الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٧
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء السابع
1

اسم الكتاب: منتقى الأصول ج 7
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الأولى 1418 ه‍
الكمية: 4000 نسخة
السعر: 7000 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

قاعدة اليد
5

قاعدة اليد
لا اشكال في تقدم القاعدة المذكورة على الاستصحاب وإن لم تكن من
الامارات بل كانت من الأصول، لأنها واردة في موارده غالبا فيلزم من تخصيص
دليل الاستصحاب لدليلها عدم بقاء مورد لها إلا نادرا فيوجب ذلك لغوية
اعتبارها كقاعدة كلية كما لا يخفى.
ثم إنه لا أهمية في البحث عما يتعلق بلفظ " اليد " من كونه لفظا حقيقيا
كنائيا أو غير ذلك، بعد معرفة المراد منها وهو الاستيلاء الخارجي كما لا أهمية في
الكلام في كون مسألة اليد مسألة أصولية أو فقهية.
وأنما يقع المهم من الكلام فيها في جهات:
الجهة الأولى: في حجية اليد على الملكية.
وهي من المسلمات في الجملة لدى الأعلام واستدل لها ببناء العقلاء والسنة.
7

اما السنة فهي روايات أربع:
الأولى: موثقة حفص بن غياث التي فيها: " أرأيت إذا رأيت شيئا في يد
رجل أيجوز لي ان اشهد أنه له؟. قال (عليه السلام): نعم. فقال الرجل: اشهد أنه في
يده ولا اشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أفيحل الشراء
منه؟. قال: نعم. فقال (عليه السلام): فلعله لغيره، فمن أين جاز لك ان تشتريه
ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز ان تنسبه إلى من
صار ملكه من قبله إليك. ثم قال (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين
سوق " (1).
ووجه الاستدلال بها: انه (عليه السلام) أجاز الشهادة على الملك باعتبار ان
الشئ المشهود به في يد المشهود له، كما أجاز الشراء بهذا الاعتبار.
يؤكده استفهام الإمام (عليه السلام) التقريري للسائل ونقضه عليه حين
توقف من أداء الشهادة على أنه له، فإنه يدل على أن هذا الامر من الارتكازيات
العقلائية التي لا تقبل الانكار، ولذلك اقتنع السائل بنقض الإمام (عليه السلام).
ولكن التحقيق عدم دلالة الرواية المذكورة على حجية اليد على ملكية المال
الذي يكون باليد، وذلك لان جواز الشراء والحكم بملكية المشترى للمبيع لا
يتوقف على كون البائع مالكا للمبيع، بل يكفي فيه كونه مالكا للتصرف فيه. وعليه
فما ذكره الإمام (عليه السلام) نقضا على السائل في توقفه من جواز الشراء من ذي
اليد لا يدل على جواز الشهادة على الملكية باعتبار اليد، إذ لا ملازمة بين جواز
الشراء وجواز الشهادة على الملك. نعم، بينه وبين جواز الشهادة على ملك
التصرف ملازمة. فمن اقتناع السائل بالنقض يستكشف ان المسؤول عنه هو جواز
الشهادة على ملك التصرف، وان المال له تصرفا وولاية أعم من أن يكون مملوكا

(1) وسائل الشيعة: 18 / 215 باب: 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
8

له أو لا يكون. والا لم يقتنع السائل إذ لا ملازمة كما عرفت.
فالرواية - بمقتضى ظاهر النقض واقتناع السائل به - لا تدل الا على جواز
الشهادة على ملكية التصرف لا ملكية نفس المال.
وهذا وان كان خلاف ظاهر التعبير ب‍ " اشهد أنه له " بدوا، إذ ظاهره كونه
الشهادة بالملكية، الا انه كثيرا ما يقع استعمال مثل هذا التعبير فيما يشابه ما ذكرناه
في لسان أهل العرف، كما لا يخفى على الملتفت إلى موارد الاستعمال.
ويدل عليه قوله (عليه السلام) في النقض: " ثم تقول بعد الملك هو لي "، فإنه
ظاهر في أن: " هو لي " وشبهه ليس مفاده بيان الملكية، بل ما يترتب عليها من
ولاية التصرف، فيدل على أن الكلام بين الامام والسائل دائر حول الشهادة بولاية
التصرف لا الملكية، وإلا لكان الأنسب أن يقول " ثم تقول بعد الشراء هو لي " لا
بعد الملك، فالتفت.
واما التزام ان المفروض كون الدوران في المورد المسؤول عنه بين يد الملك
ويد الغصب، بحيث إذا انتفى احتمال الغصبية يعلم بأنها يد ملك لا ولاية - مثلا -
وحينئذ فتكون هناك ملازمة بين جواز الشراء وبين جواز الشهادة، لان الشراء انما
يكون باعتبار الحكم بالملكية لليد، وهو يلازم جواز الشهادة.
فهو مما لا شاهد عليه في الرواية، لان المسؤول عنه قضية حقيقية مطلقة قد
يتفق وقوعها للسائل بلا تقييد لها بنحو خاص.
ولو سلم ذلك. فلا يدل على المدعى أيضا، بعد البناء على أن جواز الشراء
انما يستند إلى ملكية التصرف بالمال لا ملكية نفس المال. فان اليد حينئذ انما تدل
على الملكية في خصوص المورد باعتبار العلم بالملازمة بين ملكية التصرف وملكية
المال، لان المفروض ان الدوران بين الملكية والغصبية، فإذا جاز التصرف فقد انتفى
احتمال الغصب فيثبت احتمال الملكية، فاليد إذا دلت على ملكية التصرف بالمال - كما
هو ظاهر النقض - فقد دلت بالملازمة على ملكية المال لذي اليد، فجواز الشهادة
9

بالملكية - الذي يدعى استظهاره من السؤال والجواب في الرواية، وان ناقشنا فيه
واستظهرنا كون السؤال عن الشهادة بملكية التصرف بقرينة النقض وقناعة السائل
به - يختص بالمورد باعتبار الملازمة الاتفاقية المذكورة، فمع ثبوت ملكية التصرف
وجواز الشهادة عليها بلحاظ اليد تثبت ملكية نفس المال فتجوز الشهادة عليها.
وبالجملة: فدلالة اليد على الملكية في المورد باعتبار الملازمة، غير دلالتها
على الملكية مطلقا ومطابقة كما هو المدعى.
وعلى هذا، فلا دلالة للرواية المذكورة على حجية اليد على الملكية.
الثانية: ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث فدك حيث قال (عليه
السلام) لابي بكر: " أتحكم فينا بخلاف حكم الله؟ قال: لا. قال (عليه السلام): فإن كان
في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت انا فيه، من تسأل البينة؟. قال: إياك كنت
أسأل البينة على ما تدعيه. قال (عليه السلام): فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه
المسلمون تسألني البينة على ما في يدي... " (1) الخبر.
وتقريب الاستدلال بها: ان الإمام (عليه السلام) جعل نفسه منكرا ومدعى
عليه بما أنه ذو يد، وجعل ابا بكر مدعيا باعتبار مخالفة قوله للحجة - فاستنكر على أبي
بكر مطالبته له بالبينة - ولا حجة في المقام سوى اليد، والدعوى المفروضة هي
الملكية، فاليد حجة عليها.
ولكن الانصاف عدم دلالة الرواية على المدعى، لان المعنى العرفي للمدعي
والذي عليه المشهور هو: " من لو ترك ترك "، والخلاف بين الإمام (عليه السلام)
وأبى بكر انما هو في تطبيق حكم من أحكام القضاء، وهو مطالبة المدعي بالبينة
دون المدعى عليه، واستنكار الإمام (عليه السلام) على أبي بكر انما هو في مطالبته
بالبينة، لأنه ليس مدعيا، بل مدعى عليه، لأنه ذو يد ومقتضى اليد صيرورته

(1) وسائل الشيعة: 18 / 215 باب: 25 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.
10

مدعى عليه وصيرورة أبى بكر مدعيا فعليه البينة، لأنه بترك أبى بكر الدعوى
يجرى كل امر على ما كان عليه ويستمر على حاله السابق. فاحتجاج الإمام (عليه السلام)
لنفى وجوب البينة عليه بأنه ذو يد لا يدل على كون اليد حجة، بل
لصيرورة ذيها مدعى عليه. ولا يلزم أن يكون للمدعى عليه حجة كي يقال إنها
ههنا منحصرة في اليد فتكون حجة على الملكية.
نعم، لو قيل بان المدعى هو من خالف قوله الحجة تم الاستدلال بالرواية،
لكنك عرفت أن المشهور على تفسيره بغير ذلك.
الثالثة: رواية حمزة بن حمران: " أدخل السوق فأريد ان اشترى جارية تقول
انى حرة. فقال (عليه السلام): اشترها الا ان تكون لها بينة " (1).
ووجه الاستدلال بها: انه (عليه السلام) أجاز شراء الجارية مع ادعائها
الحرية الا ان تقوم البينة على حريتها، فلا بد ان يستند الشراء إلى حجة وهي اليد لا
سبب آخر كالبينة، لأنه لو كان مصحح الشراء هو قيام البينة على المملوكية لما اتجه
الحكم بعدم جواز الشراء عند قيام البينة على الحرية، لأنها معارضة بالبينة القائمة
على الرقية، فلا بد ان تكون هي اليد - لأنها لا تعارض البينة - فتكون حجة على
الملكية.
والتحقيق: عدم سلامة الاستدلال بها من الاشكال، لان ظاهر المورد هو
سبق الرقية على الجارية - لامتياز الجواري في ذلك الزمان عن غيرهن - فترجع
دعواها للحرية حينئذ إلى دعوى انقلابها عن الرقية إلى الحرية، ومقتضى
الاستصحاب - مع عدم البينة - بقاء الرقية، فلعل الحكم بجواز الشراء مستند إلى
الاستصحاب وهو مورود للبينة - كما لا يخفى -
ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم ظهور المورد في سبق الرقية لعدم الامتياز، بل
* (1) وسائل الشيعة: 13 / 31 باب: 5 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 2. (*)
11

الظاهر دعواها الحرية مطلقا وعدم الرقية أصلا. فلا ظهور للرواية في استناد جواز
الشراء إلى اليد، إذ لم يفرض سائل معين يدعي الملكية وله يد على الجارية، بل قد
يكون البائع مجهول الحال، بل لا يدعي الملكية بل يدعى عدمها - كما لا يخفى على
من لاحظ أسواق بيع الجواري، فان البائع غالبا لا يكون المالك - ولكنه في نفس
الوقت يدعى المسوغ الشرعي لبيع هذه الجارية، فقد يكون جواز الشراء مستندا
إلى أصالة الصحة في عمل الغير وهي الحجة التي تسوغ الشراء، وترتفع بالبينة. فلا
دليل على إناطة الشراء باليد كي يكون الحكم بحجيتها حكما بملكية ذي اليد
للجارية.
الرابعة: موثقة يونس بن يعقوب: " عن أبي عبد الله (عليه السلام) في امرأة
تموت قبل الرجل أو رجل قبل المراة. قال: ما كان من متاع النساء فهو للمراة، وما
كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما. ومن استولى على شئ منه فهو له " (1).
وتقريب الاستدلال بها: انه (عليه السلام) قال: " ومن استولى على شئ منه
فهو له " فحكم بالملكية بمجرد الاستيلاء وهو معنى اليد، وبالغاء خصوصية المورد
يتعدى إلى باقي الموارد ويحكم فيها بحجية اليد على الملكية.
ولكنه غير تام، لان الظاهر من السؤال عدم وجود حجة شرعية في المورد
توجب ثبوت شئ من المتاع إلى أحدهما، وان الورثة في مقام الحيرة والتردد،
ولأجل ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بملكية المتاع الخاص بالمراة للمراة استنادا
إلى ظاهر الحال لان اختصاص المرأة بالمتاع يوجب الظهور في ملكيتها للمتاع، لا
من جهة اليد، إذ قد لا يكون لأحدهما يد معين على متاعه الخاص، ومع ذلك يحكم
بملكيته له من باب الظهور الحالي.
ومنه يظهر انه يمكن أن يكون الحكم بالملكية في صورة الاستدلال لا من جهة

(1) وسائل الشيعة: 17 / 525 باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 3.
12

اليد، بل من جهة كون الاستيلاء مرجحا لملكية المستولي للمستولي عليه، لأنه
يوجب ظهور ذلك، بل بقرينة ما ذكرناه أولا من أن مفروض المقام عدم الحجة على التعيين، وحكمه في صورة الاختصاص بملكية ذي الاختصاص، وبالاشتراك في
الملكية في المتاع المشترك يمكن الجزم بهذا الاحتمال، وان التقسيم انما هو بلحاظ
الظاهر الحالي للمتاع.
ولو سلمنا دلالة الرواية على أن الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء باعتبار
اليد، فلا دليل على التعدي إلى سائر الموارد، لأنه يمكن أن يكون للمقام خصوصية
أوجبت اعتبار اليد فيه دليلا على الملكية، بل هو الظاهر من الحكم الأولى في
الرواية، فإنها لا تجرى في غير المورد مما يكشف عن خصوصية فيه. فالتفت.
وقد تبين من جميع ما ذكرنا: انه لا دلالة لهذه الروايات على حجية اليد على
الملكية أصلا. وكأن استظهار الفقهاء حجية اليد منها مبني على ما ارتكز في أذهانهم
من حجيتها. فتدبر جيدا.
واما بناء العقلاء: فقد يقرب: بان العقلاء بانون على التعامل مع ذي اليد في
الأسواق بلا توقف وتردد حتى قيام الحجة على ملكية ذي اليد لما في يده. وما ذلك
الا لاجل اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذيها.
ولكن هذا التقريب لا يفي بحجيتها على الملكية، لأنه انما يكشف عن
اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذي اليد للتصرف في المال الذي في يده لا ملكية
نفس المال، لأنهم لا يعتنون في كون البائع مالكا أو وليا أو غير ذلك ولا يهمهم
ذلك، وانما المهم لديهم هو كون البائع مالكا للتصرف، فلا يدل عدم توقفهم في
التعامل على اعتبارهم اليد حجة على الملك، بل حجة على ولاية التصرف لا أكثر،
وليس المهم في مقام التعامل كون البائع مالكا للمال كي يكون عدم توقفهم دليلا
على حجية اليد على الملكية عندهم.
ويمكن الاستشهاد على ذلك بتعليل الإمام (عليه السلام) في رواية حفص
13

المتقدمة التي قربناها في حجية اليد على ملكية التصرف، بأنه: " لولا ذلك لما قام
للمسلمين سوق "، فإنه تعليل لحجية اليد على ملكية التصرف، فيكشف عن أن
توقف قيام السوق انما هو على اعتبار اليد حجة على ملكية التصرف. لا على
اعتبارها حجة على ملكية المال، إذ لا يتوقف قيام السوق على ذلك، لان صحة
التعامل لا تبتنى على ملكية كلا الطرفين للمال.
فبناء العقلاء بهذا التقريب لا يكون دليلا على حجية اليد على الملكية.
نعم، يمكن التمسك على حجيتها ببنائهم في بعض الموارد الجزئية، كما لو مات
شخص وكان في بيته مال كثير، وقد يكون أكثر من شأنه، فإنهم يحكمون بملكيته
للمال لأنه تحت استيلائه وتصرفه ولو لم تقم حجة عليها، ولذا لو ادعى شخص
بعض تلك الأموال يطلب منه إقامة البينة، ولا يعتبر انه مدع بلا معارض. وكما لو
كان بيد شخص مال يتصرف فيه وادعى آخر انه ولي المال لا مالكه. فأنكر ذو اليد
وادعى ملكيته للمال، فإنه يحكم له بالملكية لأنه ذو يد ما لم تقم البينة على عدمها.
فمن مثل هذه الموارد يستكشف بناء العقلاء على ملكية ذي اليد لما في يده من المال
لأجل اليد وإذا ثبت بناء العقلاء على حجيتها فعدم الردع من الشارع كاف في
صحة العمل بها، ولو لم يكن في البين امضاء صريح. فيتحصل: ان اليد حجة على
الملكية في الجملة.
الجهة الثانية: في أن اليد هل تكون امارة أو أصلا.
ولا يخفى ان هذا البحث علمي صرف لا اثر عملي له، لان الحال لا يفترق
في اليد سواء كانت إمارة أو أصلا، لان الأثر المختلف فيه من هذه الناحية انما يدور
في محورين:
الأول: في اثبات اللوازم، فإنها إذا كانت امارة كانت حجة على لوازم الملكية
بخلاف ما إذا كانت أصلا.
الثاني: معارضتها مع الامارات والأصول، فإنها إذا كانت إمارة فهي تعارض
14

الامارات الأخرى وتتقدم على الأصول، بخلاف ما إذا كانت أصلا فإنها تؤخر عن
الامارات ولا تتقدم على الأصول.
ولكن الحال فيها لا يختلف في كلا المحورين:
اما الأول: فلما بينا سابقا من انه لا فرق بين الامارة والأصل في عدم تكفل
دليل اعتبارهما لاثبات لوازم مؤداهما بهما، فالامارة بدليل اعتبارها ليست حجة
على اللازم كما أن الأصل كذلك.
نعم، بعض الامارات يكون لسانها الكشف عن المؤدى ولازمه، واثباتهما
واقعا في مرتبة سابقة عن دليل اعتبارها، فيتكفل دليل اعتبارها اثبات حجيتها فيه.
كما هو الحال في خبر الواحد، فان الاخبار بالمؤدى إخبار عرفا بلازمه،
فيكون بمنزلة قيام خبرين خبر على المؤدى وخبر على اللازم، فدليل اعتبار الخبر
يتكفل لاعتباره في اللازم والملزوم. وهذا غير متحقق في اليد لان اليد على الملكية
ليست يدا على لوازمها، فلوازم الملكية لا تثبت باليد ولو فرض ان اليد على
الملكية يد على لوازمها، فلا يختلف الحال في كونها امارة أو أصلا، لان دليل
الاعتبار على كلا التقديرين يشملها لأنها من قبيل اليدين لا اليد الواحدة كما في
الخبر.
واما المحور الثاني: فلما عرفت من انه لا كلام في تقدم اليد على الاستصحاب
وباقي الأصول، كما أنه لا اشكال في تقدم الامارات الأخرى عليها كالبينة، سواء
كانت أصلا أو امارة. فمن هنا يعلم عدم الأثر العملي للكلام في هذه الجهة، فالبحث
فيها علمي بحث، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعى بيان الفرق بين الامارة والأصل،
والمراد من الأصل ههنا.
فنقول: الوظائف العملية المتبعة في مقام الظاهر وعدم انكشاف الواقع على
ثلاثة أقسام:
الأول: ما يلحظ فيه الجهل بالواقع ويفرض الواقع مجهولا ومستورا. وان
15

هذه الوظيفة وظيفة للجاهل مع غض النظر عن كون الواقع ما هو؟ ومثل هذا يعبر
عنه بالأصل كالبراءة.
الثاني: ما يلحظ فيه الواقع، بمعنى ان مفاده يكون هذا هو الواقع، لا ان
يفرض مستورا. ومثل هذا يعبر عنه بالامارة.
الثالث: ما كان وسطا بين القسمين وبرزخا بينهما بان كان وظيفة للجاهل
وعدم العلم بالواقع، ولكن كان فيه نظر إلى الواقع وجهة كشف عنه. فهو يشارك
الأول في كونه وظيفة الجهل وعدم العلم وبهذا يفترق عن الثاني ويشارك الثاني في
كونه ذا جهة كشف ونظر إلى الواقع وبهذا يفترق عن الأول. ومثل هذا يعبر عنه
بالأصل المحرز.
والمراد بأصلية اليد في قبال اماريتها انما هو النحو الثالث - أعني انها من
الأصول المحرزة - لا النحو الأول. لا من جهة ان حجية اليد ثبتت ببناء العقلاء،
وليس للعقلاء احكام ظاهرية يتعبدون بها، بل نظرهم دائما إلى الواقع، لان هذا
غير تام، إذ يمكن أن يكون لهم احكام ظاهرية تعبدية يعملون بها عند استتار
الواقع حفظا للنظام ورعاية للشؤون، بل من جهة ان بناءهم على اعتبار اليد لما
فيها من نظر إلى الواقع وكشف عنه.
فالكلام يقع في أن اليد امارة واصل محرز - وان كان الظاهر من الاعلام في
المقام إرادة الأصلية بالنحو الأول -
وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب الا مارية ثبوتا: ان الاستيلاء الخارجي
لازم بالطبع لملكية المال ولازم لملكية التصرف، فهو لازم أعم لملكية المال. لكن
لزومه لملكية المال أقوى من لزومه لملكية التصرف، من جهة غلبة ملكية المال
وكون الاستيلاء الخارجي ناشئا عنه، لغلبة نشوء ملكية التصرف عن ملكية المال.
فمن جهة اللزوم الطبعي والغلبة المذكورة يكون لزوم الاستيلاء لملكية المال أقوى،
فيكون فيه نحو كشف عن الملكية، وهو المعبر عنه بالكشف الناقص، فتكون طريقا
16

للواقع وامارة عليه.
واما اثباتا: فلا دليل على تعيين أحد الأمرين فيها، إذ غاية ما هو ثابت ان
فيها نظرا إلى الواقع وكشفا عنه. اما ان اعتبارها كان بهذا النحو فقط، أو بنحو أخذ
الواقع مجهولا فلا دليل عليه.
نعم، يرجح جانب الا مارية بالاستظهار واستبعاد الأصلية، وان الارتكاز
العرفي ظاهر في كون التعبد بها لاجل طريقيتها إلى الواقع.
وإلا فلا برهان على تعيين أحد النحوين.
وعلى كل فليس ذلك بمهم، لما عرفت من عدم الثمرة العملية. وانما دخلنا في
هذا المبحث جريا على طريقة الاعلام.
الجهة الثالثة: في أن اليد هل تكون حجة مطلقا، بمعنى انها حجة على الملكية
ولو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية، بل كانت يد عادية أو إجارة مثلا. ثم
شك في تبدلها إلى المالكية؟. أو تختص حجيتها في صورة الجهل بعنوان اليد السابق،
بحيث كان يحتمل ان تكون يد مالكية عند الاستيلاء؟.
اختار كل من المحقق الأصفهاني والنائيني والعراقي اختصاص حجيتها
بصورة جهل العنوان وعدم حجيتها مع العلم بعنوان السابق وهو كونها غير مالكية.
ووجه كل منهم ذلك بوجه يختلف عن توجيه الاخر.
فاما ما ذكره المحقق الأصفهاني، فحاصله: انه بناء على أن اليد حجة من باب
الطريقية فلا يصح التمسك بها في المقام - الا على القول بان الطريقية من باب اللزوم
الطبيعي، لأنه متحقق في المقام، إذ لا يتقيد تحققه بعدم المانع، لان عدم المانع شرط
فعلية اللزوم لا تحققه، فلا يمنع العلم بالحال من تحققه، فملاكها متحقق ثبوتا -، لان
اعتبارها من باب الطريقية يستدعى وجود ملاك الطريقية فيها كي يصح اعتبارها
من هذه الناحية، وإلا فلا يصح.
وفى المقام ينتفى ملاك الطريقية، لان طريقية اليد إلى الواقع: ان كان من باب
17

غلبة الملكية في اليد، فهذا في المقام معارض بغلبة بقاء اليد على ما كانت عليه لغلبة
بقاء الحادث على ما وجد عليه.
وحينئذ تتقيد الغلبة الأولى بالغلبة الثانية، فيكون الغالب من افراد اليد ان
تكون مالكية الا إذا وجد الفرد النادر، فان الغالب فيه بقاؤه على عنوانه. فالغلبة
الأولى ضيقة الدائرة، فلا يلحق مثل هذا المشكوك بالأيدي المالكية، ويمتنع
اعتبارها طريقا حينئذ لانتفاء ملاك الطريقية.
وان كان من باب ان الاحتواء الاعتباري يتقوى جانبه بالاحتواء الخارجي
- كما قرب (قدس سره) الطريقية بذلك - فكذلك يجرى فيه ما تقدم، فان تقوي
الاحتواء الاعتباري بالاحتواء الخارجي انما هو فيما إذا لم يكن ثبوت خلافه مرتكزا
في الذهن بواسطة تقوي بقاء الحال على ما كان عليه، فالمعارضة أيضا حاصلة
ونتيجتها التقييد المذكور.
نعم، لو قلنا بان اعتبارها من باب الأصلية لا الأمارية، جاز التمسك باطلاق
دليل اعتبارها - لو كان له اطلاق وتم - في اعتبارها في المورد المزبور. هذا ملخص
ما افاده (قدس سره) (1) بتوضيح.
ولكن (2) هذا منه غريب جدا، لان الطريقية الملحوظة في الامارات انما يقصد

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 329 - الطبعة الأولى.
(2) هذا وقد أورد عليه (دام ظله) في الدورة الثانية: ان المقصود من تضييق الغلبة الثانية ان
كان انتفاء الغلبة الأولى فهذا باطل جزما، لان الفرد النادر لو كان جميعه على خلاف الغلبة
الأولى لا ينافي تحقق الغلبة الأولى فضلا عن كون أغلبه كذلك.
فلو فرض ان أغلب اهل بلد كانوا شجعانا الا أغلب اهل شارع واحد منه فإنه لا ينافي ان
يقال: ان أغلب أهل البلد شجعانا. وان أريد من ذلك تحقق المزاحمة بين الغلبتين وسقوط اليد
عن الا مارية لاجل التزاحم. فيدفعه: ان غلبة مالكية اليد مزاحمة دائما للغلبة الاستصحابية
سواء كان في عنوانها - كما فيما نحن فيه - أو في متعلقاتها - كما في سائر الموارد فكيف تكون حجة
18

