الكتاب: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول
المؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
الجزء: ٧
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: أشرف على طبعه وتصحيحه : محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ٢٠٠٤م
المطبعة: ستاره
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
ردمك:
ملاحظات:

بداية الوصول
في شرح كفاية الأصول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
(قدس سره)
أشرف على طبعة وتصحيحه
محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الجزء السابع
مقدمة 1

الكتاب: بداية الوصول / الجزء السابع
مؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي (قدس سره)
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
الطبعة: الأولى 1425 ه‍. ق / 2004 م
المطبعة: مطبعة ستاره
عدد النسخ: (1000) نسخه
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر
مقدمة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة 3

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها: الأول: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها، فإنه معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه (1)
1

فلا تجري - مثلا - أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجها فيما لم يذك وهو حرام إجماعا، كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا، ضرورة كفاية كونه مثله حكما، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطها، عن خصوصية في الحيوان التي بها
2

يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى (1).

(1) تهذيب الأحكام: ج 1، ص 49.
(2) راجع نهاية ابن الأثير ولسان العرب ومجمع البحرين في مادة (ذكا).
(3) وسائل الشيعة: ج 16، باب 18 من أبواب الذبائح حديث 12.
3

نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية، فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة الإباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام (1).
8

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك - مثلا - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنه كذلك بعده (1).
10

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا
12

شك في طروء ما يمنع عنه، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1).
13

الثاني: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما إذا احتاط
وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي (1).
15

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب وغير الاستحباب، من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا (1).
16

وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال، ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الامر به شرعا، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته (1)؟
18

وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة ترتب الثواب عليه (1)، ضرورة أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟ هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإن، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة، فإنه نحو من الانقياد والطاعة (2).
21

وما قيل في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة (1).
23

فيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه (1).

(1) وسائل الشيعة ج 18، ص 123 باب من أبواب صفات القاضي ح 41.
24

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى، بناءا على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى (1) أنه التزام
25

بالاشكال وعدم جريانه فيها، وهو كما ترى (1).
26

قلت: لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها، فيشكل جريانه حينئذ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها (1)،
27

وقد عرفت أنه فاسد، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.
وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان، ضرورة التمكن من الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الأمر أنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد (1).
28

وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها (1) بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى (2).
31

فظهر أنه لو قيل بدلالة أخبار من بلغه ثواب على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه (1).
33

لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي (1).
34

فإنه يقال: إن الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفا (1).
35

ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإن صحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن، عن أبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء من الثواب فعمله، كان
36

أجر ذلك له، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقله ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذو ثواب
(1)، وكون

(1) الكافي ج 1، ص 330.
37



(1) وسائل الشيعة: ج 1، 61 / 8، باب 18 من أبواب مقدمة العبادة.
(2) الكافي: ج 2، ص 87.
(3) الكافي: ج 2، ص 87.
39



(1) وسائل الشيعة ج 1، 60 / 3 باب 18 من أبواب مقدمة العبادة.
40

العمل متفرعا على البلوغ، وكونها الداعي إلى العمل (1) غير موجب لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط (2)، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها
41

وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان (1). وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قيد به في بعض الأخبار، وإن كان انقيادا، إلا أن
43

الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر، لاوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة، فيكون وزانه وزان من سرح لحيته أو من صلى أو صام فله كذا (1) ولعله
45

لذلك أفتى المشهور بالاستحباب (1)، فافهم وتأمل (2).
47

الثالث: إنه لا يخفى أن النهي عن شي ء، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة (1) ولو
49

بالأصل، فلا يجوز الاتيان بشيء يشك معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.
نعم، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة (1).
53

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان الشيء مسبوقا بالترك، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا
54

لتحصيل الفراغ قطعا، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لامره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه. غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل، كذلك يحرز ترك الحرام به (1)، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز
55

الاقتحام فيه، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا، فتفطن (1).
56

الرابع: إنه قد عرفت حسن احتياط عقلا ونقلا، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام (1)، ما لم يخل بالنظام فعلا، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا، كانت الحجة على خلافه أو لا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك
57

لا يكون حسنا كذلك (1)، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا (2)،
58

فافهم (1).
59

فصل
إذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا (1)، ففيه وجوه: الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا، والتخيير بين الترك والفعل عقلا، مع التوقف عن الحكم به رأسا، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا، أوجهها الأخير (2)، لعدم الترجيح بين
60

