الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء الثالث
1

اسم الكتاب منتقى الأصول ج 3
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 7000 ريال
حقوق الطبعة محفوظة
2

النواهي
3

بسم الله الرحمن الرحيم
4

النواهي
الكلام في جهات: الجهة الأولى: في مفاد صيغة النهي ومادته.
والذي أفاده صاحب الكفاية عن ذلك: أنها كصيغة الامر ومادته في
الدلالة على الطلب، والاختلاف بينهما في المتعلق، فمتعلق الامر هو نفس الفعل
ومتعلق النهي الترك، وإلا فالمستفاد من النهي والامر مادة وصيغة شئ واحد وهو
الطلب، ومن هنا اعتبر في صدق النهي ما اعتبره في صدق الامر من لزوم
صدوره من العالي (1).
ولكن هذا الرأي لم يتفق عليه الاعلام، بل خالفه بعضهم فذهب إلى
اختلاف النهي بمادته وصيغته مع الامر مفهوما، وان ما ذهب إليه صاحب الكفاية
يتنافى مع الوجدان لوجهين:
الأول: انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها الترك كالصوم، مع أنها
لا تعد من المحرمات بل من الواجبات.
الثاني: إن مراجعة الوجدان تشهد أن النهي ينشأ عن مفسدة في الفعل
يكون بها مبغوضا للمولى ومتعلقا لكراهته فيزجر عبده عنه فواقع النهي يختلف

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
5

عن واقع الامر، فإنه كراهة الفعل والامر إرادة الفعل، كما أن المنشأ في النهي
هو الزجر عن الفعل والمنشأ في الامر طلبه والبعث إليه فيختلف الأمر والنهي
مفهوما مادة وصيغة، ومتعلقهما واحد وهو الفعل (1).
والتحقيق: موافقة صاحب الكفاية في ما ذهب إليه من الرأي.
والذي ندعيه: أن المنشأ في مورد النهي ليس إلا البعث نحو الترك مع
الالتزام بأن مفهوم النهي يساوق عرفا مفهوم المنع والزجر لا البعث والطلب.
والوجه فيما ادعيناه: هو أن التكليف أعم من الوجوب والتحريم - على
جميع المباني في حقيقته - إنما هو لجعل الداعي وللتحريك نحو المتعلق بحيث
يصدر المتعلق عن إرادة المكلف، ومن الواضح أن ما يقصد اعمال الإرادة فيه في
باب النهي هو الترك وعدم الفعل ولا نظر إلى إعمال الإرادة في الفعل كما لا يخفى
جدا، وهذا يقتضي أن يكون المولى في مقام تحريك المكلف نحو ما يتعلق به
اختياره وهو الترك، ويكون في مقام جعل ما يكون سببا لاعمال إرادة المكلف في
الترك، فواقع النهي ليس إلا هذا المعنى وهو قصد المولى وإرادته تحريك المكلف
واعمال ارادته في الترك.
وهذا كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك، كذلك
يمكن أن ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل فإنه لازم إرادة ترك
العمل، وهو في باب النهي منشأ بمدلوله الالتزامي بعكسه في باب الامر فإنه
منشأ بمدلوله المطابقي، فالمنشأ في باب النهي إرادة الترك بمفهوم المنع والنهي،
وليس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل، لأنه غير المقصود الأولي وأجنبي عما
عليه واقع المولى.
وأما دعوى: أنه ليس في الواقع سوى كراهة الفعل تبعا لوجود المفسدة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 327 هامش رقم 2 - الطبعة الأولى.
6

فيه دون إرادة الترك. فهي باطلة، فإنه كما هناك كراهة للفعل كذلك هناك إرادة
ومحبوبية للترك، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشديد، فان تعلق
المحبوبية بتركها ظاهر واضح لا انكار فيه كمحبوبية الصحة التي هي في الحقيقة
عدم المرض ونحو ذلك.
وأما تمييز الواجب عن الحرام فليس الضابط فيه ما هو المنشأ وما هو
متعلق الإرادة أو الكراهة، بل الضابط فيه ملاحظة ما فيه المفسدة والمصلحة،
فإن كان الفعل ذا مفسدة كان حراما وإن كان المنشأ طلب الترك، وان كانت
المصلحة في الفعل أو في الترك كان الفعل أو الترك واجبا، ومثل الصوم تكون
المصلحة في نفس الترك فيكون واجبا.
وبالجملة: فما ذكر من الوجهين لا ينهض لانكار رأي صاحب الكفاية،
فهو المتجه لما عرفت من البرهان عليه.
الجهة الثانية: في البحث عن أن متعلق الطلب في النهي هل هو الترك
وعدم الفعل، أو الكف الذي هو ايجاد ما يكون سببا في المنع عن تأثير الرغبة
في الفعل عند حدوث الميل إليه؟، وهذا المعنى يمكن أن يحرر بنحوين:
النحو الأول: ما ذكره في الكفاية من: أن متعلق الطلب في باب النهي
هل هو الترك أو الكف لاجل ان الترك غير اختياري فان الإرادة انما تؤثر في
الفعل لا في عدمه، فان العدم ينشأ من عدم إرادة الوجود لا إرادة العدم.
والجواب عن هذا الاشكال: ما أشار إليه في الكفاية من: أن القدرة على
الفعل تعني القدرة على الترك، فان معنى كون الشئ مقدورا هو كون كل من
وجوده وعدمه تحت حيز الامكان والاختيار، والا فلو لم يكن العدم مقدورا لم يكن
الفعل كذلك، بل كان اما ضروريا أو ممتنعا، وكل من الحالتين خلف (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
7

يبقى سؤال وهو: أن هذا المعنى انما يستلزم إمكان تعلق النهي بالترك لا
تعيينه، فما هو الوجه في اختيار تعلقه بالترك دون الكف؟.
والجواب عنه واضح: فان تعلقه بالترك لا يحتاج إلى برهان فإنه ما تقتضيه
القاعدة، والالتزام بتعلقه بالكف من جهة الالتزام بامتناع تعلقه بالترك،
فلا محيص عنه، فإذا ثبت جوازه تعين بلا اشكال.
اما ان ذلك مقتضى القاعدة، فلا جل ان التكليف إذا كان يرتبط بالأمور
الخارجية لترتب المصلحة والمفسدة عليها، فلا وجه لتعلقه بأمر نفسي، بل هو
يتعلق رأسا بامر خارجي من فعل أو ترك، ولأجل ذلك لم يتوهم متوهم أن الامر
متعلق بإرادة الفعل لا بنفسه إذ لا معنى له، والمفروض معقولية تعلقه بالفعل
نفسه. فالتفت.
النحو الثاني: ان متعلق النهي وإن كان هو الترك، لكنه هل هو مطلق
الترك أو انه ترك خاص وهو المساوق لصورة الكف؟ والوجه في هذا الكلام هو
ان النهي انما هو لجعل الداعي نحو الترك، وهذا انما يتعقل في صورة وجود
المقتضي للفعل، بحيث يكون المكلف في مقام العمل فينهى، اما إذا لم يكن في
مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقق الانتهاء والانزجار في نفسه بدون نهي
فيكون النهي لغوا. وهذا المعنى تظهر ثمرته في مورد العلم الاجمالي الذي يكون
أحد طرفيه مصروف النظر عنه بالمرة، فإنه لا يكون منجزا على هذا الرأي،
فينحصر النهي بصورة الكف قهرا وإن تعلق بالترك. وحل هذا الاشكال أو
اقراره ليس محله هنا، بل له مقام آخر وانما كان قصدنا الإشارة إليه فالتفت.
الجهة الثالثة: في اتفاق كيفية امتثال النهي والامر أو اختلافهما.
وتوضيح الحال: ان هناك شيئا ملحوظا يختلف فيه النهي والامر، وهو: ان
الامر إذا تعلق بطبيعة يكتفي في امتثاله باتيان فرد واحد، بخلاف النهي فإنه إذا
تعلق بطبيعة فلا يمثل الا بترك جميع افرادها، وقد اختلف في بيان الوجه في ذلك.
8

فذهب صاحب الكفاية (رحمه لله) إلى: ان هذا الاختلاف يرجع إلى
حكم العقل في مقام الامتثال، حيث إن المطلوب في باب الامر ايجاد الطبيعة،
وهو يتحقق بايجاد فرد منها، لان وجود الفرد وجود للطبيعة، والمطلوب في باب
النهي ترك الطبيعة وهو لا يتحقق إلا بترك جميع الافراد، إذ مع وجود أي فرد
توجد الطبيعة فلا يتحقق الترك المطلوب (1).
وقد ناقش في هذا المفاد المحقق الأصفهاني ببيان إليك نصه (2): " لا يخفى
عليك ان الطبيعة توجد بوجودات متعددة ولكل وجود وعدم هو بديله ونقيضه،
فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطبيعة المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها
وذاتياتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئية، فكما أن مثل هذه
الطبيعة تتحق بوجود واحد كذلك عدم مثلها، وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى
الطبيعة بنحو الكثرة، فلكل وجود منها عدم هو بديله، فهناك وجودات واعدام.
وقد يلاحظ الوجود بنحو السعة أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذ عنه
وجود - يعني بنحو العموم المجموعي -، فيقابله عدم مثله، وهو ملاحظة العدم
بنهج الوحدة في الاعدام المتكثرة، أي طبيعي العدم بحيث لا يشذ عنه عدم، ولا
يعقل ان يلاحظ الوجود المضاف إلى الماهية على نحو يتحقق بفرد ما، فيكون
عدمه البديل له بحيث لا يكون إلا بعدم الماهية بجميع افرادها. واما ما يتوهم
من ملاحظة الوجود بنحو آخر غير ما ذكر، وهو ناقض العدم الكلي وطارد العدم
الأزلي بحيث ينطبق على أول الوجودات - ويعبر عنه بصرف الوجود -،
ونقيضه عدم ناقض العدم، وهو بقاء العدم الكلي على حاله، فلازم مثل هذا
الوجود تحقق الطبيعة بفرد، ولازم نقيضه انتفاء الطبيعة بانتفاء جميع افرادها
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) ذكرنا ما ينصه، لوضوحه فلا يحتاج إلى توضيح. (منه عفي عنه).
9

فمدفوع: بان طارد العدم الكلي لا مطابق له في الخارج، لان كل وجود يطرد
عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره، فأول الوجودات أول ناقض للعدم، ونقيضه
عدم هذا الأول، ولازم هذا العدم الخاص بقاء سائر الاعدام على حالها، فان عدم
الوجود الأول يستلزم عدم الثاني والثالث وهكذا لا انه عينها، فما اشتهر من أن
تحقق الطبيعة بتحقق فرد وانتفائها بانتفاء جميع افرادها لا أصل له، حيث لا
مقابلة بين الطبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها، والطبيعة على
نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها... " انتهى (1).
أقول: يمكن أن يدعى ان نظر صاحب الكفاية إلى اختلاف الأمر والنهي
في مقام الامتثال بحسب القضية العقلية فيما إذا كان متعلق كل منهما
صرف الوجود، فهو يذهب إلى أن الامر إذا تعلق بصرف وجود الطبيعة فيكتفي
في امتثاله باتيان فرد واحد لتحقق صرف الوجود به. واما النهي فإنه إذا تعلق
بصرف وجود الطبيعة فلا يتحقق امتثاله الا بترك جميع افرادها، إذ المنهي عنه
ايجاد أول وجود الطبيعة، وتركه لا يتحقق إلا بترك جميع الافراد، إذ أي فرد
يوجد فهو أول وجودها فلا بد من تركه حتى يتحقق امتثال النهي وهذا المعنى
اعترف به المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في كلامه أخيرا كما لا يخفى على
الملاحظ، لكنه ناقشه بان عدم صرف الوجود ملازم لترك جميع الافراد لا انه
عينها، وهذه مناقشة لفظية ترجع إلى التخطئة في التعبير لا المدعي من أن امتثال
النهي لا يتحقق إلا بترك جميع افرادها بمقتضى حكم العقل، إذ عرفت أن
الزجر عن صرف الوجود والنهي عن تحقيقه لا يمتثل الا بترك جميع الافراد، إذ
كل فرد يفرض وجوده يكون أول الوجود وينطبق عليه عنوان صرف الوجود
وقد عرفت النهي عنه. فما ذكره صاحب الكفاية لا اشكال فيه.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 260 - الطبعة الأولى.
10

وقد يتخيل: أن ما افاده في الكفاية انما يتم لو كان النهي عبارة عن الزجر
عن الفعل، إذ يقال ان متعلقه صرف الوجود. اما بناء على أن النهي عبارة عن
طلب الترك - الذي عليه صاحب الكفاية وهو المختار - فلا يتم ما ذكر، إذ
متعلق الطلب هو صرف ترك الفعل، وهو كصرف الوجود يتحقق بأول ترك فلا
يتوقف امتثال النهي على ترك جميع الافراد لتحقق صرف الترك بدونه (1).
ولكن هذا التخيل فاسد، فان النهي وان كان بواقعه عبارة عن طلب
الترك، إلا انك عرفت أن هذا الواقع يبين وينشأ بمفهوم الزجر عن الفعل
للملازمة بينهما.
وعليه، فالمنشأ هو طلب الترك الذي يكون لازم الزجر عن الفعل، وهو
ليس صرف وجود الترك بل جميع التروك.
وبالجملة: ما يقصد انشاؤه وهو لازم المعنى المطابقي للفظ الذي هو
الزجر والمنع عن صرف وجود الفعل، وقد عرفت أن لازمه هو جميع التروك لا
صرف الترك، فالمنشأ هو طلب جميع التروك لا طلب صرف الترك.
فالمتحصل: ان النهي لا يكون امتثاله إلا بترك جميع الافراد، سواء قلنا إنه
واقعا طلب الترك أو انه الزجر عن الفعل. فافهم جيدا وتدبر فان المقام
لا يخلو عن دقة.
ثم إن صاحب الكفاية أشار في ضمن كلامه وبقوله: " ومن ذلك يظهر
ان الدوام والاستمرار انما يكون.... إلى آخره " (2) إلى شئ:
وهو: ان الجزم بتوقف امتثال النهي على ترك جميع الافراد انما يكون
باحراز كون مدخول النهي هو الطبيعة المطلقة، وذلك انما يكون باجراء مقدمات

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 4 / 90 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
11

الحكمة فيها كي يثبت إرادة الاطلاق منها، إذ لو كانت مقيدة بزمان خاص
اقتضى النهي ترك جميع افراد الطبيعة المقيدة، كما أنه لو لم يكن المقام مقام بيان
كان المقصود مهملا ولا يثبت لزوم ترك جميع الافراد لعدم احراز المقصود
بالطبيعة.
وبالجملة: القضية العقلية في النهي مفادها لزوم ترك جميع افراد ما أريد
من المدخول. اما احراز المقصود بالمدخول وانه الطبيعة المطلقة أو غيرها فهو
أجنبي عن مفاد القضية العقلية، بل احراز الاطلاق لابد له من دال آخر وهو
مقدمات الحكمة.
وهذا المعنى تنبيه على اندفاع ما يتوهم أو يقال من: ان النكرة إذا وقعت
في سياق النفي أو النهي تفيد العموم لحكم العقل بذلك، بحيث جعل منشاء استفادة
الاطلاق والعموم من الطبيعة المدخولة للنهي هو حكم العقل المزبور ومفاد القضية
العقلية. ولا يخفى ترتب الأثر على هذا الاختلاف في الرأي في مسالة تعارض
دليل النهي مع دليل آخر يتكفل بيان مفاده بمقتضى الوضع لا الاطلاق. نظير
العموم الوضعي، فإنه بناء على أن اطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد من
مقدمات الحكمة يكون الدليل الاخر مقدما على دليل النهي، لتقدم الظهور
الوضعي على الظهور الاطلاقي كما تقرر في محله، من جهة ان الأول تنجيزي
والثاني تعليقي. واما بناء على أن اطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد بحكم
العقل تعارض الدليلان، ولم يقدم الدليل الاخر على دليل النهي لكون ظهور
كل منها تنجيزي فتدبر.
الجهة الرابعة: في النهي لو خولف وأتي بالعمل المنهي عنه، فهل
مقتضاه استمرار النهي بعد المخالفة أولا؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف،
ولا على عدم ارادته، بل لا بد في احراز ذلك من دلالة أخرى، ولو كانت اطلاق
12

المتعلق من هذه الجهة، يعني التمسك باطلاق المتعلق من جهة العصيان، فيقال
ان مقتضاه ثبوت النهي له مطلقا عصي النهي أو لم يعص. ويكون مقتضى هذا
الاطلاق ثبوت النهي وتعلقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقي، فينحل إلى افراد
متعددة بتعدد افراد الفعل، فإذا عصي أحدها بقي الاخر على حاله (1).
ويدور حول مطلب الكفاية تساؤلان:
أحدهما: انه ذكر في صدر المبحث ان متعلق النهي صرف الوجود
والمطلوب ترك صرف الوجود، ومن الواضح ان صرف الوجود قسيم لجميع
الوجودات، فكيف يتصور أن يكون متعلق النهي جميع الوجودات المستلزم
للانحلال، بخلاف الأول فإنه يستلزم وحدة النهي، لعدم التعدد في صرف الوجود
فإذا حصل سقط النهي لا محالة؟.
والاخر: ان الاستغراق لا يثبت بالاطلاق بنظر صاحب الكفاية فإنه
يذهب إلى أن استفادة هذه الخصوصيات من الاستغراق أو البدلية أو غيرهما
تنشأ من قرينة خاصة في المقام، وليست هي مفاد الاطلاق، فان مفاد مقدمات
الحكمة ليس إلا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد، فلاحظ مبحث المطلق والمقيد
من الكفاية (2).
وعليه، فكيف يحاول (قدس سره) اثبات الاستغراق في النهي باطلاق
المتعلق؟. والتساؤل الثاني حق لا نعرف له جوابا. لكن الأول تمكنا الإجابة عنه:
بأنه لم يفرض في صدر المبحث كون متعلق النهي صرف الوجود، وانما بحثه ثبوتي
تقديري، ومرجعه إلى أنه لو كان متعلق النهي صرف الوجود كمتعلق الامر كانت
قضية امتثالهما عقلا مختلفة، ونظره في قوله: " ثم إنه لا دلالة... " (3) إلى تحقيق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 247 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
13

مقام الاثبات ومعرفة ما هو مفاد دليل النهي، وانه هل هو متعلق بصرف الوجود
أو بجميع الوجودات أو مجموعها؟ فتدبر.
وتحقيق المقام: ان المتعين هو الالتزام باستمرار النهي وعدم سقوطه
بالمخالفة، وذلك لوجود القرينة العامة على ذلك، وهي كون النهي ناشئا عن
مفسدة في متعلقه. ومن الواضح ترتب المفسدة نوعا على كل فرد من افراد الفعل
لا على مجرد صرف وجوده أو مجموع الافراد. فكل فرد يقصد تركه، فإذا لم يترك
أحد الافراد لزم ترك غيره لوجود المفسدة فيه.
وبالجملة: هذه القرينة تعين احتمال الاستغراق والانحلال في النهي،
وتنفي سائر الاحتمالات، فهي بضميمة الاطلاق تثبت المدعي.
وقد استدل السيد الخوئي (حفظه الله) في حاشيته على أجود
التقريرات بهذا البيان على: ان امتثال النهي لا يكون إلا بترك جميع الافراد،
وهذا الشئ هو الفارق بين الأمر والنهي (1).
ومن الواضح انه خلط بين الجهتين الثالثة والرابعة، إذ عرفت ارتباط هذا
البيان بالجهة الرابعة من الكلام دون الثالثة، فان ملاكها يختلف عن هذا البيان
على ما عرفت.
ثم إن للمحقق النائيني (قدس سره) بيانا طويلا تكفل تقسيم النهي، وانه
تارة يتعلق بترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي. وأخرى يتعلق بترك الافراد ويلزمه
ترك الطبيعة، والثمرة في أنه لو خالف على الأول يسقط النهي بخلاف الثاني
لانحلال الحكم، ثم رجح انه بالنحو الثاني، وتعرض بعد ذلك إلى بيان ان انحلال
النهي بالنسبة إلى الافراد الطولية يكون بأحد وجهين. ثم اختار الثاني منهما
اثباتا (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 328 [هامش رقم 1] - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 329 - الطبعة الأولى.
14

وبما أن في كلامه جهات من الاشكال، كالتفرقة بين الافراد العرضية
والطولية وغيرها، ولأجل ان التعرض لها مفصلا يطيل المقام من دون أثر عملي
مهم، اكتفينا بالإشارة إلى كلامه وانه غير خال عن الاشكال فانتبه.
* * *
15

" اجتماع الأمر والنهي "
ويقع الكلام قبل الخوض في أصل المبحث في جهات عديدة:
الجهة الأولى: فيما هو المناسب جعله عنوان البحث: وقد ورد في كلمات
المتقدمين بهذا النحو: " هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أولا؟ "
تبعهم صاحب الكفاية (1)، وناقشه المحقق النائيني وذهب إلى أن الأنسب تغييره
وجعله بهذا النحو: " الأمر والنهي المتعلقان بشيئين متحدين خارجا وجودا وايجادا
هل يسري أحدهما إلى متعلق الاخر أو لا؟ ". (2).
والذي يقتضيه الانصاف صحة عنوان البحث بالنحو المشهور، وأولويته
من النحو الذي عنونه به المحقق النائيني. فلنا دعويان:
الأولى: صحة عنوان البحث بالنحو المشهور. فان ما ذكره من الاشكال
فيه بأنه: " يوهم ان القائل بالجواز لا يعترف بتضاد الحكمين، فلذا يقول بجواز
اجتماعهما مع أن الامر ليس كذلك، بل هو يدعي عدم لزوم الاجتماع مع اتحاد
المتعلقين خارجا، لا انه يدعي جوازه بعد تسليمه الاجتماع، إذ استحالة الاجتماع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 331 - الطبعة الأولى.
17

بعد وضوح التضاد بين الحكمين مما لا تكاد تخفى " (1).
مندفع: ان اجتماع الشيئين المتنافيين في شئ واحد قد يكون على نحوين
أحدهما ممتنع والاخر جائز، مثال ذلك: إذا كان في الدار نار في طرف وماء في
طرف آخر، فإنه يصدق اجتماع النار والماء في الدار حقيقة ومن دون مسامحة وهو
جائز لا امتناع فيه، كما أن اجتماعهما في نقطه واحدة من الدار يستلزم صدق
اجتماعهما في الدار حقيقة ولكنه ممتنع، فاجتماع النار والماء في الدار يتصور على
نحوين أحدهما ممتنع والاخر جائز.
وعليه فالبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وعدمه لا يرجع إلى
الالتزام بعدم تضاد الحكمين، بل مرجعه إلى أن متعلق الأمر والنهي في الحقيقة
واحد فيمتنع اجتماعهما لأنه من قبيل الاجتماع النار والماء في نقطه واحدة، أو ان
المتعلق متعدد فيجوز اجتماعهما في ذلك الواحد، لأنه من قبيل النار والماء في
نقطتين.
وبالجملة: فيصح ان يبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي
وجهين وعدمه، ويكون منشاء الخلاف هو ان هذا الواحد ذي الوجهين واحد
حقيقة أو متعدد، فيمتنع اجتماعهما فيه على الأول ويجوز على الثاني من دون ايهام
رجوعه إلى انكار تضاد الحكمين.
الثانية: أولوية عنوان المشهور من عنوانه (قدس سره).
والوجه فيها: ان المحقق النائيني وغيره يخرج في بحثه عن العنوان
بالنحو الذي حرره، فإنه ركز البحث في أن الجهتين تقييديتان، فيكون متعلق
الامر غير متعلق النهي أو تعليليتان فيتحد متعلق الأمر والنهي، فالبحث أساسه
في هذه الصغرى وعليه بني السراية وعدمها، والا فهو لم يبحث أصلا فيما هو

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 231 - الطبعة الأولى.
18

عنوان البحث.
الجهة الثانية: في بيان المراد بالواحد في عنوان النزاع.
إذ قد يتساءل بان المراد منه إذا كان الواحد الشخصي خرج الواحد
الجنسي، كالصلاة والغصب، فإنهما واحد جنسا وهو الحركة. ولا وجه لخروجه، إذ
النزاع يقع فيه بلا كلام، وإذا كان المراد منه ما يعم الواحد الجنسي دخل في محل
النزاع، مثل السجود لله والسجود للصنم، لأنهما يندرجان تحت كلي السجود، مع أنه
لا نزاع فيه ولا اشكال في أن الأول متعلق الامر والثاني متعلق النهي في آن
واحد.
وللإجابة عن هذا التساؤل يرجع إلى ما أفاده صاحب الكفاية في بيان
المراد بالواحدة من: ان المراد منه هو الواحد في الوجود سواء كان واحدا
شخصيا أو واحدا جنسيا كالصلاة والغصب المتحدين في الوجود فيخرج مثل
السجود لله والسجود للصنم، لأنهما متعددان وجودا وان اتحدا جنسا، ولا يكاد
يكون وجود واحد للسجود يضاف إلى كليهما معا على أن يكون كل منهما متفردا
بالإضافة، لا أن يكون بنحو التشريك كما لا يخفى (1).
ولكن يتوجه على ما ذكره صاحب الكفاية: انه لا يمكن ان يفرض الواحد
في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود، إذ أن القول بالامتناع يبتني على وحدة
الوجود والقول بالجواز يبتني على تعدده، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود
في العنوان الذي يكون موضوع النفي والاثبات وموضوع القول بالجواز والقول
بعدمه؟!.
وقد التزم المحقق النائيني (قدس سره): بان المراد بالواحد في
الايجاد، وهو لا يستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن ان يتحقق وجودان بايجاد واحد،
.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
19

كايجاد الحركة الغصبية الصلاتية، فإنه يحقق وجود الصلاة ووجود الغصب، فيقع
البحث في أنه في مورد يوجد متعلق الأمر والنهي بايجاد واحد، هل الوجود واحد
فيمتنع الاجتماع أو متعدد فيجوز؟ (1).
ويتوجه عليه: ما تقرر في محله من وحدة الايجاد والوجود ذاتا واختلافهما
اعتبارا، فيمتنع ان يفرض وحدة الايجاد وتعدد الوجود.
فالمتجه: الالتزام بان المراد بالواحد هو الواحد في الوجود، لكنه ما كان
كذلك بحسب الصورة والنظر العرفي، وأساس البحث يكون في أن هذا الواحد
في الوجود عرفا هل هو كذلك حقيقة، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه أو انه
متعدد حقيقة فيجوز اجتماع الامر النهي فيه؟. فالقول بالجواز وان كان منشؤه
الالتزام بتعدد الوجود، لكنه لا يتنافى مع فرض وحدة الوجود في موضوع البحث
ومدار النفي والاثبات، فان التعدد بحسب الدقة لا ينافي الوحدة بحسب الصورة
والنظر العرفي. فتدبر جيدا.
الجهة الثالثة: في بيان جهة الفرق بين هذه المسألة ومسألة استلزام النهي
للفساد.
والذي افاده في الكفاية ان الاختلاف بينهما باختلاف جهة البحث في كل
من المسألتين، فان البحث في مسألة استلزام النهي للفساد عن أن تعلق النهي
بالعمل هل يقتضي فساده أولا؟. والبحث في هذه المسألة عن أن تعدد العنوان
هل يوجب تعدد المعنون فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الاخر أو انه لا
يوجب فيكون متعلق كل منهما واحدا؟ فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في
المسألتين، نعم لو بني على الامتناع وتقديم جانب الحرمة كان المورد من
صغريات تلك المسألة.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 340 - الطبعة الأولى.
20

ثم إنه نقل وجهين آخرين للفرق:
أحدهما: ما في الفصول من بيان ان جهة الفرق هي الاختلاف
الموضوعي بينهما، فموضوع كل منهما غير موضوع الأخرى (1).
وناقشه (قدس سره): بان اختلاف الموضوع لا يوجب تعدد المسألة مع
وحدة الجهة، ومع تعددها المسألة وان اتحد الموضوع.
ثانيهما: ما ذكر من أن الفارق كون البحث هنا عقليا وفي تلك المسألة
عن دلالة اللفظ.
وناقشه: بان البحث في تلك المسألة عقلي أيضا، مع أن هذا الاختلاف
لا يستلزم عقد مسألتين، لأنه تفصيل في المسألة الواحدة كما نراه في بعض
المسائل (2).
ولا يخفى: ان هذه الجهة من البحث وبعض الجهات التالية التي ذكرها في
الكفاية لا يترتب على تحقيقها أثر عملي، ولأجل ذلك أهملنا فيها ذكر
المناقشات، بل نقتصر فيها وفي غيرها على مطلب الكفاية والإشارة إلى جهات
الاشكال الواضحة فيه. فانتبه.
الجهة الرابعة: في أن المسألة أصولية أولا؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى كونها أصولية: لأنها تقع في طريق استنباط
الحكم الشرعي، وانها كما تشتمل على جهة المسألة الأصولية تشتمل على جهة
المسألة الكلامية والفقهية والمبادئ التصديقية (3).
والذي يبدو للنظر انها غير أصولية، إذ احتمالاتها ثلاثة وكل منها لا يقع
في طريق استنباط الحكم مباشرة ولا يكون كبرى لقياس الاستنباط، وذلك لأنه

(1) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 140 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 151 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 152 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
21

اما ان يلتزم بالامتناع لاجل التضاد، فيقع التعارض بين الدليلين. واما ان يلتزم
بالجواز من هذه الجهة لكن يمتنع اجتماع الحكمين لاجل التزاحم، فتكون
النتيجة عدم جواز التمسك بكلا اطلاقي الدليلين ولا بد من تقييد أحدهما. واما
ان يلتزم بالجواز من كلتا الجهتين، فتكون النتيجة جواز التمسك بكلا الاطلاقين
من دون تقييد أحدهما.
وبالجملة: البحث من هذه الجهة يرتبط بمسألة التزاحم، فهي على بعض
الاحتمالات من المبادئ التصديقية لمسألة التعارض، وعلى الاحتمالات
الأخرى من المبادئ التصديقية لمسألة التزاحم.
الجهة الخامسة: في كون المسألة عقلية.
وهذا واضح، إذ لا يرتبط باللفظ، فإنه ليس هناك ما يدل على الجواز
وعدمه بل تشخيص أحدهما مما يحكم فيه العقل.
واما ذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا، فهو لا يعني دلالة
اللفظ على الامتناع، بل مرجعه إلى أن الواحد بالنظر العقلي اثنان، وبالنظر
العرفي المسامحي واحد ذو وجهين، هذا ما افاده صاحب الكفاية ثم قال: " غاية
الامر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع " (1).
أقول: لا يظهر الوجه في قوله هذا، فإنه إن أراد وجود لفظ مخصوص
يدل على عدم الوقوع فهو واضح البطلان، إذ لا وجود لمثل هذا اللفظ كما لا
وجود للفظ الدال على الامتناع. وان أراد عدم شمول الاطلاقين للمورد لوحدته
بنظر العرف، فغايته عدم الدلالة على الوقوع لا الدلالة على عدم الوقوع
فالتفت.
الجهة السادسة: لا يخفى ان الكلام في اجتماع الأمر والنهي يعم جميع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 152 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
22

أقسام الوجوب والتحريم لعموم ملاكه، وتأتي النقض والابرام في جميع الأقسام.
وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية، كما تعرض إلى أنه قد يدعي انصراف
لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيين التعيينيين
العينيين ثم حكم عليها بأنها دعوى تعسفية في مادة الأمر والنهي، نعم هي غير
بعيدة في صيغة الأمر والنهي، ثم منعها فيها أيضا وذكر ان الثابت ظهور الصيغة
في ذلك بالاطلاق وهو غير منعقد هنا لعدم تمامية مقدمات الحكمة، إذ القرينة
على العموم ثابتة وهي عموم الملاك وجريان النقض والابرام في جميع الأقسام (1).
أقول: ظاهر كلامه الأخير ان اطلاق المادة يقتضي في نفسه إرادة
الوجوب النفسي التعييني العيني لولا قيام القرينة على الخلاف، إذ جعل المانع
عدم تمامية المقدمات باعتبار وجود القرينة بحيث لولاها لالتزم بإرادة خصوص
النفسي التعييني العيني.
وهو - مضافا إلى منافاته لما في صدر كلامه من أن قضية اطلاق لفظ الأمر والنهي
العموم - باطل، فان اطلاق المادة في نفسه لا يقتضي خصوص نحو من
الوجوب، وانما ذلك ثابت في اطلاق الصيغة. والسر فيه: ان مادة الامر تارة
تستعمل في مقام الانشاء وأخرى في مقام الاخبار. والالتزام بأنها تدل على الطلب
النفسي التعييني العيني بمقتضى الاطلاق إذا كانت مستعملة في مقام الانشاء لا
يلازم الالتزام بان مقتضاه ذلك في باب الاخبار، إذ ليس المقصود في باب الانشاء
إلا ايجاد فرد من افراد الوجوب، وقد عرفت فيما تقدم ان مقتضى الاطلاق يلازم
إرادة النفسي التعييني العيني. اما باب الاخبار فيمكن أن يقصد الحكم على
الطبيعة بلحاظ جميع افرادها - كما فيما نحن فيه -، فمع عدم القرينة يحمل
الكلام على إرادة جميع الافراد، كما هو الحال في سائر الألفاظ الموضوعة للطبائع

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 152 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
23

فتدبر.
الجهة السابعة: في أخذ قيد المندوحة.
ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): ان البعض قيد عنوان النزاع بوجود
المندوحة، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا اشكال في الامتناع ولا خلاف.
ومحل الخلاف مورد وجود المندوحة. وذكر أنه ربما قيل إن اطلاق العنوان وعدم
تقييده انما هو لاجل وضوح ذلك.
ولكنه لم يرتض ذلك، فقد أفاد (قدس سره): ان المهم في المقام هو بيان
ان هل يلزم اجتماع الحكمين المتضادين الذي هو محال أولا يلزم المحال؟
وعمدته معرفة ان تعدد الوجه يجدي في تعدد ذي الوجه فلا يلزم المحال أولا فيلزم
المحال؟. ومن الواضح ان هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة
وعدم وجودها كما لا يخفى. نعم، وجود المندوحة دخيل في الحكم الفعلي بالجواز
عند من يرى امتناع التكليف بالمحال كما قد تعتبر بعض الشروط الأخرى (1).
وقد أورد المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية ايرادين:
الأول: ان حيثية تعدد المعنون بتعدد العنوان وعدمه ليست حيثية تقييدية
لعنوان النزاع من الجواز وعدمه، كي يدعي عدم احتياج تقييد العنوان بوجود
المندوحة، إذ لا دخل له فيما هو محل النزاع من الجواز وعدمه من جهة التضاد
وعدمه، وانما هي جهة تعليلة للعنوان، فنفس العنوان هو البحث في الجواز وعدمه
بقول مطلق، فيحتاج إلى تقييده بوجود المندوحة. ولا وجه لجعل البحث جهتيا
بعد عدم مساعدة العنوان عليه.
الثاني: ان الغرض الأصولي انما يترتب على الجواز الفعلي - إذا البحث
الأصولي ليس كمباحث الفلسفة يكون الغرض منه نفس العلم والمعرفة من دون

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 153 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
24

لحاظ ترتب أثر عملي عليه -، فلا بد على هذا من تعميم البحث واثبات الجواز
من جميع الوجوه اللازمة من تعلق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين من تضاد
ومزاحمة، لا الوجوه المعارضة اتفاقا، فلا وجه لقياس عدم المندوحة بغيرها من
الجهات الاتفاقية المانعة من الحكم بالجواز فعلا.
ثم إنه ذكر - بعد ذلك - وجها لانكار لزوم التقييد بالمندوحة، واليك
نصه: " انه لو كان تعدد الوجه مجديا في تعدد المعنون لكان مجديا في التقرب به من
حيث رجحانه في نفسه، فان عدم المندوحة يمنع عن الامر لعدم القدرة على الامتثال،
ولا يمنع من الرجحان الذاتي الصالح للتقرب به، فكما أن تعدد الجهة يكفي من
حيث التضاد كذلك يكفي من حيث ترتب الثمرة، وهي صحة الصلاة فلا موجب
للتقييد بعدم المندوحة لا على القول بالتضاد، لكفاية الاستحالة من جهة التضاد
في عدم الصحة، ولا على القول بعدم التضاد، لما عرفت من كفاية تعدد الجهة من
حيث التقرب أيضا " (1).
وتحقيق الحال: انه إن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي من جهة التضاد
لوحدة الوجود، فلا أثر لوجود المندوحة وعدمها في ذلك وهكذا لو قيل بالجواز
من جهة التضاد باعتبار تعدد الوجود، فإنه لا دخل للمندوحة فيه أيضا.
وحينئذ لو قلنا بعدم الجواز للتزاحم في مقام الامتثال، فبما ان الملاك
موجود والمرتفع هو الامر فقط، فان قيل بكفاية قصد الملاك في حصول التقرب،
فلا دخل للمندوحة وعدمها في صحة العبادة، وإن لم يلتزم بكفاية الملاك باعتبار
وحدة الايجاد وان تعدد الوجود، فلا يختلف الحال أيضا.
وحينئذ فان التزم بما التزم به المحقق الكركي (رحمه الله) من امكان
الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الامر بالطبيعة، كان لوجود المندوحة اثر ظاهر، إذ

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 264 - الطبعة الأولى.
25

مع عدمها لا أمر بالطبيعة كي يقصد لانحصارها بالفرد المزاحم.
وهكذا يختلف الحال لو التزم بما التزم به بعض المتأخرين من عدم
التزاحم بين الموسع والمضيق (1) - خلافا لما هو المعروف بين المتقدمين، فان مثالهم
للتزاحم غالبا ما يكون بتزاحم الامر بالصلاة والامر بإزالة النجاسة عن
المسجد، مع أنهما من الموسع والمضيق -، إذ مع وجود المندوحة لا يتحقق التزاحم،
ومع عدمها يقع التزاحم لعدم كون الامر أمرا بالموسع، بل بخصوص الفرد
المزاحم لانحصار الواجب به.
فظهر مما ذكرنا أن التقييد بالمندوحة انما يظهر أثره على الوجهين
الأخيرين، فأثره على الوجه الذي تبناه الكركي تصحيح العبادة بقصد الامر،
وعلى الوجه الاخر تعلق الامر بها واجتماعه مع النهي لعدم التزاحم. وهذان
الوجهان خصوصا الأخير مما لا أثر لهما في كلمات الأقدمين، فكيف يفرض أخذ
المندوحة في عنوان النزاع الذي نحن فيه وكون اهماله اعتمادا على وضوحه؟!.
فالحق إذن في جانب الكفاية، ولكن بالبيان الذي ذكرناه لا ببيانه المزبور، فإنه
لا يخلو عن مناقشة كما عرفت.
الجهة الثامنة: في بيان ارتباط المسألة بمسألة تعلق الاحكام بالطبائع
أو الافراد.
ذكر صاحب الكفاية (رحمه الله): انه قد ادعي انه لا نزاع على القول
بتعلق الاحكام بالافراد. وانما النزاع يبتني على الالتزام بتعلقها بالطبائع. كما أنه
ادعى بان القول بالجواز يبتني على الالتزام بتعلق الاحكام بالطبائع والقول
بالامتناع يبتني على الالتزام بتعلقها بالافراد. ومنشأ كلا الدعويين ان الفرد
عبارة عن الوجود الواحد الشخصي. ومن الواضح ان تعلق الحكمين بواحد شخصي

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 65 - الطبعة الأولى.
26

محال، لأنه من اجتماع الضدين.
ولكن استشكل في ذلك صاحب الكفاية فأفاد: ان أساس النزاع على أن
تعدد الوجه يكفي في رفع الغائلة أولا؟. فمع الالتزام بكفايته وانه يستلزم تعدد
المعنون، فمتعلق الحكم وان كان هو الفرد بهذا المعنى إلا أنه حيث كان ذا وجهين
كان مجمعا لفردين من طبيعتين، أحدهما متعلق الامر والاخر متعلق النهي، فلا
يلزم اجتماع الضدين. ومع الالتزام بعدم كفايته وانه لا يستلزم تعدد المعنون،
فالاجتماع محال حتى على القول بتعلقه بالطبيعة، لان وجود كل من الطبيعتين
عين وجود الأخرى، والمطلوب هو وجود الطبيعة - كما تقدم - فيلتزم اجتماع
الأمر والنهي في واحد وهو محال (1).
وقد قربت الدعوى المزبورة بنحو يتفق مع مسلك صاحب الكفاية من
الفرد، وهو الطبيعة المقيدة بلوازمها من زمان ومكان ونحوهما. بيان ذلك، ان الامر
إذا فرض تعلقه بالفرد، فهو يعني تعلقه بالطبيعة مع عوارضها اللازمة، فيكون
تقيدها بالمكان متعلقا للامر، وهذا ينافي مع تعلق النهي به - في مثل الصلاة في
المكان المغصوب - لأنه يلزم تعلق الحكمين في شئ واحد لوجه واحد.
وأجيب عن هذا الاشكال: بان الفرد عبارة عن الطبيعة مقيدة بكلي
المكان وكلي الزمان ونحوهما، لا بخصوص هذا المكان ونحوه، فهذا المكان
الخاص لم يتعلق به الامر. ولو أنكر ذلك بدعوى أن كلي المكان لا يوجب التفرد،
فان ضم كلي إلى كلي لا يستلزم الفردية وان أوجب تضييق دائرة الصدق. فنقول:
ان الفرد وان كان عبارة عن الطبيعة مقيدة بالمكان الخاص، لكن القيد ذات
المكان لا بعنوان انه غصب - مثلا -، فهو مأمور به بعنوان انه لازم الطبيعة، ومنهي
عنه باعتبار انه غصب، فيكون من اجتماع الأمر والنهي في واحد بوجهين وهو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 154 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
27

محل الكلام (1).
وأنت خبير انه كان على صاحب الكفاية ان يقرب الدعوى على هذا
المسلك، لأنه مسلكه لا على تقريب الفرد بما اخترناه سابقا من انه وجود الطبيعة
بملاحظة جهة الخصوصية التي بها يباين غيره. وعلى أي حال فقد عرفت بطلان
الدعوى على كلا المسلكين. فالتفت.
الجهة التاسعة: فيما يرتبط بملاك باب الاجتماع.
وقد ذكر صاحب الكفاية: ان المورد لا يكون من موارد اجتماع الأمر والنهي
إلا إذا كان في كل من متعلقي الأمر والنهي مناط الحكم مطلقا حتى في
مورد التصادق.
والوجه فيه هو: ان احكام باب الاجتماع لا تترتب إلا في مورد وجود
الملاكين، وهي الحكم فعلا بكونه محكوما بكلا الحكمين بناء على الجواز، وبكونه
محكوما بما هو أقوى مناطا من الحكمين، أو بحكم آخر غيرهما لو تساوى
المناطان، بناء على الامتناع. ولو لم يكن في المورد مناط كلا الحكمين فلا يكون
من باب الاجتماع، ولأجل ذلك لا تترتب احكامه، بل يكون محكوما بأحد
الحكمين إذا كان له مناطه، أو بغيرهما إذا لم يكون لكلا الحكمين مناط سواء قيل
بالامتناع أو الجواز. هذا فيما يرجع إلى مقام الثبوت اما مقام الاثبات فإذا أحرز
ان المناط من قبيل الثاني - يعني لم يكن لكلا الحكمين مناط - فالروايتان
الدالتان على الحكمين متعارضتان، فالمحكم حينئذ قواعد المعارضة من ترجيح أو
تخيير. وإن لم يحرز ذلك، بل أحرز جود الملاكين، فلا يكون تعارض، بل يكون
المورد من موارد تزاحم المقتضيين. فالمقدم هو الأقوى منهما ولو كان أضعف دليلا.
نعم، إذا كان كل منهما متكفلا للحكم الفعلي كانت المعارضة ثابتة، فلا بد من

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 265 - الطبعة الأولى.
28

ملاحظة قواعد المعارضة، الا إذا جمع بينهما عرفا بحمل أحدهما - وهو الأضعف
ملاكا - على بيان الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحة.
ثم إنه (قدس سره): تعرض في الامر التاسع لبيان كيفية احراز الملاك،
فأفاد (قدس سره): انه لو كان هناك دليل خاص على ثبوت الملاك من اجماع
أو غيره فهو. ولو لم يكن سوى اطلاق دليلي الحكمين فإن كان الاطلاق لبيان
الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي في مورد الاجتماع فيكون
المورد من باب الاجتماع. وان كان لبيان الحكم الفعلي فان قيل بجواز اجتماع
الأمر والنهي فيستكشف ثبوت المقتضي في الحكمين إلا إذا علم اجمالا يكذب
أحد الدليلين، فيكونان متعارضين. وان قيل بالامتناع فالاطلاقان متنافيان من
دون ان تكون لهما دلالة على ثبوت مقتضى الحكمين، لان ارتفاع أحد الحكمين
كما يمكن أن يكون لاجل المانع مع ثبوت المقتضي كذلك يمكن أن يكون لاجل
عدم المقتضي، الا ان يجمع بينهما بما تقدمت الإشارة إليه. ثم قال: " فتلخص انه
كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع
وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا... " (1).
هذا كلامه (قدس سره) في الامرين الثامن والتاسع.
وقد تخيل البعض - كما كنا نتخيل سابقا - انه حدد بذلك ضابط باب
التزاحم، وانه بنظره المورد الذي يكون فيه ملاكا الحكمين موجودين، ونسب إليه
ذلك فقيل ان التزاحم على رأيه تنافي الحكمين مع وجود ملاكيهما (2).
إلا أن الذي يبدو لنا فعلا ان كلامه غير ظاهر في ذلك أصلا، إذ لم يرد في
كلامه ما يشير إلى التزاحم سوى قوله: " تزاحم المقتضيين "، وهو غير ظاهر في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 154 - 156 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 4 / 203 - الطبعة الأولى.
29

ما نسب إليه، فإنه لا ظهور له في اعتبار وجود الملاكين في التزاحم، وقد عبر في
غير هذا الموضع بتحقق التزاحم بين الحكمين، فلا دليل على تخصيصه مورد
التزاحم بمورد وجود المقتضيين ووقوع التزاحم بينهما.
وعلى كل فنقول: ان قصد ذلك - أعني تحديد باب التزاحم - فهو ينافي
ما فرضه من كون بعض صور المقام من موارد التعارض وهي صورة كون الدليلين
لبيان الحكم الفعلي. وإن لم يقصد ذلك، بل كان نظره إلى تحديد مسألة الاجتماع،
فيكون اعتباره وجود الملاك في كون المورد من موارد باب الاجتماع، كاعتبار
المندوحة في محل النزاع من قبل بعض، وهو غير وجيه لان وجود الملاك وعدمه
أجنبي أيضا عن الحكم بالجواز أو الامتناع لاجل التضاد.
كما أن الأثر العملي لا يتوقف ترتبه على ذلك، إذ على القول بالجواز لا
يلزم لاجل الحكم بثبوت الحكمين فعلا احراز الملاك، بل اطلاق الدليلين يكفي
في ذلك. ومنه يستكشف ثبوت الملاك - كما صرح به هو (قدس سره) -. وعلى
القول بالامتناع لا ملزم لترتيب ما ذكره من الأثر المتوقف على إحراز الملاك.
فليكن المقام من موارد التعارض لو لم يكن الملاك ثابتا.
ثم إنه يرد عليه أيضا: انه ذكر في صدر كلامه انه ان أحرز عدم وجود
الملاك في أحد الحكمين كان المورد من موارد التعارض، وإن لم يحرز ذلك كان من
موارد تزاحم المقتضيين. وذكر في ذيل كلامه بقوله: " فتلخص... " هذا المعنى
بنحو عكسي، إذ ذكر أنه كلما أحرز وجود الملاكين كان المورد من موارد باب
الاجتماع، وكلما لم يحرز ذلك كان من باب التعارض فالتفت.
ثم إن في كلامه بعض موارد للبحث والنقض والابرام نتعرض إليها بعد
حين انشاء الله تعالى. وحيث جرى حديث ضابط التزاحم والتعارض فلا بأس
بصرف عنان الكلام إلى تحديد ضابط التزاحم وتمييزه عن التعارض فنقول ومن
الله نستمد العون:
30

" ضابط التزاحم "
أن من تعرض لهذا البحث مفصلا وخاض في شؤونه هو المحقق النائيني
(قدس سره).
ولأجل ذلك نتعرض لكلامه وإبداء رأينا فيه.
فقد أفاد (قدس سره): ان التزاحم تارة: يكون في الملاك، بمعنى أن يكون
في فعل واحد جهة توجب وجوبه وأخرى توجب حرمته. وأخرى: يكون في مقام
الامتثال وتأثير كلا الحكمين في مرحلة الداعوية الفعلية.
وذكر: ان الفرق بين الأول والثاني يرجع إلى أن التزاحم في مقام الملاك
يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى، وملاحظة حصول
الكسر والانكسار بينهما، ولأجل ذلك يكون هذا الامر بيد نفس المولى ولا يرتبط
بعلم المكلف وجهله بخلاف التزاحم في مقام الامتثال فإنه يرجع إلى عالم الامتثال
بعد جعل الحكم على موضوعه ولأجل ذلك يكون تعيين الوظيفة بيد المكلف، فهو
الذي يعين وظيفته بمقتضى عقله وادراكه من ترجيح أو تخيير.
وقد أفاد (قدس سره): ان محل الكلام هو التزاحم في مقام الامتثال دون
التزاحم في مقام الملاك، وان وقع الاشتباه بينهما لاجل الاشتراك في الاسم.
ثم شرع (قدس سره) في المطلوب من بيان الفرق بين التزاحم
31

والتعارض فذكر: ان الفرق بين البابين كبعد المشرقين، ولأجل ذلك كان البحث
في أن الأصل عند الشك في كون مورد من موارد التزاحم أو موارد التعارض،
هل هو التزاحم أو التعارض؟. ناشئ عن الخلط بينهما وعدم ملاحظة جهة الفرق
بينهما، فإنه كالبحث في حصول أصل في الأشياء هل هو الطهارة أو بطلان بيع الفضولي،
فان باب التزاحم يفترق عن باب التعارض من وجوه ثلاثة توجب حصول الفصل
البعيد بينهما وهي: افتراقه عنه في مورد التصادم، وفي الحاكم بالترجيح أو التخيير،
وفي جهة التقديم.
اما افتراقهما في مورد التصادم فبيانه: ان التنافي بين الحكمين:
تارة: يكون في مقام الجعل والانشاء بحيث كان من المحال جعل كلا
الحكمين كالحكمين المتضادين في المورد الواحد، فإنه لا يمكن جعل الوجوب
والحرمة على فعل واحد
وأخرى: يكون في مقام الفعلية، بان لا يكون هناك مانع من جعل كلا
الحكمين على موضوعيهما، المقدر، الا ان التمانع يكون في مقام فعلية هذين الحكمين
وتحقق موضوعيهما، كالتمانع الحاصل بين الحكمين الثابتين على موضوعين إذا لم
يمكن امتثالهما معا، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب انقاذ ذاك الغريق.
فالنحو الأول من التنافي هو التعارض والنحو الثاني هو التزاحم.
ونكتة الفرق بينهما ترجع إلى أن ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنحو
الأول يستلزم تضييق دائرة جعل الحكم الاخر، فمثلا لو ورد وجوب إكرام
العالم وحرمة اكرام الهاشمي، فاجتمع الوصفان في شخص، فإنه يمتنع ثبوت
الحكمين له ويستحيل شمول جعلهما لمورد التصادق فلا بد من رفع اليد عن
أحدهما في ثبوت الاخر، فتضيق دائرة جعله.
وأما ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنحو الثاني، فهو لا يلزم منه تضييق
دائرة جعل الاخر، بل دائرة جعله على حالها لا يمسها شئ، وانما يكون نفي
32

ثبوت الاخر لانتفاء موضوعه لا لتضييق دائرة جعله.
بيان ذلك: ان التنافي في مقام الفعلية والامتثال حيث فرض لاجل التنافي
في تحقق موضوع كلا الحكمين، بمعنى ان امتثال أحدهما يستلزم ارتفاع موضوع الاخر،
فلا محالة يكون تقديم أحدهما ومتابعته موجبا لنفي الاخر، ولكنه ينتفي لعدم
موضوعه من دون ان تتضيق دائرة جعله، وهي جعل الحكم على الموضوع المقدر
وجوده.
فمثلا إذا تزاحم وجوبا إنقاذ الغريقين، فان إنقاذ أحدهما يستلزم ارتفاع
القدرة عن إنقاذ الاخر، فيرتفع الحكم لكن لاجل عدم موضوعه، اما أصل
الجعل وهو جعل وجوب إنقاذ كل غريق فلم يمس بشئ بل هو على حاله.
ومن الواضح أيضا ان الحكم لا نظر له إلى موضوعه لا حدوثا ولا بقاء، فما
يوجب رفع موضوع الحكم لا يتنافى مع الحكم وكيفية جعله.
وعليه، فإذا قدم أحد الحكمين - في مسألة الغريقين - وكان موجبا لرفع
موضوع الغير لم يناف الحكم الاخر، إذ الحكم الاخر لو كان في هذا الحال ناظرا
إلى متعلقه وداعيا إليه لكان مستلزما للنظر إلى حفظ موضوعه، لان دعوته إلى
متعلقه وصرف القدرة فيه ملازمة لدعوته إلى عدم صرف القدرة في متعلق الاخر
الملازم لحفظ موضوعه بقاء، لان صرف القدرة في متعلق الاخر ترفع موضوعه على
ما عرفت. وقد عرفت أن الحكم لا ينظر إلى موضوعه بقاء وحدوثا.
وبالجملة: فعدم تحقق الحكمين في الفرض لاجل عدم تحقق موضوعيهما
معا لا لاجل قصور جعلهما، وكل من الحكمين لا يتنافى مع الاخر، لأنه وان
استلزام ارتفاعه لكن لاجل انه استلزم ارتفاع موضوعه، فدائرة جعل كل منهما
على حاله والتنافي في مقام الفعلية وثبوت الحكم لموضوعه المقدر، لان كلا منهما
يستلزم نفي الاخر بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة مع وجود الموضوع
كما هو الحال في التعارض.
33

فأساس نكتة التزاحم هي استلزام كل من الحكمين رفع موضوع الاخر،
مع كون الحكم لا نظر له إلى ابقاء موضوع نفسه، فلا يتنافى كل حكم مع
ما يستلزم رفع موضوعه، وعليه فإذا قدم أحدهما لا يكون الاخر داعيا إلى صرف
القدرة في متعلقه لأنه يستلزم نظره إلى حفظ موضوعه وهو خلف.
هذا تقريب ما أفاده المحقق النائيني في بيان جهة التنافي في باب
التزاحم (1).
وقد ظهر أنه لا تنافي في مقام الجعل ولا المجعول.
فلا وجه لما قرب بعضهم كلامه (قدس سره) من: ان التعارض هو التنافي
في مقام الجعل، والتزاحم هو التنافي في المجعول. وأورد عليه: بعدم الفرق بين
مقامي الجعل والمجعول إذ عرفت أنه لا تنافي بين الحكمين أصلا لان أحدهما
يرفع موضوع الاخر فلا تنافي إلا بمعنى عدم امكان اجتماعهما في عرض واحد،
لا ان أحدهما ينفي الاخر ويرفعه، فان كلا منهما لا نظر له إلى الاخر نفسه بل
إلى موضوعه.
هذا ولكن الانصاف يقتضي ان المنافاة بين الحكمين في مورد التزاحم
تسري إلى عالم الجعل كالتعارض.
واما ما افاده (قدس سره) فهو مخدوش فان أساسه كما عرفت على أن
كلا من الحكمين يرفع موضوع الاخر بضميمة ان الحكم لأنظر له إلى حفظ
موضوعه وابقائه فلا منافاة بينهما. وهذا مما لا نقره ولا نعترف به.
بيان ذلك: ان عدم امكان نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء لم يرد في
آية أو رواية كي يتمسك بعمومها أو اطلاقها. ونظر الحكم إلى حفظ موضوعه
ثابت في بعض الموارد نظير لزوم حفظ الماء للوضوء الذي ينظر إليه الامر

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 270 - الطبعة الأولى.
34

بالوضوء مع أن الماء موضوع وجوب الوضوء.
وهذا مما لا اشكال فيه. ولو سلم عدم جواز الحكم إلى موضوعه، فما
نحن فيه مستثنى عن هذه القاعدة الكلية، لان موضوع الحكم فيه بنحو ينظر
إليه الحكم.
وذلك لان الحكم يدعو إلى متعلقه ويطالب بصرف القدرة فيه، فتأثيره في
صرف القدرة مما لا اشكال فيه، فيمنع قهرا عن صرفها في متعلق الحكم الاخر
- لغرض ان القدرة - واحدة - فيحتفظ بموضوعه. فكلا الحكمين ينظر إلى صرفهما
في متعلقه وهو ملازم للاحتفاظ بموضوعه، لان صرفها في غيره يقتضي إعدام
موضوعه. فنظر الحكم إلى موضوعه فيما نحن فيه من جهة اقتضائه الدعوة إلى
متعلقه وهو امر لازم لكل حكم.
وإذا ثبت ان كلا من الحكمين يقتضي صرف القدرة في متعلقه، والمفروض
ان القدرة واحدة فلا يتمكن العبد من امتثال كلا الحكمين.
وعليه فيمتنع جعل كلا الحكمين، فان التكليف بالمحال محال في نفسه، لان
حقيقة الحكم والتكليف بنحو لا بد من إمكان ترتب الداعوية عليه، سواء قلنا إنه
عبارة عما يقتضي تحريك إرادة العبد - نظير ماكينة الساعة -، ولذا كان أخذ
القدرة في موضوعه لاجل اقتضاء التكليف له لا بحكم العقل، أو قلنا إنه عبارة
عن امر اعتباري لاجل داعوية المكلف نحو العمل، أو انه جعل الفعل في
العهدة، فان امكان الداعوية مأخوذ في قوامه على الأول ومن لوازمه على الثاني
بحيث يكون عدمه كاشفا عن عدم الحكم، وهكذا على الثالث، لان القائل به
لا يلتزم بان حقيقة الحكم التكليفي كالحكم الوضعي بلا اختلاف، بل يرى
الفرق بينهما في أن الغرض من الحكم التكليفي امكان الداعوية وتحريك العبد
نحو العمل. وعليه ففي المورد الذي لا يمكن ان يترتب على الجعل الدعوة
والتحريك لا يكون المجعول هو الحكم، إذ الحكم ما يمكن أن يكون داعيا.
35

وعليه، فاعتبار القدرة في متعلق الحكم انما هو لاجل استحالة تحقق الحكم
بدونها لا لاجل لغويته وقبحه من الحكيم فقط، كما هو المشتهر على الألسنة وفي
الكتب.
وإذا ثبتت محالية التكليف بغير المقدور في نفسه، فإذا امتنع امتثال كلا
الحكمين لعدم القدرة على متعلقيهما امتنع جعلهما لا محالة لامتناع المجعول، إذ
يمتنع ثبوت الحكمين بعد أن لا يمكن تحقق داعويتهما معا. فتتضيق دائرة جعل
أحدهما قهرا.
بل لو التزمنا بان امتناع التكليف بغير المقدور لاجل لغويته وقبحه على
الحكيم كان الامر كذلك، إذ يمتنع ثبوت كلا الحكمين لعدم القدرة على
متعلقيهما، فثبوتهما معا لغو قبيح على الحكيم. فلا بد من رفع اليد عن أحدهما
فتتضيق دائرة الجعل في أحدهما، فيكون التنافي في مقام الجعل، بمعنى انه يمتنع
جعل كلا الحكمين المتزاحمين كما يمتنع جعل الحكمين في مقام التعارض فتدبر
جيدا.
ومن هنا يتضح انه لا فرق في امتناع جعل مثل هذين الحكمين بين ما
إذا كان انشاؤهما بدليل عام أو دليل خاص.
فإنه قد ادعي: عدم امتناع الأول، مثل ما إذا قال: " أنقذ كل غريق،
ولا تغصب "، فتوقف إنقاذ بعض الغرقى على الغصب فإنه لا مانع من جعل هذين
الحكمين في تلك الحال. بخلاف ما إذا قال في تلك الحال: " أنقذ هذا الغريق
ولا تغصب هذا المكان "، فإنه لغو فيكون محالا.
ولا يخفى ما في هذه الدعوى، فإنه إذا كان جعل هذين الحكمين محالا لأنه
لغو أو لأنه محال في نفسه، فشمول الدليل العام لهذه الصورة بحيث يكون الجعل
فيها متحققا لغو أيضا فيكون ممتنعا. وبعبارة أخرى: عموم الدليل لا يرفع
اللغوية في هذه الصورة، فإرادتها تكون ممتنعة بنفس الملاك الذي يمتنع فيه الجعل
36

بدليل خاص. فتدبر.
فظهر مما تقدم ان ما افاده (قدس سره) لا يخلو عن خدشة، فان أساسه
- وهو عدم نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء، مع كون كل من الحكمين رافعا
لموضوع الاخر - ممنوع، إذ عرفت أن الحكم يمكن ان ينظر إلى موضوعه
وبالخصوص فيما نحن فيه هذا أولا.
وثانيا: ان اعدام موضوع الحكم على قسمين: قسم يكون جائزا، نظير
السفر في رمضان الرافع لموضوع وجوب الصوم فإنه لا مانع منه. وقسم لا يكون
جائزا، نظير رمي الانسان نفسه من شاهق، فإنه بالرمي يرتفع اختياره عن
السقوط على الأرض والموت، فلا يكون قادرا على حفظ نفسه مع أنه غير جائز.
فاعدام الموضوع ليس بجائز دائما بل هو جائز في بعض صوره وغير جائز في
صور أخرى.
وعليه، فامتثال أحد الحكمين وان كان رافعا لموضوع الاخر، إلا أنه لا بد من
ايقاع البحث عن أن رفع موضوع الحكم الاخر جائز أولا؟ وما هو السر في
جوازه. فالبحث لابد أن يكون في مرتبة سابقة على اعدامه بحيث يكون عدمه
جائزا فلا يتنافى الرافع مع الحكم الاخر.
وثالثا: انه (قدس سره) أفاد كما عليه غيره: انه لا علاج للتزاحم وهذا
التنافي المقرر الا بتقييد أحد الحكمين بترك امتثال الاخر أو عصيانه، وهو
المصطلح عليه في هذا الفن بالترتب. ومن الواضح ان التقييد المزبور يرجع إلى
تضييق دائرة الجعل والانشاء، فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل، والا لم
يكن وجه للتصرف فيه بعد أن كان التنافي في مقام غيره.
ولعل السر في اختياره (قدس سره) الفرق بين المقامين بالنحو المتقدم
هو انه لا اشكال في وجود الفارق بين المقامين في نظر كل مكلف، فالمكلف يجد
فرقا بين ما إذا قال له المولى: " أكرم العلماء " ثم قال: " لا تكرم الفساق " وتردد
37

في حكم المولى في العالم الفاسق انه الأول أو الثاني. وما إذا قال له: " كلما جاءك
زيد فأعطه درهما ". وقال له: " كلما جاءك عمرو فأعطه درهما " فجاءا معا ولم يكن
لديه سوى درهم واحد. ووجود الفرق بين المثالين مما لا ينكره أحد فاردا تحديده
بما عرفت الخدشة فيه.
ويمكننا ان نحدد باب التزاحم بلحاظ هذين المثالين، بأنه المورد الذي
يكون التنافي فيه بين الحكمين من جهة عدم التمكن من امتثالهما وعدم القدرة
عليه، بحيث لا يرى المكلف مانعا من ثبوت كل من الحكمين سوى وجود الحكم
الاخر وداعويته إلى امتثال متعلقه المانع من امتثال ذلك الحكم، والا فالمقتضي
لكلا الحكمين موجود بنظره ولا نقصد بالمقتضي المصلحة أو المفسدة كي يرد انه
تخصيص للبحث على رأي العدلية، بل مقصودنا ما يكون منشاء للحكم ولو كان
هو الإرادة أو الكراهية، فان الحكم لا يتحقق من دون منشأ وبنحو جزاف حتى
على رأي الأشاعرة. ولعلنا نتوفق إلى توضيح هذا الاختيار فيما يأتي إن شاء الله
تعالى.
ثم إن هذا التزاحم المبحوث عنه هل يختص بصورة توارد الحكمين على
موضوعين، أو يعم صورة توارد هما على موضوع واحد، كما لو اشتمل الفعل على
جهة توجب وجوبه وجهة توجب حرمته؟.
ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى اختصاصه بالصورة الأولى دون
الثانية وهي التي عبر عنها بالتزاحم في مقام الملاك - على ما تقدم في صدر الكلام -
ووجه خروجها عن محل البحث بوجهين:
أحدهما: ان علاج التزاحم في هذه الصورة يرتبط بالمولى نفسه ويكون
بيده، لأنه يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى
وملاحظة حصول الكسر والانكسار بينهما ولا يرتبط بحكم العبد نفسه.
وثانيهما: انه يبتني على قول العدلية بضرورة وجود الملاك للحكم، مع أن
38

التزاحم المبحوث عنه لا يختص البحث عنه بطائفة دون أخرى ولا يبتني على
رأي دون آخر، فكما نبحث على رأي العدلية نبحث على رأي الأشاعرة
أيضا (1).
وفي كلا الوجهين نظر..
اما الأول: فلان علاج التزاحم في صورة توارد الحكمين على موضوعين
بيد المولى أيضا، والعقل طريق لتشخيص ما يحكم به المولى في هذه الصورة،
فليس العقل هو المرجح لاحد الحكمين على الاخر، بل هو يستكشف رجحان
أحدهما عند المولى فلا فرق بين الصورتين من هذه الجهة.
واما الثاني: فلانه إنما يتم لو أريد بالملاك المصلحة والمفسدة، فان
الأشاعرة ينكرون ضرورة وجودها، ولكن المراد ليس ذلك، بل المراد ما يكون
منشاء للحكم وهو الإرادة والكراهة أو المحبوبية والمبغوضية وهو مما لا ينكره
الأشعري كما عرفت.
هذا ولكن التحقيق خروج هذه الصورة عن موضوع البحث، إلا أنه
ليس لما افاده المحقق النائيني (قدس سره)، إذ عرفت ما فيه، بل لوجه آخر
توضيحه: ان لفظ التزاحم لم يرد في آية أو رواية كي يبحث في تحقيق معنونه
العرفي، وانما هو اصطلاح أصولي يطلقه الأصوليون على بعض موارد تنافي
الحكمين بلحاظ ترتب آثار خاصة فيها، فلتحديد مورد تلك الآثار وتمييزه عن
غيره من موارد تنافي الحكمين وفصله عنه يعبر عنه بالتزاحم إشارة إليه.
وهذه الآثار هي تقديم الأهم اما بنحو الترتب - لو قيل بامكانه - أو
بدونه. والتخيير مع عدم الأهم، بمعنى الالزام بأحدهما بنحو التخيير نظير
الواجب التخييري، بمعنى ان أحدهما يكون واجبا بنحو التخيير لا التعيين.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 283 - الطبعة الأولى.
39

وهذه الآثار لا تترتب فيما نحن فيه.
إذ الترتب فيه ممتنع عند من يلتزم بامكانه في غيره، لما تقدم من أن ترك
الأهم - في هذه الصورة - مساوق لاتيان المهم، فيمتنع الامر به حينئذ. مضافا
إلى امتناع اجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد في آن واحد عند من
يرى تضاد الاحكام في أنفسها لا من جهة عدم القدرة على امتثالها.
واما التخيير، فهو انما يكون بملاك التساوي بين الحكمين ملاكا.
ومن الواضح ان المقصود بالملاك ههنا ليس هو الملاك الملزم فعلا، إذ
يمتنع ان يجتمع ملاكا الحكمين في شئ واحد مع كونهما ملزمين معا، فلا يتصور
التزاحم بينهما حينئذ وانما المقصود الملاك الملزم لولا المانع. وعليه فلا بد من اعمال
الكسر والانكسار بينهما والحكم بالغالب منهما ان كان المقدار الزائد فيه ملزما،
ومع التساوي فالحكم هو التخيير، بمعنى الإباحة وعدم الالزام بأحدهما لا بمعنى
الالزام بأحدهما بنحو التخيير. فالتخير الثابت هنا غير التخيير الثابت في موارد
التزاحم. فخروج هذه الصورة عن موضوع الكلام لاجل هذا الوجه. فالتفت
جيدا.
ثم إنه (قدس سره) ذكر: ان التزاحم في مقام الامتثال يكون في الغالب
من جهة عدم القدرة على الاتيان بكلا المتعلقين، وقد يكون من جهة أخرى غير
عدم القدرة.
اما ما كان منشؤه عدم القدرة فله صور خمس:
الأولى: ما إذا كان عدم القدرة اتفاقيا، كما إذا تزاحم وجوبا انقاذ
الغريقين لو لم يتمكن المكلف من انقاذهما معا.
الثانية: ما إذا كان عدم القدرة لاجل التضاد الاتفاقي بين الواجبين. اما
إذا كان التضاد بينهما دائميا فدليلاهما متعارضان.
الثالثة: موارد اجتماع الأمر والنهي في ما إذا كانت هناك ماهيتان
40

متحدتان في الخارج كالصلاة والغصب بناء على عدم سراية الحكم من الطبيعة
إلى مشخصاتها. اما إذا كانت ماهية واحدة كاكرام العالم الفاسق المنطبق عليه
اكرام العالم المحكوم بالوجوب واكرام الفاسق المحكوم بالحرمة كان المورد من
موارد التعارض.
الرابعة: ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب، فيما إذا لم تكن المقدمية دائمية،
نظير توقف إنقاذ الغريق على الغصب. اما إذا كانت المقدمية دائمية كان المورد
من موارد التعارض.
الخامسة: ما إذا كان الحرام والواجب متلازمين من باب الاتفاق كالتلازم
بين استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق، فيقع التزاحم بينهما لو
كان أحدهما واجبا والاخر حراما واما لو كان التلازم دائميا وقع التعارض بين
دليلي الحكمين.
واما التزاحم من غير جهة عدم القدرة: فمثاله ما إذا كان المكلف مالكا
للنصاب الخامس من الإبل وهو خمس وعشرون ناقة الذي يجب فيه خمس شياة،
ثم ملك بعد مضي ستة أشهر ناقة أخرى فصار المجموع ست وعشرين ناقة وهو
النصاب السادس وفيه بنت مخاض، فالمكلف قادر على دفع خمس شياه عند تمام
السنة عملا بما دل على لزومها في خمس وعشرين ناقة، وعلى دفع بنت مخاض
عند مضي ثمانية عشر شهرا عملا بما دل على لزومها في ست وعشرين ناقة، لكن
دل الدليل على أن المال الواحد لا يزكي في العام الواحد مرتين، فيقع التزاحم
بين الحكمين حينئذ من جهة الدليل المزبور لا من جهة عدم القدرة على
الامتثال (1).
وأورد السيد الخوئي (حفظه الله) على هذا التقسيم بوجوه:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 284 - الطبعة الأولى.
41

الأول: فساد جعل القسم الثاني قسيما للأول، فإنه راجع إليه، لان
التضاد الاتفاقي بين أمرين لا يكون الا من جهة عدم القدرة على اتيانها معا
من باب الاتفاق، فليس القسم الثاني في الحقيقة مغايرا للأول (1).
وفيه: ان التضاد الاتفاقي لا ينحصر منشئه بعدم القدرة على الامرين
اتفاقا. بيان ذلك: ان المقصود من التضاد الاتفاقي ههنا ما كان تحقق كلا
الامرين محالا في نفسه ولا يتمكن عليه أي شخص مهما بلغت قدرته. وبالتعبير
الكلامي " ما كان العجز فيه من ناحية المقدور " نظير ما إذا أمر المولى عبده
بان يكون في الصحن وأمره بملازمة زيد الموجود في الصحن، فإذا خرج زيد عن
الصحن امتنع الاتيان بكلا المتعلقين، وهما الكون في الصحن، وملازمة زيد
لامتناع وجود الجسم الواحد في مكانين، وهذا لا يرتبط بعدم القدرة الاتفاقية،
فإنه ممتنع مطلقا من كل أحد ولا يتحقق من أي شخص كان، فعدم القدرة ههنا
ناشئ من التضاد، لا ان التضاد ناشئ من عدم القدرة الاتفاقي. بخلاف ما إذا
كانت العجز اتفاقيا راجعا إلى القصور في نفس القدرة لا في متعلقها، كانقاذ
الغريقين فإنه يتصور تحققه من شخص ذي قوة عالية فينقذ كلا الغريقين معا
كل منهما بيد من يديه - مثلا -، فالفرق بين القسمين واضح.
الثاني: - وهو ما جاء في المحاضرات - انه لا اثر لهذا التقسيم أصلا،
ولا تترتب عليه أي ثمرة فيكون لغوا محضا (2).
وفيه ما لا يخفى: فان هذا التقسيم بلحاظ اجراء احكام التزاحم، فان هذه
الأقسام تختلف في ذلك، فمنها ما يجري فيه الترتب ومنها ما لا يجري فيه، وقد
نص على ذلك المحقق النائيني وتعرض إليه مفصلا فهذا الايراد من الغرائب.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 284 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 213 - الطبعة الأولى.
42

الثالث: ان التزاحم ينحصر بما كان منشأه عدم القدرة على الامتثال
ولا يتصور تحققه من جهة أخرى.
واما ما ذكره من المثال، فهو ليس من مصاديق باب التزاحم، بل من
مصاديق باب التعارض، والوجه في ذلك: ان ما دل على أن المال الواحد لا يزكي
في السنة الواحدة مرتين يوجب العلم الاجمالي يكذب أحد الدليلين، وهما الدليل
الدال على وجوب خمس شياه على من ملك خمس وعشرين من الإبل ومضى
عليه الحول، والدليل الدال على وجوب بنت مخاض على من ملك ست وعشرين
من الإبل ومضى عليه الحول فلا بد من اعمال قواعد المعارضة ولا ارتباط للمثال
بباب المزاحمة، فهو نظير ما دل على عدم وجوب ست صلوات في اليوم الواحد
الموجب للتعارض بين ما دل على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وما دل على
وجوب صلاة الظهر في يومها. وقد ذكر ان ما ذكره (قدس سره) غريب وعجيب
صدوره من مثله، فإنه بعيد عن مقامه ولكن العصمة لأهلها (1).
وفيه: انه يمكن أن يكون المثال المزبور من موارد باب التزاحم، وليس
الامر كما ذكره من وضوح عدم انطباق باب التزاحم عليه، فلتصوير التزاحم
وجه يخرج الدعوى عن غرابتها وبعدها عن مقام مثل المحقق النائيني. وموضوع
الكلام - وهو الضابط الكلي للمثال المتقدم - هو ما إذا كان المكلف واجدا لاحد
النصب الزكاتية ثم بعد مضي ستة أشهر مثلا ملك مقدارا يتمم النصاب الاخر
الذي يلي للنصاب الذي كان تجب زكاته - ولم يكن المملوك في الأثناء نصابا
مستقلا كخمسة من الإبل بعد الخمسة الأولى فان فيه بحثا آخر - فهل يجب
عليه ان يدفع زكاة النصاب الأول عند تمامية الحول ثم يبتدئ حولا للجميع، أو
يدفع زكاه النصاب الاخر عند تمامية حوله، أي بعد مضي ثمانية عشر شهرا؟.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 215 - الطبعة الأولى.
43

اما دفع زكاتين زكاة النصاب الأول بعد مضي اثني عشر شهرا وزكاة النصاب
الثاني بعد مضي ثمانية عشر شهرا فلا يلتزم به لقيام الدليل على عدم وجوب زكاتين
في مال واحد في عام واحد. والذي يلتزم به المشهور هو الأول، وهم وإن لم
يصرحوا بان المورد من موارد التزاحم لكنهم يلتزمون بما هو نتيجة جعل المورد
من موارد التزاحم وهو تقديم الأسبق زمانا، فليس هذا المعنى أمرا مستبعدا جدا
اما إدراجه في باب التزاحم فيقال فيه وجوه ولكنه يتضح بتمهيد مقدمتين:
المقدمة الأولى: ان التزاحم في نظر المحقق النائيني يتحقق بلحاظ رافعية
أحد الحكمين اما بامتثاله أو بوجوده لموضوع الحكم الاخر، إذ يمتنع وصول كل
منهما إلى مرحلة الفعلية والداعوية كما مر بيانه.
والمقدمة الثانية: ان نفي تحقق الشيئين تارة: يكون مفاده بيان عدم
اجتماع الشيئين في الوجود من دون إفادة أخذ عدم أحدهما في موضوع الاخر،
بل لأنظر له إلى ما هو موضوع كل منهما، نظير ما إذا قال المولى لعبده: " ان
زيدا وعمرا لا يجوز أن يكون كلاهما في الدار بل أحدهما "، فإنه لا تعرض له إلى
ما هو موضوع دخول كل منهما في الدار وانه في أي ظرف يجوز لأحدهما ذلك،
بل هو انما يدل فقط على أن هذين الشخصين لا يجوز اجتماعهما في الدار.
وأخرى: يكون مفاده أخذ عدم أحدهما في موضوع الاخر كما إذا قال له: " -
مع فرض وجود زيد في الدار - لا يجوز دخول عمرو، اوانه ما دام زيد في الدار
يجوز دخول عمرو "، وهكذا العكس، فإنه يدل على أن عدم الموجود منهما مأخوذ
في موضوع الاخر، فيكون وجوده رافعا لموضوع الاخر قهرا. بخلاف النحو
الأول فان عدم الاجتماع لا يستلزم أخذ عدم أحدهما في موضوع الاخر والا كان
عدم أحد الضدين مأخوذا في موضوع الضد الاخر وهو مما لا يلتزم به المحققون.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان الدليل الدال على نفي تكرر الزكاة في العام
الواحد في المال الواحد كان مفاده بالنحو الثاني من نحوي نفي اجتماع
44

الشيئين، فإنه ظاهر في نفي الزكاة ثانيا بعد ثوبتها أولا، فان مفاده ان المال لما
ثبتت فيه الزكاة أولا لم تثبت فيه مرة أخرى في عام واحد، فيكون ثبوتها أولا
رافعا لموضوع ثبوتها ثانيا، فينطبق التزاحم على ما نحن فيه، لأنه كما عرفت
بلحاظ رافعية أحد الحكمين لموضوع الاخر وهي متحققة. ومن هنا ظهر تقديم
الأسبق لأنه رافع لموضوع المتأخر ولا عكس. فقد اتضح بهذا البيان ان دعوى
المحقق النائيني ليست بدعوى غريبة، وهي وان توقفت على الاستظهار الذي
عرفته من أدلة نفي تكرر الزكاة لا على استظهار كون الدليل المذكور يفيد نفي
اجتماعهما فيه، إلا أنها تكون متجهة بوجاهة هذا الاستظهار واحتماله ولا تكون
بعيدة كما ادعي. وان كان المختار ان المورد ليس من موارد التزاحم، وتحقيقه
موكول إلى محله من الفقه كما حررناه سابقا في كتاب الزكاة.
ويقع الكلام بعد ذلك في مرجحات باب التزاحم التي يحكم بها العقل،
بخلاف مرجحات باب التعارض، فان المرجع فيها هو المولى نفسه وهذه هي
جهة الفرق بين البابين في الحاكم بالتقديم والتخيير. كما أن الفرق بين البابين في
جهة التقديم فهي محل الكلام، إذ تقديم أحد المتعارضين على الاخر يكون
بأقوائية الدلالة والسند بالشهرة أو موافقة الكتاب أو غير ذلك مما يذكر في
مبحث التعارض، ويقع الخلاف هناك في تعيين بعضها دون بعض.
واما تقديم أحد المتزاحمين على الاخر، فهو بأمور مترتبة ذكرها المحقق
النائيني (قدس سره) (1) وهي:
المرجح الأول: تقديم ما ليس له بدل على ما كان له بدل فيما إذا كان
أحدهما له بدل والاخر ليس له بدل. وله صورتان:
الأولى: ما إذا كان لا حدهما بدل في عرضه كما إذا كان واجبا تخييريا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 271 - الطبعة الأولى.
45

شرعيا كان كخصال الكفارة، أو عقليا، كالواجب الموسع، وكان الاخر واجبا
تعيينا مضيقا كما إذا تزاحم وجوب أداء الدين مع الاطعام أو العتق الذي يكون
احدى خصال الكفارة التخييرية، وكما لو تزاحم وجوب إنقاذ الغريق مع وجوب
الصلاة في أثناء الوقت بحيث لا تفوت الصلاة بامتثاله فإنه في مثل هذه الحال
يقدم الواجب التعييني على الواجب التخييري.
ووجه التقديم واضح وهو: ان الواجب التخييري لا اقتضاء له بالنسبة
إلى خصوص الفرد المزاحم، لان المكلف مخير في مقام الامتثال بين افراد التخيير.
والواجب التعييني له اقتضاء ودعوة إلى خصوص ما فيه التزاحم، لان الامتثال
منحصر فيه. ومن الواضح انه لا تزاحم بين ماله اقتضاء نحو شئ وبين
مالا اقتضاء له نحوه، فيقدم ماله الاقتضاء على ما ليس له الاقتضاء.
هذا ما أفيد ولا يخفى ان هذا الوجه نتيجة نفي التزاحم بين الواجبين
في هذه الصورة، لا انه وجه للتقديم مع فرض المزاحمة، إذ عرفت أن التزاحم هو
التنافي في مقام الداعوية بحيث يمتنع ان يصل كلا الحكمين إلى مرحلة الفعلية
والبعث، وهذا لا أثر له في هذه الصورة بعد ما عرفت من كون أحدهما لا اقتضاء
له بالنسبة إلى خصوص مورد المزاحمة فالتفت.
الثانية: ما إذا كان لأحدهما بدل طولي، كالطهارة الحدثية المائية فان لها
بدلا في طولها وهو التيمم، فلو تزاحم وجوبها مع وجوب ما ليس له بدل كالطهارة
الخبثية بان كان هناك ماء لا يكفي لكلتا الطهارتين مع احتياجه إليهما لاجل
الصلاة، قدم ما لا بدل له على ماله البدل. ولم يتعرض (قدس سره) لذكر وجه
التقديم والمنقول في الأفواه في جهته وجه استحساني وهو: ان التقديم سيرة
العرف باعتبار ان الامر إذا دار بين إهمال أصل المصلحة وتحصيل مصلحة أخرى
بتمامها، أو بين تحصيل أصل المصلحة واهمال بعض المصلحة الأخرى كان الثاني
هو المتعين ونتيجته تقديم ما لا بدل له على ما له البدل.
46

ولكن هذا الوجه - لو سلم جواز الاستناد إليه مع غض النطر عن عدم
الدليل على اعتبار النظر العرفي - لا يمكن البناء على تماميته فإنه غير مطرد، إذ
قد يكون ذلك المقدار الفائت من المصلحة أهم في نظر العرف وأشد أثرا من
نفس المصلحة الأخرى المتحفظ بتمامها، فيقدم عليها لا محالة. مثال ذلك
عرفا: إذا كان الشخص يملك عباءة وقبائين، أحدهما جديد والاخر متهرء
عتيق. وكان ملزما بلبس العباءة والقباء الجديد، ولكنه مع عدم التمكن من لبس
القباء الجديد، كان عليه أن يلبس القباء المتهرء، إذ لا يمكنه أن يبقى من دون
قباء، فإذا دار أمره بين ان يتلف العباءة، فيلبس القباء الجديد بلا عباءة، أو
يتلف القباء الجديد ويلبس القباء المتهرء مع العباءة، لكن كان الهوان الذي
يلحقه ونظرة الازدراء التي تلاحقه من لبس القباء أكثر مما كان في لبس القباء
الجديد بلا عباءة، فإنه في هذا الحال يلزمه عرفا إتلاف العباءة مع عدم وجود
البدل لها وابقاء الجديد مع وجود البدل له. فألتفت.
فالوجه الصحيح في التقديم هو: ان ما يكون له بدل في طوله يكون
وجوبه مقيدا بالقدرة الشرعية، فيكون المورد من مصاديق المرجح الثاني وهو ما إذا
كان أحد الحكمين مقيدا بالقدرة الشرعية والاخر غير مقيد بها، فان غير المقيد
بها يقدم على ما هو مقيد بها كما سيأتي بيانه. فتحصل مما ذكرنا: ان المرجح الأول
ليس من المرجحات لان الصورة الأولى خارجة عن باب التزاحم والصورة
الثانية داخلة في مصاديق المرجح الثاني، ولا تكون جهة عدم البدلية مرجحة.
فلاحظ.
ثم إنه (قدس سره) تعرض لفرع فقهي وهو ما إذا دار امر المكلف
بالصلاة بين ادراك تمام الوقت مع الطهارة الترابية وعدم ادراك تمامه مع الطهارة
المائية. والتزم بترجيح الأول على الثاني ببيان: ان الطهارة المائية لها بدل وهو الطهارة
الترابية بخلاف تمام الوقت فإنه لا بدل له. وقد عرفت تقديم ما لا بدل له على ماله
47

البدل.
وأورد على نفسه: بان تمام الوقت له بدل أيضا وهو ادراك ركعة منه كما هو
مقتضى بعض الروايات (1)، فيكون كل من المتزاحمين له بدل فلا وجه لترجيح
تمام الوقت على الطهارة المائية.
وأجاب عنه: بان بدلية ادراك ركعة عن تمام الوقت انما هي في فرض
العجز عن ادراك تمام الصلاة فيه، والمكلف في الفرض قادر على اتيان مجموع
الصلاة في الوقت فلا موجب لسقوط التكليف باتيان تمام الصلاة في وقتها،
فيسقط التكليف بالطهارة المائية للعجز عنه شرعا فيثبت التكليف بتمام الصلاة
في الوقت مع الطهارة الترابية، لأنها بدل الطهارة المائية (2)
وفيه: ان الكلام بعينه ننقله في طرف التيمم، فنقول: ان بدلية التيمم انما
هي في فرض العجز عن الاتيان بالصلاة مع الوضوء أو الغسل والمكلف قادر
على الاتيان بها كذلك، فيبقى التكليف بالصلاة مع الطهارة المائية ويسقط
التكليف بايقاع تمام الصلاة في الوقت للعجز عنه شرعا، فيثبت حينئذ التكليف
بالصلاة مع ادراك الوقت بمقدار ركعة مع الطهارة المائية.
وأساس الجواب: هو ان بدلية كل من البدلين المفروضين ثابتة في حال
العجز الشرعي، فيقع التمانع بينهما، ويكون وجوب المبدل منه لكل منهما رافعا
لبدلية البدل الاخر. فالتفت.
وتحقيق الحال في هذا الفرع الذي وقع محلا للبحث والنقض والابرام: انه
لا يتصور التزاحم بين الوجوبين الضمنيين، إذ العجز عن الاتيان بكلا الجزئين

(1) منها: رواية عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فان صلى ركعة من الغداة ثم طلعت
الشمس فليتم وقد جازت صلاته.
وسائل الشيعة 3 / 158 باب: 30 من أبواب المواقيت، حديث 1.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 272 - الطبعة الأولى.
48

أو الشرطين أو الجزء والشرط يستلزم سقوط الامر بالكل للعجز عن متعلقه وهو
الكل، فلا تصل النوبة إلى تزاحم الوجوبين الضمنيين لسقوطهما بسقوط الامر
بالكل، فإذا دل الدليل على تعلق الامر بالناقص عند العجز عن التام تقع
المعارضة بين اطلاقي دليل كل من الجزئين أو الشرطين.
وحينئذ فاما ان يلتزم بشمول الأدلة العلاجية للعامين من وجه
المتعارضين، فيكون الحكم هو التخيير شرعا بنيهما. واما ان يلتزم بعدم شمول
الأدلة العلاجية لمثل هذه الصورة، فالقاعدة تقتضي التساقط في المتعارضين،
الا انه حيث يعلم اجمالا يعدم سقوطهما معا بل أحدهما معتبر قطعا فالعقل يحكم
بالتخيير، فالنتيجة هي التخيير اما شرعا أو عقلا. وبذلك يتضح الكلام فيما
نحن فيه فان الامر بالوضوء والامر بايقاع الصلاة في تمام الوقت أمران ضمنيان
فلا مزاحمة بينهما، بل يسقط الامر بالصلاة التامة بجميع اجزائها وشروطها،
ويحدث الامر بالناقص ويدور الامر بين اعتبار الوضوء أو تمام الوقت،
فيقع التعارض بين دليليهما والنتيجة هي التخيير بينهما من دون وجه لتقديم
أحدهما على الاخر، فان المورد ليس من موارد التزاحم، ومن هنا يظهر ان
التمثيل لبعض موارد التزاحم بالواجبين الضمنيين ليس متجها.
وبهذا البيان تعرف انه لا وجه للتطويل الذي جاء في المحاضرات من ذكر
مقدمة طويلة لبيان كيفية استفادة اشتراط الوقت والطهارة ونحو اعتبارهما، ثم
التعرض لبيان ما يستفاد من دليل البدل في كل منهما ثم الانتهاء إلى ما افاده
المحقق النائيني (قدس سره) من أن بدلية ادراك ركعة عن تمام الوقت انما هي
في فرض العجز عن ادراك تمام الصلاة فيه ولو مع الطهارة الترابية (1). وقد عرفت
ما فيه وان كلا من الشرطين مقيد بالتمكن. ومن الغريب ان بيانه المزبور كان

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 235 - الطبعة الأولى.
49

بنحو الايراد على المحقق النائيني (رحمه الله). وأساس هذا الاختيار منهما هو
نقلهما الكلام إلى دليل البدل الاضطراري لكل من الشرطين، وهو دليل التيمم
ودليل إدراك ركعة. مع انك عرفت أن النوبة لا تصل إليه بل الكلام رأسا في
دليل الوضوء ودليل تمام الوقت وبيان نتيجة المعارضة بينهما فتدبر جيدا.
المرجح الثاني: ما إذا كان أحد الحكمين مشروطا بالقدرة العقلية والاخر
مشروطا بالقدرة الشرعية، فيقدم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة
الشرعية.
والمراد بالقدرة الشرعية ليس مفهوما شرعيا في قبال المفهوم للقدرة عقلا،
بل المراد بها القدرة العرفية التي هي أخص من القدرة العقلية، فان القدرة بنظر
العرف هي التمكن على الفعل من دون أن يكون فيه عسر ومشقة، فان العرف
يسلب القدرة في مورد العسر والمشقة، ولأجل ذلك ترتفع القدرة عرفا بالمنع
الشرعي عن العمل، لان الاتيان به يوقع المكلف في تبعات مخالفة المنع الشرعي
وهو امر حرجي عليه، فمع المنع شرعا يصدق عرفا انه غير متمكن.
اما تحقق اشتراط الحكم بالقدرة العرفية، فهو منوط بأخذ القدرة في
موضوع الحكم في لسان دليله، فتكون ظاهرة في القدرة العرفية، إذ المحكم في
باب الألفاظ هو العرف، فإذا قيد الحكم في دليله بالقدرة كان ظاهرا في إرادة
القدرة العرفية، لان المفهوم العرفي للقدرة غير المفهوم العقلي. اما إذا لم يقيد
الحكم في دليله بالقدرة، فيكون مطلقا من ناحيتها. نعم حيث إنه في صورة
الامتناع عقلا لا يثبت الحكم لاستحالته في نفسه أو لغويته كان مقيدا بالقدرة
العقلية.
وإذا عرفت المقصود من القدرة الشرعية وانها القدرة التي اعتبرها
الشارع في موضوع الحكم فيراد بها المفهوم العرفي للقدرة، وانها أخص من القدرة
التي يعتبرها العقل في موضوع الحكم إذا - عرفت ذلك - يتضح لك الوجه في
50

الحكم بتقديم الحكم المقيد بالقدرة العقلية على الحكم المقيد بالقدرة الشرعية.
بيان ذلك: ان ثبوت الحكم المقيد بالقدرة العقلية يكون رافعا لموضوع الحكم
المقيد بالقدرة الشرعية لما عرفت من ارتفاع القدرة عرفا بالحكم الشرعي المانع
من العمل واما المقيد بالقدرة الشرعية، فلا يكون رافعا لموضوع الاخر، إذ المنع
الشرعي لا يرفع القدرة عقلا على العمل. وإذا كان الامر كذلك تقدم المشروط
بالقدرة العقلية بعين الوجه الذي ذكره الشيخ (1)، وأوضحه صاحب
الكفاية (2) بتلخيص في تقديم الوارد على المورود من: ان تقديم المورد إما أن يكون
بلا وجه أو على وجه دائر ولا عكس. فإنه يقال ههنا: ان الالتزام بالحكم المقيد
بالقدرة العقلية لاجل تمامية موضوعه وعدم الاخلال بجهة من جهات ثبوته
سوى وجود الحكم الاخر المشروط بالقدرة الشرعية، وهو غير صالح للمنع، لأنه
يتوقف على ثبوت موضوعه، وقد عرفت أنه يرتفع بالحكم الاخر. فحينئذ اما ان
يلتزم به مع عدم موضوعه وهو فاسد، أو نلتزم بأنه يمنع من الحكم الاخر فيثبت
موضوعه وهو يستلزم الدور، لان ما نعيته عن الحكم الاخر تتوقف على تمامية
موضوعه، وتمامية موضوعه تتوقف على عدم الحكم الاخر، فيمتنع استناد عدم
الحكم الاخر إليه فالتفت.
ومن هنا تعرف ان المورد ليس من موارد المزاحمة أصلا، كما لا معارضة بين
الوارد والمورد، فان نسبة الحكم المقيد بالقدرة العقلية إلى الحكم المقيد بالقدرة
الشرعية، نسبة الدليل الوارد إلى الدليل المورد، فلا يقع التمانع بين الحكمين.
وعليه، فلا وجه لفرض المقام من مصاديق باب المزاحمة.
أو فقل: لا وجه لفرض المرجح المزبور من مرجحات باب المزاحمة، لأنه

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 422 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 430 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
51

يسري إلى غيرها، فإنه وجه يتأتى ذكره في باب التزاحم وباب التعارض كما
عرفت.
واما توجيه المحقق النائيني (قدس سره) لتقدم الوجوب المشروط
بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية، بان المشروط بالقدرة عقلا تام
الملاك فعلا فيكون وجوبه فعليا مانعا من تمامية ملاك الاخر للعجز عنه شرعا،
بخلاف المشروط بالقدرة شرعا، فان وجوبه يتوقف على تمامية ملاكه، وهي
تتوقف على عدم الوجوب الاخر، فلو استند عدم وجوبه إلى الوجوب المشروط
بالقدرة شرعا لزم الدور المحال. كما لا يخفى (1).
فهو بظاهره لا يخلو من مناقشة، إذ تكرر منه (قدس سره) ان البحث في
مسالة التزاحم لا تبتني على وجهة نظر العدلية القائلين بلزوم توفر الملاك للحكم
الشرعي، بل يقع الكلام فيه على جميع وجهات النظر من دون اختصاص
باحديهما
ولعل مراده (قدس سره) ما أوضحناه، وقد صرح به في غير مورد. وقد
عرفت أنه يخرج المورد عن موارد التزاحم.
فقد ثبت ان المرجحين الأولين ليسا من المرجحات، بل مما يستلزم خروج
المورد عن موارد المزاحمة.
المرجح الثالث: ما إذا كان أحد الواجبين أسبق زمانا من الاخر، وهذا
المرجح يختص بما إذا كان كل من الحكمين مشروطا بالقدرة الشرعية، فإنه أفاد
(قدس سره)، بان المتقدم زمانا يرجح على المتأخر، لان المتقدم في الفعلية يكون
مستقرا في محله من دون مانع، ويكون رافعا للتكليف الاخر، لأنه يرفع موضوعه،
فلا يبقى له محل ومجال في ظرفه.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 272 - الطبعة الأولى.
52

وتحقيق الحال في الحكمين المشروطين بالقدرة شرعا ومرجحية الأسبقية
الزمانية فيهما: ان المورد ليس من مصاديق باب التزاحم المصطلح، لأنا قد أشرنا
إلى أن حقيقته هو التنافي بين الحكمين في مقام الداعوية والتأثير، بمعنى انه لا
يمكن أن يكون كلاهما - في زمان واحد - داعيين إلى متعلقيهما، بحيث لو لم تكن
هذه الجهة ارتفع التزاحم، ولم يمتنع ثبوت الحكمين معا. والتنافي في المورد الذي
نحن فيه ناشئ من رافعية كل من الحكمين لموضوع الاخر، لان كلا منهما مانع
شرعي فيرفع القدرة الشرعية المأخوذة في موضوع الاخر، وليس ناشئا عن التنافي
في مقام الداعوية وان كان مفروضا، ولذا لو ارتفع ذلك، بأن كان المكلف قادرا
عقلا على امتثال الحكمين لا شرعا، كان التمانع بين الحكمين متحققا بالوجه
الذي ذكرناه. فلا ينطبق عليه التزاحم بالمعنى المصطلح نعم يصح اطلاق التزاحم
عليه بمعناه اللغوي وهو التمانع، لأنه متحقق بين الحكمين، كما عرفت.
وبعد هذا نقول: ان أحد الحكمين اما أن يكون أحدهما أسبق زمانا من
الاخر، أولا يكون:
فإن كان أحد هما أسبق زمانا، فتحقيق الكلام: ان الصور المتصورة في
مورد السبق الزماني أربعة:
الأولى: أن يكون أحد الحكمين سابقا على الاخر بموضوعه وامتثاله،
بمعنى ان موضوع الحكم الاخر وامتثاله لا يتحقق الا بعد زمان امتثال ذلك
الحكم، نظير ما إذا كان عند الانسان في شهر رجب مال يكفيه للحج، ولكنه
كان فاقدا للاستطاعة من الجهات الأخرى - بان كان مريضا - ويعلم انها
تحصل في شهر شوال. وثبت عليه واجب مشروط بالقدرة شرعا في ذلك الحين
- أعني شهر رجب - كما لو وجب عليه زيارة الحسين (عليه السلام) في رجب بنذر
ونحوه وكانت متوقفة على صرف المال المزبور.
وحكم هذه الصورة هو ترجيح الأسبق زمانا، فيتقدم وجوب الوفاء بالنذر
53

على وجوب الحج في المثال المزبور، وذلك لان الوجوب السابق فعلي تام
الموضوع، إذ لا مانع منه عقلا، لأنه المفروض ولا شرعا إذ المانع الشرعي
المتصور ليس إلا الوجوب الاخر وهو ليس ثابتا فعلا لعدم موضوعه كما فرض
، فلا يصلح للمانعية، وإذا لم يثبت المانع عقلا وشرعا لزم امتثاله، فيرتفع به
موضوع اللاحق، وبهذا البيان يمكننا ان ندعي ان هذه الصورة خارجة عن
محل الكلام، فإنه لا تزاحم بين الحكمين ولا تمانع، إذ الأول في ظرفه لا مانع منه
كما عرفت، والثاني لا موضوع له، فلا ثبوت له ان امتثل الأول، وإن لم يمتثل
كان فعليا لتحقق موضوعه، لكنه لا مانع منه إذ الحكم سقط بعصيانه.
وبالجملة: الحكمان لا يكونان في هذه الصورة فعليين في زمان واحد.
فالتفت.
الثانية: أن يكون أحد الحكمين سابقا بموضوعه وامتثاله إلا أنه كان
بنحو الواجب الموسع، بمعنى انه إذا لم يمتثل في ظرفه يستمر الحكم ويثبت في
زمان اللاحق، كالمثال المتقدم فيما إذا لم يقيد نذره الزيارة بشهر رجب بل مطلقا،
ولكن كان تحقق الشرط المعلق عليه المنذور في رجب فيصير الحكم من ذلك الحين
فعليا.
وحكم هذه الصورة يتضح مما تقدم، فلا مزاحمة بين الواجب الموسع
والواجب المضيق، لعدم التزاحم بين ماله اقتضاء وبين مالا اقتضاء له. نعم، إذا تضيق
وقت الموسع في وقت المضيق وقع التزاحم بينهما لكون كل منهما مضيقا.
الثالثة: أن يكون أحد الحكمين سابقا في امتثاله على امتثال الاخر، لكنه
مقارن في موضوعه لموضوع الاخر، كما لو نذر قبل الاستطاعة ان يزور الحسين
(عليه السلام) اليوم السابع من ذي الحجة ان جاء أخوه من السفر فتقارن مجئ
أخيه مع حصول الاستطاعة المالية أو البدنية للحج، أو تعاقبا من دون فصل
زماني طويل، بحيث لم يتمكن من الاتيان بالمقدمات المفوتة للسابق قبل حصول
54

اللاحق.
والحكم في هذه الصورة وقوع التزاحم بين الحكمين بلا ترجيح، وعدم تقديم
الأسبق منهما زمانا بحسب الواجب، إذ بعد فرض ان الموضوع لكل من الحكمين
في نفسه ثابت يلزم المكلف حفظ القدرة على كل منهما بملاك وجوب المقدمات
المفوتة، فيحدث من جهة وجوب الحج حكم فعلي بلزوم صرف المال في الحج
والسير مع القافلة المتوجهة إلى مكة. كما يحدث من جهة وجوب الوفاء بالنذر
لزوم السير إلى كربلاء ان كان بعيدا عنها والبقاء فيها وعدم اتلاف القدرة ان
كان من سكنتها، فيكون كل من هذين الحكمين رافعا لموضوع الحكم الاخر ولا
اثر للسبق الزماني في مقام الامتثال حينئذ، لان وجوب المقدمة المفوتة للواجب
اللاحق يرفع موضوع الوجوب السابق في امتثاله. ولا يختلف الحال في ذلك بين
الالتزام بالواجب المعلق أو المشروط وعدمه، لان وجوب المقدمات المفوتة لازم
اما بملاك لزوم حفظ الغرض الثابت في كل من الحكمين في نفسه، أو بملاك
الوجوب المقدمي لو التزم بالواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر.
الرابعة: أن يكون كل من الحكمين متقارنين زمانا بحسب الامتثال. لكن
أحدهما أسبق موضوعا من الاخر، بنحو يستطيع المكلف المحافظة عليه قبل
حدوث موضوع الاخر، كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين
(عليه السلام) في يوم عرفة إن جاء أخوه من السفر، فجاء أخوه وكان متمكنا
من السفر إلى كربلاء فعلا، ولكنه غير متمكن من السفر إلى الحج، فهو فعلا
غير مستطيع للحج.
والحكم في هذه الصورة تقديم الأسبق زمانا وهو النذر في المثال، لأنه
ينشأ منه فعلا حكم بوجوب المقدمة المفوتة، فيلزمه المحافظة على القدرة فعلا،
فيصرف المال في شؤون الزيارة أو يسافر فعلا للزيارة، فيرتفع بذلك موضوع
الحج، ولا حكم يمنع من ذلك، لان موضوع الحج لم يتحقق بعد، فلا نظر له إلى
55

حفظ مقدماته المفوتة ولذا يجوز له إتلاف المال قبل الاستطاعة لو لم يكن هناك
وجوب آخر يدعو للمحافظة عليه، فتكون الصورة نظير الصورة الأولى.
ومن هذا البيان يظهر انه لا اثر لتقارن وقت الامتثال، بل الحكم المذكور
جار حتى مع أسبقية الاخر موضوعا في امتثاله. فالتفت.
لكنه قد يشكل: بأنه وان جاز صرف المال في طريق الوفاء بالنذر، لكنه.
غير واجب لأنه إذا أراد أن لا يصرفه يتحقق موضوع الواجب الاخر في ظرفه
فيثبت وجوبه حينئذ فيكون رافعا لموضوع وجوب الواجب السابق زمانا من حيث
الموضوع فيكشف عن عدم تحققه، فلا تكون المقدمات واجبة لان تركها يؤدي
إلى انكشاف عدم توفر الملاك لا إلى تفويت الملاك.
ويمكن ان نشير إلى ضابط الصورتين بان الحكمين اللذين يكون أحدهما
أسبق زمانا إما موضوعا أو امتثالا... إما أن يكون لكل منهما دعوة إلى مقدماته
المفوتة بملاك وجوب المقدمات المفوتة، اما لاجل حفظ الغرض الملزم أو لاجل
كون الوجوب بنحو الوجوب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر، فيقع التزاحم
بينهما في وجوب المقدمات ويكون وجوب كل مقدمة رافعا لموضوع وجوب ذي
المقدمة الأخرى، فلا أثر لسبقه زمانا وعدمه. واما أن لا يكون لكل منهما دعوة
نحو مقدماته المفوتة، بل كان ذلك لأحدهما فقط، كان ماله نظر مقدم على الاخر
لأنه فعلي ولا مانع منه، إذ ما يتصور كونه مانعا لا يصلح للمانعية فعلا ولا اقتضاء
له بالنسبة إلى مقدماته المفوتة، ولكن عرفت الاشكال في هذا البيان.
ومن هنا تعرف ما في كلام المحقق النائيني (قدس سره) من التسامح من
اطلاق القول بتقديم الأسبق زمانا، مع انك عرفت أنه ينحصر بالصورة الأولى.
مع أن مثاله ظاهر في كون محط نظره الصورة الرابعة وهي ما كان السابق
هو الوجوب لا الواجب، وهو غير مرجح إلا بتقريب غير خال عن الاشكال،
كما عرفت.
56

وبالجملة: ما ذكره (قدس سره) في تقريب تقديم الأسبق زمانا لا ينطبق
إلا على الصورة الأولى. وقد عرفت أن المورد في الحقيقة لا يكون من موارد
التزاحم. فالتفت.
هذا كله فيما إذا كان أحدهما أسبق زمانا من الاخر.
وان كانا متقارنين زمانا موضوعا وامتثالا:
فقد يدعي تقديم الأهم منهما باعتبار ان المتزاحمين ان كانا متساويين في
الأهمية ثبت التخيير بنيهما. وإن لم يكونا متساويين قدم الأهم منهما بحكم العقل،
فإنه يرى ان المولى لا بد من حكمه بالأهم ملاكا، والا كن حكمه بالمهم ترجيحا
للمرجوح على الراجح وهو قبيح في نظره.
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) أنكر ذلك بتقريب: ان هذا البيان
انما يتأتى فيما كان ملاك كل حكم ثابتا في نفسه وحتى في صورة التزاحم ولم يكون
كل منهما رافعا لملاك الحكم الاخر، فيكون الحكم على طبق الملاك المرجوح
تفويتا للغرض الأهم وهو ترجيح المرجوح على الراجح.
واما فيما نحن فيه فالامر ليس كذلك، لان ثبوت ملاك كل من الحكمين
مشروط بعدم المانع عقلا وشرعا من متعلق الحكم، فثبوت المانع الشرعي يرفع
ملاك الحكم في الممنوع.
وعليه، فلو قدم المهم وحكم بوجوبه لم يلزم تفويت الغرض الأهم، بل يلزم
نفي الغرض الأهم وعدم تحققه، وهو لا قبح فيه على المولى، فمع وجوب الأهم لا
ملاك في الطرف الاخر الأهم كي يلزم تفويته، ولا يلزم المولى المحافظة على ثبوت
الملاك وعدم نفي تحققه بمانع.
وعليه، فلا ملزم بالحكم بالأهم، فإنه ترجيح بدون مرجح، إذ كما يمكنه ان
يحكم على طبق الأهم ولازمه نفي تحقق الملاك المهم، يمكنه ان يحكم على طبق
المهم ولازمه نفي تحقق الملاك الأهم من دون لزوم أي محذور. وهكذا الحكم بالمهم
57

ترجيح بلا مرجح، فإذا كان الحكم بكل منهما بعينه ترجيح بلا مرجح، بمعنى انه
لا وجه للالزام بأحد الطرفين بعينه، فيتعين تعلق الحكم التخييري بهما، اما بنحو
وجوب أحدهما لا بعينه أو بنحو وجوب كل منهما مشروطا بترك الاخر. بيان
ذلك: انه إذا ثبت عدم امكان الجمع بين الحكمين لرافعية كل منهما لموضوع
الاخر، وثبت عدم امكان الحكم بأحدهما بعينه، لأنه ترجيح بدون مرجح، فان
التزمنا بالترتب وصححنا رفع التزاحم بين الحكمين باجراء الترتب تعين ههنا
الالتزام به، فيقيد اطلاق كل منهما بصورة ترك الاخر، فيكون كل منهما ثابتا في
صورة ترك الاخر فإنه يرتفع التزاحم بينهما بذلك، وتكون النتيجة تخيير المكلف
بين الفعلين. وإن لم نلتزم بالترتب وأنكرنا إمكانه مطلقا أو التزمنا به في الجملة
لكن أنكرنا ثبوته في مورد تزاحم الواجبين المشروط كل منهما بالقدرة شرعا، تعين
فيما نحن فيه التزام بسقوط كلا الحكمين في مورد التزاحم، والالتزام بثبوت
وجوب تخييري متعلق بأحدهما لا بعينه لثبوت أحد الملاكين لا بعينه، فالمكلف
مخول في تحصيل أحدهما لعدم امكان الجمع بينهما (1).
ومن هنا يتضح الوجه في ذهاب المحقق النائيني إلى أن التخيير ههنا
شرعي، بمعنى ثبوت خطاب شرعي بأحد العملين لا بعينه، لأنه وان التزم
بالترتب لكنه أنكر ثبوته في مثل المورد مما كان التزاحم فيه بين حكمين مشروطين
بالقدرة شرعا، فلا يتجه الحكم ببطلانه - كما في المحاضرات (2) - وان النتيجة هي
الالتزام بخطاب مشروط بترك الاخر في كل منهما، الا ان يرجع الايراد إلى
الاشكال المبنائي لا العلمي. فالتفت.
والمتحصل: انك عرفت السر في ذهاب المحقق النائيني إلى عدم تقديم

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 276 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 267 - الطبعة الأولى.
58

الأهم، كما عرفت السر في التزامه بكون التخيير شرعيا بالمعنى الذي عرفته،
وهو حق لا اشكال فيه.
واما ما جاء في المحاضرات من تقريب تقديم الأهم فيما نحن فيه من: ان
الأهم لا مانع من تقديمه عقلا للقدرة عليه تكوينا، ولا شرعا لان المانع الشرعي
المتصور ليس إلا وجوب المهم الذي يستلزم صرف القدرة في غير الأهم، وهو لا
يصلح للمانعية لأنه بمزاحمته بالأهم غير مقدور شرعا، والمفروض ان القدرة
دخيلة في متعلقه فلا يكون الامر به فعليا مع عدم القدرة عليه شرعا، ومع عدم
فعلية امره لا يكون مانعا من الأهم (1).
ففيه مالا يخفى: لان المفروض ان كلا من الحكمين مشروط بالقدرة شرعا
فيكون كل منها رافعا لموضوع الاخر، لأنه مانع شرعي عن الاخر، فكيف
يفرض مانعية الأهم عن المهم دون العكس؟، فإنه مما لا نعرف له توجيها
صحيحا.
ونفس الأهمية لا تصلح فارقا - كما قد يظهر من العبارة - لأنها محل
الكلام، فلا يمكن الاستدلال على الدعوى بنفس الدعوى. فالتفت.
وقد يدعى: تقديم الأهم بحكم العقل ببيان: ان المفروض ثبوت ملاك كل
من الحكمين في نفسه، ومع قطع النظر عن المزاحم. فإذا التزم بسقوط كلا
الحكمين فلا يخلو الحال من صور ثلاث: اما ان يحكم على طبق الأهم
وهو المطلوب. واما ان يحكم على طبق المهم وهو ترجيح بدون مرجح. واما ان يحكم
بالتخيير بينهما، بمعنى وجوب أحدهما لا بعينه، وهو يستلزم ثبوت كل من
الملاكين لعدم منافاته للقدرة الشرعية على كل من الفعلين، فيحكم العقل بلزوم
الاتيان بالأهم ملاكا نظير حكمه بلزوم تحصيل أصل الغرض الملزم لو لم يتمكن

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 264 - الطبعة الأولى.
59

المولى من الامر كأن كان غافلا. فههنا الامر كذلك، لان المولى لا يتمكن من
الالزام بالأهم بخصوصه لأنه ترجيح بلا مرجح، فيحكم العقل بلزومه ترجيحا
للأهم.
وهذه الدعوى فاسدة: لان العقل لا يتمكن من الالزام بالأهم بعينه كما
لا يتمكن الشارع، والمحذور الذي يمنع من تعيين الأهم شرعا بنفسه يمنع من
تعيينه عقلا، لان الالزام العقلي كالشرعي رافع لموضوع الاخر، فالعقل يمكنه
ان يلزم بالمهم فيرفع موضوع الأهم ويكشف عن عدم ثبوت الملاك الأهم، فما
هو المرجح لحكمه بالأهم، مع أنه محذور في حكمه بالمهم من جهة تفويت
الغرض الأهم، لأنه لا يتحقق الغرض الأهم بحكمه بلزوم المهم؟. فالتفت.
هذا تمام الكلام في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.
يبقى الكلام في الفرع الذي ذكره المحقق النائيني مثالا للواجبين
المشروطين بالقدرة، مع كونه أحدهما أسبق زمانا، وهو مثال تزاحم النذر والحج،
كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين (ع) يوم عرفة، ثم حصلت
الاستطاعة، فقد وقع الاختلاف في أن أيهما المقدم هل يقدم وجوب الوفاء بالنذر
أو وجوب الحج؟ وفي المسألة أقوال:
الأول: ما عن صاحب الجواهر (رحمه الله) من تقديم النذر، لأنه غير
مقيد بالقدرة شرعا، فيتقدم على الحج لأنه مقيد بالقدرة شرعا، كما هو مقتضى
القاعدة في تزاحم الحكمين اللذين أحدهما مقيد بالقدرة شرعا والاخر غير مقيد
بها شرعا (1).
الثاني: تقديم وجوب الحج، لان كلا من الوجوبين مقيد بالقدرة شرعا،
لكن في وجوب الوفاء بالنذر جهة تقتضي ترجيح وجوب الحج عليه وهو قول

(1) النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام 17 / 347 - الطبعة السابعة.
60

