الكتاب: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول
المؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
الجزء: ٩
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: أشرف على طبعه وتصحيحه : محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ٢٠٠٤م
المطبعة: ستاره
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
ردمك:
ملاحظات:

بداية الوصول
في شرح كفاية الأصول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
(قدس سره)
أشرف على طبعة وتصحيحه
محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الجزء التاسع
مقدمة 1

الكتاب: بداية الوصول / الجزء التاسع
مؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي (قدس سره)
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
الطبعة: الأولى 1425 ه‍. ق / 2004 م
المطبعة: مطبعة ستاره
عدد النسخ: (1000) نسخه
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر
مقدمة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة 3

المقصد الثامن
في تعارض
الأدلة والامارات
مقدمة 5

المقصد الثامن
في تعارض الأدلة والامارات (1).
فصل
التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا، بأن علم بكذب أحدهما
إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (2)، وعليه فلا تعارض بينهما
1



(1) المائدة: الآية 3.
(2) النجم: الآية 55.
(3) السجدة: الآية 16.
2

بمجرد تنافي مدلولهما، إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض
7

والخصومة (1)، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية ما أريد
8

من الآخر، مقدما كان أو مؤخرا (1)، أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما، كما هو مطرد في

(1) الوسائل ج 1: 256 / 6 باب 1 من أبواب الوضوء.
9



(1) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 329 / 1 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
10

مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية، مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والاكراه والاضطرار،
11

مما يتكفل لاحكامها بعناوينها الثانوية، حيث يقدم في مثلهما الأدلة النافية، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا (1) ويتفق في غيرهما،
12

كما لا يخفى (1).
14

أو بالتصرف فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما (1)، أو في أحدهما المعين ولو كان الآخر أظهر (2)، ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الأصول الشرعية، فإنه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتهما، حيث لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا، بخلاف
15

العكس فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر، كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب (1).
وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلتها لعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه، وتعرضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها، وإلا كانت أدلتها أيضا دالة - ولو بالالتزام - على أن حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى الأصل لا الامارة، وهو مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة، بل ليس مقتضى حجيتها إلا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة عليه لفظا، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلا على الحكم الواقعي، وقضية حجيتها ليست إلا لزوم العمل على وفقها شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه وهو قضية الأصل (2)، هذا
16

مع احتمال أن يقال: إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز الواقع مع المصادفة، وعدم تنجزه في صورة المخالفة (1). وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب الغاء احتمال
23

الخلاف تعبدا، كي يختلف الحال ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الأصل، حيث أنه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه، لأجل أن الحكم
24

الواقعي ليس حكم احتمال خلافه، كيف؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله، فافهم وتأمل جيدا.
فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل والامارة، إلا بما أشرنا سابقا وآنفا، فلا تغفل (1)، هذا ولا تعارض أيضا
25

إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، كما في الظاهر مع النص أو الأظهر، مثل العام والخاص والمطلق والمقيد، أو مثلهما مما كان
26

أحدهما نصا أو أظهر، حيث أن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.
وبالجملة: الأدلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها، إلا أنها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات، بحيث تبقى أبناء المحاورة متحيرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفا، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين (1)، ولا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا،
27

فيقدم النص أو الأظهر - وإن كان بحسب السند ظنيا - على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا (1).
29

وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات (1)، وإنما يكون التعارض بحسب السند
30

فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة، أو ظنيا (1) فيما إذا لم
31

يكن التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل (1)، فإنه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في الكل، إما للعلم بكذب أحدهما، أو لأجل أنه لا معنى
32

للتعبد بصدورها مع إجمالها، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ، كما لا يخفى (1).
33

فصل
التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا، حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر، إلا أنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا - فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك، واحتمال كون كل منهما كاذبا - لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه، لعدم التعيين في الحجة أصلا، كما لا يخفى.
نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التعين لذلك لا بهما (1)، هذا بناءا على حجية
35

الامارات من باب الطريقية (1)، كما هو كذلك (2) حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما
42

مانعا عن حجيته (1)، وأما بناءا على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلا فيه، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها، وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور، لا للتقية ونحوها، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والاخبار،
43

ضرورة ظهورها فيه، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان (1).
44

وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين (1)، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير
46

إلزامي، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء (1)، إلا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل غير الالزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي
49

الالزامي، ويحكم فعلا بغير الالزامي، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي غير الالزامي، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره (1).
50

نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام (1)، إلا أنه لا دليل نقلا ولا عقلا على
52

الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية، كما مر تحقيقه (1). وحكم التعارض بناءا على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم
53

يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة، حسبما فصلناه في مسألة الضد، وإلا فالتعيين (1)، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل
54

على الحكم الالزامي، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي، وإلا فلا بأس بأخذه والعمل عليه، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا (1)، فافهم (2).
56

هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه
57

العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصور السابقة (1)، مع أن في الجمع كذلك
58

أيضا طرحا للامارة أو الامارتين، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيين، وفي السندين إذا كانا ظنيين (1)، وقد عرفت أن
62

قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين، لابقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل (1)،
63

فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا، ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه، فإن أولويته من قبيل الأولوية في أولي الأرحام، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام (1).
64

فصل
لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات، إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها، وإلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار (1)، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو
65

التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته، والأصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته، بل ربما ادعي الاجماع أيضا على حجية خصوص الراجح (1)،
66

واستدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار (1)، وهي على طوائف:
69

منها: ما دل على التخيير على الاطلاق، كخبر الحسن بن الجهم، عن الرضا - عليه السلام: قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيهما الحق، قال: فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت. وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه. ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام، في ركعتي الفجر، فروى بعضهم: صل في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلها إلا في الأرض، فوقع عليه السلام موسع عليك بأية عملت ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه السلام - إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان.. إلى أن قال عليه السلام وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (1)

(1) لا يخفى ان المراد بقوله وهي على طوائف: اي الأخبار الواردة في المقام على طوائف (منه قدس سره).
(2) الوسائل ج 18: 87 / 40، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(3) الوسائل ج 18: 87 / 41، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(4) الوسائل ج 18: 88 / 44، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(5) الوسائل ج 18: 87 / 39، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
70

إلى غير ذلك من الاطلاقات (1).
ومنها: ما دل على التوقف مطلقا (2).

