الكتاب: معتمد الأصول
المؤلف: مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

معتمد الأصول
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
1

مقدمة التحقيق
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين،
واللعن المؤبد على أعدائهم أجمعين.
لم يعد خافيا على أحد ما لعلم الفقه من أهمية عظمي ودخالة مباشرة
في الحياة العملية للفرد المسلم، وفي برمجة مواقفه الفردية والاجتماعية،
ف‍ " ما من واقعة إلا ولله سبحانه فيها حكم " " ولم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة
إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله ".
فلا غرو إن توسع هذا العلم، وكثرت مطالبه، وتطورت أبحاثه بنحو
تنسجم ومعطيات الواقع المعاصر، ذلك أن الاجتهاد لم يؤصد بابه عند معاشر
الإمامية - كثرهم الله - ولم يبق حكرا على طائفة من الفقهاء المتقدمين، فكم
ترك الأوائل للأواخر! ولهذا بلغ الفقه الإمامي الذروة من حيث الدقة والتحقيق
والسعة والشمولية.
ويبدو هذا واضحا جليا بمقايسة علم الفقه بسائر العلوم الإسلامية التي
5

ولدت معه، كالنحو والصرف وغيرهما، فبينما لزمت أمثال هذه العلوم سمة
الجمود والتحجر، نجد علم الفقه بديعا في مسالكه، قشيبا في أدلته، وما من
يوم يمضي إلا ويزداد حداثة وغضارة، وذلك بفتح باب الاجتهاد والاستنباط عندنا.
هذا، وترتكز عملية الاستنباط من الكتاب والسنة على مقدمات عديدة
وكثيرة، كعلم الأصول والرجال والمنطق واللغة... حيث يقوم كل منها بدوره في
الاستنباط، إلا أن لعلم الأصول عنصر الصدارة من بينها، بل لولاه لما تمكن
الفقيه من الاستدلال، ولهذا أولاه علماؤنا عناية فائقة من بين سائر المقدمات
الدخيلة في الاستنباط، باذلين في تحقيقه جهود أخلاقة وأوقات شريفة.
وقد تمخضت هذه الجهود عن علم يفوق جميع العلوم العقلية والنقلية في
شموليته واستيعابه، وصلابته واستحكامه، وعذوبته واسترساله، وتوسع
توسعا كبيرا على يد المبتكرين والمفكرين من علمائه الذين أفردوا له دوائر
عديدة وموسوعات كبيرة.
ومن جانب آخر فقد بعدت أفكاره عن المنال، وعزت عرائس أفكاره على
عقول الرجال، نتيجة لممارسة العباقرة لهذا العلم ومدارستهم له، فكان من
الطبيعي أن يظهر على الجانب المعاكس تياران:
أحدهما: يهدف إلى تقليص هذا العلم وتلخيصه، وحذف زوائده وفضوله،
ويعد المحقق صاحب " الكفاية " (رحمه الله) المؤسس لهذا التيار. إلا أنه - وللأسف -
راح الوضوح والبيان ضحية التلخيص، وتعقدت " الكفاية " وصعب فهمها، ونشأ
عن هذا الكثير من الشروح والحواشي التي لا تعبر إلا عن رأي مؤلفيها في غالب
الأحيان، والتي يقرنها أربابها بقولهم: " لعل مراده (قدس سره) كذا " أو " يحتمل كذا " ولو
علم المحقق الخراساني (رحمه الله) بالسلسلة الطويلة من الشروح التي أحدثتها
6

وتحدثها " كفايته " وعلم بما سيعانيه دارسوها ومدرسوها، لما اختصرها ولا
اختزلها، ولا كتبها موسعة مسهبة، كاشفا عن قناعها، فإن طلسمة كتاب دراسي
أمر مرغوب عنه عند مربي الأجيال.
وثانيهما: التيار الداعي إلى الحد من وضع المصطلحات الجديدة، وإلى
بيان جميع المقدمات الدخيلة في فهم المطالب الأصولية. وهذا لا يعني الدعوة
إلى الإطناب الممل ولا الإيجاز المخل، كما هو واضح. وتعد مدرسة المحقق
النائيني (رحمه الله) خير مثال لهذا التيار البليغ، حيث تظهر روح مطالبها مجسدة بقالب
من الألفاظ الفصيحة البليغة.
ومع كل المزايا التي تجلت في مدرستي العلامتين الخراساني والنائيني (رحمهما الله)
فقد انطوتا في بعض مواضعهما على الخلط بين التكوين والتشريع، والوحدة
الحقيقية والوحدة الاعتبارية، وعلى عدم الوصول إلى مغزى بعض المسائل
الفلسفية التي جعلت أساسا للمسألة الأصولية، فجاء الدور لمدرسة السيد
الإمام الخميني - أعلى الله مقامه الشريف - ليضع حدا فاصلا بين الحقيقة
والاعتبار في المسائل الأصولية، ففيها ما يحكم فيه العرف الساذج وإن خالف
الدقة العقلية والبراهين الفلسفية، وفيها ما يرجع فيه إلى المباني الفلسفية
والحكمة المتعالية، فالإفراط والتفريط في الاتكاء على علم المعقول، كلاهما
على جانب كبير من الخطأ.
ونظر الرسوخ الإمام العلامة في الحكمة وإحاطته ببواطن أمورها
وخفيات مسائلها، لذا أبان الكثير منها عند مساس الحاجة إليها، ففي مبحث
تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد لم يوافق المحقق الخراساني على التمسك بقاعدة
" الماهية من حيث هي ليست إلا هي " مشيرا إلى أن منظور الحكماء بهذه
7

القضية هو الحمل الأولي الذاتي، لا الشائع الصناعي الذي هو مقصود الأصولي.
كما لم يسلم ما هو المعروف بين الفلاسفة والأصوليين من اعتبارية تقسيم
الماهية والأجناس والفصول، ذاهبا إلى أن تقسيم الماهية إلى أقسامها الثلاثة
إنما يكون بلحاظ الواقع ونفس الأمر، إذ مجرد اعتبار شئ لا بشرط، لا يوجب
انقلاب الواقع وصيرورة الشئ قابلا للاتحاد والحمل، كما أن اعتباره بشرط لا،
لا يحدث المغايرة ولا يمنع الحمل، وإلا لاختلف الواقع بحسب الاعتبار، ولصارت
ماهية واحدة متحدة مع شئ وغير متحدة معه بعينه، وهو واضح البطلان،
وعلى ضوء هذه الدقة بحث عن المراد من المادة والصورة والفرق بينهما وبين
الجنس والفصل وأبدى الخلط الواقع في كلام الحكماء في المسألة.
ومن المسائل التي برع في تحقيقها تحقيقا حكميا المسألة المعروفة التي
شغلت بال الفلاسفة والأصوليين، أعني مسألة الطلب والإرادة، حيث أفرد لها
رسالة مستقلة، وأفرغ فيها من ذوقه المتأله ما يعجز عن نيله أكابر الفلاسفة
والحكماء و * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * وقد قامت المؤسسة بتحقيقها،
وسيتم طبعها في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
وهناك شواهد أخرى كثيرة لم يسعنا استقصاؤها في هذه العجالة، يظهر
منها أن الإمام الخالد (رحمه الله) قد أرسى قواعد مدرسته الأصولية على ركائز من
الحكمة المتعالية، فلئن عبثت يد الطاغوت بتراث الإمام الفلسفي، ولم ينج منها
إلا النزر اليسير، ففي أبحاثه الأصولية معالم لمدرسته الفلسفية، وفيها ضالة
الفيلسوف وبغية العارف.
هذا، والمدرسة الخمينية شجرة طيبة، آتت اكلها كل حين بإذن ربها،
وتخرج منها الكثير من العلماء والمحققين ومراجع الدين العاملين - أيدهم الله
8

تعالى - نخص منهم بالذكر هنا: آية الله العظمى المحقق المجاهد الشيخ
الفاضل اللنكراني - أدام الله أيام عوائده - حيث لازم الإمام الراحل - طاب ثراه -
سنوات عديدة، ونهل من معينه العذب فقها وأصولا، وكتب الكثير من الأبحاث
الراقية التي أفاضها الإمام العظيم (رحمه الله) أثناء إقامته بمدينة قم المشرفة، فجاءت
تقريراته آية في وضوحها وسلاستها، ومثالا في تجردها من الزوائد والفضول،
لذا آثرت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) نشر ما التقطه دام ظله
من لآلئ بحث أستاذه (رحمه الله) في الأصول، رغم عدم تماميته أولا وآخرا، لما رأته
من المزية التي تفرد بها سماحة العلامة الحجة الفاضل حفظه الله سائلة
لجنابه دوام الصحة والعمر المديد، إنه سميع مجيب.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على خير خلقه محمد وعلى
آله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله
على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
11

المقصد الأول
في الأوامر
وفيه فصول:
13

مقدمة الواجب
الفصل الرابع
في مقدمة الواجب
والبحث حول هذه المسألة يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول
في تحرير محل النزاع
وقبل الخوض في تحرير محل النزاع وإقامة الدليل نمهد مقدمة، وهي:
أنه لا إشكال في أنه إذا أراد الإنسان شيئا له مقدمة أو مقدمات فلا محالة
تتعلق إرادة أخرى بإتيان المقدمات، وهذه الإرادة المتعلقة بالمقدمات ليست
مترشحة من الإرادة المتعلقة بإتيان ذي المقدمة بمعنى أنه كما تكون الإرادة
علة فاعلية لتحقق المراد في الخارج كذلك تكون موجدة لإرادة أخرى مثلها
متعلقة بمقدمات المراد الأولي، بل كما أن الإرادة المتعلقة بالغرض الأقصى
والمطلوب الأولي - كلقاء الصديق مثلا - مخلوقة للنفس ومتحققة بفعاليتها
كذلك الإرادة المتعلقة بالمقدمات - كالذهاب إلى داره مثلا - موجدة بفاعلية
النفس، غاية الأمر أن الاشتياق الحاصل بالمراد إنما هو متعلق بنفس المراد فيما
15

لو كان هو الغرض الأقصى والمطلوب الأصلي ومتعلق بما يكون المراد من
شرائط وجود شئ آخر فيما لم يكن المراد هو المنظور إليه بالذات.
وبالجملة فالفائدة المترتبة على المراد، التي هي من شرائط تحقق
الإرادة إنما هي مترتبة على نفس المراد في الصورة الأولى، ومترتبة على شئ
آخر يكون المراد دخيلا في تحققه في الإرادة المتعلقة بالمقدمات.
هذا فيما لو كان الغرض الإتيان بالفعل بنفسه، وأما لو كان المقصود إتيان
العبد به بتوسيط الأمر فهنا شيئان: البعث والتحريك الصادر من المولى بسبب
الأمر والإرادة المتعلقة بهذا البعث.
إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: لا يخفى أن ما ذكره المحققين من الأصوليين من
أن النزاع في باب المقدمة إنما هو في الملازمة لا في وجوبها لتكون المسألة
فقهية (1) يحتمل أن يكون المراد بها الملازمة بين البعث الفعلي المتعلق بذي
المقدمة وبين البعث الفعلي نحو المقدمة، وأن يكون المراد الملازمة بينه وبين
البعث التقديري نحو المقدمة بمعنى أن المقدمة يتعلق بها البعث في الاستقبال
لا محالة وإن لم يتعلق بها فعلا، وأن يكون المراد الملازمة بين الإرادة الحتمية
الفعلية المتعلقة بالبعث إلى ذي المقدمة وبين الإرادة الفعلية المتعلقة بالبعث
إلى المقدمة، وأن يكون المراد الملازمة بينها وبين الإرادة التقديرية المتعلقة
بالبعث إلى المقدمة.
وكل من هذه الاحتمالات المتصورة مما لا يمكن أن يكون محلا للنزاع
ومورد النقض والإبرام.

1 - مطارح الأنظار: 37 / السطر 6، كفاية الأصول: 114، فوائد الأصول (تقريرات المحقق
النائيني) الكاظمي 1: 216، نهاية الأفكار 1: 259.
16

أما الأول: فلأنه من الواضح عدم كون كثير من المقدمات بل جميعها
مبعوثا إليها بمجرد البعث إلى ذي المقدمة.
وأما الثاني: فلأنه لا معنى - بناء عليه - للقول بالملازمة، إذ لا يعقل تحقق
الملازمة الفعلية بين المتلازمين اللذين أحدهما موجود بالفعل والآخر موجود
بالتقدير بمعنى أنه لم يوجد بعد وسيوجد في الاستقبال، إذ الملازمة من قبيل
الأبوة والبنوة، فكما أنه لا يعقل تحقق الأبوة للشخص الذي يصير ذا ولد في
الاستقبال للتضايف الحاصل بينها وبين البنوة، ومن شأن المتضايفين عدم إمكان
الانفكاك بينهما في الوجود الخارجي بل الوجود الذهني، كذلك تحقق الملازمة
الفعلية وثبوتها بين الشيئين متوقف على تحققهما في الخارج وثبوتهما بالفعل،
وهذا واضح جدا.
وأما الثالث: فلأنه كثيرا ما يكون جميع المقدمات أو بعضها مغفولا عنها،
وحينئذ فلا يمكن تعلق الإرادة بالبعث إليها، إذ لا يعقل أن يكون المراد مغفولا
عنه.
وقد عرفت بما مهدناه لك: أن الإرادة المتعلقة بالمقدمات إنما تتحقق
بفعالية النفس، وليست مترشحة وموجدة بالإرادة المتعلقة بذي المقدمة، فراجع،
وحينئذ فلا يعقل أن يكون الشئ متصفا بأنه مراد مع كونه مغفولا عنه بالنسبة
إلى المريد، كيف ومن مقدمات الإرادة تصور الشئ والتصديق بفائدته
والاشتياق إليه، ولا يمكن اجتماع هذه مع الغفلة أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
وأما الرابع: فلما ذكر في الاحتمال الثاني من أنه يستحيل تحقق الملازمة
بين الموجود بالفعل والموجود بالتقدير.
فانقدح بما ذكرنا: أن جعل النزاع في الملازمة بالوجوه المذكورة مما
لاوجه له، إذ لا يمكن أن يكون ذلك محل النزاع، كما عرفت.
17

والتحقيق أن يقال: إن محل الكلام ومورد النقض والإبرام هي الملازمة
بين الإرادة الفعلية المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة الفعلية المتعلقة بما
يراه المريد مقدمة.
توضيح ذلك: أنه لا شبهة في أن الإرادة قد تتعلق بما لا يترتب عليه فائدة
بل ربما يرجع بسببه ضرر إلى الفاعل المريد، وليس ذلك إلا لكون المريد معتقدا
بترتب فائدة عليه، كما أنه قد يأبى عن الإتيان بفعل بتخيل أن المترتب عليه
ضرر راجع إليه مع كونه في الواقع ذا نفع عائد إليه.
وبالجملة فالإنسان ربما يشتاق إلى فعل، لتخيله أنه ذو نفع فيريده،
وربما ينزجر عن فعل آخر، لتوهمه أنه بلا نفع، فينصرف عنه، مع أن الأمر في
الواقع بالعكس، فليس تحقق الإرادة متوقفا على النفع الواقعي، وعدمها على
عدمه.
هذا في الإرادة المتعلقة بنفس الفعل، وأما الإرادة المتعلقة بالمقدمات
فهي أيضا كذلك بمعنى أنه قد يتخيل المريد بأن مراده متوقف على شئ فيريده مع
أنه لم يكن من شرائط وجوده في الواقع، كما أنه ربما لا يريد المقدمات
الواقعية، لتوهمه أنها لا تكون مقدمات.
هذا في إرادة الفاعل، وأما الآمر: فإذا أمر بشئ له مقدمات، فالنزاع واقع
في تحقق الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بما
يراه مقدمة لا المقدمات الواقعية.
نعم لو أخطأ في تشخيص المقدمات، فيجب على العبد تحصيل المقدمات
الواقعية مع علمه بخطأ المولى لا من باب تعلق إرادة المولى بالمقدمات
الواقعية، كيف وهي غير متوجهة إليها، فلا يمكن أن تصير مرادة، بل من باب
وجوب تحصيل غرض المولى مع الاطلاع عليه وإن لم يتعلق به أمر أصلا.
18

هذا، وحيث إن العمدة في مورد البحث هي المقدمات الشرعية، ومن
المعلوم أن ما يراه الشارع مقدمة ليس متخلفا عن الواقع، فيصح النزاع في
الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة بالمقدمات
الواقعية.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تحرير محل النزاع.
الأمر الثاني
هل مسألة مقدمة الواجب من المسائل الأصولية؟
ثم إنه يقع الكلام بعد ذلك في أن المسألة أصولية أو من المبادئ
الأحكامية أو فقهية.
ولا يخفى أنه إن قلنا بأن المسائل الأصولية هي ما يبحث فيها عن
عوارض الحجة في الفقه بناء على أن الموضوع لعلم الأصول هي الحجة في
الفقه (1)، فلا يكون النزاع في باب المقدمة الراجع إلى النزاع في ثبوت الملازمة
وعدمها نزاعا في المسألة الأصولية، إذ لا يبحث فيها عما يعرض الحجة في
الفقه، وهذا واضح.
وإن قلنا بأن مسائل علم الأصول عبارة عن القواعد التي يمكن أن تقع كبرى
لقياس الاستنباط أو التي ينتهي إليها في مقام العمل بعد عدم الدليل - كما هو
المختار المحقق في موضعه (2) - فمن الواضح أن المقام من المسائل الأصولية،
كما لا يخفى.

1 - نهاية الأصول: 15.
2 - مناهج الوصول 1: 51 - 54.
19

هل المسألة عقلية أو لفظية؟
ثم إنه بعد الفراغ عن كونها مسألة أصولية يقع الكلام في أنها أصولية
عقلية أو لفظية؟
والتحقيق أن يقال بابتناء ذلك على كون الدلالة الالتزامية من الدلالات
اللفظية، نظير المطابقة والتضمن، وعدمه، كما هو الحق، فإن قلنا بالأول،
تكون مسألة أصولية لفظية، ولعله الوجه في ذكر المسألة في مباحث الألفاظ.
وإن قلنا بالثاني، تكون عقلية ويمكن أن يقال بكون المقام مسألة أصولية
عقلية وإن قلنا بكون الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية.
توضيحه: أن عد الدلالة الالتزامية من الدلالات اللفظية إنما هو فيما إذا
كان الملزوم هو المدلول المطابقي للفظ، فهو يدل أولا عليه، وبتوسيطه يدل على
المعنى اللازم لمدلوله المطابقي، وهنا ليس كذلك، لأن النزاع في ثبوت
الملازمة بين الإرادة المتعلقة بالبعث إلى ذي المقدمة وبين الإرادة المتعلقة
بالبعث إلى المقدمة، فالتلازم على فرض ثبوته إنما هو بين الإرادتين، ومن
المعلوم أنه لا تكون إحداهما مدلولا مطابقيا للفظ حتى يدل اللفظ بتوسيطه على
الآخر، بل مفاد اللفظ هو البعث المتعلق بذي المقدمة، وهو وإن كان كاشفا عن
ثبوت الإرادة القبلية إلا أن ذلك ليس من باب الدلالة اللفظية عليه، بل من
باب أن الفعل الاختياري كاشف عن ثبوت الإرادة المتعلقة به قبله.
وبالجملة: فلم يكن أحد المتلازمين مدلولا مطابقيا للفظ أصلا، بل كلاهما
خارجان عن معناه الموضوع له، وحينئذ فليس إلى ادعاء الدلالة اللفظية في
المقام سبيل أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
20

الأمر الثالث
في تقسيمات المقدمة
ثم إنه ربما تقسم المقدمة بتقسيمات لابد من ذكرها وبيان أن أي قسم منها
داخل في محل البحث ومورد النزاع.
تقسيم المقدمة إلى الخارجية والداخلية
فنقول: من التقسيمات تقسيمها إلى الخارجية والداخلية، والمراد بالأول
هي الأمور الخارجة عن حقيقة المأمور به التي لا يكاد يمكن تحققه بدون
واحد منها، وبالثاني هي الأمور التي يتركب منها المأمور به، ولها مدخلية في
حقيقته.
لا إشكال في كون المقدمات الخارجية داخلة في مورد البحث، وإنما
الكلام في المقدمات الداخلية، وأنها هل تكون داخلة في محل النزاع أم لا؟
قد يقال باختصاص البحث بخصوص المقدمات الخارجية، لأن الأجزاء
لا تكون سابقة على الكل ومقدمة عليه، لأن الكل ليس إلا نفس الأجزاء
بالأسر (1).
وقد ذكر بعض الأعاظم في دفع الإشكال أن المقدمة عبارة عن نفس
الأجزاء بالأسر، والمركب عبارة عن تلك الأجزاء بشرط الانضمام والاجتماع،
فتحصل المغايرة بينهما (2).

1 - انظر هداية المسترشدين: 216 / السطر 6.
2 - كفاية الأصول: 115.
21

هذا، ولا يخفى أن هذا الكلام لا يدفع به الإشكال، لأن مجرد المغايرة
الاعتبارية بينهما الراجعة إلى أن في الواقع لا يكون إلا أمر واحد وشئ فارد
لا يصحح عنوان المقدمية المتوقف على أن يكون هنا شئ متقدم في الوجود على
ذيها وسابق عليها، إذ لا يعقل أن يتقدم شئ واحد على نفسه، وهذا واضح.
وتحقيق المقام أن يقال: إن المركبات على قسمين:
الأول: المركبات الحقيقية.
الثاني: المركبات غير الحقيقية.
والمراد بالأول هي المركبات من الجنس والفصل والمادة والصورة.
ولا يخفى أن هذا القسم خارج عن محل البحث بالاتفاق، لأن الجنس
والفصل من الأجزاء التحليلية العقلية ولا وجود لها في الخارج، والصورة
والمادة وإن كانتا موجودتين في الخارج إلا أنه لا امتياز بينهما وبين المركب
منهما ليتوقف عليهما، وهذا واضح.
والمراد بالقسم الثاني هو المركب من الأشياء المتخالفة الحقائق والأمور
المتبائنة، وهو على قسمين:
الأول: المركبات الصناعية، وهي المركب من الأمور المتعددة بحيث
يكون لذلك المركب عنوان واحد من دون توقف على أن تكون وحدتها معتبرة
باعتبار معتبر، وهذا كالمسجد والدار والبيت والسرير وأمثالها.
والثاني: المركبات الاعتبارية، وهي المركب من الأمور المتعددة
الملحوظة بنظر الوحدة لأجل مدخليتها بتمامها في حصول غرض واحد، وترتب
مصلحة واحدة عليها، وهذا كأكثر المركبات.
وهذان القسمان قد وقعا محل الخلاف في أنه هل يكونان داخلين في مورد
النزاع أم لا.
22

إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول: إذا أراد الفاعل بناء مسجد مثلا، فلا إشكال في
أنه يتصوره وما يترتب عليه من الفوائد ثم يشتاق إليه ثم يريده، وربما
لا يتوجه إلى أجزاء المسجد في مقام تعلق الإرادة ببنائه أصلا، بل تكون كلها
مغفولا عنها.
ثم إذا شرع في العمل ورأى أن تحقق المسجد يتوقف على أمور متعددة، فلا
محالة يريد كل واحد منها، لتوقف حصول الغرض الأقصى عليه.
غاية الأمر أن الإرادة المتعلقة بها ليست لأجل نفسها، بل لحصول غيرها،
لا أن تكون تلك الإرادة مترشحة عن الإرادة المتعلقة ببناء المسجد ومسببة عنها،
كما عرفت في صدر المبحث، وقد حقق في محله أن تعين الإرادة وتشخصها إنما
هو أبا لمراد بمعنى أنه لا يمكن تحققها بدون المراد، كما يشهد به الوجدان، ويدل
عليه البرهان (1). وكذلك لا يمكن تعلق إرادة واحدة بمرادات متعددة، بل كل مراد
يحتاج إلى إرادة مستقلة، وحينئذ فالإرادة المتعلقة ببناء المسجد ليست هي
الإرادة المتعلقة بالمقدمات، وإلا لزم تعدد المراد مع إرادة واحدة.
وبالجملة: فالمسجد عنوان واحد قد تتعلق به الإرادة لما يترتب عليه
من الفوائد، وفي هذه الإرادة لا مدخلية للأجزاء أصلا بمعنى أنه لو سئل المريد
عن الاشتياق أبا لمقدمات لأجاب بنفيه، وعدم كونها مرادة أصلا، ثم بعد علمه
بتوقفه عليها يريدها بالإرادة الغيرية، إذ من المعلوم أن كل واحد من المقدمات
يغاير المراد الأولي، فكما أن كل واحد من المقدمات الخارجية يصير مرادة
بالإرادة الغيرية فكذلك المقدمات الداخلية بلا فرق بينهما أصلا.

1 - الحكمة المتعالية 6: 323.
23

وما يظهر من بعض الكلمات من أن المقدمة هي الأجزاء بالأسر (1) إن أريد
بالمجموعية عموم الأجزاء بالعموم الاستغراقي الراجع إلى أن المقدمة هي كل
واحد من الأجزاء مستقلا، فنحن لا نمنعه، ولكن هذا لا يوجب الفرق بينها وبين
المقدمات الخارجية أصلا، كما هو واضح.
وإن أريد بها عموم الأجزاء بالعموم المجموعي الراجع إلى أن المجموع
مقدمة، فيرد عليه: أن الوجدان شاهد على خلافه، لعدم تحقق ملاك المقدمية
- وهو التوقف - إلا في كل واحد من الأجزاء.
هذا، مضافا إلى أن الأجزاء بالأسر هو المركب لا المقدمات.
ثم بما ذكرنا ظهر أمران:
الأول: تحقق ملاك المقدمية في الأجزاء.
الثاني: كونها داخلة في محل النزاع، لعدم لزوم اجتماع المثلين بعد فرض
أن متعلق الإرادة النفسية هي عنوان المسجد مثلا، ومتعلق الإرادة الغيرية هي
كل واحد من الأجزاء.
ثم إنا جعلنا المثال في إرادة الفاعل وفي القسم الأول من المركبات،
وعليك مقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل والقسم الثاني بالأول.
دفع وهم: في أنحاء الوحدة الاعتبارية
ثم إنه ذكر المحقق العراقي - على ما في التقريرات المنسوبة إليه - أن
الوحدة الاعتبارية يمكن أن تكون في الرتبة السابقة على الأمر بأن يعتبر عدة
أمور متبائنة شيئا واحدا بلحاظ مدخليتها في حصول غرض واحد، ويمكن أن

1 - كفاية الأصول: 115.
24

تكون في الرتبة المتأخرة بحيث تنتزع من نفس الأمر بلحاظ تعلقه بعدة أمور،
فيكون تعلقه بها منشأ لانتزاع الوحدة لها الملازمة لاتصافها بعنواني الكل
والأجزاء.
ثم ذكر بعد ذلك أن الوحدة بالمعنى الثاني لا يعقل أن تكون سببا لترشح
الوجوب من الكل إلى الأجزاء بملاك المقدمية، لأن الجزئية والكلية
الملزومة لهذه الوحدة ناشئة من الأمر على الفرض، فتكون المقدمية في رتبة
متأخرة عن تعلق الأمر بالكل، ومعه لا يعقل ترشحه على الأجزاء، لأن الأمر
الغيري إنما يتعلق بما يكون مقدمة مع الغض عن تحقق الأمر، ولا يمكن تعلقه بما
لا يكون مقدمة في رتبة سابقة على الأمر، فالنزاع في تعلق الوجوب الغيري
ينحصر بالقسم الأول (1). انتهى.
ولا يخفى أن في كلامه (قدس سره) خلطا من وجهين:
الأول: أن جعل أشياء متعددة متعلقة لأمر واحد لا يمكن إلا بعد كون
المصلحة قائمة بهيئته الاجتماعية، وإلا فمع كون كل واحد منها ذا مصلحة
مستقلة موجبة لتعلق إرادة مستقلة بها لا يمكن اجتماعها في متعلق أمر واحد.
وبالجملة فتعلق الأمر بالأشياء المتعددة متوقف على تصورها بالنحو
الذي يترتب المصلحة عليها، وذلك النحو ليس إلا اجتماع كل مع الآخر،
فالاجتماع ملحوظ لا محالة قبل تعلق الأمر، إذ المصلحة المنظورة إنما يترتب
عليها مع هذا الوصف، ولا نعني بالوحدة إلا لحاظ الأشياء المتغائرة مجتمعة كل
واحد منها مع الآخر لا مفهوم الوحدة كما لا يخفى، فلا فرق بين القسمين في أن
الوحدة في كليهما ملحوظة قبل تعلق الأمر أصلا.

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 315 - 316.
25

الثاني: أنه لو سلمنا أن انتزاع الوحدة الملازمة لاتصاف الأشياء بعنواني
الكل والأجزاء إنما هو بعد تعلق الأمر بها، ولكن نقول: إن النزاع في باب
المقدمة إنما هو فيما يتوقف عليه المأمور به واقعا، ولا يكاد يمكن تحققه
بدونه، لا في عنوان المقدمية، ضرورة أنها لم تكن متوقفا عليها أصلا، وحينئذ
فمجرد أن عنوان المقدمية يتوقف اتصاف الأجزاء به على تعلق الأمر لا يوجب
خروج الأجزاء عن توقف المأمور به عليها واقعا.
مضافا إلى أن عنوان المقدمية إنما هو من العناوين الإضافية التي من
شأنها أن يتحققا معا من دون توقف بينهما أصلا، نظير العلية والمعلولية، فإن
العلة منشأ لصدور المعلول بذاتها ومتقدمة عليه بحقيقتها لا بوصف العلية، فإنها
من الأمور الإضافية، وعروضها للعلة إنما هو في مرتبة عروض وصف
المعلولية للمعلول من دون تقدم وتأخر أصلا. وهذا واضح جدا.
التفصيل بين العلة التامة وغيرها
ثم إنه قد يفصل في المقدمات الخارجية بين العلة التامة وغيرها
بخروج الأول من مورد النزاع، وذلك، لأن إرادة الأمر لابد أن تتعلق بما يمكن أن
تتعلق به إرادة الفاعل، وهي لا يمكن أن تتعلق بالمعلول، لأنه يكون خارجا عن
قدرة الفاعل، فمتعلق القدرة هي العلة، فالأمر لابد أن يتعلق بها دون المعلول.
وفيه: أنه على فرض صحته لا يكون تفصيلا في محل النزاع، لأن
مرجعه إلى أن الأمر المتعلق بالمسبب يجب أن ينصرف إلى علته، والنزاع إنما
هو على تقدير تعلق الأمر بالمسبب، كما هو واضح.
هذا، مضافا إلى بطلانه من رأس، فإن المسبب وإن لم يكن من فعل الفاعل
من دون وسط، إلا أنه يصح انتسابه إليه، لتعلق القدرة به ولو بواسطة، فيصح
26

تعلق الأمر بالإحراق، لصحة استناده إلى المكلف وإن كان متحققا بمقتضى
طبيعة النار، إلا أنه مقدور للمكلف، لقدرته على الإلقاء فيه.
وهذا واضح جدا، وإلا لم يكن كثير من الأفعال مقدور المكلف، لتوقفها
غالبا على بعض المقدمات. والإشكال لا ينحصر بالعلة التامة، إذ كل فعل فهو
غير مقدور للمكلف إلا مع مقدمته، كما لا يخفى.
ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلى الشرعية والعقلية والعادية.
ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلى مقدمة الصحة ومقدمة العلم
ومقدمة الوجود ومقدمة الوجوب.
والكلام فيها ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية (1)، فلا نطيل
بالتعرض لما ذكره (قدس سره).
تقسيم المقدمة إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة
ومن تقسيمات المقدمة: تقسيمها إلى المقدمة المتقدمة والمقارنة
والمتأخرة بحسب الوجود بالنسبة إلى ذي المقدمة.
وقد أشكل في الأول والأخير بأنه لا ريب في أن المقدمة من أجزاء العلة
التامة، ولابد من تقدمها بجميع أجزائها على المعلول، فلا يعقل تقدم المقدمة
وتأخره (2)، ومع ذلك فقد ورد في الشرع ما بظاهره مخالف لهذه القضية العقلية
الدالة على امتناع تأخر العلة عن معلولها، وكذلك تقدمها زمانا، وذلك كالإجازة
في عقد الفضولي بناء على الكشف الحقيقي، والأغسال الليلية المعتبرة في

1 - كفاية الأصول: 116 - 117.
2 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 301 / السطر 27 - 28.
27

صحة صوم المستحاضة، والعقد في الوصية ونظائرها، بل كل عقد من حيث إن
أجزاءه توجد متدرجة، فعند تماميته انعدمت أجزاؤه المتقدمة وغيرها من
الموارد.
ولا يخفى أن الموارد التي تكون بظاهرها مخالفا للقاعدة العقلية لا يخلو إما
أن يكون شرطا للتكليف أو للوضع أو للمكلف به.
ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) في المقام
ومن المحققين من المعاصرين من جوز وقوعه في التكوينيات أيضا.
واستدل على الجواز في الجميع بما حاصله: أنه لا شبهة في أن المقتضي
لتحقق المعلول حصة خاصة من طبيعي المقتضي، لا أن نوعه وطبيعته يقتضي
ذلك ويؤثر فيه.
مثلا: النار تقتضي وتؤثر في وجود الإحراق لكن ليس المؤثر في تحقق
الإحراق هي طبيعة النار ونوعها، بل المؤثر حصة خاصة من طبيعتها، وهي
النار التي تماس الجسم المستعد باليبوسة لقبول الاحتراق، وأما الحصة التي
لا تتحصص بخصوصية المماسة والقرب من الجسم المستعد للاحتراق، فهي
لاتعقل أن تؤثر الأثر المترتب على الحصة الأولى، وتلك الخصوصية التي بها
تحصصت الحصة المقتضية للمعلول لابد لها من محصل في الخارج، وما به
تحصل تلك الخصوصية يسمى شرطا، وهذه الخصوصية عبارة عن إضافة
قائمة بتلك الحصة المقتضية حاصلة من إضافة الحصة المزبورة إلى شئ
ما، وذلك الشئ المضاف إليه هو الشرط، فان لمؤثر في المعلول إنما هو نفس تلك
الحصة، والشرط محصل لخصوصيتها، وهو طرف الإضافة المزبورة، وما يكون
28

شأنه كذلك جاز أن يتقدم على ما يضاف إليه أو يقترن به أو يتأخر عنه (1). انتهى
خلاصة كلامه.
ولا يخفى أنه - بعد تسليم جميع ما ذكره من أن المؤثر هي الحصة من
معنى أو الشرط - يرد عليه: أن الإضافة من الأمور القائمة بالطرفين: المضاف
والمضاف إليه، فالمضاف فيما نحن فيه وصف للحصة المؤثرة في المعلول،
والمضاف إليه وصف لما عبر عنه بالشرط، وحينئذ فنقول: لا إشكال في أن
ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له في ظرف الاتصاف، ولهذه القاعدة
الفرعية قد ثبت أن القضايا يتوقف صدقها ومطابقتها مع الواقع على ثبوت
موضوعاتها ما عدا القضية السالبة المحصلة، فإنه لا يشترط في صدقها وجود
الموضوع، وأما غيرها من القضايا سواء كانت سالبة معدولة أو موجبة محصلة أو
سالبة المحمول فهي مشروطة بوجود الموضوع ضرورة، وحينئذ فالإضافة إلى
الشرط إن كانت محققة بالفعل، فلازمه اتصاف أحد الطرفين بأنه مضاف والآخر
بأنه مضاف إليه، ولا يعقل أن يصير المعدوم متصفا بأنه مضاف إليه، لما عرفت
من القاعدة الفرعية، وإن لم تكن الإضافة ثابتة فعلا، فتأثير الحصة في المعلول
غير معقول، كما اعترف به (قدس سره).
ومما ذكرنا يظهر الجواب عما ربما يقال: من أن الشرط هو التقدم أو التأخر
أو التعقب ونظائرها، وذلك لأن صدق عنوان التقدم لا يعقل إلا مع صدق عنوان
التأخر للمتأخر، ومع كونه معدوما فعلا يستحيل اتصافه بعنوان التأخر، كما هو
واضح.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أن التوجيه بما ذكر ليس إلا كرا على ما فر منه

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 320.
29

من مخالفة القاعدة العقلية، كما عرفت.
والتحقيق أن يقال: أما شرائط التكليف: فلا يخفى أن الشرط فيه مقارن
للتكليف، لأن شرطه ليس هي القدرة الواقعية في زمان الامتثال حتى يقال بأنه
كيف يمكن أن يؤثر الأمر المتأخر المعدوم فعلا في الأمر الموجود كذلك، بل
الشرط هو تشخيص كون المكلف قادرا في ظرف الامتثال والتشخيص مقارن
لصدور التكليف كما هو واضح.
وأما شرائط الوضع والمكلف به: فالمؤثر ليس هو الأمر المتأخر في
الوجود الخارجي حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود الممتنع بالبديهة، بل
المؤثر هو الأمر المتقدم لا بوصف التقدم بل بنفسه المتقدم بالذات.
توضيح ذلك: أن من الواضح تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالذات
بمعنى أن الزمان الماضي مثلا متقدم بالطبع على الزمان المستقبل ولو لم يكن
عنوان التقدم والتأخر موجودا في البين أصلا، نعم اتصاف الزمان الماضي بوصف
التقدم في مرتبة اتصاف الزمان المستقبل بعنوان التأخر المستلزم لوجوده،
للقاعدة الفرعية المسلمة عند العقول بلا تقدم وتأخر بين الاتصافين أصلا، لأن
المفروض كونهما متضايفين، ومن شأنهما تحقق الطرفين معا من دون ترتب بينهما.
ونظير الزمان الزمانيات الواقعة في أجزاء الزمان، فإن قيام زيد المتحقق
في الأمس متقدم ذاتا لكن بعرض وتبع الزمان على مجئ عمرو الذي سيوجد
غدا وإن كان اتصافه بعنوان المتقدم لا يصح إلا مقارنا لاتصاف مجئ عمرو بعنوان
المتأخر، ومن المعلوم توقفه على تحققه، لتلك القاعدة.
وبالجملة: فلا منافاة بين كون شئ متقدما على شئ آخر بالذات ومع
ذلك فلا يصدق عليه عنوان المتقدم، لكونه من الأمور الإضافية المتوقفة على
تحقق الطرفين، وهذا كالعلة والمعلول، فإنه لا إشكال في تقدمها عليه، لكونه
30

صادرا عنها وناشئا ومترشحا منها، ومع ذلك فاتصافها بوصف التقدم في مرتبة
اتصافه بوصف التأخر من دون تقدم وتأخر بينهما أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
ونظير المتقابلين فإنهم وإن جعلوا التقابل مقسما للمتناقضين والمتضادين
والمتضايفين وغيرها (1) إلا أن عنوان المقسم - وهو التقابل - من أفراد أحد
الأقسام، وهو التضايف، فإن المقابلة والتقابل من الأمور الإضافية المتوقفة
على تحقق أطراف الإضافة، وهكذا عنوان التضاد، فإنه وإن جعل قسيما
للتضايف إلا أن هذا العنوان من أفراد قسيمه، أي التضايف، فالتضاد بين الشيئين
القسيم له إنما هو عبارة عن امتناع اجتماعهما بالذات، كما أن التقابل المجعول
مقسما إنما هو حقيقته مع قطع النظر عن الاتصاف بهذا الوصف.
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أن الموضوع للحكم بالصحة في العقد الفضولي
إنما هو العقد المتقدم بحسب الذات على الإجازة من المالك، وهذا إما أن يكون
متحققا بحسب الواقع ونفس الأمر حين العقد فيما كان ملحوقا بالإجازة، وإما أن
لا يكون كذلك، وهو في غير صورة الإجازة، فالعقد الواقع إما أن يكون صحيحا
مترتبا عليه الأثر من حين وقوعه، وهو فيما إذا وجد مع شرطه، وإما أن لا يكون
كذلك، وهو فيما إذا فقد شرطه، لعدم تحقق الإجازة فيما بعد.
وهكذا يقال في صوم المستحاضة، فإن صحته متوقفة على تقدمه
بحسب الذات ولو عرضا تبعا للزمان على الأغسال الليلية فإما أن يكون
الموقوف عليه موجودا حينه، فيصح من حين وقوعه، وإما أن لا يكون، فيبطل
كذلك، ففي جميع الموارد يكون الشرط مقارنا، فيرتفع الإشكال بمخالفتها
للقاعدة العقلية، كما عرفت.

1 - الحكمة المتعالية 2: 100.
31

هذا كله لو قلنا بأن الحكم في الشرعيات نظير العقليات من باب التأثير
والتأثر، وأما لو قلنا بخلافه فالمقام بعيد عن الإشكال بمراحل، كما لا يخفى.
كلام المحقق النائيني (قدس سره) في تحرير محل النزاع
ثم إن لبعض الأعاظم من المتأخرين كلاما في المقام في تحرير محل النزاع
وبيان ما ذهب إليه لا بأس بذكره والتعرض له على نحو الإجمال.
فنقول: قد ذكر في تحرير محل النزاع أولا: أن شرط متعلق التكليف خارج
عن حريم النزاع، لأن حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه، فكما
أنه لا إشكال فيما إذا كان بعض أجزاء المركب متأخرا عن الآخر في الوجود
ومنفصلا عنه في الزمان - كما إذا أمر بمركب بعض أجزائه في أول النهار والبعض
الآخر في آخر النهار - كذلك لا ينبغي الإشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا
في الوجود، لأن ما يلزم على تقدير كون الشرط متأخرا - وهو لزوم المناقضة
وتقدم المعلول على علته وتأثير المعدوم في الموجود - لا يجري في شرط متعلق
التكليف، فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم
المستحاضة؟ فإن حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم
والغسل شرط في صحة الصوم بحيث لا يكون الصوم صحيحا إلا بحصول هذه
الإضافة.
نعم لو قلنا: إن غسل الليل الآتي موجب لرفع حدث الاستحاضة عن
الزمان الماضي، كان الإشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه، ولكنه خارج عن
مقتضى الدليل. وبالجملة فتسرية إشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق
التكليف مما لا وجه له.
وثانيا: أنه لا إشكال في خروج العلل الغائية من حريم النزاع، فإنها غالبا
32

متأخرة في الوجود عما تترتب عليه، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة
وحركة العضلات حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود، بل المؤثر والمحرك هو
وجوده العلمي، وكذا الحال في علل التشريع، فإنه لافرق بينها وبين العلل
الغائية إلا في مجرد التعبير.
وثالثا: أنه ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب
الإضافات والعناوين الانتزاعية، كالتقدم والتأخر والسبق واللحوق وغير ذلك
من الإضافات والأمور الانتزاعية، فإن ذلك كله مما لا إشكال فيه، لعدم لزوم
محذور الشرط المتأخر بالنسبة إليها، وذلك لأن عنوان التقدم ينتزع من ذات
المتقدم عند تأخر شئ، ولا يتوقف على وجود المتأخر في موطنه، بل في بعض
المقامات لا يمكن ذلك، كتقدم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر.
ورابعا: أنه لا إشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع، فإن
امتناع الشرط المتأخر فيها أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية
الراجعة إلى إعطاء العلة وإفاضتها وجود المعلول، ومعنى المعلولية الراجعة
إلى ترشحه منها.
ثم قال: إذا عرفت هذه الأمور، ظهر لك: أن محل النزاع في الشرط المتأخر
إنما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف. وبعبارة أخرى:
محل الكلام إنما هو في موضوعات الأحكام وضعية كانت أو تكليفية، فقيود
متعلق التكليف والعلل الغائية والأمور الانتزاعية والعلل العقلية خارجة عن
حريم النزاع.
ثم ذكر بعد ذلك أن امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الأحكام يتوقف
على بيان المراد من الموضوع، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية
والقضايا الخارجية، وأن المجعولات الشرعية إنما تكون على نهج القضايا
33

الحقيقية لا القضايا الخارجية.
ثم ذكر في بيان الفرق بينهما ما ملخصه: أن القضايا الخارجية عبارة عن
قضايا جزئية شخصية خارجية، كقوله: صل يا عمرو، وصم يا زيد، من
القضايا التي تكون موضوعاتها آحاد الناس، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية، فإن
الملحوظ في موضوعاتها عنوان كلي من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد، وعمرو،
وبكر أصلا، بل لو كان واحد منهم منطبقا لعنوان الموضوع، فان لحكم يرتب عليه
قهرا.
ومن هنا يحتاج في إثبات الحكم لموضوع خاص إلى تأليف قياس، ويجعل
هذا الموضوع الخاص صغرى له، وتلك القضية كبرى، وهذا بخلاف القضايا
الخارجية، فإن المحمول فيها ثابت لموضوعها ابتداء من دون توسط قياس.
والفرق بينهما من وجوه شتى، والمهم منه في المقام هو أن العلم إنما يكون له
دخل في القضية الخارجية دون الحقيقية.
مثلا: لو كان زيد عا لما وكان الحكم مترتبا على عنوان العالم، فالحكم
يترتب على زيد قهرا، سواء كان الآمر عالما بكون زيد عالما أو جاهلا، وهذا
بخلاف القضية الخارجية، فإن علم الآمر بكون زيد عالما يوجب الأمر
بإكرامه، سواء كان في الواقع عالما أو جاهلا، وهذا بمكان من الوضوح.
ثم ذكر بعد ذلك أنه من الواضح أن المجعولات الشرعية إنما هي على نهج
القضايا الحقيقية دون الخارجية.
ومن هنا يظهر المراد من موضوعات الأحكام، وأنها عبارة عن العناوين
الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها،
ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وإن لم يكن
من ذلك الباب حقيقة، بناء على المختار من عدم جعل السببية إلا أنه يكون نظير
34

ذلك من حيث التوقف والترتب، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى
تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية من
الحكم التكليفي أو الوضعي بأن يتقدم الحكم على بعض أجزاء موضوعه.
ثم اعترض بعد ذلك على الكفاية والفوائد بكلام طويل لا مجال لذكره.
ثم ذكر بعد ذلك أنه مما ذكرنا يظهر أن امتناع الشرط المتأخر من القضايا
التي قياساتها معها من غير فرق بين أن نقول بجعل السببية أو لا نقول بذلك.
أما بناء على الأول: فواضح.
وأما بناء على الثاني: فلأن الموضوع وإن لم يكن علة للحكم إلا أنه ملحق
بها من حيث تقدمه على الحكم وترتبه عليه، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد
فرض أخذه موضوعا، للزوم الخلف وأن ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا (1).
انتهى موضع الحاجة من كلامه.
الجواب عن مختار المحقق النائيني (قدس سره)
ولا يخفى أن في كلامه وجوها من النظر.
أما ما ذكره أولا: من أن شرائط متعلق التكليف خارجة عن حريم النزاع.
ففيه: المنع من ذلك، وتشبيهها بالأجزاء لا يجدي، لأن النزاع يجري فيها
أيضا، فإنه إذا فرض أن صحة الجزء الأول متوقفة على الإتيان بالجزء الأخير
الذي سيوجد بعدا، يلزم محذور الشرط المتأخر بلا فرق بينهما أصلا، كما
لا يخفى.
ومجرد إرجاع الشرطية إلى الإضافة الحاصلة بين المشروط والشرط

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 271 - 280.
35

لا يفيد بعدما عرفت منا في الجواب عن المحقق العراقي (قدس سره) من أن الإضافة من
الأمور الإضافية التي من شأنها تحقق أطرافها بالفعل، ومع انتفاء بعضها لا يعقل
تحققها، كما هو واضح لا يخفى.
وأما ما ذكره ثالثا: من أن النزاع ليس في الأمور الاعتبارية الانتزاعية.
ففيه: أنه لم يقل أحد بأن النزاع في هذه الأمور، وإنما ذكرها بعض في
مقام التخلص عن الإشكال (1). وقد عرفت سابقا أنه لا يمكن الجواب به، لأن
صدق هذه العناوين متوقف على تحقق الأطراف، وقد ذكرنا ذلك بما لا مزيد
عليه، فلا نطيل بالإعادة.
وأما ما ذكره من الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية: من أن العلم
لادخل له في الأولى دون الثانية.
فيرد عليه: المنع من مدخلية العلم في جميع القضايا الخارجية، ألا ترى
أنه لو أنفذ المولى عقدا فضوليا خاصا، فهل يرضى أحد بكون المؤثر هو علم
المولى بتحقق الإجازة فيما بعد دون نفس الإجازة من المالك؟ وهل هو إلا القول
بعدم مدخلية رضى المالك في انتقال ملكه إلى شخص آخر؟ والضرورة قاضية
بخلافه، كما أن ما ذكره من أنه لو كانت القضية بنحو القضايا الحقيقية كما هو
كذلك في المجعولات الشرعية يكون الامتناع ضروريا غير محتاج إلى إقامة
برهان، لا يتم بناء على ما ذكرنا في مقام الجواب من أن الموضوع في تلك القضايا
التي توهم انخرام القاعدة العقلية بها هو ذات الموضوع المتقدم بحسب الحقيقة
لا مع اتصافه بعنوان التقدم المستلزم لاتصاف الآخر بعنوان التأخر المستلزم
لوجوده في الخارج للقاعدة الفرعية، كما هو واضح.

1 - الفصول الغروية: 80 / السطر 32.
36

الأمر الرابع
في الواجب المطلق والمشروط
ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلى واجب مطلق ومشروط، ولا يخفى أن
الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان، فالواجب بالنسبة إلى كل قيد
إما مشروط أولا، فالثاني غير مشروط بالنسبة إلى ذلك القيد ولو فرض كونه
مشروطا بالإضافة إلى غيره.
ثم إنه ربما ينسب إلى الشيخ - كما في التقريرات المنسوبة إليه - نفي
الواجب المشروط، وأن الشرائط والقيود كلها راجعة إلى المادة لا الهيئة،
لامتناع تقييد الهيئة (1)، كما سيجئ وجهه.
ولابد من التكلم في مقامين:
الأول: في أن القيود هل هي راجعة في الواقع إلى الهيئة أو إلى المادة؟
أو تكون على قسمين بعضها إلى الأولى وبعضها إلى الثانية.
الثاني: في أن القيود بحسب اللفظ هل يرجع إلى المادة أو الهيئة؟
في مقام الثبوت وتصوير الواجب المشروط
أما المقام الأول، فنقول: إنه قد يتعلق إرادة الإنسان بشئ من دون التقييد
بشئ آخر لتماميته في حصول الغرض الباعث على تعلق الإرادة بها، مثل
العطشان المريد لرفع عطشه، فإنه لا يريد إلا مجرد ذلك من غير نظر إلى أن

1 - مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
37

يكون الماء واقعا في ظرف كذا أو مع خصوصية كذا، ولا إشكال في كون الإرادة
المتعلقة بمراده إرادة مطلقة، فلو أمر غلامه بسقيه، يكون السقي واجبا مطلقا
من حيث خصوصيات الماء أو الظرف الواقع فيه ونظائرهما.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ مقيد بأمر كذا بحيث لا يحصل غرضه إلا
بحصول الشئ مقيدا، كما إذا أراد السقي بالماء الخاص لترتب الأثر المقصود
عليه مع الخصوصية، فيأمر بالسقي بذلك الماء، ولا إشكال أيضا في كون الإرادة
المتعلقة بما يحصل به غرضه إرادة مطلقة غير مقيدة بشئ، إذ الإرادة لا تتعلق
إلا بما يؤثر في حصول غرضه، كيف ومن مقدماته التصديق بفائدة الشئ
المراد، والمفروض أن الفائدة مترتبة على الشئ المقيد بوصف كذا.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ من دون التقييد بوصف ولكن لا يتمكن من
الأمر به مطلقا، لمانع فيه أو في المأمور، كما إذا أشرف ولده على الغرق
والهلاك، فالإرادة المتعلقة بنجاة ولده إرادة مطلقة غير مقيدة بشئ ولكن
لا يمكن له الأمر بذلك مطلقا، لأنه ربما يكون العبد عاجزا عن الإتيان بالمأمور
به، وربما يكون المانع من قبل نفسه.
وقد يتعلق إرادة الإنسان بشئ على فرض حصول شئ آخر، لأن الغرض
يترتب عليه على ذلك التقدير، كما إذا أراد ضيافة صديقه على فرض مجيئه
إلى منزله، فالإرادة المتعلقة بالضيافة ليست إرادة مطلقة، بل مقيدة بحصول
ذلك الشئ.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر: أن القيود بحسب الواقع واللب مع قطع النظر عن
ظاهر الدليل على قسمين: قسم يتعلق بالمادة، وهو الذي له دخل في حصول
الغرض المطلوب، كالقسم الثاني من الأقسام المتقدمة، وقسم يتعلق بالهيئة
التي مفادها البعث والتحريك، كالقسمين الأخيرين.
38

في مقام الإثبات وإمكان رجوع القيد إلى الهيئة
وأما المقام الثاني فقد يقال: - كما قيل - بامتناع رجوع القيود إلى الهيئة
وإن كان بحسب ظاهر اللفظ راجعا إليها.
إما لأن الهيئة من المعاني الحرفية، وهي غير قابلة للتقييد.
وإما لأن الوضع فيها على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص، ومن
المعلوم امتناع تقييد الجزئيات.
وإما للزوم التناقض بعد كون المنشأ أولا هو الوجوب مطلقا، فتقييده بثبوته
على تقدير وعدم ثبوته على تقدير أخرى مناقض للمنشأ أولا.
هذا، ولا يخفى ما في هذه الوجوه من النظر بل المنع.
أما الوجه الأول: فيرد عليه أن التقييد أمر واقعي، غاية الأمر أن المتكلم
لابد له أن يأتي بالألفاظ طبقا له، لوضوح أن كل لفظ لا يحكي إلا عن معناه
الموضوع له، وقد عرفت في وضع الحروف أن القضايا الخبرية أكثرها يرجع
إلى الإخبار عن المعاني الحرفية، فإن المعنى بقول: " زيد قائم " ليس إلا الإخبار
عن انتساب القيام إليه، واتحاد القائم معه، وهذا المعنى لا إشكال في كونه
معنى حرفيا، كما أن القيود الواقعة في الكلام راجعة إلى ذلك المعنى الحرفي،
فقوله: ضربت زيدا يوم الجمعة، مثلا يكون الظرف راجعا إلى تحقق الضرب
عليه الذي يكون من المعاني الحرفية.
وبالجملة فالإخبارات والتقييدات أكثرها مرتبطة بالمعاني الحرفية
وراجعة إليه، وقد عرفت أن التقييد أمر واقعي لا ارتباط له باللفظ حتى يحتاج
تقييد المعاني الحرفية إلى لحاظها ثانيا بالاستقلال، فيلزم في الجملة المشتملة
على تقييدات عديدة لحاظ تلك المعاني بقدر القيود، بل يكون في المثال تحقق
39

الضرب في يوم الجمعة واقعا، والمتكلم لابد أن يأتي بالألفاظ على طبق المعاني
الواقعية، لا أن يكون لفظ الضرب المأتي به أولا مطلقا، فيلاحظ تقييده ثانيا، كما
لا يخفى.
وأما الوجه الثاني: فلأن التحقيق في وضع الحروف وإن كان ما ذكر إلا
أنه لا امتناع في تقييد الجزئي أصلا باعتبار الحالات والعوارض الطارئة له
أليس التقييد في قوله: " أكرم زيدا إن جاءك " راجعا إلى زيد الذي هو فرد جزئي
بناء على ما ذكره من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.
وأما الوجه الثالث: فبطلانه أظهر من أن يخفى.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أولا أن القيود بحسب الواقع على قسمين، وثانيا
إمكان رجوعها إلى الهيئة، فلاوجه لرفع اليد عما هو ظاهر القضية الشرطية
من توقف التالي على المقدم، كما لا يخفى.
نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئة والمادة
ثم إنه ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) في مقام بيان الفرق بين شروط الأمر
والوجوب وبين شروط المأمور به والواجب أن القيود على نحوين:
أحدهما: ما يتوقف اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة على حصوله في
الخارج، كالزوال والاستطاعة بالنسبة إلى الصلاة والحج، فإن الصلاة لا تكون
ذات مصلحة إلا بعد تحقق الزوال، وكذلك الحج بالإضافة إلى الاستطاعة، وأما
قبل تحقق هذين القيدين فلا يرى المولى مصلحة في الصلاة والحج، ولهذا يأمر
بهما معلقا أمره على تحقق هذين القيدين في الخارج.
ثانيهما: القيود التي تتوقف فعلية المصلحة وحصولها في الخارج على
تحققها، فلا تكاد تحصل تلك المصلحة في الخارج إلا إذا اقترن الفعل بتلك القيود
40

والشروط، كالطهارة والستر والاستقبال ونحوها بالإضافة إلى الصلاة.
ثم قال: وبلحاظ هذا الفرق بين النحوين من القيود صح أن يقال للنحو
الأول: شروط الأمر والوجوب، وللنحو الثاني: شروط المأمور به والواجب.
ثم قال: ويمكن تقريب كلا النحوين من القيود الشرعية ببعض الأمور
الطبيعية العرفية.
مثلا: شرب المسهل قبل أن يعتري الإنسان مرض يستدعيه لا مصلحة
فيه تدعو الإنسان إليه أو الطبيب إلى الأمر به مطلقا. نعم يمكن أن يأمر به
معلقا على الابتلاء بالمرض، فيقول للإنسان: إذا مرضت بالحمى مثلا فاشرب
المسهل، فالمرض يكون شرطا لتحقق المصلحة في شرب المسهل، وأما المنضج
فهو شرط فعلية أثر المسهل ومصلحته، ولهذا يترشح عليه أمر غيري من الأمر
النفسي المتعلق بالمسهل، فيقول الطبيب للمريض: اشرب المنضج أولا ثم اشرب
المسهل (1). انتهى كلامه على ما في التقريرات المنسوبة إليه (قدس سره).
وأنت خبير بأن ما ذكره: من المناط في شرائط الوجوب وشرائط الواجب
لا يتم، بل مورد للنقض طردا وعكسا، فإن ما يتوقف عليه اتصاف الفعل بكونه ذا
مصلحة يمكن أن لا يكون قيد الأمر، بل للمأمور به، فإنه يمكن أن يأمر المولى
بالحج عقيب الاستطاعة، لا أن يكون أمره مشروطا بتحققها، غاية الأمر أنه
يلزم أن يكون تحصيلها واجبا، لأن المصلحة متوقفة عليه، ولا منافاة بين توقف
المصلحة على شئ وعدم كون الأمر معلقا عليه، كما أنه يمكن أن لا يكون
للقيد دخل في حصول المصلحة، ولكن كان الأمر معلقا على وجوده، كما فيما
ذكرناه من المثال المتقدم في القسم الأخير من الأقسام الأربعة المتقدمة، فإن

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 335 - 336.
41

ترتب المصلحة على ضيافة زيد مثلا قد لا يتوقف على نزوله في منزل المضيف
ولكن يمكن أن يكون أمره معلقا عليه.
وبالجملة فجعل هذا هو الملاك في شرائط الوجوب منقوض طردا
وعكسا، كما عرفت، ومنه يظهر بطلان ما ذكره ملاكا لشرائط الواجب، كما
لا يخفى.
فالمناط فيهما هو ما ذكرناه: من أن شرائط الوجوب عبارة عن القيود التي
لا يكون لها دخل في تحقق المراد بمعنى عدم مدخليته في تعلق الإرادة به، كما
أن شرائط الواجب هي التي لها مدخلية في حصول الغرض الباعث على تعلق
الإرادة.
في توقف فعلية الوجوب على شرطه
ثم إنه يقع الكلام بعد هذا في أنه هل يكون الواجب المشروط متعلقا
للإرادة عند حصول شرطه بمعنى أنه لا إرادة قبل تحققه، أو أن الإرادة تتعلق به
فعلا ولكن على تقدير حصول أمر خاص؟ ويكون الفرق حينئذ بينه وبين الواجب
المعلق هو أن الوجوب المطلق يتعلق بأمر خاص في الواجب المعلق، والوجوب
الخاص يتعلق بأمر مطلق في الواجب المشروط.
ربما ينسب إلى المشهور الأول (1)، واختار بعض الأعاظم - على ما في
التقريرات المنسوبة إليه - الثاني (2).

1 - كفاية الأصول: 121، بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 338 /
السطر الأخير.
2 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر 19.
42

ولابد قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقة الحكم.
فنقول: هل الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعية الكامنة في نفس
الحاكم مطلقا أو بشرط أن يظهرها المريد بأحد المظهرات من القول أو الفعل أو
أنه منتزع من البعث أو الزجر اللذين هما مفاد هيئة الأمر والنهي؟ وجوه،
والظاهر هو الثالث، لأن مجرد تعلق الإرادة التشريعية بشئ لا يعد من باب تعلق
الحكم به وإن كانت ربما يجب متابعتها، فإن وجوب المتابعة ليس متفرعا على
خصوص حكم المولى، بل لو اطلع العبد على تعلق إرادة المولى بإتيانه شيئا،
فاللازم - كما يحكم به العقل والعقلاء - متابعة إرادته، بل ربما يجب تحصيل
غرضه وإن لم تنقدح إرادة متعلقة به في نفس المولى لغفلته أو نومه أو
غيرهما.
ألا ترى أنه لو أشرف ولد المولى مثلا على الغرق في البحر ولم يكن
المولى مطلعا عليه حتى يبعث العبد نحو خلاص ولده، يكون على العبد ذلك وأن
ينجي ولده من الهلاك.
وبالجملة، فوجوب الإتيان عقلا أعم من الحكم، والذي يطابقه الوجدان
هو أن منشأ انتزاع الحكم هو نفس البعث والزجر المتوجهين إلى العبد، وحينئذ
فلا إشكال في عدم تحقق الحكم قبل حصول الشرط، لعدم ثبوت البعث قبله،
كما هو واضح.
إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أن بعض الأعاظم بعد اختياره أن الحكم عبارة
عن نفس الإرادة التشريعية التي يظهرها المريد بالقول أو الفعل (1) ذهب إلى
خلاف ما عليه المشهور، وأن الإرادة في الواجب المشروط موجودة قبل تحقق

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 339 / السطر 2.
43

الشرط مدعيا أن الوجدان دليل عليه.
قال: فإنا نجد من أنفسنا إرادة العمل الذي يكون فيه مصلحة لنا على
تقدير خاص وإن لم يكن ذلك التقدير متحققا بالفعل (1).
وأنت خبير بأنه لو سلم انتزاع الحكم عن نفس الإرادة المظهرة، فلا نسلم
انتزاعه عن هذا النحو من الإرادة المتحققة في الواجب المشروط، كما لا يخفى.
في إشكالات الواجب المشروط على مسلك المشهور
ثم إنه ربما يورد على مذهب المشهور بإيرادات شتى:
منها: ما أورده عليه ذلك البعض المتقدم - على ما في التقريرات المنسوبة
إليه - من أنه لا إشكال في إنشاء الشارع للتكليف المشروط قبل تحقق شرطه،
ولا ريب في أن إنشاء التكليف من المقدمات التي يتوصل بها المولى إلى تحصيل
المكلف به في الخارج، والواجب المشروط على المشهور ليس بمراد للمولى
قبل تحقق شرطه في الخارج، فكيف يتصور أن يتوصل العاقل إلى تحصيل ما
لا يريده فعلا؟! فلابد أن يلتزم المشهور في دفع هذا الإشكال بوجود غرض نفسي
في نفس إنشاء التكليف المشروط قبل تحقق شرطه، وهو كما ترى.
ولكن من التزم بما ذهبنا إليه لا يرد عليه هذا الإشكال، لفعلية الإرادة
قبل تحقق الشرط، فالمولى يتوصل بإنشائه إلى ما يريده فعلا وإن كان على
تقدير (2). انتهى.
وأنت خبير بأنه لم يكن للمشهور الالتزام بما ذكره أصلا، فإن الإنشاءات

1 - نفس المصدر 1: 342 / السطر 3.
2 - نفس المصدر 1: 346 - 347.
44

وإن كانت للتوصل إلى تحصيل المراد إلا أنه حيث يكون المكلفون مختلفين من
حيث تحقق الشرط بالنسبة إليهم وعدمه لا بأس بإنشاء الوجوب على النحو
المذكور وإن لم يكن الشرط حاصلا بالنسبة إلى بعض المكلفين، كما أن
الإنشاءات الواقعة في الشريعة إنما هي على نحو القوانين الكلية، فلا يمكن أن
تكون متوقفة على تحقق شرائطها، كما هو واضح لا يخفى.
هذا، مضافا إلى أن هذا الإيراد لا يدفع بما التزمه في الواجب المشروط،
فتدبر.
منها: - وهي عمدتها - أنه لو كانت الإرادة المتعلقة بالواجب المشروط
حاصلة عند تحقق الشرط لا قبله، يلزم أن لا تكون المقدمات الوجودية لتحقق
الواجب المشروط واجبة بالوجوب الغيري قبل تحقق الشرط، لعدم كون ذي
المقدمة واجبا قبله حتى يسري الوجوب منها إلى مقدمته، وهذا بخلاف ما لو
قيل بتحقق الإرادة قبل حصول الشرط، كما التزم به بعض الأعاظم (قدس سره) على ما
عرفت، فإن تعلق الإرادة الغيرية بالمقدمات لوجود الإرادة النفسية المتعلقة
بذي المقدمة بالفعل.
والتحقيق في دفع الإيراد عن المشهور أن يقال: إن ما اشتهر في الألسن
وتكرر في أكثر الكلمات من أن الإرادة المتعلقة بالمقدمة ناشئة ومترشحة من
الإرادة المتعلقة بذي المقدمة، وكذا الوجوب المتعلق بالأولى سار من الوجوب
المتعلق بالثانية ليس على ما ينبغي، بل محل نظر ومنع، كما عرفت في صدر
مبحث المقدمة، فإنه لا معنى لكون الإرادة علة موجدة لإرادة أخرى، فإن كل
إرادة فلها مباد ومقدمات مخصوصة، فكما أن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة
ناشئة من المبادئ الخاصة بها فكذلك الإرادة المتعلقة بالمقدمة لها مقدمات
ومباد مخصوصة بها، غاية الأمر أن تعلق الإرادة بها لحصول مطلوبه الأولي
45

الذي تعلقت به الإرادة الأولية.
وبالجملة فلا إشكال في أن كل إرادة معلولة للنفس وموجدة بفعاليتها،
ولا يعقل أن تكون علته الإرادة المتعلقة بشئ آخر، كما حقق في محله، وهكذا
الوجوب المتعلق بشئ لا يعقل أن يسري إلى شئ آخر أصلا.
وحينئذ فنقول: إن الملازمة بين الإرادة المتعلقة بذي المقدمة وبين
الإرادة المتعلقة بالمقدمة على تقدير ثبوتها إنما هي لتوقف حصول غرض
المولى على تحققها في الخارج، لا لتحقق الإرادة بذي المقدمة، فإن تعلقها بها
أيضا للتوصل إلى تحصيل غرضه، فإذا فرض في مقام عدم تعلق الإرادة الفعلية
بذي المقدمة - كما في المقام - فلا يمنع عن تعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة، لبقاء
ملاك تعلق الإرادة بها، وهي توقف حصول غرض المولى عليها على حالها.
وبالجملة، فلو فرض في مقام اطلاع العبد على أن المولى يريد شيئا على
تقدير خاص، وفرض العلم بتحقق ذلك التقدير المستلزم للعلم بإرادته قطعا،
وفرض أيضا توقف حصول ذلك الشئ على أمر لا يمكن تحصيله بعد تحقق شرط
الوجوب، فمن الواضح أن العقل يحكم بوجوب الإتيان بمقدمة ذلك الشئ وإن
لم تكن الإرادة المتعلقة بذي المقدمة موجودة بالفعل.
والحاصل أنه حيث يكون الدائر على ألسنتهم أن الإرادة المتعلقة
بالمقدمة ناشئة من الإرادة المتعلقة بذي المقدمة، ورأوا أن المشهور
لا يلتزمون بوجود الإرادة قبل تحقق الشرط في الواجب المشروط، فلذا أوردوا
على المشهور بأنه لايبقى وجه لوجوب المقدمة قبل تحقق الشرط (1).

1 - هداية المسترشدين: 217 / السطر 1، بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي
1: 346 / السطر 22.
46

وبما حققناه قد ظهر لك أنه لا وجه لهذا الإيراد أصلا، كما عرفت.
ثم إنه لو قلنا بخلاف ما عليه المشهور والتزمنا بما التزم به ذلك البعض
من تحقق الإرادة قبل تحقق الشرط، فتعلقها بالمقدمة أيضا مورد منع، فإنه
لا يعقل ترشح الإرادة المطلقة بالمقدمة من الإرادة التقديرية المتعلقة بذي
المقدمة بعد لزوم السنخية بين المعلول وعلته، فإنه كيف يمكن أن تكون
الإرادة المتعلقة بالمقدمة مطلقة بمعنى وجوب تحصيلها فعلا، مع أن الإرادة
المتعلقة بذي المقدمة تقديرية كما هو واضح.
والمتحصل من جميع ما ذكرنا في الواجب المشروط أمور:
الأول: أن القيود بحسب الواقع على قسمين.
الثاني: أن القيود راجعة إلى الهيئة، كما هو ظاهر اللفظ، ولا امتناع في
رجوعها إليها، كما ينسب إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1).
الثالث: أن الحكم إنما ينتزع من نفس البعث والزجر، والدليل عليه أنه
يجعل مقسما للحكم التكليفي والوضعي، ولا معنى للقول بأن الحكم في الأحكام
الوضعية عبارة عن الإرادة مطلقة أو مقيدة بالإظهار، كما هو واضح.
الرابع: أن الوجوب في الواجب المشروط إنما هو بعد تحقق الشرط لا
قبله.
الخامس: أنه تكون المقدمات واجبة قبل تحقق الشرط ولو لم تكن ذو
المقدمة واجبا قبله، كما عرفت تحقيقه.

1 - مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
47

الأمر الخامس
في الواجب المعلق والمنجز
ربما يقسم الواجب أيضا ببعض الاعتبارات إلى معلق ومنجز، ويقال - كما
في الفصول -: إن المراد بالمنجز هو الذي يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف
حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة وبالمعلق هو الذي يتعلق وجوبه
بالمكلف ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالحج، فإن وجوبه يتعلق
بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقف فعله على مجئ
وقته، وهو غير مقدور له.
والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو: أن التوقف هناك
للوجوب وهنا للفعل (1).
ولا يخفى: أن الالتزام بالواجب المعلق إنما هو للتخلص عما أورد على
المشهور في الواجب المشروط من أنه بناء على عدم تحقق الإرادة قبل حصول
الشرط كما هو مذهبه لم يبق وجه لسراية الإرادة إلى المقدمات قبل حصوله
فإنه حيث تعسر عليهم رفع هذا الإيراد مع ما رأوا في بعض الموارد من دلالة
بعض الأخبار على وجوب المقدمات في بعض الواجبات المشروطة قبل تحقق
شرطها فلذا تمسكوا بذيل الواجب المعلق والتزموا بثبوت الوجوب فيه قبل
حصول شرط الواجب بخلاف المشروط.

1 - الفصول الغروية: 79 / السطر 35.
48

ما أفاده بعض الأعلام في إنكار الواجب المعلق
ثم إنه يظهر من بعضهم إنكار الواجب المعلق مدعيا استحالة كون الإرادة
موجودة قبل المراد (1).
وأطال الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بعض المحققين في
تعليقته على الكفاية.
وخلاصة ما ذكره هناك: أن النفس مع وحدتها ذات منازل ودرجات، ففي
مرتبة القوة العاقلة مثلا تدرك في الفعل فائدة عائدة إليها، وفي مرتبة القوة
الشوقية ينبعث لها شوق إلى ذلك الفعل، فإذا لم يجد مزاحما ومانعا، يخرج ذلك
الشوق من حد النقصان إلى حد الكمال الذي يعبر عنه بالقصد والإرادة، فينبعث
من هذا الشوق البالغ حد نصاب الباعثية هيجان في مرتبة القوة العاملة
المنبثة في العضلات، ومن الواضح أن الشوق وإن أمكن تعلقه بأمر استقبالي إلا
أن الإرادة ليس نفس الشوق بأية مرتبة كان، بل الشوق البالغ حد النصاب
بحيث صارت القوة الباعثة باعثة للفعل، وحينئذ فلا يتخلف عن انبعاث القوة
العاملة وهيجانها لتحريك العضلات غير المنفك عن حركتها، ولذا قالوا: إن الإرادة
هو الجزء الأخير من العلة التامة لحركة العضلات (2).
فمن يقول بإمكان تعلقها بأمر استقبالي إن أراد حصول الإرادة التي هي
علة تامة لحركة العضلات إلا أن معلولها حصول الحركة في ظرف كذا، فهو
عين انفكاك العلة عن المعلول.

1 - تشريح الأصول: 191 / السطر 21.
2 - شرح المنظومة، قسم الحكمة: 294، الحكمة المتعالية 6: 323، الهامش 1.
49

وإن أراد أن ذات العلة - وهي الإرادة - موجودة من قبل إلا أن شرط
تأثيرها - وهو حضور وقت المراد - حيث لم يكن موجودا ما أثرت العلة في
حركة العضلات.
ففيه: أن حضور الوقت إن كان شرطا في بلوغ الشوق إلى حد الكمال
المعبر عنه بالإرادة، فهو عين ما قلنا من أن حقيقة الإرادة لا تنفك عن الانبعاث،
وإن كان شرطا في تأثير الشوق البالغ حد الإرادة الموجود من أول الأمر، فهو غير
معقول، لأن عدم التأثير مع كون الشوق بالغا إلى حد الباعثية لا يعقل، لعدم
انفكاك البعث الفعلي عن الانبعاث، فاجتماع البعث وعدم تحقق الانبعاث ليس إلا
كاجتماع المتناقضين.
وأما ما ذكر في المتن: من لزوم تعلق الإرادة بأمر استقبالي إذا كان المراد ذا
مقدمات كثيرة، فإن إرادة مقدماته منبعثة عن إرادة ذيها قطعا (1)، فتوضيح الحال
فيه أن الشوق إلى المقدمة لابد من انبعاثه من الشوق إلى ذيها، لكن الشوق
إلى ذيها لما لم يمكن وصوله إلى حد الباعثية لتوقف المراد على مقدمات، فلا
محالة يقف في مرتبته إلى أن يمكن الوصول، وهو بعد طي المقدمات، فالشوق
بالمقدمة لا مانع من بلوغه إلى حد الباعثية الفعلية، بخلاف الشوق إلى ذيها،
وما هو المسلم في باب التبعية تبعية الشوق للشوق لا تبعية الجزء الأخير من
العلة، فإنه محال، وإلا لزم إما انفكاك العلة عن المعلول أو تقدمه عليها.
هذا كله في الإرادة التكوينية.
وأما الإرادة التشريعية: فهي عبارة عن إرادة فعل الغير منه اختيارا وحيث
إن المشتاق إليه فعل الغير الصادر باختياره، فلا محالة ليس بنفسه تحت

1 - كفاية الأصول: 128 - 129.
50

اختياره، بل بالتسبيب إليه بجعل الداعي إليه، وهو البعث نحوه، فلا محالة
ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختيارا الشوق إلى البعث نحوه، فالشوق المتعلق
بفعل الغير إذا بلغ مبلغا ينبعث منه الشوق نحو البعث الفعلي، كان إرادة تشريعية،
وإلا فلا، ومعه لا يعقل البعث نحو أمر استقبالي، إذ لو فرض حصول جميع
مقدماته وانقياد المكلف لأمر المولى، لما أمكن انبعاثه نحوه بهذا البعث، فليس
ما سميناه بعثا في الحقيقة بعثا ولو إمكانا.
ثم أورد على نفسه ببعض الإيرادات مع الجواب عنها (1) لا مجال لنقلها.
ولا يخفى أنه يرد على ما ذكره في الإرادة التكوينية وجوه من الإيراد:
منها: أن ما ذكره من أن الإرادة هي المرتبة الكاملة من الشوق، محل
نظر، بل منع، فإن الشوق نظير المحبة والعشق من الأمور الانفعالية للنفس
والإرادة بمنزلة القوة الفاعلية لها، ولا يعقل أن يبلغ ما يكون من الأمور
الانفعالية إلى مرتبة الأمور الفاعلية ولو بلغ من الكمال ما بلغ، فإن الكمال
البالغ إليه إنما هو الكمال في مرتبته، لا انقلاب حقيقته إلى حقيقة أخرى،
وهذا من الأمور الواضحة المحققة في محلها (2).
منها - وهي العمدة -: أن ما ذكره - بل اشتهر في الألسن وتكرر في
الكلمات - من أن الإرادة هي الجزء الأخير من العلة التامة ليس مبرهنا عليه،
بل إنما هو صرف ادعاء لا دليل عليه لو لم نقل بكون الوجدان شاهدا وقاضيا
بخلافه، فإنه من الواضح أن الإرادة المتعلقة بالمراد فيما لو كان غير نفس
تحريك العضلات ليست بعينها هي الإرادة المتعلقة بتحريك العضلات لأجل

1 - نهاية الدراية 2: 72 - 80.
2 - الحكمة المتعالية 1: 436 - 437، الطلب والإرادة، الإمام الخميني (قدس سره): 109، أنوار
الهداية 1: 63.
51

تحقق ذلك المراد، فالإرادة المتعلقة بشرب الماء ليست هي نفس الإرادة
المتعلقة بتحريك العضلات نحو الإناء الواقع فيه الماء، لما قد حقق في محله
من عدم إمكان تعلق إرادة واحدة بمرادين، وكذا لا يجوز تعلق إرادتين بمراد واحد،
ضرورة أن تشخص الإرادة إنما هو بالمراد، كما قرر في محله (1).
فإذا ثبتت تعدد الإرادة، فنقول: إن الإرادة المتعلقة بتحريك العضلات هي
التي تكون علة تامة لحركتها، لا لكون الإرادة علة لحصول كل مراد، بل لأنه
حيث تكون القوى مقهورة للنفس محكومة بالنسبة إليها، فلا محالة لا تتعصى عن
إطاعتها، كما أنه ربما يعرض بعض تلك القوى ما يمنعه عن الانقياد لها، فربما
تريد تحريكها ومعه لا تتحرك لثبوت المزاحم.
وبالجملة فالإرادة لا تكون علة تامة بالنسبة إلى كل مراد، بل إنما تكون
كذلك فيما لو كان المراد تحريك قوى النفس مع كونها سليمة عن الآفة وقابلة
للانقياد عنها، لما عرفت من عدم التعصي عنها، وحينئذ فلو فرض أن النفس أراد
تحريكها في الاستقبال فهل الانقياد لها يقتضي التحرك في الحال أو في
الاستقبال؟
والحاصل: أن منشأ الحكم بامتناع تعلق الإرادة بأمر استقبالي هو كون
الإرادة علة تامة، وبعدما عرفت من عدم كونها كذلك في جميع الموارد وفي موارد
ثبوتها لا ينافي كون المراد أمرا استقباليا كما عرفت، لم يبق وجه لامتناع انفكاك
الإرادة عن المراد بعد وضوح إمكان تعلق الإرادة بما هو كذلك.
منها: أن ما ذكره في مقام الجواب عن المتن من أنه إذا كان المراد ذا
مقدمات كثيرة تكون المقدمات تابعة لذيها بالنسبة إلى الشوق لا الإرادة، فيرد

1 - الحكمة المتعالية 6: 423 - 424.
52

عليه - مضافا إلى ما ذكرنا في محله من أن الشوق ليس من مقدمات الإرادة (1)،
لأن الإنسان كثيرا ما يريد بعض الأشياء مع عدم الاشتياق إليه أصلا، بل ربما
ينزجر عنه كمال الانزجار، كشرب الدواء مثلا - أنه لو سلمنا ذلك، فلا نسلم
بالنسبة إلى المقدمات، فإنها لا تكون مشتاقا إليها للمريد من حيث المقدمية
أصلا، فكيف تتبع ذيها في الشوق؟!
هذا، مضافا إلى أنه لو لم يكن الشوق في ذي المقدمة بالغا إلى حد
إرادتها - كما اعترف به - فكيف يمكن بلوغه في المقدمة إلى حد الإرادة مع
كونها مرادة بوصف المقدمية؟! كما لا يخفى.
هذا بالنسبة إلى ما ذكره في الإرادة التكوينية.
وأما ما ذكره في الإرادة التشريعية التي هي محل النزاع في المقام.
فيرد عليه - مضافا إلى أن البعث ليس لإيجاد الداعي للمكلف إلى الفعل،
بل لإيجاد موضوع الإطاعة والعصيان - أن امتناع انفكاك الانبعاث عن البعث
الفعلي وإن كان غير قابل للمنع أصلا إلا أنه لو فرض أن العبد مبعوث إلى أمر
استقبالي - كما في المقام - فامتناع تخلف الانبعاث إنما هو في وقت حضوره.
وبالجملة، فالبعث إلى الأمر الفعلي يمتنع انفكاك الانبعاث الفعلي إليه،
وأما البعث إلى الأمر الاستقبالي فالانبعاث بالنسبة إليه يلحظ في زمان حضور
وقت ذلك الأمر، كما لا يخفى.
ثم إنه ذكر بعض الأعاظم - على ما في التقريرات المنسوبة إليها - في مقام
امتناع الواجب المعلق ما ملخصه: أن امتناعه ليس لأجل استحالة تعلق
التكليف بأمر مستقبل، كيف والواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل، ولا لعدم

1 - الطلب والإرادة، الإمام الخميني (قدس سره): 39، أنوار الهداية 1: 63.
53

إمكان تعلق الإرادة بأمر مستقبل، فإن إمكانه بمكان من الوضوح بحيث لا مجال
لإنكاره، بل يستحيل أن لا تتعلق الإرادة من الملتفت به إذا كان متعلقا لغرضه،
كما هو واضح، بل امتناعه إنما هو لكون الأحكام الشرعية إنما هو على نهج
القضايا الحقيقية، ومعنى كون القضية حقيقية هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة
لمصاديقه المفروضة الوجود موضوعا للحكم، فيكون كل حكم مشروطا بوجود
الموضوع بماله من القيود من غير فرق بين أن يكون الحكم من الموقتات أو
غيرها، غايته أن في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة في
موضوعات سائر الأحكام من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك.
وحينئذ ينبغي أن يسئل ممن قال بالواجب المعلق أنه أي خصوصية
بالنسبة إلى الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه دون سائر القيود؟
وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم حيث
كان وجوب الحج مشروطا بها ولم يكن وجوب الصوم مشروطا بالوقت، فإن كان
الملاك في الأول هو كونها مأخوذا قيد للموضوع ومفروض الوجود، فالوقت أيضا
كذلك، بل الأمر فيه أوضح، لأنه لا يمكن إلا أخذه مفروض الوجود، لأنه أمر
غير اختياري، وكل ما هو كذلك لابد أن يؤخذ مفروض الوجود، ويقع فوق دائرة
الطلب، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا مطلقا، وإلا يلزم تكليف
العاجز.
والحاصل: أن القول بتقدم التكليف عليه - كما هو الشأن في سائر القيود
التي يتقدم التكليف عليها، كالطهارة والساتر وغير ذلك - يستلزم محالا في محال،
لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله، كما في تلك القيود، والمفروض عدم إمكان
تحصيله، وثانيا تحصيل الحاصل، لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.
وبالجملة دعوى إمكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون
54

على نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط. هذه خلاصة ما ذكره المحقق
النائيني على ما في التقريرات (1).
ويتوجه عليه ما عرفت سابقا: من أن القيود على قسمين:
فإنه قد تتعلق إرادة المريد بالصلاة في المسجد مثلا بمعنى كون مراده هو
هذا الأمر المقيد لأجل دخالة القيد في حصول غرضه، فلا محالة يصير بصدد
تحصيل مطلوبه حتى لو لم يكن المسجد موجودا يريد بناءه حتى يصلي فيه أو
يأمر ببنائه لذلك.
وقد تتعلق إرادته بالصلاة على تقدير تحقق المسجد بمعنى أنه لا يكون
طالبا لأصل الصلاة ومريدا لها لكن على تقدير وجود المسجد يرى نفسه مجبورا
بالإتيان بها لبعض الجهات، فربما يتوصل بأسباب مختلفة ووسائط متعددة لأجل
عدم تحقق المسجد لعدم كونه مشتاقا إلى الصلاة مريدا لها أصلا ولكن على تقدير
تحققه يجبر نفسه على الإتيان بها فيه، ولهذا نظائر كثيرة، فإنه قد تتعلق إرادة
الإنسان بضيافة صديقه مطلقا، فإنه لا محالة يصير بصدد تحصيل مقدماته
حتى لو لم يكن في بلده يدعوه إليه، وقد تتعلق إرادته بضيافته على تقدير
مسافرته إلى بلد المضيف ونزوله في منزله وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
ففي الصورة الأولى من المثالين لا يكون القيد مفروض الوجود حتى يكون
التكليف متأخرا عنه وثابتا على تقدير وجوده، بل هو من القيود الواقعة تحت
دائرة الطلب لا فوقها لو كان أمرا مقدور المكلف، كما أنه لو لم يكن مقدورا
يكون التكليف ثابتا قبله وإن لم يكن متوجها إليه أصلا، وهذا هو الفرق بين
الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 186 - 189.
55

وما ذكره من لزوم تحصيل الحاصل، ففيه: أنه لم يؤخذ مفروض الوجود
حتى يلزم ذلك، كما عرفت.
وبالجملة فإمكان الواجب المعلق في الشرعيات وإن كانت الأحكام على
نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح، لما عرفت من عدم الاستحالة بشئ
من الوجوه التي ذكروها.
هذا كله فيما لو علم رجوع القيد الواقع في الكلام إلى الهيئة أو المادة.
حول ما تردد القيد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة
ولو شك في رجوع القيد ودار الأمر بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة ولم
يكن في اللفظ ما يقتضي الرجوع إلى أحدهما معينا، فقد قيل بترجيح تقييد المادة
وإبقاء إطلاق الهيئة على حاله، لأن الإطلاق في جانب الهيئة يكون شموليا،
بخلاف جانب المادة، فإن إطلاقها يكون بدليا، فإن قولك: أكرم زيدا إن جاءك، لو
كان القيد فيه راجعا إلى المادة يكون وجوب الإكرام ثابتا على جميع التقادير
التي يمكن أن يكون تقديرا له، كما أنه لو رجع إلى الهيئة يكون صرف وجود
الإكرام واجبا، وهذا معنى الشمول والبدلية.
والظاهر أنه لو دار الأمر بين تقييد الإطلاق الشمولي والإطلاق البدلي،
يكون الترجيح مع الثاني، لأن الإطلاق البدلي لا يشمل الفردين في حالة واحدة
كما لا يخفى (1).
أقول: ينبغي أن نتكلم في مقامين:

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 215.
56

الأول: فيما ذكروه في باب المطلق والمقيد من معنى الإطلاق الشمولي
والبدلي.
الثاني: في جريان ذلك في المقام على تقدير صحته وعدم جريانه.
أما الكلام في المقام الأول: فملخصه أن معنى الإطلاق - كما حقق في
محله - عدم كون الكلام مقيدا بقيد، كما أن معنى المقيد خلافه (1)، وحينئذ فإذا
تكلم بكلام مع عدم التقييد بقيد، فيحمل على أن مراده هو المطلق، لأن التكلم من
الأفعال الاختيارية الصادرة عن المتكلم كسائر أفعاله الاختيارية، فمع عدم
التقييد يحمل على الإطلاق، لأنه لو كان مراده المقيد، يلزم عليه التقييد بعد
كونه فاعلا مختارا غير مكره، ومعنى الإطلاق كما عرفت هو عدم التقييد، فإذا
قال: أعتق رقبة، ولم يقيدها بالمؤمنة، فيحمل على أن مراده هو طبيعة الرقبة
بمعنى أن ماله دخل في تحقق غرضه هي هذه الطبيعة المطلقة المرسلة غير
المتقيدة بقيد أصلا، وحينئذ فما ذكروه من الإطلاق الشمولي (2) لم يعلم له وجه،
لأنه ليس في الإطلاق بما ذكرناه من المعنى شمول أصلا، فإن بين الشمول وبين
كون الموضوع هي الطبيعة مع عدم القيد بون بعيد فإنه فرق بين قوله: أعتق كل
رقبة، وقوله: أعتق رقبة، فإن المطلوب في الأول هو ما يشمل جميع الأفراد،
بخلاف الثاني، فإن المطلوب فيه ليس إلا نفس الطبيعة المرسلة المحمولة
على الإطلاق من حيث صدورها من الفاعل المختار غير متقيدة بقيد لا من حيث
دلالة اللفظ عليه.

1 - مناهج الوصول 2: 313.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 562.
57

وبالجملة، فليس في الطبيعة المحمولة على الإطلاق شمول أصلا، فإن
لفظ الإنسان لا يحكي إلا عن نفس طبيعته، واتحادها مع الأفراد في الخارج
لا يوجب كون اللفظ موضوعا بإزائها، فإن مسألة الوضع غير مسألة الاتحاد في
التحقق، فحمل لفظ الإنسان على إطلاقه لا يوجب إلا أن يكون المراد هي نفس
طبيعته، لا الشمول لأفراده بعد عدم كون اللفظ موضوعا بإزائها.
هذا في الإطلاق الشمولي، وأما الإطلاق البدلي: فكذلك، غاية الأمر أن
البدلية تستفاد من دال آخر، كالتنوين في قوله: أكرم عالما، فإن لفظ " العالم "
لا يدل إلا على طبيعته، والتنوين يدل على وحدته، وتفصيل الكلام في محله.
وأما الكلام في المقام الثاني: فملخصه أنه ولو سلمنا الإطلاق الشمولي
بالمعنى الذي ذكروه، فلا نسلم جريانه في المقام أصلا، فإن مرجع الإطلاق
الشمولي إلى الاستغراق، ولا يعقل تعلق البعث التأسيسي بطبيعة واحدة متكررا،
كما أنه لا يعقل تعلق إرادات متعددة بمراد واحد، لأن تشخص الإرادة إنما هو
بالمراد.
وبالجملة، فمرجع الإطلاق الشمولي في جانب البعث إلى الأبعاث
المتعددة، ولا يمكن أن يكون متعلقها أمرا واحدا، كما هو المفروض في المقام.
ثم إنه لو سلم جريان الإطلاق الشمولي فيما نحن فيه، فما المرجح
لإبقائه على حاله وتقييد الإطلاق البدلي؟ بعدما عرفت من أن البدلية تستفاد
من دال آخر، كالتنوين في المثال المتقدم فإن قولك: أكرم عالما، يحمل على
الإطلاق، لعدم كون القيد مذكورا معه بعد كون المتكلم فاعلا مختارا، وهذا بعينه
موجود في الإطلاق الشمولي، غاية الأمر أن التنوين يدل على البدلية في القسم
الأول، فلا ترجيح لتقييد أحد الإطلاقين على تقييد الآخر أصلا، كما لا يخفى.
58

الأمر السادس
في الواجب النفسي والغيري
والكلام فيه يقع في مقامين:
الأول: في الإرادة المتعلقة بالأفعال أعم من إرادة الفاعل، والأمر.
الثاني: في البعث الصادر منه.
أما الكلام في المقام الأول: فملخصه أن إرادة الفاعل لا تتعلق أولا إلا بما
هو محبوب له بالذات ومعشوق له بنفسه، والإرادات المتعلقة بمقدمات
حصول ذلك المحبوب الأولي إنما هي في طول تلك الإرادة المتعلقة به،
ومتأخرة عنها ومترشحة منها، لا بمعنى كونها علة موجدة لها، فإن ذلك لا يعقل كما
مر مرارا، بل بمعنى أن تعلق الاشتياق بمراداتها إنما هو لتحصيل الغرض الأقصى
والمطلوب الأولي.
وبالجملة، فأكثر الإرادات المتعلقة بالأفعال الصادرة من البشر بل كلها
إنما هو لتحصيل ما يكون مرادا بالذات ومشتاقا إليه بنفسه، وهي اللذة
والاستراحة، كما لا يخفى، وكذا يقال في إرادة الآمر بلا فرق بينهما أصلا.
وأما الكلام في المقام الثاني: الذي هو المقصود بالأصالة في هذا المقام،
إذ التقسيم إنما هو للواجب باعتبار الوجوب، وقد عرفت أنه لا يكون عبارة عن
مجرد الإرادة المظهرة، بل إنما هو عبارة عن البعث الصادر من الآمر، فملخصه:
أن البعث إلى شئ إن كان للتوصل إلى حصول ما يكون متعلقا للبعث الآخر،
وبعبارة أخرى: كان فوق هذا البعث بعث آخر يكون الغرض منه التوصل إلى
حصول المبعوث إليه بالبعث الأولي، فهو واجب غيري، وإن لم يكن الغرض
59

الباعث الداعي على البعث الوصول إلى مبعوث إليه ببعث آخر، فالواجب واجب
نفسي.
مقتضى الأصل اللفظي في المقام
ثم إنه لو دار الأمر بينهما وتردد بين أن يكون هو الواجب النفسي أو
الغيري ولم يكن في البين ما يدل على أحدهما، فقد يقال بأن مقتضى الإطلاق هو
الحمل على الواجب النفسي، لأن غيره يحتاج إلى خصوصية زائدة، وهي كون
المقصود منه التوصل إلى شئ آخر، وأما النفسية فلا يزيد على أصل الوجوب،
فالإطلاق يقتضي تعيينه (1).
وفيه ما لا يخفى من الضعف، فإنه لا إشكال في أن الواجب النفسي
والغيري قسمان لطبيعة الواجب، ولا يعقل أن يكون أحد الأقسام عين المقسم، بل
لابد أن يكون لها خصوصية زائدة على أصل المقسم وجودية كانت أو عدمية.
والذي ينبغي أن يقال: إنه حيث كانت الحجة من قبل المولى تامة غير
محتاجة إلى شئ آخر، فهي قاطعة للعذر بالنسبة إلى العبد، ويصح للمولى
الاحتجاج بها عليه، فلا محالة تحتاج إلى الجواب، كما مر نظيره في مبحث
دلالة صيغة الأمر على الوجوب، فلو قال: ائتني بالماء، وشك في أن المقصود
هو مجرد تمكنه من الماء أو استعماله في الوضوء فتوضأ، فمجرد احتمال أن
يكون المقصود استعماله في الوضوء، فلم يبق له موضوع لفرض التوضي بماء
آخر لا يصحح الاحتجاج به على المولى بعد تمامية الحجة من قبله، بل اللازم
تحصيل الماء للمولى. نعم لا يثبت بما ذكرنا كون الواجب واجبا نفسيا حتى يترتب

1 - مطارح الأنظار: 67 / السطر 10، كفاية الأصول: 136.
60

عليه ما يترتب على هذا العنوان، كما لا يخفى.
ثم لا يخفى أن التقسيم إلى النفسي والغيري ليس تقسيما للواجب بمعنى
كون الوجوب أمرا جامعا بينهما، كيف وقد عرفت أن الحروف بتمامها يكون الوضع
فيها عاما والموضوع له خاصا، فكيف يمكن أن يكون مدلول الهيئة أمرا جامعا
بين القسمين؟! بل التقسيم لأجل اختلاف الداعي، بمعنى أن الداعي إلى البعث
إلى شئ قد يكون للتوصل إلى شئ آخر وقد لا يكون، وإلا فالبعث أمر واحد
لا يختلف في القسمين أصلا، كما هو الشأن في الوجوب والاستحباب، فإنهما ليسا
من أقسام الطلب والبعث بمعنى أن يكون البعث على نحوين، بل البعث الصادر
عن إرادة حتمية يقال له: الوجوب، كما أن البعث الصادر عن إرادة غير حتمية
يقال له: الاستحباب، فتأمل جيدا.
ثم إن بعض الأعاظم من المعاصرين ذكر فيما لو شك في واجب أنه نفسي
أو غيري ما ملخصه بالنسبة إلى الأصل اللفظي أنه لما كان الواجب الغيري
وجوبه مترشحا عن وجوب الغير، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير، كما أن
نفس غير الواجب يكون وجوده مشروطا بنفس الواجب الغيري، فيكون وجوب
الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري، ووجود الواجب الغيري من
المقدمات الوجودية لنفس ذلك الغير.
مثلا: يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة، وتكون نفس الصلاة
مشروطة بوجود الوضوء، وحينئذ يكون مرجع الشك في النفسية والغيرية إلى
شكين: أحدهما: الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير، وثانيهما: الشك في تقييد
مادة الغير به.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن هناك إطلاقا في كلا طرفي الغير والواجب
الغيري، كما إذا كان دليل الصلاة مطلقا لم يأخذ الوضوء قيدا لها، ودليل إيجاب
61

الوضوء كذلك لم يقيد وجوبه بوجوب الصلاة، فلا إشكال في صحة التمسك
بكل من الإطلاقين، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي ولو كان لأحدهما فقط
إطلاق يكفي في إثبات الوجوب النفسي أيضا، لأن مثبتات الأصول اللفظية
حجة (1). انتهى ملخص ما في التقريرات المنسوبة إليه.
ولكن هذا الكلام مخدوش من وجوه:
الوجه الأول: أنك عرفت فيما تقدم أنه لا يعقل كون وجوب المقدمة
مترشحا من وجوب ذيها بمعنى أن يكون الثاني علة موجدة للأول، كما هو معنى
الترشح، كما أنه لا يعقل ترشح الإرادة المتعلقة بالمقدمة من الإرادة المتعلقة
بذيلها، وهذا واضح جدا.
الوجه الثاني: أن ما ذكره من أنه حيث كان وجوب المقدمة مترشحا من
وجوب ذيها، فلا محالة يكون مشروطا به، محل نظر بل منع، لأنه لو سلم
الترشح والنشو، فلا نسلم كونه مشروطا به، بل لا يعقل، لأن معنى الترشح - كما
عرفت - هو كون المترشح معلولا للمترشح منه، وحينئذ فاشتراط المعلول بوجود
العلة إن كان في حال انتفاء المعلول، فبطلانه أظهر من أن يخفى، لأن الاشتراط
وصف وجودي لا يعقل عروضه للمعدوم أصلا، وإن كان في حال وجوده، فانتزاع
المعلولية منه إنما هو في الرتبة المتأخرة عن الاشتراط، ومن المعلوم خلافه.
الوجه الثالث: أن ما ذكره من أنه يكون وجود الغير مشروطا بوجود
الواجب الغيري بمعنى أن المقصود من الغير هو تحققه مقيدا بذلك الواجب
الغيري، فلا يتم على إطلاقه وإن كان في المثال صحيحا، لأنه لو فرض أن المولى
أمر بنصب السلم وشك في أن وجوبه هل يكون نفسيا أو غيريا، فإنه ولو سلم

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 220 - 222.
62

أنه بناء على الغيرية يكون وجوبه مترشحا من وجوب الكون على السطح
مشروطا به، ولكن لا نسلم أن المقصود من الأمر بالكون على السطح هو الكون
عليه مقيدا بنصب السلم، كما كانت الصلاة مشروطة بالطهارة.
الوجه الرابع: أن ما ذكره من كون مثبتات الأصول اللفظية حجة دون
الأصول العملية، ليس مبرهنا عليه، بل يكون محل شك وريبة، وسيجئ إن
شاء الله تعالى.
هذا كله فيما يتعلق بما ذكره البعض المتقدم فيما يقتضيه الأصول اللفظية
التي لا مجال معها للأصول العملية أصلا.
مقتضى الأصل العملي في المقام
وأما بالنسبة إلى الأصول العملية، فذكر للمسألة صورا ثلاثة:
الصورة الأولى: ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري من دون أن يكون
وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كل من
الوضوء والصلاة وشك في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريا أو نفسيا، ففي
هذه الصورة يرجع الشك إلى الشك في تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون من باب
الأقل والأكثر الارتباطي، وأصالة البراءة نافية للشرطية، فمن هذه الجهة
تكون النتيجة النفسية، وأما من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا أثر
لها، للعلم بوجوبه على كل حال نفسيا كان أو غيريا. نعم ربما يثمر في وحدة
العقاب وتعدده عند تركه لكل من الوضوء والصلاة، وليس كلامنا الآن في
العقاب.
الصورة الثانية: هي الصورة الأولى ولكن كان وجوب الغير مشروطا
بشرط غير حاصل، كالمثال المتقدم فيما إذا علم قبل الزوال، فحينئذ يرجع الشك
63

في غيرية الوضوء ونفسيته إلى الشك في اشتراطه بالزوال وعدمه، إذ لو كان
واجبا غيريا، يكون مشروطا بالزوال، كالصلاة، وحينئذ فمقتضى الأصل العملي
هو الاشتراط، للشك في وجوبه قبل الزوال، كما أن أصالة البراءة تنفي تقييد
الصلاة بالوضوء، ولا منافاة بين إجراء البراءة لنفي وجوبه قبل الزوال وبين
إجرائها لنفي قيديته للصلاة، كما لا يخفى.
الصورة الثالثة: ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ولكن شك في
وجوب الغير، كما إذا شك في وجوب الصلاة وعلم بوجوب الوضوء ولكن شك
في كونه غيريا حتى لا يجب، لعدم وجوب الصلاة بمقتضى البراءة، أو نفسيا حتى
يجب، والأقوى في هذه الصورة وجوب الوضوء، لأن المقام يكون من التوسط
في التنجيز الذي عليه يبتني جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي (1). انتهى
ملخصا.
أقول: لا يخفى أن ما ذكره في القسم الأول مناف لما ذهب إليه في مبحث
الأقل والأكثر الارتباطي (2).
توضيحه: أنه يظهر من الشيخ في الرسائل في ذلك المبحث جريان
البراءة بالنسبة إلى وجوب الأكثر، لأن العلم الإجمالي بوجوب الأقل والأكثر
ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر، لأن الأقل
واجب على كل حال، سواء كان الأكثر واجبا أم لم يكن، غاية الأمر أن وجوبه
في الأول غيري، وفي الثاني نفسي، فيكون وجوب الأكثر مورد الجريان
البراءة (3).

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 222 - 223.
2 - لاحظ فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 156 - 157.
3 - فرائد الأصول 2: 462 - 463.
64

واعترض عليه المحقق الخراساني في الكفاية بما حاصله: أن وجوب
الأقل على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير، سواء كان متعلقا
بالأقل أو بالأكثر، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير تعلقه به، لم
يجب الإتيان بالأقل أيضا، لأن وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر، كما هو
واضح، فلو لم يكن الأمر المتعلق به منجزا، لم يلزم الإتيان بالأقل أيضا، فوجوب
الإتيان به على كل تقدير يتوقف على وجوب الإتيان بالأكثر على كل تقدير،
فيلزم من وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير، وما يلزم من
وجوبه عدمه محال (1).
وأورد عليه المحقق النائيني - على ما في التقريرات - بما حاصله: أن
ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير تعلق التكليف بالأكثر،
فيستقيم حينئذ ما أفاده من عدم الانحلال.
ألا ترى أنه لو علم إجمالا بوجوب نصب السلم أو الصعود على السطح
وتردد وجوب الأول بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الثاني، فالعلم
التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بوجوب النصب
أو الصعود، فإن العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على وجوب الصعود على
السطح، إذ مع عدم الوجوب - كما هو لازم الانحلال - لا يعلم تفصيلا بوجوب
النصب، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود، وذلك كله
واضح، إلا أن المقام ليس من هذا القبيل، لما عرفت من أن وجوب الأقل على
تقدير تولده من وجوب الأكثر لا يكون غيريا، فإن الأجزاء إنما تجب بعين وجوب
الكل، ولا يمكن أن يجتمع في الأجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري، فحينئذ

1 - كفاية الأصول: 413.
65

لا يكون وجوب الأقل على كل تقدير متوقفا على وجوب الأكثر على تقدير تعلقه
به، فلا يكون العلم بوجوبه على كل تقدير متوقفا على شئ آخر، فهو واجب
بالوجوب النفسي على كل تقدير، كما هو واضح (1). انتهى ملخص ما أفاده من
الإيراد الأول على الكفاية.
وأنت خبير بأن لازم ما ذكره هناك من تسليم عدم الانحلال فيما لو كان
وجوب الأقل غيريا، لا كالأجزاء: عدم جريان البراءة في الصورة الأولى من
المقام بالنسبة إلى تقييد الصلاة بالوضوء، لأنه يعلم إجمالا بوجوبها إما مطلقا أو
مشروطا بالوضوء، والمفروض عدم انحلال العلم الإجمالي هنا، لأنه لاشك في
أن وجوب الوضوء على تقدير كونه قيد للصلاة يكون غيريا، وليس كالأجزاء،
فمقتضى ما ذكره في مبحث الأقل والأكثر عدم جريان البراءة بالنسبة إلى تقييد
الصلاة به كما اختاره هنا.
ثم إنه لو قلنا بجريان البراءة بالإضافة إلى هذا التقييد، فلا يكون الإتيان
بالوضوء لازما عند العقل، لأن وجوبه متردد بين الوجوب الذي يستحق العقوبة
على تركه وبين الوجوب الغيري الذي لا يكون كذلك، والمفروض عدم حجة
للمولى بالنسبة إلى العقاب، فلا يحكم العقل بلزوم إتيانه أصلا، كما هو واضح
لا يخفى.
هذا كله بالنسبة إلى الصورة الأولى.
وأما الصورة الثانية: فالأمر كما ذكره (قدس سره).
وأما الصورة الثالثة: فيرد عليها أنه كيف يمكن اجتماع العلم بوجوب
الوضوء على كل تقدير مع الشك في وجوب الصلاة؟! لما ذكره المحقق

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 156 - 157.
66

الخراساني اعتراضا على الشيخ، وقد عرفت أنه (قدس سره) قد سلم الاعتراض في أمثال
المقام مما يكون الوجوب غيريا، لا كالأجزاء، فالواجب في هذه الصورة الإتيان
بالصلاة والوضوء معا.
تنبيهات
التنبيه الأول: في كيفية الثواب والعقاب الأخروي
بقي في المقام شئ، وهو: أنه هل يترتب العقاب والثواب على فعل
الواجب الغيري وتركه بعد الفراغ عن استحقاق الثواب والعقاب على فعل
الواجب النفسي وتركه؟ وإلا فالأمر فيه أيضا مورد إشكال، وينبغي بيان الحال
فيه على نحو الاختصار.
فنقول: لو كان الثواب عبارة عن الصور البهية التي تتمثل الأعمال
الحسنة بتلك الصور، وتصير النفس بها مستعدة للكمالات، والعقاب عبارة عن
الصور الموحشة التي تتمثل الأعمال القبيحة بتلك الصور الملازمة للنفس
المبتلى بها ويكون لها مدخلية في انحطاط النفس ونقصانها، كما يقول به
الأعاظم من الفلاسفة (1)، فلا إشكال في أنهما من لوازم العمل بحيث يمتنع
الانفكاك عنه، لأنهما من الآثار الوضعية للأعمال الحسنة والقبيحة، ولا يعقل
الانفكاك بينهما وبين تلك الصور، وحينئذ فلا يصح التعبير بالاستحقاق بعدما عرفت
من استحالة الانفكاك، كما لا يخفى لو كان الثواب عبارة عما تدل عليه ظواهر

1 - مجموعة مصنفات شيخ الإشراق 2: 229 - 235، الحكمة المتعالية 9: 4 - 5
و 293 - 296.
67

الآيات والأخبار، ولكن قلنا بكونه جعليا بمعنى أنه قد جعل للعمل الفلاني
مقدار مخصوص من الأجر والثواب، وللعمل الآخر مقدار كذلك من العقوبة، فلا
إشكال في صحة التعبير بالاستحقاق، ولكنه لا يخفى أن ذلك إنما هو بالمقدار
الذي دل الدليل عليه وقامت الحجة من قبل المولى على ذلك المقدار، كما
لا يخفى.
وأما لو لم نقل بجعلية الثواب والعقاب، فلا وجه للقول بالاستحقاق أصلا،
فإنه كيف يمكن أن يستحق العبد - الذي يكون مملوكا لمولاه بجميع جهاته
خصوصا إذا أعطاه من النعم الظاهرية والباطنية ما لا يحصى - على مولاه شيئا
في مقابل عمله القليل الذي لا يقابل بعض تلك النعم فضلا عن جميعها، كما هو
واضح لا يخفى.
هذا كله في الواجبات النفسية.
في استحقاق الثواب على الواجب الغيري
وأما الواجبات الغيرية: فإن قلنا بأن الثواب عبارة عما يظهر من بعض
الفلاسفة، فثبوته في الواجبات الغيرية وعدمه لا يكون له كثير ارتباط
بالأصول، لأنه من العلم بالأشياء وحقائقها ولوازمها، كما لا يخفى، كما أنه لو
قلنا بالوجه الثاني، فاللازم مراجعة الأدلة حتى يظهر أنه هل يكون الثواب
على فعلها مجعولا؟ كما ورد في بعض المقدمات، مثل: ما ورد في الذهاب إلى
زيارة قبر الحسين عليه الصلاة والسلام من أنه لكل قدم كذا وكذا من الثواب (1).