الفعل والترك، وشمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام له (1)،
61

ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا (1).
62

وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام التزاما، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا (1)، وقياسه
63

بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب (1) باطل، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية
65

يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة، إلا أن أحدهما - تعيينا أو تخييرا - حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع اجتماع سائر الشرائط، صار حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا، أو التخيير تخييرا، وأين ذلك مما إذا لم يكن
66

المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ وهو حاصل، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل (1).
67

نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما الترديد بينهما، لكان القياس في محله، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير ها هنا، فتأمل جيدا (1).
69

ولا مجال - ها هنا - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه - ها هنا - وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى (1).
70

ثم إن مورد هذه الوجوه، وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة، لأنها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره) (1)، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا
72

بين إتيانه على وجه قربي، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، وتركه كذلك، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.
فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام، وإن اختص بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى (1).
74

ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه كما هو الحال في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام (1)،
75

ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة، ووجب الترجيح بها، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران (1).
77

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا، لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما (1)؟
78

فافهم (1).
79

فصل
لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم، فتارة لتردده بين المتباينين، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: في دوران الامر بين المتباينين.
لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا - ولو كانا فعل أمر وترك آخر (1) - إن كان فعليا من جميع الجهات، بأن يكون واجدا لما هو العلة
80

التامة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو من الاجمال والتردد والاحتمال، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته، وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا، لأجل مناقضتها معه (1).
81

وإن لم يكن فعليا كذلك، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته (1)، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا
85

عن شمول أدلة البراءة الشرعية للأطراف (1).
86

ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي، إلا أنه لا مجال للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات، لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات، وله مجال مع الاجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليا معه، لامكان جعل الظاهري في أطرافه، وإن كان فعليا من غير هذه الجهة (1)
،
88

فافهم (1).
ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم، مع كونه فعليا لولاه من سائر الجهات.
وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها، في التنجز وعدمه، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.
والحاصل أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك، وقد عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين
90

التفصيلي والاجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا، فتأمل تعرف (1).
91

وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (1).
94

ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا
95

الشهر، كأيام حيض المستحاضة مثلا، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته (1)، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية، لكان منجزا ووجب موافقته.
96

فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع (1)، فافهم.
97

تنبيهات
الأول: إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين (1)،
99

ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه، تعيينا أو تخييرا، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا (1)، وذلك لان التكليف المعلوم بينها من أول الأمر كان محدودا
100

بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين (1).
102

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه (1).
107

فإنه يقال: حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، كان التكليف المتعلق به مطلقا، فإذا اشتغلت الذمة به، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنه من حدود التكليف به وقيوده، ولا يكون الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده، ولا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا (1).
108

الثاني: إنه لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر - ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل (1) - كان الابتلاء بجميع الأطراف مما لابد منه في تأثير العلم، فإنه
112

بدونه لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به (1).
ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا، هو ما إذا صح انقداح
115

الداعي إلى فعله في نفس العبد (1) مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال (2)، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة، لعدم القطع
116

بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا فيما شك في اعتباره في صحته، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى (1).
118

الثالث: إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة (1).
120

نعم ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها أو ارتكابه، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا (1)، وليس بموجبة لذلك في
122

غيره (1)، كما أن نفسها ربما تكون موجبة لذلك، ولو كانت قليلة في مورد آخر، فلابد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالاجمال (2) أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة أطرافه (3) وملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها، كما لا يخفى (4).
ولو شك في عروض الموجب، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلا فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي، هذا هو حق القول في المقام (5)، وما قيل في ضبط المحصور وغيره لا يخلو
123

من الجزاف (1).
الرابع: إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف، مما يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك
124

الحرام المعلومين في البين دون غيرها، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا (1).
125

ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شيء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالاجمال، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه،
129

فيما كانت الملاقاة بعد العلم إجمالا بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين قطعا، ولو لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من النجس، قد شك في وجوده، كشئ آخر شك في نجاسته بسبب آخر (1).
130

ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أيضا، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل (1).
131

وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة شيء آخر، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاك الشيء أيضا، فإن حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم النجاسة أصلا، لا إجمالا ولا تفصيلا (1)،
132

وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الاجمالي، ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به بعده (1).
134

وثالثة يجب الاجتناب عنهما، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا: إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد أو الاثنان (1).
135