بها الطريقية النوعية الشأنية لا الشخصية الفعلية، بحيث يختص اعتبار الامارة في
مورد تكون كاشفة عن الواقع فعلا دون غيره، ولذلك يقال بحجية الظاهر ولو كان
الظن الشخصي على خلافه.
والسر فيه: ان المناط في اعتبار الشئ طريقا وامارة ليس متمحضا في
الطريقية والكشف عن الواقع، بل في الامارة المعتبرة مصلحة خاصة أوجبت
اعتبارها، ولكن الاعتبار كان بعنوان الطريقية والكشف لا بملاكه، فالطريقية حكمة
للاعتبار لا ملاك وعلة، ولذلك لو تخلف في بعض الموارد لا يخرج الدليل عن
الحجية، كما انها لو وجدت في موارد اخر ليست موضوع دليل الاعتبار، لا يكون
ذلك موجبا لحجية تلك الموارد، ومن هنا يعلم بان الاعتبار لا يدور مدار تلك
الطريقية وجودا وعدما.
ولأجل ذلك يلتزم بان في الامارة جهة الموضوعية، بمعنى ان اعتبارها كان
بلحاظ مصلحة خاصة فيها، وليست متمحضة في جهة الطريقية.
وعليه، فما أفاده من انه في المقام لا يكون ملاك الطريقية في اليد لانتفائه
بالمعارضة المذكورة، فلا يصح اعتبارها فيه. ينافي ما يلتزم به من كون الظن في
الامارات نوعيا لا شخصيا، ووجود جهة الموضوعية في الامارة. فما ذكره مساوق
لانكار ذلك، فالمعارضة المذكورة لا تنافى اعتبار اليد في المقام، كما لا ينافي الظن
الشخصي على الخلاف لاعتبار الظاهر. والاستحسان الظني المنعقد على خلاف
مؤدى خبر الواحد لاعتبار الخبر، مع أن كلا منهما يوجب رفع الكشف والطريقية.
فمن هنا يعلم ان المراد بالكاشفية النوعية ان الامارة لو خليت وطبعها كانت
كاشفة نوعا عن الواقع، وهذا متحقق فيما نحن فيه، لان اليد مع قطع النظر عن العلم
بحالها السابق كاشفة نوعا عن الملكية، والا فلو اعتبرت الكاشفية الفعلية للزم

في مورد دون آخر؟
19

خروج الخبر القائم على خلافه الاستحسان، فإنه يوجب رفع كاشفيته النوعية
الفعلية، مع أنه لا يلتزم به أحد فلا بد من كون المراد بالكاشفية النوعية معنى لا
ينافي ذلك وهو ما ذكرناه، فالتفت وتدبر جيدا.
واما ما ذكره المحقق النائيني فهو: ان اليد انما تكون امارة بما انها مشكوكة
الحال، فاستصحاب عدم تبدل حالها وبقائها على ما كانت عليه يكون حاكما عليها،
لأنه يخرجها عن كونها مشكوكة الحال باثباته عدم كونها يد ملك، فهو يحقق الغاية
وهي العلم بالحال، فيرتفع موضوع اعتبارها اليد (1).
وتحقيق الكلام بنحو يتضح الاشكال عليه، وعدم تمامية ما ذكره: ان العلم
المأخوذ غاية لاعتبار اليد.
إما ان يضاف إلى نفس الواقع - أعني: الملكية وعدمها - فيكون اعتبار اليد
مشروطا بعدم العلم بالملكية أو عدم الملكية.
واما ان يضاف إلى عنوان ينطبق على اليد من دون الواقع من كونها يد
عادية أو ولاية أو مالكية. وهذا العنوان الذي جعل العلم به غاية لاعتبار اليد:
تارة: يكون امرا منتزعا عن الواقع، يعنى انه ينتزع عن تحقق الملكية
وعدمها.
وأخرى لا يكون كذلك بل كان امرا حقيقيا لا يرتبط تحققه بالواقع
فالصور ثلاث:
أما الصورة الأولى - وهي ما أخذ العلم [الغاية] متعلقا بالملكية وعدمها -
فلا اشكال في تقدم اليد على الاستصحاب، لان مجرى الاستصحاب حينئذ هو عدم
الملكية. ومجرى اليد هو الملكية. فهما واردان على موضوع واحد، فتقدم اليد لا محالة

الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 2 / 225 - الطبعة القديمة.
20

كما لا يخفى.
وأما الصورة الثانية - وهي ما أخذ العلم متعلقا بعنوان اليد المنتزع عن
الملكية وعدمها - فالأمر فيه أوضح، لأن مورد الاستصحاب وان كان هو العنوان،
لكن نسبة العنوان - حسب الفرض - إلى الملكية - الواقع - وعدمها ليست نسبة
الموضوع إلى الحكم كي يقدم على ما يجري في الواقع، بل نسبة المعلول إلى العلة فما
يكون جاريا في نفس الواقع كاليد يكون مقدما على الاستصحاب لأنها تجري في
مرحلة منشأ انتزاعه.
والذي يظهر من كلامه (قدس سره) إرادة هذه الصورة لأنه اخذ الجهل
بالحال - أعني: بحال اليد - موضوعا لاعتبار اليد ومعلوم انه يريد من حالها كونها
يد عادية أو مالكية أو شبهه لا غير ذلك.
ومن الواضح ان اليد العادية تنتزع عن عدم الملكية لان الغصب هو
التصرف في مال الغير بدون إذنه وان اليد المالكية تنتزع عن الملكية.
فإذا كان الحال المأخوذ قيدا للعلم والجهل عنوانا منتزعا عن الملكية أو
عدمها فالاستصحاب الجاري فيه لا يكون حاكما على اليد لان نسبة العنوان الذي
هو موضوع الاستصحاب إلى مفاد قاعدة اليد ليست نسبة الموضوع إلى الحكم، بل
نسبة المعلول إلى العلة فتكون اليد مقدمة عليه.
نعم، لو أخذ العنوان بالنحو الثاني - كما هو في الصورة الثالثة - بان كان أمرا
حقيقيا لا انتزاعيا عن الواقع، وكان نسبته إلى الواقع نسبة الموضوع إلى الحكم،
فيكون الاستصحاب حاكما على اليد لأنه يجرى في موضوعها.
ولكنه مجرد فرض لا تحقق له في الخارج لأن هذه العناوين المتصورة التي
يمكن اخذها في متعلق العلم والجهل - كعنوان العادية والمالكية وغيرهما - عناوين
انتزاعية كما بينا وغيرهما لا وجه لأخذه في متعلق العلم والجهل إذ لا دليل عليه
21

وقد اعترض (1) المحقق (قدس سره) - كما في بعض تقريراته - على ما ذكره

(1) وقد ذكر في ضمن اعتراضه: ان الجهل بعنوان اليد ان اخذ في الموضوع كان الاستصحاب
واردا لعدم نظر نفس اليد إلى موضوعها، والا لزم من وجود حجيتها عدمها لأنها إذا رفعت
الجهل فقد رفعت موضوع الحجية. وأما إذا كان مأخوذا بنحو الموردية كانت اليد حاكمة على
الاستصحاب لان الاستصحاب لا يتصرف في موضوع اليد ولكن اليد تثبت عنوانها ظاهرا
وكونها يد ملك لا غصب فتقدم على الاستصحاب.
وما افاده (قدس سره) ممنوع بكلا شقيه، أما الثاني فلان الدليل كما لا يمكن ان يتصرف في
موضوعه وينفيه كذلك لا يمكن ان يتصرف في مورده بنفيه إذ كما أن الدليل لا يمكن ان ينفك
عن موضوعه كذلك لا يمكن ان ينفك عن مورده والفرق انما هو في أخذ الموضوع في رتبة سابقة
دون المورد وعليه فكيف تصور نفى اليد للجهل بالعنوان واثبات انها يد مالكية لا عادية وبذلك
كانت حاكمة على الاستصحاب ولم يتصور ذلك فيما إذا كان الجهل مأخوذا موضوعا لليد مع أن
المحذور مشترك؟ وأما الأول فلان اليد إذا لم يمكن احرازها في تحقيق موضوعها أو نفيه فكيف
يجرى الاستصحاب ويكون واردا على اليد والحال ان مورد الاستصحاب واليد واحدة فيلزم
ان يرفع الاستصحاب الجهل المأخوذ في موضوعه فان لدينا شكا واحدا مورد الاستصحاب من
جهة ومورد اليد من جهة. فإذا لم يجر فيه اليد للمحذور المزبور لم يجر فيه الاستصحاب أيضا فلاحظ فما افاده (قدس
سره) في مقام الاعتراض غير وجيه والتحقيق في مقام الاشكال على المحقق النائيني ان يقال: ان
المتيقن في الأدلة والامارات هو اعتبارها في مورد لا يعلم بمتعلقها وليس ذلك من جهة امتناع
التعبد في مورد العلم بل لان اعتبارها من باب الكشف والطريقية وهو ظاهر في كونه في مورد
الجهل إذ المعلوم لا معنى لجعل الطريق إليه ولا يخفى ان هذا الملاك انما يقتضى ملاحظة الجهل
بنفس المؤدى وذي الطريق والمنكشف اما الجهل بعناوين ملازمة لذلك فلا مقتضى للحاظها
بالمرة.
فمثلا يلحظ في حجية الخبر الجهل بالواقع المخبر عنه اما الجهل بمطابقة الخبر للواقع هو
ملازم للجهل وبالواقع فلا وجه لملاحظته بنحو الموضوع أو المورد.
وما نحن فيه كذلك فان المتيقن ملاحظة الجهل بالواقع في حجية اليد اما الجهل بعنوان اليد
الملازم للجهل بالواقع فلا مقتضى لملاحظته ولا دليل عليه فالالتزام بتقييد حجية اليد بالجهل
بالعنوان مما لا وجه له أصلا فتدبر. فإنه لا يخلو عن دقة.
22

المحقق النائيني من اخذ الجهل بالحال في موضوع اعتبار اليد: بان الجهل بالحال
مأخوذ بنحو الموردية لا الموضوعية كما هو الحال في باقي الامارات، والا لكانت
اليد من الأصول لا الامارات.
وعلى هذا، فلا مجال لجريان الاستصحاب في عرض اليد، فضلا عن تقدمه
عليها، لان لازم أمارية هذه اليد كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما
في اليد لصاحبها، ولازم تطبيق يد الملك عليها هو الحكم بعدم كونها يد غصب
ظاهرا، فيرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لحكومتها عليه (1).
وما ذكره بظاهره غير تام، لان الجهل الذي يقال بأخذه في الامارة بنحو
الموردية وفى الأصل بنحو الموضوعية - تخلصا عن الاشكال بلزوم حكومة الأصل
على الامارة لو اخذ الجهل في موضوعها - انما هو الجهل بالواقع، وليس متعلق
الجهل فيما نحن فيه هو الواقع كي يورد عليه بهذا الايراد العام، وانما متعلقه هو حال
اليد، وهذا لا ينافي كون الجهل بالواقع مأخوذا في الامارة بنحو الموردية لا
الموضوعية، فالفرق ان الجهل المأخوذ في موضوع اليد هو الجهل بواقع اليد لا
بالواقع الذي تثبته اليد وتكون امارة عليه. فالاشكال المذكور على المحقق النائيني
أجنبي عن مفاد كلامه.
الا ان يرجع ما ذكره إلى بيان: ان ملاك اخذ الجهل بحال اليد في موضوعها
ليس هو الا لان العلم بحالها علم بالواقع والجهل لحالها جهل به، فمرجع اخذ الجهل
بحالها في موضوعها إلى اخذ الجهل بالواقع في اعتبارها. وهذا هو المنفى بالايراد
العام من أن اخذ الجهل في مورد الامارة لا في موضوعها.
وبهذا يتجه ما افاده ايرادا على المحقق النائيني.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4 / 23 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
23

واما ما ذكره المحقق العراقي، فهو: ان الظاهر من أدلة اعتبار اليد اختصاص
اعتبارها بغير هذه الصورة. بل مجرد الشك في شمول دليل الاعتبار لهذه اليد كاف في
عدم ثبوت حجيتها، لان الدليل على اعتبار دليل لبى وهو بناء العقلاء، والدليل
اللبي لا اطلاق له كي يتمسك به في مورد الشك.
واما الأدلة اللفظية، كالاخبار، فهي واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء
وبنائهم على اعتبار اليد، لا في مقام التأسيس كي يصح الاخذ باطلاقها في اثبات
حجية هذه اليد، بل المتبع ما ثبت من السيرة من مقدار حجيتها (1).
ولا يخفى ان ما ذكره (قدس سره) أولا من كون الدليل لبيا ويكفى في عدم
الاعتبار، الشك في شموله لمثل هذه اليد لو لم نقل بظهوره في غيره وانصرافه عنه. مما
لا اشكال فيه.
ولكن ما ذكره أخيرا من عدم امكان التمسك بالاخبار مع تسليم دلالتها على
الحجية لأنها في مقام الامضاء لا التأسيس. لا وجه له،
وتحقيق ذلك: ان الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق
الاعتبار، يمكن أن يكون على أحد انحاء ثلاثة:
لأنه تارة يكون اخباريا. وأخرى يكون انشائيا.
فالاخباري: ما تكون صورته انشاء الحكم، ولكن يكون المقصود منه
هو الاخبار عن تحقق متعلقه وهو الحكم، نظير الأوامر الارشادية التي تتصور
بصورة الانشاء ولكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.
والانشائي: تارة: يكون منبعثا عن إرادة ايصال حكم الغير العام الذي يكون
هو على صفته، وذلك كالأوامر التبليغية، فان امر الأب ابنه بالصلاة امر حقيقي
المقصود منه البعث، وليس من الاخبار في شئ، ولكن الغرض منه ايصال امر الله

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 22 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
24

تعالى لولده، والملحوظ فيه الامر على طبق ذلك الامر العام المأمور به كلي المكلف.
وهذا في العرفيات كثير.
وأخرى: لا يكون كذلك، بان لم يلحظ فيه ايصال الحكم الاخر ولا الاخبار
عنه، بل لوحظ فيه انشاء الحكم صرفا. غاية الامر ان هذا الحكم مماثل لذلك الذي
اعتبره الغير لا أكثر.
ومن هذا الدليل بانحائه الثلاثة ينتزع عنوان الامضاء والتقرير لحكم الغير،
وهو واضح الوجه.
ولا يخفى ان الدليل ان كان على النحوين الأولين، فالتمسك باطلاقه من دون
لحاظ الحكم المعتبر من الغير ومقدار دائرته ممنوع، لان الملحوظ في الانشاء هو
ذلك الحكم، اما بنحو الاخبار عنه أو ايصاله، فلا استقلال لهذا الحكم المنشأ أصلا.
واما إذا كان بالنحو الأخير، فلا مانع من التمسك باطلاقه لو كان له اطلاق
بلا لحاظ الحكم المماثل له، لعدم ارتباطه به في مقام الجعل والانشاء لعدم لحاظه فيه
أصلا. بل هو حكم مستقل. غاية الامر انه مماثل لذلك الحكم.
والأدلة الشرعية التي تتكفل انشاء الاحكام المماثلة للاحكام العقلائية
العرفية كلها من النحو الثالث، فان الدليل لم يلحظ فيها الا انشاء الحكم وجعله
على المكلف بلا لحاظ ايصال حكم العقلاء للمكلف أو الاخبار عنه.
ومن هنا يتمسك باطلاق قوله تعالى: (أحل الله البيع) في اثبات حلية
بعض البيوع غير المعتبرة عرفا، لان لسانه انشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه ايصال
حكم العقلاء ولا الاخبار عنه. غاية الامر انه يفيد حكما مماثلا لما عليه العقلاء،
وهذا لا يضر في التمسك باطلاقه.
وحينئذ فلا وجه لمنع التمسك باطلاق الأخبار الواردة في اعتبار اليد حجة
على الملكية.
ودعوى: ان مثل هذا الدليل لا ينتزع عنه عنوان الامضاء، لان الظاهر من
25

الدليل الامضائي ما كان ملحوظا فيه حكم الغير، والمفروض عدم لحاظ حكم الغير
في هذا الدليل، فلا يكون دليلا امضائيا، مع أن الأدلة الشرعية يصطلح عليها بأنها
امضائية واردة في مقام تقرير احكام الغير، فلا بد أن لا تكون على هذا النحو.
مندفعة: بان اطلاق لفظ الامضاء على الأدلة الشرعية المذكورة ليس باعتبار
لحاظ حكم الغير فيها، فان لسانها يأبى عن ذلك، بل باعتبار كون الحكم المنشأ بها
مماثلا لما عليه العقلاء لا أكثر. فهي في واقعها تأسيسية وان كان عنوانها امضائية.
فالمراد بالامضاء ما يساوق عدم الردع والموافقة لا إنفاذ ما عليه الآخرون
حتى يتوهم لزوم ملاحظة ذلك في الموضوع. أو فقل: ان الامضاء هنا بلحاظ مقام
الثبوت لا الاثبات، وما يضر بالتمسك بالاطلاق هو الثاني لا الأول، فتأمل تعرف.
والتحقيق في أصل المسألة: ان سيرة العقلاء دليل لبى، وقد عرفت أن مجرد
التشكيك في قيامها يكفى في عدم جواز التمسك بها. واما الاخبار فليس لها اطلاق
من هذه الجهة، لكون المسوق له البيان امر آخر، كما لا يخفى على من لاحظها هذا
مع قطع النظر عن التشكيك في أصل دلالتها على حجية اليد. فتدبر.
الجهة الرابعة: لا يخفى ان اليد كما لا اشكال في ترتيب آثار الملك عليها، كذلك
لا شبهة في وجوب ترتيب آثارها في مقام الدعوى، فيطالب المدعى على ذي اليد
بالبينة، ويكون هو منكرا، سواء ثبتت للمدعى ملكية المال سابقا أم لم تثبت.
ولكن الكلام في أنه لو أقر ذو اليد بملكية المدعى للمال سابقا، فهل تنقلب
الدعوى إلى دعوى انتقال المال إليه فيكون هو مدعيا فعليه الاثبات ويكون الغير
منكرا أو لا تنقلب؟ المشهور على الانقلاب.
ولا يخفى ان موضوع الدعوى الثانية المبحوث عنها ينبغي أن يكون هو تحقق
السبب الناقل، كالبيع والهبة وغيرها وعدمه، لا الانتقال وعدمه، لان الانتقال امر
انتزاعي ينتزع عن ملكية الغير في اللاحق وعدم ملكية المالك السابق في اللاحق،
فهو متأخر عن الملكية فلا كلام فيه، لان الكلام فيما هو سابق عن الملكية، وهو
26

تحقق السبب الناقل - ولذلك يدعى حصول الانقلاب وتترتب عليه آثاره بالنسبة
إلى الملكية الفعلية لذي اليد -.
قد ذهب المحقق الأصفهاني إلى أنه بالاقرار بالملكية السابقة لا تتشكل
دعوى أخرى. ولو قلنا بتشكل دعوى أخرى فلا انقلاب، بل المدعى في الدعوى
الأولى مدع في الدعوى الثانية والمنكر منكر.
اما الأول: فقد قربه: بان الدعوى من الدعاء وطلب الشئ، فهي من المعاني
الانشائية، فما لم يقع الشئ موضوعا للطلب لا يقع في مصب الدعوى، والاقرار
بالملكية السابقة للمدعى مع دعواه الملكية الفعلية [وان كان اخبارا بتحقق السبب
الناقل خ ل] بالانتقال منه بالالتزام، ولكنه ليس الاخبار باللازم بالملازمة يكون
موجبا لتشكيل دعوى به، بل لا بد في ذلك من وقوعه في مصب الدعوى وانشاء
الطلب به ولذلك لو وقع النزاع بين اثنين في أن المعاملة الواقعة بينهما هل كانت هبة
أو بيعا، فادعى كل منهما احدى المعاملتين، فان لكل من البيع والهبة لوازم يختلف
حالها من حيث الدعوى والانكار، فلا بد من صيرورتها مصب الدعوى كي يتعين
المدعى والمنكر، والا فمجرد ادعاء البيع لا يوجب ادعاء لوازمه، وكذلك ادعاء
الهبة، فإذا كان موضوع الدعوى هو البيع والهبة بما هما بيع وهبة من دون لحاظ
لوازمهما المختلفة كان الشخصان متداعيين. ولو كان مصب الدعوى البيع والهبة
ولكن بما هما معرفان لثبوت العوض وعدمه، كان مدعى البيع مدعيا لان الأصل
على خلاف قوله، ومدعى الهبة منكرا. ولو كان مصبها البيع والهبة من حيث الجواز
واللوازم، كان مدعى الجواز مدعيا، لان الأصل على خلافه، إذ الأصل عدم الجواز.
فدعوى الملزوم لا تستلزم تشكيل دعوى باللازم قهرا ما لم تنشأ دعوى
مستقلة فيه، والانتقال ههنا لم يقع مصب الدعوى وان وقع موضوع الاخبار
بالملازمة.
واما الثاني - يعنى نفى الانقلاب - فقد قربه: بان المعروف ان اليد امارة،
27

والامارة على المسبب إمارة على السبب فاليد كما تكون حجة على المسبب وهو
الملكية الفعلية، كذلك تكون حجة على السبب الناقل، وحينئذ فمدعي الانتقال ذو
حجة وهي اليد فيكون منكرا لا مدعيا ويكون مقابله مدعيا، فلا يتحقق
الانقلاب (1).
وفي كلا تقريبيه ما لا يخفى:
أما تقريبه لعدم تشكل دعوى ثانية، فأساسه: ان الدعوى من الأمور
الانشائية المتقومة بالانشاء والجعل، فالاخبار بشئ لا يكون دعوى به ما لم ينضم
إليه طلبه.
ولا يخفى انه بملاحظة الاستعمالات العرفية للدعوى والادعاء غير المسامحية،
يعلم بان الدعوى نوع من أنواع الاخبار وهو الاخبار في ظرف التردد والشك، ولا
يتوقف تحققها على انشاء طلب بل كثيرا ما يستعمل " المدعي " في المخبر بخبر في
ظرف الشك مع عدم تحقق أي انشاء منه، فالخبر بالهلال يقال له مدعي رؤية
الهلال لان المقام مقام شك.
وعليه فحيث إن الانتقال من الأمور المشكوكة الواقعة موضوعا للتردد،
فالاخبار بها ولو بالملازمة يشكل دعوى به بلا كلام.
وأما ما استشهد به من مثال البيع والهبة فلا يصلح للنقض لان مصب
الدعوى في العوض انما هو في العوض الخاص من كونه شخصيا أو كليا في الذمة
ومدفوعا أو غير مدفوع. وأحدها ليس من لوازم البيع كما لا يخفى وانما لازم البيع
ثبوت عوض ولكنه لا يكون محط الدعوى.
واما اللزوم والجواز فهما من اللوازم الشرعية للبيع والهبة لا اللوازم العرفية،
فليس الاخبار بالبيع اخبار باللزوم عرفا كما أن الاخبار بالهبة ليس اخبارا
28

بالجواز عرفا.
وأما تقريبه لعدم الانقلاب بأن اليد امارة، والامارة على المسبب امارة على
السبب فهو غير وجيه على مذهبه في أن الامارة ليست حجة في لوازمها وانها
كالأصل في ذلك وليس تحقق السبب الناقل ملزوم أعم للملكية الواقعية والظاهرية
كي يثبت بثبوت الملكية الفعلية باليد وانما هو ملزوم للملكية الواقعية ولا ملازمة
بين الحكم بالملكية ظاهرا وتحقق السبب الناقل ظاهرا.
وعليه، فلا حجة لذي اليد على تحقق السبب الناقل فيحصل الانقلاب
لموافقة قول المدعي الأول للأصل وهو استصحاب عدم السبب الناقل فله المطالبة
بالبينة عليه ويكون ذو اليد مدعيا.
ثم لا يخفى ان الأصل المذكور - أعني أصالة عدم تحقق السبب الناقل - انما
يتعبد به بلحاظ ما يترتب على نفس التعبد من اثر شرعي من جواز المطالبة بالبينة
لمن وافقه قوله وهو المقر له بمقتضى الاقرار لا بلحاظ ما يترتب على نفس المتعبد به
من اثر وهو بقاء ملكية المقر له لان ذلك ينافي مفاد اليد من ملكية ذي اليد،
والمفروض بقاءها على حجيتها بالنسبة إلى الملكية الفعلية ولا يكون الاقرار
موجبا لارتفاع حجيتها بل لازم الاقرار هو جعل المدعي طرفا للأصل المذكور
فيكون منكرا بمقتضاه لا أكثر كما هو شأن جميع الأصول الجارية في طرف
الدعوى لان المفروض ان المدعى يدعي العلم بعدم تحقق مفاد الأصل وانقلاب
الحالة السابقة فلا يجري الأصل في حقه كي يثبت قول المنكر.
نعم انما يجري الأصل في حق المنكر بل هو لا يجري في حقه أيضا لأنه
يعلم بالبقاء والحاكم لا يحق له خصم الدعوى باجراء الأصل لان القضاء لا بد أن يكون
بالبينات والأيمان كما هو مقتضى النبوي المشهور (1)، فلا فائدة في الأصل إلا