1 - ثواب الأعمال: 116 / 31، وسائل الشيعة 14: 439، كتاب الحج، أبواب المزار وما
يناسبه، الباب 41، الحديث 1.
68

وأما بناء على الوجه الأخير: فلا يخفى أنه لو قلنا بثبوته في الواجبات
النفسية ولكن لا نسلم ترتبه على الواجبات الغيرية، لأنه لا إشكال في أن
الثواب والعقاب إنما يترتبان على الإطاعة والمعصية، والامتثال والمخالفة،
والأمر الغيري بعيد منهما بمراحل، لأنه لا يصلح للتحريك والداعوية أصلا، فإن
المكلف إما أن يريد امتثال الأمر المتعلق بذي المقدمة بمعنى أنه صار داعيا له
ومحركا إلى الإتيان بها، وإما أن لا يريد الامتثال أصلا.
فعلى الأول يأتي بالمقدمة بعدما رأى توقف الإتيان بذي المقدمة عليها،
ولو لم يكن الأمر الغيري متعلقا بها أصلا، فالإتيان بالمقدمة في هذه الصورة ليس
لإطاعة الأمر الغيري وتحريكه المكلف إلى متعلقه، بل الإتيان به لتوقف
المطلوب النفسي عليه.
وعلى الثاني لا يكون الأمر النفسي بالنسبة إليه داعيا فضلا عن الأمر
الغيري.
وبالجملة فوجود الأمر الغيري وعدمه متساويان في الصورتين، فلا يكون
له إطاعة حتى يترتب على فعله الثواب وعلى تركه العقاب، كما هو واضح.
وتوهم: وجود الفرق بنظر العقل بين العبد الذي يأتي بمقدمات العمل ثم
يعرضه بعض الموانع عن الإتيان بذي المقدمة - كالموت أو النسيان أو غيرهما
من الموانع - وبين العبد الذي لا يأتي بمقدمة أصلا ثم يعرض له بعض تلك
الموانع ويمنعه عن الإتيان بالمقدمة وذيها معا (1).
يدفعه أن ثبوت الفرق وإن كان بديهيا إلا أنه لا يوجب الفرق في المقام،
فإن كلامنا إنما هو في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه

1 - نهاية الأصول: 186.
69

بمعنى أنه لو منعه المولى من الثواب بعد الإتيان به، عد ظالما ومورد التقبيح
العقلاء، كمن يمنع من أداء حق الغير إليه، وهذا لا فرق فيه بين الآتي بالواجب
الغيري وتاركه أصلا، فإنه كيف يستحق العبد على مولاه شيئا بعدما فرض أنه
لم يأت بمطلوبه النفسي أصلا، كما هو واضح.
نعم يكون بينهما فارق لا من حيث الاستحقاق الذي يكون مورد النزاع في
المقام، بل من حيث الممدوحية والمذمومية عند العقلاء، فإن العبد الذي يأتي
بمقدمات الواجب يستحسنه العقلاء لكونه منقاد للمولى مريد للإتيان
بمطلوباته وإطاعة أوامره، كما لا يخفى.
ومن هنا يظهر: أنه لا فرق بين ما لو كان العمل متوقفا على مقدمات كثيرة
وبين ما لو لم يكن إلا متوقفا على بعض المقدمات، كالحج بالنسبة إلى الساكنين
في البلاد البعيدة والقريبة من حيث استحقاق المثوبة على فعل المقدمات وعدم
الاستحقاق أصلا.
نعم يمكن أن يقال بازدياد الثواب على نفس العمل فيما لو كان متوقفا على
مقدمات كثيرة لا ثبوته بالنسبة إلى المقدمات، كما لا يخفى.
التنبيه الثاني: الإشكال في الطهارات الثلاث ودفعه
ثم إنه ربما يستشكل في الطهارات الثلاث بوجهين:
الأول: أنه لا ريب في ترتب الثواب عليها، وفي كونها عبادة مع أن الأمر
الغيري لا يكون إلا توصليا ولا يترتب على امتثاله الثواب (1).
ويرده: أنه لو كان المراد بترتب الثواب عليها استحقاق المكلف له

1 - مطارح الأنظار: 70 / السطر 18.
70

بالمعنى المتقدم المتنازع فيه، فلا نسلم ثبوته فيها بعدما عرفت من أن الأمر
الغيري لا يصلح للداعوية ولا يكون له إطاعة حتى يترتب عليه الثواب
ويستحق على تركه العقاب.
وإن كان المراد به جعل الثواب على الطهارات الثلاث، فلا إشكال فيه،
ولا اختصاص له بها، بل [لها] نظائر في التوصليات أيضا، مثل ما جعل من الثواب
على الذهاب إلى زيارة قبر الحسين (عليه السلام) لكل قدم كذا وكذا، مع أنه لا إشكال في
كونه توصليا.
الثاني - وهو العمدة -: أنه لا إشكال في أن الطهارات الثلاث قد اعتبرت
مقدمة للصلاة بنحو العبادية، وليس حالها كحال سائر المقدمات، كالستر
والاستقبال وغيرهما في أن مطلق وجودها في الخارج قد اعتبرت مقدمة لها،
وحينئذ فعباديتها مأخوذة في الرتبة السابقة على تعلق الأمر الغيري بها، إذ
لا يكاد يتعلق إلا بما يكون مقدمة بالحمل الشائع، والمفروض أن مقدميتها إنما هو
في حال كونها عبادة، وحينئذ فنقول: إن كان المصحح لعباديتها هو تعلق الأمر
الغيري بها، فيلزم الدور، لأن تعلقه بها متوقف على كونها مقدمة الراجعة إلى
كونها عبادة، فلو كانت عباديتها متوقفة على تعلق الأمر الغيري بها يلزم توقف
الشئ على نفسه، كما هو واضح، وإن كان المصحح لعباديتها هو تعلق الأمر
النفسي بذواتها، فهو فاسد، لوجوه ثلاثة:
الأول: أنه لا يتم في خصوص التيمم، لعدم تعلق الأمر الاستحبابي النفسي
به قطعا.
الثاني: أنه كيف يمكن اجتماع الأمر الغيري مع الأمر الاستحبابي النفسي
على شئ واحد؟! فمع ثبوت الأول - كما هو المفروض - لايبقى مجال للثاني،
كما لا يخفى.
71

الثالث: أنه من الواضح أنه يصح إتيان الطهارات الثلاث بقصد أمرها
الغيري من دون التفات إلى رجحانها النفسي، بل يكون مغفولا عنه بالنسبة إلى
أغلب الناس، فكيف يكون هو المحقق لعباديتها؟! كما لا يخفى.
وأجاب عن الإشكال بعض الأعاظم - كما في تقريراته - بما ملخصه أنه
كما تكون الطهارات الثلاث بوصف عباديتها مقدمة للصلاة فكذلك تكون ذواتها
مقدمة لها أيضا بمعنى أن لها الدخل في إيجاد الصلاة.
وبعبارة أخرى: الأمر الغيري المتعلق بها متقربا بها إلى الله تعالى ينبسط
على أجزاء متعلقه كانبساط الأمر النفسي على أجزاء الواجب، فينحل إلى أوامر
غيرية ضمنية، وحينئذ فتكون ذوات الأفعال في الطهارات الثلاث مأمورا بها
بالأمر الضمني من ذلك الأمر الغيري، وإذا أتى بها بداعي ذلك الأمر الضمني
يتحقق ما هو المقدمة، أعني الأفعال الخارجية المتقرب بها، وبذلك يسقط الأمر
الضمني المتوجه إلى القيد بعد فرض كونه توصليا، لحصول متعلقه قهرا بامتثال
الأمر الضمني المتعلق بذات الفعل (1). انتهى ملخصا.
أقول: يرد عليه: أنه كيف يكون الأمر الغيري مصححا للعبادية؟! بعدما
عرفت من أنه لا يكون صالحا للداعوية أصلا، فإنه لا يكون الغرض منه إلا
مجرد التوصل إلى حصول ذي المقدمة، فمتعلقه لا يكون إلا واجبا توصليا،
وعلى تقدير كونه داعيا فهو إنما يدعو إلى متعلقه، لحصول المأمور به بالأمر
النفسي، ولا يكفي ذلك في العبادية، فإشكال لزوم الدور وإن كان يرتفع بما ذكر
إلا أن ما هي العمدة في المقام من الإيراد - وهو أنه كيف يكون الأمر الغيري
مصححا لعبادية متعلقه؟! - يبقى على حاله.

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 379.
72

ومنه يظهر بطلان ما ذكره المحقق النائيني - على ما في التقريرات في مقام
تصحيح عبادية الطهارات الثلاث - من أن المصحح لها ليس هو الأمر الغيري
المتعلق بها، ولا الأمر النفسي المتعلق بذواتها، بل الأمر النفسي المتعلق بذي
المقدمة حيث إنه ينبسط على الأجزاء والشرائط، فالمصحح لعبادية الوضوء،
المشروطة به الصلاة هو المحقق لعبادية الفاتحة التي هي جزء لها (1).
وجه البطلان: ما ظهر مما تقدم، وهو أن الأمر الضمني المتعلق بالجزء أو
الشرط لا يكفي في عباديتهما أصلا لو سلمنا ذلك بعدما كان المقصود منه حصول
المجموع أو المشروط، كما لا يخفى.
التنبيه الثالث: في منشأ عبادية الطهارات
والحق في المقام أن يقال: إن عبادية الطهارات الثلاث ليست لأجل الأمر
الغيري المتعلق بها، بل إنما هو من جهة قابليتها وصلوحها للعبادة، كما هو
المسلم من الشرع مع الإتيان بها لله وبداعي التقرب إليه.
توضيحه: أنه لا يشترط في عبادية الأشياء تعلق الأمر النفسي بها، ولا
الأمر الغيري، بل يكفي في صيرورة شئ عبادة كونه صالحا لها مع الإتيان بها
بداعي التقرب، ومن هنا يقال بعدم الفرق بين التيمم الذي لا يكون مورد الفتوى
الأصحاب باستحبابه النفسي وبين الوضوء والغسل المستحبين، كما أفتوا به،
فإن مجرد كونه منطبقا عليه بعض العناوين الحسنة في حال الإتيان به مقدمة
للصلاة يكفي في صلاحيتها للعبادة في ذلك الحال، ولا يشترط تعلق الأمر به
أصلا، وأما في غير ذلك الحال فعدم عباديته إما لأجل عدم انطباق تلك العناوين

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 228.
73

الحسنة عليه في غير ذلك الحال أو لمزاحمتها من بعض العناوين الغير الحسنة
المخرجة له عن العبادية، كما لا يخفى.
والدليل عليه ما هو المرتكز في أذهان المتشرعة عند الإتيان بالطهارات
الثلاث، فإنهم لا يلتفتون إلى استحبابها النفسي أصلا.
وما ذكره في الإشكال: من كفاية الإتيان بها بداعي الأمر الغيري المتعلق
بها إن أريد الإتيان بها كالستر والاستقبال للصلاة بمعنى أنه كما يكفي تحصيل
الستر لأجل الصلاة كذلك يكفي مجرد الإتيان بالوضوء لأجل الصلاة.
ففيه: أنه لا يكون بينهما فرق حينئذ، فيكون الوضوء باطلا، مضافا إلى ما
نراه من المتشرعة من اختلاف نحوي الإتيان بالوضوء وبالستر عندهم، فإن في
حال الإتيان بالأول لهم حالة أخرى لا توجد عند الإتيان بالثاني.
فظهر أن عبادية الطهارات الثلاث إنما هو لكونها صالحة للعبادة مع الإتيان
بها بداعي القربة من دون توقف على الأمر النفسي ولا الغيري أصلا، ولذا نقول
كما قالوا: بعبادية التيمم في حال الإتيان به مقدمة للصلاة، مع أنه لا يكون
متعلقا لأمر نفسي، كما ذهبوا إليه، ولا لأمر غيري، كما سنحققه من عدم وجوب
المقدمة، فانتظر.
ثم إن بما ذكرناه في تحقيق عبادية الطهارات الثلاث يرتفع جميع
المحذورات المتقدمة والإيرادات السابقة، فإنه لايبقى حينئذ مجال للإشكال
في ترتب الثواب عليها، فإن ترتبه عليها ليس لأجل تعلق الأمر الغيري بها، بل
لكونها مطلوبة نفسا وعبادة ذاتا، والكلام إنما هو بعد الفراغ عن ترتب الثواب على
الواجبات النفسية، فلا وجه حينئذ للإشكال أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
وكذا يرتفع به محذور الدور، فإن الأمر الغيري وإن تعلق بما تكون عبادة،
إلا أن عباديتها لا تتوقف على الأمر الغيري أصلا، كما ظهر بما حققناه لك.
74

وما ذكره العراقي (قدس سره) في دفع محذور الدور: من كلامه المتقدم (1) وإن كان
يكفي في دفع ذلك المحذور إلا أنه لا يرتفع به ما هي العمدة في المقام من
الإشكال، وهو أنه كيف يمكن أن يكون الأمر الغيري مصححا لعبادية متعلقه؟!
كما لا يخفى، كما أنه بما ذكرنا يرتفع سائر المحذورات، فإنك قد عرفت أن
عبادية التيمم ليس لأجل تعلق الأمر النفسي الاستحبابي به حتى يقال بأنهم
لا يقولون به، وكذلك لايبقى مجال للإشكال باستحالة اجتماع الأمر الغيري مع
الأمر النفسي على شئ واحد، فإنه قد ظهر بما ذكرنا أن المأمور به بالأمر الأول
هو ما يكون متعلقا للأمر الثاني بوصف كونه كذلك، وبعبارة أخرى: العبادة
المستحبة جعلت مقدمة ومتعلقة للأمر الغيري، نظير ما إذا نذر الإتيان بصلاة
الليل مثلا، فإن الوفاء بالنذر وإن كان واجبا إلا أنه لا ينافي استحباب صلاة الليل
ولا يخرجها عنه إلى الوجوب، بل يجب عليه الإتيان بها بما أنها مستحبة، كما
لا يخفى.
وأما كفاية الإتيان بالطهارات بداعي الأمر الغيري المتعلق بها فقد عرفت
ما فيه من أنه لو كان المراد كفاية الإتيان بها للصلاة، فلا نسلم صحتها وكون
الإجماع منعقدا عليها، لما عرفت من الفرق عند المتشرعة في مقام الإتيان بها أو
بسائر المقدمات غير العبادية.
ثم إن ما يظهر من بعض: من تصحيح عبادية الطهارات الثلاث مع قطع
النظر عن تعلق الأمر الغيري بها بأن الأمر المتعلق بالصلاة، كما أنه يدعو إلى
متعلقها كذلك له نحو داعوية إلى مقدماتها، فعبادية الطهارات إنما هو لاعتبار
الإتيان بها بتلك الداعوية، لا كما ذكره النائيني (قدس سره) من انبساط الأمر النفسي على

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 379.
75

المقدمات أيضا حتى تكون عباديتها لأجل تعلق الأمر النفسي الضمني بذواتها (1)،
بل نقول: إن متعلق الأمر النفسي هي نفس الصلاة، ولكن لا يخلو من الداعوية
إلى المقدمات أيضا.
والفرق بين الطهارات وغيرها من المقدمات أن المعتبر في صحتها الإتيان
بها بتلك الداعوية، بخلاف سائر المقدمات، فإنه لا يعتبر في صحتها هذا المعنى.
نعم لو أتى بها أيضا بذلك الداعي تصير عبادة، ويترتب عليه الثواب، كما
هو الشأن في جميع الواجبات التوصلية.
فجوابه أظهر من أن يخفى، فإنه كيف يمكن أن يكون الأمر المتعلق
بالصلاة داعيا إلى مقدماتها مع ما ثبت من أن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه،
والمفروض عدم كون المقدمات متعلقة للأمر المتعلق بذيلها، كما ذكره المحقق
النائيني (قدس سره) ودخول التقيدات في متعلق الأمر النفسي لا يستلزم كون القيود أيضا
كذلك، وحينئذ فلا وجه لكون الأمر بذي المقدمة داعيا إليها أصلا، كما هو أظهر
من أن يخفى.
فالتحقيق في عبادية الطهارات الثلاث ما ذكرناه لك، وعليه فكلما توضأ
مثلا بداعي الأمر الاستحبابي المتعلق به سواء كان متعلقا للأمر الغيري أيضا - كما
إذا توضأ بعد دخول الوقت - أو لم يكن - كما إذا توضأ قبل دخوله يكون وضوؤه
صحيحا يجوز الإتيان بجميع الغايات المشروطة بها، كما أنه لو توضأ بداعي
الأمر الغيري فقط من دون التوجه إلى عباديته يكون فاسدا مطلقا قبل الوقت
وبعده.
ثم إنه قد أجيب عن إشكال الطهارات الثلاث وأنها كيف تكون عبادة مع

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 228.
76

كونها متعلقة للأمر الغيري بوجوه شتى بعضها يرجع إلى ما ذكرناه بنحو من
التصرف والتأويل، وبعضها الآخر يظهر بطلانها مما ذكرنا في هذا المقام، وعليك
بالتأمل التام في كلمات الأعلام ليظهر لك الصحيح عن سقيم المرام، فإن المقام
من مزال الأقدام، فتأمل جيدا.
الأمر السابع
ما هو الواجب في باب المقدمة؟
هل الواجب في باب المقدمة بناء على ثبوت الملازمة هو ذات المقدمة
بلا مدخلية شئ آخر، أو المقدمة بشرط إرادة المكلف لذيها عند إتيانها، كما
ربما ينسب إلى صاحب المعالم (قدس سره) (1)، أو بشرط قصد التوصل بها إليه لا مطلقا،
سواء ترتب عليه ذو المقدمة في الخارج أم لم يترتب، كما ربما نسب ذلك إلى
الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2)، أو بشرط إيصالها إلى ذي المقدمة وترتبه عليها في
الخارج بحيث إذا ترتب عليها يكشف عن وقوعها على صفة الوجوب، كما ذهب
إليه صاحب الفصول (3)؟ وجوه وأقوال، ولابد من النظر في كل واحد منها ليظهر
صحته أو سقمه.
حول ما نسب إلى صاحب المعالم
فنقول: ربما يورد على صاحب المعالم:
أولا: بأن وجوب المقدمة تبع لوجوب ذيها من حيث الإطلاق أو

1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 1، كفاية الأصول: 142.
2 - كفاية الأصول: 143، مطارح الأنظار: 72 / السطر 9.
3 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
77

الاشتراط، فكيف يمكن أن يكون وجوب ذي المقدمة مطلقا غير مشروط
بإرادته ووجوب المقدمة مشروطا بإرادته.
وثانيا: باستحالة أن يكون البعث المتعلق بشئ مشروطا بإرادة ذلك
الشئ، إذ مع تحقق الإرادة يكون الإتيان بالفعل مسببا عنها لا عن البعث، ومع
عدم تحققها يكون المفروض عدم ثبوته بعد كونه مشروطا بالإرادة.
ودعوى: أن البعث هنا مشروط بإرادة ذي المقدمة لا بإرادة متعلقه الذي
عبارة عنها.
مدفوعة: باستحالة انفكاك إرادة ذي المقدمة عن الإرادة المتعلقة بها
فمع كونه مشروطا بها يلزم اللغوية أيضا بعد عدم انفكاكها عنها، كما لا يخفى (1).
هذا، ولكن لا يخفى أن عبارة المعالم (2) لا تفيد شرطية الإرادة أصلا، بل
مفادها هو ثبوت الوجوب في حال كون المكلف مريد للفعل المتوقف عليها،
فلا يكون الوجوب مشروطا بإرادته، بل إنما هو ثابت في حالها على نحو القضية
الحينية لا المشروطة، فلا يرد عليه الإشكالان المذكوران.
هذا، مضافا إلى أن الإيراد الثاني فاسد ولو قلنا بذلك، لأن كون البعث
مشروطا بإرادة ما يترشح منه الإرادة المتعلقة بالمقدمة بحيث تكون في مرتبة
متأخرة عنها استحالته غير واضح، لأن البعث إنما يقع في المرتبة المتقدمة على
إرادة متعلقه، وهذا غير معلوم الاستحالة.
مضافا إلى أن هذا الإيراد لا يختص بخصوص هذا القول، بل يرد على جميع
القائلين بثبوت الملازمة، كما لا يخفى.

1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 5.
2 - معالم الدين: 74 / السطر 3.
78

تحقيق فيما نسب إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره)
ثم إن ما نسب إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) من أن الملازمة إنما هي بين ذي
المقدمة وبين المقدمة التي قصد بها التوصل إليه بحيث يكون هذا القول في
عرض سائر الأقوال في باب المقدمة ليست النسبة إليه في محله، فإن منشأ
النسبة إنما هو ملاحظة التقريرات المنسوبة إليه، ونحن بعد ملاحظة هذا
المقام منها صدرا وذيلا لم نعرف وجها لهذه النسبة أصلا، فإن المقرر بعد حكاية
عبارة المعالم والإشكال فيها بالوجهين المتقدمين شرع في أنه هل يعتبر في
امتثال الأمر الغيري قصد التوصل بها إلى ذيها أم لا، واختار الأول.
ثم ذكر في تحقيقه أن الأمر الغيري لا يستلزم امتثالا أصلا، بل المقصود
منه مجرد التوصل به إلى الغير، وقضية ذلك هو قيام الواجب مقامه وإن لم
يكن المقصود منه التوصل به إلى الواجب، كما إذا أمر المولى عبده بشراء اللحم
من السوق، الموقوف على تحصيل الثمن، ولكن العبد حصل الثمن لا لأجل شراء
اللحم، بل لغرض آخر، ثم بدا له الامتثال بأمر المولى، فيكفي له في مقام
المقدمية الثمن المذكور من غير إشكال، إنما الإشكال في المقدمات العبادية
التي يجب وقوعها على قصد القربة، فهل يصح في وقوعها على جهة الوجوب
أن لا يكون الآتي بها قاصد للإتيان بذيلها أم يعتبر؟
ثم فرع عليه بعض الفروعات، وذكر أنه قد نسب إلى المشهور عدم
الاعتبار.
ثم استند إلى ما يقرب مرادهم، ثم استشكل عليه بأن الإنصاف فساد ذلك
الوجه، لأن النزاع إنما هو فيما إذا أريد الامتثال بالمقدمة، وذكر أنه لا إشكال
79

في لزوم قصد عنوان الواجب إذا أريد الامتثال به وإن لم يجب الامتثال (1)، إلى
آخر ما ذكره، فإن الناظر إلى هذه العبارات يقطع بأن النزاع في اعتبار قصد
التوصل إلى ذي المقدمة وعدمه إنما هو فيما إذا أريد الامتثال بالمقدمة، ومعنى
الامتثال - كما صرح به - أن يكون الداعي إلى إيجاد الفعل هو الأمر (2)، فلا ربط
لهذا النزاع بالمقام أصلا، فإن الكلام هنا إنما هو في الملازمة وفي أن الأمر
الغيري هل يتعلق بذات المقدمة أو مع قيد آخر.
ولا يخفى أن التأمل في عبارة التقريرات يعطي أن الواجب هو ذات
المقدمة، كيف وقد صرح في جواب المعالم بأن وجوب المقدمة إنما يتبع في
الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها، وقد صرح أيضا بأن الحاكم بالوجوب الغيري
ليس إلا العقل، وليس الملحوظ عنده في عنوان حكمه بالوجوب إلا عنوان
المقدمية والموقوف عليه، وهنا بعض القرائن الأخر يظهر للناظر المتأمل.
وكيف كان فمع قطع النظر عن انتساب هذا القول إلى الشيخ (قدس سره) فلابد من
النظر فيه، وأنه هل يمكن الذهاب إليه أم لا؟
فنقول: اعتبار قصد التوصل في المقدمة يمكن على وجوه:
الأول: أن يكون الوجوب الناشئ من حكم العقل بالملازمة مشروطا بما
إذا قصد التوصل بها إليه بمعنى أنه في غير هذه الصورة لا تكون المقدمة
واجبة.
الثاني: أن يكون الوجوب ثابتا لها في هذا الحين، والفرق بين الصورتين
الفرق بين القضية المشروطة والحينية.

1 - مطارح الأنظار: 72 / السطر 9.
2 - نفس المصدر: السطر 24.
80

الثالث: أن يكون قصد التوصل مأخوذا في متعلق الأمر الغيري بمعنى أن
يكون قيد للواجب لا للوجوب، كما في الصورتين المتقدمتين.
إذا عرفت ذلك، فنقول: كل هذه الاحتمالات فاسدة، بل لا يمكن اعتبار
قصد التوصل على غير وجه الأخير من الصور المتقدمة.
أما الوجه الأول: فيرد عليه - مضافا إلى ما عرفت من أن وجوب
المقدمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها - أنه لا يعقل اشتراط الوجوب
بخصوص قصد التوصل الغير المنفك عن إرادة متعلق الوجوب، فيرجع الأمر
بالأخرة إلى اشتراط الوجوب بإرادة متعلقه، فيصير الوجوب مباحا، كما عرفت
فيما أجاب به التقريرات عن عبارة المعالم، بل نقول بأن الاستحالة هنا أوضح
مما يوهمه عبارة المعالم، لأن الوجوب بناء على قوله لا يكون مشروطا بإرادة
متعلقه، بل بإرادة ذي المقدمة المتقدمة على إرادة المقدمة المتعلقة للوجوب
الغيري، وأما بناء على هذا القول يكون الوجوب مشروطا بإرادة متعلقه.
ثم إن هذا الجواب يجري على الوجه الثاني أيضا.
وأما الوجه الثالث: الراجع إلى اعتبار قصد التوصل قيد للواجب بحيث
يجب تحصيله كسائر القيود المعتبرة في الواجب فهو وإن كان ممكنا في مقام
الثبوت إلا بناء على ما اعتقده صاحب الكفاية من أن الإرادة لا تكون من الأمور
الاختيارية (1)، فلا يعقل أن تكون متعلقة للطلب أصلا.
ولكن لا يخفى فساد هذا الاعتقاد فإنه يمكن للإنسان أن يوجد القصد
المتعلق ببعض الأشياء، نظير أنه إذا سافر الإنسان إلى بلد لا يريد إقامة عشرة
أيام فيه، لعدم كون الإقامة فيها ذا مصلحة له إلا أنه يعرض له بعض الأمور

1 - كفاية الأصول: 89.
81

المتفرعة على قصدها، فيقصد، فإقامة العشرة وإن لم تكن محبوبة له بالذات إلا
أنها تصير محبوبة بالعرض لمحبوبية تلك الأمور المتوقفة على قصدها، مثل ما إذا
كانت الصلاة غير المقصورة محبوبة له دائما، فيريد الإقامة لذلك.
وبالجملة، فكون الإرادة من الأمور غير الاختيارية مما لم يعلم له وجه
أصلا، كيف والمعتبر في صحة العبادات أن يكون الداعي إلى اتيانها قصد التقرب،
فلو لم يكن القصد أمرا اختياريا، لم يكن وجه لاعتباره فيها، كما لا يخفى فهذا
الوجه الراجع إلى أخذ قصد التوصل قيد للواجب وإن كان ممكنا في مقام
الثبوت إلا أنه لا دليل على إثباته، كما سيأتي وجهه عند التكلم في مقام
الإثبات إن شاء الله تعالى، فانتظر.
هذا كله فيما يتعلق باعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة.
القول في المقدمة الموصلة
حول ما نسب إلى صاحب الفصول
وأما اعتبار الإيصال إليه - كما يظهر من صاحب الفصول (1) - فإن كان هذا
القيد شرطا للوجوب بمعنى أنه لا يجب المقدمة إلا مع الإيصال المتوقف على
تحقق ذيها الراجع إلى أن وجوب المقدمة إنما هو بعد الإتيان بذيلها، المتوقف
عليها، فاستحالته أظهر من أن يخفى، فإنه من قبيل تحصيل الحاصل.
والظاهر أنه لا يقول به صاحب الفصول (قدس سره) بل مراده (قدس سره) إنما هو اعتبار هذا
القيد في متعلق الوجوب، لا أن يكون شرطا للوجوب، بل قيد للواجب بحيث

1 - الفصول الغروية: 81 / السطر 4.
82

يجب تحصيله.
وقد اورد عليه بوجوه من الإيراد:
منها: أنه يلزم الدور بناء عليه، وتقريبه: أنه لا إشكال في توقف ذي
المقدمة عليها، لأن المفروض كونها مقدمة له، فلو كان الإيصال مأخوذا فيها،
يلزم توقف المقدمة عليها أيضا، لأن حصول القيد متوقف عليها بلا إشكال، وهذا
هو الدور محضا (1).
والجواب أن ما يتوقف ذو المقدمة عليه هو ذات المقدمة، لأنه لا
مدخلية للإيصال في مقدميتها، بل إنما هو مأخوذ في متعلق الواجب، وما يتوقف
على ذي المقدمة هو الإيصال لا ذات المقدمة، فالموقوف على ذي المقدمة
لا يتوقف هو عليها، بل يتوقف على ذاتها، كما هو أوضح من أن يخفى.
منها: لزوم التسلسل، وتقريبه أن يقال: إن المقدمة حينئذ تكون مركبة من
أمرين: أحدهما: الذات، والآخر: قيد التوصل، فتكون الذات مقدمة لحصول
المقدمة المركبة، كما هو الشأن في جميع أجزاء المركب.
مثلا: لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدمة، والسير الموصل إلى
الحج مقدمة، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير
الموصل، وحينئذ فيعتبر قيد الإيصال فيه أيضا، فيلزم التسلسل (2).
والجواب: أن مدخلية قيد الإيصال إنما هو في تعلق الوجوب إلى
المقدمة بمعنى أنه لا يتعلق الوجوب بها إلا مع ذلك القيد لا بدونه، لا أن يكون
القيد دخيلا في مقدمية المقدمة وتوقف ذيها عليها، وحينئذ فليس هنا إلا ذات

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 290.
2 - نفس المصدر.
83

المقدمة وقيد الإيصال، والأولى لا يتعلق بها الوجوب إلا مع انضمام الثاني إليه،
فمن أين يلزم التسلسل؟ كما هو واضح.
منها: أنه يلزم أن يكون ذو المقدمة متعلقا للوجوب النفسي وللوجوب
الغيري، بل للوجوبات الغيرية المتعددة حسب تعدد المقدمات.
أما تعلق الوجوب النفسي إليه: فلأنه المفروض.
وأما تعلق الوجوب الغيري: فلأنه لا إشكال في أن تحقق قيد الإيصال
موقوف على ذي المقدمة، فيتعلق بها الوجوب الغيري أيضا (1).
والجواب: أن توقف عنوان الإيصال على ذي المقدمة وإن كان مسلما إلا
أن تعلق الأمر الغيري إليها ممنوع بعد أنه يعتبر عند القائل بهذا القول الإيصال
إلى ذي المقدمة، ومن المعلوم امتناع أن يكون الشئ موصلا إلى نفسه،
والإيصال إلى المقدمة الموصولة لم يكن معتبرا عند القائل أصلا.
وبالجملة، فلو كان المراد تعلق الأمر الغيري بذي المقدمة من دون قيد،
فهو ممنوع عند القائل بعد اعتباره في متعلق الأمر الغيري قيد الإيصال، كما هو
واضح.
وإن كان المراد تعلقه به مع هذا القيد، فالإيصال إلى المقدمة الموصلة
غير مقصود له، والإيصال إلى نفسها لا يعقل، فكيف يلزم تعلق الأمر الغيري بل
الأوامر الغيرية بذي المقدمة؟!
منها: ما اورد عليه في الكفاية من أن القول بالمقدمة الموصلة يستلزم
إنكار وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول بوجوب خصوص العلة
التامة في خصوص الواجبات التوليدية.

1 - نهاية الأصول: 195.
84

أما الاختصاص بالأولى: فلأنه لا يعقل ترتب الممكن على غير علته
التامة ووجوده بدونها.
وأما الاختصاص بالثانية - مع أن وجود كل ممكن بدون علته التامة
مستحيل - أن مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء العلة التامة، وهي لا
تكاد تتصف بالوجوب، لعدم كونها من الأمور الاختيارية، وإلا لتسلسل.
وبالجملة، فالإيصال إنما هو في خصوص الواجبات التوليدية، وأما في
غيرها فمع اجتماع جميع الأجزاء يمكن أن لا يقع لتوسط الإرادة والاختيار، كما
هو واضح (1).
والجواب: أن مراده (قدس سره) بالإيصال ليس ما يترتب عليه ذو المقدمة قهرا
حتى يورد عليه بما ذكر، بل مراده منه هو ترتب الفعل عليه ولو بواسطة أو
وسائط بمعنى أن مطلق المقدمة لا يتعلق به الوجوب، بل بالمقدمة التي يتعقبها
الإتيان بذي المقدمة، سواء كانت علة تامة لحصوله قهرا أم لم تكن.
هذا مضافا إلى ما عرفت من أن الإرادة من الأمور الاختيارية التي يمكن
أن يتعلق بها الطلب والبعث، كيف ولو قلنا باستحالة تعلق الطلب بها، فلا تكون
متعلقة للأمر الغيري حتى بناء على وجوب مطلق المقدمة، فمن أين يلزم الإرادة
التي هي من أجزاء العلة التامة، كما هو واضح.
منها: ما اورد عليه في الكفاية أيضا، وحاصله أنه لو كان معتبرا فيه
الترتب، لما كان الطلب يسقط بمجرد الإتيان بها من دون انتظار لترتب الواجب
عليها مع أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة أو بالمخالفة أو بارتفاع موضوع

1 - كفاية الأصول: 145 - 146.
85

التكليف، ولا يكون الإتيان بالمقدمة بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة (1).
والجواب: أنا نمنع السقوط بمجرد الإتيان بذات المقدمة، لأن القائل يقول
بأن سقوطه متوقف على ضميمة قيده إليه، فلا يسقط إلا بعد الإتيان بذي
المقدمة، كما أن الأمر بالصلاة لا يسقط إلا مع الإتيان بجزئه الأخير أيضا، وهذا
واضح لا إشكال فيه.
فانقدح من جميع ما ذكر أنه لا يلزم محال من الأخذ بأحد الأقوال الثلاثة
الواقعة في مقابل القول بوجوب مطلق المقدمة في مقام الثبوت بناء على أن
يكون القيد الزائد دخيلا في متعلق الوجوب، لا أن يكون شرطا له، كما عرفت.
ما أفاده المحقق الحائري والعراقي في المقام
ثم إنه لو سلمنا استلزام كلام الفصول للمحاذير المتقدمة، فلا يدفعها ما
ذكره بعض من الأعاظم في تقريب كلامه وتوجيه مرامه بحيث لا يورد عليه
بشئ حيث قال (قدس سره) في كتابه المسمى بالدرر ما ملخصه: أن الطلب متعلق
بالمقدمات في لحاظ الإيصال لا مقيدا به بمعنى أن الآمر بعد تصور المقدمات
بأجمعها يريدها بذواتها، لأنها بتلك الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو
لاحظ مقدمة منفكة عما عداها، لا يريدها جزما، لأن مطلوبيتها إنما هو في ظرف
ملاحظة باقي المقدمات معها، فالإرادة لا تتعلق بها بنحو الإطلاق حتى تشمل
حال انفكاكها عن باقي المقدمات.
ثم قال: وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان، ولا يرد عليه ما ورد على

1 - كفاية الأصول: 146.
86

القول باعتبار الإيصال قيدا وإن اتحد معه في الأثر (1).
ونظير هذا ما يظهر من التقريرات المنسوبة إلى العراقي (قدس سره) حيث قال
المقرر ما ملخصه: إن الواجب ليس مطلق المقدمة ولا خصوص المقدمة
المقيدة بالإيصال، بل الواجب هو المقدمة في ظرف الإيصال على نحو القضية
الحينية، وبعبارة أخرى: الواجب هي الحصة التوأمة مع سائر المقدمات
الملازم لوجود ذيها.
وتوضيحه أن يقال: حيث إن الغرض من وجوب المقدمة ليس إلا
التوصل إلى ذي المقدمة، ومن الواضح أن هذا إنما يترتب على مجموع
المقدمات، لا كل واحد على سبيل الاستقلال وإن كان كل واحد منها يتوقف عليه
المطلوب الأصلي إلا أن المحبوبية إنما يتعلق به مع انضمامه إلى سائر
المقدمات، ونتيجة ذلك هو تعلق أمر غيري واحد بمجموع المقدمات بحيث
ينبسط على كل واحد منها كانبساط الوجوب في الواجب النفسي على أجزائه،
وكما أن متعلق الأمر النفسي الضمني في الواجبات النفسية إنما هو كل واحد من
الأجزاء لا مطلقا ولا مقيدا بانضمام سائر الأجزاء إليه، بل الحصة المقارنة
لباقي الأجزاء، فكذلك الأمر هنا بلا تفاوت (2). انتهى ملخص موضع الحاجة من
كلامه.
ولكن لا يخفى أن المحذورات المتقدمة لو سلم لا تدفع بما ذكره المحققان
المتقدمان، لأن لحاظ الإيصال إما أن يكون دخيلا في المطلوب ويوجب تضييقا
بالنسبة إليه، فهذا بعينه ما ذكره صاحب الفصول، وإما أن لا يكون كذلك، فهذا

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 119.
2 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 389 / السطر 10.
87

بعينه القول بوجوب مطلق المقدمة، وأخذه على نحو القضية الحينية لا يزيد
على أخذه مطلقا، لأن معناها هو أن ترتب الحكم على الموضوع لا يقيد بوقت دون
وقت، وذكر الحين إنما هو لتعريف الموضوع والإشارة إليه من دون مدخلية له
في ترتب الحكم أصلا، مثل أن يقال: كل من كان في الدار فهو عالم مثلا، فإن
الكون في الدار إنما اخذ عنوانا مشيرا إلى الموضوع ومعرفا له لا لكونه دخيلا
في ثبوت المحمول.
ومن هنا يظهر بطلان ما تقدم من التقريرات، مضافا إلى أنه كيف يمكن
الجمع بين أخذ الإيصال بنحو القضية الحينية التي عرفت عدم الفرق بينها وبين
القضية المطلقة من حيث إطلاق الموضوع أصلا وبين كون متعلق الأمر الغيري
هي الحصة المقارنة لباقي المقدمات الملازم لوجود ذيها مع أن الطبيعة
المطلقة لا تصير حصة إلا بانضمام بعض القيودات إليها، كما هو أظهر من أن
يخفى.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب كلام الفصول أن يقال: حيث إن الغرض
من وجوب المقدمة وغايته ليس إلا التوصل إلى المطلوب الأصلي ففي متعلقه
نحو من التضيق من ناحية علته الغائية لا أن يكون مقيدا به ولا أن يكون مطلقا
بالنسبة إليه، كما هو الشأن في سائر الأشياء بالنسبة إلى العلل الغائية لها
ولكن لا يخفى أن هذا يرجع إلى التقييد لما سنذكره من أن جميع الحيثيات
التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية، فانتظر.
وانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لو قلنا باستلزام كلام الفصول للمحذورات
المتقدمة من الدور والتسلسل وغيرهما لما يجديه التوجيه بما ذكر أصلا.
هذا، ولكن قد عرفت أن شيئا من الإيرادات غير وارد عليه أصلا.
هذا كله في مقام الثبوت.
88

في الدليل العقلي على المقدمة الموصلة
وأما مقام الإثبات: فقد استدل صاحب الفصول بوجوه أسدها وأمتنها هو
الوجه الأخير.
قال في بيانه: حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب
وحصوله، فلا جرم يكون التوصل بها إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها، فلا
تكون مطلوبة إذا انفكت عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد
حصول شئ آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه، ويلزم منه أن يكون وقوعه على
وجه المطلوب منوطا بحصوله (1).
وأجاب عنه في الكفاية أولا: بمنع كون المطلوب بالمقدمة التوصل بها
إلى الواجب، بل مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل بدونها، كيف ولا يكون
التوصل من آثارها إلا في بعض المقدمات.
وثانيا: بأنه لو سلم كون المطلوب بالمقدمة ذلك ولكن لا نسلم مدخلية
الغاية في مطلوبية ذيها، لأن صريح الوجدان يقضي بأن ما أريد لأجل غاية
وتجرد عنها بسبب عدم حصول بعض ما له دخل في تحققها يقع على ما هو عليه
من المطلوبية الغيرية، كيف وإلا يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدمة
لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو ووجوبها.
وهو كما ترى، ضرورة أن الغاية لا تكون قيد الذي الغاية بحيث كان
تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية،
وإلا يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه، كسائر قيوده، فلا يكون وقوعه على هذه الصفة

1 - الفصول الغروية: 86 / السطر 22.
89

منوطا بحصولها، كما أفاده.
ولعل منشأ توهمه الخلط بين الجهة التقييدية والتعليلية (1). انتهى
ملخص موضع الحاجة من كلامه.
وفي كل من الجوابين نظر بل منع.
أما الأول: فلأن من الواضح البديهي أن مطلوبية المقدمة إنما هو للتوصل
بها إلى ذيها، لأن المفروض أنها مطلوبة بتبع الغير ولأجله فتعلق الطلب بها
لا ينشأ إلا لكونها يتوصل بها إلى المطلوب الأصلي.
والدليل عليه أنه لا ينقطع السؤال عن تعلق الوجوب بها ب‍ " لم " إلا بعد
الجواب بأنها مطلوبة للتوصل إليه، وإلا فمجرد التوقف مع قطع النظر عن ترتب
ذي المقدمة عليها لا يكفي في انقطاع السؤال، كما يظهر بمراجعة الوجدان
السليم.
وما ذكره من أن التوصل ليس من آثارها، فيدفعه أنك عرفت فيما سبق أن
المراد بكلمة الموصل ليس خصوص العلة التامة، كما ربما يوهمه الجمود
على ظاهرها، بل المراد به ترتب ذي المقدمة عليها والإتيان به بعدها.
وأما الثاني: فلا يخفى أن إرادة شئ لأجل غاية ترجع إلى إرادته مقيدا
بها، كما هو واضح، ضرورة أن العقل لا يحكم بحكم إلا مع تشخيص موضوعه
بجميع جهاته وحيثياته التي لها مدخلية في الحكم، وإذا حكم بحكم لموضوع
من جهة خاصة وحيثية مخصوصة فيستحيل أن يصرف حكمه عن تلك
الجهة والحيثية، ويسري إلى ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحيثية التي
تكون دخيلا في ترتب الحكم أو إلى بعض الجهات الأخر المغايرة لهذه الجهة،

1 - كفاية الأصول: 149 - 150.
90

فإذا سلم أن مطلوبية المقدمة إنما هو للتوصل بها إلى ذيها، كما هو المفروض في
الجواب الثاني، فلا محالة تكون المطلوبية واقعة على المقدمة بتلك الحيثية،
وإلا فذاتها مطلقا ولو مع بعض الحيثيات الاخر لا يتعلق بها طلب أصلا.
وما اشتهر في الألسن من الفرق بين الجهات التعليلية والتقييدية بكون
الثانية دخيلا في الموضوع وقيدا له دون الأولى، ليس بصحيح، فإن جميع
الجهات التعليلية راجعة إلى الجهات التقييدية، لما عرفت من استحالة أن
يصرف العقل حكمه الثابت لموضوع عنه إلى غيره، وهذا بمكان من الوضوح.
وانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لو قلنا بالملازمة، فالواجب متابعة
صاحب الفصول (قدس سره) والأخذ بقوله الراجع إلى ثبوت الملازمة بين وجوب ذي
المقدمة وبين الوجوب المتعلق بخصوص المقدمات الموصلة، وقد عرفت أنه
لا يرد عليه شئ مما أوردها القوم عليه.
وعلى تقدير تسليم الورود، فلا يدفعه التوجيه بلحاظ الإيصال، كما
عرفت من الدرر، أو بالحصة التوأمة كما عرفت من التقريرات، إلا أن الكلام في
أصل ثبوت الملازمة، وسيجئ ما هو الحق في بابها، فانتظر.
في ثمرة القول بالمقدمة الموصلة
قد يقال - كما قيل - بأن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة
التي يتوقف على تركها فعل واجب أهم، كالصلاة التي يتوقف على تركها فعل
الإزالة التي هي واجبة، وتكون أهم من فعل الصلاة بناء على أن يكون ترك أحد
الضدين مقدمة لوجود الآخر، كما سيأتي تحقيقه في مبحث الأمر بالشئ هل
يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ فإنه بناء على هذا القول لا يكون الترك مطلقا واجبا
ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل الواجب هو الترك الموصل إلى فعل الضد
91

الواجب، والمحرم إنما هو نقيض هذا الترك الخاص الذي يقارن مع الفعل تارة،
ومع الترك المجرد أخرى، ومن المعلوم أنه لا يسري الحكم من أحد المتلازمين
إلى الآخر فضلا عن المتقارنين، وحينئذ فلا يكون الفعل محرما حتى يكون
فاسدا (1).
مناقشة الشيخ الأنصاري في الثمرة
وربما اورد على تفريع هذه الثمرة - كما في التقريرات المنسوبة إلى الشيخ
الأنصاري (قدس سره) - بما حاصله أن فعل الضد وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب
مقدمة بناء على المقدمة الموصلة إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض حيث
إن نقيض ذاك الترك الخاص، وهو أعم من الفعل والترك المجرد، وهذا يكفي في
إثبات الحرمة، وإلا لم يكن الفعل محرما ولو بناء على القول بوجوب مطلق
المقدمة، لأن الفعل أيضا ليس نقيضا للترك، لأنه أمر وجودي، ونقيض الترك إنما
هو رفعه، ورفع الترك الذي هو أمر عدمي لا يمكن أن يتحد مع الفعل الذي هو أمر
وجودي، فكما أن مجرد الملازمة بين نقيض الترك والفعل يكفي في اتصافه
بالحرمة فكذلك تكفي في المقام، غاية الأمر أن مصداق النقيض للترك إنما
ينحصر في الفعل فقط، وأما نقيض الترك الخاص فله مصداقان، وذلك لا يوجب
تفاوتا بينهما فيما نحن بصدده، كما لا يخفى (2).
وأجاب عن الإيراد المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية حيث قال: وأنت
خبير بما بينهما من الفرق، فإن الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض

1 - الفصول الغروية: 98 / السطر 6، كفاية الأصول: 150 - 151.
2 - مطارح الأنظار: 78 / السطر 26.
92

من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى، ولا يكاد تسري
حرمة الشئ إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا.
نعم لابد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه،
لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه بنفسه يعاند
الترك المطلق وينافيه لا ملازم لمعانده ومنافيه، فلو لم يكن عين ما يناقضه
بحسب الاصطلاح مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان الترك واجبا
فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا، فتدبر جيدا (1). انتهى.
والتحقيق أن يقال: إنه لو قلنا بأن نقيض كل شئ رفعه الذي هو أمر
عدمي وقلنا بأن وجوب الشئ إنما يقتضي حرمة النقيض فقط، فلا إشكال في أن
الفعل لا يصير محرما حتى بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة، لأن نقيض
الترك المطلق رفعه الذي هو عبارة عن ترك الترك، فالحرمة إنما يتعلق بهذا،
ومن المعلوم عدم اتحاده مع الفعل أصلا، لأنه يستحيل أن يتحد الحيثية العدمية
مع الحيثية الثبوتية الراجعة إلى حيثية طرد العدم، فيمتنع أن يكون النور عين
عدم الظلمة، وغير ذلك من الأمثلة.
ومجرد الملازمة بينهما لا يوجب سراية الحكم من النقيض إلى ما يلازم
معه، وهو الفعل، بل غايته أن لا يكون الفعل محكوما بحكم يخالف حكم
النقيض، لا أن يكون محكوما بحكمه.
ولو قلنا بأن نقيض كل شئ رفعه، أو كون الشئ مرفوعا به، فنقيض
الأمر الوجودي رفعه الذي عبارة عن الأمر العدمي، ونقيض الأمر العدمي الأمر
الوجودي لارتفاعه به، وقلنا بأن الحرمة تتعلق بنفس النقيض، فلا إشكال في

1 - كفاية الأصول: 151 - 152.
93

حرمة الفعل بناء على أن يكون الواجب هو الترك المطلق، لأن الفعل حينئذ
يكون نقيضا له، لا أن يكون ملازما لما هو النقيض لارتفاع الترك بمجرد الفعل،
وأما بناء على القول بالمقدمة الموصلة وأن الواجب هو الترك الموصل،
فلا يكون الفعل بنفسه نقيضا للترك الخاص، فلا يتصف بالحرمة، لا لأن الفعل
لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك الخاص المجامع معه تارة ومع
الترك المجرد أخرى، كما يظهر من الكفاية في العبارة المتقدمة، وذلك لأن
المقارنة ممنوعة، فإن معناها كما في سائر الموارد يرجع إلى إمكان الانفكاك،
ومن المعلوم استحالته في المقام، فإنه مع وجود الفعل لا يمكن أن لا يكون معه
رفع الترك الخاص، ومع عدمه لا يكون هنا شئ حتى يقال بانفكاك النقيض
عنه، كما أن انطباق الإنسان على زيد وصدقه عليه يتوقف على وجوده، وإلا
فمع عدمه لا يصدق عليه أصلا، فمجرد ذلك لا يوجب أن يقال بأن الإنسان مقارن
لزيد، كما هو واضح، بل لأجل أن المفروض عدم سراية الحكم من النقيض إلى
شئ آخر.
ولو قلنا بأن مجرد المعاندة والمنافرة يكفي في حرمة الشئ لأن النقيض
عبارة عما يعاند الشئ بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، أو قلنا بأن مجرد
انطباق النقيض على شئ يكفي في اتصافه بالحرمة وإن لم يتحد معه، فلا
إشكال في حرمة الفعل على القولين، كما هو واضح لا يخفى.
مناقشة العلمين: الأصفهاني والعراقي
ثم إنه اعترض بعض المحققين في شرحه على الكفاية على تفريع الثمرة
بما حاصله: أن المراد بالمقدمة الموصلة إما العلة التامة أو المقدمة التي لا
تنفك عن ذيها.
94

فالمقدمة الموصلة على الأول: ترك الصلاة ووجود الإرادة، ومن
الواضح أن نقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين، وإلا فليس لهما بهذا
الاعتبار نقيض، فنقيض الترك هو الفعل، ونقيض الإرادة عدمها، فإذا وجب
مجموع الترك والإرادة بوجوب واحد، حرم مجموع الفعل وعدم الإرادة بحرمة
واحدة، ومن الواضح تحققهما عند إيجاد الصلاة، بداهة عدم إمكان إرادة الإزالة
مع فعل الصلاة.
وأما على الثاني: فالمقدمة هو الترك الخاص، وحيث إن الخصوصية
ثبوتية، فالترك الخاص لا رفع لشئ ولا مرفوع بشئ، فلا نقيض له بما هو، بل
نقيض الترك المرفوع به هو الفعل، ونقيض الخصوصية عدمها الرافع لها، فيكون
الفعل محرما لوجوب نقيضه، ومن الواضح اقتران الفعل بنقيض تلك الخصوصية
المأخوذة في ظرف الترك، كما هو واضح، فافهم واغتنم (1). انتهى.
ونظير هذا يظهر من تقريرات بعض الأعاظم حيث قال ما ملخصه: الحق
اندفاع ما اورد على الشيخ (قدس سره) في المقام، لأن المقدمة المتقيدة بالإيصال تنحل
إلى ذات وخصوصية، ووحدتها في عالم الموضوعية ليست إلا أمرا اعتباريا
ناشئا من وحدة الحكم، لامتناع أن يكون مورد الحكم في مثل المقام واحدا
حقيقيا مع اختلاف الذات والتقيد في المقولة، ونتيجة الانحلال هو عروض
الحكم على الأمور المتكثرة، ومن شأنها تكثر نقيضها بلا حاجة إلى تصور
جامع بينها كي يستشكل في المقام بعدم معقولية كون العدم جامعا بين الوجود
والعدم المحض، إلا أن لازم تعدد نقيض الواجب هو مبغوضية أول نقيض يتحقق
في الخارج، لأنه بوجوده يتحقق عصيان الأمر، فيسقط، فلا يبقى موضوع

1 - نهاية الدراية 2: 150 - 151.
95

لمبغوضية غيره.
ففي المثال المعروف إذا كان الشخص الآتي بالصلاة مريدا للإزالة في
فرض عدم إتيانه بالصلاة، فأول نقيض لمتعلق الوجوب الغيري هو فعل الصلاة،
فتصير مبغوضة، فتبطل.
وأما إذا كان الشخص الآتي بالصلاة غير مريد للإزالة على تقدير عدم
الإتيان بالصلاة، فأول نقيض للواجب هو عدم إرادة الإزالة، فيكون هو
المبغوض، ولا تصل النوبة إلى مبغوضية الصلاة، لسقوط الأمر الغيري بعصيانه
بترك إرادة الإزالة، فتبقى الصلاة مع محبوبيتها، فلا وجه لبطلانها (1). انتهى
ملخص ما في التقريرات.
هذا، ولكن لا يخفى أن الانحلال والتعدد إنما هو في الواقع ومع قطع النظر
عن كونهما موضوعا لحكم واحد وإرادة واحدة، فإنه يصح أن يقال بأن نقيضهما
مجموع النقيضين، بمعنى أنه لا يكون للمجموع نقيض واحد، لأنه ليس إلا أمرا
اعتباريا، بل هما شيئان، ولهما نقيضان. وأما مع ملاحظة تعلق حكم واحد بهما
- كما هو المفروض في المقام - فمن الواضح كونهما شيئا واحدا بهذا الاعتبار، إذ
لا يعقل أن يتعلق الحكم الواحد والإرادة الواحدة بالشيئين بوصف كونهما كذلك
من دون اعتبار الوحدة بينهما.
وما ذكره في التقريرات: من أن الوحدة ناشئة عن وحدة الحكم.
ففيه: أن الأمر بالعكس، إذا الوحدة إنما هو قبل تعلق الحكم وبلحاظه،
لما عرفت من أن تشخص الإرادة بالمراد، ومع تعدده لا يعقل وحدتها، فالحق في
المقام ما ذكرنا من دوران الأمر مدار مفهوم النقيض ومعناه، أن نقيض الحكم هل

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 395 - 396.
96

يتعلق بالنقيض أو بالأعم مما ينطبق عليه؟ كما حققناه، فراجع.
الأمر الثامن
في الواجب الأصلي والتبعي
قال في الفصول: الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقل، أي غير لازم
لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعا لوجوب غيره، والتبعي بخلافه، وهو ما فهم
وجوبه تبعا لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلا، كما في المفاهيم، والمراد
بالخطاب هنا ما دل على الحكم الشرعي فيعم اللفظي وغيره (1). انتهى.
وظاهره كما ترى أن هذا التقسيم إنما هو بحسب مقام الدلالة والإثبات،
لا بحسب مقام الثبوت، ولكن استظهر المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية كون
التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت.
قال: حيث إنه يكون الشئ تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات
إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا، واخرى
متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيره لأجل كون إرادته لازمة لإرادته من دون التفات
إليه بما يوجب إرادته (2).
هذا، ولكن يرد عليه أن مقتضى التقسيم وجعل الأصلي بالمعنى المذكور
أن يكون التبعي عبارة عما لم تتعلق به إرادة مستقلة لأجل عدم الالتفات إليه
تفصيلا، سواء كانت إرادته تبعا لإرادة غيره المراد نفسا والمطلوب كذلك أم لم
يكن كذلك، فالتخصيص بالأولى يوجب خروج الثاني عن التقسيم، وعدم دخوله

1 - الفصول الغروية: 82 / السطر 7.
2 - كفاية الأصول: 152.
97

لا في الأصلي ولا في التبعي، كما لا يخفى.
ويظهر من بعض المحققين في حاشيته على الكفاية معنى آخر، وهو: أن
للواجب وجودا ووجوبا بالنسبة إلى مقدمته جهتان من العلية إحداهما العلية
الغائية حيث إن المقدمة إنما تراد لمراد آخر لا لنفسها، بخلاف ذيها، فإنه مراد
لا لمراد آخر، والثانية العلية الفاعلية، وهي أن إرادة ذي المقدمة علة لإرادة
مقدمته، ومنها تنشأ وتترشح عليها الإرادة.
والجهة الأولى مناط الغيرية، والجهة الثانية مناط التبعية، ووجه
الانفكاك بين الجهتين أن ذات الواجب النفسي حيث إنه مترتب على الواجب
الغيري، فهي الغاية الحقيقية، لكنه ما لم يجب لا تجب المقدمة، فوجوب
المقدمة معلول خارجا، لوجوب ذيها، ومتأخر عنه رتبة، إلا أن الغرض منه
ترتب ذيها عليها (1). انتهى موضع الحاجة.
ولكن لا يخفى أن إرادة المقدمة لا يعقل أن تكون معلولة لإرادة ذيها، بمعنى
صدورها عنها وترشحها عنها كترشح المعلول من العلة، لأن الإرادة المتعلقة
بذي المقدمة قد توجد مع عدم تعلقها بالمقدمة لأجل عدم التوجه إلى المقدمة
أو إلى مقدميتها، ومن المعلوم أن الإرادة إنما هو بعد التوجه، لما حقق في محله
من أن تصور المراد والتوجه إليه من مبادئ الإرادة (2)، بل مقدم على جميعها،
فكيف يمكن أن تتعلق بما لا يكون متوجها إليه، وتعلق الإرادة على فرض
التوجه لا محالة لا يفيد في تصحيح المعلولية مطلقا.
والحق كما عرفت مرارا أن إرادة المقدمة كإرادة ذيها تحصل بفعالية

1 - نهاية الدراية 2: 157 - 158.
2 - الحكمة المتعالية 4: 114، و 6: 342.
98

النفس وموجدة بفاعليتها، غاية الأمر أن الفائدة المترتبة عليها ليست إلا حصول
ما هو مطلوب بالذات، بخلاف المراد الأولي والمطلوب الأقصى، كما لا يخفى.
والإنصاف أن هذا التقسيم إنما هو بلحاظ الأصالية والتبعية في مقام
الإثبات، كما عرفت من صاحب الفصول (قدس سره)، لا بحسب مقام الواقع والثبوت، كما
لا يخفى.
حول الأصل عند الشك في الأصلية والتبعية
ثم إنه ذكر في الكفاية أنه إذا كان الواجب التبعي ما لم تتعلق به إرادة
مستقلة، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة
مستقلة به يثبت أنه تبعي، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي، كسائر
الموضوعات المتقومة بأمور عدمية.
نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي وإن كان يلزمه، لما
كان يثبت بها إلا على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم (1).
وذكر المحقق المحشي: أنه إن كان مناط التبعية عدم تفصيلية القصد
والإرادة، فالتبعية موافقة للأصل، للشك في أن الإرادة ملتفت إليها أم لا،
والأصل عدمه، وإن كان مناطها نشوء الإرادة عن إرادة أخرى وترشحها منها،
فالأصلية موافقة للأصل، إذ المترشح من إرادة أخرى، ونشوها منها أمر وجودي
مسبوق بالعدم، وليس الاستقلال في الإرادة على هذا أمرا وجوديا، بل هو عدم
نشوها عن إرادة أخرى، بخلاف الاستقلال من حيث توجه الالتفات إليها، فإنه

1 - كفاية الأصول: 153.
99

أمر وجودي، كما عرفت (1). انتهى.
ولكن لا يخفى: أنه لو قلنا بأن مناط التبعية عدم تعلق إرادة مستقلة به،
كما ذهب إليه صاحب الكفاية، فلا تكون التبعية موافقة للأصل، إذ ليست هي
عبارة عن نفس عدم تعلق إرادة مستقلة به على نحو السلب التحصيلي حتى
تكون مسبوقة بالعدم، فإن السلب التحصيلي يصدق مع انتفاء الموضوع أيضا،
وهو لا ينطبق على المقام أصلا، لأن الواجب التبعي هو ما كان متعلقا للإرادة،
غاية الأمر أنه لا تكون إرادته تفصيلية، فهو - أي السلب - إما مأخوذ فيه على
نحو السلب العدولي، أو الموجبة سالبة المحمول، وعلى التقديرين لا تكون
موافقة للأصل، واستصحاب بقاء العدم المأخوذ صفة لا ينتج في إثبات ثبوتها
لهذه الإرادة المتعلقة بالواجب، كما في استصحاب عدم القرشية الغير الجاري
على التحقيق، كما أنه لو قلنا بأن مناط التبعية هو نشوء الإرادة من إرادة أخرى
وترشحها منها، كما اختاره المحقق المحشي في عبارته المتقدمة، لا تكون
الأصلية موافقة للأصل، لأن عدم ترشح الإرادة من إرادة أخرى لا يكون مأخوذا
فيها على نحو السلب التحصيلي الصادق مع انتفاء الموضوع بل العدولي، ولا
تكون مع هذا موافقة للأصل، بعين التقريب المتقدم.
فالتحقيق: أنه بناء عليهما لا تكون شئ من التبعية والأصلية موافقة
للأصل، فالواجب الرجوع إلى الأصول العملية، كما لا يخفى.

1 - نهاية الدراية 2: 158.
100

الأمر التاسع
ثمرة مسألة مقدمة الواجب
قد عرفت أن ثمرة المسألة الأصولية هو أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع
في طريق استنباط الحكم الفرعي، وهنا أيضا كذلك، فإن ثمرة القول بالملازمة
إنما هو استكشاف وجوب المقدمة فيما قام الدليل على وجوب ذيها.
ولكنه قد اورد على ذلك بأن هذا الحكم الفرعي ليس له أثر عملي، لأن
العقل حاكم بلا بدية الإتيان به بعد فرض كونه مقدمة وإن لم نقل بالملازمة.
وأجاب عنه في تقريرات بعض الأعاظم (قدس سره): بأن وجوب المقدمة وإن لم
يكن بنفسه ذا أثر عملي بعد حكم العقل بلا بدية الإتيان بالمقدمة، إلا أن تطبيق
كبريات اخر مستفادة من محالها عليها تتحقق الثمرة، فإنه بعد فرض وجوب
المقدمة يمكن تحقق التقرب بقصد أمرها، فتتحقق بذلك التوسعة في باب
التقرب، وكذلك إذا أمر شخص شخصا آخر أمرا معامليا بفعل له مقدمات، فأتى
المأمور بتلك المقدمات ولم يأت بذيلها، يكون ضامنا للشخص المأمور اجرة
المقدمات بعد فرض كون الأمر بالفعل أمرا بمقدماته.
قال: وقد ظهر بذلك أن الثمرة العملية لمسألة وجوب مقدمة الواجب إنما
تتحقق بضم نتيجتها إلى كبريات اخر منقحة في مواردها (1). انتهى ملخص ما في
التقريرات.
ولكن لا يخفى أن الأمر المقدمي والواجب الغيري لا يصلح للداعوية حتى
يمكن التقرب به، بل كما عرفت سابقا أن الواجبات الغيرية كلها توصلية، كما

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 397.
101

لا يخفى.
وأما استحقاق اجرة المقدمات على تقدير كون الأمر بذيلها أمرا بها فيرد
عليه - مضافا إلى أنه مناف لما اختاره من ثبوت الملازمة بالنسبة إلى
خصوص المقدمة الموصلة بالمعنى الذي نقلناه عنه سابقا لا مطلق المقدمة -
أن استحقاق الأجرة إنما هو فيما إذا كان الباعث له على الإتيان بالمأمور به هو
الأمر المتعلق بها، لأغراضه النفسانية الاخر، وفي المقام ليس كذلك، فإن
الإتيان بالمقدمة ليس مسببا عن إتيان وجوبها، كيف ولو لم نقل بالوجوب يأتي
بها أيضا، بل الداعي له هو الأمر المتعلق بذيلها، لا لأن أمره يدعو إلى غير ما تعلق
به أيضا، بل لأن المقصود من إتيانها إنما هو للتوصل إلى ذيها، ومجرد هذا
لا يصحح استحقاق الأجرة، كما لا يخفى، فالإنصاف أنه لا ثمرة مهمة مترتبة
على وجوب المقدمة، كما يظهر على من تأمل فيما جعلوه ثمرة للمقام.
الأمر العاشر
في الأصل عند الشك في الملازمة
لا يخفى أنه ليس في نفس محل البحث - وهي الملازمة وعدمها - أصل
يوافق أحد الطرفين، فإن الملازمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، لأن
الملازمة وعدمها أزلية.
نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم حيث إنه حادث بحدوث
وجوب ذيها، فالأصل عدم وجوبها إلا أنك عرفت أنه لا يترتب على وجوب
المقدمة ثمرة عملية أصلا حتى ترتفع بالأصل إلا أنه قد أورد عليه بوجه
آخر، وهو لزوم التفكيك بين الوجوبين.
وأجاب عنه في الكفاية بأنه لا ينافي الملازمة بين الواقعين، وإنما ينافي
102

الملازمة بين الفعلين. نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في
المرتبة الفعلية، لما صح التمسك بالأصل (1).
أقول: لا يخفى أنه لو قلنا بالثاني - كما هو ظاهر القائلين بالملازمة -
لصح التمسك بالأصل أيضا، فإن جريان الأصل إنما هو في مقام الشك في
الملازمة، ومجرد احتمالها لا ينافي جريان الأصل، بل المانع من جريانه
إحرازها، كما هو واضح.
القول في أدلة القائلين بالملازمة
ذكر في الكفاية - بعد الاعتراض على الأفاضل المتصدين لإقامة البرهان
على الملازمة بأنه ما أتى منهم بواحد خال عن الخلل - أن الأولى إحالة ذلك
إلى الوجدان حيث إنه أقوى شاهد على أن الإنسان إذا أراد شيئا له مقدمات أراد
تلك المقدمات لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول
مولويا: ادخل السوق واشتر اللحم، مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب
" ادخل " مثل المنشأ بخطاب " اشتر " في كونه بعثا مولويا، وأنه حيث تعلقت
إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها إرادة أخرى بدخول السوق بعد
الالتفات إليه، وأنه يكون مقدمة له، كما لا يخفى (2). انتهى موضع الحاجة.
واستدل في التقريرات على الملازمة بأن الإرادة التشريعية تابعة للإرادة
التكوينية إمكانا وامتناعا ووجودا وعدما، فكل ما أمكن تعلق الإرادة التكوينية

1 - كفاية الأصول: 156.
2 - نفس المصدر: 156 - 157.
103

به أمكن تعلق التشريعية به، وكل ما استحال تعلق الأولى استحال أن يكون
متعلقا للتشريعية، وهكذا كل ما يكون مورد للإرادة التكوينية عند تحققه من
نفس المريد يكون مورد للتشريعية عند صدوره من غير المريد، ومن الواضح أن
المريد لفعل بإرادة تكوينية تتعلق إرادته أيضا بالتبع بإيجاد مقدماته وإن كان
غافلا عن مقدميتها لذلك الفعل، ولازم ذلك بمقتضى التبعية المتقدمة أن يكون
تعلق الإرادة التشريعية من الآمر بفعل مستلزما لتعلق الإرادة التشريعية التبعية
بمقدمات ذلك الفعل (1). انتهى موضع الحاجة.
أقول: لا يخفى أن قياس الإرادة التشريعية بالإرادة التكوينية في غير
محله، فإنه إذا أراد الشخص الإتيان بفعل بنفسه، فلا محالة تتعلق إرادة أخرى
بإتيان المقدمات، لأن المفروض استحالة الإتيان به بدونها، وهو إنما يريد أن
يأتي به بنفسه ولا محالة يريد المقدمات، لا نقول بأن إرادته للمقدمات
معلولة لإرادة ذلك الفعل مترشحة عنها صادرة عنها قهرا، فإن ذلك باطل، كما مر
مرارا، بل نقول: كما تتوقف إرادة الفعل على مبادئها، كذلك تتوقف إرادة مقدماته
على سنخ مبادئ إرادة الفعل، غاية الأمر أن محبوبية الفعل وتعلق الاشتياق
إليه إنما هو لنفسه، ومحبوبية المقدمات إنما هو للوصول إليه.
هذا في الإرادة التكوينية.
وأما الإرادة التشريعية: فحيث إن المطلوب فيها صدور المراد من الغير،
فلا استحالة في عدم تعلق الإرادة بالمقدمات، وامتناع تحققه بدونها إنما يوجب
أن تتعلق إرادة الأمر بها أيضا، فلا يلزم بل لا وجه له أصلا، لأنك عرفت عدم
الفرق بين إرادة الفعل وإرادة المقدمات في توقف كل منهما على مبادئها، ومن

1 - بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 399 / السطر 13.
104

المعلوم عدم تحقق المبادئ بالنسبة إلى المقدمات في الإرادة التشريعية، فإن
من جملتها التصديق بفائدتها، والحال أنه لا فائدة لها بالنسبة إلى الأمر حتى
يريد صدورها من الغير، فإن المأمور إذا أراد الامتثال فلا محالة يأتي بالمقدمات
وإن لم تكن مورد الإرادة الآمر، وإذا لم يكن قاصد الامتثال الأمر بالفعل فتعلق
الإرادة بالمقدمات لغو غير مؤثر.
نعم لو قلنا بترشح إرادتها من إرادته بحيث لا تتوقف إرادة المقدمات على
مباد أصلا، لكان لما ذكر وجه، لأن العلة يترتب عليها المعلول قهرا إلا أنك
عرفت أن هذا الكلام بمكان من البطلان، كما لا يخفى.
ثم إنه استدل أبو الحسن البصري (1) لثبوت الملازمة بما يرد عليه -
مضافا إلى النقض بالمتلازمين في الوجود إذا وجب أحدهما دون الآخر - ما أورد
عليه في الكفاية (2)، فراجعها.
تذنيب: حول التفصيل بين السبب والشرط الشرعي وغيرهما
ثم إنه قد يفصل بين السبب وغيره وتقدم الكلام فيه سابقا، فراجع.
كما أنه قد يفصل بين الشرط الشرعي وغيره، ويقال بالوجوب في الأول
دون غيره، نظرا إلى أنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا حيث إنه ليس مما لابد
منه عقلا أو عادة (3).

1 - المعتمد: 95، راجع مناهج الوصول 1: 413، الهامش 4.
2 - كفاية الأصول: 157 - 158.
3 - بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 355 / السطر 1، كفاية الأصول: 159، شرح العضدي
على مختصر ابن الحاجب: 90 / السطر 21.
105

ومدعاه في غير الشرط الشرعي حق، وأما الشرط الشرعي فيرد على
الاستدلال لوجوبه بما ذكر: أنه إن كان المراد توقف الشرطية على تعلق
الوجوب، ففيه: أن من الواضح أن الوجوب لا يتعلق إلا بما هو شرط واقعا،
فالحكم متأخر عن الواقع، لا أن الواقع متوقف عليه.
وإن أراد أنه بدون الوجوب لا نستكشف الشرطية، لأن الشرط الشرعي
ليس كالشرائط العقلية والعادية المعلومة، بل هو محتاج إلى دلالة الدليل
عليه، فالوجوب كاشف عن شرطيته، ففيه: أن الوجوب الغيري لا يمكن أن
يكون كاشفا، فإن الملازمة إن كانت بين إرادة الفعل وإرادة مقدماته، فالإرادة
التبعية بالمقدمات متوقفة على إحراز مقدميتها حتى يحكم العقل بتعلق الإرادة
بها تبعا لإرادة ذيها، وكذلك لو كانت الملازمة العقلية بين البعث المتعلق بالفعل
والبعث المتعلق بالمقدمات، فإن حكم العقل بتعلق البعث بها تبعا لبعث ذيها
متوقف على إحراز مقدميتها، وبدونه كيف يحكم بتعلق البعث بها.
فظهر أن طريق إحراز الشرط منحصر بالأمر النفسي المتعلق بالفعل المقيد
ببعض القيود كمثل قوله: " صل مع الطهارة " وأما الأمر الغيري الذي يكون الحاكم
به العقل، ومن المعلوم توقف حكمه على إحراز موضوعه، كما هو واضح،
فلا يمكن أن يكون كاشفا، كما عرفت، فتأمل جيدا.
تتميم: في مقدمة المستحب والمكروه والحرام
لا يخفى أن جميع ما ذكر في مقدمة الواجب يجري في مقدمة المستحب
طابق النعل بالنعل، وحيث إنك عرفت أن الأقوى في الأولى عدم ثبوت الملازمة
كما حققناه، فالحكم في الثانية أيضا كذلك بلا تفاوت، كما هو واضح.
ثم إنه هل تكون مقدمة الحرام كمقدمة الواجب، فتكون محرمة مطلقا،
106

أو لا تكون حراما كذلك، أو يفصل بين المقدمات التي تكون من قبيل الأسباب
التوليدية فتحرم، وبين غيره فلا تحرم، أو بين المقدمة الموصلة وغيرها، أو بين
ما قصد التوصل به إلى الحرام وغيره؟ وجوه يظهر ثالثها من المحقق الخراساني
في الكفاية.
وحاصل ما ذكر في وجهه وجود الفرق بين مقدمات الواجب وبين مقدمات
الحرام، فإنه حيث يكون المطلوب في الأول وجود المراد، وهو متوقف عليها،
فلا محالة تتعلق بها الإرادة، وأما المطلوب في الثاني ترك الشئ، وهو لا يتوقف
على ترك جميع المقدمات بحيث لو أتى بواحد منها لما كان متمكنا من الترك،
فإنه يتمكن منه ولو أتى بجميع المقدمات، لتوسط الإرادة بينها وبينه، وهي
لا يمكن أن يتعلق بها الطلب بعثا أو زجرا، لعدم كونها من الأمور الاختيارية.
نعم لو كان الفعل بحيث لم يتمكن من تركه بعد الإتيان ببعض المقدمات،
لعدم توسط الإرادة بينها وبينه، تكون تلك المقدمة المترتبة عليها الفعل قهرا
محرمة دون سائر المقدمات (1). انتهى ملخص ما أفاده في الكفاية.
ولكن لا يخفى أن هذا الكلام إنما يتم لو وجد في الأفعال الخارجية شئ
منها تكون الإرادة متوسطة بينها وبين المقدمات بحيث يكون الموجد للفعل
والمؤثر فيه نفس الإرادة من دون توقف على حصول شئ آخر بعدها مع أنا لم
نظفر بمثل هذا الفعل، فإن جميع الأفعال الاختيارية يكون الجزء الأخير
لحصولها غير الإرادة بمعنى أنه لا يترتب عليها الفعل بمجردها من دون توسيط
بعض الأفعال الاخر أيضا، فإن تحقق الشرب في الخارج يتوقف - بعد تعلق
الإرادة به - على مثل تحريك العضلات، ونحو الإناء الموجود فيه الماء مثلا

1 - كفاية الأصول: 159 - 160.
107

وأخذه باليد وجعله محاذيا للفم وإلقائه فيه، وبعد تحقق جميع هذه المقدمات
يتوقف على إعمال الآلات المعدة لبلعه الذي عبارة عن الشرب.
وبالجملة: فجميع الأفعال الاختيارية إنما يتوقف بعد تعلق الإرادة بها
على بعض الأمور الجزئية التي يؤثر في حصولها، فلا فرق بينها وبين الأفعال
التوليدية أصلا، فإن الإرادة لا مدخلية لها في التأثير في حصول الفعل، كيف
وهي من الأمور التجردية التي يمتنع أن تؤثر في الماديات بحيث كانت مفيضة
لها، كما لا يخفى.
ثم إنه ذكر في الدرر أن العناوين المحرمة على ضربين:
أحدهما: أن يكون العنوان بما هو مبغوضا من دون تقييده بالاختيار.
ثانيهما: أن يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر
من غير اختياره لم يكن منافيا لغرض المولى، فعلى الأول علة الحرام هي
المقدمات الخارجية من دون مدخلية الإرادة، بل هي علة لوجود علة الحرام،
وعلى الثاني تكون الإرادة من أجزاء العلة التامة.
ثم ذكر أن المراجعة إلى الوجدان تقضي بتحقق الملازمة بين كراهة
الشئ وكراهة العلة التامة له، وفي القسم الثاني لما كانت العلة التامة
مركبة من الأجزاء الخارجية ومن الإرادة، ولا يصح استناد الترك إلا إلى عدم
الإرادة، لأنه أسبق رتبة من سائر المقدمات، فلا يتصف الأجزاء الخارجية
بالحرمة أصلا (1). انتهى موضع الحاجة من ملخص كلامه.
وأنت خبير: بأنه لو كان المبغوض عبارة عن الفعل الصادر عن إرادة
واختيار، فالإرادة لها مدخلية في نفس الحرام، لا أن تكون من أجزاء العلة

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 130 - 132.
108

التامة، فإن المحرم هو الفعل الإرادي بما أنه إرادي، فلابد من ملاحظة
مقدمات هذا العنوان المقيد، وليست الإرادة من جملتها، فلا فرق بين هذا القسم
والقسم الأول أصلا، فلابد أن تكون إحدى المقدمات على سبيل التخيير محرمة
إلا مع وجود باقي الأجزاء، وانحصار الاختيار في واحدة منها، فتحرم شخصا
كالقسم الأول.
والتحقيق أنه لو قلنا بالملازمة في مقدمة الواجب، فالتحريم - الذي
عبارة عن الزجر عن المحرم - إنما يختص بالمقدمة الأخيرة التي يترتب عليها
ذووها من دون فصل في جميع الأفعال، إذ قد عرفت أنه لا يوجد في الأفعال
الخارجية فعل توسطت الإرادة بينه وبين مقدماته بأن تكون هي المؤثر في
تحققه.
هذا، مضافا إلى ما عرفت فيما تقدم من أن الإرادة أيضا قابلة لتعلق
التكليف بها، لكونها من الأمور الاختيارية، ولكن هذا كله إنما هو على تقدير
القول بالملازمة في مقدمات الواجب، ولكن قد عرفت سابقا أن مقتضى التحقيق
خلافه.
هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة.
109

اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده
الفصل الخامس
في اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده
وتنقيح البحث فيه يستدعي تقديم أمور:
الأمر الأول: هل هذه المسألة أصولية أم لا؟
ذكر في التقريرات (المحقق النائيني) أنه لا إشكال في كون المسألة من
المسائل الأصولية، لأن نتيجتها تقع في طريق الاستنباط، وكذا في عدم كونها من
المباحث اللفظية، لوضوح أن المراد من الأمر في العنوان الأعم من اللفظي
واللبي المستكشف من الإجماع ونحوه، وذكر أيضا أن المراد من الاقتضاء في
العنوان الأعم من كونه على نحو العينية أو التضمن أو الالتزام بالمعنى الأخص
أو الأعم، لأن لكل وجها بل قائلا (1).
أقول: أما كون المسألة من المسائل الأصولية: فقد ذكرنا في مسألة
دلالة الأمر على الوجوب أو الاستحباب أن نظائر هذه المسألة من المسائل

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 301.
110

اللغوية، لأنه لا فرق بين النزاع في مدلول لفظ " الصعيد " الوارد في آية
التيمم (1) أنه هل هو التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض مثلا، وبين النزاع في
مدلول الأمر مثلا من حيث دلالته على الوجوب، وكذا من حيث دلالته على
النهي عن الضد، كما لا يخفى.
بل نقول: إن كثيرا من المسائل اللغوية تكون من المسائل الأصولية،
وذكر بعضها في الأصول إنما هو لشدة الاحتياج به، كما لا يخفى.
وأما كونها من المباحث العقلية: فلا يخفى أن الجمع بينها وبين تفسير
الاقتضاء بما يعم العينية والجزئية اللتين هما من الدلالات اللفظية عندهم وإن
كان يمكن المناقشة في الثاني كالجمع بين المتضادين.
الأمر الثاني: معنى الاقتضاء في عنوان المسألة
ثم تفسير الاقتضاء - الذي هو عبارة عن التأثير والسببية - بما يعمهما
تفسير بارد، ولا مناسبة بين معناه الحقيقي وبين هذا المعنى أصلا.
فالأولى في التعبير عن عنوان النزاع - بعد إسقاط القول بالعينية
وبالجزئية لكونهما مما لا إشكال في بطلانهما - أن يقال: هل الأمر بالشئ يلازم
النهي عن ضده أم لا؟ غاية الأمر أن عمدة النزاع في الملازمة ينشأ من توقف
الشئ على ترك ضده بأن يكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر، فتصير
المسألة من صغريات مبحث المقدمة، كما لا يخفى.
ثم إن المراد بالضد أعم من الضد الخاص، فيشمل الضد العام الذي بمعنى
النقيض أيضا.

1 - النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
111

إذا عرفت ذلك، فنقول: هل الأمر بالشئ يستلزم النهي عن الضد مطلقا، أو
لا يستلزم كذلك، أو يستلزم بالنسبة إلى الضد العام دون الخاص؟ وجوه بل
أقوال.
الأمر الثالث: المهم من الأقوال في المسألة
وحيث إن العمدة في استدلال القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص إنما هو
إثبات المقدمية بين ترك الضد ووجود الضد الآخر، فلا بأس بالإشارة إلى ما هو
الحق في هذا الباب.
وليعلم أولا أن إثبات الاقتضاء في الضد الخاص لا يتوقف على مجرد إثبات
المقدمية، بل بعد ثبوت ذلك يتوقف على القول بالملازمة في مقدمة الواجب
وإثبات كونها واجبة بعد وجوب ذيها، ثم بعد ذلك على إثبات أن وجوب الترك
ملازم لحرمة الفعل، وهذا يرجع إلى إثبات الاقتضاء بالنسبة إلى الضد العام
أيضا.
الاستدلال على الاقتضاء في الضد الخاص من طريق المقدمية
فتحصل أن القول بالاقتضاء في الضد الخاص يتوقف على أمور:
الأول: كون ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر.
الثاني: القول بالملازمة.
الثالث: القول بالاقتضاء في الضد العام أيضا.
ولا يخفى أن هذه المقدمات الثلاث كلها محل منع، أما الثانية: فقد عرفت
ما هو الحق فيها في مسألة مقدمة الواجب، فراجع، وأما الأخير: فسيجئ،
والعمدة هي الأولى.
112

فنقول: حكي عن بعض: ثبوت المقدمية من الجانبين، وعن بعض آخر:
ثبوت المقدمية بالنسبة إلى ترك الضد، وعن ثالث: عكس ذلك، وعن رابع:
التفصيل بين الضد الموجود، فيتوقف على رفعه وجود الضد الآخر، وبين الضد
المعدوم، فلا يتوقف عليه وجود الضد الآخر، وعن خامس: إنكار المقدمية
مطلقا (1)!
إنكار المحقق الخراساني المقدمية مطلقا
ثم إن من القائلين بالقول الخامس المنكرين للمقدمية: المحقق
الخراساني في الكفاية، بل يظهر من بعض عباراته كون الشئ وترك ضده في
رتبة واحدة حيث قال في مقام الجواب عن توهم المقدمية: إن المعاندة
والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة
أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله بل بينهما كمال الملائمة، كان
أحد العينين مع ما هو نقيض الآخر وبديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في
البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر، كما لا يخفى (2).
هذا، وأنت خبير بأن مجرد أن يكون بينهما كمال الملائمة لا يقتضي ثبوت
التقارن، كيف ومن الواضح أن يكون بين المعلول وعدم العلة كمال الملائمة، مع
أن فرض التقارن بينهما يقتضي كون المعلول مع العلة أيضا كذلك، لأن النقيضين
في رتبة واحدة بلا إشكال، كما صرح به في الكفاية بعد هذه العبارة.
ويمكن توجيه هذا الكلام بأنه كما يصدق على الضد ما يكون ذلك من

1 - انظر بدائع الأفكار، المحقق الرشتي: 372 / السطر 17.
2 - كفاية الأصول: 161.
113

أفراده حقيقة بالحمل الشائع الذاتي الذي مرجعه إلى كون المصداق داخلا في
حقيقة المحمول، كذلك يصدق عليه عدم الضد الآخر بالحمل الشائع العرضي
الذي يرجع إلى ثبوت المحمول له بالعرض، فالشئ الواحد يكون مصداقا
لشئ بالذات ولشئ آخر بالعرض، فيستلزم ذلك كون المتصادقين في رتبة
واحدة، لأن المفروض كون المصداق لهما شيئا واحدا، كما هو واضح.
ولكن لا يخفى أن حمل العدم على الوجود ليس حملا حقيقيا راجعا إلى
كون ذلك الوجود واجدا لذلك العدم، ككونه واجد للصفات الوجودية، كيف
ومعنى الواجدية كون شئ مرتبطا مع شئ آخر، مع أن العدم مطلقا ليس بشئ
حتى يكون شئ آخر واجدا له.
وتقسيم القضايا إلى قضية موجبة وسالبة محصلة وموجبة سالبة
المحمول وسالبة معدولة لا يدل على إمكان حمل السلب والعدم على شئ، لأن
ذلك إنما هو على سبيل المسامحة، بل ما عدا الأول يرجع إلى نفي الربط بين
الموضوع، وذلك الحكم المسلوب، لا إلى ثبوت الربط بينهما، كيف والعدم ليس
بشئ حتى تحققت الرابطة بينه وبين موجود آخر، وصدق القضايا السلبية
ليس بمعنى مطابقتها للواقع حتى يكون لها واقع يطابقه، بل صدقه بمعنى خلو
الواقع عن الارتباط، وثبوت المحمول للموضوع، كما لا يخفى، كما أن ما اشتهر
من أن عدم العلة علة للعدم إنما هو على نحو المسامحة قياسا إلى الوجود
وتشبيها به، والتعبير عما من شأنه أن يكون له وجود بعدم الملكة ليس المراد
منه أن العدم فيه الشأنية لكذا، كيف وهي من الحيثيات الثبوتية الممتنعة
الاجتماع مع الحيثيات السلبية.
وبالجملة، فكون العدم مقابلا للوجود خارجا عن حيطة الشيئية مما
لا ينبغي الارتياب فيه، فكل ما يوهم بظاهره الخلاف من ثبوته لشئ أو ثبوت
114

شئ له فيجب تأويله، كما هو واضح.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن عدم الضد ليس بشئ حتى يصدق على شئ
آخر، كيف ولو قلنا بذلك لا يرتفع الإشكال المتقدم، فإن المعلول كما يصدق عليه
ماهيته صدقا حقيقيا كذلك يصدق عليه عدم العلة صدقا عرضيا، فيلزم أن يكون
المعلول في رتبة العلة لكونه في رتبة عدمها الذي هو في رتبة وجودها، كما
هو المفروض في النقيضين.
فتحصل أن ما ذكره في الكفاية لم ينهض حجة على اتحاد رتبة الشئ
وترك ضده، كما عرفت.
ثم إنه (قدس سره) - بعد العبارة المتقدمة التي كان غرضه منها إثبات التقارن
بينهما - صار بصدد تشبيه الضدين بالنقيضين، فقال: فكما أن قضية المنافاة بين
المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في
المتضادين (1).
ما أفاده المحقق القوچاني في المقام
والمستفاد مما ذكره بعض الأعاظم من تلامذته (هو الشيخ علي
القوچاني (قدس سره)) في حاشيته على الكفاية في شرح مراد العبارة: أن مقصوده من
هذه العبارة أيضا إثبات كون الشئ وترك ضده في مرتبة واحدة حيث قال ما
ملخصه: إنه لا إشكال في أن بين كل متقابلين من أقسام التقابل اتحاد وتكافؤ في
المرتبة، أما المتناقضين: فلأن النقيض للوجود هو العدم البدلي الكائن في رتبته
لولاه الغير المجتمع معه لا السابقي ولا اللاحقي المجتمع معه في دار التحقق،

1 - كفاية الأصول: 161.
115

فالنقيض لوجود زيد هو عدمه في مدة وجوده الكائن مقامه لولاه، وإلا فالعدم
قبل وجوده أو بعد وجوده ليس نقيضا له مع اجتماعه مع وجوده في دار التحقق.
وهكذا في السابق واللاحق بحسب الرتبة، فإن النقيض للمعلول هو
عدمه في رتبة وجوده، لا العدم في رتبة العلة المجامع معه في التحقق، وإلا
لزم ارتفاع النقيضين في مرتبة سلب أحدهما مقدمة للآخر، ولما كان الوجود
عين الرفع لعدمه النقيض، كما لا يخفى، ولما كان متنافيا معه في التحقق ذاتا.
وهكذا الكلام في المتضادين، فإن المضادة إنما هو بين الوجودين في رتبة
واحدة، فالضد للوجود هو الوجود البدلي الثابت في رتبته لولاه، فإذا ثبت ذلك
في المتناقضين والمتضادين يثبت اتحاد الرتبة في المقام، فإنه إذا كان نقيض
أحد الضدين في رتبة وجوده الذي هو في رتبة وجود الضد الآخر، فاللازم
كونه في رتبة وجود الضد الآخر، وهو المطلوب (1). انتهى ملخص كلامه (قدس سره).
ولكن لا يخفى بطلان جميع المقدمات الثلاثة.
أما ما ذكره في المتناقضين: فلأن النقيض للوجود في زمان مخصوص ليس
عدمه في ذلك الزمان بأن يكون الظرف قيدا للعدم والرفع حتى يوجب ذلك كون
العدم مقيدا بذلك الوقت، فيكون في مرتبة الوجود فيه، بل نقيض الوجود في
زمان مخصوص هو عدم هذا المقيد على أن يكون القيد قيد للمرفوع لا للرفع،
كيف ومعنى تقييد العدم يرجع إلى الموجبة المعدولة، فتصير القضية كاذبة، فإن
قولنا: ليس الوجود المقيد بهذا الزمان متحققا، قضية صادقة، بخلاف قولنا:
الوجود في هذا الزمان ليس في هذا الزمان، على أن يكون الظرف قيدا للسلب
الراجع إلى حمل السلب المقيد على الوجود كذلك، كما هو واضح، فلابد من أن

1 - حاشية كفاية الأصول، القوچاني: 112.
116

يكون على نحو السالبة المحصلة، ومعه لا يثبت اتحاد الرتبة أصلا، كما
لا يخفى.
وأما ما ذكره في المتضادين: فكون التضاد بين الوجودين في زمان واحد
في محل واحد مسلم، ولكن لا يثبت بذلك اتحاد رتبتهما، كيف والحكم باتحاد
الرتبة وعدمه من الأحكام العقلية المتوقفة على إحراز ملاك التقدم
وصاحبيه، ومجرد التقارن في الخارج لا يقتضي اتحاد رتبتهما بحسب العقل،
كيف والمعلول مقارن لوجود العلة في الخارج مع اختلافهما بحسب الرتبة، كما
هو واضح.
وبالجملة، فالتقدم والتأخر والتقارن بحسب الخارج لا ربط لشئ منها
بالرتب العقلية أصلا.
ثم إنه لو سلم اتحاد رتبة المتناقضين والمتضادين فذلك لا يستلزم اتحاد
رتبة نقيض الشئ مع الضد بقياس المساواة، فإنه فيما إذا كان الملاك في الثالث
موجودا، وقد عرفت أن حكم العقل باتحاد الرتبة متوقف على إحراز ملاكه،
ككونهما معلولين لعلة واحدة مثلا، أما مجرد كون نقيض الشئ متحدا معه في
الرتبة وهو مع ضده أيضا كذلك، فلا يستلزم كون النقيض مع الضد الآخر متحدا
في الرتبة مع عدم ملاك له، كما لا يخفى.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنه لم يقم دليل تام على اتحاد رتبة الضد مع
نقيض ضده الآخر، ولنا أن نقول: بقيام الدليل على العدم، لأن العدم ليس بشئ
حتى يحكم عليه بحكم إيجابي، وهو اتحاد رتبته مع الوجود، كما أنه ليس في
رتبة متقدمة ولا متأخرة، لأن كل ذلك من الأحكام الايجابية المبتنية على
ثبوت الموضوع لقاعدة الفرعية المسلمة عند العقل والعقلاء، فعدم الضد
لا يكون متأخرا عن الضد ولا متقدما عليه ولا مقارنا معه.
117

ولا يخفى أن حكمنا بنفي التأخر وقسيميه إنما هو على نحو السالبة
المحصلة الصادقة مع انتفاء الموضوع، كقولنا: شريك الباري ممتنع، ونظائره،
وإلى هذه - أي القضية السالبة المحصلة - يرجع كل ما ورد في الكتب العقلية
مما يوهم بظاهره أن العدم له تقرر، ويكون من الأمور النفس الأمرية، مثل
قولهم: عدم العلة علة للعدم، وكذا عدم المانع مصحح لفاعلية الفاعل، أو
قابلية القابل، وأشباههما، فإنه لا ينبغي الاغترار بظاهر هذه الجملات بعد كون
الأمر في محله واضحا ضروريا، فإن التعبير بأمثال هذه العبارات إنما وقع على
سبيل المسامحة قياسا إلى الوجود وتشبيها به، والغرض منه تسهيل الأمر على
المتعلمين اتكالا على ما أوضحوه في محله، كما لا يخفى.
وبالجملة، فالعدم ليس له تقرر وواقعية حتى يؤثر في شئ أو يتأثر من
شئ، ومعه فلا يبقى مجال للنزاع في مقدمية عدم الضد لوجود الضد الآخر
وعدمها أصلا، كما لا يخفى.
مقالة المحقق الأصفهاني في المقام
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره بعض المحققين من محشي الكفاية،
فإنه (قدس سره) بعد ذكر التقدم بالعلية والتقدم الطبعي وبيان الفرق بينهما وأن ما فيه
التقدم في الثاني هو الوجود، وفي الأول وجوب الوجود، وذكر أن منشأ التقدم
الطبعي تارة كون المتقدم من علل قوام المتأخر، كالجزء والكل، واخرى كون
المتقدم مؤثرا، فيتقوم بوجوده الأثر، كالمقتضي بالإضافة إلى المقتضى، وثالثة
كون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل، كالوضع والمحاذاة بالنسبة إلى إحراق
النار، أو متمما لقابلية القابل، كخلو المحل عن الرطوبة وخلو الموضوع عن
السواد عند عروض البياض، وبعد الاستشكال في الدور الذي ذكره في
118

الكفاية (1) بأن عدم اتصاف الجسم بالسواد لا يحتاج إلى فاعل وقابل كي يحتاج
إلى مصحح فاعلية الفاعل ومتمم قابلية القابل كي يتوهم توقف عدم الضد على
وجود الضد أيضا وبعد بيان أن الصلاة والإزالة لهما التأخر والتقدم بالطبع، فإنه
لا وجود للإزالة إلا والصلاة غير موجودة، فكذا العكس.
قال: وأما ما يقال من أن العدم لا ذات له فكيف يعقل أن يكون شرطا، لأن
ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فمدفوع بأن القابليات والاستعدادات
والإضافات وأعدام الملكات كلها لا مطابق لها في الخارج، بل شؤون وحيثيات
انتزاعية لأمور موجودة، فعدم البياض في الموضوع الذي هو من أعدام الملكات
كقابلية الموضوع من الحيثيات الانتزاعية منه، فكون الموضوع بحيث لا بياض
له هو بحيث يكون قابلا لعروض السواد، فمتمم القابلية كنفس القابلية حيثية
انتزاعية وثبوت شئ لشئ لا يقتضي أزيد من ثبوت المثبت له بنحو يناسب
ثبوت الثابت (2). انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
والعجب منه (قدس سره) مع كونه من مهرة الفن أنه كيف يمكن تشبيه أعدام
الملكات بالقابليات والاستعدادات والإضافات، مع أنها من مراتب الوجود وإن
لم تكن بحيث يمكن الإشارة إليها والأعدام مطلقا مقابل للوجود لاحظ لها منه
أصلا، كما هو واضح.
وقضية كون الموضوع بحيث لا بياض له قضية سالبة محصلة لا
موجبة معدولة حتى تشابهت قضية كون الموضوع قابلا، كما هو واضح.
وبالجملة، فالأعدام مطلقا خارجة عن حمى الوجود وحيطة الشيئية،

1 - كفاية الأصول: 161.
2 - نهاية الدراية 2: 180 - 183.
119

فلا يترتب عليها شئ من الآثار الوجودية من قبيل الشرطية واتحاد الرتبة
ونظائرهما.
فتلخص من جميع ذلك، بطلان المقدمة الأولى من المقدمات الثلاثة
المبتنية عليها القول بالاقتضاء في الضد الخاص.
وأما المقدمة الثانية - التي هي عبارة عن الملازمة في مقدمة الواجب -
فقد عرفت سابقا بطلانها بما لا مزيد عليه.
وأما المقدمة الثالثة الراجعة إلى اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن الضد
العام الذي بمعنى النقيض، فربما قيل فيها بالاقتضاء بنحو العينية، وإن الأمر
بالصلاة مثلا عين النهي عن تركها، فلا فرق بين أن يقول: صل، وبين أن يقول: لا
تترك الصلاة، فإنهما يكونان بمنزلة الإنسان والبشر لفظين مترادفين (1).
هذا، ولكن لا يخفى فساده، فإن هيئة الأمر موضوعة للبعث، وهيئة
النهي موضوعة للزجر، ولا معنى لاتحادهما مفهوما وإن كان الثاني متعلقا إلى
ترك المبعوث إليه.
وبالجملة، فمعنى الاتحاد المفهومي يرجع إلى اتحاد المعنى الموضوع
له، مع أن هيئة الأمر موضوعة للبعث، والنهي للزجر، ومتعلقه في الأول هو
الفعل، وفي الثاني هو الترك، ولا وضع لمجموع الهيئة المتعلقة بالمادة.
ودعوى أن المراد اتحاد البعث عن الشئ والزجر عن تركه معنى
ومفهوما، يدفعه وضوح فساده.
ومما ذكرنا يظهر: بطلان القول بالجزئية، فإن معنى الأمر هو البعث، وهو
أمر بسيط لا تركب فيه أصلا، وأما دعوى اللزوم بالمعنى الأخص فيظهر من

1 - مطارح الأنظار: 17 / السطر الأخير.
120

التقريرات (المحقق النائيني (قدس سره)) أنه لا بأس به نظرا إلى أن نفس تصور الوجوب
والحتم يوجب تصور المنع من الترك والانتقال إليه (1)، وأنت خبير بأن مجرد عدم
انفكاك التصورين لا يوجب ثبوت المنع الشرعي الذي هو المقصود في المقام، فإن
النزاع إنما هو في أن الآمر إذا أمر بشئ هل يكون أمره به موجبا لنهيه عن ضده
بمعنى أن يكون هنا شيئان: أحدهما: الأمر بالشئ، والآخر: النهي عن نقيضه،
وذلك لا يثبت بمجرد الانتقال من تصور الوجوب إلى تصور المنع من الترك، كما
هو واضح.
وإن أراد الدلالة على المنع بالدلالة الالتزامية من دون افتقار إلى النهي
الصادر من المولى بعد الأمر، فيرد عليه: اقتضاء الدلالة المذكورة لتعدد
الحكمين الموجب لتعدد استحقاق المثوبة والعقوبة، وهو كما ترى منه.
نعم ربما يجعل الكلام في الإرادة لا في الأمر والنهي، ويقال بعدم انفكاك
الإرادة المتعلقة بالشئ عن الإرادة المتعلقة بعدم تركه، ولكن هذا يصح في
الإرادات التكوينية، وأما في الإرادات التشريعية فلا يتم بناء على ما حققناه في
بحث مقدمة الواجب من أن كل إرادة تحتاج إلى مبادئها من دون فرق بين الإرادة
المتعلقة بالمقدمة وبين الإرادة المتعلقة بذيلها.
نعم لو قلنا بترتب الإرادة الثانية على الإرادة الأولى قهرا من دون توقفها
على شئ من مبادئ الإرادة، فله وجه كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أن ما ذكرنا: من ابتناء القول بالاقتضاء من طريق التوقف
والمقدمية على ثلاث مقدمات إنما هو على القول بالملازمة مطلقا، وأما لو قيل
بوجوب خصوص المقدمة الموصلة: فالظاهر ابتناء ذلك القول على مقدمة

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 303.
121

رابعة أيضا، فإن الوجوب المقدمي إنما يتعلق بترك الضد لا مطلقا، بل بتركه
الموصل إلى الضد المتوقف عليه، واقتضاء هذا الوجوب للنهي عن الضد العام
بمعنى النقيض لا يفيد إلا حرمة نقيض الترك الموصل، وهو ترك الترك الموصل،
وهذا بمجرده لا يقتضي حرمة الفعل إلا بناء على توافق حكم المتلازمين، وإلا فقد
عرفت سابقا أن الفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل، فسراية حكم النقيض إلى
الفعل مبني على لزوم توافق حكم المتلازمين، فإن الفعل لا ينفك عن النقيض أصلا
وإن كان النقيض ربما ينفك عن الفعل، كما إذا لم يأت في المثال المشهور
لا بالإزالة ولا بالصلاة، وحينئذ فعلى القول بالمقدمة الموصلة يتوقف إثبات
الاقتضاء على المقدمة الرابعة التي جعلوها دليلا مستقلا في مقابل المقدمية،
كما سيجئ، فلا تكون حينئذ دليلا ثانيا، بل تصير من مقدمات الدليل الأول، كما
هو واضح.
هذا كله فيما يتعلق بالقول بالاقتضاء من جهة التوقف والمقدمية التي
عرفت أنها هي العمدة في المقام.
الاستدلال على الاقتضاء في الضد الخاص من طريق التلازم
ويظهر من بعضهم الاستدلال له بلزوم توافق حكمي المتلازمين، وهذا
أيضا يبتني على ثلاث مقدمات: الأولى: ثبوت التلازم بين الشئ وترك ضده،
الثانية: لزوم اتحاد المتلازمين من حيث الحكم، الثالثة: اقتضاء الأمر بالشئ
للنهي عن ضده العام بمعنى النقيض.
أما المقدمة الأولى: فلأن الشئ لا يمكن أن يصدق عليه ضده، وإلا يلزم
اجتماع المتضادين الممتنع بالبديهة، فالواجب أن يصدق عليه نقيض الضد، وإلا
يلزم ارتفاع النقيضين، فالبياض مثلا لا يمكن أن يصدق عليه السواد، للزوم
122

اجتماع الضدين، فيجب أن يصدق عليه اللا سواد، وإلا يلزم ارتفاع النقيضين.
وأما المقدمة الثانية: فلأنه لو كان أحد المتلازمين واجبا، فالآخر لابد إما
أن يكون واجبا فهو المطلوب، وإما أن يكون جائزا تركه بالجواز بالمعنى الأعم
من الأحكام الأربعة الاخر، فاللازم جواز تركه المستلزم لجواز ترك الواجب
لفرض التلازم، فيخرج الواجب عن كونه واجبا، ومن المعلوم أيضا أنه يستحيل
خلو الواقعة عن حكم من الأحكام الخمسة.
وأما المقدمة الثالثة: فقد عرفت إثباتها سابقا، فراجع.
هذا، ولكن لا يخفى بطلان جميع المقدمات الثلاثة.
أما بطلان الأولى: فلأن نقيض صدق السواد على البياض الممتنع بديهة
ليس هو صدق اللا سواد عليه بل نقيضه عدم صدق السواد عليه على نحو
السالبة المحصلة، وذلك لأنه لو كان نقيضه هو صدق اللا سواد عليه على نحو
الموجبة المعدولة، يلزم ارتفاع النقيضين، لكذب القضيتين معا.
أما كذب قضية: " البياض سواد " فواضح.
وأما كذب قضية: " البياض لا سواد " فلما عرفت من أن العدم ليس بشئ
حتى يمكن أن يحمل على شئ أو يحمل عليه شئ، وقد عرفت أن جميع
القضايا التي يكون العدم فيها موضوعا أو محمولا لابد أن ترجع إلى السالبة
المحصلة، كما هو واضح.
وأما بطلان الثانية: فلأن كون الترك والعدم واقعة حتى يستحيل خلوه عن
حكم من الأحكام الخمسة، ممنوع، فإنه ليس بشئ حتى يكون فعلا للمكلف
ويتعلق الحكم به.
هذا، مضافا إلى أن استحالة خلو الوقائع عن الحكم ممنوعة، فإن هذا لو
123

سلم فإنما هو بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي، مع إمكان أن يقال بعدم استحالة
خلوها عن الحكم بحسب الواقع أيضا، فإن الإباحة التي منشأها عدم تعلق حكم
شرعي به بمعنى أن جواز فعله لعدم تعلق النهي التحريمي ولا التنزيهي به
وجواز تركه، لعدم تعلق الأمر الوجوبي ولا الاستحبابي به أيضا في الحقيقة
ليست بحكم.
نعم الإباحة التي منشأها خلو الفعل عن المصلحة والمفسدة أو تساويهما
الراجعة إلى جعل الشارع إياها لذلك، حكم من الأحكام الخمسة، بخلاف
الإباحة بالمعنى الأول، كما لا يخفى.
وأما بطلان الثالثة: فقد عرفت تفصيله، وأن الأمر بالشئ لا يقتضي النهي
عن نقيضه، لا بنحو العينية، ولا على طريق الجزئية، ولا على سبيل اللزوم،
فتأمل جيدا.
الأمر الرابع: في ثمرة المسألة
اعلم أن المشهور ذكروا في ثمرة القول بالاقتضاء وعدمه أن القول
بالاقتضاء بضميمة أن النهي في العبادات يوجب البطلان ينتج بطلان الضد لو كان
عبادة، بخلاف القول بالعدم.
هذا، ولكن لا يخفى انتفاء الثمرة وصحة العبادة حتى على القول
بالاقتضاء، فإنك عرفت أن منشأ القول بالاقتضاء إما توهم مقدمية ترك الضد لفعل
الضد الآخر، وإما توهم الملازمة بينهما، وعلى التقديرين لا يثبت بطلان العبادة.
أما على تقدير المقدمية: فلأن النهي الناشئ من جهتها نهي مقدمي غيري،
والنهي الذي يؤثر في بطلان متعلقه إذا كان عبادة هو النهي الذي كان عن ملاك
124

من المفسدة في المنهي عنه.
وأما مجرد تعلق النهي بشئ لا لأجل اشتماله على مفسدة ملزمة، بل
لغرض التوصل إلى شئ آخر، فلا يكون مؤثرا في البطلان، فإن الوجه فيه هو
امتناع أن يكون ما هو المبغوض الذي يوجب البعد عن المولى مقربا للعبد منه،
كما لا يخفى ومن المعلوم أن هذا لا يتحقق في النهي الغيري، فإن المنهي عنه بهذا
النهي لا يكون مبغوضا للمولى أصلا، وأداء فعله إلى ترك مطلوبه لا يوجب
مبغوضية ذلك الفعل، بل المبغوض هو ترك المطلوب لا ما يؤدي إليه، كما هو
واضح.
ومن هذا يظهر أنه لو قلنا بالاقتضاء من جهة الملازمة فلا يستلزم النهي
الناشئ من جهة الملازمة بطلان المنهي عنه أصلا، فإن تعلق النهي بسبب
الملازمة لا يوجب مبغوضية متعلقه في حد ذاته حتى يمتنع أن يكون مقربا،
كما هو واضح، فالثمرة منتفية، والعبادة صحيحة مطلقا قلنا بالاقتضاء أم لا،
وعلى الأول لا فرق بين أن يكون الاقتضاء مستندا إلى المقدمية أو إلى
الملازمة.
هذا، وحكي عن البهائي وجماعة أنهم أنكروا الثمرة وحكموا ببطلان
العبادة مطلقا (1)، نظرا إلى أن صحتها متوقفة على تعلق الأمر الفعلي بها، وحينئذ
فلو لم نقل بالاقتضاء وأن الضد يصير منهيا عنه فلا أقل من عدم تعلق الأمر الفعلي
به، لامتناع تعلق الأمر بالمتضادين، فبطلانه لو كان عبادة يستند على هذا إلى
عدم تعلق الأمر به، كما أن بطلانه بناء على الاقتضاء مسبب عن تعلق النهي به،
فالضد العبادي باطل على أي تقدير.