المقام الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين (1) والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما - أيضا - يوجب الاحتياط عقلا
136

بإتيان الأكثر (1)، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا (2).
137

وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في وجوب الأكثر بدوا - ضرورة لزوم الاتيان بالأقل لنفسه شرعا، أو لغيره كذلك أو عقلا، ومعه لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر (1) - فاسد قطعا،
138

لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقف لزوم الأقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا، ولو كان متعلقا بالأكثر، فلو كان
139

لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالأقل كان خلفا (1)، مع أنه يلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل
140

حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محال (1).
141

نعم إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين، أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام، إلا أنه خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام (1).
143

هذا مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر، بناءا على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه (1)، وكون الواجبات الشرعية
144

ألطافا في الواجبات العقلية، وقد مر اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه، فلابد من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى (1).
146



(1) العنكبوت: الآية 45.
149

ولا وجه للتفصي عنه: تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة
150

المنكرين لذلك، أو بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به (1).
151

وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا - ليؤتى بها مع قصد الوجه - مجال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا، لتنجزه بالعلم به إجمالا.
152

وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة عليه بلا بيان (1).
153

وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية (1)، بل من ذهب إلى
154

ما عليه غير المشهور، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته - على هذا المذهب أيضا - هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا (1)،
155

فافهم (1).
156

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها، كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط ها هنا كما في المتباينين، ولا يكاد يمكن مع اعتباره (1).
157

فافهم (1).
158

هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي، لاوجه أجزائه (1) من
159

وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي (1)، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الأكثر بمكان من الامكان، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الأقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه، واحتمال
160

اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه، لا سيما إذا دار الزائد (1) بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده، حيث ينطبق
161

الواجب على المأتي حينئذ بتمامه وكماله، لان الطبيعي يصدق على الفرد بمشخصاته (1). نعم، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا
162

عليه بتمامه لو لم يكن جزءا، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته، لا بتمامه بل بسائر أجزائه (1).
163

هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه (1)، مع أن الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لابد أن يؤتى به على وجه
166

الامتثال من العبادات (1)، مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال، فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا، ولو بإتيان الأقل لو لم يحصل الغرض، وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الأقل بسبب بقاء غرضه (2)،
167

فافهم (1).
هذا بحسب حكم العقل.
وأما النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في الأول (2).
170

لا يقال: إن جزئية السورة المجهولة - مثلا - ليست بمجعولة وليس لها أثر مجعول، والمرفوع بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوب الإعادة إنما هو أثر بقاء الامر بعد العلم مع أنه عقلي، وليس إلا من باب وجوب الإطاعة عقلا (1).
172

لأنه يقال: إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلا أنها مجعولة بمنشأ انتزاعها، وهذا كاف في صحة رفعها (1).
174

لا يقال: إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الأمر الأول، ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه (1).
175

لأنه يقال: نعم، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلا أن نسبة حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الاجزاء - إليها نسبة الاستثناء، وهو معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيدا (1).
176



(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره) ج 2، ص 238 (حجري).
178

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشيء ومطلقه، وبين الخاص كالانسان وعامه كالحيوان، وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلا، بل كان الامر فيهما أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر لا يكاد يتوهم ها هنا، بداهة أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا، فالصلاة - مثلا - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها (1)، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة
179

لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى (1).
183

نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط وغيره، دون دوران الامر بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك خصوصية الخاص، فإنها إنما تكون منتزعة عن نفس الخاص، فيكون الدوران بينه وبين غيره من قبيل الدوران بين المتباينين، فتأمل جدا (1).
184

الثاني: إنه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته في حال نسيانه عقلا ونقلا، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية، فلولا مثل حديث الرفع مطلقا ولا تعاد في الصلاة يحكم عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه أو شرطه نسيانا، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو إجماعا (1).
187

ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل حديث الرفع، كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية، كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا، وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه
190

بهذا العنوان، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما توهم لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل (1).
191

الثالث: إنه ظهر - مما مر - حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا أو شطرا في الواجب - مع عدم اعتباره في جزئيته، وإلا لم يكن من زيادته بل من نقصانه (1) - وذلك لاندراجه في
194

الشك في دخل شيء فيه جزءا أو شرطا (1)، فيصح لو أتى به مع
198

الزيادة (1) عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا، وإن استقل العقل لولا النقل بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال (2).
199

نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما يدعو إليه وجوبه، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه، لعدم قصد الامتثال في هذه الصورة (1)، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة
200

مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال (1).
202

وأما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا، ولو كان مشرعا في دخله الزائد فيه بنحو، مع عدم علمه بدخله، فإن تشريعه في تطبيق المأتى مع المأمور به، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال (1).

