارة إلى أمرين مما تقدم.
(الأول) ان الجامع الذي لا بد من تصويره قد استكشفناه من ناحية الآثار كالنهي عن الفحشاء وغيره ومن المعلوم انها مترتبة على الصحيح التام جزءا وشرطا لا على الصحيح في الجملة أي من حيث الجزء فقط دون الشرط.
(الثاني) أن الأدلة التي أقمناها على الصحيح من التبادر وصحة السلب عن الفاسد والأخبار المثبتة لبعض الآثار للمسميات والنافية للطبيعة بفقد جزء أو شرط وهكذا دعوى استقرار طريقة الواضعين على الوضع للمركبات التامة كلها مما تساعد الوضع للصحيح التام جزءا وشرطا لا للصحيح في الجملة.
103

في الاشتراك اللفظي
(قوله الحادي عشر الحق وقوع الاشتراك للنقل... إلخ) ويعنى بالاشتراك الاشتراك اللفظي ويعنى بالنقل تنصيص أهل اللغة وقد أخذ هذا الاستدلال من صاحب الفصول (قال) رحمه الله ما لفظه فصل الحق كما عليه المحققون إمكان الاشتراك ووقوعه في اللغة (إلى أن قال) لنا على إمكانه عدم ما يقتضى وجوبه وامتناعه وعلى وقوعه في اللغة نص اللغويين عليه في ألفاظ كثيرة كالقرء في الطهر والحيض والعين في الجارية والجارحة وعسعس في أقبل وأدبر والظاهر ان نقلهم إذا سلم عن المعارض كان حجة اتفاقا (انتهى) (أقول) والمصنف لم يذكر في علائم الحقيقة والمجاز تنصيص أهل اللغة كما ذكر التبادر وعدم صحة السلب وغيرهما وعليه فتشبثه بالنقل في المقام مع عدم ذكره له هناك في العلائم مما لا يخلو عن مسامحة وعلى كل حال قد أشرنا هناك وسيأتي مفصلا ان قول اللغوي بخصوصه مما لا دليل على اعتباره الا إذا أوجب الوثوق والاطمئنان فتشمله أدلة اعتبارهما والظاهر ان قول اللغوي في المقام مفيد للوثوق والاطمئنان بل للعلم فضلا عن الوثوق والاطمئنان فان وقوع الاشتراك في اللغة سيما لغة العرب من الواضحات التي لا ينبغي النزاع فيها ولكن مع ذلك قد أحاله بعضهم كما أوجبه آخر على ما ستأتي الإشارة إليهما على طرفي الإفراط والتفريط.
(قوله والتبادر... إلخ) فيتبادر من لفظ القرء مثلا كل من الطهر والحيض وان علم إجمالا ان المراد منه أحدهما لا كليهما بناء على عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى كما سيأتي ذلك في البحث الآتي.
104

(قوله وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين أو أكثر... إلخ) فمن عدم صحة سلب لفظ القرء مثلا عن كل من الطهر والحيض يعرف أنه حقيقة في كل منهما والا لصح سلبه عنهما
(قوله وان أحاله بعض لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن... إلخ) (قال) في الفصول في صدر البحث ما لفظه ومنهم من أحاله يعنى الاشتراك (ثم ساق) الكلام إلى أن قال احتج من أحال الاشتراك بأنه يخل بالتفهيم المقصود من الوضع لخفاء القرائن (انتهى).
(قوله لمنع الإخلال أو لا لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا لتعلق الغرض بالإجمال أحيانا... إلخ) الظاهر ان العبارة ناقصة والصحيح هكذا ولكنه فاسد لمنع الإخلال أو لا إلى آخره (وعلى كل حال) قد أجاب المصنف عن دليل إحالة الاشتراك بأمرين منع الإخلال بالتفهم ومنع كون الإخلال مخلا بالحكمة وقد أخذ الجوابين من صاحب الفصول (قال) رحمه الله بعد نقل حجة من أحاله بعبارته المتقدمة ما لفظه وجوابه أن البيان ممكن بمعونة القرائن الواضحة مع أن القصد قد يتعلق بالبيان الإجمالي لحكمة داعية إليه (انتهى).
(قوله كما أن استعمال المشترك في القرآن ليس بمحال كما توهم... إلخ) المتوهم هو بعض من اعترف بوقوع الاشتراك في اللغة (قال) في الفصول ثم من القائلين بوقوعه في اللغة من منع وقوعه في القرآن.
(قوله لأجل لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن والإجمال في المقال لو لا الاتكال عليها وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى جل شأنه... إلخ) هذا دليل من أحال وقوع الاشتراك في خصوص القرآن المجيد (قال) في الفصول حجة من منع وقوعه في القرآن أنه لو كان مبينا لزم
105

التطويل بلا فائدة لإمكان الأداء بغيره بدونه والا لزم عدم الإفادة وشئ منهما لا يليق بكلامه تعالى (انتهى) ومحصله أنه إذا وقع اللفظ المشترك في القرآن المجيد فان بينه سبحانه وتعالى بقرينة معينة لزم التطويل بلا طائل لإمكان أداء المعنى بغير اللفظ المشترك من دون حاجة إلى البيان والتعيين وأن لم يبينه بل ترك اللفظ المشترك على حاله لزم الإجمال وكلاهما مما لا يليق به جل وعلا.
(قوله وذلك لعدم لزوم التطويل فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتى به لغرض آخر... إلخ) هذا جواب عن دليل من أحال وقوع الاشتراك في القرآن المجيد (وحاصله) أن تعين المعنى المقصود من اللفظ المشترك قد يكون بقرينة حالية فلا تطويل أو بقرينة لفظية لم تكن متمحضة لمجرد بيان المعنى المقصود كي يلزم التطويل بلا طائل بل أتى بها لتفهيم معنى خاص ويعرف بها ضمنا المعنى المقصود من اللفظ المشترك وقد أخذ المصنف هذا الجواب من صاحب الفصول (قال) رحمه الله
والجواب أن المقام ربما يعين المعنى المقصود من غير حاجة إلى قرينة لفظية فلا يلزم التطويل مع أن القرينة اللفظية ربما تكون مقصودة في الخطاب لنفسها كما في قوله تعالى وفجرنا الأرض عيونا فلا يلزم التطويل بلا فائدة.
(قوله ومنع كون الإجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض... إلخ) هذا جواب ثاني عن دليل من أحال وقوع الاشتراك في القرآن المجيد وقد أخذه من صاحب الفصول أيضا (قال) رحمه الله ما لفظه مضافا إلى أن المشترك لا يخلو من دلالة إجمالية والغرض قد يتعلق بها (هذا) وقد أضاف الفصول إلى الجوابين المذكورين جوابا ثالثا لم يؤشر إليه المصنف (قال) بعد الجواب الأول ما لفظه على أن اللفظ المشترك قد يكون أفصح من غيره وأوفق بالقافية ونحو ذلك فيترجح من جهته (بل) وأضاف إلى
106

الأجوبة المذكورة جوابا رابعا أيضا محصله أن ثبوت الاشتراك في لفظ القرء أو العين أو عسعس الذي نص اللغويون على اشتراكه كما تقدم في صدر البحث مما يفضي بوقوع الاشتراك في القرآن المجيد بعد وضوح كون هذه الألفاظ فيه
(قوله وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات لأجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ المركبات فلا بد من الاشتراك فيها... إلخ) هذا في قبال من أحال الاشتراك في اللغات كما تقدم (قال) في الفصول في صدر البحث ومنهم من أوجب وقوعه يعنى وقوع الاشتراك (إلى أن قال) حجة من أوجب وقوع الاشتراك أمر ان الأول أن المعاني غير متناهية والألفاظ متناهية لتركبها من حروف متناهية فإذا وزعت الألفاظ على المعاني بقي ما زاد على عدد الألفاظ مجردا عن لفظ يكون بإزائها وحينئذ فاما أن لا تكون تلك الألفاظ وضعت ثانيا بإزائها فيلزم الإخلال بالمصلحة التي تضمنها الوضع أو وضعت فيلزم الاشتراك ثم ذكر الأمر الثاني وهو ضعيف جدا والظاهر ان لضعفه لم يؤشر إليه المصنف أصلا فلا يؤشر إليه.
(قوله وهو فاسد... إلخ) هذا رد على توهم وجوب الاشتراك في اللغات بزعم عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ وقد أفاد المصنف في وجه الفساد وجوها أربعة.
(الأول) ما حاصله أن المعاني وإن كانت غير متناهية ولكن وضع الألفاظ بإزاء كل فرد منها كما زعم المستدل مما يستدعى أوضاعا غير متناهية وهي ممتنعة عقلا لاستحالة صدور ما لا يتناهى من المتناهي وقد أشار المصنف إلى هذا الوجه بقوله لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني لاستدعائه الأوضاع الغير المتناهية.
(الثاني) ما حاصله أنه لو سلم عدم امتناع الأوضاع الغير المتناهية بان
107

فرض الواضع واجب الوجود مثلا فلا فائدة في الأوضاع الغير المتناهية الا في مقدار متناه مما نحتاج إليه ولم يعلم أن القدر المتناهي من الأوضاع يلجئنا إلى الاشتراك في اللفظ وقد أشار المصنف إلى هذا الوجه بقوله ولو سلم لم يكد يجدى الا في مقدار متناه.
(الثالث) ما حاصله المنع عن كون المعاني غير متناهية فان المعاني الكلية متناهية وإن كانت جزئياتها غير متناهية والظاهر ان وضع الألفاظ بإزاء المعاني الكلية مما يغنى عن الوضع بإزاء جزئياتها وخصوصياتها وقد أشار المصنف إلى هذا الوجه بقوله مضافا إلى تناهي المعاني الكلية وجزئياتها وإن كانت غير متناهية الا أن وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغنى عن وضع لفظ بإزائها كما لا يخفى.
(الرابع) أن المجاز باب واسع فلا حاجة إلى وضع الألفاظ بإزاء تمام المعاني بل يوضع اللفظ بإزاء جملة منها ويستعمل اللفظ في البقية مجازا فلا ملزم للوضع بإزاء الجميع كي نضطر إلى الاشتراك في اللفظ لأجل تناهي الألفاظ وعدم تناهي المعاني وقد أشار المصنف إلى هذا الوجه بقوله مع أن المجاز باب واسع (ثم ان المصنف) قد أخذ هذه الوجوه الأربعة بتمامها من صاحب الفصول (قال) بعد ذكر حجة من أوجب الاشتراك ما لفظه والجواب اما عن الأول يعنى عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ فبان المعاني وإن كانت غير متناهية لكن وضع الألفاظ بإزاء آحادها يوجب أوضاعا غير متناهية وهي على تقدير صحة صدورها من الواضع لا فائدة الا في مقدار متناه منها لامتناع تعقل أمور غير متناهية أو استعمال الألفاظ بحسب أوضاع غير متناهية فيلغو الوضع فيما زاد عليه سلمنا لكن المعاني انما لا تكون متناهية بجزئياتها واما بالنظر إلى كلياتها العالية أو ما قاربها فهي متناهية والظاهر ان الوضع بإزائها
108

مغن غالبا عن الوضع بإزاء الخصوصيات والجزئيات لحصول المقصود بتركيب بعضها ببعض سيما مع انفتاح باب المجاز فلا يلزم تناول الوضع لجميع الألفاظ فضلا عن وقوع الاشتراك فيها (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف الوجه الأخير من الوجوه الأربعة المتقدمة فان المجاز وان كان بابا واسعا فيوضع اللفظ بإزاء جملة من المعاني ويستعمل اللفظ في البقية مجازا ولكن المجاز أيضا مما يحتاج إلى الوضع اللغوي كالحقيقة عينا ولو نوعيا لا شخصيا فان صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له وإن كان بالطبع كما تقدم في الأمر الثالث لا بالوضع ولكن المجاز مما يحتاج جدا إلى الوضع النوعي وإلى رعاية إحدى العلائق المعهودة كما تقدم غير مرة فتذكر.
في استعمال اللفظ في أكثر من معنى
(قوله الثاني عشر انه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى على سبيل الانفراد والاستقلال... إلخ) المقصود من قوله على سبيل الانفراد والاستقلال هو الإشارة إلى أن محل النزاع هو استعمال اللفظ في معنيين أو أكثر على أن يكون كل منهما معنى مستقلا على حده كما إذا لم يستعمل الا فيه لا ما إذا استعمل في معنيين أو أكثر على أن يكون كل منهما جزء المعنى كما في ألفاظ المركبات فان لفظ الإنسان مثلا وان جاز استعماله في مجموع الرأس واليدين والبطن والرجلين إلى غير ذلك من الأجزاء ولكن كل منها يكون جزء المعنى الموضوع له وهو المجموع المركب منها ومن النفس الناطقة لا معنى مستقلا برأسه.
109

(قوله على أقوال... إلخ) عمدة الأقوال هي ثلاثة:
(الأول) ما اختاره المصنف وهو الامتناع العقلي وقد اضطرب كلماته الشريفة في إفادة ذلك وابتلي بالإطالة على خلاف ديدنه وعادته (فقال) ما ملخصه إن حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ وجها للمعنى ولا يمكن جعل اللفظ وجها الا لمعنى واحد وذلك لأن لحاظ اللفظ وجها في إرادة معنى ينافي لحاظه وجها في إرادة معنى آخر ووجه المنافاة ان لحاظ اللفظ وجها لمعنى لا يكون الا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه اللفظ ومع لحاظ المعنى فانيا فيه اللفظ كيف يمكن إرادة معنى آخر فانيا فيه اللفظ في استعمال واحد مع استلزامه الجمع بين اللحاظين في حال واحد.
(أقول) ومرجع هذا الاستدلال بطوله واضطرابه إلى استحالة الجمع بين اللحاظين في حال واحد وهو كما ترى مما لا استحالة فيه إذ لا استحالة عقلا في لحاظ معنيين متعددين فانيا فيهما اللفظ في حال واحد ولا في لحاظ اللفظ وجها لمعنيين وفانيا في الاثنين في حال واحد (ودعوى) أن ذلك لا يمكن الا إذا كان اللاحظ أحول العينين كما في المتن (ليست) الا من العجز عن إثبات المدعى (والأولى) في مقام إثبات الامتناع العقلي أن يقال ان استعمال اللفظ في معنيين أو أكثر وجعله وجها لهما وفانيا فيهما يكون على قسمين (فتارة) يجعل اللفظ وجها لمجموع المعنيين أو أكثر نظير ألفاظ المركبات التي هي وجه لمجموع المعاني المتعددة والأمور المختلفة المنضمة بعضها إلى بعض المجتمعة بعضها مع بعض وهذا القسم من الاستعمال في الأكثر جائز عقلا (وأخرى) يجعل اللفظ بتمامه وجها لتمام المعنى كما إذا لم يستعمل الا فيه وفي عين جعله كذلك يجعل أيضا وجها بتمامه لتمام المعنى الآخر في استعمال واحد وهذا القسم من الاستعمال في الأكثر ممتنع عقلا فان اللفظ بعد ما جعل بتمامه وجها
110

المعنى لا يبقى هناك شيء يجعل بتمامه وجها لتمام المعنى الآخر (وان شئت قلت) ان اللفظ بعد ما جعل بتمامه قالبا لتمام معنى كما إذا لم يستعمل الا فيه فلا يبقى اللفظ فارغا كي يجعل قالبا بتمامه لتمام معنى آخر وهذا واضح.
(وبالجملة) استعمال اللفظ في معنيين أو أكثر على سبيل الانضمام والاجتماع أمر معقول وعلى سبيل الانفراد والاستقلال وهو القسم الثاني من الاستعمال في الأكثر غير معقول ولعل مراد مدعى الجواز في المسألة بل مدعى الوقوع في الخارج كثيرا والتمثيل له بأبيات عربية كما يحكى ذلك عن بعض الأدباء هو جواز الاستعمال بنحو القسم الأول المعقول لا بنحو القسم الثاني الغير المعقول فيرجع النزاع حينئذ لفظيا.
(القول الثاني) ما اختاره المحقق القمي من عدم الجواز لا حقيقة ولا مجازا اما عدم الجواز حقيقة فلكون الوضع في حال وحدة المعنى فيجب مراعاة الوحدة واما عدم الجواز مجازا فلان الاستعمال توقيفي ولم تثبت الرخصة في الاستعمال كذلك ولو مجازا والفرق بين هذا القول وقول المصنف ان المصنف قد أنكر الجواز عقلا والمحقق القمي لا ينكر ذلك وانما أنكر صحته لغة فقوله والاستعمال في الأكثر لا يجوز أي لا يصح لا بنحو الحقيقة ولا بنحو المجاز (القول الثالث) ما اختاره صاحب المعالم من التفصيل فيجوز في التثنية والجمع حقيقة وفي المفرد مجازا اما الجواز في التثنية والجمع حقيقة فلأنهما بمنزلة تكرير اللفظ فكما أنه إذا قال جئني بعين وعين جاز له أن يريد من كل عين معنى غير ما اراده من الآخر فكذلك إذا قال جئني بعينين الذي هو بمنزلة تكرير اللفظ ودعوى ان التثنية والجمع ظاهر ان في الفردين أو الأفراد من معنى واحد لا في المعنيين أو المعاني المستقلة مما لا وجه له لما يلزمها من التكلف الشديد في تثنية الأعلام وجمعها إذ ليس في الأعلام معنى كلي ذو أفراد كي يمكن
111

دعوى ظهور التثنية والجمع فيها في الفردين أو الأفراد من ذلك المعنى الكلي بل لا بد فيها من أن يقال إن مثل جاءني زيدان أو زيدون قد استعملت لفظة زيد في المسمى بلفظة زيد والمسمى معنى كلي ذو أفراد فيكون التثنية ظاهرة في الفردين منه والجمع في الأفراد منه وهذا مع كونه تكلفا شديدا تأويل بعيد واما الجواز في المفرد بنحو المجاز لا بنحو الحقيقة فلان اللفظ قد وضع للمعنى بقيد الوحدة فإذا استعمل في الأكثر فقد ألغيت الوحدة واستعمل في جزء ما وضع له فيكون مجازا بعلاقة الكل والجزء كما سيأتي التصريح به في المتن.
(قوله ومعه كيف يمكن... إلخ) أي ومع لحاظ المعنى فانيا فيه اللفظ فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون كيف يمكن لحاظ معنى آخر معه كذلك أي فانيا فيه اللفظ مع استلزامه الجمع بين اللحاظين في حال واحد.
(قوله ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه... إلخ) أي ولو لا امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى عقلا كما بينا فلا وجه لعدم الجواز كما ادعاه صاحب المعالم في الجملة أي في خصوص المفرد بنحو الحقيقة وان جوز فيه مجازا وفي التثنية والجمع حقيقة وادعاه المحقق القمي مطلقا أي في كل من المفرد والتثنية والجمع جميعا لا حقيقة ولا مجازا وذلك لأن الوحدة ليست قيدا للموضوع له كما زعم صاحب المعالم كي يستلزم التجوز في المفرد وكون الوضع في حال وحدة المعنى مما لا يقتضى عدم الجواز بنحو الحقيقة كما زعم المحقق القمي بعد أن لم تكن الوحدة قيدا للوضع ولا للموضوع له بقي الجواب عما ادعاه المحقق القمي من عدم الجواز حتى مجازا نظرا إلى توقيفية الاستعمال وجوابه هو المنع عن توقيفية الاستعمال بعد ما عرفت في الأمر الثالث من ان المعيار في صحة الاستعمال في غير ما وضع له هو استحسان الطبع له فان استحسنه صح وان لم يرخص فيه الواضع نعم لا يكون الاستعمال حينئذ مجازا
112

فان المجاز مما يحتاج إلى الوضع النوعي ورعاية إحدى العلائق المعهودة كما تقدم غير مرة
(قوله وكون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيته لا يقتضى عدم الجواز... إلخ) كان الا نسب بما تقدم من المحقق القمي أن يقول وكون الوضع في حال وحدة المعنى والاستعمال توقيفيا لا يقتضى عدم الجواز... إلخ فان الذي استدل به المحقق المذكور لعدم الجواز مجازا هو توقيفية الاستعمال لا توقيفية الوضع (وعلى كل حال) هذه العبارة رد على دليلي المحقق القمي جميعا فلا كون الوضع في حال وحدة المعنى يكون دليلا على عدم الجواز حقيقة ولا كون الاستعمال توقيفيا يكون دليلا على عدم صحة الاستعمال رأسا وإن كان ذلك دليلا على عدم الجواز مجازا لما أشير من احتياج المجاز إلى الوضع النوعي ورعاية إحدى العلائق المعهودة.
(قوله ثم لو تنزلنا عن ذلك فلا وجه للتفصيل... إلخ) أي ثم لو تنزلنا عما أجبنا به عن المحقق القمي بقولنا وكون الوضع في حال وحدة المعنى... إلخ والتزمنا
بمقالته من عدم الجواز مطلقا لا في التثنية والجمع ولا في المفرد لا حقيقة ولا مجازا فلا وجه لتفصيل صاحب المعالم بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع وعلى نحو المجاز في المفرد مستدلا بما تقدم منا شرحه من كون التثنية والجمع بمنزلة تكرير اللفظ فكما جاز عند تكريره أن يراد من كل لفظ معنى غير ما أريد من الآخر فكذلك عند ما هو بمنزلة تكرير اللفظ ومن كون المفرد موضوعا للمعنى بقيد الوحدة فإذا استعملت في الأكثر فقد ألغيت الوحدة واستعمل في جزء ما وضع له فيكون مجازا بعلاقة الكل والجزء (والسر) في نفى التفصيل عدم كون الألفاظ موضوعة إلا بإزاء معانيها بما هي هي لا مع قيد الوحدة وإلا لما جاز الاستعمال في الأكثر فان الأكثر ليس
113

جزء الموضوع له بل هو أمر يباينه مباينة الشيء بشرط شيء وهو الأكثر والشيء بشرط لا وهو المعنى بقيد الوحدة وأما التثنية والجمع فهما وإن كانا بمنزلة تكرير اللفظ كما أفاد المعالم ولكن الظاهر أن المراد منهما فردان أو الأفراد من معنى واحد لا معنيان مختلفان أو معاني مختلفة وأما في الأعلام كما في جاءني زيدان أو زيدون فيلتزم بالتأويل على النحو المتقدم شرحه في صدر البحث بلا تكلف ومشقة (مضافا) إلى أنه لو قلنا بكفاية الاتحاد اللفظي في استعمال التثنية والجمع في معنيين مختلفين أو في معاني مختلفة بنحو الحقيقة كما ادعى المعالم بان أريد من لفظة عينين مثلا عين جارية وعين باكية فليس هذا من استعمال اللفظ في أكثر من معنى بل هو استعمال للفظ في معنى واحد لأن التثنية قد وضعت هيئتها للاثنين نعم إذا استعملت في اثنين اثنين كان ذلك استعمالا لها في الأكثر إلا أن ما استدل به المعالم من حديث التكرار مما لا يجدى لصيرورته حقيقة فان التكرار مجوز لإرادة معنيين مختلفين في قبال إرادة فردين من معنى واحد لا إرادة اثنين اثنين فان فيها إلغاء للوحدة لأن التثنية عنده موضوعة للاثنين بقيد الوحدة كالمفرد بعينه غايته أن المفرد للطبيعة بقيد الوحدة والتثنية للاثنين من الطبيعة بقيد الوحدة فإذا الغيث الوحدة واستعملت التثنية في اثنين اثنين كان ذلك مجازا قهرا وبالجملة إن ما ادعاه المعالم من جواز استعمال التثنية مثلا في معنيين مختلفين بنحو الحقيقة ليس هو من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وما هو من استعمال اللفظ في أكثر من معنى كاستعمال التثنية في اثنين اثنين ليس دليل المعالم مجديا لصيرورته حقيقة فتأمل جيدا.
(قوله وهم ودفع لعلك تتوهم أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد... إلخ) وحاصل التوهم أنه قد يتخيل أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة
114

أو سبعين مما تنافي ما تقدم منا من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى عقلا لأنها تدل على وقوعه فضلا عن جوازه وحاصل الدفع أن تلك الاخبار لا دلالة لها على إرادة البطون من نفس اللفظ كي تنافي ما تقدم منا بل لعل البطون قد أريدت في أنفسها في حال الاستعمال لا من اللفظ أو كان المراد من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ.
(أقول) لو كانت إرادة البطون في أنفسها في حال الاستعمال أمرا معقولا ممكنا فلم قد أريدت في حال استعمال اللفظ بل كانت تراد في حد ذاتها قبل استعمال اللفظ أو بعده مضافا إلى أن البطون ما لم تكن مرادة من نفس اللفظ لم يصدق عليها انها بطونه وأما احتمال كون المراد من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ فهو خلاف الظاهر (وعليه) فالجواب الصحيح أن يقال أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين وان كانت هي ظاهرة في استعمال اللفظ في أكثر من معنى ولكنها لم تدل على استعماله فيه على سبيل الانفراد والاستقلال الذي هو محل البحث والنزاع ولعله قد استعمل في المجموع على سبيل الانضمام والاجتماع نظير استعمال المركب في المجموع الذي لا نزاع ولا بحث في جوازه أو استعمل في القدر المجامع بين المعاني العديدة ولا يعرف الجامع الا الله والراسخون في العلم.
(وبالجملة) في إرادة البطون من القرآن المجيد احتمالان أحدهما أن يكون من قبيل استعمال اللفظ في المجموع نظير استعمال ألفاظ المركبات في مجموع الأجزاء فيكون كل بطن جزءا للمعنى لا معنى مستقلا برأسه وثانيهما أن يكون من قبيل استعمال اللفظ في القدر الجامع بين الجميع نظير استعمال المشتركات المعنوية في الجوامع بين المعاني العديدة فيكون كل بطن فردا للمعنى ومصداقا له لا معنى مستقلا برأسه فتأمل جيدا.
115

في المشتق وبيان المراد منه
(قوله الثالث عشر انه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال... إلخ) لا خلاف في كون المشتق حقيقة في المتلبس بالمبدأ في الحال كما لا خلاف في كونه مجازا فيما لم يتلبس به بعد وانما الخلاف فيما تلبس به وانقضى عنه المبدأ في الحال فان قلنا بوضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال فيكون مجازا فيه وان قلنا بوضعه للأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ أي لما تلبس مطلقا سواء كان تلبسه باقيا أو زائلا فيكون حقيقة فيه وهذان القولان مشهوران في المسألة على ما صرح به المحقق القمي وفيها تفاصيل أخر عديدة ستأتي الإشارة إلى جملة منها إن شاء الله تعالى قبيل الشروع في أدلة المختار وهو القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال.
(قوله أحدها أن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات... إلخ) وذلك لما سيأتي في الأمر الثالث من خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع لكونها غير جارية على الذوات واما المصادر المجردة فهي خارجة بنفسها موضوعا إذ ليست هي مشتقة كي يحتاج إخراجها إلى تصريح وتنصيص وانما هي مبدأ الاشتقاق كما لا يخفى.
(قوله بل خصوص ما يجري منها على الذوات مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدأ واتحادها معه نحو اتحاد بنحو الحلول أو
116

الانتزاع أو الصدور أو الإيجاد... إلخ) فان المشتقات التي تجري وتحمل على الذات يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدأ بل بملاحظة اتحادها مع المبدأ نحو اتحاد سواء كان بنحو الحلول كما في العالم أو بنحو الانتزاع كما في السابق أو بنحو الصدور كما في الضارب أو بنحو الإيجاد كما في المتكلم هكذا مثلوا.
(قوله مع عدم صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض الا التمثيل به وهو غير صالح كما هو واضح فلا وجه لما زعمه بعض الأجلة... إلخ) المراد من بعض الأجلة هو صاحب الفصول وقد زعم اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة لتمثيلهم به (قال) فيما أفاده في المقام لا خفاء في أن المشتق المبحوث عنه هنا لا يعم الأفعال والمصادر المزيدة فان عدم مساعدة النزاع المحرر على ذلك واضح جلي وحينئذ فهل المراد به ما يعم بقية المشتقات من اسمي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وما بمعناها وأسماء الزمان والمكان والآلة وصيغ المبالغة كما يدل عليه إطلاق عناوين كثير منهم كالحاجبي وغيره أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل عليه تمثيلهم به (إلى أن قال) وجهان أظهرهما الثاني (انتهى).
(قوله وما يلحق بها... إلخ) أي وما يلحق بالصفات المشبهة كالمنسوبات نحو بغدادي أو كوفي وغيرهما.
(قوله ولعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى مما اتفق عليه الكل... إلخ) هذا منشأ ثاني لتوهم الفصول اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه غير ما ذكره من تمثيلهم به وتوضيحه أنه (قال) في الفصول فيما أفاده في المقام ما هذا لفظه ثم أعلم أنهم أرادوا بالمشتق الذي تشاجروا على دلالته في المقام اسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها
117

على ما سنحققه ولا بأس بالتنبيه على مدلول بواقي المشتقات فشرع في بيان معنى فعل الماضي ثم فعل المستقبل ثم اسم المفعول (فقال) إنه حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال إلى أن شرع في بيان معنى اسم الزمان (فقال) أنه حقيقة في الزمن الذي وجد فيه المبدأ في الحال والماضي ومجاز في غيره (إلى أن قال) ان اسم المكان أيضا كذلك كاسم الزمان (إلى أن قال) في اسم الآلة إنه حقيقة فيما أعد للآلية أو اختص بها سواء حصل به المبدأ أو لم يحصل (ثم قال) في صيغ المبالغة انها حقيقة في الذات التي كثر اتصافها بالمبدأ أو (إلى أن قال) ولا يعتبر الاتصاف حال النطق (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه (فيقول) المصنف ولعل منشأ توهم الفصول اختصاص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه أن ما ذكره من المعنى لبواقي المشتقات مثل كون اسم المفعول حقيقة في الذات التي وقع عليها المبدأ في الحال أو كون اسم الزمان حقيقة في الزمن الذي وجد فيه المبدأ في الحال والماضي إلى غير ذلك من المعاني هو مما اتفق عليه الكل فينحصر النزاع قهرا باسم الفاعل وما بمعناه ولم يتفطن أن ما ذكره من المعنى لبواقي المشتقات غير اسم الفاعل وما بمعناه ليس مما اتفق عليه الكل بل هو أيضا محل الخلاف كاسم الفاعل وما بمعناه وعليه فلا يختص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذات دون بعض فتفطن.
(قوله واختلاف أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة حسب ما يشير إليه لا يوجب تفاوتا... إلخ) إشارة إلى ما صح أن يكون منشأ ثالثا لتوهم اختصاص النزاع ببعض المشتقات دون بعض وان لم يتوهمه صاحب الفصول رحمه الله وتوضيحه أنه (قال) في الفصول في جملة ما أفاده في المقام ما هذا لفظه وأعلم أنه قد يطلق المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته كما يقال هذا الدواء
118

نافع أو مضر وشجرة كذا مثمرة والنار محرقة إلى غير ذلك وقد يطلق ويراد به المتصف وبملكة المبتدأ أو باتخاذه حرفة وصناعة كالكاتب والصائغ والتاجر والشاعر ونحو ذلك ويعتبر في المقامين حصول الشأنية والملكة والاتخاذ حرفة في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره انتهى (فيقول) المصنف ان اختلاف أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية كما في القائم والضارب ونحوهما أو الشأنية والصناعة والملكة حسب ما يشير إليه الفصول مما لا يوجب تفاوتا في المهم المبحوث عنه بحيث يتوهم عدم جريان النزاع في مثل ما كان الاتصاف بالشأنية أو الصناعة أو الملكة تزعم صدق المشتق فيه بدون التلبس بالمبدأ في الحال غفلة عن أن التلبس فيه مما يعتبر بشأنية المبدأ أو بصناعته أو بملكته لا بنفس المبدأ بذاته.
(قوله ثم أنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات... إلخ) وحاصله أن المراد من المشتق في محل النزاع هو مطلق ما كان مفهومه جاريا على الذات ومحمولا عليها بملاحظة اتصافها بعرض كالسواد والبياض ونحوهما من الاعراض المتأصلة التي لها حظ من الوجود ولو في ضمن المعروض أو بعرضي كالفوقية والتحتية والزوجية ونحو ذلك من الأمور الانتزاعية المحضة التي لاحظ لها من الوجود الا لمنشأ انتزاعها من غير فرق في هذا كله بين أن كان الجاري على الذات اسما مشتقا أو اسما جامدا (وعليه) فالنسبة بين عنوان البحث وبين ما هو المهم المبحوث عنه عموم من وجه فقد يكون المشتق ولا يكون من المهم المبحوث عنه كالأفعال والمصادر المزيدة فيها على ما أشير آنفا وقد يكون المهم المبحوث عنه ولا يكون من المشتق كالأسامي الجامدة الجارية على الذات بملاحظة اتصافها بعرضي كالزوج والزوجة والرق والحر وقد يكون مشتقا ومن المهم المبحوث عنه كأغلب المشتقات من اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ونحو ذلك
119

(ثم ان) ها هنا أمران لا بأس بالتنبيه عليهما.
(أحدهما) أن المراد من العرض والعرضي باصطلاح أهل المعقول هو غير ما أراده المصنف في المقام فان العرض باصطلاح أهل المعقول هو المبدأ والعرضي هو المشتق والمصنف قد أراد من العرض الاعراض المتأصلة ومن العرضي الأمور الانتزاعية الاعتبارية ولا مشاحة في الاصطلاح.
(ثانيهما) ما ستأتي الإشارة إليه من المصنف من أن الأسامي الجامدة الجارية على الذات بملاحظة اتصافها بذاتي من ذاتياتها كالإنسان المنتزع عن الذات بملاحظة اتصافها بالإنسانية والحجر المنتزع عنها بملاحظة اتصافها بالحجرية ونحو ذلك ليست هي من محل النزاع قطعا إذ لا نزاع في أن الذات إذا لم تبق بذاتياتها لم تصدق عليها العنوان المنتزع عنها بملاحظة اتصافها بالذاتي فان الإنسان مما لا يصدق على الذات التي لم تبق إنسانيتها والحجر مما لا يصدق على الذات التي لم تبق حجريتها وهكذا.
(قوله كما يشهد به ما عن الإيضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة... إلخ) والشاهد هو ما ذكره في المتن من قوله في مقام تعليل تحريم المرضعة الآخرة لأن هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه (انتهى) فان إطلاق المشتق على مثل الزوج أو الزوجة مما يشهد بدخوله في محل النزاع وإن كان اسما جامدا.
(قوله تحرم المرضعة الأولى والصغيرة... إلخ) أما المرضعة الأولى فلصيرورتها بالرضاع التام أم الزوجة وأما الصغيرة فلصيرورتها بذلك بنت الزوجة المدخولة بها لما سيأتي من فرض الدخول بها.
(أقول) ولكن في النفس شيء من تحريمهما أي تحريم المرضعة
120

والصغيرة نظرا إلى أن حدوث عنوان أم الزوجة للمرضعة الأولى مع زوال عنوان الزوجية عن الصغيرة وتبدله إلى عنوان بنت الزوجة يكون في رتبة واحدة كما أن حدوث عنوان بنت الزوجة للصغيرة وزوال عنوان الزوجية عن المرضعة الأولى وتبدله إلى عنوان أم الزوجة يكون في رتبة واحدة مع أنه من اللازم أن يكون عنوان السبب ثابتا مستقرا عند حدوث عنوان المسبب وليس بثابت مستقر نعم لا إشكال في حرمتهما بناء على عدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق فيبتني الحكم بحرمتهما على الخلاف في مسألة المشتق كما يبتنى عليه حرمة المرضعة الثانية على ما سيأتي التصريح به في المتن.
(قوله مع الدخول بالكبيرتين... إلخ) الظاهر أن النسخة مغلوطة والصحيح كما في المشتق المذكور في فوائد المصنف هكذا مع الدخول بإحدى الكبيرتين... إلخ فان الدخول بإحداهما مما يكفى في حرمة الصغيرة وفي صيرورتها بنت الزوجة المدخولة بها كما لا يخفى (بل قد يقال) إن الدخول بإحداهما أيضا لا يعتبر إذا كان الرضاع بلبن الزوج كما إذا حملت الكبيرة وولدت من دون دخول بها بان حملت من مائه بالمساحقة فإذا ارتضعت الزوجة الصغيرة منها صارت بنتا المزوج ولا يشترط في حرمة البنت الدخول بالأم لكن في صيرورتها اللبن لبن الزوج بمجرد نشؤه من مائه بلا دخول بالزوجة تأمل ولتحقيق المسألة محل آخر (هذا كله) في حرمة الصغيرة حرمتها الأبدية وأما حرمتها فعلا بمعنى بطلان زوجيتها فهي تحصل بمجرد الرضاع الكامل من إحدى الكبيرتين ولو لم تكن الكبيرة مدخولة بها ولا اللبن لبن زوجها الفعلي نظرا إلى صيرورتها بنت الزوجة ولا يمكن الجمع بين الأم والبنت شرعا فتحرم الأم أي الكبيرة مؤبدا وتحرم البنت أي الصغيرة موقتا بمعنى انفساخ عقدها فإذا وقع عليها عقد جديد حلت ثانيا والله العالم.
121

(قوله وما عن المسالك في هذه المسألة... إلخ) عطف على ما عن الإيضاح في باب الرضاع.
في إشكال عدم جريان النزاع في اسم الزمان وجوابه
(قوله ثانيها قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان... إلخ) ووجه الإشكال أن في اسم الزمان ليس للذات المتلبس فردان فرد متلبس في الحال وفرد تلبس بها وانقضى عنه المبدأ لأن الذات فيه وهي الزمان مما ينقضي بانقضاء نفس المبدأ وعليه فكيف يجري النزاع في كون اسم الزمان حقيقة في خصوص المتلبس في الحال أو في الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ مع عدم وجود ما انقضى عنه في الخارج.
(قوله ويمكن حل الإشكال... إلخ) وتوضيح الحل أن مرجع دعوى من يقول بوضع المشتق للأعم أن الواضع في وضع المشتقات لم يلحظ خصوص المتلبس في الحال بل لاحظ الذات التي قد تلبست بالمبدأ وصدر عنها ذلك من غير لحاظ بقاء التلبس فيها وهي معنى كلي عام له فردان في ساير المشتقات وهما الذات المتلبس في الحال والذات التي تلبست وانقضى عنها المبدأ وفي اسم الزمان له فرد واحد وهو الزمان الذي قد وقع فيه المبدأ وليس فيه زمان وقع فيه المبدأ وانقضى عنه ومن المعلوم أن الوضع لمعنى كلي عام مما لا ينافي انحصاره خارجا بفرد واحد كما في لفظ الجلالة على غير المشهور حيث
122

وضع كسائر أسامي الأجناس لمعنى كلي عام غايته أنه ينحصر في الخارج بفرد واحد وهو (الله) جل وعلا فكما أن في لفظ الجلالة يمكن دعوى الوضع لمعنى عام مع حصره في الخارج بفرد واحد فكذلك في المقام يمكن دعوى وضع اسم الزمان لمعنى كلي عام وهو الزمان الذي وقع فيه المبدأ مع حصره في الخارج بفرد واحد.
(قوله مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى... إلخ) هذا دليل آخر لإمكان الوضع لمعنى كلي عام مع انحصاره في الخارج بفرد واحد (وحاصله) أن لفظ الواجب مما لا خلاف في كونه موضوعا لمعنى كلي عام مع كونه منحصرا فيه تعالى فهو ليس كلفظ الجلالة محل خلاف بين الأعلام من حيث كونه علما كما نسب إلى المشهور أو موضوعا لمعنى كلي عام وانحصر في الخارج بفرد واحد كما نسب إلى غير المشهور (وفيه) أن المقصود من الواجب ان كان لفظ الواجب وحده فهذا مما لا ينحصر خارجا بوجوده تعالى بل يصدق على كل أمر واجب وان كان المقصود منه الواجب بانضمام لفظ الوجود إليه فهذا وان كان ينحصر خارجا بوجوده تعالى ولكن ليس مجموعه لفظا واحدا قد وضع لمعنى كلي عام ينحصر في الخارج بفرد واحد بل الانحصار قد نشأ من التقييد والتوصيف وضم لفظ إلى لفظ كما لا يخفى.
في خروج الأفعال والمصادر المزيدة فيها عن حريم النزاع
(قوله ثالثها أنه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزيدة فيها عن
123

حريم النزاع... إلخ) قد سبق منا الإشارة في صدر البحث إلى خروج الأفعال والمصادر المزيدة فيها عن محل النزاع لعدم جريانهما على الذوات بل وسبق هنا الإشارة إلى خروج المصادر المجردة أيضا لعدم كونها من المشتقات وإنما هي مبدأ الاشتقاق كما لا يخفى.
(قوله وان الأفعال إنما تدل على قيام المبادي بها قيام صدور أو حلول... إلخ) الظاهر أن ذكر هذين النحوين من القيام ليس إلا على وجه التمثيل وإلا فقيام المبدأ
بالذات مما لا ينحصر بالصدور أو الحلول كما في ضرب أو علم بل قد يكون بنحو الانتزاع أو بنحو الإيجاد كما في سبق أو تكلم على ما سبق الإشارة إلى أنحاء الاتحاد بين الذات والمبدأ في صدر البحث فتذكر.
(قوله أو طلب فعلها أو تركها... إلخ) فالأول في فعل الأمر والثاني في فعل النهي.
(قوله إزاحة شبهة... إلخ) والشبهة هي ما زعمه النحاة من دلالة الفعل على الزمان حتى أخذ والاقتران به في تعريفه وقالوا الفعل ما دل على بمعنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة (وقد أفاد) المصنف في وجه اشتباههم ما ملخصه أن من الواضح عدم دلالة فعل الأمر ولا النهي الا على إنشاء طلب الفعل أو الترك بل يمكن منع دلالة غير الأمر والنهي أيضا على الزمان من الماضي والمستقبل الا إذا أسند إلى الزمانيات وهي ما وقع في الزمان كما في قولك جاءني زيد أو يجيئني عمرو فيدل عليه حينئذ التزاما لا تضمنا بان كان الزمان جزء مدلول الفعل والا بان قلنا بمقالة النحويين لزم التجريد والتجوز فيما إذا أسند الفعل إلى نفس الزمان أو إلى المجردات كما في مثل مضى الزمان أو علم الله إذ لا معنى لمضي الزمان في الزمان الماضي ولا لاتصافه جل وعلا بالعلم في الزمان الماضي فلا محالة يجب تجريد الفعل عن الزمان واستعماله
124

فيما سوى الزمان فيلزم التجوز وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم دلالة الفعل على الزمان أصلا فلا تجريد ولا تجوز.
(قوله كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما... إلخ) أي كما هو الحال في الاخبار بفعل الماضي كما في ضرب زيد أو بفعل المستقبل كما في يضرب زيد أو بغيرهما من الجملة الاسمية كما في زيد ضارب أو ضارب زيد فيكون الاخبار بجميع هذا كله في الحال كما كان الإنشاء بفعل الأمر أو النهي في الحال.
(قوله الا بالإطلاق والإسناد إلى الزمانيات... إلخ) تعبيره بالإطلاق مما لا يخلو عن مسامحة فان الإطلاق لا يطلق الا على الحمل كما في زيد ضارب فيقال لفظة ضارب قد أطلقت على زيد والحمل ولا يكاد يكون في الفعل فإنه لا يحمل على شيء بل يسند إليه كما في ضرب زيد أو زيد ضرب وعليه فالصحيح كان ان يقتصر على لفظة الإسناد فقط فيقول الا بالإسناد إلى الزمانيات.
(قوله نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية أخرى... إلخ) أي نعم لا يبعد أن يكون لكل من فعل الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية غير ما للآخر تكون هي الموجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي أو في الحال أو الاستقبال وهي التحقق في فعل الماضي والترقب في فعل المضارع (وعليه) فدعوى دلالة فعل الماضي أو المضارع بنفسهما على الزمان الماضي أو على الحال أو الاستقبال بالتضمن كما يستفاد ذلك من قول النحاة على نحو كان الزمان جزءا للموضوع له (مما لا وجه له) وان كانا يدلان على الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال بالالتزام من حيث أن لمعناهما خصوصية ينطبق في أحدهما على الزمان الماضي وفي الآخر
125

على الزمان الحال أو الاستقبال فيما إذا أسندا إلى الزمانيات.
(قوله ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا... إلخ) أي ويؤيد ما ذكرناه من أن لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية... إلخ أن المضارع مشترك معنوي بين الحال والاستقبال (ووجه) التأييد أنه لا معنى لاشتراكه معنويا بينهما الا أن يكون للمضارع معنى قد صح انطباقه على كل منهما لا أنه موضوع لزمان جامع بينهما إذ لا زمان يجمع بينهما (والظاهر) أن وجه عدم جعل ذلك دليلا برأسه أنه لم يعلم أن اشتراك المضارع معنويا بين الحال والاستقبال أمر متسالم عليه بين النحاة كي يستدل به ولعل في المسألة من يدعى الاشتراك اللفظي كما حكى ذلك عن بعضهم بان وضع المضارع للحال تارة وللاستقبال أخرى ولكن مع ذلك كله حيث يكون الاشتراك المعنوي أمرا مشهورا بين النحاة فهو مما لا يخلو عن تأييد.
(قوله كما أن الجملة الاسمية كزيد ضارب يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة... إلخ) ومن هنا صح أن يقال زيد ضارب أمس زيد ضارب الآن زيد ضارب غدا ولم يصح أن يقال ضرب زيد غدا أو يضرب زيد أمس وليس ذلك الا لأجل أن الجملة الاسمية لها معنى قد صح انطباقه على كل من الماضي والحال والاستقبال وهو تلبس الذات بالمبدأ بخلاف الماضي والمضارع فالماضي لا ينطبق الا على الزمان الماضي والمضارع لا ينطبق الا على الزمان الحال أو الاستقبال.
(قوله فكانت الجملة الفعلية مثلها... إلخ) أي مثل الجملة الاسمية في عدم دلالتها على شيء من الأزمنة الثلاثة.
(قوله وربما يؤيد ذلك... إلخ) أي وربما يؤيد عدم دلالة الماضي على الزمان الماضي ولا المضارع على الزمان الحال أو الاستقبال ما يتفق في
126

الاستعمالات من عدم كون الزمان في فعل الماضي ماضيا حقيقة ولا في فعل المضارع حالا أو مستقبلا كذلك بل يكون بالعكس كما في قولك يجيء زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيام أو جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده بأيام فان الزمان في قولك وقد ضرب قبله بأيام لا يكاد يكون للماضي ولا في قولك وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده بأيام للحال أو الاستقبال بل بالعكس.
(أقول) ويرد عليه أن هذا الإشكال أمر مشترك الورود أي سواء قلنا بدلالة الماضي على الزمان الماضي والمضارع على الزمان الحال أو الاستقبال كما ادعاه النحاة أو قلنا بدلالتهما على معنى قد صح انطباقه في الأول على الزمان الماضي وفي الثاني على الحال أو الاستقبال كما ادعاه المصنف فكما أنه على الثاني لا بد وأن يقال إن المراد من التحقق والترقب فيهما إضافي فكذلك على الأول يقال هذا بعينه ولعل من هنا عبر عن ذلك بالمؤيد ولم يجعله دليلا برأسه الا أن الإنصاف أن ذلك مما لا يصلح حتى للتأبيد.
(قوله ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه... إلخ) بل فيه كمال البأس لما فيه من تضييع العمر وإتلاف الوقت بعد ما تقدم الكلام في
الحروف في ذيل بحث الوضع مفصلا.
(قوله لأجل الاطراد في الاستطراد... إلخ) فذكر الأفعال وبيان عدم دلالتها على الزمان كان على نحو الاستطراد وذكر الحرف بعد الأفعال يكون على نحو الاطراد في الاستطراد.
(قوله ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي... إلخ) قد تقدم منا ان هذا التعبير مما لا يخلو عن مسامحة فان المعنى بمجرد تقيده باللحاظ سواء كان آليا وهو لحاظ المعنى حالة للغير كما في الحروف أو استقلاليا كما في
127

الأسماء لا يصير كليا عقليا وان كان كالكلي العقلي في امتناع الصدق على الخارجيات نظرا إلى تقيده بالأمر الذهني والمقيد بالذهني لا موطن له الا في الذهن.
(قوله وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا... إلخ) عطف على الخلط والاشتباه فلا تشتبه.
(قوله كيف واللازم... إلخ) إشارة إلى الجواب الثاني من الأجوبة المتقدمة عن توهم كون لحاظ المعنى حالة للغير داخلا في الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف وقد أشار إليه هناك بقوله مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات... إلخ فراجع.
(قوله معاني المتعلقات... إلخ) أي متعلقات الحروف كالسير والبصرة والكوفة في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة.
(قوله لتقيدها بما اعتبر فيه القصد... إلخ) أي لتقيد السير والبصرة والكوفة بالابتداء أو الانتهاء المعتبر فيه القصد أي اللحاظ فكما أن المقيد باللحاظ لا موطن له الا في الذهن فكذلك المقيد بما قيد باللحاظ لا موطن له الا في الذهن.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف قوله والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة... إلخ فان الإعادة وان كانت كذلك أي فيها الفائدة والإفادة ولكن لو كانت مقرونة بشواهد ودلائل زائدة على ما تقدم وليست هي في المقام كذلك بل هي لم تستوف جميع ما تقدم هناك فضلا عن اشتمالها على الأمر الزائد (وعليه) فلم تكن الإعادة هنا الا تضييع العمر كما أشرنا آنفا.
128

في الرد على التفصيل بين ما إذا كان الاتصاف أكثريا وعدمه
(قوله رابعها أن اختلاف المشتقات في المبادي وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة... إلخ) وقد أشار إلى ما في هذا الأمر الرابع بقوله المتقدم في الأمر الأول واختلاف أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة حسبما يشير إليه الا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع هاهنا كما لا يخفى... إلخ (وعلى كل حال) المقصود من عقد هذا الأمر هو الرد على تفصيل بعض الأصحاب بين ما إذا كان الاتصاف أكثريا بحيث كان عدم التلبس مضمحلا في جنب التلبس فلا يعتبر فيه التلبس في الحال في صدق المشتق حقيقة كما في النجار والبناء والعالم وبين ما لم يكن الاتصاف أكثريا فيشترط فيه التلبس في الحال في صدق المشتق حقيقة كما في الضارب والقائم والقاعد إلى غير ذلك وقد تعرض لهذا التفصيل المحقق القمي أعلى الله مقامه بل صرح في البدائع أن هذا التفصيل هو للفاضل التوني رحمه الله (وكيف كان) حاصل الرد على التفصيل المذكور ان اختلاف المبادي في المشتقات حيث يكون في بعضها حرفة كما في التاجر والخباز وفي بعضها صناعة كما في الصائغ والبناء وفي بعضها قوة وملكة كما في الكاتب والمجتهد وفي بعضها شأنية وقابلية كما في السيف القاطع والسم القاتل وفي بعضها فعليا كما في القائم والقاعد لا يكاد يوجب اختلاف في المهم المبحوث عنه وهو كون هيئة المشتقات موضوعة للمتلبس في الحال أو للأعم منه وما انقضى عنه
129

المبدأ بتخيل انها فيما سوى الأخير أي في غير ما كان المبدأ فيه فعليا موضوعة للأعم وفي الأخير لخصوص المتلبس في الحال والغفلة عن أن المشتقات في الكل على نمط واحد فان قلنا باعتبار التلبس في الحال ففي الكل نقول بذلك غايته أن التلبس يختلف فقد يكون بحرفة المبدأ وقد يكون بصناعته وقد يكون بقوته وملكته وقد يكون بشأنيته وقابليته وقد يكون بفعليته وإن لم نقل باعتبار التلبس في الحال بل قلنا بالأعم ففي الكل نقول بذلك فالتفصيل مما لا وجه له.
(قوله ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها... إلخ) فان اختلاف المشتقات في المبادي إذا لم يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا كما صرح في المتن لم يوجب قهرا تفاوتا في الجهة المبحوثة عنها.
(قوله فيكون التلبس به فعلا لو أخذ حرفة أو ملكة ولو لم يتلبس به إلى الحال أو انقضى عنه... إلخ) وحاصله أن المبدأ في مثل التاجر أو المجتهد إن أخذ حرفة أو ملكة فيكون التلبس به فعلا ولو لم يتلبس بالتجارة أو الاجتهاد بعد إلى الحال أو تلبس به وانقضى عنه وإن أخذ المبدأ فعليا أي أخذ نفس التجارة أو الاجتهاد فيكون التلبس مما مضى أو يأتي.
في بيان المراد من الحال في عنوان المسألة
(قوله خامسها أن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق... إلخ) ويظهر من المحقق القمي وغيره بل ومن المصنف في بعض النسخ أن المراد بالحال هو حال النسبة وعلى كل حال مقصود المصنف من عقد هذا الأمر الخامس بيان أن المراد من الحال في عنوان المسألة أي في قولهم
130

المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمه وما انقضى عنه ليس هو زمان النطق ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون زيد ضاربا غدا حقيقة بلا كلام مع عدم كون زيد متلبسا في حال النطق فلو كان المراد من الحال في المسألة هو حال النطق كان المثال الأول من محل الخلاف والمثال الثاني مجازا قطعا (بل المراد) من الحال في عنوان المسألة هو حال التلبس والاتصاف بالمبدأ بمعنى أن للذات المتلبسة بالمبدأ حالات متعددة حال تلبسها به وحال انقضاء المبدأ عنها وحال عدم التلبس بها بعد لا إشكال في كون المشتق حقيقة في الذات المتلبسة بالمبدأ حال تلبسها به كما لا إشكال في كونه مجازا فيها حال عدم تلبسها به بعد ويقع النزاع في
حال انقضاء المبدأ عنها فان قلنا بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ حال تلبسه به فهو مجاز فيها وإن قلنا بوضعه للأعم من حال تلبسه وحال انقضائه عنه فهو حقيقة فيها.
(قوله ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز... إلخ) أي ولا ينافي ما قلناه من أن جرى المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس وأن مضى زمانه في أحدهما ولم يأت بعد في آخر كان حقيقة بلا خلاف الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز (ووجه) عدم التنافي أن الظاهر ان الجري فيه ليس بلحاظ حال التلبس كي يكون حاله حال قوله سيكون زيد ضاربا غدا فيكون حقيقة بل الجري فيه يكون في الحال وكلمة الغد تكون لبيان زمان التلبس فيكون الجري فعليا والتلبس استقباليا فيكون مجازا اتفاقا (وفيه) أن الظاهر من قوله زيد ضارب غدا أن الجري فيه هو بلحاظ حال التلبس فيكون حاله كحال قوله سيكون زيد ضاربا غدا لا أن الجري فيه يكون في الحال وكلمة غدا تكون لبيان زمان التلبس وعليه فاللازم في مقام الجواب هو المنع عن الاتفاق على التجوز في المثال المذكور وأنه مما لم يثبت ذلك ولم يحرز لا تسليمه
131

وتعليل التجوز فيه بكون الجري في الحال والتلبس في الاستقبال.
(قوله كما هو قضية الإطلاق... إلخ) الظاهر ان المراد من الإطلاق هو الحمل أي كما أن الجري في الحال هو مقتضى إطلاق الضارب على زيد وحمله عليه فان حمل الشيء على الشيء إطلاقه عليه وأما الغد فهو لبيان زمان التلبس فيكون الجري في الحال بمقتضى الإطلاق ويكون التلبس في الاستقبال بمقتضى كلمة الغد.
(قوله ومن هنا ظهر الحال في مثل زيد ضارب أمس... إلخ) أي ومما ذكرنا في مثل زيد ضارب غدا من أن الجري فيه يكون في الحال وكلمة الغد تكون لبيان زمان التلبس يظهر الحال في مثل زيد ضارب أمس فيكون الجري فيه في الحال والتلبس يكون في الماضي فيدخل هو في محل الخلاف من كون المشتق حقيقة في المتلبس في الحال أو في الأعم منه وما انقضى عنه المبدأ فعلى الأول مجاز وعلى الثاني حقيقة.
(أقول) ولكن قد عرفت منا في زيد ضارب غدا أن الظاهر منه أن الجري فيه هو بلحاظ حال التلبس وان حاله كحال قوله سيكون زيد ضاربا غدا فهكذا الأمر في زيد ضارب أمس فان الظاهر منه أن الجري فيه هو بلحاظ حال التلبس وان حاله كحال قوله كان زيد ضاربا أمس فلا تجوز فيه أبدا ولا هو داخل في محل الخلاف أصلا.
(قوله ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان... إلخ) رجوع إلى أصل المطلب من دعوى ان المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق فاستدل لها أو لا بقوله ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون غدا ضاربا حقيقة... إلخ ثم ذكر لها هذا المؤيد وهو اتفاق أهل العربية... إلخ (وحاصله) أن أهل العربية
132

قد اتفقوا على أن الاسم مما لا يدل على الزمان ومنه المشتقات الجارية على الذوات فلو كان المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق كان النزاع لا محالة في دلالة المشتق على زمان النطق وعدمه ولعل وجه عدم جعل ذلك دليلا برأسه عدم حجية اتفاقهم على فرض ثبوته وإحرازه بحيث أمكن الاعتماد عليه والاستناد إليه ولكن مع ذلك مما لا يخلو عن تأييد.
(قوله ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال... إلخ) أي ولا ينافي اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان اشتراط العمل في مثل اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال لأن مرادهم من ذلك دلالته على الحال أو الاستقبال بمعونة القرينة مجازا لا بنفسه وضعا كيف وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال فلو كان مرادهم من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال دلالته على أحدهما بنفسه وضعا لما اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال.
(قوله لا يقال يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه... إلخ) حاصل الإشكال أنه يمكن أن يكون المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق لا حال التلبس وذلك لأمرين:
(أحدهما) أن الظاهر من لفظ الحال هو زمان الحال لا حال التلبس.
(ثانيهما) وهو العمدة أنه ادعى أن الظاهر من المشتقات هو زمان الحال إما لدعوى الانسباق من الإطلاق أي للتبادر الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال في قبال التبادر الحاقي المستند إلى الوضع وإما بمعونة قرينة الحكمة فان اللافظ لو أراد من المشتق غير زمان الحال لكان عليه البيان وحيث لم يبين فهو المراد (ثم ان) المصنف لم يجب عن الأمر الأول وكأنه غفل عنه في مقام الجواب ووجه كلامه إلى الأمر الثاني فقط (فقال) ما حاصله
133

أنا لا ننكر انسباق زمان الحال من المشتقات إما للإطلاق أو بمعونة القرينة ولكن مقتضى دلالة ذلك على كون المراد من الحال في العنوان هو زمان الحال أن نزاعهم في المسألة قد وقع فيما يراد من المشتق بالقرينة إذ المفروض أن دلالته على زمان الحال ليس بالوضع بل إما للانسباق من الإطلاق أو بمعونة قرينة الحكمة وهذا كما ترى ضعيف بعيد هذا حاصل جواب المصنف عن الأمر الثاني (وأما الجواب) عن الأمر الأول الذي قد غفل عنه فالحق فيه أن يقال إن الظاهر من لفظ الحال في العنوان وان كان هو زمان الحال الا أن هذا الظهور مما لا يقاوم الدليل القطعي الذي أقمناه على كون المراد من الحال في المسألة هو حال التلبس لا حال النطق وهو ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون ضاربا غدا حقيقة بلا كلام فلو كان المراد من الحال في العنوان هو حال النطق كان المثال الأول من محل الخلاف وكان الثاني مجازا قطعا.
لا أصل في هذه المسألة يعول عليه عند الشك
(قوله سادسها لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك... إلخ) لم أر فيما راجعته من الكتب الأصولية من تعرض حال الأصل سوى صاحب البدائع رحمه الله فالمصنف قد اقتدى به وأخذه منه (والمقصود) من الأصل في قوله هذا هو الأصل اللفظي بقرينة ما سيأتي من تعرضه للأصل العملي على حده وعلى كل حال
حاصل الكلام أنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك والعجز عن إقامة الدليل على أحد طرفيها سوى أصالة عدم ملاحظة الخصوصية في مقام الوضع بمعنى أن الواضع لم يلحظ خصوص المتلبس في الحال بل لاحظ الأعم منه وما انقضى عند المبدأ وهي مع معارضتها
134

بأصالة عدم ملاحظة العموم لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.
(أقول) بل لا دليل على اعتبارها من أصلها إذ لم يثبت بناء من العقلاء على عدم ملاحظة الخصوصية عند الشك في ملاحظتها أو ملاحظة العموم.
(قوله وأما ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز... إلخ) وهذا أيضا مما تعرضه صاحب البدائع رحمه الله غير أنه قد ذكره بعد الفراغ عن الأصل اللفظي والعملي جميعا (وحاصله) أنه لو ادعى تقديم القول بوضع المشتق للأعم المساوق لاشتراكه معنويا بين المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ على القول بوضع المشتق للمتلبس في الحال المساوق لكونه مجازا فيما انقضى عنه اعتمادا في التقديم على ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز لأجل الغلبة ففيه.
(أولا) أن الغلبة ممنوعة من أصلها.
(وثانيا) أن ترجيح الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز لأجل الغلبة مما لا حجة عليه.
(قوله وأما الأصل العملي فيختلف في الموارد... إلخ) مراده من الأصل العملي في المقام هو خصوص الحكمي كالبراءة عن وجوب إكرام من انقضى عنه المبدأ إذا قال أكرم كل عالم وكان الانقضاء قبل الإيجاب وكاستصحاب وجوب إكرام من انقضى عنه المبدأ إذا كان الانقضاء بعد الإيجاب (وأما الأصل) الموضوعي الذي يدرج المشكوك في المتلبس في الحال أو فيما انقضى عنه المبدأ فلا إشكال في تقدمه على الأصل الحكمي فإذا كان زيد عالما وشك في زوال تلبسه عنه فيستصحب التلبس ويجب إكرامه كما أنه إذا كان ممن انقضى عنه المبدأ وشك في تلبسه به ثانيا فيستصحب عدمه ولا يجب إكرامه على القول بكون المشتق للمتلبس في الحال.
135

في الإشارة إلى أقوال المسألة
(قوله فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت... إلخ) قد أشرنا في صدر البحث أن في المسألة قولان مشهور ان على ما صرح به المحقق القمي وهما (القول) بوضع المشتق لخصوص المتلبس في الحال.
(والقول) بوضعه للأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ وهناك تفاصيل أخر (فمنها) ما تقدمت الإشارة إليه في الأمر الرابع من التفصيل بين ما إذا كان الاتصاف أكثريا فلا يعتبر بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة وبين ما لم يكن كذلك فيشترط (ومنها) ما عن الفصول مما سيأتي شرحه قبيل الشروع في أدلة القول بالأعم من التفصيل بين كون المشتق لازما أي مأخوذا من المبادي اللازمة كما في الذاهب والماشي وغيرهما فيشترط بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة وبين ما كان متعديا كما في الضارب والقاتل والعالم فلا يشترط وقد أشار المصنف إلى هذا التفصيل بل وإلى ما قبله هاهنا مختصرا بقوله لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى (ومنها) ما سيأتي أيضا شرحه قبيل الشروع في أدلة القول بالأعم من التفصيل بين ما تلبس الذات بضد المبدأ فلا يصدق عليه المشتق كما في القائم إذا قعد أو القاعد إذا قام وهكذا وبين ما لم يتلبس بضد المبدأ فيصدق عليه المشتق كما في الضارب والقاتل وان انقضى عنهما الضرب والقتل (ومنها) ما سيأتي شرحه بعد الفراغ عن أدلة القول بالأعم من التفصيل بين ما إذا كان المشتق محكوما عليه كما في قوله تعالى الزانية والزاني أو والسارق والسارقة فيكون حقيقة في الأعم وبين ما إذا كان محكوما به كما في قولك زيد ضارب أو عمرو عالم ونحو ذلك فيكون
136

حقيقة في المتلبس في الحال وقد أشار المصنف إلى هذا التفصيل هاهنا مختصرا بقوله أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال (والظاهر) أن في المسألة تفاصيل أخر أيضا لم يتعرض لها المصنف وان أشار إليها قبل الشروع في أدلة القول بوضع المشتق للأعم بقوله ومما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل فلا نطيل بذكرها على التفصيل... إلخ بل وأشار إليها أيضا قبل قوله بقي أمور (فقال ومن مطاوي ما ذكرنا هاهنا وفي المقدمات ظهر حال ساير الأقوال وما ذكر لها من الاستدلال ولا يسع المجال لتفصيلها ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات (انتهى).
أدلة القول بوضع المشتق للمتلبس في الحال
(قوله ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال... إلخ) هذا أول دليل أقامه المصنف على المختار (وحاصله) أن المتبادر من المشتقات هو خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال وان شئت قلت ان المتبادر من مثل القائم والضارب ونحوهما هو الذات المتلبس بالمبدأ حال تلبسها فقط لا الأعم منه وحال انقضاء المبدأ عنها.
(قوله وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه... إلخ) هذا هو الدليل الثاني الذي أقامه المصنف على المختار وقد أشار بقوله مطلقا إلى بطلان جميع التفاصيل التي أشير إليها آنفا بمعنى أن ما انقضى عنه المبدأ هو مما صح سلب المشتق عنه مطلقا سواء كان الاتصاف أكثريا أم لا كان المشتق لازما أو متعديا متلبسا بضد المبدأ أم لا كان محكوما عليه أو محكوما به.
(أقول) ولا يخفى ان صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ هي دليل أقوى
137

من التبادر فان التبادر قد يناقش فيه الخصم بدعوى كونه إطلاقيا مستندا إلى كثرة الاستعمال لا حاقيا مستندا إلى الوضع أو يناقش فيه بالمنع عنه رأسا بدعوى تبادر الأعم ولكن صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ هي سالمة عن جميع هذا كله سيما إذا انضم إليها كلمة الآن فنقول بعد انقضاء الضرب مثلا عن زيد ان زيدا ليس بضارب الآن فلو كان المشتق موضوعا للأعم لم يصح ذلك قطعا بل صح أن يقال ان زيدا ضارب الآن.
(قوله كيف وما يضادها... إلخ) إشارة إلى وجه ثالث للمختار ستعرف شرحه وتفصيله.
(قوله وقد يقرر هذا وجها على حده... إلخ) هذا هو الوجه الثالث الذي استدل به للمختار وأصله من العضدي كما ذكره البدائع (وحاصله) أنه لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة كالعالم والجاهل والمسلم والكافر والقائم والقاعد إلى غير ذلك من الصفات المأخوذة من المبادي المتقابلة بعضها مع بعض فلو لم يكن المشتق موضوعا لخصوص المتلبس في الحال لما كان بين مثل العالم والجاهل أو المسلم والكافر أو القائم والقاعد مضادة بل كانا صادقين في حال واحد أحدهما بلحاظ التلبس الفعلي والآخر بلحاظ التلبس السابق نظير صدق العنوانين المتخالفين في آن واحد كالشجاع الأسمر والجبان الأبيض ونحوهما.
(قوله ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين... إلخ) المراد من بعض الأجلة هو صاحب البدائع وقد أورد على ما ذكره العضدي من الوجه الثالث للمختار بقوله وهذا الاستدلال في غاية السقوط ونهاية الفساد (وحاصل ما أفاده) في وجه ذلك أنه لا تضاد على القول بعدم الاشتراط أي عدم اشتراط بقاء المبدء في صدق المشتق وإن شئت قلت ان التضاد مبنى على القول بالاشتراط فلو كان القول بالاشتراط مبنيا على التضاد
138

بمقتضى الاستدلال به لدار (وحاصل الجواب) عن الإيراد أن التضاد بين الصفات المتقابلة ليس مبنيا على قول دون قول ومذهب دون مذهب بل هو أمر مركوز في الأذهان محرز بالوجدان متسالم عليه عند الكل لا مجال لإنكاره أصلا كالتضاد بين نفس المبادي المتقابلة عينا (وعليه) فمن ارتكاز التضاد يعرف الاشتراط (ومن هنا يظهر) الجواب عن الدور أيضا فان ارتكاز التضاد مستند إلى الاشتراط ثبوتا والاشتراط إثباتا يستند إلى ارتكاز التضاد فيختلف الموقوف عليه التضاد وهو الاشتراط ثبوتا مع الموقوف على التضاد وهو الاشتراط إثباتا فلا دور.
(قوله ان قلت لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الإطلاق لا الاشتراط... إلخ) (وحاصل الإشكال) انا لا ننكر ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة ولكن لعل ارتكازها لأجل انسباق حال التلبس من الإطلاق لا من إلحاق وان شئت قلت لأجل الانسباق الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال لا الحاقي المستند إلى الوضع وقد تقدم أن الانسباق الكاشف عن الوضع إنما هو الانسباق الحاقي لا الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال أو غلبة الوجود ونحو ذلك (وحاصل الجواب) أنه ليس ارتكاز المضادة بين الصفات المتقابلة لأجل الانسباق من الإطلاق وذلك لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء أيضا لو لم يكن بأكثر نعم لو لم يكن الاستعمال في موارد الانقضاء كثيرا أو أكثر لكان احتمال استناد الانسباق إلى الإطلاق مما له وجه وجيه لكن مع كثرة الاستعمال فيها مما لا وجه له وعليه فيكون ارتكاز المضادة هو لأجل الانسباق من إلحاق لا من الإطلاق.
(أقول) ما ادعاه المصنف من كون استعمال المشتق في موارد الانقضاء كثيرا لو لم يكن بأكثر مما لا يتم كما ستعرف تفصيله في ان قلت الآتي وعليه
139

فيبقى الجواب ناقصا لا ينفع (والصحيح) في جواب ما احتمله الخصم من كون الانسباق من الإطلاق لا من إلحاق أن يقال ان هذا الاحتمال ساقط ملغى بمعنى أنه مهما تبادر معنى خاص من اللفظ ولم يكن هناك قرينة عليه من حال أو مقال سوى احتمال كون الانسباق من الإطلاق وكثرة الاستعمال لا من الوضع وإلحاق فهذا الاحتمال مما لا يعتنى به العقلاء بل يبنى على كون الانسباق من إلحاق لا من الإطلاق والا لجرى هذا الاحتمال في كل تبادر وفي كل مورد وبطل الاستدلال بالتبادر على الوضع رأسا وهو باطل جدا فتأمل جيدا.
(قوله ان قلت على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازا وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع... إلخ) وحاصل الإشكال أنه لو سلم كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء أو كونه أكثر يلزم أن يكون استعمال المشتق في الغالب أو الأغلب مجازا بعد فرض كونه موضوعا لخصوص المتلبس في الحال وهذا بعيد جدا ربما لا يلائمه حكمة الوضع فان اللفظ إنما وضع ليستعمل فيما وضع له لا ليستعمل في الغالب أو الأغلب في غير ما وضع له (لا يقال) كيف وقد قيل أكثر المحاورات مجازات (فإنه يقال) ان ذلك لو سلم ليس الا بمعنى تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد لا بمعنى أن اللفظ يستعمل كثيرا أو في الأكثر في المعنى المجازي وان كان قد يتفق ذلك بالنسبة إلى مجاز خاص لكثرة الحاجة إليه لكن ليس ذلك دائما بل أحيانا (هذا) حاصل كلام المستشكل وما أورده على نفسه بصورة لا يقال وجوابه عنه (وأما الجواب) عن أصل الإشكال وقد أشار إليه المصنف بقوله قلت... إلخ فحاصله أنه يرد عليه.
(أولا) أن لزوم كون المشتق في الغالب أو الأغلب مجازا وهو بعيد... إلخ استبعاد محض لا يقاوم الوجوه المتقدمة التي أقمناها على المختار.
140

(وثانيا) ان استعمال المشتق في موارد الانقضاء وان كثر أو كان أكثر لكن لا يكون الجري فيه بلحاظ الحال كي يكون مجازا بل بلحاظ حال التلبس فيكون حقيقة فإذا قيل مثلا جاء القاتل أو السارق وقد انقضى عنه المبدأ أي جاء الذي كان قاتلا أو سارقا.
(أقول) لو كان استعمال المشتق في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس لم يكن استعمال المشتق في حال الانقضاء كثيرا أو أكثر ليمنع عن احتمال كون الانسباق من الإطلاق لا من إلحاق كما فعل المصنف في جواب ان قلت الأول (ودعوى) أن مع عموم المعنى على القول بالأعم لا وجه لملاحظة حالة أخرى كما سيأتي من المصنف بل يلحظ الحال الحاضر فيكثر الاستعمال في حال الانقضاء (مما لا وجه له) فان مع عموم المعنى على القول بالأعم وان لم يكن وجه لملاحظة حالة أخرى أي حال التلبس ولكن على المختار وهو وضع المشتق لغة لخصوص المتلبس في الحال تكون الاستعمالات الواقعة من أهل اللسان في موارد الانقضاء كلها محمولة عندنا على لحاظ حال التلبس فإذا لا يكثر الاستعمال في حال الانقضاء ليمنع عن احتمال كون الانسباق من الإطلاق لا من الحال فيبقى ان قلت الأول بلا جواب ولكن قد عرفت الجواب الصحيح منا مفصلا فاغتنمه.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أنه لو سلم أنه قد يتفق أن يكون استعمال اللفظ في معنى مجازي خاص أكثر من استعماله في معناه الحقيقي لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه فليكن المقام من هذا القبيل فيكون استعمال المشتق في موارد الانقضاء كثيرا أو أكثر لأجل ذلك فلا بعد ولا عدم الملائمة مع حكمة الوضع.
(قوله ضرورة أنه لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين...
141

إلخ) علة لجواز كون الاستعمال على الأعم بلحاظ هذا الحال وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه.
(قوله إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في الموارد ولو بالانطباق لا وجه للملاحظة حالة أخرى... إلخ) علة لقوله وبالجملة كثرة الاستعمال في حال الانقضاء يمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإطلاق (وتوضيح) ذلك أن مع عموم معنى المشتق على القول بالأعم وقابلية كون المعنى حقيقة في مورد الانقضاء ولو بانطباق المعنى العام عليه لا وجه للملاحظة حال التلبس في موارد استعمال المشتق فيما انقضى عنه بل يلحظ الحال الحاضر وهو حال الانقضاء ويكون حقيقة فيه فإذا يكثر الاستعمال في حال الانقضاء فيمنع عن احتمال كون انسباق حال التلبس من الإطلاق لا من إلحاق (هذا) ولكنك قد عرفت منا آنفا ما يضعف ذلك ويبطله فلا نعيد.
(قوله وهذا غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة... إلخ) أي واستعمال المشتق في موارد الانقضاء بلحاظ حال التلبس غير استعمال اللفظ فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع فان لفظ الأسد إذا استعمل فيه فلا محالة يكون مجازا وهذا بخلاف استعمال المشتق في موارد الانقضاء فإنه إذا لوحظ فيها حال التلبس فلا يكون مجازا.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف قوله فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية... إلخ فان أمر الاستعمال بيد المستعمل فان شاء لاحظ حال التلبس فيكون الاستعمال حقيقيا وإن شاء لاحظ هذا الحال الحاضر وهو حال الانقضاء فيكون مجازيا وليس الاستعمال المجازي مع التمكن من الحقيقي أمرا ممنوعا عنه كي يقال إنه لا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية بل هو أمر مرخوص فيه شايع متعارف عند أهل
142

المحاورة حتى قيل باب المجاز واسع أو إن أكثر المحاورات مجازات كما تقدم.
(قوله ثم إنه ربما أورد على الاستدلال بصحة السلب... إلخ) هذا الإيراد قد ذكره في البدائع (وحاصله) أنه إن أريد بصحة سلب الضارب مثلا عما انقضى عنه المبدأ سلبه عنه مطلقا أي فعلا وسابقا فغير سديد لكونه كذبا محضا بعد فرض كونه ضاربا سابقا وإن أريد سلبه عنه مقيدا أي إنه ليس بضارب الآن فغير مفيد لأن علامة المجاز هو صحة سلب المطلق كصحة سلب الأسد عن الرجل الشجاع لا سلب المقيد كصحة سلب الإنسان الأبيض عن الزنجي فإنه ليس علامة لكون الإنسان مجازا فيه فان سلب المقيد أعم من سلب المطلق فقد يصح معه سلب المطلق وقد لا يصح هذا حاصل الإشكال (وأما ما أجاب) به المصنف فحاصله أنه إن أريد بالتقييد تقييد المسلوب فسلبه وإن لم يكن علامة لكون المطلق مجازا فيه ولكن تقييده ممنوع وإن أريد تقييد السلب أي زيد ليس الآن بضارب فغير ضائر بكون صحة السلب علامة للمجاز فان الضارب من غير تقييده بشيء إذا صح سلبه في الحال الحاضر عن زيد كان لا محالة علامة لكونه مجازا فيه في الحال الحاضر إذ لو كان حقيقة فيه مطلقا لصدق عليه في كل حال ضرورة صدق المطلق على أفراده في كل حال هذا مع إمكان منع تقييد السلب أيضا ودعوى تقييد المسلوب عنه أي زيد الآن ليس بضارب فيكون صحة سلب الضارب عن زيد الآن علامة لكونه مجازا في زيد الآن.
(أقول) والإنصاف أن الجواب مما لا يحتاج إلى مثل هذه التكلفات بل نلتزم برجوع القيد إلى نفس المسلوب كما هو ظاهر قولك زيد ليس بضارب الآن ونقول في مقام الجواب ان صحة سلب الضارب المقيد بالآن وان لم يكن علامة لكون الضارب مطلقا مجازا فيه ولكنه لا محالة علامة لكون الضارب
143

المقيد بالآن مجازا فيه وهو يكفى إذ الذي نحن ندعيه في المسألة هو هذا المقدار فقط أي كون الضارب الآن مجازا فيه وان لم يكن الضارب مطلقا مجازا فيه بل كان حقيقة فيه سابقا فالذي نحن ندعيه يثبته صحة السلب المقيد وما لم يثبته هو نحن لا ندعيه ولا نقول به.
(قوله فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال... إلخ) أي فيصح سلب الضارب مثلا مطلقا من غير تقييد بشيء عن زيد المقيد بالحال الحاضر.
(قوله ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ بين كون المشتق لازما وكونه متعديا... إلخ) قد مر منا الإشارة إلى هذا التفصيل والتفصيل الذي سيشير إليه آنفا بقوله كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه... إلخ بل وإلى غيرهما من التفاصيل قبيل الشروع في أدلة المختار عند التعليق على قول المصنف فاعلم أن الأقوال في المسألة وان كثرت... إلخ كما مر أن هذا التفصيل أي بين اللازم والمتعدي هو لصاحب الفصول رحمه الله فتذكر.
أدلة القول بوضع المشتق للأعم من المتلبس وما انقضى عنه
(قوله حجة القول بعدم الاشتراط وجوه الأول التبادر... إلخ) أي حجة القول بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة وجوه وان شئت قلت حجة القول بوضع المشتق للأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه وجوه الأول التبادر يعنى به تبادر الأعم (وقد أجاب) عنه المصنف بما
144

حاصله إنك قد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس بالمبدأ من بين ساير أحوال الذات لا الأعم من حال التلبس وحال الانقضاء.
(أقول) ويرده أيضا صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ كما عرفت شرحه قبلا سيما إذا كان السلب بانضمام كلمة الآن فتقول لمن انقضى عنه الضرب مثلا أنه ليس بضارب الآن فلو كان المتبادر هو الأعم لم يصح السلب بلحاظ هذا الحال (بل) ويرده أيضا ارتكاز التضاد بين الصفات المتقابلة وقد عرفت أيضا شرحه كما في العالم والجاهل والمسلم والكافر ونحوهما فان المتبادر لو كان هو الأعم من حال التلبس وحال الانقضاء لم يكن بين تلك الصفات المتقابلة تضاد أصلا بل كان يصدق في حال واحد أنه عالم وجاهل أو مسلم وكافر وهكذا أحدهما بلحاظ حال التلبس والاخر بلحاظ حال الانقضاء مع أنه لا يكاد يصدق ذلك وليس هو إلا لأجل أن المتبادر من المشتقات ليس إلا خصوص حال التلبس فقط لا الأعم منه ومن حال الانقضاء.
(قوله الثاني عدم صحة السلب في مضروب ومقتول عمن انقضى عنه المبدأ... إلخ) وقد أجاب عنه المصنف بما حاصله أن عدم صحة السلب في مثلهما إنما هو
لأجل أنه قد أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا فعلا وهو أثر الضرب أو القتل كالتألم وإزهاق الروح ونحو ذلك فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازا قطعا لأنه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل ولكن بعد ما أريد منه ذلك يكون المشتق لا محالة مستعملا في معناه الحقيقي وهو المتلبس بالمبدأ في الحال وقد عرفت في الأمر الرابع أن اختلاف المشتقات حقيقة في المبادي مما لا يوجب اختلافا في المهم المبحوث عنه أي في كون المشتق حقيقة في المتلبس في الحال أو في الأعم منه وما انقضى عنه وأنه في الكل على نمط واحد.
145

(أقول) والظاهر أن الجواب مما لا يحتاج إلى مثل هذا التكلف لشديد فلا حاجة إلى الالتزام بأنه قد أريد من المبدأ معنى آخر مجازي يكون لتلبس به باقيا فعلا بل المبدأ قد أريد منه معناه الحقيقي الأصلي وهو نفس لضرب أو القتل ويقال في مقام الجواب إن عدم صحة سلب المضروب أو لمقتول عما انقضى عنه المبدأ بل صحة حمله عليه بالحمل الشائع يكون هو بلحاظ حال التلبس السابق فقولك هذا مضروب أو مقتول أي هذا الذي وقع عليه لضرب أو القتل سابقا وأما بلحاظ الحال الفعلي فيصح السلب عنه بلا كلام فتقول هذا ليس بمضروب الآن أو ليس بمقتول الآن بل كان في السابق في اليوم الماضي ونحوه (وقد أشار) المصنف إلى هذا الجواب أخيرا بقوله وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات مما صدر عن الفاعل فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع كما عرفت لا بلحاظ الحال أيضا لوضوح صحة أن يقال إنه ليس بمضروب الآن بل كان (انتهى).
(قوله الثالث استدلال الإمام عليه السلام تأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما عن غير واحد من الأخبار بقوله لا ينال عهدي الظالمين... إلخ) هذا من أهم الوجوه التي تمسك بها القائلون بوضع المشتق للأعم وقد تعرضه من بين الأصوليين صاحب البدائع رحمه الله (وحاصله) أن الإمام عليه السلام قد استدل بقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام في سورة البقرة انى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا للإمامة تعريضا لمن تصدى لها وهو ممن عبد الصنم مدة مديدة كالأول والثاني والثالث ومن المعلوم أن استدلاله عليه السلام مما لا يتم الا على القول بكون الظالم حقيقة في الأعم والا لم يصح التعريض لهم لزوال تلبسهم بالظلم حين التصدي ولو بحسب الظاهر وبمعتقد الخصم (وحاصل) ما أجاب به المصنف أن الوصف
146

العنواني الذي يؤخذ موضوعا للحكم في لسان الدليل على أقسام ثلاثة (فقد يكون) لمجرد الإشارة إلى المعنون من دون دخل للعنوان في الحكم أصلا كما في قولك أكرم هذا الجالس مشيرا إلى الشخص الخارجي الذي يستحق الإكرام بمناط ثابت فيه لا لأجل كونه جالسا ومعنونا بهذا العنوان (وقد يكون) لأجل الإشارة إلى عليه العنوان للحكم لكن حدوثا لا بقاء بحيث إذا صدق عليه العنوان ولو آنا ما ثبت الحكم إلى الآخر ولو بعد زوال العنوان كما في قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقوله تعالى والسارقة والسارقة فاقطعوا أيديهما (وقد يكون) لأجل الإشارة إلى علية العنوان للحكم حدوثا وبقاء بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان فمهما صدق العنوان كان الحكم ثابتا ومهما لم يصدق لم يثبت كما في أكرم العالم أو قلد المجتهد ونحو ذلك من الأمثلة التي يدور الحكم فيها مدار العنوان حدوثا وبقاء (فالمشتق) في الآية الشريفة لو كان من القسم الثالث بحيث كان الحكم فيها يدور مدار صدق العنوان حدوثا وبقاء فاستدلاله عليه السلام بالآية مما يبتنى على كون الظالم فيها حقيقة في الأعم إذ لو لم يكن حقيقة في الأعم لم يكن العنوان باقيا حين التصدي (وأما لو كان) من القسم الثاني بحيث كان يكفى فيه صدق العنوان ولو آنا ما لثبوت الحكم إلى الآخر فاستدلاله عليه السلام بالآية مما لا يبتنى على كون الظالم حقيقة في الأعم بل الاستدلال انما هو لأجل كفاية صدق عنوان الظالم ولو آنا ما في عدم النيل إلى الآخر ولو بعد انقضاء الظلم وزوال العنوان كما في الزاني والسارق حيث يكفى فيهما صدق العنوان آنا ما لثبوت الجلد أو القطع ولو بعد زوال العنوان ولا دليل على كون الآية من قبيل القسم الثالث بل جلالة قدر الإمامة قرينة جلية على كونها من قبيل القسم الثاني بمعنى ان صدق عنوان الظالم آنا ما مما يكفى لعدم نيل منصب الإمامة إلى الآخر.
147

(أقول) ان الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعا للحكم لا يكاد يعقل فيه كفاية صدق العنوان آنا ما بحيث إذا زال العنوان كان الحكم فيه باقيا على حاله ثابتا إلى الآخر وهل يعقل بقاء الحكم بعد زوال الموضوع كلا (بل لا بد) وأن يقال في مثل قوله تعالى الزانية والزاني أو السارق والسارقة أو لا ينال عهدي الظالمين وكل مشتق آخر قد أخذ في لسان الدليل موضوعا للحكم وكان مما يكفى فيه صدق العنوان ولو آنا ما ان الموضوع هو الأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ أي من زنى أو سرق أو ظلم ولو آنا ما فيجب جلده أو قطع يده أو لا يناله العهد سواء كان التلبس باقيا أو زائلا (وبعبارة أخرى) المراد من المشتق في الآيات الثلاث وأمثالها (ان كان) هو الأعم أي من زنى أو سرق أو ظلم سواء كان التلبس باقيا أو زائلا فهذا هو الذي ندعيه نحن ونرومه (وان كان) خصوص المتلبس الفعلي فلا يكاد يعقل فيها بقاء الحكم بعد زوال العنوان وما أخذ موضوعا للحكم (وان كان) خصوص ما انقضى عنه المبدأ أي من زنى أو سرق أو ظلم في السابق لا في الحال فيجب جلده أو قطع يده أو لا يناله العهد فهذا مما لا يشمل المتلبس الفعلي إذ المفروض ان الموضوع هو خصوص ما انقضى عنه وهو باطل جدا لأن المتلبس أولى بالحكم قطعا (وبالجملة) لا محيص في المشتق المأخوذ موضوعا في الآيات الثلاث وأمثالها عن الالتزام بكونه مستعملا في الأعم وان الموضوع للحكم فيها هو عنوان من تلبس بالزنى أو السرقة أو الظلم سواء كان المبدأ باقيا أو زائلا ونجيب حينئذ عن المستدل باستدلال الإمام عليه السلام ان استدلال الإمام وان كان مبنيا على استعمال المشتق في الآية الشريفة في الأعم أي فيمن تلبس بالظلم سواء كان الظلم باقيا أو زائلا ولكن الاستعمال فيه أعم من الحقيقة كما أشير قبلا في تعارض الأحوال فتذكر.
148

(بقي شيء) وهو انه قد يتوهم ان للمخالف الضال أن يعترض على الإمام عليه السلام بان المشتق حقيقة في المتلبس في الحال فلا يتم الاستدلال بالآية على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا للإمامة تعريضا لمن تصدى لها وهو ممن عبد الصنم مدة مديدة لأنهم حين التصدي قد زال عنهم العنوان (ولكنه توهم فاسد) فان المشتق وان كان حقيقة في المتلبس في الحال ولكنه استعمل في الآية أعني آية لا ينال في الأعم كاستعماله فيه في آيتي الزنا والسرقة قطعا فكما ان قصر زمان التلبس بالزنى أو السرقة وعدم وفائه بجريان الحد فيه من الجلد أو القطع بل وعدم الاطلاع على الزاني والسارق غالبا في حال التلبس قرينة قطعية على ان الموضوع فيهما ليس هو الزاني أو
السارق الفعلي بل مطلق من تلبس ولو قبلا وقد زال التلبس عنه فعلا فكذلك جلالة قدر الإمامة ورفعة شأنها وعظمة مقامها قرينة جلية على ان الموضوع في الآية لعدم النيل ليس خصوص المتلبس الفعلي بالظلم بل مطلق من تلبس بالظلم كعبادة الأوثان ونحوه ولو قبلا وقد زال التلبس عنه فعلا فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله ولا قرينة على أنه على النحو الأول... إلخ) أي على النحو الأخير الثالث وإنما عبر عنه بالأول أي بالإضافة إلى قوله وأما إذا كان على النحو الثاني فإنه قدم ذكر الأخير الثالث على النحو الثاني فعبر عنه بالأول.
(قوله ان قلت نعم ولكن الظاهر ان الإمام عليه السلام إنما استدل بما هو ظاهر العنوان وضعا لا بقرينة المقام مجازا... إلخ) (وحاصل الإشكال) انا سلمنا ان الآية الشريفة هي في مقام جلالة قدر الإمامة وان المناسب لها ان تكون المشتق فيها من القسم الثاني فيكفي صدق عنوان الظالم آنا ما في عدم نيل منصب الإمامة إلى الآخر ولكن إذا كان المشتق فيها من القسم الثاني فلا محالة يكون مستعملا فيما انقضى عنه إذ الاستعمال في المتلبس في الحال مما لا يجتمع
149

مع بقاء الحكم بعد زوال العنوان كما هو واضح فإذا كان مستعملا فيما انقضى عنه كان مجازا قهرا وكان استدلال الإمام عليه السلام مبنيا على الاستعمال المجازي وهذا بخلاف ما إذا قلنا ان المشتق حقيقة في الأعم فيكون مبنيا على الاستعمال الحقيقي (وحاصل الجواب) أنه لو سلم جميع ذلك كله فلا يستلزم الاستعمال فيما انقضى عنه أن يكون مجازيا لأن الجري في الآية يكون بلحاظ حال التلبس ويكون المعنى هكذا من كان ظالما في السابق فلا يناله عهدي أبدا فلا تجوز حينئذ كي يكون الاستدلال مبنيا عليه.
(أقول) ويرد عليه ما تقدم منا آنفا من ان المشتق في الآية لو كان مستعملا في خصوص ما انقضى عنه فلا يكاد يشمل الحكم المتلبس الفعلي بالظلم مع كونه أولى بالحكم قطعا فالصحيح هو الاعتراف بان المشتق في الآية وكل مشتق آخر قد أخذ موضوعا للحكم وكان مما يكفى فيه صدق العنوان ولو آنا ما قد استعمل في الأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه ولو مجازا بقرينة جلالة قدر الإمامة ونحوها.
(قوله ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به... إلخ) قد أشرنا إلى هذا التفصيل وأخواته عند نقل أقوال المسألة قبيل الشروع في أدلة المختار مختصرا (وحاصل الاستدلال) أن من وجوب الجلد أو القطع ولو من بعد انقضاء المبدأ وزوال التلبس يعرف ان كلا من الزانية والزاني والسارق والسارقة في الآيتين الشريفتين حقيقة في الأعم إذ لو كان حقيقة في المتلبس في الحال لم يجز الجلد أو القطع بعد انقضاء المبدأ وزوال التلبس ولكن حيث أن ذلك لم يكن الا في المشتق الواقع محكوما عليه لم يجر التعدي عنه إلى المحكوم به (وحاصل جواب المصنف عنه) ان المشتق في الآيتين الشريفتين مستعمل فيما انقضى عنه المبدأ بلحاظ حال التلبس
150

ما تقدم في آية لا ينال أي من كان زانيا أو سارقا فيجب جلده أو قطع يده فلا ينافي إرادة حال التلبس مع ثبوت الجلد أو القطع بعد انقضاء المبدأ (مضافا) إلى أن الالتزام بتعدد الوضع للمشتق حسب وقوعه محكوما عليه أو محكوما به واضح البطلان.
(أقول) والحق كما عرفته منا ان المشتق في الآيتين الشريفتين لم يستعمل في خصوص ما انقضى عنه المبدأ ولو بلحاظ حال التلبس والا لزم أن لا يشمل الحكم المذكور فيهما من الجلد والقطع المتلبس الفعلي مع كونه أولى بالحكم قطعا بل المشتق فيهما كما أشرنا قبلا بقرينة قصر زمان التلبس بالزنى أو السرقة وعدم وفائه بجريان الحد فيه إلى آخر ما ذكر هناك مستعمل لا محالة في الأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه المبدأ ولو مجازا أي أن من زنى أو سرق سواء كان المبدأ باقيا أو زائلا يجب جلده أو قطع يده (فالصحيح) في جواب استدلال المفصل أن يقال أن المشتق بمقتضى الوجوه العديدة المتقدمة سيما صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ خصوصا إذا انضم إليها كلمة الآن فتقول مثلا أن زيدا ليس بضارب أو بزاني أو بسارق الآن بل كان هو حقيقة في المتلبس في الحال ولا ينافي ذلك استعماله أحيانا في الأعم من المتلبس في الحال وما انقضى عنه مجازا وبالقرينة فتأمل جيدا.
في بساطة مفهوم المشتق
(قوله بقي أمور الأول أن مفهوم المشتق على ما حققه الشريف في بعض حواشيه بسيط... إلخ) وحاصل ما حققه الشريف أن مفهوم المشتق بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبسها بالمبدأ واتصافها به (وملخص) ما أفاده
151

