الكتاب: أصول الفقه
المؤلف: الشيخ محمد رضا المظفر
الجزء: ٤
الوفاة: ١٣٨٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
الجزء الرابع
مجموعة المحاضرات التي القيت في
كلية منتدى النشر بالنجف الأشرف
ابتداء من سنة 1360 ه‍. ق
بقلم
الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
265

كان كل ما عثرنا عليه من " مباحث الأصول
العملية " التي تشكل الجزء الرابع والأخير من الكتاب
بين أوراق آية الله المؤلف طاب مثواه: هو
" مبحث الاستصحاب " الذي آثرنا نشره لوحده في
هذه الطبعة من الكتاب وألحقناه في الجزء
الثالث... ونأمل بعون الله تعالى أن نعثر على
البحوث الثلاثة الباقية من هذا الجزء لنقوم
بنشرها في الطبعات اللاحقة.
الناشر (1)

(1) هذه كلمة ناشر هذا الأثر القيم في طبعته الثانية (مؤسسة النشر الإسلامي).
266

المقصد الرابع
مباحث الأصول العملية
267

بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
لا شك في أن كل متشرع يعلم علما إجماليا بأن لله تعالى أحكاما
الزامية من نحو الوجوب والحرمة يجب على المكلفين امتثالها يشترك
فيها العالم والجاهل بها.
وهذا " العلم الإجمالي " منجز لتلك التكاليف الإلزامية الواقعية، فيجب
على المكلف - بمقتضى حكم العقل بوجوب تفريغ الذمة مما علم اشتغالها
به من تلك التكاليف - أن يسعى إلى تحصيل المعرفة بها بالطرق المؤمنة له
التي يعلم بفراغ ذمته باتباعها.
ومن أجل هذا نذهب إلى القول بوجوب المعرفة وبوجوب الفحص
من الأدلة والحجج المثبتة لتلك الأحكام حتى يستفرغ المكلف وسعه في
البحث ويستنفذ مجهوده الممكن له (1).

لو فرض أن مكلفا لا يسعه فحص أدلة الأحكام لسبب ما - ولو من جهة لزوم العسر
والحرج - فإنه يجوز له أن يقلد من يطمئن إليه من المجتهدين الذي تم له فحص الأدلة
وتحصيل الحجة، وذلك بمقتضى أدلة جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم. كما يجوز له
أن يعمل بالاحتياط في جميع الموارد المحتملة للتكليف والتي يمكن فيها الاحتياط على
النحو الذي يأتي بيانه في موقعه. ومن هنا قسموا المكلف إلى: مجتهد، ومقلد، ومحتاط.
ونحن غرضنا من هذا المقصد إنما هو البحث عن وظيفة المجتهد فقط، وهو المناسب
لعلم الأصول.
269

وحينئذ، إذا فحص المكلف وتمت له إقامة الحجة على جميع الموارد
المحتملة كلها، فذاك هو كل المطلوب وهو أقصى ما يرمي إليه المجتهد
الباحث ويطلب منه. ولكن هذا فرض لم يتفق حصوله لواحد من
المجتهدين، بأن تحصل له الأدلة على الأحكام الإلزامية كلها، لعدم توفر
الأدلة على الجميع.
وأما إذا فحص ولم تتم له إقامة الحجة إلا على جملة من الموارد
وبقيت لديه موارد أخرى يحتمل فيها ثبوت التكليف ويتعذر فيها إقامة
الحجة - لأي سبب كان (1) - فإن المكلف يقع لا محالة في حالة من الشك
تجعله في حيرة من أمر تكليفه.
فماذا تراه صانعا؟
هل هناك حكم عقلي يركن إليه ويطمئن بالرجوع إلى مقتضاه؟
أو أن الشارع قد راعى هذه الحالة للمكلف لعلمه بوقوعه فيها، فجعل
له وظائف عملية يرجع إليها عند الحاجة ويعمل بها لتطمينه من الوقوع
في العقاب؟
هذه أسئلة يجب الجواب عنها.
وهذا " المقصد الرابع " وضع للجواب عنها، ليحصل للمكلف اليقين
بوظيفته التي يجب عليه أن يعمل بها عند الشك والحيرة.
وهذه الوظيفة أو الوظائف هي التي تسمى عند الأصوليين ب‍ " الأصل
العملي " أو " القاعدة الأصولية " أو " الدليل الفقاهتي ".

(1) إن تعذر إقامة الحجة قد يحصل من جهة فقدان الدليل، وقد يحصل من جهة إجماله، وقد
يحصل من جهة تعارض الدليلين وتعادلهما من دون مرجح لأحدهما على الآخر.
270

وقد اتضح لدى الأصوليين أن الوظيفة الجارية في جميع أبواب الفقه
من غير اختصاص بباب دون باب هي على أربعة أنواع:
1 - أصالة البراءة.
2 - أصالة الاحتياط.
3 - أصالة التخيير.
4 - أصالة الاستصحاب.
ومن جميع ما تقدم يتضح لنا:
أولا: أن موضوع هذا " المقصد الرابع " هو الشك بالحكم (1).
ثانيا: أن هذه الأصول الأربعة مأخوذ في موضوعها " الشك بالحكم "
أيضا.
ثم اعلم أن الحصر في هذه الأصول الأربعة حصر استقرائي، لأ نهى هي
التي وجدوا أنها تجري في جميع أبواب الفقه، ولذا يمكن فرض أصول
أخرى غيرها ولو في أبواب خاصة من الفقه. وبالفعل هناك جملة من
الأصول في الموارد الخاصة يرجع إليها الشاك في الحكم، مثل " أصالة
الطهارة " الجاري (2) في مورد الشك بالطهارة في الشبهة الحكمية
والموضوعية.
وإنما تعددت هذه الأصول الأربعة فلتعدد مجاريها - أي مواردها -
التي تختلف باختلاف حالات الشك، إذ لكل أصل منها حالة من الشك
هي مجراه على وجه لا يجري فيها غيره من باقي الأصول.

(1) المقصود بالشك ما هو أعم من الشك الحقيقي - وهو تساوي الطرفين - ومن الظن غير
المعتبر، نظرا إلى أن حكمه حكم الشك، بل باعتبار آخر يدخل الظن غير المعتبر في الشك
حقيقة، من ناحية أنه لا يرفع حيرة المكلف باتباعه فيبقى العامل به شاكا في فراغ ذمته.
(2) كذا، والمناسب: الجارية.
271

غير أنه مما يجب علمه أن مجاري هذه الأصول لا تعرف، كما لا
يعرف أن مجرى هذه الحالة هو مجرى هذا الأصل مثلا إلا من طريق أدلة
جريان هذه الأصول واعتبارها. وفي بعضها اختلاف باختلاف الأقوال فيها.
وقد ذكر مشايخ الأصول على سبيل الفهرس في مجاريها وجوها
مختلفة لا يخلو بعضها من نقد وملاحظات. وأحسنها - فيما يبدو - ما
أفاده شيخنا النائيني - أعلى الله مقامه - (1).
وخلاصته:
إن الشك على نحوين:
1 - أن تكون للمشكوك حالة سابقة وقد لاحظها الشارع، أي قد
اعتبرها. وهذا هو مجرى " الاستصحاب ".
2 - ألا تكون له حالة سابقة، أو كانت ولكن لم يلاحظها الشارع.
وهذه الحالة لا تخلو عن إحدى صور ثلاث:
أ - أن يكون التكليف مجهولا مطلقا، أي لم يعلم حتى بجنسه. وهذه
هي مجرى " أصالة البراءة ".
ب - أن يكون التكليف معلوما في الجملة مع إمكان الاحتياط. وهذه
مجرى " أصالة الاحتياط ".
ج - أن يكون التكليف معلوما كذلك ولا يمكن الاحتياط. وهذه
مجرى " قاعدة التخيير ".
وقبل الكلام في كل واحدة من هذه الأصول لابد من بيان أمور من
باب المقدمة تنويرا للأذهان. وهي:

(1) فوائد الأصول: ج 3 ص 4.
272

الأول: أن الشك في الشئ ينقسم باعتبار الحكم المأخوذ فيه على
نحوين:
1 - أن يكون مأخوذا موضوعا للحكم الواقعي، كالشك في عدد
ركعات الصلاة، فإنه قد يوجب في بعض الحالات تبدل الحكم الواقعي إلى
الركعات المنفصلة.
2 - أن يكون مأخوذا موضوعا للحكم الظاهري. وهذا النحو هو
المقصود بالبحث في المقام. وأما النحو الأول فهو يدخل في مسائل الفقه.
الثاني: أن الشك في الشئ ينقسم باعتبار متعلقه - أي الشئ
المشكوك فيه - على نحوين:
1 - أن يكون المتعلق موضوعا خارجيا، كالشك في طهارة ماء معين
أو في أن هذا المايع المعين خل أو خمر. وتسمى الشبهة حينئذ
" موضوعية ".
2 - أن يكون المتعلق حكما كليا، كالشك في حرمة التدخين، أو أنه
من المفطرات للصوم، أو نجاسة العصير العنبي إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه.
وتسمى الشبهة حينئذ " حكمية ".
والشبهة الحكمية هي المقصودة بالبحث في هذا " المقصد الرابع " وإذا
جاء التعرض لحكم الشبهات الموضوعية فإنما هو استطرادي قد تقتضيه
طبيعة البحث باعتبار أن هذه الأصول في طبيعتها تعم الشبهات الحكمية
والموضوعية في جريانها، وإلا فالبحث عن حكم الشك في الشبهة
الموضوعية من مسائل الفقه.
الثالث: أنه قد علم مما تقدم في صدر التنبيه أن الرجوع إلى الأصول
العملية إنما يصح بعد الفحص واليأس من الظفر بالأمارة على الحكم
273

الشرعي في مورد الشبهة. ومنه يعلم أنه مع الأمل ووجود المجال
للفحص لاوجه لإجراء الأصول والاكتفاء بها في مقام العمل، بل اللازم أن
يفحص حتى ييأس، لأن ذلك هو مقتضى وجوب المعرفة والتعلم، فلا
معذر عن التكليف الواقعي لو وقع في مخالفته بالعمل بالأصل لا سيما مثل
أصل البراءة.
* * *
274

الاستصحاب
تعريفه:
إذا تيقن المكلف بحكم أو بموضوع ذي حكم ثم تزلزل يقينه السابق
- بأن شك في بقاء ما كان قد تيقن به سابقا - فإنه بمقتضى ذهاب يقينه
السابق يقع المكلف في حيرة من أمره في مقام العمل، هل يعمل على
وفق ما كان متيقنا به ولكنه ربما زال ذلك المتيقن فيقع في مخالفة الواقع،
أو لا يعمل على وفقه فينقضي ذلك اليقين بسبب ما عراه من الشك
ويتحلل مما تيقن به سابقا ولكنه ربما كان المتيقن باقيا على حاله لم يزل
فيقع في مخالفة الواقع؟
إذا ماذا تراه صانعا؟
لا شك أن هذه الحيرة طبيعية للمكلف الشاك، فتحتاج إلى ما يرفعها
من مستند شرعي، فإن ثبت بالدليل أن القاعدة هي أن يعمل على وفق
اليقين السابق وجب الأخذ بها ويكون معذورا لو وقع في المخالفة، وإلا
فلابد أن يرجع إلى مستند يطمنه (1) من التحلل مما تيقن به سابقا، ولو
مثل أصل البراءة أو الاحتياط.
وقد ثبت لدى الكثير من الأصوليين أن القاعدة في ذلك أن يأخذ

(1) تقول العامة: طمنه، أي حمله على الطمأنينة (المنجد - طمن).
275

بالمتيقن السابق عند الشك اللاحق في بقائه، على اختلاف أقوالهم في
شروط جريان هذه القاعدة وحدودها، على ما سيأتي.
وسموا هذه القاعدة ب‍ " الاستصحاب ".
وكلمة " الاستصحاب " مأخوذة في أصل اشتقاقها من كلمة " الصحبة "
من باب الاستفعال، فتقول: " استصحبت هذا الشخص " أي اتخذته صاحبا
مرافقا لك. وتقول: " استصحبت هذا الشئ " أي حملته معك.
وإنما صح إطلاق هذه الكلمة على هذه القاعدة في اصطلاح
الأصوليين، فباعتبار أن العامل بها يتخذ ما تيقن به سابقا صحيبا له إلى
الزمان اللاحق في مقام العمل.
وعليه، فكما يصح أن تطلق كلمة " الاستصحاب " على نفس الإبقاء
العملي من الشخص المكلف العامل، كذلك يصح إطلاقها على نفس
القاعدة لهذا الإبقاء العملي، لأن القاعدة في الحقيقة إبقاء واستصحاب من
الشارع حكما.
إذا عرفت ذلك، فينبغي أن يجعل التعريف لهذه القاعدة المجعولة،
لا لنفس الإبقاء العملي من المكلف العامل بالقاعدة، لأن المكلف يقال له:
عامل بالاستصحاب ومجر له، وإن صح أن يقال له: إنه استصحب، كما
يقال له: أجرى الاستصحاب.
وعلى كل، فموضوع البحث هنا هو هذه القاعدة العامة. والمقصود
بالبحث إثباتها وإقامة الدليل عليها وبيان مدى حدود العمل بها، فلاوجه
لجعل التعريف لذات الإبقاء العملي الذي هو فعل العامل بالقاعدة، كما
صنع بعضهم (1) فوقع في حيرة من توجيه التعريفات.

(1) انظر درر الفوائد للمؤسس الحائري (قدس سره): ج 1 - 2 ص 509.
276

وإلى تعريف القاعدة نظر من عرف الاستصحاب بأنه " إبقاء ما كان "
فإن القاعدة في الحقيقة معناها إبقاؤه حكما. وكذلك من عرفه بأنه
" الحكم ببقاء ما كان " ولذا قال الشيخ الأنصاري عن ذلك التعريف:
" والمراد بالإبقاء: الحكم بالبقاء " بعد أن قال: إنه أسد التعاريف
وأخصرها (1).
ولقد أحسن وأجاد في تفسير " الإبقاء " بالحكم بالبقاء، ليدلنا على أن
المراد من " الإبقاء " الإبقاء حكما الذي هو القاعدة، لا الإبقاء عملا الذي
هو فعل العامل بها.
وقد اعترض على هذا التعريف الذي استحسنه الشيخ بعدة أمور نذكر
أهمها ونجيب عنها:
منها: لا جامع للاستصحاب بحسب المشارب فيه من جهة المباني
الثلاثة الآتية في حجيته، وهي: الأخبار، وبناء العقلاء، وحكم العقل.
فلا يصح أن يعبر عنه بالإبقاء على جميع هذه المباني. وذلك لأن
المراد منه إن كان " الإبقاء العملي من المكلف " فليس بهذا المعنى موردا
لحكم العقل، لأن المراد من حكم العقل هنا إذعانه - كما سيأتي - وإذعانه
إنما هو ببقاء الحكم لا بإبقائه العملي من المكلف. وإن كان المراد منه
" الإبقاء غير المنسوب إلى المكلف " فمن الواضح أنه لا جهة جامعة بين
الإلزام الشرعي الذي هو متعلق بالإبقاء وبين البناء العقلائي والإدراك
العقلي.
والجواب يظهر مما سبق، فإن المراد من " الاستصحاب " هو القاعدة
في العمل المجعولة من قبل الشارع، وهي قاعدة واحدة في معناها على