(1) تنبيه: ان التشريع: تارة يكون مع العلم بالعدم، وأخرى يكون مع عدم العلم بالعدم. وفي المقام من قبيل الثاني لأن المفروض
ان الداعي له هو الامر الواقعي، ولكنه بنى على أن الزيادة دخيلة في الامر الواقعي، فهو تشريع في مقام تطبيق الامر الواقعي، لأنه لو كان مع العلم بعدم الدخل وبنى على الدخل تشريعا لكان خلاف الفرض من كونه بداعي الامر الواقعي، والله العالم. (منه قدس سره)
203

ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتى به مع الزيادة باستصحاب الصحة، وهو لا يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب، إن شاء الله تعالى (1).
205

الرابع: إنه لو علم بجزئية شيء أو شرطيته في الجملة، ودار الامر بين أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءا أو شرطا في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الامر بالعجز عنه
208

على الأول، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي، ولم يكن هناك ما يعين أحد الامرين، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا، أو إطلاق دليل المأمور به مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي، فإن العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان (1).
209

لا يقال: نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في حال التمكن منه (1).
213

فإنه يقال: إنه لا مجال ها هنا لمثله، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان، فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته (1).
نعم ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في حال التعذر أيضا. ولكنه لا يكاد يصح إلا بناءا على صحة القسم الثالث من استصحاب الكلي (2)، أو على المسامحة في تعيين الموضوع في
214

الاستصحاب، وكان ما تعذر مما يسامح به عرفا، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه لو قيل بعدم وجوبه، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام (1) كما أن وجوب الباقي في الجملة
218

ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وقوله: الميسور لا يسقط بالمعسور، وقوله: ما لا يدرك كله لا يترك كله ودلالة الأول مبنية على كون كلمة (من) تبعيضية، لا بيانية، ولا بمعنى الباء، ظهورها في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد، ولو سلم فلا محيص عن أنه - ها هنا - بهذا اللحاظ يراد، حيث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به (1)، فقد روى
219



(1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
(2) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
220



(1) الشورى: الآية 45.
(2) الكهف: الآية 31.
(3) البقرة: الآية 253.
(4) الأحزاب: الآية 23.
221

انه خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة ويروى سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال: ويحك وما يؤمنك ان أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء
225

فاتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه.
ومن ذلك ظهر الاشكال في دلالة الثاني أيضا، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الاجزاء بمعسورها، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام بالمعسور منها.
هذا مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما، لعدم اختصاصه بالواجب، ولا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم (1)، إلا أن يكون

(1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
226

المراد عدم سقوطه بما له من الحكم وجوبا كان أو ندبا، بسبب سقوطه عن المعسور، بأن يكون قضية الميسور كناية
228

عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك، كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) هو نفي ما له من تكليف أو وضع، لا أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة على جريان القاعدة في المستحبات على وجه، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور في الواجبات على آخر (1)،
229

فافهم (1).
231

واما الثالث: فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي، لا دلالة له إلا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به - واجبا كان أو مستحبا - عند تعذر
بعض أجزائه، لظهور الموصول فيما يعمهما، وليس ظهور (لا يترك) في الوجوب - لو سلم - موجبا لتخصيصه بالواجب، لو لم يكن ظهوره في الأعم قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي، وكيف كان فليس ظاهرا في اللزوم ها هنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام (1).

(1) عوالي اللآلي: ج 4، ص 58.
232

ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا، كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا، كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة، وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد عقلا (1)، ولاجل ذلك ربما لا يكون
235

الباقي - الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها - موردا لها فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا، وإن كان غير مباين للواجد عقلا (1).
237

نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف، وإن عدم العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد، أو بمعظمه في غير الحال، وإلا عد أنه ميسوره، كما ربما يقوم الدليل على سقوط ميسور عرفي لذلك - أي للتخطئة - وأنه لا يقوم بشيء من ذلك.
وبالجملة: ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق، ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه، أو بمقدار يوجب إيجابه في الواجب واستحبابه في المستحب (1)،
238

وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول، وتشريكا في الحكم، من دون الاندراج في الموضوع في الثاني (1)، فافهم (2).
242