(1) عيون أخبار الرضا (ط. قم) ج 1، ص 290، حديث 39.
(2) الكافي ج 1: ص 66، حديث 7.
72

ومنها: ما دل على ما هو الحائط منها (1).

(1) الوسائل ج 18: 88 / 42، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
73

ومنها: ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة، من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة، والأعدلية، والأصدقية، والأفقهية والأورعية، والأوثقية، والشهرة (1) على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها (2).
ولاجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار (3).
74

فمنهم من أوجب الترجيح بها، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، أو المفيدة للظن، كما ربما يظهر من غيره (1).
75

فالتحقيق أن يقال: إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة والمرفوعة (1)، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة
76

جدا (1)، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع

(1) الكافي ج 1، ص 67، ح 10.
(2) عوالي اللآلي ج 4، ص 133.
77

المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما، ولاوجه معه للتعدي منه إلى غيره، كما لا يخفى (1).
ولا وجه لدعوى تنقيح المناط، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين، وتعارض ما استند إليه من
79

الروايتين لا يكاد يكون إلا بالترجيح ولذا أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى (1) ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة، كما لا يخفى (2).
80

وإن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه السلام بهما، لقصور المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه السلام (1)، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد
81

الترجيح (1)، مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين - بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين، مع
82

ندرة كونهما متساويين جدا - بعيد قطعا، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب، كما فعله بعض الأصحاب (1)، ويشهد به الاختلاف
83

الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار (1).
84

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره (1)، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف، وباطل، وليس بشيء، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار، وكذا الخبر الموافق للقوم، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به غير جارية، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك، وكذا الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور، كما لا يخفى، فتكون هذه الأخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة (2)،
85



(1) وسائل الشيعة ج 18: 82 / 23 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(2) الوسائل ج 18: 83 / 24 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
(3) الوسائل ج 18: 88 / 46 باب 9 من أبواب صفات القاضي.
86

فافهم (1).
89

وإن أبيت عن ذلك، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الاطلاقات، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا، هذا (1) ثم إنه لولا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات، وهي آبية عنه، كيف يمكن تقييد مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل؟... كما لا يخفى (2).
90

فتلخص - مما ذكرنا - أن اطلاقات التخيير محكمة، وليس في الاخبار ما يصلح لتقييدها. نعم قد استدل على تقييدها، ووجوب الترجيح في المتفاضلين (1) بوجوه أخر:
91

منها: دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين (1).
وفيه أن دعوى الاجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء، قال في ديباجة الكافي: ولا نجد شيئا (2) أوسع ولا أحوط من التخيير (3) - مجازفة.
92

ومنها: أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا (1).
وفيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان، وكان الترجيح بها بلا مرجح، وهو قبيح كما هو واضح (2)، هذا مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم
93

بالقبح إلى الامتناع، من أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ومنها الأحكام الشرعية، لا يكون إلا قبيحا، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى، وإلا فهو بمكان من الامكان، لكفاية إرادة المختار علة لفعله، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح، إلا من باب امتناع صدوره منه تعالى، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.
وبالجملة: الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال، وبمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه (1).
95

ومنها: غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن، فالصفح عنه أولى وأحسن.
ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه وعمل مقلديه، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية، لعدم الدليل عليه فيها. نعم له الافتاء به في المسألة الأصولية، فلا بأس حينئذ باختيار
98

المقلد غير ما اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه (1).
99

وهل التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الاطلاقات أيضا كونه استمراريا (1).
100

وتوهم أن المتحير كان محكوما بالتخيير، ولا تحير له بعد الاختيار، فلا يكون الاطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار، لاختلاف الموضوع فيهما، فاسد، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على حاله، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا، كما لا يخفى (1).
101

فصل
هل على القول بالترجيح، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة المنصوصة، أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي، لما في الترجيح بمثل الأصدقية والأوثقية ونحوهما، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة للأقربية إلى الواقع، ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه، من استظهار أن العلة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب، ولما في التعليل بأن الرشد في خلافهم (1).
104

ولا يخفى ما في الاستدلال بها: أما الأول: فإن جعل خصوص شيء فيه جهة الاراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته، بل لا إشعار فيه كما لا يخفى، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته، لا سيما قد ذكر فيها ما لا يحتمل الترجيح به إلا تعبدا (1)،
107

فافهم (1).
وأما الثاني: فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب فيها، مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة عليهم السلام موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها، بحيث يصح أن يقال عرفا: إنها مما لا ريب فيها، كما لا يخفى.
ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع،
109

من المعارض الفاقد لها (1).
110

وأما الثالث: فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة، لحسنها، ولو سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول
112

الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة، ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله، كما مر آنفا (1).