(1) دعائم الاسلام 2 / 518، الحديث 1857.
29

كون الموافق له منكرا فالتفت.
ولذلك يترتب آثار ملكية ذي اليد قبل خصم الدعوى كما أنه لو لم يحلف
المقر له على عدم تحقق السبب الناقل في صورة عدم إقامة ذي اليد للبينة على
التحقق لا يصح له التمسك به في اثبات ذلك مما يكشف عن أن الاقرار انما استلزم
صحة تمسك المقر له بالأصل من ناحية صحة مطالبته ذي اليد بالبينة على تحقق
الناقل لا غير.
وهذا - أعني الانقلاب على القول بعدم حجية اليد في اللوازم والملزمات
- كما هو الحق - واضح لان اليد لا تثبت بالملازمة تحقق السبب الناقل، فلا يرتفع
موضوع الأصل فيصح جريانه ويترتب عليه آثار التعبد بمقتضى الاقرار لا آثار
المتعبد به كما عرفت وكذلك لو قلنا بان اليد من الأصول لا الامارات كما لا يخفى
ولكنه على القول بان الامارة حجة في اللوازم فيشكل تصوير الانقلاب
حينئذ لان اليد بناء على انها امارة على هذا تثبت تحقق السبب الناقل فلا يبقى
لجريان الأصل مجال.
ولكنه مع هذا - يمكن تصوير حصول الانقلاب بنحو لا يتنافى مع أمارية
اليد وحجيتها على الملكية، وذلك بتقريب: ان موافقة الأصل المقتضية لكون
الشخص منكرا لا مدعيا ليس المراد منها الموافقة للأصل الفعلي الجاري مع وجود
الحجة واقعا بل المراد منها موافقة الأصل الجاري في نفسه ومع قطع النظر عن
وجود الحجة من بينة وامارة رافعة لموضوعه تكوينا ولا اشكال في وجود هذا
الأصل في المقام وهو أصالة عدم تحقق السبب الناقل.
وحينئذ فمع وجود اليد فحيث انها حجة في الملزوم وهو تحقق السبب الناقل
- بدعوى أن الامارة تثبت الملزومات الواقعية - فحجيتها فيه توجب ارتفاع
موضوع الأصل المذكور - وهو عدم الطريق - فلا مجال لجريانه أصلا.
اما مع اقرار ذي اليد للمدعى بملكيته السابقة الملازم لدعوى تحقق السبب
30

الناقل فحيث إن اثره هو الاعتراف بطرفية المدعي للأصل وارتباطه به كانت اليد
حجة في خصوص مدلولها المطابقي وهو الملكية دون الالتزامي - أعني تحقق
السبب الناقل - لان اليد لا تكون حجة مع الاقرار وحجيتها تضيق بمقدار
الاقرار بحيث تنتفي حجيتها في مفاد الاقرار واثره لان اقرار العقلاء على أنفسهم
نافذ وجائز واقرار ذي اليد بملكية المدعي السابقة - الذي لازمه دعوى تحقق
السبب الناقل - مفاده ارتباط المدعي المقر له بالأصل المذكور وهذا ينافي حجية
اليد على تحقق السبب الناقل فيصح له التمسك به في هذه الدعوى ويكون له
المطالبة بالبينة لصيرورته منكرا فاليد حجة على خصوص الملكية الفعلية اما على
ملزومها فلا لمنافاتها حينئذ مع الاقرار (1).
وبالجملة: فبالاقرار تنقلب الدعوى وتشكل دعوى ثانية موضوعها تحقق
السبب الناقل وعدمه وهي غير الدعوى الأولى التي موضوعها الملكية وعدمها

(1) لا يخفى ان الاقرار بالملكية السابقة ليس اقرار بعدم تحقق السبب الناقل إذ لا ملازمة كما
لا يخفى مضافا إلى أنه لو كان كذلك لكان دعواه تحقق السبب الناقل منافيا لإقراره فيؤخذ
باقراره وتخصم الدعوى، وإذا لم يكن الاقرار بالملكية السابقة اقرار بعدم تحقق السبب الناقل
فلا ينافي حجية اليد على تحقق الناقل فلا وجه لنفى حجيتها عليه لعدم منافاتها للاقرار
وهذا لا ينافي كون مفاده جواز التمسك بالأصل في المطالبة بالبينة لان المفروض ان موافقة
الأصل عبارة عن موافقة الأصل الجاري في نفسه لا بالفعل وعليه فيكون المقام من باب
التداعي لان كلا من الشخصين يوافق قوله الحجة لو لم نقل بان مفاد الاقرار جواز التمسك
بالأصل بنحو التعلق يعنى لو كان هناك أصل فلا مانع من التمسك به وقيام الحجة على المدعى
وهي اليد يرفع موضوع الأصل تكوينا فلا أصل كي يجوز التمسك به فلا يتحقق الانقلاب وذلك
لا ينافي الاقرار أصلا كما لا يخفى. وعلى كل فالأمر سهل بعد أن عرفت عدم حجية اليد في ملزوم
مفادها - إذ لا يأتي هذا الكلام بناء عليه - كما أن ما ذكرناه في مقام توجيه فتوى المشهور
بالانقلاب بنحو لا يتنافى مع ما ستعرفه كما سيتضح مع غض النظر عن صحته وعدمها مضافا
إلى أنه لم يعلم بناء المشهور على امارة اليد بل يمكن ان تكون أصلا عندهم فالتفت.
31

لان مفاد الاقرار جعل المقر به هو الأصل الجاري في نفسه.
ولولا الاقرار لما انقلبت الدعوى ولما تشكلت دعوى أخرى لان عدم
السبب الناقل وان كان موضوع الأصل الا انه لا يصح للمدعى التمسك به إذ لا
حجية له على كونه طرف الملكية السابقة بل لا دعوى لذي اليد بتحقق السبب
الناقل إذ لا يدعي سوى الملكية لأنه لم يخبر مع عدم الاقرار بالسبب الناقل ولو
بالملازمة كما لا يخفى.
ثم لا يخفى عليك ان الدعوى الثانية انما تتشكل ويحصل الانقلاب إذا كان
المدعي منكرا لتحقق السبب الناقل اما مع عدم كونه منكرا وانما يقول بجهالة الحال
وانه مالك المال الآن بمقتضى الأصل فلا تتشكل دعوى ثانية لعدم وجود قول
للمقر له في تحقق السبب الناقل مقابل ذي اليد كي تكون هناك دعوى ثانية
ويكون قوله موافقا للأصل فيكون منكرا بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها
والمدعى يدعي الملكية بحسب القواعد وحينئذ فلذي اليد التمسك بيده في اثبات
ملكيته الفعلية ونفي الأصل بها.
ولا مجال لجريان الأصل وثبوت مؤداه في قبال اليد لما عرفت من أن
الأصل المذكور انما يجري بلحاظ اثر التعبد من جواز المطالبة بالبينة وصيرورة
طرفه منكرا لا بلحاظ اثر المتعبد به من بقاء الملكية السابقة.
ولا يذهب عليك ان تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب لا يفرق فيه
بين أن يكون المقر له هو المدعى أو المورث أو الموصي لنفس الملاك.
ولكنه يقيد بصورة كون المدعي أو الوارث أو الموصى له منكرا لتحقق
السبب الناقل كما عرفت.
وبهذا يندفع الاشكال على المشهور في فتواهم بأنه لو أقر ذو اليد للمدعي
أو لمورثه بالملكية السابقة لما في يده انقلبت الدعوى وصار ذو اليد مدعيا والمدعي
منكرا لان اقراره للمدعي بالملكية السابقة مساوق لدعوى الانتقال منه إليه،
32

فيكون مدعيا وعليه البينة ويكون المدعي منكرا لموافقة قوله الأصل بان
الفتوى بالانقلاب تنافى اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي بكر في مطالبته
البينة من الزهراء (عليها السلام) لأنها اعترفت بملكية رسول الله (صلى الله عليه
وآله) سابقا وهذا يساوق دعوى الانتقال منه (صلى الله عليه وآله) إليها (عليها
السلام) فتكون الزهراء (عليها السلام) مدعيا وأبو بكر - باعتبار ولايته على
المسلمين - منكرا لان ملكية الرسول لفدك لو بقت لانتقلت إلى المسلمين بعد
وفاته بمقتضى الرواية المخلوقة: " نحن معاشر " المفروض تسليمها من قبل الزهراء
(عليها السلام) وعليه فالبينة تكون على الزهراء (عليها السلام) لا على أبي بكر
فكيف استنكر (عليه السلام) ونسب إليه الحكم بغير حكم الله؟
وجه الاندفاع واضح لان ابا بكر لم ينكر على فاطمة (عليها السلام) دعوى
تحقق السبب الناقل وهو النحلة وانما ادعى جهالة الحال وان المال باق على ملك
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمقتضى القواعد الشرعية حتى يثبت خلافه فلا
دعوى أخرى بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها لا تحقق السبب الناقل
وعدمه فلفاطمة (عليها السلام) التمسك بيدها في اثبات الملكية - كما فعلت - ولا
منافاة بين ذلك وبين اقرارها لان اقرارها لم يرفع اليد عن حجيتها على الملكية كما
عرفت - ولا يصح لابي بكر مطالبتها بالبينة.
ومما يدل على عدم انكار أبى بكر لدعوى النحلة هو انه حين رد البينة التي
اقامتها الزهراء (عليها السلام) لم يطالب الإمام (عليه السلام) باليمين على عدم
النحلة ما يكشف عن انه لم يدع عدم النحلة بل كان يدعي جهالة الحال، ولذلك
كان استنكار الإمام (عليه السلام) موضوعه المطالبة بالبينة لا عدم الحلف.
وبالجملة ففتوى المشهور بالانقلاب في صورة لا تطبق على مسألة فدك
وهي صورة انكار المقر له لدعوى السبب الناقل فلا اشكال على المشهور.
وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في دفع الاشكال المذكور على المشهور
33

ما حاصله ان الملكية إضافة وعلقة قائمة بالطرفين المالك والمملوك الا انها تختلف
في ظرف التبدل باعتبار موارده. ففي مثل البيع يكون التبدل في ناحية المملوك، بمعنى
ان طرف العلقة الرابطة بين المال والمالك من ناحية المالك على حاله.
وانما الطرف من ناحية المال قد حل وربط بمملوك آخر غير ذاك فالإضافة
على حالها وانما التبدل بين المالين وهو طرف الإضافة وفى مثل التوريث بالعكس
يكون التبدل في ناحية المالك فان طرف العلقة من ناحية المالك يحل بموته ويربط
بمالك آخر مع بقاء الإضافة وارتباطها بالمال على حالها وقد يكون التبدل في نفس
العلقة كما في الهبة فإنها تتضمن اعدام إضافة المال للمالك وايجاد إضافة أخرى بين
المال والموهوب له.
ومثل الهبة الوصية التمليكية الموجبة لانتقال المال إلى الموصى له بعد الموت
واما الوصية العهدية فهي خارجة عن تمام الأقسام لأنها لا توجب التمليك
بل تتكفل تعيين مصرف المال بعد الموت.
وعلى هذا فالاعتراف بملكية المورث حيث إنه اعتراف بملكية الوارث لعدم
التبدل فيها كما عرفت - فيكون كالاعتراف بملكية نفس المدعي في انقلاب
الدعوى.
بخلاف الاعتراف بملكية الموصي لأنها أجنبية عن ملكية الموصى له،
فالاعتراف له كالاعتراف للأجنبي فلا يوجب الانقلاب.
والمقام من هذا القبيل لان المسلمين ليسوا بوارثين بل الانتقال إليهم من
قبيل الانتقال بالوصية التمليكية.
وعليه فلا يكون الاعتراف بملكية الرسول (صلى الله عليه وآله) السابقة
موجبا لانقلاب الدعوى فلا تخرج الزهراء (عليها السلام) عن كونها منكرة
وأبو بكر عن كونه مدعيا مضافا إلى أن كون المقام من قبيل الوصية التمليكية ممنوع،
بل الظاهر أنه من قبيل الوصية العهدية فالمسلمون لا يدعون ملكية المال أصلا.
34

وحينئذ فلا يكون الاعتراف بملكية الموصي المرتفعة يقينا مع عدم الانتقال
إلى المدعي - ذي اليد - موجبا لانقلاب الدعوى لعدم الأثر في الاعتراف بها مع
ارتفاعها يقينا هذا حاصل ما افاده (قدس سره) (1).
ويرد عليه:
أولا ان علقة الملكية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالطرفين بنحو يستحيل
وجودها بدون الطرفين كاستحالة وجود العرض بدون معروضه.
وعليه فيستحيل بقاء العلقة مع تبدل أحد الطرفين بل بارتفاع أحدهما
ترتفع هي فإذا حصلت علقة بين المال ومالك آخر أو بين المالك ومال آخر فهي
علقة ملكية أخرى. فما ذكره (قدس سره) من امكان بقاء العلقة على حالها مع
تبدل أحد الطرفين لا مجال له.
وعليه فلا فرق بين الموصى له والوارث في كون تملكهما بملكية ثانية.
وثانيا ان مركز الدعوى الثانية انما هو الانتقال في حياة الرسول (صلى الله
عليه وآله) وان الملكية المعترف بها هل استمرت إلى حال الوفاة أو انقطعت أثناء
الحياة، فلا ربط بسنخ ملكية المسلمين بعد الوفاة وانها استمرار لتلك الملكية
أو سنخ آخر من الملكية بل بقاء ملكية الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى وفاته
هي مركز الدعوى والنزاع القائم بحيث لو ثبت البقاء لكانت " فدك " للمسلمين
قطعا وبلا ترديد لان المفروض تسليم الرواية المخلوقة.
وملكية الرسول لفدك في حياته ترتبط بالمسلمين فالاعتراف بها سابقا
يوجب كون المسلمين ممن لهم الحق في المطالبة بالبينة على الانتقال ويعدون
منكرين في قبال فاطمة (عليها السلام) سواء كانوا ورثة أم موصى لهم إذ لا
علاقة بالدعوى بما بعد الوفاة بل مركزها قبل الوفاة وكونهم طرف الدعوى

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 2 / 229 - الطبعة الأولى.
35

لارتباطها - أعني الملكية - بهم - كما عرفت -.
وعليه فلا وجه لتعليل اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي بكر في طلبه
البينة بان الملكية المعترف بها ليست عين الملكية المدعاة فلا يحصل الانقلاب لان
المفروض ان مركز الدعوى بقاء ملكية الرسول (صلى الله عليه وآله) لابقاء الملكية
مطلقا. وملكية الرسول (صلى الله عليه وآله) أجنبية عن ملكية المسلمين على
التقديرين - أعني الوراثة والوصاية - اما لاختلاف الإضافة أو لاختلاف سنخ
الملكية.
وبالجملة فلا يظهر لما ذكره المحقق النائيني وجه وجيه فتدبر.
واما المحقق العراقي فقد ذهب إلى أن مقتضى القاعدة عدم انقلاب الدعوى
بالاقرار للمدعي بالملكية السابقة لحكومة اليد على الأصل.
ولكن قام الاجماع على الانقلاب في صورة الاقرار بملكية المدعي أو
المورث واما في صورة الاقرار بملكية الموصي فلا اجماع على الانقلاب فمقتضى
القاعدة عدمه والاجماع المذكور يقتصر فيه على مورده لأنه دليل لبي لا اطلاق له.
وحيث إن الاقرار في مسألة فدك للموصي لا للمورث لم يلزم منه انقلاب الدعوى،
فيتجه اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي بكر في مطالبته إياه بالبينة مع أنه
ذو يد.
ولا يخفى ان هذا - مع غض النظر عن كون الانقلاب مقتضى القاعدة كما
عرفت وكون الاجماع في مورده ليس تعبدا محضا بل الفقهاء يعللون الانقلاب فلا
وجه للتمسك به مع كونه على خلاف القاعدة ليس اعتذار عن المشهور دفعا
للاشكال عليهم فالتفت.
فالأولى في الاعتذار ما عرفته فتدبر فإنه بالتدبر حقيق والله سبحانه وتعالى
ولي التوفيق.
36

الجهة الخامسة في أن اليد هل تكون حجة على الملكية مطلقا ولو شك في
قابلية ما عليه اليد للملكية والنقل والانتقال كما لو شك في كون من باليد عبدا أو
حرا أو تختص في صورة العلم بالقابلية فتكون حجة على إضافة الملكية إلى ذي
اليد
وعلى الأول يقع الكلام في مسألتين.
الأولى ما إذا علم حال العين في أنها ليست قابلة للنقل والانتقال واليد
سابقا بان كانت العين وقفا واليد يد ولاية أو إجارة أو نحوهما ثم شك في مالكية
ذي اليد للعين لاحقا.
الثانية: ما إذا علم حال العين فقط ولم يعلم حال اليد، بل احتمل ان تكون
اليد من أول حدوثها مالكية.
ولا يخفى ان الكلام في هاتين المسألتين في طول ثبوت حجيتها المطلقة، والا
فمع ثبوت اختصاص حجيتها بما له القابلية، فلا اشكال في عدم حجية اليد في
المسألتين للشك في القابلية كما لا يخفى.
اما الكلام في المسالة الأولى، فيعلم من الكلام في الجهة الثالثة الذي مر
مفصلا، و عرفت فيه عدم حجية اليد، لان القدر المتيقن غير هذا فراجع.
واما الكلام في المسألة الثانية فهو يقع في مرحلتين:
الأولى: مرحلة الثبوت. والتكلم فيها في تحقق ملاك الطريقية والكاشفية
الناقصة في اليد، بناء على اعتبارها من باب الطريقية.
وليس الكلام فيه بمهم في المقام، لان الطريقية بالمعنى الذي ذكرناه سابقا -
وهي الطريقية النوعية غير المنتفية بوجود المزاحم - متحققة ههنا، إذ اليد طريق
بنفسها إلى الملكية لولا بعض الحالات التي تكتنفها. وبالمعنى الذي قرره المحقق
الأصفهاني هناك من الطريقية النوعية الفعلية أيضا متحققة، لان غلبة بقاء العين
على ما كانت عليه - لغلبة بقاء الحادث - انما تزاحم - في المقام - غلبة كون الأموال
37

ملكا طلقا لا وقفا.
واما غلبة اليد المالكية فلا تزاحم بها، فالطريقية الفعلية متحققة لتحقق
ملاكها بلا مزاحم ومقيد - كما قرره (قدس سره) ههنا -، وهو يخالف المسالة
السابقة، لان غلبة البقاء هناك في حال اليد لا في نفس العين كما في ههنا.
وقد تمسك المحقق الأصفهاني لحجية اليد فيما نحن فيه بالاطلاق.
ولا يخفى ان أصح ما استدل به - عنده - من الأدلة اللفظية هو قوله (عليه
السلام) في رواية يونس: " ومن استولى على شئ منه فهو له "، وهي بدلالتها
اللفظية لا اطلاق لها لاختصاصها بالمورد، لمفاد: " منه "، والتمسك بها في غير المورد
انما كان من باب إلغاء خصوصية المورد.
لا يخفى انه إذا كان للمورد خصوصيات متعددة وعلم بعدم دخل بعض
خصوصياته في الحكم يكون مطلقا من ناحية هذه الخصوصية دون غيرها.
والخصوصية الملغاة في مورد الرواية انما هي خصوصية كون المال من متاع
الرجل والمراة وموت أحدهما - بتقريب حصول العلم بعدم دخل هذه الإضافة في
الحكم بالملكية لليد وان عرفت ما فيه - فالاطلاق فيها من هذه الناحية.
ولكنه توجد في المورد خصوصية أخرى يحتمل دخلها في الحكم بالملكية
لليد، وهي: كون المال قابلا للملكية والتردد في المالك، وهي منتفية فيما نحن فيه
للشك في قبول المال للملكية، فلا يمكن التمسك بالاطلاق، إذ لا اطلاق للرواية من
هذه الناحية.
وعليه، فيقع الكلام في معارضة اليد بأصالة عدم حصول السبب المسوغ
وعدمها.
وقد قرب المحقق الأصفهاني عدم تعارض الأصل مع اليد وحكومة اليد
عليه: بان اليد لما كانت حجة على الملكية فهي حجة على ملزومها وهو حصول
السبب المسوغ للبيع. وعليه فتكون اليد حاكمة على الأصل.
38

ولا يخفى ما فيه، لما عرفت من أن اليد ليست حجة في اللوازم والملزومات،
ولو كانت امارة، بل هي حجة في نفس مفادها لا أكثر.
فالأولى التمسك في المقام بأصالة الصحة في عمل الغير، فنصحح العقد
الحاصل بها، وهي مقدمة على استصحاب عدم حصول السبب المسوغ.
وقد يقال: ان مثل المورد هو مورد اليد الذي وقع التسالم على اعتبارها فيه،
لان أصالة عدم حصول السبب المسوغ، كأصالة عدم حصول السبب الناقل مع
العلم بعدم الملكية السابقة، فكما أن اليد لا تتعارض مع هذا الأصل فكذلك لا
تتعارض مع ذاك.
ولكنه يقال: فرق بين المقامين، لان القدر المتسالم عليه هو عدم معارضة
أصالة عدم تحقق السبب الناقل لليد. واما مع العلم بتحقق السبب ولكن الشك في
تحقق المؤثر لسببيته والمسوغ له، فلا يعلم تقدم اليد على الأصل الجاري لنفى تحقق
المسوغ. ويمكن اجراء هذا الاشكال في جميع صور الشك في الصحة من جهة الشك
في تحقق بعض شروطها كالعلم بالعوضين وغيره.
وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) في المقام: ان اليد قد اخذ في موضوع
حجيتها قابلية المحل للملكية والنقل والانتقال، لان مفادها: ان المال قد انتقل من
مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد الأسباب الناقلة، وذلك انما يكون بعد الفراغ عن
كون المال قابلا للنقل والانتقال، والوقف ليس كذلك، لان الانتقال فيه انما يتحقق
بعد عروض السبب المسوغ للنقل، واليد لا تتكفل ذلك. بل استصحاب عدم طرو
المسوغ يقتضى سقوط اليد لأنه يرفع موضوع اليد، فيكون حاكما عليها (1).
وقد أورد المحقق العراقي (قدس سره) - في بعض تقريراته -: ان اخذ القابلية
الواقعية في موضوع اليد - مضافا إلى عدم تماميته - يستلزم سقوط اليد عن الحجية

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 266 - الطبعة الأولى.
39

بمجرد الشك في القابلية وعدمها، لأنه شك في تحقق الموضوع، فلا تصل النوبة إلى
جريان الاستصحاب وحكومته على اليد.
فكلامه مع المحقق النائيني في جهتين:
الأولى: عدم اخذ القابلية في موضوع اليد.
الثانية: انه لو اخذت، فلا حاجة الاستصحاب، بل مجرد الشك كاف في
سقوط اليد عن الحجية.
اما الجهة الثانية: فهي غير تامة، لأنه لا اشكال في أن لجريان الاستصحاب
في عدم تحقق المسوغ - مع قطع النظر عن اليد - اثرا شرعيا كعدم جواز بيعه وغيره
من احكام الوقف، فيمكن أن يكون جريانه بلحاظ اثره الشرعي.
واما التعبير بالحكومة، فيمكن توجيهه: بان الدليل الحاكم لا يختص بما كان
مخرجا لفرد كان مشمولا فعلا للدليل المحكوم لولا الدليل الحاكم، بحيث كان للدليل
المحكوم اقتضاء فعلى لشمول هذا الفرد.
بل هو يعم ما كان كذلك وما كان مخرجا لفرد يتوهم شمول الدليل الآخر له،
وإن لم يكن فيه مقتضى الشمول فعلا.
والاستصحاب ههنا أثبت عدم تحقق قابلية العين للملكية، وهي - أي العين
- مما يتوهم شمول دليل اليد لها في حد نفسها ومع قطع النظر عن كونها مشكوكة
الحال وان الشبهة موضوعية، وان كان ليس فيه اقتضاء الشمول فعلا باعتبار
الشك.
وعليه، فالاستصحاب جار ويكون حاكما على اليد بهذا اللحاظ، وهذا لا
ينافي سقوط اليد عن الحجية للشك. فلا اشكال على المحقق النائيني من هذه
الناحية.
نعم، لو كان مراده (قدس سره) ان سقوط اليد عن الحجية انما هو لاجل
الاستصحاب، بحيث لولاه لكانت اليد حجة - كما لعله الظاهر من كلامه فتأمل -
40

اتجه عليه الايراد: بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في ذلك، بل بمجرد الشك تسقط
اليد عن الحجية، لان الشبهة مصداقية كما لا يخفى.
واما (1) الجهة الأولى - وهي العمدة في المقام كما أشرنا إليه - فتحقيق الكلام

(1) تحقيق الحال في المسالة باختصار: ان اليد الحادثة على العين تارة يشك في أنها حدثت عن
تملك بعقد أو بغيره أو حدثت لا عن تملك. ومثل ذلك هو المتيقن من بناء العقلاء على الحجية
وأخرى يعلم بأنها حدثت عن عقد أو نحوه وشك في صحة العقد وعدم صحته، وفى مثل ذلك
يمكن ان يقال ان بناء العقلاء على غض النظر عن اليد وملاحظة السبب الناقل فيرى انه صحيح
أو ليس بصحيح ويحكم بالملكية وعدمها بملاحظته. ولا أقل من التشكيك في حجية اليد في مثل
هذه الصورة.
وقد يقال إنهم يحكمون بحجية اليد ما لم يثبت لديهم بطريق معتبر بطلان العقد، ولا يحكمون
بالملكية استنادا إلى اليد جزما، وليس بناؤهم على ترتيب اثر الملكية قطعا. وبالجملة مع العلم
بالسبب الناقل والشك فيه اما ان يقال بقصر نظرهم عليه وسقوط اليد عن الحجية مطلقا ويقال
بسقوطها في مورد ثبوت بطلان السبب.
ومفروض كلام النائيني (قدس سره)، من هذا القبيل فان المفروض العلم بسبق الوقف
واحتمال عروض المصحح لبيعه.
وفى مثله لا تكون اليد حجة بل لا بد من ملاحظة السبب الناقل فيتمسك له مثلا بأصالة
الصحة أو غيرها. ومع الغض عن ذلك فلا يشك في أنه مع ثبوت بطلان السبب تسقط اليد عن
الحجية وهذا كما ذكرناه ما ادعاه النائيني (قدس سره)، فان استصحاب عدم طرد المسوغ يترتب
عليه بطلان البيع فيثبت بطلانه بواسطة الاستصحاب فيرتفع موضوع حجية اليد وتسقط عن
الاعتبار. وبهذا البيان للمسألة وتوجيه كلام النائيني (قدس سره) لا يتم ما جاء في كلام المحقق
الأصفهاني من قياس هذا الاستصحاب باستصحاب الملكية الجاري في مطلق موارد اليد، فان
استصحاب الملكية لا ينفى موضوع اليد ولا يترتب عليه شرعا بطلان العقد بخلاف هذا
الاستصحاب.
كما أنه لا وجه لما جاء في كلام العراقي في البحث في أن المأخوذ هو القابلية الواقعية أو الجهل
بها وتفصيل الكلام في ذلك، في مقام الايراد على النائيني، إذ عرفت أن محل الكلام لا يرتبط
بأخذ القابلية ونحوها بل يرتبط بملاحظة السبب الناقل ولا يخفى عليك ان محل الكلام هو مورد
العلم بسبق عدم القابلية اما عدم فرض ذلك بلا شك رأسا في أن ما تحت اليد ملك أو وقف
فلا اشكال في حجية اليد وعدم توقف العقلاء في البناء على ملكية ذي اليد ومعاملته معاملة
المالك.
41