المحقق النائيني (1).
الثالث: تقديم وجوب الحج لأنه غير مقيد بالقدرة شرعا فيتقدم على
وجوب الوفاء بالنذر لأنه مقيد بما يرفعه وجوب الحج.
الرابع: تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء، مع عدم رافعية أحدهما
لموضوع الاخر أو رافعيته لوجه فقهي غير صناعي.
وهذان القولان وردا في كلام السيد الخوئي (حفظه الله) (2).
اما الوجه الأول: فقد عرفت تقريبه فلا نعيد.
واما الوجه الثاني: وهو ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره)، فتقريبه:
ان وجوب الوفاء بالنذر كوجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا المرتفعة بالمانع
الشرعي، ومقتضاه وقوع التمانع بين الحكمين، إلا أن وجوب الوفاء مقيد أيضا
بان لا يكون متعلقه في نفسه محللا للحرام، بمعنى أن لا يكون متعلقه الراجح في
نفسه ملازما للوقوع في الحرام وتحقق الحرام منه، كما لو كانت صلاته على سطح
الدار ملازمة للنظر المحرم إلى الأجنبية، فنذر الصلاة على سطح الدار لا يجب
الوفاء به لان متعلقه محلل للحرام بالمعنى الذي عرفته وان كان راجحا في نفسه.
وعليه فبما ان الزيارة يوم عرفة وان كانت راجحة في نفسها لكنها مستلزمة لتحليل
الحرام فهو ترك الحج، فإنه حرام وهو ملازم للزيادة، فوجوب الحج يكون رافعا
لموضوع وجوب الوفاء، لأنه يستلزم أن يكون متعلقه محللا للحرام ووجوب
الوفاء لا يصلح لذلك، لأنه يتوقف على عدم فعلية التكليف بالحج حتى لا يستلزم
منه تحليل الحرام، فلو كان عدم التكليف بالحج مستندا إلى فعلية وجوب الوفاء
بالنذر لزم الدور.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 273 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 249 و 251 - الطبعة الأولى.
61

أقول: بعد الفراغ عن تقييد وجوب الوفاء بالقدرة شرعا، وتقييده بان
لا يكون متعلقه محللا للحرام، يقع البحث مع المحقق النائيني (قدس سره) في
ما أفاده من تقديم الحج على النذر بالبيان الذي عرفته، فإنه بحسب نظرنا غير
مستقيم، لان اشتراط عدم تحليل الحرام في وجوب الوفاء يستلزم أن يكون فيما
نحن فيه جهتان تقتضيان رافعية وجوب الحج لموضوع وجوب الوفاء. إحداهما
اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا. والأخرى اشتراطه بعدم كونه محللا
للحرام وعدم انحصار جهة الرافعية باشتراط القدرة. وهذا المعنى لا يلازم تقديم
وجوب الحج، فان الشرط لم يجعل خصوصية أخرى في حكم النذر تجعل وجوب
الحج مانعا منه دون العكس، بل غاية ما يقتضي كون وجوب الحج رافعا
لموضوع وجوب الوفاء بالنذر، وهذا ثابت ولو لم يكن وجوب الوفاء مشروطا بعدم
تحليل الحرام فلم لم يقدم وجوب الحج؟.
وبالجملة: لا فرق في حصول التمانع بين أن يكون أحد الحكمين رافعا
لموضوع الاخر من جهتين والاخر من جهة واحدة، بين أن يكون كل منهما رافعا
لموضوع الاخر من جهة واحدة، فإنه يقال فيما نحن فيه أن وجوب الحج مشروط
بالاستطاعة، بمعنى تحققها في نفسها ومع قطع النظر عن وجوب الحج، ووجوب
الوفاء بالنذر رافع لها فلا يكون واجبا ولا يكون متعلق النذر محللا للحرام.
وبعبارة أخرى: متعلق النذر انما يكون محللا للحرام لو كان موضوع الحج ثابتا
وهو الاستطاعة، وقد عرفت أنه يرتفع بوجوب الوفاء، فكل من الحكمين يرفع
موضوع الاخر، فإنه كما أن وجوب الوفاء مقيد بما يرتفع بوجوب الوفاء وهو
الاستطاعة، وهذا واضح لا غبار عليه.
والحاصل: انه لا نعرف لتقريب المحقق النائيني (رحمه الله) وجه وجيه.
اما اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بعدم تحليل الحرام فلا دليل عليه بالمعنى
الذي ذكرناه، وتحقيقه في الفقه.
62

واما اشتراطه بالقدرة شرعا فقد قربه (قدس سره) بان وجوب الوفاء
تابع لما نذره الناذر، وبما أن النذر تعلق بالفعل المنذور لاقتضاء نفس النذر ذلك،
لان الناذر ينذر الاتيان بما يقدر عليه من الاعمال، نظير اقتضاء نفس الطلب
لاعتبار القدرة في متعلقه، فتكون القدرة مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء قبل
تعلقه به وهذا نقس اعتبار القدرة في متعلق الحكم شرعا اللازم لكون الملاك ثابتا
في خصوص المقدور.
وهذا البيان لا يخلو عن مناقشة فان غاية ما يقتضيه اعتبار القدرة عقلا
لا شرعا، إذ قد عرفت أن القدرة الشرعية هي القدرة بالمعنى العرفي واعتبارها
يرجع إلى أخذ القدرة في لسان الدليل، فيفهم العرف من اللفظ ما هو المفهوم
العرفي للقدرة. وهذا البيان لا يقتضي أخذ القدرة لفظا بمفهومها العرفي، بل
يقتضي أخذ واقع القدرة، فليس في المقام فهم وظهور عرفي، بل يرجع إلى ما يلزم
به العقل وهو ليس إلا القدرة العقلية في قبال العجز العقلي، فإنه هو الذي يرى
ضرورة تقييد المتعلق به لا أزيد، فيحتاج إعتبار غيره إلى دليل خاص.
واما الوجه الثالث - فتقريبه -: ان وجوب الحج ليس مقيدا بالقدرة
الشرعية فإنه وان اخذت الاستطاعة في موضوعه في لسان دليله، إلا أنها فسرت
في الروايات بالزاد والراحلة وأمن الطريق، وان المراد منها هو ذلك ليس إلا،
وهذا مما لا يرفعه وجوب الوفاء كما لا يخفى، فموضوع الحج ثابت لا خلل فيه.
واما وجوب الوفاء فهو مقيد بعدم كون متعلقه محللا للحرام، فيكون
وجوب الحج رافعا لموضوعه، لأنه يستلزم كون متعلق النذر محللا للحرام. فيتقدم
الحج لان المورد يكون نظير تزاحم ما ليس بمقيد بالقدرة شرعا وما هو مقيد بها
لان وجوب الحج رافع لموضوع وجوب الوفاء ولا عكس.
وهذا الوجه غير تام لما عرفت..
أولا: من أن وجوب الوفاء بالنذر غير مقيد بعدم كونه محللا للحرام، لعدم
63

الدليل عليه.
وثانيا: انه قد حققنا في الفقه ان وجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا، وان
المراد بالاستطاعة في الآية الكريمة هو المفهوم العرفي لها، وانه لا خصوصية للزاد
والراحلة.
وثالثا: انه لو ثبت بمقتضى النصوص وجود خصوصية للزاد والراحلة
وأمن الطريق وانها دخيلة في موضوع الحكم، فهذا لا يعني إلغاء موضوعية
الاستطاعة وان تمام الموضوع هو ذلك، بل مرجعه إلى أخذ خصوصية زائدة على
الاستطاعة العرفية في موضوع الحج، فالاستطاعة العرفية مأخوذة في موضوع
الحج بزيادة توفر الزاد والراحلة، بمعنى انه لو كان شخص يتمكن من السفر
ماشيا إلى الحج من دون أي مشقة وحرج ولم يكون لديه زاد وراحلة لم يجب عليه
الحج وان كان مستطيعا عرفا. فالوجوب المتعلق بالحج مقيد بالاستطاعة عرفا
لا ان لمقصود بالاستطاعة هو الزاد والراحلة وأمن الطريق ليس إلا. وهذا الامر
حققناه في الفقه.
واما الوجه الرابع: فمحصله: انه لو فرض ان وجوب
الوفاء رافع لموضوع وجوب الحج ومقدم عليه، للزم لغوية وجوب الحج، إذ
يتمكن كل مكلف ان يمنع من تحقق موضوع الحج وهو الاستطاعة إلى آخر
عمره بواسطة النذر، فينذر ان يصلي ركعتين في مسجد يلده أو قريته في يوم عرفة
من كل سنة. وهذا يتنافى مع جعل الحج بنحو عام وشدة الاهتمام به، فيعلم جزما
بأنه لا يرتفع بمثل وجوب الوفاء بالنذر، ولا يختلف الحال في ذلك بين أن يكون
وجوب الوفاء بحسب الصناعة مقدما على وجوب الحج لرافعيته لموضوعه أو
ليس بمقدم.
وقد ذكرنا في الفقه: ان هذا البيان يتأتى في تصحيح المعاملات الربوية
بمصحح، كالضميمة ونحوها مما يخرجها عن الربا المنصوص على حرمته، فان
64

ذلك يستلزم لغوية التأكيد على حرمة الربا وشدة الاهتمام بنفيه، فان نفس حرمته
تكفي في الردع عنه مع امكان التخلص عنه بمثل هذه السهولة بلا احتياج لشدة
التأكيد على حرمته. فالتفت.
هذا تمام الكلام في هذه المسألة.
ويقع الكلام بعد ذلك في الحكمين المتزاحمين المشروطين بالقدرة عقلا، وما
هو المرجح لأحدهما على الاخر؟.
وتحقيق الحال: ان المرجحات التي مر ذكرها ثلاثة: وجود البدل وعدمه،
والتقييد بالقدرة شرعا وعدمه، والأسبقية الزمانية.
اما وجود البدل: فقد عرفت أن وجود البدل العرضي لأحدهما دون
الاخر يخرج المقام عن مورد المزاحمة. وان وجود البدل الطولي لا يستلزم ترجيح
ما ليس له بدل الا بارجاع جعل البدل الطولي إلى أخذ القدرة الشرعية في
موضوع ماله البدل، فيخرج عما نحن فيه، إذ المفروض عدم تقييد كل من
الواجبين بالقدرة شرعا. ومن هنا يتضح أن ما نحن فيه خارج موضوعا عن
الترجيح بالمرجح الثاني.
واما الأسبقية الزمانية: فقد جعلها المحقق النائيني موجبة للترجيح في
مورد تساوي ملاكي الحكمين دون أهمية ملاك أحدهما، فإنه هو المقدم حينئذ.
وقد جعل الترجيح بالأسبقية من ثمرات التزامه بالتخيير العقلي.
وتوضيح ذلك: انه (قدس سره) التزم في ما إذا تساوي الحكمان ملاكا
بالتخيير العقلي، بمعنى حكم العقل بسقوط اطلاقي كلا الخطابين وتقييده
بصورة ترك الواجب الاخر وهو الترتب، بدعوى أن التنافي بين إطلاقي
الخطابين فيرفع اليد عنهما بمقدار يرتفع به التنافي وهو النحو الذي عرفته، وليس
التنافي بين أصل الحكمين كي يرفع اليد عنهما ويلتزم بثبوت خطاب مستقل بأحد
الفعلين بنحو التخيير تحصيلا لاحد الملاكين، مع عدم القدرة على تحصيلهما معا
65

وكون الالزام بأحدهما المعين ترجيحا من دون مرجح - كما ذهب إليه
بعض - (1) فيكون التخيير شرعيا.
إذا تبين هذا فقد أفاد (قدس سره) ان من ثمرات الالتزام بالتخيير
العقلي دون الشرعي هو تقديم الأسبق زمانا من الواجبين، كما لو تزاحم وجوب
القيام في صلاة الظهر ووجوبه في صلاة العصر، فإنه إنما يتأتى لو التزم بكون
التخيير عقليا، اما لو التزم بكونه شرعيا فلا وجه لترجيح الأسبق. بيان ذلك:
انه لو قيل بان التخيير شرعي لا مانع من تعلق خطاب واحد بكل منهما بنحو
البدل، فيكون كل منهما واجبا تخييريا، إذ التقدم والتأخر الزماني لا يمنع من
صحة ذلك. اما لو قيل بان التخيير عقلي بمعنى الالتزام بالترتب امتنع جريانه
هنا لان أساس التخيير العقلي على كون امتثال أحدهما مسقطا للحكم الاخر،
لان ثبوت أحدهما مشروط بترك الاخر فإذا لم يترك لم يثبت الاخر، وبما أن
امتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم لم يكن هناك ما يسقط
التكليف السابق الفعلي، وعليه فيكون فعليا من دون مزاحم فيجب الاتيان
بمتعلقه ويحرم تركه (2).
أقول: هذا البيان لا يفي بالمطلوب لان الوجوب المتأخر إما أن يكون
له تأثير ودعوة في الزمان السابق أولا يكون له تأثير فعلى الثاني يخرج المورد
عن موارد المزاحمة إذ الحكم السابق فعلي لا مانع منه، لان الحكم اللاحق ليس
بفعلي حالا ولا تأثير له في هذا الحين، فيلزم امتثال السابق لا لاجل الترجيح بل
لاجل عدم المزاحمة، ولا يختلف الحال حينئذ بين الالتزام بالتخيير العقلي أو
الشرعي، إذ لا موضوع للتخيير الشرعي لعدم التزاحم والتساقط. وعلى الأول

(1) المحقق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي (قدس سرهما).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 279 - 280 - الطبعة الأولى.
66

يقع التزاحم بين الحكمين، لان كلا منهما يدعو إلى ما يمنع من امتثال الاخر في
زمان واحد، فالحكم اللاحق قابل لان يمتثل في الزمان السابق لا بمعنى الاتيان
بمتعلقه، بل بمعنى الاتيان بما له تأثير فيه في الزمان السابق وهو حفظ القدرة
على متعلقه المسقط للتكليف الاخر. فلا يختلف الحال حينئذ بين القول بالتخيير
الشرعي والتخيير العقلي.
هذا ولكن الانصاف يقتضي بتقديم الأسبق زمانا لبناء العقلاء في أعمالهم
بالإضافة إلى أنفسهم والى غيرهم على ذلك في مورد التزاحم، ويرون من يترك
الأسبق لاجل امتثال اللاحق ليس جاريا على سيرة العقلاء، وان فعله سفه. فلو كان
عند شخص رغيف خبز واحد وعلم أنه مضطر إلى البقاء جائعا يوما مرددا بين
يومه وغده من دون امتياز لأحدهما على الاخر في شده الجوع وطوله وقصره
فلا اشكال في أنه يأكله في يومه ولا يتركه إلى غده لأنه يرى الترك سفها. وهكذا
لو كان عنده مقدار ما يضف به شخصا واحدا وجاء زيد فعلا وعلم أنه يجيئه
عمرو غدا وكلاهما واجب الضيافة من دون امتياز، فان عمل العقلاء على صرف
ما عنده في ضيافة زيد لا تأخيره وضيافة عمرو به.
ولعل جهة ذلك أنه وان علم ببقائه إلى الحكم اللاحق بحسب الموازين
العادية، إلا أن احتمال عدم بقائه عقلا موجود، وهذه جهة تصلح منشاء لعمل
العقلاء.
وبالجملة: فلا اشكال ان بناء العقلاء على تقديم الأسبق ثابت، وان عدم
تقديمه في نظرهم أمر غير عقلائي.
وهذا يوجب الجزم بعدم ثبوت التخيير وتعيين السابق. ولا أقل من احتمال
ترجيحه عندهم، فيكون نظير محتمل الأهمية متعينا بنظر العقل كما سيجئ. فإن كان
نظره (قدس سره) إلى هذا البيان كما قد يستشم من عبارته كان ما ذكره
متينا، لكنه لا يستقيم على كلا القولين: القول بالتخيير العقلي والقول بالتخيير
67

الشرعي، لأنه يرفع موضوع التخيير، إذ هو يثبت رجحان السابق وان الحكم
على طبقه.
وموضوع التخيير عقلا وشرعا هو ثبوت التساوي بين الحكمين،
فيتساقطان ويثبت خطاب آخر بأحدهما بنحو التخيير كما هو مقتضى القول
بالتخيير الشرعي، أو يتقيد كل منها بترك الاخر كما هو مقتضى القول بالتخيير
العقلي.
فقد تحصل مما ذكرناه ثبوت مرجحية الأسبقية الزمانية مع تساوي
الحكمين في الملاك. اما إذا كان أحدهما أهم ملاكا كان هو المقدم سواء كان
متأخرا أم مقارنا، لحكم العقل بقبح تفويته وتحصيل الغرض المهم، بل على المولى
الالزام بالأهم تحصيلا له، والا كان الحكم بغيره ترجيحا للمرجوح على الراجح
وهو قبيح. وهذا أمر واضح لا خلاف فيه ولا نقاش.
وخلاصة ما تقدم: انه مع تزاحم الحكمين المشروطين بالقدرة عقلا يقدم
الأهم منهما إن كان، وإلا قدم السابق زمانا إن اختلفا فيه، وإلا ثبت التخيير بينهما عقلا
بالمعنى الذي عرفته وهو الترتب، إذ قد تقدم ثبوت امكانه، وعرفت ان امكانه
مساوق لوقوعه، فلا محيص عن الالتزام به.
بقي شئ نتعرض إليه وان كان استطراديا لكننا نذكره تبعا للمحقق
النائيني (قدس سره)..
وهو انه لو كان أحد الحكمين محتمل الأهمية، فهل يقدم على الاخر
أولا؟.
أفاد (قدس سره): انه لو التزمنا بان التخيير مع التساوي في الملاك
شرعي كان المورد حينئذ من موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير الشرعيين،
وحكمه محل خلاف بين المحققين، فمن هو قائل بالبراءة، ومن هو قائل
بالاشتغال. واما لو التزمنا بان التخيير عقلي تعين الاخذ بمحتمل الأهمية، إذ
68

يدور الامر حينئذ بين تقييد كلا الاطلاقين وتقييد خصوص اطلاق غير المحتمل
أهميته، فتقييده معلوم على كلا التقديرين، وتقييد اطلاق محتمل الأهمية غير
معلوم، فينفي بأصالة عدم التقييد فيؤخذ باطلاقه. هذا ملخص كلامه (1).
وتوضيح الحال: ان دوران الامر بين التعيين والتخيير له صور متعددة:
الأولى: دوران الامر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية، بمعنى
دوران الامر في الدليلين المتعارضين بين التخيير بينهما في مقام الحجية وتعيين
أحدهما خاصة. ولا اشكال في أن الحكم هو التعيين، لان الشك المزبور يرجع إلى
التشكيك في حجية غير محتمل التعيين والشك في الحجية ملازم للقطع بعدمها كما
تقرر. واما محتمل التعيين فهو مقطوع الحجية على كلا التقديرين.
الثانية: دوران الامر بين التعيين والتخيير العقلي في المسألة الفرعية، كما
لو تعلق امر بطبيعة ثم شك في أن المتعلق ذات الطبيعة فيكون المكلف مخيرا بين
مطلق أفرادها عقلا، أو ان المتعلق الطبيعة مع الخصوصية الكذائية؟ والتحقيق:
ان المورد من موارد جريان البراءة، لأنه من مصاديق دوران الامر بين الأقل والأكثر
فتجري البراءة، عن الخصوصية فيثبت التخيير العقلي.
الثالثة: دوران الامر بين التخيير والتعيين الشرعي في المسألة الفرعية،
كما لو علم بتعلق الامر بفرد وشك في أنه متعلق للامر بخصوصه، أو انه مخير بينه
وبين غيره، وهذه الصورة وقعت محل الخلاف في أنها مجرى البراءة من الخصوصية
كسابقتها فيثبت التخيير، وانها مجرى الاشتغال فيثبت التعيين، لكل احتمال
ذهب جمع من المحققين.
الرابعة: دوران الامر بين التعيين والتخيير في مقام المزاحمة،
كما لو تزاحم حكمان واحتمل أهمية أحدهما ملاكا. والحكم فيه التعيين، وذلك لان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 279 - الطبعة الأولى.
69

غير محتمل الأهمية مما يعلم بسقوط اطلاق دليله على كلا التقديرين تقدير أهمية
الحكم الاخر وتقدير عدمه، فيخرج اطلاقه عن الحجية. اما محتمل الأهمية فلا
يعلم بسقوط اطلاق دليله، لاحتمال كونه أهم فيكون هو المتعين فيتمسك باطلاقه
عملا بأصالة الاطلاق. ولا يختلف الحال في ذلك (*) على القول بان التخيير مع
التساوي عقلي أو شرعي، لعدم احراز تقييد اطلاق المحتمل أهميته على الأول
(*) أفاد صاحب الكفاية (قدس سره) في مبحث التعادل والترجيح عند البحث في تحقيق الأصل عند
التعارض بين الدليلين إلى: ان محتمل الأهمية يقدم على مزاحمه في الجملة، ولم يبين تفصيل ذلك. ونسب
إليه بيان التفصيل في حاشيته على الرسائل.
وقد يستشكل فيه بما ذكرناه في المتن من: انه لا فرق بين الصور في تقديم محتمل الأهمية، لعدم
العلم بسقوط اطلاقه والجزم بسقوط إطلاق مزاحمه، فيعمل باطلاق محتمل الأهمية.
وتحقيق الحال فيما أفاده (قدس سره): انه يذهب إلى أن التزاحم بين الحكمين لا يتحقق، الا إذا
فرض وجود الملاك لكلا الحكمين، كما أنه يذهب إلى أن الدليلين في موارد وجود الملاكين إذا كانا لبيان
الحكم الاقتضائي، كان المورد من موارد التزاحم. واما إذا كانا لبيان الحكم الفعلي، كان المورد من موارد
التعارض، لتحقق التكاذب بين الدليلين بعد عدم امكان الاخذ بهما معا.
وعلى هذا يكون المرجع مرجحات باب المعارضة لا مرجحات باب التزاحم.
وإذا ظهر ما ذكرناه، لم يكن مجال للاشكال المزبور عليه، إذ موضع التزاحم بنظره ما إذا لم يكن
اطلاق الدليلين متكفلا للحكم الفعلي كي يؤخذ باطلاق الأهم أو محتمل الأهمية، بل الالزام باتيان
الأهم أو التخيير في مورد التساوي انما هو بحكم العقل من باب لزوم تحصيل غرض المولى.
وعلى هذا المبنى نقول: ان صور احتمال الأهمية ثلاثة:
الأولى: أن لا يكون المقتضيان من جنس واحد، مع احتمال أهمية أحدهما من ناحية احتمال أهميته
في التأثير في المصلحة العامة - مثلا -، نظير أهمية الصلاة من وجوب رد السلام.
الثانية: أن يكون المقتضيان من جنس واحد، مع احتمال أهمية أحدهما لاحتمال شدته.
الثالثة: ان يكونا من جنس واحد، مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين لا لشدته، بل لانضمام ملاك
آخر إليه. فاحتمال الأهمية ينشأ من احتمال التعدد.
اما الصورة الأولى، فالحكم فيها فيها تعيين محتمل الأهمية، وذلك لان العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض
المولى ولا يرفع اليد عن حكمه، ولا يحكم بمعذورية العبد إلا بالاتيان ببدله، ومع احتمال الأهمية لا
يقطع بالعذر وصلاحية الغرض الاخر للبدلية، فيكون من موارد قاعدة الاشتغال.
وهكذا الحال في الصورة الثانية، لعدم القطع بالعذر مع الاتيان بالغرض المحتمل المضعف.
واما الصورة الثالثة، فلا يحكم بالتعيين، لان الغرض المعلوم المنجز على العبد يعلم بصلاحية الغرض
الاخر للبدلية عنه لتساويهما، وانما يحتمل وجود غرض آخر يفوت بترك محتمل الأهمية، ومجرد هذا
الاحتمال لا ينفع، كمورد الاحتمال البدوي الصرف، فإنه من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وهذا التفصيل الذي ذكرناه، موافق في الجملة لما حكي عن صاحب الكفاية. وبالبيان الذي عرفته
يندفع عنه بعض ما أورد عليه، فراجع حاشية المحقق الأصفهاني على الكفاية. ولكنك عرفت أن هذا
البيان يتم على الالتزام بما التزم به صاحب الكفاية من تحديد مورد التزاحم، وكون الالتزام بلزوم الأهم
أو التخيير في مع التساوي بسبب حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى.
اما بناء على أنه عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بتكفل دليليهما الحكم الفعلي،
كان محتمل الأهمية هو المتقدم مطلقا كما أشرنا إليه في المتن.
70

وسقوط دليله على الثاني فيؤخذ به مع احراز سقط أو تقييد اطلاق الحكم
الاخر.
فجعل المورد مما تظهر فيه ثمرة الاختلاف بين القولين لا وجه له، إذ لا
تصل النوبة إلى التخيير بعد احتمال تعيين أحدهما لسلامة دليله من السقوط أو
التقييد. فتدبر جيدا.
تنبيه: قد يتخيل البعض ان هذا التقسيم الذي ذكره المحقق النائيني
للحكمين المتزاحمين من كونهما مشروطين بالقدرة شرعا، أو مشروطين بالقدرة
عقلا، أو أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا والاخر مشروطا بها عقلا، واختلاف
الأثر باختلاف الحال في ذلك غير وجيه، إذ جميع الأحكام الشرعية مقيدة بالقدرة
شرعا، لان التقييد بالقدرة الشرعية تارة: يكون في لسان نفس الدليل كتقييد
وجوب الحج. وأخرى: بتقييد خاص منفصل، كما يدعى استفادة تقييد الوضوء
بالقدرة الشرعية من تعليق الحكم بالتيمم على عدم الوجدان، بدعوى أن
التفصيل قاطع للشركة. وثالثة: يكون ببيان عام منفصل، وهو الثابت في جميع
الاحكام بدليل نفي الحرج والاضطرار، فإنه حاكم على جميع أدلة الاحكام ومبين
ان ثبوت الاحكام يختص بغير مورد العسر وغير مورد الاضطرار العرفي وهو
71

مساوق لتقييده بالقدرة الشرعية.
وعليه، فليس للحكمين المتزاحمين الا صورة واحدة، وهي صورة تقيد
المتزاحمين بالقدرة الشرعية فلا وقع للتقسيم المزبور.
وهذا التخيل فاسد، لان أثر تقييد الحكم بالقدرة الشرعية ودخالتها في
موضوعه يظهر بحسب ما تقدم في جهتين:
الأولى: ان ارتفاع القدرة الشرعية مساوق لارتفاع ملاك الحكم، وعليه
بني عدم تقديم الأهم لو كان كل منهما مقيدا بالقدرة شرعا.
الثانية: تقديم غير المشروط بالقدرة شرعا على المشروط بها في مورد
التزاحم.
فالمتخيل يتخيل ان ذلك لا يتحقق، إذ كل من الحكمين مقيد بالقدرة
شرعا فلا معنى لتقديم أحدهما على الاخر، فمقتضى الدعوى ارتفاع موضوع
هذا الترجيح في مطلق موارد المزاحمة.
والتقييد بواسطة دليل نفي الحرج لا يظهر أثره في هاتين الجهتين، بل
يختلف مع التقييد الخاص بالقدرة شرعا.
اما جهة انتفاء الملاك: فلان دليل نفي الحرج أو الاضطرار وان تكفل
نفي الحكم في صورة عدم التمكن العرفي، لكنه لا يتكفل رفع الملاك لعدم ظهوره
في دخالة عدم الحرج في الملاك، لو لم نقل بأنه ظاهر في وجود الملاك، إذ ظاهر
الدليل ان ارتفاع الحكم لاجل الامتنان والتسهيل على العباد، وهو ظاهر في
ثبوت الملاك بحيث لولا هذه الجهة - أعني جهة الامتنان - لثبت الحكم. وهذا
بخلاف تقييد الموضوع رأسا بالقدرة، فإنه ظاهر في دخالة الوصف في ملاك
الحكم فيرتفع بدونها. وعلى هذا فيثبت الترجيح بالأهمية في تزاحم سائر الاحكام
لوجود الملاك في نفسه في موارد ارتفاعها بالعسر والحرج.
واما الجهة الثانية: فموضوع الحكم وان تقييد بالقدرة الشرعية وعدم
72

الاضطرار العرفي بواسطة هذه الأدلة، لكنه لا ينظر فيه التقييد بعدم الاضطرار
من جهة الحكم الشرعي المزاحم، فلا يكون الحكم الشرعي رافعا لموضوع
الاخر.
بيان ذلك: ان رفع الاضطرار بمعناه الأولي وهو الاضطرار العقلي لا معنى
له، إذ هو ثابت عقلا لعدم التمكن، فلا منة في رفع الحكم في حاله، لأنه مما يحكم
به العقل، كما لا يحتاج ذلك إلى الاستيهاب من الله سبحانه كما جاء في بعض
الآيات الشريفة (1).
اذن فما هو المراد من رفع الحكم حال الاضطرار المصحح للامتنان؟. ذكر
الشيخ في رسائله في مقام دفع هذا الاشكال: ان المقصود بالاضطرار هو
الاضطرار العرفي بمعنى المشقة والعسر. ومن الواضح ان رفع الحكم في حالته
يكون امتنانا لامكان جعل الحكم في حالته فيقع العبد في المشقة (2).
وبهذا الاشكال والجواب يتضح ان رفع الاضطرار انما يصح ويتجه في
مورد لا يكون فيه التكليف ممتنعا، إذ مع امتناعه في نفسه لا نحتاج إلى بيان
ارتفاعه من باب المنة لأنه مرتفع قهرا بحكم العقل فلا منة في رفعه.
وعليه، فلا يشمل الدليل صورة المزاحمة لان جعل التكليفين ممتنع في
نفسه لعدم القدرة على امتثالهما، فارتفاع كل من الحكمين بوجود الاخر أمر
قهري لابد منه فلا يكون مشمولا لدليل الرفع، فلا يكون الحكم حينئذ مقيدا
موضوعه بعدم الاضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع، بل تقيده بحكم
العقل نظير تقيده بالقدرة على متعلقه.
وعلى هذا فلا يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الاخر بالبيان الذي

(1) سورة البقرة، الآية: 286.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 196 - الطبعة الأولى
73

تخيله المتخيل، وان جميع صور التزاحم تكون من تزاحم الواجبين المشروطين
بالقدرة شرعا. فالتفت ولا تغفل.
هذا تمام الكلام في الجهات الأساسية لمبحث التزاحم.
ويمكننا على ضوء ذلك تحديد ضابط التزاحم، بأنه التنافي بين الحكمين في
موضوعين في مقام الداعوية والتأثير، بمعنى انه لا يمكن أن يكون كل منهما داعيا
فعلا إلى متعلقه ومنشأ ذلك هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين.
والوجه في ذلك: هو ان لفظ التزاحم لم يرد في لسان آية أو رواية كي يرجع
في تحديد مفهومه إلى العرف، وانما هو اصطلاح أصولي لتحديد بعض الموارد التي
يتنافى فيها الحكمان بلحاظ ترتيب بعض الآثار، وهي الترتب على القول بامكانه
وتقديم الأهم أو الأسبق زمانا في بعض الصور التي مر ذكرها. والتخيير مع
التساوي اما بنحو الترتب أو الخطاب التخييري بأحد الفعلين.
ولأجل ذلك يلحق بمبحث التزاحم موارد تنافي الحكمين المشروطين
بالقدرة شرعا، فان ضابط باب التزاحم لا ينطبق عليها لعدم كون التنافي من
جهة التنافي في مقام الداعوية، بل هو من جهة رافعية كل منهما لموضوع الاخر.
إلا أنه حيث يجري فيها البحث عن جريان الترتب فيها وعدمه، كما يلتزم
فيها بتقديم الأسبق زمانا في بعض الصور والتخيير بنحو الوجوب التخييري،
أدرجت في مبحث التزاحم وعدت من صوره.
واما تزاحم الحكمين في موضوع واحد المعبر عنه بتزاحم المقتضيين، فهو
خارج عن التزاحم المصطلح لا لاجل ما ذكره المحقق النائيني من كونه راجعا
إلى المولى، وكونه مبتنيا على رأي العدلية. فقد عرفت دفعه، بل لاجل ما تقدم
ذكره من عدم ترتب الآثار المزبورة فيه، إذ لا مجال للترتب لأنه لا يجري في
الموضوع الواحد كما مر تحقيقه، كما لا معنى للتخيير بمعنى الالزام التخييري،
إذ مع تساوي الملاكين يحكم بإباحة العمل. كما لا معنى لتقديم الأسبق زمانا، إذ لا
74

معنى للأسبقية ههنا.
نعم يقدم الأهم من الملاكين لو كانت مرتبة الأهمية بمقدار يلزم تحصيله.
واما ما نسب إلى صاحب الكفاية من حصر التزاحم الاصطلاحي في
التزاحم بين المقتضيين، فلا وجه له ولا دليل عليه من كلامه أصلا، بل هو صرح
في مبحث مقدمة الواجب بالتزاحم بين الحكمين كما لا ظهور في كلامه في جعله
صورة التزاحم بين المقتضيين من مصاديق التزاحم المصطلح. وقد ذكرنا ذلك في
أول المبحث. فراجع.
هذا تمام الكلام في مبحث التزاحم ونعود بعد ذلك إلى البحث في ما يرتبط
بموضوع الكلام - أعني: " اجتماع الأمر والنهي " -. وقد عرفت أن البحث قبل
الدخول في صلب الموضوع يقع في جهات تقدم الكلام في جملة منها.
وبقي الكلام في الجهة الأخيرة: وهي ما تعرض إليها صاحب الكفاية في
الامر العاشر، ومقصود صاحب الكفاية من ذلك بيان بعض الشئ من ثمرة
البحث المزبور كما أن مقصوده أيضا بيان ثمرة ما ذكره في الامرين الثامن
والتاسع.
وتوضيح ذلك: انه لو تعارض دليلان أحدهما يقتضي وجوب شئ والاخر
يقتضي حرمته، وكان بينهما عموم من وجه، وتقدم دليل التحريم، لا يكون الاتيان
بالعمل صحيحا ولا يتحقق به سقوط الامر، بل يقع محرما مطلقا علم به أو جهل،
كان الجهل عن قصور أو تقصير، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان وفي الوقت نفسه
يذهب المشهور إلى صحة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل قصورا بالحكم مع
القول بالامتناع، وتقديم جانب النهي، فان هذه الفتوى بظاهرها مناقضة لما
تقدم من بنائهم في باب التعارض، إذ على الامتناع لا يفترق الحال عن باب
التعارض، بل يكون المورد من مصاديق التعارض، فكيف يلتزم هنا بصحة
الاتيان بالمجمع مع الجهل بالتحريم قصورا ولا يلتزم به في باب التعارض؟!،
75

لاجل دفع هذا الاشكال والإجابة عن هذا التساؤل عقد صاحب الكفاية الامر
العاشر، وأوضح فيه جهة الفرق بين المقامين بعنوان التعرض لثمرة سائر
الاحتمالات في باب اجتماع الأمر والنهي.
فأفاد (قدس سره): انه بناء على الجواز لا اشكال في صحة العبادة، لان
مرجع القول به إلى تعدد متعلق الأمر والنهي وان أحدهما غير الاخر، فإذا جاء
بالمجمع فقد أطاع وعصى، لأنه جاء بعملين، فيكون نظير ما إذا نظر إلى
الأجنبية في أثناء صلاته. واما بناء على عدم الجواز وتقديم جانب الامر فلا اشكال
حينئذ في صحة العمل، واما لو قدم جانب النهي فلا يصح العمل مع الالتفات
إليه، لأنه عمل محرم ومنهي عنه فلا يصلح للمقربية. وهكذا الحال مع الجهل
بالحرمة عن تقصير لان العمل وإن لم يكن محرما فعلا الا انه يصدر عن المكلف
بنحو غير معذور فيه عقلا ومبغوض فلا يكون صالحا للتقرب به.
واما إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور كان العمل صحيحا، لأنه صدر
بعنوان حسن وهو قصد التقرب، كما أنه صالح للمقربية من دون مانع لاشتماله
على ملاك الوجوب مع عدم كونه مبغوضا وكون العبد معذورا فيه، فليس بقبيح
لجهله بالحكم قصورا، فنقطة الفرق الفارق بين المقامين تتضح في هذه الجهة،
وهي أن المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي يكون مشتملا على الملاك لكلا
الحكمين فيقع صحيحا مع الجهل، لأنه صالح للمقربية بلا مانع بخلاف مورد
التعارض فإنه لا ملاك فيه للوجوب فلا يقع صحيحا، فتظهر ثمرة اعتبار وجود
الملاك لكلا الحكمين في المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي في هذه الجهة.
وأضاف (قدس سره) إلى هذا الوجه وجهين آخرين لتصحيح العمل.
وهما:
الأول: ان يلتزم بان الاحكام تابعة للمصلحة والمفسدة المؤثرة في الحسن
والقبح الفعليين، فمنع عدم القبح الفعلي ليس هناك حكم واقعي وان كان الفعل
76

مشتملا على المفسدة. وعليه فمع الجهل عن قصور حيث لا يحكم العقل بقبح
العمل، بل يحكم بمعذورية الفاعل، فلا حكم بالتحريم، فيكون الامر ثابتا
بلا مزاحم، ويكون الفعل مأمورا به. وهذا الوجه لم يرتضه (قدس سره) وذكر أنه
خلاف الأقوى.
الثاني: ان العمل يمكن ان يؤتى به بداعي الامر المتعلق بالطبيعة وإن لم
يشمله بنفسه، وذلك لأنه واف كغيره بالملاك، وعدم تعلق الامر به لمانع لا لقصور
المقتضي، فلا يرى العقل بينه وبين غيره من الافراد تفاوت من جهة تحقق
الامتثال به، فيصح قصد الامتثال باتيانه (1).
وهذا المعنى تقدم منه (قدس سره) في تصحيح الاتيان بالفرد المزاحم في
الواجب الموسع بقصد امتثال الامر (2).
وقد استشكل المحقق النائيني فيما أفاده (قدس سره)، وذهب إلى أن
فتوى المشهور بالصحة لها وجه آخر غير ذلك هو الصحيح.
اما إشكاله على صاحب الكفاية: فبان هذه الوجوه غير تامة وليست
تنهض على توجيه فتوى المشهور.
اما دعوى عدم الحرمة مع الجهل لتبعية الاحكام للقبح والحسن الفعليين،
فهي دعوى التصويب التي تقرر بطلانها، لأنها ترجع إلى اختصاص الحكم
بالعالم، وقد ثبت في محله ان الاحكام ثابتة في صورة الجهل وان الأحكام الواقعية
يشترك فيها العالم والجاهل.
واما دعوى صلاحية الملاك لصيرورة الفعل مقربا، فيدفعها بأن ملاك
الوجوب في المجمع مزاحم بملاك التحريم وهو المفسدة في الفعل، وهي بعد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 157 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 136 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
77

ملاحظة الكسر والانكسار وغلبتها على المصلحة توجب تعلق الكراهة
والمبغوضية بالفعل، فلا يكون الفعل محبوبا في حال من الأحوال لان وجود
المفسدة واقعي لا يرتبط بالعلم والجهل فكيف يصلح للمقربية؟.
وبتعبير آخر: المصلحة الموجودة في الفعل مقهورة للمفسدة الموجودة فيه،
فلا تكون موجبة للتقرب بالعمل وصيرورته مقربا، بل يكون العمل مبغوضا
للمولى، كما أنه لو تساوت المفسدة والمصلحة يكون العمل مباحا لا محبوبا ولا
مبغوضا.
واما دعوى إمكان الاتيان بالعمل بداعي الامر لوفائه بالغرض، كغيره،
فهي تندفع بما عرفت من أن العمل لا يصلح للمقربية بعد اشتماله على المفسدة
الغالبة، فلا يكون كغيره من الافراد. مضافا إلى أن هذا الوجه مناقش فيه في
نفسه كما مر.
وعلى هذا فذهاب المشهور إلى صحة العمل مع الجهل بالتحريم لا تلتئم
إلا بذهابهم إلى جواز اجتماع الأمر والنهي في نفسه - وهو ما عبر عنه بالجواز من
الجهة الأولى -، وامتناع الاجتماع من جهة أخرى - وهي ما عبر عنه بالامتناع
من الجهة الثانية -.
وبيان ذلك: انه (قدس سره) ذكر في أول المبحث ان البحث يقع في
الجواز والامتناع من جهتين:
إحداهما: من جهة سراية كل من النهي والامر إلى متعلق الاخر وعدمه
الذي يبتني على كون التركيب بين الجهتين اتحاديا أو انضماميا، فعلى الأول يمتنع
اجتماع الحكمين، لأنه من الجمع بين الضدين في محل واحد. وعلى الثاني لا يمتنع،
لان موضوع أحدهما غير الاخر فلا يجتمع الضدان في شئ واحد. فالبحث في
الجهة في امتناع الاجتماع وعدمه من جهة كون الاجتماع الضدين في شئ واحد
وهو محال في نفسه، وعدم كونه كذلك. ومن الواضح ان اعتبار قيد المندوحة في
78

هذه الجهة لا أثر له أصلا.
ثانيتهما: انه بعد البناء على كون التركيب انضماميا وعدم اجتماع
الضدين، فهل تقع المزاحمة بين الحكمين أولا؟، وهو يبتني على أن تحقق الامتثال
هل يلزم فيه مقدورية الفرد، فلا يمكن الجمع بين الحكمين في الفرد المزاحم لعدم
امكان امتثالهما فيه أولا يلزم فيه مقدورية الفرد، بل يكفي فيه مقدورية نفس
الطبيعة، فيمكن تحقق الامتثال بالفرد المزاحم وإن لم يكن مقدورا شرعا؟. ومن
الواضح ان اعتبار وجود المندوحة في الحكم بالجواز من هذه الجهة ضروري، إذ
مع عدم المندوحة لا إشكال في تحقق المزاحمة لعدم التمكن من امتثال الحكمين
بأي نحو كان (1).
إذا اتضح ذلك فنقول: من يلتزم بجواز اجتماع الأمر والنهي من الجهة
الأولى بان كان يرى ان الجهتين انضماميتان، وانما يذهب إلى امتناع اجتماعهما
من جهة المزاحمة وتقديم جانب الحرمة، أمكنه دعوى صحة العمل العبادي مع
الجهل بالحرمة عن قصور، لان أساس التزاحم على تنافي الحكمين في مقام
الداعوية والتأثير، فكل منهما يدعو إلى صرف القدرة في متعلقه المانع من اتيان
متعلق الاخر، ومع الجهل بالحرمة لا تكون لها دعوة نحو متعلقها، لان العلم
دخيل في الفعلية ووصول الحكم إلى مرحلة التحريك. وعليه فيكون الوجوب
من غير مزاحم فيصح العمل. ففتوى المشهور تبتني على ما عرفت، ويشهد
لذلك أنهم أخذوا قيد المندوحة في محل الكلام وقد عرفت أنه لا يلزم الا في البحث
عن الجهة الثانية بعد الفراغ عن الجواز من الجهة الأولى، وانه لا أثر له في
البحث عن الجهة الأولى، فيكشف أخذهم القيد المزبور عن أن محط بحثهم
الجواز والامتناع من جهة التزاحم لا من جهة اجتماع الضدين في واحد.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 331 - الطبعة الأولى.
79

وبما ذكرنا يظهر الفرق بين صورة الغسل بالماء الغصبي وصورة الغسل
في المكان الغصبي، فان امتناع الأول من الجهة الأولى، لان الغصب يتحقق
بنفس الغسل بلا اشكال فيكون الغسل مجمعا للحكمين، وهو ممتنع، فإذا قدم
جانب التحريم كان العمل باطلا حتى مع الجهل بالحرمة لما تقدم من أنه عمل
مبغوض للمولى. واما امتناع الثاني فيمكن ان يدعى بأنه من الجهة الثانية فقط،
وان التركيب بين الجهتين انضمامي، وليس الغسل محققا للغصب وحينئذ مع
الجهل بالتحريم يصح العمل لما عرفت من عدم المزاحمة.
هذه نهاية الكلام في مقدمات البحث، ويقع الكلام بعد ذلك في موضوع
البحث والنزاع، وهو جواز اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد ذي وجهين
بأحدهما كان مورد الامر وبالاخر كان مورد النهي أو امتناعه.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع ذلك، وذكر للاستدلال على ذلك
مقدمات أربعة وهي:
أولا: ان الأحكام الخمسة متضادة بأسرها.
وثانيا: ان متعلق التكاليف ليس العناوين بما هي كذلك، ولا الأسماء، وانما
هو فعل المكلف وما يصدر منه في الخارج.
وثالثا: ان تعدد العناوين لا يستلزم تعدد المعنون.
ورابعا: ان الوجود الواحد لا يمكن أن يكون له سوى ماهية واحدة.
وعلى هذا يتضح امتناع الاجتماع لان المفروض ان المجمع وجود واحد
وتعدد العنوان لا يجدي في تعدده، وهو بنفسه يكون متعلق الحكم، وقد عرفت
تضاد الاحكام فيلزم من اجتماع الأمر والنهي اجتماع الضدين وهو محال (1).
هذا ملخص ما جاء في الكفاية من الاستدلال على الامتناع. ولا بد من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 158 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
80

التعرض لكل مقدمة والبحث فيها على حدة. فنقول:
اما المقدمة الأولى - وهو حديث تضاد الاحكام -: فهو محل الخلاف.
والأقوال فيه متعددة:
أحدها: وهو ظاهر الكفاية هنا، انها متضادة بنفسها مع غض النظر عن
المبدأ والمنتهى.
ثانيها: انه لا تضاد بينها كذلك، فان الانشاء خفيف المؤنة ولا مانع من
انشاء الحكمين، وانما التضاد بينها ينشأ من جهة المبدأ والمنتهي. وهو ظاهر،
بل صريح الكفاية في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (1).
ثالثها: انه لا تضاد بينها أصلا، وانما التنافي بينها ينشأ من جهة المنتهي،
يعني من جهة مقام الامتثال، وهو لا يوجب التضاد واستحالة اجتماعها في
أنفسها. وهو الذي التزم به المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (2).
ولمعرفة ما هو الحق ينبغي ان نستعرض مراحل الحكم، وهي أربعة:
المرحلة الأولى: مرحلة وجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه الموجب
لحدوث الإرادة أو الكراهة، وهي المرحلة الثانية.
والمرحلة الثالثة: مرحلة ابراز المولى هذه الإرادة أو الكراهة بمبرز، ويعبر
عنها بمرحلة إنشاء الحكم.
والمرحلة الرابعة: مرحلة فعلية الحكم ووصوله إلى حد الداعوية
والتحريك.
اما المرحلة الأولى - أعني مرحلة وجود المصلحة أو المفسدة -: فقد يدعي
تحقق التضاد بدعوى امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد، لأنها من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 278 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 270 - الطبعة الأولى.
81

قبيل السواد والبياض. ومن الواضح استحالة اجتماعهما في واحد. ولكن
هذه الدعوى لا دليل عليها، إذ لا دليل على كون المصلحة والمفسدة من قبيل
المتضادين، بل يكذبها الوجدان، إذ نرى ان كثيرا من الأفعال يترتب عليها
مصلحة ومفسدة والوقوع دليل الامكان.
ولكن الحق هو وقوع التضاد في هذه المرحلة ببيان: ان المراد بالمصلحة
والمفسدة ليس ذات المصلحة وذات المفسدة بل المراد بهما المصلحة التي تصير
منشاء لإرادة الفعل والمفسدة التي تصير منشاء لكراهته، وهما بهذه الكيفية لا
يجتمعان في فعل واحد، لان المصلحة التي تصير منشاء للإرادة مع وجود المفسدة
هي المصلحة الغالبة على المفسدة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما
بينهما، والمفسدة التي تصير منشاء للكراهة مع وجود المصلحة هي المفسدة الغالبة
على المصحلة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما بينهما أيضا. ومن
الواضح جدا امتناع اجتماع المصلحة الغالبة والمفسدة الغالبة في شئ واحد، فان
ذلك يرجع إلى اجتماع الغالبية والمغلوبية في شئ واحد، وهو محال، فإما ان يغلب
جانب المصلحة أو يغلب جانب المفسدة وهو ظاهر بمراجعة الوجدان. فالتضاد
من حيث المبدأ بمعنى المصلحة والمفسدة ثابت.
واما المرحلة الثانية: - وهي مرحلة الإرادة والكراهة -: فقد تصدى المحقق
الأصفهاني إلى بيان عدم تحقق التضاد بينهما، وانهما يمكن ان يتعلقا بأمر واحد
ببيان فلسفي دقيق، محصله إلى: ان التضاد من صفات الأوصاف الخارجية
العارضة للأمور العينية الخارجية كالسواد والبياض، وليست الإرادة والكراهة
من الأوصاف الخارجية، بل من الصفات النفسانية العارضة لما هو موجود في
النفس، فلا تضاد بينهما..
لا من ناحية موضوعهما وهو النفس، لان النفس من المجردات القابلة
لاجتماع الحالات والكيفيات المختلفة في آن واحد، والشاهد على ذلك امكان
82

وجود الإرادة والكراهة في النفس في أن واحد مع اختلاف متعلقيهما.
ولا من ناحية متعلقهما، لان متعلقهما ليس هو الفعل الخارجي، بل هو
الوجود الفرضي العنواني، وذلك لان ما كان في أفق النفس يستحيل ان يتقوم
بما هو خارج عن أفق النفس، وإلا لزم انقلاب ما في النفس إلى الخارج كما أنه
يحدث الشوق ومتعلقه غير موجود خارجا، بل لا يمكن حصوله كالشوق إلى
المحال، وحينئذ فلا يتحقق التضاد لأنه في الصفات العارضة على الموجودات
الخارجية كما أشرنا إليه (1).
وأنت بعد أن عرفت وقوع التضاد في منشأ الإرادة والكراهة تعرف إننا
في غنى عن تحقيق ما أفاده (قدس سره) نفيا أو اثباتا، إذ لا تصل النوبة أصلا
إلى اجتماع الإرادة والكراهة كي يبحث في امكان اجتماعهما في شئ واحد
وعدمه، لأنه لا يمكن تحقق منشئهما في آن واحد كما عرفت. وعليه فلا يمكن
تحقق الإرادة والكراهة لفعل واحد باعتبار استحالة منشاء كل منهما معا ويمتنع
تحققهما من دون منشاء فالتضاد في هذه المرحلة بهذا المعنى متحقق أيضا.
واما المرحلة الثالثة - وهي مرحلة الانشاء -: فقد يدعى عدم التضاد بين
الاحكام فيها، لان الانشاء خفيف المؤنة، فيمكن ان يتحقق انشاء جميع الاحكام
لفعل واحد في آن واحد.
ولكنها دعوى باطلة، والذي نراه امتناع انشاء الحكمين على موضوع
واحد بيان ذلك: ان في حقيقة الانشاء أقوالا أربعة - كما تقدم -:
الأول: وهو المشهور، انه ايجاد المعنى باللفظ، أو استعمال اللفظ في المعنى
بقصد التسبيب إلى تحقق الاعتبار العقلائي، فلا يتحقق بدون القصد، نظير
التعظيم الذي لا يتحقق من دون قصده، كما لا يتحقق بما لا يترتب عليه الاعتبار

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 270 - الطبعة الأولى.
83

كما لا يتحقق التعظيم بالفعل الذي لا يرى عرفا انه تعظيم وان فصد به التعظيم.
الثاني: وهو رأي صاحب الكفاية: انه ايجاد للمعني بوجود إنشائي وإن لم يترتب عليه الاعتبار العقلائي ولذا يصح الانشاء من الغاصب مع أنه مما لا
يترتب عليه الأثر عقلائيا (1).
الثالث: وهو ظاهر المحقق الأصفهاني وإن لم يلتزم به عملا، انه ايجاد
المعنى باللفظ لا أكثر، أو فقل انه استعمال اللفظ في المعنى من دون قصد الحكاية
والاخبار (2).
الرابع: وهو قول السيد الخوئي، انه ابراز الاعتبار النفساني (3).
وقد عرفت فيما تقدم ان الصحيح من هذه الأقوال هو القول المشهور.
وعليه فلا يمكن انشاء كلا الحكمين على موضوع واحد، إذ من المسلم ان اعتبار
كلا الحكمين غير ثابت في آن واحد - غاية الامر الاختلاف في منشاء ذلك وانه
هو التضاد أو غيره، وإلا فلم يقل أحد بجواز اجتماع الحكمين فعلا في شئ
واحد -، ومعه يمتنع ان يقصد بالاستعمال التسبيب إلى الاعتبار العقلائي، إذ لا
تحقق له بالنسبة إلى كلا الحكمين فكيف يقصد ذلك؟ فانشاء كلا الحكمين ممتنع
لتوقفه على ثبوت اعتبارهما معا وهو غير ثابت، ومعه يستحيل قصد التسبيب
وبدونه لا يتحقق الانشاء لما عرفت أن قوامه بقصد التسبيب إلى تحقق الاعتبار
العقلائي.
فدعوى أن الانشاء خفيف المؤنة غير وجيهة على الرأي المشهور
والمختار في معنى الانشاء.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 285 - المطبوعة ضمن حاشية فرائد الأصول.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث / 28 - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
(3) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 88 - الطبعة الأولى.
84

واما المرحلة الرابعة - أعني مرحلة الفعلية والتأثير -: فالحق أيضا استحالة
ثبوت الحكمين الفعليين لا لاجل اللغوية، بل هو مستحيل في نفسه ولو من
غير الحكيم، وذلك لما تقدم منا من بيان ان إمكان الداعوية إما هو مأخوذ في قوام
حقيقة التكليف حيث يعرف بأنه جعل ما يمكن أن يكون داعيا. أو هو الغرض
الداعي للتكليف بناء على أنه بجعل الفعل في عهدة المكلف، فيكون التكليف
هو الحصة الملازمة للامكان المزبور.
لأنه من الواضح اختلاف الحكم التكليفي عن الوضعي، ولذا لا يقول
أحد بجواز تعلقه بالنائم، فإذا فسر بأنه جعل الفعل في العهدة فلا بد ان يقيد
- كما التزم به القائل في غير مورد - بما يكون الغرض منه امكان الدعوة
والتحريك كي يختلف عن الحكم الوضعي بذلك. وعلى هذا فالحكم التكليفي انما
يتحقق في فرض يتصور فيه امكان الدعوة.
واما في المورد غير القابل للدعوة والتحريك فيمتنع التكليف حقيقة لا انه
لغو، بل لا وجود له لان تحققه كما عرفت بامكان الدعوة، إما لاجل ان ذلك
دخيل في حقيقته، أو انه الغرض منه وان التكليف هو ما يترتب عليه ذلك وغيره
ليس بالتكليف والا لم يكن فرق بين الحكم التكليفي والوضعي.
وبما أنه يستحيل الدعوة إلى الفعل والترك في آن واحد كان ثبوت
الحكمين في أنفسهما مستحيلا لعدم ترتب الدعوة على كل من الاعتبارين معا،
كما لا يخفى. فظهر من جميع ما تقدم: ان الحكمين متنافيان ولا يمكن اجتماعهما
في المراحل الأربعة.
وان ما ذكره المحقق الأصفهاني في بيان إمكان اجتماع الكراهة والإرادة
في شئ واحد غير مجد بعد استحالة تحقق علة الوصفين في آن واحد. كما أن
ما ذكره من امكان اجتماع اعتبار الوجوب واعتبار الحرمة، لان قوام الاعتبار
بالمعتبر لا بالموجود الخارجي. ولا مانع من تعدد الاعتبار في آن واحد غير مجد
85

أيضا بعد أن عرفت أن؟ الحكم ليس مجرد الاعتبار، بل هو الاعتبار الذي يترتب
عليه امكان الداعوية، فمع عدم امكان الداعوية يستحيل تحقق الحكم.
والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان تحقق الداعوية لكلا الحكمين فيستحيل
اجتماعهما معا. هذا تمام الكلام في المقدمة الأولى، وقد عرفت فيها تضاد الاحكام،
وإن شئت فقل تنافي الاحكام واستحالة اجتماعها في أنفسها، ولو لم يكن ذلك
من التضاد الاصطلاحي.
واما المقدمة الثانية: فتقريب ما افاده صاحب الكفاية: ان العناوين
والأسماء لا تكون وافية بالمصلحة والغرض، فلا وجه لتعلق الحكم بها لأنه لا
يتعلق بما لا يكون وافيا بالملاك، واما نفس ما يصدر من المكلف خارجا فهو واف
بالمصلحة فيكون متعلق الحكم.
وهذا الامر ذكره (قدس سره) في بحث تعلق الاحكام بالطبائع، وقد
عرفت الاشكال فيه وان الحكم سواء قلنا إنه الإرادة أو انه الاعتبار لا يتعلق
بالموجود الخارجي، بل هو يتعلق بالموجود التقديري بتعبير والفرضي بتعبير آخر
والزعمي بتعبير ثالث وهو الموجود الذي تخلفه النفس للشئ. ولأجل ذلك
كانت هذه المقدمة محط اشكال المحقق الأصفهاني (1).
والذي يبدو لنا انه لا وقع لهذه المقدمة، إذ لا أثر لها في المطلوب، كما أنه
لا وقع للاشكال عليها لعدم دخالته في نفي الأثر المرغوب.
بيان ذلك: ان صاحب الكفاية بعد أن ذكر في المقدمة الأولى ان الاحكام
متضادة فيما بينها صار بصدد ان يثبت وحدة المتعلق، إذ مع تعدد المتعلق لا ينفع
التضاد، وبذلك صار في مقام أن ينفي تعلق الاحكام بالعناوين الانتزاعية لأنها
متعددة مع وحدة الخارج كما هو الفرض، فلا يلزم اجتماع الضدين في شئ واحد

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 273 - الطبعة الأولى.
86

لاختلاف متعلق الحكمين.
ولكن بعد أن عرفت بيان تنافي الاحكام وتضادها بما تقدم تعلم انه لا
يختلف الحال في امتناع ثبوت الحكمين مع وحدة الوجود خارجا بين كونه هو
متعلق الحكم أو كون متعلق الحكم هو العنوان المنطبق عليه، اما إذا كان هو
متعلق الحكم فامتناع تعلق الحكمين به واضح. واما إذا كان متعلق الحكم هو
العنوان فمن الواضح ان تعلق الحكم به ليس لاجل ثبوت الغرض - الذي لابد
منه في تعلق الإرادة والكراهة ولو كان غرضا شخصيا - فيه، بل لاجل وجوده في
الوجود الخارجي والالتزام بتعلق الحكم به لاجل امتناع تعلقه بالخارج لبعض
المحاذير. وقد عرفت أن الوجود الخارجي لا يمكن ان يشتمل في آن واحد على
المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة، فكيف يتعلق الحكمان بعنوانين ينطبقان
عليه لعدم المنشأ لهما؟. فلا يمكن تعلق الإرادة والكراهة بالعنوانين، كما لا وجه
للانشاء أيضا، إذ لا يتحقق اعتبار الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي لعدم
ترتب الأثر عليه وهو امكان الداعوية، لعدم التمكن من الامتثال فيمتنع قصد
التسبيب إلى الاعتبار العقلائي مع أنه قوام الانشاء.
ومن هنا تعرف عدم إمكان ثبوت الحكمين الفعليين أيضا فلاحظ.
وبهذا البيان يتضح لديك انه لا أثر لاثبات كون المتعلق للإرادة والكراهة
الوجود الفرضي التقديري في نفي التنافي بين الحكمين، إذ الكلام السابق مع
فرض وحدة الخارج يأتي بعينه على هذا التقرير، فاثبات المقدمة أو نفيها ليس
بذي أثر في اثبات أو نفي امكان اجتماع الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي،
بل الحكمان لا يجتمعان مع وحدة الخارج سواء التزم بان المتعلق هو الخارج أو
العنوان أو الوجود الفرضي. فتدبر.
واما المقدمة الثالثة: فمحصل ما جاء في الكفاية في تقريبها: ان تعدد
العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته، ويشهد لذلك صدق العناوين
87

المتعددة على ما هو واحد لا تعدد فيه وفارد لا كثرة له كالذات الواجبة التي
يصدق عليها عنوان العالم والمريد والمغني والقادر وغيرها من الصفات الكمالية
والجلالية، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد
صدق على أن تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.
وقد استشكل المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في كلية هذه الدعوى
وذهب إلى: ان تعدد العنوان قد لا يستلزم تعدد المطابق خارجا وقد يستلزمه ببيان
محصله: ان البرهان قد يقوم على استحالة كون الشئ الواحد مطابقا لمفهومين
فيكون المفهومان متقابلين كالعلية والمعلولية، فان الواحد بما هو يستحيل أن يكون
علة ومعلولا. وقد لا يقوم على ذلك فلا يمتنع أن يكون الشئ الواحد
مطابقا لمفهومين.
وهذا النحو من المفاهيم...
تارة: يكون مبدؤه في مرتبة ذات الشئ، فلا يستدعي العنوان ومبدؤه
مطابقين، بل يكون مطابقهما واحدا وهو الذات كالعناوين المنطبقة على ذات
البارئ عز وجل، لأنها تنتزع عن مرتبة ذاته تبارك وتعالى بلا حيثية زائدة فذاته
تكون مطابقا للعنوان ومبدئه، ولذلك يقال إنه علم كله وقدرة كله ووجوب كله.
وأخرى: يكون مبدؤه في مرتبة متأخرة عن الذات فيكون للمبدأ وجود
مغاير للذات قائم بها كالعناوين المنطبقة على الشئ بلحاظ عروض عرض
عليه كانطباق الأبيض على الجسم بلحاظ عروض البياض عليه. وانتهى بهذا
البيان إلى أن تطابق العناوين المتعددة لا يستدعي وحدة المطابق ولا كثرته، فلا بد
في إيقاع البحث في الصغرى ومعرفة ان الصلاة والغصب - مثلا - من أي
القبيلين (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 274 - الطبعة الأولى.
88

أقول: لم يتضح لنا المقصود بعبارة الكفاية، كما لم يتضح لنا مدى ارتباط
اشكال المحقق الأصفهاني بها.
فان مقصود الكفاية..
ان كان ما هو الظاهر منها من بيان ان الفرد الواحد لا يتعدد بتعدد
العناوين المنطبقة عليه، فذات زيد لا تكون فردين لاجل إنطباق عنواني العالم
والعادل عليها، بل تبقى على وحدتها. فهذا أمر واضح لم يتوهم خلافه أحد حتى
يصير في صدد دفعه، إذ لم يتوهم متوهم ان ذات زيد بانطباق العناوين المتعددة
تصير متعددة وتصير وجودات متكثرة بكثرة العناوين المنطبقة.
وعلى هذا التقدير لا ارتباط لكلام الأصفهاني به، إذ ما أفاده (قدس
سره) من أن المبدأ إذا كان منتزعا عن مرتبة متأخرة عن الذات كان له وجود
آخر غير وجود الذات، بعيد كل البعد عن محط نظر الكفاية من أن ذات المعنون
لا تتعدد بتعدد العنوان. وليس صاحب الكفاية في مقام إنكار الوجود المغاير
للمبدأ.
وان كان مقصود الكفاية بيان وحدة مطابق العنوان في قبال من يدعي
تعدد الخصوصية المستلزمة للصدق، وان تعدد العنوان لازمه تعدد الخصوصية في
ذات المعنون، فيروم صاحب الكفاية انكار هذا المعنى وان مطابق العنوان نفس
الذات، بلا اختلاف في الخصوصية، فهو متجه - بمعنى انه يصلح لان يكون محل
الكلام -، لكن استشهاده بانطباق العناوين المتعددة على ذات الباري جل اسمه
غير سديد، إذ بساطة الذات المقدسة وعدم تعدد الخصوصيات فيها امر مفروغ
عنه عند الجميع حتى عند من يذهب إلى لزوم التعدد بتعدد العنوان. غاية الامر
انه يوجه ذلك باختلاف نحو الصدق هنا عن سائر المقامات، أو اختلاف معنى
المبدأ هنا عنه في غيره من المقامات فلا وجه لالزامه به كما لا يخفى.
ومن الواضح بعد ما افاده المحقق الأصفهاني عن مطلب الكفاية على
89

هذا التقدير، إذ ليس المنظور في كلامه وحدة المبدأ مع الذات وعدم وحدته.
وان كان المقصود ان انطباق العناوين لا يستلزم تعدد جهات الصدق
وجودا، بل يمكن ان تكون واحدة في الخارج مع تعدد العنوان. فيرجع كلامه إلى
وحدة وجود المبادئ خارجا وعدم تعدده وإن تعدد العنوان. فهو محل الكلام، الا
انه خلاف ظاهر عبارته جدا، وليس الظاهر منها الا الاحتمال الأول، وظاهر أن
كلام الأصفهاني أجنبي عن ذلك لأنه في مقام بيان إختلاف المبدأ مع الذات
وصاحب الكفاية في مقام نفي اختلاف المبادئ بعضها مع بعض وجودا.
ومحصل الكلام: إننا نستطيع دعوى عدم ظهور المراد من عبارة الكفاية
وعدم ظهور ارتباط كلام المحقق الأصفهاني بمطلبه.
وعلى أي حال فعمدة البحث في محل الاجتماع في جهتين:
الجهة الأولى: وهي التي حرر الكلام فيها المحقق النائيني (قدس سره)
تمهيد للايراد على صاحب الكفاية وتحقيقا للقول بالجواز، وهي تحرير البحث
في: ان تعدد العنوان هل يقتضي تعدد جهات الصدق - وبتعبير آخر: " المبادئ " -
خارجا أولا؟. ونحن وان كنا ملتزمين في نهج البحث بطريقة الكفاية، ومقتضاه
تأخير كلام المحقق النائيني وذكره في طي التعرض لأدلة الجواز لكنه بما أنه
مرتبط بكلام الكفاية - على بعض احتمالاته - كان المناسب التعرض إليه، وان
كان منافيا بطريقة البحث التي نسلكها.
فنقول ومن الله سبحانه نستمد العصمة: انه (قدس سره) ذكر مقدمات
عديدة، وعمدتها ما تعرض فيها إلى كون التركيب بين المبادئ انضماميا لا اتحاديا.
وقبل التعرض لذلك أشار (قدس سره) إلى ما هو محل البحث وموضوع
الكلام.
فذكر ان موضوع الكلام ما كان مبدأ الاشتقاق فيه من الأفعال
الاختيارية لا من الصفات الجسمانية كالبياض والنفسانية كالشجاعة، لان ما لم
90

يكن من الأفعال الاختيارية لا يكون متعلقا للامر والنهي، لأنهما انما يتعلقان
بما هو داخل تحت الاختيار لا ما هو خارج عنه. كما أنه لا يدخل في محل الكلام
ما كان الفعلان اللذان أحدهما يكون متعلقا للامر والاخر يكون متعلقا للنهي
مما لهما وجود وايجاد متعدد وكان أحدهما مغايرا وجودا للاخر كالصلاة والنظر إلى
الأجنبية، فإنه لا اشكال في جوازه لأنه ليس من اجتماع الأمر والنهي في واحد،
بل متعلق النهي غير متعلق الامر حتى بالنظر العرفي.
وعليه، فمحل الكلام ما كان كل من متعلق الأمر والنهي فعلا اختياريا
وكانا بحسب الصورة موجودين بوجود واحد سواء كان من المبادئ المتأصلة أو
المبادئ الانتزاعية.
فجهة الكلام هو ان التركيب بين المتعلقين انضمامي، بمعنى ان وجود
كل منهما غير وجود الاخر حقيقة، أو اتحادي، بمعنى ان وجودهما واحد في
الحقيقة وقد ذهب (قدس سره) إلى التفصيل بين مبادئ الاشتقاق والعناوين
الاشتقاقية، فذهب إلى كون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا والتركيب بين
العناوين الاشتقاقية تركيبا اتحاديا.
واستدل على كون التركيب بين المبادئ انضماميا: بان المبدأ هوية واحدة
محفوظ بتمام هويته من دون نقصان أين ما سرى، فالبياض الموجود مع الحلاوة
عين البياض الموجود في العاج، والصلاة مع الغصب عين الصلاة في مكان آخر
غير مغصوب، وهكذا الغصب مع الصلاة لا تختلف هويته عن الغصب مع غير
الصلاة. وإذا كانت هوية المبدأ هوية واحدة لا اختلاف فيها أين ما سرت لزم
أن يكون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا.
كما أنه استدل على كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية تركيبا
اتحاديا: بان معروض العنوان وما ينطبق عليه هو الذات، وهي لا تتعدد بتعدد
العنوان وان كان العرض القائم بها متعددا، فالذات التي ينطبق عليها الأبيض
91

والحلو ذات واحدة.
الا ان البيان الذي ذكره قاصر عن أداء هذا المعنى، بل هو يتضمن ان
وحدة العرض لا توجب وحدة المعروض، ثم إنتهى إلى النتيجة التي ذكرناها.
ثم إنه (قدس سره) ذكر بعد ذلك أن جهة صدق العناوين الاشتقاقية
على الذات جهة تعليلية، وهي قيام المبدأ بالذات، إذ لا تعدد في ذات المعروض
، وانما هو في العرض القائم بها فالمعروض هو نفس الذات. كما أن جهة صدق؟
كل من المبادئ في مورد الاجتماع جهة تقييدية لوجود كل من الهويتين في المورد،
ومن هنا التزم بكون التركيب انضماميا. والمقصود بالجهة التقييدية كون الفرد
الواحد مندرجا تحت هويتين حقيقة، وبذلك تختلف الجهة التقييدية هنا عنها في
باب المطلق والمقيد، فإنها هناك توجب تضييق الكلي وهنا توجب التوسعة في
الوجود الواحد وتجعله مصداقا لهويتين (1). هذا ملخص ما افاده.
وهو لا يخلو عن مناقشات نذكرها بالتفصيل:
الأولى: فيما ذكره من الدليل على تعدد المبادئ، وكون التركيب بينهما
انضماميا. فإنه غير تام، لان مجرد كون المبدأ محفوظا بتمام هويته أين ما سرى
لا يوجب عدم اتحاده مع الخصوصية المنضمة إليه، فان الجنس محفوظ بتمام هويته
مع جميع الفصول، فالحيوانية الموجودة مع النطق عينها موجودة مع غيره من
الفصول، مع أنه متحد معها وجودا، وليس التركيب بين الجنس والفصل تركيبا
انضماميا، بل هو تركيب اتحادي.
فالمتعين في طريقة الاستدلال ان يقال: ان كل مبدأ ماهية مستقلة ومقولة
خاصة غير المبدأ الاخر، والمقولات متبائنة يستحيل ان تتحدد فيما بينها، لان
الوجود الواحد لا يمكن أن يكون له إلا ماهية واحدة، فتعدد الماهية يستلزم تعدد

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 336 - 338. الطبعة الأولى.
92

الوجود كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية في مقدمته الرابعة (1).
الثانية: فيما ذكره من كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية اتحاديا.
فإنه غير صحيح، والوجه في ذلك: أنه...
إما ان يلتزم في باب المشتق بان معنى المشتق بسيط، بمعنى أنه يكون
نفس المبدأ، فالعالم بمعنى العلم وهكذا. غاية الامر الفرق بينهما ان المعنى
المصدري مأخوذ بشرط لا، فلا يصح حمله على الذات، والعنوان الاشتقاقي
مأخوذ لا بشرط فيصح حمله على الذات وإلا فلا فرق بينهما ذاتا.
واما ان يلتزم بكون معناه مركبا من الذات والتقيد بالعرض، فيكون
معنى عالم ذات لها العلم على أن يكون التقيد داخلا والقيد خارجا.
فعلى الأول: لا فرق بين العناوين الاشتقاقية والمبادئ في كون التركيب
بينهما انضماميا، لان حقيقة العنوان الاشتقاقي والمبدأ شئ واحد لا اختلاف
فيها، فإذا كان التركيب بين المبادئ انضماميا كان بين العناوين الاشتقاقية كذلك
لا محالة، ويمتنع التفكيك لوحدة معناهما، فما قيل في وجه الانضمامية في تركيب
المبادئ يتأتى بنفسه في تركيب العناوين الاشتقاقية.
ومن الغريب ان المحقق النائيني ممن يلتزم ببساطة المشتق وكون معناه لا
يختلف عن المبدأ ذاتا، ثم يلتزم هنا بالتفكيك بين المبادئ والعناوين الاشتقاقية
في نحو التركيب بينها. فالتفت ولا تغفل (2).
وعلى الثاني: فالتخصص بالخصوصية وان كان من كيفيات الوجود وليس
له وجود منحاز عن وجود الذات، الا ان كل تخصص واقعا يختلف عن واقع
التخصص بالخصوصية الأخرى، فما ينطبق عليه كل عنوان يختلف عما ينطبق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 159 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 65 و 337 - الطبعة الأولى.
93

عليه العنوان الاخر، فما ينطبق عليه العالم هو الذات المتخصصة بخصوصية
العلم، وما ينطبق عليه الفاسق هو نفس الذات، لكن المتخصصة بخصوصية
الفسق. ومن الواضح ان المجموع من الذات والتخصص بخصوصية العلم
يختلف واقعه عن المجموع من الذات والتخصص بخصوصية الفسق، وان كان
الوجود واحدا.
وهذا الاختلاف قد يصير منشئا لدعوى جواز اجتماع الأمر والنهي مع
اختلاف العنوانين، وهو محل البحث في الجهة الثانية من جهتي الكلام في هذا
المبحث. فانتظر.
وجملة القول: ان الالتزام بكون التركيب اتحاديا بين العناوين الاشتقاقية
غير سديد.
الثالثة: فيما ذكره أخيرا من كون جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية
جهة تعليلية وفي المبادئ جهة تقييدية. فإنه - مع غض النظر عن امكان تصور
معنى للجهة التقييدية بالنحو الذي ذكره وعدمه - غير دخيل في تحقيق المقام
أصلا بعد أن ذكر ان التركيب بين المبادئ انضمامي، فإنه لا يختلف الحال فيه
حينئذ بين معرفة كون جهة الصدق فيها جهة تقييدية وعدم معرفته، فالتعرض
إليه كمقدمة من مقدمات المطلب غير متجه، كما أنه تطويل بلا طائل، ولعله مما
يوجب غموض المطلب على الباحث لا إيضاحه.
واما الوجه الذي بنى عليه القول بالجواز، وهو كون التركيب بين المبادئ
انضماميا، ومعناه تعدد الوجود في الخارج حقيقة فيختلف متعلق الامر عن متعلق
النهي ولا يكونان شيئا واحدا كي يلزم اجتماع الضدين.
فقد ناقشه السيد الخوئي " مد ظله " بأنه ممنوع على اطلاقه، لأنه انما يتم
فيما إذا كان المبدءان من المبادئ المتأصلة، فان لازم تعدد المبدأ تعدد الوجود
لاستحالة انطباق مقولتين وماهيتين حقيقيتين على وجود واحد، كالبياض والحلاوة
94

والعلم والعدالة وهكذا. واما إذا كان أحد المبدئين أو كلاهما من المبادئ الانتزاعية
فلا يتم ما ذكره، لان المبدأ الانتزاعي لا وجود له خارج إلا بوجود منشاء
انتزاعه، فلا بد من ملاحظة منشئ انتزاعه، فإن كان مغايرا في الوجود مع المبدأ
الاخر أو منشاء انتزاع الاخر جاز اجتماع الأمر والنهي فيتعلق الامر بأحدهما
والنهي بالاخر، وان اتحد منشاء الانتزاع مع المبدأ الاخر وجودا بان كان المبدأ
الانتزاعي منتزعا عن الفعل المنطبق عليه المبدأ الاخر أو اتحد منشاء انتزاع
كلا المبدئين امتنع اجتماع الأمر والنهي، إذ الوجود، الخارجي واحد لا غير.
فمجرد تعدد المبادئ لا يستلزم تعدد كما ذكره (قدس سره)، بل انما يستلزمه في
صورة تعدد المبادئ المتأصلة.
هذا ملخص مناقشة السيد الخوئي في أصل الكبرى.
ثم إنه (حفظه الله تعالى) ذكر: ان الغصب من المبادئ الانتزاعية لا
المتأصلة، فهي تنتزع من الفعل بلحاظ كونه تصرفا في مال الغير بدون، إذنه، فهو
متحد مع ما ينتزع منه فلا يمكن تعلق الامر بما ينتزع منه الغصب وتعلق النهي
بالغصب، نظير شرب الماء إذا كان الماء مغصوبا، فان الغصب ينطبق على نفس
الشرب فيمتنع أن يكون الشرب مأمورا به في الوقت الذي يتعلق النهي بالغصب
فإنه من باب اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد حقيقة.
وبما أن المحقق النائيني (رحمه الله) اعترف بعدم صحة تعلق الحكمين في
مثل المثال المزبور..
لذا أورد عليه السيد الخوئي أيضا: ان هذا مناقض لما تقدم منه من أن
تعدد المبادئ يوجب تعدد الوجود، وانه لا فرق بين الصلاة في الدار المغصوبة
وشرب الماء المغصوب في كون كل منهما من باب تعدد المبدأ المستلزم لتعدد
الوجود، فإذا كان التركيب الانضمامي بين المبادئ نافعا في مثل الصلاة في الدار
95

المغصوبة فلماذا لا ينفع في مثل شرب الماء المغصوب (1).
أقول الحق ان مناقشته الصغروية غير تامة.
ووضوح ذلك يتوقف على ذكر أمرين:
الامر الأول: ان الانتزاعيات على قسمين:
أحدهما: ما يمكن أن يكون واقعه ومطبقه من الأمور الحقيقية ذات
الوجود المتأصل الحقيقي، وذلك كالمفاهيم والعناوين الاشتقاقية، كعنوان انسان
وعنوان ضارب، وهكذا فإنها عناوين انتزاعية لكنها تنطبق على ماله واقع ووجود
متأصل.
ثانيهما: ما يقال عنه انه انتزاعي بلحاظ انه بواقعه أمر انتزاعي لا
حقيقي فليس له واقع وراء الانتزاع، وذلك كالقبلية والفوقية ونحوها. وقد
إختلف في كون هذا النحو من الأمور من المقولات أولا، وقد حقق كونها من
المقولات لكن قيل عنها بأنها أضعف المقولات لأنها ذات واقع خاص فلا يمكن
أن لا تكون مقولة وان تنفى عنها الواقعية بالمرة، كما انها ليست بذات واقع
ووجود مستقل عن غيره كي تكون في عداد سائر المقولات، فالانتزاعي يطلق
ويراد به تارة ما كان بواقعه كذلك وأخرى يراد به المفهوم الانتزاعي وان كان
واقعه من الحقائق المتأصلة. وقد عرفت أن العناوين الاشتقاقية من هذا القبيل،
فهي عناوين انتزاعية قد تنطبق على ماله واقع حقيقي متأصل كالضارب والقائم
وقد تنطبق على غيره كالفوق والقبل وغيرهما.
الامر الثاني: ان المبادئ على أنحاء ثلاثة:
الأول: ما يكون من المسببات التوليدية كالاحراق والقتل.
الثاني: ما لا يكون كذلك وكانت نسبته إلى الخارج نسبة الطبيعي إلى

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 4 / 261 - الطبعة الأولى.
96

فرده بان يكون له حقيقة وماهية تنطبق على الخارج باعتبار انه فردها كالضرب
والقيام والأكل.
الثالث: ما تكون نسبته إلى الخارج نسبة العنوان إلى المعنون بان لا
يكون له حقيقة وواقع يكون الخارج فردا لها، بل يكون عنوانا لحقائق مختلفة
وليس له وراءها واقع مقولي. كالغصب إذا كان بمعنى التصرف، فان التصرف
ليس له واقع غير واقع الأفعال التي ينطبق عليها من قيام وقعود ونحوهما. ونظيره
في الجوامد مفهوم: " شئ " فإنه لا واقع له أصلا وانما هو مجرد عنوان يعنون به
الحقائق المختلفة من متأصلة وغيرها، فالغصب بمعنى التصرف ليس له واقع وراء
ما ينطبق عليه، كيف؟ وهو ينطبق على الحقائق المقولية المتأصلة كالقيام والقعود،
وعلى الحقائق الاعتبارية كالاستيلاء الاعتباري على مال الغير من دون تصرف
خارجي كاستيلاء السلطان على أراضي الغير الشاسعة فإنه لا ينضم إلى مجرد
الاعتبار شئ من الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها التصرف. كما لا يخفى.
ومن الواضح انه لا جامع مقولي بين الأمور الواقعية والأمور الاعتبارية كي
يدعى أنه واقع الغصب وحقيقته كما أنه ليس اسما لكل امر ينطبق عليه بحيث
يكون كل امر مما ينطبق عليه الغصب له اسمان أحدهما اسمه المختص به
والاخر اسم الغصب ويكون الوضع بنحو الوضع العام والموضوع له خاص،
فان هذا مما يكذبه الوجدان. إذن فهو موضوع لعنوان لا واقع له وهو التصرف
في ملك الغير لكن لا مطلقا، بل بلحاظ تخصصه بخصوصية، وهي عدم كونه
برضا المالك أو كونه مع كراهة المالك.
وعلى هذا فالغصب وان كان من المبادئ التي يتفرع عنها العناوين
الاشتقاقية كغاصب ومغصوب ونحوهما، الا انه نظير (1) العناوين الاشتقاقية في

(1) بل ذهب سيدنا الأستاذ (دام ظله) أولا إلى امكان دعوى أنه ليس من المبادئ، بل من العناوين نظير
الصفة المشبهة، وانما المبدأ هو الغصبية كالقبل والقبلية. (منه عفي عنه).
97

سائر الموارد في كونه ليس بذي واقع غير ما ينطبق عليه. وانما ينطبق على مورده
بلحاظ تخصصه بخصوصية خاصة. وعليه، فإن كان معنونه وما ينطبق عليه
غير المأمور به كان المورد من موارد جواز الاجتماع ومن موارد التركيب
الانضمامي - بحسب تعبير المحقق النائيني -، كالصلاة في الدار المغصوبة في نظره
(قدس سره)، لان منطبق الغصب غير الصلاة فإنه من مقولة الأين والصلاة من
مقولة الفعل أو الوضع. وان كان معنونه نفس المأمور به امتنع اجتماع الحكمين
لوحدة متعلقهما كشرب الماء المغصوب إذا كان الشرب مأمورا به.
فالفرق بين الصورتين موجود ونطر المحقق النائيني إلى ما ذكرناه في
التفريق، إذ ليس من المحتمل في حقه أنه يرى ان نفس الغصب من مقولة الأين
في مثال الصلاة في الدار المغصوبة.
ويشهد لذلك: انه (قدس سره) جعل خروج مثال الشرب عن محل
النزاع من فروع كون التركيب اتحاديا، نظير: " أكرم العلماء ولا تكرم الفساق "،
من جهة تعنون الشرب نفسه بعنوان الغصب لأنه تصرف في مال الغير. فلا
يمكن أن يكون بنفسه واجبا. مما يكشف عن أن الملحوظ في كلامه هو معنون
الغصب وانه متحد مع الواجب أو مغاير.
فاشكال السيد الخوئي ناشئ من الخلط في الانتزاعيات بين ما كان من
المفاهيم وبين ما كان واقعه انتزاعيا، فجعل الغصب من الثاني مع أنه من قبيل
الأول وهو منظور في كلام المحقق النائيني، فإنه لا يرى كون التركيب بين
المبادئ مطلقا انضماميا، كما لا يخفى على من لا حظ كلامه، بل نتيجة كلامه
(قدس سره) هو التفصيل الذي عرفته بين المبادئ، فإنه يذكر ان الامر إذا تعلق
بالمسبب التوليدي، فبما ان الحكم حقيقة يتعلق بالسبب فلا بد من ملاحظة ان
98

السبب هو متعلق الامر أو غيره، فإن كان هو لزم اتحاد متعلق الأمر والنهي، وان
كان غيره تعدد متعلق الأمر والنهي وكان أحدهما غير الاخر.
فلا اشكال على المحقق النائيني (قدس سره) سوى انه أجمل الكلام في
ذلك ولم يوضحه من أول الامر ولم يستثن بدوا ما كان من المبادئ كالغصب. وهو
اشكال لفظي.
واما مناقشته الكبروية، فهي وان كانت تامة في نفسها حيث إن الأمور
الانتزاعية لا وجود لها غير وجود منشاء انتزاعها، فليس التركيب بينها وبين
منشاء انتزاعها انضماميا، بل هو اتحادي، الا انها لا تنتهي بمجرد ذلك إلى
النتيجة المطلوبة في محل البحث وهي امتناع الاجتماع.
بل لا بد من وقوع البحث في..
الجهة الثانية: وهي ان الوجود الواحد إذا كان له جهتان، فهل يمكن ان
تكون إحداهما متعلقا للامر والأخرى متعلقا للنهي، بحيث يكون تعدد الجهة
نظير تعدد الوجود أولا؟. وهذه هي الجهة المهمة في البحث فإنها بحث كبروي
له أثر في اجتماع الأمر والنهي وعدمه. اما البحث في الجهة الأولى فهو بحث في
الحقيقة صغروي، إذ قد فرض فيه جواز الاجتماع مع تعدد الوجود وامتناعه مع
وحدته، وأوقع البحث في تحديد ضابط للصغرى، أعني مورد تعدد الوجود
ووحدته. وأنه في أي مورد يكون الوجود متحدا وأي مورد يكون الوجود فيه
متعددا؟.
وهذا غير مهم في المقام وان كان له أثره، وانما المهم هو البحث عن أن
تعدد الخصوصية مع وحدة الوجود الواقعي هل يجدي في رفع غائلة اجتماع
الضدين أولا؟. وهذا المعنى مغفول عنه في كلامي النائيني والخوئي، بل كلامهما
مركز على بيان موارد تعدد الوجود ووحدته بنحو الضابطة الكلية.
ومورد البحث في الجهة الثانية هو العناوين الاشتقاقية المنطبقة على ذات
99

واحدة بناء على التركيب، فان الذات تكون مشتملة على خصوصيتين - مثلا -
والأفعال المتخصصة بخصوصيتين والمشتملة على جهتين وهكذا المبادئ الانتزاعية،
فان البحث فيها من هذه الجهة.
وبما أن العناوين الاشتقاقية كالعالم والفاسق مما تؤخذ في موضوعات
الاحكام لا في متعلقاتها، كانت خارجة عن دائرة البحث فيما نحن فيه، نعم
الفعل الواحد المضاف إلى شخص ذي عنوانين يكون داخلا في محل البحث
لاشتماله على خصوصيتين، وذلك كاكرام زيد العالم الفاسق، فهو ذو جهتين.
وعليه، فنقول: الخصوصية المفروضة، تارة تكون دخيلة في اتصاف الفعل
بالمصلحة. وأخرى تكون دخيلة في وجود مصلحة الفعل وترتبها عليه.
اما النحو الأول: فهو خارج عن محل الكلام لوجهين:
أحدهما (1): ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في اتصاف
الفعل بكونه ذا مصلحة، فمعناه ان الأثر في نفسه يترتب على الفعل ولو لم تكن
الخصوصية، وانما الخصوصية دخيلة في كون الأثر من المصالح التي تتعلق بها
الأغراض العقلائية، وذلك نظير دخالة المرض في كون الدواء ذا مصلحة، فان
اثر الدواء يترتب عليه مطلقا في حال المرض وغيره، الا انه انما يكون من
المصالح في حال المرض فقط اما في غيره فلا يكون أثره متعلقا للغرض
العقلائي. وإذا كان الحال كذلك فمعناه: ان المصلحة والمفسدة مما يترتب على
نفس الفعل وليست الخصوصية إلا موثرة في صيرورة الأثر مصلحة أو مفسدة.

(1) قد يستشكل: بان هذا الوجه لا يختص به النحو الأول، لأنه مرجعه إلى احراز كون المصلحة والمفسدة
مما يترتبان على العمل بنفسه، والحال عند ذلك لا يختلف بين القيد الدخيل في الاتصاف بالمصلحة والقيد
الدخيل في وجودها. وقد أفاد السيد الأستاذ دام ظله: ان هذا الوجه يذكر في قبال الصورة الثالثة من
صور النحو الثاني، فان القيد في نفسه ذو مصلحة وهو دخيل في ترتب المصلحة على نفس العمل لكنها
المصلحة الضمنية. فهو متمم بوجوده للمصلحة ومحصل لمصلحة الفعل الضمنية فلا يجري فيه هذا الوجه
من الاشكال. فالتفت. (منه عفي عنه).
100

وبما أنه يمنع اجتماع المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة في شئ واحد فلا
اشكال في مثل هذه الحال في امتناع اجتماع الحكمين.
ثانيهما: ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في صيرورة الفعل ذا مصلحة،
فذلك يقتضي أنها عند وجودها يصير الفعل كذلك، وحينئذ تنشأ الإرادة
والكراهة والحب والبغض، ومن الواضح انه يمتنع أن يكون نفس الخصوصية
متعلقة للحب والبغض حينئذ لوجودها خارجا، فالمتعلق انما هو نفس الفعل
بلحاظ مصلحته أو مفسدته الخاصة به فيمتنع اجتماع الحكمين فيه. كما عرفت.
إذا عرفت ذلك تعرف ان الفعل الواحد المضاف إلى عنوانين اشتقاقيين
خارج عن دائرة النزاع، لان كلا من الخصوصيتين لا يكون متعلقا للرغبة
والكراهة، لأنهما مما يكونان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة والمفسدة لا خذهما
في موضوع الحكم وهو يقتضي ذلك.
ولأجل ذلك لم يتوقف أحد في كون مثل: " أكرم العلماء ولا تكرم الفاسق "
متعارضين في العالم الفاسق مع تعدد خصوصية الاكرام بلحاظ تعدد العنوان.
واما النحو الثاني: فهو محل الكلام، والبحث فيه في صور:
الأولى: ان تكون المصلحة الراجحة في ذات العمل والمفسدة الراجحة
في الخصوصية بنفسها أو بالعكس.
الثانية: ان تكون إحداهما في خصوصية والأخرى في خصوصية ثانية.
الثالثة: ان تكون في ذات العمل مصلحة راجحة وفي المجموع من الذات
والخصوصية مفسدة راجحة أو بالعكس.
الرابعة: ان تكون إحداهما في نفس الخصوصية والأخرى في المجموع.
الخامسة: أن يكون في المجموع مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة
راجحة، بحيث يكون كل من العمل والمفسدة ذا مصلحة ومفسدة ضمنيتين.
فيقع الكلام في امكان هذه الصور ونتيجة ذلك.
101

اما الصورة الأولى: فلا إشكال في إمكانها، لان الخصوصية وإن لم يكن
لها وجود مستقل عن العمل، الا انها مما يمكن أن تكون متعلقا للأغراض
العقلائية من دون ان يلحظ العمل أصلا، بل لا يكون الملحوظ في ترتب الغرض
سوى نفس الخصوصية، وحينئذ تكون هي بذاتها متعلقا بما ينبعث عن الغرض
من كراهة أو رغبة وإرادة، ويكون العمل على العكس منها، لأنه متعلقا للغرض
المعاكس فيجتمع الإرادة والكراهة في وجود واحد حقيقة، الا ان متعلق إحداهما
يختلف عن الاخر فان أحدهما الفعل والاخر هو الخصوصية وإن كانا موجودين
بوجود واحد حقيقة.
ونحن وان التزمنا بامتناع الكراهة والإرادة في شئ واحد، الا انه ليس
لما هو المشهور من كونه لاجل تضاد الوصفين أنفسهما كي يطرد ذلك في جميع
الموارد، بل من جهة امتناع اجتماع منشئيهما وهما المصلحة الخالصة أو الراجحة
والمفسدة الخالصة أو الراجحة في امر واحد. وهذا في ما نحن فيه منتف، لان ما فيه
مصلحة الخالصة أو الراجحة غير ما فيه المفسدة الخالصة أو الراجحة، فان
أحدهما الفعل والاخر الخصوصية واختلاف الفعل والخصوصية في ذلك أمر
وجداني يظهر بمراجعة الوجدان، فإنه من الممكن أن يكون العمل ذا مصلحة
راجحة فيكون متعلقا للرغبة في الوقت الذي تكون خصوصيته متعلقة للكراهة
باعتبار اشتمالها على المفسدة الراجحة، إذ واقع الخصوصية غير واقع الفعل وإن
كانا بحسب الوجود متحدين.
ومن هذا البيان يظهر الحكم في..
الصورة الثانية: فإنه من الممكن ان تكون إحدى الخصوصيتين متعلقا
للرغبة بلحاظ ما فيها من المصلحة، والخصوصية الأخرى متعلقا للكراهة بلحاظ
ما فيها من المفسدة.
نعم، في مقام العمل قد لا يرجح العاقل إحداهما على الأخرى مع كون
102

المصلحة جابرة لما تنتجه المفسدة، ويرجع الترك لو لم تكن جابرة بنحو كامل،
ويرجح الفعل لو كانت جابرة مع زيادة. وذلك لا يعني ملاحظة قاعدة الكسر
والانكسار وانحصار الامر في الكراهة أو الإرادة أو انعدامهما معا، بل هذا من
قبيل ملاحظة حال المتلازمين اللذين يكون أحدهما ذا مفسدة والاخر ذا مصلحة،
من عدم ترجيح أحدهما على الاخر مع انجبار المفسدة المترتبة على أحدهما،
بالمصلحة المترتبة على الاخر وترجيح الغالب منهما على الاخر. بل هو نظير
ملاحظة الأهم من الحكمين في مطلق موارد تزاحم الوجوب والحرمة. فتدبر.
وأما الصورة الثالثة: فهي ممتنعة لما تقدم من أن الشئ الواحد وان كان
يمكن ان يشتمل على مفسدة ومصلحة، لكنه لا يمكن ان يشتمل على ما هو
منشئ الإرادة والكراهة منهما وهما المصلحة الراجحة والمفسدة كذلك. وعليه
فيمتنع ان تكون في الفعل مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة راجحة ضمنية،
لاستلزامه اجتماع وصفي الراجحية والمرجوحية في كل من المفسدة والمصلحة وهو
ممتنع، وعلى هذا فيمتنع أن يكون الفعل بذاته متعلقا للكراهة الضمنية والإرادة
الاستقلالية لامتناع تحقق منشئهما.
ومنه يظهر الحكم في الصورة الرابعة، فان الكلام فيها كالكلام في الثالثة
بلا اختلاف.
هذا تحقيق الكلام في مسالة الاجتماع.
وقد ذكر المحقق العراقي (رحمه الله) في مقالاته في بداية البحث: أن
موضوع الكلام ما كان هناك وجود واحد حقيقة ذو جهتين: إحداهما تكون
متعلق الامر. والأخرى تكون متعلق النهي. ففرض وحدة الوجود في محل النزاع،
وأنكر على من جعل أساس البحث كون التركيب انضماميا أو اتحاديا، لان
انضمامية التركيب معناها تعدد الوجود وهو خروج عن محل البحث فإنه مما لا
103

اشكال في جوازه (1).
وهو بهذا المطلب على حق لما عرفت من أن البحث الكبروي في هذه
المسألة عن أن الوجود الواحد ذا الحيثيتين هل يمكن أن يكون موردا للاجتماع
أولا؟. وقد عرفت تفصيل الكلام فيه. اما البحث عن أن أي مورد يكون
التركيب فيه انضماميا وأي مورد يكون التركيب فيه اتحاديا فهو بحث لتشخيص
ضابط الصغرى وهو لا يتناسب مع البحث الأصولي.
ولكنه (قدس سره) ذكر في مقام تحقيق المسألة: ان الوجود الواحد إذا
كان ذا حيثيتين إحداهما كانت مصداقا وفردا لعرض والأخرى كانت مصداقا
وفردا لعرض آخر، فاما أن لا يكون بين الحيثيتين جهة مشتركة جامعة. واما أن يكون
بينهما جهة مشتركة. فان لم يكن بينهما جهة مشتركة جاز اجتماع الأمر والنهي
لاختلاف متعليقهما وانحياز كل منهما عن الاخر تماما. وان كانت بينهما
جهة مشتركة لم يجز اجتماع الأمر والنهي، لاستلزامه اجتماع الحكمين في شئ
واحد. ببيان محصله: ان متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي، لأنه ظرف
السقوط كما أنه قد يكون الحكم ولا يكون الوجود الخارجي، وانما متعلقه الوجود
الذهني، وبما أن الموجود الذهني. يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود كان
الحكم ثابتا للطبيعي المتحقق ضمنا في الموجود الذهني. وعليه ففرض وجود الجهة
الجامعة بين الخصوصيتين يستلزم فرض تعلق الحكمين الثابتين للخصوصيتين
بالجهة الجامعة لوجودها في ضمن كل من الخصوصيتين، فيلزم اجتماع الحكمين
المتضادين في شئ واحد وهو محال بلا اشكال.
وهذا البيان منه (قدس سره) لا يخلو من اشكال من جهتين:
الأولى: ما ذكره من أن متعلق الحكم هو الوجود الذهني، فإنه غير

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 122 - الطبعة الأولى.
104

صحيح فقد تقدم ان الوجود الذهني لا يشتمل على مناط الحكم كي يكون متعلقا
له، وانما متعلق الحكم هو الوجود التقديري الزعمي. فراجع تحقيق ذلك في
مبحث تعلق الاحكام بالطبائع (1).
الثانية: ما ذكره في تقريب امتناع الاجتماع فيما كانت بين الخصوصيتين
جهة مشتركة. فإنه غير صحيح أيضا لأنه ينتقض عليه بعروض الأوصاف
الخارجية على الموجودات الخارجية، فإنه يستلزم عروض الوصفين المتضادين على
الطبيعي فيما كان أحدهما عارضا على فرد من طبيعي والاخر عارضا على فرد
آخر منه، كما إذا عرض السواد على ثوب والبياض على ثوب آخر، فإنه بناء على
ما ذكره يلزم عروض الوصفين على طبيعي الثوب لوجوده ضمنا في كل من
الفردين.
والحل في الجميع: ان اجتماع الوصفين المتضادين انما يمتنع لو كان
معروضهما واحدا شخصيا كهذا الجسم مثلا. اما إذا كان واحدا نوعيا فلا امتناع
فيه كما لو كان معروض كل من الوصفين غير معروض الاخر شخصا وانما
يجمعهما طبيعي واحد. وما نحن فيه كذلك، إذ الأمر والنهي قد تعلق كل منهما
بحصة غير الأخرى وجامعهما الطبيعي، وهو لا محذور فيه، ولو كان المراد من
اجتماع الضدين في واحد ما يعم الواحد النوعي لم يكن اجتماع الضدين ممتنعا
لتحققه خارجا بحد لا يحصى كما لا يخفى.
هذا مع انا لا نتصور فعلا المصداق الخارجي لهذه الصورة، أعني صورة
وجود الجهة المشتركة بين الخصوصيتين.
هذا تمام الكلام في تحقيق كبرى المسألة.
ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق الصغرى المشهورة، وهي: الصلاة في

(1) راجع 2 / 469 من هذا الكتاب.
105

الدار المغصوبة فقد وقع الكلام بين الاعلام في أنها من مصاديق اجتماع الأمر والنهي
في واحد أولا؟.
ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى أن متعلق الامر في المثال غير متعلق
النهي، فان متعلق النهي من مقولة الأين لأنه الكون في الدار المغصوبة، ومتعلق
الامر الذي يتوهم اتحاده مع المنهي عنه من مقولة الوضع وهو القيام والركوع
والسجود ونحوهما لأنها أسماء للهيئة الخاصة العارضة على الوجود، اما النية
والذكر فليس هناك من يتوهم أنها غصب. ومن الواضح ان وجود كل مقولة غير
وجود المقولة الأخرى، إذ لا جامع بين المقولتين لأنها أجناس عالية، فكل مقولة
ماهية منحازة عن غيرها فيكون لها وجود مستقل غير وجود المقولة الأخرى،
فيكون التركيب حينئذ بين الصلاة والغصب تركيبا انضماميا، فيكون المورد من
موارد اجتماع الأمر والنهي (1).
هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني ولم يوافقه على ذلك الاعلام.
فقد تعرض المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية إلى بيان وحدة
الغصب والصلاة وجودا، لكنه لم يتعرض إلى نفي أساس تعدد الوجود الذي
ذكره المحقق النائيني وهو كون الغصب من مقولة الأين والصلاة من مقوله
الوضع، لذلك يحق لنا ان نقول بأنه كلام مجمل لا يتناسب مقام المحقق
العلمي (2).
واما المحقق العراقي (قدس سره). فقد ذكر في مقالاته: أن غاية ما يتوهم
في بيان تعدد الصلاة والغصب هو ان الصلاة من مقولة الفعل أو الوضع والغصب
من مقولة الإضافة باعتبار انه إشغال الأرض، كما يظهر من تفسير الغصب في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 339 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 274 - الطبعة الأولى.
106

تعبيراتهم، فيختلف متعلق الامر ومتعلق النهي.
وأورد عليه
أولا: بأنه يبتني على الالتزام بان الإضافة لاحظ لها من الوجود، و
الالتزام بان الاعراض القائمة بمعروضاتها من مراتب وجود المعروضات
ومكملاته وليس لها وجود مستقل غير وجود معروضاتها. وهو خلاف التحقيق،
وإلا فلازمه خروج المثال عن موضوع محل النزاع، إذ موضوعه هو الوجود
الواحد المشتمل على جهتين، فقد أخذ في موضوعه كون التركيب اتحاديا من
جهة الوجود ففرض المورد من موارد كون التركيب انضماميا خلف الفرض.
وثانيا: انه مع تسليم كون الغصب هو الاشغال لا الفعل الشاغل تكون
نسبة الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي، فتكون محرمة، إذ الامر
بالمسيب أمر بالسبب حقيقة.
وثالثا: ان العنوان المحرم لا يختص بعنوان الغصب كي يقال أنه غير
الصلاة، بل الحرمة متعلقة بعنوان التصرف في ملك الغير. ومن الواضح ان
التصرف يتحد مع أفعال الصلاة فان الأفعال من القيام والركوع والسجود
بنفسها تصرف فتكون محرمة.
ورابعا: لو اغمض النظر عن ذلك فعنوان استيفاء منافع الغير محرم من
دون إذنه - والاستيفاء أعم من التصرف، فان الاستضاءة بنور الغير استيفاء
وليست بتصرف -. ومن الواضح ان القيام والقعود ونحوهما من أفعال الصلاة
من الاستيفاء، فتكون محرمة فتتوجه الحرمة إلى عين ما توجه إليه الوجوب وهو
ممتنع (1).
أقول: ان كان نظره في نقل التوهم ودفعه إلى ما أفاده المحقق النائيني

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين، مقالات الأصول 1 / 126 - الطبعة الأولى.
107

فيرد عليه ان المحقق النائيني لم يذهب إلى كون الغصب في المثال من مقولة
الإضافة، بل من مقولة الأين، فاسناد ذلك إليه غير صحيح.
هذا مع أن الايراد الأول لا وجه له، إذ لم يفرض موضوع الكلام عند
الكل بالنحو الذي فرضه هو، فان موضوع البحث عند المحقق النائيني هو
الواحد في الوجود صورة، فيبحث عن أنه كذلك حقيقة أولا؟. فلازم الالتزام
بكون الإضافة مما له حظ من الوجود خروج الفرض عن موضوع البحث الذي
فرضه هو (قدس سره) لا القوم.
واما الايرادات الأخرى فهي غير واردة على المحقق النائيني.
أما الثاني: فواضح، إذ ليس الغصب هو الاشغال كي يقال ان نسبة
الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي إلى المسبب، بل هو الكون في الدار
المغصوبة وهو ليس من المسببات التوليدية.
وأما الثالث: فلان القيام والركوع ونحوهما إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة
وكانت من مقولة الوضع لم تكن بنفسها تصرفا، بل التصرف ينطبق على
الكون في المكان المغصوب.
وأما الرابع: فيتضح الجواب عنه من الجواب عن الثالث، لأنه هذه
الأفعال إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة لم تكن بنفسها استيفاء، بل الاستيفاء
ينطبق على الكون في المغصوب.
وقد تعرض المحقق الأصفهاني في أصوله إلى ما أفاده المحقق النائيني
واستشكل فيه بقوله: " والتحقيق: أن مقولة الأين وان كانت مباينة لمقولة الوضع
وليست مقولة مقومة لمقولة أخرى ولا المركب من مقولتين مقولة برأسها، إلا أنه
ربما تكون مقولة مقومة للجزء شرعا، كمقولة الأين للسجود، فان المماسة للأرض
بوضع الجبهة عليها وان كانت غير هيئة السجود إلا أنها معتبرة في الجزء شرعا،
فما هو عين التصرف في الأرض مقومة للجزء لا للمقولة، وكذا الاستقرار على
108

الأرض في القيام والجلوس عليها في التشهد ونحوه، فإنها غير مقولة الوضع لكنها
من واجبات الصلاة. ومنه تبين انه لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود كان
عين مقولة الحركة في الأين مقومة للجزء شرعا وإن كان ذات الجزء من مقولة
الوضع، فتوهم ان الركوع والسجود من مقولة الوضع حتى على هذا القول
غفلة، بل الجزء مركب من مقولتين... " (1).
وتابعه السيد الخوئي (حفظه الله) في الاشكال فذهب في تعليقة أجود
التقريرات إلى: أن السجود الواجب لا يكفي فيه مماسة الجبهة الأرض، بل
لابد فيه من اعتمادها عليها ليصح معه صدق وضع الجبهة على الأرض. ومن
الواضح ان الاعتماد من أوضح مصاديق التصرف فيكون محرما لحرمة التصرف.
كما أنه فرق بين القول بان الهوي والنهوض من أجزاء الصلاة فيلزم اجتماع الأمر والنهي
في واحد، والقول بعدم كونهما من الاجزاء فلا يلزم الاجتماع (2).
أقول: لا دليل على إعتبار الاستقرار على الأرض في القيام والجلوس
عليها في التشهد وأما مماسة الجبهة للأرض في السجود أو الاعتماد عليها وإن
كانت معتبرة في الجزء شرعا أو عرفا بمعنى انه لا يصدق السجود المأمور به بدون
ذلك، إلا أنه إنما ينفع فيما ذكراه لو كان اعتباره بنحو الجزئية بان يكون السجود
عبارة عن أمرين الهيئة الخاصة ووضع الجبهة على الأرض، ولكنه لم يثبت ذلك،
فقد يكون مأخوذا بنحو الشرطية، بمعنى ان السجود هو الهيئة الخاصة المقيدة
بوضع الجبهة على الأرض، فيكون وضع الجبهة على الأرض خارجا عن حقيقة
السجود وانما الداخل فيه هو التقيد به، ومع ذلك لا يلزم ما ذكر من أن متعلق
الامر هو متعلق النهي، بل يكون متعلق النهي خارجا عن دائرة المأمور به، لأنه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث / 145 - طبعة مؤسسة النشر
الاسلامي.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 339 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
109

شرط لا جزء.
نعم، لو التزم بكون الشروط كالاجزاء متعلقة للامر الضمني لزم ما ذكر،
لكن لم يلتزم بذلك أحد وانما صرح به المحقق النائيني في مكان واحد (1) ولم يثبت
عليه إلى الأخير.
ومع الترديد في أخذه بنحو الجزئية أو الشرطية، فالأصل يقتضي كونه
بنحو الشرطية، لان مقتضى الجزئية تعلق الامر الضمني بالتقيد والجزء ذاته، و
مقتضى الشرطية تعلق الامر بالتقيد فقط، فمرجع الشك المزبور إلى الشك في
أن المشكوك كونه جزء أو شرطا هل هو متعلق للامر أولا؟، فينفي تعلق الامر به
بأصل البراءة ونتيجته ثبوت الشرطية. وعليه فيتعدد متعلق الأمر والنهي.
ومن هنا ظهر الامر في ما لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود، فإنه لا
ينفع ما لم يؤخذ بنحو الجزئية كي يكون بنفسه متعلقا للامر، أما إذا أعتبر شرعا
أو عرفا في مفهوم الركوع بنحو الشرطية بان كان الركوع هو الهيئة الخاصة
الناشئة عن الهوي في قبال النهوض راكعا، فلا يجدي في المطلوب لاختلاف
متعلق الامر عن متعلق النهي وتعددهما وجودا. فتدبر جيدا.
ثم إنه لو تنزلنا وقلنا بأن متعلق الأمر والنهي أمر واحد لا تعدد فيه، يقع
الكلام في الجواز والامتناع من الجهة الثانية الكبروية وهي: ان المورد من موارد
تعدد الحيثية بنحو يجوز اجتماع الحكمين فيه أولا؟.
ذهب المحقق العراقي إلى: ان المجمع وإن كان ذا حيثيتين، إلا أنه لما
كانت بينهما جهة مشتركة كان ثبوت الأمر والنهي فيه ممتنعا لتعلقهما بشئ
واحد (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 175 - الطبعة الأولى.
(2) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 127 - الطبعة الأولى.
110

وفيه:
أولا: إنه لا يتصور هناك جامع بين حيثيتي الصلاة والغصبية يكون موردا
للحكمين.
وثانيا: إنه لا تعدد في الحيثية لان الصلاة اسم لنفس الأفعال وليست اسما
لحيثية تتحيث بها الأفعال، فليس هناك إلا حيثية الغصبية. فمتعلق الامر نفس
الفعل كما أن متعلق النهي المجموع من الفعل مع تقيده بالخصوصية الغصبية.
وعليه، فالحق وهو الامتناع لما تقدم من امتناع تعلق الامر بذات العمل
والنهي بالمجموع منه ومن الخصوصية. فراجع.
هذا تمام الكلام في الصغرى المشهورة.
ويقع الكلام بعد هذا في بعض التفصيلات والأقوال في المسألة مما أشار
إليه صاحب الكفاية وهي:
التفصيل الأول: ابتناء القول بالجواز على الالتزام بتعلق الاحكام
بالطبائع. ويمكن ان يحرر بنحوين:
أحدهما: ما يعد من أدلة الجواز، وهو أن الاحكام لا تتعلق بالموجود
الخارجي، لان الوجود ظرف السقوط، وأنما تتعلق بالطبائع والمفاهيم، وبما انها
متعددة - لأنه المفروض - لم يلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد، بل كان متعلق
كل منهما غير متعلق الاخر.
وهذا الوجه قد تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثانية من كلام صاحب
الكفاية فان نظره فيها إلى دفع هذا القول.
وقد عرفت هناك ان اثبات هذا القول ونفيه لا يجدي شيئا فيما نحن فيه
مع وحدة الوجود خارجا. فراجع.
ثانيهما: ما يعد تفصيلا في المسألة بان يبنى القول بالجواز على كون متعلق
الحكم هو الطبيعة لتعدد الطبيعة خارجا، ويبنى القول بالامتناع على اختيار
111

تعلقه بالفرد. وهذا هو الموجود في الكفاية (1).
لكنه (قدس سره) أهمل بيان الوجه في اختيار الامتناع بناء على القول
بتعلق الحكم بالفرد، وقد يوجه بناء على مختار صاحب الكفاية في الفرد بأنه على
القول بكون المتعلق هو الفرد تكون المشخصات ولوازم الطبيعة دخيلة في
المتعلق، ففي مثل مثال الصلاة في الدار المغصوبة يكون الغصب مصبا للامر لأنه
من مشخصات الصلاة.
وقد مر الاشكال فيه: بان المشخص اما كلي المكان أو شخصه، لكنه لا
بعنوان انه غصب فيكون الشخص بما أنه لازم مأمورا به، وبما أنه غصب منهيا
عنه، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي بعنوانين.
وأما اشكال صاحب الكفاية على الشق الأول - أعني الالتزام بالجواز،
لو قيل بان المتعلق هو الطبيعة لا الفرد -: بان متعلق الحكم هو المعنون لا
العنوان (2).
فهو قاصر عن رد القول المزبور، إذ لم يتعرض فيه إلى رد نكتة القول،
وهي ان الموجود لا يتعلق به الحكم، لان الوجود ظرف السقوط، فكان ينبغي له
أن يتعرض لنفي هذه الجهة.
والذي يتحصل أن الايراد على صاحب الكفاية من جهتين:
الأولى: نقصان كلامه.
الثانية: قصور اشكاله. فالتفت ولا تغفل.
التفصيل الثاني: ما نسب إلى صاحب الفصول وهو: ابتناء القول
بالجواز والامتناع على الالتزام باتحاد الجنس والفصل والتركيب بينهما (3).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 154 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 160 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 125 - الطبعة الأولى.
112

وفيه: انه إن أريد به ما هو الظاهر مما نقله عنه صاحب الكفاية (1) من
ابتناء أصل النزاع على ذلك. فهو واضح الاشكال، إذ ليس جميع أمثلة اجتماع
الأمر والنهي يكون متعلق الأمر والنهي فيها من قبيل الجنس والفصل. والمثال
المشهور ليس كذلك وهو الصلاة في الدار المغصوبة لوضوح ان الغصب ليس
فصلا للصلاة.
وإن أريد أنه في المورد الذي يكون متعلق الأمر والنهي فيه من قبيل
الجنس والفصل يكون النزاع مبنيا على ما ذكر، فهو متجه، لكنه لا وجه للتعرض
إليه وجعله تفصيلا في المسألة بعد إن كان مثاله نادر الوجود.
التفصيل الثالث: التفصيل بين القول بأصالة الماهية والقول بأصالة
الوجود، فيجوز الاجتماع على الأول لان المتعلق هو الماهية لأصالتها وهي
متعددة، ويمتنع على الثاني لوحدة المتعلق وهو الوجود.
وقد نفاه صاحب الكفاية - بمقدمته الرابعة -: بان الوجود إذا كان واحدا
كانت الماهية واحدة ويمتنع أن يكون للموجود الواحد ماهيتان كما يمتنع أن يكون
للماهية الواحدة وجودان، وبما أن الفرض كون الوجود فيما نحن فيه
واحدا كان الماهية واحدة، فلا يختلف الحال على القول بأصالة الوجود والقول
بأصالة الماهية (2).
التفصيل الرابع: وهو من أدلة الجواز - وينسب إلى المحقق القمي (قدس
سره) (3) - وهو يبتني على كون الفرد مقدمة للطبيعي.
ويمكن تحريره بنحوين:
أحدهما: ما في تقريرات المحقق النائيني من أن متعلق الامر هو الطبيعي،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 159 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 159 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول 1 / 140 - الطبعة الأولى.
113