في وجه ذلك أن المعتبر في مفهوم المشتقات إن كان مفهوم الشيء فمن المشتقات الناطق فلو كان مفهوم الشيء معتبرا في مفهومه لزم دخول العرض العام في الفصل والمقصود من العرض ما يقابل الذاتي كالجنس والفصل كما أن المقصود من عموم العرض أو خصوصه هو اختصاصه بحقيقة واحدة وعدمه كالضاحك المختص بحقيقة الإنسان والماشي الغير المختص به أي لزم دخول غير الذاتي الغير المختص بحقيقة واحدة في الذاتي المختص بحقيقة واحدة أي في فصلها هذا إذا كان المعتبر في مفهوم المشتق مفهوم الشيء (وأما إذا كان) المعتبر فيه مصداق الشيء فيلزم انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى الضرورة ففي مثل قولك الإنسان ضاحك بالإمكان الخاص التي هي قضية ممكنة خاصة إذا قلنا ان المعتبر في مفهوم المشتق مصداق الشيء بحيث كانت القضية هكذا أي الإنسان إنسان له الضحك فان مصداق الشيء الذي له الضحك هو الإنسان لا محالة فيلزم انقلابها إلى الضرورية فان حمل الشيء على نفسه ضروري بالضرورة
(قوله انقلبت مادة الإمكان الخاص ضرورة... إلخ) القضية الممكنة العامة هي القضية التي حكم فيها بلا ضرورة الجانب المخالف فقط كما في قولك كل إنسان كاتب بالإمكان العام أي سلب الكتابة عنه ليس بضروري فثبوتها له ممكن والقضية الممكنة الخاصة هي التي حكم فيها بلا ضرورة الجانب المخالف والموافق جميعا كما في قولك كل إنسان كاتب بالإمكان الخاص فلا سلب الكتابة عنه ضروري ولا ثبوتها له ضروري فحيث ان سلبها عنه ليس ضروريا فثبوتها له ممكن وحيث ان ثبوتها له ليس
ضروريا فسلبه عنه ممكن.
(قوله وقد أورد عليه في الفصول بأنه يمكن أن يختار الشق الأول... إلخ) (قال في الفصول) ما لفظه ويمكن أن يختار الوجه الأول ويدفع الإشكال بان كون الناطق فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا
152

عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك (انتهى) وحاصله انه يمكن ان نختار الوجه الأول وهو اعتبار مفهوم الشيء في مفهوم الناطق ونقول إن المنطقيين انما اعتبروا الناطق فصلا للإنسان مجردا عن الذات وذلك لا يوجب أن يكون لغة أيضا كذلك (وعليه) فإذا اخترنا اعتبار مفهوم الشيء في مفهوم الناطق لم يلزم دخول العرض العام في الفصل المنطقي بل في معنى الناطق لغة وهو مما لا محذور فيه عقلا (وقد أجاب عنه المصنف) بان من المقطوع ان المنطقيين قد اعتبروا مثل الناطق فصلا بلا تصرف في معناه أصلا بل بماله من المعنى لغة وان التحقيق في الرد على الشق الأول أن يقال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي كي لا يمكن دخول العرض العام فيه بل هو لازم ما هو الفصل الحقيقي وأظهر خواصه وأقرب آثاره وأما الفصل الحقيقي فلا يعلمه الاعلام الغيوب كما سيأتي الإشارة إليه في أول الاجتهاد والتقليد أو من أطلعه الله على غيبه وهو غيرنا فإذا لا محذور في دخول العرض العام في مثل الناطق بعد ما لم يكن فصلا حقيقيا إذ لا يلزم حينئذ دخول العرض العام في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي بل في العرض الخاص الذي ليس هو من الذاتي.
(قوله ولذا ربما يجعل لا زمان مكانه إذا كانا متساويا النسبة إليه كالحساس والمتحرك بالإرادة في الحيوان... إلخ) أي ولأجل أن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي بل لازم ما هو الفصل الحقيقي ربما يجعل لا زمان مكان الفصل الحقيقي إذا كان كل من اللازمين متساوي النسبة إليه كالحساس والمتحرك بالإرادة في تعريف الحيوان فيقال إنه نام حساس متحرك بالإرادة فالحساس والمتحرك بالإرادة لا زمان قد وضعا مكان الفصل الحقيقي وليسا بفصلين حقيقيين للحيوان لوضوح امتناع أن يكون للشيء فصلان أو جنسان
153

(قوله التي هي من العرضي... إلخ) مقصوده من العرضي في المقام هو ما يقابل الذاتي كالجنس والفصل لا العرضي بالمعنى الذي اراده في صدر بحث المشتق من الأمر الاعتباري الانتزاعي ولعل التعبير بالعرضي في المقام لتصحيح القافية فيكون على وزن قوله لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي
(قوله ثم قال إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا... إلخ) (قال في الفصول) بعد عبارته المتقدمة في الرد على الوجه الأول ما لفظه ويمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بان المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا بل مقيدا بالوصف وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا (انتهى) وحاصله أنه من الممكن أن نختار الوجه الثاني وهو اعتبار مصداق الشيء في المشتق ولا يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى الضرورة إذ ليس المحمول في مثل قولك الإنسان إنسان له الضحك هو الإنسان المطلق بل الإنسان المقيد بوصف ممكن الثبوت ومن المعلوم أن ثبوت الإنسان المقيد بوصف ممكن الثبوت للإنسان ليس ضروريا فان النتيجة تتبع أخس المقدمات فإذا كان القيد ممكن الثبوت كان ثبوت المقيد به أيضا ممكن الثبوت.
(أقول) وهذا الجواب من الفصول متين جدا غير أنه رحمه الله قد تنظر فيه كما سيأتي وهو في غير محله كما ستعرف.
(قوله ويمكن أن يقال إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب... إلخ) (وحاصل ما أجاب به المصنف) عما أورده الفصول على الوجه الثاني أن كون القيد أمرا ممكنا في حد ذاته مما لا يضر بدعوى الانقلاب فان المحمول في مثل الإنسان إنسان له الضحك (إن كان) هو الإنسان المقيد بالضحك على أن يكون القيد خارجا والتقيد أي الخصوصية
154

الحاصلة منه داخلا فالقضية ضرورية (وفيه ما لا يخفى) فان ثبوت الإنسان المقيد بالضحك للإنسان ليس ضروريا بالضرورة فان القيد وان فرض كونه خارجا والتقيد داخلا ولكن مجرد دخول التقيد بعد كونه أمرا ممكنا في حد ذاته مما يكفى في صيرورة القضية ممكنة (وإن كان) المحمول هو الإنسان المقيد بالضحك على أن يكون القيد داخلا فقضية الإنسان ضاحك تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية الإنسان إنسان وهي ضرورية وثانيتهما قضية إنسان له الضحك وهي ممكنة وعليه فالانقلاب لازم على كل حال (وفيه ما لا يخفى) أيضا فان المحمول إذا كان هو الإنسان المقيد بالضحك على أن يكون القيد داخلا فلا تنحل القضية إلى قضيتين تامتين بل تنحل إلى قضيتين إحداهما تامة وهي الإنسان إنسان له الضحك وأخراهما ناقصة وهي محمول القضية التامة أي إنسان له الضحك وشئ من القضيتين ليس ضروريا قطعا أما الأولى فواضح لأن المحمول فيها ليس هو الإنسان وحده بل الإنسان المقيد بالوصف الممكن الثبوت وأما الثانية فأوضح لأن المحمول فيها عبارة عن نفس الوصف الممكن الثبوت وهو الضحك ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فتأمل.
(قوله وإن كان التقيد داخلا بما هو معنى حرفي... إلخ) فان التقيد ليس الا كمعنى حرفي فكما أن المعنى الحرفي يكون من خصوصيات الغير القائمة به ولذا قيل ان الحرف ما دل على معنى في غيره وقد تقدم منا أن الفوقية ونحوها إذا لوحظت بما هي هي فهي معنى اسمي وان لوحظت بما هي من خصوصيات الغير كزيد والسطح في قولك زيد على السطح فيكون معنى حرفيا أي مفادا لكلمة (على) فكذلك التقيد يكون من خصوصيات المقيد الحاصلة له من نفس القيد.
(قوله الذي يكون مقيدا بالنطق... إلخ) الظاهر أنه سهو من القلم
155

والصحيح أن يقال الذي يكون مقيدا بالضحك فان الكلام هاهنا ليس إلا في الوجه الثاني الذي ادعى المحقق الشريف فيه لزوم الانقلاب من الإمكان الخاص إلى الضرورة وقد عرفت ان المثال لذلك هو قضية الإنسان ضاحك لا الإنسان ناطق فإنها ضرورية في حد ذاتها من غير حاجة إلى الانقلاب كما لا يخفى.
(قوله وذلك لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الأخبار بعد العلم بها تكون أوصافا... إلخ) علة لانحلال المحمول أي الناطق إلى قضية أخرى وهي قضية
إنسان له النطق أي لأن الأوصاف كالناطق قبل العلم بها أخبار إذ يعلم بها الذات والمبدأ والنسبة بينهما كما أن الأخبار كزيد ضرب بعد العلم بها أوصاف أي ذات ثبت له الضرب مثلا وهي عبارة أخرى عن الضارب.
(قوله فعقد الحمل ينحل إلى القضية كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ وقضية ممكنة عند الفارابي... إلخ) ففي مثل قولك الإنسان ضاحك ينحل عقد الحمل إلى القضية أي إنسان له الضحك وهي قضية ممكنة كما تقدم وعقد الوضع وهو الإنسان مع كونه لفظا جامدا ينحل أيضا إلى القضية أي شيء له الإنسانية وهي قضية مطلقة عامة عند الشيخ وممكنة عند الفارابي والمطلقة العامة هي التي يحكم فيها بفعلية النسبة كما هي قضية إطلاق القضية والممكنة قد عرفت معناها من خاصها وعامها فيما تقدم فلا نعيد.
(قوله فتأمل... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فتأمل في ذيل التعليق على قوله ويمكن أن يقال... إلخ.
(قوله لكنه قدس سره تنظر فيما أفاده بقوله وفيه نظر... إلخ) قد عرفت آنفا أن صاحب الفصول قد أورد على الوجه الثاني من كلام المحقق الشريف (بما حاصله) أنه يمكن أن نختار الوجه الثاني وهو اعتبار مصداق الشيء في مفهوم المشتق من دون أن يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى
156

الضرورة بالتقريب المتقدم شرحه وتفصيله فهاهنا تنظر فيما أورده هناك (بما هذا لفظه) وفيه نظر لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل بالضرورة (انتهى) وحاصل وجه التنظر حسب ما استفاده المصنف من كلامه أن مثل قضية زيد كاتب إذا اخترنا أخذ مصداق الذات في الكاتب وانحلت القضية إلى زيد زيد له الكتابة ان كان زيد المجعول موضوعا في القضية مقيدا بالوصف واقعا صدق الإيجاب بالضرورة فان زيد المفروض كونه كاتبا في الواقع زيد له الكتابة بالضرورة وان لم يكن مقيدا به واقعا صدق السلب بالضرورة فان زيدا الذي ليس بكاتب واقعا ليس بكاتب بالضرورة (ثم إن المصنف) قد أورد على هذا التنظر بما حاصله أن مرجع هذا الوجه إلى صيرورة القضية لأجل ملاحظة ثبوت النسبة في الواقع وعدمه بشرط المحمول وهي ضرورية وهذا فاسد جدا فإنه مما لا يصح الانقلاب إلى الضرورة فان الدعوى هو انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى الضرورة بلا شرط والا فكل قضية بشرط المحمول هي ضرورية ولو كانت ممكنة.
(أقول) إن تنظر الفصول رحمه الله وإن كان في غير محله كما أشرنا قبلا ولكن ليس مراده مما أفاده هنا في وجه التنظر ان القضية لأجل ملاحظة ثبوت النسبة في الواقع وعدم ثبوتها تصير بشرط المحمول فان القضية التي هي بشرط المحمول عبارة عما جعل المحمول في القضية قيدا للموضوع ففي مثل زيد كاتب يجعل الكاتب قيدا لزيد ويقال زيد الكاتب كاتب وفي المقام لم يجعل المحمول كذلك كي يكون المراد كما زعمه المصنف بل مراد الفصول أن مصداق الذات المأخوذ في مفهوم المشتق هو لا يخلو من أحد أمرين فاما أن يكون
157

مقيدا بالوصف واقعا فالإيجاب ضروري والا فالسلب ضروري فيجاب عنه حينئذ بان المناط في كون القضايا ضرورية ليست ملاحظة ثبوت النسبة في الواقع وعدم ثبوتها والا فينحصر جميع القضايا بالضرورية بل المناط في كون القضية ضرورية أن تلحظ نسبة المحمول إلى الموضوع في حد ذاتها فان كان المحمول مما يستحيل ان فكاكه عنه فهي ضرورية والا فهي غير ضرورية (وكان) منشأ اشتباه المصنف هنا هو قول الفصول في تنظره لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف... إلخ فتخيل أن مراده من الذات... إلخ هو زيد المجعول موضوعا في القضية ولم يتفطن أن مراد الفصول منها بقرينة كلامه المتقدم الذي تنظر فيه هنا هو مصداق الذات المأخوذ في مفهوم المشتق لا زيد المجعول موضوعا في القضية فتأمل جيدا.
(قوله لكن يصدق زيد الكاتب... إلخ) الظاهر ان في العبارة نقص على كل حال أما على حسب ما استفاده المصنف من كلام الفصول من ان المراد من الذات المأخوذة مقيدة بالوصف هو زيد المجعول موضوعا في القضية فالناقص كلمة كاتب أي لكن يصدق زيد الكاتب كاتب بالضرورة وأما على حسب ما استفدناه من كلام الفصول من أن المراد من الذات المأخوذة مقيدة بالوصف هو مصداق الذات المأخوذ في مفهوم المشتق فالناقص كلمة زيد أي لكن يصدق زيد زيد الكاتب بالضرورة بل كان الصحيح أن يقول زيد زيد له الكتابة بالضرورة.
(قوله كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا... إلخ) كان الصحيح أن يقول بشرط كونه مقيدا بعدمه واقعا وعلى كل حال المعنى هكذا أي كما لا يكاد يضر بكون القضية ممكنة صدق السلب بالضرورة بشرط كون الذات مقيدا بعدم الوصف كما في زيد اللاكاتب
158

ليس بكاتب بالضرورة.
(قوله وذلك لوضوح ان المناط في الجهات ومواد القضايا... إلخ) علة لقوله لا يصحح دعوى الانقلاب ثم أن ما يبين به كيفية نسبة المحمول إلى الموضوع من الضرورة أو الدوام أو الإمكان أو الامتناع ونحو ذلك هي جهة القضية ونفس الكيفية الواقعة في نفس الأمر هي مادة القضية.
(قوله وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده (ره) بإبطال الوجه الأول كما زعمه قدس سره... إلخ) الفصول بعد أن تنظر فيما أورده على الوجه الثاني واعترف بلزوم الانقلاب نظرا إلى ان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة... إلخ (قال ما لفظه) ولا يذهب عليك أنه يمكن التمسك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأول أيضا لأن لحوق مفهوم الذات أو الشيء لمصاديقهما أيضا ضروري ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني (انتهى) وحاصله أن بهذا البيان يمكن التمسك لإبطال الوجه الأول أيضا فمن اعتبار مفهوم الذات أو الشيء في مفهوم المشتق وان لم يلزم دخول العرض العام في الفصل لما تقدم منه ولكن يلزم الانقلاب إلى الضرورة لا محالة فان مفهوم الذات أو الشيء المقيد بالوصف ان كان مقيدا به واقعا صدق الإيجاب
بالضرورة والا صدق السلب بالضرورة (فيقول) المصنف في تضعيفه أن لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما يعنى بها الموضوع وإن كان ضروريا لكن بشرط أن يكون مطلقا غير مقيد لا مطلقا ولو مقيدا بوصف ممكن الثبوت فان حمله حينئذ لا يكون ضروريا إلا بشرط تقيد الموضوع به فتكون القضية بشرط المحمول.
(أقول) قد أشرنا آنفا أن المصنف قد استفاد من كلام الفصول في
159

وجه التنظر أي من قوله (لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف... إلخ) ان المراد هو الذات المجعول موضوعا في القضية وذلك بقرينة ما أورده عليه من أن مرجع ذلك إلى صيرورة القضية بشرط المحمول... إلخ وهاهنا قد استفاد من كلام الفصول في جواز التمسك بالبيان المذكور على إبطال الوجه الأول أن المراد هو الذات المأخوذة في المشتق وذلك بقرينة ما أورده عليه من أن لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما... إلخ مع أن كلامي الفصول في المقامين على نمط واحد بل شيء واحد وهذا من المصنف عجيب جدا (مضافا) إلى أن هذا الإيراد هو عين ما أورده الفصول بنفسه على الوجه الثاني قبل أن يتنظر فيه وقد أنكره المصنف أشد إنكار وقال في تضعيفه ما حاصله أن القيد المأخوذ في القضية ان كان خارجا وكان المحمول ذات المقيد فالقضية ضرورية وان كان القيد داخلا فالقضية تنحل إلى قضيتين إحداهما ضرورية وأخراهما ممكنة فكيف يورده المصنف هاهنا بعينه على نفس الفصول ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير الآن إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله ثم انه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل... إلخ) هذا رجوع إلى كلام المحقق الشريف (وتوضيحه) أن المصنف قد اعترف بلزوم الانقلاب في الوجه الثاني كما يظهر من جوابه عن إيراد الفصول على الوجه الثاني بما تقدم وعرفت غايته أنه قد اعترف بالانقلاب في الجملة بمعنى أن القيد ان كان خارجا فالقضية ضرورية وان كان داخلا فتنحل القضية إلى قضيتين إحداهما ضرورية وأخراهما ممكنة ولكن يدعى في المقام أنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية بدل انقلاب مادة الإمكان الخاص إلى الضرورة دخول النوع في الفصل كان أليق بالشرطية الأولى أي لزوم
160

العرض العام في الفصل بل كان أولى منه لفساده مطلقا وإن لم يكن مثل الناطق فصلا حقيقيا بل كان لازم ما هو الفصل الحقيقي كما تقدم وذلك لبطلان أخذ الشيء في لازمه وخاصته.
(قوله ثم انه يمكن أن يستدل على البساطة بضرورة عدم تكرار الموصوف في مثل زيد الكاتب... إلخ) وحاصله أن ما يفهمه الإنسان من المشتق ويتبادر منه إلى ذهنه هو أمر بسيط وجداني لا مركب من أمرين ولو كان كلمة الشيء مفهوما أو مصداقا مأخوذة في المشتق لكان الموصوف في مثل قولك زيد الكاتب مكررا قهرا وكان المفهوم هكذا زيد شيء له الكتابة أو زيد زيد له الكتابة مع وضوح عدم تكرار الموصوف فيه بلا كلام وليس ذلك إلا لأجل بساطة مفهوم المشتق وعدم تركبه من شيئين أو أكثر.
(قوله إرشاد... إلخ) وحاصل الإرشاد أن المقصود من بساطة المشتق بساطته مفهوما وإدراكا كما أشير آنفا لا حقيقة وماهية والا فهو مركب بحسب الحقيقة والماهية من أمرين أي ذات ثبت له المبدأ كما هو الشأن في ساير الأشياء فمفاهيمها بسيطة وماهياتها مركبة أي من جنس وفصل فالإنسان مثلا بسيط مفهوما مركب ماهية من حيوان وناطق وهكذا الأمر في كل محدود وحد
في الفرق بين المشتق ومبدئه
(قوله الثاني الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل... إلخ) فالفرق بين الضارب والضرب مفهوما وهكذا بين كل مشتق ومبدئه أن الضارب بمفهومه لا يأبى عن الحمل فتقول زيد ضارب والضرب بمفهومه آب عن الحمل فلا يصح قولك زيد ضرب الا بضرب من التأويل كما في
161

زيد عدل (والسر) في ذلك ما أشير إليه آنفا من أن المشتق وان كان بسيطا مفهوما ولكنه مركب حقيقة وماهية من ذات ثبت له المبدأ فيتحد قهرا مع زيد ونحوه ممن تلبس بالضرب ويحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي بخلاف المبدأ فإنه ليس الا مجرد المعنى الحدثي فلا يتحد مع زيد ونحوه خارجا ومصداقا ولا يحمل عليه الا عناية وتجوزا (قال المصنف) في الكتاب وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من ان المشتق يكون لا بشرط والمبدأ يكون بشرط لا أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه (انتهى).
(قوله وصاحب الفصول حيث توهم أن مرادهم انما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين بلحاظ الطواري والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك... إلخ) (قال صاحب الفصول) في التنبيه الثاني من تنبيهات المشتق ما هذا لفظه زعم جماعة من أهل المعقول ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشيء لا بشرط وبينه بشرط لا فحدث الضرب ان اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ الضرب وامتنع حمله على الذات الموصوفة به وان اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب وصح حمله عليها وعلى هذا القياس فجعلوا الفرق بين العرض والعرضي يعنى بهما المبدأ والمشتق كالفرق بين الهيولى والجنس وبين الصورة والفصل وهذا عندي غير مستقيم (ثم أخذ رحمه الله) في بيان وجه عدم الاستقامة وملخصه بعد التدبر التام فيه أن حمل الشيء على شيء يستدعى أن يكون بينهما مغايرة واتحادا ثم التغاير قد يكون اعتباريا والاتحاد حقيقيا كما في هذا زيد والناطق حساس وقد يكون التغاير حقيقيا والاتحاد اعتباريا وفي هذا يعتبر أمران.
(أحدهما) تنزيل الشيئين المتغايرين في الوجود منزلة شيء واحد
162

وملاحظتهما من حيث المجموع والجملة فيلحقهما بذلك وحدة اعتبارية.
(ثانيهما) أخذ كل من الجزءين لا بشرط فعند ذلك صح حمل كل من الجزءين على الآخر كما صح حمل كل منهما على المجموع فالإنسان مثلا مركب في الخارج من
جزءين متغايرين وهما البدن والنفس فإذا لوحظا شيئا واحدا ولحقهما بذلك وحدة اعتبارية وأخذ كل من الجزءين لا بشرط كما هو مفاد الجسم والناطق فعند ذلك صح حمل كل منهما على الآخر فتقول الجسم ناطق والناطق جسم كما صح حمل كل منهما على المجموع الواحد الاعتباري فتقول الإنسان جسم أو ناطق (إلى أن قال) ما هذا لفظه إذا تبين عندك هذا فنقول أخذ العرض لا بشرط لا يصح حمله على موضوعه ما لم يعتبر المجموع المركب منهما شيئا واحدا ويعتبر الحمل بالقياس إليه ولا خفاء في أنا إذا قلنا زيد عالم أو متحرك لم نرد بزيد المركب من الذات وصفة العلم أو الحركة وإنما نريد به الذات وحدها فيمتنع حمل العلم والحركة عليه وان اعتبرا لا بشرط (انتهى) ومحصل الجميع أن العرض والذات متغايران بالوجود ولا يكفى في صحة حمل العرض على الذات مجرد اعتبار العرض لا بشرط ولذا امتنع حمل العلم والحركة على الذات وان اعتبرا لا بشرط بل يعتبر في صحة الحمل علاوة على ذلك اعتبار المجموع المركب من الذات والعرض شيئا واحدا فيلحقهما بذلك وحدة اعتبارية فإذا اعتبر المجموع كذلك واعتبر العرض لا بشرط فعند ذلك صح حمل العرض على المجموع والا لم يصح ولم يمكن هذا محصل كلامه بطوله (وفيه ما لا يخفى) فان العلم والحركة بمجرد أن اعتبرا لا بشرط كانا مفادين للفظي العالم والمتحرك وصح حينئذ حمل كل منهما على الذات من دون حاجة إلى ملاحظتهما من حيث المجموع شيئا واحدا فيلحقهما بذلك وحدة اعتبارية إلى آخر ما أفاد وهكذا الأمر في غير العلم والحركة من ساير المبادي فبمجرد ان
163

اعتبر المبدأ لا بشرط كان مدلولا للمشتق المأخوذ منه وصح حمله على الذات بلا حاجة إلى شيء آخر والعجب أنه رحمه الله هو الذي نقل عن أهل المعقول في صدر كلامه المتقدم أن حدث الضرب إذا اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب بل اعترف هو أيضا في أثناء كلامه أن البدن والنفس إذا اعتبرا لا بشرط كانا مدلولين للفظي الجسم والناطق ومع ذلك زعم أن مجرد ذلك لا يكفى بل لا بد من اعتبار المجموع المركب من الذات والعرض شيئا واحدا ليلحقهما بذلك وحدة اعتبارية.
(وكيف كان) حاصل كلام المصنف هاهنا أن صاحب الفصول حيث توهم من كلام أهل المعقول أن مرادهم من اللا بشرطية وبشرطية اللا انما هو بلحاظ الطواري والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد من قبيل الرقبة التي قد تعتبر بالنسبة إلى العوارض الخارجية كالكفر والإيمان والطول والقصر ونحو ذلك لا بشرط وقد تعتبر بالنسبة إليها بشرط لا مع وحدة المعنى في الكل فأورد عليهم بعدم استقامة هذا الفرق لامتناع حمل العلم والحركة على الذات وان اعتبرا لا بشرط مع الغفلة من ان المراد من اللا بشرطية وبشرطية اللا ليس بالنسبة إلى العوارض الخارجية كي يكون اعتبارهما بيد المعتبر بالكسر بل هو بمعنى الآباء عن الحمل بمفهومه وعدم الآباء عنه كذلك كما في الفرق بين الجنس والمادة وبين الفصل والصورة فالأول غير آب عنه مفهوما والثاني آب عنه مفهوما (ولكن الإنصاف) أن الفصول لم يتوهم من كلام أهل المعقول ما تخيله المصنف في حقه كيف وقد نقل هو بنفسه من أهل المعقول أن الفرق بين العرض والعرضي يعنى المبدأ والمشتق يكون كالفرق بين الهيولى والجنس وبين الصورة والفصل ومعه كيف يتوهم من كلامهم ان مرادهم من اللا بشرطية وبشرطية اللا انما هو بلحاظ الطواري والعوارض
164

الخارجية مع حفظ مفهوم واحد لا بمعنى الآباء عن الحمل بمفهومه وعدم الآباء عنه كذلك بل التحقيق أنه رحمه الله لما زعم ان مجرد اعتبار العرض لا بشرط لا يكفى في صحة حمله على الذات بل يحتاج إلى أمر آخر ما وراء ذلك وهو اعتبار المجموع شيئا واحدا فيلحقهما بذلك وحدة اعتبارية كما تقدم أورد عليهم بقوله وهذا عندي غير مستقيم... إلخ.
(قوله بين الجنس والفصل وبين المادة والصورة... إلخ) فكل من الجنس والفصل لا بشرط أي غير آب بمفهومه عن الحمل فيقال الإنسان حيوان أو ناطق بخلاف المادة والصورة فكل منهما بشرط لا أي بمفهومه آب عن الحمل فلا يقال الإنسان بدن أو نفس.
في بيان ملاك الحمد
(قوله الثالث ملاك الحمل كما أشرنا إليه هو الهوهوية والاتحاد من وجه والمغايرة من وجه آخر... إلخ) ملاك الحمل كما أفاد المصنف هو الاتحاد من وجه والمغايرة من وجه وأقل مراتب الاتحاد المعتبر في الحمل هو الاتحاد المصداقي الخارجي كما في قولك الإنسان ضاحك فإنهما متغايران مفهوما وماهية ومتحدان مصداقا وخارجا وفوق الاتحاد المصداقي الاتحاد الماهوي كما في قولك الإنسان حيوان ناطق فإنهما متغايران مفهوما لوضوح بساطة مفهوم الأول وتركب مفهوم الثاني ومتحدان ماهية وخارجا وفوق الاتحاد الماهوي الاتحاد المفهومي كما في قولك الإنسان إنسان أو بشر فهما متحدان مفهوما وماهية وخارجا ولا بد من فرض التغاير بينهما اعتبارا ولو بالإجمال والتفصيل بان يكون الأول إشارة إلى مجرد الذات والثاني إلى الذات بذاتياتها التي بها تمتاز
165

عما عداها والا لم يصح حمل أحدهما على الآخر لكونه لغوا عبثا.
(قوله ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين... إلخ) إشارة إلى ما نقلناه في الأمر الثاني عن صاحب الفصول من ملاحظة التركيب بين المتغايرين وملاحظتهما من حيث المجموع شيئا واحدا فيلحقهما بذلك وحدة اعتبارية الا أن الفصول كما تقدم شرح كلامه قد التزم به في حمل أحد المتغايرين الحقيقيين كالبدن والنفس لا مطلقا وعلى كل حال غرض المصنف ان ما التزم به الفصول لو لم يكن مخلا بالحمل نظرا إلى انهما إذا لوحظا شيئا واحدا وأريد حمل أحد الجزءين على الآخر أو على المجموع لم يمكن للمغايرة بينهما بالجزئية والكلية لم يكن ذلك معتبرا في الحمل قطعا.
(أقول) تعليل الإخلال باستلزام المغايرة بالجزئية والكلية انما يناسب الرد على حمل أحد الجزءين على المجموع لا مطلقا ولو على الآخر.
(قوله لحاظ بنحو الاتحاد... إلخ) العبارة ركيكة جدا والظاهر ان الصحيح هكذا لحاظ نحو من الاتحاد.
(قوله مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وساير القضايا... إلخ) أي مع وضوح عدم لحاظ التركيب في التحديدات كما في قولك الإنسان حيوان ناطق ولا في ساير القضايا كما في قولك الإنسان ضاحك لا في طرف الموضوعات بان يقال مثلا ان الإنسان مركب من جزءين وهما البدن والنفس فيلحظان شيئا واحدا ثم يعتبر ان لا
بشرط إلى آخر ما ذكره الفصول ولا في طرف المحمولات بل الملحوظ في الموضوعات والمحمولات مجرد معانيها فقط.
(قوله وفي كلامه موارد للنظر... إلخ) أهمها جواز حمل أحد المتغايرين الحقيقيين على الآخر فان الحمل لا بد وان يكون فيه نحو من الاتحاد
166

والهوهوية الحقيقية اما مفهوما أو ماهية أو خارجا وهو أقل مراتب الاتحاد المعتبر في الحمل وقد أشرنا إلى تفصيل ذلك كله آنفا ولا يكاد يمكن حمل أحد المتغايرين الحقيقيين على الآخر الا بضرب من التأويل والتنزيل تجوزا وعناية كما في قولك زيد حمار لا حقيقة.
في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري عليه المشتق ولو مفهوما
(قوله الرابع لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما... إلخ) (قال صاحب الفصول) في التنبيه الثالث من تنبيهات المشتق يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض ان كان صفة كالضارب والقاتل (إلى أن قال) وأما إذا كان المبدأ ذاتا فلا يعتبر فيه القيام كما في البقال والحداد (إلى ان قال) وخالف في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق واستدلوا بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم بالفتح (إلى أن قال) وانتصر لهم بعض أفاضل المتأخرين بصدق العالم والقادر ونحوهما عليه مع عينية صفاته تعالى كما هو الحق أي ليست صفاته تعالى قائمة به بل هي عينه تعالى وبصدق الخالق عليه تعالى مع عدم قيام الخلق به وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلأنه مشترك الورود إذا الظاهر إطباق الفريقين على ان المبدأ لا بد ان يكون مغايرا لذي المبدأ وانما اختلفوا في وجوب قيامه به وعدمه فالوجه التزام وقوع النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى ولهذا لا يصدق في حق غيره (إلى ان قال)
167

واما الثاني فلان الخلق ان اعتبر بمعنى الفاعل كان بمعنى الجعل والتأثير ولا نسلم عدم قيامه به تعالى بل هو قائم به تعالى (إلى ان قال) وان اعتبر بمعنى المفعول فليس مبدأ لصيغة الخالق فليس في عدم قيامه به تعالى ما يخل بالمقصود (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.
(أقول) إن غرضه من الالتزام بوقوع النقل في تلك الألفاظ أن هيئة العالم والقادر ونحوهما من المشتقات في غير الله تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدأ وفي الله تعالى نقل منها إلى الذات المتحدة مع المبدأ ومن المعلوم ان العالم والقادر بهذا المعنى مما لا يصدق في حق غيره فإذا يختلف معنى الهيئة في المشتقات بالنسبة إلى الباري جل وعلا وغيره (ثم أن المصنف) قد اختار من مجموع ما ذكره الفصول هنا مواضع ثلاثة.
(الأول) قوله الظاهر إطباق الفريقين على ان المبدأ لا بد ان يكون مغايرا لذي المبدأ فعقد له هذا الأمر الرابع وقال الرابع لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ... إلخ.
(الموضع الثاني) قوله يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به فعقد له الأمر الخامس الآتي وقال الخامس أنه وقع الخلاف بعد الاتفاق... إلخ.
(الموضع الثالث) قوله من دون واسطة في العروض أي يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض فعقد له الأمر السادس الآتي وقال السادس الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق... إلخ (وعلى كل حال) حاصل ما أفاده المصنف هنا في هذا الأمر الرابع أنه لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري عليه المشتق ولو مفهوما وان اتحدا عينا وخارجا ولا اتفاق على اعتبار غيرها أن لم نقل بحصول
168

الاتفاق على عدم اعتباره وعليه فلا وجه لالتزام صاحب الفصول بالنقل في مثل العالم والقادر بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى بعد مغايرة المبدأ معه جل وعلا مفهوما وان اتحدا عينا وخارجا.
(قوله ومنه قد انقدح ما في الفصول من الالتزام بالنقل أو التجوز... إلخ) ليس في كلام الفصول من التجوز عين ولا أثر فإسناد التجوز إليه مما لا حقيقة له.
في اعتبار قيام المبدأ بما يجري عليه المشتق
(قوله الخامس أنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجري عليه المشتق في اعتبار قيام المبدأ به في صدقه على نحو الحقيقة... إلخ) وذلك لما تقدم وعرفت من كلام الفصول حيث (قال) يشترط في صدق المشتق على شيء قيام مبدأ الاشتقاق (إلى أن قال) وخالف في ذلك جماعة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق... إلخ وقد أشرنا إلى أن المصنف قد عقد لقول الفصول هذا هذا الأمر الخامس فتذكر.
(قوله وقد استدل من قال بعدم الاعتبار بصدق الضارب والمؤلم مع قيام الضرب والألم بالمضروب والمؤلم بالفتح... إلخ) قد تقدم ذكر هذا الاستدلال لجماعة وهم الذين خالفوا في المسألة فلم يعتبروا قيام المبدأ في صدق المشتق في كلام الفصول مع انتصار بعض أفاضل المتأخرين لهم بوجهين آخرين
(قوله والتحقيق أنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الألباب في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها من التلبس بالمبدأ... إلخ) وحاصل التحقيق أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات حقيقة تلبسها بالمبدأ
169

وقيام المبدأ بها غايته أن التلبس يختلف (فقد يكون) بنحو الصدور كما في الضارب (وقد يكون) بنحو الحلول كما في العالم (وقد يكون) بنحو الوقوع عليه كما في المقتول (وقد يكون) بنحو الوقوع فيه كما في المقتل (وقد يكون) بنحو انتزاع المبدأ عنه مفهوما واتحاده معه خارجا كما في العالم والقادر ونحوهما مما يجري عليه تعالى وقد أشير إلى ذلك في الأمر الرابع (وقد يكون) بنحو انتزاع المبدأ عنه مع عدم تحقق الا لمنشأ الانتزاع كما في الزوج والملك والرق والحر والسابق واللاحق ونحو ذلك من العناوين التي كانت مباديها من الإضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها في الخارج الا لمنشأ انتزاعها ويكون من الخارج المحمول في قبال المحمول بالضميمة وهي المبادي المتأصلة التي لها وجود في الخارج حقيقة ولو في ضمن المعروض كالسواد والبياض والشجاعة والكرم ونحو ذلك (وعليه) ففي مثل العالم
والقادر ونحوهما من الصفات الجارية عليه تعالى يكون المبدأ قائما بالذات غايته أنه بنحو العينية لا بنحو الإثنينية فلا وجه لما زعمه بعض أفاضل المتأخرين كما تقدم قبلا من عدم قيام المبدأ فيهما بالذات حيث انتصر بسببه للجماعة الذين خالفوا في المسألة فلم يعتبروا قيام المبدأ بالذات فتدبر جيدا.
(قوله وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية... إلخ) دفع لما قد يتخيل من أن العرف لا يتفطنون لمثل هذه الدقائق من كونه تعالى أيضا متلبسا بالعلم والقدرة غايته أنه بنحو العينية لا بنحو الاثنينية ليكون العالم والقادر ونحوهما صادقة عليه تعالى حقيقة بلا تجوز أصلا (وحاصل الدفع) ان عدم اطلاعهم على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية مما لا يضر بصدق الصفات عليه تعالى حقيقة لأن العرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على صغرياتها بل التطبيق أمره بيدنا ففي تعيين
170

مدلول المشتق نرجع إلى العرف ولكن بعد ما رجعنا إليهم وأخذنا منهم المعنى وهو الذات المتلبس في الحال لا نحتاج في تطبيق المعنى على مصاديقه إليهم فإذا رأينا ان العالم أو القادر بماله من المعنى العرفي اللغوي منطبق عليه تعالى لكونه متلبسا أيضا بالعلم والقدرة ولو بنحو العينية لا بنحو الإثنينية فيكون صدقه عليه تعالى بنحو الحقيقة وان لم يطلع على صدقه أهل العرف.
(قوله فلا وجه لما التزم به في الفصول من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى... إلخ) غرض الفصول كما تقدم قبلا من الالتزام بالنقل في تلك الصفات الجارية عليه تعالى هو النقل في هيئاتها فهيئة العالم مثلا في غيره تعالى حقيقة في الذات المغايرة مع المبدأ وفيه تبارك وتعالى قد نقلت إلى الذات المتحدة مع المبدأ وليس مقصوده من النقل فيها نقل موادها كي يرد عليه ما أورده المصنف عليه مع الشدة والغلظة من قوله كيف ولو كانت يعنى الصفات بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة لسان وألفاظ بلا معنى إلى آخر ما ذكره مما لا ينبغي احتماله في حق فاضل فضلا عن مثل صاحب الفصول رحمه الله.
(قوله والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره... إلخ) (قال في الفصول) كما تقدم شرحه في الأمر الرابع ما لفظه فالوجه التزام وقوع النقل في تلك الألفاظ بالنسبة إليه تعالى ولهذا لا يصدق في حق غيره (انتهى) وقد أشرنا آنفا ومن قبل أيضا أن مقصوده من النقل هو النقل في الهيئة دون المادة فإذا ليس العجب من صاحب الفصول بل العجب من المصنف حيث خلط بين الهيئة والمادة ولم يعرف أن المقصود هو الأول دون الثاني.
(قوله وبالتأمل فيما ذكرنا ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين... إلخ) ليس في المسألة الا الاستدلال من جانب واحد وهو جانب المخالفين الذين لم
171

يعتبروا قيام المبدأ بالذات فاستدلوا كما تقدم في الأمر الرابع وفي صدر هذا الأمر أيضا بصدق الضارب والمؤلم بالكسر مع قيام الضرب والا لم بالمضروب والمؤلم بالفتح (وقد أجاب) عنهم الفصول بما هذا لفظه ومنشأ هذا الوهم عدم الفرق بين المصدر بمعنى الفاعل وبينه بمعنى المفعول فان الضرب والإيلام بمعنى الفاعل تأثير وقيامهما بالفاعل كما انهما بمعنى المفعول أثر وقيامهما بالمفعول (انتهى) هذا مضافا إلى ما انتصر للمخالفين بعض أفاضل المتأخرين بوجهين آخرين وقد عرفت شرحهما مع جواب الفصول عنهما في الأمر الرابع فلا نعيد
(قوله فتأمل... إلخ) ولعله إشارة إلى ما أشرنا إليه من أنه ليس في المسألة الا استدلال وانتصار من جانب واحد لا من جانبين (وعليه) فقوله وبالتأمل فيما ذكرنا ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة بين الطرفين لا يخلو عن مسامحة بل عن خلل ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما أشرنا قبلا من أن غرض الفصول من النقل هو النقل في الهيئات لا النقل في المواد كي يرد عليه ما أورده المصنف من اللقلقة في اللسان إلى آخر ما ذكره في الكتاب
في عدم اعتبار قيام المبدأ بما يجري عليه المشتق حقيقة
(قوله السادس الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض... إلخ) كما في الماء الجاري بل يكفى تلبس الذات بالمبدأ ولو مجازا ومع الواسطة في العروض كما في الميزاب الجاري فإسناد الجري إلى الميزاب وحمل الجاري عليه وان كان مجازيا
172

ولكن التجوز يكون في الإسناد لا في الكلمة أي في المشتق فإنه قد استعمل فيما وضع له وهو الذات المتلبس في الحال (ولكن) ظاهر الفصول بل صريحه أنه يعتبر في صدق المشتق حقيقة التلبس بالمبدأ حقيقة لما تقدم في الأمر الرابع من قوله يشترط في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض... إلخ وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة هذا محصل كلام المصنف.
(أقول) إن التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض وان لم يعتبر في استعمال المشتق بنفسه كما أفاد المصنف ولكنه يعتبر قطعا في جرى المشتق على شيء وحمله عليه حقيقة ففي الميزاب الجاري وأن لم يكن تجوز في كلمة الجاري نظرا إلى استعمال المشتق في معناها الحقيقي وهو الذات المتلبس في الحال ولكن التجوز لا محالة يكون في أسناده إلى الميزاب وحمله عليه وظاهر كلام الفصول بل صريحه حيث قال يعتبر في صدق المشتق على شيء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به من دون واسطة في العروض... إلخ هو اعتبار التلبس الحقيقي في صدق المشتق على شيء وحمله عليه وهو حق لا في استعمال المشتق بنفسه فإذا لا خلط في كلامه بين المجاز في الإسناد والمجاز في الكلمة بل الخلط في كلام المصنف قدس سره (وبالجملة) الحق الذي ينبغي أن يصار إليه هو اعتبار التلبس الحقيقي أي بلا واسطة في العروض في صدق المشتق على شيء وجريه عليه حقيقة فان لم يكن متلبسا كذلك كما في الميزاب الجاري فالجري لا محالة مجازي وان لم يكن تجوز في المشتق بنفسه لا في مادته ولا في هيئته أما عدم التجوز في مادته فلأنها قد استعملت في معناها الحقيقي وهو السيلان ولم يرد منها معنى آخر غايته ان إسنادها إلى الميزاب مجازي لعدم قابليته للسيلان وأما عدم التجوز في هيئته فلان الهيئة قد استعملت في معناها
173

الحقيقي وهو الذات المتلبسة في الحال ولم تستعمل في غيرها غايته ان حمل المشتق على الميزاب مجازي لعدم كونه حقيقة متلبسا بالجري وان كان متلبسا به عناية فافهم
جيدا.
في الأوامر وبيان معاني الأمر
(قوله المقصد الأول في الأوامر وفيه فصول الأول فيما يتعلق بمادة الأمر من الجهات وهي عديدة الأولى أنه قد ذكر للفظ الأمر معاني متعددة.
إلخ) قد ذكر المصنف للفظ الأمر معاني عديدة (منها) الطلب كما يقال أمره بكذا ولعل المقصود منه إنشاء الطلب والا فليس الأمر هو نفس الطلب كيف والأمر فعل من افعال الآمر وهو إنشاء الطلب من الغير بصيغة افعل ونحوها ولا يكون هو الا آنا ما والطلب هو الأمر الاعتباري المنشأ بالصيغة يبقى بعد الإنشاء وحينا إلى أن يسقطه الامتثال أو العصيان أو انعدام الموضوع ونحو ذلك وللطلب معنى آخر بل معنيان آخران ستطلع عليهما في الجهة الرابعة إن شاء الله تعالى (ومنها) الشأن كما يقال شغله امر كذا أي شأن كذا (ومنها) الفعل كما في قوله تعالى وما أمر فرعون برشيد أي وما فعله برشيد (ومنها) الفعل العجيب وقد مثل له المصنف بقوله تعالى فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها... إلخ (ومنها) الشيء كما تقول رأيت اليوم أمرا عجيبا أي شيئا عجيبا (ومنها) الحادثة كما تقول وقع أمر كذا أي حادثة كذا (ومنها) الغرض كما تقول جاء زيد لأمر كذا أي لغرض كذا هذه جملة من المعاني التي ذكرها المصنف وهي سبعة وقد ذكر للفظ الأمر معاني أخر (كالحال) كما في قولك زيد أمره مستقيم أي حاله مستقيم (والقدرة) وقد مثلوا لها بقوله تعالى
174

مسخرات بأمره أي بقدرته (والصنع) وقد مثلوا له بقوله تعالى أتعجبين من أمر الله أي من صنعه تعالى إلى غير ذلك مما يظهر بمراجعة المطولات.
(قوله ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم.
إلخ) مقصود المصنف على ما يظهر من كلماته الآتية ان ما سوى الطلب والشيء والفعل وهو الغرض والحادثة والفعل العجيب والشأن عده من معاني لفظ الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم فان الأمر في قولك جاء زيد لأمر كذا لم يستعمل في مفهوم الغرض بل استعمل فيما هو مصداق الغرض واللام قد دلت على الغرض وفي قولك وقع أمر كذا لم يستعمل في مفهوم الحادثة بل استعمل فيما هو مصداق الحادثة وهكذا الحال في قوله تعالى فلما جاء أمرنا فلم يستعمل الأمر في مفهوم الفعل العجيب بل فيما هو مصداق الفعل العجيب وهو الطلب الخاص الصادر منه تعالى في هلاك القوم حيث جعل به عاليها سافلها وهكذا الأمر في الشأن وغيره مما لم يذكره المصنف.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف قوله بل اللام قد دلت على الغرض فان اللام لا تدل عليه ولذا تدخل اللام على نفس الغرض فتقول جاء زيد لغرض كذا فلو كانت اللام دالة على الغرض كان المعنى هكذا جاء زيد غرض غرض كذا وهو غير مستقيم (والصحيح) أن يقال إن الغرض والحادثة ونحوهما إنما يعرف من خصوصيات المقام فمن التعبير بقوله وقع أمر كذا يعرف أن الأمر الواقع حادثة من الحوادث ومن التعبير بقوله جاء زيد لأمر كذا يعرف ان الأمر الذي جاء زيد لأجله هو غرض من الأغراض وهكذا في غيرهما.
(قوله وبذلك ظهر ما في دعوى الفصول من كون لفظ الأمر حقيقة في المعنيين الأولين... إلخ) أي في الطلب والشأن حيث (قال) في الفصول
175

ما هذا لفظه الحق ان لفظ الأمر مشترك بين الطلب المخصوص كما يقال أمره بكذا وبين الشأن كما يقال شغله أمر كذا لتبادر كل منهما من اللفظ عند الإطلاق مع مساعدة ظاهر كلام بعض اللغويين عليه (انتهى) ووجه ظهور ما في دعوى الفصول ما عرفته آنفا من أن عد الشأن من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم.
(قوله ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة... إلخ) أي في خصوص الطلب الوجوبي الصادر من العالي لا مطلقا ولو كان ندبيا أو كان من السافل المستعلى كما سيأتي تحقيق ذلك في الجهتين الآيتين إن شاء الله تعالى (ثم أن) في بعض النسخ هكذا حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ولكن الذي يبعده ما سيأتي من قوله كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول أي ظاهرا في المعنى الأول يعنى به الطلب من دون أن يذكر كلمة الشيء بل وهكذا قوله الآتي ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي إذ لو كان حقيقة في الطلب والشيء كان لا محالة مشتركا لفظيا بينهما (وعلى كل حال) الحق أن للفظ الأمر معنيين بحكم التبادر لا أكثر.
(أحدهما) الطلب بمعنى إنشاء الطلب من الغير طلبا حتميا صادرا من العالي قد أنشأ بداعي الطلب النفساني الحقيقي لا بدواعي أخر كالاختبار والترجي والتمني والتهديد ونحو ذلك مما سيأتي تفصيله في صيغة الأمر إن شاء الله تعالى فان الصيغة كما ستأتي وإن كانت موضوعة لإنشاء الطلب مطلقا بأي داع كان ولكن مادة الأمر حقيقة في خصوص ما إذا كان إنشاء الطلب بداعي الطلب الحقيقي النفساني لا بداعي الاختبار ونحوه وإلا فليس بأمر حقيقة وان أطلق عليه الأمر الصوري وسيأتي تصريح المصنف بذلك في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فانتظر.
176

(ثانيهما) ما يقرب من مفهوم الشيء والفعل ولا يمكن التعبير عن مفهومه على الضبط والدقة إذ التعبير عن مفهوم اللفظ مما لا يمكن إلا بلفظ مرادف له كما في قولك الإنسان بشر ولا مرادف للفظ الأمر واما التعاريف الجارية على الألسنة مثل قولهم الإنسان حيوان ناطق أو الفرس حيوان صاهل ونحو ذلك فليست هي لمفاهيم الأشياء بل هي لحقائقها وماهياتها كيف ومفاهيم الأشياء بسيطة وتعاريفها مركبة.
(قوله واما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص ومجاز في غيره... إلخ) بل المنقول منهم انهم اتفقوا على كونه حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في غيره لا أنه مجاز في غيره بكلمة واحدة (قال في الفصول) ما لفظه ثم ان كثيرا منهم نقلوا الاتفاق على كونه حقيقة في هذا المعنى أعني قول المخصوص وجعلوا النزاع في بقية معانيه فذهب بعضهم إلى أنه مجاز فيها لأنه أولى من الاشتراك ومنهم من جعله مشتركا معنويا بينه وبين الشأن حذرا من المجاز والاشتراك المخالفين للأصل ومنهم من جعله مشتركا لفظيا وعلى هذا جرت كلمة من وقفنا على كلامه (انتهى) ثم ان المراد من القول المخصوص الذي ادعى الاتفاق على كون الأمر حقيقة فيه هو صيغة الأمر كما سيأتي التصريح بها من المصنف وهي هيئة افعل أو فليفعل.
(قوله ولا يخفى أنه عليه لا يمكن الاشتقاق فان معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا مع ان الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم لا بالمعنى الآخر فتدبر... إلخ) شروع في إبطال ما نقل الاتفاق عليه من كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص أي صيغة الأمر وذلك بوسيلة مقدمتين.
(إحداهما) انه لا يمكن الاشتقاق من الأمر بالمعنى الاصطلاحي فان
177

المعنى الاصطلاحي معنى جامد لا معنى حدثي قابل للاشتقاق.
(ثانيتهما) ان الظاهر ان الاشتقاقات من الأمر يكون بذاك المعنى المصطلح عليه بينهم فيعرف من هاتين المقدمتين ان المصطلح عليه ليس هو القول المخصوص الغير القابل للاشتقاق بل معنى آخر قابل له (وفيه منع) المقدمة الثانية وهي كون الاشتقاقات بذاك المعنى المصطلح عليه بينهم فان المعنى المصطلح عليه أمر حادث جديد والاشتقاقات من الأمر كانت من قبل الاصطلاح (وعليه) فالوجه المذكور مما لا ينهض لإبطال ما نقل الاتفاق عليه من ان الأمر حقيقة في القول المخصوص وان لم يكن الاتفاق عليه ثابتا في حد ذاته ولعله لذلك قد أمر المصنف أخيرا بالتدبر وقال فتدبر وإن كان بعيدا.
(قوله ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه... إلخ) لما أبطل المصنف دعوى الاتفاق على كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص بالمقدمتين المذكورتين أراد توجيه اتفاقهم بما صح تعقله ووقوعه فقال ما حاصله انه يمكن أن يكون مرادهم من كون الأمر حقيقة في القول المخصوص أي في الطلب بالقول المخصوص تعبيرا عن الطلب بما يدل عليه وبما ينشئه ويوجده وهو القول المخصوص أي الصيغة (أقول) ويحتمل أن يكون مرادهم من كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص أي ان فعل الأمر حقيقة فيه أي في القول المخصوص وهو صيغة افعل لا نفس الأمر كما ان مرادهم ان الماضي أو المضارع حقيقة بحسب الاصطلاح في صيغة فعل أو يفعل أي فعل الماضي أو المضارع حقيقة فيها لا نفس الماضي أو المضارع (وعليه) فلا يثبت للفظ الأمر معنى اصطلاحي جديد غير ما ذكر له بحسب العرف واللغة.
(قوله نعم القول المخصوص أي صيغة الأمر إذا أراد العالي بها الطلب
178

يكون من مصاديق الأمر لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص... إلخ) لما أبطل المصنف دعوى الاتفاق على كون الأمر حقيقة بحسب الاصطلاح في القول المخصوص بما تقدم وعرفت وأثبت بينهما كمال المباينة أراد التقريب بينهما في الجملة فقال ما حاصله نعم القول المخصوص أي صيغة الأمر إذا أراد العالي بها الطلب على ما ستعرف من اعتبار العلو في معنى الأمر يكون من مصاديق الأمر لكنه من مصاديقه بما هو طلب مطلق أو مخصوص على الخلاف الآتي من كون الأمر لمطلق الطلب أي للمشترك بين الوجوب والاستحباب أو لخصوص الطلب الوجوبي الحتمي لا من مصاديقه بما هو شأن أو فعل أو غير ذلك مما قيل في معنى لفظ الأمر (هذا وفي التقريب) ما لا يخفى فان القول المخصوص أي صيغة الأمر إذا أراد العالي بها الطلب لا يكاد يكون من مصاديق الأمر ولو بما هو طلب فان الصيغة معنى جامد والأمر بما هو طلب معنى حدثي قابل للاشتقاق وهل يعقل أن يكون الجامد من مصاديق الحدث كلا (اللهم) إلا إذا كان مراده أن القول المخصوص أي صيغة الأمر إذا أراد العالي بها الطلب فالطلب المراد بها يكون من مصاديق الأمر بما هو طلب لا نفس الصيغة ولكنه خلاف الظاهر.
(قوله لو ثبت النقل... إلخ) يعنى نقل الاتفاق على أن الأمر بحسب الاصطلاح حقيقة في القول المخصوص.
(قوله وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز... إلخ) وذلك لما عرفت في المقام الأول من المقامات الثلاثة لتعارض الأحوال من أن اللفظ إذا استعمل في معنى ولم يعلم وضعه له فالمشهور على التوقف لا البناء على كونه حقيقة فيه كما ادعاه السيد رحمه الله ولا على كونه مجازا فيه كما نسب
179

إلى بعض المتأخرين ولا التفصيل بين ما إذا كان المستعمل فيه واحدا فيكون حقيقة فيه وبين ما كان متعددا فيكون حقيقة في أحدها مجازا في البقية والتمييز بأمارات الحقيقة والمجاز.
(قوله وما ذكر في الترجيح عند تعارض هذه الأحوال لو سلم ولم يعارض بمثله فلا دليل على الترجيح به... إلخ) قد تقدم في الأمر الثامن جملة مما ذكروها في الترجيح عند تعارض هذه الأحوال مثل كون المجاز خيرا من الاشتراك لكثرته وأوسعيته في العبارة أو كون الاشتراك خيرا من المجاز حيث أنه أبعد من الخطأ إلى غير ذلك من الوجوه الاستحسانية (ثم حاصل) كلام المصنف أن ما ذكر في ترجيح هذه الأحوال بعضها على بعض كترجيح المجاز مثلا على الاشتراك لو سلم في حد ذاته ولم يعارض بمثله مما ذكر في ترجيح الاشتراك مثلا على المجاز لا دليل على الترجيح به عند تعارض الأحوال فلا بد مع التعارض بعد عدم الدليل على ما ذكر من المرجحات من الرجوع إلى الأصل العملي.
(قوله كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول... إلخ) أي كما لا يبعد أن يكون الأمر ظاهرا في المعنى الأول وهو الطلب ولو احتمل أنه كان للانسباق من الإطلاق لا من إلحاق فلا يعلم كونه حقيقة فيه.
(أقول) هذا مناف لما تقدم منه آنفا من قوله ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة (وعلى كل حال) الحق ان الأمر حقيقة في إنشاء الطلب الحتمي للتبادر وعدم صحة السلب بل حقيقة فيه وفي معنى آخر أيضا قد تقدم لك شرحه قبل ذلك فلا نعيد.
180

في اعتبار العلو في معنى الأمر
(قوله الجهة الثانية الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر... إلخ) في المسألة وجوه بل أقوال خمسة:
(الأول) اعتبار العلو فلا يكون طلب السافل أو المساوي أمرا.
(الثاني) اعتبار الاستعلاء فلا يكون طلب المستخفض لجناحيه بل مطلق من لم يستعمل وان لم يستخفض جناحيه أمرا وإن كان من العالي.
(الثالث) اعتبار أحدهما اما العلو واما الاستعلاء.
(الرابع) اعتبار العلو والاستعلاء جميعا.
(الخامس) عدم اعتبار شيء منهما (قال في البدائع) في النسخة الثانية من نسختي الأوامر ما لفظه ان المعتبر في حقيقة الأمر هل هو الاستعلاء أو العلو أو هما معا أو أحدهما من غير تعيين أو لا يعتبر شيء منهما أوجه وأقوال (إلى أن قال) والأقوى عندي اعتبار العلو خاصة وعدم كفاية الاستعلاء (ثم قال) لنا على الأول يعنى اعتبار العلو خاصة ان المتبادر من قولك أمر فلان فلانا كون الآمر عاليا بالنسبة إلى المأمور من غير انتقال إلى الاستعلاء وإظهار العلو من الآمر ولعدم صحة سلب الأمر عن الطلب الصادر من العالي مع خلوه عن إظهار العلو وعلى الثاني يعنى عدم كفاية الاستعلاء صحة سلب الأمر عما يصدر من السافل نحو العالي ولو على سبيل الاستعلاء وإظهار العلو (انتهى) كلامه.
(أقول) وقد أجاد أعلى الله مقامه في ما اختاره وفي الاستدلال عليه حيث يعرف منه ضعف بقية الأقوال جميعا كما يظهر ذلك بالتأمل واما
181

المصنف فهو وان اختار اعتبار العلو أيضا ولكن لم يستدل عليه بشيء غير أنه قال الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر... إلخ.
(قوله كما أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء... إلخ) إشارة إلى القول الثاني من أقوال المسألة وسيأتي تضعيفه بصحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعليا.
(قوله وأما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف... إلخ) إشارة إلى القول الثالث من أقوال المسألة ولم يتعرض للقول الرابع والخامس أصلا.
(قوله وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلى عليه وتوبيخه بمثل انك لم تأمره انما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة... إلخ) إشارة إلى ما استدل به القائلون باعتبار الاستعلاء (قال في البدائع) بعد عبارته المتقدمة ما لفظه واحتج القائلون باعتبار الاستعلاء انا نقطع بان العبد إذا قال لسيده على وجه الاستعلاء أن مأمور بكذا أو أمرتك بكذا ذمه العقلاء ويستقبحونه ولو لا صدق الأمر على ما صدر منه لما توجه عليه الذم واللوم (انتهى) فيجيب عنه المصنف بما حاصله أن الذم واللوم انما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة وقد قرن ذلك بدليل (فقال) ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعليا كفاية (انتهى).
لفظ الأمر حقيقة في الوجوب
(قوله الجهة الثالثة لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب... إلخ) والظاهر أن في المسألة قولان لا أكثر قول بكونه حقيقة في الوجوب وقول بالاشتراك المعنوي بينه وبين الندب والجامع مطلق الطلب (قال في
182

البدائع) في النسخة الثانية من نسختي الأوامر ما لفظه ان الأمر هل هو حقيقة في الطلب الحتمي أو لمطلق الطلب فيعم الندب قولان جمهور المعتزلة وأكثر أصحابنا على ما في شرح الزبدة على الأول وخيرة جماعة من متأخري المتأخرين هو الأخير (انتهى موضع الحاجة من كلامه).
(قوله لانسباقه عنه عند إطلاقه... إلخ) بمعنى أن المتبادر من لفظ الأمر عند استعماله هو الطلب الحتمي الإلزامي المنشأ بداعي الطلب النفساني الحقيقي لا بد واعي أخر من الاختبار وغيره كما أشرنا قبلا وقد أضاف صاحب البدائع رحمه الله إلى التبادر صحة سلب الأمر عن الطلب الندبي وهي حق لا مجال لإنكارها.
(قوله ويؤيده قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لو لا ان أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لبريرة بعد قولها أتأمرني يا رسول الله لا بل انما انا شافع... إلخ) وقد جعل في الفصول هذه الوجوه الثلاثة أي الآية الشريفة والحديثين الشريفين أدلة مستقلة في المسألة لا مؤيدات (قال) والذي يدل على ما اخترناه بعد مساعدة التبادر عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك حيث نفى الأمر مع ثبوت الاستحباب وما نقل أن بريرة لما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها الرجوع إلى زوجها قالت تأمرني يا رسول الله فقال لا بل انما أنا شافع فنفى الأمر وأثبت الشفاعة وهي للندب (قال) ويساعد عليه ظاهر بغض الآيات الآتية حيث اشتملت على تهديد مخالف الأمر وذمه (انتهى) ولكن ناقش بعد ذلك في الجميع من وجهين (الأول) ما محصله ان استعمال الأمر في الموارد المذكورة في الإيجاب مما لا يكشف عن وضعه له لغة بل عن ظهور الأمر في الوجوب عند الإطلاق
183

(الثاني) ما محصله أن مجرد الاستعمال لا يقتضى الحقيقة ولعل الأمر قد استعمل في الوجوب مجازا (قال) بعد عبارته المتقدمة بلا فصل ويمكن المناقشة فيها بان استعمال الأمر في هذه الموارد في الإيجاب لا يوجب أن يكون موضوعا له بخصوصه بل يكفى ظهوره فيه عند الإطلاق مع أن مجرد الاستعمال لا يقتضى الحقيقة (انتهى).
(أقول) ولعل المصنف لأجل المناقشتين قد عدل عن جعل الوجوه المذكورة أدلة مستقلة في المسألة وجعلها مؤيدات والله العالم.
(قوله وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره وتوبيخه على مجرد مخالفته... إلخ) عطف على انسباقه عنه فصحة الاحتجاج دليل آخر في المسألة غير ما تقدم من التبادر والمؤيدات المذكورة.
(قوله كما في قوله تعالى ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك... إلخ) وقد جعلها المحقق القمي من الأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب فراجع.
(قوله وتقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب... إلخ) إشارة إلى الدليل الأول لاشتراك الأمر معنويا بين الإيجاب والاستحباب (قال) في الفصول احتجوا بأنهم قسموا الأمر إلى إيجاب وندب ولا بد أن يكون المقسم أعم (انتهى) وأجاب عنه المصنف بان ذلك قرينة على أنه استعمل الأمر في مقام التقسيم في الأعم من الوجوب والندب
والاستعمال أعم من الحقيقة كما مرت الإشارة إليه غير مرة (وقد أخذ) هذا الجواب من الفصول (قال) بعد ذكر الدليل المذكور وفيه أن التقسيم قرينة على أن الأمر هناك مستعمل في المعنى الأعم والاستعمال لا يوجب الحقيقة (انتهى موضع الحاجة من كلامه).
(قوله وأما ما أفيد من أن الاستعمال فيهما ثابت فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز... إلخ) إشارة إلى الدليل الثاني
184

لاشتراك الأمر معنويا بين الإيجاب والاستحباب (قال في الفصول) وبأنه يستعمل تارة في الإيجاب وأخرى في الندب فلو كان موضوعا للقدر المشترك لم يلزم المجاز ولا الاشتراك (انتهى) وأجاب عنه المصنف بان ذلك غير مفيد لما تقدم آنفا في الجهة الأولى بنحو الاختصار وتقدم قبلا في تعارض الأحوال بنحو أبسط من أن الترجيح بهذه الأمور الاستحسانية مما لا اعتبار به ما لم توجب ظهور اللفظ في معنى.
(قوله والاستدلال بان فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به... إلخ) إشارة إلى الدليل الثالث لاشتراك الأمر معنويا بين الإيجاب والاستحباب (قال في الفصول) وبان فعل المندوب طاعة وكل طاعة فهو فعل المأمور به (انتهى) وأجاب عنه المصنف بما حاصله انما نمنع الكبرى أي ان كل طاعة فهو فعل المأمور به لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي وهو ما تعلق به الطلب الوجوبي الحتمي والا بان أريد منه معناه المجازي وهو ما تعلق به مطلق الطلب ولو لم يكن حتميا فالكبرى مما لا تنفع الخصم (وقد أخذ) هذا الجواب من الفصول (قال) بعد ذكر الدليل المذكور وفيه منع الكبرى ان أريد بالأمر معناه الحقيقي والا فلا يفيد المدعى (انتهى كلامه رفع مقامه).
في اتحاد الطلب والإرادة
(قوله الجهة الرابعة الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي... إلخ) قد عرفت في الجهة الأولى أن الطلب في الجملة من معاني الأمر (فيقول المصنف) في هذه الجهة الرابعة ان الطلب الذي هو من معاني الأمر ليس هو الطلب الحقيقي أي الصفة النفسانية القائمة بالنفس التي
185

يحمل عليها الطلب بالحمل الشائع الصناعي بل هو الطلب الإنشائي أي المنشأ بالصيغة الذي لا يحمل عليه الطلب بهذا الحمل مطلقا بل يحمل عليه مقيدا بالانشائي فتقول هذا طلب إنشائي ولو أبيت الا عن كون الأمر موضوعا للطلب مطلقا سواء كان حقيقيا أو إنشائيا فالأمر لا أقل منصرف إلى خصوص الطلب الإنشائي كما أن لفظ الطلب أيضا منصرف إلى الإنشائي على عكس لفظ الإرادة فإنه منصرف إلى الإرادة الحقيقية أي الصفة النفسانية القائمة بالنفس دون الإرادة الإنشائية وهي المنشأة بصيغة الأمر ومن هنا يظهر الاتحاد بين الطلب والإرادة غير أن الطلب منصرف إلى الإنشائي والإرادة منصرفة إلى الحقيقية.
(أقول) وفي كلام المصنف إلى هنا مواقع للنظر (منها) ما يظهر منه من أن للطلب معنى واحد غير أن له وجودان وجود حقيقي ووجود إنشائي (وفيه ما لا يخفى) إذ لا جامع بين الوجودين كي يمكن دعوى أنه لمعنى واحد غايته أنه على ضربين حقيقي وإنشائي فان الإنشائي أمر اعتباري محض يحصل بالصيغة والطلب الحقيقي صفة من الصفات الحقيقية قائمة بالنفس وليس أمرا اعتباريا محضا بل أمر تأصلي له حظ من الوجود ولو في ضمن المعروف كالسواد والبياض ونحوهما فالأولى هو الاعتراف بان للطلب معنيين مستقلين الإنشائي الحاصل بالصيغة والصفة النفسانية القائمة بالنفس بل معاني ثلاثة ثالثها الحركات الخارجية المتحققة في تحصيل المراد ومنه قولك زيد طالب الضالة إذا تحرك ومشى إليها (ومنها) ما أفاده من ان الطلب يحمل على الحقيقي مطلقا وعلى الإنشائي مقيدا (وفيه أيضا ما لا يخفى) إذ الإنشائي أولى بالحمل عليه مطلقا بعد كونه هو المنصرف من لفظ الطلب باعترافه قدس سره بل الطلب الحقيقي مما يحتاج الحمل عليه إلى التقييد بعد عدم انصراف اللفظ إليه فتقول هذا طلب
186

حقيقي لا إنشائي (ومنها) ما يظهر من قوله ولو أبيت... إلخ من تسليم كون الأمر بمعنى الطلب مطلقا غايته أنه ينصرف إلى الإنشائي منه كما أن لفظ الطلب ينصرف إلى ذلك وهو كما ترى ضعيف إذ الأمر مما لا يطلق إلا على خصوص الإنشائي منه لا على الإنشائي والحقيقي جميعا وهل يعقل إطلاق الأمر على مجرد الطلب الحقيقي القائم بالنفس بدون الإنشاء كلا نعم لا يطلق الأمر على الطلب الإنشائي إلا إذا كان الإنشاء بداعي الطلب الحقيقي النفساني كما أشرنا قبلا وهذا غير كونه حقيقة في كليهما جميعا (ومنها) ما يظهر منه من أن الإرادة أيضا لهما قسمان أو وجودان حقيقية وإنشائية كالطلب وهذا غريب جدا فان الإرادة ليست هي الا تلك الصفة النفسانية القائمة بالنفس التي يعبر عنها بالطلب الحقيقي ولا يكاد تطلق هي على المنشأ بالصيغة ويقال له انها إرادة إنشائية فليست هي كالطلب يطلق على الإنشائي والحقيقي جميعا ولعل ذلك اصطلاح خاص منه ولا مشاحة في الاصطلاح.
(قوله واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة... إلخ) أي واختلاف الطلب والإرادة في انصراف الأول إلى الإنشائي وانصراف الثاني إلى الحقيقي ألجأ بعض أصحابنا... إلخ (ثم) ان بعض أصحابنا المائل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة هو المحقق صاحب الحاشية المعروفة على المعالم أخو الفصول (قال فيها) ما لفظه ثانيها انهم اختلفوا في كون الطلب المدلول للأمر نفس الإرادة أو غيرها فالمحكي عن أصحابنا والمعتزلة هو الأول ومن الأشاعرة القول بالثاني (إلى أن قال) واحتجت الأشاعرة بوجوه أحدها ان الله تعالى أمر الكافرين بالايمان إجماعا ولم يرد منهم ثانيها أنه يصح أن يقول القائل لغيره أريد منك الفعل ولا آمرك به من دون تناقض
187

بين القولين ثالثها أنه يصح صدور الأوامر الامتحانية من السلطان بالنسبة إلى رعيته ومن السيد إلى عبده وليس هناك إرادة الفعل مع انها أمر على الحقيقة (ثم ذكر) الوجه الرابع وأطال الكلام فيه بل في الجميع نقضا وإبراما (إلى أن قال) هذا والذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال ان هناك إرادة لصدور الفعل من الغير بحسب الواقع واقتضاء بحسب الخارج لإيقاعه الفعل بإلزامه أو ندبه إليه ومن البين أن الثاني لا يستلزم الأول وان كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعية (ثم
ساق الكلام) في تحقيق ذلك وقال ما ملخصه ان الإرادة أمر قلبي نفساني حاصل بتوسط الدواعي الباعثة عليه فلا يعقل إيقاعها بصيغة الأمر وأما الطلب فهو معنى إنشائي حاصل بالصيغة.
(أقول) ولعمري هذا هو التحقيق الدقيق فان الإرادة مما لا تعقل إنشائها بالصيغة كما زعم المصنف غير أنه قد حصر المحقق المذكور الطلب بخصوص الإنشائي فقط وهو مما لا وجه له بل الطلب على قسمين بل على أقسام إنشائي وحقيقي وحركات خارجية نحو المراد كما عرفت والإرادة هي خصوص الطلب الحقيقي القائم بالنفس كما ان الأمر هو خصوص الطلب الإنشائي الحاصل بالصيغة فتأمل جيدا.
(قوله ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية.. إلخ) شروع في الرد على الكلام النفسي الذي التزم به الأشاعرة وبنوا عليه أمر المغايرة بين الطلب والإرادة (قال في البدائع) في النسخة الثانية من نسختي الأوامر ما هذا لفظه رابعها في بيان المراد من الطلب المدلول للأمر هل هو عين الإرادة كما ذهب إليه جمهور المعتزلة وأكثر الإمامية أو غيرها كما عليه الأشاعرة وبعض الإمامية قولان وتحقيق الكلام وتوضيح الحال في المقام يقتضى تمهيد مقدمات الأولى لا يخفى ان الخلاف في المقام مبنى على
188

الخلاف المعروف في الكلام النفسي وذلك شعبة من شعبه بمعنى ان كل من قال بثبوت الكلام النفسي قال ان الطلب غير الإرادة وكل من أنكره يلزمه القول بأنه عين الإرادة ولا يخفى ذلك على من له خبرة وبصيرة في كلماتهم بل المتتبع في عبائرهم يجد ذلك من كلماتهم تصريحا تلويحا (وقال في النسخة الأولى) من نسختي الأوامر ما هذا لفظه ان هذه المسألة من جزئيات البحث في الكلام النفسي وتوضيح القول فيه هو ان الأشاعرة زعموا ان الكلام مشترك بين الألفاظ الخبرية والإنشائية وبين ما يدل عليه تلك الألفاظ فقالوا ان الكلام لفظي ونفسي واللفظي هي الألفاظ الصادرة من المتكلم في مقام الاخبار عن شيء أو إنشاء شيء والنفسي هي النسب الخبرية والإنشائية القائمة بالنفس التي يكشف عنها الألفاظ بحسب الأوضاع اللغوية وفسروا تلك النسبة في الخبر بأمر وراء علم المتكلم بمضمون القضية اللفظية (إلى أن قال) وفي الإنشاء بأمر وراء الإرادة وسموه بالطلب واقتضاء الفعل فالطلب عندهم مغاير للإرادة المدلول عليها بلفظ الأمر أو بصيغة (انتهى موضع الحاجة من كلامه) رفع مقامه.
(أقول) وملخص كلام الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي أن في الجمل الخبرية تكون صفة أخرى قائمة بالنفس ما وراء العلم هي كلام نفسي وفي الجمل الطلبية تكون صفة أخرى قائمة بالنفس غير الإرادة هي أيضا كلام نفسي وتسمى بالطلب وفي ساير الجمل الإنشائية تكون صفة أخرى قائمة بالنفس غير التمني والترجي والاستفهام هي أيضا كلام نفسي (وقد أجاب عنهم المصنف) مما محصله أن الإنسان بعد مراجعة وجدانه لا يجد في الجمل الطلبية صفة أخرى في النفس غير الإرادة تكون هي الطلب والكلام النفسي وهكذا لا يجد في ساير الجمل الإنشائية والخبرية غير تلك الصفات المشهورة من التمني والترجي
189

والاستفهام والعلم صفة أخرى قائمة بالنفس تكون هي الكلام النفسي والمدلول للكلام اللفظي وهو يكفى في بطلان هذا المقال فلا يحتاج فساده إلى مزيد بيان وإقامة برهان.
(قوله سوى ما هو مقدمة تحققها... إلخ) ان مقدمة تحقق الإرادة هي خطور الشيء في النفس ثم الميل وهيجان الرغبة إليه ثم التصديق بفائدته وبدفع ما يوجب التوقف عنه وهو الجزم ثم العزم ويقال له القصد أيضا أي الشوق الأكيد المسمى بالإرادة المستتبع لحركة العضلات إذا أراد الفعل بالمباشرة ولأمر الغير به إذا أراد الفعل بالتسبيب.
(قوله وقد انقدح مما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة... إلخ) إشارة إلى الوجه الثالث من الوجوه المتقدمة التي أقامتها الأشاعرة على المغايرة بين الطلب والإرادة وهو صحة صدور الأوامر الامتحانية من السلطان بالنسبة إلى رعيته ومن السيد بالنسبة إلى عبده
(قوله والاعتذار... إلخ) ليس في الدليل الثالث الذي نقله المحقق صاحب الحاشية عن الأشاعرة تعبير عن الاعتذار كما تقدم تفصيله نعم صاحب البدائع رحمه الله نقل عنهم الدليل المذكور وفيه هذا التعبير (قال في النسخة الثانية) من نسختي الأوامر ما هذا لفظه ومن المصرحين بذلك شارح التجريد حيث قال في جملة بياناته لكلام الأشاعرة ان المعنى النفسي الذي هو الأمر غير الإرادة لأنه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر لعبده وكالمعتذر عن ضرب عبده بعصيانه.
(أقول) والظاهر أن المراد من قوله كالمعتذر... إلخ ان المولى ربما يعلم أنه إذا أمر عبده بكذا فهو يعصيه ولا يعطيه وهو يريد تأديبه ومؤاخذته فيأمره به كي يعصيه ويعاقبه ويعتذر عن عقابه بأنه قد أمره وهو عصاه ففي
190

هذا الأمر الاعتذاري طلب ولا إرادة كما في الأوامر الاختبارية عينا.
(قوله أو المادة... إلخ) أي مادة الطلب أو الأمر كما إذا قال أطلب منك أو أريد منك.
(قوله ثم انه يمكن مما حققناه. أن يقع الصلح بين الطرفين... إلخ) وليت شعري كيف يقع الصلح بين الطرفين ويرتفع النزاع من البين مع التزام الخصم بالكلام النفسي وان هناك صفة أخرى في النفس قائمة بها ما وراء الإرادة تسمى بالطلب وتكون كلاما نفسيا ومدلولا للكلام اللفظي (نعم) يمكن الصلح بين بعض الأصحاب القائل بالمغايرة وهو المحقق صاحب الحاشية وبين بقية الأصحاب والمعتزلة القائلين بالاتحاد فيكون مراد المحقق من المغايرة مغايرة الحقيقي من الإرادة مع الإنشائي من الطلب ويكون مرادهم من الاتحاد اتحاد الحقيقي من الطلب مع الحقيقي من الإرادة وهكذا الإنشائي من الطلب مع الإنشائي من الإرادة (بل الإنصاف) أن هذا الصلح أيضا مما لا يقع فان المحقق صاحب الحاشية لا يعترف أن للإرادة وجودين أو قسمين إنشائي وحقيقي كي يتحد كل منهما مع ما يقابله من الطلب بل لا يعترف أن للطلب أيضا قسمين فضلا عن الإرادة فقال ان الطلب هو المنشأ بالصيغة والإرادة هي الأمر القلبي النفسي والظاهر ان المصنف إلى هذا كله قد أشار أخيرا بقوله فافهم والله
العالم.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير الآن إلى وجه قوله فافهم وانه إشارة إلى ضعف وقوع الصلح بين الطرفين فلا تغفل.
(قوله دفع وهم... إلخ) المتوهم هو القوشجي في شرحه على التجريد على ما ذكره المصنف في فوائده (قال) فيما أفاده هناك ما لفظه لكن لا أن المدلول باللفظ عند الإنشاء أو الاخبار إحدى هذه الصفات المشهورة كما ربما
191

يتوهم من بعض الكلمات منها ما في شرح التجريد للقوشجي في بيان انحصار الكلام في اللفظي حيث ساق الكلام (إلى أن قال) والحاصل أن مدلول الكلام اللفظي الذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر والإرادة والكراهة في النهي (قال انتهى كلامه) ثم ان حاصل مراد المصنف من الدفع أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من قولهم انه ليس في النفس غير العلم في الجمل الخبرية وغير الإرادة والتمني والترجي والاستفهام في الجمل الإنشائية صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا ومدلولا للكلام اللفظي أن تلك الصفات القائمة بالنفس هي المدلولات للكلام اللفظي كما توهمه القوشجي بل المدلول للكلام اللفظي هو غير تلك الصفات فمدلول الجمل الخبرية هي النسب الخبرية المتحققة في الخارج ففي مثل قولك جاء زيد نفس ما تلفظت به عبارة عن الكلام اللفظي واتصاف زيد بالمجيء في الخارج عبارة عن مدلوله ومعناه وأما مدلول الجمل الإنشائية فهو ما ينشأ بالصيغ المخصوصة ففي مثل قولك أكرم زيدا أو يا ليت الشباب لنا يعود أو لعل زيدا يخرج أو هل جاءك أحد نفس ما تكلمت به كلام لفظي والطلب المنشأ بصيغة أكرم والتمني المنشأ بصيغة ليت والترجي المنشأ بصيغة لعل والاستفهام المنشأ بصيغة هل مدلول للكلام اللفظي.
(أقول) والأشاعرة وان عبروا عن مدلول الكلام اللفظي في الجمل الخبرية بالنسب الخبرية أيضا على ما سبق تفصيله عند ما نقل صاحب البدائع كلامهم المتقدم ولكن فرق بين النسب الخبرية التي قالوا بها والنسب الخبرية التي قال بها المصنف وساير الأصحاب فان الأشاعرة يرونها صفة قائمة بالنفس ما وراء العلم تسمى بالكلام النفسي وذلك لما صرحوا هناك بان النفسي هي النسب الخبرية والإنشائية القائمة بالنفس والمصنف وساير الأصحاب يرونها
192

أمرا متحققا في الخارج يكون مدلولا للكلام اللفظي وهكذا الأمر في النسب الإنشائية فهم يرونها صفات نفسانية قائمة بالنفس غير الإرادة والتمني والترجي والاستفهام تكون هي كلاما نفسيا والمصنف والأصحاب يرونها أمورا اعتبارية تنشأ بالصيغة وتكون مدلولات للكلام اللفظي.
(قوله من ذهن أو خارج كالإنسان نوع أو كاتب... إلخ) إشارة إلى أن النسب الخبرية التي تحكى عنها الجمل الخبرية قد يكون موطنها الخارج كما في الإنسان كاتب أو زيد ضاحك أو عمرو عالم إلى غير ذلك من القضايا التي كانت مباديها مما يتحقق في الخارج وقد يكون موطنها الذهن كالإنسان نوع إذ الإنسان لا يعقل أن يكون في الخارج نوعا أي كليا مقولا على الأفراد المتفقة الحقيقة بل في الخارج شخص غير قابل للصدق على كثيرين فالنوعية ثابتة للإنسان في الذهن لا في الخارج.
(قوله وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار... إلخ) كما في قولك زوجت هندا من فلان أو هي طالق حيث يكون منشأ لانتزاع الزوجية أو البينونة المترتبة عليها شرعا وعرفا آثار.
(قوله نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقة... إلخ) استدراك عما منعه أو لا من كون تلك الصفات المشهورة مدلولات للكلام اللفظي كما توهمه القوشجي (وحاصله) أن تلك الصفات وان لم تكن مدلولات له بالمطابقة ولكن لا مضايقة عن كونها مدلولات له بالالتزام فالجمل الإنشائية تدل بالمطابقة على إنشاء تلك المعاني وإيجادها بالصيغة وتدل بالالتزام على ثبوت تلك الصفات في النفس اما لأجل وضع تلك الجمل الإنشائية فيما إذا كانت تلك الصفات ثابتة في النفس أو لأجل انصراف إطلاقها إلى ذلك (لا يقال) ان
193

تلك الجمل لو كانت موضوعة لإنشاء تلك المعاني فيما إذا كانت تلك الصفات ثابتة في النفس فدلالتها حينئذ على تلك الصفات تكون بالتضمن لا بالالتزام (لأنه يقال) ان ثبوت تلك الصفات في النفس قد أخذ في الموضوع له بنحو الشرطية فتكون خارجة عن متن الموضوع له لا بنحو الجزئية كي تكون جزءا للموضوع له وكان دلالتها عليها بالتضمن.
(أقول) والظاهر أن دلالة تلك الجمل على ثبوت تلك الصفات في النفس التزاما لا يكون بالوضع على نحو لو لم تكن الصفات ثابتة فيها كان ذلك تجوزا في الصيغة بل لأجل الانصراف كما لا يخفى وسيأتي تحقيق ذلك بنحو أبسط في بحث الصيغة إن شاء الله تعالى نعم قد أشرنا فيما تقدم أن خصوص مادة الأمر حقيقة في إنشاء الطلب فيما إذا كان بداعي الإرادة النفسانية والطلب الحقيقي النفساني على نحو لو لم تكن الإرادة ثابتة فيها كان إطلاق الأمر عليه صوريا لا حقيقيا فتذكر (ثم) لو قلنا بدلالة الجمل التزاما على ثبوت تلك الصفات في النفس اما وضعا أو انصرافا فلا وجه لتخصيص ذلك بالجمل الإنشائية فقط كما يظهر ذلك من المصنف حيث (قال نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني... إلخ) ولم يذكر الجمل الخبرية في كلامه بل الجمل الخبرية أيضا مما تدل بالالتزام على ثبوت صفة العلم في النفس اللهم الا إذا كان ذكر الطلب وأخواته من باب التمثيل لا التخصيص.
(قوله إشكال ودفع... إلخ) هذا الإشكال مأخوذ عن الوجه الأول من الوجوه المتقدمة التي أقامتها الأشاعرة على المغايرة بين الطلب والإرادة (وحاصله) أن في تكليف الكفار بالإيمان بل مطلق أهل العصيان بالعمل بالأركان ان لم تكن إرادة كما زعم الأشاعرة وبه أثبتوا التفكيك بين الطلب والإرادة فيلزم على ما حققناه من اتحاد الطلب والإرادة أن لا يكون هناك
194

طلب حقيقي فإذا لم يكن هناك طلب حقيقي فلا تكليف جدي فان اعتبار الطلب الحقيقي في التكليف الجدي ربما يكون من البديهي وان كان فيه إرادة فيلزم تخلف إرادته
تعالى عن مراده ولا يكاد تتخلف إذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون (أقول) هذا الإشكال مما لا يبتنى على اتحاد الطلب والإرادة بل هو إشكال معروف متوجه إلى الكل ولو لم نقل باتحاد الطلب والإرادة بل ولو لم يكن هناك لفظ الطلب أصلا (وملخصه) أن في أمر الكفار بالإيمان بل مطلق أهل العصيان بالعمل بالأركان إن كان إرادة فيلزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وإن لم يكن إرادة فيلزم أن لا يكون تكليفهم بالإيمان جديا بل صوريا (وملخص الدفع) أن الإرادة الحقيقية على قسمين تكوينية وهي التي تتعلق بتكوين الشيء وتحققه وإيجاده بالمباشرة وإرادة تشريعية وهي التي تتعلق بفعل الغير وبصدور العمل عنه باختياره فالإرادة التي لا محيص عنها في التكليف حتى يكون جديا لا صوريا هي الإرادة التشريعية والإرادة التي لا تكاد تتخلف عن المراد هي الإرادة التكوينية فإذا لا إشكال في المقام ولا إيراد.
(قوله وهو العلم بالنظام على النحو الكامل التام... إلخ) الظاهر أن إرادته تعالى مطلقا تكوينية كانت أو تشريعية ليست هي أمرا قديما كي نلتجئ إلى تفسيرها بالعلم ليتحد مع ذاته تعالى بناء على ما ذهب إليه أهل الحق من اتحاد الذات فيه مع الصفات لئلا يلزم تعدد القدماء بل هي أمر حادث كجميع أفعاله تعالى والأول وان كان أشهر ولكن الثاني أقرب وهو المنسوب إلى الكليني رحمه الله استنادا منه إلى رواية أو روايات في حدوث إرادته تعالى (وقد حكى) عن الصدوق أنه روى في التوحيد مسندا عن أبي عبد الله عليه السلام قال خلق الله المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية (وحكى) عن صفوان بن يحيى أنه روى في الصحيح عن أبي الحسن عليه السلام قال قلت له أخبرني عن الإرادة
195

من الله ومن الخلق فقال الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروى ولا يهم ولا يتفكر فهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق... إلخ.
في شبهة الجبر وجوابها
(قوله فإذا توافقتا فلا بد من الطاعة والإيمان وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان... إلخ) أي فإذا توافقت الإرادتان وهما التشريعية والتكوينية فلا بد من الطاعة والإيمان وإذا تخالفت الإرادتان بان تحققت التشريعية دون التكوينية فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان (ثم ان هذا) أول دخول المصنف في شبهة الجبر من غير ملزم له وليته لم يدخل فيها أو دخل وأدى حقها (وعلى كل حال) محصل كلامه أن الطاعة والإيمان والكفر والعصيان بل عامة الأفعال الاختيارية بأسرها مستندة إلى إرادة الله التكوينية فان تعلقت بها وجدت وتحققت والا فلا وحينئذ فيرد عليه في المقام إشكالان قد ذكر كلا منهما بصورة ان قلت (وحاصل الأول) ان الأفعال الاختيارية من الكفر والعصيان والطاعة والإيمان لو كانت مستندة إلى إرادة الله التكوينية التي لا تتخلف فلا يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر في التكليف عقلا (وحاصل جوابه) أن إرادة الله تعالى قد تعلقت بصدور الفعل عن العبد مسبوقا بمقدماته الاختيارية وعليه فلا بد من صدوره عنه بالاختيار والا لزم تخلف إرادته عن مراده تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (وحاصل الإشكال الثاني) أن صدور الفعل عن العبد وان كان مسبوقا بمقدماته الاختيارية ولكنه بالأخرة ينتهى إلى ما لا
196

بالاختيار وهي الإرادة الأزلية والمشية الإلهية ومعه كيف تصح المؤاخذة والعقاب على ما يكون بالأخرة بلا اختيار (وحاصل جوابه) أن العقاب انما هو بتبعة الكفر والعصيان وهما مستندان إلى الاختيار والاختيار إلى مقدماته ومقدماته إلى الشقاوة والشقاوة ذاتية والذاتي لا يعلل نظرا إلى كون الذاتيات ضرورية الثبوت للذات كما سيأتي التصريح به في التجري فينقطع السؤال عن أنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا فان الله تعالى أوجدهما ومن عليهما بالإيجاد والخلقة لا أنه جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا.
(أقول) ويرد عليه:
(أولا) أنه في الجواب عن الإشكال الأول قد أسند الكفر والعصيان والطاعة والإيمان إلى إرادة الله التكوينية غير أن إرادته تعالى قد تعلقت بهذه الأمور مسبوقة بمقدماتها الاختيارية وفي الجواب عن الإشكال الثاني أسندها بالأخرة إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين من دون استناد إلى إرادته تعالى وهو لا يخلو عن تناقض.
(وثانيا) ان اسناد الفعل في الجواب عن الإشكال الأول إلى إرادته تعالى المتعلقة بصدور الفعل مسبوقا بمقدماته الاختيارية مما لا يرتفع به الجبر كيف وإذا تعلقت به الإرادة الإلهية والمشية الربانية فلا بد من صدوره منه وهو عين الاضطرار لا الاختيار كما أن اسناد الفعل في الجواب عن الإشكال الثاني بالأخرة إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين مما لا يرتفع به الجبر أيضا فان الشقاوة والسعادة وان كانتا ذاتيتين والذاتيات ضرورية الثبوت الذات وانما أوجدها الله تبارك وتعالى بالجعل البسيط ولكنها مجعولة له تعالى تبعا لجعل أصل الذات بسيطا فإذا استند الفعل بالآخرة إلى جعله تعالى ولو تبعا لزم الجبر (وثالثا) لو كان مجرد إرادته تعالى بصدور الفعل من العبد مسبوقا
197

بمقدماته الاختيارية مما يرتفع به الجبر ويكون معه الاختيار المعتبر في التكليف محفوظا باقيا موجودا فلم يتشبث في تصحيح العقوبة بإسناد الفعل بالآخرة إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين فان الاختيار المحفوظ كما أنه يصحح التكليف فكذلك يصحح العقوبة وعلى كل حال الحق في دفع شبهة الجبر من أصلها أن يقال ان الأفعال الاختيارية التي هي تحت التكليف ويترتب عليها الثواب والعقاب في قبال ما يصدر عن العبد لا عن الاختيار كالأفعال الصادرة عنه في حال النوم أو الجنون أو الإغماء ونحو ذلك ليست هي معلولة عن إرادة الله التكوينية كي يلزم الجبر بل انما هي معلولة عن نفس إرادة العبد فالكفر والعصيان والطاعة والإيمان إنما تصدر عنه بسوء اختياره أو بحسن اختياره لا بإرادة الله التكوينية بحيث أراد الله تعالى فكفر العبد وعصى أو أراد الله جل وعلا فأطاع العبد وآمن (وأما قوله تعالى) وما تشاؤن إلا أن يشاء الله فالظاهر أنه من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم فلا يتبعها إلا الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة كما في الآية (بل لا يبعد) أن يكون المراد من مشيته تعالى في المقام اذنه جل وعلا فقوله تعالى وما تشاؤن إلا أن يشاء الله أي وما تشاؤن إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى بمعنى أنه لو شاء لمنع الكافر أو العاصي عن
المشية ولم يشأ الكفر أو العصيان ولكنه يأذن ويمهل فيكفر الكافر ويعصى العاصي بسوء اختيارهما بعد إتمام الحجة عليهما والبيان ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (ان قلت) نعم ولكن نفس إرادة العبد غير اختيارية له فإنها لو كانت اختيارية لكانت بإرادة أخرى فيتسلسل فإذا كانت غير اختيارية كان الفعل المستند إليها غير اختياري (قلت) كلا فان اختيارية الأفعال تكون بالإرادة فكيف يعقل أن تكون نفس الإرادة هي غير اختيارية وليست اختياريتها
198