1 - زبدة الأصول: 98 - 99، هداية المسترشدين: 244 / السطر 39 - 41.
125

وأجيب عنه بوجهين:
أحدهما: ما ذكره في الكفاية من منع كون صحة العبادة متوقفة على تعلق
الأمر الفعلي بها، بل يكفي مجرد المحبوبية للمولى، والضد بناء على عدم
حرمته يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الأمر المتعلق
به فعلا مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه، لعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته
وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث بناء على الاقتضاء (1).
ثانيهما: عن المحقق الكركي وجماعة ممن تأخر عنه (2) من منع إطلاق
مقالة البهائي، فإنها تجري في خصوص المتزاحمين المضيقين، وأما لو فرض
وقوع التزاحم بين مضيق وموسع، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في بعض أوقات
وجوبها لواجب آخر مضيق، ففي مثل هذا يمكن القول بصحة الفرد المزاحم من
الصلاة لذلك الواجب ولو قلنا بتوقف صحة العبادة على الأمر.
جواب آخر على مسلك الترتب
ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدين بنحو الترتب
بأن يكون الأمر بالأهم مطلقا غير مشروط والأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر
الأول بنحو الشرط المتأخر، أو بالبناء على معصيته (3)، ولا يخفى أن اشتراط
الأمر بالمهم بالعصيان أو بالبناء عليه لا يكون اشتراطا شرعيا.
وتوضيحه يتوقف على بيان مقدمات:

1 - كفاية الأصول: 165 - 166.
2 - جامع المقاصد 5: 13، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 312.
3 - جامع المقاصد 5: 12 - 13، كشف الغطاء: 27، درر الفوائد، المحقق الحائري: 140.
126

الأولى: أنه لا إشكال في أن متعلق الأوامر والنواهي هي الطبائع لا
الأفراد، كما سيأتي تحقيقه.
الثانية: المراد بالإطلاق هو أخذ الطبيعة في مقام جعل الحكم عليه
مطلقة غير مقيدة بشئ من القيود بمعنى أن المتكلم المختار إذا صار بصدد بيان
بعض الأحكام ولم يأخذ في موضوعه إلا الطبيعة المعراة عن القيود، يستكشف
من ذلك أن تمام الموضوع لذلك الحكم هي نفس الطبيعة بلا مدخلية لشئ في
ترتبه أصلا، فمعنى الإطلاق ليس هو لحاظ سراية الحكم إلى جميع أفراد
الطبيعة حتى يتحد مع العموم في النتيجة، وهي ثبوت الحكم لجميع أفراد
الطبيعة، لأنه ليس في الإطلاق لحاظ الأفراد، بل لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة
وكاشفة لوجوداتها التي ستحقق بعد انضمام سائر العوارض إليها فإن لفظ الإنسان
مثلا لم يوضع إلا لنفس ماهية الحيوان الناطق ولا يعقل أن يحكي عن أفراد تلك
الطبيعة بعد عدم كونه موضوعا بإزائها، كما هو واضح.
وبالجملة، فليس معنى الإطلاق إلا مجرد عدم مدخلية شئ من القيود
بلا ملاحظة الأفراد، كما هو واضح.
الثالثة: أن المزاحمة الحاصلة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم كالأمر
بإزالة النجاسة عن المسجد والأمر بالصلاة ليست متحققة في مرحلة تعلق
الأمر بهما، إذ ليس الأمر لطبيعة الصلاة مزاحما للأمر لطبيعة الإزالة أصلا، كما
لا يخفى، وليسا كالأمر بالنقيضين، بل المزاحمة بينهما إنما تتحقق بعد تعلق الأمر
وحصول الابتلاء بمعنى أنه إذا ابتلى المكلف بنجاسة المسجد في زمان كونه
مأمورا بالأمر الصلاتي تحصل المزاحمة بينهما، ومن المعلوم أن الترتب
والاشتراط الذي يقول به القائل بالترتب إنما هو بعد تحقق المزاحمة المتأخرة
عن مرحلة الأمر، كما عرفت.
وحينئذ فنقول: إنه كيف يمكن أن يكون أحد الأمرين مشروطا بسبب
127

المزاحمة التي تتحقق بينهما بعدا؟! بعدما عرفت من أن معنى الإطلاق هو أخذ
الطبيعة المرسلة موضوعا للحكم ومتعلقا للأمر بلا ملاحظة الأفراد ولا
الحالات التي من جملتها في المقام حال الابتلاء بالضد الواجب.
وبالجملة، فالآمر في مقام الأمر لم يلاحظ الحالات بخصوصها حتى صار
بصدد علاج المزاحمة الحاصلة في بعض الحالات المتأخرة عن الأمر، كما هو
واضح، وعلى تقدير تسليم عدم الامتناع عقلا نقول: إن ذلك غير واقع، إذ ليس في
الأدلة الشرعية ما يظهر منه تقييد الأمر بالمهم واشتراطه كما يظهر
بالمراجعة.
فانقدح من جميع ذلك: أنه لو كان المراد بالاشتراط اشتراطا شرعيا، يرد
عليه امتناعه، وعلى تقدير التسليم عدم وقوعه فلا يفيد أصلا، كما لا يخفى،
فيجب أن يكون المراد بالاشتراط اشتراطا عقليا.
تحقيق في الجواب على مسلك الخطابات القانونية
وتنقيح الكلام في هذا المقام بحيث يظهر منه صحة الاشتراط ولزومه أو
عدمهما يتوقف على رسم مقدمات:
الأولى: أنه ليس للحكم إلا مرتبتان: مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية، بل
نقول: إنهما ليستا مرتبتين للحكم بأن يكون كل حكم ثابتا له هاتان المرتبتان، بل
هما مقسمان لطبيعة الحكم بمعنى أن الأحكام على قسمين: أحدهما: الأحكام
الإنشائية، وثانيهما: الأحكام الفعلية، والمراد بالأولى هي الأحكام التي لم
يكن فيها ما يقتضي إجراءها بعد جعلها بل أوحي إليها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأودعها (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأئمة (عليهم السلام) حتى يظهر قائمهم (عليه السلام)، فيجريها، كما أن المراد
بالثانية هي القوانين والأحكام التي قد أجريت بعد الوحي، وهي الأحكام
128

المتداولة بين الناس التي أظهرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة من بعده.
والدليل على ما ذكرنا من أنه ليس الفعلية والإنشائية مرتبتين للحكم بأن
يكون العالم مثلا حكمه فعليا والجاهل إنشائيا: أن المراد بالحكم الذي يجعلون
له المرتبتين بل المراتب الأربع - كما في الكفاية (1) - إن كان هو العبارة
المكتوبة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أنه لا يعرض له
التغيير بتغير حالات المكلف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها،
وإن كان المراد به هو حقيقة الحكم الراجعة إلى إرادة المبدأ الأعلى جل
شأنه، فمن الواضح أيضا أنه لا يعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة،
لامتناع عروض التغير له تعالى، كما لا يخفى.
الثانية: لا يذهب عليك ثبوت الفرق بين الخطاب بنحو العموم وبين
الخطاب بنحو الخصوص في بعض الموارد، منها: مسألة الابتلاء، فإنه يشترط
في صحة توجيه الخطاب الخاص وعدم استهجانه أن يكون المخاطب مبتلى
بالواقعة المنهي عنها، كما أنه يشترط في صحة توجيه الخطاب الخاص
المتضمن للأمر أن لا يكون للمخاطب داع إلى إتيان المأمور به مع قطع النظر عن
تعلق الأمر.
والسر في ذلك أن الأمر والنهي إنما هو للبعث والزجر، ويقبح زجر المكلف
عما يكون متروكا، لعدم الابتلاء به، كما هو واضح، وهذا بخلاف الخطاب بنحو
العموم، كما هو الشأن في جميع الخطابات الواردة في الشريعة، فإنه لا يشترط
في صحته أن يكون كل واحد من المخاطبين مبتلى بالواقعة المنهي عنها، لعدم
انحلال ذلك الخطاب إلى خطابات عديدة حسب تعدد المخاطبين حتى يشترط

1 - كفاية الأصول: 321.
129

فيه ذلك، بل يشترط فيه أن لا يكون جميعهم أو أكثرهم تاركين للمنهي عنه، لعدم
الابتلاء، وأما لو كان بعضهم تاركا له ولم يكن في البين ما يميز كل واحد من
الطائفتين عن الأخرى، فلا يضر بصحة الخطاب بنحو العموم أصلا، فما اشتهر
بينهم من أنه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجمالي عن مورد الابتلاء، لم يجب
الاجتناب من الآخر أيضا ليس في محله، كما حققناه في موضعه (1).
والوجه في عدم الانحلال: أنه لا إشكال في كون الكفار والعصاة مكلفين
بالأحكام الشرعية مع أنه لو قيل بالانحلال إلى خطابات متكثرة، يلزم عدم
كونهم مكلفين، لعدم صحة توجيه الخطاب الخاص إليهم بعد عدم انبعاثهم إلى
فعل المأمور به، وعدم انزجارهم عن فعل المنهي عنه أصلا، كما لا يخفى، فمن
كونهم مكلفين يستكشف أنه لا يشترط في الخطاب بنحو العموم كون كل واحد
من المخاطبين واجد الشرائط صحة توجيه الخطاب الخاص إليه.
والدليل على عدم كون الخطابات الواردة في الشريعة مقيدة بالعلم
والقدرة، مضافا إلى ما نراه بالوجدان من عدم كونها مقيدة بنظائرهما: أنها لو كانت
مقيدة بالقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولا لها ومكلفا بالتكاليف التي تتضمنه
تلك الخطابات يلزم فيما لو شك في القدرة وعدمها إجراء البراءة، لأن مرجع
الشك فيها إلى الشك في التكليف، لأن المفروض الشك في تحقق قيده، وإجراء
البراءة في موارد الشك في التكليف مما لا خلاف فيه بينهم مع أنه يظهر منهم
القول بالاحتياط في مورد الشك في القدرة كما يظهر بمراجعة فتاويهم.
وأيضا لو كانت الخطابات مقيدة بالقدرة، يلزم جواز إخراج المكلف نفسه
عن عنوان القادر، فلا يشمله التكليف، كما يجوز للحاضر أن يسافر، فلا يشمله

1 - أنوار الهداية 2: 213 وما بعدها.
130

تكليف الحاضر، وكما يجوز للمكلف أن يعمل عملا يمنعه عن صدق عنوان
المستطيع عليه، وغيرهما من الموارد، مع أن ظاهرهم عدم الجواز في المقام،
وليس ذلك كله إلا لعدم اختصاص الخطاب بالقادرين، بل يعم الجميع غاية
الأمر كون العاجز معذورا في مخالفة التكليف المتعلق به بحكم العقل.
وتوهم: أنه كيف يمكن أن تتعلق إرادة المولى بإتيان جميع الناس
مطلوباته مع أن العقل يحكم بامتناع تعلق الإرادة من الحكيم بإتيان العاجز.
مدفوع: بأنه ليس في المقام إلا الإرادة التشريعية، ومعناها ليس إرادة
المولى إتيان العبد، كيف ولازمه استحالة الانفكاك بالنسبة إلى الله جل
شأنه، لما قرر في محله من عدم إمكان تخلف مراده تعالى عن إرادته، بل معنى
الإرادة التشريعية ليست إلا الإرادة المتعلقة بجعل القوانين المتضمنة للبعث
والزجر، فمتعلق الإرادة إنما هو بعث الناس إلى محبوبه وزجرهم عن مبغوضه،
لا انبعاثهم وانزجارهم حتى يستحيل الانفكاك.
وبالجملة، فلا يشترط في جعل القوانين العامة إلا كونها صالحة لانبعاث
النوع وانزجار لسببه كما يظهر بمراجعة العقلاء المقنين للقوانين العرفية، فتأمل
في المقام، فإنه من مزال الأقدام.
الثالثة: قد عرفت أن كل واحد من الأمر بالأهم والأمر بالمهم إنما تعلق
بالطبيعة معراة عن جميع القيود، وليس فيها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات
التي يطرأ بعد تعلق الأمر بها حتى صار المولى بصدد بيان العلاج ودفع التزاحم
بين الأمرين في حالة الاجتماع.
الرابعة: أنه ليس للعقل التصرف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود،
بل له أحكام توجب معذورية المكلف بالنسبة إلى مخالفة تكاليف المولى،
فحكمه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لا يرجع إلى تقييد الأحكام بصورة
131

العلم والقدرة حتى لا يكون الجاهل أو العاجز مكلفا، بل الظاهر ثبوت التكليف
بالنسبة إلى جميع الناس أعم من العالم والجاهل والقادر والعاجز، غاية الأمر
كون الجاهل والعاجز معذورا في المخالفة بحكم العقل. نعم قد يكون حكم
العقل كاشفا عن بعض الأحكام الشرعية، فحكمه حينئذ طريق إليه، كما
لا يخفى.
الخامسة: قد عرفت أن الخطابات الواردة في الشريعة إنما تكون على
نحو العموم، ولا يشترط فيها أن يكون كل واحد من المخاطبين قادرا على إتيان
متعلقها، بل يعم القادر والعاجز، ومعذورية العاجز إنما هو لحكم العقل بقبح
عقابه على تقدير المخالفة، لا لعدم ثبوت التكليف في حقه، وحينئذ فالعجز إما
أن يكون متعلقا بالإتيان بمتعلق التكليف الواحد، وحينئذ فلا إشكال في معذورية
المكلف في مخالفته، وإما أن يكون متعلقا بالجمع بين الإتيان بمتعلق التكليفين
أو أزيد بأن لا يكون عاجزا عن الإتيان بمتعلق هذا التكليف بخصوصه ولا يكون
عاجزا عن موافقة ذلك التكليف بخصوصه أيضا، بل يكون عاجزا عن الجمع بين
موافقة التكليفين ومتابعة الأمرين.
إذا عرفت هذه المقدمات، فنقول: إذا كان الأمران متعلقين بالضدين
المساويين من حيث الأهمية، فالمكلف حينئذ إما أن يشتغل بفعل واحد منهما أو
بأمر آخر، وعلى الثاني إما أن يكون ذلك الأمر محرما وإما أن لا يكون كذلك،
فالصور ثلاثة:
أما الصورة الأولى: فلا إشكال فيها في ثبوت الأمرين معا، لما عرفت في
المقدمات السابقة، غاية الأمر كونه معذورا في مخالفة واحد منهما لحكم
العقل بمعذورية العاجز.
132

وأما الصورة الثانية: فالمكلف يستحق فيها ثلاث عقوبات، أما العقوبة
على ما اشتغل به من فعل المحرم فواضح. وأما العقوبة على مخالفة كل من
الأمرين: فلكونه قد خالفهما من غير عذر، لفرض كونه قادرا على إتيان متعلق
كل واحد منهما، وعجزه إنما هو عن الجمع بينهما، والجمع لا يكون متعلقا للأمر
حتى يعذر في مخالفته، لتحقق العجز.
وأما الصورة الثالثة: فيظهر الحكم فيها مما ذكرنا في الصورة الثانية.
هذا، إذا كان الأمران متعلقين بمساويين من حيث الأهمية، وأما إذا كان
أحد الضدين أهم من الآخر، فالعقل يحكم بوجوب ترجيحه على المهم في مقام
الإطاعة والامتثال، وحينئذ فإذا امتثل الأمر بالأهم، فالعقل يحكم بمعذوريته
في مخالفة الأمر بالمهم بعد كونه غير مقدور عن إطاعته، وأما إذا امتثل الأمر
بالمهم وصرف قدرته إلى طاعته دون الأمر بالأهم، فلا إشكال في استحقاق
المثوبة على امتثاله، وعدم كونه معذورا في مخالفة الأمر بالأهم بعدما عرفت
من كونه مشمولا لكلا الخطابين، والعقل لا يحكم بمعذوريته.
ومنه يظهر أنه لو خالف الأمرين معا، يستحق العقوبة عليهما.
والمتحصل من جميع ما ذكرنا أمران:
أحدهما: بطلان ما حكي عن البهائي من أنه لو قيل بعدم الاقتضاء فلا أقل
من عدم تعلق الأمر بالضد، فإنك قد عرفت أنه لا منافاة بين الأمرين أصلا، بل
الظاهر ثبوتهما من دون أن يكون أحدهما مترتبا على الآخر، بل يكونان في
عرض واحد بلا ترتب وطولية.
ثانيهما: استحقاق العقابين على تقدير مخالفة كلا الأمرين، ولا إشكال
فيه، كما عرفت.
133

تحقيق في الترتب
ثم إنه يظهر من المحقق النائيني (قدس سره) القول بالترتب، وقد أطال الكلام في
ذلك بإقامة مقدمات كثيرة (1)، ونحن نقتصر على ما يرد عليها، فنقول:
أما المقدمة الأولى: الراجعة إلى إثبات أن ما أوقع المكلف في مضيقة،
الجمع بين الضدين وأوجبه عليه هل هو نفس الخطابين الفعليين أو إطلاقهما
وشمولهما لحالتي فعل الآخر وعدمه، فهي وإن كانت بنفسها صحيحة إلا أنه
لا يترتب عليه النتيجة، كما سيأتي، ويبقى فيها ما أورده على الشيخ من
المناقضة بين ما اختاره في هذا المقام من إنكار الترتب غاية الإنكار (2) وبين ما
ذكره الشيخ في مبحث التعادل والترجيح من الفرائد حيث قال في الجواب عما
قيل من أن الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما ما لفظه: لكن لما كان
امتثال التكليف بالعمل بكل منهما - كسائر التكاليف الشرعية والعرفية -
مشروطا بالقدرة، والمفروض أن كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر، وغير
مقدور مع إيجاد الآخر، فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين
فعله، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه، ولا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما
نتيجة أدلة وجوب الامتثال، والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال
بالقدرة، وهذا مما يحكم به بديهة العقل، كما في كل واجبين اجتمعا على
المكلف، ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلا تعيين

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 336 - 352.
2 - مطارح الأنظار: 57 - 59.
134

الآخر عليه كذلك (1). انتهى موضع الحاجة.
ومحصل الإيراد: أن هذا الكلام صريح في أن التخيير في الواجبين
المتزاحمين إنما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه، وتحققها في حال
ترك الآخر، فيجب كل منهما عند ترك الآخر، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه
قد أنكره من جانب واحد، وليت شعري أن ضم ترتب إلى ترتب آخر كيف يوجب
تصحيحه؟!
أقول: من الواضح الذي لا يعتريه ريب أن كلامه هناك لا يدل على الترتب
من الطرفين أصلا، كيف ومعنى الترتب كون الأمر الثاني في طول الأمر الأول
لاشتراطه بما يتأخر عنه رتبة، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون كل من الأمرين في
طول الآخر ومتأخرا عنه رتبة؟! لأن مقتضاه إمكان تقدم الشئ على نفسه
المستحيل بداهة، بل المراد من العبارة ما ذكرناه وحققناه في هذا المقام من أن
الأمرين باقيان على إطلاقهما من دون أن يكون أحدهما مقيدا بما يتأخر عن الآخر
أو بشئ آخر، غاية الأمر أن وجوب الامتثال الذي هو حكم عقلي مشروط
بالقدرة عليه، وحيث إنه لا ترجيح بين الامتثالين هناك، فالعقل يحكم بتخيير
المكلف ومعذوريته في مخالفة ترك الآخر لو لم يخالف المجموع، فالمقيد
بالقدرة ونظائرها إنما هو حكم العقل بوجوب الامتثال، لا أصل الخطابين، وهذا
هو ظاهر كلام الشيخ حيث ذكر أن المقيد بالقدرة إنما هو حكم العقل.
نعم يرد على الشيخ: سؤال الفرق بين المقامين حيث حكم باستحالة ثبوت
الأمرين في المقام مع أنه اختار ثبوتهما هناك، فإن الظاهر جريان هذا الوجه
بعينه في المقام بلا فرق بينهما أصلا، كما هو واضح لا يخفى.

1 - فرائد الأصول 2: 761.
135

وأما المقدمة الثانية: الراجعة إلى أن الواجب المشروط بعد تحقق
شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه من حيث إنه بعد على صفة الاشتراط،
ولا يتصف بصفة الإطلاق، وذلك لأن الشرط فيه يرجع إلى قيود الموضوع، إلى
آخر ما ذكرنا.
فيرد عليها ما تقدم منا في الواجب المطلق والمشروط من أن أخذ القيد
بحسب الواقع ونفس الأمر على وجهين، فإنه قد يكون الشئ محبوبا للإنسان
عند حصول شرط بحيث لا يكون بدونه مطلوبا وإن كان ربما يمنع عن تحقق
القيد، وقد يكون الشئ المقيد محبوبا له بحيث ربما يتحمل لأجل تحقق
مطلوبه مشاقا كثيرة، فالصلاة في المسجد قد تكون محبوبة للإنسان لأجل ما
يترتب عليها، فلو لم يكن مسجد يصير بصدد بنائه لأجل تحقق مطلوبه، وقد
تكون الصلاة محبوبة له على تقدير تحقق المسجد بحيث يشتاق إلى عدم تحقق
المسجد لأجل انزجاره من الصلاة، ولكن على تقدير تحققه يتعلق حبه بها،
وحينئذ فمع كون الأمر في الواقع على قسمين، فلا وجه لإرجاع جميع القيود إلى
قيود الموضوع مع ترتب الثمرة بين الوجهين في مواضع كثيرة، منها:
الاستصحاب، بل لا يجوز ذلك أصلا، كما لا يخفى.
ثم على تقدير التسليم فإرجاع القيود إلى الموضوع إنما هو في القيود التي
أخذها المولى في مقام الحكم، وجعله مقيدا بها دون ما يأتي من ناحية العقل،
كما في المقام، حيث إنه يحكم بناء على الترتب بكون الأمر بالمهم مقيدا بما
يتأخر عن الأمر بالأهم، فان لتقييد تقييد عقلي لا ربط له بالخطابين، فإنهما
مطلقان، كما لا يخفى.
ثم إنه يظهر منه أنه لو لم يكن الشرط من قيود الموضوع فاللازم أن
يكون من علل التشريع مع أن هنا أمرا ثالثا يرجع إليه الواجب المشروط، وهو أن
136

يكون المجعول - وهو الحكم - مقيدا بذلك الشرط، فإنه لا مجال لأن يقال بأن
الشرط فيه من علل التشريع، بل المشروع والمجعول مقيدا به وثابت على تقدير
تحققه، كما لا يخفى.
ثم لا يخفى أن عدم انقلاب الواجب المشروط عن كونه كذلك بعد تحقق
شرطه لا يتوقف على كون الشرط من قيود الموضوع، بل الظاهر عدم الانقلاب
بناء على ما اخترناه وحققناه في الواجب المشروط أيضا، فإن المراد بالحكم الذي
يتوهم انقلابه عند تحقق شرطه هل هو الجزاء المترتب على الشرط.
وبعبارة أخرى: الجملة المتضمنة للبعث، فمن الواضح عدم معقولية
عروض الانقلاب له.
وإن كان المراد به هي الإرادة التشريعية، فقد عرفت أن معناها ليس إرادة
إتيان العبد به، كيف ومن المستحيل انفكاك الإتيان عنها، بل معناها يرجع إلى
إرادة الجعل والتشريع التي يعبر عنها بالفارسية ب‍ (قانونگذارى) ومن المعلوم
استحالة عروض التغير والانقلاب لها، بل لا معنى لانقلابها، كما لا يخفى.
وأما المقدمة الثالثة: فمقارنة زمان الشرط والتكليف والامتثال وإن
كانت مسلمة إلا أن ما أجاب به عن الإشكال الثاني الذي يرجع إلى أن الترتب
مستلزم لإيجاب الجمع لا يتم، كما سيجئ في الجواب عن المقدمة الخامسة.
وأما المقدمة الرابعة: التي يبتنى عليها الترتب والطولية، فيرد على
التقسيم إلى الأقسام الثلاثة أن الإطلاق ليس معناه إلا مجرد أخذ الشئ
موضوعا للحكم مع عدم تقييده ببعض القيود، فمن أجل أنه فاعل مختار يمكن
له بيان ماله دخل في موضوع حكمه، ومع ذلك فلم يأخذ شيئا آخر، يستفاد أن
ذلك الشئ تمام الموضوع، فالإطلاق اللحاظي بالمعنى الذي ذكره لا وجه له
أصلا، بل لا معنى له، وحينئذ فنقول: إن الإطلاق بالمعنى الذي ذكرنا على
137

قسمين: قسم يمكن للعبد أن يحتج به على المولى، كما في القيود والتقادير
المتصورة على القسمين الأولين، وقسم لا يمكن للعبد ذلك، كما بالنسبة إلى
القيود التي يقتضيه نفس الخطاب، وهو القسم الثالث الذي ذكره.
وكيف كان فغاية هذه المقدمة إثبات الترتب والطولية، وهو لا يستلزم
الخروج عن إيجاب الجمع، كما سنبين فيما يتعلق على المقدمة الخامسة.
وأما المقدمة الخامسة: التي سيقت لبيان أن الترتب لا يقتضي إيجاب
الجمع، فينبغي أولا الإشارة إلى وجه تأخر العصيان المشروط به خطاب المهم
عن الأمر بالأهم، ثم النظر إلى أنه على فرض الترتب هل يجدي ذلك في إخراج
المسألة عن إيجاب الجمع بين الضدين أو لا؟
فنقول: قد يقال - كما قيل -: إن الوجه في تأخر عصيان الأمر بالأهم عنه:
أن العصيان نقيض للإطاعة والامتثال، إذ هو ترك المأمور به لا عن عذر،
والإطاعة متأخر عن الأمر، لأن الانبعاث متأخر عن البعث، إذ هو معلول له،
والإتيان بمتعلق الأمر وإن لم يكن متأخرا عنه إلا أن صدق الامتثال والإطاعة
عليه يتوقف على تحققه والالتفات إليه، وحينئذ فإذا ثبت تأخر الإطاعة عن
الأمر فيظهر تأخر العصيان عنه أيضا، لأنه نقيض لها، والنقيضان متساويان في
الرتبة وما مع المتقدم في الرتبة يكون متقدما في الرتبة أيضا.
هذا، ولكن قد عرفت سابقا منع اتحاد النقيضين من حيث الرتبة، ولو سلم
فما مع المتقدم في الرتبة لا يكون متقدما في الرتبة، لما عرفت سابقا من أن
التقدم والتأخر بحسب العقل مستند إلى ملاكهما، ومع عدم الملاك لا يحكم بالتقدم
أو التأخر.
هذا، والعمدة في منع تأخر العصيان عن الأمر ما عرفت من أن معنى
العصيان هو ترك المأمور به لا عن عذر، وهو من الأعدام والأعدام لا تكون
138

متأخرة عن شئ ولا متقدمة عليه، لأنه ليس بشئ حتى يحكم عليه بحكم
وجودي.
ومن هنا يظهر: أنه لا يعقل أن يكون خطاب المهم مشروطا به بعد كونه
من الأعدام، ولا يعقل ثبوت التأثير لها أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
وكيف كان فعلى تقدير تسليم الترتب والطولية بين الأمرين فنقول: إن ذلك
لا يجدي في رفع غائلة استحالة طلب الضدين، فإن شرط خطاب المهم إما أن
يكون نفس العصيان بحسب وجوده الخارجي المتوقف على مضي زمان لا يمكن
معه الامتثال في الزمان الباقي، وهو الذي يترتب عليه سقوط الأمر بالأهم، لأن
بقاءه مستلزم لتعلق الطلب بغير المقدور، كما هو المفروض، وإما أن يكون العنوان
الذي ينتزع منه بعد كونه متحققا في ظرفه بحسب الواقع ونفس الأمر، وهو
كون المكلف ممن يعصى أو تعقب العصيان وتأخره ونظائرهما، وإما أن يكون
الشرط التلبس بالعصيان والشروع فيه، وإما أن يكون أحد العناوين الأخر
المنطبقة على أحد الوجوه المتقدمة.
إذا عرفت ذلك، نقول: أما لو كان الشرط هو العصيان الخارجي الذي عرفت
أنه لا يتحقق إلا بعد مضي مقدار من الزمان لا يمكن معه الامتثال في الباقي، فمن
الواضح أنه بمجرد تحققه يسقط الأمر بالأهم، كما أن قبل تحققه لا يكون الأمر
بالمهم موجودا، لعدم تحقق شرطه بعد فقبل تحقق العصيان لا يتحقق الأمر
بالمهم، وبعد تحققه لايبقى الأمر بالأهم، فأين يلزم اجتماع الأمرين الذي عليه
يبتنى القول بالترتب، وأما لو كان الشرط هو العنوان الذي ينتزع من العصيان
المتأخر، فمن الواضح لزوم طلب الجمع، لأن بمجرد تحقق الزوال مثلا الذي
يتحقق معه شرط خطاب المهم يكون مأمورا بإتيان الأهم ويحركه الأمر المتعلق
به نحوه، وبإتيان المهم أيضا لتحقق شرطه، وهكذا لو كان الشرط هو التلبس
139

بالعصيان لو كان له معنى معقول.
والحاصل: إما أن يكون الشرط أي شئ كان مؤثرا في سقوط خطاب
الأهم، فلا يبقى مجال للترتب، وإما أن لا يكون كذلك، فيلزم طلب الجمع، كما هو
واضح.
حول أمثلة الترتب
ثم لا يخفى أن الفروع التي أوردها في التقريرات للإلزام بصحة الخطاب
الترتبي (1)، مضافا إلى أن غاية ما يدل عليها هو إمكان أن يكون بعض الخطابات
مترتبا على البعض الآخر وفي طوله، وهو مما لا ينكره أحد حتى القائلين بامتناع
الترتب، لوروده في الشرع كثيرا، نظير الأمر بالتوبة، المترتب على تحقق
العصيان والذنب، وغير ذلك من الموارد الكثيرة، بل الذي يقول به القائل
بالامتناع هو عدم تأثير الترتب في دفع غائلة طلب الجمع بين الضدين المستحيل
بالبداهة، ولا يظهر من الفروع ذلك نقول: إن معنى النقض بشئ هو أن يكون
المنقوض به مسلما بين المتخاصمين بحيث لا مجال لهما لإنكاره، وحينئذ
فنقول: إن مسألة الإقامة التي أوردها فيها لا تكون مورد للنقض، لأن الذي ورد
في الشرع هو وجوب الصوم والإتمام على تقدير قصد الإقامة عشرة أيام، لا
معلقا على نفس الإقامة، وحينئذ فلو كان ذلك القصد محرما، لتعلق النذر أو العهد
أو اليمين بعدمه، فما دام لم يتحقق لا يكون وجوب الصوم والإتمام متحققا،
وبمجرد تحققه الذي يسقط بسببه النهي المتعلق به لحصول العصيان بتحقق
الأمر بالإتمام ولكن بعد سقوط النهي كما عرفت.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 357 - 359.
140

هذا، ولو سلم كون الشرط لوجوب القصر والإتمام هو نفس الإقامة مثلا،
فمن المعلوم أن تحققه موقوف على تحقق الإقامة عشرة أيام، وحينئذ فإذا
تحققت يجئ الأمر بالإتمام وبالصوم، فقبل تحققها لا يكون هنا إلا النهي، وبعد
تحققها المستلزم لسقوط النهي بالعصيان لا يكون هنا إلا الأمر بالصوم وبالإتمام،
فأين يلزم الترتب.
ثم لو سلم الجميع، فالكلام إنما هو فيما لو كان الأمر الثاني مشروطا بما
يتأخر عن الأمر الأول من عصيان ونحوه، مع أن مورد النقض يكون الأمر بالصوم
أو الإتمام مترتبا على نفس الإقامة بناء عليه، ومن المعلوم أن الإقامة لا يكون
متأخرا عن النهي المتعلق بها حتى يلزم الترتب، فالمقام يكون طلبا للجمع حينئذ
مع عدم الترتب والطولية، كما لا يخفى.
ولنختم بذلك الكلام في الترتب، وقد عرفت في صدر المبحث ما هو
مقتضى التحقيق، فتأمل جيدا.
141

أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط
الفصل السادس
في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطه
ربما يحتمل في عنوان النزاع احتمالات:
أحدها: أن يكون المراد بالجواز الإمكان الوقوعي، والضمير في شرطه
راجعا إلى نفس الأمر، فمرجع النزاع حينئذ إلى إمكان تحقق المعلول من دون
تمامية علته.
الثاني: أن يكون الضمير أيضا راجعا إلى نفس الأمر ولكن كان المراد
بالجواز الإمكان الذاتي، فمرجع النزاع حينئذ إلى أن تحقق الأمر مع عدم تحقق
علته هل هو من الممكنات الذاتية التي لا ينافي عروض الامتناع لها والوجوب
من ناحية وجود العلة وعدمها.
الثالث: أن يكون الضمير راجعا إلى المأمور به أو المأمور، فيرجع النزاع
إلى جواز الأمر مع العلم بكون المكلف غير قادر على إتيان المأمور به إما لفقد
شرطه أو لعلة فيه.
هذا، ولكن النزاع على الوجهين الأولين - مضافا إلى كونه بعيدا عن محل
الخلاف بين الأعلام - ينافي ظاهر العنوان من حيث أخذ العلم فيه، فإنه لو كان
142

النزاع في إمكان تحقق المعلول بدون علة بالإمكان الوقوعي أو الذاتي، فلا
مجال لكون العلم دخيلا فيه أصلا، كما هو واضح، فينحصر أن يكون المراد هو
الاحتمال الثالث، ومرجعه إلى النزاع بين العدلية والأشاعرة، فإنهم اختلفوا في
جواز التكليف بالمحال، فذهب الطائفة الأولى إلى عدم الجواز خلافا للطائفة
الثانية القائلين بالجواز، ولعل قولهم بالجواز مبني على ما ذكروه في مبحث
الطلب والإرادة وكونهما مختلفين، وإلا فلا يعقل أن تتحقق الإرادة بالنسبة إلى من
يعلم عدم صدور الفعل منه، كما هو واضح.
وكيف كان فالذي يقتضيه التحقيق في مورد النزاع هو أن يقال: إن الأوامر
على قسمين:
أحدهما: الأوامر الشخصية الجزئية المتوجهة إلى أشخاص المأمورين.
ثانيهما: الأوامر الكلية المتوجهة إلى المكلفين بنحو العموم.
أما ما يكون من قبيل الأول: فعدم إمكان تحققه في صورة العلم بانتفاء
شرط تحقق المأمور به واضح ضروري، وذلك لأن غاية البعث إنما هو الانبعاث
وحركة المكلف نحو المطلوب، فإذا فرض العلم بعدم إمكان تحقق الانبعاث -
كما في المقام - فيستحيل تحقق البعث والتحريك من الآمر، إذ مع العلم بعدم ترتب
الغاية عليه كيف يمكن أن ينقدح في نفسه إرادة البعث مع أن من مبادئ الإرادة
التصديق بفائدة المراد، ولعمري أن هذا واضح جدا.
وأما ما يكون من قبيل القسم الثاني الذي إليه ترجع الخطابات الشرعية
الواردة بنحو العموم المتوجهة إلى الناس كذلك أيضا، فلا يخفى أنه لا يضر بذلك
كون بعض المكلفين غير قادرين على الإتيان بالمأمور به، فإن توجيه الأمر بهذا
النحو لا يشترط فيه إلا كون الأمر صالحا لانبعاث المكلفين بحسب النوع، وأما
مجرد العلم بعدم تحقق الانبعاث بالنسبة إلى بعض المكلفين فلا يضر بتوجيه
143

الأمر بهذا النحو.
نعم لو كان المكلفون بحسب النوع غير منبعثين، لاستحال تعلق الأمر بهذا
النحو أيضا، وقد عرفت تفصيل الكلام في الفرق بين قسمي الأمر والخطاب في
صدر مبحث الترتب، فراجع.
144

متعلق الأوامر والنواهي
الفصل السابع
في أن متعلق الطلب هل هي الطبيعة أو الأفراد؟
وقبل الخوض في تحقيق المقام لابد من تحرير محل النزاع، فنقول: ظاهر
العنوان محتمل لاحتمالات:
أحدها: أن يكون المراد بالطبيعة هي الماهية وبالأفراد هو الوجود بحيث
كان مرجع النزاع في هذا المقام إلى النزاع المعروف المشهور في الفلسفة، وهو
أن الأصيل هل هي الماهية أو الوجود؟ فالقائلون بأصالة الماهية يقولون بتعلق
الطلب بها لكونها أصيلا، والقائلون بأصالة الوجود يقولون بتعلق الطلب به
لكونه أصيلا.
هذا، ولكن لا يخفى أن النزاع على هذا الوجه بعيد عن محل الكلام بين
الأصوليين.
ثانيها: أن يكون النزاع راجعا ومبنيا على القول بأن الطبيعي هل يكون
موجودا في الخارج أو أن وجوده بمعنى وجود أفراده؟ وكون النزاع على هذا
145

الوجه وإن كان ربما يظهر من بعض الاستدلالات كما نقله في الفصول (1) إلا أن
الظاهر أنه أيضا بعيد عن محل الخلاف بين الأصوليين، كما هو واضح.
ثالثها: أن يكون النزاع راجعا إلى النزاع في مواد المشتقات، فالقائلون
بكونها موضوعة لنفس الطبائع بالوضع العام والموضوع له العام يقولون بتعلق
الطلب بالطبيعة، لأنها مدلولة للمادة، كما أن القائلين بكونها موضوعة بنحو
الوضع العام والموضوع له الخاص يقولون بتعلق الطلب بالأفراد، لأنها موضوع
لها للمادة، والمفروض أن الهيئة لا تدل إلا على البعث بما تتضمنه المادة.
رابعها: أن يكون مرجع النزاع - بعد الاتفاق على أن مواد المشتقات
موضوعة للماهية لا بشرط كما نقله السكاكي (2) - إلى أن المادة بعد تعلق الطلب
بها هل تشرب معنى الوجود لأن الطلب إنما يتعلق بها من هذه الحيثية، أو أن
الطلب إنما يتعلق بنفس مدلولها الذي هي الماهية لا بشرط؟
والنزاع على الوجهين الأخيرين يرجع إلى النزاع في الأمر اللغوي، كما
أنه على الوجهين الأولين يكون عقليا، وقد عرفت أنه على الوجهين الأولين
بعيد عن محل الخلاف بين الأصوليين، كما أنه على الأخيرين يلزم اختصاص
النزاع بما إذا كان الطلب بصيغة الأمر بالنسبة إلى مادتها فقط، وأما لو كان
الطلب بغير صيغة الأمر أو كان الطلب بها ولكن كانت المادة مقيدة بأمر آخر،
كقوله: صل مع الطهارة، فلا يجري، بناء عليهما، مع أن الظاهر دخول جميع
الأقسام والصور في محل النزاع.
والتحقيق أن يقال: إن مورد النزاع إنما هو أن متعلق الطلب هل هي

1 - الفصول الغروية: 125 / السطر 36 - 40.
2 - انظر قوانين الأصول 1: 121 / السطر 23.
146

الماهية من حيث هي هي، أو أنه هي الماهية بلحاظ وجودها في الخارج؟ إذ
لا يعقل أن يتعلق الطلب بالفرد، للزوم تحصيل الحاصل.
وحينئذ فنقول: إن الظاهر هو الأول، وذلك لأنه بعد كون المصلحة
الباعثة على الطلب قائمة بنفس الماهية من دون مدخلية لشئ آخر أصلا، كما
هو المفروض، ومن المعلوم أن اللفظ لا يحكي إلا عن مدلوله الذي هي نفس
الماهية في المقام، فسراية الطلب منها إلى غيرها مستلزم لكون بعض المطلوب
مما ليس له دخل في حصول الغرض أصلا، ولكون اللفظ حاكيا عما ليس
بموضوع له، واتحاد الماهية مع وجوداتها في الخارج لا يستلزم أن يكون اللفظ
الموضوع بإزائها دالا عليها أيضا، كيف وباب الألفاظ لا ربط له بباب الحقائق،
كما هو واضح.
وتوهم: أن الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي لا موجودة ولا
معدومة ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة، فكيف يمكن أن يتعلق الطلب بها من هذه
الحيثية.
مدفوع: بأن معنى هذا الكلام عدم كون الموجودية والمعدومية
ونظائرهما مأخوذة في الماهية بحيث كانت تمام ذاتها أو جزء ذاتها، وهذا
لا يستلزم استحالة تعلق الطلب بها من حيث نفسها، كيف ولا ارتباط بين المقامين
أصلا، كما هو واضح.
وقد يتوهم أيضا: أن الماهية من دون لحاظ وجودها في الخارج ليست
منشأ لأثر، إذ الآثار إنما يترتب على الوجود على ما هو مقتضى التحقيق، فكيف
يجوز أن تجعل في حيز الطلب.
ولكنه مدفوع أيضا: بأن الماهية من هذه الحيثية - أي مع لحاظ وجودها
في الخارج - ظرف لسقوط الطلب، فالمصحح لتعلقه بها إنما هو هذه الحيثية
147

التي لا تكون الماهية بها منشأ للأثر، إذ لحاظ التحقق في الخارج إنما هو لحاظ
السقوط وحصول المطلوب، كما هو واضح.
فالحق: أن الطلب إنما تعلق بنفس الماهية، غاية الأمر أن صدق عنوانها
يتوقف على التحقق الخارجي، فالأمر بإكرام زيد مثلا إنما تعلق بنفس طبيعة
الإكرام، غاية الأمر أن صدق عنوان الإكرام وتحققه يتوقف على وجوده، إذ
ماهية الإكرام لا تكون إكراما، كما هو واضح.
ثم لا يخفى أن في التقريرات المنسوبة إلى المحقق العراقي (قدس سره) قد عقد بعد
هذا الفصل فصلا آخر لسراية الطلب المتعلق بصرف وجود الطبيعة إلى حصصها
أو الخصوصيات الفردية (1)، وكلامه فيه مبني على ما يقوله الرجل الهمداني،
وقد فصل مع جوابه في محله، فراجع.

1 - نهاية الأفكار 1: 384 - 389.
148

بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
الفصل الثامن
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
والكلام هنا تارة يقع في الإرادة الحتمية التي ينشأ منها البعث، واخرى في
البعث والوجوب، وعلى التقديرين تارة يقع الكلام في إمكان بقاء الجواز بعد
النسخ، واخرى في بيان مقتضى الجمع بين الدليلين، وأنه هل يقتضي الدليل
ثبوته بعد الفراغ عن إمكان البقاء ثبوتا، فالبحث يتم في ضمن أمور:
الأمر الأول: في إمكان بقاء الجواز
فنقول: أما الكلام في الإرادة الحتمية فقد يقال بإمكان بقاء أصلها بعد
نسخها بتلك المرتبة القوية، نظرا إلى أن الإرادة وإن كانت من البسائط إلا أن
صدقها على أفرادها إنما هو على سبيل التشكيك، كما يظهر بمراجعة الوجدان،
فإن الإنسان قد يريد شيئا بحيث لا يمكن ردعه عنها، وقد يريد شيئا ولكنه يمكن
أن ينصرف عنها لتحقق بعض الموانع، وحينئذ فإذا نسخت بتلك المرتبة القوية،
149

فلا مانع من بقائها ولو في ضمن المرتبة الضعيفة (1).
هذا، ولكن لا يخفى أن معنى البساطة هو عدم كون تلك الحقيقة البسيطة
مركبة من شئ مشترك بين أفرادها بحيث كانت التفاوت الموجود بينها خارجا عن
الحقيقة، بل كانت تفاوت أفراد الطبيعة من حيث القوة والضعف ونظائرهما
بحيث يكون ما به الاختلاف عين ما به الاشتراك، وحينئذ فكيف يعقل ارتفاع
بعض الأفراد وبقاء شئ منه؟! وهل يتوهم أحد أنه لو ارتفع الوجوب من
الواجب الوجود يبقى أصل الوجود حتى يمكن أن يصير ماديا؟
وبالجملة، فمن الواضح عدم إمكان البقاء في مثل البسائط.
هذا في الإرادة، وأما الوجوب فكذلك أيضا، فإنه مع بساطته - كما اعترف
به القائل - كيف يمكن بقاء شئ منه، كما هو واضح.
فالتحقيق أنه لا يمكن البقاء ثبوتا حتى يبحث في مقام الإثبات.
الأمر الثاني: في مقتضى الأدلة إثباتا بعد فرض إمكانه
ثم إنه لو سلمنا إمكان البقاء بحسب مقام الثبوت فهل يقتضي الدليل بقاء
الجواز قد يقال: نعم، لأن ذلك مقتضى الجمع بين دليلي الناسخ والمنسوخ، نظير
ما إذا ورد دليل على وجوب شئ ودليل آخر على عدم وجوبه، فإنه لا إشكال
في أن مقتضى الجمع بينهما هو حمل الأول على الاستحباب، فليكن المقام كذلك
أيضا، لأنه لا فرق بينهما أصلا.
هذا، ولكن لا يخفى أن قياس المقام بذلك المثال قياس مع الفارق، لأن

1 - لاحظ نهاية الدراية 2: 262 - 266، نهاية الأفكار 1: 389 - 390.
150

الحمل على الاستحباب هناك لقيام الدليل على عدم كون البعث ناشئا من الإرادة
الحتمية حتى ينتزع منه الوجوب بناء على ما ذكرنا في معنى هيئة " افعل " وأما
بناء على ما ذكروه فقيام الدليل الآخر على عدم الوجوب قرينة على إرادة معنى
مجازي من الصيغة الظاهرة في الوجوب عند التجرد عن القرينة.
وأما هنا فمن المعلوم أن دليل المنسوخ ظاهر في الوجوب، وليس له
ظهورات متعددة حسب تعدد مراتب الوجوب، بل ليس له إلا ظهور واحد في
خصوص الوجوب، غاية الأمر أنه يكشف عن ثبوت الجواز والرجحان أيضا،
وحينئذ فمع قيام الدليل على ارتفاعه الراجع إلى ارتفاع الكاشف لايبقى وجه
لثبوتهما بعد انعدام ما يكشف عنهما، إذ قد عرفت أنه ليس هنا ظهورات ثلاثة
حتى يكون مقتضى دليل الناسخ ارتفاع أحدها بحيث لا ينافي ثبوت الباقي، فالحق
أنه لو قلنا بإمكان بقاء الجواز ثبوتا، فلا يكون هنا دليل على بقائه.
الأمر الثالث: في استصحاب الجواز عند الشك في بقائه
قد يتمسك في ذلك بالاستصحاب.
ولكن يرد عليه - مضافا إلى أن جريانه موقوف على جريان الاستصحاب
في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي مع أنه محل إشكال - أنه لو قلنا
بالجريان في هذا القسم فهو إنما فيما إذا لم يختل بعض مما يعتبر في جريان
الاستصحاب، وأما إذا اختل كما في المقام لأن الجواز المستصحب لا يكون
موضوعا لمجعول شرعي حتى يترتب عليه بالاستصحاب الحكم الذي جعل
موضوعا له، ولا يكون بنفسه مجعولا حتى يثبت بالاستصحاب في الزمان
اللاحق فلا.
151

أما عدم كونه موضوعا لمجعول شرعي: فواضح.
وأما عدم كونه مجعولا: فلأن الجعل إنما تعلق بالوجوب لا به.
وتوهم تعلق الجعل به تبعا، مدفوع: بأنه لا يكون الجواز جزء للوجوب
حتى يتعلق الجعل به بالتبع، لما عرفت من كونه بسيطا.
152

الواجب التعييني والتخييري
الفصل التاسع
في الواجب التعييني والتخييري
ربما يقسم الواجب إلى تعييني وتخييري باعتبار أنه لو كان متعلق
الوجوب شيئا واحدا، فهو واجب تعييني، ولو كان شيئين أو أزيد، فهو واجب
تخييري.
وقد يقال بامتناع الثاني، نظرا إلى أنه لا يعقل تعلق الإرادة بأحد الشيئين أو
الأشياء على نحو الترديد بأن يكون التعلق بحسب الواقع ونفس الأمر مرددا،
وذلك لأن تشخص الإرادة إنما هو بالمراد، ومن المعلوم أن التشخص الذي هو
مساوق للوجود مناف للإبهام والتردد، إذ لا يعقل عروض الوجود للشئ المردد
بين الأمرين أو أمور بأن يكون المردد من حيث هو مردد موجودا في الواقع، نعم
لا بأس بأن يكون الواقع المعين مرددا عندنا ومجهولا لنا، ولكنه لا يعقل التردد مع
قطع النظر عن علمنا وجهلنا.
وبالجملة فالإرادة من الصفات الحقيقية للنفس كالعلم ونظائره، ولها أيضا
إضافة إلى المراد كإضافة العلم إلى المعلوم، فكما أن تشخص العلم إنما هو
153

بالمعلوم، ولا يعقل تعلق العلم بالمردد الواقعي كذلك تشخص الإرادة وتعينها إنما
هو بالمراد، فلا يعقل تعلقها بالمردد بحسب نفس الأمر أو بأزيد من شئ واحد،
وهذا في إرادة الفاعل واضح، ومعلوم أنه لا فرق بينها وبين إرادة الأمر، فلا يمكن
تعلقها أيضا بالمردد الواقعي والمبهم النفسي الأمري، فظهر أنه لا يعقل الواجب
التخييري، وحينئذ فيجب صرف ما ظاهره ذلك مما ورد في الشرعيات والعرفيات
عن ظاهرها، ويقال بأحد الأقوال التي كلها مبنية على امتناع الواجب التخييري.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في امتناع الواجب التخييري، ولكنه لا يخفى ما
فيه، فإن قياس الإرادة التشريعية بالإرادة الفاعلية قياس مع الفارق، فإن معنى
الإرادة التشريعية ليس راجعا إلى إرادة الآمر إتيان المأمور بالمأمور به، كيف
ويستحيل تخلفه بالنسبة إلى الواجب تعالى، بل معناها ليس إلا إرادة التشريع
والبعث والتحريك، وحينئذ فنقول: إن تعلق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء مرددا
ومبهما وإن كان مستحيلا، بداهة إلا أنه لا يلزم في الواجب التخييري هذا
المحذور أصلا، فإن الآمر بعدما يتصور الشيئين مثلا ويرى أن كل واحد منهما
مؤثر في حصول غرضه الواحد أو كان هناك غرضان يترتب أحدهما على أحد
الشيئين والآخر على الآخر ولكن مع حصول أحد الغرضين لا يمكن تحصيل
الآخر أو لا يكون تحصيله لازما، فبعدما رأى ذلك يريد أن يبعث العبد نحوهما
فيبعث، ولكن يفهم العبد ذلك، أي كون أحدهما غير واجب مع حصول الآخر بأن
يخلل بين البعثين كلمة أو نحوها.
وبالجملة: فليس هناك شئ متعلق بالمردد الواقعي لا تصور المولى ولا
إرادته البعث ولا نفس البعث.
أما الأول: فمن الواضح أن البعث إلى الشيئين لا يعقل بدون تصورهما،
154

وحيث إن المتصور متعدد فلا محالة يكون التصور كذلك، لما عرفت من أن
تشخصه إنما هو بتشخصه، فهناك تصوران.
وأما إرادته البعث: فواضح تعددها بعدما يريد البعث إلى هذا والبعث إلى
ذاك.
ومن هنا يظهر وجه تعدد البعثين.
فتوهم: أن القول بالواجب التخييري مستلزم لكون متعلق البعث الواحد
مرددا بين الشيئين أو الأشياء مع وضوح استحالته، لأنه وإن كان من الأمور
الاعتبارية إلا أن تعلقها بالمردد مستحيل كتعلق الأمور الحقيقية به، وهل يعقل
اعتبار ملكية المردد بين الثوب والدار ونظائره؟
مدفوع: بأن ذلك كله مبني على أن يكون البعث واحدا والمبعوث إليه
متعددا، مع أنك عرفت تعدد البعث حسب تعدد المبعوث إليه في الواجب
التخييري.
فالتحقيق: أن الواجب التخييري ليس نحوا آخر من الوجوب وسنخا آخر
من البعث، بل لا فرق بينه وبين التعييني من حيث الوجوب والبعث أصلا، غاية
الأمر أنه يعتبر التعيينية والتخييرية بعد ملاحظة وحدة الواجب وتعدده،
فالحق إمكان الواجب التخييري، ومعه لا مجال لرفع اليد عما ظاهره ذلك من
الأدلة الشرعية والأوامر العرفية كما أنه لاتصل النوبة إلى الأقوال الكثيرة
التي عرفت أن كلها مبنية على امتناع الواجب التخييري.
ثم إن ما ذكره في الكفاية: من أنه لو كان هناك غرض واحد مترتب على
الشيئين أو الأشياء، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع والقدر المشترك بينهما
أو بينها، لأنه لا يمكن صدور الغرض الواحد من المتعدد بما هو متعدد، فحيث إن
155

الغرض يترتب على الجامع، فلا محالة يكون الجامع واجبا (1)، ففيه - مضافا إلى
منع ما ذكره من عدم إمكان صدور الشئ الواحد من المتعدد فإن ذلك إنما هو في
موارد مخصوصة، كما حقق في محله (2) - أنه لو سلم ترتب الغرض على
الجامع، فلا ارتباط لذلك بالمقام، إذ ليس الكلام في أن المترتب عليه الغرض
هل هو شئ واحد أو متعدد، وليس التقسيم أيضا ناظرا إلى الغرض، بل التقسيم
إنما هو للوجوب باعتبار الواجب، فالحكم بكون الواجب في الغرض واجبا
تعيينيا لكون الغرض واحدا، والمؤثر في حصوله أيضا كذلك ممنوع جدا بعدما
كان الواجب بحسب الظاهر شيئين أو أشياء، وكون التقسيم بملاحظته، ولا منافاة
بين كون الغرض مترتبا على الجامع والأمر متعلقا بما هو في ضمنه كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أن البعث إلى أحد الأشياء ونظائره من العناوين الكلية
الانتزاعية إنما هو من قبيل الواجب التعييني، لأن متعلق الوجوب شئ واحد
وإن كان كليا انتزاعيا، فتأمل جيدا.
تذنيب: التخيير بين الأقل والأكثر
هل يمكن التخيير عقلا بين الأقل والأكثر أم لا؟
وليعلم أن مورد النزاع ما إذا اخذ الأقل لا بشرط من حيث الزيادة، وأما إذا
اخذ بشرط لا، فهو مباين للأكثر، والتخيير بينه وبين الأكثر حينئذ يكون من
التخيير بين المتبائنين، ولا إشكال في جوازه.

1 - كفاية الأصول: 174.
2 - الحكمة المتعالية 2: 210 - 212.
156

إذا عرفت ذلك، فنقول: للمسألة صور، فإن الأقل والأكثر قد يكونان من
الأمور التي تحصل تدريجا، وقد يكونان من الأمور التي تحصل دفعة، وعلى
التقديرين قد يكون هنا غرض واحد يترتب على كل واحد منهما، وقد يكون هنا
غرضان يترتب أحدهما على الأقل والآخر على الأكثر ولكن لا يمكن تحصيل
أحدهما مع حصول الآخر، أو لا يجب تحصيله وإن أمكن.
157

الواجب العيني والكفائي
الفصل العاشر
في الواجب العيني والكفائي
ربما يقسم الواجب إلى عيني وكفائي، والمراد بالأول هو ما يعتبر في
سقوط الوجوب وحصول الامتثال بالإتيان به مباشرة، ولا يسقط بفعل الغير،
والمراد بالثاني هو ما لا يعتبر فيه ذلك، بل يسقط التكليف عن الجميع بفعل بعض
المكلفين، ويعاقب الجميع لو لم يمتثل، وهذا كوقوعه في الشرع مما لا إشكال
فيه ولا كلام، وإنما الكلام في الواجب الكفائي في كيفية تعلق الوجوب
بالمكلفين.
فنقول: هل الوجوب متعلق بمجموع المكلفين من حيث المجموع أو
بالواحد لا بعينه أو بالواحد المردد أو بكل واحد من المكلفين؟ وجوه
واحتمالات.
وتفصيل الكلام: أنه لا يعقل كون الوجوب متعلقا بالمجموع من حيث
المجموع، لأنه لا وجود للمجموع من حيث هو سوى الوجودات والأفراد، كما
أنه لا يعقل تعلقه بالواحد لا بعينه، لأنه لا وجود له، لأن الوجود مساوق
للعينية، كما برهن في محله.
158

وأما الواحد المردد: فقد عرفت في مبحث الوجوب التخييري أنه لا يعقل
تعلق البعث بالشئ المردد، ومن المعلوم أنه لا فرق بين المبعوث والمبعوث
إليه من هذه الجهة، إذ كما أن البعث له إضافة إلى المبعوث إليه كذلك له
إضافة إلى المبعوث الذي هو المكلف.
وما عن بعض الأعاظم من ثبوت الفرق بينهما (1) لا نعرف له وجها أصلا،
كما لا يخفى.
وأما تعلقه بكل واحد من المكلفين: فقد يقال - كما عن بعض أعاظم
المعاصرين - بأنه هي كيفية تعلق الوجوب في الواجب الكفائي، والفرق بينه
وبين الواجب العيني حينئذ مع اشتراكه معه في ذلك إنما هو في الإطلاق
والتقييد، بمعنى أن متعلق الطلب في العيني إنما هي الطبيعة المتقيدة بقيد
المباشرة، بخلاف متعلقه في الواجب الكفائي فإنه هي الطبيعة المطلقة المعراة
عن قيد المباشرة.
قال: والدليل على ذلك أنه لو شك في الواجب أنه عيني أو كفائي، يبنى
على الثاني، وليس ذلك إلا لكون المطلوب فيه مطلقا بخلاف الأول (2).
وفي تقريرات المحقق النائيني أن التحقيق في تصوير الواجب الكفائي أنه
عبارة عما كان الغرض منه مترتبا على صدور الفعل من صرف وجود المكلف،
بخلاف العيني الذي لا يحصل الغرض إلا بصدوره من مطلق وجود المكلف
الساري في الجميع (3). انتهى.

1 - نهاية الأصول: 228.
2 - نفس المصدر: 229 - 230.
3 - أجود التقريرات 1: 187.
159

أقسام الواجب الكفائي
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الواجب الكفائي على أقسام:
منها: ما لا يكون للطبيعة المأمور بها إلا فرد واحد بمعنى أنه لا يعقل
تحققها بعد وجود فرد واحد منها، كقتل ساب النبي ودفن الميت وأمثالهما.
ومنها: ما يكون لها أفراد متعددة ووجودات متكثرة بمعنى أنه يمكن أن
تتحقق الطبيعة بعد تحقق فرد واحد منها كالصلاة على الميت ونحوها.
وعلى التقدير الثاني قد يكون المأمور به هو الفرد الواحد منها، وقد يكون
هو صرف وجودها الصادق على الأفراد المتعددة، وعلى التقديرين قد يكون الفرد
الآخر أو صرف وجودها الآخر مبغوضا للمولى، وقد يكون لا محبوبا ولا
مبغوضا، وعلى التقادير قد يكون المكلف هو صرف وجوده وقد يكون هو
الجميع.
إذا عرفت ذلك، فنقول: أما إذا لم يكن للطبيعة المأمور بها إلا فرد واحد
ووجود فارد، فلا معنى لأن يكون التكليف فيه متعلقا بكل واحد من المكلفين أو
بصرف وجوده، إذ من الواضح أن البعث إنما هو لغرض الانبعاث، ولا يعقل أن
ينبعث المكلفين إلى عمل لا يمكن تحققه إلا من واحد منهم، وهل يعقل أن يأمر
المولى عبيده بشرب الماء الموجود في الإناء الذي لا يمكن تحققه إلا من واحد
من عبيده؟ هكذا لو كان التكليف متعلقا بصرف وجود المكلف، لأنه يصدق على
الجميع أيضا، فلابد إما أن يقال بكون الخطاب في أمثال المثال مشروطا بعدم إتيان
الآخر به، وإما أن يقال بالنحو الذي ذكرنا في الواجب التخييري، غاية الأمر أن
التخيير هاهنا بالنسبة إلى المكلف وهناك بالنسبة إلى المكلف به، وإما أن يقال
بأن المكلف إنما هو واحد من الأناسي المنطبق على جميعهم.
160

ومن هنا يظهر: حال ما إذا كانت للطبيعة أفراد متعددة، ولكن كان فرد واحد
منها متعلقا للأمر، سواء كان الزائد عليه مبغوضا أو غير مبغوض، فإنه لا يعقل أن
يكون التكليف به متوجها إلى جميع المكلفين أو إلى صرف وجود المكلف
بالتقريب المتقدم.
وأما إذا كان المأمور به هو صرف وجود الطبيعة، فيمكن أن يكون
التكليف متعلقا بصرف وجود المكلف.
فتحصل مما ذكرنا: أن ما في تقريرات المحقق النائيني من كون التكليف
متوجها إلى صرف وجود المكلف من دون التفريق بين الأقسام المذكورة لا يتم
أصلا، كما لا يخفى.
161

المقصد الثاني
في النواهي
وفيه فصول:
163

حول صيغة النهي
الفصل الأول
في صيغة النهي
اعلم أن هيئة " لا تفعل " إنما وضعت في اللغة للزجر عن وجود الطبيعة
التي تعرض لها تلك الهيئة، كما أن هيئة " افعل " موضوعة للبعث إلى وجودها،
فالفرق بين الأمر والنهي بعد الاشتراك في تعلقهما بالوجود إنما هو في كون الأول
موضوعا ومفيد للبعث، والثاني دالا على الزجر، وحينئذ فلا يبقى للنزاع المعروف
- وهو: أن المطلوب في باب النواهي هل هو الكف أو نفس أن لا تفعل - مجال
أصلا، إذ ذلك النزاع متفرع على اشتراكهما في الدلالة على الطلب، غاية الأمر
ثبوت الاختلاف في باب النواهي في أن متعلق الطلب هل هو الأمر الوجودي أي
الكف أو الأمر العدمي، أي نفس أن لا تفعل، وقد عرفت أن النهي لا يدل على
الطلب حتى ينازع في تعيين المطلوب وأنه أمر وجودي أو عدمي، بل إنما هو
موضوع للزجر، ومتعلقه إنما هو وجود الطبيعة لا غير، كما هو واضح.
ثم على تقدير دلالة النهي على الطلب فلا مجال لاحتمال كون المطلوب
هو العدم، وذلك لأن العدم ليس بشئ حتى يمكن تعلق الطلب به، وهذا واضح
جدا.
165

ومنه انقدح فساد ما في الكفاية من كون المطلوب في باب النواهي هو
العدم لا الكف (1)، إذ ليس وجه استحالة تعلق الطلب به كونه خارجا عن
تحت القدرة والاختيار حتى يرد بما ذكر فيها، بل الوجه فيها أنه ليس بشئ ولا
حقيقة له حتى صار لسببها مطلوبا ومرادا.
في منشأ الفرق بين مرادي الأمر والنهي
ثم إنه لا إشكال عند العقلاء في ثبوت الفرق بين الأوامر والنواهي بكفاية
الإتيان بفرد من الطبيعة المأمور بها في تحقق امتثال الأمر المتعلق به وسقوطه،
لحصول الغرض، وهو تحققها بإيجاد فرد منها في الخارج، وأنه لا يحصل الغرض
بتمامه إلا بترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها في باب النواهي، إنما الإشكال
في وجه الفرق، فقد يقال بأن الحاكم به إنما هو العقل، نظرا إلى أن وجود
الطبيعة إنما هو بوجود فرد واحد، وعدمها لا يكاد يتحقق إلا بعد انعدام جميع
الأفراد (2).
هذا، ولكن لا يخفى: أن هذا الكلام بمعزل عن التحقيق، فإن معنى تحقق
الطبيعة بوجود فرد ما كون كل واحد من الأفراد هو تمام تلك الطبيعة، ولا ينقص
عنها أصلا، إذ لو كانت الطبيعة متحصصة بحصص عديدة حسب تعدد الأفراد،
لكان وجودها في الخارج متوقفا على وجود جميع الأفراد، لكي يتحصل جميع
الحصص، فوجودها بوجود فرد واحد مساوق لكون كل فرد تمام طبيعته، فزيد
تمام الإنسان، وكذا عمرو، وبكر، فإذا كان وجود زيد كافيا في وجود حقيقة

1 - كفاية الأصول: 182.
2 - نفس المصدر: 182 - 183.
166

الإنسان فكيف يعقل أن لا يكون عدمه كافيا في عدمها، وهل هذا إلا المناقضة
في القول من غير التفات؟
وتوهم أن لازم ما ذكر كون طبيعة واحدة موجودة ومعدومة معا فيما إذا
وجد زيد وعدم عمرو، مع أن ذلك غير معقول، يدفعه أن الطبيعة إنما تتكثر
حسب تكثر الأفراد، فزيد وعمرو إنسانان لا إنسان واحد، وحينئذ فلا بأس
باتصافها بالوجود من ناحية وجود بعض الأفراد وبالعدم من قبل انعدام بعضها
الآخر، كما أنه يتصف بالبياض والسواد، وبالطول والقصر، وبالحركة
والسكون، وبالقيام والقعود في آن واحد، وليس ذلك إلا لكونه متكثرا ومتعددا
حسب تكثر الوجودات وتعدد الأفراد.
فالإنصاف: أنه لا فرق بين وجود الطبيعة وعدمها من هذه الحيثية في
نظر العقل أصلا، وكما أن وجود بعض الأفراد يكفي في تحصل الطبيعة فكذلك
عدمه كاف في انعدامها، فاستناد الفرق بين الأوامر والنواهي إلى حكم العقل مما
لا مجال له أصلا، كما لا يخفى، كما أن دعوى كون ذلك مستندا إلى فهم العرف من
الألفاظ بحسب معانيها اللغوية وحقائقها التي وضعت تلك الألفاظ بإزائها مما لم
يعرف له وجه، كما هو واضح، فانحصر أن يكون منشأ ذلك حكم العقلاء بذلك
من غير ارتباط له بباب الألفاظ.
ثم إن دلالة النهي على الزجر بعد المخالفة أيضا إنما هو لكون مدلوله
هو الزجر عن الطبيعة المتعلقة له، لا العدم حتى يقال بأنه متى تحققت
المخالفة فقد انتقض إلى الوجود، ولا مجال لبقائه بعد تحقق عصيانه، بل النهي
لأجل كونه دالا على الزجر عن جميع وجودات الطبيعة، لا مجال لسقوطه
بمجرد تحقق بعض وجوداته، ولا دليل على كون المخالفة والعصيان مسقطا.
نعم لو كان متعلق النهي هو أول الطبيعة، فبمجرد تحققه يسقط، لا لكون
167

المخالفة من حيث هي مسقطا، بل لأجل أنه لا يمكن امتثاله فيما بعد أصلا،
لأن المفروض أن المبغوض إنما هو أول وجود الطبيعة، وقد حصل، وحينئذ فلو
فرض عدم تقييده بذلك - كما في أكثر النواهي - إذ المتعلق فيها الطبيعة بجميع
وجوداتها، فلاوجه لسقوطه بعد تحققها ببعض وجوداتها، فالنهي مع أنه تكليف
واحد وحكم فارد له عصيانات متعددة وإطاعات متكثرة، كما لا يخفى.
ثم إنه قد تصدى بعض من المحققين لإثبات بقاء النهي بكون مدلوله على
نحو العموم الاستغراقي، كما في تقريرات المحقق النائيني (1)، أو بكون المجعول
هي الملازمة بين طبيعي الطلب وطبيعي المتعلق، كما في حاشية بعض
المحققين في محشي الكفاية (2).
ولكن كل ذلك مما لا دليل عليه، لو لم نقل بثبوت الدليل على خلافه.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 395.
2 - نهاية الدراية 2: 290 - 291.
168

اجتماع الأمر والنهي
الفصل الثاني
في اجتماع الأمر والنهي
وقبل الخوض في ذكر أدلة الطرفين وبيان أدلة المختار لابد من تقديم
أمور:
الأمر الأول: في عنوان المسألة وتحرير مصب النزاع
قد يقال - كما قيل - بأن مورد النزاع في هذا الباب هو اجتماع الأمر والنهي
في واحد، وأن المراد بالواحد ليس خصوص الواحد الشخصي بل كل ما يكون له
جهتان ومندرجا تحت عنوانين ولو كان واحدا جنسيا أو نوعيا، كالحركة
الصلاتية الكلية المتحدة مع الحركة الكلية الغصبية.
هذا، ولكن لا يخفى أن الواحد الشخصي لا يعقل أن يتعلق تكليف واحد به
فضلا عن تكليفين، لأن الخارج ظرف لسقوط التكليف لا ثبوته، كما هو واضح.
وأما الواحد الجنسي أو النوعي: فما كان منه مثل السجود لله والسجود
للصنم، فلاينبغي الارتياب في جواز تعلق الأمر والنهي به، وما كان منه مثل
الحركة والسكون الكليتين المعنونين بعنوان الصلاتية والغصبية، فمع قطع
169

النظر عن اتحادهما في الخارج وتصادقهما على شئ فلاينبغي أيضا الإشكال في
جوازه لأن الحركة ليست جنسا للصلاة أو الغصب، وأما مع ملاحظة التصادق
على وجود واحد والانطباق على الخارج فيرجع الكلام إلى الواحد الشخصي،
كما لا يخفى.
ومما ذكرنا ظهر فساد ما في الكفاية (1)، فراجع.
والأولى أن يعبر عن محل النزاع بأنه هل يجوز تعلق الأمر والنهي
بالعنوانين المتصادقين على واحد شخصي أو لا، إذ - مضافا إلى أنه لا يرد عليه
شئ مما تقدم - يندفع به الإشكال المعروف، وهو أنه يكون البحث في المقام
صغرويا، ولازم التعبير بما عبروه كونه كبرويا، مع أنه لا إشكال فيه ولا نزاع، إذ
تضاد الأحكام الخمسة بأسرها مما لم يناقش فيه أحد.
وجه الاندفاع: أنه بناء على هذا التعبير الذي ذكرنا لا إشكال في كون
البحث كبرويا أصلا، كما هو واضح.
الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة
الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة - التي سيجئ إن شاء
الله تعالى - ذاتي لا خفاء فيه أصلا، لعدم اتحاد المسألتين لا في الموضوع ولا
في المحمول، كما لا يخفى.
وكذا لا ينبغي الإشكال في كون المسألة أصولية، إذ هي مندرجة تحت
ضابطة مسائل علم الأصول.
وما ذكره في الكفاية من إمكان كونهما من مسائل علم الكلام أو من

1 - كفاية الأصول: 183 - 184.
170

غيره (1) فيتم لو تصرف في عنوان النزاع، وإلا فظاهره يأبى عن ذلك.
نعم لا بأس بجعلها من المبادئ الأحكامية، وكذا لا إشكال في كون
المسألة عقلية محضة، ولا ارتباط لها بباب الألفاظ أصلا، وكذا في ثبوت المناط
في أقسام الوجوب والتحريم النفسي والتعييني والعيني والغيري والتخييري
والكفائي.
الأمر الثالث: عدم اعتبار قيد المندوحة
إنه ربما يؤخذ في عنوان النزاع قيد المندوحة، نظرا إلى أن بدونها لا
إشكال ولا خلاف في امتناع الاجتماع، ولكن الحق ما في الكفاية من أن وجود
المندوحة وعدمها لا يرتبط بما هو المهم في محل البحث والمقصود في مورد
النزاع، فإن العمدة في المقام هو إمكان الاجتماع واستحالته من هذه الحيثية (2).
وبعبارة أخرى: مورد النزاع إنما هو استكشاف حال نفس التكليف من
حيث الإمكان والاستحالة لاحال المكلف به من حيث المقدورية وعدمها،
وهذا واضح جدا.
الأمر الرابع: جريان النزاع حتى مع تعلق الأوامر والنواهي بالأفراد
ربما يتوهم ابتناء النزاع في هذه المسألة على مسألة كون متعلق
التكاليف هل هي الطبائع أو الأفراد تارة بمعنى أن النزاع إنما يجري على خصوص
القول الأول في تلك المسألة، وأما بناء على القول الثاني فلابد من القول

1 - كفاية الأصول ر: 185.
2 - نفس المصدر: 187
171

بالامتناع في مسألتنا هذه، واخرى بمعنى أن القول بالجواز مبني على القول
بالطبائع، والامتناع على القول بالأفراد.
هذا، ولكن تحقيق الكلام مبني على استكشاف مرادهم في تلك المسألة
من الفرد، فنقول: إن كان مرادهم من الفرد هو الموجود الشخصي الواحد، فهذا
مما يستحيل تعلق التكليف له، للزوم تحصيل الحاصل، كما هو واضح.
وإن كان هو عنوان الفرد المعروض للكلية بمعنى أن متعلق الطلب هو
عنوان فرد الطبيعة، فلا إشكال في جريان النزاع في المقام على كلا القولين في
تلك المسألة، لأن القائل بالاجتماع يقول بتعلق الأمر والنهي بعنوان الفرد،
كقوله بتعلقهما بالطبية بناء على القول الآخر في تلك المسألة، وكذا لو كان
مرادهم من الفرد هو الوجود الخاص بنحو العموم والكلية في مقابل الطبيعة
التي هي بمعنى الوجود السعي.
نعم لو كان مرادهم من الفرد هي الخصوصيات والمقارنات المتحدة في
الخارج مع وجود الطبيعة بحيث كان مرجع قولهم إلى سراية الأمر من الطبيعة
إلى الخصوصيات المقارنة له في الوجود، وكذا النهي، فيصير المقام مبنيا على
تلك المسألة، لأن خصوصية الغصبية حينئذ مثلا تصير مورد التعلق الأمر،
وخصوصية الصلاتية مورد التعلق النهي، فكأنه قال: صل في المكان
المغصوب، ولا تغصب في الصلاة، ولكن يبعد أن يكون مرادهم من الفرد ذلك،
فظهر عدم ابتناء النزاع على تلك المسألة أصلا، كما لا يخفى.
الأمر الخامس: حول اعتبار وجود المناطين في المجتمع
ذكر في الكفاية ما حاصله: أنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلا إذا
كان في كل واحد من متعلقي الحكمين مناط حكمه مطلقا حتى في مورد
172

التصادق والاجتماع، وأما إذا لم يكن لهما مناط حكمه كذلك، فلا يكون من هذا
الباب (1). انتهى موضع الحاجة.
أقول: إن كان مراده من ذلك أن مورد النزاع في المقام هو ما كان متعلقا
الحكمين ذا مناط مطلقا حتى في مورد الاجتماع بحيث كان مرجعه إلى تقييد في
عنوان النزاع، فلا يخفى أنه لا ارتباط لذلك بما هو المهم في مقصود البحث ومورد
النزاع، لما عرفت في وجه عدم تقييد النزاع بقيد المندوحة من أن المهم في هذا
المقام جواز الاجتماع واستحالته من هذه الحيثية أي حيثية الاجتماع.
ويؤيد كون مراده ذلك اختلاف التعبير في هذا المقام وفي مسألة
المندوحة حيث إنه عبر هنا بأنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، فإن ظاهره
تطبيق عنوان النزاع على الموارد الخارجية، كما لا يخفى.
وإن كان مراده من ذلك بيان الفارق بين المقام الذي هو من قبيل التزاحم
وبين باب التعارض، ودفع توهم التناقض بين الكلمات حيث إنهم ذكروا في باب
التعارض أن من أقسامه التعارض بالعموم والخصوص من وجه ولم يذكروا في
وجه العلاج في ذلك المقام أن من جملة وجوهه الجمع بنحو يقوله القائل
بالاجتماع في ذلك المقام، بل ذكروا أن علاجه الأخذ بالأظهر إن كان، وإلا
التوقف، أو الرجوع إلى المرجحات السندية على الخلاف، وبيان الدفع على ما
يظهر منه أن مسألتنا هذه مبني على إحراز المناط في مورد الاجتماع بالنسبة
إلى الحكمين، بخلاف باب التعارض، فإنه مبني على وحدة الملاك والمناط في
الواقع، ولكن لا يعلم أن الملاك الموجود هل هو ملاك الأمر أو النهي، فإن كان
مراده - أي صاحب الكفاية - دفع هذا التوهم، فيرد عليه: منع كون باب

1 - كفاية الأصول: 189.
173

التعارض مبنيا على إحراز وحدة الملاك والمناط، فإن التعارض والاختلاف
موضوع عرفي وقع في الروايات الواردة في علاج المتعارضين المستدل بها في
ذلك الباب، فكل ما صدق عليه هذا العنوان بنظر العرف يترتب عليه أحكامه
المذكورة في تلك الروايات، سواء كان المناطان موجودين في مورد الاجتماع أم
لا، فإنه لا ارتباط له بباب المناط أصلا.
وبالجملة، فباب التعارض من الأبواب العرفية التي لا مجال للعقل ولا
طريق له إليه أصلا، فكل مورد حكم العرف بصدق هذا الموضوع يترتب عليه
أحكامه، بخلاف مسألتنا هذه، فإنها مسألة عقلية محضة لا طريق للعرف إليها
أصلا.
نعم في تطبيق هذه المسألة على الموارد الخارجية نحتاج إلى إحراز
المناطين في مورد الاجتماع، بخلاف باب التعارض، فإنه غير مرتبط بباب
المناط أصلا، بل لابد من الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع.
وبالجملة، فالفرق بين المقام وبين باب التعارض بهذا الوجه الذي ذكره
في الكفاية (1) مما لم يعرف له وجه أصلا.
الأمر السادس: في ثمرة بحث الاجتماع
وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولى: ثمرة النزاع على القول بجواز الاجتماع
إنهم ذكروا في ثمرة النزاع أنه بناء على القول بجواز الاجتماع لا إشكال

1 - كفاية الأصول: 192.
174

في صحة الصلاة في الدار المغصوبة وحصول الامتثال بها وإن كان معصية،
للنهي أيضا.
لكن التحقيق يقتضي خلافه، وأن القائل بالجواز لا يمكن له القول
بالصحة أصلا.
وينبغي أولا حكاية ما ذكره المحقق النائيني - على ما في تقريراته - في
وجه القول بجواز الاجتماع من المقدمات التي لو تمت يترتب عليها صحة
الصلاة في الدار المغصوبة، ثم بيان ما يمكن أن يورد عليه من الإيرادات، وهذه
المقدمات وإن كانت طويلة، لما عرفت من كونها مصنوعة لإثبات القول بالجواز،
إلا أنا نذكرها بطريق الاختصار، ونحيل التفصيل إلى مقامه، فنقول:
منها: بساطة المقولات، وأن ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
ومنها: تغاير المقولات بحسب الحقيقة والهوية واعتبارها بشرط
لا بالنسبة إلى أنفسها، فاجتماعها لا يعقل أن يكون على نحو الاتحاد بحيث يكون
ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر.
ومنها: كون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة، ولا تكون الحركة
جنسا للمقولات حتى يلزم التركيب فيها، ولا هي أيضا من الأعراض المستقلة
حتى يلزم قيام عرض بعرض.
وبعد هذه المقدمات يظهر: تعدد متعلق الأمر والنهي، إذ الصلاة إنما تكون
من مقولة الوضع سواء قلنا: إن المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة
كما هو مختار الجواهر (1) أو الفعل كما هو المختار، فيكون الانحناء إلى الركوع
أوضاعا متلاصقة متصلة، والغصب إنما يكون من مقولة الأين، إذ ليس الغصب

1 - جواهر الكلام 10: 69 و 123 - 124.
175

إلا عبارة عن شاغلية الشخص للمكان، فتوهم اجتماع الصلاة والغصب في
الحركة مع وحدتها مندفع بأنه إن كان المراد من وحدة الحركة وحدتها بالعدد
بحيث تعد حركة واحدة، فهذا مما لا ينفع، وإن كان المراد منها وحدة الحركة
الصلاتية والحركة الغصبية بالهوية والحقيقة، فهذا مما لا يعقل، لاستدعاء
ذلك اتحاد المقولتين، لما عرفت من أن الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة.
وبالجملة، الحركة لا يعقل أن تكون بمنزلة الجنس للصلاة والغصب،
وبحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر، للزوم التركيب في الأعراض، وليست
عرضا آخر غير المقولات، للزوم قيام العرض بالعرض، وهو محال، فلابد من أن
تكون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة، وحينئذ يظهر أنه كما أن الصلاة
مغايرة بالحقيقة للغصب، فكذا الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية،
ويكون في المجمع حركتان: حركة صلاتية، وحركة غصبية، وليس المراد من
الحركة رفع اليد ووضعه وحركة الرأس والرجل ووضعهما، فإن ذلك لا دخل
له في المقام حتى يبحث عن أنها واحدة أو متعددة، بل المراد من الحركة:
الحركة الصلاتية والحركة الغصبية، وهما متعددتان، فلا محالة، فأين يلزم
تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر.
هذا كله، مضافا إلى أن الإضافة الحاصلة بين المكان والمكين ونسبته
إليه لا يعقل أن تختلف بين أن يكون المكين من مقولة الجوهر أو من مقولة
الأعراض، وكما لا يعقل التركيب الاتحادي بين الجوهر والإضافة في قولك: زيد
في الدار، كذلك لا يعقل التركيب الاتحادي بين الضرب والإضافة في قولك:
ضرب زيد في الدار، أو الصلاة والإضافة في قولك: صلاة زيد في الدار، وكما
176

لا يكون زيد غصبا كذلك لا تكون الصلاة غصبا (1). انتهى كلامه في غاية
التلخيص.
وقد عرفت: أن هذا الكلام لو تم لترتب عليه صحة الصلاة
في الدار المغصوبة، لأنه بعد كون الحركة الصلاتية مغايرة للحركة الغصبية
لا يكون المبغوض والمبعد عن ساحة المولى بعينه محبوبا ومقربا للعبد نحو
المولى حتى يقال باستحالة كون المبعد مقربا، فإن المبغوض هي الحركة
الغصبية، والمحبوب هي الحركة الصلاتية.
وبالجملة، بعد فرض تعدد الحركة لايبقى مجال للإشكال في صحة
الصلاة، لعدم الارتباط بين الحركتين، فالحركة الصلاتية تؤثر في القرب،
والغصبية تؤثر في البعد.
هذا، ولكن يرد على ما ذكره أولا: أن الصلاة ليست بنفسها من المقولات،
لأنها مركب اعتباري، واجزاؤها عبارة عن الحقائق المختلفة والهويات
المتشتتة، فلا يعقل أن تكون بنفسها مندرجة تحت مقولة واحدة، وكذا الغصب
ليس مندرجا تحت مقولة أصلا، فإنه عبارة عن الاستيلاء والتسلط على مال
الغير عدوانا، ومن المعلوم أن ذلك أمر اعتباري يعتبره العرف والعقلاء، وليس من
الأمور الواقعية والحقائق، نظير سلطة الشخص على مال نفسه.
هذا، مضافا إلى أن ما يتحد مع الصلاة في الدار المغصوبة ليس هو
الغصب، لما عرفت من أنه عبارة عن التسلط على مال الغير عدوانا، وهذا المعنى
مما لا يرتبط بالصلاة أصلا، بل الذي يتحد معها هو التصرف في مال الغير بغير
إذنه، الذي محرم آخر غير الغصب، وبينهما عموم من وجه، كما لا يخفى.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 427 - 428.
177

ومن المعلوم أن التصرف جامع انتزاعي للأفعال المرتبطة إلى مال الغير من
الكون فيه وسائر التصرفات، وليس التصرف بنفسه من المقولات أصلا، بل
المندرج تحتها إنما هو مصاديق التصرف.
فظهر أن ما يكون مندرجا تحت مقولة من المقولات من مصاديق التصرف
المتحدة مع الصلاة إنما هو الكون في المكان المغصوب، الذي هو من مقولة
الأين، وإلا فالغصب وكذا التصرف بعنوانه ليسا من المقولة أصلا كما لا يخفى.
وثانيا: أن الركوع - وهو الفعل الخاص الصادر من المكلف كما هو الأقوى
وفاقا له - يمكن أن يكون من مقولة الأين، لما ذكره المستدل من أن الحركة في
كل مقولة عين تلك المقولة، فالرأس المتحيز في حيز مخصوص إذا تحرك منه
إلى مكان آخر، يكون ذلك حركة في الأين، وإن كان بالإضافة إلى حدوث
حالة أخرى وكيفية حادثة بالنسبة إلى أجزاء الإنسان بعضها مع بعض يكون
حركة في الوضع، وحينئذ فالركوع الذي يكون حركة واحدة أينية صار متعلقا
للحب والبغض، لعدم كون المقولتين حينئذ متعددا حتى يستحيل تركيب الاتحادي
بينهما، بل صار كل من الركوع والكون في مكان مغصوب، الذي هو مصداق
للتصرف في مال الغير مندرجا تحت مقولة الأين، فصارت الحركة حركة واحدة
أينية.
ثم إن ما ذكرناه من أن مصاديق التصرف في مال الغير تكون مندرجة تحت
المقولات فإنما هو مبني على المسامحة، ضرورة أن المندرج تحتها إنما هو
مصداق ذات التصرف، لا مقيدا بكونه في مال الغير، فالكون في المكان إنما
يكون مندرجا تحت مقولة الأين، لا الكون في المكان المغصوب، فإن غصبية
المكان خارج عن ذلك أصلا.
وهذا أيضا مما يورد به على المستدل، فإنه بعد العدول عن الغصب إلى
178

التصرف في مال الغير، وعنه إلى مصاديقه يبقى الإشكال في عدم كون مصاديق
التصرف في مال الغير بما هي مصاديق له مندرجا تحت مقولة، لما عرفت من
عدم مدخلية مال الغير في ذلك أصلا.
فظهر من جميع ذلك: أن المقرب والمبعد إنما هو شئ واحد وأمر فارد،
وهي الحركة الأينية، ومع فرض كونه مبعدا لا يمكن أن يكون مقربا، فلا يصلح
أن يكون جزء للعمل العبادي أصلا، فالصلاة في الدار المغصوبة باطلة ولو على
القول بالجواز.
هذا كله فيما يتعلق بالقول بالجواز.
الجهة الثانية: ثمرة النزاع على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر
وأما بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر فقد يقال بصحة الصلاة
مطلقا، مثل ما إذا قيل بالجواز، غاية الأمر أنه لا معصية بناء عليه دونه.
ولكن لا يخفى أنه لا يتم ذلك بإطلاقه، بل إنما يتم فيما لو لم تكن له
مندوحة ولم يتمكن من الامتثال في غير المكان الغصبي، وأما مع وجود
المندوحة والتمكن من الامتثال في غير الدار المغصوبة فظاهر أنه لو صلى فيها
لا تكون صلاته صحيحة، ضرورة أن مزاحمة ملاك الصلاة لملاك الغصب وتقديم
الأولى للأهمية لا يقتضي أزيد من سقوط ملاك الثاني عن التأثير فيما لو دار الأمر
بين إتيان الأولى أو ارتكاب الثاني.
وبعبارة أخرى: دار الأمر بين إتيان الأولى أو ارتكاب الثاني. وبعبارة
أخرى: دار الأمر بين امتثال الأمر ومخالفة النهي وبين موافقة النهي ومخالفة
الأمر. وأما لو تمكن من امتثال الأمر وموافقة النهي معا، فمن الواضح أنه لا
تسقط ملاك النهي عن التأثير أصلا.
179

ونظير ذلك يتصور في الأمرين، فإن أهمية إنقاذ الولد المأمور به بالنسبة
إلى إنقاذ الأخ المأمور به أيضا لا يقتضي إلا سقوط الأمر الثاني في خصوص ما
إذا دار الأمر بين إنقاذ الولد والأخ بمعنى أنه لم يمكن اجتماعهما، وأما فيما أمكن
امتثال كلا الأمرين بانقاذ كلا الغريقين، فلا يجدي الأهمية شيئا أصلا، كما هو
واضح لا يخفى.
هذا كله بناء على تقديم جانب الأمر.
الجهة الثالثة: ثمرة النزاع على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي
وأما بناء على تقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان العبادة مع الالتفات
إلى موضوع المحرم وإلى تحريمه أو مع الجهل تقصيرا، ضرورة أن الفعل لا يصلح
مع ذلك لأن يتقرب به مع أنه لا يكاد يتمشى قصد التقرب من الملتفت أصلا، إنما
الإشكال في بطلانها مع الجهل قصورا.
حكم العبادة مع الجهل عن قصور
ظاهر الكفاية بل صريحها صحة العبادة معه (1).
ولا يخفى أن إثبات الصحة موقوفة على إثبات جهتين:
الجهة الأولى: كون المجمع مشتملا على كلا مناطي الحكمين: مناط
الوجوب ومناط التحريم.
الجهة الثانية: كفاية مناط الوجوب في الصحة بعد سقوط مناط
التحريم عن التأثير في الحكم الفعلي.

1 - كفاية الأصول: 212.
180

أما الكلام في الجهة الأولى فنقول: لا إشكال في ثبوت المضادة والمنافرة
بين مناطي الوجوب والتحريم كثبوت المضادة بين أنفسهما، بل الأول أولى،
لإمكان المناقشة في التضاد بين الأحكام، كما سيجئ إن شاء الله تعالى.
ومن الواضح أن مناط الحكم وملاكه إنما يقوم بالموجود الخارجي،
ضرورة أن شرب الخمر المتحقق في الواقع يكون ذا مفسدة لا عنوان شرب
الخمر، وحينئذ فيسأل عن القائل بالامتناع - المستند في ذلك إلى ثبوت التضاد
بين الأحكام وأن متعلق التكاليف هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه
وأن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وأن الموجود بوجود واحد له ماهية
واحدة - عن أنه هل حامل المصلحة والمفسدة في الوجود الخارجي هي
الحيثية الواقعية الواحدة أو الحيثيتين؟ فإن قال بالأول، فيرده وضوح التضاد بين
المناطين، وإن قال بالثاني - كما أنه لابد من ذلك - فيرد عليه سؤال الفرق بين
المناط وبين نفس الحكم، فإذا جاز قيام المصلحة بحيثية وقيام المفسدة بحيثية
أخرى، فلم لا يجوز كون الأمر متعلقا بالحيثية الأولى والنهي بالحيثية الثانية.
وبالجملة، فلا يجتمع القول بالامتناع نظرا إلى أنه تكليف محال مع القول
بكون المجمع مشتملا على كلا المناطين، فبعدما كان المفروض هو القول
بالامتناع وتقديم جانب النهي لايبقى مجال للقول بالصحة أصلا ولو قلنا بكفاية
الملاك في صحة العبادة وعدم احتياجها إلى تعلق الأمر بها، ضرورة أنه بناء
على ما ذكرنا لا يكون المجمع إلا مشتملا على مناط التحريم فقط.
وأما الكلام في الجهة الثانية، فنقول: لو سلم كون المجمع واجدا
للمناطين بناء على القول بالامتناع، فهل يكفي مناط الوجوب في صحة العبادة
بعد فرض سقوط مناط التحريم عن التأثير؟ وبعد فرض كفاية المناط في صحة
العبادة وعدم الافتقار إلى تعلق الأمر بها أم لا؟ قد يقال - كما في تقريرات المحقق
181

النائيني - بالعدم، نظرا إلى أن تصحيح العبادة بالملاك إنما يكون بعد الفراغ عن
ثبوت حكمها وتشريعه مطلقا، غاية الأمر أنه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين
حكم آخر في مقام الامتثال.
وخلاصة كلامه في هذا الباب: أن التزاحم قد يكون بين الحكمين، وقد
يكون بين المقتضيين، مثل مورد الاجتماع، بناء على القول بالامتناع، وبينهما بون
بعيد، فإن تزاحم الحكمين إنما يكون في مقام الفعلية وتحقق الموضوع بعد
الفراغ عن تشريعهما على طبق موضوعاتهما المقدر وجودها، وفي هذا القسم من
التزاحم يكون لعلم المكلف وجهله دخل حيث إن الحكم المجهول لا يصلح أن
يكون مزاحما لغيره، فإنه لا يكون شاغلا لنفسه، فبأن لا يكون شاغلا عن غيره
أولى.
وأما تزاحم المقتضيين فإنما يكون في مقام الجعل والتشريع حيث يتزاحم
المقتضيان في نفس الآمر وإرادته، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام،
ويكون لعلم الآمر وجهله دخل في تزاحم المقتضيين حيث لو يعلم الآمر بثبوتهما
لا يعقل أن يقع التزاحم بينهما، وعلم المكلف وجهله أجنبي عن ذلك، فإن عالم
الجعل والتشريع إنما يكون بيد الآمر، والمأمور أجنبي عنه، كما أن عالم الامتثال
إنما يكون بيد المكلف، والآمر أجنبي عنه.
والحاصل أنه بناء على الامتناع تندرج المسألة في صغرى التعارض،
للزوم تعلق الأمر حينئذ بعين ما تعلق به النهي، واستلزامه اجتماع الضدين في
واحد شخصي عددا وهوية، وعليه لابد من إعمال قواعد التعارض، ومع ترجيح
جانب النهي لم يبق مجال للقول بالصحة أصلا، لما عرفت من أن في هذا الباب لا
دخل لعلم المكلف وجهله أصلا.
وتوهم أن الصحة عند الجهل إنما هي لوجود الملاك والمقتضي، مدفوع:
182

بأن الملاك المغلوب بما هو أقوى منه والمكسور بغيره في عالم الجعل والتشريع
لا يصلح أن يكون موجبا للصحة، فإن الموجب لها هو الملاك التام الذي لا يكون
مكسورا بما هو أقوى منه في عالم التشريع (1) انتهى ملخص كلامه.
ولكن لا يخفى: أن المراد بوقوع الكسر والانكسار بين الملاكين ليس
صيرورة الملاك المسكور والمغلوب معدوما في مقابل الملاك الغالب بحيث يكون
الفعل مع تلك الغلبة مشتملا على ملاك الغالب فقط، بل المراد كونه جامعا لكلا
الملاكين، غاية الأمر أن أقوائية ملاك الغالب صار مانعا من تشريع الحكم على
طبق الملاك المغلوب، وحينئذ فيرد عليه سؤال الفرق بين صورتي التزاحم، أي:
التزاحم بين الحكمين والتزاحم بين المقتضيين، فإن قال في الجواب: بأن في
الثاني يرجع التقييد إلى مقام الثبوت والواقع بمعنى أنه يكون المأمور به مثلا
حينئذ في المقام بناء على الامتناع وترجيح جانب النهي هي الصلاة المقيدة بما
عدا الفرد المجامع للغصب، بخلاف الأول، فإن سقوط الأمر بالمهم مثلا إنما هو
لعدم إمكان امتثالهما بعد الفراغ عن تشريعهما مطلقا، فيرد عليه: أن السقوط لابد
أن يرجع إلى التقييد، فإن قال: إن التقييد في تزاحم المقتضيين إنما هو في مقام
جعل الحكم الإنشائي، بخلاف تزاحم الحكمين، فإن التقييد إنما هو في مقام
فعلية الحكم، فيقال عليه: إنه لا نسلم رجوع التقييد في تزاحم المقتضيين إلى
مقام جعل الحكم الإنشائي.
ودعوى: أن إطلاق الحكم فيه يستلزم اللغوية، مدفوعة: بمنع لزومها بعد
ظهور ثمرته في صورة الجهل.
وكيف كان فبعد كون ملاك الأمر تاما بمعنى كونه صالحا لتعلق الأمر به لو

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 431 - 433.
183

لم يمنع عنه مانع لايبقى مجال للإشكال في صحة الصلاة بناء على هذا القول
الفاسد لو قيل باشتمالها على الملاك وبكفاية الملاك في صحة العبادة.
ولكنك عرفت أن المقدمة الأولى ممنوعة.
ومن هنا انقدح: أنه لا يمكن أن يستكشف من مجرد حكم المشهور
بالصحة في موارد العذر أنهم قائلون بالجواز، نظرا إلى أنه بناء على الامتناع
تكون الصلاة فاسدة مطلقا، فإنك عرفت أن الحكم بالصحة لا ينافي القول
بالامتناع، فتأمل جيدا.
الأمر السابع: شمول النزاع للعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلقا
لا إشكال في دخول العامين من وجه في الجملة في مورد النزاع ومحل
البحث، كما أنه لا إشكال في خروج المتبائنين عنه، لعدم شمول ظاهر عنوان
النزاع له، مضافا إلى وضوح إمكان تعلق الأمر بشئ والنهي بمبائنه، وكذلك لا
إشكال أيضا في خروج المتساويين عن محل النزاع وإن كان ظاهر العنوان
التعميم، ضرورة استحالة تعلق الأمر والنهي بهما، إنما الإشكال والكلام في
دخول العامين مطلقا، فقد يقال بالخروج، كما عن المحققين: القمي والنائيني (1)
وجماعة أخرى، وقد يقال بالدخول، كما عن صاحب الفصول (قدس سره) (2).
والتحقيق أن يقال: إن العامين مطلقا على قسمين: قسم لا يكون عنوان العام
مأخوذا في عنوان الخاص ومفهومه، بل مفهومهما متغايران، غاية الأمر أن

1 - قوانين الأصول 1: 153 - 154، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي
1: 410.
2 - الفصول الغروية: 125 / السطر 8 - 10.
184

المفهومين متصادقان في الخارج تصادقا كليا من جانب الخصوص وجزئيا من
جانب العموم، وقسم يكون مفهوم العام مأخوذا في عنوان الخاص، وهو الذي
يعبر عنه بالمطلق والمقيد، كالصلاة المأخوذة في عنوان الصلاة في الدار
الغصبية، وظاهر العبارة المحكية عن صاحب الفصول بل صريحها دخول القسم
الأول فقط في مورد النزاع، والحق دخول القسمين معا.
أما القسم الأول: فلأنه بعد فرض كون العنوانين متغايرين لايبقى فرق بينه
وبين العامين من وجه، ضرورة أنه لو كان مجرد التصادق الموجود الخارجي
مانعا عن تعلق الأمر والنهي بالمفهومين المتصادقين، فهذه العلة مشتركة بينه
وبين العامين من وجه ولو لم يكن ذلك مانعا باعتبار أن متعلق الحكم إنما هو
نفس العناوين والمفاهيم، فبعد فرض ثبوت التغاير بين العنوانين في المقام لايبقى
مجال لتوهم الفرق أصلا، كما هو واضح.
وأما القسم الثاني: فقد يقال بخروجه عن محل البحث، نظرا إلى سراية
حكم المطلق إلى المقيد، فإن المطلق المأخوذ متعلقا للحكم ليس ما يكون قيد
الإطلاق جزءا له ومأخوذا فيه، بل المراد هي الطبيعة المجردة اللابشرط،
وحينئذ فيسري حكمها إلى المقيد.
والحاصل: أن الحكم المتعلق بالمقيد وإن لم يكن ساريا من متعلقه إلى
المطلق إلا أن حكم المطلق يسري إلى المقيد، إذ ليس المطلق منافيا له،
والسراية من طرف واحد تكفي في ثبوت استحالة الاجتماع، كما لا يخفى.
ولكن لا يذهب عليك أن اتحاد المطلق والمقيد إنما يكون بحسب الخارج،
وأما بحسب المفهوم فهما متغايران، ضرورة تغاير مفهوم طبيعة الصلاة مع مفهوم
الصلاة في الدار الغصبية، وحينئذ فلا يبقى مجال للإشكال في دخوله في محل
النزاع، لأن الضابط فيه هو كل عنوانين متغايرين المتصادقين على وجود
185

خارجي، وهذا المعنى متحقق في المطلق والمقيد، فالحق دخول كلا القسمين في
مورد البحث.
وأما العامان من وجه فقد يقال: بأن دخوله في محل النزاع ليس على
الإطلاق، بل الظاهر اشتراطه ببعض القيود، وهو أن تكون هذه النسبة متحققة
بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف بإرادة واختيار من دون واسطة مع كون
التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، وأما إذا كانت النسبة ثابتة بين الموضوعين،
كما في العالم والفاسق في مثل قوله: أكرم العالم، ولا تكرم الفاسق، فهو خارج
عن محل البحث، لأن التركيب في مثل ذلك يكون على جهة الاتحاد، ويكون
متعلق الأمر بعينه هو متعلق النهي، بل هو مندرج في باب التعارض، كما أنه
ليس من مسألة الاجتماع ما إذا كانت النسبة بين العناوين المتولدة من الفعل
الصادر عن المكلف كما لو قام في المثال المتقدم بقصد تعظيم العالم والفاسق معا،
فإن القيام فعل واحد تولد من إكرام العالم المأمور به وإكرام الفاسق المنهي عنه.
ووجه خروجه عن محل النزاع: أنه لما كانت تلك العناوين من المسببات
التوليدية التي لم تتعلق إرادة المكلف بها أولا وبالذات، لكونها غير مقدورة له
بلا واسطة، فلا جرم يكون متعلق التكليف هو السبب الذي يتولد منه ذلك، ومن
المعلوم أنه فعل واحد بالحقيقة والهوية، فلا يمكن أن يتعلق بها الحكمان، بل
نفس كون النسبة بين الفعلين الصادرين من المكلف العموم من وجه لا يكفي ما
لم يكن التركيب انضماميا، فمثل قوله: اشرب الماء ولا تغصب، فيما إذا شرب
الماء المغصوب خارج عن مورد النزاع، فإن شرب الماء بنفسه يكون مصداقا
لكل من متعلقي الأمر والنهي، ولابد في مثل ذلك من إعمال قواعد التعارض،
وهذا بخلاف شرب الماء المباح في المكان المغصوب، فإنه من مسألة
الاجتماع، كما لا يخفى.
186

والسر في ذلك هو: أن كلا من الأمر والنهي تعلق بموضوع خارجي ففيما إذا
كان التركيب اتحاديا يلزم أن يتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر، وهذا مما
لاشك في استحالته (1). انتهى ملخص ما في تقريرات المحقق النائيني.
وأنت خبير بعدم تمامية كلامه.
أما اعتبار كون التركيب اتحاديا: فلأن الوجه فيه - كما اعترف به (قدس سره) -
هو: أن الأمر والنهي إنما يتعلق كل واحد منهما بموضوع خارجي، ونحن سنبين
فساد ذلك مفصلا، فانتظر.
وأما كون متعلق التكاليف في العناوين التوليدية هي السبب الذي يتولد
منه: فقد عرفت سابقا أنه لا وجه لصرف الأمر عن المسبب بعد كونه مقدورا
ولو مع الواسطة، إذ هذا المقدار من المقدورية كاف في تصحيح تعلق التكليف
به.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن العامين من وجه مطلقا وكذا العامين مطلقا
بقسميه داخل في محل النزاع.
التحقيق في جواز الاجتماع
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن الأقوى في المسألة هو القول بالجواز،
وتحقيق ذلك يتم برسم مقدمات:
المقدمة الأولى: أن الحكم الوجوبي أو التحريمي المتعلق إلى طبيعة
لا يسري منها إلى مقارناته الوجودية وملازماته العينية، ضرورة أن تعلق

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 410 - 412.
187

الحكم بها إنما هو لأجل الملاك المتحقق فيها، إذ لا يعقل أن يصدر من الحاكم
حكم متعلق بشئ من دون أن يكون ملاك ذلك الحكم متحققا فيه.
وهذا نظير الإرادة التكوينية المتعلقة بالأفعال الخارجية، فإنه كما
لا يعقل تعلق الإرادة بشئ من دون حصول مبادئها من تصور ذلك الشئ
والتصديق بفائدته وغيرهما فكذلك لا يعقل البعث إليه مثلا من دون أن يكون
فيه خصوصية مقتضية له وحيثية موجبة لتحققه، وحينئذ فبعدما كان
المفروض أن المقارنات الوجودية والملازمات العينية مما لا مدخلية لها أصلا
في ثبوت الملاك المقتضي للبعث أو الزجر، ضرورة أنه لو كان كذلك لكانت
الطبيعة متقيدة بها متعلقة للأمر أو النهي، والمفروض خلافه، فلا يبقى مجال
لتوهم سراية الحكم من الطبيعة إليها أصلا، كما هو أوضح من أن يخفى.
المقدمة الثانية: أن معنى الإطلاق ليس عبارة عن لحاظ سريان الحكم
إلى جميع الخصوصيات والأفراد بحيث كان معنى قوله: أعتق رقبة، مثلا راجعا
إلى قوله: أعتق رقبة سواء كانت مؤمنة أو فاسقة، لأنه - مضافا إلى أنه لو
كان معنى الإطلاق ذلك يلزم عدم الفرق بينه وبين العموم كما لا يخفى - يرد
عليه: أنه لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة للخصوصيات وحاكية لها، ضرورة
ثبوت المبائنة بينها وبين تلك الخصوصيات في عالم المفهوم، فكيف يمكن أن
يكون لفظ الإنسان مثلا حاكيا عن الطول والقصر مثلا مع أنهما مفهومان متغايران.
فالتحقيق أن لفظ الإنسان لا يحكي إلا عما جعل ذلك اللفظ موضوعا
بإزائه، وهو طبيعة الإنسانية، بل الإطلاق عبارة عن عدم مدخلية شئ من
القيود في متعلق الحكم، فإن المتكلم المختار بعدما فرض كونه بصدد بيان تمام
متعلق حكمه ومع ذلك لم يأخذ شيئا من الخصوصيات ليستكشف العقل أن هذا
تمام موضوع حكمه، ولا مدخلية لشئ آخر فيه أصلا، ففي الحقيقة لا يكون
188

الإطلاق من الدلالات اللفظية، بل من الدلالات العقلية، نظير حكم العقل بكون
معنى اللفظ الصادر من المتكلم المختار مراد اله.
وبالجملة، فالإطلاق عبارة عن تمامية ما جعل متعلقا للحكم من حيث
كونه متعلقا له بمعنى عدم مدخلية شئ آخر فيه، وأين هذا مما ذكر من أنه
عبارة عن ملاحظة الشمول والسريان، وقد عرفت ما فيه.
وما اشتهر بينهم من أن الطبيعة اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط ليس معناه
اتحادها مع الشروط في عالم المفهومية بحيث تكون حاكية لها وكاشفة عنها، بل
معناه عدم إبائها عن اتحاد بعض المفاهيم الاخر معها في عالم الوجود الذي هو
جامع العناوين المختلفة والمفاهيم المتشتتة، وإلا فكيف يمكن أن يكشف بعض
المفاهيم عن البعض الآخر في عالم المفهومية مع ثبوت الاختلاف بينهما، كما
هو واضح.
المقدمة الثالثة - التي هي العمدة في هذا الباب -: أن متعلق التكاليف
والأحكام إنما هي نفس الطبائع والعناوين، لا الطبيعة الموجودة في العين ولا
الماهية المتحققة في الذهن، فاتصافها بكونها موجودة في الذهن أو الخارج
خارج عن مرحلة تعلق الأحكام بها، نظير سائر الأحكام الطارئة على الطبائع
من الكلية والاشتراك ونحوهما، ضرورة أن الطبيعة الموجودة في الخارج
لا يعقل أن تتصف بالكلية، لإبائها عن الصدق على الكثيرين، وكذا الطبيعة
بوصف وجودها في الذهن، بداهة أنها أيضا تكون جزئيا غير قابل للصدق
واتصافها بوصف الكلية والاشتراك ونحوهما وإن كان في الذهن إلا أنه لا ينافي
ذلك كون المعروض لهما إنما هي نفس الطبيعة بلا ملاحظة وجودها الذهني،
ضرورة أنه بمجرد تصورها يحمل عليه تلك الأحكام، ولو كان اتصافها بالوجود
الذهني دخيلا في هذا الحمل، لاحتاج إلى تصور آخر متعلقا بالطبيعة متقيدة
189

بكونها متصورة بالتصور الأولي، إذ التصور الأول إنما تعلق بنفس الطبيعة فقط،
ولا يعقل أن يتعلق بها مع وصف كونها متصورة بهذا التصور، كما هو واضح.
وكيف كان فلا إشكال في كون المعروض لوصف الكلية والاشتراك
ونحوهما إنما هي الطبيعة المجردة عن الوجود العيني والذهني، وإنما الإشكال
في متعلق الأحكام وأنه هل متعلقاتها هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن
الوجودين وإن كان ظرف التعلق الذهن، نظير الكلية المعروضة لها في الذهن
ولكن لم يكن ذلك مأخوذا على نحو القضية الشرطية، بل على نحو القضية
الحينية، وإلا لما كان يعرض لها بمجرد تصورها ووجودها في الذهن، إذ لا يمكن
في هذا اللحاظ تصور تعلق اللحاظ بها أيضا، كما هو واضح، أو أن متعلقات
الأحكام هي الطبائع المتصفة بالوجود الذهني، أو أن متعلقاتها هي الطبائع
المنصبغة بصبغة الوجود الخارجي؟ وجوه.
والتحقيق يقضي بأن معروض الأحكام هو بعينه معروض الكلية
والاشتراك ونحوهما من لوازم نفس الماهيات مع قطع النظر عن الوجودين، وذلك
لأنه لو كانت الأحكام متعلقة بالطبائع مع اتصافها بوجودها في الذهن، لكان
امتثالها ممتنعا، إذ لا يعقل انطباق الموجود في الذهن بوصف كونه موجودا فيه
على الخارج، لأنه أيضا نظير الموجودات الخارجية يكون جزئيا ومتشخصا،
ولازمه الإباء عن الصدق، كما هو واضح.
ولو كانت الأحكام موضوعاتها هي الطبائع الموجودة في الخارج يلزم أن
يكون تحققها متوقفا على وجودها في الخارج، إذ لا يعقل تقدم الحكم على
متعلقه، ومن الواضح أن الغرض من البعث مثلا إنما هو انبعاث المكلف بعد العلم
به وبما يترتب على مخالفته من استحقاق العقوبة وعلى موافقته من استحقاق
المثوبة ويتحرك عضلاته نحو المبعوث إليه، فالبعث متقدم على الانبعاث
190

المتقدم على تحقق المبعوث إليه، فكيف يمكن أن يكون متأخرا عنه مع استلزام
ذلك للغوية، لأنه بعد تحقق المبعوث إليه المشتمل على المصلحة التي هي
الباعثة على تعلق البعث به يكون طلبه تحصيلا للحاصل في الأوامر، وبعد
تحقق المزجور عنه في النواهي يكون الزجر عنه مستلزما لطلب أعدام ما هو
حاصل بنحو لم يحصل، وكلاهما مستحيل بداهة، ولعمري أن سخافة هذا
الاحتمال الذي هو ظاهر بعض الأعلام (1) مما لا تكاد تخفى على عاقل فضلا عن
فاضل، فلم يبق في البين إلا الالتزام بكون موضوعات الأحكام هي نفس الطبائع
مع قطع النظر عن الوجودين، والأغراض وإن كانت مترتبة على الوجودات
الخارجية إلا أنه يتوصل المولى إلى تحصيلها بسبب البعث إلى نفس الطبيعة، إذ
لا يتحقق الانبعاث منه ولا يحصل موافقته إلا بإيجاد المبعوث إليه في الخارج،
والتأمل في الأوامر العرفية الصادرة من الموالي بالنسبة إلى عبيدهم يقضي بأن
المولى في مقام إصدار الأمر لا ينظر إلا إلى نفس الطبيعة من دون توجه إلى
الخصوصيات المقارنة لها في الوجود الغير المنفكة عنها، ويبعث العبد نحوها،
غاية الأمر أن تحصيل الموافقة يتوقف على إيجاد مطلوب المولى في الخارج
وإخراجه من كتم العدم إلى صفحة الوجود.
وما اشتهر بينهم من التمسك بقول أهل المعقول: الماهية من حيث هي
ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة ولا مطلوبة ولا غير مطلوبة لإثبات أن
نفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين لا يمكن أن يتعلق بها الحكم، لأنها
ليست إلا هي، كما أنها لا تكون كلية، لأنها من حيث هي لا تكون كلية ولا
جزئية، ولذا التجأ بعض المجوزين في المقام إلى أن متعلق الأحكام إنما هي

1 - الفصول الغروية: 126 / السطر 7 - 10.
191

الماهية المتصفة بوصف الوجود الكلي (1)، غفلة وذهول عن فهم مرادهم من
هذا القول، فإن مرادهم منه - كما هو صريح كلامهم - أن الماهية في مرتبة ذاتها
لا يكون الوجود محمولا عليها بالحمل الأولي، وكذا العدم بمعنى أنهما لا يكونان
عين ذات الماهية ولا جزءها، وهكذا المطلوبية واللا مطلوبية، والكلية
والجزئية، والوحدة والكثرة، وجميع الصفات المتضادة أو المتناقضة، فإنها
بأجمعها منتفية عن مرتبة ذات الماهية، ولا يكون شئ منها عين الماهية ولا
جزءها، وإلا فكيف يمكن أن يرتفع عنها المتناقضان وكذا الضدان لا ثالث لهما في
مقام الحمل الشائع الصناعي، وحينئذ فلا منافاة بين أن لا يكون وصف الكلية
مأخوذا في ذاتيات الماهية بحيث يكون عينها أو جزءها وبين أن يكون المعروض
له هي نفس الماهية مع قطع النظر عن الوجودين، كما هو مقتضى التحقيق،
ضرورة أنه بمجرد تصورها مجردة عن كافة الوجودات ينتقل الذهن إلى أنها
كلية غير آبية عن الصدق.
وهكذا مسألة تعلق الأحكام بنفس الطبائع لا تنافي كونها خارجة عن
مرتبة ذاتها، فالاستدلال لنفي تعلقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغير المرتبطة
بهذه المسألة أصلا في غير محله.
وكيف كان فلا مناص إلا عن الالتزام بما ذكرنا من أن متعلقات الأحكام هي
نفس الطبائع، ضرورة أن البعث إنما هو لغرض إيجاد مالم يكن موجودا بعد، ومن
المعلوم أنه ليس هنا شئ كان متصفا بالعدم قبل إيجاد المكلف، فصار متصفا
بالوجود بعد إيجاده، إلا الماهية المحفوظة في كلتا الحالتين، لأن الوجودين:
العيني والذهني لا ينقلبان عما هما عليه، كما هو واضح.