لأنه يتعلق به بنحو صرف الوجود، ومتعلق النهي هو الفرد لأنه يتعلق بالطبيعة
بنحو الاستغراق فيشمل الافراد. وعليه فيختلف متعلق الامر عن متعلق النهي،
إذ الفرد ليس عين الطبيعي بل مقدمة له (1).
وهذا الوجه لا ينسجم مع عبارة صاحب الكفاية، إذ فرض فيها كون
الفرد مقدمة للطبيعي المأمور به أو المنهي عنه وهو غير كون الفرد منهيا عنه.
ثانيهما: وهو يتلائم مع عبارة الكفاية من أن متعلق الامر هو الطبيعة،
وكذلك متعلق النهي هو الطبيعة. فيختلف متعلق كل منهما عن الاخر، والفرد
يكون مقدمة للمأمور به والمنهي عنه. فعلى القول بعدم الملازمة لا محذور. وعلى
القول بالملازمة بين حكم ذي المقدمة والمقدمة لا يلتزم بتعليق الحكمين بالفرد
لامتناع الاجتماع، بل يلتزم بكونها محرمة، ولا ضير في حرمتها مع عدم الانحصار
بسوء الاختيار (2).
والاشكال في هذا الرأي بكلا تحرير به واضح. وهو ما أشار إليه في
الكفاية من: ان الفرد عين الطبيعي خارجا وليس مقدمة له، لان المقدمية تقتضي
الاثنينية وهي غير متحققة.
وهذا واضح لا غبار عليه، لكن الذي يبدو غامضا ما جاء في الكفاية من
قوله: " وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء
الاختيار " فان التقييد بسوء الاختيار..
إن رجع إلى عدم الانحصار فلا وجه له، لأنه لا محذور مع عدم انحصار
المقدمة في حرمتها سواء كان بسوء الاختيار أو بغيره كما لا يخفى.
وإن رجع القيد إلى الانحصار - فيكون المعنى انه لا ضير في الحرمة في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 349 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 161 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
114

صورة ما إذا لم يكن الانحصار بالاختيار، وهو يشمل صورتين وهما صورة عدم
الانحصار وصورة الانحصار بدون اختيار لان عدم عدم المقيد يكون بعدم القيد
وبعدم الذات -، فلا ضير في هاتين الصورتين، كما أن الضير في صورة واحدة وهي
صورة الانحصار بالاختيار.
مع أنه من الواضح هو امتناع حرمة المقدمة ووجوب ذيها لو كانت
منحصرة قهرا، لعدم إمكان الامتثال ووقوع التزاحم بينهما. كما أنه في صورة
الانحصار اختيارا يقع الكلام في حرمة المقدمة وعدمها مما سيأتي مفصلا إن شاء
الله تعالى فانتظر.
* * *
115

" تنبيهات المسألة "
التنبيه الأول: في العبادات المكروهة وتفصيل الكلام فيه:
انه قد استدل على جواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه خارجا كما في
العبادات المكروهة ك‍: " الصلاة في الحمام " و: صيام يوم عاشوراء " ونحوهما. فإنه
يكشف عن كفاية تعدد الجهة في رفع محذور اجتماع الضدين، والا لما جاز اجتماع
حكمين في مورد أصلا، إذ التضاد لا يختص وجوده بين الحرمة والوجوب، بل هو
موجود بين جميع الاحكام، فكما أن الوجوب والحرمة متضادان كذلك الوجوب
والكراهة وهكذا الاستحباب والكراهة ونحو ذلك. وقد ثبت اجتماع الوجوب
والاستحباب - ك‍: " الصلاة في المسجد "، واجتماع الاستحباب أو الوجوب مع
الكراهة " ك‍: " الصلاة في الحمام " فهذا دليل على جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد
الجهة.
وقد أجاب صاحب الكفاية (رحمه الله) عن هذا الاستدلال، أو قل
الاشكال على القول بالامتناع بجوابين: أحدهما إجمالي والاخر تفصيلي.
اما الاجمالي: فهو وجوه ثلاثة:
الأول: انه بعد قيام الدليل العقلي القطعي على امتناع الاجتماع، فلا بد من
التصرف في ظهور الدليل الدال على اجتماع الحكمين، لان الظهور لا يصادم
117

البرهان.
الثاني: أن الاشكال وارد على القائل بالجواز أيضا، بظهور الدليل في
اجتماع الحكمين في شئ واحد بعنوان واحد وهو مما لا اختلاف في امتناعه.
فيلزمه التفصي عن هذا الاشكال.
الثالث: ان بعض الموارد المذكورة لا مندوحة فيها العبادات المكروهة
التي لا بدل لها ك‍: " صوم يوم عاشوراء ". ومن الواضح امتناع اجتماع الحكمين
في مثل ذلك بالاجماع، اما لاجل التضاد أو لاجل التزاحم وعدم امكان الامتثال.
واما التفصيلي: فبيانه: ان العبادات المكروهة على أنحاء ثلاثة:
الأول: ما تعلق النهي به بذاته وليس له بدل ك‍: " صوم يوم عاشوراء "
والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.
الثاني: ما تعلق النهي به بذاته وكان له بدل ك‍: " الصلاة في الحمام " فان
لها بدلا وهو الصلاة في الدار أو المسجد.
الثالث: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم
له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على أن النهي لاجل اتحادها مع
الكون في مواضع التهمة فإنه منهي عنه في نفسه.
أما القسم الأول: فقد وقع الاجماع على صحته لو جئ به مع أرجحية
الترك، كما يظهر من مداومة الأئمة (عليهم السلام) على الترك.
فلا بد أن يكون الوجه في النهي التنزيهي عنه أحد وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يكون الوجه هو إنطباق عنوان راجح ذي مصلحة على الترك
فيكون الترك ذا مصلحة كالفعل الا ان مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل
ولذلك يرجح عليه. فيكون الفعل والترك بهذا الاعتبار من قبيل المستحبين
المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما مع عدم وجود الأهم والا فيتعين الأهم. ويقع
الاخر صحيحا لأنه ذو مصلحة وموافق للغرض كما في مطلق موارد تزاحم
118

المستحبات والواجبات.
ثانيها: أن يكون الوجه ملازمة الترك لعنوان راجح ذي مصلحة أكثر من
مصلحة الفعل، فيرجح الترك للوصول إلى تلك المصلحة الملازمة له.
ومرجح الوجهين إلى: أن النهي عبارة عن طلب الترك، فهو ههنا على
حقيقته، إلا أن طلب الترك تارة ينشأ عن مفسدة في الفعل. وأخرى ينشأ عن
مصلحة في الترك أو فيما يلازمه وما نحن فيه من قبيل الثاني، ولأجل ذلك يصح
العمل لاشتماله على مصلحة من دون أي منقصة فيه. نعم تفوت به مصلحة الترك
وذلك لا يضر في صحته.
ثالثها: أن يكون المقصود بالنهي هو الارشاد إلى اشتمال الترك أو ملازمه
على مصلحة أكثر من مصلحة الفعل من دون أن يكون هناك طلب أو زجر
حقيقة. فلا يلزم اجتماع الحكمين في شئ واحد اما لاجل تعدد متعلق الحكمين
- كما هو مقتضى الوجهين الأولين -، أو عدم وجودهما مقتضى الوجه
الأخير.
هذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية في حل الاشكال في القسم
الأول (1).
ولا بد من التنبيه بشئ وهو: أنه لماذا لم يفرض صاحب الكفاية في الوجه
الأول وجود المصلحة في نفس الترك، وانما فرض وجودها في العنوان المنطبق
عليه؟.
وقد ذكر في وجه ذلك أمور:
منها: ان الترك أمر عدمي، فيستحيل أن يكون له أثر وجودي لاستحالة
ترشح الوجود من العدم.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 161 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
119

ومنها: ان الترك إذا كان ذا مصلحة راجحة لزم أن يكون نقيضه مرجوحا
وهو الفعل، وهذا يتنافى مع فرض رجحان الفعل. فاشتمال كل من الفعل والترك
على المصلحة الراجحة محال.
ويمكن أن يكون الوجه فيه - وهو أمتن الوجوه -: أن الامر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده العام وهو النقيض، فإذا كان متعلق الامر نفس الترك
كان الفعل منهيا عنه، وذلك يتنافى مع صحة العمل إذا كان عباديا مع أنه
المفروض حيث يفرض صحة العبادة المكروهة.
وهذا بخلاف ما إذا كان العنوان هو المأمور به، فان الفعل ليس نقيضا
للعنوان كي يلزم المحذور المزبور.
وهذه الوجوه لا نستطيع ان نجزم بصحتها فعلا، إلا إنا ذكرناها لمجرد
التنبيه والأمر سهل.
وبعد ذلك، يقع البحث في صحة ما أفاده (قدس سره) تبعا للشيخ
الأعظم (1) في حل الاشكال. والحق أنه غير تام لوجهين:
الوجه الأول: ما ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) من: ان المورد يمتنع
أن يكون من موارد التزاحم بين المستحبين بحيث تترتب عليه آثاره من الطلب
التخييري مع التساوي؟. وبيان ذلك: ان إجراء قواعد التزاحم انما يصح فيما إذا
كان المتزاحمان مما لهما ثالث بحيث يتمكن من تركهما معا، فإنه بعد امتناع تعلق
الطلب التعييني بهما لعدم القدرة يتعلق الطلب التخييري بهما ويكون صالحا
للدعوة إلى إتيان أحد الامرين. اما إذا كان المتزاحمان مما لا ثالث لهما كالنقيضين
والضدين اللذين لا ثالث لهما فلا يعقل تعلق الطلب التخييري بهما - بعد امتناع
تعلق الطلب التعييني -، إذ المكلف لا بد له من إتيان أحدهما ولا يستطيع

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 130 - الطبعة الأولى.
120

التخلف عن ذلك، فلا يكون الطلب التخييري صالحا للداعوية بعد إن كان
الاتيان بأحدهما قهريا، فيكون لغوا (1).
ولايضاح المطلب نقول: ان أحد العملين إذا كان مما لا بد من تحققه،
وحينئذ يكون تحصيل المقدار المعين من الغرض والمصلحة قهريا، فلا وجه
لتصدي المولى للامر ليصير داعيا إلى ما يحصل ذلك المقدار من الغرض.
بل (2) يمتنع على العبد قصد التقرب بالعمل، إذ المقدار الخاص من المصلحة لا
يتمكن من التخلف عن تركه كي يكون اتيانه به بقصد القربة، فإنه يتحقق منه
لا محالة.
إذا عرفت ذلك، فما نحن فيه من هذا القبيل، فان الفعل والترك نقيضان،
فإذا كان كل منهما مشتملا على المصلحة، فإذا كانت مصلحة أحدهما أرجح تعين
الامر به ولم يكن الاخر مما يقبل المقربية، لما عرفت من أن حصول المقدار
المشترك قهري فلا يتجه قصد التقرب به. وهو خلاف ما أفاده صاحب الكفاية،
إذ ذهب إلى صحة الفعل وان كان الترك أرجح، والا لم يكن هناك طلب تخييري،
بل نتيجة ملاحظة تساوي المصلحتين هو إباحة العمل لا الالزام بالفعل أو
الترك. فالتفت.
وناقشه السيد الخوئي: بان المورد ليس من موارد كون المتزاحمين مما
لا ثالث لهما بل مما لهما ثالث.
بيان ذلك: ان العمل الراجح إنما هو الحصة الخاصة من الطبيعي لا نفس
الطبيعي، وتلك الحصة هي العمل بقصد القربة، فالصوم المشتمل على المصلحة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 364 - الطبعة الأولى.
(2) إشارة إلى دفع ما يقال من: انه وإن امتنع الالزام التخييري، إلا أن النتيجة واحدة لصحة الاتيان بكل
منهما بنحو عبادي لاشتماله على الملاك المقرب، فلا يكون المورد من قبيل موارد الإباحة. فالتفت. (منه
عفي عنه).
121

هو الصوم بقصد القربة لا طبيعي الصوم، والترك المشتمل على المصلحة ليس
هو ترك هذه الصحة بالخصوص المتحقق بالافطار والامساك بدون قصد القربة،
بل هو ترك الامساك مطلقا والافطار خارجا لان فيه مخالفة بني أمية، ومن
الواضح ان بين الافطار والصوم بقصد القربة واسطة وهي الصوم من دون قصد
القربة وهو ليس براجح، فالمكلف يستطيع ان يترك كلا الراجحين، فيتعقل في
المورد ثبوت الامر التخييري الذي يرجع إلى طلب ترك الامساك بلا قصد
القربة اما بالافطار أو الصوم بقصد القربة. فما ذكره (قدس سره) من عدم
جريان التزاحم بين النقيضين تام في نفسه، إلا أنه لا ينطبق على ما نحن فيه.
هذه خلاصة مناقشة السيد الخوئي (1).
ولكنا نخالفه فيما ذهب إليه بتقريب: ان الاختلاف بين العلمين ناشئ من
الاختلاف في استظهار ان متعلق النهي هل هو طبيعي الامساك أو الصوم بقصد
القربة؟. وبتعبير آخر: ان متعلق الامر هل هو الافطار خارجا وترك الامساك،
أو ترك الصوم بقصد القربة؟. فلا بد من إيقاع البحث في هذه الجهة فعلى الأول
يتم ما ذكره السيد الخوئي. وعلى الثاني يتم ما ذكره المحقق النائيني لعدم
الواسطة بين المستحبين.
وقد أشار المحقق النائيني (قدس سره) في ذيل كلامه إلى النكتة التي
تشهد لنفي الواسطة بين المتزاحمين. فكان ينبغي التعرض إليها ومناقشتها.
واغفالها والاكتفاء بمجرد الدعوى بعيد عن الأسلوب العلمي للبحث.
وعلى أي حال، فالنكتة التي أشار إليها المحقق النائيني هي: ان الظاهر
من النصوص النهي عن الصوم الذي يأتي به بنو أمية والزجر عن التشبه بهم،
وبما أنهم كانوا يصومون بقصد القربة ويرون صومه راجحا ولم يكونوا يكتفون

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 4 / 318 - الطبعة الأولى.
122

بالامساك فقط، يكون النهي عن الصوم بقصد القربة ويكون المطلوب هو ترك
هذا العمل. وقد عرفت أنه لا واسطة بين فعله وتركه. فتدبر (1).
الوجه الثاني: انه قد تقدم ان النهي عبارة عن طلب الترك، واختيار صاحب
الكفاية (2)، كما مر منه (قدس سره) أيضا ان الاحكام بأسرها متضادة (3). فمرجع
النهي في جميع الموارد التي يفرض فيها تعلق النهي بما يتعلق به الامر إلى طلب
الترك ومع هذا يلتزم بالتضاد، وعدم إمكان اجتماع الحكمين، فلم يعلم السر في
تفصيه عن الاشكال المزبور بارجاع النهي إلى طلب الترك. مع أن هذا البيان
يسري في جميع الموارد التي يلتزم (قدس سره) فيها بامتناع اجتماع الحكمين.
وبالجملة: اما ان يلتزم بعدم التضاد مطلقا بين الأمر والنهي لاختلاف
متعلقيهما. أو يلتزم بثبوته مطلقا حتى فيما نحن فيه فلا يجدي ما ذكره في حل
الاشكال.
وقد تصدى المحقق النائيني (قدس سره) - بعد أن ناقش صاحب
الكفاية - إلى حل الاشكال ببيان آخر، وقد بناه على مقدمة وهي: ان الامر
الناشئ من قبل النذر المتعلق بعمل عبادي يتعلق بنفس ما يتعلق به الامر الثابت
للعبادة، وينتج عن ذلك هو اندكاك كل من الامرين أحدهما بالاخر وصيرورة
العمل المنذور متعلقا لامر واحد مؤكد، لاستحالة اجتماع الحكمين - الضدين أو
المثلين - في شئ واحد، ولازم الاندكاك المشار إليه هو اكتساب الامر النذري
جهة التعبدية من الامر الثابت للعبادة في نفسه.
أما الامر الناشئ من قبل الإجارة المتعلقة بعمل عبادي، كما في موارد
النيابة عن الغير، فيختلف متعلقه عن متعلق الامر الثابت للعمل المستأجر عليه،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 367 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 149 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 158 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
123

ولأجله لا يحصل الاندكاك بين الامرين، بل يبقى كل منهما بحده، وذلك لان
متعلق الامر الاستحبابي أو الوجوبي هو ذات العمل اما الامر الإجاري فهو لا
يتعلق بذات العمل، إذ لا يتعلق للمؤجر غرض فيه، بل هو يتعلق بالاتيان
بالعمل بداعي الامر الثابت للعمل. فالامر الإجاري في طول الامر الاخر فلا
يحصل الاندكاك لعدم وحدة المتعلق.
وبعد هذه المقدمة ذكر (قدس سره): ان الاشكال المتقدم في اتصاف
العبادة المكروهة بالكراهة إنما نشأ عن الغفلة عن أن متعلق النهي غير متعلق الامر،
وذلك لان متعلق الامر العبادي هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات
العمل، بل هو خصوصية التعبد به، لان فيه مشابهة الأعداء (لعنهم الله تعالى)
فيختلف متعلق الامر عن متعلق النهي. وبما أن النهي تنزيهي فهو لا يمنع من
عبادية العمل والاتيان به بقصد القربة، بخلاف ما لو كان النهي تحريميا فإنه
يمتنع قصد التقرب لحرمته مع أن التقرب إنما يحصل به. فالنهي فيما نحن فيه
نظير الامر في باب الإجارة في طول الامر المتعلق بذات العمل فلا محذور (1).
أقول: ربط ما نحن فيه بمسألة الإجارة والنذر ليس إلا في طولية
الحكمين فيما تحن فيه كما هو الحال في باب الإجارة.
وهذا المقدار لا يستلزم سرد المقدمة المزبورة بطولها.
وعلى أي حال فما ذكره غير تام في المقيس والمقيس عليه.
اما عدم تماميته في المقيس عليه، وهو مسالة الإجارة فلانه..
تارة: يلتزم في باب النيابة أنها عبارة عن إتيان العمل بقصد اسقاط الامر
باتيان النائب العمل لقصد اسقاط الامر المتعلق بالمنوب عنه.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 365 - الطبعة الأولى.
124

فعلى هذا البناء - الذي هو الظاهر من كلامه - لا وجه لتوهم التداخل
بين الامرين. كيف؟ وموضوع أحدهما المنوب عنه وموضوع الاخر النائب فلا
معنى للتداخل.
وأخرى: لا يلتزم بذلك باعتبار عدم قابلية المنوب عنه لتوجه الامر إليه،
كما لو كان ميتا، أو لكون الامر المتعلق بشخص لا يصلح لداعوية غيره. وانما
النيابة تكون هي الاتيان بالعمل الذي تكون ذمة الغير مشغولة به اما بتنزيله
نفسه منزلة المنوب عنه أو باهداء ثوابه إليه. وتكون النيابة متعلقة للامر
الاستحبابي. فإذا وردت الإجارة على إتيان العمل النيابي كان لازما بمقتضى
الامر الإجاري.
فعلى هذا البناء يتحد متعلق الامر الاستحبابي والامر الإجاري، لأنه كلا
منهما متعلق بالعمل النيابي، فيتعين الالتزام بالتداخل لوحدة المتعلق لكلا
الحكمين.
وبالجملة: على مبني لا يتوهم التداخل. وعلى مبنى آخر يتعين التداخل.
واما عدم تماميته في المقيس - أعني ما نحن فيه - فلانه إما ان يلتزم
بان قصد القربة مما يتعلق به الامر إما ضمنا لو بني على جواز تعلق الامر الأول
به، أو استقلالا لو بني على أنه يكون ما مورا به بالأمر الثاني المصطلح عليه
بمتمم الجعل - كما مر اختياره من المحقق النائيني -. أولا يكون متعلقا للامر
شرعا، بل هو مما يحكم بلزومه العقل.
فعلى الأول: يلزم أن يكون متعلق الكراهة عين ما يتعلق به الامر وهو
قصد القربة. فيتحد متعلق الحكمين.
وعلى الثاني: وان لزم اختلاف المتعلق، إلا أنه يقع التزاحم الدائمي بين
الحكمين لعدم القدرة على امتثالهما معا في حال من الأحوال.
والذي يذهب إليه المحقق النائيني في مثل ذلك هو كون المورد من موارد
125

التعارض. فافهم.
وإذا اتضح لك عدم تمامية ما أفاده العلمين - الخراساني والنائيني - في حل
الاشكال، فالمتعين ان يقال في حله: ان النهي في المقام ليس على حقيقته، بل هو
إرشاد لأولوية ترك هذا الفرد لاجل الاتيان بغيره مما هو أكثر ثوابا.
بيان ذلك: ان الصوم - مثلا - مستحب في نفسه بنحو العموم
الاستغراقي، بمعنى ان صوم كل يوم مستحب بذاته ولا بدل له، الا ان بعض
هذه الافراد قد تحف به بعض الخصوصيات التي توجب نقصان مصلحته وثوابه
عما عليه سائر الافراد الأخرى، ولكنه يبقى على استحبابه ورجحانه. ومن هذا
الباب صوم يوم عاشوراء فهو مستحب فعلا. وبما أنه ليس من متعارف المكلفين
الاتيان بجميع افراد الصوم في جميع أيام السنة وانما يؤتى ببعضها كيوم في كل
أسبوع أو نحو ذلك، يوجه النهي إلى الفرد المحفوف بالحزازة الموجبة لقلة ثوابه
ارشادا إلى أولوية الاتيان بغير هذا الفرد بدلا عنه، فكأنه يقال لمن يريد أن
يصوم يوما في الأسبوع: " اترك صوم هذا اليوم وصم غيره لأنه أكثر ثوابا منه "،
فالنهي إرشادي بلحاظ الحالة المتعارفة للمكلفين. والملحوظ بأقلية الثواب سائر
الافراد الاخر التي تفرض ابدالا طويلة لهذا الفرد بحسب البناء العملي
للمكلفين لا بحسب جعل الحكم فإنه مما لا بدل له في مقام الجعل لان كل فرد
مستحب في نفسه.
وهذا الحل وان كان خلاف الظاهر لكنه مما لابد منه في حل الاشكال
لسلامته عن الخدشة.
ومرجعه إلى رجوع النهي إلى ترجيح سائر الافراد لتحقق المزاحمة
بحسب عادة المكلفين.
هذا، مع انا التزمنا في الفقه عدم استحباب صوم يوم عاشوراء
126

بخصوصيته، بل هو حرام لأنه تشريع، وذكرنا ان روايات المنع (1) ناظرة إلى هذا
المعنى فقط، فلا إشكال فيه. فالتفت.
هذا تمام الكلام في القسم الأول.
اما القسم الثاني: وهو ما تعلق به النهي بذاته وكان له بدل ك‍: " الصلاة
في الحمام ".
فقد ذكر صاحب الكفاية: ان البيان الذي ذكرناه في القسم الأول يجري
في هذا القسم طابق النعل. بالنعل كما يتأتى فيه بيان آخر تقريره: ان النهي
يحمل على كونه إرشادا إلى أقلية ثواب هذا الفرد عن سائر الافراد بسبب
تشخصه بالخصوصية الخاصة، فان العمل قد يصير أقل مصلحة وثوابا بسبب
تشخصه ببعض الخصوصيات كالكون في الحمام بالنسبة إلى الصلاة، كما قد يصير
أكثر ثوابا بسبب تشخصه ببعض آخر من الخصوصيات فتحدث فيه مزية
بسببها، كالكون في المسجد. الملحوظ في أقلية الثواب وأكثريته هو الطبيعة
المأمور بها في حد نفسها المتشخصة بما لا يوجب الزيادة أو النقصان في مصلحتها
كالصلاة في الدار - مثلا -.
وعليه، فلا مجال لدعوى أن الكراهة إذا كانت بمعنى قلة الثواب لزم ان
تكون جميع الافراد المتفاوتة مكروهة ما عدا أفضل الافراد مع أنه لا يقول به
أحد.
والوجه في بطلان هذه الدعوى: ما عرفت من الكراهة بمعنى الأقلية في
الثواب بالقياس إلى مصلحة ذات العمل وثوابه.
وهذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية (2).

(1) الكافي 4 / 146، باب صوم عرفة وعاشوراء، الأحاديث 3 إلى 7 وسائل الشيعة 7 / 339 باب: 41
من أبواب الصوم المندوب.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 164 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
127

وقد تعرض المحقق النائيني إلى حل الاشكال ببيان آخر. محصله: ان
النهي هنا يحمل على حقيقته من كونه نهيا تنزيهيا مولويا ولا وجه للتصرف بظاهره
للتمكن من رفع الاشكال من دون تصرف. وبيان ذلك: ان النهي عن شئ
يرتبط بعمل واجب..
تارة: يقصد به الارشاد إلى مانعية متعلقه عن صحة العمل، فهذا لا
يستفاد سوى مانعية متعلقه عن صحة العمل كالنهي عن لبس الحرير في
الصلاة، فإنه إرشاد إلى مانعيته عن صحة الصلاة. ومثل هذا يستلزم تقييد اطلاق
المأمور به لو كان له إطلاق بالإضافة إلى وجود القيد وعدمه.
وأخرى: يكون مولويا يتكفل الزجر عن متعلقه، وهو تارة يكون
تحريميا. وأخرى يكون تنزيهيا. فإن كان تحريميا استلزم تقييد اطلاق المأمور به
- كما سيتضح -. وان كان تنزيهيا لم يستلزم تقييد الاطلاق، بل لا منافاة بين تعلق
الامر وثبوت النهي لا في مقام جعل الحكم ولا في مقام الامتثال.
اما مقام جعل الحكم، فالمنافاة المتصورة هي تعلق الحكمين بشئ واحد
فيلزم التضاد، وهي غير موجودة، لان متعلق الامر غير متعلق النهي، لان الامر
يتعلق بصرف وجود الطبيعة والنهي متعلق بالفرد الخاص، واختلاف المتعلق يرفع
التضاد.
واما مقام الامتثال، فلان تعلق الحكم بصرف الوجود يستلزم حكم العقل
بترخيص المكلف في تطبيق المأمور به على أي فرد شاء ولو كان هو الفرد
المكروه، وهذا لا يتنافى مع كراهة العمل، كما لا يخفى.
نعم، لو كان الفرد محرما لم يجتمع التحريم مع الترخيص في إتيان هذا
الفرد امتثالا للامر لعدم اجتماع المنع والترخيص، ولذا كان التحريم مقيدا
لاطلاق المأمور به كما أشرنا إليه.
128

هذا ملخص ما افاده (قدس سره) (1). ومرجعه إلى بيان عدم اتحاد متعلق
الحكمين وعدم المنافاة بين الحكم بالترخيص والكراهة.
وهذا الوجه غير مسلم، فإنه يمكن ان تكون الطبيعة متعلقة للامر
والفرد متعلقا للنهي التنزيهي، وذلك لان الفرد إذا اشتمل على مفسدة فاما إن
تغلب المفسدة على المصلحة، أو تغلب المصلحة على المفسدة، أو يتساويان. فمع
غلبة المفسدة تتعلق به الكراهة، لكنه لا يكون واجدا لملاك الامر لفرض غلبة
المفسدة واضمحلال المصلحة في قبالها فلا يتحقق به الامتثال وهو خلاف الفرض،
لان الفرض عدم تقيد إطلاق الامر. وان كان الغالب هو المصلحة لم تتعلق
الكراهة بالفرد لعدم ملاكها. وان تساويا كان الفرد مباحا، فلا يقع على صفة
الوجوب أو الاستحباب، كما لا يقع على صفة الكراهة. فالجمع بين الامر بالطبيعة
بحيث يشمل باطلاقه هذا الفرد والنهي عن الفرد غير ممكن. فالمحذور الذي
ذكرناه في تقريب تنافي الاحكام وإن لم يصطلح عليه بالتضاد، بعينه جار فيما نحن
فيه فلا يمكن الجمع بين الحكمين.
وأما ما ذكره من منافاة الحرمة للترخيص وعدم منافاة الكراهة له، فهو
غير تام أيضا، لان المراد بالترخيص اما الترخيص الشرعي أو الترخيص
العقلي.
فإن كان المراد هو الترخيص الشرعي، بمعنى حكم الشارع بإباحة
تطبيق الطبيعي المأمور به على كل فرد من افراده، فإنه يكون بأحد وجهين:
أحدهما: ان يدعى ان حكمه يوجوب الطبيعة لازمه الحكم بالإباحة، ففي
مورد الوجوب هناك حكمان، حكم بوجوب صرف الوجود وحكم بإباحة تطبيق
الطبيعة على كل فرد.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 362 - الطبعة الأولى.
129

وهذا الوجه لا دليل عليه، بل الوجدان شاهد على خلافه، فإنه ليس في
المقام الا حكم واحد لا حكمان. كما لا يخفى.
الثاني: ان تطبيق الطبيعة على كل فرد واقعة من الوقائع، فلا بد أن يكون
لها حكم لامتناع خلو الواقعة من الحكم، ولا بد أن يكون هو الإباحة لا
الوجوب، لان الالزام يتنافى مع كون العموم بدليا وكون المتعلق صرف الوجود.
وفيه:
أولا: أنه ينقض بالطبيعة المباحة كشرب الماء، فان تطبيق الطبيعة على
كل فرد واقعة مع أنه لا يلتزم أحد بان كل فرد مباح، وتطبيق الطبيعي على فرده
مباح أيضا وله حكم غير حكم الافراد.
وثانيا: ان لزوم عدم خلو الواقعة عن الحكم انما ثبت في مورد يكون
المكلف متحيرا في مقام العمل، اما مع عدم تحيره عملا فلا دليل على لزوم ثبوت
الحكم له، كما لو أمر بأحد المتلازمين، فإنه لا يلزم أن يكون للملازم الاخر حكم
لعدم تحير المكلف في مقام العمل بالنسبة إليه. وما نحن فيه من هذا القبيل. فإنه
بعد وجوب صرف الوجود المنطبق على أي فرد بمقتضى الاطلاق فلا تحير في أن
التطبيق لا مانع منه.
وإن أريد من الترخيص هو الترخيص العقلي، كما هو الظاهر. فمن
الواضح ان واقع الترخيص العقلي ليس حكم العقل بالإباحة وإطلاق العنان
للمكلف، بل واقعة ادراك العقل عدم دخل الخصوصية وجودا وعدما في المأمور
به وأي فرد جئ به يكون امتثالا للامر.
وهذا المعنى لا يتنافى مع كراهة الفرد كما أفاد (قدس سره). لكنه لا يتنافى
مع التحريم أيضا، إذ أي منافاة بين حرمة الفرد وبين إدراك عدم دخل خصوصية
في المأمور به، وانه لو جئ به يكون مصداقا للمأمور به؟.
نعم، لو كان الترخيص العقلي يرجع إلى حكم العقل باطلاق العنان على
130

حد الترخيص الشرعي كان منافيا مع تحريم الفرد، لكنه ليس كذلك.
وبالجملة: التفرقة بين الكراهة والتحريم في هذا الامر لا وجه لها.
هذا كله مع أن الالتزام بكراهة الفرد ووجوب الطبيعة يلزمه وقوع
التزاحم بين الحكمين، وهو تزاحم دائمي، فيرجع إلى التعارض بينهما على رأيه، و
كون أحدهما موسعا والاخر مضيقا لا يجدي بعد أن فرض مثل هذا المورد من
موارد التزاحم.
وأما ما ذكره في مقام الاعتراض على صاحب الكفاية من أن صرف النهي
عن ظاهره وهو طلب الترك إلى كونه إرشاديا لا وجه له.
فليس كما ينبغي، لان كون النهي إرشاديا وإن كان خلاف الظاهر، لكن
حقيقته على بعض المباني أيضا طلب الترك فهو حكم إنشائي لكنه على موضوع
خاص. وقد بنى على ذلك الفقيه الهمداني (1) وتابعناه عليه، ولذلك آثار فقهية جمة.
فالتفت.
فالأولى في حل الاشكال أن يقال: ان النهي مولوي تنزيهي ناشئ عن
حزازة ومفسدة في متعلقه، إلا أن متعلقه ليس هو الفرد، بل هو تقيد الفرد
بالخصوصية الكذائية، فنفس إيقاع الصلاة في الحمام منهي عنه من دون أن يكون
النهي متعلقا بالصلاة أو الكون في الحمام.
وقد تقدم منا انه لا مانع من أن يكون العمل متعلقا لحكم وتخصصه
بخصوصية متعلقا لحكم آخر، وأنه لا يلزم اجتماع الضدين في شئ واحد.
وعليه، فلا يلزم محذور التضاد على هذا التوجيه.
واما التزاحم، فهو غير لازم، لان المأمور به مطلق من جهة هذا الفرد
وغيره، والنهي مختص بهذه الخصوصية المعينة. ومن الواضح أنه لا تزاحم في مثل

(1) الهمداني المحقق آقا رضا. مصباح الفقيه / 133 - كتاب الصلاة - الطبعة الأولى.
131

ذلك نظير الموسع والمضيق، فإنك عرفت أنه لا مزاحمة بينهما أصلا.
وهذا الحل أولى مما ذهب إليه صاحب الكفاية من حمل النهي على كونه
إرشاديا، لأنه خلاف ظاهره، فان ظاهر النهي كونه مولويا.
واما ما ذكرناه، فهو قريب من ظاهر الكلام لو لم نقل بأنه ظاهر
منه. فتدبر.
واما القسم الثالث: فقد ذكر صاحب الكفاية انه يمكن ان يحل فيه
الاشكال بوجهين:
أحدهما: أن يكون النهي في الحقيقة متعلقا بالعنوان المتحد أو الملازم مع
المأمور به، ونسبة النهي إلى المأمور به بالعرض والمجاز، فيختلف متعلق الامر
عن متعلق النهي، ويكون النهي على هذا الوجه على حقيقته مولويا.
الاخر: أن يكون النهي إرشادا إلى أولوية الاتيان بغير هذا الفرد فرارا
عن الحزازة الموجودة في الملازم أو المتحد مع الفرد، والتي يبتلى بها المكلف لا
محالة.
هذا بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.
اما بناء على القول بامتناع الاجتماع، فإن كان العنوان ذو الحزازة ملازما
للمأمور به جرى في حل الاشكال كلا الوجهين، كما لا يخفى. واما إذا كان
متحدا مع المأمور به لم يجر فيه الوجه الأول لاتحاد متعلق الأمر والنهي لعدم
القول بان تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون لأنه المفروض. ويكون المورد من
القسم الثاني، لان العنوان المنطبق على المأمور به يكون خصوصياته
المستلزمة لنقصان مصلحته وقلة ثوابه.
وعليه، فيتأتى فيه ما ذكرناه من كون النهي إرشادا إلى قلة الثواب،
والمراد بالكراهة أقلية الثواب لا النهي التنزيهي المولوي.
132

هذا ملخص ما جاء في الكفاية مع شئ من التوضيح (1).
ويتضح لدينا أنه يرجع هذا القسم - في صورة اتحاد العنوان والقول
بالامتناع - إلى القسم الثاني ويجعله من مصاديقه، ولذلك يجري فيه ما أجراه
في ذلك القسم.
وقد تابعه على ذلك المحقق النائيني، ولذلك ذكر جريان الحل الذي ذكره
في القسم الثاني في هذا القسم، فذكر ان الامر متعلق بالطبيعة والنهي متعلق
بالفرد (2).
والحق ما ذكره صاحب الكفاية من وحدة القسمين، وقد عرفت أن حل
الاشكال بنحو ثالث هو الأسلم والمتعين، وهو الالتزام بان متعلق النهي هو
التقيد بالخصوصية وإيقاع العمل في المكان الخاص. فراجع.
هذا تمام الكلام في هذا الدليل.
ونلحق به دليلا آخر، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من الوجه العرفي
ومحصله: ان أهل العرف يعدون من امر بالخياطة ونهي عن الكون في الدار مطيعا
وعاصيا لو جاء بالخياطة في الدار، وهذا يكشف عن اجتماع الحكمين في أمر
واحد.
والجواب عنه كما ذكره صاحب الكفاية من: ان وجود الخياطة غير وجود
الكون في الدار وليسا هما متحدين في الوجود. هذا أولا.
وثانيا: انه لا معنى للاستدلال بهذا الوجه في قبال البرهان على الامتناع،
ونحن لا ننكر وجود هذا الحكم عرفا في مثل المثال، الا ان الحكم بالإطاعة في
الامر التوصلي كأمر الخياطة بلحاظ ترتب الغرض عليه، لان الغرض من الامر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 165 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 364 - الطبعة الأولى.
133

التوصلي يترتب ولو كان بالفرد المحرم لا بلحاظ تحقق الامتثال. فتدبر جيدا (1).
بقي شئ، وهو ما ذكره في الكفاية من وجود القول بالتفصيل بين العقل
والعرف، فالأول يرى الجواز والثاني يرى الامتناع، لان ما يراه العقل بدقته
متعددا يراه العرف واحدا.
وقد ناقشه صاحب الكفاية - كما مر - بان العرف لا سبيل
إليه إلى الحكم بالجواز والامتناع فإنه محكم في مفاهيم الألفاظ لا غير، واما وحدة
المجمع بنظره فليس مجديا لان نظره في تشخيص المصاديق غير معتبر جزما
والبحث ليس عن مدلول اللفظ.
ثم، ان هذا الكلام كله في الجهة الأولى من البحث، وهي البحث عن
الجواز والامتناع من حيث التضاد.
واما الكلام في الجهة الثانية - أعني جهة وقوع التزاحم بين الحكمين على
تقدير القول بالجواز من الجهة الأولى -، فيقع البحث فيها عند التعرض لثمرة
المسألة التي قد ذكرنا جزء منها فيما تقدم. لأنا نجري في البحث على أسلوب
الكفاية.
ولأجل ذلك نتعرض فعلا للكلام في مسألة الاضطرار.
التنبيه الثاني: وموضوعه الاضطرار إلى الحرام. قد عرفت أنه بناء على
امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة لغلبة ملاكها على ملاك الامر
لا يقع الفعل المجمع صحيحا لأنه يكون مبغوضا مبعدا
وقد ذكر صاحب الكفاية: أنه إذا اضطر إلى الحرام فاما أن يكون
الاضطرار قهريا ليس بالاختيار أو يكون اختياريا. فإن كان قهريا استلزم رفع
الحرمة والمبغوضية ولم يكن ملاك التحريم مؤثرا في هذا الحال، فيكون ملاك الامر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 166 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
134

بلا مزاحم فيؤثر في الامر فيلزم صحة العمل العبادي الذي به يتحقق الحرام
لارتفاع المانع. وان كان الاضطرار اختياريا استلزم رفع الحرمة لامتناع التكليف
بغير المقدور عقلا، الا ان الفعل يبقى مبغوضا وذا مفسدة موثرة في مبعديته، فلا
يكون المجمع صحيحا لوجود المانع عن المقربية (1).
ثم إن محل الكلام الذي عقد له صاحب الكفاية هذا التنبيه ليس ذلك،
بل هذا مقدمة للوصول إلى محل الكلام وتحرير البحث فيه وهو ما إذا كان
الاضطرار بسوء الاختيار واتفق كون الفعل المضطر إليه مقدمة لواجب، فقد
تعددت الأقوال في هذا الفعل.
وقبل التعرض إلى ذلك نود التنبيه على تساؤل يدور حول كلام صاحب
الكفاية في القسم الأول من أقسام الاضطرار..
وهو: أنه توصل إلى تصحيح العمل المحرم المضطر إليه بوجود الملاك
وتأثيره في الحكم.
مع أن هناك طريقا لذلك أسهل وأسلم من هذا الطريق وهو أن يقول:
أنه إذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار زال المانع عن شمول إطلاق دليل الحكم
الوجوبي للمورد، فإذا كان المورد مشمولا لاطلاق الوجوب ثبت الحكم.
وهذا وجه سالم عما يرد على الأول من أنه بأي طريق نحرز وجود ملاك
الوجوب؟ ثم إنه إذا كان ثابتا في حال فعلية الحرمة، فأي طريق لنا لاثباته بعد
ارتفاع الحرمة؟.
وبالجملة: النحو الذي ذكره صاحب الكفاية لا يخلو عن التواء. وهذا
تساؤل لم نر له حلا فعلا. فالتفت.
وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في مقدمة هذا التنبيه: ان القيود
العدمية المعتبرة في المأمور به بحيث تحدد الحكم وتجعله مختصا بمورد دون آخر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 167 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
135

على ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون مدلولة للنهي الغيري ابتداء، فيكون النهي نهيا إرشاديا
يفيد مانعية متعلقه عن صحة العمل المحفوف به كالنهي الوارد عن لبس الحرير
في الصلاة، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقا، فإنه يفيد أن المانعية
تثبت في كلا الحالين - الاختيار والاضطرار -، فلا تسقط المانعية في حال
الاضطرار ولا محذور فيه.
وقد أفيد في مباحث الأقل والأكثر: ان تقيد العمل بشئ وجودا وعدما
قد يؤخذ مختصا بحال دون آخر وقد يؤخذ في مطلق الأحوال. فراجع.
الثاني: أن تكون تابعة للنهي النفسي الدال على التحريم، فيستفاد منه
مانعية متعلقة عن صحة العمل، كما في مورد الاجتماع بناء على الامتناع من
الجهة الأولى. ولكن المانعية تارة يقال إنها في طول الحرمة وتابعة لها كما هو
المشهور. وأخرى يقال إنها في عرضها بمعنى ان النهي يستفاد منه في عرض
واحد الحرمة والمانعية.
فعلى الأول: يكون الاضطرار رافعا للحرمة والمانعية، لان المفروض كون
المانعية تابعة للحرمة، فإذا زالت الحرمة زالت المانعية فيصح العمل.
وعلى الثاني: لا يرفع الاضطرار المانعية وانما يرفع الحرمة فقط، إذ المانعية
لا تنافي الاضطرار كما عرفت، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.
الثالث: ان تكون ثابتة لاجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه - كما هو
الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأولى، فإنه يقع التزاحم بين الحكمين -، فيرتفع
الامر باعتبار المزاحمة، ففي مثله لو حصل الاضطرار يبقى الامر لارتفاع الحرمة
وزوال المزاحمة لان أساسها كون الحكم فعليا ولا فعلية للحرمة مع الاضطرار (1).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 371 - الطبعة الأولى.
136

هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني، ويمكن ان يجعل ما أفاده في القسم
الثاني من التفصيل بين نحوي النهي تعريضا بصاحب الكفاية حيث أطلق
الحكم بثبوت الامر بمجرد ارتفاع الحرمة. وتنبيها على أن زوال الحرمة لا يكفي
في ثبوت الامر ما لم تزل المانعية وهي إنما تزول على تقدير دون آخر.
وقد أورد عليه السيد الخوئي في تعليقته - كما جاء ذلك أيضا في
المحاضرات مفصلا (1) -: بان ما قربه من عدم كون سقوط الامر وتقيده بغير مورد
الحرمة في طول التحريم ومعلولا له. صحيح لان عدم أحد الضدين ليس معلولا
لوجود الضد الاخر، بل هما في رتبة واحدة إلا أن انتفاء الوجوب وإن كان في
عرض ثبوت الحرمة ثبوتا لكنه ليس كذلك إثباتا، فان الدليل الدال على الحرمة
بالمطابقة يدل عليه بالالتزام، إذ بعد منافاة ثبوت الحرمة لثبوت الوجوب، فما يدل
على ثبوت الحرمة يدل على عدم ثبوت الوجوب التزاما. وبما أن بنينا على تبعية
الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية وجوبا وحجية. فإذا حصل الاضطرار
وارتفعت الحرمة ولم يكن دليلها شاملا لهذه الحال فلا دليل على انتفاء الوجوب
وتقيده حينئذ، إذ دليل الحرمة لا يتكفل ذلك لعدم حجيته في المدلول الالتزامي
بعد عدم حجيته في المدلول المطابقي. فيكون إطلاق الوجوب محكما (2).
أقول: هذا الايراد ليس بتام وأجنبي عن محل الكلام، فان محل الكلام
في الدلالة الالتزامية والذي يبحث في تبعيته في الحجية للدلالة المطابقية انما هو
الدلالة الالتزامية العرفية. اما غير العرفية فليس مورد الكلام، وما نحن فيه ليس
من موارد الدلالة الالتزامية العرفية، فان ارتفاع الوجوب في المجمع عند ثبوت
الحرمة ليس من الأمور العرفية الظاهرة، كيف؟ وقد عرفت انها محل الكلام

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 4 / 348 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 371 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
137

الدقيق والنقض والابرام. وانما هو يكون بحكم العقل وقد تقدم انها تتبع الدلالة
المطابقية بلا كلام.
فان قلت: محل الكلام فيما نحن فيه هو معرفة ان المجمع وجود واحدا أو
متعدد، وهذا لا ينافي كون ارتفاع الوجوب بالأدلة الالتزامية العرفية.
بيان ذلك: ان العرف يستظهر من دليل التحريم ارتفاع الوجوب عن
مورد اما تعيين المورد فهذا ليس من شأنه، فلو ثبت المورد بالدقة العقلية ثبت
له الحكم بحسب الظهور العرفي من دليله، كما يثبت له نفس التحريم ويقال ان
الحرمة ثابتة له بالدليل الظاهر عرفا.
وبالجملة: المقصود بالدلالة العرفية هي ما يستظهره العرف من الدليل
من الحكم الكلي على الموضوع الكلي في قبال ما يكون المدلول ثابتا بحكم
العقل لا بفهم العرف، اما تعيين المصاديق فليس من شأن العرف وذلك لا ينافي
الظهور العرفي من الدليل.
وهذا المعنى يتأتي في الدلالة المطابقية كما لا يخفى جدا. والبحث في مسالة
اجتماع الأمر والنهي انما هو عن تعيين المصداق وان الصلاة في الدار المغصوبة
هل هي غصب فيرتفع الوجوب عنها أولا فلا يرتفع. والا فأصل الدلالة العرفية
ثابتة.
قلت: البحث في هذه المسألة لا ينحصر في تعيين المصداق، بل يأتي الكلام
في الجواز والامتناع حتى مع تسليم وحدة وجود الصلاة والغصب بلحاظ تعدد
العنوان وانه هو متعلق الحكم فيتعدد، أو انه ليس متعلق الحكم فلا يجدي تعدده.
وعليه، فالقدر المسلم من الدلالة الالتزامية العرفية من دليل تحريم
الغصب هو ارتفاع الوجوب عن الغصب فيما إذا لم يكن بعنوان آخر. أما إذا
كان بعنوان آخر فلا دلالة عرفية على ارتفاعه، لأنه يتوقف على مقدمة عقلية
138

وهي كون متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان، أو نظير ذلك مما يقول به القائل
بالامتناع.
بالجملة: ارتفاع الوجوب وتقيده بغير مورد الحرمة في مورد الاجتماع على
الامتناع ليس أمرا عرفيا يستظهره العرف من الدليل مباشرة فتحرير الكلام
في ذلك ونقل البحث إلى تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة للمطابقية لا يخلو عن
غفلة وتسامح.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال فيما أفاده المحقق النائيني (قدس سره)، فان
ارتفاع الوجوب عند ثبوت الحرمة إذا كان بحكم العقل، ولأجل الملازمة العقلية
بين ثبوت الحرمة وعدم الوجوب. فإذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار لم يكن هناك
ما يقتضي عدم الوجوب عقلا فيحكم إطلاق دليل الوجوب ويثبت الوجوب في
مورد الاضطرار.
ولا وجه للترديد المزبور أصلا، سواء كان نظره في التبعية وعدمها في مقام
الاثبات أو الثبوت، وإن كان تقريبه عدم التبعية ثبوتا في محله، إذ عدم أحد
الضدين في عرض وجود الضد الاخر لا في طوله.
هذا مع ما في التعبير بان القيدية والحرمة معلولان للنهي من المسامحة
الظاهرة، فان الحرمة ليست معلولة للنهي، بل هي معنى النهي كما عرفت. مع أن
العلية والمعلولية في مثل ذلك مما لا وجه لها. فتدبر جيدا.
هذا كله فيما إذا كان الاضطرار بدون اختيار.
أما إذا كان الاضطرار بالاختيار فقد عرفت أن المضطر إليه يبقى على
ما كان عليه من المبغوضية والمبعدية وان زالت الحرمة، لاستحالة التكليف بغير
المقدور.
وقد ذكرنا أن محل الكلام ليس هذا، بل محل الكلام ما إذا كان المضطر
إليه مقدمة لواجب اتفاقا أو دائما..
139

فهل يكون ذلك موجبا لرفع مبغوضيته أولا؟.
ومثاله المعروف هو: التوسط في الأرض المغصوبة كما إذا دخل باختياره
إلى الأرض المغصوبة وأراد الخروج بعد الدخول، فإنه يكون غصبا لكنه مقدمة
للتخلص عن الغصب الزائد الحاصل بالبقاء.
والأقوال متعددة:
فقول: بان الخروج يقع محرما لان الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار
خطابا وعقابا (1).
وقول: بأنه يقع مبغوضا غير محرم، لعدم منافاة الاضطرار بالاختيار ثبوت
العقاب ومنافاته ثبوت الخطاب. وهذا هو رأي صاحب الكفاية (2).
وقول: بأنه يقع مطلوبا ولا يكون مبغوضا، وهو رأي الشيخ الأنصاري
(قدس سره) (3) وقد استدل (رحمه الله) على دعواه - كما نقله صاحب الكفاية
عن تقريرات بحثه (4) - بما بيانه: ان التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول
والبقاء حرام بلا كلام.
وأما الخروج فهو لا يقع محرما أصلا، إذ لا يتعلق به التحريم قبل
الدخول لأنه لا يتمكن من الخروج وعدمه قبل الدخول، ودعوى التمكن من
ترك الخروج بترك الدخول مسامحة ظاهرة، لأنه في الحقيقة انما ترك الدخول ولا
يصدق ترك الخروج الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، نظير من لم يشرب الخمر
لعدم الوقوع في المهلكة فإنه لا يصدق إلا أنه لم يقع في المهلكة لا انه لم يشرب
الخمر فيها إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

(1) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول 1 / 140 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 168 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 155 - الطبعة الأولى.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 169 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
140

وأما بعد الدخول فلا يقع محرما، لأنه مما يترتب عليه التخلص عن الحرام
فلا يمكن اتصافه بغير المحبوبية، نظير شرب الخمر الذي يتوقف عليه النجاة
من الهلكة.
وأورد عليه صاحب الكفاية:
أولا: بالنقض بالبقاء، فان البقاء قبل الدخول غير مقدور فكيف فرض
تعلق التكليف به.
وثانيا: بان الخروج وتركه مقدور قبل الدخول، إلا أنه بالواسطة على
عكس نفس الدخول فإنه مقدور بدون واسطة. ومن الواضح انه لا يعتبر في
صحة التكليف أكثر من القدرة سواء كان بواسطة أو بغيرها، نظير مطلق الأفعال
التوليدية التي تكون اختياريتها باختيارية أسبابها.
وأما دعوى أنه لا يصدق الترك إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فهي
لو سلمت غير ضائرة، فان المعتبر هو التمكن من الترك بأي نحو حصل، فان
مطلق التمكن يصحح التكليف.
وأما ما ذكره من أن الخروج يكون مما يتوقف عليه التخلص عن الحرام
نظير شرب الخمر الذي يتوقف عليه النجاة من الهلكة، فهو إنما ينفع في وجوب
الخروج لو لم يكن مبغوضا للمولى، ومنه يظهر أن شرب الخمر يقع مبغوضا إذا
كان الوقوع في المهلكة لولاه بسوء اختياره ولا يخرج بذلك عما هو عليه من
المبغوضية.
هذا خلاصة إشكال صاحب الكفاية على الشيخ (قدس سرهما) (1).
ويستخلص منها: ان الخلاف بين العلمين (قدس سرهما) يتركز على
صحة التكليف بترك الخروج قبل الدخول، فيذهب إليه صاحب الكفاية فيرى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 170 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
141

ان الخروج الناشئ عن اختيار الدخول يقع مبغوضا لأنه عصيان للنهي السابق.
ويذهب إلى عدمه الشيخ (رحمه الله) لعدم كون الترك مقدورا قبل الدخول فلا
يصح التكليف.
والذي يظهر من كلام الكفاية ان الشيخ يشترط في صحة التكليف
القدرة المباشرية على متعلقه وعدم صحته مع القدرة عليه بالواسطة.
ولكن مثل هذا يبعد جدا صدوره من الشيخ، فإنه ممن يلتزم بالواجب
المعلق مع عدم القدرة على الواجب في ظرف الوجوب.
والذي يبدو لنا أن مراد الشيخ شئ آخر وهو: ان الخروج له فرضان
ولحاظان. أحدهما: فرض الخروج في ظرف ما قبل الدخول. والاخر: فرضه في
ظرف ما بعد الدخول. ومن الواضح ان الخروج باللحاظ الأول غير مقدور، فإنه
قبل الدخول غير قابل لاعمال الإرادة فيه ايجادا أو تركا، بل تركه متحقق قهرا
بترك الدخول، فهو في هذا الظرف متروك في نفسه.
وبما أن التكليف انما هو لاجل إعمال الإرادة والاختيار في متعلقه لم يصح
تعلق التكليف بالخروج في هذا الظرف، لأنه غير قابل لاعمال الإرادة فيه.
نعم، الخروج في الظرف الاخر - أعني ظرف ما بعد الدخول - مما يقبل
إعمال الإرادة فيه في نفسه، إلا أنه حيث يقع مورد الاضطرار ومقدمة للتخلص
عن الحرام لم يصح تعلق التكليف فيه، فهو غير قابل للتحريم في حال من
حاليه. وهذا بخلاف البقاء، فإنه بعد الدخول قابل للتحريم، لأنه لا يقع مقدمة
للواجب، ولم يظهر من كلام الشيخ انه يرى ان البقاء محرم قبل الدخول كي
يكون موردا للنقض.
بهذا البيان لمراد الشيخ يظهر ان ايراد الكفاية بعيد كل البعد عن مرامه.
فإنه لا يدعي ان المقدور بالواسطة لا يصح التكليف به، بل يلتزم بصحة
التكليف به إذا كانت إراديته بإرادية الواسطة كالمسببات التوليدية، وليس
142

الخروج منها، إذ هو لا يتحقق بمجرد الدخول، بل يبقى اختيار المكلف بالنسبة
إليه محفوظا بعد الدخول.
والذي يتوجه على الشيخ إجمالا: أن الخروج بعد الدخول وإن كان مورد
الاضطرار، الا انه لمكان مشتملا على مفسدة التحريم وكان الاضطرار إليه
اختياريا يكون مبغوضا وإن لم يكن محرما، للزوم تحصيل الغرض الملزم عقلا،
نظير موارد الاضطرار إلى المحرم إذا كان بالاختيار، فإنه يلتزم بوقوع العمل
مبغوضا للمولى. فانتبه.
ثم إن وضوح كلام الشيخ ومراده ووضوح صحته وعدم صحته، بل
وضوح الحقيقة في هذه المسألة، يتوقف على معرفة موضوع الكلام وتشخيص
المراد بالاضطرار، إذ يتسائل بان الخروج لا يكون مضطرا إليه، إذ يتمكن المكلف
من تركه وفعله.
فنقول: ان موضوع البحث يمكن أن يبين بنحوين:
أحدهما: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من: ان الخروج ليس
مورد الاضطرار فلا يدخل المورد تحت قاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار "، فالبحث إنما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب
التخلص عن الغصب الزائد، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء
الاختيار (1).
وهذا الرأي مخدوش فيه:
أولا: بأنه يستلزم الحاق المسألة بباب التزاحم، وهذا مما يأتي الكلام فيه
فيبحث هناك عن حكم التزاحم الحاصل بالاختيار، فلا وجه لجعلها مسألة
مستقلة وتحت عنوان مستقل وهو عنوان الاضطرار إلى الحرام.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 376 - الطبعة الأولى.
143

وثانيا: أنه في نفسه غير صحيح لتحقق الاضطرار إلى الحرام كما سيتضح
في البيان الثاني.
وثانيهما: أن يقال أن الخروج مورد للاضطرار ببيان: أن من يدخل إلى
الأرض المغصوبة..
تارة: يضطر إلى الخروج بحيث لا يتمكن من البقاء أصلا، وهذا خارج
عما نحن فيه.
وأخرى: لا يضطر إلى خصوص الخروج وانما يضطر إلى الغصب بمقدار
زمان الخروج ولا يتمكن من تركه بهذا المقدار، إلا أنه مردد بين فردين الخروج
والبقاء. وهذا هو محل الكلام. فنقول: ان حرمة الغصب وإن كانت ثابتة بنحو
الاستغراق لافراده، إلا أنه حيث لا يمكن الجمع بين حرمة الخروج وحرمة
البقاء يقع التزاحم بينهما وهو تزاحم دائمي، لأنه لا يمكن الجمع بين حرمتيهما في
وقت من الأوقات لأنهما ضدان لا ثالث لهما. فيتعين أن يكون النهي عن صرف
وجود الغصب. فالمطلوب هو ترك صرف الوجود بمعنى أول الوجود. وذلك: لان
تعلق الحكم بكلا الفردين محال لعدم القدرة على تركهما، وتعلقه بأحدهما المعين
ترجيح بلا مرجح، فلا بد ان يتعلق بصرف الوجود المنطبق على ما يحصل منهما
أولا.
ومن الواضح ان صرف الوجود مما يضطر إليه المكلف لاضطراره إلى
الغصب فترتفع حرمته قهرا وإن بقي على ما هو عليه من المبغوضية، فإذا تحقق
صرف الوجود بالخروج كان الخروج مما اضطر إليه، فالاضطرار إلى الخروج
الحاصل عقلي للاضطرار إلى صرف الوجود المنطبق عليه.
وهذا البيان واضح لا غبار عليه ومقتضاه ان كلا من الخروج والبقاء لا
يقع محرما.
إلا أنه انما يتم ذلك فيما لو لم يكن البقاء مستلزما للغصب الزائد، كما إذا
144

علم بارتفاع الغصب بعد مرور مقدار زمان الخروج، فإنه يكون مخيرا بين
الخروج والبقاء لعدم المرجح.
أما إذا كان البقاء مستلزما للغصب الزائد، فلا بد من الالتزام بحرمته دون
الخروج، لان المقتضي لحرمته موجود من دون أي مانع بخلاف الخروج، فان
المقتضي وإن كان موجودا لكنه محتف بالمانع وهو كونه مقدمة للواجب، وهو
التخلص عن الحرام الزائد وتركه. فيكون البقاء حراما دون الخروج، فبهذا
البيان يكون تعين أحدهما المعين وهو البقاء بمعين ومرجح، ولأجل ذلك التزم
الكل بحرمة البقاء مع منافاته للبيان الأول.
وعليه، فيقع البحث في أن المقدمية هل تستلزم رفع جهة المبغوضية في
الخروج أو لا تستلزم ذلك، بل يبقى على ما هو عليه من المبغوضية؟.
والذي يمكن ان يذكر في إثبات وقوع الخروج مبغوضا فعلا وجهان:
الأول: ما ذكره صاحب الكفاية من تعلق النهي السابق - يعني قبل
الدخول - بالخروج، وهذا النهي وإن سقط للاضطرار عقلا، لكن متعلقه يقع
مبغوضا لكونه اختيار بالواسطة، فهو نظير قتل النفس الناشئ من الرمي، فان
تحريمه يرتفع بعد الرمي لعدم كونه اختياريا في ذلك الحال، لكنه يقع مبغوضا
ولذا يعاقب عليه العبد.
ثم ذكر: انه يمتنع ارتفاع المبغوضية لاجل المقدمية واحتفافها بما يوجب
المحبوبية، لأنه يستلزم تعليق التحريم على إرادة عدم الدخول وعدم التحريم
على إرادة الدخول. ومن الواضح ان هذا ممتنع، فان التعليق المزبور يمنع من
تأثير الحرمة في الزاجرية والداعوية بنحو الترك فيكون جعلها لغوا (1).
وهذا الوجه يندفع:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 168 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
145

أولا: بما تقدم من استحالة تعلق الحرمة بالخروج في فرض عدم الدخول
فلا حرمة سابقة في البين.
وثانيا: بأنه لو فرض إمكان تعلقها بالخروج قبل الدخول وعدم استحالته
فهي غير ثابتة لما سيأتي في دفع الوجه الثاني.
الثاني: أن الخروج وإن كان مما يتوقف عليه الواجب لكن بما أنه مبغوض
في نفسه وكان الوقوع فيه ناشئا عن الاختيار لم ترتفع مبغوضيته وإن كان مما
لابد منه عقلا فرارا من أشد القبيحين، فهو نظير ما لو اضطر لشرب الخمر
بسوء اختياره، فإنه يعاقب على ذلك، وإن لم يكن محرما عليه فعلا لاضطراره
إليه.
وفيه: ان الخروج المضطر إليه وان كان مبغوضا في نفسه للجزم بعدم
اختلافه عن سائر افراد الغصب، إلا أنه حيث تتزاحم المبغوضيتان وهما مبغوضية
الخروج ومبغوضية الغصب الزائد، فالمولى يحكم بتقديم مبغوضية الغصب الزائد
وترتفع مبغوضية الخروج، والمراد بالمبغوضية المرتفعة المبغوضية التي تكون مورد
الأثر من مبعدية وعقاب ولوم وعتاب - وهي محل الكلام - لا المبغوضية الطبيعة
فإنها موجودة في جميع موارد التزاحم، وهذا أمر وجداني لا يختلف فيه اثنان فان
من يرى نفسه مضطرا إلى قطع يده لحفظ حياته يكره قطع يده لكن لا يعاقب
من يباشر القطع. ولا يختلف في ذلك ما إذا كان الاضطرار قهريا أو كان
اختياريا.
نعم، في صورة الاضطرار الاختياري تتعلق المبغوضية العملية بتحريج
المولى وجعله مضطرا إلى ما هو مبغوض لديه ذاتا. فان من فعل فعلا استلزم
توقف حياة الغير على قطع يده فإنه لا يتوقف المضطر في قطع يده ويأمر الطبيب
بذلك لكنه يعاقبه أو يلومه على تحريجه وجعله مضطرا إلى ذلك لا على نفس قطع
يده.
146

وبالجملة: الوجدان يشهد على ارتفاع المبغوضية العملية بالمزاحمة وإن
بقت المبغوضية الطبعية سواء كان التزاحم بالاختيار أم بدونه.
ومن هنا يظهر انه لو فرض معقولية تعلق التحريم السابق بالخروج،
فهو غير ثابت لارتفاع ملاك التحريم بالمزاحمة دائما، وعدم كون الخروج
مبغوضا في ظرف تحققه.
وأما ما ذكره صاحب الكفاية من المحذور العقلي لو ارتفعت مبغوضية
الخروج، فهو لا يستلزم ثبوت التحريم واستمرار أثره، بل يستلزم عدم ثبوته.
وذلك لان مقتضى المحذور العقلي هو الملازمة بين ثبوت الحرمة السابقة واستمرار
أثرها، إذ بدون الاستمرار يلزم المحذور المذكور. وبما أن عدم استمرار أثر
التحريم من الأمور الوجدانية، إذ عرفت أن ارتفاع المبغوضية للمزاحمة أمر
وجداني فلا محيص عن الالتزام بعدم تعلق الحرمة السابقة بالخروج وإلا لزم
المحذور العقلي.
ولعل ما ذكره صاحب الكفاية يبتني على الرأي القائل بتقديم الأسبق
زمانا في باب التزاحم والمفروض ان حرمة الخروج أسبق زمانا من حرمة الغصب
الزائد. ولكن عرفت أنه غير مرجح.
والمتحصل: ان رأي الشيخ القائل بعدم مبغوضية الخروج لا سابقا ولا
لاحقا متين وبتعين الالتزام به.
وأما كونه مأمورا به فيمكن ان يوجه بوجوه ثلاثة:
الأول: كونه واجبا بالوجوب المقدمي، لكونه مقدمة للتخلص عن الحرام.
الثاني: انه واجب بالوجوب النفسي المتعلق برد المال إلى صاحبه لأنه
من مصاديق الرد.
الثالث: انه بنفسه تخلص عن الحرام، فيكون واجبا نفسيا.
وجميع هذه الوجوه غير صحيحة:
147

أما الأول: فلما تقدم من إنكار الوجوب المقدمي لو سلم ان الخروج
مقدمة. مع أن التخلص ليس بواجب شرعي. كما ستعرف.
وأما الثاني والثالث: فلان كلام من وجوب رد المال إلى صاحبه ووجوب
التخلص عن الحرام ليس حكما شرعيا، بل هو حكم عقلي منتزع عن حرمة
الغصب، فليس لدينا حكم شرعي سوى حرمة الغصب.
وعليه، فلا وجه لتحرير الكلام في مقدمية الخروج للتخلص وتعنونه بهذا
العنوان، وإطالة الكلام فيه كما صدر من المحقق الأصفهاني (1).
واما القول بأنه منهي عنه ومأمور به. فيدفعه مضافا إلى محالية اجتماع
الحكمين في موضوع واحد، ما عرفت من عدم المقتضي للتحريم والوجوب.
فالذي نختاره رأي آخر غير هذه الآراء، وهو: عدم كون الخروج محكوما
بحكم شرعا وانما هو لازم عقلا للمزاحمة.
يبقى البحث فيما ذكره المحقق النائيني من: أن المورد إذا كان من موارد
قاعدة: " الامتناع بالاختيار "، فالرأي ما ذهب إليه صاحب
الكفاية. وإذا لم يكن من موارد القاعدة، فالرأي ما ذهب إليه الشيخ.
وبما أن المورد ليس من موارد القاعدة المزبورة فالمختار هو رأي الشيخ.
أما عدم كون المورد من موارد القاعدة، فهو لوجوه أربعة:
الأول: ان مورد القاعدة ما يكون خارجا عن قدرة المكلف، وليس
الخروج كذلك لكونه إراديا.
نعم، صرف وجود الغصب بمقدار زمان الخروج أمرا ضروريا ليس تحت
قدرة المكلف، ولكنه أجنبي عن الاضطرار إلى الخروج الذي هو محل الكلام.
الثاني: ان مورد القاعدة ما إذا كان ملاك الحكم ثابتا في العمل مطلقا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 286 - الطبعة الأولى.
148

سواء وجدت المقدمة أم لم توجد. وما نحن فيه ليس كذلك، فان تمامية الملاك في
الخروج انما تكون بعد الدخول وبدونه لا يكون الخروج واجدا للملاك.
الثالث: ان مورد القاعدة ما كان وجود المقدمة موجبا للقدرة على المكلف
به، ويكون امتناعه ناشئا عن عدم المقدمة، وما نحن فيه على العكس، فان وجود
الدخول - الذي هو المقدمة - يوجب الاضطرار إلى الخروج.
الرابع: ان المفروض كون الخروج لازما عقلا، وما يكون كذلك لا يكون
مورد القاعدة، لان موردها لا يقبل تعلق الخطاب - أصلا - شرعيا كان أو عقليا.
إنتهى موضع الحاجة من كلامه ملخصا (1).
ولكنه مخدوش والخدشة فيه من جهات:
الجهة الأولى: فيما ذكره من ابتناء رأي الكفاية على كون المورد من موارد
قاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ". فإنه غير صحيح. فان كلام
الكفاية لا يرتبط بالقاعدة المزبورة أصلا، بل يمكن أن يكون نظره إلى كون
الاضطرار إلى الخروج عرفيا لا عقليا من باب التزاحم، وان الانسان يرى نفسه
مضطرا إلى فعل الخروج باختياره فرارا عن المحذور الأشد، كما يقال يضطر
الانسان إلى بيع داره لاجل وفاء دينه أو معالجة مرضه، مع أن البيع يصدر منه
بالاختيار.
وجامع ذلك: ان الشخص بحسب ما يرى من الآثار والتبعات التي يجري
عليها في حياته الشخصية أو الاجتماعية يرى نفسه لاجل ذلك في ضرورة إلى
صدور الفعل منه فيصدر عنه بالاختيار، لكن الدافع له أثره المترتب عليه اللازم
له فيعبر عن ذلك بالاضطرار عرفا في قبال الاضطرار العقلي الذي يرجع إلى
انسلاب قدرة الشخص عن العمل وصدوره عن غير إرادة كحركة المرتعش.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 376 - الطبعة الأولى.
149

والذي يشهد على كونه نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار العرفي: أنه قاس
المقام بما لو اضطر باختياره إلى شرب الخمر، لاجل عدم الوقوع في الهلكة فان
شرب الخمر مضطر إليه عرفا لا عقلا لصدوره بالاختيار.
وبالجملة: يقوى في النظر كون نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار
العرفي وارتفاع الحكم لاجل التزاحم، أو لدليل الرفع الشامل للاضطرار العرفي.
ولا يرتبط ارتفاع الحكم بالقاعدة أصلا، بل لم يذكر القاعدة في طي دليله أصلا،
فيكف ينسب إليه ذلك؟.
الجهة الثانية: فيما ذكره من انه بانتفاء كون المورد من موارد القاعدة
يثبت رأي الشيخ. فإنه غير صحيح، لان عدم كون المورد من موارد القاعدة
المذكورة يستلزم الانتهاء إلى القول بالتحريم الفعلي، لان القاعدة تذكر لبيان
المانع من التكليف وأن الاضطرار انما يمنع من التكليف لا المؤاخذة. فإذا فرض
ارتفاع هذا المانع ثبت الحكم، وليست القاعدة تذكر لبيان عدم المقتضي حتى
يحتاج إلى دليل بعد رفع القاعدة. فالانتهاء إلى وجوب الخروج بمجرد رفع
القاعدة عن المورد لا يعلم له وجه ظاهر.
الجهة الثالثة: فيما ذكره من الوجوه على عدم كون المورد من موارد
القاعدة فإنها غير صحيحة:
أما الأول: فلما تقدم من بيان كون المورد من موارد الاضطرار العقلي.
وأما الثاني: فلانه من الواضح ثبوت الملاك للخروج للجزم بعدم الفرق
بين موارد الغصب في ذلك. وإطلاق دليل الغصب يؤيده.
واما الثالث: فلانه لا فرق بين أن يكون الامتناع ناشئا من ترك مقدمة
أو فعلها، فأن المهم هو استناد الامتناع إلى اختيار المكلف.
وأما الرابع: فلان الاضطرار المدعى انما نشاء عن حكم العقل بلزوم
الخروج فرارا من أشد المحذورين، فلا وجه لجعل حكم العقل المزبور شاهدا
150

على عدم كون المورد من موارد الاضطرار.
والحاصل: ان ما أفاده (قدس سره) لا يخلو عن مناقشة. وقد عرفت
تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه.
وفي ختام هذا البحث يحسن بنا التعرض لايضاح مطلب الكفاية في
موردين:
المورد الأول: ما ذكره في مقام دفع القول بان الخروج مأمور به ومنهي
عنه (1) بعد أن نفاه بامتناع اجتماع الحكمين فيما كانا بعنوانين فضلا عما إذا كانا
بعنوان واحد كما فيما نحن فيه، من انه لو سلم كون اجتماع الأمر والنهي ليس
بمحال في نفسه، لكنه في المقام محال، لأنه تكليف بالمحال مع عدم المندوحة، لعدم
التمكن من الفعل والترك، وما قيل من أن الامتناع أو الايجاب بالاختيار لا ينافي
الاختيار انما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بان الأفعال غير اختيارية
بقضية: " ان الشئ ما لم يجب لم يوجد " (2).
ومحل بحثنا هو: إيضاح مقصود صاحب الكفاية في رد القول المذكور.
وقد فسر المحقق الأصفهاني العبارة أولا: بإرادة الضرورة السابقة
والضرورة اللاحقة. ببيان إليك نصه: " ان كل ممكن محفوف بضرورتين: ضرورة
سابقة في مرتب العلة التامة، وهي مفاد قولهم: " ان الشئ ما لم يجب لم يوجد ".
وضرورة لا حقة وهي الضرورة بشرط المحمول، لوضوح أن الموجود بشرط
الوجود ضروري الوجود، والمعدوم بشرط العدم ضروري العدم، ومثله لا دخل
له بالقضية المتقدمة، وإلا لكان مفادها ان الشئ ما لم يفرض وجوده لم يوجد وهو
واضح البطلان. وقولهم: " إن الوجوب بالاختيار أو الامتناع بالاختيار لا ينافي

(1) القائل هو أبو هاشم. راجع شرح مختصر الأصول / 94.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 173 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
151

الاختيار " ناظر إلى الضرورة السابقة فان الضرورة الناشئة من قبل إعمال
القدرة والإرادة لا يعقل ان تأبى المقدورية والمرادية، بل تؤكدهما. وقولهم: " ان
التكليف لا يتعلق بما هو واجب أو ممتنع " ناظر إلى الضرورة اللاحقة فان طلب
الموجود أو المعدوم طلب الحاصل، وطلب الوجود بالإضافة إلى المعدوم أو العدم
بالإضافة إلى الوجود طلب النقيض مع فرض تحقق نقيضه، واجتماع النقيضين
محال. فلا ربط لاحدى القضيتين بالأخرى "، ثم إنه ذكر بعد ذلك: أن العبارة
ظاهرة في كون الوجوب والامتناع في كلتا القضيتين واحد، وأن عدم منافاتهما
لصدور الفعل والترك بالاختيار لا ينافي منعهما عن تعلق التكليف إذا كان ذلك
بسوء الاختيار، ثم أخذ في توجيه عبارة الكتاب (1).
أقول: يرد عليه:
أولا: انه لا داعي لحمل العبارة أولا على ما ذكره ثم تصحيحها بوجه آخر.
فان ظاهر العبارة لا إشارة فيه إلى ضرورة سابقة ولا حقة وغير ذلك، بل ظاهرها
أمر وجداني عرفي محصله ان الشئ إذا كان واجبا أو ممتنعا امتنع تعلق التكليف
به لعدم القدرة عليه وكان التكليف بالنسبة إليه لغوا لعدم داعويته إليه، اما ان
هذا الممتنع أو الواجب اختياري أولا فهو له حديث آخر. فذهب الأشاعرة إلى
عدم كونه اختياريا تمسكا بقضية: " أن الشئ ما لم يجب لم يوجد ". وردوا: بان
هذا الوجوب إذا كان اختياريا ومستندا إلى الإرادة كان الفعل اختياريا. وهذا
المعنى أجنبي عن عدم صحة التكليف به لعدم إمكان داعويته إليه المقومة
للتكليف هذا هو ظاهر العبارة، ولا وجه لإطالة الكلام في هذا، ولعله هو المقصود
مما وجه به عبارة الكتاب ولا يهمنا ذلك.
وثانيا: ان المورد ليس من موارد الضرورة اللاحقة، ومن التكليف

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 292 - الطبعة الأولى.
152

بالموجود أو المعدوم، وذلك لعدم كون المفروض تعلق الأمر والنهي بما هو موجود
خارجا، بل البحث في حرمة أو وجوب ما سيقع من الخروج الذي لابد منه
بالتقريب الذي تقدم. فالتفت وتدبر.
المورد الثاني: ما ذكره في مقام بيان أن الخروج يقع مبغوضا وعصيانا
للنهي السابق، ولا تؤثر في رفع مبغوضيته جهة المقدمية من: انه لو ارتفعت حرمته
لاجل التزاحم الموجود لزم ان تكون " الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره
لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى (1) " فيقع الكلام في المراد بهذه
العبارة وما هو مرجع الضمير في: " لغيره وله " هل الخروج أو الدخول؟.
ذهب المحقق الأصفهاني إلى: أن مرجع الضمير هو الخروج والمراد من
غير الخروج هو الدخول فيكون المعنى: أن حرمة الخروج على تقدير الدخول
وعدم حرمته على تقدير إرادته نفسه.
وجهة الاشكال فيه المشار إليها بقوله: " كما ترى " هي ان هذا التقييد بلا
موجب وبدونه يكون غير صحيح.
ثم ذكر احتمالا آخر في العبارة وهو: إرادة الدخول من الضمير فيكون
المؤدى: تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه وجوازه على إرادة
الدخول، ونفي صحته بأنه لا وجه له بعد أن كان الدخول مما لا أثر له في الكلام
حتى يرجع إليه الضمير، بخلاف الخروج فإنه محل الكلام من حيث الحرمة
والجواز. كما ذكر احتمالا آخر لا يهمنا التعرض إليه (2).
والحق: ان اللازم حمل العبارة على المعنى الثاني لا الأول. فان ما يؤدي
إليه قول الخصم هو المعنى الثاني. بيان ذلك: ان الخصم يدعي ان الخروج لما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 169 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع) 2 -
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 289 - الطبعة الأولى.
153

كان مقدمة لما هو الأهم ارتفعت مبغوضيته كسائر موارد تزاحم الحرمة مع
الوجوب الأهم. ومن الواضح ان فرض التزاحم بين حرمة الخروج ووجوب
التخلص عن الحرام انما هو ظرف الدخول، وقبل الدخول لا تزاحم فيبقى
الخروج على حرمته.
وعليه، فقول الخصم يستدعي ثبوت الحرمة قبل الدخول وارتفاعها بعد
الدخول.
ومن الواضح: ان هذا يستلزم عدم تأثير الحرمة في ترك الخروج، إذ لا يقع
الخروج في ظرفه إلا مباحا فيكون جعلها لغوا.
ولا يخفى ان حمل عبارة الكتاب على هذا المعنى الواقعي أولى من حمله
على ما ذكره (قدس سره) مما لا يرتبط بواقع الامر كما لا يخفى.
نعم، حمل العبارة على المعنى المذكور يستلزم مخالفة الظاهر من جهة عدم
سبق ذكر للدخول كي يعود الضمير عليه، ومن جهة كون المراد من إرادة غير
الدخول نفس عدم الدخول، وإرادة الدخول نفس الدخول. ومثل هذه
المخالفات للظاهر لا يخلو منها التفسير الأول.
واما ما ذكره (قدس سره) في رد قول الخصم على التفسير الأول من: أنه
تعليق بلا موجب فلا يكون صحيحا. فهو غير وجيه، فان المقتضي والموجب
للتعليق المذكور - لو تم في نفسه - هو وقوع المزاحمة وحكم العقل بترجيح الأهم،
كسائر موارد التزاحم التي يلتزم فيها بتقييد دليل المهم بغير مورد مزاحمة الأهم،
فلم يعلم لكلامه (قدس سره) وجه.
يبقى أمر لم نتعرف على وجهه، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من: ان
التعليق المزبور خلف الفرض لان الفرض كون الاضطرار بسوء الاختيار
والتعليق يستلزم عدم كونه بسوء الاختيار. كما لا يخفى.
وهذا غريب جدا، لان محل الكلام هو كون الخروج المضطر إليه اختيارا
154

مبغوضا، فيكون الاضطرار بسوء الاختيار، أولا يكون مبغوضا فلا يكون هناك
سوء اختيار. ودعوى الشيخ انه لا يقع مبغوضا أصلا. فكيف يجعل ان سوء
الاختيار مفروض الكلام، بل هو محل الكلام؟!.
والامر في هاتين العبارتين سهل بعد ما عرفت تحقيق الكلام، ولا وجه
لإطالة البحث فيهما نفيا واثباتا بل نكتفي بهذا المقدار.
ويقع الكلام بعد ذلك في ثمرة المسألة. اما ثمرة هذا البحث - أعني
بحث الاضطرار - فهو يتضح من طيات ثمرة المسألة وذيوله.
* * *
155

" ثمرة المسألة "
ويقع الكلام - بعد مجموع ما تقدم - في ثمرة المسألة، وما هو الأثر العملي
للقولين بالجواز والامتناع.
فنقول: بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي الراجع إلى الالتزام بتعدد
وجود متعلق الأمر والنهي في المجمع، يلتزم بصحة العمل العبادي بدعوى أن
متعلق الامر غير منهي عنه، فيصح الاتيان به عبادة سواء علم بالحرمة أو لم يعلم.
الا ان المحقق النائيني خالف في اطلاق الحكم بالصحة والتزم ببطلان
العمل في صورة العلم بالحرمة دون الجهل بها.
ببيان محصله وواقعه: انه إذا التزم بجواز الاجتماع من الجهة الأولى
- وهي اجتماع الضدين في شئ واحد - فلا يلتزم بجوازه من الجهة الثانية، بل
يلتزم بالامتناع بلحاظها - وهي جهة التزاحم - لوضوح عدم التمكن من امتثال
كلا الحكمين فلا يكونان فعليين، بل يقع التزاحم بينهما فاما ان يقدم الامر أو
يقدم النهي، فلو قدم النهي ارتفع الامر عن الفرد المزاحم، وحينئذ فصحته عبادة
ينحصر طريقها بأحد وجوه ثلاثة كلها منتفية فيبطل العمل قهرا، وهذه الوجوه
الثلاثة هي:
الأول: الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الامر المتعلق بالطبيعة، وان كان
157

الفرد المزاحم خارجا عن دائرة المأمور به، وهو ما التزم به المحقق الكركي.
الثاني: تصحيح تعلق الامر به بنحو الترتب، فيؤتى به بداعي الامر
المتعلق به.
الثالث: الاتيان به بداعي الملاك، لاشتماله على ملاك الامر.
اما الوجه الأول: فقد تقدم عدم صحته وان الفرد المزاحم فرد للطبيعة لا
بما هي مأمور بها، فلا يصح الاتيان به بداعي الامر لان الامر انما يدعو إلى ما
تعلق به.
واما الوجه الثاني: فقد تقدم عدم تأتي الترتب في مثل الفرض، لان
عصيان النهي عن الغصب إما أن يكون بالغصب الصلاتي، أو بغيره وعلى كلا
التقديرين لا يصح تعلق الامر بالصلاة، فإنه على الأول طلب الحاصل، وعلى
الثاني طلب النقيضين، فان الامر بالصلاة على تقدير الاتيان بغيرها طلب
النقيضين، كما لا يخفى.
واما الوجه الثالث: فالاتيان بالفرد المزاحم بداعي الملاك انما يجدي في
المقربية إذا لم يكن مشتملا على القبح الفاعلي كما في المقام، فان الصلاة والغصب
وان كانا متعددي الوجود لكن لما كانا ممتزجين في الخارج بحيث لا يمكن
الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الاخر، كانا متحدين بحسب الايجاد والتأثير،
وكانا صادرين بإرادة واحدة، فيكون الفاعل مرتكبا للقبيح في فاعليته، ومع ذلك
يمتنع أن يكون الفعل الصادر منه مقربا، لقبح جهة صدوره.
وهذا البيان لا يسري إلى صورة الجهل بالحرمة، إذ مع الجهل لا تزاحم
بين الحكمين، لان التزاحم انما يتحقق مع وصول كلا الحكمين إلى مقام الداعوية،
وهو منتف مع الجهل، فيكون الامر مزاحم، كما أن جهة صدور العمل لا
تكون متصفة بالقبح، لفرض الجهل بالحرمة، فلا يكون الفاعل مرتكبا للقبيح
في فاعليته.
158

هذا محصل ما افاده في مقام التفصيل بين العلم بين العلم بالحرمة والجهل بها، وقد
غيرنا أسلوب البيان لايضاح المطلب، كما أغفلنا بعض ما افاده في مقام تحقيق
المطلب، لعدم دخله - بنظرنا - بالمطلوب، وهو ما افاده من التفصيل في اعتبار
القدرة بين القول بأنها بحكم العقل أو القول بأنها باقتضاء نفس التكليف،
ووقوع التزاحم على الثاني دون الأول، فقد مر تحقيق الكلام فيه ولعلنا نعود إليه
لمناسبة أخرى (1).
واما ما نقلناه عنه فهو غير تام، وذلك: لما تقدم منا من انه لا تزاحم بين
الحكم الموسع والحكم المضيق، إذ عرفت أن مرجع الاطلاق في الموسع ليس إلى
الجمع بين القيود، بل إلى رفض القيود وبيان عدم دخالة أي قيد في المأمور به،
ولازمه حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق الكلي المأمور به على أي فرد شاء
حتى الفرد الملازم للعمل المحرم، وهذا لا ينافي تحريم المحرم وباعثية الحرمة إلى
تركه، إذ لا اقتضاء للحكم الموسع بالنسبة إلى الفرد المزبور، اذن فالفرد المزاحم
مشمول للطبيعة بما هي مأمور بها. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بثبوت التزاحم
وخروج الفرد المزاحم عن دائرة المأمور به، فالوجوه التي التزم بها لتصحيح
العمل عبادة تامة ولا وجه للخدشة فيها.
اما الأول: فلما تقدم منا - في مبحث تعلق الاحكام بالطبائع أو الافراد -،
من تصحيح الاتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الامر بالطبيعة بعد أن كان
كغيره من الافراد موافقا للغرض ومحصلا للملاك، واليه ذهب صاحب الكفاية (2).
واما الثاني: - فلان ما ذكره (قدس سره) في نفي الترتب عجيب -، فان
عدم جريان الترتب في مورد اجتماع الأمر والنهي انما يلتزم به بناء على الامتناع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 369 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 157 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
159

ووحدة وجود المأمور به والمنهي عنه، لان عصيان أحدهما يكون بامتثال الاخر،
فلا معنى للترتب، لأنه طلب الحاصل، ولا يلتزم به بناء على الجواز والالتزام بتعدد
وجود المأمور به والمنهي عنه. وما ذكره من البيان لنفيه غير صحيح، إذ بعد
الالتزام بتغاير وجود الغصب ووجود الصلاة، لا معنى لان يقال: ان عصيان
النهي عن الغصب اما أن يكون بالغصب الصلاتي أو بغيره، إذ الغصب غير
الصلاة فكيف يكون بنفس الصلاة؟. نعم هو يلازم الصلاة أو غيرها، وهذا لا
يمنع من الترتب، والا لامتنع الترتب في مطلق موارده، لان عصيان الأهم اما
يلازم المهم أو غيره. فالتفت.
واما الثالث: فقد أورد عليه بان الايجاد والوجود متحدان حقيقة،
متغايران اعتبارا، فلا يمكن فرض تعدد الوجود ووحدة الايجاد، بل مع تعدد
الوجود يتعدد الايجاد، ومع تعدده لا يكون المكلف في جهة ايجاده المأمور به فاعلا
للقبيح، فلا تكون جهة صدور المأمور به متصفة بالقبح كي يمنع ذلك من
حصول التقرب به.
ولكنا نقول: ان هذا البيان وان كان برهانيا الا ان الذي نراه بالوجدان
كون الأفعال على قسمين:
أحدهما: ما تتعلق به الإرادة بنفسه مباشرة وهو الأفعال الإرادية.
ثانيهما: ما لا تتعلق الإرادة به مباشرة، بل بسببه، وهو الأفعال التوليدية.
ومن الواضح انه لا يمكن صدور فعلين من النحو الأول بإرادة واحدة،
إذ المفروض ان كل فعل تتعلق به الإرادة بنفسه، فكل فعل يكون متعلقا لإرادة
غير الإرادة المتعلقة بالاخر، وقد يرى مسامحة تعلق الإرادة الواحدة بفعلين، لكن
الحقيقة ليست كذلك، بل هناك إرادتان وشوقان كل منهما متعلق بفعل غير الفعل
الذي تعلقت به الإرادة الأخرى.
واما النحو الثاني من الأفعال، فيمكن صدور فعلين بإرادة واحدة حقيقة
160

كما لو كان هناك سبب واحد لأثرين، بمعنى انه يؤثر بمجموع اجزائه لو كان
مركبا في كل أثر. فان متعلق الإرادة نفس السبب، فلا تكون الا إرادة واحدة
متعلقة بالسبب. وفي مثل ذلك لو كان أحد المسببين محبوبا والاخر مبغوضا
وفرض غلبة المبغوض، فان جهة صدور المسبب المحبوب تكون مبغوضة، إذ
إرادة السبب مع العلم بانتهائه إلى المسبب المبغوض قبيحة. وبما أنه يعتبر في
المقربية عدم قبح جهة الصدور، فلا محالة لا يكون الاتيان بالمسبب مقربا، ولا
ينفع في ذلك دعوى أن تعدد الوجود يقتضي تعدد الايجاد، فان جهة الصدور
وإرادته واحدة بداهة. وعليه فالايراد المذكور غير مجد في دفع الاشكال كلية.
هذا، ولكن مورد الكلام (وهو الصلاة مع الغصب) خارج عما ذكرنا، إذ
هما من الأفعال الإرادية، وعليه فكل منهما متعلق الإرادة، فلا يكون الاتيان
بالصلاة مشتملا على القبح الفاعلي، لان جهة صدوره غير جهة صدور الغصب.
فالاشكال المزبور انما يتم في المسببات التوليدية.
والمتحصل: انه لا اشكال في صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول
بجواز الاجتماع في صورة العلم بالغصب وهكذا في صورة الجهل به وهو واضح
كما لا يخفى.
واما على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلق وتقديم
جانب النهي، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين صورة العلم وصورة
الجهل أو النسيان، فذهب إلى بطلان العمل العبادي في الأولى دون الثانية (1).
اما بطلان العمل في صورة العلم فوجهه واضح لان العمل مبغوض للمولى
ويمتنع التقريب بما هو مبعد. واما عدم بطلانه في صورة الجهل أو النسيان فقد
مر توجيهه بوجوه ثلاثة:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 156 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
161

الأول: اتيانه بقصد الامر المتعلق بالطبيعة لكونه كسائر الافراد في الوفاء
بالغرض.
الثاني: اتيانه بقصد الملاك لاشتماله على ملاك الامر كما هو المفروض.
الثالث: اتيانه بقصد الامر المتعلق به بناء على تبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد المؤثرة فعلا بالحسن والقبح.
وقد مر الاشكال على الوجهين الأولين، بما أفاده المحقق النائيني من: ان
الفعل بعد ما كان مشتملا على ملاكي الحكمين وكان ملاك النهي غالبا لم يكن
الفعل بملاحظة الكسر والانكسار الحاصل بين المفسدة والمصلحة مقربا للمولى،
لان ملاك الامر المقرب هو المصلحة الغالبة لا مجرد المصلحة ولو لم تكن غالبة.
وعلى الوجه الثالث: بأنه التزام بالتصويب المجمع على بطلانه لاستلزامه نفي
الحكم الواقعي في صورة الجهل.
وقد تقدم توضيح ذلك مفصلا في الامر العاشر فراجع.
نعم يمكن الالتزام بصحة العمل في صورة النسيان بتقريب: ان دليل
الرفع المتكفل لرفع النسيان يتكفل رفع الحكم الواقعي، ويفيد ان ملاك النهي
لا يكون مؤثرا في المبغوضية الفعلية الموجبة للبعد، فلا مانع من ثبوت الامر
حقيقة وواقعا ومقربية العمل المأمور به.
ويمكن ان يذكر تفصيلا آخر في صحة العمل على القول بتقديم جانب
النهي، وهو التفصيل بين ما ذا كانت مندوحة، بمعنى أمكن امتثال المأمور به
بفرد آخر وعدمه، ومن مصاديقه الصلاة في المكان المغصوب مع السعة ومع
الضيق.
والوجه فيه: انه إذا كان للمأمور به افراد متعددة كان عمومه بدليا، في
الوقت الذي يكون عموم النهي شموليا يستغرق جميع افراده، وقد تقرر في محله
تقديم العموم الشمولي على البدلي عند التنافي.
162

اما لو لم تكن مندوحة وانحصر المأمور به بالفرد المحرم، كان دليل الامر
شاملا له بخصوصه لا على نحو البدلية، فلا يتجه تقديم الحرمة، بل قد يقدم
دليل الوجوب أو يلتزم بالتخيير.
وهذا التفصيل في حقيقته تفصيل بين الصورتين في تقديم جانب الحرمة
وعدمه، لا في الصحة على تقدير تقديم جانب الحرمة. فالتفت.
وقد يفصل - بناء على غلبة ملاك الامر وتقديم جانبه - بين صورة الضيق،
فيصح العمل، وصورة السعة، فلا يصح، للوجه الذي ذكره في الكفاية في ذيل
مسألة الاضطرار إلى الحرام (1).
وهو الالتزام بان الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، ببيان: ان
الاتيان بالفرد المشتمل على مفسدة التحريم يستلزم عدم التمكن من استيفاء
مصلحة الافراد الأخرى غير المبتلاة بمنقصة ملاك الحرمة، فهما ضدان، وبما أن
الافراد الأخرى متعلقة للامر، فإذا التزمنا بان الامر بالشئ يقتضي النهي عن
ضده كان هذا الفرد منهيا عنه، فلا يقع صحيحا.
وهذا البيان لا يتأتى في صورة الضيق، إذ لا فرد غيره كما لا يخفى.
وقد أورد عليه في الكفاية: بإنكار استلزام الامر بالشئ للنهي عن
ضده (2)، وقد تقدم تحقيق ذلك.
هذا مع أنه قد قيل: بان النهي الثابت بهذا الطريق لا ينافي مقربية العمل
ولا يمنع من عباديته.
ولعل تقرير ذلك يأتي قريبا ان شاء الله تعالى.
" تذييل ": قد عرفت ابتناء القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي على وحدة
وجود المجمع. والقول بجوازه على تعدده. وقد يقع الكلام في بعض الفروع

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 174 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
163

المرتبطة بذلك..
منها: الغسل بالماء المغصوب وفي المكان المغصوب، فإنه قد يدعي بطلان
الأول وصحة الثاني.
وتوجيه هذه الدعوى قد مر في الامر العاشر من الأمور المذكورة في
الكفاية، وهو: ان الغصب في المثال الأول يتحقق بنفس الغسل لأنه تصرف بالماء
فيكون محرما فلا يمكن أن يكون واجبا لوحدة المجمع. اما في المثال الثاني، فقد
يدعى أن الغصب لا يتحقق بنفس الغسل، لأنه من مقولة الأين والغسل من
مقولة الفعل فيختلفان وجودا، فيصح الغسل لعدم كونه محرما.
ومنها: ما لو اضطر إلى البقاء في الأرض المغصوبة واضطر إلى الصلاة
فيها بضيق الوقت، كالمحبوس أو الداخل لها نسيانا مع ضيق وقته.
فهل وظيفته الصلاة التامة، أو وظيفته الانتقال إلى الابدال الاضطرارية
لأفعال الصلاة الانتقالية كالركوع والسجود فيومي لهما؟. ذهب البعض إلى
الثاني، بدعوى: ان الركوع الاختياري - مثلا - تصرف زائد على الغصب عرفا،
فيكون محرما، فيسقط وجوبه وينتقل إلى بدله الاضطراري. وفي قباله دعوى:
ان وظيفته الصلاة التامة، لان الركوع والسجود ونحوهما ليس تصرفا زائدا على
نفس اشغال المكان المغصوب، والمفروض جوازه للاضطرار إليه ولا يتعين عليه
نحو خاص من الاشغال وهو القيام أو الجلوس أو النوم مثلا، بل له الحق في أي
فرد من افراد الاشغال.
وأما النظر العرفي، فهو لو سلم لا يعتد به إذ العرف انما يرجع إليه في
تعيين مفاهيم الألفاظ لا تعيين المصاديق، وبعد ان عرفنا ان التصرف الجائز هو
اشغال المكان المغصوب لأنه مما لا بد منه، وعلمنا ان الركوع نحو من انحاء
الاشغال ولا يشتمل على تصرف غير الاشغال، كما أنه لا يستلزم زيادة الاشغال،
لان الجسم واحد وهو يستدعي حيزا معينا لا يزيد ولا ينقص بلحاظ حالاته
164

وكيفيات وجوده، لعدم تغيره عن واقعة - بعد علمنا بذلك - لا وجه للاعتداد
بالعرف وتحكيمه في نظره بأنه غصب زائد، لأنه يبتني على المسامحة ولا اعتبار بها.
وهذه الدعوى تامة بنحو الموجبة الجزئية، فان الركوع وإن لم يستلزم
تصرفا زائدا، لكن السجود يستلزم، لأنه يعتبر فيه وضع الجبهة على الأرض،
وهكذا التشهد، فإنه يعتبر فيه الجلوس، سواء اعتبر ذلك مقوما أو شرطا، إذ على
الأول يكون المورد من موارد الامتناع وعلى الثاني يكون المورد من موارد
التزاحم، فان حرمة الشرط ووجوب المشروط لا يجتمعان امتثالا، وعليه فتسلب
القدرة الشرعية عن السجود، فينتقل إلى بدله الاضطراري.
ومن هنا يظهر حكم الصلاة في حال الخروج المضطر إليه بناء على
اباحته، فإنه تجوز الصلاة فيه بالمقدار الذي لا يستلزم تصرفا زائدا على نفس
الخروج أو زيادة مدة الخروج، والا لم تصح الصلاة بناء على الامتناع وتغليب
جانب النهي.
هذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي (1).
ويقع الكلام بعد ذلك في مسألة...
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 180 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
165

" اقتضاء النهي الفساد "
وموضوع البحث فيها: هو ان تعلق النهي بالعمل عبادة كانت أو معاملة
هل يستلزم فساده أو لا؟.
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أمور، وبعضها وإن لم يترتب على
تحقيقه أي اثر عملي لكنا نتعرض إلى بيانها جريا على طبق الكفاية، لكن نكتفي
ببيان مطلب الكفاية وايضاحه لا أكثر.
الامر الأول: في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي
، وقد تقدم بيانه في بدء الشروع في تلك المسألة فلا نعيد.
الامر الثاني: في بيان الوجه في عد هذه المسألة من المسائل اللفظية، وهو:
وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع انكار الملازمة العقلية بين
النهي والفساد فيها، فلو جعل البحث بحثا عقليا لم يكن هذا القول من أقوال
المسألة، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيا فإنه يكون من أقوالها.
ودعوى: ان الملازمة بين الحرمة والفساد في العبادة على تقدير ثبوتها، فهي
تكون بين الفساد والحرمة ولو لم تكن مدلولة باللفظ، وعلى تقدير انتفائها
فكذلك.
تندفع: بامكان جعل البحث في العبادة في دلالة الصيغة على الفساد بما
يعم الدلالة الالتزامية التي ترجع في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت الملازمة،
فيكون البحث لفظيا في كلا الموردين (1).