بإرادة أخرى كي يتسلسل بل اختياريتها باختيارية بعض مقدماتها (وتوضيح ذلك) أن مقدمات الإرادة كما تقدمت قريبا في الطلب والإرادة هي أربعة.
(الأولى) خطور الشيء في النفس.
(الثانية) الميل وهيجان الرغبة إليه.
(الثالثة) الجزم وهو التصديق بفائدته وبدفع ما يوجب التوقف عنه.
(الرابعة) العزم وهو القصد أي الشوق الأكيد المسمى بالإرادة المستتبع لحركة العضلات في التكوينيات ولإنشاء الطلب من الغير في التشريعيات ثم أن خطور الشيء وهكذا الميل وهيجان الرغبة وان كان أمرا قهريا خارجا عن تحت القدرة والاختيار ولكن الجزم كما سيأتي في التجري ويعترف به المصنف هناك هو أمر اختياري لجواز التأمل فيما يترتب على الفعل والتدبر في عواقبه وتبعاته من العقوبات والمؤاخذات فيصرف النفس عنه ويمنع عن وصول الميل وهيجان الرغبة إلى مرتبة الجزم والتصديق بالفائدة ليحصل له الشوق الأكيد المستتبع لحركة العضلات ولإختيار الفعل خارجا أو لإنشاء الطلب من الغير تشريعا (وعليه) فإذا كان بعض مقدمات الإرادة اختيارية كانت الإرادة اختيارية قهرا فان النتيجة تتبع أخس المقدمات كما لا يخفى فإذا تكون الأفعال أيضا اختيارية صادرة عن الاختيار لا عن الكره والاضطرار فلا جبر.
(قوله الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما... إلخ) الكفر والعصيان وهكذا الطاعة والإيمان وان فرضا انهما يستندان بالأخرة إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين ولكن تأثيرهما في إرادة الكفر والعصيان والطاعة والإيمان ليس الا بنحو الاقتضاء لا بنحو العلية التامة كي ينافي الاختيار فالشقي بلغ ما بلغ شقاوته يمكنه ترك الكفر والعصيان وأن لا يريدهما ويريد
199

الطاعة والإيمان وهكذا السعيد بلغ ما بلغ سعادته يمكنه الكفر والعصيان وان يريدهما ولا يريد الطاعة والإيمان وان كان اختيار الكفر والعصيان للشقي أسهل كما أن اختيار الطاعة والإيمان للسعيد أسهل.
(قوله دفع وهم... إلخ) وحاصل الوهم أنه قد سبق من المصنف ان الإرادة التشريعية هي العلم بالمصلحة في فعل المكلف فلو قلنا باتحاد الطلب والإرادة لزم أن يكون الطلب المنشأ في الخطابات الإلهية هو العلم وهذا باطل.
أقول وهذا الوهم فاسد من أصله إذ الإرادة التشريعية التي ادعى المصنف انها العلم بالمصلحة في فعل المكلف هي إرادة حقيقية كالإرادة التكوينية والطلب المنشأ في الخطابات الإلهية هو الطلب الإنشائي الاعتباري فلا يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة أن يكون الطلب المنشأ في الخطابات الإلهية هو العلم نعم لو ادعى المصنف أن الإرادة الإنشائية هي العلم بالمصلحة في فعل المكلف كان يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة أن يكون الطلب المنشأ في خطاباته تعالى هو العلم ولكن المصنف لم يدع ذلك (ومن هنا يظهر) أن الحق في دفع الوهم المذكور هو ما ذكرناه لا ما ذكره المصنف في دفعه من أن اتحاد الإرادة التشريعية مع علمه تعالى بالصلاح انما يكون خارجا لا مفهوما والطلب المنشأ في الخطابات الإلهية هو المفهوم لا المصداق الخارجي فإذا لا يلزم من اتحاد الطلب والإرادة أن يكون المنشأ هو العلم إذ المتحد مع العلم هو خارجية الإرادة والمتحد مع الإرادة هو مفهوم الطلب فان هذا كله مستغنى عنه لا حاجة لنا إليه (هذا كله) مضافا إلى ما في دفع المصنف من سوء التعبير فان قوله وقد عرفت أن المنشأ ليس الا المفهوم لا يخلو عن خلل فان الإنشاء وان كان لا بد وان يرد على المفهوم أي على الطبيعة المبهمة المهملة المسماة باللا بشرط المقسمي إذ لا يعقل تعلق الإنشاء بغيرها لا بالكلي ولا بالفرد إذ الكلي
200

هو كلي لا يوجد والفرد هو أمر موجود والموجود لا يعقل إيجاده ولكن المنشأ لا محالة يكون هو الفرد لا المفهوم فان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.
(قوله وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم... إلخ) أي قد عرفت ذلك في ضمن دفع الوهم المتقدم قبل وهم الأخير حيث قال وأما الصيغ الإنشائية فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا موجدة لمعانيها فتذكر.
(قوله وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه... إلخ) فان الصفات ملاك الإثنينية وهو تعالى واحد أحد فلا محيص عن إرجاع الصفات إلى نفس الذات.
في معاني صيغة الأمر
(قوله الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث الأول انه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها... إلخ) وببالي ان المحقق صاحب الحاشية قد ذكر لصيغة الأمر أربعة وعشرين معنى وذكر غيره دون ذلك وقد عد (منها) الترجي والتمني وقد مثل بعضهم للأخير بقوله ألا يا أيها الليل الطويل أن انجلى ولم أر من مثل للمعنى الأول وهو سهل (ومنها) التهديد وقد مثلوا له بقولك للعاصي المتمرد افعل ما شئت تهديدا (ومنها) الإنذار وقد مثلوا له بقوله تعالى تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (ومنها) الإهانة وقد مثلوا لها بقوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم بعد قوله تعالى ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (ومنها) الاحتقار وقد مثلوا له بقوله تعالى ألقوا ما أنتم ملقون (ومنها) التعجيز وقد مثلوا له بقوله تعالى فأتوا بسورة من مثله (ومنها) التسخير وقد مثلوا له بقوله تعالى كونوا قردة خاسئين إلى غير
201

ذلك من المعاني مع مالها من الأمثلة المذكورة في المطولات (ثم ان حاصل كلام المصنف) هنا وهو كلام متين أن الصيغة لم تستعمل في شيء من هذه المعاني وانما استعملت في إنشاء الطلب في الجميع غايته أن الدواعي لإنشاء الطلب تختلف فقد يكون الداعي هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي وان شئت قلت هو ثبوت الطلب الحقيقي النفساني وهذا هو الغالب وقد يكون الداعي هو الترجي أو التمني أو التهديد أو الإنذار ونحو ذلك فعد هذه الأمور من المعاني مع كونها من الدواعي من اشتباه الدواعي بالمعاني (ثم ان) ظاهر القوم الذين قد ذكروا هذه المعاني انهم يعترفون أن الصيغة ليست موضوعة لها لغة وذلك بشهادة نزاعهم الآتي في المبحث اللاحق من أن الصيغة هل هي حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في كليهما أو في الجامع بينهما فان ظاهره المفروغية من عدم كونها حقيقة في التمني والترجي والتهديد وأخواتها المتقدمة وانما هي مستعملة فيها مجازا والمصنف كما تقدم قد أنكر استعمالها فيها ولو مجازا.
(قوله وقصارى ما يمكن أن يدعى... إلخ.
(أقول) بل يمكن دعوى عدم وضع الصيغة لإنشاء الطلب في خصوص ما إذا كان بداعي البعث والتحريك بل وضعت لإنشاء الطلب مطلقا سواء كان بداعي البعث والتحريك وثبوت الطلب الحقيقي النفساني كما هو الغالب أو كان بسائر الدواعي نعم لا يبعد دعوى ظهورها في الأول لو خليت عن كل قرينة لأجل غلبة الاستعمال فيه كما لا يخفى (ويؤيده) بل يدل عليه أنا لا نجد فيما إذا استعملت الصيغة بأحد الدواعي المذكورة تجوزا في استعمالها لأجل عناية أو رعاية علاقة بل استعمالها في الكل على نمط واحد غير أن استعمالها في إنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك أكثر وأغلب كما أشرنا (وعليه) فاستعمالها في جميع تلك الأمثلة المذكورة يكون على نحو الحقيقة من دون عناية ولا
202

رعاية علاقة.
(قوله إيقاظ... إلخ) وحاصل ما في هذا الإيقاظ أن ما ادعيناه في صيغة الأمر من كونها مستعملة دائما في إنشاء الطلب غايته أن الدواعي تختلف فكذلك ندعيه في ساير الصيغ الإنشائية من صيغة التمني والترجي والاستفهام حرفا بحرف فصيغة الاستفهام مثلا مستعملة دائما في إنشاء طلب الفهم غايته أن الداعي إلى الاستفهام (قد يكون) طلب الفهم حقيقة (وقد يكون) إظهار المحبة كما في قوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى (وقد يكون) الإنكار التوبيخي كما في قوله تعالى أتعبدون ما تنحتون أو الإبطالي كما في قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين أو غير ذلك من الدواعي (وعليه) فما ذكروه لصيغة الاستفهام من المعاني الثمانية أو أقل أو أكثر مما لا وجه له فإنها من الدواعي لا من المعاني وهكذا التزامهم بانسلاخ تلك الصيغ عما لها من المعاني الحقيقية فيما إذا وقعت في كلامه تعالى وباستعمالها في غير معانيها الحقيقية كالتعليل وما أشبه ذلك كما في قوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى نظرا إلى استلزام معانيها الحقيقية العجز كما في الترجي والتمني أو الجهل كما في الاستفهام وهما محالان على الله تعالى فهذا كله مما لا وجه له فان تلك الصيغ إذا وقعت في كلامه تعالى هي مستعملة في نفس إنشاء الترجي أو التمني أو الاستفهام غايته أنه لا بداعي الترجي أو التمني أو طلب الفهم حقيقة كي يلزمه العجز أو الجهل بل بدواعي أخر من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير أو غير ذلك حسب ما يقتضيه الحال مما لا يلزمه العجز ولا الجهل.
203

صيغة الأمر هل هي حقيقة في الوجوب
(قوله المبحث الثاني في أن الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما أو في المشترك بينهما وجوه بل أقوال... إلخ) (قول) بكونها حقيقة في الوجوب وقد نسب ذلك إلى جمهور الأصوليين (وقول) بكونها حقيقة في الندب وقد نسب ذلك إلى قوم منهم (وقول) بكونها مشتركة لفظا بين الوجوب والندب وقد نسب ذلك إلى السيد رحمه الله ولكن في خصوص اللغة وأما في العرف الشرعي فقال بكونها حقيقة في الوجوب (وقول) بكونها للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الجامع بينهما أي الطلب وقد نسب ذلك إلى قوم آخرين هذه عمدة الأقوال في المسألة وإلا فقد ذكر صاحب المعالم رحمه الله أقوالا أخر فيها مثل كونها مشتركة لفظا بين الوجوب والندب والإباحة أو مشتركة معنى بين هذه الثلاثة والجامع هو الإذن أو مشتركة لفظا بين أربعة وهي الثلاثة السابقة والتهديد (قال في المعالم) وقيل فيها أشياء أخر يعنى بها غير ما ذكر لكنها شديدة الشذوذ بينة الوهن فلا جدوى للتعرض لنقلها (انتهى).
(قوله لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة... إلخ) دعوى تبادر الوجوب من صيغة الأمر أي تبادر خصوص الطلب الحتمي الإلزامي تبادرا حاقيا لا إطلاقيا بمعنى استناده إلى حاق اللفظ الكاشف ذلك عن الوضع والحقيقة لا إلى الإطلاق وكثرة الاستعمال هي في غاية الإشكال وذلك لما يلزمه من التجوز عند استعمال الصيغة في الندب مع أنا لا نرى في استعمالها في الندب عناية ولا رعاية علاقة بل استعمال الصيغة في كل من إنشاء
204

الطلب الحتمي وغير الحتمي على حد سواء فلا فرق بين قوله إذا زالت الشمس فصل وبين قوله إذا كان أول الشهر فصل أو بين قوله إذا أجنبت فاغتسل وبين قوله إذا كان يوم الجمعة فاغتسل (وعليه) فدعوى كون الصيغة موضوعة للوجوب مما لا تخلو عن ضعف (وأضعف) منها دعوى اشتراك الصيغة لفظا بين الوجوب والندب فان تعدد الوضع مما يحتاج إلى دليل ولا دليل (وأضعف من الكل) دعوى كونها حقيقة في خصوص الندب دون الوجوب فإنها لو لم تكن موضوعة للوجوب فليست هي موضوعة للندب قطعا (ومن هنا) يتجه تعين القول الرابع وهو وضع الصيغة للقدر المشترك بين الوجوب والندب بمعنى وضعها لإنشاء مطلق الطلب سواء كان وجوبيا أو ندبيا نعم لا يبعد دعوى ظهور الصيغة في الوجوب ظهورا انصرافيا وضعيا كما سيأتي في المبحث الرابع إن شاء الله تعالى.
(قوله ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب... إلخ) ولعل وجه التعبير بالمؤيد وعدم جعله دليلا برأسه أن عدم صحة الاعتذار عن المخالفة كما يلائم وضع الصيغة للوجوب فكذلك يلائم ظهورها فيه أيضا وأن لم تكن موضوعة له لغة فالمدعى أخص والدليل أعم.
(قوله وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه... إلخ) الظاهر أنه رد على صاحب المعالم غير أنه لم يدع نقل الصيغة إلى الندب أو حمله عليه بل ادعى التوقف عند ورود الأمر (قال رحمه الله) بعد الفراغ عن إثبات كون الصيغة حقيقة في الوجوب بوجوه عديدة ما هذا لفظه فائدة يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم الصلاة والسلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال
205

الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم عليهم السلام (انتهى كلامه) فيقول المصنف ان كثرة الاستعمال في الندب مما لا يوجب النقل إليه ولا الحمل عليه لكثرة الاستعمال في الوجوب أيضا (مضافا) إلى أن الاستعمال في الندب وان كثر ولكنه كان مع القرينة المصحوبة وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي مما لا يوجب صيرورته مشهورا ليرجح على المعنى الحقيقي أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور بل المجاز انما يصير مشهورا بكثرة الاستعمال فيه كما صرح به المحقق القمي إذا كان بلا قرينة عليه حالية أو لفظية بل علم من دليل آخر منفصل أنه استعمل فيه اللفظ مجازا.
(أقول) والإنصاف ان الاستعمال في المعنى المجازي ولو كان مع القرينة المصحوبة إذا كثر وشاع حتى بلغ أضعاف الاستعمال في المعنى الحقيقي فلا يبعد أن يحصل بسبب ذلك أنس خاص وربط مخصوص بينه وبين اللفظ على نحو يوجب تقديمه على المعنى الحقيقي لدى الإطلاق ولو كان ذلك بقرينة الشهرة وكثرة الاستعمال فيه بل جاز أن يبلغ حدا لا يحتاج في انفهام المعنى من اللفظ إلى قرينة أصلا وهو حد النقل (وعليه) فالجواب عن صاحب المعالم رحمه الله مما ينحصر بالأول أي بالمنع عن بلوغ الاستعمال في الندب حدا يوجب النقل إليه أو الحمل عليه أو التوقف عند إطلاقها واستعمالها وذلك لكثرة الاستعمال في الوجوب أيضا وان فرض كونه أقل من الاستعمال في الندب بكثير.
(قوله كيف وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام الا وقد خص ولم ينثلم به ظهوره في العموم... إلخ) دليل لما ادعاه آنفا من ان كثرة الاستعمال مع القرينة المصحوبة في المعنى المجازي مما لا يوجب صيرورته
206

مشهورا (وتقريب الدلالة) أن استعمال العام في الخاص كثيرا جدا حتى قيل ما من عام الا وقد خص ومع ذلك لم ينثلم به ظهور العام في العموم بل بمجرد وروده بلا قرينة يحمل على العموم وليس ذلك الا لاستعمال العام في الخاص مع القرينة المصحوبة.
(أقول) وفيه:
(أولا) ان قياس المقام بالعام والخاص مما لا وجه له فان العام وان كثر استعماله في الخاص لكن ليس في خاص معين كي يصير ذلك مجازا مشهورا له بل في خواص مختلفة فقد يخرج الفساق مثلا عن العلماء وقد يخرج الشعراء منهم وقد يخرج النحويون وهكذا.
(وثانيا) ان العام حسب ما ستعرفه ويعترف به المصنف من عدم كون التخصيص مجازا لا يكاد يكون مستعملا في الخاص بل مستعمل دائما في العموم على التقريب الآتي في موضعه إن شاء الله تعالى (وعليه) فلم يستعمل العام في الخاص كي يصير الخاص بسبب ذلك مجازا مشهورا ينثلم به ظهور العام في العموم.
في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب
(قوله المبحث الثالث هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل يغتسل ويتوضأ ويعيد ظاهرة في الوجوب أولا... إلخ) في هذا المبحث مقامان من الكلام قد أخر المصنف أولهما عن الثاني على خلاف النظم.
(المقام الأول) ان الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث مثل
207

يغتسل ويتوضأ ويعيد هل هي مستعملة في معناها الحقيقي من قيام المبدأ بفاعل مذكر أو مؤنث غايته أنه لا بداعي الإخبار والإعلام بل بداعي البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي أو هي مستعملة في إنشاء الطلب ولو مجازا (فيه وجهان) بل قولان لا يبعد أن يكون الثاني هو المشهور ولكن مختار المصنف تبعا لصاحب البدائع هو الأول وهو الأقرب إذ لا يفهم من قوله يغتسل في مقام الإخبار والإعلام وقوله يغتسل في مقام الطلب والبعث الا معنى واحدا غير أنه في الأول يكون الداعي هو الإخبار والحكاية عن الواقع وفي الثاني هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي.
(المقام الثاني) أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث سواء قلنا باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي أم في إنشاء الطلب ولو مجازا هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا (أما القائلون) في المقام الأول باستعمالها في إنشاء الطلب ولو مجازا فهم بين من يقول بظهورها في الوجوب لوجوه أوجهها أن الوجوب أقرب المجازات فان كلا من الوجوب والندب والإباحة معنى مجازي لها والوجوب أقرب وبين من يقول بالتوقف نظرا إلى أن الأقربية اعتبارية غير موجبة لظهور اللفظ فيه (وأما القائلون) في المقام الأول باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي من قيام المبدأ بفاعل مذكر أو مؤنث غايته أنه لا بداعي الإخبار والإعلام بل بداعي البعث والتحريك فهم أيضا بين من يقول بالتوقف كصاحب البدائع وبين من يقول بظهورها في الوجوب كالمصنف بل يقول انها أظهر في الوجوب من الصيغة فإنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى الا بوقوعه فتكون آكد في البعث والتحريك من الصيغة.
(أقول) بعد ما قلنا بظهور صيغة الأمر في الوجوب اما وضعا للتبادر كما ادعى المصنف في المبحث السابق أو انصرافا لأحد الوجوه الآتية في المبحث
208

اللاحق فلا محيص عن كون الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث ظاهرة في الوجوب لا محالة فإنها قائمة مقام صيغة الأمر سواء قلنا باستعمالها في إنشاء الطلب ولو مجازا أو قلنا باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي غايته أنه لا بداعي الاخبار والاعلام بل بداعي البعث والتحريك نعم يبقى الكلام في انها هل هي أظهر من
الصيغة في الوجوب أم لا ولا يبعد أن تكون النكتة التي قد أشار إليها المصنف موجبة لأظهريتها من الصيغة في الوجوب.
(قوله ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها... إلخ) شروع في المقام الأول من البحث الذي قد أشرنا ان المصنف أخره عن المقام الثاني على خلاف النظم.
(قوله كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما عرفت... إلخ) راجع إلى قوله ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام... إلخ أي ليست الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب مستعملة في غير معناها الحقيقي كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما تقدم وعرفت من أن صيغة الأمر والاستفهام والتمني والترجي مستعملة دائما فيما هو معناها الحقيقي غايته أنه بدواعي مختلفة فقد يكون الداعي في صيغة الأمر مثلا هو البعث وقد يكون هو التهديد وقد يكون هو الإنذار وهكذا.
(قوله هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان... إلخ) هذا وجه آخر لكون الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث ظاهرة في الوجوب غير ما تقدم فكان حاصل الوجه الأول أن مجرد الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب موجب لظهورها في الوجوب بل لأظهريتها من صيغة الأمر وحاصل هذا الوجه أن مقدمات الحكمة وهي في المقام كما صرح في المتن عبارة عن كون المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة على غير الوجوب مما
209

تقتضي حملها على الوجوب فان تلك النكتة المتقدمة وهي الاخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب ان لم تكن موجبة لظهور الجملة الخبرية في الوجوب فلا محالة توجب تعين الوجوب من بين ساير المحتملات من الندب وغيره وذلك لشدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب كما لا يخفى.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة من شأنها أن تقتضي الشيوع والسريان كما في أعتق رقبة أو تقتضي العموم والشمول كما في أحل الله البيع على ما سيأتي التصريح به في آخر المطلق والمقيد ولا تكاد تقتضي تعين أحد المحتملات إلا إذا كان ساير المحتملات مما فيه تقييد وتضييق كما في اقتضائها كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا لأجل كون كل واحد مما يقابله من الغيري والتخييري والكفائي مما فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته كما سيأتي تحقيقه في المبحث السادس والمقام ليس من هذا القبيل فان الندب وان كان يصرح المصنف في المبحث الآتي بأنه طلب كأنه يحتاج إلى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك ولكن الوجوب أيضا طلب كأنه يحتاج إلى مئونة التقييد بالمنع من الترك وإليه يشير في آخر المبحث الآتي بقوله فافهم فانتظر.
صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب
(قوله المبحث الرابع أنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون... إلخ) وحاصل ما في هذا المبحث أنه لو سلم عدم كون الصيغة حقيقة في الوجوب وضعا فهل هي ظاهرة في الوجوب انصرافا أم لا قد يقال بل قد قيل بظهورها فيه أما
210

الاستعمال فيه أو لغلبة وجود الوجوب أو لأكمليته والكل مورد المناقشة عند المصنف.
(أما الأول والثاني) فلعدم الصغرى فيهما نظرا إلى أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده الخارجي لو لم يكن أكثر بكثير فليس بأقل.
(وأما الثالث) فلعدم الكبرى فيه بمعنى أن أكملية الوجوب وان كانت مسلمة الا انها مما لا توجب ظهور اللفظ فيه لأن الظهور ناش عن أنس اللفظ بالمعنى والأكملية مما لا توجب ذلك (ثم ان المصنف) قد اختار ظهور الصيغة في الوجوب انصرافا لوجه آخر غير الوجوه المتقدمة كلها وهو أن مقدمات الحكمة التي قد أشير إليها في المبحث السابق وسيأتي تفصيلها في المطلق والمقيد مما تقتضي الحمل على الوجوب نظرا إلى أن الندب مما يحتاج إلى مئونة التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب فإنه لا تحديد فيه ولا تقييد (وفيه) ان المدعى ليس أولى من العكس فنقول ان مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الندب نظرا إلى أن الوجوب مما يحتاج إلى مئونة التحديد والتقييد بالمنع من الترك فحيث لا دليل على المنع من الترك مع كون المولى في مقام البيان فيبنى على عدم كون الطلب للوجوب ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
(أقول) قد عرفت منا في المبحث الثاني عدم كون الصيغة للوجوب وضعا وذلك لما تقدم من المناقشة في كون التبادر حاقيا لا إطلاقيا نظرا إلى عدم وجدان العناية ولا رعاية العلاقة في استعمال الصيغة في الندب وهو كاشف عن وضعها لإنشاء مطلق الطلب سواء كان وجوبيا أو ندبيا الا أن ظهورها في الوجوب وانصرافها إليه عرفا مما لا ينبغي إنكاره وحينئذ يقع الكلام في وجه انصرافها إليه (والإنصاف) أن غلبة الاستعمال وغلبة الوجود كما عرفت من المصنف هما ممنوعتان وأما مقدمات الحكمة فقد عرفت حالها فإذا لا يبقى في
211

البين سوى أكملية الوجوب وأتميته من الندب فلا يبعد أن يكون هو الوجه لانصراف الصيغة إليه عرفا (وأما ما اشتهر على الألسن) من أن الأكملية لو كانت موجبة للانصراف لكان لفظ الإنسان منصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى طبقة الأنبياء والأوصياء عموما فإنهم الأكملون الأتمون فهو مما لا وجه له فان المراد من الأكملية في أفراد الإنسان هي الأكملية بحسب الجسم والخلقة لا الأكملية المعنوية الروحية ولذا ترى أن لفظ الإنسان ينصرف إلى الفرد المتعارف الكامل جسما وخلقة دون الفرد الناقص بحسب الجسم والخلقة وان كان أكمل معنويا وروحيا وهذا واضح.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل
في التعبدي والتوصلي
(قوله المبحث الخامس إطلاق الصيغة هل يقتضى كون الوجوب توصليا... إلخ) ان الواجبات في شريعتنا بل في كل شريعة حتى في الشرائع السابقة بل وحتى في الأديان الباطلة على قسمين (فمنها) ما سيق لأجل التقرب به إلى المولى بمعنى ان الغرض من تأسيسه وتشريعه ليس الا أن يتقرب به العبد إلى المولى كالصلاة والصيام
والحج وغير ذلك من العبادات الشرعية الواردة في شرعنا بل في الشرائع السابقة أيضا وهذا القسم من الواجب يسمى بالتعبدي أي ما لا يحصل الغرض منه ولا يسقط الأمر به الا أن يؤتى به على وجه التقرب به إلى المولى (ومنها) ما أمر به لمجرد مصالح وحكم فيها ولم يكن أصل تشريعه لأن يتقرب به الناس إلى المولى فان أتى به متقربا به وامتثالا لأمره حصل به القرب والثواب قهرا وان لم يؤت به كذلك بل أتى به
212

بدواعي أخر لا بداعي التقرب به إلى المولى حصل منه الغرض وسقط به الأمر وان لم يحصل به القرب والثواب أصلا وهذا كما في دفن الميت وكفنه وتوجيهه إلى القبلة والإنفاق على الزوجة وصلة الرحم وهكذا ويسمى هذا القسم من الواجب بالتوصلي أي ما لا يتوقف حصول الغرض منه وسقوط أمره على الإتيان به على وجه التقرب به إلى المولى وان توقف الأجر والثواب على الإتيان به كذلك (ثم ان الميز) بين هذين القسمين واضح ظاهر غالبا يعرفه العرف نوعا بمجرد النظر إلى الواجب والتأمل في كيفيته وسياقه فمن كان أجنبيا عن ديننا إذا نظر إلى صلاتنا وصيامنا وطوافنا حول البيت ونحو ذلك من العبادات عرف أن هذا كله عبادات الإسلام شرعت لأجل التقرب بها إلى الله تعالى وإذا نظر إلى دفن الميت أو كفنه أو صلة الرحم ونحو ذلك من التوصليات عرف أن هذا كله واجبات لمصالح فيها بنظر شارعنا وليس الغرض من تأسيسها مجرد التقرب بها إلى الله تعالى وهكذا الحال إذا نظرنا نحن إلى أديان الأجانب فنعرف عباداتهم من غير عباداتهم وهذا ظاهر واضح كما أشرنا (نعم قد يشتبه) الأمر علينا ويردد الواجب كالعتق مثلا بين كونه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة أو توصليا لا يعتبر فيه ذلك فيقع الكلام حينئذ في أن الأصل اللفظي هل هو يقتضى التوصلية كي يؤخذ به عند الشك أو التعبدية أو الأصل لا يقتضى شيئا منهما فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي فيه خلاف بين الأعلام (ثم ان القائلين) بأصالة التوصلية بين من يقول بها من جهة إطلاق الصيغة ولعله المشهور بينهم فكما أنه إذا شك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به صح التمسك بإطلاقها لرفعه فكذلك إذا شك في اعتبار قصد القربة فيه صح التمسك بإطلاقها لدفعه وبين من يقول بها من جهة ظهور نفس الأمر في التوصلية كما اختاره صاحب التقريرات نظرا إلى أن مفاد الهيئة
213

هو الطلب ومفاد المادة هو الفعل الواقع عليه الطلب فإذا أتينا بالفعل فقد سقط الأمر عقلا والا لزم طلب الحاصل (كما أن القائلين) بأصالة التعبدية بين من يقول بها لأدلة خاصة (منها) ان الأمر ظاهر في إتيان المأمور به بداعي الأمر كما أنه ظاهر في إتيانه على وجه العمد والقصد (ومنها) أن العقلاء يذمون العبد إذا علموا أنه أتى بالفعل لا بداعي أمر المولى وقد ذكر هذين الوجهين في البدائع (ومنها) أن العقل يحكم بوجوب الامتثال ولا امتثال إلا بالإتيان بداعي الأمر وقد ذكر هذا الوجه في التقريرات وبين من يقول بها لعمومات قد دلت على تعبدية الواجبات طرا خرج منها ما خرج وبقي الباقي (مثل) قوله تعالى في سورة البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين دلت الآية الشريفة على حصر المأمور به لأهل الكتاب بالعبادات فينسحب الحكم إلى شريعتنا اما بالاستصحاب أو بذيل الآية الشريفة وهو قوله تعالى وذلك دين القيمة أي المستقرة الثابتة التي لا تنسخ (ومثل قوله تعالى) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم دلت الآية الشريفة على وجوب الإطاعة وهي لا تحصل إلا بقصد القربة (ومثل) قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا عمل إلا بالنية أو الأعمال بالنيات ونظائرهما (ثم ان القول) بأصالة التعبدية حيث كان ضعيفا جدا نظرا إلى ضعف أدلته حتى عموم قوله تعالى وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وذلك لوضوح عدم كون الحصر فيه حقيقيا كي يستدل بعمومه خرج ما خرج وبقي الباقي إذ من الضروري عدم حصر الواجبات لأهل الكتاب بعبادة الله فقط بل الله سبحانه وتعالى حيث كان في مقام بيان المهم مما أمروا به وهو لم يكن سوى عبادته جل وعلا فقال وما أمروا الا ليعبدوا الله... إلخ (وأضعف من ذلك) التمسك بمثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا عمل إلا بالنية أو الأعمال بالنيات فإنه أجنبي
214

عن المقام جدا وانما هو دليل على اعتبار قصد العنوان كما سيأتي شرحه لم يتعرض المصنف لهذا القول إلى القول بأصالة التعبدية أصلا (بل لم يتعرض) لدليل التقريرات أيضا على أصالة التوصلية من دعوى ظهور نفس الأمر فيها بتقريب أن مفاد الهيئة هو الطلب ومفاد المادة هو الفعل الواقع عليه الطلب فإذا أتينا بالفعل فقد سقط الأمر عقلا والا لزم طلب الحاصل وذلك لضعف هذه الدعوى أيضا فان مفاد الهيئة في الواجب التعبدي أيضا ليس الا الطلب ومفاد المادة فيه كما ستعرف ليس إلا الفعل الواقع عليه الطلب ومع ذلك إذا أتينا بالفعل بدون قصد القربة فلا يكاد يسقط الأمر عقلا لعدم حصول الغرض منه فإذا كان هذا حال التعبدي فكيف يمكن التمسك بهذا الوجه في مورد الشك ونعتمد عليه في إثبات كون المشكوك توصليا يسقط أمره بمجرد الإتيان به بدون قصد القربة (نعم خص) المصنف بالذكر من بين تمام الوجوه المتقدمة كلها الوجه الأول لأصالة التوصلية فعقد له هذا البحث الطويل نظرا إلى اشتهاره بين الأصحاب كما أشرنا وهو التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات توصلية الواجب وعدم اعتبار قصد القربة فيه على حد التمسك به لرفع اعتبار ساير الأشياء مما شك في اعتباره من جزء أو شرط فصار بصدد إبطال هذا الوجه المشهور وقد مهد له مقدمات ثلاث كما ستعرف شرحها (ثم ان التعبدية) والتوصلية يمكن جعلهما صفتين للوجوب فتقول الوجوب التعبدي والوجوب التوصلي ولعل بهذا اللحاظ قد ذكرهما المصنف في ذيل مباحث صيغة الأمر بل ذكرهما بعد الفراغ عن ظهور الصيغة في الوجوب وضعا أو انصرافا أي ان إطلاق الصيغة بمادتها بعد الفراغ عن ظهورها بهيئتها في الوجوب هل هو يقتضى كون الوجوب المستفاد منها توصليا غير مشروط بقصد القربة أم لا ويمكن جعلهما صفتين للواجب فتقول الواجب التعبدي والواجب التوصلي ولعل بهذا اللحاظ
215

قد ذكرهما التقريرات في بحث مقدمة الواجب في ذيل تقسيمات الواجب وعلى كل حال الأمر في ذلك سهل هين.
(قوله إحداها الوجوب التوصلي هو ما كان الغرض منه... إلخ) المقصود من عقد هذه المقدمة الأولى هو تعريف كل من التعبدي والتوصلي وقد عرفت منه شرحهما آنفا فلا نعيد.
(قوله ثانيها ان التقرب المعتبر في التعبدي... إلخ) المقصود من عقد هذه المقدمة بطولها هو إثبات أن قصد القربة هو مما يعتبر في العبادات عقلا لا شرعا وشرحه
بنحو الإجمال بتوضيح منا أن قصد القربة (إن كان بمعنى قصد الامتثال) والإتيان بالواجب بداعي أمره فلا يمكن أخذه في العبادات شرعا لما ستعرفه من المصنف قريبا (وإن كان بمعنى الإتيان بالفعل) بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أوله تعالى فأخذه في العبادات وان أمكن شرعا ولكنه غير معتبر فيها قطعا وذلك لجواز الاقتصار بلا كلام على قصد الامتثال الغير الممكن أخذه شرعا أي الإتيان بالواجب بداعي أمره (وعليه) فإذا دار أمر قصد القربة بين ما لا يمكن اعتباره في العبادات شرعا وبين ما ليس بمعتبر فيها قطعا علم أن اعتباره فيها ليس إلا بحكم العقل لا بحكم الشرع بمعنى أن العقل هو الذي قد استقل باعتبار قصد القربة في الواجبات التي سيقت لأجل التقريب بها إلى الله تعالى على نحو إذا لم يقصد بها القربة لم تكن عبادة وان الشرع قد اتكل في اعتباره على حكم العقل وان أمكنه اعتباره فيها ولو بمعنى قصد الحسن أو المصلحة أو له تعالى بل يمكنه اعتباره بوسيلة أمرين ولو كان بمعنى قصد الامتثال كما هو الحق عندنا تبعا للتقريرات وان لم يجوزه المصنف كما سيأتي بل الحق عندنا هو إمكان اعتباره حتى بأمر واحد ولو كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كما ستعرف ذلك غير أن
216

الشارع لم يعتبره بل اتكل في اعتباره على حكم العقل (وأما ما تقدم) من قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين أو قوله تعالى في سورة الزمر قل انى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أو قول أمير المؤمنين عليه السلام وبالإخلاص يكون الخلاص أو ما في بعض الأخبار من أنه قال الله عز وجل أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله الا ما كان لي خالصا إلى غير ذلك مما ذكرناه في الفقه في نية الوضوء من كتابنا الموسوم بالفروع المهمة في أحكام الأمة فهو دليل على اعتبار الإخلاص في العبادات وهو كما حققناه هناك غير قصد القربة بل هو أخص منه وأضيق ونحن كلامنا هنا في اعتبار قصد القربة بنفسها (ثم ان) من جميع ما ذكر إلى هنا يظهر لك ما في تعبير المصنف قدس سره أعني قوله إن التقرب المعتبر في التعبدي ان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا... إلخ فان ظاهره أن التقرب على خصوص هذا التقدير هو مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مطلقا مع أن المقصود ليس كذلك بل المقصود أن قصد القربة مطلقا سواء كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره أو كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه ونحوه هو مما يعتبر في الطاعة عقلا بالتقريب الذي ذكرناه وبيناه فتدبره جيدا.
(قوله وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها... إلخ) هذا وجه لعدم إمكان اعتبار التقرب بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره في العبادات شرطا أو شطرا (وبعبارة أخرى) وجه لعدم إمكان الأمر بإتيان العمل بداعي الأمر (وحاصل الوجه) أن إتيان العمل بداعي أمره غير مقدور
217

للمكلف قبل الأمر بالعمل إذ لا أمر به كي يقصد فكيف يأمر بإتيان العمل بداعي أمره (ثم ان الظاهر) من عبارة المصنف هذه في بدو الأمر أن مرجعها إلى وجهين لعدم إمكان اعتبار قصد الأمر في المتعلق قد أشار إلى أحدهما بقوله لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر وأشار إلى الآخر بقوله فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها ولكن التدبر فيها كما هو حقه مما يقضى بكونها وجها واحدا لا وجهين وأنه بصدد شيء واحد وهو عدم تمكن المكلف من إتيان العمل بداعي أمره قبل الأمر بالعمل أي لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى ويقدر عليه الا من بعد الأمر في متعلق ذلك الأمر فإنه من الأمر بغير المقدور فقوله فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر... إلخ بيان لوجه الاستحالة وهو عدم القدرة على المكلف به لا وجه آخر (نعم يمكن أن يقال) ان المصنف وان كان بصدد شيء واحد وهو عدم تمكن المكلف من إتيان العمل بداعي أمره قبل الأمر بالعمل ولكن صح أن يذكر في المقام وجه آخر لعدم إمكان اعتبار قصد الأمر في متعلق الأمر غير ما ذكره المصنف وهو لزوم تقدم الشيء على نفسه في الرتبة نظرا إلى أن قصد الأمر متأخر عن الأمر والأمر متأخر عن المتعلق فلو اعتبر قصد الأمر المتأخر عن الأمر في المتعلق السابق على الأمر لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين وهو محال (ولكن قد يجاب) بان قصد الأمر المعتبر في المتعلق على القول باعتباره فيه هو قصد طبيعة الأمر والمتأخر عن الأمر هو قصد شخص الأمر الصادر من المولى خارجا فيختلف قصد الأمر المتأخر عن الأمر مع قصد الأمر المعتبر في المتعلق السابق على الأمر فلا تقدم الشيء على نفسه أصلا.
(أقول) ويمكن أن يقال في مقام الجواب إن قصد الأمر متأخر عن
218

الأمر خارجا فما لم يتحقق الأمر في الخارج لم يمكن قصده والأمر متأخر عن المتعلق ذهنا لا خارجا والا بان كان متأخرا عنه خارجا لزم طلب الحاصل وهو محال (وعليه) فإذا اعتبر قصد الأمر في المتعلق لم يلزم تقدم الشيء على نفسه في الرتبة فان المتأخر عن الأمر هو قصد الأمر الخارجي والمعتبر في المتعلق هو قصد الأمر الذهني فيختلف أيضا قصد الأمر المتأخر عن الأمر مع قصد الأمر المعتبر في المتعلق السابق على الأمر فلا تقدم للشيء على نفسه أبدا فتأمل جيدا.
(قوله وتوهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر... إلخ) وحاصل التوهم أنه من الممكن أن يتصور الشارع إتيان الصلاة بداعي الأمر فيأمر بها كذلك والصلاة بداعي الأمر وان كانت قبل الأمر بها غير مقدورة للمكلف ولكن بعد ما تعلق الأمر بها مقدورة له والقدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر هي القدرة على العمل حين العمل لا حين الأمر (وقد أجاب) عنه المصنف بكونه واضح الفساد ثم أفاد في وجه الفساد ما حاصله أن الإتيان بالصلاة بداعي الأمر غير مقدور للمكلف حتى بعد الأمر إذ لا أمر للصلاة كي يأتي بها بداعيه فان الأمر حسب الفرض قد تعلق بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر لا بنفس الصلاة وحدها كي يمكن الإتيان بها بداعي أمرها والأمر لا يدعو الا إلى ما تعلق به لا إلى غيره.
(قوله إن قلت نعم ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة... إلخ) (وحاصل الإشكال) أنه إذا أمر بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر فنفس الصلاة أيضا تصير مأمورة بها في ضمن الأمر بالمجموع فيؤتى بها بداعي أمرها بلا محذور في ذلك عقلا (وحاصل جوابه عنه) أن الأمر إذا تعلق بالمجموع أي
بالصلاة المقيدة بداعي الأمر
219

فلا إشكال حينئذ في خروج القيد عن تحت الأمر ويبقى تحته ذات المقيد والتقيد وهما جزءان تحليليان نظير الجنس والفصل والجزء التحليلي مما لا يتصف بالوجوب أصلا إذ لا وجود له في الخارج غير وجود الكل الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي كي يتصف بالوجوب ضمنا كما هو الشأن في الجزء الخارجي (وفيه) ان الجزء التحليلي وان لم يكن كالجزء الخارجي بحيث كان له وجود مستقل على حده فان الأجزاء الخارجية تركبها انضمامي بمعنى أن لكل منها وجود مستقل على الدقة منضم إلى الآخر وإن كان العرف لا يرى للمجموع إلا وجودا واحدا والأجزاء التحليلية تركبها عقلي كالجنس والفصل فان العقل بالتعمل يحلل النوع إلى جنس وفصل كما تقدم في المشتق وإلا فهما موجودان بوجود واحد حقيقة لا بوجودين ممتازين خارجا ولكن مجرد عدم استقلال الجزء التحليلي في الوجود مما لا يمنع عقلا عن اتصافه بالوجوب بعد كونه أمرا ممكنا مقدورا يتمكن المكلف من إيجاده في الخارج ولو متحدا مع الجزء الآخر (وبالجملة) ان الجزء التحليلي هو كالجزء الخارجي في صحة اتصافه بالوجوب الضمني وإن لم يكن هو كالجزء الخارجي في استقلاله بالوجود الخارجي (وعليه) فإذا أمر بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر فيمكن الإتيان بها بداعي أمرها لأنها في ضمن الأمر بالمجموع تصير مأمورة بها قطعا.
(قوله ان قلت نعم لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا وأما إذا أخذ شطرا... إلخ) (وحاصل الإشكال) انه سلمنا أنه إذا تعلق الأمر بالمجموع فالصلاة لا تصير مأمورة بها لأن ذات المقيد جزء تحليلي لا يتصف بالوجوب ولكن هذا إذا أخذ قصد الأمر بنحو الشرطية والقيدية وأما إذا أخذ شطرا أي جزءا فيتصف كل من الصلاة وقصد الأمر بالوجوب النفسي الضمني فيمكن الإتيان بها بداعي وجوبها (وقد أجاب) عن هذا الإشكال من وجهين.
220

(أحدهما) امتناع ذلك لاستلزامه تعلق الأمر بالقصد وهو أمر غير اختياري فان اختيارية الأفعال تكون بالإرادة وهي القصد فلو كانت اختيارية الإرادة بإرادة أخرى لتسلسلت (وفيه) ان الإرادة كما تقدم في ذيل الطلب والإرادة اختيارية باختيارية بعض مقدماتها وليست اختياريتها بإرادة أخرى كي يتسلسل وهل يعقل أن تكون اختيارية الأفعال بها وهي بنفسها لا تكون اختيارية.
(ثانيهما) انه إذا أمر بالمجموع أي بالصلاة بداعي أمرها فالإتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه يعنى به الصلاة انما يمكن في ضمن الإتيان بالمجموع بداعي أمره ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركب من قصد الأمر بقصد الأمر.
(أقول) إلى هنا تم جواب المصنف ولم يبين وجه عدم إمكان الإتيان بالمركب من قصد الأمر بقصد الأمر ولعل نظره في عدم إمكان ذلك إلى أنه يلزم حينئذ أن يكون قصد الأمر الذي هو أحد جزئي المركب مأتيا به بقصد الأمر الا أنه كما ترى مما لا محذور فيه فإنه.
(أولا) لا مانع من الإتيان بقصد الأمر بقصد أمره بعد فرض تعلق الأمر بالمجموع المركب الذي كان أحد جزئيه نفس قصد الأمر.
(وثانيا) ان أحد الجزءين وهي الصلاة وان كانت تعبدية لا يكاد يسقط أمرها الا بالإتيان بها بداعي أمرها ولكن الجزء الآخر وهو قصد الأمر توصلي قطعا يحصل الغرض منه بمجرد إتيانه كيف ما اتفق فإذا قصد الأمر في الإتيان باجزاء الصلاة ولم يكن نفس الإتيان بقصد الأمر بداعي وجوبه فقد أجزأ وكفى عليه فلا مانع من أخذ قصد الأمر في المتعلق شطرا كما عرفت أنه لا مانع من أخذه شرطا فافهم جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله ان قلت نعم لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به
221

بأمر واحد... إلخ) إشارة إلى ما أفاده صاحب التقريرات من تصحيح اعتبار قصد الأمر في المأمور به بوسيلة أمرين أحدهما يتعلق بذات العمل والآخر بإتيانه بداعي أمره (قال) في التعبدي والتوصلي وقد عنونهما في مقدمة الواجب كما أشرنا في صدر البحث ما هذا لفظه إن الطالب لو حاول طلب شيء على وجه الامتثال لا بد له من أن يحتال في ذلك بان يأمر بالفعل المقصود إتيانه على وجه القربة أولا ثم ينبه على أن المقصود هو الامتثال بالأمر (انتهى) وقد أجاب عنه المصنف.
(أولا) بأنا نقطع أنه ليس في العبادات الا أمر واحد كسائر الواجبات التوصلية غاية الأمر أنه يدور في العبادات مدار الامتثال وجودا وعدما المثوبات والعقوبات فالثواب على الامتثال والعقاب على ترك الامتثال وفيما عدى العبادات أي الواجبات التوصلية يدور خصوص المثوبات مدار الامتثال وأما العقوبات فلا يدور مدار ترك الامتثال بل يدور مدار ترك الفعل من أصله (وثانيا) ان الأمر الأول المتعلق بأصل الفعل ان كان توصليا يسقط بمجرد الإتيان بالفعل ولو لا بداعي أمره فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني لسقوط الأمر الأول بمجرد الإتيان بالفعل لا بداعي أمره وان كان تعبديا لا يسقط بمجرد الإتيان بالفعل ولو لا بداعي أمره فلا وجه لعدم سقوطه الا كون الواجب عباديا لا يحصل الغرض منه الا مع الإتيان به بداعي أمره ومع كون الواجب كذلك يستقل العقل لا محالة بوجوب إتيانه على نحو يحصل به الغرض أي بداعي أمره وعلى وجه التقرب به من دون حاجة إلى أمر الشارع بإتيانه كذلك (وتوضيحه) انك قد عرفت في صدر البحث ان تشخيص الصغرى وان الواجب هل هو تعبدي قد سيق لأجل التقرب به إلى المولى أو توصلي قد أمر به لمصلحة فيه وحكمة هو أمر واضح غالبا يعرفه
222

العرف نوعا فإذا عرف أن الواجب تعبدي قد سيق لأجل التقرب به إلى المولى استقل العقل بنفسه بوجوب الإتيان به متقربا به إلى المولى وبداعي أمره الشرعي من دون حاجة إلى أمر الشارع بإتيان العمل بداعي أمره.
(أقول) إن تشخيص العبادات من التوصليات هب أنه واضح غالبا يعرفه العرف نوعا ومع تشخيص الصغرى ومعرفة كون الواجب تعبديا لا توصليا لا محالة يحكم العقل بلزوم الإتيان بالفعل متقربا به إلى الله وبداعي أمره الشرعي من دون حاجة إلى أمر الشارع ولكن ذلك مما لا يوجب امتناع أمر الشارع بلزوم الإتيان بالفعل متقربا به إلى الله وبداعي أمره غايته ان امر الشارع حينئذ يكون مؤكدا لحكم العقل لا مؤسسا (مضافا) إلى ان في بعض الموارد ربما يكون عبادية الواجب خفية على العرف غير
واضحة له كما في الزكاة أو العتق ونحوهما إذ ليست هي دائما كعبادية الصلاة والصيام ونحوهما مما يعرف بمجرد النظر إليه والتأمل فيه انه عبادي قد سيق لأجل التقرب به إلى الله (وعليه) فلا ضير حينئذ في تنبيه الشارع على العبادية ولو بوسيلة أمرين (نعم يرد) على ما أفاده التقريرات خصوص ما أورده المصنف أولا من القطع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد وهو يكفى لمقصد المصنف من إثبات كون القربة مما يعتبر في العبادات عقلا لا شرعا.
(قوله بخلاف ما عداها... إلخ) أي بخلاف ما عدى العبادات من التوصليات.
(قوله كما هو قضية الأمر الثاني... إلخ) فان الأمر الثاني توصلي قطعا فإذا أتى بالفعل بداعي امره فقد حصل الغرض من الأمر الثاني وسقط هو قطعا ولا يجب ان يكون إتيانه بالفعل بداعي امره لأجل الأمر الثاني.
(قوله واما إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه
223

ذا مصلحة أو له تعالى... إلخ) هذا عدل لقوله السابق من ان التقرب المعتبر في التعبدي ان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي امره... إلخ وقد تقدم في صدر البحث شرحه وما يرد عليه فلا نعيده ثانيا.
(قوله ثالثها انه إذا عرفت بما لا مزيد عليه... إلخ) هذه المقدمة الثالثة هي نفس النتيجة لا مما يتوقف عليه إبطال التمسك بإطلاق الصيغة للتوصلية والأولى كان ان يقول في صدر البحث لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمتين إحداهما الوجوب التوصلي... إلخ ثانيهما ان التقرب المعتبر في التعبدي... إلخ ثم يقول إذا عرفت مما لا مزيد عليه... إلخ (وعلى كل حال) حاصل إبطاله التمسك بإطلاق الصيغة للتوصلية انك قد عرفت في المقدمة الثانية ان قصد الامتثال مما لا يمكن أخذه في المأمور به شرعا فإذا لم يمكن اعتباره لم يجز التمسك بالإطلاق لعدم اعتباره فان الإطلاق انما يكشف عن عدم اعتباره إذا كان مما جاز اعتباره وأمكن في الخارج أخذه دون ما لم يمكن (وفيه) ان الذي تقدم ومضى في مجموع المقدمة الثانية كما أشرنا قبلا ان اعتبار قصد القربة في الطاعات يكون بحكم العقل لا بحكم الشرع بالتقريب الذي قد عرفت منا شرحه وتوضيحه لا مجرد كون قصد الامتثال مما لا يمكن أخذه في المأمور به فان مجرد ذلك مما لا يكفى في إبطال التمسك بالإطلاق لوضوح عدم انحصار قصد القربة بقصد الامتثال فقط (والصحيح) في تقريب إبطال التمسك بالإطلاق ان يقال انك قد عرفت فيما تقدم ان اعتبار قصد القربة في العبادات بأي معنى كان سواء كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره أو كان بمعنى الإتيان به بداعي حسنه ونحوه هو بحكم العقل لا بحكم الشرع وان الشرع قد اتكل في اعتباره على حكم العقل على ما سبق منا تفصيله في صدر المقدمة الثانية فإذا كان اعتباره بحكم العقل لا بحكم
224

الشرع لم يجز التمسك قهرا بإطلاق الصيغة لرفع اعتباره شرعا (هذا مضافا) إلى ما تقدم في الصحيح والأعم مشروحا من أنه على القول بالصحيح لا يكاد يمكن التمسك بالإطلاق لرفع ما شك في اعتباره لكون الشك على هذا القول في أصل المسمى ومع الشك في المسمى لم يجز التمسك بالإطلاق (وبالجملة) ان قلنا ان قصد القربة هو مما يعتبر في العبادات عقلا بحيث كان خارجا عن أصل المسمى والموضوع له لم يجز التمسك حينئذ بالإطلاق من جهة ان اعتباره فيها عقلي لا شرعي فإطلاق الصيغة مما لا يكشف عن عدم اعتباره شرعا في مورد الشك وان قلنا إنه مما يعتبر فيها شرعا بحيث كان حاله كحال ساير الأجزاء والشرائط الشرعية المعتبرة في المسمى لم يجز التمسك حينئذ بالإطلاق من جهة أخرى وهي أن الشك على الصحيح كما هو المختار يكون في أصل المسمى لا فيما هو خارج عنه ليمكن التمسك بالإطلاق لرفعه ونفى اعتباره فتأمل جيدا.
(قوله لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها... إلخ) إذ لا معنى لاستظهار التوصلية وعدم اعتبار قصد القربة في مورد الشك من إطلاق الصيغة بهيئتها فان مفاد الهيئة هو الطلب وقصد القربة على تقدير اعتباره في العبادات شرعا هو من قيود المادة نظير الستر والطهور والقبلة ونحوها للصلاة لا من قيود الهيئة أي الوجوب والطلب نعم لو شك في ثبوت قيد للطلب بان شك أن الطلب الوجوبي أو الندبي هل هو مطلق ثابت على كل حال أو مقيد ثابت على تقدير دون تقدير فعند ذلك يتمسك بإطلاق الصيغة بهيئتها لا بمادتها.
(قوله ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناش من قبل الأمر... إلخ) مقصوده من مثل الوجه مما هو ناش من قبل الأمر هو التمييز (والمراد من الوجه) هو قصد الوجوب أو الاستحباب وبين قصد القربة
225

وقصد الوجه عموم مطلق إذ كلما قصد الوجه أي الوجوب أو الاستحباب فقد قصد القربة ولا عكس لمكان أن يقصد الأمر على إجماله ولا يقصد خصوص الوجوب أو الاستحباب كما إذا علم إجمالا أن العمل الفلاني مما أمر به قطعا ولم يعلم تفصيلا أنه واجب أو مستحب وقد أتى به بداعي أمر المولى إجمالا فهو حينئذ قاصد للقربة وليس قاصدا للوجه (وأما التمييز) فهو معرفة المأمور به وتعيينه بشخصه فإذا علم إجمالا أنه يجب عليه أما الظهر أو الجمعة وقد أتى بهما احتياطا فلا تمييز له ولا تعيين وكل من الوجه والتمييز وجوبه محل الكلام في الفقه ولو في خصوص ما إذا أمكن إزالة الجهل وتحصيل العلم بكون المأمور به واجبا أو مستحبا أو ظهرا مثلا أو جمعة لا مطلقا ولو فيما لم يمكن ذلك (ثم ان حاصل كلام المصنف) أنه كما لا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة لرفع اعتبار قصد الامتثال من جهة عدم إمكان أخذه في المتعلق فكذلك لا يمكن التمسك بإطلاق الصيغة لرفع اعتبار قصد الوجوب أو الاستحباب أو تعيين المأمور به وتشخيصه لأن كلا من الوجه والتمييز حاله كحال قصد الامتثال حيث لا يتأتى الا من قبل الأمر وما لا يتأتى الا من قبل الأمر كيف يمكن اعتباره في متعلق ذاك الأمر على التفصيل الذي قد مر توضيحه في قصد الامتثال.
(أقول) هذا مضافا إلى ما أشير آنفا وتقدم تفصيله في الصحيح والأعم من أنه على الصحيح لا يكاد يمكن التمسك بالإطلاق لرفع اعتبار شيء في المأمور به أصلا لأن الشك حينئذ في أصل المسمى (ثم لا يخفى عليك) أنه فرق واضح بين المتمسكين إذا قلنا بهما أي بين التمسك بالإطلاق لرفع اعتبار قصد القربة وبين التمسك به لرفع
اعتبار الوجه والتمييز فانا في قصد القربة نعلم أصل الكبرى وأنه مما يعتبر في العبادات قطعا غايته أنه يقع الشك في واجب مخصوص من عتق أو صدقة ونحوهما أنه هل هو تعبدي يعتبر فيه قصد القربة
226

أو توصلي لا يعتبر فيه ذلك وفي المقام نشك في أصل اعتبارهما في العبادات لا في خصوص واجب دون واجب وان شئت قلت إن الشك في الأول وهو بنحو الشبهة الموضوعية وفي الثاني بنحو الشبهة الحكمية.
(قوله نعم إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه... إلخ) استدراك عن المنع من التمسك بالإطلاق لرفع اعتبار قصد الامتثال بل الوجه والتمييز أيضا (وحاصله) أنه نعم إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان ماله الدخل في غرضه كقصد الامتثال أو الوجه أو التمييز وإن لم يكن له دخل في المأمور به من جهة عدم إمكان اعتباره في المتعلق ومع ذلك سكت ولم يبين دخله في الغرض جاز التمسك بهذا الإطلاق المقامي أي بعدم البيان في مقام البيان لرفع اعتباره في الغرض وهذا غير الإطلاق اللفظي الذي منعناه وقد أشير قبلا في الصحيح والأعم في بيان ثمرة النزاع إلى الفرق الواضح بين الإطلاق المقامي واللفظي بنحو أبسط من ذلك جدا فتذكر.
(قوله فلا بد عند الشك وعدم إحراز هذا المقام من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل... إلخ) أي الأصل العملي من البراءة أو الاشتغال فانا إذا يئسنا من التمسك بإطلاق الصيغة الذي هو أصل لفظي بل ويئسنا من الإطلاق المقامي أيضا فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي فان الرجوع إلى الأصل يكون بعد فقد الأمارة من عموم أو إطلاق ونحوهما وحينئذ فهل يرجع إلى البراءة أو الاشتغال مختار المصنف هو الثاني أي الرجوع إلى الاشتغال وعدم الرجوع إلى البراءة مطلقا عقليها ونقليها وان قلنا في الأقل والأكثر الارتباطيين بالبراءة (أما عدم جريان البراءة النقلية) فسيأتي الكلام فيه عند تعرض المصنف له (وأما عدم جريان البراءة العقلية) فحاصل ما أفاد المصنف في وجهه أن الشك في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم
227

والعقل يستقل بلزوم الخروج عن عهدته فانا إذا علمنا أن شيئا خاصا كالعتق مثلا واجب قطعا ولم نعلم أنه تعبدي يعتبر فيه قصد القربة أم توصلي لا يعتبر فيه ذلك فما لم يؤت به بقصد القربة لم يعلم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلقه به فإذا لم يؤت به كذلك وقد صادف كونه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة فلا يكون العقاب حينئذ عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.
(أقول) ويرد عليه:
(أولا) ان هذا هو عين التقريب الجاري للاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين وليس هو شيئا جديدا في المقام قد أوجب المصير إلى الاشتغال هنا وان قلنا هناك بالبراءة.
(وثانيا) ان حال المقام بعينه هو حال الأقل والأكثر الارتباطيين فكما نقول فيهما بالبراءة العقلية خلافا للمصنف هناك بالبيان الذي سيأتي منا شرحه وتفصيله في محله من ان العقاب بقدر البيان ولا بيان على الأمر المشكوك اعتباره فكذلك نقول بها في المقام حرفا بحرف غير ان الأمر المشكوك دخله هناك كالسورة مثلا على تقدير دخله يكون اعتباره شرعيا وفي المقام يكون اعتباره عقليا وذلك مما لا يوجب تفاوتا فيما نحن بصدده (نعم قد يتوهم) ان اعتبار قصد القربة في العبادات بعد ما كان عقليا ولم يكن بيانه بعهدة الشارع لم يصح التشبث بقبح العقاب بلا بيان فان الشارع لم يبينه في معلوم التعبدية فكيف بمشكوك التعبدية (ولكنه توهم ضعيف) فان المقصود من البيان في قبح العقاب بلا بيان ليس خصوص بيان الشارع والا لم يصح التشبث بالبراءة العقلية في الشبهات الموضوعية نظرا إلى عدم كون البيان فيها بعهدة الشارع بل المقصود منه مطلق الوضوح والانكشاف كما سيأتي تحقيقه في أصل البراءة إن شاء الله تعالى ومن المعلوم أنه مفقود في المقام وعليه فلا يبقى مانع
228

فيه عن البراءة العقلية.
(قوله وهكذا الحال في كلما شك في دخله في الطاعة... إلخ) أي وهكذا الحال في الوجه والتمييز فكما أنه إذا شك في واجب أنه تعبدي أو توصلي فلا مجال إلا لأصالة الاشتغال فكذلك إذا شك في اعتبار الوجه والتمييز في العبادات فلا مجال إلا لأصالة الاشتغال.
(أقول) إذا عرفت منا جريان البراءة العقلية والتشبث بقاعدة قبح العقاب بلا بيان عند الشك في التعبدية والتوصلية مع أن اعتبار قصد القربة في العبادات مما يستقل به العقل فعند الشك في اعتبار مثل الوجه والتمييز مما لا يستقل به العقل أصلا بطريق أولى فان الشارع هب أنه لا يسعه اعتبارهما في المأمور به بأمر واحد وإن كان ذلك خلاف التحقيق عندنا ولكن يسعه اعتبارهما فيه بوسيلة أمرين كما تقدم من التقريرات وحيث لم يبين اعتبارهما في العبادات كذلك أو بين ولم يصل إلينا بيانه بعد الفحص عنه بحد اليأس لم يصح العقاب عليه عقلا.
(قوله نعم يمكن أن يقال إن كلما يحتمل بدوا دخله في الامتثال... إلخ) استدراك عن حكمه بالاحتياط عند الشك في اعتبار الوجه والتمييز في العبادات (وحاصله) أن مقتضى القاعدة وإن كان هو الاحتياط عند الشك في اعتبارهما لكون الشك في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم لمكان دخلهما في حصول الغرض ولكن مع ذلك يمكن التخلص عن الاحتياط بنحو صحيح بان يقال إن الوجه والتمييز حيث انهما مما يغفل عنه عامة الناس ولا يلتفت إليهما إلا الأوحدي منهم فكان على الآمر بيان دخلهما في غرضه فحيث لم يبين يقطع بعدم دخلهما فيه فلا يجب الاحتياط حينئذ.
(قوله ثم انه لا أظنك أن تتوهم وتقول إن أدلة البراءة الشرعية
229

مقتضية لعدم الاعتبار... إلخ) من هاهنا شرع المصنف في بيان عدم جريان البراءة النقلية أيضا عن اعتبار قصد القربة في مشكوك التعبدية والتوصلية مثل ما لم تجر
البراءة العقلية في نظره (وحاصل ما أفاده) في وجه ذلك أنه لا بد في جريان أدلة البراءة النقلية كحديث الرفع وأخواته من شيء قابل للرفع والوضع ودخل قصد القربة في العبادات ليس بشرعي كي يقبل الرفع بل واقعي فلا يقبل الرفع (ثم أورد على نفسه) بان دخل الجزء والشرط أيضا واقعي فكيف يرفع بحديث الرفع ونحوه (فأجاب عنه) بان دخلهما وان كان واقعيا إلا انهما قابلان للرفع بمعنى أنه بدليل الرفع يكشف أنه لا أمر فعلى بما يعتبر فيه المشكوك بخلاف المقام ففيه الأمر الفعلي.
(أقول) وفيه ان المقام وإن كان فيه أمر فعلى إجمالا ولكن لم يعلم تعلقه بما يعتبر فيه المشكوك بل يحتمل تعلقه بما لا يعتبر فيه المشكوك فإذا لا يبقى فرق بين قصد القربة وبين ساير الأجزاء والشرائط فتجري البراءة الشرعية عنه مثل ما تجري عنهما (ولعله إليه) أشار أخيرا بقوله فافهم ولو أنه قدس سره أبدل قوله بل واقعي بقوله بل عقلي كان أقرب لمطلوبه وأبعد عن النقض بالجزء والشرط فان دخلهما ليس بعقلي قطعا بخلاف قصد القربة فيكون دخله عقليا ولكن مع ذلك لا ينهض دليلا للمنع عن البراءة الشرعية فان اعتبار قصد القربة وإن كان بحكم العقل كما عرفت ولكن لا منافاة بين كون وضعه من العقل ورفعه في مورد الشك من الشرع بمعنى رفع المؤاخذة عليه بان يقول الشارع إن ما شك في تعبديته وتوصليته لا يجب الإتيان به بقصد القربة فان كان توصليا فهو وإن كان تعبديا فانا لا أعاقب عليه مع عدم حصول غرضي منه (هذا مضافا) إلى المنع عن كون قصد القربة مما لا يقبل الوضع شرعا فإنه ان كان بمعنى قصد الحسن وأخواته فقد اعترف
230

بإمكان اعتباره في متعلق الأمر وان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره فقد عرفت من التقريرات إمكان اعتباره بوسيلة أمرين بل عرفت منا إمكانه ولو بأمر واحد فضلا عن أمرين (هذا كله) حال البراءة الشرعية عن قصد القربة فإذا جرت عنه في مشكوك التعبدية والتوصلية مع استقلال العقل باعتباره في العبادات طرا فجريانها عن مثل الوجه والتمييز مما لا يستقل العقل باعتباره فيها بطريق أولى هذا تمام الكلام في التعبدي والتوصلي بقي في المسألة شيء آخر لم يذكره المصنف وهو أنه هل يعتبر في العبادات قصد العنوان أم لا (والحق) أنه يعتبر في عامة العبادات بأسرها فما لم يؤت بالتكبير مثلا أو بسائر اجزاء الصلاة بعنوان أنه تكبيرة الإحرام أو بعنوان أنه جزء للصلاة لم يقع ذلك جزءا للصلاة وما لم يكن الإمساك عن المفطرات بعنوان الصوم لم يقع ذلك صوما شرعا وما لم يكن دفع المال إلى الفقير بعنوان الزكاة لم يكن ذلك زكاة قطعا وهكذا الأمر في تمام العبادات بل ويعتبر ذلك في كثير من التوصليات التي يتوقف ماهيتها عليه فما لم يكن ضرب الطفل بعنوان التأديب لم يكن ذلك تأديبا حسنا وما لم يكن القيام بعنوان التعظيم لم يكن ذلك تعظيما وتجليلا وما لم يكن دفع المال إلى المستقرض أو إلى الدائن بعنوان القرض أو بعنوان أداء الدين لم يكن ذلك إقراضا أو أداء للدين وهكذا والحاكم باعتبار قصد العنوان في عامة العبادات بل وكثير من التوصليات التي يتوقف ماهيتها عليه هو العقل إذ لو لم يقصد العنوان لم يقع الامتثال ولم تتحقق الماهية أصلا (هذا) مع ما ورد من الدليل الشرعي عليه مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لا عمل الا بالنية أو الأعمال بالنيات ونحوهما مما دل على انتفاء العمل بانتفاء النية غايته أن النفي بالنسبة إلى العبادات وكثير من التوصليات التي يتوقف ماهيتها على النية حقيقي وبالنسبة إلى ساير
231

التوصليات التي لا تتوقف ماهيتها على النية تنزيلي ولا ضير في ذلك بعد انحلال النفي وتعدده بتعدد العمل المنفي (ثم ان) الفرق بين قصد العنوان وقصد القربة في العبادات بعد اشتراكهما في استقلال العقل باعتبارهما فيها ان قصد العنوان دخيل في أصل ماهية الفعل كما أشير آنفا فما لم يؤت بالفعل بقصد العنوان لا صلاة ولا صيام ولا زكاة وقصد القربة دخيل في حصول الغرض منه ووقوعه عبادة ومقربا فإذا أتى بالعمل بعنوان الصلاة أو الزكاة أو الصيام لا متقربا به إلى الله تعالى تحقق ماهية الصلاة والزكاة والصيام ومسمياتها ولكن لم يحصل الغرض المقصود منه وهو حصول التقرب به إلى الله تعالى ولم يقع عبادة ومقربا إليه أصلا ومن هنا يظهر لك أن النسبة بين قصد العنوان وقصد القربة عموم مطلق فكلما قصد القربة كان قصد العنوان حاصلا قطعا ولا عكس (ثم انه) إذا أحرز كون الواجب عباديا أو من التوصليات التي يعتبر فيها قصد العنوان فهو وان شك فلا بد من الاحتياط والإتيان به بقصد العنوان والا لم يحرز أنه قد أتى بشيء أصلا بعد ما عرفت دخالة قصد العنوان في أصل الماهية وهذا واضح.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير قبل ذكر قصد العنوان إلى وجه قوله فافهم فتذكر.
في الوجوب النفسي التعييني العيني
(قوله المبحث السادس قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا... إلخ) بمعنى ان إطلاق الهيئة أي الطلب مما يقتضى ذلك لأن كلا مما يقابل النفسي والتعييني والعيني من الغيري والتخييري والكفائي وجوب
232

مقيد فالوجوب الغيري مقيد بوجوب ذي المقدمة والتخييري مقيد بما إذا لم يأت بالبدل والكفائي مقيد بما إذا لم يأت به آخر فإذا كان المولى في مقام البيان وتمت مقدمات الحكمة فإطلاق الصيغة يقتضى كون الطلب غير مقيد بوجوب شيء آخر ولا بما إذا لم يأت بشيء آخر ولا بما إذا لم يأت به شخص آخر فيكون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا.
(أقول) وكل هذا محل المناقشة بل المنع الصريح (والحق) ان إطلاق الصيغة مما لا يقتضى شيئا مما ذكر أصلا (أما عدم اقتضائه) كون الوجوب نفسيا فلان الوجوب الغيري ليس مقيدا دائما بوجوب ذي المقدمة في لسان الدليل كي نستكشف من إطلاقه أنه نفسي لا غيري بل الغيري على أقسام (فقد يكون) مشروطا في لسان الدليل كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم (وقد يكون) مطلقا في لسان الدليل مذكورا مع ذيها بنحو الإطلاق كما في قوله ادخل السوق واشتر اللحم (وقد يكون) مطلقا غير مذكور مع ذيها أصلا كما إذا قال ادخل السوق وبعد ما دخل السوق قال له اشتر اللحم فإذا كان الواجب الغيري على أقسام ولم يكن مشروطا دائما في لسان الدليل فبمجرد إطلاق وجوبه فيه لا يكاد يعرف أنه نفسي لا غيري بل لا بد حينئذ عند الشك من الرجوع إلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف المقامات (فان علم) إجمالا أنه واجب فعلا على كل حال أما نفسيا أو غيريا لواجب آخر قد دخل وقته فلا مجال حينئذ للأصل العملي أصلا (وان علم) إجمالا أنه اما واجب
نفسي أو غيري لواجب آخر لم يدخل وقته بعد فالأصل حينئذ مما يقتضى الغيرية بمعنى عدم وجوب الإتيان به فعلا ما لم يدخل وقت ذلك الواجب الآخر ويحصل العلم الإجمالي بوجوبه (وأما عدم اقتضائه) كون الوجوب تعيينيا فلان الوجوب التخييري كما سيأتي في محله ليس مشروطا
233

بعدم الإتيان بالبذل فإنه أحد وجوه المسألة بل أحد أقوالها بأحد معنييه والتحقيق غيره كما ستعرف (ولو سلم فليس ذلك في لسان الدليل كي يعرف من إطلاق الطلب في لسانه أنه تعييني لا تخييري (نعم) الواجب التخييري هو مما له عدل في لسان الدليل كقوله أعتق رقبة أو صم ستين يوما فإذا أمر بشيء ولم يعلم أنه تعييني لا عدل له أو تخييري له عدل فمن إطلاق الصيغة بمادتها يعرف أن الواجب تعييني لا تخييري الا أنه غير التمسك بإطلاق الصيغة بهيئتها كما يظهر من المصنف حيث قال لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته... إلخ (وأما عدم اقتضائه) كون الوجوب عينيا فلان الوجوب الكفائي كما سيأتي أيضا في محله ليس مشروطا بما إذا لم يأت به آخر بل وجوب مطلق متوجه إلى الكل غير أنه يسقط بفعل أحدهم لحصول الغرض منه على ما ستعرف تفصيله (ولو سلم ذلك فاشتراطه به ليس في لسان الدليل كي يستدل بإطلاقه لكونه عينيا لا كفائيا بل هو في عالم الثبوت والواقع (وعليه) فلا بد حينئذ عند الشك في العينية والكفائية من الرجوع إلى الأصل العملي وهو يقتضى بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير أصلا (هذا كله) حال التمسك بإطلاق الصيغة أي الهيئة لكون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا وقد عرفت أنه مما لا يصح التمسك به مطلقا الا بإطلاق الصيغة بمادتها لكون الوجوب تعيينيا لا تخييريا (وأما إذا شك) في واجب أنه مطلق أو مشروط فلا إشكال في صحة التمسك بإطلاق الصيغة أي الهيئة لكون الوجوب المنشأ بها مطلقا لا مشروطا وهذا مما لا كلام فيه غير ان المصنف لم يذكره في المقام فما ذكره قدس سره لا يسلم عن المناقشة بل عن المنع الصريح كما عرفت وما يسلم عنها لم يذكره أصلا ولعله لوضوحه وعدم الريب فيه (ثم لا يخفى) ان التمسك بإطلاق الصيغة بهيئتها لكون الوجوب مطلقا لا مشروطا ليس على
234

حد التمسك بسائر الإطلاقات فان المطلق في ساير المقامات كلي طبيعي له أفراد كثيرة كالرقبة في قولك أعتق رقبة فإذا تمت مقدمات الحكمة فينعقد له إطلاق أفرادي يشمل جميع الأفراد بأسرها من المؤمنة والكافرة والطويلة والقصيرة والشابة والمعمرة ونحو ذلك من الأقسام والمطلق في المقام وهو الطلب المنشأ بالصيغة فرد خاص خارجي جزئي لا كلي فإذا تمت مقدمات الحكمة فينعقد له إطلاق أحوالي يشمل جميع الحالات والتقادير أي طلب ثابت على كل تقدير وفي كل حال لا على تقدير دون تقدير وفي حال دون حال فتأمل جيدا.
في الأمر الواقع عقيب الحظر
(قوله المبحث السابع أنه اختلف القائلون بظهور صيغة الأمر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال... إلخ) قد ذكر صاحب البدائع رحمه الله في النسخة الثانية من نسختي الأوامر أقوالا ثمانية في المسألة أهمها ما أشار إليه المصنف وهو أقوال ثلاثة:
(الأول) ظهور الصيغة الواقعة عقيب الحظر في الإباحة (قال في البدائع) وهو المحكي عن الشافعي ونسب إلى الأكثر وقيل انه المشهور (انتهى) (الثاني) ظهورها في الوجوب على حد غيرها من الأوامر الابتدائية (قال في البدائع) كما صرح به في محكي الذريعة والعدة والغنية والتهذيب والمنتهى وتمهيد القواعد والمفاتيح ونسب إلى الرازي والبيضاوي وأبي إسحاق وإلى بعض المعتزلة (انتهى).
(الثالث) التفصيل بين ما إذا كان الأمر معلقا على زوال علة النهي
235

فيكون ظاهرا في الرجوع إلى الحكم السابق قبل النهي وقد مثل له بقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وبقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وبين ما إذا لم يكن معلقا عليه فيكون ظاهرا في الوجوب (قال) في البدائع نفى العضدي عنه البعد بعد أن نسبه إلى القيل (انتهى).
(قوله والتحقيق انه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال... إلخ) (وحاصل التحقيق) ان موارد الاستعمالات نوعا مقرونة بقرائن خاصة تدل على الوجوب أو الإباحة أو الرجوع إلى الحكم السابق قبل النهي ولو خلى المورد عن كل قرينة فلم يعلم ان مجرد وقوع الأمر عقيب الحظر موجب لظهوره في غير ما كان ظاهرا فيه بطبعه الأصلي وضعا أو انصرافا وان لم يعلم أيضا ظهوره في نفس ما كان ظاهرا فيه قبل وقوعه عقيب الحظر فيكون مجملا قهرا لا يصار إلى معنى خاص الا بقرينة.
(أقول) ولعل التحقيق ان الفعل الذي قد أمر به بعد الحظر ان كان محكوما بحكم سابقا قبل الحظر من وجوب أو ندب أو غيرهما فالأمر الواقع عقيب الحظر يكون ظاهرا في عود الحكم السابق واما إذا لم يكن محكوما بشيء قبلا بل كان النهي أول حكم قد تعلق به فالأمر الواقع عقيب الحظر يكون ظاهرا في الإباحة كما نسب إلى المشهور فتكون نفس وقوع الأمر عقيب الحظر قرينة عامة على صرف الصيغة عما كانت ظاهرة فيه بطبعها الأصلي وضعا أو انصرافا وأما إذا لم يعلم حال الفعل وانه كان قبل النهي محكوما بحكم أم لا فيجمل الأمر ولا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي فتدبر جيدا.
236

في المرة والتكرار
(قوله المبحث الثامن الحق ان صيغة الأمر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار... إلخ) (قوله مطلقا أي لا بهيئتها ولا بمادتها كما سيأتي التصريح به بعد سطر (ثم ان في المسألة) أقوالا كثيرة وما اختاره المصنف من عدم الدلالة على المرة ولا على التكرار هو مختار جماعة من المحققين (قال في الفصول) فصل الحق أن هيئة الأمر يعنى بها هيئة افعل لا دلالة لها على مرة ولا تكرار وفاقا لجماعة من المحققين وقال قوم بأنها تفيد التكرار ان أمكن ونزلوها منزلة أن يقول افعل أبدا وقال آخرون بأنها تفيد المرة وقيل باشتراكها بين المرة والتكرار وتوقف جماعة وهم بين متوقف في الاشتراك وعدمه وبين متوقف في تعيين المرة والتكرار (انتهى).
(قوله فان المنصرف عنها ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة... إلخ) أي فان المتبادر من مجموع ما للصيغة من الهيئة والمادة ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة فمفاد الهيئة هو
طلب الإيجاد ومفاد المادة هي الطبيعة (هذا) ولم يقتصر الفصول على الاستدلال بذلك بل أضاف إلى التبادر وجوها أخر أربعة فصار المجموع وجوها خمسة ولكن المصنف قد اقتصر على التبادر فقط ولعله لضعف بقية الوجوه كما لا يخفى على من راجعها.
(قوله ثم لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلا على الماهية... إلخ) رد على الفصول كما سيأتي التصريح به فان الفصول قد جعل النزاع في خصوص الهيئة (قال) كما تقدم آنفا فصل الحق ان هيئة الأمر لا دلالة لها على مرة ولا تكرار (إلى أن قال) وانما
237

حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه ولأن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها ولأنه لا كلام في ان المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه (انتهى موضع الحاجة من كلامه) فيقول المصنف في الرد عليه ما حاصله أن الاتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين مما لا يدل إلا على الماهية على ما حكاه السكاكي وفاقهم عليه مما لا يوجب حصر النزاع هاهنا في خصوص الهيئة فقط وذلك لأن المصدر ليس مادة للمشتقات كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالته إلا على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة مادة صيغة الأمر أيضا إلا على الماهية (وقد استدل المصنف) على عدم كون المصدر مادة لسائر المشتقات بمباينته معها بحسب المعنى كما تقدم في باب المشتق فكيف يكون المصدر بمعناه مادة لسائر المشتقات.
(أقول) ويرد عليه:
(أولا) إن الذي تقدم في باب المشتق هو مباينة المصدر مع الأسامي المشتقة الجارية على الذات فهو بمفهومه آب عن الحمل وهي بمفهومها غير آبية عن الحمل لا مباينة المصدر مع مثل صيغة الأمر ونحوها مما لا يجري على الذات وإن كان مباينا معها أيضا كالأسامي.
(وثانيا) ان مباينة المصدر مع ساير المشتقات بحسب المعنى مما لا يدل على عدم كونه مادة لها فان اختلاف المعنى قد نشأ من تشكل المصدر في ساير المشتقات بشكل آخر وبهيئة أخرى فان المصدر بهيئته ليس محفوظا فيها فيختلف المعنى قهرا بسبب اختلاف الهيئة الطارية عليه (ومن هنا يتضح) أنه كان الأولى للمصنف أن يستدل لعدم كون المصدر مادة لسائر المشتقات بعدم محفوظية المصدر بهيئته في ساير المشتقات فلو كان مادة لها لكان محفوظا
238

فيها بهيئته ومادته جميعا (ولكن يرد على ذلك) أيضا أن المصدر وان لم يكن بهيئته محفوظا فيها ولكن مع ذلك لا ينافي كونه مادة لها فان للمصدر كضرب مثلا مادة وهي الضاد والراء والباء وهيئتين هيئة حروفية وهي تقديم الضاد على الراء والراء على الباء وهيئة إعرابية وهي فتح الضاد وسكون الراء والباء جميعا والذي به قوام المصدر أي باختلاله يختل المصدر هو مادته وهيئته الحروفية وهما محفوظان في المشتقات وأما هيئة الإعرابية فهي وان لم تكن محفوظة فيها ولكنها ليست مما به أقوام المصدر بحيث إذا اختل اختل المعنى (وعليه) فما به قوام المصدر محفوظ في المشتقات وما ليس بمحفوظ فيها ليس به قوام المصدر ومن الواضح أن محفوظية ما به قوامه مما يكفى في كونه مادة للمشتقات.
(قوله ان قلت فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام... إلخ) هذا الإشكال متفرع على إنكار كون المصدر مادة لسائر المشتقات وهو إشكال واضح وقد أجاب عنه بأمرين:
(الأول) ما حاصله ان كون المصدر أصلا في الكلام هو محل الخلاف فان المنسوب إلى الكوفيين كون الفعل أصلا في الكلام لا المصدر.
(الثاني) ما حاصله ان كون المصدر أصلا في الكلام ليس معناه أنه مادة للمشتقات بل معناه ان الذي وضع أو لا بالوضع الشخصي ثم وضع بملاحظته ساير الصيغ نوعيا أو شخصيا هو المصدر.
(أقول) ويرد عليه:
(أولا) انه لو كان معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام هو ما ذكره المصنف لا كون المصدر مادة للمشتقات كما بينا فلا وجه حينئذ لوضع المصدر أولا ووضع ساير الصيغ بملاحظته إذ ليس ذلك أولى من
239

العكس كما لا يخفى.
(وثانيا) انه لا وجه للترديد في وضع ساير الصيغ بين كونه نوعيا أو شخصيا إذ لا يخلو الحال من أحد وجهين فان اعترفنا ان المصدر مادة لسائر المشتقات بحيث إذا وضعت المصادر فقد وضعت مادة المشتقات جميعا فلا نحتاج حينئذ في وضع ساير الصيغ الا إلى وضع خصوص الهيئات فقط نوعيا كما تقدم في وضع المركبات بمعنى ان هيئة فاعل أو هيئة مفعول ونحوهما من الهيئات موضوعة للذات القائمة بها المبدأ أو الواقعة عليها المبدأ وهكذا في ضمن أي مادة كانت وان أنكرنا ذلك وقلنا ان المصدر صيغة في قبال ساير الصيغ كما قال به المصنف فنحتاج حينئذ في وضع ساير الصيغ إلى وضع مجموع الهيئة والمادة من حيث المجموع فيكون شخصيا كوضع نفس المصدر فكما ان وضع ضرب بالسكون بمجموع هيئته ومادته يكون شخصيا فكذلك وضع ضرب بالتحريك ويضرب ونحوهما من المشتقات يكون شخصيا أيضا بعد ما أنكرنا وضع موادها بوضع المصدر ولعله لأجل أحد الإيرادين قال أخيرا فافهم.
(قوله ومعنى كذلك... إلخ) الظاهر ان كلمة معنى معطوفة على كلمة لفظ أي مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومادة معنى كذلك أي متصورة في كل منها ومنه بصورة ويحتمل ان تكون معطوفة على كلمة (بصورة) أي مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى ولكن على هذا تكون كلمة (كذلك) زائدة لا معنى لها.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله ثم المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد... إلخ) وتظهر الثمرة بين الدفعات والافراد فيما لو قال مثلا
240

رقبة وقد أعتقنا رقابا متعددة دفعة واحدة فعلى الدفعات لا يجزى وعلى الأفراد يجزى بل تظهر الثمرة بين الدفعة والفرد أيضا في المثال المذكور فعلى القول بالدفعة يقع الجميع على صفة المطلوبية وعلى القول بالفرد لا يكون المطلوب إلا واحدا منها والباقي زائد على المطلوب (ثم ان) المراد هنا بالمرة والتكرار هل هو الفرد والأفراد أو الدفعة والدفعات (قال في الفصول) والتحقيق عندي هو الثاني لمساعدة ظاهر اللفظين عليه (إلى ان قال) مع انهم لو أرادوا بالمرة الفرد لكان الا نسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي (انتهى) ويعنى بالمبحث الآتي بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو بالأفراد فكان المبحوث عنه فيه هكذا هل الأمر متعلق بالطبيعة أو بالفرد وعلى القول بتعلقه بالفرد هل هو يقتضى الفرد الواحد أو الأفراد فيكون نزاعنا هذا جاريا على قول واحد من قولي تلك المسألة لا على قوليها جميعا أي حتى على القول بتعلقه بالطبيعة (فيقول المصنف) في رده بل النزاع هنا في المرة والتكرار ولو بمعنى الفرد أو الأفراد مما يجري حتى على القول بتعلق الأوامر بالطبيعة هناك (والسر) فيه أن المراد من الفرد أو الأفراد هنا هو الوجود والوجودات والنزاع الجاري هناك كما سيأتي في محله مرجعه إلى أن الطلب هل هو يتعلق بوجود الطبيعة أو بوجود الفرد إذ الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة وهكذا الفرد (وعليه) فالنزاع هنا مما يجري على كل من القولين في تلك المسألة فانا سواء قلنا هناك بتعلق الطلب بوجود الطبيعة أو بوجود الفرد نقول هنا هل صيغة الأمر تقتضي وجود واحد أو وجودات وهذا واضح.
(أقول) نعم يمكن إجراء النزاع في المرة والتكرار ولو بمعنى الفرد والأفراد على كل من قولي تلك المسألة بحمل الفرد والأفراد هنا على الوجود والوجودات
241

ولكن الإنصاف أنه لا يخلو عن تكلف والظاهر أن مرادهم من المرة والتكرار في المقام هو الدفعة والدفعات كما قال به الفصول بل اعترف المصنف أيضا بظهور لفظهما في هذا المعنى غير أن المصنف قد أحب المناقشة مع الفصول فناقش.
(قوله غاية الأمر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع يلازم المطلوب... إلخ) أي غاية الأمر ان الخصوصيات والمشخصات التي بها يكون الفرد فردا على القول بتعلق الأوامر بالطبائع خارجة عن المطلوب والداخل تحت الطلب هو مجرد وجود الطبيعة وأما الخصوصيات والمشخصات الفردية فهي مما يلازم المطلوب خارجا بحيث لو أمكن التفكيك في مقام الامتثال بين إيجاد الطبيعة وبين تلك الخصوصيات والمشخصات الفردية لأجزأ وكفى وعلى القول بتعلقها بالأفراد تكون الخصوصيات والمشخصات الفردية جزءا للمطلوب وقواما له بحيث لو أمكن التفكيك بين إيجاد الطبيعة وبين تلك الخصوصيات والمشخصات لم يجز ذلك ولم يكف وسيأتي توضيح ذلك بنحو أبسط في محله إن شاء الله تعالى.
(قوله تنبيه لا إشكال بناء على القول بالمرة... إلخ) كما لا إشكال أيضا بناء على القول بالتكرار فعلى الأول لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون به الامتثال أيضا فإنه من الامتثال بعد الامتثال كما صرح به المصنف في المتن وعلى الثاني لا محيص على الإتيان بالمأمور به ثانيا وثالثا وهكذا ليكون به الامتثال (ومن هنا يظهر) أنه ليس الكلام في هذا التنبيه على القول بالمرة ولا على القول بالتكرار بل على خصوص المختار فقط وهو القول بدلالة الصيغة على طلب إيجاد الطبيعة من دون دلالة لها على المرة ولا على التكرار (ثم ان الكلام) على المختار يقع من جهتين
242

(الأولى) في جواز الاكتفاء بالمرة في مقام الامتثال.
(الثانية) في جواز أن لا يكتفى بالمرة بل يأتي بالمأمور به ثانيا أو ثالثا على أن يكون أيضا به الامتثال (أما بالنسبة إلى الجهة الأولى) فيقول المصنف ما حاصله إن الأمر إن كان واردا في مقام البيان فنتمسك لدفع احتمال وجوب ما زاد على المرة بإطلاق الصيغة بمادتها فإذا قال مثلا أطعم زيدا واحتمل وجوب الإطعام أكثر من مرة فنتمسك لدفعه بإطلاق الإطعام فلو وجب علينا أكثر من مرة لكان عليه تقييد الإطعام بمرتين أو أكثر وان لم يكن الأمر واردا في مقام البيان فنتمسك لدفع احتمال الزائد بالأصل العملي أي بالبراءة (وأما بالنسبة إلى الجهة الثانية) وهي جواز أن لا يكتفى بالمرة بل يأتي بالطبيعة ثانيا أو ثالثا على أن يكون أيضا بها الامتثال (فيقول المصنف) ما حاصله انه قد يتوهم أن مقتضى إطلاق الطبيعة جواز الإتيان بها كذلك ولكن التحقيق أن مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بالطبيعة مرة واحدة في ضمن فرد أو أفراد ففي مثل قوله أعتق رقبة له أن يعتق رقبة واحدة وله ان يعتق رقبات متعددة دفعة واحدة فان كلا منهما عتق لا جواز الإتيان بالطبيعة مرة ثانية أو ثالثة على أن يكون أيضا بها الامتثال فان الأمر بمجرد الإتيان بالطبيعة مما يسقط لا محالة ومع سقوطه لا مجال للإتيان بها ثانيا أو ثالثا على أن يكون أيضا بها الامتثال (نعم) إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى كما إذا أمر بالماء ليشربه فأتى به ولم يشربه فعند ذلك له تبديل الامتثال أي يأتي بفرد آخر أحسن من الأول على أن يكون به الامتثال لا بالفرد الأول وهذا بخلاف ما إذا كان الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه على ما سيأتي التمثيل به من المصنف في بحث الأجزاء فليس له حينئذ تبديل الامتثال.
243

(قوله فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال... إلخ) أي بمقتضى إطلاق الصيغة بمادتها المفروض كونها في مقام البيان.
(قوله وإنما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها... إلخ) شروع في الجهة الثانية من جهتي الكلام في هذا التنبيه فلا تشتبه.
(قوله ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى... إلخ) في التقييد مسامحة فان الأمر مع الإتيان بالطبيعة مما يسقط لا محالة سواء كان الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى أم لا نعم إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى فالملاك باق على حاله كما سيأتي التصريح به من المصنف في بحث الأجزاء لا ان الأمر بنفسه باق على حاله كما يفهم من كلام المصنف هنا.
(قوله فرد آخر أحسن منه بل مطلقا... إلخ) أي ولو لم يكن أحسن منه وهو أيضا لا يخلو عن مسامحة فان تبديل الامتثال مع عدم حصول الغرض الأقصى بفرد آخر
أحسن من الأول وإن كان مما لا يخفى حسنه ولكن تبديله بفرد آخر مساوي مما لا حسن له عند العقلاء (اللهم) إلا إذا كان للمكلف غرض خاص متعلق بإتيان الفرد الثاني أو بإبقاء الفرد الأول فبدل الماء المأتي به في المثال المتقدم بماء آخر مساوي لأجل هذه الجهة والغاية وهذا واضح.
في الفور والتراخي
(قوله المبحث التاسع الحق أنه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي... إلخ) ظاهر المصنف وصريح الفصول ان النزاع في هذا البحث
244

هو كالنزاع في البحث السابق فعند المصنف يكون جاريا في مجموع الهيئة والمادة وعند الفصول يكون جاريا في خصوص الهيئة فقط ولكن قد عرفت أن الحق كان مع الفصول فكما أن مع الاتفاق على أن المصدر مما لا يدل إلا على الماهية لا يكاد يبقى مجال للنزاع في دلالة الصيغة بمادتها على المرة أو التكرار فكذلك معه لا يكاد يبقى مجال للنزاع في دلالتها بمادتها على الفور أو التراخي بل الدال على الفور أو التراخي على القول به هو الهيئة فقط دون غيرها (والحق) أن الهيئة أيضا مما لا دلالة لها على أحدهما كما عرفت انها مما لا دلالة لها على شيء من المرة والتكرار أصلا وبالجملة أن مفاد الصيغة أي مجموع مالها من الهيئة والمادة بحكم التبادر ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة ليس فيها مرة ولا تكرار ولا فور ولا تراخي أبدا.
(قوله نعم قضية إطلاقها جواز التراخي... إلخ) أي قضية إطلاق الصيغة بمادتها جواز التراخي.
(أقول) نعم لكن لا بمقدار يوجب الاستخفاف بأمر المولى والتهاون به فان المقصود هنا من التراخي هو نفى الفورية على سبيل التضييق والتشديد لا التراخي إلى أي وقت شاء المكلف.
(قوله كما ادعى دلالة غير واحد من الآيات على الفورية... إلخ) قد استدل للقول بالفور بأمور أوجهها (قوله تعالى) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (وقوله تعالى) واستبقوا الخيرات (وقد أورد المصنف) على الاستدلال بهما من وجوه.
(الأول) ان سياق الآيتين الشريفتين هو البعث والتحريك إلى المسارعة والاستباق بنحو الاستحباب من دون أن يستتبع تركهما الغضب والشر والا لكان البعث بالتحذير عن تركهما أنسب وقد أشار إلى ذلك بقوله
245