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 541.
277

جميع المباني، غاية الأمر أن الدليل عليها تارة يكون الأخبار، واخرى
بناء العقلاء، وثالثة إذعان العقل الذي يستكشف منه حكم الشرع.
ومنها: أن التعريف المذكور لا يتكفل ببيان أركان الاستصحاب من
نحو اليقين السابق والشك اللاحق.
والجواب: أن التعبير ب‍ " إبقاء ما كان " مشعر بالركنين معا:
أما الأول - وهو اليقين السابق - فيفهم من كلمة " ما كان " لأ أنه - كما
أفاده الشيخ الأنصاري - " دخل الوصف في الموضوع مشعر بعليته
للحكم، فعلة الإبقاء أنه كان، فيخرج من التعريف إبقاء الحكم لأجل
وجود علته أو دليله " (1). وحينئذ لا يفرض أنه كان إلا إذا كان متيقنا.
وأما الثاني - وهو الشك اللاحق - فيفهم من كلمة " الإبقاء " الذي معناه
الإبقاء حكما وتنزيلا وتعبدا، ولا يكون الحكم التعبدي التنزيلي إلا في
مورد مفروض فيه الشك بالواقع الحقيقي، بل مع عدم الشك بالبقاء
لا معنى لفرض الإبقاء وإنما يكون بقاء للحكم ويكون أيضا عملا
بالحاضر، لا بما كان.
مقومات الاستصحاب:
بعد أن أشرنا إلى أن لقاعدة الاستصحاب أركانا نقول تعقيبا على
ذلك: إن هذه القاعدة تتقوم بعدة أمور إذا لم تتوفر فيها فإما ألا تسمى
استصحابا، أو لا تكون مشمولة لأدلته الآتية. ويمكن أن ترتقي هذه
المقومات إلى سبعة أمور حسبما تقتنص من كلمات الباحثين:
1 - اليقين: والمقصود به اليقين بالحالة السابقة، سواء كانت حكما

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 541.
278

شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي. وقد قلنا سابقا: إن ذلك ركن في
الاستصحاب، لأن المفهوم من الأخبار الدالة عليه - بل من معناه - أن
يثبت يقين بالحالة السابقة وأن لثبوت هذا اليقين علية في القاعدة. ولا
فرق في ذلك بين أن نقول بأن اعتبار سبق اليقين من جهة كونه صفة
قائمة بالنفس، وبين أن نقول بذلك من جهة كونه طريقا وكاشفا. وسيأتي
بيان وجه الحق من القولين.
2 - الشك: والمقصود منه الشك في بقاء المتيقن. وقد قلنا سابقا: إنه
ركن في الاستصحاب، لأ أنه لا معنى لفرض هذه القاعدة ولا للحاجة إليها
مع فرض بقاء اليقين أو تبدله بيقين آخر، ولا يصح أن تجري إلا في
فرض الشك ببقاء ما كان متيقنا. فالشك مفروغ عنه في فرض جريان
قاعدة الاستصحاب، فلابد أن يكون مأخوذا في موضوعها.
ولكن ينبغي ألا يخفى أن المقصود من " الشك " ما هو أعم من الشك
بمعناه الحقيقي - أي تساوي الاحتمالين - ومن الظن غير المعتبر. فيكون
المراد منه عدم العلم والعلمي مطلقا، وسيأتي الإشارة إلى سر ذلك.
3 - اجتماع اليقين والشك في زمان واحد: بمعنى أن يتفق في آن
واحد حصول اليقين والشك، لا بمعنى أن مبدأ حدوثهما يكون في آن
واحد، بل قد يكون مبدأ حدوث اليقين قبل حدوث الشك، كما هو
المتعارف في أمثلة الاستصحاب. وقد يكونان متقارنين حدوثا، كما لو
علم يوم الجمعة - مثلا - بطهارة ثوبه يوم الخميس وفي نفس يوم الجمعة
في آن حصول العلم حصل له الشك في بقاء الطهارة السابقة إلى يوم
الجمعة. وقد يكون مبدأ حدوث اليقين متأخرا عن حدوث الشك، كما لو
حدث الشك يوم الجمعة في طهارة ثوبه واستمر الشك إلى يوم السبت ثم
279

حدث له يقين يوم السبت في أن الثوب كان طاهرا يوم الخميس. فإن كل
هذه الفروض هي مجرى للاستصحاب.
والوجه في اعتبار اجتماع اليقين والشك في الزمان واضح، لأن ذلك
هو المقوم لحقيقة الاستصحاب الذي هو " إبقاء ما كان " إذ لو لم يجتمع
اليقين السابق مع الشك اللاحق زمانا فإنه لا يفرض ذلك إلا فيما إذا تبدل
اليقين بالشك وسرى الشك إليه فلا يكون العمل باليقين إبقاء لما كان، بل
هذا مورد " قاعدة اليقين " المباينة في حقيقتها لقاعدة الاستصحاب،
وستأتي الإشارة إليها.
4 - تعدد زمان المتيقن والمشكوك: ويشعر بهذا الشرط نفس الشرط
الثالث المتقدم، لأ أنه مع فرض وحدة زمان اليقين والشك يستحيل فرض
اتحاد زمان المتيقن والمشكوك مع كون المتيقن نفس المشكوك - كما
سيأتي اشتراط ذلك في الاستصحاب أيضا - وذلك لأن معناه اجتماع
اليقين والشك بشئ واحد، وهو محال. والحقيقة أن وحدة زمان صفتي
اليقين والشك بشئ واحد يستلزم تعدد زمان متعلقهما، وبالعكس، أي أن
وحدة زمان متعلقهما يستلزم تعدد زمان الصفتين.
وعليه، فلا يفرض الاستصحاب إلا في مورد اتحاد زمان اليقين
والشك مع تعدد زمان متعلقهما. وأما في فرض العكس بأن يتعدد زمانهما
مع اتحاد زمان متعلقهما بأن يكون في الزمان اللاحق شاكا في نفس ما
تيقنه سابقا بوصف وجوده السابق، فإن هذا هو مورد ما يسمى ب‍ " قاعدة
اليقين " والعمل باليقين لا يكون إبقاء لما كان:
مثلا: إذا تيقن بحياة شخص يوم الجمعة ثم شك يوم السبت بنفس
حياته يوم الجمعة بأن سرى الشك إلى يوم الجمعة - أي أنه تبدل يقينه
280

السابق إلى الشك - فإن العمل على اليقين لا يكون إبقاء لما كان، لأ أنه
حينئذ لم يحرز ما كان تيقن به أنه كان. ومن أجل هذا عبروا عن مورد
قاعدة اليقين ب‍ " الشك الساري ".
وهذا هو الفرق الأساسي بين القاعدتين. وسيأتي أن أخبار
الاستصحاب لا تشملها ولا دليل عليها غيرها.
5 - وحدة متعلق اليقين والشك: أي أن الشك يتعلق بنفس ما تعلق به
اليقين مع قطع النظر عن اعتبار الزمان. وهذا هو المقوم لمعنى
الاستصحاب الذي حقيقته " إبقاء ما كان ".
وبهذا تفترق " قاعدة الاستصحاب " عن " قاعدة المقتضي والمانع "
التي موردها ما لو حصل اليقين بالمقتضي والشك في الرافع - أي المانع
في تأثيره - فيكون المشكوك فيها غير المتيقن. فإن من يذهب إلى صحة
هذه القاعدة يقول: إنه يجب البناء على تحقق المقتضى (بالفتح) إذا تيقن
بوجود المقتضي (بالكسر) ويكفي ذلك بلا حاجة إلى إحراز عدم المانع من
تأثيره، أي أن مجرد إحراز المقتضي كاف في ترتيب آثار مقتضاه.
وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيها.
6 - سبق زمان المتيقن على زمان المشكوك: أي أنه يجب أن يتعلق
الشك في بقاء ما هو متيقن الوجود سابقا. وهذا هو الظاهر من معنى
الاستصحاب، فلو انعكس الأمر بأن كان زمان المتيقن متأخرا عن زمان
المشكوك - بأن يشك في مبدأ حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان
الحاضر - فإن هذا يرجع إلى " الاستصحاب القهقرى " الذي لا دليل عليه.
مثاله: ما لو علم بأن صيغة " افعل " حقيقة في الوجوب في لغتنا
الفعلية الحاضرة وشك في مبدأ حدوث وضعها لهذا المعنى، هل كان في
281

أصل وضع لغة العرب، أو أنها نقلت عن معناها الأصلي إلى هذا المعنى
في العصور الإسلامية؟ فإنه يقال هنا: إن الأصل عدم النقل، لغرض إثبات
أنها موضوعة لهذا المعنى في أصل اللغة. ومعنى ذلك في الحقيقة جر
اليقين اللاحق إلى الزمن المتقدم. ومثل هذا الاستصحاب يحتاج إلى دليل
خاص، ولا تكفي فيه أخبار الاستصحاب ولا أدلته الأخرى، لأ أنه ليس
من باب عدم نقض اليقين بالشك، بل يرجع أمره إلى نقض الشك المتقدم
باليقين المتأخر.
7 - فعلية الشك واليقين: بمعنى أنه لا يكفي الشك التقديري ولا
اليقين التقديري. واعتبار هذا الشرط لا من أجل أن الاستصحاب لا
يتحقق معناه إلا بفرضه، بل لأن ذلك مقتضى ظهور لفظ " الشك " و
" اليقين " في أخبار الاستصحاب، فإنهما ظاهران في كونهما فعليين كسائر
الألفاظ في ظهورها في فعلية عناوينها.
وإنما يعتبر هذا الشرط في قبال من يتوهم جريان الاستصحاب في
مورد الشك التقديري.
ومثاله - كما ذكره بعضهم (1) - ما لو تيقن المكلف بالحدث ثم غفل
عن حاله وصلى، ثم بعد الفراغ من الصلاة شك في أنه هل تطهر قبل
الدخول في الصلاة، فإن مقتضى " قاعدة الفراغ " صحة صلاته لحدوث
الشك بعد الفراغ من العمل وعدم وجود الشك قبله. ولا نقول بجريان
استصحاب الحدث إلى حين الصلاة لعدم فعلية الشك إلا بعد الصلاة. وأما
الاستصحاب الجاري بعد الصلاة فهو محكوم لقاعدة الفراغ. أما لو قلنا
بجريان الاستصحاب مع الشك التقديري وكان يقدر فيه الشك في الحدث

(1) راجع فوائد الأصول: ج 4 ص 318.
282

لو أنه التفت قبل الصلاة، فإن المصلي حينئذ يكون بمنزلة من دخل في
الصلاة وهو غير متطهر يقينا، فلا تصح صلاته وإن كان غافلا حين الصلاة،
ولا تصححها " قاعدة الفراغ " لأ نهى لا تكون حاكمة على الاستصحاب
الجاري قبل الدخول في الصلاة.
معنى حجية الاستصحاب:
من جملة المناقشات في تعريف الاستصحاب المتقدم - وهو " إبقاء ما
كان " ونحوه - ما قاله بعضهم: إنه لا شك في صحة توصيف الاستصحاب
بالحجية، مع أنه لو أريد منه ما يؤدي معنى " الإبقاء " لا يصح وصفه
بالحجة، لأ أنه إن أريد منه " الإبقاء العملي المنسوب إلى المكلف " فواضح
عدم صحة توصيفه بالحجة، لأ أنه ليس الإبقاء العملي يصح أن يكون دليلا
على شئ وحجة فيه. وإن أريد منه " الإلزام الشرعي " فإنه مدلول الدليل،
لا أنه دليل على نفسه وحجة على نفسه، وكيف يكون دليلا على نفسه
وحجة على نفسه؟ فهو من هذه الجهة شأنه شأن الأحكام التكليفية
المدلولة للأدلة.
قلت: نستطيع حل هذه الشبهة بالرجوع إلى ما ذكرناه من معنى
" الإبقاء " الذي هو مؤدي الاستصحاب، وهو أن المراد به: القاعدة
الشرعية المجعولة في مقام العمل. فليس المراد منه " الإبقاء العملي
المنسوب إلى المكلف " ولا " الإلزام الشرعي " فيصح توصيفه بالحجة.
ولكن لا بمعنى الحجة في باب الأمارات بل بالمعنى اللغوي لها، لأ أنه
لا معنى لكون قاعدة العمل دليلا على شئ مثبتة له (1) بل هي الأمر
المجعول من قبل الشارع، فتحتاج إلى إثبات ودليل كسائر الأحكام

(1) في العبارة شئ من الإغلاق والإبهام.
283

التكليفية من هذه الجهة. ولكنه نظرا إلى أن العمل على وفقها عند الجهل
بالواقع يكون معذرا للمكلف إذا وقع في مخالفة الواقع كما أنه يصح
الاحتجاج بها على المكلف إذا لم يعمل على وفقها فوقع في المخالفة،
صح أن توصف بكونها حجة بالمعنى اللغوي. وبهذه الجهة يصح التوصيف
بالحجة سائر الأصول العملية والقواعد الفقهية المجعولة للشاك الجاهل
بالواقع، فإنها كلها توصف بالحجة في تعبيراتهم، ولا شك في أنه لا معنى
لأن يراد منها الحجة في باب الأمارات، فيتعين أن يراد منها هذا المعنى
اللغوي من الحجة.
وبهذه الجهة تفترق القواعد والأصول الموضوعة للشاك عن سائر
الأحكام التكليفية، فإنها لا يصح توصيفها بالحجة مطلقا حتى بالمعنى
اللغوي.
غير أنه يجب ألا يغيب عن البال أن توصيف القواعد والأصول
الموضوعة للشاك بالحجة يتوقف على ثبوت مجعوليتها من قبل الشارع
بالدليل الدال عليها. فالحجة في الحقيقة هي القاعدة المجعولة للشاك بما
أنها مجعولة من قبله. وإلا إذا لم تثبت مجعوليتها لا يصح أن تسمى قاعدة
فضلا عن توصيفها بالحجة.
وعليه، فيكون المقوم لحجية القاعدة المجعولة للشاك - أية قاعدة
كانت - هو الدليل الدال عليها الذي هو حجة بالمعنى الاصطلاحي.
وإذا ثبت صحة توصيف نفس " قاعدة الاستصحاب " بالحجة بالمعنى
اللغوي لم تبق حاجة إلى التأويل لتصحيح توصيف الاستصحاب بالحجة
- كما صنع بعض مشايخنا طيب الله ثراه - إذ جعل الموصوف بالحجة فيه
على اختلاف المباني أحد أمور ثلاثة:
284

1 - " اليقين السابق " باعتبار أنه يكون منجزا للحكم حدوثا عقلا
والحكم بقاء بجعل الشارع.
2 - " الظن بالبقاء اللاحق " بناء على اعتبار الاستصحاب من باب
حكم العقل.
3 - " مجرد الكون السابق " فإن الوجود السابق يكون حجة في نظر
العقلاء على الوجود الظاهري في اللاحق، لا من جهة وثاقة اليقين السابق
ولا من جهة رعاية الظن بالبقاء اللاحق، بل من جهة الاهتمام بالمقتضيات
والتحفظ على الأغراض الواقعية (1).
فإن كل هذه التأويلات إنما نلتجئ إليها إذا عجزنا عن تصحيح
توصيف نفس الاستصحاب بالحجة، وقد عرفت صحة توصيفه بالحجة
بمعناها اللغوي.
ثم لا شك في أن الموصوف بالحجة في لسان الأصوليين نفس
الاستصحاب، لا اليقين المقوم لتحققه، ولا الظن بالبقاء، ولا مجرد الكون
السابق، وإن كان ذلك كله مما يصح توصيفه بالحجة.
هل الاستصحاب أمارة أو أصل؟
بعد أن تقدم أنه لا يصح توصيف قاعدة العمل للشاك - أية قاعدة
كانت - بالحجة في باب الأمارات يتضح لك أنه لا يصح توصيفها
بالأمارة، فإنه تكون أمارة على أي شئ وعلى أي حكم؟ ولا فرق في
ذلك بين قاعدة الاستصحاب وبين غيرها من الأصول العملية والقواعد
الفقهية.