(1) لم يتعرض سيدنا الأستاذ (دام ظله) إلى ما ذكره صاحب الكفاية من مرجحات جانب النهي، وعلل
ذلك: بان المورد بناء على الامتناع يكون من موارد التعارض. وبناء على الجواز يكون من موارد التزاحم.
وقد مر ذكر مرجحات باب التزاحم وسيأتي ذكر مرجحات باب التعارض، فلا حاجة للتعرض في المقام
إلى ما ذكره صاحب الكفاية، مع أن ما ذكره من المرجحات ليست من باب واحد، فبعضها يرتبط بباب
التعارض وهو الأولى، وبعضها يرتبط بباب التزاحم وهو الأخيران. فالتفت. راجع كفاية الأصول (منه
عفي عنه).
166

هذا ايضاح مطلب الكفاية في هذا الامر ولا بد من توجيه كلامه بحمله
على أن المفروض في كلامه ان الملازمة التي هي موضوع النفي والاثبات هي
الملازمة البينة الموجبة لدلالة اللفظ، كي لا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهاني
من أن أصل الملازمة ثبوتا إذا كان محل الاشكال، فلا معنى للبحث عن الدلالة
الالتزامية (1).
وقد اخذه (قدس سره) مما أورده صاحب الكفاية على صاحب المعالم في
عد مبحث مقدمة الواجب من المباحث اللفظية (2).
وقد فسرناها فيما تقدم بان طبيعي الملازمة الأعم من البينة وغيرها محل
اشكال، فلا معنى لايقاع البحث في الدلالة الالتزامية المبتنية على الملازمة البينة.
الامر الثالث: في بيان المراد من النهي في موضوع البحث.
وتوضيح ما ذكره (قدس سره) (3): ان لفظ النهي وان كان ظاهرا في النهي
التحريمي، الا ان ملاك البحث لما كان يعم التنزيهي ولا اختصاص له بالحرمة
- كما سيتضح -، تعين إرادة الأعم من التحريمي التنزيهي، في موضوع البحث.
ودعوى: ان ملاك البحث في المعاملات لا يعم التنزيهي، إذ لم يتوهم متوهم
استلزام كراهة المعاملة لفسادها، والمفروض ان المأخوذ في متعلق النهي في
موضوع البحث هو الأعم من العبادة والمعاملة، فان المراد ب‍: " الشئ " ذلك،
فيكون موجبا لاختصاص البحث بالحرمة، إذ لا بحث في اقتضاء الكراهة لفساد

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 306 - طبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 89 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 181 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
167

المعاملة المفروض عموم لفظ " شئ " لها.
وبالجملة: عموم الملاك للنهي التنزيهي يقتضي تعميم المراد من النهي،
وإرادة الأعم من العبادة والمعاملة من لفظ " شئ مع اختصاص عموم الملاك في
العبادة، يقتضي تخصيص المراد من النهي.
تندفع: بان المراد من النهي طبيعي النهي الشامل لكلا الفردين لا
خصوصية كلا الفردين، فلا منافاة حينئذ، إذ يصح وقوع المطلق بما هو مطلق
مورد الحكم أو الترديد مع اختصاص ذلك ببعض افراده، فمثلا لو علمنا بان
زيدا يشرب نوعين من الدواء، وعمرا يشرب نوعا واحدا، صح لنا الحكم في جملة
واحدة بان زيدا وعمرا يشربان الدواء، أو السؤال عن انهما هل يشربان الدواء
أولا؟
نعم لو أريد خصوص الفردين اتجه الايراد. فتدبر.
هذا بالنسبة إلى التحريمي والتنزيهي.
اما بالنسبة إلى النفسي والغيري، فذكر: انه لا وجه لتخصيص الكلام
في النفسي، بل يعم الغيري إذا كان أصليا، بمعنى انه مدلول للكلام بنفسه، إذ
يمكن ان يدعى باقتضائه الفساد ولو لم تكن مخالفته موجبة للبعد والعقاب،
لدلالته على مبغوضية العمل الموجب لارتفاع محبوبيته فلا يكون مقربا. ومما
يؤيد ذلك: انه قد جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده
الخاص فساده إذا كان عبادة، مع أن النهي على القول به غيري، في بعض
وجوهه.
نعم إذا كان تبعيا غير مدلول للكلام كان خارجا عن موضوع البحث،
لأنه من مقولة المعنى ولكنه داخل فيما هو ملاكه. فالتفت.
الامر الرابع والخامس: في بيان المراد بالعبادة والمعاملة المقصودة من لفظ
" شئ " المأخوذ متعلقا للنهي في موضوع البحث.
168

وقد أفاد (1) بان المراد بالعبادة أعم مما يكون بنفسه وبذاته عبادة لله تعالى
لولا حرمته كالسجود لله والخضوع له فإنه عبادة بنفسه، ومما لا يكون كذلك
ولكن كان لو امر به لكان امره عباديا لا يسقط بدون قصد القربة، كالصلاة
والزكاة ونحوهما. فيقع البحث: ان النهي هل يمنع من تحقق العبادية التي تترتب
على السجود أو الصلاة مثلا لولا النهي أو لا يمنع؟.
واما ما فسر به المراد من العبادة بأنه ما امر به لاجل التعبد به، أو ما
يتوقف صحته على النية، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها شئ، فهو غير
صحيح لان العبادة بهذا المعنى يمتنع تعلق النهي بها كي يتكلم في اقتضائه
الفساد وعدمه، إذ يمتنع تعلق النهي بما فرض تعلق الامر به فعلا أو ثبوت صحته
فعلا أو ما كان فيه المصلحة فعلا.
وهذا كما عرفت يقتضي أن يكون نظر صاحب الكفاية إلى اعتبار
المفسرين للعبادة بهذه المعاني، الصحة الفعلية، والمصلحة الفعلية، في تحقق
العبادة. والا فلو كان نظرهم إلى الصحة الشأنية فلا يرد عليهم ما أورده صاحب
الكفاية. فتدبر. وعلى كل فالامر ليس بمهم كما يقول صاحب الكفاية لان
الغرض شرح الاسم لا التعريف بالحد أو الرسم.
واما المراد بالمعاملة: فقد ذكره في الامر الخامس (2) بعد تقديم مقدمة،
محصلها: ان الصحة والفساد انما يثبتان للعمل بلحاظ ترتب ما يترقب منه من
الأثر وعدم ترتبه.
ومن الواضح ان ما يدخل في محل النزاع ما كان قابلا للاتصاف بكلا
الوصفين حتى يقبل البحث في استلزام النهي فساده، اما ما لا يقبل الاتصاف

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 181 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 182 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
169

بهما كليهما، اما لعدم كونه ذا أثر أصلا أو لأنه ذو اثر لكنه كان ملازما له دائما لا
يتخلف عنه، فلا يدخل في محل النزاع لعدم اتصافه بالفساد، فلا معنى للبحث
عنه، ويمثل له بالملاقاة في تحقق الطهارة أو النجاسة، فقد قيل: انها بمنزلة العلة
التامة لحصول اثرها، وبالاتلاف في تحقق الضمان. لكنه خارج عما نحن فيه لأنه
منهي عنه في المورد الذي يقبل تعلق النهي به مع كونه ما يترتب عليه الأثر.
وعلى كل حال فيدخل في محل النزاع كل ما كان قابلا للاتصاف
بالوصفين، كالعقود والايقاعات وغيرهما كالتحجير والحيازة في ثبوت الحق أو
الملكية. ولا وجه لتخصيص الكلام بالعقود والايقاعات كما ذهب إليه المحقق
النائيني بدعوى: عدم توهم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد (1)، فإنها
تندفع: بان الملاك الذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير،
وهذه الدعوى مما لا شاهد لها إذا لم تكن معقد الاجماع.
الامر السادس: في بيان ان وصف الصحة والفساد من الأوصاف
الإضافية الحقيقية، فإنهما يثبتان للشئ بلحاظ ترتب الأثر المترتب عليه وعدمه،
ولذلك أمكن اتصاف الشئ الواحد بهما معا بلحاظ ترتب أثر وعدم ترتب آخر،
كما ولأجل ذلك كان اتصاف الشئ بهما يختلف باختلاف الانظار لاختلافها في
الأثر المترقب على العمل والمرغوب منه، ولكنهما عند الجميع بمعنى واحد وهو
التمامية وعدمها، وتفسيرها بغير ذلك في بعض الاصطلاحات، انما هو تفسير
باللازم لكونه محط النظر (2).
وقد تقدم هذا البيان منه في بحث الصحيح والأعم ونقلناه هنا ملخصا
لعدم أي أثر يترتب عليه.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 288 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 182 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
170

وانما المهم هو تحقيق البحث في تنبيه الامر السادس، الذي عقده
صاحب الكفاية لتحقيق: ان الصحة هل هي من الأمور المجعولة أولا؟. وتحقيق
هذا المطلب ينفعنا في جريان استصحاب الصحة مع الشك في فقدان الجزء أو
حصول المانع في الشبهة الحكمية، لان الصحة إذا كانت من المجعولات الشرعية
كانت مما يقبل التعبد وضعا ورفعا، فصح اجراء الأصول فيها.
وقد أفاد (قدس سره): ان الصحة في العبادة ان كانت موافقة الامر أو
الشريعة - كما هي عند المتكلم - فهي من الأمور الانتزاعية، فان موافقة الامر
تنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به، وليست من الأمور المجعولة لا استقلالا
- كما هو واضح - ولا تبعا لجعل المأمور به، إذ بجعل المأمور به لا تتحقق الموافقة
ما لم يتحقق المأتي به. واما بمعنى سقوط الإعادة والقضاء - كما هي عند الفقيه -،
فالوجه هو التفصيل بين المأمور به بالأمر الواقعي بالنسبة إلى أمره والمأمور
به بالأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة إلى الامر الواقعي الأولي. فان سقوط
الإعادة والقضاء في الأول من اللوازم العقلية للاتيان به لحصول الغرض وسقوط
الامر، فلا وجه للإعادة أو القضاء، فهي بهذا المعنى ليست حكما جعليا لا
استقلاليا ولا تبعيا، كما انها ليست من الأمور الانتزاعية، بل هي امر واقعي
يحكم به العقل كاستحقاق العقوبة والمثوبة الذي يحكم به العقل ويستقل به.
واما سقوطها في الثاني فقد يكون مجعولا كما لو لم يكن المأمور به الاضطراري
والظاهري وافيا بملاك الواقع وأمكن تداركه فكان مقتضى القضاء أو الإعادة
ثابتا فيحكم الشارع بسقوطهما في هذه الحال تحقيقا على العباد ومنة منه عليهم،
كما نه قد يحكم بثبوتهما. فالصحة في هذه الصورة من الاحكام المجعولة وليست
من الأوصاف الانتزاعية. لكن هذا بلحاظ طبيعي المأمور به. اما المصداق
الخارجي المنطبق عليه المأمور به فالمصلحة فيه انتزاعية لا مجعولة، إذ هي تنتزع
عن انطباق المأمور به على المأتي به ولم تجعل له الصحة استقلالا، نظير اتصافه
171

بالوجوب، فان الوجوب انما يجعل بإزاء الطبيعي لا بإزاء افراده، لكن ينتزع عن
مطابقة الطبيعي لفرده وصف الوجوب للفرد.
واما الصحة في المعاملات: فهي بمعنى ترتب الأثر على المعاملة، وهذا امر
بيد الشارع فهو الذي يجعل الأثر على المعاملة سواء كان بنحو التأسيس أو
الامضاء، لبناء العقلاء على ترتب الأثر. فالصحة فيها مجعولة للشارع لكنها
بلحاظ كلي المعاملة لا مصاديقها، اما في مصاديقها الخارجية فالصحة فيها
انتزاعية تنتزع عن مطابقة الفرد للطبيعي المجعول سببا، كما هو الحال في
الأحكام التكليفية كما عرفته. هذا ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) في
المقام (1).
وقد يرد على ما افاده في تحقيق صحة العبادة وجود:
الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في حاشيته، وهو اشكال
علمي يتعلق بما افاده صاحب الكفاية من عدم كون الصحة بمعنى سقوط
القضاء في صورة الاتيان بالمأمور به الواقعي من الأمور الانتزاعية، فإنه ذكر:
ان كونه من الاحكام العقلية لا ينافي كونه من الأمور الانتزاعية، فان الامر
الانتزاعي هو ما لا واقع له الا منشأ انتزاعه. ومن الواضح ان مسقطية العمل
للقضاء كذلك، فهي امر انتزاعي من ترتب عدم القضاء على العمل. فما ذكره
من عدم كونها من الأوصاف الانتزاعية لا وجه له (2).
الثاني: فيما يتعلق بما ذكره من أن الصحة في مورد الاتيان بالمأمور به
الظاهري از الاضطراري من الاحكام المجعولة لكن يتصف بها الطبيعي. اما
الفرد فصحته انتزاعية.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 184 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 308 - الطبعة الأولى.
172

فان هذا عجيب، إذ الموضوع بالنسبة إلى الحكم المرتب عليه يختلف عن
المتعلق بالنسبة إلى الحكم المتعلق به، فان الاحكام قد يدعى بان متعلقاتها هي
الطبائع لا الافراد لبعض الوجوه، وحينئذ فيوجد الحكم في عالم الاعتبار وجد
الفرد أم لم يوجد، لكن هذا الكلام لا يأتي بالنسبة إلى موضوعات الاحكام، فان
الحكم مترتب على وجودها الخارجي لا على الطبيعي، إذ مرجع الموضوع إلى
ما اخذ مفروض الوجود في تحقق الحكم، فقبل وجود العالم لا حكم أصلا بوجوب
الاكرام في قول المولى " أكرم العالم ". وقبل السفر لا حكم بوجوب التقصير.
وهكذا الحال في المعاملات، فان الملكية انما تترتب على البيع الخارجي، لا على
طبيعي البيع، فلا ملكية بدون البيع خارجا. ومن الواضح ان نسبة سقوط القضاء
إلى العمل نسبة الحكم إلى موضوعه لا نسبته إلى متعلقه، فهو لا يترتب الا على
الوجود الخارجي للعمل لا طبيعي العمل.
وبالجملة: ما افاده (رحمه الله) يرجع إلى الخلط بين متعلقات الاحكام
وموضوعاتها وتشريكها في الأثر. فالتفت.
الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا مما يتعلق بما ذكره
(قدس سره): من كون الصحة بمعنى سقوط القضاء في المأمور به الاضطراري
أو الظاهري من المجعولات في بعض الأوقات. وتقريره: ان التعبير بسقوط
القضاء مما لا محصل له بظاهره، إذ ليس القضاء من العناوين الجعلية كالملكية
حتى يكون اسقاطه جعليا، بل هو فعل تكويني يأتي به المكلف، فلا معنى
لاسقاطه ورفعه، فالمعقول ليس إلا ايجاب القضاء وعدمه، والمراد بسقوط القضاء
عدم ايجاب القضاء بلحاظ مصلحة التسهيل الغالبة على المصحلة المقتضية
للوجوب.
ومن الواضح: انه لا يمكن أن يكون المقصود ومحل البحث في الجعل
وعدمه هو سقوط القضاء بهذا المعنى - أغني: عدم ايجابه -، إذ المفروض هو
173

البحث عن مجعولية الصحة التي يتصف بها الفعل وينتزع له عن تلبسه بها
عنوان الصحيح، وبديهي ان الفعل لا يتصف بوجوب القضاء وعدمه، فان
الوجوب وعدمه مما يتصف بهما القضاء لا العمل الاضطراري أو الظاهري.
ودعوى: ان المراد بالصحة مسقطية المأتي به وعليته لعدم الامر بالقضاء،
وهي مجعولة بتبع جعل عدم وجوب القضاء.
تندفع: بان العلة في عدم الامر بالقضاء ليس هو المأتي به، بل مصلحة
التسهيل والتخفيف الغالبة على المصحلة الواقعية المقتضية للحكم كما هو
المفروض.
هذا تقرير الايراد مع حذف بعض الزوائد لعدم دخلها فيه (1).
والمتأمل فيه يرى ان هذا الايراد يرجع إلى انكار وجود وصف الصحة
القابل لاتصاف الفعل به، وان ما يتخيل وصفا له هو من أوصاف غيره.
وفيه:
أولا: انه يناقض الوجدان لاطلاق الصحيح أو عدمه على العمل
الاضطراري والظاهري من دون أي عناية، ولذا نرى انه كثيرا ما يسأل عن
صحة العمل وفساده. كما أنه يناقض ما قرره (قدس سره) من البحث عن
الاجزاء في الأوامر الظاهرية والاضطرارية، فإنه لا معنى للاجزاء الا الكفاية، و
مرجعه إلى صحة العمل. ولم يناقش هناك بأنه لا معنى لدعوى كفاية المأتي به
عن القضاء، لان العلة في عدم وجوبه شئ آخر غير العمل، بل أجرى البحث
على طبيعته التي جرى عليها الآخرون.
وثانيا: - وهو عمدة الجواب - ان الحكم يرتبط بأمرين، يرتبط بموضوعه
- ونعني بالموضوع: ما يعم الموضوع اصطلاحا والسبب والشرط، وهو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 308 - الطبعة الأولى.
174

كل ما رتب الشارع ثبوت الحكم على ثبوته وتحققه - ويرتبطه بعلة جعله وداعي
تشريعه. ومن الواضح ان نفي وجوب القضاء وان كانت علته الغائية والداعي
له هو مصلحة التسهيل الغالبة على المصحلة الأولية، لكن موضوعه من جاء
بالعمل الاضطراري أو الظاهري دون غيره.
فنفي الامر بالقضاء يترتب على المأتي به ترتب الحكم على موضوعه، فهو
يرتبط بالمأتي به بهذا الارتباط، وهو يكفي في وصف المأتي به بالصحة وكونه
مسقطا للامر بالقضاء، وان كانت العلة الغائية لعدم الامر به شيئا آخر.
فاتصاف المأتي به بالصحة باعتبار ترتب الأثر المجعول عليه، نظير
اتصاف الاضطرار برافعيته للحكم، فان الاضطرار ليس هو الموجب للارتفاع
حقيقة، بل هو موضوع ارتفاع الحكم.
وبالجملة: يصح لنا وصف العمل بالصحة بلحاظ ترتب الأثر عليه،
ومفهومها في المقام وان كان من الأمور الانتزاعية وهو مسقطية العمل للقضاء،
فإنه ينتزع عن ترتب نفي القضاء على العمل، لكن واقعها وهو الترتب المزبور
أمر جعلي للمولى وهذا هو المطلوب، فان المقصود من كون الصحة مجعولة
وعدمها ليس مفهوم الصحة، بل واقعها فإنه مورد الأثر العملي في مقام اجراء
الأصول لا المفهوم. ولا يقصد من التعبير عن الصحة بالمسقطية سوى واقعها،
نظير التعبير برافعية الاضطرار للحكم ومرفوعية الحكم بالاضطرار، فإنه يقصد
به واقع هذا التعبير، وهو عدم ثبوت الحكم في مورد الاضطرار، فلو عبر عن
موضوع التعبد بالرافعية والمرفوعية، لا يقصد التعبد بهذا العنوان، بل التعبد
بواقعة الذي بلحاظه انتزع هذان العنوانان، وهو عدم جعل الحكم.
ثم إنه (قدس سره) أورد على صاحب الكفاية فيما ذهب إليه من كون
الصحة في المعاملات مجعولة، لأنها بمعنى ترتب الأثر وهو مجعول للشارع، بما
محصله: ان المجعول في باب المعاملات نفس الأثر وهو الملكية في البيع ونحو
175

ذلك، اما ترتب الأثر فهو عقلي ليس مجعولا للشاعر. ونفس الأثر لا يصحح
الاتصاف بالصحة، إذ ليست الصحة نفس الأثر، بل ترتبه كما هو المفروض.
اذن فالصحة في المعاملات كالصحة في العبادات ليست من الأمور
المجعولة للشارع في رأي المحقق الأصفهاني (1) (قدس سره).
لكن هذا الايراد غير سليم عن المناقشة، فان ترتب الأثر في المعاملات
ليس عقليا، بل يكون شرعيا، لان المقصود بالترتب لا يعدو أحد امرين: اما
منشئية العقد لثبوت اثره المجعول شرعا. واما ثبوت الأثر بعد تحقق العقد. وكل
من هذين الامرين ليس عقليا، فان المنشئية العقد لثبوت الأثر جعلية، ولذا تدور
في السعة والضيق والثبوت والعدم مدار الجعل والاعتبار.
وهكذا ثبوت الأثر بعد تحقق العقد، فإنه أمر يرتبط بالجاعل لا بالعقل، ولذا
قد يثبت وقد لا يثبت باعتبار الجعل وعدمه.
وبالجملة: فربط الأثر بالعقد امر بيد الجاعل، ولذا يتصرف به كيفما
يشاء. والمراد من منشئية العقد للأثر ليس مفهوم المنشئية بل واقعها، فان مفهومها
وان كان امرا انتزاعيا لكن واقعها امر جعلي، نظير موضوعية الموضوع فان
واقعها ليس إلا جعل الحكم عند تحققه، وان كانت هي انتزاعية، ولأجل ذلك
يقال: ان اجراء الأصل في موضوعية الموضوع مرجعه إلى اجرائه في الحكم.
وبالجملة: فواقع الصحة في هذه الموارد مجعول شرعي وهو ثبوت الأثر
عند ثبوت العقد، وينتزع عنه منشئية العقد له وسببيته كما يتنزع التمليك بلحاظ
الملكية بالنسبة إلى الجاعل. وكانتزاع الايجاد بلحاظ الفعل بالنسبة إلى الموجد.
وقد عرفت أن الغرض يتعلق بما هو واقع الصحة لا مفهومها، فان الذي
يقصد كونه مجرى الأصل هو الواقع لا المفهوم.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 309 - الطبعة الأولى.
176

ويتحصل مما ذكرنا أن ما جاء به المحقق الأصفهاني لا نعرف له وجها
وجيها.
ثم انك عرفت أن الصحة تثبت للشئ بلحاظ ترتب الأثر المرغوب
عليه، كما أن الفساد يثبت له بلحاظ عدم ترتبه.
وهذا المعنى ينتقض بكثير من الموارد التي لا يتصف الشئ بالصحة والفساد
بلحاظ ترتب اثره وعدمه كالخمر الحرام وغير الحرام، فان الأول لا يتصف
بالصحة كما أن الثاني لا يتصف بالفساد. وكالسفر الموجب للقصر وغير الموجب
له، فان الأول لا يتصف بالصحة والثاني لا يتصف بالفساد. وهكذا الحال في كثير
من موضوعات الاحكام.
ويندفع هذا النقض: بان الاتصاف بالصحة والفساد ليس منشؤه ترتب
الأثر وعدمه مطلقا، بل منشؤه ترتب الأثر المترقب عادة من العمل، بحيث يكون
المنظور في اتيان العمل عادة ترتب هذا الأثر، فترتبه يوجب الاتصاف بالصحة
وعدم ترتبه يوجب الاتصاف بالفساد، ومن الواضح انه لا يلحظ في ايجاد الخمر
عادة ترتب الحرمة عليه، بل الملحوظ هو الاسكار، فلو ثبت اسكاره كان خمرا
صحيحا ومع عدم كونه مسكرا كان خمرا فاسدا. والبيع انما يتصف بالصحة لو
ترتبت عليه الملكية لأنه الأثر المترقب منه عند ايجاده. وهكذا.
وبعد هذا نعود على ما كنا عليه من معرفة ان الصحة مجعولة أولا؟. وقد
عرفت عدم تمامية ما أورده المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية. فيتعين
الالتزام به لأنه مما يتلاءم مع الوجدان والبرهان كما عرفت.
وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى التفصيل بين الصحة
الواقعية والصحة الظاهرية، فالتزم بالمجعولية في الثانية دون الأولى، فإنه بعد أن
تعرض مفصلا إلى تحقيق مفهوم الصحة وان الملاك فيه هو انطباق المأمور به على
المأتي به في العبادات وانطباق ما اعتبره الشارع سببا للأثر على المعاملة الخارجية
177

في المعاملات، وانه بذلك يتضح ان تفسير الصحة بموافقة الشريعة كما عن
المتكلمين أو باسقاط القضاء والإعادة كما عن الفقهاء لا يرجع إلى المغايرة في
معناها بين الطرفين، بل ذلك تفسير بالمهم من لوازمها وآثارها والمعنى لدى
الطرفين واحد، - بعد أن ذكر ذلك بتفصيل - تعرض إلى تحقيق كون الصحة من
المجعولات الشرعية وعدمه، فذهب إلى التفصيل المزبور وتقرير وجهه
بتلخيص: اما عدم كون الصحة الواقعية من المجعولات - ويقصد بها الصحة
في العمل الواقعي -، فلان الصحة عبارة عن انطباق المأمور به على الموجود
الخارجي في العبادات، وانطباق سبب العقد على الموجود الخارجي في المعاملات،
والفساد فيهما عبارة عن عدم الانطباق، ومن الواضح ان الانطباق في الأوامر
الواقعية ليس مرتبطا بالجعل، بل هو خارج عن دائرة الجعل، ومثله الحال في
الصحة في موارد الأوامر الواقعية الثانوية لما ذكره (قدس سره) في مبحث الاجزاء
من أن المأمور به الاضطراري لابد وأن يكون مجزيا عن الواقع الأولي
لاستحالة الامر بغير المقيد مع بقاء القيدية، فمع تعلق الامر به نستكشف سقوط
القيدية في مورد الاضطرار، فيكون الامر واقعا متعلقا بغير المقيد وانطباقه على
الخارج عقلي:
واما كون الصحة الظاهرية مجعولة - ويعني بها الصحة في العمل
الظاهري -، فوجهه: ان قيام الامارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل حتى مع
انكشاف الخلاف مرجعه إلى التعبد بانطباق المأمور به الواقعي على المأتي به
فيكون الانطباق ههنا مجعولا. لكن الصحة في الفرض لا تكون من الأحكام الظاهرية
الصرفة، بل تكون برزخا بينها وبين الأحكام الواقعية الثانوية، إذ من
جهة اخذ الشك في موضوعها تكون حكما ظاهريا، ومن جهة كونها موجبة
لسقوط التكليف الواقعي عنه حتى بعد انكشاف الخلاف تكون شبيهة
بالأحكام الواقعية الثانوية، فبذلك تكون وسطا بين المرتبتين.
178

هذا ملخص ما افاده (قدس سره) (1). وفيه ما لا يخفى من جهات:
الأولى: ما ذكره (قدس سره) من أن الملاك في اتصاف العمل بالصحة
هو انطباق العمل المشروع - عبادة كان أو معاملة - على الموجود الخارجي عدولا
عما عليه القوم، وما ذكره هو أولا من أن ملاك الاتصاف بالصحة ترتب الأثر
على العمل، والاشكال فيه من وجهين:
الأول: انه ذكره بنحو الدعوى من دون ان يقيم عليه أي دليل ويستند
فيه إلى وجه وهو مما لا يتلائم مع البحث العلمي.
الثاني: انه غير صحيح في نفسه، لبداهة اتصاف العمل بالصحة من دون
ثبوت الانطباق المزبور كالصلاة الجهرية المأتي بها اخفاتا وبالعكس، إذا كان
ذلك عن جهل تقصيري، فإنه يلتزم بصحة العمل ويعبر عنه بالصحيح في النص
والفتوى مع أنه لا ينطبق عليه المأمور به، ولذا يعاقب على تركه وتفويته. اذن
فالأوجه الالتزام بان ملاك الصحة هو ترتب الأثر وفاقا لما عليه القوم.
الثانية: ما ذكره من ظهور وحدة المعنى للصحة لدى الفقهاء والمتكلمين،
وكون الاختلاف بينهما بلحاظ الاختلاف فيما هو المهم من الأثر من تعين كون
الملاك في الاتصاف بالصحة هو الانطباق. وقد اخذ هذا البيان من كلام الكفاية
حيث فسر الصحة بالتمامية، واستظهر ان المقصود للفقهاء والمتكلمين ذلك،
والتعبير بغيره في تعاريفهم تعبير عن لازم المعنى لا اصله (2).
وجهة الاشكال فيه: ان نحو ما افاده يختلف عن نحو ما افاده صاحب
الكفاية، فان صاحب الكفاية فسر الصحة بالتمامية، وبما أنه معنى جامع لكلام
التفسيرين الواردين في كلام الفقهاء والمتكلمين ادعى ان اختلاف تفسيرهم

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 391 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 182 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
179

يرجع إلى الاختلاف في الأثر المرغوب لا في أصل المعنى، فإنه محفوظ في كلا
التفسيرين، فمراد الفقيه التمامية من حيث سقوط القضاء والإعادة، ومراد
المتكلم التمامية من حيث موافقة الشريعة. فكان لما ادعاه وجه.
واما المحقق النائيني فلم يذهب إلى أن معنى الصحة هو الانطباق حتى
هو ذلك، وهذا لا يستلزم وحدة المعنى لدى الطرفين مع اختلاف تفسيرهم،
فترتب ظهور وحدة المعنى لديهما على ملاكية الانطباق للصحة امر لا وجه له
بأيدينا فالتفت.
الثالثة: ما ذكره من كون الصحة في موارد الأوامر الاضطرارية غير
مجعولة خلافا لصاحب الكفاية وتوجيهه بما عرفت بيانه، والاشكال فيه يظهر مما
تقدم في مبحث الاجزاء من عدم تسليم ما افاده في وجه لا بدية الاجزاء في الأوامر
الاضطرارية، فراجع تعرف.
وعليه، فللشارع الحكم بالاجزاء في بعض الموارد غير المقتضية له، فتكون
الصحة مجعولة كما ذهب إليه صاحب الكفاية لا
الرابعة: ما ذكره في وجه مجعولية الصحة في الأوامر الظاهرية، من أن قيام
الامارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل يرجع إلى تعبده بانطباق الواقع على
المأتي به.
وجهة الاشكال فيه هي: ان التعبد لا يصح إلا بما كان مجعولا شرعيا -
تكليفيا أو وضعيا - أو موضوعا لاثر شرعي، وليس انطباق الواقع على المأتي به
من المجعولات الشرعية بكلا النحوين كما هو واضح. كيف؟ ويراد تصحيح
جعله بالتعبد الذي هو محل البحث - كما أنه ليس من موضوعات الأحكام الشرعية
، إذ لا يترتب على الانطباق أي أثر شرعي.
مع أن التعبد بالموضوع للأثر الشرعي مرجعه إلى التعبد بنفس الأثر،
180

فلا يستلزم مجعولية الموضوع وكونه من المجعولات الشرعية كما لا يخفى. اذن
فالتعبد بالانطباق لا محصل له.
وورود التعبد بالاتيان ببعض الاجزاء كقوله (ع): " بلى قد ركع " لا يرجع
إلى التعبد بالانطباق، بل إلى التعبد بتحقق المأمور به والاتيان به بلحاظ نفي
الامر ورفعه، يعني ان واقعه التعبد برفع الامر.
الخامسة: ما ذكره من أن الصحة الظاهرية وسط بين الحكم الظاهري
والواقعي الثانوي.
إذ يرد عليه: بان المقصود بما هو وسط ان كان هو الصحة المجعولة - كما
هو ظاهر العبارة - فهو حكم واقعي موضوعه الاتيان بالعمل الظاهري وليس
حكما ظاهريا، كيف؟ وهو ثابت حتى بعد انكشاف الخلاف كما هو الفرض. وان
كان هو الحكم الظاهري الثابت للعمل فهو حكم ظاهري موضوعه الشك
ويزول بعد انكشاف الخلاف بلا اشكال، والاكتفاء بما جاء به عن الواقع انما هو
لاجل دليل آخر قام عليه لا من جهة كونه مأمورا به بالأمر الظاهري.
وخلاصة ما ذكرنا: ان ما افاده المحقق النائيني في المقام مما لا نراه متنا سبا
مقامه العلمي الرفيع. وثبت مما ذكرنا أن ما افاده صاحب الكفاية متين جدا لا
يرى فيه شائبة للاشكال.
الامر السابع: في تحرير الأصل عند الشك. ولا يخفى ان محل البحث هو
معرفة الأصل، في اقتضاء النهي فساد العمل، فتعلق النهي بالعمل مفروغ عنه،
فلا يتجه ايقاع البحث في صورة الشك في الفساد من جهة كون الشبهة
موضوعية أو حكمية، كما جاء في أجود التقريرات (1). ويظهر من حاشية المحقق
الأصفهاني ان هذا التفصيل ونحوه جاء في عبارة الكفاية، فإنه قال - بعد ما ذكره

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 394 - الطبعة الأولى.
181

ما عرفت -: " ولذا ضرب خط المحو على ما في بعض نسخ الكتاب " (1) والموجود
بين أيادينا من الكفاية لا تفصيل فيه وانما هو مختصر جدا. وعلى كل فتحقيق
الحال في معرفة وجود الأصل وعدمه ان نقول: ان المقصود بالصحة والفساد في
العبادة أحد معان ثلاثة:
الأول: الصحة والفساد من جهة موافقة الامر وعدمها، ومن الواضح انه
لا شك في الفساد من هذه الحيثية، إذ مع تعلق النهي بها لا يتعلق بها الامر، فلا
تقع العبادة موافقة للامر في وجه من الوجوه لعدم الامر، فلا معنى للبحث عن
الأصل لعدم الشك.
الثاني: الصحة والفساد من جهة وفاء العمل بالملاك وعدمه، وهذا المعنى
وان كان موردا للشك، إذ مع تعلق النهي بالعمل قد يلتزم ببقاء ملاك الامر على
ما كان عليه وانما غلب عليه الملاك الراجح وكان مانعا من تأثيره لا غير، كما هو
ظاهر صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الأمر والنهي (2)، وقد يلتزم بانتفائه لان
ملاك الامر هو المصلحة الراجحة، ومع تعلق النهي لا تكون هناك مصلحة
راجحة لحصول الكسر والانكسار، والا لامتنع تعلق النهي فيكون ملاك النهي
موجبا لرفع ملاكية ملاك الامر لا مانعا عن تأثيرها.
وبما أن هذا الامر مورد البحث، فقد يصير موردا للشك، فيكون محلا
لتأسيس الأصل، لكن ليس لدينا أصل يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.
الثالث: الصحة والفساد من جهة مقربية العمل وعدمه، وهذا المعنى قد
يصير مورد الشك أيضا فيشك في أن المبغوضية الفعلية هل تتنافى مع التقرب
المعتبر في العبادة أولا؟ ولكن لا أصل لدينا يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 310 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 157 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
182

نعم الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد، إذ يشك ان العمل المأتي
به مقرب أولا؟ فيشك في فراغ ذمته باتيانه بالعمل المنهي عنه، فقاعدة الاشتغال
محكمة.
وهذا جميعه بالنظر إلى كون المسألة عقلية يقع البحث فيها في الملازمة العقلية بين النهي والفساد.
اما لو كانت المسألة لفظية: بان كان النزاع في أن النهي ظاهر في الارشاد
إلى مانعية المنهي عنه أو هو ظاهر في الحرمة التكليفية لا غير؟ فمع الشك في
ذلك لا أصل في المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين وهو واضح.
واما في المسألة الفرعية: فالشك فيها يرجع إلى الشك في مانعية المنهي
عنه، فيكون المورد من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر والأصل هو البراءة.
ولا يتجه التمسك باطلاق دليل المأمور به لعدم الامر في مورد النهي، إذ
البحث في أن النهي المتعلق بالعبادة الخاصة هل يدل على مانعية تلك الخصوصية
أولا يدل؟ وانما يدل على حرمة العمل المتخصص بالخصوصية بعد الفراغ عن
عدم منافاة الحرمة التكليفية للتقرب بالعمل، فالعمل منهي عنه فلا يمكن أن يكون
متعلقا للامر فيكون خارجا عن الاطلاق لا محالة، فهو خارج عن دائرة
الاطلاق، ومن هنا يعلم ان قياسه بمورد عدم النهي لا وجه له، فما افاده المحقق
الأصفهاني من التمسك بالاطلاق غير خال من الاشكال.
هذا فيما يتعلق بالأصل في مورد النهي عن العبادة وما ذكرناه من
التفصيل مأخوذ عما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بأدنى
اختلاف. فلاحظه (1).
واما مورد النهي عن المعاملة فمع الشك في اقتضائه الفساد لا أصل في

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 310 - الطبعة الأولى.
183

المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين.
واما في الأصل فيما يقع من العقود خارجا، فإن كان هناك اطلاق أو عموم
يتمسك به في تصحيح المعاملة لعموم (أوفوا بالعقود) (1) لو تم كان هو المتعين
ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي، وبدونه فالأصل العملي يقتضي الفساد
لاستصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة كالملكية في البيع والزوجية في النكاح
ونحو ذلك.
فما ذكره صاحب الكفاية من عدم الأصل في المسألة الأصولية في كلا
الموردين وجيه كما أن ما ذكره من كون الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد
في كلا الموردين وجيه أيضا. الا إذا كان البحث في العبادة عن دلالة النهي على
المانعية فقد عرفت أن الأصل يقتضي الصحة.
كما ظهر أن الشبهة في العبادة ليست شبهة موضوعية، بعد فرض تعلق
النهي بها وكون الشك في منافاته للمقربية، أو كون المقصود منه الارشاد إلى
المانعية. فلا حظ جيدا.
الامر الثامن: في صور النهي في العبادة.
وقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) ان النهي تارة: يكون متعلقا
بنفس العبادة. وأخرى: بجزئها. وثالثة: بشرطها. ورابعة: بوصفها الملازم لها
كالجهر والاخفات في القراءة. وخامسة: بوصفها المفارق كالغصبية للصلاة
المنفكة عنها.
اما القسم الأول: فلا ريب في دخوله في محل النزاع. ومثله القسم
الثاني، لان جزء العبادة، لكن فساده لا يستلزم فساد العمل لو أتى بغيره
مما لم يتعلق به النهي ولم يقتصر عليه. نعم قد يستلزم الجمع بين فردي الجزء محذورا

(1) سورة المائدة الآية: 1.
184

آخر يبطل العمل كتكرار السورة المستلزم لتحقق القران المبطل على القول به.
واما القسم الثالث: فحرمة الشرط لا تستلزم فساد المشروط العبادي،
لعدم كون الشرط عبادة، فلا يفسد بالتحريم. نعم لو فرض كون الشرط عبادة
كالطهارة للصلاة كان حرمته موجبة لفساده الموجب لفساد المشروط به.
واما القسم الرابع: فالنهي عن الوصف الملازم مساوق للنهي عن
موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مساوقا للنهي عنها لاستحالة كون
القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا كما لا يخفى.
واما القسم الخامس: فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف الا إذا
كانا متحدين وجودا بناء على امتناع اجتماع الحكمين. واما بناء على الجواز فلا
يسري الحكم من أحدها إلى الاخر جزما.
هذا كله بالنسبة إلى النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف. واما النهي
عن العبادة لاجل هذه الأمور فحاله حال النهي عن أحدها إذا كان تعلق النهي
بالعبادة بالعرض، وان كان النهي عنها حقيقة وكان النهي عن أحدها واسطة في
الثبوت لا العروض كان حاله حال النهي في القسم الأول.
هذا ما افاده في الكفاية (1).
ويقع البحث معه في جهات من كلامه:
الجهة الأولى: في أصل التقسيم إلى هذه الأقسام، فإنه مما لا وجه له، إذ
البحث في دلالة النهي عن العبادة على الفساد، ومن الواضح انه لا فرق بين
عبادة وعبادة سواء كانت كلا أو جزء أو شرطا أو وصفا، فان الحكم فيها واحد
والبحث عن الجميع واحد.
وان كان المقصود من هذا التقسيم البحث عن فساد الكل بفساد الجزء،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 185 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
185

وفساد المشروط بفساد الشرط، فهذا لا ربط له بالبحث عن اقتضاء النهي عن
العبادة للفساد، بل هو بحث يحرر في الفقه في مباحث الخلل. وان كان النظر إلى
البحث عن المركب المنهي عنه لجزئه أو شرطه بمعنى المركب الذي تسري حرمته
من حرمة الجزء أو الوصف، فهو أجنبي عما نحن فيه لأنه ان كانت الحرمة الثابتة
للمركب حرمة عرضية، بمعنى انها تنسب إليه بالعرض والمجاز، فهو واضح،
لعدم تعلق الحرمة بالمركب واقعا حتى يبحث عن اقتضائها الفساد. وان كانت
ثابتة له حقيقة بان كانت حرمة الجزء واسطة في ثبوت الحرمة للمركب تكون
العبادة من مصاديق المحرم، ولا دخل في البحث عن فسادها لسبب حرمتها، فلا
يتجه هذا التقسيم لاجل بيان حرمة العبادة بحرمة جزئها، فإنه لا اثر له فيما هو
موضوع الكلام من اقتضاء النهي الفساد.
وجملة القول: لم يعلم دخالة هذا التقسيم والتشقيق في محل الكلام.
نعم، يمكن ان يجعل في الحقيقة بحثا عما هو من المبادئ، بان يكون
البحث في سراية الحرمة حقيقة من الجزء إلى المركب ومن الشرط إلى المشروط
ومن الوصف إلى الموصوف، فيكون البحث عن صغرى من صغريات المسألة.
وهذا الايراد ذكره المحقق الأصفهاني (1).
الجهة الثانية: فيما ذكره من أن جزء العبادة عبادة، فإنه على اطلاقه
ممنوع، إذ لا ملازمة بين جزئية شئ للعبادة وكونه عبادة، فيمكن ان يتعلق الامر
العبادي بالعمل المركب بنحو الاستغراق لاجزائه من دون أن يكون جميع
اجزائه عبادة بل يكون بعضها غير عبادي، ويشهد له ان تقيد الصلاة بالشرط
جزء من اجزاء العمل مع أنه لا يعتبر فيه أن يقع بنحو عبادي. نعم مثل الركوع
والسجود دل الدليل على كونه عباديا فلا كلام فيه.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 310 - الطبعة الأولى.
186

وبوجه برهاني نقول: ان المقصود بالعبادة اما ما يكون حسنا في ذاته أو
ما لو امر به لكان امره عباديا، ومن الواضح انه لا يلزم أن يكون كل جزء معنونا
بعنوان حسن بذاته، بل يكفي المركب كذلك.
الجهة الثالثة: فيما ذكره من أن بطلان الجزء لا يستلزم بطلان المركب إذا
لم يقتصر عليه الا إذا كان التكرار مستلزما لوجود محذور آخر كالقران - بناء
على ما نعيته - في تكرار السورة، كما لو أتى بسورة العزيمة وغيرها.
فان المحقق النائيني (قدس سره) ذهب إلى دلالة النهي عن الجزء على
فساد العبادة ببيان محصله: ان الجزء المنهي عنه اما ان يؤخذ فيه العدد الخاص
كالسورة المأخوذة بقيد الوحدة بناء على حرمة القران وما نعيته. واما أن لا يؤخذ
فيه عدد خاص.
فعلى الأول: إذا تعلق النهي بأحد افراد الجزء كالنهي المتعلق بقراءة سورة
العزيمة، فالقارئ لسورة العزيمة اما أن لا يقرأ غيرها أو يقرأ، فان لم يقرأ غيرها
كانت العبادة باطلة لعدم الاتيان بجزئها، لان النهي عن الجزء يلازم خروجه عن
دليل الجزئية. وان قرأ غيرها تبطل العبادة من جهة القران.
وعلى الثاني: بان التزمنا بجواز القران والتعدد، كانت العبادة باطلة
بالتعدد لوجهين:
الأول: ان دليل تحريم الجزء يخصص دليل جواز القران بغير صورة
الاتيان بالمحرم، فلا يكون القران في هذه الصورة جائزا.
الثاني: ان تحريم الجزء يستلزم اخذ العبادة بالقياس إليه بشرط لا
ويترتب عليه ثلاثة أمور توجب البطلان:
الأول: كونه مانعا، إذ لا يراد بالمانع سوى ما أخذ عدمه في الصلاة، فمع
وجوده تبطل الصلاة.
الثاني: كونه زيادة في الفريضة وهي مبطلة، إذ لا يعتبر في الزيادة المبطلة
187

قصد الجزئية إذا كان الزائد من جنس العمل.
الثالث: خروجه عن أدلة جواز مطلق الذكر لاختصاصها بغير المحرم
باعتبار ورود جوازه بعنوان انه حسن والمحرم غير حسن، فيدخل في عمومات
مبطلية الكلام، إذ الخارج منها ما كان ذكرا غير محرم.
هذا ما ذكره المحقق النائيني (1). وهو يختلف مع صاحب الكفاية فيما لم
يكن القران مانعا في نفسه، فإنه يذهب لمانعيته من جهة تحريم الجزء بالوجهين
المزبورين.
الا ان الوجه الأول لا ينهض لاثبات مدعاه لان مقصوده من جواز
القران الذي يخرج مورد الجزء المحرم عنه اما أن يكون الجواز الوضعي أو
التكليفي. فإن كان مقصوده الجواز الوضعي بمعنى عدم مبطلية القران، فاستلزام
تحريم الجزء خروج صورة اتيانه عن دليله أول الكلام فإنه هو محط البحث،
فالوجه الأول على هذا يكون عين الدعوى لا دليلا عليها. وان كان مقصوده
الجواز التكليفي فتحريم الجزء وان استلزم تحريم القران لكن لا ملازمة بين حرمة
القران تكليفا وبين مانعيته، والمقصود اثبات مانعيته لا حرمته. وكان عليه ان يبين
ثبوت الملازمة بين الحرمة والمانعية ووجهها، لا مجرد ثبوت حرمة القران فإنه لا
يصلح وجها لاثبات مانعية القرآن.
واما الوجه الثاني: فقد أورد عليه نقضا وحلا.
اما النقض: فبمثل النظر إلى الأجنبية المحرم في الصلاة، فإنه لم يقل
أحد بمبطليته للصلاة.
واما الحل: فبان جزئية السورة لو اخذت بشرط لا بالنسبة إلى الجزء
المحرم لتم ما ذكر، لكنه لم يثبت ذلك، بل مقتضي اطلاق دليلها أخذها لا بشرط،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 397 - الطبعة الأولى.
188

وعليه فلا منافاة للجزء المحرم لصحة الصلاة.
وهذا بعينه يجري في مثل النظر إلى الأجنبية، فان الصلاة مأخوذة بالنسبة
إليها لا بشرط بمقتضى اطلاق دليلها.
كما أورد عليه بما لا يرجع إلى بطلان الدعوى: من أن بيان بطلان العمل
بمثل زيادة الجزء أو مبطلية الكلام مما يختص بخصوص الصلاة لا يتناسب مع
البحث الأصولي المقصود به اثبات قواعد عامة تجري في مطلق أبواب الفقه،
فتدبر (1).
والذي يقتضيه التحقيق هو: تمامية ما افاده المحقق النائيني في الوجه
الثاني من أن تحريم الجزء يلازم مانعيته واخذه بشرط لا.
وبيان ذلك: انه قد تقدم ان أسماء العبادات موضوعة للأعم من الصحيح
والفاسد، وقد فرض في الموضوع له معنى ينطبق على الزائد والناقض والقليل
والكثير، فكل ما يحصل من الاجزاء يكون دخيلا في فرد العمل ومقوما له ويكون
العمل صادقا على المجموع، فهو كما يصدق على ذي التسعة اجزاء يصدق على
ذي العشرة بحيث يكون الجزء العاشر دخيلا فيما يصدق عليه العمل لا خارجا
عنه، إذ لم تلحظ في مقام الصدق كمية معينة من الاجزاء.
وعليه، فالعمل المأتي به مع الجزء المحرم ينطبق عليه عنوان العمل
كالصلاة مثلا، ويكون الجزء المحرم مقوما للفرد. ومن الواضح ان اطلاق العنوان
المأخوذ في متعلق الامر لا يمكن شموله لهذا الفرد المشتمل على الجزء المحرم
إذ يمتنع تعلق الامر بالفرد ذي الجزء المحرم. فالفرد المشتمل على الجزء المحرم
خارج عن دائرة المأمور به ولا يتعلق به الامر، فالاتيان بالجزء المحرم يلازم
ارتفاع الامر عن المأتي به، وهذا هو المقصود بالمانعية واخذه بشرط لا.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 398 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
189

ومن هذا البيان يظهر انه لا وجه للنقض بمثل النظر إلى الأجنبية مما لا
يكون مقوما للفرد وجزء له عند تحققه، فان العنوان انما ينطبق على ذات الاجزاء
والنظر خارج عنها فيمكن ان يقال: ان مقتضي اطلاق الدليل اخذ العمل لا
بشرط من جهته فلا يكون مانعا. فتدبر والتفت.
الجهة الرابعة: فيما ذكره في شأن الوصف الملازم. والبحث معه من هذه
الجهة في نقاط ثلاثة:
الأولى: في تفكيكه بين الوصف الملازم والمفارق في الذكر، فإنه لا وجه له
بعد أن كان الملاك في سراية الحرمة من الوصف إلى الموصوف وحدة وجودهما
الموجب لوحدة الحكم، وهذا لا يختلف فيه الحال بين المفارق والملازم من
الأوصاف، فكان عليه ان يذكرهما بعنوان واحد جامع بينهما.
الثانية: في المثال الذي ساقه، وهو مثال الجهر في القراءة، فهل هو من
موارد الاتحاد في الوجود أو ان وجود الجهر ووجود القراءة؟.
والذي نراه ان وجود الجهر ووجود القراءة واحد لا متعدد، فان الجهر
وان كان عرضا لكنه في واقعه كيفية من كيفيات وجود القراءة، فهو عبارة عن
القراءة العالية ولا وجود له غير وجود القراءة، فمرجع الجهر والاخفات إلى
الشدة والضعف في القراءة نظير الشدة والضعف في النور وفي الألوان، فان شدة
النور ليست وجودا غير وجود النور بل عبارة عن مرتبة من مراتب وجود النور.
وعلى هذا فلا يحتاج إلى التطويل الدقيق الذي جاء في حاشية المحقق
الأصفهاني لبيان وحدة وجودهما، فإنه لا جدوي فيه (1).
الثالثة: في استحاله على سراية النهي من الوصف إلى الموصوف فإنه
قال: " لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 311 - الطبعة الأولى.
190

عنه فعلا كما لا يخفى ". فان هذا الاستدلال لا يفي بالمدعى، إذ غايته اثبات
ارتفاع الامر عن القراءة لملازمتها للمحرم، ولا يمكن اختلاف المتلازمين في
الحكم، ولا يقتضي ثبوت الحرمة للقراءة الذي هو المدعي، والا للزم سراية الحكم
من أحد المتلازمين إلى الاخر لتأتي الدليل المزبور، وهو لا يلتزم به كما لا يلتزم
به غيره.
وبعد هذا يقع الكلام في محل البحث وهو في مقامين:
المقام الأول: في النهي عن العبادة. ولا اشكال في اقتضائه الفساد. لعدم
صلاحية العمل به للتقرب، فإنه إن اعتبر في تحقق العبادة قصد امتثال الامر فلا
امر هنا لامتناع اجتماع الحكمين. وإن لم يعتبر ذلك واكتفى بمجرد المحبوبية،
فالمفروض ان العمل متعلق للمبغوضية فلا يمكن التقرب به، بل هو مبعد
والتقرب بما هو مبعد محال، وهذا مما لا اشكال فيه ولا خلاف.
انما الكلام في امكان تعلق الحرمة الذاتية بالعبادية.
وقد تعرض في الكفاية إلى بيان وجه امتناعه، وهو: ان متعلق الحرمة اما
أن يكون ذات العبادة من دون قصد القربة أو يكون الذات مع قصد التقرب.
والأول غير ثابت ولا يلتزم به إذا المحرم ليس اجزاء العمل بحيث لو أتى بها من
دون قصد التقرب كان عاصيا. والثاني غير مقدور عليه الا بالتشريع، ومعه
يكون العمل محرما بالحرمة التشريعية، فلا يصح تعلق الحرمة الذاتية به لامتناع
اجتماع الحكمين المتماثلين فإنه كاجتماع الضدين.
وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه:
الأول: انه أخص من المدعي، إذ هو لا يتم بالنسبة إلى العيادة الذاتية
كالسجود لله فإنه لا تتقوم عباديتها بقصد التقرب حتى يستلزم التشريع، بل
مجرد الإضافة يكفي في تحقيق العبادية، وعليه فلا يمتنع تعلق الحرمة الذاتية بها
في هذا الحال.
191

واما غيرها من العبادات، فقد ذكر ان المراد بالعبادة التي هي متعلق
النهي ما لو امر به لكان امر عباديا لا يسقط الا بقصد القربة. وهذا لا يمنع من
تعلق الحرمة الذاتية به. ومرجع كلامه إلى الالتزام بتعلق النهي بذات العمل (1).
ولذلك أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجهين:
أحدهما: ان الالتزام بحرمة ذات العمل ولو لم يأت بها بقصد التقرب في
غاية الاشكال.
ثانيهما: ان مثل هذا العمل فاسد ولو لم يتعلق به نهي لعدم اشتماله على
ما يصلح للمقربية والعبادية (2).
وبملاحظة هذين الايرادين يمكن ان نحرر الاشكال في تعلق الحرمة
الذاتية بالعبادية بطور آخر، وهو ان نقول: ان الحرمة الذاتية ان فرض تعلقها
بذات العمل من دون قصد القربة، فهو مما لم يلتزم به أحد، مع أن فساد العمل في
مثل هذا الحال لا يختص بصورة النهي. وان فرض تعلقها بالعمل المأتي به بقصد
القربة لزم اجتماع المثلين لان العمل بقصد القربة حرام تشريعيا.
والجواب عن الاشكال: انه يمكننا اختيار كلا الشقين.
فنختار الشق الأول: وهو تعلق النهي بذات العمل. الايراد عليه بان
فساد العمل لا يختص بحال النهي غير سديد، إذ يمكن أن يكون في نفس
العمل جهة راجحة لولا النهي، فيكون النهي مانعا عن صلاحية العمل للتقرب
به لمبغوضيته بخلاف ما لو لم يكن نهي فان العمل صالح للمقربية بتلك الجهة
الراجحة فلا يكون فاسدا.
نعم الايراد عليه بعد الالتزام بمثل ذلك متين جدا.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 165 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 312 - الطبعة الأولى.
192

ونختار الشق الثاني، ونجيب عن اشكال ثبوت الحرمة التشريعية
بوجهين: الأول: ان الاتيان بالعمل بقصد قربي لا يلازم التشريع دائما، بل يمكن
تحققه بدون تشريع وهو الاتيان به رجاء، فيمكن تعلق الحرمة الذاتية بالعمل
المأتي به بقصد القربة رجاء.
الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية من أن التشريع ليس من صفات الفعل
الواقع كي تكون حرمته حرمة للفعل، بل هو من صفات القلب فان التشريع
عبارة عن البناء القلبي على جعل الحكم، ولا يكون العمل سوى كاشف عن
البناء والتشريع لا أكثر فلا وجه لتحريمه، وبعبارة أخرى: التشريع عبارة عن
ادخال ما ليس في الدين فيه وليس العمل ادخالا لما ليس في الدين فيه كما لا
يخفى.
نعم الاخبار عن الجعل محرم لأنه افتراء، ولكنه لا يرتبط بالعمل المأتي به.
وبالجملة: فالتشريع من صفات الفاعل لا الفعل، وليس هو كالتجري
الذي قد يقال فيه أنه من صفات الفعل باعتبار ان الفعل في مورد التجري
بنفسه يتعنون بعنوان الهتك للمولى الذي هو مورد التحريم والعقاب (1). فالتفت.
هذا مع أنه قد يناقش في أصل حرمة التشريع لعدم الدليل عليه. فتدبر.
واما ما ذكره صاحب الكفاية، وجها ثالثا في الجواب عن الاشكال من أن
النهي وإن لم يكن دالا على الحرمة الذاتية لكنه يدل على الفساد لدلالته على
الحرمة التشريعية الراجعة إلى عدم شمول دليل المأمور به للمحرم فلا وجه
لكونه مقربا (2).
فهو بعيد عما هو محل الكلام، فان محل الكلام هو الملازمة العقلية بين
الحرمة والفساد لا في دلالة دليل النهي وعدم دلالته وإن لم يكن تحريم واقعا. فان

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 187 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
193

البحث وان تقدم كونه لفظيا لكن واقعه في العبادات عقلي كما تقدم فانتبه.
وقد تعرض المحقق النائيني إلى دفع بعض الشبه قبل الخوض في أصل
المطلب ونذكر منها شبهتين:
إحداهما: انه كيف يعقل النهي عن العبادة، مع أن فرض العبادية يلازم
فرض المقربية كما أن فرض النهي يلازم المبعدية، ويمتنع أن يكون شئ
واحد مقربا ومبعدا؟.
وأجاب عنه: بان متعلق النهي ليس هو العبادة الفعلية كي يتأتي ما ذكر،
وانما المراد بالعبادة التي تكون متعلقا للنهي هي الوظيفة التي لو امر بها كان امرها
عباديا أو ما كان في نفسه عبادة كالسجود لله (1).
والذي يبدو لنا ان هذا الجواب بعيد عن الايراد. فان مقصود المورد هو
لغوية البحث لوضوح المنافاة بين النهي والعبادية، فالبحث عن اقتضاء النهي
عن الفساد بحث لغو. وهذا يتأتى سواء قلنا بان متعلق النهي العبادة الفعلية أو
ذات العبادة. فالجواب عنه بان المتعلق هو ذات العبادة غير مجد في دفعه.
ثانيتهما: ان العبادة وان فرضنا امكان تعلق النهي بها الا انه لا يوجب
فسادها، لان الفساد يستند إلى عدم مشروعيتها سواء كان نهي أو لم يكن.
وأجاب عنه: بان الفساد في مورد عدم النهي يستند إلى الأصل، وهو
أصالة عدم مشروعيتها وفي مورد النهي يستند إلى الدليل الرافع لموضوع الأصل
لارتفاع الشك به (2).
وهذا الجواب غير سديد، من جهتين:
الأولى: ما فرضه من جريان الأصل عند عدم النهي، مع أن الغالب فيما
نحن فيه وجود اطلاق أو عموم يثبت المشروعية لولا النهي.

(1) و (2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 394 - الطبعة الأولى.
194

الثانية: ما ذكره من استناد الفساد إلى الدليل، فإنه خروج عما هو محط
البحث من الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد، وليس البحث في دلالة الدليل
بلحاظ انه يتكفل بيان عدم مشروعيته.
والجواب الصحيح عن هذا الايراد ما تقدم بيانه في الجواب عن الايراد
الذي ذكره صاحب الكفاية بعد تنقيحه.
ثم إنه قد يقال: بأنه لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد، فان النهي
لا يقتضي الفساد بحال من الأحوال، بل ثبوته يلازم عدم الامر، كما أن ثبوت
المبغوضية يلازم عدم المحبوبية، وثبوت المفسدة الراجحة يلازم عدم المصلحة
الراجحة، نعم لو قلنا بان وجود الضد منشأ لعدم الضد الاخر تم نسبة الاقتضاء
للنهي. لكن ذلك لا يلتزم به، بل هما متلازمان كما مر في بحث اقتضاء الامر
بالشئ للنهي عن ضده الخاص.
والجواب: ان نسبة الاقتضاء بمعناه الفلسفي إلى النهي غير صحيحة،
لكن المراد به معناه العرفي المسامحي، والعرف يرى كون وجود أحد الضدين
مانعا عن الضد الاخر ومنشئا لعدمه بحيث يسند عدمه إلى وجود ضده، فيصح
بهذا اللحاظ اطلاق الاقتضاء عليه.
والأمر سهل، فان الاشكال لفظي لا يمت لواقع البحث بصلة.
فلو تم أبدلنا التعبير بما يتلاءم مع الواقع العقلي للمطلب فنقول: هل
النهي يلازم الفساد أولا؟.
المقام الثاني: في النهي عن المعاملة ولا بد من تحديد محل النزاع فنقول:
ان النهي عن المعاملة.
تارة: يكون ارشاديا إلى مانعية الخصوصية المأخوذة فيها.
وأخرى: يكون نهيا تكليفيا.
وهو تارة: يتعلق بذات السبب بما أنه فعل من أفعال المكلف، كالنهي عن
195

البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، فان النهي عن ذوات الألفاظ التي تقع بها
المعاملة لأنها شاغلة عن صلاة الجمعة.
وأخرى: يتعلق بالمسبب يعني كالتمليك الحاصل من انشاء البيع، فيكون
التحريم متعلقا بما يترتب على السبب من أثر.
وثالثة: يتعلق بالتسبب بالسبب الخاص إلى مسببه، ويمثل له بالنهي
المتعلق بالمراهنة بالعوض، فان نفس التمليك غير محرم، كما أن نفس السبب من
دون عوض كذلك. فالمحرم هو التسبب إلى حصول التمليك بالسبب الخاص.
ومحل الكلام هو القسمان الأخيران.
اما الأول: فلانه لا اشكال في اقتضائه فساد المعاملة لاحتفافها بالمانع
من صحتها، ولا كلام لاحد فيه.
واما الثاني: - أعني النهي المتعلق بذات السبب - فلم يتوهم دلالته على
الفساد، كما لا وجه له أصلا، إذ مبغوضية السبب لا تنافي ترتب اثره عليه لو
تحقق. اذن فيختص الكلام بالقسمين الآخرين.
وقد ذهب صاحب الكفاية أولا إلى عدم اقتضاء النهي الفساد، وعلله بعدم
الملازمة بين الحرمة والفساد لغة ولا عرفا (1).
ولا يخفى ان ذلك يرجع إلى نفي دعوى الملازمة، فكان الأوجه ذكر ما
تقرب به دعوى الملازمة ونفيه لا الاكتفاء بمجرد دعوى عدم الملازمة.
هذا مع أن نفي الملازمة عرفا ولغة لا يعلم وجهه، إذ البحث عن اقتضاء
الحرمة للفساد، والحال في ذلك لا يختلف بين ان تكون الحرمة معنى لغويا فقط
أو عرفيا فقط أو كليهما. فالتفت.
وعلى كل حال فالأقوال في محل البحث ثلاثة:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 187 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
196

الأول: اقتضاء النهي الفساد.
الثاني: اقتضاء النهي الصحة. وهو المنسوب إلى أبي حنيفة والشيباني (1).
الثالث: عدم اقتضائه لأحدهما.
اما القول الأول فيوجه بوجوه:
الوجه الأول: دلالة الروايات عليه، كرواية زرارة عن الباقر (ع): " عن
مملوك تزوج بغير إذن سيده. فقال: ذلك إلى سيده ان شاء اجازه وان شاء فرق
بينهما. قلت: أصلحك الله تعالى ان الحكم بين عينيه وإبراهيم النخعي وأصحابهما
يقولون ان أصل النكاح فاسد ولا يحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر (ع):
انه لم يعص الله انما عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز " (2). فان ظاهرها انه لو
كان عمله عصيانا لله كان فاسدا، فيدل على أنه لو كان محرما كان فاسدا لان
فعل الحرام معصية.
وفيه: ما أشار إليه في الكفاية (3) من أن العصيان كما يطلق على مخالفة
الحكم التكليفي يطلق أيضا على مخالفة الحكم الوضعي والشروط الوضعية،
بلحاظ انه مخالفة للمقررات المفروضة، فان ترك الجري على طبقها يعد عصيانا
عرفا، وهي وان كانت ظاهرة في المعنى الأول الا ان المراد بها في الرواية هو
المعنى الثاني بقرينة اطلاق المعصية على ايقاع المعاملة بدون إذن سيده، فالمراد
- بملاحظة هذه القرينة - انه لم يأت بالمعاملة مخالفا لما هو المقرر شرعا في

(1) شرح تنقيح الفصول / 173.
(2) الفروع من الكافي 5 / 478. باب المملوك تزوج بغير إذن مولاه - الحديث 3.
من لا يحضره الفقيه 3 / 350. باب طلاق العبد - الحديث 4.
تهذيب الأحكام؟ 7 / 351. باب العقود على الإماء... - الحديث 63.
وسائل الشيعة 14 / 523. الباب 24 من نكاح العبيد والإماء - الحديث 1.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 188 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
197

تماميتها، بل جاء بها مخالفا لسيده لعدم إذنه، فلا ظهور لها في كون المخالفة
للحكم التكليفي موجبة للفساد.
ولو سلم عدم ظهور إرادة المعنى الثاني فلا يسلم ظهورها في المعنى
الأول، بل تكون الرواية مجملة لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على إرادة
خلاف ظاهره، كما لا ظهور للكلام في استعماله في الأعم من المعنيين. فتدبر.
ومن هنا يظهر حال سائر الروايات المستدل بها على المدعى فلا نطيل
الكلام بالتعرض إليها.
الوجه الثاني: ان المسبب من مجعولات الشارع واعتباراته، فإذا فرض
كونه مبغوضا كما هو ظاهر النهي لم يتحقق من قبل الشارع، فالملكية إذا كانت
مبغوضة للشارع لم يعتبرها، لكن المبغوضية ليست مبغوضية تشريعية بل
تكوينية، لان متعلقها فعل المولى نفسه فلا يعقل ان يتعلق بها التحريم، فما يعقل
تعلق التحريم به بلحاظ انه فعل المكلف، هو ايجاد الملكية والتسبب إلى اعتبارها
شرعا بسبب العقد، فالملكية لها حيثيتان بإحداهما تكون فعل المولى وبالأخرى
تكون فعل المكلف فتكون متعلقا للتحريم من حيثية كونها فعلا له تسببا.
وعلى هذا البيان يقرب دلالة النهي على الفساد: بان التسبب إلى الملكية
يتقوم باعتبار الملكية إذ مع عدم اعتبارها لا يتحقق التسبب إليها كما لا يخفى،
وعليه فمع تحريم التسبب ومبغوضيته لا يعقل جعل الملكية المحققة للتسبب.
فحرمة المعاملة بهذا النحو تستلزم فسادها وعدم جعل الشارع للأثر المترتب
عليها.
وببيان آخر، نقول: ان متعلق التحريم وان كان هو الملكية التسببية
والمبغوض هو الملكية المستندة إلى المكلف باعتبار ايجاد سببها، الا ان تحقق ذلك
لا يكون الا باعتبار الشارع الملكية وجعلها، ومع فرض مبغوضية التمليك الصادر
من المكلف يستحيل جعل ما يحققه ويقومه وهو الملكية.
198

ولا يخفى ان هذا البيان لا يرد على المسلك القائل (1) بوجود مواطن ثلاثة
للاعتبار وهي الاعتبار الشخصي والاعتبار العقلائي والاعتبار الشرعي، يعني
ان المنشئ يعتبر المنشأ في نفسه ويكون اعتباره موضوعا لاعتبار العقلاء
والاعتبار العقلائي يكون موضوعا للاعتبار الشرعي، والوجه في عدم ورود هذا
البيان على هذا المسلك هو: ان فعل المكلف المتعلق للتحريم أجنبي بالمرة عن
فعل الشارع، فان المبغوض هو الاعتبار الشخصي لأنه القابل للتحريم دون
غيره، وهو لا يتنافى مع اعتبار الشارع وجعله، إذ هو غير مبغوض.
وانما يتجه هذا البيان على المسلك المشهور القائل بان واقع المعاملة هو
الانشاء بداعي تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي فهي التسبيب إلى اعتبار
الشارع، من دون أن يكون للمنشئ اعتبار شخصي.
إذ تتجه دعوى أن المبغوض متقدم باعتبار الشارع فلا معنى لجعله
واعتباره من قبله.
وعليه، فلا يتجه التفصي عن هذا البيان بالالتزام بوجود الاعتبار
الشخصي وانه هو متعلق التحريم.
فالتحقيق ان يقال: ان اعتبار الملكية - مثلا - وان كان بيد الشارع الا
ان تحققه لما كان بلحاظ تسبيب المكلف وانشائه أسند التمليك إلى المكلف كما
يسند إلى الشارع، فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف والاخر تمليك الشارع،
نظير ما لو رمى شخص آخر برصاصة فجاء ثالث وأوقف المرمي تجاه الرصاصة
فاصابته وقتل فان القتل كما يسند إلى الرامي يسند إلى الرامي يسند إلى هذا الشخص الثالث.
وعليه، فإذا فرض تعدد التمليك بحسب ما يراه الوجدان بنحو لا يقبل
الانكار، فالمبغوض المحرم هو تمليك المكلف لا مطلق التمليك، فلا مانع من تحقق

(1) التزم بهذا المسلك السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب.
199

التمليك من الشارع لأنه ليس من مبغوضاته.
وبالجملة: تعدد التمليك مما لا يقبل الانكار، إذ يسند التمليك للبائع،
فيقال انه ملك مع أنه لا معنى له لو كان فعل الشارع، إذ فعل الغير لا يسند
إلى الشخص، فيكشف عن تعدد التمليك ومعه يرتفع المحذور.
وتوضيح ذلك وبيان السر فيه: ان شأن الشارع هو جعل الملكية على
تقدير تحقق المعاملة بنحو القضية الحقيقية، بمعنى انه يعتبر الملكية عند تحقق
البيع بشرائطه مثلا، وبنحو جعل الحكم الكلي على موضوعه الكلي، ولا شأن له
بمرحلة التطبيق، فإذا أوجد المكلف المعاملة في الخارج ثبت الاعتبار في موردها
قهرا، فيسند التمليك إلى المكلف بهذا اللحاظ، إذ يرى أنه هو سبب تحقق
الاعتبار الفعلي نظير مثال القتل فان الرصاصة المرمية تصيب كل من واجهها
فإذا أوقف شخص آخر تجاهها فاصابته أسند إليه القتل كما يسند إلى الرامي
في نفس الوقت.
ومثله اطلاق تنجيس يده عليه، فيقال: نجس يده، مع أن النجاسة من
مجعولات الشارع، وليس ذلك الا لاجل ان الشارع جعل النجاسة على ملاقي
النجس بنحو الكلية، فايجاد الموضوع المستلزم لترتب الحكم يوجب اسناد الحكم
إلى المكلف، وهكذا الحال في الأحكام التكليفية، فإنه يقال: إنه حرم على نفسه
الشئ الكذائي، إذا أوجد موضوع التحريم.
ومن الواضح ان اطلاق ذلك عليه يكون اطلاقا حقيقا لا يرى فيه شائبة
من التجوز والمسامحة، مما يكشف عن وجود آخر يكون فعل المكلف، إذا الوجود
المجعول للشارع ليس من أفعال المكلف. فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف
وهو الذي يكون مورد التحريم لأنه من أفعاله الاختيارية. فلاحظ وتدبر.
والوجه الثالث: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) وبنى عليه، وهو:
ان المعتبر في صحة المعاملة أمور ثلاثة:
200

الأول: كون الناقل - في مورد التمليك - مالكا للعين أو ما بحكمه بحيث
يكون امر النقل بيده.
الثاني: ان تكون له السلطنة الفعلية الثابتة بقاعدة الناس مسلطون على
أموالهم، فلا تصح من المحجور عليه لانتفاء السلطنة.
الثالث: أن يكون ايجاده بسبب خاص.
والنهي المتعلق بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف للكافر يوجب اختلال
الشرط الثاني من شروط الصحة، لان النهي يكون معجزا مولويا للمكلف، رافعا
لسلطنته على الفعل والترك، فتبطل المعاملة لاجل ذلك، اما ولاية النقل وايجاده
بسبب خاص فلا يتنافى مع النهي (1).
وهذا الوجه غير سديد: إذ الثابت بقاعدة السلطنة محل خلاف، وعلى
أي تقدير فالوجه غير تام بيان ذلك: انه اختلف في مفاد قاعدة السلطنة إلى
قولين:
أحدهما: انها تتكفل جعل السلطنة وضعا، واعتبار حق التصرف فيه.
ثانيهما: انها تتكفل بيان ثبوت السلطنة التكوينية على النقل، بداعي
إفادة لازمة، وهو امضاء المعاملات واعتبار ترتب الأثر عليها، فإنه إذا فرض
امضاء المعاملة وجعل الملكية - مثلا - عند معاملة البيع الواقعة، كان الشخص
قادرا تكوينا على النقل.
وهذا الوجه افاده المحقق الأصفهاني، وهو الوجه المتين، إذ لا وجه لجعل
السلطنة بعد فرض تحققها تكوينا بجعل الأثر على المعاملة (2).
وبالجملة: المقصود بجملة: " الناس مسلطون على أموالهم " (3) على هذا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 404 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب 1 / 26 - الطبعة الأولى.
(3) المجلسي العلامة محمد باقر. بحار الأنوار 1 / 154. الطبعة الحديثة.
201

الرأي الكناية عن امضاء المعاملة، إذ السلطنة التكوينية تلازم الامضاء.
إذا عرفت ذلك: فلو كان المقصود بقاعدة السلطنة هو الثاني وانه ليس
لدينا اعتبار للسلطنة، بل ليس هناك سوى جعل الأثر وامضاء المعاملة وانقاذها،
فلا يتم الوجه المزبور، إذ لا ينافي النهي السلطنة التكوينية الا إذا كان ملازما
لفساد المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها، وهذا هو محل البحث ومورد النزاع، فلا بد من
سلوك طريق آخر لاثبات الفساد غير هذا الوجه كما لا يخفى جدا.
وان كان المقصود بها المعنى الأول. فمن الواضح ان لدينا قدرتين على
التصرف قدرة تشريعية بمعنى جواز التصرف تكليفا، وقدرة وضعية بمعنى قابلية
التصرف المعتبرة من الشارع، والتحريم انما يرفع القدرة الأولى، اما القدرة
الوضعية فارتفاعها بالتحريم أول الكلام وهو عين الدعوى.
وعليه، فالمقصود بالقاعدة اما جعل القدرة الوضعية أو جعل الأعم من
القدرة الوضعية والتشريعية.
فعلى الأول: يحتاج اثبات كون التحريم مخصصا للقاعدة ورافعا للقدرة
المجعولة بها إلى دليل، ولا وجه لمجرد دعوى ذلك والحال انه محل خلاف.
وعلى الثاني: كان التحريم رافعا للقدرة التشريعية فيخصص القاعدة الا
ان محل الكلام رفعه للقدرة الوضعية، فلا ينفع ارتفاع القدرة الشرعية به. وما
ذكر لا يتكفل سوى دعوى رفعه لها من دون أي وجه.
وبالجملة: الوجه المزبور لا يعدو كونه دعوى ثبوت أحد القولين في محل
النزاع.
ومثل ذلك يعد مصادرة وهو مما لا يتناسب مع المقام العلمي للمحقق
النائيني (قدس سره). فالتفت وتدبر.
والمتحصل: انه لم يقم دليل على ملازمة التحريم للفساد.
واما القول الثاني فهو المحكي عن أبي حنيفة والشيباني.
202

والوجه فيه: ان النهي عن الشئ لابد ان يفرض في مورد القدرة على
الشئ لامتناع تعلق التكليف بغير المقدور، وإذا فرض فساد المنهي عنه لزم عدم
القدرة على تحققه بالنهي، وهو يتنافى مع تعلق النهي به، فلا بد من فرض وقوعه
كي يصح تعلق النهي به.
ولا يخفى ان هذا الوجه لا اختصاص له بالنهي عن المعاملة، بل هو يتأتي
في صورة النهي عن العبادة.
ولأجل ذلك أورد عليه صاحب الكفاية بأنه غير تام في مورد النهي عن
العبادة لما تقدم من أن المقصود هو تعلق النهي بذات العمل الذي لو امر به كان
أمره عباديا أو تعلقه بما يكون عبادة ذاتا، ومن الواضح ان مثل ذلك مقدور ولو
كان فاسدا، اما النهي عن المعاملة، فإن كان عن ذات السبب لم يستلزم الصحة،
للقدرة على السبب مع عدم ترتب الأثر عليه. واما إذا كان عن المسبب أو
التسبب بالسبب إليه كان الوجه المذكور تاما، إذ مع عدم تحقق الأثر لا يكون
المسبب والتسبب مقدورا كي يكون قابلا لورود الحرمة عليه وتعلق النهي به.
وعلى هذا فصاحب الكفاية وافق القائل بما إذا تعلق النهي بالمسبب أو
التسبب. وخالفه في غير ذلك (1). وهو على حق في مخالفته. لكنه في موافقته لا
نراه محقا.
بيان ذلك: ان المسالك في باب الانشاء والمعاملات مختلفة: فمنهم من يرى
تعدد الاعتبار في باب المعاملة، فهناك اعتبار شخصي للملكية - مثلا - واعتبار
عقلائي واعتبار شرعي، وهو مختار السيد الطباطبائي في حاشيته على
المكاسب (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 189 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الطباطبائي الفقيه السيد كاظم. حاشية المكاسب / 62 - الطبعة الأولى.
203

ومنهم من يرى ان المنشئ يقصد ايجاد المنشأ بوجود انشائي يكون
موضوعا للآثار العقلائية والشرعية، فللملكية وجود انشائي غير وجودها في
مرحلة الاعتبار العقلائي. وهذا الرأي لصاحب الكفاية وصرح به وأكده في
الفوائد (1).
وهذا الرأي وإن لم يلتزم به القوم لكن صرحوا في بعض الموارد بلوازمه،
وذلك كما قيل في رد الاشكال على صحة امضاء المعاملة الفضولية، بان امضاء
المعدوم لا وجه له. فقيل في رده: بان للمعاملة نحو وجود مستمر، كما قيل: بان
مراد الشيخ في تعريف البيع بانشاء التمليك هو التمليك الانشائي، لعدم سلامة
الأول من كثير من الايرادات.
ومنهم من يرى ان إنشاء الملكية ليس إلا التسبيب إلى اعتبارها شرعا
أو عقلائيا، فليس للملكية سوى وجود اعتباري واحد. وهو الرأي المشهور في
باب الانشاء.
ولا يخفى ان الوجه المتقدم لاثبات ملازمة النهي للصحة لا يتم بناء على
الرأي الأول، لان ما هو فعل المكلف وما هو متعلق الحرمة هو لاعتبار الشخصي،
اما غيره فليس من أفعاله كي يتعلق به التحريم.
ومن الواضح انه مقدور للمكلف ولو لم يترتب عليه الاعتبار الشرعي،
فيصح تعلق التحريم به مع عدم استلزامه لترتب الأثر شرعا. وهكذا لا يتم هذا
الوجه على الرأي الثاني (رأي صاحب الكفاية)، إذ فعل المكلف هو الوجود
الانشائي وهو يتحقق سواء ثبت الأثر شرعا أو لا، فالقدرة عليه لا تلازم
الصحة.
ومما هو غريب جدا موافقة صاحب الكفاية للقائل مع التزامه بهذا الرأي

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول / 285 - المطبوعة ضمن الحاشية.
204

في باب الانشاء.
نعم هذا الوجه يتجه في بادئ النظر على الرأي المشهور، إذ متعلق
التحريم وهو التمليك لا يتحقق من دون اعتبار للملكية شرعا، وليس لدينا فعل
يسند إلى المكلف غير الملكية الاعتبارية بلحاظ ايجاد سببها.
والتحقيق انه غير تام. بيان ذلك: ان الشبهة المزبورة وردت لتخيل انه
لا يوجد في المعاملة، سوى السبب والمسبب بمعنى الاعتبار الشرعي، ولكن
الامر ليس كذلك وإلا لزم التوقف في صدق البيع بالنسبة إلى بيع الغاصب
والفضولي والمعتقد ان المال له، وذلك لان الاعتبار الشرعي لا يترتب على انشاء
الغاصب ولا الفضولي ولا غير المالك المتخيل ان المال ملكه، فلو فرض ان
المعاملة اسم للتسبيب إلى الاعتبار الشرعي لزم أن لا يتحقق صدق البيع في هذه
الموارد لعدم تحقق المسبب.
وبما أنه مما لا يتوقف أحد في صدق البيع في مثل هذه الموارد ونسبة
التمليك إلى البائع فيقال باع وملك ما ليس له، نستكشف ان هناك امرا يتحقق
بالانشاء ولو لم يثبت المنشأ في عالم الاعتبار الشرعي، وهو يسند إلى المنشئ
لأنه فعله التسببي، وذلك الامر هو وجود انشائي للملكية في البيع.
وعليه ففي صورة الانشاء هناك تمليك انشائي غير التمليك الشرعي وهو
فعل المنشئ وينسب إليه.
وبذلك يتضح انه هو متعلق التحريم وغيره، من الأحكام التكليفية، وهذا
امر مقدور ولو لم يثبت الأثر شرعا، فالحرمة لا تلازم الصحة للقدرة عليه بدون
الصحة
وهذا المعنى لا بد من الالتزام به في الانشائيات، وبه يندفع كثير من
الاشكالات الواردة على التعريف المشهور كما أشرنا إلى بعضها، وقد مر تحقيق
ذلك في بحث الصحيح والأعم فراجع.
205

والذي يتحصل ان النهي كما لا يدل على الفساد لا يدل على الصحة،
فالمرجع اطلاق دليل المعاملة لو كان موجودا والا فالأصل. فالتفت ولاحظ والله
ولي التوفيق.
* * *
206

المفاهيم
207

المفاهيم
عرف صاحب الكفاية المفهوم بأنه حكم انشائي أو اخباري تستتبعه
خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة، وكان
يلزمه لذلك سواء وافقه في الايجاب والسلب وهو المعبر عنه بمفهوم الموافقة، أو
خالفه ويعبر عنه بمفهوم المخالفة. فمفهوم جمله: " ان جاءك زيد يجب اكرامه "
على تقدير القول به قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها وهي: " إن لم يجئك زيد
فلا يجب اكرامه " تستتبعها الخصوصية المؤداة بالمنطوق وهي العلية المنحصرة كما
سيأتي.
وانتهى (قدس سره) إلى أن المفهوم يصح ان يقال عنه انه حكم غير
مذكور لا انه حكم لغير مذكور، إذ قد يكون الموضوع مذكورا كما في المثال
السابق. ولكنه استدرك بعد ذلك بان هذه التعريفات انما تذكر لشرح الاسم
فهي تعريفات لفظية لا حقيقية فالاشكال عليها بعدم النقض والطرد في غير
محله.
ثم أشار إلي ان المفهوم هل هو من صفات الدلالة أو المدلول؟ واستقرب
الثاني وذكر ان التعرض لذلك غير مهم في المقام.
209

هذا ما ذكره (قدس سره) في هذا المقام (1).
وقد أوقع المحقق الأصفهاني الكلام معه في تعريفه بأنه حكم غير مذكور،
وناقشه فيه واختار بعد ذلك معنى آخر للمفهوم، كما أنه أوقع الكلام معه في كونه
من صفات الدلالة والمدلول، فذكر: ان الدلالة بالمعنى الفاعلي لا تقبل الاتصاف
بالمفهوم ولا يتوهم ذلك. والدلالة بالمعني المفعولي عين المدلول حقيقة. وعليه
فالترديد في غير محله (2).
وبما أنه لا جدوى في سرد ذلك مفصلا وتمييز الحق منه عن غيره لم نتعرض
إلى بيانه واقتصرنا علي مجرد الإشارة إليه، فمن أراد الاطلاع فليراجع.
ومنه ظهر انما افاده المحقق النائيني (رحمه الله) من تنويع المفهوم، وانه
تارة يكون افراديا. وأخرى يكون تركيبيا، وايقاع البحث في ذلك مفصلا
مما لا جدوى فيه مع غض النظر عما في بعض ما ذكره من التأمل والنظر (3).
والامر الذي نود التنبيه عليه، هو: انك عرفت أن المفهوم حكم تستتبعه
خصوصية مرادة من اللفظ كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط المستتبعة
للانتفاء عند الانتفاء، فهو حكم يلازم الخصوصية المؤداة باللفظ، فالذي نحتاجه
في البحث عن المفهوم هو اثبات هذه الخصوصية المستلزمة للمفهوم لا غير، لان
ثبوت هذه الخصوصية يكفي في اثبات المفهوم والبناء عليه، ولا نحتاج بعد ذلك
إلى البحث عن حجيته، إذ لما كان من لوازم الخصوصية كان الدليل الدال على
ثبوتها دالا على المفهوم، اما بالدلالة الالتزامية إذا كانت الملازمة بين المفهوم
والخصوصية ملازمة بينة بالمعنى الأخص، فيكون الدلالة على المفهوم من
مصاديق الظاهر وهو حجة. واما بلحاظ ان الامارة حجة في لوازم مؤداها العقلية.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 193 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 319 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 413 - الطبعة الأولى.
210

وبالجملة: ثبوت المفهوم يلازم حجية الدليل فيه اما لظهوره فيه أو لكونه
حجة في لوازم مؤداها، نظير ثبوت وجوب المقدمة بثبوت وجوب ذيها بالدليل لو
قيل بالملازمة فان الملازمة عقلية.
وعليه، فلا حاجة لا تعاب النفس في بيان ان الدلالة على المفهوم من
الدلالة الالتزامية، كما وقع ذلك من المحقق النائيني (1).
* * *

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 413 - الطبعة الأولى.
211

مفهوم الشرط
وقع الكلام بين الاعلام في دلالة الجملة الشرطية على انتفاء الجزاء عند
انتفاء الشرط، والمقصود بالبحث انها هل تدل بالوضع أو بمقتضى قرينة عامة
على الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، بحيث يحمل الكلام عليه لو لم
تقم قرينة على الخلاف، أولا تدل على ذلك بل غاية ما تدل عليه هو الثبوت عند
الثبوت؟. والخصوصية المقصودة هي دلالة الجملة على كون الشرط سببا منحصرا
للجزاء، فإنه يلازم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط والا لم يكن سببا منحصرا له.
وقد ذكر لاثبات المفهوم وجوه ذكرها في الكفاية خمسة.. أحدها يرجع إلى
دعوى الوضع، والأربعة الأخرى ترجع إلى دعوى القرينة العامة على المفهوم.
وقبل الخوض في ذلك لا بد من التعرض لأمور:
الامر الأول: في بيان معنى التعليق والترتب واللزوم. فإنه مما له نفع فيما
نحن فيه وقد وقع الخلط بينها في الكلمات فنقول:
اما التعليق: فهو ربط أحد الشيئين بالاخر بنحو لا يتخلف عنه ولا
يمكن تحققه بدونه، فهو يساوق العلية المنحصرة، إذ من الواضح ان الشئ إذا
كان يوجد بسببين لا يقال إنه معلق بكل منهما، ولا يصح ان يقال علقت مجيئي
213

على مجئ زيد لو فرض تحقق المجئ مني بدون مجئ زيد.
واما الترتيب: فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين عند حصول الاخر
بحيث يكون منشئا لتحققه.
وهو أعم من التعليق، إذ هو لا يلازم الانحصار، بل مع تعدد السبب
يصدق ترتب المسبب على كل منهما وتفرعه عنه.
واما اللزوم: فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الاخر بنحو لا ينفك
أحدهما عن الاخر.
وهو أعم من الترتب، إذ يصدق على ملازمة العلة للمعلول والمعلول للعلة
والشيئين المعلولين لثالث، مع عدم الترتب في الأخيرين.
الامر الثاني: في بيان ان ما تفيده الجملة الشرطية من ربط الجزاء بالتالي
بنحو التعليق أو غيره - على الخلاف في نوع الربط -، هل هو مؤدى الأداة وان
مؤدى الأداة ليس إلا جعل تاليها موضع الفرض والتقدير، والتعليق يستفاد من
الفاء أو ترتيب الجزاء على الشرط؟. فان تحقيق ذلك ينفعنا في التمسك، بالاطلاق
لاثبات المفهوم كما سيتضح.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني، فادعى ان أداة الشرط لا تفيد
سوى جعل متلوها واقعا موضع الفرض والتقدير، ويشهد بذلك الوجدان
وملاحظة مرادفها بالفارسية، فإنه شاهد على أن أداة الشرط لا تتكفل سوى
هذا المعنى، فكان القائل حين يقول: " ان جاءك زيد فأكرمه " يريد: " على فرض
مجئ زيد أكرمه ".
واما التعليق والترتب فهو مستفاد من تفريع التالي على المقدم والجزاء
على الشرط كما تدل عليه الفاء التي هي للترتيب.
وقد ذكر ان ما اشتهر من أن " لو " حرف امتناع لامتناع لا منشأ له إلا
ما ذكرنا من أن أداة الشرط تفيد جعل مدخولها موضع الفرض، ببيان: ان
214

مدخول " لو " هو الماضي وفرض وجود شئ في الماضي لا يكون الا إذا كان
الواقع عدمه فلذا يكون المفروض محالا، وحيث رتب على المحال شئ أيضا في
الماضي فهو أيضا محال، لأنه ان كان المرتب عليه علته المنحصرة فلم توجد، وإن لم
تكن علته المنحصرة وكانت له علة أخرى فهي أيضا لم توجد، ولذا رتب عدمه
على عدم المفروض وجوده.
هذا ما افاده (قدس سره) في مبحث مفهوم الشرط، وأطال في بيانه في
مبحث الواجب المشروط (1) وهو غير تام بكلا جهتيه، أعني: ما أفاده في معنى
أداة الشرط بقول مطلق، وما افاده في سر دلالة " لو " على الامتناع للامتناع.
اما الجهة الثانية: فقد عرفت أن منشأها وأساسها هو كون فرض شئ
في الماضي كاشفا عن عدم وقوعه.
وهذا الامر لا نلتزم به لوجهين:
الأول: النقض بما إذا كان مدخول غير " لو " من أدوات الشرط هو
الماضي، فإنه لا يلتزم بأنها تفيد امتناع شئ لامتناع آخر، كما لو قال: " ان كان
زيد قد جاء أمس جاء عمرو أمس أيضا "، بل لو كان الفرض والتقدير مدلولا
للفظ الاسمي، كما لو قال: " على فرض مجئ زيد أمس فقد جاء عمرو أمس "،
فإنه لا يلتزم بدلالة الجملة على الامتناع للامتناع.
الثاني: الحل في الجميع، بأنه لا ينحصر فرض شئ في الماضي بصورة
عدم وقوعه، بل كما يمكن أن يكون منشأ الفرض في الماضي عدم تحققه، كذلك
يمكن أن يكون منشؤه كون غرض المتكلم ليس إلا بيان الملازمة بين تحقق شئ
في الماضي وتحقق آخر فيه أيضا من دون ان يتعلق غرضه ببيان تحققه. كما يمكن
أن يكون جاهلا بتحققه وعدمه فيفرض تحققه في الماضي ويرتب عليه شئ آخر.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 320 و 1 / 177 - الطبعة الأولى.
215

واما الجهة الأولى: فلانه لو كانت الأداة تفيد جعل مدخولها موقع
الفرض والتقدير لم يكن هناك حاجة للاتيان بالفاء، كما يشهد لذلك عدم جواز
ذكر الفاء لو عبر عن الفرض والتقدير بالاسم، فإنه يقال: " على فرض وتقدير
مجئ زيد يجئ عمرو " ولا يقال: " فيجئ عمرو "، مع أن الفرض بالمعنى الاسمي
انما يدخل على المفاهيم الافرادية لا التركيبية، فيقال: " على فرض مجئ زيد "
لا " على فرض جاء زيد "، ولو كانت الأداة بمعنى الفرض والتقدير لصح ذلك.
فهذا مما يكشف عن اختلاف المعنى. فما افاده (قدس سره) في معنى الأداة غير
سديد.
واما المحقق النائيني (قدس سره) فكلامه في المبحثين مرتبك جدا، ولا
يخلو عن تهافت، فهو يلتزم أولا بوضع الأداة للتعليق ثم يذهب إلى أنها موضوعة
لجعل مدخولها موضع الفرض وانها لا تدل على أكثر من اللزوم، والترتب يستفاد
من سياق الكلام وجعل التالي تاليا والمقدم مقدما. وفي مبحث الواجب المشروط
ادعى انها موضوعة للربط بين الجملتين (1).
وقد عرفت أن التعليق أخص من الترتب واللزوم، فلا يمكن الجمع بين
دعوى كونها موضوعة للتعليق ودعوى انها موضوعة للزوم.
وبالجملة: لا نستطيع اسناد رأي خاص له حتى نرتضيه أو ندفعه.
فالذي يمكن ان ندعيه في معناها هو: انها ظاهرة في إفادة ترتب الجزاء
على الشرط ومعلوليته له وتفرعه عليه ثبوتا.
اما دعوى: انها موضوعة لما هو أعم من اللزوم فباطلة جدا، لتبادر اللزوم
منها في الجملة، واستعمالها في غير موارده انما يكون بقرينة، أو فقل انها تستعمل
في موارد الملازمة الاتفاقية في اللزوم لكن في ظرف خاص.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 415 و 1 / 131 - الطبعة الأولى.
216

واما دعوى: انها لخصوص اللزوم لا الترتب.
فلعل الوجه فيه هو: استعمالها بلا عناية في موارد لا ترتب للجزاء فيها
على الشرط، نظير قولهم: " إذا كان زيد محموما فهو متعفن الاخلاط "، فان
الحمى معلولة للعفونة لا علة لها.
ولكن الظاهر أنها مستعملة في هذه الموارد في الترتب، لكن المراد هو
الترتب في مرحلة الاثبات لا الثبوت، ويكون المقصود بيان ترتب الوجود العلمي
للجزاء على الشرط لا الوجود الواقعي، ولذا قد يصرح بذلك في بعض القضايا
فيقال: " وإذا كان زيد محموما فيعلم انه متعفن الاخلاط ".
اذن فلنا ان ندعي ظهور الأداة في ترتب الجزاء على الشرط وعلية
الشرط له لا أكثر. واما استفادة الانحصار فهي من طريق آخر.
يبقى اشكال صحة الربط بين النسبتين. وقد أجبنا عنه في مبحث
الواجب المشروط. فراجع.
الامر الثالث: في تحديد ما هو ملاك ثبوت المفهوم وما ينبغي البحث فيه
لاثباته ونفيه. والمعروف هو ان مدار البحث على استفادة كون الشرط علة
منحصرة للجزاء فينتفي الحكم عند انتفائه.
ولكن المحقق العراقي (قدس سره) خالف المشهور وذهب إلى أن مدار
البحث لابد وأن يكون على أن القضية المتكفلة للحكم، هل هي ظاهرة في تعليق
شخص الحكم على الشرط أو تعليق سنخه عليه، فيثبت المفهوم على الثاني دون
الأول.
وبيان ذلك - كما جاء في مقالاته -: ان علية ما علق عليه الحكم بنحو
الانحصار أمر مسلم غير قابل للانكار، والذي يدل عليه التزام الكل بلا توقف
بان انتفاء موضوع الحكم اما بذاته أو لبعض قيوده من شرط أو وصف أو غيرهما
217

يلازم انتفاء شخص الحكم المعلق عليه، وهو يكشف عن كون موضوع الحكم
بخصوصياته المأخوذة فيه علة لشخص الحكم، إذ لولا ذلك لم يكن وجه لانتفاء
شخص الحكم بانتفائه، لامكان ثبوته على الخالي عن الخصوصية مثلا.
ويشهد لذلك التزامهم بتقييد المطلق بالمقيد إذا كانا مثبتين مع احراز
وحدة المطلوب فيهما، فإنه لا يتم الا إذا التزم بظهوره المقيد في كون موضوعه
علة منحصرة للحكم فلا يثبت في غير مورده، والا فمجرد وحدة المطلوب لا تلازم
التقييد، إذ يمكن كون الحكم الواحد ثابتا للمطلق.
وبالجملة: الكل يلتزم بكون الموضوع بخصوصياته علة منحصرة
لشخص الحكم. والسر فيه: هو ظهور الكلام في إناطة الحكم بالموضوع بخصوصه
وتعليق الحكم عليه بعنوانه، فان قول الامر: " أكرم زيدا " ظاهر في دخالة عنوان
زيد في ثبوت الحكم، وهو يتنافى مع دخول غيره في ثبوت الحكم لمنافاة دخل
غيره، لإناطة الحكم بالموضوع بخصوصه الظاهرة من الكلام. ولولا هذه الجهة
لما اقتضى انتفاء الموضوع انتفاء شخص الحكم.
وعليه، فيمكننا ان ندعي ظهور أخذ الموضوع في دخالته بخصوصه
وبنحو الانحصار في مضمون الخطاب.
وعليه، فينحصر البحث - في المفهوم وعدمه - في أن مضمون الخطاب وما
علق على الموضوع هل هو شخص الحكم؟ فلا يدل الكلام على المفهوم، إذ
انتفاء الشرط يقتضي انتفاء شخص الحكم، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر للحكم
في غير مورد الشرط. أو انه سنخ الحكم؟ فيدل الكلام على المفهوم، إذ انتفاء
الشرط يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن غير مورده فيتنافى مع ثبوته في غير مورده.
فمدار البحث ذلك، وليس البحث في استفادة العلية المنحصرة، فإنها من
المسلمات بحسب الارتكاز والشواهد، فلا وجه للبحث فيها.
218

هذا محصل ما أفاده بتوضيح منا (1).
ولكنه لا يخلو عن مناقشة، فإنه لا يخلو عن مغالطة، لان الكل لم يلتزم
بظهور تعليق الحكم على الموضوع في العلية المنحصرة، بل التزموا بما يلازم
الانحصار في خصوص كون المعلق شخص الحكم لا سنخه، وهو أصل العلية لا
أكثر.
وملخص ما ندعيه: انهم التزموا بظهور الموضوع في العلية، وهي تلازم
الانحصار في مورد كون المرتب على الموضوع شخص الحكم، فلا وجه للتعدي
إلى ظهور الموضوعية في الانحصار لمطلق مضمون الخطاب.
وبيان ذلك: ان المراد عن شخص الحكم ليس المعنى الاصطلاحي
للشخص، وهو الحكم الموجود، فإنه لا معنى للكلام في الانحصار وعدمه بالنسبة
إليه، فان الموجود الخارجي لا يمكن ان يوجد بواسطة سبب آخر، لان الموجود
لا يقبل الوجود ثانيا. كما أنه لا معنى لانتفائه لان الشئ لا ينقلب عما وقع
عليه.
وهذا كما يجري في الاحكام يجري في التكوينيات أيضا، فان الاحراق
الموجود المتحقق بالنار الخاصة لا معنى لوجوده بنار أخرى.
وانما المراد به ما يوجد في الخارج بنحو يؤخذ فيه بعض الخصوصيات
الملازمة لانطباقه على فرد واحد لا أكثر، وهو في التكوينيات ملازم للانحصار،
فإذا قيل: " الاحراق الثابت لهذا الشئ من هذه النار في الساعة الخاصة " إلى
غير ذلك من القيود المخصصة للمفهوم بحيث لا يقبل الانطباق على غير الفرد
الواحد، فلا وجه لتوهم ثبوته بغير تلك النار بالخصوصيات المذكورة.
واما في التشريعيات والاعتباريات، فغير ملازم للانحصار، إذ الحكم

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين،. مقالات الأصول 1 / 138 - الطبعة الأولى.
219

الثابت لزيد بالقيد الخاص يمكن أن يكون ثبوته له بعنوان انه انسان فلا ينتفي
بانتفاء زيد بل هو ثابت لغيره. كما يمكن أن يكون ثبوته له بعنوانه لكن لا بنحو
التعيين، بل بنحو البدلية بان يكون ثابتا لزيد بعنوانه أو عمرو بعنوانه بنحو
البدلية.
وهذا لا يجري في التكوينيات لان المسبب التكويني الواحد لا يمكن
صدوره عن غير سبب واحد، بخلاف الاعتباريات لأنها خفيفة المؤونة، فإذا
استظهر أخذ " زيد " - مثلا - بعنوانه وخصوصه ثبت كونه علة منحصرة، إذ يمتنع
تحقق شخص الحكم لغير زيد بعد فرض ان زيدا يؤثر فيه بعنوانه وخصوصه.
وهذا لا يلازم الانحصار بالنسبة إلى سنخ الحكم، إذ يمكن ترتب
الطبيعي والسنخ - بلحاظ أحد وجوداته - على زيد بعنوانه وخصوصه، وترتبه -
بلحاظ وجود آخر له - على عمرو بعنوانه وخصوصه لا بنحو البدلية بل كل
منهما يؤثر في وجود غير وجود الاخر فيصدق ترتب الطبيعي على كل منهما
بخصوصه وعنوانه، كما يقال في التكوينيات: " النار بعنوانها وخصوصها سبب
الاحراق، وهكذا الكهرباء "، إذ الاحراق الذي تؤثر فيه النار غير الاحراق
الذي يؤثر فيه الكهرباء.
ويتحصل: ان ما هو ظاهر الموضوع انما يلازم الانحصار بالنسبة إلى
شخص الحكم لا سنخه، فلا بد من إيقاع الكلام في استفادة الانحصار بالنسبة
إلى سنخ الحكم فتدبر.
الامر الرابع: في بيان المراد بالسنخ، والمقصود به هو طبيعي الحكم في قبال
شخصه.
ولكن هل يراد به الطبيعة المهملة أو المطلقة أو المقيدة؟.
وقبل تحقيق المراد لا بد من التنبه إلى شئ، وهو ان المقصود بيان معنى
للسنخ بحيث يتلائم مع ما هو محل البحث، فلا بد من اشتماله على وصفين:
220

أحدهما: قابليته للترتب على الشرط. والاخر: ملازمته للمفهوم عند الانتفاء.
وبعد هذا نقول: ليس المراد به الطبيعة المهملة لوجهين:
الأول: امتناع الاهمال في مقام الثبوت.
الثاني: ما قيل (1): من أن المهملة في قوة الجزئية، فلا تدل الجملة الشرطة
الا على انحصار علة الحكم الجزئي بالشرط، فتدل على انتفاء الحكم الجزئي عند
انتفاء الشرط لا على انتفاء الحكم مطلقا.
وانما المراد به الطبيعة المطلقة، ولكن لا بمعنى جميع وجودات الطبيعة، إذ
لا يقصد بالجملة الشرطية ترتيب جميع وجودات الحكم على الشرط فإنه مما لا
معنى له كما لا يخفى.
وانما بمعنى ذات الطبيعة غير المقيدة بشئ من الوحدة والتعدد، فإنه
يمكن ترتيبها على الشرط، كما أن انتفاء الشرط - بناء على الانحصار - يلازم
المفهوم لان ثبوتها في ضمن وجود ما في فرض وجود شرط آخر يكشف عن عدم
انحصار الشرط وهو خلف المفروض.
أو بمعنى صرف الوجود بمعناه الأصولي وهو أول الوجود، فإنه يلازم
المفهم لأنه إذا ثبت عند انتفاء الشرط كشف ذلك عن عدم انحصار علته
بالشرط وهو خلف.
وقد يتخيل: ان نفس ثبوت علية الشرط يلازم الانحصار بالنسبة إلى هذا
المعنى من السنخ - فلا يتم بالنسبة إليه ما تقدم من الاشكال على كلام المحقق
العراقي لأنه يمتنع ترتب أول الوجود على شرطين، إذ الثابت بالشرط الاخر
هو الوجود الثاني لان الوجود الأول ما ثبت بالشرط السابق.
وفيه: ان المنظور في مبحث المفهوم هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 139 - الطبعة الأولى.
221

وعدمه، ومن الواضح ان أصل العلية لا يلازم الانحصار بلحاظ ذلك، إذ مع وجود
شرط آخر، يمكن ان يتحقق به أول الوجود عند انتفاء غيره.
هذا مع أنه يتصور تحقق أول الوجود بكلا الشرطين معا، كما إذا وجدا في
آن واحد، فان أول الوجود ينطبق على كلا وجودي الطبيعة.
ومما ذكرناه في معنى السنخ تعرف انه لا وجه لما أفاده المحقق الأصفهاني
من أن السنخ بمعنى، غير ثابت، وبمعنى، لا ينفع فيما نحن بصدده.
اما المعنى غير الثابت: فهو ان يراد به طبيعة الحكم بحيث لا يشذ عنها
فرد منها، وهذا المعنى وان لازم المفهوم لكنه غير ثابت، لان الظاهر أن الامر
بالإكرام في الشرطية وغيرها على حد سواء، ومن الواضح ان المنشأ في سائر
القضايا ليس جميع افراد الوجوب.
واما المعنى غير المفيد: فهو ان يراد به طبيعة الوجوب بمعنى وجودها
الناقض للعدم، وهذا المعنى لا يلازم المفهوم لان الوجود نقيض العدم وكل وجود
بديل عدم نفسه، فانتفائه انتفاء نفسه لا انتفاء مطلق الافراد وسنخ الحكم.
ثم إنه اختار بعد إفادة هذا: ان المعلق على العلة المنحصرة هو الحكم
المنشأ في شخص هذه القضية، لكنه لا بما هو متشخص بلوازمه، بل بما هو
وجوب أو غيره، وهذا المعنى يلازم المفهوم لان الشرط إذا كان علة منحصرة
لشخص الوجوب بما هو وجوب امتنع ثبوت غيره من الافراد عند انتفاء هذا
الشرط، وإلا لم يكن علة منحصرة لشخص الوجوب بما هو وجوب (1).
أقول: قد عرفت بيان المراد من السنخ بنحو معقول يلازم المفهوم، وهو
ان يراد به اما وجود ذات الطبيعة غير المقيدة بالوحدة والتعدد أو صرف وجودها
بالاصطلاح الأصولي المراد به أول الوجود، فلا اختصاص لمعنى السنخ فيما

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 323 - الطبعة الأولى.
222

ذكره كي يتجه الاشكال على ارادته. فالتفت.
إذا عرفت ما تقدم، فلنشرع في ما هو محل البحث.
وهو ثبوت العلية المنحصرة للشرط، وقد ذكر له طرق ثلاثة:
الطريق الأول: دعوى أن أداة الشرط موضوعة للدلالة على علية
الشرط للجزاء بنحو الانحصار ويدل عليه تبادر ذلك منها.
والخدشة في هذه الدعوى سهلة، فان دعوى التبادر عهدتها على مدعيها،
وليس المتبادر منها سوى إفادة ترتب الجزاء على الشرط لا أكثر، ولذا لا يرى
ان استعمالها في غير موارد الانحصار استعمال مجازي وبنحو العناية.
الطريق الثاني: دعوى انصراف العلية المنحصرة منها، لأنها أكمل افراد
العلية، والمطلق ينصرف إلى أكمل افراده.
وقد ناقشها في الكفاية كبرى وصغري.
اما الكبرى: فلان الانصراف ينشأ من انس اللفظ بالمعنى الناشئ من
كثرة استعماله فيه. اما أكملية الافراد بما هي فلا تستلزم الانصراف.
واما الصغرى: فلان الانحصار وعدم تأثير غيره في الجزاء لا يلزم كون
الربط الخاص بينه وبين المعلول آكد وأقوى، بل هو على حد سواء في صورتي
الانحصار وعدمه كما لا يخفى (1).
الطريق الثالث: دعوى كون مقتضى الاطلاق هو العلية المنحصرة.
وقد قرب بوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: ما أشار إليه في الكفاية بقوله: " ان قلت: نعم ولكنه قضية
الاطلاق بمقدمات الحكمة، كما أن قضية اطلاق صيغة الامر هو الوجوب
النفسي ". وحاصله: قياس المقام بمقام دوران الامر في الوجوب بين كونه نفسيا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 195 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
223

وغيريا، فكما يتمسك بالاطلاق لاثبات النفسية كذلك يتمسك باطلاق الأداة أو
هيئة الشرط على كون الترتب المدلول لها بنحو الانحصار (1).
وقربه المحقق الأصفهاني في حاشيته، بأنه كما أن خصوصية الوجوب
النفسي خصوصية عدمية لأنه الوجوب لا للغير، لا تحتاج إلى بيان زائد فيتمسك
بالاطلاق، لاثباتها ونفي الوجوب الغيري لان خصوصيته وجودية لأنه الوجوب
للغير. فكذلك الترتب المنحصر فإنه الترتب على هذا الشرط لا غير في قبال
الترتب غير المنحصر فإنه الترتب عليه وعلى الغير، فالاطلاق يثبت به الترتب
المنحصر لأنه لا يحتاج إلى مؤونة زائدة على بيان نفس الترتب بقول مطلق لان
قيده عدمي (2).
وأورد صاحب الكفاية على هذا الوجه بايرادين:
الأول: ان معنى الهيئة أو الأداة حرفي، وهو لا يقبل الاطلاق والتقييد
لاستلزام كل منهما للحاظ المطلق أو المقيد باللحاظ الاستقلالي، ومعنى الحرف
لا يقبل اللحاظ الاستقلالي لأنه ملحوظ آليا والا لما كان معنى حرفيا، إذ الفارق
بين معنى الاسم والحرف ليس إلا تعلق اللحاظ الاستقلالي بالأول والآلي
بالثاني.
الثاني: ان قياس المقام بمقام دوران الوجوب بين النفسي والغيري قياس
مع الفارق، وذلك لان الوجوب النفسي يلازم الاطلاق، لأنه الوجوب على كل
حال، وجب غيره أو لم يجب، بخلاف الغيري فإنه ثابت في حال دون آخر، فإذا
كان الكلام مطلقا صح التمسك باطلاقه لاثبات الوجوب النفسي لاحتياج غيره
والى مؤونة التقييد، وليس الامر كذلك في الترتب فان كل نحو من نحوي

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 195 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 321 - الطبعة الأولى.
224

الترتب يحتاج إلى مؤنة وقرينة في بيان إذ أحدهما لا يلازم الاطلاق، فلا وجه
للتمسك بالاطلاق لاثبات الترتب المنحصر، فان ترتب الجزاء على هذا الشرط
ثابت سواء ثبت الترتب على الغير أو لم يثبت، فعدم الانحصار لا يوجب تقييدا
للترتب بحال دون حال حتى ينفى باطلاق ما يدل على الترتب.
وبالجملة: الاطلاق لا يساوق الترتب المنحصر فلا بد في تعيين أحدهما
من قرينة خاصة (1).
وقد أورد المحقق الأصفهاني (رحمه الله) على الايراد الأول: بأنه إيراد
سار في غير هذا المورد، كالتمسك باطلاق هيئة الوجوب لاثبات عدم تقيده بقيد
وكونه مطلقا، والتمسك باطلاق صيغة الامر لاثبات الوجوب دون الندب - بناء
على عدم الالتزام بوضعها للوجوب فقط بل للطلب المطلق -، مع أن معنى الهيئة
حرفي لا يقبل اللحاظ الاستقلالي فلا يقبل الاطلاق.
ثم ذكر ان الحل على مسلك صاحب الكفاية هو ملاحظة المعنى الحرفي
الوسيع بتبع ملاحظة المعنى الاسمي، فالمقدمات تتم في متعلق الهيئة لا في نفس
مدلول الهيئة، فالاطلاق انما يجري في طرف الهيئة لا نفس المدلول الحرفي (2).
وهذا الحل لو تم فهو مما يمكن الالتزام به في الواجب المطلق، فيلتزم بان.
مجرى المقدمات هو المادة ومتعلق الوجوب فيتمسك باطلاقه في نفي تقيد
الوجوب.
ومن المحتمل أن يكون نظر صاحب الكفاية في ذلك المقام إلى هذا
الطريق.
واما في الوجوب والندب فلا يمكن الالتزام به، إذ الاختلاف بين

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 195 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 322 - الطبعة الأولى.
225

الوجوب والندب لا يمت إلى متعلقهما بصلة أصلا، بل هو اختلاف في حقيقتهما،
ومتعلق الوجوب نفسه هو الذي يكون متعلقا للندب لو كان هو المراد بالكلام
بلا تغير فيه أصلا، فاطلاق المادة يجدي في اثبات الوجوب أو الندب.
واما فيما نحن فيه، فدعوى أن اطلاق المتعلق يفيد تعيين أحد النوعين
من الترتب وان كانت موجودة - كما ستعرف ان شاء الله تعالى - الا انه يمتنع
أن يكون نظر المدعي للوجه الأول من الاطلاق إليه، إذ المفروض انه ذكر وجها
في قبال الوجه القائل بالتمسك باطلاق الشرط نفسه، بل المنظور في هذا الوجه
كون محل الاطلاق نفس الترتب لا متعلقه، فيتجه عليه الاشكال المذكور في
الكفاية كما لا يخفى.
ويمكننا ان نقول في مقام دفع المناقضة بين ما أفاده صاحب الكفاية هنا
وما افاده في مورد الوجوب والندب: انه (قدس سره) لم يلتزم هناك بامكان كون
الامر بصدد البيان، بل التزم باستفادة الوجوب لو تمت مقدمات الحكمة، وهذا
لا ينافي عدم التزامه بتمامية مقدمات الحكمة ابدا، إذ صدق القضية الشرطية لا
يتوقف على صدق طرفيها.
وهذا وان كان خلاف ظاهر كلامه لكن لا طريق غيره في رفع التهافت.
ثم إن المحقق الأصفهاني (قدس سره) ذكر - في مقام توضيح الايراد
الثاني -: ان الوجوب النفسي والغيري يختلفان سنخا، فكان مقتضى الاطلاق
تعيين النفسي، وليس كذلك الترتب المنحصر وغيره فإنهما متحدان سنخا، فلا
يعين الاطلاق أحدهما (1).
ونحن وان اتفقنا معه في الرأي، لكن لا نوافقه على أسلوب البيان، فان
التمسك بالاطلاق لا يتوقف على اختلاف السنخ، بل هو لاجل نفي الخصوصية

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 322 - الطبعة الأولى.
226

الزائدة ولو اتحد المطلق والمقيد سنخا وحقيقة، كما في الوجوب النفسي والغيري،
فإنهما متحدان حقيقة وان اختلفا في الخصوصيات، بل لا بد من الاتحاد في الحقيقة
كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يكون مراده من اختلاف السنخ الاختلاف في الخصوصيات
الطارئة على الحقيقة الواحدة المنوعة لها أو المصنفة، لا الاختلاف في الحقيقة
والماهية. فلاحظ.
ويتحصل مما ذكرنا عدم تمامية هذا الوجه، وهو انما يتأتى في نفسه - مع
غض النظر عما فيه من الخدشة - لو التزم بان مدلول الأداة أو الهيئة هو الترتب
أو اللزوم. واما لو كان مدلول الأداة هو الفرض والتقدير، والترتب يستفاد من
الفاء، فلم يدع أحد جريان الاطلاق في مدلول الفاء. اما لو كان مدلول الأداة
هو تعليق الجزاء على الشرط فلا يتأتى هذا البيان، إذ لا حاجة له بعد ملازمة
التعليق لانحصار الشرط.
الوجه الثاني -: ما ذكره في الكفاية - وهو التمسك باطلاق الشرط.
بتقريب: ان مقتضى اطلاقه كونه شرطا مطلقا سبقه شئ أو قارنه أو لا. وهذا
المعنى يساوق العلية المنحصرة لأنه لو لم يكن شرطا منحصرا لكان التأثير
للسابق في صورة سبق غيره، وللجامع بينهما أو لكليهما بنحو التركيب في صورة
المقارنة، وهذا ينافي مقتضى الاطلاق.
وبالجملة: الشرطية بقول مطلق تساوق الانحصار فتثبت بالاطلاق
لاحتياج غيرها إلى مؤونة زائدة.
وقد وافق صاحب الكفاية على ذلك - أعني على أن مقتضى الاطلاق
الشرطية المنحصرة -، لكنه استشكل فيه: بان المتكلم لا يكون في مقام البيان
من هذه الجهة الا نادرا، فلا يمكن الالتزام بالمفهوم استنادا إلى هذا الوجه لعدم
227

انعقاد الاطلاق الا نادرا (1).
ولم يعلم المقصود من كلام الكفاية وما هو المراد من عدم كونه في مقام
البيان من هذه الجهة والمحتملات فيه متعددة.
الاحتمال الأول: ما ذكره المحقق الأصفهاني - وبعض المحشين على
الكفاية وهو المشكيني، كما ذكره المحقق النائيني في مقام الايراد على هذا الوجه - (2)
من أن القضايا الشرطية الشرعية ليست في مقام بيان فعلية تأثير هذا
الشرط وعليته فعلا، بل هي في مقام بيان اقتضاء هذا الشرط لتحقق الجزاء، وهو
لا ينافي عدم ترتب الجزاء عليه لاحتفافه بالمانع، أو عدم الشرط، كا لا ينافي
كون غيره مقتضيا وجزء المؤثر. وعليه، فتأثير غيره في الجزاء لو سبقه لا ينافي
كونه مقتضيا، كما لا يخفى، نعم لو كانت في مقام بيان انه شرط ومؤثر فعلا كان
مقتضى الاطلاق انحصار الشرط فيه (3).
وهذا التوجيه لا يمكننا الالتزام به لأنه غير صحيح في نفسه، فان الالتزام
به يقتضي تأسيس فقه جديد، لان مقتضاه أن لا يستفاد من القضايا الشرطية
الواردة في لسان الشارع فعلية الوجوب عند تحقق الشرط، إذ لا رافع لاحتمال
وجود المانع أو انتفاء الشرط، وهذا مما لا يتفوه به أحد، فهل ترى أحدا يتوقف
في الحكم بوجوب الوضوء عند النوم استنادا إلى قوله: " إذا نمت فتوضأ "؟!.
هذا مع أن الالتزام بان مقتضي القضية الشرطية هو إفادة الشرطية
الفعلية أو غيرها لا يلازم القول بكون مقتضى الاطلاق بهذا النحو ثبوت
المفهوم، إذ المفهوم يتوقف على اثبات انحصار العلة لسنخ الحكم وهذا الوجه انما
ينفع في اثبات انحصار الشرط لو كان المعلق شخص الحكم، وذلك لان مقتضى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 196 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 417 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 322 - الطبعة الأولى.
228

الاطلاق انه مؤثر فعلا في شخص الحكم سواء سبقه غيره أو قارنه، وهذا ينفي
تأثير غيره فيه، إذ لو فرض وجود غيره مؤثرا فيه لكان هو المؤثر في صورة سبقه
إلى الشرط المذكور في القضية ولكان التأثير لكليهما أو للجامع بينهما في صورة
المقارنة، وهو ينافي مقتضى الاطلاق، اما لو كان المعلق سنخ الحكم فلا ينفع هذا
الاطلاق في اثبات انحصار الشرط، وذلك لان تأثير الشرط في السنخ معناه
سببيته لوجود فرد من افراد الطبيعة، لوجود السنخ بوجود فرده، وعليه،
فمقتضى الاطلاق ان هذا الشرط مؤثر في سنخ الحكم سواء سبقه غيره أو قارنه،
وهذا لا ينفي تأثير غيره في تحقق السنخ في وجود آخر غير الوجود المترتب عليه،
إذ تأثير الغير في وجود آخر لا يتنافى مع تأثيره في جزائه ولو قارنه غيره أو سبقه،
ولذلك لا منافاة بين تصريح المتكلم بالشرطية المطلقة مع ترتب وجود آخر على
غيره.
ويشهد لذلك وقوع البحث في تداخل المسببات مع تعدد السبب واقتضاء
كل منها مسببا بحسب اطلاق.
ومن الغريب غفلة الاعلام عما ذكرناه، إذ لم نجد من تعرض إلى بيان
هذا الايراد، وعلى كل فهو ايراد على الكل لتقريرهم اقتضاء هذا الاطلاق
للمفهوم وان ناقشوا فيه بعدم تماميته ونحو ذلك.
الاحتمال الثاني: ان لدينا جهتين:
إحداهما: حدوث الجزاء عند حدوث الشرط.
ثانيتهما: استناد الجزاء إلى الشرط وترتبه عليه.
فالجملة الشرطية انما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط لا أكثر،
اما استناده إليه فهي لا تدل عليه. ويقرب ذلك بأحد وجهين:
أولهما: ان الجملة وضعا لا تدل الا على الحدوث عند الحدوث، اما دلالتها
على استناده إلى الشرط فهو يتوقف على اجراء مقدمات الحكمة، وهي غير تامة
229

لعدم كون المتكلم في مقام البيان من جهته.
ثانيهما: ان الجملة بحسب الوضع الأولي موضوعة للأعم، أو لإفادة كلتا
الجهتين، لكنها بحسب الاستعمال الكثير يلحظ فيها الدلالة على الجهة الأولى
دون الثانية.
وبالجملة: فغاية ما تدل عليه الجملة الشرطية هو حدوث الجزاء عند
حدوث الشرط، اما استناده الفعلي إليه فليس المتكلم في مقام بيانه كي يتمسك
باطلاق الكلام لاثبات الانحصار.
ولا يخفى انه لا يرد على هذا الوجه ما أوردناه على الوجه الأول، لأنه لا
ينكر دلالة الجملة على ثبوت الجزاء فعلا عند ثبوت الشرط.
ولكن يرد عليه - مضافا إلى أنه دعوى بلا دليل -: ان التفكيك بين
الجهتين في مقام البيان مشكل جدا، إذ بعد فرض دلالة الجملة على الترتب في
الجملة وبنحو الموجبة الجزئية يشكل دعوى عدم كون المتكلم في مقام بيان ذلك،
بل الظاهر أنه في مقام بيان الحدوث عند الحدوث لاجل الترتب بينهما.
هذا ولكن الانصاف انه يمكن الالتزام بهذا الوجه من طريق آخر عرفي.
بيان ذلك: ان وجود الشئ يتوقف على تحقق علته التامة باجزائها من مقتضي
وشرط وعدم مانع، فإذا انتفى أحدها لم يتحقق الشئ لعدم علته التامة.
فالجملة الشرطية تدل على تحقق الجزاء وثبوته عند ثبوت الشرط، بمعنى
انه تام العلة ولا يتوقف تحققه على شئ آخر، اما ان المؤثر فيه والمنشأ لتحققه
هو هذا الشرط فهذا مما لا تتكفله الجملة الشرطية أصلا، ولا ينظر إليه المتكلم
في بيانه أصلا حتى بنحو الموجبة الجزئية، ولذا لو سأله المخاطب عن المؤثر في
الجزاء كان له أن يقول له: " انه لا يعنيك وليس من شأنك " مما يكشف عن انه
ليس ناظرا إلى بيان هذه الجهة أصلا والا لم يكن السائل فضوليا وسائلا عما
لا يعنيه.
230

وجملة القول: ان الجملة الشرطية لا تدل الا على الحدوث عند الحدوث
ولا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط ولا نظر للمتكلم إليه أصلا.
وعليه، فلا دلالة لها على انحصار الشرط فيه، إذ من الممكن تأثير غيره
فيه لو قارنه، فيكون الاشتراك لهما معا، ولا ينافي ذلك دلالة الجملة على الحدوث
عند الحدوث.
نعم، قد يدعي منافاة ذلك لتأثير السابق فيه، إذ لو كان غيره مؤثرا في
الجزاء وسبقه في الوجود لم يكن الجزاء حادثا عند حدوث الشرط، إذ حدوثه سابق
على حدوث الشرط. وهذا يتنافى مع الالتزام بان ظاهر القضية الشرطية الحدوث
عند الحدوث كما قرر هنا ويأتي انشاء الله تعالى.
ويدفع: بأنه انما يتم لو قيل بان المراد بالحدوث عند الحدوث هو الوجود
بعد العدم. واما إذا قلنا: بان المقصود بالحدوث عند الحدوث هو الوجود مع نحو
ارتباط بالشرط بحيث يكون الوجود مرتبطا به لم يتم ما ذكر. وذلك لما ثبت من أن
استمرار الوجود يحتاج إلى علة كحدوثه، وان الشئ يحتاج إلى علة مبقية كما
يحتاج إلى علة محدثة، وعليه فإذا حصل الشرط كان التأثير لكليهما في مرحلة
البقاء، فلا ينافي ظهور الجملة في الحدوث عند الحدوث مطلقا ولو سبقه غيره أو
قارنه.
نعم، لو التزم بعدم احتياج البقاء إلى علة كان التأثير للسابق فقط، فيتم
الايراد. ولكن التحقيق على خلافه.
وبالجملة: فالدعوى المزبورة انما تتم على تقدير أحد أمرين: إرادة
الوجود بعد العدم من الحدوث. وعدم احتياج البقاء إلى مؤثر. وكلاهما محل
اشكال. فتدبر.
وعلى أي حال، فالعمدة في الايراد على هذا الوجه من الاطلاق ما عرفت
من البيان الذي تفردنا به بحسب ما نعلم فلاحظ وتأمل.
231

الوجه الثالث من وجوه الاطلاق: ما ذكره في الكفاية أيضا من التمسك
باطلاق الشرط في نفي البدل والعدل، كالتمسك باطلاق الوجوب لاثبات كونه
تعيينيا في قبال كونه تخييريا. بيان ذلك: انه كما أن الوجوب التخييري يحتاج إلى
مؤنة بيان، وهو ان يقال هذا أو ذاك واجب، بخلاف الوجوب التعييني فإنه لا
يحتاج إلى بيان ذلك، ولأجل ذلك ينفى التخييري بالاطلاق ويثبت به التعييني،
كذلك العلية غير المنحصرة تحتاج إلى بيان بان يقول مثلا: " ان جاءك زيد أو
أكرمك فأكرمه "، وهذا البيان لا تحتاجه العلية المنحصرة، فمع الشك يتمسك
باطلاق الكلام وينفى به البديل للشرط المذكور فيثبت انحصار العلة به، إذ لو
كان غيره شرطا لبينه المتكلم بالعطف ب‍ " أو " كما كان عليه بيان عدل الواجب
لو كان له عدل.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه واضح، فان سابقه يحاول اثبات الانحصار
من طريق اثبات ترتب الجزاء على الشرط وعدم تأثير غيره فيه لو سبقه أو قارنه.
وهذا الوجه يحاول اثبات الانحصار من طريق عدم تأثير غيره فيه لو انعدم هنا
الشرط وجاء غيره. فلو لم يثبت الوجه السابق - كما تقرر - ولم يعلم انفراد تأثير
الشرط وعدمه في صورة تقدم غيره عليه أو مقارنته أمكن دعوى ثبوت هذا
الاطلاق واثبات الانحصار به، لاختلافهما منهجا وان اتحد نتيجة. فلاحظ.
وقد ناقش صاحب الكفاية هذا الوجه: بأنه لا وجه لقياس المقام بمقام
الوجوب التعييني والتخييري، لان الوجوب التعييني يختلف نحوه وسنخه عن
الوجوب التخييري، فان نحو تعلق الوجوب التعييني يختلف عن نحو تعلق
الوجوب التخييري وكان الثاني يحتاج إلى بيان وجود العدل والبديل فيتمسك
في نفيه بالاطلاق - ولا يختلف الحال في ذلك بين ان نلتزم بان الوجوب التخييري
سنخ وجوب متعلق بكليهما أو انه متعلق بالجامع الانتزاعي فإنهما يختلفان، إذ
الوجوب التخييري على الأول يقتضي ملاحظة كلا الامرين، وعلى الثاني
232

يقتضي ملاحظة الامرين والجامع الانتزاعي بينهما، واما التعييني فهو لا يقتضي
سوى ملاحظة أحد الامرين المعين، فيحتاج الوجوب التخييري إلى مؤنة بيان
أكثر من اطلاق -.
اما الشرط: فهو لا يختلف سنخا في صورة التعدد والانحصار، فشرطية
الشرط وترتب الأثر عليه وتأثيره في الجزاء بنحو واحد سواء اتحد الشرط أو
تعدد، فوجود شرط آخر لا يوجب مغايرة تأثير الشرط لما إذا لم يكن شرط آخر،
وإذا لم يكن للشرطية نحوان في مقام الثبوت لم يتفاوت الحال في مقام الاثبات
حينئذ كما لا يخفى.
نعم، إذا كان المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط لا بيان شرطية الشرط،
كان سكوته عن ذكر شرط آخر وعدم بيانه لشرطية غير ما ذكره كاشفا عن
وحدة الشرط وانحصاره، لكنه لا يكون في هذا المقام الا من باب الاتفاق وهو
لا يصحح القول بالمفهوم بقول مطلق.
هذا ما افاده صاحب الكفاية بتوضيح (1).
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) التزم بثبوت مفهوم الشرط بهذا
الوجه من الاطلاق، فأفاد في بيانه: ان الشرط المذكور في القضية الشرطية اما
أن يكون مما يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلا، نظير قوله: " إذا رزقت
ولدا فاختنه "، وفي مثله لا يكون للقضية الشرطية مفهوم، بل يكون حالها حال
اللقب في عدم الدلالة على المفهوم. واما أن لا يكون مما يتوقف عليه متعلق الحكم
في الجزاء عقلا نظير قوله: " إذا جاءك زيد فأكرمه "، فان اكرام زيد لا يتوقف
عقلا على مجيئه. وفي مثله يكون الحكم مقيدا به، وذلك لأنه لا يخلو الحال من أن
يكون مطلقا بالإضافة إليه أو مهملا أو مقيدا. وبما أن الاهمال يمتنع في مقام

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 196 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
233

الثبوت، والاطلاق ينافي ترتيب الحكم عليه، فيتعين أن يكون مقيدا به.
وإذا ثبت بهذا البيان تقييد الحكم بالشرط، فإذا كان المتكلم في مقام
البيان وأتى بقيد واحد ولم يقيده بشئ، بواسطة العطف بالواو كي يكون القيد
هو المركب منه ومن غيره، أو بواسطة العطف ب‍: " أو " كي يكون القيد
على البدل، فلم يقل: " إذا جاءك زيد وأكرمك فأكرمه " أو: " إذا جاءك زيد أو
أكرمك فأكرمه "، يستكشف من الاطلاق ان القيد خصوص ما ذكر ليس إلا،
وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من الاطلاق ونفي البدل له.
ثم قال (قدس سره) بعد هذا البيان: " ومما ذكرناه ظهر فساد ما أورده في
الكفاية على هذا التقريب، بان سنخ الوجوب التعييني مع التخييري متباينان،
فإذا لم يكن المولى في مقام الاهمال فيستكشف التعيين من الاطلاق لا محالة،
وهذا بخلاف المقام فان ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايرا في السنخ
مع ترتبه على غير المنحصر، بل هو في كليهما على نحو واحد فلا يمكن اثبات
الانحصار بالاطلاق. وجه الفساد: هو ان التمسك بالاطلاق ليس من جهة
اثبات انحصار العلة حتى يرد عليه ما ذكره، لما عرفت من انه ليس كون الترتب
بنحو المعلولية مفادا للقضية الشرطية، بل مفاده انما هو ترتب التالي على المقدم
ليس إلا، ولازم ذلك في خصوص القضايا الشرطية التي لم تسق لبيان الموضوع
هو تقيد الجزاء بوجود الشرط، وحيث إن حال التقييد مع الانحصار وعدمه
تختلف لا محالة، فيكون اطلاق القيد وعدم ذكر عدل له مفيدا لانحصاره لا
محالة... " إنتهى ما أفاده (قدس سره) (1).
ويتوجه عليه: - مع غض النظر عما بنى عليه أصل تحقيقه من رجوع
الشرط إلى المادة المنسبة -.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 418 - الطبعة الأولى.
234