(1) أورد الحديث بالمضمون راجع الوسائل ج 18، 85 / 32، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
113

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية فيه، ضرورة كمال الوثوق بصدوره كذلك، مع الوثوق بصدورهما، لولا القطع به في الصدر الأول، لقلة الوسائط ومعرفتها (1)، هذا مع ما في عدم بيان الامام

(1) الوسائل ج 18، 88 / 46، باب 9 من أبواب صفات القاضي.
114

عليه السلام للكلية كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا (1)، وما في أمره عليه السلام بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكر من المزايا
116

المنصوصة، من الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا المخصوصة، كما لا يخفى (1).
117

ثم إنه بناءا على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي المزية ولا أقربيته، كبعض صفات الراوي مثل الأورعية أو الأفقهية، إذا كان موجبهما مما لا يوجب الظن أو الأقربية، كالتورع من الشبهات، والجهد في العبادات، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية، فلا وجه للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية، بل إلى كل مزية، ولو لم تكن بموجبة لأحدهما، كما لا يخفى (1).
118

وتوهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ (1)، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا، وإنما يضر
120

فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه، ولم يؤخذ في اعتبار الاخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك (1)، هذا مضافا إلى اختصاص حصول
121

الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا، وإلا فلا يوجب الظن بصدور أحدهما لامكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما أو فيهما، أو إرادته تقية، كما لا يخفى (1).
122

نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته، من دون التعدي إلى ما لا يوجب ذلك، وإن كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية الظنية ونحوهما، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها، إنما هو الأقوى دلالة، كما لا يخفى (1)،
123

فافهم (1).
فصل
قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمها ما يقتضيه الأصل في المتعارضين، من سقوط أحدهما رأسا
125

وسقوط كل منهما في خصوص مضمونه، كما إذا لم يكونا في البين (1)، فهل التخيير أو الترجيح يختص أيضا بغير مواردها أو يعمها (2)؟ قولان:
126

أولهما المشهور (1)، وقصارى ما يقال في وجهه: إن الظاهر من الاخبار العلاجية - سؤالا وجوابا - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير، مما لا يكاد يستفاد المراد هناك عرفا، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق، فإنه من أنحاء طرق الاستفادة عنه أبناء المحاورة (2).
127

ويشكل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه وثيق، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحة السؤال بملاحظة التحير في الحال لأجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل، أو للتحير (1) في الحكم واقعا
128

وإن لم يتحير فيه ظاهرا، وهو كاف في صحته قطعا (1)، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء
130

المحاورة، وجل العناوين المأخوذة في الأسئلة لولا كلها يعمها، كما لا يخفى (1).
131

ودعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب مقام التخاطب (1)، وبذلك ينقدح وجه القول
132

الثاني (1)، اللهم إلا أن يقال: إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة عليهم السلام، وهي
133

كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير موارد التوفيق العرفي (1)، لولا دعوى اختصاصها به، وأنها سؤالا وجوابا بصدد الاستعلاج والعلاج في موارد التحير والاحتياج، أو دعوى الاجمال وتساوي احتمال العموم مع احتمال الاختصاص، ولا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك (2)، فلم يثبت
134

بأخبار العلاج ردع عما هو عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء، من التوفيق وحمل الظاهر على الأظهر، والتصرف فيما يكون صدورهما قرينة عليه (1)،
135

فتأمل (1).
فصل
قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأول على الآخر، فلا إشكال فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر، وقد ذكر فيما اشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا عبرة به أصلا، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها (2):
136

منها: ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق، وتقديم التقييد على التخصيص فيما دار الامر بينهما، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق، فإنه معلق على عدم البيان، والعام يصلح بيانا، فتقديم العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه، بخلاف العكس، فإنه موجب لتخصيصه بلا وجه إلا على نحو دائر (1).
137



(1) فرائد الأصول، تحقيق عبد الله النوراني ج 2، ص 792.
138

ومن أن التقييد أغلب من التخصيص (1).
وفيه: إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة، إنما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد (2)، وأغلبية التقييد مع
140

كثرة التخصيص بمثابة قد قيل: ما من عام إلا وقد خص، غير مفيد، ولابد في كل قضية من ملاحظة خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر، فتدبر (1).
ومنها: ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ - كما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام، أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه (2) - في وجه تقديم التخصيص على النسخ،
141

من غلبة التخصيص وندرة النسخ (1).
ولا يخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنما هو بالاطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا (2)، وإن غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في
144

الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلا فهي وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص (1)، إلا أنها غير موجبة لها،
146

كما لا يخفى (1).
147

ثم إنه بناءا على اعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص، لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، يشكل الامر في تخصيص الكتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عليهم السلام، فإنها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما، والتزام نسخهما بها ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم السلام كما ترى (1)، فلا محيص في حله
148

من أن يقال: إن اعتبار ذلك حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكان من الواضح أن ذلك فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصيات أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء غير واحد من التكاليف في الصدر الأول (1)، لم يكن بأس بتخصيص عموماتهما بها، واستكشاف
150

أن موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا فيه ظاهرا (1)، ولاجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار والدوام أيضا، فتفطن (2).
152

فصل
لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين، وأما إذا كان بين الزائد عليهما فتعينه ربما لا يخلو عن خفاء، ولذا وقع بعض الاعلام في اشتباه وخطأ (1)، حيث توهم أنه إذا كان هناك
154

عام وخصوصات وقد خصص ببعضها، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه، فلابد من رعاية هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح، لا تقديمها عليه، إلا إذا كانت النسبة بعده على حالها (1).
155

وفيه: إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجيته، ولذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي، لأصالة عمومه بالنسبة إليه (1).
162

لا يقال: إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا، فكيف يكون ظاهرا فيه (1)؟
165

فإنه يقال: إن المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة الكلية، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها (1)، وإلا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص (2)، وأصالة عدم
166

مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور له، لا فيه ولا في غيره من المراتب، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها، كما لا يخفى، لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها (1).
167