(1) نهاية الدراية للمحقق الإصفهاني: ج 5 ص 11.
285

إذ أن قاعدة الاستصحاب في الحقيقة مضمونها حكم عام وأصل
عملي يرجع إليها المكلف عند الشك والحيرة ببقاء ما كان. ولا يفرق في
ذلك بين أن يكون الدليل عليها الأخبار أو غيرها من الأدلة، كبناء العقلاء،
وحكم العقل، والإجماع.
ولكن الشيخ الأنصاري - أعلى الله مقامه - فرق في الاستصحاب بين
أن يكون مبناه الأخبار فيكون أصلا، وبين أن يكون مبناه حكم العقل
فيكون أمارة. قال ما نصه:
إن عد الاستصحاب من الأحكام الظاهرية الثابتة للشئ بوصف كونه
مشكوك الحكم نظير أصل البراءة وقاعدة الاشتغال مبني على استفادته
من الأخبار. وأما بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظني
اجتهادي، نظير القياس والاستقراء على القول بهما (1).
أقول: وكأن من تأخر عنه أخذ هذا الرأي إرسال المسلمات. والذي
يظهر من القدماء: أنه معدود عندهم من الأمارات - كالقياس - إذ لا
مستند لهم عليه إلا حكم العقل. غير أن الذي يبدو لي أن الاستصحاب
حتى على القول بأن مستنده حكم العقل لا يخرج عن كونه قاعدة عملية
ليس مضمونها إلا حكما ظاهريا مجعولا للشاك. وأما الظن ببقاء المتيقن
- على تقدير حكم العقل وعلى تقدير حجية مثل هذا الظن - لا يكون إلا
مستندا للقاعدة ودليلا عليها، وشأنه في ذلك شأن الأخبار وبناء العقلاء،
لا أن الظن هو نفس القاعدة حتى تكون أمارة، لأن هذا الظن نستنتج منه
أن الشارع جعل هذه القاعدة الاستصحابية لأجل العمل بها عند الشك
والحيرة.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 543.
286

والحاصل: أن هذا الظن يكون مستندا للاستصحاب، لا أنه نفس
الاستصحاب. وهو من هذه الجهة كالأخبار وبناء العقلاء، فكما أن
الأخبار يصح أن توصف بأنها أمارة على الاستصحاب إذا قام الدليل
القطعي على اعتبارها ولا يلزم من ذلك أن يكون نفس الاستصحاب
أمارة، كذلك يصح أن يوصف هذا الظن بأنه أمارة إذا قام الدليل القطعي
على اعتباره ولا يلزم منه أن يكون نفس الاستصحاب أمارة.
فاتضح أنه لا يصح توصيف الاستصحاب بأنه أمارة على جميع
المباني فيه، وإنما هو أصل عملي لا غير.
الأقوال في الاستصحاب:
قد تشعب في الاستصحاب أقوال العلماء تشعبات يصعب حصرها
على ما يبدو. ونحن نحيل خلاصتها إلى ما جاء في رسائل الشيخ
الأنصاري ثقة بتحقيقه، وهو خريت هذه الصناعة الصبور على ملاحقة
أقوال العلماء وتتبعها. قال (رحمه الله) - بعد أن توسع في نقل الأقوال والتعقيب
عليها - ما نصه:
هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب، والمتحصل منها في
بادئ النظر أحد عشر قولا:
1 - القول بالحجية مطلقا (1).
2 - عدمها مطلقا.
3 - التفصيل بين العدمي والوجودي.

(1) ذهب إلى هذا القول من المتأخرين الشيخ الآخوند صاحب الكفاية (رحمه الله) [كفاية الأصول
ص 439].
287

4 - التفصيل بين الأمور الخارجية وبين الحكم الشرعي مطلقا، فلا
يعتبر في الأول.
5 - التفصيل بين الحكم الشرعي الكلي وغيره، فلا يعتبر في الأول إلا
في عدم النسخ.
6 - التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره، فلا يعتبر في غير الأول. وهذا
هو الذي ربما يستظهر من كلام المحقق الخونساري في حاشية شرح
الدروس على ما حكاه السيد في شرح الوافية.
7 - التفصيل بين الأحكام الوضعية - يعني نفس الأسباب والشروط
والموانع - والأحكام التكليفية التابعة لها، وبين غيرها من الأحكام
الشرعية، فتجري في الأول دون الثاني.
8 - التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره، فلا يعتبر في الأول.
9 - التفصيل بين كون المستصحب مما ثبت بدليله أو من الخارج
استمراره فشك في الغاية الرافعة له، وبين غيره، فيعتبر في الأول دون
الثاني، كما هو ظاهر المعارج.
10 - هذا التفصيل مع اختصاص الشك بوجود الغاية، كما هو الظاهر
من المحقق السبزواري.
11 - زيادة الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون
المفهومي، كما هو ظاهر ما سيجئ من المحقق الخوانساري (1).
ثم إنه لو بني على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرض لهذه المسألة
في الأصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير، بل يحصل

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 560 - 561.
288

لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة، إلا أن صرف الوقت في هذا مما
لا ينبغي.
والأقوى هو " القول التاسع " وهو الذي اختاره المحقق. انتهى ما أردنا
نقله من عبارة الشيخ الأعظم (1).
وينبغي أن يزاد تفصيل آخر لم يتعرض له في نقل الأقوال، وهو رأي
خاص به، إذ فصل بين كون المستصحب مما ثبت بدليل عقلي فلا يجري
فيه الاستصحاب، وبين ما ثبت بدليل آخر فيجري فيه (2). ولعله إنما لم
يذكره في ضمن الأقوال لأ أنه يرى أن الحكم الثابت بدليل عقلي لا يمكن
أن يتطرق إليه الشك، بل إما أن يعلم بقاؤه أو يعلم زواله، فلا يتحقق فيه
ركن الاستصحاب وهو " الشك " فلا يكون ذلك تفصيلا في حجية
الاستصحاب.
وقبل أن ندخل في مناقشة الأقوال والترجيح بينها ينبغي أن نذكر
الأدلة على الاستصحاب التي تمسك بها القائلون بحجيته لنناقشها ونذكر
مدى دلالتها:
* * *

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 560 - 561.
(2) المصدر السابق: ص 555.
289

أدلة الاستصحاب:
الدليل الأول - بناء العقلاء:
لا شك في أن العقلاء من الناس - على اختلاف مشاربهم وأذواقهم -
جرت سيرتهم في عملهم وتبانوا في سلوكهم العملي على الأخذ بالمتيقن
السابق عند الشك اللاحق في بقائه. وعلى ذلك قامت معايش العباد، ولولا
ذلك لاختل النظام الاجتماعي ولما قامت لهم سوق وتجارة.
وقيل: إن ذلك مرتكز حتى في نفوس الحيوانات، فالطيور ترجع إلى
أوكارها والماشية تعود إلى مرابضها (1). ولكن هذا التعميم للحيوانات محل
نظر، بل ينبغي أن يعد من المهازل، لعدم حصول الاحتمال عندها حتى
يكون ذلك منها استصحابا، بل تجري في ذلك على وفق عادتها بنحو
لا شعوري.
وعلى كل حال، فإن بناء العقلاء في عملهم مستقر على الأخذ بالحالة
السابقة عند الشك في بقائها في جميع أحوالهم وشؤونهم، مع الالتفات إلى
ذلك والتوجه إليه.

(1) ذكره صاحب الفصول في نقل احتجاج القائلين بالإثبات مطلقا، الفصول الغروية:
ص 369.
290

وإذا ثبتت هذه المقدمة ننتقل إلى مقدمة أخرى فنقول: إن الشارع من
العقلاء بل رئيسهم فهو متحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن
طريقتهم العملية يثبت على سبيل القطع أنه ليس له مسلك آخر غير
مسلكهم، وإلا لظهر وبان ولبلغه الناس. وقد تقدم مثل ذلك في حجية خبر
الواحد.
وهذا الدليل - كما ترى - يتكون من مقدمتين قطعيتين:
1 - ثبوت بناء العقلاء على إجراء الاستصحاب.
2 - كشف هذا البناء عن موافقة الشارع واشتراكه معهم.
وقد وقعت المناقشة في المقدمتين معا. ويكفي في المناقشة ثبوت
الاحتمال فيبطل به الاستدلال، لأن مثل هذه المقدمات يجب أن تكون
قطعية، وإلا فلا يثبت بها المطلوب ولا تقوم بها للاستصحاب ونحوه حجة.
أما الأولى: فقد ناقش فيها استاذنا الشيخ النائيني (رحمه الله): بأن بناء العقلاء
لم يثبت إلا فيما إذا كان الشك في الرافع، أما إذا كان الشك في المقتضي
فلم يثبت منهم هذا البناء (1) - على ما سيأتي من معنى المقتضي والرافع
اللذين يقصدهما الشيخ الأنصاري - فيكون بناء العقلاء هذا دليلا على
التفصيل المختار له، وهو القول التاسع.
ولا يبعد صحة ما أفاده من التفصيل في بناء العقلاء، بل يكفي احتمال
اختصاص بنائهم بالشك في الرافع. ومع الاحتمال يبطل الاستدلال، كما
سبق.
وأما المقدمة الثانية: فقد ناقش فيها شيخنا الآخوند في الكفاية
بوجهين، نذكرهما ونذكر الجواب عنهما:

(1) فوائد الأصول: ج 4 ص 333.
291

أولا: أن بناء العقلاء لا يستكشف منه اعتبار الاستصحاب عند الشارع
إلا إذا أحرزنا أن منشأ بنائهم العملي هو التعبد بالحالة السابقة من قبلهم
- أي أنهم يأخذون بالحالة السابقة من أجل أنها سابقة - لنستكشف منه
تعبد الشارع. ولكن ليس هذا بمحرز منهم إذا لم يكن مقطوع العدم، فإنه
من الجائز قريبا أن أخذهم بالحالة السابقة لا لأجل أنها حالة سابقة، بل
لأجل رجاء تحصيل الواقع مرة، أو لأجل الاحتياط أخرى، أو لأجل
اطمئنانهم ببقاء ما كان ثالثة، أو لأجل ظنهم بالبقاء - ولو نوعا - رابعة، أو
لأجل غفلتهم عن الشك أحيانا خامسة (1). وإذا كان الأمر كذلك فلم يحرز
تعبد الشارع بالحالة السابقة الذي هو النافع في المقصود.
والجواب: أن المقصود النافع من ثبوت بناء العقلاء هو ثبوت تبانيهم
العملي على الأخذ بالحالة السابقة، وهذا ثابت عندهم من غير شك، أي
أن لهم قاعدة عملية تبانوا عليها ويتبعونها أبدا مع الالتفات والتوجه إلى
ذلك. أما فرض الغفلة من بعضهم أحيانا فهو صحيح، ولكن لا يضر في
ثبوت التباني منهم دائما مع الالتفات. ولا يضر في استكشاف مشاركة
الشارع معهم في تبانيهم اختلاف أسباب التباني عندهم من جهة مجرد
الكون السابق أو من جهة الاطمئنان عندهم أو الظن لأجل الغلبة أو لأي
شئ آخر من هذا القبيل، فهي قاعدة ثابتة عندهم فتكون ثابتة أيضا عند
الشارع. ولا يلزم أن يكون ثبوتها عنده من جميع الأسباب التي
لاحظوها. وإذا ثبتت عند الشارع فليس ثبوتها عنده إلا التعبد بها من قبله،
فتكون حجة على المكلف وله.
نعم، احتمال كون السبب في بنائهم - ولو أحيانا - رجاء تحصيل

(1) كفاية الأصول: ص 439.
292

الواقع أو الاحتياط من قبلهم قد يضر في استكشاف ثبوتها عند الشارع
كقاعدة، لأ نهى لا تكون عندهم كقاعدة لأجل الحالة السابقة. ولكن الرجاء
بعيد جدا من قبلهم ما لم يكن هناك عندهم اطمئنان أو ظن أو تعبد
بالحالة السابقة، لاحتمال أن الواقع غير الحالة السابقة، بل قد يترتب على
عدم البقاء أغراض مهمة، فالبناء على البقاء خلاف الرجاء. وكذلك
الاحتياط قد يقتضي البناء على عدم البقاء. فهذه الاحتمالات ساقطة في
كونها سببا لتباني العقلاء ولو أحيانا.
ثانيا: - بعد التسليم بأن منشأ بناء العقلاء هو التعبد ببقاء ما كان -
نقول: إن هذا لا يستكشف منه حكم الشارع إلا إذا أحرزنا رضاه ببنائهم
وثبت لدينا أنه ماض عنده. ولكن لا دليل على هذا الرضا والإمضاء، بل
إن عمومات الآيات والأخبار الناهية عن اتباع غير العلم كافية في الردع
عن اتباع بناء العقلاء، وكذلك ما دل على البراءة والاحتياط في الشبهات.
بل احتمال عمومها للمورد كاف في تزلزل اليقين بهذه المقدمة. فلاوجه
لاتباع هذا البناء، إذ لابد في اتباعه من قيام الدليل على أنه ممضى من
قبل الشارع. ولا دليل (1).
والجواب ظاهر من تقريبنا للمقدمة الثانية على النحو الذي بيناه، فإنه
لا يجب في كشف موافقة الشارع إحراز إمضائه من دليل آخر، لأن نفس
بناء العقلاء هو الدليل والكاشف عن موافقته، كما تقدم. فيكفي في
المطلوب عدم ثبوت الردع، ولا حاجة إلى دليل آخر على إثبات رضاه
وإمضائه.

(1) كفاية الأصول: ص 439.
293

وعليه، فلم يبق علينا إلا النظر في الآيات والأخبار الناهية عن اتباع
غير العلم في أنها صالحة للردع في المقام أو غير صالحة؟
والحق أنها غير صالحة، لأن المقصود من النهي عن اتباع غير العلم
هو النهي عنه لإثبات الواقع به، وليس المقصود من الاستصحاب إثبات
الواقع، فلا يشمل هذا النهي الاستصحاب الذي هو قاعدة كلية يرجع إليها
عند الشك، فلا ترتبط بالموضوع الذي نهت عنه الآيات والأخبار حتى
تكون شاملة لمثله، أي أن الاستصحاب خارج عن الآيات والأخبار
تخصصا.
وأما ما دل على البراءة أو الاحتياط فهو في عرض الدليل على
الاستصحاب فلا يصلح للردع عنه، لأن كلا منهما موضوعه " الشك " بل
أدلة الاستصحاب مقدمة على أدلة هذه الأصول، كما سيأتي.
الدليل الثاني - حكم العقل:
والمقصود منه هنا هو حكم العقل النظري، لا العملي، إذ يذعن
بالملازمة بين العلم بثبوت الشئ في الزمان السابق وبين رجحان بقائه
في الزمان اللاحق عند الشك ببقائه.
أي أنه إذا علم الإنسان بثبوت شئ في زمان ثم طرأ ما يزلزل العلم
ببقائه في الزمان اللاحق فإن العقل يحكم برجحان بقائه وبأنه مظنون
البقاء، وإذا حكم العقل برجحان البقاء فلابد أن يحكم الشرع أيضا
برجحان البقاء.
وإلى هذا يرجع ما نقل عن العضدي في تعريف الاستصحاب بأن
معناه: أن الحكم الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه وكل ما كان كذلك فهو
مظنون البقاء (1).