أولا: ان ما ذكره في بيان تقييد الحكم بالشرط جار في مطلق الاحكام
بالنسبة إلى موضوعاتها، وعليه فمقتضى الاطلاق اختصاص الحكم بموضوعه
وعدم ثبوته لغيره، وهو يتنافى مع انكار مفهوم اللقب.
وثانيا: ان أساس التمسك بالاطلاق بحسب ما فاده هو إفادة الجملة
الشرطية لترتب الجزاء على الشرط الملازم للتقييد به، ولو تم ذلك لجرى هذا
البيان في مطلق القضايا لافادتها ترتب الحكم على موضوعه، إذ إفادة الترتب لا
تختص بالجملة الشرطية.
وثالثا: عدم تمامية ما ذكره من الاطلاق، إذ لا يختلف التقييد المنحصر
وغيره سنخا، وليس الانحصار وعدمه من حالات التقييد كي ينفي أحدهما
بالاطلاق لاحتياجه إلى مؤنة، بل العطف ب‍ " أو " لا يرجع إلى بيان خصوصية
التقييد، بل هو من قبيل ضم كلام إلى آخر.
نعم لو كان المتكلم في مقام بيان ما هو القيد كان مقتضى الاطلاق
المقامي انحصار القيد بما هو مذكور في الكلام، لكن لو كان نظره (قدس سره)
إلى هذا لم يكن بحاجة إلى البيان الطويل والمقدمة المفصلة التي ذكرها.
ورابعا: ان عدم العدل والبدل للشرط ليس بمفاد الاطلاق المقابل
للعطف ب‍ " أو " كالوجوب التعييني، إذ لو كان غيره قيدا وشرطا كان كان كل منهما
مؤثرا لا أحدهما على البدل كما هو الحال في الوجوب التخييري، فلا يصح ان
يقال: " ان جاءك زيد أو أكرمك فأكرمه "، بل الصحيح ان يقال: " ان جاءك زيد
فأكرمه " وهكذا: ان أكرمك أكرمه " فتشبيه المقام بالوجوب التعييني والتخييري
في غير محله. ومن هنا تعرف ان هذا الاشكال كما يرد على المحقق النائيني يرد
على صاحب الكفاية لأنه ارتضى تشبيه المقام بالوجوب التخيير، لكنه أورد
على الاطلاق من جهة أخرى.
وتحصل لدينا انه لم ينهض وجه من وجوه الاطلاق الثلاثة على اثبات
235

المفهوم.
وتحقيق الحال ان يقال: ان القضايا الشرطية على انحاء ثلاثة:
الأول: ما ذكر الشرط فيها لبيان الموضوع ولمجرد فرضه فقط من دون
إرادة الانتفاء عند الانتفاء قطعا نظير ما يقال في قوله (ع): " ان الله إذا حرم
شيئا حرم ثمنه "، فإنها لا تدل على أنه إذا حلل شيئا حلل ثمنه، لأنها سيقت
لمجرد فرض الموضوع لا أكثر.
الثاني: ما يذكر بلسان الحكومة كما لو قال: " أكرم العلماء " ثم قال: " هذا
إذا كانوا عدولا "، فان القضية الشرطية شارحة ومفسرة للعلم. وفي مثل ذلك تدل
على الانتفاء عند الانتفاء لكنها لا من باب المفهوم بل من باب التحديد والشرح.
فمن ينكر مفهوم الشرط لا يمتنع عنده الالتزام بنتيجة المفهوم في مثل هذا
النحو من القضايا الشرطية.
الثالث: ما استعملت وأريد بها المفهوم، بل يصرح بالمفهوم في بعضها
فيقال: " ان جاءك زيد فأكرمه وإلا فلا "، ومثل هذا كثير في القضايا الشرعية
والعرفية، وهو محل البحث، إذ الظاهر أن الاستعمال فيها لا يكون عنائيا
ومسامحيا، اذن فما هي الخصوصية التي تقتضي الدلالة على المفهوم؟ ليس لدينا
بعد انكار ما تقدم من الوجوه سوى طريقين:
الأول: الالتزام بأنها مستعملة في هذه الموارد في تعليق الجزاء على الشرط.
وقد تقدم انه يلازم المفهوم.
ولكن لا يسعنا الالتزام بذلك لوجهين:
أحدهما: انك عرفت انها ظاهرة في الترتب، فيكون استعمالها في التعليق
استعمالا مجازيا، مع أن المفروض كون هذه الاستعمالات حقيقية.
ثانيهما: ان الكل يلتزم - بناء على المفهوم - في مورد تعدد الشرط ووحدة
الجزاء بمعارضة مفهوم إحدى القضيتين مع منطوق الأخرى، مع أنه لو كانت
236

الجملة مستعملة في التعليق لكان التعارض بين المنطوقين لمنافاة الشرط الاخر
لمقتضى التعليق في كل منهما.
الثاني: ان تكون مستعملة في مقام إفادة ما هو الشرط، فيكون مقتضى
الاطلاق المقامي انحصار الشرط بالمذكور.
وهذا الوجه قريب إلى نظر العرف، وحينئذ يقال: إنه حيث كان الغالب
في الاستعمالات العرفية استعمال القضية الشرطية في هذا المقام، ففي مورد يشك
فيه يلحق بالغالب فان الغلبة بحد تكون من الامارات العرفية الموجبة لظهور
الكلام في ذلك.
ولولا هذا الوجه لما كان للمفهوم وجه يرتكن عليه، وانكاره يستلزم
تأسيس فقه جديد. فالتفت.
وبالجملة: فلا طريق إلى اثبات المفهوم سوى الاطلاق المقامي.
ولا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهاني على المحقق النائيني من: ان
التمسك بالاطلاق يتوقف على ثبوت المطلق في مورد انتفاء القيد وانحفاظه فيه،
فلا معنى للتمسك باطلاق الكلام بلحاظ صورة انتفاء الشرط وعدمه (1).
وجه عدم وروده: ان هذا على تقدير تماميته وارد لو كان المتمسك به اطلاق
اللفظ.
اما بالنسبة إلى الاطلاق المقامي فلا يرد، إذ معنى الاطلاق المقامي هو
التمسك بعدم بيان المتكلم وسكوته في مورد يكون عليه البيان لو كان مريدا
للقيد، ففيما نحن فيه يكون مقتضى الاطلاق المقامي عدم وجود شرط غير ما
ذكر في الجملة ولازمه الانتفاء عند الانتفاء فتدبر.
هذا تمام الكلام في تحقيق ما هو محل الكلام.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 388 - هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.
237

ويقع الكلام بعد ذلك في:
تنبيهات مفهوم الشرط
التنبيه الأول: ذكر صاحب الكفاية ان المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم
المعلق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه، ولا يجري الكلام في المفهوم
وعدمه الا فيما كان ثبوت السنخ ممكنا (1).
وقد تعرض غيره إلى هذا المطلب.
وعلى كل حال فيقع الكلام - بعد الفراغ عن توقف المفهوم على تعليق
السنخ لا الشخص - في جهات ثلاث:
الأولى: في بيان المراد من السنخ، وضرورة كونه مدلولا للكلام في ثبوت
المفهوم.
الثانية: في طريق معرفة كونه مدلولا للكلام.
الثالثة: فيما تعرض إليه صاحب الكفاية من البحث في موارد الأوقاف
والوصايا والنذور، وان الانتفاء فيها عند انتفاء الشرط ليس من المفهوم في شئ.
اما المراد من السنخ: فقد تقدم بيانه، كما تقدم بيان ما افاده المحقق
الأصفهاني من عدم تصور معنى صحيح للسنخ ومناقشته.
واما ما افاده من أن مدلول الجزاء في القضية الشرطية هو شخص الحكم
لكن لا بما هو شخص، بل هو وجوب (مثلا) وهو يلازم المفهوم، فلا يتوقف
المفهوم على تعليق سنخ الحكم، بل يثبت عند تعليق شخصه بهذا المعني.
فهو ثبوتا امر معقول ولازمه ما عرفت من عدم ابتناء المفهوم على تعليق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 198 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
238

سنخ الحكم، واما اثباتا فسيأتي الكلام فيه.
واما اثبات تعليق السنخ دون الشخص فقد ذكر له وجوه:
الأول: ما ذكره في الكفاية من أن مدلول الهيئة مفهوم الوجوب - مثلا -،
لان الحروف موضوعة للمفاهيم كالأسماء. والفارق بينهما في اللحاظ الآلي.
والاستقلالي وهو من شؤون الاستعمال لا من شؤون الموضوع له أو المستعمل
فيه (1).
وفيه: ما عرفت في مبحث المعنى الحرفي من عدم تمامية هذا الرأي، وان
الموضوع له الحرف خاص، وهو عبارة عن النسبة الكلامية المعبر عنها بالوجود
الرابط.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الحكم تارة يكون
مؤدى الاسم، مثل كلمة: " يجب " ونحوها. وأخرى يكون مؤدى الحرف كهيئة:
" أكرم ".
فعلى الأول: لا اشكال، إذ مدلول الاسم مفهوم الوجوب.
واما على الثاني: فقد يشكل بان مدلول الحرف معنى جزئي فلا يستفاد
منه تعليق سنخ الحكم. وأجاب عنه بما اختاره - في الواجب المشروط - من: ان
المعلق على الشرط ليس مدلول الهيئة، لأنه معنى حرفي غير قابل للتعليق، وانما
هو المادة المنتسبة إلى الوجوب. وعليه فيكون المعلق في الحقيقة هو الوجوب
العارض للمادة وعند انتفاء الشرط يكون مرتفعا عنها. غاية الامر ان المعلق في
هذا القسم حقيقة الوجوب. وفي القسم الأول المفهوم، باعتبار فنائه في الحقيقة (2).
وفيه: - مع غض النظر عما أفاده من رجوع القيد إلى المادة المنسبة، وما
فيه من الاشكال، وقد تقدم في مبحث الواجب المشروط - ان غاية ما إنتهى إليه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 199 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 420 - الطبعة الأولى.
239

هو تعليق الوجوب العارض للمادة، وهذا لا ينتهي إلى تعليق سنخ الوجوب، بل
هو لازم أعم لتعليق طبيعة الوجوب وشخصه. فأي طريق لاثبات تعليق الطبيعة،
ومن أي شئ استفاد ذلك؟
الثالث: ما أفاده السيد الخوئي في حاشيته في أجود التقريرات من: ان
حقيقة انشاء الوجوب عبارة عن إظهار اعتبار كون فعل ما على ذمة المكلف،
فإذا كان المعتبر بالاعتبار المزبور معلقا على وجود شئ مثلا استلزم ذلك انتفائه
بانتفائه ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الاعتبار مستفادا من الهيئة وأن يكون
مستفادا من المادة المستعملة في المفهوم الاسمي باعتبار فنائه في معنونه (1).
وبالجملة: فهو يرجع القيد إلى المعتبر لا الاعتبار - والمفروض ان المعتبر
مفهوم الحكم لا حقيقته، إذ الاعتبار يرد على المفاهيم لا على الوجودات -. وهذا
امر التزم بنظيره المحقق الإيرواني في بيع الفضولي بعد الإجازة، فادعى ان
اعتبار الملكية من حين الإجازة، لكن المعتبر هو الملكية من حين العقد وهو المعبر
عنه بالكشف الحكمي. فالتفكيك بين الاعتبار والمعتبر مما التزم به الإيرواني وتبعه
عليه السيد الخوئي.
ولكن ما ذكره السيد الخوئي هنا لا يمكننا الالتزام به - مع غض النظر
عن صحة تقييد المعتبر بقيد غير فعلي أو تعليقه عليه مع كون الاعتبار فعلا وعدم
صحته، فتحقيقه له مجال آخر - لان المعتبر المعلق على الشرط اما مفهوم الحكم
أو وجوده، يعني ان الاعتبار اما أن يكون واردا على مفهوم الحكم المعلق على
الشرط أو يكون واردا على وجوه المعلق على الشرط.
فعلى الأول: ففيه: مضافا إلى عدم تصور تعليق المفهوم على شئ، إذ
التعليق بلحاظ وجود الشئ لا بلحاظ ذات الشئ، ان اعتبار المفهوم المعلق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 420 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
240

على شئ لا ينافي تحقق اعتبار آخر للمفهوم بدون تعليق أصلا، فان مفاد الكلام
ليس إلا أن المفهوم المعلق على الشرط الخاص والذي لا يعلق على غيره - كما
هو مفاد الانحصار - قد تعلق به اعتبار المولى، وذلك لا ينافي تعلق اعتبار المولى
بالمفهوم غير المعلق على شئ أصلا، فلا يلازم ما ذكر ثبوت المفهوم.
وعلى الثاني: ففيه: ان الأمور الاعتبارية لا وجود لها الا بالاعتبار، وبدونه
لا ثبوت لها، والاحكام من الأمور الاعتبارية فوجودها يتقوم بالاعتبار، وعليه
فنقول: لا معنى للاعتبار الفعلي للحكم المعلق وجوده على الشرط، إذ اعتبار
الحكم فعلا يعني وجوده فعلا وهو يناقض تعليق وجوده على وجود الشرط. فلا
يتصور لما أفاده السيد الخوئي معنى معقول.
والتحقيق ان يقال: إنه بناء على ما ذكرناه من استفادة المفهوم من
الاطلاق المقامي وغلبة استعمال القضايا الشرطية في بيان ما هو الشرط بحيث
يفهم منها المفهوم عرفا لا نحتاج لاتعاب النفس في بيان طريقة إفادة سنخ
الحكم وكيفية اثباته، فنفس الاطلاق المقامي يكفينا عن ذلك، لان ظهور الجمل
الشرطية في المفهوم عرفا المستند إلى الاطلاق المقامي يكشف عن أن المتكلم في
مقام بيان ما هو الشرط لسنخ الحكم، فاكتفاؤه في هذا المقام بالجملة الشرطية
يكشف عن أن الشرط لسنخ الحكم لبا ليس إلا الشرط المذكور في الكلام، ولا
يهمنا بعد ذلك عن تحقيق كون المستعمل فيه الهيئة كليا أو جزئيا. فتدبر جيدا
وافهم.
اما الحكم المعلق بالنحو الذي تعقله المحقق الأصفهاني وهو شخص
الوجوب بما هو وجوب لا بما هو شخص، فقد ذكر (قدس سره) ان طريق
اثباته هو بيان انحصار الشرط، إذ لولا كون المعلق هذا المعنى لم يكن وجه
لبيان الانحصار لان انتفاء شخص الحكم بما هو شخص بانتفاء الشرط عقلي
241

ولو لم يكن منحصرا (1).
وهذا البيان انما يتم لو فرض عدم تعقل معنى للسنخ كما فرض هو
(قدس سره). اما بناء على تعقل معنى للسنخ يمكن أن يكون مرادا فلا يتم ما
افاده، إذ كما تتلاءم إفادة الانحصار مع تعليق الشخص بما هو وجوب تتلاءم مع
تعليق السنخ أيضا، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل آخر. فتدبر.
واما ما ذكره صاحب الكفاية من أن انتفاء الحكم عن غير مورد الشرط
في الأوقاف ونحوها ليس من المفهوم، ردا على الشهيد في تمهيد القواعد (2) حيث
ذهب إلى أنه لا اشكال في دلالة القضية في تلك الموارد على المفهوم، وذكر في وجه
عدم كونه من المفهوم، ان انتفاء الحكم من جهة ان الشئ إذا صار وقفا على
أحد لا يقبل ان يصير وقفا على غيره، وانتفاء شخص الوقف عن غير مورد
المتعلق عقلي كما عرفت.
فهو لا يخلو عن اشكال وبحث. بيان ذلك: ان لانحصار الشرط أثرين:
أحدهما: عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط. والاخر: عدم
ثبوته على غير الشرط عند انعدامه. ففي المورد المذكور لا اثر لانحصار الشرط
وعدمه بالنسبة إلى حال وجوده لامتناع صيرورة الوقف على أحد وقفا على غيره
في فرض وجوده. اما بالنسبة إلى حال عدمه فله أثر لعدم امتناع وقف الموقوف
على أحد على غيره بنحو الطولية وفي فرض عدمه، فلا وجه لانكار البحث في
المفهوم في مثل المقام بعد تصور ثبوت الوقف على غير مورد الشرط عند انتفاء
مورد الشرط. فالتقت وتدبر.
التنبيه الثاني: ذكر المحقق النائيني ان الشرط كلما تعددت قيوده اتسعت

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 323 - الطبعة الأولى.
(2) العاملي زيد الدين. تمهيد القواعد / 14 قاعدة الخامس والعشرون الطبعة الحجرية.
242

دائرة المفهوم، لان انتفاء أحد القيود يكفي في انتفاء الجزاء، فلو قال المولى: " إذا
جاء زيد وأكرمك فأكرمه " كان مقتضاه انتفاء وجوب الاكرام بانتفاء مجئ زيد
وبانتفاء اكرامه مع تحقق مجيئه. بخلاف ما لو قال: " إذا جاء زيد فأكرمه " فان
مقتضاه انتفاء الوجوب عند انتفاء المجئ فقط.
وهذا لا كلام فيه، انما الاشكال فيما إذا كان الجزاء عاما ومتعددا، فهل
يقتضى انتفاء الشرط انتفاء الجزاء بنحو الاستغراق أو بنحو المجموع؟ مثلا في
القضية المشهورة " إذا كان الماء قد كر لا ينجسه شئ " هل مقتضى المفهوم هو
انه إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه كل شئ بنحو الموجبة الكلية أو ينجسه شئ
ما بنحو الموجبة الجزئية؟.
وقد ادعى ان المفهوم في مثل ذلك موجبة جزئية، لان نقيض السالبة
الكلية موجبة جزئية، والمفهوم عبارة عن ارتفاع الجزاء وارتفاعه يكون بنقيضه.
ولكن هذا غير صحيح، لان دعوى أن نقيض السالبة الكلية موجبة
جزئية انما هي للمنطقيين، وقد قيلت بلحاظ جعل ضابط عام للنقيض، وهو لا
يرتبط بشأن الأصولي والفقيه من ملاحظة ظاهر الكلام وما يدل عليه اللفظ.
وعليه، فالتحقيق ان يقال: ان الحكم الثابت في الجزاء وان كان ثابتا بنحو
الاستغراق، الا ان المعلق على الشرط تارة يكون عموم الحكم، بمعنى ان المعلق مجموع الأحكام الثابتة في الجزاء، وأخرى الحكم العام، بمعنى ان المعلق كل
حكم حكم. فعلى الأول: لا يستلزم انتفاء الشرط سوى انتفاء مجموع الاحكام،
فيكون المفهوم بنحو الموجبة الجزئية. وعلى الثاني: يكون المفهوم موجبة كلية
لانتفاء كل حكم حكم سلبي كان ثابتا في الجزاء.
هذا بحسب مقام الثبوت.
واما بحسب مقام الاثبات: فتارة يكون الدال على العموم من الأسماء
مثل: " كل ". وأخرى يكون العموم مدلولا للحرف أو سياق الكلام كالنكرة
243

الواقعة في سياق النفي.
فعلى الأول: يكون تعليق كل من عموم الحكم أو الحكم العام ممكنا وتعيين
أحدهما يتوقف على قرينة خارجية.
وعلى الثاني: يتعين تعليق الحكم العام ولا يمكن تعليق العموم لأنه مدلول
الحروف وهو غير قابل للتعليق.
وعليه، فالقضية المشهورة مفهومها موجبة كلية، لان العموم مفاد السياق
لا الاسم، فمفهوم قوله (ع): " الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ " " الماء إذا لم
يبلغ قدر كر ينجسه كل شئ ".
هذا مع أن البحث في كون المفهوم لهذه القضية موجبة كلية أو جزئية لغو،
لأنه إذا كانت جزئية ثبت تنجس الماء بجميع النجاسات لعدم القول بالفصل
فلا اثر لكلية المفهوم.
وربما يقال: يكفي في تصحيح البحث ثبوت الأثر بالنسبة إلى
المتنجسات، إذ ليس هناك قول بعدم الفصل بين النجس والمتنجس، فلو كان
المفهوم كليا ظهر الأثر.
ويدفع: بان المراد بلفظ: " شئ " في الرواية ليس مطلق الشئ، بل ما
من شأنه التنجيس، فان لم يقم دليل على أن المتنجس ينجس لم يكن المتنجس
مشمولا للمنطوق فضلا عن المفهوم، وان قام دليل على أنه ينجس كفانا هذا
الدليل لاثبات منجسيته للقليل من الماء من دون احتياج إلى المفهوم. هذا تمام
ما أفاده المحقق النائيني (1).
والكلام معه في امرين:
الأول: ما ذكره بالنسبة إلى قضية " الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ "،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 420 - الطبعة الأولى.
244

فان هذه القضية ونحوها من القضايا السالبة انما تستعمل في نفي خصوص
المرتبة العليا، ويفهم انتفاء غيرها بالأولوية، فمثلا لو قال القائل: " هذا المحموم
لا يفيده أي شئ من الدواء "، انما ينظر في نفيه إلى المرتبة العليا من الدواء المؤثر
وهكذا سائر الأمثلة العرفية.
وعليه، فلا معنى لايقاع البحث المزبور فيها من أن المعلق عموم الحكم
أو الحكم العام، إذ لم يتكفل الجزاء سوى نفي الحكم عن فرد واحد وهو المرتبة
العليا من الافراد لا أكثر، فلا موضوع للبحث المزبور بالمرة.
وبما أن المثال الفقهي الوحيد للبحث هو هذا المثال نستطيع ان نقول إن
البحث لغو من أساسه كما لا يخفى.
الثاني: ما ذكره في دفع توهم ثبوت الثمرة للمفهوم بلحاظ المتنجس. فان
المراد منه غير واضح..
فإن كان مراده انه إن لم يكن دليل على منجسية المتنجس أصلا فلا
يشمله المنطوق، وان كان دليل يدل باطلاقه على تنجيس المتنجس فهو يكفي
في اثبات تنجيسه للماء القليل بلا حاجة إلى المفهوم.
ان كان مراده ذلك - كما قد يظهر من كلامه - فالاشكال فيه واضح
لتصور شق ثالث وهو: قيام دليل على تنجيس المتنجس في الجملة بلا أن يكون
له اطلاق، فيكون مشمولا للمنطوق، وحينئذ فإن كان المفهوم موجبة كلية
اقتضى منجسية المتنجس مطلقا وإلا فلا، فالمفهوم - على هذا الاحتمال - يحتاج
إليه في اثبات تنجيس المتنجس للماء القليل.
وان كان مراده انه إذا قام دليل على تنجيس المتنجس كان مشمولا
للمنطوق، فإذا كان المفهوم موجبة جزئية كان مفاده: ان الماء إذا لم يبلغ الكر
ينجسه شئ ما من النجس والمتنجس، وإذا ثبت تنجيس المتنجس في الجملة
يثبت تنجيسه مطلقا بعدم القول بالفصل كما قيل في النجس فلا فائدة في اثبات
245

كلية المفهوم.
إذا كان مراده ذلك ففيه: ان المفهوم إذا كان موجبة جزئية كان مقتضاه
ان الماء القليل ينجسه شئ ما بنحو الاهمال - ولا تصريح فيه بأنه شئ من
النجس وشئ من المتنجس كما لا يخفى - والقدر المتيقن منه تنجيس النجس
في الجملة فيثبت تنجيس النجس مطلقا بعدم القول بالفصل.
اما المتنجس فهو غير متيقن فلا موضوع لعدم القول بالفصل فيه.
وجملة القول: ان البحث في كلية المفهوم وجزئيته تظهر فائدته في تنجيس
المتنجس وعدمه، فما ذكره (قدس سره) من عدم الثمرة فيه أصلا غير وجيه.
فالتفت.
وقد أورد على النائيني فيما أفاده من: ان المعلق تارة يكون عموم الحكم
وأخرى الحكم العام واختلاف مقام الاثبات في ذلك، بأنه غير صحيح ولا
موضوع له، لان المستفاد من القضية الشرطية انما هو تعليق مدلول التالي
بمدلول المقدم، ومدلول التالي في محل البحث امر واحد وهو الحكم المجعول على
الطبيعة السارية، وان كان المجعول بحسب اللب متعددا بحسب تعدد الموضوع
لكنه بحسب مقام الاثبات امر واحد، والمناط هو الوحدة والتعدد بحسب هذا
المقام لا مقام اللب، فإنه لا تأثير له في كيفية استفادة المفهوم من الكلام. وعليه،
فإذا فرض وحدة الحكم اثباتا وكان هو المعلق على الشرط كان مقتضى التعليق
انتفاء الحكم عن الطبيعة السارية عند انتفاء الشرط، وهو يتحقق بانتفائه عن
بعض الافراد ولا يتوقف على انتفاء الحكم عن جميع الافراد فلنا ان نقول إن
مفهوم السالبة الكلية موجبة جزئية (1).
وفيه:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 420 - هامش رقم (2) الطبعة الأولى.
246

أولا: ما سيأتي في مبحث العموم والخصوص ومبحث المطلق والمقيد من:
ان الاستغراق بنفسه يكون مدلول الكلام ومرادا من اللفظ اما وضعا أو بمعونة
مقدمات الحكمة أو غيرهما، لا انه امر لبي فقط، وهذا واضح لا غبار عليه
والعجيب منه كيف التزم بخلافه.
وثانيا: انه لا يتصور معنى صحيح للطبيعة السارية في قبال مطلق
الوجودات والوجود الخاص وصرف الوجود، فان الاهمال في مقام الثبوت ممتنع
كما قرر مرارا وتكرارا.
وبالجملة فما ذكره السيد الخوئي لا محصل له.
التنبيه الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء. ويمثل له بقوله (ع): " إذا
خفي الأذان فقصر " و " إذا خفي الجدران فقصر " فبناء على الالتزام بالمفهوم يقع
التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الأخرى، لان مفهوم كل منهما ينفي
وجوب القصر بانتفاء الشرط المذكور في المنطوق، ومنطوق الأخرى يثبت
وجوبه بتحقق الشرط الاخر المذكور فيه.
وقد ذكر في رفع التعارض وجوه. عدها في الكفاية خمسة:
الأول: الالتزام بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى، إذ النسبة بينهما
العموم والخصوص المطلق (1).
الثاني: الالتزام بعدم المفهوم في كل منهما، فلا تدل كل جملة الا على ثبوت
الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الاخر.
الثالث: الالتزام بتقييد اطلاق الشرط المقابل للعطف بالواو في كل منهما
بالاخر، فيكون الشرط هو المركب منهما، لا كل منهما مستقلا.
الرابع: الالتزام بان المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كل منهما بعنوانه،

(1) بل النسبة هي العموم من وجه، لان المنطوق يشمل صورة المفهوم للاخر وعدمه، ولعل هذا هو الوجه
في الاحتمال الثالث. (منه عفى عنه).
247

بل كل منهما بما هو فرد الجامع.
الخامس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.
وقد رجح صاحب الكفاية الوجه الثاني، بلحاظ النظر العرفي، فذهب إلى أن
العرف يساعد عليه. ورجح الرابع بحسب النظر الدقي العقلي، فذهب إلى أن
العقل يعينه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد، فوحدة الجزاء
تكشف عن وحدة المؤثر، وهو يقتضي أن يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا
كلا منهما بنفسه لامتناعه عقلا بمقتضى قانون السنخية بين العلة والمعلول (1).
والتحقيق ان يقال: ان طريق الجمع بين الدليلين يختلف بحسب اختلاف
طريق اثبات المفهوم.
فان التزمتا بالمفهوم من طريق الاطلاق المقامي، وكون المتكلم في مقام
بيان ما هو الشرط، تعين رفع اليد عن المفهوم في كل منهما، لان ذكر الشرط
الاخر يكشف عن عدم كونه في مقام بيان ما هو الشرط، فينتفي الاطلاق الذي
هو مستند المفهوم فلا يثبت المفهوم.
وهكذا الحال لو التزمنا بالمفهوم من طريق كون الجملة الشرطية ظاهرة
في تعليق الجزاء على الشرط الملازم للانحصار، لان تعدد الشرط يكشف عن عدم
استعمال الأداة أو الهيئة في التعليق لمنافاته لتعدد الشرط.
وان التزمنا بالمفهوم من طريق الاطلاق اللفظي بأحد الوجوه الثلاثة
المتقدمة، تعين رفع اليد عن اطلاق المفهوم لا نفس المفهوم، لان تعدد الشرط لا
يخل بانعقاد الاطلاق لفظا وانما يكشف عن انه غير مطابق للمراد الجدي، فيقيد
اطلاق كل منهما المقتضي للمفهوم بالشرط الاخر، ويبقى على حاله في غير
مورده كسائر موارد المطلق والمقيد.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 201 - طبعة مؤسسة آل البيت.
248

ومن هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره صاحب الكفاية - بقول مطلق - من أن
العرف يساعد على الوجه الثاني، إذ عرفت أنه متعين على تقدير دون آخر.
واما الوجه الثالث: فلا طريق إلى اثباته أصلا، ولأجل وضوح بطلانه لم
يتعرض صاحب الكفاية لنفيه.
وذلك: لان قواعد المعارضة والجمع الدلالي بين المتعارضين هو التصرف
في مركز المعارضة ومحطها من الظهور. ومن الواضح ان التعارض بين مفهوم كل
منهما ومنطوق الاخر اما ظهور كل منهما في الاستقلال فليس محط المعارضة، وان
كان رفع اليد عنه موجبا لارتفاع المعارضة، لكن لا تنتهي النوبة إليه ما دام
يمكن الجمع والتصرف في مورد التعارض، ولذا لا يتوهم أحد مع امكان الجمع
الدلالي التصرف في أحد المتعارضين من حيث الجهة أو السند مع أنه يرفع
التعارض. فالجمع بالوجه الثالث جمع تبرعي.
وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق النائيني (قدس سره) في المقام من
الاشكال فإنه (قدس سره) ذكر - بعد بيان موضوع الكلام - ان الامر يدور بين
رفع اليد عن اطلاق الشرط المقابل للعطف بأو وتقييده ورفع اليد عن اطلاقه
المقابل للعطف بالواو، وحيث لا معين لاحد التقييدين كان مقتضى العلم
الاجمالي سقوط كل من الاطلاقين عن الحجية، ونتيجة ذلك عدم ترتب الجزاء
الا عند حصول كلا الشرطين، لعدم العلم بترتبه بحصول أحدهما والأصل ينفيه،
فنتيجة الأصل العملي هو تقييد الاطلاق المقابل للعطف بالواو وكون الشرط
هو كلا الامرين (1).
ووجه الاشكال فيه: ما عرفت من أن الجمع الدلالي انما يكون في مورد
التعارض فلا يدور الامر بين الاطلاقين، بل يتعين التصرف بالاطلاق المقابل

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 424 - الطبعة الأولى.
249

للعطف ب‍ " أو ".
وبتعبير آخر: اطلاق كل من الشرطين المقتضى لاستقلالهما في التأثير
ليس مورد التعارض، بل هو منشأ التعارض كالدليل الدال على حجية الخبر،
وهو لا يسوغ التصرف فيه مع امكان الجمع في مورد المعارضة.
واما الوجه الرابع: فقد عرفت توجيهه في الكفاية. ويرد عليه:
أولا: انه انما يتم إذا كان المسبب واحدا شخصيا، اما الواحد النوعي فلا
مانع من تأثير المتعدد فيه، فيجوز تأثير شرط في مسبب وتأثير غيره في فرد آخر
كما نرى ذلك بالوجدان، فان النار تؤثر في الحرارة كما أن الكهرباء يؤثر فيها.
وبالجملة: فبرهان السنخية انما يتم في الواحد الشخصي لا النوعي.
وثانيا: انه انما يجري في الأسباب والمسببات التكوينية التي يكون تأثيرها
واقعيا ناشئا عن ربط خاص بين العلة والمعلول - وإلا لزم تأثير كل شئ في كل
شئ -، لا الأسباب الشرعية التي هي في الحقيقة تنتزع عن ترتب تحقق شئ
على وجود آخر بلا أن يكون للسبب تأثير في المسبب نحو تأثير العلة في المعلول.
فلا مانع من اعتبار شئ واحد مرتبا على أحد شيئين.
واما الوجه الخامس: فهو لا يرفع التنافي، إذ التنافي بين منطوق كل منهما
ومفهوم الاخر، فمع رفع اليد عن مفهوم أحدهما يبقي التنافي بين منطوقه ومفهوم
الاخر على حاله. وقد ذكر المحقق الأصفهاني انه ضرب عليه خط المحو في
النسخ المصححة (1)، ولعل الوجه فيه ما عرفت.
نعم، لو حمل أحدهما على المعرفية لا على تأثير بنفسه وعنوانه ارتفع
التنافي، ولكنه يعين طرح أحد الدليلين منطوقا ومفهوما كما لا يخفى، وهو مما
يحتاج إلى دليل خاص، ولعله إلى هذا المعنى نظر صاحب الكفاية.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 324 - الطبعة الأولى.
250

والمتحصل: ان المتعين في طريق رفع التنافي ما عرفت دون غيره.
يبقى الكلام في بيان مقصود صاحب الكفاية مما ذكره من انه لا بد من
المصير إلى أن الشرط في الحقيقة هو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع
اليد عن المفهوم وبقاء اطلاق الشرط في كل منهما على حاله (1). فقد ذكر لها
المحقق الأصفهاني معنيين، واستشكل في كل منهما (2).
والذي يبدو لنا ان معنا ها هو: ان الالتزام بكون الشرط الجامع يتوقف
على امرين:
أحدهما: رفع اليد عن اطلاق المفهوم في كل منهما لان البناء على بقاء
اطلاق المفهوم على حاله في كل منهما يتنافى مع منطوق كل منهما الدال على ثبوت
الجزاء بثبوت الشرط، ولا يمكن الالتزام بهما معا.
ومن الواضح ان شرطية الجامع فرع ثبوت الجزاء عند ثبوت كل من
الشرطين، وهو لا يتحقق الا برفع اليد عن المفهوم.
ثانيهما: الالتزام بشرطية كل منهما بنحو الاستقلال، إذ لو كان الشرط
هو المركب منهما وكان مجموع الامرين لم يكن معنى لكون الشرط هو الجامع
بينهما كما لا يخفى جدا.
وهذا المعنى وان استشكل فيه المحقق الأصفهاني، لكن لا يهمنا التعرض
إليه ودفعه وانما المقصود الإشارة إلى معنى العبارة فالتفت.
التنبيه الرابع: في البحث عن التداخل فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء.
وموضوع الكلام: ما إذا فرض ظهور الجملة في تأثير الشرط استقلالا
وترتب الجزاء عليه عند حصوله.
وقد اختلف صاحب الكفاية والمحقق النائيني " قدس سره " في نحو تحرير

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 201 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 324 - الطبعة الأولى.
251

البحث. فقال صاحب الكفاية في مقام تحريره: " إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا
اشكال على الوجه الثالث - ويقصد به الالتزام بان المؤثر مجموع الامرين - واما
على سائر الوجوه فهل اللازم لزوم الاتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشروط
أو يتداخل ويكتفى باتيانه واحدة؟ " (1). فقد اخذ " رحمه الله " موضوع الكلام لزوم
الاتيان بالجزاء متعددا أولا، فالقول بتأكد الحكم بتعدد الشرط من أقوال
التداخل بنظره (قدس سره)، بل صرح بذلك في عده منها (2). وقد حرره المحقق
النائيني بنحو جعل موضوع الكلام تعدد الأثر في صورة تعدد الشرط ووحدته.
وعليه فيكون القول بالتأكد قولا بعدم التداخل لتعدد الأثر (3).
وعلى كل حال فالأمر سهل في هذا الامر، إذ كون القول بالتأكد من
التداخل أو غيره لا يؤثر في دعواها وما هو اثرها. وانما يقع الكلام في ما هو المهم
من التداخل وعدمه. والكلام في مقامين:
المقام الأول: في تداخل الأسباب ويقصد به ان مقتضى القاعدة في مورد
تعدد الشرط هل هو تعدد الجزاء أو عدم تعدده؟.
المقام الثاني: في تداخل المسببات ويقصد به انه لو ثبت تعدد الجزاء فهل
مقتضى القاعدة تحقق امتثال الجميع - مع الاشتراك في الاسم - بواحد أو لا يتحقق
الا بالاتيان بالمتعلق بعدد افراد الحكم؟.
ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى هذا التفصيل بل خلط في بحثه كلا
المقامين.
اما تداخل الأسباب: فقد اختار صاحب الكفاية عدمه ولزوم الاتيان
بالجزاء متعددا.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 202 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول - 203 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 426 - الطبعة الأولى.
252

وقد وجهه: - بعد ما بين توجيه القول بالتداخل بوجوه ثلاثة حكم بأنها
خلاف الظاهر ولا دليل على أحدها - بان ظهور الجملة الشرطية في حدوث
الجزاء عند حدوث الشرط يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط، إذ وحدته تنافي
ظهورها في الحدوث عند الحدوث، لان وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك. كما أن
ظهور الجزاء في وحدة المتعلق يقتضي وحدة الحكم عند تعدد الشرط
لاستحالة تعلق الحكمين بطبيعة واحدة لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال،
كاجتماع الضدين.
وبالجملة: فالقضية الشرطية تشتمل على ظهورين:
أحدهما: يقتضي تعدد الحكم في الجزاء.
ثانيهما: يقتضي وحدته، لكن ما يقتضي الوحدة ظهور اطلاقي وهو
اطلاق المتعلق وسرايته لاي فرد ولو كان الفرد الذي يقع امتثالا للحكم الاخر.
وبما أنه معلق على عدم البيان، وكان ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث
صالحا لان يكون بيانا لما هو المراد من المطلق - لأنه ظهور وضعي غير معلق
على شئ -، لم ينعقد للمطلق ظهور في الاطلاق بواسطة الظهور الاخر
الوضعي، بل كان الظهور في الحدوث عند الحدوث كاشفا عن كون الحكم متعلقا
بفرد آخر غير المطلوب بالحكم الاخر، فيكون حاكما علي الظهور الاطلاقي
ورافعا لموضوعه.
وبذلك ذكر ان الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرفا في الظاهر، بل
هو مقتضى الالتزام بالظاهر بخلاف القول بالتداخل (1).
وقد وافق المحقق النائيني (رحمه الله) صاحب الكفاية في اختيار عدم
التداخل، لكن خالفه بالدليل عليه. فقد قرب (رحمه الله) دعواه بنحو آخر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 202 - 204 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
253

فذكر أولا: ان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقة حملية موضوعها
الشرط ومحمولها الجزاء، كما أن القضية الحقيقة ترجع إلى قضية شرطية مقدمها
الموضوع وتاليها المحمول، فهما حقيقة قضية واحدة. وعليه فكما أن الحكم في
القضية الحملية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك يكون الانحلال في
القضية الشرطية فيتعدد الحكم بتعدد افراد الشرط ووجوداته، واما تعدده بتعدد
الشرط ماهية فهو يستفاد من ظهور اطلاق القضية في الاستقلال.
وبعد ذلك ذكر ان الطلب المتعلق بالماهية لا يقتضي إلا ايجاد متعلقه
خارجا ونقض عدمه المطلق، وبما أن نقض العدم المطلق يصدق على أول وجود
من الطبيعة كان مجزيا عقلا.
واما كون متعلق الطلب صرف الوجود، فليس هو مدلولا لفظيا لصيغة
الامر لا مادة ولا هيئة، إذ المادة لم توضع الا إلى الماهية، والهيئة لا تدل الا على
طلب ايجادها، وهو يصدق قهرا على أول الوجود، وذلك لا يقضي كون مطلوبية
صرف الوجود مدلول الكلام.
وعليه، فإذا كان مقتضى الطلب ايجاد الطبيعة ونقض عدمها، فإذا تعلق
طلبان بماهية كان مقتضى كل منهما ايجاد ناقض للعدم، فمقتضى الطلبين ايجاد
ناقضين للعدم، نظير ما إذا تعلقت الإرادة التكوينية بشئ واحد مرتين، فان
مقتضاها تحقق وجودين منه.
واما وحدة الطلب وتعدده، فهو مما لا يتكفله الطلب المتعلق بالمادة، بل
هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدد لا عن ظهور اللفظ في الوحدة، فإذا فرض
ظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب كان هذا الظهور مقتضيا للتعدد فيرتفع
موضوع وحدة الطلب، وهو عدم المقتضى للتعدد، ولو سلم ظهور الجزاء في وحدة
الطلب، فهو ناتج عن عدم المقتضى للتعدد، وبما أن ظهور الجملة الشرطية في
التعدد لفظي كان حاكما على ظهور الجزاء في الوحدة لرفعه موضوعه وهو عدم
254

المقتضي للتعدد.
هذا خلاصة ما افاده (قدس سره) مما يرتبط بما نحن بصدده (1).
ولكنه غير خال عن المناقشات من جهات عديدة:
الأولى: ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلي قضية حملية حقيقية.
فإنه لا يرتبط بتحقيق عدم التداخل، وانما هو بيان لصغرى البحث،
وهي صورة تعدد الشرط، فجعله من مقدمات تحقيق البحث لا يخلو عن مسامحة.
هذا مع ما في نفس البيان من الاشكال كما سيأتي توضيحه انشاء الله تعالى.
الثانية: ما ذكره من أن مقتضى الطلب ايجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه
المطلق.
فإنه يرد عليه: بان الاطلاق الوارد في التعبير اما أن يكون قيد العدم،
فيكون مقتضى الطلب نقض العدم المطلق، فمتعلق النقض العدم المطلق، واما
أن يكون قيد الوجود، فيكون مقتضى الطلب الايجاد المطلق الناقض للعدم.
فإن كان قيد العدم، فالمقصود من العدم المطلق ان كان جميع الاعدام،
فالوجود المطلوب لا ينقضها، لان كل وجود نقيض عدمه البديل له لا غير، وان
كان استمرار العدم، فهو يرجع إلى صرف الوجود الذي نفى اقتضاء الطلب له.
هذا مع أن مطلوبية صرف الوجود من الممكن ان تثبت بلحاظ ان متعلق الغرض
يتحقق به، فيكون صرف الوجود فقط محبوبا أو مبغوضا، فلو سلمت اثباتا فهي
بلحاظ وجود قرينة عقلية خاصة أو عامة ونحوها على ذلك، لا من جهة ان نفس
الطلب يقتضي ذلك كما هو لازم كلامه (قدس سره) فنفس الطلب لا يقتضي
شيئا من ذلك أصلا.
وان كان قيد الوجود بمعنى ان مقتضى الطلب هو وجود الطبيعة المطلق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 428 - الطبعة الأولى.
255

غير المقيد بالوحدة والتعدد، فلازمه عدم تحقق الامتثال بواحد، إذ كل ما يتصور
من الافراد يكون محققا للمأمور به ومصداقا له، ويصدق عليه انه وجود الطبيعة،
فيكون مطلوبا ولا يتحقق الامتثال بدونه.
الثالثة: ما ذكره من أن تعدد الطلب يقتضي ايجاد ناقضين للعدم.
فإنه أول الكلام، ومما يحتاج إلى دليل، إذ ظاهر الجملة وحدة المتعلق، فما
هو الدليل على إرادة ايجاد ناقضين لا على كون التعدد لتأكيد الطلب؟. فلا
ظهور لتعدد الطلب في نفسه في ذلك.
الرابعة: ما يظهر من كلامه من أن متعلق الطلب نفس الماهية والايجاد
انما يكون من مقتضيات الطلب لا أنه مأخوذ في مرحلة سابقة عليه.
فإنه يرد عليه: ما مر في مبحث تعلق الامر بالطبائع من أن الماهية بما هي
غير متعلقة للطلب، بل اخذ وجودها في متعلقه، فراجع.
الخامسة: ما يظهر من كلامه من عدم اخذ صرف الوجود في متعلق
الطلب وانما هو أمر قهري.
فإنه يرد عليه: ان متعلق الطلب يمتنع أن يكون هو الوجود المطلق بلا
تعيين نحو خاص من أنحائه لامتناع الاهمال في مقام الثبوت. فلا بد اما أن يكون
المطلوب جميع الوجودات أو مجموعها أو صرف الوجود بمعناها الأصولي،
وهو الناقض للعدم المستمر المنطبق على أول الوجود.
وقد ثبت ان المأخوذ في متعلقات الأوامر ليس الجميع ولا المجموع فيتعين أن يكون صرف الوجود.
السادسة: ما يظهر من كلامه من تشكيل المعارضة بين ظهور الجملة في
تعدد الطلب وظهور الطلب في الجزاء في الوحدة، وترجيحه الظهور الأول
لارتفاع موضوع الثاني به.
فإنه عجيب منه (قدس سره)، إذ منشأ توهم التداخل هو ظهور الكلام
256

في وحدة متعلق الحكمين المانع من تعددهما، لاستحالة اجتماع المثلين، كما قرره
(قدس سره) في صدر البحث، فالمعارضة بين ظهور الجملتين في تعدد الطلب
وظهور الكلام في وحدة المتعلق المنافي لتعدد الطلب.
ولم يتوهم متوهم ان طرف المعارضة هو ظهور الجزاء في وحدة الطلب، كي
يدفع:؟ بأنه ناتج عن عدم المقتضي للتعدد، والمفروض انه موجود فيما نحن فيه،
لظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب، إذ لا وجه لتوهم ان وجود طلب ينافي
وجود غيره. فما افاده غريب جدا ولا نعلم له وجها وجيها.
اذن فما ذكره في وجه عدم التداخل لا يمكننا الالتزام به.
فالوجه المتجه هو ما افاده صاحب الكفاية وقد مر ذكره.
وعليه، فالحق عدم تداخل الأسباب، وكون تعددها مقتضيا لتعدد
المسبب، وينبغي التنبيه على أمور:
الامر الأول: ذكر صاحب الكفاية في آخر كلامه: ان بحث التداخل
وعدمه انما يتأتى في المورد القابل للتعدد نظير الوضوء والصلاة وغيرهما. اما
المورد غير القابل للتعدد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه، بل لا اشكال في
التداخل، نظير القتل فإنه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدد الحكم لعدم قابلية
متعلقه للتعدد كما لا يخفى (1).
ولكن المحقق النائيني ذهب إلى دخول صورة منه في محل الكلام ببيان: ان ما لا يقبل التعدد..
تارة: يكون الحكم فيه قابلا للتقييد نظير القتل المسبب وجوبه عن حق
الناس، كالواجب لاجل القصاص، فإنه وإن لم يكن متعددا خارجا لكن وجوبه
مقيد بكل واحد من السببين، فلو ارتفع أحد السببين - كما لو عفا أولياء أحد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 206 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
257

المقتولين - يبقى الوجوب على حاله لثبوت السبب الاخر ونظير الخيار المسبب
عن امرين، فلو سقط أحدهما عن السببية بقي الاخر مؤثرا.
وأخرى: لا يكون الحكم فيه قابلا للتقييد، كوجوب القتل الناشئ عن
غير حق الناس كالارتداد، إذ حكم الله وحقه لا يمكن العفو عنه.
فالتزم (قدس سره) بدخول النحو الأول في محل الكلام، وانه بناء على
عدم التداخل يتقيد الجزاء بكل واحد من السببين، فيؤثر أحدهما عند ارتفاع
الاخر (1).
والحق ان ما افاده غير وجيه: وذلك، لان قياس باب وجوب القتل على
باب الخيار قياس مع الفارق، إذ لا محذور في تعدد جعل حق الخيار - بعد كونه
امرا اعتباريا خفيف المؤنة - سوى انه لغو محض، إذ الأثر يترتب على الخيار
المجعول أولا، فيتفصى عن اشكال اللغوية بان الأثر للتعدد موجود، وهو ما إذا
ارتفع أحد السببين للخيار باسقاط أو معارضة، فإنه بناء على التعدد يبقى حق
الخيار ثابتا لسببية السبب الاخر. وهذا المقدار من الأثر يكفي في تصحيح جعل
الخيار متعددا.
وليس الامر في باب الأحكام التكليفية ذلك، إذ محذور تعدد الحكمين هو
اجتماع المثلين، وهو مما لا يرتفع بالتقيد، كما لا يخفى.
اذن فما اختاره صاحب الكفاية هو المتجه.
الامر الثاني: قد عرفت أن الحق عدم التداخل في صورة تعدد الشرط،
وبما أن من الأمثلة المهمة لهذا البحث مسألة الوضوء وتعدد أسبابه، فقد وقع
الكلام في بيان الوجه للتداخل في باب الوضوء وسبب خروجه عن مقتضى
القاعدة.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 428 - الطبعة الأولى.
258

والذي ذكره المحقق النائيني في المقام: ان سبب الوضوء هو الحدث، وهو
غير قابل للتعدد فمحققاته كثيرة كالبول والنوم والتغوط، لكن ذلك لا يستلزم
تعدد الحدث، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث، فيكون المؤثر في تحقق الحدث من
أسبابه هو أول وجود منها. فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط لعدم
قابليته للتعدد وان تعددت أسبابه (1). وقد وافقه الفقيه الهمداني (2).
أقول: ان كانت دعوى عدم قابلية الحدث للتعدد، لاجل انه مقتضى
حكم العقل بذلك - كما هو ظاهر كلامه -، فاندفاعها واضح جدا، لان الحدث
من الأمور الاعتبارية فلا محذور في تعدده، كما قيل به في باب الحدث الأكبر.
وان كان لاجل استفادته من النصوص والأدلة، فهو امر لا نسلم به، إذ لا ظهور
للروايات في نفي قابلية الحدث للتعدد.
فالتحقيق ان يقال: ان الاحتمالات في المجعول في باب الوضوء التي
يختلف الأثر فيما نحن فيه باختلافها ثلاثة:
الأول: كون نفس هذه الأمور كالنوم والبول وغيرهما سببا لوجوب
الوضوء، وليس هناك سوى الوضوء، وهو شرط الاعمال.
الثاني: ان الوضوء محقق للطهارة اما لكونهما من قبيل السبب والمسبب
أو العنوان والمعنون. وكون هذه الأمور نواقض للطهارة وروافع لها، فالمجعول
هو الطهارة دون الحدث.
الثالث: كون هذه الأمور سببا لتحقق الحدث وهو يرتفع بالوضوء فليس
المجعول سوى الحدث. اما الطهارة فهي عبارة عن امر عدمي وهو عدم الحدث.
والذي يظهر من الروايات هو الاحتمال الثاني، لظهور وجود امر مجعول

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 432 - الطبعة الأولى.
(2) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه / 125 - كتاب الطهارة الطبعة الأولى.
259

مستمر، وهو لا يمكن أن يكون الوضوء لأنه فعل متصرم. كما أنه ليس للتعبير
بسببية هذه الأمور للحدث عين ولا اثر في الروايات، وانما هو وارد في لسان
الفقهاء بل يظهر هو كون هذه الأمور نواقض للطهارة التي يعبر عنها بالوضوء
في بعض الروايات.
وجملة القول: ان طاهر الأدلة سببية هذه الأمور لنقض الطهارة لا
لتحقق الحدث.
وعليه، فيظهر لنا وجه التداخل بوضوح، إذ النقض لا يقبل التعدد، فإذا
حصل أول سبب كالنوم انتقضت الطهارة، فيكون السبب الاخر بلا اثر
لامتناع نقض المنقوض، وهكذا الحال لو وجد فرد من نوع ثم وجد غيره منه
كفردين من البول، فالوضوء انما يلزم من باب تحصيل الطهارة لانتقاضها بسبب
من أسباب النقض، والانتقاض غير قابل للتعدد، واما الأمثلة المشهورة من
قولهم: " إذا بلت فتوضأ " ونحوه فلم ترد في لسان الشارع أصلا.
وهذا الوجه مما لا نعلم أحدا ذكره قبل الحين والله العالم.
الامر الثالث: قد عرفت أن موضوع البحث صورة تعدد الشرط.
وقد ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) في بيان الوجه في تعدد الشرط من
جنس واحد: بان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقية، فكما أن الحكم في
القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك الحال في القضية الشرطية، فكل
فرد من افراد الشرط المأخوذ في الكلام يكون موضوعا للحكم (1).
وما افاده (قدس سره) لا يخلو عن مناقشة، وذلك لأنه لو سلم ما ذكره
من رجوع القضية الشرطية إلى قضية حقيقية، فهو لا يلازم ما ذكره، إذ ظهور
القضية الحملية في الانحلال لم يكن لقرينة عامة بحيث تكون ملازمة للانحلال

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 428 - الطبعة الأولى.
260

مطلقا ويكون الانحلال من شؤونها حتى يقال بأنه يثبت لما يرجع إلى القضية
الحملية في الحقيقة واللب، بل الاستغراق وغيره ما يستفاد من قرائن خاصة في
كل مقام، ولذا ذكر صاحب الكفاية ان مقتضى الاطلاق ليس إلا كون المراد هو
الطبيعة غير المقيدة اما إرادة جميع الافراد أو صرف الوجود، فهو امر يستفاد
من دليل آخر بحسب اختلاف المقامات (1).
وبالجملة: لا ينفع في اثبات الانحلال في القضية الشرطية كونها كالحملية
في الحقيقة بعد ما لم يكن الانحلال من لوازم الحملية، بل هو مقتضى قرائن
خاصة قد لا تثبت في بعض المقامات.
وعليه، فالمرجع في اثبات الانحلال وعدمه واخذ الشرط بنحو الاستغراق
أو غيره هو ملاحظة خصوصية المقام وما يقتضيه، ولا ضابط لدينا في ذلك.
ولا بأس بالتعرض لما يقتضيه المقام بالنسبة إلى أسباب الوضوء، كالبول
والنوم ونحوهما، فنقول: ان الظاهر اخذها بنحو صرف الوجود من جهة وبنحو
الاستغراق من جهة أخرى.
بيان ذلك: انك قد عرفت أن هذه الأسباب ناقضة للطهارة والناقضية لا
تقبل التعدد، فكل ما يفرض للبول من افراد ناقضة للطهارة كانت ملحوظة بنحو
الاستغراق، اما غيرها من الافراد فالملحوظ صرف الوجود لامتناع تأثير غيره
في النقض، ففي مثل: " إذا بلت فتوضأ " ملحوظ بنحو صرف الوجود من جهة
تحقق النقض بالبول، بمعنى انه يتحقق بصرف الوجود، وبنحو الاستغراق
بالنسبة إلى ما يحقق النقض، بمعنى ان كل ما ينقض الطهارة يترتب عليه
وجوب الوضوء، فتدبر.
الامر الرابع: ذهب الفخر وغيره - كما نسب إليه - إلى ابتناء القول

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 352 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
261

بالتداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات.
فعلى القول بأنها معرفات يلتزم بالتداخل. وعلى القول بأنها مؤثرات يلتزم
بعدم التداخل (1).
والمراد بالمعرف أحد وجهين: اما معرف الحكم - كما صرح به المحقق
النائيني (2) -. واما معرف الشرط الحقيقي - كما صرح به صاحب الكفاية وغيره (3) -.
ونحن نوقع الكلام على كلا الاحتمالين:
اما الالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات الحكم، فهو يتصور على
وجهين كلاهما باطلان:
أحدهما: أن يكون الحكم المنشأ في القضية الشرطية حكما طريقيا أو
ظاهريا موضوعه الشرط المأخوذ في الكلام، ويكون المجموع سببا للعلم وكاشفا
عن حكم واقعي مجعول على موضوع واقعي.
وبطلانه واضح، لجهتين:
الأولى: ان هذا مما لا يلتزم به أحد ولا يتفوه به متفوه، كيف؟ ولازمه
الالتزام بعدم واقعية الاحكام في القضايا الشرطية وهي أكثر من أن تحصى.
الثانية: انه كر على ما فر منه، إذ الشرط بذلك لا يخرج عن كونه مؤثرا
في الحكم الطريقي، فيعود المحذور، إذ لازمه عدم التداخل عند تعدد الشرط،
والالتزام بتعدد الحكم الطريقي الملازم لتعدد الحكم الواقعي.
ثانيهما: أن يكون الانشاء في القضية الشرطية في الحقيقة اخبارا عن
الحكم الواقعي الثابت لموضوع واقعي.
وبطلانه واضح كسابقه، إذ لازمه أن لا يكون هناك انشاء في القضايا

(1) نسب إليه المحقق الخراساني كما في كفاية الأصول / 205 والمحقق كلانتري كما في مطارح الأنظار / 176.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 427 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 205 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
262

الشرعية، وهو لا وجه له، وتصرف في ظهور الكلام في الانشاء بلا وجه.
وعليه، فيمكننا القول بعدم صحة الالتزام بان الأسباب الشرعية
معرفات الحكم، إذ لا يتصور له معنى يمكن الالتزام به.
واما كونها معرفات للشرط الحقيقي الواقعي، فهو يتصور على وجهين
أيضا:
أحدهما: أن يكون الشرط المذكور في الكلام موضوعا للحكم المنشأ،
والمجموع طريق وكاشف عن حكم واقعي ثابت لموضوع واقعي.
وهذا الوجه باطل، لما عرفت من انه يستلزم الالتزام بعدم واقعية الاحكام
المنشأة في القضايا الشرطية.
مع أن لازمه أن يكون هناك جعل ومجعول واقعي وراء المجعول المنشأ،
فللحكم واقعان ومقامان، وهو مما لا يلتزم به أحد حتى من يرى ان واقع الحكم
هو الإرادة والكراهة، لان الانشاء قوامه الابراز والاظهار فما لم يبرز الواقع لا
انشاء ولا يتصور تحقق الجعل بدون الانشاء.
ثانيهما: ان الشرائط المأخوذة في الكلام اخذت مرآتا وحاكيا عن الشرط
الواقعي، بان يكون الشرط الواقعي والدخيل في الحكم واقعا ما يلازم هذا الامر
فيؤخذ هذا الامر عنوانا للشرط الواقعي.
وهذا المعنى معقول في نفسه ولا مانع من الالتزام به، بل هو واقع في
العرفيات، كما لو أراد الحكم على موضوع واقعي وصعب تفهيمه للمخاطب
بنفسه فيعلق الحكم ما يلازمه من العناوين قاصدا الحكاية به عن الموضوع
المجهول والوصول به إلى ثبوت الحكم لموضوعه الواقعي.
ومع الالتزام بان الشرائط الشرعية معرفات لشرائط الواقعية بهذا المعنى
من اخذها عنوانا للشرط الواقعي المرتب عليه الحكم يتجه الالتزام بالتداخل،
إذ المفروض ان كلا من الشرطين مرآة وعنوان للشرط الواقعي، ومن الممكن ان
263

يكون كلا منهما مرآة لما كان الاخر مرآة له، إذ لا يمتنع أن يكون للشئ الواحد
عنوانان، فلا طريق لاثبات تعدد الشرط حقيقة، واحتمال وحدته يكفي في الحكم
بالتداخل بلا احتياج لاحرازها، إذ الأصل العملي مع الشك ينفي تعدد الحكم.
وقد أشير إلى اثبات تعدد الشرط حقيقة، ولو مع الالتزام بهذا الرأي.
بوجوه:
الأول: ما ذكره صاحب الكفاية من دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند
حدوث الشرط، وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط (1).
وفيه: ان الجملة انما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط الواقعي،
فإذا ثبت كون الشرط الواقعي غير المذكور في الكلام وان ما يترتب عليه الجزاء
غيره، وقد عرفت عدم امتناع وحدته واقعا، ولو تعدد المعرف فلا دليل على تعدد
الشرط الواقعي كي يتعدد الجزاء بتعدده بمقتضى الدلالة الحدوث عند
الحدوث.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني من أن ظاهر القضية الشرطية ترتب
الجزاء على كل واحد من الشروط، ومجرد كون الشرط معرفا وامكان تعدده مع
وحدة المعرف لا يكفي في رفع اليد عن هذا الظهور (3).
وفيه: ان مراده ان كان ما ذكره صاحب الكفاية فقد عرفت ما فيه. وان
كان ما هو الظاهر من دلالة الجملة على الترتب، فالاشكال فيه واضح، إذ على
هذا المبنى - أعني المعرفية - لا يلتزم بترتب الجزاء على الشرط المأخوذ في الكلام،
بل على غيره مما يكون هذا طريقا إليه، وقد عرفت أنه لا دليل على تعدده.
الثالث: ما ذكره الفقيه الهمداني من أن ظاهر كون الشرط معرفا هو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 202 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 428 - الطبعة الأولى.
264

المعرفة الفعلية، وعليه فيمتنع أن يكون كلا الشرطين - مع التعاقب - معرفا فعلا
للحكم الواحد، إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانيا بعد تحقق العلم به أولا، فلا بد من
تعدد الحكم المعرف، فتعدد المعرف يستدعي تعدد المعرف (1).
وفيه: انه انما يتجه لو كان الجزاء هو العلم بالحكم لا نفسه، وهو مما لا
يلتزم به أحد لوضوح ان المعلق على الشرط في قول الامر: " ان جاء زيد فأكرمه "
نفس وجوب الاكرام لا العلم به.
وقد عرفت أن المراد بالمعرفية هو مرآتية الشرط الكلامي لما هو الشرط
الواقعي، وهذا لا ينافي تعدد المرآة مع وحدة المرئي.
وجملة القول: ان الالتزام بالتداخل على هذا المبني متجه ولا اشكال فيه
بناء عليه، لكن الاشكال في المنبي نفسه فإنه لا وجه للالتزام بان الأسباب
الشرعية معرفات، وصرف الكلام عن ظاهره في كون الشرط المذكور فيه دخيلا
في ترتب الحكم كالشرط المذكور في القضايا غير الشرعية فلاحظ وتدبر.
هذا تمام الكلام في المقام الأول، وهو البحث في تداخل الأسباب. وقد
عرفت أن الحق عدم التداخل.
ويقع الكلام بعد ذلك في تداخل المسببات، والبحث يقع في صورتين:
الأولى: ما إذا كان متعلق الحكمين طبيعة واحدة.
الثانية: ما إذا كان متعلقهما طبيعتين متغايرتين، كوجوب اكرام العالم
ووجوب ضيافة الهاشمي.
اما الصورة الأولى: فلا وجه لتوهم التداخل فيها لما عرفت من انه لا
يعقل تعلق حكمين بطبيعة واحدة، وانه لا بد من حمل الكلام الظاهر في نفسه في
ذلك على كون متعلق أحدهما فردا آخر غير ما امتثل به الاخر، فكل من

(1) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه / 127 - كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.
265

الحكمين يطلب به فرد غير ما يطلب بالحكم الاخر. وعليه فيمتنع الاكتفاء بفرد
واحد، وليس هو الا نظير الاكتفاء عن نافلة المغرب بركعتين. وما ذكرناه واضح
جدا، ومعه لا وجه لبيان ان الأصل عدم التداخل - كما جاء في تقريرات
النائيني (1) -، إذ لا وجه له الا تخيل قيام الدليل في بعض الصور على الاكتفاء
بفرد واحد في مقام امتثال الامر المتعدد، ولكن لو ثبت الدليل في بعض الموارد
فهو يرجع في الحقيقة إلى بيان وحدة الحكم، إذ تعدد الحكم وإرادة فردين خلف
الاكتفاء بواحد، فإن قول الامر: " أريد ان تعطي درهمين " ينافي قوله: " اكتفي
بدرهم واحد " كما لا يخفى.
واما ما سيق - في أجود التقريرات - مثالا لقيام الدليل الخاص على
الاكتفاء بامتثال واحد، واحد مسألة الاكتفاء بغسل واحد عن حدوث الجنابة
والحيض وغيرهما، ومسألة الوضوء لو فرض تعدد الحدث الموجب لتعدد الامر.
فهو انما يتجه لو كان محل البحث هو ان الأوامر المتعددة المتعلقة بافراد الغسل
أو الوضوء هل تمتثل بغسل أو وضوء واحد أو لا تمتثل؟ فيفرض المسبب وجوب
الغسل. اما لو كان محل البحث هو ان الاحداث المتعددة المسببة عن الأسباب
المتعددة هل ترتفع بغسل أو وضوء واحد أولا؟ فلا يرتبط بما نحن فيه، إذ المسبب
فرض هو الحدث ولا معنى للتداخل فيه. وانما يقع الكلام في ارتفاعها بعمل
واحد، وهو لا يرتبط بمسألة التداخل، بل يتبع دليل الغسل أو الوضوء فان دل
على كونه رافعا لطبيعي الحدث كان سببا لارتفاع جميع الاحداث به، وان دل
على أنه رافع لحدث واحد لم يرفع غيره.
وظاهر كلامه ان موضوع البحث هذه الجهة. وعليه فلا معنى لجعل
المسألة من شواهد التداخل.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 432 - الطبعة الأولى.
266

واما ما ذكره (قدس سره) من انه بناء على رافعية الوضوء لجميع
الاحداث بلحاظ الاجماع، فلو نوى رفع بعض الاحداث دون غيرها بنحو نية
العدم لا عدم النية قد يدعي بطلان الوضوء لاجل ان رفع بعض الاحداث ملازم
لرفع بعضها فلا يمكن نية رفع بعض وعدم رفع أخرى لأنهما متناقضان، فتكون
هذه النية في الحقيقة كلانية فيبطل العمل كما قد يدعي الصحة لاجل ان نية
العدم لغو فلا ضير فيها.
فقد أورد عليه: بأنه لا وجه للتشكيك، بل المتجه هو الحكم بالصحة، إذ
وجه البطلان لا يستلزمه لأنه لا يعتبر في الوضوء نية رفع الحدث به، فغاية ما
يقتضيه التناقض بين النيتين هو عدم تحقق نية رفع الحدث عنه وهو لا يضير في
صحة العمل (1).
ولكن يمكن أن يكون مراده (قدس سره) في توجيه دعوى البطلان، انه
لم يشرع سوى الوضوء الرافع لجميع الاحداث، اما الرافع للحدث البولي فقط فلم
يشرع في الشريعة. وعليه فنية الوضوء الرافع لخصوص حدث خاص نية لما هو
غير مشروع فلا يصح العمل منه، لان ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.
وعلى هذا فلا يرد عليه ما تقدم كما لا يخفى، وان كان هذا المعنى لا يتفق
مع ظاهر كلامه، فان ظاهره توجيه البطلان بتنافي القصدين الراجع في الحقيقة
إلى عدم القصد.
واما الصورة الثانية: فهي على أنحاء:
الأول: ان تكون الطبيعتان متغايرتين ذاتا، كاكرام الهاشمي وضيافة
العالم.
الثاني: ان تكونا متحدتين ذاتا، لكن يتغايران قيدا كاكرام الهاشمي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 432 هامش رقم (2) - الطبعة الأولى.
267

واكرام العالم.
الثالث: أن يكون اختلافهما بأخذ جزء أو شرط يوجب المغايرة، وان
كانتا ذاتا متحدتين كنافلة المغرب والغفيلة، فإنهما يجتمعان في الغفيلة المأتي بها
في وقت النافلة، وتفترق النافلة بما إذا جاء بالعمل بلا الذكر الخاص المعتبر في
الغفيلة كما تفترق الغفيلة إذا جاء بها في غير وقت النافلة. وبذلك كان بينهما
العموم من وجه.
اما النحو الأول: فمقتضى القاعدة فيه هو التداخل وتحقق الامتثال
بالمجمع، لكونه مصداقا لكلتا الطبيعتين، فيمكن ان يمتثل به كلا الامرين، فله
ان يمتثل الامر باكرام الهاشمي وضيافة العالم بضيافة العالم الهاشمي، لأنها
ضيافة للعالم واكرام للهاشمي.
وقد يتوهم: ان المورد من موارد تأكد الحكمين فيرجع في الحقيقة إلى
تداخل الأسباب لوحدة الامر لا تداخل المسببات، فالمتوهم يشترك مع الدعوى
في تحقق الامتثال بالمجمع لكنه يختلف معها في أنه يذهب إلى وحدة الامر
والدعوى تقول بتعدده.
ويندفع هذا الوهم: بأنه لا يلزم التداخل في الامر وصيرورته امرا مؤكدا
على جميع الوجوه القائلة بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين أو المتماثلين.
اما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما لتضادهما أو تماثلهما في أنفسهما:
فلان ذلك انما يتأتى مع وحدة متعلق الحكمين، اما مع تعددهما فلا يتأتى المنع،
وما نحن فيه كذلك، لان متعلق كل من الحكمين غير متعلق الاخر، وهو صرف
الوجود من كل طبيعة، والمجمع مصداق متعلق الحكم لا نفسه، لان العموم بدلي،
نعم لو كان العموم شموليا بحيث كان يسري إلى كل فرد امتنع اجتماع
الحكمين لوحدة متعلقهما.
واما على الوجه القائل بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين لتنافيهما في
الحكمين لوحدة متعلقهما.
واما على الوجه القائل بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين لتنافيهما في
268

مقام الداعوية، وامتناع اجتماع المتماثلين لعدم امكان داعوية كل منهما بنحو
الاستقلال في عرض واحد، وهو يتنافى مع حقيقة الحكم لأنه جعل ما يمكن أن يكون
داعيا بنفسه - بناء على هذا الوجه -: فهو انما يتم مع وحدة المتعلق، اما
مع اختلافه كما لو كان متعلق الامر طبيعة ما بنحو العموم البدلي، ومتعلق النهي
طبيعة أخرى أيضا بنحو العموم البدلي، فلا امتناع في جعل الحكمين ولو
تصادقت الطبيعتان على واحد، وهكذا الامر في ما لو اتفق الحكمان فتعلق امران
بطبيعتين كذلك فان تصادق الطبيعتين على واحد وامكان امتثال الحكمين به لا
يتنافى مع قابلية كلا الحكمين للداعوية المستقلة نحو متعلقه، لامكان الاتيان
بفردين للطبيعتين.
واما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما من جهة المبدأ من مصلحة
ومفسدة وإرادة وكراهة: فلانه وإن لم يكن اطلاق المتعلق في كلا الحكمين شاملا
للمجمع إذا كانا مختلفين، كالامر والنهي، لامتناع اجتماع المصلحة والمفسدة
الملزمتين في شئ واحد، فلا يكون متعلقا للإرادة والكراهة معا في آن واحد - ولا
ينافي ذلك بقاء كل من الأمر والنهي على حاله -، لكن ذلك لا يتأتي بالنسبة إلى
مورد اتفق الحكمين كأمرين، إذ من الممكن أن يكون شئ واحد مشتملا على
مصلحتين ملزمتين، ولا زمه تأكد الإرادة بالنسبة إلى هذا الفرد، لكن عرفت أنه
غير متعلق الحكم فلا ينافي تأكد الإرادة فيه بقاء الحكمين على حالهما لاختلاف
متعلق أحدهما عن الاخر.
وجملة القول: ان ما نحن فيه لا يكون من موارد وحدة الحكم وتأكده على
جميع المباني في تضاد الاحكام وتماثلها.
وعليه، فالمورد من موارد تداخل المسببات.
وقد يدعى: عدم صحة القول بالتداخل ولزوم الاتيان بعملين استنادا إلى
ما يراه العرف من أن تعدد الحكم يلازم تعدد الإطاعة.
269

وقد رده الفقيه الهمداني: بان ذلك مالا شاهد له عرفا، بل الشاهد على
خلافه، إذ لو أتى شخص بعمل واحد ينطبق عليه عناوين حسنة متعددة: يرى
ان ثوابه أكثر مما إذا انطبق عليه أحد هذه العناوين، وليس ذلك الا لتعدد الامر
ووقوع العمل امتثالا للأوامر المتعددة (1).
وعلى كل حال فيكفينا مقتضى الصناعة والبرهان من دن أي خدشة.
ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورتين الأخريين، فان المتعلقين وان اتحدا
ذاتا لكنهما مختلفان قيدا أو جزءا، فيوجب ذلك تباينهما، فمع اجتماعهما في واحد
يمكن امتثال كلا الامرين به، فإذا اكرام عالما هاشميا تحقق امتثال كلا الامرين
لصدق اكرام العالم واكرام الهاشمي عليه. كما لا يخفى.
ويبقى الكلام في جهتين:
الأولى: تختص بمثال الصورة الثالثة، وهو نافلة المغرب والغفيلة،
ونظائرهما. فإنه قد يستشكل في تحقق امتثال كلا الامرين بركعتي الغفيلة من
جهة ما قرر من اعتبار امر واقعي قصدي في الصلوات المتشابهة صورة يكون
موجبا لتباينها حقيقة وكون أحدهما غير الاخر، وانه لا طريق إلى قصده الا
بالاتيان بالعمل بقصد عنوانه الخاص كعنوان الظهر أو العصر، ولو لاه لما كان
هناك فارق بين نافلة الصبح وصلاتها وبين صلاة الظهر والعصر وهكذا.
وعليه، فإذا ثبت اعتبار العنوان القصدي في نافلة المغرب ليتحقق امتياز
عما يشاكلها كالصلاة القضائية، وثبت اعتباره في الغفيلة أيضا، فمن الممكن أن يكون
العنوانان القصديان متباينين واقعا بحيث لا يمكن قصدهما بعمل واحد،
نظير عدم امكان الاتيان بأربع ركعات بقصد الظهر والعصر، ونظير قصد
التعظيم والإهانة بقيام واحد.

(1) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه / 128 - كتاب الطهارة - الطبعة الأولى.
270

ومع هذا الاحتمال لا مجال للقول بالتداخل لعدم العلم بالفراغ مع
الاتيان بعمل واحد بقصدهما معا، فقاعدة الاشتغال محكمة، ولا رافع لهذا
الاحتمال.
نعم، يمكن الاتيان بعمل واحد بداعي امتثال كلا الامرين رجاء وهو
غير التداخل. فالتفت.
الجهة الثانية: ترتبط بجميع الصور، وهي أنه - بناء على التداخل - هل
يعتبر في تحقق امتثال الامرين قصدهما أو يكفي قصد أحدهما؟.
والتحقيق: انه ان كان الواجبان قصديين، وقلنا بالتداخل بطريق ما، فلا بد من
قصد كلا الامرين، إذ مع قصد أحدهما لا يتحقق متعلق الاخر لتقومه
بالقصد.
وإن لم يكونا قصديين، فإنما يلزم قصدهما على بعض المباني في كيفية
امتثال الأمر التعبدي. بيان ذلك: ان الاحتمالات في كيفية امتثال الامر العبادي
ثلاثة:
الأول: الاتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى ولو كان ربطا غير
واقعي، كما لو جاء بالعمل بداعي امتثال امر خاص فلم يكن له وجود وكان
الثابت امرا آخر فإنه يتحقق امتثاله. فلا يعتبر في العبادية سوى ربطه بالمولى
واسناده إليه وإن لم يكن له واقع.
الثاني: الاتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى بربط واقعي، ولو كان
غير ربطه بالأمر الذي يتحقق امتثاله، بان يكون العلم له جهتا إضافة للمولى
فيأتي به العبد مرتبطا من احدى الجهتين فيقع امتثالا عن كلتاها.
الثالث: الاتيان بالعمل مرتبطا بالمولى ومضافا إليه من طريق نفس
الامر الذي يقع امتثالا له، فلو كان للعمل جهتا إضافة وقصد إحداهما لم يقع
امتثلا عن الأخرى.
271

فعلى الاحتمال الأول والثاني: لا يعتبر في تحقق الامتثال قصد كلا
الامرين، بل يكفي قصد أحدهما لتحقق إضافة العمل إلى المولى بإضافة واقعية.
وعلى الاحتمال الثالث: لابد في امتثال كلا الامرين من قصدهما معا،
والا لم يقع امتثالا الا لما قصده منهما. فلاحظ.
وتحقيق أحد هذه الاحتمالات قد تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي،
وتقدم ان الحق هو الثاني. فراجع.
هذا تمام الكلام في مفهوم الشرط والحمد لله تعالى أولا واخرا.
* * *
272

مفهوم الوصف
وقع الكلام في ثبوت مفهوم الوصف وعدمه، فهل مقتضى قول الامر:
" أكرم الرجل العالم " عدم وجوب اكرام غير العالم؟.
وقد تصدى المحقق النائيني إلى بيان ان محل البحث هو الوصف المعتمد
على موصوف، والى انه الوصف الأخص من موصوفه أو الأعم منه من وجه في
مورد الافتراق من جانب الموصوف (1).
وهذا البيان ينبغي ان يذكر بعد تحقيق الحال في المفهوم والنظر في أدلة
اثباته ونفيها، حتى يعرف ما تقتضيه من سعة موضوع البحث وضيقه.
وعليه، فيقع البحث فعلا في أصل المطلب ولنجعل موضوع البحث
الوصف المعتمد على الموصوف لأنه متيقن الدخول فيه.
فنقول: الوجوه التي تذكر لاثبات مفهوم الوصف متعددة:
الأول: ما أشار إليه في الكفاية من دعوى الوضع للعلية المنحصرة (2).
وفيه: انه لا شاهد عليه أصلا.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 433 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 206 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
273

الثاني: ما ذكره في الكفاية من أن الأصل في القيود ان تكون احترازية،
ومقتضاه ثبوت المفهوم والا لم يكن القيد احترازيا (1).
وفيه: ما ذكره (قدس سره) من أن المراد من كونها احترازية انها توجب
الاحتراز فيما كانت قيدا له، فإذا كانت قيدا للموضوع كما هو الظاهر فلا توجب
الا تضييق دائرته، كما لو ذكر أولا بعنوان واحد، فلا فرق بين جئني بانسان
وجئني بحيوان ناطق. وبتعبير آخر: انها احتراز عن دخالة غيره في شخص
الحكم لا سنخه، وذلك لا يلازم المفهوم.
وجملة القول: انه لم يثبت من كونها احترازية غير ذلك. فلاحظ.
الثالث: ما ذكره في الكفاية أيضا من حمل المطلق على المقيد - إذا كانا
مثبتين -، فإنه لا يصح الا إذا قيل بمفهوم الوصف، فيدل المقيد على انتفاء الحكم
عن غير مورد الوصف.
وفيه: ما أشار إليه (قدس سره) من انه يبتني على امرين: أحدهما: وحدة
الحكم المنشأ بالدليلين. وثانيهما كون القيد احترازيا، فإنه يثبت بذلك ان الحكم
موضوعه المقيد كما لا يخفى، ولا يبتني حمل المطلق على المقيد على الالتزام بمفهوم
الوصف. وإلا لزم عدم تقدم المقيد على المطلق لان دلالة كل منهما على مدلوله
بالاطلاق، لان ثبوت المفهوم على تقديره بضميمة الاطلاق. وعليه فلا وجه
لتقديم أحدهما على الاخر (2).
الرابع: اللغوية، بمعنى انه لا اثر لذكر الوصف الا إفادة المفهوم والا
كان لغوا، وهذا المعنى أشار إليه في الكفاية وجوابه ظاهر كما ذكره، إذ يكفي في
رفع اللغوية تصور أدنى أثر لذكر الوصف كالاهتمام به أو وقوعه مورد السؤال
ونحو ذلك (3).

(1) (2) و (3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 206 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
274

الخامس: ما افاده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية، وهو يمكن
جعله وجها اخر للغوية، وهو يبتني على مقدمات ثلاث.
الأولى: ان ظاهر القيد كونه احترازيا، والمراد به انه دخيل في تحقق
الحكم وموجب لقابلية المورد لثبوت الحكم فيه.
الثانية: ان المعلق عليه هو الوصف بعنوانه، ودخالة غيره منافية لتأثيره
بعنوانه، إذ يستند الحكم إلى الجامع، لامتناع تأثير المتعدد في الواحد.
الثالثة: ان المعلق هو سنخ الحكم لا شخصه، بالمعنى الذي بينه لسنخ
الحكم.
فإذا تمت هذه المقدمات ثبت المفهوم لا محالة، إذ لو ثبت الحكم عند ثبوت
غير الوصف لما كان الوصف مؤثرا في سنخ الحكم بعنوانه كما عرفت.
ولكنه استشكل فيه بإنكار المقدمة الثانية بدعوى: ان قضية امتناع تأثير
المتعدد في الواحد انما هي في الواحد الشخصي لا النوعي، وما نحن فيه من هذا
القبيل، لان وحدة شخصي الحكم بالنوع لا بالشخص، فلا يمتنع تأثير المتعدد
بما هو متعدد فيه على أن يكون كل واحد مؤثرا في فرد غير ما يؤثر فيه الاخر (1).
لكنه صحيح بمقدار يلزم به صاحب الكفاية، لالتزامه بالقضية المزبورة
في الواحد النوعي كما مر منه مرارا (2).
هذا ولكن الحق انه لا يمكننا إلزام صاحب الكفاية ومن نحا نحوه بهذا
البيان لوجهين:
الأول: انه ينتقض باللقب، لان مقتضاه ثبوت المفهوم له أيضا لظهور
دخالة: " زيد " في: " أكرم زيدا " بعنوانه في الحكم، فإذا كان المعلق هو سنخ الحكم

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 330 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 206 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
275

كان ذلك ملازما للمفهوم، إذ لو ثبت غيره موضوعا للحكم كان المؤثر في الحكم
هو العنوان الجامع بين زيد وغيره ولا يكون زيد بعنوانه مؤثرا، وهو خلف.
الثاني: ان المقدمة الثالثة المتكفلة لبيان كون المعلق هو السنخ غير
مسلمة - وبذلك ينحل الاشكال في الجميع -، وذلك إذ التوصيف وان كان ظاهرا
في دخالة الوصف لكن لا ظهور له في أنه دخيل في سنخ الحكم حتى ينتفي
بانتفائه، بل يمكن أن يكون دخيلا في شخصه فلا يلازم المفهوم.
وبتعبير آخر: انه (قدس سره) التزم بان مفاد الكلام - في القضية
الشرطية - تعليق وجود الحكم بما هو وجود للحكم على الشرط الملازم للمفهوم
بلحاظ جهة لا ثبوت لها هنا وهي تكفل الكلام لبيان الانحصار فإنه يكون لغوا
إذا لم يكن المعلق هو وجود الحكم بما هو وجود للحكم - كما مر - وهذا لا اثر له
هنا. كما أن صاحب الكفاية وان التزم بان مفاد الجملة الطلبية مفهوم الطلب،
لكن لا قرينة على أن الوصف دخيل في المفهوم لا شخص الطلب المتحقق
بالانشاء.
وبالجملة: فلا دليل على أن الوصف دخيل في ثبوت السنخ لا الشخص،
فلا يتم البيان المزبور. فالتفت.
والذي يتحصل: ان ما يذكر دليلا على مفهوم الوصف اما انه لا ينهض
للدليلية أو انه غير مسلم.
وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في مقام نفي مفهوم الوصف ما
حاصله: ان القيد تارة يرجع إلى الحكم بالمعنى الذي تصوره (قدس سره)، وهو
تقييد المادة المنسبة، وأخرى يرجع إلى الموضوع. والأول يلازم المفهوم دون
الثاني. وبما أن الشرط يرجع إلى الحكم التزم بالمفهوم. واما الوصف فظاهره انه
راجع إلى الموضوع فلا يلازم المفهوم، إذ ثبوت الحكم لموضوع معين لا ينافي ثبوته
لاخر، ولا يلزم انتفاء الوصف سوى انتفاء الموضوع، وهو لا يلازم انتفاء الحكم
276

لامكان ثبوته لموضوع غيره (1).
وما افاده (قدس سره): لا يخلو من نظر.
فان ما ذكره بقول مطلق من أن القيد إذا رجع إلى الحكم يلازم انتفائه
انتفاء الحكم، وعليه بنى اختيار ثبوت مفهوم الشرط. مخدوش بما عرفت من أن
تقييد الحكم بالشرط ان كان راجعا إلى تعليقه عليه لازم ذلك ثبوت المفهوم. وان
كان بمعنى آخر من ترتب الحكم عليه أو الملازمة فلا يلازم المفهوم، وقد عرفت أنه
لم يدع أحد ان الأداة موضوعة للتعليق، وورود التعبير به مسامحة وغفلة.
واما ما ذكره من انه إذا كان القيد قيدا للموضوع فلا يلازم المفهوم.
ففيه: انه (قدس سره) يلتزم بان قيود الموضوع ترجع في الحقيقة إلى الحكم
وتكون قيودا له، بتقريب: ان الحكم بالإضافة إليه اما مطلق أو مهمل أو مقيد،
والأول ممتنع لأنه خلف. وهكذا الثاني أيضا لامتناع الاهمال في مقام الثبوت.
فيتعين الثالث.
نعم، من يلتزم بامكان الواجب المعلق قد يدعي صحة تقييد الموضوع
دون الحكم كما صح تقييد المتعلق دونه - وان كان ذلك مورد كلام -، لكنه (قدس
سره) ممن لم يلتزم به. إذن فما افاده في تحقيق مفهوم الوصف غير سديد كالذي
افاده في تحقيق مفهوم الشرط.
يبقى الكلام في جهتين أشرنا إليهما في صدر المبحث:
الأولى: في بيان محل البحث من الوصف، وانه هل يختص بالوصف
المعتمد على موصوف أولا؟. فذهب المحقق النائيني إلى الأول (2).
والتحقيق هو الثاني، لجريان بعض أدلة مفهوم الوصف في غير المعتمد

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 434 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 433 - الطبعة الأولى.
277

كالوجه الخامس الذي ذكره المحقق الأصفهاني.
ولعل الوجه في اختيار المحقق النائيني للأول هو: انه (قدس سره) جعل
ملاك المفهوم وعدمه رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع، وهذا مما يستلزم
ثبوت الموضوع حتى يرجع القيد إليه أو إلى حكمه، وبدونه لا معنى للترديد
المزبور.
ولكن عرفت أن وجوه المفهوم متعددة، وبعضها يتأتي في غير المعتمد على
الموصوف.
الثانية: ما ذكرها صاحب الكفاية بعنوان: " التذنيب " وهي تحديد محل
البحث في الوصف بلحاظ نسبته مع الموصوف.
وبيان ذلك: ان الوصف تارة يكون أخص من الموصوف مطلقا. وأخرى
أعم منه مطلقا. وثالثة مساو له. ورابعة أعم وأخص منه من وجه. لا اشكال في
دخول الوصف الأخص من الموصوف مطلقا كالنحوي بالنسبة إلى العالم في محل
النزاع، وهكذا دخول الأخص من وجه إذا كان الافتراق من جهة الموصوف
بان وجد الموصوف دون الوصف، كالعالم العادل. واما سائر الصور، وهي صورة
عموم الوصف مطلقا وصورة تساويه مع الموصوف وصورة العموم من وجه إذا
انتفى الموصوف والوصف، فاستظهر صاحب الكفاية عدم جريانه فيها. ولعل
الوجه فيه هو كون محل البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء
الوصف، فلا بد من فرض بقاء الموضوع، وهو لا يثبت في هذه الصور الثلاث.
وقد استظهر (قدس سره) من بعض الشافعية جريان النزاع في صورة
العموم من وجه مع انتفاء الموصوف والوصف، حيث قال: قولنا: " في الغنم
السائمة زكاة " يدل على عدم الزكاة في معلوفة الإبل، وعلله باستظهار كون
الوصف علة تامة منحصرة فينتفي الحكم بانتفائها، وبذلك حكم بان مقتضاه
جريان النزاع في صورة عموم الوصف المطلق ومساواته للموضوع، لجريان
278

الوجه فيه أيضا، واستشكل في التفصيل الصادر من الشيخ (قدس سره) - على
ما في التقريرات (1) - بين تلك الصورة وصورتي العموم المطلق والمساواة، بجريان
النزاع فيها وعدم جريانه فيهما لعدم الموضوع، لان ملاك عدم الجريان فيهما
يسري إلى تلك الصورة كما أن ملاك الجريان فيها يسري إليهما، فلا فرق بين
هذه الصور من حيث جريان النزاع وعدمه. وعلى أي حال: فمن يرى ان مركز
البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف يلتزم بخروج هذه
الصور عن محل البحث. ومن يرى ان البحث في انتفاء الحكم بانتفاء الوصف
ولو لم يكن الموضوع يلتزم بدخولها في محل البحث. فالتفت.
يبقى الكلام في تعبير صاحب الكفاية عن صورة العموم من وجه وانتفاء
الموصوف والوصف، بما إذا كان الافتراق من جانب الوصف، فإنه لا يخلو عن
مسامحة ظاهرة. وذلك لان صورة افتراق الوصف معناها وجود الوصف وعدم
الموصوف. ومن الواضح انها خارجة عن محل البحث، إذا البحث في اقتضاء انتفاء
الوصف لانتفاء الحكم، فصورة وجوده لا بحث فيها. وقد ورد هذا التعبير في
التقريرات أيضا، ولكن المراد منه ما عرفت.
ومن هنا تعرف ان المراد من قوله في صدر التذنيب: " واما في غيره " (2) ليس
مورد افتراق الوصف، بل غير مورد افتراق الموصوف مما يحتمل ان يدخل في
البحث، وهو مورد انتفائهما معا، إذ موردا وجودهما ووجود الوصف لا بحث
فيهما. فالتفت ولا تغفل، والله ولي التوفيق.
* * *

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 182 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 207 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
279

مفهوم الغاية
وقع الكلام في مفهوم الغاية، وان مقتضى قول الامر - مثلا -: " اجلس
إلى الليل " انتفاء وجوب الجلوس عما بعد الغاية وهي الليل أولا؟. وهناك بحث
آخر يرتبط بالغاية وهو ان الغاية هل تكون داخلة في المغيى أولا؟، بمعنى ان
الحكم هل يثبت عند حصول الغاية، فيكون موضوع البحث في المفهوم ما بعد
الغاية، أو يتحدد بمقتضى الدليل بمجئ الغاية فيكون موضوع البحث في
المفهوم مجئ الغاية وما بعده؟. فالبحث في الغاية من جهتين:
الجهة الأولى: في ثبوت المفهوم للغاية.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع،
فإذا كانت غاية للحكم كما في قوله (ع): " كل شئ لك حلال حتى تعرف انه
حرام " (1) وقوله (ع): " كل شئ طاهر حتى تعلم انه قذر " (2) كان حصولها موجبا
لارتفاع الحكم.
وعلله بانسباق ذلك منها وكونه قضية تقييده بها، والا لما كانت ما جعل

(1) الكافي 5 / 313. الحديث: 40 من باب النوادر كتاب المعيشة.
(2) تهذيب الأحكام 1 / 284. الحديث: 119.
281

غاية له بغاية.
وإذا كانت غاية للموضوع وقيدا له بحسب القواعد العربية مثل: " سر
من البصرة إلى الكوفة "، فهي كالوصف في عدم دلالتها على المفهوم، بل انما
تقتضي تقييد شخص الحكم بها وتحديده، فعند حصولها يرتفع شخصه، ولا
اقتضاء لها لارتفاع سنخه عن غير موضوع.
وعلله بعدم ثبوت وضع لذلك، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا دلت على
اختصاص الحكم به (1).
هذا ما افاده في الكفاية بقليل تصرف. ولم يتعرض (قدس سره) إلى تعيين
ضابط اثباتي يعرف به كون الغاية قيدا للحكم أو للموضوع.
وفي كلامه مجال للمناقشة من جهتين:
الأولى: تفرقته بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وما إذا كانت قيدا
للموضوع، مع أن قيد الموضوع في الحقيقة يرجع إلى الحكم فيتقيد به الحكم
ويرتبط به ولا يثبت بدونه.
الثانية: ما ذكره من الغاية، إذا كانت قيدا للحكم دلت على المفهوم، مع أنه
كان ينبغي بيان ان الغاية غاية لسنخ الحكم لا شخصه، وهذا مما لا دليل
عليه، وإذا أمكن ان تكون الغاية غاية للشخص لم تدل على المفهوم، ولا ظهور
للتقييد في كونه للسنخ.
بل لو كان المغيى هو الطبيعي فلا يجدي في ثبوت المفهوم، لان انشاء
الطبيعي المقيد بقيد أو المغيى بغاية وجعله، لا يقتضي عدم جعل الطبيعي مقيدا
بقيد آخر أو غير مقيد بقيد أصلا.
وببيان آخر نقول: ان التقييد يطرأ على الطبيعي قبل انشائه فينشأ

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 208 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
282

مقيدا، بمعنى انه يلحظ الوجوب مقيدا بقيد وينشأ كذلك، وواضح ان جعل
الطبيعي مقيدا بقيد واعتباره لا يتنافى مع اعتباره مقيدا بقيد آخر ومن دون أي
قيد.
وهذا المعنى يلتزم به صاحب الكفاية، فكيف يجعل تقييد الحكم بغاية
ملازما لانتفائه عند حصولها؟.
واما استشهاده (قدس سره) برواية: " كل شئ حلال حتى تعلم انه
حرام... "، فهو لا ينفع في اثبات المدعى، إذ انتفاء الحلية مع العلم بالحرمة عقلي
لعدم امكان اجتماع الحكمين المتضادين، هذا مع أنه استعمال في مورد خاص علم
المراد منه لا يكشف عن اطراده في مطلق الاستعمالات.
ومما ذكرنا يظهر انه لا وجه لتقريب مفهوم الغاية بنحو ما مر في تقريب
مفهوم الشرط، من ورود القيد على المجعول والمعتبر دون الاعتبار، إذ عرفت أنه
لا يلازم المفهوم.
كما ظهر ذلك ما في كلام المحقق النائيني في المقام من المسامحة، حيث ذهب
إلى أن الغاية إذا كانت قيدا للحكم كانت ملازمة للمفهوم كالشرط وان كانت
قيدا للموضوع لم تلازم المفهوم كالوصف. ثم تعرض إلى مقام الاثبات وتحديد ما
يكون قيدا للحكم وغيره، وعلى كل حال فقد جعل ملاك اقتضاء المفهوم كونها
قيدا للحكم (1).
وقد عرفت أن هذا المعنى لا يلازم المفهوم، كما أنه لا وجه لقياسه المقام
بالشرط، والحال انه لم يلتزم بالمفهوم فيه بمجرد كونه قيدا للحكم، بل بضميمة
اطلاقه ونفي شرط آخر، يتأتى مثل هذا الاطلاق فيما نحن فيه، إذ نفي غاية
أخرى للحكم أو قيد آخر له ولو لم يكن بغاية لا يلازم المفهوم، لاحتمال ثبوت

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 437 - الطبعة الأولى.
283

الحكم فيما بعد الغاية من دون أي قيد وشرط ومن دون كونه مغيى بغاية معينة.
فالتحقيق ان يقال: ان الكلام إذا كان مسوقا لبيان الغاية فقط مع كون
الحكم مفروغا عنه، وانما كان المولى في مقام بيان غايته وحده، كان مقتضى
الاطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع الحكم بحصول الغاية، والا لم تكن الغاية
غاية للحكم، ومثاله قوله تعالى: (كلوا واشربوا؟ حتى يتبين لكم الخيط..) (1) فان
أصل جواز الأكل معلوم والآية مسوقة لبيان غايته. وان كان مسوقا لبيان الحكم
المغيى فلا دلالة له على المفهوم لما عرفت من أن اعتبار حكم مقيد بقيد لا يتنافى
مع اعتباره مقيدا بقيد آخر أو غير مقيد بقيد فتدبر والتفت.
الجهة الثانية: في دخول الغاية في موضوع الحكم وشموله لها.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دخولها فيه، لان الغاية من حدود
المغيى وحد الشئ يكون خارجا عنه، وبما أن موضوع الحكم هو المغيى فلا
يثبت الحكم للغاية (2).
وقد ذكر المحقق الأصفهاني في تعليقته: ان " مبدأ الشئ ومنتهاه تارة:
بمعنى اوله وآخره، وأخرى: بمعنى ما يبتدأ من عنده وما ينتهى عنده الشئ،
ودخول الأوليين كخروج الأخريين من الشئ واضح، والكلام في أن مدخول
" حتى " و " إلى " هو المنتهى بالمعنى الأول أو الثاني. وكون الحد المصطلح خارجا
عن حقيقة الشئ لا يقتضي أن يكون مدخولهما حدا اصطلاحيا " (3). والذي
يظهر من كلامه (قدس سره) ان حد الشئ في اصطلاح المعقول خارج عن
الشئ.
والذي يبدو انه غير صحيح، فان الحد في اصطلاح المعقول امر انتزاعي

(1) سورة البقرة، الآية: 187.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 209 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 332 - الطبعة الأولى.
284

عن واجدية شئ لشئ وفاقديته لاخر، فتحديد الخط بمتر ينتزع عن واجديته
لمقدار من الخط وفاقديته لمقدار آخر.
كما أن الحد في عرف المنطقيين عبارة عن حقيقة الشئ وذاته.
ولم يظهر من كلام الكفاية ارادته الحد بمعناه المعقولي، بل يمكن أن يكون
نظره إلى معناه العرفي وهو نهاية الشئ.
والذي يناقش به صاحب الكفاية ان موارد الاستعمالات مختلفة، فبعضها
ظاهر في دخول الغاية، كما لو قال: " انتظرتك إلى يوم الجمعة " فان يوم الجمعة
داخل في الانتظار، ولذا يصح ان يجيبه المخاطب: " باني جئت يوم الجمعة ولم
أجدك ". ويعضها ظاهر في عدم دخولها كقوله تعالى: (وأتموا الصيام إلى الليل)
وعليه فلا يمكن الجزم بأحد الطرفين واختيار أحد الاحتمالين، والكلام بدون
قرينة يكون مجملا. * * *
285

مفهوم الاستثناء - الحصر
لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم المستثنى منه وعدم
عمومه للمستثنى سواء كان الحكم ايجابيا أو سلبيا، وهذا المعنى لا يقبل الانكار
عرفا، فلا يتوقف أحد في أن قول القائل: " جاء القوم الا زيدا " يدل على عدم
مجئ زيد، وقوله: " ما جاء القوم الا زيدا " يدل على مجيئه. ولأجل وضوح هذا
المعنى لم يكن في بحث مفهوم الاستثناء مزيد كلام.
ولعله لاجل ذلك تعرض المحقق النائيني (1) إلى البحث في بعض الجمل
المشتملة على الاستثناء حتى يطول البحث شيئا ما مع خروجه عن بحث
الأصول، فلا يهمنا التعرض إليه، ولكن مع وضوح هذا المعنى - في الاستثناء -
ذهب أبو حنيفة إلى انكار ثبوته، والى عدم دلالة الاستثناء على ما ذكر (2)، كما
حاول البعض الاستدلال عليه (3) وهو مما لا حاجة له.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 438 - الطبعة الأولى.
(2) العضدي. شرح مختصر الأصول / 265 -
(3) استدل به في قوانين الأصول 1 / 251 للقمي وفي مطارح الأنظار / 187 للكلانتري وفي
الفصول / 196.
287

اما حجة أبي حنيفة في انكاره مفهوم الاستثناء، فهي مثل قوله (ع): " لا
صلاة الا بطهور "، إذ مقتضى مفهوم الاستثناء كون الطهور وحده صلاة دون
غيره، وهو مما لا يقول به أحد.
وأجاب عنه في الكفاية بوجهين:
أحدهما: انه استعمال مع القرينة وهو لا يدل على المدعى.
ثانيهما: ان المقصود من الصلاة هو تمام الأجزاء والشرائط، والمعنى انها
لا تكون صلاة الا إذا انضم إليها الطهور، فالطهور مقوم لصدق الصلاة على
تمام الاجزاء لا ان الصلاة هو الطهور، إذ لم يقل لا صلاة الا لطهور وهذا واضح
لا يخفى. فلا يدل على المدعى (1).
واما احتجاج من استدل عليه بكلمة التوحيد وهي: " لا إله إلا الله "، إذ
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقبلها، مع أنه لو لم تدل على الحصر ونفي
الألوهية عن غيره جل اسمه لم تنفع. فقد ناقشه صاحب الكفاية: بأنه من
الممكن أن يكون ظهورها في التوحيد من جهة قرينة حالية أو مقالية فلا تنفع
في اثبات المفهوم (2).
ثم إنه قد أشكل على دلالة الكلمة الشريفة على التوحيد بان خبر " لا "
اما ان يقدر " ممكن " أو " موجود ".
فعلى الأول لا تدل على امكان وجوده تعالى لا على وجوده فعلا، وهو
لا فائدة فيه.
وعلى الثاني لا تنفي الا وجود غيره تعالى لا إمكانه، وهو أيضا لا فائدة
فيه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 210 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 210 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
288

وأجاب عنه صاحب الكفاية: بان المراد من الاله واجب الوجود، وحينئذ
فتقدير الوجود نافع، إذ نفي وجود واجب الوجود مطلقا واثباته لله جل شأنه يدل
بالملازمة البينة على امتناع تحقق غيره، إذ امكان واجب الوجود ملازم لوجوده،
فلو كان ممكنا لوجد، فنفي اللازم يستلزم نفي الملزوم (1). فتدبر.
وقد أطال المحقق الأصفهاني في تحقيق الجواب عن الاشكال، فراجع
كلامه، إذ ليس في نقله معرفة فيه مزيد اثر فيما نحن فيه (2).
وقد تعرض صاحب الكفاية بعد ذلك إلى امر وهو: ان دلالة الاستثناء
على الحكم في طرف المستثنى هل هي بالمفهوم ومن باب انه لازم لخصوصية الحكم
في المستثنى منه الذي دلت عليه الجملة منطوقا، أو انه بالمنطوق وبنفس
الاستثناء؟. استظهر (قدس سره) الأول ولم يستبعد الثاني، وذهب (قدس سره)
إلى أن تعيين ذلك لا يكاد يفيد - على حد عبارته (3) -.
ولكن الحق ان هذا البحث له أثر عملي، كبير، ونستطيع ان نقول: ان
المهم في مبحث الاستثناء هو هذا الامر، وذلك لأنه إذا كان ثبوت الحكم في
المستثنى من باب المفهوم وكونه لازم الخصوصية الثابتة لحكم المستثنى منه، فمع
الشك في سعة الحكم في المستثنى وضيقه لا طريق لدينا لاثبات سعته، إذ لا معنى
للاطلاق فيه بعد أن كان مدلولا التزاميا، كما أن الاطلاق في المنطوق الملازم له
لا ينفع في ذلك لاحتمال ان تكون الخصوصية ملازمة لنفي الاطلاق عن المستثني
لا لنفي كل فرد من افراد المطلق، وهذا بخلاف ما لو كانت الحكم مدلولا
للمنطوق، فإنه يمكن التمسك باطلاقه في اثبات سعة الحكم، وما يصلح مثالا لما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 210 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 332 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 211 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
289

نحن فيه قوله (ع): " لا تعاد الصلاة الا من خمس.. " (1)، فإنه مع الشك في ثبوت
الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات، فإن كان ثبوت الإعادة فيها
بالمفهوم لا مجال لاحرازه في مورد الشك ولو علم نفي الإعادة بنحو مطلق في
طرف المستثنى منه، إذ لعل الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كل فرد
فرد. واما إذا كانت ثبوت الإعادة فيها بالمنطوق أمكن التمسك باطلاق الكلام
في اثباته في مورد الشك، فإنه نظير ما لو قال: " لا تعاد الصلاة من كذا وكذا
وتعاد من خمس... "، وكون ذلك مدلولا للحرف لا يضر في امكان الرجوع إلى
الاطلاق في متعلقة أو نحوه، كسائر موارد الحروف التي يتأتى فيها الاطلاق.
وإذا ثبت الأثر لهذا الامر فيقع الكلام في اثبات أحد طرفيه، وهو مشكل
جدا. ولعل توقف الأصحاب من تعميم حكم الإعادة في الخمس لجميع الحالات
مما يرجح انه ثابت بالمفهوم لا بالمنطوق. ولا طريق لدينا لاثبات أحد الطرفين.
ثم إن صاحب الكفاية تعرض إلى بيان ما يفيد الحصر من الأدوات تتميما
للفائدة في مفهوم الحصر (2)، وإلا فهو خارج عن البحث الأصولي (3).
* * *

(1) وسائل الشيعة باب: 1 من أبواب أفعال الصلاة حديث: 14.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 211 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) وقد نقل سيدنا الأستاذ - مد ظله - كلامه من دون تعليق عليه متابعة له (قدس سره)، ولأجل ذلك
لا نرى حاجة تدعونا لنقله، فمن أراد الاطلاع عليه فليراجع. (منه عفي عنه).
290

مفهوم اللقب والعدد
ذهب صاحب الكفاية وتبعه غيره، بل ذهب غيره إلى عدم اقتضاء اللقب
والعدد للمفهوم (1)، فلا دلالة لقول الامر: " أكرم زيدا أو أكرم العالم " على عدم
وجوب اكرام غير زيد أو غير العالم. كما لا دلالة لقوله: " أكرم عشرة رجال " على
عدم وجوب اكرام غيرهم، الا إذا اخذ العدد بنحو التحديد من طرف الأقل والأكثر
، فينفي وجوب اكرام غيرهم بمقتضى التحديد، وهو من أقوى المفاهيم.
وهو واضح لا كلام فيه فلاحظ وتدبر. والله سبحانه ولي التوفيق. انتهى مبحث
المفاهيم ويليه مبحث العام والخاص.
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 212 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
291

العام والخاص
293

العام والخاص
تعريف العام
لا يخفى ان مفهوم العام واضح عرفا، وهو - كما جاء في الكفاية - ما يكون
شاملا لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه.
وقد ذكر صاحب الكفاية: انه عرف بتعاريف، ووقع الاشكال فيها من
الاعلام، ولكنه ذكره - كما هو شأنه في كثير من الموارد - انها تعاريف لفظية يقصد
بها شرح الاسم، فلا يتجه الايراد عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس (1).
كما أن المحقق الأصفهاني تابعه في الاشكال عليه: بان التعريف اللفظي
غير شرح الاسم بحسب الاصطلاح (2).
وعلى أي حال فالامر ليس بمهم بعد أن لم يكن العموم - بهذا اللفظ
وبعنوانه - موردا الأثر شرعا كي يبحث في تحديد مفهومه، بل الأثر ثابت لما هو
عام بالحمل الشائع وما يكون مصداقا له.
وقد تعرض المحقق النائيني إلى بيان الفارق بين العام والمطلق، وان دلالة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 215 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 334 - الطبعة الأولى.
295

الأول على الشمول لفظية، ودلالة الثاني بالقرينة العامة، وبيان ان ذلك لا يتنافى
مع احتياج مدخول أداة العموم إلى مقدمات الحكمة (1).
وهذا الامر له اثر مهم في باب التعارض، ولذا يتعرض إليه في ذاك
البحث، ولأجل ذلك فما افاده المحقق النائيني مرسلا له إرسال المسلمات - مع أنه
محل بحث وسيأتي فيه انشاء الله تعالى -، ذكر للامر قبل محله وتعرض له قبل
وقته، وكان الأولى ايكاله إلى محله، والأمر سهل أيضا.
أقسام العموم
ينقسم العموم بلحاظ مقام تعلق الحكم إلى أقسام ثلاثة: الاستغراقي
والمجموعي والبدلي، فالعموم في جميعها بمعنى واحد والاختلاف في كيفية اخذه
في موضوع الحكم.
بيان ذلك: ان المفهوم العام يلحظ بنحو الشمول واستيعاب جميع الافراد،
بمعنى انه يلحظ المفهوم المنطبق على جميع افراده ثم إنه بعد ذلك...
تارة: يلحظ جميع الافراد موضوعا للحكم.
وأخرى: يلحظ كل فرد فرد موضوعا للحكم.
وثالثة: يلحظ فرد منها على سبيل البدل.
فالأول هو العام المجموعي. والثاني هو الاستغراقي. والثالث هو البدلي،
فهناك لحاظ واحد تشترك فيه جميع الأقسام وهو لحاظ جميع الافراد، ولحاظ آخر
تختلف فيه الأقسام.
ومن هنا يظهر ما في كلام المحقق النائيني (2) وما يتراءى من عبارة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 440 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 443 - الطبعة الأولى.
296

الكفاية (1)، من أن هذا التقسيم بلحاظ كيفية تعلق الحكم، الظاهر في تأخره عن
تعلق الحكم.
فان ذلك يتنافى مع الوجدان، لما ذكرنا من أن اللحاظ المحقق لاحد هذه
الأقسام في رتبة متقدمة على الحكم.
كما أنه يتنافى البرهان، لان الاستغراقية والمجموعية والبدلية من
خصوصيات موضوع الحكم، والحكم يتعلق بالعام الاستغراقي وأخويه، فيمتنع
أن تنشأ الخصوصية التي يتقيد بها الموضوع من قبل الحكم.
وقد حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية على ما بيناه فرارا عن
المحذور العقلي الذي ذكره (قدس سره).
ثم إنه في مقام بيان كيفية اختلاف العموم الاستغراقي والمجموعي ذكر
امرا جميل الأسلوب ومتين التصوير لكنه غير خال عن المناقشة.
فإنه ذكر ان للعموم جهتين جهة وحدة وجهة تكثر، فهو مفهوما واحد
لكنه ذاتا متكثر، نظير الدار فإنه مفهوما واحد لكنه ذاتا متكثر لاشتمال الدار
على اجزاء عديدة، وهاتان الجهتان واقعيتان في العام لا ترتفعان عنه، لكن المولى
في مقام الحكم على العام تارة يلحظ جهة الوحدة من دون ملاحظة جهة الكثرة
فيكون الموضوع هو المجموعي. وأخرى يلحظ جهة الكثرة دون جهة الوحدة
فيكون الموضوع هو الاستغراقي. هذا كلامه ملخصا (2).
وفيه: ما عرفت من أن لحاظ العام منطبقا على جميع افراده وساريا في
مصاديقه مما لا بد منه في جميع الأقسام، إذ لحاظ جهة الكثرة امر وجداني في
الأقسام كلها فلاحظ.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 216 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 334 - الطبعة الأولى.
297

والأمر سهل بعد أن لم يكن هناك اثر عملي للأقسام المذكورة.
وقد تعرض المحقق النائيني إلى امرين (1) لا يخلوان عن أثر:
الامر الأول: انه أنكر العموم البدلي وألحقه بالمطلق لكونه يستفاد غالبا
من اطلاق المتعلق.
ويرد عليه:
أولا: ان لمهم في اثبات العموم البدلي هو تقديمه على الاطلاق المعارض
له، لان دلالته لفظية بخلاف دلالة المطلق.
وهذا الامر يرتبط بواقع العام البدلي وهو كون الدال فيه لفظا لا بتسميته
عاما أو مطلقا، فلا اثر للتسمية في المقام.
وثانيا: ان وجود بعض الافراد مما يدل عليه اللفظ يكفي في المطلب
وتحرير الكلام.
الامر الثاني: في بيان ما هو المتعين اثباتا مع عدم القرينة مع دوران الامر
بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي. والذي ذكره هو ان المتعين مع عدم
القرينة هو العموم الاستغراقي لاحتياج العموم المجموعي إلى مؤونة زائدة.
ويرد عليه: ان مراده...
ان كان أن الكلام ظاهر في الاستغراقي لاجل احتياج غيره إلى مؤونة
فهو في مقام الاستدلال على ثبوت الظهور في نفسه بذلك وتعليله به. ففيه:
أولا: ان الاستغراقية إلى تحتاج إلى مؤونة كالمجموعية كما تقدم، وليست نسبة
الاستغراقية إلى المجموعية نسبة الأقل والأكثر بل نسبة التباين.
وثانيا: ان احتياج أحد القسمين إلى مؤنة زائدة لا يعين ظهور الكلام فيما
ليس فيه مؤنة، وأي ربط لذلك بالظهور أو الوضع، فلعله قد يوضع اللفظ لما فيه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 443 - الطبعة الأولى.
298

مؤونة أو كان ظاهرا فيه.
وان كان المراد ان الظاهر الأولي للكلام هو العموم الاستغراقي، وغيره
يحتاج إلى قرينة فيحمل الكلام عليه عند عدمها كحمل المطلق على الاطلاق
عند عدم التقييد.
فهي دعوى بلا دليل ولا شاهد عليها، فما افاده لا يقبل الاقرار به.
والحق ان الكلام لا ظهور له في أحدهما بدون قرينة حال أو مقال، فمع
عدمها يكون الكلام مجملا والمرجع إلى الأصل العملي.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر ان شمول مثل لفظ " عشرة " لآحادها
المندرجة تحتها ليس من باب العموم ودلالة العام على افراده، لما عرفت من أن
العام هو المفهوم الصالح للانطباق على كل فرد من افراده مثل: " عالم " في: " كل
عالم "، ومفهوم: " عشرة " لا يصلح للانطباق على كل واحد مما يعمه (1).
ولا يخفى ان لهذا المطلب اثرا عمليا، يظهر فيما سيأتي انشاء الله تعالى في
مبحث حجية العام في الباقي وعدم منافاة التخصيص له ومعارضته، فإنه لو التزم
بذلك في العام لاجل عمومه لا يثبت لمثل العشرة إذا ورد دليل يتكفل اخراج
بعض افرادها، بل يكون الدليل المخرج معارضا لها، وسيأتي توضيح ذلك انشاء
الله تعالى فانتظر.
صيغ العموم
ذكر صاحب الكفاية ان للعموم صيغة تخصه كالخصوص، ولا وجه
لدعوى عدم وجود صيغة تخصه وذكر الوجه الذي يستند إليه المانعون ورده (2).
وهذا الامر لا نعرف له اثرا عمليا فعلا، فلا لزوم لإطالة الكلام فيه.