نعم ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام، وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام (1).
169

فانقدح بذلك أنه لابد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا، ولو كان بعضها مقدما أو قطعيا (1)، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا، ولو لم تكن مستوعبة لافراده، فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها، فلابد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها (2) ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه، فلو رجح جانبها أو
170

اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا، فلا يطرح منها إلا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره (1)، فإن التباين إنما كان بينه وبين
171

مجموعها لا جميعها، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا، فلا تغفل.
هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (1)، وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعددة، كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما
173

هو أخص مطلقا من أحدهما، وأنه لابد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح والتخيير بينهما (1)، وإن
175

انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما، لما عرفت من أنه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج (1).
177

نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدا، لقدم على العام الآخر، لا لانقلاب النسبة بينهما، بل لكونه كالنص فيه، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى (1).
178

فصل
لا يخفي أن المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به وطرح الآخر - بناءا على وجوب الترجيح - وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة، من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل: الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب، إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه، خصوصا لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة، إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر، فإن أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر رأسا (1)، وكونها في مقطوعي
179

الصدور متمحضة في ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما، ضرورة أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره (1)؟.
183

ثم إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع، ضرورة أن قضية ذلك تقديم الخبر الذي ظن صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخيير بينهما
184

إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلا تعيين أن أيها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر (1).
185

وأما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها مرتبا في المقبولة والمرفوعة (1)، مع إمكان أن يقال: إن الظاهر
187

كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد بيان أن هذا مرجح وذاك مرجح، ولذا اقتصر في غير واحد منها على ذكر مرجح واحد، وإلا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة، وهو بعيد جدا (1)، وعليه فمتى وجد
188

في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها، كان المرجع هو إطلاقات التخيير، ولا كذلك على الأول بل لابد من ملاحظة الترتيب، إلا إذا كانا في عرض واحد (1).
189

وانقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات، في أنه لابد في صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه بمضمونه، أو الأقربية كذلك إلى الواقع، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر، أو أنه لا مزية لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بما له من المزية مساويا للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلابد حينئذ من التخيير بين الخبرين، فلا وجه لتقديمه على غيره، كما عن الوحيد البهبهاني (قدس سره) وبالغ فيه بعض أعاظم المعاصرين أعلى الله درجته ولا لتقديم غيره عليه، كما يظهر من شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (1) قال: أما لو زاحم الترجيح
190

بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور، بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة، بناءا على تعليل
191

الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور (1).
192

إن قلت: إن الأصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور (1).
193

قلت: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة. وقال بعد جملة من الكلام: فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الاخبار، وأما ما وجب فيه التعبد بصدور أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور متفرعة على أصل الصدور، انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه (1).
194

وفيه مضافا إلى ما عرفت أن حديث فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور، بل من مرجحاتها، وأما إذا كان من مرجحاته بأحد المناطين، فأي فرق بينه وبين سائر المرجحات؟ ولم يقم دليل بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير الجهة، مع كون الآخر راجحا بحسبها، بل هو أول الكلام، كما لا يخفى (1)، فلا محيص
195

من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار العلاج، على الترجيح بينهما مع المزاحمة (1)، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل (2).
198

وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور، مع حمل أحدهما على التقية، لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لأنه إلغاء لأحدهما أيضا في الحقيقة (1).
199

وفيه ما لا يخفى من الغفلة، وحسبان أنه التزم (قدس سره) في مورد الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور، إما للعلم بصدورهما، وإما للتعبد به فعلا، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما، وقضية دليل العلاج ليس إلا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا. والعجب كل العجب أنه رحمه الله لم يكتف بما أورده من النقض، حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به (1)، وبرهن عليه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق،
200

لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله، وبين صدوره تقية، ولا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة، كما أنه لا يعقل التعبد بالقطعي الصدور الموافق (1)، بل الامر في الظني الصدور أهون، لاحتمال عدم صدوره،
202

بخلافه (1). ثم قال: فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة، مع نص الامام عليه السلام على طرح موافقهم، من العجائب والغرائب التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة، فضلا عمن هو تالي العصمة علما وعملا. ثم قال: وليت شعري، إن هذه الغفلة الواضحة
203

كيف صدرت منه؟ مع أنه في جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر (1).
204

وأنت خبير بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور رأسا، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلا، ولا يكاد يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك بداهة (1)، وإنما دار
205

احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف قطعيا صدورا وجهة ودلالة، ضرورة دوران معارضه حينئذ بين عدم صدوره وصدوره تقية (1)، وفي غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة، لاحتمال صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضا.
ومنه قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي أيضا، وإنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضه المخالف قطعيا بحسب السند والدلالة، لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة، ولعمري إن ما ذكرنا أوضح من أن يخفى على مثله، إلا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان، عصمنا الله من زلل الاقدام
206

والأقلام في كل ورطة ومقام (1). ثم إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة، وأما بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه
207

من معارضه، لاحتمال التورية في المعارض المحتمل فيه التقية دونه، فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور، بناءا على ما هو المشهور من تقدم التوفيق - بحمل الظاهر على الأظهر - على الترجيح بها (1).
208

اللهم إلا أن يقال: أن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية، إلا أنه حيث كان بالتأمل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر، بحيث يكون قرينة على التصرف عرفا في الآخر (1)،
210

فتدبر (1).
فصل
موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه ولو نوعا من المرجحات في الجملة (2) - بناءا على لزوم الترجيح - لو قيل بالتعدي عن المرجحات
211