فيها يستدعى بيان المراد من القابلية المبحوث عنها ههنا. فنقول: ليس المراد من
القابلية، القابلية بمعناها الفلسفي الذي هو عبارة عن الاستعداد الذاتي للعين.
لوضوح حصول التبدل في العين من هذه الناحية، فتارة تكون ذات قابلية. وأخرى
لا تكون كذلك مما يكشف عن عدم إرادة ذلك المعنى منها، بل المراد منها تأثير
السبب الناقل في العين. فإذا حكم الشارع بان السبب الناقل يؤثر في هذه العين
الانتقال كان لها قابلية. وان حكم بعدم التأثير لم يكن لها قابلية. فالقابلية وعدمها
ينتزعان عن حكم الشارع بتأثير السبب في نقل العين وعدمه.
وعلى هذا، فقد يقال: بان محققات القابلية وشروطها - في العين المسبوقة
بعدم القابلية - تكون شروطا في تأثير العقد في هذه العين، نظير العلم بالعوضين
وطيب النفس، فيقال: العقد مؤثر وناقل لهذه العين إذا كان قد حصل الأول إلى
الخراب - مثلا -. فمرجع الشك في بقاء عدم القابلية وعدمه إلى الشك في حصول
السبب الناقل وعدمه - إذ عدم حصوله أعم من عدم وجوده بالمرة أو حصوله غير
صحيح - ولا اشكال في عدم استلزام ذلك لسقوط اليد عن الحجية، فلا ثمرة في
الكلام حينئذ.
ولكنه وان سلم ذلك، الا ان هذا النوع من الشروط - وهو شرط القابلية
للنقل والانتقال - له خصوصية عن غيره، ولذلك وقع محل الكلام دون غيره.
وعلى كل، فليس هذا بمهم وضائر، لان الكلام في اخذ القابلية للملكية في
موضوع اليد مطلقا مع غض (1) النظر عن سبق القابلية أو عدمها وتحقق عقد

(1)
فيه تأمل يظهر من ملاحظة تحقيق كلام النائيني (قدس سره) في الحاشية.
42

وعدمه. بل موضوع الكلام ما إذا كانت عين في يد شخص وكانت مشكوكة
القابلية فهل اليد تكون دليلا على الملكية أو لا؟.
لا اشكال في ذلك - أعني كونها دليلا على الملكية - إذ لا اشكال في عدم
اعتبار القابلية في موضوع اليد، لما نراه من بناء العقلاء على عدم ملاحظة قابلية ما
في اليد للملكية، بل يعاملون ذا اليد معاملة المالك ويبنون على ما في يده ملكا وان
كان لديهم شك في قابلية المحل للملكية، ويتأكد ذلك بملاحظة التعليل لاعتبار اليد
الوارد في رواية حفص من توقف قيام السوق للمسلمين على ذلك، إذ لا ريب في أنه
مع اعتبار القابلية وعدم حجية اليد مع الشك فيها يأتي المحذور السابق لان
أغلب ما في سوق المسلمين مشكوك القابلية، فالتفت.
يبقى الكلام في اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد.
وقد قربه المحقق العراقي: بأنه لا اشكال في أن دليل اعتبار اليد دليل لبى
يقتصر فيه على القدر المتيقن، والقدر المتيقن من بناء العقلاء هو اعتبار اليد مع عدم
العلم بعدم القابلية.
اما مع العلم بعدمها فلا يبنون على حجية اليد على الملكية، فيختص موضوع
اعتبار اليد بعدم العلم بعدم القابلية. وحينئذ فمع الشك وسبق العلم بعدم القابلية
يكون استصحاب عدم القابلية مقدما على اليد على قول ومعارضا لها على قول
آخر، فإنه على القول بان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين وتنزيل الشك
منزلة اليقين، يكون الاستصحاب مقدما على اليد لأنه يحقق العلم تنزيلا بعدم
القابلية فيرتفع به موضوع اليد. وعلى القول بان مفاد دليل الاستصحاب تنزيل
المشكوك منزلة المتيقن، وان اليقين مأخوذ مرآتا للمتيقن لا يكون مقدما، لان
الاستصحاب لا يرفع الجهل بالقابلية ولو تنزيلا، بل يكون معارضا لليد (1).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4 / 27 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
43

وفى كلامه - بشقيه - نظر:
اما حديث التفرقة بين القولين في جريان الاستصحاب وتقدمه على اليد.
ففيه ما سيأتي من تصحيح تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي مطلقا وعلى
كل تقدير، حيث إن نسبة الأصل المذكور إلى اليد كنسبة الأصل السببي إلى الأصل
المسببي، فان الأصل الجاري فيما كان الجهل فيه أو في عدمه موضوعا لمجرى أصل
آخر يكون سببا، وذلك الأصل الآخر مسببيا كما سيتضح فيما بعد أن شاء الله تعالى.
واما حديث اخذ الجهل بعدم القابلية في موضوع اليد شرعا. فيتضح عدم
تماميته بما عرفت من أن الجهل قد يؤخذ موضوعا. وان الفرق بين
الأصول والامارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية، وفى الثانية
مأخوذ بنحو الموردية. والا فهما لا يفترقان في عدم جريانهما في صورة العلم
بالواقع، واختصاص جريانهما في صورة الجهل بالواقع، فاليد وان كان اعتبارها
مختصا بما إذا كان عدم القابلية مجهولا، الا انه لا يعلم كون الجهل قد اخذ بأي
النحوين، فقد يكون مأخوذا بنحو الموردية ولا دليل على كونه مأخوذا بنحو
الموضوعية، فتدبر - جيدا.
ثم إنه (قدس سره) ذهب إلى عدم اخذ القابلية بوجودها الواقعي في
موضوع حجية اليد، لاستلزام سقوط اليد عن الحجية في كثير من الموارد، مما يؤدى
إلى اختلال النظام المشار إلى نفيه في رواية حفص بقوله (عليه السلام): " ولو لم يجز
ذلك لم يقم للمسلمين سوق ". ولا يخفى ان ظاهر ما افاده (قدس سره) هو خلط في
موارد الشك في القابلية بين سبق عدم القابلية وعدم السبق بذلك.
وقد عرفت أن محل الكلام الأول دون الثاني. ثم إن الاستدلال باختلال
النظام غير مسلم، إذ ليس من موارد الشك في القابلية بذلك الموجبة لاختلال
النظام، مع أنها لو تمت فإنما تتم في موارد العلم بسبق عدم القابلية، إذ الالتزام بعدم
حجية اليد في موارد العلم بسبق عدم القابلية لا يستلزم الاختلال قطعا، لعدم كونها
44

بحد من الكثرة بحيث يلازم سقوط اليد اختلال النظام، فلاحظ.
الجهة السادسة: في أن اليد كما تكون دليلا على ملكية العين، هل تكون دليلا
على ملكية المنفعة أم لا؟
وأساس الكلام على أن الاستيلاء الذي هو معنى اليد هل يمكن ان يحصل
على المنفعة، كما يمكن أن يكون على نفس العين أم لا؟
وقبل الخوض في تحرير المسالة لا بد من أن نعرف الثمرة من البحث فيها.
ولا يخفى ان الغرض اثبات ملكية المنفعة باليد، كما تثبت ملكية العين بها،
بحيث تكون اليد طريقا إلى اثبات ملكية المنفعة.
فقد يقال: ان ملكية المنفعة تابعة لملكية العين، فاليد على العين طريق لملكية
العين وبها تثبت ملكية المنفعة، فلا يحتاج في اثبات ملكية المنفعة إلى اثبات تحقق
الاستيلاء عليها وحجيته على ملكيتها، فلا ثمرة حينئذ.
ولأجل ذلك قيل: بان الثمرة تظهر في صورة اختصاص الاستيلاء على المنفعة
دون العين، وذلك كالمتصدي لإجارة الدار والصلح على المنفعة، فان له استيلاء على
المنفعة باعتبار تصديه للمعاملة عليها دون العين، إذ العين بيد الغير، فثبوت ملكية
المنفعة منحصر باليد عليها إذ لا يد لمالكها على العين كي تثبت ملكيتها بتبع ملكية
العين.
ويشكل هذا: بان الاستيلاء على المنفعة لا يعقل انفكاكه عن الاستيلاء على
نفس العين، والتصدي للإجارة والصلح لا يحقق الاستيلاء، وإلا لكان الفضولي
المتصدي لإجارة الدار فضوليا له استيلاء على المنفعة، مع أنه ليس كذلك.
فالأولى ان يقال: بان الثمرة تظهر في صورة ما إذا كان الشخص له استيلاء
على العين والمنفعة وعلم بعدم ملكيته العين، كالمستأجر للوقف أو لدار غيره، فان
المستولي على المنفعة - في هذا الفرض - وان كان له استيلاء على العين، لكنه ليس
مالكا لها - كما هو المفروض - فلا يمكن استكشاف ملكية المنفعة بالاستيلاء على
45

العين.
إذا عرفت ذلك: فالمنسوب إلى الفاضل النراقي (قدس سره) تخصيص حجية
اليد بالأعيان دون المنافع، ثبوتا واثباتا..
اما ثبوتا: فلانه لا يتصور تحقق الاستيلاء الخارجي على المنافع، لأنه انما
يتحقق في الأمور القارة التي لها ما بإزاء في الخارج كالأعيان.
اما الأمور التدريجية، فلا يتصور تحقق الاستيلاء عليها، لان موضوع الثمرة
والمهم في المقام هو الاستيلاء على المنفعة المستقبلة الحدوث. اما الاجزاء الموجودة،
فلا أهمية ولا غرض في الاستيلاء عليها. والمنفعة المستقبلة عبارة عن الاجزاء
الأخرى التي بعد لم تحصل، وانما يكون حصولها بعد هذا الآن، فهي معدومة الآن
فلا يتحقق الاستيلاء بالنسبة إليها، إذ لا استيلاء على المعدوم. والمنفعة من الأمور
التدريجية الحاصلة بالتدرج فلا يتحقق الاستيلاء عليها.
واما اثباتا: فلان الأدلة على حجية اليد لا اطلاق لها الا روايتي يونس
وحفص.
والأولى: موضوعها الأعيان، لرجوع الضمير في: " منه " إلى متاع البيت وهو
من الأعيان.
والثانية: وان كانت بحسب صدرها عامة للتعبير بالشئ، وهو أعم من العين
والمنفعة، الا ان في الكلام ضميرا يرجع إلى بعض افراد العام وهو الأعيان، وذلك في
قوله: " تشتريه " فان الشراء يتعلق بالأعيان لا بالمنافع. فيدور الامر بين أن يكون
المراد من العام هو هذه الافراد، أو يكون استعمال الضمير من باب الاستخدام، فلا
أقل من صيرورة الكلام مجملا، وهو كاف في عدم جواز التمسك به في اثبات
المطلوب (1).

(1) المحقق النراقي ملا احمد. مستند الشيعة 2 / 578 الموضع السادس من الفصل الخامس -
46

وقد أورد عليه السيد الطباطبائي (قدس سره) في كتاب القضاء (1)، بوجهين:
الأول: انه يمكن تصور الاستيلاء على المنافع مستقلا على الاستيلاء على
الأعيان كالمزرعة الموقوفة على العلماء والسادة مع كون العين بيد المتولي وصرف
حاصلها ومنافعها فيهم، فان لهم الاستيلاء على المنافع المرسلة إليهم.
الثاني: النقض عليه بحق الاختصاص، فكما يتصور الاستيلاء على حق
الاختصاص كما في العين الموقوفة المختصة بأربابها، كذلك يتصور الاستيلاء على
المنافع.
وقد أورد على الوجه الأول: بان المراد من المنافع التي هي موضوع البحث
ما يقابل الأعيان، وهي التي تكون تدريجية التحقق ومعدومة الوجود فعلا، والمنافع
المذكورة المستوفاة من المزرعة الموقوفة داخلة في الأعيان، وان أطلق عليها لفظ
المنفعة باعتبار استخراجها من عين أخرى.
وأورد على الوجه الثاني: بان الاستيلاء على الأعيان تختلف آثاره باختلاف
الأعيان، والاستيلاء على الدار اثره ملك العين وعلى الموقوفة اختصاصها
بالمستولي، وعلى الأرض المحجرة أولويته بها فالكل من باب الاستيلاء على
الأعيان لا الاستيلاء على العين تارة وعلى الحق بانحائه أخرى.
اما الايراد على الوجه الأول فلا شبهة فيه كما هو واضح.
ولكن الايراد على الوجه الثاني لا يمكن الالتزام به، لأنه (قدس سره)
يصرح في أوائل كلامه بمضمون الايراد، فلا وجه للايراد به عليه، إذ منه يعلم إرادة
شئ آخر من نقضه لا يتوجه عليه هذا الايراد.
ويمكن ان يريد من كلامه: ان حق الاختصاص نوع من أنواع الملكية

الطبعة القديمة -.
(1) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى 3 / 122 - الطبعة الأولى.
47

كملكية العين وملكية المنفعة وملكية الانتفاع. فمتعلق حق الاختصاص من سنخ
متعلق ملكية المنفعة. وبعبارة أخرى: ان الاختصاص من سنخ المنفعة، فكما يثبت
حق الاختصاص باليد على العين الموقوفة - مثلا - فكذلك تثبت ملكية المنفعة
بالاستيلاء على العين، إذ لا فرق بينهما.
وقد ذكر صاحب البلغة (قدس سره) كما حكى عنه (1) -: ان قبض
المنافع بقبض العين، بدليل جواز مطالبة المؤجر للمستأجر بالأجرة بمجرد القبض،
فما لم يقبضه المنفعة لم يكن له المطالبة بالأجرة لان المعاملة قد وقعت على المنفعة.
وفيه: - كما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) - كما حكى عنه - ان مقتضى
القاعدة جواز المطالبة بالأجرة بمجرد المعاملة، لان المؤجر يملك العوض بالمعاملة،
كما أن المستأجر يملك المعوض - وهو المنفعة - بها أيضا. فالحكم بعدم جواز المطالبة
بالعوض في سائر المعاملات قبل الاقباض حكم على خلاف القاعدة وليس على
وفقها، من باب الالتزام الضمني من كلا المتعاقدين على أن التسليم بعد الاقباض.
فيقتصر فيه على مورده وهو غير الإجارة، فإنهم حكموا فيها بعدم جواز المطالبة
بالأجرة قبل التمكين من استيفاء المنافع لا قبل قبض المنفعة.
فصحة المطالبة بالأجرة حين قبض العين انما هو من جهة حصول التمكين
على الاستيفاء لا من جهة اقباض نفس المنفعة.
بل هذا الوجه جار في سائر المعاوضات، فان صحة المطالبة بالعوض فيها
متوقفة على التمكين من استيفاء المعوض لا على قبضه، فالتفت.
وقد أفاد المحقق الأصفهاني في رد ما ذكره الفاضل النراقي: ان منافع الأعيان
حيثيات وشؤون قائمة بها وموجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود
القابل، واما السكنى بالمعنى الفاعلي، فهي من اعراض الفاعل لا من منافع الدار.

(1) بحر العلوم بلغة الفقيه 3 / 315 - الطبعة الأولى.
48

فحيثية المسكنية هي منفعة الدار، وما دامت الدار على هذه الصفة تكون المنفعة
مقدرة الوجود عند العقلاء، فتقبل كل صفة اعتبارية من الملك والاستيلاء.
ولا يخفى ان المراد من المسكنية التي تكون هي منفعة الدار ان كان هو قابلية
الدار للسكنى، فهم لا يلتزمون بكون المنفعة هي القابلية، وان كان هو المسكنية
الفعلية فهي مضافا إلى أنها من شؤون الفاعل تدريجية الحصول، فتكون معدومة.
والتحقيق ان يقال: ان بناء العقلاء على ملكية المنفعة عند الاستيلاء على
العين بحيث يعدونها من شؤون الاستيلاء على العين مما لا اشكال فيه ولا ريب
يعتريه، سواء في ذلك كون العين مملوكة للمستولي أو غير مملوكة له.
فلا يهمنا كثيرا معرفة قبول المنفعة للاستيلاء وتصوير المنفعة بشكل يقبله
بعد البناء المذكور من العقلاء.
وقد يكون هذا البناء منهم لبنائهم على تحقق الاستيلاء على المنفعة، أو لاجل
غلبة ملكية المنفعة عند الاستيلاء على نفس العين فتدبر جيدا ولا تغفل.
الجهة السابعة: في جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد.
ولا بد أولا من بيان ثمرة الكلام، إذ قد يتوهم عدم الثمرة لأنه لا يختلف الحال
في الشهادة على اليد أو على الملك في ترتب الأثر المطلوب، وهو ثبوت ملكية
المشهود له بل قد يقال: بان الاحتياج إلى الشهادة في مقام الدعوى، ولا تنفع البينة
المستندة إلى اليد مع وجود بينة معاكسة لها، إذ البينة المستندة إلى اليد لا تزيد على
نفس اليد واليد لا تعارض البينة على الخلاف. هذا مع أن البينة المستندة إلى اليد،
مع التفاتها إلى البينة المخالفة تسقط عن الحجية، لاجل استنادها إلى غير الحجية
وهو موجب للفسق.
فنقول: الثمرة تظهر في ما لو كان المطلع على استيلاء المشهود له واحدا وكان
هناك شخص آخر مطلعا على ملكية المشهود له السابقة، فإنه بناء على قيام الطرق
والأصول مقام العلم تكون شهادة كل من الشخصين بالمسبب - أعني: الملكية -
49

بلحاظ وجود الطريق لكل منهما وان كان مختلفا، مجدية في المقام لتمامية البينة على
الملكية. بخلاف ما لو شهد بالسبب الذي يعلمانه، لان كلا منهما يشهد بسبب غير
السبب الذي يشهد به الآخر، فلا تتم البينة على أحد السببين كي يترتب عليه
الأثر. فالشهادة على اليد في الفرض لا اثر لها بخلاف الشهادة على الملك، لأنها جزء
البينة، فبضميمتها إلى الشهادة الأخرى على الملك تتم البينة ويترتب الأثر.
والذي يقرب في النظر عدم جواز الشهادة استنادا إلى اليد، وذلك لان
الإخبار الجائز هو الخبر الصادق في قبال الخبر الكاذب. والصدق والكذب عنوانان
ينتزعان عن مطابقة الخبر للواقع وعدم مطابقته، ومع الشك في المطابقة لا يجوز
الاخبار قطعا ولو لاجل التجري لكونه طرف العلم الاجمالي.
وعليه، فإذا قامت اليد على الملكية لا يحرز ان الاخبار عن الملكية مطابق
للواقع، فلا يحرز انه صدق.
نعم لو كان اليد حجة في اللوازم كانت حجة في مطابقة الخبر للواقع، ولكن
عرفت منع ذلك.
وبالجملة: الحكم الشرعي غير مترتب على مؤدى اليد مباشرة، بل متعلق
بعنوان ملازم له، وهي غير حجة في لوازمها بخلاف البينة، فإنها إذا قامت على
الملكية كان لها دلالة التزامية، على أن الاخبار عنها مطابق للواقع، وهي حجة في
الدلالة المطابقية والالتزامية.
وإذا ظهر عدم جواز الاخبار بمقتضى اليد تكليفا، ظهر عدم جوازه وضعا،
فلا يكون الاخبار حجة لفسق المخبر به جزما.
وهذه الجهة مما غفل الاعلام عنها، ولم أجد من تنبه لذلك، وانما أوقعوا
الكلام في اعتبار العلم في جواز الشهادة وقيام اليد مقام العلم، فتدبر.
وكيف كان فالمشهور - على ما حكى - على المنفع عن الشهادة استنادا إلى
اليد، لاخذ العلم الوجداني في موضوع جواز الشهادة.
50

وتحقيق الكلام في هذه الجهة يستدعى البحث في نواح ثلاث:
الأولى: في اخذ العلم موضوعا لجواز الشهادة.
الثانية: في أنه على تقدير موضوعية العلم فهل هو مأخوذ بنحو الصفتية أو
الطريقية؟.
الثالثة: في قيام الامارات مقام القطع الموضوعي.
اما موضوعية الأولى - أعني العلم لجواز الشهادة - فلا اشكال فيها ولا
ارتياب لدلالة الاخبار الكثيرة عليها. هذا ولكن يقرب جدا: أن يكون المنظور في
الاخبار النهى عن الشهادة استنادا إلى التخمين والحدس الظني الذي كثيرا ما
يستند إليه المخبرون، ولا نظر لها إلى اعتبار العلم بالمخبر به، كما لا يخفى على من
لاحظها والامر هين.
واما الناحية الثانية - وهي كيفية اخذه وانه بنحو الصفتية أو الطريقية،
فالكلام فيها يبتنى على القول بامكان اخذ العلم موضوعا بأحد النحوين.
اما من لا يرى امكان اخذه بنحو الصفتية وانحصاره في جهة الطريقية، فهو
في سعة عن الكلام فيها.
وذلك كالمحقق الأصفهاني (قدس سره)، فإنه افاده في تقريب ذلك بان: اخذ
العلم في الموضوع معناه اخذه بمميزاته عن الصفات الأخرى.
فالملحوظ فيه هو الجهة المميزة له عن غيره، والا فلو اخذ بلحاظ بعض
الجهات المشتركة بينه وبين غيره، لا يكون اخذا له في الموضوع، بل اخذا للجامع
المشترك بينه وبين غيره.
ولا يخفى ان الجهة المميزة للعلم التي هي بمنزلة الفصل له هي جهة الطريقية
والكشف التام. فان بها يكون العلم علما ويكون مبائنا للظن وغيره من الصفات.
فمعنى اخذ العلم في الموضوع اخذه بهذه الجهة، إذ لا جهة أخرى تميزه عن باقي
الصفات.
51

وقد تقدم منا في مباحث القطع: ان هذا التقريب غير مانع من امكان اخذ
العلم بأحد النحوين.
ومحصل ما ذكرناه هناك: ان العلم وان كان فيه جهة واحدة هي المميزة له
عن سائر الصفات النفسية وبها صار علما، وهي جهة الطريقية والكشف التام.
الا ان هذه الجهة تارة يترتب عليها الأثر بما هي هي ومع غض النظر عن
الواقع المرئي بها والمنكشف بواسطتها. وأخرى يكون الأثر مترتبا عليها بلحاظ
الواقع المنكشف بها. فالانكشاف في كلا الموردين موضوع للأثر، لكنه بنفسه
وبلحاظ ذاته يكون كذلك في مورد وبلحاظ الواقع المنكشف به يكون كذلك في
المورد الآخر.
وعليه، فاخذ العلم في الموضوع بما هو صفة خاصة معناه اخذ الجهة المميزة
له بنفسها وبما هي. وأخذه بما هو طريق هو لحاظ الجهة المميزة فيه باعتبار كشفها
عن الواقع، فكأن الواقع هو الملحوظ فيه وان كان العلم هو الموضوع حقيقة.
وإذا اتضح امكان تصور اخذ العلم بهذين النحوين ولو كان المميز للعلم
جهة واحدة، فلا بد من تعيين انه على اي النحوين قد اخذ موضوعا لجواز الشهادة.
والذي يظهر من مساق الروايات الواردة في اعتبار العلم في موضوع جواز
الشهادة هو اخذه بنحو الطريقية. فان الظاهر منها كون المنظور هو حفظ الواقع عن
التغيير والتبديل، وان أخذ العلم انما هو للمحافظة على حقوق الناس وان الشهادة
لا بد ان تكون على أساس ومستند ولا تكون مجازفة في القول وتهور كي تحفظ
الحقوق عن الضياع.
واما الناحية الثالثة - وهي قيام الطرق مقام القطع الموضوعي -: فهو انما
يتحقق بناء على القول بان دليل الامارة يتكفل تنزيلها منزلة العلم، لما تقدم من
التمسك باطلاق دليل التنزيل في ترتيب جميع آثار العلم عليها. لكنك عرفت عدم
ثبوت التنزيل المذكور لعدم وفاء الأدلة به. خصوصا في مثل اليد التي لا يعرف انها
52

امارة أو أصل، فكيف يستطاع ان يشخص مفاد دليلها على احتمال كونها إمارة؟
فلاحظ.
أما على الأقوال الأخرى في ما يتكفله دليلها، فلا تقوم مقام القطع المأخوذ
في الموضوع.
أما على ما ذكره الشيخ - واخترناه أخيرا - من تكفل دليلها تنزيل المؤدى
منزلة الواقع (1)، فعدم القيام واضح ويتلخص وجهه بما بينه صاحب الكفاية (قدس
سره) في أوائل مباحث القطع في مقام الايراد على الشيخ من: ان دليل الاعتبار إذا
كان متكفلا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع، فالملحوظ فيه استقلالا هو المؤدى
والواقع، والامارة والقطع ملحوظان في هذا التنزيل باللحاظ الآلي المرآتي. وقيام
الامارة مقام القطع الموضوعي يستدعي لحاظ الامارة والقطع بالاستقلال في دليل
التنزيل، فلا يمكن ان يتكفل دليل الامارة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل
الامارة منزلة العلم، لاستلزامه اجتماع لحاظين أحدهما آلي والآخر استقلالي وهو
ممتنع (2).
واما على ما ذهب إليه المحقق الخراساني من جعل المنجزية والمعذرية. فقد
يتوهم قيامها مقامه باعتبار كون الدليل يتكفل تنزيلها منزلة العلم في ذلك.
ولكنه غير صحيح لوجهين:
الأول: ان جعل المنجزية والمعذرية يقتضى لحاظ الواقع بالاستقلال، لان
مفاده ان الواقع يتنجز بالامارة، فقيامها - حينئذ - مقام القطع الموضوعي يقتضى
لحاظ نفس الامارة بالاستقلال، فيلزم اجتماع اللحاظين.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 4 - الطبعة القديمة.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 264 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
53

الثاني ان دليل التنزيل ههنا ليس لفظيا ذا إطلاق كي يتمسك به في ترتيب
جميع الآثار إذ هو منتزع عن ترتيب اثر خاص للعلم وهو المنجزية والمعذرية على
الامارة فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو التنزيل بلحاظ هذا الأثر الخاص لا بلحاظ
جميع الآثار - كما مر ذلك في بيان حكومة الامارة على الاستصحاب -
وأما على المختار سابقا من كون دليل الامارة يتكفل اعتبارها علما وجعلها
كذلك المعبر عنه بجعل الوسطية في الاثبات وتتميم الكشف - كما عليه المحقق
النائيني (1) فلأن دليل الاعتبار انما يقتضي ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها
فيما إذا لم يكن للامارة بهذا الاعتبار اثر خارجي لا يوجب تصرفا بدليل فإنه
يحكم حينئذ بدلالة الاقتضاء بان موضوع الحكم في ذلك الدليل الظاهر في الفرد
الحقيقي أعم من الفرد الحقيقي الاعتباري كي يترتب الأثر على هذا الفرد المعتبر
وإلا لكان الاعتبار لغوا.
والمفروض ان للامارة بهذا الدليل القائم على اعتبارها علما اثرا يترتب
عليها وهو المنجزية والمعذرية لان موضوعها أعم من العلم الحقيقي الوجداني
والعلم الاعتباري.
فلا تتم دلالة الاقتضاء بالنسبة إلى الآثار الأخرى لعدم لغوية الاعتبار
لترتب اثر عليه بلا تصرف تقتضيه دلالة الاقتضاء كما لا يصح التمسك باطلاق
دليل الاعتبار لاحتياجه إلى مؤونة زائدة وهي التصرف في موضوع الآثار وجعله
أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري - وقد تقدم بيان ذلك في حكومة الامارة على
الاستصحاب فراجع -.
هذا ولكن لصاحب المستند (قدس سره) تقريبا لوفاء الامارة بتحقق
موضوع جواز الشهادة على الأقوال الأخرى في الامارة.