تذنيب: لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شيء أو شرطيته، وبين مانعيته أو قاطعيته، لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين، لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى، كما هو أوضح من أن يخفى (1).
243

خاتمة: في شرائط الأصول (1) أما الاحتياط: فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا، بل يحسن على كل حال، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها (2)، وتوهم كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى - وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة - فاسد، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال، وإن كان لاغيا في كيفية امتثاله (3)،
245

فافهم (1).
بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته، من المفسدة وفوت المصلحة (2).
247

وأما البراءة العقلية: فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما (1).
248

وأما البراءة النقلية: فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية، إلا أنه استدل على اعتباره بالاجماع وبالعقل، فإنه لا مجال لها بدونه، حيث
249

يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات، بحيث لو تفحص عنه لظفر به (1).
250

ولا يخفى أن الاجماع ها هنا غير حاصل، ونقله لوهنه بلا طائل، فان تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل - لولا الكل - هو ما ذكر من حكم العقل (1)، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم
251

موجب للتنجز، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات، ولو لعدم الالتفات إليها (1).
252

فالأولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والاخبار على وجوب التفقه والتعلم، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم، بقوله تعالى كما في الخبر هلا تعلمت فيقيد بها أخبار البراءة، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم
253

فيما لم يعلم، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا (1)،

(1) التوبة: الآية 122.
(2) النحل: الآية 43.
254



(1) الانعام: الآية 149.
255

فافهم (1).
ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة، فلا تغفل (2).
257

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والاحكام.
أما التبعة، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها (1)، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا
258

اختيار، إلا أنها منتهية إلى الاختيار، وهو كاف في صحة العقوبة، بل مجرد تركهما كاف في صحتها، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة، مع احتماله، لأجل التجري وعدم المبالاة بها (1).
259

نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت، لو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما (1)، فضلا عما إذا لم يؤد إليها،
260

حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي أصلا، لا قبلهما وهو واضح، ولا بعدهما وهو كذلك، لعدم التمكن منه بسبب الغفلة (1)، ولذا التجأ
262

المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك (قدس سرهما) إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيوئيا، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا على ما أدى اليه من المخالفة (1).
263

فلا إشكال حينئذ في المشروط والمؤقت، ويسهل بذلك الامر في غيرهما لو صعب على أحد، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار، ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلا بذاك (1)، أو الالتزام بكون
264

المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا، لكنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم، فيكون الايجاب حاليا، وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه، ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته (1).
265

وأما لو قيل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط والوقت، كما هو ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور، فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التعلم نفسيا، لتكون العقوبة - لو قيل بها - على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة،
268

ولا بأس به كما لا يخفى (1)، ولا ينافيه، ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا لنفسه، حيث أن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب غيره فيكون مقدميا (2)،

(1) الاسراء: الآية 78.
(2) آل عمران: الآية 97.
269

بل للتهيؤ لايجابه، فافهم (1).
وأما الاحكام، فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة، بل في صورة الموافقة أيضا في العبادة، فيما لا يتأتى منه قصد القربة (2) وذلك
271

لعدم الاتيان بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة والاجزاء (1)، إلا في الاتمام في موضع القصر أو الاجهار أو الاخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح - وقد أفتى به المشهور - صحة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا، ولو كان عن تقصير موجب لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها، لان ما أتى بها وإن صحت وتمت إلا أنها ليست بمأمور بها (2).
273



(1) وسائل الشيعة: ج 5، باب 17 من أبواب صلاة المسافر حديث 4.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، باب 26 من أبواب القراءة حديث 1.
274

إن قلت: كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها؟ وكيف يصح الحكم باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها؟ كما هو ظاهر إطلاقاتهم، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام والاخفات وقد بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا، ضرورة أنه لا تقصير ها هنا يوجب استحقاق العقوبة، وبالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الامر؟ وكيف يحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة (1)؟
275

لولا الحكم شرعا بسقوطها وصحة ما أتى بها (1).
277

قلت: إنما حكم بالصحة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء في نفسها مهمة في حد ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنما لم يؤمر به لأجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم (1).
278

وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فإنه بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك المصحلة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، ولذا لو أتى بها في موضع الاخر جهلا - مع تمكنه من التعلم - فقد قصر، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.
فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات، وإن كان الوقت باقيا (1).
281

إن قلت: على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (1
).
282

قلت: ليس سببا لذلك، غايته أنه يكون مضادا له، وقد حققناه في محله أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا (1).
284