المنصوصة، أو قيل بدخوله في القاعدة المجمع عليها كما ادعي، وهي لزوم العمل بأقوى الدليلين (1)، وقد عرفت أن التعدي محل نظر بل منع،
212

وإن الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليلية والكشفية، وكون مضمون أحدهما مظنونا، لأجل مساعدة أمارة ظنية عليه، لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية، بل هو على ما هو عليه من القوة لولا مساعدتها، كما لا يخفى (1)، ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه
213

الظن بوجود خلل في الآخر، إما من حيث الصدور، أو من حيث جهته، كيف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر في حجية المخالف لولا معارضة الموافق، والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك، فافهم. هذا حال الامارة غير المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها (1).
214

أما ما ليس بمعتبر بالخصوص لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس، فهو وإن كان كالغير المعتبر لعدم الدليل، بحسب ما يقتضي الترجيح به من الاخبار بناءا على التعدي، والقاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين، إلا أن الأخبار الناهية عن القياس وأن السنة إذا قيست محق الدين، مانعة عن الترجيح به، ضرورة أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له في المسألة الشرعية الأصولية، وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة الفرعية (1).
217

وتوهم أن حال القياس ها هنا ليس في تحقق الأقوائية به إلا كحاله فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية ولا فرعية (1)، قياس مع الفارق، لوضوح الفرق بين المقام
219

والقياس في الموضوعات الخارجية الصرفة، فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا بخلاف المعمول في المقام، فإنه نحو إعمال له في الدين، ضرورة أنه لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار، والتخيير بينه وبين معارضه بمقتضى أدلة العلاج، فتأمل جيدا (1).
220

وأما ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه، كالكتاب والسنة القطعية (1)، فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجيح، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم المعارض، فإنه المتيقن من الأخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل، أو أنه: لم نقله، أو غير ذلك. وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضية القاعدة فيها، وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا، لو لم يكن الترجيح في الموافق، بناءا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، إلا أن الأخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة، لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللاحجة، كما نزلناها عليه، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من أصله، فإنهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على خلاف المخالفة في الأخرى، كما لا يخفى (2).
223

اللهم إلا أن يقال: نعم، إلا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا كانت المخالفة بالمباينة - بقرينة القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم السلام كثيرا، وإباء مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف أو باطل عن التخصيص - غير بعيدة، وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر أنها كالمخالفة في الصورة الأولى كما لا يخفى (1)، وأما الترجيح بمثل الاستصحاب، كما وقع في كلام غير
225

واحد من الأصحاب، فالظاهر أنه لأجل اعتباره من باب الظن والطريقية عندهم، وأما بناءا على اعتباره تعبدا من باب الاخبار وظيفة للشاك، كما هو المختار، كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك عقلا أو نقلا، فلا وجه للترجيح به أصلا، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة دليل اعتباره كما لا يخفى (1). هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.
227

الخاتمة
في
الاجتهاد والتقليد
229

وأما الخاتمة: فهي فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد
فصل
الاجتهاد لغة: تحمل المشقة، واصطلاحا كما عن الحاجبي والعلامة: استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، وعن غيرهما ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة.
ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا، ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الالفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخص منه مفهوما أو أعم.
ومن هنا انقدح أنه لا وقع للايراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد، كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لولا الكل، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها، أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها، لغير علام الغيوب (1)،
231

فافهم (1).
234

وكيف كان، فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه، فإن المناط فيه هو تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا، أو بعض الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالاحكام، فإنه مطلقا عندهم، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة، ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره من أفرادها من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية غير المفيدة للظن ولو نوعا اجتهادا أيضا (1).
235

ومنه قد انقدح أنه لاوجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنه لامحيص عنه كما لا يخفى، غاية الأمر له أن ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره ويمنع عنها، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى، ضرورة أنه ربما يقع بين الأخباريين، كما وقع بينهم وبين الأصوليين (1).
237

فصل
ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجز، فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلا أو
238

نقلا في الموارد التي لم يظفر فيها بها، والتجزي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام (1).
ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للاعلام (2)، وعدم التمكن من الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردد منهم في بعض المسائل إنما
239

هو بالنسبة إلى حكمها الواقعي، لأجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع.
وأما بالنسبة إلى حكمها الفعلي، فلا تردد لهم أصلا (1)، كما لا إشكال في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف
240

به (1)، وأما لغيره فكذا لا إشكال فيه، إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له - على ما يأتي من الأدلة على جواز
241

التقليد (1) - بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الاشكال، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، وأدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى، وقضية مقدمات الانسداد ليست إلا حجية الظن عليه
242

لا على غيره (1)، فلابد في حجية اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري في حق
243

المجتهد (1)، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه، بحيث تكون منتجة بحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا، ولا مجال
244

لدعوى الاجماع، ومقدماته كذلك غير جارية في حقه، لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط وان لزم منه العسر، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره (1).
245

نعم، لو جرت المقدمات كذلك، بأن انحصر المجتهد، ولزم من الاحتياط المحذور، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ، كانت منتجة لحجيته في حقه أيضا (1)، لكن دونه خرط القتاد، هذا على
246

تقدير الحكومة (1).
وأما على تقدير الكشف وصحته، فجواز الرجوع إليه في غاية الاشكال لعدم مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به، وقضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره، ولو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص (2)،
247

فتأمل (1).
248

إن قلت: حجية الشيء شرعا مطلقا لا توجب القطع بما أدى إليه من الحكم ولو ظاهرا، كما مر تحقيقه، وأنه ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الإصابة، والعذر مع عدمها، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل، فضلا عما إذا انسد عليه (1).
250

قلت: نعم، إلا أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم (1).
251

إن قلت: رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الأصول العقلية، ليس إلا الرجوع إلى الجاهل (1).
قلت: رجوعه إليه فيها إنما هو لأجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية فيها، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك، وأما تعيين ما هو
252