1 - الفصول الغروية: 125 / السطر 16.
192

فانقدح من جميع ما ذكرنا: بطلان المقدمة الثانية من المقدمات التي
مهدها في الكفاية لإثبات الامتناع، الراجعة إلى أن متعلق الأحكام هو فعل
المكلف، وما هو في الخارج يصدر عنه وهو فاعله وجاعله (1)، إذ قد عرفت بما
لا مزيد عليه أنه لا يعقل أن تتعلق الأحكام بالوجودات الخارجية، وأن متعلقها
إنما هي نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودين.
ومما ذكرنا يظهر أيضا: أن الاستدلال - كما في تقريرات المحقق
النائيني (قدس سره) - على إثبات الجواز بثبوت التعدد بين المتعلقين في الخارج، وكون
التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا، نظرا إلى أنه لو سلم اتحاد المتعلقين في
الخارج، وكون التركيب بينهما اتحاديا لايبقى مجال لدعوى تغاير متعلق الأمر
والنهي أصلا (2)، ليس بصحيح، لما عرفت من أن متعلق الأمر والنهي إنما هي نفس
الطبائع، وهي مختلفة في عالم المفهومية، ولا اتحاد بينهما، سواء كان التركيب
بينهما في الخارج اتحاديا أو انضماميا، بل نقول: إن مورد النزاع بينهم هو ما إذا كان
الموجود الخارجي بتمام هويته مصداقا للطبيعة المأمور بها وللطبيعة المنهي
عنها، لأنه مع فرض كون التركيب انضماميا لايبقى مجال للنزاع في الجواز
والامتناع أصلا، إذ يصير حينئذ القول بالجواز من البديهيات التي لا يعتريها ريب،
نظير تعلق الأمر بالصلاة، والنهي بالزنا مثلا، كما لا يخفى.
وإذا تمهد لك هذه المقدمات: تعرف أن مقتضى التحقيق هو القول بالجواز،
لعدم اجتماع الأمر والنهي في شئ أصلا، لأن في مرحلة تعلق الأحكام لا
إشكال في اختلاف متعلق الأمر والنهي، لوضوح المغايرة بين المفاهيم في عالم

1 - كفاية الأصول: 193.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 424 - 425.
193

المفهومية، وفي مرحلة التحقق في الخارج التي يجتمع فيها المتعلقان لا إشكال
في عدم كونهما مأمورا به ومنهيا عنه، لأن الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت
التكليف، كما عرفت بما لا مزيد عليه، فأين يلزم الاجتماع؟
حول استدلال القائلين بالامتناع
استدل القائلون بالامتناع على أمور:
الأمر الأول: لزوم اجتماع الأمر والنهي
ومنه ظهر بطلان استدلال القائلين بالامتناع بأن لازم القول بالجواز
اجتماع الأمر والنهي - مع كونهما متضادين - على شئ واحد، إذ لو سلمنا ثبوت
التضاد بين الأحكام ولكن ذلك فرع اجتماعها في شئ واحد، وقد عرفت أنه
لا يلزم الاجتماع أصلا.
الأمر الثاني: لزوم اجتماع الحب والبغض وغيرهما
وأما استدلالهم على الامتناع بلزوم تعلق الحب والبغض وكذا الإرادة
والكراهة بشئ واحد ولزوم كونه ذا مصلحة ملزمة ومفسدة كذلك معا مع
وضوح التضاد بين هذه الأوصاف، فيرد عليه: أن المحبوبية والمبغوضية ليستا
من الأوصاف الحقيقية للأشياء الخارجية، نظير السواد والبياض وغيرهما من
الأعراض الخارجية، كيف ولازم ذلك استحالة كون شئ واحد في آن واحد
مبغوضا لشخص ومحبوبا لشخص آخر، كما أنه يستحيل أن يتصف الجسم
الخارجي بالسواد والبياض معا في آن واحد ولو من ناحية شخصين بداهة، بل
194

ولازمه عدم اتصاف الفعل قبل وجوده الخارجي بشئ منهما، نظير أنه لا يعقل
أن يتصف الجسم بالسواد مثلا قبل تحققه في الخارج، بداهة أنه يستحيل أن
يوجد الوصف الحقيقي قبل تحقق موصوفه، ومن المعلوم في المقام أن الاتصاف
بالمحبوبية قبل وجود المحبوب وتحققه في الخارج، بل كثيرا ما يكون الداعي
والمحرك إلى إيجاده في الخارج إنما هو تعلق الحب به، وكونه متصفا
بالمحبوبية.
وكيف كان فهذا المعنى مما لا يتكل إليه أصلا، بل المحبوبية والمبغوضية
وصفان اعتباريان ينتزعان من تعلق الحب والبغض بالصورة الحاكية عن
المحبوب والمبغوض.
توضيح ذلك: أنه لا إشكال في أن الحب وكذا البغض إنما يكون من
الأوصاف النفسانية القائمة بالنفس، وحيث إن تحققه في النفس بنحو الإطلاق
غير مضاف إلى شئ مما لا يعقل، فلا محالة يحتاج في تحققه إلى متعلق مضاف
إليه ومشخص يتشخص به، ولا يعقل أن يكون ذلك المشخص هو الموجود
الخارجي، لأنه يستحيل أن يكون الأمر الخارج عن النفس مشخصا للصفة
القائمة بها، كما هو واضح.
مضافا إلى ما عرفت من أن المحبوب - أي الفعل الخارجي - إنما يكون
محبوبا قبل تحققه ووجوده في الخارج، فكيف يمكن أن يكون الأمر الذي
لا يتحقق في الخارج أصلا أو لم يتحقق بعد ولكن يوجد في الاستقبال مشخصا
فعلا؟! كما هو واضح، فلا محالة يكون المشخص هو الأمر الذهني الموجود في
النفس، والمحبوب إنما هو ذلك الأمر، غاية الأمر أنه حيث يكون ذلك الأمر
صورة ذهنية للفعل الخارجي ووجها وعنوانا له ينسب إليه المحبوبية
بالعرض، لفناء تلك الصورة في ذيها، وذلك الوجه في ذي الوجه، ولا يخفى أن
195

معنى الفناء والوجه والمرآتية ليس راجعا إلا سببية ذلك لتعلق الحب به
وطريقته إليه، بل معنى تعلق الحب به تعلقه بوجهه وعنوانه فقط، نظير العلم
وأشباهه، فإنه أيضا من الصفات النفسانية القائمة بالنفس المتحققة فيها
المتشخصة بصورة المعلوم الحاكية له الموجودة في النفس، وتوصيف الخارج
بالمعلومية إنما هو بالعرض، وإلا فكيف يمكن أن يتصف بذلك قبل تحققه؟! مع
أنا نعلم بالبداهة كثيرا من الأمور المستقبلة، مضافا إلى أنه كيف يمكن حينئذ
أن يكون شئ واحد معلوما لأحد ومجهولا لآخر؟! كما لا يخفى.
وكيف كان، فظهر أن المحبوبية والمبغوضية إنما تنتزعان من تعلق الحب
والبغض بالصور الذهنية للأشياء الخارجية، ولا ريب في أن تعدد الأمر
الانتزاعي وكذا وحدته إنما هو بلحاظ تعدد منشأ انتزاعه ووحدته، ومن المعلوم
تعدده في المقام، إذ لاشك في أن الصورة الحاكية عن وجود الصلاة تغاير الصورة
الحاكية عن وجود الغصب، إذ لا يعقل أن يكون عنوان الصلاة ووجهها عنوانا
للغصب ووجها له، كما هو واضح، فكيف يلزم أن يكون شئ واحد مبغوضا
ومحبوبا معا؟!
ومنه يظهر أنه لا يلزم اجتماع الإرادة والكراهة أيضا.
الأمر الثالث: لزوم اجتماع الصلاح والفساد
وأما لزوم اجتماع الصلاح والفساد في شئ واحد، فيدفعه أن الصلاح
والفساد ليسا من الأمور الحقيقية القائمة بالفعل بحيث يتحققان بتحققه، بل إنما
هما نظير الحسن والقبح المتصف بهما الأشياء، ومن المعلوم أنه لا ريب في
إمكان اتصاف شئ بالحسن لأجل انطباق عنوان حسن عليه، وبالقبح أيضا
لأجل انطباق عنوان قبيح عليه، فكذا في المقام نقول بأنه لا بأس أن يتصف شئ
196

واحد بكونه ذا صلاح وفساد معا لأجل انطباق عنوانين عليه: أحدهما ذا
مصلحة، والآخر ذا مفسدة.
وبالجملة، فاتصاف الشئ بكونه ذا مصلحة إنما هو لكونه مصداقا
للعنوان الذي يكون كذلك، وكذا اتصافه بكونه ذا مفسدة، فإذا جاز أن يكون
شئ واحد مصداقا لعنوانين متغايرين - كما هو المفروض - فلم لا يجوز أن يتصف
بالصلاح والفساد معا لأجل كونه مصداقا لهما؟ فهل يشك العقل في صلاح حفظ
ولد المولى مثلا من الهلكة في دار الغير؟ من حيث إنه حفظ له وفي فساده من
حيث التصرف في مال الغير، ولا يجوز المدح من الحيثية الأولى، والذم من
الحيثية الثانية.
ومن هنا تظهر المناقشة فيما ذكرناه سابقا: من عدم ترتب صحة الصلاة في
الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع، لاستحالة أن يكون المبعد مقربا.
بيانها: أن معنى البعد والقرب ليس هو البعد والقرب المكاني حتى يستحيل
أن يكون المقرب مبعدا أو بالعكس، بل معناهما هو القرب والبعد بحسب المكانة
والمنزلة، ومن المعلوم أن تحصيل المنزلة والقرب بساحة المولى بسبب
الإطاعة إنما هو لكون الفعل الخارجي مصداقا للعنوان الذي يكون متعلقا لأمر
المولى، كما أن حصول البعد عن ساحته إنما هو للإتيان بالفعل الذي يكون
مصداقا للعنوان المزجور عنه، وحينئذ فأي مانع يلزم من أن يكون فعل واحد
مقربا للعبد من حيث مصداقيته للمأمور به، ومبعدا له أيضا من حيث تحقق
العنوان المزجور عنه به، وحينئذ فلا يتم ما اشتهر في ألسن المتأخرين من أن
المبعد لا يمكن أن يكون مقربا.
197

حول التضاد بين الأحكام الخمسة
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أن مقتضى التحقيق هو القول بالجواز ولو سلم
ثبوت التضاد بين الأحكام، كما هو الشائع، مضافا إلى أنه لا نسلم ذلك أصلا.
توضيحه: أن الضدين عبارة عن الماهيتين النوعيتين المشتركتين في
جنس قريب مع ثبوت الاختلاف والبعد بينهما، كما في تعريف المتقدمين من
الحكماء، أو غاية البعد والاختلاف، كما في تعريف المتأخرين منهم، وحينئذ
فنقول: إن كان الحكم عبارة عن الإرادة المظهرة، فلا ينطبق عليه تعريف الضدين
أصلا، لأنه حينئذ ماهية واحدة، وهي حقيقة الإرادة المتحققة في جميع
الأحكام، ضرورة أنها بأجمعها أفعال للمولى مسبوقة بالإرادة بلا فرق بين الحكم
التحريمي والوجوبي من هذه الجهة وإن كان متعلق الإرادة في الأول هو الزجر،
وفي الثاني هو البعث، إلا أن ذلك لا يوجب الاختلاف بينهما، لأن قضية تشخص
الإرادة بالمراد هو كون اختلاف المرادات موجبا لتحقق أشخاص من الإرادة،
ولا يوجب ذلك تعدد حقيقة الإرادة وماهيتها، كما هو واضح.
فاعتبار كون الضدين مهيتين يخرج الإرادة وأمثالها من الحقائق بالنسبة
إلى أفرادها عن التعريف كما لا يخفى.
وإن كان الحكم عبارة عن نفس البعث والزجر المتحققين بقول: إفعل ولا
تفعل، مثلا، فهو أيضا خارج عن التعريف، لأنه - مضافا إلى أن البعث في
الوجوب والاستحباب على نهج واحد، غاية الأمر ثبوت الاختلاف بينهما في
إرادته حيث إن الوجوب عبارة عن البعث الناشئ من الإرادة القوية،
والاستحباب عبارة عن البعث الناشئ عن الإرادة الضعيفة، وكذا الزجر في
الحرمة والكراهة، فإنه فيهما على نحو واحد والاختلاف إنما هو في إرادته،
198

وحينئذ فكيف يمكن القول بالتضاد بين الوجوب والاستحباب، وكذابين الحرمة
والكراهة؟! مع أن القائل يدعي تضاد الأحكام بأسرها - نقول: إنه لو سلم
الاختلاف في جميع الأحكام وقطعنا النظر عن عدم اختلاف حقيقة الوجوب
والاستحباب وكذا الحرمة والكراهة، فلا نسلم التضاد بينها، لأن ثبوته مبني
على أن يكون متعلق البعث والزجر هو الوجود الخارجي، إذ لو كان متعلقهما هي
الطبائع والماهيات الكلية، كما عرفت بما لا مزيد عليه أنه هو مقتضى
التحقيق، فهما لا يكونان بمتضادين أيضا، لأن الماهية قابلة لاجتماع العناوين
المتضادة فيها، ولإتصافها بكل واحد منها في زمان واحد.
ألا ترى أن ماهية الإنسان موجودة ومعدومة في زمان واحد، كما عرفت،
وكذا ماهية الجسم متصفة بالسواد والبياض معا في زمان واحد.
فظهر أنه لو كان متعلق البعث والزجر هي طبيعة واحدة، فاستحالته ليس
من جهة لزوم اجتماع المتضادين على شئ واحد، بل من جهة أمر آخر، وهو
لزوم التكليف بالمحال من جهة عدم القدرة على الامتثال، وإلا يلزم عدم إمكان
تعلق البعث والزجر بطبيعة واحدة ولو من ناحية شخصين، كما أنه لا يعقل
تحقق البياض والسواد واجتماعهما على موجود خارجي مطلقا ولو كان له
علتان، ومن الواضح في المقام خلافه.
وبالجملة، فعلة ثبوت التضاد بين شيئين إنما هو عدم اجتماعهما على
الموجود الخارجي الواحد، وإلا يلزم عدم تحقق التضاد أصلا، لما عرفت من أن
الماهية قابلة للاتصاف بجميع العناوين المتضادة في زمان واحد، وقد عرفت أن
متعلق البعث والزجر ليس هو الوجود الخارجي بمعنى أنه لا يعقل أن يصير
الموجود في الخارج مبعوثا إليه ومزجورا عنه أصلا.
وإن كان الحكم عبارة عن الأمر الاعتباري المنتزع عن البعث والزجر،
199

فعدم ثبوت التضاد بينها أظهر من أن يخفى.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر بطلان المقدمة الأولى التي مهدها في الكفاية (1)
لإثبات التضاد بين الأحكام الخمسة بأسرها، وظهر أيضا أن إثبات القول الامتناع
من طريق التضاد بين الأحكام لا يتم أصلا، مضافا إلى ما عرفت من أنه لو سلم
التضاد بين الأحكام، فاختلاف المتعلقين وتعددهما يخرج المقام عن مسألة
التضاد فتأمل جيدا.
تنبيهات
التنبيه الأول: بعض أدلة المجوزين
قد استدل المجوزون بأنه لو لم يجز، لما وقع نظيره، وقد وقع، كما في
الصلاة في الحمام، التي اجتمع فيها الوجوب والكراهة، وصوم يوم عاشوراء
الذي اجتمع فيه الاستحباب والكراهة، والصلاة في المسجد، التي اجتمع فيها
الوجوب والاستحباب، ونظائرها مما لا يحصى.
بيان الملازمة: أن المانع ليس إلا التضاد بين الوجوب والحرمة، وعدم
كفاية تعدد الجهة في رفع غائلته، ومن المعلوم أن هذا المانع موجود في
اجتماع الوجوب مع الكراهة أو الاستحباب، واجتماع الاستحباب مع الكراهة
أو الاستحباب، لأن الأحكام الخمسة متضادة بأجمعها، ومن الواضح بطلان
التالي، للوقوع في تلك الموارد وأشباهها، فيكشف عن بطلان المقدم، وهو امتناع
اجتماع الوجوب والحرمة.

1 - كفاية الأصول: 193.
200

والتحقيق في الجواب أن يقال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما تعلق النهي بعنوان العبادة، ولا يكون لها بدل، كصوم يوم
العاشور، والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.
ثانيها: ما تعلق النهي بعنوانها أيضا، ولكن يكون لها بدل، كالصلاة في
الحمام.
ثالثها: ما تعلق النهي بعنوان آخر يكون بينه وبينها نسبة العموم من
وجه، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على أن تكون كراهتها من جهة كراهة
الكون فيها المتحد مع الصلاة.
إذا عرفت هذا، فنقول:
أما القسم الثالث: فلا إشكال فيه بناء على القول بالجواز، كما عرفت أنه
مقتضى التحقيق.
وأما القسم الثاني: فكذلك أيضا لو قلنا بدخول العامين مطلقا في محل
النزاع أيضا، كما نفينا البعد عنه سابقا في مقدمات المبحث، وأما لو قلنا بخروجه
عنه، فسيأتي الجواب عنه.
إنما المهم هو القسم الأول: الذي لابد أن يجيب عنه كل من المجوز
والممتنع، لعدم تعدد الجهة المجدي بناء على القول بالجواز، لأن النهي إنما تعلق
بعنوان العبادة التي تكون متعلقة للأمر الاستحبابي.
وقد أجاب عنه في الكفاية بما حاصله: أن الكراهة إنما هو لانطباق
عنوان راجح على الترك الذي يكون أرجح من الفعل، فيكون الفعل والترك من
قبيل المستحبين المتزاحمين، أو لملازمة الترك على عنوان كذلك (1)، ولكن

1 - كفاية الأصول: 198 - 199.
201

لا يخفى أن هذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به، لأن الترك أمر عدمي، والعدم ليس
بشئ حتى ينطبق عليه عنوان ويتحد معه أو يلازمه شئ، فإن ذلك من الأمور
المعروضة للموجودات، والعدم ليس منها.
والذي يمكن أن يقال في حل الإشكال: إن المستفاد من الأخبار أن كراهة
صوم يوم العاشور إنما هي لكونه تشبها ببني أمية وبني مروان لعنهم الله جميعا،
حيث إنهم يتبركون بهذا اليوم ويعاملون معه معاملة الأعياد ويصومون فيه تبركا
به، بل لعله كان من أعظم الأعياد، كما يشعر بذلك بعض الأخبار، فالنهي إنما
يكون متعلقا بالتشبه بهم في الأعمال التي كانوا يعملونها في ذلك اليوم لأجل
التبرك به ومنها: الصوم، فتعلق النهي التنزيهي به إنما هو لكونه مصداقا للتشبه
بهم، ومن المعلوم أن نسبة عنوان التشبه إلى طبيعة الصوم - التي تكون مطلوبة
في كل زمان ومتعلقة للأمر الوجوبي أو الاستحبابي في جميع الأيام عدا العيدين -
نسبة العموم والخصوص من وجه، وقد عرفت أن مقتضى التحقيق جواز
الاجتماع فيه، فكون طبيعة الصوم مأمورا بها لا ينافي تعلق النهي بعنوان التشبه
بهم، الذي ربما يجتمع معها في الوجود الخارجي، ونظير هذا المعنى يمكن أن
يقال في النوافل المبتدأة في بعض الأوقات، فتدبر.
وأما القسم الثاني فجوابه ما أفاد في الكفاية مما ملخصه: كون النهي
إرشادا إلى ترك إيجاد الصلاة مع خصوصية كونها في الحمام لحصول منقصة فيها
معها، كما أن الأمر بالصلاة في المسجد إرشاد إلى إيجادها فيه، لحصول مزية
فيها معه، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكفاية (1).

1 - نفس المصدر: 199 - 200.
202

التنبيه الثاني: حكم توسط الأرض المغصوبة
لو توسط في أرض الغير التي يحرم التصرف فيها لكونه تصرفا في مال
الغير بغير إذنه بالاختيار، فهل الخروج عنها الذي ينحصر به التخلص عن
محذور الحرام يكون مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه أو منهيا
عنه أو مأمورا به ومنهيا عنه معا أو منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث
الاضطرار؟ وجوه وأقوال.
والحق أنه يكون منهيا عنه فعلا ومتوجها إليه خطاب النهي، ولا يكون
مأمورا به فها هنا دعويان:
الأولى: أنه لا يكون مأمورا به، لأن الأمر الذي يتوهم تعلقه به إما أن
يكون المراد به الأمر النفسي الاستقلالي، وإما أن يكون المراد به الأمر الغيري
التبعي.
أما الأول: فيدفعه وضوح أنه ليس في البين إلا مجرد حرمة التصرف في
مال الغير، إذ لم يكن هنا دليل يستفاد منه حكم وجوبي متعلق بالخروج أو
بالتخلص أو بأشباههما من العناوين، كما لا يخفى.
وأما الثاني: فيبتني على القول باقتضاء النهي عن الشئ الأمر بضده العام
حتى يثبت بذلك وجوب ترك التصرف، وعلى القول بالملازمة بين وجوب
المقدمة ووجوب ذيها حتى يثبت بذلك وجوب الخروج لكونه مقدمة لترك
التصرف، وقد عرفت سابقا منع الاقتضاء، وعدم ثبوت الملازمة، بل استحالة
كل منهما، فراجع، فلا يكون الخروج متعلقا للأمر المقدمي أيضا.
الثانية: كونه منهيا عنه بالخطاب الفعلي، وسنده يظهر مما عرفت منا
مرارا من أن ما اشتهر بينهم من انحلال الخطابات الواردة في الشريعة وتكثرها
203

حسب تكثر المخاطبين بمعنى أن لكل مكلف خطابا يخصه وحكما مستقلا، مما
لا دليل عليه لو لم نقل بثبوت الدليل على خلافه، كما مر، بل التحقيق أن
الخطابات الشرعية إنما هي خطابات عامة بمعنى أن الخطاب في كل واحد منها
واحد، والمخاطب متعدد، ولا يلحظ في هذا النحو من الخطاب إلا حال النوع من
حيث القدرة والعجز والعلم والجهل، كما هو واضح.
عدم انحلال الخطابات الشرعية
والدليل على عدم انحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات المتعددة
حسب تعدد المكلفين أمور كثيرة:
منها: أن لازمه عدم كون العصاة مكلفا ومخاطبا أصلا، ضرورة أن البعث
والزجر إنما هو لغرض انبعاث المكلف وانزجاره، وحينئذ فمع العلم بعدم تحقق
الانبعاث والانزجار من المكلف أصلا كيف يجوز أن يبعثه المولى ويزجره؟!
وليس مجرد إمكان تحقق الانبعاث والانزجار شرطا لصحة البعث، بل الشرط
إنما هو احتمالهما، ومن المعلوم انتفاؤه بالنسبة إلى العصاة في التكاليف
الشرعية، لكونه تعالى عالما بعدم تحقق الانبعاث والانزجار من العصاة أصلا،
فلا يجوز حينئذ تكليفهم، وضرورة الشرع على خلافه، فالواجب القول بعدم
كونهم مكلفين بخصوصهم، بل يشملهم الخطاب العام الواحد المتوجه إلى جميع
الناس.
ومنها: أن لازمه عدم وجوب القضاء على النائم في جميع الوقت،
لاستحالة بعثه لغرض الانبعاث، فلا يكون مكلفا بالأداء حتى يجب عليه القضاء
مع أن ضرورة الشرع أيضا تقضي بخلافه.
ومنها: أن لازمه اختلاف النجاسة والطهارة بالنسبة إلى المكلفين، لأنه
204

لا يعقل جعل نجاسة الخمر الموجودة في الممالك التي لا يسافر الإنسان إليها
عادة، لأن الواضح أن جعل الأحكام الوضعية أيضا إنما هو لغرض ترتيب الأثر،
فمع عدم الابتلاء به عادة لا يعقل جعل النجاسة له، مع أن الخمر حرام في أي
محل كان، كما يشهد به ضرورة الفقه.
ومنها: غير ذلك من الأمور التي تقدمت الإشارة إلى بعضها سابقا.
وحينئذ فالتكليف ثابت بالنسبة إلى جميع الناس من القادر والعاجز
والعالم والجاهل والمضطر والمختار، غاية الأمر كون العاجز ونظائره معذورا
بحكم العقل في مخالفة التكليف، لا أنه خارج عن المخاطبين بحيث لم يكن
الخطاب متوجها إليه، وحينئذ نقول: إن الاضطرار الحادث في المقام بسوء
الاختيار لا يصير عذرا بنظر العقل أصلا.
أترى ثبوت العذر لمن ألجأ نفسه في ارتكاب المحرمات الشرعية بسوء
الاختيار، كمن اضطر إلى شرب الخمر وأكل لحم الميتة بسوء اختيار نفسه؟
ثم إنه لو قلنا بعدم توجه الخطاب الفعلي إليه لكونه مضطرا ولو بسوء
الاختيار، فلا مجال للقول بعدم استحقاقه للعقوبة، بل لا يرتاب فيه عاقل أصلا،
كيف ولازمه عدم استحقاق من اضطر بسوء اختياره إلى سائر المحرمات
الشرعية للعقوبة أصلا، فيجوز أن يدخل الإنسان دارا يعلم بأنه لو دخل فيها
يصير مضطرا إلى شرب الخمر أو مكرها عليه، ولا يترتب عليه عقوبة أيضا ومن
المعلوم أن ضرورة الشرع والعقل على خلافه.
ثم إنه لو سلمنا اقتضاء النهي عن الشئ الأمر بضده العام وقلنا بثبوت
الملازمة العقلية بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وقطعنا النظر عما ذكرنا من
عدم انحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات المتكثرة حسب تكثر المكلفين،
فلا يكون في البين مانع من الالتزام بقول أبي هاشم وأتباعه القائلين بكونه
205

مأمورا به ومنهيا عنه إلا لزوم التكليف بالمحال، لعدم قدرة المكلف على الامتثال.
وأما الإشكال عليه بلزوم كون التكليف بنفسه محالا كما في الكفاية،
نظرا إلى اجتماع التكليفين هنا بعنوان واحد، لأن الخروج بعنوانه سبب للتخلص
وواقع بغير إذن المالك (1)، فمندفع بأن متعلق النهي إنما هو التصرف في مال الغير
بدون إذنه، لا عنوان الخروج، ومتعلق الأمر المقدمي ليس ما يحمل عليه عنوان
المقدمة بالحمل الشائع، وإلا يلزم أن يكون تعلقه به متوقفا على تحققه في
الخارج، فيلزم أن تكون المقدمة الموجودة متعلقة للأمر، وهو مستحيل بداهة،
بل المتعلق له إنما هو عنوان ما يتوقف عليه ذو المقدمة بناء على القول بثبوت
الملازمة مطلقا، وعنوان الموصل إلى ذي المقدمة بناء على القول بالمقدمة
الموصلة، كما عرفت أنه مقتضى التحقيق بناء على تسليم الملازمة، ضرورة أن
الحيثيات التعليلية كلها ترجع إلى الحيثيات التقييدية، فمتعلق الأمر المقدمي
في المقام هو عنوان ما يتوقف عليه ترك التصرف في مال الغير أو عنوان الموصل
إليه، ومتعلق النهي هو عنوان التصرف في مال الغير، فأين يلزم اجتماع التكليفين
على عنوان واحد؟ ولولا استلزام هذا القول للتكليف بالمحال كما عرفت، لم يكن
بد من الالتزام به.
ومن هنا تعرف صحة ما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره) من كونه مأمورا
به مع إجراء حكم المعصية عليه، نظرا إلى النهي السابق، وذلك لخلوه عن
استلزام التكليف بالمحال أيضا (2)، فتدبر.
ثم إن المحقق النائيني - على ما في التقريرات - قد بنى المسألة على

1 - كفاية الأصول: 209.
2 - الفصول الغروية: 138 / السطر 25.
206

كونها مندرجة تحت قاعدة " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " فالحق ما عليه
صاحب الكفاية من عدم كونه مأمورا به ولا منهيا عنه، وعلى عدم كونها صغرى
لها (1)، فالحق ما عليه الشيخ من كونه مأمورا به فقط (2) ثم اختار عدم الاندراج،
وتمسك في ذلك بأربعة أوجه (3).
ولكن لا يخفى أن هذه القاعدة بعيدة عن المقام بمراحل، بل لا يكون بينهما
ربط أصلا، لما ذكره في الكفاية في بيان موردها، فراجعها (4).
التنبيه الثالث: حكم الصلاة في الدار المغصوبة
قد عرفت أن الصلاة في الدار المغصوبة لا مانع فيها من حيث اجتماع
التكليفين، وأما حكمها الوصفي فنحن وإن اخترنا البطلان بناء على الاجتماع في
المقدمة السادسة المعدة لبيان ثمرة القولين، نظرا إلى أن المبعد لا يمكن أن
يكون مقربا، إلا أنك عرفت في مسألة إمكان اجتماع المحبوبية والمبغوضية
والصلاح والفساد أنه لا مانع من ذلك أصلا، لأن المقرب إنما هو حيثية
الصلاتية، والمبعد إنما هو حيثية الغصبية، فالحق صحة الصلاة بناء على
القول بالاجتماع، وأما بناء على الامتناع: فقد عرفت تفصيل القول فيه في تلك
المقدمة، فراجع.

1 - كفاية الأصول: 204.
2 - مطارح الأنظار: 153 / السطر 33.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 447 - 451.
4 - كفاية الأصول: 209 - 210.
207

حول كشف النهي عن فساد المنهي عنه
الفصل الثالث
في اقتضاء النهي عن الشئ فساده وعدمه
ولابد من تقديم أمور:
الأمر الأول: حول عنوان المسألة
ربما يعبر عن محل النزاع تارة بأن النهي عن الشئ هل يقتضي فساده أم
لا؟ واخرى بأن النهي عن الشئ هل يدل على فساده أم لا؟ ولا يخفى إمكان
المناقشة في كل منهما، لأن التعبير بالاقتضاء الذي معناه بحسب العرف واللغة
هو التأثير والسببية لا يناسب المقام، كما لا يخفى.
وأما التعبير بالدلالة: فلا يناسب القول بالفساد من جهة ملازمة الحرمة
معه لا من جهة كون النهي إرشادا إليه فالأولى التعبير بأن النهي هل يكشف عن
فساد المنهي عنه عبادة كان أو معاملة أم لا.
الأمر الثاني: في أصولية هذه المسألة
قد عرفت الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي في
208

بعض مقدمات تلك المسألة، والظاهر كون المسألة أصولية، لأن نتيجتها تقع في
طريق الاستنباط كما هو واضح.
هل المسألة عقلية أو لفظية؟
قد يقال: بأن المسألة عقلية صرفة، وقد يقال: لفظية محضة، والظاهر
عدم كونها ممحضا في أحدهما، لأن المدعى في المسألة صحة العبادة وبطلانها،
سواء كان طريق الإثبات في ذلك اللفظ بأن يكون النهي إرشادا إلى الفساد
وعدمه، أو العقل، للملازمة بين المبغوضية والفساد وعدمها.
مضافا إلى اختلاف الاستدلالات من هذه الجهة، فبعضها ظاهر في
الدلالة بحسب العرف، وبعضها في الدلالة بحسب العقل.
ودعوى أن المسألة عقلية محضة - كما في الدرر - لأن القائل بالبطلان
يتمسك بعدم إمكان صيرورة المبغوض عبادة (1)، مدفوعة: بعدم اختصاص
استدلالهم بذلك، بل ربما يتمسكون بالدلالة العرفية، كما في الفصول (2)،
فراجع.
الأمر الثالث: تفسير وصفي الصحة والفساد
ذكر في الكفاية في معنى الصحة والفساد ما حاصله: أنهما وصفان
إضافيان، ومعنى الأول هي التمامية، والثاني هو النقص، والصحة في العبادة
والمعاملة بمعنى واحد، وهو التمامية، والاختلاف في الآثار المرغوبة منهما

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185.
2 - الفصول الغروية: 140 / السطر 30.
209

التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في
تفسير صحة العبادة إنما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من
الأثر بعد الاتفاق على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا (1).
أقول: من الواضح أن الصحة والفساد لا يساوقان التمامية والنقص
بحسب اللغة والعرف، لما نرى بالوجدان من اختلاف موارد استعمالهما، فلا يقال
على الإنسان الفاقد للبصر مثلا: إنه فاسد، ولا على الفاكهة التي طرأ عليها بعض
العوارض فأخرجها عما يقتضيه بحسب نوعها: إنها ناقصة، ولا على البيت
الخالية من السقف أو الجدار مثلا: إنه فاسد، بل يقال: ناقص، ولا على
المعجون المشتمل على جميع أجزائه الغير المترتب عليه الأثر المقصود منه،
لطرو بعض العوارض عليه: إنه ناقص، بل يقال له: إنه فاسد.
وبالجملة، فاختلاف موارد استعمالهما مما لا ينبغي الارتياب فيه.
والحق الذي يطابقه الوجدان: أن معنى التمامية يرجع إلى اشتمال الشئ
المركب على جميع ما اعتبر فيه من الأجزاء والشرائط، والنقص عبارة عن
فقدانه لبعض تلك الأجزاء أو الشرائط، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
وأما الصحة فهي عبارة عن كون الشئ في وجوده الخارجي مطابقا لما
يقتضيه طبعه الأولي بحسب نوعه والفساد عبارة عن خروجه عن مقتضى
طبعه الأولي لطرو بعض الأسباب الموجبة لذلك، وهو كالصحة أمر وجودي،
والتقابل بينهما تقابل الضدين.
نعم، لا ننكر أن الصحة قد استعملت في العبادات والمعاملات بمعنى
التمامية، إذ العبادة الصحيحة مثلا هو ما كان جامعا لجميع الأجزاء والشرائط

1 - كفاية الأصول: 220.
210

المعتبرة فيه، وكذا المعاملة، والفساد قد استعملت فيهما بمعنى النقص، كما هو
واضح، ولكن هذا الاستعمال إما أن يكون اصطلاحا خاصا من الفقهاء، وإما أن
يكون مجازيا، وقرينته المشابهة، لأن الصلاة الفاقدة لبعض أجزائها مثلا كأنها
قد خرجت عن مقتضى طبعها الأولي.
نعم على التقدير الثاني قد بلغ الآن إلى حد الحقيقة، لعدم احتياجه إلى
القرينة أصلا، كما هو واضح.
ثم لا يخفى أن التمامية والنقص وصفان إضافيان، فيمكن أن يكون المركب
تاما من حيث أجزائه مثلا، وناقصا من حيث شرائطه، والصحة والفساد في
العبادات والمعاملات وإن عرفت أنهما يساوقان التمامية والنقص إلا أن أثرهما -
وهو الإضافة - لا يسري إلى الصحة والفساد، لأنه لا يقال على الصلاة الجامعة
لجميع أجزائها الفاقدة لبعض شرائطها مثلا: إنها صحيحة من حيث الأجزاء،
وفاسدة من حيث الشرائط، بل أمرها يدور بين الصحة بقول مطلق، والفساد
كذلك، كما لا يخفى.
وهكذا المعاملات، فإن أمرها أيضا دائر بين الصحة فقط، والفساد كذلك.
ثم إن الصحة والفساد وصفان واقعيان لا يختلفان بحسب الأنظار واقعا، بل
مرجع الاختلاف إلى تخطئة كل من الناظرين نظر صاحبه بمعنى أن المصيب إنما
هو نظر واحد فقط، غاية الأمر أن كلا يدعي إصابة نظره، وذلك لا يقتضي
اختلافهما بحسب الأنظار واقعا.
فما في الكفاية: من اختلافهما بحسب الأنظار، لكون الأمر في الشريعة
على أقسام، وقد وقع الخلاف في إجزاء غير الأمر الواقعي عنه (1).

1 - كفاية الأصول: 220 - 221.
211

ممنوع جدا، لأن هذا الخلاف مرجعه إلى ما ذكرنا من عدم اقتضاء ذلك
الاختلاف بحسب الواقع، بل نقول: إن مسألة الإجزاء لا ربط لها بمسألة
الصحة أصلا، فإن معنى الصحة عبارة عن موافقة المأتي به للأمر المتعلق
بنفسه، وأما الاكتفاء به عن الإتيان بالمأمور به بأمر آخر فهو أمر خارج عن
معنى الصحة، فالصلاة مع الطهارة المستصحبة صحيحة بمعنى كونها موافقة
للأمر الظاهري المتعلق بها ولو لم نقل بكونها مجزئة بمعنى الاكتفاء به عن الصلاة
مع الطهارة الواقعية المأمور بها بالأمر الواقعي، فالصحة أمر، والإجزاء أمر
آخر.
نعم الإجزاء مترتب على الصحة بمعنى أن الإجزاء لو قيل به إنما يتصف
به الصلاة الصحيحة المطابقة للأمر المتعلق بها، إذ الصلاة الفاسدة بحسب
أمرها لا يعقل أن تكون مجزئة بالنسبة إلى أمر آخر كما هو واضح.
تنبيه: في جعل الصحة والفساد
لا ينبغي الإشكال في أن الصحة والفساد أمران واقعيان يستقل بهما العقل
بلا فرق بين العبادات والمعاملات، ولابين الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي
الأولي أو بالأمر الاضطراري والظاهري أصلا، لأنهما وصفان للموجود الخارجي
باعتبار موافقته مع المجعول الشرعي، عبادة كان أو معاملة وعدمها، إذ لا يعقل
الصحة والفساد في وادي الجعل والإنشاء، بل إنما يتصوران في وادي الامتثال
والإيجاد، وهذا واضح، ومن المعلوم أنه لا فرق من هذه الجهة بين المعاملة
والعبادة أصلا.
فما في الكفاية، من التفصيل بينهما لا وجه له، وكذا التفصيل بين
212

الصحة والفساد في الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي، وبينهما في الإتيان
بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري بالقياس إلى الأمر الواقعي بعدم
معقولية الجعل في الأول دون الثاني (1) مما لا سبيل إليه، فإنه يرد عليه -
مضافا إلى ما عرفت من أن مسألة الصحة والفساد لا ربط لها بمسألة الإجزاء
وعدمه، فإنهما إنما يعتبران بالقياس إلى نفس الأمر الظاهري والاضطراري،
وتلك المسألة إنما تكون متعرضة لحاله من حيث الإجزاء وعدمه بالنسبة إلى
أمر آخر - أن معنى الأمر الظاهري مثلا لو كان راجعا إلى التصرف في المأمور به
بالأمر الواقعي سعة وضيقا بحيث كان مرجع تجويز الصلاة مع الطهارة
المستصحبة مثلا إلى التصرف في دليل اعتبار الطهارة في الصلاة بعدم كون
المعتبر فيها هو خصوص الطهارة الواقعية بل الأعم منها ومن الطهارة الظاهرية،
فلا يعقل جعل الصحة للمأتي به في الخارج مع الطهارة المستصحبة مثلا، لأن
موافقته مع المجعول الشرعي أمر واقعي نفس الأمري، ولا يعقل فيه الجعل ولو
لم يكن معنى الأمر الظاهري راجعا إلى ما ذكرنا، بل المراد منه مجرد تجويز
الصلاة معها مثلا تسهيلا للعباد بعدم لزوم التفحص، أو تحصيل الطهارة اليقينية ما
دام لم ينكشف الخلاف، فلا يعقل جعل الصحة إذا انكشف بعد عدم عمومية
الطهارة المعتبرة في الصلاة وكون الشرط هو خصوص الطهارة الواقعية لفساد
العبادة واقعا، لعدم كونها موافقة للمجعول الشرعي، كما هو واضح.
فالحق أن الصحة والفساد مطلقا من الأمور الواقعية الغير القابلة للجعل،
ولا فرق بين الموارد أصلا، فتأمل جيدا.

1 - كفاية الأصول: 220 - 221.
213

الأمر الرابع: شمول ملاك البحث للنهي التنزيهي والغيري والتبعي
لا ريب في عدم اختصاص النزاع بالنهي التحريمي وشموله للنهي التنزيهي
أيضا، ومجرد كون النواهي التنزيهية في الشريعة متعلقة لا بنفس العبادة بل
ببعض الخصوصيات الخارجة عن حقيقتها - كما أدعاه بعض (1) - لا يوجب
خروجه عن محل النزاع، لعدم تعلق غرض الأصولي بالصغريات، بل غرضه
بيان قاعدة كلية تنطبق على مواردها، كما لا يخفى.
هذا ما ينافي ما تقدم في ثمرة اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن الضد، وكذا
لا شبهة في دخول النهي الغيري في مورد النزاع، وكذا النهي التبعي.
الأمر الخامس: في تحقيق الأصل في المسألة
لا أصل في نفس المسألة الأصولية حتى يحرز به الاقتضاء أو عدمه،
لأنه لو كان النزاع في دلالة النهي وعدمها، فلا شبهة في أنه لا يكون لأحد
الطرفين حالة سابقة متيقنة حتى تستصحب، ضرورة أنها مشكوكة من حين
الوضع.
ودعوى: أن كلمة " لا " مثلا قبل التركيب وانضمام اللام مع الألف - يعني
حين وضع المفردات - لم يكن يدل على الفساد، لعدم عروض الوضع التركيبي
عليه، فتستصحب تلك الحالة.
مدفوعة: بأن النزاع في لفظة " لا " لا " اللا " مع الألف، وهي من أول
وضعها كانت مشكوكة الدلالة على الفساد، ولو كان النزاع في الملازمة بين

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 185 - 186.
214

الحرمة والفساد وعدمها، فلا شبهة أيضا في أنه لا يكون لها حالة سابقة
متيقنة، لا لأن الملازمة وعدمها من الأمور الأزلية، فإن هذا فاسد، لأن
الملازمة من الأوصاف الوجودية، ولا يعقل تحققها من دون تحقق طرفيها،
وعروضها للمعدوم غير معقول، بل لكونها مشكوكة من حين تحقق النهي.
ودعوى: كونها معدومة ومنتفية قبله ولو بانتفاء الموضوع.
مدفوعة: بأن هذا لا يصحح جريان الاستصحاب، لأنه من قبيل
استصحاب عدم القرشية، وقد حقق في محله عدم جريانه.
ثم إنه لو سلمنا وجود الحالة السابقة، فالظاهر أيضا عدم جريان
الاستصحاب، لأنه يعتبر في جريانه في الموضوعات أن تكون موضوعة للآثار
والأحكام الشرعية. وبعبارة أخرى: مندرجة تحت بعض الكبريات الشرعية،
ومن المعلوم أنه ليس في المقام كذلك، لأن استصحاب عدم الدلالة أو عدم
الملازمة لا يثبت الصحة أصلا، لأن ترتب الصحة إنما هو بحكم العقل بعد
ملاحظة ثبوت المقتضي وعدم المانع، كما هو الحال في جميع الموارد، فإن
الحاكم بترتب المقتضى على المقتضي بعد عدم ثبوت المانع إنما هو العقل لا غير.
هذا كله فيما يتعلق بجريان الأصل في نفس المسألة الأصولية.
وأما المسألة الفرعية: فالأصل في المعاملات الفساد لو لم يكن عموم أو
إطلاق يقتضي الصحة، وأما العبادة فلو أحرز من طريق ثبوت الملاك فيها،
فالظاهر الصحة بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة، كما هو الحق، وقد
سبق، ولو لم يحرز ذلك، فالعبادة فاسدة، والوجه فيه واضح.
ثم لا يخفى: أنه لا فرق فيما ذكرنا بين تعلق النهي بنفس العبادة مثلا أو
جزئها أو شرطها، لأن محل الكلام إنما هو كون تعلق النهي بشئ عبادة كان أو
معاملة يوجب فساد متعلقه من حيث هو أم لا، وأما سراية الفساد منه إلى
215

مجموع العبادة فيما كان متعلق النهي جزء العبادة وعدم السراية، فهو أمر خارج
عن موضوع البحث، كما لا يخفى.
ومنه يظهر أن الأمر الثامن الذي عقده في الكفاية لإثبات موارد السراية
وعدمها (1) خارج عن محل الكلام، ولا ربط له أصلا.
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن الكلام يقع في مقامين:
المقام الأول
في دلالة النهي على الفساد في العبادات
والكلام فيه يقع من جهتين:
الجهة الأولى: في دلالة النهي على الفساد فيها بالدلالة اللفظية
العرفية بمعنى أنه لو ورد نهي متعلق بعبادة ولم يحرز كونه مولويا تحريميا
أو تنزيهيا أو إرشاديا، فهل يدل بنظر العرف على فسادها أم لا؟ بمعنى أنه هل
يكون للإرشاد إلى الفساد أم لا؟
قد يقال - كما عن بعض الأعاظم من المعاصرين - بكونه في العبادات
إرشادا إلى فسادها، لأنه حيث تكون العبادة من المجعولات الشرعية، والغرض
من إتيانها إنما هو سقوط الأمر، وحصول التقرب بسببها إلى المولى، فكما أن
الأمر بإتيانها على كيفية مخصوصة وبوجوب الإتيان بشئ فيها يكون للإرشاد
إلى أن الأثر المترقب من العبادة لا يترتب عليها من دون تلك الكيفية أو ذلك
الشئ، وكذلك النهي عن إيجاد شئ في المأمور به أو إتيانها بكيفية خاصة
يكون للإرشاد إلى مانعية ذلك الشئ أو تلك الكيفية، وأن الأثر المقصود

1 - كفاية الأصول: 222 - 223.
216

لا يترتب عليه مع وجوده أو وجودها، فكذلك النهي المتعلق ببعض أنواع العبادة
أو أصنافها لا يكون إلا للإرشاد إلى فساده، وعدم ترتب الأثر المقصود عليه (1).
الجهة الثانية: في ثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد بمعنى أنه لو
أحرز كون مدلول النهي هي الحرمة، فهل يثبت بذلك فساد المنهي عنه
للملازمة، أو لا يثبت لعدمها؟
والتحقيق هو الأول، لأن النهي يكشف عن مبغوضية متعلقه واشتماله
على المفسدة على ما يقول به العدلية، ومع ذلك لايبقى مجال لصحته بعد أنه
يعتبر في صحة العبادة أحد أمرين، وهما تعلق الأمر بها واشتمالها على الملاك
وهو رجحانها الذاتي، والمفروض انتفاؤهما في المقام.
وتوهم: أنه لا يعقل تعلق النهي التحريمي الذاتي بالعبادة، لعدم حرمتها مع
عدم قصد التقرب وعدم القدرة عليها معه إلا تشريعا.
مدفوع: بأن المراد بالعبادة هو الذي يكون من سنخ الوظائف التي يتعبد
بها، لا ما يكون فعلا عبادة، فصلاة الحائض عبادة بمعنى أنها لو تعلق الأمر بها،
كان أمرها أمرا عباديا.
هذا في غير العبادات الذاتية، وأما فيها: فتكون محرمة مع كونها فعلا
عبادة، كما هو واضح.
هذا في النهي التحريمي، وأما النهي التنزيهي المتعلق بذات العبادة فهو أيضا
يوجب فسادها، لأنه لا يعقل اجتماع الصحة مع المرجوحية الذاتية أصلا، إلا
أنه لا يخفى ثبوت المنافاة بين الفساد وبين الترخيص فيها الذي هو لازم النهي
التنزيهي، لأن الترخيص بلازم الصحة، إذ لا يعقل تجويز التشريع، فثبوته يلازم

1 - نهاية الأصول: 283 - 284.
217

صحتها، كما لا يخفى.
فلابد من التأويل بجعل الترخيص ترخيصا في أصل العبادة، أو يقال بكون
النهي إرشادا إلى أقلية الثواب، إلا أن ذلك خروج عن محل البحث، لأن
المفروض كون النهي تنزيهيا متعلقا بذات العبادة.
هذا في النواهي النفسية، وأما النواهي الغيرية كالنهي عن الصلاة الناشئ
من قبل الأمر بالإزالة بناء على اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده، فلا يخفى
أنها لا تستلزم الفساد، لعدم كون متعلقها مبغوضا أصلا، فلا مانع من صحتها مع
وجود الملاك فيها، والاكتفاء به في صحة العبادة، كما عرفت.
وتوهم أن الآتي بالصلاة دون الإزالة يكون متجريا والتجري يوجب بطلان
عبادته، لأنه لا يقبل عبادة المتجري، مدفوع: بأن التجري إنما هو بسبب عدم
فعل الإزالة، لا فعل الصلاة، ولا يعقل سراية التجري منه إليه، كما هو واضح.
المقام الثاني
في اقتضاء النهي للفساد في المعاملات وعدمه
وفيه أيضا جهتان من الكلام:
الجهة الأولى: في دلالة النهي على الفساد، بمعنى أنه لو ورد نهي متعلق
بمعاملة، ولم يحرز كونه مولويا تحريميا أو تنزيهيا أو إرشاديا فهل، ظاهرها
الأخير بمعنى كونه للإرشاد إلى الفساد أم لا؟
والتحقيق هو الأول، لأن المعاملة كالبيع مثلا يتضمن جهات ثلاثة:
الأولى: هي نفس الألفاظ الصادرة من المتعاقدين، كبعت واشتريت مثلا.
الثانية: ما هو مدلول تلك الألفاظ، وهو فعل تسبيبي للإنسان، كالنقل
والانتقال.
218

الثالثة: الآثار المترتبة عليها المرغوبة منها، كجواز التصرف بالأكل
والشرب واللبس مثلا، ومن المعلوم أن غرض العقلاء هو الأمر الأخير، أي
ترتيب الآثار المطلوبة، فالشارع من حيث إنه مقنن للقوانين التي بها ينتظم أمور
الناس من حيث المعاش والمعاد، فإذا نهى عن معاملة، فالظاهر أنه لا يترتب
عليها الآثار المترقبة منها، بمعنى أن النهي إرشاد إلى فساد تلك المعاملة، كما
هو الظاهر بنظر العرف.
الجهة الثانية: في الملازمة بين الحرمة والفساد في المعاملات، بمعنى
أنه لو أحرز كون النهي للتحريم، فهل يلازم ذلك فساد المعاملة أو لا؟
فنقول: إن النواهي الواردة في المعاملات على أنحاء:
أحدها: أن يكون النهي متعلقا بنفس ألفاظها من حيث إنها فعل اختياري
مباشري، فيصير التلفظ بها من المحرمات، كشرب الخمر، ولا ريب في عدم
الملازمة بين حرمة التلفظ وفساد المعاملة أصلا، فإن المعصية لا تنافي ترتيب
الأثر.
ألا ترى أن إتلاف مال الغير حرام بلا إشكال، ومع ذلك يؤثر في الضمان.
ثانيها: أن يكون مدلول النهي هو إيجاد السبب من حيث إنه يوجب وجود
المسبب. وبعبارة أخرى: يكون المبغوض هو ما يتحصل من المعاملة، وتؤثر تلك
الألفاظ في وجودها، كما في النهي عن بيع المسلم للكافر، فإن المبغوض فيه هو
سلطنة الكافر على المسلم، وفي هذا النحو يمكن أن يقال بعدم ثبوت الملازمة
بين الحرمة والفساد، إذ لا مانع من صحة البيع، إلا أنه ذكر في تقريرات
الشيخ (قدس سره) أن ذلك إنما يستقيم فيما إذا قلنا بأن الأسباب الناقلة إنما هي مؤثرات
عقلية قد اطلع عليها الشارع، وبينها لنا من دون تصرف زائد، وأما على القول بأن
هذه أسباب شرعية إنما وضعها الشارع وجعلها مؤثرة في الآثار المطلوبة عنها،
219

فلابد من القول بدلالة النهي على الفساد، فإن من البعيد في الغاية جعل السبب
فيما إذا كان وجود المسبب مبغوضا (1). انتهى.
ولكن لا يخفى أن هنا احتمالا آخر، وهو: أن تكون الأسباب الناقلة
مؤثرات عقلائية، والشارع قد أمضاها، وهو أقوى من الاحتمالين اللذين ذكرهما
في كلامه، ومعه يمكن صحة المعاملة مع كونها محرمة.
وتوهم أنه كما يكون من البعيد جعل السبب ابتداء مع مبغوضية المسبب
كذلك من البعيد إمضاء السبب العقلائي مع مبغوضية مسببه، مدفوع: بأن ذلك
إنما يستقيم لو تعلق الإمضاء بها بخصوصها، وأما لو كان الدليل العام كقوله:
* (أوفوا بالعقود) * متضمنا لإمضاء جميع العقود العقلائية، فيرتفع البعد، كما
لا يخفى.
ثالثها: أن يكون مدلول النهي هو التسبب بألفاظ معاملة خاصة إلى
المسبب، بمعنى أنه لا يكون السبب ولا المسبب من حيث أنفسهما حراما، ولكن
المحرم هو التوصل إلى وجود المسبب من ناحية خصوص هذا السبب،
ولا يخفى عدم الملازمة في هذا القسم أيضا لو لم نقل بدلالة النهي على الصحة
من حيث إن متعلق النهي لابد وأن يكون مقدورا للمكلف بعد تعلق النهي، فلو
كانت المعاملة فاسدة، لم يكن التوصل بالمسبب من طريق هذا السبب مقدورا
للمكلف بعد النهي حتى يتعلق به، وقد يعد باب الظهار من هذا القسم، نظرا إلى
أن السبب - وهو التلفظ بألفاظه - من حيث هو لا يكون محرما، وكذا المسبب -
وهي المفارقة بين الزوجين والبينونة بينهما - لا يكون مبغوضا أيضا، لتحققها في
الطلاق، بل المحرم هو التوصل إلى ذلك من طريق ألفاظ الظهار.

1 - مطارح الأنظار: 163 / السطر 33.
220

ثم إن الوجه الذي ذكرنا في دلالة النهي على الصحة في هذا القسم
يجري في القسم الثاني أيضا، فلا تغفل.
رابعها: أن يكون النهي متعلقا بالآثار المترتبة على المعاملة، كالنهي عن
أكل الثمن فيما إذا كان عن الكلب والخنزير، والنهي في هذا القسم يدل على
الفساد، لكشف تحريم الثمن عن فسادها، إذ لا يكاد يحرم مع صحتها، كما
لا يخفى.
ثم إن هذا كله فيما لو علم تعلق النهي بواحد معين من الأقسام الأربعة
المتقدمة، وأما لو أحرز كون النهي للتحريم ولكن لم يعلم متعلقه وأنه هل هو
من قبيل القسم الأول أو من قبيل سائر الأقسام؟ فالظاهر كونه من قبيل القسم
الأخير، لأنه هو المقصود من المعاملة، فالنهي يتوجه إليه، وقد عرفت كشفه
عن فسادها.
فتحصل مما ذكرنا: أن النهي المتعلق بالمعاملة من دون قرينة يدل على
فسادها إما لكونه إرشادا إلى فسادها، كما عرفت أنه الظاهر منه، وإما لكونه
يدل على حرمة الآثار، وهي ملازمة للفساد، فتأمل جيدا.
حول الروايات التي استدل بها لدلالة النهي على الفساد
بقي الكلام فيما يستدل به من الأخبار على دلالة النهي على الفساد في
المعاملات شرعا:
منها: ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته
عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: " ذاك إلى سيده إن شاء أجازه، وإن شاء
فرق بينهما ".
قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما
221

يقولون: إن أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " انه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو
له جائز " (1) حيث إن ظاهره أن النكاح لو كان مما حرمه عليه لكان فاسدا.
وذكر في تقريرات الشيخ في توجيه الاستدلال بالرواية ما حاصله: أنه
إنما فرع في الرواية الصحة والفساد على معصية الله وعدمها، وهو يحتمل
وجهين:
الأول: أن تكون المعاملة معصية لله من حيث إنه فعل من أفعال المكلف
مع قطع النظر عن كونه معاملة مؤثرة.
الثاني: أن تكون معصية من حيث إنها منهي عنها بما أنها موجبة لترتب
الآثار المطلوبة.
لا سبيل إلى الأول، فإن عصيان السيد أيضا عصيان الله، فلابد من المصير
إلى الثاني، وهو يفيد المطلوب، فإنه يستفاد من التفريع المذكور أن المعاملة
التي فيها معصية الله فاسدة.
وبالجملة، المطلوب في المقام هو أن النهي المتعلق بالسبب بما أنه فعل
من الأفعال لا يقتضي الفساد، والنهي عنه بما أنه سبب مؤثر يقتضي الفساد،
والرواية متضمنة بل صريحة في حكم كلا الجزءين:
أما الجزء الأول: فيستفاد من قوله: " وإنما عصى سيده " المستلزم لعصيان
الله، لا من حيث إنها موجبة للآثار المطلوبة، فإن عصيان الله من جهة
عصيان السيد لا يعقل كونه من جهة الترتب.

1 - الكافي 5: 478 / 3، الفقيه 3: 350 / 1675، وسائل الشيعة 21: 114، كتاب
النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1.
222

أما الجزء الثاني: فيستفاد من تفريع الصحة والبطلان على المعصية التي
يجب أن تكون مخالفة للمعصية اللازمة من مخالفة السيد، وهو المطلوب (1). انتهى
ملخصا.
ولكن لا يخفى أن هذا مخالف لظاهر الرواية من حيث إن ظاهرها أن ما
يكون معصية للسيد لا يكون معصية لله، فتفسير معصية السيد بإيجاد نفس
السبب من حيث إنه فعل من الأفعال مضافا إلى إمكان الخدشة فيه من حيث
إنه لا يعد مثل ذلك معصية مع إرجاع معصية الله إلى المعصية في إيجاد المعاملة
المؤثرة خلاف ما هو ظاهرها.
ومن هنا يظهر الخلل فيما أجاب به في الكفاية عن الاستدلال بالرواية
من أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية هاهنا أن النكاح ليس مما لم
يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا
المعنى للفساد، كما لا يخفى.
ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما
اطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد أنه معصية (2). انتهى.
والتحقيق في معنى الرواية أن يقال: إن المراد بالنكاح ليس هو إيجاد
ألفاظه من حيث إنه فعل من الأفعال، بل هو التزويج والتزوج، ومن المعلوم أنه
بعنوانه لا يكون معصية لله تعالى، لأنه لم يجعله إلا حلالا ومباحا، وأما من
حيث إنه مصداق لعنوان مخالفة السيد، المحرمة، فهو حرام لا بعنوان النكاح،
بل بعنوانها.

1 - مطارح الأنظار: 164 - 165.
2 - كفاية الأصول: 227.
223

وبالجملة فهاهنا عنوانان:
أحدهما: عنوان النكاح.
ثانيهما: عنوان مخالفة السيد.
ومن المعلوم أن ما حرمه الله تعالى على العبد إنما هو العنوان الثاني لا
الأول، فالنكاح ليس معصية لله تعالى أصلا وإن كان من حيث إنه يوجب تحقق
عنوان المخالفة معصية للسيد، المستلزمة لمعصية الله، ولا يعقل سراية
النهي عن عنوان متعلقه إلى عنوان النكاح أصلا، كما حققناه في مبحث اجتماع
الأمر والنهي بما لا مزيد عليه.
ونظير ذلك ما إذا تعلق النذر بإيجاد بعض النوافل مثلا، فإن تعلق النذر به
لا يوجب سراية الوجوب إليه حتى يخرج عن النفلية، بل متعلق الوجوب إنما
هو عنوان الوفاء بالنذر، ومتعلق الأمر الاستحبابي إنما هو الصلاة النافلة.
ويؤيد بل يدل على ما ذكرنا في معنى الرواية: بعض الروايات الأخر:
مثل ما رواه زرارة أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوج
عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه.
فقال: " ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما " إلى أن قال:
فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصل النكاح كان عاصيا.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " إنما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله، إنما عصى
سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة
وأشباهه " (1).

1 - الكافي 5: 478 / 2، وسائل الشيعة 21: 115، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد
والإماء، الباب 24، الحديث 2.
224

فإنه لو كان عاصيا للسيد في أصل النكاح كيف يمكن أن لا يكون عاصيا
لله تعالى، كما لا يخفى، فلابد من المصير إلى ما ذكرنا.
ومثل ما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في مملوك تزوج بغير
إذن مولاه، أعاص لله؟
قال: " عاص لمولاه ".
قلت: حرام هو؟
قال: " ما أزعم أ أنه حرام، وقل له أن لا يفعل إلا بإذن مولاه " (1).
فإنه كيف يجمع بين نفي الحرمة ووجوب أن لا يفعل العبد ذلك؟! وليس
إلا من جهة أن التزوج بعنوانه ليس بحرام، ولكن يجب تركه من حيث إنه
يتحقق به مخالفة السيد.
ثم لا يخفى أن مما ذكرنا يظهر صحة الاستدلال بالرواية، لأن مفادها أن
النكاح لو كان بعنوانه مما حرمه الله وكان فعله معصية له تعالى، لكان أصله
فاسدا، كما هو المطلوب، فتأمل جيدا.
تذنيب: في دعوى دلالة النهي على الصحة
حكي عن أبي حنيفة والشيباني: دلالة النهي على الصحة في العبادات
والمعاملات، وعن الفخر: الموافقة لهما (2).
وفي الكفاية: أن التحقيق يقتضي المصير إليه في المعاملات فيما إذا كان

1 - الكافي 5: 478 / 5، وسائل الشيعة 21: 113، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد
والإماء، الباب 23، الحديث 2.
2 - مطارح الأنظار: 166 / السطر 15.
225

النهي عن المسبب أو التسبب، لأنه يشترط في التكليف كون متعلقه مقدورا
للمكلف، ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، بخلاف ما
إذا كان النهي عن السبب، فإنه مقدور وإن لم يكن صحيحا (1).
هذا، ولكن لا يخفى أن هذا في الحقيقة تصديق لقول أبي حنيفة في
المعاملات مطلقا، لأن السبب بما هو فعل من أفعال السبب مع قطع النظر عن
سببيته لا يكون معاملة، وكلامه إنما هو في النهي عنها، كما لا يخفى.
ثم إنه ذكر بعض المحققين من محشي الكفاية في مقام الجواب عن أبي
حنيفة ورد كلامه ما حاصله: أنه إذا كان صحة الشئ لازم وجوده بحيث لا
تنفك عنه، فالنهي عنه يكشف عن صحته، إذ المفروض أنه لا وجود له إلا
صحيحا، فلابد من كونه مقدورا في ظرف الامتثال، والمفروض أن وجوده يلزم
نفوذه، ولكن حيث إن ذات العقد الإنشائي لا يكون ملازما للصحة، فمقدوريته
بذاته لا ربط له بمقدوريته من حيث هو مؤثر فعلي، ومن المعلوم أن تعلق النهي
به لا يوجب إلا مقدوريته بذاته.
نعم، التحقيق أن إيجاد الملكية حيث إنه متحد مع وجود الملكية بالذات
ومختلف معه بحسب الاعتبار، وأمرها دائر بين الوجود والعدم، فلا يتصف
بالصحة، لأن وجود الملكية ليس أثرا له حتى يتصف بلحاظه بالصحة، لأن
الشئ لا يكون أثرا لنفسه، وأما الأحكام المترتبة على الملكية فنسبتها إليها
نسبة الحكم إلى الموضوع، لا نسبة المسبب إلى السبب ليتصف بلحاظه
بالصحة.
فظهر أن النهي عن إيجاد الملكية وإن كان دالا على مقدوريته، لكنه

1 - كفاية الأصول: 228.
226

لا يدل على صحته، لأن وجودها ليس أثرا له، بل هو نفسه، والنهي عن السبب
وإن دل على مقدوريته، إلا أنه لا يلازم الصحة، فقول أبي حنيفة ساقط على
جميع التقادير (1). انتهى.
وأنت خبير: بأن السبب من حيث هو لا يكون معاملة أصلا، وإنما هو عبارة
عن إيجاد الملكية ووجودها وإن لم يكن أثرا له حتى يتصف بلحاظه بالصحة،
إلا أن المقصود ليس اتصافه بها حتى يورد عليه بما ذكر، بل الغرض أن النهي
حيث يدل على مقدورية متعلقه، فلا محالة يكون إيجاد الملكية مقدورا له،
وهو يوجب صحة المعاملة.
وبالجملة غرضه ليس اتصاف الإيجاد بها، بل اتصاف ما يتصف بها في
جميع المعاملات، وذلك يستكشف من مقدورية الإيجاد، فالحق مع أبي حنيفة
في دلالة النهي على الصحة في المعاملات.
وأما العبادات: فإن قلنا بكونها موضوعة للأعم، فلا يخفى أن النهي لا يدل
على الصحة أصلا، لكونها مقدورة مع عدمها، وإن قلنا بكونها موضوعة للصحيح،
فكذلك أيضا، نظرا إلى أن المراد بالصحيح في ذلك الباب هو الواجد لجميع
الأجزاء والشرائط غير ما يأتي منها من قبل الأمر، كقصد القربة، لما تقدم في
مبحث الصحيح والأعم من اتفاق القائلين بكونها موضوعة للصحيح. على أن
المراد به هي الصحة مع قطع النظر عما يأتي من قبل الأمر، ومن المعلوم أنها
مقدورة مع فسادها، كما لا يخفى.
وأما الصحيح مع ملاحظة جميع الشرائط حتى الآتي منها من قبل الأمر
فلا يمكن تعلق النهي به أصلا، لأنه لا يعقل أن تكون مبغوضة، فلا يبقى مجال في

1 - نهاية الدراية 2: 407 - 408.
227

دلالة النهي على الصحة وعدمها، كما لا يخفى.
تنبيه: حول استتباع النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف للفساد
قد عرفت في مقدمات المبحث أنه لا فرق في مورد النزاع بين كون متعلق
النهي نفس العبادة أو جزءها أو شرطها، لأن الكلام في اقتضاء النهي فساد العبادة
مطلقا وعدمه، وأما أن فساد الجزء المنهي عنه يوجب فساد العمل أو لا فهو أمر
خارج عن محل البحث، ولكن لا بأس بالتكلم فيه وإن كان غير مرتبط بالمقام.
فنقول: ينبغي أن يجعل البحث في الملازمة بين فساد الجزء مثلا وفساد
الكل مع قطع النظر عن الأدلة الواردة في خصوص الصلاة أو مطلقا، الدالة على
سراية فساده إليه، كما أن محل البحث ما إذا أحرز كون النهي المتعلق بالجزء
مثلا نهيا تحريميا لا إرشادا إلى مانعيته، فإنه حينئذ لا إشكال في فساد العبادة،
كما هو واضح، وحينئذ فنقول:
أما الجزء: فالنهي التحريمي المتعلق به لا يقتضي إلا مبغوضيته بنفسه
المانعة من صيرورته جزءا فعليا للعبادة، لعدم صلاحيته لأن يصير جزء
المقرب، وأما سراية المبغوضية منه إلى الكل المشتمل عليه، فلا دليل عليها
أصلا.
نعم لو اكتفى بذلك الجزء الفاسد يفسد العمل من حيث كونه فاقد البعض
أجزائه، وأما مع عدم الاكتفاء به - كما هو المفروض في المقام - فلا وجه لكون
تمام العمل مبغوضا وفاسدا، كما هو واضح.
وأما الوصف اللازم: كالجهر والإخفات بالنسبة إلى القراءة على ما مثل
228

بهما في الكفاية (1) وإن كان في المثال نظر، نظرا إلى أن شيئا منهما لا يكون لازما
للقراءة ولكن اللازم بمعنى عدم إمكان الانفكاك أصلا لا ينبغي أن يكون موردا
للبحث، إذ لا يعقل تعلق الأمر بالموصوف، والنهي بوصفه الذي لا يمكن أن ينفك
عنه أصلا، فكونهما وصفين لازمين يرجع إلى عدم التميز بينهما وبين موصوفهما
في الخارج أصلا، ولكن هذا المقدار لا يصحح التعبير بكونه لازما، كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يقال: إن اللزوم باعتبار كونه مأخوذا في الموصوف بمعنى أن
الجهر لازم للقراءة التي يجهر بها، لا لمطلق القراءة، ولكن هذا المعنى يجري في
كل وصف بالنسبة إلى موصوفه، ولا اختصاص له بهما.
وكيف كان فالنهي إذا تعلق بالجهر في القراءة لا بالقراءة التي يجهر بها،
فإنه خارج عن موضوع المقام، ودخوله في مبحث اجتماع الأمر والنهي مبني
على شمول النزاع فيه للمطلق والمقيد، ونحن وإن نفينا البعد عنه في مقدمات
ذلك المبحث إلا أنه ينبغي الحكم بخروجه عنه، للزوم اجتماع الحكمين على
متعلق واحد، لأن الطبيعة اللا بشرط لا يأبى من الاجتماع معها بشرط شئ،
فيلزم الاجتماع في المقيد، فلا يوجب فساد العمل أصلا، لأن متعلق الأمر هو
القراءة، ومتعلق النهي هو الإجهار بها، وهما عنوانان مختلفان وإن كانا في الخارج
شيئا واحدا، إلا أن مورد تعلق الأحكام هي العناوين والطبائع، كما حققناه سابقا
بما لا مزيد عليه.
وقد عرفت أيضا أنه لا بأس بأن يكون شئ واحد مقربا من جهة ومبعدا
من جهة أخرى، فلا مانع من أن تكون القراءة مقربة والإجهار بها مبعدا.
مضافا إلى أن المقرب إنما هي الصلاة، لا خصوص أجزائها، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأصول: 222.
229

وتعلق النهي بالإجهار في القراءة تغاير تعلقه بالقراءة التي يجهر بها،
والثاني خارج عن مورد النزاع، لأنه في تعلق النهي بالوصف لا بالموصوف.
ومما ذكرنا يظهر الكلام في النهي عن الوصف المفارق.
وأما الشرط: فإن كان أمرا عباديا، فالنهي عنه يوجب فساده، وإن كان أمرا
غير عبادي، فليس الإتيان به إلا ارتكاب المحرم، وعلى التقديرين لا يضر
بصحة العمل أصلا، لأن المفروض أن متعلق النهي هو القسم الخاص من
الشرط، كالنهي عن التستر بالحرير مثلا بناء على أن يكون النهي للتحريم، فإن
التستر به وإن كان يوجب مخالفة النهي إلا أن شرط الصلاة - وهو الستر -
متحقق، وعدم اختلافهما في الخارج لا يضر أصلا، لأن متعلق الأحكام هي
الطبائع، والشئ الواحد يمكن أن يكون مقربا ومبعدا من جهتين، كما عرفت.
نعم، لو كان الشرط من الأمور العبادية واقتصر عليه المكلف في مقام
الامتثال، تكون العبادة فاسدة من جهة بطلان الشرط، وهذا غير سراية الفساد
إليه، كما هو واضح.
فتحصل أن النهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف اللازم أو المفارق
لا يوجب فساد العبادة من حيث هو، كما عرفت.
هذا تمام الكلام في مبحث النواهي.
230

المقصد الثالث
في المفاهيم
231

مقدمة
مقدمة
في تعريف المفهوم
اعلم أن المفهوم عندهم عبارة عن القضية الخبرية أو الإنشائية
المستفادة من قضية أخرى، والاختلاف بينهم إنما هو في منشأ الاستفادة،
فالمنسوب إلى القدماء أن وجه استفادته أن القيود الواقعة في الكلام، الصادرة
من المتكلم المختار إنما هو لكونها دخيلا في ثبوت الحكم، وإلا يلزم أن يكون
لغوا (1)، وسيأتي التعرض له على التفصيل.
والمعروف بين محققي المتأخرين أن وجه استفادة المفهوم هو كون أدوات
الشرط دالة على العلية المنحصرة إما بالوضع أو بقرينة عامة (2)، وعليه يكون
المفهوم من المدلولات الالتزامية للقضايا التي لها مفهوم، فكما أن المفردات لها
مدلولات التزامية، وهي المعاني التي ينتقل إليها النفس بمجرد تصور معاني تلك

1 - الحاشية على كفاية الأصول، البروجردي 1: 438، نهاية الأصول: 291.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 476 - 478، الحاشية على
كفاية الأصول، البروجردي 1: 436.
233

المفردات، فكذلك للقضايا مدلولات التزامية ينتقل إليها الذهن بمجرد تصور
معانيها المطابقية.
وعلى الأول لا يكون وصف المفهومية وصفا للمدلول أو الدلالة، لعدم
استفادته من اللفظ أصلا، بل إنما هو حكم العقل بأن المتكلم العاقل المختار إذا
تكلم بكلام وأخذ فيه قيودا لا يكون أخذه لها لغوا، بل لكونها دخيلا في ترتب
الحكم.
وأما على الثاني فيصير نظير وصف الالتزامية والتضمنية والمطابقية في
مداليل المفردات بمعنى أنه يمكن أن يتصف بها المدلول، ويمكن أن يتصف بها
الدلالة، كما يمكن أن يتصف بها الدال، لأنه كما تكون الدلالة بالمطابقة كذلك
يكون المعنى مطابقا - بالفتح - واللفظ مطابقا - بالكسر - وهكذا في الالتزام
والتضمن.
وفي المقام نقول: إن وصف المفهومية يمكن أن يكون وصفا لتلك القضية
المستتبعة، ويمكن أن يكون وصفا للدلالة باعتبار أن الدلالة على تلك القضية
دلالة مستفادة من الدلالة على القضية المنطوقية، وبهذا الاعتبار يمكن أن
يتصف بها الدال، كما لا يخفى.
ثم إن النزاع على قول المتأخرين إنما يكون في الصغرى، إذ الكلام إنما هو
في دلالة أدوات الشرط مثلا على العلية المنحصرة المستتبعة للقضية الأخرى
قهرا، وأما على فرض تسليم الدلالة فلا إشكال في حجية تلك القضية، كما هو
واضح.
وأما على قول القدماء فقد يقال بأن النزاع بناء عليه إنما يكون في الكبرى،
نظرا إلى أن لزوم حمل القيود على معنى حذرا من اللغوية يقتضي ثبوت المفهوم،
234

ولكن الكلام في حجيته، ولا يخفى أن ذلك المعنى الذي يجب الحمل عليه حذرا
منها لا ينحصر بالمفهوم، فالنزاع في وجوب الحمل على خصوصه وعدمه، وأما
على فرض الحمل عليه فلا إشكال في حجيته أصلا، كما هو واضح، فالنزاع بناء
على كلا القولين صغروي لا كبروي، فتأمل جيدا.
إذا عرفت ذلك، فالكلام يقع في مقامين:
235

مفهوم الشرط
المقام الأول
في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدمها
وطريق إثباتها وجهان:
الوجه الأول: ما هو المنسوب إلى القدماء
وهو لا يختص بالشرط، بل يجري في جميع القيود المأخوذة في الكلام
شرطا كانت أو وصفا أو غيرهما.
وغاية تقريبه: أن يقال: إن الكلام الصادر من المتكلم العاقل المختار من
حيث إنه فعل من الأفعال الاختيارية له يحكم العقل بأنه لم يصدر منه لغوا،
نظير سائر أفعاله، وكذلك يحكم بأن صدوره إنما هو لغرض التفهيم لا للأغراض
الاخر التي قد يترتب على التكلم، وذلك لأنها أغراض نادرة لا تقاوم غرض
التفهيم الذي وضع الألفاظ إنما هو لأجل سهولته، كما لا يخفى.
وحينئذ فكما أن العقل يحكم بأن أصل الكلام الصادر من المتكلم لم يصدر
منه لغوا بل صدر لغرض الإفهام كذلك يحكم بأن القيود التي يأخذها في موضوع
كلامه لم يأخذها جزافا ومن غير أثر مترتب عليه، بل لأنها لها دخل في موضوع
236

الحكم، فمن ذكر تلك القيود يستكشف أن الموضوع لحكمه المجعول أو المخبر
به إنما هو ذات الموضوع مقيدا بها لا معرى عنها، ومن عدم ذكر قيد آخر
يستكشف عدم مدخلية شئ آخر أصلا، بل المذكور هو تمام الموضوع، ومن
المعلوم أن الحكم يدور مدار موضوعه، فبوجوده يوجد، وبعدمه ينعدم.
هذا، ولكن لا يخفى أن مجرد إثبات كون المذكور تمام الموضوع لحكمه
المجعول إنما يفيد دوران ذلك الحكم مداره وجود أو عدما، وهو لا يثبت المفهوم،
لأنه عبارة عن انتفاء سنخ ذلك الحكم عند انتفاء موضوعه بمعنى أن المولى لم
يجعل مثل هذا الحكم على موضوع آخر مغاير لهذا الموضوع من حيث القيود،
فمعنى كون بلوغ الماء قدر الكر تمام الموضوع لعدم التنجس هو أن تحقق ذلك
الحكم لا يتوقف على شئ آخر ما عدا ذلك، وأما أن كونه موضوعا منحصر العدم
التنجس بمعنى أنه لم يجعل مثل ذلك الحكم على موضوع آخر - كالجاري وماء
المطر - فلا يستفاد أصلا حتى يقع التعارض بين دليل الكر وأدلة عاصمية
الجاري وماء المطر.
وبالجملة، فهنا شكان: أحدهما: الشك في كون الموضوع المذكور هو
تمام الموضوع لحكمه المجعول، والآخر الشك في كونه موضوعا منحصر المثل
ذلك الحكم بحيث لا يقوم مقامه شئ آخر، ولا ينوب منابه أمر، وغاية الدليل
المذكور إنما هو رفع الشك الأول، وإثبات تمامية الموضوع المذكور
للموضوعية للحكم المجعول، وما يجدي في إثبات المفهوم هو رفع الشك الثاني،
ولا يرفع بذلك الدليل، كما هو واضح.
ولعله إلى هذا المعنى ينظر كلام السيد في باب المفهوم (1) فراجع.

1 - انظر مناهج الوصول 2: 179، الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 406.
237

الوجه الثاني: ما هو المعروف بين المتأخرين
وقد استدل لإثباتها بوجوه:
الأول: دعوى تبادر العلية المنحصرة من كلمة " إن " وأخواتها، ولا يخفى
أن إثبات ذلك موقوف على إثبات دلالة القضية الشرطية على الارتباط بين
الشرط والجزاء، ثم كون ذلك الارتباط بنحو اللزوم، ثم كون اللزوم بنحو الترتب،
أي ترتب الجزاء على الشرط لا العكس، ولا مجرد الملازمة من دون ترتب، كما
في المعلولين لعلة واحدة، ثم كون الترتب بنحو ترتب المعلوم على علته، ثم
كون تلك العلة علة مستقلة، ثم كونها مع الاستقلال منحصرة، ومن الواضح أن
إثبات جميع هذه الأمور في غاية الإشكال، بل نقول: إن المقدار الذي يصحح
استعمال كلمة الشرطية هو مجرد الارتباط بين الشرط والجزاء ولو لم يكن ذلك
بنحو اللزوم.
ألا ترى أنه يصح أن يقال: إذا جاء زيد فمعه عمرو، فيما لو كان مصاحبا
له نوعا من دون رعاية علاقة أصلا، كما أنه يستعمل كثيرا في موارد اللزوم
وفي المراتب التي بعده.
وكيف كان فالإنصاف أن دعوى ذلك خلاف الوجدان.
الثاني: الانصراف، ومما ذكرنا في التبادر يظهر أن دعواه أيضا مما لا دليل
على إثباته.
الثالث: التمسك بإطلاق كلمة " إن " وأخواتها الموضوعة للزوم بتقريب
أن مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الفرد الذي لا يحتاج إلى مؤونة التقييد،
وهو هنا اللزوم بنحو العلية المنحصرة، كما أن قضية إطلاق صيغة الأمر هو
الوجوب النفسي.
238

ولكن لا يخفى أنه لا يكون الحكم في المقيس عليه مسلما، وقد ذكرنا
ذلك في مبحث الأوامر.
وحاصله: أن انقسام الطبيعة بالأقسام إنما يتحقق مع إضافة القيود إليه،
سواء كانت وجودية أو عدمية، فبإضافة كل قيد يتحقق قسم من الطبيعة،
ولا يعقل أن يكون بعض الأقسام عين المقسم، إذ كونه قسما يساوق عدم
اجتماعه مع القسم الآخر أو الأقسام الأخر، وكونه عين المقسم يساوق اتحاده
معها، لأن الطبيعة اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، ولا يعقل اجتماع الوصفين
المتناقضين عليه، كما هو واضح.
وحينئذ نقول: إن معنى الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة هو كون
المقصود هي الطبيعة اللابشرط، ولو فرض عدم إمكان كونها مقصودة بل كان
الغرض متعلقا ببعض أقسامها، فالحمل على بعض الأقسام دون البعض الآخر مع
كونها في عرض واحد ترجيح من دون مرجح.
نعم، لو كان بعض الأقسام أقل مؤونة من الآخر، لوجب الحمل عليه،
ولكنه لا يكون في أمثال المقام كذلك، ضرورة أن أقسام اللزوم في عرض واحد
ولا يعقل أن يكون بعضها عين المقسم، فتأمل جيدا.
الرابع: التمسك بإطلاق الشرط بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر، يلزم
تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر، لما أثر وحده، ومقتضى إطلاقها
أنه يؤثر كذلك مطلقا.
وذكر في الكفاية أنه لا يكاد ينكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك
إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه لو لم نقل بعدم اتفاقه (1). انتهى.

1 - كفاية الأصول: 233.
239

ولكن يظهر جوابه مما تقدم في جواب إثبات المفهوم من الطريق المنسوب
إلى القدماء.
وحاصله: أن مقتضى الإطلاق هو كون الموضوع المذكور تاما من حيث
الموضوعية لحكمه المجعول بمعنى أنه لا مدخلية لشئ آخر أصلا، وهذا
لا يدل على المفهوم، لأنه لابد في إثباته من كون الموضوع المذكور منحصرا في
الموضوعية، ومجرد تماميته لا يثبت الانحصار، كما هو واضح.
الخامس: التمسك بإطلاق الشرط بتقريب آخر، وهو أن مقتضى إطلاق
الشرط: تعينه، كما أن مقتضى إطلاق الأمر: تعين الوجوب.
ويظهر جوابه مما تقدم في الجواب عن الوجه الثالث.
وحاصله: أنا لا نسلم ثبوت الحكم في المقيس عليه، لأنه لا يعقل أن
يكون الوجوب التعييني عين طبيعة الوجوب، التي هي مقسم لها وللوجوب
التخييري، بل كل واحد منهما لا محالة يشتمل على قيد وجودي أو عدمي زائد
على أصل الطبيعة، والإطلاق لا يثبت شيئا منهما.
نعم، قد ذكرنا في مبحث الأوامر أن للمولى الاحتجاج على العبد لو اعتذر
باحتمال كونه تخييريا، لأن البعث الصادر منه لابد له من الجواب بإتيان
متعلقه، ولكن هذا لا يثبت التعينية، كما تقدم.
السادس: التمسك بإطلاق الجزاء.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول: في حقيقة المفهوم
إن المراد من المفهوم إنما هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه عند انتفاء الشرط،
لا انتفاء شخصه المجعول مترتبا على وجود الشرط، فإنه ينتفي بانتفاء الشرط
عقلا.
240

وربما توهم: أنه كيف يكون المناط في المفهوم هو السنخ مع أن الشرط
في القضية الشرطية إنما وقع شرطا للحكم المجعول بإنشائه دون غيره، وهو
حكم شخصي ينتفي بانتفاء الشرط عقلا (1)؟!
وأجاب عنه في الكفاية بما حاصله: أن وضع الهيئات والموضوع له فيها
عام كالحروف، فان لمعلق على الشرط إنما هو الوجوب الكلي، والخصوصية
ناشئة من قبل الاستعمال (2).
ولكن قد حقق فيما تقدم أن الموضوع له في باب الحروف خاص لا عام.
والحق في الجواب أن يقال: إن المستفاد من القضايا الشرطية هو الارتباط
والمناسبة بين الشرط والجزاء الذي هو عبارة عن متعلق الحكم لا نفسه.
وبعبارة أخرى: ظاهر القضية الشرطية هو اقتضاء المجئ في قولك إن
جاءك زيد فأكرمه، لنفس الإكرام، لا وجوبه، إذ تعلق الوجوب به إنما يتأخر
عن تلك الاقتضاء وشدة المناسبة المتحققة بينهما، كما يظهر بمراجعة
الاستعمالات العرفية، فإن أمر المولى عبده بإكرام ضيفه عند مجيئه إنما هو
لاقتضاء مجئ الضيف إكرامه، فالارتباط إنما هو بين الشرط ومتعلق الجزاء،
وظاهر القضية الشرطية وإن كان ترتب نفس الحكم على الشرط إلا أن تعلق
الحكم به إنما هو للتوصل إلى المتعلق بعد حصول الشرط، لشدة الارتباط
بينهما، وحينئذ فالقائل بالمفهوم يدعي انحصار مناسبة الإكرام مع المجئ بحيث
لا ينوب منابه شئ، ولا ارتباط بينه وبين شئ آخر، فإذا انتفى المجئ،
فلا يبقى وجه لوجوب الإكرام بعد عدم اقتضاء غير المجئ إياه، فالمعلق على

1 - مطارح الأنظار: 173 / السطر 15 - 16.
2 - كفاية الأصول: 237.
241

الشرط في ظاهر القضية الشرطية وإن كان مفاد الهيئة التي هي جزئية
ووجوب شخصي يرتفع بارتفاع الشرط عقلا إلا أن مفادها بنظر العرف هو تعليق
الإكرام الذي هو أمر كلي على المجئ، فلا يبقى مع انتفائه وجه لوجوبه.
الأمر الثاني: في تعدد الشرط واتحاد الجزاء
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قوله: إذا خفي الأذان فقصر وإذا
خفي الجدران فقصر فبناء على عدم ثبوت المفهوم - كما هو الحق، وقد تقدم - لا
تعارض ولا تنافي بين القضيتين، وأما بناء على المفهوم، فيقع التعارض بينهما،
لأن مفهوم الأول عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان، سواء خفي الجدران
أو لم يخف، ومفهوم الثاني عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدران، سواء
خفي الأذان أو لم يخف، فهل اللازم تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر، أو
أنه لا مفهوم لواحد منهما في هذه الصورة، أو كون الشرط لوجوب القصر هو
مجموع الشرطين، أو كونه الجامع بينهما؟ وجوه.
ولابد أولا من بيان أن التعارض هل هو بين المنطوقين ويسري منهما إلى
المفهومين أو بين المفهومين فقط؟
فنقول: الظاهر هو الأول، وذلك لأنه إن كان الوجه في ثبوت المفهوم هو
كون كلمة " إن " وأخواتها موضوعة للعلية المنحصرة، فكل واحد من القضيتين
تدل على العلية المنحصرة، فهما بمنزلة قوله: العلة المنحصرة لوجوب القصر
هو خفاء الأذان، والعلة المنحصرة له هو خفاء الجدران، ومن المعلوم ثبوت
التعارض بين نفس هاتين القضيتين، لاستحالة كون شيئين علتين منحصرتين
لشئ واحد، وكذا لو كان الوجه في ثبوت المفهوم هو الانصراف، وأما لو كان
الوجه فيه هو الإطلاق بأحد الوجوه المتقدمة، فالظاهر أيضا التعارض بين
242

المنطوقين، لعدم إمكان الأخذ بكلا الإطلاقين.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه لو قيل بالمفهوم من جهة وضع " إن " وأخواتها
للعلية المنحصرة، فالتعارض يقع بين أصالتي الحقيقة الجاريتين في كلتا
القضيتين، ومع عدم المرجح - كما هو المفروض - تسقطان معا، فاللازم هو القول
بعدم ثبوت المفهوم في أمثال المقام.
وكذا لو كان الوجه هو الانصراف فإن الأخذ بمقتضى الانصرافين ممتنع،
ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فلا يجوز الأخذ بشئ منهما.
وأما لو كان الوجه هو الإطلاق بأحد الوجوه السابقة، فيقع التعارض بين
أصالتي الإطلاق الجاريتين في كلتا القضيتين، ومع عدم الترجيح لأحدهما على
الآخر تسقطان معا، ويزول الانحصار من كلا الشرطين، ويبقى كون كل واحد
منهما علة تامة مستقلة لتحقق الجزاء.
هذا لو قيل باستفادة خصوص الانحصار من الإطلاق، فإنه مع عدم
حجيته لوجود المعارض لا يضر ببقاء الشرط على عليته التامة، وأما لو قلنا بأن
مفاد الإطلاق هو مجموع العلية التامة المنحصرة بمعنى أنه كما يستفاد
الانحصار من الإطلاق كذلك يستفاد منه التمامية أيضا، وحينئذ فمع التعارض
نعلم إجمالا إما بزوال الانحصار من كل واحد من الشرطين وإما بزوال التمامية
المستتبع لزوال الانحصار.
وبعبارة أخرى: نعلم إجمالا بورود القيد في كل من القضيتين: إما على
الإطلاق المثبت للانحصار، وإما على الإطلاق المنتج للتمامية، ومع هذا العلم
الإجمالي يسقط الإطلاقان الجاريان في كل من القضيتين عن الحجية والعلم
تفصيلا بعدم الانحصار على أي تقدير، لأنه إن ورد القيد على الإطلاق المثبت
له فواضح، وإن ورد على الإطلاق المفيد للتمامية، فلم يبق موضوعه أصلا، كما
243

هو واضح لا يجدي في انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي
حتى يسلم الإطلاقان المثبتان للتمامية عن التعارض والتساقط.
وذلك لأن الانحلال يتوقف على العلم التفصيلي بورود القيد على خصوص
الإطلاق المفيد للانحصار لا على العلم التفصيلي بعدم الانحصار، وعدم كونه
مرادا قطعا، والموجود في المقام هو الثاني لا الأول، كما هو واضح.
ثم إنه هل تسقط كلتا القضيتين عن الدلالة على المفهوم رأسا بحيث
لا ينافيهما مدخلية شئ آخر في تحقق الجزاء، أو أن سقوطهما عن ذلك إنما هو
بالنسبة إلى الشرط المذكور فيهما؟ وجهان.
والحق: التفصيل بين ما لو كان الوجه في ثبوت المفهوم هو وضع كلمة
" إن " وأخواتها للدلالة على العلية المنحصرة أو الانصراف وبين ما لو كان
استفادتها من الإطلاق، فعلى الأول تسقطان عن الدلالة على المفهوم رأسا، لأن
التعارض بين أصالتي الحقيقة أو الانصرافين في كل منهما يوجب تساقطهما، فمن
أين يدل على نفي مدخلية شئ آخر أو نفي بديل آخر، وعلى الثاني فلا، لأن
رفع اليد عن أصالة الإطلاق بالنسبة إلى خصوص قيد لا يوجب رفع اليد عنها
بالنسبة إلى قيد آخر شك في قيديته.
ألا ترى أن رفع اليد عن إطلاق الرقبة في قوله: أعتق رقبة، بسبب الدليل
على التقييد بالمؤمنة - مثل قوله: لا تعتق رقبة كافرة - لا يوجب رفع اليد عن
إطلاقها بالنسبة إلى القيود الأخرى المشكوكة، مثل العدالة وغيرها من القيود.
الأمر الثالث: في تداخل الأسباب والمسببات
لو تعدد الشرط واتحد الجزاء، فهل القاعدة تقتضي التداخل مطلقا، أو
عدمه كذلك، أو يفصل بين ما إذا اتحد الجنس فالأول وما إذا تعدد فالثاني؟
244

وليقدم أمور:
الأول: أن النزاع في هذا الباب مبني على إحراز كون الشرطين مثلا علتين
مستقلتين بمعنى أن كل واحد منهما يؤثر في حصول المشروط مستقلا من غير
مدخلية شئ آخر، وأما بناء على كون الشرط هو مجموع الشرطين فلا مجال
للنزاع في التداخل وعدمه، إذ لا يؤثر الشرطان إلا في شئ واحد، كما هو
واضح.
فالبحث في المقام إنما يجري بناء على غير الوجه الثالث من الوجوه
الأربعة المتقدمة في الأمر السابق.
الثاني: أن مورد البحث ما إذا كان متعلق الجزاء طبيعة قابلة للتكثر
والتعدد، مثل الوضوء والغسل وأشباههما، وأما إذا لم تكن قابلة للتعدد، كقتل زيد
مثلا، فهو خارج عن محل النزاع، لاستحالة عدم التداخل، فمثل قوله: إن ارتد
زيد فاقتله، وإن قتل مؤمنا فاقتله، خارج عن المقام.
الثالث: أن التداخل قد يكون في الأسباب، وقد يكون في المسببات،
والمراد بتداخل الأسباب - الذي هو مورد النزاع في المقام - هو تأثيرها مع كون
كل واحد منها مستقلا لو انفرد عن صاحبه في مسبب واحد في حال الاجتماع،
والمراد بتداخل المسببات هو الاكتفاء في مقام الامتثال بإتيان الطبيعة المتعلقة
للحكم مرة بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب وتأثيرها في المسببات الكثيرة
حسب كثرتها، وربما مثلوا له بمثل: قوله: أكرم هاشميا، وأضف عالما (1)، حيث
إنه لا إشكال في تحقق الامتثال إذا أكرم العالم الهاشمي بالضيافة.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 497.
245

ولكن لا يخفى ما فيه من النظر، فإن الظاهر أن المراد به - كما يظهر من
تذييل مبحث تداخل الأسباب به - هو ما إذا كان التكليفان متعلقين بعنوان واحد
لا بعنوانين، كما لا يخفى.
الرابع: أن مورد النزاع هو ما تقتضيه القواعد اللفظية بعد الفراغ عن
إمكان التداخل وعدمه.
وحكي عن بعض الأعاظم المعاصرين: استحالة عدم التداخل، نظرا إلى
أنه يمكن تعقل تعلق أمر واحد بإيجاد الطبيعة مرتين من غير تعليق على شئ،
كما إذا قال: توضأ وضوئين وكذا فيما إذا جمع السببين وأمر بإيجادهما مرتين كما
إذا قال: إن بلت ونمت فتوضأ وضوئين، وكذا يجوز تعلق أمرين بطبيعة واحدة فيما
إذا كان السبب الثاني مترتبا على الأول دائما، وأما مع عدم الترتب بينهما - كما هو
المفروض في المقام - فلا نتعقل تعلق أمرين بطبيعة واحدة، إذ لا يمكن تقييد
الثاني بمثل كلمة الآخر ونحوه، لإمكان حصول السبب الثاني قبل الأول.
ومنه يظهر أنه لا يمكن تقييد كل منهما بمثلها، كما هو واضح (1).
هذا، ولكن لا يخفى: أن منشأ الاستحالة لو كان مجرد عدم صحة التقييد
بمثل كلمة الآخر، فالجواب عنه واضح، لعدم انحصار التقييد بمثله، وذلك
لإمكان أن يقيد كل واحد منهما بالسبب الموجب لتعلق التكليف بالطبيعة، وذلك
بأن يقال: إن بلت فتوضأ وضوءا من قبل البول، وإن نمت فتوضأ وضوء امن قبل
النوم.