لا يقال: على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا - في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما - لكانت صلاته صحيحة، وإن عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر (1).
285

فإنه يقال: لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيه باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به، كما لا يخفى (1).
286

وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب، وقد حققناه في مبحث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا، ولو بنحو الترتب، بما لا مزيد عليه فلا نعيد (1).
288

ثم إنه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران: أحدهما: أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
ثانيهما: أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.
289

ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والإباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه (1)، فإن لم
290

يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا، فهي وإن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها، وهذا ليس بالاشتراط (1).
293

وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادية، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو
294

ظاهرا، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك، فلابد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر، فتدبر، والحمد لله على كل حال (1).
295

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار (1)، وتوضيح مدركها وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية أو الثانوية، وإن كانت أجنبية عن مقاصد الرسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبة (2).
296

فأقول وبه أستعين: إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة:
منها: موثقة زرارة (1)، عن أبي جعفر عليه السلام: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة، فجاء الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه،
297

فأخبر بالخبر، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال: لك بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار.
وفي رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام مثل ذلك، ألا أنه فيها بعد الاباء ما أراك يا سمرة إلا مضارا، إذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (1) وغيرها وهي
298

كثيرة (1) وقد ادعي تواترها، مع اختلافها لفظا وموردا، فليكن المراد به تواترها إجمالا، بمعنى القطع بصدور بعضها، والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف (2)، وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها
وانجبار ضعفها، مع أن بعضها موثقة، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى (3).
299

وأما دلالتها، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع، من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال، تقابل العدم والملكة (1)، كما أن الأظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة، وحكي عن النهاية لافعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة، ولا الجزاء
على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة (2)،
300

وبالجملة لم يثبت له معنى آخر غير الضرر (1).

(1) النساء: الآية 100.
(2) مريم: الآية 52.
(3) الماعون: الآية 6.
303

كما أن الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاءا، كناية عن نفي الآثار، كما هو الظاهر من مثل: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد و يا أشباه الرجال ولا رجال فإن قضية البلاغة في الكلام هي إرادة نفي الحقيقة ادعاءا (1)،
304

لا نفي الحكم (1)
307

أو الصفة (1)، كما لا يخفى.
308

ونفي الحقيقة ادعاءا بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداءا مجازا في التقدير أو في الكلمة (1)، مما لا يخفى على من له
309

معرفة بالبلاغة (1).
وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري، أو الضرر غير المتدارك، أو إرادة النهي من النفي جدا (2)، ضرورة بشاعة
310

استعمال الضرر وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص غير المتدارك منه (1)، ومثله لو أريد ذاك بنحو التقييد، فإنه وإن لم يكن
311

ببعيد، إلا أنه بلا دلالة عليه غير سديد (1)، وإرادة النهي من النفي وإن
312

كان ليس بعزيز، إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب (1)، وعدم إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد
313

منها، بعد إمكان حمله على نفيها إدعاءا، بل كان هو الغالب في موارد استعماله (1).

(1) البقرة: الآية 197.
314

ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها (1)،
315

أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر (1) لا الثابت له بعنوانه، لوضوح أنه العلة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه (2).
317

ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الاحكام، وتقدم أدلته على أدلتها - مع أنها عموم من وجه - حيث أنه يوفق بينهما عرفا، بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته (1)، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة
318

أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية، والأدلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية (1).
321

نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة.
وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي: تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا، أو بالإضافة إلى عارض دون عارض، بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله. وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها
322

بسببه عرفا، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي، وأن العارض مانع فعلي (1)، هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله، لعدم
323

ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل (1).
ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من
325

باب تزاحم المقتضيين، وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى، ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته إلا في أحدهما، كما لا يخفى، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (1).
326

وأما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرر شخص واحد أو اثنين (1)، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان، وإلا فهو مختار (2).
328

وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر، ولو كان ضرر الآخر أكثر، فإن نفيه يكون للمنة على الأمة، ولا منة على تحمل الضرر، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.
نعم لو كان الضرر متوجها إليه، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر (1)، اللهم إلا أن يقال: إن نفي الضرر وإن كان للمنة، إلا أنه
330

بلحاظ نوع الأمة، واختيار الأقل بلحاظ النوع منة (1)، فتأمل (2).
333

فصل
في الاستصحاب: وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب (1).
ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى، إلا أنه تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد (2)، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع
334