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 216 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
299

انما الامر الذي له كبير اثر في مقام الاستنباط، والذي ذكره الاعلام من
دون مزيد تحقيق وكشف غموض ولم يعيروه الاهتمام اللازم له، هو ما تعرض له
من عد بعض صيغ العموم وبيان احتياج كل منها إلى جريان مقدمات الحكمة
في المدخول.
وهي خمسة:
الأولى والثانية: النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي.
والكلام فيهما من جهات:
الجهة الأولى: ان دلالة النهي عن العموم الذي به يفترق عن الامر قد
عرفت تحقيقها فيما تقدم في أول مبحث النواهي، فقد عرفت هناك ان الامر إذا
تعلق بصرف الوجود بمعناه الأصولي المنطبق على أول وجود فلا يقتضي امتثاله
سوى الاتيان بفرد واحد من الطبيعة، إذ بها يتحقق صرف الوجود.
واما إذا تعلق النهي بصرف الوجود فهو يستدعي عدم الاتيان بأي فرد
من افراد الطبيعة.
وقد عرفت ما استشكله المحقق الأصفهاني، في كلام الكفاية، واعتراضه
بملازمة النهي عن صرف الوجود لترك جميع الافراد، ولكنه استشكل فيه بما
يرجع إلى الاشكال اللفظي فراجع (1).
وبالجملة: لا اشكال في أن النهي إذا تعلق بصرف الوجود اقتضى ترك
جميع الافراد بخلاف الامر.
ومن هنا يلتزم بان النكرة الواقعة في سياق النهي تفيد العموم.
وليس تعلقه بصرف الوجود بالغريب عرفا، بل هو واقع عرفا، فمثلا إذا
أراد الشخص النوم وكان يستيقظ بمجرد صدور كلام من حد فهو حين ينهى

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 260 - الطبعة الأولى.
300

عن الكلام بنهي عن صرف وجوده، بحيث لو تحقق صرف الوجود لم تكن سائر
الوجودات مبغوضة لعدم تأثيرها في حاله بعد استفاقته من نومه.
الجهة الثانية: ان هذا البيان لا يتأتى في النكرة الواقعة في سياق النفي،
إذ تعلق النفي بصرف الوجود في مثل قوله: " لا رجل في الدار " مما لا معنى له
محصل.
وعليه، فما هو ظاهر الكفاية والمحقق الأصفهاني من كونهما من واد واحد
في دلالتهما على العموم فيه مناقشة ظاهرة. فان المحقق الأصفهاني وان ناقش
صاحب الكفاية في دلالتهما على العموم، لكنه لم ينبه على اختلاف ملاك دلالتهما،
فظاهره تقرير صاحب الكفاية. فالتفت.
اذن فما هو الوجه في دلالة مثل: " لا رجل في الدار " على العموم، بحيث
حصل الفرق به بين هذا القول وبين قوله: " في الدار رجل "؟.
يمكن ان يقال: ان المراد بلفظ، " رجل " في كلا المثالين أقل مراتب وجود
الرجل لا بما هو أقل بل ذات الأقل، ولا يخفى ان نفي ذات أقل المراتب ملازمة
لنفي الجميع، إذ ذات الأقل موجودة في كل مرتبة تفرض للوجود، اما اثبات أقل
المراتب فهو لا يلازم ثبوت الجميع كما لا يخفى.
الجهة الثالثة: ان دلالة النفي والنهي على العموم بالنحو المزبور تتبع في
السعة والضيق سعة المدخول وضيقه، واحراز سعة المدخول انما يكون بمقدمات
الحكمة، ولولاها لم يكن وجه لدعوى إرادة نفي جميع الافراد أو النهي عنها، إذ
لعل مراده بقوله: " لا رجل في الدار " هو الرجل الأبيض.
وبالجملة: النفي والنهي يدلان على عدم جميع افراد المنفي، اما تعيين حدود
المنفي من اطلاق أو تقييد فهذا يحتاج إلى دليل آخر.
وعليه، فالعموم فيها يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول
ليحرز ان المراد به المطلق. فلاحظ. وهذا الامر لا اشكال فيه، وقد أشار إليه
301

صاحب الكفاية في مبحث النواهي وفي هذا المبحث (1).
الجهة الرابعة: ان العموم الثابت في هذين الموردين يختلف عن سائر
موارد العموم فلا تترتب عليه آثاره، ومن جملتها التخصيص، فان ما يدل على
وجود زيد في الدار أو وجود العالم فيها يعارض قوله: " لا رجل في الدار " بخلاف
مثل: " لا تكرم فساق العلماء " فإنه مخصص لدليل: " أكرم العلماء " ولا يعارضه،
بل يقدم عليه بلا كلام. وهذه نكتة مهمة مغفول عنها في كلمات الاعلام، وسيأتي
تحقيقها في المبحث الآتي انشاء الله تعالى.
الثالثة: صيغة " كل " فإنها تدل على العموم بلا كلام، وانما الكلام في كونها
تابعة في السعة والضيق لما يراد من مدخولها، أو انها تدل على سعة المدخول
وعمومه.
والذي يظهر من صاحب الكفاية (2) وصريح المحقق النائيني الأول (3).
وهذا البحث ذو اثر مهم في باب الاستنباط، ويظهر واضحا فيما لو
تعارض العام والمطلق، فإنه لو كانت دلالة العام تابعة لعموم مدخوله، وكان عموم
المدخول مستفادا من مقدمات الحكمة، لم يتقدم العام على المطلق لصلاحية كل
منهما لان يكون بيانا للاخر، بخلاف ما لو كان لفظ: " كل " دالا بنفسه على عموم
المدخول، فان العام يتقدم على المطلق لصلاحيته لان يكون بيانا على المطلق
دون العكس، لان دلالة المطلق تعليقية ودلالة العام تنجيزية، وسيأتي ذلك مفصلا
في مبحث التعادل والترجيح، وانما غرضنا الإشارة إلى الأثر.
وعلى كل حال، فقد ذهب المحقق النائيني - وهو ظاهر الكفاية - إلى أن:
" كل " لا تدل على عموم المدخول، بل هي تدل على عموم ما يراد من المدخول،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 150 و / 217 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 217 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 441 و 450 - الطبعة الأولى.
302

فلا بد في تعيين المراد من المدخول من دليل، وما يدل على عمومه هو الاطلاق
ومقدمات الحكمة.
وأورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله) - بما يتضمنه كلام الأصفهاني في
حاشية الكفاية (1) - من أن ذلك يستلزم لغوية: " كل " لأنه إذا أحرز عموم
مدخولها بمقدمات الحكمة فلا يبقى ل‍: " كل أي أثر " (2).
ويمكن دفع هذا الايراد: بان جريان مقدمات الحكمة في المدخول لا
يلازم لغوية: " كل "، فإنه يمكن ان يلتزم بدلالتها على الشمول في قبال البدلية.
إذ عرفت أن في العموم مقامين، مقام لحاظ الطبيعة منطبقة على جميع
افرادها. ومقام تعلق الحكم بجميع الافراد - بنحو الاستغراق أو المجموعية - في
قبال تعلقه بفرد على سبيل البدل. فمقدمات الحكمة تعين المقام الأول. و " كل "
تعين المقام الثاني.
وبالجملة: إن لدينا مراحل ثلاثة:
الأولى: الطبيعة الصالحة للانطباق على جميع افرادها.
الثانية: الطبيعة المنطبقة فعلا على جميع الافراد.
الثالثة: أخذ جميع الافراد في موضوع الحكم في قبال الفرد عل سبيل
البدل.
فالنزاع في أن الدال على المرحلة الثانية هل هو لفظ " كل "، فتدل عليها
كما تدل على المرحلة الثالثة أو انه مقدمات الحكمة، فلو عبر عن " كل عالم "
بمفهوم تفصيلي فقيل: " جميع افراد العالم " فهل يقصد بيان إرادة افراد العالم
بلفظ: " كل " أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة؟.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 335 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 440 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
303

ولا نستطيع الجزم بأحد الوجهين فعلا لعدم الدليل على كل منهما. وسيأتي
في المبحث الآتي ما لعلنا نستطيع الجزم به بأحد الطرفين.
واما قول الكفاية: " نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند اطلاقها في
استيعاب جميع افرادها " (1). فلا نعرف المراد منه، وهل هو عدول عما استظهره
أولا والتزام بتكفل: " كل " للدلالة على المرحلة الثانية. أو هو مجرد احتمال وبيان
قيل؟. فلاحظ وتأمل.
الرابعة والخامسة: الجمع والمفرد المحلى بالألف واللام، والكلام فيهما من
جهتين:
الأولى: في دلالتهما على العموم، وسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق
والمقيد انشاء الله تعالى. فانتظر.
الثانية: في أنهما لو كانتا دالتين على العموم، فهل يدلان على عموم
المدخول أو على عموم ما يراد من المدخول؟. ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني،
فالتزم بان تحديد المراد فيهما تابع لسعة المدخول وضيقه. وان اطلاق التخصيص
على ذكر القيد المتصل من قبيل قول القائل: " ضيق فم الركية " (2). ولا يخفى ان
هذا البحث انما يتأتى في الجمع بناء على أن الدال على العموم هو أداة التعريف،
فتكون مثل: " كل "، فيبحث في دلالتها على عموم المدخول أو عموم ما يراد منه،
واما بناء على أن دلالته على العموم من باب دلالة اللام على العهد وتعين آخر
مراتب الجمع، فلا معنى للبحث المزبور والترديد المتقدم، إذ لا موضوع له.
نعم لا بد من ملاحظة المدخول وحده لبيان ما هو المتعين من أنواع
الجمع. فالتفت ولا تغفل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 217 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 217 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
304

العام المخصص
إذا خصص العام فلا اشكال في عدم حجيته في مصداق الخاص المعلوم.
واما غير مصداق الخاص فقد وقع الكلام في حجية العام بالنسبة إليه بعد
التخصيص. مثلا إذا قال المولى: " أكرم العلماء " ثم قال: " لا تكرم النحويين "،
فهل هو حجة في العالم غير النحوي فيجب اكرامه أو لا فلا يجب اكرامه
بمقتضاه؟.
الذي عليه جل الاعلام هو حجيته في غير مورد التخصيص.
وقد استشكل في حجيته بان العام إذا خصص كان استعماله مجازيا، وبما أن
مراتب المجاز متعددة ولا معين لأحدها، فلا يكون العام حجة في أحدها
لاحتمال استعماله في كل منها، وتعيين تمام الباقي ترجيح بلا مرجح.
وقد تصدى صاحب الكفاية (رحمه الله) لحل هذا الاشكال بما بيانه: ان
التخصيص تارة بالمتصل، كما إذا قال: " أكرم كل عالم الا النحويين ". وأخرى
بالمنفصل، كما إذا قال: " أكرم كل عالم " ثم قال بعد حين: " لا تكرم النحويين ".
فإن كان التخصيص بالمتصل، فقد تقدم انه لا تخصيص في الحقيقة، لان
تضييق المدخول لا ينافي استعمال أداة العموم في العموم، لأنها موضوعة لإفادة
عموم ما يراد من مدخولها، فلا فرق بين قوله: " كل رجل " و: " كل رجل عالم "
في كون: " كل " مستعملة في العموم والاختلاف في المدخول.
وان كان التخصيص بالمنفصل، فالتخصيص لا ينافي ظهور العام في
العموم، وانما يزاحمه في حجيته على المراد الجدي ويتقدم عليه لكونه أظهر منه.
فالعام مستعمل في العموم قاعدة وقانونا والخاص انما ينافيه في حجيته لا في
ظهوره، فيكون حجة في غير الخاص لعدم ما ينافيه، ولا وجه لدعوى استعمال
305

العام في الخصوص وكون المخصص قرينة عليه، بعد امكان ابقائه على ظهوره
في العموم وفرض التنافي في مقام الحجية، لاستقرار ظهور العام في العموم قبل
ورود المخصص ولم يثبت ما يرفعه، إذ الثابت من منافاة الخاص منافاته في مقام
الحجية لا غير (1).
هذا تفصيل مطلب الكفاية، وهو لا يخلو من نوع إجمال ستعرفه فيما بعد.
وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما افاده بالنسبة إلى المخصص المنفصل
بوجهين مبنيين على اختياره فيما تقدم من عدم كون الانشاءات الشرعية متقومة
بالإرادة التشريعية الملازم لكون الحجية بلحاظ كاشفية الانشاء عن كونه بداع
العبث الجدي:
الأول: ان صدور الانشاء الواحد الوارد على موضوع عام، اما أن يكون
بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى جميع افراده، وهو خلف فرض التخصيص.
واما أن يكون ناشئا عن داعيين وهو محال، لاستحالة صدور الشئ الواحد عن
داعيين مستقلين بلا جهة جامعة. والحجية وان كانت جهة جامعة لترتبها على
الكاشف عن البعث لا على المنكشف، الا انها لا تترتب بعد انكشاف عدم
صدور الحكم بداعي البعث، بل بداعي جعل القاعدة، لأنها تتقوم بالكاشف عن
البعث والمفروض انه انكشف عدم الانشاء بداعي البعث بل بداعي جعل
القاعدة.
الثاني: انه يدور الامر بين رفع اليد عن أحد ظهورين، ظهور العام في
استعماله في العموم. وظهور الانشاء في كونه بداعي البعث لا بداعي جعل
القاعدة، فاما ان نرفع اليد عن ظهور العام في العموم ونلتزم باستعماله بداعي
البعث الجدي في الخصوص. واما ان نلتزم باستعماله في العموم بداعي ضرب

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 218 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
306

القاعدة فنرفع اليد عن ظهور الانشاء في كونه بداعي البعث، ولا مرجح
لأحدهما على الاخر.
ثم إنه (قدس سره) بعد هذا النقاش ذكرا امرا يندفع به الايراد فقال:
" ويمكن ان يقال: ان المخصص المنفصل اما ان يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها،
فإذا ورد قبلها فالانشاء وان كان بداعي البعث جدا الا انه بالإضافة إلى
موضوعه الذي يحدده ويعينه بكلامين منفصلين، فإنه لو علم أن عادة هذا المتكلم
إفادة مرامه الخصوصي بكلامين لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلا على مرامه،
وإذا ورد بعدها فالانشاء بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى الجميع. غاية الامر
ان البعث المزبور منبعث في بعض افراد العام عن المصالح الواقعية الأولية، وفي
بعضها الاخر عن المصالح الثانوية بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصص " (1).
أقول: يمكن ان يتوجه على صاحب الكفاية بأنه ما المراد من استعمال
العام في العموم قاعدة وقانونا، وليكون حجة ونحو ذلك مما ورد في التعبيرات في
مختلف المقامات؟. فان المراد منه يحتمل أحد وجهين:
الأول: انه يستعمل في العموم ليكون حجة عليه إذا لم يرد مخصص.
الثاني: انه يستعمل فيه ليكون حجة على الباقي عند ورود المخصص -
كما فسره المحقق الأصفهاني -.
فان أريد منه الوجه الأول: فهو انما يستقيم إذا كان ورود المخصص بعد
وقت العمل بالعام، فان العام يكون حجة في العموم حين العمل قبل ورود
المخصص.
اما إذا كان ورود المخصص قبل وقت العمل بالعام - كما هو الغالب في
زماننا - فلا يتم ما ذكره، لان حجية العام في العموم من باب أصالة العموم، وهي

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 337 - الطبعة الأولى.
307

انما تجرى مع احتمال المخصص عند حضور وقت العمل، اما قبله فلم يقم بناء
العقلاء على جريانها، وسيأتي ما يوضح ذلك في بحث العمل بالعام قبل الفحص
عن المخصص.
وان أريد منه الوجه الثاني: فان أريد انه يستعمل في العموم ليكون حجة
على الخصوص بلحاظ ان مدلوله العام، فهو مما لا يتفوه به أحد. وان أريد أنه يكون
حجة على الخصوص من باب ان الخاص جزء مدلول العام، فيدل عليه
بالدلالة التضمنية، ففيه:
أولا: ان استعمال العام مع إرادة الخاص يكون لغوا، وكان يمكنه التعبير
عن الخاص باللفظ الدال عليه.
وثانيا: انه يبتني على عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في
الحجية كتبعيتها في الوجود، والا سقط العام عن الحجية بالنسبة إلى الباقي
لسقوطه عن الحجية بالنسبة إلى العموم.
والذي عليه التحقيق: هو تبعية الدلالة التضمنية للمطابقية في الحجية.
ولا يخفى ان هذا الاشكال الأخير لا يرد على خصوص صاحب الكفاية
فقط، بل يرد على كل من ذهب إلى كون العام مستعملا في العموم، وهو حجة
على الباقي بعد التخصيص، كما هو ظاهر المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي (1).
والذي يندفع به أصل الاشكال على حجية العام في الباقي: هو الالتزام
بما التزم به المحقق النائيني (2) (قدس سره) من أن أداة العموم لا تفيد عموم
مدخولها وانما تفيد عموم واستغراق ما يراد من المدخول، واستفادة عموم
المدخول انما تكون بمقدمات الحكمة.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم: أجود التقريرات 1 / 452 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم: أجود التقريرات 1 / 449 - الطبعة الأولى.
308

فإنه على هذا لا يكون المخصص منافيا للأداة أصلا، وانما شأنه بيان
المراد بالمدخول، فقول المولى: " لا تكرم النحويين " بعد قوله: " أكرم كل عالم "
لا نظر له الا إلى تقييد العالم وبيان المراد منه، فلفظ: " كل " قبل التخصيص
وبعده مستعملة في معنى واحد وهو إفادة الاستغراق أو المجموعية - في قبال
البدلية -، ولم يتغير المراد الاستعمال فيها ولا المراد الواقعي.
وبالجملة: المخصص اما يضيق دائرة المدخول ولا يرتبط بمدلول الأداة
أصلا، فيكون التخصيص من باب تقييد المطلق.
ولم يقل أحد ان تقييد المطلق يستلزم المجازية، كي يرد الاشكال المتقدم
وستأتي انشاء الله تعالى في باب المطلق والمقيد توضيح ذلك.
وإذا انحل الاشكال المتقدم بهذا البيان ولم ينحل بالبيان السابق كان
ذلك قرينة وشاهدا على تعيين أحد الطرفين في معنى: " كل " الذي وقفنا منه
موقف المتردد سابقا، وعليه فيمكن ان يقال: ان " كل " لا تدل الا على استغراق
افراد ما يراد من المدخول، اما عموم المدخول وشموله فهو يثبت بمقدمات
الحكمة.
ولولا هذا الالتزام أشكل اندفاع الاشكال بالبيان السابق، لابتنائه على
حجية الدلالة التضمنية مع عدم حجية الدلالة المطابقية، وهو مما لا يلتزم به، والا
فلو أردنا الالتزام به فيما نحن فيه كان علينا الالتزام به في العموم المجموعي بعد
التخصيص، ومعه فلا بد من الالتزام به في موارد الأوامر المتعلقة بالمركبات
الارتباطية إذا ارتفع الامر الضمني بأحد اجزائها كالصلاة، مع أنه لا يلتزم به
أحد، ولذا لم يتمسك أحد في اثبات تعلق الامر بالصلاة بباقي اجزائها عند تعذر
البعض بالدلالة التضمنية، بل الذي يلتزم به ان ارتفاع الامر بالجزء يلازم ارتفاع
الامر بالكل ويحتاج وجوب الباقي إلى دليل آخر من استصحاب أو الاجماع
القائم في باب الصلاة على أن: " الصلاة لا تسقط بحال " وبنحو ذلك.
309

وبالجملة: لا محيص عن الالتزام بما التزم به المحقق النائيني، وهو كما
يجري في لفظ: " كل " يجري في المحلى باللام بناء على أن " اللام " بنفسها تفيد
العموم كما أشرنا إلى ذلك. نعم هناك بحث في الجمع المحلى وهو ان اللام - على
تقدير انها تفيد الاستغراق - هل تفيد استغراق الهيئة والمفهوم التركيبي فيكون
الاستغراق بلحاظ مراتب الجمع، أو تفيد استغراق المادة والمفهوم الافرادي
فيكون الاستغراق بلحاظ افراد المدخول؟ وسيأتي البحث فيه انشاء الله تعالى
في باب المطلق والمقيد.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر لدفع الاشكال على حجية العام في الباقي
وجهين آخرين:
الأول: ان العام وان كان مجازا بعد التخصيص، الا ان تعين الباقي من
بين مراتب المجاز بمرجح وهو أقربيته للعام من سائر مراتب المجازات.
واستشكل فيه: بان الأقربية بنفسها لا توجب ظهور الكلام فيه، إذ
الظهور وانصراف اللفظ إلى المعنى انما ينشأ من كثرة الاستعمال فيه الموجبة
لحصول الانس بين اللفظ والمعنى بحيث يصرف المعنى إلى الذهن عند اطلاق
اللفظ.
الثاني: ما في تقريرات الشيخ (رحمه الله) (1) وقد نقله صاحب الكفاية
بنصه وهو: " الأولى ان يجاب: بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل
فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة
مجازية، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها
في مدلوله، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود، لان المانع في مثل
المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 129 - الطبعة الأولى.
310

الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شك فالأصل عدمه ".
واستشكل فيه في الكفاية بان دلالته على كل فرد كانت ناشئة عن دلالته
على العموم، فإذا لم يستعمل فيه - كما هو الفرض - واستعمل في الخصوص بنحو
المجاز لم يكن هناك ما يعين أحد المراتب بعد تعددها، إذ لا ظهور للكلام في
أحدها وتعيين الباقي ترجيح بلا مرجح.
وبالجملة: الدلالة على تمام الباقي ارتفعت بارتفاع دلالته على الكل لأنها
متفرعة عليه، فيحتاج في اثبات دلالته عليه إلى اثبات استعماله فيه وهو مما لا
دليل عليه. فنفي المانع بالأصل لا ينفع مع التشكيك في وجود المقتضي للدلالة.
هذا ما افاده في الكفاية (1).
ويظهر منه انه حمل كلام التقريرات على إرادة الدلالة الضمنية على
الافراد فوجه عليه الاشكال الذي عرفته.
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) وجه كلام التقريرات بنحو آخر،
وذكر بعد كلامه الطويل انه يظهر به بطلان اشكال الكفاية.
وحاصل ما افاده في مقام بيان كلام الشيخ (رحمه الله): ان العام يدل على
كل فرد من افراده بدلالة استقلالية غير مرتبطة بدلالته على فرد آخر فكما أن
ثبوت الحكم في كل فرد غير منوط بثبوته في فرد آخر كذلك دلالته على كل فرد
غير منوطة بدلالته على آخر - ولأجل هذا القياس خص الكلام بالعام
الاستغراقي، إذ ثبوت الحكم في كل فرد من العام المجموعي منوط بثبوته في غيره
من الافراد - وإذا ثبت ما عرفت فإذا قام الدليل ينفي دلالة العام على بعض
افراده بقت دلالته على سائر الافراد على حالها.
وقد أطال (قدس سره) في بيان ذلك والمهم ما ذكرناه (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 220 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 453 - الطبعة الأولى.
311

وما افاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به، وذلك لوجوه:
الأول: انه يختص بالعام الاستغراقي كما تنبه له (قدس سره)، مع أن
البحث فيما نحن فيه لا يختص بقسم دون آخر.
الثاني: ان دلالة العام استقلالا على كل فرد ترجع إلى دعوى استعماله
في كل منها بنحو الاستقلال، وهو مما لا يلتزم به لعدم وضع العام لكل فرد، كما أنه
من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.
الثالث: ان ما ذكره دعوى تحتاج إلى دليل ولا دليل في البين عليها.
والذي ينبغي ان يقال في توجيه ما في التقريرات هو: ان اللفظ حين
يوضع لمعنى كما يحدث بينه وبين الموضوع له ارتباط كذلك يحدث بينه وبين
المعنى الذي له علاقة به ارتباط بحيث يدل على اللفظ مع القرينة ويصح
استعمال اللفظ فيه، فإذا كان للمعنى الحقيقي معان مجازية متعددة يختلف نحو
ارتباطها مع المعنى الحقيقي وكانت متباينة في مقام الارتباط بمعنى ان جهة
العلاقة في كل منها تختلف عنها في الاخر، كان اللفظ مع القرينة الصارفة عن
المعنى الحقيقي مجملا فيها، لعدم ظهوره في أحدها وعدم تعينه لأحدها من دون
معين لأنه ترجيح بلا مرجح.
ومن المعاني المجازية الجزء بالنسبة إلى اللفظ الموضوع للكل، فإذا كان
مراتب الاجزاء متعددة، فتارة لا يعتبر في صحة الاستعمال في الجزء سوى الجزئية
للمعنى الحقيقي. وأخرى يعتبر فيها علاقة خاصة إضافة على الجزئية.
فعلى الأول: فيما ان اللفظ له ارتباط مع تمام مراتب المجاز وكانت هذه
المراتب متداخلة، فلا مباينة بينها في مقام الارتباط، فان الارتباط بالأكثر لا
يباين الارتباط بالأقل لأنه هو وزيادة.
وعليه، كان له ظهور في أعلى مرتبة لارتباطها به، وعدم مباينته للارتباط
بغيرها، فيوجب ذلك صرف اللفظ إليه بمجرد القرينة الصارفة عن الحقيقة،
312

نظير المجاز الواحد، فان اللفظ يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى
الحقيقي.
وبالجملة: على هذا المبني يكون للفظ ظهور في تمام الباقي، فيحمل
اللفظ عليه تحكيما لأصالة الظهور.
اما على الثاني: فان كانت العلاقة المعتبرة زيادة على الجزئية كالمشابهة في
الصورة، وهي الكثرة في باب العموم، فهي موجودة في جميع المراتب المحتمل
استعمال اللفظ فيها، فيتأتى عين الكلام السابق لعدم التباين في مقام الارتباط.
وان كانت العلائق الموجودة في المراتب المتعددة متباينة لم يكن للفظ
ظهور في أحدها، بل كانت نسبته إليها جميعا على حد سواء فيكون مجملا، لان
ترجيح أحدهما بلا مرجح.
فيكون باب العام والخاص على هذا نظير الموارد الأخرى من المجازات
مما يحتاج فيه إضافة معنى اخر، بحيث تكون نسبة المعنى المجازي إلى الحقيقي
نسبة المباين لا الأقل والأكثر.
ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا، فيمكن أن يكون نظر الشيخ (قدس
سره) إلى ما حققناه، وان خصوصية اختلاف المورد عن سائر موارد المجازات
ما عرفت. فتدبر وافهم.
وينبغي بيان أمور:
الأول: قد يدعى منافاة التقييد بالمتصل لمدلول أداة العام، بناء على
كونها تتكفل بنفسها الدلالة على شمول المدخول وتتبنى تعميمه لجميع ما يصلح
للانطباق عليه من الافراد، إذ التقييد بالمتصل يقتضي عدم إرادة جميع الافراد.
ولكن هذه الدعوى وهم محض، وذلك لان الأداة على هذا الرأي انما تفيد
تعميم المدخول لما يصلح للانطباق عليه وتخرج الانطباق من الشأنية إلى
313

الفعلية.
ومن الواضح ان التقييد بالمتصل يمنع من صلاحية الانطباق، فهو لا
ينافي الأداة ولا يزاحمها في مدلولها، فان: " العالم العادل " في: " أكرم كل عالم عادل "
غير صالح للانطباق على العالم غير العادل، فالأداة تفيد تعميمه لجميع ما يصلح
للانطباق عليه.
وبتعبير آخر أوضح: ان مدخول الأداة هو المقيد بما هو مقيد لا ذات
المقيد، والمقيد بما هو مقيد لا يصلح للانطباق الا على افراده بما هو كذلك.
وبالجملة: لا تزاحم بين القيد ومدلول الأداة، بل القيد يرتبط بموضوع
دلالة الأداة، فتدبر جيدا.
الثاني: قد أشرنا فيما سبق إلى أن أداة النفي أو النهي لو كانت مقتضية
للعموم، فهي لا تكون على حد سائر أدوات العموم فلا يثبت لها حكمها.
وقد أوعدناك في بيان ذلك.
وعليه، فنقول: انه بناء على أن أداة العموم تفيد بنفسها تعميم المدخول
لافراده، وان حجيتها في الباقي بعد التخصيص بالمنفصل..
اما من باب ان العام مستعمل في العموم والخاص يزاحم حجيته في
مورده، ومقتضاه حجيته في الباقي تحكيما لأصالة الظهور لدلالته التضمنية على
ثبوت الحكم في الباقي.
أو من باب استعماله في الخصوص مجازا، وتعين الباقي من بين مراتب
المجاز بما قربنا به كلام الشيخ (رحمه الله).
بناء على هذا الرأي لا يتأتى هذا الكلام في أداة النفي أو النهي، لان
دلالتها على العموم ليس من جهة ان يفيد وضعا إرادة جميع الافراد، بل من جهة
ان النهي أو النفي متوجه إلى ما يلازم انتفاء جميع الافراد، وهو صرف الوجود في
النهي وأقل المراتب في النفي.
314

وعليه، فإذا دل دليل على ثبوت فرد كان معارضا لمدلول دليل النفي أو
النهي، للتنافي بين نفي أقل المراتب وثبوت مرتبة، وبين تحريم صرف الوجود
وجواز فرد، ولا تكون نسبته إلى دليل النفي أو النهي نسبة الخاص إلى العام، إذ
ليس لدليل النفي الا دلالة واحدة على أمر واحد، والعموم يستفاد بالملازمة
العقلية، وليست له دلالة على العموم رأسا كي تكون نسبة الدليل المتكفل لثبوت
فرد نسبة الخاص إلى العام، لكونه ينافيه جهة عمومه لا في أصل مدلوله.
فالتفت.
الثالث: قد تقدمت منا الإشارة إلى أن آثار العموم والخصوص لا تترتب
على مثل لفظ: " عشرة "، مما لم تكن دلالته على مندرجاته بالعموم.
توضيح ذلك: ان ما اخترناه من أن تقدم الخاص على العام لاجل كونه
مقيدا لمدخول الأداة وكون نسبته إليها نسبة المقيد إلى المطلق، لان مدخول
الأداة هو الطبيعة المرسلة، لا يتأتى في مثل: " أكرم العشرة " إذا ورد ما يدل على
حرمة اكرام بعضهم كما لو قال: " لا تكرم اثنين منهم "، وذلك لان مدلول " عشرة "
ليس هو الطبيعة كي تكون نسبة الدليل الاخر نسبة المقيد.
وعليه، فيكون الدليل الاخر معارضا لدليل: " أكرم العشرة " لا مخصصا
له. فلاحظ.
اجماع المخصص
إذا ورد عام مخصص وكان مجملا بحسب المفهوم.
فاما أن يكون متصلا أو منفصلا، وكل منهما إما أن يكون دائرا بين الأقل والأكثر
، كمفهوم الفاسق المردد بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة وكونه
مرتكب الذنب مطلقا ولو كان صغيرة. أو يكون دائرا ين المتباينين كمفهوم:
" زيد " المردد بين كونه ابن عمرو وكونه ابن بكر.
315

فالصور أربع:
الأولى: ما إذا كان الخاص متصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر، كقول
المولى: " اكر العلماء إلا الفساق "، ولا اشكال في صيرورة العام مجملا لما عرفت.
من أن المخصص المتصل يوجب قلب ظهور العام وانعقاده في غير الخاص،
فمتعلق الحكم حينئذ هو العالم غير الفاسق لأنه هو المدخول، وهو مشكوك
الانطباق على مرتكب الصغيرة فلا يكون ظاهرا فيه.
الثانية: ما إذا كان الخاص متصلا وكان مرددا بين المتباينين، كقول المولى:
" أكرم العلماء الا زيدا " وتردد " زيد "، بين شخصين، والحكم فيها كالحكم في
الصورة الأولى والبيان نفس البيان فلا نعيد.
الثالثة: ما إذا كان الخاص منفصلا وكان مرددا بين المتباينين.
ولا اشكال في عدم حجية العام في كلا المتباينين، وذلك بتقريبين:
أحدهما: ان حجية العام انما تكون ببناء العقلاء المعبر عنها بأصالة
العموم، وهي لا يمكن تطبيقها على كلا الفردين، لتعارض الأصلين فيهما للعلم
الاجمالي بخروج أحدهما عن دائرة العموم.
وعليه، فلا دليل على ثبوت حكم العام في أحد الفردين المتباينين.
وثانيهما: ان التخصيص يكشف عن تضييق دائرة حجية العام وقصرها
على غير " زيد " مثلا، فالعام حجة في غير " زيد "، وعليه فكل من المتباينين يشك
في انطباق العام بما هو حجة عليه.
الرابعة: ما إذا كان الخاص منفصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر، كما
لو قال: " أكرم العلماء " ثم قال: " لا تكرم الفساق من العلماء ".
وقد حكم الاعلام فيها بحجية العام في مورد الشك بتقريب: ان العام
قبل ورود المخصص انعقد له ظهور في العموم، ومقتضاه حجية العام في جميع
افراده ما لم يزاحمه ما هو أقوى منه، والخاص الوارد انما يزاحمه فيما هو حجة فيه
316

وهو القدر المتيقن، اما غيره فلا يكون الخاص حجة فيه فيكون العام هو الحجة
فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.
وقد ذكر هذا التقريب صاحب الكفاية وغيره (1).
وجملة القول: ان ظاهر الاعلام إرسال هذا الحكم بتعليله بنحو مسلم.
ولكن التحقيق انه قابل للمناقشة.
ولا بد من ايضاح الكلام، لأنه مورد أثر عملي كبير، ولم ينقح بنحو يشفي
الغليل، فنقول ومنه جل اسمه نستمد العصمة والتوفيق: انه..
ان قلنا: بان الخاص يكون حجة ودليلا على ما يكون حجة فيه فعلا من
مدلوله التصديقي، كان ما عليه الاعلام هو الحق، لأنه حجة في الأقل فقط، لأنه
القدر المتيقن من مدلوله التصديقي، فيخصص العام بمقدار الأقل فقط.
وان قلنا: بأنه يكون حجة على ثبوت الحكم للعنوان الواقعي على واقعة
وإن لم يكن ظاهرا فيه فعلا، كان الحق هو واجمال العام في مورد الشك، لان
الخاص يستلزم تضييق دائرة حجية العام بغير عنوانه الواقعي، فيشك في شمول
المراد الواقعي من العام للمشكوك.
وتقريب القول الأول بان يقال: ان التعبد بصدور الدليل وجعل حجيته
انما يصح بلحاظ ترتب الأثر العملي عليه، والا فالتعبد به لغو. وعليه ففي المورد
لا يتكفل دليل الحجية الا التعبد بالخاص بمقدار ما هو ظاهر فيه فعلا لا غير،
لعدم ترتب اثر عملي على التعبد به بالمقدار الزائد عليه. ولأجل ذلك يقال: بعدم
شمول أدلة الحجية للخبر المجمل بالمرة لعدم ترتب ثمرة عملية عليه.
وتقريب القول الثاني بان يقال: ان الحجية وان كانت بلحاظ الأثر
العملي، لكن عدم الأثر للتعبد بثبوت الحكم على المجمل بواقعه ممنوع على

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 220 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
317

اطلاقه، فإنه يمكن أن يكون له أثر في بعض الأحيان كما فيما نحن فيه.
بيان ذلك: انه إذا صدر حكم من المولى على موضوع عام ثم علم العبد
بثبوت حكم مناف لحكم العام على بعض افراده بعنوان مجمل لا يعرف معناه
أصلا أو لا يعرف حدود معناه سعة وضيقا بان لم عارفا باللغة ولم يكن من
اهل اللسان، فإنه لا اشكال في حصول العلم لديه بتضيق المراد الواقعي من
العام وانه غير واقع هذا العنوان المجمل، لعلمه بعدم امكان اجتماع الحكمين في
موضوع واحد فهو لا يعلم الا بتضيقه بغير العنوان المجمل على واقعه، واثر ذلك
هو التوقف عن اثبات حكم العام لما يشك في كونه من افراد الخاص المعلوم
صدوره.
وإذا تصورنا هذا الامر في مورد العلم بالصدور وثبت اثره أمكن تطبيقه
في مورد الشك في الصدور. ودعوى صحة شمول أدلة الحجية للتعبد بصدور
الخاص بواقعه الذي هو له وإن لم نعرفه، فان واقع الخاص معين في نفسه وانما
هو مجمل في مقام الانكشاف، فيلتزم بتقييد المراد الواقعي للعام بغير واقع الخاص
كيفما كان، واثره عدم التمسك بالعام في مورد الشك لعدم الدليل على كونه مرادا
واقعا، وهو أثر عملي يصحح التعبد.
وهذا التقريب متين جدا، ولكنه يبتني على ما سيأتي انشاء الله تعالى من أن
العلم الاجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين هل ينحل حقيقة إلى علم
تفصيلي وشك بدوي أو لا ينحل؟.
فان قلنا بانحلال حقيقة، لن ينفع هذا التقريب في اثبات اجمال العام في
مورد الشك، لأنه وان علم اجمالا بثبوت الحكم على واقع الخاص على ما هو عليه
لكنه منحل بالعلم التفصيلي بثبوته المتيقن والباقي مشكوك بدوا، فلا دليل على
خروجه عن العام فيشمله بلا كلام.
وان قلنا بعدم انحلاله حقيقة - بعد بيان ان التردد المفهومي بين الأقل
318

والأكثر من باب الأقل والأكثر الارتباطيين لا الاستقلاليين، فإنه لا كلام في
الانحلال فيهما - تم هذا التقريب لقيام الدليل على خروج واقع الخاص عن
العام فيكون مجملا حكما في مورد الشك.
ولا تنفع دعوى انحلال العلم الاجمالي حكما، لان الأثر فيما نحن فيه
أثر واقعي يترتب على واقع العلم الاجمالي لا على منجزيته. فالتفت.
وبالجملة: فهذا التقريب يتم بلا دافع بناء على انكار الانحلال الحقيقي
للعلم الاجمالي المتعلق بالأقل والأكثر، ويترتب عليه اجمال العام في مورد الشك
بلا ريب ولا اشكال، فتدبر جيدا ولاحظ.
وإذا عرفت ما ذكرناه تعرف ما في كلام الاعلام من المسامحة والاغفال.
وقد أطال المحقق النائيني في الكلام بما لا يخلو عن ايراد، ونتعرض إلى
ذكر نقطتين من كلامه (1):
الأولى: ذكر (قدس سره) ان ورود المخصص المنفصل لا يوجب اخلالا
بظهور العام ولا ينافي دلالته التصديقية، بل يزاحمه في مقام الحجية، ولأجل ذلك
يكون العام حجة في مورد الشك، لعدم حجية الخاص فيه فلا مزاحم للعام.
ويرد على هذا البيان امران:
أحدهما: انه انما يتم بناء على الالتزام بان تعميم المدخول تتكلفه الأداة،
أو الالتزام بأنه بواسطة مقدمات الحكمة مع الالتزام بجريانها في المراد
الاستعمالي.
واما بناء على الالتزام بجريانها في المراد الواقعي فلا يتم كلامه، بل يكون
ورود المخصص مخلا بظهور العام لكشف المخصص عن المراد الواقعي. وهو
(قدس سره) التزم بالمبني الأخير كما سيأتي منه انشاء الله تعالى (2)، خلافا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 455 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 529 - الطبعة الأولى.
319

لصاحب الكفاية حيث التزم بجريانها في المراد الاستعمالي (1)، وتبعا للشيخ (رحمه
الله) (2)، ولأجل ذلك التزم بانقلاب النسبة (3).
اذن فما ذكره هنا يتنافى مع مسلكه والتزامه.
وستتضح هذه الجهة في مبحث المطلق والمقيد انشاء الله تعالى.
ثانيهما: انه لو التزم ببقاء العام على ظهوره ومزاحمة الخاص له في مقام
الحجية. فهذا وحده لا يكفي في اثبات حجية العام في المقدار المشكوك، لما عرفت
من الترديد في أن الدليل الخاص هل يستلزم قصر حجية العام فيما هو حجة في
فلا أو في العنوان الواقعي للخاص على واقعه؟، فلا بد من اثبات الطرف الأول
دون الاكتفاء بمجرد الدعوى واتمام الكلام بذلك.
الثانية: ما ذكره (قدس سره) في مقام الجواب عما أورده على نفسه من
استلزام الدليل المخصص تقييد المراد الواقعي بغير عنوان الخاص من أن
الاحكام انما تتعلق بالمفاهيم باعتبار انها مرآة للحقائق والواقع.
وعليه، فدليل الخاص انما يقيد العام بواقع الفاسق مثلا لا بمفهومه، وما
يكون الخاص حجة فيه فهو المتيقن منه دون المشكوك.
ويرد على ما ذكره: ان الحكم وان تعلق بالمفهوم بلحاظ انه مرآة للواقع،
الا ان البحث يقع في أن المخصص يتكفل تقييد العام بواقع الفاسق - مثلا -
الذي يكون حجة فيه فعلا، أو تقييده بواقعه على ما هو عليه ولو مع عدم العلم
به تفصيلا.
وقد عرفت ابتناء المسألة على ما يأتي في باب العلم الاجمالي من بحث
الانحلال انشاء الله تعالى. فالتفت ولا تغفل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 218 - الطبقة الأولى.
(3) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 278 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
320

هذا كله فيما كان التردد في شمول الحكم العام لاجل اشتباه مفهوم
الخاص.
اما إذا علم مفهومه بحدوده وشك في انطباق الخاص عليه لاجل الاشتباه
الخارجي، المعبر عنه اصطلاحا بالشبهة المصداقية، فهل يصح التمسك بالعام في
اثبات الحكم له أولا؟.
لا اشكال في عدم صحة التمسك به إذا كان المخصص متصلا، لما عرفت
من انه يوجب انقلاب ظهور العام وانعقاده في غير عنوان الخاص، وعليه فالشك
في فردية شئ للخاص يلازم الشك في انطباق العام عليه، فمع الشك في فسق
شخص - مثلا - يشك في انطباق عنوان: " العالم غير الفاسق " عليه الذي هو
معقد ظهور العام بعد تخصيصه بالمتصل. وهذا واضح لا كلام فيه.
وانما الكلام في ما إذا كان المخصص منفصلا، كما إذا ورد: " أكرم العلماء "
ثم ورد: " لا تكرم النحويين "، وشككنا في فرد انه نحوي أولا من جهة الاشتباه
الخارجي كالشك في درسه للنحو ونحو ذلك. ولا يخفى ان هذه المسألة من مهمات
المسائل من جهة الأثر العملي لابتناء كثير من الفروع الفقهية عليها، ومن
أمثلتها الظاهرة مسألة تنجس الماء المشكوك كونه كرا بالملاقاة، فهل يشمله
عموم ما دل على نجاسة الملاقي للنجس الذي قد خرج عنه الماء الكر أولا
يشمله؟.
وقد اختلف الاعلام المحققون في جواز التمسك بالعام في مثل ذلك،
فمنهم من ذهب إلى جوازه مطلقا (1)، ومنهم من ذهب إلى منعه مطلقا (2)، ومنهم من
ذهب إلى التفصيل، كصاحب الكفاية فإنه فصل بين ما إذا كان المخصص لفظيا،

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 192 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 458 - الطبعة الأولى.
321

فمنع التمسك بالعام في مورده. وما إذا كان لبيا فأجاز التمسك بالعام في
مورده (1).
فالكلام يقع في مقامين:
المقام الأول: في ما إذا كان المخصص لفظيا.
وقد قرب جواز التمسك بالعام في مورده للشك فيه بوجوده:
منها: ما ذكره في الكفاية من أن العام حجة في مدلوله ما لم تقم حجة
أقوى منه تزاحمه وتنافيه، والخاص لا يكون حجة في الفرد المشكوك، والمفروض
انطباق عنوان العام عليه، اذن فهو حجة فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.
ودفعه صاحب الكفاية: بان الخاص يوجب تضييق حجية العام بغير
عنوانه، ففي المثال المزبور يكون العام حجة في العالم غير النحوي. وعليه فالعام
وان انطبق على الفرد المشكوك بلحاظ ظهوره لكن لا يحرز انطباقه عليه بما هو
حجة، وانطباق عنوان العام لا ينفع ما لم يكن حجة فيما ينطبق عليه.
وعليه، فلا يجوز التمسك بالعام لعدم احراز انطباقه بما هو حجة.
بهذا المقدار من البيان دفع صاحب الكفاية وجه المستدل، وبنى على عدم
حجية العام في الشبهة المصداقية للخاص.
وقد أورد عليه: بأنه عجيب منه (قدس سره) لأنه منع التمسك بالعام في
هذا المورد ببيان يتأتى في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر، ونفى وجه
الحجية هنا مع أنه بعينه هو الذي تمسك به في اثبات حجية العام في الشبهة
المفهومية المزبورة (2).
وهذا الوجه يرد عليه بدوا، فكان على صاحب الكفاية التعرض إلى نفيه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 221 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الإيرواني الشيخ ميزرا علي نهاية النهاية 1 / 283 - الطبعة الأولى.
322

وبيان الوجه في تقيد دائرة حجية العام بغير عنوان الخاص.
وسيأتي بيان عدم صحة هذا الايراد وتمامية ما افاده في الكفاية فانتظر.
ومنها: ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بانيا له على
التزامه بان قوام فعلية الحكم بالوصول وعدم كونه فعليا حال الجهل.
بيان ذلك: انه لو التزمنا بان فعلية الحكم انما تتحقق بوصول الحكم
والعلم به وجدانا أو تعبدا، وذلك باعتبار ان حقيقة البعث والزجر - وهما قوام
فعلية الحكم - جعل ما يمكن أن يكون داعيا وزاجرا، ومن الواضح ان الحكم
ما لم يصل إلى المكلف ويعلم به لا يمكن أن يكون داعيا له أو زاجرا بحيث
يفعل المكلف عن دعوته أو يترك عن زجره.
بناء على هذا الالتزام، فبما ان الخاص لا يكون حجة في الفرد المشكوك
لعدم العلم بانطباقه عليه لم يكن الحكم فيه - على تقدير كونه من افراده واقعا
- فعليا فيكون العام فيه حجة، لان منافاة الخاص للعام وتقديمه عليه بالمقدار
الذي يكون فيه فعليا، لان المنافاة بين الاحكام انما هي في مرحلة فعليتها.
وقد أجاب عنه (قدس سره): بان المخصص كما يكشف نوعا عن ثبوت
الحكم لعنوان الخاص، يكشف بالملازمة عن نفي حكم العام عن عنوان الخاص
للمنافاة بينهما، ولازمه عقلا قصر حكم العام على بعض مدلوله.
وحجية أحد هذين الكاشفين لا ترتبط بالاخر، فإذا سقط الأول عن
الحجية للجهل بالانطباق كان الاخر على حجيته (1).
وهذا البيان هو مضمون جواب الكفاية عن الوجه الأول، وان اشتمل
على بعض ايضاح كبيان ان تضييق دائرة حجية العام بالملازمة. ولكنه لم تنحل
فيه جهة الغموض التي عرفتها، فكان علينا ايضاح هذه الجهة.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 339 - الطبعة الأولى.
323

ثم إن هذا المقدار من البيان لا يدفع الوجه الثاني وذلك لان الخاص..
تارة: يكون مدلوله نفي حكم العام عن بعض الافراد مطابقة، كما لو
ورد: " أكرم كل عالم " ثم ورد: " لا يجب اكرام النحويين ".
وأخرى: يكون مدلوله اثبات حكم مضاد لحكم العام، لبعض الافراد،
كما لو ورد: " يحرم اكرام النحويين "، فان تضيق حكم العام وقصره على بعض
افراده مدلول التزامي للخاص باعتبار تضاد الاحكام، فاثبات أحدهما يلازم
نفي الاخر.
ومحل الكلام في النحو الثاني، لأنه فرض وجود كاشفين نوعيين أحدهما
مطابقي والاخر التزامي، وهو انما يثبت في النحو الثاني.
وعليه فيتوجه عليه:
أولا: انه حيث ثبت ان التنافي بين الاحكام في مرحلة فعليتها. وثبت -
بحسب التزامه - ان فعلية الحكم تتحقق بالوصول. وثبت ان دلالة الخاص على
نفي حكم العام عن عنوانه باعتبار المنافاة بين الحكمين، لم يكن الخاص دالا
على انتفاء حكم العام الا فيما كان حكمه فعليا لعدم المنافاة بين الأحكام الانشائية.
وعليه، فهو يتكفل تضييق حكم العام وقصره على غير النحوي المعلوم
- في المثال المزبور - لا على غير النحوي مطلقا، لأنه انما يتكفل نفيه عن
النحوي المعلوم، فمورد الشك يعلم بانطباق العام عليه بلا مزاحم ومعارض.
فمع انتفاء الدلالة المطابقية عن الحجية لا وجود للدلالة الالتزامية كي
يدعي حجيتها في هذا الحال.
وثانيا: ان بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية مع انتفاء المطابقية عنها
ليس من المسلمات، بل هو محل بحث وكلام وقد تقدم.
مع أن بعض من يرى عدم انفكاك الدلالتين في مقام الحجية، يلتزم بذلك
324

فتدبر جيدا.
وبما انك عرفت أن جواب المحقق الأصفهاني عن الوجه الثاني عبارة
أخرى عن جواب الكفاية عن الوجه الأول، فهو جواب واحد عن كلا
الوجهين.
وقد عرفت غموضه وعدم وضوح الحال به ولذا كان مورد النقض
بالشبهة المفهومية.
وينبغي علينا ايضاحه وبيان نكتة الفرق بين المقامين.
والذي نعتقده انه عمدة الوجوه التي تذكر في نفي التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، وبوضوحه يعرف الحال في بعض كلمات الاعلام، فنقول ومن
الله التوفيق: ان القضايا المتكفلة للاحكام على نحوين:
الأول: ما تتكفل جعل الحكم على الموضوع المقدر الوجود والمفروض
التحقق، فيكون مفادها ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، نظير: " أكرم
كل عالم ".
الثاني: ما تتكفل جعل الحكم فعلا على موضوع خارجي ثابت نظير:
" أكرم من في الدار " أو: " أضف هؤلاء ".
وقد يصطلح على النحو الأول بالقضايا الحقيقية. وعلى الثاني بالقضايا
الخارجية.
ولا يهمنا ذلك لوقوع الاختلاف في تفسير الحقيقية والخارجية، وهو لا
يرتبط بما نحن فيه.
والاحكام في القضايا الشرعية من قبيل النحو الأول، فان مفاد القضايا
الشرعية اثبات الاحكام على الموضوع المقدر الوجود.
ومن الواضح ان المولى في مثل ذلك لا نظر له إلى جهة انطباق الموضوع
على مصاديقه ولا يتدخل فيها، ولذا يصح ان يجعل الحكم على موضوع لا وجود
325

لاي فرد من افراده، بل بعض الاحكام المجعول في الشريعة، يتوخى من جعلها
اعدام الموضوع كاحكام الحدود ونظائرها، فان المقصود فيها عدم تحقق
المحرمات المعينة مع أنه مأخوذ في موضوعها.
وبالجملة: فغاية ما يدل عليه الدليل وما يتكلفه من بيان، هو بيان ثبوت
الحكم على تقدير وجود الموضوع لا أكثر.
اما ان الموضوع ههنا ثابت أولا فلا يرتبط بمدلول الدليل، بل المكلف
إذا أحرز ثبوت الموضوع في مقام يحرز ثبوت الحكم له بواسطة الدليل. فالقضايا
تتكفل بيان كبريات لصغريات يحرزها المكلف نفسه.
وإذا ثبت ان مدلول الدليل هو هذا المعنى كان بمقتضى حجية الظهور
حجة في أنه مراد واقعا، فيكون الدليل متكفلا بمقتضى أصالة الظهور بيان تعلق
الإرادة الواقعية بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود، وحجية الدليل
بهذا المقدار.
واما اطلاق ان الدليل حجة في مصداق موضوعه المعلوم فهو لا يخلو عن
مسامحة، إذ عرفت أن ذلك أجنبي عن مدلول الدليل، واحراز ثبوت الحكم
يكون من باب احراز انطباق الموضوع العام على فرده، فيثبت له الحكم
بمقتضى الدليل.
وعليه، فما يتكفله العام ثبوت الحكم على الموضوع العام المقدر الوجود،
والخاص يزاحمه في هذا المقام، لأنه يتكفل اثبات حكم مضاد لحكم العام على
تقدير وجود موضوعه، فلا يجتمع الحكمان ويتقدم الخاص لأقوائيته ويوجب
تضييق دائرة المراد الواقعي للعام وقصرها على غير عنوانه.
اما المصداق الخارجي للخاص، فكل منهما لا يرتبط به، وكما لا يرتبط
الخاص لا يرتبط به العام، واطلاق ان الخاص ليس حجة فيه اطلاق مسامحي،
لما عرفت أن مقام حجية الدليل لا ترتبط بالخارج أصلا، إذ هو حجة بلحاظ
326

مدلوله وليس في مدلوله ارتباط بجهة الانطباق خارجا.
وبالجملة: فعدم حجية الخاص في المصداق المشتبه لا يصحح التمسك
بالعام لأنه حجة بلا مزاحم، لان مقام مزاحمة الخاص للعام لا مساس لها بجهة
الانطباق، وقد عرفت أن الخاص بمزاحمته أوجب قصر حكم العام على غير
افراد الخاص المقدرة الوجود أيضا.
وبذلك يظهر الفرق بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية الدائرة بين
الأقل والأكثر، فان الخاص في مورد اشتباه المفهوم بما أنه مجمل لم يكن مزاحما
للعام الا بمقدار كشفه عن المراد الجدي، وهو المقدار المتيقن، فيبقى العام في
غيره بلا مزاحم.
فقصور الخاص في مورد الشبهة المفهومية انما هو في مقام المزاحمة وهو
مقام الحجية والكشف عن المراد الواقعي. وليس كذلك الحال في مورد الشبهة
المصداقية، فان قصوره ليس في مقام الكشف والحجية، بل لا قصور أصلا، إذ
التردد في الانطباق، وهو أجنبي عن مفاد الدليل من حيث المراد التصديقي
والمراد الواقعي. فالتفت وتدبر ولا تغفل.
هذا وقد عرفت أن هذا الجواب لا ينهض في نفي الوجه الثاني الذي ذكره
المحقق الأصفهاني.
فالتحقيق في نفيه هو ما تقدم منا في مبحث الواجب المعلق من عدم تقوم
الفعلية بالوصول، وامكان كون الحكم فعليا مع الجهل به. وعليه فالخاص بعنوانه
الواقعي ينافي العام لا بالمقدار الواصل منه، لأنه يتكفل اثبات حكم فعلي لعنوانه
الواقعي مضاد لحكم العام، فالتنافي بلحاظ المصداق الواقعي للخاص لا بلحاظ
المصداق المعلوم، فتتضيق دائرة حجية العام بغير الخاص الواقعي. فلا يصح
التمسك به في المصداق المشكوك لما عرفت في توجيه كلام الكفاية.
ومنها: ما ذكره المحقق العراقي ناسبا له إلى الشيخ الأعظم (رحمه الله).
327

وبيانه بتوضيح: ان باب الخاص والعام يختلف عن باب المطلق والمقيد،
فان ورود الخاص وان أوجب تضييق حكم العام وقصر دائرته، لكنه لا يوجب
تغيير موضوع الحكم العام عما كان عليه، بل يبقى العام بعنوانه على موضوعيته
للحكم من دون تقييد له بشئ.
واما المقيد فهو يوجب تضييق دائرة موضوع الحكم وصيرورة موضوع
الحكم مقيدا ولا يبقى على اطلاقه، ونظير باب التخصيص موت أحد افراد العام
في كونه مستلزما لتقليل سعة الحكم من دون تغيير فيما هو موضوع للحكم، وهو
شاهد على أن قصور الحكم وضيقه لا يلازم ضيق الموضوع.
ومما يشهد باختلاف البابين في هذه الجهة هو وقوع التسالم على عدم
التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيد، وعدم الكلام فيه مع وقوع الكلام
في الشبهة المصداقية للمخصص. فلا يتوهم أحد - بعد تقييد الرقبة بالايمان في
مثل: " أعتق رقبة " و: " أعتق رقبة مؤمنة " - جواز التمسك باطلاق الرقبة في اثبات
الحكم لمشكوك الايمان.
وليس ذلك الا لان التقييد يوجب قلب عنوان الموضوع عما كان عليه
قبله دون التخصيص، فإنه لا يوجب تغيير الموضوع.
وعليه، فلدينا شبهتان: شبهة حكمية وهي الشك في منافاة عنوان ما لحكم
العام كعنوان النحوي ل‍: " أكرم كل عالم ". وشبهة موضوعية، وهي الشك في
ثبوت المنافي - المفروض منافاته - في فرد من افراد العام. ومقتضى أصالة العموم
وظهور الكلام في ثبوت الحكم لجميع الافراد نفي كلتا الشبهتين، فإذا ورد
الخاص كان مزاحما للعام في حجيته بالنسبة إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية،
فيبقى العام على حجيته بالنسبة إليها بعد ورود المخصص.
وقد يدعي: ان العام لا يكون حجة في الشبهة الموضوعية، لان رفع الجهل
فيها ليس من شؤون المولى، إذ قد يكون أكثر جهلا من عبده فيها، فالجهل لا
328

يختص بالعبد، بل مشترك بين العبد والمولى فلا معنى لتصديه لرفع الجهل من
جهتها.
ودفع هذه الدعوى: بأنه لا يشترك في تصدي المولى لرفع الجهل في
الشبهة الموضوعية علمه فيها، بل له نصب طرق وامارات تتكفل رفع الجهل ولو
كان هو جاهلا فيها كما لا يخفى جدا.
هذا ولكن الحق عدم حجية العام في الشبهة الموضوعية في الجملة، لا
لاجل هذا البيان، بل لاجل ان الحجية موضوعها الظهور التصديقي للكلام،
وهو يتوقف على كون المتكلم بصدد الإفادة والاستفادة، وفي مقام ابراز مرامه
باللفظ وهو يتفرع على التفاته لمرامه، ومع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه
كيف يتعلق قصده بتفهيمه؟.
وعليه، فما كان من الشبهات الموضوعية ناشئا عن اشتباه الأمور
الخارجية لم يكن العام فيه حجة لجهل المولى به وعدم تصديه لتفهيمه باللفظ. وما كان
منها ناشئا عن الشبهة الحكمية كان العام حجة فيه لكون مرجع رفع الجهل فيه
هو المولى فله ان يتصدى لتفهيم ثبوت الحكم فيه.
وذلك نظير ما ورد من عدم صحة الصلاة في النجس، فإنه مخصص لعموم
الامر بالصلاة، فإذا شك في نجاسة شئ لاجل الشك في جعل النجاسة له -
كالحيوان المتولد من طاهر ونجس - صح التمسك بعموم الامر بالصلاة في اثبات
صحة الصلاة في جلده.
هذا ما أفاده (قدس سره) بتوضيح منا مع تلخيص واجمال لبعض كلماته،
إذ المهم ما يختص به من البيان وهو امران:
أحدهما: بيان الفرق بين باب التخصيص وباب التقييد.
وثانيهما: التزامه بحجية العام في الشبهة المصداقية الناشئة عن اشتباه
329

الحكم دون الناشئة عن الاشتباه الخارجي، بالبيان الذي عرفته (1).
والذي نستطيع ان نقوله: ان كلامه بكلتا جهتيه غير تام، ومما لا يمكن
المساعدة عليه.
اما الجهة الأولى: فيتوجه عليها:
أولا: ان ما ذكره من الفرق بين التخصيص والتقييد لا يتم على مبنى من
يذهب إلى أن التخصيص يرجع إلى تقييد اطلاق المدخول، وان شأن أداة العموم
ليس إلا إفادة الاستغراق لا إفادة عموم المدخول، فإنه بالاطلاق ومقدمات
الحكمة.
فان واقع التخصيص - على هذا المبني الذي اخترناه وذهب إليه المحقق
النائيني (2) واستقربه صاحب الكفاية (3) - لا يختلف عن التقييد، والفرق بينهما
لفظي واصطلاحي لا غير.
وثانيا: انه لا يتم بالنسبة إلى ما كان المخصص أحواليا - حتى على مبنى
من يذهب إلى أن إفادة العموم بالأداة -، لأنه يتكفل تقييد اطلاق المدخول
بلحاظ أحوال الفرد، وذلك كالمثال المتداول وهو: " لا تكرم فساق العلماء " بالنسبة
إلى: " أكرم كل عالم "، وذلك لان من يذهب إلى أن إفادة العموم بالأداة انما
يذهب إلى أن ذلك بلحاظ التعميم من جهة الافراد، اما التعميم بلحاظ أحوال
الفرد كالفسق وغيره فهو مفاد الاطلاق لا الأداة.
فالمخصص المزبور يصادم اطلاق المدخول، فيرجع واقعه إلى التقييد وان
سمي بالمخصص.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 2 / 519 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 149 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 441 و 450 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 217 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
330

وهذا المعنى مغفول عنه في كلمات الاعلام، فالتفت إليه، وليكن على ذكر
منه لعلك تنتفع منه في غير مقام.
وثالثا: ان ضيق الحكم وقصوره مع عموم الموضوع وسعته امر لا يقبل
الموافقة، فان الحكم يتبع موضوعه ان واسعا فواسع وان ضيقا فضيق.
وببيان آخر نقول: ان الموضوع ثبوتا اما أن يكون مطلقا، أو مقيدا بغير
الخاص، أو مهملا. والثالث ممتنع لامتناع الاهمال في مقام الثبوت. والأول لا
يجامع التخصيص فيتعين أن يكون مقيدا.
واما الاستشهاد على ما ادعاه بموت أحد افراد العام، فهو لا صحة له
بعد ما عرفت من أن الاحكام ثابتة على الموضوعات المقدرة الوجود بلا نظر إلى
الخارج وتطبيقه على افراده، فانتفاء أحد الافراد خارجا لا ينافي ثبوت حكم
العام للموضوع العام ولا يوجب تغييرا في الموضوع، وهذا بخلاف التخصيص
فإنه يزاحم الدليل العام في حجيته على ما تقدم تفصيله.
ورابعا: ان ما ذكره من التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة
المصداقية للمقيد ممنوع على اطلاقه.
بيان ذلك: ان موارد التقييد على نحوين:
الأول: ما كان المطلق والمقيد متفقين في الحكم، والتقييد يكون لاجل
احراز وحدة الحكم المكلفين لبيانه، وهذا نظير: " أعتق رقبة " و: " أعتق رقبة
مؤمنة " و: " صل " و: " صل إلى القبلة " أو: " صل مع الطهارة ". ويصطلح على هذا
النحو ب‍: " حمل المطلق على المقيد ".
والثاني: ما كان المطلق والمقيد متنافيين في الحكم، فيقيد المطلق لاجل
أقوائية المقيد أو قرينيته، نظير: " أكرم العالم ". و: " لا تكرم الفاسق من العلماء ".
وقد يصطلح على هذا النحو ب‍: " حمل المطلق على المقيد " لكنه بضرب من
331

التأويل.
والأمر سهل بعد وضوح الفرق الواقعي بين النحوين.
ولا يخفى انه لا يصح التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في النحو
الأول، لان موضوع الحكم هو المقيد كما عرفت، فلا يجرز انطباقه على المشكوك.
اما النحو الثاني فلا دليل ولا شاهد على وقوع التسالم على عدم التمسك
فيه بالمطلق في الشبهة المصداقية.
واما ما استشهد به من الأمثلة، فهو من قبيل الأول لا الثاني، فلا يصلح
شاهدا على مدعاه.
بل يمكننا دعوى: ان الشاهد على خلاف ما ذكره، فقد نسب إلى
المشهور التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بلحاظ فتواهم بالضمان في مورد
الشك في كون اليد به أمانة أو عادية. ومن الواضح ان ما يدل على الضمان من
المطلق لا العام كقاعدة: " على اليد... " ونحوها.
وسواء تمت هذه النسبة أم لم تتم فهي تشهد لنا، لان ظاهرها عدم كون
ما ادعاه من الأمور الارتكازية المسلمة.
كما انك عرفت فتوى البعض بنجاسة مشكوك الكرية إذا لاقى نجسا
تمسكا باطلاق تنجيس النجس لما يلاقيه المقيد بالكر.
وخامسا: لو سلم وقوع التسالم على عدم التمسك، بالمطلق في مورد
الشبهة المصداقية للمقيد مطلقا وفي كلا النحوين، فهو لا يقتضي اختلاف
البابين فيما ذكره من عدم استلزام التخصيص لتغيير موضوع الحكم واستلزام
التقييد لذلك، وذلك لأنه سيأتي انشاء الله تعالى بيان ان شأن مقدمات الحكمة
ليس إلا بيان إرادة الطبيعة المطلقة السارية في تمام الافراد، واما خصوصية
الشمول والبدلية وغيرها فهي تستفاد من قرينة أخرى عقلية أو غيرها، فعموم
332

قوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) لجميع افراد البيع ليس بالاطلاق بل للقرينة
العقلية.
وعليه، فإذا ورد ما يقيد المطلق كما ورد في مثال البيع: " نهي النبي صلى
الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر " وشك في فرد انه غرري أولا، لا يمكننا الحكم
بشمول الامضاء له لعدم حكم العقل بذلك بالقرينة المتقدمة ولا دليل آخر على
ثبوته فيه.
وبالجملة: مع احتمال الخصوصية من دون رافع لا يحكم العقل بتساوي
الاقدام بالنسبة إلى الفرد المحتمل فيه الخصوصية.
اذن فعدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية لا يتعين أن يكون من
جهة تضيق موضوع الحكم حتى يستكشف من التسالم فيه على العدم ووقوع
النزاع في باب التخصيص عدم تضيق موضوع الحكم في باب التخصيص، بل
فيه جهة أخرى يمكن الاستناد إليها لا وجود لها في العام، لان الشمول فيه
مدلول الكلام فتتساوى فيه الاقدام، ولا يجدي احتمال الخصوصية في التوقف.
واما الجهة الثانية: فيدفعها ما تقدم منا من أن القضايا التي تتكفل
الاحكام إذا كانت بلسان ثبوت الحكم على الموضوع المقدر الوجود من دون
تصدي المولى مرحلة التطبيق، بل يوكل ذلك إلى العبد نفسه، لم يكن الدليل
حجة في الفرد المشتبه للموضوع، إذا الفرض انه مرتب على الموضوع ولا يتكفل
الدليل اثبات موضوعه، لأنه أجنبي عن مفاده، بلا فرق بين أن يكون الاشتباه
من جهة الشبهة الموضوعية أو من جهة الشبهة الحكمية، فلو قال المولى: " المالك
يجوز له التصرف في ملكه " لم يكن له نظر إلى تعيين المالك بهذا الدليل.
وبما انك عرفت أن ورود المخصص يوجب تضيق موضوع حكم العام

(1) سورة البقرة، الآية: 275.
333

وقصره على بعض افراده، لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه، لعدم كونه ناظرا
إلى تشخيص موضوع حكمه، ولا يختلف الحال بين الشبهة الموضوعية والشبهة
الحكمية.
فتلخص ان ما افاده (قدس سره) مما لا يمكن الالتزام به.
ثم إنه قد يتخيل: امكان التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان
ثبوت الحكم بنحو القضية الخارجية، بمعنى ان الدليل العام كان يتكفل جعل
الحكم على موضوع محرز محقق من قبل المولى نظير: " أكرم جيراني "، بدعوى أن
الدليل يتكفل اثبات الموضوع واحرازه وأمر تطبيقه بيد المولى فيكون حجة
مع الشك (1).
والتحقيق: انه توهم فاسد، وذلك لان المخصص تارة يكون بنحو القضية
الحقيقة. وأخرى بنحو القضية الخارجية، فإذا قال: " أكرم هؤلاء " مشيرا إلى
جماعة جلوس معينين، فتارة يقول في مقام التخصيص: " لا تكرم الفاسق منهم "
وأخرى يقول: " لا تكرم هؤلاء " مشيرا إلى قسم من الجماعة.
فعلى الأول يكون الحكم فيه كالحكم في القضايا الحقيقية، وذلك لأنه
يكشف عن عدم ارادته اكرام الفاسق من الجماعة عدم تصديه إلي تعيينه، بل
أوكله إلى المكلف نفسه، فتكون نتيجة التخصيص انقلاب العام إلى قضية
حقيقية أو صيرورته مركبا من قضية خارجية وحقيقية، لأنه يكشف عن عدم
تصدي المولى لاحراز الانطباق من جهة عنوان الفسق.
وعلى كل حال فمع الشك في فسق أحدهم لا يثبت له الحكم، لترتبه على
غير الفاسق منهم بنحو فرض الوجود.
ومثل هذا النحو نستطيع ان نقول بأنه خارج عن باب القضية الخارجية.

(1) المحقق الخوئي: السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 459 - الطبعة الأولى.
334

كما عرفت.
ومنه تظهر المسامحة في جعله مثال الشبهة المصداقية في القضية الخارجية
كما ورد في أجود التقريرات (1)، والذي يخطر بالبال انه لم ينتبه لذلك في بعض
المباحث التي يتعرض فيها لأقسام القضايا.
والمثال الصحيح هو النحو الثاني، فإنه لا يوجب تغييرا في موضوع الحكم
على باقي الافراد، بل يبقى الموضوع على ما كان عليه فهو نظير اخراج بعض
افراد الجماعة عنهم تكوينا، ولا يضر التخصيص بكون المولى في مقام احراز
الانطباق وتشخيص موضوع الحكم.
ولكن ذلك كله لا ينفع نحن بصدده من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية كما إذا اشتبه فرد في كونه من الباقين أو المخرجين، فلا وجه لتوهم
التمسك بالعام في اثبات الحكم له، إذ الحكم في القضية الخارجية، لما كان ثابتا
لواقع المعين المشار إليه بعنوان عام، كان موضوع الحكم العام في الحقيقة مباينا
لموضوع الحكم الخاص، فتكون نسبة الدليلين إلي المشتبه على حد سواء.
وبالجملة: إذا قال: " أكرم هؤلاء " فكأنه قال: " أكرم زيدا وعمرا وبكرا
وخالدا وباقرا "، فإذا قال: " لا تكرم هؤلاء " مشيرا إلى باقر وخالد، كان موضوع
الحكم العام زيدا وعمرا وبكرا، وموضوع الخاص خالدا وباقرا، فمع التردد في
شخص انه بكر أو خالد لم يكن وجه لتوهم شمول حكم العام له. وهذا واضح
بأدنى تأمل.
هذا تمام الكلام في المقام الأول.
المقام الثاني: فيما إذا كان المخصص لبيا.
والحق هو التفصيل بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية. فإذا قال:

(1) المحقق الخوئي: السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 460 - الطبعة الأولى.
335

" أكرم كل عالم " ثم علم العبد بأنه لا يريد اكرام الفاسق منهم كشف ذلك عن
تضيق المراد الواقعي للعام، فمع الشك في فسق أحدهم لا وجه للتمسك بالعام
لأنه يتكفل اثبات الحكم على تقدير الموضوع من دون تصدي المولى لتشخيص
موضوع حكمه.
واما إذا قال: " أكرم ساكني هذه المدرسة " مع علمه بهم واستقصائه، لهم،
فقد تصدي المولى لمرحلة الانطباق وتشخيص موضوع حكمه، فإذا علمت بأنه
لا يريد اكرام الفاسق منهم لم يجدي ذلك في رفع اليد عن الحكم الا فيما قطع
بفسقه، اما مع الشك فليس للعبد التوقف بعد فرض ان المولى أثبت الحكم لكل
فرد بعينه، وكان للمولى عتابه وعقابه لو توقف في مورد الاشتباه، وانه لا
حق لك في الاستبداد والاعتناء بالاحتمال بعد أن عينت لك الموضوع وأثبت
الحكم لك.
ومما ذكرنا يظهر ما في كلام الكفاية حيث ذهب إلى حجية العام في مورد
الشك مستدلا ببناء العقلاء وثبوت السيرة على ذلك، بشهادة ان المولى لو قال
لعبده: " أكرم جيراني " وعلم العبد انه لا يريد اكرام عدوه منهم فليس له التوقف
في مورد من يشك في عدواته من الجيران وكان للمولى مؤاخذته (1).
فان ما ذكره (قدس سره) من المثال وان كان الحكم فيه مسلما، لكنه لا
ينفع في إثبات جواز التمسك بالعام مطلقا فإنه مثال للقضية الخارجية وقد عرفت أنه
يلتزم بحجية العام فيها. اما القضية الحقيقية فلا وجه للتمسك بالعام فيها ولم
يثبت بناء من العقلاء على ذلك، فان الثابت من بناءهم ليس إلا التمسك في
مورد القضية الخارجية.
وقد قرب المحقق الأصفهاني (رحمه الله) جواز التمسك بالعام في الشبهة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 222 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
336

المصداقية للمخصص اللبي، والفرق بينه وبين المخصص اللفظي، بان العام كما
يدل على عدم منافاة عنوان ما لحكمه كذلك يدل على عدم وجود المنافي من بين
افراده، فأصالة العموم محكمة في كلتا الشبهتين - أعني الحكمية والموضوعية -.
والمخصص اللفظي يدل على منافاة موضوعه لحكم العام كما يدل على وجود
المنافي في افراد العام، والا لكانت تصدي المولى لبيانه عبثا ولغوا، فيمنع حجية
العام في كلتا الشبهتين اما المخصص اللبي فلا يكشف إلا عن وجود المنافاة دون
وجود المنافي كما لا يخفى، فهو انما يمنع حجية العام في الشبهة الحكمية دون
الشبهة الموضوعية (1).
ويتوجه عليه: ان ما ذكره بالنسبة إلى المخصص اللبي انما يتم بالنسبة
إلى ما كان العموم مفاد القضية الخارجية. اما إذا كان الحكم ثابتا بنحو القضية
الحقيقية فلا يتم كلامه، لما عرفت من عدم النظر فيه إلى مقام تشخيص الموضوع
وتطبيقه على افراده، بل هو ثابت لموضوعه المقدر الوجود، وتشخيصه لا يرتبط
بالمولى، بل هو موكول إلى المكلف نفسه. فلاحظ تدبر.
ثم إن صاحب الكفاية (قدس سره) - بعد ما ذكر حجية العام في الفرد
المشكوك للمخصص اللبي - ذكر أنه يمكن التمسك بأصالة العموم في اثبات
كون المشكوك ليس من افراد الخاص، فيقال في مثل: " لعن الله بني أمية قاطبة "
المخصص بالمؤمن منهم، ان فلانا يجوز لعنه وان شك في ايمانه تمسكا بأصالة
العموم، وكل ما جاز لعنه ليس بمؤمن فينتج فلانا ليس مؤمنا (2).
ولا يخفى ان هذا المطلب يتأتى في موارد الشبهة المصداقية مطلقا ولو كان
المخصص لفظيا، فيما لو التزم بجواز التمسك بالعموم فيها.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 341 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 223 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
337

وهذه المسألة تتحد موضوعا مع المسألة التي ذكرها بعد ذلك التي
موضوعها: ما إذا ورد عام ثم علم بعدم ثبوت الحكم لفرد وشك في أنه من افراد
العام وقد خرج بالتخصيص أو انه ليس من افراده فيكون خارجا
بالتخصص (1). وهي أحد موارد دوران الامر بين التخصيص والتخصص، وقد
وقع الكلام في أنه هل يجوز التمسك بأصالة العموم في اثبات عدم التخصيص
وخروجه بالتخصص؟.
وبيان اتحادهما موضوعا: ان التمسك بأصالة العموم في اثبات كون
الخارج خارجا بالتخصص لا بالتخصيص، انما هو لاجل دعوى أن العام كما له
دلالة على ثبوت الحكم لجميع افراده له دلالة التزامية على أن من لا يثبت له
الحكم ليس من افراده، وهو ما يعبر عنه في الاصطلاح المنطقي بعكس النقيض.
فقول القائل: " كل عالم يجب اكرامه " يدل على أن: " من لا يجب اكرامه ليس
بعالم "، فإذا علم بعدم وجوب اكرام زيد وشككنا في أنه فيدل على عدم كون زيد عالما
وانه خارج بالتخصص لا التخصيص.
وبنظير هذا البيان توصل صاحب الكفاية - فيما نحن فيه - إلى اثبات
كون الفرد المشكوك ليس من افراد الخاص، وذلك لان لدينا عاما وهو مثلا:
" يجوز لعن بني أمية قاطبة " وخاصا وهو مثلا: " يحرم لعن المؤمن منهم " وهذا
الخاص يدل بعكس النقيض على: " ان من لا يحرم لعنه ليس بمؤمن "، فإذا تكفل
العام اثبات جواز اللعن كان دالا بضميمة عكس نقيض الخاص على عدم كون
الفرد مؤمنا وانه خارج عن الخاص تخصصا لا تخصيصا. فمراده (قدس سره)
من قوله: " وكل من جاز لعنه ليس مؤمنا " بيان عكس نقيض الخاص، إذ لا منشأ

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 225 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
338

لها غيره.
وبالجملة: الفرد المشكوك الذي يثبت له حكم العام يدور امره بين
خروجه عن الخاص تخصيصا أو تخصصا، فببركة عكس نقيض الخاص يثبت
انه خارج بالتخصص لا بالتخصيص.
والخلاصة ان دليل العام في المقام لا يتكفل سوى نفي حكم الخاص عنه
واثبات ضده كدليل حرمة اكرام زيد في تلك المسألة.
واما اثبات انه ليس من افراد الخارج عنه في حكمه فهو ببركة عكس
النقيض، فان الامر ههنا يدور بين التخصيص والتخصص ولولا عكس النقيض
لا طريق إلى نفي التخصيص واثبات التخصص.
وإذا ثبت بوضوح اتحاد المسألتين موضوعا وانهما من واد واحد يتوجه على
صاحب الكفاية سؤال الفرق الموجب لتمسكه بعكس النقيض ههنا وتوقفه في
تلك المسألة.
يمكن الجواب: بان المسألتين وان اتحدتا موضوعا وكونهما معا من دوران
الامر بين التخصيص والتخصص، لكن في البين ما يوجب الفرق.
وذلك لان توقف صاحب الكفاية عن التمسك بأصالة العموم في تلك
المسألة انما كان لاجل ان أصالة العموم ليست حجة في المدلول المطابقي، وذلك
لأنه مع العلم بخروج: " زيد " عن حكم: " كل عالم يجب اكرامه " والشك في أنه
عالم أو غير عالم لا يمكننا ان نقول إن المراد الواقعي ثبوت الحكم لجميع ما
يفرض كونه عالما حتى ولو كان زيدا، للعلم بخروجه، اذن فهو ليس حجة في
المدلول المطابقي.
والأصول اللفظية وان كانت حجة في مدلول الكلام الالتزامي، الا ان
القدر المتيقن حجيتها فيه في مورد تكون حجة في المدلول المطابقي، اما مع عدم
حجيتها في المدلول المطابقي فلا دليل على حجيتها لاثبات المدلول الالتزامي
339

فقط.
وعليه، فلا يكون العام حجة في عكس النقيض الذي هو مدلول التزامي
له حتى يثبت به عدم كون زيد عالما.
وهذا غير جار في هذه المسألة - أعني: مسألة التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية - وذلك لان الخاص الذي يحاول التمسك به في اثبات عكس نقيضه
حجة في مدلوله المطابقي - ولو بواسطة أصالة العموم -، فيمكننا ان نقول إن
المراد الواقعي هو عدم جواز لعن كل مؤمن من بني أمية ولو كان هذا الشخص
- أعني المشكوك - ولا ينافيه ثبوت حكم العام له لان ثبوته ظاهري لا واقعي،
إذ لو علم بأنه مؤمن خرج عنه جزما، وإذا كان الخاص حجة في مدلولة المطابقي
على عمومه كان حجة في مدلوله الالتزامي أيضا، فيدل على أن من يجوز لعنه
ليس بمؤمن، فإذا ضم هذا إلى صغرى جواز لعن الفرد المشكوك ثبت انه ليس
بمؤمن.
وبالجملة: الفرق ان احتمال التخصيص ههنا ينفي بأصالة العموم ولا
يمكن نفيه هناك بها. فيلزم التفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية في الحجية
هناك ولا يلزم ههنا. وهذا فرق فارق بلا اشكال.
هذا كله فيما يتعلق بتوجيه كلام صاحب الكفاية وهو مما لا نعهد له سابقة
بيان.
وبما انك عرفت أن تمامية كلامه فيما نحن فيه تبتني على الالتزام بحجية
العام في عكس نقيضه. فلا بد من تحقيق ذلك. فقد أنكرت حجية العام في عكس
نقيضه لوجهين:
الأول: ان الامارة لا تكون حجة في مطلق اللوازم، بل هي حجة في
نحوين منهما:
أحدهما: أن يكون بين المتعبد به ولازمه ملازمة بينة بالمعنى الأخص،
340

بحيث يكون الدليل الدال على المتعبد به دالا بالملازمة العرفية على ثبوت لازمه.
وثانيهما: أن يكون اللازم مفاد امارة كالمدلول المطابقي، فيكون الدليل
حجة فيه بالعنوان الذي يكون حجة في مدلوله المطابقي كموارد الخبر، فان
الاخبار بالشئ اخبار يلازمه، فهناك خبران أحدهما باللازم والاخر بالملزوم.
وليس عكس النقيض بالنسبة إلى العام من أحد النحوين.
الثاني: ما ذكره المحقق العراقي في مقالاته من أن العام لا نظر له إلى
تعيين المصاديق وتشخيصها، بل هو انما يتكفل الحكم على تقدير الموضوع (1).
وفي كلا الوجهين نظر:
اما الأول: فلان عكس النقيض لازم بين للحكم العام، فإنه من الواضح
ان ثبوت الحكم واقعا لجميع افراد العام يلازم نفي العام عما لا ثبوت للحكم فيه.
وعليه، فالدليل الدال على ثبوت الحكم واقعا لجميع الافراد دال بالملازمة على
نفي العموم عن غير مورد الحكم. فعكس النقيض بواقعه - لا بلفظه وبهذا
الاصطلاح - امر لا ينكره أحد وتشهد له الأمثلة العرفية في مختلف الموارد، فمثلا
لو عرف اهل بلدة بالسخاء وجاء شخص ادعى انه من اهل تلك البلدة ولم يكن
سخيا فإنه يكذب في دعواه بدعوى أن اهل تلك البلدة أسخياء وأنت لست
بسخي. ونظير ذلك كثير.
واما الثاني: فلان عدم نظر العام إلى تشخيص مصاديقه مسلم، لكنه
بالنسبة إلى مدلوله المطابقي وبلا واسطة، فإنه عبارة عن الحكم على تقدير، ولا
يسلم عدم نظره أصلا ولو بوسائط كما فيما نحن فيه، فإنه يتكفل بالدلالة
الالتزامية العرفية بيان كبرى كلية لتعيين المصداق، فينشأ تشخيصه من ضم
صغرى إلى هذه الكبرى. فتدبر.

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 153 - الطبعة الأولى.
341

وخلاصة الكلام: ان دلالة العام بوضوح على النقيض لا تقبل
الانكار.
وقد اتضح لك من مجموع ما تقدم: حكم صورتين من صور دوران الامر
بين التخصيص والتخصص.
تبقى صورة تعرض لحكمها المحقق النائيني وهي: ما إذا ورد عام ثم ورد
ما يدل على ثبوت خلاف حكمه بالنسبة إلى فرد مردد بين فردين أحدهما من
افراد العام والاخر من غير افراده، كما لو قال: " أكرم كل عالم " ثم قال: " لا
تكرم زيدا " وكان هناك زيدان أحدهما عالم والاخر غير عالم ولم يعرف المراد به
هل هو غير العالم فيكون من باب التخصص أو العالم فيكون من باب
التخصيص؟. وقد ذهب (قدس سره) إلى التمسك بأصالة العموم في اثبات
وجوب اكرام زيد العالم، وبها يثبت ان المحكوم بالحرمة هو غير العالم، فتكون
أصالة العموم موجبة لانحلال العلم الاجمالي وتعيين المعلوم بالاجمال في أحد
طرفيه (1).
والذي نريد ان نقوله هنا: ان ما ذكره انما يتم لو بنى على حجية أصالة
العموم - بلحاظ أنها إمارة - في مطلق اللوازم العقلية، أو ان دلالتها على ثبوت
الحرمة في غير العالم بالدلالة الالتزامية العرفية، ولكنه (قدس سره) لا يلتزم
بالشق الأول، كما أن الشق الثاني ممنوع، إذ الملازمة اتفاقية ناشئة من العلم
الاجمالي، فلا تكون سببا للظهور العرفي الذي هو موضوع الحجية. فلاحظ
جيدا ولتكن على ذكر منه لعله ينفعك في مقام آخر.
* * *

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 457 - الطبعة الأولى.
342

استصحاب العدم الأزلي:
ثم إنه يمكن اثبات حكم العام للفرد المشكوك بواسطة نفي عنوان
الخاص عنه بالأصل إذا كان مسبوقا بعدمه، فيقال في العالم المشكوك الفسق انه
لم يكن فاسقا، فمع الشك يستصحب عدم فسقه فيثبت حكم العام له.
ولكن هذا واضح بالنسبة إلى الاعراض المتأخرة عن وجود الذات
والواردة عليه، بحيث تكون الذات غير متصفة بها في بعض الأحيان كالفسق
والعدالة والعلم والجهل ونحوها.
اما بالنسبة إلى الأوصاف الأزلية المقارنة لوجود الذات المستمرة
باستمرارها، فيشكل الامر فيها، إذ ليس للذات حالة سابقة يتيقن فيها بعدم
الوصف كي يستصحب عدمه، ولأجل ذلك عقد الاعلام بحثا اصطلحوا عليه
ب‍: " بحث استصحاب العدم الأزلي " بحثوا فيه امكان جريان أصالة عدم
الوصف الأزلي لاثبات حكم العام للفرد المشكوك وعدم امكانه، ومثاله: ما ورد
من أن المرأة تحيض إلى خمسين المخصص بالقرشية فإنها تحيض إلى ستين، فمع
الشك في كون امرأة قرشية، فلا مجال للقول بأنها لم تكن قرشية فيستصحب
العدم، لأنها حين وجدت اما قرشية أو غير قرشية، نعم يمكن اجراء استصحاب
عدم قرشية المرأة ولو بلحاظ عدم الموضوع في السابق، وهذا هو محل الكلام بين
الاعلام.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى جريان الاستصحاب واثبات حكم العام
للمشكوك بواسطته، فقال: " ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو
كالاستثناء من المتصل، لما كان غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم
يكن ذاك بعنوان الخاص، كان احراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب
343

الموارد الا ما شذ ممكنا، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وإن لم يجز التمسك به بلا
كلام ضرورة انه قلما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به انه مما بقي تحته،
مثلا إذا شك ان امرأة تكون قرشية أو غيرها فهي وان كان إذا وجدت اما قرشية
أو غير قرشية، فلا أصل يحرز به انها قرشية أو غيرها، الا ان أصالة عدم تحقق
الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح انها ممن لا تحيض الا إلى خمسين،
لان المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا باقية تحت ما دل على أن
المرأة انما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية، فتأمل
تعرف " (1).
والمراد من قوله: " أو كالاستثناء من المتصل " الإشارة إلى أن المخصص
على قسمين:
فمنه: ما يكون مؤداه بيان منافاة بعض الأوصاف لحكم العام فيتكفل
اخراجه. وذلك كالاستثناء نظير: " أكرم كل عالم الا الفاسق " وكالشرط في مثل:
" أكرم العلماء إذا لم يكونوا فساقا ".
ومنه: ما يكون مؤداها دخالة وصف آخر في الحكم نظير: " أكرم كل عالم
عادل " أو: " إذا كان عادلا ".
ومحل البحث هو القسم الأول، لوضوح ان القسم الثاني يوجب تضييق
موضوع الحكم وتعنونه بعنوان زائد على عنوان العام.
ثم إن كلامه - مع قطع النظر عن أصل دعوى جريان الاستصحاب -
وقع موردا للاشكال من جهات عديدة نتعرض إليها فيما بعد انشاء الله تعالى،
وانما المهم فعلا البحث في موضوع الكلام، أعني جريان استصحاب العدم
الأزلي. وقد عرفت أنه (قدس سره) ذهب إلى جريانه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 223 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
344

ولكن المحقق النائيني خالفه في ذلك وذهب إلى عدم جريانه.
وقد ذكر قبل تحقيق المطلب: ان كلام صاحب الكفاية انما يتم بناء على
اخذ عدم الخاص في موضوع الحكم بنحو العدم المحمولي الراجع إلى فرض
موضوع الحكم مركبا من جزئين، أحدهما عنوان العام، والاخر عدم عنوان
الخاص من دون فرض اتصاف العام بعدم الخاص، بل يؤخذ عدم الخاص بمفاد
ليس التامة لا الناقصة. واما بناء على اخذ عدم الخاص في الموضوع بنحو العدم
النعتي الراجع إلى فرض الموضوع، هو العام المتصف بعدم الخاص، فيكون عدم
الخاص مأخوذا بمفاد ليس الناقصة، فلا يتم ما ذهب إليه لعدم سبق اتصاف
الذات بعدم الخاص، لأنها حين توجد توجد اما متصفة به أو بعدمه. واما العدم
المحمولي الأزلي، فهو وان كان في نفسه مجرى الأصل لكنه لا ينفع في اثبات
العدم النعتي الا بناء على القول بالأصل المثبت.
وبالجملة: فالبحث يبتني على اخذ عدم عنوان الخاص بنحو التركيب أو
بنحو التوصيف.
وقد ذهب (قدس سره) إلى الثاني وقدم لذلك مقدمات ثلاث (*):
المقدمة الأولى: ان التخصيص سواء كان بدليل منفصل أو متصل،
استثناء كان أو غيره، يوجب تقيد موضوع الحكم العام، بنقيض عنوان الخاص،
فإذا كان الخاص وجوديا تعنون العام بعنوان عدمي وإذا كان عنوان الخاص
عدميا تقيد الموضوع بعنوان وجودي.
والوجه في ذلك: هو ان موضوع الحكم أو متعلقه بالنسبة إلى انقساماته
الأولية لا بد ان يلحظ اما مطلقا بالنسبة إليها أو مقيدا بوجودها أو بعدمها، ولا
يجوز أن يكون مهملا لامتناع الاهمال في مقام الثبوت وتردد الحاكم الملتفت من
(*) لم يذكر هنا إلا مقدمتين.
345

جهة التقسيمات الأولية.
وعليه، فإذا خصص العام فالباقي تحت العام اما أن يكون مقيدا بنقيض
الخارج، واما أن يكون مطلقا. والثاني ممتنع للزوم التدافع والتهافت بين دليل
العام والمخصص، إذ لا يجتمع الحكم بحرمة اكرام النحوي - مثلا - مع وجوب
اكرام العالم سواء كان نحويا أو لا. فيتعين الأول فيكون موضوع الحكم مقيدا
بغير عنوان الخاص وهو المدعي.
ولا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل من هذه الجهة، وانما الفرق
بينهما من جهة أخرى، وهي ان المخصص المتصل يوجب التصرف في ظهور
العام، فلا ينعقد له ظهور أولا الا في الخصوص فهو يتصرف في الدلالة
التصديقية للعام، واما المخصص المنفصل فهو يوجب التقييد في المراد الواقعي
لا في الدلالة التصديقية لانعقاد ظهور العام قبل وروده. وهذا الفرق غير فارق
في جهة البحث لاشتراكهما في تقييد المراد الواقعي (1).
أقول: ما ذكره أخيرا من عدم ثبوت الفرق بين المخصص المتصل
والمنفصل من جهة ان المتصل يتصرف في الدلالة التصديقية، والمنفصل لا
يتصرف الا في المراد الواقعي، غير تام، بناء على ما التزم به من رجوع
التخصيص إلى تقييد مدخول أداة العموم، لما سيأتي منه من أن التقييد المنفصل
يوجب الاخلال بظهور المطلق في الاطلاق، بلحاظ انه يرى ان مجرى مقدمات
الحكمة هو المراد الواقعي، فيكون معلقا على عدم البيان إلى الأبد (2)، كما هو
رأي الشيخ الأعظم (قدس سره) (3)، ورتب على ذلك آثارا متعددة في باب

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 465 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 529 - الطبعة الأولى.
(3) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 218 - الطبعة الأولى.
346

التعادل والترجيح كالتزامه بانقلاب النسبة (1). فالتفت.
واما ما ذكره أولا من استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بغير
عنوان الخاص، فهو محل الكلام، وقد عرفت فيما تقدم انكار المحقق العراقي
لذلك ووافقه المحقق الأصفهاني وأقام البرهان على امتناعه.
والذي نراه ان الاختلاف بينهما مبنائي، فكل منهم على حق في دعواه بناء
على ما التزم به في مدلول أدوات العموم.
توضيح ذلك: انه إذا التزم برجوع العام إلى المطلق، وان شأن أدوات
العموم ليس إلا إفادة الاستغراقية أو المجموعية أو البدلية، وعموم المدخول
مستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه - كما التزم به المحقق النائيني وقربناه -،
كان التخصيص مستلزما للتقييد بلا تردد، وذلك لان الملحوظ في العام ثبوتا وفي
مقام تعلق الحكم هو الطبيعة الشاملة، فإذا خرج بعض الافراد عن الحكم امتنع
لحاظ الطبيعة حينئذ بنحو الشمول، وهذا هو معنى امتناع الاطلاق، فيتعين ان
تلحظ مقيدة بعدم عنوان الخاص.
وان التزم بان العام يختلف عن المطلق، وان العموم مدلول الأداة نسفها
والمدخول هو الطبيعة المهملة، فيكون مفاد العموم إرادة جميع افراد الطبيعة
المهملة، لم يكن التخصيص مستلزما للتقييد، لأنه لم يلحظ في مقام تعلق الحكم،
الطبيعة القابلة للاطلاق والتقييد كي يتأتي فيها الترديد المزبور، بل لوحظ جميع
افراد الطبيعة المهملة، ولا معنى للاطلاق والتقييد فيه كي يتأتى الترديد المتقدم
بعد التخصيص، لان الاطلاق والتقييد شأن الطبيعة وواقع " جميع الافراد " ليس
كذلك، ولو تصورنا الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى الباقي لالتزمنا بأنه مطلق لا
مقيد، بمعنى ان الحكم ثابت للباقي ثبت الحكم لغيره أم لم يثبت.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 2 / 278 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
347

وبالجملة: العموم على الالتزام الأول مستفاد من فرض الموضوع هو
الطبيعة السارية، فيتأتى فيها حديث الترديد بين الاطلاق والتقييد بعد ورود
التخصيص. وعلى الالتزام الاخر لم يستفد من ذلك، بل لوحظت الافراد جميعها
رأسا لا بتوسط لحاظ الطبيعة بنحو السريان، فهو بمنزلة ان يقال: " جميع افراد
الطبيعة المهملة "، ومن الواضح انه لا معنى لان يقال: ان جميع الافراد لوحظ
اما مقيدا أو مطلقا، ولو سلمنا امكانه فقد عرفت أنه يتعين الاطلاق لا التقييد.
هذا هو تحقيق المقام، ولا اشكال لنا على كل من هؤلاء الاعلام لاختلاف
مبناهم، وانما اشكالنا على من يرى ان العموم بالأداة ويقر هذه المقدمة للوجه
المزبور. فلاحظ.
ثم إنه قد أشرنا إلى أن المحقق الأصفهاني أقام البرهان على امتناع
تعنون العام بعد التخصيص بعنوان زائد على عنوان العام.
وبيانه: ان موضوع البعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ انتزاعه لا مقام
له سوى مقام الانشاء، فما يكون موضوعا للحكم في البعث الانشائي يكون هو
الموضوع للبعث الحقيقي، لان الانشاء انما يكون بداعي جعل الداعي،
ويستحيل الانشاء بداعي بجعل الداعي إلى غير ما تعلق به، فانشاء الحكم
المتعلق بالصلاة يستحيل أن يكون داعيا للصوم، كما أن انشاء الحكم المتعلق
باكرام العالم يستحيل أن يكون داعيا لاكرام غيره.
وعليه، فبما ان الحكم المنشأ بالدليل العام أنشئ على الموضوع العام،
فيستحيل ان يتقيد بورود المخصص بقيد آخر لاستلزامه اختلاف موضوع
البعث الانشائي عن موضوع البعث الحقيقي، وقد عرفت أنه ممتنع. وقد ذكر
بعد ذلك: بان يشهد لما ذكرنا مضافا إلى البرهان، ان المخصص إذا كان مثل:
" لا تكرم زيدا العالم " لا يوجب إلا قصر الحكم على ما عداه، لا على المعنون
348

بعنوان ما عدا زيد أو شبهه (1).
وما افاده (قدس سره) لا يمكننا الالتزام به لوجهين:
الأول: النقض عليه بما إذا كان الوصف المأخوذ في الكلام غير دخيل في
ثبوت الحكم أصلا، وانما كان معرفا لما هو الموضوع الحقيقي، فان مثل ذلك يقع
كثيرا في الاحكام.
الثاني: انه لا مانع من أن يكون موضوع الحكم الواقعي غير المذكور في
الكلام إذا كان مما يتعارف تفهيم الواقع به وقابلا لإرادته منه، وذلك كقول
القائل: " أكلت الخبز " وهو يقصد أكل الفرد الخاص من الخبز، لأنه هو الذي
يقع عليه الأكل لا الطبيعي، مع أن لفظ الخبز موضوع للطبيعي، فأراد الفرد
الخاص من باب اطلاق الكلي على فرده.
وعليه، ففيما نحن فيه حيث إن العام يدل على الباقي، ولذا كان حجة فيه
بعد التخصيص بلا كلام، أمكن أيكون موضوع الحكم هو الباقي بما أنه
معنون بعنوان خاص كالفقيه أو نحوه وإن لم يؤخذ ذلك لفظا، لقابلية اللفظ
لتفهيم هذه الحصة - كما هو المفروض - فيمكن ان تراد منه من باب اطلاق
الطبيعي وإرادة فرده، فان الفقيه - مثلا - فرد الباقي.
ومما ذكرنا يظهر انه لا مجال للنقض بان يستحيل الانبعاث نحو الصوم
إذا أمر بالصلاة ونحو ذلك، لان الصوم لا يقبل التفهيم بلفظ الصلاة ولا يصح
ارادته منه فلا يتحقق الانبعاث نحوه قهرا للجهل بإرادته وعدم ما يدل عليه.
هذا كله فيما يرتبط بالبرهان.
واما ما استشهد به (قدس سره) من المثال على عدم التعنون، فإن كان
ناظرا إلى كون التخصيص بغير زيد بنحو القضية الخارجية، فهو مسلم، ولكنه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 341 - الطبعة الأولى.
349

ليس محل البحث. وان كان ناظرا إلى كونه بنحو القضية الحقيقية، فهو أول
الكلام، بل لمدع ان يدعي بتعنون العام بعنوان زيد. فلاحظ.
واما تنظير المحقق العراقي - في بحث التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية - باب التخصيص بصورة موت أحد افراد العام فقد تقدم ما فيه فلا
نعيد.
تنبيه: قد تقدم منا الايراد على المحقق العراقي، بان قصر الحكم يلازم
تضييق الموضوع بالبيان المتقدم الذي ذكره المحقق النائيني، وقد عرفت أنه لا
يتم بناء على مذهب العراقي في العموم من كونه مفاد الأداة لا مقدمات الحكمة.
وعليه، فنرفع اليد عن هذا الايراد، لكنه لا ينفع المحقق العراقي في
تقريب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ يعلم بقصر الحكم على بعض
افراد العام وإن لم يكن بعنوان زائد على عنوان العام، ويعلم بخروج بعضها عن
حكمه، فمع التردد في فرد أنه من الخارج أو الباقي لا يكون العام حجة فيه،
لأنه حجة في غير عنوان الخاص فتدبر جيدا.
المقدمة الثانية: ان العنوان الخاص إذا كان من قبيل الأوصاف القائمة
بعنوان العام، سواء كان من العناوين المتأصلة أو الانتزاعية، فلا محالة يكون
موضوع الحكم بعد التخصيص مركبا من المعروض وعرضه القائم به، أعني به
مفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتي.
والسر في ذلك: هو ان انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به انما
هو في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته، فإذا كان المخصص كاشفا عن
تقييد ما بمقتضى المقدمة الأولى، فلا بد من أن يكون هذا التقييد بلحاظ
الانقسام الأولي، أعني به الانقسام باعتبار أوصافه، فيرجع التقييد إلى ما هو
مفاد ليس الناقضة، إذ لو كان راجعا إلى التقييد بعدم مقارنته لوصفه بنحو مفاد
ليس التامة ليكون الموضوع في الحقيقة مركبا من عنوان العام وعدم عرضه
350

المحمولي، فاما أن يكون ذلك مع بقاء الاطلاق، بالإضافة إلى جهة كون العدم
نعتا، ليرجع استثناء الفساق من العلماء في قضية: " اكر العلماء الا فساقهم " إلى
تقييد العلماء بان لا يكون معهم فسق سواء كانوا فاسقين أم لا. أو يكون ذلك
مع التقييد من جهة كون العدم نعتا.
وكلا الوجهين باطلان:
اما الأول: فلانه محال، للتدافع بين الاطلاق من جهة العدم النعتي
والتقييد بعدم المحمولي.
واما الثاني: فلان التقييد بالعدم المحمولي لغو بعد التقييد بالعدم النعتي
لكفايته عنه (1).
وقد أورد على ذلك بوجهين:
الأول: انه يستلزم انكار جميع الموضوعات المركبة التي يمكن احراز أحد
اجزائها بالوجدان والاخر بالأصل، لجريان الترديد المتقدم فيها، فلا يكون هناك
موضوع مأخوذ بنحو التركيب، بل تكون الموضوعات دائما مأخوذة بنحو
التوصيف.
بيان ذلك: ان مقارنة كل جزء مع الجزء الاخر أو تعقبه به من أوصافه
ونعوته، فيكون الانقسام باعتبارها متقدما رتبة على ذات الجزء، لأنه من مقارناته.
وعليه، فنقول: ان تقييد الجزء بوجود الجزء الاخر اما أن يكون مع بقاء اطلاقه
من جهة مقارنته للجزء الاخر، فيكون الجزء الاخر معتبرا سواء قارنه الجزء أو
لا أو مع تقييده بمقارنته بالجزء الاخر. فعلى الأول يتحقق التدافع بين الاطلاق
من جهة المقارنة والتقييد من جهة نفس الجزء. وعلى الثاني يكون التقييد بنفس
الجزء لغوا، لكفاية التقييد بالمقارنة عنه، مثلا - في باب الصلاة - إذا قيد الركوع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 466 - الطبعة الأولى.
351

بالسجود اما أن يكون مطلقا من جهة تعقبه بالسجود، فيتحقق التدافع. أو مقيدا
بتعقبه بالسجود، فيكون التقييد بنفس السجود لغوا.
الثاني: ان تقييد موضوع الحكم أو متعلقه بما يلازم امرا آخر خارجا، لا
يبقي مجالا لتقييده بذلك الامر، ولا اطلاقه بالإضافة إليه، فمع تقييد الصلاة بان
تكون إلى القبلة فلا مجال لتقييد ها بعدم كونها إلى دبر القبلة، كما لا مجال
لاطلاقها بالإضافة إليه، بل يرتفع مجال التقييد والاطلاق بذلك، وعليه فإذا كان
التقييد بالعدم المحمولي ملازما للعدم النعتي، فلا مجال حينئذ للتقييد به، ولا
الاطلاق بالإضافة إليه، بل ترتفع بذلك قابلية المورد للاطلاق والتقييد، كي
يتأتى الترديد المزبور. كما هو الحال بالنسبة إلى التقييد بالعدم النعتي، فإنه يرفع
قابلية المورد للاطلاق والتقييد من جهة العدم المحمولي (1).
أقول: إذا كان المراد من كلامه ما هو ظاهره من أن رتبة الوصف أسبق
من رتبة المقارن، فمع التقييد بالمقارن اما أن يكون مقيدا بالوصف بنحو
التوصيف. أو مطلقا. والأول لغو والثاني مستلزم للتهافت والتدافع. توجه عليه
الايرادان المذكوران، كما يتوجه عليه ثالثا: ان دعوى كون لحاظ الوصف أسبق
رتبة من لحاظ المقارن دعوى بلا شاهد ولا مستند، إذ لا وجه للتقدم الرتبي
للاتصاف على المقارنة.
ولكن يمكن توجيه كلامه بنحو لا تتوجه عليه هذه الايرادات، بل تندفع
بحذافيرها.
بيان ذلك: ان مرتبة الجزء متقدمة على مرتبة الكل بلا اشكال، والامر
الذي يؤخذ جزء لا بد ان يلحظ في مرحلة جزئيته بالإضافة إلى جميع صفاته،
لاحتمال دخل بعضها في جزئيته وترتب أثره الضمني، إذ قد لا تكون ذات الجزء

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 469 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
352

بدون وصف خاص جزء وذات اثر ضمني.
ثم بعد تكميل جهة جزئيته واخذه جزء مطلقا أو مقيدا ببعض الصفات
تصل النوبة إلى لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى وأخذه معها بلحاظ ترتيب
اثر الكل، لما عرفت أن الجزء أسبق رتبة من الكل، فلحاظه بخصوصياته بما هو
جزء في نفسه أسبق من لحاظه مع الاجزاء الأخرى الذي هو عبارة أخرى عن
لحاظ الكل.
وعليه، فيمكن أن يكون نظر المحقق النائيني - وإن لم يظهر من عبارة
التقريرات - إلى هذا المعنى، وان اخذ الموضوع مع عدم وصفه بنحو التركيب
يستلزم أولا لحاظ الموضوع بكامل خصوصياته وفي مرحلة جزئيته، فإذا فرض
دخالة عدم الوصف في تأثيره كان مقيدا به ولم يكن مطلقا، ومع تقييده به أغنى
عن أخذ عدم الوصف جزء، ولحاظه كذلك أسبق رتبة من لحاظه مع عدم الوصف
بنحو المقارنة، لما عرفت من أسبقية الجزء رتبة من الكل.
وعليه، فلا يرد عليه الوجه الأخير، إذ عرفت الوجه في التقدم الرتبي
المفروض فيما نحن فيه، وليس المراد ان الشئ بلحاظ أوصافه أسبق رتبة منه
بلحاظ مقارناته كي يقال إنه دعوى بلا دليل، بل مقصوده ان لحاظ الجزء
بالإضافة إلى عوارضه أسبق من لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى.
كما يندفع الوجه الثاني، فان التقييد بكل منهما وان أوجب رفع قابلية
المورد للاطلاق والتقييد بالإضافة إلى الاخر، الا انه عرفت أن ملاحظته
بالإضافة إلى أوصافه وتقييده بها وجودا أو عدما أسبق رتبة من ملاحظته
بالإضافة إلى مقارناته، فلا تصل النوبة إلى أخذ العدم جزء.
واما الوجه الأول، فيندفع بان وصف المقارنة وصف انتزاعي لا دخل له
في التأثير الا بلحاظ منشأ انتزاعه، وهو ليس إلا عبارة عن وجود أحد الجزئين
عند وجود الاخر، وهذا ليس إلا تركب الموضوع من الجزئين.
353

هذا مع أن ما ذكر من لحاظ المقارنة يتأتى في كلا الجزئين، فإنه كما يقال
ان هذا الجزء بلحاظ مقارنته مع ذلك الجزء اما مطلقا فيلزم التدافع أو مقيدا فتلزم
اللغوية كذلك يقال ان ذاك الجزء بلحاظ مقارنته مع هذا الجزء اما مطلقا فيلزم
التدافع أو مقيدا فتلزم اللغوية. وبذلك يتعين الامر بكلا الجزئين، لان تخصيص
أحدهما بالأمر ترجيح، وهذا كما لو كان في كل من المتلازمين مصلحة
ملزمة فإنه يتعين الامر بكليهما، لان الامر بأحدهما بالخصوص مع وجود المصلحة
أيضا في الاخر ترجيح مرجح - ولو كان كافيا - وهو ممتنع.
هذا ولكن يرد على التوجيه المزبور وجهان:
الأول: ان ملاحظة الموضوع مع عدم الوصف لا يلازم تقييده به، وان كان
دخيلا في التأثير، إذ يمكن أن لا يكون دخيلا في تحقق أثر الجزء، ولكنه دخيل
في تحقق اثر الكل، فيكون الجزء مطلقا بالإضافة إليه بلحاظ جزئيته واثره
الضمني، ولكنه مقيد به لاخذه جزءا آخر بلحاظ أثر الكل ودخالته في تحققه، فلا
ملازمة بين لحاظه وبين أخذه قيدا. كما لا منافاة بين اطلاق الجزء بلحاظ جزئيته
بالإضافة إليه وتقييده به بلحاظ اثر الكل.
الثاني: ان عدم الوصف لو فرض انه دخيل في تأثير الجزء بما هو جزء،
فغاية ما يقتضي ذلك هو تقييد الجزء به، اما انه يؤخذ بنحو التوصيف أو بنحو
التركيب فهو أجنبي عن مفاد هذا البرهان، ولا ملازمة بين التقييد وبين أخذه
بنحو التوصيف، كما اعترف به (قدس سره)، إذ عقد المقدمة الثانية لاجل اثبات
ان التقييد بنحو التوصيف مع اثباته بالمقدمة الأولى ضرورة التقييد، فلو كان
التقييد ملازما للتوصيف كانت المقدمة الثانية لغوا محضا.
وبالجملة: وقع الخلط بين الوصف والاتصاف، والذي لا بد من ملاحظته
في الجزء سابقا على لحاظ الكل هو أوصاف الجزء وهو لا يلازم أخذها - على تقدير
دخالتها - بنحو الاتصاف. فتدبر جيدا.
354

ثم إن السيد الخوئي (حفظه الله) التزم بما ذكره المحقق النائيني من: ان
الموضوع المقيد بعرضه القائم به لابد ان يؤخذ بنحو التوصيف في خصوص
الوصف الوجودي، ببيان: ان العرض بما أن وجوده في نفسه عين وجوده في
موضوعه، لأنه متقوم بالغير في قبال الجوهر القائم بنفسه، فإذا اخذ في موضوع
الحكم فاما ان يؤخذ بلا تقييد له بموضوع خاص، كأن يكون موضوع الحكم
زيد والعدالة أينما وجدت ولو في غيره. واما ان يؤخذ مقيدا بموضوع خاص،
كأن يكون موضوع الحكم زيد وعدالته. فعلى الأول يترتب الحكم عند وجود
زيد ووجود العدالة ولو في غيره، لكنه خارج عن محل البحث، لان محل البحث
اخذ الشئ وعرضه القائم به في الموضوع. وعلى الثاني فإنما يترتب الحكم على
تقدير وجود الوصف في ذلك الموضوع الذي هو في الحقيقة وجود نعتي، لان وجود
العرض في نفسه عين وجوده في موضوعه، فوجود العدالة في زيد هو بعينه ثبوت
العدالة له المعبر عنه باتصاف زيد بالعدالة، وما هو مفاد كان الناقضة (1).
وهذا الكلام مخدوش لوجهين:
الأول: ان قيام العرض بموضوعه إذا كان ملازما لاخذ الموضوع بلحاظ
عرضه بنحو الاتصاف لجرى هذا الكلام في النحو الأول، وذلك لان المفروض
اخذ العرض في موضوع الحكم، والمفروض انه يتقوم بغيره، فالمأخوذ هو العرض
المتقوم بمحل ما، وهذا ملازم لاخذه بنحو الاتصاف بلحاظ مطلق المحل لا محل
خاص.
الثاني: ان تقوم العرض بالذات لا يلازم اخذ الذات متصفة به وبنحو
النعتية، فان حقيقة النعتية هي الوجود الرابط، وهو جهة زائدة عن أصل وجود
العرض المعبر عنه بالوجود الرابطي.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 466 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
355

ولأجل ذلك وقع البحث في مبحث المشتق فيما هو المصحح لحمل المبدأ
على الذات - إذا كان المشتق بمعنى المبدأ -، مع بداهة قيام المبدأ بالذات، فإنه
يكشف عن أن جهة تقوم المبدأ بالذات تختلف عن جهة النعتية والاتصاف
المصححة للحمل.
ويمكننا تقريب المقدمة الثانية، ولكن ببيان لا ظهور له من عبارة
التقريرات، وهو: ان الدليل المخصص لو كان يتكفل اخراج المبدأ، لكان
للبحث في أن المأخوذ في عنوان العام بعد التخصيص عدمه النعتي أو المحمولي
مجال، ولكن الامر ليس كذلك، فان المخصص يتكفل اخراج العنوان
الاشتقاقي، فهو مثلا يخرج عنوان الفاسق عن دليل وجوب اكرام العلماء لا
الفسق، وعنوان الشرط المخالف للكتاب عن دليل نفوذ الشروط لا مخالفة
الشرط.
وعليه، فإذا كان مقتضى المقدمة الأولى تقيد موضوع حكم العام بنقيض
الخاص، فنقيض الفاسق " لا فاسق " ونقيض المخالف " اللا مخالف "، والموضوع
يتقيد به لا بعدم الفسق أو عدم المخالفة.
ومن الواضح ان تقيد الموضوع به يرجع إلى أخذه فيه بنحو الاتصاف
النعتية كما هو ظاهر.
مع أن الاطلاق معناه ثبوت الحكم للموضوع كالعام سواء كان فاسقا أو
لم يكن فاسقا، فإذا خرج الفاسق ثبت الحكم لغيره جزما لأنه إذا ألغيت
" السوائية " كان الحكم ثابتا للعالم إذا لم يكن فاسقا.
ولو تنزلنا والتزمنا بان التقيد بنقيض العنوان الاشتقاقي لا يلازم أخذه
بنحو النعتية، فهو يكفي في منع استصحاب العدم الأزلي كما سيتضح انشاء الله
تعالى.
والذي نذهب إليه هو منع استصحاب العدم الأزلي.
356

ولكن لا بالتقريب المزبور، بل ببيان آخر.
وتوضيح ذلك: انه اما ان يلتزم بان العموم مفاد الأداة مقدمات الحكمة.
أو يلتزم بأنه مفاد الاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الأول، قد عرفت أن التخصيص لا يلازم تعنون العام بغير عنوان
الخاص، بل غاية ما يتكفله الدليل المخصص هو اخراج بعض الافراد الموجب
لقصر حكم العام على البعض الاخر من دون تغير في موضوع الحكم.
وعليه، فلدينا حصتان، إحداهما محكومة بحكم العام. والأخرى محكومة
بحكم الخاص. والفرد المشكوك يدور امره واقعا بين أن يكون من افراد الحصة
المحكومة بحكم العام، وأن يكون من افراد الحصة المحكومة بحكم الخاص، ومن
الواضح ان استصحاب العدم الأزلي لا يعين كون الفرد من احدى الحصتين،
وانه من الحصة المحكومة بحكم العام، الا على القول بالأصل المثبت.
وعلى الثاني، قد عرفت أن التخصيص يستلزم تقييد موضوع حكم العام،
ولكن ذلك على اطلاقه ممنوع، لان العنوان المأخوذ في دليل الخاص تارة: يكون
من أحوال الفرد الواحد كعنوان الفاسق. وأخرى: يكون مفردا كعنوان الفارسية
في العقد. وبعبارة أخرى: التخصيص تارة يكون أحواليا. وأخرى يكون
افراديا.
ففي الصورة الأولى، يتقيد موضوع الحكم، فإنه مع اخراج بعض
حالات الفرد عن الحكم يمتنع ملاحظة الطبيعة بنحو الاطلاق، بل لا بد من
ملاحظتها مقيدة بغير تلك الحال.
وبتعبير آخر: ان الفرد بما أن له حالتين، فلا بد من التفريق بينهما بتقييده
بغير عنوان الخاص، فيكون موضوع الحكم هو العالم غير الفاسق، لعدم وجود
الفرق ذاتا فيما بين ما هو محكوم بحكم العام وما هو محكوم بحكم الخاص الا
بلحاظ اختلاف الحالين وهو يلازم التقييد.
357

وفي الصورة الثانية، لا يستلزم التخصيص نقيد موضوع حكم العام، بل
يكون حكم العام واردا على جملة من الافراد وحكم الخاص واردا على جملة
أخرى من الافراد والفرق بينهما ذاتي فلا يكون التقييد قهريا ضروريا، فلا
يتكفل التخصيص سوى اخراج بعض الحصص فيبقى حكم العام ثابتا
للحصص الأخرى بعنوانه من دون تقيد بخصوصية أخرى. ولا يرد الترديد
المزبور - أعني: " اما أن يكون مطلقا أو مقيدا " -، إذ لا معنى للاطلاق والتقييد
في موضوع الحكم بلحاظ الافراد الأخرى، ولو كان له معنى تعين الاطلاق كما
تقدم.
وبما أن موضوع الكلام هو الخصوصيات المفردة، لان موضوع الكلام في
الأوصاف اللازمة للذات من حين وجودها، لم يكن الدليل المتكفل لاخراج
العنوان الأزلي موجبا لتقيد موضوع الحكم بخلافه وبنقيضه، وعليه كان الحال
فيه هو الحال على المبنى الأول والكلام فيه هو الكلام على الأول. فلا ينفع
الأصل الأزلي في اثبات حكم العام للفرد المشكوك على كلا المبنيين في باب
العموم.
وبالجملة: فأساس منع الأصل بهذا البيان هو منع المقدمة الأولى.
ولو تنزلنا وسلمنا استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بنقيضه، فلا
نسلم - أيضا - جريان الأصل، لما عرفت من أن التخصيص يتكفل اخراج
العنوان الاشتقاقي، وقد عرفت أن نقيضه مأخوذ بنحو النعتية، فنقيض المخالف
للكتاب هو اللا مخالف، فيتقيد موضوع النفوذ باللا مخالف، واستصحاب العدم
الأزلي لا ينفع في اثبات العنوان بنحو النعتية، بل عرفت الإشارة إلى أنه يكفينا
التشكيك في كيفية أخذه، وانه مأخوذ بنحو النعتية أو التركيب.
بيان ذلك: ان اثبات أخذ العدم بنحو التركيب إذا فرض انه عدم المبدأ
كعنوان: " عدم المخالفة " أو: " عدم الفسق " - مع تردد الامر فيه ثبوتا بين اخذه
358

بنحو العدم النعتي واخذه بنحو العدم المحمولي -. وترجيح الثاني على الأول انما
يكون ببيان أن اخذه بنحو العدم النعتي يحتاج إلى مؤونة زائدة، وذلك لعدم
صلاحية عدم الفسق في حد ذاته لان يكون نعتا للذات، فيتوقف على ملاحظة
التقييد بوصف انتزاعي، كوصف المقارنة للعدم، فيكون الموضوع هو الذات
المقارنة لعدم الفسق - مثلا -. بخلاف ما إذا كان مأخوذا بنحو العدم المحمولي
وبنحو التركيب لا التوصيف، فإنه لا يحتاج إلى هذه المؤونة، فمع تردد الامر بين
ما لا مؤنة فيه وما فيه المؤنة يرجح الأول.
وهذا البيان لا يتأتى بالنسبة إلى عدم الوصف، كعدم الفاسق وعدم
المخالف، إذ اخذه بنحو التوصيف لا يحتاج إلى مؤنة زائدة، إذ يمكن أن يكون
في نفسه نعتا للذات ومحمولا عليها.
وعليه، فمع تردد الامر بين اخذه بأحد النحوين - التوصيف والتركيب -
لا طريق إلى تعيين أحدهما، ومعه لا ينفع استصحاب العدم الأزلي، لعدم احراز
اثبات جزء الموضوع به للشك في أخذ العدم جزء أو وصفا.
هذا مع ما في البيان المتقدم من الاشكال، فان ترجيح ما لا مؤونة فيه
على ما فيه المؤنة انما هو بلحاظ مقام الاثبات، بمعنى ان مقام الاثبات إذا تردد
بين ما لا مؤنة فيه وما فيه مؤنة اثباتا، كالتردد بين إرادة المطلق والمقيد من اللفظ،
تعين الاخذ بما لا مؤنة فيه اثباتا من الاحتمالين. واما التردد بين ما لا مؤنة فيه
وما فيه المؤنة ثبوتا لا اثباتا، بان يكون أحد المحتملين مشتملا على خصوصية
زائدة، فلا يلازم الاخذ بما لا مؤنة فيه لعدم الدليل عليه، كما عرفت تحقيق ذلك
أيضا في ما تقدم من صورة دوران امر العموم بين المجموعي والاستغراق. فراجع.
وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بعد الايراد على
نفسه: بان الحاجة إلى الأصل انما هو للفراغ عن حكم الخاص، لا للادخال تحت
العموم، لصدق عنوان العام بلا حاجة إلى الأصل، وعنوان الخاص لا ينتفي
359

بالأصل المذكور، إذ الانتساب وكون المرأة من قريش لا يكون موضوعا بوجوده
المحمولي بل بوجوده الرابط، فنفي كونه المحمولي ليس نفيا لعنوان الخاص
حتى ينفى به حكمه، بل ملازم له، فالأصل بالنسبة إلى عنوان الخاص مثبت. -
ذكر (قدس سره) بعد هذا الايراد - ان الغرض من الأصل هنا وفي أمثاله ليس
نفي عنوان الخاص بدوا، بل الغرض هو احراز عنوان مضاد لعنوان الخاص
يكون داخلا في العموم فيثبت له حكم العام، وبمضاداة هذا العنوان لعنوان
الخاص ينفى حكم الخاص لكونه محكوما بخلاف حكمه، فالمترتب على الأصل
مباشرة هو حكم العام الثابت بأي عنوان غير العنوان الخارج، وثبوت حكم
العام لهذا الموضوع المضاد للعنوان الخارج يوجب نفي ضده وهو حكم الخاص.
ثم أورد على نفسه وأجاب عنه بما لا يهمنا نقله. ولكن بعد جميع ذلك استشكل
فيما افاده صاحب الكفاية فقال: " التحقيق ان ما افاده (قدس سره) من كفاية
احراز العنوان الباقي تحت العام في اثبات حكمه لا يخلو عن محذور، لان
العناوين الباقية ليست دخيلة في موضوع الحكم العمومي بوجه من الوجوه، فلا
معنى للتعبد بأحدها ليكون تعبدا بالحكم العمومي حتى ينفى حكم الخاص
بالمضادة ".
ومرجع كلامه (قدس سره) إلى أن الاطلاق ليس في الحقيقة جمعا بين
القيود، كي يرجع إلى دخالة كل قيد في الحكم، بل هو رفض القيود الذي يرجع
إلى نفي دخالة اي قيد في الحكم (1).
والذي نستفيده من كلامه امران:
أحدهما: ما فرضه من كون النظر إلى نفي حكم الخاص ولو بواسطة نفي
اثبات حكم العام.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 342 - الطبعة الأولى.
360

وثانيهما: ما يظهر منه من تفسير عبارة الكفاية، بان العام بعد التخصيص
يكون معنونا بكل عنوان غير عنوان الخاص.
ولنا معه في كلا الامرين كلام:
اما الأول: فلان المنظور في الأصل الأزلي أولا وآخرا هو اثبات حكم
العام به للمشكوك، وانه يؤدي ثمرة أصالة العموم على القول بالتمسك بها في
الشبهة المصداقية ويقلل أثر البحث الطويل العريض فيها، فلا موهم لكون
ثمرة الأصل نفي حكم الخاص.
هذا مع أن الدليل المخصص قد لا يكون متكفلا لاثبات أي حكم، بل
مفاده ليس إلا نفي حكم العام عن بعض افراده، كما لو قال: " أكرم العلماء " ثم
قال: " لا يجب اكرام فساقهم "، ومنه تخصيص دليل نفوذ الشرط بالشرط
المخالف للكتاب فان الشرط المخالف لا حكم له، بل هو غير نافذ. أو يكون
متكفلا لما هو نقيض حكم العام فينتفي حكمه قهرا بثبوت حكم العام للفرد
المشكوك بواسطة الأصل، وذلك كالمثال المشهور في ما نحن فيه وهو مثال
الحيض. فان العام يتكفل اثبات الحيض لكل امرأة لغاية الخمسين، والخاص
يتكفل تحديده إلى ستين بالنسبة إلى القرشية، فالتنافي بين الدليلين في تحديد
الحيض لا في أصل حكمه، إذ لا تنافي بينهما بلحاظه، بل الاختلاف في تحديده
بالخمسين - وهو مفاد العام - ونفي تحديده بها - وهو مفاد الخاص -، فمع اجراء
الأصل واثبات تحديد الحيض بالخمسين للمرأة المشكوكة ينتفي حكم الخاص
قهرا، لان ثبوت أحد النقيضين ملازم قهرا لنفي الاخر.
نعم قد يكون المخصص متكفلا لما هو ضد حكم العام، كما لو قال: "
يجب اكرام العلماء " ثم قال: " يحرم اكرام النحويين "، ولكنه نستطيع نفي حكم
الخاص بأصل البراءة بلا احتياج للأصل الأزلي.
فقد ظهر انه لا يحتاج في نفي حكم الخاص إلى استصحاب العدم الأزلي
361

في جميع هذه الصور، وانما يحتاج إليه في اثبات حكم العام. فلاحظ.
ثم إن ما افاده من أن ثبوت حكم العام للموضوع المضاد للعنوان الخارج
يوجب نفي ضده وحكم الخاص. غير مسلم، وذلك لان اثبات حكم العام له
ظاهرا اما يستلزم نفي حكم الخاص عنه واقعا. أو ظاهرا.
والأول: ممنوع، إذ لا وجه له إلا عدم امكان اجتماع حكمين متنافيين،
وهو مندفع بما تقرر في محله من جواز اجتماع الحكمين المتنافيين إذا كان أحدهما
واقعيا والاخر ظاهريا.
والثاني: ثابت في نفسه، إذ يكفي في عدم ثبوت حكم الخاص ظاهرا عدم
الدليل عليه، لتوقف الحكم الظاهري على الدليل عليه.
هذا مع أن نفي حكم الخاص بالأصل القائم على اثبات حكم العام
يتوقف على القول بالأصل المثبت، للملازمة بين أحدهما وعدم الاخر عقلا.
فتدبر.
واما الثاني: فقد وافقه المحقق النائيني، وحمل عبارة الكفاية على ما عرفت
وأورد عليه بايرادين:
أحدهما: انه يتنافى مع بدء كلامه حديث نفي تعنون العام بعنوان خاص.
وثانيهما: انه يلزم أن يكون العام معنونا بالعناوين المتضادة (1).
ولكن يمكن حمل عبارة الكفاية على مالا يرد عليه اشكال، بان يقال:
ان مراده انه لا يتعنون بأي عنوان الا عدم كونه من الخاص، فالتخصيص لا
يستلزم تقييد موضوع الحكم الا بمقدار عدم الخاص، وهذا العدم مأخوذ بنحو
العدم المحمولي لا النعتي، وبنحو التركيب لا التوصيف، بقرينة ما يذكره بعد
ذلك من جريان استصحاب العدم الأزلي وترتب حكم العام عليه.