(1) شرح مختصر الأصول: ج 2 ص 453.
294

أقول: وهذا حكم العقل لا ينهض دليلا على الاستصحاب على ما
سنشرحه. والظاهر أن القدماء القائلين بحجيته لم يكن عندهم دليل عليه
غير هذا الدليل، كما يظهر جليا من تعريف العضدي - المتقدم - إذ أخذ فيه
نفس حكم العقل هذا. ولعله لأجل هذا أنكره من أنكره من قدماء
أصحابنا، إذ لم يتنبهوا إلى أدلته الأخرى على ما يظهر، فإنه أول من
تمسك ببناء العقلاء العلامة الحلي في النهاية (1) وأول من تمسك بالأخبار
الشيخ عبد الصمد والد الشيخ البهائي (2) وتبعه صاحب الذخيرة (3) وشارح
الدروس (4) وشاع بين من تأخر عنهم. كما حقق ذلك الشيخ الأنصاري في
رسائله في الأمر الأول من مقدمات الاستصحاب. ثم قال: نعم ربما يظهر
من الحلي في السرائر الاعتماد على هذه الأخبار، حيث عبر عن
استصحاب نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل نفسه بنقض اليقين
باليقين (5). وهذه العبارة ظاهرة أنها مأخوذة من الأخبار.
وعلى كل حال، فهذا الدليل العقلي فيه مجال للمناقشة من وجهين:
الأول: في أصل الملازمة العقلية المدعاة. ويكفي في تكذيبها
الوجدان، فإنا نجد أن كثيرا ما يحصل العلم بالحالة السابقة ولا يحصل
الظن ببقائها عند الشك لمجرد ثبوتها سابقا.
الثاني: - على تقدير تسليم هذه الملازمة - فإن أقصى ما يثبت بها
حصول الظن بالبقاء، وهذا الظن لا يثبت به حكم الشرع إلا بضميمة دليل
آخر يدل على حجية هذا الظن بالخصوص ليستثنى مما دل على حرمة

(1) نهاية الوصول: الورقة 198.
(2) العقد الطهماسبي، مخطوط.
(3) ذخيرة المعاد: ص 43 - 44.
(4) مشارق الشموس: ص 76 و 141.
(5) السرائر: ج 1 ص 62.
295

التعبد بالظن. والشأن كل الشأن في إثبات هذا الدليل. فلا تنهض هذه
الملازمة العقلية على تقديرها دليلا بنفسها على الحكم الشرعي. ولو كان
هناك دليل على حجية هذا الظن بالخصوص لكان هو الدليل على
الاستصحاب، لا الملازمة، وإنما تكون الملازمة محققة لموضوعه.
ثم ما المراد من قولهم: إن الشارع يحكم برجحان البقاء على طبق
حكم العقلاء؟ فإنه على إطلاق موجب للإيهام والمغالطة، فإنه إن كان
المراد أنه يظن بالبقاء كما يظن سائر الناس فلا معنى له. وإن كان المراد
أنه يحكم بحجية هذا الرجحان فهذا لا تقتضيه الملازمة بل يحتاج إثبات
ذلك إلى دليل آخر كما ذكرنا. وإن كان المراد أنه يحكم بأن البقاء مظنون
وراجح عند الناس - أي يعلم بذلك - فهذا وإن كان تقتضيه الملازمة،
ولكن هذا المقدار غير نافع ولا يكفي وحده في إثبات المطلوب، إذ
لا يكشف مجرد علمه بحصول الظن عند الناس عن اعتباره لهذا الظن
ورضاه به. والنافع في الباب إثبات هذا الاعتبار من قبله للظن لا حكمه
بأن هذا الشئ مظنون البقاء عند الناس.
الدليل الثالث - الإجماع:
نقل جماعة الاتفاق على اعتبار الاستصحاب، منهم صاحب المبادئ
على ما نقل عنه، إذ قال: الاستصحاب حجة لإجماع الفقهاء على أنه متى
حصل حكم ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا وجب الحكم ببقائه
على ما كان أولا (1).
أقول: إن تحصيل الإجماع في هذه المسألة مشكل جدا، لوقوع

(1) مبادئ الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي: ص 251.
296

الاختلافات الكثيرة فيها كما سبق، إلا أن يراد منه حصول الإجماع في
الجملة على نحو الموجبة الجزئية في مقابل السلب الكلي. وهذا الإجماع
بهذا المقدار قطعي، ألا ترى أن الفقهاء في مسألة من تيقن بالطهارة وشك
في الحدث أو الخبث قد اتفقت كلمتهم من زمن الشيخ الطوسي بل من
قبله إلى زماننا الحاضر على ترتيب آثار الطهارة السابقة بلا نكير منهم،
وكذا في كثير من المسائل مما هو نظير ذلك. ومعلوم أن فرض كلامهم في
مورد الشك اللاحق لا في مورد الشك الساري، فلا يكون حكمهم بذلك
من جهة " قاعدة اليقين " بل ولا من جهة " قاعدة المقتضي والمانع ".
والحاصل: أن هذا ومثله يكفي في الاستدلال على اعتبار
الاستصحاب في الجملة في مقابل السلب الكلي، وهو قطعي بهذا المقدار.
ويمكن حمل قول منكر الاستصحاب مطلقا على إنكار حجيته من طريق
الظن، لامن أي طريق كان، في مقابل من قال بحجيته لأجل تلك الملازمة
العقلية المدعاة.
نعم، دعوى الإجماع على حجية مطلق الاستصحاب أو في خصوص
ما إذا كان الشك في الرافع في غاية الإشكال بعدما عرفت من تلك الأقوال.
الدليل الرابع - الأخبار:
وهي العمدة في إثبات الاستصحاب وعليها التعويل. وإذا كانت أخبار
آحاد فقد تقدم حجية خبر الواحد، مضافا إلى أنها مستفيضة ومؤيدة
بكثير من القرائن العقلية والنقلية. وإذا كان الشيخ الأنصاري قد شك فيها
بقوله: " هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدل بها للاستصحاب،
وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها " (1) فإنها

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 570.
297

في الحقيقة هي جل اعتماده في مختاره، وقد عقب هذا الكلام بقوله:
" فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد " ثم أيدها بالأخبار
الواردة في الموارد الخاصة.
وعلى كل حال، فينبغي النظر فيها لمعرفة حجيتها ومدى دلالتها،
ولنذكرها واحدة واحدة، فنقول:
- 1 -
صحيحة زرارة الأولى
وهي مضمرة، لعدم ذكر الإمام المسؤول فيها، ولكنه كما قال الشيخ
الأنصاري: لا يضرها الإضمار (1). والوجه في ذلك: أن " زرارة " لا يروي
عن غير الإمام لا سيما مثل هذا الحكم بهذا البيان. والمنقول عن فوائد
العلامة الطباطبائي: أن المقصود به الإمام الباقر (عليه السلام) (2).
قال زرارة:
قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه
الوضوء؟
قال: يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، فإذا نامت العين
والاذن فقد وجب الوضوء.
قلت: فإن حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم؟
قال: لا! حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين،
وإلا فإنه على يقين من وضوئه. ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ولكنه ينقضه
بيقين آخر (3).

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 63.
(2) قاله في الفائدة 33 من فوائده.
(3) الوسائل: ج 1 ص 174، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 1.
298

ونذكر في هذه الصحيحة بحثين:
الأول في فقهها:
ولا يخفى أن فيها سؤالين: أولهما عن شبهة مفهومية حكمية، لغرض
معرفة سعة موضوع " النوم " من جهة كونه ناقضا للوضوء، إذ لا شك في
أنه ليس المقصود السؤال عن معنى النوم لغة ولا عن كون الخفقة أو
الخفقتين ناقضة للوضوء على نحو الاستقلال في مقابل النوم. فينحصر أن
يكون مراده - والجواب قرينة على ذلك أيضا - هو السؤال عن شمول
النوم الناقض للخفقة والخفقتين، مع علم السائل بأن النوم في نفسه له
مراتب تختلف شدة وضعفا ومنه الخفقة والخفقتان، ومع علمه بأن النوم
ناقض للوضوء في الجملة. فلذلك أجاب الإمام بتحديد النوم الناقض وهو
الذي تنام فيه العين والاذن معا، أما ما تنام فيه العين دون القلب والاذن
كما في الخفقة والخفقتين فليس ناقضا.
وأما السؤال الثاني: فهو - لا شك - عن الشبهة الموضوعية بقرينة
الجواب، لأ أنه لو كان مراد السائل الاستفهام عن مرتبة أخرى من النوم
التي لا يحس معها بما يتحرك فيه جنبه، لكان ينبغي أن يرفع الإمام شبهته
بتحديد آخر للنوم الناقض. ولو كانت شبهة السائل شبهة مفهومية حكمية
لما كان معنى لفرض الشك في الحكم الواقعي في جواب الإمام ثم إجراء
الاستصحاب، ولما صح أن يفرض الإمام استيقان السائل بالنوم تارة
وعدم استيقانه أخرى، لأن الشبهة لو كانت مفهومية حكمية لكان السائل
عالما بأن هذه المرتبة هي من النوم، ولكن يجهل حكمها كالسؤال الأول.
وإذا كان الأمر كذلك فالجواب الأخير إذا كان متضمنا لقاعدة
299

الاستصحاب - كما سيأتي - فموردها يكون حينئذ خصوص الشبهة
الموضوعية، فيقال حينئذ: لا يستكشف من إطلاق الجواب عموم القاعدة
للشبهة الحكمية الذي يهمنا بالدرجة الأولى إثباته، إذ يكون المورد من
قبيل القدر المتيقن في مقام التخاطب، وقد تقدم في الجزء الأول (1) أن
ذلك يمنع من التمسك بالإطلاق وإن لم يكن صالحا للقرينية، لما هو
المعروف أن المورد لا يخصص العام ولا يقيد المطلق.
نعم، قد يقال في الجواب: إن كلمة " أبدا " لها من قوة الدلالة على
العموم والإطلاق مالا يحد منها القدر المتيقن في مقام التخاطب، فهي
تعطي في ظهورها القوي أن كل يقين مهما كان متعلقه وفي أي مورد كان
لا ينقض بالشك أبدا.
الثاني في دلالتها على الاستصحاب:
وتقريب الاستدلال بها: أن قوله (عليه السلام): " فإنه على يقين من وضوئه "
جملة خبرية هي جواب الشرط (2) ومعنى هذه الجملة الشرطية: أنه إن
لم يستيقن بأنه قد نام فإنه باق على يقين من وضوئه، أي أنه لم يحصل

(1) راجع ص 240.
بنى الشيخ الأنصاري - ومن حذا حذوه - الاستدلال بهذه الصحيحة على أن جواب الشرط
محذوف وأن قوله: " فإنه على يقين من وضوئه " علة للجواب قامت مقامه. وقال: " وجعله
نفس الجزاء يحتاج إلى تكلف ".
فيكون معنى الرواية على قوله: " إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب عليه الوضوء، لأ أنه
على يقين من وضوئه في السابق " فحذف " فلا يجب عليه الوضوء " وأقام العلة مقامه.
وهذا الوجه الذي ذكره وإن كان وجيها، ولكن الحذف خلاف الأصل ولا موجب له، ولا
تكلف في جعل الموجود نفس الجزاء على ما بيناه في المتن. ولا يتوقف الاستدلال
بالصحيحة على هذا الوجه ولا على ذلك الوجه ولا على أي وجه آخر ذكروه. فإن المقصود
منها في بيان قاعدة الاستصحاب مفهوم واضح يحصل في جميع هذه الوجوه.
300

ما يرفع اليقين به وهو اليقين بالنوم. وهذه مقدمة تمهيدية وتوطئة لبيان أن
الشك ليس رافعا لليقين وإنما الذي يرفعه اليقين بالنوم. وليس الغرض
منها إلا بيان أنه على يقين من وضوئه، ليقول ثانيا: إنه لا ينبغي أن يرفع
اليد عن هذا اليقين، إذ لا موجب لانحلاله ورفع اليد عنه إلا الشك
الموجود، والشك بما هو شك لا يصلح أن يكون رافعا وناقضا لليقين،
وإنما ينقض اليقين اليقين لا غير.
فقوله: " وإلا فإنه على يقين من وضوئه " بمنزلة الصغرى، وقوله:
" ولا ينقض اليقين بالشك أبدا " بمنزلة الكبرى. وهذه الكبرى مفادها
قاعدة الاستصحاب، وهي البناء على اليقين السابق وعدم نقضه بالشك
اللاحق. فيفهم منها أن كل يقين سابق لا ينقضه الشك اللاحق.
هذا، وقد وقعت المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة من عدة وجوه:
منها: ما أفاده الشيخ الأنصاري، إذ قال: ولكن مبنى الاستدلال على
كون " اللام " في " اليقين " للجنس، إذ لو كانت للعهد لكانت الكبرى
المنضمة إلى الصغرى " ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك " فيفيد قاعدة
كلية في باب الوضوء... إلى آخر ما أفاده. ولكنه استظهر أخيرا كون اللام
للجنس (1).
أقول: إن كون " اللام " للعهد يقتضي أن يكون المراد من " اليقين " في
الكبرى شخص اليقين المتقدم فإن هذا هو معنى العهد. وعليه، فلا تفيد
قاعدة كلية حتى في باب الوضوء. ومنه يتضح غرابة احتمال إرادة العهد
من " اللام " بل ذلك مستهجن جدا، فإن ظاهر الكلام هو تطبيق كبرى
على صغرى، لا سيما مع إضافة كلمة " أبدا ".

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 564.
301

فيتعين أن تكون " اللام " للجنس. ولكن مع ذلك هذا وحده غير كاف
في التعميم لكل يقين حتى في غير الوضوء، لإمكان أن يراد جنس اليقين
بالوضوء بقرينة تقييده في الصغرى به، لا كل يقين، فيكون ذلك من قبيل
القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيمنع من التمسك بالإطلاق، كما سبق
نظيره. وهذا الاحتمال لا ينافي كون الكبرى كلية، غاية الأمر تكون كبرى
كلية خاصة بالوضوء.
فيتضح أن مجرد كون " اللام " للجنس لا يتم به الاستدلال مع تقدم ما
يصلح للقرينة. ولعل هذا هو مراد الشيخ من التعبير بالعهد، ومقصوده تقدم
القرينة، فكان ذلك تسامحا في التعبير.
وعلى كل حال، فالظاهر من الصحيحة ظهورا قويا: إرادة مطلق
اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع، فإن
المناسب لعدم النقض بالشك بما هو شك هو اليقين بما هو يقين، لا بما هو
يقين بالوضوء، لأن المقابلة بين الشك واليقين وإسناد عدم النقض إلى
الشك تجعل اللفظ كالصريح في أن العبرة في عدم جواز النقض هو جهة
اليقين بما هو يقين لا اليقين المقيد بالوضوء من جهة كونه مقيدا بالوضوء.
ولا يصلح ذكر قيد " من وضوئه " في الصغرى أن يكون قرينة على
التقييد في الكبرى، ولا أن يكون من قبيل القدر المتيقن في مقام
التخاطب، لأن طبيعة الصغرى أن تكون في دائرة أضيق من دائرة الكبرى،
ومفروض المسألة في الصغرى باب الوضوء فلابد من ذكره.
وعليه، فلا يبعد أن مؤدى الصغرى هكذا " فإنه من وضوئه على يقين "
فلا تكون كلمة " من وضوئه " قيدا لليقين، يعني أن الحد الأوسط المتكرر
هو " اليقين " لا " اليقين من وضوئه ".
ومنها: أن الوضوء أمر آني متصرم ليس له استمرار في الوجود، وإنما
302

الذي إذا ثبت استدام هو أثره وهو الطهارة، ومتعلق اليقين في الصحيحة
هو " الوضوء " لا " الطهارة " ومتعلق الشك هو المانع من استمرار الطهارة
(أثر المتيقن) فيكون الشك في استمرار أثر المتيقن لا المتيقن نفسه.
وعليه، فلا يكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك، فانخرم الشرط
الخامس في الاستصحاب، ويكون ذلك موردا لقاعدة المقتضي والمانع،
فتكون الصحيحة دليلا عليه، لا على الاستصحاب.
وفيه: أن الجمود على لفظ " الوضوء " يوهم ذلك، ولكن المتعارف من
مثل هذا التعبير في لسان الأخبار إرادة الطهارة التي هي أثر له بإطلاق
السبب وإرادة المسبب، ونفس صدر الصحيحة " الرجل ينام وهو على
وضوء " يشعر بذلك. فالمتبادر والظاهر من قوله: " فإنه على يقين من
وضوئه " أنه متيقن بالطهارة المستمرة لولا الرافع لها، والشك إنما هو في
ارتفاعها للشك في وجود الرافع، فيكون متعلق اليقين نفس متعلق الشك.
فما أبعدها عن قاعدة المقتضي والمانع!
ومنها: ما أفاده الشيخ الأنصاري في مناقشة جميع الأخبار العامة
المستدل بها على حجية مطلق الاستصحاب، واستنتج من ذلك أنها
مختصة بالشك في الرافع، فيكون الاستصحاب حجة فيه فقط، قال (رحمه الله):
فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب في
جميع الموارد. وفيه تأمل، قد فتح بابه المحقق الخوانساري في شرح
الدروس (1).
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في آخر الأخبار بيان هذه المناقشة
ونقدها.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 574.
303