ذي حكم شك في بقائه (1): إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم
336

العرفية (1) مطلقا، أو في الجملة (2) تعبدا، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.
وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك، حسبما تأتي الإشارة إلى ذلك مفصلا (3).
337

ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لأن يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقا أو في الجملة، وفي وجه ثبوته، على أقوال.
ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ من العلم بثبوته، لما تقابل فيه الأقوال، ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد بل موردين (1)، وتعريفه بما ينطبق
339

على بعضها، وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (1)، إلا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الاسم، كما هو الحال في التعريفات غالبا، لم يكن له دلالة على أنه نفس الوجه،
340

بل للإشارة إليه من هذا الوجه (1)، ولذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس (2).
341

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له، وما ذكر فيها من الاشكال، بلا حاصل وطول بلا طائل (1).
ثم لا يخفى أن البحث في حجيته مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية، وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة، وإن كان ينتهي إليه (2)، كيف؟ وربما لا يكون
342

مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا (1)، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا.
345

وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية وكيف كان (1)، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده: القطع بثبوت شيء، والشك في بقائه (2)، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع
346

اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول (1)، وهذا مما
347

لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة (1).
348

وأما الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل، فيشكل حصوله فيها، لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه، بسبب تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا (1) أو
349

بقاءا، وإلا لما يتخلف الحكم عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى
351

المستحيل في حقه تعالى، ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا (1).
352

ويندفع هذا الاشكال، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما، وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته - وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته - كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لأجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها، مما عد من حالاتها لامن مقوماتها، بمكان من الامكان (1)، ضرورة صحة إمكان دعوى بناء العقلاء على البقاء
354

تعبدا، أو لكونه مظنونا ولو نوعا، أو دعوى دلالة النص أو قيام الاجماع عليه قطعا (1)، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.
358

أما الأول فواضح، وأما الثاني، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه، مما لا يرى مقوما له، كان مشكوك البقاء عرفا، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا، وإن كان لاحكم للعقل بدونه قطعا (1).
359

إن قلت: كيف هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين (1).
361

قلت: ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل، كان على حاله في كلتا الحالتين، وإن لم يدركه إلا في إحداهما، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك (1).
362

وبالجملة: حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا، لا ما هو مناط حكمه فعلا، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال والاجمال، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا. ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما (1)،
365

فافهم وتأمل جيدا (1).
367

ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا، وعدم حجيته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والاحكام، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها، وهو الحجية مطلقا، على نحو يظهر بطلان سائرها (1)، فقد استدل عليه بوجوه:
368

الوجه الأول: استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا (1).
369

وفيه: أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا، بل إما رجاءا واحتياطا، أو اطمئنانا بالبقاء، أو ظنا ولو نوعا (1)، أو غفلة كما هو
370

الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الانسان أحيانا (1).
371

وثانيا: سلمنا ذلك، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض، ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم (1)، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات،
372

فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لابد في اتباعه من الدلالة على إمضائه (1)،
374

فتأمل جيدا (1).
الوجه الثاني: إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.
وفيه: منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا، فإنه لاوجه له أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم، ولو سلم، فلا دليل على اعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم (2).
375

الوجه الثالث: دعوى الاجماع عليه، كما عن المبادئ حيث قال: الاستصحاب حجة، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا، ولولا القول بأن الاستصحاب حجة، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير مرجح، انتهى (1)... وقد نقل عن غيره أيضا.
وفيه: إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الاشكال، ولو مع الاتفاق، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم، حيث ذهبوا على عدم حجيته مطلقا أو في الجملة (2)،
377

ونقله موهون جدا لذلك، ولو قيل بحجيته لولا ذلك (1).
378

الوجه الرابع: وهو العمدة في الباب، الأخبار المستفيضة.
منها: صحيحة زرارة قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم، قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين بالشك أبدا، ولكنه ينقضه بيقين آخر (1).