1 - الحاشية على كفاية الأصول، البروجردي 1: 449 - 453، نهاية الأصول: 305 -
309.
246

حول مقتضى القواعد اللفظية
إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أنه قد نسب إلى المشهور القول بعدم
التداخل (1).
وقد استدل لهم بوجوه أقواها ما حكي عن العلامة في المختلف من أنه إذا
تعاقب السببان أو اقترنا فإما أن يقتضيا مسببين مستقلين أو مسببا واحدا أو لا يقتضيا
شيئا أو يقتضي أحدهما شيئا دون الآخر، والثلاثة الأخيرة فباطلة، فتعين
الأولى، وهو المطلوب.
أما الملازمة: فواضح.
وأما بطلان الثاني: فلأن النزاع إنما هو مبني على خلافه.
وأما الثالث: فلأنه خلاف ما فرض من سببية كل واحد منهما.
وأما الرابع: فلأن استناده إلى الواحد المعين يوجب الترجيح من غير
مرجح، وإلى غير المعين يوجب الخلف، لأن المفروض سببية كل واحد (2).
فيما أفاده الشيخ الأعظم في هذا المقام
وفي تقريرات الشيخ أن محصل هذا الوجه ينحل إلى مقدمات ثلاث:
أحدها: دعوى تأثير السبب الثاني.
ثانيها: أن أثره غير الأثر الأول.
ثالثها: أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل، والقائل بالتداخل لابد له من منع

1 - كفاية الأصول: 239.
2 - مختلف الشيعة 2: 423 - 424، نهاية الأصول: 305.
247

إحدى المقدمات على سبيل منع الخلو، وقد فصل في إثبات تلك المقدمات ودفع
ما اورد عليها (1).
أما المقدمة الأولى: فقد ذكر في إثباتها كلاما طويلا أخذ كل من
المتأخرين عنه شيئا منه، وجعله دليلا مستقلا على القول بعدم التداخل.
فمنهم: المحقق الهمداني في المصباح، حيث قال فيه ما ملخصه: إن
مقتضى إطلاق الجزاء وإن كان كفاية ما يصدق عليه الطبيعة من غير تقييد بالفرد
المأتي به أولا إلا أن ظهور القضية الشرطية في السببية المستقلة مقدم عليه،
لأن الظهور في الأول إطلاقي يتوقف على مقدماته التي منها عدم البيان، ومن
المعلوم أن إطلاق السبب منضما إلى حكم العقل بأن تعدد المؤثر يستلزم تعدد
الأثر يكون بيانا للجزاء، ومعه لا مجال للتمسك بإطلاقه، وليس المقام من قبيل
تحكيم أحد الظاهرين على الآخر حتى يطالب بالدليل، بل لأن وجوب الجزاء
بالسبب الثاني يتوقف على إطلاق سببيته، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم
العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه.
نعم التمسك بالإطلاق إنما يحسن في الأوامر الابتدائية المتعلقة بطبيعة
واحدة لا في ذوات الأسباب، فإن مقتضى إطلاق الجميع كون ما عدا الأول تأكيدا
له، واحتمال التأسيس ينفيه أصالة الإطلاق (2). انتهى.
وإليه يرجع ما ذكره في الكفاية وجها للقول بعدم التداخل (3).
ومنهم: المحقق النائيني، فإنه ذكر في تقريراته ما حاصله: أن الأصل
اللفظي يقتضي عدم تداخل الأسباب، لأن تعلق الطلب بصرف الوجود من

1 - مطارح الأنظار: 177 / السطر 22 وما بعده.
2 - مصباح الفقيه، الطهارة: 126 / السطر 9.
3 - كفاية الأصول: 239 - 240.
248

الطبيعة وإن كان مدلولا لفظيا إلا أن عدم قابلية صرف الوجود للتكرر ليس
مدلولا لفظيا، بل من باب حكم العقل بأن المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن
امتثاله ثانيا، وأما أن المطلوب واحد أو متعدد فلا يحكم به العقل، فإذا دل ظاهر
الشرطيتين على تعدد المطلوب، لا يعارضه شئ أصلا.
ومما ذكرنا انقدح ما في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بيانا لإطلاق
الجزاء، لأنه على ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرة ليس من باب
الإطلاق أصلا حتى يقع التعارض، بل يكون ظهور الشرطية في تأثير الشرط
مستقلا رافعا حقيقة لموضوع حكم العقل وواردا عليه، بل على فرض ظهور
الجزاء في المرة يكون ظهور الشرطية حاكما عليه، كما لا يخفى (1). انتهى.
والجواب عنه وعن سابقه: أن استفادة استقلال الشرط في السببية إنما
هو من إطلاق الشرط، كما عرفت في صدر مبحث المفهوم، فهنا إطلاقان: إطلاق
الشرط الدال على السببية المستقلة، وإطلاق الجزاء الدال على تعلق الطلب
بنفس الطبيعة، ولا تعارض بين الإطلاقين في كل قضية مع قطع النظر عن
القضية الأخرى، ضرورة عدم المنافاة بين استقلال النوم مثلا بالسببية وكون
المسبب هو وجوب طبيعة الوضوء.
نعم بعد ملاحظة اجتماع القضيتين معا يقع التعارض بينهما، لاستحالة أن
يؤثر سببان مستقلان في إيجاد حكمين على طبيعة واحدة، فاللازم في مقام
التخلص عن المحذور العقلي أحد أمرين: إما رفع اليد عن إطلاق الشرط في كل
منهما، وإما رفع اليد عن إطلاق الجزاء كذلك، ولا ترجيح للثاني على الأول أصلا.
نعم الظاهر أن المتفاهم عند العرف من أمثال هذا النحو من القضايا

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 493 - 494.
249

الشرطية عدم التداخل، وتأثير كل سبب في مسبب واحد من غير التفات إلى
إطلاق متعلق الجزاء، ولزوم تقييده.
ولعل كون المتفاهم بنظر العرف كذلك مما لا مجال لإنكاره إلا أن الكلام في
منشأ استفادتهم، فيمكن أن يكون الوجه فيه قياس العلل التشريعية بالعلل
التكوينية التي يوجب كل علة معلولا مستقلا أو استفادة الارتباط بين الشرط
ومتعلق الجزاء بمعنى اقتضاء البول مثلا للوضوء واستحقاقه له، فعند الاجتماع
يقتضي كل واحد من الشرطين وضوءا مستقلا، أو غير ذلك مما لم نعرفه، فإن
العمدة هي ثبوت أصل الظهور بنظر العرف، وقد عرفت أنه لا إشكال فيه، كما
أشار إليه المحقق الخراساني في حاشية الكفاية في هذا المقام (1).
وأما المقدمة الثانية: فيمكن منعها بتقريب أن الشرط إنما يكون سببا
لوجوب الوضوء لا لوجوده، كما هو ظاهر القضية الشرطية.
مضافا إلى أنه لو كان علة له لا للوجوب، يلزم عدم الانفكاك بينهما، مع
أن من المعلوم خلافه، فتعدد الشرط يوجب تعدد الوجوب، وهو لا يستلزم
وجوب إيجاد الفعل متعددا، لإمكان أن يكون الوجوب الثاني تأكيد للوجوب
الأول، إذ البعث التأكيدي ليس مغايرا للبعث التأسيسي، والفارق مجرد تعدد
الإرادة ووحدتها، ومع إمكان ذلك لابد من إثبات كون البعث للتأسيس.
وبالجملة، يقع التعارض بين إطلاق متعلق الجزاء وإطلاق الشرط في
السببية المستقلة لو كان الوجوبان تأسيسيين، وأما لو كان أحدهما تأكيدا للآخر،
فلا تعارض أصلا، ولا ترجيح لرفع اليد عن إطلاق متعلق الجزاء وإبقاء الوجوب
على ظاهره لو لم نقل بترجيح العكس، نظرا إلى أن ظهوره في التأسيسية لا يكون

1 - كفاية الأصول: 242، الهامش 3.
250

بالغا إلى حد يعارض الإطلاق، وعلى فرض التعارض فلابد على المستدل من
إثبات العكس، ورفع احتمال الحمل على التأكيد.
وأجاب عنه في التقريرات بما حاصله: أنا نسلم كون الأسباب الشرعية
أسبابا لنفس الأحكام لا لمتعلقاتها، ومع ذلك يجب تعدد إيجاد الفعل في الخارج،
فإن المسبب هو اشتغال الذمة بإيجاد الفعل، ولا شك أن السبب الأول يقتضي
ذلك، فإذا فرضنا وجود مثله فيوجب اشتغالا آخر، إذ لو لم يقتضي ذلك فإما أن
يكون بواسطة نقص في السبب أو في المسبب، وليس شئ منهما.
أما الأول: فلما هو المفروض.
وأما الثاني: فلأن تعدد الاشتغال ووحدته يتبع قبول الفعل المتعلق له
وعدمه، والمفروض في المقام القبول.
نعم ما ذكره يتم في الأوامر الابتدائية مع قبول المحل أيضا، لأن مجرد
القابلية غير قاضية بالتعدد، والاشتغال الحاصل بالأمر الثاني لا نسلم مغايرته
للأمر الأول.
هذا إن أريد من التأكيد تأكيد مرتبة الطلب والوجوب وإن كان حصوله
بواسطة لحوق جهة مغايرة للجهة الأولى، كما في مثل تحريم الإفطار بالمحرم
في شهر رمضان، وإن أريد التأكيد نحو الحاصل في الأوامر الابتدائية، ففساده
أظهر من أن يخفى، فإن الأمر الثاني مرتب على الأول ووارد في مورده، بخلاف
المقام، ضرورة حصول الاشتغال والوجوب على وجه التعدد قبل وجود السبب
بنفس الكلام الدال على السببية، فتكون تلك الوجوبات كل واحد منها في عرض
الآخر، فهناك إيجابات متعددة، ويتفرع عليها وجوبات متعددة على وجه التعليق،
وبعد حصول المعلق عليه يتحقق الاشتغال بأفراد متعددة.
ويمكن أن يجاب بالتزام أنها أسباب لنفس الأفعال لا لأحكامها، ولكنه
251

سبب جعلي لا عقلي ولا عادي، ومعنى السبب الجعلي هو أن لها نحو اقتضاء في
نظر الجاعل بحيث لو انقدح في نفوسنا لكنا جازمين بالسببية، إلا أن الإنصاف
أنه لا يسمن، فإن معنى جعل السببية ليس إلا مطلوبية المسبب عند وجود
السبب، فالتعويل على الوجه الأول (1). انتهى ملخصا.
أقول: المراد بتعدد الاشتغال الحاصل من كل سبب لابد وأن يكون هو
الوجوب الجائي عقيبه، وقد عرفت أن تعدد الوجوب لا يستلزم تعدد الواجب،
لاحتمال أن يكون الوجوب الثاني تأكيدا للأول، فتعدد الاشتغال بهذا المعنى
لا يوجب تعدد المشتغل به.
ثم إن قوله: هذا إن أريد من التأكيد إلى آخره، يرد عليه: أن هذا الفرض
خارج عن باب التأكيد، لما قد حقق سابقا في مبحث اجتماع الأمر والنهي من أن
متعلق الأحكام هي الطبائع لا الوجودات، فالطبيعة المتعلقة لأحد التحريمين
في المثال تغاير الطبيعة المتعلقة للآخر، ضرورة أن أحدهما يتعلق بالإفطار،
والآخر بشرب الخمر مثلا، فأين التأكيد؟
ثم إن اعتبار الترتب في تحقق معنى التأكيد - كما عرفت في كلامه - مندفع
بأن الوجوب التأكيدي ليس بمعنى استعمال الهيئة - مثلا - في التأكيد حتى
يستلزم وجود وجوب قبله بل المستعملة فيه هو نفس الوجوب والتأكيد ينتزع
من تعلق أزيد من واحد بشئ واحد.
ألا ترى أنه يتحقق التأكيد بقول: اضرب، والإشارة باليد إليه في آن واحد
من دون تقدم وتأخر.
ثم إن الجواب الأخير - الذي ذكر أن الإنصاف أنه لا يسمن - قد جعله

1 - مطارح الأنظار: 180 / السطر 1 - 16.
252

المحقق العراقي جوابا مستقلا عن الإشكال، واعتمد عليه، وقد عرفت منا سابقا
استظهاره، ولكنه لا يندفع به الإشكال، لأن الشرطين إنما يقتضيان نفس طبيعة
متعلق الجزاء، وبعد حصولها مرة بعدهما قد عمل بمقتضاهما معا، كما لا يخفى.
هذا كله في الأنواع المتعددة، وأما التداخل وعدمه بالنسبة إلى فردين
من نوع واحد، فقد يقال بابتناء ذلك على أن الشرط هل هو الطبيعة أو الأفراد.
فعلى الأول فلابد من القول بالتداخل، لأن الفردين أو الأفراد من طبيعة
واحدة لا يعد بنظر العرف إلا فردان أو أفراد منها، فزيد وعمرو بنظر العرف فردان
من الإنسان، لا إنسانان، كما هو كذلك بنظر العقل.
وعلى الثاني فلابد من القول بعدم التداخل، لظهور الشرطية في كون كل
فرد سببا مستقلا للجزاء.
هذا، ولكن لا يخفى أن مورد النزاع هو ما إذا كان كل واحد من الأفراد سببا
مستقلا، وإلا فلا يشمله النزاع في المقام، فدخوله فيه يبتنى على كون الشرط
هي الأفراد، لا أن القول بعدم التداخل مبني عليه، كما هو صريح ذلك القول
المحكي، وحينئذ فيجري فيه جميع ما تقدم في النوعين والأنواع المختلفة،
والظاهر أن المتفاهم منها بنظر العرف أيضا عدم التداخل بالنسبة إلى الأفراد من
جنس واحد، فتأمل.
وأما المقدمة الثالثة الراجعة إلى أن تعدد الأثر يوجب تعدد الفعل التي
يعبر عنها بعدم تداخل المسببات: فقد ذكر الشيخ في التقريرات: أن لا مجال
لإنكارها بعد تسليم المقدمتين السابقتين، لأنا قد قررنا في المقدمة الثانية أن
متعلق التكاليف حينئذ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأول، ولا يعقل
تداخل فردين من ماهية واحدة، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضا على
ذلك التقدير، إلا أن يكون ناسخا لحكم السببية، وأما تداخل الأغسال فبواسطة
253

تداخل ماهياتها، كما كشف عنه رواية الحقوق، مثل تداخل الإكرام والضيافة
فيما إذا قيل: إذا جاء زيد فأكرم عالما، وإن سلم عليك فأضف هاشميا، فعند وجود
السببين يمكن الاكتفاء بإكرام العالم الهاشمي على وجه الضيافة، وأين ذلك من
تداخل الفردين (1). انتهى ملخصا.
ولا يخفى أن المراد بكون متعلق التكاليف هو الفرد المغاير للفرد الواجب
بالسبب الأول إن كان هو الفرد الخارجي، فعدم اجتماع الفردين مسلم لا ريب
فيه، إلا أنه لا ينبغي الإشكال في بطلانه، لأن الموجود الخارجي يستحيل أن
يتعلق التكليف به بعثا كان أو زجرا، كما قد حققناه سابقا في مبحث اجتماع الأمر
والنهي بما لا مزيد عليه، وإن كان المراد هو العنوان الذي يوجب تقييد الطبيعة،
فنقول: إن القيود المقسمة للطبيعة على نوعين: نوع تكون النسبة بين القيود
التخالف بحيث لا مانع من اجتماعها على شئ واحد، كتقييد الإنسان مثلا
بالأبيض والرومي، ونوع تكون النسبة بينها التباين، كتقييده بالأبيض والأسود،
ومرجع القول بعدم التداخل إلى استحالة تعلق تكليفين بطبيعة واحدة، ولزوم
تقييدها في كل تكليف بقيد يغاير القيد الآخر، وأما لزوم كون التغاير على نحو
التباين، فممنوع جدا، بل يستفاد من ورود الدليل على التداخل كون التغاير بنحو
التخالف الغير المانع من الاجتماع، فلا يلزم أن يكون ناسخا لحكم السببية، كما
أفاده في كلامه.
نعم مع عدم ورود الدليل عليه لا مجال للاعتناء باحتمال كون التغاير بنحو
التخالف في مقام الامتثال، لأن التكليف اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، ومع الإتيان
بوجود واحد لا يحصل اليقين بالبراءة عن التكليفين المعلومين، كما هو واضح.

1 - مطارح الأنظار: 180 - 181.
254

الأمر الرابع: في اعتبار وحدة المنطوق والمفهوم إلا في الحكم
لابد - بناء على ثبوت المفهوم - من أخذ جميع القيود المأخوذة في الشرط
أو الجزاء في ناحية المفهوم أيضا، فقوله: إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه يوم
الجمعة، يكون مفهومه هكذا: إن لم يجئك زيد أو لم يكرمك فلا تكرمه يوم
الجمعة.
وكذا لا إشكال في أن المنفي في المفهوم فيما لو كان الحكم في المنطوق
حكما مجموعيا هو نفي المجموع بحيث لا ينافي ثبوت البعض.
وإنما الإشكال فيما إذا كان الحكم في المنطوق حكما عاما، فهل المنفي في
المفهوم نفي ذلك الحكم بنحو العموم، أو نفي العموم الغير المنافي لثبوت البعض؟
مثلا: قوله (عليه السلام): " الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شئ " (1) هل يكون
مفهومه أنه إذا لم يبلغ ذلك المقدار ينجسه جميع الأشياء النجسة، أو أن
مفهومه: تنجسه بالشئ الغير المنافي لعدم تنجسه ببعض النجاسات؟ وهذا هو
النزاع المعروف بين صاحب الحاشية والشيخ (قدس سرهما)، وقد بنى الشيخ المسألة على
أن كلمة " الشئ " المأخوذة في المنطوق هل أخذت مرآتا للعناوين النجسة،
مثل البول والمني والدم وغيرها بحيث كأنها مذكورة بدله، أو أنها مأخوذة
بعنوانه بحيث لابد من أخذه في المفهوم بعنوانه؟ فعلى الأول يصير مفهومه
يتنجس الماء القليل بجميع أنواع النجاسات، وعلى الثاني لا ينافي عدم تنجسه

1 - الكافي 3: 2 / 1، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 9، الحديث 6.
255

ببعضها، كما لا يخفى (1).
هذا، وأنت خبير بأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق عند انتفاء
الشرط مثلا، لا ثبوت حكم نقيض الحكم في المنطوق، وحينئذ فمفهوم المثال
عبارة عن أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ليس بلا ينجسه شئ لا أنه ينجسه شئ
حتى يقال بأن النكرة في الإثبات لا يفيد العموم، بل مدلول القضية المفهومية هو
انتفاء الحكم المنشأ في المنطوق، وانتفاؤه في المقام لا ينافي ثبوت التنجس
بجميع النجاسات، كما أنه لا ينافي ثبوته ببعضها، ولا دلالة لها على أحد
الأمرين أصلا.
ويظهر الكلام في مفهوم الوصف مما تقدم في مفهوم الشرط.

1 - مطارح الأنظار: 174 / السطر 29.
256

مفهوم الغاية
المقام الثاني
في مفهوم الغاية
يقع الكلام في مفهوم الغاية بمعنى دلالتها على انتفاء الحكم فيما بعدها بناء
على دخولها في المغيى، أو انتفاؤه فيها وفيما بعدها بناء على خروجها عنه.
والمعروف بين المتأخرين: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم
وبين ما إذا كانت قيدا للموضوع بالدلالة على المفهوم في الأول دون الثاني.
والوجه في الثاني واضح، لأنه يصير حينئذ من قبيل الوصف، وقد عرفت
أنه لا مفهوم له.
وأما وجه الدلالة على المفهوم في الأول: فهو على ما ذكره بعض
المحققين من المعاصرين في كتاب الدرر عبارة عن أن الغاية بحسب مدلول
القضية جعلت غاية للحكم المستفاد من قوله: اجلس، مثلا، وقد حقق في
محله أن مفاد الهيئة إنشاء حقيقة الطلب، لا الطلب الجزئي الخارجي، فتكون
الغاية في القضية غاية لحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس، ولازم ذلك هو ارتفاع
حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها.
نعم لو قيل بدلالة الهيئة على الطلب الجزئي، فالغاية لا تدل إلا على
257

ارتفاعه عندها، وهو لا ينافي وجود جزئي آخر من سنخ ذلك الطلب بعدها.
ولكنه اختار في الأواخر أنه لا تدل الغاية على المفهوم ولو كانت قيدا
للحكم، فقال في حاشية الدرر ما هذه عبارته: يمكن أن يقال بمنع المفهوم حتى
فيما اخذ فيه الغاية قيدا للحكم، كما في: اجلس من الصبح إلى الزوال،
لمساعدة الوجدان على أنا لو قلنا بعد الكلام المذكور: وإن جاء زيد فاجلس من
الزوال إلى الغروب، فليس فيه مخالفة لظاهر الكلام الأول، فهذا يكشف عن أن
المغيى ليس سنخ الحكم من أي علة تحقق بل السنخ المعلول لعلة خاصة سواء
كانت مذكورة كما في إن جاء زيد فاجلس من الصبح إلى الزوال، أم كانت غير
مذكورة، فإنه مع عدم الذكر أيضا يكون لا محالة هنا علة يكون الحكم المذكور
مسببا عنها (1). انتهى.
وأنت خبير بأن الغاية إذا كانت غاية لطبيعة الطلب المتعلقة بالجلوس مثلا،
فلا محالة ترتفع الطبيعة عند وجودها، وإلا فلا معنى لكونها غاية لنفس الطبيعة،
ويكشف من ذلك ارتفاع علته وعدم قيام علة أخرى مقامه.
وبعبارة أخرى: بعد كون القضية بنظر العرف ظاهرة في ارتفاع الطلب عند
وجود الغاية لا مجال للإشكال في الدلالة على المفهوم من جهة ما ذكر، لأن
ذلك مستلزم لكون العلة واحدة بحيث لا يقوم مقامها علة أخرى.
هذا مضافا إلى أن العرف لا يتوجه ولا ينظر إلى مسألة العلة أصلا، كما
لا يخفى، إلا أن كون الهيئة مفادها هو إنشاء حقيقة الطلب وكليه قد عرفت ما
فيه سابقا، فإن الوضع والموضوع له في الحروف ليسا عامين، بل الموضوع له
خاص، إلا أن المتفاهم في المقام من القضية الغائية كون المغيى هو حقيقة

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 204 - 205.
258

الطلب بحيث ترتفع عند وجود الغاية، كما يظهر بمراجعة العرف، فالحق ثبوت
مفهوم الغاية.
ثم إن هنا خلافا آخر، وهو: أن الغاية هل تكون داخلة في المغيى أو
خارجة عنها؟
ولا يخفى أن المراد بالغاية هنا هو مدخول مثل " إلى " و " حتى " مما له
أجزاء، لا نهاية الشئ، فإن البحث فيها بالمعنى الثاني ليس شأن الأصولي،
بخلاف الأول.
والحق خروجها عن المغيى، سواء كانت غاية للموضوع أو الحكم.
والدليل على ذلك مراجعة الاستعمالات العرفية، فإن قول القائل: سرت
من البصرة إلى الكوفة لا يدل على استمرار السير في جزء من الكوفة أيضا
بحيث لو وصل إلى جدار الكوفة من دون أن يدخل فيها، لكان هذا القول منه
كذبا، بل نقول: إن دعوى دخول تالي كلمة " من " في الموضوع أو الحكم
ممنوعة أيضا، كما يظهر بالتأمل في المثال، فالإنصاف خروج الغاية عن المغيى
حكما كان أو موضوعا، فالتفصيل بينهما بدخولها فيه في الثاني دون الأول - كما
في الدرر - في غير محله، كما أن دعوى خروج غاية الحكم عن النزاع في هذا
المقام - كما في الكفاية - ممنوعة جدا، كما أشار إليه في الحاشية فراجع (1).

1 - كفاية الأصول: 246 - 247.
259

المقصد الرابع
في العام والخاص
وفيه مقدمة وفصول:
261

مقدمة
مقدمة
وقبل الخوض في بحوث العام والخاص لا بأس بذكر أمور:
الأمر الأول: فيما تحكي عنه أسماء الطبائع
اعلم أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الطبائع الكلية لا تكون حاكية إلا عن
نفس تلك الماهيات التي وضعت بإزائها، فلفظ الإنسان الموضوع لطبيعة الإنسان
- التي هي عبارة عن الحيوان الناطق - لا يحكي إلا عن نفس تلك الحقيقة،
ولا يعقل أن يكون حاكيا عن الخصوصيات التي تجتمع مع الطبيعة في الوجود
الخارجي وتتحد معها في الواقع، وذلك لأنه لا يعقل أن تكون الطبيعة مرآة
للعناوين المتحدة معها في عالم الوجود الذي هو مجمع المتفرقات بعد ثبوت
المغايرة بينها في عالم المفهومية، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مرآة لأصل
الوجود بعد وضوح المغايرة بينها وبينه فضلا عن الخصوصيات الوجودية،
والاتحاد في الوجود الخارجي لا ينافي عدم الحكاية في عالم المفهوم، كما هو
واضح.
نعم قد وضع في كل لغة ألفاظ تدل على الكثرات والوجودات، كلفظة
" كل " وأمثالها في لغة العرب، فعند إضافته إلى كل شئ يفيد أفراد ذلك الشئ
263

وإن كان مدخوله لا يدل إلا على نفس الطبيعة، كما ذكرنا، ويعبر عنها بألفاظ
العموم، فقوله: أكرم كل إنسان، يفيد وجوب إكرام جميع ما يصدق عليه
الإنسان، ويتحد معه في الخارج، وهذا المعنى يستفاد من كلمة " كل " وأما
الإنسان فقد عرفت أنه لا يحكي إلا عن نفس الطبيعة.
الأمر الثاني: في الفرق بين العام والمطلق
ثم لا يخفى أن معنى العموم - كما عرفت - يرجع إلى دلالة الألفاظ
الموضوعة له عليه بالدلالة اللفظية، نظير جميع الدلالات اللفظية، وأما
الإطلاق - كما عرفت سابقا - فهو يرجع إلى أن المتكلم العاقل المختار إذا صار
بصدد بيان جميع ماله دخل في موضوع حكمه ولم يأخذ إلا ما نطق به وسمعه
المخاطب يستفاد من ذلك كون المذكور هو تمام الموضوع لحكمه، ولا مدخلية
لشئ آخر أصلا، وهذه الدلالة ليست من باب دلالة الألفاظ على معانيها،
ضرورة أن قوله: أعتق رقبة، لا يدل إلا على وجوب عتق الرقبة واستفادة
الإطلاق بالنسبة إلى الرقبة إنما هي من باب حكم العقل بأن المتكلم الكذائي
الذي بصدد البيان محكوم بظاهر كلامه، لأنه لو كان شئ آخر دخيلا في
موضوع حكمه، لكان اللازم عليه أن يذكر، فهي نظير دلالة الفعل الصادر من
العاقل المختار على كون صدوره عن اختيار وإرادة، ودلالة التكلم على كون
مضمون الكلام مقصودا للمتكلم، وحينئذ فباب الإطلاق لا ربط له بباب العموم
أصلا، فما وقع من كثير منهم من أن العموم قد يستفاد من جهة الوضع، وقد يستفاد
من القضية عقلا، وقد يستفاد من جهة الإطلاق مع وجود مقدماته ليس على ما
ينبغي، لأن المستفاد من مقدمات الحكمة إنما هو الإطلاق لا العموم، فهو قسيم
له لا أنه قسم منه، كما عرفت.
264

الأمر الثالث: في استغناء العام عن مقدمات الحكمة
ثم إن هنا إشكالا، وهو أنه ليس لنا لفظ عام يدل على العموم مع قطع النظر
عن جريان مقدمات الحكمة، ضرورة أن كلمة " كل " لا تدل إلا على استيعاب
أفراد مدخوله، وأما أن مدخوله مطلق أو مقيد فلا يستفاد منها أصلا، فإنها تابعة
لمدخولها، فإن اخذ مطلقا، فهي تدل على تمام أفراد المطلق، وإن اخذ مقيدا، فهي
تدل على جميع أفراد المقيد، فاستفادة العموم بالنسبة إلى جميع أفراد المطلق
موقوفة على إحراز كون المدخول مطلقا، وذلك يتوقف على إجراء مقدمات
الحكمة، كما هو واضح.
وقد أجاب عنه في الدرر (1) بما لا يرجع إلى محصل.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن مقدمات الحكمة حيث تجري تكون
نتيجتها إثبات الإطلاق في موضوع الحكم بمعنى أن تمام الموضوع لحكمه
المجعول إنما هي الطبيعة معراة عن جميع القيود، وذلك حيث يكون الأمر دائرا
بين كون الموضوع هي نفس الطبيعة أو هي مقيدة، وأما في أمثال المقام مما
لا يكون الموضوع هو الطبيعة بل أفرادها - كما فيما نحن فيه - فلا مجال لإجراء
المقدمات في مدخول ألفاظ العموم بعد وضوح أن الموضوع ليس هو المدخول،
بل هو مع مضمون تلك الألفاظ الدالة على استيعاب الأفراد.
نعم بعبارة أخرى نقول: التعبير بلفظ العموم الذي يدل على الاستيعاب
ظاهر في كون المتكلم متعرضا لبيان موضوع حكمه، والتعرض ينافي الإهمال،

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 210 - 211.
265

وحينئذ فالشك في كون الموضوع هو جميع أفراد الرجل مثلا أو أفراد الرجل
العالم ينشأ من احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد، وهو مدفوع بالأصل.
وبالجملة، فمجرى المقدمات هو ما إذا دار الأمر بين الإهمال وغيره، وفي
المقام لا مجال لاحتمال الإهمال بعد كون المتكلم متعرضا لبيان الموضوع، وأنه
هو جميع الأفراد، إذ بعد دلالة الكلام على هذه الجهة يكون لا محالة الشك
في سعة الموضوع وضيقه، مستندا إلى احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد، وقد
عرفت أنه مدفوع بالأصل العقلائي الذي يقتضي العدم، فظهر أن دلالة مثل لفظة
" كل " على العموم لا تحتاج إلى مقدمات الحكمة أصلا، فتأمل فإنه دقيق.
الأمر الرابع: في أقسام العموم
ثم إن للعموم أقساما من الاستغراقي والمجموعي والبدلي، والمراد بالأول
هو الشمول لجميع الأفراد بلا لحاظ الوحدة بينهما، وبالثاني هو جميعها مع
ملاحظة كونها شيئا واحدا، وبالثالث هو الشمول بحيث يكتفى بواحد منها في
مقام الامتثال.
والظاهر أن كلمة " كل " ونظائرها تدل على العموم الاستغراقي، ولعل
كلمة المجموع دالة على المجموعي.
والظاهر أيضا أن كلمة " أي " ونظائرها تدل على البدلي.
ولا يخفى أن هذه الأقسام الثلاثة ثابتة للموضوع مع قطع النظر عن تعلق
الحكم به، كما يشهد بمراجعة العرف، فإنه لو سمع أحد منهم " كل رجل " مثلا
لا يفهم منه إلا العموم الاستغراقي ولو لم يعلم حكم ذلك الموضوع فضلا عن
كيفية تعلقه به.
266

فما ذكره صاحب الكفاية - وتبعه بعض من أجلاء تلامذته (1) - من أن هذه
الأقسام إنما هي بلحاظ كيفية تعلق الأحكام، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى
واحد وهو الشمول، مما لا يصح أصلا، فإن الجمع بين ذلك وبين كون كل واحد
منها مدلولا عليه بلفظ غير ما يدل على الآخر - كما اعترف في حاشية
الكفاية (2) - مستبعد جدا، فإن دلالة الألفاظ على ما وضعت بإزائها لا يرتبط بباب
تعلق الأحكام أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
ثم إن هذا التقسيم لا يجري في باب الإطلاق أصلا، ضرورة أن معنى
الإطلاق هو مجرد كون المذكور تمام الموضوع لحكمه المجعول بلا مدخلية
لشئ آخر، فقوله: جئني برجل، لا يفيد إلا مجرد كون الغرض مترتبا على مجئ
الرجل، وأما شموله لجميع ما يصدق عليه والتخيير بينه فهو حكم عقلي مترتب
على تعلق الحكم بنفس الطبيعة، لا أنه يستفاد من الكلام هذا النحو من
الإطلاق.
والدليل على ذلك أنه لو كان المستفاد من الكلام الإطلاق الذي يسمونه
بالإطلاق البدلي، لكان قوله بعد هذا الكلام: " أي رجل " تأكيد الاستفادة
مضمونه من قوله: جئني برجل، مع أنه ليس كذلك بداهة، بل إنما هو تصريح
بما يحكم به العقل بعد تعلق الحكم بنفس الطبيعة من التخيير بين أفرادها.
ولا يتوهم أنه تصريح بالإطلاق، فإن معنى التصريح به هو أن نقول: إن
تمام الموضوع الحكمي هو الرجل مثلا من دون قيد لا أن نقول بما يحكم به
العقل بعد استفادة الإطلاق، فتدبر.

1 - مقالات الأصول 1: 430.
2 - كفاية الأصول: 253.
267

الأمر الخامس: فيما عد من الألفاظ الدالة على العموم
قد عد من الألفاظ الدالة على العموم: النكرة في سياق النفي، أو النهي،
وكذا اسم الجنس الواقع في سياق أحدهما، بتقريب أنه لا تكاد تكون الطبيعة
معدومة إلا إذا كانت معدومة بجميع أفرادها، وإلا فهي موجودة، وظاهره تسليم
أنه لا يدل على العموم لفظا، وهو كذلك، ضرورة أن قوله: ليس رجل في الدار،
لا يكون شئ من ألفاظه دالا على العموم، فإن كلمة النفي موضوعة لنفي
مدخوله، ورجل يدل على نفس الطبيعة، وتنوينه المسمى بتنوين التنكير يدل
على تقيد الطبيعة بالوحدة اللا بعينها، وتوهم ثبوت الوضع لمجموع الجملة مما
لا ينبغي أن يصغى إليه، فاللفظ لا يدل على العموم أصلا.
وأما دلالته عليه عقلا فقد عرفت سابقا من أن ما اشتهر بينهم من وجود
الطبيعة بوجود فرد ما وانعدامها بانعدام جميع الأفراد خلاف حكم العقل، فإن
الطبيعة كما توجد بوجود فرد كذلك تنعدم بانعدام فرد ما، ولا ينافي انعدامها
وجودها بوجود فرد آخر، ولا يلزم التناقض، لأنها متكثرة حسب تكثر الأفراد.
نعم هو مقتضى حكم العرف لا العقل.
هذا، ولكن لا يخفى أن دلالته عليه مبنية على كونها مأخوذة بنحو
الإرسال، وأما إذا أخذت مبهمة قابلة للتقييد، فلا يستفاد منه العموم.
ومن هنا تعرف أن عد النكرة الكذائية من جملة ألفاظ العموم مما لا يصح،
بل غايته الدلالة على الإطلاق بعد جريان مقدمات الحكمة في مدخول النفي
وضم حكم العرف، كما لا يخفى.
وهكذا الحال في المفرد المعرف باللام، فإن توهم دلالته على العموم
وضعا مندفع بوضوح الفرق بين قوله: * (أحل الله البيع) * وقوله: أحل الله كل
268

بيع، بل لا يدل إلا على الإطلاق بعد جريان المقدمات، فهو أيضا لا يكون من
الألفاظ الدالة على العموم.
وأما الجمع المحلى باللام: فالظاهر أن دلالته على العموم بحسب الوضع
مما لا إشكال فيه، إلا أن الكلام في كون مدلوله هل هو العموم الاستغراقي أو
المجموعي؟ قد يقال بالثاني، نظرا إلى أن مدخول اللام هو الجمع، وهو لا ينطبق
على كل فرد فرد بل على جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق وغاية ما يستفاد
من اللام هو أقصى مراتب الجمع مع حفظ معنى الجمعية.
هذا، ولكن لا يخفى أن الجمع كعلماء مثلا لا يدل على كون أفراد العالم
ملحوظا بنحو الاجتماع، فالألف واللام التي يرد عليه لا يقتضي إلا استغراق أفراد
العالم بلا ملاحظة الوحدة بينهما أصلا، ومن هنا تعرف أن ما أجاب به المحقق
النائيني على ما في التقريرات لا يتم أصلا، فراجع.
269

حجية العام المخصص في الباقي
الفصل الأول
في حجية العام المخصص في الباقي
هل العام المخصص حجة فيما بقي مطلقا، أوليس بحجة كذلك، أو يفصل
بين المخصص المتصل والمنفصل بالحجية في الأول دون الثاني؟
حول مجازية العام المخصص وعدمها
والعمدة في مبنى المسألة هو: أن التخصيص يوجب المجازية في العام
أو لا؟
والتحقيق أن يقال: إن المجاز ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما
وضع له، كما اشتهر بينهم، بل إنما هو عبارة عن استعمال اللفظ في نفس
الموضوع له كالحقيقة بدعوى أن ذلك المعنى المقصود هو من مصاديق المعنى
الموضوع له، وهذه هي الفارق بين الحقيقة والمجاز، فإن استعمال اللفظ في
معناه في الأول لا يحتاج إلى ادعاء أصلا، بخلاف المجاز.
وبعبارة أخرى: المقصود في المقامين هو نفس المعنى الموضوع له، غاية
270

الأمر أنه ادعى المتكلم تطبيقه على ما ليس مصداقا له في الواقع في المجاز.
والسر في ذلك: أنه لو لم يكن هذا الادعاء في البين بل كان المجاز عبارة
عن مجرد استعمال اللفظ الموضوع للأسد مثلا في زيد من دون ادعاء أنه من
أفراد الأسد حقيقة، لم يكن للاستعمال المجازي حسن أصلا، فأي حسن في مجرد
تغيير اللفظ وتبديله بلفظ آخر؟ كما هو واضح لا يخفى.
وهذا لا فرق فيه بين المجاز المرسل والاستعارة، فإن استعمال كلمة
" القرية " في أهلها في قوله تعالى: * (واسئل القرية) * (1) لا يكون محسنا إلا إذا
كان المقصود كون القرية كأهلها شاهدة على المطلب وعالمة بها بحيث صار من
شدة الوضوح معلوما عند نفس القرية أيضا، والتأمل في جميع الاستعمالات
المجازية يرشدنا إلى هذا المعنى.
إذا عرفت معنى المجاز، يظهر لك أن تخصيص العام في أكثر العمومات
المتداولة الشائعة لا يستلزم المجازية في العام أصلا، إذ ليس المقصود فيها
ادعاء كون ما عدا مورد المخصص هو نفس العام بحيث كأنه لم يكن المخصص
من أفراد العام أصلا، فإن قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (2) لا يتضمن ادعاء أن
العقود الفاسدة - كالربا ونظائره - لا تكون عقدا حقيقة، بل العقد إنما ينحصر في
العقود النافذة الماضية في الشريعة، فباب العموم والخصوص ليس له كثير
ربط بالمجاز بالمعنى المتقدم.
نعم يبقى الكلام في الجمع بين العموم الظاهر في شمول الحكم لجميع

1 - يوسف (12): 82.
2 - المائدة (5): 1.
271

الأفراد وبين الخصوص الظاهر في عدم كون مورده مقصودا من أول الأمر، إذ ليس
التخصيص كالنسخ، كما هو واضح.
والتحقيق فيه أن يقال: إن هذا النحو الذي يرجع إلى إلقاء القاعدة الكلية
أولا ثم بيان المستثنيات شائع بين العقلاء المقننين للقوانين العرفية والجاعلين
للقواعد التي يتوقف النظام عليها، فإن التأمل فيها يرشد إلى أن دأبهم في ذلك هو
جعل الحكم الكلي أولا ثم إخراج بعض المصاديق عنه.
ولابد في مقام الجمع بينهما من أن يقال بأن البعث الكلي المنشأ أولا أو
الزجر كذلك وإن كان بعثا كليا حقيقة وزجرا كذلك إلا أنه لا يكون المقصود منه
الانبعاث أو الانزجار في الجميع، بل الانبعاث والانزجار في بعض الأفراد دون
البعض الآخر، والكاشف عن عدم كون البعث الكلي لغرض الانبعاث في الكل
هو ورود التخصيص الدال على عدم كون مورده مقصودا من أول الأمر أصلا،
فقوله: أكرم العلماء، بعث إلى إكرام جميع العلماء حقيقة إلا أن إخراج الفساق
منهم يكشف عن أن البعث المتوجه إليهم أيضا في ضمن الجميع لا يكون لغرض
الانبعاث بل لغرض آخر، والفائدة في هذا النحو من جعل الحكم يظهر في موارد
الشك في التخصيص، كما سيأتي.
وما ذكرنا هو الذي يرجع إليه قولهم: بأن التخصيص تخصيص في الإرادة
الجدية لا الاستعمالية، فإن المراد بالإرادة الاستعمالية هو أن ظاهر الاستعمال
هو تعلق البعث مثلا بجميع أفراد العلماء وإن كان في الواقع لا يكون المقصود - أي
تحقق الانبعاث - إلا بالنسبة إلى غير الفاسق منهم، لا أن كلمة " العلماء " قد أريد
منها الجميع استعمالا لا جدا حتى يقال - كما في تقرير المحقق النائيني - بأنا لا
نتصور للاستعمال إرادة مغايرة للإرادة الجدية، فهي - أي كلمة " العلماء " - إن
272

أريد معناها، فقد أريد جدا، وإلا يكون هازلا (1)، وذلك ينشأ من عدم الوصول إلى
مرادهم فإنك عرفت أن مرادهم من الإرادة الاستعمالية هو أن تعلق الحكم بجميع
الأفراد مدلول عليه بظاهر الاستعمال، ولكن تعلقه في الواقع إنما هو ببعض
الأفراد، فراجع كتاب الدرر (2) تجده مصرحا بما ذكرنا في بيان مرادهم.
وكيف كان فقد عرفت: أن التخصيص يكشف عن عدم تعلق البعث لغرض
الانبعاث، والزجر لغرض الانزجار بمورد المخصص، فلا دليل على رفع اليد عن
حجيته بالنسبة إلى الباقي بعد ظهور الكلام وعدم معارض أقوى.
ثم إنه في التقريرات - بعد الإشكال بعدم تصور الإرادة الاستعمالية
المغايرة للإرادة الجدية - أجاب بأن التخصيص لا يوجب المجازية لا في الأداة
ولا في المدخول.
أما في الأداة: فلأنها لم توضع إلا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه
المدخول، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول أو ضيقها أصلا.
وأما في المدخول: فلأنه لم يوضع إلا للطبيعة المهملة المعراة عن جميع
القيود، فالعالم مثلا ليس معناه إلا من انكشف لديه الشئ من دون دخل العدالة
وغيرها فيه أصلا، فلو قيد العالم بالعادل مثلا لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ
العالم أصلا، لأنه لم يستعمل إلا في معناه، وخصوصية العدالة إنما استفيدت من
دال آخر، وهذا لا فرق فيه بين اتصال القيد وانفصاله وعدم ذكر القيد أصلا (3).
أقول: أما عدم لزوم المجاز في الأداة فهو مسلم، وكذا في المدخول فيما إذا

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 517.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 212 - 213.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 518.
273

كان المخصص متصلا، وأما في المخصص المنفصل فنقول: ما الذي أريد بالعالم
قبل ورود التخصيص عليه؟ فإن أريد الجميع من غير اختصاص بالعادل - كما هو
ظاهر اللفظ - فهو ينافي إخراج الفساق بعده، وإن أريد خصوص العادل، فإن
استعمل لفظ العالم في خصوص العادل منه، فهو لو لم نقل بكونه غلطا فلا
محالة يكون مجازا، وإن لم يستعمل فيه فهو هازل، كما صرح به في الإشكال.
فالإنصاف أنه لا مفر من الإرادة الاستعمالية بالمعنى الذي ذكرنا، وعدم
لزوم المجاز، لما عرفت من عدم ارتباط المقام بباب المجازات أصلا.
ثم إن ما ذكره بعض المحققين: - من محشي الكفاية - من أن الإنشاء
الواحد لو كان بعثا حقيقيا بالإضافة إلى البعض دون البعض الآخر مع كونه
متعلقا به في مرحلة الإنشاء يلزم صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة
تكون هو الداعي (1)، ففيه: أن الداعي في أمثال المقام ليس راجعا إلى ما يصدر
منه الفعل حتى يقال بأن الواحد لا يصدر إلا من واحد، والدليل على ذلك ما نراه
بالوجدان من اجتماع الدواعي المختلفة على بعض الأفعال الصادرة منا، ولا
استحالة فيه أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
والمحكي عن المقالات: أنه ذكر في وجه حجية العام في الباقي أن
الكثرة والشمول الذي هو معنى العام يسري إلى لفظه، فكأنه أيضا كثير، فسقوط
بعض الألفاظ عن الحجية لا يستلزم سقوط الباقي (2).
ويقرب هذا مما ذكره الشيخ في التقريرات في وجه الحجية بعد تسليم

1 - نهاية الدراية 2: 450.
2 - مقالات الأصول 1: 437 - 438.
274

المجازية (1).
ولا يخفى أن هذا الكلام - الذي بالشعر أشبه - مردود: بأن سراية الكثرة
إلى اللفظ مما لا معنى لها أصلا، نظير القول بسراية الحسن والقبح إلى الألفاظ،
فإن من الواضح أن اللفظ من حيث هو لا يكون حسنا ولا قبيحا، ولذا لو القي على
الجاهل بمعناه لم يتوجه إلى شئ منهما، كما لا يخفى.

1 - مطارح الأنظار: 192 / السطر 17.
275

تخصيص العام بالمجمل
الفصل الثاني
في تخصيص العام بالمجمل
نبحث في هذا المقام في جهتين:
الجهة الأولى: المخصص اللفظي المجمل مفهوما
إذا كان الخاص مجملا بحسب المفهوم، فتارة يكون مرددا بين الأقل
والأكثر، واخرى بين المتبائنين، وعلى التقديرين إما أن يكون متصلا بالعام، وإما
أن يكون منفصلا عنه، فالصور أربع:
منها: ما إذا كان الخاص مرددا بين الأقل والأكثر وكان متصلا بالعام،
كقوله: أكرم العلماء إلا الفساق منهم، أو أكرم العلماء العدول، وتردد الفاسق بين
الاختصاص بمرتكب الكبيرة أو الشمول لمرتكب الصغيرة أيضا.
ولا شبهة في هذه الصورة في عدم جواز الرجوع إلى العام بالنسبة إلى
المورد المشكوك، وهو خصوص مرتكب الصغيرة فقط، وذلك لأن الخاص
المتصل بالكلام يصير مانعا من انعقاد ظهور للعام في العموم حتى يقال بأن القدر
المتيقن من الدليل المجمل المزاحم الأقوى هو خصوص مرتكب الكبيرة،
276

فأصالة العموم بالنسبة إلى غيره محكمة، بل الكلام ما دام لم يتم لا يتبع ظهوره
أصلا، بل الظهور الذي يجب اتباعه عند العقلاء هو الظهور الحاصل للكلام
بملاحظة جميع قيوده وخصوصياته، فإذا فرض أن موضوع الحكم المجعول هو
العالم غير الفاسق فلابد من إحراز هذا العنوان الذي هو بمنزلة الصغرى في
تطبيق الكبرى عليه، وهذا واضح.
منها: هذه الصورة مع كون الخاص منفصلا عن العام، ربما يقال - كما في
أكثر الكتب الأصولية - بجواز الرجوع إلى العام في هذه الصورة بالنسبة إلى
المورد المشكوك دخوله في الخاص، لإجماله مفهوما، نظرا إلى أن العام قبل
ورود التخصيص عليه انعقد له ظهور في العموم، ومن الواضح أنه لا يرفع اليد
عن هذا الظهور إلا بسبب حجة أقوى منه، وحجية الخاص إنما هي بالنسبة
إلى ما يعلم شموله له يقينا، لما عرفت من أن إحراز الصغرى شرط في تطبيق
الكبرى عليه، فقوله: لا تكرم الفساق من العلماء، لا يكون حجة إلا بالنسبة إلى
خصوص مرتكب الكبيرة، فبالنسبة إلى المورد المشكوك لم يقم حجة أقوى
على خلاف العام الذي انعقد له ظهور في العموم، فالواجب الرجوع إليه، كما
لا يخفى.
وفي الدرر تنظر في ذلك وقال بإمكان أن يقال: إنه بعدما صارت عادة
المتكلم جارية على ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه، فحال المنفصل في كلامه
حال المتصل في كلام غيره، فكما أنه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر
المتكلمين إلى إحراز عدم المخصص المتصل إما بالقطع أو بالأصل، كذلك يحتاج
في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض إلى إحراز عدم المخصص المنفصل
أيضا كذلك، فإذا احتاج العمل بالعام إلى إحراز عدم التخصيص بالمنفصل،
فاللازم الإجمال فيما نحن فيه، لعدم إحراز عدمه لا بالقطع ولا بالأصل، أما
277

الأول: فواضح، وأما الثاني: فلما مضى من أن جريانه مخصوص بمورد لم يوجد
ما يصلح لأن يكون مخصصا، والمسألة محتاجة إلى التأمل (1). انتهى.
هذا، ولا يخفى أن جريان العادة على ذكر التخصيص منفصلا إنما يجدي
بالنسبة إلى عدم جواز التمسك بالعام بمجرد صدوره من المتكلم، بل لابد من
الفحص والبحث عن المخصص، وأما بالنسبة إلى عدم جواز الرجوع إليه بعد
العلم بالتخصيص في المورد المشكوك انطباق المخصص عليه فلا بعد انعقاد
ظهور له في العموم وعدم المزاحمة بالحجة الأقوى في المورد المشكوك كما
بينا.
نعم، قد يشكل التمسك به في بعض المخصصات الواردة بلسان التفسير
والشرح بحيث يكون ظاهرا في عدم جعل الحكم بنحو العموم الشامل لمورد
التخصيص من الأول، مثل: قوله بعد الأمر بإكرام العلماء: ما أردت إكرام فساقهم،
ونحو ذلك من التخصيصات التي تكون بلسان الحكومة والتفسير العام الواقع
قبلها.
منها: ما إذا كان الخاص مرددا بين المتبائنين وكان منفصلا، والظاهر أنه
لا يجوز الرجوع إلى العام في شئ من المحتملات، لأن العلم الإجمالي بخروج
واحد منها مانع من جريان أصالة العموم، لأن جريانها بالنسبة إلى جميع
الأطراف مخالف للعلم الإجمالي وفي بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجح،
وحينئذ فلو كان مفاد الخاص حكما تحريميا والعام حكما وجوبيا، يدور الأمر بين
المحذورين، وإن كان مفاده الجواز ونفي الوجوب، فاللازم إكرام الجميع، لتوقف
الامتثال اليقيني عليه.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 215.
278

منها: هذه الصورة مع كون الخاص متصلا ويجري فيها حكم الصورة
السابقة، كما هو واضح.
هذا كله فيما إذا كان الخاص مجملا مفهوما.
الجهة الثانية: المخصص اللفظي المجمل مصداقا
وأما إذا كان مجملا بحسب المصداق بأن اشتبه فرد وتردد بين أن يكون
مصداقا للخاص أو باقيا تحت العام للشبهة الخارجية، فلا يجوز التمسك بالعام،
سواء كان الخاص متصلا أو منفصلا.
أما إذا كان المخصص متصلا، فلوضوح أنه لا ينعقد ظهوره حينئذ إلا في غير
عنوان الخاص. وبعبارة أخرى: يصير الموضوع لوجوب الإكرام أمر واحد، وهو
العالم غير الفاسق، فالتمسك بالعام حينئذ يصير من قبيل التمسك به في الشبهة
المصداقية لنفس العام، إذ لا فرق حينئذ بين أن يتردد أمر زيد مثلا بين أن يكون
عالما أو لا، وبين أن يتردد أمره بعد العلم بكونه عالما بين أن يكون فاسقا أو لا،
فكما لا يجوز التمسك به في الفرض الأول كذلك لا يجوز في الفرض الثاني، لأن
عنوان غير الفاسق أيضا يكون جزءا للموضوع، وهذا واضح.
وأما إذا كان المخصص منفصلا، فالظاهر عدم جواز التمسك بالعام أيضا.
وقبل الخوض فيه لابد من بيان أن الكلام ممحض في خصوص العام
والخاص، ولا ارتباط له بباب المطلق والمقيد أصلا. فما وقع من بعضهم من
الخلط بينهما في هذا المقام ونظائره حيث قال - كما في التقريرات المنسوبة إلى
المحقق النائيني - بأن ورود التخصيص بقوله: لا تكرم الفساق من العلماء، بعد
ورود قوله: أكرم العلماء، يدل على أن الموضوع للحكم يكون مركبا من العالم
وعنوان الغير الفاسق، فكما لا يجوز التمسك به فيما إذا شك في الجزء الأول
279

كذلك لا يجوز فيما إذا شك في الجزء الآخر (1)، مما لا يصح أصلا، لأن التخصيص
ليس كالتقييد في تضييق دائرة الموضوع، فإن الموضوع في المثال هو جميع أفراد
العالم بلا قيد إلا أن التخصيص يكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية بجميع ما
هو مراد استعمالا، وقد عرفت أن المراد بالعام قبل ورود التخصيص وبعده هو
جميع الأفراد، وإلا يلزم المجازية.
وبالجملة، فالموضوع في باب العلم هو الأفراد لا الطبيعة، كما في باب
المطلق، والتخصيص لا يوجب التضييق، بخلاف التقييد.
حول جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه قد يقال بجواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية للمخصص.
وقد استدل له بوجوه أجودها ما ذكره في الكفاية من أن الخاص إنما
يزاحم العام فيما كان فعلا حجة، ومن المعلوم أنه حجة بالنسبة إلى من علم
أنه من مصاديقه، وأما بالنسبة إلى الفرد المشتبه فلا يكون حجة، فلا يعارض
العام فيه، ولا يزاحمه، فإنه يكون من قبيل مزاحمة الحجة بغير الحجة (2).
ولا يخفى فساده.
بيان ذلك: أن مناط حجية الدليل إنما هو باجتماع هذه المراتب الثلاثة فيه:
الأولى: كونه ظاهرا بحسب معناه اللغوي أو العرفي في المعنى المقصود
للمتكلم.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 525.
2 - كفاية الأصول: 258 - 259.
280

الثانية: أصالة الحقيقة التي تقتضي كون الظاهر مرادا له.
الثالثة: أصالة تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية بمعنى
كون المتكلم مريدا لمعناه الحقيقي جدا بحيث لا يكون هازلا، ومع كون الدليل
فاقد الشئ من هذه المراتب لا يصح الاحتجاج به على العبد، كما هو واضح.
وحينئذ فنقول: إن هنا دليلين: أحدهما: قوله: أكرم العلماء، ثانيهما: قوله:
لا تكرم الفساق منهم، فلو كان الدليل منحصرا في الأول، لكانت المراتب الثلاثة
مجتمعة فيه، وحاكمة بوجوب إكرام جميع العلماء جدا، إلا أن جريانها في الدليل
الثاني يقتضي كون الإرادة الجدية متعلقة بالزجر عن إكرام الفساق من العلماء،
فيرفع اليد بسببه عن الأصل العقلائي الجاري في الأول مع قطع النظر عن الثاني،
فيقتصر في جريانه على المورد الخارج عن الدليل المخصص واقعا، فيظهر أن
هنا إرادتين جديتين: إحداهما تعلقت بوجوب إكرام العالم الغير الفاسق الواقعي،
والاخرى بالزجر عن إكرام الفاسق الواقعي، فإذا شك في فرد أنه هل يكون
عالما فاسقا أو غير فاسق؟ فمرجع الشك إلى أنه هل يكون داخلا في المراد
بالإرادة الجدية الأولية أو داخلا في المراد بالإرادة الجدية الثانوية؟ فكما
أنه لا يجوز التمسك بالخاص والرجوع إليه - كما هو المفروض - للشك في
تعلق الإرادة به كذلك لا يجوز التمسك بالعام أيضا، للشك في تعلق الإرادة
الجدية به، إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة، ومجرد كونه داخلا في العموم
بحسب الظاهر لا يقتضي حجيته بالنسبة إليه بعدما عرفت من توقفها على تعلق
الإرادة الجدية به أيضا، وهي مقصورة على العالم الغير الفاسق.
ومن هنا يعرف فساد ما ذكره: من أن الخاص لا يعارض العام، لأنه من قبيل
مزاحمة الحجة بغير الحجة، فإنك عرفت أن العام أيضا لا يكون حجة حتى
يكون من ذاك القبيل، لقصوره عن شموله بما هو حجة، لأن حجيته مقصورة
281

على غير مورد الخاص، فعدم شمول العام له، لقصور فيه، لا لمزاحمته
بالخاص حتى يستشكل عليه بما ذكر.
وبالجملة، فبناء العقلاء لا يكون على العمل بالدليل فيما إذا شك في كونه
متعلقا للإرادة الجدية، ولذا لا يعملون بالخاص في الفرد المشتبه، ولا بالعام في
الفرد الذي شك كونه عالما.
هذا هو غاية ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الكفاية.
هذا، ولا يرد نظير هذا الكلام في العام المخصص بالمنفصل المردد بين
الأقل والأكثر بحسب المفهوم الذي قلنا بجواز الرجوع في المورد المشكوك إلى
العام، وذلك لأن دليل الخاص فاقد للمرتبة الأولى التي هي عبارة عن الظهور،
لأن معناه اللغوي مردد بينهما، فحجيته مقصورة على القدر المتيقن، وهو مرتكب
الكبيرة في المثال، فيرفع اليد عن العام بالنسبة إلى خصوص المتصف بهذه
الصفة، ويبقى حجة في غير مورده، فلا إشكال في جواز الرجوع إليه.
ثم إنه لا يخفى عدم الفرق فيما ذكرنا بين كون المخصص لفظيا أو لبيا، إذ لا
فرق بين أن يقول المولى: لا تكرم الفساق من العلماء، وبين أن يحكم العقل بذلك،
إذ حكم العقل عبارة عن الكبريات الكلية، فالإرادة الجدية أيضا على طبقها،
فيجري الكلام المتقدم بعينه.
وجه آخر لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
ثم إنه حكي عن مقالات المحقق العراقي وجه آخر لعدم جواز التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، وهو: أن حجية الظهور منحصرة في
الدلالة التصديقية للكلام الملقى من المتكلم، ولا تتحقق تلك الدلالة إلا بعد
كون المتكلم بصدد إبراز مرامه بكلامه وإفهام غرضه به، ويتوقف ذلك على
282

تصوره وثبوته عنده، ومع الشك - كما هو المفروض في المقام - لا يتعلق به
غرضه حتى يفيده بكلامه، فإذا كان شاكا في كون زيد عالما كيف يتعلق غرضه
بإكرامه؟! ومع عدمه لا يكون المقصود باللفظ إفهامه، ومعه لا يكون الظهور
حجة أصلا بالنسبة إلى المورد الذي لم يتعلق الغرض بإفهامه، ونسب هذا
الوجه إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1).
وأنت خبير بأنه - مضافا إلى أن كلام الشيخ لا يستفاد منه هذا الوجه، بل
مفاده يرجع إلى ما ذكرنا مما عرفت - نقول: هذا الوجه لا يتم أصلا، وذلك لأن
مقصود المتكلم إنما هو بيان الكبريات الكلية، والجهل بصغرياتها خارجا لا يضر
بتعلق الغرض بها ثم إفادتها باللفظ، لأن من الواضح أن إلقاء الحكم الكلي لو كان
متوقفا على ثبوت صغراه عنده والعلم بحالها يلزم أن لا يتحقق في الخارج أصلا،
لقلة العلم بالصغريات تفصيلا مع أن كثرته مما لا يكاد ينكر.
وسره ما عرفت من أن تعلق الغرض بالكبريات لا يستلزم العلم بالصغريات
أصلا.
ألا ترى أنه لو كان بعض الصغريات مشكوكا عند المتكلم دون المخاطب،
هل يرضى أحد بخروج ذلك البعض وعدم شمول الحكم الكلي له؟ مثلا لو أمر
المولى عبده بإنقاذ أولاده من الغرق وشك في بعضهم أنه من أولاده أو لا، لظلمة
أو لغيرها مع كون حاله معلوما عند العبد وأنه منهم، فهل يقول أحد من العقلاء
بعدم وجوب إنقاذه على العبد وإن كان يعلم بأنه ولد المولى؟ معتذرا بجهل المولى
حاله، بل يحكم بالوجوب العقلاء كافة ولو فيما علم المولى بأنه ليس ولده،
وهذا واضح.

1 - مقالات الأصول 1: 443.
283

تفصيل المحقق النائيني في المخصص اللبي
ثم إنه فصل المحقق النائيني (قدس سره) - على ما في التقريرات - في المخصص
اللبي بين ما إذا كان الذي لم يتعلق به إرادة المولى من العناوين الغير الصالحة
لأن تكون قيدا للموضوع وكان إحرازها من وظيفة الآمر بأن كان من قبيل
الملاكات وبين ما إذا كان ذلك من العناوين التي لا تصلح إلا أن تكون قيدا
للموضوع ولم يكن إحراز انطباقها على مصاديقها من وظيفة الآمر والمتكلم، بل
من وظيفة المأمور والمخاطب، فقال بالجواز في الأول دون الثاني.
مثال الثاني: قوله (عليه السلام): " انظروا إلى رجل قد روى حديثنا... " (1)، فإنه
عام يشمل العادل وغيره، إلا أنه قام الإجماع على اعتبار العدالة، فتكون قيدا
للموضوع، ولا يجوز الرجوع إلى العموم عند الشك في عدالة مجتهد، كما إذا كان
اعتبار العدالة بدليل لفظي.
ومثال الأول: قوله (عليه السلام): " اللهم العن بني أمية قاطبة " (2) حيث يعلم أن
الحكم لا يشمل المؤمن منهم، لأن اللعن لا يصيب المؤمن، فالمؤمن خرج عن
العام، لانتفاء ملاكه، ولا يكون قيدا للموضوع، فإن مثل حكم اللعن لا يصلح أن
يعم المؤمن حتى يكون خروجه من باب التخصيص، ويكون إحراز أن في بني
أمية مؤمنا إنما هو من وظيفة المتكلم حيث لا يصح له إلقاء العموم إلا بعد إحراز
ذلك، فلو فرض أنه علمنا بكون خالد بن سعيد مثلا مؤمنا، كان ذلك موجبا لعدم

1 - الكافي 1: 67 / 10، وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 1.
2 - كامل الزيارات: 332، الباب 71، مصباح المتهجد: 716.
284

اندراجه تحت العموم، ولكن المتكلم لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك،
فلا يجوز لنا لعنه، لعلمنا بعدم ثبوت الملاك فيه، وأما إذا شككنا في إيمان أحد
منهم، فاللازم الأخذ بالعموم وجواز لعنه، لأنه من نفس العموم يستكشف أنه
ليس بمؤمن، وأن المتكلم أحرز ذلك حيث إنه من وظيفته، فلو لم يحرز أن
المشكوك غير مؤمن، لما ألقى العموم كذلك، فأصالة العموم حينئذ جارية،
ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الأفرادي حيث إنه لم يؤخذ عنوان قيدا
للموضوع (1). انتهى.
وأنت خبير بأن محل النزاع في هذا المقام: هو ما إذا كان الخاص عنوانا كليا
ذا مصاديق وأفراد، غاية الأمر كون بعض المصاديق مرددا، وأما إذا كان
التخصيص أفراديا، فلا إشكال في جواز التمسك بالعام، لأن مرجع الشك إلى
الشك في التخصيص الزائد، وحينئذ نقول: إن كان الخارج عن عموم قوله:
" اللهم العن بني أمية قاطبة " هو عنوان المؤمن، فمن الواضح عدم الفرق بينه
وبين سائر الموارد، كما هو واضح، وإن كان التخصيص أفراديا، فالقول بالجواز
فيه ليس تفصيلا في محل النزاع، كما عرفت.
ثم إنه قد استدل أيضا على الجواز في مورد النزاع: بأن قول القائل: أكرم
العلماء، يدل بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كل واحد من العلماء،
وبإطلاقه على سراية الحكم إلى كل حالة من الحالات التي تفرض للموضوع،
ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، كما أن من جملة حالاته
كونه معلوم العدالة أو معلوم الفسق، وخرج بقوله: لا تكرم الفساق من العلماء،
معلوم الفسق منهم، لا لمدخلية العلم في الموضوع، بل لأن المعلوم خروج معلوم

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 536 - 539.
285

الفسق، ولا يعلم خروج الباقي، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك
تحت الحكم هذا.
وهذا الدليل أوضح فسادا من الدليل المتقدم، وذلك لأن موضوع حرمة
الإكرام إنما هو الفاسق الواقعي، لا الفاسق المعلوم، وحينئذ فلو قيل بشمول حكم
العام ل‍ " زيد " الذي هو مشكوك الفسق، يلزم اجتماع حكمين واقعيين -: أحدهما
إيجابي، والآخر تحريمي مثلا - على إكرامه لو كان في الواقع فاسقا، فهو من
حيث إنه مشكوك الفسق يكون إكرامه واجبا بمقتضى العام، ومن جهة أنه
فاسق واقعا يكون إكرامه محرما بمقتضى دليل الخاص هذا، ولو صح ما ذكره يلزم
تعلق حكمين بإكرامه من جهة واحدة، وذلك لأن الإطلاق الأحوالي كما يجري
في دليل العام يجري في الخاص أيضا، لأن موضوعه هو الفاسق الواقعي، سواء
كان معلوم الفسق أو مشكوكه، فزيد من حيث إنه مشكوك الفسق كما يجب
إكرامه بمقتضى إطلاق العام كذلك يكون مقتضى دليل الخاص حرمة إكرامه،
ومن الواضح استحالة اجتماع الحكمين.
وتوهم: اندفاع الإشكال الأول بأن اجتماعهما في المقام نظير اجتماع
الحكم الواقعي مع الظاهري، وذلك، لأن حكم الخاص غير مقيد بخلاف العام،
فإن شموله له إنما هو من حيث كونه مشكوك الفسق، فموضوعه مقيد بالشك
دون حكم الخاص.
مندفع: بأن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من جهة أن الشك في
الأول مأخوذ في موضوع الثاني، وهنا ليس كذلك، لأن شمول العام له ليس
لكونه مشكوك الحكم، بل لكونه مشكوك الفسق، فلا ربط لهذا المقام بذلك
الباب.
والذي يسهل الخطب أن معنى الإطلاق ليس كما توهمه المستدل، بل هو
286

- كما ذكرناه مرارا - عبارة عن أن تمام الموضوع للحكم المجعول هو المذكور بلا
مدخلية شئ آخر، لا أنه قد لاحظ السريان والشمول، فإنه حينئذ لايبقى فرق
بينه وبين العموم أصلا، وهذا المورد أيضا من الموارد التي وقع الخلط فيها بينهما،
فتأمل، لكي لا تخلط بينهما.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول: التمسك بالعام مع كون الخاص معللا
إذا خصص العام ببعض أفراده على نحو التخصيص الأفرادي معللا إخراج
الفرد المخرج بعلة عامة له ولغيره، مثل: ما إذا خصص قوله: أكرم كل رجل
عالم، بقوله: لا تكرم زيدا، معللا بأنه فاسق، فهل يوجب ذلك أن يكون
المخصص في الحقيقة هو عنوان الفاسق، فيجري فيه ما تقدم فيما تردد أمر
بعض أفراد العام بين انطباق عنوان الخاص عليه وعدمه من عدم جواز التمسك
بالعام بالنسبة إليه، أو أن التخصيص هنا أفرادي ولا يكون المخرج عنوانا كليا،
فيجوز التمسك به، لأن مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد، وهو منفي
بأصالة العموم؟ وجهان، والظاهر: الأول، لمساعدة العرف وشهادته بكون
المخرج هو عنوان الفاسق في المثال، كما لا يخفى.
الأمر الثاني: العامين من وجه المتنافيي الحكم
إذا كان هناك عامان من وجه، مثل: قوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفساق،
فبناء على كونه من صغريات مسألة اجتماع الأمر والنهي يكون غير مرتبط
بالمقام، وأما بناء على ثبوت التعارض بينهما وتقديم أحد الدليلين بالنسبة إلى
مورد الاجتماع، فلا إشكال في عدم جواز التمسك بالعام في الفرد المشكوك
287

انطباق عنوان الخاص عليه، لعدم الفرق بينه وبين سائر الموارد، كما هو واضح
ولو فرض كونهما من قبيل الدليلين المتزاحمين بمعنى ثبوت المقتضيين في مورد
الاجتماع، غاية الأمر ترجيح أحدهما، لأقوائية ملاكه من ملاك الآخر، ففي
جواز التمسك في الفرد المشكوك انطباق عنوان المزاحم الأقوى عليه بالدليل
الآخر الذي ينطبق عنوان عليه قطعا وعدمه وجهان مبنيان على أن الحكم في
المتزاحمين بالنسبة إلى ما هو ملاكه أضعف هل هو حكم إنشائي أو أنه باق
على فعليته؟ غاية الأمر أن المكلف معذور في مخالفته لصرف قدرته في
المزاحم الأقوى.
فعلى الأول لا يجوز التمسك بالدليل الآخر أيضا، لأن الإرادة الجدية فيه
مقصورة بما عدا مورد المزاحم، ولا يعلم تعلقها بالفرد المشكوك، كما أنه لا يعلم
شمول الدليل الآخر له أيضا.
وعلى الثاني يجوز التمسك به، بل لا مجال لمخالفته بعد كونه حكما
فعليا، وإحراز كونه معذورا متوقف على شمول الدليل الآخر له، وهو مشكوك،
ومن المعلوم أن الشك في العذر لا يبيح مخالفة التكليف الفعلي المتوجه إليه،
كما إذا شك في كونه قادرا على امتثال سائر التكاليف الفعلية المتوجهة إليه،
فإن العقل لا يحكم بكونه معذورا في مخالفتها أصلا، كما لا يخفى.
هذا وقد عرفت في مبحث الترتب أن الأقوى كون الحكمين المتزاحمين
فعليين، غاية الأمر كونه معذورا في مخالفة أحدهما لو صرف قدرته في امتثال
الآخر، وأما مع مخالفة كليهما فيستحق العقوبتين، وحينئذ فاللازم في المقام بناء
عليه جواز التمسك بالدليل الذي ملاكه أضعف في المورد المشكوك، كما
عرفت.
288

الأمر الثالث: إحراز المصداق بالأصل في الشبهة المصداقية
هل يجوز إحراز كون الفرد المشكوك انطباق عنوان الخاص عليه من أفراد
العام بما هو حجة بالأصل الموضوعي مطلقا، أو لا يجوز كذلك، أو يفصل بين
الأصول العدمية الأزلية وغيرها؟ وجوه بل أقوال:
صريح محكي المقالات هو الوجه الثاني.
قال في محكي كلامه ما ملخصه: إن التخصيص لا يوجب تضييقا في العام
حتى بالنسبة إلى الإرادة الجدية، لأنه بمنزلة موت بعض الأفراد، فكما أن
موت بعض أفراده لا يوجب تغييرا في العام بل هو باق على عمومه كذلك
التخصيص، لأن موضوع الحكم بعده أيضا هو كل عالم مثلا، وحينئذ فهو لا يوجب
أن يكون العام معنونا بعنوان غير الخاص حتى يثبت ذلك العنوان بالأصول
العدمية، فاستصحاب عدم فسق زيد - سواء كان من الأصول الأزلية أو كان
استصحابا لحالته السابقة التي علم فيها بعدالته وعدم كونه فاسقا - إنما يجري
عليه نفي الحكم المترتب على الفساق، ولا يثبت به حكم العام، لكونه لازما
عقليا، كما هو واضح.
وقد عرفت: أن العام لا يكون معنونا بغير عنوان الخاص حتى يثبت
بالاستصحاب ذلك العنوان، فيترتب عليه حكم العام.
نعم لو كان رفع الشك في المورد المشكوك بيد الشارع، كما في الصلح
والشرط المشكوك كونهما مخالفين للكتاب والسنة فيبطلان أو موافقين لهما
فيصحان، لا بأس بالرجوع إلى عمومات أدلة الصلح والشرط (1). انتهى.

1 - مقالات الأصول 1: 444 - 445.
289

أقول: مما ذكرنا في مسألة أن التخصيص لا يوجب مجازية العام، ظهر لك
أن التخصيص وإن لم يوجب تضييقا في موضوع حكم العام بحيث ينقلب
الموضوع بعده كما في المطلق والمقيد، إلا أنه يكشف عن كون الإرادة الجدية
مقصورة على ما عدا مورد الخاص، وليس التخصيص بمنزلة موت بعض الأفراد
الذي لا يوجب تغييرا في العام.
وسره: أن قوله: أكرم كل عالم، إنما يشمل على حكم واحد متعلق بجميع
أفراد العالم، فهو قضية حقيقية يكون المحمول فيها ثابتا على جميع أفراد
الموضوع المحققة والمقدرة، وموت بعض أفراد الموضوع لا يضر بها، إذ ليس
لكل مصداق حكم على حدة حتى ينتفي بانتفائه، بل هو حكم واحد ثابت على
الجميع، غاية الأمر اختلافه سعة وضيقا بالموت وعدمه، ولكن ذلك لا يوجب
انقلاب الموضوع، بخلاف التخصيص، فإنه يوجب قصر الموضوع في الإرادة
الجدية على ما عدا مورد الخاص وإن لم يوجب تقييد موضوع الحكم المنشأ
متعلقا بالعموم.
وبالجملة، فقياس التخصيص على موت بعض المصاديق فاسد جدا.
وأما ما ذكره من جواز التمسك في المثالين فقد عرفت أن النزاع في المقام
في الشبهة المصداقية للمخصص التي كان منشأها اشتباه الأمور الخارجية
فإثبات الجواز في غير المقام من الشبهات الحكمية ليس تفصيلا في مورد
النزاع، كما هو واضح.
هذا، وصريح الكفاية هو القول الأول (1).
وحكى الأستاذ عن شيخه المحقق المعاصر أنه قال في مجلس درسه

1 - كفاية الأصول: 261.
290

في تقريب هذا القول ما ملخصه: أن العوارض على قسمين: قسم يعرض الماهية
مع قطع النظر عن الوجودين: الذهني والخارجي بحيث لو كان للماهية تقرر
وثبوت في غير عالم الوجود، لكان يعرضها، كالزوجية العارضة لماهية
الأربعة في عالم التقرر، وقسم يعرض الوجود كالأبيضية الحاصلة للجسم
الموجود، والفاسقية والقرشية وغيرها من العوارض القائمة بالوجود، وحينئذ
نقول: لا بأس في القسم الثاني بجريان استصحاب عدم تلك الأوصاف بالنسبة
إلى موصوفها وإن كان الموصوف حينما يتحقق لا يخلو من اتصافه بذلك الوصف،
بمعنى أنه لو كان متصفا به، لكان ذلك من أول وجوده وتحققه، كوصف
القرشية، لإمكان أن يقال: هذه المرأة - مشيرا إلى ماهيتها - لم تكن قبل الوجود
قرشية، فيستصحب ذلك إلى زمان الوجود.
تحقيق في المقام
هذا، وتحقيق الحال في هذا المقام - بحيث يظهر حال ما قيل أو يمكن أن
يقال - يتوقف على بيان حال القضايا ومناط الحمل.
فالكلام يتم في ضمن مقدمات:
الأولى: أقسام القضايا بلحاظ النسبة
فنقول: قد اشتهر بينهم بل اتفقوا على أن القضية متقومة بثلاثة أجزاء:
الموضوع والمحمول والنسبة، ولكن لا يخفى أن هذا المعنى لا يصح على نحو
الكلية، فإن القضايا مختلفة، فبعضها مشتملة على النسبة المتقومة
بالمنتسبين، وبعضها بل أكثرها خالية عن النسبة بين الشيئين.
توضيح ذلك: أن القضايا الحملية على قسمين: الحمليات المستقيمة الغير
291

المأولة، مثل: زيد موجود، والإنسان حيوان ناطق، والحمليات المأولة، مثل:
زيد له البياض، وعمرو على السطح، ومناط الحمل في الأول هو الهوهوية،
ولا يكون بين الموضوع والمحمول فيها نسبة، لأن النسبة إنما تتحقق بين
الشيئين المتغايرين، إذ لا يعقل تحققها بين الشئ ونفسه.
وحينئذ نقول: إن القضية إنما تحكي عن الواقع، فلابد من ملاحظته ليظهر
حالها، وملاحظته تقضي بعدم كون " زيد " و " موجود " في الواقع شيئين، وعدم
كون الإنسان شيئا والحيوان الناطق شيئا، وكذا لا يكون في الواقع مغايرة بين
الجسم وبين الأبيض، ومع اتحادهما بحسب الواقع لا يعقل النسبة بينهما، لما
عرفت من أن قوامها إنما هو بالمنتسبين، وإذا كان الواقع كذلك فالقضية المعقولة
وكذا الملفوظة إنما هما كذلك، لأنهما حاكيتان عنه، ومرآتان له، فلا يعقل
النسبة فيهما، بل ملاك الحمل فيها إنما هو الهوهوية والاتحاد المنافي للمغايرة
المحققة للنسبة، بل نقول: إن الأصل في الحمليات إنما هو هذا القسم الذي
لا يكون فيه نسبة، ولذا نسميها بالحمليات الغير المأولة.
وأما غيرها من الحمليات فمشتملة على النسبة، لأن البياض لا يعقل أن
يتحد مع زيد ويتحقق بينهما الهوهوية، نعم له ارتباط وإضافة إليه باعتبار
كونه محلا له، وهو حال فيه عارض عليه، وهذا القسم هو الحمليات
المأولة، نحو: زيد في الدار، ووجه التسمية بذلك أنها مأولة، لأن تقديره: زيد
كائن في الدار، إذ لا يحمل المحمول فيها على موضوعها بدون تقدير الكون
والحصول ونحوهما.
هذا في الموجبات، وأما السوالب: فالتحقيق أنها خالية عن النسبة
مطلقا، لما ذكرنا من أنها أيضا حاكية عن الواقع، ومن الواضح أنه خال عن
النسبة، فقوله: زيد ليس بقائم، يرجع إلى أن الواقع خال عن النسبة بين زيد
292

وبين القيام، لا أنه له نسبة إلى عدم القيام، فهذه القضايا متضمنة لسلب الحمل،
لا أنها يكون السلب فيها محمولا.
ثم إن ما ذكرنا إنما هو في الحمليات الغير الموجبة المأولة، وأما
السوالب الغير المأولة: فالسلب فيها إنما يتعلق بالهوهوية، بمعنى أن السوالب
على قسمين أيضا: قسم يتعلق السلب بالهوهوية، كزيد ليس بموجود، وقسم
يكون السلب واردا على النسبة، كقوله: زيد ليس له القيام، فقولنا بخلوها عن
النسبة إنما يكون النظر فيه إلى السوالب التي لو كانت موجبات تكون فيها
النسبة، ضرورة أن غيرها لا يتوهم فيها النسبة بعد منعها في الموجبات منها، كما
لا يخفى.
الثانية: مناط الصدق والكذب في القضايا
ثم إن مما ذكرنا ظهر أن المناط في كون القضية محتملة للصدق والكذب
ليس كون نسبتها تامة في مقابل النسبة الناقصة، كما هو المعروف، لما عرفت من
خلو أكثر القضايا عن النسبة حتى تكون تامة أو غيرها، بل المناط فيه هي
الحكاية التصديقية المقابلة للحكاية التصورية، فإن الحاكي عن الواقع قد
يحكي عنه تصورا بمعنى أنه يوقع في ذهن المخاطب تصور الواقع، مثل: قوله:
زيد الذي هو قائم، وقد يحكي عنه تصديقا، بمعنى أنه يؤثر بالنسبة إلى
المخاطب التصديق بها نفيا أو إثباتا، مثل قوله: زيد قائم، أو: زيد له القيام،
فالملاك في احتمال القضية للصدق والكذب هو هذه الحكاية التصديقية لا
النسبة التامة، لما عرفت، والدال على تلك الحكاية إنما هو تركيب الجمل
الخبرية وهيئتها الموضوعة بإزاء ذلك.
كما أن مما ذكرنا ظهر أيضا أن الملاك في كون القضية صادقة ليس هو أن
293

يكون لنسبتها واقع تطابقه، كما هو المعروف، لما عرفت من خلو أكثر القضايا عن
النسبة بحسب الواقع، فلا يكون لها بحسبه نسبة حتى طابقتها، بل المناط هو
تطابقها مع نفس الواقع ونفس الأمر، بمعنى أن الواقع لو كان زيد مثلا موجودا،
لكانت الحكاية عنه بقوله: زيد موجود، حكاية صادقة، لأن الواقع مشتمل
على الهوهوية والاتحاد بينهما، وإن لم يكن كذلك، لكانت كاذبة، لعدم تحققها في
الواقع.
ثم لا يخفى جريان هذا المعنى في السوالب أيضا، فإنها وإن لم يكن لها واقع
بل قد يصدق مع عدم الموضوع أيضا، إلا أن واقعها هو خلو صفحة الواقع عن
الهوهوية أو النسبة بين موضوعها ومحمولها، فصدق قوله: زيد ليس بقائم، إنما
هو بخلو الواقع عن الاتحاد بينهما، كما أن صدق قوله: زيد ليس له البياض، إنما
هو بخلوه عن النسبة والربط بينهما.
الثالثة: في القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن القضية الموجبة قد تكون محصلة، وقد تكون
معدولة، والمراد بالثاني هو أن يحمل المحمول السلبي على الموضوع، مثل
قوله: زيد لا قائم.
وهذان القسمان يجريان في السوالب أيضا، فإنها أيضا قد تكون محصلة،
وقد تكون معدولة، والمعدولة مطلقا قد تكون معدولة الموضوع، وقد تكون
معدولة المحمول، وقد تكون معدولة الطرفين، وللقضية الموجبة قسم ثالث يسمى
بالموجبة السالبة المحمول، وهو: أن يحمل القضية السلبية على الموضوع،
مثل قوله: زيد هو الذي ليس بقائم.
ولا يخفى أن القضايا الموجبة على أقسامها الثلاثة تحتاج إلى وجود
294

الموضوع، فإن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، بخلاف القضايا
السالبة، فإنها تصدق مع عدم الموضوع أيضا، كما هو واضح.
الرابعة: اعتبارات موضوع العام المخصص
إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أن التخصيص وإن لم يوجب تقييد حكم العام
بحيث يوجب أن يكون الحكم المنشأ متعلقا بغير مورد الخاص، إلا أنه يوجب
تضييق الموضوع في الإرادة الجدية، وتخصيصه بغير مورده، فقوله: أكرم
العلماء، بعد تخصيصه بلا تكرم الفساق منهم، يكون المراد به هو إكرام العلماء
الغير الفساق، وحينئذ نقول: إن أخذ هذا الأمر العدمي في الموضوع يمكن أن
يكون نظير القضية الموجبة المعدولة المحمول بحيث يكون الأمر السلبي
محمولا عليه ووصفا له، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الموصوفين
بغير الفسق، ويمكن أن يكون نظير القضية الموجبة السالبة المحمول، فيكون
القيد كالمحمول فيها قضية سالبة، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء
الذين لا يكونون فاسقين.
وأما احتمال أن يكون أخذ القيد العدمي في المقام نظير القضية السالبة
المحصلة الصادقة مع عدم الموضوع بحيث يكون الموضوع في المقام هو:
العالم ليس بفاسق، بحيث لا ينافي عدم الموضوع، فمندفع بأن هذا النحو من
الموضوع لا يعقل أن يكون موضوعا للأحكام الشرعية، فإنه لا يعقل إيجاب إكرام
العالم ليس بفاسق الصادق مع عدم العلم أيضا كما هو واضح.
نعم يمكن أن يؤخذ موضوعه مفروض الوجود بأن يقال: العالم الموجود
ليس بفاسق، مثل أن يقال: زيد الموجود ليس بقائم، فإن مع فرض وجود
الموضوع ينحصر فرض صدق القضية في عدم ثبوت المحمول له في الواقع،
295

وحينئذ نقول: لا مجال لجريان الاستصحاب في المرأة التي شك في كونها قرشية
لإثبات عدم كونها كذلك، فيترتب عليها حكم المرأة الغير القرشية، وهو رؤيتها
الدم إلى خمسين.
أما على الاحتمال الأول - الذي يكون مرجعه إلى أن الموضوع هي المرأة
المتصفة بوصف الغير القرشية - فواضح، لأن ثبوت الوصف إنما يتوقف على
تحقق الموصوف وثبوته، وهذه المرأة المتولدة في الحال لم تكن متحققة في
الأزل فضلا عن أن تكون متصفة بوصف، فليس للاستصحاب حالة سابقة أصلا.
وكذا على الاحتمال الثاني الذي مرجعه إلى جعل نظير القضية السالبة
وصفا للموضوع، فإن اتصافه به مشروط بوجوده، والمعلوم خلافه في الأزل،
فضلا عن اتصافه به، فلا مجال للاستصحاب أصلا.
وأما على الاحتمال الأخير الذي كان مرجعه إلى أن أخذ القيد العدمي لا
على سبيل الوصف، ولكن كان موضوعه مفروض الوجود، فالظاهر أيضا عدم
جريان الاستصحاب، لأن المفيد في المسألة إنما هو استصحاب عدم قرشية
مرأة خاصة، والمعلوم أن الموضوع كان منتفيا في الأزل، لأن المصحح للإشارة
إليها بأن هذه المرأة لم تكن قرشية إنما هو الوجود، إذ لا يعقل الإشارة إلى الأعدام
حسية كانت أو عقلية.
وما تقدم في تقريب القول بالجريان من إمكان أن يقال: هذه المرأة، مشيرا
إلى ماهيتها، إلى آخره، فهو غير صحيح، لأن الماهية قبل وجودها لا تكون شيئا
حتى يمكن أن تقع مشارا إليها.
إن قلت: نجعل الحالة السابقة: المرأة الغير القرشية على نحو القضايا
السالبة التي تكون أعم من وجود الموضوع [و] نستصحبها إلى زمان وجودها،
فيصير الموضوع موجودا، فيترتب عليه الحكم.
296

قلت: استصحاب تلك الحالة وجرها إلى زمان وجود المرأة وإن كان
صحيحا من حيث وجود الحالة السابقة إلا أن تطبيق تلك الحالة التي تكون
أعم من وجود الموضوع على الحالة اللاحقة المشروطة بوجود الموضوع
يكون بحكم العقل، فهو يكون حينئذ مثبتا، لأن الأثر الشرعي مترتب على
الخاص، وإثباته إنما هو بحكم العقل، فالحق عدم جريان هذا الاستصحاب
ونظائره، كاستصحاب عدم قابلية التذكية، وأما استصحاب غير العدم الأزلي:
فالأقوى جريانه فيما إذا كانت له حالة سابقة متيقنة في بعض الموارد لا
مطلقا.
وتفصيله: أنه لو قال: أكرم العلماء إلا الفساق منهم، أو كان المخصص
منفصلا، ثم شك في أن زيدا العالم هل يكون فاسقا أو لا، فتارة يكون زيد في
السابق عالما غير فاسق يقينا، فلا شبهة في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى
العالم المقيد بذلك القيد، فيترتب عليه حكم العام لتنقيح موضوعه
بالاستصحاب، فيدخل في الكبرى الكلية، واخرى يكون في السابق غير فاسق
يقينا ولكن لم يكن عالما، فالآن شك في بقاء عدالته مع العلم باتصافه بالعالمية
في الحال، والظاهر عدم جريان الاستصحاب حينئذ، لأن القاعدة الكلية في
صحة جريان الاستصحاب الموضوعي أن يكون المستصحب بنفسه صغرى
لإحدى الكبريات الشرعية بلا واسطة، وفي المقام ليس كذلك، لأن استصحاب
كون زيد غير فاسق إنما يجدي في إثبات كونه غير فاسق، ولكنه لا يكون
موضوعا للحكم الشرعي، ضرورة أنه تعلق بالعالم الغير الفاسق، وإثباته
بضميمة الوجدان، ضرورة أن زيدا لو كان في الحالة اللاحقة غير فاسق يكون
عالما غير فاسق إنما هو بحكم العقل، فيصير الأصل مثبتا، فلا يجري، كما أنه
لا يجري فيما إذا كان عالما فاسقا في الزمان السابق ثم صار عادلا في اللاحق
297

ولكن شك في بقاء علمه، فإن استصحاب علمه لا يجدي بعد كون الموضوع هو
العالم الغير الفاسق إلا على القول بالأصل المثبت.
ولكن لا يخفى: أن هذا الفرض خارج عن المقام، لأن مفروضه استصحاب
عدم عنوان الخاص ومثله في الخروج عن مورد النزاع ما لو كان زيد عالما غير
فاسق في السابق يقينا ثم شك في بقاء علمه مع العلم بعدالته عكس الصورة
الأولى، ولا إشكال أيضا في جريان الاستصحاب فيها، لأنه كان في السابق عالما
غير فاسق، فيستصحب هذا العنوان المقيد، ويجري عليه حكم العام في الزمان
اللاحق، كما هو واضح.
الأمر الرابع: التمسك بالعام إذا شك في فرد من غير جهة التخصيص
حكي عن بعض: التمسك بالعام فيما إذا شك في فرد لا من جهة
التخصيص، بل من جهة أخرى، مثل: ما إذا شك في صحة الوضوء بالمائع
المضاف، فيتمسك في صحته بعموم قوله: أوفوا بالنذور، فيما إذا وقع متعلقا
للنذر، فيقال هذا الوضوء يجب الوفاء به للعموم، وكل ما يجب الوفاء به فلا
محالة يكون صحيحا، للقطع بعدم وجوب الوفاء بالفاسد (1)، ويستنتج صحة
الوضوء بالمضاف ولو لم يتعلق به النذر، وكذا القول في إطاعة الوالدين.
وربما أيد ذلك بصحة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلق
النذر بهما كذلك، وبصحة النافلة في وقت الفريضة إذا صارت متعلقة للنذر.
هذا، ولا يخفى عدم تمامية هذا الكلام، فإن هنا دليلين أحدهما: وجوب
الوفاء بالنذور مثلا، ثانيهما: عدم انعقاد النذر إلا في طاعة الله، فمع الشك في

1 - انظر مطارح الأنظار: 195 / السطر 36.
298

صحة الوضوء بالمضاف لا مجال للتمسك بعموم الدليل الأول، لأن مرجع الشك
فيها إلى الشك في كونه طاعة لله، فيرجع إلى التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية للمخصص، ولو فرض وجود دليل واحد نظرا إلى حكومة الدليل
الثاني على الأول لا مخصصا له، فعدم الجواز مستند إلى أن إثبات حكم العام
متوقف على إحراز موضوعه، إذ لا يمكن إثبات الصغرى بسبب الكبرى، كما هو
واضح.
ثم إن قضية الأمثلة المذكورة هو الاختصاص بصورة النذر، فلا ترتبط
بالمقام، مضافا إلى أنها ليست موردا للشك، للعلم بالحرمة والبطلان قبل تعلق
النذر وبارتفاعها بعده، وتوجيه الأولين بأحد الوجوه المذكورة في الكفاية (1)،
كما أن توجيه الأخير المذكور في الدرر (2)، فراجع.
الأمر الخامس: التمسك بالعام عند الشك بين التخصيص والتخصص
إذا علم بحرمة إكرام زيد مثلا ولكن شك في أنه عالم، فيكون الدليل الدال
على حرمة إكرامه مخصصا لإكرام العلماء، فيترتب عليه الأحكام المترتبة
على العالم، أو جاهل فلم يرد تخصيص على العموم فيترتب عليه الأحكام
المترتبة على الجاهل، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم في إثبات أنه غير
عالم أو لا؟ ظاهر المحكي عن الأصحاب في موارد كثيرة هو الجواز حيث إنهم
ذكروا في مسألة عدم نجاسة الغسالة أن الدليل على ذلك أنها لا ينجس المحل،
إذ لو كانت نجسة مع عدم تنجس المحل بها، يلزم التخصيص في عموم كل نجس

1 - كفاية الأصول: 261 - 262.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 220 - 221.
299

منجس، فأصالة العموم يقتضي منجسية جميع النجاسات مما لا يكون بمنجس
لا يكون نجسا على ما هو مقتضى عكس نقيضه.
هذا، وحكي عن المقالات أن أصالة العموم وإن كانت جارية إلا أن عكس
نقيض القضية الذي هو لازم لها لا يثبت بها، لأن الدليل عليها هو بناء العقلاء، ولم
يثبت بناؤهم على ترتيب اللوازم عليها، وللمقام نظائر كثيرة من حيث التفكيك بين
اللازم والملزوم في عدم إثبات الثاني بالأول، وكذا العكس (1).
والتحقيق أن يقال: بأن جريان أصالة العموم في أمثال المقام مورد تأمل
وإشكال، لأن مدركها هو بناء العقلاء، فيحتاج في جريانها فيه إلى إحراز بنائهم،
مع أن المتيقن ما إذا كان المراد غير معلوم، مثل: ما إذا شك في وجوب إكرام زيد
العالم بعد قوله: أكرم العلماء، وأما إذا علم مراده وشك في علمه لأن يترتب
عليه الأحكام الأخر، فلم يعلم استقرار بنائهم على التمسك به، نظير أصالة
الحقيقة التي ينحصر مورد جريانها بما إذا شك في كون المراد هل هو المعنى
الحقيقي أو المجازي، وأما إذا علم بالمراد ولكن لم يعلم أنه معنى حقيقي للفظ
ومجازي له، فلا تجري أصالة الحقيقة لإثبات أن المعنى المراد معنى حقيقي
له، فالإنصاف أنه لا يجري الأصل في المقام حتى يتكلم في إثبات اللوازم به
أولا.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لا مانع من التمسك بأصالة العموم فيما لو علم
بحرمة إكرام زيد ولكن شك في أن المراد به هو زيد العالم، فيكون مخصصا، أو
زيد الجاهل، فيكون تخصصا.

1 - مقالات الأصول 1: 450.
300

وجه الجريان: أن المراد بالنسبة إلى زيد العالم مشكوك، لأنه لا يعلم
أنه هل يجب إكرامه أم لا، فلا بأس بالتمسك بأصالة العموم لإثبات وجوب
إكرامه، فيترتب عليه حرمة زيد الجاهل، ويصير مدلول قوله: لا تكرم زيدا،
مبينا حينئذ، لخروجه عن الإجمال بسبب وجوب إكرام زيد العالم الثابت
بأصالة العموم، فتأمل في الفرق بين المسألتين حتى لا يختلط عليك الأمر.
301

في وجوب الفحص عن المخصص
الفصل الثالث
في وجوب الفحص عن المخصص
هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص أم لا؟ فيه خلاف.
تقرير محط البحث ومحل النزاع
وليكن محل البحث ممحضا في أن أصالة العموم هل يكون متبعة مطلقا، أو
بعد الفحص واليأس؟ بعد الفراغ عن حجيتها من باب الظن النوعي وعدم
اختصاص حجيتها بالمشافهين، ولم يكن العام معلوم التخصيص تفصيلا أو
إجمالا، كما أن الظاهر اختصاصه بالمخصص المنفصل، وأما المتصل فلا يكون
احتماله مانعا من التمسك بها مطلقا، لأنه نظير قرينة المجاز، وقد قام الإجماع
على عدم الاعتناء باحتمالها.
إذا ظهر لك ذلك، فاعلم أن التحقيق يقتضي التفصيل في الموارد، كما في
الكفاية (1) والقول بلزوم الفحص فيما إذا كان العام في معرض التخصيص، نظير

1 - كفاية الأصول: 265.
302

العمومات الواقعة في القوانين التي يجعلها العقلاء لنظام أمورهم على ما هو
المتداول بينهم، فإن جعل القانون يقتضي أن يجعل في الأول أمرا كليا ثم بيان
المخصصات والمستثنيات في الفصول المتأخرة والقوانين الموضوعة في
الشريعة إنما هي على هذا المنوال، ولم تكن مجعولة على غير النهج المتعارف
بين العقلاء المقننين للقوانين الدنيوية التي يكون المقصود بها انتظام أمورهم،
وهذا بخلاف العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات التي لو كان المقصود
بها غير ما هو ظاهرها لاتصل به ما يدل على ذلك نوعا، ولم يكن دأبهم بيان
العموم ثم ذكر المخصص لو كان مخصصا في البين، فأصالة العموم في هذا النحو
من العمومات متبعة مطلقا، بخلاف ما كان من قبيل الأول، فإن جريانها فيه
مشروط بالفحص واليأس عن الظفر بالخاص.
ومن هنا يظهر: أن الفحص هنا أيضا يكون عما لا حجية للعام بدون
الفحص عنه نظيره في الأصول العملية التي لم تكن حجة قبل الفحص أصلا، لما
عرفت من أن جريانها مشروط بالفحص فقبله لا يكون هنا حجة أصلا، لتوقف
الحجية على إحراز كون مدلول الكلام مرادا جديا للمولى، وهذا المعنى إنما يثبت
بعد جريان أصالة العموم التي تكون مشروطة بالفحص، فعدم جريانها قبله
يوجب عدم حجية العام.
فظهر أن العام قبل الفحص عن المخصص لا يكون حجة أصلا، كما أن
الأصول العملية أيضا كذلك.
فانقدح بذلك: فساد ما في الكفاية (1) من الفرق بين الفحص في المقامين
بأن الفحص هنا عما يزاحم الحجية، بخلافه هناك، فإنه بدونه لا حجة.

1 - كفاية الأصول: 265 - 266.
303

وجه الفساد ما عرفت من أن العام قبل الفحص أيضا لا يكون حجة، لما مر.
ثم لا يخفى أنه وإن لم يكن حجة قبله إلا أن ظهوره في العموم قد انعقد
واستقر ولو بعد التخصيص، سواء كانت العمومات من قبيل الأول أو الثاني، إذ
مجرد جري العادة على ذكر المخصصات منفصلا لا يوجب إلا عدم حجية العام
قبل الفحص عنها، لا عدم انعقاد ظهور له في العموم، وعليه فلو كان الخاص
دائرا بين الأقل والأكثر، لا يسري إجماله إلى العام أصلا بل يرفع اليد عن ذلك
الظهور بالمقدار الذي يكون الخاص فيه حجة، ويحكم في الباقي بتطابق الإرادة
الجدية مع الاستعمالية.
فما في الدرر - من أن حال المخصص المنفصل في كلام المتكلم الذي
جرت عادته على بيان الخاص منفصلا حال المخصص المتصل في كلام غيره،
فيسري إجماله في الفرض المذكور إلى العام (1) - محل نظر بل منع، فتدبر.
الاستدلال على لزوم الفحص بالعلم الإجمالي
ثم إنك عرفت أن محل النزاع في هذا المقام هو ما إذا لم يكن العام من
أطراف ما علم إجمالا بتخصيصه، ولكن بعضهم عمموا النزاع، واستدلوا على لزوم
الفحص بالعلم الإجمالي بورود المخصصات على العمومات.
وتقريبه: أنا نعلم إجمالا بوجود مقيدات ومخصصات للعمومات
والإطلاقات فيما بأيدينا من الكتب بل مطلق الجوامع ولو ما لم يصل منها إلينا،
كما هو معلوم لكل من راجعها، ومن المعلوم عدم جريان الأصول في أطراف العلم
الإجمالي كما قد قرر في محله.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 223.
304

الإشكال في الاستدلال بانحلال العلم الإجمالي
وقد استشكل في جعل مدرك لزوم الفحص هو العلم الإجمالي بما
حاصله: أن العلم الإجمالي بذلك وإن اقتضى عدم جريان الأصل قبل الفحص إلا
أنه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من المخصصات يصير العلم
الإجمالي منحلا، كما هو الحال في كل علم إجمالي ترددت أطرافه بين الأقل
والأكثر، فإنه بعد العثور على الأقل ينحل العلم الإجمالي ويكون الأكثر شبهة
بدوية يجري فيه الأصل، ولابد أن يكون في المقام مقدار متيقن للعلم الإجمالي
بوجود المخصصات في الكتب، إذ لا يمكن أن لا يكون له مقدار متيقن، فمع
العثور على ذلك المقدار ينحل العلم، وحينئذ فلا يجب الفحص في سائر الشبهات،
لجريان الأصول اللفظية فيها مع أنه لا يقول به أحد (1).
هذا، مضافا إلى أن الفحص في الكتب التي بأيدينا لا يوجب جواز إجراء
الأصول، لأن دائرة العلم الإجمالي أوسع من هذه الكتب، فلازم ذلك عدم جواز
التمسك بالعمومات ولو بعد الفحص أيضا.
جواب المحقق النائيني عن انحلال العلم الإجمالي
وأجاب المحقق النائيني عن الانحلال - على ما في التقريرات - بما
حاصله: أن المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلا غير معلم بعلامة يشار إليه بها،
واخرى يكون معلما بعلامة يشار إليه بها، وانحلال العلم الإجمالي بالعثور على
المقدار المتيقن إنما يكون في الصورة الأولى، وأما الصورة الثانية فلا ينحل

1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 543.
305

بذلك، بل حاله حال دوران الأمر بين المتبائنين.
وضابط القسمين: أن العلم الإجمالي كليا إنما يكون على سبيل المنفصلة
المانعة الخلو المنحلة إلى قضيتين حمليتين، وهاتان القضيتان:
تارة: تكون إحداهما من أول الأمر متيقنة والاخرى مشكوكة بحيث
يكون العلم الإجمالي ناشئا منهما، ويكون العلم الإجمالي عبارة عن ضم القضية
المتيقنة إلى المشكوكة، كما إذا علم إجمالا بأنه مديون لزيد: وتردد بين أن
يكون خمسة دراهم أو عشرة، فإن هذا العلم الإجمالي ليس إلا عبارة عن قضية
متيقنة وهي كونه مديونا لزيد: بخمسة دراهم، وقضية مشكوكة، وهي كونه
مديونا له بخمسة زائدة على الخمسة المتيقنة، ففي مثل هذا العلم الإجمالي
ينحل قهرا بالعثور على المقدار المتيقن، إذ لا علم حقيقة إلا بذلك المقدار،
والزائد كان مشكوكا من أول الأمر، ولم يكن من أطراف العلم.
واخرى: لا تكون القضيتان على هذا النحو، بل تعلق العلم بالأطراف على
وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه بحيث لو كان الأكثر هو
الواجب، لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه، وليس الأكثر مشكوكا من أول
الأمر، وذلك في كل ما يكون المعلوم بالإجمال معلما لعلامة كان قد تعلق العلم
به بتلك العلامة، فيكون كل ما اندرج تحتها مما تعلق به العلم بلا فرق بين
الأقل والأكثر.
مثاله: ما إذا علمت بأنك مديون لزيد بما في الدفتر، فإن جميع ما فيه من
دين له قد تعلق العلم به، سواء كان دينه خمسة أو عشرة، بخلاف الصورة
الأولى، فإن قضية كونه مديونا لزيد بعشرة كانت مشكوكة من أول الأمر، وفي
مثل هذا ليس له الاقتصار على المتيقن، إذ لا مؤمن له على تقدير ثبوت الأكثر
في الواقع بعدما ناله العلم وأصابه، فحال العلم الإجمالي في مثل هذا الأقل
306

والأكثر حاله في المتبائنين في وجوب الاحتياط.
وإن شئت قلت: إن هنا علمين: علم إجمالي بكونه مديونا لزيد بجميع ما
في الدفتر وعلم إجمالي آخر بأن دينه عشرة أو خمسة، وانحلال الثاني الغير
المقتضي لوجوب الاحتياط بالنسبة إلى العشرة لا ينافي العلم الإجمالي الأول
المقتضي للاحتياط بالنسبة إليها، لعدم التزاحم بين اللا مقتضي والمقتضي.
إذا عرفت ذلك، فنقول: ما نحن فيه من قبيل الثاني، لأن العلم قد تعلق بأن
في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات، فيكون نظير تعلقه بأنه مديون لزيد
بما في الدفتر، وقد عرفت عدم الانحلال في هذا النحو بالعثور على المقدار
المتيقن، بل لابد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب (1). انتهى.
أقول: الظاهر عدم تمامية هذا الكلام، فإنه يرد عليه:
أولا: النقض بجميع الموارد التي تردد الأمر فيها بين الأقل والأكثر، لأنه
فيها وإن كان المعلوم بالإجمال مرددا بينهما إلا أنه تعلق علم آخر بشئ من
المقارنات، فمقتضى ما ذكره إصابة العلم بالنسبة إلى الأكثر أيضا، فيجب
الاحتياط.
مثلا: إذا دار دين زيد بين خمسة أو عشرة، ولكنه يعلم بأن دينه كان في
الكيس، أو كان في اليوم الفلاني، أو في المجلس الفلاني، فإن دينه وإن كان
مرددا بينهما، ولكنه يعلم بأن دينه هو ما في الكيس، أو ما أداه إليه في اليوم
الفلاني، أو المجلس الفلاني، ومن المعلوم بناء عليه إصابة العلم بالنسبة إلى
الأكثر، فيجب الاحتياط مع أنه لم يقل به أحد، ولا يلتزم القائل به أيضا.
وثانيا: الحل، وتوضيحه: أن العناوين التي يتعلق بها العلم على قسمين:

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 543 - 546.
307

قسم يكون ذلك العنوان بنفسه موضوعا للأثر الشرعي، وقسم لا يكون كذلك، بل
يكون من المقارنات.
وعلى الأول فتارة يكون ذلك العنوان أمرا بسيطا ومصاديقه المتحققة في
الخارج محصلات له، كالطهور بناء على أن يكون عبارة عما يحصل من الوضوء
أو الغسل مثلا، واخرى يكون أمرا مركبا، كإكرام العالم.
ولا إشكال في وجوب الاحتياط في الأول لو دار أمر المحصل لذلك
العنوان بين الأقل والأكثر، لأن الصلاة مثلا مشروطة بتحقق الطهور، وقد تعلق
العلم باشتراطها بهذا العنوان، ومع الإتيان بالأقل لا يعلم بحصوله، مع أنه شرط
فيها.
وعلى الثاني ففي وجوب الاحتياط فيه خلاف، ويأتي تحقيقه في محله.
هذا في العناوين التي تكون بنفسها موضوعة للآثار الشرعية، وأما العناوين
التي لا تكون كذلك، مثل عنوان ما في الدفتر وما في الكيس وغيرهما من
العناوين التي لا تكون بنفسها مترتبة عليها الأحكام بل تكون من الأمور
المقارنة للموضوع للحكم الشرعي والملازمة له في الخارج، فلا وجه
لوجوب الاحتياط فيها، بل اللازم ملاحظة ما هو الموضوع للأثر الشرعي،
والمفروض أن أمره دائر بين الأقل والأكثر، والأصل يجري بالنسبة إلى الأكثر،
كما اعترف به.
وبالجملة، فالعلم المتعلق بهذا العنوان لا يعقل أن يصير سببا لتنجز الحكم
بعد عدم كون ذلك العنوان موضوعا له.
فدعوى أن ذلك العلم يقتضي التنجز ولو كان متعلقا بالأكثر، ممنوعة جدا،
ومسألتنا من هذا القبيل، ضرورة أن العلم الموجب للتنجز هو العلم بوجود
المخصصات والمقيدات لا بما أنها موجودة في الكتب والجوامع، لأن هذا العنوان
308

من المقارنات التي لا يضر عدمها، ولا ينفع وجودها، كما هو واضح، فينحصر العلم
المنجز بما يكون معلومه من أول الأمر مرددا بين الأقل والأكثر، وهو مجرى
البراءة.
نعم، في المثال الذي ذكره يجب الاحتياط، لا لتعلق العلم بذلك العنوان،
لوجوبه في شبهاته البدوية أيضا على ما ذكروه في مبحث البراءة من أن جريان
الأصل في الشبهات الموضوعية مشروط بأن لا يكون قادرا على إحراز الواقع
بمجرد أدنى تفحص، فإذا شك في أنه مديون لزيد، فلا يجوز له إجراء البراءة بعد
العلم بأنه بمراجعة الدفتر يظهر له الحال.
نعم عمموا جريانها في بعض الشبهات الموضوعية، كالشبهة من حيث
النجاسة، لورود النص فيها.
وكيف كان فما ذكره من وجوب الاحتياط في القسم الثاني من جهة العلم
الإجمالي مما لا يتم أصلا، كما عرفت، فبقي الإشكال على حاله.
نعم، ما ذكره جوابا على ذيل الإشكال الراجع إلى منع كون دائرة العلم
أوسع مما بأيدينا من الكتب والجوامع، مما لا يبعد الالتزام به، كما أن صاحب
المقالات أجاب عنه بمثل ما ذكره حيث ذكر أن بعد الفحص وعدم الظفر
بالمعارض يستكشف خروج هذا المورد عن دائرة العلم، لأن أطرافه هي
المعارضات التي لو تفحص عنها لظفر به، فعدم الظفر يكشف عن خروجه عن
أطراف العلم.
جواب آخر عن انحلال العلم الإجمالي
وأما ما أجاب به عن الانحلال مما هذه عبارته: إن مقدار المعلوم كما وإن
كان بالأخرة معلوما بحيث ينتهي الزائد منه إلى الشك البدوي، ولكن هذا المقدار
309

إذا كان مرددا بين محتملات متبائنات منتشرات في أبواب الفقه من أوله إلى
آخره، يصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف هذا العلم، فيمنع عن الأخذ
به قبل فحصه، وفي هذه الصورة لا يفيد الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم، إذ مثل
هذا العلم الحاصل جديدا بكون المعلوم بالإجمال في غير هذه الشكوك الباقية
التي كانت ظرفا من الأول للاحتمال في المتبائنات نظير العلوم الحاصلة بعد
العلم الإجمالي غير قابلة للانحلال، فقهرا الاحتمال القائم في المورد الموجب
لكونه من الأول طرفا للعلم منجز للواقع بمقدار استعداده، فلا محيص أن يفحص
كي يعدم ظفره بالمخصص بكشف خروجه عن دائرة العلم المزبور من الأول،
وهذه الجهة هي النكتة في أخذ هذا القيد في دائرة العلم، وإلا فيلزم عدم
الاكتفاء بالفحص ولو ظفرنا بمقدار المعلوم فضلا عما لو لم نظفر كما هو ظاهر (1).
انتهى.
فيرد عليه: أنه إذا ظفرنا بعد التفحص بالمخصصات المنتشرة في أبواب
الفقه بمقدار المعلوم يقينا، فلا وجه لعدم انحلال العلم الإجمالي بسبب ذلك،
لأنه يصير كالعلم تفصيلا بنجاسة أحد من الإناءين اللذين علم بنجاسة أحدهما
إجمالا، إذ بعده يصير الإناء الآخر مشكوك النجاسة التي هي مجرى قاعدة
الطهارة، لكون الشك في نجاسته شكا بدويا.
نعم لو علم تفصيلا بنجاسة حادثة غير النجاسة المعلومة بالإجمال،
لا يرتفع أثر العلم الإجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر بذلك، ولكن المقام من
قبيل الصورة الأولى كما هو واضح.
هذا، وأما إذا ظفرنا بعد التفحص بمقدار المعلوم إجمالا في بعض الأبواب

1 - مقالات الأصول 1: 455 - 456.
310

فقط، فلا محالة يكشف ذلك إما عن بطلان العلم بالانتشار في جميع الأبواب
الذي أوجب الفحص في الجميع، وإما عن كون مقدار المعلوم بالإجمال أزيد مما
ظفرنا به من المخصصات، إذ مع اجتماع العلم بالانتشار والعلم بذلك المقدار
يمتنع الظفر به في خصوص بعض الأبواب، فإذا بطل الأول، فلا يبقى مجال
للفحص في الزائد عنه، وإذا بطل الثاني بحدوث علم آخر، فيقع الإشكال في
الزائد عن ذلك المقدار الذي لابد أن يكون مقدارا معينا، إذ حينئذ يصير الشك في
الزائد شكا بدويا، فتدبر جيدا.
فالإنصاف أن هذا الجواب نظير سابقه في الضعف.
ثم إن مقدار الفحص اللازم - بناء على الاستدلال عليه بما ذكره في
الكفاية (1) واخترناه تبعا لها - هو الفحص بمقدار يخرج معه العام عن معرضية
التخصيص باليأس عن الظفر به، وأما بناء على الاستدلال بالعلم الإجمالي،
فالمقدار اللازم منه هو الذي خرج معه المورد عن أطرافه، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأصول: 265.
311

عدم اختصاص الخطابات بالحاضرين
الفصل الرابع
في عموم الخطابات الشفاهية لغير الحاضرين
هل الخطابات الشفاهية تختص بالموجودين في زمن الخطاب بل
الحاضرين مجلس التخاطب، أو يعم المعدومين فضلا عن الغائبين عنه؟
ولا يخفى عدم اختصاص النزاع بما يتضمن خطابا، بل يجري في جميع
الأحكام الموضوعة على العناوين الكلية ولو لم يكن بلسان الخطاب، مثل
قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1) لجريان
الملاك فيه أيضا، كما سيأتي.
تقرير محل النزاع
ثم إنه لابد قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلا
للبحث بين الأعلام، فنقول: ذكر في الكفاية أنه يمكن أن يكون النزاع في
صحة تعلق التكليف بالمعدومين أو في صحة المخاطبة معهم أو في صيرورة

1 - آل عمران (3): 97.
312

عموم المتعلق قرينة على التصرف في أدوات الخطاب والعكس، فالنزاع على
الأولين عقلي، وعلى الأخير لغوي (1).
أقول: أما النزاع على الوجهين الأولين: فلا يعقل وقوعه بين الأعلام بعد
وضوح استحالة بعث المعدوم أو زجره، وكذا توجيه الخطاب إليه.
وأما النزاع على الوجه الأخير الذي يرجع إلى أمر لغوي، فهو مستبعد
جدا، لأن الظاهر كون النزاع بينهم إنما هو في أمر عقلي.
والحق أن يقال: إن النزاع إنما هو (2) في أن شمول الخطابات القرآنية
والأحكام المتعلقة بالعناوين الكلية الواردة فيها للمعدومين هل يستلزم تعلق
التكليف بهم والمخاطبة معهم الممتنع عقلا بداهة، أو لا يستلزم ذلك الأمر
المستحيل؟ فالنزاع إنما هو في الملازمة بين الأمرين التي هي أمر عقلي.
والتحقيق عدم الاستلزام، لأن تلك الأحكام موضوعة على المكلفين بنحو

1 - كفاية الأصول: 266.
2 لا يخفى أن المراد من هذه العبارة هو عدم اختصاص تلك الخطابات والأحكام
بالموجودين حال التخاطب، لا شمولها للمعدومين في حال العدم أيضا، كما أن جعل النزاع
في هذا المعنى إنما هو بملاحظة أن ما يمكن أن يكون نزاعا معقولا في هذا المقام وينبغي
البحث فيه هو ما ذكرنا وإلا فظاهر بعض الاستدلالات هو كون النزاع في صحة تكليف
المعدوم ومخاطبته في حال العدم، كما حكاه في الفصول (أ) عن بعض الحنابلة من القول
بذلك، استدلالا بقوله تعالى: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (ب) فإن
ظاهره الخطاب إلى المعدوم، وأمره بالكون، فيستفاد منه الجواز مطلقا.
-
أ - الفصول الغروية: 179 / السطر 38.
ب - يس (36): 82.
313

القضايا الحقيقية لا الخارجية، وتوضيح ذلك يتوقف على بيان المراد منهما.
تحقيق: في القضايا الحقيقية
فنقول: القضايا الحقيقية هي القضايا التي يكون الحكم فيها مترتبا على
جميع أفراد الطبيعة من غير اختصاص بالأفراد الموجودة خارجا، بل كل فرد
وجد مصداقا لها يترتب عليه الحكم، فإذا قال: كل نار حارة، فقد جعل الموضوع
هو جميع أفراد النار أعم من الموجودة والمعدومة، وذلك لما عرفت سابقا من أن
لفظة " النار " وكذا سائر الأسماء الموضوعة للطبيعة المطلقة إنما تدل بالوضع
على نفس الطبيعة الموضوعة بإزائها. وكما لا يمكن أن تكون الطبيعة مرآة
للأفراد والخصوصيات، كذلك لا يحكي اللفظ الموضوع بإزائها إلا عن نفس
الطبيعة المجردة عن القيود التي منها نفس الوجود، فكلمة " النار " حاكية عن
نفس ماهيتها التي هي مقسم للموجودية والمعدومية.
وأما كلمة " كل " المضافة إليها: فقد عرفت سابقا أنها موضوعة لإفادة
استيعاب أفراد مدخولها، ولا دلالة لها على خصوص الأفراد الموجودة، بل
مدلولها هو استيعاب الأفراد التي تقبل الاتصاف بالوجود تارة وبالعدم أخرى،
وبهما ثالثة، فيقال: أفراد الطبيعة بعضها موجود وبعضها معدوم، فظهر عدم
اختصاص مدلولها أيضا بالأفراد الموجودة، ومن المعلوم أن إضافة كلمة " كل "
إلى اللفظ الموضوع لنفس الطبيعة المطلقة لا تدل على أمر وراء استيعاب أفراد
تلك الطبيعة الواقعة مدخولة لها، فالموضوع في أمثال تلك القضايا إنما هو
جميع أفراد الطبيعة بما أنها مصداق لها، فقوله: أكرم كل عالم، يكون الموضوع
فيه هو إكرام كل عالم بما أنه مصداق لطبيعة لا بما أنه زيد أو عمرو أو بكر مثلا.
314

ولذا قد اشتهر بين أهل الفن أن القضية الحقيقية برزخ بين الطبيعة
الصرفة والكثرة المحضة، إذ لا يكون الموضوع فيها هي نفس الطبيعة، لوضوح
الفرق بينها وبين القضية الطبيعية، ولا الكثرة المحضة، لعدم ملاحظة
الكثرات، بل لا يعقل ذلك في جميع أفراد الطبيعة، كما هو واضح، بل الموضوع
فيها هو عنوان كل عالم مثلا، الذي هو عنوان إجمالي لأفراد طبيعة العالم.
هذا، ولا يتوهم مما ذكرنا: من أن الحكم على جميع الأفراد أعم من
الموجودة والمعدومة أن ذلك مستلزم لإثبات شئ على المعدوم في حال عدمه،
لأن المعدوم لا يكون شيئا حتى يكون فردا للماهية، فما دام لم تنصبغ الماهية
بصبغة الموجود لا تكون ماهية أصلا، فالنار المعدوم بالفعل لا تكون نارا حتى
يترتب عليها الحكم المترتب على جميع أفراد النار، فاعتبار الوجود في ترتب
الحكم عليه إنما هو لعدم كونه مصداقا لها بدون ذلك، لا لكون الاتصاف به
مأخوذا في الموضوع، كيف وقد عرفت أنه ليس في الموضوع ما يدل على
الاختصاص بالأفراد الموجودة.
ومما ذكرنا ظهر: أن ما وقع في التقريرات المنسوبة إلى المحقق النائيني
من تفسير القضية الحقيقية بما إذا لوحظ الأفراد المعدومة بمنزلة الأفراد
الموجودة تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ثم جعلها موضوعا للحكم (1)، مما
لا يرتبط بمعنى القضية الحقيقية المذكورة في فنها، بل الوجدان أيضا يأبى عن
ذلك، لأنا لا نرى في أنفسنا حين إلقاء هذا النحو من القضايا فرض المعدومين
بمنزلة الموجودين، وتنزيلهم منزلتهم، كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أن القوانين المجعولة في العالم التي يوضعها العقلاء

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 550.
315

المقننين لها إنما هو على هذا النحو الذي عرفت، لأن بناءهم على جعلها ليعمل بها
الأفراد، وأكثرها خالية عن المخاطبة، والقانون الإسلامي المجعول في شريعتنا
إنما هو على هذا النحو مع خصوصية زائدة، وهو عدم إمكان المخاطبة فيه
بالنسبة إلى الناس، ضرورة عدم قابلية البشر العادي لأن يصير مخاطبا لله
تعالى، إذ طريق ذلك الوحي، وهو منحصر بالأنبياء العظام (عليهم السلام) وباقي الناس أبعد
من هذه المرحلة بمراحل، وإظهار الوحي الجاري بلسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو
على طريق التبليغ لا بنحو المخاطبة، فالخطاب بنحو * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود) * (1) مثلا لا يكون المخاطب فيها أحد من المؤمنين أصلا، بل إنما هو
خطاب كتبي حفظ بالكتب ليعمل به كل من نظر إليه، نظير الخطابات الواقعة
في قوانين العقلاء المكتوبة المنتشرة بين الناس ليطلعوا عليها فيعملوا بها.
ومن هنا يظهر: أن هذه الخطابات الواقعة في الشريعة لا تشمل الحاضرين
أيضا بنحو يكونوا هم المخاطبين فضلا عن أن تكون منحصرة بهم أو عامة لجميع
المكلفين، والتعبير بالخطابات الشفاهية أيضا مسامحة، لما عرفت من عدم كون
واحد من المكلفين مخاطبا بها أصلا، بل إنما هي قوانين كلية بصورة المخاطبة
أوحى الله تعالى بها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بلغها إلى الناس كما أنزلت على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم).
تنبيه: في كيفية القوانين الواردة في الشريعة
وتلخص مما ذكرنا أن القوانين الواردة في الشريعة على قسمين: قسم
لا يكون مشتملا على الخطاب، بل إنما جعل الحكم على العناوين الكلية، مثل:
وجوب الحج الموضوع على عنوان المستطيع، وقسم يشتمل على الخطاب، مثل

1 - المائدة (5): 1.
316

المثال المتقدم.
أما القسم الأول: فالإشكال المتقدم الذي يرجع إلى استلزام عدم
الاختصاص بالحاضرين في زمان صدوره لتكليف المعدوم المستحيل بداهة
يندفع بما ذكرناه من كون العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام إنما أخذت
على سبيل القضية الحقيقية بالمعنى الذي تقدم، وهذا المعنى لا يستلزم أن يكون
المعدوم في حال العدم مكلفا، لأن عنوان المستطيع إنما يصدق على خصوص
المكلف الموجود الحاصل له الاستطاعة، فكما أنه لا يصدق على المكلف
الغير المستطيع كذلك لا يصدق على المعدوم بطريق أولى، لأنه ليس بشئ، نعم
بعد الوجود وصيرورته متصفا بذلك الوصف يتحقق مصداق لذلك العنوان،
فيشمله الحكم، كما عرفت تفصيله.
وأما القسم الثاني: فالإشكال الراجع إلى استحالة المخاطبة مع المعدوم
لا يندفع بما ذكر من كون الموضوع على نحو القضية الحقيقية، لأن الخطاب
بالعنوان الذي جعل موضوعا فيها غير معقول، إذ لا معنى للخطاب بأفراد الطبيعة
أعم من الموجودة والمعدومة، فلابد إما من الالتزام بتنزيل المعدومين منزلة
الموجودين، وإما من الالتزام بما ذكر من كون هذه الخطابات خطابات كتبية،
والأول لا دليل عليه، كما اعترف به الشيخ (1)، ومعه لا يمكن القول بالتعميم،
فلابد من الجواب بنحو ما ذكر، لما عرفت من استحالة أن يكون الناس مخاطبا
لله تعالى، بل المخاطب فيها هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكايته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس
إنما وقعت على سبيل التبليغ وحكاية الوحي، ولا تكون خطابا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
الناس، كما هو واضح.