حكم العقل وأنه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط، فهو إنما يرجع إليه، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده (1)،
253

فافهم (1).
254

وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحا، وأما إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة (1)، فإن مثله كما
255



(1) من لا يحضره الفقيه ج 3 - ح 3216.
(2) وسائل الشيعة ج 18، باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث 6.
256

أشرت آنفا ليس ممن يعرف الاحكام، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة (1)، إلا أن يدعى عدم القول بالفصل، وهو وإن كان غير
257

بعيد، إلا أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل (1)، إلا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات والضروريات من الدين
258

أو المذهب، والمتواترات إذا كانت جملة يعتد بها، وإن انسد باب العلم بمعظم الفقه، فإنه يصدق عليه حينئذ أنه ممن روى حديثهم (عليهم السلام) ونظر في حلالهم (عليهم السلام) وحرامهم (عليهم السلام): وعرف أحكامهم عرفا حقيقة (1).
259

وأما قوله (عليه السلام) في المقبولة فإذا حكم بحكمنا فالمراد أن مثله إذا حكم كان بحكمهم حكم، حيث كان منصوبا منهم، كيف وحكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية
260

امرأة له من أحكامهم (عليهم السلام) فصحة إسناد حكمه إليهم (عليهم السلام) إنما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم (1).

(1) المتحصل من هذا الاشكال: هو ان الظاهر من حكمهم هو حكمهم المجعول اما هو أو حجيته، والانسداد على الكشف المجعول هو الظن في حال الانسداد، كالحجية للخبر بناءا على أن المجعول الحجية. اما الانسداد على نحو الحكومة فلا جعل فيه من الشارع، فالاشكال يختص بخصوص الانسداد على نحو الحكومة، فان ظاهر حكمنا في المقبولة يقتضي خروجه عن منصب القضاء (منه قدس سره).
261

وأما التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام (1):
263

الأول: في إمكانه، وهو وإن كان محل الخلاف بين الاعلام إلا أنه لا ينبغي الارتياب فيه، حيث كانت أبواب الفقه مختلفة مدركا، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة،
عقلية ونقلية، مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في النقليات أو العقليات، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها، وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته، مع عدم القدرة على ما ليس كذلك (1)، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة
264

غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة (1). وبساطة الملكة وعدم قبولها التجزئة، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب، بحيث يتمكن
266

بها من الإحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها، ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلا، أو لا يعتني باحتماله لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة، بداهة أنه لا يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلا على مدارك جميع المسائل، كما لا يخفى (1).
268

الثاني: في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به، وهو أيضا محل الخلاف، إلا أن قضية أدلة المدارك حجيته، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق، ضرورة أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقا، وكذا ما دل على حجية الخبر الواحد، غايته تقييده بما إذا تمكن من دفع معارضاته كما هو المفروض (1).
273

الثالث: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كل مسألة اجتهد فيها، وهو أيضا محل الاشكال، من أنه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمه أدلة جواز التقليد، ومن دعوى عدم إطلاق فيها، وعدم إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أيضا، وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضية الأدلة (1).
274

وأما جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته فأشكل، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدا بها واجتهد فيها، بحيث يصح أن يقال في حقه عرفا أنه ممن عرف أحكامهم، كما مر في المجتهد المطلق المنسد عليه باب العلم والعلمي في معظم الاحكام (1).
276

فصل
لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة ولو بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة، بالرجوع إلى ما دون فيه، ومعرفة التفسير كذلك وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول، ضرورة أنه ما من مسألة الا ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الأصول، أو برهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية، كما هو طريقة الاخباري (1)، وتدوين تلك القواعد المحتاج إليها
277

على حدة لا يوجب كونها بدعة، وعدم تدوينها في زمانهم (عليهم السلام) لا يوجب ذلك، وإلا كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة (1).
279

وبالجملة لا محيص لأحد في استنباط الاحكام الفرعية من أدلتها إلا الرجوع إلى ما بنى عليه في المسائل الأصولية، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد، مجتهدا كان أو أخباريا (1).
نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة والاشخاص، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد في الصدر الأول، وعدم
280

حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة، مما لا يكاد يحقق ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دون فيه من الكتب الأصولية (1).
281

فصل
اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات، واختلفت في الشرعيات، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا، وأن له تبارك وتعالى في كل مسألة حكما يؤدي إليه الاجتهاد تارة وإلى غيره أخرى. وقال مخالفونا بالتصويب، وأن له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى (1)، ولا يخفى أنه لا يكاد يعقل
282

الاجتهاد في حكم المسألة إلا إذا كان لها حكم واقعا، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته، وتعيينه بحسبها ظاهرا (1)، فلو كان غرضهم
283

من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء بأن تكون الاحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما واقعية كما هي ظاهرية فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الاخبار، وإجماع أصحابنا الأخيار على أن له تبارك وتعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الكل، إلا أنه غير محال، ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء الاعلام بعد الاجتهاد، فهو مما لا يكاد يعقل، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين ولا أثر، أو يستظهر من الآية أو الخبر (1)، إلا أن يراد التصويب بالنسبة
285

إلى الحكم الفعلي، وأن المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء، إلا أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، وهو مما يختلف باختلاف
الآراء ضرورة، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة بل إنشاءا، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لامحيص عنه في الجملة بناءا على اعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية كما لا يخفى (1)، وربما يشير إليه ما
287