(1) تهذيب الأحكام: ج 1، ص 8.
379

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث كان مضمرها مثل زرارة، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام عليه السلام لا سيما مع هذا الاهتمام (1).
381

وتقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السلام: وإلا فإنه على يقين.. إلى آخره عرفا في النهي عن نقض اليقين بشيء بالشك فيه، وأنه عليه السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السلام: لا في جواب فإن حرك في جنبه.. إلى آخره، وهو اندراج اليقين والشك في مورد السؤال في القضية الكلية الارتكازية غير المختصة بباب دون باب (1)، واحتمال أن يكون الجزاء هو قوله: فإنه على يقين.. إلى آخره
382

غير سديد، فإنه لا يصح إلا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد (1)، وأبعد منه كون الجزاء قوله: لا ينقض.. إلى آخره
385

وقد ذكر فإنه على يقين للتمهيد (1).
386

وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية: لا تنقض.. إلى آخره باليقين والشك في باب الوضوء جدا، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي لا تعبدي قطعا (1)، ويؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها، فتأمل جيدا (2).
387

هذا مع أنه لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في اليقين للعهد، إشارة إلى اليقين في فإنه على يقين من وضوئه (1) مع أن الظاهر أنه

(1) المزمل: الآية 15 - 16.
388

للجنس، كما هو الأصل فيه، وسبق: فإنه على يقين.. إلى آخره لا يكون قرينة عليه، مع كمال الملاءمة مع الجنس أيضا (1)،
389

فافهم (1).
مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون من وضوئه متعلقا بالظرف لا ب‍ (يقين)، وكان المعنى: فإنه كان من طرف وضوئه على يقين، وعليه لا يكون الأصغر إلا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمل (2).
390

وبالجملة: لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك، خصوصا بعد ملاحظة تطبيقها في الاخبار على غير الوضوء أيضا (1).
ثم لا يخفى حسن اسناد النقض - وهو ضد الابرام - إلى اليقين، ولو كان متعلقا بما ليس فيه اقتضاء البقاء والاستمرار، لما يتخيل فيه من الاستحكام بخلاف الظن، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك، وإلا لصح أن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة مثل (نقضت الحجر من مكانه) ولما صح أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السراج) فيما إذا شك في بقائه للشك في استعداده، مع بداهة صحته وحسنه (2).
392



(1) النحل: الآية 92.
393



(1) ولا يخفى ان وجه تعبيره بالتخيل انما هو لان استحكام اليقين حيث يكون موجودا، اما مع تبدله بالشك فلا استحكام حقيقة لعدم اليقين حقيقة، وسيأتي مزيد ايضاح لذلك في قوله ان قلت. (منه قدس سره).
395

وبالجملة: لا يكاد يشك في أن اليقين كالبيعة والعهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظته لا بملاحظة متعلقه (1)، فلا موجب لإرادة ما هو أقرب إلى الامر المبرم، أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء لقاعدة (إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى) بعد تعذر إرادة مثل ذاك الامر مما يصح إسناد النقض إليه حقيقة (2).
396

فإن قلت: نعم، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب
حقيقة، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إليه بوجه ولو مجازا، بخلاف ما إذا كان هناك، فإنه وإن لم
398

يكن معه أيضا انتقاض حقيقة إلا أنه صح إسناده إليه مجازا، فإن اليقين معه كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه، من جهة الشك في رافعه (1).
399

قلت: الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا، وهو كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه واستعارته له، بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف، بينما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن (1)،
401

وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي تعيينه لأجل قاعدة (إذا تعذرت الحقيقة)، فإن الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار، وقد عرفت
عدم التفاوت بحسب نظر أهله (1)،
402

هذا كله في المادة (1).
وأما الهيئة، فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل لا الحقيقة، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان متعلقا باليقين - كما هو ظاهر القضية - أو بالمتيقن، أو بآثار اليقين بناءا على التصرف فيها بالتجوز أو الاضمار، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين،
403

كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه أو أحكام اليقين (1)، فلا يكاد يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها، فلا مجوز له فضلا عن
404

الملزم، كما توهم (1).

(1) فرائد الأصول: ج 2، ص 574 (تحقيق عبد الله النوراني).
406

لا يقال: لا محيص عنه، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره، لمنافاته مع المورد (1).
407

فإنه يقال: إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وبالنظر الاستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظا بنحو المرآتية وبالنظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضية (لا تنقض اليقين) حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما، ولحكمه إذا كان موضوعا، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل
408

لحكمه شرعا (1)، وذلك لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه، مع عدم
409

دخله فيه أصلا، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه، أو تمام الدخل (1)،
411

فافهم (1).
ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف وتأويل، غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه، وتنزيل الحكم بجعل مثله - كما أشير إليه آنفا - كان قضية لا تنقض
412

ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية (1)، واختصاص المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصا بعد
413

ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية، قد أتي بها في غير مورد لأجل الاستدلال بها على حكم المورد، فتأمل (1).
414