1 - انظر مطارح الأنظار: 204 / السطر 32.
317

خاتمة: في الثمرة بين القولين
بقي الكلام في الثمرة بين القولين، فنقول: ربما قيل بأنه يظهر لعموم
الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان:
الأولى: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين (1).
وأورد عليه في الكفاية بأنه مبني على اختصاص حجية الظواهر
بالمقصودين بالإفهام، وقد حقق عدم الاختصاص بهم، ولو سلم فاختصاص
المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم
القيامة يكونون كذلك وإن لم يعمهم الخطاب كما يومئ إليه غير واحد من
الأخبار (2).
وذكر المحقق النائيني - على ما في التقريرات - أن ترتب الثمرة لايبتنى
على مقالة المحقق القمي، فإن الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على
المشافهين ولا تعم غيرهم، فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير، سواء
قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل، فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا (3).
وفيه: أن معنى الرجوع إليه وحجيته في حق الغير ليس هو التمسك به
لإثبات حكم المعدومين حتى يورد عليه بما ذكر، بل المراد هو التمسك به
لكشف حكم المشافهين بناء على الاختصاص، ثم إجراء أدلة الاشتراك، وحينئذ
فيبتنى على مقالة المحقق القمي لو سلم كونهم مقصودين بالإفهام، كما ذكره في

1 - قوانين الأصول 1: 233 / السطر 16.
2 - كفاية الأصول: 269.
3 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 549.
318

الكفاية (1).
الثانية: صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم
لثبوت الأحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في
الصنف، وعدم صحته على عدمه، لعدم كونها حينئذ متكفلة لأحكام غير
المشافهين، فلابد من إثبات اتحاده معهم في الصنف حتى يحكم بالاشتراك معهم
في الأحكام، ومع عدم الدليل على ذلك - لأنه منحصر بالإجماع، ولا إجماع إلا
فيما إذا اتحد الصنف - لا مجال للتمسك بها.
هذا، ولا ريب في ترتب هذه الثمرة فيما إذا كان المكلف البالغ الآن لما كان
المشافهون واجدين له مما يحتمل مدخليته في ترتب الحكم وثبوته ولم يكن
مما يزول تارة ويثبت أخرى، فإنه حينئذ يمكن أن يكون إطلاق الخطاب إليهم
اتكالا على ثبوت القيد بالنسبة إليهم، إذ لا احتياج إلى التقييد بعد ثبوته في
المخاطبين، فالتمسك بتلك الخطابات متفرع على إثبات اتحاد الصنف، إذ بدونه
لا معنى لجريان أدلة الاشتراك، بخلاف القول بالتعميم، فإنه يصح بناء عليه
التمسك بها لإثبات الأحكام وإن كان الموجودون في الحال فاقدين لما يحتمل
دخله في الحكم، إذ مدخليته ترتفع بالإطلاق، لأنه لا مجال له اتكالا على
وجدان الحاضرين له، لعدم اختصاص الخطاب بهم، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأصول: 269.
319

تعقب العام بالضمير
الفصل الخامس
في تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده، يوجب تخصيصه به أو لا؟
فيه خلاف.
ومحل النزاع ما إذا كان العام موضوعا لحكم آخر غير الحكم المترتب على
البعض المدلول عليه بالضمير الذي يرجع إليه، مثل قوله تعالى: * (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * إلى قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (1) وأما إذا
كانت هنا قضية واحدة ذكر فيها العام والضمير معا، مثل قوله: " والمطلقات
أزواجهن أحق بردهن "، فلا شبهة في تخصيصه به، كما هو واضح.
وهل محل الخلاف يختص بما إذا علم من الخارج بكون المراد من الضمير
الواقع في القضية الثانية هو بعض أفراد العام، المذكورة في القضية الأولى، كما
في المثال المذكور، أو يختص بما إذا علم لا من الخارج، بل بمجرد إلقاء القضية
الثانية يعلم أن المراد هو البعض لحكم العقل بذلك مثلا، كما في قوله: أهن

1 - البقرة (2): 228.
320

الفساق واقتلهم، فإن العقل يحكم بأن المراد بالضمير ليس جميع الفساق، لعدم
اقتضاء الفسق بنفسه لإيجاب القتل، بل المراد به هو الكفار منهم، أو يشمل
الصورتين معا؟ وجوه، وكلامهم خالية عن التعرض لهذه الجهة.
نعم ظاهر تمثيل أكثرهم بالآية الشريفة التي هي من قبيل الصورة الأولى،
لأن العلم باختصاص الأحقية بالرد ببعولة المطلقات الرجعيات إنما كان مستندا
إلى دليل آخر هو عدم الاختصاص بالصورة الثانية، نعم لا يستفاد منه التعميم أو
الاختصاص بالصورة الأولى، كما لا يخفى.
وكيف كان، فإن كان محل البحث هي الصورة الأولى، فلا إشكال في أن
أصالة العموم الجارية في القضية الأولى يقتضي الحمل على العموم، لأن الأمر
هنا دائر بين تخصيص واحد أو أزيد، وقد استقر رأي المحققين من الأصوليين على
التمسك في نفي الزائد بأصالة العموم فيما إذا شك في تخصيص زائد بالنسبة
إلى عام واحد، فضلا عن مثل المقام الذي يكون فيه عامان خصص أحدهما يقينا
والشك في تخصيص الآخر.
توضيحه: أن القضية المشتملة على الضمير إنما تقتضي بظاهرها ثبوت
الحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام، لأن الضمير موضوع للإشارة إلى مرجعه
الذي هو العام في المقام، فقوله: وبعولتهن بمنزلة قوله: وبعولة المطلقات،
والعلم باختصاصها بالرجعيات لا يوجب استعمال الضمير فيها حتى تلزم
المجازية، لما عرفت من أن التخصيص إنما يقتضي قصر الإرادة الجدية على
غير مورد الخاص، ولا يوجب أن يكون العام مستعملا فيما عدا مورده، وحينئذ
فالدليل على تخصيص القضية الثانية لا يوجب تصرفا في القضية الأولى أصلا،
لما عرفت من أن مورد الشك في التخصيص يكون المرجع فيه أصالة العموم.
ومن هنا انقدح: أنه لا مجال حينئذ لهذا النزاع بعدما تقدم منهم من عدم
321

اقتضاء التخصيص للمجازية، وأن المرجع في مورد الشك فيه أو في الزائد هي
أصالة العموم، كما أنه ظهر فساد ما في الكفاية من أن المتيقن من بناء العقلاء
هو اتباع الظهور فيما إذا شك في تعيين المراد، وأما إذا شك في كيفية الاستعمال
مع العلم بالمراد، كما في ناحية الضمير، فلا (1)، وذلك لما عرفت من عدم استلزام
التخصيص للمجازية في ناحية الضمير، فكما أن المراد معلوم كذلك كيفية
الاستعمال معلومة.
نعم هذا إنما يتم على مذهب القدماء القائلين بأن العام المخصص يصير
مجازا، وهو مع أنه خلاف التحقيق مخالف لما اختاره (2) أيضا كما عرفت.
كما أن التعبير في محل النزاع بضمير يرجع إلى بعض أفراد العام ليس في
محله، لما عرفت من أن الضمير لم يستعمل إلا فيما وضع له، وهو إيجاد الإشارة
به إلى مرجعه الذي هو العام في المقام، والتخصيص لا يوجب تصرفا في مقام
الاستعمال أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
وأما إذا كان محل البحث هي الصورة الثانية: فالتمسك بأصالة العموم
محل إشكال، لأن ظهوره في العموم غير منعقد مع اشتماله على الضمير الصالح
للقرينية، كما أشار إليه في الكفاية، فيصير مجملا، فيجب الرجوع إلى مقتضى
الأصول.
ومما ذكرنا يظهر: أنه لو كان محل النزاع عاما شاملا لكلتا الصورتين،
فالواجب التفصيل، والحكم بالرجوع إلى أصالة العموم في الصورة الأولى،
وبالأصول العملية في الصورة الثانية، فتدبر جيدا.

1 - كفاية الأصول: 272.
2 - نفس المصدر: 255.
322

تخصيص العام بالمفهوم
الفصل السادس
في جواز تخصيص العام بالمفهوم
وفيه مقامان:
المقام الأول: في تخصيص العام بالمفهوم الموافق
هل يجوز تخصيص العام بمفهوم الموافقة أم لا؟ وقد ادعي الإجماع على
الجواز (1)، ولكنه لا يفيد في المسألة الغير الشرعية، سواء كانت عقلية أو
عرفية.
ولابد قبل الورود في محل البحث من بيان المراد بمفهوم الموافقة بعد
ظهور أنه عبارة عن القضية الموافقة للمنطوق في الإيجاب والسلب.
فنقول: يحتمل أن يكون المراد به هو ما يعبرون عنه بإلغاء الخصوصية،
ومرجعه إلى أن الخصوصية المذكورة في الكلام مما لا يرى لها العرف مدخلية
في ترتب الحكم بحيث يكون الكلام بنفسه دالا على ثبوت الحكم مع انتفاء

1 - قوانين الأصول 1: 304 / السطر 5، كفاية الأصول: 272.
323

الخصوصية أيضا، مثل قوله: رجل شك بين الثلاث والأربع فعليه كذا، فإن
العرف لا يفهم منه اختصاص الحكم بالرجل، بل يرى أن ذكره إنما هو من باب
المثال، وإلا فالمقصود هو المصلي الذي شك بين الثلاث والأربع، سواء كان رجلا
أو امرأة.
ويحتمل أن يكون المراد به هو الذي يكون الغرض من إلقاء الكلام إفادته
إلى المخاطب، غاية الأمر أنه كنى عنه بشئ آخر، ويمكن أن يكون قوله
تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * (1) من هذا القبيل، بناء على أن لا يكون المقصود به
هو حرمة قول " أف " بل الإتيان به إنما هو من باب الكناية وإفهام حرمة
الأمور الأخر من الضرب والشتم وغيرهما، وهذا لا ينافي عدم حرمة ذلك القول،
كما في نظائره من أمثلة الكناية.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يكون الكلام مسوقا لإفادته أيضا،
كالمنطوق، غاية الأمر أنه أتى بالفرد الخفي تنبيها على الفرد الجلي، فهما معا
مقصودان بالإفادة إلا أنه اقتصر على الأول مع دخول الثاني في المراد أيضا.
ويمكن أن تكون الآية الشريفة من هذا القبيل، كما لا يخفى.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يستفاد من المنطوق بالأولوية القطعية
من غير أن يكون الكلام مسوقا لإفادته، والآية الشريفة تحتمل هذا المعنى
أيضا.
ويحتمل أن يكون المراد به هو ما يستفاد من العلة المنصوصة في
المنطوق، كقوله: لا تشرب الخمر، لأنه مسكر، فإنه يستفاد منه حرمة شرب
النبيذ المسكر أيضا، لأن الظاهر من القضية كون تمام العلة هو المسكرية، لا

1 - الإسراء (17): 23.
324

أنه جزء الموضوع، والخمرية جزء آخر، ويعبر عنه بمنصوص العلة، وإطلاق
المفهوم عليه بعيد.
ثم إن هذه الاحتمالات التي ذكرنا ليس من قبيل مانعة الجمع، بل على
سبيل منع الخلو، فيمكن أن يكون المراد بمفهوم الموافقة هو الأمر الجامع بينهما،
وهو القضية الخارجة عن محل النطق المشتركة في الإيجاب والسلب.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه لو كان المراد بمفهوم الموافقة هو الاحتمال
الراجع إلى إلغاء الخصوصية، فلا إشكال في تقديمه على العام إذا كان أخص
منه، لأنه بنظر العرف مفاد نفس الكلام الملقى إليهم، ولا يحتاج في استفادته
إلى إعمال حكم العقل أيضا، وكذا لو كان المراد به هو الاحتمال الثاني أو الثالث
أو الأخير، لأنه في جميع الصور مستفاد من نفس الكلام كما لا يخفى في
الأولين.
وأما الأخير فلأن التعليل لا يتم بدون انضمام كبرى كلية مطوية، فإنه لو
لم يكن " كل مسكر حرام " لما يصح تعليل الحرمة في الخمر بأنه مسكر
فالكبرى التي يكون مورد المفهوم من صغرياتها، مستفادة من نفس الكلام
ولا يحتاج إلى شئ آخر أصلا.
وأما لو كان المراد به هو الاحتمال الرابع الذي مرجعه إلى استفادته من
القضية المنطوقية بضميمة حكم العقل بالأولوية القطعية، فقد يقال - كما في
تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) - بأنه لا يعقل أن يكون المفهوم معارضا للعام من
دون معارضة منطوقه، لأنا فرضنا أن المفهوم موافق للمنطوق، وأنه يستفاد
حكمه منه، فكيف يعقل أن يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له مع
كون المفهوم معارضا؟! فالتعارض يقع ابتداء بين المنطوق والعام، ويتبعه وقوعه
بين المفهوم والعام، وحينئذ فلابد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام،
325

ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام (1).
أقول: هذه الدعوى بنحو الكلية ممنوعة، لعدم التلازم بين كون المفهوم
معارضا للعام وكون المنطوق أيضا كذلك، بل يمكن الانفكاك بينهما في بعض
الموارد.
مثاله: ما لو قال: لا تكرم العلماء، ثم قال: أكرم جهال خدام النحويين،
فإن المنطوق في المثال لا يعارض العام، لأن الجهال غير داخل في العلماء مع أن
المفهوم - وهو وجوب إكرام علماء خدام النحويين، وكذا إكرام النحويين - معارض
للعام، كما هو واضح.
وحينئذ فالموارد مختلفة، فلو كانت المعارضة بين المنطوق والعام أيضا،
فلابد أولا من علاج التعارض بينه وبين العام، ويلزمه العلاج بين المفهوم
والعام.
وأما لو كانت المعارضة منحصرة بالمفهوم، فقد يقال في وجه ترجيحه
على العام ولو كان التعارض بالعموم والخصوص من وجه: بأن الأمر هنا يدور
بين رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالمفهوم، وبين رفع اليد عن المنطوق
المستلزم للمفهوم عقلا، وبين رفع اليد عن المفهوم مع ثبوت الحكم في المنطوق،
والثاني لا سبيل إليه بعد كون المنطوق أجنبيا عن العام، وغير معارض له، كما
هو المفروض، والثالث كذلك، لأن رفع اليد عن خصوص المفهوم يوجب نفي
الملازمة ورفع اليد عنها مع كونها عقلية قطعية، فينحصر في الأول الذي مرجعه
إلى رفع اليد عن ظهور لفظي.
ولكن لا يخفى: أن الملازمة تقتضي عدم الانفكاك بين المنطوق والمفهوم،

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 556.
326

فإذا كانت المعارضة بين المفهوم والعام، فالملازمة بين المنطوق والمفهوم
توجب سرايتها إليه، وكونه معارضا للعام بالتبع، وحينئذ فلا بأس بتقديم العام
على المفهوم، والحكم برفع اليد عن المنطوق أيضا بسبب الملازمة، فلم يستلزم
تقديم العام على المفهوم الإخلال بالملازمة، وكذا رفع اليد عن المنطوق بلا
وجه أما الأول: فواضح، وأما الثاني: فلأن رفع اليد عنه إنما هو لرفع اليد عن
المفهوم الملازم له، كما لا يخفى.
هذا كله في المفهوم الموافق.
المقام الثاني: في تخصيص العام بالمفهوم المخالف
وأما المفهوم المخالف فقد اختلف في جواز تخصيص العام به.
وينبغي أن يعلم أن محل النزاع إنما هو فيما إذا كان هنا عام وكان المفهوم
معارضا له بالعموم والخصوص.
وأما فرضه فيما إذا كان هنا مطلق ومقيد ثم إجراء أحكام تلك المسألة
عليه، مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ " (1) الحديث،
وقوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (2) حيث إن ظاهر الدليل
الأول كون تمام الموضوع للطهورية والاعتصام هو نفس الماء، وظاهر الدليل
الثاني مدخلية الكرية أيضا، فيجب حمل المطلق على المقيد، ففيه: أنه خارج

1 - المعتبر: 8 / السطر 32، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق،
الباب 1، الحديث 9.
2 - تهذيب الأحكام 1: 39 / 107، الاستبصار 1: 6 / 1، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب
الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2.
327

عن محل البحث، فإن مورده هو ما إذا كان المفهوم معارضا للعام بالعموم
والخصوص.
مثاله: ما إذا قال: أكرم العلماء، ثم قال: إذا جاءك زيد العالم فأكرمه، فإن
مفهومه أنه إذا لم يجئك فلا يجب إكرامه، وهو يخالف العموم.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه إذا ورد العام وماله المفهوم في كلام واحد ودار
الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فإن كان كل واحد منهما مستفادا من
الإطلاق بقرينة مقدمات الحكمة، أو كان كل منهما بالوضع، فالظاهر إجمال
الدليل، ووجوب الرجوع إلى الأصول العملية، وإلا فلو كان واحد منهما مستفادا
من الإطلاق، والآخر بالوضع، فلا شبهة في كون الترجيح مع الظهور الوضعي،
لعدم تمامية مقدمات الحكمة معه.
وأما لو كانا في كلامين لا يصلح أن يكون واحد منهما قرينة متصلة للآخر،
فإن كان أحدهما مستفادا من الإطلاق والآخر مدلولا عليه بالوضع، فلا شبهة في
تقديمه على الأول لو كان عدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة أعم من
البيان المتصل، وعلى تقدير الاختصاص به يتم الإطلاق، ويعارض الآخر، مثل
ما إذا كان كل واحد منهما مستفادا من الإطلاق أو مدلولا عليه بالوضع، والترجيح
فيه يدور مدار الأظهرية، كما لا يخفى.
328

تخصيص الكتاب بالخبر
الفصل السابع
تخصيص الكتاب بالخبر الواحد
لا شبهة في جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر بالخصوص،
كما يجوز بالكتاب وبالخبر المتواتر أو الواحد المحفوف بالقرينة القطعية اتفاقا،
لوضوح استقرار سيرة الأصحاب على العمل بالخبر الواحد في قبال عمومات
الكتاب.
وعمدة ما يتوهم سندا للمنع هي الأخبار الدالة على وجوب طرح الأخبار
المخالفة للقرآن (1)، وضربها على الجدار (2)، وأنها زخرف (3)، وأنها مما لم يقل
به الإمام (عليه السلام) (4) على اختلاف ألسنتها.

1 - وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10
و 19 و 29 و 35.
2 - الكافي 1: 69 / 3.
3 - وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12
و 14.
4 - نفس المصدر، الحديث 15.
329

ولا يخفى عدم دلالتها على المنع في المقام، لوضوح أن المخالفة بالعموم
لا تعد بنظر العرف مخالفة، ضرورة ثبوت هذا النحو من المخالفة في نفس
الكتاب العزيز، مع أن قوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) * (1) ينادي بعدم الاختلاف فيه.
مضافا إلى أن صدور الأخبار المخالفة للكتاب بهذا المعنى من
الأئمة (عليهم السلام) كثيرة جدا.
والسر فيه ما عرفت من عدم كون هذه المخالفة مخالفة بنظر العرف
والعقلاء، وثبوت المناقضة، والتنافي بين الموجبة الكلية والسالبة الجزئية،
وكذا بين السالبة الكلية والموجبة الجزئية وإن كان أمرا بديهيا إلا أن ذلك في
غير محيط جعل القوانين وتقنينها، كما لا يخفى.

1 - النساء (4): 82.
330

استثناء المتعقب لجمل متعددة
الفصل الثامن
في استثناء المتعقب لجمل متعددة
هل الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة ظاهر في رجوعه إلى الكل أو
خصوص الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منهما؟ وجوه وأقوال.
ولابد من البحث هنا في مقامين:
المقام الأول: إمكان الرجوع إلى الجميع
وليعلم أن ذلك إنما هو بعد الفراغ عن إمكان رجوعه إلى الكل مع أنه قد
يقال باستحالته، نظرا إلى أن آلة الاستثناء قد تكون حرفا، وقد تكون اسما،
وعلى التقديرين تارة يكون المستثنى عنوانا كليا منطبقا على كثيرين، واخرى
يكون فردا واحدا متصادقا عليه جميع العناوين المستثنى منها، وثالثة يكون
أفرادا متعددة كل واحد منهما فرد لعنوان من تلك العناوين، مثل ما إذا قال: أكرم
العلماء وأهن الفساق وأضف الهاشمي إلا زيدا، وكان زيد المستثنى مرددا بين زيد
العالم وزيد الفاسق وزيد الهاشمي وبين خصوص الأخير.
أما إذا كانت أداة الاستثناء اسما وكان المستثنى عاما، فالإخراج من الجميع
331

من دون ملاحظة الوحدة بينهما يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد،
وهو مستحيل، وكذا فيما لو كان المستثنى فردا واحدا.
وأما لو كان المستثنى أفرادا متعددة، فمضافا إلى ذلك يلزم استعمال
المستثنى أيضا في أكثر من معنى واحد.
وأما لو كانت أداة الاستثناء حرفا، فبناء على كونه موضوعا للجزئيات،
فاستعمالها في أكثر من فرد واحد مستلزم لذلك المحذور الذي جريانه في
الحروف أوضح، لأن اندكاكها في متعلقاتها أشد من فناء الألفاظ في معانيها
الاسمية (1).
أقول: قد عرفت أن استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد بمكان من
الإمكان، وأن الوجوه التي استندوا إليها لإثبات الاستحالة لم تكن ناهضة
لإثباتها، والموضوع له في الحروف وإن لم يكن عاما إلا أنه لا إشكال في
استعمالها في أكثر من واحد، والجامع بين معانيها وإن كان منتفيا، ضرورة عدم
وجود الجامع الحقيقي بين الابتداءات الخارجية مثلا، ومفهوم الابتداء الذي هو
معنى اسمي لم يكن ابتداء حقيقة إلا أنه مع ذلك يمكن استعمالها في أكثر من واحد
تبعا للأسماء ومتعلقاتها، نظير قوله: سر من كل نقطة من البصرة فإن الكثرة -
التي هي مفاد الكل - تسري إلى " من " أيضا فيفيد وجوب السير مبتدئا من كل
نقطة.
ومنه يظهر أن جواز استعمال الحرف في أكثر من واحد أوضح من جواز
استعمال الاسم كذلك، لما عرفت من تبعية المقتضية لسراية مدلوله إليه، كما
هو واضح.

1 - لاحظ معالم الدين: 125 - 130، مقالات الأصول 1: 475.
332

بل يمكن أن يقال بعدم استلزام الرجوع إلى الجميع، لتعدد الإخراج حتى
يبتنى على القول بجواز استعمال الحروف في أكثر من معنى.
أما فيما كان المستثنى مشتملا على الضمير: فلأن الموضوع له في باب
الضمائر هو الإشارة إلى مرجعه، ومن الممكن أن يكون في المقام إشارة في
جميع الجمل المتقدمة، ويكون الإخراج واحدا، ولا يلزم تجوز في ناحية
الضمير في أكثر من معنى واحد، لأن الإشارة واحدة وإن كان المشار إليه كثيرا.
وأما فيما إذا لم يكن مشتملا على الضمير: فلأن استعمال المستثنى أكثر من
واحد لا يوجب أن يكون الإخراج متعددا حيث يلزم استعمال أداة الاستثناء في
أكثر من واحد كما هو.
المقام الثاني: في مقام الإثبات
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه قد يقال - كما في تقريرات المحقق النائيني - بأن
التحقيق يقتضي التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتعددة المتقدمة مشتملة على
عقد الوضع بأن يكون ذلك مكررا في جميعها وبين ما إذا لم يكن كذلك، بل كان
ذكر عقد الوضع منحصرا بصدر الكلام، كما إذا قيل: أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم
إلا فساقهم، بأن يقال برجوعه إلى الجميع دون خصوص الأخيرة في الثاني،
وبرجوعه إلى خصوصها في الأول.
والسر في ذلك: أنه لابد من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة،
فإذا لم يكن مذكورا إلا في صدر الكلام، فلابد من رجوعه إليه، بخلاف ما إذا
كان تكراره في الجملة الأخيرة يوجب أخذ الاستثناء محله من الكلام، فيحتاج
333

تخصيص الباقي إلى دليل آخر مفقود على الفرض (1).
أقول: لا يخفى أن ما ذكره من أنه لابد من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع
مخالف لما ذكروه في قبال أبي حنيفة من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن
الإثبات نفي، فإن مرجع ذلك إلى رجوع الاستثناء إلى عقد الحمل، والحكم
المذكور في الكلام، وإلا لم يكن الاستثناء من النفي إثباتا أصلا، وكذا العكس،
فلابد من القول برجوعه إلى الحكم، وحينئذ فيتجه التفصيل بين ما إذا كان عقد
الحمل متكررا أو واحدا.
وتفصيله بملاحظة ما عرفت أن المستثنى قد يكون مشتملا على الضمير،
وقد لا يكون، وعلى التقدير الأول:
فتارة: يكون عقد الوضع أيضا واحدا وعقد الحمل متكررا، غاية الأمر أن
عقد الوضع في غير الجملة الأولى إنما أفيد بالضمير سواء كان المستثنى أيضا
مشتملا على الضمير، كما في المثال المذكور في كلامه، أو لم يكن، كما لو حذف
الضمير في المثال من المستثنى.
والظاهر في هذا القسم الرجوع إلى الجميع، لا لما ذكره، بل لأن ظاهر
اتحاد السياق يقتضي أن يكون مثل الجمل المشتملة على الضمير في عوده إلى
الأولى، كما لا يخفى.
واخرى: يكون بالعكس، مثل قوله: أضف العلماء والتجار والهاشميين إلا
فساقهم.
والظاهر في هذا القسم أيضا الرجوع إلى الجميع، لكون عقد الحمل غير
متعدد.

1 - أجود التقريرات 1: 496 - 497.
334

وثالثة: يكون كل منهما متكررا، وفي هذا القسم قد تكون الأحكام
مختلفة بالصنف، وقد لا تكون كذلك.
وفي هذا القسم يتردد الأمر بين الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة،
ولا دليل على التعيين، وعلى التقدير الثاني فالظاهر هو الرجوع إلى الجميع في
مثل الصورة الثانية في التقدير الأول دون البواقي، فتدبر.
ثم إن الرجوع إلى الأخيرة في موارد الإجمال متيقن على كل تقدير، وفي
غيرها من الجمل لا يجوز التمسك بأصالة العموم، لاكتنافه بما يصلح للقرينية،
ولم يحرز استقرار بناء العقلاء على التمسك بها في أمثال المقام، فلابد في مورد
الاستثناء فيه من الرجوع إلى الأصول العملية.
وذكر في التقريرات: أن توهم كون المقام من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح
للقرينية غير صحيح، لأن المولى لو أراد تخصيص الجميع ومع ذلك قد اكتفى في
مقام البيان بذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الوضع في الجملة الأخيرة، لكان
مخلا ببيانه، إذ بعد أخذ الاستثناء محله من الكلام لا يكون موجب لرجوعه إلى
الجميع (1).
ولا يخفى أن ذلك يوجب سد باب الإجمال، فإنه كيف لا يجوز أن يكون
غرضه تخصيص الجميع ومع ذلك أجمل كلامه لمصلحة مقتضية له كما في
سائر المجملات.
وأما قوله بعد أخذ الاستثناء محله من الكلام: فلم نعرف له معنى.
وحكي عن المقالات أ أنه قال في المقام ما ملخصه: أن إطلاق الاستثناء
والمستثنى يوجب الرجوع إلى الجميع، وحينئذ فلو كان العموم في الجمل

1 - أجود التقريرات 1: 497.
335

المستثنى منها مستفادا لا من الإطلاق، يوجب ذلك عدم انعقاد الإطلاق في
الاستثناء والمستثنى، لصيرورة العموم في غير الجملة الأخيرة قرينة على
اختصاصهما بها، وأما لو كان العموم مستفادا من مقدمات الحكمة، فهنا إطلاقان
يكون انعقاد كل منهما معلقا على عدم الآخر، فلا ينعقدان، فيصير الكلام بالنسبة
إلى غير الجملة الأخيرة مجملا (1).
أقول: ما ذكره في الشق الأول من صيرورة العموم قرينة على اختصاص
الاستثناء بالجملة الأخيرة، محل نظر بل منع.
أما فيما كان المستثنى مشتملا على الضمير: فلأن رجوعه إلى الجميع أو
خصوص الأخيرة متوقف على تعيين مرجع الضمير، وأنه أشير به إلى الجميع أو
إليها.
وأما فيما لم يكن كذلك: فقد عرفت أن أصالة العموم في غير هذه الأخيرة
في أمثال المقام غير جارية، فتدبر.

1 - مقالات الأصول 1: 475 - 476.
336

المقصد الخامس
في المطلق والمقيد
وفيه فصول:
337

تعريف المطلق
الفصل الأول
في تعريف المطلق
قد عرف المطلق بأنه ما دل على شايع في جنسه (1).
ولكنه مخدوش من وجوه كثيرة:
منها: أن ظاهره كون الإطلاق وصفا لنفس اللفظ مع أنه من صفات
المعنى، ضرورة أنه يتصف به المعنى ولو لم يكن في العالم لفظ فإن ماهية
الإنسان مطلقة ولو لم يوضع بإزائها لفظ أصلا فإنها أمر شائع في أفراده الذاتية،
ومعراة عن القيود والخصوصيات الوجودية المجامعة مع كل واحد منها، كما
لا يخفى.
منها: أن اعتبار الشيوع في الجنس إن كان قيدا للمدلول بما أنه مدلول
بحيث كان مرجعه إلى دلالة اللفظ على الشيوع والسريان أيضا، فليس في
العالم مطلق أصلا، ضرورة أن اللفظ لا يحكي إلا عن نفس الماهية المطلقة،
وكونها بذاتها شائعة في أفرادها، سارية في وجوداتها لا ارتباط له بدلالة اللفظ

1 - قوانين الأصول 1: 321 / السطر 16.
339

أصلا، كما هو واضح، فلابد من أن يكون هذا القيد وصفا لنفس المعنى مع قطع
النظر عن كونه مدلولا للفظ.
منها: أن مقتضى التعريف اختصاص الإطلاق بالمعاني الكلية، ضرورة أنها
تكون شائعة في جنسها، أي الأفراد المجانسة لها، لا الجنس الاصطلاحي
المنطقي، وأما الأمور الجزئية الغير القابلة للسريان فظاهره أنها لا تكون متصفة
بالإطلاق مع أنها أيضا كذلك، ضرورة أن قوله: أكرم زيدا، مطلق غير مشروط
بشئ أصلا.
ودعوى أن المعاني الجزئية غير قابلة للتقييد فلا يتصف بالإطلاق،
مدفوعة بمنع ذلك، فإن الأمور الجزئية أيضا قابلة للتقييد، فإن جعل زيد مثلا
موضوعا للحكم تارة يكون بنحو الإطلاق، واخرى مقيدا بمجيئه أو بغيره من
الحالات والعوارض، كما هو واضح.
منها: أن هذا التعريف يشمل بعض المقيدات أيضا، ضرورة أن الرقبة
المقيدة بالمؤمنة أيضا شائعة في جميع أفراد الرقبة المؤمنة، كما لا يخفى
فالأولى أن يقال: إن المطلق عبارة عن المعنى المعرى عن القيد المعبر عنه
بالفارسية ب‍ (رها بودن) والمقيد بخلافه، ولا شبهة في أنهما وصفان إضافيان،
ضرورة أن المعنى الملحوظ مع أمر آخر تارة يكون مقيدا به واخرى معرى عنه،
وهذا المعنى يجري في جميع القيود، وربما يكون مقيدا ببعضها وغير مقيد بالبعض
الآخر، وهو - أي المطلق - قد يكون وصفا للحكم، وقد يكون وصفا لمتعلقه، وقد
يكون وصفا لموضوعه، وقد يكون وصفا لنفس المعنى مع قطع النظر عن تعلق
الحكم، فإن ماهية الإنسان مطلقة والإنسان الأبيض مقيدة ولو لم يكن في البين
حكم أصلا، كما هو واضح، والإطلاق في الجميع بمعنى واحد، وهو خلوه عن
التقيد بشئ آخر.
340

ثم إن التقابل بين الإطلاق والتقييد أشبه بتقابل العدم والملكة من حيث
إن اتصاف معنى بالإطلاق إنما هو فيما لو كان قابلا وصالحا للتقييد وإن كان بينهما
فرق من حيث إن أعدام الملكات إذا انقلبت من مرحلة القابلية إلى الفعلية
يوجب ذلك تبدل صورتها، بخلاف المطلق، فإن تقييد الإنسان بالعالم مثلا
لا يوجب ذلك تصرفا في معناه، فإن معنى الإنسان واحد، سواء قيد ببعض القيود أم
لم يقيد، وقد مرت الإشارة إليه.
341

الألفاظ التي يطلق عليها المطلق
الفصل الثاني
حول الألفاظ التي يطلق عليها المطلق
ثم إنه جرت العادة هنا بذكر تعيين ما وضع له بعض الألفاظ التي يطلق
عليها المطلق، ونحن نقتفي أثرهم وإن كان غير مرتبط بالمقام، لما عرفت من أن
معنى الإطلاق هو خلو المعنى عن التعلق بشئ آخر، سواء كان كليا أو جزئيا،
وأن الإطلاق والتقييد وصفان إضافيان، وأن الإطلاق في جميع الموارد بمعنى
واحد، فالتكلم فيما وضع له اسم الجنس مثلا ليس له ارتباط بتلك الأمور
المذكورة، كما هو واضح.
منها: اسم الجنس
وكيف كان فقد عدوا منها اسم الجنس، كإنسان ورجل وسواد وبياض
والزوجية وغيرها من أسماء الكليات من الجواهر والأعراض والعرضيات،
ولا شبهة في أنها موضوعة لنفس الماهية والمفهوم بما هي هي، ومن المعلوم
أنها عين أفرادها في الخارج، فصحة إطلاقها على أفرادها لا يستلزم ملاحظة
الماهية في مرحلة الوضع بنحو اللا بشرط القسمي تسرية للوضع إلى المعنى
342

بجميع أطواره، وجعل الوضع بإزاء نفسها، كما أفاده بعض المحققين من محشي
الكفاية (1).
وذلك لأن المراد من تسرية الوضع إن كان بحيث يوجب صحة إطلاق
اللفظ على جميع أفراده والحمل عليه بالحمل الذاتي، فلا شبهة في بطلانه، لأن
استعمال لفظ الإنسان في بعض أفراده مجاز بالاتفاق وإن كان بحيث يوجب صحة
الحمل عليه بالحمل الشائع، فذلك لا يستلزم ملاحظة الماهية بنحو اللابشرط
القسمي، كما هو واضح.
وكيف كان فلا شبهة في أن ما وضع له أسماء الأجناس هي نفس المفاهيم
الكلية والماهيات بما هي هي.
أقسام الماهية
ثم إنهم قسموا الماهية إلى الأقسام الثلاثة: الماهية اللابشرط والماهية
البشرط شئ والماهية البشرط لا، نظرا إلى أنه إذا لوحظت الماهية مع أمر
خارج عنها فإما أن تلاحظ مع وجودها أو مع عدمها أو لا مع وجودها ولا مع
عدمها (2).
وقد أشكل عليه بأن القسم الأول - وهي الماهية اللابشرط - عين
المقسم، فالتقسيم تقسيم إلى نفسه وإلى غيره (3).
وأجيب عن ذلك بالفرق، فإن المقسم هو اللابشرط المقسمي، والقسم هو

1 - نهاية الدراية 2: 493.
2 - الحكمة المتعالية 2: 16، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 95 وما بعدها.
3 - الحكمة المتعالية 2: 19.
343

اللابشرط القسمي (1).
وقيل في بيانه: إن التقسيم إلى الأقسام الثلاثة المذكورة ليس تقسيما
لنفس الماهية، بل المقسم إنما هو لحاظها، وحينئذ فالمراد بالماهية اللابشرط
هو لحاظها كذلك، فالتفاوت بين المقسم والقسم إنما هو باعتبار أن الأول هو
مجرد لحاظ الماهية من دون ملاحظة شئ معها، والثاني هو لحاظها مجردا عن
قيد آخر وجوديا كان أم عدميا، كما أن المراد بالماهية البشرط شئ هو لحاظها
مشروطا به، وبالماهية البشرط لا هو لحاظها مشروطا بعدمه (2).
هذا ولا يخفى: أن لازم كون التقسيم للحاظ الماهية لا لنفسها أن كل أمر
خارج عنها إذا لوحظت الماهية بالقياس إليها، يمكن اعتبار الأقسام الثلاثة
فيه، فإن باب اللحاظ واسع، فيمكن ملاحظة الماهية بالنسبة إلى كل قيد
مشروطا بوجوده أو بعدمه أو غير مشروط بشئ منهما، مع أن ذلك مستبعد جدا،
فإنه كيف يمكن أن يكون مراد أساطين الحكمة المتعرضين لهذا التقسيم ذلك
المعنى الذي هو مجرد الاعتبار وصرف اللحاظ وإن كان ظاهر عبائرهم في بيان
التقسيم ذلك، لكنه ليس بمرادهم، فان لتحقيق أن هذا تقسيم لنفس الماهية.
وتوضيحه: أن كل ماهية إذا لوحظت مع أمر من الأمور الخارجة عنها
فإما أن تكون مشروطة بوجوده واقعا بحيث لا يعقل الانفكاك بينهما في نفس الأمر
ولو مع عدم لحاظها كذلك، وإما أن تكون مشروطة بعدمه واقعا بحيث يستحيل
اجتماعهما كذلك، وإما أن لا تكون مشروطة بوجوده ولا بعدمه، بل يكون ذلك الأمر
من العوارض التي قد يجتمع معها وقد يفترق عنها ولو مع لحاظها مشروطة بوجوده

1 - نفس المصدر.
2 - نهاية الدراية 2: 490 - 494.
344

أو بعدمه.
فالأول: هي الماهية البشرط شئ، ومثاله: ماهية الجسم بالنسبة إلى
التحيز، فإنها تكون دائما مشروطة به، ويستحيل تحقق الانفكاك بينهما
ولو لم تلاحظ كذلك.
والثاني: هي الماهية البشرط لا، ومثاله: ماهية الجسم بالنسبة إلى
التجرد مثلا، فإنها تكون دائما متفرقة عنه، ولا يعقل اجتماعهما.
والثالث: هي الماهية اللابشرط، ومثاله: ماهية الإنسان بالنسبة إلى
الكتابة، فإنها لا تكون مشروطة بوجودها دائما بحيث كان الانفكاك مستحيلا،
ولا بعدمها بحيث كان الاجتماع محالا، بل ربما توجد معها وربما توجد منفكة عنها.
ومما ذكرنا يظهر: أن الماهية بالنسبة إلى كل قيد لوحظ معها لها أحد
الأقسام الثلاثة على سبيل المنفصلة الحقيقية، ولا يعقل اجتماعها بالنسبة إلى
قيد واحد، كما لا يخفى، كما أنه ظهر ثبوت المغايرة بين المقسم والقسم، فإن
المقسم هي نفس الماهية المحفوظة في جميع الأقسام الثلاثة، وبإضافة شئ
من الخصوصيات المأخوذة في الأقسام يتحقق قسم منها، كما لا يخفى.
ثم إنه أفاد المحقق النائيني - على ما في التقريرات - هنا كلاما في معنى
الأقسام وبيان الفرق بين اللابشرط القسمي والمقسمي (1).
وفيه - مضافا إلى المناقضة بين الصدر والذيل - وجوه من الخلل، كما
يظهر لمن راجعه وتأمل.
والإنصاف أن ما ذكرنا هو التقسيم المعقول الذي يمكن أن يكون مقصودا
لأساطين الحكمة، كما عرفت.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 569.
345

منها: علم الجنس
وهي كأسامة، والمشهور بين أهل العربية أنه موضوع للطبيعة بما هي
متعينة، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة.
ولكن ذهب في الكفاية إلى أنه موضوع لصرف المعنى ونفس الطبيعة،
كاسم الجنس، والتعريف لفظي، كما في التأنيث اللفظي، نظرا إلى أنه لو لم يكن
كذلك لما صح حمله على الأفراد بلا تصرف وتأويل، لأنه على المشهور أمر
ذهني، وهو لا يصدق على الخارج إلا مع التجريد، مع صحة حمله عليها بدونه.
مضافا إلى أن وضعه لما يحتاج إلى التجريد في مقام الاستعمال لا يصدر
عن الواضع الحكيم (1).
ولكنه تنظر فيه في كتاب الدرر حيث قال: وفيما أفاده نظر، لإمكان دخل
الوجود الذهني على نحو المرآتية في نظر اللاحظ، كما أنه ينتزع الكلية عن
المفاهيم الموجودة في الذهن لكن لا على نحو يكون الوجود الذهني ملحوظا
للمتصور بالمعنى الاسمي، إذ هي بهذه الملاحظة مباينة مع الخارج، ولا تنطبق
على شئ، ولا معنى لكلية شئ لا ينطبق على الخارج أصلا.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن لفظ " أسامة " موضوع للأسد بشرط تعينه في
الذهن على نحو الحكاية عن الخارج، ويكون استعمال ذلك اللفظ في معناه
بملاحظة القيد المذكور، كاستعمال الألفاظ الدالة على المعاني الحرفية، فافهم
وتدبر (2). انتهى.

1 - كفاية الأصول: 283.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 232.
346

أقول: أخذ اللحاظ ولو كان بالمعنى الحرفي في المعنى الموضوع له معناه
كونه متقوما به، وإلا فيصير الموضوع له مجرد المعنى من دون مدخلية شئ،
ولم يبق فرق بين علم الجنس واسمه، ومع تقوم معنى الأول به يرد عليه ما
أفاده في الكفاية (1)، كما لا يخفى.
والتحقيق أن يقال: إن الفرق بين المعرفة والنكرة واتصاف شئ بالأول
وشئ آخر بالثاني أمر واقعي، فإن المعرفة هو ما كان في الواقع متعينا غير قابل
للتردد والإبهام، مثل الأعلام الشخصية، فإن لفظ " زيد " موضوعة لشخص
متعين في الواقع، بخلاف النكرة، فإن معنى الرجل المنكر هو الفرد المردد من
طبيعة الرجل والمبهم في نفس الأمر، فالامتياز والتفاوت إنما هو بحسب الواقع،
وحينئذ فنقول: الموضوع له في باب اسم الجنس هي نفس الطبيعة بما هي هي،
والطبيعة في هذه المرتبة التي هي مرتبة ذات الطبيعة لا تكون معرفة ولا
نكرة، ولذا يكون عروض التعريف والتنكير بسبب أمر آخر، مثل الألف واللام
المفيدة لتعريف الجنس، وتنوين التنكير المفيدة لنكارته، فلو كان معنى " رجل "
الذي هو اسم الجنس معرفا، لم يحتج في تعريفه إلى إلحاق الألف واللام به
ويستحيل تنكيره من غير تجريد كما لا يخفى، كما أنه لو كان منكرا، لم يحتج إلى
التنوين، ولم يصح تعريفه من غير تجريد، وليس ذلك إلا لكون نفس الطبيعة
الموضوع لها اسم الجنس لا يكون معرفة ولا نكرة، ولذا لا يستعمل كذلك.
وأما علم الجنس فهو موضوع لنفس الطبيعة الممتازة عن سائر الطبائع،
فإن كل طبيعة إذا لوحظت بالإضافة إلى سائر الطبائع تكون ممتازة عنها ومتعينة
بذاتها في عالم الواقع ونفس الأمر، وليس ذلك التعين دائرا مدار الاعتبار، بل هو

1 - كفاية الأصول: 283.
347

أمر واقعي، كالتعريف في غيره من الموارد، وحينئذ فاللحاظ ليس مأخوذا في
المعنى حتى يستحيل انطباقه على الخارج، بل المعنى هي الطبيعة الممتازة
بذاتها واقعا، وهو قابل للاتحاد مع الخارج.
وبالجملة، فمفاد علم الجنس والمعرف بلام الجنس واحد غاية الأمر
تعدد الدال في الثاني دون الأول، كما لا يخفى.
منها: المفرد المعرف باللام
ومما ذكرنا ظهر الحال في المفرد المعرف باللام، فإن المعرف بلام الجنس
معناه ما عرفت.
وأما المعرف بلام الاستغراق أو العهد بأقسامه فإنه أيضا موضوع للمعنى
المتعين، وهو جميع الأفراد في الأول، والمعنى المعهود في الثاني.
منها: النكرة
مثل " رجل " في جاء رجل، أو جئني برجل.
وذكر في الكفاية أن مدلولها في مثل الأول هو الفرد المعين المجهول عند
المخاطب، وفي الثاني هي الطبيعة المأخوذة مع قيد الوحدة التي يدل عليها
تنوين التنكير، فيكون مدلولها في الأول جزئيا، كما هو واضح، وفي الثاني
كليا (1)، وهي حصة من الرجل ولا يخفى أن الجزئية في الأول إنما يستفاد من
دال آخر، وهو نسبة المجئ إليه، وإلا فمن الواضح عدم تعدد الوضع في باب
النكرة، فالتحقيق أن مدلولها هو المعنى الكلي في الموضعين.

1 - كفاية الأصول: 285.
348

ثم إنك عرفت أن معنى المطلق هو خلو المعنى عن القيد، سواء كان كليا أو
جزئيا، وحينئذ فتخصيص المطلق باسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني - كما أفاده
في الكفاية - في غير محله، لأن النكرة بالمعنى الأول - الذي هو أمر جزئي -
مطلقة، كما في سائر الجزئيات، فإن قوله: أكرم زيدا، مطلق من حيث عدم تقييد
زيد بالجائي أو بغيره من القيود، كما أنك عرفت أن لفظ المطلق لا يحكي إلا عن
نفس الطبيعة، وهي لا يعقل أن تكون مرآة للأفراد والخصوصيات، ومعنى إطلاقها
من حيث تعلق الحكم بها هو كون تمام المتعلق للحكم المجعول هي نفسها من غير
مدخلية شئ آخر فيها، وهذا المعنى يستفاد من فعل المتكلم حيث إنه إذا كان
بصدد بيان متعلق حكمه وكان مختارا في التكلم فهذا دليل بنظر العقل على أن
المذكور تمام المتعلق، وليس ذلك من قبيل الدلالات اللفظية، بل هو من
الدلالات العقلية، كدلالة التكلم على كون مدلول الكلام مقصودا للمتكلم،
وحينئذ فيظهر لك أن إثبات الإطلاق بضميمة مقدمات الحكمة أو بغيرها ليس
يرجع إلى إثبات الشياع والسريان، كما ذكره في الكفاية حيث قال: إن الشياع
والسريان - كسائر طوارئ الطبيعة - يكون خارجا عما وضع له لفظ المطلق،
فلابد في الدلالة عليه من قرينة حال أو مقال أو حكمة (1)، فإن ظاهره أن
جريان مقدمات الحكمة يفيد الشياع والسريان، مع أن مفادها ليس إلا كون
المذكور تمام الموضوع، ولا مدخلية لشئ آخر فيه.

1 - كفاية الأصول: 287.
349

مقدمات الحكمة
الفصل الثالث
في مقدمات الحكمة
وكيف كان فقد ذكر في الكفاية أن مقدمات الحكمة ثلاثة:
إحداها: كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد لا الإهمال أو الإجمال.
ثانيتها: انتفاء ما يوجب التعيين.
ثالثتها: انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب (1).
أقول: الظاهر أن قرينة الحكمة لا تتوقف إلا على مقدمة واحدة، وهي
المقدمة الأولى، فهنا دعويان: الأولى توقفها على المقدمة الأولى، ثانيتهما عدم
توقفها على سائر المقدمات.
أما الدعوى الأولى: فواضحة، لأنه إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان تمام
المراد، بل كان في مقام بيان حكم آخر أو في مقام بيان أصل التشريع، لا يمكن أن
يحتج بكلامه عليه عند العقلاء، لصحة اعتذاره بأنه كان بصدد بيان جهة
أخرى أو بيان الحكم بنحو الإجمال مثلا.

1 - كفاية الأصول: 287.
350

وذهب في الدرر إلى عدم الاحتياج إلى هذه المقدمة، وقال في بيانه ما
ملخصه: أن المهملة مرددة بين المطلق والمقيد ولا ثالث، ولا إشكال في أنه لو
كان المراد هو المقيد تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة، وإنما ينسب إلى الطبيعة
بالتبع لمكان الاتحاد وحينئذ فنقول ظاهر الكلام هو تعلق الإرادة أولا وبالذات
بنفس الطبيعة لا أن المراد هو المقيد، ثم أضيفت الإرادة إلى الطبيعة لمكان
الاتحاد، وبعد ثبوت هذا الظهور تسري الإرادة إلى تمام الأفراد، وهو معنى
الإطلاق (1). انتهى.
أقول: ظهور الكلام في تعلق الإرادة أولا وبالذات بنفس الطبيعة إنما هو
فيما إذا أحرز كون المتكلم في مقام البيان، وإلا فلو كان بصدد بيان حكم آخر
فيمنع هذا الظهور بحيث يمكن الأخذ به والاحتجاج به عليه، لأنه ليس من
الظهورات اللفظية، بل إنما هو من الدلالات العقلية، فتسليم الظهور مبني على
ثبوت هذه المقدمة، كما لا يخفى.
وأما الدعوى الثانية: فعدم الاحتياج إلى المقدمة الثانية واضح، ضرورة
أن مفروض الكلام إنما هو فيما إذا دار الأمر بين كون المراد هو المطلق أو المقيد،
وأما مع ثبوت القيد في الكلام فهو خارج عن مفروض المقام، لعدم كون المراد
مرددا حينئذ، كما هو واضح.
وأما المقدمة الثالثة فهي أيضا غير محتاج إليها، لعدم كون ثبوت القدر
المتيقن في مقام التخاطب مضرا بالإطلاق أصلا.
وتوضيحه: أنك عرفت أن معنى الإطلاق ليس كون الطبيعة المأخوذة
متعلقا للحكم سارية في جميع الأفراد وشائعة بين جميع الوجودات حتى يكون

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 234.
351

جريان مقدمات الحكمة منتجا لما يفيده العموم، بل المراد به هو كون نفس
الطبيعة المذكورة في الكلام مما يتقوم به تمام المصلحة، ولم يكن لبعض
القيودات مدخلية في ذلك، وحينئذ فلو كان المتكلم في مقام بيان تمام ماله
دخل في موضوع حكمه - كما هو المفروض في المقدمة الأولى - ومع ذلك لم
يذكر إلا نفس الطبيعة - كما هو المفروض في المقام - فإثبات الإطلاق وصحة
الاحتجاج به عليه لا يحتاج إلى أمر آخر، لأنه لو كان مراده هو المقدار
المتيقن، لكان عليه تقييد الطبيعة لإخراج ما عداه، وليس الأمر دائرا بين الأقل
والأكثر بمعنى أن يكون تعلق الحكم بالمقدار المتيقن معلوما وبما عداه مشكوكا،
ضرورة أن الحكم في باب الإطلاق والتقييد لا يكون متعلقا بالأفراد والوجودات،
بل إنما كان هنا حكم واحد مردد بين تعلقه بنفس الطبيعة أو بها مقيدة، وتعلق
الحكم بالمقيد ليس معلوما، وثبوت القدر المتيقن لا يوجب ذلك.
وكيف كان فالقدر المتيقن في مقام التخاطب الراجع إلى كون بعض الأفراد
أو الحالات مما كان عند المخاطب معلوم الحكم بمجرد إلقاء الخطاب، لابعد
التأمل مما لا يضر بالإطلاق بعد كون الأفراد والحالات أجنبية عن تعلق الحكم بها
في باب الإطلاق، كما لا يخفى.
هذا كله بناء على ما اخترناه في معنى الإطلاق.
وأما بناء على مذاق القوم من جعله بمعنى الشياع والسريان، فقد ذكر في
الكفاية أن مع ثبوته لا إخلال بالغرض لو كان المتيقن تمام مراده، فإن الفرض
أنه بصدد بيان تمامه وقد بينه، لا بصدد بيان أنه تمامه كي أخل ببيانه
فافهم (1).

1 - كفاية الأصول: 287.
352

وذكر في الحاشية في بيان المشار إليه بقوله: فافهم، ما لفظه: إشارة إلى
أنه لو كان بصدد بيان أنه تمامه ما أخل ببيانه بعد عدم نصب قرينة على إرادة
تمام الأفراد، فإنه بملاحظته يفهم أن المتيقن تمام المراد، وإلا كان عليه نصب
القرينة على إرادة تمامها، وإلا قد أخل بفرضه.
نعم لا يفهم ذلك إذا لم يكن إلا بصدد بيان أن المتيقن مراد ولم يكن بصدد
بيان أن غيره مراد، أوليس بمراد قبالا للإجمال أو الإهمال المطلقين، فافهم فإنه
لا يخلو من دقة (1). انتهى.
أقول: الظاهر أنه بناء على هذا القول أيضا لا يكون وجود القدر المتيقن
مضرا، ضرورة أن جل الطبيعة مرآة لبعض الأفراد دون البعض الآخر مما لا يعقل،
فمن ذكرها بنفسها يستكشف أنه لاحظ السريان في جميع الأفراد.
مضافا إلى أن من أوضح مصاديق القدر المتيقن ورود العام أو المطلق في
مورد خاص مع أنه لا يلتزم أحد بكون المورد مخصصا أو مقيدا، وإلى أن متيقنية
بعض الأفراد أمر وكون الحكم مطلقا بحسب نظر العقل والعقلاء بحيث صح
الاحتجاج به على الحاكم أمر آخر لا ربط لأحدهما بالآخر، كما هو واضح.
فتلخص: أن قرينة الحكمة لا تتوقف إلا على مقدمة واحدة، وهي كون
المتكلم في مقام بيان تمام مراده.
المراد من كون المتكلم في مقام البيان
ثم إن المراد بكون المتكلم في مقام البيان ليس كونه في مقام بيان مراده
الجدي والنفس الأمري، بل المراد به هو كونه في مقام بيان ما يريده ولو قاعدة

1 - كفاية الأصول: 287، الهامش 1.
353

وقانونا، وحينئذ فالظفر بالمقيد ولو كان مخالفا لا يكشف عن عدم كونه في مقام
البيان حتى ينثلم به الإطلاق بالنسبة إلى القيود المشكوكة، وذلك لما عرفت
في مبحث العموم والخصوص من أن تخصيص العام لا يوجب تصرفا في مدلوله
الاستعمالي، بل العام بعد التخصيص باق على ما كان عليه قبله.
نعم يوجب ذلك تصرفا في المراد الجدي من حيث إنه يكشف عن كونه
مقصورا بما عدا مورد الخاص، وهذا المعنى يجري في هذا المقام أيضا، وحينئذ
فالظفر بالمقيد يكشف عن مجرد عدم تعلق الإرادة الجدية بالمطلق حتى
بالنسبة إلى ذلك القيد، وذلك لا يستلزم عدم ثبوت الإطلاق بملاحظة القيود الأخر
، وهذا واضح.
ثم إن كون المتكلم من دأبه ذكر المقيدات والمخصصات بعد المطلقات
والعمومات لا يوجب عدم جواز التمسك بإطلاق كلامه بعد إحراز كونه في مقام
بيان مراده، لأن غاية ذلك وجوب الفحص عنها، ومفروض الكلام إنما هو بعده،
كما لا يخفى.
تتمة: الأصل عند الشك في مقام البيان
ثم إنه لابد في قرينة الحكمة المتوقفة على تلك المقدمة من إحرازها،
وكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده، وهو قد يحرز بالوجدان، وقد يحرز
بالأصل العقلائي حيث إن العقلاء يتمسكون بإطلاق كلام المتكلم بمجرد صدوره
منه فيما لم يحرز الخلاف، وأنه كان بصدد الإهمال أو الإجمال، كما يظهر
بمراجعة سيرة أهل المحاورات، ولا يخفى أن بناء العقلاء إنما هو فيما إذا كان
المقام مقاما للبيان نوعا، ولكن مع ذلك شك في كونه بصدد البيان أو بصدد غيره
مثلا: مقام الجواب عن السائل عن مسألة كانت موردا لابتلائه مقام البيان
354

بحسب سيرة المتكلمين، فلو فرض الشك فيه، لاحتمال ثبوت جهة مانعة عن
المشي على الطريق المتداول، يكون ذلك الشك غير معتنى به عند العقلاء، وأما
إذا لم يكن المقام مقاما للبيان كذلك، كما إذا صدر من المتكلم كلام ابتداء ودار أمره
بين كونه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا يكون هنا أصل عقلائي حاكم
بالأول، كما هو واضح.
355

كيفية الجمع بين المطلق والمقيد
الفصل الرابع
في أقسام المطلق والمقيد وكيفية الجمع بينهما
إذا ورد مطلق ومقيد متنافيان بأن علم وحدة التكليف إما من ناحية وحدة
السبب أو من جهة القرائن الأخر، فإما أن يكونا مختلفين في الإثبات والنفي،
وإما أن يكونا متوافقين مثبتين أو منفيين، وعلى أي تقدير فإما أن يقعا في كلام
واحد أو في كلامين.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: إذا ورد مطلق ومقيد بدون ذكر السبب
وهو مشتمل على صور:
الصورة الأولى: ما إذا كانا مختلفين فلا إشكال في لزوم حمل المطلق على
المقيد فيما إذا كان المطلق متعلقا للنهي، والمقيد متعلقا للأمر، مثل قوله: لا تعتق
رقبة، وأعتق رقبة مؤمنة، بناء على أن لا تكون النكرة في سياق النهي مفيدة
للعموم، كما عرفت أنه الحق، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون النهي المتعلق
بالمطلق تحريميا أو تنزيهيا، فإن مرجوحية عتق مطلق الرقبة لا تجتمع مع
356

وجوب عتق بعض أصنافها، فلابد من التصرف في المطلق بحمله على المقيد.
وأما لو كان المطلق متعلقا للأمر والمقيد للنهي، مثل قوله: أعتق رقبة، ولا
تعتق رقبة كافرة، فلو كان النهي تحريميا، فلا إشكال أيضا في وجوب حمل
المطلق على المقيد، كما أنه لو كان تنزيهيا لا إشكال في عدم لزوم حمله عليه،
لعدم التنافي بينهما، كما لا يخفى.
وأما لو تردد الأمر بين أن يكون تحريميا أو تنزيهيا، فيدور الأمر بين
التصرف في المطلق بحمله على المقيد، وبين أن يكون الترخيص الناشئ من قبل
الإطلاق قرينة على كون المراد بالنهي هو التنزيهي منه، إذ قد حققنا سابقا أن
الموضوع له في باب النواهي هو الزجر عن المنهي عنه الذي قد تفيده الإشارة
باليد أو بغيرها، وهو أعم من أن يكون ناشئا عن الإرادة الحتمية أو غيرها، ولزوم
تركه في الموارد الخالية عن القرينة إنما هو لحكم العقل بصحة الاحتجاج
على العبد، لا لكشفه عن الإرادة الحتمية، كما هو الشأن في باب الأوامر أيضا
على ما حققناه سابقا، وحينئذ فيمكن أن يكون الترخيص المستفاد من الإطلاق
قرينة على كون المراد هو النهي التنزيهي.
وكيف كان فالأمر دائر بين الوجهين.
ويحتمل وجه ثالث، وهو أن يقال بتعدد التكليف واختلاف متعلقه
بالإطلاق والتقييد.
وهذا الاحتمال مبني على القول بدخول المطلق والمقيد في محل النزاع في
باب اجتماع الأمر والنهي، والقول بالجواز فيه، ونحن وإن اخترنا الجواز إلا أن
دخول المقام في محل النزاع في ذلك الباب محل نظر بل منع، كما ستجئ
الإشارة إليه.
مضافا إلى أن النزاع هنا في الجمع العرفي بين المطلق والمقيد، والنزاع في
357

تلك المسألة عقلي، فحكم العقل بجواز الاجتماع فيها نظرا إلى تغاير المتعلقين
لا يجدي بالنسبة إلى المقام، كما لا يخفى، فالأمر لا يتجاوز عن الوجهين
المتقدمين.
ولا يبعد أن يقال: بأن التصرف في المطلق بحمله على المقيد أرجح بنظر
العرف الذي هو الملاك في المقام، لأنه لا ينسبق إلى أذهانهم الجمع بالتصرف في
الحكم في ناحية المقيد، وحمله على التنزيهي، لا لكون ظهوره في النهي
التحريمي أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق، كيف وقد عرفت عدم ظهور
النواهي في الزجر الناشئ عن الإرادة الحتمية، بل لأن أخذ الإطلاق حيث
لا يكون مستندا إلى الظهور الوضعي، بل الوجه فيه مجرد بنائهم عليه فيما إذا لم
يذكر القيد، فمع ذكره ولو منفصلا كأنهم يرفعون اليد عن بنائهم، ويقتصرون في
ذلك على ما إذا لم يذكر القيد أصلا، كما هو الوجه في حمل المطلق على المقيد
في المواضع المسلمة، فإن التصرف فيه ليس لأجل أظهرية المقيد في دخالة
القيد أو كونه بيانا له، بل لما عرفت من أن بناءهم على الأخذ بالإطلاق إنما هو
فيما إذا لم يذكر القيد أصلا، فهو دليل حيث لا دليل، كما لا يخفى.
الصورة الثانية: ما إذا كانا متوافقين: فكذلك فيما لو وقعا في كلام واحد،
بل ليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد، لأن مع ذكره متصلا لا يكون هنا
ظهور في الإطلاق، إذ المقتضى له هو تجرد المعنى المذكور عن القيد، ومع
الإتيان به متصلا لا مجال لهذا الاقتضاء، كما هو واضح.
وأما لو وقعا في كلامين، فالمشهور أيضا على الحمل والتقييد، لأنه جمع
بين الدليلين، وهو أولى.
وقد اورد عليه بإمكان الجمع على وجه آخر، مثل حمل الأمر في المقيد
على الاستحباب (1).

1 - قوانين الأصول 1: 325 / السطر 6.
358

وربما يفصل - كما في الدرر -: بين ما إذا كان إحراز وحدة التكليف من
ناحية وحدة السبب وبين غيره، وهو ما إذا كان إحرازها من جهة القرائن الأخر
بوجوب الحمل والتقييد في مثل الأول، وتحقق الإجمال في الثاني.
أما ثبوت الإجمال في الأخير: فلأن الأمر يدور بين حمل الأمر المتعلق
بالمطلق على ظاهره من الوجوب والإطلاق والتصرف في أمر المقيد إما هيئة
بحمله على الاستحباب، وإما مادة برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في
الموضوع، وجعله إشارة إلى الفضيلة الكائنة في المقيد، وبين حمل المطلق
على المقيد، ولا ترجيح لأحد الوجهين على الآخر.
وأما تعين التقييد في الأول، لأنه لاوجه للتصرف في المقيد بأحد
النحوين المذكورين، فإن السبب لو كان علة لوجوب المطلق فلا يعقل أن يكون
علة لوجوب المقيد أو استحبابه، لأن استناد المتبائنين إلى علة واحدة غير
معقول (1).
أقول: لا يبعد أن يقال بترجيح التقييد في الفرض الثاني على التصرف في
المقيد بأحد الوجهين عند العقلاء في أكثر الموارد.
نعم قد يبلغ الإطلاق من القوة إلى حد لا يمكن رفع اليد عنه بمجرد ظهور
الأمر المتعلق بالمقيد في الوجوب، كما لا يخفى.
ثم إنه اختار المحقق النائيني - على ما في التقريرات - وجوب الجمع
بينهما بحمل المطلق على المقيد مطلقا من غير فرق بين كون ظهور الأمر في
المطلق أقوى في الإطلاق من ظهور الأمر في المقيد في التقييد أو أضعف.
قال في بيانه ما ملخصه: أن الأمر في المقيد يكون بمنزلة القرينة على

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 236 - 237.
359

ما هو المراد من الأمر في المطلق، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون
حاكما على الأصل الجاري في ناحية ذيها.
أما كونه بمنزلة القرينة: فلأنه وإن لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في
المائز بين القرينة وذيها إلا أن ملحقات الكلام من الصفة والحال والتميز بل
المفاعيل تكون غالبا بل دائما قرينة على أركان الكلام من المبتدأ والخبر والفعل
والفاعل.
نعم في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الأمر بينهما في أن أيا منهما
قرينة والآخر ذو القرينة، كما في قوله: لا تنقض اليقين بالشك، فإنه كما
يمكن أن يكون عموم اليقين قرينة على المراد من النقض الظاهر في تعلقه بماله
اقتضاء البقاء كذلك يمكن العكس.
ومن هنا وقع الكلام في حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي.
وأما كون الأصل الجاري في القرينة حاكما على الأصل الجاري في ذيها
من غير ملاحظة أقوى الظهورين: فلأن الشك في المراد من ذي القرينة يكون
مسببا عن الشك فيها، فإن الشك في المراد من الأسد في قوله: رأيت أسدا يرمي،
يكون مسببا عن الشك في المراد من " يرمي " وظهوره في رمي النبل للانصراف
مقدم على ظهور الأسد في الحيوان المفترس وإن كان بالوضع، لأنه رافع له،
فلا يبقى للأسد ظهور في معناه الحقيقي حتى يدل بلازمه على المراد من الرمي.
وإذ قد عرفت ذلك: ظهر لك أن المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلى
المطلق، لأن القيد نوعا يكون من ملحقات الكلام، وقد تقدم أنها تكون قرينة.
هذا إذا كان القيد متصلا، وأما إذا كان منفصلا، فتمييز كونه قرينة أو معارضا
هو أن يفرض متصلا في كلام واحد، فإن ناقض صدر الكلام ذيله، يكون
معارضا، وإلا قرينة، فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوى أن الأول يوجب عدم
360

انعقاد الظهور للمطلق، بخلاف الثاني، فإنه ينعقد فيه الظهور إلا أنه يهدم
حجيته (1). انتهى.
أقول: إن في كلامه وجوها من النظر:
منها: أن جعل الشك في المراد من الأسد مسببا عن الشك في المراد من
الرمي مما لا يصح، فإنه لا يكون هنا سبب ومسبب أصلا، وكون زوال الشك في
ناحية القرينة موجبا لزواله في ناحية ذي القرينة لا يوجب كونه مسببا عنه،
فإن زواله في ناحيته أيضا يوجب زواله في ناحيتها، فإن مع العلم بكون المراد
من الأسد هو الحيوان المفترس لايبقى مجال للشك في كون المراد من الرمي هل
هو رمي النبل أو التراب، كما هو واضح.
ومنها: أن قياس المقيد المتصل بالقرينة المتصلة مما لا يتم، فإن القرائن
المتصلة في سائر الموارد يصادم ظهور ذويها، فإن ظهور الرمي في رمي النبل
يصادم ظهور الأسد بالوضع في معناه الحقيقي، غاية الأمر تقديمه عليه
للترجيح، وهذا بخلاف المقام، فإن مع تقييد الرقبة بالمؤمنة لا يكون هنا إلا
ظهور واحد، ولم ينعقد للإطلاق ظهور، لأنه ليس ظهورا لفظيا وضعيا، بل إنما هو
ظهور عقلي يقتضيه التجرد عن القيد، فمع ذكره لايبقى له مجال، كما هو واضح،
وقد اعترف بذلك في ذيل كلامه في الفرق بين المقيد المتصل والمنفصل.
ومنها: أن قياس المقيد المنفصل بالمتصل قياس مع الفارق، لما عرفت من
أنه لا ينعقد الكلام في الأول إلا ظهور في المقيد، بخلاف الثاني، فإنه قد
انعقد للإطلاق ظهور، وهو يعارض الظهور في ناحية المقيد، والجمع لا ينحصر
بحمل المطلق عليه، بل يمكن حمل الأمر في ناحية المقيد على الاستحباب،

1 - فوائدا لأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 579.
361

كما عرفت.
وكيف كان فهل يجب حمل المطلق على المقيد في مفروض البحث، أو يلزم
أن يحمل الأمر في المقيد على الاستحباب، أو يقال بتعدد الحكم والتكليف
واختلاف متعلقه بالإطلاق والتقييد أو بالتباين بجعل المقيد قرينة على كون المراد
بالمطلق هو المقيد بغير هذا القيد، مثل أن يجعل قوله: أعتق رقبة مؤمنة قرينة
على كون المراد من قوله: أعتق رقبة، هو الرقبة الكافرة، أو يقال بتعدد
المطلوب وكون المقيد واجبا في واجب؟ وجوه واحتمالات قد يقال كما في
التقريرات بأن مجرد تعلق التكليف الإلزامي بصرف الوجود قرينة على وحدة
التكليف، لأن قوله: أعتق رقبة مؤمنة يقتضي إيجاد صرف وجود عتق الرقبة
المؤمنة، ومقتضى كون الحكم إلزاميا هو أنه لابد من إيجاد عتق الرقبة
المؤمنة، وعدم الرضى بعتق الرقبة الكافرة، والمفروض أن المطلوب في
المطلق أيضا صرف الوجود، ومقتضى كون المطلوب صرف وجود العتق وإيجاب
عتق الرقبة المؤمنة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيد ليس إلا (1).
أقول: تعلق التكليف الإلزامي بصرف الوجود في ناحية المطلق والمقيد
معا لا يصير دليلا على وحدة التكليف إلا إذا أحرز ذلك، فإنه مع إمكان التعدد
- كما هو ظاهر الدليلين - لا بأس بتعلق التكليف الإلزامي في ناحية المطلق
بصرف وجود وتعلق تكليف إلزامي آخر بصرف وجود المقيد، فإثبات اتحاد
التكليف بتعلق الحكم الإلزامي بصرف الوجود دور صريح، لما عرفت من أن
مجرد كون التكليف إلزاميا متعلقا بصرف الوجود لا يثبت الاتحاد إلا مع إحرازه،
فلو توقف ثبوته عليه - كما هو المفروض - يلزم الدور، كما هو واضح.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 581 - 585.
362

والتحقيق أن يقال: إن الوجه في إثبات الاتحاد هو استحالة تعلق
تكليفين بالمطلق والمقيد، سواء كان التكليفان مثلين أو غيرهما، لأن المطلق
لا يغاير المقيد أصلا، بل المقيد إنما هو نفس المطلق، ومن المعلوم استحالة تعلق
إرادتين بشئ واحد، كما يستحيل أن يكون الأمر الواحد متعلقا لحبين أو بغضين،
ومن هنا اخترنا خروج المطلق والمقيد عن النزاع في مسألة الاجتماع، وبذلك
يبطل احتمال التعدد والاختلاف بالإطلاق والتقييد أو احتمال كون المقيد واجبا
في واجب.
وأما حمل الأمر في المقيد على الاستحباب والإرشاد إلى أفضلية بعض
الأفراد فهو وإن كان من وجوه الجمع ويرتفع به التنافي، إلا أنه خلاف الجمع
المرتكز في أذهان العرف، فإنهم بمجرد ورود المطلق والمقيد كذلك يحملون
الأول على الثاني من دون توجه إلى إمكان الجمع بنحو آخر.
ومن هنا يظهر أن جعل المقيد قرينة على كون المراد من المطلق هو ما عدا
المقيد خلاف الجمع العرفي وإن كان حمل الأمر على التأسيس أولى من حمله
على التأكيد، إلا أن ذلك فيما لم يكن بناء العرف على خلافه.
هذا إذا كان المتوافقان مثبتين.
الصورة الثالثة: إذا كانا منفيين، كقوله: لا تعتق رقبة ولا تعتق رقبة
كافرة، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد، لعدم التنافي، لا نقول بتعدد التكليف،
فإن استحالة تعلقه بالمطلق والمقيد لا فرق فيها بين أن يكون التكليفان مثبتين أو
منفيين، كما هو واضح، بل المقصود أنه لا وجه لحمل الأول على الثاني، وجعل
متعلق النهي هو خصوص المقيد، بل المحرم أو المكروه هو نفس المطلق، فتدبر.
هذا كله فيما إذا لم يذكر السبب لا في المطلق ولا في المقيد.
363

المقام الثاني: إذا ورد مطلق ومقيد مع ذكر السبب
وأما مع ذكره فتارة يذكر في كل منهما، واخرى يكون مذكورا في خصوص
أحدهما، وعلى التقدير الأول فإما أن يتحد السبب وأما أن يختلف فالصور ثلاثة:
الصورة الأولى: ما إذا كان السبب مذكورا في كليهما مع اتحاده، كقوله: إن
ظاهرت فأعتق رقبة، وإن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، ولا إشكال في حمل
المطلق على المقيد، لوحدة التكليف، وعدم كون الجمع بحمل الأمر في المقيد
على الإرشاد إلى أفضلية بعض الأفراد جمعا مقبولا عند العقلاء، كما عرفت.
الصورة الثانية: هذه الصورة مع اختلاف السبب، كقوله: إن ظاهرت
فأعتق رقبة، وإن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة.
وقد يقال بأنه لا إشكال في أنه لا يحمل المطلق على المقيد، لعدم التنافي
بينهما.
ولكن لا يخفى أنه بعدما كان المطلق والمقيد غير متغايرين - كما عرفت -
فيستحيل تعلق تكليفين بهما ولو كان سببهما متغايرين، إذ قد يجتمعان، كما في
المثال، فإن مع اجتماع الإفطار والظهار يجتمع الوجوبان على الأمر الواحد، وهو
مستحيل كما عرفت في مسألة تداخل الأسباب، إلا أن ذلك لا يوجب حمل
المطلق على المقيد، بل يتحقق التنافي بين المتعلقين بتقييد كل منهما بقيد، وهذا
التصرف أولى عند العقلاء من الحمل والتقييد، كما لا يخفى.
الصورة الثالثة: ما إذا كان السبب مذكورا في خصوص أحدهما، كما لو
قال: أعتق رقبة، بلا ذكر السبب، وقال: إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة، أو
بالعكس بأن ذكر السبب في المطلق دون المقيد.
وقد يقال - كما في التقريرات - بأنه يشكل حمل المطلق على المقيد في
364

هذه الصورة، للزوم الدور.
قال في بيانه ما ملخصه: أن هنا إطلاقين ومقيدين: أحدهما في ناحية
الواجب، وهو عتق الرقبة وعتق الرقبة المؤمنة، ثانيهما في ناحية الوجوب
والتكليف، وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب، ووجوبه مقيدا بسبب، كالظهار في
المثال، وتقييد كل من الإطلاقين يتوقف على تقييد الإطلاق الآخر، وذلك لأن
حمل المطلق على المقيد يتوقف على وحدة التكليف، وفي المثال تقييد أحد
الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف على وحدة المتعلق، إذ مع اختلافه لا
موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر، كما هو واضح، ووحدة المتعلق في
المقام يتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر، إذ لو لم يحمل أحدهما على
الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار لم يتحقق وحدة
المتعلق (1). انتهى.
أقول: توقف تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر على وحدة
متعلق التكليفين مما لا ريب فيه، إذ مع اختلاف المتعلقين لا ربط لإحدى القضيتين
بالأخرى، إذ لو قال: إن ظاهرت فأعتق رقبة، ثم قال: أطعم ستين مسكينا، مثلا،
لا يتوهم أحد تقييد وجوب الإطعام بصورة تحقق الظهار، كما هو واضح.
وأما توقف وحدة المتعلق على تقييد التكليف المطلق بصورة وجود القيد،
فلا نعرف له وجها أصلا، فإن اتحاد المتعلقين وتغايرهما أمر وجداني واقعي
لا يتوقف على شئ أصلا، فإن تغاير الإطعام مع العتق واتحاد عتق الرقبة مع عتق
الرقبة المؤمنة لا يتوقف إحرازه على إحراز وحدة التكليف أصلا، وحينئذ فمن
وحدة المتعلق المحرزة بالوجدان يستكشف وحدة الحكم، وهي توجب حمل

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 580 - 581.
365

أحد التكليفين على الآخر، كما هو واضح.
هذا، مضافا إلى أن لزوم الدور - على تقدير تسليمه - لا يقدح بالجمع
العرفي لو تحقق هنا.
والتحقيق أن يقال: إن العرف والعقلاء لا يرون التنافي بين المطلق والمقيد
في مثل المقام، ولا يحملون الأول على الثاني أصلا، بل يعملون بمقتضى ظاهر
الدليلين من تعدد التكليف، كما فيما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه.
تنبيه: لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية في حمل المطلق
لا يخفى أن جميع ما ذكرنا في المقام يجري فيما إذا كان الدليلان واردين
لإفادة الحكم الوضعي من الجزئية والشرطية والمانعية، فإن موارد حمل
المطلق على المقيد فيها هي بعينها موارد الحمل في الأحكام التكليفية، كما هو
واضح، كما أن جميع ما ذكرنا في الأحكام التكليفية الوجوبية يجري في
التكاليف المستحبة، ولكن بناءهم فيها على حمل الأمر بالمقيد على تأكد
الاستحباب.
ولعل السر فيه هو: كون الغالب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب
المراتب، وأما احتمال كون ذلك بملاحظة التسامح في أدلة السنن - كما في
الكفاية - فمدفوع: بأن التسامح فيها إنما هو بعد فرض تمامية دلالة دليلها، ولو
قيل بالحمل على المقيد لايبقى هنا دلالة في الإطلاق أصلا، كما لا يخفى.
ولنختم بذلك الكلام في مباحث الألفاظ ومن الله
نستمد وبه الاعتصام وكان ختامه في اليوم
الرابع عشر من شهر شعبان من شهور سنة 1373
366

المقصد السادس
في أحكام القطع
367

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير
خلقه محمد أشرف النبيين، وعلى آله الطيبين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
مقدمة
وبعد، فلا يخفى أن مباحث القطع لا يكون خارجا عن مسائل علم الأصول
كما قيل (1)، لعدم الفرق بينه وبين الأمارات المعتبرة شرعا، التي يكون البحث
عنها داخلا في علم الأصول قطعا.
وما ذكره الشيخ (قدس سره) في " الرسالة ": من أن إطلاق الحجة على القطع ليس
كإطلاق الحجة على الأمارات المعتبرة شرعا، لأن الحجة عبارة عن الوسط
الذي به يحتج على ثبوت الأكبر للأصغر، ويصير واسطة للقطع بثبوته له،
كالتغير لإثبات حدوث العالم، وهذا المعنى متحقق في الظن، فيقال: " هذا مظنون
الخمرية، وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه "، بخلاف القطع، لأنا إذا
قطعنا بخمرية شئ يقال: " هذا خمر، وكل خمر حرام "، ولا يقال: " هذا معلوم

1 - كفاية الأصول: 296.
369

الخمرية، وكل معلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه "، لأن أحكام الخمر إنما
تثبت للخمر، لا لما علم أنه خمر (1).
فيرد عليه: المنع في مورد الظن أيضا، فإن وجوب الاجتناب مثلا إنما هو
حكم لنفس الخمر، لا للخمر المظنون، كما هو واضح. فإن كان المراد بالحجة ما
ذكره فإطلاقها على الأمارات أيضا ممنوع، وإن كان المراد بها هي ما يحتج به
المولى على العبد، ويصح له الاحتجاج به عليه فهو متحقق في كليهما، كما
لا يخفى. ومجرد كون حجية القطع غير مجعولة - بخلاف الظن - لا يوجب
خروجها عن مسائل علم الأصول.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه ذكر الشيخ (قدس سره) في " الرسالة ": أن المكلف إذا
التفت إلى حكم شرعي فيحصل له إما الشك فيه أو القطع أو الظن (2)، وظاهره -
باعتبار أخذ الشك والظن في التقسيم - أن المراد بالحكم الشرعي هو الحكم
الشرعي الواقعي.
ولذا عدل عن هذا التقسيم في " الكفاية "، نظرا إلى عدم اختصاص أحكام
القطع بما إذا كان متعلقا بالأحكام الواقعية، وعمم متعلق القطع (3).
ولكنه يرد عليه: أن جعل حكم العقل باتباع الظن - لو حصل، وقد تمت
مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة - في مقابل القطع مما لا وجه له، لأن
المراد بالقطع الحاصل إن كان هو القطع التفصيلي فاللازم أن يكون البحث عن
القطع الإجمالي في باب أحكام القطع استطراديا، وإن كان المراد الأعم منه ومن
الإجمالي فلا وجه لجعل الظن المذكور مقابلا له، لأن حكم العقل باتباع الظن

1 - فرائد الأصول 1: 4.
2 - نفس المصدر 1: 2.
3 - كفاية الأصول: 296.
370

ليس لاعتباره بنفسه، بل منشأه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، فوجوب العمل
على طبقه إنما هو لوجود الحجة القطعية الإجمالية، وعدم إمكان تحصيل
الموافقة القطعية، أو عدم وجوبه، كما لا يخفى.
نعم، يرد على ما ذكره الشيخ من التقسيم التثليثي إشكال التداخل، فإن
الظن إن قام دليل على اعتباره فهو ملحق بالعلم، وإلا فملحق بالشك.
ولكنه اعتذر عنه بعض المحققين - على ما في تقريرات بحثه - بأن عقد
البحث في الظن إنما هو لأجل تميز الظن المعتبر الملحق بالعلم عن الظن الغير
المعتبر الملحق بالشك، فلابد أولا من تثليث الأقسام، ثم البحث عن حكم الظن،
من حيث الاعتبار وعدمه (1).
ولكنه لا يخفى أن تثليث الأقسام لو كان توطئة لما كان وجه لتقييد
مجرى الاستصحاب بكون الحالة السابقة ملحوظة، فإن الظاهر أن هذا التقييد
إنما هو لأجل بيان المختار في مجرى الاستصحاب، وسوق العبارة تقتضي كون
التثليث أيضا وقع من باب بيان الحق، لا مجرد التوطئة، فتدبر.
نعم، يمكن التثليث بوجه آخر: وهو أن المكلف إذا التفت إلى الحكم
الشرعي الواقعي فإما أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون له
طريق شرعي أو لا، وعلى الثاني يرجع إلى الأصول العملية. وحينئذ فالظن
الانسدادي - بناء على الحكومة - من مسائل القطع، لأنه أعم من القطع
الإجمالي، كما أن بعض مباحث الاشتغال إنما يدخل فيه أيضا، كما لا يخفى.
ثم إن المراد بالمكلف الذي يحصل له أحد الأقسام هو خصوص المجتهد،
إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد، ولا اعتبار بظن

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 4.
371

المقلد وشكه، فلا يشمله الخطابات الواردة في أدلة اعتبار الطرق والأمارات،
مثل قوله (عليه السلام) " لا تنقض اليقين بالشك " (1)، ضرورة أنه لا يكاد يحصل للمقلد
الشك واليقين في الشبهات الحكمية، وعلى فرض الحصول فلا عبرة بهما مالم
يكن مجتهدا في مسألة حجية الاستصحاب.
وكيف كان فقد ذكروا في مقام بيان أحكام القطع وأقسامه أمورا:

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض
الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
372

وجوب متابعة القطع وحجيته
الأمر الأول
وجوب متابعة القطع وحجيته
لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع، ولزوم الحركة على طبقه
عقلا. ولا يخفى أن المراد بالقطع الذي يجب العمل على وفقه إن كان هو نفس
صفة القطع التي هي من صفات النفس فلا معنى للعمل على طبقه، لأنه لا عمل
له، كما هو واضح، وإن كان المراد به هو الشئ المقطوع به فوجوب العمل
على وفقه عقلا وإن كان مما لا ريب فيه إلا أن هذا الحكم ليس من أحكام القطع،
مثلا لو قطع بوجوب صلاة الجمعة فالعقل وإن كان يحكم بلزوم الإتيان بها، نظرا
إلى لزوم إطاعة المولى إلا أن لزوم الإتيان بها ليس من أحكام القطع.
وإن شئت قلت: إنه ليس في البين إلا حكم العقل بوجوب إطاعة المولى،
وهو من المسائل الكلامية الغير المرتبطة بالمقام.
نعم، ما يصح أن يعد من أحكام القطع هو كونه منجزا للواقع على تقدير
الإصابة، بحيث لايبقى للمكلف القاطع عذر أصلا، كما هو واضح.
وأما ثبوت العذر على تقدير عدم الإصابة فلا يكون أيضا من أحكام
القطع، لأن المعذورية إنما هو بسبب الجهل بالواقع، وعدم الطريق إليه،
373

لا بسبب القطع بالخلاف.
ثم إنهم ذكروا أن الحجية والكاشفية من لوازم القطع، ولا يحتاج إلى
جعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشئ ولوازمه، وظاهرهم: أن ذلك
من لوازم ماهية القطع، كما يظهر من تنظير بعضهم ذلك بالزوجية بالنسبة إلى
الأربعة (1).
ولا يخفى ما فيه: أما صفة الكاشفية والطريقية فلو كانت من لوازم القطع
التي لا تنفك عنه، كما هو الشأن في لوازم الماهية فاللازم أن لا يتحقق القطع
على خلاف الواقع أصلا، مع أنا نرى بالوجدان تحققه على كثرة، فكيف يمكن أن
تعد هذه الصفة من الأوصاف التي تلازم طبيعة القطع؟!
نعم، الكاشفية بحسب نظر القاطع ثابتة في جميع الموارد، ولكن هذا
التقييد يخرجها عن كونها ذاتية للقطع، لأن الذاتيات لا فرق فيها، من حيث
الأنظار أصلا، كما لا يخفى.
وإن شئت قلت: إن الكاشفية بحسب نظر القاطع من لوازم وجود القطع،
لا ماهيته، ولوازم الوجود كلها مجعولة. نعم، لا معنى لتعلق الجعل التشريعي
به، مع كونه من لوازم الوجود، للزوم اللغوية.
وأما الحجية فهي حكم عقلي مترتب على القطع، بمعنى أن العقل والعقلاء
لا يرون القاطع معذورا في المخالفة أصلا، ويصح عندهم أن يحتج به المولى
على العبد، ويعاقب العبد بسبب مخالفة القطع.
ومن هنا لا يصح للشارع جعل الحجية له، لكونه لغوا، لا لكونه من
لوازم الماهية، فتدبر.