(1) المحقق الخوئي أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 473 - الطبعة الأولى.
362

ثم إن المحقق النائيني استشكل في عبارة أخرى وهي قوله: " أو
كالاستثناء من المتصل "، وجهة الاشكال هي: ان المخصص المتصل يوجب
التصرف في الظهور التصديقي، وانعقاد الظهور رأسا في الخصوص، فكيف
يذهب صاحب الكفاية إلى عدم استلزام التخصيص بالمتصل لتعنون العام وانه
كالمنفصل؟! (1).
ويمكن دفع هذا الاشكال بما بيانه: ان المقصود بالتعنون ههنا ما يرادف
من اخذ القيد بنحو التوصيف والنعتية.
وعليه، فالمخصص المتصل على نحوين:
نحو يتكفل اخراج بعض العناوين عن حكم العام من دون ان يدل على
التوصيف اثباتا، وهو كالاستثناء.
والنحو الاخر يتكفل الاخراج، ولكن يدل على التوصيف اثباتا نظير:
" غير " في مثل: " أكرم العلماء غير النحويين "، فالنحو الاخر يدل على أخذ العدم
بنحو النعتية والتركيب.
واما النحو الأول فلا دلالة له على ذلك، بل غاية ما يقتضيه التخصيص
المتصل هو تقيد العام بالعدم، اما انه مأخوذ بنحو النعتية فلا دلالة للكلام على
ذلك، وقد عرفت أن التقيد لازم أعم لاخذ العدم بنحو التركيب وأخذه بنحو
التوصيف. فمراد صاحب الكفاية من قوله: " أو كالاستثناء " هو النحو الأول،
إذ عرفت أن النحو الثاني يقتضي اثباتا تعنون العام وأخذ العدم فيه بنحو النعتية.
وهذا التفصيل لا يتأتي في المخصص المنفصل لعدم اخلاله بظهور العام.
ثم إن المحقق العراقي ذهب إلى التفصيل في جريان الأصل الأزلي بين
ما إذا كان العرض مأخوذا في رتبة متأخرة عن وجود الذات، وما إذا كان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 473 - الطبعة الأولى.
363

مأخوذا في مرحلة نفس الذات لا وجودها. فيجري في الثاني دون الأول، وذلك
لان نقيض الوصف الملحوظ عروضه على الوجود هو العدم في تلك المرتبة،
لاتحاد المتناقضين في الرتبة، فلا يجوز أن يكون أحدهما في رتبة والاخر في رتبة
أخرى.
وعليه، فالعدم الأزلي الثابت في ظرف عدم الوجود لا يكون نقيضا
للوصف العارض على الوجود، كي يكون استصحابه مجديا في نفي الأثر الثابت
للوصف.
واما في ما كان الوصف بلحاظ الذات، فالعدم الأزلي يكون نقيضا له،
لان نقيض المقيد أعم من نفي القيد والذات والنسبة، فيترتب على استصحابه
نفي أثر الوصف.
ولا يختلف الحال في كلتا الصورتين بين أخذ الوصف بنحو النعتية أو بنحو
التركيب والمقارنة.
ثم استشكل فيما افاده المحقق النائيني بعد حمله كلامه على التفصيل بين
أخذ الوصف بما هو شئ في حيال ذاته وأخذه بما هو قائم في الغير، فعلى الأول
يجري استصحاب العدم الأزلي، لأنه نقيض نفس وجود الوصف، فينتفي به اثر
الوجود. وعلى الثاني لا يجري لان العدم الأزلي وفي ظرف عدم الموصوف لا
يكون نقيضا للوصف القائم بالذات، لتأخر الوجود القائم بالذات عن وجود
الذات فلا يكون نقيضه الا العدم في ظرف وجود الذات (1).
ولا يهمنا بيان جهة استشكاله في هذا الكلام.
والتحقيق: ان ما ذكره أجنبي عما هو محط النظر في الاستصحاب الأزلي،
فان محل الكلام بين صاحب الكفاية والنائيني - كما عرفت - في أن العدم المأخوذ

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 200 - 203 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
364

في موضوع الحكم هل هو مأخوذ بنحو العدم النعتي أو بنحو العدم المحمولي؟.
فالمفروض في كلامهما اخذ عدم الوصف في نفس الموضوع، فالاحتياج
للاستصحاب المزبور لاثبات الحكم لا لنفي الحكم الثابت لوجود الوصف. فقد
عرفت أن المنظور في الأصل الأزلي اثبات حكم العام واستحصال نتيجة أصالة
العموم منه، لا انه من باب نفي موضوع الأثر كما هو محط كلامه، فالاستصحاب
الذي أوقع البحث فيه يشترك مع ما هو محط الكلام في الاسم فقط. ومنه يظهر
ما في توجيهه لكلام المحقق النائيني بما عرفت. فإنه بعيد كل البعد عما هو محط
نظر المحقق النائيني فراجع كلامه.
وإذا ظهر بوضوح عدم ارتباط كلامه (قدس سره) بما هو محط الكلام،
فلا يهمنا حينئذ تحقيق مواقع النظر في كلامه في هذا المقام الذي أشرنا إلى بعض
قليل منه، فإنه لا يخلو عن اشكال في بعض جهاته:
كالتزامه بلا بدية كون نقيض الوجود النعتي هو العدم في ظرف وجود
الذات للزوم اتحاد المتناقضين في الرتبة.
فإنه التزام بلا وجه، إذ لا وجه للزوم اتحاد رتبة المتناقضين، لان التقدم
والتأخر الرتبي يكون بملاك خاص فقد يوجد في أحدهما دون الاخر. وعليه
فنستطيع ان نقول: ان نقيض الوجود الرابط هو عدم الوجود الرابط لا العدم
الرابط - كما عبر به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته -، هذا مع استلزامه
ارتفاع النقيضين في ظرف عدم الذات، وامتناع ارتفاعهما كامتناع اجتماعهما من
الواضحات.
ايقاظ: لا يخفى ان البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي بلحاظ
مبحث الاستصحاب صغروي، إذ بعد تحقيق كبرى الاستصحاب ونفي الأصل
المثبت يقع الكلام في أن الأصل الأزلي مثبت أو لا.
واما بلحاظ مبحث العموم، فهو كبروي، لان البحث يقع في أن العدم
365

مأخوذ في موضوع حكم العام بنحو العدم النعتي فلا يجري الأصل، أو بنحو
العدم المحمولي فيجري الأصل ويثبت حكم العام للمشكوك، ولأجل ذلك
ناسب ذكره في مبحث العموم دون مبحث الاستصحاب.
ومما ذكرنا يظهر وهن ما ذكره بعض مراجع العصر من أن الأصل الأزلي
لا يستفاد من أدلة الاستصحاب عرفا، كيف؟ وقد عرفت ما هو فيه من الدقة
والعمق، فان عدم استفادته عرفا لا يمنع من جريانه لان العرف مرجع في
تشخيص المفاهيم لا في تعيين المصاديق، وقد عرفت أن البحث صغروي بلحاظ
أدلة الاستصحاب.
فلو شخص بالدقة والتأمل وجود قطرة بول في الاناء حكم بنجاسته وإن لم
يرى العرف فيه بولا. فلاحظ وتدبر والله سبحانه ولي العصمة والتوفيق.
انتهى مبحث استصحاب العدم الأزلي، وبه ينتهي البحث العلمي في باب
العموم والخصوص، فان ما يليه من الأبحاث غير علمية دقيقة، ولأجل ذلك
نكتفي بالتعرض في غالبها لمطلب الكفاية فيها وما يدور حوله وفي إطاره.
فصل
ذكر صاحب الكفاية انه قد يستظهر من البعض التمسك
بالعمومات مع الشك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص، كما إذا شك في
صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فيستكشف صحته بعموم مثل: " أوفوا
بالنذور " إذا وقع متعلقا للنذر، فيقال: يجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر لعموم
وجوب الوفاء، وكل ما يجب الوفاء به يقع صحيحا للقطع بأنه لولا صحته لما
وجب الوفاء به.
وليس هذا المعنى غريبا، بل هو واقع شرعا، فقد ورد صحة الاحرام قبل
الميقات والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر بهذا القيد.
وقد ناقشه صاحب الكفاية بان العمومات إذا كانت متكلفة لاحكام
366

العناوين الثانوية..
فتارة: يؤخذ في موضوعاتها أحد الأحكام الثابتة بالعنوان الأولي، كعموم
وجوب إطاعة الوالد، فإنه مأخوذ في موضوعه جواز المأمور به من قبل الوالد
وعدم حرمته. وكعموم وجوب الوفاء بالنذر، فإنه مأخوذ في موضوعه رجحان
متعلقه وكونه طاعة.
وأخرى: لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا.
ففي النحو الأول: مع الشك في الحكم المأخوذ في موضوع الحكم الثانوي
لا مجال للتمسك بالعموم ولا يتوهم عاقل صحة التمسك به. كيف؟ والشبهة
مصداقية بلحاظ نفس العام.
وفي النحو الثاني: يتمسك بعموم الدليل في اثبات حكمه مع الشك في
فرد فيثبت له الحكم بعنوانه الثانوي، فإذا كان محكوما بعنوانه الأولي بغيره
وقعت المزاحمة بين المقتضيين، فيؤثر الأقوى منهما لو كان، والا كان محكوما بحكم
آخر كالإباحة فيما كان أحد المقتضيين مؤثرا في الحرمة والاخر في الوجوب.
واما مسألة نذر الاحرام قبل الميقات، والصوم في السفر، فصحتهما لدليل
خاص، وهو يوجه بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون الدليل كاشفا عن رجحانهما ذاتا في هذه الحال، وانما لم
يؤمر بهما لمانع يرتفع بالنذر.
الثاني: أن يكون الدليل كاشفا عن تحقق رحجانهما بنفس النذر.
الثالث: أن يكون الدليل مخصصا لعموم ما دل على اشتراط الرجحان
في متعلق النذر.
هذا ما افاده صاحب الكفاية (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 223 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
367

ولا بد من التنبيه على امرين:
أحدهما: انه ما المراد بالعموم الذي يظهر من البعض التمسك به، هل
هو عموم: " وجوب الوفاء " مثلا - كما هو الظاهر -، أو عموم مشروعية الوضوء،
فإن كان المراد عموم وجوب الوفاء، فلا متوهم له ولا يلتزم به أحد. وان كان
عموم مشروعية الوضوء فالمقصود من الشك من غير جهة التخصيص ان كان
هو الشك في شمول الدليل له في حد ذاته لاجماله وعدم اطلاقه فلا يتمسك به
كما هو واضح.
وان كان هو الشك في كونه مضافا وعدمه مع العلم بعدم شمول الدليل
للمضاف، فهو شبهة مصداقية للمخصص، كما أنه خلاف الفرض لان الفرض
انه يعلم انه وضوء بالماء المضاف.
اذن فلم نعرف المقصود من موضوع الكلام نفيا واثباتا.
وثانيهما: انه (قدس سره) التزم في القسم الثاني لأدلة الأحكام الثانوية
بوقوع التزاحم بين الحكمين الأولي والثانوي.
وهذا لا يتلائم مع ما سيأتي منه في بحث التعادل والترجيح وغيره من
تقدم دليل الحكم الثانوي على دليل الحكم الأولي بالنظر العرفي. فالتفت ولا
تغفل.
فصل
في العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص.
وقد حدد صاحب الكفاية محل البحث، فذكر ان البحث في جواز العمل
بالعام قبل الفحص عن المخصص وعدم جوازه، انما هو بعد الفراغ عن أن
أصالة العموم معتبرة من باب الظن النوعي لا الشخصي، وانها معتبرة في حق
المشافه وغيره، وعدم كون العام من أطراف العلم الاجمالي بالتخصيص، بعد
الفراغ عن هذه الجهات الثلاثة نوقع البحث في جواز العمل بالعام قبل الفحص
368

وعدمه، ليكون البحث شاملا لجميع المباني والتقادير.
ومنه يظهر ان الاستدلال على عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص
بعدم حصول الظن الشخصي قبله، أو عدم احراز حكم المشافه قبله، أو لاجل
العلم الاجمالي المانع من جريان أصالة العموم، ليس كما ينبغي لان البحث كما
عرفت بعد الفراغ عن جميع هذه الجهات.
ثم إنه ذهب إلى عدم جواز العمل قبل الفحص إذا كان العام في معرض
التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة، وذلك لان العمل بأصالة
العموم بلحاظ بناء العقلاء عليها، ولم يثبت بناء العقلاء على العمل بها قبل
الفحص عن المخصص لو لم يقطع بعدمه.
وبالجملة: لو لم يقطع ببنائهم على عدم العمل بالعام قبل الفحص، فلا
أقل من الشك فيه، وهو يكفي في التوقف لعدم الدليل حينئذ على العمل بالعام
قبل الفحص.
واما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في
المحاورات العرفية فلا اشكال في ثبوت السيرة على العمل بها قبل الفحص عن
المخصص.
وذكر بعد ذلك أن مقدار الفحص في المورد اللازم هو المقدار الذي يخرج
به العام عن المعرضية للتخصيص، إذ الملاك - على ما عرفت - في وجوب
الفحص هو معرضية العام للتخصيص.
هذا ما ذكره في الكفاية (1)، وقد أطال المحقق النائيني (قدس سره) الكلام
في المقام، وتعرض إلى بيان وجود العلم الاجمالي وأوقع البحث الطويل في
انحلاله (2)، ولا حاجة لنا في التعرض إليه، إذ سيأتي البحث عنه في محله ويوفى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 226 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 480 - الطبعة الأولى.
369

حقه، فما ذكره في الكفاية به الكفاية.
هذا بالنسبة إلى احتمال المخصص المنفصل.
واما بالنسبة إلى احتمال المخصص المتصل، فقد ذكر صاحب الكفاية ان
الظاهر عدم لزوم الفحص عنه، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتفقت
كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص. انتهى ما افاده في
الكفاية (1).
وتحقيق الكلام فيه: ان صور الشك في القرينة المتصلة ثلاث:
الأولى: الشك في قرينية الموجود لفقدانه كما لو فقدت بعض كلمات
الرسالة الموجهة إلى شخص بحيث يحتمل ان تكون دخيلة في تغيير ظاهر
الكلام. وفي هذا الصورة لا اشكال في التوقف عن العمل بظاهر الكلام الباقي.
الثانية: الشك في قرينية الموجود لاجماله، كما لو كان الكلام محتفا بما هو
مجمل في معناه واحتمل اعتماد المتكلم عليه في تفهيم مرامه لصلاحيته للقرينية.
والحكم في هذه الصورة هو التوقف كسابقتها وهو مما لا اشكال فيه.
الثالثة: ان يشك في مراد المتكلم، لاحتمال انه كان في نيته نصب قرينة وغفل
فلم يذكر القرينة، بل ذكر الكلام مجردا. ولا اشكال في جواز التمسك بالظاهر
ههنا وعدم الاعتناء بالاحتمال المزبور لأصالة عدم الغفلة. ولا معنى للفحص
ههنا للعلم بعدم القرينة، كما أنه قد يتمسك بالكلام مع فقدان المتكلم وانتفاء
موضوع الفحص كما في موارد الوصايا.
وإذا تبين حصر موارد الشك في القرينة المتصلة بهذه الصور الثلاث،
وعرفت حكمها، تعرف انه لا وجه لانكار لزوم الفحص مع احتمال القرينة
المتصلة، لأنه اما لا يجوز العمل بالعام، واما لا معنى للفحص كي ينفى لزومه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 226 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
370

فتدبر.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر ان الفحص ههنا يختلف عن الفحص اللازم
في باب الأصول العملية، فإنه ههنا عما يمنع عن الحجية وفي الأصول العملية
عما يتم الحجية، إذ بدونه لا حجة (1). وتابعه على ذلك المحقق النائيني (2). وقد
ناقشه المحقق الأصفهاني بمناقشة متينة (3). والأمر سهل جدا بعد أن كان هذا
البحث عديم الثمرة بالمرة فلاحظ.
فصل
وقع الكلام في الخطابات الشفاهية في أنها هل تختص بالحاضر مجلس
التخاطب أو تعم غيره من الغائبين والمعدومين؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان
الكلام يمكن ان يقع في جهات ثلاثة:
الأولى: في صحة تعلق التكليف - الذي يشتمل عليه الخطاب - بالمعدومين
كما يصح تعلقه بالموجودين.
الثانية: في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين.
الثالثة: في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب لغير الحاضرين من
الغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهم بقرينة الأداة.
وذكر ان النزاع في الجهتين الأوليتين عقلي وفي الثالثة لغوي.
اما الجهة الأولى: فقد أفاد في مقام تحقيقها انه لا يصح تعلق التكليف
الفعلي بالمعدوم عقلا، بمعنى بعثه أو زجره فعلا، لعدم قابلية المعدوم للانبعاث أو
الانزجار فعلا، نعم يصح تعلق التكليف به بنحوين:
أحدهما: التكليف الانشائي غير المشتمل على البعث والزجر، فإنه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 227 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 480 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية / 345 - الطبعة الأولى.
371

خفيف المؤنة ولا مانع من تعلقه بالمعدوم فيصيرا فعليا حين تحقق شرائطه. وهذا
نظير انشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة لتصير فعلية حين وجودها
بنفس الانشاء السابق.
وثانيهما: ان يتعلق به التكليف الفعلي بقيد الوجود، بمعنى ان يتعلق
التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي بهذا القيد، نظير الواجب المعلق، لكنه ههنا
بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق.
ومن هنا يظهر انه لا وجه لاشكال المحقق الأصفهاني على صاحب
الكفاية بأنه يصح تعلق التكليف بامر استقبالي، وانه لا فرق بين تعلق التكيف
بما لا يمكن تحققه الا في الاستقبال - كما هو مورد الواجب المعلق - وتعلقه بما
لا يوجد الا في المستقبل (1) فإنه غفلة عن تعرض صاحب الكفاية له وإرادته من
قوله: " واما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجد انه الشرائط فامكانه بمكان من
الامكان ". فلاحظ وانتبه.
واما الجهة الثانية: فقد ذكر أنه لا يصح توجيه الخطاب الحقيقي إلى غير
الحاضر، لاجل التقوم الخطاب الحقيقي بالتفات المخاطب، وهو مفقود في الغائب
والمعدوم.
واما الجهة الثالثة: فقد ذكر في تحقيقها: ان الأدوات ان كانت موضوعة
للخطاب الحقيقي كان استعمالها فيه موجبا للتصرف في المدخول وقصره على
الحاضرين، كما أن استعمال المدخول في العموم يكون قرينة على عدم استعمال
الأداة في الخطاب الحقيقي. واما إذا كانت موضوعة للخطاب الانشائي، فلا
تكون موجبة للتصرف في المدخول لصحة تعلق الخطاب الانشائي بالغائب
والمعدوم. والظاهر أنها موضوعة للخطاب الانشائي الايقاعي، والاختلاف من

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 346 - الطبعة الأولى.
372

حيث الدواعي كما هو الحال في بعض الصيغ الانشائية، كأدوات الاستفهام
والتمني والترجي كما تقدم منه ذلك.
نعم، المنصرف منها عند اطلاقها هو الانشاء بداعي الخطاب الحقيقي،
لكنه مع عدم المانع عنه، وهو موجود في كلام الشارع للعلم بعدم اختصاص
التكاليف المنشأة بمن حضر مجلس الخطاب. وقد استشهد على كونها موضوعة
للخطاب الانشائي بصحة إرادة العموم من مدخولها مع عدم ملاحظة علاقة
وعناية.
ودعوى أنه أمر ارتكازي تندفع: بأنه لا يلتفت إليه مع الالتفات
والتفتيش، ولو كان ارتكازيا لعلم به بالالتفات، إذ لا طريق إلى معرفة انه
ارتكازي الا ذلك.
ثم تعرض إلى توهم: ان وضع الأداة للخطاب الحقيقي لا يستلزم
اختصاص المخاطبين بالحاضرين في خطاباته تعالى، لاحاطته بالموجود والمعدوم،
والكل لديه على حد سواء.
ودفعه: بان الإحاطة لا تلازم صحة الخطاب، إذ المانع من صحة الخطاب
هو عدم قابلية المعدوم للمخاطبة وهي لا ترتفع بإحاطته جل شأنه.
ثم إنه بعد كل هذا ذكر ان ما تقدم، يبتني على القول بان المخاطب
بالخطابات الإلهية هو غير النبي (ص)، واما إذا كان المخاطب حقيقة هو النبي
(ص) فلا محيص عن الالتزام باستعمال أدوات الخطاب في الخطاب الانشائي -
ولو كان بنحو المجاز - إذ مدخولها غير مقصود بالخطاب حقيقة كما هو الفرض،
فلا بد أن يكون موردا لانشاء الخطاب لا حقيقة.
هذا ما أفاده صاحب الكفاية في المقام (1)، وقد نحا المحقق النائيني في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 227 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
373

تحقيقه نحوا آخر، فأفاد (قدس سره): ان الكلام تارة يقع في القضايا الخارجية.
وأخرى في القضايا الحقيقة.
اما القضايا الخارجية، فالحق فيها اختصاص الخطاب بالمشافهين، لان
خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية، وهو خلاف ظاهر
الخطابات.
واما القضايا الحقيقة - وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدر
الوجود كالقضايا الشرعية -، فالحق عموم الخطاب للغائب والمعدوم والحاضر،
كعموم الحكم ثبوتا لهم جميعا، إذ مخاطبة الغائب والمعدوم لا تحتاج إلى أكثر من
تنزيلهما منزلة الموجود وهو حاصل، إذ به تتقوم القضية الحقيقية، فلا يدفعه
الأصل لأنه ليس أمرا زائدا عن حقيقة القضية الحقيقية (1).
وقد أورد عليه السيد الخوئي (2) تبعا للمحقق الأصفهاني (3) بأنه لا يكفي
في صحة خطاب المعدوم والغائب تنزيلهما منزلة الموجود، بل يعتبر تنزيلهما منزلة
الحاضر وهو أمر زائد على مقتضى القضية الحقيقية، فينفيه الأصل مع عدم
الدليل عليه.
ثم إن صاحب الكفاية نقل للبحث ثمرتين وناقشهما، فيكون البحث مما
لا ثمرة له عملية، وهما:
الأولى: حجية ظهور الخطابات للمعدومين والغائبين - بناء على عمومها
لهم - وعدم حجيته بناء على عدم عمومها لهم.
وناقشها:
أولا: بأنه تبتني على اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه وقد تقرر

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 490 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 5 / 277 - الطبعة الأولى (3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 219 هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.
374

عدم الاختصاص.
وثانيا: انه لو سلم اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه، فلا يختص
المشافهون بكونهم مقصودين بالافهام، بل الناس كلهم مقصودون به وإن لم
يعمهم الخطاب.
الثانية: انه بناء على التعميم يصح التمسك باطلاقات الخطابات القرآنية
للمعدومين إذا وجدوا ولو اختلفوا مع المشافهين بالصنف، وبناء على عدم التعميم
لا يصح التمسك لهم بالاطلاق، لأنها انما تتكفل حكم المشافهين فقط، فلا بد
من تسرية الحكم لغيرهم من وحدة الصنف، لأنها موضوع قاعدة الاشتراك في
الاحكام، لان دليلها الاجماع ولا ثبوت له في غير مورد اتحاد الصنف.
وقد ناقشها: بان المقصود باتحاد الصنف هو الاتحاد في ما اخذ قيدا
للحكم، وعليه فيمكننا اثبات اتحاد الصنف ونفي دخالة الأوصاف الموجودة في
المشافهين المفقودة في غيرهم باطلاق الخطاب من دون تقييد بالوصف، فان إرادة
المقيد واقعا مع عدم البيان يكون مخلا بالغرض بالنسبة إلى الأوصاف القابلة
للتبدل.
وعليه، فسواء قلنا بالتعميم أو بعدمه يمكن اثبات الحكم لغير المشافهين،
ولو مع اختلافهم في الأوصاف التي لم تؤخذ قيدا في الحكم في لسان الدليل،
لامكان نفيها بالاطلاق (1).
فصل
إذا ورد عام ثم ورد بعده ضمير يرجع إلى بعض افراده، فهل
يستلزم تخصيص العام أولا؟. وموضوع الخلاف - على ما ذكره في الكفاية - ما
إذا وقعا في كلامين أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 231 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
375

كما في قوله تبارك وتعالى: (والمطلقات يتربصن..) إلى قوله: (وبعولتهن أحق
بردهن) (1) - فان المراد بضمير بعولتهن المطلقات الرجعيات - واما إذا كان مثل:
" والمطلقات أزواجهن أحق بردهن " فلا شبهة في تخصيصه به، إذ ليس للعام حكم
آخر كي يتخيل عمومه، بل ليس له الا الحكم الخاص فيخصص بلا كلام.
وقد ذكر صاحب الكفاية في مقام تحقيق الكلام: ان الامر يدور بين
التصرف في العام بإرادة خصوص المراد من الضمير الراجع إليه، والتصرف في
ناحية الضمير اما بارجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه - وهو العام -، أو
بارجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الاسناد، فيسند الحكم المسند حقيقة إلى
البعض - يسند - إلى الكل مجازا. والمتعين هو العمل بأصالة العموم وابقائه على
عمومه، وذلك لجريانها بلا معارض، إذ لا تجري أصالة الحقيقة في جانب الضمير
للعلم بالمراد الجدي منه، وأصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد، اما مع
العلم بالمراد والشك في كيفية الاستعمال فلا تجري أصالة الحقيقة لان المتيقن من
دليل أصالة الظهور هو الصورة الأولى (2).
وقد وافقه المحقق النائيني في اختيار جريان أصالة العموم وعدم جريان
أصالة عدم الاستخدام - التي جعلها هي المعارضة بدوا مع أصالة العموم -،
ووجهه بوجوه ثلاثة:
الأول: ان الاستخدام انما يلزم من إرادة خصوص الرجعيات من الضمير
لو كان العام المخصص مجازا ليكون الخاص معنى آخر للعام، والصحيح خلاف
ذلك كما عرفت، فليس هناك معنى آخر للعام يراد من ضميره كي يستلزم ذلك
الاستخدام.

(1) سورة البقرة، الآية: 228.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 232 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
376

الثاني: ان أصالة عدم الاستخدام انما تجري مع الشك في المراد لا في
كيفية الإرادة.
ثم أورد على نفسه: بأنه إذا كان لجريان أصالة عدم الاستخدام مع الشك
في كيفية الإرادة أثر فلا مانع من جريانها، وإن لم يكن لها أثر في تعيين المراد للعلم
به - وما نحن فيه كذلك -، إذ جريانها يلازم تخصيص العام فيثبت بها، نظير
جريان الأصل العملي لاثبات لازم مجراه، كما لو كان ثوب نجس فلاقته اليد مع
الرطوبة وشك في أنه هل طهر قبل الملاقاة أولا؟. وكان الثوب عند الشك والعلم
بنجاسته خارجا عن محل الابتلاء، فان استصحاب نجاسته يجري لاثبات
نجاسة اليد وإن لم تكن نجاسته قابلة للتعبد لخروجه عن محل الابتلاء، وإذا
صححنا ذلك في الأصل العملي فليكن الحل كذلك في الأصل اللفظي.
وأجاب عنه: بان نجاسة الملاقي من الآثار الشرعية لنجاسة الملاقي -
بالفتح -، فاستصحاب نجاسته يترتب عليه نجاسة ملاقيه ويكون حاله حال
استصحاب الامر التكويني لاثبات أثره الشرعي مع أنه في نفسه غير قابل
للتعبد.
واما تخصيص العام، فليس أثرا شرعيا لأصالة عدم الاستخدام، بل هو
من ملازماته العقلية، فيكون أصل عدم الاستخدام بالنسبة إليه مثبتا، فلا بد من
اثبات الملزوم في نفسه كي يثبت لازمه تبعا له، وقد عرفت عدم جريان الأصل
في اثبات عدم الاستخدام في نفسه.
أقول لا ملزم لهذا التطويل في الايراد والجواب، إذ لنا ان نقول بان عدم
جريان الأصل اللفظي مع العلم بالمراد والشك في كيفية الإرادة ليس من جهة
عدم ترتب الأثر عليه، بل من جهة ان المتيقن من دليله غير هذه الصورة، وانه
لا دليل عليه في هذه الصورة إذ ليس بناء العقلاء على جريانه فيها، كما أشار
إلى ذلك صاحب الكفاية في كلامه.
377

الثالث: ان المقال خارج عن مورد الاستخدام، إذ المستعمل فيه الضمير
هو مطلق المطلقات لا خصوص الرجعيات، وإرادة الرجعيات كان بدليل آخر
وهو عقد الحمل، فلا اختلاف بين المستعمل فيه العام والمستعمل فيه الضمير.
هذا ما افاده (قدس سره) نقلناه ملخصا (1).
وتحقيق الحال ان يقال: ان المراد بالاستخدام تارة: يكون استعمال اللفظ
في معنى وإرادة معنى آخر له من ضميره. وأخرى: يكون عبارة عن اختلاف
المراد الجدي من اللفظ وضميره. فأصالة عدم الاستخدام على الأول تفيد وحدة
المستعمل فيه الضمير مع اللفظ. وعلى الثاني تفيد وحدة المراد الجدي منهما ولو
مع اختلاف المستعمل فيه.
وعليه، فنقول: ان أصالة العموم لا تعارضها أصالة عدم الاستخدام
بالمعنى الأول، وذلك لما تقدم من أن الحق ان إرادة الخاص جدا من العام لا
تستلزم استعمال العام في الخصوص لانفكاك المراد الاستعمالي عن المراد الجدي.
وعليه، فالاستخدام ثابت سواء أريد من العام العموم أو الخصوص،
لاستعماله في العموم على كلا التقديرين فلا وجه حينئذ لاجراء أصالة عدم
الاستخدام، فأصالة العموم تكون بلا معارض.
واما أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الثاني، فقد ادعى: ان مستندها هو
ان وحدة المراد الجدي من الضمير ومرجعه من الظهورات السياقية. وعليه
فيحصل التعارض بينها وبين أصالة العموم، لاختلاف مؤداهما، فلو لم تكن مقدمة
على أصالة العموم كانت معارضه وتكون النتيجة هي التساقط، والنتيجة تكون
هي التخصيص حكما.
ولكن يرد على هذا القول:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 493 - الطبعة الأولى.
378

أولا: ان الاستخدام بهذا المعنى لا يتأتي الا في باب العام والضمير.
اما في مثل: " رأيت أسدا وضربته " فلا وجه لان يدعى وحدة الاستعمال
بان يراد من: " أسد " وضميره هو الحيوان المفترس، لكن يختلفان في المراد الجدي
فيراد من أسد جدا الحيوان المفترس ويراد جدا من الضمير الرجل الشجاع.
نعم، في ما نحن فيه يمكن تأتيه، فيكون المستعمل فيه العام والضمير
واحدا، ولكن يراد جدا من العام العموم ومن الضمير الخصوص. اذن فلا معنى
لتفسير الاستخدام بهذا الوجه لعدم تأتيه في مطلق الموارد التي يحتمل فيها
الاستخدام.
فان قلت: يمكن تأتي هذا المعنى من الاستخدام في مثل: " رأيت أسدا
وضربته "، إذ يمكن استعمالهما معا في الحيوان المفترس ويراد من الضمير الرجل
الشجاع بنحو الحقيقة الادعائية.
قلت: هذا خلاف الوجدان، وذلك لان استعمال اللفظ الموضوع للطبيعي
وإرادة الفرد انما هو من باب الاطلاق لا الاستعمال، إذ لا يستعمل لفظ: " الخبز "
في: " أكلت الخبز " في الفرد المأكول بل يطلق عليه، فالحقيقة الادعائية عبارة عن
اطلاق لفظ الأسد المستعمل في معناه الحقيقي على زيد بادعاء انه فرد للحيوان
المفترس. ثم إن الواضح ان الضمير لا يستعمل في المعنى المراد من مرجعه، بل
يستعمل في معناه المبهم ويراد به مرجعه بنحو الاطلاق.
فإرادة الرجل الشجاع من الضمير بنحو الحقيقة الادعائية تستلزم تعدد
الاطلاق وأن يكون هناك اطلاقان أحدهما اطلاق الضمير على الحيوان المفترس
والاخر اطلاق الحيوان المفترس على فرده الادعائي، والتعدد خلاف المرتكز في
مثل هذا الاستعمال. فتدبر.
وثانيا: ان ما ادعي لهذا الأصل من المنشأ وهو الظهور السياقي وعورض
به أصالة العموم، امر لا أساس له عند العقلاء، بل وحدة المراد الجدي من
379

الضمير ومرجعه انما تستفاد في سائر الموارد من البناء العقلائي على مطابقة مقام
الاثبات لمقام الثبوت وان المراد الاستعمالي هو المراد الجدي. فإنه إذا اتحد المراد
الاستعمالي للضمير ومرجعه، فبضميمة هذا البناء العقلائي يستفاد وحدة المراد
الجدي للضمير ومرجعه، وليس لدينا وراء هذا الامر أمر آخر نعبر عنه بالظهور
السياقي يبني عليه العقلاء في محاوراتهم، بل لا معنى له بعد أداء نتيجته بأصل
آخر عقلائي لا تشكيك فيه.
وإذا اتضح هذا المعنى فنقول: في المقام حيث يعلم بالمراد الجدي من
الضمير وانه يخالف المراد الاستعمالي لو كان عاما، فلا يجري فيه الأصل
العقلائي المزبور، وانما يجري في طرف العام فقط، فكانت أصالة العموم في العام
محكمة ولا مزاحم لها أصلا.
والنتيجة: ان أصالة العموم جارية ولا تزاحمها أصالة عدم الاستخدام
بالمعنى الأول. هذا مع ما تقدم من المحقق النائيني من أن المستعمل فيه الضمير
هو العموم فلا اختلاف فيه، فالمورد أجنبي عن الاستخدام بهذا المعنى. كما
عرفت أن أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الاخر لا أساس لها. فما اختاره
صاحب الكفاية هو المتبع.
ثم إن صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما عرفته قال: " لكنه إذا عقد للكلام
ظهور في العموم، بان لا يعد ما اشتمل عليه الضمير مما يكتنف به عرفا، والا
فيحكم عليه بالاجمال ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول " (1). ولم يرتضه المحقق
النائيني ببيان: ان ملاك باب اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية هو أن يكون في
الكلام لفظ مجمل بحيث لو كان المتكلم متكلا عليه في بيان مراده لم يكن مخلا
بالغرض، وهو غير متوفر فيما نحن فيه، إذ الجملة المشتملة على الضمير تتكفل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 233 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
380

حكما غير الحكم الذي تتكفله الجملة المشتملة على العام، فلا يصح للمتكلم
الاتكال على جملة الضمير في مقام البيان (1).
أقول: تحقيق الصحيح من هذين الكلامين يتضح عند التعرض لتحقيق
أصل موضوع احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية في مبحث حجية الظواهر
فانتظر والله سبحانه الموفق.
فصل:
ذكر صاحب الكفاية وقوع الاتفاق على جواز تخصيص العام
بمفهوم الموافقة، ولعل الوجه فيه ما قيل: من أن المنطوق لا يعارض العموم وانما
يعارضه المفهوم، فتقديم العموم على المفهوم اما أن يكون مع عدم التصرف في
المنطوق أو معه، والأول ممتنع لاستلزام المفهوم للمنطوق بنحو الأولوية، والثاني
يستلزم رفع اليد عما ليس بطرف المعارضة للعموم وهو لا وجه له، فيتعين تقديم
المفهوم على العموم وتخصيصه بغير مورده. كما ذكر (قدس سره) وقوع
الاختلاف في جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة وقال: " تحقيق المقام انه إذا
ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين، ولكن على نحو يصلح أن يكون كل
منهما قرينة متصلة للتصرف في الاخر، ودار الامر بين تخصيص العموم أو إلغاء
المفهوم، فالدلالة على كل منهما ان كانت بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة أو
بالوضع، فلا يكون هناك عموم. ولا مفهوم لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد
منهما لاجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الاخر كذلك، فلا بد من
العمل بالأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع
ذلك أحدهما أظهر، والا كان مانعا عن انعقاد الظهور أو استقراره في الاخر.
ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذلك

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 495 - الطبعة الأولى.
381

الارتباط والاتصال، وانه لا بد ان يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن
في البين أظهر، والا فهو المعول، والقرينة على التصرف في الاخر بما لا يخالفه
بحسب العمل " (1). والمراد من كلامه (قدس سره) واضح لا يحتاج إلى بيان.
لكن يتوجه عليه:
أولا: ان تقديم المفهوم الخاص على العام امر مسلم فقهيا، فايقاع البحث
فيه لا نعرف وجهه، فهل يتوقف أحد في أن المولى إذا قال: " أكرم كل عالم " ثم
قال: " أكرم كل عالم إذا كان عادلا " ان الدليل الاخر يكون مخصصا للعام
بمفهومه؟.
وثانيا: ان بيانه اجمالي ولا يتكفل حل المشكلة، إذ هو يتكفل بيان كبرى
معروفة لكل أحد، والمهم تحقيق صغرى ما ذكره، فجعله ما ذكره تحقيقا للمقام
ليس كما ينبغي.
وثالثا: ان عمدة الوجه في ثبوت المفهوم هو الاطلاق، فترديده بين أن يكون
المفهوم وضعيا أو اطلاقيا مستدرك.
ثم إنه كان ينبغي بيان مركز التنافي بين العام والمفهوم، وهو دلالة المنطوق
على الخصوصية الملازمة للمفهوم، فلا بد من علاج التنافي في هذا المقام، وستعرف
انشاء الله تعالى عن قريب.
وقد تعرض المحقق النائيني (رحمه الله) إلى هذا البحث وأطال فيه الكلام،
فتعرض أولا لبيان معنى مفهوم الموافقة وانه ما وافق المنطوق سلبا وايجابا، ومعنى
مفهوم المخالفة وانه ما خالف المنطوق في السلب والايجاب، ثم تعرض إلى أن
مفهوم الموافقة تارة يكون بالأولوية. وأخرى بالمساواة كما في موارد العلة
المنصوصة، وذكر الاختلاف في مؤدى مثل قوله: " الخمر حرام لأنه مسكر " ومثل:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 233 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
382

" الخمر حرام لاسكاره "، وان الأول يستفاد من عموم الحكم لمطلق المسكر دون
الثاني، وبين وجه الاختلاف. ولا يهمنا التعرض إليه لعدم ارتباطه بما نحن فيه.
ثم تعرض لتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه:
اما مفهوم الموافقة بالأولوية فذكر: انه قد يدعى تقدمه على العموم
للوجه السابق الذي عرفته في صدر البحث، وناقشه (قدس سره) بان المنطوق
كما يدل بالأولوية على حكم آخر مناف للعام كذلك العام يدل بالأولوية على ما
ينافي حكم المنطوق. وذلك لان العام بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم فهو
يدل بالأولوية على نفي حكم المنطوق. فيتحقق التعارض بين المنطوقين.
وعليه، فإن كان المنطوق أخص مطلقا من العموم كما لو ورد: " لا تكرم
الفساق " وورد: " أكرم فساق خدام العلماء " الدال بالأولوية على وجوب اكرام
العلماء، كان المفهوم مقدما على العام ولو كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه
- كما في المثال -، لعدم امكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه، ولا يمكن رفع اليد
عن المنطوق لأنه أخص مطلقا من العموم فيقدم عليه، فيكون المورد من موارد
تقديم أحد العامين من وجه على الاخر لمرجح فيه.
وان كان بين المنطوق والعام عموما من وجه كما لو ورد: " لا تكرم
الفساق " وورد: " أكرم خدام العلماء " الدلال بالأولوية على وجوب اكرام العلماء.
فان قدم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدما على العموم
أيضا، وان قدم العموم علي المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق فلا يثبت
بالأولوية الا وجوب اكرام العلماء العدول فلا تعارض بينهما حينئذ.
واما مفهوم الموافقة بالمساواة فقد ذكر: ان الكلام فيه هو الكلام في سابقه
بلا اختلاف في الحكم (1).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 498 - الطبعة الأولى.
383

وقد أورد عليه المقرر (دام ظله): بأنه لا وجه للتفكيك، بين قسمي المفهوم
في البيان بعد أن كان حكمهما واحدا (1). ولا يخفى ان هذا الايراد ايراد أدبي لا
يرتبط بواقع البحث، مع أنه لا وجه له لتعارض التفكيك في البيان لغرض
الايضاح، هذا لو لم يكن التفكيك البياني من المقرر نفسه في تقريره والا
فالاشكال عليه.
والذي يرد على المحقق النائيني (قدس سره) فيما افاده في مفهوم الموافقة
بالأولوية: ان مفروض الكلام أولا هو عدم المنافاة بين المنطوق والعام بذاتيهما
أصلا، فدعوى المدعي لتقديم المفهوم كانت على هذا الأساس، ففرضه (قدس
سره) كون نسبة المنطوق إلى العام نسبة الخصوص المطلق أو العموم والخصوص
من وجه خروج عن مفروض البحث، إذ التعارض فيما فرضه يكون بين المنطوق
والعموم رأسا، فيتقدم عليه في الأول قهرا ويتساقطان مع عدم المرجح في الثاني.
ولا يحتاج حينئذ إلي ما أتعب به نفسه في اثبات منافاة العموم للمنطوق بالأولوية
لأنه ينافيه بدلالته اللفظية ومنطوقه. فالمثال الذي يتناسب مع مفروض البحث
هو ما إذا ورد: " لا تكرم العلماء " ثم ورد: " أكرم خدام الفقهاء غير العلماء " فإنه
يدل بالأولوية على وجوب اكرام أسيادهم الفقهاء، مع عدم التنافي بين المنطوقين
بذاتيهما أصلا، ونسبة المفهوم إلى العموم نسبة الخاص إلى العام. ومثل: " لا تقل
لها اف " (2) الدال بالأولوية على حرمة ضرب الوالدين بالنسبة إلى دليل " يجوز
ضرب الأقارب "، لو فرض وجوده.
وتحقيق الكلام فيه: ان التعارض يكون في الحقيقة بين المنطوق والعام، إذ
دلالة مثل: " (لا تقل لهما اف) (2) عقلا على حرمة الضرب، انها تكون باعتبار

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 500 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
(2) سورة بني إسرائيل، الآية: 23.
384

استفادة ان تحريم قول آلاف باعتبار انه أضعف افراد الايذاء، فإنه يلازم عقلا
حرمة الأقوى منه من افراد الايذاء، وهو بهذه الدلالة المستلزمة عقلا لما عرفت،
يتنافى مع عموم جواز ضرب الأقارب الشامل للوالدين، فان تجويز الفرد الأقوى
يتنافى مع تحريم الفرد الأضعف - وإلا فلا منافاة بحسب ذات المنطوقين
لاختلاف موضوعيهما -، وهكذا الحال في المثال الأول، فان دليل: " أكرم خدام
الفقهاء " حيث دل على وجوب اكرامهم لارتباطهم بالفقهاء لا لخصوصية فيهم،
كان دالا بالملازمة العقلية على وجوب اكرام الفقهاء ومنافيا لاجل ذلك لما دل
بعمومه على حرمة اكرامهم.
وعليه، فإذا كانت المنافاة بين المنطوقين، فلا بد في تقديم أحدهما من
ملاحظة الأقوى منهما والا فيتساقطان، كالدليلين الدال أحدهما على وجوب
اكرام زيد والاخر على حرمته، فإنهما يتنافيان باعتبار لازمهما العقلي وهو نفي
الاخر والا فمدلولاهما مختلفان.
وبالجملة: ما نحن فيه كسائر موارد المعارضة بالتبائن، فيقدم الأقوى
منهما ظهورا لو كان والا تساقطا. فلاحظ.
واما ما افاده في المفهوم بالمساواة وعطفه على مفهوم الموافقة. ففيه: ان
الدليل المتكفل لحكم المنطوق إذا كان يتكفل بيان التعليل، راجعا إلى بيان كلي
على موضوع كلي، فالدليل يتكفل بيان حكمين أحدهما على الموضوع المنشأ بالعلة
المنافي لعموم آخر لذلك العام، وإجراء القواعد المقررة المعلومة ولا وجه لفرض
التعارض بين المنطوق والعام فإنه خلف الفرض، إذ الفرض عدم منافاة المنطوق
بنفسه للعموم، كما لو قال: " يحرم الفقاع لأنه مسكر " ثم قال: " يجوز شرب كل
ما يتخذ من العنب "، فان النسبة بينه وبين الحكم بحرمة كل مسكر العموم من
وجه، ولا ينافي المنطوق بوجه كما لا يخفى.
385

وبعد ان تعرض (قدس سره) إلى مفهوم الموافقة بما عرفت، تعرض إلى
تحقيق الكلام في مفهوم المخالفة، فذهب إلى أن المستفاد من ظاهر كلام الشيخ
(رحمه الله) التفصيل بين ما إذا كان العموم آبيا عن التخصيص فلا يخصصه
المفهوم وما إذا كان غير آب عنه فيخصصه، وجعل (قدس سره) بناءه على تقدم
عموم العلة في مفهوم النباء على المفهوم، وعدم تخصيصه بالمفهوم من هذا الباب،
لان إصابة القوم بجهالة أمر مرغوب عنه شرعا وغير قابل للاختصاص بمورد
دون آخر.
واما بالنسبة إلى سائر العمومات الدالة على عدم جواز العمل بالظن،
فبنى على تقدم المفهوم على العام لحكومته عليها، لان خبر الواحد بدليل حجيته
يخرج موضوعا عن العمل بالظن (1).
وناقشه (قدس سره) صدرا وذيلا: بان الحكومة تجري في كلا الموردين
والا لامتنع تقديم المفهوم على غير عموم العلة من العمومات.
ثم إنه (قدس سره) تعرض لدعوى التفصيل بين صورة اتصال العام
بماله المفهوم فيقدم عليه ويمنع عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم. وصورة
انفصاله عنه فيقدم المفهوم لأخصيته (2). وناقشها: بأنه يمتنع تقدم العام على
المفهوم في صورة الاتصال، وانه يستحيل أن يكون العام مانعا عن انعقاد الظهور
في المفهوم، وذكر لذلك وجوها ثلاثة:
الأول: ظهور الكلام في المفهوم وان كان بالاطلاق كظهوره في العموم،
الا ان جريان مقدمات الحكمة في اثبات المفهوم أسبق رتبة من جريانها في
العموم، فيكون ما له المفهوم حاكما على العموم، واحتفاف الكلام بما يصلح

(1) و (2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 72 - 74 - الطبعة الحجرية.
كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 210 - الطبعة الأولى.
386

للقرينية انما يمنع من انعقاد الظهور في غير موارد الحكومة.
الثاني: ان الاحتياج لمقدمات الحكمة في اثبات المفهوم لاجل نفي البدل
والشريك، اما رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع - وهو مناط ظهور الكلام
في المفهوم - فهو يستفاد من ظهور وضعي، وهو مقدم على الظهور الاطلاقي في
جانب العموم، ولا يصلح هذا لمنع الظهور الوضعي، فيقدم على العموم لا محالة.
الثالث: ان المفهوم حيث يثبت من جهة ظهور الكلام الوضعي في رجوع
القيد إلى الحكم، وظهوره الاطلاقي في نفي البدل والشريك، فتقدم العموم عليه
لابد وأن يكون منشؤه اما تصرفه في الظهور الأول أو الثاني. وكلاهما منتف، لان
الأول ظهور وضعي لا يقاومه ظهور العموم لأنه اطلاقي. والثاني لا تعرض للعام
لنفيه، إذ هو يتكفل جعل الحكم على موضوعه المقدر الوجود من دون تعرض
لاثبات البدل ونحو ذلك. هذا خلاصة ما افاده (قدس سره) (1).
تحقيق الكلام: ان جهة الاشكال والشبهة التي كان منشأ لايقاع البحث
في تقدم المفهوم الخاص على العام وافراده في الكلام عن سائر الخصوصات هي:
ان المفهوم انما يستفاد من دلالة المنطوق على خصوصية ملازمة للمفهوم
كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط، وبما أن الدلالة على هذه الخصوصية
بالاطلاق، لم يناهض المفهوم العام، لان الدال عليه هو الاطلاق وهو لا يتقدم
على ظهور العموم، بل مقتضى القاعدة تقدم العموم عليه بناء على كون ظهوره
وضعيا، وتقدم الخاص على العام ليس لدليل خاص كي يؤخذ باطلاقه، بل لا جل
أظهريته وهي منتفية في مورد كون الخاص مدلولا للاطلاق، بل يكون شأنهما
شأن العامين من وجه.
والجواب عن هذه الشبهة: ان تعارض الاطلاقين أو الدليلين اللذين بينهما

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 501 - الطبعة الأولى.
387

عموم من وجه لا يلازم دائما سقوطهما، بل قد يلتزم بتقديم أحدهما لخصوصية،
كما لو كان الالتزام بتقديم أحدهما في المجمع موجبا لالغاء دخالة خصوصية
أحدهما في الحكم بالمرة، كما يقال بتقديم ما دل على طهارة بول وخرء الطائر على
ما دل نجاسة بول وخرء غير مأكول اللحم مع أن بينهما عموما من
وجه، ببيان: ان الالتزام بنجاسة بول وخرء الطائر غير مأكول اللحم وتخصيص
الطهارة بالطائر المأكول اللحم يستلزم إلغاء خصوصية دخالة الطير في الطهارة،
إذ مأكول اللحم طاهر مطلقا بلا خصوصية للطير وغيره، وهو ينافي ظهور الدليل
في دخالة الطير في الحكم بالطهارة الذي هو أقوى من الظهور الاطلاقي. وهذا
البيان لا يتأتي لو قدم دليل طهارة بول وخرء الطير على الدليل الاخر كما لا
يخفى. فيقدم هذا الدليل، لان تقديم الدليل الاخر عليه يلازم طرحه بالنسبة إلى
موضوعية العنوان المأخوذ فيه.
وفيما نحن فيه يجري نظير هذا البيان، وذلك لان الدليل المشتمل على
الشرط - مثلا - ظاهر في حد نفسه في دخالة الشرط في ثبوت الحكم بنحو
الاجمال، وإذا انضم إليه الاطلاق الدال على نفي العدل والشريك تتم الدلالة
على المفهوم. فإذا فرض تقديم العام كان ذلك ملازما لالغاء ظهور دليل المفهوم
في دخالة الشرط في ثبوت الحكم، إذ العموم ينفي دخالة القيود، وهذا الظهور
ليس باطلاقي كي لا يصلح لمصادمة العام.
وبالجملة: العام انما يصادم دليل المفهوم في دلالته على أصل دخالة
الشرط في الحكم التي هي أسبق رتبة من دلالته على المفهوم. ودليل المفهوم
بلحاظ هذه الدلالة أقوى من دلالة العام على العموم. فلاحظ.
وبهذا البيان ينحل الاشكال، ولذا لم يتوقف أحد عملا كما عرفت في
تقديم دليل: " أكرم العلماء إذا كانوا عدولا " على دليل: " أكرم كل عالم ".
وبهذا البيان لا بد من تحقيق الكلام، لا بالنحو الذي سلكه في الكفاية،
388

أو بالنحو الذي سلكه المحقق النائيني من تعرضه لصغري من صغريات المورد،
والبحث فيها مع الشيخ مع موافقته له في الكبرى، وعدم بيان نكته تقديم الدليل
الدال على المفهوم إذا كان منفصلا عن العام، بل اكتفى بمجرد الدعوى
وإرساله إرسال المسلمات مع أنك عرفت قوة شبهة التوقف في التقديم، وكلامه
مع الشيخ وان كان لا تخلو عن بعض المناقشات لكن أهملنا التعرض لها ايكالا
ذلك إلى محله فانتظر. فتدبر والله سبحانه العالم الموفق.
فصل
إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة، كما إذا قال المولى: " أكرم العلماء
وأكرم التجار وأكرم الأدباء الا الفساق منهم "، فهل الظاهر رجوعه إلى الكل أو
إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في أحد الامرين؟.
وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا اشكال ولا خلاف في تخصيص الأخيرة
به على كل حال، إذ رجوعه إلى غيرها بالخصوص على خلاف طريقة اهل
المحاورة، ولا اشكال في صحة رجوعه إلي الكل ثبوتا وان تراءى من كلام المعالم (1)
وجود الاشكال فيه، وعلل عدم الاشكال ثبوتا في رجوعه إلى الكل بقوله: " وذلك
ضرورة ان تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية
الأداة بحسب المعنى، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا، وكان
المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان
واحدا كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا اشكال، وتعدد المخرج أو
المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما "،
ثم تعرض إلى مقام الاثبات (2).
أقول: الاشكال الثبوتي بحسب النظر الأولي قوي ومتين، وذلك لأنه

(1) العاملي جمال الدين. معالم الدين / 137 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 235 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
389

بناء على أن الموضوع له الحروف والأدوات هو النسبة الكلامية - بتعبير المحقق
النائيني (1) -، والوجود الرابط - بتعبير المحقق الأصفهاني (2) - وقد عرفت
اختياره، بناء على هذا الرأي يمتنع استعمال الأداة في الاستثناء من جميع الجمل،
لتعدد الربط بين المستثنى منه بتعدد المستثنى منه، وأداة الاستثناء
موضوعة لخصوصيات الربط وواقعه، فيمتنع ان تستعمل ويراد بها الربط المتعدد
لاستلزام ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.
وبالجملة: الاشكال الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها هو
استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال.
وقد عبر المحقق الأصفهاني في مقام تقريب الاشكال، بان الأداة
موضوعة للاخراجات الخاصة. (3) وهو لا يتلائم مع ما ذهب إليه من أن الموضوع
له هو الوجود الرابط، وهو غير الاخراج الخاص فيما نحن فيه، بل هو النسبة
الاخراجية الاستثنائية.
وقد يقال في دفع هذا الايراد: انه انما يلزم لو كان الاستثناء من كل واحد
واحد من الجمل على حدة وبنحو العموم الاستغراقي واما إذا كانت العمومات
ملحوظة في الاستثناء بنحو العموم المجموعي، بان يكون الاستثناء من المجموع
لا من كل واحد واحد، فيكون طرف الربط واحدا لا متعددا، فلا تعدد للربط
فلا يلزم المحذور المدعى (4).
ويرد هذا القول ان اخذ المجموع طرفا للربط اما بلحاظ عنوان آخر
منطبق على الكل، والاستثناء منه. واما بلحاظ نفس العمومات بنحو المجموع،
والاستثناء منها كذلك. والأول: يتنافى مع الوجدان، إذ لا نرى عنوانا آخر أخذ

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 18 - 23 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 16 - 19 - الطبعة الأولى.
(3) و (4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 348 - الطبعة الأولى.
390

طرفا للاستثناء. والثاني: بعيد عن طريقة المحاورة العرفية، لاستلزامه ان يلحظ
كل واحد من العمومات بلحاظين، أحدهما استقلالي في مقام تعلق الحكم به،
والاخر ضمني في مقام الاستثناء، وهو لو لم يكن محالا عقلا فلا أقل من انه
تكلف لا دليل عليه.
وتحقيق الحال ان يقال: ان بعض الحروف لا يتكفل في بعض موارد
استعماله بيان الربط بين مدخوله والمفهوم السابق عليه في الكلام، نظير ما يقال
في مثل: " زيد في الدار " من أن طرف الربط ليس زيدا، بل هو مقدر مثل: كائن
أو مستقر.
وقد يتكفل في بعض استعمالاته الربط بين المفهوم اللاحق والسابق في
الكلام مثل: " زيد في الدار جاءني " فان: " في " رابطة بين زيد والدار في هذا المثال
دون المثال الأول. وعليه فنقول: ان أداة الاستثناء تارة نقول: انها متكفلة لبيان
الربط بين المستثنى والمستثنى منه. وأخرى نقول: انها لا تكون متكفلة لربط
المستثنى منه، بل تتكفل بيان ربط المستثنى مع المستثنى - بالياء -، نظير الفعل
الدال على الاخراج كقوله: " اخرج ". فعلى الأول يتوجه المحذور بالبيان السابق،
وعلى الثاني لا يتوجه الاشكال، إذ لا تعدد لطرف الربط كما لا يخفى.
والذي نبني عليه هو الوجه الثاني، لبداهة صحة الاستثناء من الجميع من
دون توقف، فإنه يكشف عن أن وضعها ومفادها يتلاءم مع ذلك، وليس ذلك الا
الوجه الثاني.
وإذا انتفى المحذور الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجميع، يقع الكلام
في مرحلة الاثبات. ولا كلام في معنى: " الا " والخاص، انما الكلام وما عليه
تشخيص الظهور هو معرفة المراد بالضمير وتعيين مرجعه، فما هو المقصود من
الضمير في قوله " الا الفساق منهم "؟ هل الجميع أو العام الأخير أو هو مجمل؟.
فنقول: ان الضمير يؤتى به للإشارة إلى معنى متعين، ولا يصح إرادة المعنى منه
391

من دون أن يكون معينا. فمع عدم سبق معنى بالمرة لا ذكرا ولا ذهنا، لا معنى
لان يقال: " هو كذا " إذ يتساءل ما المراد ب‍: " هو "؟ ويستنكر عليه مثل هذا
الابهام في مقام التفاهم. فالتعين لا بد منه في صحة استعمال الضمير.
وعليه، فتارة: يتحد المحمول ويتكرر ذكر العمومات فقط، بان يقال:
" أكرم العلماء والتجار والأدباء الا الفساق منهم ".
وأخرى: يتكرر المحمول سواء اتحد نوعه أم اختلف بدون عطف بان
يقال: " أكرم العلماء، أضف التجار، احترم الأدباء الا الفساق منهم ".
وثالثة: يتكرر المحمول مع العطف بان يقال: " أكرم العلماء وأضف التجار
واحترم الأدباء الا الفساق منهم ".
ففي الصورة الأولى: يكون الضمير راجعا إلى الجميع، وذلك لأنه المعنى
المتعين الصالح لرجوع الضمير إليه، اما الخصوص الأخيرة فلا تعين له ذهنا من
بين العمومات الأخرى، وكونه أقرب العمومات إلى الضمير لا يوجب التعين،
والا فالأبعد أيضا فيه خصوصية وهي الأبعدية. فلا يصلح العام الأخير لرجوع
الضمير إليه، فيتعين رجوعه إلى الجميع.
وفي الصورة الثانية: يتعين رجوع الضمير إلى الأخيرة، إذ بيان كل حكم
بجملة مستقلة غير مرتبطة بسابقتها برابط يوجب كون الجملة السابقة في حكم
المغفول عنها والمنتهى عن شؤنها، وهذا الامر يوجب نوع تعين للأخيرة من بين
الجمل الأخرى السابقة عليها، إذ هي المعهودة فعلا دون السوابق لفرضها
كالمغفول عنها، وعلى هذا جرت سيرة العرف، فإنه إذا تعددت مطالب الكتاب
أو الكلام الواحد المتصل، ثم الحق الاستثناء بأحدهما كان راجعا إليه ولا يلتزم
برجوعه إلى جميع المطالب السابقة لاجل ذكرها، إذ الأخير له تعين من بينها
يوجب صرف الضمير إليه فقط.
واما الصورة الثالثة: يكون الكلام مجملا، إذ يحتمل أن يكون استقلال
392

الأخير في الحكم موجبا لتعينه عرفا من بينها، كما يحتمل أن يكون ربط الأخير
بحرف العطف موجبا لعدم تعينه لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة، هي من
جهة العطف يحتمل كونها كالصورة الأولى، ومن جهة الاستقلال في الحكم يحتمل
كونها كالصورة الثانية، فيكون الكلام مجملا، ولكن تخصيص الأخيرة قدر
متيقن.
هذا غاية تحقيق الكلام، وقد عرفت أن موضوعه هو تعيين مرجع الضمير
المذكور في الكلام أو المقدر، لوضوح إرادة استثناء العنوان المضاف إلى العام وإن لم
يضف إليه لفظا ولأجل ذلك كان خاصا، فالمراد من: " أكرم العلماء الا الفساق "
" الا فساقهم " والا فعنوان الفساق عام ونسبته إلى العلماء نسبة العموم من وجه،
فلا معنى لتخصيص العام به.
ثم إنه لا يخفى على المتأمل ما في كلام المحقق النائيني من النظر، حيث
ذكر (قدس سره): ان الموضوع تارة يكون مكررا في الجملة الأخيرة. وأخرى
لا يكون مكررا، بل هو يكون مذكورا في الجملة الأولى، كما إذا قال: " أكرم
العلماء وأضفهم وأطعمهم الا فساقهم ". ففي الصورة الأولى حيث إن عقد
الوضع ذكر في الجملة الأخيرة فقد اخذ الاستثناء محله فيحتاج تخصيص غيرها
إلى دليل آخر. وفي الصورة الثانية رجع الاستثناء إلى الجميع لعدم ذكر الموضوع
الا في صدر الكلام، فلا يصلح الاستثناء للرجوع الا إليه وإذا رجع إليه خصص
الجميع لا محالة (1).
فإن ما ذكره غير تام في كلتا الصورتين. اما ما ذكره في الصورة الأولى
فلان اخذ الاستثناء محله ليس امرا يحكم في باب الظهور وما يفهم عرفا من
الكلام كما لا يخفى، فهو استدلال خارج عن الطريقة الصناعية. واما ما ذكره

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 496 - الطبعة الأولى.
393

في الصورة الثانية فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني: بأنه خلط بين " الا "
الوصفية و " الا " الاستثنائية، فان الأولى لا ترجع إلى الضمير لان الضمير لا
يوصف. اما الاستثناء منه فلا مانع منه (1).
واما ما ذكره صاحب الكفاية من تشبيه المقام بصورة تعدد المستثنى (2).
فهو ليس كما ينبغي وذلك: لان المستثنى تارة: يكون متعددا مصداقا، لكنه واحد
بالعنوان، كعنوان: " الفساق ". وأخرى: يكون متعددا عنوانا. فالأول: لا اشكال
فيه لوحدة طرف الربط ولكنه لا يشبه المورد. الثاني: تارة يكون مع العطف كان
يقول: " أكرم العلماء الا الفساق والنحويين ". وأخرى بدون العطف.
فالأول: لا اشكال فيه، لان الربط وان تعدد لكن الدال متعدد أيضا، إذ
هو في الأول أداة الاستثناء وفي الثاني أداة العطف. فهو لا يشبه المورد من جهة
تعدد الربط ووحدة الدال المذكورة في الاشكال.
والثاني: لم يثبت جوازه، بل محذور تعدد المستثنى منه يسري إليه ويرد
فيه بلا تفاوت لتعدد الربط ووحدة الدال. فتدبر.
والخلاصة: ان ما ذكرناه هو الذي ينبغي ان يقال فان فيه تحقيق المقال (*).
فصل:
وقع الكلام في جواز تخصيص العام الوارد في الكتاب بخبر الواحد
(*) تنبيه: قد عرفت أن الاشكال الثبوتي لا ينحل بما ذكر من رجوع الاستثناء إلى المجموع، لأنه يتصور
بأحد نحوين كلاهما بعيدان عن طريقة المحاورة.
ولكن سيدنا الأستاذ (دام ظله) عدل عن ذلك - بعد البحث معه (مد ظله) - والتزم بامكان رجوع
الاستثناء إلى المجموع، لوجود عنوان واحد جامع للعمومات، وهو الضمير، فإنه عنوان مبهم قابل
للانطباق على الجميع كما عرفت. عليه فيندفع المحذور الثبوتي بهذا الوجه أيضا، وينحصر البحث حينئذ
في تعيين مرجع الضمير. فلاحظ وتأمل جيدا والله سبحانه الموفق. (منه عفي عنه).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 294 من هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 235 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
394

غير المحفوف بالقرينة القطعية، مع الاتفاق بجواز تخصيصه بالكتاب وبالخبر
المتواتر وبخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعية.
وقد التزم صاحب الكفاية بجوازه بلا ارتياب لوجهين:
أحدهما: قيام سيرة الأصحاب على العمل بخبر الآحاد في قبال عمومات
الكتاب إلى زمن الأئمة (ع).
وثانيهما: لزوم إلغاء الخبر أو ما بحكمه لندرة خبر لا ينافي عموم الكتاب
لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.
وقد قرب عدم جواز التخصيص به بوجوده:
أولها: ان العام الكتابي قطعي الصدور، والخبر ظني السند فلا يقاوم العام.
ورده صاحب الكفاية: بان ذلك لا يمنع التصرف في دلالته الظنية، والا
لامتنع تخصيصه بالخبر المتواتر مع أنه جائز بلا كلام.
وذكر ان السر فيه: ان المعارضة بين أصالة العموم ودليل حجية الخبر،
وبما أن الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم، لحكومته أو وروده
عليها، لأنه رافع لموضوعها تعبدا، ولذا لو تيقن بمضمون الخبر يرتفع موضوع
أصالة العموم تكوينا، كان الخبر مقدما على العام. وأصالة العموم لا تصلح
للتصرف في أصالة الحجية لأنها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى.
وثانيها: ان ما يدل على حجية الخبر هو الاجماع، والقدر المتيقن منه ما
لا يوجد على خلافه دلالة ولو كان مثل عموم الكتاب.
ورده في الكفاية: بان الدليل لا ينحصر بالاجماع، كيف؟ وقد عرفت قيام
السيرة على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.
ثالثها: ما دل من الاخبار على وجوب طرح المخالف للكتاب من
الاخبار، وضربه عرض الجدار، وانها زخرف، ومما لم يقله الإمام (ع)، وهي كثيرة
جدا.
395

ورده في الكفاية بوجوه:
الأول: ان المراد بالمخالفة هي غير المخالفة بنحو العموم والخصوص،
لأنها ليست مخالفة بنظر العرف، ولا يرى العرف تنافي الدليلين إذا كانا كذلك.
الثاني: انه لو لم نقل بانصراف المخالفة عن المخالفة بالعموم والخصوص،
فلا بد من كون ذلك للقطع بصدور الاخبار الكثيرة المخالفة للكتاب بهذه
المخالفة.
الثالث: قوة احتمال كون المراد انهم (عليهم السلام) لا يقولون بغير
قول الله تعالى واقعا وان خالفه ظاهرا، لاطلاعهم على مراده الواقعي، وما يرى
من كونه مخالفا لا يعدو سوى التخيل لا الواقع.
رابعها: انه إذا جاز التخصيص جاز النسخ بخبر الواحد، لأنهما من واد
واحد، إذ النسخ في الحقيقة تخصيص أزماني، وقد قام الاجماع على عدم جواز
النسخ به، فيدل على عدم جواز التخصيص به.
ورده في الكفاية: بان عدم جواز النسخ به لقيام الاجماع، وهو لا يلازم
الاجماع على عدم جواز التخصيص به وان اشتركا في كونهما معا من التخصيص،
لوجود الفرق وهو توفر الدواعي إلى نقل النسخ وضبطه دون التخصيص، فلا
يكتفى في النسخ بالظن دون التخصيص.
هذا توضيح كلام الكفاية، وليس فيه ما يحتاج إلى تطويل البحث الا ما
ذكره في تفسير الروايات الامرة بطرح المخالف للكتاب، وبما أنه يقع البحث
فيها في مبحث حجية خبر الواحد ومبحث التعادل والترجيح فنوكل الكلام فيه
إلى محله منهما. فتدبر (1).
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 235 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
396

فصل:
في دوران الامر بين النسخ والتخصيص. وقد ذكر في الكفاية ان
الخاص والعام المتخالفين يختلف حالهما من حيث التخصيص والنسخ، فتارة
يكون الخاص مخصصا. وأخرى يكون ناسخا. وثالثة يكون منسوخا بالعام، وذكر
في بيان ذلك - بعد تسليم أمرين: أحدهما: امتناع التخصيص بعد وقت العمل
بالعام لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثانيهما: امتناع النسخ قبل
حضور وقت العمل - ان الخاص ان كان مقارنا مع العام أو بعده قبل حضور
وقت العمل به كان مخصصا، وان كان بعد حضور وقت العمل به كان ناسخا، إذ
التخصيص يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، نعم يستثنى من ذلك صورة
ما إذا لم يكن العام واردا لبيان الحكم الواقعي كما هو الحال في غالب العمومات
الواردة في لسان الشرع، فإنه يكون الخاص مخصصا له. وان كان العام واردا بعد
حضور وقت العمل بالخاص دار الامر بين كون الخاص مخصصا وكونه منسوخا،
ويتحقق التصادم بين ظهور العام في العموم وظهور الخاص في الدوام والاستمرار،
وبما أن التخصيص اشتهر وذاع كان ظهور العام ولو كان وضعيا أضعف من
ظهور الخاص الاطلاقي، وبذلك يتعين الالتزام بالتخصيص.
ثم إنه تعرض لصورة الجهل بتاريخ ورود الخاص بعد العام وانه بعد
العمل به أو قبله، وحكم بها بالرجوع إلى الأصول العملية، ولا نفع كثرة
التخصيص في ترجيحه، إذ غاية ما تستلزم، الظن بالتخصيص بلحاظ الغلبة ولا
دليل على اعتبار هذا الظن.
ففرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة، فان شهرة التخصيص تستلزم
أقوائية أحد الظهورين على الاخر - في الصورة السابقة -. وليس الامر كذلك
في صورة الجهل بالتأريخ لعدم الدوران بين الظهور والتصادم بينهما.
397

ثم إنه بعد ذلك ذكر ان تعين الخاص للتخصيص فيما لو ورد قبل حضور
وقت العمل بالعام، أو ورد العام قبل وقت العمل بالخاص، يبتني علي امتناع
النسخ قبل حضور وقت العمل، وإلا فلا يتعين التخصيص، بل يدور امره بين
النسخ والتخصيص، ولكن يلتزم بالتخصيص لأقوائية الظهور في الدوام من
الظهور في العموم من جهة شهرة التخصيص وندرة النسخ.
هذا ما افاده صاحب الكفاية في المقام (1).
تحقيق الكلام: ان المراد من تأخير البيان عن وقت الحاجة المحكوم
بالقبح أحد وجوه ثلاثة:
الأول: تأخير البيان عن وقت العمل والامتثال، كالانشاء الفعلي لوجوب
الجلوس في المسجد أمس، فإنه عبث لغو، إذ الحكم المذكور لا يترتب عليه شئ
من الداعوية فيكون قبيحا.
الثاني: تأخير البيان عن وقت البيان، بمعنى تأخير البيان عن الوقت
الذي يكون المتكلم في مقام البيان، فإنه قبيح أيضا لأنه خلف.
الثالث: تأخير البيان المفوت للمصلحة واستيفاء الغرض، فإنه قبيح
لاجل تفويت الغرض. وهذا غير مرتبط بالعام والخاص، بل هو وجه سار في كل
مورد من موارد عدم البيان المستلزم لذلك. كما لا يخفى.
والعمدة في وجه الاشكال في تأخير الخصوصيات هو الأول، فإنه لا معنى
للانشاء الفعلي للاحكام الخاصة في الزمان الماضي، فتأخير التخصيص عن وقت
الامتثال والعمل قبيح سواء كان الخاص متكفلا لحكم الزامي أو ترخيصي، إذ
بعد مضي الوقت لا يبقي مجال لانشاء الالزام أو الترخيص فيه لعدم ترتب الأثر
المرغوب من جعل الحكم عليه.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 237 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
398

ولكن هذا الوجه مع أهميته ومتانته مغفول عنه في كلمات الاعلام، وانما
يتعرضون لوجهين الآخرين.
والذي يظهر من صاحب الكفاية إرادة الوجه الثاني، فان ما ذكره من
تعين الخاص للنسخ إذا ورد بعد وقت العمل بالعام إذا كان العام واردا لبيان
الحكم الواقعي دون ما إذا لم يكن واردا لذلك، ظاهر جدا في كون نظره في تأخير
البيان هو الوجه الثاني.
وهكذا المحقق النائيني فإنه تابعه في ذلك، لأنه وان أورد عليه بعدم امكان
تكفل العام لبيان الحكم الظاهري، لكنه وافقه في ما هو المهم، وهو عدم تكفل
العام لبيان الواقع فإنه مشترك بينهما (1).
وعلى كل، فقد عرفت أن صاحب الكفاية ذهب إلى تعين الخاص
للتخصيص في مورد دوران الامر بين كونه مخصصا وناسخا أو مخصصا ومنسوخا،
وعلله بأقوائية الظهور في الدوام على الظهور في العموم لشهرة التخصيص
وندرة النسخ.
وأرود عليه المحقق النائيني بوجوه عديدة:
منها: ان أصالة العموم من الأصول اللفظية، وأصالة عدم النسخ من
الأصول العملية لأنها مفاد استصحاب عدم النسخ لا انها مفاد الاطلاق، إذ
الدليل المتكلف لأصل الحكم لا يمكن أن يكون بنفسه متكفلا لاثبات استمراره
لتأخر الاستمرار رتبة عن الحكم. وعليه فعند التعارض يتقدم الأصل اللفظي
على العملي لحكومته عليه، فلا بد من الحكم بالنسخ لا بالتخصيص.
وقد اختار (قدس سره) التخصيص بوجه آخر، فإنه بعد أن قدم
مقدمات ثلاث، تعرض في الأولى منها بكلام الكفاية المرتبط بتكفل العام لبيان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 506 - الطبعة الأولى.
399

الحكم الظاهري. وفي الثانية لبيان ان النسخ قبل وقت الحاجة معقول في الجملة
وفي بعض صور جعل الاحكام. وفي الثالثة لبيان عدم قبح تأخير البيان عن
وقت الحاجة إذا كان من عادة المتكلم ذلك، لمصلحة هناك، كما هو الحال في المولى
الشرعي. بعد ذلك ذكر ان مجئ الخاص المتأخر يمنع من جريان مقدمات
الحكمة في العموم لصلاحية الخاص للتخصيص، ومع وجود ما يصلح للتخصيص
وتقييد موضوع العام لا تتم مقدمات الحكمة، فأصالة العموم لا تكون جارية في
نفسها عند ورود المخصص، لعدم المقتضي وهو مقدمات الحكمة لا لوجود المانع.
ولا يختلف الحال بين أن يكون الخاص متأخرا أو متقدما، بل فيه أولى لأبعدية
احتمال النسخ فيه، إذ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لو سلم المانع من
الالتزام بتخصيص الخاص المتأخر فلا يسلم قبح تقديم البيان عن وقت الحاجة.
فلاحظ (1).
ولكن ما افاده لا يمكننا الالتزام به.
اما التزامه بان نفي النسخ مفاد الاستصحاب لا الاطلاق، فهو محل منع
كما سيأتي الكلام فيه في محله، وخلاصة ما يدفع به: ان الدليل كما يتكفل باطلاقه
ثبوت الحكم لا فراده الدفعية، كذلك له اطلاق يتكفل ثبوته لافراده التدريجية
وهو معنى استمراره وهذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا (2).
واما ما ذكره من أن مخصصية الخاص لاجل عدم تمامية مقدمات الحكمة،
فلو سلم - على مبناه من أن عدم النسخ والاستمرار يثبت بالاستصحاب لا
بالاطلاق - في الخاص المتأخر، فلا يسلم في الخاص المتقدم على العام، وذلك لان
التنافي بين الخاص والعام انما يتحقق إذا كان زمان الحكمين متحدا، وعليه فلا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 506 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 295 من هوامش الجزء الأول - الطبعة الأولى.
400

يكون الخاص المتقدم منافيا للعام إلا إذا فرض ثبوت حكمه في وقت العام، وهذا
انما يكون على مبناه بالاستصحاب، وإذا كان ثبوت حكم الخاص في وقت ورود
العام بالاستصحاب لم يصلح لمناهضة أصالة العموم كما لا يخفى، فإنه مما لا يتوهمه
فاضل. فما افاده (قدس سره) عجيب منه.
كما أن ما افاده صاحب الكفاية من أقوائية الظهور الاطلاقي من ظهور
العموم، يرد عليه:
أولا: انه انما ينفع في اثبات التخصيص بالنسبة إلى الخاص المتقدم لا
المتأخر، وذلك لوجود ظهور اطلاقي في الاستمرار يتكفله الخاص، وظهور وضعي
في العموم يتكفله العام.
وهذا غير متوفر في صورة تأخر الخاص، لان ورود الخاص المتأخر
موجب لانتفاء الاطلاق جزما، سواء لوحظ بالإضافة إلى ما بعد ورود الخاص
كما هو واضح، أو لوحظ بالإضافة إلى حين وروده من حين ورود العام، لأنه اما
أن يكون مخصصا فلا استمرار لعدم موضوعه أو ناسخا. وإذا تبين عدم الاطلاق
المتكفل للاستمرار فلا دوران بين أصالة العموم وأصالة الاطلاق، بل القاعدة
تقضي بجريان أصالة العموم لعدم المعارض.
وثانيا: - أشار إلى هذا الايراد بنحو الاجمال المحقق العراقي في مقالاته (1) -
ان كثرة التخصيص وندرة النسخ متأخرة عن زمان ورود الخاص، بمعنى انه
لم تكن ثابتة قبل ورود الخصوصات بالنحو المزبور، بل هي ناشئة عن الالتزام
بالتخصيص دون النسخ في الخصوصات المزبورة، فلو التزم بالنسخ كان الامر
بالعكس.
وعليه، فلا بد من بيان علة الالتزام بالتخصيص دون النسخ من أول

(1) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول 1 / 162 - الطبعة الأولى.
401

الامر وقبل تحقق الاشتهار المزبور، ولم يثبت في وجهه ما يستلزم أقوائية أحد
الظهورين على الاخر، إذ لعل الالتزام بالتخصيص من جهة الالتزام بانقطاع
النسخ وبيانه بموت الرسول (ص) وعدم معقوليته حتى بنحو البيان من الأئمة
(عليهم السلام)، أو من جهة لزوم تذبذب الاحكام والشريعة لو التزم بالنسخ
في هذه الخصوصات جميعها. وهذا المعنى لاستلزم قوة الظهور كما لا يخفى.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني (قدس سره) إلى عدم احتمال النسخ ببيان:
ان كلام الأئمة (ع) كله بمنزلة كلام واحد، لأنه بيان لحكم الله الواقعي الثابت
من أول الامر لا انه تشريع فعلي للحكم. وعليه فلا تأخر ولا تقدم، بل الكل
بمنزلة المقارن، فيتعين الخاص للتخصيص ولا يحتمل النسخ حينئذ (1).
ويتوجه عليه: ان الامر وان كان كذلك، فبيانهم (ع) يكشف عن سبق
جعل الحكم، لكن اثبات كون المجعول سابقا يحتاج إلى دليل، إذ يحتمل أن يكون
ابتداء الحكم من حين بيان المعصوم (ع) وان كان جعله سابقا، ولا طريق
إلى جر الحكم إلى السابق واثبات تحققه من أول الامر سوى الاطلاق.
وعليه، يدور الامر بين التصرف بأصالة العموم أو رفع اليد عن الاطلاق،
إذ لولا الاطلاق لا تعارض، فالدال على الحكم المنافي للعام هو الاطلاق
فيتعارضان، فاحتمال النسخ ثابت كما لا يخفى.
وخلاصة الكلام: ان ما ذكره الاعلام الثلاثة (قدس سرهم) لم يوصلنا
إلى حل سليم في المقام.
والتحقيق ان يقال: إنه إذا التزم بامتناع النسخ في زمن الأئمة (صلوات
الله عليهم) لانتهائه في زمن الرسول (ص) حتى بنحو البيان، لم يكن لاحتمال

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 294 - من هوامش الجزء الأول - الطبعة
الأولى.
402

النسخ مجال حينئذ فيتعين الخاص للتخصيص، وان التزم بامكان النسخ في
زمانهم (ع)، اما لامكان تشريعهم الاحكام ابتداء، أو لاجل بيانهم النسخ
الثابت من السابق، كان احتمال النسخ في كل خاص ثابتا. لكن الالتزام بالنسخ
في هذه المخصصات الكثيرة ممتنع لملازمته للالتزام بتذبذب الشريعة وعدم
استقرارها بهذا النحو الغريب الذي يلازم السخرية والهزو لو كان صادرا في
القوانين العرفية المبنية على الجهل بالواقع فضلا عن المولى الشرعي.
وعليه، فلا يدور الامر بين النسخ والتخصيص في هذه المخصصات
الواردة بالبيان المتعارف، نعم قد يدور الامر بينهما في حكم خاص بين بنحو
يتلاءم مع النسخ والتخصيص. وعليه فيتعين الالتزام بالتخصيص في هذه
المخصصات.
ولكن في التخصيص بالخاص المتأخر محذور تقدمت الإشارة إليه وهو:
استلزامه تأخير البيان عن وقت العمل بيان ذلك: ان الدليل اما يتكفل انشاء
الحكم فعلا بوجوب العمل أو بالترخيص فيه فيما سبق من الأزمنة. أو يتكفل
بيان ثبوته من السابق.
والأول، لغو محض، إذ لا يترتب عليه ما يلحظ في التكليف من البعث أو
اطلاق العنان لتصرم الزمان ومضيه، فلا معنى لا يجاب شئ في الأمس أو
الترخيص فيه.
والثاني: ممتنع أيضا، إذ جعل الحكم في السابق مع الجهل به وعدم امكان
الجري على طبقه بوجه من الوجوه، لقيام الحجة على خلافه، وهي أصالة العموم
الدالة على الحكم الالزامي المنافي في له، يكون لغوا قبيحا كما هو واضح.
وغاية ما نقوله في رفع المحذور المذكور هو: ان البداهة والضرورة الفقهية
قامت على عدم اختلاف الموضوع الواحد في الحكم في زمانين لا وحدة الحكم
فيهما - نظير المتلازمين -.
403

وعليه، فالدليل الخاص الدال على ثبوت الحكم في مورد فعلا يدل
بالملازمة على نفي غيره عنه في الزمان السابق، فينافي الدليل العام الدال على
ثبوت غيره له سابقا، فإذا قدم الخاص لأقوائيته كان كاشفا عن عدم شمول
العام لموضوعه من الأول. فالتنافي بين العام والمخصص بدلالته الالتزامية. فتدبر
جيدا.
ثم إن صاحب الكفاية أوقع الكلام بعد ذلك في حقيقة النسخ والبداء (1).
وتبعه غيره في ذلك، ولكن رأينا الأولى عدم التعرض لذلك، لعدم دخالته في علم
الأصول، وعدم القناعة بما ذكر له من الحلول، فنوكل علمه إلى أهله فان اثبات
الشبهات غير محمود.
إنتهى مبحث العام والخاص، ويتلوه مبحث المطلق والمقيد.
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 238 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
404

المطلق والمقيد
405

المطلق والمقيد
عرف المطلق: بما دل على شائع في جنسه، وقد أورد عليه: بعدم الاطراد
وعدم الانعكاس.
وقد ذكر صاحب الكفاية - كما عادته في كل تعريف - ان هذه
الايرادات لا وجه لها، لان التعريف يقصد به شرح الاسم لا بيان الحد أو
الرسم (1).
ولا يخفى انه لا اثر لذلك، فالمتعين إهمال البحث فيه وايقاع البحث في
الألفاظ المعدودة من المطلق ونحوها وتعيين الموضوع له فيها.
وهي موارد:
الأول: اسم الجنس، سواء كان اسما للجوهر كانسان ورجل وفرس
وحيوان. أو للعرض سواء كان متأصلا، كسواد وبياض. أو انتزاعيا، كالملك
ونحوه. وعبر صاحب الكفاية عن اسم الجنس للعرض الانتزاعي بالعرضي (2)،
كما عبر عنه بذلك في باب المشتق (3) وأورد عليه هنا كما أورد عليه هناك: بأنه

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 243 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 40 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
407

خلاف اصطلاح اهل الفن، فإنهم يصطلحون بالعرضي على العنوان الاشتقاقي،
وبالعرض على المبدأ أعم من كونه انتزاعيا أو غيره.
وهذا ليس بمهم فيما نحن فيه، وانما المهم تحقيق الموضوع له اسم
الجنس، والمنسوب إلى المشهور كونه موضوعا للطبيعة الملحوظ معها عدم لحاظ
شئ، المعبر عنها في الاصطلاح بالماهية لا بشرط القسمي. واختار صاحب
الكفاية كونها موضوعة للماهية المبهمة المهملة بلا شرط أصلا حتى لحاظ انها
كذلك، ثم قال: " وبالجملة: الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى وصرف
المفهوم، الغير الملحوظ معه شئ أصلا الذي هو المعنى بشرط شئ، ولو كان
ذلك الشئ هو الارسال والعموم البدلي. ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شئ معه،
الذي هو الماهية اللابشرط القسمي "، واستدل على نفي وضعه للماهية بشرط
الارسال، انه لو كان كذلك لم يصدق على كل فرد من الافراد في نفسه مع وضوح
صدقه عليه بماله المعنى بلا عناية. كما استدل على نفي وضعه للماهية بنحو اللا
بشرط القسمي، بان المفهوم اللابشرط القسمي موجود ذهني لتقيده باللحاظ،
فيمتنع صدقه على الفرد الخارجي الا بالتجريد، مع أنه يصدق عليه بلا مسامحة
وعناية (1).
وقد تعرض المحقق الأصفهاني إلى بيان اعتبارات الماهية، وانها تارة:
يكون النظر مقصورا فيها على ذاتها وذاتياتها من دون لحاظ أي امر خارج عنها
معها، وهي المعبر عنها بالماهية بما هي هي، التي لا يحمل عليها الوجود والعدم
وغير ذلك، بل هي ليست الا هي. وأخرى: تلاحظ بالإضافة إلى امر خارج عن
ذاتها وذاتياتها، وهي بهذا الاعتبار تارة: تقيد بوجود ذلك الامر الخارجي.
وأخرى: تقيد بعدمه. ثالثة: لا تقيد بأحدهما، ويعبر عنها بالماهية اللابشرط

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 243 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
408

القسمي. ويعبر عن الثاني بالماهية بشرط لا. وعن الأول بالماهية بشرط شئ.
كما يعبر عن المعنى الجامع لهذه الاعتبارات الثلاثة الذي لا تعين له بدون أحدها
باللا بشرط المقسمي، فاللا بشرط المقسمي غير الماهية المبهمة وبما هي هي (1)،
كما تعرض المحقق النائيني إلى تقسيم البشرط لا إلى قسمين (2).
ولا يخفى ان التعرض إلى هذه التقسيمات، وبيان المصطلح على كل منها،
والايراد والنقض في صحة اطلاق بعض المصطلحات على بعض هذه
الاعتبارات، امر لا يرتبط بما نحن فيه، وما نرومه، فان الذي نحاول البحث فيه
وتحقيقه جهتان:
الأولى: بيان الموضوع له اسم الجنس، وانه هل الماهية اللابشرط
القسمي أولا؟ والأثر فيه، انه إذا كان الموضوع له هو الماهية اللا بشرط القسمي،
فلو وقع موضوعا للحكم يستفاد عموم الحكم لجميع الافراد من الوضع لا
بالقرينة، بخلاف ما لو لم يكن موضوعا لها فإنه يستفاد العموم من القرينة.
والثانية: بيان ان حقيقة اللا بشرط القسمي وواقعه هو رفض القيود أو
الجمع بينها، فقد تكرر هذا الحديث منا تبعا للمحقق الأصفهاني من دون تحقيق
الحال فيه.
ومن الواضح ان معرفة كل من الامرين لا تتوقف على التقيد
بمصطلحات اعتبارات الماهية، بل هو يرتبط بواقع الماهية والاعتبار.
والبحث في الجهة الثانية نوكله إلى ما بعد الانتهاء من تعداد الألفاظ
ومعرفة وضعها.
ويقع البحث الآن في الجهة الأولى، فنقول: الموضوع له اسم الجنس هو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1: 351 - 352 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1: 522 - الطبعة الأولى.
409

ذات الماهية والطبيعة التي تطرأ عليها هذه الاعتبارات، والثابتة في جميع هذه
التقسيمات بلا تقيد لها باعتبار دون آخر، فليست هي الماهية بما هي هي، ولا
الماهية بشرط الارسال، ولا الماهية اللا بشرط المقسمي أو القسمي.
وبعبارة أخرى: ان هناك امرا واحدا ثابتا لا يتغير باختلاف الاعتبارات،
بل الاعتبارات تطرأ عليه وهو نفس الماهية، فيقال الماهية تارة تلحظ كذلك
وأخرى تلحظ بهذا النحو وهكذا. فالمدعى: ان الموضوع له هو هذا الشئ
الثابت في جميع هذه الأقسام. ودليلنا على ذلك - وبه ننفي سائر الاحتمالات -
هو: صحة استعمال اللفظ في جميع هذه الأقسام بلا أي عناية ومسامحة، فإنه
يكشف عن كون الموضوع له ما ذكرنا، والا لم يصح الاستعمال بلا عناية في جميع
الأقسام. فظهر بطلان احتمال كون الموضوع له الماهية بنحو اللا بشرط
القسمي.
واما ما ذكره صاحب الكفاية في وجه ابطاله من: انه يلزم أن يكون
الموضوع له أمرا ذهنيا لا يصدق على الخارجيات الا بالتجريد (1).
ففيه: ان اللا بشرط القسمي يرجع إلى لحاظ الماهية من دون دخل القيد
وعدمه في الحكم، وحينئذ فتارة: يدعى وضع اللفظ إلى الماهية الملحوظة بنحو
يكون قيد اللحاظ مأخوذا في الموضوع له. وأخرى: يدعى وضع اللفظ إلى ذات
ما تعلق به اللحاظ، فيكون التعبير باللحاظ للإشارة إلى تلك الذات.
فعلى الأول: يتم ما ذكره من الاشكال.
واما على الثاني: فلا يتم لصلاحية الموضوع له بنفسه للانطباق على
الخارج من دون أي عناية كما لا يخفى.
والظاهر هو الثاني، بل يكفينا مجرد امكان ادعائه، إذ به تصحح دعوى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 244 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
410

الوضع لللا بشرط القسمي. فتدبر.
الثاني: علم الجنس كأسامة للأسد، وثعالة للثعلب، ونحوهما.
وقد نسب صاحب الكفاية إلى المشهور من اهل العربية وضعه للطبيعة
بما هي متعين بالتعين الذهني لا بما هي هي، ولأجل ذلك يعامل معاملة المعرفة
بدون أداة التعريف. وخالفهم (رحمه الله) في ذلك، فذهب إلى وضعه إلى صرف
المعنى بلا لحاظ شئ معه أصلا، وان التعريف فيه لفظي لا معنوي كالتأنيث
اللفظي، فلا فرق بينه وبين اسم الجنس في الموضوع له. ونفى ما ذكره المشهور
بوجهين:
الأول: أنه يكون امرا ذهنيا لا يصدق على الخارجيات الا بالتصرف
بالتجريد، مع أن صدقه عليها لا يكون بعناية كما لا يخفى.
الثاني: ان الوضع لمعنى مع خصوصية يحتاج في استعمالاته إلى تجريده
عنها لا يصدر عن الجاهل فضلا عن العاقل الحكيم (1).
وقد وافقه المحقق الأصفهاني بناء على كون المراد من التعين هو التعين
الذهني، ولكنه احتمل إرادة التعين الجنسي منه - كما في الفصول (2) تبعا للسيد
الشريف - ببيان: ان كل معنى طبيعي متعين بنفسه ممتاز عن غيره وهو امر ذاتي
له، فالمدعي ان علم الجنس موضوع للمتعين، بما هو متعين، واسم الجنس موضوع
لذات المتعين والممتاز (3).
أقول: لابد أولا من معرفة ما به يكون اللفظ معرفة ونكرة، فنقول: لا
يمكن أن يكون التعريف مستندا إلى امتياز مفهوم اللفظ عن غيره من المفاهيم
وتعينه في نفسه، وذلك لان المفاهيم كذلك، فكل واحد منها له تعين في نفسه وامتياز

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 244 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 166 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 354 - الطبعة الأولى.
411

عن غيره، فيلزم ان تكون جميع الألفاظ معارف، بل الذي يستند إليه التعريف
هو تعين المصداق والامتياز في مرحلة الانطباق بحيث يكون مصداق المعنى معينا
في فرد خاص. فمثل: " رجل " في: " جئني برجل "، لا يكون معرفة لعدم التعين
المقصود منه، وتردده بين افراد بلا تعين لأحدهما في الصدق. وهكذا اسم الجنس
فإنه وان كانت افراده ممتازة عن غيرها، فافراد الانسان لها تعين، لكن لاحد لها،
بل كل ما يفرض وجوده من الطبيعة يصدق عليه الانسان. فلها تعين من جهة
دون أخرى. فسبب التعريف تعين المصداق والمنطبق خارجا وتحدده. وليس المراد
به التعين عند المتكلم، وإلا لكان " رجل " في: " رأيت رجلا " معرفة لتعينه عند
المتكلم، ولا عند السامع وإلا لكان: " زيد " في: " جاء زيد " نكرة إذا لم يعرفه السامع
وكان مرددا بين اشخاص كل منهم مسمي بذلك. بل المراد التعين الواقعي وفي
نفسه بحسب ما يدل عليه اللفظ له، فمتعلق الرؤية وان كان
متعينا واقعا، لكن لا يستفاد المعين من اللفظ بنفسه ومجردا عن القرينة.
كما أن من أسباب التعريف التعين الذهني، كالمعهود في المعرف باللام،
وأسماء الإشارة والضمائر، فان تعريفها باعتبار تعين معناها ذهنا وان كان ينطبق
على الكثير كما إذا كان المرجع للضمير هو الكلي.
وعليه، فعلم الجنس يصير معرفة إذا كان موضوعا للطبيعة بقيد التعيين
الذهني.
اما ايراد الكفاية على ذلك: بأنه يستلزم عدم الصدق على الخارجيات،
لصيرورة المعنى أمرا ذهنيا فلا يصدق على الخارج الا بالتجريد، وهو مسامحة لا
تلحظ في الاستعمال وجدانا، كما أنه خلاف الحكمة (1).
فيندفع:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 244 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
412

أولا: بالنقض في مثل الضمائر وأسماء الإشارة فإنها لا تستعمل إلا في
مورد التعين الذهني، فمدلولها هو المعنى المتعلق للإشارة الذهنية، والمتعين
بالتعيين الذهني، مع أنه ينطبق على الخارج فأقول: " جاء زيد وهو راكب "، فان
الركوب وصف لزيد الخارجي لا الذهني.
وثانيا: بالحل في الجميع، وقبل بيانه نشير إلى شئ وهو: ما يقال بان العلم
لا يتعلق بالخارج وانما يتعلق بالصورة الذهنية، ويعبر عن الخارج بالمعلوم
بالعرض لا المعلوم بالذات، وهذا أمر دقي فلسفي، والا فالعرف يرى ان المعلوم
رأسا هو الخارج.
وعلى كل، فالخارج يكون له ربط بالعلم واقعا، وهو ربط المعلومية
بالعرض - بالدقة - وربط المعلومية بالذات - في العرف -، ويدل على حدوث
الربط بينه وبين العلم وصفه بالمعلومية دون غيره، ولا يمنع تعلق العلم بالشئ
من صدقه على الخارجيات كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فنقول: الإشارة الذهنية وان كانت تتعلق بالأمر الذهني
حقيقة ولكن للخارج والواقع نحو ارتباط بها، ولذا يقال ان هذا المعنى - ويشار
إلى الخارج - مشار إليه دون غيره، مما يدل على حدوث إضافة وربط بينهما لا
يوجد بين الإشارة وغيره من المعاني التي لم تتعلق بها الإشارة، والذي يلتزم به ان
الموضوع له هو هذا المعنى الخارجي الذي تعلقت الإشارة بصورته الذهنية وفي
ظرف تعلق الإشارة بالصورة الذهنية له، أو فقل: ان الموضوع له هو المشار إليه
بالعرض لا بالذات، والمشار إليه بالعرض يصدق على الخارجيات كالمعلوم
بالعرض. وإن شئت فعبر عما ذكرنا بان الموضوع له هو المعنى الذي يكون طرف
الإضافة إلى التعين الذهني على أن يكون القيد خارجا والتقيد داخلا، فيؤخذ
التعين الذهني في الموضوع له بنحو المعنى الحرفي.
والخلاصة: ان ما يلتزم به في الموضوع له اسم الإشارة والضمير هو الذي
413

يلتزم به في علم الجنس فيندفع المحذور.
الثالث: المفرد المعرف باللام، وقد ذكر صاحب الكفاية ان المشهور كونه
على أقسام، المعرف بلام الجنس أو الاستغراق أو العهد بأقسامه على نحو
الاشتراك بينها لفظا أو معنى. ثم إنه ذكر ان المدخول يستعمل فيما يستعمل فيه
المجرد، والخصوصية تستفاد من اللام ان من قرائن المقام بنحو تعدد الدال
والمدلول، وبعد ذلك قال: " والمعروف ان اللام تكون موضوعة للتعريف ومفيدة
للتعيين في غير العهد الذهني: وأنت خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس الا
الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهنا، ولازمه أن لا يصح حمل
المعرف باللام بما هو معرف على الافراد... " (1).
ونتيجة كلامه هو: منع اخذ التعيين الذهني في مدلول المعرف باللام
لاستلزامه عدم صدقه على الخارجيات الا بالتجريد والمسامحة، وهو خلاف
الملموس في باب الاستعمالات وخلاف الحكمة. وهذان هما الوجهان اللذان أورد
بهما على اخذ التعيين الذهني في مفهوم علم الجنس.
وقد عرفت التفصي عن هذا الاشكال بالالتزام بكون الموضوع له هو
طرف الإضافة، واخذ القيد بنحو المعنى الحرفي بان يكون التقيد داخلا والقيد
خارجا بالمعنى الذي عرفته، وهو لا يتنافى مع صدق المعنى على الخارجيات.
ثم إنه أضاف هنا اشكالا ثالثا أشار إليه بقوله: " واستفادة
الخصوصيات... "، ومراده ان خصوصيات اللام من الاستغراقية والجنسية وغيرهما
تستفاد من القرائن، ومعها لا تحتاج إلى تلك الإشارة الذهنية وتكون لغوا (2).
وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال بعد التزامه بصحة الاشتراك، لأنه
يتأتي في جميع موارد الاشتراك لعدم استفادة أحد المعاني بعينه إلا بالقرينة.

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 245 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
414

فلاحظ تعرف.
ثم إن المحقق الأصفهاني قرب وضع اللام للتعيين بنحو آخر وهو: الالتزام
بكونها موضوعة للدلالة على أن مدخولها واقع موقوع المعروفية والتعيين، فهي تدل
على تحقق النسبة بين التعيين والمتعين، كدلالة كلمة: " من " على وجود النسبة بين
المبتدأ به والمبتدأ منه، و: " في " على وجود النسبة بين الظرف والمظروف.
وبالجملة: الموضوع له أداة التعريف كالموضوع له في سائر الحروف هو
الربط الخاص والنسبة الخاصة، فلا تدل الا على وقوع مدخولها موقع التعيين،
لا ان مدخولها اخذ ملحوظا بما هو ملحوظ انتهى (1).
وقد يشكل: بان المتقرر - كما تقدم - هو كون الحروف موضوعة للربط
الذهني بين المفاهيم لا غير، وليست الإشارة الذهنية من المفاهيم، بل هي
كالإشارة الخارجية من سنخ الموجودات والأفعال فان فعل النفس
كالفعل الخارجي ليس مفهوما كما لا يخفى. فالالتزام بان اللام موضوعة للربط
بينها وبين المشار إليه خروج عما هو المقرر، وليس الربط بين مفهوم الإشارة
ومفهوم المشار إليه كالربط بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في مثل: " زيد في الدار "،
بل الربط بين واقع الإشارة الذهنية لا مفهومها الموجود في الذهن، بل نفس
توجه الذهن إلى المعنى هو طرف الربط لا مفهوم التوجه. فلاحظ.
ويندفع: بان الحرف وان كان موضوعا للربط الذي يكون طرفه المفهوم،
لكن لا يلزم أن يكون كلا طرفي الربط مفهومين الا فيما قصد بالحرف الدلالة
على الربط المضاف إلى كلا الطرفين. وما إذا كان مدلوله هو الربط المضاف إلى
أحد طرفيه - بان لم تلحظ اضافته إلى الطرف الاخر في مقام الكشف وان كانت
ثابته واقعا - كان اللازم كون ذلك الطرف مفهوما.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 354 - الطبعة الأولى.
415

وعليه، فيمكن القول بان مدلول أداة التعريف هو الربط المضاف إلى
متعلق الإشارة.
واما اضافته إلى الإشارة فلم تلحظ في مدلوله. وليس دلالة الحرف على
الربط المضاف إلى أحد الطرفين دون لحاظ اضافته إلى الاخر امرا بعيدا، بل له
شواهد كثيرة، منها: ما إذا سألت شخصا عن مكان زيد فأجاب: في الدار. فان
مدلول: " في " هو الربط الملحوظ اضافته إلى أحد الطرفين دون الاخر، وان كان
الربط واقعا متقوما بكلا الطرفين.
ثم إن صاحب الكفاية (رحمه الله) أشار إلى الجمع المعرف باللام بمناسبة
البحث في دلالة اللام على التعيين، حيث جعل من شواهد دلالة اللام على
التعيين دلالة الجمع المعرف على الاستغراق (1).
وتحقيق الكلام: هو انه لا اشكال في دلالة الجمع المعرف على العموم، انما
الاشكال في منشئه وهو يدور بين ثلاثة محتملات.
الأول: ان اللام تدل على التعيين ولا تعين الا للمرتبة الأخيرة فيلازم
العموم.
الثاني: ان اللام بنفسها موضوعة للعموم بنحو المعنى الحرفي.
الثالث: ان المجموع موضوع للعموم.
وقد ناقش صاحب الكفاية في الأول: بان لا تعين للمرتبة الأخيرة بل
أقل المراتب أيضا متعينة (2).
وأشكل عليه: بان أقل المراتب وان تعينت من جهة العدد وهو الثلاثة،
لكن لا تعين له من حيث الانطباق لصلاحيتها للانطباق على كل ثلاثة من
الطبيعة، بخلاف أكثر المراتب فإنها متعينة من حيث الصدق لا تردد فيها (3).