(1) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 2 / 7 - الطبعة الأولى.
54

وقد ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) في رسالته في اليد وحاصله ان
الملكية ليست من الموضوعات الواقعية كي يكون مرجع التعبد بها إلى التعبد
بحكمها فهي لا تكون معلومة بل المعلوم حكمها. وانما هي من الاحكام الاعتبارية
المجعولة أو الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الأحكام الشرعية - كما عليه الشيخ -
وعليه فعند قيام الامارة على الملكية تثبت هناك ملكية ظاهرية إما
اعتبارية أو انتزاعية ويتعلق بها العلم الوجداني فتصح الشهادة بالملكية لتحقق
موضوعها حقيقة تكوينا ببركة الامارة.
اما تحقق الملكية الظاهرية بقيام الامارة فهو بناء على جعل المؤدى واضح
لان المفروض ان المجعول حكم ظاهري وهو الملكية أو ما ينتزع عنه الملكية من
الاحكام الموجب لثبوتها في مرحلة الظاهر (1).
ولكنه قد لا يتضح بناء على جعل المنجزية أو جعل الوسطية في الاثبات
لاجل انها على هذين البناءين أجنبية عن ثبوت حكم ظاهري بها.
الا انه يمكن تصويره على هذين البناءين بأنه عند قيام الامارة ففي مقام
العمل والوظيفة العملية تترتب آثار الملكية الواقعية فللملكية نحو ثبوت وهو
معنى الملكية الظاهرية.
نعم يبقى في المقام شئ وهو: ان مصب الدعوى هو الملكية الواقعية
والثابت بالامارة المعلوم بالعلم الوجداني هو الملكية الظاهرية فما هو المعلوم الذي
تصح الشهادة به غير مصب الدعوى فلا يجدي ما ذكر من التقريب.
ولكنه (قدس سره) أجاب عنه: بأنه لما كان احراز الملكية الواقعية صعبا
جدا بل غير ميسور عادة - لان ثبوت ملكية الشخص انما تكون بأسبابها والحكم
بمملكية الأسباب وصحتها انما يكون باجراء الأصول والقواعد الظاهرية - كان

(1) أصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدارية 3 / 340 - الطبعة الأولى.
55

المدار في الدعاوي والنزاعات ثبوت الملكية الفعلية المتحققة بحسب الأدلة والقواعد
الشرعية المتعارفة لا على الملكية الواقعية والملكية الفعلية ثابتة بالامارة كما
عرفت وهي معلومة بالعلم الوجداني فتصح الشهادة بها.
وقد حكى المحقق الأصفهاني عن المحقق في الشرائع (1) كلاما لمنع الشهادة
بمقتضى اليد مضمونة انه لو أوجبت اليد الملك لم تسمع دعوى من يقول الدار التي
في يد هذا لي كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي انتهى. وقد استظهر منه المحقق
الأصفهاني انه في مقام انكار ثبوت الملكية باليد وإلا لكان الاعتراف بها مساوقا
للاعتراف بالملكية فيكون كالاعتراف بالملكية في عدم سماع دعوى المعترف
حينئذ.
فحكم بسخافته - وهو عجيب منه جدا لما عرف منه من التحفظ على
الموازين العرفية والآداب العقلائية في تعبيراته بالنسبة إلى من هو أصغر من المحقق
الحلي شأنا وأقصر باعا -.
وأورد عليه بوجهين:
الأول انه انكار لحجية اليد على الملكية مع أنه مسلم ومحل الكلام غير هذا
فإنه جواز الشهادة بمقتضى اليد بعد الفراغ عن حجيتها لا كونها توجب الملكية.
الثاني: ان الفرق بين الدعويين موجود حيث إن الأولى تتضمن الاقرار
بالسبب لان معنى كون اليد حجة كونها طريقا وسببا ظاهريا للملكية وهو يقبل
الفساد - وهو لا يكون منافيا وكذبا لدعواه بملاحظة المناقشة في شرائطه كما إذا
قال هذا الذي اشتراه زيد من عمر - وهو لي فإنه يجامع فساد الشراء بخلاف
الثانية فإنها تتضمن الاقرار بملك المدعى عليه وهو مناف لدعواه الملك فلا يقبل

(1) المحقق الحلي جعفر بن الحسن. شرايع الاسلام / 339 - الطبعة القديمة.
56

منه كما لا يخفى (1).
ولكن الذي يظهر من كلام المحقق الحلي انه ليس في مقام انكار حجية اليد
على الملكية الذي هو خارج عن محل الكلام بل هو في مقام انكار حجية اليد على
الملكية التي هي موضوع التخاصم والنزاع ومحل النفي والاثبات كي تجوز الشهادة
بالملك استنادا إليها في فرض تمامية شروط حجية اليد على الملكية من جهل
العنوان والقابلية وغيرهما.
فمراده ان هذه اليد المفروض كونها حجة على الملكية الظاهرية في مقام لو
كانت موجبة للملك الذي هو محل النزاع وموضوع الخصام لكان الاعتراف بها
اعترافا بالملكية المتنازع فيها فمقتضى القاعدة عدم سماع دعوى المعترف حينئذ
لأنه أقر لذي اليد بما يدعيه فيكون كاقراره الصريح بملكية المدعى عليه في عدم
سماع دعواه حينئذ.
فاليد وان كانت تفيد ملكية ذيها لكن الملكية الثابتة بها لا تنفع في خصم
الدعوى والاقرار بها ضمنا لا يجدي المدعى عليه نفعا أصلا.
وبعبارة مجملة: المراد كون الملكية التي هي موضوع الدعوى غير الملكية
الثابتة بمقتضى اليد وإلا لكان الاقرار باليد موجبا لعدم سماع دعوى المعترف
واللازم منتف.
وعليه فلا مورد للاشكالين المذكورين عليه لأنه ليس في مقام انكار أصل
حجية اليد على الملكية بل كلامه لا ينافي حجيتها عليها وان الثابت بها ملكية
ظاهرية ولكنها لا تنفع.
كما أنه لا فرق بين الدعويين - من جهة ان الاعتراف في أحدهما بالسبب
وهو يقبل الفساد - إذ ليس المراد ان ايجاب اليد الملكية الظاهرية موجب لعدم

الأصفهاني الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 341 - الطبعة الأولى.
57

سماع الدعوى بالاقرار كي يقال ان الاقرار ههنا بالسبب بذاته وهو يقبل الفساد
لا بالسبب بما هو سبب إذ المفروض كون الاقرار بالسبب بما هو سبب هو العلة
التامة لثبوت الملكية ظاهرا الذي هو محل الكلام في جواز الاستناد إليه في الشهادة
ولا جوازه.
بل المراد ان الملكية الثابتة باليد ان كانت هي الملكية التي تكون موضوع
الدعوى ومصبها بالاقرار بها لزم ما هو منتف وهو عدم سماع دعوى المعترف بها
لان اقراره يكون مكذبا لدعواه فلا بد ان تكون ملكية أخرى غير ما هي مصب
الدعوى.
وبهذا التوجيه لكلام المحقق لا يتوجه عليه شئ أصلا الا ما قد يقال كما
عرفت من كلام صاحب المستند - من أن موضوع الدعاوي ليس إلا الملكية
الظاهرية لعدم ثبوت الملكية الواقعية خارجا، لان احراز الملكية بأسبابها انما يكون
بتوسط الأصول والطرق، فالثابت هو الملكية الظاهرية واليد تثبتها.
فيأتي الاشكال وهو لزوم عدم سماع الدعوى بالاقرار بها مع أنه يناقش
فيه فلا بد من رجوع كلامه إلى نفي حجية اليد على الملكية بالمرة لا نفي حجيتها
على الملكية التي تكون موضوع الخصام لعدم تماميته حينئذ.
ولكن يمكن التخلص عنه بان الطرق والأصول الجارية في اثبات الملكية
ليست كلها في عرض واحد، بل هي طولية لان بعضها يجرى في أصل السبب
كأصالة القصد الجارية عن الشك في تحقق قصد الانشاء في البيع واليد الجارية عند
الشك في ملكية البائع وغيرهما. وبذلك تتحقق الملكية من ناحية السبب ثم الدليل
على هذه الملكية انما هو اليد والبينة والاستصحاب وشبهها، والملكية الثابتة بهذه
الطرق كلها ظاهرية وليست واقعية فعند دعوى المدعى ملكية المال واقراره باليد
يعلم منه بقرينة الاقرار باليد بان موضوع دعواه ليست الملكية الظاهرية مطلقا ولو
كانت الثابتة باليد - لأنه تكذيب لدعواه - بل الملكية الظاهرية التي تكون في
58

مرحلة سابقة على اليد وفى مرتبة الأصول في السبب مثلا - وكذلك لو لم يقر
باليد ولكن كانت اليد معلومة له.
وعليه فموضوع الدعوى غير الملكية الثابتة باليد فيشكل جواز الشهادة
استنادا إلى اليد لان المشهود به غير مصب الدعوى فلا اشكال على المحقق في
كلامه.
نعم في صورة عدم اقراره باليد وعدم وضوحها له لا مانع من جواز
الشهادة لمن يعلم باليد لان دعواه انما هي الملكية الظاهرية مطلقا أن لا قرينة
على إرادة الملكية الظاهرية في المرحلة السابقة على اليد وهي معلومة بالوجدان
بمقتضى اليد فتجوز الشهادة بها.
فالمتحصل انه لا بد من التفصيل بين صورة الاقرار باليد أو العلم بها وصورة
عدمهما ففي الأولى لا تجوز الشهادة بمقتضى اليد لان المشهود به غير مصب
الدعوى وفى الثانية لا مانع منها لاتحاد مصب الدعوى مع المشهود به فالتفت
وتدبر.
واما الاستدلال على جواز الشهادة بمقتضى اليد برواية حفص بن غياث
المتقدمة في أدلة حجية اليد ورواية معاوية بن وهب التي ذكرها في الوسائل
مستشهدا بها على جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب ففيه منع:
اما رواية حفص فهي مضافا إلى ما تقدم من مناقشة دلالتها على حجية
اليد على الملكية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها في اثبات الحكم.
واما رواية ابن وهب فهي غير دالة على المطلوب لان ظاهر السؤال فيها
ان الشخص يرى استحقاق الورثة للمال بمقتضى الموازين الظاهرية لكن القاضي لا
يعمل بذلك تعنتا بل متوقف على الشهادة كما هو ظاهر قوله " ولا تقسم "، فسأل
الإمام (عليه السلام) عن جواز الشهادة في مثل ذلك لاجل ايصال الحق إلى
أصحابه.
59

فالحكم بجواز الشهادة هنا لا يستلزم صحة الشهادة في كل مورد حتى
المورد الذي يتوقف ثبوت الحق ظاهرا على الشهادة إذ الحق في مورد الرواية ثابت
ظاهرا مع قطع النظر عن الشهادة لعدم المدعي في مقابل الورثة المعلومين فانتبه
ولا تغفل.
الجهة الثامنة: في الأيدي المتعددة على العين الواحدة.
لا شبهة ولا اشكال في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة عند تعدد الأيدي
على العين الواحدة.
الا ان الاشكال في أن الحكم بالملكية المشاعة هل هو من جهة تحقق اليد
على الحصة المشاعة أو من جهة أخرى، فالبحث علمي صرف وهو يقع في جهات
ثلاث:
الجهة الأولى في امكان تحقق الاستيلاء واليد على الحصة المشاعة.
الجهة الثانية: في وجود ما يدل على تحققها عليها فيما نحن فيه بعد الفراغ عن
امكان الاستيلاء ثبوتا.
الجهة الثالثة في جهة الحكم بالملكية المشاعة على القول بعدم تحقق
الاستيلاء على الحصة المشاعة ثبوتا أو اثباتا.
اما الجهة الأولى وهو - مقام الثبوت - فتحقيق الكلام فيه يتوقف على بيان
المحتملات في معنى ملكية المشاع ومعنى الاستيلاء الذي هو معنى اليد.
أما ملكية المشاع فقد قيل كما هو المختار - بأنها ملكية واحدة طرفها
متعدد، وهو طرف المالك. فأحد طرفي العلقة الملكية مشدود بالمال والآخر مشدود
بذوي الأيدي فكل فرد له انتساب إلى هذه الملكية بحيث تترتب آثار الملكية
المستقلة عند انضمام الجميع.
وقيل بأنها ملكيات متعددة بتعدد الحصص فكل فرد له ملكية مستقلة
لحصته الخاصة به وهذه الملكيات المتعددة.
60

تارة يقال بأنها متعلقة بأمر شخصي خارجي ويعبر عنه بالكسر المشاع
بحيث تكون كل حصة من كل جزء يمكن فرضه للعين مملوكة للفرد فالمملوك جزء
خيالي فرضي.
وأخرى يقال بأنها متعلقة بامر كلي من قبيل الكلى في المعين - لامتناع تحقق
السريان والشيوع في الامر الجزئي بان يكون المملوك هو الحصة الخاصة من العين
المتحققة في ضمن هذا المعين وهو العين.
ثم إن الاحتمالين في الكلى في المتعين وهما كونه امرا خارجيا من قبيل الفرد
على سبيل البدل وكونه امرا كليا من قبيل الكلى في الذمة فالمملوك امر كلى في
الذمة يتصوران ههنا.
وان كان الاحتمال الثاني فيه لا مجال له فيما نحن فيه بل لا معنى له كما لا
يخفى (1). فمن يقول بان الكلى في المعين من مصاديق الكلى في الذمة لا وجه له لان
يقول بان ملكية المشاع بنحو ملكية الكلى في المعين. فالاحتمالات في ملكية المشاع
- على هذا - ثلاثة:
واما الاستيلاء فليس المراد منه قطعا خصوص الاستيلاء الخارجي المقولي
كالاستيلاء على الخاتم بلبسه وعلى الدابة بركوبها، لصدق اليد على الأراضي
الواسعة مع عدم تحقق الاستيلاء الخارجي عليها.
فلذلك ذكر المحقق الأصفهاني بان المراد منه أعم من الاستيلاء المقولي
والاستيلاء الاعتباري كالاستيلاء على الأعيان الواسعة فإنه بالبناء العرفي يعتبر
الاستيلاء عليها وإن لم يكن بمستول عليها حقيقة (2).
ولكن الانصاف ان الاستيلاء امر انتزاعي ينتزع عن التصرفات الخارجية

(1) وجهه ان مقتضى ذلك كون العين مملوكة لصاحبها الأول والشريكان لهما في ذمته - لان
الملكية لم تتعلق بامر خارجي في المعين أصلا - ولا يظن وجود قائل بذلك فالتفت.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 331 - الطبعة الأولى.
61

في العين حتى في مثل لبس الخاتم وركوب الدابة فالاستيلاء الحاصل على الأعيان
الواسعة وغيرها استيلاء انتزاعي لا اعتباري قائم بوجود المعتبر بل له وجود
حقيقي غاية الامر انه انتزاعي ولا حقيقي مقولي ففي الاستيلاء احتمالان.
ثم إن الاستيلاء الحقيقي المقولي في مورده لا يمكن تصوره على الحصة
المشاعة بأي معنى من المعاني التي ذكرناها لملكية المشاع لأنه يكون على العين
كلها إذ لا وجود للحصة المشاعة متعينا كي يتحقق الاستيلاء عليه خارجا.
واما الاستيلاء الاعتباري فهو خفيف المؤنة إذ لا يحتاج إلى مؤنة خارجية
أصلا لتقومه بنفس المعتبر وليس له ما بإزاء في الخارج فيمكن تحققه على الحصة
المشاعة بأي تصوير ذكر لملكيتها ويكون شأنه شأن ثبوت الملكية لها الذي هو
ثبوت اعتباري فكما يتصور ملكية الحصة المشاعة واعتبارها على جميع
الاحتمالات كذلك يمكن تصور اعتبار الاستيلاء عليها.
وأما الاستيلاء الانتزاعي فتصوره بالنسبة إلى الحصة المشاعة على الاحتمال
الأول لملكيتها ممكن لان العقلاء ينتزعون من تصرف الشخصين بالعين تصرفا
خارجيا مع استئذان كل واحد منهما من الآخر وبلا مزاحمة ثالث لهما استيلائهما
على العين بنحو يناسب ملكيتهما للعين بحيث يكون استيلاء كل منهما ناقضا
وبانضمامهما يكون استيلائهما استيلاء تاما فهو يناسب الملكية بالمعنى الذي اخترناه.
وأما على الاحتمال الثاني فانتزاع الاستيلاء على الحصة المشاعة من
التصرفات الخارجية لا يمكن تحققه لان التصرفات الخارجية لا تكون في الكسر
المشاع لأنها انما تكون في الأمور المفروزة المتعينة فهي تقع على العين كلها
نعم التصرفات المعاملية كالبيع والهبة والصلح يمكن تحققها بالنسبة
إلى الكسر المشاع فمنها يمكن انتزاع تحقق الاستيلاء على الكسر المشاع.
ومثله في الكلام الاحتمال الثالث الذي هو جعل الحصة المشاعة بنحو
الكلى في المعين ولكنه امر خارجي على سبيل البدل.
62

هذا كله في مقام الثبوت.
واما الجهة الثانية - وهو مقام الاثبات - الذي يكون الكلام فيه في تحقق
الاستيلاء على الحصة المشاعة خارجا وعدم تحققه.
فأما على الاحتمال الأول في ملك المشاع فلا اشكال في انتزاع الاستيلاء
خارجا والحكم بالتنصيف من جهة اليد إذ لا يحتاج ذلك إلى أكثر من موضوع
المسألة المفروض وهو كون العين بيد شخصين أو أكثر يتصرفان فيها كما أن اعتبار
الاستيلاء أيضا متحقق.
واما على الاحتمالين الأخيرين فحيث لا تصرفات خارجية واقعة على
الحصة المشاعة تكشف عن اعتبار الاستيلاء عليها أو ينتزع عنها الاستيلاء لأنها
تقع على العين كلها فلا تحقق لليد على الحصة المشاعة بل اليد على العين
بمجموعها.
نعم إذا رؤي منهما التصرفات المعاملية الواقعة على الحصة المشاعة يحكم
باستيلائهما على الحصة أو ينتزع عنها ذلك.
ولكنه فرض زائد على موضوع المسألة - كما لا يخفى -.
ثم إنه في صورة عدم ثبوت الاستيلاء على الحصة المشاعة اثباتا أو ثبوتا
فلا بد من بيان الوجه في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة وهو الجهة الثالثة من
جهات البحث -:
وقد ذكر للحكم بالتنصيف والملكية المشاعة وجوه:
الوجه الأول: ما في المستند من دلالة رواية يونس بن يعقوب الواردة في
المتاع - على ذلك لقوله (عليه السلام) " ومن استولى على شئ منه فهو له " فإنها
تدل على أن المستولي على شئ فهو له، وهذان الشخصان قد استوليا على هذا المال
فهو لهما، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.
ويعضده الروايات الدالة على الحكم بالتنصيف فما لو تداعى شخصان مالا
63

وكان بيدهما ولم يكن لأحدهما بينة أو كانت لكليهما (1) ثم إنه نفى دلالة رواية
حفص على ذلك فإنه بعدما ذكر توهم دلالتها باعتبار انه تدل على الملازمة بين
جواز الشراء ممن بيده المال والشهادة بملكيته فكلما جاز الشراء جازت الشهادة
بالملكية ولا اشكال في جواز شراء العين من هذين الشخصين فمقتضى الرواية
الدالة على الملازمة هو الحكم بملكيتهما للعين ذكر ان هذا غير تام لان الرواية إنما
تدل على أن هذا المال الذي بيديهما بينهما دون غيرهما، فملكيته لا تتعداهما إلى
ثالث اما انه لكليهما أو لأحدهما فذلك لا تدل عليه الرواية وأجنبي عن
مفادها (2).
ولا يخفاك ان ما ذكره بجهاته الثلاثة غير تام.
أما رواية يونس بن يعقوب فهي انما تدل على المدعى لو قلنا بان لهما
استيلاء واحدا يرتبط بهما معا، كما قررناه على الاحتمال الأول لملكية المشاع فإنه
يكون مشمولا للرواية لان هذا المال يكون لهما استيلاء عليه فهو لهما لاندراجهما
تحت " من استولى " اما لو قلنا بان لكل منهما استيلاء مستقلا تاما - كما عليه
صاحب المستند فلا يتم ما ذكره من دلالتها على المدعى لان كلا منهما يكون
مشمولا للرواية - لا كليهما معا - لان له استيلاء على المال كله ومقتضى الرواية
ثبوت المال له فيتعارضان.
وأما ما ذكره من انه تعضده الروايات الواردة في مقام التداعي فلا وجه له
لما ستعرفه من أن محل الكلام ما لم يكن أي دعوى وتداع في البين ووجود الفرق
بين الصورتين.
واما ما ذكره بالنسبة إلى رواية حفص فالوجه الذي يرتكز عليه ما ذكره

(1) وسائل الشيعة 18 / 188 باب 12 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 3.
(2) المحقق النراقي ملا احمد مستند الشيعة 2 / 579 الطبعة الأولى.
64

بحيث يخرج عن كونه دعوى جزافية هو انه لاحظ بان الحكم بملكية ذي اليد انما
هو بلحاظ نفي ملكية الغير باليد واستفادة ملكية الشخص ذي اليد تكون
بالملازمة فمصب الرواية انما هو على نفي ملكية الغير كما يشهد به قول السائل:
" فلعله كان لغيره ".
ولكنه غير سديد فان ظاهر من الرواية كون الملحوظ هو الحكم بملكية
ذي اليد باليد بلا لحاظ نفى ملكية الغير. واما قول السائل المذكور فهو لبيان وجود
الشك في ملكية ذي اليد إذ لو لم يشك في أنه لغيره لا وجه للتوقف في ملكية ذي
اليد فالحكم بالملكية لا يرجع أولا إلى نفى ملكية الغير بل إلى اثبات ملكية ذي
اليد وعدم الاعتناء بالشك.
وعلى أي حال فليس تحقيق ذلك بمهم بعد ضعف سند الرواية وعدم دلالتها
على حجية اليد على الملكية.
الوجه الثاني: قاعدة العدل والانصاف المستفادة من الروايات الواردة في
الموارد الجزئية ومقتضاها الحكم بالتنصيف والشركة فيما لو دار المال بين شخصين
مع عدم المرجح لملكية أحدهما بالخصوص لأنه مقتضى الانصاف فان الترجيح
بدون مرجح ينافيه.
ولكن الانصاف عدم تمامية الاستدلال بها فيما نحن فيه لأنها - على تقدير
تسليمها - انما تتم في صورة العلم بعدم ملكية غير هذين الشخصين ودوران ملكية
العين بينهما فقط فلا بد في الاستدلال بها على المدعى من فرض العلم بعدم ملكية
غير من بيدهما المال أو ادعاء ان اليد من الامارات وان الامارة تثبت اللوازم
وحجة في الدلالة الالتزامية فاليد حجة فيها. وقد تقرر في محله انه في صورة وقوع
المعارضة بين الأمارتين يسقط عن الحجية خصوص مورد المعارضة من الدلالات
ويبقى الباقي على حجيته فيسقط في المقام خصوص الدلالة المطابقية التي موضوعها
ملكية ذي اليد للمال لكل من اليدين لمعارضتها بالدلالة الالتزامية لليد الأخرى
65