اشتهرت بيننا أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم (1).
290

نعم بناءا على اعتبارها من باب الطريقية، كما هو كذلك، فمؤديات الطرق والامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقة نفسية، ولو قيل بكونها أحكاما طريقية، وقد مر غير مرة إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا، وأن قضية حجيتها ليس إلا تنجيز مؤدياتها عند إصابتها، والعذر عند خطئها، فلا يكون حكم أصلا إلا الحكم الواقعي، فيصير منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر، ويكون غير منجز بل غير فعلي فيما لم تكن هناك حجة مصيبة، فتأمل جيدا (1).
291

فصل
إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي الأول بالآخر أو بزواله بدونه، فلا شبهة في عدم العبرة به في الاعمال اللاحقة، ولزوم اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا أو الاحتياط فيها (1)، وأما الأعمال السابقة
293

الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد، فلابد من معاملة البطلان معها (1) فيما لم ينهض دليل على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر
295

، كما نهض في الصلاة وغيرها، مثل لا تعاد،
297

وحديث الرفع، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي (1). وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح، بداهة أنه لا حكم معه شرعا، غايته المعذورية في المخالفة عقلا، وكذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض، بناءا على ما هو التحقيق من اعتبار الامارة من باب الطريقية، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية، أم لا على ما مر منا غير مرة (2)،
298

من غير فرق بين تعلقه بالاحكام أو بمتعلقاتها، ضرورة أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد (1)، ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما، كما في
300

الفصول (1)، وأن المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الاحكام، إلا حسبان أن الاحكام قابلة للتغيير والتبدل، بخلاف المتعلقات
301

والموضوعات (1)، وأنت خبير أن الواقع واحد فيهما، وقد عين أولا بما
302

ظهر خطؤه ثانيا (1)، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخل بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام، لو قيل بعدم صحة العقود والايقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني، ووجوب العمل على طبق الثاني، من عدم ترتيب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة، لا يكون إلا أحيانا (2)، وأدلة نفي العسر لا تنفي
303

إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا، مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات، ولزوم العسر في الاحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة، وباب الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.
وبالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها، بتحمل الاجتهادين وعدم التحمل بينا ولا مبينا، بما يرجع إلى محصل في كلامه زيد في علو مقامه فراجع وتأمل (1).
305

وأما بناءا على اعتبارها من باب السببية والموضوعية، فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأول، عبادة كان أو معاملة، وكون مؤداه - ما لم يضمحل - حكما حقيقة (1)، وكذلك الحال إذا كان

(1) نهاية الدراية: ج 3، ص 206 (ط. حجري).
306

بحسب الاجتهاد الأول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، وقد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال، فراجع هناك (1).
307

فصل
في التقليد وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا، بلا مطالبة دليل على رأيه، ولا يخفى أنه لا وجه لتفسيره بنفس العمل، ضرورة سبقه عليه، وإلا كان بلا تقليد (1)،
309

فافهم (1).
311

ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة، يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقا غالبا، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا وسنة (1)، ولا يجوز التقليد فيه أيضا، وإلا لدار أو
312

تسلسل (1)، بل هذه هي العمدة في أدلته، وأغلب ما عداه قابل
314

للمناقشة (1)، لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة، مما يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه من الأمور الفطرية الارتكازية، والمنقول منه غير حجة في مثلها، ولو قيل بحجيتها في غيرها، لوهنه بذلك (2).
316

ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين، لاحتمال أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته (1)، وكذا القدح في دعوى سيرة المتدينين (2).
317

وأما الآيات، فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه، لقوة احتمال أن يكون الارجاع لتحصيل العلم لا الأخذ تعبدا، مع أن المسؤول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسر به في الاخبار (1).

(1) التوبة: الآية 122.
(2) النحل: الآية 43.
318

نعم لا بأس بدلالة الاخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة، حيث دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء، وبعضها على أن للعوام تقليد العلماء، وبعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم، أو منطوقا مثل ما دل على إظهاره عليه السلام المحبة لان يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام (1).

(1) البقرة: الآية 78.
(2) الاحتجاج ص 457.
321



(1) كمال الدين، ص 484 تحقيق علي أكبر الغفاري.
(2) راجع ترجمة أبان من كتاب رجال النجاشي.
322

لا يقال: إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه واتباعه (1).
فإنه يقال: إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا، فافهم وتأمل (2).
323

وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها، لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد، وإن لم يكن كل واحد منها بحجة (1)، فيكون مخصصا لما دل على عدم
324

جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد، من الآيات والروايات. قال الله تبارك وتعالى: [ولا تقف ما ليس لك به علم] وقوله تعالى: [إنا وجدنا ء اباءنا على أمة وإنا على ء اثارهم مقتدون] مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل، أو في الأصول الاعتقادية التي لابد فيها من اليقين (1)، وأما قياس المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق

(1) الاسراء: الآية 36.
(2) يونس: الآية 36.
325



(1) الزخرف: الآية 23.
326

الأولى لسهولتها، فباطل، مع أنه مع الفارق، ضرورة أن الأصول الاعتقادية مسائل معدودة، بخلافها فإنه مما لا تعد ولا تحصى، ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلا للأوحدي في كلياتها، كما لا يخفى (1).
327

فصل
إذا علم المقلد اختلاف الاحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة، فلابد من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعينه، للقطع بحجيته والشك في حجية غيره، ولاوجه لرجوعه إلى الغير في تقليده، إلا على نحو دائر. نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي، وجواز الرجوع إليه أيضا (1)، أو جوز له الأفضل بعد رجوعه
329

إليه (1)، هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية
332

الأدلة في هذه المسألة (1). وأما غيره، فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول وعدم جوازه، ذهب بعضهم إلى الجواز، والمعروف بين الأصحاب على ما قيل عدمه
وهو الأقوى (2) للأصل، وعدم دليل على
334

خلافه (1)، ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على
335

مشروعية أصله (1)، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ بقول العالم لا في كل حال، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته
336

بقول الفاضل، كما هو شأن سائر الطرق والامارات على ما لا يخفى (1).
337

ودعوى السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما، ممنوعة (1). ولا عسر في
340

تقليد الأعلم، لا عليه لأخذ فتاويه من رسائله وكتبه، ولا لمقلديه لذلك أيضا، وليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد، مع أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر، فيجب فيما لا يلزم منه عسر، فتأمل جيدا (1).
341

وقد استدل للمنع أيضا بوجوه: أحدها نقل الاجماع على تعين تقليد الأفضل.
ثانيها: الاخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها، أو على اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين عليه السلام اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك.
ثالثها: إن قول الأفضل أقرب من غيره جزما، فيجب الاخذ به عند المعارضة عقلا (1).