وفيه منع ضرورة أن سياق آية وسارعوا إلى آخره.
(أقول) وفيه ما لا يخفى فان الواجبات كلها مما يستتبع تركها الغضب والشر والا لم تكن واجبات ومع ذلك ليس البعث بالتحذير عن تركها بل بالتحريك إلى فعلها غالبا ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
(الثاني) ان الأمر بالمسارعة والاستباق لو كان للوجوب لزم كثرة تخصيصه أي في جميع المستحبات وكثير من الواجبات بل وأكثرها مما لا يجب فيه المسارعة والاستباق فلا بد من حمل الأمر في الآيتين الشريفتين على الندب أو على مطلق الطلب المشترك بين الوجوب والندب كي يلائم الواجبات والمستحبات جميعا وقد أشار إلى ذلك بقوله مع لزوم كثرة تخصيصه إلى قوله أو مطلق الطلب.
(أقول) وفيه ما لا يخفى أيضا فان حمل الأمر فيهما على الندب حذرا من لزوم تخصيص الأكثر وإن كان حقا ولكن حمله على مطلق الطلب مما لا وجه له فان الطلب جنس والجنس مما لا يتحقق في الخارج إلا مع أحد الفصول وفي ضمن أحد الأنواع فكما أن الحيوان لا يتحقق في الخارج إلا مع الناطق مثلا أو مع الناهق وفي ضمن الإنسان مثلا أو في ضمن الحمار ونحوهما فكذلك الطلب مما لا يتحقق في الخارج ولا ينشأ بالصيغة ونحوها إلا في ضمن الوجوب أو الندب وعليه فالطلب المنشأ في الآيتين أما وجوبي أو ندبي فلا معنى لحمل الأمر فيهما على مطلق الطلب كي يلائم الواجبات والمستحبات جميعا.
(الثالث) أن العقل مستقل بحسن المسارعة والاستباق فيكون الأمر بهما إرشادا إلى حسنهما العقلي ولا يكون مولويا يستفاد منه وجوب المسارعة والاستباق شرعا كسائر الواجبات الشرعية وقد أشار إلى ذلك بقوله ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق إلى قوله إرشادا إلى ذلك... إلخ)
246

(ثم ان) ظاهر المصنف أن وجه صيرورة الأمر بهما بمجرد استقلال العقل بحسنهما إرشاديا لا مولويا أنه يندرج بذلك تحت ضابطة الأوامر الإرشادية وهي أن يكون لمحض التنبيه على ما يترتب على الفعل بنفسه من الخواص والآثار والمنافع والمضار ولو لم يكن أمر به أصلا من دون أن يترتب على موافقته قرب ولا ثواب ولا على مخالفته بعد ولا عقاب نظير أوامر الطبيب ونواهيه وقد أشار إلى ذلك بقوله فيكون الأمر فيها أي في الآيات والروايات لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن هناك أمر بها كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية.
(أقول) أما استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق فلا يبعد أن يكون قرينة على عدم كون الأمر بهما في الآيتين الشريفتين لأكثر مما استقل به العقل من الحسن والرجحان وأنه مؤكد لحكمه لا حكم جديد فيكون هذا شاهدا آخر على كون الأمر بهما للندب لا للوجوب غير ما تقدم في الجواب الثاني ولكن كونه قرينة على أن الأمر بهما إرشادي لا مولوي بحيث لا يترتب على امتثاله قرب ولا ثواب ولا على عصيانه بعد ولا عقاب غير ما يترتب على الفعل بنفسه من الخواص والآثار فلا.
في بيان الضابط في إرشادية الأوامر والنواهي
وتوضيح ذلك أنه لا إشكال على الظاهر في أن الضابط في إرشادية الأوامر والنواهي كما أشير إليه هو أن يكون الأمر أو النهي لمحض التنبيه على ما في الفعل من الخواص والآثار والمنافع والمضار من دون أن يترتب على موافقته قرب ولا ثواب ولا على مخالفته بعد ولا عقاب (وقد صرح بذلك
247

الشيخ أعلى الله مقامه) في مواضع كثيرة من كلماته الشريفة (قال) في البراءة في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة التحريمية الحكمية ما لفظه الثالث لا إشكال في
رجحان الاحتياط عقلا ونقلا كما يستفاد من الأخبار المذكورة وغيرها وهل الأوامر الشرعية للاستحباب فيثاب عليه وان لم يحصل به الاجتناب عن الحرام الواقعي أو غيري بمعنى كونه مطلوبا لأجل التحرز عن الهلكة المحتملة والاطمئنان بعدم وقوعه فيها فيكون الأمر به إرشاديا لا يترتب على موافقته ومخالفته سوى الخاصية المترتبة على الفعل أو الترك نظير أو امر الطبيب ونظير الأمر بالإشهاد عند المعاملة لئلا يقع التنازع وجهان (انتهى) (وقال في الانسداد) قبل البراءة في إهمال النتيجة وكليتها ما لفظه ان التلازم بين الحكمين أي حكم العقل وحكم الشرع انما هو مع قابلية المورد لهما أما لو كان قابلا لحكم العقل دون الشرع فلا كما في الإطاعة والمعصية فإنهما لا يقبلان لورود حكم الشارع عليهما بالوجوب والتحريم الشرعيين بان يريد فعل الأولى وترك الثانية بإرادة مستقلة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهي عنه الحاصلة بالأمر والنهي حتى أنه لو صرح بوجوب الإطاعة وتحريم المعصية كان الأمر والنهي للإرشاد لا للتكليف إذ لا يترتب على مخالفة هذا الأمر والنهي الا ما يترتب على ذات المأمور به والمنهي عنه أعني نفس الإطاعة والمعصية وهذا نفس دليل الإرشاد كما في أوامر الطبيب ولذا لا يحسن من الحكيم عقاب آخر أو ثواب آخر غير ما يترتب على نفس المأمور به والمنهي عنه فعلا أو تركا من الثواب والعقاب (انتهى) إلى غير ذلك من مواضع أخر (ولكن الإشكال) كل الإشكال في أنه ما الحكمة في عدم ترتب شيء من القرب والبعد والثواب والعقاب على موافقة الأوامر والنواهي الإرشادية سوى ما يترتب على الفعل بنفسه من الخواص والآثار والمنافع والمضار مع ان الأوامر
248

والنواهي بأجمعها من مولويها وإرشاديها تكون لما يترتب على الفعل بنفسه من الخواص والآثار والمنافع والمضار بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات كما نسب ذلك إلى العدلية من غير اختصاص بالأوامر والنواهي الإرشادية (والظاهر) ان الحكمة في ذلك هو عدم انقداح الإرادة والكراهة والحب والبغض في نفس الآمر والناهي في الأوامر والنواهي الإرشادية ففي الأوامر والنواهي المولوية يريد الآمر ويكره الناهي ويحب ويبغض ويتبعهما القرب والبعد والثواب والعقاب وفي الأوامر والنواهي الإرشادية كأمر الطبيب بشرب المسهل ونهيه عن استعمال الحامض ليس في نفس الآمر والناهي إرادة ولا كراهة ولا حب ولا بغض كي يتبعهما القرب والبعد والثواب والعقاب بل يأمر الطبيب وينهى بداعي الإرشاد إلى ما في الفعل من المنافع والمضار فان شاء المريض وافقه وأطاعه وإن شاء خالفه وعصاه فلا موافقته يقربه إليه ولا مخالفته يبعده عنه وهذا بخلاف ما إذا انقدح في نفس الآمر أو الناهي على طبق ما أمر به أو نهى عنه إرادة أو كراهة ملزمة أو غير ملزمة فيكون أمره أو نهيه مولويا يتبعهما القرب والثواب أو البعد والعقاب (ويظهر هذه الحكمة) من عبارة غير واحد من الأعلام (قال في الفصول) في مسألة الاجتماع بعد ما نقل محصل كلام المحقق القمي في رد المفسرين لكراهة العبادات بأقلية الثواب ما لفظه والجواب عنه أما أولا فبأنا نلتزم بما هو ظاهر كلام القوم من أن الكراهة في العبادات بمعنى قلة الثواب وان تلك النواهي إرشادية مجردة عن معنى طلب الترك ولا يلزم عليه شيء من المفاسد المذكورة (انتهى) (وقال في التقريرات) في جملة ما أفاده في مسألة الاجتماع في بحث الخروج عن الغصب لمن توسط بسوء الاختيار بعد ما اختار كونه واجبا ونقل مختار الفصول فيه من كونه واجبا مع جريان حكم المعصية عليه ما هذا
249

لفظه والعجب من بعض المحققين كسلطان العلماء كيف اختفى ذلك على مثله مع طول باعه في التحقيق وأعجب من ذلك استناده فيه إلى دعوى لا يساعدها العرف والعقل من ان هذه الأوامر أي الأمر بالخروج وأمثاله مرجعها إلى الإرشاد عن وجود المصالح والمفاسد في نفس الأشياء مثل أوامر الطبيب ونواهيه من دون أن يكون هناك طلب حقيقي مثل وجوده في أوامر المولى بالنسبة إلى عبيدهم (انتهى) وبالجملة ان الأوامر والنواهي المولوية هي تمتاز عن الإرشادية بكونها عن إرادة أو كراهة منقدحة في نفس الآمر أو الناهي يوجب موافقتها القرب والثواب ومخالفتها البعد والعقاب والأوامر والنواهي الإرشادية ممحضة للتنبيه على الخواص المترتبة على الفعل بنفسه من دون أن يكون على طبقها إرادة أو كراهة منقدحة في نفس الآمر أو الناهي كي يوجب موافقتها القرب والثواب ومخالفتها البعد والعقاب وهذا لدى التدبر واضح (ثم ان) هذا المعنى وان كان قد يتحقق في الموالي العرفية لجواز أن يكون صلاح الفعل أو فساده عائدا إلى نفس المكلف غير عائد إلى المولى أو إلى من يمس به فيأمره حينئذ لمحض التنبيه والإرشاد إلى ما في الفعل من الخواص والآثار والمنافع والمضار من دون أن يكون على طبقها إرادة أو كراهة في نفس الآمر أو الناهي كي إذا امتثله قربه إليه وأثابه أو إذا خالفه بعده عنه وعاقبه نظير أوامر الطبيب ونواهيه للمرضى لكن في الموالي الشرعية لا يكاد يمكن ذلك بان يكون في الفعل صلاح أو فساد ملزم أو غير ملزم ويأمر الشارع به أو ينهى عنه من دون أن يكون على طبقه إرادة أو كراهة في نفسه المقدسة فان المصالح والمفاسد هب انها عائدة إلى نفس المكلف لا إلى المولى ولا إلى من يمس به ولكن شدة لطفه بالعباد ومزيد عطفه عليهم مما توجب أن تكون المصالح والمفاسد العائدة إليهم كالمصالح والمفاسد العائدة إلى نفسه أو إلى
250

يمس به في سببيتها لانقداح الإرادة والكراهة في نفسه المقدسة (وعلى هذا) فأوامر الشارع ونواهيه كلها مولوية بهذا المعنى أي تكون عن إرادة وكراهة في نفسه الشريفة ناشئة عن الخواص والآثار والمنافع والمضار الموجودة في الفعل فيترتب على موافقتها القرب والثواب وعلى مخالفتها البعد والعقاب (ومن جملتها) الأمر بالمسارعة والاستباق فان مجرد استقلال العقل بحسنهما لا يكاد يكفى في صيرورة الأمر بهما إرشاديا كما تقدم من المصنف ما دامت الإرادة منقدحة في نفس المولى على طبق حكم العقل بحسنهما وان كان ذلك شاهدا على استحبابهما كما بينا (كما أن من جملتها) أيضا الأمر بالإطاعة والنهي عن المعصية فان مجرد امتناع تعلق إرادة أخرى مستقلة بفعل الأولى وترك الثانية غير الإرادة المتعلقة بفعل المأمور به وترك المنهي عنه نظرا إلى عدم كون الإطاعة والمعصية أمرا آخر غير الإتيان بالمأمور به وترك المنهي عنه لا يكاد يكفى في صيرورة الأمر والنهي المتعلقين بهما إرشاديين كما تقدم من الشيخ أعلى الله مقامه فان ملاك الإرشادية على ما عرفت هو خلو الأمر أو النهي عن الإرادة أو الكراهة لا امتناع تعلق إرادة أخرى مستقلة غير إرادة فعل المأمور به وترك المنهي عنه ومن المعلوم أن الأمر والنهي المتعلقين بهما غير خاليين عن الإرادة والكراهة غايته أن الإرادة والكراهة فيهما هي عين الإرادة والكراهة المتعلقتين بفعل الواجبات وترك المحرمات ومن هذا كله يظهر لك حال الأمر بالإشهاد في
المعاملة أو النهي عن الاقتحام في الشبهات إلى غير ذلك مما اشتهر كونها إرشادية لا مولوية فتأمل في المقام جيدا فإنه لا يخلو عن دقة.
(قوله كان البعث بالتحذير عنهما أنسب... إلخ) في العبارة مسامحة واضحة والأولى كان ان يقول بالتحذير عنه أي عن تركهما أنسب.
251

(قوله فافهم... إلخ) قد أشرنا إلى وجه قوله فافهم في صدر التعليق على قوله كما ادعى دلالة غير واحد من الآيات على الفورية فراجع ولا نعيد.
(قوله في مقام البعث نحوه إرشادا... إلخ) ولو قال نحوهما أي نحو المسارعة والاستباق كان أصح بل كان هو الصحيح.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف ضابطة الإرشادية التي قد أشار إليها بقوله فيكون الأمر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن هناك أمر بها كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية ولعل وجه الضعف في نظره أن كون الأمر لما يترتب على المادة بنفسها من الخواص والآثار هو مما يشترك فيه تمام الأوامر المولوية والإرشادية جميعا من غير اختصاص بالإرشادية فقط فكل منهما يكون لما يترتب على الفعل من المصالح والمفاسد فلما ذا يترتب على الموافقة والمخالفة في أحدهما الثواب والعقاب دون الآخر ولكن قد عرفت منا الفرق بينهما وأنه من ناحية الإرادة والكراهة فإنشاء كل منهما وإن كان لما يترتب على المادة بنفسها ولكن في الأوامر والنواهي المولوية يكون إنشاؤهما بداعي الإرادة والكراهة المنقدحة في نفس الآمر الموجبة للقرب والبعد والثواب والعقاب وفي الأوامر والنواهي الإرشادية يكون إنشاؤهما لمحض التنبيه على ما في الفعل من الخواص والآثار من دون أن يكون على طبقها إرادة أو كراهة منقدحة في نفس الآمر أو الناهي كي يوجب القرب والبعد والثواب والعقاب فتدبر جيدا.
(قوله تتمة بناء على القول بالفور فهل قضية الأمر الإتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا في الزمان الثاني أو لا وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول هو وحدة المطلوب أو تعدده... إلخ.
252

(أقول) إن تعدد المطلوب على نحوين (فتارة) يكون للمولى مطلوبان أحدهما أصل الفعل والآخر إتيانه فورا في أول أزمنة الإمكان ومقتضى هذا النحو من تعدد المطلوب أنه إذا عصى ولم يأت بالفعل فورا في أول أزمنة الإمكان فلا يكاد يبقى عليه شيء سوى أصل الفعل لا إتيانه فورا ففورا (وأخرى) يكون للمولى مطلوبات متعددة منها أصل الفعل ومنها إتيانه فورا في الزمان الأول ومنها إتيانه فورا في الزمان الثاني إذا عصى إتيانه في الزمان الأول وهكذا في الزمان الثالث والرابع إلى الآخر وهذا النحو من تعدد المطلوب يقتضى الإتيان بالفعل فورا ففورا وعليه فجعل الإتيان فورا ففورا مبنيا على مطلق تعدد المطلوب كما فعل المصنف مما لا يخلو عن مسامحة.
(قوله لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده... إلخ.
(أقول) ان قلنا بالفور وقلنا باستفادته من نفس الصيغة فالامر كما ذكره المصنف فلا دلالة للصيغة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده وأما لو قلنا بالفور وانه استفيد من آيتي المسارعة والاستباق فلا يبعد دلالتهما على تعدد المطلوب بل على النحو الأخير منه الذي يقتضى الإتيان بالفعل فورا ففورا بحيث كان للمولى مطلوبات متعددة أصل الفعل والإتيان به فورا في الزمان الأول وان عصى فالإتيان به فورا في الزمان الثاني وهكذا.
في بحث الاجزاء
(قوله الفصل الثالث الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة.... إلخ) الظاهر ان قوله في الجملة إشارة إلى أن الإتيان
253

بالمأمور به مطلقا سواء كان واقعيا أو ظاهريا أو اضطراريا هو مما يجزى عن أمر نفسه بلا كلام يعتد به وانما البحث في اجزاء كل من الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري عن الواقعي وسيأتي تفصيل المقال في الكل جميعا فانتظر.
(قوله أحدها الظاهر ان المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا... إلخ) وحاصل الكلام ان الظاهر ان المراد من كلمة وجهه في عنوان البحث هو الإتيان بالمأمور به على النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا ليشمل الإتيان بالتعبديات مع قصد القربة المعتبرة فيها بحكم العقل دون الشرع على ما تقدم تفصيله في التعبدي والتوصلي وليس المراد منها هو الإتيان بالمأمور به على النهج الشرعي فقط كلي لا يشمل الإتيان بالتعبدي مع قصد القربة (وبعبارة أخرى) ليس المراد من كلمة على وجهه هو خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا وذلك لوجهين قد استند إليهما المصنف.
(أحدهما) انه لو كان المراد من كلمة على وجهه هو الثاني لكانت قيدا توضيحيا فان الإتيان بالكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا مما يستفاد من نفس الإتيان بالمأمور به بلا حاجة إلى ذكر كلمة على وجهه.
(وثانيهما) أنه لو كان المراد من كلمة على وجهه هو الثاني أي الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا لزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على ما اخترناه من كون اعتبار قصد القربة في العبادات هو بحكم العقل لا بحكم الشرع وذلك لوضوح عدم كون الإتيان بها على الكيفية المعتبرة فيها شرعا بلا مراعاة ما اعتبر فيها عقلا مجزيا قطعا (وفيه ان) خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على ما اخترناه في التعبدي والتوصلي مما لا يكاد يكشف عن
254

كون المراد من كلمة على وجهه عند القوم هو الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا وعقلا بعد عدم لزوم خروجها على مختارهم نعم لو كان مختار القوم أيضا هو اعتبار قصد القربة في التعبديات بحكم العقل دون الشرع كان ذلك دليلا قاطعا على ان المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا لا شرعا فقط ولكن ليس مختارهم ذلك.
(قوله ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب... إلخ) إشارة إلى ما توهمه بعضهم على ما ذكره صاحب التقريرات (قال) واعلم ان المراد بالوجه في العنوان هو
الإتيان بالمأمور به مشتملا على جميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا وقد يتوهم ان المراد به هو وجه الأمر الموجود في السنة المتكلمين من نية الوجوب أو الندب (انتهى).
(أقول) وهذا التوهم في غاية الوهن والسقوط بل لا يستحق الذكر والتعرض له أصلا وعلى كل حال أورد عليه المصنف من وجوه ثلاثة:
(الأول) ان الوجه مما لا يعتبر عند المعظم كي صح دعوى ان المراد من وجهه في العنوان هو قصد الوجه.
(الثاني) ان من قال باعتباره لم يقل به الا في خصوص العبادات فقط دون التوصليات وهذا النزاع جار في عموم الواجبات.
(الثالث) أنه لا وجه لاختصاص الوجه بالذكر من بين ساير ما يعتبر في المأمور به من الاجزاء والشرائط وعليه فلا بد من كون المراد من وجهه معنى يندرج فيه الوجه وغيره من الاجزاء والشرائط وهو ما تقدم من المصنف من النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا (ثم ان المصنف) قد أخذ هذا الجواب الأخير من التقريرات بل ذكر التقريرات جوابا آخر لم يتعرضه المصنف (قال) ويزيفه دخول كلمة على عليه إذا المناسب
255

على ذلك التقدير دخول اللام عليه لا كلمة على (انتهى) وهو جيد متين.
(قوله ثانيها الظاهر ان المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة... إلخ) وحاصل الكلام أن المراد من الاقتضاء في عنوان البحث هو العلية للاجزاء عقلا لا الدلالة عليه لفظ ولذا قد نسب الاقتضاء إلى الإتيان فلو كان المراد من الاقتضاء هو الدلالة لكان الا نسب نسبته إلى الصيغة بان يقال صيغة الأمر هل يقتضى الإجزاء أم لا (وفيه) ان المحقق القمي وصاحب الفصول بل ومن تقدمهما من الأصوليين قد نسبوه إلى الصيغة وإن كان صاحب التقريرات والمصنف ومن تأخر عنهما قد نسبوه إلى الإتيان وعليه فنسبة الاقتضاء إلى الإتيان ليس أمرا متفقا عليه عند القوم كي يستكشف منه عدم كون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى الدلالة لفظا بل بمعنى العلية والتأثير عقلا
(قوله ان قلت هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره... إلخ) وتوضيح الإشكال مما يبتنى على ذكر مقدمة قبلا وهي ان النزاع في هذا البحث كما أشير إجمالا وستعرف تفصيله يقع في موضعين.
(الأول) ان الإتيان بالمأمور به مطلقا سواء كان واقعيا أو ظاهريا أو اضطراريا هل يجزى عن أمر نفسه أم لا وهذا النزاع نزاع كبروي والظاهر أنه لا خلاف فيه من أحد سوى من أبي هاشم وعبد الجبار على ما في الفصول.
(الثاني) ان الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري هل يجزى عن المأمور به الواقعي أم لا وهذا النزاع نزاع صغروي إذا الكلام فيه لدى الحقيقة ليس إلا في دلالة دليلهما على نحو يفيد الإجزاء أم لا بمعنى انهما هل يدلان على اشتمالهما مثلا على تمام مصلحة الواقع كي يجزيان عنه عقلا أم لا
256

(هذا حاصل المقدمة) وإذا عرفتها فنقول حاصل الإشكال ان الاقتضاء هب أنه بمعنى العلية والتأثير في الموضع الأول ولكنه في الموضع الثاني ليس إلا بمعنى الكشف والدلالة إذ النزاع فيه كما قلنا ليس إلا في دلالة الأمر الاضطراري أو الظاهري على نحو يفيد الأجزاء أم لا (وقد أجاب المصنف) عن الإشكال بما حاصله ان النزاع في الموضع الثاني وإن كان في الواقع في دلالة دليل الاضطراري والظاهري ولكن مع ذلك لا ينافي كون النزاع فيه بحسب الظاهر في الاقتضاء بنحو العلية والتأثير غايته أن العمدة في سبب هذا النزاع هو النزاع في دلالة الدليلين.
(أقول) لا إشكال في ان العمدة في بحث الأجزاء هو النزاع في الموضع الثاني لما أشير من عدم النزاع في الموضع الأول إلا من أبي هاشم وعبد الجبار وإذا اعترف المصنف بان العمدة في سبب النزاع في الموضع الثاني هو في دلالة الدليلين فلا يكاد يبقى معه وجه لكون المراد من الاقتضاء في العنوان هو الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير دون الكشف والدلالة وهذا واضح (ولعله) إليه أشار أخيرا بقوله فافهم جيدا.
(قوله كان في الاقتضاء... إلخ) الظاهر ان كلمة كان زائدة ولعله سهو من القلم.
(قوله ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا... إلخ) كان اللازم تأنيث الضمير بان يقول ويكون النزاع فيها صغرويا أيضا... إلخ أي في دلالة دليلهما والظاهر ان كلمة أيضا إشارة إلى كون النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري عن الواقعي نزاع صغروي فالنزاع في دلالة دليلهما الذي هو سبب لهذا النزاع صغروي أيضا كالأول.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا نعيد
257

(قوله ثالثها الظاهر ان الإجزاء هاهنا بمعناه لغة وهو الكفاية... إلخ) (قال في التقريرات) الثاني الإجزاء لغة معناه الكفاية وفسروه في المقام بوجهين أحدهما كون الفعل المأتي به مسقطا للتعبد به (إلى ان قال) وثانيهما إسقاط القضاء (قال) والمراد من القضاء على ما قيل هو مطلق التدارك أعم من الإعادة والقضاء إذ لو كان باقيا على ظاهره من فعل المأمور به خارج الوقت يكون عدم الاجزاء عبارة عما لا يسقط القضاء وان أسقط الإعادة وهو باطل لأن ما لا يسقط القضاء لا يسقط الإعادة بطريق أولى (انتهى موضع الحاجة من كلامه) (فيقول المصنف) ان الاجزاء في المقام هو بمعناه اللغوي وهو الكفاية وليس للأصوليين فيه اصطلاح جديد بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء فان ذلك أمر بعيد جدا نعم يختلف ما يكفى عنه فان الإتيان بالمأمور به الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا والإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفى فيسقط به التدارك ثانيا إعادة أو قضاء.
(أقول) بل الإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري أيضا بالنسبة إلى أمر نفسه يكون كالإتيان بالمأمور به الواقعي فيسقط به التعبد به ثانيا كما سيأتي تصريح
المصنف به فالأولى هو أن يقال ان الإتيان بالمأمور به مطلقا سواء كان واقعيا أو ظاهريا أو اضطراريا هو مما يكفى عن أمر نفسه فيسقط به التعبد به ثانيا والإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفى عن المأمور به الواقعي فيسقط به التدارك ثانيا إعادة وقضاء فتأمل جيدا.
(قوله رابعها الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى... إلخ) قد يتشكل على ما في التقريرات في الفرق بين هذا البحث وبحث المرة والتكرار بل وبحث تبعية القضاء للأداء أو بفرض جديد أيضا وكأنه بدعوى ان القول بعدم الاجزاء يساوي القول بالتكرار بل وبتبعية
258

القضاء للأداء أيضا (وقد أجاب المصنف) عن الإشكال الأول بما حاصله ان الفرق بين هذا البحث وبحث المرة والتكرار مما لا يكاد يخفى فان البحث هناك في تعيين المأمور به وانه هل هو المرة أو التكرار أو مجرد الطبيعة وهاهنا يقع الكلام بعد الفراغ عن تعيين المأمور به وتشخيصه على الضبط والدقة في ان الإتيان به هل هو يجزى عن التعبد به ثانيا أم لا نعم القول بالتكرار يوافق عملا مع القول بعدم الاجزاء لكن كل منهما بملاك خاص فعلى الأول يكرر العمل لأجل أن يؤتى بالمأمور به وعلى الثاني يكرر العمل لأجل أنه قد أتى بالمأمور به ولم يجز (وأجاب عن الإشكال الثاني) بما حاصله أن الكلام في بحث التبعية يكون في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها وهاهنا يكون الكلام في ان الإتيان بالمأمور به هل هو يجزى عقلا أم لا يجزى وبينهما فرق واضح.
(أقول) هذا مضافا إلى أن الكلام هاهنا مفروض فيما إذا أتى المكلف بالمأمور به فهل هو يجزى أم لا يجزى والكلام هناك مفروض فيما إذا لم يأت بالمأمور به في الوقت فهل الصيغة حينئذ تدل على الإتيان به في خارج الوقت أم لا.
(قوله بنفسها أو بدلالة أخرى... إلخ) لم يكن الكلام في بحث المرة والتكرار الا في دلالة نفس الصيغة على المرة أو التكرار أما بهيئتها أو بمجموع هيئتها ومادتها على الخلاف المتقدم بين الفصول والمصنف لا في دلالتها بمعونة دليل آخر نعم في الفور والتراخي كانت الدلالة بمعونة دليل آخر عند من استدل على الفور بآيتي المسارعة والاستباق دون بحث المرة والتكرار وكأن المصنف قد اشتبه البحثين أحدهما بالآخر والعهد بهما قريب.
259

في اجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقا سواء كان واقعيا أو ظاهريا أو اضطراريا عن أمر نفسه
(قوله فتحقيق المقام يستدعى البحث والكلام في موضعين الأول ان الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي بل بالأمر الاضطراري والظاهري أيضا يجزى عن التعبد به ثانيا... إلخ) الكلام في هذا الموضع الأول وهو إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقا سواء كان واقعيا أو ظاهريا أو اضطراريا عن أمر نفسه على نحو لا يتعبد به ثانيا يظهر حاله على التفصيل مما تقدم في الجهة الثانية من جهتي التكلم في تنبيه بحث المرة والتكرار وكان ملخص الكلام فيها ان الأمر مع الإتيان بالطبيعة مما يسقط ومع سقوطه لا مجال للإتيان بها ثانيا أو ثالثا على أن يكون أيضا بها الامتثال نعم إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى كما إذا أمر بالماء ليشربه فلم يشربه فللعبد تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أحسن من الأول لأن الأمر وإن كان قد سقط بنفسه ولكن لم يسقط بحقيقته وملاكه فبقاء الملاك مما يسوغ الإتيان بها ثانيا أو ثالثا إذا كان المأتي به فردا أحسن أو مطلقا ولو كان مساويا فيما إذا كان للمكلف غرض عقلائي في التبديل بالمساوي وهذا بخلاف ما إذا كان علة تامة لحصول الغرض الأقصى كما إذا أمر بالماء ليشربه فشربه أو أمر بإهراقه في فمه لرفع عطشه فأهرقه فيه وزال العطش فحينئذ لا مجال للإتيان بها ثانيا أو ثالثا على أن يكون أيضا بها الامتثال وان كان المأتي به فردا أحسن من الأول.
260

(قوله في المسألة السابقة... إلخ) بل في المسألة السابقة على السابقة وهي مسألة المرة والتكرار المتقدمة على الفور والتراخي.
(قوله ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه... إلخ) علة لقوله وجب عليه إتيانه ثانيا أي ضرورة بقاء طلبه بحقيقته وملاكه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما أوجب الغرض حدوث الطلب من أصله.
(قوله فله إليه سبيل... إلخ) تفريع على احتمال أن لا يكون علة... إلخ ومجموع قوله فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة فله إليه سبيل تفريع على قوله لو لم يعلم أنه من أي القبيل.
(قوله ويؤيد ذلك... إلخ) أي صحة تبديل الامتثال.
في اجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي
(قوله الموضع الثاني وفيه مقامان الأول في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يجزى عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانيا... إلخ) المصنف تكلم في هذا المقام الأول من ناحيتين (فتارة) في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء وبيان ما هو قضية كل منهما من حيث الإجزاء وعدمه بل ومن حيث جواز البدار إلى الاضطراري قبل ضيق الوقت وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه الأمر الاضطراري (وبعبارة أخرى) تكلم تارة في بيان أنحاء الأمر الاضطراري ثبوتا وبيان مقتضى كل منها من حيث الإجزاء وجواز البدار قبل ضيق الوقت وأخرى في بيان حال
261

الأمر الاضطراري إثباتا وأنه من أي نحو فهل هو من النحو المقتضى للاجزاء أم لا.
(قوله فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري... إلخ) شروع في التكلم من الناحية الأولى وحاصله ان الاضطراري اما أن يكون في حال الاضطرار كالاختياري في حال الاختيار مشتملا على تمام مصلحته واما أن لا يكون مشتملا على تمام مصلحته بل يبقى منه شيء وعلى الثاني اما أن يمكن تدارك الباقي واما لا يمكن وعلى الأول اما أن يكون الباقي بمقدار يجب أو بمقدار يستحب فهذه أربع صور (أما في الصورة الأولى) فيجزي الاضطراري عن الواقعي بلا كلام لاشتماله على تمام مصلحته وأما جواز البدار فيها وعدمه فيدور مدار كون الاضطراري بمجرد الاضطرار مشتملا على تمام مصلحة الواقعي أو بشرط الانتظار إلى آخر الوقت أو
بشرط طرو اليأس من الاختيار (وأما في الصورة الثانية) وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الواقعي وكان الباقي مما يمكن تداركه وكان بمقدار يجب فلا يجزى قطعا وأما البدار فيها فيجوز غايته أنه يتخير بين البدار والإتيان بعملين العمل الاضطراري قبل ضيق الوقت والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار وبين الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.
(أقول) وكأن المصنف قدس سره فرض رفع الاضطراري في داخل الوقت فحينئذ يتخير المكلف بين البدار والإتيان بعملين الاضطراري في أول الوقت والاختياري بعد رفع الاضطرار للتدارك وبين الانتظار والاقتصار بإتيان الاختياري فقط وأما إذا فرض رفع الاضطرار في خارج الوقت فالمكلف لا بد له من الإتيان بعملين على كل حال سواء بادر أم لا فيأتي بعملين لا محالة الاضطراري في داخل الوقت لدرك مصلحة الوقت والاختياري في
262

خارج الوقت للتدارك وهذا لدى التدبر واضح فتدبر (وأما في الصورة الثالثة) وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الواقعي وكان الباقي مما يمكن تداركه وكان دون حد الإلزام فيجزي قطعا غير أنه يستحب الإعادة أو القضاء لدرك الباقي وأما البدار فيها فيجوز أيضا بل يستحب لدرك أول الوقت ثم الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار لدرك الباقي المفروض كونه دون حد الإلزام (وأما في الصورة الرابعة) وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملا على تمام مصلحة الواقعي ولا يمكن تدارك الباقي فيجزي أيضا بعد فرض عدم إمكان التدارك أصلا (لا يقال) أنه لو كان الاضطراري غير مشتمل على تمام مصلحة الواقعي وكان الباقي مما لا يمكن تداركه فلا مجال حينئذ لتشريع الاضطراري بل اللازم عدم تشريعه واستيفاء الغرض من القضاء (لأنه يقال) نعم لكن فيما إذا كانت المصلحة مما يمكن استيفائه بتمامه من القضاء وأما إذا لم يمكن وكان ما يستوفى من الاضطراري لأجل الوقت أكثر مما يستوفى من القضاء فلا محيص حينئذ عن تشريع الاضطراري وأما البدار فيها فلا يجوز بعد فرض عدم اشتمال الاضطراري على تمام مصلحة الواقعي وعدم إمكان تدارك الباقي (وفيه) أن ذلك انما يتم إذا كان الباقي الغير الممكن تداركه بمقدار يجب وإلا فلا مانع عنه غير أنه يكره حينئذ ولعله إليه أشار بقوله فافهم (ومن هنا يتضح) أن صور المسألة خمس لا أربع فكما أن الباقي الذي يمكن تداركه تارة يكون بمقدار يجب وأخرى يكون بمقدار لا يجب فكذلك فيما لا يمكن تداركه فتارة يكون بحد الإلزام وأخرى لا يكون بحد الإلزام فان كان بحد الإلزام فلا يجوز البدار وان لم يكن بحد الإلزام فلا مانع عنه وهذا واضح.
(قوله ولا يخفى أنه ان كان وافيا به فيجزي... إلخ) بيان لحكم
263

الصورة الأولى من الصور الأربع.
(قوله وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه... إلخ) بيان لحكم الصورة الرابعة وقد قدمها في الذكر على الثانية والثالثة نظرا إلى اشتراكها مع الأولى في الحكم وهو الاجزاء وقد أشرنا آنفا ان للصورة الرابعة صورتين فقد يكون ما لا يمكن تداركه بحد الإلزام وقد يكون دون ذلك وتظهر الثمرة بينهما في جواز البدار وعدمه فيكون مجموع الصور على هذا خمسا لا أربعا.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشرنا آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله لا يقال عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار... إلخ) لا يخفى ان هذا الإشكال متوجه كما تقدم آنفا على خصوص الصورة الرابعة وهي ما إذا كان الاضطراري غير واف بتمام المصلحة ولم يمكن تدارك الباقي وقد عرفت تفصيله وتفصيل الجواب عنه فلا نعيد.
(قوله وان لم يكن وافيا وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزى... إلخ) بيان لحكم الصورة الثانية من الصور الأربع المتقدمة فلا تغفل.
(قوله والا فاستحبابه... إلخ) بيان لحكم الصورة الثالثة وهي ما إذا كان الاضطراري غير واف بتمام المصلحة وقد أمكن التدارك وكان الباقي دون حد الإلزام وقد عرفت حكمها من الاجزاء واستحباب الإعادة أو القضاء لدرك الباقي المفروض كونه دون حد الإلزام.
(قوله يتخير في الصورة الأولى... إلخ) يعنى فيما إذا كان الباقي مما يجب تداركه وهي الصورة الثانية من الصور الأربع.
(قوله وفي الصورة الثانية.... إلخ) يعنى فيما إذا كان الباقي مما لا يجب تداركه وهي الصورة الثالثة من الصور الأربع فلا تشتبه.
264

(قوله وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا... إلخ) شروع في التكلم من الناحية الثانية من الناحيتين المتقدمتين وهي تعيين ما وقع عليه الأمر الاضطراري وبعبارة أخرى في بيان حال الأمر الاضطراري إثباتا وأنه من أي نحو هو فهل هو من النحو المقتضى للاجزاء أم لا (ثم ان الآية الشريفة) ليست كما ذكرها المصنف بل هي كما في سورة النساء وسورة المائدة هكذا فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا (وعلى كل حال) حاصل ما أفاد المصنف ان المستفاد من إطلاق دليل الاضطراري مثل قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ومثل قوله عليه السلام التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين هو الاجزاء والمراد من الإطلاق هاهنا هو الإطلاق المقامي لا اللفظي بمعنى أن المولى إذا كان في مقام بيان وظيفة المضطر أعنى فاقد الماء وحكم بالتيمم بدل الوضوء ولم يحكم بالإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار في الوقت أو في خارج الوقت فيعلم من ذلك جدا اجزاء الاضطراري عن الواقعي وكفايته عنه وعدم وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار ولو كان واجبا على المكلف أحدهما لبين المولى وحكم به قطعا بعد فرض كونه في مقام البيان (هذا) إذا كان هناك إطلاق مقامي لدليل الاضطراري (وأما إذا كان المولى) في مقام الإجمال والإهمال أي في مقام تشريع أصل الاضطراري في الجملة لا في مقام بيان تمام وظيفة المضطر فالمرجع حينئذ بالنسبة إلى وجوب الإعادة أو القضاء هو الأصل العملي فإذا ارتفع الاضطرار في الوقت أو في خارج الوقت وشك في وجوب الإعادة أو القضاء فالبراءة مما تقتضي عدم وجوبهما
لأنه شك في أصل التكليف (هذا وقد يتوهم) أن المرجع بالنسبة إلى الإعادة بعد اليأس عن الإطلاق هو عموم دليل الواقعي دون البراءة (وقد أجاب عنه و
265

التقريرات) بما حاصله أن دليل الواقعي لا عموم زماني له أي لم يدل على أن الصلاة مع الوضوء مثلا يجب في كل زمان خرج منه حال الاضطرار وبقي الباقي كي إذا ارتفع الاضطرار فلا يبقى محيص عن التمسك بالعام بل المقام من موارد استصحاب حكم المخصص يعنى به استصحاب عدم وجوب الواقعي.
(أقول) ان الإطلاق الزماني هو كالعموم الزماني في وجوب الرجوع إليه وعليه فللخصم أن يدعى في المقام أنه لا يضرنا فقد العموم الزماني بل نكتفي بالإطلاق الزماني (ولكن الصحيح) في دفع توهمه أن يقال ان أصل دليل تشريع الطهارة المائية مما لا يشمل المضطر الذي قد أتى بالترابية فان المستفاد من قوله تعالى في سورة المائدة يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة... إلخ أنه إذا قمتم إلى الصلاة فتوضأ وأو ان كنتم جنبا فاغتسلوا وان لم تجدوا ماء فتيمموا فإذا قام المكلف إلى الصلاة وكان محدثا بالأصغر أو بالأكبر ولم يجد ماء وتيمم وصلى فقد أدى ما عليه ومن أين يشمله دليل الطهارة المائية إذا وجد الماء في الوقت كي يتمسك بعمومه أو بإطلاقه الأفرادي أو الأزماني وهذا واضح (وأضعف من التوهم المذكور) دعوى الاستصحاب التعليقي بان يقال ان المكلف قبل الإتيان بالاضطراري كان يجب عليه الصلاة مع الوضوء على تقدير وجد ان الماء وبعد الإتيان به نشك في زواله عنه فنستصحبه فإذا وجد الماء فيصير التقديري منجزا فعليا (ووجه الضعف) أن الاستصحاب مما لم يبق موضوعه فعلا فان الذي وجب عليه سابقا الصلاة مع الوضوء على تقدير وجدان الماء هو من لم يأت بالاضطراري ومن نشك فعلا في وجوب الصلاة عليه مع الوضوء على تقدير وجدان الماء هو من أتى بالاضطراري فمن تيقنا بثبوت الحكم له في السابق لم يبق ومن بقي لم نتيقن بثبوت الحكم له من الأول (ونظير هذه الدعوى) في الضعف دعوى الرجوع إلى الاشتغال
266

فمن أتى بالاضطراري وارتفع في الوقت اضطراره إذا لم يأت بالاختياري لم يقطع بفراغ ذمته وبراءته (والسر في ضعفها) أن ما نتيقن باشتغال الذمة به قد أتى به وهو وجوب الاضطراري وما شك في اشتغال الذمة به فعلا وهو وجوب الإتيان بالاختياري بعد رفع الاضطرار لم نتيقن به من الأول وهذا أيضا واضح (بقي شيء) وهو أن مقتضى القاعدة الأولية وهو الذي ينبغي تحقيقه في الأصول هل هو جواز البدار أم لا مع قطع النظر عن كل دليل شرعي عليه جوازا أو منعا من آية أو رواية أو غيرهما مما يجب تحقيقه في الفقه في التيمم (فنقول) لا إشكال في أن الاضطراري هو في طول الاختياري أي بعد العجز عنه كما لا إشكال في أن الاختياري كما أن له أفراد عرضية له أفراد طولية من أول الوقت إلى آخره فإذا علم أنه في آخر الوقت يتمكن من الاختياري فلا عجز عنه كي تصل النوبة إلى الاضطراري كما أنه إذا شك واحتمل طرو الاختيار في آخر الوقت فلا يكون العجز محرزا كي يأتي بالاضطراري في أول الوقت إلا إذا أتى به رجاء باحتمال عدم طرو الاختيار إلى آخر الوقت نعم إذا يئس وأحرز أنه لا يطرأ الاختيار إلى آخر الوقت فعند ذلك يكون العجز محرزا وله الإتيان بالاضطراري في أول الوقت هذا مقتضى القاعدة الأولية وأما المستفاد من الأدلة الشرعية فتحقيقه في الفقه كما أشرنا فانتظر.
(قوله نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة... إلخ) إشارة إلى ما قد يتوهم من أن أصل البراءة هب أنه يقتضى عدم الإعادة في الوقت إذا ارتفع الاضطرار فيه ولكن وجوب القضاء في خارج الوقت مما لا محيص عنه لأن سببه فوت الواقع وقد فات (وحاصل الجواب) أن سبب وجوب القضاء على المكلف ليس مجرد فوت الواقع بل
267

فوته وهو فريضته ومن المعلوم عدم فوته كذلك بل فات وفريضته غيره وهو الاضطراري.
(أقول) هذا مضافا إلى أن عدم وجوب الإعادة في الوقت ووجوب القضاء في خارج الوقت مما يقطع بفساده بالإجماع بل بضرورة الفقه وان جاز العكس أحيانا بان تجب الإعادة في الوقت دون القضاء في خارج الوقت.
في اجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي
(قوله المقام الثاني في اجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه... إلخ) يقع الكلام في هذا المقام الثاني أيضا من ناحيتين.
(الأولى) أنه إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على تحقق شرط أو جزء في الواجب ثم انكشف الخلاف وان الشرط أو الجزء لم يكن متحققا واقعا فهل يجزى العمل الفاقد للشرط أو الجزء عن المأمور به الواقعي إعادة أو قضاء أم لا.
(الثانية) أنه إذا قام الأمر الظاهري من أصل أو أمارة على إثبات واجب ثم انكشف الخلاف وان الواجب كان أمرا آخر غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة فهل يجزى المأتي به عن المأمور به الواقعي أم لا (وقد أشار المصنف) إلى الناحية الثانية بقوله الآتي وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف... إلخ وكيف كان حاصل ما للمصنف من التحقيق في هذه الناحية الأولى ان ما كان من الأمر الظاهري يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف
268

يعنى به الشرط وتحقيق متعلقه يعنى به الجزء وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو جزئه فهو يجزى (وبعبارة أخرى) ان ما كان من الأمر الظاهري بلسان جعل الشرط أو الجزء في وعاء الشك والجهل فهو مما يجزى لا محالة كقاعدة الطهارة أو الحلية واستصحابهما ونحوها فإذا أحرزنا مثلا طهارة الثوب بقاعدة الطهارة وصلينا فيه أو أحرزنا مثلا حلية اللحم بقاعدة الحل وصلينا في جلده أو شعره أو وبره أو أحرزنا مثلا الطهارة أو الحلية باستصحابهما بناء على كون الاستصحاب من الأصول العملية كما هو القوى عند المصنف لا من الأمارات كي يندرج فيما سيأتي تحقيقه ثم انكشف الخلاف وان الثوب لم يكن طاهرا واقعا أو أن اللحم لم يكن حلالا كذلك ففي جميع هذا كله يجزى المأتي به عن الواقعي ولا يكاد نحتاج إلى الإعادة أو القضاء أصلا (والسر في ذلك) ان ما ذكر من الأصول هو مما يتحقق ويجعل به الشرط أو الجزء في ظرف الشك والجهل ولو ظاهرا فتكون حاكمة على أدلة الشرط أو الجزء وتتوسع بها دائرتهما فدليل الشرط يصرح بأنه يشترط في الصلاة طهارة الثوب أو حلية لحم
ما أقمنا الصلاة في جلده أو شعره أو وبره وقاعدة الطهارة أو الحل أو استصحابهما تؤدى ان الطهارة أو الحلية المعتبرة في الصلاة هي أعم من الواقعية والظاهرية المجعولة بالأصل والقاعدة (ومن هنا يظهر) ان بانكشاف الخلاف لا ينكشف ان الصلاة كانت بلا طهارة بل كانت مع الطهارة الظاهرية غير انها من حين ارتفاع الجهل ترتفع الطهارة الظاهرية وهذا غير انكشاف فقد ان العمل لشرطه.
(أقول) ان هذه الأصول وان كانت هي حاكمة على أدلة الشرط أو الجزء كما أفاد المصنف ولكنها حكومة ظاهرية لا حكومة واقعية والفرق بينهما ان الحاكم الواقعي مما يوسع دائرة المحكوم واقعا أو يضيقها كذلك كما
269

إذا قال أكرم العالم ثم قال ولد العالم عالم أو قال ان النحوي ليس بعالم والحاكم الظاهري كالأصل العملي مما لا يوسع دائرة الشرط واقعا بل ظاهرا بمعنى أن قاعدة الطهارة مثلا لا تجعل شيئا في قبال الطهارة الواقعية تتوسع بها دائرتها حقيقة سوى الترخيص في البناء على الطهارة الواقعية في ظرف الشك والمعاملة مع المشكوك معاملة الطاهر الواقعي ما دام كون الشك موجودا ومن المعلوم أن مجرد ذلك مما لا يقضى فيما إذا انكشف الخلاف وظهر فقد ان العمل للطهارة واقعا ان العمل الفاقد لها يجزى عن العمل الواجد لها إعادة أو قضاء (ثم ان كلام المصنف) كله مفروض في الأصول العملية الموسعة لدائرة الشرط أو الجزء كقاعدتي الطهارة والحل واستصحابهما ويجري الكلام بعينه في الأصول العملية التي تضيق دائرة الشرط أو الجزء كحديث الرفع بالنسبة إلى دليل الشرط أو الجزء فهو يضيق دائرته ويحصره بصورة العلم فقط دون الجهل ومقتضاه أنه إذا شك في وجوب شرط أو جزء وجرت البراءة عنه بشرائطها ثم انكشف الخلاف وانه كان معتبرا واقعا فيجزي العمل المأتي به بلا شرط أو جزء عن المأمور به الواقعي ولا يكاد نحتاج إلى القضاء أو الإعادة أصلا وسيأتي التصريح منه بالبراءة النقلية وبحكومتها على دليل الواقع في الاجتهاد والتقليد في تبدل رأي المجتهد الا أن ذلك ضعيف أيضا لعين ما مر في الأصول الموسعة حرفا بحرف فان حكومة حديث الرفع على دليل الشرط أو الجزء هي حكومة ظاهرية ولا يكاد يرتفع به الشرط أو الجزء في حال الجهل من أصله وانما يرتفع به التنجز والمؤاخذة عليه ومن المعلوم ان مجرد رفعه كذلك مما لا يقتضى الاجزاء وسقوط الإتيان بالعمل ثانيا بعد ما انكشف فقد انه للشرط أو الجزء واقعا (وبالجملة) ان الحكومة الظاهرية سواء كانت معممة أو مخصصة مما لا تكاد تقتضي الاجزاء عن الواقع
270

انكشف خلافه واتضح غيره بخلاف الحكومة الواقعية التي توسع دائرة الشرط أو الجزء أو تضيقها حقيقة وواقعا (هذا تمام الكلام) في الأمر الظاهري الذي كان بلسان جعل الشرط أو الجزء في ظرف الشك والحيرة أو كان بلسان نفيهما عند الجهل وفقد العلم (وأما ما كان منه) بلسان أنه ما هو الشرط أو الجزء واقعا أي بلسان الحكاية عن الواقع كما هو لسان الأمارات لا بلسان الجعل في ظرف الشك والجهل فلا يكاد يجزى قطعا فان الأمارة إذا أخبرت مثلا عن القبلة أو الطهارة أو الحلية أو عن تحقق السورة أو الركوع أو السجود أو غير ذلك من الإجزاء والشرائط وانكشف الخلاف فقد انكشف فقد ان العمل لشرطه أو لجزئه فلا محالة لا يجزى (إلا إذا قلنا) في الأمارات بالموضوعية والسببية كما سيأتي تفصيلها في بحث إمكان التعبد بالأمارات في أول الظن بمعنى أنه قلنا ان قيام الأمارة سبب لحدوث المصلحة أو المفسدة في المتعلق فعند ذلك يجزى عقلا فان الأمارة بمجرد أن قامت على القبلة أو الطهارة أو الحلية أو على الإتيان بالسورة أو بسائر الإجزاء وحدثت بها مصلحة هذه الأمور حقيقة في الصلاة الفاقدة لها فتجزي هي عن الواقع بلا شبهة.
(قوله بل واستصحابهما في وجه قوى... إلخ) الظاهر أنه إشارة إلى الخلاف الآتي في محله من كون الاستصحاب أمارة أو أصلا كما أشرنا قبلا وان الأقوى بنظره كما في نظر غيره هو كونه أصلا لا أمارة على خلاف نظر القدماء ويحتمل أن يكون إشارة إلى الخلاف فيه من ناحية أخرى وهي كون المجعول في مورده هل هو الحكم الظاهري كما سيأتي أي الحكم المماثل للمستصحب فيما قام على الحكم أو المماثل لآثار المستصحب فيما قام على موضوع ذي حكم أو أن المجعول في مورده هو مجرد تنجيز الواقع عند الإصابة وعذريته عند
271

الخطأ كما قيل في الطرق والأمارات أيضا دون الحكم الظاهري.
(قوله ونحوها... إلخ) أي نحو قاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما ولعل مراده من نحوها هو مثل قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحة وغيرها من الأصول العملية التي لها نظر إلى الواقع.
(قوله فان دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرط الواقعي... إلخ) في التعبير مسامحة واضحة فان لسان دليل حجية الأمارة ليس ذلك بل هو لسان نفس الأمارة القائمة على تحقق الشرط أو الجزء.
(قوله لو كان الفاقد له في هذا الحال... إلخ) إشارة إلى أن العمل الذي قد قامت الأمارة السببية على تحقق شرطه أو جزئه مع انكشاف الخلاف فيه وكونه فاقدا للشرط أو الجزء هو على أقسام ثبوتا.
(فتارة) يكون كالواجد وافيا بتمام غرضه ومصلحته.
(وأخرى) لا يكون كالواجد وافيا بتمام غرضه بل يبقى منه شيء والباقي مما يمكن تداركه وكان بمقدار يجب.
(وثالثة) بمقدار لا يجب.
(ورابعة) لا يمكن تداركه أصلا ففي الأول يجزى وفي الثاني لا يجزى فيجب التدارك بالإعادة أو القضاء وفي الثالث يجزى ويستحب التدارك بالإعادة أو القضاء وفي الرابع يجزى بعد فرض عدم إمكان التدارك بالإعادة أو القضاء.
(أقول) هذه عين الصور الأربع المتقدمة من المصنف في المأمور به الاضطراري وقد أشكلنا عليه هناك بان الصور خمس لا أربع بجعل ما لا يمكن تداركه على قسمين أيضا كما فيما يمكن تداركه (فتارة) يكون بحد الإلزام وأخرى لا يكون بحد الإلزام غير أن الثمرة هناك بين القسمين كانت تظهر
272

في عدم جواز البدار وجوازه وهاهنا لا ثمرة بينهما أصلا ففي كليهما يجزى العمل لا محالة.
(قوله ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجتزاء بموافقته أيضا... إلخ) إشارة إلى مقام الإثبات والاستظهار من أدلة اعتبار الأمارات بناء على السببية وأنه هل المستفاد منها هو كونها من القسم المقتضى للاجزاء أم لا (فيقول) إن مقتضى إطلاق أدلة اعتبارها هو الإجزاء فلو لم يكن العمل الذي قامت الأمارة السببية على تحقق شرطه أو جزئه مشتملا على تمام مصلحة الواقع ووجبت الإعادة أو القضاء عند كشف الخلاف لكان على المولى بيان ذلك وإظهاره.
(أقول) إن أدلة اعتبار الأمارات ليست هي إلا في مقام بيان حجيتها واعتبارها وليست هي في مقام بيان وظيفة من قامت عنده الأمارة السببية على تحقق شرط العمل أو جزئه ثم انكشف الخلاف كي يتمسك بإطلاقها المقامي لعدم وجوب الإعادة أو القضاء (نعم يمكن أن يقال) ان القائل بالسببية يلتزم قهرا بسببية قيام الأمارة لحدوث المصلحة في المتعلق بمقدار المصلحة الواقعية لا بمقدار أقل كي يلزم من جعل الطرق والأمارات تفويت مقدار من المصلحة على المكلف ومن المعلوم أن لازم ذلك هو الإجزاء عقلا من غير حاجة إلى التمسك بإطلاق أدلة الأمارات كي يشكل عليه بأنها ليست هي في مقام بيان هذه الجهة فتدبر جيدا.
(قوله هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية أو بنحو الموضوعية والسببية وأما إذا شك ولم يحرز انها على أي الوجهين... إلخ) وحاصله ان الأمارة إذا قامت على إثبات شرط أو جزء ثم انكشف الخلاف (فان قلنا) في الأمارات بالكشف والطريقية وأنه لا مصلحة في
273

جعلها سوى الوصول بها إلى الواقع فان أصابت فهو منجز للواقع وإن أخطأت فهو عذر عند المولى فلا يكاد يجزى ما أتينا به من العمل الفاقد للشرط أو الجزء عن الواجد لهما أصلا (وان قلنا) فيها بالموضوعية والسببية وان قيامها سبب لحدوث المصلحة في المتعلق بمقدار المصلحة الواقعية فيجزي العمل الفاقد لهما عن الواجد لها لا محالة (وأما إذا شك) في كيفية اعتبار الأمارة وان حجيتها هل هي بنحو الطريقية كي لا يجزى أو بنحو السببية كي يجزى فمقتضى القاعدة هل هو الإجزاء أو عدم الإجزاء (فيقول المصنف) إن مقتضى القاعدة هو وجوب الإعادة في الوقت وذلك لأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف (لا يقال) إنا نستصحب عدم فعلية التكليف الواقعي في الوقت (لأنه يقال) إن ذلك مما لا يجدى في إثبات كون ما أتى به مسقطا الا على القول بالأصل المثبت ونحن لا نقول به كما سيأتي تحقيقه في بعض تنبيهات الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
(أقول) بل الصحيح في الجواب أن يقال إن استصحاب عدم فعلية التكليف في الوقت مما لا يجري من أصله لا أنه يجري وهو أصل مثبت لا نقول به فان التكليف الواقعي قد صار فعليا بمجرد دخول الوقت وانما الشك في سقوطه بما أتينا به مما قامت الأمارة على واجديته للجزء أو الشرط فان كانت الأمارة سببية سقط والا فلا فيستصحب بقائه وهو الذي عبر عنه المصنف في الأول بأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وأشار إليه في الآخر بقوله وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي فكلام المصنف لدى الحقيقة وان كان مشتملا على ما هو الجواب الصحيح الا أنه مضطرب في افادته وبيانه فلا تغفل أنت ولا تشتبه (هذا كله) تمام الكلام بالنسبة إلى الإعادة في الوقت (وأما بالنسبة إلى القضاء) في خارج
274

الوقت فيقول المصنف إنه مبتن على كون القضاء تابعا للأداء أو أنه بفرض جديد (فان قلنا) إنه تابع للأداء بتقريب أن الأمر بصلاة الظهر مثلا عبارة عن الأمر بمطلوبين أحدهما نفس الصلاة ثانيهما إيقاعها في الوقت فإذا سقط أحدهما لمضي الوقت لم يسقط الآخر فيجب القضاء على هذا القول كالإعادة في الوقت عينا وذلك لأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف (وان قلنا) أنه بفرض جديد فلا يجب القضاء على هذا القول لأن موضوعة وهو فوت الواقع كما في الحديث الشريف ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك غير محرز لنا وذلك لجواز كون الأمارة التي قامت على تحقق الجزء أو الشرط سببية لا طريقية ولا يكاد يحرز الفوت بأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف في الوقت الا على القول بالأصل المثبت وقد أشير آنفا أنا لا نقول به كما سيأتي تحقيقه في محله وعليه فلا يثبت الفوت ولا يجب القضاء وهذا واضح.
(قوله وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا وشك في أنه يجزى عما هو المأمور به الواقعي الأولى كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية... إلخ) إشارة إلى ما قد يقال إنه ما الفرق بين المقام وبين المأمور به الاضطراري أو الظاهري السببي ففي المقام إذا قامت الأمارة على تحقق جزء أو شرط ثم انكشف الخلاف في الوقت وشك في طريقيتها وسببيتها يجب الإعادة لأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وفي الاضطراري أو الظاهري السببي بعد اليأس عن إطلاق الدليل لا يجب الإعادة لأصالة البراءة عن وجوبها (فيقول المصنف) ما حاصله ان في المقام قد تعلق التكليف بالواقع ونشك في سقوطه بما أتينا به والأصل بقائه وعدم سقوطه وفي الاضطراري والظاهري السببي قد تعلق التكليف بهما واقعا وقد أتينا به وبعد رفع الاضطرار أو كشف الخلاف في الوقت نشك
275

في وجوب الإعادة ومقتضى أصل البراءة عدمها.
(أقول) هذا انما يتم في المأمور به الاضطراري فان التكليف من الأول لم يتعلق الا به وهو الواقعي الثانوي فإذا ارتفع الاضطرار في الوقت وشك في وجوب الإعادة فالأصل عدمها وأما في الظاهري السببي فالتكليف قد تعلق بالواقعي الأولى فإذا انكشف الخلاف في الأمارة السببية وشك في انها ثبوتا هل هي من الأقسام المجزية أم لا كما هو محل البحث فالأصل عدم سقوط الواقع بما أتينا به من الظاهري السببي فتجب الإعادة وهذا واضح بعد التدبر فتدبر.
(قوله فقضية الأصل فيها كما أشرنا إليه... إلخ) نعم قد أشار إلى قضية الأصل وهو عدم وجوب الإعادة ولكن ذلك في المأمور به الاضطراري فقط فإنه بعد اليأس عن الإطلاق قد صرح وقال فالأصل وهو يقتضى البراءة عن إيجاب الإعادة لكونه شكا في أصل التكليف... إلخ وأما في الظاهري السببي فلم يتعرض لمقتضى الأصل
بعد اليأس عن الإطلاق أصلا فراجع المتن بدقة تعرف صدق ما ذكرناه.
(قوله وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف... إلخ) وفيه ما لا يخفى أما في المأمور به الاضطراري فلانا لا نحتاج في عدم وجوب الإعادة بعد رفع الاضطرار في الوقت إلى هذا الأصل بل يكفينا كما أشار إليه المصنف آنفا وصرح به قبلا أصل البراءة عن وجوب الإعادة لكونه شكا في أصل التكليف وأما في المأمور به الظاهري السببي فلا يكاد يجري هذا الأصل كما أشرنا آنفا لأن التكليف فيه متعلق بالواقعي الأولى وما أتينا به من الظاهري السببي نحن نشك في سقوط الواقع به إذا المفروض عدم إحراز كونه من الأقسام المجزية كما أن المفروض عدم
276

إطلاق دليل يقضى بكونه من القسم المجزي (وبالجملة) ان كلا من الاضطراري والظاهري السببي ثبوتا على أقسام كما عرفت فبعض أقسامه يجزى وبعضه لا يجزى فإذا ارتفع الاضطراري في الأول وانكشف الخلاف في الثاني وكلاهما في الوقت ولم يكن هناك إطلاق دليل يحرز به كونها من الأقسام المجزية فالأصل في الأول البراءة عن وجوب الأمارة لعدم تعلق التكليف من الأول إلا بالاضطراري وبعد رفع الاضطرار وإن نحتمل وجوب الإعادة لجواز كون المأتي به من القسم الغير المجزي ولكن الأصل عدم وجوبها وأما في الثاني فالأصل الإعادة لأن التكليف قد تعلق بالواقعي الأولى وصار فعليا بمجرد دخول الوقت بلا كلام غير أنا قد أتينا بالظاهري السببي ولكن حيث أنا نشك في كونه من القسم المجزي فالشك في سقوط الواقع بما أتينا به ومقتضى الأصل بقائه وعدم سقوطه به فتجب الإعادة فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد... إلخ) رجوع إلى حكم الشك في الطريقية والسببية الذي قد أفاده بقوله المتقدم وأما إذا شك ولم يحرز انها على أي الوجهين... إلخ وقد بين حكم الإعادة في الوقت وهذا بيان لحكم القضاء في خارج الوقت وقد عرفت منا تفصيله فلا نعيد
(قوله وكان الفوت المعلق عليه وجوبه... إلخ) أي وبناء على كون الفوت المعلق عليه وجوب القضاء مما لا يثبت بأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف الواقعي الا على القول بالأصل المثبت.
(قوله وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف... إلخ) شروع في التكلم من الناحية الثانية من الناحيتين اللتين أشرنا إليهما في صدر المقام الثاني (وما حاصله) أنه إذا قامت الأمارة الشرعية ولو كانت سببية أو قام الأصل
277

العملي الشرعي عن أصل التكليف مثل وجوب صلاة الجمعة وقد أتى بها ثم انكشف الخلاف وأن الواجب كان صلاة الظهر مكانها فالمأتي به مما لا يجزى عن الواقع لا إعادة ولا قضاء فان صلاة الجمعة وان فرض انها قد صارت ذات مصلحة لأجل قيام الأمارة السببية على وجوبها ولكن لا ينافي ذلك بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة والوجوب فلا بد من الإعادة أو القضاء إلا إذا قام دليل خاص من إجماع ونحوه على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
(قوله تذنيبان الأول لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالأمر في صورة الخطاء... إلخ) (وحاصل) ما في هذا التذنيب أنه إذا قطع بتحقق شرط أو جزء المأمور به أو بعدم وجوب شرط أو جزء للمأمور به أو قطع بأصل التكليف كما لو قطع بوجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة ثم انكشف الخلاف في جميع هذا كله وان الشرط أو الجزء لم يكن موجودا أو أن الشرط أو الجزء كان واجبا واقعا أو أن الذي قطع بوجوبه لم يكن واجبا وكان الواجب أمرا آخر مكانه ففي جميع هذه الصور كلها لا إجزاء عن الواقع أصلا فان الأمر الظاهري المجعول شرعا في موارد الأصل والأمارة إذا لم يجز عن الواقع الا عند المصنف في بعض الصور أو على القول بالسببية في بعض أقسامها فكيف بهذا الأمر التخيلي الذي لا أصل له أصلا.
(قوله نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال أو على مقدار منها ولو في غير الحال... إلخ) استدراك عن حكمه بعدم الاجزاء في القطع بالأمر (وحاصله) أنه نعم قد يكون ما قطع بكونه واجبا مشتملا على تمام مصلحة الواقع في حال القطع بكونه مأمورا به أو على مقدار منها مطلقا ولو في حال عدم القطع بكونه مأمورا به لكن
278

لا يمكن مع استيفاء هذا المقدار استيفاء الباقي من المأمور به الواقعي ففي هاتين الصورتين لا يبقى مجال لامتثال الأمر الواقعي بعد كشف الخلاف ووضوح ان الواجب غيره أصلا إلا أن ذلك ليس من جهة اقتضاء الأمر التخيلي للاجزاء بل لخصوصية اتفاقية فيما قطع بكونه واجبا كما في الإتمام مكان القصر أو في كل من الجهر والإخفات مكان الآخر فان الجاهل بالحكم الواقعي القاطع بالخلاف في هذه المواضع الثلاثة معذور يجزى عمله عن الواقع بلا كلام للنصوص المأثورة فيها الكاشفة عن كونها من إحدى الصورتين ثبوتا.
(أقول) بل إذا لم يكن ما قطع بكونه واجبا مشتملا على شيء من المصلحة أصلا ولكن لم يمكن مع الإتيان به استيفاء المصلحة من الواقع أصلا ففي هذه الصورة أيضا لا مجال لامتثال الأمر الواقعي وعليه فالحكم المذكور مما لا يختص بالصورتين المذكورتين فقط بل ثابت في صور ثلاث كما لا يخفى.
(قوله وهكذا الحال في الطرق... إلخ) أي من حيث أنه ربما يكون ما قام عليه الطريق مشتملا على المصلحة في هذا الحال أو على مقدار منها ولو في غير الحال غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه.
(قوله كما في الإتمام والقصر والإخفات والجهر... إلخ) في العبارة مسامحة واضحة والصحيح هكذا كما في الإتمام مكان القصر وفي كل من الإخفات والجهر مكان الآخر فان الإجزاء هو في صور ثلاث لا في أربع.
(قوله الثاني لا يذهب عليك أن الإجزاء في بعض موارد الأصول والطرق والأمارات على ما عرفت تفصيله لا يوجب التصويب... إلخ) (وحاصل) ما في هذا
التذنيب الثاني أنه قد يتوهم أن الإجزاء في بعض موارد الأصول والأمارات على التفصيل المتقدم شرحه هو مما يوجب التصويب الباطل وهو خلو الواقعة عن الحكم الواقعي غير ما أدته الأمارات أو الأصول
279

(ولكنه فاسد جدا) فان الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل وهو الحكم الإنشائي بل الفعلي بالمعنى الذي ستعرفه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إن شاء الله تعالى محفوظ ثابت في جميع تلك الموارد وإنما المنفي فيها ليس الا الحكم الفعلي بل المنجز كما سيأتي شرحه وهو منفي في جميع موارد خطأ الأمارات والأصول سواء قلنا فيها بالاجزاء أو لم نقل فإذا لا فرق بين الاجزاء وعدمه الا في سقوط ذلك الحكم الواقعي المشترك بوسيلة المأمور به الظاهري وعدمه لا في لزوم التصويب الباطل وعدمه.
(قوله كيف وكان الجهل بها بخصوصيتها أو بحكمها... إلخ) أي كيف يكون سقوط التكليف بحصول غرضه أو لعدم إمكان تحصيله الذي هو عبارة أخرى عن الاجزاء عين التصويب المجمع على بطلانه وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدته الأمارة أو الأصل مع أن الجهل بالواقعة أما بخصوصيتها كما في الشبهات الموضوعية مثل الجهل بكون هذا خمرا أو خلا أو بحكمها كما في الشبهات الحكمية مثل الجهل بكون العصير حراما أو حلالا مأخوذ في موضوع الأمارات والأصول غايته أنه قد أخذ الجهل في موضوع الأصول شرعا أي في لسان الدليل نظرا إلى كون أدلتها مغياة بالعلم وفي موضوع الأمارات قد أخذ عقلا للقطع الحاصل لنا من الخارج بعدم إمكان التعبد بالأمارة في مورد العلم واليقين أصلا ومن الواضح المعلوم أن مع أخذ الجهل أي الشك في موضوع الأمارات والأصول جميعا لا بد وأن يكون الحكم الواقعي محفوظا ثابتا في مواردهما لأن الشك في الواقع هو فرع وجود الواقع وإلا ففي أي شيء يقع الشك وبأي شيء يكون جاهلا شاكا مترددا وهذا واضح.
280

في مقدمة الواجب وبيان كون المسألة أصولية عقلية
(قوله فصل في مقدمة الواجب وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور الأول... إلخ) المقصود من رسم هذا الأمر الأول بيان مطلبين:
(أحدهم) أن مسألة مقدمة الواجب أصولية لا فقهية نظرا إلى أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة هي الملازمة بين وجوب الشيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك فيترتب عليها وجوب المقدمة شرعا وهذا هو الشأن في المسألة الأصولية كما تقدم في صدر الكتاب من كونها مما يستنبط به الحكم الشرعي الكلي وليس المهم المبحوث عنه نفس وجوب المقدمة كي تكون المسألة فقهية نظرا إلى كون موضوعها فعل المكلف وهو المقدمة ومحمولها الحكم الشرعي أي الوجوب كما هو الشأن في المسألة الفقهية وذلك لأن المسألة بعد ما أمكن عنوانها على وجه تكون من مسائل العلم لا وجه لعنوانها على وجه لا تكون منها.
(ثانيهما) أن مسألة مقدمة الواجب عقلية لا لفظية فان الكلام ليس إلا في استقلال العقل في الحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته بحيث إذا وجب شيء شرعا استقل العقل بوجوب مقدمته أيضا شرعا لما يرى بين وجوبيهما من الملازمة وليس الكلام في دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدمته كما يظهر من صاحب المعالم رحمه الله كي تكون المسألة لفظية فإنه استدل على نفى وجوبها بانتفاء الدلالات الثلاث وهو كما ترى ضعيف لأن الأمر بالشيء هب أنه لا يدل بشيء من الدلالات الثلاث على وجوب المقدمة اما
281

عدم المطابقة والتضمن فواضح واما عدم الالتزام فلما يشترط في دلالة اللفظ على الخارج التزاما اللزوم البين بالمعنى الأخص بحيث يستحيل تصور الملزوم بدون اللازم اما عقلا كما في العمى والبصر واما عرفا كما في الجود والحاتم ومن المعلوم انتفاء اللزوم كذلك في المقام ولكن عدم دلالة اللفظ التزاما مما لا ينافي وجود الملازمة عقلا بين وجوب الشيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك.
(قوله مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ... إلخ) هذا دليل ثاني على كون المسألة لفظية عند صاحب المعالم رحمه الله فانا وان ذكرناها أيضا في مباحث الألفاظ لكنه تبعا للسلف لا لكونها من مباحث الألفاظ وأنها من جملتها وهذا بخلاف المعالم فإنه ذكرها فيها زعما منه بأنها منها ومن جملتها.
(قوله ضرورة أنه إذا كان نفس الملازمة... إلخ) إشارة إلى ما أورده التقريرات على مختار المعالم من كون المسألة لفظية (وحاصل) ما أورده عليه بطوله أن النزاع في دلالة اللفظ على شيء وعدمها كما في الأبحاث اللغوية فرع تسليم المتخاصمين وجود المعنى المتنازع فيه ثبوتا وفي المقام نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الكلام فكيف يقع النزاع في دلالة اللفظ عليها إثباتا.
(أقول) وفيه منع واضح صغرى وكبرى.
(أما صغرى) فلان المقام ليس من هذا القبيل فان المعالم لم يدع ان النزاع في دلالة اللفظ على الملازمة كي يقال ان الملازمة ثبوتا محل الكلام فكيف يقع النزاع في دلالة اللفظ عليها إثباتا بل ادعى أن النزاع في دلالة اللفظ على وجوب المقدمة وهو غير الملازمة قطعا.
(وأما كبرى) فلأنه لا منافاة عقلا بين دلالة اللفظ على شيء وبين كون وجود المعنى ثبوتا محل الكلام بل قد وقع ذلك خارجا في بعض الألفاظ
282

فان لفظ العنقاء مثلا موضوع لغة لحيوان خاص مع أن وجوده في الخارج محل الكلام.
تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية
(قوله الأمر الثاني أنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات منها تقسيمها إلى داخلية وهي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها والخارجية... إلخ) أما الخارجية فسيأتي الكلام فيها وأما الداخلية فهي كما ذكرها المصنف عبارة عن الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها وان شئت قلت عبارة عن الأجزاء التي يتركب منها المأمور به دون الشرائط فإنها كما سيأتي شرحها هي من المقدمات الخارجية.
(قوله وربما يشكل في كون الأجزاء مقدمة له وسابقة عليه... إلخ) بل يمكن الإشكال من ناحيتين: (الأولى) أن المقدمة تجب أن تكون سابقة على ذي المقدمة كما هو مقتضى تسميتها بها والاجزاء ليست هي سابقة عليه فإنها نفس ذي المقدمة.
(الثانية) أن المقدمة تجب أن تكون غير ذي المقدمة ليترشح الوجوب الغيري منه إليها على القول بالملازمة والاجزاء ليست هي مباينة مع ذي المقدمة بل هي عين ذي المقدمة.
(قوله والحل أن المقدمة... إلخ) وحاصل الحل أن المقدمة الداخلية هي الاجزاء بالتمام بما هي هي ولا بشرط والواجب هو الاجزاء بشرط الاجتماع والاتصال بعضها ببعض فتكون المقدمة سابقة على ذيها ولو رتبة ومغايرة معه ولو اعتبارا.
283

(قوله وكون الأجزاء الخارجية كالهيولى والصورة... إلخ) إشارة إلى ما قد يقال من أن المقرر عند أهل المعقول ان الاجزاء الخارجية كالهيولى والصورة هي بشرط لا وهذا مما ينافي ما قررناه في المقام من كون المقدمة هي الاجزاء بما هي هي ولا بشرط فيجيب عنه المصنف بما حاصله أن كلام أهل المعقول من أن الأجزاء الخارجية هي بشرط لا انما هو بالإضافة إلى الأجزاء التحليلية كالجنس والفصل فالأجزاء الخارجية بشرط لا أي لا يقبل الحمل فلا يقال زيد بدن أو نفس كما تقدم في الأمر الثاني مما ذكر في خاتمة المشتق والاجزاء التحليلية لا بشرط أيقبل الحمل فتقول زيد حيوان أو ناطق وليس كلامهم ذلك بالإضافة إلى المركب كي ينافي ما قلناه من أن المقدمة هي الاجزاء بما هي هي ولا بشرط والمركب أي الواجب هي الاجزاء بشرط الاجتماع.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أن كلام أهل المعقول أيضا مما صح أن يكون بالإضافة إلى المركب غير أن مقصودهم من كون الاجزاء الخارجية بالإضافة إلى المركب بشرط لا أي غير قابلة للحمل عليه ومقصودنا من كونها بالإضافة إلى المركب لا بشرط أي لا بشرط عن الاجتماع والاتصال فإذا لا تنافي بين الكلامين.
(قوله ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع... إلخ) ومرجع ما أفاده في وجه خروج الاجزاء عن محل النزاع هو إلى عدم كفاية المغايرة الاعتبارية بين الاجزاء والكل فان الاجزاء هي عين الكل ذاتا وان تغايرا اعتبارا لأجل كون أحدهما لا بشرط والآخر بشرط الاجتماع فإذا اتحدا ذاتا فتجب الاجزاء بعين وجوب الكل غايته أنه يجب الكل بوجوب نفسي استقلالي ويجب كل واحد من الاجزاء بوجوب نفسي ضمني أي في ضمن
284

وجوب الكل ومن المعلوم أن بعد اتصاف كل واحد من الاجزاء بالوجوب النفسي الضمني لا يمكن اتصافه بالوجوب الغيري الترشحي وذلك لامتناع اجتماع المثلين وان قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في مسألة الاجتماع فان الجهتين في مسألة الاجتماع متعددتان إحداهما تحت الأمر والأخرى تحت النهي كعنواني الصلاة والغصب تنطبقان على شيء واحد وهذا بخلاف المقام فان الوجوب النفسي وان تعلق بعنوان الصلاة ولكن الوجوب الغيري لم يتعلق بعنوان المقدمة كي تتعدد الجهتان وتنطبقان على الأجزاء فبعنوان انها صلاة تجب نفسيا وبعنوان انها مقدمة تجب غيريا بل تعلق الوجوب الغيري بنفس المعنون وهو ذات الاجزاء لأنها المقدمة بالحمل الشائع لا بعنوان المقدمة وإن كان هو علة لتعلق الوجوب الغيري بالأجزاء فليس في البين إلا عنوان واحد ومعنون أحدهما متعلق للوجوب النفسي والآخر متعلق للوجوب الغيري وفي مثله لم يجز الاجتماع أصلا (نعم) لو كان الوجوب الغيري منشأ بخطاب مستقل قد تعلق في لسان الدليل بعنوان المقدمة مثل أن يقول صل وأت بمقدماتها فعند ذلك صح دعوى جواز اجتماع الوجوبين في الاجزاء أي النفسي والغيري جميعا بناء على القول بالجواز في مسألة الاجتماع وذلك لتعدد العنوانين حينئذ أحدهما تعلق به الوجوب النفسي وهو عنوان الصلاة والآخر تعلق به الوجوب الغيري وهو عنوان المقدمة التي منها المقدمة الداخلية وهي الاجزاء فشئ واحد يكون معنونا بعنوانين أحدهما متعلق لحكم والآخر لحكم آخر فيكون حاله كحال الصلاة في الغصب عينا.
(أقول) بل الحق أنه يجوز اجتماع الوجوبين أي النفسي والغيري في المقام وان قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي في مسألة الاجتماع نظرا إلى عدم كفاية تعدد الجهتين فيها كما سيأتي شرحه وذلك لأن الأحكام الخمسة المنشأة
285

بالصيغة أمور اعتبارية تتحقق وتوجد بوسيلة الإنشاء فإذا كان هناك حكمان من سنخ واحد كما في الوجوب النفسي والغيري أو في الوجوبين النفسيين أو الغيريين فيمكن اجتماعهما في شيء واحد بعنوان واحد فضلا عن أن يكون بعنوانين أحدهما تحت حكم والآخر تحت حكم آخر أو بعنوان ومعنون كان أحدهما تحت وجوب والآخر تحت وجوب آخر كما في المقام من دون أن يلزم منه اجتماع المثلين المحال وذلك لاندكاك أحدهما في الآخر وتأكد بعضهما ببعض فبالنتيجة يكون هناك وجوب واحد أكيد نظير ما إذا أمر بإتيان الماء مرتين أو مرات تأكيدا فكلما أنشأ الطلب ثانيا وثالثا تحقق وجوب واندك في الأول وتأكد الأول بالثاني والثالث وهكذا فيكون في البين طلب واحد أكيد متعلق بشيء واحد ويجري هذا الكلام بعينه في اجتماع الوجوب مع الاستحباب أو في اجتماع الحرمتين أو الحرمة مع الكراهة فتأمل جيدا.
(قوله اللهم إلا أن يريد أن فيه ملاك الوجوبين وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه فتأمل... إلخ) (قال) في تعليقته على الكتاب عند قوله فتأمل (ما لفظه) وجهه أنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري حيث لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده وبدونه لا وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلا كما لا يخفى وبالجملة لا يكاد يجدى تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الاجزاء والكل في هذا الباب وحصول ملاك وجوب الغيري المترشح من وجوب ذي المقدمة عليها لو قيل بوجوبها فافهم (انتهى).
(أقول) ولعل قوله فافهم إشارة إلى كفاية المغايرة الاعتبارية بين الاجزاء والكل وسبق الأول على الثاني ولو رتبة في تحقق ملاك الوجوب
286

الغيري في الاجزاء وان لم يكف ذلك في ترشح الوجوب الغيري إليها للزوم اجتماع المثلين في نظره (وبالجملة) تارة يمنع عن ترشح الوجوب الغيري إلى الاجزاء بدعوى لزوم اجتماع المثلين منه (ويرده) ما عرفته منا من عدم المانع عن ذلك عقلا بعد اندكاك أحدهما في الآخر وأخرى يمنع عن وجود الملاك الغيري في الاجزاء
بدعوى عدم كفاية المغايرة الاعتبارية في ذلك (ويرده) المنع عن ذلك فان مجرد المغايرة الاعتبارية وسبق الأجزاء على الواجب ولو رتبة كما تقدم مما يكفى في حصول ملاك الوجوب الغيري في الأول وتوقف الثاني عليه وجودا فتأمل جيدا.
(قوله وأما المقدمة الخارجية فهي ما كان خارجا عن المأمور به وكان له دخل في تحققه لا يكاد يتحقق بدونه وقد ذكر لها أقسام... إلخ) كان اللازم على المصنف ذكر أقسام المقدمة الخارجية ولو بنحو الاختصار فإنه مما لا تخلو عن فائدة وعلى كل حال إنها على أقسام (منها) المقتضى ويقال له السبب وهو المؤثر في المقتضى بالفتح كالنار في الإحراق (ومنها) الشرط وهو الدخيل في تأثير المقتضى في المقتضى كالمحاذاة للإحراق فان النار ما لم تكن محاذية لشيء لم تحرقه (ومنها) عدم المانع أي عدم ما يمنع عن تأثير المقتضى في المقتضى كعدم الرطوبة للإحراق فان الرطوبة مانعة عن تأثير النار فيه فعدمها يكون من مقدمات وجوده أعني وجود الإحراق (ومنها) المعد وهو الذي يوجب الاعداد والتهيؤ من دون أن يكون له تأثير في المقتضى بالفتح ولا في تأثير المقتضى في المقتضى بالفتح وذلك كإحضار الحطب وإحضار ما يقدح به النار وحفر الحفيرة وأشباه ذلك للإحراق أو كالزاد والراحلة وتحصيل الرفقة والسير معهم في الطريق وأشباه ذلك للحج (وبالجملة) كل أمر توقف عليه وجود الشيء في الخارج من دون أن يكون له تأثير فيه ولا في
287

تأثير المقتضى فيه فهو المعد (ومنها) العلة التامة وهي مجموع المقتضى والشرط وعدم المانع والمعد فإذا اجتمع الجميع حصل المقتضى بالفتح قهرا بلا فصل زماني وان كان يتأخر المعلول عن العلة رتبة هذه تمام أقسام المقدمة الخارجية فاضبطها واغتنم.
في تقسيم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية
(قوله ومنها تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية فالعقلية هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه والشرعية على ما قيل ما استحيل وجوده بدونه شرعا... إلخ) ولو قال فالعقلية هي ما استحيل وجود ذي المقدمة بدونه عقلا كان أليق بما قيل في تعريف الشرعية من انها ما استحيل وجود ذي المقدمة بدونه شرعا (وعلى كل حال) المقدمة العقلية هي ما أدرك العقل بنفسه توقف ذي المقدمة عليه من دون حاجة إلى بيان الشارع له والشرعية هي ما حكم الشارع بتوقف ذي المقدمة عليه كحكمه بتوقف الصلاة على الطهارة الحدثية أو الخبثية ونحوهما.
(قوله ولكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية ضرورة أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك شرعا الا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده يكون عقليا... إلخ) لا يخفى أن ما أخذه الشارع شرطا وقيدا لشيء وان كان يستحيل عقلا وجوده بدونه لاستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده كما ذكر المصنف ولكن مع ذلك لا يكون مرجع الشرعية إلى العقلية وذلك لما أشير آنفا من أن العقلية هي ما أدرك العقل بنفسه توقف ذي المقدمة عليه من دون حاجة إلى بيان الشارع له
288

وهو مفقود فيما أخذه الشارع شرطا وقيدا وان حكم العقل بعد ما أخذه الشارع شرطا وقيدا باستحالة وجود المشروط بدونه.
(قوله وأما العادية فان كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها إلا أن العادة جرت على الإتيان به بواسطتها... إلخ) وحاصل كلام المصنف في المقدمة العادية انها (ان كانت) بمعنى ما جرت العادة على الإتيان به قبل ذي المقدمة من دون توقف عليه وجودا بحيث يمكن تحقق ذي المقدمة بدونه مثل ما جرت العادة على لبس الرداء والحذاء ونحوهما قبل الخروج من الدار فهي مما لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع لعدم التوقف الوجودي كي يترشح الوجوب إليها على القول بالملازمة (وإن كانت) بمعنى ما استحيل وجود ذي المقدمة بدونه عادة وإن لم يكن مستحيلا عقلا نظير نصيب السلم للصعود على السطح فان الصعود عليه بلا نصب السلم وإن لم يكن مستحيلا عقلا لإمكان الطيران ذاتا ولكنه مستحيل عادة فهي أيضا راجعة إلى العقلية فان الصعود على السطح بلا نصب السلم لغير الطائر فعلا مستحيل عقلا وإن كان طيرانه ممكنا ذاتا (وفيه) ان غير الطائر فعلا حيث يمكن طيرانه ذاتا فلا يستحيل صعوده على السطح بلا نصب السلم عقلا وان استحيل عادة فلا ترجع العادية إلى العقلية والظاهر ان إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
289

في تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم
(قوله ومنها تقسيمها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود... إلخ) أما رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود على القول بوضع الأسامي للصحيح فواضح إذ بانتفاء مقدمة الصحة على هذا القول ينتفي الوجود من أصله وأما رجوعها على القول بوضعها للأعم فلان مقدمة الصحة على هذا القول وان لم يكن مقدمة لوجود الشيء لأن المسمى يتحقق بدونها ولكن الكلام في هذا البحث إنما هو في مقدمة الواجب والواجب هو الصحيح ومن المعلوم توقف وجوده على مقدمة الصحة وان لم يتوقف المسمى عليها فإذا كان مرجع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود فلا محالة تكون داخلة في محل النزاع بعد وضوح كون النزاع هنا في مقدمة الوجود أي في كلما يتوقف عليه وجود الواجب خارجا.
(قوله ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع... إلخ) إذ لا وجوب للواجب قبل تحقق مقدمة الوجوب كالحج قبل الاستطاعة كي يترشح الوجوب من الواجب إليها وبعد تحققها لا معنى لترشح الوجوب إليها إذ لا يعقل طلب الحاصل وهذا واضح.
(قوله وكذلك المقدمة العلمية وان استقل العقل بوجوبها... إلخ) المقدمة العلمية وهي التي يتوقف عليها العلم بتحقق الواجب على قسمين:
290

(فتارة) تكون خارجة عن حقيقة الواجب أجنبية عنه رأسا كغسل شيء يسير مما فوق المرفق ليحصل اليقين بتحقق الغسل بالمقدار الواجب في الوضوء.
(وأخرى) تكون من إحدى محتملات الواجب كالإتيان بطرفي العلم الإجمالي أو بأطرافه مقدمة لحصول العلم بتحقق الواجب المعلوم بالإجمال سواء كان ذلك في الشبهة الحكمية كما إذا علم إجمالا بوجوب صلاة عليه إما الظهر وإما الجمعة أو في الشبهة الموضوعية كما إذا علم إجمالا بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة (وفي كلا القسمين) يستقل العقل بوجوب المقدمة العلمية نظرا إلى ان الاشتغال اليقيني مما يقتضى البراءة اليقينية وهي مما لا تحصل الا بوسيلتها سواء كانت العلمية من قبيل غسل شيء يسير مما فوق المرفق أو من قبيل الإتيان بالأطراف في مورد العلم الإجمالي (ومن هنا يظهر) أن وجوبها حينئذ ليس من باب الملازمة وترشح الوجوب الغيري من ذي المقدمة إلى المقدمة وذلك لعدم توقف وجود الواجب عليها كي يستقل العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقف عليه وجوده بل المتوقف عليها هو العلم بالواجب وذلك لإمكان حصول الواجب بدونها صدفة كما إذا غسل يده ولم يغسل شيئا يسيرا مما فوق المرفق وقد صادف المقدار الواجب أو صلى إلى إحدى الجهات الأربع ولم يصل إلى ساير الجهات وقد صادفت القبلة الواقعية (وعليه) فإذا ظهر ان وجوبها ليس من باب الملازمة بل كان من باب استقلال العقل بوجوبها تحصيلا للأمن من العقوبة فقد ظهر خروجها عن محل النزاع قهرا كما صرح به المصنف بقوله ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب (إلى أن قال) وكذلك المقدمة العلمية وان استقل العقل بوجوبها... إلخ.
291

تقسيم المقدمة إلى المتقدم والمقارن والمتأخر
(قوله ومنها تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر... إلخ) فالشرط مثلا الذي هو أحد المقدمات (قد يكون) مقارنا للمشروط كالطهارة والستر والقبلة وغيرها للصلاة (وقد يكون) سابقا عليه متصرفا حين المشروط كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة الصوم الآتي للمستحاضة عند بعض الأصحاب (وقد يكون) متأخرا عنه غير موجود عنده كالأغسال الليلية أيضا المعتبرة في صحة الصوم الماضي للمستحاضة عند بعض آخر (هذا في شرط المكلف به) (وأما شرط التكليف) فهو أيضا على أقسام فقد يكون مقارنا له كالعقل والبلوغ والعلم والقدرة ونحو ذلك وقد يكون سابقا عليه كما لو قال ان جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك إطعامه فالشرط حاصل في يوم الخميس والمشروط وهو وجوب الإطعام حاصل في يوم الجمعة وقد يكون متأخرا عنه كما لو قال ان سافرت يوم الاثنين فتصدق قبله بيوم فالشرط وهو السفر لاحق والمشروط وهو وجوب التصدق سابق هذا في شرط التكليف والمكلف به (وأما شرط الوضع) فهو أيضا على أقسام (فقد يكون) مقارنا له كما في الماضوية والعربية والتنجيز ونحو ذلك مما يعتبر في العقود والإيقاعات بنحو الشرطية والقيدية فإنها مقارنة مع الأثر الحاصل منها كالملكية ونحوها زمانا وان فرض تقدمها عليه رتبة (وقد يكون) سابقا على الوضع كما في شروط الوصية والصرف والسلم ونحو ذلك فالشرط سابق والملكية حاصلة عند الموت أو عند القبض (وقد يكون) لاحقا كالإجازة في العقد الفضولي بناء على الكشف فالملكية حاصلة حين العقد والإجازة متأخرة عنها زمانا
292

(هذا كله) في الشرط المقارن والمتقدم والمتأخر لكل من التكليف والمكلف به والوضع (وأما المقتضى) فالظاهر ان له قسمين لا أكثر مقارن ومتقدم فالمقارن كالعقد في أغلب المعاملات المقارن لحصول الأثر من النقل والانتقال زمانا والمتقدم كالعقد في الوصية وفي الصرف والسلم بل كل جزء من أجزاء العقد سوى الأخير منها أي المقارن لحصول الأثر زمانا وإن كان سابقا عليه رتبة (ثم ان هذا كله) أقسام المقدمة من المقارن والمتقدم والمتأخر لكل من التكليف والمكلف به والوضع (واما الإشكال المعروف) على الألسنة بالشرط المتأخر فحاصله ان العلة التامة يجب عقلا أن تكون مقارنة زمانا مع المعلول وإن كانت مقدمة عليه رتبة إذ لا يعقل التفكيك بينهما في الزمان بان كانت العلة التامة في زمان ولم يكن المعلول فيه وعليه فالشرط حيث أنه من أحد أجزاء العلة التامة يجب أن يكون حاصلا عند المشروط مقارنا له زمانا وإن كان سابقا عليه رتبة فكيف يجوز تأخره عنه في الزمان كما في بعض الأمثلة المتقدمة بل وكيف يعقل تقدمه على المشروط في الزمان كما في بعضها الآخر (ومن هنا يظهر) أن الإشكال مما لا ينحصر بالشرط المتأخر بل يجري حتى في الشرط المتقدم بل وحتى في المقتضى المتقدم كما لا يخفى.
(قوله والتحقيق في رفع هذا الإشكال أن يقال إن الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو إما أن يكون المتقدم والمتأخر شرطا للتكليف أو الوضع أو المأمور به أما الأول... إلخ) وحاصل تحقيقه في الأول وهو الشرط المتقدم والمتأخر للتكليف بل التكليف والوضع جميعا كما سيأتي التصريح به من المصنف أن الإيجاب هو فعل من الأفعال الاختيارية للمولى والشرط له ليس نفس المجيء السابق أو نفس السفر اللاحق في المثالين المتقدمين كي يلزم تقدم الشرط على المشروط أو تأخره عنه بل هو نفس لحاظه وتصوره وهو
293