- 2 -
صحيحة زرارة الثانية
وهي مضمرة أيضا كالسابقة.
قال زرارة:
قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المني فعلمت
أثره إلى أن أصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا
وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟
قال: تعيد الصلاة وتغسله.
قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته ولم أقدر
عليه، فلما صليت وجدته؟
قال: تغسله وتعيد.
قلت: فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن، فنظرت ولم أر شيئا، فصليت
فيه، فرأيت فيه؟
قال: تغسله ولا تعيد الصلاة.
قلت: لم ذلك؟
قال: لأ نك كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك أبدا.
قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟
قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون
على يقين من طهارتك.
قلت: فهل علي إن شككت أنه أصابه شئ أن أنظر فيه؟
304

قال: لا! ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع في نفسك.
قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن
لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك
لا تدري لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك...
الحديث (1).
والاستدلال بهذه الصحيحة للمطلوب في فقرتين منها، بل قيل في
ثلاث:
الأولى: قوله: " لأ نك كنت على يقين من طهارتك فشككت... الخ "
بناء على أن المراد من " اليقين بالطهارة " هو اليقين بالطهارة الواقع قبل
ظن الإصابة بالنجاسة. وهذا المعنى هو الظاهر منها. ويحتمل بعيدا أن
يراد منه اليقين بالطهارة الواقع بعد ظن الإصابة وبعد الفحص عن النجاسة،
إذ قال: " فنظرت ولم أر شيئا " على أن يكون قوله: " ولم أر شيئا " عبارة
أخرى عن اليقين بالطهارة. وعلى هذا الاحتمال يكون مفاد الرواية
" قاعدة اليقين " لا " الاستصحاب " لأ أنه يكون حينئذ مفاد قوله: " فرأيت
فيه " تبدل اليقين بالطهارة باليقين بالنجاسة. ووجه بعد هذا الاحتمال أن
قوله: " ولم أر شيئا " ليس فيه أي ظهور بحصول اليقين بالطهارة بعد النظر
والفحص.
الثانية: قوله أخيرا: " فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك "
ودلالتها كالفقرة الأولى ظاهرة، على ما تقدم في الصحيحة الأولى من

(1) التهذيب: ج 1 ص 421، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات ح 8.
305

ظهور كون " اللام " في " اليقين " لجنس اليقين بما هو يقين. وهذا المعنى
هنا أظهر مما هو في الصحيحة الأولى.
الثالثة: قوله: " حتى تكون على يقين من طهارتك " فإنه (عليه السلام) إذ جعل
الغاية حصول اليقين بالطهارة من غسل الثوب في مورد سبق العلم
بنجاسته، يظهر منه أنه لو لم يحصل اليقين بالطهارة فهو محكوم بالنجاسة
لمكان سبق اليقين بها.
ولكن الاستدلال بهذه الفقرة مبني على أن إحراز الطهارة ليس شرطا
في الدخول في الصلاة، وإلا لو كان الإحراز شرطا فيحتمل أن يكون عليه
السلام إنما جعل الغاية حصول اليقين بالطهارة لأجل إحراز الشرط
المذكور، لا لأجل التخلص من جريان استصحاب النجاسة. فلا يكون لها
ظهور في الاستصحاب.
- 3 -
صحيحة زرارة الثالثة
قال زرارة:
قلت له - أي الباقر أو الصادق (عليهما السلام) -: من لم يدر في أربع هو أو في
ثنتين وقد أحرز الثنتين؟
قال: يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد،
ولا شئ عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام
فأضاف إليها أخرى، ولا شئ عليه. ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل
الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر. ولكن ينقض الشك باليقين،
ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (1).

(1) الوسائل: ج 5 ص 321، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح 3.
306

وجه الاستدلال بها - على ما قيل - أنه في الشك بين الثلاث والأربع
وقد أحرز الثلاث يكون قد سبق منه اليقين بعدم الإتيان بالرابعة،
فيستصحب، ولذلك وجب عليه أن يضيف إليها رابعة، لأ أنه لا يجوز نقض
اليقين بالشك، بل لابد أن ينقضه باليقين بإتيان الرابعة فينقض شكه
باليقين. وتكون هذه الفقرات الست كلها تأكيدا على قاعدة الاستصحاب.
وقد تأمل الشيخ الأنصاري في هذا الاستدلال، لأ أنه إنما يتم إذا كان
المراد بقوله: " قام فأضاف إليها أخرى " القيام للركعة الرابعة من دون
تسليم في الركعة المرددة بين الثالثة والرابعة حتى يكون حاصل جواب
الإمام البناء على الأقل. ولكن هذا مخالف للمذهب وموافق لقول العامة،
بل مخالف لظاهر الفقرة الأولى وهي قوله: " ركع بركعتين وهو قائم بفاتحة
الكتاب " فإنها ظاهرة بسبب تعيين الفاتحة في إرادة ركعتين منفصلتين،
أعني صلاة الاحتياط.
وعليه، فيتعين أن يكون المراد به القيام بعد التسليم في الركعة المرددة
إلى ركعة مستقلة منفصلة. وإذا كان الأمر كذلك فيكون المراد من " اليقين "
في جميع الفقرات اليقين بالبراءة الحاصل من الاحتياط بإتيان الركعة.
فتكون الفقرات الست واردة لبيان وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين
بفراغ الذمة. وهذا أجنبي عن قاعدة الاستصحاب.
أقول: هذا خلاصة ما أفاده الشيخ (1).
ولكن حمل الفقرة الأولى " ولا ينقض اليقين بالشك " على إرادة اليقين
ببراءة الذمة الحاصل من الأخذ بالاحتياط بعيد جدا عن مساقها، بل أبعد
من البعيد! لأن ظاهر هذا التعبير بل صريحه فرض حصول اليقين ثم النهي

(1) راجع فرائد الأصول: ج 2 ص 567 - 569.
307

عن نقضه في فرض حصوله. بينما أن اليقين بالبراءة إنما المطلوب
تحصيله وهو غير حاصل، فكيف يصح حمل هذه الجملة على الأمر
بتحصيله، فلابد أن يراد اليقين بشئ آخر غير البراءة.
وعليه، فمن القريب جدا أن يراد من " اليقين " اليقين بوقوع الثلاث
وصحتها - كما هو مفروض المسألة بقوله: " وقد أحرز الثلاث " - لا اليقين
بعدم الإتيان بالرابعة كما تصوره هذا المستدل حتى يرد عليه ما أفاده
الشيخ. وحينئذ فلو أراد المكلف أن يعتد بشكه فقد نقض اليقين بالشك.
واعتداده بشكه بأحد أمور ثلاثة: إما بابطال الصلاة وإعادتها رأسا، وإما
بالأخذ باحتمال نقصانها فيكملها برابعة - كما هو مذهب العامة - وإما
بالأخذ باحتمال كمالها بالبناء على الأكثر فيسلم على المشكوكة من دون
إتيان برابعة متصلة وخلط أحدهما بالآخر.
ولأجل هذا عالج الإمام (عليه السلام) صلاة هذا الشاك لأجل المحافظة على
يقينه بالثلاث وعدم نقضه بالشك، وذلك بأن أمره بالقيام وإضافة ركعة
أخرى، ولابد أنها مفصولة. ويفهم كونها مفصولة من صدر الرواية " ركع
بركعتين وهو قائم بفاتحة الكتاب " فإن أسلوب العلاج لابد أن يكون
واحدا في الفرضين. مضافا إلى أن ذلك يفهم من تأكيد الإمام بأن لا
يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر، لأ أنه بإضافة ركعة
متصلة يقع الخلط وإدخال الشك في اليقين.
وعليه، فتكون الرواية دالة على قاعدة الاستصحاب من جهة، ولكن
المقصود فيها استصحاب وقوع الثلاث صحيحة. كما أنها تكون دالة على
علاج حالة الشك الذي لا يجوز نقض اليقين به من جهة أخرى، وذلك
بأمره بالقيام وإضافة ركعة منفصلة لتحصيل اليقين بصحة الصلاة، لأ نهى إن
308

كانت ثلاثا فقد جاء بالرابعة، وإن كانت أربعا تكون الركعة المنفصلة نفلا.
ومنه يعلم أن المراد من " اليقين " في الفقرتين الرابعة والخامسة
" ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين ويبني عليه " غير " اليقين "
من الفقرات الأولى، فإن المراد به هناك اليقين بوقوع الثلاث صحيحة،
والمراد به في هاتين الفقرتين اليقين بالبراءة، لأ أنه بإتيان ركعة منفصلة
يحصل له اليقين ببراءة الذمة، فيكون ذلك نقضا للشك باليقين الحادث من
الاحتياط. ويفهم هذا التفصيل من المراد باليقين من الاستدراك وهو قوله:
" ولكنه " فإنه بعد أن نهى عن نقض اليقين بالشك ذكر العلاج بقوله:
" لكنه " فهو أمر بنقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه، ولا
يتصور ذلك إلا بإتيان ركعة منفصلة. ولا يجب - كما قيل - أن يكون
المراد من " اليقين " في جميع الفقرات معنى واحدا، بل لا يصح ذلك، فإن
أسلوب الكلام لا يساعد عليه، فإن الناقض للشك يجب أن يكون غير
الذي ينقضه الشك.
والحاصل: أن الرواية تكون خلاصة معناها النهي عن الإبطال والنهي
عن الركون إلى ما تذهب إليه العامة من البناء على الأقل، والنهي عن البناء
على الأكثر مع عدم الإتيان بركعة منفصلة. ثم تضمنت الأمر بعد ذلك بما
يؤدي معنى الأخذ بالاحتياط بالإتيان بركعة منفصلة، لأ أنه بهذا يتحقق
نقض الشك باليقين والإتمام على اليقين والبناء عليه.
وعلى هذا، فالرواية تتضمن " قاعدة الاستصحاب " وتنطبق أيضا على
باقي الروايات المبينة لمذهب الخاصة، وإن كانت ليست ظاهرة فيه على
وجه تكون بيانا لمذهب الخاصة، ولكن صدرها يفسرها. ويظهر أن
الإمام (عليه السلام) أوكل الحكم وتفصيله إلى معروفية هذا الحكم عند السائل وإلى
309

فهمه وذوقه، وإنما أراد أن يؤكد على سر هذا الحكم والرد على من يرى
خلافه الذي فيه نقض لليقين بالشك وعدم الأخذ باليقين.
- 4 -
رواية محمد بن مسلم
محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
قال أمير المؤمنين - صلوات الله وسلامه عليه -: من كان على يقين
فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين (1).
وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) بهذا المضمون: من كان على يقين فأصابه
شك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا يدفع بالشك (2).
استدل بعضهم بهذه الرواية على الاستصحاب مدعيا ظهورها فيه (3).
ولكن الذي نراه أنها غير ظاهرة فيه، فإن القدر المسلم منها أنها
صريحة في أن مبدأ حدوث الشك بعد حدوث اليقين من أجل كلمة
" الفاء " التي تدل على الترتيب. غير أن هذا القدر من البيان يصح أن يراد
منه " قاعدة اليقين " ويصح أن يراد منه " قاعدة الاستصحاب " إذ يجوز أن
يراد أن اليقين قد زال بحدوث الشك فيتحد زمان متعلقهما، فتكون موردا
للقاعدة الأولى، ويجوز أن يراد أن اليقين قد بقي إلى زمان الشك فيختلف
زمان متعلقهما، فتكون موردا للاستصحاب. وليس في الرواية ظهور في
أحدهما بالخصوص (4) وإن قال الشيخ الأنصاري: أنها ظاهرة في وحدة

(1) الوسائل: ج 1 ص 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح 6.
(2) مستدرك الوسائل: ج 1 ص 228، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.
(3) الرسائل الأصولية للوحيد البهبهاني: ص 440.
لا يخفى أن هنا مقدمة مطوية يجب التنبه لها، وهي أن تجرد كلمة " اليقين " و " الشك "
في الرواية من ذكر المتعلق يدل على وحدة المتعلق، يعني أن هذا التجرد يدل على أن ما
تعلق به اليقين هو نفس ما تعلق به الشك، وإلا فإن من المقطوع به أنه ليس المراد اليقين بأي
شئ كان، والشك بأي شئ كان لا يرتبط بالمتيقن. ولكن كونها دالة على وحدة المتعلق لا
يجعلها ظاهرة في كونه واحدا في جميع الجهات حتى من جهة الزمان لتكون ظاهرة في
" قاعدة اليقين " كما قيل.
310

زمان متعلقهما (1) ولذلك قرب أن تكون دالة على " قاعدة اليقين ".
وقال الشيخ الآخوند: إنها ظاهرة في اختلاف زمان متعلقهما (2) فقرب
أن تكون دالة على الاستصحاب. وقد ذكر كل منهما تقريبات لما استظهره
لا نراها ناهضة على مطلوبهما.
وعليه، فتكون الرواية مجملة من هذه الناحية، إلا إذا جوزنا الجمع
في التعبير بين القاعدتين وحينئذ تدل عليهما معا، يعني أنها تدل على أن
اليقين بما هو يقين لا يجوز نقضه بالشك سواء كان ذلك اليقين هو
المجامع للشك أو غير المجامع له.
وقيل: إنه لا يجوز الجمع في التعبير بين القاعدتين، لأ أنه يلزم استعمال
اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل (3). وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ما
ينفع في المقام.
نعم، يمكن دعوى ظهورها في الاستصحاب بالخصوص، بأن يقال
- كما قربه بعض أساتذتنا (4) -: إن الظاهر في كل كلام هو اتحاد زمان
النسبة مع زمان الجري، فقوله (عليه السلام): " فليمض على يقينه " يكون ظاهرا
في أن زمان نسبة وجوب المضي على اليقين نفس زمان حصول اليقين.
ولا ينطبق ذلك إلا على الاستصحاب لبقاء اليقين في مورده محفوظا إلى

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 569.
(2) كفاية الأصول: 451.
(3) انظر فرائد الأصول: ج 2 ص 572 وبحر الفوائد للمحقق الآشتياني: الجزء الثالث ص 179.
(4) انظر فوائد الأصول: ج 4 ص 365.
311

زمان العمل به. وأما " قاعدة اليقين " فإن موردها الشك الساري، فيكون
اليقين في ظرف وجوب العمل به معدوما. ولعله من أجل هذا الظهور
استظهر من استظهر دلالة الرواية على الاستصحاب.
- 5 -
مكاتبة علي بن محمد القاساني
قال: كتبت إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان
هل يصام أم لا؟
فكتب: اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية (1).
قال الشيخ الأنصاري: والإنصاف أن هذه الرواية أظهرها في هذا
الباب، إلا أن سندها غير سليم (2). وذكر في وجه دلالتها: أن تفريع تحديد
كل من الصوم والإفطار على رؤية هلالي رمضان وشوال لا يستقيم إلا
بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشك، أي مزاحما به (3).
وقد أورد عليه صاحب الكفاية بما محصله (4) مع توضيح منا: انا نمنع
من ظهور هذه الرواية في الاستصحاب فضلا عن أظهريتها، نظرا إلى أن
دلالتها عليه تتوقف على أن يراد من " اليقين " اليقين بعدم دخول رمضان
وعدم دخول شوال، ولكن ليس من البعيد أن يكون المراد به اليقين
بدخول رمضان المنوط به وجوب الصوم واليقين بدخول شوال المنوط به
وجوب الإفطار. ومعنى أنه لا يدخله الشك: أنه لا يعطى حكم اليقين
للشك ولا ينزل منزلته، بل المدار في وجوب الصوم والإفطار على اليقين

(1) الوسائل: ج 7 ص 184، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 13.
(2) فرائد الأصول: ج 2 ص 570.
(3) ذكره المحقق العراقي على ما في نهاية الأفكار: ج 4 ص 65.
(4) كفاية الأصول: ص 452.
312