اما الدلالة الالتزامية على نفى ملكية غير ذوي اليدين فهي باقية على حجيتها لعدم
كونها موضوع المعارضة.
وكلا الفرضين ممنوعان..
اما فرض العلم فلأنه خلاف الفرض ومحل الكلام لان المفروض تردد
الملكية بينهما وبين غيرهما لا بينهما بالخصوص مضافا إلى أن المدعى ثبوت الحكم
المذكور لهذه الصورة مطلقا والقاعدة لا تشملها بجميع افرادها.
واما الفرض الثاني فقد عرفت عدم ثبوت أمارية اليد كما عرفت انها لو
كانت فلا تكون حجة في الدلالة الالتزامية لان الامارات ليست حجة فيها بقول
مطلق.
واما الحكم بعدم ملكية الغير في صورة الحكم بملكية شخص فهو ليس
لأجل الدلالة الالتزامية بل لأجل الملازمة الظاهرية بين ثبوت ملكية الشخص
وعدم ملكية غيره، وهي غير متحققة فيما نحن فيه لان اليد سقطت عن الحجية
على الملكية بالمعارض فلا يترتب عليها ما هو أثر الملكية الظاهرية.
الوجه الثالث: الاستدلال بالخبر المرسل الدال على التنصيف في ما لو تداعى
في عين اثنان ولا يد لهما عليها (1) ففي الفرض لما كانت يد كل منهما حجة على
ملكيته فيتساقطان لمزاحمة كل منهما الأخرى إذ لا يمكن اجتماع سببين متزاحمين
على مسبب واحد لاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلتين لعين واحدة وإذا سقطت
اليدان عن الحجية تكون العين كما لو لم يكن للمتداعيين عليها يد فيشملها المرسل
الحاكم بالتنصيف.
وهذا الوجه - كأخويه - غير وجيه لان مورد الخبر صورة التداعي ووجود
الدعوى على الملكية والمفروض في المقام عدم وجود شئ من ذلك غير اليد،

(1) سنن البيهقي 10 / 255 الا ان فيها (ليس لأحدهما بينة).
66

بحيث يكون الشك في ملكيتهما أو عدم ملكيتهما وملكية غيرهما لا في ملكيتهما
أنفسهما وانه أيهما المالك.
وعليه فلا يتجه الاستدلال بالخبر المذكور إذ الحال يفترق بين وجود
الدعوى وعدمه لان الدعوى لما كانت بمنزلة الاخبار فدعوى كل منهما الملكية كما
تكون إخبارا بها تكون اخبارا بلازمها وهو عدم ملكية غيره لان الاخبار
بالشئ اخبار بلازمه - فدعواهما بالنسبة إلى نفى ملكية غيرهما معا دعوى بلا
معارض ومن المعلوم الحكم على طبقها فملكية الغير معلومة حكما في صورة
الدعوى فيكون الفرض من موارد قاعدة العدل والانصاف التي يحكم فيها
بالتنصيف المشاع مع عدم المرجح لأحد المتداعيين.
وهذا بخلاف صورة عدم الدعوى لعدم العلم بعدم ملكية الغير والمفروض
فيما نحن فيه ذلك فتعدية الحكم من تلك الصورة إلى هذه بلا ملاك ومستند.
ومن هنا ظهر عدم صحة التمسك بالروايات الدالة على الحكم بالتنصيف في
صورة التداعي وكون العين بيد المتداعيين وعدم المرجح كما فعل صاحب المستند
كما مر عليك -.
وعلى هذا يتضح عدم صحة التمسك بأحد هذه الوجوه.
فالذي ينبغي ان يقال إنه على الاحتمال الأول في ملكية المشاع حيث إنه لا
اشكال في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة فالحكم بملكيتها لأجل اليد وشمول
دليل اعتبارها. وأما على الاحتمالين الأخيرين فقد عرفت عدم تحقق الاستيلاء على الحصة
المشاعة.
فان قلنا: بان الاستيلاء على تمام العين وان كان استيلاء مستقلا الا انه
استيلاء ناقص ضعيف بحيث يكون استيلاؤهما بمنزلة استيلاء واحد تام بتقريب
ان التصرف إذا خرج عن الاختيار وكان قهريا لم ينتزع عنه عنوان الاستيلاء،
67

والتصرف منهما وإن لم يكن في نفسه قهريا بل باختيارهما لكنه حيث يتوقف على
الاذن من الطرف الآخر كان قهريا من هذه الجهة فيكون استيلاء كل منهما استيلاء
ضعيفا لان فيه جهة غير اختيارية - أمكن دعوى وجود بناء العقلاء على ملكيتهما
للمال دون غيرهما من دون تعيين الحصة وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة
المبهمة يكون الحكم هو التنصيف.
وان قلنا بان استيلاء كل منهما استيلاء مستقل تام - كما عليه صاحب
المستند فإنه ذكر أنه لا مانع من تحقق استيلائين كذلك على عين واحدة بحيث لو
كان وحده لدل على ملكية المستولي وحده للعين فلا محيص عن القول بسقوط
اليدين عن الحجية للتزاحم.
ولا وجه حينئذ للحكم بالتنصيف والملكية المشتركة المشاعة فتدبر جيدا.
الجهة التاسعة في حجية اليد مع شك ذيها في الملكية.
وقد حررت هذه المسالة على نحوين:
الأول: يرتبط بتكليف نفس ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده لو شك في ملكيته
له، فهل يرتب آثار الملكية بملاك اليد أو لا؟
الثاني: يرتبط بتكليف الغير بالنسبة إلى ما في يد الشاك المصرح بعدم العلم
فهل يرتب على ما في يده آثار ملكيته له مع تصريحه بعدم علمه بملكيته للمال أو
تختص حجية اليد بصورة دعواه الملكية أو سكوته.
وقد حرر المسألة بهذا النحو صاحب المستند (قدس سره). كما حررها
بالنحو الأول المحقق الأصفهاني (قدس سره) ولا يختلف الحال فيما هو المهم على
التقديرين.
والعمدة في ثبوت دعوى الاختصاص - كما عليه صاحب المستند - خبرا
جميل بن صالح وإسحاق بن عمار
اما صحيحة جميل بن صالح " رجل وجد في بيته دينارا قال يدخل منزله
68

غيره؟ قلت نعم كثير قال: هذه لقطة قلت فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال:
يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا قال: فهو له " (1) فقد
قرب صاحب المستند الاستدلال بها على المدعى - بعد أن بين قصور أدلة اعتبار
اليد عن شمول هذه الصورة بأنه (عليه السلام) حكم فيما هو في داره الذي لا يعلم
انه له مع كونه في يده على ما مر ومستوليا عليه انه ليس له وأيضا علل كون ما
وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.
فالصدر يدل على عدم حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد في صورة التردد (2).
ويرد عليه ما افاده السيد الطباطبائي (قدس سره) في ملحقات العروة من:
ان عدم ادخال شخص غيره يده في صندوقه لا يلزم منه ارتفاع الشك في كون
الدينار له أو لغيره ولا يوجب العلم بعدم كونه لغيره إذ يمكن أن يكون الشك من
جهة كونه عارية أو أمانة أو غيرهما أو من جهة وضع غيره للدينار في صندوقه
اتفاقا ولا ينافي ذلك ما هو المفروض من عدم ادخال شخص غيره يده عادة (3).
فالذيل يدل على عدم الاختصاص لأنه حكم بملكية ذي اليد مع تحقق
الشك لديه في أن الدينار له أو لغيره. ولكنه (قدس سره) أورد على استدلال صاحب المستند بالصدر بأنه لم
يصرح فيه بأنه لا يعلم انه له أو لغيره بل الظاهر علمه بأنه ليس له فهو أجنبي عما
نحن فيه.
ولكن ما ذكره (رحمه الله) غير واضح الوجه إذ لا ظهور في الرواية ولا
قرينة على ما ادعاه من فرض العلم بعدم كون الدينار له بل الموارد الغالبة على
خلافه فان الغالب فيما لو وجد الشخص في داره مالا حصول الشك في كونه له أو

(1) وسائل الشيعة 17 / 353 باب 3 من أبواب اللقطة الحديث: 1.
(2) المحقق النراقي ملا احمد مستند الشيعة 2 / 577 - الطبعة الأولى.
(3) الطباطبائي الفقيه السيد محمد الكاظم. العروة الوثقى 3 / 120 - الطبعة الأولى.
69

لغيره والعلم بعدم ملكيته انما يكون في موارد خاصة ليس في الرواية ما يدل على
المورد منها كما لو كان صاحب الدار عارفا بمقدار ما يملكه من المال أو كان
ما وجده نحوا من المال يخالف نحو ما يملكه عادة.
وقد أورد المحقق الأصفهاني (رحمه الله) على الاستدلال بصدر الرواية على
المدعى بما يرجع إلى أن عدم حكم الإمام (عليه السلام) في المورد بملكية ذي اليد
انما كان لاجل معارضة غلبة اليد المالكية بغلبة أخرى.
وذلك لأنه مع كثرة الداخلين يكون احتمال كون المال لذي الدار معارضا
بالاحتمالات الكثيرة التي موضوعها كون المال لغيره يكون ضعيفا فلا غلية في
صورة وجود الداخل فينتفى ملاك حجية اليد على الملكية (1).
ولكن ما ذكره (قدس سره) عجيب لأنه جار في جميع موارد الشك في
ملكية ذي اليد التي يدور الامر بين ملكيته وملكية غيره غير المعين لتعدد
الاحتمالات المعارضة لاحتمال كون المال لذي اليد وكثرتها كما لا يخفى.
واما احتمال انه مع تعدد الداخل للدار أو الواضع في الصندوق يتعدد
الاستيلاء على الدار وعلى الصندوق ومعه تكون اليد معارضة بيد أخرى دون
صورة التفرد.
فهو وإن لم يبعد بالنسبة إلى الصندوق إذ قد يتعارف إذن صاحب الصندوق
لغيره في الاستفادة من صندوقه بوضع المال لكنه بعيد بالنسبة إلى الدار إذ دخول
الناس في دار الغير ولو كان كثيرا لا يحقق الاستيلاء على الدار.
والذي ينبغي ان يقال ان الاستيلاء كما عرفت منتزع عن التصرف الخارجي
الاختياري فإذا لم يكن وضع الشئ في دار انسان يعلمه واختياره لم يعد عرفا
مستوليا على ذلك المال.

(1) الأصفهاني المحقق محمد حسين نهاية الدراية 3 / 333 الطبعة الأولى.
70

نعم إذا وضعه بنفسه أو باذنه كان مستوليا عليه وان غفل بعد ذلك عنه.
فمع عدم احراز استيلائه وان هذه العين التي يشك في ملكيتها الآن هو كان
قد وضعها في هذا المكان ليكون مستوليا عليها عرفا أو وضعها غيره بلا علمه
واختياره فلا يكون مستوليا عليها لعدم تحقق منشأ الاستيلاء عليها منه أصلا.
لا يصح الحكم بملكيته لعدم احراز يده على المشكوك فلا ملاك للحكم
بملكيته.
ومن هذا القبيل مورد الصدر - أعني: الدينار الموجود في الدار - فإنه بعد أن
كان يدخل إلى الدار غيره كان استيلاؤه على الدينار الموجود فيها غير محرز
لاحتمال كونه من غيره ولم يكن وجوده في الدار عن اختياره فلا يكون مستوليا
عليه فلذلك لم يحكم (عليه السلام) بملكية صاحب الدار للدينار بل حكم بأنه
لقطة.
واما مع احراز استيلائه كان الحكم بملكية المشكوك متعينا لتحقق ملاكه
ومنه مورد الذيل وهو الدينار الموجود في الصندوق لأنه إذ لم يكن أحد
غيره يدخل يده في الصندوق يتعين كون الواضع للدينار صاحب الصندوق فيكون
الدينار بيده وتحت استيلائه، فالحكم بملكيته على طبق قاعدة اليد.
فالمتعين في المقام التفصيل بين صورة احراز الاستيلاء فيحكم بملكية ذي
اليد - إذ لا يبعد بناء العقلاء على ذلك - وبين عدم احرازه فلا يحكم بالملكية لعدم
تحقق ملاكها.
والتفصيل في الرواية بين صورة دخول غيره الدار وعدمه وبين ادخال غيره
يده في الصندوق وعدمه انما هو لأجل ما ذكرناه.
هذا ولكن الانصاف ان ذيل رواية جميل لا دلالة له على حجية اليد على
ملكية ذي اليد نفسه، إذ هي ظاهرة في انحصار الاستيلاء بذي اليد بنحو يطمئن
بكون المال له وعدم احتمال كونه لغيره احتمالا معتدا به إذ المراد من وضع أحد شيئا
71

في الصندوق ليس وضعه من دون علمه وباستيلاء خاص به بل وضعه فيه
بواسطته وبطريقة بحيث يكون الواضع مباشرة هو صاحب الصندوق وذلك بقرينة
تقابل وضع شئ مع ادخال أحد يده في الصندوق وحينئذ فإذا نفي ادخال أحد يده
في الصندوق مع نفى صاحب الصندوق مال الغير فيه يتعين بحكم العادة كون
المال لصاحب الصندوق وكون التردد في غير محله وأشبه بالوسوسة فقوله (عليه
السلام) " فهو له " ليس حكما تعبديا بل هو اخبار عن نتيجة نفى الامرين فتدبر.
واما رواية إسحاق بن عمار الموثقة: " عن رجل نزل في بعض بيوت مكة
فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة
كيف يصنع؟ قال: فاسأل عنها اهل المنزل لعلهم يعرفونها قلت: فان لم يعرفوها
قال يتصدق بها " (1) فقد قرب صاحب المستند دلالتها على ما ذهب إليه بأنه لا
شك ان الدراهم كانت في تصرف اهل المنزل على ما عرفت ولو أنهم قالوا لا نعلم
انها لنا أو لغيرنا فيصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم (2).
والمهم في رد الاستدلال بها امران:
الأول عدم وضوح تحقق الاستيلاء على المدفون.
والثاني، ورودها في الكنز وهو ذو احكام خاصة لا ترتبط بالقواعد الكلية
والأصول العامة فلا يتجه الاستدلال بها على الاختصاص.
والحاصل ان الظاهر تحقق بناء العقلاء على حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد
نفسه من احراز استيلائه ويده وإلا فلا ملاك للحكم بملكيته خارجا فتدبر.
الجهة العاشرة في حجية يد المسلم على التذكية.
وثمرة الكلام انما تظهر في ما لم تكن على المشكوك تذكيته أمارة على التذكية

(1) وسائل الشيعة 17 / 355 باب 5 من أبواب اللقطة الحديث: 3.
(2) المحقق النراقي ملا احمد مستند الشيعة 2 / 578 - الطبعة الأولى.
72

من سوق المسلمين أو ارض الاسلام أو تصرف المسلم بل لم يكن الا في يد المسلم
من دون انضمام تصرفه المتوقف على التذكية إليها أو سوق المسلمين أو غير ذلك
من الامارات الدالة على التذكية كما لو وجد اللحم في يد المسلم وهو في الطريق ولم
يعلم انه ذاهب به ليأكله أو ليلقيه وينبذه.
فان قلنا بأمارية يد المسلم بنفسها جاز ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم
وإلا فلا يجوز ترتيبها ما لم ينضم إليها التصرف المتوقف على التذكية.
وحيث تعين محل الكلام فعدم أمارية اليد على التذكية بحيث تكون امارة
في قبال ارض الاسلام وسوق المسلمين وتصرف المسلم - واضح لعدم الدليل
عليها أصلا لان الاخبار واردة في بيان أمارية سوق المسلمين وارض الاسلام
واما يد المسلم فلا دليل على اماريتها.
نعم هناك خبر واحد وارد في يد المسلم - وهو خبر إسماعيل بن عيسى
الآتي - الا ان الحكم بالحلية فيه مرتب على تحقق التصرف المتوقف على التذكية
من المسلم دون مجرد كونه في يده وكون التصرف موردا ولا يخصص الوارد فلا
يدل أمارية اليد بما هي يد.
وعلى هذا فلا حاجة إلى صرف الكلام إلى مرحلة الثبوت وتحقيق وجود
ملاك أمارية في يد المسلم وغير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن.
نعم لا بأس في التعرض إلى امرين:
الامر الأول ان حجية سوق المسلمين وارض الاسلام وتصرف المسلم على
التذكية هل مرجعه إلى أصالة الصحة في فعل المسلم أو أنه جعل مستقل لامارات
مستقلة لا يرتبط بأصالة الصحة؟.
ذهب صاحب الجواهر (قدس سره) إلى أن مرجع الجميع إلى أصالة الصحة
في فعل المسلم ولأجل ذلك حكم بعدم أمارية اليد المجردة عن التصرف المتوقف
73

على التذكية (1).
ويورد عليه بما افاده المحقق الهمداني (قدس سره) في مصباحه من أن أصالة
الصحة في فعل الغير المسلم انما تثبت صحة العمل الصادر من المسلم المشكوك في
صحته للشك في وجود بعض شرائطه - مثلا - ولا تثبت وجود المشكوك وتحققه
خارجا فهي في المقام تثبت صحة البيع أو صحة الصلاة بمشكوك التذكية اما انها
تثبت التذكية المشكوكة كي تصح صلاة المشترى فيه فلا، فلا وجه لارجاع أمارية
هذه الأمور إلى أصالة الصحة.
ولا يخفى ان البحث المذكور بحث علمي صرف ولا اثر له في مقام العمل
الامر الثاني ان اليد على تقدير ثبوت اماريتها على التذكية فهل هي امارة
مستقلة منفصلة عن سوق المسلمين أو ان سوق المسلمين امارة على التذكية
باعتبار أماريته على يد المسلم لا باعتباره نفسه فهو امارة على الامارة؟.
والأثر العملي في هذا الكلام ظاهر فإنه لو كان سوق المسلمين امارة مستقلة
على التذكية لحكم بما في يد الكافر الموجود في سوق المسلمين بالتذكية.
بخلاف ما لو لم يكن امارة مستقلة بل كان امارة على الامارة للعلم بعدم
تحقق يد المسلم التي هي الامارة في الفرض فلا اثر لسوق المسلمين نعم في صورة
الشك بتحقق يد المسلم بان شك في كون ذي اليد مسلما أو كافرا يحكم بمسلميته
بمقتضى السوق وهذا معنى أمارية سوق المسلمين.
وقد ذهب المحقق الهمداني (قدس سره) إلى الثاني مستظهرا ذلك من رواية
إسماعيل بن عيسى (موسى خ) " عن الجلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من
أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال (عليه
السلام): عليكم أنتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم

(1) النجفي الشيخ محمد حسن جواهر الكلام 8 / 56 - الطبعة الحديثة.
74

يصلون فيه فلا تسألوا عنه ".
ووجه الاستظهار انه (عليه السلام) في فرض الشراء من السوق فصل في
مقام وجوب السؤال عن ذكاة الجلد بين كون البائع مشركا فيجب السؤال وكونه
مسلما فلا يجب مما يكشف عن أن السوق بنفسه لا عبرة فيه بل انما يعتبر باعتبار
كشفه عما هو امارة وهو يد المسلم ولذلك لم يعتبر في صورة العلم بيد الكافر في
مورد الرواية إذ لا موضوع لأمارية السوق حينئذ (1).
وفيه ما لا يخفى فإنه لا ظهور ولا قرينة في الرواية المذكورة على كون المورد
من موارد سوق المسلمين وكون الملحوظ فيها أماريته وعدمها بل ذيل الرواية
الذي يقتضى ايكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية تصرف المسلم بالصلاة يدل على
عدم لحاظ السوق أصلا وإلا لكان المناسب ايكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية
بيع المسلمين لاحراز يدهم وتصرفهم.
فالانصاف ان هذه الرواية لا تدل على ما ذهب إليه الفقيه الهمداني (رحمه
الله)، فتبقى عمومات اعتبار سوق المسلمين في الحكم بالتذكية سالمة عن المخصص.
وبذلك يكون السوق امارة بنفسه على التذكية.
الجهة الحادية عشرة: في أمارية يد الكافر على عدم التذكية ويلحق بهذا
البحث الكلام في أمارية ارض الكفر وسوق الكفار على عدم التذكية.
فهل ان يد الكافر بنفسها امارة على عدم التذكية أو انها ليست بأمارة،
والحكم بعدم التذكية في موردها لأصالة عدم التذكية؟ ومثلها ارض الكفر وسوق
الكفار.
والثمرة في هذا الكلام تظهر في موارد:
منها ما لو تعارض سوق المسلمين ويد الكافر بان كا اللحم بيد كافر بائع

(1) الفقيه الهمداني الشيخ أغا رضا مصباح الفقيه / 141 كتاب الطهارة - الطبعة القديمة.
75

في سوق المسلمين فإنه بناء على أن الحكم بعدم تذكية ما في يد الكافر لاجل
أمارية يده على عدم التذكية تتعارض الامارتان أعني سوق المسلمين ويد الكافر
وبناء على أن الحكم المذكور من جهة أصالة عدم التذكية يكون السوق مقدما
على اليد لأنه إمارة وهي واردة على الأصل كما لا يخفى.
ومنها ما لو اجتمعت يد الكافر ويد المسلم ويتصور ذلك فيما لو كانت يد
الكافر على جزء من الحيوان ويد المسلم على جزء آخر لان الحكم بالتذكية أو
عدمها انما يكون بالنسبة إلى مجموع الحيوان لا إلى خصوص الجزء الموجود في اليد
إذ التذكية التي تكون اليد امارة عليها أو على عدمها انما هي تذكية الحيوان كله لا
تذكية هذا الجزء خاصة الذي تحت اليد فتدبر فإنه على القول بأمارية يد الكافر
تتعارضان وعلى القول بعدم اماريتها تكون يد المسلم مقدمة على أصالة عدم
التذكية
ومنها ما لو كانت الذبيحة فعلا بيد الكافر وكانت قبلا بيد مسلم فإنه بناء
على أمارية يد الكافر تكون متعارضة مع يد المسلم لأنها حين حدوثها كانت
امارة على التذكية حدوثا وبقاء، فتتعارض الامارتان وبناء على عدم اماريتها
تكون يد المسلم مقدمة على الأصل.
وقد استدل لأمارية يد الكافر وارض الكفر وسوق الكفار بأمور:
الدليل الأول: مصحح إسحاق بن عمار: " لا بأس في الصلاة في الفراء اليماني
وفيما صنع في ارض الاسلام قلت: فإن كان فيها غير اهل الاسلام؟. قال (عليه
السلام): إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس " (1).
والاستدلال بها على المدعى من وجوه:
الوجه الأول: مفهوم الشرط حيث إنه (عليه السلام) علق عدم البأس على

(1) وسائل الشيعة 2 / 1072 باب 50 من أبواب النجاسات الحديث: 5.
76

كون الغالب على الأرض المسلمين فيدل التعليق على ثبوت البأس عند عدم غلبة
المسلمين وبذلك يثبت المدعى.
ولكنه كما ترى فان ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين بمقتضى التعليق
أجنبي عن أمارية سوق الكفار الذي هو المدعى فإنه موضوع آخر وغاية ما
يقتضيه التعليق هو ثبوت البأس في هذا المورد اما ملاكه فلا تتكفل بيانه الرواية
فقد يكون الملاك هو أصالة عدم التذكية لتحقق موضوعها وعدم الامارة على
خلافها لكون المفروض عدم غلبة المسلمين فلا سوق لهم كي يرد على الأصل
المذكور فترتيب البأس على ارتفاع الغلبة قد يكون لاجل ارتفاع الرافع لموضوع
الأصل.
الوجه الثاني: مفهوم الوصف حيث إنه " ع " علق الحكم بنفي البأس على
الغلبة الموصوفة بغلبة المسلمين ومقتضاه ثبوت البأس عند الغلبة الموصوفة بغلبة
غير المسلمين فيكون المراد إذا كان الغالب عليها غير المسلمين ففيه بأس.
وظاهر ذلك استناد ثبوت البأس إلى غلبة غير المسلمين لا إلى امر آخر،
لان موضوع ثبوت البأس وعدمه في الموردين هو الغلبة والاختلاف في الحكم انما
كان من جهة الاختلاف في الوصف.
وهذا الوجه غير سديد لما حقق في محله من عدم حجية مفهوم الوصف
وعدم اعتباره شرعا.
الوجه الثالث: ان الظاهر كون الإمام (عليه السلام) في مقام اعطاء الضابط
في الطرفين - أعني التذكية وعدمها لا انه في مقام بيان حكم طرف دون آخر.
وحيث إنه جعل المناط في الحكم بالتذكية هو غلبة المسلمين يكون ذلك قرينة منه
على اعتبار الغلبة في الطرف الآخر فان المناط ثبوتا في التذكية وعدمها هو الغلبة
فاستفادة اعتبار غلبة الكفار في الحكم بعدم التذكية ليس من جهة المفهوم كي يقال
بان الوصف غير المعتمد على موصوف لا مفهوم له بل من جهة قرينة المقام وهي
77