مقارن مع الإيجاب وهكذا الأمر في الوضع فحكم المولى بالملكية فعل من أفعال الحاكم وليس الشرط له نفس الإجازة المتأخرة أو نفس الأمور السابقة المعتبرة في الوصية والصرف والسلم في الأمثلة المتقدمة كي يلزم تأخر الشرط عن المشروط أو تقدمه عليه بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الأمور وتصورها وهو مقارن مع الحكم بالوضع.
(أقول) لنا إيجاب من المولى بنحو الاشتراط وهو فعل من الأفعال الاختيارية كما أفاد المصنف وهو قوله إن جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك إطعامه أو قوله إن سافرت يوم الاثنين فتصدق قبله بيوم واحد (ولنا) وجوب مطلق يتحقق هو في يوم الجمعة على تقدير مجيء زيد قبلا في يوم الخميس بلا حاجة إلى إيجاب جديد أو يتحقق في يوم الأحد على تقدير وقوع السفر بعدا في يوم الاثنين بلا حاجة إلى إنشاء آخر (وهكذا الحال) في الوضع (قلنا) حكم بالوضع من المولى بنحو الاشتراط مثل قوله إذا باع الفضول شيئا فهو للمشتري ان أجاز المالك بعدا أو مثل قوله إذا أوصى الرجل بشيء فهو للموصى له بعد موت الموصى (ولنا) وضع متحقق هو حين وقوع المعاملة الفضولية أو حين موت الموصى بلا حاجة إلى حكم جديد آخر غير ما تقدم من الحاكم بنحو الاشتراط (والإشكال المعروف) من جهة انخرام القاعدة العقلية ولزوم التفكيك بين العلة والمعلول إنما هو في نفس وجوب الإطعام المتحقق في يوم الجمعة مع مضي شرطه قبلا وهو مجيء زيد في يوم الخميس أو في نفس وجوب التصدق المتحقق في يوم الأحد مع عدم مجيء السفر بعد في يوم الاثنين أو في نفس الملكية الحاصلة حين وقوع المعاملة الفضولية مع عدم تحقق
الإجازة من المالك بعد أو في نفس الملكية الحاصلة حين موت الموصى مع تصرم الشرط لها وهو الأمور المعتبرة في عقد
294

الوصية من قبل ذلك بكثير (وليس الإشكال المعروف) في نفس الإيجاب أو الحكم بالوضع كي يقال ان الشرط له هو لحاظ الأمر السابق أو اللاحق وتصوره في الذهن لا نفس الأمر السابق أو اللاحق كيف وقد لا يكون المولى الموجب أو الحاكم بالوضع موجودا عند تحقق الوجوب أو الوضع كي يقال ان له إيجاب أو حكم بالوضع فعلا وشرطه هو لحاظ الأمر السابق أو اللاحق والعجب من المصنف قدس سره أنه كيف غفل عن محل الكلام ومحط النقض والإبرام فأجاب بما أجاب وهو مما لا يناسب المقام (وعلى كل حال) الحق في جواب الإشكال ودفع شبهة انخرام القاعدة العقلية أن يقال بمثل ما سيأتي من المصنف في خصوص شرط المكلف به (وتوضيحه) ان الشرط المتأخر أو المتقدم سواء كان للتكليف أو للمكلف به أو للوضع ليس هو نفس الأمر المتأخر أو المتقدم بشخصه كي يلزم التفكيك الزماني بين بعض اجزاء العلة وبين المعلول فتنخرم القاعدة العقلية بل الشرط هي الإضافة الحاصلة بسببه والعنوان المتحقق لأجله كعنوان السابق أو اللاحق ومن المعلوم ان هذه الإضافة حاصلة فعلا من قبل حصول الطرف الثاني من طرفي الإضافة أو من بعد انقضاء أحد طرفي الإضافة فآدم عليه السلام من حينه كان سابقا علينا مع عدم تحققنا في ذلك الوقت كما أنه نحن في حيننا هذا متأخرون عنه مع انقضائه عليه السلام في هذا الوقت (وعليه) ففي المقام شرط وجوب التصدق فعلا ليس هو نفس السفر الآتي بعدا بل هي الإضافة الحاصلة لوجوب التصدق فعلا بسببه وهكذا الشرط لوجوب الإطعام في يوم الجمعة ليس هو نفس المجيء الواقع في يوم الخميس المنقضي فعلا بل هي الإضافة المتحققة لوجوب الإطعام فعلا بوسيلته (وهكذا الحال) في المكلف به والوضع حرفا بحرف فشرط الصوم ليس هو الفصل الآتي أو الماضي بل هي الإضافة الحاصلة فعلا للمأمور به المقارنة معه
295

وجودا وهكذا شرط الملكية في العقد الفضولي ليس هو نفس الإجازة المتأخرة بل هي الإضافة الحاصلة بوسيلتها للعقد فعلا وشرط الملكية الحاصلة عند موت الموصى أو عند القبض في الصرف والسلم ليس هو نفس الأمور السابقة المعتبرة في عقد الوصية أو الصرف أو السلم بل هي الإضافة الحاصلة بسببها الموجودة عند الموت أو عند القبض فعلا (هذا مع أنه يمكننا الجواب) في خصوص الشرط المتقدم بل وفي المقتضى المتقدم أيضا بنحو آخر غير الجواب المذكور (فنقول) ان الشرط أو المقتضى قد أثر أثره من حينه فلا تفكيك بين المؤثر والأثر أصلا فإذا تحققت الوصية مثلا المستجمعة لشرائطها وقال الموصى هذه الدار لزيد بعد وفاتي فقد حصل من الآن بهذا القول المخصوص بين زيد والدار علاقة خاصة لم تكن بينهما قبلا يعبر عنها بالملكية التقديرية فإذا حصل الموت وتحقق الشرط الأخير بلغت الملكية التقديرية إلى حد الكمال وصارت تنجيزية وهكذا الأمر في الشرط المتقدم للمأمور به فالغسل في الليل من حينه يحصل به قابلية وإعداد لتحقق الصوم بعدا بحيث لولاها لما تحقق الصوم بعدا في النهار الآتي بل وهكذا الأمر في الشرط المتقدم للتكليف فإذا قال المولى ان جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك إطعامه فقد حصل به وجوب مشروط تقديري فإذا جاء زيد في يوم الخميس صار الوجوب المشروط فعليا من ناحية مجيء زيد في يوم الخميس ويبقى مشروطا بمجيء يوم الجمعة فقط فإذا جاء يوم الجمعة صار الوجوب فعليا من جميع الجهات (وبالجملة) ان الشرط المتقدم وهكذا المقتضى المتقدم عند تحققه وحصوله في الخارج يؤثر أثره ويبقى الأثر في الخارج موجودا محفوظا لا ينقضي ولا ينصرم حتى ينضم إليه بقية أجزاء العلة التامة فيتحقق المعلول خارجا فكل جزء من اجزاء العلة مقارن لأثره فلا انخرام للقاعدة العقلية من لزوم التفكيك بين
296

المؤثر والأثر أبدا (ثم ان المصنف) قد تعرض هذا الإشكال المعروف بالشرط المتأخر مع دفعه في بعض فوائده كما سيأتي التصريح به في الكتاب غير أن جوابه هاهنا أحسن وأنظم حيث ذكر في المقام لشرط التكليف والوضع جوابا ولشرط المأمور به جوابا آخر وهناك مزج الجوابين أحدهما بالآخر وقد ذكر هناك أجوبة أخرى أيضا عن جمع من الأعاظم نسب بعضها إلى شيخه الأستاذ يعنى به الأنصاري أعلى الله مقامه ونسب بعضها إلى النراقي رحمه الله وبعضها إلى سيده الأستاذ يعنى به الشيرازي قدس سره وبعضها إلى صاحب الفصول رحمه الله وقد ناقش في الجميع وأجاب عن أجوبتهم جميعا.
(أقول) ان الأجوبة التي نسبها إليهم وإن كانت مما تليق بالمناقشة كما لا يخفى على من راجعها ولكنه لم ينصف مع صاحب الفصول أصلا فان الجواب الذي قد أجاب به المصنف في شرط المأمور به ونحن عممناه إلى كل من شرط التكليف والمكلف به والوضع مأخوذ أصله من كلام صاحب الفصول فكيف صح له أن يناقش في كلامه زيد في علو مقامه (قال في الفصول) في ذيل التكلم حول الواجب المعلق ما هذا لفظه ومن هذا القبيل كل شيء يكون وقوعه مراعى بحصول شيء آخر كالصحة المراعاة بالإجازة في الفضولي فان شرط الصحة فيه كون العقد بحيث يتعقبه الإجازة وليست مشروطة بنفس الإجازة وإلا لامتنعت قبلها (انتهى) ومرجعه إلى ما تقدم وعرفت من أن الشرط ليس هو نفس الإجازة المتأخرة بل هو الإضافة الحاصلة للعقد بسببه والعنوان المتحقق له من أجله وهو كونه بحيث يتعقبه الإجازة وهذه الإضافة مقارنة مع العقد ليست متأخرة عنه كما لا يخفى.
(قوله وأما الثاني فكون شيء شرطا للمأمور به... إلخ) كان الصحيح أن يقول وأما الثالث وذلك لما تقدم منه الجواب عن الثاني بقوله وكذا الحال
297

في شرائط الوضع فهذه غفلة أخرى منه قدس سره غير ما تقدم منه في الجواب عن شرط التكليف والوضع فلا تغفل أنت ولا تشتبه.
(قوله به يكون حسنا أو متعلقا للغرض... إلخ) قد يقال ان قوله أو متعلقا للغرض إشارة إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من إنكارهم الحسن والقبح ولكن يبعده ان الأشعري المنكر للحسن والقبح والمصلحة والمفسدة في متعلقات الأحكام هو ينكر الغرض أيضا كما سيأتي في المطلق والمشروط لا أنه ينكر الأول ويعترف بالثاني (وعليه) فالصحيح في عبارة المصنف هكذا به يكون حسنا ومتعلقا للغرض فيكون الغرض معطوفا على الحسن بواو لا (بأو) ويؤيده قوله الآتي واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه... إلخ وهكذا قوله الآتي يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلقا للغرض... إلخ.
(قوله واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات... إلخ) فان الكذب مثلا بما هو كذب قبيح لما فيه من المفسدة والمنقصة وإذا طرء عليه عنوان المنجي من الهلكة يكون حسنا راجحا فهذا شيء واحد قد اختلف حسنه وقبحه باختلاف بعض الوجوه والاعتبارات
(قوله الناشئة من الإضافات... إلخ) فان الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الفعل حسنا أو قبيحا قد تنشأ من الإضافات سواء كانت إلى أمر سابق أو لاحق أو مقارن فان الخروج مثلا إلى خارج البلد الذي يتعقبه قدوم الأمير من السفر أو سبقه حركة الأمير إلى السفر يكون ذا إضافة خاصة موجبة لحصول عنوان حسن راجح كعنوان الاستقبال أو المشايعة وهكذا القيام المقارن لدخول الأمير يكون ذا إضافة خاصة موجبة لحصول عنوان حسن راجح كعنوان التعظيم إذا كان القيام عن قصد والتفاوت وهكذا الأمر في
298

طرف القبح بعينه.
(قوله ولذلك أطلق عليه الشرط مثله بلا انخرام للقاعدة أصلا... إلخ) أي ولذلك أطلق على المتأخر الشرط مثل المقارن بلا انخرام للقاعدة العقلية أصلا.
(قوله وقد عرفت ان إطلاقه عليه فيه... إلخ) أي وقد عرفت ان إطلاق الشرط على المتأخر في المأمور به كإطلاقه على المقارن انما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة كما كان في التكليف أو الحكم بالوضع لأجل دخل تصوره فيه
(قوله ولا يخفى إنها بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع... إلخ) أي ولا يخفى إن المقدمة بجميع أقسامها من المتقدم والمقارن والمتأخر داخلة في محل النزاع لكن إذا كان للمأمور به لا للتكليف أو الوضع وهذا واضح.
في تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط
(قوله الأمر الثالث في تقسيمات الواجب منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود... إلخ) (من التعاريف) ما نسبه في التقريرات إلى التفتازاني والمحقق الشريف وتبعهما المحقق القمي وهو أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده والمشروط كالحج بخلاف ذلك فيتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده كالاستطاعة (ويرد على الأول) بعدم العكس فان الصلاة مثلا هي من الواجبات المطلقة في الاصطلاح وليست هي كالحج المشتهر بالواجب المشروط ومع ذلك يتوقف وجوبها على الوقت الذي يتوقف عليه وجودها فما لم يتحقق الزوال مثلا لم تتحقق صلاة الظهر أو العصر وما لم يتحقق المغرب لم يتحقق
299

العشاءين وهكذا فإذا اختل تعريف المطلق بعدم العكس اختل تعريف المشروط قهرا بعدم الطرد فيدخل في تعريفه ما لا ينبغي دخوله فيه (بل يمكن أن يقال) ما من واجب الا ويشترط وجوبه لا محالة بالقدرة وهي مما يتوقف عليه وجود الواجب كما يتوقف عليه وجوبه (ومنها) ما نسبه في التقريرات والبدائع إلى السيد عميد الدين وتبعه صاحب الفصول وهو أن الواجب المطلق ما لا يتوقف وجوبه بعد الشرائط العامة الأربعة من البلوغ والعقل والعلم والقدرة على شيء والمشروط بخلافه فيتوقف وجوبه بعد تلك الشرائط الأربعة على أمر آخر ما وراءها (ويرد على الأول) بعدم العكس أيضا لعدم شموله لمثل الصلاة لتوقف وجوبها بعد تلك الشرائط الأربعة على الوقت أيضا ولو نوقش في كونها من الواجبات المطلقة فليس لنا واجب مطلق ينطبق عليه التعريف المذكور وإذا وجد فهو أقل قليل كالمعرفة فإنها بعد تلك الشرائط الأربعة مما لا يتوقف وجوبها على شيء فإذا اختل تعريف المطلق عكسا اختل تعريف المشروط طردا كما عرفت في التعريف الأول (ومنها) ما عن جماعة على ما في البدائع ومال إليه صاحب التقريرات بل قد اختاره صريحا وهو ان كل مقدمة لا يتوقف عليها وجوب الواجب فالواجب مطلق بالنسبة إليها وكل مقدمة يتوقف عليها وجوب الواجب فالواجب مشروط بالنسبة إليها فالصلاة مثلا مشروطة بالنسبة إلى الزوال مطلقة بالنسبة إلى ملك النصاب والزكاة بالعكس مطلقة بالنسبة إلى الزوال مشروطة بالنسبة إلى ملك النصاب وهكذا وهذا هو مختار المصنف أيضا (فقال) كما ان الظاهر أن وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان (إلى أن قال) فالحري أن يقال ان الواجب مع كل شيء يلاحظ معه ان كان وجوبه غير مشروط به فهو مطلق بالإضافة إليه والا فمشروط كذلك وان كان بالقياس إلى شيء آخر بالعكس.
300

(قوله مع انها كما لا يخفى تعريفات لفظية لشرح الاسم وليست بالحد ولا بالرسم... إلخ) التعريف الحقيقي هو تعريف الشيء بحقيقته وكنهه فان كان بالجنس والفصل أو بالفصل وحده فهو بالحد وإن كان بالجنس والعرض الخاص أو بالعرض الخاص وحده فهو بالرسم في قبال التعريف اللفظي الذي يسمى بشرح الاسم وهو تعريف الشيء لا بحقيقته وكنهه بل لحصول الميز في الجملة كتعريف السعدانة بأنه نبت أو الرمد بأنه داء أو السنا بأنه دواء وهكذا (ثم ان المصنف) قدس سره قد استدل لكون تعاريف القوم كلها لفظية لشرح الاسم لا حقيقية لبيان حقيقة الشيء بكنهه وخواصه بأمرين:
(أحدهما) ما سيأتي منه في صدر بحث العام والخاص.
(وثانيهما) ما سيأتي منه في صدر بحث الاجتهاد والتقليد وسنتعرضهما إن شاء الله تعالى في العام والخاص مع ما فيهما من النقض والإبرام فانتظر.
(قوله وإن كان بالقياس إلى شيء آخر كانا بالعكس... إلخ) الظاهر ان كلمة (كانا) زائدة لا محصل لها ولذا قد ضرب عليها في بعض النسخ.
(قوله ثم الظاهر ان الواجب المشروط كما أشرنا إليه أن نفس الوجوب فيه مشروط بالشرط... إلخ) الظاهر ان كلمة (أن) الثانية زائدة ككلمة (كانا) المتقدمة ولذا قد ضرب عليها أيضا في بعض النسخ ومقصوده من قوله (كما أشرنا إليه) هو ما تقدم من قوله في المتن ضرورة اشتراط وجوب كل واجب... إلخ بل وقوله إن كان وجوبه غير مشروط به... إلخ (وعلى كل حال) ان الوجوب على قسمين:
(فتارة) مطلق ثابت في كل حال وفي كل تقدير كما في قوله أكرم زيدا.
(وأخرى) يكون مشروطا ثابتا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير كما في قوله ان جاءك زيد فأكرمه فالإنشاء وان لم يعقل فيه التقدير فإنه
301

اما أن يكون واما أن لا يكون ولكن المنشأ مما يعقل فيه التقدير.
(فتارة) ينشأ طلبا مطلقا ثابتا في كل حال وفي كل تقدير كما في المثال الأول (وأخرى) ينشأ طلبا مشروطا تقديريا ثابتا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير كما في المثال الثاني وهو سنخ من الطلب ونحو من الحكم يسمى بالطلب المشروط وقد استند المصنف في اشتراط نفس الوجوب في الواجب المشروط دون الواجب بظهور خطاب ان جاءك زيد فأكرمه في كون الشرط من قيود الهيئة أي الطلب لا من قيود المادة أي الواجب نظير قوله يجب عليك الإكرام على تقدير المجيء بحيث كان الوجوب حاليا والواجب استقباليا كالواجب المعلق الذي سيأتي تفصيله من صاحب الفصول.
(قوله كما نسب ذلك إلى شيخنا العلامة... إلخ) أي كما نسب كون الشرط من قيود المادة لا الهيئة إلى شيخنا العلامة يعنى به الأنصاري أعلى الله مقامه فان صاحب التقريرات قد تكلم حول ذلك في مقامين:
(الأول) في الهداية التي تبحث عن كون لفظ الواجب حقيقة في الواجب المشروط أم لا وعن كون الهيئة حقيقة في الطلب المشروط أم لا.
(الثاني) في الهداية التي تبحث عن الموارد التي اتفق فيها الحكم بوجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة ونحن نذكر كلامه في الموضع الثاني فإنه أجمع وأتم (قال) بعد أن ذكر ما للفصول من التخلص عن هذه العويصة بالالتزام بالواجب المعلق وان الوجوب فيه حالي والواجب استقبالي فلا ينافي وجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة حيث فرق واضح بين قول القائل إذا دخل وقت كذا فافعل كذا وبين قوله أفعل كذا في وقت كذا (ما هذا لفظه) ان الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه على الوجهين وانما الاختلاف راجع في الحقيقة إلى التعبير (ثم ساق الكلام
302

طويلا) إلى أن قال وكيف كان فلا فرق فيما ينقدح في نفس الآمر بين أن يكون الزمان بحسب القواعد اللغوية قيدا للفعل كما إذا قيل افعل في وقت كذا أو للحكم كما إذا قيل إذا جاء وقت كذا افعل كذا (إلى أن قال) ولعل اتحاد المعنى على الوجهين ظاهر بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد إذ الفعل يختلف مصالحه ومفاسده باعتبار قيوده الطارية عليه (إلى أن قال) ولا يعقل أن يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب فان تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له إذ لا إطلاق في الفرد الموجود منه المتعلق بالفعل حتى يصح القول بتقييده بالزمان أو نحوه فكلما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة (إلى أن قال) بل التحقيق ان ذلك غير مبنى على مذهب العدلية إذ على القول بانتفاء المصلحة والمفسدة أيضا يتم ما ذكرنا فان العاقل إذا توجه إلى أمر والتفت إليه فاما ان يتعلق طلبه بذلك الشيء أو لا يتعلق طلبه به لا كلام على الثاني وعلى الأول فاما أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طوارئه أو على تقدير خاص وذلك التقدير الخاص قد يكون شيئا من الأمور الاختيارية كما في قولك ان دخلت الدار فافعل كذا (إلى أن قال) ما حاصله وقد يكون من الأمور الغير الاختيارية كالزمان كما ان الاختياري قد يكون مأخوذا على نحو يكون موردا للتكليف كما إذا قال مثلا صل عن طهارة وأخرى يكون على نحو لا يكون موردا للتكليف كما إذا قال حج عند الاستطاعة (انتهى موضع الحاجة مما أفاده صاحب التقريرات) (أقول) ومرجع جميع ما ذكره إلى هنا كما فهمه المصنف إلى دعويين:
(إحداهما) وهي التي أخرها التقريرات وقدمها المصنف في الذكر ان مفاد الهيئة جزئي وهو فرد من الطلب والفرد مما لا يقبل التقييد ومراده من
303

الطلب الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب كما يظهر ذلك من قوله المتقدم ان الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه... إلخ بل وسيأتي منه التصريح بذلك عند الشك في النفسية والغيرية فانتظر.
(وأخراهما) وهي التي قدمها التقريرات وأخرها المصنف في الذكر أن الطلب المنقدح في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه وانما الاختلاف راجع إلى التعبير والقيد راجع إلى الفعل لبا إذ الفعل هو الذي يختلف مصالحه ومفاسده باعتبار قيوده الطارية عليه بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد بل القيد راجع إلى الفعل لبا ولو لم نقل بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فان العاقل إذا توجه إلى شيء فاما ان لا يريده أو يريده مطلقا أو يريده مقيدا بشيء... إلخ فالتقدير لا محالة راجع إلى الفعل دون الطلب (هذا ويمكن أن يقال) أن مرجع دعويى التقريرات إلى دعوى واحدة ففي بدو الأمر قد ادعى ان الطلب المنقدح في نفس الآمر هو شيء واحد لا يرجع إليه القيد وفي ختام الأمر قد برهن على ذلك بجزئية الطلب الذي هو مفاد الهيئة وعدم قابليته لرجوع القيد إليه فليس في المقام دعويان بل دعوى واحدة وبرهان واحد فتدبر جيدا.
(قوله بان قضيته القواعد العربية أنه من قيود الهيئة... إلخ) ولعل المراد من القواعد العربية المقتضية لذلك هي ظهور الجملة الشرطية بحسب متفاهم العرف وأهل اللسان فإنها ظاهرة عندهم في رجوع الشرط إلى الهيئة أي إلى الطلب المستفاد منها دون الفعل أي المادة.
(قوله من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد والقول بعدم التبعية... إلخ) قالت العدلية بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فان الله تعالى لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى الا لغرض وفائدة نظرا
304

إلى أن الفعل بلا غرض ولا فائدة عبث والعبث قبيح والقبيح يستحيل عليه تعالى وقالت الأشاعرة بعدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد بل جوزوا عليه تعالى أن يفعل أو يأمر أو ينهى بغير غرض وفائدة فان الفعل لغرض وفائدة من شأن الناقص المستكمل بذلك الغرض والفائدة وهو تبارك وتعالى كامل لا نقص فيه (وأجيب عنه) بان النقص إنما يلزم إذا كان النفع عائدا إليه تعالى وأما إذا كان عائدا إلى غيره فلا يوجب ذلك نقصا فيه تعالى وهذا واضح.
(قوله ولا يخفى ما فيه أما حديث عدم الإطلاق في مفاد الهيئة... إلخ) هذا جواب عن إحدى الدعويين المتقدمتين للتقريرات من أن مفاد الهيئة جزئي أي فرد من
الطلب والجزئي مما لا يقبل التقييد (وحاصل الجواب) بمزيد توضيح منا ان الهيئات بتمامها ومنها هيئة افعل ملحقة بالحروف وقد تقدم في محله أن حال الحروف كحال الأسماء موضوعة لمعنى عام ومستعمل في ذلك المعنى العام وليس الموضوع له ولا المستعمل فيه خاصا لا خارجا ولا ذهنا وقد أبطل المصنف كلتا الخصوصيتين هناك سيما الأخيرة منهما أشد إبطال فكما تقدم هناك أن الاسم والحرف قد وضعا لمعنى واحد غايته أن الاسم وضع ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه والحرف ليراد منه معناه بما هو حالة لغيره وكل من اللحاظين خارج عن الموضوع له والمستعمل فيه فكذلك نقول إن الهيئة موضوعة للطلب لينشأ بها ذلك فالإنشاء خارج عن الموضوع له وعن المستعمل فيه والتشخص إنما نشأ من قبل الإنشاء لا أنه داخل في الموضوع له أو المستعمل فيه (وقد أشار المصنف) هناك إلى وضع الهيئات عند الفرق بين الإخبار والإنشاء فتذكر (وعليه) فكل من الموضوع له والمستعمل فيه للهيئة وهو الطلب عام قابل للتقييد (ولو سلم انها مستعملة في الفرد من الطلب فالفرد إنما لا يقبل التقييد إذا إنشاء أو لا مطلقا ثم أريد
305

تقييده فهذا هو الذي لا يمكن تقييده عقلا وأما إذا أنشأ الفرد من الأول مقيدا أي على تقدير دون تقدير فهذا مما لا محذور فيه.
(أقول) ويرد على المصنف مضافا إلى أن مراد التقريرات كما ذكرنا من الطلب هو الطلب الحقيقي النفساني ومراد المصنف من الطلب في الجواب هو الطلب المنشأ بالصيغة فلا يطابق الكلامان بعضهما مع بعض أن وضع الصيغة للطلب لينشأ بها ذلك هو خلاف التحقيق فان الإنشاء هو أصل المعنى للهيئة لا أن معناها الطلب والإنشاء خارج عنه (نعم) يمكن التكلم حول أن معنى الهيئة هل هو الإنشاء فقط ويكون الطلب خارجا عن أصل المعنى وان كان طرف إضافة له نظير خروج البصر عن معنى العمى وكونه طرف إضافة له فان معنى العمى هو العدم المضاف إلى البصر فيكون معنى الهيئة أيضا هو الإنشاء المضاف إلى الطلب كما استظهرنا ذلك قبلا في الفرق بين الإخبار والإنشاء أم لا بل معنى الهيئة هو مجموع إنشاء الطلب لا الإنشاء وحده (وعلى كل حال) لا إشكال في أن الإنشاء مما لا يعقل تعلقه بالفرد ولا بالكلي فان كلا من الفرد والكلي مما لا يقبل الإنشاء في الخارج أما الأول فلان الفرد هو أمر خارجي والخارجي مما لا يعقل إيجاده ثانيا وأما الثاني فلان الكلي لا موطن له الا في الذهن دون الخارج فان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ومع تشخصه لا يكاد يبقى كليته (وعليه) فالإنشاء يتعلق لا محالة بطبيعة الطلب المبهمة المهملة ومن المعلوم انها مما يقبل التقييد بقيد غير أنه يشكل الأمر فيما إذا وقع القيد بعد الطلب كما في قوله أكرم زيدا إن جاءك ولم يقل إن جاءك زيد فأكرمه فان طبيعة الطلب بعد ما أنشأ بالصيغة وصار فردا خارجيا لا يكاد يمكن تقييده بقيد (والذي يحسم الإشكال من أصله) ويحصل به الجواب عن صاحب التقريرات على كل حال بعد إثبات أن مفاد الصيغة ليس هو الطلب الحقيقي المنقدح في
306

نفس الطالب كما سيأتي شرحه عند الشك في النفسية والغيرية بل هو الطلب الاعتباري القابل للإنشاء أن مفاد الصيغة والمنشأ بها وان كان طلبا جزئيا والجزئي مما لا إطلاق له بحسب الأفراد ولكن له إطلاق بحسب الحالات فان وجوب الإكرام مثلا في قوله أكرم زيدا له إطلاق ثابت على كل حال وعلى كل تقدير أي سواء جاءك زيد أو لم يجئك سلم عليك أو لم يسلم جاءك ليلا أو نهارا إلى غير ذلك من التقادير فإذا كان له إطلاق بحسب الأحوال والتقادير صح تقييده حينئذ من هذا الحديث فيقيد بحال دون حال وتقدير دون تقدير كما في قوله ان جاءك زيد فأكرمه فيكون المنشأ طلبا مشروطا ثابتا على تقدير المجيء لا طلبا مطلقا على كل تقدير فتأمل جيدا.
(قوله غاية الأمر قد دل عليه بدالين... إلخ) فالصيغة على الطلب والشرط على التقييد.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أنه لو سلم أن الطلب إذا أنشأ أو لا مطلقا فلا يقبل التقييد بعدا فما الحيلة في مثل قوله أكرم زيدا ان جاءك بحيث أخر الشرط عن الطلب ولم يقل إن جاءك زيد فأكرمه فان الطلب قد أنشأ أو لا مطلقا فكيف يقيد بالشرط بعدا.
(قوله فان قلت على ذلك يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ... إلخ) الظاهر أن هذا راجع إلى أصل المطلب وحاصله أنه لو سلم رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادة وتعقلنا الطلب التقديري فيلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ فالإنشاء يكون فعليا والمنشأ وهو وجوب الإكرام يكون استقباليا حاصلا بعد المجيء وهذا غير معقول (وقد أجاب عنه المصنف) بما حاصله ان الإنشاء حيث تعلق بالطلب التقديري فلا بد أن لا يكون الطلب حاصلا فعلا قبل حصول الشرط والا لزم تخلف الإنشاء عن المنشأ.
307

(أقول) والحق في الجواب أن يقال إن الطلب التقديري موجود فعلا قبل حصول الشرط وهو سنخ من الطلب ونحو من الحكم كما أشرنا قبلا في قبال العدم المحض وفي قبال الطلب المطلق الحالي وعليه فلا تفكيك بين الإنشاء والمنشأ نعم بعد حصول الشرط وتحقق التقدير يبلغ الطلب التقديري بحد الكمال وهي مرتبة الإطلاق والفعلية وهذا واضح.
(قوله كالإخبار به بمكان من الإمكان... إلخ) أي كالاخبار بأمر على تقدير نظير قولك إن أكرمتني أكرمتك وإن زرتني زرتك وهكذا.
(قوله وأما حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا... إلخ) هذا جواب عن الدعوى الثانية للتقريرات من أن الطلب النفساني المنقدح في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه وان القيد راجع إلى الفعل لبا... إلخ وظاهر المصنف في مقام الجواب هو تسليم ذلك وان الطلب النفساني المنقدح في نفس الطالب مطلق دائما لا اشتراط فيه ولا قيد له وأن القيد راجع إلى الفعل لبا غير أن الإنسان قد يتوجه إلى شيء فيتعلق به طلبه النفساني لأجل ما فيه من المصلحة ولكن يمنعه مانع عن إنشاء الطلب المطلق الحالي ولو بنحو الواجب المعلق الاستقبالي فيضطر إلى إنشاء طلب مشروط بشرط مترقب الحصول المقارن لزوال المانع ثبوتا (وهذا) بناء على تبعية الأحكام للمصالح في نفس الأحكام واضح إذ كما قد تكون المصلحة في الحكم المطلق فكذلك قد تكون المصلحة في الحكم المشروط المقيد (وأما بناء) على تبعية الأحكام للمصالح في المتعلقات وهي أفعال المكلفين فكذلك فان التبعية إنما تكون في الأحكام الواقعية فان الشيء بعد ما كانت فيه مصلحة تامة فلا محالة يتبعها الحكم الواقعي ولكن الحكم الفعلي قد يتخلف عنها كما في موارد قيام الأمارات أو الأصول على خلاف الأحكام الواقعية الموجب لسقوطها عن
308

الفعلية أو في بعض الأحكام في أول البعثة فكم من واجب كانت فيه مصلحة تامة والحكم كان مجعولا على طبقها واقعا ومع ذلك كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مانع عن إنفاذه وإظهاره والمقام من هذا القبيل فقد يكون الشيء فيه صلاح كامل ويتبعه الحكم الواقعي ولكن يعوق الآمر وجود المانع عن إنشاء الطلب المطلق الفعلي فينشأ الطلب المشروط الثابت على تقدير شرط متوقع الحصول المقارن لزوال المانع خوفا من أن لا يتمكن من الجعل والإيجاب المطلق عند زوال المانع فينشأ الطلب من الآن مشروطا بشرط كي يصير فعليا عند حصول الشرط بنفسه بلا حاجة إلى خطاب آخر جديد.
(أقول) والحق في مقام الجواب عدم تسليم كون الطلب النفساني المنقدح في نفس الآمر والطالب مطلقا دائما وان القيد راجع إلى الفعل لبا كي نحتاج إلى هذه التكلفات من فرض وجود المانع عن إنشاء الطلب المطلق الحالي ولو بنحو الواجب المعلق والالتزام بثبوت الحكم الواقعي تبعا للمصلحة بل نقول أن حال الطلب النفساني كحال الطلب الإنشائي فان الإنسان إذا راجع وجدانه والتفت إلى شيء فقد لا يريده أصلا وقد يريده على كل حال وقد يريده على تقدير دون تقدير وحال دون حال فالإرادة التقديرية أي الطلب النفساني التقديري سنخ من الإرادة ونحو من الطلب الحقيقي يجدها الإنسان عند مراجعة نفسه من غير تكلف ولا مئونة.
(قوله بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها... إلخ) الظاهر ان مقصوده من غير المصلحة هو الغرض (وفيه ما لا يخفى) فان الغرض هو المصلحة والمصلحة هو الغرض والأشعري المنكر للمصلحة منكر للغرض أيضا كما تقدم آنفا لا أنه ينكر المصلحة ويعترف بالغرض كما يوهمه عبارة المصنف بل قد توهمه بعض الأعلام.
309

(قوله الا الطلب والبعث معلقا بحصوله... إلخ) أي مشروطا بحصوله وليس مقصوده من المعلق هنا هو المعلق المصطلح من كون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا.
(قوله لا مطلقا ولو متعلقا بذاك على التقدير... إلخ) أي ولو بنحو الواجب المعلق بحيث كان الوجوب حاليا والواجب استقباليا من جهة تقيده بأمر متأخر آت من زمان ونحوه.
(قوله ان قلت فما فائدة الإنشاء إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا... إلخ) هذا الإشكال راجع إلى أصل الجواب عن الدعوى الثانية (وحاصله) أنه سلمنا أن الإنسان قد يتوجه إلى شيء فيتعلق به طلبه النفساني لما فيه من المصلحة ويمنعه مانع عن إنشاء الطلب المطلق الحالي ولو بنحو الواجب المعلق الاستقبالي ولكن لم ينشأ الطلب فعلا مشروطا بشرط متوقع الحصول وما فائدته وثمرته إذ من الممكن أن يؤجله إلى زوال المانع فينشأ الحكم عند ذلك حكما مطلقا فعليا لا مشروطا تقديريا (فيجيب عنه) بما حاصله أن المولى انما ينشأ الحكم فعلا مشروطا بشرط ليصير فعليا بنفسه بعد حصول الشرط خارجا بلا حاجة إلى خطاب آخر جديد ولعله لا يتمكن في ذلك الوقت من الإيجاب والإنشاء والمطلق كما أشرنا إلى ذلك آنفا (هذا مضافا) إلى ما فيه من فائدة أخرى وهي اشتمال الخطاب المشروط على الحكم الفعلي بالنسبة إلى من كان الشرط حاصلا له الآن فيكون الخطاب الواحد بالنسبة إلى بعض فعليا وبالنسبة إلى آخر مشروطا تقديريا.
(قوله ثم الظاهر دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع... إلخ) إشارة إلى ما قد يدعيه بعضهم على ما يظهر من التقريرات من خروج المقدمات الوجودية للواجب المشروط عن محل
310

نظرا إلى أنه لا يعقل وجوبها مع عدم وجوب ذي المقدمة (فيجب عنه المصنف) بما حاصله أنه لا وجه لتخصيص النزاع بمقدمات الواجب المطلق بل مقدمات المشروط أيضا داخلة تحت النزاع غايته انها يتبع ذيها في الإطلاق والاشتراط فان كان مشروطا فمشروطا وان كان مطلقا فمطلقا كما يتبعه في أصل الوجوب بناء على الملازمة وهذا واضح.
(قوله وأما الشرط المعلق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب فخروجه مما لا شبهة فيه... إلخ) إشارة إلى ما قد يتخيل في المقام من أن المقدمات الوجوبية أي التي علق عليها الوجوب في ظاهر الخطاب يشكل خروجها عن محل النزاع بناء على ما تقدم من تقريرات الشيخ أعلى الله مقامه من إنكار الواجب المشروط ورجوع الشروط كلها إلى الفعل لبا دون الطلب بل يجب القول حينئذ بوجوبها بناء على الملازمة (فيجيب عنه المصنف) بما حاصله ان المقدمات الوجوبية المعلق عليها الوجوب في ظاهر الخطاب خارجة عن محل النزاع على كل حال سواء قلنا بمقالة المشهور من تعقل الواجب المشروط أو قلنا بمقالة الشيخ من عدم تعقله ورجوع الشروط كلها إلى المادة.
(أما على الأول) فواضح إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل مقدمة الوجوب كي يترشح الوجوب إليها وبعد حصولها في الخارج لا يعقل ترشح الوجوب إليها وهل يعقل طلب الحاصل كلا وقد تقدم منا هذا التقريب لخروجها عن محل النزاع في تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم وسيأتي من المصنف أيضا بيانه في التنبيه الذي عقده للواجب المعلق فانتظر.
(وأما على الثاني) فلان الشيخ أعلى الله مقامه وان كان أرجع القيود كلها إلى الفعل ولكن القيود تختلف.
311

(فتارة) يكون غير اختياري كالوقت كما في مثل قوله حج في الموسم أو صل عند الزوال فهذا مما لا يعقل وجوبه.
(وأخرى) يكون اختياريا ولكن قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب كما لو قال حج عند الاستطاعة أو صل عند ما تطهرت فان القيد في هذا القسم وإن كان راجعا إلى الفعل وهو أمر اختياري ولكنه قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب فلا يجب تحصيله.
(وثالثة) يكون اختياريا وقد أخذ على نحو يترشح إليه الوجوب كما إذا قال حج عن استطاعة أو صل عن طهارة وفي هذا القسم يجب تحصيل القيد غيريا (وعليه) فليس القيد بمجرد رجوعه إلى المادة دون الهيئة مما يلزم القول بوجوب تحصيله وهذا واضح.
(قوله فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط... إلخ) علة لقوله أخذ على نحو لا يكاد يترشح عليه الوجوب منه... إلخ أي فان الشيخ جعل مثل الحج واجبا على تقدير حصول الاستطاعة ومع حصولها كيف يترشح عليها الوجوب ويتعلق بها الطلب وهل هو إلا طلب الحاصل (وفيه ما لا يخفى) فان الشيخ وإن جعل مثل الحج واجبا على تقدير حصول الاستطاعة ولكن لقائل أن يقول أنه على تقدير حصولها يكون الوجوب مطلقا حاليا فعلا من قبل حصول الشرط ومعه لا يكون ترشح الوجوب إليه من طلب الحاصل (والأولى) في وجه عدم ترشح الوجوب إلى الشرط أن يقال ان ذلك مستند إلى كيفية التعبير واختلاف لسان الدليل فان قال يجب عليك الحج عن استطاعة ترشح الوجوب إليها ووجب علينا تحصيلها مثل ما وجب تحصيل الطهارة للصلاة وان قال يجب عليك الحج عند الاستطاعة لم يجب علينا شرعا تحصيلها وفي كليهما تكون الاستطاعة من قيود المادة دون
312

الهيئة فتأمل جيدا.
(قوله على تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال... إلخ) أي على تقدير حصول الشرط الذي قد أخذ قيدا للواجب على نحو لا يترشح إليه الوجوب في الاستقبال.
(قوله هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات... إلخ) هذا استثناء عما أفاده آنفا من تبعية المقدمة لذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط (فيقول) هذا في غير المعرفة والتعلم من المقدمات وأما فيهما فلا يبعد القول بوجوبهما حتى في الواجب المشروط من قبل حصول شرطه (وتوضيح المقال فيهما) يكون بذكر صور في المقام مع ما لكل منها من الأحكام فنقول وعليه الاتكال (الأولى) أن يعلم المكلف إجمالا بتكاليف مطلقة فعلية متوجهة إليه لا يعلم تفاصيلها كما إذا علم إجمالا بوجوب الصلاة والصيام والزكاة والخمس وغير ذلك فعلا ولكن لا يعرف كيفياتها ففي هذه الصورة لا إشكال من ناحية وجوب المعرفة والتعلم ويكون وجوبهما على طبق القاعدة لأن المفروض أن التكاليف مطلقة فعلية فيترشح منها الوجوب إلى مقدماتها الوجودية ومنها المعرفة والتعلم إذ من المعلوم توقف الصلاة والصيام وغيرهما على معرفتها ولو عادة لا عقلا.
(الثانية) ان يشك في تكليف مطلق فعلى ولو بعد انحلال العلم الإجمالي كما إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو شك في حرمة شرب الدخان أو العصير أو غير ذلك من أمور أخر وفي هذه الصورة لا إشكال في وجوب المعرفة والتعلم والبحث والفحص بحد اليأس فان كان عاميا وجب عليه الرجوع إلى المجتهد وان كان مجتهدا وجب عليه الرجوع إلى المدارك المعتبرة فان ظفر على دليل يدل على الوجوب أو الحرمة فهو والا فعند ذلك يجوز له ترك الأول
313

وإتيان الثاني وحينئذ يقع الإشكال في أن المكلف في هذه الصورة لا علم له بالتكليف بل شاك فيه فكيف يقال فيها بوجوب المعرفة والتعلم وبترشح الوجوب منه إليهما (فنقول) انه يجب المعرفة والتعلم في هذه الصورة شرعا غيريا لحفظ الواقعيات بأدلة خاصة من الإجماع القطعي والكتاب والسنة من الآيات والروايات التي سيأتي تفصيل الكل في خاتمة الأصول إن شاء الله تعالى المقيدة لإطلاقات أدلة البراءة الشرعية وان لم تجر البراءة العقلية بنفسها من غير حاجة إلى ما يقيدها فان موضوعها اللابيان وما لم يتفحص لم يحرز اللابيان (وبالجملة) ان البراءة العقلية في هذه الصورة الثانية مما لا تجري قبل البحث والفحص بحد اليأس فإذا لم تجر البراءة العقلية استقل العقل قهرا بتنجز الأحكام على الأنام بمجرد احتمالها ولكن إطلاقات أدلة البراءة الشرعية واردة على حكم العقل رافعة لموضوعها كما أن الأدلة الخاصة من الإجماع القطعي والكتاب والسنة من الآيات والروايات الدالة على وجوب المعرفة والتعلم مقيدة لإطلاقات أدلة البراءة الشرعية فيكون الدليل بالأخرة على وجوب المعرفة والتعلم هي الأدلة الخاصة دون غيرها.
(الثالثة) أن يعلم المكلف إجمالا بتكاليف مشروطة بشرائط غير حاصلة فعلا لا يعلم كيفيات تلك التكاليف كما إذا علم إجمالا بوجوب الحج مشروطا بالاستطاعة الغير الحاصلة فعلا أو بوجوب صلاة الآيات مشروطا بالخسوف أو الكسوف أو غيرهما الغير الحاصل في هذا الحال من دون أن يعرف تفصيل الحج ولا تفصيل صلاة الآيات أصلا (ففي هذه الصورة) لا إشكال أيضا في وجوب المعرفة والتعلم ولو من قبل حصول الشرط وآيته أنه لو ترك المعرفة والتعلم حتى حصل الشرط ولم يتمكن عنده من المعرفة والتعلم وفات منه الواجب استحق العقاب قطعا فحينئذ (يقع الإشكال) في أنه كيف وجبت
314

المعرفة والتعلم من قبل حصول الشرط وفعلية الواجب وترشح الوجوب إليهما (فيجاب عنه) بأنه يجب المعرفة والتعلم في هذه الصورة أيضا شرعا غيريا لأجل حفظ الواقعيات لإطلاق الأدلة المتقدمة أعني الآيات والروايات التي سيأتي تفصيلهما في خاتمة الأصول إن شاء الله تعالى والوجوب الغيري انما يستحيل تقدمه على وجوب ذي المقدمة إذا كان ترشحيا وأما إذا كان منشأ بخطاب مستقل غيري ففي كمال الإمكان وسيأتي توضيح ذلك عند التخلص عن العويصة المشهورة أعني وجوب المقدمة من قبل وجوب ذيها في موارد عديدة فانتظر (نعم قد تجب المعرفة والتعلم) في هذه الصورة عقلا غيريا من باب استقلال العقل بلزوم حفظ القدرة على الواجب وتفصيله كما سيأتي عند التخلص عن العويصة المذكورة ان المكلف إذا علم في الواجب المشروط بحصول الشرط بعدا وعلم أيضا بانتفاء القدرة على الواجب بعد حصول الشرط الا إذا حصل مقدماته من الآن فيستقل العقل حينئذ بوجوب تحصيل تلك المقدمات التي لا تتيسر بعد الشرط وذلك لئلا يفوت الواجب في محله (ففي المقام) إذا علم بواجب مشروط يقطع بحصول شرطه بعدا ويعلم بعدم تمكنه من المعرفة والتعلم بعد حصول شرطه فمن الآن يستقل العقل بوجوب المعرفة والتعلم لئلا يفوت الواجب في موطنه من غير حاجة إلى قيام دليل شرعي على وجوبها غيريا لأجل حفظ الواقعيات الا أن ذلك ليس دائما كما لا يخفى (وعليه) فالجواب الجاري في جميع الواجبات المشروطة أو الموقتة هو ما أشير إليه من أنه يجب المعرفة والتعلم فيها شرعا غيريا بأدلة خاصة مأثورة من الشرع وان كان قد يتفق فيها وجوبهما عقلا أيضا من جهة اندراجهما تحت كبرى حكم العقل بلزوم حفظ القدرة على الواجب (ثم ان) من تمام ما ذكر إلى هنا ظهر لك ما وقع من المصنف من الخلط والاشتباه في مقام الجواب فإنه قد ذكر ان وجوب المعرفة
315

والتعلم في الصورة الثالثة يعنى في الواجبات المشروطة من قبل حصول شرطها يكون من باب استقلال العقل بتنجز الأحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها لعدم البراءة فيها كي يحصل بها الأمن من العقوبة إلا بعد التعلم والفحص بحد اليأس وهو كما ترى ضعيف إذ ليس في الصورة الثالثة احتمال التكليف المطلق كي يكون منجزا عليه على تقدير وجوده بل إنما هو في الصورة الثانية كما لا يخفى (كما أنه قد ظهر لك) أيضا من جميع ما ذكر إلى هنا حكم الصورة.
(الرابعة) وهي ما إذا شك في واجب مشروط فإنه يجب فيها المعرفة والتعلم أيضا شرعا غيريا لأجل حفظ الواقعيات لإطلاق الأدلة المتقدمة وآيته أنه لو ترك الفحص والتعلم وكان المشكوك واجبا واقعا ثم حصل شرطه بعدا وقد فات الواجب منه لترك تعلمه ومعرفته من الآن لاستحق العقاب قطعا.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ما أشرنا إليه آنفا مما وقع من المصنف من الخلط والاشتباه في مقام الجواب فلا تغفل.
(قوله تذنيب... إلخ) إشارة إلى النزاعين المعروفين من أن لفظ الواجب هل هو حقيقة في الواجب المشروط أم لا ومن أن الصيغة هل هي حقيقة في إنشاء الطلب المشروط أم لا وقد عقد لهما في التقريرات هداية مستقلة وأطال الكلام فيهما وبالغ (وعلى كل حال) حاصل ما أفاده المصنف ان إطلاق الواجب على المشروط إن كان بلحاظ حال حصول الشرط فهو حقيقة مطلقا سواء قلنا بمقالة الشيخ من إنكار المشروط ورجوع الشرط لبا إلى المادة أم لا وإن كان بلحاظ حال قبل حصول الشرط فهو حقيقة على مختار الشيخ فقط لأن الوجوب فيه حالي وإن كان الواجب استقباليا كما في معلق الفصول الآتي بخلافه على مختار المشهور لعدم كون الوجوب فيه فعليا قبل حصول الشرط فيكون مجازا قهرا بعلاقة الأول أو المشارفة كما صرح به
316

البهائي على ما ذكر في التقريرات (بقي الكلام) في استعمال الصيغة في إنشاء الطلب المشروط فيقول إنها حقيقة فيه مطلقا أما على مختار الشيخ من كون الطلب مطلقا حاليا وان الشرط راجع إلى المادة لبا فواضح وأما على مختار المشهور فلأنها وان استعملت في إنشاء الطلب المقيد ولكنها بتعدد الدال والمدلول فالصيغة قد استعملت في الطلب والشرط قد استعمل في التقييد فلا تجوز.
(قوله كما هو الحال فيما إذا أريد منها المطلق المقابل للمقيد... إلخ) أي كما هو الحال فيما إذا أريد من الصيغة الطلب المطلق المقابل للمقيد المنعقد له الإطلاق بمقدمات الحكمة لا الطلب المطلق المبهم المقسم فان استعمال الصيغة في الأول أيضا يكون بنحو تعدد الدال والمدلول كاستعمالها في الطلب المقيد فالصيغة قد استفيد منها الطلب ومقدمات الحكمة قد استفيد منها الإطلاق نعم ينحصر استعمال الصيغة لا بنحو تعدد الدال والمدلول في خصوص ما إذا استعملت وأريد منها الطلب المطلق المبهم المقسم.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى احتمال أن لا تكون الصيغة مستعملة في كل من الطلب المقيد والطلب المطلق المقابل للمقيد بنحو تعدد الدال والمدلول بل تكون الصيغة بنفسها مستعملة في الطلب المقيد أو في الطلب المطلق المقابل للمقيد غايته أن الشرط أو مقدمات الحكمة يكون قرينة عليه (وعلى هذا) فلا يكون استعمالها على نحو الحقيقة بل يكون مجازا لكونه في غير ما وضع له أي في غير المبهم المقسم وهي الطبيعة اللا بشرط المقسمي.
317

في تقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز
(قوله ومنها تقسيمه إلى المعلق والمنجز قال في الفصول... إلخ) (قال صاحب الفصول) بعد تقسيمه الواجب إلى المطلق والمشروط ما هذا لفظه كما ذكر المصنف وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا وإلى ما يتعلق وجوبه به فيتوقف حصوله على أمر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل (انتهى كلامه رفع مقامه).
(أقول) ويرد على تعريف الفصول للمعلق أنه لا يجب أن يكون المعلق مما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور للمكلف كالوقت بل ينبغي تعميمه كما سيأتي من المصنف إلى الأمر المقدور أيضا فان المناط في المعلق أن يكون الواجب مقيدا بأمر متأخر استقبالي سواء كان غير مقدور للمكلف كالوقت أو مقدورا له قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب كالاستطاعة في قوله حج عند ما استطعت أو على نحو يترشح إليه الوجوب كما إذا قال حج عن استطاعة (نعم يظهر من الفصول) أخيرا تعميم المعلق إلى ما يتوقف على أمر مقدور أيضا (قال) بعد فصل معتد به عن التعريف المذكور ما هذا لفظه وأعلم أنه كما يصح أن يكون الواجب على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه كذلك يصح أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا
318

قبل حصوله وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة (انتهى) بل ويظهر منه تعميم الأمر المقدور إلى ما يجب تحصيله أيضا (قال) قبل قوله ذلك ومن هذا النوع أي من المعلق كل واجب مطلق توقف وجوده على مقدمات غير حاصلة فإنه يجب قبل وجود المقدمات إيجاد الفعل بعد زمن يمكن إيجادها فيه (انتهى).
(أقول) والظاهر أن وجه تمثيله بركوب الدابة المغصوبة أنه أمر مقدور متأخر لا يترشح إليه الوجوب لحرمته وليس الحج المنذور بأهم من ركوب الغصب كي يجب مقدمة نظير وجوب الدخول في أرض الغصب مقدمة لإنفاذ الأهم (كما أن الظاهر) أن وجه عدوله عن التمثيل بحجة الإسلام إلى الحج المنذور أن حجة الإسلام إذا توقفت على ركوب الدابة المغصوبة لم تجب من أصلها بخلاف المنذور فيجب ولو معلقا على العصيان بركوب الدابة المغصوبة (وفي كلا الوجهين) ما لا يخفى.
(أما الأول) فلانا لا نحتاج في التمثيل لأمر مقدور لا يترشح إليه الوجوب بفرض أمر حرام بل الأمر المباح أيضا إذا أخذه المولى قيدا للواجب بنحو لا يجب تحصيله فهو مما لا يترشح إليه الوجوب كما إذا قال حج عند ما استطعت أو صل عند ما تطهرت في قبال ما إذا قال حج عن استطاعة أو صل عن طهارة.
(وأما الثاني) فلان بقاء وجوب الحج المنذور على حاله مع فرض توقفه على ركوب الدابة المغصوبة مما لا يمكن الا على القول بالترتب ومع القول به لا فرق بين الحج المنذور أو حجة الإسلام كما لا يخفى.
(قوله لا يخفى أن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه حيث اختار في الواجب المشروط ذاك المعنى وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا
319

وإثباتا... إلخ) لا يخفى أن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه لم يجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا بل اعترف أنه إثباتا يعنى بحسب القواعد العربية راجع إلى الهيئة وادعى أنه ثبوتا أي لدى التحقيق راجع إلى المادة نظرا إلى أن مفاد الهيئة فرد من الطلب وهو مما لا يقبل التقييد فراجع التقريرات وتدبره بدقة.
(قوله كما يشهد به ما تقدم آنفا عن البهائي... إلخ) أي كما يشهد بما ذكرنا من كون دعوى الشيخ أعني رجوع الشرط إلى المادة لبا هي على خلاف ظاهر المشهور ما تقدم آنفا من تصريح البهائي بان لفظ الواجب مجاز في المشروط بعلاقة الأول أو المشارفة فلو كان الشرط راجعا إلى المادة لبا عند المشهور كما هو راجع إليها عند الشيخ وكان الطلب مطلقا غير مقيد لم يكن وجها لكون لفظ الواجب مجازا في المشروط كما لا يخفى.
(قوله أنكر على الفصول هذا التقسيم... إلخ) أقول وشتان بين إنكار الشيخ على الفصول في هذا التقسيم وإنكار بعض الأجلة عليه فالشيخ انما ينكر عليه لأن كل مشروط هو معلق في نظره لاستحالة المشروط بحسب دعواه فليس هناك قسمان أحدهما مشروط والآخر معلق وبعض الأجلة انما ينكر عليه لأن كل معلق هو مشروط في نظره لاستحالة المعلق بحسب دعواه بحيث كان الوجوب حاليا قبل مجيء وقت الواجب (والحق) تبعا للمصنف بل وجل من تأخر عن الفصول هو النمط الأوسط والاعتراف بصحة هذا التقسيم وان كلا من المشروط والمعلق أمر معقول بل أمر واقع في الخارج بل يمكن أن يقال كما تقدم من الفصول أن كل واجب له مقدمات وجودية بحيث يحتاج امتثاله إلى مضى زمان تقع فيه المقدمات فهو لدى التحقيق معلق لا منجز وذلك لأن الوجوب في الفرض المذكور لا يكون الا من قبل تحقق
320

ولأجله يترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة والواجب بنفسه لا يكون إلا من بعد تحقق المقدمة لاستحالة ذي المقدمة قبل تحقق المقدمة وهذا هو الواجب المعلق بعينه فيكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا (ومن هنا يظهر) أن إثبات الواجب المعلق مما لا يحتاج إلى إطالة الكلام ومزيد النقض والإبرام بعد وقوعه في الخارج كثيرا فان الوقوع أدل دليل على الإمكان.
(قوله على ذلك... إلخ) هذه الكلمة مما لا محصل لها والظاهر أنه من طغيان القلم.
(قوله نعم يمكن أن يقال انه لا وقع لهذا التقسيم... إلخ) هذا الإشكال مما ينحل لدى الحقيقة إلى إشكالين أحدهما وارد غير مهم وثانيهما مهم غير وارد (أما الوارد) الغير المهم فحاصله أن هذا التقسيم ليس للواجب بل لشعبة من شعب الواجب فان الواجب المطلق هو الذي ينقسم إلى المعلق والمنجز لا مطلق الواجب وإن كان مشروطا (وأما المهم) الغير الوارد فحاصله أن مقصود الفصول من هذا التقسيم كما سيجيء هو التخلص عن العويصة الآتية وهي وجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة كالغسل في الليل لأجل الصوم في نهار شهر رمضان أو لغيره من الصوم المعين فالتزم بالواجب المعلق ليكون الوجوب حاليا من قبل مجيء الغد ويعقل ترشح الوجوب إلى الغسل من قبل مجيء وقت الصوم وهذا التخلص كما ترى إنما هو من أثر حالية الوجوب وهي مشتركة بين المنجز والمعلق لا من أثر استقبالية الواجب المختصة بالمعلق فما يترتب عليه الأثر لا يختص بالمعلق وما يختص بالمعلق لا يترتب عليه الأثر (وعليه) فلا وجه لهذا التقسيم من أصله والا لكثر التقسيمات التي لا تترتب عليه الثمرة (هذا) محصل الإشكال الثاني (وأما) بيان عدم وروده واقعا فلان مقصود الفصول من هذا التقسيم ليس بيان الثمرة بين المعلق والمنجز كي يقال
321

انه لا ثمرة بينهما نظرا إلى أن الأثر مترتب على حالية الوجوب وهي مشتركة بينهما بل مقصوده هو بيان الثمرة بين المعلق والمشروط فعلى المشروط لا يكون الوجوب حاليا فلا يمكن القول بوجوب الغسل غيريا من قبل مجيء الغد وعلى المعلق يكون حاليا فيمكن القول بوجوبه غيريا من قبل مجيء الغد ولعله إليه أشار المصنف بقوله فافهم فافهم جيدا.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير الآن إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله ثم انه ربما حكى عن بعض أهل النظر من أهل العصر إشكال في الواجب المعلق... إلخ) قيل إن المراد من بعض أهل النظر هو المحقق الشهير السيد محمد الأصفهاني وهو من أعاظم تلامذة العلامة المجدد السيد الشيرازي رحمه الله وقبل هو المحقق النهاوندي صاحب تشريح الأصول (وعلى كل حال حاصل الإشكال) أن الطلب الإنشائي في التشريعيات إنما هو بإزاء الإرادة المحركة للعضلات في التكوينيات فكما أن الإرادة في التكوينيات لا تنفك عن المراد وان كان المراد متأخرا رتبة فليكن الطلب الإنشائي في التشريعيات أيضا غير منفك عن المطلوب وإن كان المطلوب متأخرا رتبة (وعليه) فلا يمكن أن يكون الطلب في الواجب المعلق حاليا والمطلوب استقباليا متأخرا عن الطلب زمانا هذا حاصل الإشكال (وأما جواب المصنف) بطوله فمرجعه إلى أمرين أحدهما المناقشة في المقيس عليه وثانيهما المناقشة في المقيس (أما المناقشة في المقيس عليه) فحاصلها أن الإرادة في التكوينيات كما انها مما تتعلق بأمر حالي فلا تنفك عن المراد زمانا فكذلك قد تتعلق بأمر متأخر استقبالي فتنفك عنه زمانا كما إذا تعلقت إرادته بالمسافرة في الصيف نحو بلاد الشام مثلا فيصير فعلا بصدد مقدمات المسافرة وتحصيل معداتها من الحال الحاضر فلو لا تعلق الإرادة من الآن بالمسافرة بعدا لما صار المريد فعلا
322

بصدد المقدمات وتحصيل معداتها (وأما المناقشة في المقيس) فحاصله أن الطلب الإنشائي مما لا يكاد يتعلق الا بأمر متأخر زمانا فان الطلب من الغير ليس الا لأن يتصوره الغير ويتصور متعلقه وما يترتب على امتثاله من المثوبة وعلى عصيانه من العقوبة فيصير داعيا لحركته نحو المطلوب فيأتي به في الخارج وهذا مما يحتاج إلى فصل زماني ولو كان قصيرا (وعليه) فلا يمكن وقوع المطلوب خارجا الا بعد زمان الطلب فكيف يدعى عدم وقوعه الا في زمان الطلب.
(أقول) هذا كله مع ما في أصل القياس من المناقشة الواضحة علاوة على المناقشة في كل من المقيس والمقيس عليه فان الطلب الإنشائي في التشريعيات ليس بإزاء نفس الإرادة المحركة للعضلات في التكوينيات بل الطلب الإنشائي بإزاء الحركة نحو المراد في التكوينيات فالإرادة المتحققة في النفس ان كانت تكوينية متعلقة بفعل نفس المريد فتستتبع الحركة نحو المراد وان كانت تشريعية متعلقة بفعل الغير فتستتبع إنشاء الطلب من الغير فالإرادة التكوينية هي في قبال الإرادة التشريعية والحركة نحو المراد هي في قبال إنشاء الطلب من الغير فتأمل جيدا.
(قوله فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له... إلخ) العبارة مما لا تخلو عن مسامحة والمقصود أن حركة العضلات أعم من أن تكون نحو المراد بنفسه كما إذا كان المراد مما لا مئونة له أو تكون نحو مقدمات المراد كما إذا كان المراد مما له مئونة ومقدمات والجامع بين الحركتين أن كلا منهما نحو المراد غايته أن الأولى نحوه بلا واسطة والثانية نحوه مع الواسطة.
(قوله بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الإرادة... إلخ)
323

أي مرادهم من حركة العضلات في تعريف الإرادة بأنها الشوق الا كيد المحرك للعضلات ليس هي الحركة الفعلية لإمكان تعلقها بأمر متأخر لا مقدمات له أصلا فلا حركة في البين فعلا لا نحو الفعل ولا نحو المقدمات بل هي الحركة الشأنية أي ان الإرادة هي الشوق الأكيد البالغ بحد لو تعلق بأمر حالي أو بأمر متأخر استقبالي له مئونة ومقدمات لأوجب ذلك حركة العضلات اما نحو المراد بنفسه كما في الأول واما نحو المقدمات كما في الثاني.
(قوله هذا مع أنه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر... إلخ) هذه هي مناقشة المصنف في المقيس وقد تقدم منه المناقشة في المقيس عليه أيضا بقوله قلت فيه ان الإرادة... إلخ كما تقدم منا المناقشة في أصل القياس أيضا علاوة على المناقشة في كل من المقيس والمقيس عليه فلا تغفل.
(قوله وربما أشكل على المعلق أيضا بعدم القدرة على المكلف به في حال البعث... إلخ) هذا الإشكال بظاهره امتن من الإشكال الذي تقدم عن بعض أهل النظر ولكن مع ذلك كله مما رده المصنف بان القدرة المعتبرة في التكليف عقلا هي القدرة على المكلف به في زمان المكلف به لا القدرة عليه من قبل زمانه (وامتن من الكل) ما قد يقال في مقام الإشكال ان فعلية الحكم بفعلية موضوعه فما لم يمكن الموضوع فعليا كيف يعقل فعلية الحكم فلا (وفيه) ان المراد من الموضوع (ان كان) هو الوصف المأخوذ عنوانا للمكلف كما في قوله المسافر يقصر أو الحاضر يتم أو المستطيع يحج ونحو ذلك فهذا مما لا ننكره ولا يضرنا إذ نحن لم ندع فعلية الحكم قبل حصول مثل هذه العناوين (وهكذا الأمر ان كان) المراد من الموضوع ما يعم قيود الحكم أي المقدمات الوجوبية كما في قوله إذا استطعت فحج أو إذا سافرت فقصر أو إذا كنت حاضرا فأتمم ونحو ذلك فهذا أيضا مما لا ننكره ولا يضرنا إذ نحن
324

لم ندع فعلية الحكم قبل حصول مثل هذه المقدمات الوجوبية (وأما إذا كان) المراد من الموضوع ما يعم قيود الفعل (فان كان القيد مما يجب تحصيله) كما في الطهارة والستر والقبلة ونحوها للصلاة فيما إذا قال صل عن طهارة أو عن ستر أو عن قبلة فهاهنا لا معنى لفعلية الحكم بفعلية موضوعه فان فعلية وجوب الصلاة لا تدور مدار فعلية الطهارة والستر والقبلة بل الحكم فعلى من قبل تحققها في الخارج ولذا يترشح الوجوب إليها فيجب تحصيلها غيريا (وإن كان القيد مما لا يجب تحصيله) أما لكونه غير اختياري كالوقت أو لكونه اختياريا قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب كما إذا قال حج عند الموسم أو عند ما استطعت (فهاهنا ان كان المقصود) من فعلية الحكم بفعلية موضوعه أن تنجز الحكم يكون بتنجز موضوعه فهذا أيضا مما لا ننكره ولا يضرنا إذ نحن لم ندع تنجز الحكم قبل حصول مثل هذه القيود (وإن كان المقصود منها) ان حالية الحكم في الخارج لا يكاد يكون الا بحالية موضوعه فهذا مما لا نسلمه بل نجوز في المقام حالية الحكم مع استقبالية مثل هذا الموضوع بان يجب من الآن الحج عند الموسم أو عند الاستطاعة ونحو ذلك بلا محذور عقلا.
(قوله غاية الأمر يكون من باب الشرط المتأخر... إلخ) أي غاية الأمر تكون القدرة على الواجب في زمانه شرطا لحالية التكليف بإتيان الواجب في محله فلو لم يكن الفعل مقدورا في محله لم يجز التكليف من الآن بإتيانه في موطنه.
(قوله ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير مقدور... إلخ) إشارة إلى ما أوردناه من قبل على تعريف الفصول للمعلق إلا أنه نحن قلنا هناك أن الفصول يعترف أخيرا بعدم اختصاص ما يتوقف عليه الواجب المعلق بالأمر الغير المقدور بل يعممه إلى الأمر المقدور أيضا
325

وقد سبق منا نقل كلامه أعلى الله مقامه (وعليه) فلا يبقى مجال لتوجيه هذا الإشكال عليه أصلا.
(قوله أخذ على نحو يكون موردا للتكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب أو لا... إلخ) هكذا في نسختي وهي طبع بغداد (وفي بعض النسخ) هكذا أخذ على نحو لا يكون موردا للتكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب (انتهى) والصحيح هو الأول وذلك لما عرفت فيما تقدم من تعميم المقدور إلى ما يترشح إليه الوجوب وما لا يترشح بل الفصول أيضا قد اعترف بذلك فلا وجه لتخصيص التعميم في كلام المصنف بالمقدور الذي لا يترشح إليه الوجوب.
(قوله نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر... إلخ) استدراك عن قوله دونه يعنى دون المشروط لعدم ثبوته فيه إلا بعد الشرط... إلخ (وحاصل الاستدراك) أنه كما يكون الوجوب في الواجب المعلق حاليا فيترشح منه الوجوب إلى مقدماته الوجودية من قبل مجيء وقت الواجب فكذلك إذا كان الوجوب مشروطا بشرط متأخر قد فرض وجوده في موطنه فيكون الوجوب فعليا أيضا فيترشح منه الوجوب إلى المقدمات من قبل مجيء وقت الواجب فنستفيد أيضا من هذا القسم من المشروط عين ما نستفيده من المعلق من حالية وجوب المقدمات من قبل زمان الواجب.
(وبالجملة تارة) يكون الوجوب مشروطا بشرط مقارن كما في قوله ان جاءك زيد فأكرمه وهذا مما لا يترتب عليه فائدة المعلق إذ ليس الوجوب فيه حاليا قبل الشرط كي
يترشح منه إلى المقدمات.
(وأخرى) يكون مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب مفروض الحصول في موطنه ولكن الواجب يكون حاليا كالوجوب كما في قوله
326

إن سافرت يوم الاثنين فتصدق يوم الأحد بدرهم فيكون كلا من الوجوب والواجب فعليا وشرط الوجوب استقباليا وهذا أيضا مما لا يترتب عليه فائدة المعلق إذ ليس الواجب فيه متأخرا كي تجب مقدماته الوجودية من قبل مجيء وقت الواجب بسبب حالية الوجوب.
(وثالثة) يكون مشروطا بشرط متأخر عن الوجوب مفروض الحصول في موطنه مع كون الواجب أيضا متأخرا كالشرط كما في قوله ان جاءك زيد في يوم الجمعة فمن الآن أحتم عليك إطعامه في ذلك اليوم وهذا هو الذي ننتفع به بعين ما ننتفع بالواجب المعلق فإذا فرض تحقق الشرط في موطنه فمن الآن يجب علينا إطعام زيد في يوم الجمعة فلو كان للإطعام مقدمات وجودية فمن الآن تتصف بالوجوب من قبل مجيء يوم الجمعة فتأمل جيدا.
(قوله الا كونه مرتبطا بالشرط بخلافه وان ارتبط به الواجب... إلخ) أي إلا كون الوجوب في المشروط مرتبطا بالشرط بخلاف المعلق فلا يرتبط وجوبه به وان ارتبط به الواجب.
في التخلص عن العويصة المشهورة وهي وجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة في موارد عديدة
(قوله تنبيه قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه... إلخ) المقصود من عقد هذا التنبيه كما ستعرف هو التخلص عن العويصة التي قد أشرنا إليها غير مرة وهي مذكورة في غير واحد من الكتب الأصولية كالفصول وتقريرات الشيخ والبدائع وغيرها (وحاصل العويصة) أنه لا إشكال في أنهم قد
327

صرحوا بتبعية المقدمة لذي المقدمة في الإطلاق والاشتراط بل لا يمكن عقلا اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري من قبل اتصاف ذي المقدمة بالوجوب النفسي ومع ذلك قد حكموا في موارد عديدة بوجوب المقدمة من قبل وجوب ذي المقدمة (منها) حكمهم بوجوب الغسل على المحدث بالأكبر في الليل من قبل أن يطلع الفجر مقدمة للصوم المتعين في الغد (ومنها) حكمهم بوجوب السعي إلى الحج على المستطيع النائي من قبل هلال ذي الحجة (ومنها) حكمهم بوجوب حفظ الماء من قبل دخول وقت الصلاة إذا علم بعدم التمكن منه بعد دخول الوقت (قال في التقريرات) وهو صريح الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح على ما حكى عنه انتهى (ومنها) حكمهم بوجوب معرفة القبلة لمن حاول المسافرة إلى البلدان النائية (قال في التقريرات) كما يظهر من الشهيد الثاني فيما حكى عن الروض (انتهى) إلى غير ذلك من الموارد التي يجدها المتتبع في مطاوي كلمات الفقهاء وقد ذكر في كل من الفصول والبدائع للتخلص عن هذه العويصة وجوه عديدة غير قوية حتى أنه في التقريرات لم يذكر منها سوى وجهين لا غيرهما.
(الأول) ما نسبه إلى المحقق صاحب الحاشية من الالتزام بالوجوب النفسي.
(الثاني) ما أفاده في الفصول من الالتزام بالواجب المعلق وتفصيله أنه قد تعرض تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط والمعلق والمنجز وغير ذلك من تقسيمات الواجب بعد الفراغ عن الفور والتراخي قبيل الشروع في مقدمة الواجب وتعرض هذه العويصة في التنبيه التاسع من تنبيهات مقدمة الواجب ثم تخلص منها بما تقدم في الواجب المعلق أي بحالية الوجوب من قبل زمان الواجب فيترشح منه الوجوب إلى المقدمات الوجودية بلا مانع عنه ولا محذور
328

(أقول) أما تخلص المحقق صاحب الحاشية (ففيه ما لا يخفى) فان الوجوب النفسي لتلك المقدمات بعيد جدا بل من المقطوع خلافه (وأما تخلص الفصول) فهو وجه وجيه وقد تقدم منا شرحه وتفصيله ولكن التفصي مما لا ينحصر به وذلك لما مر عليك آنفا من المصنف من إمكان فرض الواجب مشروطا بشرط متأخر مفروض الحصول في موطنه مع كون الواجب متأخرا أيضا كالشرط فعند ذلك يكون الوجوب حاليا وتجب المقدمات الوجودية من قبل مجيء وقت الواجب (هذا وفي التخلص عن العويصة المذكورة وجه آخر) غير ما ذكره الفصول وغير ما ذكره المصنف ولعله أوجه من الكل وهو أنه إذا علم المكلف في الواجب المشروط أو الموقت بان الشرط سيحصل أو الوقت سيدخل وعلم أيضا أنه لا قدرة له على الواجب بعد حصول شرطه أو بعد دخول وقته فالعقل مما يستقل من الآن بوجوب حفظ القدرة على الواجب في موطنه فإذا احتاج الواجب إلى مقدمات لانتهيا في وقته فمن الآن يجب تحصيلها وان كانت حاصلة محققة فلا يجوز له تفويتها فإذا قال مثلا إن جاءك الأمير يوم الجمعة فأكرمه ونحن في يوم الخميس قد علمنا بمجيئه غدا وفرضنا أن لإكرامه في الغد مقدمات طويلة لا تتهيأ بعد مجيئه فمن الآن يستقل العقل بتحصيلها وان كانت حاصلة فلا يجوز لنا تفويتها بل يجب التحفظ عليها مهما أمكن لئلا يفوت الواجب في محله (والسر) في ذلك كله هو عدم دخل القدرة في مناط الواجب فإذا حصل الشرط أو دخل الوقت تم المناط فإذا عجز المكلف عن إتيان الواجب فقد فاته الملاك وهو مما لا يجوزه العقل ولا يسوغه إذا كان ذلك بسوء اختيار المكلف وبتقصير منه ومسامحته (وبالجملة) يعتبر في حكم العقل بوجوب تحصيل المقدمات والتحفظ عليها من الآن أي من قبل حصول الشرط أو دخول لوقت أمران.
329

(أحدهما) أن يعلم أو يطمئن بحصول الشرط أو دخول الوقت بعدا.
(ثانيهما) أن يعلم أو يطمئن بعدم القدرة على الواجب في وقته فإذا لم يحرز حصول الشرط في موطنه بعدا أو أحرز ولم يحرز عجزه في ذلك الوقت فلا يستقل العقل حينئذ بوجوب تحصيل تلك المقدمات أو بوجوب التحفظ عليها من الآن (هذا مع ما يرد على المثال الأول) وهو وجوب الغسل في الليل من قبل طلوع الفجر من ان الغسل وان كان واجبا بالوجوب الغيري في الليل ولكنه واجب بدليل مستقل وخطاب على حدة لا بالوجوب الترشحي الناشئ من ناحية وجوب ذي المقدمة والمقدمة انما يستحيل اتصافها بالوجوب الغيري من قبل وجوب ذيها إذا كان ترشحيا وأما إذا كان منشأ بخطاب مستقل فمن الجائز أن تتصف بالوجوب الغيري من قبل اتصاف ذي المقدمة بالوجوب النفسي فإذا قال مثلا اشتر اللحم فلا يمكن أن يجب دخول السوق وجوبا غيريا ترشحيا من قبل وجوب شراء اللحم وأما بالوجوب الغيري المنشأ بخطاب
مستقل ففي كمال الإمكان فيقول مثلا ادخل معي السوق من قبل أن يأمره بشراء اللحم وذلك لأن يتهيأ ويستعد فإذا دخل معه السوق وتهيأ واستعد قال له اشتر اللحم وهذا واضح ظاهر (كما أنه يرد على المثال الأخير) وهو وجوب معرفة القبلة لمن حاول المسافرة إلى البلدان النائية بالمنع عن وجوب معرفتها وذلك لإمكان الاحتياط عند اشتباه القبلة بالإتيان بالصلاة إلى الجهات المحتملة (اللهم) الا إذا قيل باعتبار التمييز في العبادات مهما أمكن فيجب حينئذ معرفتها ولكن قد أشرنا في التعبدي والتوصلي وسيأتي تفصيلا في العلم الإجمالي أنه لا يجب التمييز ولا دليل عليه لا عقلا ولا شرعا (وعليه) فالمثال الصحيح للعويصة المشهورة من بين الأمثلة المذكورة ينحصر بوجوب التحفظ على الماء من قبل دخول الوقت أو وجوب المسير إلى الحج من قبل مجيء الموسم و
330

عرفت التخلص منها من وجوه.
(أحدها) ما أسسه الفصول من الواجب المعلق.
(ثانيها) ما أضافه المصنف إليه من الواجب المشروط بشرط متأخر مفروض الحصول في موطنه مع كون الواجب أمرا استقباليا كالشرط.
(ثالثها) ما أضفنا إليهما من حكم العقل بوجوب حفظ القدرة على الواجب من قبل مجيء وقت الواجب على الشرطين المتقدمين فتدبر جيدا.
(قوله كان وجوبه مشروطا بشرط موجود أخذ فيه ولو متأخرا أو مطلقا منجزا كان أو معلقا... إلخ) والجامع بين هذه الأقسام الثلاثة هو فعلية وجوب ذي المقدمة فتتصف المقدمة فعلا بالوجوب الغيري المقدمي.
(قوله فيما إذا لم يكن مقدمة الوجوب أيضا... إلخ) هذا استثناء عن قوله ان المناط في فعلية وجوب المقدمة الوجودية إلى قوله هو فعلية وجوب ذيها (فيقول) إلا إذا كانت مقدمة الوجود مقدمة للوجوب أيضا كما إذا قال إن استطعت فحج أو كانت مأخوذة عنوانا للمكلف كما إذا قال المستطيع يحج أو كانت مأخوذة قيدا للواجب على نحو لا يترشح إليه الوجوب بمعنى أنه جعل الفعل المقيد باتفاق حصوله وتقدير وجوده بلا اختيار أو مع الاختيار موردا للتكليف كما إذا قال يجب من الآن الحج عند الاستطاعة (ثم ان المصنف) علل عدم اتصاف المقدمة الوجودية بالوجوب إذا كانت مقدمة للوجوب أيضا بما تقدم منا غير مرة من أنه لا وجوب إلا بعد وجودها لأن المفروض كون الوجوب مشروطا بها وبعد وجودها ووجوب ذيها لا يعقل ترشح الوجوب إليها وهل يعقل طلب الحاصل كلا (ثم علل عدم) اتصافها بالوجوب في القسمين الأخيرين بهذا التعليل أيضا (وفيه ما لا يخفى) فان المقدمة الوجودية التي قد أخذت عنوانا للمكلف وإن كانت مما لا يمكن اتصافه
331

بالوجوب لعين ما تقدم في مقدمة الوجوب حرفا بحرف فلا وجوب إلا بعد وجودها وبعد وجودها لا يعقل ترشح الوجوب إليها ولكن المقدمة الوجودية التي قد أخذت قيدا للواجب على نحو لا يترشح إليها الوجوب مما لا يجري فيه هذا التعليل فان وجوب الحج وإن كان على تقدير حصول الاستطاعة بعدا ولكن على تقدير حصولها كذلك يكون الوجوب من قبل حصولها فلا يكون ترشح الوجوب إليها من طلب الحاصل ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
(والأولى) في وجه عدم ترشح الوجوب إليها كما تقدم في ذيل خروج الشرط المعلق عليه الإيجاب على كل من قول المشهور وقول الشيخ لدى التعليق على قول المصنف فإنه جعل الشيء واجبا على تقدير حصول ذاك الشرط... إلخ أن يقال إن ذلك مستند إلى كيفية التعبير واختلاف لسان الدليل فان قال حج عن استطاعة ترشح إليها الوجوب ووجب تحصيلها مثل ما يجب تحصيل الطهارة للصلاة وان قال حج عند الاستطاعة لم يترشح الوجوب إليها ولم يجب تحصيلها فتأمل جيدا.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير الآن إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله إذا عرفت ذلك فقد عرفت أنه لا إشكال أصلا... إلخ) من هاهنا شرع المصنف في التخلص عن العويصة المشهورة وكان من أول التنبيه إلى هنا مقدمة للشروع.
(قوله بل لزوم الإتيان بها عقلا ولو لم نقل بالملازمة... إلخ) مقصود المصنف من ذلك أنه إذا كان وجوب ذي المقدمة حاليا أما لكونه بنحو الواجب المعلق أو لكونه مشروطا بشرط متأخر مفروض الحصول في شرطه فعلى القول بالملازمة يترشح الوجوب من هذا الوجوب الحالي إلى المقدمة وعلى إنكار الملازمة تجب المقدمة حينئذ عقلا إذ المنكرين للملازمة
332

يعترفون بان الواجب مهما كان وجوبه حاليا تجب المقدمة عقلا وان لم تجب مولويا ترشحيا.
(قوله وغيره مما وجب عليه الصوم في الغد... إلخ) أي وغير شهر رمضان مما وجب عليه الصوم في الغد بنحو التعيين كما في النذر المعين أو في قضاء شهر رمضان عند ضيق الوقت ونحو ذلك إذ لو لم يكن الصوم في الغد واجبا على التعيين لم يجب الغسل في الليل تعيينيا.
(قوله ولو فرض العلم بعدم سبقه لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري... إلخ) أقول بل لا يستحيل ذلك لما عرفت آنفا من عدم استحالة اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري من قبل اتصاف ذيها بالوجوب النفسي إذا كان الوجوب الغيري منشأ بخطاب مستقل وانما المستحيل هو اتصافها بالوجوب لغيري الترشحي من قبل وجوب ذي المقدمة (وعليه) فإذا فرض العلم بعدم سبق وجوب الواجب من قبل مجيء وقته ونهض دليل على وجوب المقدمة فلا وجه لحمل وجوبها على النفسي التهيئي كما أفاد المصنف بل على الغيري غايته أنه غيري استقلالي لا ترشحي (هذا مضافا) إلى أنه لا محصل للنفسي التهيئي فإنه ان كان نفسيا فما معنى كونه تهيئيا وان كان تهيئيا أي لواجب آخر فما معنى كونه نفسيا.
(قوله قلت لا محيص عنه... إلخ) وحاصل الجواب هو الالتزام بالإشكال ولا إشكال فيه فإذا وجبت مقدمة من بين المقدمات الوجودية من قبل مجيء وقت الواجب كشف ذلك إنا عن سبق وجوب الواجب أما بنحو الواجب المعلق أو بنحو الواجب المشروط بالشرط المتأخر المفروض حصوله في موطنه فيجب ساير المقدمات الوجودية
أيضا ولو موسعا بحيث إذا أتى بها قبل الوقت وقعت على صفة الوجوب وإذا علم أنه لا يتمكن منها في وقت
333

الواجب ولو لعارضة تعين الإتيان بها قبلا الا إذا أخذ في الواجب من ناحية ساير المقدمات قدرة خاصة بان كانت القدرة على الواجب بعد مجيء زمان الواجب شرطا للتكليف فإذا انتفت لم يجب الواجب لا مطلق القدرة على الواجب في زمانه ولو كانت من زمان الوجوب إلى زمان الواجب.
في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة
(قوله تتمة قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل وكونه موردا للتكليف وعدمه فان علم حال القيد فلا إشكال وان دار أمره ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة... إلخ) المقصود من عقد هذه التتمة هو بيان مقتضى القاعدة في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة (فيقول ما حاصله) انك قد عرفت فيما تقدم اختلاف القيود في وجوب التحصيل وعدمه (فان كان) راجعا إلى الهيئة المسمى بالمقدمة الوجوبية أو كان مأخوذا عنوانا للمكلف كما في قوله المستطيع يحج أو كان راجعا إلى المادة وكان غير اختياري كالوقت ونحوه أو كان اختياريا قد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب كما في قوله حج عند الاستطاعة أو صل عند ما تطهرت لم يجب تحصيله (وان كان) راجعا إلى المادة وكان اختياريا قد أخذ على نحو يترشح إليه الوجوب كما في قوله حج عن استطاعة أو صل عن طهارة ونحو ذلك فيجب تحصيله فان علم حال القيد وأنه من أي قسم هو فلا إشكال وإن كان أمره ثبوتا بين الرجوع إلى الهيئة والرجوع إلى المادة فان كان في مقام
334

الإثبات ما يعين به حاله وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية بحيث كان الكلام عند أهل العرف واللسان ظاهرا في أحدهما لا يتحيرون ولا يترددون فهو وإلا فالمرجع هو الأصل العملي وهو البراءة ومقتضاها عدم وجوب تحصيل القيد.
(قوله نحو الشرط المتأخر أو المقارن... إلخ) الظاهر أنه لا وجه للتخصيص بالمتأخر والمقارن فكما جاز ان يدور أمر القيد ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخر أو المقارن أو يكون راجعا إلى المادة فكذلك جاز ان يدور أمر القيد ثبوتا بين أن يكون راجعا إلى الهيئة بنحو الشرط المتقدم أو يكون راجعا إلى المادة.
(فالأول) كما إذا علمنا بوجوب الغسل في الليل مقدمة لصوم الغد وبه عرفنا سبق وجوب الواجب وأنه حالي من الليل ولكن لم نعرف أن طلوع الفجر هل هو قيد للوجوب بنحو الشرط المتأخر أم هو قيد للواجب أي من الليل يجب الصوم في الغد.
(والثاني) كما إذا علم بوجوب إكرام زيد وعلم أن مجيئه شرط لا محالة ولم يعلم أنه شرط مقارن للوجوب بحيث إذا تحقق المجيء تحقق الوجوب أم هو شرط للواجب أي من الآن يجب إكرام زيد عند مجيئه.
(والثالث) كما إذا علم بوجوب إكرام زيد في يوم الجمعة وعلم أن مجيئه في يوم الخميس شرط لا محالة ولم يعلم أنه شرط متقدم للوجوب بحيث إذا تحقق في يوم الخميس المجيء تحقق في يوم الجمعة وجوب الإكرام أم هو شرط للمادة أي من الآن يجب إكرام زيد في يوم الجمعة إكرامه المسبوق بمجيئه في يوم الخميس فتأمل جيدا.
(قوله على نهج يجب تحصيله أو لا يجب... إلخ) الظاهر أنه لا وجه
335

لقوله أو لا يجب فان محل النزاع على الظاهر هو ما إذا دار أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة وبين الرجوع إلى المادة على نهج يجب تحصيله كي لا يجب على الأول ويجب على الثاني فيقع النزاع حينئذ كما سيأتي في أنه هل لنا ما يرجح به إطلاق الهيئة ويكون القيد راجعا إلى المادة أم لا وأما إذا دار أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة وبين الرجوع إلى المادة وكان على الثاني أيضا مرددا بين أن يكون على نهج يجب تحصيله أو لا يجب فلا ثمرة حينئذ في إتعاب النفس وترجيح إطلاق الهيئة على المادة إذ على فرض رجوع القيد إلى المادة لم يجب أيضا تحصيل القيد بعد دوران أمره بين النهجين كما لا يخفى.
(قوله وربما قيل في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة... إلخ) القائل هو صاحب التقريرات فإنه وإن التزم برجوع الشرط إلى المادة لبا فقال فيما تقدم منه فكلما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة ولكنه اعترف برجوع الشرط بحسب القواعد العربية إلى الهيئة (وعليه) فيمكن دوران أمر القيد على مختاره بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة (وتفصيل) ذلك أنه عقد هداية خاصة للشك في إطلاق وجوب الواجب واشتراطه ثم ذكر فيها وجوها خمسة أعنى صورا خمس وذكر في الوجه الخامس (ما حاصله) أنه إذا ثبت قيد ولم يعلم أنه راجع إلى الهيئة أو إلى المادة فهل المرجع عند الشك وعدم العلم هو أصالة الإطلاق في جانب الهيئة ترجيحا لها على أصالة الإطلاق في جانب المادة أم لا فلا يرجح أحدهما على الآخر ويرجع إلى الأصل العملي فاختار هو ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة لوجهين.
(الأول) أن إطلاق الهيئة شمولي كالعام بالنسبة إلى أفراده فان الطلب ثابت على كل حال وفي كل تقدير لا في حال دون حال وفي تقدير دون تقدير
336

وإطلاق المادة كالإكرام في قوله إن جاءك زيد فأكرمه بدلي كالمطلق بالنسبة إلى أفراده إذ المطلوب منها فرد واحد من الإكرام على البدل لا جميع أفراده ومن المعلوم أن الإطلاق الشمولي مما يقدم على البدلي.
(الثاني) ان تقييد الهيئة مما يوجب بطلان محل الإطلاق في المادة بخلاف العكس بمعنى أن مع تقييد الهيئة لا يبقى محل حاجة وبيان لإطلاق المادة ولكن مع تقييد المادة يبقى محل حاجة وبيان لإطلاق الهيئة فإذا فرض مثلا تقييد وجوب إكرام زيد بمجيئه فلا يبقى محل حاجة وبيان لإطلاق الإكرام بالنسبة إلى المجيء إذ الإكرام حينئذ لا ينفك عن المجيء بخلاف ما إذا فرض تقييد الإكرام بمجيئه فيبقى معه محل حاجة وبيان لإطلاق الوجوب وذلك لجواز تقييد الوجوب حينئذ بالمجيء ومن المعلوم أنه كلما
دار الأمر بين تقييدين أحدهما يبطل محل الإطلاق في الآخر دون العكس كان العكس أولى (أما الصغرى) فقد اتضح وجهها (وأما الكبرى) فلان التقييد وان لم يكن مجازا كما سيأتي شرحه في محله ولكنه مع ذلك هو على خلاف الأصل ولا فرق في الواقع بين أن يقيد الإطلاق بمقيد خاص وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان محل الإطلاق فكل منهما على خلاف الأصل (وعليه) فان أرجعنا القيد إلى المادة لزم خلاف واحد للأصل وان أرجعناه إلى الهيئة لزم خلافان للأصل فيقدم الأول على الثاني وهذا واضح.
(قوله وأنت خبير بما فيهما أما في الأول فلان مفاد إطلاق الهيئة... إلخ) وحاصل رد المصنف على الوجه الأول من وجهي التقريرات أن المناط في تقدم أحد الإطلاقين على الآخر ليس هو الشمولية وعدمها بل هو الاستناد إلى الوضع وعدمه فإذا كان عموم شمولي مستندا إلى الوضع كما في صيغة كل ونحوها وإطلاق بدلي مستندا إلى مقدمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة
337

لأسامي الأجناس نوعا قدم العموم الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي الحكمي لكن لا بملاك كونه شموليا بل بملاك كونه وضعيا وإذا انعكس الأمر فكان عموم شمولي مستندا إلى مقدمات الحكمة كما في أحل الله البيع وإطلاق بدلي مستندا إلى الوضع كما في (من) و (ما) و (أي) قدم الإطلاق البدلي الوضعي على العموم الشمولي الحكمي (وعليه) ففي المقام حيث أن كلا من إطلاق الهيئة وإطلاق المادة مستند إلى مقدمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر وإن كان الأول شموليا والآخر بدليا.
(أقول) ليس العبرة في تقدم أحد الإطلاقين على الآخر بالاستناد إلى الوضع وعدمه كما لا عبرة بالشمولية والبدلية أيضا بل العبرة في التقدم هي بقوة ظهور الكلام في أحد الإطلاقين دون الآخر فان كان في البين ظهور كذلك فهو والا فيتوقف ويرجع إلى الأصل العملي (والعجب من الشيخ والمصنف) رحمهما الله تعالى (أما من الشيخ) فلأنه اختار في المقام على ما تقدم من تقريرات بحثه أن المناط في تقدم أحد الإطلاقين على الآخر هو شمولية أحدهما دون الآخر واختار في الرسائل في التعادل والتراجيح عند الإشارة إلى جملة من المرجحات النوعية لظاهر أحد المتعارضين أنه مهما دار الأمر بين التخصيص والتقييد كما إذا قال مثلا أكرم عالما وقال لا تكرم الفساق وتعارضا في العالم الفاسق فالتقييد أرجح نظرا إلى كون الإطلاق تعليقيا أي معلقا على عدم البيان وان عدم البيان جزء من مقتضى الإطلاق بخلاف العموم فإنه تنجيزي مستند إلى الوضع فالمقتضى للعموم ثابت ولو مع وجود المانع أي المخصص فإذا دفعنا المانع بالأصل ثبت العموم للعام وكان بيانا للتقييد ورافعا لمقتضى الإطلاق من أصله فإذا يكون المناط في التقدم هو التنجيزية والوضع لا الشمولية والاستيعاب (وأما العجب من المصنف) فلأنه في المقام
338

كما تقدم يعتقد أن الملاك في التقدم هو الاستناد إلى الوضع وعدمه وفيما سيأتي في التعادل والتراجيح في الفصل الخامس يجيب عن الشيخ بما حاصله إن الذي هو جزء المقتضى للإطلاق هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد فإذا انتفى البيان في مقام التخاطب انعقد الإطلاق للمطلق فيعارض العموم ولا يرجح أحدهما على الآخر فإذا لا يكون العبرة بالوضع وعدمه بل بأظهرية أحدهما كما حققنا.
(قوله غاية الأمر انها تارة تقتضي العموم الشمولي... إلخ) أي غاية الأمر ان مقدمات الحكمة.
(تارة) تقتضي العموم الشمولي كما في المقام فإنها مما تثبت العموم الشمولي الأحوالي للطلب لأنه ثابت على كل حال وفي كل تقدير أو كما في مثل أحل الله البيع فإنها مما تثبت العموم الشمولي الأفرادي للبيع فإنه بجميع أفراده مما أحله الله الا ما خرج بالدليل.
(وأخرى) تقتضي العموم البدلي المعبر عنه بالإطلاق كما في أسامي الأجناس.
(وثالثة) تقتضي التعيين والتضييق كما في صيغة الأمر على ما تقدم شرحه في المبحث السادس من مباحث صيغة الأمر من ان إطلاق الصيغة يقتضى كون الوجوب تعيينيا لا تخييريا عينيا لا كفائيا نفسيا لا غيريا.
(قوله فكان عام بالوضع دل على العموم البدل ومطلق بإطلاقه دل على الشمول... إلخ) كان الأنسب بما تقدم منه أن يقول هكذا فكان عام بالحكمة دل على العموم الشمولي ومطلق بالوضع دل على الإطلاق البدلي لكان المطلق يقدم بلا كلام (وعلى كل حال) مراده على الظاهر من العبارة هكذا فكان مطلق بالوضع دل على العموم البدل كما في (من) و (ما) و (أي) وعام بمقدمات
339