فقط، فإنه وحده هو المناط في وجوبهما، أي أن الصوم والإفطار يدوران
مداره، ولذا قال بعده: " صم للرؤية وأفطر للرؤية " مؤكدا لاشتراط وجوب
الصوم والإفطار باليقين.
وهذا المضمون دلت عليه جملة من الأخبار بقريب من هذا التعبير
مما يقرب إرادته من هذه الرواية ويؤكده. ولا بأس في ذكر بعض هذه
الأخبار لتتضح موافقتها لهذه الرواية:
منها: قول أبي جعفر (عليه السلام): إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه
فأفطروا. وليس بالرأي ولا بالتظني، ولكن بالرؤية (1).
ومنها: صم للرؤية وأفطر للرؤية. وإياك والشك والظن، فإن خفي
عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين (2).
ومنها: صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظن (3).
* * *

(1) الوسائل: ج 7 ص 182، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 2.
(2) الوسائل: ج 7 ص 184 ب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 11.
(3) الوسائل: ج 7 ص 183، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان، ح 6.
313

مدى دلالة الأخبار
إن تلك الأخبار العامة المتقدمة هي أهم ما استدل به للاستصحاب.
وهناك أخبار خاصة تؤيدها، ذكر بعضها الشيخ الأنصاري. ونحن نذكر
واحدة منها للاستئناس، وهي رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير
ثوبه الذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير.
قال: فهل علي أن أغسله؟
فقال: لا! لأ نك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه نجسه (1).
قال الشيخ: وفيها دلالة واضحة على أن وجه البناء على الطهارة
وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها (2).
والمهم لنا أن نبحث الآن عن مدى دلالة تلكم الأخبار من جهة بعض
التفصيلات المهمة في الاستصحاب. فنقول:
1 - التفصيل بين الشبهة الحكمية والموضوعية:
إن المنسوب إلى الأخباريين اعتبار الاستصحاب في خصوص الشبهة
الموضوعية، وأما الشبهات الحكمية مطلقا فعلى القاعدة عندهم من

(1) الوسائل: ج 2 ص 1095، الباب 74 من أبواب النجاسات، ح 1.
(2) فرائد الأصول 2: 571.
314

وجوب الرجوع إلى قاعدة الاحتياط. وعلل ذلك بعضهم بأن أخبار
الاستصحاب لا عموم لها ولا إطلاق يشمل الشبهة الحكمية، لأن القدر
المتيقن منها خصوص الشبهة الموضوعية. لا سيما أن بعضها وارد في
خصوصها، فلا تعارض أدلة الاحتياط (1).
ولكن الإنصاف: أن لأخبار الاستصحاب من قوة الإطلاق والشمول
ما يجعلها ظاهرة في شمولها للشبهة الحكمية، ولا سيما أن أكثرها وارد
مورد التعليل، وظاهرها تعليق الحكم على اليقين من جهة ما هو يقين،
كما سبق بيان ذلك في الصحيحة الأولى. فيكون شمولها للشبهة الحكمية
حينئذ من باب التمسك بالعلة المنصوصة. على أن رواية محمد بن مسلم
- المتقدمة - عامة لم ترد في خصوص الشبهة الموضوعية. فالحق شمول
الأخبار للشبهتين.
وأما أدلة الاحتياط: فقد تقدمت المناقشة في دلالتها فلا تصلح
لمعارضة أدلة الاستصحاب.
2 - التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع:
هذا هو القول التاسع - المتقدم - والأصل فيه المحقق الحلي (2) ثم
المحقق الخوانساري (3) وأ يده كل التأييد الشيخ الأعظم (4) قد دعمه جملة
من تأخر عنه. وخالفهم في ذلك الشيخ الآخوند، فذهب إلى اعتبار
الاستصحاب مطلقا (5). وهو الحق، ولكن بطريقة أخرى غير التي سلكها
الشيخ الآخوند.

(1) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 54.
(2) راجع ص 294، معارج الأصول: ص 206.
(3) مشارق الشموس: ص 141 - 142.
(4) راجع فرائد الأصول: ج 2 ص 561.
(5) كفاية الأصول: ص 439.
315

ومن أجل هذا أصبح هذا التفصيل من أهم الأقوال التي عليها مدار
المناقشات العلمية في عصرنا. ويلزمنا النظر فيه من جهتين: من جهة
المقصود من " المقتضي والمانع " ومن جهة مدى دلالة الأخبار عليه.
- 1 -
المقصود من المقتضي والمانع
ونحيل ذلك إلى تصريح الشيخ نفسه، فقد قال: المراد بالشك من جهة
المقتضى: الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء، كالشك في
بقاء الليل والنهار، وخيار الغبن بعد الزمان الأول (1).
فيفهم منه أنه ليس المراد من " المقتضي " - كما قد ينصرف ذلك من
إطلاق كلمة المقتضي - مقتضي الحكم، أي الملاك والمصلحة فيه، ولا
المقتضي لوجود الشئ في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل
الشرعي، مثل أن يقال: إن الوضوء مقتض للطهارة وعقد النكاح مقتض
للزوجية، بل المراد نفس استعداد المستصحب في ذاته للبقاء وقابليته له
من أية جهة كانت تلك القابلية وسواء فهمت هذه القابلية من الدليل أو
من الخارج. ويختلف ذلك باختلاف المستصحبات وأحوالها، فليس فيه
نوع ولا صنف مضبوط من حيث مقدار الاستعداد، كما صرح بذلك
الشيخ.
والتعبير عن الشك في القابلية بالشك في المقتضي فيه نوع من
المسامحة توجب الإيهام. وينبغي أن يعبر عنه بالشك في اقتضائه للبقاء
لا الشك في المقتضي، ولكن بعد وضوح المقصود فالأمر سهل.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 558 - 559.
316

وأما الشك في الرافع: فعلى هذا يكون المقصود منه الشك في طرو ما
يرفع المستصحب مع القطع باستعداده وقابليته للبقاء لولا طرو الرفع، كما
صرح به الشيخ وذكر أنه على أقسام. والمتحصل من مجموع كلامه في
جملة مقامات: أنه ينقسم إلى قسمين رئيسين: الشك في وجود الرافع،
والشك في رافعية الموجود.
وهذا القسم الثاني أنكر المحقق السبزواري حجية الاستصحاب فيه
بأقسامه الثلاثة الآتية (1) وهو القول العاشر في تعداد الأقوال. ونحن نذكر
هذه الأقسام لتوضيح مقصود الشيخ.
1 - الشك في وجود الرافع: ومثل له بالشك في حدوث البول مع
العلم بسبق الطهارة. وهو (رحمه الله) لا يعني به إلا الشك في الشبهة الموضوعية
خاصة، وأما ما كان في الشبهة الحكمية فلا يعمه كلامه، لأن الشك في
وجود الرافع فيها ينحصر عنده في الشك في النسخ خاصة، لأ أنه لا معنى
لرفع الحكم إلا نسخه. وإجراء الاستصحاب في عدم النسخ - كما قال -
إجماعي بل ضروري. والسر في ذلك: ما تقدم في مباحث النسخ - في
الجزء الثالث (2) - من أن إجماع المسلمين قائم على أنه لا يصح النسخ
إلا بدليل قطعي، فمع الشك لابد أن يؤخذ بالحكم السابق المشكوك
نسخه، أي أن الأصل عدم النسخ لأجل هذا الإجماع، لا لأجل حجية
الاستصحاب.
2 - الشك في رافعية الموجود: وذلك بأن يحصل شئ معلوم
الوجود قطعا ولكن يشك في كونه رافعا للحكم. وهو على أقسام ثلاثة:
الأول: فيما إذا كان الشك من أجل تردد المستصحب بين ما يكون

(1) ذخيرة المعاد: ص 115.
(2) ص 60.
317

الموجود رافعا له وبين ما لا يكون. ومثل له بما إذا علم بأنه مشغول الذمة
بصلاة ما في ظهر يوم الجمعة، ولا يعلم أنها صلاة الجمعة أو صلاة الظهر،
فإذا صلى الظهر - مثلا - فإنه يتردد أمره لا محالة في أن هذه الصلاة
الموجودة التي وقعت منه هل هي رافعة لشغل الذمة بالتكليف المذكور أو
غير رافعة؟
الثاني: فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه
رافعا مستقلا في الشرع، كالمذي المشكوك في كونه ناقضا للطهارة، مع
العلم بعدم كونه مصداقا للرافع المعلوم وهو البول.
الثالث: فيما إذا كان الشك من أجل الجهل بصفة الموجود في كونه
مصداقا للرافع المعلوم مفهومه، أو من أجل الجهل به في كونه مصداقا
للرافع المجهول مفهومه. مثال الأول: الشك في الرطوبة الخارجة في كونها
بولا أو مذيا مع معلومية مفهوم البول والمذي وحكمهما. ومثال الثاني:
الشك في النوم الحادث في كونه غالبا للسمع والبصر أو غالبا للبصر فقط
مع الجهل بمفهوم النوم الناقض في أنه يشمل النوم الغالب للبصر فقط.
ورأي الشيخ أن الاستصحاب يجري في جميع هذه الأقسام، سواء
كان شكا في وجود الرافع أو في رافعية الموجود بأقسامه الثلاثة. خلافا
للمحقق السبزواري إذ اعتبر الاستصحاب في الشك في وجود الرافع فقط
دون الشك في رافعية الموجود، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
- 2 -
مدى دلالة الأخبار على هذا التفصيل
قال الشيخ الأعظم: إن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية، كما في
318

نقض الحبل. والأقرب إليه على تقدير مجازيته هو رفع الأمر الثابت - إلى
أن قال - فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار (1).
وعليه، فلا يشمل " اليقين " المنهي عن نقضه بالشك في الأخبار
" اليقين " إذا تعلق بأمر ليس من شأنه الاستمرار أو المشكوك استمراره.
توضيح مقصوده - مع المحافظة على ألفاظه حد الإمكان - أن
" النقض " لغة لما كان معناه " رفع الهيئة الاتصالية " كما في نقض الحبل،
فإن هذا المعنى الحقيقي ليس هو المراد من الروايات قطعا، لأن المفروض
في مواردها طرو الشك في استمرار المتيقن، فلا هيئة إتصالية باقية لليقين
ولا لمتعلقه بعد الشك في بقائه واستمراره.
فيتعين أن يكون إسناد النقض إلى اليقين على نحو المجاز. ولكن هذا
المجاز له معنيان يدور الأمر بينهما، وإذا تعددت المعاني المجازية فلابد
أن يحمل اللفظ على أقربها إلى المعنى الحقيقي، وهذا يكون قرينة معينة
للمعنى المجازي. وهنا المعنيان المجازيان أحدهما أقرب من الآخر،
وهما:
1 - أن يراد من " النقض " مطلق رفع اليد عن الشئ وترك العمل به
وترتيب الأثر عليه ولو لعدم المقتضي له، فيكون المنقوض عاما شاملا
لكل يقين.
2 - أن يراد منه رفع الأمر الثابت.
وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى المعنى الحقيقي، فهو الظاهر من
إسناد النقض.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 574.
319

وحينئذ فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد
التي يوجد فيها هذا المعنى.
والظاهر رجحان هذا المعنى الثاني على الأول، لأن الفعل الخاص
يصير مخصصا لمتعلقه إذا كان متعلقه عاما، كما في قول القائل:
" لا تضرب أحدا " فإن " الضرب " يكون قرينة على اختصاص متعلقه
بالأحياء، ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.
هذه خلاصة ما أفاده الشيخ. وقد وقعت فيه عدة مناقشات نذكر
أهمها ونذكر ما عندنا ليتضح مقصوده وليتجلى الحق - إن شاء الله تعالى -.
1 - المناقشة الأولى: إن " النقض " يقابل " الإبرام " والنقض - كما
فسروه في اللغة -: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو حبل أو نحو
ذلك (1). وعليه، فتفسيره من الشيخ ب‍ " رفع الهيئة الاتصالية " ليس واضحا،
بل ليس صحيحا، إذ أن مقابل الاتصال الانفصال، فيكون معنى " النقض "
حينئذ انفصال المتصل. وهو بعيد جدا عن معنى نقض العهد والعقد.
أقول: ليس من البعيد أن يريد الشيخ من " الاتصال " ما يقابل
" الانحلال " وإن كان ذلك على نحو المسامحة منه في التعبير، لا ما يقابل
" الانفصال ". فلا إشكال.
2 - المناقشة الثانية: وهي أهم مناقشة عليها يبتني صحة استدلاله
على التفصيل أو بطلانه. وحاصلها:
أن هذا التوجيه من الشيخ للاستدلال يتوقف على التصرف في
" اليقين " بإرادة المتيقن منه، كما نبه عليه نفسه، لأ أنه لو كان النقض مستندا
إلى نفس اليقين - كما هو ظاهر التعبير - فإن اليقين بنفسه مبرم ومحكم

(1) لسان العرب: ج 7 ص 242.
320

فيصح إسناد النقض إليه ولو لم يكن لمتعلقه في ذاته استعداد البقاء،
ضرورة أنه لا يحتاج فرض الإبرام في المنقوض إلى فرض أن يكون
متعلق اليقين ثابتا ومبرما في نفسه حتى تختص حرمة النقض بالشك
في الرافع.
ولكن لا يصح إرادة المتيقن من " اليقين " على وجه يكون الإسناد
اللفظي إلى نفس المتيقن، لأ أنه إنما يصح ذلك إذا كان على نحو المجاز في
الكلمة أو على نحو حذف المضاف، وكلا الوجهين بعيدان كل البعد، إذ لا
علاقة بين " اليقين " و " المتيقن " حتى يصح استعمال أحدهما مكان الآخر
على نحو المجاز في الكلمة، بل ينبغي أن يعد ذلك من الأغلاط. وأما
تقدير المضاف بأن تقدر " متعلق " اليقين، أو نحو ذلك، فإن تقدير
المحذوف يحتاج إلى قرينة لفظية مفقودة.
ومن أجل هذا استظهر المحقق الآخوند عموم الأخبار لموردي الشك
في المقتضي والرافع، لأن " النقض " إذا كان مسندا إلى نفس " اليقين "
فلا يحتاج في صحة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون المتيقن مما له
استعداد للبقاء (1).
أقول: إن البحث عن هذا الموضوع بجميع أطرافه وتعقيب كل ما قيل
في هذا الشأن من أساتذتنا وغيرهم يخرجنا عن طور هذه الرسالة،
فالجدير بنا أن نكتفي بذكر خلاصة ما نراه من الحق في المسألة متجنبين
الإشارة إلى خصوصيات الآراء والأقوال فيها حد الإمكان.
وعليه فنقول: ينبغي تقديم مقدمات قبل بيان المختار، وهي:

(1) كفاية الأصول: ص 443.
321

أولا: انه لا شك في أن النقض المنهي عنه مسند إلى " اليقين " في لفظ
الأخبار، وظاهرها أن وثاقة اليقين من جهة ما هو يقين هي المقتضية
للتمسك به وعدم نقضه في قبال الشك الذي هو عين الوهن والتزلزل،
لا سيما مع التعبير في بعضها بقوله (عليه السلام): " لا ينبغي " والتعليل في البعض
الآخر بوجود اليقين المشعر بعليته للحكم، كما سبق بيانه في قوله (عليه السلام):
" فإنه على يقين من وضوئه " ولا سيما مع مقابلة اليقين بالشك، ولا شك
أنه ليس المراد من " الشك " المشكوك.
وعلى هذا يتضح جليا أن حمل " اليقين " على إرادة المتيقن على
وجه يكون الإسناد اللفظي إلى المتيقن بنحو المجاز في الكلمة أو بنحو
حذف المضاف خلاف الظاهر منها، بل خلاف سياقها بل مستهجن جدا،
فيتأيد ما قاله المعترض. ولذا استبعد شيخنا المحقق النائيني أن يريد
الشيخ الأعظم من " المجاز " المجاز في الكلمة (1) وهو استبعاد في محله.
وأبعد منه إرادة حذف المضاف.
ثانيا: انه من المسلم به عند الجميع - الذي لا شك فيه أيضا - أن النهي
عن نقض اليقين في الأخبار ليس على حقيقته. والسر واضح، لأن اليقين
- حسب الفرض - منتقض فعلا بالشك، فلا يقع تحت اختيار المكلف
فلا يصح النهي عنه.
وحينئذ، فلا معنى للنهي عنه إلا أن يراد به عدم الاعتناء بالشك عملا
والبناء عليه كأنه لم يكن لغرض ترتيب أحكام اليقين عند الشك. ولكن
لا يصح أن يقصد أحكام اليقين من جهة أنه صفة من الصفات، لارتفاع