كونه (عليه السلام) في مقام اعطاء الضابط في الطرفين لا اعطائه في طرف وايكال
السائل إلى جهله في طرف آخر.
وهذا الوجه - كأخويه - لا يجدي لاثبات المدعى لان ما يرتكز عليه من
كون الامام " ع " بصدد بيان الضابط للطرفين غير مسلم لان المسؤول عنه والذي
كان الامام بصدد بيان حكمه ليس إلا ما كان مصنوعا في ارض الاسلام اما ما كان
في ارض الكفر أو سوق الكفار فلا ظهور في الخبر على أنه (عليه السلام) كان
بصدد بيان حكمه فجعل الضابط في طرف هو الغلبة لا يستفاد منه كونه هو
الضابط في الطرف الآخر لقرينة المقام فالتفت.
الدليل الثاني: رواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة.
وقرب المحقق الأصفهاني (قدس سره) دلالتها على أمارية يد الكافر بأنها
بمقتضى الامر بالسؤال - تدل على وجوب الاجتناب عما كان بيد الكافر فيدور
الامر بين أن يكون منشأ ذلك أصالة عدم التذكية أو عدم الامارة الرافعة وهي يد
المسلم أو يد الكافر وحيث إن الظاهر كون المنشأ هو الثالث تحفظا على ظهور
كون الاسناد إلى ما هو له كان ذلك دليلا على اماريتها لأنها لا تكون بنفسها
حجة على عدم التذكية الا إذا كانت امارة (1).
ولكن الانصاف انها لا تدل على المدعى لان الظاهر أن وجوب السؤال هو
الذي تدل عليه الرواية وهو وجوب شرطي لا نفسي فيرجع مفادها إلى أنه إذا
أريد ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم الذي هو بيد المشرك فلا بد من الفحص
ولا يكفى في ترتيب الآثار كونه بيد المشرك بخلاف ما إذا كان بيد المسلم فان
ترتيب آثار التذكية جائز بمجرد كونه بيد المسلم بلا فحص وسؤال فينتزع من هذا
حجية يد المسلم وأماريته دون يد المشرك ولا ينتزع منه أمارية يد المشرك على

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 344 الطبعة الثانية.
78

العدم لان مرجع وجوب السؤال إلى عدم الاعتناء بيد المشرك وعدم ترتيب آثار
التذكية عليها وهذا لا يدل الا على عدم الا مارية لا على الا مارية على العدم.
وبالجملة حيث كان الامر في الرواية بالسؤال وظهور ذلك في كون وجوبه
شرطيا بمعنى انه شرط لترتيب آثار التذكية لا يكون في الرواية أي دلالة على
أمارية يد الكافر بل انما تدل على عدم أماريته.
نعم لو كان الحكم في الرواية بوجوب الاجتناب لأمكن ادعاء ظهور
استناده إلى يد الكافر فيدل على حجيته على العدم.
ولكن الامر ليس كذلك إذ الحكم بوجوب السؤال ووجوب الاجتناب
مستلزم له وهو أعني وجوب السؤال لا يدل الا على عدم الاعتناء بيد الكافر
في مقام ترتيب آثار التذكية.
وهذا انما ينفي الا مارية على التذكية لا انه يثبت الا مارية على عدمها.
كما يقرر مثل هذا الكلام في وجوب التبين عند اخبار الفاسق المستفاد من
آية النبأ فإنه يقال إنه وجوب شرطي مرجعه إلى عدم جواز ترتيب آثار الواقع
المخبر به عند اخبار الفاسق الا بعد السؤال والعلم بصحته وهذا انما يدل على عدم
حجية خبر الفاسق لا على حجيته على عدم وقوع المخبر به.
الدليل الثالث انه من المسلم عند الأصحاب انه إذا كانت الذبيحة بيد الكافر
في سوق المسلمين أو ارضهم فهي محكومة بعدم التذكية.
وهذا دليل على اعتبارهم يد الكافر امارة بحيث تعارض أمارية السوق
فيتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم التذكية والا فنفس أصالة عدم التذكية لا
تجدي لأنها محكومة للسوق لأنه امارة بلا معارض.
وفيه أن تسليمهم ليس بحجة بحيث يمكن التمسك به في قبال القواعد المقررة،
لأنهم بين
من لا يرى السوق والأرض امارة مستقلة بل هما امارة على الامارة كما
79

عرفت عن الفقيه الهمداني ففي صورة العلم بيد الكافر تنتفى أمارية السوق أو
الأرض.
ومن يرى رجوع هذه الامارات إلى أصالة الصحة في فعل المسلم كما
عرفت عن صاحب الجواهر وهي غير جارية في صورة العلم بكون اليد يد
كافر.
ومن يرى تخصص عموم أمارية السوق بيد الكافر لرواية إسماعيل بن
عيسى فلا يكون تسليمهم بذلك حجة على من لا يرى رأيهم بل ليس بناء منهم
على أمارية يد الكافر - فيلتزم بعدم الاعتناء بيد الكافر في سوق المسلمين.
هذا مضافا إلى أن تسليمهم لا يدل على بنائهم على أمارية يد الكافر بل
يمكن أن يكون لاجل انتفاء ملاك أمارية سوق المسلمين بالنسبة إلى يد الكافر وهو
الغلبة وستأتي الإشارة إليها عن قريب كما يلتزمون بسقوط خبر الواحد عن
الحجية عند معارضته للشهرة مع التزامهم بحجية الخبر وعدم حجية الشهرة.
بتوجيه: ان الشهرة توجب عدم الوثوق بصدق الخبر الذي هو ملاك حجيته - وان
أورد عليهم بان الملاك خبر الثقة لا الخبر الموثوق به -.
وبالجملة: فمن الممكن ثبوتا تصور التزام الأصحاب بتقدم اللا حجة على
الحجة لبعض الوجوه.
والمتحصل انه لا دليل على أمارية يد الكافر وارض الكفار وسوقهم على
عدم التذكية وليس الثابت الا عدم حجيتها.
الجهة الثانية عشرة: في أن يد المسلم نفسها أو مع اقترانها بالتصرف هل
هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستحل للميتة بالدباغ؟.
قد ذكر المحقق الأصفهاني (1) ان الكلام يكون تارة في مقام الثبوت وأخرى

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 347 - الطبعة الأولى.
80

في مقام الاثبات.
اما الكلام في مقام الثبوت فمحصله ان الحكم بالتذكية اما أن يكون لاجل
توقف حفظ النظام عليه والتسهيل على المؤمنين به أو لاجل الغلبة أعني غلبة
كون ما في أيدي المسلمين من ذبائحهم واما لاجل ظهور حال المسلم في احراز
التذكية عند تصرفه المتوقف على التذكية.
فعلى الأول فهو متحقق بالنسبة إلى ذبيحة المستحل لان غالب المسلمين
من اهل السنة وهم يستحلون ذبيحة الكتابي فالتحرز عن ذبائحهم يوجب العسر
والاختلال غالبا.
وعلى الثاني فكذلك لان معنى الغلبة كون الغالب مما في أيدي المسلمين
مذكى لا غيره، وهو متحقق بالنسبة إلى المستحلين، إذ الغالب مما في أيديهم كونه
مذكى بالذبح لا بالدباغ.
وعلى الثالث فالامر مشكل لان ظهور حال المسلم بالنسبة إلى المستحل
غير جار للعلم بأنه يحرز التذكية بالدباغ فظهور حاله في احراز التذكية لا يكشف
عن التذكية بالذبح دون الدباغ.
وعلى كل ففي الوجهين الأولين لاحراز ملاك الا مارية كفاية.
واما مقام الاثبات فالاطلاقات الدالة على أمارية اليد على التذكية مطلقا
تامة ولا يتوهم وجود مقيد لها الا خبر أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام):
" كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلا صردا فلا تدفيه فراء الحجاز لان دباغها
بالقرظ فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت
الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه وكان يسأل عن ذلك فيقول ان اهل العراق
يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون ان: دباغه ذكاته " (1) والاستدلال بها على

(1) وسائل الشيعة 3 / 338 باب: 61 من أبواب لباس المصلي الحديث: 2.
81

التقييد واضح.
ولكنه يشكل بضعف سندها وعدم صراحتها في الالزام إذ يمكن أن يكون
فعله (عليه السلام) للتنزه اللائق منه بمثل الصلاة أو الاحتياط فإنه حسن بحيث
يمكن معارضتها للاطلاقات الواردة في هذه الموارد وتقييدها لها.
واما ما ذكر من أنها كما يستدل بها على المنع كذلك يستدل بها على الجواز
للاجماع القائم على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا وعدم التفكيك بين الاستعمال
في الصلاة وغيرها فلبس الإمام (عليه السلام) لفرو العراق فيغير الصلاة مع
استحلالهم الميتة بالدبغ دليل على الجواز فلا بد ان يحمل نزعه في الصلاة على التنزه
فغير سديد إذ لم يعلم قيام الاجماع بنحو يصح الاعتماد عليه كيف؟ وقد
خالف في ذلك بعض مستدلا بهذه الرواية على حلية استعمال الميتة أو ما في حكمها
في غير الصلاة.
مضافا إلى ما تشير إليه بعض الاخبار من الفرق بين الاستعمال في الصلاة
وغيرها حيث يسأل السائل عن الصلاة فيما اشتراه من السوق مما يكشف عن أن
جواز الشراء للمشكوك وما يترتب عليه من استعمال مفروغ عنه لدى السائل
وانما الاشكال في جواز الصلاة فيه.
وعلى أي حال فلا اشكال في عدم نهوض هذه الرواية للتقييد فتبقى
الاطلاقات على حالها.
الجهة الثالثة عشرة في أمارية اليد على غير الملكية من الاختصاصات
كالزوجية والنسب.
فهل يثبت بالاستيلاء على المرأة زوجيتها له وعلى صبي بنوته له أم لا؟
والبحث في هذه الجهة ليس بمهم إذ لا يتصور الاستيلاء على الزوجة والابن
خصوصا في زماننا هذا مضافا إلى عدم الدليل على أمارية اليد في الموردين الا ما
يتوهم من شمول اطلاق قوله (عليه السلام) " ومن استولى على شئ منه فهو له ".
82

ولكن شمولها للمدعى بعد تسليم دلالتها على أمارية اليد مطلقا بإلغاء
خصوصية المورد - يستلزم فروضا (1) بعيدة عن الظاهر والذوق السليم كما لا
يخفى.
وعليه فلا اشكال في عدم أمارية اليد بالنسبة إلى اثبات الزوجية والنسبية،
وان نسب إلى العلامة (2) السيد الطباطبائي (قدس سرهما) (3) ظهور اماريتها على
البنوة من كلاميهما فتدبر.
وقد يستدل لثبوت الزوجية بأصالة الصحة بتقريب ان المسلم حيث لا
يجوز له النظر وسائر العلاقات إلى الأجنبية فظاهر حاله يقتضى زوجية المرأة التي
ينظر إليها ويباشرها.
الا انه يشكل بان الثابت بها ليس إلا حلية نظره وغيره وعدم حرمته واما
نفس الزوجية المقصود ثبوتها لترتيب آثارها فلا تثبت الا بالملازمة وستعرف
عدم تكفل أصالة الصحة لاثبات اللوازم.
الجهة الرابعة عشرة: في قبول قول ذي اليد واخباره بطهارة ما في يده أو
نجاسته ونحوهما مما يكون من شؤون العين.
وقد حكي عن الحدائق ظهور الاتفاق عليه من الأصحاب وادعى عليه
السيرة المستمرة (4).

(1) منها ان يفرض كون المراد من اللام في " له " أعم من الاختصاص بالملك والاختصاص
بالحق ليشمل مثل الزوجية ومنها الالتزام بعموم " شئ " للانسان فإنه وان صح اطلاقه عليه
بحسب اللغة الا انه يندر عرفا ذلك في الاستعمالات فلا يستفاد من لفظ " شئ " ما يعم
الانسان.
(2) العلامة الحلي قواعد الاحكام / 230 كتاب القضاء الطبعة القديمة.
(3) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم العروة 3 / 196 الطبعة الثانية.
(4) البحراني الفقيه الشيخ يوسف الحدائق الناظرة 5 / 252 - الطبعة الأولى.
83

وقد استدل على ذلك بروايات عديدة:
منها: رواية محمد بن الحسين الأشعري - الواردة في التذكية - " كتب بعض
أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما تقول في الفر - ويشترى من
السوق؟. قال (عليه السلام): إذا كان مضمونا فلا بأس " (1). فان الظاهر من الضمان
هو اخبار البائع بالتذكية.
ويشكل الاستدلال بها...
أولا: بان الظاهر كون موردها سوق المسلم ويده، وكلاهما حجة على
التذكية، فلا وجه لتوقف جواز الشراء على اخباره، فالرواية غير واضحة المفاد.
وثانيا: بأنه لو حمل المورد على غير وجود الحجة، بان حمل على الشراء ممن
يستحل الميتة بالدباغ - مثلا - فلا ظهور في إرادة اخبار البائع بالتذكية من الضمان،
فيحتمل ان يراد منه توصيف البائع الرافع للغرر، لان اختلاف الجلد بين المذكى
وغيره يوجب تفاوته من حيث السعر والقيمة السوقية، فشراء الجلد مع الجهالة
يكون شراء غرريا، بخلاف ما إذا وصفه البائع وكان الشراء للموصوف بالتذكية،
فان الغرر يرتفع بذلك وهذا لا ينافي عدم حجية اخبار البائع. أو يراد من الضمان هو
الالتزام بكونه مذكى والتعهد بذلك، وهو لا ينافي عموم حجية اخباره - كما أشار
إليه المحقق الأصفهاني (2) -.
ومنها: ما ورد في بيع الدهن المتنجس من لزوم اعلام المشترى (3). فإنه لولا
حجية خبره ولزوم الاخذ به لما كان وجه لوجوب اعلامه.
ويشكل الاستدلال بها...
أولا: بان الغالب حصول الاطمئنان بصحة المخبر بالنجاسة، لأنه اخبار عن

(1) وسائل الشيعة 3 / 338 باب 61 من أبواب لباس المصلي، الحديث: 3.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 349 - الطبعة الأولى.
(3) وسائل الشيعة 12 / 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث: 3 و 4.
84

نقص في ماله المبيع وهو سبب للاطمئنان بصحة الخبر.
وثانيا بان الاخبار في الشبهة المصداقية غير لازم وانما يجب فيما إذا كان
عدم الاعلام منشأ لتسبيب ارتكاب النجس مثلا كأكله لما دل على حرمة
التسبيب وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه بدون الاعلام يكون البائع مسببا إلى
شرب النجس فوجوب الاعلام انما هو لأجل دفع التسبيب وهذا لا يرتبط بحجية
قوله واخباره كما لا يخفى -.
ومنها رواية ابن بكير الواردة فيمن أعار ثوبا لا يصلى فيه حيث قال (عليه
السلام) " لا يعلمه بذلك قلت فان اعلمه؟ قال (عليه السلام): " يعيد (1) فان الامر
بإعادة دليل على حجية خبره واعلامه وإلا فلا وجه للامر بالإعادة.
وللمناقشة فيه مجال لان الطهارة شرط بوجودها العلمي لصحة الصلاة لا
بوجودها الواقعي فمع علمه بوقوع صلاته في النجس مع عدم سبق علمه بالنجاسة
قبل الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة فضلا عن اخباره بذلك، فالامر
بالإعادة لا يكشف عن حجية اعلامه بالنجاسة، فلا بد من حمل الامر بالإعادة على
الاستحباب والاحتياط، وهو غير ملازم لحجية خبره، بل يكفى فيه الاحتمال.
ومنها: ما ورد من امر الإمام (عليه السلام) باشتراء الجبن من السوق والنهى
عن السؤال من البائع (2). فإنه يدل على حجية خبره، إذ لولا حجيته لما اتجه النهى
عن السؤال.
والاستدلال بها غير وجيه لوجهين:
الأول: انه من المعلوم ان كون الجبن من الميتة أو فيه الميتة لا يضر بطهارته
وجواز استعماله، للاتفاق على استثناء الا نفحة واللبن في الضرع من ما لا يجوز

(1) وسائل الشيعة 2 / 1069 باب 47 من أبواب النجاسات، الحديث: 3.
(2) وسائل الشيعة 17 / 91 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث: 4 و 8.
85

استعماله من الميتة، فالنهى عن السؤال ولو كان خبر البائع حجة غير واضح الوجه
كما لا يخفى.
الثاني: انه على تقدير القول بحرمة استعمال الجبن الذي فيه الميتة، فمن المحتمل
ان يراد من السؤال المنهى عنه الفحص عن حاله، نظير السؤال المأمور به في قوله
(عليه السلام): " عليكم أنتم ان تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك " (1).
ومنها: ما ورد في اخبار البائع بالكيل والوزن الدال على تصديقه في ما
يدعيه من الكيل (2).
ولكنه لم يظهر منه ان ذلك من باب تصديقه فيما يدعيه وحجية اخباره، إذ
يمكن أن يكون من باب ارتفاع الجهل بتوصيفه، فيرتفع به الغرر، وهذا لا يلازم
حجية خبره.
ومن الأمور التي استدل بها على حجية قول ذي اليد: السيرة المستمرة القائمة
على أن ذا اليد إذا أقر لاحد المتداعيين فيما في يده به كان المقر له بمنزلة ذي اليد
منكرا ويكون الاخر مدعيا فيطالب بالبينة، وليس هذا اثر الاقرار، لان اثره
خصوص نفيه عن نفسه، اما ثبوته لغيره المعين فليس من مقتضيات الاقرار، فلا بد
أن يكون ذلك لحجية قول ذي اليد، فيكون المقر له منكرا لموافقة قوله الحجة.
ويشكل الاستدلال بها، لأنه لم يعلم كون الاتفاق المذكور انما حصل لاجل
حجية قول ذي اليد، بل ظاهر المستند - بل صريحه - التمسك لهذه الفتوى
بالمستفيضة الدالة على أن لو أقر ذو اليد بما في يده لغيره فهو له (3). ولصدق انه ذو
يد عرفا بالاقرار له. وكلاهما أجنبي عن حجية قول ذي اليد كما لا يخفى.
واما الاستدلال بالمستفيضة الدالة على أن من أقر لعين لاحد فهي له،

(1) وسائل الشيعة 2 / 1072 باب 50 من أبواب النجاسات، الحديث: 7.
(2) وسائل الشيعة 12 / 257 باب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث: 6.
(3) المحقق النراقي ملا احمد. مستند الشيعة 2 / 580 - الطبعة القديمة.
86

بدعوى أن ذلك يرجع إلى حجية الاخبار، إذ اثر الاقرار انما هو نفى الملكية عن
نفسه لا أكثر.
ففيه: انه يمكن ان الحكم المذكور الذي تدل عليه المستفيضة من باب نفوذ
الاقرار في حق الغير - بملاك: من ملك شيئا ملك الاقرار به - مضافا إلى كون
موردها ما لم يكن المقر له طرفا للتداعي مع آخر، فاستفادة كون الحكم بالملكية
بالاقرار لا لخصوصية الاقرار بل لحجية الاخبار. والغاء خصوصية موردها بحيث
يستفاد حجية الاخبار مطلقا مشكل جدا. فتدبر.
فالمتعين هو الاستدلال بالسيرة المستمرة على الاخذ بقول ذي اليد واعتباره
مطلقا من دون اعتبار شروط حجية خبر الواحد فيه. ويسندها خبر معاوية بن
عمار: " عن الرجل من اهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج (1)، ويقول: قد طبخ على
الثلث: وانا اعرفه انه يشربه على النصف فاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟.
فقال (عليه السلام): لا تشربه. قلت: فرجل من غير اهل المعرفة ممن لا نعرفه انه
يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا ان عنده بختجا على الثلث قد
ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟. قال (عليه السلام): نعم (2). فان ذيلهما بقرينة
الصدر يدل على جواز الاعتماد على قول ذي اليد مع انتفاء ما يوجب اتهامه في
خبره. فتدبر. وبالله الاعتصام. هذا تمام الكلام في قاعدة اليد (3).
والكلام بعدها في أصالة الصحة.

(1) العصير المطبوخ.
(2) وسائل الشيعة 17 / 234 باب 7 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث: 4.
(3) تم الفراغ منها: في 22 / 6 / 1382 ه‍
87

أصالة الصحة
89

أصالة الصحة (1)
والكلام فيها في جهات ثلاث:
الأولى: في موارد جريانها.
الثانية: في مقدار الآثار المترتبة عليها.
الثالثة: في نسبتها مع الأصول والامارات.

(1) لا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني من تقريب وحدة قاعدة الفراغ وأصالة الصحة
بارجاعهما إلى أصالة الصحة في عمل نفسه وعمل غيره لا يخلو عن منع. وذلك لاختلاف
القاعدتين موضوعا، لان موضوع قاعدة الفراغ هو الشك الحادث بعد العمل، واما موضوع
قاعدة الصحة هو الشك في عمل الغير ولو في أثناء مباشرته للعمل مع اختلافهما موردا، لان
الغالب في موارد قاعدة الفراغ ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في الغفلة. والغالب في
موارد قاعدة الصحة ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في مبالاة العامل وتسامحه
وبينهما فرق بعيد. فتدبر. والأمر سهل لعدم الأثر العملي الواضح لهذه الجهة.
91

ويتضح الكلام فيها بعد معرفة دليل اعتبارها وحجيتها.
ولا بد قبل التعرض إلى ذكر الدليل من بيان امرين:
الامر الأول: ان لحمل الصحة مقامات ثلاثة:
المقام الأول: حسن الظن والاعتقاد بان يكون الشخص حسن الظن بعمل
غيره ويعتقد صحته بلا لحاظ الأثر الخارجي المترتب عليه أصلا.
وهو - أعني: الظن والاعتقاد - وان كان امرا غير اختياري، الا ان مقدماته
من تصفية النفس وتمرينها اختيارية، فالتكليف به بلحاظ أسبابه. إن لم نقل بان
الاعتقاد امر اختياري، لأنه عبارة عن عقد القلب، فيصح تعلق التكليف به.
المقام الثاني: مقام المعاشرة، بمعنى ترتيب آثار الصحيح على عمل الغير
وقوله في مقام المعاشرة. فيعاشره معاشرة القائل للصحيح واقعا.
وهذان المقامان يرتبطان بعالم الاخلاق وتحسين الحالة الاجتماعية وحفظ
التحابب بين الافراد.
المقام الثالث: مقام ترتيب الأثر الخارجي العملي، بمعنى ترتيب الآثار
الخارجية العملية للعمل الصحيح على عمل الغير.
الامر الثاني: ان هناك حسنا وقبيحا، وصحيحا وفاسدا. وهما يختلفان، بمعنى
ان الفساد لا يساوق القبح، والصحة لا تساوق الحسن - لا يخفى ان المراد من
الحسن عدم القبح - فقد يكون العمل فاسدا ولكنه ليس بقبيح، لمعذورية العامل في
عمله الفاسد. كما أنه قد ينعكس الفرض فيكون العلم قبيحا وليس فاسدا، كما في
المعاملات التي ينطبق عليها عنوان محرم.
ولا يخفى ان المقام الأول يرتبط بعالم الحسن والقبح لا الصحة والفساد، كما لا
يخفى عليك ان ما نحن بصدده هو المقام الثالث من مقامات الحمل على الصحة
المرتبط بالصحة والفساد لا بالحسن والقبح.
إذا عرفت هذين الامرين، فاعلم: انه قد استدل لاعتبار أصالة الصحة في
92

الجملة بالأدلة الأربعة:
اما الكتاب: فقد استدل منه بآيات:
الأولى: قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) (1). ووجه الاستدلال بها: انه
قد جاء تفسيرها في الكافي: " لا تقولوا الا خيرا حيت تعلموا ". والمراد بالقول هو
الظن والاعتقاد، وبما انهما ليسا من الأمور الاختيارية كي يصحح التكليف بهما،
فلا بد ان يراد ترتيب آثار الاعتقاد الصحيح، ومعاملة الناس في أفعالهم معاملة
الصحيح.
ويشكل الاستدلال بها..
أولا: ان الظاهر أنها في مقام النهى عن السب واللعان والامر بالقول الطيب
الحسن، كما فسرت في رواية أخرى بذلك (2).
وثانيا: انه لو سلم إرادة الاعتقاد من القول، فقد عرفت امكان تعلق التكليف
به فلا حاجة إلى تقدير الآثار.
وثالثا: انه لو سلم دلالتها على الامر بترتيب الآثار، فهي انما تدل على
ترتيب آثار الحسن لا الصحيح، وقد عرفت الفرق بينهما.
الثانية: قوله تعالى: (ان بعض الظن اثم) (3). حيث يراد من الظن الاثم هو
ظن السوء قطعا لا ظن الخير، وحيث إن الظن غير قابل لتعلق التكليف به فلا بد أن يكون
المتعلق ترتيب آثار الظن السوء، فهو منهي عنه، فلا بد من الحمل على
الصحة.