الحكمة دل على الشمول كمال في أحل الله البيع لكان الأول يقدم بلا كلام.
(قوله وأما في الثاني فلان التقييد وان كان خلاف الأصل... إلخ) وحاصل رد المصنف على الوجه الثاني من وجهي التقريرات ان معنى كون التقييد خلاف الأصل أنه خلاف الظهور المنعقد للمطلق بوسيلة مقدمات الحكمة وفي المقام مع تقييد الهيئة وانتفاء بعض مقدمات الحكمة في المادة يعنى به انتفاء ما يوجب التعيين لا ينعقد للمادة إطلاق بوسيلة المقدمات كي يكون العمل المشارك مع التقييد في الأثر مثل التقييد في كونه خلاف الأصل (نعم لو كان) التقييد المعلوم بالإجمال المردد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة بدليل منفصل كان الحق مع التقريرات لأن كلا من الهيئة والمادة حينئذ قد انعقد له ظهور في الإطلاق فإذا كان القيد قيدا للهيئة كان ذلك خلافا للأصل أي مخالفا لظهور إطلاق الهيئة وظهور إطلاق المادة بخلاف ما إذا كان قيدا للمادة وحدها فيكون ذلك خلافا واحدا للأصل.
(أقول) وفيه:
(أولا) ان على هذا التحقيق يجب أن لا يكون تقييد الهيئة أيضا على خلاف الأصل فان مع وجود المقيد المتصل لا يكاد ينعقد للهيئة إطلاق كي يكون التقييد مخالفا لظهورها في الإطلاق ويكون على خلاف الأصل مع أن ظاهر المصنف الاعتراف بان التقييد فيها على خلاف الأصل وان لم يعترف في العمل المشارك معه في الأثر.
(وثانيا) ان كلا من التقييد والعمل المشارك معه في الأثر يكون على خلاف الأصل مطلقا سواء كان بدليل متصل أو منفصل فان المطلقات ومنها المادة موضوعة للماهيات المبهمة المهملة ليس فيها إطلاق ولا تقييد فإذا عرضها الإطلاق بوسيلة مقدمات الحكمة أو التقييد بدليل مقيد متصل أو منفصل
340

ذلك على خلاف طبعها الأصلي وإن لم يكن مجازا كما سيأتي نظرا إلى كونه بنحو تعدد الدال والمدلول (وعليه) فإذا طرء التقييد للمادة ولو بتبع تقييد الهيئة كان ذلك على خلاف الأصل أيضا (وبالجملة) المراد من كون التقييد على خلاف الأصل ليس كونه على خلاف الظهور المنعقد للمطلق بوسيلة المقدمات كما أفاد المصنف كي لا يكون العمل المشارك مع التقييد في الأثر بل ولا نفس التقييد أيضا إذا كان بمتصل على خلاف الأصل نظرا إلى عدم انعقاد الإطلاق حينئذ كي يكون التقييد أو العمل المشارك معه في الأثر على خلاف ظهوره ويكون على خلاف الأصل بل المراد من كونه على خلاف الأصل انه على خلاف الطبع الأصلي للماهيات المبهمة المهملة كما أن الإطلاق أيضا هو على خلاف الأصل بهذا المعنى (وعلى هذا كله) فكل من التقييد والعمل المشارك معه في الأثر يكون على خلاف الأصل والطبع الأصلي فتأمل جيدا (ثم ان من تمام ما ذكر إلى هنا) يظهر لك أن الحق في دوران أمر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة كما أشرنا قبلا هو التوقف والرجوع إلى الأصل العملي لا ترجيح إطلاق الهيئة على إطلاق المادة كما أفاد التقريرات وذلك إذ لم يتم في المقام شيء من وجهيه المذكورين (أما عدم الوجه الأول) فلما عرفت من المصنف من عدم العبرة بالشمولية والاستيعاب كما عرفت منا أنه لا عبرة بالاستناد إلى الوضع أيضا بل العبرة بظهور الكلام في أحد الإطلاقين فان كان ظهور في البين كذلك فهو وإلا فيتوقف ويرجع إلى الأصل (وأما عدم الوجه الثاني) فلان التقييد وإن كان على خلاف الأصل وهكذا العمل المشارك معه في الأثر ولكن لا عبرة بتقليل خلاف الأصل ما لم يكن ذاك موجبا لظهور اللفظ في أحد الإطلاقين فان العبرة كما أشرنا هو بالظهور العرفي لا بمثل هذه الوجوه الاستحسانية التي لا اعتبار لها ما لم توجب ظهور اللفظ في شيء عرفا.
341

(قوله فتأمل... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف ما ادعاه من عدم كون العمل المشارك مع التقييد في الأثر على خلاف الأصل وذلك لما أوردناه عليه نقضا وحلا كما عرفت آنفا فلا نعيد.
في تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
(قوله ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري... إلخ) إن صاحب التقريرات قبل أن يشرع في تحديد كل من النفسي والغيري قد مهد مقدمة (ملخصها) أن متعلق الطلب قد يكون أمرا مطلوبا في ذاته كالمعرفة بالله الكريم وقد يكون أمرا يترتب عليه فائدة خارجة عن حقيقة المطلوب وهذا يتصور على وجهين.
(أحدهما) أن يكون ما يترتب عليه أمرا لا يكون متعلقا لطلب في الظاهر فيكون من قبيل الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت مقدرة المكلف حتى يتعلق الأمر بها بنفسها.
(وثانيهما) أن يكون ما يترتب عليه هو التمكن من فعل واجب آخر والوصول إليه (ثم قال ما هذا لفظه) وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه قد فسر في كلام غير واحد منهم الواجب النفسي بما أمر به لنفسه والغيري بما أمر به لأجل غيره (ثم قال) وعلى ما ذكرنا في التمهيد يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعية أو أكثرها أي ما سوى المعرفة بالله الكريم من الواجبات الغيرية إذ المطلوب النفسي قلما يوجد في الأوامر فان جلها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها فيكون أحدهما غير منعكس أي تعريف النفسي لعدم شموله لأكثر الواجبات النفسية مما وجب لأجل ما فيه من الخواص
342

والفوائد ويلزمه أن يكون الآخر غير مطرد أي تعريف الغيري لدخول أكثر الواجبات النفسية فيه (إلى أن قال) فالأولى في تحديدهما أن يقال ان الواجب الغيري ما أمر به للتوصل إلى واجب آخر والنفسي ما لم يكن كذلك فيتم العكس والطرد (انتهى موضع الحاجة) من كلامه رفع مقامه.
(أقول) ومن جميع ذلك كله يظهر لك أن ما ذكره المصنف في تعريف النفسي والغيري بقوله في الكتاب فان كان الداعي فيه هو التوصل به إلى واجب لا يكاد التوصل بدونه إليه لتوقفه عليه فالواجب غيري والا فهو نفسي سواء كان الداعي محبوبية الواجب بنفسه كالمعرفة بالله أو محبوبيته بماله من فائدة مترتبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصليات... إلخ هو بعينه ما ذكره صاحب التقريرات غير أن المصنف أورد عليه أخيرا بقوله هذا لكنه لا يخفى... إلخ (وحاصل الإيراد) أن أكثر الواجبات النفسية التي أمر بها لأجل ما فيها من الخواص والفوائد على هذا تكون واجبات غيرية فان تلك الفوائد لو لم تكن لازمة واجبة لما دعت المولى إلى إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذ على أكثر الواجبات النفسية تعريف الغيري وهو ما أمر به للتوصل إلى واجب آخر فإذا كان مثل هذه الواجبات النفسية غيرية فقد اختل كل من تعريف النفسي والغيري جميعا فالغيري يختل طردا والنفسي عكسا
(قوله فان قلت نعم وان كان وجودها محبوبا لزوما... إلخ) هذا تصحيح لتعريفي التقريرات للنفسي والغيري المتقدمين آنفا ودفع لما أورده المصنف عليهما بقوله هذا لكنه لا يخفى (وحاصله) ان الخواص والفوائد المترتبة على أكثر الواجبات النفسية وان كانت لازمة قطعا ولكنها حيث كانت خارجة عن تحت قدرة المكلف لم يصح تعلق التكليف بها لتكون واجبة وينطبق حينئذ على أكثر الواجبات النفسية تعريف الغيري وهو ما أمر به
343

للتوصل إلى واجب آخر بخلاف غايات الواجبات الغيرية فإنها مقدورة للمكلف بنفسها فيتعلق بها التكليف وينطبق على ذيها حينئذ تعريف الغيري وهو ما أمر به للتوصل إلى واجب آخر (ثم ان هذا التصحيح) لدى الحقيقة مقتبس من الكلام المتقدم للتقريرات حيث قال فيه فيكون من قبيل الخواص المترتبة على الأفعال التي ليست داخلة تحت مقدرة المكلف حتى يتعلق الأمر بها بنفسها... إلخ (وقد أجاب المصنف) عن هذا التصحيح بقوله قلت... إلخ وحاصله أن الفوائد وان كانت بنفسها خارجة عن تحت القدرة ولكنها مقدورة للمكلف بالواسطة وهي تكفي في صحة تعلق التكليف بها فان القدرة على السبب قدرة على المسبب ولذا قد يؤمر بالتطهير والتمليك والطلاق
والعتاق إلى غير ذلك من المسببات التي هي خارجة بنفسها عن تحت القدرة وان كانت أسبابها تحت قدرة المكلف فإذا صح تعلق التكليف بالفوائد استكشفنا وجوبها إنا من إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذ على أكثر الواجبات النفسية تعريف الغيري وهو ما أمر به للتوصل إلى واجب آخر ولا يتم التصحيح أصلا (انتهى) حاصل الجواب وهو جيد.
(قوله فالأولى أن يقال... إلخ) هذا لدى الحقيقة تصحيح آخر لتعريفي التقريرات للنفسي والغيري ودفع لما أورده المصنف عليهما بقوله هذا لكنه لا يخفى... إلخ فالتصحيح الأول كان مقتبسا من الكلام المتقدم للتقريرات ولم يقبله المصنف وقد أجاد وهذا تصحيح آخر ذكره المصنف من عند نفسه (وحاصله) أن الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ولم يؤمر به الا لحسنه الكذائي وان كان مقدمة لواجب آخر أي لما يترتب عليه من الخواص والفوائد اللازمة الواجبة والواجب الغيري ما أمر به لأجل واجب آخر وان كان معنونا بعنوان حسن في نفسه كما في الطهارات الثلاث (وفيه)
344

ان الواجبات النفسية وان كانت معنونة بعنوان حسن قطعا ولكن ليس حسنها في الأغلب في نفسها كالمعرفة بالله الكريم بل لأجل ما يترتب عليها من الخواص والفوائد وعليه فإذا أمر بها لحسنها فقد أمر بها لأجل خواصها وفوائدها وهي لازمة واجبة كما أن الواجب الغيري حيث أنه مما يتوصل به إلى واجب آخر يكون حسنا لهذه الجهة فإذا أمر به لأجل واجب آخر فقد أمر به لحسنه قطعا فإذا لا يبقى فرق بين النفسي والغيري أصلا ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فتأمل (وعلى كل حال) إن شيئا من التصحيحين لم يتم لا التصحيح المقتبس من كلام التقريرات كما أشير آنفا ولا التصحيح الذي كان من المصنف بنفسه ولكن التعريفين مع ذلك مما لا نقص فيه فان الإيراد الذي أورده المصنف عليهما بقوله المتقدم هذا ولكنه لا يخفى... إلخ مما لا يرد عليهما فان المراد من الواجب في تعريف التقريرات للغيري بما أمر به للتوصل إلى واجب آخر ليس مطلق الأمر اللازم الواجب بل اللازم الذي قد تعلق به الأمر في الظاهر وفي لسان الدليل وذلك بقرينة قوله المتقدم أحدهما أن يكون ما يترتب عليه أمرا لا يكون متعلقا لطلب في الظاهر... إلخ ومن المعلوم ان الخواص والفوائد المترتبة على الواجبات النفسية ليست من هذا القبيل فإنها وإن كانت لازمة في حد ذاتها ولكنها مما لم يؤمر بها في الظاهر وفي لسان الدليل وإن كانت مما جاز الأمر بها شرعا بلا مانع عنه ولا محذور لكونها مقدورة للمكلف بالواسطة (وعلى هذا) فالفرق بين النفسي والغيري محفوظ ثابت لا يختلط بعضهما ببعض فالغيري ما أمر به لواجب آخر قد أمر به في الظاهر وفي لسان الدليل والنفسي ما لم يكن كذلك سواء كان محبوبا بنفسه وفي ذاته كالمعرفة بالله الكريم أو كان محبوبا لأجل ما يترتب عليه من الخواص والفوائد اللازمة الواجبة كأغلب الواجبات النفسية فتأمل جيدا.
345

(قوله فلا يتوجه عليه الاعتراض بان جل الواجبات لو لا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية... إلخ) يعنى به الاعتراض الذي أورده التقريرات في كلامه المتقدم على تفسير غير واحد منهم للواجب النفسي بما أمر به لنفسه والغيري بما أمر به لأجل غيره (حيث قال) وعلى ما ذكرنا في التمهيد يلزم أن يكون جميع الواجبات الشرعية أو أكثرها أي ما سوى المعرفة بالله الكريم من الواجبات الشرعية إذ المطلوب النفسي فلما يوجد في الأوامر فان جلها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها... إلخ) (قوله فتأمل... إلخ) قد ذكرنا آنفا وجها لقوله فتأمل ويحتمل أن يكون إشارة إلى ضعف قوله ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه وما أمر به لأجل غيره... إلخ إذ من المستبعد جدا أن يكون المراد مما أمر به لنفسه أي قد أمر به لكونه معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله بل وبذم تاركه.
إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري
(قوله ثم انه لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين وأما إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري... إلخ) تقدم الكلام في ذلك في المبحث السادس من مباحث الصيغة بعد بحث التعبدي والتوصلي (فقال المصنف) هناك ان قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا لكون كل واحد مما يقابلها يعنى الغيري والتخييري والكفائي يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته... إلخ ولكن صاحب التقريرات حيث تكلم في المقام في الشك في النفسية والغيرية مشروحا فأعاد المصنف الكلام فيه ثانيا (قال في
346

التقريرات) بعد ما قسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاص إلى غيري ونفسي وفرغ من تحديدهما مع مالهما من النقض والإبرام (ما هذا لفظه) ثم انه إذا علمنا بأحد القسمين فلا إشكال وإذا شك في واجب أنه من الواجبات الغيرية أو النفسية فهناك صور (إلى أن قال) والتحقيق هو القول بان هيئة الأمر موضوعة لخصوصيات الطلب المنقدحة في نفس الطالب باعتبار دواعيها التي تدعو إليها (إلى أن قال) فلا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك المذكور بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها التقييد نعم لو كان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب صح القول بالإطلاق لكنه بمراحل عن الواقع إذ لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية بالطلب المستفاد من الأمر ولا يعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب فان الفعل يصير مرادا بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها وذلك أمر ظاهر لا يكاد يعتريه ريب نعم يصح التمسك بالإطلاق من جهة المادة حيث ان المطلوب لو كان الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلم الحكيم وحيث ليس ما يصلح أن يكون بيانا فيجب الأخذ بالإطلاق ويحكم بان الواجب نفسي غير منوط بالغير على وجه لو فرض امتناع الغير يجب الإتيان به مع إمكانه (انتهى موضع الحاجة من كلامه) رفع مقامه (وملخصه) ان الصيغة موضوعة للافراد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب فان الفعل لا يتصف بالمطلوبية إلا بواسطة الطلب المستفاد من الأمر لا بواسطة مفهوم الطلب ومن المعلوم ان الفرد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يعقل فيه التقييد والإطلاق فلا معنى للتمسك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسيا لا غيريا وان صح التمسك له بإطلاق المادة هذا ملخص كلام التقريرات (واما جواب المصنف عنه) فملخصه
347

ان مفاد الصيغة هو مفهوم الطلب الإنشائي لا الفرد من الطلب الحقيقي فان الطلب الحقيقي من الصفات الخارجية كالشجاعة والجود والبخل والعلم والجهل ونحو ذلك مما
لا يقبل الإنشاء بالصيغة وليس هو من الأمور الاعتبارية القابلة للإنشاء كالزوجية والملكية والحرية ونحو ذلك واما اتصاف الفعل بالمطلوبية بواسطة تعلق الطلب الإنشائي أيضا فاتصافه بالمطلوبية الواقعية يحتاج إلى تعلق الطلب الحقيقي به واتصافه بالمطلوبية بالطلب الإنشائي يحتاج إلى تعلق الطلب الإنشائي به ومن المعلوم ان مفهوم الطلب الإنشائي الذي قلنا انه مفاد الصيغة هو مما يقبل التقييد والإطلاق جميعا فإذا لا إشكال في الاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك في كون الواجب نفسيا أو غيريا ويثبت بوسيلة الإطلاق انه نفسي لا غيري.
أقول لا إشكال في أن الصيغة ليست موضوعة للطلب الحقيقي كما أفاد المصنف لا لمفهومه ولا لمصداقه فإنه ليس من المعاني القابلة للإنشاء كما أشير آنفا بل للطلب الإنشائي ولكن الإشكال في أنها (هل هي موضوعة) لنفس الطلب لتستعمل في إنشائه فيكون الموضوع له والمستعمل فيه هو نفس الطلب ويكون الإنشاء من مسوغات الاستعمال كما تقدم ذلك من المصنف في الفرق بين الإخبار والإنشاء بعد الحروف وأشار إليه في المطلق والمشروط أيضا في رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادة (أو انها موضوعة) للإنشاء المضاف إلى الطلب على ان يكون الطلب خارجا عن معنى الصيغة وكان طرف إضافة له كما استظهرنا نحن ذلك في كلا المقامين. فيكون من قبيل وضع لفظ العمى للعدم المضاف إلى البصر مع خروج البصر عن متن معناه (أو أنها موضوعة) لمجموع إنشاء الطلب (وعلى كل حال) لا إشكال في إن الإنشاء مما لا يعقل تعلقه بالفرد
348

ولا بالكلي فان كلا من الفرد والكلي مما لا يقبل الإنشاء في الخارج بل يتعلق الإنشاء لا محالة بطبيعة الطلب المبهمة المهملة ومن المعلوم انها مما تقبل التقييد والإطلاق جميعا كما ادعى المصنف (غير أنه يشكل الأمر) فيما إذا ذكر القيد بعد إنشاء الطلب كما إذا قال أكرم زيدا ان جاءك ولم يقل ان جاءك زيد فأكرمه فان الطلب بعد ما أنشأ بالصيغة وصار فردا خارجيا لا يكاد يعقل تقييده بل يستحيل عقلا فيختل جواب المصنف قهرا (وعليه) فاللازم في مقام الجواب عن التقريرات والتمسك بإطلاق الصيغة لكون الوجوب نفسيا لا غيريا أن يتمسك بإطلاقها الأحوالي لا الأفرادي فان الطلب المنشأ بالصيغة وإن كان فردا والفرد مما لا يقبل التقييد والإطلاق بحسب الأفراد ولكنه مما يقبل التقييد والإطلاق بحسب الأحوال والتقادير فقد يكون ثابتا في كل حال وعلى كل تقدير وقد يكون ثابتا في حال دون حال وعلى تقدير دون تقدير (هذا ولكنك) قد عرفت منا في المبحث السادس من مباحث الصيغة انه لا يصح التمسك بإطلاق الهيئة ولو كان أحواليا فان الوجوب الغيري ليس مقيدا في لسان الدليل دائما بوجوب ذيها كما في قوله تعالى وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... إلخ كي يعرف من إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا لا غيريا وان جاز التمسك بإطلاقها لكون الواجب مطلقا لا مشروطا (بل إنك إذا تأملت) يظهر لك ضعف ما أفاده التقريرات أيضا من التمسك بإطلاق المادة لكون الوجوب نفسيا لا غيريا فان المادة أيضا في الواجب الغيري ليست مقيدة دائما في لسان الدليل أي بحيث يعرف منه انها مقدمة للغير كما في قولك ادخل السوق لتشتري اللحم كي يعرف من إطلاقها ان الواجب نفسي لا غيري بل قد تكون مطلقة كما إذا قلت لعبدك ادخل مع السوق ثم بعد ما دخل فيه قلت له اشتر اللحم بحيث عرف بعدا ان الأمر بدخول السوق كان
349

غيريا لشراء اللحم لا نفسيا وهذا واضح ظاهر لدى التدبر والتأمل فتدبر وتأمل جيدا.
(قوله فإنه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم... إلخ) أي فان الواجب لو كان شرطا لغيره كالطهارة للصلاة أو الدخول في السوق لشراء اللحم لوجب التنبيه عليه فحيث لم ينبه علم ان الواجب نفسي لا غيري (أقول) ان هذا التعليل مما يناسب من تمسك بإطلاق المادة عند الشك في النفسية والغيرية كالتقريرات لا بإطلاق الهيئة كالمصنف فان المناسب له في مقام التعليل ان يقول فان الوجوب لو كان مشروطا بوجوب الغير لوجب التنبيه عليه وقد صرح في المبحث السادس من مباحث الصيغة بالتمسك بإطلاق الصيغة يعنى الهيئة للشك في النفسية والغيرية نظرا إلى ما في الوجوب الغيري من تقييد الوجوب وتضييق دائرته في نظره فراجع (ثم ان هذه العبارة) هي مقتبسة من العبارة المتقدمة للتقريرات أعني من قوله حيث أن المطلوب لو كان هو الفعل على وجه يكون شرطا للغير يجب التنبيه عليه من المتكلم الحكيم... إلخ (وعلى كل حال) كان الأولى للمصنف بل وللتقريرات أيضا أن يقول فإنه لو كان مقدمة لغيره لوجب التنبيه عليه... إلخ وذلك ليعم أقسام المقدمة بتمامها ولا يختص بالشرط فقط من بين المقدمات (وكيف كان) الأمر قد عرفت منا ضعف هذا التعليل جدا فلا نعيد لك ضعفه هاهنا ثانيا.
(قوله وأما ما قيل... إلخ) قد عرفت ان القائل هو صاحب التقريرات وقد ذكرنا نحن عبارته بنحو أبسط فلا تغفل.
(قوله ففيه أن مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف... إلخ) لم يتقدم في وضع الحروف تحقيق من المصنف حول هيئة افعل وانها هي لمفهوم الطلب أو لغير
350

ان الهيئات مطلقا حيث كانت ملحقة بالحروف فكان الكلام فيها قد تقدم في ضمن الكلام في الحروف فكما ان الحرف والاسم كانا موضوعين لمعنى واحد وكان كل من لحاظ الآلية والاستقلالية خارجا عن متن المعنى غايته انه قد وضع الحرف ليراد منه معناه بما هو حالة للغير والاسم بما هو هو وفي نفسه وهكذا اسم الإشارة والضمائر كانا موضوعين لمعنى واحد وهو المفرد المذكر مثلا وكان كل من الإشارة والتخاطب خارجا عن أصل المعنى غايته انه قد وضع الأول وبعض الثاني ليشار به إليه ووضع بعض الضمائر ليخاطب به معه فكذلك صيغة أفعل موضوعة لمفهوم الطلب والإنشاء خارج عن أصل المعنى وضعت لينشأ بها ذلك (ثم ان هذا كله) بحسب مختار المصنف قدس سره وإلا فقد عرفت منا ان التحقيق في خلاف هذا كله فتأمل جيدا.
(قوله كما يكون غيره أحيانا... إلخ) كما في موارد الاختبار إذ لا طلب فيها طلبا حقيقيا في النفس كي يكون هو السبب الإنشاء الطلب بالصيغة بل السبب هو الاختبار والامتحان كما لا يخفى.
(قوله ولعمري انه من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق... إلخ) فاشتبه مفهوم الطلب الإنشائي بمصداق الطلب الحقيقي.
(قوله كما مر هاهنا بعض الكلام... إلخ) يعنى به عند الرد على دعوى الشيخ أعلى الله مقامه من امتناع رجوع القيد إلى الهيئة بدعوى كون مفادها فردا من الطلب الحقيقي والفرد مما لا يقبل التقييد.
(قوله وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة... إلخ) أي تقدم هناك ان الطلب والإرادة موضوعان لمعنى واحد غير أن المعنى على صنفين حقيقي ثابت في النفس وإنشائي يحصل بالصيغة ولفظ الطلب أظهر في الثاني ولفظ الإرادة أظهر في الأول مع كون كل من لفظي الطلب والإرادة حقيقة
351

في كلا الصنفين جميعا.
(قوله هذا إذا كان هناك إطلاق... إلخ) أي تمام ما مر عليك من التمسك بإطلاق الهيئة عند الشك في كون الوجوب نفسيا أو غيريا إنما يتم إذا كان هناك إطلاق بوسيلة مقدمات الحكمة واما إذا اختل إحدى المقدمات كما إذا لم يكن المولى في مقام البيان مثلا فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي فان كان التكليف بالغير الذي يحتمل كون الواجب مقدمة له فعليا فيجب الإتيان بهذا الواجب على كل حال للعلم بوجوبه حينئذ على أي تقدير سواء كان نفسيا أو غيريا وان لم يكن فعليا كما إذا لم يدخل بعد وقت الغير فلا يجب حينئذ الإتيان بهذا الواجب المشكوك نفسيته وغيريته فإنه ان كان نفسيا وجب الإتيان به وان كان غيريا لم يجب الإتيان به لعدم وجوب ذي المقدمة بعد ومن المعلوم انه مهما شك في وجوب شيء ولم يكن هناك بيان عليه من الشرع ولا من العقل جرت البراءة عنه شرعا وعقلا كما سيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
في تذنيبين راجعين إلى النفسي والغيري
(قوله تذنيبان الأول... إلخ) في هذا التذنيب الأول مسألتان:
(الأولى) ان الأمر النفسي هل يستحق الثواب على امتثاله ويستحق العقاب على عصيانه أم لا (فيقول المصنف) نعم لا ريب في استحقاقهما عليهما عقلا (وفيه ما لا يخفى) فان استقلال العقل باستحقاق العقاب على عصيانه وان كان مما لا ريب فيه ولكن استقلاله باستحقاق الثواب على امتثاله بحيث إذا امتثل العبد أمر مولاه استقل العقل بثبوت حق له فغير معلوم بل من المعلوم خلافه فان المولى ليس إلا من له حق ثابت على العبد أن يمتثل أوامره ونواهيه
352

فإذا أطاع العبد أمر مولاه فقد أدى حقه إليه ومن المعلوم أن بأداء حقه إليه لا يصير العبد ذا حق عليه وإلا لتسلسل فان العبد على هذا إذا امتثل أمر مولاه وأدى حقه إليه صار ذا حق عليه والمولى إذا أثاب عبده وأدى حقه إليه صار ذا حق على العبد، وهلم جرا وهذا باطل قطعا (وعليه) فالمثوبات كلها تكون من التفضل لا من باب الاستحقاق وهذا لدى التدبر واضح ظاهر (الثانية) ان الأمر الغيري هل يستحق الثواب على امتثاله ويستحق العقاب على عصيانه أو لا يستحق شيء منهما أو يفصل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب أصلي فيترتب أو تبعي فلا يترتب أو يفصل بين الثواب والعقاب فلا يترتب الأول ويترتب الثاني (وجوه) كما في التقريرات (قال) بل لعله أقوال (انتهى) ومختار المصنف تبعا للتقريرات هو الوجه الثاني أي لا يستحق الثواب على امتثال الأمر الغيري ولا العقاب على عصيانه وقد استشهدا جميعا بحكم العقل بمعنى أنه إذا أتى بالواجب بماله من المقدمات لم يستقل العقل إلا باستحقاق ثواب واحد وإذا ترك الواجب بما له من المقدمات لم يستقل العقل إلا باستحقاق عقاب واحد (غير ان المصنف) علل حكم العقل بعدم الثواب والعقاب على الأمر الغيري كما سيأتي بأن الثواب والعقاب من تبعات القرب والبعد والأمر الغيري مما لا يوجب إطاعته قربا ولا عصيانه بعدا سوى القرب أو البعد الحاصلين من الإتيان بالواجب النفسي أو من تركه (وصاحب التقريرات) قد علل فقط حكم العقل بعدم الثواب بما حاصله ان الثواب من فروع الامتثال والامتثال هو الإتيان بالمأمور به على وجه يكون الداعي إلى إيجاده هو الأمر والأمر الغيري لا يصلح للداعوية بل يصلح للتوصل بالمقدمة إلى ذي المقدمة ومع التوصل بها إليه يكون الامتثال امتثالا لذي المقدمة لا للمقدمة (أقول) اما عدم استحقاق العقاب على ترك المقدمة سوى العقاب
353

المترتب على ترك ذي المقدمة بل من حين ترك المقدمة كما سيأتي التصريح به من المصنف فهذا حق لا شبهة فيه وأما عدم استحقاق الثواب بامتثال الغيري فهذا أيضا حق فان استحقاق الثواب مما أنكرناه نحن في الواجب النفسي فكيف بالواجب الغيري نعم لا ننكر التفضل فيهما جميعا (ولكن دعوى) ان امتثال الأمر الغيري مما لا يقرب كما أفاد المصنف أو ان الأمر الغيري مما لا يصلح للداعوية كما أفاد التقريرات مما لا وجه له (اما الأول) فلاستقلال العقل بحصول القرب بمجرد الإتيان بالمقدمة إذا كان بداعي وجوبه الغيري وبقصد التوصل بها إلى ذيها ولو لم يتمكن بعدا من الإتيان بذيها اما لطرو أمر أهم أو لموت المكلف أو لغيرهما من الموانع فإذا قال المولى مثلا لعبيده أدخلوا السوق واشتروا لي اللحم وقد دخل بعضهم السوق لا لأجل شراء اللحم ودخل بعضهم بداعي وجوبه الغيري قاصدا به التوصل إلى شراء اللحم ثم لم يتمكنوا جميعا من شراء اللحم استقل العقل بالتفاوت بين العبيد من حيث حصول القرب إلى المولى وعدمه فمن دخل السوق قاصدا به شراء اللحم قد حصل له القرب إليه بخلاف من دخله لا لهذا القصد فلا قرب له ولا كرامة.
(واما الثاني) أي ما أفاده التقريرات فلان الأمر الغيري لا يكاد يقصر عن الأمر النفسي في صلاحيته للداعوية غاية الأمر أن داعوية الغيري لا تكاد تنفك عن قصد التوصل به إلى ذي المقدمة بمعنى ان من أتى بالمقدمة بداعي وجوبها الغيري فهو قاصد لا محالة للتوصل بها إلى ذيها وهذا غير دعوى عدم صلاحية الأمر الغيري للداعوية أصلا فتدبر جيدا.
(قوله وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات... إلخ) شرح هذه العبارة إلى قوله فتأمل جيدا. يتوقف على الإشارة إلى ما في
354

التقريرات في الجملة (فنقول قال فيه رحمه الله) بعد أن ذكر الوجوه بل الأقوال الأربعة المتقدمة في الأمر الغيري من حيث الثواب والعقاب (ما هذا لفظه) والتحقيق
عندنا هو القول الثاني أي عدم ترتب الثواب والعقاب على الأمر الغيري مطلقا والذي يدل على ذلك هو أن الحاكم بالثواب والعقاب اما العقل أو النقل وليس في شيء منهما دلالة على ذلك اما العقل فهو مستقل بعدم استحقاق الآتي بالمقدمة للثواب غير ما يترتب على ذيها (إلى أن قال) واما النقل فغاية ما يمكن الاستناد إليه أمران (أحدهما) الآيات الدالة على ترتب الثواب والعقاب على الإطاعة والعصيان الشاملين بعمومها لجميع المطلوبات الشرعية غيريا كان أو نفسيا كقوله من يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وقوله ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا إلى غير ذلك (والجواب عنه) ظاهر بعد ما عرفت من عدم صدق الإطاعة والمعصية في الواجبات الغيرية وذلك ظاهر (وثانيهما) الأدلة الدالة على ترتب الثواب على خصوص بعض المقدمات ويستكشف عن ذلك جواز ترتبه عليها مطلقا فيكون من الطاعات أو يستند في الباقي إلى دعوى عدم الفصل وذلك مثل قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون فان دلالة الآية على ترتب الثواب على المقدمات التي يترتب عليها الجهاد من قطع البوادي وإنفاق الأموال وصرف المؤنات مما لا ينبغي إنكارها (مضافا) إلى ما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه السلام من أنه لكل قدم
355

ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك (إلى أن قال) والإنصاف أن منع ظهور هذه الروايات أو دلالتها على ترتب الثواب على فعل المقدمات مما لا وجه له إلا أنه مع ذلك لا دلالة فيها على المدعى إذ المقصود في المقام إثبات الاستحقاق ولا أثر من ذلك فيها فلعله مستند إلى فضل الرب الكريم فان الفضل بيده يؤتيه من يشاء (مع أنه) يحتمل أن يقال احتمالا ظاهرا ان الثواب المترتب عليها في هذه المقامات بالحقيقة هو الثواب المترتب على فعل ذي المقدمة ولكنه إذا وزع على الأفعال الصادرة من المكلف في تحصيله يكون لكل واحد من أفعاله شيء من الثواب نظير ما يقول التاجر المسافر الساعي في تحصيل الأرباح عند توزيعه ما حصل له على أيام مسافرته (ومما يؤيد ذلك) ما ورد في بعض الأخبار من ترتب الثواب على الإقدام بعد المراجعة من الزيارة الحسينية فإنها ليست من المقدمات جدا (إلى أن قال) لا يقال لو كان الثواب المترتب على فعل المقدمات هو الثواب المترتب على ذويها من دون مدخلية لها فيه يلزم مساواة زيارة البعيد والقريب لأنا نقول لا ريب في أن عسر المقدمات يوجب ازدياد ثواب الواجب فان أفضل الأعمال أشقها ولعل ذلك أمر ظاهر لا سترة عليه جدا (انتهى موضع الحاجة) من كلامه رفع مقامه (وملخصه) ان الآيات والروايات الظاهرة في ترتب الثواب على المقدمة اما محمولة على التفضل أو على توزيع ثواب ذي المقدمة على المقدمة وان المقدمات مهما كثرت ازداد ثواب ذي المقدمة لصيرورته حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها والمصنف قد اختار هذين الجوابين بعينهما غير انه في الذكر قد أخر المتقدم وقدم المتأخر.
(أقول) إن حمل الآيات والروايات على التفضل وان كان مما لا بأس به بل هو المتعين فيما دل على ترتب الثواب على الواجبات النفسية لما أنكرنا
356

الاستحقاق فيها عقلا فكيف بالمقدمات ولكن حملها على التوزيع فيه ما لا يخفى وذلك لما عرفت من حصول القرب بإتيان نفس المقدمات إذا كان بداعي وجوبها الغيري والتوصل بها إلى ذيها وان لم يؤت بذي المقدمة بعدا لطرو مانع عنه خارجا فلو كان الثواب المترتب على المقدمات هو نفس ثواب ذي المقدمة وقد وزع عليها لاقتضى ذلك عدم حصول القرب بها فيما إذا لم يؤت بذيها أصلا.
(قوله وذلك لبداهة ان موافقة الأمر الغيري بما هو أمر... إلخ) علة لقوله ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد أو لثواب كذلك... إلخ. وقد أشرنا قبلا ان المصنف قد علل حكم العقل بعدم استحقاق الثواب والعقاب على المقدمات بأنها ليست مقربة ولا مبعدة فهذا هو تعليله له فلا تغفل.
(قوله لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي... إلخ) المفهوم من هذا الكلام ان الإتيان بالمقدمة بما هو شروع في امتثال الأمر بذي المقدمة مما يوجب القرب والثواب على ذي المقدمة وسيأتي الإشارة إليه في المقدمة المقصودة بها التوصل أيضا.
(أقول) ان قلنا ان امتثال الأمر الغيري مقرب كامتثال الأمر النفسي بحيث إذا أتى بالمقدمة بداعي أمرها الغيري وبقصد التوصل بها إلى ذيها فقد حصل له القرب إلى المولى وان لم يمكنه الإتيان بذي المقدمة بعدا لطرو مانع عنه خارجا فهو وإلا بان قلنا ان المقرب إلى المولى هو مما ينحصر بامتثال الأمر النفسي فحينئذ دعوى ان الإتيان بالمقدمة حيث يكون شروعا في امتثال الأمر النفسي فيحصل به القرب والثواب على ذي المقدمة مما لا وجه له فان الشروع في امتثال الأمر النفسي ليس إلا من زمان الإتيان بنفس الواجب لا الإتيان
357

بالمقدمة (وبالجملة) استحقاق العقاب على ترك ذي المقدمة من حين ترك المقدمة مما لا بأس به كما تقدم لأن تركها سبب لتركه ولكن استحقاق الثواب على ذي المقدمة على القول به من حين الإتيان بالمقدمة بدعوى ان الشروع فيها شروع في امتثال ذي المقدمة مما لا يخلو عن مسامحة فان الشروع في امتثال الأمر النفسي ليس إلا من حين الشروع بذي المقدمة لا بالمقدمة.
(قوله إشكال ودفع... إلخ) هاهنا إشكالان قد أفرزهما التقريرات في الذكر ولكن المصنف قد جعلهما في الظاهر إشكالا واحدا وان أشار إلى كل منهما على حدة (الأول) ما حاصله ان الواجب الغيري على ما تقدم آنفا مما لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب على خلاف الواجب النفسي فكيف يترتب الثواب على الطهارات الثلاث مع كونها واجبات غيرية فان الأخبار في ترتب الثواب عليها فوق الاستفاضة ولا سبيل إلى دفع الإشكال بما تقدم في مثل مقدمات الجهاد أو نقل الأقدام إلى زيارة الحسين عليه السلام من احتمال التفضل أو التوزيع إذ لعله قد يأباه مساق الأخبار الدالة على ذلك (الثاني) وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله هذا مضافا... إلخ. ما حاصله ان الواجب الغيري امر توصلي ليس الغرض منه إلا التوصل به إلى ذيه فهو كسائر الواجبات التوصلية مما يحصل الغرض منها بمجرد الإتيان بها كيف ما اتفق ولو على
نحو محرم ولذا لو سار إلى الحج على النحو الحرام كما إذا ركب الدابة المغصوبة أجزأ وكفى وان أثم في الغصب (وعليه) فكيف يعتبر في الطهارات الثلاث وهي واجبات غيرية قصد القربة والامتثال حيث لا يكاد يكفى مجرد الإتيان بها بدون قصد القربة إجماعا هذا ملخص الإشكالين (وقد تفصى صاحب التقريرات عن الأول) بما حاصله ان الطهارات عبادات في أنفسها مستحبات في حد ذاتها فإذا لا إشكال في ترتب المثوبة عليها (ولكنه ناقش أخيرا في
358

هذا التفصي) من جهة ان اللازم على هذا التقدير هو القصد إلى الطلب النفسي الندبي ولو في ضمن الطلب الغيري الوجوبي كي يترتب عليها الثواب والمعلوم من طريقة الفقهاء هو القول بترتب الثواب على الطهارات وان انحصر الداعي إلى إيجادها الأمر المقدمي على وجه لو لم يعلم باستحبابها النفسي كان ذلك كافيا في ترتب الثواب عليها ومن هنا عدل عن هذا الجواب (وقال في الآخر) فالقول بان الثواب من جهة عموم فضله وسعة رحمته أو احتمال التوزيع لعله أقرب فتأمل (انتهى) هذا تفصيله عن الإشكال الأول (وأما تفصيه عن الإشكال الثاني) وهو اعتبار قصد القربة في الطهارات فهو بوجوه ثلاثة (أحدها) ما أجاب به عن الإشكال الأول من أنها عبادات في أنفسها مستحبات في حد ذاتها ثم ناقش فيه أيضا من وجهين (الأول) ان التيمم على ما هو المشهور لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيا فالإشكال فيه باق على حاله (الثاني) ما حاصله ان الطهارات لو كانت عبادات نفسية فكيف يؤتى بها على وجه القربة بواسطة الأمر المقدمي الذي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب وكيف يعقل أن يقع الفعل عبادة بإتيانه بداعي أمره الغيري لا النفسي العبادي ولذا قد عدل أيضا عن هذا التفصي إلى الوجهين الذين سيذكرهما المصنف بعد هذا فانتظر هذا كله من أمر صاحب التقريرات (واما المصنف) فقد تفصى عن الإشكالين بكون الطهارات عبادات في أنفسها مستحبات في حد ذاتها ولم يعدل عنه إلى جواب آخر إلى الآخر فيتوجه إليه حينئذ ان الطهارات لو كانت عبادات في أنفسها ولذا يترتب عليها الثواب ويعتبر فيها قصد القربة فلم لا يقصد أمرها النفسي ويكتفى في مقام الامتثال بقصد أمرها الغيري وقد تقدم قبلا اعترافه بان امتثال الأمر الغيري مما لا يقرب إلى المولى أصلا فكيف يثاب على الأمر
359

الذي لا يقرب إليه وكيف يقع الفعل عبادة بقصد الأمر الذي لا يؤثر في القرب أبدا (وقد تخلص عن هذا الإيراد) بقوله والاكتفاء بقصد أمرها... إلخ. وحاصله ان الاكتفاء بقصد أمرها الغيري إنما هو لأجل انه لا يدعو إلا إلى ما هو عبادة في نفسه فإنها المقدمة والمتعلق للأمر الغيري فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد في الحقيقة إتيان ما هو عبادة في نفسه فيكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليا ومرآتا لقصد ما هو العبادة في نفسه فيكفي (وفيه) ان الاكتفاء بقصد أمرها الغيري لو كان لذلك لصح قصده وصفا أيضا كما صح قصده غاية بان ينوي مثلا الإتيان بالوضوء الواجب لداع من الدواعي النفسانية لا القرية فيكون قصده وصفا عنوانا إجماليا لما هو العبادة في نفسه بعين ما إذا قصده غاية بان نوى الإتيان به لوجوبه شرعا مع انه لا يكفى قصده وصفا بلا كلام وسيأتي من المصنف توجيه هذا الإشكال على الوجه الثاني من وجوه تفصى التقريرات فانتظر له ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم والله العالم.
(أقول) والتخلص الصحيح عن الإشكالين مما لا يمكن إلا على ما اخترناه من كون الأمر الغيري مقربا إلى الله تعالى كالأمر النفسي بعينه فيقال حينئذ في دفع إشكال ترتب المثوبة واعتبار قصد القربة ان الطهارات عبادات نفسية ندبية كما أفاد المصنف وصاحب التقريرات جميعا فقبل الأمر بغاياتها يمكن الإتيان بها بداعي امرها النفسي الندبي أو بداعي حسنها ورجحانها وبعد الأمر بغاياتها حيث لا يبقى الأمر الندبي بحده ويندك في الأمر الغيري يمكن الإتيان بها بقصد ملاك الأمر الندبي أو بداعي حسنها ورجحانها كما انه يمكن الاكتفاء بقصد وجوبها الغيري أيضا وهو الغالب وكل من هذه الأمور مما صح ان يثاب عليه ويقع الفعل بسببه عبادة ومقربا إلى الله تعالى كما لا
360

(واما دعوى) ان التيمم مما لم يقم دليل على كونه مطلوبا نفسيا فهي مما لا وجه له أصلا إذ لو لم يكن دليل عليه سوى قوله عليه السلام التراب أحد الطهورين بانضمام ما دل على مطلوبية الطهارة المائية في نفسها مثل قوله عليه السلام الوضوء نور أو ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ونحو ذلك مما قرر في محله لأجزأ ذلك وكفى وهذا واضح.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
(قوله أحدهما ما ملخصه ان الحركات الخاصة... إلخ) هذا ثاني الوجوه التي تفصى بها صاحب التقريرات عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث (وملخصه) أن اعتبار قصد القربة في الطهارات ليس لأجل ان الأمر المقدمي مما يقتضى التعبدية أي عدم حصول الغرض منه إلا إذا أتى بالفعل بداعيه بل لأجل ان ذوات تلك الحركات الخاصة في الوضوء والغسل والتيمم ليست مقدمة للصلاة بل هي بعنوان خاص تكون مقدمة لها وحيث لا نعلم تفصيل ذلك العنوان المأخوذ فيها فنأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري كي يكون قصد الأمر الغيري عنوانا إجماليا ومرآتا لذلك العنوان الخاص فان الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه فإذا أتينا بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتينا بها بعنوانها الخاص المأخوذ فيها هذا محصل التفصي الثاني (وقد أورد عليه المصنف) من ناحيتين (الأولى) انه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات الثلاث هو الإشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفا بان كان أصل الداعي لإتيانه شيئا آخر غير قربي فيقول مثلا إني آتي بالوضوء الواجب لأجل التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانية فيكون قصد الوجوب حينئذ بنحو التوصيف مشيرا إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها بمثل قصد
361

الوجوب غاية كما إذا قال مثلا إني آتي بالوضوء لوجوبه شرعا بل قصد الوجوب بنحو التوصيف يكون أظهر في الإشارة إلى العنوان الخاص المأخوذ فيها من قصده غاية مع انه لا يكاد يجوز قصد الوجوب إلا غاية لا وصفا (الثانية) ما أشار إليه بقوله غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها كما لا يخفى (وفيه) ان التقريرات كما تقدم آنفا قد أجاب عن إشكال ترتب المثوبة بقوله الأخير ان الثواب من جهة عموم فضله وسعة رحمته أو احتمال التوزيع وهذه الوجوه الثلاثة إنما ذكرها لخصوص التفصي عن إشكال اعتبار قصد القربة فقط لا لغيره (وعليه) فلا وجه للإيراد عليها بأنها غير وافية بدفع إشكال ترتب المثوبة فافهم جيدا.
(قوله ثانيهما ما محصله ان لزم وقوع الطهارات عبادة... إلخ) قد يتوهم ان هذا هو الوجه الثالث من وجوه تفصى التقريرات عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ولكنه ليس كذلك بل هو وجه آخر قد استفاده المصنف من الوجه الثالث الذي سيأتي الإشارة إليه بقوله وأما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات... إلخ. وقد أشار التقريرات بنفسه في آخر الوجه الثالث بإمكان استفادة وجه آخر منه (فقال) ولتكن على بصيرة من ذلك لعلك تطلع على وجه آخر في التفصي عن هذه العويصة (انتهى) وكيف كان حاصل هذا الوجه المستفاد من الوجه الثالث ان اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ليس لأجل كون الأمر الغيري المتعلق بها تعبديا لا يحصل الغرض منه إلا مع الإتيان بقصد الأمر كي يشكل الأمر في اعتباره فيها بل لأجل ان الأمر النفسي المتعلق بغاياتها كالصلاة ونحوها هو مما لا يكاد يحصل الغرض منه إلا بالإتيان بمقدماتها بداعي الأمر كما لا يكاد يحصل الغرض منه إلا بالإتيان بالغايات كذلك أي بداعي الأمر (فمرجع التفصي)
362

في هذا الوجه في الحقيقة هو إلى دعوى ان غايات الطهارات هي أمور تعبدية خاصة لا كسائر التعبديات فسائر التعبديات لا يحصل الغرض منها إلا بإتيانها بداعي الأمر وهذه الغايات لا يحصل الغرض منها إلا بالإتيان بها وبمقدماتها جميعا بقصد الأمر (وقد أورد عليه المصنف) بأنه أيضا غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة ولكنك قد عرفت منا ضعف هذا الإيراد في الوجه السابق فلا نعيده ثانيا.
(قوله لا باقتضاء امرها الغيري... إلخ) أي ان لزوم وقوع الطهارات عبادة إنما يكون لأجل بان الغرض من الأمر النفسي بغاياتها... إلخ لا بسبب اقتضاء أمرها الغيري.
(قوله واما ما ربما قيل في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات من الالتزام بأمرين... إلخ) هذا هو الوجه الثالث من وجوه تفصى التقريرات عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث وقد أفاد في تقرير هذا الوجه عبارة طويلة عريضة بل هي مع طولها وعرضها مضطر به جدا (وملخصها) بعد التدبر التام فيها أنه كما قد يكون الشيء بنفسه مقدمة للغير فكذلك قد يكون الشيء المأتي به بداعي وجوبه الغيري مقدمة للغير لا ذات الشيء بنفسه ففي مثل هذه الصورة لا بد للمولى من أن يأمر أو لا بذات الشيء أمرا من سنخ الطلب الغيري ليتمكن العبد بوسيلة هذا الأمر من الإتيان بما هو المقدمة أي من الإتيان بالشيء بداعي وجوبه الغيري ثم يأمر بذي المقدمة فيترشح منه الوجوب الغيري إلى ما هو المقدمة وهي الإتيان بالشيء بداعي وجوبه الغيري (وعليه) فاعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث يكون من هذه الجهة لا من جهة اقتضاء أمرها الغيري ذلك أي الإتيان بها بداعي أمرها (وقد أجاب عنه المصنف) بما حاصله أن ذات الشيء إذا لم تكن مقدمة بل
363

كانت المقدمة هي الشيء المأتي به بداعي وجوبه الغيري فلا يكاد يترشح إليها الأمر الغيري من ذي المقدمة فمن أين يجيء طلب آخر من سنخ الطلب الغيري يتعلق بذاته ليتمكن به العبد من الإتيان بما هو المقدمة أي من الإتيان بالشيء بداعي وجوبه الغيري (وفيه) أن الشيء بعد فرض عدم كونه بذاته مقدمة بل المقدمة هي الشيء المأتي به بداعي وجوبه الغيري وان استحيل ترشح الوجوب الغيري إليه ولكن لا يستحيل تعلق الطلب الغيري المنشأ بخطاب مستقل به فإذا أمر المولى أولا بذات الشيء ليصير ذا أمر ويتمكن العبد من الإتيان به بداعي وجوبه الغيري ثم أمر بذي المقدمة فقهرا يترشح الأمر الغيري في الفرض المذكور إلى ما هو المقدمة وهو الإتيان بالشيء بداعي وجوبه الغيري (نعم يرد على التقريرات) حينئذ مضافا إلى أن هذا الوجه ليس شيئا جديدا غير ما تقدم من المصنف من قوله ثانيهما ما محصله... إلخ إذ لا فرق واقعا بين أن يقال ان الغرض من الصلاة مثلا لا يحصل الا بالإتيان بالطهارة بداعي وجوبها الغيري أو يقال ان الطهارة بنفسها ليست هي مقدمة للصلاة إلا إذا أتى بها بداعي وجوبها الغيري ما سيأتي الإشارة إليه من المصنف من أنه ليس لنا في الطهارات الثلاث أمران أحدهما بذات العمل والآخر بإتيانها بداعي وجوبها الغيري ليصح اعتبار قصد القربة فيها بهذه الوسيلة فانتظر.
(قوله هذا مع أن في هذا الالتزام ما في تصحيح اعتبار قصد الطاعة في العبادة... إلخ) أي هذا مع أن في هذا الالتزام يعنى الالتزام بتعدد الأمر في الطهارات الثلاث ما أوردناه سابقا على الالتزام بتعدد الأمر في العبادات في بحث التعبدي والتوصلي من القطع بأنه ليس في العبادات الا أمر واحد (بل وأورد عليه هناك أمرا آخر أيضا) كان محصله أن الأمر الأول المتعلق بذات العمل إن كان توصليا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه فلا يبقى مجال
364

لموافقة الثاني وذلك لسقوط الأول الذي هو موضوع الأمر الثاني وإن كان تعبديا لا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه بدون قصد الأمر فلا وجه لعدم سقوطه الا عدم حصول الغرض منه ومعه يستقل العقل بإتيانه على نحو يحصل الغرض منه فلا حاجة إلى الأمر الثاني (نعم) نحن أشكلنا هناك على المصنف بان مجرد كون الأمر الأول تعبديا لا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه بدون قصد الأمر واستقلال العقل معه بإتيانه على نحو يحصل منه الغرض مما لا يمنع عن أمر الشارع به على طبق حكم العقل أي بإتيانه على نحو يحصل منه الغرض إلا أن التقريرات لا يكاد يمكنه هنا فرض الأمر الأول تعبديا بعد تصريحه في المقام بأنه لا بد من طلب آخر من سنخ الطلب الغيري... إلخ ومن الواضح أن مع فرض الأول توصليا لا تعبديا يرد عليه إشكال المصنف من أن الأول إذا كان توصليا يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه ولو لا بقصد الأمر فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله (قال) هناك فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة... إلخ فراجع وتدبر جيدا.
(قوله الثاني أنه قد انقدح مما هو التحقيق... إلخ) المقصود من عقد هذا التذنيب الثاني هو تضعيف الدليل الذي أقامه التقريرات على اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات العبادية على صفة الوجوب (وتفصيله) ان صاحب التقريرات كما سيأتي في الأمر الرابع يختار اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات مطلقا سواء كانت عبادية أو غير عبادية على صفة الوجوب (قال) وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بالواجب الغيري لأجل التوصل به إلى الغير أو لا وجهان أقواهما الأول (وظاهر) هذه العبارة كما ذكرنا هو اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات مطلقا على صفة الوجوب من غير اختصاص بالعبادية فقط وأصرح من ذلك في الإطلاق
365

ما أفاده في ظهور الثمرة (قال) نعم تظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق فلو قلنا بعدم اعتبار قصد الغير في وقوع المقدمة على صفة الوجوب لا يحرم الدخول في ملك الغير إذا كانت مقدمة لإنقاذ غريق بل يقع واجبا سواء ترتب عليه الغير أو لا وان قلنا باعتباره في وقوعها على صفة الوجوب فيحرم الدخول ما لم يكن قاصدا لإنقاذ الغريق (قال) كذا أفاد الأستاذ انتهى (ثم إنه استدل) رحمه الله لاعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات الغير العبادية على صفة الوجوب بملاحظة الأوامر العرفية المعمولة عند الموالي والعبيد (قال) فان الموالي إذا أمروا عبيدهم بشراء اللحم الموقوف على الثمن فحصل العبد الثمن لا لأجل اللحم لم يكن ممتثلا للأمر الغيري قطعا وان كان بعد ما بدا له الامتثال مجزيا (وفيه ما لا يخفى) فان عدم حصول الامتثال مما لا ينافي الوقوع على صفة الوجوب كما هو الشأن في كل واجب توصلي ولو كان نفسيا لا غيريا (واستدل أيضا رحمه الله) لاعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمات العبادية على صفة الوجوب بما حاصله ان الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب وقصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية وقصد عنوان المقدمية مما لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها (ثم ان المصنف) قدس سره لا كلام له هاهنا معه في المقدمات الغير العبادية فان المتكفل للبحث عن ذلك هو الأمر الرابع وستعرف أن مختاره هو عدم اعتبار قصد التوصل فيها وانما كلامه هاهنا معه في خصوص المقدمات العبادية فيعترف فيها في الجملة باعتبار قصد التوصل في وقوعها على صفة الوجوب ولكن يضعف دليل التقريرات الذي قد أقامه على ذلك ويثبت الاعتبار من طريق آخر (وحاصل كلامه) أن صحة المقدمات العبادية كالطهارات الثلاث بناء على ما حققناه في وجه اعتبار قصد القربة فيها من كونها عبادات نفسية
366

في حد ذاتها مما لا تتوقف على قصد التوصل بها إلى غاية من غاياتها أصلا إذ المكلف من قبل دخول الوقت يأتي بها بداعي الأمر النفسي الندبي أو بداعي حسنها ورجحانها وبعد دخول الوقت يمكنه الإتيان بها بداعي ملاك الأمر الندبي أو بداعي حسنها ورجحانها من دون حاجة إلى قصد التوصل بها إلى ذيها أبدا وان صح مع قصد التوصل بها أيضا كما في الأغلب (هذا) إذا قلنا بكونها عبادات نفسية (وأما إذا لم نقل) بكونها عبادات نفسية في حد ذاتها بل تفصينا عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث بأحد الوجهين الأخيرين من الوجوه الثلاثة المتقدمة فقصد التوصل بها إلى ذيها وإن كان معتبرا فيها قطعا لكن ذلك لأن قصد الأمر الغيري الذي هو لا بد منه في الوجهين الأخيرين مما لا يكاد ينفك عن قصد التوصل بها إلى ذيها بل قصد التوصل بها إلى ذيها هو الملاك في وقوعها عبادة وان لم يقصد أمرها الغيري أصلا لغفلة عنه أو لعدم القول بوجوب المقدمة غيريا لا لأن الامتثال مما يتوقف على قصد عنوان الواجب وقصد عنوان الواجب هنا هو قصد عنوان المقدمية وهو مما لا يتحقق بدون قصد التوصل بها إلى ذيها فان الامتثال وإن كان يتوقف على قصد عنوان الواجب لكن العنوان الذي يكون تحت الأمر وقد تعلق به الحكم في لسان الدليل كعنوان الصلاة أو الصوم أو الزكاة ونحو ذلك لا كعنوان المقدمية مما لم يتعلق به الأمر أصلا فان الوجوب الغيري إنما يترشح إلى ذات المقدمة وحقيقته وما هو بالحمل الشائع مقدمة لا إلى عنوان المقدمة وان كان هذا العنوان هو العلة لترشح الوجوب الغيري إلى ذاتها فتأمل جيدا.
(قوله نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري... إلخ) يعنى أحد الوجهين الأخيرين المبنيين على وجوب قصد الأمر الغيري
367

في مختار المعالم من اشتراط وجوب المقدمة بإرادة ذي المقدمة
(قوله الأمر الرابع لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء على الملازمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة... إلخ) وحاصل ما في هذا الأمر الرابع أن في وجوب المقدمة تفاصيل (منها) ما يلوح من كلام صاحب المعالم من اشتراط وجوب المقدمة على القول به بإرادة ذي المقدمة فان أراد المكلف الإتيان بذي المقدمة وجبت المقدمة والا فلا وقد ذكر المصنف هنا عبارته في بحث الضد حيث (قال فيه ما هذا لفظه) وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر انتهى (ومنها) مختار الشيخ أعلى الله مقامه على ما يظهر من التقريرات وقد تقدم تفصيله آنفا في صدر التذنيب الثاني من أن الواجب هو المقدمة المقصودة بها التوصل إلى ذيها فان أتى بها ولم يقصد بها التوصل فلا تقع على صفة الوجوب أصلا والفرق بين هذا وسابقه أن قصد التوصلي على الأول شرط لوجوب المقدمة وعلى الثاني شرط للواجب الغيري (ومنها) مختار الفصول من القول بالمقدمة الموصلة أي ان الواجب خصوص المقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة ويتوصل بوسيلتها إلى ذي المقدمة واما إذا لم يترتب عليها ذو المقدمة فلا تقع على صفة الوجوب أبدا والفرق بين هذا ومختار الشيخ ان النسبة بينهما عموم من وجه (فقد تكون) المقدمة مما قصد به التوصل
368

إلى ذي المقدمة ولا تكون موصلة لطرو مانع عن ذي المقدمة أو لعزم المكلف على العصيان والطغيان بعد أن كان عازما على الامتثال والإتيان (وقد تكون) موصلة ولا تكون مقصودة بها التوصل كما إذا أتى بالمقدمة لا بقصد التوصل بها إلى ذيها ثم بدا له الامتثال وأتى بالواجب وترتب عليها ذو المقدمة (وقد تكون) مقصودة بها التوصل وتكون موصلة إلى ذيها كما في الأغلب.
(قوله وأنت خبير بان نهوضها على التبعية واضح... إلخ) أي وأنت خبير بان نهوض الحجة على التبعية وهي استقلال العقل في الحكم بها بعد حكمه بأصل الملازمة واضح ظاهر وإن لم يكن حكمه بأصل الملازمة بهذا الوضوح والظهور (وبعبارة أخرى) إن دعوى ترشح الوجوب المشروط من الواجب المطلق إلى مقدمته هي أعجب بمراتب من إنكار أصل الملازمة رأسا (هذا مضافا) إلى ما أورده التقريرات عليه من عدم معقولية اشتراط وجوب الواجب بإرادة المكلف وذلك لأدائه إلى إباحة الواجب وهو جيد متين لا ينكر.
في مختار الشيخ من وجوب المقدمة المقصودة بها التوصل دون غيرها
(قوله وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذي المقدمة كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بعض
أفاضل مقرري بحثه... إلخ) شروع في بيان مختار الشيخ أعلى الله مقامه في مقدمة الواجب من أن الواجب منها خصوص المقدمة
369

المقصودة بها التوصل دون غيرها وقد ذكرنا تفصيل كلام التقريرات في صدر التذنيب الثاني من تذنيبي النفسي والغيري مبسوطا فلا نعيد.
(قوله أو ترتب ذي المقدمة عليها بحيث لو لم يترتب عليها يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب كما زعمه صاحب الفصول قدس سره... إلخ) إشارة إلى مختار الفصول في مقدمة الواجب من أن الواجب منها خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها وقد أشرنا في صدر هذا الأمر الرابع إلى مختاره بنحو الإجمال وسيأتي تفصيله مع ما فيه من النقض والإبرام قريبا فانتظر.
(قوله أما عدم اعتبار قصد التوصل... إلخ) دليل لمختار المصنف وتضعيف لمختار الشيخ أعلى الله مقامه (وحاصله) أن ملاك حكم العقل بوجوب المقدمة والملازمة بين وجوبها ووجوب ذي المقدمة ليس إلا التوقف والمقدمية وهما موجودان في كل من المقدمة المقصودة بها التوصل وغيرها مما لم يقصد بها التوصل فلا وجه لتخصيص الوجوب ببعض دون بعض.
(قوله ولذا اعترف بالاجتزاء بما لم يقصد به ذلك في غير المقدمات العبادية... إلخ) حيث قال في التقريرات كما تقدم تفصيله (ما هذا لفظه) فان الموالي إذا أمروا عبيدهم بشراء اللحم الموقوف على الثمن فحصل العبد الثمن لا لأجل اللحم لم يكن ممتثلا للأمر الغيري قطعا وإن كان بعد ما بدا له الامتثال مجزيا لأن الغرض منه التوصل انتهى (ثم ان الاجتزاء) بما لم يقصد به التوصل الذي اعترف به صاحب التقريرات دليل آخر في الحقيقة لمختار المصنف وتضعيف ثاني لمختار الشيخ أعلى الله مقامه فان الواجب لو لم يكن مطلق المقدمة سواء قصد بها التوصل أو لم يقصد بها لم يجتز بما لم يقصد به التوصل ولم يسقط به الوجوب قطعا.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أن مجرد الاجتزاء بما
370

يقصد به التوصل مما لا يكشف عن اتصافه بالوجوب الغيري وهذا كما في المقدمة المحرمة حيث يجتزئ بها وليست هي متصفة بالوجوب قطعا إلا أن عدم الاتصاف بالوجوب فيها كما سيأتي ليس الا لأجل المانع عنه وهو الاتصاف بالحرمة لا لفقد المقتضى أي الملاك كما لا يخفى وعليه فلا يبقى وجه لقوله فافهم جيدا.
(قوله لما عرفت من أنه لا يكاد يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لأمرها... إلخ) حيث قال فيما تقدم فان الأمر الغيري لا يكاد يمتثل الا إذا قصد التوصل إلى الغير... إلخ.
(قوله وآخذا في امتثال الأمر بذيها... إلخ) قد تقدم منا المنع عن ذلك في التذنيب الأول قبل الشروع في إشكال ودفع فان الإتيان بالمقدمة ولو مع قصد التوصل بها إلى ذيها لا يكاد يكون شروعا في امتثال الأمر بذي المقدمة الا من عند الشروع بنفس ذي المقدمة فلا تغفل.
(قوله فيقع الفعل المقدمي على صفة الوجوب ولو لم يقصد به التوصل... إلخ) تفريع على عدم اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب وإشارة إلى الثمرة بين القول باعتبار قصد التوصل وعدمه (وقد أشار صاحب التقريرات) إلى الثمرة المذكورة بقوله المتقدم منا نعم تظهر الثمرة من جهة بقاء الفعل المقدمي على حكمه السابق... إلخ فتذكر.
(قوله غاية الأمر يكون حينئذ متجريا فيه... إلخ) أي غاية الأمر يكون حينئذ متجريا في الدخول في ملك الغير مع عدم الالتفات إلى التوقف والمقدمية كما أنه مع الالتفات إليهما يكون متجريا بالنسبة إلى الإنقاذ والإطفاء إذا دخل ملك الغير ولم يقصد به التوصل إلى ذي المقدمة.
(قوله وأما إذا قصده ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي بل بداعي أمر
371

أكده بقصد التوصل فلا يكون متجريا أصلا... إلخ) كما إذا دخل بستان الغير لا بداعي التوصل به إلى إنقاذ الغريق بل بداعي السياحة في البستان ولكن أكد هذا الداعي بقصد التوصل بالدخول إلى الإنقاذ فلا يكون حينئذ متجريا بالنسبة إلى الواجب أصلا.
(أقول) وفي الحكم بعدم التجري في الفرض المذكور مسامحة واضحة (وتوضيحه) أنه:
(تارة) يكون كل من السياحة وقصد التوصل إلى الإنقاذ داعيا مستقلا برأسه بحيث لو كان كل منهما وحده لدخول في ملك الغير.
(وأخرى) يكون مجموع السياحة والتوصل إلى الإنقاذ داعيا مستقلا برأسه بحيث لو كان كل منهما وحده لم يدخل في ملك الغير.
(وثالثة) يكون السياحة داعيا مستقلا برأسه أكده بقصد التوصل إلى الإنقاذ بحيث لو لم يكن التوصل لدخول في ملك الغير أيضا لا بالعكس.
(ورابعة) يكون قصد التوصل داعيا مستقلا برأسه أكده بالسياحة بحيث لو لم تكن السياحة لدخل في ملك الغير أيضا لا بالعكس ففي الصورة الأولى والرابعة لا تجري بالنسبة إلى الواجب أصلا إذ المفروض أنه لو لم تكن السياحة لدخل في ملك الغير وأنقذ الغريق وفي الصورة الثانية والثالثة متجري بالنسبة إلى الواجب لا محالة إذ لو لم تكن السياحة لم يدخل في ملك الغير ولم ينقذ الغريق أصلا وهذا هو التجري بالنسبة إلى الواجب.
(قوله وبالجملة يكون التوصل بها إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة... إلخ) بمعنى أن التوصل بها إلى ذي المقدمة هو الغرض الأقصى الذي يترتب على المقدمة غالبا ويجوز انفكاكه عن الواجب أحيانا في قبال الغرض الأدنى الباعث للأمر الذي لا يكاد ينفك عن الواجب أصلا
372

وليس قصد التوصل قيدا وشرطا لوقوع المقدمة على صفة الوجوب والا لم يجتز بما لم يقصد به التوصل ولم يسقط به الوجوب الغيري أبدا وقد اعترف التقريرات بالاجتزاء بذلك كما تقدم منه قبلا فتذكر.
(قوله لملاك ثبوت الوجوب في نفسها... إلخ) والصحيح كما في بعض النسخ هكذا لثبوت ملاك الوجوب في نفسها.
(قوله ولا يقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها حيث يسقط به الوجوب مع أنه ليس بواجب... إلخ) إشارة إلى ما قد يقال من أن سقوط الوجوب بما لم يقصد به التوصل وحصول الاجتزاء به لا يكاد يكشف عن اتصافه بالوجوب وهذا كما في الفرد المحرم من المقدمة حيث يجتزئ به ويسقط به الوجوب وليس بواجب (فيقول) كما أشير قبلا إن عدم اتصافه بالوجوب ليس الا لمانع عنه وهو الحرمة لا لفقد المقتضى فيه أي الملاك من التوقف والمقدمية فلو لا المانع لا تصف الفرد المحرم بالوجوب كغيره من الفرد المباح قطعا.
(قوله والعجب أنه شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة... إلخ) (قال في التقريرات) بعد ما نقل مقالة الفصول من الالتزام بالمقدمة الموصلة ما هذا لفظه وكيف كان فوضوح فساد هذه المقالة بمكان لا نقدر على تصور ما أفاده فضلا عن التصديق به ونحن بمعزل عن ذلك بمراحل (إلى أن قال) يرد عليها أمور أما أولا فلأنه قد مر فيما تقدم مرارا أن الحاكم بوجوب المقدمة على القول به هو العقل وهو القاضي فيما وقع من الاختلافات فيه ونحن بعد ما استقصينا التأمل لا نرى للحكم بوجوب المقدمة وجها الا من حيث أن عدمها يوجب عدم المطلوب وهذه الحيثية هي التي تشترك فيه جميع المقدمات انتهى (فيقول المصنف) والعجب من التقريرات حيث أنه شدد
373

الإنكار على الفصول وأورد عليه بما يتوجه على نفسه أيضا فكما أنه قال للفصول إن مناط وجوب المقدمة هو علية عدمها لعدم المطلوب وهو موجود في كل من الموصلة وغيرها فكذلك نحن نقول للتقريرات إن المناط المزبور هو موجود في كل من المقدمة المقصودة بها التوصل وغيرها فما وجه تخصيص الوجوب بالمقدمة المقصودة بها التوصل دون غيرها.
في مختار الفصول من وجوب المقدمة الموصلة دون غيرها
(قوله وأما عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب... إلخ) شروع في تضعيف مختار الفصول من القول بالمقدمة الموصلة أي إن الواجب هي المقدمة التي يترتب عليها ذو المقدمة دون غيرها وقد تقدم الإشارة إلى مختاره في صدر الأمر الرابع وهذا هو موضع النقض والإبرام فيه مبسوطا (وقد استند المصنف) في تضعيفه وإثبات كون الواجب هو مطلق المقدمة سواء كانت موصلة أو غير موصلة إلى أمرين.
(الأول) ما حاصله أن الغرض من وجوب المقدمة هو التمكن من ذي المقدمة والقدرة على الواجب وهو موجود في كل من المقدمة الموصلة وغيرها مترتب على كل منهما فلا وجه لاختصاص الوجوب بإحداهما دون الأخرى مع وجود المناط في كليهما جميعا وليس الغرض من وجوب المقدمة هو ترتب ذي المقدمة عليها خارجا فإنه ليس بأثر تمام المقدمات في غالب الواجبات يعنى المباشريات فكيف بإحداها فان أغلب الواجبات فعل اختياري
374

بنفسه كالصلاة والزكاة والحج ونحوها أي مقدور للمكلف بلا واسطة بحيث إذا تمت المقدمات فالمكلف باق على اختياره إن شاء أتى به وإن شاء لم يأت به نعم قد يتفق أن يكون الواجب فعلا تسبيبا توليديا أي مقدورا للمكلف مع الواسطة بحيث إذا أتى بالمقدمات والأسباب خرج الواجب عن تحت قدرته واختياره وترتب عليها قهرا كما في الإحراق والطلاق والعتاق والتمليك ونحوها (وعليه) فترتب ذي المقدمة في الواجبات المباشرية ليس بأثر تمام المقدمات لما فرض فيها من بقاء الاختيار بعد الإتيان بتمام المقدمات على حاله فضلا عن إحداها فكيف يكون هو الغرض من إيجاب كل واحدة من المقدمات نعم في التسبيبيات يتم ذلك بمعنى أنه صح أن يكون ترتب ذي المقدمة هو الغرض من إيجاب تمام المقدمات كما سيأتي تصريح المصنف بذلك حيث يقول نعم فيما كان الواجب من الأفعال التسبيبية والتوليدية كان مترتبا لا محالة على تمام مقدماته لعدم تخلف المعلول عن علته فانتظر.
(الثاني) ما حاصله أنه لا شبهة في سقوط الوجوب الغيري المتعلق بالمقدمة بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب الواجب عليها في الخارج فإذا أمر مثلا بشراء اللحم ووجب دخول السوق غيريا فبمجرد أن دخل السوق سقط الأمر الغيري إذ لا يعقل بقائه بعد دخول السوق لاستحالة طلب الحاصل فلو كان ترتب ذي المقدمة على المقدمة معتبرا في وقوعها على صفة الوجوب لم يسقط وجوبها من قبل ترتب ذيها عليها.
(أقول) أما الأمر الأول الذي استند إليه المصنف في تضعيف مختار الفصول فهو قابل للمناقشة إذ للفصول أن يدعى أن الغرض من إيجاب المقدمة هو ترتب ذي المقدمة عليها وانه أثر تمام المقدمات حتى في المباشريات إذا أدخلنا إرادة الفعل في المقدمات (وأما دعوى) أن الإرادة غير اختيارية
375

فلا يمكن القول بدخولها تحت الوجوب الغيري فقد تقدم منا في دفع شبهة الجبر في ذيل الطلب والإرادة ما يضعف هذه الدعوى وان الإرادة اختيارية باختيارية بعض مقدماتها فراجع.
(وأما الأمر الثاني) فهو أيضا قابل للمناقشة إذ للفصول أن يدعى أن المقدمة التي لم يترتب عليها ذوها بعدا فهي ليست بواجبة أصلا وما يترتب عليها ذوها بعدا فهي من حين الإتيان بها يسقط وجوبها وتقع على صفة الوجوب من دون انتظار للترتب في الخارج وذلك لكون الترتب بعدا شرطا متأخرا للواجب كما سيأتي (نعم) يمكن تقريب الأمر الثاني بنحو آخر يسلم من هذه المناقشة جدا فنقول لا شبهة في سقوط الوجوب الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب الواجب عليها في الخارج كما سمعت فلو كان ترتب ذيها عليها هو الغرض الباعث لإيجابها لم يسقط وجوبها قبل أن يترتب عليها ذوها وذلك لاستحالة سقوط الأمر قبل حصول الغرض الباعث للأمر بلا كلام فيها لأحد فمنه يعرف أن الغرض الباعث للأمر ليس هو الترتب وإن كان هو الغرض الأقصى الذي جاز سقوط الأمر قبل حصوله كما تقدم تحقيقه في المرة والتكرار وفي بحث الاجزاء أيضا بل الغرض الباعث للأمر الذي يستحيل سقوط الأمر قبل حصوله هو التمكن من ذي المقدمة وهو موجود في كل من الموصلة وغيرها على حد سواء فبالنتيجة هذا هو الدليل القوى الذي يضعف القول بالمقدمة الموصلة ويثبت به القول بوجوب مطلق المقدمة دون غيره فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة
.
(قوله ومن هنا قد انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات... إلخ) والسر في الاستلزام أن القائل بالمقدمة الموصلة يرى أن الغرض الداعي لإيجاب المقدمة هو ترتب ذي المقدمة
376

ومن المعلوم أن ترتب ذي المقدمة مما لا يصح أن يكون هو الغرض الداعي لا يجاب المقدمة إلا في مجموع مقدمات الواجبات التسبيبية دون غيرها وذلك لما عرفت من أن الترتب ليس بأثر تمام المقدمات في المباشريات فكيف بإحداها وهذا واضح.
(قوله فان قلت ما من واجب إلا وله علة تامة... إلخ) وحاصل الإشكال أنه كما اعترف المصنف في الواجبات التسبيبية بصحة كون الغرض من إيجاب تمام المقدمات هو ترتب الواجب عليها لأن مجموع المقدمات علة تامة للترتب فكذلك ينبغي الاعتراف بذلك في الواجبات المباشرية إذ ما من شيء إلا وله علة تامة فان الشيء ما لم يجب من ناحية العلة لم توجد فإذا يصح القول بالموصلة في المباشريات كما يصح في التسبيبيات عينا (وحاصل الجواب) أنه نعم ولكن الجزء الأخير من العلة التامة في المباشريات هو مبادئ اختيار الفعل أي الخطور والميل والجزم والشوق الأكيد المعبر عنه بالإرادة المحركة للعضلات على ما تقدم التفصيل في الطلب والإرادة والمبادي ليست باختيارية وإلا لكانت اختياريتها بمبادئ أخر فيتسلسل ومن المعلوم أن العلة المركبة من مبادئ غير اختيارية غير اختيارية فلا يصح تعلق الطلب الغيري بها لغرض ترتب الواجب النفسي عليها وهذا بخلاف العلة التامة في التسبيبيات فإنها بجميعها هي تحت الاختيار فيمكن تعلق الوجوب الغيري بمجموعها لغرض ترتب الواجب النفسي عليها فيصح القول حينئذ بالمقدمة الموصلة فيها بخصوصها دون غيرها (وفيه) أن الجزء الأخير من العلة التامة في المباشريات هو الإرادة وهي كما أشير آنفا وتقدم التفصيل في دفع شبهة الجبر في ذيل اتحاد الطلب والإرادة اختيارية باختيارية بعض مقدماتها (وعليه) فلا مانع من تعلق الوجوب الغيري بمجموع المقدمات في المباشريات وصح أن يكون
377

الغرض من إيجابها هو ترتب ذيها عليها كما في التسبيبات عينا (ولكن مع ذلك كله) قد عرفت منا آنفا أن الحق هو القول بوجوب مطلق المقدمة لا خصوص المقدمة الموصلة.
(قوله ولأنه لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط... إلخ) هذا هو الأمر الثاني الذي استند إليه المصنف في تضعيف مختار الفصول وإثبات كون الواجب هو مطلق المقدمة لا خصوص المقدمة الموصلة فلا تغفل.
(قوله مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة أو بالعصيان والمخالفة أو بارتفاع موضوع التكليف... إلخ) فإذا قال مثلا أكرم زيدا يوم الجمعة فسقوط وجوب الإكرام لا يكون إلا بامتثاله وإكرامه أو بعصيانه ومخالفته حتى ينقضي الوقت أو بارتفاع موضوع التكليف من أصله من قبل الامتثال والإكرام كما إذا مات زيد في المثال أو غرق الميت أو حرق في مثل قوله اغسل الميت وكفنه ثم ادفنه.
(قوله ان قلت كما يسقط الأمر في تلك الأمور كذلك يسقط بما ليس بالمأمور به... إلخ) وحاصل الإشكال أنه كما يسقط الأمر بكل من الموافقة والعصيان وارتفاع موضوع التكليف فكذلك قد يسقط في التوصليات بغير المأمور به مما يحصل به الغرض كفعل الغير أو فعل المحرم كما إذا غسل الغير ثوبه للصلاة مثلا أو ركب هو الدابة المغصوبة وسار معها إلى الحج (وعليه) فسقوط الأمر الغيري بمجرد الإتيان بالمقدمة من دون انتظار لترتب ذي المقدمة مما لا يكشف عن كونها متعلقة للوجوب الغيري وقد سقط قبل الترتب كي يقال إنه لو كان الترتب معتبرا في وقوعها على صفة الوجوب لم يسقط وجوبها المتعلق بها من قبل ترتب ذيها عليها (وحاصل الجواب) أنه نعم قد يسقط الأمر بغير المأمور به مما يحصل به الغرض ولكن الكلام هنا في الفعل
378

الاختياري الصادر من المكلف بنفسه ولم يكن فيه مانع عن اتصافه بالوجوب وهو كونه محرما بالفعل ففي مثله إذا سقط الأمر بمجرد الإتيان به فهو لا محالة يكشف عن اتصافه بالوجوب من غير تفاوت فيه بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه أصلا.
(قوله وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه بوجوه... إلخ) (قال في الفصول) في التنبيه الأول من تنبيهات مقدمة الواجب (ما هذا لفظه) إن وجوب مقدمة الواجب غيري وبينا أيضا يعنى في ذيل تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري قبل الشروع في مقدمة الواجب أنه يعتبر في اتصاف الواجب الغيري بالوجوب كونه بحيث يترتب عليه الغير الذي يجب له حتى أنه لو انفك عنه كشف عن عدم وقوعه على الوجه الذي يجب فلا يتصف بالوجوب ونقول هنا توضيحا لذلك وتأكيدا له إن مقدمة الواجب لا يتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة الا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة لا بمعنى أن وجوبها مشروط بوجوده فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فان ذلك متضح الفساد كيف وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لإطلاق وجوبه وعدمه بل بمعنى أن وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب حتى انها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية لعدم وجودها على الوجه المعتبر فالتوصل إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من يتفطن له (ثم ساق الكلام) بمثل ما ذكر المصنف في الكتاب بعينه (وملخص مجموع ما ذكرناه وما ذكره المصنف من كلامه) أن ترتب الواجب على المقدمة ليس شرطا لوجوب المقدمة فان ذلك وان فرض أنه معقول بنحو الشرط المتأخر ولكنه فاسد جدا لما حققناه
379

من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط ولكنه من قبيل شرط الواجب أي الشرط المتأخر له فإذا تحقق الشرط بعدا في موطنه اتصف المقدمة بالوجوب من الآن والا فلا (والدليل على المدعى) وهو أن الواجب خصوص المقدمة التي يتوصل بها إلى الواجب دون غيرها أمور ثلاثة (الأول) أن الحاكم
بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته هو العقل وهو لا يحكم أزيد من القدر المذكور أي بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته التي يتوصل بها إلى ذيها.
(الثاني) أنه لا يأتي العقل أن يقول الآمر الحكيم انى أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إليه دون المسير الذي لا يتوصل به إليه بل الضرورة قاضية بجواز تصريحه بمثل ذلك.
(الثالث) أن وجوب المقدمة ليس الا للتوصل بها إلى ذيها فلا جرم يكون التوصل بها إلى ذيها دخيلا في مطلوبيتها فإذا انفكت المقدمة عن التوصل لم تكن مطلوبة أصلا.
(قوله وقد عرفت بما لا مزيد عليه أن العقل الحاكم بالملازمة... إلخ) شروع في الجواب عن الدليل الأول للفصول (وحاصله) بمزيد توضيح منا أن الحاكم بالملازمة وان كان هو العقل ولكن المناط في حكمه بالملازمة وهو الغرض الباعث للأمر بالمقدمة ليس كما تقدم إلا حصول التمكن من الإتيان بذي المقدمة وهو موجود في كل من الموصلة وغيرها على حد سواء ومعه كيف يحكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها.
(قوله وقد انقدح منه أنه ليس للآمر الحكيم الغير المجازف بالقول ذلك التصريح... إلخ) شروع في الجواب عن الدليل الثاني للفصول و
380

ابتلي المصنف في المقام بالتطويل على خلاف عادته في سائر المقامات ومع ذلك لم يؤد حقه كما ينبغي (والحق في الجواب عنه) ان يقال نعم لا يأتي العقل أن يصرح الآمر الحكيم ويقول أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إليه دون المسير الذي لا يتوصل إليه ولكن لا يأتي العقل أيضا أن يصرح الآمر الحكيم ويقول لمن سار إلى الحج ولم يحج عصيانا انك قد أتيت بمطلوبي الغيري ولم تأت بمطلوبي النفسي (والسر) في جواز التصريحين جميعا ان الطلب المقدمة غيريا غرضين غرض أدنى وهو حصول القدرة على الواجب بوسيلة المقدمة كما تقدم وغرض أقصى فوق الغرض الأدنى وهو ترتب الواجب على المقدمة والتوصل بها إليه (فان صرح) وقال لمن سار إلى الحج ولم يحج عصيانا انك قد أتيت بمطلوبي الغيري ولم تأت بمطلوبي النفسي فهو حق فان المسير كان مطلوبا له لأجل الحج وقد تمكن بوسيلة المسير من الإتيان بالمناسك ولم يفعل (وان صرح) وقال أريد المسير الذي يتوصل به إلى الحج ولا أريد المسير الذي لا يتوصل به إليه فهو أيضا حق ولو بنحو من العناية لأجل عدم ترتب الغرض الأقصى وهو ترتب الواجب عليه خارجا فكأنه ليس بمطلوب له أصلا (وبالجملة) إن من سار إلى الحج ولم يحج فان كان عدم حجه لمانع منعه عنه فهو مما يكشف عن عدم الأمر بذي المقدمة واقعا على كل من القول بالموصلة وغيرها واما إذا كان عدم حجه لعصيان المكلف وتعمده في الترك بلا عذر ولا مانع عنه فذلك لا يكون دليلا على عدم اتصاف المسير الخارجي بالوجوب الغيري بل كان واجبا واقعا غيريا لأجل الحج غايته انه قد أتى بالمطلوب الغيري ولم يأت بالمطلوب النفسي وهذا لدى التدبر واضح فتدبر.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى ضعف قوله كما جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته فان الغيري الذي لم يترتب عليه الواجب إذا لم
381

تكن فيه فائدة كان الحق إذا مع الفصول فلا وجه لاتصافه بالوجوب أصلا بل الغيري الذي لم يترتب عليه الواجب فيه فائدة جدا وهو الغرض الأدنى أي حصول القدرة بوسيلته على الإتيان بالواجب النفسي وبها قد اتصف بالوجوب الغيري وان لم يكن فيه الغرض الأقصى وهو ترتب الواجب عليه خارجا.
(قوله وأما ما أفاده قدس سره من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت لمجرد التوصل بها فلا جرم... إلخ) شروع في الجواب عن الدليل الثالث للفصول (وحاصله) ان الغرض من الأمر بالمقدمة كما تقدم في الدليل الأول من دليلي المصنف على وجوب مطلق المقدمة هو حصول التمكن من الواجب لا التوصل بها إلى ذيها كي يكون التوصل دخيلا في مطلوبيتها بحيث إذا انفكت عنه لم تكن مطلوبة أصلا وذلك لما عرفت من أن التوصل بها ليس من آثار تمام المقدمات في المباشريات فضلا عن إحداها بل مما يترتب عليها أحيانا باختيار المكلف بمبادئه الخاصة المتقدمة.
(أقول) قد عرفت منا ضعف التعليل المذكور لبطلان كون التوصل هو الغرض من الأمر بالمقدمة وان الصحيح في مقام إبطال ذلك هو الاعتماد على الدليل الثاني من الدليلين لكن على التقريب الذي نحن ذكرناه له لا على تقريب المصنف فتأمله جيدا.
(قوله وصريح الوجدان إنما يقضى بان ما أريد لأجل غاية وتجرد عن الغاية... إلخ) رد على ما أفاده الفصول في ذيل الدليل الثالث من قوله وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه... إلخ (وحاصل الرد) أن صريح الوجدان قاض بان ما أريد لأجل غاية وتجرد من الغاية بسبب عدم حصول سائر ما له دخل في تحققها كإرادة المكلف واختياره لها يقع على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية
382

كيف ولو كان وقوع المقدمة على صفة المطلوبية الغيرية منوطا بحصول ذي المقدمة كما زعم الفصول وصرح به في آخر كلامه المتقدم لزم أن يكون وجود الغاية من قيود ذي الغاية وان يكون ذو المقدمة مقدمة لوقوع المقدمة على نحو تكون الملازمة بين وجوبها غيريا ووجوب ذيها نفسيا (وهو كما ترى) فان الغاية لا تكاد تكون من قيود ذي الغاية وإلا لزم أن يكون الواجب النفسي مطلوبا غيريا بطلب المقدمة كسائر قيود المقدمة (وبعبارة أخرى) ان التوصل إلى ذي المقدمة ان كان عنوانا تقييديا للمقدمة كان وقوعها لا محالة على صفة الوجوب منوطا بحصول ذي المقدمة وكان تحلف العنوان موجبا لعدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كسائر العناوين التقييدية إذا تخلفت كالستر والقبلة والطهارة ونحوها من القيود المأخوذة في لسان الدليل بالنسبة إلى الصلاة فإذا تخلفت لم تقع الصلاة على صفة المطلوبية وأما إذا كان التوصل عنوانا تعليليا بان كان علة لتعلق الوجوب الغيري بالمقدمة من دون أن يكون قيدا مأخوذا في لسان الدليل فتخلفه مما لا يوجب عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية فكأن الفصول رحمه الله قد خلط بين الجهات التقييدية والتعليلية.
(أقول) اما قول الفصول وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه... إلخ. فهو كبرى كلية لا ينبغي المناقشة
فيها أبدا سواء كان حصول الشيء الآخر عنوانا تقييديا أو تعليليا (ولكن الصحيح) في جواب الفصول هو منع الصغرى في المقام بمعنى ان المقدمة لم يردها المولى لحصول ذي المقدمة كي إذا لم يحصل لم تقع المقدمة على صفة المطلوبية بل أرادها كما عرفت قبلا لحصول التمكن من ذي المقدمة ولم تتجرد عنه وان كان حصول ذي المقدمة هو الغرض الأقصى للمقدمة (وقد أشار المصنف) إلى ذلك في جوابه الثاني عن صريح الوجدان بقوله الآتي هذا
383

مع ما عرفت من عدم التخلف هاهنا وان الغاية إنما هو حصول ما لولاه لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي... إلخ (واما دعوى المصنف) انه لو لم يقع ما أريد لأجل غاية وتجرد عنها على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية لزم أن يكون وجود الغاية من قيود ذي الغاية فمما لا ضير فيه فان مجرد كون الغاية من قيود ذي الغاية بمعنى كونها مقدمة وجودية له مما لا بأس به (وتوهم) انه يلزم حينئذ أن تكون الغاية مطلوبة بطلب ذي الغاية ضعيف جدا لجواز كون الغاية مقدمة وجودية لذي الغاية على نحو لا يترشح إليها الوجوب وذلك لما عرفت فيما تقدم من عدم كون مطلق المقدمة الوجودية واجبا غيريا وإنما الواجب منها ما أخذ على نحو يترشح إليه الوجوب كما إذا قال صل عن طهارة ولم يقل صل عند ما تطهرت وهذا واضح.
(قوله فلا يكون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها... إلخ) تفريع على قوله ضرورة ان الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية... أي فلا يكون وقوع ذي الغاية على الصفة المطلوبية الغيرية منوطا بحصول الغاية كما أفاد الفصول.
(قوله هذا مع ما عرفت من عدم التخلف هاهنا... إلخ) إشارة إلى الجواب الثاني عن صريح الوجدان كما أشرنا إليه آنفا فلا تغفل.
(قوله ثم أنه لا شهادة على الاعتبار في صحة منع المولى... إلخ) لم أر في كلام الفصول استشهادا لاعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة بصحة منع المولى عن المقدمات بأنحائها إلا الموصلة منها وكأن المصنف قد أراد بكلامه هذا دفع ما قد يتوهم من أن في صحة منع المولى عن تمام المقدمات إلا ما إذا رتب عليه الواجب شهادة على صحة القول بالمقدمة الموصلة وان لم يستشهد بها الفصول (فيقول) انه لا شهادة في ذلك فإنه لو سلم صحة النهي كذلك فعدم
384

اتصاف ما سوى المقدمة الموصلة بالوجوب يكون لمانع وهو النهي لا لعدم المقتضى أي الملاك، ونحن قد اعترفنا سابقا بان المقدمة قد لا تجب لوجود المانع وهو النهي مع وجود المقتضى فتذكر.
(قوله مع ان في صحة المنع عنه كذلك نظر وجهه... إلخ) وحاصل وجه النظر انه لو منع المولى عن تمام المقدمات إلا الموصلة منها يلزم أن لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا لأن وجوب الواجب يتوقف على جواز المقدمة لئلا يفسد طريق الوصول إلى الواجب وجواز المقدمة يتوقف على الإتيان بالواجب إذ مع الإتيان به تكون المقدمة موصلة جائزة بخلاف ما إذا لم يأت به فإذا يتوقف وجوب الواجب على الإتيان به فإذا لم يأت به فلا وجوب ولا مخالفة ولا عصيان وهو عين ما ذكرناه من لزوم أن لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا وان أتى به فعند ذلك يجب الواجب إذ في هذا الفرض يجوز مقدمته وينفتح طريق الوصول إليه وهو محال لاستحالة طلب الحاصل (ومن هنا يظهر) ان في صحة المنع عن المقدمات إلا الموصلة منها محذورين أحدهما على تقدير والآخر على تقدير آخر وقد أشار المصنف في الكتاب إلى كلا المحذورين بعبارة مضطربة وله عبارة أخرى في تعليقته على الكتاب يشير فيها إلى المحذور الثاني فقط (وعلى كل حال) يرد على المصنف ان وجوب الواجب وإن كان يتوقف على جواز المقدمة ولكن جواز المقدمة في المقام مما لا يتوقف على الإتيان بالواجب فان الإتيان به ليس شرطا لجواز المقدمة بل هو شرط متأخر لوجود المقدمة وقد أخذ على نحو لا يترشح إليه الوجوب وقد أشير إلى تفصيل الأخذ كذلك آنفا في ذيل التعليق على قوله وصريح الوجدان إنما يقضى... إلخ (وبالجملة) نتيجة الكلام انه يصح للمولى أن يأمر بالواجب ويأمر بمقدمته التي يترتب عليها الواجب بعدا وينهى عن
385