(1) انظر فوائد الأصول: ج 4 ص 374.
322

أحكامه بارتفاعه قطعا، فلم يكن رفع اليد عن الحكم عملا نقضا له بالشك
بل باليقين، لزوال موضوع الحكم قطعا.
وعليه، فالمراد من " الأحكام " الأحكام الثابتة للمتيقن بواسطة اليقين
به، فهو تعبير آخر عن الأمر بالعمل بالحالة السابقة في الوقت اللاحق،
بمعنى وجوب العمل في مقام الشك بمثل العمل في مقام اليقين كأن الشك
لم يكن، فكأنه قال: اعمل في حال شكك كما كنت تعمل في حال يقينك
ولا تعتن بالشك.
إذا عرفت ذلك فيبقى أن نعرف على أي وجه يصح أن يكون التعبير
بحرمة نقض اليقين تعبيرا عن ذلك المعنى، فإن ذلك لا يخلو بحسب
التصور عن أحد أمور أربعة:
1 - أن يكون المراد من " اليقين " المتيقن على نحو المجاز في الكلمة.
2 - أن يكون " النقض " أيضا متعلقا في لسان الدليل بنفس المتيقن،
ولكن على حذف المضاف.
3 - أن يكون " النقض " المنهي عنه مسندا إلى اليقين على نحو المجاز
في الإسناد ويكون في الحقيقة مسندا إلى نفس المتيقن، والمصحح لذلك
اتحاد اليقين والمتيقن أو كون اليقين آلة وطريقا إلى المتيقن.
4 - أن يكون النهي عن " نقض اليقين " كناية عن لزوم العمل بالمتيقن
وإجراء أحكامه، لأن ذلك لازم معناه، باعتبار أن اليقين بالشئ مقتض
للعمل به، فحله يلازم رفع اليد عن ذلك الشئ أو عن حكمه، إذ لا يبقى
حينئذ ما يقتضي العمل به، فالنهي عن حله يلزمه النهي عن ترك مقتضاه،
أعني النهي عن ترك العمل بمتعلقه.
323

وقد عرفت - في المقدمة الأولى وفي مناقشة الشيخ - بعد إرادة
الوجهين الأولين، فيدور الأمر بين الثالث والرابع، والرابع هو الأوجه
والأقرب. ولعله هو مراد الشيخ الأعظم، وإن كان الذي يبدو من بعض
تعبيراته إرادة الوجه الأول الذي استبعد شيخنا المحقق النائيني أن يكون
مقصوده ذلك، كما تقدم.
أما هو - أعني شيخنا النائيني - فلم يصرح بإرادة أي من الوجهين
الآخرين. والأنسب في عبارة بعض المقررين لبحثه إرادة الوجه الثالث، إذ
قال: إنه يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن (1).
وعلى كل حال، فالوجه الرابع - أعني الاستعمال الكنائي - أقرب
الوجوه وأولاها، وفيه من البلاغة في البيان ما ليس في غيره. كما أن فيه
المحافظة على ظهور الأخبار وسياقها في إسناد النقض إلى نفس اليقين،
وقد استظهرنا منها - كما تقدم في المقدمة الأولى - أن وثاقة " اليقين " بما
هو يقين هي المقتضية للتمسك به. وفي الكناية - كما هو المعروف - بيان
المراد مع إقامة الدليل عليه، فإن المراد الاستعمالي هنا - الذي هو حرمة
نقض اليقين بالشك - يكون كالدليل والمستند للمراد الجدي المقصود
الأصلي في البيان، والمراد الجدي هو: لزوم العمل على وفق المتيقن
بلسان النهي عن نقض اليقين.
ثالثا: بعدما تقدم ينبغي أن نسأل عن المراد من " النقض " في الأخبار
هل المراد النقض الحقيقي أو النقض العملي؟ المعروف أن إرادة النقض
الحقيقي محال، فلابد أن يراد النقض العملي، لأن نقض اليقين - كما تقدم -

(1) فوائد الأصول: ج 4 ص 375.
324

ليس تحت اختيار المكلف، فلا يصح النهي عنه. وعلى هذا بنى الشيخ
الأعظم وصاحب الكفاية وغيرهما.
ولكن التدقيق في المسألة يعطي غير هذا، إنما يلزم هذا المحذور لو
كان النهي عن نقض اليقين مرادا جديا، أما على ما ذكرناه: من أنه على
وجه الكناية، فإنه - كما ذكرناه - يكون مرادا استعماليا فقط، ولا محذور
في كون المراد الاستعمالي - في الكناية - محالا أو كاذبا في نفسه، إنما
المحذور إذا كان المراد الجدي المكنى عنه كذلك.
وعليه، فحمل " النقض " على معناه الحقيقي أولى ما دام أن ذلك يصح
بلا محذور.
النتيجة:
أنه إذا تمت هذه المقدمات فصح إسناد النقض الحقيقي من أجل
وثاقته من جهة ما هو يقين - وإن كان النهي عنه يراد به لازم معناه على
سبيل الكناية - فإنا نقول: إن اليقين لما كان في نفسه مبرما ومحكما فلا
يحتاج في صحة إسناد النقض إليه إلى فرض أن يكون متعلقه مما له
استعداد في ذاته للبقاء، وإنما يلزم ذلك لو كان الإسناد اللفظي إلى نفس
المتيقن ولو على نحو المجاز. وأما كون أن المراد الجدي هو النهي عن
ترك مقتضى اليقين الذي عبارة عن لزوم العمل بالمتيقن، فإن ذلك مراد
لبي وليس فيه إسناد للنقض إلى المتيقن في مقام اللفظ حتى يكون ذلك
قرينة لفظية على المراد من المتيقن. والسر في ذلك: أن الكناية لا يقدر
فيها لفظ المكنى عنه، على أن المكنى عنه ليس هو حرمة نقض المتيقن،
بل - كما تقدم - هو حرمة ترك مقتضى اليقين الذي هو عبارة عن لزوم
325

العمل بالمتيقن، فلا نقض مسند إلى المتيقن - لا لفظا ولا لبا - حتى يكون
ذلك قرينة على أن المراد من المتيقن هو ماله استعداد في ذاته للبقاء
لأجل أن يكون مبرما يصح إسناد النقض إليه.
الخلاصة:
وخلاصة ما توصلنا إليه هو: أن الحق أن " النقض " مسند إلى نفس
اليقين بلا مجاز في الكلمة ولا في الإسناد ولا على حذف مضاف، ولكن
النهي عنه جعل عنوانا على سبيل الكناية عن لازم معناه، وهو لزوم الأخذ
بالمتيقن في ثاني الحال بترتيب آثاره الشرعية عليه. وهذا المكنى عنه
عبارة أخرى عن الحكم ببقاء المتيقن. وإذا كان النهي عن نقض اليقين من
باب الكناية فلا يستدعي ذلك أن نفرض في متعلقه استعداد البقاء ليتحقق
معنى " النقض " لأ أنه متحقق بدون ذلك.
وعليه فمقتضى الأخبار حجية الاستصحاب في موردي الشك في
المقتضي والرافع معا.
ونحن إذا توصلنا إلى هنا من بيان حجية الاستصحاب مطلقا في
مقابل التفصيل الذي ذهب إليه الشيخ الأنصاري، لا نجد كثير حاجة في
التعرض للتفصيلات الأخرى في هذا المختصر، ونحيل ذلك إلى
المطولات لا سيما رسالة الشيخ في الاستصحاب، فإن في ما ذكره الغنى
والكفاية.
* * *
326

تنبيهات الاستصحاب
بعد فراغ الشيخ الأنصاري من ذكر الأقوال في المسألة ومناقشتها
شرع في بيان أمور تتعلق به بلغت اثني عشر أمرا، واشتهرت باسم
" تنبيهات الاستصحاب " فصار لها شأن كبير عند الأصوليين وصارت
موضع عنايتهم، لما لأكثرها من الفوائد الكبيرة في الفقه، ولما لها من
المباحث الدقيقة الأصولية. وزاد فيها شيخ أساتذتنا في الكفاية تنبيهين
فصارت أربعة عشر تنبيها. ونحن ذاكرون - بعون الله تعالى - أهمها
متوخين الاختصار حد الإمكان والاقتصار على ما ينفع الطالب المبتدئ.
التنبيه الأول
استصحاب الكلي (1)
الغرض من استصحاب الكلي: هو استصحابه فيما إذا تيقن بوجوده
في ضمن فرد من أفراده ثم شك في بقاء نفس ذلك الكلي. وهذا الشك في
بقاء الكلي في ضمن أفراده يتصور على أنحاء ثلاثة عرفت باسم " أقسام
استصحاب الكلي ":

هذا هو التنبيه الأول في تعداد الرسائل، والتنبيه الثالث في تعداد الكفاية.
327

1 - أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في بقاء نفس ذلك
الفرد الذي تيقن بوجوده.
2 - أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في تعيين ذلك
الفرد المتيقن سابقا، بأن يتردد الفرد بين ما هو باق جزما وبين ما هو
مرتفع جزما، أي أنه كان قد تيقن على الإجمال بوجود فرد ما من أفراد
الكلي فيتيقن بوجود الكلي في ضمنه، ولكن هذا الفرد الواقعي مردد عنده
بين أن يكون له عمر طويل فهو باق جزما في الزمان الثاني وبين أن
يكون له عمر قصير فهو مرتفع جزما في الزمان الثاني. ومن أجل هذا
الترديد يحصل له الشك في بقاء الكلي.
مثاله: ما إذا علم على الإجمال بخروج بلل مردد بين أن يكون بولا
أو منيا ثم توضأ، فإنه في هذا الحال يتيقن بحصول الحدث الكلي في
ضمن هذا الفرد المردد، فإن كان البلل بولا فحدثه أصغر قد ارتفع
بالوضوء جزما، وإن كان منيا فحدثه أكبر لم يرتفع بالوضوء. فعلى القول
بجريان استصحاب الكلي يستصحب هنا كلي الحدث، فتترتب عليه آثار
كلي الحدث مثل حرمة مس المصحف. أما آثار خصوص الحدث الأكبر
أو الأصغر فلا تترتب، مثل حرمة دخول المسجد وقراءة العزائم.
3 - أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في وجود فرد آخر
مقام الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه، أي أن الشك في بقاء الكلي مستند
إلى احتمال وجود فرد ثان غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه، لأ أنه إن
كان الفرد الثاني قد وجد واقعا فإن الكلي باق بوجوده، وإن لم يكن قد
وجد فقد انقطع وجود الكلي بارتفاع الفرد الأول.
أما القسم الأول: فالحق فيه جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الكلي
328

فيترتب عليه أثره الشرعي. كما لا كلام في جريان استصحاب نفس الفرد،
فيترتب عليه أثره الشرعي بما له من الخصوصية الفردية. وهذا لا خلاف فيه.
وأما القسم الثاني: فالحق فيه أيضا جريان الاستصحاب بالنسبة إلى
الكلي. وأما بالنسبة إلى الفرد فلا يجري قطعا، بل الفرد يجري فيه
استصحاب عدم خصوصية الفرد. ففي المثال المتقدم يجري استصحاب
كلي الحدث بعد الوضوء، فلا يجوز له مس المصحف، أما بالنسبة إلى
خصوصية الفرد فالأصل عدمها، فما هو من آثار خصوص الجنابة
- مثلا - لا يجب الأخذ بها، فلا يحرم قبل الغسل ما يحرم على الجنب من
نحو دخول المساجد وقراءة العزائم، كما تقدم.
ولأجل بيان صحة جريان الاستصحاب في الكلي في هذا القسم
الثاني وحصول أركانه لابد من ذكر ما قيل: إنه مانع من جريانه، والجواب
عنه. وقد أشار الشيخ إلى وجهين في المنع وأجاب عنهما، وهما كل ما
يمكن أن يقال في المنع:
الأول: قال: وتوهم عدم جريان الأصل في القدر المشترك من حيث
دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث وهو محكوم
الانتفاء بحكم الأصل (1).
توضيح التوهم: أن أهم أركان الاستصحاب هو اليقين بالحدوث
والشك في البقاء، وفي المقام إن حصل الركن الأول (وهو اليقين
بالحدوث) فإن الركن الثاني (وهو الشك في البقاء) غير حاصل. وجه
ذلك: أن الكلي لا وجود له إلا بوجود أفراده، ومن الواضح: أن وجود
الكلي في ضمن الفرد القصير مقطوع الارتفاع في الزمان الثاني وجدانا،

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 639.
329

وأما وجوده في ضمن الفرد الطويل فهو مشكوك الحدوث من أول الأمر
وهو منفي بالأصل، فيكون الكلي مرتفعا في الزمان الثاني إما وجدانا
أو بالأصل تعبدا، فلا شك في بقائه.
والجواب: أن هذا التوهم فيه خلط بين الكلي وفرده، أو فقل: فيه
خلط بين ذات الحصة من الكلي - أي ذات الكلي الطبيعي - وبين الحصة
منه بما لها من الخصوصية والتعين الخاص، فإن الذي هو معلوم الارتفاع
إما وجدانا أو تعبدا إنما هو الحصة بما لها من التعين الخاص، وهي
بالإضافة إلى ذلك غير معلومة الحدوث أيضا، فلم يتحقق فيها الركنان
معا، لأ أنه كما أن كل فرد من الفردين مشكوك الحدوث في نفسه، فإن
الحصة الموجودة به بما لها من التعين الخاص كذلك مشكوكة الحدوث، إذ
لا يقين بوجود هذه الحصة ولا يقين بوجود تلك الحصة، ولا موجود
ثالث حسب الفرض. وأما ذات الحصة المتعينة واقعا لا بما لها من التعين
الخاص بهذا الفرد أو بذلك الفرد - أي القدر المشترك بينهما - ففي الوقت
الذي هي فيه معلومة الحدوث هي مشكوكة البقاء، إذ لا علم بارتفاعها
ولا تعبد بارتفاعها بل لأجل القطع بزوال التعين الخاص يشك في ارتفاعها
وبقائها لاحتمال كون تعينها هو التعين الباقي أو هو التعين الزائل، وارتفاع
الفرد لا يقتضي إلا ارتفاع الحصة المتعينة به، وهي - كما قدمنا - غير
معلومة الحدوث وإنما المعلوم ذات الحصة، أي القدر المشترك.
والحاصل: أن ما هو غير مشكوك البقاء إما وجدانا أو تعبدا لا يقين
بحدوثه أصلا وهو الحصة بما لها من التعين الخاص، وما هو متيقن الحدوث
هو مشكوك البقاء وجدانا وهو ذات الحصة لا بما لها من التعين الخاص.
وقد أشار الشيخ إلى هذا الجواب بقوله: إنه لا يقدح ذلك في
330

استصحابه بعد فرض الشك في بقائه وارتفاعه (1).
الثاني: قال الشيخ الأعظم: توهم كون الشك في بقائه مسببا عن الشك
في حدوث ذلك المشكوك الحدوث، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه
ارتفاع القدر المشترك، لأ أنه من آثاره (2).
والجواب الصحيح هو ما أشار إليه بقوله: إن ارتفاع القدر المشترك من
لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع، لا من لوازم عدم حدوث
الأمر الآخر. نعم، اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه
من القدر المشترك في الزمان الثاني، لا ارتفاع القدر المشترك بين
الأمرين. وبينهما فرق واضح (3).
توضيح ما أفاده من الجواب: إنا نمنع أن يكون الشك في بقاء القدر
المشترك - أي الكلي - مسببا عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدمه،
لأن وجود الكلي - حسب الفرض - متيقن الحدوث من أول الأمر إما في
ضمن القصير أو الطويل، فلا يعقل أن يكون عدمه بعد وجوده مستندا إلى
عدم الفرد الطويل من الأول، وإلا لما وجد من الأول، بل في الحقيقة أن
الشك في بقاء الكلي - أي في وجوده وعدمه بعد فرض القطع بوجوده -
مستند إلى احتمال وجود هذا الفرد الطويل مع احتمال وجود ذلك الفرد
القصير، يعني يستند إلى الاحتمالين معا، لا لخصوص احتمال وجود
الطويل، إذ يحتمل بقاء وجوده الأول لاحتمال حدوث الطويل، ويحتمل
عدمه بعد الوجود لاحتمال حدوث القصير المرتفع قطعا في ثاني الحال.
والحاصل: أن احتمال وجود الكلي وعدمه في ثاني الحال مسبب عن
الشك في أن الحادث المعلوم هل هو الطويل أو القصير، لا أنه مسبب عن