1 - كفاية الأصول: 297، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 6.
374

ولا يصح له نفي الحجية عنه، لا لما ذكره في " الكفاية " من لزوم اجتماع
الضدين، اعتقادا مطلقا وحقيقة في صورة الإصابة (1)، لما عرفت في مبحث
اجتماع الأمر والنهي من عدم التضاد بين الأحكام ونظائره من الأمور الاعتبارية
- كيف، ولو كانت الأحكام متضادة لكان من المستحيل تعلق أكثر من واحد بشئ
واحد، ولو كان من شخصين، مع أنا نرى أبا لوجدان كون شئ واحد مأمورا به
لشخص، ومنهيا عنه لشخص آخر - بل لاستحالة تعلق البعث والزجر إلى شئ
واحد من شخص واحد بنظر العقل إما لعدم قدرة العبد على الامتثال، أو لعدم
إمكان ثبوت مبادئهما في نفس المولى، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأصول: 297.
375

مبحث التجري
الأمر الثاني
مبحث التجري
هل البحث عن التجري من المباحث الأصولية أم لا؟
إنما الكلام يقع في استحقاق العقوبة على التجري والمثوبة على الانقياد
وعدمه، وهل البحث في المقام يكون بحثا في المسألة الأصولية، أو أنها من
المسائل الفقهية أو الكلامية؟
لا إشكال في أنه إذا قرر محل النزاع ثبوت الحرمة للتجري، فيقال
التجري هل هو حرام أو لا؟ تصير المسألة فقهية محضة، كما أنه إذا قرر
بالوجه الذي ذكرنا، وهو استحقاق العقوبة على التجري وعدمه تصير مسألة
عقلية كلامية، لأن مرجعه إلى حسن عقوبة المولى للمتجري وقبحها، كما
لا يخفى.
وقد يقال: بإمكان إدراجها في المسائل الأصولية التي يكون الضابط فيها
هو وقوعها كبرى لقياس استنباط الأحكام الكلية الفقهية، أو كونها حجة في
الفقه، وذكر له وجوه:
منها: ما تسالموا عليه من أن البحث إذا وقع في أن ارتكاب الشئ
376

المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا يندرج المسألة في المسائل الأصولية التي
يستدل بها على الحكم الشرعي، وذلك لأنه بعد ثبوت القبح يستكشف الحرمة،
لقاعدة الملازمة. ومرجع هذا الوجه إلى أن النزاع إنما هو في قبح التجري
وعدمه (1).
وفيه ما لا يخفى: ضرورة أن قاعدة الملازمة - على تقدير تسليمها - إنما
هو في غير المقام مما لا يكون حكم العقل معلولا لحكم الشرع، نظير قبح الظلم،
وأما في مثل المقام مما يكون حكم العقل واقعا في سلسلة المعلولات للأحكام
الشرعية فلا تجري قاعدة الملازمة أصلا. ألا ترى أن العقل يحكم بقبح العصيان
ولزوم الإطاعة، مع أنه لو كانت المعصية منهيا عنها، والإطاعة مأمورا بها من
قبل الشارع يلزم النواهي والأوامر الغير المتناهية، ضرورة أن لذلك النهي أيضا
عصيانا وإطاعة، وللنهي الثالث أيضا كذلك، إلى أن يتسلسل. وقبح التجري أيضا
كقبح المعصية لا يكون مورد القاعدة الملازمة أصلا.
سلمنا ذلك، لكنه لا يوجب صحة إدراج المقام في المسائل الأصولية،
ضرورة أن البحث في ثبوت حكم العقل بالقبح إنما هو بحث صغروي، إذ بعد
ثبوت القبح نحتاج أيضا إلى ضم الكبرى ليستنتج الحكم الشرعي. ووقوع
المسألة في صغرى قياس الاستنباط يخرجها عن كونها مسألة أصولية، وإلا
يلزم دخول كثير من المسائل الخارجة عنها فيها، كالبحث عن كون شئ مقدمة
للواجب ونظائره، وهو مما لا يلتزم به أحد، كما لا يخفى.
منها: ما في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) من أنه لو كان مستند القائل
باستحقاق المتجري للعقاب هي دعوى أن الخطابات الشرعية تعم صورتي

1 - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 36.
377

مصادفة القطع للواقع ومخالفته، ويندرج المتجري في عموم الخطابات
الشرعية حقيقة تصير المسألة من المباحث الأصولية (1).
وفيه ما لا يخفى، فإن دعوى إطلاق الخطاب لا يوجب اندراج المسألة في
المسائل الأصولية، فإنها بحث صغروي مندرج في الفقهيات، لأنك قد عرفت أن
المسائل الأصولية هي الكبريات الواقعة في قياس استنباط الأحكام الفرعية،
كالبحث عن حجية أصالة الإطلاق، لا البحث عن شموله لمورد، وإلا يلزم
دخول جل المسائل الفقهية في الأصول، ضرورة أنه قلما يتفق في مسألة من
المسائل الفقهية أن لا يقع البحث عن شمول العموم أو الإطلاق بالنسبة إلى
بعض الموضوعات، كما لا يخفى.
هل يمكن عد مسألة التجري من المسائل الفقهية؟
ثم إنه قد استشكل في جعل النزاع في حرمة التجري، بحيث صار من
المسائل الفقهية بوجهين:
أحدهما: ما ذكره في " الكفاية " من أن الفعل المتجرى به أو المنقاد به بما
هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع
أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون
غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه.
فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا، ومن مناطات الوجوب أو
الحرمة شرعا، ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية. وزاد
في ذيل كلامه: أن المتجري قد لا يصدر منه فعل بالاختيار، كما في التجري

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 37.
378

بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الخمر (1).
ويرد عليه: وضوح إمكان الالتفات إلى العلم، لأنه ليس من العناوين
التي لا يمكن الالتفات إليها، كعنوان التجري مثلا، حيث إن التوجه والالتفات
إليه يخرج الملتفت عن كونه متجريا، كما هو واضح. وأما العلم ونظائره من
العناوين - كعنوان القصد - فيمكن الالتفات إليه.
وحينئذ فلا إشكال في اختصاص الخطاب به، فإن العالم بالخمر - بعدما
التفت إلى أن معلومه بما أنه معلوم يكون موضوعا للحرمة - يتوجه بالتوجه
الثانوي إلى علمه، توجها استقلاليا. ويدل على ذلك وقوع العلم في الشريعة
متعلقا للأحكام كثيرا، كقوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر، حتى تعلم أنه قذر " (2).
وأما ما أفاده في ذيل كلامه ففساده أظهر من أن يخفى، ضرورة أن شرب
المايع في المثال كان اختياريا له بلا إشكال، ولذا يترتب عليه بطلان الصوم
ونظائره، كما لا يخفى.
ثانيهما: ما في تقريرات المحقق المتقدم من أن توجيه الخطاب بمثل
" لا تشرب معلوم الخمرية " مستلزم لاجتماع المثلين في نظر العالم دائما، وإن لم
يلزم ذلك واقعا، لأن النسبة بين الخمر الواقعي والخمر المعلوم هي العموم من
وجه، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان، كما في مثل " أكرم العالم، وأكرم
الهاشمي " إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين، لأن العالم لا يحتمل
المخالفة، ودائما يرى مصادفة علمه للواقع، فدائما يجتمع في نظره حكمان.
ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد

1 - كفاية الأصول: 299 - 302.
2 - تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
379

بحيال ذاته، فإنه لو فرض أن للخمر حكما، ولمعلوم الخمرية أيضا حكما
فبمجرد العلم بخمرية شئ يعلم بوجوب الاجتناب عنه، الذي فرض أنه رتب
على ذات الخمر، فيكون هو المحرك والباعث للاجتناب، والحكم الآخر المترتب
على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثا، ويلزم لغويته. وليس له مورد
آخر يمكن استقلاله في الباعثية، فإن العلم بالخمرية دائما ملازم للعلم بوجوب
الاجتناب عنه، المترتب على الخمر الواقعي، وذلك واضح بعدما كان العالم
لا يحتمل المخالفة. فتوجيه خطاب آخر على معلوم الخمرية لا يصح (1). انتهى.
وفيه ما لا يخفى، لأن تعلق الحكمين بالخمر الواقعي وبمعلوم الخمرية
لا يكاد يكون مستلزما لاجتماع المثلين، بعد وضوح كون النسبة بين المتعلقين
هي العموم من وجه. ومجرد اجتماعهما في نظر القاطع لا يوجب اجتماع المثلين
عنده، بعد ثبوت الاختلاف بين المفهومين في نظر القاطع أيضا، لأنه لا يرى إلا
مصادفة قطعه للواقع، وهذا لا يستلزم اتحاد المفهومين في عالم المفهومية،
الذي هو عالم تعلق الأحكام، كما حققناه في المباحث السابقة بما لا مزيد
عليه.
مضافا إلى أن الحكم لا ينحصر بهذا القاطع، ضرورة اشتراك الكل في
الأحكام، فهذا القاطع - مع أنه يرى مصادفة قطعه للواقع، المستلزمة لاجتماع
المثلين عنده، بناء على ما ذكره (قدس سره) - يحتمل الخطأ بالنسبة إلى القاطع الآخر،
فلم يجتمع الحكمان بالنسبة إليه في نظر هذا القاطع، كما هو واضح.
وأما ما ذكره من عدم صلاحية كل من الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا
فيرد عليه وضوح أن المكلف قد لا ينبعث بأمر واحد، وينبعث بأمرين أو أكثر.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 45 - 46.
380

ومجرد تحقق الإطاعة بترك فعل واحد والعصيان بإتيانه لا يوجب اللغوية بعد
وجود مادة الافتراق بينهما، كما لا يخفى.
هذا، ولكن الظاهر عدم كون النزاع في حرمة التجري، لأن تعلق الحرمة
بعنوانه قد عرفت بطلانه، وتعلقه بمعلوم الخمرية مقيدا بعدم مصادفة العلم
للواقع - مضافا إلى استحالته - ممنوع، لعدم اختصاص ملاك التحريم به، فلابد
من أن يكون متعلقا بمعلوم الخمرية مطلقا، ومن غير تقييد. وتعلقه به مستلزم
للتسلسل، لأن تعلق الحرمة بمعلوم الخمرية معلوم أيضا، فيتحقق نهي آخر
متعلق بمعلوم الحرمة، وتعلق النهي الثاني به أيضا معلوم، فيتحقق نهي آخر،
إلى ما لا نهاية له، وهذا مما يقطع بخلافه.
فانقدح: أن المسألة عقلية كلامية، يكون محل النزاع فيها هو حكم
العقل باستحقاق المتجري للعقاب وعدمه، فلا تغفل.
المناط في استحقاق العقوبة
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المتجري والعاصي كليهما يشتركان في جميع
المراحل، من تصور الحرام، والتصديق بفائدته، والعزم على ارتكابه، والجرأة
على المولى، وإنما يفترقان في أمرين:
أحدهما: ارتكاب مبغوض المولى، والإتيان بما فيه المفسدة.
ثانيهما: مخالفة المولى، وعدم إطاعة تكليفه عمدا.
فإن هذين الأمرين متحققان في العاصي دون المتجري، ولا شبهة في أن
استحقاق العقوبة ليس لمجرد ارتكاب المبغوض وما فيه المفسدة، وإلا يلزم أن
يكون الجاهل المرتكب للحرام مستحقا للعقوبة، كما أنه لا شبهة في أن
مخالفة المولى عمدا قبيح عند العقل، ويستحق العبد بسببها العقوبة، بمعنى أن
381

العقل يحكم بحسن عقاب المولى للعبد الذي خالف أحكامه من أوامره
ونواهيه.
إنما الإشكال في أن الجرأة على المولى وهتك حرمته - الذي يكون قبيحا
عقلا بلا ريب - هل يوجب استحقاق العقوبة أم لا. ولا يتوهم الملازمة بين القبح
العقلي واستحقاق العقوبة، ضرورة أن أكثر ما يحكم العقل بقبحه لا يترتب عليه
إلا مجرد اللوم والذم. ألا ترى أن ترجيح المرجوح على الراجح قبيح، مع أنه
لا يستحق المرجح بسببه العقوبة أصلا، كما هو واضح لا يخفى.
فمجرد حكم العقل بقبح شئ لا يوجب استحقاق الفاعل للعقوبة، وحينئذ
فإن قلنا بترتب العقوبة على مجرد الجرأة على المولى فاللازم هو الالتزام بثبوت
العقوبتين في صورة العصيان، ولا وجه للتداخل، بعد كون كل من المخالفة
العمدية والجرأة على المولى سببا مستقلا لثبوت العقاب، ولم نعثر على من يقول
بذلك، فيستكشف منه أن الجرأة على المولى التي يشترك فيها العاصي والمتجري
لا يوجب العقاب أصلا. نعم، يختص العاصي بالمخالفة العمدية التي هي السبب
في الاستحقاق.
فانقدح من ذلك: أنه لا يترتب على مجرد التجري استحقاق للعقوبة أصلا.
نعم، لو قلنا بأن الجرأة على المولى لها صورة برزخية، وأثر في النفس يظهر في
عالم الغيب، ويكون ملازما للإنسان، كما أنه يتجسم الأعمال الصالحة
والقبيحة بصورها الملكوتية، وترى كل نفس عين عمله، كما قال الله تعالى:
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) * (1)، وقال

1 - آل عمران (3): 30.
382

تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرايره) * (1)،
فيشترك العاصي والمتجري في هذا المعنى، بلا تداخل في العاصي أصلا، كما
لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك: أن الفعل المتجرى به الذي يكون مصداقا لبعض
العناوين الغير المحرمة حقيقة لا يتصف بالقبح أصلا، لعدم كونه مصداقا للتجري
على المولى - الذي قد عرفت أنه قبيح عند العقل - ضرورة أن الجرأة على
المولى إنما تكون من الصفات النفسانية والأحوال العارضة للنفس، ولا يكون
لها مصداق في الخارج أصلا، بل هو نظير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات
التي محلها النفس. نعم، يكون الإتيان بالفعل المتجرى به كاشفا عن تحققه
فيها، ومظهرا لثبوته، ولا يكون مصداقا له، كما هو واضح. وحينئذ فلا وجه
لسراية القبح إليه، بعد كونه مصداقا حقيقيا لبعض العناوين الغير المحرمة.
نقد كلام صاحب الكفاية
ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) بعد أن اختار قبح التجري، مستدلا بشهادة
الوجدان، وذهب إلى أنه لا يوجب تفاوتا في الفعل المتجرى به، بل هو باق على
ما هو عليه من الحسن والقبح والوجوب أو الحرمة - لعدم كونه بما هو مقطوع
الحرمة اختياريا - أورد على نفسه بقوله: إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا
وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا
على ما ليس بالاختيار.
ثم أجاب بأن العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا

1 - الزلزال (99): 7 - 8.
383

على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
وأورد على ذلك أيضا بأن العزم والقصد إنما يكون من مبادئ الاختيار،
وهي ليست باختيارية.
وأجاب بما حاصله: إنه - مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار
إلا أن بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار - يمكن أن يقال: إن صحة
المؤاخذة والعقوبة إنما هي من آثار بعده عن سيده بتجريه عليه، فكما أن
التجري يوجب البعد عنه فكذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، فإنه وإن
لم يكن باختياره إلا أنه بسوء سريرته بحسب نقصانه ذاتا، ومع انتهاء الأمر
إليه يرتفع الإشكال، وينقطع السؤال بلم، فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.
ومن هنا أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر الكفر والعاصي
العصيان والمؤمن الإيمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟
والإنسان لم يكون ناطقا؟ وبالجملة فتفاوت أفراد الإنسان بالأخرة يكون ذاتيا،
والذاتي لا يعلل.
ثم قال: إن قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ
والإنذار.
وأجاب بما حاصله: أن ذلك لينتفع به من حسنت سريرته، ويكون
حجة على من ساءت سريرته، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيي من حي عن
بينة (1)، انتهى.
وفيه وجوه من الخلل:
الأول: أنه من الواضح أن الجواب عن الإيراد الثاني بأن بعض مبادئ

1 - كفاية الأصول: 298 - 301.
384

الاختيار غالبا يكون وجوده بالاختيار مما لا يتم، لأنه ينقل الكلام إلى المبادئ
الاختيارية، ويقال: إن اختياريتها هل هي بالاختيار، فيلزم التسلسل، وإلا فيعود
المحذور.
والتحقيق في باب اختيارية الإرادة أن يقال: إنه لا إشكال في أن الأفعال
الصادرة من الواجب تعالى إنما تكون صادرة بالإرادة والاختيار، ولا معنى
لاختياريتها إلا ذلك، لا كون إرادتها أيضا بإرادة أخرى، وإلا يلزم أن لا تكون
إرادته تعالى عين ذاته، وأن تكون إرادته حادثة، مع أنه مستحيل بداهة،
ضرورة أن الإرادة من الصفات الكمالية، والواجب مستجمع لجميعها، وإلا يلزم
النقص فيه.
مضافا إلى أنه لو كانت الإرادة حادثة فيه تعالى لكان حدوثها كاشفا عن
قابليته واستعداده لأن يحدث فيه هذه الصفة، وقد قرر في محله أن القابلية
والاستعداد إنما يكون محلها المادة والهيولي (1) فيلزم أن يكون مركبا من الجهة
الفعلية والمادة، والتركيب مساوق للاحتياج الذي هو عين ذات الممكن،
فالواجب تعالى يكون مريدا للأفعال الصادرة منه، قادرا عليها، بمعنى أنه يصدر
منه بالإرادة، لا أنه يصدر إرادتها أيضا بالإرادة، وإلا يلزم ما ذكر.
ونظير ذلك يمكن أن يقال في الإنسان، بمعنى أن الأفعال الاختيارية
الصادرة منه إنما تصدر منه مع سبق الإرادة، وهي قائمة بالنفس، مخلوقة لها،
موجودة بإيجادها، فهي أمر اختياري صادرة عن إرادة واختيار، لا بإرادة أخرى.
مضافا إلى أنه لا يعتبر في صحة العقوبة والمؤاخذة على الفعل أزيد من
كون الفعل صادرا عن علم وإرادة، كما يظهر بملاحظة سيرة العقلاء، فإنهم

1 - الحكمة المتعالية 3: 49 - 56، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 77 - 79.
385

يحكمون باستحقاق عبيدهم للعقوبة بمجرد ما إذا صدر منه فعل مخالف للمولى
اختيارا، ولا يستندون في ذلك إلا إلى مجرد صدوره منه كذلك - أي عن علم
وإرادة - ولا يلتفتون إلى كون مبادئ الإرادة هل هي تكون اختيارية أم لا؟
كيف ولو كان الفعل الاختياري عبارة عما يكون مبادئه اختيارية فلا
وجه لاختصاص الاختيارية بالإرادة، بل لابد من القول بلزوم أن يكون جميع ما
له دخل في وجود الفعل اختياريا - كوجود الفاعل وعلمه وشوقه - فيلزم أن
لا يتحقق فعل اختياري، حتى من الواجب تعالى، وهو ضروري البطلان.
الثاني: أن القرب والبعد بالنسبة إلى الله تعالى قد يكون المراد منه هو
كمال الوجود ونقصه، بمعنى أن كل ما كان وجوده تاما كاملا يكون قريبا من مبدء
الكمال، كالعقول المجردة، وكل ما كان ناقصا يكون بعيدا عنه، كالموجودات
المادية، حيث إن كمالها عين النقص وفعليتها عين القوة، ومن الواضح أن القرب
والبعد بهذا المعنى لا يكونان مناط الثواب والعقاب.
وقد يكون المراد منهما هما الأمرين اللذين ينتزعان من استكمال العبد
بسبب الطاعة وفعل القربات، وانحطاطه وبعده بسبب العصيان، فهما وإن كانا
مناطين للثواب والعقاب - بمعنى أن فعل القربات يوجب استحقاق الجنان،
وارتكاب المبعدات يوجب استحقاق النيران - إلا أنه ليس استحقاق المثوبة
والعقوبة من تبعات نفس القرب والبعد، بل هما ينتزعان من الطاعة والمعصية،
والعقل إنما يحكم باستحقاق العاصي للعقاب والمطيع للثواب، من دون توجه إلى
القرب والبعد.
وبالجملة: القرب والبعد، وكذا استحقاق المثوبة والعقوبة كلها منتزعات
من الطاعة والمعصية في رتبة واحدة، بلا تقدم لأحدهما على الآخر، كما
لا يخفى.
386

الثالث: أن ما ذكره من انتهاء الأمر بالأخرة إلى الذاتي، وهو لا يعلل مما
لا يتم أصلا، وذلك يتوقف على بيان المراد من قولهم: " الذاتي لا يعلل " ليظهر
الحال ويرتفع الإشكال.
فنقول: المراد بالذاتي المذكور في هذه الجملة - قبالا للعرضي - هو
الذاتي المتداول في باب البرهان، وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الذات، سواء كان
من أجزاء الماهية أو خارجا عنها ملازما لها.
والوجه في عدم كونها معللة وكونها مستغنية عن العلة هو أن مناط
الافتقار والاحتياج إليها هو الإمكان المساوق لتساوي الطرفين، من دون ترجيح
لأحدهما على الآخر، ضرورة أن الواجب والممتنع مستغنيان عن العلة، لكون
الوجود للأول والعدم للثاني ضروريا لا يمكن الانفكاك عنهما.
وبالجملة: فالمفهوم إذا قيس ولوحظ مع شئ آخر فإما أن يكون ذلك
الشئ ضروري الثبوت له، أو ضروري العدم له، أو لا ضروري الثبوت ولا
ضروري اللا ثبوت له، فإذا فرض كونه ضروري الثبوت له - كالوجود بالنسبة
إلى الواجب تعالى، وكأجزاء الماهية ولوازمها بالنسبة إليها - فلا يعقل أن يكون
في اتصافه بذلك الشئ مفتقرا إلى العلة، وكذلك لو فرض كونه ضروري
اللا ثبوت له - كالوجود بالنسبة إلى شريك الباري - وأما لو فرض كون ثبوته
له وعدمه متساويين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر فهو الذي يحتاج إلى علة
مرجحة، لأن ترجح أحد الطرفين على الآخر بذاته مستحيل بداهة، ولا يقول
به أحد، حتى القائلين بجواز الترجيح من دون مرجح.
فانقدح: أن مناط الافتقار هو الإمكان، ومن الواضح أن جميع الموجودات
عدا واجب الوجود - عز شأنه - لا مناص لهم من الاتصاف بالإمكان، فالوجود
فيهم وجود إمكاني معلول، فلا يكون ذاتيا لهم، للاحتياج إلى العلة.
387

نعم، قد عرفت: أن ثبوت أجزاء الماهية ولوازمها لذاتها مما لا يحتاج إلى
الجعل والعلة، إلا أنه قد قرر في محله (1) أن الماهيات أمور اعتبارية ينتزعها
العقل بعد ملاحظة الوجودات، وهي محرومة عن الجعل ممنوعة عنه، ولا
تكون منشأ للآثار، ولا علية ولا معلولية بينها أصلا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن السعادة والشقاوة هل هما من سنخ الوجودات أو
من قبيل لوازم الماهيات، فعلى الأول لا يعقل كونهما من الذاتيات، لما عرفت من
أن الوجود في غير الواجب تعالى وجود إمكاني محتاج إلى الجعل. ودعوى
كونهما ذاتيين تنافي ما قامت عليه البراهين القاطعة والأدلة الساطعة من
وحدة الواجب تعالى. وعلى الثاني لا يكونان منشأ للآثار. فاختيار الكفر
والعصيان، وكذا الإرادة التي هي أمر وجودي لا يعقل أن يكون مستندا إلى الذات
والذاتيات التي هي أمور اعتباري ومخترعات عقلي.
فالحق أنهما من الأمور الاعتبارية المنتزعة عن فعل القربات، وارتكاب
المبعدات، ولا يكونان من الذاتيات أصلا، كما هو واضح لا يخفى.

1 - الحكمة المتعالية 1: 38 - 75 و 396 - 423، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 10 -
15.
388

أقسام القطع وأحكامه
الأمر الثالث
أقسام القطع وأحكامه
القطع قد يكون طريقا محضا، بأن لا يكون مأخوذا في موضوع حكم أصلا،
سواء تعلق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم، أو حكم شرعي متعلق بما
لا يكون القطع مأخوذا فيه. وقد يكون مأخوذا في الموضوع تارة بنحو يكون تمام
الموضوع، واخرى بنحو يكون جزئه، فهاهنا أقسام:
فإن القطع لما كان من الصفات الحقيقية القائمة بالنفس - قياما صدوريا
أو حلوليا على القولين - فيمكن أن يؤخذ في موضوع الحكم من هذه الحيثية، مع
قطع النظر عن كونه كاشفا عن الواقع، كما أنه يمكن أن يؤخذ فيه مع ملاحظة
جهة كشفه، لكن لما كان الكشف فيه تاما - بخلاف الكشف في سائر الأمارات
- فيمكن أن يؤخذ تارة بما أنه كاشف تام ممتاز عن سائر الأمارات، واخرى بما
أنه كاشف، مع قطع النظر عن الاتصاف بالتمامية.
وليعلم: أنه لا ينافي كون العلم بسيطا غير مركب، ضرورة أن تغاير الجهتين
إنما يتحقق بتحليل عقلي، وإلا فمن الواضح أن العلم لا يكون مركبا من الكشف
والتمامية، وكذلك الظن، فإنه لا يكون مركبا منه ومن النقصان. فالنسبة بينهما
389

هي النسبة بين الوجود القوي والوجود الضعيف، فإن العقل وإن كان يعتبر أن
امتياز الأول عن الثاني إنما هو لجهة التمامية والكمال والشدة، إلا أنه لا يوجب
كونه مركبا، ضرورة أن الوجود بسيط، كما قد قرر في محله (1).
فالأقسام الحاصلة للقطع الموضوعي ستة، لأنه إما أن يعتبر بنحو
الصفتية مع قطع النظر عن الكاشفية، وإما أن يعتبر بنحو الكاشفية التامة، وإما
أن يؤخذ بنحو أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات.
وعلى التقديرات الثلاثة: فتارة يكون تمام الموضوع، واخرى يكون بعض
الموضوع.
تقرير إشكال أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية
ثم إنه استشكل بعض المحققين من المعاصرين - على ما في تقريرات
بحثه - في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية، فقال في
إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية إشكال، بل الظاهر أنه لا يمكن
من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه
من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي
الصورة، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن
في كل طريق، حيث إن لحاظه طريقا يكون في الحقيقة لحاظا لذي الطريق،
ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع (2)، انتهى.
ولا يخفى: أن عدم إمكان الجمع بين الطريقية والموضوعية إنما هو فيما

1 - الحكمة المتعالية 1: 50، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 22.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 11.
390

إذا أراد القاطع الجمع بينهما، لأن نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع به، ونظره
إلى نفس القطع آلي، ولا يمكن له أن ينظر إليه في هذا اللحاظ باللحاظ
الاستقلالي، بل يحتاج إلى لحاظ آخر.
وأما غير القاطع فيمكنه أن يلاحظ استقلالا القطع الذي يكون نظر القاطع
إليه آليا محضا، فهو ينظر استقلالا إلى القطع الذي يكون طريقا لقاطعه، ولا يلزم
محال أصلا. وعلى تقدير لزومه فلا اختصاص له بما إذا اخذ بنحو تمام
الموضوع، لعدم الفرق بينه وبين ما إذا اخذ جزء له.
أخذ القطع بحكم موضوعا لمثل ذلك الحكم
ثم إنه لا بأس في أن يؤخذ القطع بحكم موضوعا تاما لمثل ذلك الحكم،
كما إذا قيل: " إذا قطعت بحرمة شئ فهو - أي مقطوع الحرمة - يكون لك
حراما "، وكذا في أن يؤخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعا تاما لمثل ذلك
الحكم، كما إذا قيل: " مقطوع الخمرية حرام "، مع كون الخمر أيضا بنفسه
حراما.
وذلك لثبوت التغاير بين متعلقي الحكمين بنحو العموم من وجه، ضرورة
أن مقطوع الخمرية قد لا يكون خمرا بحسب الواقع، وكذلك الخمر قد لا يتعلق به
القطع، حتى يصير مقطوعا. وقد عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أن الجواز
هو مقتضى التحقيق، ومجرد الاجتماع في الخارج دائما بنظر القاطع لا يوجب
اتحاد المفهومين اللذين هما متعلقا الأحكام، لا مصاديقهما، لأن الخارج ظرف
سقوط التكليف لا ثبوته. ومن هنا يظهر جواز أخذه موضوعا لنقيض الحكم
المقطوع أو حكم المقطوع به.
نعم، لا يجوز ذلك إذا اخذ القطع بنحو الجزئية للموضوع، كما إذا قيل مثلا:
391

" الخمر المقطوع حرام " فإنه لا يجتمع مع ثبوت الحرمة لنفس الخمر، لكون
التغاير بين المتعلقين بنحو العموم والخصوص مطلقا. وقد حققنا سابقا أنه
لا يجوز تعلق حكمين: أحدهما بالمطلق، والآخر بالمقيد، فراجع.
أخذ القطع بحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم
ثم إنه لا يمكن أن يؤخذ القطع بالحكم موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم
الذي تعلق العلم به، للزوم الدور، كما هو واضح.
وفي تقريرات بحث بعض محققي العصر إمكانه بنحو نتيجة التقييد، قال
في توضيحه ما ملخصه: إن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات اللاحقة
للحكم فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي، لاستلزامه الدور، كما هو
الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به، كقصد التعبد،
أما استحالة تقييد اللحاظي فواضح، وأما استحالة الإطلاق فلأنه إذا امتنع
التقييد امتنع الإطلاق أيضا، لأن التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم
والملكة.
ولكن الإهمال الثبوتي أيضا لا يعقل، بل لابد إما من نتيجة الإطلاق أو
نتيجة التقييد، فإن الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم إما أن يكون محفوظا في
كلتي حالتي الوجود والعدم فلابد من نتيجة الإطلاق، وإما أن يكون محفوظا في
حالة العلم فقط فلابد من نتيجة التقييد، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأولي
متكفلا لبيان ذلك فلابد من جعل آخر يستفاد منه أحدهما، وهو المصطلح عليه
بمتمم الجعل. فاستكشاف كل منهما يكون من دليل آخر.
392

وقد ادعى تواتر الأدلة على اشتراك الأحكام في حق الجاهل والعالم (1)،
ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلة، سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب
" الحدائق " في مقدمات كتابه (2)، إلا أن الظاهر قيام الإجماع، بل الضرورة على
ذلك، ومن هنا كان الجاهل المقصر معاقبا إجماعا.
ولكن تلك الأدلة قابلة للتخصيص، كما قد خصصت في غير مورد، كما
في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام، حيث قام الدليل على اختصاص
الحكم بالعالم. وكما يصح أخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوته كذلك يصح أخذ
العلم بالحكم من وجه خاص وسبب خاص، مانعا عن ثبوت الحكم، كما في
باب القياس، حيث إنه قام الدليل على أنه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من
طريق القياس، كما في رواية أبان في مسألة دية أصابع المرأة (3)، وليس هذا
نهي عن العمل بالعلم، حتى يقال: إن ذلك لا يعقل، بل مرجعه إلى التصرف في
المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع.
وبذلك يمكن أن توجه مقالة الأخباريين من أنه لا عبرة بالعلم الحاصل
من غير الكتاب والسنة (4)، بل شيخنا الأستاذ نفى البعد عن كون الأحكام مقيدة
بما إذا لم يكن المؤدى إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق
الغير المتعارفة (5)، انتهى.

1 - فرائد الأصول 1: 44.
2 - الحدائق الناضرة 1: 77.
3 - الكافي 7: 299 / 6، وسائل الشيعة 29: 352، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء،
الباب 44، الحديث 1.
4 - الفوائد المدنية: 128.
5 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 11 - 14.
393

وفيه أولا: أن بعض الانقسامات اللاحقة مما لا يمكن تقييد الأدلة به،
ولا يمكن فيه نتيجة التقييد مثل المقام، فإن أخذ القطع موضوعا بالنسبة إلى
نفس الحكم الذي تعلق به مستحيل بأي وجه كان.
وكيف يمكن أن يكون الحكم مختصا بالعالم به، مع كونه من الدور
الواضح؟ فإن العلم بالحكم يتوقف على ثبوته بالضرورة، فلو فرض اختصاصه
بالعالم - ولو بنتيجة التقييد - يصير الحكم متوقفا على العلم به. وبالجملة
فلا يرتفع إشكال الدور بذلك.
نعم، يمكن تقييد الأدلة ببعض الانقسامات اللاحقة بدليل آخر، كقصد
التقرب في العبادات، بناء على عدم إمكان التقييد اللحاظي، ولكنك عرفت في
مبحث التعبدي والتوصلي إمكانه، فضلا عن التقييد بدليل آخر.
وأما باب الجهر والإخفات، والقصر والإتمام فلا يكون من باب
الاختصاص، فإنه يمكن أن يكون عدم وجوب القضاء والإعادة من باب
التخفيف والتقبل، لا من باب صحة العمل ومطابقة المأتي به مع المأمور به،
كما نفينا البعد عنه في مثل حديث لا تعاد، بناء على عدم اختصاصه بالسهو (1).
وثانيا: أن التقييد اللحاظي - الذي حكم بأنه إذا امتنع امتنع الإطلاق، لأن
التقابل بينهما تقابل العدم والملكة - هل هو مقابل للإطلاق اللحاظي، أو أنه
يقابل نفس الإطلاق، من دون اتصافه بذلك.
فعلى الأول يرد عليه - مضافا إلى أن معنى الإطلاق، كما حققناه في
موضعه هو عبارة عن مجرد عدم لحاظ التقييد، ولا يحتاج إلى اللحاظ أصلا (2) -

1 - الفقيه 1: 225 / 991، وسائل الشيعة 6: 91، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن،
الباب 29، الحديث 5.
2 - مناهج الوصول 2: 315.
394

أن اللحاظين أمران وجوديان، والتقابل بينهما حينئذ يكون من قبيل تقابل
الضدين، لا العدم والملكة.
وعلى الثاني يرد عليه منع الملازمة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق،
لأن التقابل بينهما حينئذ وإن كان من قبيل تقابل العدم والملكة إلا أن ذلك
لا يقتضي ثبوت الملازمة.
وتوضيحه: أن المتعلق قد لا يمكن تقييده، لقصور فيه، بحيث لا يكون له
شأنية التقييد أصلا، وقد لا يمكن ذلك، لا لقصوره وعدم الشأنية، بل لمنع
خارجي، كلزوم الدور ونحوه. ففي الأول لا يمكن الإطلاق، لأن ذلك مقتضى
تقابل العدم والملكة في جميع الموارد، فإنه لا يقال للجدار أعمى، ولا يقال زيد
مطلق بالإطلاق الأفرادي، وهذا بخلاف الثاني، كما في المقام، فإن امتناع التقييد
ليس لعدم القابلية له، بل لمنع خارجي، وهو استلزامه للدور، وفي مثله يمكن
الإطلاق. وحينئذ فلا بأس بأن يقال: إن دليل اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل
هو إطلاقات الكتاب والسنة، ولا احتياج إلى التماس دليل آخر، ولذا تراهم
يتمسكون بها في كثير من الموارد، كما لا يخفى.
وثالثا: أن ما ذكره في القياس مما لا يتم، فإن من راجع الأدلة الناهية عن
العمل بالقياس يعرف أن المنع عنه إنما هو لأجل قصور العقول البشرية، وبعدها
عن الوصول إلى أحكام الله تعالى من قبل نفسه، وعدم حصول العلم منه
غالبا، لا لأجل الفرق بين العلم الحاصل منه والقطع الحاصل من غيره، فراجع
الأخبار الواردة في هذا الباب، المذكورة في كتاب القضاء من " الوسائل " (1).
ثم إنه حكى عن صاحب " المقالات " أنه ذهب إلى إمكان أخذ القطع

1 - وسائل الشيعة 27: 35، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.
395

بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم بنحو نتيجة التقييد بوجه آخر (1)، غير
الذي عرفت، فراجع كلامه، وتأمل في جوابه.
والتحقيق في المقام أن يقال: إنه تارة يؤخذ القطع بالحكم تمام الموضوع
لذلك الحكم، بمعنى أن الموضوع له إنما هو القطع، سواء أخطأ أو أصاب، فلا
مدخلية لوجود الحكم واقعا في تحقق موضوعه، واخرى يؤخذ بعض
الموضوع، بحيث كان الموضوع هو القطع الذي أصاب.
وإن شئت قلت: إن الموضوع هو الواقع المقطوع به، ففي الأول يمكن ذلك
بلا استلزام للدور أصلا، ضرورة أن الحكم، وإن كان يتوقف حينئذ على موضوعه
الذي هو القطع بالحكم، إلا أن الموضوع لا يتوقف على ثبوته أصلا، ضرورة أن
الموضوع إنما هو نفس القطع، وهو قد يحصل مع عدم تحقق المقطوع في الواقع،
إذ ليس كل قطع مصيبا، كما هو واضح.
وهذا بخلاف ما إذا اخذ بعض الموضوع، فإن تحقق القطع حينئذ وإن كان
لا يتوقف على ثبوت الحكم في الواقع، إلا أن المفروض هو عدم كونه تمام
الموضوع، بل قيد الإصابة معتبر فيه، وهو لا يتحقق بدون ثبوت الحكم في
الواقع، فصار تحقق الموضوع متوقفا على ثبوت الحكم في الواقع، وهو دور صريح.
حول قيام الأمارات والأصول مقام القطع
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه يقع البحث في قيام الطرق والأمارات والأصول
بنفس أدلتها مقام القطع بأقسامه، وفيه مقامان:

1 - نهاية الأفكار 3: 15.
396

الأول: في إمكان قيامها مقامه ثبوتا.
الثاني: في وقوعه إثباتا.
قيام الأمارات والأصول مقام القطع ثبوتا
أما المقام الأول: فالظاهر الإمكان وعدم لزوم محذور، عدا ما أفاده
المحقق الخراساني، وهو يرجع إلى إشكالين:
أحدهما: أن الدليل الواحد لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين، حيث لابد في
كل تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه، ولحاظهما في أحدهما آلي وفي الآخر
استقلالي، ضرورة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في الطريقية في
الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع
إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما (1)، هذا.
والجواب عنه هو ما ذكرناه جوابا عن الإشكال في إمكان أخذ القطع تمام
الموضوع على وجه الطريقية، كما عرفت سابقا، فراجع (2).
ثانيهما: ما ذكره، ردا على مقالته في " الحاشية "، حيث التزم فيها

1 - كفاية الأصول: 304.
2 - ويؤيده، بل يدل عليه حكم العقل بحجية القطع الطريقي، فإن القطع المأخوذ موضوعا
للحكم بالحجية وإن كان هو القطع الطريقي بنحو يكون تمام الموضوع لهذا الحكم،
ضرورة أنه لا فرق في الحجية بين ما إذا أصاب القطع أو أخطأ، إلا أنه لا ينافي ذلك مع
كون المراد هو القطع الطريقي الذي لا يكون ملحوظا عند القاطع إلا بنحو الآلية. ففي هذا
الحكم اجتمع بين كونه تمام الموضوع، وكونه هو القطع الطريقي، ومن المعلوم أنه لا
فرق بين هذا الحكم الذي يكون الحاكم به العقل وبين سائر الأحكام التي يكون الحاكم
بها الشرع من هذه الحيثية أصلا، كما لا يخفى. [المقرر حفظه الله].
397

لتصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع بأن دليل الاعتبار إنما
يوجب تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في
الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تعبدا منزلة القطع بالواقع
حقيقة (1).
وملخص ما أفاده في وجه الرد: أنه لا يكاد يصح تنزيل جزء من الموضوع
أو قيده بلحاظ أثره إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان، أو تنزيله
في عرضه. فلا يكاد يكون دليل الأمارة دليلا على تنزيل جزء الموضوع، ما لم
يكن دليل على تنزيل جزئه الآخر، ففي مثل المقام لا يكون دليل الأمارة دليلا
عليه، للزوم الدور، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على
تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى،
كما لا يخفى (2).
وفيه: أنه يكفي في صحة التنزيل الأثر التعليقي، وهو هنا متحقق، فإن
المؤدى لو انضمت إليه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي. فانقدح: أن الإمكان
وعدم لزوم أمر مستحيل من ذلك مما لا مجال للمناقشة فيه أصلا.
قيام الأمارات والأصول مقام القطع إثباتا
المقام الثاني: فيما يدل عليه أدلة الأمارات والأصول، فنقول:
أما الأمارات: فقد ذكر في التقريرات كلاما طويلا، وأسس بنيانا رفيعا

1 - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 31.
2 - كفاية الأصول: 306 - 307.
398

لقيامها بأدلة اعتبارها مقام القطع (1)، ولكنه خال عن الدليل، لعدم دلالة أدلة
حجية الأمارات على ما ذكره أصلا.
والتحقيق أن يقال: إن العمدة في أدلة حجية الأمارات هي بناء العقلاء بما
هم عقلاء على العمل على طبقها، وليس للشارع في اعتبارها تأسيس أصلا، كما
يظهر بمراجعة الأخبار الواردة في حجية خبر الواحد الذي هو من عمدة
الأمارات، فإنه لا يظهر من شئ منها ما يدل على حجية خبر الواحد، أو وجوب
تصديق العادل، أو نحوهما مما يشعر بكون الشارع جعل خبر الواحد طريقا إلى
الأحكام، بل التأمل فيها يقضي بكون ذلك أمرا مسلما عند الناس، بحيث لا يحتاج
إلى السؤال، لأن بنائهم في الأمور الدنيوية كلها أيضا على العمل بذلك.
وبالجملة: كون الدليل على ذلك هو مجرد بناء العقلاء، وعمل الشارع به
إنما هو لكونه منهم مما لا مجال للإشكال فيه. وحينئذ فنقول: لا إشكال في أن
الوجه في ذلك ليس لكون الظن عندهم بمنزلة القطع، ويقوم مقامه، فإن لهم
طرقا معتبرة يعملون بها في أمورهم، من غير تنزيل شئ منها مقام الآخر.
ومنه يظهر: أن الأثر المترتب على القطع الطريقي - وهو الحجية
والمنجزية للواقع على تقدير الثبوت - يترتب على تلك الطرق العقلائية، لكن لا
من باب كونها قائمة مقام القطع، ومنزلة بمنزلته. وتقدم القطع على سائر الطرق
العقلائية لا يؤيد دعوى التنزيل، فإن الوجه فيه إنما هو أن العمل على طبقها
إنما هو مع فقد العلم، وذلك لا يوجب انحصار الطريق في القطع، بحيث تكون سائر
الطرق قائمة مقامه، ويكون العمل بها بعناية التنزيل.
وأما القطع الموضوعي: فما كان منه مأخوذا في الموضوع على نعت

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 15.
399

الصفتية فلا إشكال في عدم قيام الظن مقامه، ولا في عدم ترتب آثاره عليه،
كما أنه لا إشكال في ذلك فيما لو كان القطع مأخوذا على وجه الطريقية التامة.
وأما لو كان مأخوذا في الموضوع بما أنه أحد الكواشف فلا ريب في ترتب
حكمه على الظن أيضا، لكن لا من باب كونه قائما مقامه، بل من باب كونه
أيضا مأخوذا في الموضوع، فإن المفروض أن القطع قد اخذ فيه بما أنه من
الكواشف، فمرجعه إلى كون الدخيل في الموضوع هو الكاشف بما هو كاشف،
والظن أيضا كالقطع يكون من مصاديقه، كما هو واضح، هذا حال الأمارات.
وأما الأصول، فمنها: الاستصحاب، ولا يخفى أن مفاد الأخبار الواردة في
بابه ليس إلا مجرد البناء العملي على بقاء المتيقن سابقا في زمان الشك، وترتيب
آثار البقاء في حاله، فهو أصل تعبدي مرجعه إلى مجرد بقاء المتيقن تعبدا،
والحكم بثبوته شرعا، وهذا المعنى لا ارتباط له بباب التنزيل وإقامته مقام
القطع أصلا، كما هو واضح.
نعم، لو كان مفاد أخبار الاستصحاب هي إطالة عمر اليقين ووجوب عدم
نقضه، بحيث يكون مرجعها إلى كون الشاك فعلا متيقنا شرعا وتعبدا لكان الظاهر
هو قيام الاستصحاب مقام القطع بجميع أقسامه. لكن الأمر ليس كذلك، كما
سنحققه إن شاء الله تعالى في موضعه (1).

1 - ومنها: أصالة البراءة الشرعية التي هي مقتضى مثل حديث الرفع، ومن الواضح أن
مفادها رفع التكليف من جهة عدم تعلق العلم به، وكونه مجهولا، ولا دلالة لها على
التنزيل منزلة اليقين بوجه.
ومنها: الأصول العملية العقلية، كأصالة البراءة، وأصالة التخيير، ومن المعلوم أن
مقتضاها مجرد الحكم بقبح العقاب مع فرض الجهل بالحكم، وعدم ثبوت البيان
بالإضافة إليه، ولا معنى لاقتضائها التنزيل، كما إن مقتضى أصالة التخيير ثبوته لأجل
الجهل، وعدم ثبوت الترجيح بوجه، وهو لا يرتبط بالتنزيل أصلا، كما لا يخفى. [المقرر
حفظه الله].
400

ومنها: قاعدتا التجاوز والفراغ، ولا يخفى أن التأمل في الأخبار الواردة
فيهما يعطي أن مفادها ليس إلا مجرد البناء عملا على تحقق المشكوك، والحكم
بثبوته في محله.
فانظر إلى ما ورد في رواية حماد، بعد سؤاله عنه (عليه السلام) أشك، وأنا
ساجد، فلا أدري ركعت أم لا من قوله (عليه السلام): " قد ركعت " (1). فهذا المضمون
ونظائره ظاهر في مجرد فرض تحقق الشئ المشكوك، والبناء عليه عملا، ولا
نظر في أدلتهما إلى جعل المكلف مقام القاطع، والحكم بكونه مثله، بحيث لو
ورد دليل كان القطع مأخوذا في موضوعه، كقوله مثلا: إذا قطعت بالركوع فعليك
كذا وكذا يكون مفاده شاملا للمكلف الشاك في الركوع المتجاوز عن محله، أو
الفارغ عن العمل، نظرا إلى تلك الأدلة.
وبالجملة: فالظاهر عدم الإشكال في أنه ليس شئ من أدلة الأصول
ناظرا إلى التنزيل، وبصدد جعل المكلف قاطعا تعبدا. نعم، لو فرض كون مفادها
ذلك فالظاهر أنه لا فرق بين القطع الطريقي والموضوعي، ولا فرق في الثاني
أيضا بين ما كان مأخوذا على وجه الصفتية وما كان مأخوذا على نعت
الطريقية، كما هو واضح.

1 - تهذيب الأحكام 2: 151 / 594، وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب
الركوع، الباب 13، الحديث 2.
401

حكم الظن في المقام
الأمر الرابع
حكم الظن في المقام
قد عرفت حكم القطع المأخوذ في موضوع نفس الحكم المقطوع به أو
مثله أو ضده، فاعلم: أن حكم الظن أيضا مثله، فيجوز أن يكون مأخوذا
موضوعا تاما لنفس الحكم المظنون أو لضده أو مثله، لعدم لزوم الدور أصلا،
وعدم لزوم اجتماع المثلين أو الضدين.
نعم، لو كان مأخوذا في الموضوع ناقصا، بحيث كان الموضوع مركبا منه
ومن الشئ المظنون. وبعبارة أخرى: كان قيد الإصابة معتبرا فيه فلا يجوز أصلا،
للزوم الدور فيما إذا كان مأخوذا في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون، ولزوم
اجتماع المثلين أو الضدين فيما إذا كان مأخوذا في موضوع مثل ذلك الحكم أو ضده.
ثم لا يخفى أن التعبير بكلمة التضاد إنما هو لأجل متابعتهم، وإلا فقد عرفت
في بعض المباحث المتقدمة أن ما اشتهر بينهم من كون النسبة بين الأحكام هي
التضاد مما لا وجه له، ولعله يجئ فيما بعد، ولكن ذلك لا يضر بعدم الجواز في
مورد اجتماع الحكمين، لأن اجتماعهما مستحيل، ولو لم نقل بثبوت التضاد، كما
لا يخفى.
402

الموافقة الالتزامية
الأمر الخامس
الموافقة الالتزامية
هل القطع بالحكم يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية، كما يقتضي وجوب
الموافقة العملية أم لا؟
والتحقيق أن يقال: إن الموافقة الالتزامية الراجعة إلى عقد القلب
والالتزام بشئ، والانقياد والتسليم له إنما هي من الأحوال القلبية والصفات
النفسانية - كالخضوع والخشوع والرجاء والخوف ونظائرها - وتحقق تلك
الأوصاف وتحصلها في النفس إنما يكون قهريا، تبعا لتحقق مبادئها، ويستحيل أن
توجد بدون حصول المبادئ، لأنها ليست من الأفعال الاختيارية الحاصلة
بالإرادة والاختيار، لأنها تابعة لمبادئها، فإذا حصلت تتبعها تلك الحالات قهرا،
وإذا لم يحصل لا تتحقق أصلا.
مثلا العلم بوجود المبدء وعظمته وجلالته يوجب الخضوع والخشوع له
تعالى، ولا يمكن أن يتخلف عنه، كما أن مع عدم تحققه يمتنع أن يتحققا،
لوضوح استحالة عقد القلب على ضد أمر محسوس، كالالتزام القلبي بعدم كون
النار حارة، والشمس مشرقة، وكما لا يمكن ذلك لا يمكن الالتزام بضد أمر
403

تشريعي.
والمراد من الكفر الجحودي في قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) * (1) ليس الالتزام على خلاف اليقين الحاصل للنفس، بل هو مجرد
الإنكار اللساني. ومن هنا يظهر أن ما اشتهر بينهم من حرمة التشريع مما لا
محصل له إن كان المراد من التشريع هو البناء القلبي على كون حكم من الشرع
مع العلم بأنه ليس منه. وبالجملة: أن الموافقة الالتزامية ليست من الأمور
الاختيارية، حتى يبحث في وجوبها وعدمه.
وحكي عن بعض الأعاظم: أنه قال بثبوت التجزم في القضايا الكاذبة،
وأنه هو المناط في صيرورة القضايا مما يصح السكوت عليها، وأن العقد القلبي
على طبقها يكون اختياريا (2).
ووجهه بعض المحققين من المعاصرين بأن مراده: أنه كما أن العلم قد
يتحقق في النفس بوجود أسبابه، كذلك قد يخلق النفس حالة وصفة على نحو
العلم، حاكية عن الخارج، فإذا تحقق هذا المعنى في الكلام يصير جملة يصح
السكوت عليها، لأن تلك الصفة الموجودة يحكي جزما عن تحقق النسبة في
الخارج (3).
ويرد عليه: أن العلم والجزم ليسا من الأمور الاختيارية، فإنهما من
الأمور التكوينية التي لا تتحصل إلا بعد تحقق أسبابها، لوضوح استحالة الجزم
مثلا بأن الواحد ليس نصف الاثنين، كما لا يخفى. وأما القضايا الكاذبة فإنما هي
بصورة الجزم. والمناط في صحة السكوت هو الإخبار الجزمي، لا الجزم

1 - النمل (27): 14.
2 - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 70.
3 - نفس المصدر.
404

القلبي، ولذا لو أظهر المتكلم ما هو المقطوع به بصورة الترديد لا تصير القضية
مما يصح السكوت عليها. وبالجملة: فلا ريب في عدم كون الموافقة الالتزامية
ونظائرها من الأمور القلبية تابعا في تحققه للإرادة والاختيار أصلا.
ثم إنه بناء على ما ذكرنا من كون الموافقة الالتزامية ليست من الأمور
الاختيارية، بل إنما تتحقق قهرا عند حصول مبادئها تكون الموافقة الالتزامية
على طبق العلم بالأحكام، فإن كان العلم متعلقا بحكم تفصيلا يكون الالتزام به
أيضا كذلك، وإن كان العلم إجماليا يكون الالتزام أيضا كذلك، كما أن الالتزام قد
يكون بالحكم الظاهري، إذا كان العلم أيضا متعلقا به، وقد يكون بالحكم
الواقعي، إذا كان متعلقا للعلم. وكما أن جعل الحكم الواقعي والظاهري في مورد
واحد، وتعلق العلم بهما مما لا مانع منه، كذلك الالتزام بهما في ذلك المورد مما
لا مانع منه أصلا.
ومن هنا يظهر: أنه لا مانع من قبل لزوم الالتزام في جريان الأصول في
أطراف العلم الإجمالي، كما أن جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي، لأنه
تابع للعلم به، وجريانها لا ينافيه أصلا. وبالجملة: فمسألة جريان الأصول في
أطراف الشبهة المحصورة لا ارتباط لها بمسألة الموافقة الالتزامية، كما
لا يخفى.
405

العلم الإجمالي
الأمر السادس
أحكام العلم الإجمالي
قد عرفت: أن العلم التفصيلي يكون علة تامة لتنجز التكليف، فهل القطع
الإجمالي أيضا كذلك، أم لا؟ ولا يخفى أن الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي يقع
في مقامين: أحدهما فيما يرجع إلى ثبوت التكليف به، وثانيهما فيما يتعلق
بمرحلة سقوط التكليف به.
المقام الأول: في تنجز التكليف بالعلم الإجمالي
فقد يقال بأن العلم الإجمالي لا يؤثر في تنجز التكليف أصلا، ويكون
حاله حال الشبهة البدوية، لأن موضوع حكم العقل في باب المعصية هو ما
إذا علم المكلف حين إتيانه أنه معصية فارتكبه، ومن المعلوم أن المرتكب
لأطراف العلم الإجمالي لا يكون كذلك، لأنه لا يعلم بالمعصية إلا بعد إتيان جميع
الأطراف في الشبهة المحصورة التحريمية (1).

1 - انظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 75.
406

هذا، ولكن يرد هذا الكلام العقل السليم، فإنه لا فرق في نظره بين قتل ابن
المولى مثلا مع كونه معلوما تفصيلا، وبين قتله في ضمن عدة في قبحه عند
العقل. وبالجملة: لا إشكال في حرمة المخالفة القطعية وقبحها عند العقل
مطلقا، ومن المعلوم أن ارتكاب جميع الأطراف مخالفة قطعية لتكليف المولى.
هذا، وذكر في " الكفاية " ما حاصله: أن التكليف، حيث لم ينكشف به
تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه فجاز الإذن من
الشارع بمخالفته احتمالا، بل قطعا. ومحذور المناقضة بينه وبين المقطوع
إجمالا إنما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي في الشبهة
الغير المحصورة، بل الشبهة البدوية، ضرورة عدم تفاوت بينهما أصلا. فما به
التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في المقام، نعم، العلم الإجمالي
كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية التامة، فيوجب تنجز التكليف مالم
يمنع عنه مانع عقلا أو شرعا (1)، انتهى ملخصا.
وأنت خبير بأن مورد البحث في المقام إنما هو فيما إذا كان المعلوم
الإجمالي تكليفا فعليا، ضرورة أن التكليف الإنشائي لا يصير متنجزا، ولو تعلق
به العلم التفصيلي، فضلا عن العلم الإجمالي. فالكلام إنما هو في التكليف الذي
لو كان متعلقا للعلم التفصيلي لما كان إشكال في تنجزه، ووجوب موافقته،
وحرمة مخالفته. غاية الأمر: أنه صار معلوما بالإجمال.
وحينئذ فمن الواضح: أنه لا يعقل مع ثبوت التكليف الفعلي الإذن في
ارتكاب بعض الأطراف، فضلا عن جميعها، بل لا يعقل ذلك مع احتماله،
لاستحالة اجتماع القطع بالإذن في الارتكاب، واحتمال التحريم الفعلي، لأن

1 - كفاية الأصول: 313 - 314.
407

مرجعه إلى إمكان احتمال الجمع بين المتناقضين.
وتوهم: أنه لا مانع من اجتماع التكليف الفعلي مع الإذن في الارتكاب -
بعد كون متعلقهما مختلفين - لأن متعلق التحريم الفعلي المعلوم إنما هو الخمر
الواقعي، ومتعلق الإذن هو الخمر المشكوك، أي مشكوك الخمرية، ومن المعلوم
أن بين العنوانين عموما من وجه. وقد حقق في مبحث اجتماع الأمر والنهي
القول بالجواز في تلك الصورة.
مدفوع: بأن محل النزاع في تلك المسألة هو ما إذا كان تكليف متوجها إلى
طبيعة، وتكليف آخر متوجها إلى طبيعة أخرى بينهما إمكان التصادق في
الخارج، من دون أن يكون في أحدهما نظر إلى ثبوت الآخر، وهذا بخلاف
المقام، فإن الترخيص في ارتكاب مشكوك الخمرية إنما هو بملاحظة ثبوت
الحرمة للخمر الواقعي، ضرورة أنه لو لم يكن الخمر الواقعي متعلقا للتحريم لما
كان وجه في ترخيص مشكوك الخمرية، وقد عرفت أن مع ثبوت فعلية الحرمة
لايبقى مجال للترخيص أصلا، ولا يجدي في ذلك اختلاف العنوانين على هذا النحو.
المقام الثاني: في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي
ولا يخفى أن محل الكلام في هذا المقام إنما هو في أن مجرد الترديد في
ناحية الامتثال، وعدم العلم تفصيلا بكون المأمور به الواقعي هل هي صلاة
الظهر أو الجمعة - مثلا - هل يوجب تحقق الامتثال عند العقل أم لا، وأما لو
فرض أن الامتثال الإجمالي يستلزم عدم تحقق المأمور به بجميع أجزائه
وشرائطه، لكونه مقيدا بما لا ينطبق إلا مع الامتثال التفصيلي فهو خارج عن
مفروض البحث، لأن مورده - كما عرفت - هو صورة تحقق المأمور به تاما، من
حيث القيود، غاية الأمر أنه لا يعلم به تفصيلا.
408

ومن هنا يظهر: أن الإشكال في الاكتفاء به من جهة الإخلال بالوجه أو
بالتمييز مما لا يرتبط بالمقام، لأن مرجعه إلى الامتثال الإجمالي يستلزم عدم
تحقق المأمور به بتمام قيوده، لإخلاله بالوجه أو التمييز المعتبر فيه، فيتوقف
تحققه بأجمعه على الامتثال التفصيلي، وقد عرفت أن ذلك خارج عن موضوع
البحث.
نعم، في الاكتفاء به في مقام الامتثال إشكالان واردان على مورد البحث:
أحدهما: كون الامتثال الإجمالي لعبا وعبثا بأمر المولى (1). ولكنه مردود،
مضافا إلى أنه ربما يكون ذلك لداع عقلائي، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي
أشق عليه من الاحتياط. إنما يضر ذلك إذا كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية
إطاعته، بعد حصول الداعي إليها، ضرورة أن خصوصيات الإطاعة وكيفياتها
إنما هي بيد المكلف، ولا يعتبر فيها الداعي الإلهي، كما هو واضح.
ثانيهما: أن رتبة الامتثال العلمي الإجمالي متأخرة عن رتبة الامتثال
العلمي التفصيلي، لأن حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى،
بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به، وانطباق المأمور
به عليه، وهذا المعنى غير متحقق في الامتثال الإجمالي، لأن الداعي له نحو
العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به. نعم،
الانبعاث عن احتمال البعث وإن كان أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن
رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي. هذا ملخص ما أفاده بعض الأعاظم على ما
في تقريرات بحثه (2).

1 - فرائد الأصول 2: 508.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 72 - 73.
409

ويرد عليه أولا: أن الانبعاث في موارد العلم التفصيلي أيضا لا يكون عن
البعث، لا عن وجوده الواقعي، وهو واضح، ولا عن العلم به، بل الانبعاث إنما
يتحقق بعد العلم بالبعث، وبما يترتب على مخالفته من العقوبة، وعلى موافقته
من المثوبة، مضافا إلى أن الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة هو العقل، ومن
الواضح أن المكلف المنبعث عن مجرد احتمال البعث أقوى عنده في صدق عنوان
المطيع ممن لا ينبعث إلا بعد العلم بثبوت البعث.
وثانيا نقول: إن الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي إنما هو عن العلم
بالبعث، ضرورة أنه لو لم يكن العلم به - ولو إجمالا - متحققا لم يتحقق الانبعاث
من كثير من الناس، الذين لا ينبعثون في موارد احتمال البعث أصلا، كما لا يخفى.
فظهر من ذلك أن الامتثال الإجمالي والتفصيلي كليهما في رتبة واحدة.
ثم إنهم تعرضوا هنا لبعض المباحث الاخر مما يرتبط بباب الاشتغال،
ونحن نحيلها إلى ذلك الباب، ونتكلم فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
هذا تمام الكلام في مباحث القطع.
410

المقصد السابع
في أحكام الظن
والكلام فيه يقع في ضمن مقامات:
411

إمكان التعبد بالظن
المقام الأول
في إمكان التعبد بالظن
ولا يخفى أن عقد هذا المقام في كلام القوم إنما هو للرد على ابن قبة القائل
بالاستحالة، مع أن دليله الأول الذي استدل به يدل على أن مراده هو نفي
الوقوع، لتمسكه بالإجماع (1)، فراجع.
المراد من " الإمكان " المزبور
وهل المراد بالإمكان هو الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي، أو
الإمكان الوقوعي الذي يقابل الامتناع الوقوعي، وهو الذي لا يلزم من وجوده
محال؟ الظاهر هو إمكان تقرير الكلام في كليهما، كما أنه يمكن أن يدعي القائل
بالاستحالة كلا منهما، لأنه يجوز أن يدعي أن معنى التعبد على طبق الأمارة هو
جعل حكم مماثل لها، سواء كانت مطابقة أو مخالفة، وحينئذ يلزم اجتماع
الضدين أو المثلين، وهما من الممتنعات الذاتية بلا إشكال، ويمكن أن يدعي

1 - انظر فرائد الأصول 1: 40.
413

بنحو يوجب وقوعه تحقق المحال، كما سيجئ.
وكيف كان: فاللازم هو البحث في كل منهما، ولا يخفى أن إثبات الإمكان
بأحد معنييه مما يحتاج إلى إقامة برهان، ومن المعلوم أنه لا برهان له. ولكن
الذي يسهل الخطب: أنه لا احتياج إلى إثبات الإمكان، ضرورة أن ما هو
المحتاج إليه إنما هو رد أدلة الامتناع، لأنه إذا لم يدل دليل على الامتناع فمع
فرض قيام دليل شرعي على التعبد بالأمارات نعمل على طبقه، ولا يجوز لنا رفع
اليد عن ظاهره، وهذا بخلاف ما لو دل دليل عقلي على الامتناع، فإنه يجب
صرف دليل الحجية والتعبد عن ظاهره، كما هو الشأن في جميع الموارد التي قام
الدليل العقلي على خلاف ظواهر الأدلة الشرعية. فالمهم في المقام هو رد أدلة
الامتناع، ليستكشف من دليل التعبد الإمكان الوقوعي، لا إثبات الإمكان.
ومن هنا يظهر: أن الإمكان الذي يحتاج إليه في المقام هو الإمكان الواقع
في كلام شيخ الرئيس، وهو قوله: " كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة
الإمكان مالم يذدك عنه قائم البرهان " (1)، لما عرفت من أن رد أدلة الامتناع
الموجب لثبوت احتمال الجواز يكفي في هذا الأمر، لأنه لا موجب معه من
صرف دليل التعبد عن ظاهره، كما لا يخفى. فالأولى في عنوان البحث أن يقال:
" في عدم وجدان دليل على امتناع التعبد بالأمارة الغير العلمية ".
وأما جعل البحث في الإمكان فمضافا إلى عدم الاحتياج إليه يرد عليه ما
عرفت من عدم إقامتهم الدليل على إثباته، مع أنه أيضا كالامتناع في الاحتياج
إلى الدليل، فتدبر.
ثم إنه ذكر بعض الأعاظم - على ما في تقريرات بحثه -: أن المراد

1 - الإشارات والتنبيهات 3: 418.
414

بالإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي، يعني أن من التعبد
بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في
المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك من
التوالي الفاسدة المتوهمة في المقام، أو أنه لا يلزم شئ من ذلك؟ وليس المراد
من الإمكان هو الإمكان التكويني، بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور
في عالم التكوين، فإن الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام (1).
وفيه أولا: أن الإمكان التشريعي ليس قسما مقابلا للأقسام المتقدمة، بل
هو من أقسام الإمكان الوقوعي الذي معناه عدم لزوم محال من وقوعه. غاية
الأمر: أن المحذور الذي يلزم قد يكون تكوينيا وقد يكون تشريعيا، وهذا
لا يوجب تكثير الأقسام، وإلا فيمكن التقسيم بملاحظة أن الممكن قد يكون ماديا
وقد يكون غيره، وبملاحظة الجهات الأخر.
وثانيا: أن أكثر المحذورات المتوهمة في المقام محذور تكويني، لا يعقل
تحققه في عالم التكوين، كاجتماع الحب والبغض، والإرادة والكراهة،
والمصلحة والمفسدة في شئ واحد.
حول استدلال " ابن قبة " على عدم إمكان التعبد
ثم إنه استدل ابن قبة القائل باستحالة التعبد بخبر الواحد، بل بمطلق
الأمارات، كما يظهر من بعض أدلته بوجهين:
أحدهما: أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد في الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجاز
التعبد به في الإخبار عن الله تعالى، والتالي باطل إجماعا.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 88.
415

ثانيهما: أن العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، إذ لا يؤمن أن
يكون ما أخبر بحليته حراما، وبالعكس (1).
والجواب عن الوجه الأول: أن دعوى الملازمة تبتني على كون الإخبار
عن الرسول والإخبار عن الله مثلين، لعدم اختلاف الإخبار بواسطة اختلاف
المخبر به، وكونه هو الله سبحانه أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمرجعه إلى أن الإجماع
قام على نفي حجية الإخبار مطلقا، سواء كان عن الله أو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
عن الأئمة (عليهم السلام). وسيأتي الجواب عن الإجماعات المنقولة على عدم حجية
الخبر الواحد، ولو كان اختلاف المخبر به دخيلا في ذلك، بمعنى أن معقد
الإجماع إنما هو خصوص الإخبار عن الله تعالى، لا عن غيره.
فيرد عليه منع الملازمة، لأنه قياس صرف، خصوصا مع وجود الفارق
بينهما، وهو أن التعبد بالإخبار عن الله تعالى موجب للإلقاء في المفسدة
الكثيرة، ضرورة أن ذلك يوجب تحقق الدواعي الكثيرة من المعتصمين بالأهوية
العاليات والمتحركين بتحريك الشهوات، لعدم ثبوت الموازين التي عليها يعتمد،
وبها يتميز الصحيح عن غيره. وهذا بخلاف الإخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو
الأئمة (عليهم السلام).
هذا، مضافا إلى أن الإجماع إنما قام على عدم الوقوع، لا على الامتناع،
كما لا يخفى.
والجواب عن الوجه الثاني أن يقال: إن هذا الوجه ينحل إلى محذورات،
بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام، كاجتماع المفسدة والمصلحة الملزمتين،
وبعضها راجع إلى مبادئ الخطابات، كاجتماع الإرادة والكراهة، والحب

1 - انظر فرائد الأصول 1: 40.
416

والبغض، وبعضها راجع إلى نفس الخطابات، كاجتماع الضدين أو النقيضين أو
المثلين، وبعضها راجع إلى لازم الخطابات، كالإلقاء في المفسدة وتفويت
المصلحة، والواجب دفع المحذورات بأجمعها فنقول:
الجواب عن محذور تفويت المصلحة
أما محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، فيتوقف على الالتزام
بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، وبأن المجعول في باب
الأمارات نفس الطريقية المحضة، وإلا لم يلزم تفويت الملاك أصلا.
وقد يقال - كما في التقريرات - بتوقفه أيضا على كون باب العلم منفتحا،
وأما في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت، بل لابد من التعبد به، فإن
المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال الانسداد، إلا بالاحتياط التام.
وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام (1).
ولكن يرد عليه: عدم اختصاص المحذور بصورة الانفتاح، بل يجري في
صورة الانسداد أيضا، فإن التفويت والإلقاء يلزم من رفع وجوب الاحتياط الذي
يحكم به العقل، وترخيص العمل على طبق الأمارات، ضرورة أنه لو لم يكن
التعبد على طبق الأمارات، ولم يرد من الشارع الترخيص في رفع الاحتياط لكان
حكم العقل وجوب الاحتياط في جميع الأطراف، فلم يلزم فوت المصلحة أو
أخذ المفسدة، كما لا يخفى.
وكيف كان، فالتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا بأس بالتفويت والإلقاء إذا

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 90.
417

كانت مصلحة التعبد بالعمل على طبق الأمارات أقوى، كما أن الأمر كان كذلك
في زمان الانفتاح، ضرورة أنه لو كان كل من الناس مكلفا بالمراجعة إلى
الإمام، والسؤال من شخصه يلزم بطلان أساس الشريعة، لأن مع عدم مراجعة
الشيعة إليهم إلا قليلا منهم كانوا (عليهم السلام) في أعلى مراتب المحدودية من طرف
الخلفاء الأموية والعباسية، بحيث لا يمكن لهم بيان الأحكام إلا في الخفاء
بالنسبة إلى أشخاص معدودة، فكيف إذا كان تكليف الشيعة تحصيل العلم
بالأحكام من طريق السؤال عن الإمام (عليه السلام)؟
وحينئذ فيجوز للشارع أن يجعل الأمارات الغير العلمية حجة، نظرا إلى
بقاء الشريعة، ومن المعلوم أن المصلحة الفائتة من عدم إيجابه تحصيل العلم
بالسؤال عنهم (عليهم السلام) بالنسبة إلى جماعة من المتشرعين بها فانية في مقابل
مصلحة بقاء الشريعة، كما هي واضح.
وأما في زمان الانسداد فلا إشكال في أن طريق تحصيل العلم ينحصر
بالاحتياط التام، كما ذكرنا. والتفويت المتوهم إنما يلزم من عدم إيجاب الشارع
ذلك الاحتياط، ضرورة أنه لو أوجبه - كما هو مقتضى حكم العقل - لم يلزم
تفويت أصلا.
فلنا أن نقول: إن عدم إيجاب الشارع يمكن أن يكون لأجل علمه بأنه لو
أوجب ذلك، مع تعسره - كما لا يخفى - لكان الناس يرغبون عن أصل الشريعة،
ويخرج الدين عن كونه سمحة سهلة، كيف فنحن نرى بالوجدان أن في هذا
الزمان - مع سهولة العمل بالأحكام - لا يعملون بأكثرها، كما لا يخفى.
وقد عرفت: أن مجرد الإمكان بمعنى الاحتمال يكفينا في هذا المقام، إذ
لسنا بصدد إثبات الإمكان الوقوعي، لعدم الاحتياج إليه، كما تقدم.
418

دفع المحذور بناء على المصلحة السلوكية
ثم إنه أجاب الشيخ العلامة الأنصاري (قدس سره) عن الإشكال بالتزام المصلحة
السلوكية (1)، وفصل ذلك المحقق النائيني - على ما في التقريرات - فقال ما
ملخصه: إن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور على وجوه:
الأول: أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى، تستتبع الحكم
على طبقها، بحيث لا يكون وراء الأمارة حكم في حق من قامت عنده الإرادة
فتكون الأحكام الواقعية مختصة بالعالم بها. وهذا هو التصويب الأشعري الذي
قامت الضرورة على خلافه.
الثاني: أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى أيضا أقوى من
مصلحة الواقع، بحيث يكون الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو
المؤدى، وإن كان في الواقع أحكام يشترك فيها العالم والجاهل على طبق
المصالح والمفاسد النفس الأمرية، إلا أن قيام الأمارة على الخلاف يكون من
قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانوية المغيرة لجهة الحسن والقبح، نظير
الضرر والحرج، وهذا هو التصويب المعتزلي الذي يتلو الوجه السابق في الفساد
والبطلان، لقيام الإجماع على خلافه.
الثالث: أن يكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك، مع بقاء
الواقع والمؤدى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة، من دون أن يحدث
في المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة، بل المصلحة إنما تكون في تطرق
الطريق، وسلوك الأمارة، وتطبيق العمل على مؤداها، والبناء على أنه الواقع.

1 - فرائد الأصول 1: 44.
419

وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات على المكلف من مصلحة الواقع
بسبب قيام الأمارة على خلافه (1)، انتهى ملخصا.
وفيه أولا: أنه لا معنى لسلوك الأمارة وتطرق الطريق إلا العمل على طبق
مؤداها، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة مثلا فسلوك هذه الأمارة وتطرق
الطريق ليس إلا الإتيان بصلاة الجمعة، إذ التصديق الغير العملي لا يصدق عليه
السلوك على طبقها، بل يتوقف ذلك على جعل العمل مطابقا لها، الذي هو عبارة
أخرى عن الإتيان بمؤداها. ومن الواضح أن التغاير بين المؤدى والإتيان به ليس
إلا بالاعتبار، لتغاير بين الإيجاد والوجود. وحينئذ فلم يبق فرق بين الوجه
الثالث والوجه الثاني الذي قامت الضرورة والإجماع على خلافه.
وثانيا: أن الأمارات الشرعية غالبها، بل جميعها أمارات عقلائية يعمل
بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم، ومن الواضح أن الأمارات العقلائية طرق
محضة، لا مصلحة في سلوكها أصلا، إذ ليس المقصود بها إلا مجرد الوصول إلى
الواقع، من دون أن يكون في سلوكها مصلحة، كما هو واضح لا يخفى.
هذا ما يتعلق بالجواب عن محذور التفويت والإلقاء.
الجواب عن محذور اجتماع المثلين أو الضدين
وأما اجتماع المثلين أو الضدين أو النقيضين، فلا يخفى أنه يمكن توجيهه
بنحو لا يرد عليه ما حققناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي، من عدم ثبوت
التضاد بين الأحكام أصلا، بأنه كيف يجتمع الإرادة الحتمية من المولى بفعل
شئ أو تركه، مع جعله قول العادل حجة، الراجع إلى الترخيص في الترك أو

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 95 - 96.
420

الفعل، إذا قام على نفي الوجوب أو الحرمة.
وبعبارة أخرى: معنى كون الشئ واجبا في الواقع أنه أراد المولى بالإرادة
الحتمية أن يوجده المكلف في الخارج، وبعثه إليه بالبعث الفعلي، ومعنى
حجية قول العادل جواز تطبيق العمل على طبق إخباره ومتابعة قوله، فإذا أخبر
بعدم وجوب ما يكون واجبا في الواقع فمعنى حجية قوله يرجع إلى كون
المكلف مرخصا في تركه، وحينئذ فكيف يجتمع البعث الحتمي إلى الفعل
والإرادة الحتمية مع الترخيص في الترك.
ومن هذا التوجيه يظهر: أن أكثر الأجوبة التي أوردها الأعاظم في كتبهم
مما لا يرتبط بالإشكال، ضرورة أن دعوى عدم كون المقام مشتملا على حكمين،
لأن الحجية غير جعل الحكم، أو دعوى كون الحكم المجعول هو الحكم
الطريقي الغير المنافي للحكم الواقعي، أو غيرهما من الأجوبة التي سيأتي
التعرض لبعضها مما لا يرتبط بالإشكال، لأن بعد تسليم تلك الأجوبة يبقى
الإشكال بحاله، كما لا يخفى.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه لا إشكال في كون الأحكام الواقعية
الفعلية مجعولة على جميع المكلفين، من دون أن يكون للعلم دخل في فعليتها،
لما عرفت في بعض المباحث السابقة من أن المراد بالحكم الفعلي ليس إلا
الأحكام التي أعطيت بيد الإجراء، وكان المقصود بها أن يأخذها الناس، ويعملوا
بها.
وهذا لا فرق فيه بين أن يكون المكلف عالما بها أو جاهلا، مضافا إلى أن
أخذ العلم بالحكم في موضوعه مستحيل بداهة.
فالأحكام الفعلية ثابتة بالنسبة إلى جميع المكلفين، كما أنها ثابتة
بالنسبة إلى القادر والعاجز، ولا اختصاص لها بخصوص القادر. نعم، حيث
421

يكون الجهل والعجز من الأعذار العقلية، لعدم إمكان الانبعاث بالبعث مع الجهل
به، أو عدم القدرة على الإتيان بالمبعوث فلا محالة لا يكون المكلف معاقبا على
المخالفة ومذموما عليها، وقد حققنا في مبحث الترتب من مباحث الألفاظ أن
التكليفين باقيان على فعليتهما في صورة التزاحم. غاية الأمر: أن عجز المكلف
صار سببا لكونه معذورا في مخالفة أحدهما، لعدم قدرته على امتثالهما.
نعم، بينه وبين المقام فرق، وهو أن مخالفة المكلف في المقام - إذا
أخطأت الأمارة - لا تكون مستندة إلى عذر عقلي، لأنه لو لم تكن الأمارة حجة
من قبل الشارع لما وقع المكلف في مخالفة الواقع، لأنه كان يعمل بمقتضى
الاحتياط الواجب بحكم العقل في موارد العلم الإجمالي. وحينئذ فتكون
المخالفة مستندة إلى اعتبار الشارع قول العادل، وأمثاله من الأمارات.
وحينئذ فيمكن أن يقال: بمثل ما مر في الجواب عن محذور التفويت
والإلقاء من أن جعل الشارع واعتباره للأمارات يمكن أن يكون بملاحظة أنه لو
لم تكن الأمارة حجة من قبل الشارع لكان مقتضى حكم العقل وجوب الاحتياط
على الناس، وحينئذ فيلزم الحرج الشديد، والاختلال العظيم، الموجب لرغبة
أكثر الناس عن الشريعة، وخروجها عن كونها سمحة سهلة، وذلك يوجب انتفاء
المصلحة العظيمة، وهي مصلحة بقاء الشريعة.
فاعتبار قول العادل الراجع إلى الترخيص فيما لو أدى على خلاف الواقع،
وقام على نفي وجوب الواجب الواقعي ليس إلا لملاحظة حفظ الشرع الذي
يكون ذا مصلحة عظيمة، فيرخص في ترك صلاة الجمعة الواجبة واقعا
القائمة على نفي وجوبها الأمارة، لا لعدم كونها ذا مصلحة ملزمة، بل لرفع اليد
عن مصلحتها في مقابل المصلحة التي هي أقوى منها بمراتب.
فوجوب صلاة الجمعة وإن كان حكما فعليا إلا أن الشارع يرفع اليد عن
422

مثله من بعض الأحكام الفعلية لأجل مصلحة هي أقوى المصالح وأتمها، فهو
نظير من يقطع يده لأجل حفظ نفسه فيما لو توقف عليه، فقطع اليد وإن لم يكن ذا
مصلحة - بل يكون عين المفسدة - إلا أن معارضته مع شئ آخر أقوى منه
أوجب الإقدام عليه، مع كونه ذا مفسدة، كما لا يخفى.
ثم إن ما ذكرنا: يجري في جميع الأمارات والأصول، ولا اختصاص له
بالأول، فإن اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز، وإلغاء الشك بعد الوقت، وعدم
وجوب ترتيب الأثر عليه، مع أن ذلك قد يؤدي إلى عدم الإتيان بالمأمور به -
بعضا أو كلا - يمكن أن يكون لملاحظة أن تفويض الناس إلى ما يقتضيه عقولهم
من ثبوت الاشتغال إلى أن يعلم الفراغ ربما يوجب تنفر الناس وإعراضهم عن
أصل الشريعة، لعدم تحقق العلم لهم بإتيان التكاليف واجدة لجميع ما يعتبر فيها،
إلا قليلا، ضرورة أن أكثرهم في شك من ذلك غالبا. فهذه المصلحة التي هو أقوى
المصالح أوجبت رفع اليد عن بعض المصالح الضعيفة، وإن كان الحكم على
طبقها حكما فعليا، وكان الإتيان بها محبوبا للمولى في نفسها، كما لا يخفى.
فتلخص من جميع ذلك: أن الحكم الواقعي الفعلي عند قيام الأمارة على
خلافه يخرج عن الفعلية، بمعنى أن المولى لا يريد إجرائه، فيصير كالأحكام
الإنشائية التي لا يكون المقصود بها عمل الناس على طبقها، إلا في زمان ظهور
دولة الحق بقيام صاحب الأمر (عليه السلام)، كالحكم بنجاسة العامة على ما في بعض
الروايات.
وأما ما أفاده بعض محققي العصر - على ما في تقريرات بحثه -: من أنه
لا يعقل الحكم الإنشائي، بل الذي يكون في الواقع هو إنشاء الأحكام، وهو عبارة
عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من
القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقية. ودعوى أن الحكم الواقعي في مورد
423

الأمارة لا يكون فعليا واضحة الفساد، فإنه لا يمكن أن لا يكون الحكم فعليا إلا
إذا اخذ في موضوعه عدم قيام الأمارة على الخلاف، بحيث يكون قيدا في ذلك،
ومعه يعود محذور التصويب (1).
ففيه: أن المراد بالحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقننين
للقوانين العرفية في أمورهم الدنيوية أيضا، ثم يخصصونه ببعض الأفراد، أو
يقيدونه ببعض القيود، ضرورة أن العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون
القانون بجميع خصوصياته، من حيث القيود أو الشمول، بل ينشأون الأحكام
بنحو العموم أو الإطلاق، ثم يخصصونه أو يقيدونه.
كيف، ولو قلنا بأن الأحكام الواقعية كانت مجعولة على موضوعاتها
بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجه للتمسك بالإطلاق عند
الشك في كون الحكم مقيدا، أو في تقيده بقيد آخر، إذ مع فرض كون المتكلم في
مقام البيان لابد له من بيان الحكم المتعلق بالموضوع بجميع ما اعتبر فيه، وعند
ذلك لايبقى شك في القيد، ومعه لا يجوز التمسك بالإطلاق، كما لا يخفى.
أجوبة الأعلام عن المشكلة ونقدها
ثم إنه تفصى المحقق المعاصر عن أصل الإشكال - على ما في التقريرات -
بأن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء
ثلاثة:
أحدها: موارد قيام الطرق والأمارات.
ثانيها: موارد مخالفة الأصول المحرزة.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 103.
424

ثالثها: موارد تخلف الأصول الغير المحرزة، والتفصي عن الإشكال يختلف
في كل منها.
أما باب الطرق والأمارات: فليس المجعول حكما تكليفيا، حتى يتوهم
التضاد بينه وبين الحكم الواقعي، بل المجعول فيها إنما هو الحجية والوسطية
في الإثبات، وهو أمر عقلائي، ومما تناله يد الجعل. وحينئذ فليس حال الأمارة
المخالفة إلا كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط،
أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم
الواقعي، كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع، وعند الخطأ يوجب المعذورية
وعدم صحة المؤاخذة عليه، كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم
آخر مجعول (1)، انتهى ملخصا. هذا ما أفاده في التفصي عن الإشكال في خصوص
الأمارات.
ويرد عليه أولا: أنه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائية الإمضائية
حكم مجعول أصلا، لا الحجية ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم التعبد به،
ضرورة أنه ليس فيها إلا مجرد بناء العقلاء عملا على طبقها، والمعاملة معها
معاملة العلم، من دون أن يكون هنا جعل في البين، والشارع أيضا لم يتصرف
فيها، بل عمل بها، كما يعمل العقلاء في أمورهم.
وثانيا: فلو سلم الجعل الشرعي فالمجعول فيها ليس إلا إيجاب العمل
بالأمارات تعبدا، كما يظهر بملاحظة الروايات الواردة في ذلك، مثل قوله (عليه السلام):
" إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس " (2)، مشيرا إلى زرارة، وقوله (عليه السلام): " وأما

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 105.
2 - اختيار معرفة الرجال 1: 347 / 216، وسائل الشيعة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
425

الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا " (1)، وقوله (عليه السلام): " عليك
بالأسدي " (2)، يعني أبا بصير، فإنه لو استفيد منها الجعل الشرعي، واغمض عن
كون جميعها إرشادا إلى الارتكاز العقلائي فظاهرها وجوب العمل على قول
العادل، لا جعل الحجية والوسطية، كما لا يخفى.
وثالثا - وهو العمدة -: أنه مع الغمض عن الإيرادين الأولين نقول: إن ما
أفاد من كون المجعول هو الوسطية في الإثبات لا يجدي في دفع الإشكال، لما
تقدم في توجيهه من أن مرجع الإشكال إلى استحالة اجتماع الإرادة الحتمية
المتعلقة بإيجاد شئ، والإرادة الجائية من قبل الحجية الراجعة إلى
الترخيص في المخالفة فيما لو أخطأت الأمارة، وهذا لا يندفع بما ذكره، ولم يكن
الإشكال منحصرا بالاجتماع في خصوص الحكمين، حتى يندفع بما ذكره من عدم
كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم.
هذا، وأما ما أفاده في باب الأصول المحرزة فملخصه: أن المجعول فيها هو
البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه الواقع، وإلغاء الطرف الآخر،
وجعله كالعدم، فالمجعول في الأصول التنزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع، بل
الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي على المؤدى، على أنه هو الواقع، كما
يرشد إليه قوله (عليه السلام) في بعض أخبار قاعدة التجاوز " بلى قد ركعت " (3)، فإن كان

1 - إكمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2 - اختيار معرفة الرجال 1: 400 / 291، وسائل الشيعة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
3 - تهذيب الأحكام 2: 151 / 592، وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب
الركوع، الباب 13، الحديث 3.
426

المؤدى هو الواقع فهو، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله، من دون أن
يكون قد تعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه. وبالجملة: المجعول في
باب الأصول هو الهوهوية العملية التي بنى عليها الشيخ في باب الأمارات (1)،
انتهى.
ويرد عليه أولا: أن الجري والبناء العملي والهوهوية العملية ليس أمرا
قابلا للجعل الشرعي، لأنه من الأمور التكوينية الغير القابلة للجعل، ضرورة
أنه فعل للمكلف، فإنه هو الذي يعمل بمؤداها بما أنه الواقع. وأما قوله (عليه السلام):
" بلى قد ركع " فهو يرشد إلى ما ذكرنا من رفع اليد عن الحكم الفعلي، والاكتفاء
بخلو المأمور به عن بعض الأجزاء.
وثانيا: أنه على تقدير تسليم إمكان تعلق الجعل الشرعي بالجري العملي
فنقول: من الذي أوجب على المكلف، وأجاز له البناء على أن المؤدى هو
الواقع؟ فلا محالة يقال في الجواب: إن الجاعل والباعث له على ذلك هو
الشارع المرخص في العمل على طبق الأصول، وحينئذ فيعود الإشكال بأنه
كيف يجتمع ذلك مع الإرادة الحتمية المتعلقة بفعل المأمور به بجميع أجزائه
وشرائطه، كما لا يخفى.
هذا، وذكر في مقام التفصي عن الإشكال في الأصول الغير المحرزة - بعد
التفصيل في متممات الجعل - ما ملخصه: أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو
موضوعه، كحالتي العلم والظن، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم
يضاد الحكم الواقعي، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 110 - 111.
427

ثانيهما: اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع، وعدم كونه موصلا إليه
ومنجزا له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل
ومنجزا للواقع، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع حسب
اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية. فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في
نظر الشارع كان عليه جعل المتمم، لمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنه
لما كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهم في نظر الشارع من مفسدة حفظ
دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد
الشك، حفظا لدمه.
وهذا الحكم إنما يكون في طول الحكم للواقع، نشأ عن أهمية المصلحة
الواقعية، ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطابا نفسيا ناشئا عن أهمية مصلحة
الواقع، فهو واجب نفسي للغير، لا واجب بالغير، ولذا كان العقاب على مخالفة
التكليف بالاحتياط عند تركه وأدائه إلى مخالفة الحكم الواقعي، لا على
مخالفة الواقع، لقبح العقاب عليه مع الجهل.
إن قلت: إن مقتضى ذلك صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط، صادف
الواقع أو خالفه، لكونه واجبا نفسيا، وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة
إلى الأحكام الواقعية، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط العقاب. فلو خالف
الاحتياط، وأقدم على قتل المشتبه، وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم
استحقاقه للعقوبة.
قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي لا يضر تخلفه هو
الأول، لأنها تكون حكمة تشريع الأحكام، وأما علة الحكم فالحكم يدور
مدارها، ولا يمكن أن يتخلف عنها، ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس
المؤمن علة للحكم بالاحتياط، لأن أهمية ذلك أوجب الاحتياط.
428

ومن ذلك يظهر: أنه لا مضادة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي،
فإن المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع
الوجوب الواقعي، ويكون هو هو، وإن لم يكن كذلك فلا يجب الاحتياط، لانتفاء
علته، وإنما المكلف يتخيل وجوبه، هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي
جعل المتمم من إيجاب الاحتياط.
وإن لم تكن المصلحة الواقعية بهذه المثابة من الأهمية فللشارع جعل
المؤمن بلسان الرفع كحديث الرفع (1)، أو بلسان الوضع كقوله: " كل شئ لك
حلال " (2)، فإن المراد من الرفع ليس رفع التكليف عن موطنه، بل رفع التكليف
عما يستتبعه من التبعات، وإيجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من حديث
الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان، فكما
أن هذه الرخصة لا تنافي الحكم الواقعي كذلك الرخصة المستفادة من حديث
الرفع.
والسر في ذلك: هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي،
ومتأخر رتبتها عنه، لأن الموضوع فيها هو الشك في الحكم، من حيث كونه
موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم
الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي.
وبالجملة: الرخصة والحلية المستفادة من حديثي الرفع والحل تكون
في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أن إيجاب

1 - التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس،
الباب 56، الحديث 1.
2 - الكافي 6: 339 / 2، وسائل الشيعة 25: 118، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب
الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 2.
429

الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرعا عليه، فما يكون في عرضه يكون في
طول الواقع أيضا، إلا يلزم أن يكون ما في طول الشئ في عرضه (1)، انتهى.
ويرد عليه أولا: أن الفرق بين أخذ الشك باعتبار كونه من الحالات
والطوارئ وبين أخذه باعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع، دعوى المناط في
رفع التضاد هو الأخذ على الوجه الثاني مما لا محصل له، فإن مجرد الطولية
لو كان كافيا في رفع التضاد فاللازم رفعه بناء على الوجه الأول أيضا، لأن
الحالات الطارئة أيضا في طول الواقع، وإن لم يكن كافيا فيه، فالأخذ على
الوجه الثاني أيضا لا يرفع التضاد، بل نقول: إن الاعتبارين مجرد تغيير في
العبارة، وإلا فلا فرق بينهما واقعا، كما لا يخفى.
وثانيا: أن ما أجاب به عن الإشكال الذي أورده على نفسه بقوله: إن
قلت: من عدم وجوب الاحتياط واقعا في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما
يجب حفظه، لكون وجوب حفظ المؤمن علة للحكم بالاحتياط، لا علة
للتشريع مما لاوجه له، فإن وجوب الاحتياط حكم ظاهري مجعول لغرض
حفظ الواقع، ولابد أن يتعلق حقيقة بكل مشكوك، سواء كان واجب الحفظ أم لم
يكن، وإلا فلو تعلق بخصوص ما كان منطبقا على الواجب الواقعي فقط فيحتاج
إلى متمم آخر، فإن وجوب الاحتياط المتعلق على المشكوك الواجب بحسب
الواقع لا يصلح للداعوية نحو المشكوك كونه هو الواقع، وقاصر عن تحريك
العبد نحوه، فيصير جعل إيجاب الاحتياط لغوا، لأن جميع موارد الشك يكون
تعلق وجوب الاحتياط بها مشكوكا، كما لا يخفى.
وثالثا: أن ما أفاد من أن الرخصة، وكذا أصالة الحلية إنما يكون في

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 114 - 119.
430

عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع، فلابد أن تكون الرخصة أيضا في
طوله ممنوع جدا، لأنه قد ثبت في محله أن ما في عرض المتقدم على شئ
لا يلزم أن يكون متقدما عليه، لأن التقدم والتأخر إنما يثبت في موارد ثبوت
ملاكهما، كالعلية والمعلولية، ولا معنى لثبوتهما من دون ملاك، كما هو واضح.
ورابعا: أن ما ذكره - على تقدير تسليم صحته - لا يجدي في رفع الإشكال
بالتوجيه الذي ذكرناه، فتدبر.
ومما تفصى به عن الإشكال ما أفاده السيد الأصفهاني - على ما حكاه عنه
المحقق المعاصر في كتاب " الدرر " - وملخصه: أنه لا إشكال في أن الأحكام
إنما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن، لكن لا من حيث إنها كذلك، بل من
حيث إنها حاكية عن الخارج.
ثم إن المفهوم المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الإطلاق، واخرى على
نحو التقييد، وعلى الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيد، وقد يكون
لوجود المانع، مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوبا على سبيل الإطلاق، وقد يكون
الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة، وقد يكون في المطلق، إلا أن عتق
الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر، ولأجله قيد العتق المطلوب بما إذا تحقق
في الرقبة المؤمنة، فتقييده في هذا القسم إنما هو من جهة الكسر والانكسار،
لا لتضييق دائرة المقتضى.
ومن المعلوم: أن ذلك يتوقف على تصور العنوان المطلوب أولا مع العنوان
الآخر المتحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية، فلو فرضنا
عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار. فاللازم من
ذلك: أنه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوبا صرفا، من
دون تقييد وكذا العنوان الذي فيه جهة المبغوضية.
431

والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للأحكام الظاهرية
مما لا يجتمعان في الوجود الذهني، مثلا إذا تصور الآمر صلاة الجمعة فلا يمكن
أن يتصور معها إلا الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبة، مثل كونها
في المسجد أو في الدار، وأما اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكا فليس مما
يتصور في هذه الرتبة، لأن هذا الوصف إنما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم،
والأوصاف المتأخرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه، فلا منافاة حينئذ بين
الحكمين، لأن الجهة المطلوبية ملحوظة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن
الحكم، وجهة المبغوضية ملحوظة مع لحاظه.
إن قلت: العنوان المتأخر وإن لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات ولكن
الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر، فعند ملاحظة العنوان المتأخر
يجتمع العنوانان في اللحاظ.
قلت: تصور ما يكون موضوعا للحكم الواقعي الأولي مبني على قطع النظر
عن الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم،
ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم ولحاظ ثبوته (1).
ويرد عليه أولا: أن عنوان كون الموضوع مشكوك الحكم لا يتوقف على
تحققه قبله، ضرورة أنه يمكن الشك في حكم الموضوع مع عدم كونه محكوما
بحكم. فبين العنوانين - أعني عنوان الموضوع بلحاظ حكمه الواقعي وعنوان
كونه مشكوك الحكم - نسبة العموم من وجه، لأنه كما يمكن أن يكون
الموضوع معلوم الحكم فيتحقق الافتراق من ناحية الموضوع، كذلك يمكن أن
يكون مشكوك الحكم مع عدم تحققه أصلا. كيف، ولو كان عنوان المشكوكية

1 - انظر درر الفوائد، المحقق الحائري: 351 - 353.
432

متوقفا على سبق الحكم يلزم من وجود الشك العلم، لأن المفروض أن توقفه
على سبق الحكم أمر مقطوع، فبعد الشك يقطع به، مع أنه مستحيل جدا.
مضافا إلى أنه لو شك في حكم الموضوع، من حيث الوجوب والتحريم
مثلا فاللازم - بناء على هذا - أن يكون الموضوع في الواقع واجبا وحراما معا.
وثانيا: أنه لو سلم أن تحقق عنوان المشكوكية في الواقع يتوقف على
سبق الحكم فلا نسلم ذلك في مقام جعل الأحكام، الذي لا يتوقف إلا على تصور
موضوعاتها، فللمولى أن يجعل الحكم متعلقا بعنوان مشكوك الحكم قبل أن صدر
منه حكم آخر متعلق بذوات الموضوعات، وقد حققنا في مبحث التعبدي
والتوصلي إمكان أن يكون الموضوع مقيدا بما لا يأتي إلا من قبل الحكم، فراجع.
وثالثا - وهو العمدة -: أن ما أجاب به عن الإشكال الذي أورده على
نفسه بقوله: إن قلت مما لا يندفع به الإشكال أصلا، لأن الموضوع المتصور
المأخوذ موضوعا للحكم الواقعي إما أن يكون مأخوذا بشرط لا، من حيث كونه
مشكوك الحكم، وإما أن يكون مأخوذ الا بشرط. ومرجع الأول إلى أن ثبوت
الحكم الواقعي للموضوع إنما هو في صورة العلم بثبوته له، وهو تصويب قام
الإجماع، بل الضرورة على خلافه، ولو كان المراد هو الثاني فمن الواضح أن
الشئ المأخوذ لا بشرط لا يأبى من الاجتماع مع بشرط شئ، وحينئذ فيجتمع
الحكمان عند ملاحظة عنوان مشكوك الحكم، وجعل الحكم متعلقا به، كما
لا يخفى.
ثم إنه قد تخلص عن الإشكال بوجوه أخر، تعرض لبعضها الأستاذ مع
الجواب عنه، ولكنه لا فائدة في التعرض له بعد كونه موردا للإشكال، وبعد
الجواب عنه بما حققناه، فتأمل في المقام، فإنه من مزال الأقدام.
433

في تأسيس الأصل
المقام الثاني
في تأسيس الأصل
يقع الكلام في تأسيس الأصل الذي يعول عليه عند عدم الدليل على
وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في الجملة. فنقول: ذكر الشيخ في " الرسالة " ما
ملخصه: أن التعبد بالظن الذي لم يدل على التعبد به دليل محرم بالأدلة
الأربعة.
يكفي من الكتاب قوله تعالى: * (قل أألله أذن لكم أم على الله
تفترون) * (1) دل على أن ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إلى الشارع فهو
افتراء.
ومن السنة: قوله (عليه السلام) في عداد القضاة من أهل النار: " ورجل قضى
بالحق، وهو لا يعلم " (2).
ومن الإجماع: ما أدعاه الفريد البهبهاني من عدم كون الجواز بديهيا عند

1 - يونس (10): 59.
2 - الكافي 7: 407 / 1، وسائل الشيعة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 4، الحديث 6.
434

العوام، فضلا عن العلماء.
ومن العقل: تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده من
المولى.
نعم، فرق بين هذا وبين الاحتياط الذي يستقل العقل بحسنه، لأنه فرق
بين الالتزام بشئ من قبل المولى على أنه منه، مع عدم العلم بأنه منه، وبين
الالتزام بإتيانه لاحتمال كونه منه.
والحاصل: أن المحرم هو العمل بغير العلم متعبدا به ومتدينا به. وأما
العمل به من دون تعبد بمقتضاه فهو حسن إن كان لرجاء إدراك الواقع ما لم
يعارضه احتياط آخر، ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافه، كما لو
ظن الوجوب، واقتضى الاستصحاب الحرمة (1)، انتهى موضع الحاجة.
أقول: المراد بالإسناد إلى الشارع هو التشريع الذي كان قبحه عقلا
وحرمته شرعا مفروغا عنه عندهم، ولكن كلما تأملنا لم نعرف له معنا متصورا
معقولا، إذ الالتزام الحقيقي بما يعلم عدم ورود التعبد من الشارع، أو لا يعلم وروده
منه مما لا يمكن أن يتحقق، لعدم كون الالتزامات النفسانية تحت اختيار
المكلف. نعم، الإسناد إلى الشارع - الذي هو عبارة أخرى عن البدعة - أمر
ممكن معقول، قد دل العقل والنقل على خلافه، وأنه أمر قبيح محرم.
وبالجملة: فالتعبد بمقتضى الأمارة الغير العلمية التي لم يرد دليل على
اعتبارها إن كان معناه هو العمل بمضمونها بعنوان أنه من الشارع فهو مما لا يعقل،
مع عدم العلم بورود التعبد به من الشارع، وإن كان معناه هو إسناد مضمونها إلى
الشارع قولا فهو من مصاديق القول بغير العلم الذي يحكم العقل بقبحه قطعا،

1 - فرائد الأصول 1: 49 - 50.
435

والدليل النقلي بحرمته شرعا.
وما ذكره من الأدلة الأربعة لا يستفاد منها أزيد من ذلك، لأن المراد
بالافتراء في قوله تعالى هو الكذب، كما هو معناه لغة، وكذا سائر الأدلة لا يدل
على أزيد من حرمة القول بغير علم، ولا يدل شئ منها على حرمة العمل بما
لا يعلم بعنوان أنه من المولى قطعا.
ثم إن المبحوث عنه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل على
اعتباره، حتى يتبع في موارد الشك، فالاستدلال على أن الأصل هو عدم الحجية
بقبح التشريع وحرمته - كما عرفت في كلام الشيخ - مبني على دعوى الملازمة
بين الحجية وصحة الإسناد، بمعنى أنه كلما صح الإسناد - أي إسناد مقتضاه إلى
الشارع - فهو حجة، وكلما لم يصح لا يكون بحجة، فإذا قام الدليل على حرمة
التشريع الذي يرجع إلى الإسناد إلى الشارع فيما لا يعلم يستفاد من ذلك عدم
كونه حجة.
هذا، وقد يورد على دعوى الملازمة بالنقض بموارد:
أحدها: ما أفاده المحقق الخراساني في " الكفاية " من أن الظن على تقدير
الحكومة حجة عقلا، مع أنه لا يصح إسناد المضمون إلى الشارع فيه (1).
هذا، ولكن يرد عليه: عدم تمامية النقض، بناء على مبناه في تقرير
مقدمات الانسداد من أن أحدها العلم الإجمالي بوجود التكاليف (2)، لأنه بناء
على ذلك لا يكون الظن حجة، بل الحجة هو العلم الإجمالي. غاية الأمر: أنه
حيث لا يمكن - أو لا يجب - الاحتياط في جميع أطرافه فاكتفى بالعمل

1 - كفاية الأصول: 323.
2 - نفس المصدر: 356 - 357.
436

بالمظنونات فقط، فالعمل بها ليس لكون الظن حجة، بل لكونه أقرب إلى
الوصول إلى الواقع، كما لا يخفى.
ثانيها: ما ذكره المحقق العراقي - على ما في تقريرات بحثه - من النقض
باحتمال التكليف قبل الفحص، وبإيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية (1).
ولكن يرد عليه: أن احتمال التكليف قبل الفحص لا يكون حجة، بل
الحجة هي بيان التكليف المذكور في مظانه الذي يعلم به بعد الفحص. غاية
الأمر: أن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان فيما إذا تفحص ولم يجد، فعدم الفحص
لا يقتضي أزيد من عدم حكم العقل بقبحه في مورده، لا أن يكون الاحتمال معه
حجة، كما أن إيجاب الاحتياط في الشبهات البدوية يمكن أن يقال بعدم كونه
حجة، بل إنما هو رافع لحكم العقل بقبح العقاب الذي كان ثابتا عند عدم إيجاب
الاحتياط، لأنه لو شرب التتن مثلا مع وجوب الاحتياط عليه، وكان في الواقع
حراما فهو يعاقب على الإتيان بالمنهي عنه، لا على مخالفة الاحتياط.
وبالجملة: فلم يوجد مورد يتحقق الانفكاك فيه بين الحجية وصحة
الإسناد. نعم، يرد على الشيخ: أن ادعاء الملازمة بينهما إنما هو مجرد دعوى
يحتاج إلى إقامة برهان، كما لا يخفى.
فالأولى في تقريرا لأصل ما أفاده في " الكفاية " مما حاصله: أن مع الشك
في حجية شئ لا يترتب عليه آثار الحجية قطعا، ضرورة أن احتجاج المولى
على العبد لا يجوز إلا بما يعلم العبد بكونه حجة منه عليه، فالآثار المرغوبة
من الحجة لا تكاد تترتب إلا على ما أحرز اتصافها بالحجية الفعلية، لقبح
المؤاخذة على مخالفة التكليف مع الشك في حجية الأمارة المصيبة، ونحو

1 - نهاية الأفكار 3: 80 - 81.
437

ذلك من الآثار. فعدم حجية الأمارة التي شك في اعتبارها شرعا أمر مقطوع،
يحكم به العقل جزما (1).
ومن هنا يظهر الخلل في استدلال الشيخ على أصالة عدم الحجية
بالأدلة الأربعة، فإن الكلام هنا في تأسيس الأصل الذي يتبع في موارد الشك،
ولم يقم بعد دليل على حجية ظواهر الكتاب أو السنة الغير القطعية أو الإجماع
مثلا، حتى يتمسك بها على أن الأصل في موارد الشك يقتضي عدم الحجية. نعم،
لا بأس بالتمسك بالعقل لو كان حكمه بذلك قطعيا، كما لا يخفى.
ثم إنه قد يستدل على أن الأصل عدم الحجية باستصحاب عدم الحجية
وعدم وقوع التعبد به، وإيجاب العمل عليه. وأورد عليه الشيخ (قدس سره) بأن الأصل
وإن كان كذلك إلا أنه لا يترتب على مقتضاه شئ، فإن حرمة العمل بالظن يكفي
في موضوعها مجرد عدم العلم بورود التعبد، من غير حاجة إلى إحراز عدمه.
والحاصل: أن أصالة عدم الحادث إنما يحتاج إليها في الأحكام المترتبة
على عدم ذلك الحادث، وأما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك الحادث
فيكفي فيه الشك فيه، ولا يحتاج إلى إحراز عدمه بحكم الأصل، وهذا نظير
قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب اليقين بالفراغ، فإنه لا يحتاج في إجرائها إلى
أصالة عدم فراغ الذمة، بل يكفي فيها عدم العلم بالفراغ (2)، انتهى.
واستشكل على هذا الكلام المحقق الخراساني في " التعليقة " بما حاصله:
أن الحجية وعدمها، وكذا إيجاب التعبد وعدمه بنفسهما مما يتطرق إليه الجعل،
وتناله يد التصرف من الشارع، وما كان كذلك يكون الاستصحاب فيه جاريا،

1 - كفاية الأصول: 322 - 323.
2 - فرائد الأصول 1: 49 - 50.
438

كان هناك أثر شرعي يترتب على المستصحب أو لا.
هذا، مع أنه لو كان الحجية وعدمها من الموضوعات الخارجية التي
لا يصح الاستصحاب فيها إلا بملاحظة الآثار الشرعية المترتبة عليها فإنما
لا يكون مجال لاستصحاب عدم الحجية فيما إذا لم يكن حرمة العمل إلا أثر
الشك فيها، لا لعدمها واقعا. وأما إذا كانت أثرا له أيضا فالمورد وإن كان في نفسه
قابلا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحكم هذا الشك إلا أنه لا يجري
فعلا إلا الاستصحاب، لحكومته عليها.
والضابط: أنه إذا كان الحكم الشرعي مترتبا على الواقع ليس إلا،
فلا مجال إلا للاستصحاب، وإذا كان مترتبا على الشك فيه كذلك فلا مجال إلا
للقاعدة، وإذا كان مترتبا على كليهما، فالمورد وإن كان قابلا لهما إلا أن
الاستصحاب جار دونها، لحكومته عليها.
وفيما نحن فيه وإن كان حكم حرمة العمل والتعبد مترتبا على الشك في
الحجية إلا أنه يكون مترتبا أيضا على عدمها، لمكان ما دل على حرمة الحكم
بغير ما أنزل الله، فيكون المتبع هو الاستصحاب.
ومن هنا انقدح الحال في استصحاب الاشتغال وقاعدته، وأنها لا تجري
معه، لوروده عليها (1)، انتهى ملخصا.
وقد أورد على هذا الاستشكال المحقق النائيني - على ما في تقريرات
بحثه - بما ملخصه: أن ما أفاده أولا من أن الحجية بنفسها من الأحكام،
فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدى أثر عملي.
ففيه: أن ما اشتهر من أن الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها على أن

1 - درر الفوائد، المحقق الخرساني: 80 - 81.
439

يكون في البين أثر عملي إنما هو لأجل أن المؤدى بنفسه من الآثار العملية،
وإلا فلا يمكن أن تجري الأصول. كيف، وهي وظائف عملية، والحجية وإن كانت
من الأحكام الوضعية، وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل إلا أنها بوجودها
الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا، والآثار المترتبة عليها منها ما يترتب
عليها بوجودها العلمي، ككونها منجزة وعذرا، ومنها ما يترتب على نفس الشك
في حجيتها، كحرمة التعبد بها، وعدم جواز إسناد مؤداها إلى الشارع.
فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي، حتى يجري
استصحاب العدم، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها، وهو
حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا، لما عرفت من أن الشك تمام الموضوع
لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد.
فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل، بل
أسوأ حالا منه، فإن تحصيل الحاصل فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ
واحد، كلاهما وجدانيان أو تعبديان، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان
بالتعبد، فهو أسوأ حالا منه.
وأما ما أفاده ثانيا من أن حرمة التعبد بالأمارة كما تكون أثرا للشك في
حجيتها كذلك يكون أثر العدم حجيتها واقعا، ففي ظرف الشك يجري كل من
الاستصحاب والقاعدة، ويقدم الأول، لحكومته.
ففيه: أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض
الواقع، مع أنه على هذا الفرض لا يجري الاستصحاب أيضا، لأن الأثر يترتب
بمجرد الشك لتحقق موضوعه، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، لأنه لا
تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع، ليجري فيه الاستصحاب، فإنه في المرتبة
السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر، وترتب عليه. فأي فائدة في
440

جريان الاستصحاب؟!
وما قرع سمعك من أن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة المضروبة
لحال الشك فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب مغايرا لما تثبته
القاعدة (1)، انتهى ملخصا.
أقول: والتحقيق أن يقال: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أن هنا عناوين
ثلاثة، قد وقع الخلط بينها في الكلمات التي نقلناها عن الأعلام:
أحدها: القول بغير علم الذي يدل على حرمته الآية والرواية والعقل،
ومن الواضح أن الموضوع فيه إنما هو نفس الشك وعدم العلم.
ثانيها: البدعة والتشريع، بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين،
وإظهار أنه منه، وهذا أمر واقعي لا ربط له بعلم المكلف وجهله، فإن المكلف
قد يدخل في الدين ما لا يكون باعتقاده منه، مع أنه كان في الواقع من الدين،
فهذا لا يكون تشريعا، ولا يعاقب عليه حينئذ. نعم، لو قلنا باستحقاق المتجري
للعقاب يترتب عليه عقوبته، وقد يدخل في الدين ما يكون باعتقاده منه، مع
أنه ليس في الواقع منه، فهذا تشريع واقعا، ولكن المكلف معذور في ارتكاب
هذا الحرام، لجهله به.
ثالثها: عنوان الكذب الذي هو أعم من البدعة، إذ تختص هي بما إذا
ادخل في الدين والشريعة أو نقص منه، والأول أعم منها ومن الكذب في غير
الأحكام الشرعية. ولا يخفى أن الكذب أيضا عنوان واقعي، لأنه ليس إلا
مخالفة القول للواقع، لا للاعتقاد، فقد يتحقق مع اعتقاد خلافه، وقد لا يتحقق مع
اعتقاد ثبوته.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 127 - 131.
441

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه مع الشك في حجية أصل أو أمارة يجري
استصحاب عدم الحجية الراجع إلى عدم كونه من الدين، فيترتب عليه أنه لو
أدخل في الدين يكون تشريعا وبدعة، فيخرج عن موضوع القول بغير علم، لأن
المراد بالعلم المأخوذ أعم من العلم الوجداني والظن الذي قام الدليل على
اعتباره، فإذا ثبت بالاستصحاب عدم كونه من الدين، فيصير من جملة ما علم
أنه ليس منه، فلو ارتكبه بأن أدخله في الدين يعاقب على البدعة والتشريع
والكذب مع المصادفة، ولا يعاقب على أنه قال بغير علم.
نعم، لو أسند إلى الشارع مضمون الأمارة التي شك في حجيتها، مع قطع
النظر عن استصحاب عدم الحجية يعاقب على القول بغير العلم، ولا يعاقب على
البدعة، لأنه كانت الشبهة شبهة مصداقية لها، ولا يكون الحكم حجة في
الشبهات المصداقية لموضوعاتها، كما لا يخفى.
فانقدح: أن الشك في الحجية كما أنه موضوع لحرمة التعبد والنسبة
إلى الشارع، كذلك موضوع لاستصحاب عدم الحجية لما يترتب على عدمها من
الأثر، وهو حرمة إدخاله في الدين بعنوان أنه منه، كما عرفت.
442

المقام الثالث
فيما قيل أو يمكن أن يقال
بخروجه عن الأصل
وهو يشتمل على أمور:
443

ظواهر كلمات الشارع
الأمر الأول
ظواهر كلمات الشارع
لا يخفى أن حجية كلام المتكلم، والاحتجاج به عليه يتوقف على طي
مراحل أربعة:
أحدها: إثبات صدور الكلام منه، والمتكفل لذلك في الشرعيات هو بحث
حجية خبر الواحد الذي سيجئ فيما بعد.
ثانيها: كون الكلام الصادر من المتكلم له ظهور، وهذا يتوقف إثباته على
التبادر وصحة السلب وقول اللغويين.
ثالثها: هو كون هذا الظاهر مرادا له بالإرادة الاستعمالية.
رابعها: كون تلك الإرادة مطابقة للإرادة الجدية.
ولا شبهة في أن الأصل العقلائي يحكم في المرحلة الثالثة بكون الظاهر
مرادا له بالإرادة الاستعمالية، لأن احتمال عدم كونه مرادا منشأه احتمال الغلط
والخطأ، وهو منفي عندهم، ولا يعتنون بالشك فيه، كما هو بناؤهم في سائر أفعال
الفاعلين، فإنهم يحملونها على كونها صادرة من فاعلها على نحو العمد والاختيار،
لا الخطأ والاشتباه. فإذا صدر من المتكلم " أكرم زيدا " مثلا، وشك في أن مقصوده
445

هل هو زيد أو كان مقصوده عمرا، غاية الأمر أنه تكلم بكلمة زيد اشتباها
وخطأ فلا شبهة في عدم اعتنائهم بهذا الشك أصلا.
ومما ذكرنا ظهر: أنه ليس في هذه المرحلة إلا أصالة عدم الخطأ
والاشتباه، وأما أصالة الحقيقة أو أصالة عدم التخصيص أو التقييد فلا يجدي
شئ منها في هذه المرحلة، لما حققناه سابقا من أن المجاز ليس عبارة عن
استعمال اللفظ في غير الموضوع له، كيف وإلا لا يكون فيه حسن أصلا، بل هو
عبارة عن استعمال اللفظ في الموضوع له، غاية الأمر أنه قد ادعى كون المعنى
المجازي من مصاديق المعنى الحقيقي نظير ما ذكره السكاكي في خصوص
الاستعارة (1)، على تفاوت بينه وبين ما ذكرنا.
فاللفظ في الاستعمال المجازي لا يكون مستعملا إلا في المعنى الحقيقي،
ولا فرق بينه وبين استعماله في معناه الحقيقي، وإرادته منه من هذه الجهة
أصلا، فأصالة الحقيقة غير مجدية في تعيين المراد الاستعمالي.
وأما أصالة العموم والإطلاق فقد عرفت في مبحثهما أن العام المخصص
لا يكون مجازا، ولم يكن لفظه مستعملا في ما عدا مورد التخصيص، بل كان
المراد بالإرادة الاستعمالية في العام المخصص وغيره واحدا، بلا تفاوت من
حيثية الاستعمال أصلا، وكذا أصالة الإطلاق، فهما أيضا لا يرتبطان بهذه المرحلة.
والعجب من المحقق العراقي (قدس سره) أنه مع اعترافه بكون المراد الاستعمالي
في العام المخصص والمطلق المقيد هو العموم والإطلاق (2) ذكر على ما في
تقريرات بحثه: أن الذي يرفع الشك في مطابقة الإرادة الاستعمالية لظهور

1 - مفتاح العلوم: 157 - 158.
2 - نهاية الأفكار 2: 512.
446

الكلام هي الأصول العدمية، من أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص
والتقييد (1).
هذا، وأما المرحلة الرابعة: فالأصل فيها هو أصالة تطابق الإرادتين
الاستعمالية والجدية. وبهذا الأصل يرفع الشك عن احتمال المجازية
والتخصيص والتقييد، وأما أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق
فليست أصولا مستقلة، بل مرجعها إلى أصالة التطابق.
وأما أصالة عدم القرينة فليست أصلا مستقلا أيضا، لأن منشأ احتمال
وجود القرينة وعدمها فعلا إما عدم ذكر المتكلم لها عمدا، وإما عدم ذكره سهوا
واشتباها. فعلى الثاني يكون الأصل هو أصالة عدم الخطأ والاشتباه، وعلى
الأول يكون الأصل هو إفادة المتكلم جميع مرامه.
هذا، ولو كان المنشأ هو احتمال إسقاط الواسطة القرينة فاحتمال
إسقاطه سهوا منفي أيضا بأصالة عدم الخطأ والاشتباه، واحتمال إسقاطه عمدا
منفي باعتبار الوثاقة فيه، فلم يوجد مورد يحتاج فيه إلى أصالة عدم القرينة.
وأما أصالة الظهور التي تمسك بها كثير من المحققين فلا يخفى أن إسناد
الأصل إلى الظهور مجردا لا معنى له، وحينئذ فلابد إما أن يقال: إن الأصل هو
كون هذا المعنى ظاهرا للفظ، وإما أن يقال: بأن الأصل هو كون الظهور مرادا
للمتكلم بالإرادة الجدية، ومن المعلوم أن الأول لا ارتباط له بمسألة حجية
الظواهر، والثاني مرجعه إلى أصالة تطابق الإرادتين المتقدمة، ولا يكون أصلا
برأسه.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أن الأصل الجاري في تعيين المراد الاستعمالي

1 - نفس المصدر 3: 85 - 86.
447

هو أصالة عدم الغلط والخطأ والاشتباه، والجاري في تعيين المراد الجدي هو
أصالة التطابق بين الإرادتين، ولا إشكال في أنها أصل معتمد عند العقلاء، ولا
فرق في حجية الظهورات عندهم بين صورتي حصول الظن الشخصي بالوفاق
وعدمه، كما أنه لا فرق بين صورتي حصول الظن الشخصي بالخلاف وعدمه،
ولابين من قصد إفهامه وغيره.
ومن هنا يظهر: ضعف ما حكي عن المحقق القمي من التفصيل بين من قصد
إفهامه وغيره (1)، لأن دعواه ممنوعة صغرى وكبرى، لأن بناء العقلاء على العمل
بالظواهر مطلقا إلا فيما إذا أحرز أن يكون بين المتكلم والمخاطب طريقة خاصة
من المحاورة على خلاف المتعارف، فإنه لا يجوز الأخذ بظاهر كلامه لغير المخاطب.
هذا، مضافا إلى أن دعوى اختصاص الخطابات الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام)
بخصوص المخاطبين بتلك الخطابات، وأنهم هم المقصودون بالإفهام، ممنوعة
جدا، ضرورة أن كلامهم لا يكون إلا مثل الكتب المؤلفة التي لا يكون المقصود
منها إلا نفي بيان المعاني، من غير مدخلية لمخاطب خاص، كما هو واضح.
ثم إنه لا فرق أيضا في حجية الظواهر بين ظهور الكتاب وغيره. وما
حكي من الأخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب ففساده أظهر من أن يخفى.
وقد استدلوا على ذلك بوجوه ضعيفة، منها: مسألة التحريف الذي قام الإجماع،
بل الضرورة من الشيعة على خلافه، ويدل على بطلانه الأخبار الكثيرة،
ويساعده الوجوه العقلية أيضا، ومنها غير ذلك مما ذكر مع جوابها في " الرسالة "
و " الكفاية " (2)، فراجع.