المقدمة التي لا يترتب عليها الواجب بعدا وأنه لا محذور في ذلك كله عقلا فتأمل جيدا.
في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة
(قوله بقي شيء وهو ان ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب... إلخ) سيأتي في مسألة الضد انه بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده سواء كان لأجل مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر أو لأجل التلازم بين كل ضد وعدم الآخر وان الحكم يسرى من الملازم إلى الملازم يكون الضد فاسدا شرعا إذا كان عبادة فإذا وجبت الإزالة وقلنا انه يقتضى النهي عن الصلاة أما لكون ترك الصلاة مقدمة للإزالة فيجب الترك ويحرم الفعل أو لكون ترك الصلاة ملازما لفعل الإزالة فتسري الوجوب من الإزالة إلى ترك الصلاة فيجب الترك ويحرم الفعل فالصلاة على كل حال فاسدة وذلك لما سيأتي من اقتضاء النهي الفساد في العبادات وان لم يقتض في المعاملات وقد أنكر صاحب الفصول هذه الثمرة فقال بالصحة ولو على القول بالاقتضاء وجعل ذلك من ثمرات القول بالمقدمة الموصلة (قال قدس سره في مسألة الضد) ما هذا لفظه فاعلم ان جماعة زعموا ان ثمرة النزاع في الضد الخاص تظهر فيما إذا دار الأمر بين واجب مضيق وعبادة موسعة فإنه لو أتى حينئذ بالموسع عصى وصحت عبادته بناء على القول بعدم الاقتضاء إذ لا مانع من الصحة وبطلت على القول بالاقتضاء (ثم ساق الكلام إلى أن قال ما لفظه) أقول والتحقيق عندي ان العبادة المذكورة صحيحة على القول بالاقتضاء أيضا كما هو المختار (ثم أفاد) في تحقيق ذلك
386

كلاما طويلا مضطربا جدا يشتمل على زوائد كثيرة ملخصه بعد التدبر التام فيه ان بناء على الاقتضاء والقول بالمقدمة الموصلة إذا وجبت الإزالة وجب ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة لا مطلق ترك الصلاة ولو كان مجردا عن ترتب الإزالة عليه فإذا وجب الترك الموصل حرم نقيضه وهو ترك الترك الموصل ولم يحرم الفعل لأن الفعل ليس نقيضا للترك الموصل كي يحرم إذ لو كان نقيضا له لم يجز ارتفاعهما جميعا ومن الواضح جواز ارتفاعهما جميعا كما في الترك المجرد الغير الموصل فلا هو فعل ولا هو ترك موصل فإذا لم يحرم الفعل لم يفسد قهرا وان كان عبادة كالصلاة ونحوها (لا يقال) إنه إذا وجب الترك الموصل مقدمة وحرم نقيضه وهو ترك الترك
الموصل فالنقيض معنى عام يشمل كلا من الفعل والترك المجرد جميعا فيحرمان بحرمته فإذا حرم الفعل فسد قهرا إذا كان عبادة (لأنه يقال) ان النقيض وهو ترك الترك الموصل معنى عام يجتمع مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخرى وليس هو معنى صادقا على كل من الفعل والترك المجرد كي يحرمان بحرمته (هذا ملخص ما يستفاد من كلامه رفع مقامه) ولكن المصنف تبعا للتقريرات قرب الثمرة بنحو آخر أخصر (قال في الكتاب) فان تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ليكون فعلها محرما فتكون فاسدة بل فيما يترتب عليه ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب فلا يكون تركها مع ذلك واجبا فلا يكون فعلها منهيا عنه فلا تكون فاسدة (انتهى) وملخصه ان مع الإتيان بالصلاة حيث لا يكون هناك ترتب ووصول فلا يكون تركها مع عدم الترتب والوصول واجبا كي يحرم الفعل ويفسد (وفيه ما لا يخفى) فان ظاهر ذلك بل صريحه ان عدم حرمة الصلاة حينئذ إنما هو من جهة سقوط الأمر الغيري المتعلق بالترك الموصل لا من جهة عدم سراية النهي من ترك الترك الموصل إلى الفعل نظرا إلى كون الفعل
387

مما يقارنه أحيانا لا من مصاديقه خارجا ونظر الفصول في عدم حرمة الفعل في المقام إلى الثاني لا إلى الأول فتأمل جيدا.
(قوله وربما أورد على تفريع هذه الثمرة... إلخ) هذا الإيراد من صاحب التقريرات (قال ما لفظه) ان الترك الخاص يعنى به الترك الموصل نقيضه رفع ذلك الترك وهو أعم من الفعل والترك المجرد لأن نقيض الأخص أعم مطلق كما قرر في محله فيكون الفعل لازما لما هو من أفراد النقيض وهذا يكفى في إثبات الحرمة وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا لأن الفعل على ما عرفت ليس نقيضا للترك لأنه أمر وجودي ونقيض الترك إنما هو رفعه ورفع الترك إنما هو يلازم الفعل مصداقا وليس عينه كما هو ظاهر عند التأمل فكما ان هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك يكفى في المقام (إلى أن قال) غاية الأمر ان ما هو النقيض في مطلق الترك إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط واما النقيض للترك الخاص فله فردان وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده كما لا يخفى. انتهى.
(أقول) قد أجاد صاحب التقريرات في الإيراد على الثمرة وفي إبطال العبادة مطلقا حتى على القول بالموصلة غير انه سامح رحمه الله في التعبير فان الفعل ليس لازما لترك الترك الموصل أو ترك الترك المطلق بل هو عينه مصداقا وخارجا وان اختلفا مفهوما وإدراكا فترك الترك المطلق وان كان يختلف مع الفعل مفهوما من قبيل اختلاف الإنسان مع الحيوان الناطق في المفهوم ولكنهما متحدان خارجا ومصداقا فيصدق على الفعل انه ترك الترك ويحمل عليه بالحمل الشائع وهكذا ترك الترك الموصل فهو معنى عام يختلف مع كل من الفعل والترك المجرد مفهوما ولكنه يتحد مع كل منهما خارجا ومصداقا فيصدق على كل من الفعل والترك المجرد انه ترك الترك الموصل ويحمل عليه
388

بالحمل الشائع (ومن هنا يظهر) ضعف ما أفاده المصنف في تضعيف إيراد التقريرات بإبداء الفرق بين ترك المطلق فيكون متحدا مع الفعل مصداقا وخارجا وبين ترك الترك الموصل فيكون مقارنا مجتمعا مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخرى (ووجه الضعف) ان كلا من ترك الترك المطلق وترك الترك الموصل على نمط واحد غايته انه في الأول له مصداق واحد وفي الثاني له مصداقان بشهادة صحة الحمل عليهما فكما انه إذا حرم ترك الترك المطلق يحرم الفعل ويفسد فكذلك إذا حرم ترك الترك الموصل فيحرم كل من الفعل والترك المجرد جميعا فإذا كان الفعل عبادة فيفسد.
(قوله إلا انه لازم لما هو من افراد النقيض... إلخ) ولو قال إنه فرد من فردي النقيض وهو ترك الترك الموصل كان أولى بل كان هو الصحيح وعلى كل حال ان هذا التعبير قد تقدم في كلام التقريرات والمصنف قد ذكره هنا بعينه ولم يغيره.
(قوله فإن الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا... إلخ) يعنى بالأول الترك الموصل الواجب لا الترك المطلق نظرا إلى أن محط كلام المصنف في أول الثمرة كان هو الترك الموصل حيث قال وربما أورد على تفريع هذه الثمرة بما حاصله ان فعل الضد وان لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة بناء على المقدمة الموصلة... إلخ أي فان الفعل فيما إذا وجب الترك الموصل لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك الموصل المجامع ذلك النقيض مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخرى.
(قوله ولا يكاد تسرى حرمة الشيء إلى ما يلازمه... إلخ) فإذا وجب استقبال الجنوب مثلا لم يجب استدبار الشمال شرعا مع كون الثاني ملازما للأول وذلك لأنه لا وجه عقلا لتسرية الحكم من الملازم إلى الملازم
389

وان وجب عقلا ان لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلى آخر يخالف حكم ملازمه مع جواز كونه محكوما بحكم واقعي كذلك وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى في مسألة الضد فانتظر.
(قوله فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما... إلخ) أي فلو لم يكن الفعل عين ما يناقض الترك المطلق بحسب الاصطلاح مفهوما أي عين ترك الترك المطلق أو رفع الترك المطلق فهو متحد معه عينا وخارجا فالفعل وترك الترك أو رفع الترك متغايران بحسب المفهوم متحدان بحسب المصداق والخارج.
في تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي
(قوله ومنها تقسيمه إلى الأصلي والتبعي... إلخ) كان اللازم ذكر هذا التقسيم في الأمر الثالث المنعقد لتقسيمات الواجب من المطلق والمشروط والمعلق والمنجز والنفسي والغيري لا في هذا الأمر الرابع المنعقد لبيان تفصيل المعالم والشيخ والفصول المتقدم شرح كل منها على حدة وكأنه نسيه هناك وتذكره هاهنا (وعلى كل حال) ان المناط في الأصالة بنظر المحقق القمي ان يكون الواجب مقصودا بالإفادة من الكلام والمناط في التبعية أن لا يكون مقصودا بالإفادة من الكلام وان استفيد تبعا كدلالة الآيتين على أقل الحمل وله كلام في مقدمة الواجب بعضه في المقدمة السادسة وبعضه في المقدمة السابعة يستفاد من مجموعه هذا المعنى صريحا فراجع (ثم ان الفصول) قد أورد على المحقق المذكور بقوله وزعم بعض المعاصرين ان الواجب الأصلي هو الذي استفيد وجوبه من اللفظ وقصده المتكلم منه والتبعي بخلافه وهو
390

واضح (انتهى) وفسر هو كلا من الأصلي والتبعي بمعنى آخر (فقال) فالأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقل أي غير لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعا لوجوب غيره والتبعي بخلافه وهو ما فهم وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلا كما في المفاهيم (انتهى) ومحصله ان المناط في الأصالة والتبعية هو الاستقلال بالخطاب وعدمه فان كان مستفادا من خطاب مستقل فهو الأصلي وان فرض وجوبه غيريا تابعا لوجوب غيره كما إذا قال أدخل السوق واشتر اللحم وان لم يكن مستفادا من خطاب مستقل فهو التبعي وان فرض وجوبه نفسيا غير تابع لوجوب غيره كما إذا استفيد ذلك بنحو المفهوم فقال مثلا إذا فسق العالم فلا يجب إكرامه وكان مفهومه إذا عدل العالم فيجب إكرامه (والظاهر) ان الثمرة بين الضابطين تظهر في مثل الدليل الالتزامية اللفظية فهي أصلية عند المحقق القمي لكونها مقصودة بالإفادة للمتكلم وتبعية عند الفصول لعدم كونها بخطاب مستقل وإنما هي لازم لخطاب آخر (ثم ان صاحب التقريرات) قد فسر الأصلي والتبعي بمعنى ثالث فجعل الأصلي عبارة عما تعلقت به إرادة مستقلة من جهة الالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه والتبعي عبارة عما لم تتعلق به إرادة مستقلة لعدم الالتفات إليه بما يوجب إرادته كذلك وإن تعلقت به إرادة إجمالية تبعا لإرادة غيره كما في الواجبات الغيرية الترشحية لا المنشأة بخطاب مستقل التي تعلقت بها إرادة مستقلة (والفرق) بينه وبين التفسيرين ان تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي بحسب هذا التفسير الأخير يكون بلحاظ مقام الثبوت والواقع أي بتعلق الإرادة النفسانية المستقلة به وعدمه وبحسب التفسيرين الأولين يكون بلحاظ مقام الإثبات والدلالة أي باعتبار كون الواجب مقصودا للمتكلم من اللفظ وعدمه أو باعتبار كونه مفهوما من خطاب مستقل وعدمه فإذا كان واجب لم يكن مستفادا
391

من اللفظ بل قد استفيد من دليل لبي من عقل أو إجماع ونحوهما لم يتصف بالأصلي والتبعي بحسب التفسيرين بخلافه بحسب هذا التفسير فان كان متعلقا للإرادة المستقلة فهو أصلي وإلا فهو تبعي (ومن هنا) قد اختار المصنف هذا التفسير الأخير وان التقسيم يكون بلحاظ مقام الثبوت والواقع لا بلحاظ مقام الإثبات والدلالة نظرا إلى ان عدم اتصاف الواجب الذي لم يكن بعد مفاد دليل لفظي بشيء من الأصلي والتبعي بعيد وإليه أشار أخيرا بقوله لكن الظاهر كما مر ان الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه وإلا لما اتصف بواحد منهما إذا لم يكن بعد مفاد دليل وهو كما ترى.
(أقول): كان الأولى ترك التعرض لهذا التقسيم من أصله فإنه مضافا إلى كونه مما لا فائدة فيه هو مما يمتاز عن سائر التقاسيم من حيث عدم مضبوطية المعنى المحدود فيه فان المحدود في سائر التقاسيم كالمطلق والمشروط والنفسي والغيري ونحوهما أمر معين مضبوط عند الجميع متسالم عليه عند الكل وإنما يقع الاختلاف في بيان حد جامع له العكس والطرد وفي المقام أصل المحدود غير مضبوط ولا معين فكل يفسره برأيه ويحدده بنظره فيكون الأصلي والتبعي في اصطلاح هذا غير الأصلي والتبعي في اصطلاح ذاك والأصلي والتبعي عند ذاك غير الأصلي والتبعي عند ثالث وهكذا ومعه لا يبقى للمناقشة في الحدود بالنقض والإبرام مجال أصلا لعدم المشاحة في الاصطلاح كما لا يخفى.
(قوله لا بلحاظ الأصالة والتبعية في مقام الدلالة والإثبات فإنه يكون في هذا المقام تارة مقصودا بالإفادة وأخرى غير مقصود بها على حده... إلخ) إشارة إلى تفسير المحقق القمي للأصلي والتبعي وهو التفسير الأول من التفاسير الثلاثة المتقدمة ولم يؤشر المصنف إلى تفسير صاحب الفصول أصلا
(قوله إلا انه لازم الخطاب كما في دلالة الإشارة ونحوها... إلخ)
392

المداليل الالتزامية كلها لازم الخطاب ولكنها على أقسام (فمنها) المنطوق الغير الصريح وهو المدلول بدلالة الاقتضاء والمدلول بدلالة الإيماء والمدلول بدلالة الإشارة في قبال المنطوق الصريح وهو المدلول المطابقي والتضمني على كلام في الأخير وسيأتي تفصيل الجميع في أول المنطوق والمفهوم إن شاء الله تعالى (ومنها) المفاهيم وهي المداليل الالتزامية اللفظية أي البينة بالمعنى الأخص للجمل التركيبية كمفهوم الشرط ومفهوم الوصف ومفهوم الحصر وغير ذلك من المفاهيم على القول بها وسيأتي أيضا تفصيل الكل إن شاء الله تعالى في محله (ومنها) ما لا يعد منطوقا ولا مفهوما في الاصطلاح وهي المداليل الالتزامية العقلية كدلالة الأمر على وجوب مقدمته أو على حرمة ضده على القول بهما أو على فساد متعلقه على القول به ولو في خصوص العبادات دون المعاملات (ثم ان) من بين جميع المداليل الالتزامية مدلولين غير مقصودين للمتكلم أحدهما المدلول بدلالة الإشارة ثانيهما المدلول الالتزامي العقلي ومن هنا يظهر معنى قوله كما في دلالة الإشارة ونحوها ويستفاد ذلك من كلام المحقق القمي أيضا في مقدمة الواجب في المقدمة السابعة فراجع.
(قوله وعلى ذلك فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما... إلخ) لا إشكال في انقسام الواجب الغيري إلى الأصلي والتبعي بجميع التفاسير المتقدمة فيجوز أن يكون مقصودا بالإفادة للمتكلم ويجوز عدمه كما انه يجوز أن يكون مستفادا من خطاب مستقل ويجوز أن لا يكون مستفادا من خطاب مستقل بل تبعا لخطاب آخر وهكذا يجوز أن يكون متعلقا للإرادة المستقلة للالتفات إليه ويجوز أن لا يكون متعلقا للإرادة المستقلة بل الإجمالية تبعا لإرادة غيره لعدم الالتفات إليه وهذا واضح (واما الواجب النفسي) فلا إشكال في صحة انقسامه إلى الأصلي والتبعي بحسب تفسير الفصول
393

فقد يكون مستفادا من خطاب مستقل وقد لا يكون مستفادا من خطاب مستقل بل تبعا لخطاب آخر كما لا إشكال في عدم انقسامه إليهما بحسب تفسير التقريرات الذي اختاره المصنف إذ لا معنى لكون الواجب نفسيا ذا مصلحة نفسية ملزمة ولا يكون تحت الالتفات والإرادة المستقلة أصلا وأما بحسب تفسير المحقق القمي من كونه مقصودا بالإفادة وعدمه فالظاهر انه قابل للانقسام إليهما أيضا فالنفسي قد يكون مقصودا بالإفادة للمتكلم وقد لا يكون مقصودا بها فان النفسي إذا جاز أن لا يكون مفادا لدليل لفظي أصلا بل قد استفيد من دليل لبي فجواز استفادته من اللفظ على نحو لا يكون مقصودا بالإفادة بطريق أولى.
(قوله ثم انه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة... إلخ) وحاصله ان الواجب التبعي إن كان عبارة عما لم يتعلق به إرادة مستقلة فعند الشك في كون الواجب أصليا أو تبعيا يستصحب عدم تعلق الإرادة المستقلة به ويثبت به كونه تبعيا كما هو الشأن في كل موضوع مركب من أمر وجودي وعدمي فإذا كان الوجودي
محرزا بالوجدان والعدمي محرزا بالأصل رتب عليه الأثر لا محالة كما إذا شك في أن الماء المجتمع في الحوض شيئا فشيئا هل هو قليل أم كثير فباستصحاب عدم بلوغه حد الكر يثبت كونه قليلا ويترتب عليه آثار القليل وهكذا إذا شك في كون اللحم المطروح على الأرض المشتركة بين الكفار والمسلمين ميتة أو مذكى فيستصحب فيه عدم التذكية ويحرز به انه ميتة بناء على كون الميتة عبارة عما لم يذك ويترتب عليه حينئذ آثارها نعم ان قلنا إن التبعي أمر وجودي بمعنى انه عبارة عما تعلقت به إرادة إجمالية تبعا لإرادة غيره فبأصالة عدم تعلق الإرادة المستقلة به لا يكاد يثبت
394

تعلق الإرادة الإجمالية به تبعا لإرادة غيره ليكون واجبا تبعيا إلا على القول بالأصل المثبت.
(أقول) والظاهر ان استصحاب عدم تعلق الإرادة المستقلة به بعد العلم الإجمالي بتعلق الإرادة به لا محالة أما إرادة مستقلة أو إرادة غير مستقلة مشكل جدا سواء كان التبعي عبارة عما لم يتعلق به إرادة مستقلة أو كان عبارة عما تعلقت به إرادة إجمالية تبعا لإرادة غيره غايته ان الأصل على الأول معارض بمثله وعلى الثاني معارض ومثبت ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم فافهم جيدا.
(قوله فافهم... إلخ) قد أشير الآن إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
في ثمرات بحث مقدمة الواجب
(قوله تذنيب في بيان الثمرة... إلخ) قد ذكروا لبحث مقدمة الواجب ثمرات عديدة (منها) انه على القول بوجوب المقدمة إذا نذر الإتيان بواجب شرعي فيحصل البرء من النذر بالإتيان بمقدمة من مقدمات الواجب وعلى القول بعدمه لا يحصل البرء (ومنها) انه على القول بوجوب المقدمة يحصل الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا كان له مقدمات متعددة وذلك لصدق الإصرار على الحرام حينئذ فإنه قد ترك واجبات عديدة بخلاف ما إذا لم نقل بوجوبها فلا يحصل الفسق بترك واجب واحد بمقدماته لعدم صدق الإصرار على الحرام حينئذ إذ لم يترك واجبات عديدة. (ومنها) انه على القول بوجوب المقدمة لا يجوز أخذ الأجرة على المقدمة لحرمة أخذ الأجرة على الواجب بخلاف ما إذا لم نقل بوجوبها فيجوز أخذها عليه (وقد أورد المصنف) على الجميع إشكالا عاما ثم أورد على كل منها بالخصوص إشكالا خاصا (أما الإشكال العام) الوارد على الجميع
395

وقد أشار إليه بقوله ومنه قد انقدح انه ليس منها مثل برء النذر... إلخ. فحاصله ان ثمرة المسألة الأصولية ليست إلا أن تكون نتيجة المسألة واقعة في طريق استنباط حكم شرعي كلي وتنقيح كبرى من كبريات الفقه سواء كانت إيجابية أو سلبية فإذا باحثنا مثلا في حجية خبر الواحد أو في الاستصحاب أو في أصل البراءة ونحوها من المسائل الأصولية وكان نتيجة البحث بعد النقض والإبرام حجية خبر الثقة أو حجية الاستصحاب أو حجية أصل البراءة فيثبت بوسيلة ذلك كله وجوب مثل غسل الجمعة إذا فرض قيام خبر الثقة عليه أو وجوب صلاة الجمعة لأجل استصحابه من زمان الحضور أو عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال لأجل البراءة عنه شرعا وعقلا وهكذا وهكذا وهذا بخلاف المقام فان وجوب المقدمة في الثمرات المذكورة مما لا يستنبط به حكم شرعي كلي سوى البرء في الأول وحصول الفسق في الثاني وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة في الثالث الذي هو حكم جزئي من كبرى فقهية أي من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب هذا حاصل الإشكال العام الوارد على الثمرات الثلاث وأما الإشكال الخاص الوارد على كل منها بالخصوص فسيأتي شرح كل عند تعرض المصنف له فانتظر.
(قوله وهي في المسألة الأصولية كما عرفت سابقا... إلخ) الظاهر ان مقصوده من قوله كما عرفت سابقا هو ما أشار إليه بقوله في صدر الكتاب وإن كان الأولى تعريفه يعنى تعريف الأصول بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام... إلخ.
(قوله كما لو قيل بالملازمة في المسألة فإنه بضميمة مقدمة كون شيء مقدمة لواجب يستنتج انه واجب... إلخ) فإذا قلنا بالملازمة ووجبت المقدمة بنحو الكبرى الكلية وضممنا إليها صغرى من صغرياتها مثل كون المسير إلى الحج مقدمة
396

للواجب فيستنتج منها حكم شرعي كلي وهو وجوب المسير إلى الحج فتقول مثلا إن المسير إلى الحج مقدمة للواجب وكل مقدمة للواجب واجب للملازمة فالمسير إلى الحج واجب للملازمة فالنتيجة هي حكم شرعي كلي قد استنبطناه بوسيلة بحث مقدمة الواجب.
(أقول) لو كان محط البحث في المسألة هو نفس وجوب المقدمة لكنا نحتاج في استنتاج حكم شرعي كلي إلى ضم الصغرى إليها على نحو ما عرفت وأما إذا كان محط البحث كما تقدم في صدر المسألة هو الملازمة فهو مما يترتب عليه الحكم الشرعي الكلي بلا حاجة إلى ضم شيء آخر إليها فتقول العقل يحكم بالملازمة بين وجوب شيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك فتجب مقدمة الواجب شرعا وهو حكم شرعي كلي بلا شبهة.
(قوله مع ان البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر... إلخ) هذا إشكال يختص بالثمرة الأولى فقط غير الإشكال العام الذي أورده المصنف على الثمرات الثلاث (وحاصله) ان البرء وعدمه يتبع قصد الناذر فان قصد في نذره الإتيان بالواجب النفسي فلا يحصل البرء بإتيان المقدمة وان قلنا بالملازمة وان قصد ما يعم الوجوب الغيري المتعلق بالمقدمة فيحصل البرء بإتيانها وان لم نقل بالملازمة لأن وجوبها الغيري العقلي مما لا محيص عنه وأما إذا أطلق الناذر ولم يعلم قصده فالظاهر ان المنصرف من إطلاقه هو الوجوب النفسي فلا يكفى الإتيان بالمقدمة ولو قيل بالملازمة.
(أقول) نعم ولكن تظهر الثمرة فيما إذا قصد ما يعم الوجوب الغيري الشرعي دون العقلي فعلى القول بوجوب المقدمة شرعا يحصل البرء بإتيان المقدمة دون ما إذا لم نقل بوجوبها كذلك فلا يحصل البرء بإتيانها.
(قوله ولا يكاد يحصل الإصرار على الحرام بترك واجب... إلخ)
397

هذا إشكال يختص بالثمرة الثانية فقط (وحاصله) ان الإصرار على الحرام لا يحصل بترك واجب واحد بمقدماته وان قلنا بوجوب المقدمات وحرمة ترك كل منها على حدة وذلك لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن مع تركه من الإتيان بالواجب فيسقط به وجوب الواجب من أصله وبتبعه يسقط وجوب بقية المقدمات أيضا فلا يكون حينئذ تركها حراما ليحصل الإصرار على الحرام بتركها فإذا فرض ان للحج مقدمات عديدة بان كان السير من كل منزل إلى منزل مقدمة له فبترك الخروج إلى المنزل الأول مع آخر القافلة الموجب لعدم تمكنه من الحج من أصله يسقط وجوب الحج عقلا وبتبع سقوطه يسقط الوجوب الغيري عن سائر المقدمات فان وجوبها تابع لوجوب ذيها فلا يكون بتركها حراما كي يصدق الإصرار على الحرام بسببه ويحصل الفسق من أجله (وفيه) انه كما يحصل عصيان الواجب بترك أول مقدمة لا يتمكن مع تركه من الإتيان بالواجب فكذلك يحصل بتركه عصيان سائر المقدمات أيضا فإنه قد أسقط وجوبها بسوء الاختيار فلو لا تركه أول المقدمات لم يسقط وجوب بقية المقدمات بتبع سقوط وجوب ذيها فكما يصدق عليه انه قد عصى التكليف النفسي وأسقطه بسوء الاختيار فكذلك يصدق عليه أنه قد عصى التكاليف الغيرية وأسقطها بسوء الاختيار (وعليه) فالأولى في مقام الإيراد الخاص على الثمرة الثانية أن يقال ان المراد من الإصرار على الحرام هو الإصرار على المحرمات النفسية الموجبة لاستحقاق العقاب والبعد عن المولى لا المحرمات الغيرية التي لا توجب بنفسها بعدا ولا عقابا سوى البعد والعقاب الحاصلين بترك ذيها بلا كلام.
(قوله وأخذ الأجرة على الواجب لا بأس به... إلخ) هذا إشكال يختص بالثمرة الثالثة فقط (وحاصله) بمزيد توضيح منا ان الواجب الذي قد ادعى
398

حرمة أخذ الأجرة عليه أما توصلي أو تعبدي (أما التوصلي) فليس مطلقا مما يحرم أخذ الأجرة عليه فان الصناعات الواجبة كفائيا كالخياطة والحياكة والنجارة وما أشبه ذلك مما يتوقف عليه نظام العالم لا يحرم أخذ الأجرة عليها بلا كلام (والسر فيه) ان الواجب فيها ليس نفس العمل وحده كي يحرم أخذ الأجرة عليه بل الواجب فيها هو العمل مع الأجرة فالخياطة ليست كدفن الميت مما أوجبه الله تعالى على المكلفين مجانا وبلا عوض بل الخياطة مع الأجرة واجبة على العارفين بها كفائيا في قبال ترك الخياطة ولو مع الأجرة فان الذي يتوقف عليه النظام العام هو الخياطة كذلك لا الخياطة مجانا بل الخياطة مجانا ربما يخل بالنظام لاختلال عيش الخياط ونحوه من أرباب الصنائع رأسا (وعليه) فإذا كان الواجب هو العمل مع الأجرة فلا يحرم أخذ الأجرة على العمل. هذا كله في الواجب التوصلي (وأما التعبدي) فيمكن القول فيه بجواز أخذ الأجرة عليه بتصوير الداعي على الداعي كي لا ينافي القربة المعتبرة فيه فيأخذ الأجرة على العمل المأتي به بداعي الأمر لا على نفس العمل وحده.
(أقول) ان تصوير الداعي على الداعي بنحو الطولية مما لم يتضح لنا رشده بان كان العمل بداعي الأمر وكان الداعي للمجموع أي للعمل المأتي به بداعي الأمر أمر آخر فان ذلك يسير نطقه عسير تصديقه بل المتضح لنا خلاف ذلك تبعا للشيخ أعلى الله مقامه في المكاسب ولغير واحد من المحققين إذ لا شك في أنه لو لا الأجر الذي قد فرض كونه داعيا على الداعي لم يأت العامل بالعمل أصلا فكيف يكون العمل في هذه الصورة مأتيا به بداعي أمر الله تعالى فقط بل يكون الأجر جزء الداعي أو تمام الداعي (مضافا) إلى انه لو سلم صحة الداعي على الداعي فمجرد ذلك مما لا يكفى في جواز أخذ الأجرة على العبادات فان الملاك الجاري في منع أخذ الأجرة على الواجبات التوصلية
399

غير الصناعات الكفائية جار في العبادات بعينه وظاهر المصنف هو الاعتراف بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات التوصلية في غير الصناعات الكفائية بقرينة استثنائها عنها فما يكون وجها للمنع في التوصليات يكون هو الوجه للمنع في العبادات أيضا غايته انه ان لم نصحح الداعي على الداعي فعدم جواز أخذ الأجرة على العبادات يكون لوجهين وان صححناه فيكون لوجه واحد مشترك بين التوصليات والتعبديات جميعا (وبالجملة) ان الذي نعتمد عليه في وجه عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب مطلقا سواء كان توصليا أو تعبديا غير الصناعات الواجبة كفائيا هو كون العمل مستحقا للغير أي للمولى بعد ما أمر به على سبيل الحتم والإلزام فان المولى ليس إلا من له حق ثابت على العبد أن يمتثل أوامره ونواهيه فإذا أمره بشيء فالعمل يكون له فكما انه إذا آجر نفسه من زيد ليبني له بيتا فيكون العمل له فإذا آجرها من عمر وثانيا كان ذلك فاسدا جدا فكذلك إذا أمره الله تعالى بعمل خاص كدفن الميت ونحوه فيكون العمل مستحقا له فإذا أخذ الأجر عليه كان ذلك فاسدا شرعا ومن المعلوم ان هذا الوجه جار في عموم الواجبات ويمتاز العبادات عن التوصليات بوجه آخر وهو منافاة أخذ الأجرة عليها مع القربة المعتبرة فيها (نعم يستثنى) من التوصليات الصناعات الكفائية لما تقدم آنفا (كما انه يستثنى) من التعبديات العبادات الاستئجارية فإنها يؤتى بها نيابة عن الغير فالأجير نائب عن الميت في جميع الأفعال حتى في قصد القربة ومن الواضح ان أخذ الأجرة مما لا ينافي حصول القرب للمنوب عنه وإن كان مما ينافي حصول القرب للنائب وليس بمهم لأن النيابة أمر توصلي يسقط الغرض منه ولو لا بقصد القربة فان صار نائبا عن الميت لله تعالى فقد حصل القرب والثواب للنائب والمنوب عنه جميعا وإلا فللمنوب عنه فقط (ثم انه لا فرق) في
400

جواز أخذ الأجرة على الواجب بين العيني والكفائي فان الكفائي أيضا واجب على الكل كالعيني فيكون عمل الجميع مستحقا للغير غايته انه إذا أتى أحدهم بالفعل يحصل به الغرض ويسقط به الأمر (كما انه لا فرق) بين التعييني والتخييري أيضا فان التخييري واجب بجميع خصاله كالتعييني فيكون الجميع مستحقا للغير غير انه إذا أتى بأحد الخصال حصل به الغرض وسقط به الأمر (هذا تمام الكلام) في أخذ الأجرة على الواجبات (واما المستحبات) فان كانت توصلية فلا بأس بأخذ الأجرة عليها إذا العمل بمجرد الأمر الندبي مما لا يكون حقا للغير ومملوكا للمولى كي لا يجوز أخذ الأجرة عليه بل للعبد ان يأتي به وله ان لا يأتي به وان كانت تعبدية فلا يجوز أخذ الأجرة عليها لكن لوجه واحد وهو منافاة أخذ الأجرة مع القربة المعتبر فيها بعد فرض كونها تعبدية لا لكون العمل مستحقا للغير وحقا للمولى فتدبر جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله وربما يجعل من الثمرة اجتماع الوجوب والحرمة... إلخ) هذه ثمرة رابعة للمسألة وهي منسوبة إلى الوحيد البهبهاني (وحاصله) ان من ثمرات بحث مقدمة الواجب انه لو قيل بوجوب المقدمة فالمقدمة المحرمة تكون من مصاديق اجتماع الأمر والنهي فعلى القول بالجواز يجتمع فيها الأمر والنهي جميعا وعلى القول بالامتناع لا
يجتمعان إلا أحدهما (وقد أورد عليه المصنف) من وجوه (الأول) ان المقدمة المحرمة على القول بالملازمة لا تكون من مصاديق اجتماع الأمر والنهي لما تقدم في صدر البحث في ذيل تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية من انه يعتبر في باب الاجتماع ان يكون هناك عنوانان متعددان أحدهما تحت الأمر والآخر تحت النهي وفي المقدمة المحرمة كالسير إلى الحج مع الدابة المغصوبة وان كان عنوان الغصب مما تعلق به النهي في لسان
401

الدليل ولكن عنوان المقدمة مما لم يتعلق به الأمر الغيري في لسان الدليل فان الأمر الغيري مما يترشح إلى ذات المقدمة وهو المعنون بعنوان المقدمة أي إلى ما هو بالحمل الشائع مقدمة لا إلى عنوان المقدمة فان العنوان علة لترشح الأمر الغيري إلى المعنون لا انه بنفسه متعلق للأمر الغيري الترشحي فإذا يكون المقام من النهي في العبادات والمعاملات لا من مصاديق مسألة الاجتماع (وفيه) ان اعتبار تعدد العنوانين في مسألة الاجتماع إنما هو لأجل أن يتعدد المتعلق بزعم المجوز وهو بعينه موجود في العنوان والمعنون أيضا من غير اختصاص بالعنوانين فقط (مضافا) إلى انه لو سلم هذا كله فالمقام بمجرد ان لم يكن فيه عنوانان أحدهما تحت الأمر والآخر تحت النهي بل كان عنوان ومعنون لا يكاد يكون من مسألة النهي في العبادات والمعاملات فان النسبة بين متعلقي الأمر والنهي في النهي في العبادات والمعاملات عموم مطلق وفي مسألة الاجتماع عموم من وجه (الوجه الثاني) ان المقدمة المحرمة على القول بالملازمة مما لا يلزم فيها الاجتماع إذ مع عدم انحصار المقدمة بالمحرمة يتعلق الوجوب بما سواها ومع الانحصار تقع المزاحمة بين وجوب ذي المقدمة وبين حرمة المقدمة فإما لا وجوب لذي المقدمة لأهمية حرمة المقدمة وإما لا حرمة للمقدمة لأهمية وجوب ذي المقدمة وعليه فلا اجتماع في البين أصلا (وفيه) ان هذا الوجه أضعف من سابقه ولعل من هنا قد أسقطوه في بعض النسخ فان الصلاة في الدار الغصبي وهكذا كل مصداق من مصاديق مسألة الاجتماع هو من هذا القبيل فيلزم أن يقال فيها مثل ذلك ففي صورة عدم الانحصار يتعلق الوجوب بما سوى الصلاة في الغصب وفي صورة الانحصار تقع المزاحمة بين الحكمين ويلاحظ مرجحات باب التزاحم فلا اجتماع أيضا فكما يقال في حل ذلك ان في الصلاة في الغصب يكون لكل من الدليلين إطلاق يشمل المجمع حتى في
402

صورة عدم الانحصار فعلى الجواز يكون كلا الحكمين فعليين بدعوى ان تعدد الجهة مما يجدى في ذلك وعلى الامتناع تقع المزاحمة ويسقط أحد الحكمين عن الفعلية مع ثبوت أصل الحكم بمقتضى الإطلاق فكذلك يقال في المقام حرفا بحرف (الوجه الثالث) انه لا ثمرة في صيرورة المقدمة المحرمة على الملازمة من مصاديق مسألة الاجتماع إذ لو كانت المقدمة توصلية فيه مما يسقط به الغرض لا محالة سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل وعلى القول بالوجوب سواء قلنا بالجواز في مسألة الاجتماع أم لم نقل وأما إذا كانت المقدمة تعبدية فصحتها وفسادها مبنيان على القول بالجواز والامتناع في مسألة الاجتماع سواء قلنا في المقام بوجوب المقدمة أم لم نقل وذلك لأن المقدمات التعبدية كالطهارات الثلاث مما لها أمر غيري مستقل لا محالة مثل قوله تعالى وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... إلخ من غير فرق بين ان قلنا بالملازمة أم لم نقل وليس وجوبها ترشحيا كي يبتنى على القول بالملازمة وعدمه هذا تمام الكلام في الثمرات الأربع (وقد ذكر في التقريرات) ثمرتين آخرتين (الأولى) ان القول بوجوب المقدمة مما يؤثر في صحتها إذا كانت عبادة كما ان القول بعدم الوجوب مما يقضى بفسادها حينئذ (وفيه) ما عرفت آنفا من ان المقدمات العبادية مما لها أوامر غيرية مستقلة غير محتاجة وجوبها غيريا إلى القول بالملازمة إذ ليس وجوبها ترشحيا كي يبتنى على القول بالملازمة وعدمها مضافا إلى انه قد قلنا ان المقدمات العبادية هي عبادات نفسية راجحة في حد ذاتها فلا محالة يكون صحتها قبل الوقت بالأمر الاستحبابي النفسي وبعد الوقت بملاكه الثابت فيه من غير احتياج إلى تصحيحها بالأمر المقدمي أصلا وان صح قصده أيضا بعد الوقت كما تقدم (الثانية) ان القول بوجوب المقدمة مما يؤثر في فساد العبادة التي يتوقف على تركها فعل الضد الأهم كالإزالة المتوقفة على
403

ترك الصلاة فيجب ترك الصلاة مقدمة ويحرم فعلها ويفسد بخلاف ما إذا لم نقل بوجوب المقدمة فلا يكون تركها واجبا كي يحرم فعلها ويفسد (وفيه) ما سيأتي في بحث الضد إن شاء الله تعالى من منع مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر كي إذا قلنا بوجوب المقدمة ترشح الوجوب من الإزالة إلى ترك الصلاة غيريا فيحرم فعلها ويفسد فانتظر يسيرا.
(قوله فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية ولو لم نقل بجواز الاجتماع... إلخ) كان الأولى ان يقول هكذا فإنه يمكن التوصل بها إن كانت توصلية سواء قلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل وعلى القول بوجوبها سواء قلنا بجواز الاجتماع أم لم نقل.
في تأسيس الأصل في المسألة
(قوله اعلم انه لا أصل في محل البحث في المسألة... إلخ) والسر فيه ان المهم المبحوث عنه كما تقدم في صدر المسألة هي الملازمة العقلية بين وجوب شيء شرعا ووجوب مقدمته كذلك وهي مما ليس لها حالة سابقة في الأزل كي تستصحب فان القائل بها يثبتها من الأول والنافي لها ينفيها من الأزل وليست حالتها السابقة متسالمة عليها عند الفريقين وجودا أو عدما كي إذا عجزنا عن إقامة الدليل على أحد الطرفين رجعنا إلى الحالة الأولية واعتمدنا عليها وأخذنا بها نعم لو كان المهم المبحوث عنه في المسألة هو نفس وجوب المقدمة كان ذلك مما له حالة سابقة وكان مقتضى الأصل عدم وجوبها كما صرح به المصنف في المتن فان وجوب المقدمة شرعا لو قيل به هو أمر حادث مسبوق بالعدم فإذا شك فيه يستصحب عدمه وهذا واضح.
404

(قوله وتوهم عدم جريانه لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم الماهية... إلخ) وحاصل التوهم انه لا يجري أصالة عدم وجوب المقدمة عند الشك في الملازمة والعجز عن إقامة الدليل على أحد طرفي المسألة لأن وجوب المقدمة على القول به بالنسبة إلى وجوب ذيها من قبيل لوازم الماهية كالزوجية للأربعة فان الأربعة أينما تحققت سواء كان في الخارج أو في الذهن هي زوج في قبال لازم الوجود الخارجي كالإحراق للنار فإنها إذا تحققت في الخارج محرقة دون ما إذا تحققت في الذهن وفي
قبال لازم الوجود الذهني كالكلية للإنسان فإنه كلما تحقق في الذهن هو كلي قابل للانطباق على كثيرين دون ما إذا تحقق في الخارج فإذا كان وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهية فهو غير مجعول شرعا ولا أثر مجعول يترتب عليه إلا بنذر وشبهه ومن المعلوم انه يشترط في جريان الأصل ان يكون المجرى اما حكما شرعيا مجعولا كما في استصحاب وجوب صلاة الجمعة أو موضوعا يترتب عليه حكم شرعي مجعول كما في استصحاب الخمرية المترتبة عليها الحرمة فإذا لم يكن المجرى في المقام امرا مجعولا ولا أثر مجعول يترتب عليه لم يجر فيه الأصل ولم يثبت به عدمه (وحاصل الدفع) ان وجوب المقدمة على الملازمة وان لم يكن مجعولا للشارع لا بالجعل البسيط وهو تكوين الشيء وإيجاده المعبر عنه بمفاد كان التامة كما في كان زيد ولا بالجعل التأليفي وهو جعل شيء لشيء المعبر عنه بمفاد كان الناقصة كما في كان زيد عالما ولكنه مجعول شرعا تبعا أي بتبع جعل وجوب ذي المقدمة وهذا المقدار من المجعولية الشرعية مما يكفى في جريان الأصل فيه فيجري ويثبت به نفى وجوب المقدمة عند الشك في الملازمة.
(قوله ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك... إلخ) دفع لما قد يتوهم من انه مع وجوب ذي المقدمة إذا أجرينا أصالة عدم وجوب المقدمة
405

فيثبت بها التفكيك لا محالة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة والتفكيك بينهما عبارة أخرى عن نفى الملازمة فكيف ادعى انه لا أصل في المسألة يثبت به حال الملازمة (وحاصل الدفع) ان الأصل إنما يرتفع به الملازمة الظاهرية بين الحكمين الفعليين أي لا يبقى معه ملازمة بين وجوب ذي المقدمة فعلا ووجوب مقدمته كذلك ولا يكاد يرتفع به الملازمة الواقعية بين الحكمين الواقعيين بحيث يثبت به ان مع وجوب ذي المقدمة واقعا لا تكون المقدمة واجبة واقعا بل المقدمة على تقدير الملازمة ثبوتا واجبة واقعا وان لم تكن واجبة ظاهرا بحكم الأصل للشك في الملازمة إثباتا.
(قوله لصح التمسك بالأصل... إلخ) وفي بعض النسخ لما صح التمسك بالأصل وهو غير صحيح والصحيح لصح التمسك بالأصل أي لنفي الملازمة الفعلية.
في الاستدلال على وجوب المقدمة
(قوله إذا عرفت ما ذكرنا فقد تصدى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان على الملازمة... إلخ) قد ذكر في التقريرات عن القوم اثني عشر دليلا لوجوب المقدمة أكثرها للمحقق السبزواري وأهمها من حيث النقض والإبرام حتى ان المصنف عبر عنه كما سيأتي في المتن بالأصل بالنسبة إلى سائر الاستدلالات ما نسب إلى أبي الحسين البصري ولكن أسدها وأقواها لدى التدبر ما احتج به صاحب التقريرات أعلى الله مقامه وتبعه المصنف في الكتاب من شهادة الوجدان بمعنى ان من راجع وجدانه وجد استقلال العقل بالملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته مما يتوقف عليه وجوده غايته انه قد يلتفت إلى المقدمة تفصيلا فيتعلق بها إرادته التفصيلية
406

المستقلة وربما يجعلها في قالب الطلب المستقل ويقول مثلا أدخل السوق واشتر اللحم فيكون وجوبها حينئذ أصليا كوجوب ذيها وقد لا يلتفت إليها على التفصيل فيتعلق بها إرادته الإجمالية تبعا لإرادة غيره فيكون وجوبها حينئذ تبعيا لا أصليا فان الإرادة المتعلقة بالمقدمة وإن كانت مطلقا لازمة لإرادة ذيها ولكن إذا كانت المقدمة تحت الالتفات فهي تفصيلية مستقلة وإذا لم تكن تحت الالتفات فهي إجمالية تبعية.
(قوله ان الإنسان إذا أراد شيئا له مقدمات أراد تلك المقدمات لو التفت إليها... إلخ) وفي العبارة مسامحة واضحة فان الإنسان إذا أراد شيئا له مقدمات أراد تلك المقدمات لا محالة ولو لم يلتفت إليها غايته انه إذا التفت إلى المقدمات أرادها تفصيلا مستقلا وإلا أرادها إجمالا تبعا.
(قوله ترشحت منها له إرادة أخرى بدخول السوق بعد الالتفات إليها... إلخ) وفي العبارة مسامحة أيضا يظهر وجهها مما تقدم آنفا فإنه إذا تعلقت إرادته بشراء عبده اللحم ترشحت منها إرادة أخرى بدخول عبده السوق لا محالة وان لم يلتفت إلى دخول السوق أصلا غايته انه إذا التفت إليه ترشحت منها إرادة تفصيلية مستقلة وإلا فتترشح منها إرادة إجمالية تبعية.
(قوله ويؤيد الوجدان بل يكون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات... إلخ) وقد أفاد في وجه ذلك في الكتاب (ما حاصله) انه لا يكاد يتعلق الأمر الغيري بمقدمة شرعا كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... إلخ. أو عرفا كما في قول المولى ادخل السوق واشتر اللحم إلا إذا كان فيها مناطه وإذا كان فيها مناطه كان في مثلها مما لم يؤمر به فيصح الأمر الغيري به أيضا لتحقق المناط فيه (وفيه) ان المقصود من ذلك إن كان مجرد صحة تعلق الأمر الغيري بمثلها لوجود المناط فيه فهذا مما
407

لا ينكره أحد غير ان مجرد صحة تعلق الأمر به مما لا يدل على تعلقه به خارجا وإن كان المقصود منه ان مثلها أيضا قد تعلق به الأمر الغيري فان كان المراد تعلق الغيري الاستقلالي فهذا خلاف الواقع قطعا فان الاستقلالي مما يحتاج إلى خطاب مستقل نظير قوله ادخل السوق واشتر اللحم ولا يكاد يكفيه مجرد المناط كما لا يخفى وان كان المراد تعلق الغيري الترشحي ففيه ان مجرد وجود المناط في كل شيء مما لا يكفى في اتصافه بالوجوب الغيري الترشحي ما لم تثبت الملازمة وهي وان أثبتها المصنف بالوجدان ولكن وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات مما لا يكون دليلا عليها نعم هو مما يؤيد الوجدان لا من أوضح البرهان وهذا واضح.
(قوله ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالأصل لغيره... إلخ) وهو كما في التقريرات ما احتج به جماعة أو لهم على ما ذكروه أبو الحسين البصري وتبعه من تأخر عنه وهو ان المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها وحينئذ فان بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق أو بالمحال كما في تعبير التقريرات وإلا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا (وقد أورد عليه المصنف) (أولا) بما حاصله انه يجب إصلاح الاستدلال المزبور من ناحيتين وإلا فهو ناقص سقيم (الأولى) ان يراد من الجواز في الشرطية الأولى وهي قوله لو لم تكن المقدمة واجبة لجاز تركها عدم المنع الشرعي أي لو لم تكن المقدمة واجبة لم يمنع شرعا تركها لا الإباحة الشرعية إذ لا ملازمة عقلا بين نفى وجوب المقدمة شرعا وبين الإباحة الشرعية وذلك لجواز استحبابها شرعا أو عدم كونها محكومة بحكم شرعي أصلا كما أشير قبلا
ويأتي في المتلازمين في مسألة الضد إن شاء الله تعالى وان وجب أن لا تكون فعلا محكومة بحكم مخالف لذي المقدمة مع جواز كونها محكومة بحكم مخالف له واقعا غير فعلى وقد أشار المصنف إلى
408

ذلك كله بقوله الآتي في المتن بداهة انه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا لإمكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا إلخ. (الثانية) ان يراد مما أضيف إليه الظرف أي من لفظ (إذ) المضاف إليه كلمة (حين) خصوص الترك أي وحين تركها فان بقي الواجب على وجوبه إلخ، لا حين أن جاز تركها وإلا فبمجرد ان جاز ترك المقدمة لا يلزم ان بقي الواجب على وجوبه التكليف بما لا يطاق أو المحال، وقد أشار المصنف إلى ذلك كله بقوله الآتي وإلا فمجرد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهم صدق قضية الشرطية الثانية إلخ. (وثانيا) ان ترك المقدمة بمجرد ان لم يمنع عنه شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين الأخيرتين أي ان بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق أو المحال وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه لأنا نختار الشق الثاني وهو عدم بقاء الواجب على وجوبه ولا يلزم خروج الواجب المطلق عن وجوبه بمعنى صيرورته مشروطا بالإتيان بالمقدمة وذلك لأن سقوط الوجوب حينئذ يكون بالعصيان لتمكنه من الإطاعة والإتيان وقد اختار الترك بترك المقدمة بسوء اختياره مع حكم العقل بلزوم إتيانها إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب نعم لو كان ترك المقدمة مما جاز شرعا وعقلا كان يلزم أحد المحذورين إما لزوم التكليف بما لا يطاق أو المحال. وإما خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا إلا ان الملازمة على هذا في الشرطية الأولى وهي قوله ان المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ممنوعة لوضوح عدم الملازمة بين عدم وجوب المقدمة شرعا وبين جواز تركها شرعا وعقلا وذلك لإمكان ان لا تكون المقدمة محكومة بحكم فعلى شرعا كما تقدم مع كونها واجبة عقلا إرشادا فتدبر جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
409

في بيان تفصيلين في المسألة بين السبب وغيره وبين الشرط الشرعي وغيره
(قوله وأما التفصيل بين السبب وغيره إلخ) بمعنى ان المقدمة ان كانت من الأسباب كالعقود والإيقاعات بالنسبة إلى المسببات فتجب وإلا بأن كانت من المعدات كدخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلم للكون على السطح ونحو ذلك فلا تجب (وبعبارة أخرى) إن كان ذو المقدمة من الأفعال التسبيبية التوليدية كالزواج والطلاق والعتاق ونحو ذلك مما ليس بنفسه تحت القدرة والاختيار إلا أسبابها من العقود والإيقاعات ونحوهما فهذا مما يجب مقدمته وإلا بأن كان ذو المقدمة من الأفعال المباشرة كشراء اللحم والصعود على السطح ونحوهما مما كان بنفسه تحت القدرة والاختيار فهذا مما لا يجب مقدمته (والسر في الوجوب) في الأول دون الثاني ان الواجب في الأول بنفسه ليس أمرا مقدورا للمكلف فلا بد من صرف التكليف النفسي منه إلى مقدمته بخلافه في الثاني فهو بنفسه مقدور له فلا ملزم لصرفه عنه إلى مقدمته فلا يجب مقدمته (وقد أجاب عنه المصنف) بأمرين: (الأول) ان هذا ليس تفصيلا في الوجوب الغيري المتنازع فيه وإنما هو تفصيل في اتصاف المقدمة بالوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة بزعم لزوم صرفه إليها في خصوص التسبيبيات لعدم كونها تحت القدرة والاختيار دون المباشريات (الثاني) ان الواجب في التسبيبيات مقدور للمكلف ولو بالواسطة وهذا المقدار من القدرة مما يكفى في تعلق التكليف به عقلا فلا موجب لصرفه عنه إلى مقدمته.
410

(أقول) هذا كله مضافا إلى ان مقتضى ما استند إليه المفصل هو صرف التكليف النفسي من ذي المقدمة إلى مجموع العلة التامة من السبب والشرط وعدم المانع والمعد لا إلى خصوص السبب فقط من بين أجزاء العلة التامة ولعل مقصود المفصل من السبب هو مجموع العلة فلا إشكال عليه من هذه الناحية.
(قوله وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره إلخ) بمعنى ان مثل الطهارات الثلاث والستر والقبلة ونحو ذلك من الشرائط الشرعية واجب شرعا نظرا إلى انه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا فإنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة كي يعرف بذلك انه شرط فإذا كان مع ذلك شرطا يعرف انه واجب شرعا وبه صار شرطا (هذا) في الشرط الشرعي (وأما غيره) من المقدمات العقلية والعادية كالسير إلى الحج أو دخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلم للصعود على السطح ونحو ذلك مما يتوقف عليه الواجب عقلا أو عادة فهو غير واجب شرعا (وقد أورد عليه المصنف) من وجهين: (الأول) ما تقدم في صدر المسألة من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي (وفيه) ان مقتضى ذلك في نظر المفصل هو عدم وجوب الشرعي كالعقلي لا وجوب العقلي كالشرعي كما هو مقصد المصنف (اللهم) إلا إذا كان مراد المصنف مجرد إبطال التفصيل وإبداء عدم الفرق بينهما لا إلحاق العقلي بالشرعي في الوجوب (الثاني) ان تعلق الوجوب الغيري بشيء هو مما يتوقف على مقدميته وشرطيته فلو كانت شرطيته تتوقف على تعلق الوجوب الغيري به كما يظهر من المفصل حيث قال لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا لدار (لا يقال) ان الشرطية منتزعة عن التكليف فهي متوقفة لا محالة على الوجوب الشرعي كما أفاد المفصل ولا محيص عن الدور (لأنه يقال) ان الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط لا عن التكليف الغيري المتعلق بالشرط كي يلزم الدور (وفيه)
411

ان الشرطية كما انها إذا كانت منتزعة عن التكليف الغيري المتعلق بالشرط يلزم الدور فكذلك إذا كانت منتزعة عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط يلزم الدور فان تعلق الوجوب النفسي بما قيد بالشرط فرع شرطية الشرط فإذا كانت شرطية الشرط منتزعة عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط لدار ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم (والحل) ان تعلق الوجوب الغيري بالشرط أو الوجوب النفسي بما قيد بالشرط يتوقف على شرطية الشرط ثبوتا وعلى دخالته في المصلحة والملاك لبا وانتزاع عنوان الشرطية إثباتا يتوقف على تعلق الوجوب الغيري بالشرط أو الوجوب النفسي بما قيد بالشرط فالشرطية المتوقفة عليها الوجوب الغيري أو النفسي المتعلق بما قيد بالشرط (ثم ان اللازم) على هذا في مقام الرد على المفصل ان يقال ان الاستدلال المزبور أي لو لا وجوب الشرط شرعا لما كان شرطا وان صح إلا ان هذا مما لا ينافي وجوب بقية المقدمات أيضا بقاعدة الملازمة كما تقدم (مضافا) إلى ان كلا منها هاهنا في هذا البحث إنما هو في الوجوب الغيري الترشحي بحيث لو لم يكن إلا وجوب ذي المقدمة فهل كنا نقول بترشح الوجوب الغيري منه إلى المقدمة بقاعدة الملازمة أم لا لا في الوجوب الغيري الاستقلالي المستفاد من خطاب مستقل مثل قوله
تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلخ. أو قول المولى ادخل السوق واشتر اللحم ومن المعلوم ان الشروط الشرعية كلها من قبيل الثاني ويكون بخطاب مستقل فلا بحث فيه ولا نزاع وهذا واضح.
(قوله فافهم إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل.
412

في مقدمة المستحب ومقدمة الحرام ومقدمة المكروه
(قوله تتمة لا شبهة في ان مقدمة المستحب كمقدمة الواجب فتكون مستحبة لو قيل بالملازمة إلخ) غايته انه في مقدمة الواجب يترشح الوجوب الغيري وفي مقدمة المستحب يترشح الاستحباب الغيري (وبالجملة) بناء على استقلال العقل بالملازمة بين إرادة الشيء وإرادة ما يتوقف عليه ذلك الشيء لا فرق بين إرادة الشيء إيجابا وإرادته استحبابا ففي كليهما تتعلق الإرادة بالمقدمة غايته انه إن كانت إيجابية فإيجابية وإن كانت استحبابية فاستحبابية.
(قوله وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا يكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة إلخ) والسر فيه ان المطلوب في الواجب أو المستحب هو الفعل والفعل يتوقف على المقدمات فتجب المقدمات أو تستحب ولكن المطلوب في الحرام أو المكروه هو الترك والترك مما لا يتوقف على ترك المقدمات كي يحرم فعلها أو يكره وذلك لجواز أن يؤتى بالمقدمات جميعا ولا يؤتى بالحرام أو المكروه خارجا (نعم المقدمة) التي لا يبقى معها اختيار ترك الحرام أو المكروه محفوظا بل بمجرد ان يؤتى بها خارجا يتحقق الحرام أو المكروه قهرا كما في المقدمة الأخيرة في الأفعال التسبيبية وان شئت قلت كالجزء الأخير من العلة التامة للحرام مما لا محيص عن حرمتها أو كراهتها بمعنى ترشح الحرمة الغيرية إليها فإذا حرم مثلا إحراق المسلم لم يحرم حفر الحفيرة ولا جمع الحطب ولا تأجيج النار ونحو ذلك من المقدمات لجواز أن يتحقق جميع هذه المقدمات ولا يتحقق
413

الإحراق في الخارج ولكن يحرم من بين تمام المقدمات خصوص الإلقاء في النار لأنه المقدمة الأخيرة التي لا يتمكن معها من ترك الإحراق خارجا.
(قوله فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه إلخ) كما في الأفعال الاختيارية المباشرية التي لو أتى بتمام مقدماتها كان اختيار المكلف باقيا محفوظا على حاله إن شاء أتى بالفعل وإن شاء لم يأت به كالزناء والقمار وشرب الخمر ونحو ذلك من المحرمات التي هي من الأفعال المباشرية في قبال الأفعال التسبيبية التي لو أتى فيها بالمقدمات تحقق الفعل قهرا بلا اختيار له كالقتل والإحراق ونحوهما فإذا قطع أوداجه أو شق بطنه أو ألقاه في حفيرة النار زهق روحه بلا اختيار للفاعل بحيث لو ندم بعد القطع أو الشق أو الإلقاء وأراد أن لا يزهق الروح لم يتمكن (وعليه) ففي المحرمات المباشرية حيث انه ليس مقدمة لا يبقى معها اختيار ترك الحرام محفوظا لا تتصف مقدمة من مقدماتها بالحرمة أبدا بخلاف التسبيبية فيحرم الجزء الأخير من العلة التامة:
(قوله لا يقال كيف ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد إلخ) (أي لا يقال) ما من فعل إلا وله مقدمة لا محالة معها يوجد ويتحقق خارجا وهي الجزء الأخير من العلة التامة فكيف يقال انه ليس في المحرمات المباشرية مقدمة لا يبقى معها اختيار الحرام محفوظا فلا تتصف بالحرمة مقدمة من مقدماتها أبدا بل على هذا يجب أن يتصف الجزء الأخير من علتها التامة بالحرمة الغيرية كما في الجزء الأخير منها في المحرمات التسبيبية عينا (لأنه يقال) نعم ولكن الجزء الأخير في المحرمات المباشرية مبادئ الاختيار من الخطور والميل والجزم والشوق الأكيد المعبر عنه بالإرادة المحركة للعضلات ومبادئ الاختيار ليست باختيارية وإلا لكانت اختياريتها بمبادئ أخر وهكذا فيتسلسل فإذا لم تكن المبادي اختيارية لم يمكن اتصافها بالحرمة (وعليه) ففي
414

المحرمات المباشرية لا تتصف مقدمة من مقدماتها بالحرمة بخلاف التسبيبية فتتصف المقدمة الأخيرة من بين مقدماتها بالحرمة.
(أقول) قد عرفت منا غير مرة سيما في دفع شبهة الجبر في ذيل الطلب والإرادة اختيارية الإرادة باختيارية بعض مقدماتها فان اختيارية الأفعال تكون بها فكيف يعقل أن لا تكون هي اختيارية (وعليه) فإذا كانت الإرادة اختيارية جاز اتصافها بالحرمة غيريا كما في الجزء الأخير من العلة التامة في المحرمات التسبيبية عينا.
في مسألة الضد وبيان أقوالها
(قوله الأمر بالشيء هل يقتضى النهي عن ضده أو لا فيه أقوال إلخ) في هذه المسألة مقامان من البحث: (الأول) وهو أهم المقامين في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص فإذا أمر مثلا بإزالة النجاسة عن المسجد فهل هو يقتضى النهي عن الصلاة أم لا (الثاني) في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام أي الترك فإذا أمر بشيء مخصوص فهل هو يقتضى النهي عن تركه أم لا (أما المقام الثاني) فقال في التقريرات في المقدمة الخامسة (ما هذا لفظه) الأقوال في الضد العام خمسة (أحدها) نفى الاقتضاء رأسا وهذا صريح العضدي والحاجبي والمنسوب إلى العميدي وجمهور المعتزلة وكثير من الأشاعرة ودعوى بعض كصاحب المعالم انه لا خلاف في الضد العام في أصل الاقتضاء بل في كيفيته كما تقدم لا أصل لها (وثانيها) الاقتضاء على وجه العينية على معنى ان الأمر بالشيء والنهي عن تركه عنوانا متحدان ممتازان بحسب المفهوم (وثالثها) الاقتضاء على وجه التضمن (رابعها وخامسها) الالتزام اللفظي والعقلي (انتهى)
415

والظاهر ان المراد من الالتزام اللفظي في القول الرابع هو ان الأمر بالشيء مما يدل على النهي عن الضد العام بالالتزام لفظا بدعوى كون النهي عن الضد العام من اللوازم البينة بالمعنى الأخص للأمر بالشيء وفي الخامس يدل عقلا بدعوى عدم كونه من اللوازم البينة بالمعنى الأخص لكنه من لوازمه عقلا (وأما المقام الأول) فقد قال في التقريرات في المقدمة الخامسة أيضا بعد الفراغ عن أقوال الضد العام (ما هذا لفظه) وفي الضد الخاص أربعة إذ لم نجد ولا حكى عن أحد القول بالتضمن (انتهى) ولكن في مقام نقل الحجج قد ذكر للقول بالتضمن حجة مستقلة مدعيا كونها مذكورة في كتب القوم ومن المعلوم ان ذكر الحجة هو فرع وجود القائل بها (وعليه) فالأقوال في الضد الخاص أيضا خمسة بل سبعة (سادسها) ما حكاه التقريرات بعد قوله وفي الضد الخاص أربعة بفصل يسير (قال) وفي الضد الخاص قول آخر
للبهائي رحمه الله وهو ان الأمر بالشيء لو قيل انه يقتضى عدم الأمر بالضد مكان النهي عنه لكان أولى إلخ (وسابعها) ما حكاه في التقريرات أيضا في أواخر المسألة من التفصيل فيها (قال) ما هذا لفظه بقي الكلام في قولين آخرين أحدهما لبعض المحققين من متأخري المتأخرين والثاني لشيخنا البهائي وقد تقدم لذلك ذكرا أما القول الأول فهو التفصيل بين ما إذا كان الضد من أسباب امتناع المأمور به في حق المكلف كالمسافرة في البحر بالنسبة إلى إيصال الدين الواجب المضيق ونحوه وبين ما إذا لم يكن كذلك كقراءة القرآن بالنسبة إلى أداء الشهادة (انتهى موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه).
(قوله الأول الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية أو الجزئية أو اللزوم إلخ) كما انك قد عرفت مما تقدم ان اللزوم أعم من أن يكون لفظيا على نحو كان النهي عن الضد من اللوازم البينة بالمعنى الأخص للأمر
416

بالشيء أو عقليا على نحو كان من اللوازم البينة بالمعنى الأعم له بل قد عرفت مما تقدم أمرين آخرين أيضا (أحدهما) ان المسألة ليست لفظية محضة ولا عقلية محضة وذلك لما سبق من ان النزاع فيها مما لا ينحصر بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام اللفظي بل يقع النزاع في دلالته مطلقا ولو بالالتزام العقلي (ومن هنا قال في المعالم) الحق ان الأمر بالشيء على وجه الإيجاب لا يقتضى النهي عن ضده الخاص لا لفظا ولا معنى يعنى في قبال من فصل بين الاقتضاء لفظا فنفاه وبين الاقتضاء معنى أي عقلا فأثبته وهو القول الخامس في المسألة كما تقدم (ثانيهما) ان المسألة أصولية فان الضد على القول بالاقتضاء مما يحرم فيفسد إذا كان عبادة بناء على ان النهي في العبادات مما يوجب الفساد كما سيأتي وعلى القول بعدم الاقتضاء لا يحرم فلا يفسد وهذا حكم شرعي كلي يترتب ثبوتا ونفيا على طرفي المسألة فتكون أصولية نعم إنما تتم الثمرة إذا لم نقل بجواز الترتب وإلا فيصح الضد ولو كان عبادة حتى على القول بالاقتضاء على ما ستعرف شرحه وتفصيله فانتظر.
(بقي أمر واحد) مهم وهو ان موضع النزاع في هذا البحث هل هو يختص بما إذا كان الشيء المأمور به مضيقا وكان ضده موسعا كما في الإزالة والصلاة فان الأول مضيق بمعنى كونه فوريا والثاني موسع بمعنى عدم كونه فوريا أم لا بل يشمل ما إذا كانا موسعين جميعا كأداء الشهادة والصلاة فيما إذا لم يفرض ضيق وقتهما أو كانا مضيقين جميعا كالإزالة والصلاة في آخر الوقت أو لم يكن الضد واجبا أصلا فضلا عن ان يكون موسعا أو مضيقا كما في الإقامة لقضاء شهر رمضان عند ضيق الوقت مع السفر (مختار المحقق القمي) هو الأول (ومختار صاحب التقريرات) هو الثاني (قال المحقق المذكور) ما هذا لفظه الرابعة موضع النزاع ما إذا كان المأمور به مضيقا والضد موسعا
417

ولو كانا موسعين فلا نزاع واما لو كانا مضيقين فيلاحظ ما هو الأهم. انتهى (وقال في التقريرات) في المقدمة الثانية بعد ما نقل العبارة المذكورة وشيئا مما بعدها ما هذا لفظه ويمكن المناقشة في هذا الكلام أو لا بان إخراج الموسعين عن محل النزاع مما لا وجه له فان الملازمة التي أثبتوها بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده عقلية سارية في جميع الأوامر فكما ان الأمر المضيق يقتضى النهي عن ضده الموسع كذلك الأمر الموسع يقتضى ذلك من غير فرق والحاكم بذلك هو العقل على القول بالاقتضاء غاية الأمر ان النهي في الموضعين يختلف حسب اختلاف الأمرين فالأمر المضيق يقتضى النهي عن ضده على جهة التضييق والتعيين والأمر الموسع يقتضيه على جهة التوسعة والتخيير (إلى ان قال) وهكذا الكلام في المضيقين المتساويين في الأهمية فان قاعدة الاقتضاء المزبورة قاضية باقتضاء كل منهما النهي عن الآخر على سبيل التخيير العارض للأمرين باعتبار التزاحم والتكافؤ (إلى ان قال) وثانيا بان حصر النزاع في ما إذا كان الضد من الواجبات الموسعة غير جيد لأنهم يتفرعون على هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات مع عدم كونهما من الواجبات جدا فضلا عن كونهما موسعين فالتحقيق إرخاء عنان البحث إلى أودية المباحات والمكروهات والمستحبات أيضا لأن اقتضاء الأمر المضيق النهي عن الضد لا اختصاص له بما إذا كان الضد واجبا كما لا يخفى (انتهى) وهو جيد متين كما يظهر بالتأمل (وبالجملة) على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد لا ينبغي الفرق بين ان يكون الشيء وضده واجبين مضيقين أو موسعين أو كان الأول مضيقا والثاني موسعا بل لا فرق بين ان يكون الضد واجبا أم لا نعم فيما إذا كان الشيء واجبا موسعا فالنهي الذي يقتضيه عن الضد على القول به هو النهي عنه موسعا وهو لا يقتضى البطلان وان كان عبادة فتأمل جيدا.
418

(قوله من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين وطلب ترك الآخر أو المقدمية... إلخ) فان القائلين بالاقتضاء بنحو الالتزام سواء كان لفظيا كما في القول الرابع أو عقليا كما في القول الخامس هم بين من يقول به من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين وطلب ترك الآخر (وبعبارة أخرى) من جهة سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر فإذا وجب أحد الضدين سرى الوجوب منه إلى ملازمه أي إلى عدم الضد الآخر فيحرم فعله وبين من يقول به من جهة مقدمية عدم الضد الآخر لوجود هذا الضد فإذا وجب هذا الضد وجب ترك ذاك الضد مقدمة وحرم فعله.
(قوله كما ان المراد بالضد هاهنا هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا... إلخ) كل أمر قد لوحظ مع أمر آخر ان كانا من نوع واحد فهما متماثلان وإلا فان كانا غير آبيين عن الاجتماع كالسواد والحلاوة فهما متخالفان وإلا فهما متقابلان وأقسام التقابل أربعة فالمتقابلان أما وجوديان أو أحدهما وجودي والآخر عدمي ولا تقابل بين العدميين فالمتقابلان الوجوديان إن كانا متلازمين في التعقل والتصور فهما المتضايفان كالأبوة والبنوة وإلا فهما المتضادان كالسواد والبياض ونحوهما والمتقابلان اللذان أحدهما وجودي والآخر عدمي إن كان العدمي منهما مما يشترط في صدقه قابلية المحل كما في العمى والبصر إذ لا يصدق العمى إلا على محل كان من شأنه البصر فهما العدم والملكة وإلا فهما الإيجاب والسلب وهو الشيء ونقيضه كالإنسان واللا إنسان (ثم ان) الضدين في اصطلاح أهل المعقول يطلقان على الأمرين الوجوديين الآبيين عن الاجتماع مع عدم التلازم بينهما في التعقل والتصور ولكن المراد من الضد لدى الأصوليين هو مطلق المعاند والمنافي الشامل للنقيض أيضا بقرينة وقوع النزاع في
الضد العام أيضا وهو الترك وهذا واضح ظاهر.
419

(قوله الثاني ان الجهة المبحوثة عنها في المسألة وإن كانت انه هل يكون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة إلا انه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص إنما ذهبوا إليه لأجل توهم مقدمية ترك الضد... إلخ) قد عرفت ان الأقوال في الضد الخاص خمسة بل سبعة أحدها للنافين والبقية للقائلين بالاقتضاء والعمدة من بين أقوال الاقتضاء هو القول باللزوم العقلي فلا عبرة بدعوى العينية أو التضمن ولا بالالتزام اللفظي وهو القول الرابع بدعوى كون النهي عن الضد الخاص من اللوازم البينة بالمعنى الأخص للأمر بالشيء بل وهكذا لا عبرة بالقول السابع وهو التفصيل بين ما يوجب الامتناع عن إتيان المأمور به وبين غيره بل لم يؤشر إليه المصنف أصلا. وأما السادس وهو قول البهائي رحمه الله من اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بالضد فليس لدى الحقيقة قولا آخر في المسألة غير نفى الاقتضاء رأسا وسيأتي التكلم حوله عند بيان ثمرة المسألة فانتظر (ثم ان القائلين) بالالتزام العقلي الذين هم العمدة في المسألة بين من يقول به لأجل مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر فإذا وجب أحدهما وجب ترك الآخر مقدمة وحرم فعله وبين من يقول به لأجل كون ترك أحد الضدين ملازما للضد الآخر فإذا وجب أحد الضدين سرى الوجوب منه إلى عدم الضد الآخر وحرم فعله كما ان العمدة من هؤلاء القائلين بالالتزام العقلي هم القائلون به من جهة المقدمية كصاحب الفصول وغيره (وعليه) فاللازم في هذا البحث أولا هو صرف عنان الكلام إلى بيان الحال في المقدمية وعدمها ثم إلى بيان الحال في سراية الحكم من الملازم إلى الملازم وعدمها عند تعرض المصنف لها وان تقدم الكلام فيها مختصرا عند ثمرة القول بالموصلة وأما الجواب عن بقية أقوال المسألة فنتكل على وضوح فسادها كما فعل المصنف قدس سره.
420

الكلام في توقف أحد الضدين على ترك الآخر وبالعكس
(فنقول) مستعينا بالله تعالى إن في توقف أحد الضدين على ترك الآخر وبالعكس أقوال خمسة (الأول) التوقف من طرف الوجود دون العدم فوجود أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر وعدم الآخر لا يتوقف على وجود هذا وهذا القول قد نسبه التقريرات في النسخة الأولى لبحث الضد إلى الأكثر وفي النسخة الثانية إلى المشهور بين المتأخرين من أصحابنا والمتأخرين منهم كصاحب القوانين والفصول وأخيه في حاشيته على المعالم (الثاني) توقف الضد المعدوم على رفع الضد الآخر الموجود وعدم توقف الضد الموجود على عدم الآخر المعدوم وهذا القول قد نسبه التقريرات إلى المحقق الخوانساري وهو تفصيل في الحقيقة في قول المشهور فالضد إنما يتوقف وجوده على عدم الضد الآخر إذا كان معدوما لا مطلقا كما يظهر من المشهور ولو كان موجودا (الثالث) التوقف من طرف العدم على الوجود فعدم أحد الضدين يتوقف على وجود الآخر دون العكس وهذا القول هو في قبال المشهور منسوب إلى الكعبي القائل بانتفاء المباح وبمقدمية أحد الأضداد الخاصة للتروك الواجبة كترك الزنا وترك الخمر وترك القمار ونحو ذلك من التروك فإذا وجب أحد هذه التروك للنهي عن فعلها وجب فعل أحد الأضداد الخاصة مقدمة للترك الواجب فإذا لا مباح (الرابع) التوقف من الطرفين فوجود أحد الضدين يتوقف على عدم الآخر وعدم الآخر يتوقف على وجود هذا وهذا القول قد نسبه التقريرات
421

إلى الحاجبي والعضدي وهو عجيب.
(الخامس) عدم التوقف من الطرفين فلا وجود أحد الضدين يتوقف على عدم الاخر ولا عدم الآخر يتوقف على وجود هذا وهذا القول قد نسبه التقريرات في النسخة الأولى لبحث الضد إلى جماعة منهم السيد المحقق السلطان وشيخنا البهائي والكاظمي وأضاف إليهم في النسخة الثانية المحقق السبزواري وهو الحق الحقيق كما ستعرف شرحه وتفصيله (ثم لا يخفى) ان المقصود من نفى التوقف من الطرفين وعدم التمانع بين الضدين ليس ان كل أمرين متضادين هو من هذا القبيل أي لا توقف لأحدهما على عدم الآخر ولو من طرف واحد كيف والمانع والممنوع كالماء والإحراق هما أمران متضادان وأحدهما مانع عن الآخر ووجود الآخر مما يتوقف على عدم هذا بل المقصودان مجرد التضاد والمعاندة بين أمرين مما لا يقتضى التمانع والتوقف من الطرفين ولا من طرف واحد وإن جاز ان يكون هناك متضادان كالمانع والممنوع كان بينهما التوقف من طرف واحد دون الآخر فدعوى المحققين المذكورين هو سلب الكلية لا كلية السلب فتدبر واغتنم.
(قوله ان توهم توقف الشيء على ترك ضده ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين وقضيتهما الممانعة بينهما... إلخ) قد أشار المصنف بقوله هذا إلى ما استدل به المشهور القائلون بتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر دون العكس (وحاصله) ان اجتماع كل من الضدين مع الآخر محال للمضادة فيكون وجود كل منهما مانعا عن حصول الآخر وعدم المانع من جملة المقدمات فيتوقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم المانع.
(ثم انه قد أورد) على حجة المشهور من دعوى التمانع بين الضدين بوجوه أوجهها ثلاثة وقد يجعل هذه الوجوه حججا لمنكري التوقف من
422

الطرفين وعلى كل حال (أول) تلك الوجوه الثلاثة ان مجرد استحالة اجتماع الضدين مما لا يقتضى التمانع بينهما بان كان كل منهما مانعا عن الآخر ليكون عدم كل منهما مقدمة للآخر إذ الأمور اللازمة للمانع مما يستحيل اجتماعها مع الممنوع مع ان وجودها ليس من الموانع ولا عدمه من المقدمات (ثانيها) ان من المعلوم بالوجدان انه مهما حصل إرادة المأمور به حصل هناك أمران في عرض واحد فعل المأمور به وترك ضده فيكونان إذا معلولي علة واحدة لا تقدم لأحدهما على الآخر فلا وجه لجعل ترك الضد من مقدمات المأمور به ونظير المقام عينا السبب الباعث لحصول أحد النقيضين فإنه باعث لحصول هذا وارتفاع الآخر في عرض واحد من غير ترتب وتوقف بينهما فإذا حصل السبب لوجود الإنسان مثلا حصل الإنسان وارتفع اللا إنسان في رتبة واحدة من دون ان يرتفع اللا إنسان أو لا ثم يحصل الإنسان في المرتبة المتأخرة.
(ثالثها) وهو أهم الوجوه وعمدتها وحاصله انه لو توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم المانع لتوقف عدم ذاك الضد أيضا على وجود هذا توقف عدم الشيء على وجود المانع فان المفروض ان المانعية من الطرفين فكما ان عدم المانع من مقدمات الوجود فكذلك وجود المانع من مقدمات العدم وهو دور واضح.
(قوله وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما... إلخ) المصنف قد مزج الجواب الأول عن حجة المشهور الذي كان مرجعه إلى نفى اقتضاء مجرد التضاد التمانع كما في لوازم المانع مع الممنوع بالجواب الثاني الذي كان مرجعه إلى ان كلا من الضدين وترك الآخر في عرض واحد كما في النقيضين وجعلهما جوابا واحدا فمن قوله وذلك لأن المعاندة إلى قوله كيف ولو اقتضى التضاد... إلخ. جواب واحد مأخوذ عن الجوابين الأولين
423

عن حجة المشهور ولم يحسن في ذلك فلو أشار إلى كل منهما على حدة كما صنع في الجواب الثالث كان أحسن.
(قوله كيف ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده... إلخ) إشارة إلى الجواب الثالث عن حجة المشهور وهو لزوم الدور على القول بتمانع الضدين فلا تغفل.
(قوله وما قيل في التفصي عن هذا الدور... إلخ) أصل التفصي للمحقق الخوانساري وقد تفصى به عما أورده المحقق السبزواري من الدور غير ان المصنف تصرف في التفصي بما يؤكده ويؤيده (وحاصله) ان التوقف من طرف الوجود فعلى بمعنى ان وجود أحد الضدين يتوقف على عدم الضد الآخر على كل تقدير فلا يعقل ان يوجد هذا ولا يكون ذاك معدوما أبدا إلا ان التوقف من طرف العدم تقديري بمعنى انه لو فرض المقتضى لذلك الضد موجودا مع بقية شرائطه غير عدم المانع كان عدمه حينئذ مستندا إلى وجود هذا الضد ومتوقفا عليه ولعل فرض وجود المقتضى لذلك الضد مع وجود هذا الضد محال إذ ليس المقتضى لذلك الضد كالصلاة مثلا إلا الإرادة وإرادة الصلاة مع وجود الإزالة المضادة لها مما لا يجتمعان فان وجود الإزالة فرع الإرادة المتعلقة بها ومع وجود الإرادة المتعلقة بها وتحققها في الخارج كيف يعقل فرض وجود الإرادة المتعلقة بالصلاة أيضا (لا يقال) هذا إنما لا يعقل إذا كانت الإرادتان من شخص واحد واما إذا كانتا من شخصين فأراد أحدهما حركة شيء مثلا والآخر سكونه فالمقتضى لكل من الضدين موجود فإذا تحقق أحد الضدين لغلبة الإرادة المتعلقة به كان عدم ذاك الضد حينئذ مستندا إلى وجود هذا الضد لا إلى فقد المقتضى (لأنه يقال) هاهنا أيضا مستند عدم ذاك الضد إلى عدم قدرة المغلوب في إرادته وهي شرط في تحقق المراد وليس مستندا إلى وجود هذا الضد
424

لكون عدم ذاك الضد مسبوقا بعدم قدرة المغلوب (وبعبارة أخرى) ان عدم ذلك الضد مستند إلى نقصان المقتضى له لا إلى وجود هذا الضد (وعليه) فالتوقف دائما يكون من طرف واحد وهو طرف الوجود لا من الطرفين أي من الوجود والعدم جميعا كي يلزم الدور فتدبر جيدا.
(قوله غير سديد فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور إلا ان غائلة... إلخ) (وحاصل ما أجاب به المصنف) عن التفصي ان الدور وان كان قد ارتفع بالتقريب المذكور أي بكون التوقف من طرف الوجود فعليا ومن طرف العدم تقديريا ولكن مجرد التوقف التقديري من طرف العدم مما يكفى في بقاء ملاك الدور وهو تأخر الشيء عن نفسه برتبة بل برتبتين فوجود أحد الضدين حيث يتوقف فعلا على عدم ذاك الضد متأخر عنه برتبة تأخر المعلول عن العلة رتبة وعدم ذاك الضد حيث يصلح ان يستند إلى وجود هذا الضد أي على فرض كون المقتضى له موجودا فهو متأخر عن وجود هذا الضد برتبة فوجود هذا الضد متأخر عن نفسه برتبتين (وقد أجاب التقريرات) عن التفصي بما حاصله ان التقريب المذكور وإن كان يندفع به الدور ولكنه ينفى التوقف من الطرفين رأسا فان توقف وجود أحد الضدين على عدم الآخر ليس إلا لأجل علية وجود ذاك الضد لانتفاء هذا الضد فان مقدمية عدم ذاك الضد جاءت من قبل ذلك فإذا منع الخصم استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر ونفى علية أحد الضدين لعدم الآخر لم يتوقف وجود هذا على عدم ذاك كما لم يتوقف عدم ذاك على وجود هذا.
(أقول) الظاهر انه لا وجه لتسليم المصنف ولا التقريرات ارتفاع الدور بالتقريب المذكور بل الدور باق على حاله إذ لو فرض شخصان قد تعلق إرادة كل منهما بأحد الضدين غير ما أراده الآخر فغلب أحدهما في إرادة
425

فعدم ذاك الضد مستند لا محالة إلى وجود هذا الضد المانع عنه لا إلى عدم القدرة لأن القدرة موجودة محققة وآيتها انه لو ترك الغالب لأتى المغلوب بما أراده من غير عجز عنه ولكن الغالب حيث كانت قدرته أقوى وأشد فغلبه وأتى بما شاء وأراد ومنع عن تأثير إرادة المغلوب في مراده وفي مثل هذا لا يقال ان العدم مستند إلى عدم قدرة المغلوب بل مستند إلى وجود المانع وهو الضد المتحقق في الخارج بإرادة الغالب (وعليه) ففي فرض تحقق الإرادتين من شخصين لو قيل بتمانع الضدين يلزم التوقف من الطرفين فوجود هذا يتوقف على عدم ذاك توقف الشيء على عدم المانع وعدم ذاك أيضا يتوقف على وجود هذا توقف عدم الممنوع على وجود المانع (هذا مضافا) إلى ما في ظاهر كلام المتفصي من ان استناد عدم الشيء إلى وجود المانع منحصر بصورة فرض وجود المقتضى لذلك الشيء فإنه مما لا وجه له إذ كما ان في صورة فرض المقتضى له يكون العدم مستندا إلى وجود المانع فكذلك فيما إذا كان المقتضى له معدوما غايته ان العدم حينئذ مستند إلى كل من وجود المانع وفقد المقتضى جميعا بنحو الشركة نعم إذا كان المانع مفقودا فلا محالة يستند العدم حينئذ إلى فقد المقتضى فقط (وبالجملة) تارة يكون كل من المانع والمقتضى موجودا وفي هذه الصورة يستند العدم إلى وجود المانع خاصة وأخرى يكون كل من المانع والمقتضى مفقودا وفي هذه الصورة يستند العدم إلى فقد المقتضى خاصة وثالثة يكون المانع موجودا والمقتضى مفقودا وفي هذه الصورة يستند العدم إلى كل من وجود المانع وفقد المقتضى جميعا لا إلى خصوص فقد المقتضى كما يظهر من الخصم (ثم ان هذا كله) تمام الكلام في الوجوه الثلاثة التي أوردوها على حجة المشهور القائلين في الضدين بالتوقف من طرف الوجود دون العدم بزعم التمانع بينهما وقد عرفت ان الوجوه كلها واردة على حجتهم لا مناص لهم عنها
426

سيما الأخير منها وهو الدور وانه لا تمانع بين الضدين أصلا (وعليه) فكما يظهر بتلك الوجوه ضعف قول المشهور كذلك يظهر بها ضعف تفصيل المحقق الخوانساري الذي كان تفصيلا في قول المشهور أي توقف خصوص الضد المعدوم على رفع الضد الآخر الموجود دون الضد الموجود وهكذا يظهر بها بطلان قول الكعبي أيضا الذي هو في قبال قول المشهور من دعوى التوقف من طرف العدم دون الوجود بعد ما عرفت من انتفاء التمانع بين الضدين وكون وجود كل ضد مع عدم الآخر في عرض
واحد لا تقدم لأحدهما على الآخر وأظهر من الكل بطلانا قول الحاجبي والعضدي من دعوى التوقف من الطرفين جميعا فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله لاستحالة ان يكون الشيء الصالح... إلخ) فمثل الإزالة الصالح لأن يكون موقوفا عليه عدم الصلاة ولو عند فرض وجود المقتضى للصلاة يستحيل ان يكون موقوفا على عدم الصلاة لما تقدم من لزوم تأخر الشيء عن نفسه برتبتين.
(قوله والمنع عن صلوحه لذلك... إلخ) وحاصله ان المقتضى لو منع حتى عن صلوح هذا الضد لاستناد عدم ذاك الضد إليه بدعوى ان صدق القضية الشرطية كقولك لو كان المقتضى لذلك الضد موجودا لاستند عدمه إلى وجود هذا الضد لا يقتضى صلاحية هذا الضد لاستناد عدم ذاك الضد إليه لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها كما لا يقتضى صدق قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا صدق طرفيها فهذا مساوق لمنع مانعية الضد من أصلها ولو شأنا وهو يوجب عدم التوقف رأسا ولو من طرف الوجود إذ لا وجه لتوقف وجود هذا على عدم ذاك إلا مانعية ذاك فإذا منع مانعية الضد فلا وجه لتوقف وجود هذا على عدم ذاك (وفيه) ان المتفصي قد
427

اعترف بالتوقف التقديري من طرف العدم أي على تقدير فرض وجود المقتضى لذاك الضد فكيف يمنع عن صلاحية هذا الضد لاستناد عدم ذاك الضد إليه وهل التوقف التقديري إلا بمعنى صلوحه لذلك نعم لم يتفطن المتفصي ان مجرد التوقف التقديري مما يكفى في الاستحالة ولزوم تأخر الشيء عن نفسه برتبتين كما عرفت.
(قوله والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود... إلخ) أي والمانع الذي يكون موقوفا على عدمه الوجود والتعبير لا يخلو عن مسامحة.
(قوله ومما ذكرنا يظهر انه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم... إلخ) إشارة إلى تفصيل المحقق الخوانساري في توقف أحد الضدين على ترك الآخر وقد تقدم تفصيله مع ضعفه وانه تفصيل في قول المشهور فهم يقولون بتوقف أحد الضدين على عدم الآخر مطلقا وهو يدعى توقف خصوص الضد المعدوم على عدم الآخر الموجود لا مطلقا حتى الضد الموجود على عدم الضد المعدوم.
(قوله في ان عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك لا بد أن يجامع معه من غير مقتضى لسبقه... إلخ) في العبارة تعقيد شديد وليس من المصنف بعزيز ومراده من الشيء هو المأمور به أي لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم في ان عدمه الملائم للمأمور به المناقض هذا العدم لوجوده المعاند للمأمور به لا بد ان يجامع معه من غير مقتضى لسبقه ولو قال قدس سره لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم في ان عدمه الملائم مع المأمور به هو في رتبة المأمور به من غير مقتضى لسبقه عليه كان خاليا عن التعقيد جدا.
(قوله بل قد عرفت ما يقتضى عدم سبقه... إلخ) من الدور وغيره مما أورد على القول بالتوقف ولو من طرف واحد بزعم التمانع بين الضدين
428

وتوقف وجود أحدهما على عدم الآخر توقف الشيء على عدم المانع.
(قوله واما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم... إلخ) قد عرفت ان الأقوال في الضد الخاص كان خمسة بل سبعة أحدها للنافين والبقية للقائلين بالاقتضاء وان العمدة من بين أقوال الاقتضاء هو القول بنحو الالتزام العقلي وان القائلين به هم بين من يقول به لأجل مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فإذا وجب أحدهما وجب ترك الآخر مقدمة وحرم فعله وقد عرفت ضعف ذلك بما لا مزيد عليه وبين من يقول به لأجل كون ترك أحد الضدين ملازما لوجود الآخر فإذا وجب أحدهما وجب ترك الآخر لسراية الوجوب من الملازم إلى الملازم فإذا وجب ترك الآخر للسراية حرم فعله وهذا مما سنبين لك في المقام ضعفه (فنقول) انه لا ملزم عقلا لسراية الحكم من الملازم إلى الملازم غير انه يجب في نظر العقل ان لا يكون الملازم محكوما بحكم فعلى مخالف لحكم ملازمه لا ان يكون محكوما بحكم ملازمه بل ويجوز ان يكون الملازم محكوما إنشاء بحكم مخالف لحكم ملازمه لكن قد سقط فعليته بفعلية الأهم الملازم له كما إذا وجب الإنقاذ وحرم إنشاء ترك الصلاة الملازم له لكن قد سقطت حرمته الفعلية لأهمية الإنقاذ وهذا واضح ومن هنا يتضح لك فساد ما ذهب إليه الكعبي من انتفاء المباح لو استند فيه إلى سراية الحكم من الملازم إلى الملازم بحيث إذا وجب ترك الزنا سرى الوجوب منه إلى ما يلازمه من الأضداد الخاصة الوجودية من الأكل والشرب ونحوهما فان المشهور وان كان انه قد استند في ذلك إلى مقدمية أحد الضدين لترك الآخر ولكن الظاهر من صاحب المعالم انه استند الكعبي في ذلك إلى سراية الحكم من الملازم إلى الملازم وعلى كل حال يظهر لك ضعفه مما تقدم من نفى المقدمية والسراية جميعا فتأمل جيدا.
429

(قوله وعدم خلو الواقعة عن الحكم فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي... إلخ) دفع لما قد يتوهم من انه إذا لم يجب ان يكون الملازم محكوما بحكم ملازمه لزم خلوه عن الحكم (فيقول) في دفعه ان عدم جواز خلو الواقعة عن الحكم إنما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي ولو كان إنشائيا لا الحكم الفعلي والملازم وان لم يكن محكوما فعلا بحكم ملازمه ولكنه محكوم واقعا بحكم إنشائي ولو كان مخالفا لحكم ملازمه.
(أقول) بل لا دليل على عدم جواز خلو الواقعة عن الحكم الواقعي أصلا لا عقلا ولا شرعا (اما عقلا) فلجواز ان لا يكون في الفعل اقتضاء لا في الوجود ولا في العدم لا بحد الإلزام ولا دون حد الإلزام فلا يكون واجبا ولا حراما ولا مستحبا ولا مكروها بل ولا مباحا بناء على كون الإباحة حكما في قبال سائر الأحكام ينشأ بالصيغة بداعي الإذن والترخيص كما في قوله تعالى كلوا واشربوا... إلخ (واما شرعا) فلأنه لا دليل نقلي على عدم جواز خلو الواقعة عن الحكم الواقعي ان لم يكن لنا دليل على خلافه كما ورد في الحديث الشريف ان الله تعالى سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا... وهذا واضح.
(قوله فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا... إلخ) تفريع على قوله المتقدم فغايته ان لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر لا ان يكون محكوما بحكمه... إلخ. أي فلا حرمة لضد المأمور به من جهة السراية أيضا كما لم تكن له حرمة من جهة مقدمية تركه للمأمور به.
430

الكلام في الضد العام
(قوله الأمر الثالث قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى الترك... إلخ) القائل هو صاحب المعالم (قال) أعلى الله مقامه ما لفظه ولنا على الاقتضاء في العام بمعنى الترك ما علم من ان ماهية الوجوب مركبة من أمرين أحدهما المنع من الترك فصيغة الأمر الدالة على الوجوب دالة على النهي عن الترك بالتضمن وذلك واضح (انتهى) ومراده من قوله ما علم... إلخ. ما ذكره قبل هذا بيسير من قوله وحقيقة الوجوب ليست إلا رجحان الفعل مع المنع من الترك (ثم ان) حاصل ما أجاب به المصنف ان الوجوب ليس أمرا مركبا من جزءين أحدهما طلب الفعل والآخر المنع من الترك كي يدل الأمر بالشيء على النهي عن الترك بالتضمن بل هو أمر بسيط فإنه طلب أكيد قد أنشأ بداعي الإرادة الحتمية (ومن هنا يظهر) ان ما ربما يقال في مقام تحديد الوجوب من انه طلب الفعل مع المنع من الترك ليس حدا للوجوب حقيقة إذ ليس المنع من الترك من أجزائه ومقوماته بل هو من خواصه ولوازمه (كما ان من هنا يظهر) انه لا وجه لدعوى العينية في المسألة بمعنى ان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه فان اللزوم ملاك الإثنينية لا الاتحاد والعينية فيتعين من بين الأقوال كلها القول بالاقتضاء بنحو الالتزام أي العقلي فان الالتزام اللفظي على نحو كان النهي عن الترك من اللوازم البينة بالمعنى الأخص بعيد جدا (واما القول) بعدم الاقتضاء رأسا كما نسب إلى الحاجبي والعضدي على ما تقدم في صدر البحث فهو باطل قطعا لم يتعرضه المصنف ولا أشار إليه بنحو الإجمال.
431