(1) و (2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 245 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 445 هامش رقم (1) - الطبعة الأولى.
416

وقد أورد على الوجه الثالث: بان وضع الهيئة لذلك يستلزم أن يكون
استعمال الجمع المعرف باللام في موارد العهد الذكري أو الخارجي استعمالا
مجازيا (1).
وهذا الوجه غير واضح المستند، فما هو منشأ الملازمة بين الامرين؟.
نعم يرد على الوجه الثالث: بان المجموع إذا كان موضوعا للعموم لزم
تجريد المدخول عن معناه عند الاستعمال، وذلك لان المدخول بهيئته وهو:
" علماء " - مثلا - معناه عدة من العالم أو المتعدد منه أو جماعة منه، غاية الامر انه
يفيد ذلك بنحو المعنى الحرفي، ومعناه الاسمي ما عرفت، وهو مردد بين افراد، إذ
كل عدة من العلماء يصدق عليهم: " علماء ". فإذا فرض وضع المجموع لعدة
خاصة وهي الشاملة لجميع العلماء، فعند الاستعمال لا بد من تجريد هيئة المدخول
عن معناها، إذ بقاؤها على معناها لغو، لأدائه باستعمال المجموع، فان معناه العدة
بإضافة خصوصية.
هذا لو فرض وضع المجموع للخاص، اما لو وضع للخصوصية فقط،
فيودي العموم من مجموع الكلام وهيئة المدخول، فالهيئة تدل على العدة
والمجموع يدل على خصوصية للعدة، استلزم ذلك محذور استعمال اللفظ في أكثر
من معنى، لاستعمال الهيئة مستقلا وضمنا في آن واحد في معنيين، فيلزم لحاظها
بلحاظين.
ولا يدفع هذا الايراد سوى دعوى عدم الوضع للخصوصية فقط، بل
للخاص بما هو خاص ودعوى تحقق التجريد وانه ليس خلاف الظاهر من
الكلام.
وعليه، فتكون جميع هذه المحتملات قابلة للثبوت اثباتا، ولا نستطيع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 445 هامش رقم (1) الطبعة الأولى.
417

الجزم بأحدها، وليس ذلك بمهم بعد عدم الاشكال في أصل دلالة الجمع المعرف
على العموم. فتدبر.
الرابع: النكرة ك‍: " رجل " في: " رأيت رجلا "، أو: " جئني برجل ".
وقد ادعي وضعها للفرد على البدل بتعبير. وللفرد المردد بتعبير آخر.
ولكن صاحب الكفاية ذهب إلى غير ذلك باعتبار انه يرى أنه لا وجود
للفرد المردد أصلا، بل كل فرد في الخارج هو هو لا هو أو غيره، مع أن النكرة
تصدق على الخارج. فذهب إلى أن المفهوم منها في مورد الخبر هو الفرد المعين في
الواقع المجهول عند السامع. وفي مورد الانشاء هو الطبيعة المقيدة بالوحدة،
فتكون كليا صالحا للانطباق على كثيرين، فالنكرة اما فرد معين في الواقع أو
حصة كلية (1).
أقول: البحث في وجود الفرد المردد وقابليته لتعلق الاحكام والصفات و
عدم ذلك امر ذو أثر عملي يظهر في موارد:
منها: بيع الصاع من الصبرة، ويعبر عنه بالكلي في المعين، فإنه يقع البحث
في حقيقة الكلي في المعين وانه هو الفرد المردد أو غيره.
ومنها: مورد العلم الاجمالي، فإنه يبحث عن أن متعلقه الفرد المردد، أو انه
عبارة عن علم تفصيلي بالجامع وشكين في الطرفين.
ومنها: الواجب التخييري، فإنه يبحث عن تعلقه بالفرد المردد.
والبحث المفصل فيه يقع في أبحاث العلم الاجمالي، ولأجل ذلك نوكله
إلى هناك، ولا اثر عملي منهم على تحقيقه هنا، ومعرفة حقيقة الموضوع له النكرة
- من كونه الفرد المردد أو ما يذكره صاحب الكفاية أو غيره - بعد الاتفاق على
قابليتها للصدق على كثيرين بنحو البدلية. فتدبر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 246 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
418

وبعد هذا يقع الكلام فيما ذكره المحقق النائيني في مقدمة الدخول في
بحث المطلق والمقيد، فإنه ذكر أمورا لا بأس بالإشارة إليها، والى ما فيها من
كلام، وهي:
الامر الأول: ما ذكره في المقدمة الأولى، من أن محل الكلام في المقام هو:
الاطلاق المتصف به المعاني الافرادية الموجب للتوسعة دائما، اما الاطلاق
المتصف به الجمل التركيبية - أعني به ما يوجبه طبع نفس القضية الموجب
للتوسعة مرة وللتضييق أخرى - فلم يقع التكلم عنه في المقام لعدم ضابط كلي
له يتكلم عنه في خصوص مورد، بل التكلم انما وقع فيه باعتبار أنواعه في الموارد
المناسبة له، كمباحث الأوامر حيث يتكلم فيها عن اقتضاء اطلاق القضية
للوجوب التعييني العيني النفسي، وكمباحث المفاهيم التي يتكلم فيها عن اقتضاء
اطلاق القضية الشرطية للمفهوم (1).
هذا كله (قدس سره) نقلناه بنصه.
ويتوجه عليه:
أولا: انه لم يثبت للجملة التركيبية معنى ثالث غير معانيها الافرادية، كي
يتمسك باطلاقه، فلا موضوع لكلامه.
وثانيا: ان ما ذكره من المثال ليس مثالا للتمسك باطلاق الجملة، بل هو
من موارد التمسك باطلاق المعاني الافرادية، فان الذي يتمسك به في صيغة الامر
هو مدلول الهيئة - كما قد يظهر من بعض كلمات الكفاية (2) - أو المادة كما حققناه
أو المادة المنتسبة - كما حققه (قدس سره) (3) - والجميع من المعاني الافرادية
وليس من معاني الجمل. وهكذا الذي يتمسك به في مورد الشرط، فإنه اما أداة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 516 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 108 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 169 - الطبعة الأولى.
419

الشرط أو نفس الشرط، وكل منهما معنى افراده تجري فيه مقدمات الحكمة كما
تجري في سائر موارد الاطلاق بلا فرق، فالحديث فيها واحد لا يتعدد.
ثم إن التعبير بما يوجبه " طبع " نفس القضية لا يخلو عن تكلف، فليس
للقضية طبع يقتضي شيئا، فتدبر.
الامر الثاني: ما ذكره من اختلاف نتيجة الاطلاق من حيث البدلية
والاستيعاب، ببيان: ان المطلق تارة يكون مفاد اسم الجنس، وهو الطبيعة غير
المقيدة بشئ. وأخرى بكون مفاد النكرة، وهي الطبيعة المقيدة بالوحدة المعبر
عنها بالحصة. وكل منهما اما ان يقع في سياق النفي أو الاثبات. فعلى الأول كانا
دالين على العموم والاستيعاب. وعلى الثاني يكون الحكم استيعابيا، الا إذا كان
هناك ما يقتضي البدلية من طرف المادة كما في النكرة، أو الهيئة كما في أسماء
الأجناس المتعلقة للامر، لان الامر يتعلق بصرف الوجود، وهو يتحقق بأول
الوجودات لا بعينه (1).
أقول: هذا تعرض لامر في غير محله. وقد تعرض له صاحب الكفاية بعد
بيانه لمقدمات الحكمة، وهو كما ينبغي بحسب فن التحرير وسيأتي هناك ما ينقح
به أصل المطلب، وان البيان الصحيح لاستفادة البدلية في متعلق الامر غير ما
ذكره. فانتظر.
الامر الثالث: ما ذكره في مقام الفرق بين العام الأصولي والمطلق، بان
الشمولي في العام بالدلالة اللفظية، بخلافه في المطلق فإنه بحكم العقل، ولأجله
يتقدم العام على المطلق الشمولي، كما أنه يتقدم المطلق الشمولي على البدلي (2).
أقول: وقع هذا الامر - أعني تقديم العام على المطلق، وتقدم المطلق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 518 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 519 - الطبعة الأولى.
420

الشمولي على البدلي - محلا للكلام، ويتعرض له مسهبا في مبحث التعادل
والترجيح، كما يشار إليه في مبحث دوران الامر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة، وقد
استشكل في تقديم المطلق الشمولي على البدلي، لكن تقدم منا تصحيح ما افاده
المحقق النائيني فراجع تعرف.
الامر الرابع: ما ذكره في تحقيق ان التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل العدم والملكة، ببيان: ان الوجود والعدم تارة يلحظان بالإضافة إلى نفس
الطبيعة والماهية، فيكونان متناقضين فلا يمكن اجتماعهما كما لا يمكن ارتفاعهما.
وأخرى يلحظ العدم بالإضافة إلى ما يقبل الاتصاف بالوجود فيكون الملحوظ
هو العدم الخاص وهو العدم الناعتي، ففي مثل ذلك يكون التقابل بينهما تقابل
العدم والملكة، فعدم الملكة هو العدم فيما يقبل الاتصاف بالوجود، كالتقابل بين
البصر والعمى فان العمى هو عدم البصر في مورد يقبل الاتصاف بالبصر، ولذا
لا يقال للجدار انه أعمى، والمتقابلان تقابل العدم والملكة يرتفعان عن المورد
غير القابل للاتصاف.
وعليه، فنقول: ان الاطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد يقبل التقييد
فيكونان من موارد العدم والملكة، والوجه في ذلك هو ان الاطلاق عبارة عن
تسرية الحكم لمورد القيد وغيره، في قبال التقييد الذي هو عبارة عن اختصاص
الحكم بمورد القيد، فلا بد من كون المطلق مقسما للمقيد وغيره، وإذا لم يكن
مقسما لها امتنع الاطلاق، إذ لا معنى لتسرية الحكم لمورد القيد وغيره بعد أن لم
يكن مورد القيد من أقسامه، وعليه ففي كل مورد يمتنع فيه التقييد يمتنع فيه
الاطلاق، ولذا لا يصح الالتزام باطلاق متعلق الوجوب في اثبات انه توصلي
لامتناع تقييده بقصد القربة.
ثم رد على الشيخ في التزامه بالاطلاق في هذا المورد بعد التزامه بامتناع
التقييد، وفي التزامه بالاطلاق في اثبات عموم الحكم للعالم به والجاهل لامتناع
421

تقييده بالعلم به، والتزامه به في اثبات عموم الوجوب الغيري لمطلق المقدمة وعدم
اختصاصه بالموصلة لامتناع تقييده بالايصال.
فإنه التزام بالاطلاق في مورد يمتنع فيه التقييد. وقد عرفت امتناع
الاطلاق مع امتناع التقييد (1).
أقول: هذا التحقيق منه (قدس سره) لا يخلو عن اشكال، وذلك: لان
المراد من كون المطلق هو المقسم للمقيد وغيره اما أن يكون ما هو ظاهر عبارته
من انه اللابشرط المقسمي، وان معنى المطلق هو اللا بشرط المقسمي فيتوجه
عليه:
أولا: ان كون موضوع الحكم هو اللا بشرط المقسمي التزام بكون
موضوع الحكم امرا مهملا، لاهمال اللابشرط المقسمي وتردده - كما عرفت -
بين أنواع ثلاثة، وقد صرح (قدس سره) مرارا بامتناع الاهمال في مقام الثبوت،
فلا بد من كون الموضوع معينا ويمتنع كونه مهملا (2).
وثانيا: ان اللا بشرط المقسمي يجتمع مع التقييد الذي هو البشرط شئ،
لأنه الجامع بينه وبين اللا بشرط القسمي والبشرط لا، فكيف يجعل مقابلا
للبشرط شئ بنحو العدم والملكة. فهذا الاحتمال باطل جدا وبوضوح.
واما ان يريد به اللا بشرط القسمي، وهو يتوقف على كون الذات قابلة
في نفسها للتقييد، فان عدم التقييد في المورد غير القابل للتقييد لا يكون لا
بشرط قسمي، إذ معنى كونه قسما ثبوت قسم آخر وهو التقييد وهو ممتنع على
الفرض، فمع امتناع التقييد يمتنع الاطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي.
أو فقل: انه مع امتناع الحكم على الحصة المقيدة يمتنع الحكم على غير

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 520 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 465 - الطبعة الأولى.
422

المقيد لفرض وجود الجامع في ضمنه، فالحكم عليه حكم على الجامع، والمفروض
امتناع الحكم على الجامع.
وهذا الوجه ليس بطلانه من الوضوح كالوجه السابق، لكنه غير صحيح
أيضا، وذلك لأنه يرد على البيان الثاني: ان امتناع الحكم على بعض حصص
الجامع لا ينافي ثبوته لغيره من حصصه، فمثلا لو امتنع الحكم على عمرو وامتنع
كونه فردا فعلا للانسان لزم امتناع الحكم على زيد وغيره، لوجود الطبيعي في
ضمنه، ولا يلتزم بذلك أحد. وعليه فامتناع الحكم على البشرط شئ القسمي،
وهو المقيد، لا يلازم امتناع الحكم على اللا بشرط القسمي.
وعلى البيان الأول: ان المأخوذ في الجامع والمقسم وتعدد الأقسام ليس
الانطباق الفعلي كي يكون امتناع أحد الافراد موجبا لانتفاء فردية الأخرى
وكونها قسما من الجامع، بل الملحوظ هو الانطباق الشأني وقابلية الصدق، وهي
متحققة ولو امتنع الحكم فعلا على الفرد المعين.
والنتيجة: ان ما افاده في تقريب بيان كون التقابل بين الاطلاق والتقييد
من تقابل العدم والملكة لا يمكن الالتزام به.
والتحقيق: ما ذكرناه سابقا في مبحث التعبدي والتوصلي من: ان امتناع
التقييد تارة يلازم امتناع الاطلاق، وهو ما إذا امتنع الحكم على الخاص. وأخرى
يلازم ضروة الاطلاق، وهو ما إذا كان الممتنع تخصيص الحكم بالفرد الخاص.
فالتقابل تارة يكون من تقابل العدم والملكة. وأخرى من تقابل السلب والايجاب
فراجع ما تقدم تعرف حقيقة المطلب.
الامر الخامس: ما ذكره من خروج الاعلام الشخصية من محل الكلام
- وهو ان الاطلاق بالوضع أو بمقدمات الحكمة -، لعدم الاطلاق فيها الا من
جهة الحالات ولا يحتمل الوضع فيها من هذه الجهة، وخروج الهيئات التركيبية
423

أيضا بناء على عدم ثبوت الوضع المستقل لها، والا كانت داخلة في البحث كأسماء
الأجناس (1).
أقول: ما ذكره من وقوع البحث في الهيئة التركيبية بناء على ثبوت
الوضع المستقل لها غير وجيه، وذلك لان البحث في ثبوت الاطلاق وعدمه انما
هو بلحاظ الأثر الشرعي المترتب، سواء كان الاطلاق في موضوع الحكم أم في
متعلقه، اما مع عدم الأثر الشرعي فاثبات الاطلاق والبحث فيه بلا محصل.
وعليه فنقول: انه بناء على كون الهيئة التركيبية موضوعة لمجموع المعنى المستفاد
من المفاهيم الافرادية من هيئة أو مادة، فلا اثر يترتب على اطلاق الهيئة
التركيبية، وذلك لان الأثر انما يترتب بلحاظ مقام تعلق الحكم، سواء كان الشئ
متعلقا أو موضوعا، ومن الواضح ان المفهوم التركيبي لا يكون في حال من
الحالات موضوعا للحكم أو متعلقا له، فمثلا المفهوم التركيبي لقول الامر:
" صل "، نتيجة هو وجوب الصلاة، ووجوب الصلاة بنحو المجموع لا يكون
موردا للحكم، كيف؟ وهو نتيجة تعلق الحكم بشئ وينتزع عن ثبوت الحكم
فالبحث في اطلاقه لا محصل له، نعم نفس الوجوب يصح فيه البحث عن
الاطلاق، وهكذا نفس الصلاة، ولكن كل منهما مفهوم افرادي.
وخلاصة الحديث: ان ما ذكره في هذه المقدمات غير متين في أغلبه.
فلاحظ.
ثم إن صاحب الكفاية (قدس سره) بعد ما أنهى الكلام عن الألفاظ
المطلقة تعرض إلى أمر وهو: الذي افاده بقوله: " إذا عرفت ذلك... " (2). وما ذكره
لا يخلو عن غموض وخلط، ولتوضيحه لا بد من التكلم في جهتين:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 521 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 246 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
424

الجهة الأولى: انه قد عرفت وقوع البحث في الموضوع له اسم الجنس،
وانه هل هو الطبيعة المهملة، أو انه الطبيعة المقيدة بالارسال بنحو البشرط شئ
أو اللابشرط القسمي؟ وقد عرفت أن الانصاف يقتضي وضعها لذات الماهية
الموجودة في جميع التعينات والاعتبارات، لشهادة الوجدان والارتكاز العرفي.
وقد أضاف المحقق النائيني إلى ذلك وجها آخر وهو: ان الحكمة تقضي
بالوضع للماهية المهملة، لان حكمة الوضع هي التفهيم والتفهم، وبما أن الماهية
المهملة كثيرا ما تقع مورد التفهيم فلا بد أن يكون قد وضع لها ما يدل عليها،
وليس لدينا لفظ سوى اسم الجنس (1).
وهذا وجه خطابي لا بأس به والعمدة ما ذكرناه.
ويترتب على البحث في هذه الجهة ثمرتان:
الأولى: انه بناء على الوضع للماهية المهملة لا يكون التقييد مستلزما
للتجوز إذا كان بنحو تعدد الدال والمدلول، وذلك لاستعمال اسم الجنس في معناه
الموضوع له، والخصوصية استفيدت من القيد. واما بناء على الوضع للماهية بقيد
الارسال، فيكون التقييد مستلزما للتجوز لمنافاة القيد مع الارسال، فلا بد من
استعمال اسم الجنس في غير معناه الموضوع له.
الثانية: انه بناء على الوضع للطبيعة المرسلة، لو ورد اسم الجنس في الكلام
وشك في إرادة الاطلاق منه كان المحكم أصالة الحقيقة، فيستفاد إرادة العموم
من اللفظ نفسه لوضعه له، فالأصل الأولي هو العموم. واما بناء على الوضع
للطبيعة المهملة، فلا مجال لأصالة الحقيقة لإفادة الاطلاق، بل يستفاد العموم
بواسطة قرينة خارجية خاصة أو عامة كمقدمات الحكمة. وهذا اثر مهم جدا في
مقام الاستنباط.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 527 - الطبعة الأولى.
425

الجهة الثانية: ان لفظ: " المطلق " هل اطلاقه على اسم الجنس
بالمعنى الذي ذكرناه أولا؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان المعنى اللغوي لا يأبى
مع اطلاقه على اسم الجنس، ولم يثبت للقوم اصطلاح جديد فيه، نعم لو تم ما
نسب إلى المشهور من انه موضوع لما قيد بالارسال والشمول البدلي لم ينطبق
على اسم الجنس بالمعنى المذكور. ولا يخفى ان هذا البحث لغوي واصطلاحي
صرف لا اثر له عملا أصلا، وانما المهم البحث الأول.
إذا عرفت ذلك، فقد ذكر صاحب الكفاية ان لفظ المطلق لو كان
موضوعا للطبيعة المقيدة بالارسال والشمول البدلي كان تقييد اسم الجنس موجبا
للتجوز في الاستعمال.
وواضح ان ما ذكره خلط بين مقامين، مقام المفهوم ومقام المصداق، إذ
التجوز يرتبط بتعيين الموضوع له في اسم الجنس كما عرفت، ولا يرتبط بمفهوم
المطلق والمراد من لفظ المطلق. فأي شئ كان الموضوع له لفظ المطلق لا علاقة
له بحصول التجوز في اسم الجنس، بل ما يرتبط بالمجاز هو تعيين الموضوع له
في اسم الجنس، لأنه هو الذي يطرء عليه التقييد، فالتفت ولا تغفل وهذا المعنى
لم نعهد أحدا تنبه إليه قبل الحين. فاحفظه.
* * *
426

مقدمات الحكمة
ثم إنه إذا تبين ان اسم الجنس ونحوه موضوع للطبيعة المهملة، فلا بد من
استفادة إرادة الاطلاق منها من قرينة خاصة أو عامة تفيد ان الموضوع هو
مطلق الافراد.
والبحث يقع ههنا في القرينة العامة، فقد ادعي ثبوتها بنحو عام إذا تمت
بعض المقدمات، ويصطلح عليها بمقدمات الحكمة.
وهي - بحسب ما ذكره صاحب الكفاية - ثلاثة:
الأولى: كون المتكلم في مقام البيان.
الثانية: انتفاء ما يوجب التعيين.
الثالثة: عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، ويراد به ما تكون
نسبة الكلام إليه بنحو لو أريد غيره كان مستهجنا عرفا وبحسب المتفاهم
العرفي، كالمورد الذي يقع محط السؤال، فان إرادة غيره من الجواب المطلق
مستهجن عرفا. وليس كذلك الحال في القدر المتيقن من الخارج، فإنه لا يرتبط
بالكلام، بل هو قدر متيقن ثبوتا، فلا تكون إرادة غيره من الكلام امرا مستهجنا
عرفا بالنظر إلى الأساليب الكلامية.
فإذا تمت هذه المقدمات الثلاثة ثبتت إرادة الاطلاق، وذلك لأنه لو أراد
المقيد لبين، لأنه في مقام البيان والمفروض انه لم يبين، فإرادته المقيد مع عدم البيان
خلف الفرض ونقض للغرض، وهو امر لا يتحقق من الحكيم.
اما إذا انتفت احدى هذه المقدمات لم يثبت الاطلاق.
فلو لم يكن في مقام البيان أصلا، بل صدر منه الكلام لا بقصد التفهيم،
أو كان مقام البيان من غير الجهة المشكوكة الدخل في الحكم ولم يكن في مقام
427

البيان من تلك الجهة، لم تكن ارادته المقيد مع عدم البيان خلف، لأنه ليس في
مقام بيانه مراده.
ولو كان في مقام البيان وكان هناك ما يوجب التعيين، فعدم ثبوت الاطلاق
واضح.
ولو كان في البين قدر متيقن في مقام التخاطب - وان كان في مقام البيان
ولم يكن هناك ما يوجب التعيين - فلا يثبت الاطلاق، وذلك لأنه لو كان مراده
هو القدر المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه نقضا للغرض وخلفا، لاستفادته
من الكلام، فمثلا إذا كان القدر المتيقن من قوله: " أكرم العالم " هو الفقيه، كان
وجوب اكرام الفقيه مستفادا من مقام المحاورة، فلو كان هو تمام مرامه لم يكن
مخلا ببيانه، ولا يكون عدم التنصيص عليه منافيا لكونه في مقام بيان تمام مرامه.
ثم إنه ذكر أنه إذا كان بصدد بيان انه التمام كان مخلا، وتوضيحه: ان
المتكلم تارة: يكون في مقام بيان ذات المراد وواقعه، ولو لم يعلم المخاطب انه تمام
المراد، وبعبارة أخرى: ما كان بالحمل الشائع تمام المراد. وأخرى: يكون في مقام
بيان تمام المراد بما هو كذلك، يعني مع بيان انه تمام المراد واعلام المخاطب بذلك،
بعبارة أخرى: ما هو بالحمل الأولي تمام المراد.
فعلى الثاني: لا ينفع وجود القدر المتيقن في نفي الاطلاق، إذ غاية ما
يقتضيه التيقن بإرادة هذا المتيقن، واما انه تمام المراد أولا فلا يعرف
بالقدر المتيقن، بل يبقى ذلك مجهولا لدى المخاطب، فلا يعلم الا ان المتيقن مراد
اما غيره فلا يحرز عدم ارادته، فيمكن التمسك بالاطلاق وعدم التقييد ان
المطلق هو المراد.
وعلى الأول: كان وجود القدر المتيقن مخلا بالاطلاق، لان تمام المراد لو
كان هو المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه خلف الفرض، لفرض فهمه في مقام
الكلام، كما أن جهل المخاطب بعدم كونه التمام لا يضر بعد أن لم يكن على المولى
428

رفع الجهل من هذه الناحية، إذ ليس عليه الا بيان تمام المراد بواقعه لا بوصف
التمامية.
وبما أن المتكلم في مقام بيان واقع تمام المراد لا وصف التمامية كان وجود
القدر المتيقن مخلا بالتمسك بالاطلاق. فلاحظ.
هذا تمام مطلب الكفاية بتوضيح منا (1).
وقد استشكل في ما افاده من مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب
للاطلاق. وبالنقض بالقدر المتيقن من الخارج، وانه إذا التزم بمانعية القدر
المتيقن في مقام التخاطب فلا بد من الالتزام بمانعية القدر المتيقن من الخارج،
وبأنه يستلزم عدم صحة التمسك بالمطلقات الواردة بعد السؤال عن حكم مورد
خاص. وكلاهما لا يلتزم به صاحب الكفاية (2).
أقول: الانصاف ان النقض عليه بالقدر من الخارج غير وارد، إذ
لا يتأتي البيان المذكور في وجه مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب فيه، إذ لا
دلالة للكلام عليه بوجه من الوجوه ولا يفهم منه أصلا، فإرادته من الكلام من
دون التنصيص عليه خلف فرض كونه في مقام البيان.
ثم إن النقض به لا يرفع الاشكال بل يوسع دائرته، كما أن عدم التزام
صاحب الكفاية بما افاده في بعض الموارد لا ينفع في نفي المطلب إذا تم من
الناحية البرهانية الصناعية، فالمهم هو تحقيق انه تام في نفسه أو غير تام.
والحق انه غير وجيه لوجهين:
الوجه الأول: انه على تقدير تماميته، فهو انما يتم في المطلق الشمولي لا
البدلي، وذلك لان إرادة بعض الافراد في المطلق الشمولي لا يختلف الحال فيها

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 247 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 530 - الطبعة الأولى.
429

عملا بين ارادتها بالخصوص أو في ضمن المجموع، إذ يجب اكرام كل فرد ولا
يرتبط امتثال أحدها بامتثال الأخرى، وهذا بخلاف المطلق البدلي، فإنه يختلف
الحال عملا بين تعلق ارادته بالبعض وتعلقها بالمجموع، إذ تعلقها مثلا باكرام
خصوص الفقيه - وهو القدر المتيقن فرضا - يلازم عدم صحة الامتثال باكرام
غيره، بخلاف تعلقها باكرام مطلق العالم فإنه يصح معه الامتثال باكرام غير
الفقيه.
ومرجع هذا إلى التردد في أن الملحوظ في متعلق الحكم هو خصوصية
الفقيه، أو مطلق العالم، فيتردد الامر في مراده بين الخصوصيتين.
وبالجملة: فيختلف الحال في الحكم البدلي بين إرادة المقيد والمطلق عملا
وواقعا، ووجود القدر المتيقن لا ينفع في اثبات الخصوص، فلا يكتفى به في مقام
البيان فيثبت الاطلاق بذلك.
ومن هنا نستطيع ان نقول: بعدم مانعية القدر المتيقن في مورد الاطلاق
الشمولي، بعد فرض ان الحال في سائر المطلقات بنحو واحد، بضميمة ان
الشمولية والبدلية تستفاد ان من قرينة خارجية، ومقدمات الحكمة تجري في
مرحلة سابقة عن نحو تعلق الحكم، وفي موضوع الشمول والبدلية - كما
سيصرح به صاحب الكفاية فيما بعد -، فإذا صح التمسك بالاطلاق في موارد
الاطلاق البدلي مع وجود القدر المتيقن صح التمسك به في موارد الاطلاق
الشمولي.
الوجه الثاني: ان ما افاده غير تام في نفسه، وذلك لان ثبوت الحكم للقدر
المتيقن يختلف بحسب الواقع بين أن يكون ثبوته له بخصوصه وبين أن يكون
ثبوته له في ضمن المطلق، إذ ثبوته له بخصوصه يقتضي دخالة عنوانه في ثبوته،
واما إذا كان ثابتا له في ضمن المطلق فلا يكون عنوانه دخيلا في ثبوته، بل ثبوته،
له بما أنه من افراد المطلق، وهذه جهة واقعية وإن لم يترتب عليها أثر عملي في
430

الاطلاق الاستغراقي.
وعليه، فيتردد في أن موضوع الحكم هل هو الفقيه - مثلا - أو العالم؟،
ووجود القدر المتيقن لا يرفع الشك من هذه الجهة، بل غاية ما ينفع فيه هو ثبوت
الحكم للفقيه، اما انه بعنوان أو بعنوان العالم، فلا دلالة له على شئ منه، فإذا
لم يرد القيد يثبت ان موضوع الحكم هو المطلق لا المقيد.
ونتيجة ما ذكرناه هو: ان اخذ عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب
في عداد مقدمات الحكمة لا وجه له، لعدم اخلاله بثبوت الاطلاق.
وقد التزم المحقق النائيني (قدس سره) بثلاثية المقدمات أيضا، لكنه أنكر
كون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من المقدمات، والتزم بان أولى
المقدمات لزوم كون اللفظ بمعناه مقسما للمقيد وغيره، والا فمع عدم كونه كذلك
لن يصح التمسك بعدم البيان في نفي التقييد (1).
والذي نراه ان ادراج هذه المقدمة في مقدمات الحكمة غير متجه، كادراج
عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب.
وذلك لان المراد من كون المعنى مقسما..
ان كان هو اللا بشرط المقسمي، وهو الطبيعة الملحوظة بالنظر إلى ما هو
خارج عن ذاتها وذاتياتها في قبال الماهية من حيث هي، فاعتباره لا اشكال فيه
لتوقف الاطلاق والتقييد على لحاظ الماهية بالإضافة إلى الخارج عن ماهيتها من
القيود، فمع امتناع ذلك يمتنع الاطلاق قهرا، لكنه لا يتلاءم مع تشبيهه وتنظيره
لذلك بمثل مورد عدم امكان اخذ قصد القربة وعدم امكان اخذ العلم بالحكم،
إذ لا يمتنع لحاظ الماهية بالإضافة إلى هذه القيود، وانما الممتنع اخذها في متعلق
الحكم وموضوعه، وهو غير امتناع لحاظ الماهية مضافة إليها.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 528 - الطبعة الأولى.
431

وان كان المراد اشتراط كون مجرى الاطلاق مقسما فعليا للمقيد وغيره،
بمعنى انه ينقسم فعلا إليهما، ففي مورد يمتنع الانقسام الفعلي - كمورد اخذ
قصد القربة في متعلق الامر بناء على امتناعه - يمتنع الاطلاق.
ان أراد هذا المعنى، فهو مما لا دليل عليه أصلا، وقد عرفت المناقشة فيه
فيما تقدم من البحث عن نوع تقابل المطلق والمقيد.
ونتيجة مجموع ما ذكرناه: هو ان مقدمات الحكمة ثنائية لا ثلاثية، كما
ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية والمحقق النائيني، إذ عرفت المناقشة فيما
أفاداه. فمقدمات الحكمة عبارة عن كون المتكلم في مقام البيان، وانتفاء ما
يوجب التعيين.
ثم إنه قد يشكل استفادة الاطلاق من مقدمات الحكمة، وذلك باعتبار
ان اللفظ موضوع للطبيعة المهملة - كما هو الفرض -، والاطلاق والتقييد
خصوصيتان تردان عليها، فكما يحتاج التقييد إلى بيان زائد على اللفظ، كذلك
يحتاج الاطلاق إلى البيان الزائد، لكون نسبة اللفظ إليهما على حد سواء، فلا
وجه لدعوى أن عدم ذكر القيد يكشف عن إرادة الاطلاق وإلا لزم الخلف، إذ
هذا يمكن عكسه فيقال: عدم ذكر الاطلاق يكشف عن إرادة المقيد وإلا لزم
الخلف.
ولا يندفع هذا الاشكال إلا بدعوى ثبوت بناء عقلائي عرفي على أنه
إذا كان في مقام البيان ولم يذكر القيد كان مراده الاطلاق، وبدون ذلك لا يمكن
الالتزام بان هذه المقدمات تنفع في اثبات إرادة الاطلاق. فتدبر.
كما نه بشكل أيضا ما قيل في هذا الباب من: ان الاطلاق بمقدمات
الحكمة لا بالوضع، هو ان كون المتكلم في مقام البيان - بمعنى عدم احراز انه
في مقام جهة أخرى - مما يحتاج إليه في مطلق الظهورات حتى الوضعية، فإنه لا
يمكن الاستناد إلى كلام المتكلم في تشخيص مراده ما لم يحرز انه في مقام البيان،
432

والا فلو كان نطقه باللفظ الموضوع لاجل تجربة صوته لا يمكننا ان نقول إن
مراده هو معنى اللفظ. وهكذا الحال في عدم القرينة، فان وجود القرينة المنافية
لمقتضى الوضع توجب الاخلال بظهور اللفظ في معناه وصرفه إلى معنى آخر.
فاذن هاتان المقدمتان لا بد منهما في تشخيص المراد الوضعي من اللفظ
الموضوع لمعناه، ولا اختصاص لهما في باب المطلق بحيث لا يحتاج إليهما في غير
مورده.
والتحقيق: هو تعين الالتزام بان استفادة الاطلاق ليس بمقدمات
الحكمة، بل من ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع.
بيان ذلك: ان اللفظ المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للطبيعة بما هي
- كما عرفت -. وظاهر اخذ الطبيعة في موضوع الحكم انها تمام الموضوع، كما أن
ظاهر اخذ: " زيد " في الموضوع في قوله: " أكرم زيدا " انه تمام الموضوع. وهكذا
ظاهر قوله: " أكرم ابن عمرو " ان: " ابن عمرو " تمام الموضوع. وهذا الظهور
تصطلح عليه الظهور السياقي وهو ثابت لا كلام فيه، وإذا كان الطبيعة تمام
الموضوع ثبت الحكم في كل مورد تثبت فيه وتوجد، فثبوت الاطلاق واستفادته
من جهة اخذ الطبيعة في الموضوع وظهور ذلك في كونها تمام الموضوع، ومما يؤيد
ان الاطلاق يستفاد مما ذكرناه هو الاصطلاح على ظهور المطلق بالظهور
الاطلاقي، فإنه ظاهر في وجود ظهور للمطلق، وهو انما يتلاءم مع ما ذكرناه، إذ
ليس مرجع مقدمات الحكمة إلى ظهور اللفظ في شئ.
وعليه، فلا نقع في الاشكال السابق وهو: ان الاطلاق خصوصية زائدة
كالتقييد، فكيف يثبت بعدم التقييد؟. كي نضطر إلى التخلص عنه بدعوى بناء
العقلاء على الاطلاق عند عدم التقييد.
إذ ما التزمنا به يرجع إلى التمسك بظهور وضعي وظهور سياقي.
كما لا نقع في اشكال آخر من جهة لزوم احراز كون المتكلم في مقام
433

البيان من جميع الجهات، وسيأتي الكلام فيه. فانتظر.
ثم إنه وقع الكلام في أن مجرى مقدمات الحكمة هل هو المراد الاستعمالي
أو المراد الجدي الواقعي؟. فهل تجري في تنقيح المراد الاستعمالي بمعنى ما قصد
المتكلم تفهيمه للمخاطب واحضاره من المعنى في ذهن السامع لا ما اراده من
نفس اللفظ - فلا يرد حينئذ بأنه لا معنى لان يكون المراد الاستعمالي هو المطلق
لعدم استعمال اللفظ فيه قطعا، بل هو مستعمل في معناه وهو الطبيعة -؟ أو تجري
في تنقيح المراد الواقعي، وبيان ان المراد جدا هو المطلق؟. الذي ذهب إليه
صاحب الكفاية هو الأول (1). خلافا للشيخ (رحمه الله) حيث ذهب إلى الثاني (2).
وتبعه عليه المحقق النائيني (3).
ولا تخفى ثمرة هذا الخلاف العملية، حيث تظهر في موارد البحث عن
انقلاب النسبة، إذ المقيد المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الاطلاق على رأي
صاحب الكفاية، بل يزاحمه في مقام الحجية.
ولكنه يخل باطلاق المطلق على رأي الشيخ، لكشفه عن تقيد المراد
الجدي وعدم اطلاقه.
وقد استشهد صاحب الكفاية على مدعاه: بان ما ذهب إليه الشيخ يلازم
عدم امكان التمسك بالمطلقات إذا قيدت بقيد منفصل، لأنه يكشف عن عدم
كون المتكلم في مقام البيان في كلامه، فتنهدم أولى المقدمات بو رود المقيد
المنفصل، وهذا اللازم باطل إذ لا يلتزم به أحد، فيكشف عن بطلان المبني الذي
يبتني عليه (4).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 247 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطابع الانظار / 218 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 529 - الطبعة الأولى.
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
434

واستشكل فيما ذكره (قدس سره): بان غاية ما يكشف عنه المقيد هو
عدم كونه في مقام البيان من جهة القيد وعدمه، اما سائر جهات المطلق فلا
يرتبط بها المقيد ولا ينظر إليها، فيمكن التمسك بالاطلاق من سائر الجهات.
ولم يفرض كونه في مقام البيان بالنسبة إلى تمام مراده بنحو العموم
المجموعي من جهة الخصوصيات، بل بنحو العموم الاستغراقي، فانكشاف عدم
كونه في مقام البيان من جهة لا يلازم انكشاف عدم كونه في مقام البيان من سائر
الجهات (1).
ويمكن ان يوجه كلام صاحب الكفاية: بان الاطلاق من سائر الجهات
في فرض التقييد موضوعه الحصة الخاصة، فهو في طول المقيد، لا ان الاطلاق
والقيد يرد ان على الطبيعة في عرض واحد، فإذا ثبت الحكم للعالم العادل،
فاطلاق الموضوع من حيث السيادة وعدمها موضوعه العالم العادل لا ذات
العالم، إذ لا معنى للاطلاق من حيث السيادة الا في حدود وإطار العالم العادل،
إذ لا يثبت الحكم - مع فرض موضوعه العالم العادل - للعالم المطلق من جهة
السيادة وعدمها ولو لم يكن عادلا.
وبعبارة أخرى: ان الاطلاق بلحاظ تمام الموضوع لا بلحاظ كل جزء
جزء، وتمام الموضوع في الفرض هو الحصة الخاصة وذات الطبيعة جزء الموضوع
وهو ليس مجرى الاطلاق الا في موارد خاصة، ولذا لا يجري الاطلاق بالنسبة
إلى كل جزء من اجزاء الصلاة، بل إلى مجموع الصلاة في موارد تعلق الحكم بها.
وعليه، فإذا ورد المقيد الكاشف عن كون الموضوع هو الحصة اختل
التمسك بالاطلاق من جميع الجهات، لان ما ينبغي أن يكون مجرى المقدمات
وموضوع الاطلاق هو الحصة لأنها تمام الموضوع، والمتكلم لم يكن في مقام البيان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 355 - الطبعة الأولى.
435

من جهاتها وخصوصياتها، إذ لم يكن في مقام ذاتها. وما كان في مقام بيانه - وهو
الطبيعة - ليس مورد الاطلاق بعد ورود المقيد لأنه ليس موضوع الحكم.
وقد يتوهم: ان هذا البيان مستلزم لمنع التمسك بالاطلاق مع كون المتكلم
في مقام البيان من جهة دون أخرى، وذلك لاحتمال أن يكون مراده الواقعي من
الجهة التي ليس في مقام منها هو الحصة الخاصة فيكون الاطلاق من الجهة
الأخرى في طولها، ومع هذا الاحتمال يمتنع التمسك بالاطلاق، لأنه لا يحرز انه
في مقام بيان ان الموضوع هو الطبيعة كي يتمسك باطلاقها، لأنه في مقام بيانها.
وهو ليس في مقام بيان الحصة، فان المفروض انه مهمل من هذه الجهة.
وبالجملة: إذا فرضنا انكشاف ان كون المراد الواقعي هو المقيد مانع عن
التمسك بالاطلاق من سائر الجهات لعدم كونه في مقام بيان المقيد، فاحتمال ذلك
- مع عدم كونه في مقام بيانه - يكفي في المنع عن التمسك بالاطلاق، لأنه انما
يصح التمسك باطلاق الموضوع الواقعي إذا كان المتكلم في مقام بيانه، وهو
مشكوك على الفرض، فمثلا: لو قال: " أكرم العالم " ولم يكن في مقام البيان من
جهة العدالة والفسق، لم يصح التمسك باطلاق العالم بالنسبة إلى السيادة
وعدمها، لعدم احراز انه تمام الموضوع، لاحتمال انه العالم العادل وهو ليس في
مقام بيانه.
مع أن هذا اللازم لا يقول به أحد، فان التفكيك في مقام البيان بين
الجهات يلتزم به الكل ولا يرون فيه اشكالا.
ويندفع هذا التوهم: بالفرق بين مقام الحدوث والبقاء، فإنه مع الالتفات
حدوثا إلى أن المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى كما لو صرح بذلك،
فمرجع ذلك إلى تصريحه - مثلا - بأنه مقام البيان من هذه الجهة - كجهة السيادة -
بالنسبة إلى الموضوع الواقعي على واقعه المردد بين المطلق من الجهة الأخرى
والمقيد - كالمردد بين العادل ومطلق العالم - من دون تعرض لبيان ما هو الموضوع
436

الواقعي، فلو انكشف انه المقيد لم يضر بالاطلاق، لأنه كان في مقام بيانه من
الجهة الأخرى، وهذا بخلاف ما لم يكن حدوثا كذلك، فلا ظهور يدل على أنه
في مقام بيان الموضوع الواقعي على واقعه، إذ لم يكن الكلام حدوثا ظاهرا في
الاجمال، بل ظاهرا في الاطلاق من هذه الجهة أيضا، فإذا ورد القيد كشف عن
كون الموضوع هو الصحة ولم يكن في مقام البيان بالنسبة إليها، بل في مقام الذات
لا غير فيكشف عن عدم كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الموضوع الواقعي،
والا لنبه على ذلك بعد أن لم يكن للكلام ظهور فيه. فالتفت فإنه لا يخلو عن دقة.
وعليه، فايراد الكفاية موجه بالبيان الذي عرفته.
ولكن هذا لا يصحح كلام الكفاية واختيار صاحبها، أعني كون مجرى
المقدمات هو المراد الاستعمالي فإنه غير سالم عن الاشكال.
بيان ذلك: ان الواقع في باب الانشائيات يختلف عنه في باب
الاخباريات، فان وجود واقع وراء الاستعمال امر متصور في باب الاخبار يحكي
عنه الخبر، يطابقه أو لا يطابقه، وليس كذلك الحال في باب الانشاء، فان الأمور
الانشائية لا واقع لها سوى مقام الانشاء، والاحكام منها، اذن فما هو المراد من
المراد الواقعي في باب الاحكام في قبال المراد الاستعمالي، بناء على أن واقع
الحكم ليس إلا الانشاء، وهو استعمال اللفظ بقصد ايجاد المعنى بوجود انشائي
أو اعتباري؟. لا يقصد من ذلك الا مقام الداعي للانشاء، فإذا أنشأ الطلب
بداعي البعث حقيقة كان وجوبا حقيقة، وان انشاءه بداعي غير البعث لم يكن
وجوبا حقيقة، فاتفاق المراد الواقعي مع المراد الاستعمالي معناه صدور الانشاء
بداعي البعث جدا واختلافه معناه صدور الانشاء بداعي غير البعث كالتهديد.
وعليه، فنقول إذا فرض ان المراد الاستعمالي هو المطلق، بان أنشئ الحكم
على جميع الافراد، ولكن كان المراد الجدي على طبق المقيد بان كان الواجب
حقيقة بعض الافراد فما هو الأثر من تفهيم المطلق؟. الذي ذكره صاحب
437

الكفاية ان انشاء الحكم على الكل بداعي أن يكون قاعدة وقانونا (1).
وقد تقدم الاشكال فيه في مبحث العموم: بأنه ان أريد قاعدة وكاشفا عن
حكم الخاص بعد التقييد بما أنه عام، فهو خارج عن طريقة المحاورة، إذ لا معنى
لانشاء الحكم على الكل وإرادة البعض، فهو نظير أن يقول: " أكرم عشرة " ثم
يبين انه يريد اكرام خمسة، وبالخصوص إذا كان معنى الاطلاق ثبوت الحكم
للطبيعة من دون أي خصوصية، فإنه ينافي التصريح بدخول الخصوصية بعد ذلك
منافاة توصل الكلام الأول إلى حد الاستهجان. وان أريد كونه كاشفا عن حكم
الخاص بما أنه بعض مدلوله، فهو يبتني على حجية الدلالة التضمنية لو سقطت
المطابقية عن الحجية، كما أنه ما الملزم للاستعمال في العموم؟ مع امكان ان ينشئ
الحكم على المقيد رأسا.
هذا مضافا إلى ما أورده المحقق الأصفهاني من: ان الانشاء بداعي
البعث جدا بالنسبة إلى الجميع ممتنع لفرض إرادة المقيد لا المطلق، والانشاء
بداعي البعث بالنسبة إلى البعض، وبداعي آخر بالنسبة إلى البعض الاخر
يستلزم صدور الفعل الواحد وهو الانشاء عن داعيين وهو محال (2).
وان كان ما ذكره قابل للرد. فتأمل.
نعم ينحل الاشكال على صاحب الكفاية بالالتزام بكون الانشاء بداعي
البعث جدا بالنسبة إلى الجميع فيثبت الحكم الحقيقي للجميع، ولكنه يرتفع عن
البعض بورود المقيد لانتهاء مصلحته.
ولكنه التزام بتعدد الحكم وبالنسخ وهو غير صحيح قطعا لبداهة وحدة
الحكم وعدم تعدده.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 337 - الطبعة الأولى.
438

ونتيجة مجموع ما ذكرناه ان كلا المذهبين لا يخلو ان من اشكال.
والذي نراه ان منشأ اشكال صاحب الكفاية على المذهب الاخر
والجواب غير الصحيح عنه الذي عرفته، هو الغفلة عن شئ، وهو: ان المدعي
لكون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي وجريان المقدمات في ذلك المقام يرى
ان من المقدمات عدم القرينة إلى زمان لا يقبح تأخيرها عنه، لا عدم القرينة في
حال الخطاب.
وعليه، فلا يكون ورود القيد كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان
واختلال الاطلاق المنعقد بدوا، بل لا ينعقد الاطلاق أصلا قبل ورود القيد، نعم
ينعقد بعد مرور زمان يقبح تأخير البيان عنه. فإذا ورد القيد قبل مرور هذا
الزمان كان موجبا للاخلال بالمقدمة الثانية، أعني عدم ما يوجب التعيين، ولا
يكون مخلا بالمقدمة الأولى، إذ لا تنافي بين تأخير البيان عن الخطاب وكونه في
مقام البيان. فإذا كان المتكلم في مقام بيان مرامه بالتدريج لم ينعقد الاطلاق قبل
مرور الزمان الذي يفرضه لبيان مرامه، ولم يكن ورود القيد في الأثناء منافيا
لكونه في مقام البيان، فورود القيد في أثناء هذا الزمان يوجب انعقاد الظهور
الاطلاقي في المقيد والحصة الخاصة، لأنه كان في مقام بيانها.
وبالجملة: القيد المنفصل على هذا المذهب كالقيد المتصل يوجب انعقاد
الظهور في المقيد.
ومنشأ اشكال الكفاية هو: تخيل ان المفروض انه في مقام البيان في مقام
الخطاب، ورود القيد المنفصل يستلزم الكشف عن عدم كونه في مقام البيان، فيلزم
المحذور السابق، فاشكال الكفاية متجه بناء على هذا التخيل لكنه تخيل غير
صحيح.
ويتخلص من مجموع ما ذكرناه مسالك ثلاثة:
الأول: ما قربناه من أن استفادة الاطلاق بواسطة ظهور اخذ الطبيعة
439

المدلول عليها باللفظ في موضوع الحكم في كونها تمام الموضوع، وهذا الظهور
يكون حجة على المراد الواقعي بمقتضى أصالة الظهور.
الثاني: ان استفادة الاطلاق بواسطة مقدمات الحكمة الجارية في
تشخيص المراد الاستعمالي، ويكون الظهور الاطلاقي حجة على المراد الواقعي
بمقتضى حجية الظهور.
الثالث: ان استفادة الاطلاق بواسطة جريان مقدمات الحكمة في
تشخيص المراد الواقعي رأسا.
والجميع يشترك في أمر، وهو ان الدليل المقيد يتقدم على المطلق إذا لم
يمض وقت بيان المراد الواقعي.
لكنه لا يتصرف في أصل الظهور على الأولين، بل ينفي حجيته. ويتصرف
فيه على الأخير بحيث ينعقد الاطلاق في المقيد رأسا.
والوجه في تقدم المقيد على المطلق في الفرض المزبور: اما على الأخير
فواضح كما تقدم تقريبه، انه كالقيد المتصل واما على الأولين، فالظهور وان كان
حجة على الواقع لكنه في مقام لا يكون من شأن المتكلم بيان الواقع ببيان متعدد،
اما إذا كان من شأنه ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى الشارع الأقدس، فلا يكون
الظاهر حجة على الواقع ما لم يمض زمان البيان، إذ مع عدم مضيه يكون الكلام
في معرض التقييد، ولا يكون حجة مع كونه كذلك.
ومن هنا يقال: بأنه يلزم على هذا عدم انعقاد الاطلاق للكلام، أو عدم
حجيته قبل انتهاء زمان الأئمة (عليهم السلام) لان كلامهم بمنزلة كلام واحد،
ومن الواضح ان المطلق الذي يصدر من السابق منهم (ع) في معرض التقييد ممن
يلحقه منهم (ع)، فلا يمكن الكشف عن المراد الواقعي بالتمسك باطلاق
كلامهم (ع) ما لم ينته زمان البيان منهم.
وتحقيق الحال: ان لدينا صورا ثلاث:
440

الأولى: أن يكون السائل للمعصوم (ع) ممن لا يرجو لقاءه أو لقاء أحد
الرواة عادة، كما إذا كان من البلاد البعيدة، فلا معنى لان يقال في مثل هذا
الفرض ان الإمام (ع) في مقام بيان مرامه بكلام متعدد، بل لابد أن يكون في
مقام بيان مرامه بنفس كلامه مع السائل، فله التمسك باطلاق الكلام
واستكشاف المراد الواقعي به. فإذا ورد مقيد بعد حين كان معارضا للمطلق لا
مقدما عليه رأسا، بل تلحظ قواعد المعارضة بينهما.
الثانية: أن يكون السائل من يجتمع مع الإمام (ع) كثيرا وسؤاله لمعرفة
الحكم وتعلمه كمثل زرارة. ففي مثل هذا الفرض يمكن ان يقال ان العادة على
عدم بيان تمام مرامه في مجلس واحد وكلام واحد بل في مجالس متعددة.
وعليه، فلا يمكنه التمسك باطلاق كلامه الأول ما لم يمض وقت البيان
عادة ولم يرد القيد، فإذا ورد القيد في الأثناء كان مقدما على الاطلاق جزما.
الثالثة: أن يكون السائل كذلك، لكن القيد يأتي من المعصوم اللاحق،
وفي مثله لا يمكننا ان نقول بان العادة على تأخير البيان والاعتماد على الامام
اللاحق (ع) بحيث يظهر ذلك من حال الامام السابق (ع).
وعليه، فيمكن التمسك بالاطلاق ويكون المقيد معارضا له كما في الصورة
الأولى، ولا يصح تقديمه عليه الا إذا كان أظهر، على اشكال ستأتي الإشارة إليه
انشاء الله تعالى.
فظهر انه لا معنى للجزم بتقديم المقيد على المطلق رأسا، حتى بناء على
كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي، لانعقاد الاطلاق إذا مضى وقت
البيان ولم يرد القيد.
وسيأتي انشاء الله تعالى في مبحث الجمع بين المطلق والمقيد مزيد تحقيق
وتوضيح. فانتظر.
* * *
441

في الشك في كون المتكلم في مقام البيان
ثم إنه إذا أحرز كون المتكلم في مقام البيان فلا اشكال. ولو شك في كونه
في مقام البيان فلدينا صورتان:
الأولى: أن لا يحرز ان في مقام البيان من أي جهة من الجهات، بل يحتمل
انه في مقام الاهمال من جميع الجهات.
الثانية: ان يحرز انه في مقام البيان من جهة ويشك في كونه في مقام البيان
من جهة أخرى، كما لو قال: " أكرم العالم " واحرز انه في مقام البيان من جهة
العدالة والفسق وشك فيه من جهة السيادة وعدمها.
اما الصورة الأولى: فلا اشكال في أن بناء العقلاء على حمل المتكلم على
كونه في مقام البيان، وحينئذ فيجوز التمسك بالاطلاق من جميع الجهات لعدم
المرجح لإحداها على الأخرى.
واما الصورة الثانية: فظاهر الكفاية ثبوت البناء العقلائي على أن المتكلم
في مقام البيان، واستشهد على ذلك بالتمسك بالاطلاقات من دون فحص
واحراز لكون المتكلم في مقام البيان (1). وخالفه المحقق النائيني (قدس سره)
فذهب إلى عدم الدليل على اثبات انه في مقام البيان من الجهة المشكوكة،
لارتفاع اللغوية بكونه في مقام البيان من الجهة الأخرى - كما هو الفرض - (2).
أقول: استدلاله (قدس سره) بعدم اللغوية في غير محله، إذ لم يكن البناء
على أن المتكلم في مقام البيان من جهة صون كلامه عن اللغوية، كيف؟ وقد التزم
(قدس سره) بامكان ورود الكلام في مقام التشريع لا أكثر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 529 - الطبعة الأولى.
442

وتحقيق الحال: انه ان قلنا بان استفادة الاطلاق من مقدمات الحكمة
أشكل الجزم بأحد الرأيين لعدم الطريق إلى تعيين الحق منهما، وانا إذا قلنا بان
استفادة الاطلاق من ظهور ترتيب الحكم على الطبيعة في كونها تمام الموضوع -
كما قربناه - فلا يعتبر احراز كون المتكلم في مقام البيان، وذلك لان مقتضى
أصالة الحقيقة هو إرادة المعنى الظاهر من الكلام، ومقتضى حجية الظاهر مطابقة
المراد الواقعي للظاهر، ومقام الثبوت لمقام الاثبات.
وعليه، فيكون الكلام دليلا على ثبوت الحكم للطبيعة بلا دخل
الخصوصية، وان شك في كون المتكلم في مقام البيان من جهتها، لان بناء العقلاء
- بلا تشكيك - على العمل بظاهر الكلام بلا توقف وتردد، وقد عرفت أن الظاهر
هو ترتيب الحكم على ذات الطبيعة بلا دخل الخصوصية، ومع الشك في إرادة
الظاهر يرجع إلى أصالة الحقيقة كما هو الحال في كل مورد يشك في إرادة ظاهر
الكلام منه.
نعم إذا أحرز انه ليس في مقام البيان من بعض الجهات، وانه في مقام
الاهمال من تلك الجهة، لا يكون الظاهر حجة على مراده من تلك الجهة وهو
واضح. فان بناء العقلاء على حجية الظاهر ما لم يحرز انه لا يقصد الكشف عن
مراده الواقعي به.
فظهر ان ما اخترناه في بيان استفادة الاطلاق أمر عرفي خال عن بعض
التكلفات، كتكلف دعوى بناء العقلاء على إرادة المطلق لو لم ينصب قرينة على
التقييد، مع أن الاطلاق خصوصية زائدة كالتقييد، وتكلف دعوى بناء العقلاء
على كونه في مقام البيان، مع الشك في جهة واحراز انه كذلك من جهة أخرى.
ولكن ما ذكرناه انما ينفع في استفادة الاطلاق في موارد يؤخذ المعنى
المقصود اثبات تعميمه لافراده في موضوع الحكم، كي تتأتى دعوى أن اخذه في
موضوع الحكم ظاهر في أنه تمامه.
443

واما لو لم يكن ذلك، فلا ينفع ما ذكرناه، كما في المثال المذكور في أجود
التقريرات (1)، وهو قوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن) (2) حيث يشك في أنه في
مقام البيان من جهة نفي الحرمة الثابتة للميتة، أو أعم منها ومن نفي الحرمة من
جهة النجاسة باعتبار ملاقاة محل الامساك. فان عدم الحرمة له فردان، عدم
الحرمة من جهة الميتة، وعدم الحرمة من جهة النجاسة.
فإذا شك في أن المقصود بيانه هل هو عدم الحرمة من جهة الميتة أو الأعم،
لم ينفع البيان الذي ذكرناه.
اما بالنسبة إلى اجرائه في نفس عدم الحرمة المدلول عليه بالهيئة، فمضافا
إلى أنه معنى حرفي غير قابل للحاظ الاستقلالي، انه لم يؤخذ في موضوع الحكم،
كي يقال بان ظاهر ترتيب الحكم عليه دخالته بنفسه من دون دخل خصوصية
فيه، بل لا معنى لذلك، لان مدلول الهيئة ليس مفهوم الحكم، بل هو النسبة وهي
معنى حرفي.
واما بالنسبة إلى اجرائه بالنسبة إلى الأكل بان يقال: ان الحكم ثابت
لطبيعة الأكل ولم يقيد بما قبل الغسل وعدمه فيدل على أن ذات الأكل هو متعلق
الحكم، فلانه لا يقتضي ان الحكم هو الأعم، إذ نفي الحرمة من جهة الميتة ثابت
للأكل قبل الغسل وبعده، فاثبات اطلاق المتعلق أو الموضوع لا يلازم اثبات ان
المنفي هي الحرمة من كلتا الجهتين.
وفي الحقيقة ان المورد ليس من موارد الاطلاق على جميع المسالك، فإنه
لا معنى للالتزام بمقدمات الحكمة في اثبات الجواز الفعلي. لأنها ان لوحظت
بالنسبة إلى مدلول الهيئة، فقد عرفت أن مدلولها ليس مفهوم عدم الحرمة كي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 529 - الطبعة الأولى.
(2) سورة المائدة، الآية: 4.
444

يتمسك باطلاقه في اثبات كلامه فرديه - أعني الجواز من جهة النجاسة ومن جهة
الميتة. فيلازم الجواز الفعلي، بل مدلولها النسبة الذي لا يتصور فيها العموم،
مضافا إلى أنه معنى حرفي ملحوظ آلة فلا تتم فيه مقدمات الحكمة.
وان لوحظت بالنسبة إلى المتعلق أو الموضوع، فقد عرفت أن نفي
الخصوصية لا يثبت الجواز من جميع الجهات فتدبر.
نعم لو كان الدليل متكفلا للجواز الفعلي تم ما ذكر، لكنه هو محل
الاشكال وهو موضوع النزاع. اذن فلا طريق لدينا إلى اثبات ان الآية تتكفل
نفي الحرمة بالمعنى الأعم، لا خصوص عدم الحرمة من جهة الميتة، فتدبر ولا
تغفل.
* * *
445

الانصراف
ثم إنه بعد أن تقدم من أن استفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة أو بما
ذكرناه، يقع الكلام في مانعية الانصراف إلى بعض الافراد أو الأصناف عن
التمسك بالاطلاق.
وقد ذكر صاحب الكفاية للانصراف افرادا ثلاثة.
الأول: الانصراف البدوي الزائل بالتأمل، ومثل له بانصراف لفظ الماء
إلى ماء الفرات أو دجلة في الموضع القريب منهما.
الثاني: الانصراف الملازم لظهور اللفظ في المنصرف إليه.
الثالث: الانصراف الملازم لتيقن المنصرف إليه، مع عدم كونه ظاهرا فيه
بخصوصه.
وقد حكم بعدم مانعية الأول من الاطلاق، ومانعية الأخيرين من
التمسك فيه (1).
وقد أوقع المحقق النائيني الحديث عن الانصراف، وذكر له صورا ثلاثة
أيضا:
الأول: الانصراف البدوي وهو الناشئ عن غلبه خارجا.
الثاني: الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية بحسب متفاهم العرف،
بحيث يرى العرف خروج بعض الافراد عن كونه فردا للطبيعة، كانصراف لفظ
ما لا يؤكل لحمه عن الانسان.
الثالث: الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية، بحيث يشكك العرف

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 249 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
446

في مصداقية بعض الافراد، كانصراف لفظ الماء إلى غير ماء الذاج والكبريت.
وقد ذكر ان القسم الأول لا مجال لتوهم مانعيته عن الاطلاق.
واما القسم الثاني فهو يمنع من التمسك بالاطلاق، لان المورد يكون من
قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة، فلا ظهور الا في غير ما ينصرف عنه
اللفظ.
وهكذا الحال في القسم الثالث، فإنه يمنع من الاطلاق، لكون المطلق فيه
يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينة (1).
أقول: حصره الانصراف غير البدوي بالناشئ عن تشكيك في غير
محله، إذ قد يتحقق الانصراف في غير موارد التشكيك، كما قد يدعى انصراف
قوله تعالى: (أحل الله البيع) (2) إلى البيع الصادر من المالك لا مطلق البيع.
ثم إن جعله انصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الانسان من موارد
الانصراف الناشئ من التشكيك يمكن أن يكون من جهة القوة وأن يكون من
جهة الضعف، بان يقال ان الانسان باعتبار انه أقوى افراد الحيوان وارفعها
انصرف عنه لفظه، أو يقال ان الحيوانية العرفية فيه ضعيفة فينصرف عنه لفظ
الحيوان إلى البهيمة.
وعلى كل فهذا ليس بمهم وانما المهم تحقيق الكلام فنقول: لا كلام فيما
ذكره المحققان من عدم مانعية الانصراف البدوي، لعدم اخلاله بما يعتبر في باب
الظهور، كما لا كلام فيما ذكراه من مانعية القسم الثاني من الاطلاق على أي
مسلك من مسالكه، لان وجود ما يوجب تعيين بعض الافراد يتنافى مع استفادة
الاطلاق على جميع مسالكه وهو واضح.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 532 - الطبعة الأولى.
(2) سورة البقرة، الآية: 275.
447

واما مورد الانصراف لاجل التشكيك في صدق المفهوم على بعض
الافراد، فقد عرفت تعليل مانعيته في كلام المحقق النائيني بأنه يكون من قبيل
الاحتفاف بما يصلح للقرينية.
وتحقيق صحة هذا المعنى يأتي في محله انشاء الله تعالى. فالأولى تعليل
المانعية بان الاطلاق إنما ينفع فيما إذا أحرز انطباق المعنى على المشكوك ثبوت
الحكم له. فمع الشك فيه - يعني في الانطباق - لا ينفع الالتزام بان المراد هو
المطلق، إذ لا يتوصل إلى اثبات الحكم له مع الشك في كونه فردا للطبيعي.
ومن هنا يظهر ان مراد صاحب الكفاية في مانعية تيقن المنصرف إليه ان
كان ما ذكرناه، فيكون مراده تيقن الفردية دون غيره، فهو تام لا اشكال فيه.
وان كان من جهة وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، فيكون مراده تيقن
الإرادة مع احراز ان غيره فرد للطبيعة، فقد عرفت الاشكال في مانعيته عن
التمسك بالاطلاق فراجع.
ثم إن التعبير الوارد في تقريرات النائيني بان الانصراف ينشأ من رؤية
العرف خروج بعض الافراد عن مصداقية الطبيعة (1)، لا يخلو من تسامح، إذ
العرف مرجع في تعيين المفاهيم، اما تشخيص المصاديق للمفهوم المحدود عرفا
فلا يرجع إليه فيه. فلا بد أن يكون المراد ان العرف يرى ان مفهوم اللفظ بنحو
لا ينطبق على هذا الفرد. فتدبر.
فصل
في المطلق والمقيد المتنافيين
إذا ورد المطلق وورد مقيد ينافيه، فهل يقدم المقيد على المطلق أولا؟.
وتحقيق المقام: ان الدليل المقيد على نحوين:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 532 - الطبعة الأولى.
448

الأول: ما يكون متكفلا لحكم ارشادي من امر أو نهي، فيكون الامر فيه
للارشاد إلى جزئية أو شرطية، متعلقة لموضوع الحكم، والنهي فيه للارشاد إلى
مانعيته، نظير الأوامر الواردة في باب المركبات الاعتبارية، فإنها ظاهرة في
الارشاد إلى اخذ متعلقها في المركب.
الثاني: ما يكون متكفلا لحكم مولوي متعلق بالمقيد.
ولا اشكال في تقديم - إذا كان بالنحو الأول - على المطلق، فإذا
ورد دليل يأمر بالصلاة بقول مطلق، وورد دليل يأمر بها مع الركوع، وكان ظاهرا
في الارشاد إلى جزئية الركوع، قدم المقيد بلا كلام. وسنشير إلى وجه تقديمه.
وعلى كل، فليس هذا النحو محل الكلام فيما نحن فيه، وانها محل الكلام
هو النحو الثاني، كما إذا قال: " أكرم العالم " ثم قال: " يحرم اكرام العالم الفاسق "
أو: " يجب اكرام العالم العادل ". فقد وقع الكلام في تقديم المقيد على المطلق وفي
وجه تقديمه.
وعليه، فما يظهر من أجود التقريرات من ابتناء التقديم وعدمه على
النحوين في كيفية المقيد، بمعنى انه ان كان ظاهرا في الارشاد يقدم. وان كان
ظاهرا في المولوية لا يقدم (1).
غير صحيح، إذ محل الكلام في التقديم وعدمه، وفي مسألة حمل المطلق
علي المقيد هو: ما إذا كان المقيد واردا بالنحو الثاني فالتفت.
وعلى كل، فقد تعرض المحقق النائيني (قدس سره) قبل الدخول في
أصل البحث إلى أمر ذكره كمقدمة للبحث وتوطئة لتوضيح الحال فيه.
وهو: ان ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذي القرينة من دون ملاحظة
أيهما الأقوى.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 535 - الطبعة الأولى.
449

ولذا يقدم ظهور: " يرمي " في رمي النبل على ظهور: " الأسد " في الحيوان
الخاص في قول القائل: " جاء أسد يرمي "، مع أن ظهور يرمي انصرافي، وظهور
أسد وضعي، وهو أقوى من الانصرافي.
وجهه بان الشك في إرادة ما يظهر فيه ذو القرينة مسبب عن الشك في
إرادة ما تظهر فيه القرينة، فالأخذ بظاهر القرينة يستلزم رفع الشك في المراد
بذي القرينة وحمله على خلاف ظاهره الأولي، لان مؤدى القرينة بنفسها يرجع
إلى تشخيص المراد بذي القرينة وتعيينه، وليس الامر كذلك بالعكس، فان
الاخذ بظاهر ذي القرينة لا يستلزم تعيين المراد من القرينة الا بالملازمة العقلية
- بلحاظ التنافي بين الظهورين -، والأصل اللفظي وان كان حجة في اللازم
العقلي لمجراه، لكنه انما يثبت به اللازم العقلي على تقدير جريانه في نفسه،
وأصالة الظهور في ذي القرينة لا تجري الا على وجه دائر، لان جريانها فيه
يتوقف على عدم جريان أصالة الظهور في القرينة - إذ جريانها في القرينة يلغي
الشك في ذي القرينة فلا مجال للأصل فيه -، فلو كان عدم جريان أصالة الظهور
في ناحية القرينة مستندا إلى جريانه في ذي القرينة لزم الدور.
وبهذا البيان يلتزم بتقدم الأصل الحاكم على الأصل المحكوم.
ولا يختلف الحال فيما ذكر بين القرينة المتصلة أو المنفصلة، وان كان هناك
فرق بينهما من ناحية أخرى، وهي: ان القرينة المتصلة تصادم أصل الظهور
التصديقي لذي القرينة، المعبر عنه بالمراد الاستعمالي فتوجب التصرف فيه.
واما القرينة المنفصلة، فهي تصادم كاشفية الظهور التصديقي لذي
القرينة عن المراد الواقعي فتوجب التصرف في حجيته وكاشفيته لا فيه نفسه (1).
هذا ما افاده (قدس سره)، وقد ذكره مقدمة لبيان ان تقديم المقيد على

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 535 - الطبعة الأولى.
450

المطلق من جهة قرينية المقيد.
وهذا البيان منه لا يخلو من مناقشات من جهات عديدة.
الأولى: ما يظهر منه (قدس سره) من فرض ظهورين للقرينة ولذي
القرينة، يقع التصادم بينهما ويقدم أحدهما للحكومة بالوجه الذي عرفته.
فان ذلك غير سديد، فإنه ليس لدينا في موارد القرينة المتصلة الا ظهور
واحد ينعقد للكلام رأسا بلا ملاحظة ما ذكره من جهة التصادم والتقديم.
اما في مثل موارد التقييد مثل: " أكرم العالم العادل " فواضح، بداهة عدم
وجود ظهورين متصادمين يدور الامر بين تقديم هذا أو ذاك منها، لعدم تصادم
الظهور الأولي للعالم مع الظهور الأولي للعادل، ولذا لا ينتقل السامع من الكلام
رأسا إلا إلى الحصة الخاصة، ويرى ان للكلام ظهورا واحدا منعقدا فيها وليس
هناك أي تصادم بين ظهورين.
واما في مثل موارد المجاز نحو: " جاء أسد يرمي " فكذلك، فان السامع
ينتقل ذهنه رأسا إلى معنى واحد وهو الشجاع، بحيث يرى الكلام ظاهرا فيه
رأسا بلا ان يرى تصادما ويعمل ترجيحا لاحد الظهورين على الاخر.
ولعل السر فيه، هو: انه وان كان للفظ: " أسد " ظهور طبعي لا يتلائم مع
ظهور لفظ: " يرمي "، لكن الملحوظ في مقام التصادم ليس الظهور الطبعي
للفظين، إذ الظهور الطبعي لاي لفظ ثابت فيه ولو مع الجزم بإرادة خلافه، كما أنه
ليس موضوعا لاي اثر وبناء عقلائي، وانما التصادم - على تقدير وجوده -
يكون بين الظهورين التصديقيين، بمعنى يقع التصادم بين بناء العقلاء على إرادة
كلا الظهورين الفعليين. ولكنه فيما نحن فيه غير ثابت، إذ لا يتحقق بناء العقلاء
على إرادة ظاهر أي لفظ ما لم يتم كلام المتكلم، لان موضوعه هو الظهور الفعلي
لا الظهور الطبعي، وهو لا ينعقد قبل تمامية الكلام، فقبل ورود القرينة لأبناء
للعقلاء على إرادة ظهور ذي القرينة، وبعد ورودها في الكلام لا يكون للكلام
451

الا ظهور واحد يتناسب مع القرينة، وهو موضوع بناء العقلاء، فأين هو التصادم
بين الظهورين، وأين دوران الامر بين تقديم هذا أو ذاك؟. بل ليس الكلام
بملاحظة مجموعه إلا ظهور واحد يكون موضوعا لبناء العقلاء.
وبالجملة: الظهور الذاتي ليس موضوعا لبناء العقلاء، كي يقع التصادم
والدوران بين ترجيح ظهور القرينة وظهور ذيها، بل هو الظهور الفعلي، وهو
ليس إلا ظهور واحد بملاحظة مجموع الكلام.
ومما يشهد لما ذكرنا من وحدة الظهور الفعلي هو: انه لو صدر الكلام من
الغافل كالنائم، ينتقل الذهن إلى المعنى المجازي.
وهذا يكشف عن أن ظهور اللفظ في المعنى المجازي أجنبي عن مسألة
ترجيح الظهورين، إذ لا مجال لاعمال قواعد الترجيح في الفرض لغفلة المتكلم.
وبعبارة أخرى مختصرة نقول: ان حديث ترجيح أحد الظهورين لا ربط
له كلية بانعقاد ظهور الكلام في المعنى، إذ لا ربط للبرهان العقلي في تشكيل
ظهور اللفظ وحكايته عن المعنى فعلا الذي هو موضوع أصالة الحقيقة.
وبهذا يندفع ما قد يتخيل من: ان مقصود القائل هو تصادم الظهورين
الاقتضائيين في مقام انعقاد الظهور الفعلي، إذ الظهور الاقتضائي يصير فعليا ما
لم تقم قرينة على خلافه، فيحصل التدافع بين ظهور القرينة وذيها.
وجه الاندفاع: ان حديث انعقاد الظهور لا يرتبط بالبرهان العقلي
المزبور. فالتفت.
الثانية: ما ذكره من تطبيق الوجه العقلي في تقديم الحاكم على المحكوم
على مورد القرينة، وبيان ان تقدمها بهذا الوجه.
وهذا الوجه مأخوذ من الشيخ (1). ونقحه المحقق الخراساني (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 432 - الطبعة الحجرية.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 256 - الطبعة الأولى.
452

وهو - مع غض النظر عن صحته وعدمها في نفسه، فان لذلك مجالا آخر
- لا ينطبق على ما نحن فيه.
وذلك لأنه انما يتأتى في الحاكم بلحاظ انه ينظر إلى موضوع المحكوم نفيا
أو اثباتا، وفيما نحن فيه ليس كذلك، لان القرينة وان رفعت الشك في ذي
القرينة، لكن ذلك بلحاظ نظرها إلى المراد بذي القرينة لا بلحاظ ان مدلولها
إلغاء الشك فيه - كما هو الحال في مثال الامارة مع الأصل بناء على الحكومة -.
وعليه، فيتوجه عليه الاشكال الذي ذكره هو وهو: ان الالتزام بظاهر
ذي القرينة يوجب التصرف بظاهر القرينة بالملازمة. وتقصيه عنه بما عرفت في
غير محله، إذ لا وجه لفصل المدلول الالتزامي عن المدلول المطابقي، بحيث يلزم
ان يجري الأصل بلحاظ اثر المدلول المطابقي أولا ثم يثبت المدلول الالتزامي،
بل يصح جريان الأصل بلحاظ المدلول الالتزامي رأسا، وعليه فيلزم التحاكم
من الطرفين، فيقال أيضا: ان أصالة الظهور في القرينة تتوقف على عدم جريانها
في ذي القرينة - لاستلزام جريانها فيه التصرف في ظهور القرينة -، فلو توقف
عدم جريانها في ذي القرينة على جريانها فيها لزم الدور.
الثالثة: ما ذكره من الفرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة، في أن الأولى
تتصادم مع أصل الظهور التصديقي. والثانية تتصادم مع كاشفيته وحجيته.
فإنه مشكل من وجهين:
الأول: انه لا يتلائم مع ما يذكره ويلتزم به من أن مجري مقدمات الحكمة
هو المراد الواقعي، بحيث لو ورد المقيد كشف عن عدم كون المتكلم في مقام
البيان من جهة القيد، فإنه يستلزم كون المقيد المنفصل مخلا بالظهور الاطلاقي
نفسه، فكيف يقول: ان القرينة المنفصلة لا تصادم نفس الظهور؟ فما ذكره لا
يتم في موضوع البحث على مسلكه (قدس سره).
الثاني: ان هذا لا يلتزم به في موارد الأظهر والظاهر المؤديين لحكمين في
453

موضوع واحد، كما لو قال: " أكرم زيدا " ثم قال: " يجوز لك ترك اكرامه "، فإنه
يلتزم بحمل الامر على الاستحباب وصرفه عن الوجوب ومن الواضح ان ما
يلتزم به هو التصرف في المراد الاستعمالي لا خصوص المراد الجدي، فلا يلتزم بان
المستعمل فيه الصيغة هو الوجوب، لكن المراد الواقعي هو الاستحباب لان ذلك
مستهجن لأهل المحاورة.
ثم إنه (قدس سره) بعد أن ذكر: ان أساس حمل المطلق على المقيد على
ثبوت التنافي بينهما وهو يتوقف على استفادة وحدة التكليف - في المتوافقين -
التزم بتقديم المقيد للقرينية.
ولنا معه كلام في جهتين:
إحداهما: التزامه بان حمل المطلق علي المقيد للقرينية.
وثانيتهما: التزامه بان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين لا من
الخارج.
وهو في كلتا الجهتين يختلف مع صاحب الكفاية لأنه التزم بان حمل المطلق
على المقيد للأقوائية، كما التزم بان وحدة التكليف تستفاد من الخارج.
وعلى كل فما ذكره المحقق النائيني في كلتا جهتيه لا يمكننا الالتزام به.
اما تقديم المقيد على المطلق بملاك انه قرينة، فلان الملاك في تقديم
القرينة على ذي القرينة هو نظر القرينة إلى مدلول ذي القرينة وتصرفها فيه،
إذ من الواضح ان الدليل الذي يكون ناظرا يتقدم على ما ينظر إليه بحسب
بناء العقلاء بلا نظر إلى قوة مدلوله أو غير ذلك، بل لا يعد منافيا للدليل الاخر،
وانما يستفيد العرف من المجموع حكما واحدا، ولا فرق في النظر بين أن يكون
بمدلوله المطابقي، كما إذا قال: " أكرم العالم " ثم قال: " أعني به العالم العادل "، أو
كان بالملازمة العقلية كدلالة الاقتضاء نظير: " لا شك لكثير الشك " بالنسبة إلى
أدلة احكام الشك، فإنه لولا نظره إليها كان لغوا، إذ نفي الشك أو اثباته لا
454

اثر له إذا لم يكن بلحاظ ما للشك من آثار.
وبهذا الملاك يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم، لأنه يتكفل بمدلوله
النظر إلى مدلول الدليل الاخر.
وبالجملة: كل دليل يكون ناظرا إلى الاخر ومتكفلا لبيان المراد منه يتقدم
عليه عرفا وبحكم بناء العقلاء، ولا معنى للتوقف في مراد المتكلم بعد تصريحه
بان مرادي كذا. فالملاك في الحقيقة هو النظر إلى الدليل الاخر.
وبذلك يلتزم بتقديم المقيد إذا كان يتكفل الامر الارشادي، لأنه ناظر
إلى المطلق ومبين للمراد منه فيكون حاكما عليه.
وإذا ظهر هذا الامر وعرفت ان ملاك التقديم ليس عنوان القرينية، بل
نظر أحد الدليلين إلى الاخر، فلا وجه للالتزام بتقديم المقيد على المطلق فيما نحن
فيه بملاك القرينية، إذ لا ظهور للدليل المقيد في كونه ناظرا إلى الدليل المطلق،
بل هو دليل مستقل يتكفل حكما مولويا على موضوع خاص كان هناك غيره
أولا، فأي نظر لدليل: " يحرم اكرام النحوي " إلى دليل: " أكرم العالم "، كما لا نظر
لدليل: " أكرم العالم العادل " إلى دليل: " أكرم العالم "، ودليل: " أعتق رقبة مؤمنة "
إلى دليل: " أعتق رقبة "، ولم لا يلتزم بالعكس؟.
ثم إنه لو كان المقيد قرينة على المطلق فلم لا يلتزم بالتقييد في المطلقات
الشمولية، وأي فرق بينها وبين المطلقات البدلية؟ كما لا حاجة إلى سرد البيان
الطويل مقدمة لبيان تقديم المقيد على المطلق. فالتفت ولا تغفل.
فيتحصل: ان ملاك تقديم المقيد على المطلق ليس هو القرينية، بل هو
أمر آخر نحققه فيما بعد انشاء الله تعالى.
واما ان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين، فقد قربه - كما في أجود
التقريرات - بان الامر بالمطلق بما أنه يتعلق بصرف الوجود، فهو ينحل إلى
حكمين، حكم بالالزام بنفس الطبيعة. وحكم بالترخيص في تطبيق الطبيعة على
455

كل فرد من افرادها. ومن الواضح ان الامر بالمقيد يقتضي تعيين المقيد، فيتنافى
مع الحكم الترخيصي في المطلق الراجع إلى ترخيص المكلف في الاتيان بأي فرد
من افراد الطبيعة، لاستلزامه توارد النفي والاثبات على مورد واحد، وهي
الامتثال بغير المقيد، فالاطلاق يجوزه والمقيد ينفيه، فلا يمكن الالتزام بحكمين،
بل بحكم واحد متعلق بالمقيد أو بالمطلق (1).
وهذا الوجه لا ينهض لاثبات غرضه، فإنه واضح الاشكال.
وذلك لان ما ذكره من منافاة وجوب المقيد مع ترخيص تطبيق الطبيعة
على اي فرد من افرادها لا يثبت وحدة التكليف، بل هو متفرع على ثبوت
وحدته، فإنه إذا ثبت ان التكليف واحد امتنع ترخيص الشارع في امتثاله بالاتيان
بأي فرد كان والزامه بالمقيد.
واما إذا كان التكليف متعددا فترخيص الشارع في امتثال أحد التكليفين
بأي فرد من افراد الطبيعة لا يتنافى مع إلزامه في امتثال الاخر بالاتيان بفرد
معين، لعدم توارد النفي والاثبات على موضوع واحد بل موضوعين.
فجعل هذا البيان طريقا لاثبات وحدة التكليف، مع أنه متفرع عليه،
عجيب منه (قدس سره).
هذا مع ما تقدم منا في مبحث كراهة العبادة، من منع ثبوت حكم آخر
للمولى يتكفل الترخيص في تطبيق الطبيعة على جميع افرادها، وان التزم به
(قدس سره) ورتب عليه أثر في ذلك المبحث. فراجع (2).
وقد يدعي في مقام بيان طريقية التنافي المذكور لاثبات وحدة التكليف،
بان التكليف إذا كان متعددا، فمقتضى الدليل المطلق وفاء المقيد بملاك التكليف

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 539 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 316 - الطبعة الأولى.
456

المتعلق بالمطلق، إذ هو لازم الاطلاق، فيكون المقيد وافيا بكلا الملاكين، وعليه
فمع لزوم الاتيان به بمقتضى الدليل الاخر، لا يبقى مجال لبقاء المطلق على
اطلاقه، إذ الالزام بالمقيد يتنافى مع الترخيص في الاتيان بغيره، فلا بد من صرف
الامر المطلق إلى خصوص الخالي عن القيد، ولكن بنحو التخيير، بمعنى لزوم
الاتيان به على تقدير عدم الاتيان بالمقيد، وهذا المعنى تعسف يحتاج إلى مؤونة
زائدة، فتعدد التكليف يلازم ما فيه تعسف.
ويرد هذا التوجيه بوجوه:
الأول: ما عرفته من عدم ثبوت حكم آخر للمولى يتكفل الترخيص،
بل لا حكم له الا بلزوم الطبيعة من دون دخل خصوصية فيها.
الثاني: ان الترخيص في التطبيق ليس ترخيصا فعليا كي يتنافى مع الالزام
بالمقيد، بل هو ترخيص طبعي، بمعنى انه ترخيص في تطبيق الطبيعة على غير
المقيد من جهة امتثال الامر بالطبيعة، فلا ينافيه إلزامه بالمقيد من جهة أخرى.
والثالث: انه لا مانع من الالتزام بلازمه من الوجوب التخييري، وليس
هو تكلفا زائدا بعد كونه مقتضى الدليل، فإذا فرض ان مقتضى تعدد التكليف
- الذي هو ظاهر الدليلين - ذلك فليلتزم به، كجميع موارد دلالة الاقتضاء، فهو
نظير الالتزام بالترتب.
والنتيجة: فما ذكره المحقق النائيني من أن استفادة وحدة التكليف من
نفس الدليلين، لا يمكننا الالتزام به، فالصحيح ما أشار إليه صاحب الكفاية من أنها
تستفاد من دليل خارجي كاجماع ونحوه (1).
ثم إنه لا يخفى انه لا يترتب على تحقيق هذا الامر مزيد اثر عملي، إذ
ليس تشخيص موارد وحدة التكليف مما - لو لم تكن من نفس الدليل - يحتاج

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 251 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
457

إلى مؤونة زائدة في الفحص والسبر، كي يكون اثبات ان وحدة التكليف تستفاد
من نفس الدليلين مما يوفر علينا هذه المؤنة، بل هو امر معلوم في غالب الموارد
الا ما شذ وندر، كيف؟ والكثير من المطلقات والمقيدات واردة في موارد بيان
الشروط والاجزاء (1)، فإنه يعلم وحدة الشرط أو الجزء ويدور امره بين المطلق
والمقيد، ولا يحتمل تعدد الجزء أو الشرط. ثم إنه (قدس سره) ذكر في مقدمة
استفادة وحدة التكليف امرين:
إحداهما: لزوم كون الحكمين مطلقين أو معلقين على أمر واحد، وقد
تعرض فيه إلى ما إذا كان أحد الحكمين مقيدا دون الاخر، وانه هل يحمل المطلق
على المقيد أو لا؟
وما ذكره في هذا الامر (قدس سره) أولا في محله، فان محل البحث فعلا
والقدر المتيقن منه ما إذا اختلف المتعلقان بالاطلاق والتقييد. واما صورة اختلاف
الحكمين في ذلك، فيقع الكلام فيه بعد ذلك، فتعرضه إليه سابقا اخراج عن
الأسلوب الصناعي.
وثانيهما: كون الحكمين الزاميين، فلو كان الحكم المقيد استحبابيا لم يحمل
عليه المطلق. وقد تعرض لذلك في ضمن تنبيهات المبحث وهو أنسب، إذ لا بد
من معرفة ملاك حمل المطلق على المقيد أولا، ثم معرفة جريانه في المستحبات، أو
انه يختص بالواجبات. فتقديم التعرض إلى نفي حمل المطلق على المقيد في
المستحبات خارج عن أسلوب البحث الصناعي أيضا. والأمر سهل.

(1) لا يتوهم: ان هذا خارج عن موضوع البحث، لان أوامر الشروط ارشادية، وذلك لان ما هو خارج
عن موضوع البحث ما إذا كان المقيد ارشادا إلى اخذ القيد في المطلق. وليس الحال كذلك في الفرض،
بل كل من المطلق والمقيد يتكفلان الارشاد إلى اخذ متعلقهما في متعلق الوجوب. فيقع التنافي بينهما.
وليس المقيد ارشاد إلى اخذ القيد في متعلق الدليل المطلق، كي يكون خارجا عن موضوع البحث،
فمثلا ليس ما يدل على وجوب سورة التوحيد ناظرا إلى ما يدل على وجوب مطلق السورة، بل هو
ناظر رأسا إلى دليل وجوب الصلاة، كنفس ما يدل على وجوب مطلق السورة، فيتصادمان في مقام تقييد
الصلاة. فالتفت ولا تغفل (منه عفى عنه).
458

ثم إنه (قدس سره) في مقام بيان حمل المطلق على المقيد، ذكر ان الامر
يدور بين احتمالات ثلاثة - على تقدير عدم التقييد -:
أحدها: حمل المقيد على الاستحباب، وهو يتنافى مع ظهور الصيغة في
الوجوب.
ثانيها: حمله على أنه واجب في واجب، وهو يتنافى مع ظهور كون
الموضوع هو المجموع لا خصوص القيد، مع أن ذلك نادر جدا.
ثالثها: حمله على أنه واجب مستقل، وهو يتنافى مع ظهور الدليلين في
وحدة التكليف. فيتعين التقييد للقرينية.
ولا يخفى انه (قدس سره) وان أطال في بيان ذلك، لكنه لا يختلف عن
صاحب الكفاية الا في الامرين اللذين عرفتهما - أعني: التقديم بالقرينية. وكون
وحدة التكليف مستفادة من نفس الدليلين -. فالتفت والامر هين. هذا كله فيما
يرتبط بما افاده المحقق النائيني، فقد عرفت الخدشة فيه بجهاته.
واما صاحب الكفاية، فقد ذكر في وجه الجمع وحمل المطلق على المقيد -
بعد أن تعرض لما قيل من أن في الحمل جمعا بين الدليلين، وللايراد عليه: بان في
حمل المقيد على الاستحباب جمعا بينهما أيضا، ولما استشكل في الايراد من أن
التقييد ليس تصرفا في المطلق بخلاف الحمل على الاستحباب ولايراده على هذا
الاشكال بان التقييد تصرف في المطلق لانعقاد ظهوره - ذكر بعد كل هذا
مفصلا، بان الامر يدور بين ظهور الصيغة - في الدليل المقيد - في الايجاب
التعييني، وظهور المطلق في الاطلاق، لان الاطلاق يتنافى مع تعيين وجوب المقيد،
بل يتلائم مع التخيير بينه وبين غيره، بما أن ظهور الصيغة في الايجاب التعييني
459

أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق يقدم عليه (1).
وفيه:
أولا: ان ظهور الصيغة في الوجوب التعييني ليس ظهورا وضعيا، بل هو
ظهور اطلاقي أيضا، كما مر تقريبه فيما سبق، فقد تقدم ان الوجوب التعييني
مقتضى الاطلاق.
وعليه، فيدور الامر بين الاطلاقين ولا ترجيح لأحدهما على الاخر، وما
هو الوجه في أقوائية أحدهما على غيره.
وثانيا: ان هذا الوجه لو تم فهو يقرب حمل المطلق على المقيد في
المتوافقين.
اما في المختلفين سلبا وايجابا فلا يتأتى هذا الوجه، وموضوع هذا الوجه
وان كان هو المتوافقين الا انه كان ينبغي عليه انه كان ينبغي عليه ان يتعرض لما به يقدم المقيد على
المطلق في جميع الموارد. فالتفت.
والذي يتعين ان يقال في المقام هو: ان المقيد إذا كان واردا قبل انتهاء
زمان البيان كان مقدما على المطلق، كما لو كان من عادة المتكلم بيان مرامه
الواقعي في زمان محدود، فورد المقيد قبل انتهائه، وإذا كان واردا بعد انتهاء زمان
البيان كان معارضا للمطلق.
اما تقديمه على المطلق لو كان واردا قبل انتهاء وقت البيان، فبيان وجهه:
انك عرفت أن في الاطلاق مسالك ثلاثة:
الأول: ما سلكه الشيخ (رحمه الله) من اجراء مقدمات الحكمة في المراد
الواقعي بحيث يكون ورود المقيد مخلا بالاطلاق (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 250 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 218 - الطبعة الأولى.
460

الثاني: ما سلكه المحقق الخراساني (رحمه الله) من جريان المقدمات في
المراد الاستعمالي (1).
الثالث: ما سلكناه من أن الاطلاق نتيجة الظهور السياقي لا مقدمات
الحكمة.
اما على مسلك الشيخ: فتقدم المقيد واضح جدا، فان المتكلم إذا كان من
عادته بيان مرامه الواقعي بكلام متعدد وفي مدة ممتدة، فلا يكون لكلامه الأول
ظهور في شئ ولا يمكن البناء على أن مراده كذا من أول الامر، بل تشخيص
مراده وثبوت انه المطلق انما يكون فيما مضت تلك المدة ولم يرد دليل يدل على أن
مراده الواقعي هو غيره. وعليه فإذا ورد المقيد في الأثناء لم يكن مصادما
للمطلق لعدم انعقاد ظهور له في شئ، بل ينعقد الظهور في المقيد، فحال المقيد
المنفصل على هذا المسلك حال المقيد المتصل في اخلاله بأصل الظهور الاطلاقي
وعدم تصادم المقيد مع المطلق.
واما على المسلكين الآخرين: فقد يغمض تقديم المقيد، لان الكلام الأول
انعقد له ظهور في الاطلاق، فيكون المقيد مصادما لظهوره.
ولكن نقول: انه إذا كان من عادة المتكلم بيان مرامه الواقعي بكلام
متعدد، فلا يكون كلامه الأول - وان انعقد ظهور - حجة على مرامه الواقعي عند
العقلاء، بل انما يكون حجة فيما هو ظاهر فيه إذا مضت مدة البيان ولم يرد منه ما يدل
على أنه مراده الواقعي مقيد - وبهذا الملاك يتوقف عن العمل بالعام قبل الفحص
عن المخصص، لأنه في معرض التخصيص، فلا يكون حجة عند العقلاء -.
وعليه، فإذا ورد الدليل المقيد المصادم للمطلق في ظهوره يتقدم على
المطلق، لعدم حجية المطلق في مدلوله قبل انتهاء زمان البيان، بل يكون العمل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
461

به مراعي بعدم ورود ما يدل على تقييد المراد، والا كشف عن عدم وروده مورد
بيان الواقع، فلا يكون حجة، نظير المطلق المعلوم صدوره بداعي الهزل.
وبالجملة: لا يكون المطلق حجة فيما هو ظاهر فيه ما لم يحرز انه في مقام
بيان مرامه الواقعي به، ولذا لا يكون الكلام الصادر لا بداعي الجد حجة في
مدلوله، فان الكلام الذي لا يقصد به المتكلم الكشف عن المراد الواقعي لا
يكون ظهوره حجة في مراده، بل لا بد من صدور الكلام بقصد الكشف عن
المراد الواقعي، وهذا المعنى غير محرز ما دام ان عادة المتكلم بيان مراده ببيان
متعدد، فإذا ورد في الأثناء ما يدل على أن مراده الواقعي مقيد، لم يكن المطلق
حجة لكشفه عن عدم وروده مورد بيان الواقع، فليس تقديم المقيد من باب انه
أقوى من المطلق أو من باب انه ناظر إليه، بل من جهة كشفه عن اختلال شرط
الحجية في المطلق، وهو وروده مورد البيان للواقع.
ولا يرجع تقديم المقيد إلى كونه مبينا للمراد الواقعي من المطلق كي
يكون ناظرا إليه، بل إلى بيانه مراد المتكلم في نفسه الملازم لكشفه عن عدم ورود
المطلق في مورد البيان. وبهذا البيان يقدم على المطلق من دون ملاحظة قوة
دلالته، إذ لا يرتبط بها كما لا يخفى. فيكون حال المقيد المنفصل بالنسبة إلى
حجية المطلق كحال المقيد المتصل بالنسبة إلى أصل الظهور.
واما إذا ورد المقيد بعد انتهاء وقت البيان، لم يتأتى الوجه المزبور لانعقاد
ظهور للمطلق في الاطلاق وحجيته فيه في نفسه على جميع المسالك، فيتنافى مع
المقيد ويقع التصادم بينهما في مقام الحجية. ولا وجه لتقديم المقيد على المطلق الا
من باب انه أقوى الدليلين، في مورد يكون ظهوره أقوى من ظهور المطلق، إذ
قد يشكك في ذلك في بعض الموارد، ولكن قاعدة تقديم أقوى الدليلين غير
مسلمة، وتحقيق ذلك في مسألة التعارض الآتية انشاء الله تعالى.
وإذا عرفت هذا الامر - وقد أشرنا إليه قبل قليل - أشكل الامر في تقديم
462

المقيدات الواردة في لسان الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) على المطلقات
بقول مطلق.
لما عرفت من أن لورود المطلق صورا ثلاث:
فتارة: يكون المطلق واردا في بيان الحكم لمن يريد العمل ولا يتشرف
بخدمة الإمام (ع) ولا أحد الرواة، كما إذا كان من البلاد البعيدة فسأل الامام
وهو على وشك السفر.
وأخرى: يكون المطلق واردا لبيان الحكم فقط، كما إذا كان السائل من
رواة الحديث.
وهذا على نحوين: لان المقيد تارة يرد في كلام نفس الامام الصادر منه
المطلق. وأخرى: في كلام من يلحقه منهم (ع).
ففي الصورة الأولى لا يمكن الالتزام بان العادة على تأخير بيان الحكم
الواقعي إلى وقت آخر، فإذا ورد دليل مقيد والحال هذه كان مصادما للمطلق ولم
يقدم عليه.
وهكذا الحال في الصورة الثالثة، إذ ليس من العادة تأخير بيان الحكم
الذي يريد أن يعرفه وينقله مثل زرارة الذي هو من أصحاب الصادق (ع) إلى
زمان الإمام العسكري (ع).
نعم في الصورة الثانية، يمكن الالتزام بان العادة جارية على بيان الحكم
الواقعي في مجالس متعددة.
وعليه، فلا بد من التأمل في المطلق والمقيد الواردين بأنهما من أي الانحاء،
فيحكم بالتقديم إذا كان من قبيل الصورة الثانية. وبالتوقف إذا كان من قبيل
الصورتين الأولى والثالثة، ولعله لاجل ذلك نرى بعض الفقهاء يتوقفون من
تقييد المطلق بالمقيد، بدعوى أنه وارد مورد البيان.
ولا ينحل الاشكال في الصورة الثالثة، الا بالالتزام بان الأئمة (ع) حين
463

يبينون الحكم يبينونه بعنوان النقل والرواية عن النبي (ص) - غاية الامر انهم
لا تشملهم أدلة حجية الخبر للقطع بصدقهم -، إذ على هذا الفرض لا يكون
ورود المقيد متأخرا عن وقت البيان، لصدوره من الأول، نعم الاطلاع على
صدوره يكون متأخرا عن وقت الحاجة، وهو لا يضير في تقديمه على المطلق بعد
صدوره من السابق، فإنه يكفي في عدم تأخره عن وقت البيان بيانه ولو للامام
اللاحق، ولا يلزم بيانه لخصوص السائل، إذ ليس المقام مقام عمل، بل مقام
معرفة الحكم وبيانه، وقد بينه بقيده. نعم لو أراد أن يعمل لم يكن له حق التمسك
بالاطلاق ما لم يسأل كل من يحتمل صدور القيد إليه. ومن هنا ظهر انه لا تنحل
ذلك مشكلة تأخير القيد في الصورة الأولى، لان المفروض كون السائل في مقام
العمل، وتأخير بيان القيد له لا معنى له. وبالجملة: لا يتصور وجه لصحة تأخير
بيان القيد في الصورة الأولى أصلا.
واما إذا قلنا بأنهم يبينون الحكم بعنوان الاستنباط من الكتاب والسنة
والاطلاع على حكم الله تعالى، لكنهم ليسوا كسائر المجتهدين باعتبار ان
استنباطهم يطابق الواقع ولا يشوبه الخطأ بناء على هذا، كان الاشكال متوجها،
لان مقتضى الدليل المطلق ان الحكم الإلهي هو المطلق، ومقتضى الدليل المقيد
ان الحكم هو المقيد، فيتصادمان كسائر موارد التعارض.
ولا يرتفع التعارض الا بالالتزام بان المطلق لم يرد لبيان المراد الواقعي
للمولى ولم يقصد به الكشف عن الواقع، ولكنه مشكل، إذ بعد فرض كون
السؤال عن الواقع لاجل العمل أو الاطلاع عليه، لا معنى لا يقال ان الإمام (ع)
ليس بصدد بيان الواقع في جوابه، فالتفت وافهم وتدبر في أطراف ما ذكرناه
فإنه بالتدبر حقيق ومن الله سبحانه نستمد التوفيق.
ثم انك قد عرفت في كلامنا مع المحقق النائيني: ان موضوع البحث مورد
اختلاف المتعلق في الاطلاق والتقييد، ومورد كون كلا الحكمين الزاميين.
464

اما صورة اختلاف نفس الحكمين بالاطلاق والتقييد، وكذا مورد كون
الحكمين استحبابين. فالكلام فيه بعد ذلك.
وبما أنه انتهى الكلام عن موضوع البحث، فلا بد من التعرض لهاتين
الجهتين - بعد فرض الالتزام بحمل المطلق على المقيد فيما تقدم -.
وعليه، فيقع الكلام في امرين:
الامر الأول: ما إذا كان الحكم في أحد الدليلين مطلقا والاخر مقيدا، كما
إذا قال: " أعتق رقبة " ثم قال: " ان ظاهرت فأعتق رقبة "، فهل يحمل الحكم
المطلق على المقيد أو لا؟.
والتحقيق: انه حيث عرفت أن أساس حمل المطلق على المقيد هو العلم
بوحدة التكليف الموجبة لوقوع التنافي بين الدليلين. وعرفت أيضا ان طريق
العلم بوحدته من الخارج من اجماع ونحوه. فلا مجال ههنا لحمل المطلق على
المقيد من الحكمين، لعدم دليل على وحدة التكليف فيهما، بل الدليل على خلافه،
فان ظاهر الدليلين تعدده، إذ ظاهر المطلق - في المثال - ان الوجوب ثابت مطلقا
حصل الظهار أم لم يحصل، وظاهر المقيد ان الوجوب المنشأ به لا يتحقق إلا عند
حصول الظهار، وهذا ظاهر في تغاير الحكمين، فلا مجال للحمل الا في مورد تقوم
قرينة خارجية قطعية على أن التكليف واحد فتدبر.
هذا بناء على ما سلكناه في طريق استفادة وحدة التكليف.
واما بناء على ما سلكه المحقق النائيني من أن طريق استفادة وحدة
التكليف نفس الدليلين، باعتبار ان ترخيص تطبيق الطبيعة في مقام الامتثال به
الذي هو مقتضى الدليل المقيد لأنه يلتزم بالمقيد.
بناء على هذا المسلك يشكل الامر، باعتبار ان هذا البيان يتأتى بواقعه
فيما نحن فيه، إذ يقال: ان الدليل المتكفل للحكم المطلق يقتضي الالتزام بالعتق،
465

ولو لم يتحقق القيد كالظهار. والدليل المتكفل للحكم المقيد ينفي الالزام به قبل
تحقق الظهار. فيتحقق التنافي الموجب للقول بوحدة التكليف المستلزمة للحمل
والتقييد.
وليس له ان يتخلص عن هذه المشكلة، بان التنافي فرع العلم بوحدة
التكليف، والا فمع فرض تعددهما لا تنافي بين الدليلين، لان ما يثبت حكما في
صورة عدم القيد لا يتنافى مع ما ينفي حكما آخر في هذه الصورة.
فان هذا البيان هو ما ذكرناه ردا على ما ذكره سابقا، من أن استفادة
وحدة التكليف بنفس الدليلين، فلو التزم به ههنا الزم به هناك.
ولا فرق فيما ذكرناه من أن لازم ما افاده حمل المطلق على المقيد من
الحكمين، بين أن يكون متعلقهما متحدا كالمثال المتقدم، وبين أن يكون مختلفا
بالاطلاق والتقييد، كما إذا قال: " أعتق رقبة مؤمنة " ثم قال: " ان ظاهرت فأعتق
رقبة ".
ولكنه (قدس سره) التزم بالحمل في الصورة الأولى دون الثانية، بدعوى أن
حمل المطلق من الحكمين على المقيد يتوقف على وحدة المتعلق، ووحدة المتعلق
تتوقف على وحدة الحكمين، فيكون حمل المطلق على المقيد في الفرض مستلزما
للدور (1).
وهذه الدعوى غير صحيحة، لأنه (قدس سره) التزم بأنه إذا قام ما يدل
على وحدة التكليف صح حمل المطلق على المقيد في المتعلق، وهذا يعني منه انه لا
يمكننا فرض وحدة المتعلق ولا تعدده قبل ملاحظة التكليف في حد نفسه ومع
قطع النظر عن المتعلق، وقد عرفت قيام البرهان على وحدته بالبيان الذي سلكه
(قدس سره)، ولا معنى لربط استفادة وحدة التكليف بوحدة المتعلق، إذ بعد أن

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 537 - الطبعة الأولى.
466

كانت وحدته وتعدده ترتبط بوحدة التكليف وتعدده، إذ لا ظهور للكلام في تعدد
المتعلق ما لم يلحظ الحكم ودلالته عليه، والا لجرى بيان الدور في صورة اطلاق
الحكمين المطلق والمقيد، الذي كان موضوع الكلام، فيقال: ان العلم بوحدة
المتعلق تتوقف على وحدة التكليف لاحتمال تعدده، وهي تتوقف على وحدة
المتعلق. فتدبر.
ومنه ظهر انه لا وجه لما ذكره (قدس سره) في مقام عدم حمل أحد
الحكمين على الاخر في هذه الصورة، من أن انتفاء القيد لا يستلزم بمقتضى دليله
الا انتفاء شخص الحكم الثابت لا طبيعي الحكم، فمن الممكن ثبوت فرد آخر
في غير مورد القيد، لأنه يلازم القول بعدم الحمل في الصورة الأولى. فتدبر.
الامر الثاني: ماذا كان الدليلان يتكفلان حكمين ندبيين، أحدهما متعلق
بالمطلق. والاخر متعلق بالمقيد. كما إذا ورد: " يستحب زيارة الحسين (ع) " وورد:
" يستحب زيارته (ع) مع الغسل ".
والتحقيق: انه لا وجه لحمل المطلق على المقيد، إذ أساسه على ما عرفت
ثبوت وحدة التكليف، وطريقها الدليل الخارجي، وهو غير موجود في باب
المستحبات لتعارف اختلاف الافراد من حيث مراتب الاستحباب، فلا طريق
إلى احراز وحدة التكليف، بل يحمل المقيد على كونه أفضل الافراد.
نعم على مسلك المحقق النائيني في طريق استفادة وحدة التكليف لا بد من
الالتزام بحمل المطلق على المقيد، لان ما ذكره في وجه عدم الحمل من: ان
الدليل المقيد يتكفل الترخيص في الترك وجواز الامتثال بغيره فلا ينافي ما يدل
على استحباب الكل (1). غير تام، إذ الدليل المقيد يقتضي عدم جواز امتثال
الحكم الاستحبابي بغير المقيد، لفرض انه ظاهر في دخالة القيد فيه فينافي ما دل

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 539 - الطبعة الأولى.
467

على جواز الامتثال بأي فرد ولو كان غير المقيد.
فما ذكره (قدس سره) ناش عن البناء على أن عدم جواز الامتثال بغير
المقيد من شؤون الحكم الوجوبي، فلا يثبت في مورد الاستحباب فلا يتحقق
التنافي. ولكنه غفلة عن انه لازم أعم للحكم الوجوبي والاستحبابي، لأنه فرع
أخذ القيد في متعلق الحكم اي حكم كان.
ولذا لو لم يكن في مورد الاستحباب غير المقيد لم يلتزم بجواز الاتيان
بغيره امتثالا للحكم، والترخيص في الترك الذي هو لازم الاستحباب غير جواز
امتثال الحكم الاستحبابي بغير المقيد. فان الترخيص في الترك يرجع إلى جواز
عدم الامتثال لا جواز الامتثال بفرد آخر فالتفت.
وبالجملة: النفي والاثبات في مورد المستحبين يردان على موضوع واحد،
فيتعين حمل المطلق على المقيد بناء على الالتزام بهذا البيان. فتدبر جيدا.
هذا كله في ما إذا كان المطلق بدليا.
واما إذا كان شموليا، كما إذا قال: " أكرم العالم " ثم قال: " أكرم العالم
الفقيه " فهل يحمل المطلق على المقيد أولا يحمل؟.
وقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى عدم التقييد وبقاء المطلق على
اطلاقه، باعتبار ان أساس الحمل في مورد الاطلاق البدلي هو تعلق الحكمين
بصرف الوجود المستلزم للتنافي فيستكشف وحدة التكليف، وهو غير ثابت في
مورد الاطلاق الشمولي، لعدم تعلق الحكم بصرف الوجود كي تستكشف وحدة
الحكم، بل الحكم متعلق بكل فرد فرد فلا طريق لاستكشاف وحدة التكليف
التي هي أساس حمل المطلق على المقيد (1).
أقول: عدم تأتي الوجه السابق لاختلاف الموضوع لا يلازم عدم الدليل

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 541 - الطبعة الأولى.
468

على وحدة التكليف، بل وحدة التكليف في مورد الاطلاق الشمولي مما يلتزم بها
كل أحد، إذ لا يلتزم أحد ان هناك حكمين في مورد العالم العادل أو الفقيه، بل
ليس هناك الا حكم واحد. ومن ذلك ما ستعرفه في ذيل الكلام.
وعليه، فيشكل الامر باعتبار ان القيد ظاهر في الاحترازية، فهو يظهر
في دخالة القيد في الحكم ولازمه انتفاء الحكم عن غير مورد القيد.
فالتحقيق في وجه عدم التقييد هو: ان الحكم الوارد على المقيد لا ظهور
في كونه حكما تأسيسيا جديدا، بل هو حكم مؤكد للحكم الثابت بالمطلق، بمعنى
ان الدليل المقيد يتكفل انشاء نفس الحكم السابق، غاية الامر انه على بعض
الافراد، فهو من توابعه، وإذا كان كذلك فلا ظهور حينئذ للقيد في كونه
احترازيا، لان الحكم الثابت بالدليل الاخر ثابت لمطلق الافراد، بل يلغو ظهوره
في ذلك ويحمل على ذكره من باب انه أظهر الافراد أو أفضلها، لأنه بيان للحكم
السابق، لا انه حكم جديد، المفروض ان الحكم السابق ثابت لمطلق الافراد.
اما انه لا ظهور له في التأسيس، بل هو حكم تأكيدي، فيظهر مما تقدم
في أواخر مبحث الأوامر من أن الامرين إذا تعلقا بشئ واحد يدور الامر بين
المحافظة على ظهور كل منهما في التأسيس والتصرف في المتعلق بتقييده بمثل
مرة أخرى. أو المحافظة على ظهور المتعلق والتصرف في ظهور الامر في
التأسيس بحمله على التأكيد، وقد عرفت أنه بذلك يسقط ظهور الامر في
التأسيس، وهذا هو الطريق في الالتزام بعدم تعدد الحكم ههنا الذي عرفت أنه
من المسلمات. فراجع تعرف.
تذييل: ذكر في الكفاية ان قضية مقدمات الحكمة تختلف بحسب اختلاف
المقامات، فلا تلازم ثبوت الاستغراق دائما، بل هي تتكفل بيان ان المراد هو ذات
الطبيعة بلا تقييد، فقد تقوم القرينة بحسب المقام على أن الحكم ملحوظ بنحو
الاستغراق. وقد تقوم على إرادة العموم البدلي. كما قد تقوم على إرادة خصوص
469

فرد من الطبيعة المطلقة.
ومثل للأول بقوله تعالى: (أحل الله البيع)، فان المراد به هو مطلق افراد
البيع، وذلك لان إرادة البيع مهملا أو مجملا خلف فرض كون المتكلم في مقام
البيان، وإرادة العموم البدلي لا تناسب المقام، فإنه لا معنى لإرادة تحليل أحد
البيوع، كما لا معنى لإرادة بيع اختاره المكلف، مع أنه يحتاج إلى نصب دلالة،
إذ لا يفي الاطلاق به بدونها، فيتعين ان يراد به الاطلاق الشمولي.
ومثل للثاني بمتعلقات الأوامر، لان العموم الاستيعابي لا يمكن ارادته،
إذ لا يعقل إرادة جميع افراد الصلاة - في مثل صل -، وإرادة غير العموم البدلي
وان كانت ممكنة، الا انها منافية للحكمة وفرض كون المتكلم بصدد البيان.
ومثل للثالث: باطلاق صيغة الامر المقتضي للوجوب التعييني العيني
النفسي، لان إرادة ما يقابلها تحتاج إلى بيان، وإرادة جميع الافراد لا معنى له،
فيتعين حمل الاطلاق على التعييني العيني النفسي (1).
أقول: ما ذكره (قدس سره) من أن الاطلاق ومقدمات الحكمة انما
تتكفل اثبات ملاحظة الطبيعة بنحو السريان، وعدم دخل القيد فيها فحسب.
واما استفادة الاستغراق أو البدلية أو غيرهما فهي ترتبط بقرائن المقام وجيه لا
كلام لنا فيه.
وانما الاشكال في كلامه في موردين:
أحدهما: ما قرب فيه حمل الاطلاق في متعلقات الاحكام على البدلي
لامتناع إرادة الاستيعابي.
فإنه غير واضح، إذ امتناع إرادة الاستيعابي لا بد وأن يكون منشأه عدم
القدرة على جميع الافراد، وهذا غير مانع لوضوح تقيد المتعلق بالقدرة عقلا،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 252 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
470

فالمطلوب هو جميع الافراد المقدورة - بناء على الاستيعاب - وهو مما لا امتناع
فيه.
فالوجه الصحيح في نفي الاستيعاب هو: ما أشرنا إليه في أول مباحث
النواهي من أن الغالب في موارد الامر حصول الغرض بوجود واحد من
وجوداته، في قبال النهي الذي يكون الغالب فيه ثبوت المفسدة في جميع افراده.
وهذه الغلبة توجب ظهور الكلام في كون متعلق الامر صرف وجود
الطبيعة، وهو ينطبق على أول وجود منها ناقض للعدم فيتحقق الامتثال به.
وثانيهما: ما ذكره في مقام التمثيل لما كان مقتضى الاطلاق إرادة خصوص
فرد، من أن مقتضى الاطلاق في صيغة الامر هو إرادة خصوص فرد معين منه.
فإنه غير واضح أيضا، لما عرفت من أن مجري مقدمات الحكمة انما هو
المادة والمتعلق، وهو يلازم ثبوت خصوص الوجوب التعييني وأخويه، فلم يرد فرد
خاص من المطلق وما هو مجري المقدمات، بل أريد به الاستيعاب من تلك الجهة،
وانما هي تلازم إرادة فرد خاص من غيره وهو الوجوب، لان مجري المقدمات
ليس هو الوجوب بل المتعلق.
نعم بناء على جريانها في خصوص الوجوب - الذي عرفت فيما تقدم
امتناعه - بدعوى أن خصوصية التعيين لا تحتاج إلى بيان بخلاف ما يقابلها،
فعدم البيان يقتضي حمل اللفظ المطلق عليه بعد دورانه بين الفردين - كما تقدمت
هذه الدعوى من المحقق الأصفهاني (1) -.
بناء على هذا البيان يصح التمثيل، بهذا المورد لما كان مقتضى الاطلاق
فيه إرادة أحد الافراد.
فالتفت ولا تغفل والحمد لله أولا واخرا.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 141 الطبعة الأولى.
471

تم مبحث المطلق والمقيد يوم الاثنين 25 ربيع الثاني سنة 1388 ومن الله
نستمد التوفيق (1). ويقع الكلام بعده في مباحث القطع.
* * *

(1) أهمل السيد الأستاذ - دام ظله - بحث المجمل والمبين لعدم أهميته. (منه عفى عنه).
472