1 - قوانين الأصول 1: 398 / السطر 22.
2 - فرائد الأصول 1: 56 - 64، كفاية الأصول: 323 - 329.
448

قول اللغوي
الأمر الثاني
قول اللغوي
واستدل على حجيته بأن اللغوي من أهل الخبرة والصناعة، وبناء العقلاء
على الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها، فإن رجوع الجاهل
إلى العالم من الارتكازيات التي لا ريب فيها عند العقلاء، ولم يثبت من الشارع
ردع عن هذا البناء، فمن ذلك يستكشف رضاه بالمراجعة إلى اللغة، وتشخيص
موضوعات الأحكام منها، كما لا يخفى.
هذا، وقد أجيب عن ذلك بمنع كون اللغوي من أهل الخبرة، ضرورة أن
همه تشخيص موارد الاستعمال، وأن اللفظ الفلاني قد استعمل في معنى واحد أو
متعدد، وأما تعيين الحقائق من المجازات والمشتركات من غيرها فلا يستفاد من
كتب اللغة أصلا، بل ولا يدعيه لغوي أيضا (1).
هذا، ولكن لا يخفى: أنه لو سلمنا الصغرى، وأن اللغوي من أهل الخبرة
والصناعة فإثبات الكبرى في غاية الإشكال، لما هو واضح من أن حجية بناء

1 - كفاية الأصول: 330.
449

العقلاء في الأمور الشرعية إنما يتوقف على إحراز رضا الشارع بتبعية ذلك
البناء، ولو كان ذلك مستكشفا من عدم الردع عنه، مع كونه بمرئى ومسمع منه.
ومن المعلوم أن كاشفية عدم الردع عن الرضا إنما هو فيما لو كان بناء
العقلاء على أمر متصلا بزمان الشارع، وثابتا فيه، وإثبات ذلك في المقام مشكل،
لعدم إحراز أنه كان في زمن الشارع علم مدون مورد لمراجعة الناس، وكان ذلك
بمنظر منهم، فإن الظاهر أن علم اللغة من العلوم المستحدثة في القرون
المتأخرة عن زمن الشارع، فليس ذلك كالبناء على العمل بخبر الواحد واليد
وأصالة الصحة، بل والتقليد، فإن الظاهر ثبوته في زمان الأئمة (عليهم السلام)، كما
يظهر من الروايات.
وبالجملة: فلم يثبت مراجعة الناس إلى أهل اللغة في زمانهم (عليهم السلام)،
حتى يستكشف من عدم الردع الرضا والإمضاء، كما لا يخفى.
450

الإجماع المنقول
الأمر الثالث
الإجماع المنقول
ولابد قبل الخوض في المقصود من البحث في جهات:
الجهة الأولى: في تعريف الإجماع
إن الإجماع عند العامة حجة بنفسه في مقابل سائر الأدلة، وقد عرفوه
بتعاريف:
منها: ما عن الغزالي: " أنه عبارة عن اتفاق أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمر من
الأمور الدينية " (1).
منها: ما عن الرازي من تفسيره " بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمر من الأمور " (2).
منها: ما عن الحاجبي من تعريفه " بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة

1 - المستصفى 1: 173.
2 - المحصول في علم الأصول 2: 3.
451

على أمر من الأمور " (1).
والظاهر: أن استنادهم في حجية الإجماع إلى ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: " لا تجتمع أمتي على الضلالة أو الخطأ " (2) هذا، ولا يخفى: أن ظاهر
هذه الرواية مطابق لتعريف الغزالي، ولكن الغزالي وغيره لما رأوا أن ذلك ينافي
مع ثبوت الخلافة لأبي بكر ومن بعده من مشايخهم أعرضوا عن هذا التعريف، مع
أن تعريفهم أيضا لا يثبت مقصودهم، ضرورة عدم تحقق الاتفاق من جميع أهل
الحل والعقد، وكذا من جميع المجتهدين، كما هو واضح.
هذا، وأما الإجماع عند الإمامية فليس دليلا مستقلا برأسه، بل حجيته
إنما هو لكشف ذلك عن رأي المعصوم (عليه السلام) فهو الحجة، والإجماع كاشف عنها،
إما من باب اللطف أو الحدس أو غيرهما من الوجوه التي ستجئ، ولا يكون
لمجرد الاتفاق في نظرهم استقلال بالدليلية، كما لا يخفى.
الجهة الثانية: في عدم شمول أدلة حجية الخبر للإجماع
لا يخفى أن العمدة في باب أدلة حجية خبر الواحد هو بناء العقلاء على
العمل به في أمورهم وسياسياتهم، كما سيجئ تحقيقه، ومن الواضح أن ذلك من
الأدلة اللبية التي لا إطلاق لها، وحينئذ فنقول: لا إشكال في ثبوت بنائهم على
العمل بخبر الواحد فيما إذا كان المخبر به من الأمور المحسوسة بإحدى
الحواس الخمسة الغير الغريبة، ولا يبعد أن يقال بثبوت ذلك أيضا فيما إذا لم
يكن المخبر به من الأمور المحسوسة، ولكن يعد عند العرف كالمحسوسات،

1 - شرح العضدي 1: 122.
2 - بحار الأنوار 2: 225 / 3 و 28: 104 / 3.
452

لقربه إلى الحس، كالشجاعة والسخاوة ونحوهما من الأمور القريبة إلى
الحس.
وأما لو كان المخبر به من المحسوسات الغريبة الغير العادية، أو كان
بعيدا عن الحس، بل كان محتاجا إلى الاجتهاد ونحوه مما يتطرق إليه الخطأ
والاشتباه فلم يثبت بناء العقلاء على العمل بقول شخص واحد فيها، إما لكون
العمل به مشروطا بإحراز كون المخبر ثقة - وهذا المعنى يبعد تحققه مع
الإخبار بالأمور الغريبة أو لكون المخبر وإن كان ثقة إلا أن أصالة عدم الخطأ
والاشتباه لا تجري عندهم في مثل تلك الأمور.
الجهة الثالثة: في وجه حجية الإجماع
قد عرفت أن وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام (عليه السلام)، ومستند
القطع به:
إما العلم بدخوله (عليه السلام) في المجمعين شخصا.
وإما لزوم أن يكون رأيه في جملة رأيهم من باب قاعدة اللطف التي
مرجعها في المقام إلى وجوب إلقاء الخلاف على الإمام (عليه السلام) لو رأى اجتماع
الأمة على أمر غير واقعي.
وإما الملازمة العادية بين رأي العلماء ورأيه (عليه السلام) وحدسه من اتفاقهم.
وإما الملازمة بين ذلك وبين وجود دليل معتبر عندهم وإن لم يصل إلينا.
هذا، والوجه الأول لا يكاد يتفق في زمان الغيبة، لعدم العلم بدخوله (عليه السلام)
في جملة المجمعين، إلا نادرا، كما لا يخفى.
والوجه الثاني لا يتم، لعدم الدليل على وجوب ذلك على الإمام (عليه السلام).
والوجه الرابع أيضا مخدوش، لأنه لو كان اتفاقهم على أمر مستندا إلى دليل
453

معتبر لكان اللازم نقل ذلك الدليل في كتبهم، خصوصا مع ما نرى منهم من حرصهم
على جمع الأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام).
والحق هو الوجه الثالث، الذي مرجعه إلى الملازمة العادية بين اتفاق
المرؤوسين ورضا الرئيس، كما هو كذلك في الأمور الدنيوية، فإن من ورد في
بلد مثلا، ورأى أمرا رائجا بين أهل ذلك البلد يحدس حدسا قطعيا بأن هذا قانون
ذلك البلد، كما لا يخفى.
هذا، ولكن ذلك الحدس إنما هو فيما إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو
قاعدة أو دليل موافق لما اتفقوا عليه، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند
الاتفاق أحد هذه الأمور، فلا يكشف اتفاقهم عن رضا الرئيس بذلك واقعا، كما
لا يخفى.
هذا، ويرد على الوجه الرابع أيضا: أن الكشف عن دليل معتبر - على
فرض تماميته - لا يفيد بالنسبة إلينا، لاحتمال أنه لو كان واصلا إلينا لفهمنا منه
غير ما فهموا، لاختلاف الأنظار في فهم الظهورات.
إذا عرفت هذه المقدمات تظهر لك: أن نقل الإجماع لا يكون حجة
ومشمولا لأدلة حجية خبر الواحد، من حيث المسبب، لما عرفت من انحصار
أدلة حجيته بما إذا كان المخبر به من الأمور المحسوسة القريبة، وهنا ليس
كذلك، لأنه على تقدير كون مستند الناقل هو القطع بدخوله (عليه السلام) في جملة
المجمعين فالمسبب وإن كان أمرا محسوسا، إلا أنه من المحسوسات الغريبة
الغير العادية التي لا يكتفى فيها بإخبار واحد.
وعلى تقدير كون مستنده هو الملازمة العادية الراجعة إلى حدس رأي
الإمام (عليه السلام) من آراء المرؤوسين فان لمسبب لا يكون حينئذ من الأمور المحسوسة،
لأنه وصل إليه من طريق الحدس والاجتهاد، والذي لا تجري فيه أصالة عدم
454

الخطأ والاشتباه، كما عرفت.
فنقل الإجماع، من حيث تضمنه لنقل المسبب لا يكون حجة أصلا، وأما
من حيث نقل السبب فيكون حجة بلا ريب، لكونه من الأمور المحسوسة الغير
الغريبة. وحينئذ فإن كان السبب تاما، من حيث السببية بنظر المنقول إليه أيضا
يستفيد من ذلك رأي المعصوم (عليه السلام)، وإلا فيضم إليه مقدارا يوجب تمام السبب،
فيستكشف منه رأيه (عليه السلام)، وإلا فلا يترتب على نقله أثر، من حيث استكشاف
رأي المعصوم (عليه السلام).
455

الشهرة في الفتوى
الأمر الرابع
الشهرة في الفتوى
والظاهر حجيتها إذا كانت متحققة بين قدماء الأصحاب إلى زمن الشيخ
أبي جعفر الطوسي (قدس سره)، لملاك حجية الإجماع فيها، فإنه إذا كان الفتوى على
حكم مشهورا بين الفقهاء الذين هم حملة علوم أهل البيت، والأخبار المأثورة
عنهم بحيث كان خلافه شاذا نادرا يستكشف من ذلك أن رأي المعصوم (عليه السلام) إنما
هو مطابق له، إذ لا يعتبر في هذا الكشف اتفاق الكل، بل يكفي فتوى المعظم
منهم.
ولكن ذلك إنما هو إذا كان الفتوى مشتهرا بين القدماء، لأن بنائهم في
التأليف والتصنيف على ضبط الأصول المتلقاة من الأئمة (عليهم السلام)، من دون
التعرض للتفريعيات، كما هو ديدن المتأخرين منهم، فالشهرة بين القدماء
كإجماعهم حجة، لوجود ملاك حجيته فيها، كما عرفت.
هذا، ويمكن أن يستدل له بما في مقبولة عمر بن حنظلة، بعد فرض
الراوي كون الحاكمين عدلين مرضيين، لا يفضل واحد منهما على الآخر من
قوله (عليه السلام): " ينظر إلى من كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع
456

عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين
رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله تعالى ".
إلى أن قال قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات
عنكم. قال: " ينظر... " الحديث (1)، فإن وجوب الأخذ بالخبر المجمع عليه بين
الأصحاب، معللا بأن المجمع عليه لا ريب فيه إنما يتم فيما لو كان الخبر مشهورا
بين الأصحاب، من حيث الفتوى على طبق مضمونه، وإلا فمجرد اشتهاره
رواية، بأن نقله الأكثر في كتب حديثهم، ولو مع إطراحه، وعدم الفتوى على
طبق مضمونه لا يوجب أن يكون مما لا ريب فيه، فيجب الأخذ به من هذه
الجهة.
ويؤيده الاستشهاد بحديث التثليث، فإن مجرد الاشتهار، من حيث الرواية
لا يوجب أن يكون الخبر من أفراد بين الرشد. نعم، ينافي ذلك قوله في الذيل:
" فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم " فإن الشهرة
الفتوائية مما لا يعقل أن تكون في طرفي المسألة، مضافا إلى أن التعبير بقوله:
" قد رواهما الثقات عنكم " يؤيد أن النظر إنما هو في حيثية صحة الرواية،
واشتهاره بين الثقات، وكذا ينافي ذلك التعبير عن الشهرة ب‍ " المجمع عليه "، فإن
ذلك يتم لو كان المراد بها هي الشهرة في الرواية الحاصلة بتدوين الكل،
واتفاقهم على روايته، ولا ينافيه تدوين بعضهم للرواية الغير المشهورة أيضا،
وأما لو كان المراد بها هي الشهرة في الفتوى فلا يتم هذا التعبير.

1 - الكافي 1: 67 / 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 9، الحديث 1.
457

هذا، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن المقصود بالإجماع في الرواية ليس
اتفاق الكل، فإن جل الأصحاب لو ذهبوا إلى أمر، وأفتوا على طبق رواية يصح
عرفا أن يقال: إن هذه الرواية تكون مجمعا عليها. وأما قوله: " فإن كان الخبران
عنكم مشهورين " فيمكن أن يقال بعدول السائل عن السؤال عن ترجيح أحد
الحكمين أو مستندهما على الآخر إلى السؤال عن حكم تعارض الخبرين اللذين
رواهما الثقات، فتأمل.
هذا، ولو سلمنا كون المراد بالشهرة في المقبولة هي الشهرة، من حيث
الرواية فلا إشكال في أن المراد بقوله: " فإن المجمع عليه لا ريب فيه " هي
مطلق ما يكون مجمعا عليه، فيكون بمنزلة كبرى كلية يمكن التمسك بها في
جميع صغرياته التي منها الشهرة في الفتوى.
وأما ما أفاده في " التقريرات " مما ملخصه: أن التعليل ليس من العلة
المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها، فإن المراد
بالمجمع عليه إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية، وإن كان
المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله: " مما لا ريب فيه " عليه بقول مطلق،
بل لابد أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله، وهذا يوجب
خروج التعليل عن كونه كبرى كلية، لأنه يعتبر فيها صحة التكليف بها ابتداء،
بلا ضم المورد إليها، والمقام ليس كذلك، لأنه لا يصح أن يقال: يجب الأخذ بكل
ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله، وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى
غيره، وبأقوى الشهرتين، وبالظن المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة،
فالتعليل أجنبي عن أن يكون كبرى كلية عامة (1).

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 154 - 155.
458

ففيه: أن عدم الريب المحمول في الرواية على المجمع عليه ليس عدم
الريب بالإضافة إلى ما يقابله، بل هو من المعاني النفسية التي لا تقبل
الإضافة، فالمراد: أن كل ما يكون عند العرف مما لا ريب فيه يجب الأخذ به،
وعدم الاعتناء باحتمال خلافه، ولا يلزم شئ من التوالي الفاسدة، كما هو
واضح.
459

خبر الواحد
الأمر الخامس
خبر الواحد
مما خرج عن أصالة حرمة التعبد بالظن، وقام الدليل على حجيته
بالخصوص، خبر الواحد واختلفت أقوال العلماء في حجيته وعدمها.
أدلة عدم حجية خبر الواحد
وقد حكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم
حجية خبر الواحد (1)، واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم.
والتحقيق في الجواب عن هذا الاستدلال: أن الآيات الناهية بعضها ظاهر في
الأصول الاعتقادية، مثل قوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (2)،

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 528، المهذب 2: 598، غنية النزوع 2: 356، مجمع
البيان 9: 199، السرائر 1: 50.
2 - النجم (53): 28.
460

وبعضها أعم منها، مثل قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (1).
أما الطائفة الأولى فغير مرتبطة بالمقام، وأما الطائفة الثانية فمضافا إلى
عدم إبائها عن التخصيص بالأدلة الآتية الدالة على اعتبار الخبر يرد عليه أن
الاستدلال بها مستلزم لعدم جواز الاستدلال به، وما يلزم من وجوده العدم
لا يجوز الاستدلال به.
توضيحه: أن قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، قضية حقيقية
تشمل كل ما وجد في الخارج، وكان مصداقا لغير العلم، فيشمل دلالة نفسها،
لأنها ليست إلا ظنية، لكونها ظاهرة في الدلالة على المنع، والظواهر كلها
ظنية. وبالجملة: إذا لم يجز اتباع غير العلم بمقتضى الآية لم يجز اتباع
ظاهرها، لكونه غير علمي، والفرض شمولها لنفسها، لكونها قضية حقيقية.
إن قلت: لزوم هذا المحذور من شمول الآية لنفسها دليل على التخصيص
وعدم الشمول.
قلت: كما يرتفع المحذور بذلك كذلك يرتفع بالالتزام بعدم شمولها لمثل
الظواهر مما قام الدليل على حجيته، فتختص الآية بالظنون التي هي غير
حجة، ولا ترجيح للأول، لو لم نقل بترجيح الثاني باعتبار أن الغرض منها هو
الردع عن اتباع غير العلم، ولا تصلح للرادعية إلا بعد كونها مفروضة الحجية
عند المخاطبين، ولا تكون حجة إلا بعد ثبوت كون الظواهر حجة ومورد البناء
العقلاء.
فالآية لا تشمل ما كان من قبيلها من الظنون، ومرجع ذلك إلى أن تلك
الظنون لا يكون بنظر العقلاء مصداقا لما ليس لهم به علم، وإلا لكان اللازم عند

1 - الإسراء (17): 36.
461

نزول الآية الشريفة أن يرفع الناس أيديهم عن اشتغالاتهم المبتنية بحسب
الغالب على الأمور الظنية، كاليد وأصالة الصحة وغيرهما، مع وضوح
خلافه، وليس ذلك إلا لعدم كون هذه الظنون داخلة عندهم في الآية. وخبر
الواحد أيضا من هذا القبيل، كما هو واضح.
وقد أفاد بعض الأعاظم - على ما في تقريرات بحثه - في مقام الجواب عن
الاستدلال بالآية ما ملخصه: أن نسبة الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر
الواحد إلى الآيات ليست نسبة التخصيص، حتى يقال بأنها آبية عنه، بل نسبة
الحكومة، فإن تلك الأدلة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف، وجعل الخبر محرزا
للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع، فلا تشمله الأدلة الناهية
عن العمل بالظن، هذا في غير السيرة العقلائية.
وأما فيها فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات نسبة الورود، بل
التخصص، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلى
احتمال مخالفة الخبر للواقع، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصص عن العمل
بالظن. هذا، مضافا إلى عدم صلاحيتها للرادعية عن السيرة العقلائية، للزوم
الدور المحال، لأن الردع عن السيرة بها يتوقف على أن لا تكون السيرة
مخصصة لعمومها، وعدم كونها مخصصة لعمومها يتوقف على أن تكون رادعة
منها (1)، انتهى.
ويرد عليه: أن ما ذكره من إباء الآيات عن التخصيص لا يتم في مثل قوله:
* (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، لعدم اختصاصها بالأصول الاعتقادية.
وأما مسألة الحكومة فلا أساس لها، لأن الأخبار الدالة على جواز العمل

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 161 - 162.
462

بقول الثقة لم يكن لسانها لسان الحكومة، بحيث كان مفادها هو إلغاء احتمال
الخلاف. وقوله (عليه السلام) في بعض الأخبار: " العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني
يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول " (1) لا يدل على الحكومة، لأنه ليس مفادها
إلا العمل بقوله، لوثاقته، لا وجوب إلغاء احتمال الخلاف.
وأما ورود السيرة العقلائية على الآيات فممنوعة، لعدم كون العمل
بالخبر عندهم من العمل بالعلم، ولو سلم غفلتهم عن احتمال الخلاف فلا يوجب
ذلك أيضا تحقق الورود أو التخصيص، فإن موردهما هو الخروج عن الموضوع
واقعا، لا عند المخاطب. والفرق بينهما: أن الأول إنما هو مع إعمال التعبد،
بخلاف الثاني.
وأما ما أفاد أخيرا من لزوم الدور ففيه - مضافا إلى جريان الدور في
المخصصية أيضا، كما لا يخفى - أن توقف الرادعية إنما هو على عدم مخصص
حاصل، إذ لا مخصص في البين جزما، لأن النواهي الرادعة حجة في العموم،
ولابد من رفع اليد عنها بحجة أقوى، ولا حجية للسيرة بلا إمضاء الشارع،
فالرادع رادع فعلا، والسيرة حجة لو أمضاها الشارع، وهو منتف مع هذه
المناهي. وبالجملة: فعدم كون السيرة مخصصة للآيات الناهية وإن كان متوقفا
على كونها رادعة عنها إلا أن رادعيتها لا تتوقف على شئ.
هذا، ويمكن تقريب الورود بالنسبة إلى أدلة حجية الخبر الواحد بأن
يقال: إن العلم الذي نهى عن اتباعه لا يكون المقصود به هو العلم المقابل للظن،
بل المراد به هو الحجة، ولو كانت ظنية. فمفاد الآية إنما هو النهي عن اتباع

1 - الكافي 1: 329 / 1، وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 4.
463

غير الحجة، وأدلة حجية خبر الواحد إنما تكون مثبتة لحجيته، فتكون واردة
عليها.
كما أنه يمكن أن يقال - بعد إبقاء العلم على معناه الظاهر المرادف لليقين -:
إن العمل بخبر الواحد ليس عملا بغير العلم واتباعا له، لأنه وإن كان كشفه عن
الواقع كشفا ظنيا، ولا يحصل العلم منه إلا أنه بعد قيام الدليل القطعي من السيرة
أو غيرها على حجيته يكون العمل في الحقيقة عملا بالعلم، كما هو واضح.
فانقدح مما ذكرنا: أن الاستدلال في المقام بالآيات الناهية استدلال في
غير محله، كما عرفت.
وقد يستدل لهم أيضا بالروايات الدالة على رد ما لم يكن عليه شاهد من
كتاب الله أو شاهدان (1) أو لم يكن موافقا للقرآن (2) أو لم يعلم أنه قولهم (عليهم السلام)
إليهم (3)، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب الله (4)، أو على أن ما لا يوافق كتاب
الله زخرف (5)، أو مثل ذلك من التعبيرات. ولكن لا يخفى أنها أخبار آحاد، لا
مجال للاستدلال بها على عدم حجيتها. ودعوى تواترها إجمالا وإن لم يكن

1 - الكافي 2: 222 / 4، وسائل الشيعة 27: 112، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 9، الحديث 18.
2 - وسائل الشيعة 27: 112 و 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9،
الحديث 19 و 35.
3 - وسائل الشيعة 27: 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث
36.
4 - المحاسن: 221 / 129.
5 - الكافي 1: 69 / 3 و 4، وسائل الشيعة 27: 110 و 111، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 9، الحديث 12 و 14.
464

متواترة لفظا أو معنا إنما تجدي - على تقدير تسليمها - بالنسبة إلى القدر المتيقن،
ومورد توافق الجميع، وهو بطلان الخبر المخالف، ولا بأس بالالتزام بعدم
حجيته، كما هو واضح.
أدلة حجية خبر الواحد
ثم إنه قد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات
منها: آية النبأ
قال الله تبارك وتعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) * (1) ويمكن
تقريب الاستدلال بها بوجوه:
الأول: من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين على كون
الجائي بالخبر فاسقا يدل على انتفاء الوجوب عند عدم الشرط.
الثاني: من جهة مفهوم الوصف وأن وجوب التبين إنما جعل محمولا على
خبر الفاسق، فينتفي عند انتفائه.
الثالث: من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فإن وجوب التبين إنما
يناسب مع كون الجائي بالخبر فاسقا.
الرابع: من جهة ذكر الفاسق في الموضوع، فإنه مركب من الخبر ومن

1 - الحجرات (49): 6.
465

كون الجائي به فاسقا، وهو يدل على مدخلية ذلك في ترتب المحمول، وإلا
لكان ذكره لغوا، كما هو واضح.
هذا، ويرد على الاستدلال بالآية من جهة مفهوم الشرط: أنه - على
تقدير تسليم ثبوت المفهوم لمطلق القضايا الشرطية وللآية بالخصوص - أن
ما جعل في الآية جزاء لمجئ الفاسق بالنبأ بحسب الظاهر لا يناسب مع الشرط،
ولا ارتباط بينهما، فلابد أن يكون الجزاء أمرا آخر محذوفا يدل عليه المذكور.
توضيح ذلك: أن التبين عبارة عن التفحص والتحقيق ليظهر الأمر ويتبين،
ومن الواضح أن التبين عند مجئ الفاسق بالخبر لا يوجب العمل بخبر الفاسق،
من حيث مجيئه به، بل يكون العمل حينئذ على طبق ما يتبين، بلا مدخلية إتيان
الفاسق به.
وبالجملة: فوجوب التبين والعمل على طبقه مما لا ارتباط له بمجئ
الفاسق بالخبر، فاللازم أن يكون الجزاء هو عدم الاعتناء بخبره وعدم الاعتماد
بقوله، فمنطوق الآية حينئذ عبارة عن أنه لو جاءكم فاسق بنبأ فتوقفوا، ولا
ترتبوا عليه الأثر أصلا. وحينئذ فالحكم في المفهوم إنما هو نفي التوقف
والإطراح بالكلية، وهو لا يثبت أزيد من ترتيب الأثر على قول العادل في
الجملة، الغير المنافي مع اشتراط عدل آخر، كما لا يخفى.
هذا، ويؤيد ما ذكرنا: أن المنقول عن بعض القراء هو " تثبتوا " موضع
" تبينوا " (1)، والتثبت التوقف، فتدبر.
هذا كله على تقدير تسليم ثبوت المفهوم للآية، مع أن لنا المنع منه، كما
أفاده الشيخ المحقق الأنصاري في " الرسالة "، ومحصله: أن الجزاء هو وجوب

1 - الكشاف 4: 360، مجمع البيان 9: 198، كنز الدقائق 9: 589.
466

التبين عن الخبر الذي جاء به الفاسق لا مطلق الخبر، كما هو واضح، ومن
المعلوم انتفاء ذلك عند انتفاء الشرط، وهو مجئ الفاسق بالخبر، لانتفاء الحكم
بانتفاء موضوعه، إذ لا يعقل التبين عن خبر الفاسق مع عدم مجيئه به. وحينئذ
فالقضية السالبة المفهومية إنما هي سالبة بانتفاء الموضوع، فتكون الجملة
الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، كما في قول القائل: " إن رزقت ولدا
فاختنه " ونظائر هذا المثال (1).
وهنا تقريبات لبيان ثبوت المفهوم للآية:
أحدها: ما أفاده في " الكفاية ": أن الشرط هو كون الجائي بالخبر فاسقا،
والموضوع المفروض هو نفس النبأ المتحقق، فمرجع الآية إلى أن النبأ إن كان
الجائي به فاسقا، فيجب التبين، ومفهومه أنه إن لم يكن الجائي به فاسقا
فينتفي وجوب التبين، وهو لا يصدق إلا مع مجئ العادل به (2).
هذا، ويرد عليه: أن هذا تصرف في الآية، وحمل لها على غير المعنى
الظاهر بلا دليل.
ثانيها: ما أفاده المحقق العراقي - على ما في تقريرات بحثه - وملخصه:
أنه لا شبهة في أن استخراج المفهوم من القضايا يحتاج إلى تجريد الموضوع
المذكور في المنطوق في ناحية المفهوم من القيود التي أريد استخراج المفهوم من
جهتها، وحينئذ فنقول: إن المحتملات المتصورة في الشرط في الآية ثلاثة:
منها: كون الشرط فيها نفس المجئ خاصة مجردا عن متعلقاته، وعليه
يتم ما أفاده الشيخ من انحصار المفهوم فيها بالسالبة بانتفاء الموضوع، فإن لازم

1 - فرائد الأصول 1: 118.
2 - كفاية الأصول: 340.
467

الاقتصار على التجريد على خصوص المجئ هو حفظ إضافة الفسق في ناحية
الموضوع بجعله عبارة عن النبأ المضاف إلى الفاسق.
ومنها: كون الشرط هو المجئ مع متعلقاته، ولازمه هو كون الموضوع
نفس النبأ، مجردا عن إضافته إلى الفاسق أيضا، وعليه يكون للآية مفهومان:
أحدهما السالبة بانتفاء الموضوع، وثانيهما السالبة بانتفاء المحمول.
ومنها: كون الشرط عبارة عن الربط الحاصل بين المجئ والفاسق الذي
هو مفاد كان الناقصة، ولازمه هو الاقتصار في التجريد على خصوص ما جعل
شرطا، أعني الإضافة الحاصلة بين المجئ والفاسق، وينحصر المفهوم فيه
بالسالبة بانتفاء المحمول.
هذا، ولكن الأخير من هذه الوجوه الثلاثة في غاية البعد، لظهور الجملة
الشرطية في الآية في كون الشرط هو المجئ، أو مع إضافته إلى الفاسق، لا
الربط الحاصل بين المجئ والفاسق بما هو مفاد كان الناقصة مع خروج نفس
المجئ عن الشرطية، كي يلزمه ما ذكر من كون الموضوع فيها هو النبأ المجئ
به، كما أفاده في " الكفاية ".
ويتلوه في البعد الوجه الأول، فإن ذلك أيضا ينافي ظهور الآية
المباركة، فإن المتبادر المنساق منها عرفا كون الشرط هو المجئ بما هو مضاف
إلى الفاسق، نظير قوله " إن جاءك زيد بفاكهة يجب تناولها "، وعليه فكما يجب
تجريد الموضوع في الآية عن إضافته إلى المجئ كذلك يجب تجريده عن
متعلقاته، فيكون الموضوع نفس طبيعة النبأ، لا النبأ الخاص المضاف إلى
الفاسق، ولازمه جواز التمسك بإطلاق المفهوم في الآية، لعدم انحصاره حينئذ
في السالبة بانتفاء الموضوع (1)، انتهى.

1 - نهاية الأفكار 3: 111 - 112.
468

ثالثها: ما في تقريرات المحقق النائيني، وملخصه: أنه يمكن استظهار
كون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط هو مجئ الفاسق به من مورد
النزول (1)، فإن موردها إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، فقد أجتمع في إخباره
عنوانان: كونه من الخبر الواحد، وكون المخبر فاسقا، والآية الشريفة إنما
وردت لإفادة كبرى كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها، وقد
علق وجوب التبين على كون المخبر فاسقا، فيكون الشرط لوجوب التبين هو
كون المخبر فاسقا، لا كون الخبر واحدا، إذ لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب
التبين في الآية عليه، لأنه بإطلاقه شامل لخبر الفاسق. فجعل الشرط خبر
الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق (2)، انتهى.
رابعها: تقريب آخر أفاده الأستاذ (3)، وهو أنه لا فرق في شمول العام
لأفراده بين كونها أفرادا ذاتية له أو عرضية، إذا كانت شموله للثانية بنظر
العرف حقيقة، فكما أن الأبيض صادق على نفس البياض ذاتا كذلك صادق على
الجسم المتصف به، مع أن صدقه عليه عرضي عند العقل. وحينئذ نقول: إن
لعدم مجئ الفاسق بالخبر فرد ذاتي، هو عدم تحقق الخبر أصلا، وأفراد عرضية
هي مجئ العادل به، فكما يشمل العام الذي هو مفهوم الآية الفرد الذاتي كذلك
يشمل الفرد العرضي أيضا.
هذا، ويرد على الأخير ثبوت الفرق بين المثال والممثل، فإن صدق عنوان
الأبيض على نفس البياض في المثال يكون أخفى من صدقه على الفرد العرضي
الذي هو الجسم المتصف به، بخلاف المقام، فإن صدق المفهوم على الفرد

1 - أسباب النزول: 277 - 278، التبيان 9: 343، مجمع البيان 9: 198.
2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 169.
3 - أنوار الهداية 1: 283 - 285.
469

العرضي، وهو مجئ العادل بالنبأ أخفى من صدقه على الفرد الذاتي، وهو عدم
تحقق النبأ أصلا، بل لا يكون عرفا من مصاديقه وإن كان أحد الضدين مما ينطبق
عليه عدم الضد الآخر، ويكون مصدوقا عليه بحسب اصطلاح فن المعقول،
لكنه أمر خارج عن متفاهم العرف.
هذا، ويرد على الوجه السابق على هذا الوجه: أن كون مورد النزول هو
إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق لا ربط له بكون الموضوع في الآية مطلق
النبأ، والشرط خارج غير مسوغ لتحقق الموضوع. وبالجملة: فلا يمكن أن
يستفاد من مورد النزول مدخلية المجئ في الموضوع وعدمها، فاللازم الأخذ
بظاهرها، الذي هو كون الموضوع النبأ المقيد بمجئ الفاسق به، وقد عرفت
عدم ثبوت المفهوم له حينئذ أصلا مع أن دعوى كون الآية واردة لإفادة كبرى
كلية إنما يبتني على ثبوت المفهوم لها، ضرورة أنها بدونه لا تكون في مقام تمييز
ما يجب فيه التبين عن غيره، فإثبات المفهوم لها من هذه الناحية غير ممكن
أصلا. ومن هنا يظهر الجواب عن باقي التقريبات، فتدبر.
تذييل: فيما اورد على التمسك بالآية
قد اورد على التمسك بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد بأمور، بعضها
يختص بالآية وبعضها يشترك بين الآية وغيرها:
أما الإشكالات المختصة بالآية
فمنها: معارضة المفهوم مع عموم التعليل الواقع في ذيلها، وهو قوله
تعالى: * (أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) * فإن الجهالة هي
عدم العلم بالواقع، وهو مشترك بين إخبار الفاسق وغيره. فمقتضى التعليل وجوب
470

التبين عن خبر العادل أيضا، وهو يعارض مع مفهوم الصدر، والتعليل أقوى.
ودعوى: أن النسبة بينهما عموم من وجه، فيتعارضان في مادة الاجتماع،
وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم، ويجب حينئذ تقديم عموم المفهوم وإدخال
مادة الاجتماع فيه، إذ لو خرج عنه، وانحصر مورده بالخبر العادل المفيد للعلم
لكان لغوا، لأن خبر الفاسق المفيد للعلم أيضا واجب العمل، بل نقول: إن الخبر
المفيد للعلم خارج عن الآية مفهوما ومنطوقا، فيكون المفهوم أخص مطلق من
عموم التعليل، فيجب تخصيصه به.
مدفوعة: بأن المدعى إنما هو التعارض بين ظهور التعليل في العموم
وظهور الجملة الشرطية في ثبوت المفهوم، وحينئذ فالأخذ بظاهر التعليل أولى
من تخصيصه بعد ثبوت المفهوم، خصوصا بعد كونه آبيا عن التخصيص. وبعبارة
أخرى: لا ينعقد للآية مفهوم، حتى تعارض مع عموم التعليل (1).
هذا، والحق أن يقال: إن الآية الشريفة لا مجال للاستدلال بها للمقام، فإن
المراد بالنبأ ليس مطلق الخبر، بل الخبر العظيم، والنبأ الذي يترتب عليه أمور
كثيرة. والدليل عليه - مضافا إلى التعبير بالنبأ لا بالخبر - ملاحظة التعليل، فإن
من الواضح أن العمل بخبر الفاسق في غير الأمور العظيمة مما لا يترتب عليه
الندامة، فإنه لو أخبر بمجئ زيد فرتب المخاطب آثار المجئ بمجرد إخباره
لا يوجب ذلك إصابة القوم بجهالة الموجبة للندامة، ويدل على ذلك ملاحظة
مورد نزول الآية أيضا، ومن المعلوم أن في تلك الأمور العظيمة التي يترتب
عليها قتل الرجال، وسبي النساء والصبيان، وتصرف الأموال لا يجوز الاكتفاء فيها
بخبر العادل أيضا، فالآية الشريفة بعيدة عن المقام بمراحل.

1 - فرائد الأصول 1: 118.
471

هذا، مضافا إلى أنه على تقدير تسليم كون المراد بالنبأ هو مطلق الخبر
نقول: إنه لا مجال لدعوى المفهوم فيها، فإن التعليل إنما يدل على كون الحكم
معللا بمضمونه، ومعه لا مجال لدعوى كون التعليق في القضية الشرطية ظاهرا
في كون الشرط علة، فضلا عن كونه علة منحصرة، إذ هذا الظهور إنما نشأ من
إطلاق الأداة أو إطلاق الشرط أو إطلاق الجزاء - كما قد قرر في باب المفاهيم -
ومع التصريح بالعلية لم يكن للقضية ظهور في الإطلاق، بل لا يكون لها ظهور
في مجرد علية الشرط، فضلا عن انحصارها. ولعمري إن هذا الإشكال مما
لا يمكن الذب عنه، فتدبر.
هذا، وأما ما يظهر من بعض من دعوى أن الجهالة ليس بمعنى عدم العلم،
بل بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه (1) فهو ظاهر الفساد،
وبعد وضوح كونه من اشتقاقات مادة الجهل، مضافا إلى تصريح أهل اللغة به
أيضا (2).
ومنها: أنه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم، لأن مورد نزول الآية
الشريفة هو الإخبار بالارتداد، وهو لا يثبت إلا بالبينة، فاللازم خروجه عن
العموم، مع أنه نص في المورد، فلابد من رفع اليد عن المفهوم لئلا يلزم
التخصيص الشنيع (3)، وهذا الإشكال أيضا مما لا يمكن الذب عنه، وإن تصدى
للجواب عنه المحقق النائيني - على ما في التقريرات (4) - ولكنه لا يندفع به،
فتأمل فيه.

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 171.
2 - مجمع البحرين 5: 345، القاموس المحيط 3: 363، الصحاح 4: 1663.
3 - انظر فرائد الأصول 1: 124.
4 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 174.
472

وأما الإشكالات العامة
فمنها: أن مفهوم الآية لو دل على حجية خبر العادل لدل على حجية
الإجماع الذي أدعاه السيد وأتباعه على عدم حجية خبر العادل أيضا، لأنهم
عدول أخبروا بحكم الإمام (عليه السلام) بعدم حجية خبر الواحد، فيلزم من حجية الخبر
عدم حجيته، وما يلزم من وجوده العدم فهو محال (1).
هذا، ولكن هذا الإشكال يندفع بملاحظة ما ذكرنا في الإجماع المنقول من
عدم حجية الإخبار عن حدس، ومن المعلوم أن ادعاء الإجماع مبني على
الحدس، كما عرفت.
وأجيب عنه بوجوه أخر:
أحدها: أن ذلك معارض بقول السيد، فإن حجيته يستلزم عدم حجيته،
وما يلزم من وجوده العدم فهو محال، فلا يكون قول السيد بحجة (2). ولكن يمكن
أن يقال: بأن المحال إنما يلزم من شمول خبر السيد لنفسه، وهو يوجب عدم
الشمول، ولكنه معارض بأن حجية الخبر الواحد لا يستلزم المحال، بل المحال
يلزم من شمول أدلة حجية خبر الواحد لخبر السيد، وهو يوجب عدم شمولها
له، فيرتفع الإشكال.
ثانيها: أن الأمر يدور بين دخوله وخروج ما عداه وبين العكس، ولا ريب
أن الثاني متعين، لا لمجرد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد، بل لأن المقصود من
جعل الحجية ينحصر في بيان عدم الحجية، ولا ريب أن التعبير عن هذا المقصود

1 - انظر فرائد الأصول 1: 121.
2 - نفس المصدر.
473

بما يدل على عموم حجية خبر العادل قبيح في الغاية (1).
وأورد على ذلك المحقق الخراساني في " التعليقة " بمنع لزوم ما هو قبيح
في الغاية، لأنه من الممكن جدا أن يكون المراد من الآية واقعا هو حجية خبر
العادل مطلقا إلى زمان خبر السيد بعدم حجيته، كما هو قضية ظهورها، من دون
أن يزاحمه شئ قبله وعدم حجيته بعده، كما هو قضيته، لمزاحمة عمومها
لسائر الأفراد، وبعد شمول العموم له أيضا.
ومن الواضح: أن مثل هذا ليس بقبيح أصلا، فإنه ليس إلا من باب بيان
إظهار انتهاء حكم العام في زمان بتعميمه، بحيث يعم فردا ينافي ويناقض الحكم
سائر الأفراد. ولا يوجد إلا في ذاك الزمان، حيث إنه ليس إلا نحو تقييد. لكن
الإجماع قائم على عدم الفصل (2)، انتهى موضع الحاجة.
ولكن لا يخفى: أن دعوى السيد الإجماع لو كانت حجة بمقتضى شمول
أدلة حجية خبر العدل لكان مقتضاها عدم حجية خبر الواحد من زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيعود حينئذ محذور الاستهجان، كما هو واضح.
ثالثها: ما ذكره المحقق العراقي - على ما في تقريرات بحثه -: من أن هذا
الإشكال مدفوع أولا: بأنه من المستحيل شمول دليل الحجية لمثل خبر السيد
الحاكي عن عدمها، من جهة استلزام شمول الإطلاق لمرتبة الشك بمضمون
نفسه، فإن التعبد بإخبار السيد بعدم حجية خبر الواحد إنما كان في ظرف الشك
في الحجية واللا حجية، ومن المعلوم استحالة شمول إطلاق مفهوم الآية
وغيره من الأدلة لمرتبة الشك في نفسه. بل على هذا يمكن أن يقال بعدم

1 - فرائد الأصول 1: 121 - 122.
2 - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 110.
474

شموله لمثل خبر الشيخ، الحاكي عن الحجية، فإن مناط الاستحالة جار في
كليهما، ولا يختص بالخبر الحاكي عن عدم الحجية.
وثانيا: أنه بعد شمول أدلة الحجية لما عدا خبر السيد من سائر الأخبار
لايبقى مجال لشمولها له، لأن القطع بحجيتها ملازم لانتفاء الشك في مطابقة
مضمون خبر السيد للواقع وعدمها، فيخرج بذلك عن عموم أدلة حجية الخبر،
فيصير عدم شمول الأدلة لمثل خبر السيد من باب التخصص لانتفاء الشك في
مطابقة مؤداه للواقع، وهذا بخلاف ما لو شملت الأدلة لخبر السيد، إذ عليه يلزم
كون خروج ما عداه من سائر الأخبار من باب التخصيص، لتحقق الموضوع فيها،
وهو الشك في المطابقة وجدانا. ومن المعلوم أنه مع الدوران بين التخصص
والتخصيص يتعين الأول.
لا يقال: كيف، ولازم شمول الأدلة لمثل خبر السيد أيضا هو القطع بعدم
حجية ما عداه، فيلزم أن يكون خروج ما عداه أيضا من باب التخصص لا
التخصيص.
فإنه يقال: إن المدار في التعبد بكل أمارة إنما هو الشك في مطابقة
مضمونه ومؤداه للواقع، ومؤديات ما عدا خبر السيد لا يكون حجية خبر الواحد،
كي يقطع بعدم الحجية بسبب شمول أدلة الاعتبار لخبر السيد الحاكي عن عدم
الحجية، بل وإنما مؤديات ما عداه عبارة عن وجوب الأمر الفلاني أو حرمة كذا
واقعا، ولا ريب في بقاء الشك في المطابقة، ولو على تقدير القطع بحجية خبر
السيد، فيشملها أدلة الاعتبار، فلا يكون رفع اليد عنها بمقتضى اعتبار خبر السيد
إلا من باب التخصيص (1)، انتهى ملخصا.

1 - نهاية الأفكار 3: 118.
475

أقول: أما ما أفاده أولا فيرد عليه: ما نبهنا عليه في مبحث القطع من أن ما
اشتهر بينهم من تأخر الشك في الشئ عن ذلك الشئ، وتوقفه على تحققه مما
لا يتم أصلا، كيف ولازم ذلك انقلاب الشك إذا وجد علما، إذ على الفرض لا يتحقق
بدون ثبوت المشكوك، فمع العلم بذلك ينقلب الشك علما، كما هو واضح. فما
ذكره من استحالة شمول إطلاق مفهوم الآية لمرتبة الشك في نفسه مما لا
نعرف لها وجها أصلا.
وأما ما أفاده ثانيا فيرد عليه: أن شمول أدلة الحجية لما عدا خبر السيد
إنما هو فيما إذا كان حجيته مشكوكة، إذ لا معنى لشمولها له مع القطع بعدم
الحجية، وحينئذ نقول: كما أن شمولها له مستلزم لخروج خبر السيد من باب
التخصص، إذ لايبقى حينئذ شك في حجيته ولا حجيته حتى تشمله أدلة
الحجية، كذلك شمول الأدلة لخبر السيد موجب لخروج ما عداه من الأخبار عن
تحتها من باب التخصص، إذ لايبقى مع شمولها لخبر السيد شك في حجية ما عداه
وعدم حجيته، والملاك في الشمول هو الشك في الحجية، لا مطابقة مضمونه
للواقع وعدمها، فما ذكره من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص مما لا وجه
له أصلا، كما هو أظهر من أن يخفى.
ومن الإشكالات العامة: إشكال شمول أدلة الحجية للأخبار الحاكية
لقول الإمام (عليه السلام) بواسطة أو وسائط، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن
الصفار عن العسكري (عليه السلام).
ويمكن تقريب هذا الإشكال من وجوه (1):

1 - فرائد الأصول 1: 122، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 177 -
179.
476

الأول: دعوى انصراف الأدلة عن الإخبار بالواسطة.
الثاني: أنه لابد أن يكون للمخبر به أثر شرعي، حتى يصح بلحاظه
التعبد به، وليس للمخبر به في المقام هذا الأثر، فإن المخبر به بخبر الشيخ هو
قول المفيد، ولا أثر شرعي لقوله أصلا.
الثالث: دعوى أن الحكم بتصديق العادل مثبت لأصل إخبار الوسائط، مع
أن خبرهم يكون موضوعا لهذا الحكم، فلابد وأن يكون الخبر في المرتبة
السابقة محرزا بالوجدان أو بالتعبد، ليحكم عليه بوجوب تصديقه، لأن نسبة
الموضوع إلى الحكم نسبة المعروض إلى العرض، فلا يعقل أن يكون الحكم
موجد الموضوعة، لاستلزامه الدور المحال.
الرابع: أنه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس
تصديقه، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه،
ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.
هذا، والجواب عن الأول: منع الانصراف، ولو قيل بأن العمدة في هذا
الباب هو بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد، ولابد من إحرازه في الإخبار مع
الوسائط، ومن المعلوم عدم إحرازه، لو لم نقل بثبوت عدمه من جهة أنا نرى
بالوجدان عدم اعتنائهم بالإخبار مع الوسائط الكثيرة التي بلغت إلى عشرة أو
أزيد مثلا. فيشكل الأمر في الأخبار المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام)، لاشتمالها على
الوسائط الكثيرة بالنسبة إلينا.
فنقول: إن الواسطة في تلك الأخبار قليلة، لأن الواسطة إنما هو بين
الشيخ والكليني والصدوق وبين الإمام (عليه السلام)، ومن الواضح قلتها، بحيث لا يتجاوز
عن خمس أو ست، وأما الواسطة بيننا وبينهم فلا يحتاج إليها بعد تواتر كتبهم،
ووضوح صحة انتسابها إليهم، كما لا يخفى.
477

وأجيب عن الوجه الثالث: بأن المستحيل إنما هو إثبات الحكم موضوع
شخصه، لا إثبات موضوع لحكم آخر، فإن هذا بمكان من الإمكان، والمقام
يكون من هذا القبيل، فإن الذي يثبت بوجوب تصديق الشيخ إنما هو خبر المفيد،
وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليه وجوب التصديق أيضا،
وهكذا (1).
وعن الوجه الرابع تارة: بما في تقريرات المحقق النائيني من أن هذا
الإشكال إنما يتوجه بناء على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع
الحجية، أما بناء على ما هو المختار من أن المجعول في باب الطرق والأمارات
نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات فلا إشكال حتى نحتاج إلى التفصي عنه،
فإنه لا يلزم شئ مما ذكر، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما
تؤدي إليه أي شئ كان المؤدى، فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد، وقول
المفيد طريق إلى قول الصدوق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول زرارة الحاكي لقول
الإمام (عليه السلام) (2).
واخرى: بما في تقريرات المحقق العراقي مما حاصله: أن دليل الاعتبار -
وهو قوله " صدق العادل " مثلا - وإن كان بحسب الصورة قضية واحدة، ولكنها
تنحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد حصص الطبيعي بتعدد الأفراد، وبعد فرض
انتهاء سلسلة سند الرواية إلى الحاكي لقول الإمام (عليه السلام)، وشمول دليل وجوب
التصديق له، لكون المخبر به في خبره حكما شرعيا تصير بقية الوسائط ذات
أثر شرعي، فيشملها دليل وجوب التصديق، إذ حينئذ يصير وجوب التصديق

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 179.
2 - نفس المصدر 3: 180.
478

المترتب على مثل قول الصفار الحاكي لقول الإمام (عليه السلام) أثرا شرعيا له، وهكذا
إلى منتهى الوسائط. فكان كل لاحق مخبرا عن موضوع ذي أثر شرعي (1).
وثالثة: بما أفاده المحقق المعاصر في كتاب " الدرر " مما حاصله: أن
وجوب تصديق العادل فيما أخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشك تعبدا، بل
مفاده جعل الخبر، من حيث إنه مفيد للظن النوعي طريقا إلى الواقع، وعليه لو
أخبر العادل بشئ يكون ملازما لشئ له أثر شرعا، إما عادة أو عقلا أو بحسب
العلم نأخذ به، ونرتب على لازم المخبر به الأثر الشرعي المرتب عليه.
والسر في ذلك: أن الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر، وحينئذ
نقول يكفي في حجية خبر العادل انتهاؤه إلى أثر شرعي، ولا يلزم أن تكون
الملازمة عادية أو عقلية، ويكفي ثبوت الملازمة الجعلية، بمعنى أن الشارع
جعل الملازمة النوعية الواقعية بين إخبار العادل، وتحقق المخبر به بمنزلة
الملازمة القطعية، ولا تكون قضية " صدق العادل " ناظرة إلى هذه الملازمة،
كما لا تكون ناظرة إلى الملازمة العقلية والعادية، بل يكفي في ثبوت هذا
الحكم ثبوت الملازمة في نفس الأمر، حتى تكون منتجة للحكم الشرعي
العملي (2)، انتهى.
هذا، ويرد على الجواب الأول: أن جعل الطريقية لابد وأن يكون بلحاظ
الأثر الشرعي المترتب على ما أدى إليه الطريق، وإلا فلا يجوز جعل الطريقية
مع عدم ترتب الأثر الشرعي على المؤدى، والمفروض في المقام أن ما أدى إليه
الطريق هو قول المفيد، وهو لا يكون موضوعا لشئ من الآثار الشرعية، بناء

1 - نهاية الأفكار 3: 124.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 388.
479

على جعل الوسطية والكاشفية، كما هو واضح.
وعلى الجواب الثاني: أن ما ذكره من شمول دليل وجوب التصديق لقول
الراوي الذي يحكي لقول الإمام (عليه السلام) لكون المخبر به في خبره حكما شرعيا إنما
يتم لو ثبت خبره، والكلام إنما هو فيه، إذ المفروض أن خبره لم يثبت وجدانا،
فمن أين يشمل له دليل وجوب التصديق؟!
وبالجملة: ففرض الكلام من صدر السلسلة إنما يصح لو ثبت أن الراوي
الذي وقع في صدرها أخبر من بعده بتحديث الإمام (عليه السلام) له، والكلام إنما هو في
ثبوته، كما لا يخفى.
وعلى الجواب الثالث - مضافا إلى أنه لم يدل دليل على الملازمة التي
ادعاها -: أن المخبر به، وهو قول المفيد في المثال لا يكون مترتبا عليه الأثر
الشرعي، حتى يجب تصديق الشيخ فيما أخبره بلحاظ ذلك الأثر. وتوهم أن قول
المفيد يترتب عليه بعض الآثار، وهو صحة النسبة إليه، وعدم كون إسناده
إليه من القول بغير العلم، فلا مانع من أن يكون وجوب التصديق بلحاظ ذلك
الأثر، مدفوع بأن قول المفيد بلحاظ هذا الأثر إنما يكون من الموضوعات
الخارجية التي لا تثبت إلا بالبينة، ولا يكفي فيه قول العادل الواحد، كما هو
واضح.
والتحقيق في هذا المقام - بعد عدم رفع الإشكال بما ذكره الأعلام، كما
عرفت - أن يقال: إن أصل الإشكال، وكذا الجوابات كلها من الأمور العقلية
الخارجة عن فهم العرف، الذي هو الملاك والمرجع في معنى الآية ونظائرها
من الأدلة، فإنه لاشك في أنه لو ألقى عليهم هذا الكلام، وهو حجية قول
العادل، ووجوب تصديقه فيما أخبره لا يفهمون من ذلك الفرق بين الإخبار بلا
واسطة أو معها، ولا ينظرون في الإخبار مع الواسطة إلى الوسائط أصلا، بل
480

يقولون في المثال بأن العادل أخبر بأن الإمام (عليه السلام) قال كذا أو فعل كذا، وإن كان
العادل الذي وقع في منتهى السلسلة لم يخبر بقول الإمام (عليه السلام)، بل المخبر به
بخبره هو إخبار العادل الذي حدثه.
ومن هنا يعلم: أن المخبر به بخبر هذا العادل وإن كان من الموضوعات،
ولا يكفي في ثبوتها إلا البينة إلا أنه حيث لا يكون في نظر العرف منظورا مستقلا،
بل منظورا آليا فيكفي في ثبوته إخبار عادل واحد.
منها: آية النفر
ومن الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد آية النفر: * (وما كان
المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (1).
ولكن الاستدلال بها لذلك في غاية الضعف، لأن المستفاد من لولا
التحضيضية ليس وجوب أصل النفر، بل المقصود بها بملاحظة قوله: * (وما
كان المؤمنون لينفروا كافة) *، وبملاحظة الآيات التي قبل هذه الآية هو نفي
وجوب نفر المؤمنين كافة، والنهي عن ذلك، بمعنى أن مفاد لولا التحضيضية هو
وجوب التفرقة والتفكيك، أي لا يجوز للمؤمنين كافة النفر، وإبقاء رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، فلم لا يكون النافرون طائفة خاصة من المؤمنين.
فالمراد من الآية بحسب الظاهر هو النهي عن النفر العمومي، وليس
المقصود منها هو بيان أصل وجوب نفر طائفة لغاية التفقه. هذا، مضافا إلى أن
كلمة النفر كما يدل عليه التأمل في سياق الآية وفي موارد استعمالاتها في

1 - التوبة (9): 122.
481

القرآن الكريم يكون المراد بها النفر للجهاد، لا النفر للتفقه.
وعليه فيتعين أن يكون المراد من الآية هو تفقه النافرين بسبب ما يرونه
في الجهاد من السفرة الإلهية والإمدادات الغيبية وقوة الإيمان وإنذار القوم
الذين هم الكفار الموجودون في المدينة، لعلهم يحذرون ويدخلون في دين
الله، أو يصون الإسلام والمسلمون من شرورهم. ويؤيد ذلك رجوع الضمير في
" ليتفقهوا " أو ما بعده إلى النافرين المذكورين في الآية، ولا وجه للرجوع إلى
المتخلفين، بعد عدم كونهم مذكورين، وأيضا لا يناسب الإنذار والحذر بالإضافة
إلى المجاهدين، أصلا.
وإلى أن التفقه يحتمل أن يكون المراد به التفقه في الأصول
الاعتقادية، لا الأحكام الفرعية، كما يشهد بذلك الروايات الكثيرة التي استدل
فيها بالآية الشريفة لأصل الإمامة (1).
وعلى تقدير أن يكون المراد به الأعم من التفقه في الأحكام الفرعية
فالظاهر أن المراد بقوله " لينذروا " هو إنذار كل واحد من المتفقهين النافرين أو
المتخلفين - على اختلاف التفسيرين - جميع قومهم، وحينئذ فلا يدل على وجوب
تصديق كل واحد من المنذرين، وعلى تقدير وجوب تصديقه ينحصر ذلك
بالمتفقه المنذر، لا كل من تحمل الحديث، وإن لم يكن فقيها.
هذا كله، مضافا إلى المنع من كون الحذر واجبا، وعلى تقدير وجوبه لا
دليل على كون المراد بالحذر هو الحذر العملي الراجع إلى العمل بقول المنذر، بل
الظاهر هو التحذر القلبي والخوف والخشية، فيكون المقصود لينذروا قومهم
بالموعظة والإيعاد، حتى يخافوا من عذاب الله، ويعملوا بوظائفهم.

1 - الكافي 1: 378 - 380 / 1 - 3.
482

وكيف كان فالآية الشريفة بعيدة عن الدلالة على حجية خبر الواحد
بمراحل. ومما ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقق النائيني على ما في تقريراته
في تقريب دلالة الآية على حجية خبر الواحد (1)، فراجع.
الدليل الثاني: الأخبار
هذا، وقد استدل على حجية خبر الواحد بالأخبار الكثيرة، وتقريب
الاستدلال بها - كما أفاده في " الكفاية " وتبعه في " الدرر " - أن هذه الأخبار وإن
لم يكن متواترة لفظا ومعنى إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه يعلم إجمالا
بصدور بعضها منهم (عليهم السلام)، ومقتضى ذلك وإن كان حجية خبر دل على حجيته
أخصها مضمونا إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية،
وقد دل على حجية ما كان أعم (2).
هذا، ولكن لا يخفى: أن ذلك مجرد فرض، وإلا فالظاهر أنه لا يكون بين
الأخبار ما كان جامعا لشرائط الحجية، وكان مدلوله حجية خبر الواحد بنحو
الإطلاق، مضافا إلى أن إثبات التواتر - ولو إجمالا - مشكل، لأن من شرط التواتر
أن يكون متواترا في جميع الطبقات، مع أنه ليس الأمر في المقام كذلك، لأن هذه
الأخبار كلها مذكورة في الجوامع الأربعة للأعاظم الثلاثة، فينحصر الناقلون
فيهم، مع أن الواضح عدم ثبوت التواتر بقولهم. وأما غيرها من الجوامع فلم يثبت
صحة إسنادها إلى مؤلفيها على نحو التواتر، كالجوامع الأربعة، كما لا يخفى.
هذا، مضافا إلى أن أخص تلك الأخبار مضمونا هو ما يدل على إرجاع

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 185.
2 - كفاية الأصول: 346 - 347، درر الفوائد، المحقق الحائري: 392.
483

السائل إلى زرارة في تعلم الأحكام، وأخذ معالم الدين، وهو يشتمل على
خصوصيتين: أحدهما كون من يؤخذ عنه ذلك فقيها في الدين كزرارة، وثانيهما:
أن الأخذ منه إنما هو من دون واسطة.
ومن المعلوم: أنه لا يمكن إلغاء شئ من الخصوصيتين، وإن كانت
خصوصية كونه زرارة ملغاة قطعا.
هذا، ويمكن تقريب الاستدلال بالإخبار لحجية خبر الواحد بوجه آخر،
وهو أن يقال: إنه لا إشكال في ثبوت بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في
الجملة - لو لم نقل بثبوته على العمل به مطلقا، كما سنحققه - وحينئذ فنقول:
يوجد في تلك الأخبار الكثيرة ما يدل على حجية خبر الواحد مطلقا، فإنه يثبت
ببناء العقلاء حجية ذلك الخبر الذي مدلوله هو حجية الخبر مطلقا، ولا يلزم
الدور، ولا يحتاج إلى إثبات التواتر، كما هو واضح.
وهذا الخبر هو ما رواه الكليني عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن
يحيى جميعا عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق قال: سألت أبا
محمد (عليه السلام)، وقلت: من أعامل، وعمن آخذ، وقول من أقبل؟
فقال: " العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك
فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان... " الحديث (1).
فإنه لا إشكال في كون مثل هذا السند العالي الذي يكون كل رواته مذكى
بتذكية عدلين، بل عدول مورد البناء العقلاء قطعا، وحينئذ فيجب الأخذ به، وبه
يثبت حجية قول الثقة المأمون مطلقا، كما لا يخفى.

1 - الكافي 1: 329 / 1، وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 4.
484

الدليل الثالث والرابع: الإجماع وسيرة العقلاء
هذا، وأما الاستدلال بالإجماع على حجية خبر الواحد فمخدوش من
وجوه لا يخفى على المتأمل.
نعم، استمرار سيرة العقلاء على العمل بأخبار الآحاد في أمور معاشهم
وسياساتهم دليل قطعي على حجية أخبار الآحاد لو لم يردع عنه الشارع، وهو
العمدة في هذا الباب، إذ قد عرفت عدم تمامية الأدلة الثلاثة المتقدمة.
ولا يخفى: أن ذلك إنما هو في مقام المحاجة، وأما الأغراض الشخصية
الجزئية فيمكن أن لا يعملوا فيها بأخبار الآحاد، كما نراه بالوجدان، ولكن ذلك
لا يضر بما نحن بصدده، فإن الغرض إثبات حجية خبر الثقة في مقام الاحتجاج،
فإنه لا شبهة في أنه لو أمر المولى عبده بشئ، وأعلمه على ذلك بتوسط ثقة
لا يكون للعبد الاعتذار لدى المخالفة بأن المولى لم يبينه لي، وأن الواسطة كان
جاريا فيه احتمال الكذب، كما هو واضح.
نعم، يبقى في المقام إثبات عدم الردع عن هذه السيرة المستمرة، فنقول: قد
يستدل لثبوت الردع بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم. هذا.
وأجاب عن ذلك في " الكفاية " بأنها لو كانت رادعة يلزم الدور (1).
ولكن قد عرفت عدم لزومه بوجه، وأن التحقيق عدم جواز الاستدلال
بها، لأن ظاهرها أيضا ظني، فيلزم من جواز الاستدلال بها عدمه، وهو محال.
مضافا إلى أنك عرفت: أن المقصود بالعلم في الآية هي الحجة المعتبرة، وخبر
الواحد منها قطعا، ضرورة أنه لم تصر الآية بعد نزولها سببا لتعطيل الأسواق

1 - كفاية الأصول: 348.
485

وأمور الناس أصلا، وليس ذلك إلا لكون المقصود من الآية - على ما هو المتفاهم
منها بنظر العرف - هو ما عدا الدليل المعتبر العلمي أو الظني، كما هو واضح.
ثم إنه أفاد المحقق الخراساني في هامش " الكفاية " كلاما حاصله: أن
خبر الثقة حجة، ولو قيل بسقوط كل من السيرة والإطلاق عن الاعتبار بسبب
دوران الأمر بين ردعها به، وتقييده بها، وذلك لأجل استصحاب حجيته الثابتة
قبل نزول الآيتين.
ودعوى أنه لا مجال لاحتمال التقييد بها، فإن دليل اعتبارها مغيى بعدم
الردع عنها، ومعه لا تكون صالحة لتقييد الإطلاق مع صلاحيته للردع عنها،
مدفوعة بأن الدليل ليس إلا إمضاء الشارع لها، ورضاه بها المستكشف بعدم
ردعه عنها في زمان مع إمكانه.
وبالجملة: ليس حال السيرة مع الآيات الناهية إلا كحال الخاص المقدم
والعام المؤخر في دوران الأمر بين التخصيص بالخاص أو النسخ بالعام (1)، انتهى.
هذا، ولكن يرد عليه: - مضافا إلى أنه لم يعلم أن المتشرعة كانوا قبل
نزول الآيتين يعملون بخبر الواحد في الأمور الشرعية، حتى كان عدم الردع
عنها دليلا على الإمضاء وذلك لكون المسلمين كانوا قليلين غير محتاجين إلى
العمل بخبر الواحد، لانفتاح باب العلم لهم، وهو السؤال عن شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) -
أن الاستصحاب يكون مدرك حجيته خبر الواحد، فكيف يستدل لها
بالاستصحاب، كما لا يخفى.

1 - كفاية الأصول: 349، الهامش 1.
486

المقصد الثامن
مبحث البراءة
487

تمهيد
تمهيد
تقسيم أحوال المكلف وذكر مجاري الأصول
اعلم: أنه قد جرت عادتهم في أول مبحث القطع بتقسيم حالات المكلف،
من حيث إنه قد يحصل له القطع بالحكم، وقد يحصل له الظن به، وقد يحصل
له الشك فيه، ثم ذكر مجاري الأصول، ولكن لا يخلو شئ من التقسيمات وكذا
بيان مجاري الأصول من المناقشة والإشكال، ويظهر ذلك بملاحظة ما
سنحققه.
فنقول: المكلف إما أن يحصل له القطع بالحكم الواقعي الفعلي تفصيلا أو
إجمالا، وإما أن لا يحصل له ذلك، وعلى الثاني: إما أن يكون قاطعا بقيام الأمارة
المعتبرة على الحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا أو لا يكون كذلك، وعلى الثاني: إما
أن يقوم الحجة المعتبرة بالنسبة إلى الواقع وإما أن لا يقوم، بل يكون شاكا في
الواقع أو ظانا به من غير قيام أمارة معتبرة ولا حجة شرعية.
فالأول: هو مبحث القطع، وقد عرفت أنه لا فرق فيه بين القطع التفصيلي
والإجمالي أصلا، فإنه كما يكون القطع التفصيلي بالحكم الواقعي الفعلي حجة
وموجبا لتنجزه، من غير افتقار إلى جعل الحجية له، وكذا لا يجوز جعل حكم
489

على خلافه، كذلك القطع الإجمالي بالحكم الفعلي يكون حجة موجبا لتنجزه،
ولا يعقل الترخيص بخلافه، فإنه لو علم إجمالا بأن قتل النبي المردد بين جمع
كثير مهدور الدم يكون محرما بالحرمة الفعلية التي لا يرضى المولى به أصلا
لا يجوز له ارتكاب قتل واحد من تلك الجماعة، وكذا لا يجوز الترخيص من
المولى، فإنه لا يجتمع مع الحرمة الفعلية، كما هو واضح.
وبالجملة: فلا فرق في أحكام القطع بين القطع التفصيلي والإجمالي
قطعا، فلابد من إدخاله فيه.
والثاني: هو مبحث الظن، وقد عرفت أنه لافرق فيه أيضا بين أن يعلم
تفصيلا بقيام الأمارة المعتبرة، وبين أن يعلم إجمالا بقيامها. والقسم الثاني هو
مبحث الاشتغال المعروف بينهم، الذي يذكرونه عقيب مبحث البراءة، فإن الظاهر
أن المراد منه هو العلم الإجمالي بقيام الأمارة على التكليف من إطلاق دليل أو
غيره، لما عرفت من أنه لا مجال لتوهم الإشكال في حجية العلم الإجمالي
المتعلق بالتكليف الفعلي، وكونه منجزا، بحيث لا يجوز الترخيص بخلافه.
وحينئذ فيكون مبحث الاشتغال من مباحث الظن.
والثالث: هو مبحث الاستصحاب، لأنه حجة على الواقع، وإن لم يكن
أمارة عليه.
والرابع: هو مبحث البراءة، ومن هنا ظهر: أن الوضع الطبيعي يقتضي تأخير
مبحث البراءة عن جميع المباحث، وكذا إدراج البحث عن الاشتغال في مباحث
الظن. نعم، للاشتغال حظ من مبحث الاستصحاب، وهو ما لو كان المستصحب
المعلوم مرددا بين شيئين أو أشياء، كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه لا إشكال في تقدم القطع بقسميه على غيره من
490

الأمارات والأصول، ولا مجال لها معه، أما القطع التفصيلي فتقدمه عليها
واضح، لأنها أمور تعبدية مجعولة للشاك الذي لا يعلم بالواقع، وأما القطع
الإجمالي فلما عرفت من أنه حجة عقلية موجبا لتنجز التكليف، بحيث لا يعقل
الترخيص في تركه، فلا مجال معه من التعبد الذي مورده صورة الشك وعدم
العلم.
وأما تقدم الأمارات على الأصول فنقول: أما تقدمها على الاستصحاب
فربما يشكل وجهه لو كان المراد باليقين الذي ورد في أخبار لا تنقض هو اليقين
القطعي الوجداني الذي لا يحتمل معه الخلاف، لأن مفاد هذه الأخبار حينئذ أن
نقض اليقين بالشك حرام إلى أن يحصل اليقين الوجداني، بخلاف اليقين الأول.
ومن المعلوم: أن الأمارات التي جلها، بل كلها حجج عقلية ثابتة ببناء
العقلاء - كما عرفت - لا تكون مفيدة لليقين، ولم يكن عملهم على طبقها من باب
أنه يقين، ضرورة أن الطريق عندهم لا يكون منحصرا بالقطع، وليس ذلك من
جهة تنزيل سائر الطرق منزلة الطريقة العلمية أصلا، كما يظهر ذلك
بمراجعتهم.
وحينئذ فيقع التعارض بحسب الظاهر بين دليل اعتبار الأمارة وبين أخبار
لا تنقض، لأن مفاده التعبد بثبوت الطهارة مثلا لو شهدت البينة بها، ومفادها
حرمة نقض اليقين بالنجاسة ما دام لم يحصل يقين وجداني بالطهارة. وحينئذ
فيشكل وجه تقدم الأمارات على الاستصحاب.
هذا، ويحتمل قويا أن يكون المراد باليقين في أخبار الاستصحاب هي
الحجة والدليل، فمعناها حينئذ حرمة نقض الحجة بمجرد الشك، بل الواجب
نقضها بحجة أخرى، ولا يجوز رفع اليد عن الحجة بلا حجة، وحينئذ فالوجه
491

في تقدم الأمارات عليه واضح، لأن الأمارات حجة شرعية - تأسيسا أو إمضاء
- فيجوز رفع اليد بها عن اليقين السابق، لأن مقتضى أخبار الاستصحاب هو
حرمة نقض الحجة ما لم تحصل حجة على خلافها، وأدلة اعتبار الأمارات
تثبت الحجة المعتبرة، فتكون واردة عليها.
هذا، ويشهد لما ذكرنا: من أن اليقين ليس المراد به اليقين الوجداني، بل
الحجة والدليل ملاحظة نفس أخبار الاستصحاب، والتأمل فيها، فإنه قد حكم
الإمام (عليه السلام) في صحيحة زرارة الأولى، الواردة في الوضوء (1) بحرمة نقض اليقين
بالطهارة بالشك فيها، مع أن اليقين الوجداني بالطهارة لا يتفق إلا نادرا، لأن العلم
الجزمي بكون الوضوء الصادر من الإنسان قد صدر جامعا لجميع ما اعتبر فيه في
غاية القلة، بل لولا قاعدة الفراغ لأشكل الأمر بسبب ذلك، ومع ذلك قد حكم
الإمام (عليه السلام) بجريان استصحاب الطهارة، وليس ذلك إلا لكون المراد من اليقين
ليس ما اصطلح عليه العلماء، وهو ما يقابل الظن والشك والوهم، كما هو واضح.
ونظير ذلك ما وقع في صحيحته الثانية (2) من حكم الإمام (عليه السلام) بجريان
الاستصحاب فيما لو ظن إصابة الدم أو المني الثوب، مع عدم اليقين بذلك، معللا
ب‍ " أنك كنت على يقين من طهارتك "، مع أن اليقين الوجداني والعلم الجزمي
بطهارة الثوب مما لا يتفق إلا نادرا.
وكذلك صحيحته الثالثة الواردة في عدة أحكام الشكوك: منها

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض
الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2 - تهذيب الأحكام 1: 421 / 1335، وسائل الشيعة 3: 477، كتاب الطهارة، أبواب
النجاسات، الباب 41، الحديث 1.
492

قوله (عليه السلام): " وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام، فأضاف
إليها أخرى، ولا شئ عليه، ولا ينقض اليقين بالشك " (1)، فإن التعبير بقوله:
" وقد أحرز الثلاث " دليل على أن المراد باليقين ليس إلا الإحراز، فتأمل. وكيف
كان فالظاهر - خصوصا بملاحظة ما ذكرنا، وكذا سائر الموارد التي يستفاد منها
هذا المعنى - أن المراد باليقين في أخبار لا تنقض ليس إلا الحجة، وحينئذ
فتكون أدلة الأمارات واردة عليها، كما لا يخفى.
هذا، ومن هنا يظهر وجه تقدم الأمارات على أصالة البراءة التي مدركها
إما مثل حديث الرفع، وإما حكم العقل. فعلى الأول فالظاهر أن المراد ب‍ " ما
لا يعلمون " الوارد فيه ليس إلا ما يعم الحجة عليه، ومن الواضح أن أدلة
الأمارات يثبت حجيتها، كما أن مدركه لو كان قاعدة قبح العقاب بلا بيان تكون
الأمارات متقدمة عليه أيضا، لأنها بيان قام الدليل على اعتبارها.
وأما تقدم الاستصحاب على أصل البراءة، فإن كان مدركها حكم العقل بقبح
العقاب، من دون بيان فواضح، لأن أدلة الاستصحاب الدالة على حرمة نقض
اليقين بغير اليقين بيان وحجة للمولى على العبد، كما هو واضح.
وأما لو كان مدركها هو مثل حديث الرفع فلأن مفاد أدلة الاستصحاب
تنزيل الشك المسبوق باليقين بمنزلة اليقين، لكونه أمرا مستحكما مبرما لا ينبغي
أن ينقض بالشك الذي لا يكون كذلك على ما هو التحقيق من أن المراد باليقين
ليس المتيقن، فإنه لا يناسب النقض بالشك، كما لا يخفى. وحينئذ فتكون أدلة

1 - الكافي 3: 351 / 3، وسائل الشيعة 8: 220، كتاب الصلاة، أبواب الخلل في الصلاة،
الباب 11، الحديث 3.
493

الاستصحاب حاكمة على مثل حديث الرفع (1)، لأن مدلوله رفع ما لا يعلم، وهي
تدل على تنزيل الشك منزلة العلم، وتحكم بكونه علما في عالم التشريع.
وإن شئت قلت: إن المراد ب‍ " ما لا يعلمون " - كما عرفت - هو مالم يقم
الحجة عليه، ولا شبهة في أن أدلة الاستصحاب حجة ودليل، فتكون متقدمة
عليه، كما هو واضح، ولعله سيجئ التكلم في هذا المقام في مبحث
الاستصحاب.

1 - التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس،
الباب 56، الحديث 1.
494

أدلة الأصوليين على البراءة
حول
أدلة الأصوليين على البراءة
إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى ما كنا بصدده، وهو التكلم في البراءة، فنقول:
قد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة:
الدليل الأول: الآيات
منها: قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (1).
وقد اورد على التمسك به تارة: بأن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقا
بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (2).
واخرى: بأن نفي فعلية التعذيب أعم من نفي الاستحقاق (3).
وثالثة: بأن مفادها أجنبي عن البراءة، فإن مفادها الإخبار بنفي التعذيب

1 - الإسراء (17): 15.
2 - فرائد الأصول 1: 317.
3 - الفصول الغروية: 353 / السطر 7.
495

قبل إتمام الحجة، كما هو حال الأمم السابقة، فلا دلالة لها على حكم مشتبه
الحكم، من حيث إنه مشتبه، فهي أجنبية عما نحن فيه (1).
وأنت خبير بعدم تمامية شئ من هذه الإيرادات.
أما الأول: فلأن الآية إنما وقعت في ذيل الآيات الواردة في القيامة، ولا
اختصاص لها، بل لا ارتباط لها بنفي العذاب الدنيوي بالنسبة إلى الأمم
السالفة. وحينئذ فيكون المراد بالتعذيب المنفي هو العذاب الأخروي، كما أن
المراد ببعث الرسول ليس مجرد بعثه، ولو لم يكن مأمورا بالتبليغ، كما يدل على
ذلك - مضافا إلى أنه هو المتفاهم منه - ذكر الرسول، لا النبي، بل المراد به أن
البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجة إنما يكون غاية لعدم التعذيب.
ومن هنا يظهر: أنه لو بلغ بعض الأحكام دون بعض، أو بلغها إلى أهل بلد
خاص دون سائر البلدان، أو بلغها إلى جميع البلدان في عصره، ثم لم يبلغ إلى
الأعصار المتأخرة، لأجل الموانع والحوادث يفهم من الآية عدم التعذيب
بالنسبة إلى التكليف الذي لم يبلغه أصلا، أو الشخص الذي لم يصل إليه،
وحينئذ فالآية ظاهرة، بل صريحة في نفي العذاب بالنسبة إلى ما لم يصل إلى
المكلف.
هذا، ولو سلم ظهورها في الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث،
واختصاصها بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة فنقول: يستفاد منه البراءة
في المقام حينئذ بطريق أولى، إذ لو كان التعذيب الدنيوي مع كونه يسيرا محدودا
بمكان لا يصدر منه تعالى إلا بعد بعث الرسول وإتمام الحجة فالعذاب الأخروي
الذي لا يمكن قياسه مع العذاب الدنيوي، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 333.
496

لا يصدر منه تعالى إلا بعد ذلك بطريق أولى، كما لا يخفى.
وأما الثاني: فلأنه ليس المقصود في المقام إثبات نفي الاستحقاق، بل
يكفينا مجرد ثبوت المؤمن عن العذاب، وإن كان أصل الاستحقاق ثابتا.
وأما الثالث: فيظهر الجواب عنه مما ذكرناه في الجواب عن الإيراد
الأول.
هذا، ويبقى في الآية أنه لو ثبت بدليل وجوب الاحتياط لا يكون التعذيب
حينئذ تعذيبا قبل بعث الرسول، حتى لا يناسب مقامه - جل شأنه - كما لا يخفى.
ومنها: قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (1).
ويقع الكلام فيه في مقامين: أحدهما في إمكان دلالته على المقام، ثانيهما
فيما هو ظاهره.
أما المقام الأول: فلا إشكال في أنه لو كان المراد من التكليف هو التكليف
الفعلي، ومن الموصول هو التكليف الفعلي أيضا أو أعم منه ومن المال وغيره
يلزم المحال، لأنه يصير معناه حينئذ: أن التكليف الفعلي لا يتحقق إلا بعد إيصال
التكليف الفعلي، فيكون اتصافه بالفعلية مشروطا بإيصاله متصفا بها، وهذا دور
صريح.
وكذا يلزم ذلك لو كان المراد من كليهما هو التكليف الشأني، وأما لو كان
المراد بالأول هو التكليف الفعلي وبالموصول هو التكليف الشأني فلا يلزم المحال
بوجه، كما أنه لو كان المراد من قوله: * (لا يكلف الله) * هو عدم إيقاعه
تعالى نفسا في الكلفة والمشقة، لا التكليف المصطلح فلا مانع من أن يكون المراد
بالموصول هو التكليف الفعلي. وحينئذ يصير معنى الآية: أنه تعالى لا يوقع نفسا

1 - الطلاق (65): 7.
497

في المشقة إلا من قبل التكاليف الواقعية الفعلية التي بلغها إلى المكلف.
وحينئذ فيدل على نفي وجوب الاحتياط أيضا، لأنه لو فرض وجوب
الاحتياط يلزم إيقاع المكلف في الكلفة من قبل التكاليف المجهولة التي لم
تصل إلى المكلف، ضرورة أن إيجاب الاحتياط ليس إلا لرعاية حفظ الواقع،
ولا يكون وجوبه إلا طريقيا، فلا يقال بأن الآية لا تنافي وجوب الاحتياط، لأنه
تكليف واصل إلى المكلفين، فلا مانع من وقوع المكلف في المشقة من ناحيته،
فتدبر.
ثم إنه لو أريد بالموصول في الآية أعم من التكليف فالظاهر أنه مما
لا يمكن، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا على وجه تعلق الفعل
بالمفعول المطلق، كما أن تعلقه بالمال أو بمطلق الشئ إنما يكون على وجه
تعلقه بالمفعول به، وهذان الوجهان مما لا يمكن فرض الجامع القريب بينهما،
لأن المفعول به لابد وأن يكون مفروض التحقق قبل ورود الفعل عليه، والمفعول
المطلق إنما هو من شؤون الفعل وأنواعه، ولا جامع بين ما يقع عليه الفعل وبين
ما هو مأخوذ من نفس الفعل. وإن شئت قلت في المقام بعدم الجامع بين التكليف
والمكلف به.
هذا، وأجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما أفاده المحقق النائيني على ما في التقريرات من أن إرادة العموم من
الموصول لا يستلزم أن يكون المراد من الموصول الأعم من المفعول به والمفعول
المطلق، بل يراد منه خصوص المفعول به.
وتوهم أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه
قبل ورود الفعل عليه ممنوع بأن المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله
مفعولا به بنحو من العناية، مثلا الوجوب وإن كان وجوده بنفس الإيجاب
498

والإنشاء إلا أنه باعتبار ما له من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف
به. نعم، الوجوب بالمعنى المصدري لا يصح تعلق التكليف به (1).
هذا، ولا يخفى ما فيه، فإن المعنى الاسم المصدري هو ما يحصل من
المصدر، ويتحقق منه، فيكون في الرتبة المتأخرة عن نفس المصدر، وحينئذ
فكيف يعقل فرض وجود له قبيل المصدر، ثم إيقاعه عليه، كما هو واضح.
ومنها: ما أفاده المحقق العراقي من أن هذا الإيراد إنما يرد في فرض إرادة
الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول، وإلا فبناء على استعمال الموصول
في معناه الكلي العام، وإرادة الخصوصيات من دوال اخر خارجية فلا يتوجه
محذور، لا من طرف الموصول، ولا في لفظ الإيتاء، ولا في تعلق الفعل
بالموصول، لأنه لم تستعمل الموصول والإيتاء إلا في المعنى الكلي، وإفادة
الخصوصيات إنما هي بدوال اخر. وكذلك تعلق الفعل بالموصول ليس إلا نحو
تعلق واحد. ومجرد تعدده بالتحليل لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع (2)، انتهى
ملخصا.
وأنت خبير بأنه بعد فرض عدم وجود الجامع القريب بين خصوصيات
الموصول كيف يمكن أن يقال بأنها مستعملة في المعنى العام.
نعم، الإيتاء مستعمل في معناه، وهو الإعطاء، وهو أمر كلي جامع بين
الإعطاء والإقدار والإعلام، وبعد عدم وجود الجامع لا يكون النسبة أيضا متعلقة
به، حتى يقال بأن تعددها إنما هو بالتحليل.
أما المقام الثاني: - بحسب مقام الإثبات والاستظهار - فدعوى ظهور

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 331 - 333.
2 - نهاية الأفكار 3: 202.
499

الآية فيه ممنوعة، والذي يدفع الإشكال: أن ظاهر الآية - بقرينة ما قبلها وما
بعدها - ينافي الحمل على التكليف، وكونها بمنزلة كبرى كلية لا يوجب شمولها
للتكليف، بل الظاهر أن مفادها هو مفاد قوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها) * (1)، فلا مجال للاستدلال بها على المقام، كما لا يخفى.
الدليل الثاني: الأخبار
منها: حديث الرفع (2)، حيث عد فيه " ما لا يعلمون " من جملة التسعة
المرفوعة. وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتم برسم أمور:
الأمر الأول: في معنى الرفع
فنقول: ذكر المحقق النائيني - على ما في التقريرات - أن الرفع في الحديث
بمعنى الدفع، ولا يلزم من ذلك مجاز، ولا يحتاج إلى عناية أصلا، قال في
توضيحه ما ملخصه: إن استعمال الرفع وكذا الدفع لا يصح إلا بعد تحقق مقتضى
الوجود، بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع على الشئ لكان موجودا في وعائه
المناسب له، لوضوح أن كلا منهما لا يرد على ما يكون معدوما في حد ذاته لا
وجود له ولا اقتضاء الوجود، ويفترق الرفع عن الدفع بأن استعمال الرفع إنما
يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبة
السابقة، والدفع يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود

1 - البقرة (2): 286.
2 - التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس،
الباب 56، الحديث 1.
500

شئ قبل إشغاله لصفحة الوجود، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود،
والدفع مانعا عن تأثير المقتضي.
ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال الرفع بدل الدفع
على وجه الحقيقة، فإن الرفع في الحقيقة يدفع المقتضي عن التأثير في الزمان
اللاحق أو في المرتبة اللاحقة، لأن بقاء الشئ كحدوثه يحتاج إلى علة
البقاء. فالرفع في مرتبة وروده على الشئ إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة
البقاء، وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق. فاستعمال الرفع في مقام الدفع
لا يحتاج إلى رعاية علاقة المجاز أصلا (1)، انتهى.
وأنت خبير بما فيه، لأن صدق عنوان الدفع على مورد الرفع باعتبار كونه
دافعا عن تأثير المقتضى في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة لا يوجب اتحاد
الاعتبارين ووحدة العنوانين في عالم المفهومية، فإن اعتبار الرفع إنما هو إزالة
الشئ الموجود في زمان أو مرتبة عن صفحة الوجود، واعتبار الدفع إنما هو
المنع عن تأثير العلة المبقية في الآن اللاحق، وصدق عنوان الدفع على محل
الرفع باعتباره لا يوجب اتحاد الاعتبارين.
ألا ترى أن صدق عنوان الضاحك دائما على مورد يصدق عليه الإنسان
لا يقتضي اتحاد معنى الضاحك والإنسان، وإن كان التصادق دائميا، فضلا عن
المقام الذي لا يكون النسبة إلا العموم والخصوص، لا التساوي، كما هو واضح.
وبالجملة: تصادق العنوانين في الوجود الخارجي - مطلقا أو في
الجملة - أمر، واتحادهما في عالم المفهومية أمر آخر. وحينئذ فمع اعترافه
بتغاير الاعتبارين لا مجال لدعوى صحة استعمال أحدهما مكان الآخر بلا

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 336 - 337.
501

احتياج إلى رعاية العلاقة والعناية، كما اعترف بذلك في مبحث الاشتغال،
حيث قال: إن استعمال الرفع مكان الدفع أو بالعكس إنما هو بضرب من العناية
والتجوز (1).
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الرفع في الحديث الشريف قد أسند إلى
نفس الأفعال التي يتعلق بها التكليف، ولم يكن مسندا إلى نفس الحكم، حتى
يحتاج إلى دعوى كون المراد من الرفع هو الدفع، فإن الرفع قد أسند إلى نفس
الخطأ والنسيان ونظائرهما. نعم، لا ننكر أن هذا الإسناد يحتاج إلى ادعاء أنه إذا
كانت تلك الأمور مما لا يترتب على فعلها المؤاخذة، أو أظهر آثارها أو جميعها
فكأنها لا تكون متحققة في صفحة الوجود.
وبالجملة: فالرفع قد استعمل في الحديث بمعناه الحقيقي، وهي إزالة
الشئ بعد وجوده، لأنه قد نسب إلى العناوين المتحققة في الخارج، وهي
موجودة ثابتة، وإسناد الرفع إليها إنما هو بأحد الوجوه المحتملة. هذا، ولو قلنا
بأن التقدير هو رفع الأحكام والآثار المترتبة على تلك العناوين فيمكن أن يقال
بأن الرفع حينئذ أيضا قد استعمل في معناه الحقيقي، وهو إزالة الحكم بعد
ثبوته، لأن أدلة الأحكام شاملة بالعموم أو الإطلاق صورة الخطأ والنسيان
والاضطرار والإكراه والجهل، فالرفع إنما يتعلق بتلك الأحكام في خصوص تلك
الصور، فهو بمعنى إزالة الحكم الثابت بالإرادة الاستعمالية في تلك الموارد،
وإن كان بحسب الإرادة الجدية دفعا حقيقة.
كما أن التخصيص إنما يكون تخصيصا بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية
الشاملة لمورد التخصيص. وأما بالنظر إلى الإرادة الجدية المقصورة على غيره

1 - نفس المصدر 4: 222.
502

فيكون في الحقيقة تخصصا، كما أن النسخ إنما يكون نسخا باعتبار ظهور الحكم
في الاستمرار، وإلا ففي الحقيقة لا يكون نسخا، لأن مورده إنما هو ما إذا انتهى
أمد الحكم، وإلا فلا يجوز، بل يستحيل.
وبالجملة: فاستعمال الرفع والتخصيص والنسخ إنما هو باعتبار شمول
الحكم المجعول قاعدة وقانونا لموارد هذه الأمور، وإلا ففي الحقيقة لا يكون هنا
رفع وتخصيص ونسخ، بل دفع وتخصص وانتهاء أمد. فظهر صحة استعمال الرفع
في المقام على كلا التقديرين، وهما تقدير إسناده إلى نفس العناوين، كما هو
الظاهر، وتقدير إسناده إلى الأحكام المترتبة عليها، كما لا يخفى.
الأمر الثاني: في متعلق الرفع
قد عرفت أن ظاهر الحديث إنما هو إسناد الرفع إلى نفس تلك العناوين
المذكورة فيه، ومن الواضح أن ذلك يحتاج إلى تقدير، صونا لكلام الحكيم من
اللغوية، إذ لا يمكن الحمل على ظاهره. وحينئذ فنقول: إنه قد وقع البحث في
تعيين ما هو المقدر، فقيل: هي المؤاخذة، وقيل: هو أظهر الآثار، وقيل: هو جميع
الآثار.
هذا، وذكر المحقق النائيني - على ما في التقريرات - أنه لا حاجة إلى
التقدير أصلا، فإن التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه، كما إذا
كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي، أو كان الرفع رفعا تكوينيا، وأما إذا كان الرفع
رفعا تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير، فإن الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس
إخبارا عن أمر واقع، بل إنشاء الحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع
503

والنفي (1)، انتهى ملخصا.
وأنت خبير بما فيه، أما أولا: فلأن ما ذكره من أن الرفع في الحديث إنما هو
رفع تشريعي ممنوع، فإن الحديث يتضمن إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مرفوعية تلك
الأمور في الواقع، ضرورة أن التشريع لا يكون إلا شأنا له - تبارك وتعالى -،
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا الأئمة (عليهم السلام) إنما يخبرون بالحكم الذي شرع في الواقع،
كالمفتي الذي يفتي بالأحكام. غاية الأمر أنهم عالمون بالأحكام الواقعية،
بخلاف المفتي. وبالجملة: فالحديث لا يدل على الرفع التشريعي أصلا.
وأما ثانيا: فلأن الفرق بين الرفع التشريعي وغيره، من حيث عدم احتياج
الأول إلى التقدير، دون الثاني مما لا يصح، فإن كليهما يحتاج إلى تصحيح وادعاء،
لعدم صحة إسناده إلى نفس العناوين، لا تشريعا ولا تكوينا بلا ادعاء، كما
لا يخفى.
والتحقيق أن يقال: إن المصحح لإسناد الرفع إلى نفس العناوين المذكورة
في الحديث إنما هو كونها بلا أثر أصلا، لأن تقدير أظهر الآثار، أو خصوص
المؤاخذة يحتاج إلى ادعائين: أحدهما ادعاء كون ذلك الأثر بمنزلة جميع الآثار
المترتبة على ذلك الشئ، ثانيهما ادعاء كون الشئ الذي لم يكن له أثر أصلا،
فهو معدوم ومرفوع. وهذا بخلاف كون المراد رفع جميع الآثار، فإنه لا يحتاج إلا
إلى ادعاء واحد. ومنه يظهر ترجيحه على الاحتمالين الأولين.
هذا، ويدل على أن المراد رفع جميع الآثار رواية صفوان بن يحيى
والبزنطي جميعا عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستحلف على اليمين، فحلف
بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 342 - 343.
504

فقال (عليه السلام): " لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه وما
لا يطيقون وما أخطأوا " (1).
والحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا عند الإمامية في حال
الاختيار أيضا إلا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) على عدم لزومها في صورة الإكراه دليل
على عدم اختصاص حديث الرفع برفع خصوص المؤاخذة. هذا، ويمكن أن يقال
بأن المقصود من الرواية: أنه إذا أكره الرجل على الحلف بأن يطلق أو يعتق أو
يصدق فهل يجب عليه العمل على مقتضى حلفه أم لا؟ وحينئذ فلا يكون هذا
الحلف باطلا مع الاختيار، بل يجب عليه مع وجود شرائطه أن يطلق أو يعتق أو
يصدق.
ويؤيد كون المقصود من الرواية هو هذا المعنى التعبير بقوله " يلزمه "،
فإنه لا يناسب كون المراد بالحلف بالطلاق ونظائره هو الحلف بكون امرأته
مطلقة مثلا، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك: أن نسبة الرفع إلى الأمور التسعة المذكورة في
الحديث ليس على نسق واحد، ضرورة أن المراد برفع الخطأ والنسيان ليس هو
رفع الآثار المترتبة على نفس الخطأ والنسيان، لأنه لا يعقل ذلك، كما صرح به
الشيخ في " الرسالة " (2)، بل المراد بالخطأ والنسيان هو ما أخطأ وما نسي.
فالآثار المترتبة على الفعل لا يترتب عليه إذا وقع خطأ أو نسيانا.
والسر في التعبير عنه بذلك إنما هو وضوح أن المتفاهم من هذين العنوانين
بحسب نظر العرف ليس نفسهما مستقلا، بل من حيث كونهما طريقا، وهذا بخلاف

1 - المحاسن: 339 / 124، وسائل الشيعة 23: 226، كتاب الأيمان، الباب 12،
الحديث 12.
2 - فرائد الأصول 1: 320 - 322.
505

عنوان الحسد والطيرة، فإنه لا يكون طريقا إلى شئ آخر، بل المتبادر منه إنما
هو نفس عنوانه. ويدل على ذلك: التعبير عن الخطأ في الرواية المتقدمة
بكلمة " ما أخطأوا ". هذا، ويمكن أن يكون الوجه في التعبير بالخطأ والنسيان
في الحديث هو متابعة الآية الشريفة، من حيث إنه قد عبر فيها بالنسيان
والخطأ.
وبالجملة: لا ينبغي الإشكال في أن المراد بالخطأ والنسيان في الحديث
ليس ظاهرهما، بل المراد هو ما أخطأوا وما نسوا، وحينئذ فيصير مطابقا لمثل " ما
لا يعلمون " ونظائره.
ثم إن ظاهر الحديث هو اختصاص رفع هذه الأمور بهذه الأمة، مع أن
المؤاخذة على الخطأ والنسيان وما لا يعلمون وأشباهها مرفوعة عقلا، ولا
اختصاص له بهذه الأمة، ولكن هذا الإيراد إنما يرد بناء على أن يكون المرفوع
هو المؤاخذة، وقد عرفت أن المصحح لإسناد الرفع إلى الأمور المذكورة في
الحديث إنما هو كونها مرفوعة بجميع آثارها. وعلى تقدير أن يكون المرفوع هو
خصوص المؤاخذة يمكن أن يقال بمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه
الأمور بقول مطلق، فإنه لا يقبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين من
ترك التحفظ، كما لا يخفى.
ثم إن مقتضى كون الحديث امتنانا على العباد ليس إلا مجرد رفع الأحكام
والآثار عن تلك الأمور المذكورة فيما إذا وقعت تلك الأمور اتفاقا، فهو بصدد رفع
الكلفة والمشقة على العباد، وحينئذ فلا دلالة له على رفع الحكم فيما إذ أوقع
المكلف نفسه اختيارا في الاضطرار إلى ترك واجب أو فعل محرم أو شرب دواء
- مثلا - اختيارا، فذهبت منه القدرة على فعل المأمور به وأشباه ذلك، كما هو
واضح جدا.
506

كما أن مقتضى الحديث رفع الحكم فيما إذا لم يلزم من رفعه ضرر على
شخص آخر، لأن ذلك ينافي الامتنان على الأمة الظاهر في الامتنان على جميع
الأمة، كما لا يخفى. وحينئذ فالاضطرار مثلا إلى أكل مال الغير لا يوجب إلا
سقوط التحريم المتعلق بإتلاف مال الغير من دون إذن، لا سقوط الضمان أيضا،
بل يشكل سقوط الحكم التكليفي أيضا في بعض الموارد، كما إذا اضطر
بالاضطرار العرفي الغير البالغ حد الاضطرار الشرعي إلى أكل عين متعلقة
بالغير، بحيث كانت خصوصيتها أيضا متعلقة لغرضه، ولا يرضى بإتلافه مع دفع
القيمة أصلا، لكون خصوصيتها مطلوبة له أيضا، فإنه يشكل الحكم بجواز
الإتلاف بمجرد عروض اضطرار يمكن له التحمل عقلا، وإن لم يكن مما يتحمل
عادة، كما لا يخفى.
الأمر الثالث: في شمول الحديث للأمور العدمية
ذكر المحقق النائيني (قدس سره) - على ما في تقريرات بحثه - أن حديث الرفع إنما
يختص برفع الأمور الوجودية، فلو أكره المكلف على الترك أو اضطر إليه أو
نسي الفعل ففي شمول الحديث له إشكال، لأن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة
المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الوجود، فإن ذلك إنما يكون وضعا لا رفعا، فلو
نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب
فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه، لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة
بصورة التعمد ومخالفة النذر عن إرادة والتفات (1).
هذا، وأجاب عن ذلك المحقق العراقي - على ما في تقريرات بحثه - بعدم

1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 3: 352 - 353.
507

الفرق بين رفع الفعل أو الترك، إذ كما أن معنى رفع الوجود في عالم التشريع
عبارة عن رفع الأثر المترتب عليه، وخلوه عن الحكم في عالم التشريع، كذلك
في رفع العدم، فإن مرجع رفعه إلى رفع الأثر المترتب على هذا العدم الراجع إلى
عدم أخذه موضوعا للحكم بالفساد، ووجوب الإعادة مثلا بملاحظة دخل
نقيضه، وهو الوجود في الصحة.
وبالجملة: فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاته وتنزيله منزلته،
وبالعكس، وبين قلب أخذه موضوعا للحكم بعدم أخذه في مرحلة تشريع
الحكم، وخلو خطاباته عنه. والإشكال المزبور إنما يرد على الأول دون
الثاني (1)، انتهى.
هذا، وأنت خبير بعدم تمامية هذا الجواب، إذ ليس معنى رفع هذه الأمور
هو رفعها عن موضوعية الحكم المترتب عليها مطلقا، حتى في ناحية رفع
الفعل، فإنه لو كان معنى رفع ما اضطروا إليه مثلا هو رفع شرب الخمر الذي
حصل الاضطرار إليه عن موضوعية الحكم بالحرمة، الظاهر في حرمته مطلقا
لما كان الكلام محتاجا إلى ادعاء ومصحح، كما أتعبوا به أنفسهم، إذ الرفع حينئذ
يصير رفعا حقيقيا، لا ادعائيا.
فالإشكال إنما هو بناء على ظاهر الحديث من كون المرفوع هي ذوات هذه
الأشياء، وجعلها بمنزلة العدم، والجواب لا ينطبق عليه، كما هو واضح.
والتحقيق في الجواب أن يقال: أما أولا، فلأن العدم المرفوع في الحديث
هو العدم المضاف، وهو يمكن اعتباره بنحو ثبت له الثبوت الإضافي، وثانيا: أن
تعلق الرفع به يوجب تحققا اعتباريا له، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتعلق به،

1 - نهاية الأفكار 3: 219.
508

وثالثا: إذا فرض ترتب حكم على الترك في الشريعة فلابد من أن يكون له ثبوت
اعتباري في عالم التشريع، وإلا فلا يعقل أن يتعلق به الحكم، ويترتب عليه
الأثر، وحينئذ فالحديث إنما يرفع هذا الثابت بالثبوت الاعتباري، والمصحح
لإسناد الرفع إليه هو خلوه في عالم التشريع عن الحكم والأثر رأسا.
وبالجملة: فلاينبغي الإشكال في شمول الحديث لرفع التروك أيضا.
الأمر الرابع: في شمول الموصول للشبهات الموضوعية والحكمية
إنما الكلام في شمول الموصول في قوله " ما لا يعلمون " للشبهات
الحكمية وعدمه، فاعلم أنه قد يقال - كما قيل - باختصاصه بالشبهات
الموضوعية (1): إما لأن المرفوع في الحديث هو خصوص المؤاخذة، والمؤاخذة
على نفس الحكم مما لا يعقل.
وإما لأن وحدة السياق تقتضي ذلك، لأن المراد من الموصول في " ما
استكرهوا عليه " وأخواته هو الموضوع، إذ لا يعقل الاستكراه - مثلا - على
الحكم. ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد بالموصول في " ما لا يعلمون "
أيضا هو الموضوع الذي اشتبه عنوانه، فلا يعم الشبهات الحكمية.
وإما لأن إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له، وإسناده إلى الفعل
إسناد إلى غير ما هو له، ولا جامع بينهما حتى يمكن أن يراد من الموصول،
وحينئذ فمع قطع النظر عن وحدة السياق ينبغي تخصيص الحديث بالشبهات
الحكمية، لأن إسناد الرفع فيها إسناد حقيقي، إلا أن وحدة السياق اقتضت الحمل

1 - فرائد الأصول 1: 320 - 321، كفاية ا لأصول: 387، درر الفوائد، المحقق الخراساني:
190.
509

على خصوص الشبهات الموضوعية.
هذا، وأنت خبير بفساد جميع هذه الوجوه: أما الوجه الأول فلأنه مبني على
أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة، وقد عرفت أن مقتضى التحقيق هو كون
المرفوع هي نفس تلك العناوين ادعاء، بلحاظ خلوها عن الحكم رأسا.
وأما الوجه الثاني فلمنع اقتضاء وحدة السياق ذلك، بل نقول: إن وحدة
السياق تقتضي خلافه، كما أفاده في " الدرر " (1)، لأن عدم تحقق الاضطرار في
الأحكام، وكذا الإكراه لا يوجب تخصيص " ما لا يعلمون "، بل مقتضى السياق إرادة
العموم من هذا الموصول، كإرادته من أخواته. غاية الأمر: أن عموم الموصول
إنما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه. فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما اضطر إليه " أريد
منه كل ما اضطر إليه في الخارج. غاية الأمر: أنه لم يتحقق الاضطرار
بالنسبة إلى الحكم.
فمقتضى اتحاد السياق أن يراد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما لا يعلمون " أيضا كل
فرد من أفراد هذا العنوان. ألا ترى أنه إذا قيل: " ما يؤكل " و " ما يرى " في قضية
واحدة لا يوجب انحصار أفراد الأول في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني
أيضا بذلك البعض، كما هو واضح جدا.
هذا، وذكر المحقق العراقي - على ما في تقريرات بحثه - في بيان منع
وحدة السياق المقتضية للحمل على خصوص الشبهات الموضوعية ما
ملخصه: أن من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسة، ولا يكون
المراد منها الفعل، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة
الموضوع المشتبه، مع أن ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 441.
510

أخرى، فإن الظاهر من الموصول في " ما لا يعلمون " هو ما كان بنفسه معروض
الوصف وعدم العلم، كما في غيره من العناوين.
فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا الظهور، إذ لا يكون
الفعل فيها بنفسه معروضا للجهل، وإنما المعروض له هو عنوانه. وحينئذ يدور
الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في " ما لا يعلم " على
الحكم المشتبه، وبين حفظه من جهة أخرى، بحمله على إرادة الفعل، ولا ريب
أن الترجيح مع الأول بنظر العرف (1)، انتهى.
أقول: لا يخفى أن ذكر الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق لا يوجب
الاختلاف في الحديث بعد كونها أيضا من الأفعال. غاية الأمر: أنها من الأفعال
القلبية، كما هو واضح.
وأما ما أفاده (2) من أن الحمل على الشبهات الموضوعية يقتضي ارتكاب
خلاف الظاهر من جهة أخرى ففيه أولا: منع ذلك، فإن الخمر إذا كان مجهولا
يكون اتصاف شربه بشرب الخمر مجهولا حقيقة، وليس نسبة الجهل إليه
بالعرض والتبع، ضرورة أنه مجهول حقيقة، وإن كان تعلق الجهل بالخمر صار

1 - نهاية الأفكار 3: 216.
2 - لا يخفى عدم انطباق الجواب على كلامه، لأن مراده ظهور فقرة " ما لا يعلمون " في كون
متعلق الجهل هو نفس الفعل بما هو، لا عنوانه الذي هو الخمر، فمراده ظهورها في تعلق
الجهل، لا بعنوان الخمرية، بل بنفس الفعل.
ولكن يرد عليه الغفلة عن ظهور الموصول في كونه متعلقا للحكم، ولابد من تعلق
الجهل بهذه الجهة، ومن المعلوم أن متعلق الحكم هو العنوان، فلابد من كون العنوان
مجهولا، ولا وجه لدعوى الظهور في متعلق الجهل بنفس الفعل، مع قطع النظر عن
العنوان، كما لا يخفى.
511

سببا لمجهولية شرب الخمر، إلا أنها من قبيل الواسطة في الثبوت، لا الواسطة
في العروض، وحينئذ فيصح رفع شرب الخمر لكونه مجهولا.
وثانيا: أنه لو سلمنا أن المجهول حقيقة هو نفس عنوان الخمرية فنقول:
إنه لا بأس في أن يكون الخمر مرفوعا بعنوانه، وحينئذ يترتب عليه رفع
الأحكام الشرعية المترتبة على الأفعال المرتبطة به، كالشرب ونحوه.
فالتحقيق في الجواب عن دعوى وحدة السياق ما ذكرنا، ونزيد عليه: أن
الموصول لا يدل إلا على معناه الإجمالي الإبهامي، وهو شئ ثبت له الصلة،
ولا تعرض له إلى خصوصيات هذا الشئ، ومقتضى وحدة السياق هو الحمل
الموصول في جميع الفقرات المشتملة عليه على معناه الحقيقي، كما لا يخفى.
وأما الوجه الثالث: فيرد عليه ما حققناه في المجاز من أن المجاز
لا يكون عبارة عن استعمال اللفظ في غير الموضوع له، بل هو أيضا - كالحقيقة
- عبارة عن استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، غاية الأمر: أنه قد ادعى
كون المعنى المجازي من أفراد المعنى الحقيقي، وحينئذ فنقول: إن إسناد الرفع
إلى الموضوع المجهول لا يكون مجاز أو إسنادا إلى غير ما هو له، بل إنما هو
إسناد إلى ما هو له، غاية الأمر أنه قد ادعى كونه صالحا لتعلق الرفع به، كما
أنك عرفت: أن نسبة الرفع إلى الأحكام أيضا لا يكون إلا ادعاء، لما عرفت من
ثبوته بالنسبة إلى الجاهل أيضا، ولا يستفاد من الحديث اختصاص الأحكام
الواقعية بالعالم بها.
512