(أقول) ان الوجوب وان كان بسيطا مفهوما ولكنه كسائر الأشياء لا بد وان يكون مركبا ماهية من جزءين أحدهما الجنس والآخر الفصل غير ان كلامنا مع المعالم ان ماهيته ليست مركبة من طلب الفعل مع المنع من الترك كما زعم بل هو طلب أكيد قد أنشأ بداعي الإرادة الحتمية فالطلب هو بمنزلة الجنس مشترك بين الوجوب وغيره والتأكد... إلخ. هو بمنزلة الفصل يميزه عما عداه (بقي شيء) وهو ان المنع من الترك هل هو من لوازم الوجوب كما ادعى المصنف أم هو عبارة أخرى عن نفس الوجوب (الظاهر) هو الثاني بمعنى ان طلب الفعل والنهي عن الترك وان كانا يختلفان مفهوما وإدراكا ولكنهما يتحدان مصداقا وخارجا من قبيل اختلاف الإنسان مع الحيوان الناطق أو اختلاف لفظة أنت وابن أخت خالتك فلا فرق إذا بين ان يقال انه طلب الفعل أو يقال إنه نهى عن الترك (وعلى هذا) فالحق في المسألة تبعا لصاحب الفصول وغيره ان الأمر بالشيء هو عين النهي عن الترك وليس النهي عن الترك جزئه كما قال به صاحب المعالم ولا لازمه كما قال به المصنف فتأمل جيدا.
(قوله كذلك يصح ان ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه فافهم... إلخ) ففي مثل قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس يكون طلب واحد وهو كما صح ان ينسب إلى الوجود حقيقة كذلك صح ان ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز بتقدير ترك آخر يكون هو المتعلق الحقيقي للطلب أي طلب ترك الترك كما صح اسناد الجري إلى الميزاب أو اسناد السؤال إلى القرية بالعرض والمجاز بتقدير الماء في الأول وتقدير الأهل في الثاني (وفيه) انه يشترط في الاستعمال الغير الحقيقي إحدى العلائق المعهودة من المجاورة أو الحال والمحل ونحو ذلك مما اعتبروه أهل العربية ولا أقل من
432

حسن الاستعمال بالطبع الذي اشترطه المصنف في صدر الكتاب في صحة استعمال اللفظ في غير ما وضع له وفي المقام لا يوجد شيء من الأمرين كما لا يخفى فلا يصح الاستعمال حينئذ قطعا ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.
في ثمرة بحث الضد الخاص
(قوله الأمر الرابع تظهر الثمرة... إلخ) قد حكى في التقريرات عن القوم ثمرات ثلاث لمسألة الضد (الأولى) ترتب العقاب على فعل الضد وعدمه فان قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص ترتب العقاب على فعله وإلا فلا (وفيه) ان عمدة القائلين بالاقتضاء كما تقدم قبلا نظرهم في الاقتضاء إلى مقدمية ترك الضد للمأمور به وان فعله حرام غيري ومن المعلوم ان المحرمات الغيرية كما تقدم تحقيقها في مقدمة الواجب في تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري مما لا يوجب استحقاق العقاب عليها سوى الاستحقاق الحاصل على المحرم النفسي (الثانية) حصول العصيان بفعل الضد على القول بالاقتضاء فيترتب عليه الأحكام الثابتة للمعصية كما إذا كان الضد سفرا فيجب فيه الصوم وإتمام الصلاة ونحوهما فإذا وجبت الإقامة لقضاء شهر رمضان مثلا لضيق الوقت فسافر وقلنا بالاقتضاء أتم صلاته وصح صيامه لكون السفر معصية (وقد أشكل) عليها في التقريرات بما هذا لفظه والحق ان ترتب أحكام المعصية على مثل هذا العصيان الناشئ عن النهي المقدمي مشكل (انتهى) والظاهر ان وجه الإشكال في نظره هو انصراف أدلة سفر المعصية عن مثل هذه المعاصي الغيرية (الثالثة) وهي أهم الثمرات وأشهرها فساد الضد إذا كان عبادة على القول بالاقتضاء نظرا إلى كون النهي في العبادات مما يوجب الفساد
433

كما سيأتي بخلاف ما إذا لم نقل بالاقتضاء فلا يحرم الضد ولا يفسد وان كان عبادة.
(وقد) أنكر هذه الثمرة مع اشتهارها جدا جماعة من الأعلام.
(منهم) صاحب الفصول قدس سره فإنه جعل ثمرة القول بالموصلة نفى هذه الثمرة لمسألة الضد نظرا إلى انه إذا وجب مثل الإزالة لم يجب مطلق ترك الصلاة مقدمة كي تحرم وتفسد بل خصوص الترك الموصل فإذا وجب الترك الموصل حرم نقيضه وهو ترك الترك الموصل وهذا مما يقترن مع الفعل تارة ومع الترك المجرد أخرى ولا تسرى الحرمة من الشيء إلى ما يلازمه فضلا إلى ما يقارنه أحيانا وقد عرفت تفصيل الكلام في ذلك كله مع جوابه في مقدمة الواجب فلا نعيد.
(ومنهم) البهائي رحمه الله (قال في الفصول) ما هذا لفظه ومن المتأخرين يعنى به البهائي (ره) من أنكر الثمرة المذكورة حيث أثبت بطلان الضد على القول الأول أيضا أي عدم الاقتضاء نظرا إلى ان الأمر بالشيء يقتضى عدم الأمر بضده وإلا لزم التكليف بالمحال لامتناع الجمع بين المتضادين فيبطل إذا كان عبادة لأن صحتها متوقفة على تعلق الطلب بها. انتهى.
(وقد أجاب المصنف) عن إنكار البهائي للثمرة بما حاصله انه يكفى في صحة العبادة مجرد قصد الملاك والمصلحة والحسن والرجحان الذاتي ولا ينحصر قصد القربة
المعتبرة في العبادات كما تقدم في التعبدي والتوصلي بقصد الأمر فقط كي إذا سقط الأمر بطلت العبادة.
(أقول) هذا مضافا إلى انه قد تصدى جماعة من الأفاضل المحققين كما سيأتي شرحه لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على عصيان المأمور به بحيث إذا لم يكف قصد الملاك في صحة العبادات كفاها الأمر الترتبي غير ان المصنف
434

كما سيأتي هو ممن لا يرى صحة الأمر الترتبي فينحصر المصحح في نظره بقصد الملاك فقط.
(ومنهم) الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره فالتزم بصحة الضد إذا كان عبادة مطلقا ولو على القول بالاقتضاء في قبال البهائي رحمه الله القائل ببطلان الضد إذا كان عبادة مطلقا وان لم نقل بالاقتضاء وذلك نظرا إلى ما التزم به الشيخ المذكور من صحة الأمر الترتبي ولو على القول بالاقتضاء فيكون هو المصحح له إن كان عبادة (قال في كشف الغطاء) على ما حكاه التقريرات عنه ما هذا لفظه وأي مانع من ان يقول الآمر المطاع لمأموره إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا افعل كذا (إلى ان قال) فالقول بالاقتضاء أي اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده وعدم الفساد أقرب إلى السداد (انتهى) (أقول) والظاهر ان مراد القائلين بالترتب هو صحة الأمر الترتبي في وعاء عدم القول بالاقتضاء بمعنى انهم على القول بان الأمر بالشيء لا يقتضى النهي عن ضده الخاص يصححون الأمر بالضد بنحو الترتب على عصيان المأمور به لا مطلقا ولو على الاقتضاء إلا من صرح منهم بالخصوص (ولكن الحق) انه بعد ما صححنا الترتب وجوزنا الأمر بالضد مترتبا على العصيان لا فرق بين القول بالاقتضاء وعدمه فكما انه لا تنافي على القول بالترتب بين الأمر بالإزالة بنحو الإطلاق وبين الأمر بالصلاة مترتبا على عصيان الإزالة فكذلك لا تنافي بين الأمر بترك الصلاة بنحو الإطلاق مقدمة للإزالة وبين الأمر بفعلها مترتبا على عصيان الإزالة (وعليه) فعلى القول بالترتب يكون الحق مع الشيخ الكبير في إنكار ثمرة الضد أي الأخيرة فالضد إذا كان عبادة يقع صحيحا على كل حال ولو على القول بالاقتضاء.
(قوله والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك... إلخ) أي يكون
435

راجحا محبوبا للمولى.
(أقول) بل وحتى بناء على حرمته يكون أيضا راجحا محبوبا للمولى إذا قلنا بالترتب في هذا الفرض كما عرفته من الشيخ الكبير فإنه رحمه الله كما يقول ان الضد على القول بالاقتضاء وحرمته يكون مأمورا به بنحو الترتب على العصيان فكذلك لا محالة يقول إنه راجح محبوب للمولى بنحو الترتب على العصيان فان الأمر إثباتا هو فرع الرجحان والمحبوبية ثبوتا وهذا واضح.
(قوله أو غيرها أي شيء كان كما هو مذهب الأشاعرة... إلخ) الظاهر ان مقصوده من غير المصلحة هو الغرض زعما منه بان الأشاعرة ينكرون المصلحة في المأمور به كما هو مذهب العدلية ويعترفون بوجود الغرض فيه وقد تقدم منه الإشارة إلى ذلك في المطلق والمشروط (فقال) بحسب ما فيه من المصلحة أو غيرها وقد أشرنا هناك ان الغرض والمصلحة شيء واحد وان الأشعري هو ينكرهما جميعا في المأمور به بل نقلنا هناك كلام كل من العدلية والأشاعرة على وجه يظهر منه فساد مقال الأشعري أي عند البحث في رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة في ذيل التعليق على القول المصنف من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الأحكام المصالح والمفاسد والقول بعدم التبعية... إلخ فراجع.
في الأمر الترتبي
(قوله ثم انه تصدى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالشيء بنحو الشرط المتأخر أو البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم أو المقارن... إلخ) أما وجه تخصيص
436

الترتب على العصيان بنحو الشرط المتأخر فواضح فان الترتب على العصيان بنحو الشرط المقارن مما لا يجدى فكيف بالمتقدم فان الأمر إذا كان مترتبا على عصيان الأهم بنحو الشرط المقارن كان قهرا متأخرا عنه رتبة تأخر الحكم عن الموضوع والمعلول عن العلة وإذا كان متأخرا عنه رتبة كان متأخرا عن فعل الضد أيضا كذلك فان عصيان الأهم وفعل الضد في رتبة واحدة ومن المعلوم ان الأمر المتأخر عن فعل الضد برتبة مما لا يصححه ولا يمكن الإتيان به بقصده ما لم يكن قبله زمانا أو رتبة ولا أقل من كونه في عرضه رتبة فإذا كان هذا حال الترتب على العصيان بنحو الشرط المقارن فكيف بنحو الشرط المتقدم زمانا بحيث كان الأمر بالمهم بعد زمان عصيان الأهم فان لازمه تأخر الأمر عن زمان فعل الضد أيضا وعدم الانتفاع بمثل هذا الأمر في تصحيح الضد والإتيان به بداعيه كاد أن يكون من الضروري (واما وجه تخصيص) الترتب على البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم أو المقارن دون المتأخر فلم يتضح لنا وجهه إلا إذا كان المقصود من ذكرهما فقط هو التمثيل لا إخراج نحو الشرط المتأخر (بل لعله) يظهر لك مما تقدم آنفا عدم صحة الترتب على البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم إلا المقارن أو المتأخر فان المراد من البناء على المعصية هو العزم الذي تقدم في كلام الشيخ الكبير كاشف الغطاء والعزم هو القصد أي الإرادة والإرادة والمعصية هما في زمان واحد كما هو الشأن في كل علة ومعلول وان كان الأول سابقا رتبة فإذا كان الأمر مترتبا على قصد المعصية بنحو الشرط المتقدم زمانا كان الأمر متأخرا قهرا عن المعصية زمانا وقد عرفت ان العصيان وفعل الضد هما في رتبة واحدة فإذا كان الأمر متأخرا عن العصيان زمانا كان متأخرا عن فعل الضد أيضا زمانا وأنت قد اتضح لك آنفا ان الأمر المتأخر عن فعل الضد برتبة مما لا يصححه ولا يمكن
437

الإتيان به بقصده فكيف بالأمر المتأخر عنه زمانا (نعم يصح) الترتب على البناء على المعصية بنحو الشرط المقارن إذ الأمر على هذا يكون متأخرا عن البناء رتبة وبكون في رتبة المعصية وفعل الضد وهذا مما يكفى في تصحيح الضد والإتيان به بداعي الأمر على تأمل فيه فتأمل جيدا.
(قوله قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك... إلخ) (أقول) نعم ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في الأمر بالأهم والأمر بالمهم مترتبا على معصية الأهم بنحو الشرط المتأخر أو على البناء على المعصية بنحو المتقدم أو المقارن فان الأمر بالمهم وان لم يكن في مرتبة الأمر بالأهم إذ المفروض ترتبه على عصيان الأهم أو على البناء على معصيته ولكن الأمر بالأهم موجود محقق في مرتبة الأمر بالمهم لوضوح عدم سقوط الأمر بالأهم بمجرد فرض حصول المعصية فيما بعد أو فرض تحقق البناء على المعصية فيما قبل أو في الحال ما لم يتحقق المعصية بنفسها في الخارج كي يسقط الأمر بالأهم فإذا كان الأمر بالأهم موجودا محققا في مرتبة الأمر بالمهم لزم اجتماع الأمر بضدين في حال واحد وهو محال (إلا انه) لا ينحصر تصوير الأمر الترتبي بأحد الأنحاء المذكورة بل صح تصويره بنحو الواجب المعلق فالامر بالأهم يكون مطلقا منجزا والأمر بالمهم يكون مطلقا معلقا على على العصيان فيقول مثلا أنقذ الغريق وصل عن العصيان فكما ان في قوله حج عند الاستطاعة يكون الوجوب مطلقا والحج مقيدا إلا إذا قال ان استطعت فحج فيكون الوجوب مقيدا دون الواجب فكذلك وجوب الصلاة في المقام مطلق ونفس الصلاة مقيدة بالعصيان فيجتمع حينئذ في حال واحد الأمر المطلق المنجز بأحد الضدين والأمر المطلق المعلق على المعصية بالضد
438

الآخر ولا تنافي بينهما عقلا أصلا (أما في تقدير عدم المعصية) فواضح لأن المعلق باق على تعليقه ولم يصر منجزا كي ينافي الأمر بالأهم (واما في تقدير المعصية) فكذلك لأن الأمر بالمهم حينئذ وان صار منجزا ولكن الأمر بالأهم قد سقط بعد فرض المعصية فلم يجتمع الأمران المنجزان في حال واحد كي يتنافيان وهذا لدى التدبر واضح فتدبر.
(بقي شيء واحد) وهو انه قد يتوهم ان التقريب المذكور للترتب إنما يتم إذا كان الأهم موقتا كالصلاة في آخر الوقت بالنسبة إلى أداء الشهادة المفروض سعة وقته واما إذا كان الأهم واجبا فوريا بحيث لا يسقط امره إذا لم يأت به في أول أزمنة الإمكان بل يجب الإتيان به فورا ففورا كالإزالة ونحوها فلا يكاد يتم التقريب المذكور فيه إذ لا يسقط الأمر بالأهم حينئذ في تقدير المعصية كي لا ينافي الأمر بالمهم بل هو ثابت محفوظ على حاله فيجتمع مع الأمر بالمهم الذي صار منجزا لفعلية شرطه وهو تقدير المعصية فيلزم الأمر بضدين على نحو التنجيز في زمان واحد (ولكنه توهم فاسد) فان الأمر بالواجب الفوري منحل إلى أوامر متعددة بتعدد الآنات ففي كل آن إذا فرض العصيان كان الأمر بالأهم ساقطا والمهم منجزا وهكذا في الآن الثاني والثالث إلى آخر الآنات (وعليه) فلا يجتمع في آن من الآنات أمران منجزان بأمرين متضادين أصلا فتدبر ولا تشتبه.
439

في بيان ما أورد على الترتب وجوابه
(ثم ان) ما أورد أو يمكن ان يورد على القول بالترتب أمور:
(منها) ما أورده المصنف بقوله المتقدم قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك... إلخ. وقد عرفت منا ضعفه وان ذلك مما لا يرد إذا فرض الأمر بالأهم مطلقا منجزا والمهم مطلقا معلقا على عصيان الأهم.
(ومنها) ما أشار إليه المصنف أخيرا بقول الآتي ثم انه لا أظن ان يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد ولذا كان سيدنا الأستاذ قدس سره لا يلتزم به على ما ببالي وكنا نورد به على الترتب (انتهى) (وفيه) انا نلتزم باستحقاق عقوبتين ولا محذور فيه عقلا لقدرة العبد على الضدين بنحو الترتب اما قدرته على الإنقاذ في المثال المتقدم فواضح واما قدرته على الصلاة عند العصيان فكذلك فإذا كان قادرا على الضدين بنحو الترتب ولم يأت بشيء منهما خارجا فقهرا يستحق عقوبتين بل عقوبات إذا أمر بأضداد خاصة بنحو الترتب ولم يأت بشيء منها أصلا (ومن هنا يظهر) انه لا وجه لعدم التزام سيده الأستاذ بذلك ان صح ما ببال المصنف ولم يكن مشتبها.
(ومنها) انه لو صح الأمر بالمهم مترتبا على عصيان الأهم لزم اختلاف المتلازمين في الحكم فان الملازم وان قلنا انه لا يجب ان يكون محكوما بحكم ملازمه ولكن قلنا انه يجب ان لا يكون محكوما بحكم فعلى مخالف له قطعا (ووجه الملازمة) انه إذا وجب الإنقاذ وقلنا بجواز الأمر بالصلاة بنحو
440

حرم ترك الصلاة قهرا مع كون الإنقاذ وترك الصلاة متلازمين فكيف يختلفان في الحكم فيجب أحدهما ويحرم الآخر (وفيه) ان عدم جواز اختلافهما في الحكم إنما هو في الحكمين العرضيين لا بنحو الترتب فإنه في تقدير امتثال الأهم لا أمر بالمهم منجزا كي يحرم تركه كذلك ويلزم اختلاف المتلازمين في الحكمين الفعليين وفي تقدير عصيان الأهم وإن كان الأمر بالمهم منجزا ويحرم تركه كذلك ولكن لم يبق الأمر بالأهم على حاله كي يلزم اختلاف المتلازمين في الحكمين الفعليين فتأمل جيدا.
(ومنها) انه لو قيل بجواز الأمر بضدين بنحو الترتب لزم طلب الحاصل المحال في ضدين لا ثالث لهما كالحركة والسكون فإذا أمر بالحركة وأمر بالسكون على تقدير عصيان الأمر بالحركة فالامر الثاني يكون من طلب الحاصل فان السكون على تقدير عصيان الأمر بالحركة حاصل بنفسه فكيف يؤمر به ولو مترتبا (وفيه) ان القائل بالترتب إنما يقول به في الأضداد الخاصة التي يمكن فيها ترك كل من الأهم والمهم جميعا كالإنقاذ والصلاة أو الإزالة والصلاة ونحو ذلك وإذا فرض تصريح بعض القائلين بالترتب بجوازه حتى في ضدين لا ثالث لهما فهو غفلة منه وذهول فلا يقاس عليه بقية القائلين بالترتب (هذه جملة) ما أورد على الترتب الذي يقال به في فرض عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص (واما ما أورد) على الترتب الذي يقال به حتى في فرض اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص كما اختاره الشيخ الكبير في كشف الغطاء وتبعناه في ذلك كما أشير قبلا فهي أمور أخر أيضا غير ما ذكرناه (منها) انه لو قيل بصحة الترتب حتى على القول بالاقتضاء لزم الأمر بالمتناقضين في فعل المهم فإنه إذا وجب الإنقاذ ووجب ترك الصلاة اما مقدمة أو لأجل سراية الحكم من الملازمة إلى الملازم وقلنا بوجوب الصلاة بنحو الترتب
441

على العصيان لزم الأمر بترك الصلاة والأمر بفعلها جميعا وهو الأمر بالمتناقضين (وفيه) ان الأمر بالمتناقضين إذا كان بنحو الترتب فمما لا محذور فيه فإنه في تقدير
امتثال الإنقاذ وترك الصلاة لا أمر بالصلاة منجزا كي يلزم الأمر بالمتناقضين فيها وفي تقدير عصيان الإنقاذ وإن كان الأمر بالصلاة منجزا ولكن لا أمر بالإنقاذ وترك الصلاة كي يلزم الأمر بالمتناقضين أيضا وهذا واضح.
(ومنها) انه لو قيل بصحة الترتب حتى على القول بالاقتضاء لزم الأمر بالمتناقضين في فعل الأهم فإذا أمر بالإنقاذ وجب فعله وإذا أمر بالصلاة بنحو الترتب وجب ترك الإنقاذ اما مقدمة أو لأجل سراية الحكم من الملازم إلى الملازم فإذا وجب فعل الإنقاذ ووجب تركه لزم الأمر بالمتناقضين في فعل الأهم كما ذكرنا (وفيه) ان الأمر بالمتناقضين كما أشير آنفا إذا كان بنحو الترتب فمما لا محذور فيه فإنه في تقدير امتثال الإنقاذ لا أمر بالصلاة منجزا كي يجب ترك الإنقاذ اما مقدمة أو لأجل السراية ويلزم الأمر بالمتناقضين فيه وفي تقدير عصيانه وإن كان يجب الصلاة منجزا ولكن لا أمر بالإنقاذ فعلا كي يلزم فيه الأمر بالمتناقضين أي بفعله وتركه جميعا فتأمل جيدا.
(ومنها) ان النهي يقتضى الفساد لا محالة ولو في خصوص العبادات فكيف يمكن القول باقتضاء مثل الأمر بالإنقاذ النهي عن الصلاة ومع ذلك تصح الصلاة للأمر الترتبي (وفيه) ان النهي وإن كان يقتضى الفساد ولو كان غيريا ولكن في تقدير عصيان الأهم لا أمر بالأهم كي يقتضى النهي عن المهم ويفسد إذا كان عبادة سوى الأمر المنجز بالمهم في هذا التقدير (ومن هنا) يظهر ضعف ما عن صاحب الحاشية من ان النهي الغيري لا يقتضى الفساد وان الصحيح في الجواب ما ذكرناه لا ما ذكره.
442

(ومنها) انه لا إشكال في ان الواجب إذا انحصر مقدمته بالحرام الأهم سقط وجوبه وفي المقام على الاقتضاء ومقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر يتوقف فعل المهم على ترك الأهم وهو محرم أهم فمع أهميته كيف يجب فعل المهم ولا يسقط وجوبه (وفيه) ان اللازم في الفرض المذكور وإن كان سقوط وجوب الواجب عن التنجز لانحصار مقدمته بالحرام الأهم ولكن لا مانع من وجوبه معلقا على العصيان ففي تقدير عدم العصيان والإتيان بالأهم لا أمر بالمهم إلا معلقا وهو مما لا ينافي حرمة ترك الأهم وفي تقدير العصيان يكون الأمر بالمهم منجزا ولكن لا أمر حينئذ بالأهم ويحرم تركه كي ينافيه الأمر بالمهم فتأمل جيدا.
(قوله أو العزم عليها... إلخ) عطف على المعصية أي بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو بمجرد العزم عليها.
(قوله لا يقال نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصى فيما بعد بالاختيار... إلخ) (حاصل الإشكال) انه نعم يلزم طلب الضدين من القول بالترتب على التقريب المتقدم شرحه لدى التعليق على قول المصنف قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدين... إلخ ولكن ذلك بسوء اختيار المكلف فلو لم يختر المعصية بترك الأهم لم يتوجه إليه طلب الضدين في حال واحد (وحاصل الجواب) ان طلب الضدين هو طلب المحال وهو من الآمر الحكيم بل مطلق من التفت إلى محاليته محال من غير اختصاص لذلك بحال دون حال وإلا لصح الأمر بضدين في عرض واحد فيما علق على الأمر الاختياري كما إذا قال افعل كذا وان عصيت فتحرك واسكن في زمان واحد بلا حاجة إلى تصحيح الأمر بهما بنحو الترتب فكما ان سوء اختيار المكلف مما لا يصح الأمر بضدين في عرض واحد لأنه طلب المحال فكذلك لا يصحح الأمر بهما
443

بنحو الترتب أيضا بعد لزوم اجتماعهما في حال واحد عند فعليه المهم قبل سقوط الأهم.
(أقول) هذا ولكنك قد عرفت منا تصوير الأمر الترتبي بنحو صحيح لا يستلزم الأمر بضدين في حال واحد أصلا فنحن ممن لا يعترف بلزوم طلب الضدين في حال واحد كي يعتذر عنه انه بسوء اختيار المكلف فيجيب عنه المصنف بما أجاب وعرفت فتدبر ولا تشتبه.
(قوله ان قلت فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك... إلخ) (وحاصل الإشكال) انه فرق بين طلب الضدين في عرض واحد وبين طلب الضدين بنحو الترتب فان الطلب في كل من الضدين في الأول يطارد الآخر بخلافه في الثاني فان طلب المهم لا يطارد طلب الأهم فان المهم ليس إلا في تقدير عصيان الأهم وأما في تقدير عدم عصيانه فلا أمر بالمهم كي يطارد الأهم (وحاصل الجواب) ان المهم وان لم يطارد الأهم في تقدير عدم العصيان ولكن في تقدير العصيان يكون الأمر بالمهم فعليا ويكون الأمر بالأهم أيضا فعليا لوضوح عدم سقوطه بمجرد فرض تحقق المعصية فيما بعد أو بمجرد تحقق العزم على المعصية قبلا أو فعلا ما لم يتحقق المعصية بنفسها في الخارج فإذا كان الأمران فعليين وقعت المطاردة بين الطرفين كما في طلب الضدين في عرض واحد عينا بل يكفى الطرد من طرف الأهم فقط فإنه يطرد طلب المهم في هذا الحال كما يطرد أي ضد كان في كل حال (وعليه) فلا يبقى للمهم مع الأهم مجال.
(أقول) إن المطاردة من الطرفين أو من طرف واحد إنما يكون إذا قلنا بالترتب بأحد الأنحاء التي تعرضها المصنف في صدر البحث من الترتب على المعصية بنحو الشرط المتأخر أو على البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدم
444

أو المقارن واما إذا قلنا به بنحو الواجب المعلق على التفصيل الذي تقدم منا شرحه وبيانه فلا يكاد يلزم المطاردة أصلا (اما في تقدير عدم المعصية) فواضح إذ لا أمر حينئذ بالمهم منجزا كالأهم كي يطارد كل منهما الآخر أو الأهم المهم واما في تقدير المعصية فكذلك لا مطاردة إذ لم يبق حينئذ أمر للأهم كي يطارد المهم أو يطارده المهم فتأمل جيدا.
(قوله ان قلت فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات... إلخ) كما إذا قال أنفذ ولدى وان عصيت فأنقذ أخي بل وقد ادعى وقوعه في الشرعيات أيضا في موارد عديدة وجعل ذلك من أقوى الأدلة على صحة الترتب فان الوقوع أدل دليل على الإمكان.
(منها) ما إذا وجب عليه السفر في شهر رمضان لحفظ نفس أو لحفظ عرض ونحوهما وعصى ولم يسافر فإنه في تقدير العصيان يجب عليه الصوم قطعا فهو مكلف في حال واحد بضدين بنحو الترتب بالسفر مطلقا وبالصوم على تقدير المعصية.
(ومنها) ما إذا حرمت عليه الإقامة في بلده اما للخوف على نفسه أو على عرضه ونحوهما وعصى وأقام فيه فإنه في تقدير العصيان يجب عليه إتمام الصلاة ويجب عليه الصيام أيضا إذا كان في شهر رمضان.
(ومنها) ما إذا وجب عليه قصد الإقامة في أثناء السفر كما إذا كان عليه قضاء شهر رمضان وقد ضاق به الوقت فعصى ولم ينو الإقامة فيه فإنه في تقدير المعصية يجب عليه القصر ويحرم عليه الصوم شرعا.
(ومنها) ما إذا شرع في الصلاة في آخر الوقت ثم وجب عليه القطع لإنقاذ غريق أو لإطفاء حريق فإنه على تقدير المعصية يجب عليه إتمام الصلاة بلا كلام بحيث إذا عصى ولم ينقذ الغريق أو لم يطفأ الحريق ولم يتم صلاته
445

أيضا جاز للمولى عقابه على كل من التركين جميعا بلا شبهة إلى غير ذلك من الفروع الفقهية التي يظفر عليها بالتتبع (ثم) ان حاصل ما أجاب به المصنف عما وقع من الترتب في العرفيات أو الشرعيات هو أحد أمرين على البدل (فاما أن يلتزم) فيها بتجاوز المولى عن الأمر بالأهم فلا اجتماع للأمرين حينئذ أصلا (وفيه ما لا يخفى) فان للمولى ان يعاقب على ترك الأهم بلا شبهة وان كان قد أتى بالمهم فلو كان المولى قد تجاوز عن الأمر بالأهم لم يصح عقابه عليه (وإما أن يلتزم) فيها بكون الأمر بالمهم إرشادا إلى محبوبيته وبقاء الملاك فيه (وفيه ما لا يخفى) أيضا فان الأمر بالمهم مع فعلية الأهم لو كان يرتفع استحالته بمجرد فرضه إرشاديا لكان ذلك مما يجوز حتى في الأمر بضدين في عرض واحد وهو باطل قطعا.
(قوله ثم انه لا أظن ان يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه... إلخ) هذا هو الإيراد الثاني الذي قد أشير إليه قبلا وأورده المصنف على القول بالترتب وقد عرفت تفصيله وتفصيل الجواب عنه فلا نعيد.
(قوله فقد ظهر انه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلا ملاك الأمر... إلخ) بل قد ظهر لك بحمد الله بما لا مزيد عليه ان المصحح للعبادة مما لا ينحصر بملاك الأمر فقط وإن كان الملاك كافيا في تصحيحها وان الأمر الترتبي أيضا مما يصححها كالملاك الثابت فيها عينا.
(قوله نعم فيما إذا كانت موسعة وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت... إلخ) استدراك عن قوله فقد ظهر انه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها الا ملاك الأمر... إلخ (وحاصله) ان الضد إذا كان عبادة موسعة كالصلاة وكان مزاحما بالأهم ببعض الوقت لا بتمام الوقت بمعنى ان الأهم لم يشغل إلا بعض وقت الضد فحينئذ حيث يكون الأمر بالضد باقيا على حاله
446

ولو بالنسبة إلى ما لم يزاحم بالأهم أمكن القول بجواز الإتيان بما زوحم بداعي الأمر المتعلق بما لم يزاحم لكونه وافيا بالغرض مثله عينا (لا يقال) ان الأمر لا يدعو إلا إلى ما تعلق به وما زوحم بالأهم قد خرج عن تحت الأمر فكيف يؤتى به بداعي الأمر المتعلق بما لم يزاحم (لأنه يقال) نعم قد خرج ولكن لم يخرج بالتخصيص الكاشف عن عدم الملاك فيه بل بالمزاحمة الغير الكاشف عن ذلك فإذا لا تفاوت في نظر العقل بينه وبين غيره وصح الإتيان به بداعي الأمر كالباقي تحت الأمر.
(أقول) وهذا من المصنف عجيب غريب فان مجرد بقاء الملاك في المزاحم بالأهم وكونه وافيا بالغرض كالغير المزاحم عينا وعدم التفاوت بينهما في نظر العقل أصلا هو مما لا يوجب صحة الإتيان بالمزاحم بداعي الأمر المتعلق بغير المزاحم بعد فرض سقوط أمره بالمزاحمة وخروجه عن تحت الأمر بسببها.
(قوله واما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك وان كان جريانه عليه أخفى كما لا يخفى فتأمل... إلخ) فانا إذا جوزنا الإتيان بالفرد الساقط أمره بالمزاحمة بداعي الأمر المتعلق بما سواه بمجرد كونه وافيا بالغرض مثله فلا فرق حينئذ بين ان يكون الأمر المتعلق بما سواه متعلقا بالطبيعة أو بالفرد وان كان جريانه على الثاني أخفى كما أفاده المصنف ومن هنا يظهر انه لا وجه لقوله فتأمل إذا أراد الإشارة إلى تردده في المقام.
(قوله ثم لا يخفى انه بناء على إمكان الترتب وصحته... إلخ) وحاصله ان بناء على إمكان الترتب وصحته ثبوتا لا نكاد نحتاج في وقوعه في الشرعيات إلى ورود دليل عليه إثباتا بل يكفى في وقوعها مجرد إمكانها وصحتها (وبيان ذلك) ان كلا من مثل دليل الإنقاذ ودليل الصلاة له إطلاق يشمل صورة
447

المزاحمة وغيرها جميعا فان لم نقل بصحة الترتب عقلا وزوحم كل منهما بالآخر فيستقل العقل حينئذ بسقوط حكم المهم من أصله أي سواء أتى بالأهم أو لم يأت به وان قلنا بصحة الترتب عقلا فالعقل لا محالة يقتصر في التصرف في دليل المهم على تقدير خاص فقط وهو تقدير الإتيان بالأهم لا مطلقا ولو في تقدير عدم الإتيان به إذ لا ملزم حينئذ للتصرف في دليله بعد عدم المحذور عقلا في بقائه على حاله (وبالجملة) ان تصرف العقل في دليل المهم عند المزاحمة بالأهم لازم على كل حال فان لم نقل بالترتب سقط دليل المهم من أصله وإلا ففي تقدير دون تقدير لا مطلقا.
في أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
(قوله فصل لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه... إلخ) كان اللازم إسقاط هذا البحث بالمرة إذ هو مما لا ثمرة فيه ولو كانت فهي غير مهمة (وعلى كل حال) لا إشكال في ان المراد من شرطه في المقام ليس هو شرط المأمور به وان لم يأب عنوان الفصول بل المعالم أيضا من عود الضمير إليه.
(فقال) في الفصول اختلفوا في جواز الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه (وقال) في المعالم قال أكثر مخالفينا ان الأمر بالفعل المشروط جائز وان علم الآمر انتفاء شرطه (انتهى) ولكن المقصود واضح ظاهر ضرورة جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرط المأمور به وإمكان تحصيله خارجا بلا كلام كالطهارة والستر ونحوهما بالنسبة إلى الصلاة فيحصله المكلف أو لا ثم يأتي بالمأمور به مستجمعا للشرائط كلها (كما لا إشكال) في ان المراد من
448

شرط الأمر بعد التأمل في كلماتهم نقضا وإبراما هو خصوص القدرة والتمكن من المأمور به أي هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء قدرة المكلف على الفعل أم لا وليس المراد هو مطلق شرط الوجوب كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ونحوها (ثم ان) القائل بالجواز كما عرفت من عبارة المعالم هو أكثر مخالفينا وقد صرح المحقق صاحب الحاشية بأنهم الأشاعرة وقال في القوانين انهم جمهور العامة والقائل بعدم الجواز أصحابنا رضوان الله عليهم (قال في المعالم) وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء
الشرط كون الآمر جاهلا بالانتفاء كأن يأمر السيد عبده بالفعل في غد مثلا ويتفق موته قبله فان الأمر هنا جائز باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط ويكون مشروطا ببقاء العبد إلى الوقت المعين واما مع علم الآمر كأمر الله تعالى زيدا بصوم غد وهو يعلم موته فيه فليس بجائز وهو الحق (انتهى).
(أقول) نعم الحق هو ما ذهب إليه الأصحاب من عدم الجواز ولكن الكلام في تعيين معنى عدم الجواز (فهل هو) بمعنى انه قبيح عقلا مع إمكانه ذاتا وان استحيل صدوره من الحكيم عرضا نظير صدور الظلم منه كما هو ظاهر المحقق القمي حيث استدل على عدم الجواز بكونه تكليفا بما لا يطاق (أم هو) محال ذاتا كاجتماع الضدين أو ارتفاع المتناقضين كما يظهر ذلك من المصنف حيث استدل على عدم الجواز بكون الشرط من أجزاء علة الأمر ولا يكاد يكون الشيء مع عدم علته (وان كان هذا الاستدلال) مما لا يخلو عن مناقشة فان الشيء وإن لم يكن مع عدم علته ولكن الكلام في أن الشرط في المقام أي القدرة هل هو شرط وجود الأمر كي ينتفي وجوده بانتفاء وجوده أو هو شرط صحته وعدم قبحه كي لا ينتفي وجوده بانتفاء وجوده وإن انتفت صحته وعدم قبحه ومن المعلوم ان المصنف لم يقم برهانا على كون القدرة شرطا
449

لوجوده كي ينتفي وجوده بانتفاء وجودها (وكيف كان) ان الصواب أن أمر الآمر مع جهله بانتفاء شرطه جائز بتمام المعنى فهو صحيح لا قبح فيه أصلا فضلا عن عدم إمكانه الذاتي ومع علمه بانتفاء القدرة لا يجوز بتمام المعنى فهو مما لا يمكن ذاتا فضلا عن صحته وعدم قبحه وذلك نظرا إلى ما تقدم في محله من ان الأمر حقيقة في إنشاء الطلب بداعي الإرادة الحتمية ومن المعلوم ان مع العلم بانتفاء قدرة المكلف على الفعل واستحالة صدوره منه يستحيل عقلا تعلق الإرادة القلبية به نعم لا بأس بالأمر به صورة لا بداعي الإرادة القلبية بل بداعي آخر كالإمتحان ونحوه ولكن تسمية ذلك بالأمر الحقيقي مما لا يخلو عن مسامحة بل تجوز محض كما لا يخفى فان الصيغة وإن تقدم انها موضوعة لإنشاء الطلب مطلقا بأي داعي كان ولكن مادة الأمر قد قلنا انها ما لم يكن الطلب منشأ بداعي الطلب الحقيقي النفساني لم تكن حقيقة فيه وإن أطلق عليه الأمر صورة (وبالجملة) تحقق الأمر الفعلي المنجز مع علم الآمر بانتفاء الشرط محال ذاتا لا انه ممكن ذاتا محال عرضا نظير صدور الظلم من الحكيم واما تحققه بمرتبة الإنشاء بداعي أمر عقلائي كالإمتحان ونحوه وإن جاز عقلا ولكنه ليس بأمر حقيقة بل صورة (هذا) ولكن يظهر من السيد أعلى الله مقامه ان المبحوث عنه ليس جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه بل جواز الأمر مشروطا بالقدرة مع علم الآمر بانتفاء القدرة وقد اختار ان ذلك مما لا يجوز من العالم بعواقب الأمور بل يجب أن يوجه الأمر إلى خصوص من يتمكن دون من لا يتمكن ولو مشروطا وقد استجوده صاحب المعالم في ترجمة البحث (قال في المعالم) بعد قوله المتقدم وشرط أصحابنا إلى قوله وهو الحق (ما هذا لفظه) لكن لا تعجبني الترجمة عن البحث بما ترى (إلى أن قال) ولقد أجاد علم الهدى رحمه الله حيث تنحى عن هذا المسلك وأحسن التأدية عن
450

المطلب فقال وفي الفقهاء والمتكلمين من يجوز ان يأمر الله تعالى بشرط ان لا يمنع المكلف من الفعل أو بشرط ان يقدره ويزعمون انه يكون مأمورا بذلك مع المنع وهذا غلط لأن الشرط إنما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها فاما العالم بالعواقب وبأحوال المكلف فلا يجوز أن يأمره بشرط (قال) والذي يبين ذلك ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لو أعلمنا ان زيدا لا يتمكن من الفعل في وقت مخصوص قبح منا أن نأمره بذلك لا محالة وإنما حسن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته في المستقبل (إلى ان قال) وإذا كان القديم تعالى عالما بتمكن من يتمكن وجب ان يوجه الأمر نحوه دون من يعلم انه لا يتمكن (إلى ان قال) صاحب المعالم قلت هذه الجملة التي أفادها السيد رحمه الله كافية في تحرير المقام وافية في إثبات المذهب المختار (انتهى).
(أقول) إن البحث عن جواز الأمر مشروطا بالقدرة مع العلم بانتفاء القدرة هي مسألة أخرى غير مسألتنا هذه فهو نزاع آخر لا ربط له بالنزاع المشهور كما صرح بذلك المحقق صاحب الحاشية (قال أعلى الله مقامه) ما لفظه وأنت خبير بان تخصيصه النزاع بالصورة المذكورة مخالف لظاهر كلمات القوم بل صريحها وما يقتضيه أدلتهم في المسألة حسب ما سيجيء الإشارة إليه فان قضية كلماتهم وقوع النزاع في تعلق التكليف بالمكلف فعلا مع علم الآمر بانتفاء شرطه في المستقبل لا أن يكون البحث في خصوص التكليف المعلق على الشرط كما ذكره السيد (إلى ان قال) وكأنه رحمه الله قرر النزاع فيما ذكره لوضوح فساد ذلك وكونه من قبيل التكليف بالمحال (إلى ان قال) ان ظهور وهن الخلاف في شيء لا يقتضى عدم كونه موردا للخلاف مع اشتهار المخالف وتنزيله الخلاف فيه على ما ذكره مما لا وجه له بعد تصريحهم بخلافه
451

وان أمكن وقوع الخلاف فيه أيضا إلا انه غير المسألة المفروضة (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه (بقي شيء) وهو بيان معنى قول السيد رحمه الله ويزعمون انه يكون مأمورا بذلك مع المنع... إلخ فإنهم إذا جوزوا أمر الله تعالى بشرط ان لا يمنع المكلف من الفعل كيف يزعمون انه مأمور بذلك مع المنع وهل فائدة الشرط إلا انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ولكن المراد على الظاهر كما نبه عليه صاحب الحاشية انه يكون مأمورا بالأمر المشروط التعليقي لا الأمر المطلق التنجيزي كي ينافي الاشتراط وفقد الشرط فتأمل جيدا.
(قوله وكون الجواز في العنوان بمعنى الإمكان الذاتي بعيد... إلخ) فان المصنف في عنوان البحث وإن في الجواز بمعنى نفى الإمكان الذاتي بقرينة ما استدل به من قوله لا يكاد يكون الشيء مع عدم علته... إلخ. ولكن مقصوده ان الجواز في العنوان عند القوم بعيد أن يكون بمعنى الإمكان الذاتي بحيث كان مراد المجوزين مجرد الإمكان الذاتي بل الظاهر من استدلالات المجوزين هو الوقوع فوق الإمكان الذاتي مثل قولهم انه لو لم يصح أي الأمر بالشيء مع العلم بانتفاء شرطه لم يعلم إبراهيم وجوب ذبح ولده لانتفاء شرطه عند وقته وهو عدم النسخ وقد علم وإلا لم يقدم على ذبح ولده ولم يحتج إلى فداء... إلخ.
(قوله نعم لو كان المراد من لفظ الأمر... إلخ) استدراك من قوله في عنوان البحث لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه... إلخ.
(قوله وفي وقوعه في الشرعيات والعرفيات غنى وكفاية... إلخ) ولعل نظره في وقوعه في الشرعيات إلى أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده فإنه تعالى قد
أنشأ الطلب لا بداعي الطلب النفساني الحقيقي ليكون أمرا
452

حقيقيا بل بداعي الامتحان والاختبار فكان أمرا صوريا اختباريا (ومن هنا يظهر) ضعف ما أجاب به المعالم عن الخصم بالمنع عن تكليف إبراهيم عليه السلام بالذبح الذي هو فري الأوداج بل كلف بمقدماته كالإضجاع وتناول المدية وما يجري مجرى ذلك (ووجه الضعف) انه تعالى لم يأمر بالمقدمات بل أمر بنفس الذبح غير انه كان أمرا صوريا ليختبر به إبراهيم عليه السلام لا حقيقيا جديا
(قوله وربما يكون غير ذلك... إلخ) مما تقدم في بحث صيغة الأمر من دواعي إنشاء الطلب من التمني والترجي والإنذار والتهديد والتحقير والتعجيز والتسخير ونحو ذلك مما ذكر فتذكر.
(قوله وربما يقع به التصالح بين الجانبين... إلخ) بل لا يقع به التصالح بين الجانبين أصلا إذ من المستبعد جدا بل من المقطوع خلافه ان يكون مراد القائلين بالجواز الأمر ببعض مراتبه أي مرتبة الإنشاء ومراد المانعين من عدم الجواز عدم جواز الأمر بمرتبة الفعلية والتنجز (فإنه مضافا) إلى ان ظاهر كلمات المجوزين بل صريحهم هو جواز الأمر حقيقة لا صورة ان القول بتعدد مراتب الأمر من الإنشاء والفعلية والتنجز هو أمر حادث متأخر لم يتفطنه الأولون فكيف يحمل كلامهم عليه.
في تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع
(قوله فصل الحق ان الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد... إلخ) لا إشكال في ان متعلق الطلب في الأمر هو الوجود وفي النهي هو الترك ولكن الإشكال في ان متعلق طلب الوجود أو الترك هل هو الطبيعة أو الفرد بمعنى ان متعلق الأول أو الثاني هل هو الطبيعة المحضة ليس
453

معها شيء أو هو الطبيعة المنضمة إليها الخصوصيات والتشخصات التي بها يكون الفرد فردا فعلى الأول للمطلوب جزء واحد وهي الطبيعة المحضة وان كانت الخصوصيات الفردية مما لا ينفك عنها في الخارج ولكنها لازم المطلوب وعلى الثاني للمطلوب جزءان أحدهما الطبيعة والآخر الخصوصيات المنضمة إليها التي بها يكون الفرد فردا (ومن هنا يظهر) ان المتعلق هو على كل حال أمر كلي غايته انه على الأول يكون المكلف مأمورا بإيجاد الطبيعة المحضة وعلى الثاني يكون مأمورا بإيجاد الفرد أي الطبيعة المنضمة إليها الخصوصيات وكل منهما كلي صادق على كثيرين (وعليه) فما يظهر من عبارة المحقق القمي من تعلق الطلب على الثاني بالجزئي هو مما لا يخلو عن مسامحة بل غير معقول فان الجزئي هو الفرد الخارجي ولا يعقل تعلق الطلب بالفرد الخارجي فإنه من طلب الحاصل.
(وعلى كل حال) الحق هو القول الأول وهو تعلق كل من طلب الوجود في الأمر وطلب الترك في النهي بالطبيعة المحضة دون الطبيعة المنضمة إليها الخصوصيات الفردية (وقد استدل) عليه المصنف بمراجعة الوجدان وهو جيد فانا إذا راجعنا الوجدان وجدنا انه لا غرض لنا في مطلوباتنا إلا نفس الطبائع والماهيات من دون نظر إلى الخصوصيات الخارجية الغير المنفكة عنها سوى الخصوصيات التي نحن ندخلها تحت الطلب والأمر كما في قولك أعتق رقبة مؤمنة أو أكرم عالما عادلا ونحو ذلك فبعد الخصوصيات المأخوذة في لسان الدليل لا نظر لنا إلا إلى نفس الطبيعة المحضة بحيث لو أمكن للمكلف التفكيك بين الطبيعة والخصوصيات الفردية وأن يأتي بها في الخارج مجردا عن كل خصوصية لأجزأ وكفى (هذا وقد استدل) عليه صاحب الفصول والمحقق القمي بأمرين آخرين.
(أحدهما) تبادر طلب وجود الطبيعة أو تركها من الأوامر والنواهي.
454

(ثانيهما) ان مادة المشتقات مأخوذة من المصادر المجردة عن اللام والتنوين وهي حقيقة في الطبيعة على ما نقل السكاكي إجماع أهل العربية عليه فإذا كان مفاد الهيئة هو طلب الوجود أو الترك ومفاد المادة هي الطبيعة المحضة كان لا محالة مفاد المجموع هو طلب وجود الطبيعة أو طلب تركها وهو المطلوب أقول ان المصنف وان ناقش في كون المصدر مادة للمشتقات على ما تقدم منه في المرة والتكرار ولذا لم يستدل في المقام بالوجه الثاني ولكن لا وجه لتركه الاستدلال بالوجه الأول وهو التبادر بل قد عرفت منا تصحيح كون المصدر مادة للمشتقات فلا بأس بالاستدلال بالوجه الثاني أيضا كالأول ولا أقل من جعله مؤيدا في المسألة ان لم يكن دليلا برأسه (ثم ان) ظاهر المحقق القمي وصريح الفصول ان القائلين بتعلق الأوامر والنواهي بالأفراد دون الطبائع هم يستندون إلى ان الطبيعة مما يمتنع وجودها في الخارج بخلاف الفرد فيتعلق الطلب بوجوده دون وجودها وهو كما ترى ضعيف فان وجود الطبيعي في الخارج هو عين وجود افراده فان الفرد ليس الا حصة من الطبيعة بانضمام الخصوصيات الفردية التي بها يكون الفرد فردا فكما صح تعلق الطلب بوجود الفرد فكذلك صح تعلقه بوجود الطبيعة غايته انه على الأول تكون الخصوصيات داخلة تحت الطلب وعلى الثاني تكون خارجة عنه نعم لو كان الطلب يتعلق بوجود الطبيعة بشرط لا لم يمكن تحققها في الخارج إذ لا يمكن إيجادها منفكة عن الخصوصيات الفردية ولكنه لا يتعلق الطلب بها كذلك بل بالطبيعة لا بشرط والخصوصيات الفردية مما تلازم المطلوب غير منفكة عنها كما تقدمت الإشارة إليه آنفا.
(قوله والمقيدة بقيود... إلخ) مما كان دخيلا في الغرض والمقصود وكان داخلا تحت الطلب في لسان الدليل كما في قولك اضربه ضربا شديدا أو
455

أعطه عطاء جزيلا ونحو ذلك.
(قوله كما هو الحال في القضية الطبيعية في غير الأحكام... إلخ) كما في قولك الإنسان حيوان ناطق أو الفرس حيوان صاهل ونحو ذلك من القضايا التي يحكم فيها بثبوت المحمول لنفس الكلي وحقيقته.
(قوله بل في المحصورة على ما حقق في غير المقام... إلخ) وهي القضايا التي يحكم فيها بثبوت المحمول للافراد مع بيان كمية افراد المحكوم عليها بكلمة كل أو لا شيء أو بعض ليس ونحو ذلك مما تسمى سورا كما في قولك كل إنسان حيوان ناطق أو لا شيء من الإنسان بحجر أو بعض الإنسان عالم أو بعض الإنسان ليس بجاهل في قبال المهملة وهي غير المسورة بما يبين كمية افراد المحكوم عليها (هذا) على المشهور عند المنطقيين (واما المصنف) فيلتزم بثبوت الحكم للطبيعة حتى في
القضايا المحصورة لا للافراد وهو حسن جيد فان الخصوصيات الفردية في كل من الطبيعية والمحصورة خارجة عن تحت الحكم قطعا غير انه في الطبيعية يحكم على نفس الطبيعة وفي المحصورة على وجودات الطبيعة وحصصها المتعددة وفي شيء منها لا دخل للخصوصيات الفردية أصلا.
(قوله وان نفس وجودها السعي بما هو وجودها تمام المطلوب... إلخ) الوجود السعي للطبيعة هو في قبال الوجود الخاص الجزئي الغير القابل للصدق على كثيرين كما أشار إليه بقوله قبالا لخصوص الوجود أي لوجود الخاص الجزئي (ثم لا يخفى) انه ليس مقصود المصنف هو عدم تعلق الطلب بوجودها السعي على القول بالفرد وانه على هذا القول يتعلق بوجود الخاص الجزئي ولو كان مقصوده ذلك فهو اشتباه محض فان القائل بالفرد أيضا يقول بتعلق الطلب بوجودها السعي غايته انه بوجودها السعي وبوجود الخصوصيات الفردية جميعا القابلين للانطباق على كثيرين وذلك لما عرفت من ان المتعلق
456

على كل من القولين كلي لا جزئي غايته ان المتعلق على أحدهما هي الطبيعة المحضة وعلى الآخر هي الطبيعة المنضمة إليها الخصوصيات الفردية (وبعبارة أخرى) ان المكلف على أحدهما مأمور بإيجاد الطبيعة وعلى الآخر مأمور بإيجاد الطبيعة والخصوصيات الفردية جميعا بزعم دخولها تحت الطلب كالطبيعة.
(قوله كما ربما يتوهم... إلخ) أي يتوهم تعلق الطلب بنفس الطبيعة بما هي هي لا بوجودها وهو فاسد جدا فان الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة بل لا بد في تعلق الطلب بها اما لحاظ الوجود فيطلب وجودها أو الترك فيطلب تركها.
(قوله نعم هي كذلك تكون متعلقة للأمر فإنه طلب الوجود... إلخ) وحاصله ان الطبيعة بما هي هي لا يتعلق بها الطلب لما عرفت من انها كذلك ليست إلا هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة ولكنها بما هي هي يتعلق بها الأمر فان الأمر هو طلب الوجود فإذا تعلق الأمر بالطبيعة فقد تعلق الطلب بوجود الطبيعة.
(قوله فافهم... إلخ) ولعله إشارة إلى أن الأمر ليس الا مجرد الطلب الحتمي الصادر من العالي وليس في مدلوله الوجود أصلا (وعليه) فيكون حال مادة الأمر كحال لفظ الطلب عينا فكما لا يصح تعلق الطلب بالطبيعة ما لم يتعلق بوجودها فكذلك لا يصح تعلق الأمر أيضا بالطبيعة ما لم يتعلق بوجودها.
(قوله دفع وهم... إلخ) بل في المقام وهمان كما يظهر بمراجعة المتن على الدقة.
(أحدهما) أنه لو تعلق الطلب بوجود الطبيعة لزم طلب الحاصل (وفيه) أن المقصود من تعلق الطلب بوجود الطبيعة ليس تعلقه بوجودها الثابت في
457

الخارج كي يلزم طلب الحاصل بل بإيجاد الطبيعة وعليه فلا إشكال ولا إيراد.
(ثانيهما) أن الطلب يتعلق بنفس الطبيعة غايته أنه يجعل وجودها أو تركها غاية لتعلقه بها أي يطلبها لتوجد أو لتترك (وقد أجاب عنه المصنف) بان الطبيعة بما هي هي كما تقدمت لا تعقل أن يتعلق بها الطلب ولو بجعل الوجود أو الترك غاية له وذلك لما عرفت من انها بما هي هي ليست إلا هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة بل لا بد في تعلقه بها من لحاظ الوجود فيتعلق الطلب به أو لحاظ العدم فيتعلق الطلب بالترك (هذا) بناء على أصالة الوجود وأنه الأمر الأصيل المتحقق في الخارج وان الماهية أمر اعتباري محض كما نسب إلى أكثر المحققين (وإما) بناء على أصالة الماهية وانها الأمر الأصيل المتحقق في الخارج وان الوجود امر اعتباري محض كما نسب إلى بعضهم فالطلب أيضا لا يتعلق بالطبيعة بما هي هي بل بالطبيعة الخارجية أي ليجعلها المكلف من الخارجيات والأعيان الثابتات (وبالجملة) إن القول بتعلق الطلب بالطبيعة لتوجد مما لا وجه له إما بناء على أصالة الوجود فلتعلقه بوجود الطبيعة لا بالطبيعة لتوجد وإما بناء على أصالة الماهية فلتعلقه بالماهية الخارجية أي ليجعلها المكلف من الخارجيات لا بالطبيعة لتوجد أو تترك.
(أقول) لا يبعد أن يكون النزاع في ذلك أي في تعلق الطلب بوجود الطبيعة كما يقوله المصنف أو بالطبيعة لتوجد كما يقوله المتوهم نزاعا لفظيا فان مرجعهما لدى التدبر إلى واحد كما أن مرجع تعلق الطلب بالطبيعة لتوجد أو بالطبيعة الخارجية أي ليجعلها المكلف من الخارجيات والأعيان الثابتات إلى واحد غير أن الأول للقائلين بأصالة الوجود والثاني للقائلين بأصالة الماهية (ولو قيل) إن الطلب على القول بأصالة الوجود يتعلق بوجود الطبيعة أي بإيجادها وعلى القول بأصالة الماهية يتعلق بخارجية الماهية أي بجعلها من
458

الخارجيات كان هو الصواب المستقيم فتأمل جيدا.
(قوله من الماهية الخارجية أو الوجود... إلخ) فالأول ملحوظ للقائل بأصالة الماهية والثاني للقائل بأصالة الوجود.
إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز
(قوله فصل إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على بقاء الجواز بالمعنى الأعم ولا بالمعنى الأخص... إلخ) أما عدم دلالتهما على بقاء الجواز بالمعنى الأخص أي الإباحة الشرعية المتساوية طرفاها من دون رجحان لأحدهما فواضح فان نفى شيء خاص مما لا يدل على إثبات شيء آخر وإن دل التزاما على ثبوت حكم آخر إجمالا بناء على عدم جواز خلو الواقعة عن الحكم (واما عدم دلالتهما) على بقاء الجواز بالمعنى الأعم وهو الإذن في الفعل المشترك بين الوجوب والندب والإباحة والكراهة كما صرح به في المعالم فلان الوجوب ليس مركبا من أمرين أحدهما الإذن في الفعل وثانيهما المنع من الترك كي يقال إن دليل المنسوخ دل على ثبوت كل من الجزءين والمتيقن من الارتفاع بالناسخ هو المنع من الترك فيبقى دلالة المنسوخ على الجزء الأول على حالها بلا مزاحم لها بل الوجوب طلب أكيد ومرتبة شديدة من الطلب فإذا ارتفع الطلب فلا يبقى دلالة على بقاء الإذن في الفعل أصلا
(قوله ولا مجال لاستصحاب الجواز الا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي... إلخ) المقصود من الجواز هنا هو الجواز بالمعنى الأعم أي الإذن في الفعل المشترك بين الأحكام الأربعة كما تقدم فان الجواز بالمعنى الأخص مما لم يتعلق به اليقين في السابق كي يستصحب الآن بل
459

قد تعلق اليقين بخلافه (ثم ان حاصل) ما قيل أو يمكن أن يقال في وجه جريان استصحاب الجواز بالمعنى الأعم ان الإذن في الفعل أمر كلي مشترك بين الأحكام الأربعة قد تيقنا به في السابق عند اليقين بالوجوب فان الإذن في الفعل لو لم يكن الوجوب مركبا منه ومن المنع من الترك فلا محالة هو مما يلازم الوجوب كما يلازم الاستحباب والإباحة والكراهة فإذا نسخ الوجوب واحتمل بقائه فلا مانع من استصحابه (وفيه) ان هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلي والحق عدم جريانه كما سيأتي في محله فان الكلي الذي نتيقن بوجوده في السابق.
(تارة) يقع الشك في بقائه من جهة الشك في بقاء الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه كالشك في بقاء الحيوان من جهة الشك في بقاء زيد الذي كان الحيوان متحققا في ضمنه وفي هذا يجري استصحاب الكلي بلا كلام.
(وأخرى) يقع الشك في بقاء الكلي من جهة تردد الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه بين القصير والطويل كالبق والفيل فان كان في ضمن البق فلم يبق وإن كان في ضمن الفيل فهو باق وفي هذا أيضا يجري استصحاب الكلي بعد الجواب عما يرد عليه مما ستعرف شرحه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
(وثالثة) يقع الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد الذي كان الكلي متحققا في ضمنه أو مقارنا لحدوثه كما إذا قطع بوجود الحيوان في الدار في ضمن زيد وقد علم بخروجه قطعا ولكن شك في بقاء الحيوان لاحتمال مجيء عمرو مقارنا لخروج زيد أو مقارنا لوجود زيد في السابق وفي هذا القسم لا يكاد يجري استصحاب الكلي وستعرف وجهه في مبحث الاستصحاب أيضا إن شاء الله تعالى مبسوطا واستصحاب الجواز
460

الأعم في المقام هو من هذا القبيل عينا فلا يكاد يجري فان الوجوب الذي كان الإذن في الفعل ملازما له قد ارتفع قطعا وحدوث الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة مقارنا لارتفاعه ليبقى الإذن في الفعل باقيا على حاله مشكوك جدا (لا يقال) ان استصحاب الجواز بالمعنى الأعم وان لم يجر لكونه من القسم الثالث من استصحاب الكلي ولكن استصحاب الاستصحاب مما لا مانع عنه لما سيأتي من جريان الاستصحاب في القسم الثالث إذا كان الحادث المشكوك من المراتب الضعيفة أو القوية للمتيقن السابق ومن المعلوم أن الاستحباب بالنسبة إلى الوجوب ليس إلا من المراتب الضعيفة له فيستصحب بلا مانع عنه (لأنه يقال) نعم لكن بشرط أن يكون الحادث المشكوك عين المتيقن السابق عرفا كما إذا قطع بسواد شديد وعلم بارتفاع تلك الشدة واحتمل بقاء مرتبة ضعيفة منه فان السواد الضعيف على تقدير بقائه مع السواد الشديد السابق أمر مستمر واحد عرفا وان تبدل بعض أوصافه وحالاته والاستحباب في المقام على تقدير بقائه وإن كان من المراتب الضعيفة للوجوب السابق ولكنه غيره عرفا فلا يستصحب فان المتبع في وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا كما سيأتي شرحها في الاستصحاب إن شاء الله تعالى هو نظر العرف فهو مهما رأى الموضوع السابق أو المحمول السابق باقيا على حاله وان تبدل بعض حالاته وأوصافه جرى الاستصحاب وإن كان دقة غير الموضوع السابق أو غير المحمول السابق كما في الأمور التدريجية كاستصحاب الليل والنهار ونحوهما ومهما لم ير الموضوع السابق أو المحمول السابق باقيا على حاله لم يجر الاستصحاب وإن كان دقة عين الموضوع السابق أو عين المحمول السابق كما في الوجوب والاستحباب فتأمل جيدا.
(قوله غير الوجوب والاستحباب... إلخ) بل وغير المحرمة
461

والكراهة أيضا كما سيأتي التصريح منه في القسم الثالث من استصحاب الكلي فانتظر.
في الوجوب التخييري
(قوله فصل إذا تعلق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء... إلخ) فإذا قال مثلا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا (ففيه) وجوه بل أقوال (منها) أن الواجب كل واحد منهما على التخيير بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل وهذا القول قد نسبه الفصول وغيره إلى أصحابنا رضوان الله عليهم (ومنها) أو الواجب أحدهما لا بعينه وهذا القول قد نسبه الفصول وغيره إلى الأشاعرة غير أن المراد من ذلك مردد بين أن يكون الواجب هو مفهوم أحدهما أو مصداق أحدهما وان كان الظاهر من محكي العضدي بل صريحه هو الأول (قال في الفصول) ان العضدي بعد أن اختار هذا القول صرح في أثناء الاحتجاج بان المراد وجوب مفهوم أحدهما الصادق على كل واحد من مصاديقه لا بعينه أي على البدلية لا المصداق لا بعينه (انتهى) (ومنها) أن الواجب هو الجميع أي كل واحد منهما يجب غير أنه يسقط الوجوب بفعل أحدهما والفرق بين هذا والأول كما يظهر من قول المصنف ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما... إلخ أن الواجب على هذا هو كل واحد منهما على التعيين وان سقط بفعل البعض وعلى الأول هو كل واحد منهما على التخيير (ومنها) أن الواجب معين عند الله ولكن يسقط بإتيانه أو بإتيان عدله (ومنها) أن الواجب معين عند الله وهو ما يفعله المكلف ويختاره وهذا القول على ما في الفصول وغيره قد تبرأ منه كل من المعتزلة والأشاعرة ونسبه إلى صاحبه وهو
462

أسخف الأقوال ولعله لذلك لم يؤشر إليه المصنف وان كان اللازم عدم الإشارة إلى القول الرابع أيضا وعلى كل حال مجموع الأقوال في المسألة خمسة
(قوله والتحقيق أن يقال... إلخ) وحاصل تحقيق المصنف أن الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ثبوتا على قسمين:
(فتارة) يكون بملاك أن هناك غرضا واحدا يحصل هو بكل منهما.
(وأخرى) يكون بملاك أن هناك غرضين لكل واحد من الشيئين غرض مستقل لكن لا يحصل الغرض من هذا مع حصول الغرض من الآخر ولو أتى بهما دفعة واحدة فيما أمكن ذلك كما إذا قال أعتق هذا أو أعتق ذاك فأعتقهما دفعة واحدة إذ لو حصل الغرضان منهما فيما لو أتى بهما دفعة واحدة لوجب الأمر بإتيانهما كذلك لا بكل واحد منهما على التخيير وهذا واضح (فإن كان) بملاك أن هناك غرضا واحدا يحصل بكل منهما فالواجب حينئذ هو الجامع بينهما والتخيير عقلي لا شرعي (أما كون) الواجب هو الجامع بينهما فلان ترتب غرض واحد على أمرين مختلفين مما يكشف لا محالة عن وجود قدر جامع في البين يكون هو المؤثر في الغرض الخاص وذلك
لقاعدة الواحد التي تقدمت الإشارة إليها في الصحيح والأعم المبتنية على مقدمتين:
(إحداهما) اعتبار نحو من الارتباط والسنخية بين العلة والمعلول والا لصدر كل شيء من كل شيء.
(ثانيتهما) أن الشيء الواحد بما هو واحد لا يكاد يكون مرتبطا ومتسنخا مع أمرين مختلفين بما هما مختلفان وعلى هذا فإذا كان الجامع بين الشيئين موجودا لقاعدة الواحد وكان هو المؤثر في الغرض الخاص كان لا محالة هو الواجب لا غيره (وأما كون) التخيير عقليا لا شرعيا فلان التخيير العقلي عبارة عما إذا تعلق الحكم بأمر كلي لغرض خاص والعقل خيرنا بين افراده
463

نظرا إلى كون كل منها محصلا له من دون تفاوت بينها أصلا والمقام من هذا القبيل (هذا) إذا كان الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء بملاك أن هناك غرضا واحدا يحصل بكل منهما (وأما إذا كان) بملاك أن هناك غرضين لكل واحد من الشيئين غرض مستقل لكن لا يحصل الغرض من هذا مع حصول الغرض من الآخر (فالمتعين) من بين الوجوه المتقدمة كلها (هو الوجه الأول) من وجوب كل منهما تخييرا بمعنى عدم جواز تركه إلا إلى بدل (لا الوجه الثاني) وهو وجوب أحدهما لا بعينه وذلك لما ستعرف من المصنف في تعليقته على الكتاب في وجه ضعفه (ولا الوجه الثالث) وهو وجوب الجميع أي كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما إذ مع إمكان استيفاء ما في كل منهما من الغرض لا وجه لسقوط أحدهما بفعل الآخر ومع عدم إمكان استيفاء الغرض من كل منهما لا وجه لإيجاب كل واحد منهما على التعيين كما لا يخفى (ولا الوجه الرابع) وهو وجوب المعين عند الله مع سقوطه بإتيانه أو بإتيان عدله إذ مع كون كل منهما مثل الآخر في الاشتمال على الغرض والمصلحة لا وجه لوجوب أحدهما معينا عند الله دون الآخر (وأما الوجه الخامس) أي وجوب المعين عند الله وهو ما يفعله المكلف ويختاره فلم يذكره المصنف كي يجيب عنه وإن كان يظهر الجواب عنه من الجواب عن الوجه الرابع (هذا) كله حاصل تحقيق المصنف في المقام ببيان واضح.
(وأما تحقيق المقام في نظري) فمحصله ان بطلان الوجه الرابع والخامس واضح ظاهر لا يحتاج إلى البيان إذ مع كون كل من الشيئين أو الأشياء مثل الآخر وافيا بالغرض كما أجاب المصنف فلا وجه لتعين أحدهما بالخصوص عند الله دون الآخر سيما إذا كان المعين عند الله هو ما يفعله المكلف ويختاره وأما الوجه الثالث فكذلك باطل لما تقدم آنفا من المصنف في وجه
464

البطلان وهو جيد متين فيدور الأمر حينئذ بين الوجه الأول وهو وجوب كل واحد على التخيير وبين الوجه الثاني وهو وجوب أحدهما لا بعينه.
(والحق) هو وجوب كل واحد منهما على التخيير كما ذهب إليه الأصحاب رضوان الله عليهم ولكن لا بمعنى عدم جواز ترك كل الا إلى بدل كما تقدم في صدر الفصل ولا بمعنى اشتراط وجوب كل بعدم الإتيان بالبدل كما هو ظاهر المصنف بل صريحه في المبحث السادس من مباحث الصيغة فان كلا المعنيين ضعيفان جدا (أما الأول) فلأنه لو لم يجز ترك كل الا إلى بدل وترك كلا منهما جميعا فقد فعل حرامين لأنه ترك هذا لا إلى بدل وترك ذاك لا إلى بدل فيلزم أن يستحق عقابين مع أنه لا يستحق الا عقابا واحدا (واما الثاني) فلأنه لو وجب كل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالبدل وترك كلا منهما جميعا فقد ترك واجبين مطلقين لحصول شرط كل منهما في الخارج وهو عدم الإتيان بالبدل فيجب أن يستحق عقابين أيضا مع أنه لا يستحق الا عقابا واحدا كما ذكرنا (والصحيح) هو وجوب كل واحد منهما على التخيير بمعنى جواز الاكتفاء بأحدهما وترك الآخر رأسا.
(ومن هنا صح) أن يقال ان مرجع وجوبهما تخييرا بهذا المعنى هو إلى وجوب أحدهما لا بعينه فلا يجب الإتيان بالجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع والاختيار بيد المكلف إن شاء أتى بهذا وإن شاء أتى بذاك غايته أنه ان صرح الآمر في لسان الدليل بلفظ أحدهما وقال يجب عليك أحد هذين الأمرين أو أحد هذه الأمور فالواجب حينئذ هو مفهوم أحدهما لا بعينه وان لم يصرح به في لسان الدليل بل قال افعل هذا أو افعل ذاك فالواجب حينئذ هو مصداق أحدهما لا بعينه نظير ما إذا علم أن أحد الشيئين أو الأشياء غصب أو نجس فكما أن متعلق العلم حينئذ هو مصداق أحدهما لا مفهوم أحدهما
465

فكذلك في المثال يكون متعلق التكليف هو مصداق أحدهما لا مفهوم أحدهما من غير فرق في ذلك كله بين ان يكون التخيير بملاك ثبوت غرض واحد يحصل من كل منهما أو بملاك ثبوت غرضين لا يكاد يحصل من أحدهما مع حصوله من الآخر إذ في كلتا الصورتين يكون مرجع وجوبهما تخييرا إلى وجوب أحدهما لا بعينه والتخيير في كلتا الصورتين يكون شرعيا لا عقليا بمعنى أنه وارد من الشرع وفي لسان الدليل وليس بحكم العقل مع قطع النظر عن الشرع كي يكون عقليا كما إذا تعلق الأمر بالطبيعة وقد خيرنا العقل بين الافراد بملاك كون كل منها محصلا للغرض كالآخر من دون تفاوت بينها أصلا فتأمل جيدا فان المقام لا يخلو عن دقة.
(قوله كان كل واحد واجبا بنحو من الوجوب... إلخ) يعنى به القول الأول في المسألة.
(قوله يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه الا إلى الآخر... إلخ) قد عرفت أنه ليس من تبعات وجوب كل واحد منهما تخييرا عدم جواز تركه الا إلى الآخر والا لزم استحقاق عقابين فيما إذا تركهما جميعا بل من تبعاته جواز الاكتفاء بأحدهما وترك الآخر رأسا كما ان من تبعاته استحقاق ثواب واحد ولو أتى بهما جميعا واستحقاق عقاب واحد فيما إذا تركهما جميعا فهذا تبعات ثلاث للوجوب التخييري فاضبطها.
(قوله فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا ولا مفهوما... إلخ) يعنى به القول الثاني في المسألة وقد أفاد في تضعيفه في تعليقته على الكتاب (ما هذا لفظه) فإنه يعنى به عنوان أحدهما وان كان مما يصح ان يتعلق به بعض الصفات الحقيقية ذات الإضافة كالعلم فضلا عن الصفات الاعتبارية المحضة كالوجوب والحرمة وغيرهما مما كان من
466

خارج المحمول الذي ليس بحذائه في الخارج شيء غير ما هو منشأ انتزاعه الا أنه لا يكاد يصح البعث حقيقة إليه والتحريك نحوه كما لا يكاد يتحقق الداعي لإرادته
والعزم عليه ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع والتحريك نحوه فتأمل جيدا انتهى.
(أقول) لا مانع عقلا من البعث والتحريك حقيقة نحو أحد الشيئين أو الأشياء بالمعنى المتقدم منا بان لا يجب الإتيان بالجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع والاختيار بيد المكلف إن شاء أتى بهذا وإن شاء أتى بذاك كيف وقد يصرح الآمر بالبعث والتحريك نحو أحد الشيئين أو الأشياء فيقول ائتني بأحد الرجلين أو بأحد الرجال (نعم لا يصح) تعلق الإرادة التكوينية في الخارج من الفاعل بأحد الشيئين أو الأشياء فان الإرادة المستتبعة لحركة العضلات لا بد وان تتعلق في الخارج بأحد الشيئين المعينين اما بهذا أو بذاك لا بأحدهما الغير المعين ولكن عدم تعلق الإرادة التكوينية خارجا الا بأحدهما المعين لا يكاد يكون دليلا على عدم تعلق الإرادة التشريعية الا بأحدهما المعين
(قوله ولا أحدهما معينا... إلخ) يعنى به القول الرابع في المسألة وقد خالف الترتيب في الرد فرد على الرابع قبل الثالث.
(قوله ولا كل واحد منهما تعينا مع السقوط بفعل أحدهما... إلخ) يعنى به القول الثالث في المسألة.
(قوله بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا أو شرعا بين الأقل والأكثر أو لا ربما يقال بأنه محال... إلخ) قد يتوهم أن وجه الاستحالة أنه مهما وجد الأقل حصل به الغرض وسقط به الأمر ومع سقوطه لا يكاد يقع الأكثر بعد على صفة الوجوب فكيف يتخير بينهما ففي التخيير بين التسبيحة والتسبيحات الثلاث مثلا بمجرد ان أتى بتسبيحة واحدة حصل بها
467

الغرض الباعث للأمر وسقط بها الوجوب الشرعي المتعلق بها فكيف تقع التسبيحات الثلاث بعدا على صفة المأمورة بها ويتخير بينهما شرعا (ولكن) هذا التقرير للإشكال مما لا يجري فيما إذا وجد الأقل مع الأكثر دفعة واحدة كما في المسح بالأصابع الثلاثة المتحقق في ضمنه المسح بإصبع واحد أو في رسم خط طويل دفعة واحدة المتحقق في ضمنه رسم خط قصير كما إذا وضع القلم بطوله في الحبر ثم وضع على القرطاس كذلك دفعة واحدة أو فيما إذا كانت الاجزاء الزائدة التي بها يتحقق الأكثر واقعة في أثناء الأقل كما في التخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة لا في الآخر فان الركعتين الزائدتين واقعتان قبل السلام فلا يتحقق الأقل بتمامه أو لا ثم الأكثر ثانيا كي يجري الإشكال فيه (وعليه) فالصحيح في تقرير الإشكال على وجه يشمل الكل أن يقال كما قرره المصنف ان الأقل مما يحصل به الغرض لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر وان شئت قلت سواء وجد الأقل مع الأكثر دفعة واحدة أو وجدا تدريجا ومن المعلوم أن مع قيام الغرض بالأقل يقع الزائد على غير صفة الوجوب قهرا فكيف يتخير بينهما شرعا.
(والحق) في دفع الإشكال أن يقال ان الأقل ثبوتا على قسمين (فقد يكون) محصلا للغرض مطلقا ولو انضم إليه الزائد وفي مثله يتم الإشكال لا محالة ولا يعقل التخيير بينه وبين الأكثر أصلا.
(وقد أشار) المصنف إلى هذا القسم بقوله الآتي في آخر البحث نعم لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد لما كان الأكثر مثل الأقل وعدلا له بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره مستحبا كان أو غيره... إلخ (وقد يكون) محصلا للغرض بشرط عدم انضمام الزائد إليه فإذا انضم إليه الزائد كان المحصل للغرض هو الأكثر بحده الخاص بمعنى أنه يكون لجميع
468

اجزائه حينئذ دخل في حصوله وفي مثله لا محيص عن التخيير بين الأقل والأكثر فان كلا منهما بحده الخاص محصل للغرض فلا وجه لتخصيص الوجوب بالأول فقط دون الثاني.
(وقد أشار) المصنف إلى هذا القسم بقوله فإنه إذا فرض ان المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه بمعنى أن يكون لجميع اجزائه حينئذ دخل في حصوله وان كان الأقل لو لم يكن في ضمنه كان وافيا به أيضا فلا محيص عن التخيير بينهما... إلخ.
(وصرح أيضا) أخيرا بترتب الغرض على الأقل بشرط عدم الانضمام (فقال) لا يكاد يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر وانما يترتب عليه بشرط عدم الانضمام ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام... إلخ.
(قوله ان قلت هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد... إلخ) حاصل الإشكال أنه سلمنا ان المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه لكن هذا فيما إذا وجد الأكثر مع الأقل دفعة واحدة لا تدريجا بان وجد الأقل أولا ثم الأكثر ثانيا والا فبمجرد ان تحقق الأقل أو لا حصل به الغرض وسقط به الأمر ولا يقع الأكثر بعد على صفة الوجوب (وقد أجاب عنه) المصنف بأنه بعد فرض كون المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقل الذي في ضمنه لا يختلف الحال بتحقق الأكثر مع الأقل دفعة واحدة أو تدريجا ففي كل منهما يكون المحصل للغرض هو الأكثر بحده وانما يترتب الغرض على الأقل بشرط عدم انضمام الزائد إليه سواء انضم إليه الزائد وتحقق معه دفعة واحدة أو انضم إليه الزائد وتحقق بعده تدريجا.
(قوله وكان التخيير بينهما عقليا ان كان هناك غرض واحد و
469

شرعيا فيما كان هناك غرضان على ما عرفت... إلخ) بل كان التخيير بينهما شرعيا مطلقا وإن كان بملاك أن هناك غرضا واحدا يحصل بكل من الأقل والأكثر بحده وذلك لما عرفت من أن الضابط في التخيير الشرعي هو وروده من الشرع وفي لسان الدليل كما في خصال الكفارة كما أن الضابط في التخيير العقلي هو حكم العقل به مع قطع النظر عن حكم الشرع كما في التخيير بين الأفراد بعد تعلق الأمر بالطبيعة وليس الضابط في التخيير العقلي أو الشرعي هو كونه بملاك أن هناك غرضا واحدا يحصل بكل منهما أو بملاك أن هناك غرضين لا يكاد يحصل الغرض من أحدهما مع حصوله من الآخر.
في الوجوب الكفائي
(قوله فصل في وجوب الواجب الكفائي والتحقيق أنه سنخ من الوجوب... إلخ) نعم هو سنخ من الوجوب ولكن اللازم هو بيان ذلك السنخ فنقول انه وجوب له تعلق بكل واحد من أفراد المكلفين على حده ولذا لو تركوا الامتثال جميعا لاستحقوا العقاب جميعا كما أنهم إذا أتوا به جميعا أي دفعة واحدة فيما أمكن ذلك كما في رد السلام وصلاة الميت ونحوهما استحقوا الثواب جميعا ووقع فعل كل واحد منهم على صفة الوجوب غير أنه إذا سبق إليه أحدهم حصل الغرض بفعله وسقط به الأمر عن البقية وهذا هو وجه امتياز هذا الواجب عن الواجبات العينية وبه سمى بالواجب الكفائي دون العيني (ثم أنه قد يعلم) الكفائية في مقام الإثبات من عدم قابلية الفعل للتكرار كما إذا قال اقتلوا فلانا فقتله أحدهم ولم يبق موضوع الحكم للبقية (وقد يعلم) من حصول الغرض بفعل البعض لا من انتفاء الموضوع في الخارج
470

كما إذا قال اسقوني ماء فسقاه أحدهم وارتفع به العطش وارتوى وسقط به الأمر عن الباقين (وقد يعلم) ذلك من الخارج من إجماع ونحوه كما في غسل الميت والصلاة عليه ونحوهما الكاشف ذلك عن حصول الغرض بمجرد تحقق الفعل وصدوره عن أحدهم على النحو الصحيح (ثم إن الوجوب الكفائي) قد يكون في لسان الدليل موجها إلى الكل كما في الأمثلة المتقدمة كلها وقد يكون في لسان الدليل موجها إلى أحدهم من غير تعيين كما إذا قال فليفعل هذا أحدكم وقد يكون في لسان الدليل بنحو الترديد في الإيجاب كما إذا قال أفعل أنت يا زيد أو أنت يا عمرو أو أنت يا خالد وهكذا ولكن المقصود في الجميع واحد وهو إيجاب الفعل على الجميع مع السقوط بفعل البعض ولذا إذا لم يأتوا به جميعا استحقوا العقاب جميعا فلو لم يكن الفعل واجبا على الجميع لما استحقوا العقاب كذلك.
(هذا كله) إذا أمر الكل لا بنحو الشركة في عمل واحد واما إذا أمر الجميع بفعل واحد بنحو الشركة فيه بحيث لا يتمكن منه بعضهم دون بعض الا المجموع من حيث المجموع كما إذا أمرهم برفع حجر ثقيل لا يتمكن من رفعه الا الكل إذا اجتمعوا فهل هو واجب كفائي أو واجب عيني مشروط بمساعدة البقية أو واجب عيني مطلق غير مشروط بمساعدة البقية (ربما يشكل الأمر) على جميع التقادير فإنه ان كان واجبا كفائيا بحيث يسقط التكليف بفعل البعض فالبعض لا يكاد يتمكن من امتثاله وحده كي يسقط التكليف بفعله وان كان عينيا مشروطا بمساعدة البقية فيلزمه ان لا يعاقبوا أصلا فيما إذا لم يأتوا به جميعا لعدم فعلية شرط التكليف في حق واحد منهم مع أنهم يستحقون العقاب جميعا وان كان عينيا مطلقا فيلزمه وجوب الامتثال لكل واحد منهم وان لم يساعده الباقون ولو باعمال قوته مهما أمكن مع أن ذلك
471

لغو جدا بعد فرض عدم تمكنه وحده من رفع الحجر الثقيل الا باجتماع الكل (والحق في دفع الإشكال) أن يقال انه واجب عيني مطلق في لسان الدليل مشروط عقلا بمساعدة البقية نظرا إلى عدم حصول الامتثال بفعل أحدهم ان لم يساعده الباقون فان أتوا به جميعا أثيبوا جميعا وان لم يأت به أحد منهم فالتكليف وان كان ساقطا عن الجميع لعدم فعلية الشرط العقلي في حق أحد منهم ولكنهم يستحقون العقاب جميعا لتفويتهم الملاك بسوء الاختيار إذ المفروض أن التكليف لم يكن مشروطا شرعا كي إذا انتفى الشرط الشرعي انتفى الملاك قطعا بل كان مشروطا عقلا فإذا انتفى الشرط العقلي لم ينتف الملاك قطعا
(قوله وذلك لأنه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد... إلخ) بل يمكن أن يقال ان الواجب الكفائي هو كالواجب التخييري عينا فجاز أن يكون ثبوتا بملاك أن هناك غرضين بل وأغراضا متعددة بتعدد المكلفين في فعل واحد فيأمر كلا به لغرض خاص غير الآخر لكن إذا حصل غرض واحد لا يكاد يحصل الغرض الآخر ففي مثله لا بد من الأمر بالكل كفائيا فإذا أتى به أحدهم سقط عن البقية بعد فرض عدم حصول الغرض من فعل الباقين فتأمل جيدا.
في الواجب الموقت
(قوله فصل لا يخفى انه وان كان الزمان مما لا بد منه عقلا في الواجب... إلخ) لأن الواجب زماني والزماني لا بد له من أن يقع في الزمان ولكن (تارة) يكون الزمان مما له دخل في الواجب شرعا فيسمى موقتا فان كان الوقت بقدر الواجب فهو مضيق كالصوم وان كان أوسع فيسمى موسعا كما في
472

الصلوات اليومية (وأخرى) لا دخل للزمان في الواجب أصلا كما في غسل الميت والصلاة عليه ونحوهما فلا يسمى موقتا.
(قوله ولا يذهب عليك أن الموسع كلي كما كان له أفراد دفعية كان له أفراد تدريجية... إلخ) فصلاة الظهر مثلا كما ان لها أفراد دفعية عرضية كالصلاة في المسجد والصلاة في البيت والصلاة في الحمام ونحوها فكذلك لها أفراد تدريجية طولية كالصلاة في أول الوقت والصلاة في وسط الوقت والصلاة في آخر الوقت.
(قوله ولا وجه لتوهم أن يكون التخيير بينها شرعيا... إلخ) أي التخيير بين الأفراد التدريجية ولكن الأظهر ان التخيير بينها شرعي وذلك لما عرفت من أن الضابط في التخيير الشرعي هو وروده من الشرع بان يكون الشارع هو الذي خيرنا بين الأفراد والمقام من هذا القبيل فان حكم الشرع بتوسعة الوقت من الزوال مثلا إلى الغروب هو بمنزلة قوله صل في الآن الأول أو في الآن الثاني أو في الآن الثالث وهكذا إلى الآخر فيكون التخيير شرعيا قهرا.
(قوله ثم إنه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت... إلخ) هذا هو النزاع المعروف على الألسن من أن القضاء هل هو تابع للأداء أو بفرض جديد بمعنى أن الواجب إذا فات في الوقت فهل الأمر بالموقت بنفسه مما يدل على وجوب الإتيان به في خارج الوقت فيكون القضاء تابعا للأداء أم لا بل هو يحتاج إلى دليل مستقل آخر فيكون القضاء بفرض جديد.
(والحق) كما عليه المحققون أنه بفرض جديد نظرا إلى أن الواجب الموقت وان احتمل ثبوتا أن يكون بنحو تعدد المطلوب بان يكون أصل الفعل
473

مطلوبا ووقوعه في الوقت الخاص مطلوبا آخر فإذا فات الواجب في الوقت بقي مطلوب آخر في خارج الوقت لا بنحو وحدة المطلوب بان يكون مجموع الفعل الواقع في الوقت الخاص مطلوبا واحدا فإذا فات الواجب في الوقت لم يبق مطلوب آخر في خارج الوقت ولكن لا دلالة إثباتا على كون الواجب هو بنحو تعدد المطلوب أو بنحو وحدة المطلوب (وعليه) فاللازم في الحكم بوجوب القضاء من دلالة دليل آخر يدل عليه بالخصوص فان كان هناك دليل فهو والا فالمرجع أصالة البراءة.
(قوله نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت... إلخ) بان دل دليل على وجوب أصل الفعل وكان له إطلاق بحسب الوقت ثم دل دليل
آخر منفصل على التقييد بالوقت في الجملة بحيث لم نعرف أن التقييد هل هو بالنسبة إلى أصل المطلوب كي إذا فات الواجب في الوقت فلا مطلوب بعده أصلا أو انه بالنسبة إلى تمام المطلوب فإذا فات الواجب في الوقت فيبقى أصل المطلوب على حاله وحينئذ فمقتضى إطلاق الدليل الأول وإجمال الدليل الثاني هو وجوب أصل الفعل في خارج الوقت إذا فات الواجب في الوقت فتدبر جيدا.
(قوله ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت... إلخ) وذلك لاختلاف القضيتين أي المتيقنة والمشكوكة موضوعا مع اعتبار وحدتهما بحسب الموضوع بل وبحسب المحمول أيضا كما سيأتي في محله فما تيقنا بوجوبه في السابق وهو صلاة الظهر مثلا أو العصر لم يبق بعد الغروب كي يستصحب حكمه وما شك في وجوبه فعلا بعد الغروب وهو الإتيان بالفعل في خارج الوقت لم نتيقن به في السابق وهذا واضح.
474

في الأمر بالأمر
(قوله فصل الأمر بالأمر بشيء أمر به لو كان الغرض حصوله... إلخ) فإذا قال مثلا لابنه مر زيدا أن يفعل كذا وكذا فهل هذا أمر بذاك الفعل بحيث إذا علم زيد بالأمر بالأمر من قبل أن يأمره ابن المولى أو علم به ولم يأمره ابن المولى إما لعصيان أو لنسيان أو لأمر آخر فهل يجب عليه الإتيان بذلك الفعل أم لا بل لا يجب عليه ذلك ما لم يأمره ابن المولى (فيقول المصنف) ما محصله إن المولى إن لم يكن له غرض في التوسيط الا التبليغ كما هو المتعارف في الرسل فالأمر بشيء أمر به لا محالة والا بان كان للمولى غرض خاص في التوسيط غير التبليغ كما إذا أراد إثبات مولوية ابنه وعظمة مقامه ورفعة شأنه أو كان له غرض خاص في الفعل بحيث لا يحصل ذلك الغرض الا بعد أمر الواسطة به فلا يكاد يكون الأمر بالأمر بشيء أمرا به ما لم يأمر الواسطة به هذا بحسب مقام الثبوت وأما بحسب مقام الإثبات فلا دلالة للأمر بالأمر بشيء أنه ثبوتا من أي القسمين كي يعرف بذلك أنه أمر به أم لا.
(أقول) بل لا يبعد أن يكون الأمر بالأمر بشيء لو خلى عن كل قرينة حالية أو مقالية ظاهرا عرفا بمقتضى الغلبة في الأول أي في عدم الغرض في التوسيط الا التبليغ فيكون الأمر بالأمر بشيء على هذا أمرا به ما لم يعلم خلافه بقرينة حال أو مقال.
475

في الأمر بعد الأمر
(قوله فصل إذا ورد أمر بشيء بعد الأمر به قبل امتثاله... إلخ) فإذا قال مثلا أطعم زيدا ثم قال أطعم زيدا من قبل ان يمتثل الأول فهل يوجب الثاني تأكيد الأول أو يوجب تكرار الإطعام فيجب عليه أن يطعم زيدا مرتين (فيقول المصنف) ما محصله إن مقتضى إطلاق المادة هو التأكيد بمعنى أن الأمر الثاني لو كان للتأسيس لكانت المادة مقيدة بمرة أخرى ولقال مثلا أطعم زيدا مرة أخرى وحيث لم يقيد المادة بشيء فيتعلق الأمر الثاني بعين ما تعلق به الأمر الأول فيندك الثاني في الأول ويتأكد الأول بالثاني فيكون هناك أمر واحد أكيد متعلق بشيء واحد.
(قوله والمنساق من إطلاق الهيئة وان كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده... إلخ) الظاهر أن المراد من الإطلاق في المقام ليس ما يقابل التقييد بل المراد هو الاستعمال فأطلق اللفظ الفلاني على كذا أي استعمله فيه ولو قال والمنسبق من الهيئة وإن كان هو تأسيس الطلب... إلخ كان أولى (وعلى كل حال) أصل المقصود هو الدفع عما ربما يتوهم أن قضية إطلاق المادة وإن كان هو التأكيد بالتقريب المتقدم ولكن المتبادر من الهيئة هو الطلب التأسيسي لا التأكيدي فينا في ذلك مقتضى إطلاق المادة (وحاصل الدفع) أن المتبادر منها وإن كان ذلك ولكنها فيما إذا كانت مسبوقة بمثلها ولم يذكر هناك سبب أصلا كما في المثال المذكور بان قال مثلا أطعم زيدا ثم قال أطعم زيدا من قبل أن يمتثل الأول أو ذكر سبب واحد كما إذا قال ان جاءك زيد فأطعمه ثم قال إن جاءك زيد فأطعمه فالمتبادر منها هو التأكيد
476

لا التأسيس نعم إذا ذكر سببين مختلفين كما إذا قال مثلا إن جاءك زيد فأطعمه ثم قال إن أطعمك زيد فأطعمه فالظاهر حينئذ من الهيئة مع ذكر سبب مختلف هو التأسيس لا التأكيد.
(أقول) بل لا يبعد أن تكون الهيئة مع ذلك أيضا للتأكيد بمعنى أنه إذا حصل السببان المختلفان جميعا تداخل المسببان بعضهما في بعض فيندك الوجوب الثاني في الأول ويتأكد الأول بالثاني فيكون هناك وجوب واحد أكيد متعلق بشيء واحد ما لم يكن المتعلق في الثاني مقيدا بمرة أخرى ونحوها وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في تعدد الشرط واتحاد الجزاء فانتظر له وتأمل هذا آخر ما أراد الله لنا إيراده في الأوامر وبه تم الجزء الأول من عناية الأصول في شرح كفاية الأصول واسئل الله تعالى أن يوفقني لبقية الاجزاء كما وفقني للجزء الأول انه قريب مجيب.
طبع بمطبعة النجف - في النجف الأشرف
1384 هجري
477