(1) من لا يحضره الفقيه: ج 3، ص 5 - ح 17.
343



(1) نهج البلاغة (فيض الاسلام) ص 993.
344

ولا يخفى ضعفها: أما الأول: فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو الأصل، فلا مجال لتحصيل الاجماع مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله موهونا، مع عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه (1).
وأما الثاني: فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة، لأجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلا به، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى، كما لا يخفى (2).
345

وأما الثالث: فممنوع صغرى وكبرى، أما الصغرى فلأجل أن فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات (1)، ولا يصغى إلى أن فتوى الأفضل أقرب في نفسه، فإنه
346

لو سلم أنه كذلك إلا أنه ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الأقربية في الامارة لنفسها، أو لأجل موافقتها لامارة أخرى، كما لا يخفى (1).
347

وأما الكبرى فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية، لم يعلم أنه القرب من الواقع، فلعله يكون ما هو في الأفضل وغيره سيان، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا. نعم لو كان تمام الملاك هو القرب، كما إذا كان حجة بنظر العقل، لتعين الأقرب قطعا (1)،
349

فافهم (1).
350

فصل
اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط، وبين العامة عدمه، وهو خيرة الأخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا، وربما نقل تفاصيل، منها التفصيل بين البدوي فيشترط والاستمراري فلا يشترط، والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب (1)، للشك في جواز تقليد الميت، والأصل عدم جوازه، ولا مخرج عن هذا الأصل، إلا ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه ضعيفة (2).
351

منها: استصحاب جواز تقليده في حال حياته، ولا يذهب عليك أنه لا مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفا، لعدم بقاء الرأي معه، فإنه متقوم بالحياة بنظر العرف، وإن لم يكن كذلك واقعا، حيث أن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه (1)، ولا ينافي ذلك صحة استصحاب
352

بعض أحكام حال حياته، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعا، وبقاء الرأي لابد منه في جواز التقليد قطعا، ولذا لا يجوز التقليد فيما إذا تبدل الرأي أو ارتفع، لمرض أو هرم إجماعا.
وبالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه (1)، ويكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم يكن
354

كذلك حقيقة، لبقاء موضوعه، وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده، وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف، فلا
يجدي بقاء النفس عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه، وحسبان أهله أنها غير باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمل جيدا (1).
356

لا يقال: نعم، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه، إلا إن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في الرواية (1).
357

فإنه يقال: لا شبهة في أنه لابد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدل ونحوهما لما جاز قطعا، كما أشير إليه آنفا (1).
358

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.
وأما الاستمراري، فربما يقال بأنه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها، فإن رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها، إلا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض (1)، ولكنه لا يخفى
359

أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت فواضح، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ، وهو واضح.
360

وإن كان بالنقل فكذلك، على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلا ذلك، لا إنشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها، فلا مجال لاستصحاب ما قلده، لعدم القطع به سابقا (1)، إلا على ما
361

تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب، فراجع (1)، ولا دليل على حجية
363

رأيه السابق في اللاحق (1).
وأما بناءا على ما هو المعروف بينهم، من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الأحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعا في الظاهر، فلاستصحاب ما قلده من الاحكام وإن كان مجال، بدعوى بقاء الموضوع عرفا، لأجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض (2).
364

إلا ان الإنصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف، فإنه من المحتمل لولا المقطوع ان الاحكام التقليدية عندهم أيضا ليست أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق بحيث عد من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدل الرأي ونحوه، بل إنما كانت أحكاما لها بحسب رأيه بحيث عد من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل، ومجرد احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفا، فتأمل جيدا (1).
365

هذا كله مع إمكان دعوى انه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا (1)، فتأمل (2).
367

ومنها: إطلاق الآيات الدالة على التقليد.
وفيه: مضافا إلى ما أشرنا اليه من عدم دلالتها عليه - منع اطلاقها على تقدير دلالتها وإنما هو مسوق لبيان أصل تشريعه كما لا يخفى (1).

(1) ق: الآية 22.
368

ومنه انقدح حال إطلاق ما دل من الروايات على التقليد، مع إمكان دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها (1).
ومنها: دعوى أنه لا دليل على التقليد إلا دليل الانسداد، وقضيته جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفى.
وفيه: انه لا يكاد تصل النوبة اليه، لما عرفت من دليل العقل والنقل عليه (2).
369

ومنها: دعوى السيرة على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.
وفيه: منع السيرة فيما هو محل الكلام، وأصحابهم (عليهم السلام) إنما لم يرجعوا عما أخذوه من الاحكام، لأجل أنهم غالبا إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عليهم السلام، بلا واسطة أحد، أو معها من
370

دون دخل رأي الناقل فيه أصلا، وهو ليس بتقليد كما لا يخفى (1)، ولم يعلم إلى الآن حال من تعبد بقول غيره ورأيه أنه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.
ومنها: غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر أو يذكر (2).
371