(1 و 2 و 3) فرائد الأصول: ج 2 ص 639.
331

خصوص احتمال حدوث الطويل حتى يكون نفيه بالأصل موجبا لنفي
الشك في وجود الكلي في ثاني الحال، فلابد من نفي كل من الفردين
بالأصل حتى يكون ذلك موجبا لارتفاع القدر المشترك، والأصلان معا لا
يجريان مع فرض العلم الإجمالي.
وأما القسم الثالث: وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي مستندا إلى
احتمال وجود فرد ثان غير الفرد المعلوم حدوثه ثم ارتفاعه، فهو على
نحوين:
1 - أن يحتمل حدوث الفرد الثاني في ظرف وجود الأول.
2 - أن يحتمل حدوثه مقارنا لارتفاع الأول. وهو على نحوين: إما
بتبدله إليه، أو بمجرد المقارنة الاتفاقية بين ارتفاع الأول وحدوث الثاني.
وفي جريان الاستصحاب في هذا " القسم الثالث " من الكلي
احتمالات أو أقوال ثلاثة:
أ - جريانه مطلقا.
ب - عدم جريانه مطلقا.
ج - التفصيل بين النحوين المذكورين، فيجري في الأول دون الثاني
مطلقا. وهذا التفصيل هو الذي مال إليه الشيخ الأعظم (1).
والسر في الخلاف يعود إلى: أن الأركان في الاستصحاب هل هي
متوفرة هنا أو غير متوفرة. والمشكوك توفره في المقام هو الركن
الخامس، وهو اتحاد متعلق اليقين والشك.
ولا شك في أن الكلي المتيقن نفسه هو المشكوك بقاؤه في هذا
القسم، فهو واحد نوعا، فينبغي أن يسأل:

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 640.
332

أولا: هل هذه الوحدة النوعية بين المتيقن والمشكوك كافية في تحقق
الوحدة المعتبرة في الاستصحاب، أو غير كافية بل لابد له من وحدة خارجية؟
ثانيا: بعد فرض عدم كفاية الوحدة النوعية هل أن الكلي الطبيعي له
وحدة خارجية بوجود أفراده - بمعنى أنه يكون بوحدته الخارجية
معروضا لتعينات أفراده المتبائنة، بناء على ما قيل: من أن نسبة الكلي إلى
أفراده من باب نسبة الأب الواحد إلى الأبناء الكثيرة، كما نقل ذلك ابن
سينا عن بعض من عاصره (1) أو أن الكلي الطبيعي لا وجود له إلا بوجود
أفراده بالعرض؟ ففي كل فرد حصة موجودة منه غير الحصة الموجودة
في فرد آخر، فلا تكون له وحدة خارجية بوجود أفراده المتعددة، بل
نسبته إلى افراده من قبيل نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء المتعددة، وهذا
هو المعروف عند المحققين؟
فالقائل بجريان الاستصحاب في هذا القسم إما أن يلتزم بكفاية
الوحدة النوعية في تحقق ركن الاستصحاب وإما أن يلتزم بأن الكلي له
وحدة خارجية بوجود أفراده المتعددة، وإلا فلا يجري الاستصحاب.
وإذا اتضح هذا التحليل الدقيق لمنشأ الأقوال في المسألة يتضح الحق
فيها. وهو القول الثاني، وهو عدم جريان الاستصحاب مطلقا.
أما أولا: فلأ أنه من الواضح عدم كفاية الوحدة النوعية في
الاستصحاب، لأن معنى بقاء المستصحب فيه هو استمراره خارجا بعد
اليقين به. ونحن لا نعني من استصحاب الكلي استصحاب نفس الماهية
من حيث هي، فإن هذا لا معنى له، بل المراد استصحابها بما لها من
الوجود الخارجي لغرض ترتيب أحكامها الفعلية.

(1) حكاه الحكيم السبزواري (قدس سره) في شرح منظومته (في المنطق): 22.
333

وأما ثانيا: فلأ أنه من الواضح أيضا أن الحق أن نسبة الكلي إلى أفراده
من قبيل نسبة الآباء إلى الأبناء، لأ أنه من الضروري أن الكلي لا وجود له
إلا بالعرض بوجود أفراده.
وفي مقامنا قد وجدت حصة من الكلي وقد ارتفعت هذه الحصة
يقينا، والحصة الأخرى منه في الفرد الثاني هي من أول الأمر مشكوكة
الحدوث، فلم يتحد المتيقن والمشكوك.
وبهذا يفترق القسم الثالث عن القسم الثاني من استصحاب الكلي، لأ أنه
في القسم الثاني - كما سبق - ذات الحصة من الكلي المتعينة واقعا
المعلومة الحدوث على الإجمال هي نفسها مشكوكة البقاء، حيث لا
يدرى أنها الحصة المضافة إلى الفرد الطويل أو الفرد القصير.
وبهذا أيضا يتضح أنه لا وجه للتفصيل المتقدم الذي مال إليه الشيخ
الأعظم، فإن احتمال وجود الفرد الثاني في ظرف وجود الفرد الأول لا
يقدم ولا يؤخر ولا يضمن الوحدة الخارجية للمتيقن والمشكوك إلا إذا
قلنا بمقالة من يذهب إلى أن نسبة الكلي إلى أفراده من قبيل نسبة الأب
الواحد إلى أبنائه، وحاشا الشيخ أن يرى هذا الرأي! ولا شك أن الحصة
الموجودة في ضمن الفرد الثاني من أول الأمر مشكوكة الحدوث، وأما
المتيقن حدوثه فهو حصة أخرى وهي في عين الحال متيقنة الارتفاع.
ويكون وزان هذا القسم وزان استصحاب الفرد المردد الآتي ذكره.
تنبيه:
وقد استثني من هذا القسم الثالث ما يتسامح به العرف، فيعدون الفرد
اللاحق المشكوك الحدوث مع الفرد السابق كالمستمر الواحد، مثل ما لو
علم السواد الشديد في محل وشك في ارتفاعه أصلا أو تبدله بسواد
أضعف، فإنه في مثله حكم الجميع بجريان الاستصحاب. ومن هذا الباب
334

ما لو كان شخص كثير الشك ثم شك في زوال صفة كثرة الشك عنه أصلا
أو تبدلها إلى مرتبة من الشك دون الأولى.
قال الشيخ الأعظم في تعليل جريان الاستصحاب في هذا الباب: العبرة
في جريان الاستصحاب عد الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق ولو كان
الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقة للفرد السابق (1).
يعني أن العبرة في اتحاد المتيقن والمشكوك هو الاتحاد عرفا وبحسب
النظر المسامحي وإن كانا بحسب الدقة العقلية متغايرين، كما في المقام.
التنبيه الثاني (2)
الشبهة العبائية أو استصحاب الفرد المردد
ينقل أن السيد الجليل السيد إسماعيل الصدر (قدس سره) زار النجف الأشرف
أيام الشيخ المحقق الآخوند، فأثار في أوساطها العلمية مسألة تناقلوها
وصارت عندهم موضعا للرد والبدل واشتهرت بالشبهة العبائية.
وحاصلها: أنه لو وقعت نجاسة على أحد طرفي عباءة ولم يعلم أنه
الطرف الأعلى أو الأسفل، ثم طهر أحد الطرفين - وليكن الأسفل مثلا -
فإن تلك النجاسة المعلومة الحدوث تصبح نفسها مشكوكة الارتفاع،
فينبغي أن يجري استصحابها، بينما أن مقتضى جريان استصحاب النجاسة
في هذه العباءة أن يحكم بنجاسة البدن - مثلا - الملاقي لطرفي العباءة
معا. مع أن هذا اللازم باطل قطعا بالضرورة، لأن ملاقي أحد طرفي
الشبهة المحصورة محكوم عليه بالطهارة بالإجماع - كما تقدم في محله (3) -

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 641.
لم يذكر هذا التنبيه في الرسائل، ولا في الكفاية.
(3) لم يصل إلينا من المؤلف (قدس سره) من مباحث الأصول العملية سوى مبحث الاستصحاب، فلم
يتقدم ما ذكره في هذه المجموعة.
335

وهنا لم يلاق البدن إلا أحد طرفي الشبهة وهو الطرف الأعلى وأما
الطرف الأسفل - وإن لاقاه - فإنه قد خرج عن طرف الشبهة - حسب
الفرض - بتطهيره يقينا، فلا معنى للحكم بنجاسة ملاقيه.
والنكتة في الشبهة أن هذا الاستصحاب يبدو من باب استصحاب
الكلي من القسم الثاني، ولا شك في أن مستصحب النجاسة لابد أن يحكم
بنجاسة ملاقيه، بينما أنه هنا لا يحكم بنجاسة الملاقي. فيكشف ذلك عن
عدم صحة استصحاب الكلي القسم الثاني.
وقد استقر الجواب عند المحققين عن هذه الشبهة على: أن هذا
الاستصحاب ليس من باب استصحاب الكلي، بل هو من نوع آخر سموه
" استصحاب الفرد المردد " وقد اتفقوا على عدم صحة جريانه، عدا ما نقل
عن بعض الأجلة في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأعظم. إذ قال
بما محصله: بأن تردده بحسب علمنا لا يضر بيقين وجوده سابقا،
والمفروض أن أثر القدر المشترك أثر لكل من الفردين، فيمكن ترتيب
ذلك الأثر باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا، كما في القسم
الأول الذي حكم الشيخ فيه باستصحاب كل من الكلي وفرده (1).
أقول: ويجب أن يعلم - قبل كل شئ - الضابط لكون المورد من باب
" استصحاب الكلي القسم الثاني " أو من باب " استصحاب الفرد المردد ".
فإن عدم التفرقة بين الموردين هو الموجب للاشتباه وتحكم تلك الشبهة.
إذا ما الضابط لهما؟
إن الضابط في ذلك: أن الأثر المراد ترتيبه إما أن يكون أثرا للكلي
(أي أثر لذات الحصة من الكلي لا بما لها من التعين الخاص والخصوصية

(1) هو السيد الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في البحث عن لزوم المعاطاة وعدمه، حاشية المكاسب:
ص 73.
336

المفردة) أو أثرا للفرد (أي أثر للحصة بما لها من التعين الخاص
والخصوصية المفردة).
فإن كان الأول: فيكفي فيه استصحاب القدر المشترك، أي ذات
الحصة الموجودة، إما في ضمن الفرد المقطوع الارتفاع على تقدير أنه هو
الحادث، أو الفرد المقطوع البقاء على تقدير أنه هو الحادث. ويكون ذلك
من باب استصحاب الكلي القسم الثاني، وقد تقدم أننا لا نعني من
" استصحاب الكلي " استصحاب نفس الماهية الكلية، بل استصحاب
وجودها.
وإن كان الثاني: فلا يكفي استصحاب القدر المشترك، وإنما الذي ينفع
استصحاب الفرد بما له من الخصوصية المفردة، المفروض فيه أنه مردد
بين الفرد المقطوع الارتفاع على تقدير أنه الحادث، أو الفرد المقطوع
البقاء على تقدير أنه الحادث. ويكون ذلك من باب " استصحاب الفرد
المردد ".
إذا عرفت هذا الضابط فالمثال الذي وقعت فيه الشبهة هو من النوع
الثاني، لأن الموضوع للنجاسة المستصحبة ليس أصل العباءة أو الطرف
الكلي منها، بل نجاسة الطرف الخاص بما هو طرف خاص إما الأعلى
أو الأسفل.
وبعد هذا يبقى أن نتساءل: لماذا لا يصح جريان استصحاب الفرد
المردد؟
نقول: لقد اختلفت تعبيرات الأساتذة في وجهه، فقد قيل: لأ أنه لا
يتوفر فيه الركن الثاني، وهو الشك في البقاء (1). وقيل: بل لا يتوفر الركن

(1) انظر أجود التقريرات ج 2 ص 394.
337

الأول، وهو اليقين بالحدوث فضلا عن الركن الثاني (1).
أما الوجه الأول: فبيانه أن الفرد بما له من الخصوصية مردد - حسب
الفرض - بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما هو مقطوع الارتفاع، فلا شك
في بقاء الفرد الواقعي الذي كان معلوم الحدوث، لأ أنه إما مقطوع البقاء
أو مقطوع الارتفاع.
وأما الوجه الثاني - وهو الأصح - فبيانه: أن اليقين بالحدوث إن أريد
به اليقين بحدوث الفرد مع قطع النظر عن الخصوصية المفردة - لأ نهى
مجهولة حسب الفرض - فاليقين موجود، ولكن المتيقن حينئذ هو الكلي
الذي يصلح للانطباق على كل من الفردين. وإن أريد به اليقين بالفرد بماله
من الخصوصية المفردة فواضح أنه غير حاصل فعلا لأن المفروض أن
الخصوصية المفردة مجهولة ومرددة بين خصوصيتين، فكيف تكون متيقنة
في عين الحال؟ إذ المردد بما هو مردد لا معنى لأن يكون معلوما متعينا.
هذا خلف محال، وإنما المعلوم هو القدر المشترك. وفي الحقيقة أن كل
علم إجمالي مؤلف من علم وجهل، ومتعلق العلم هو القدر المشترك
ومتعلق الجهل خصوصياته، وإلا فلا معنى للإجمال في العلم وهو عين
اليقين والانكشاف. وإنما سمي ب‍ " العلم الإجمالي " لانضمام الجهل
بالخصوصيات إلى العلم بالجامع.
وعليه، فإن ما هو متيقن - وهو الكلي - لا فائدة في استصحابه لغرض
ترتيب أثر الفرد بخصوصه، وماله الأثر المراد ترتبه عليه - وهو الفرد
بخصوصيته - غير متيقن بل هو مجهول مردد بين خصوصيتين، فلا
يتحقق في استصحاب الفرد المردد ركن " اليقين بالحالة السابقة " لا أن
الفرد المردد متيقن ولكن لا شك في بقائه.

(1) انظر نهاية الدراية: ج 5 ص 140.
338

والوجه الأصح هو الثاني كما ذكرنا.
وأما الوجه الأول - وهو أنه لا شك في بقاء المتيقن - فغريب صدوره
عن بعض أهل التحقيق! فإن كونه مرددا بين ما هو مقطوع البقاء وبين ما
هو مقطوع الارتفاع معناه في الحقيقة هو الشك فعلا في بقاء الفرد الواقعي
وارتفاعه، لأن المفروض أن القطع بالبقاء والقطع بالارتفاع ليسا قطعين
فعليين، بل كل منهما قطع على تقدير مشكوك، والقطع على تقدير
مشكوك ليس قطعا فعلا، بل هو عين الشك.
وعلى كل حال، فلا معنى لاستصحاب الفرد المردد، ولا معنى لأن
يقال - كما سبق عن بعض الأجلة (1) -: " أن تردده بحسب علمنا لا يضر
بيقين وجوده سابقا " فإنه كيف يكون تردده بحسب علمنا لا يضر
باليقين؟ وهل اليقين إلا العلم؟ إلا إذا أراد من " اليقين بوجوده سابقا "
اليقين بالقدر المشترك والتردد في الفرد، فاليقين متعلق بشئ والتردد
بشئ آخر، فيتوفر ركنا الاستصحاب بالنسبة إلى القدر المشترك،
لا بالنسبة إلى الفرد المراد استصحابه، فما هو متيقن لا يراد استصحابه،
وما يراد استصحابه غير متيقن، على ما سبق بيانه.
* * *

(1) سبق في ص 336 عن السيد الطباطبائي اليزدي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب.
339