(1) سورة البقرة، الآية: 83
(2) عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) قال (عليه
السلام): قولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم فان الله يبغض اللعان السباب الطعان على
المؤمنين الفحاش المتفحش السائل الملحف ويحب الحليم العفيف المتعفف.
(3) سورة الحجرات الآية: 12.
93

والاشكال في الاستدلال بها يعلم مما تقدم، فان الظن قابل لتعلق التكليف به
باعتبار أسبابه الاختيارية. مضافا إلى أنها لو دلت على حرمة ترتيب الآثار، فهي
انما تدل على حرمة ترتيب آثار العمل السيئ لا الفاسد.
الثالثة قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1). حيث تدل على وجوب الوفاء
بكل عقد واقع، ومعناه ترتيب آثار العقد الصحيح عليه، والخطاب للناس جميعا.
فهي تدل على وجوب ترتيب آثار الصحة من كل أحد على المعاملة الواقعة.
ويمنع الاستدلال بها لوجوه:
أحدها: ان الخطاب فيها لخصوص المتعاملين لا لجميع المكلفين.
ثانيها: ان المفروض كون مورد الحمل على الصحة مشتبه بالشبهة المصداقية،
إذ لا يعلم ان الواقع هل هو العقد الصحيح أو العقد الفاسد الذي خرج عن العموم
بالتخصيص، ولا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
ثالثها: انها أخص من المدعى، لان المدعى جريان أصالة الصحة في جميع
الاعمال لا في خصوص العقود كما تدل عليه الآية.
واما السنة: فروايات:
منها: ما في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ضع أمر أخيك على
أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت
تجد لها في الخير سبيلا " (2).
ولا يتجه الاستدلال بها لجهتين:
الأولى: ان ظاهرها انها في مقام الامر بحسن الظن والاعتقاد، خصوصا
بملاحظة ذيل الرواية حيث يقول فيها: " ولا تظنن بكلمة خرجت... "

(1) سورة المائدة، الآية: 1.
(2) الكافي: باب التهمة وسوء الظن، الحديث: 3. الا ان فيها كلمة محملا بدل سبيلا.
94

الثانية: انه لو سلم دلالتها على وجوب ترتيب الآثار - ولا دلالة لصدرها
على خصوص وجوب الظن الحسن -، فهي انما تدل على وجوب ترتيب آثار
العمل الحسن لا الصحيح. فهي على كلتا الجهتين لا ترتبط بما نحن بصدده.
ومنها: قول الصادق (عليه السلام) لمحمد بن الفضل: " يا محمد كذب سمعك
وبصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة أنه قال وقال لم أقل فصدقه
وكذبهم " (1).
ولكنها انما تدل على وجوب حمل الأخ المؤمن على الصحة في مقام المعاشرة
وترتيب آثار الصدق على دعواه، فان موردها ذلك وموضوعها موردها.
ولا يخفى انها لا ترتبط بمقام القلب وحسن الظن، إذ يبعد ان يأمر بالظن
بصحة قول فرد مؤمن وتكذيب خمسين قسامة. فلا بد من حملها على التكذيب
العملي والامر بعدم ترتيب ما يترتب على الكذب وشبهه.
ومنها: ما ورد ان المؤمن لا يتهم اخاه المؤمن، وانه إذا اتهم اخاه انماث
الايمان في قلبه كانمياث الملح في الماء (2). وتقريب الاستدلال بها: ان حمل المعاملة
الصادرة من المؤمن على الفاسدة اتهام له بعدم المبالاة والمعرفة بشئون المعاملات
الدينية، فهو منهي عنه، فلا بد من الحمل على الصحيح، وترتيب اثار الصحيح
عليها.
ولكنه محل تأمل ومنع، فان الرواية تحتمل وجوها أربعة:
الأول: انها واردة في مقام عقد القلب على كون الواقع من المؤمن صحيحا،
فلا ترتبط بمقام الخارج أصلا.
الثاني: انها واردة في مقام ترتيب اثار الصحيح في مقام المعاشرة.

(1) وسائل الشيعة 8 / باب: 157 من أبواب احكام العشرة، الحديث: 4 وفيها عن محمد
بن فضيل عن أبي الحسن موسى (عليه السلام).
(2) الكافي، باب التهمة وسوء الظن، الحديث: 1.
95

الثالث: انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح الخارجية.
الرابع: انها واردة في النهى عن اتهام المؤمن في أقواله بالكذب.
وإذا كانت تحتمل وجوها أربعة ولا معين لأحدها، فلا يتجه الاستدلال بها
على المدعى، بل القرينة معينة بغير ما نحن بصدده.
وذلك لأنه لو حملت على الاحتمال الثالث لشملت أقوال المؤمن، لان لسانها
آب عن التخصيص، وذلك يقتضى ترتيب آثار الصدق على أقواله، وهو مما لا يمكن
الالتزام به، لأنه يرجع إلى حجية قول المؤمن بحيث يترتب عليه ما يترتب على
الواقع.
كما أن الظاهر أن الاتهام انما هو بحمل فعل المؤمن على السوء لا على الفاسد.
هذا لو قلنا بان الاتهام من الأفعال الخارجية، اما مع القول بأنه من الأفعال القلبية،
فنحن في غنى عما ذكر كما لا يخفى.
واما الدليل العقلي: فهو لزوم اختلال النظام من ترك الحمل على الصحة،
وهو واضح بالوجدان - وعليه فيدل على اعتبارها فحوى التعليل الوارد في خبر
حفص المتقدم - وتفنيده بان تخلفها في موارد الحاجة لا يستدعى ذلك. فاسد، لان
أظهر مواردها العقود النكاحية، والايقاعات الطلاقية، فلولا أصالة الصحة لاختل
نظام الزواج بلا ارتياب.
واما الاجماع: فالقول منه لا وجود له، إذ تحرير المسالة كان متأخرا زمانا.
واما العملي، المعبر عنه بالسيرة وبناء العقلاء، فلا اشكال في انعقاده - على
ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من الغير - ولا ارتياب. وعدم الردع في
صحة التمسك بها.
ودعوى: كون البناء قد يكون لوجود الامارات أو الأصول الخاصة. واضحة
البطلان. ضرورة ان البناء حاصل في صورة انتفاء الامارة والأصل.
إذا تبين ذلك فمقامات البحث في هذه المسألة متعددة. ولكن يجمعها الجهات
96

الثلاث التي ذكرناها آنفا.
المقام الأول: في أن المحمول عليه الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة
عند الفاعل؟. فإذا صدر من شخص عمل فهل يحمل على أنه صحيح واقعا، فيترتب
عليه آثار الواقع. أو يحمل على أنه صحيح باعتقاد الفاعل ونظره، فيترتب عليه
آثاره ان كانت له اثار بالنسبة إلى الحامل؟
وتظهر ثمرة ذلك: انه لو بنينا على اجراء أصالة الصحة عند الفاعل، فلا تجدي
في ترتيب الآثار على عمله الا في موارد اتفاق الحامل مع الفاعل في الرأي اجتهادا
أو تقليدا. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق أحد نافذا واقعا في حق
الآخرين، ومحل ذلك مما لا نعهده. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق
الشخص موجبا لصحة عمله واقعا لديه أيضا كمعتقد الجهر في مورد الاخفات، فان
صلاته صحيحة واقعا في حقه للنصوص الخاصة أو لحديث لا تعاد. واما في غير
ذلك، فلا يمكن ترتيب آثار العمل الصحيح على ما أتى به. بخلاف ما إذا بنينا على
اجراء أصالة الصحة الواقعية، فإنه يترتب الأثر على عمله مطلقا. كما أن لازم الحمل
على الصحيح عند الفاعل انه يختص بمن يعرف الصحيح والفاسد، اما من لا يكون
عالما بالصحيح والفاسد فلا معنى للحمل على الصحيح عنده، إذ هو جاهل على
الفرض، فلا صحيح عنده وفى علمه. فانتبه.
ولا بد في تحقيق الكلام ان يقال: ان الحامل تارة: يعلم علم الفاعل بالصحيح
والفاسد. وأخرى: يعلم بجهله بهما. وثالثة: يجهل حاله ولا يعلم بأنه عالم بالصحيح
والفاسد أم جاهل بهما.
وفى صورة علمه بأنه يعلم الصحيح والفاسد تارة: يعلم موافقته اجتهادا أو
تقليدا. وأخرى: يعلم مخالفته. وثالثة: يجهل الحال من موافقته له ومخالفته. فالصور
خمس..
اما صورة علمه بعلم الفاعل بالصحيح والفاسد وموافقته له اجتهادا أو
97

تقليدا فلا اثر في الخلاف في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل إذ
الأثر المرغوب يترتب على كلا الحالين.
واما صورة مخالفته له في الصحيح والفاسد فالمخالفة تارة تكون بالتباين كما
لو اعتقد أحدهما وجوب الجهر في ظهر يوم الجمعة والآخر وجوب الاخفات
وأخرى تكون بالعموم المطلق كما لو اعتقد أحدهما صحة العقد بالفارسي والآخر
فساده واختصاص الصحيح بالعربي.
فعلى الأول لا اشكال في حمل على الصحة عند الفاعل لان الحمل على
الصحة الواقعية في الفرض حمل للفاعل على خلاف ما يعتقده ويدين به ولا
اشكال في عدم صحة ذلك.
نعم على الثاني للحمل على كلا المعنيين مجال فمع حمله على الصحة الواقعية
تترتب عليه آثار الواقع واما مع حمله على الصحة عند الفاعل فلا يمكن ترتيب
آثار الواقع عليه إذ يمكن أن يكون الصادر منه ما هو فاسد بنظر الحامل فكيف
يرتب عليه آثار الواقع؟
وهكذا الحال في صورة جهله بموافقته له ومخالفته كما لا يخفى
واما صورة العلم بجهله بالصحيح والفاسد فلا معنى لحمله على الصحيح
عند الفاعل إذ المفروض كونه جاهلا لا اعتقاد له فلو فرض جريان أصالة
الصحة في المورد فلا اشكال في كونها الصحة الواقعية.
ومثل هذه الصورة في الحكم صورة الجهل بحاله وانه هل يعلم الصحيح
والفاسد أو يجهلهما؟
هذه هي شقوق المسألة المحررة،
وتعيين الحكم بالنسبة إلى الموارد مشكل جدا بعد أن لم يكن دليل الأصل
المزبور لفظيا كي يتمسك باطلاقه بل كان دليلا لبيا. ولذلك اختلفت فيه كلمات
98

الاعلام والذي يظهر من المحققين العراقي في تقريرات بحثه (1) والأصفهاني في
رسالته (2) العموم ما عدا صورة اختلافهما بنحو التباين والمنسوب إلى الفقه
الهمداني العموم حتى لهذه الصورة.
والكلام يقع في مرحلتين:
الأولى في أن المحمول عليه الفعل ما هو - وهو عنوان البحث -؟
والتحقيق ان يقال إنه ان استند في أصالة الصحة إلى ظاهر حال المسلم وانه
لا يأتي الا بما يوافق الموازين فهو لا يقتضى أكثر من الصحة عنده لان هذا هو ما
يقتضيه ظاهر حاله. وان استند فيها إلى السيرة فهي تقتضي الحمل على الصحة
الواقعية لقيامها على ذلك.
الثانية في عموم جريان الأصل للموارد المذكورة وعدمه.
والأقرب هو العموم لقيام السيرة على جريان الأصل بلا توقف وتردد في
جميع الموارد نعم لا يمكن الجزم بقيام السيرة على جريان أصالة الصحة في مورد
العلم بجهل العامل بالصحيح والفاسد بحيث تكون مطابقة عمله للصحيح الواقعي
من باب الصدفة والاتفاق، ولذلك يكون الحكم بجريانها في هذا المورد محل اشكال
وتوقف وان كان ليس ببعيد، فان كثيرا من العوام يجهلون الصحيح والفاسد مع أن
السيرة على حمل عملهم على الصحيح.
المقام الثاني في أصالة الصحة في العقود.
ومحمل الكلام - كما أشار إليه الشيخ (3) - هو جريان أصالة الصحة عند الشك
في صحة العقد وفساده قبل استكمال أركانه وانعقاده - بأن كان منشأ الشك الشك
في تحقق أحد أركان وعدم جريانه قبل الاستكمال.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار: 4 / 80 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 312 الطبعة الأولى.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 418 - الطبعة القديمة.
99

والذي نقله الشيخ عن المحقق الثاني (قدس سره) هو القول الثاني مستدلا
على ذلك بوجهين:
الأول ان نسبة الأصل إلى العقد نسبة الحكم إلى موضوعه لان مؤداه صحة
العقد وموضوعه الشك في الصحة والفساد وذلك في مرتبة متأخرة عن تحقق العقد
كي يتصف بالصحة والبطلان ومع الشك في تحقق بعض أركان العقد يكون الشك
في وجود العقد لا في صحته، فلا مجال لجريان أصالة الصحة.
الثاني: ما ذكره بعنوان التفريع على دعواه ولكن الظاهر من تفصي الشيخ
عنه انه وجه مستقل وهو: الفتوى بتقديم قول من يدعي وقوع المعاملة على الحر
فيما لو ادعى أحد المتعاقدين بيع العبد وادعى الآخر بيع الحر ولو كانت أصالة
الصحة جارية في المقام لما توجهت هذه الفتوى.
وأجاب الشيخ عن الأول بأنه ان كان المراد من وجود العقد وجوده
الشرعي فهو عين الصحة إذ العقد غير مؤثر ليس عقدا شرعا وان كان المراد منه
وجوده العرفي فهو متحقق مع الشك بل مع القطع بالعدم إذا العقد الواقع على الحر
عقد عرفا وان كان فاسدا فالحال لا يختلف بالنسبة إلى جميع الشروط غير العرفية
على كلا التقديرين.
واما الثاني فالجواب عنه بما قرره الفقيه الهمداني (قدس سره) في حاشيته
على الرسائل وبيانه ان عدم جريان أصالة الصحة في المورد المذكور ليس من
أجل عدم تحقق موضوعها وهو العقد والا لزم أن لا تجرى في صورة كون
موضوع الدعوى هو الثمن بان ادعى البائع البيع بعبد والمشترى بحر، لان نسبة
الثمن والمثمن إلى وجود العقد متساوية مع أنه قد افتى جملة من الفقهاء بان القول
قول مدعي الصحة للأصل فلا بد ان يرجع تقديم قول مدعى الفساد بان القول
قول مدعي الصحة للأصل فلا بد ان يرجع تقديم قول مدعى الفساد وعدم اجراء
أصالة الصحة في مورد كون الموضوع للدعوى هو المثمن إلى وجه آخر غير ما
تخيله المحقق الكركي واستدل به على دعواه.
100

ولعل الوجه هو: انه لما كان موضوع الأثر في هذه الصورة هو وقوع العقد
الصادر على العبد، إذ لا اثر لوقوعه على الحر أصلا، لأنه يكون حينئذ بمنزلة العدم،
فجريان أصالة الصحة في العقد الواقع لا يثبت كون المبيع هو العبد فلا اثر لجريانها،
فلا تجرى، فتكون أصالة عدم السبب الناقل بلا حاكم.
وهذا بخلاف صورة ما إذا كان موضوع الدعوى هو الثمن، وانه حر أو عبد،
لان مورد الأثر صحة العقد الواقع على المثمن المعين وتحقق النقل والانتقال به،
فجريان أصالة الصحة يجدي في ترتب الأثر ويلزمه ثبوت الثمن في ذمة المشترى
وإن لم يكن معينا - لان الأصل المزبور لا يعينه -.
وان كان قد يرد على هذا التوجيه: بأنه في الصورة الأولى يمكن جريان
أصالة الصحة باعتبار طرف الثمن فإنه يشك في ثبوت الثمن في ذمة القابل بواسطة
العقد الواقع فتجرى أصالة الصحة فيه، فتأمل. ولكنه ليس بمهم إذ المهم هو اثبات
ان عدم اجراء أصالة الصحة في المثال لم يكن لما ادعاه المحقق (قدس سره) من عدم
تمامية الأركان لاجرائها فيما لو كان الخلاف في الثمن. اما توجيه الفرق بما ذكر فليس
اثبات صحته بمهم.
وعبارة الشيخ (قدس سره) - في بعض النسخ - في مقام الجواب لا تخلو عن
ابهام..
والذي يظهر منها التفريق بين صورة التمليك المجاني والعوضي.
اما الأول: فحيث إن المالك بدعواه تمليك الحر لا يدعى على الاخر شيئا ولا
يطالبه بشئ، وانما الأثر على ثبوت دعوى تمليك العبد، كان موضوع الدعوى
واحكامها هو دعوى ثبوت تمليك العبد - اما دعوى تمليك الحر، فهي ساقطة عن
الاعتبار لعدم الأثر - فيكون القول قول منكر التمليك المذكور فعليه اليمين إن لم تقم
البينة على خلافه ولا مجال لأصالة الصحة للشك في تحقق موضوعها لعدم العلم
بتحقق التمليك كي تجرى فيه أصالة الصحة. اما التمليك الواقع فجريان أصالة
101

الصحة فيه لا يثبت وقوعه على العبد كما لا يخفى.
واما الثاني: فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام الأصحاب. وقد اجرى
بعضهم أصالة الصحة. ولا يفرق فيه - كما يظهر من تعبيره بالعوضين - بين أن يكون
الاختلاف في الثمن أو المثمن، وان كان ظاهر عنوان المسالة كون الاختلاف
في الثمن. لكن الملاك في كلتا الصورتين واحد. فالتفت وتدبر. فعبارته ومقابلته لا
تخلو من غموض، وأكثر نسخ الكتاب قد حذف فيها الشق الأول من الترديد.
وعلى كل فليس الامر بهذه المثابة من الأهمية.
وأعلم ان الاعلام المتأخرين (قدس سرهم) عدلوا عن تحرير محل النزاع
بنحو ما ذكره الشيخ (رحمه الله) إلى نحو آخر وهو: ان أصالة الصحة هل يختص
جريانها في ما إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في شرائط العقد بما هو
عقد، كالماضوية والعربية وغيرهما. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في
شرط شرعي يعتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين مع احراز شرائطه العرفية.
أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي أو عرفي منع احراز انشاء
البيع؟ وجوه وأقوال...
وقد ذهب المحقق النائيني إلى الأول، واستدل عليه: بان معقد الاجماع القولي
على أصالة الصحة هو أصالة الصحة في العقود، وظاهره تعلق الصحة والفساد
بالعقد بما هو عقد، وذلك انما يتحقق فيما إذا كان الشك في أحد شرائط العقد بما هو
عقد. اما إذا كان الشك في أحد شرائط المتعاقدين أو العوضين، فالشك في الصحة
والفساد لا يتعلق بالعقد ابتداء، بل هو يتعلق بأمر آخر، ولازمه تعلق الشك بالعقد،
فاتصاف العقد بالصحة حينئذ من باب الوصف بحال متعلق الموصوف، والا فالعقد
بما هو لا قصور فيه وانما القصور من جهة المتعلق أو العاقد (1).

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 2 / 245 - الطبعة القديمة.
102

وقد دفعه المحقق الأصفهاني (قدس سره) بوجوه ثلاثة:
الأول: بان قصور معقد الاجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية على
امضاء المعاملات المشكوكة ولو كان منشأ الشك هو الشك في الاخلال بشرط من
شرائط العوضين أو المتعاقدين.
الثاني: ان الصحة والفساد في أي حال تضافان إلى العقد دون غيره. وهذا لا
يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره، فكون الشرط لغيره لا يضر في إضافة الفساد
للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الاجماع هو البناء على صحة العقد عند الشك
لا البناء على وجود شرط العقد، كي لا يكون شاملا لمورد يكون الشك فيه في
شرط المتعاقدين أو العوضين.
الثالث: ان الدعوى المذكورة تبتنى على انعقاد اجماعين قوليين أحدهما في
باب العبادات والاخر في باب العقود والايقاعات بعنوانها.
واما مع انعقاد الاجماع على البناء على صحة كل عمل له اثر - سواء كان
عباديا أم معامليا - فلا وجه للدعوى المذكورة، لان الصحة في معقد الاجماع لم
تسند إلى العقد بما هو عقد، بل إلى العمل العبادي أو المعاملي، وظاهر ان جميع
الشرائط دخيلة في ترتب الأثر على المعاملة بما هي معاملة (1).
ولا يخفى انه يمكن توجيه ما افاده المحقق النائيني بنحو لا يرد عليه الوجهان
الأخيران، ببيان: ان المتداول في تعبيرات الفقهاء هو اطلاق الصحة على العقد بمجرد
تمامية شرائطه الراجعة إليه، مع عدم اطلاقهم الصحة على مثل العوضين
والمتعاقدين، بل يطلقون القابلية على العوضين والأهلية على المتعاقدين فيقولون
عقد صحيح وقع من اهله وفى مورد قابل. الا ان الذي يهون الخطب اننا لا نعترف
بحجية مثل هذا الاجماع كما عرفت، والدليل الذي لدينا على أصالة الصحة هو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 313 - الطبعة الأولى.
103

السيرة خاصة، فلا بد من ملاحظة موردها، وعلى هذا فالامر في صحة ما ذكره
النائيني وعدمه سهل.
وقد ذهب المحقق العراقي إلى ما نتيجته توافق ما ذهب إليه الشيخ - وهو
جريان الأصل عند الشك في أي شرط مع احراز الشرائط العرفية للعقد الذي هو
الوجه الثاني - فإنه بعد أن ذكر امرين:
أحدهما: ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد وتأثيره الفعلي لترتب الأثر
ليست على نمط واحد..
فمنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب، وهو العقد، كالموالاة بين
الايجاب والقبول، والماضوية وغيرهما.
ومنها: ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابلية المسبب للتحقق، وهذه الطائفة
بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ والعقد وغيرهما. وبينما يكون محله العوضين
كالمعلومية والمالية. وبين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية والغررية في
البيع.
وثانيهما: ان صحة كل شئ بحسبه، لكونها بمعنى التمامية، وتمامية كل شئ
انما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه في قبال فاسده الذي لا يكون كذلك
فصحة الايجاب بمعنى انه لو تعقبه قبول صحيح لحصل اثر العقد.
وصحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه، بحيث لو ورد على محل قابل لاثر
فيه النقل والانتقال وترتب عليه الأثر المرغوب. فهي - أعني: الصحة - في العقد
عبارة عن مفاد قضية تعليقية لا تنجيزية، وهو كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا
تصف بالمؤثرية الفعلية.
بعد أن ذكر هذين الامرين. أفاد: ان الشك في الصحة والفساد..
ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط العرفية للسبب أو
المسبب، كالشك في التوالي بين الايجاب والقبول المعتبر عرفا، ومطلق المالية في
104

العوضين، فلا تجرى أصالة الصحة لا في السبب ولا في المسبب، لرجوع هذا الشك
إلى الشك في مجرى أصالة الصحة، مع أنه لا بد من احراز عنوان موضوعه عرفا.
وان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط الشرعية مع احراز
الشرائط العرفية، فإن كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد جرت أصالة
الصحة في العقد، لأنه عقد عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من
شرائط المسبب كالبيع، فلا تجرى أصالة الصحة في العقد لاحراز صحته، لأنها مفاد
قضية تعليقية وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبب، وانما تجرى في نفس
المسبب وهو البيع مثلا، لأنه بيع عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من
شرائط السبب والمسبب، بان كان الشك من الجهتين، جرت أصالة الصحة في
السبب والمسبب (1).
هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره). وهو نتيجة يوافق الشيخ
وان كان يختلف عنه بحسب المقدمات.
وقد استدل على ذلك بالسيرة ولزوم اختلاف النظام، وانهما يقتضيان التعميم
لجميع صور الشك مع احراز عنوان موضوع الصحة عرفا، ولا بد حينئذ من
التفصيل بين موارد الأصل من كونه السبب أو المسبب.
ولكن السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه - لم يرتض هذا الاستدلال،
ولذلك التزم بما التزم به المحقق الثاني والعلامة وأستاذه النائيني من اختصاص
جريان أصالة الصحة في مورد الشك في شروط العقد دون غيره، إذ اعتبر في
جريانها احراز القابلية الشرعية والعرفية في الفاعل والمورد.
فإنه بعد ما حرر موضوع المسالة، وبين صور الشك، وذكر ان المحقق الثاني
والعلامة (قدس سرهما) ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في قابلية

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 82 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
105

الفاعل أو المورد العرفية والشرعية. حكم بصحة ما ذهب إليه متمسكا لذلك بعدم
وجود دليل لفظي لأصالة الصحة كي يتمسك بعمومه واطلاقه، بل دليلها ليس
سوى السيرة ولم يحرز قيامها على ترتيب اثار الصحيح عند الشك في القابلية -
وهو كاف في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة - بل المحرز قيامها على عدم ترتيب
الآثار، وضرب لذلك مثالين:
أحدهما: ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو، وشك في كونه وكيلا عن عمرو أو لا.
والثاني: ما لو طلق زيد زوجة عمرو وشك في كونه وكيلا عنه.
فان العقلاء لا يرتبون اثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر
من زيد، وهذا لا يرجع الا لعدم ترتيب اثار الصحة عند الشك في القابلية. ثم أشار
إلى ما ذكره الشيخ من قيام السيرة على ترتيب اثار الصحة على المعاملات الصادرة
من الناس في الأسواق مع عدم احراز قابلية الفاعل. وذكر ان ترتيب الآثار ليس
من جهة أصالة الصحة بل من جهة قاعدة اليد واحراز القابلية باليد، ولذلك لا
تجرى أصالة الصحة فيما تقدم من المقالين لعدم كونه موردا لقاعدة اليد (1).
وللمناقشة فيما ذكره مجال، فان السيرة قائمة على اجراء أصالة الصحة
في الموارد التي لا يكون هناك أصل أو امارة يستند إليها، كالشك في البلوغ، أو
الرشد، أو في مجهولية العوضين، أو زيادة أحدهما على الاخر في المعاملة الربوية، أو
وقوع الطلاق في أيام الطهر، أو حضور عدلين عند انشائه، وغير ذلك مما لا طريق
إلى اثباته من يد أو غيرها. واليد انما تثبت المالكية، اما بلوغ البائع أو رشده فلا
تقتضي شيئا منهما، فلا وجه لما ذكره من أن قابلية الفاعل تحرز بقاعدة اليد. مع أن
الشك لا ينحصر في قابلية الفاعل، إذ قد يكون قى قابلية المورد.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 327 - الطبعة الأولى.
106

واما ما ذكره من النقض، فهو لا يدل على المدعى من جهتين:
الأولى: ان استناد العقد أو الايقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع
أصالة الصحة، لان مفاد أصالة الصحة مفاد: (أوفوا) في قوله تعالى: (أوفوا
بالعقود)، وظاهر أنه قد أخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما اخذ في
موضوعه العقد، لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ
بيع غير المالك مخصصا لعموم: (أوفوا بالعقود).
وعليه، فعدم جريان أصالة الصحة انما هو لأجل عدم احراز موضوعها وهو
العقد المستند إلى المالك، لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في
القابلية.
الثانية: أن حصول الأثر وترتبه في المثالين يتوقف على احراز المالك أو الزوج
استناد المعاملة إليه، لا من جهة كون الاستناد مأخوذا في موضوع النفوذ، بل من
جهة ان المالك انما يجب عليه تسليم الدار للمشترى إذا صدر منه العقد، وهكذا
الزوج. وأصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك
كي يجب على المالك ترتيب الآثار، بل هي أجنبية عن المالك.
وبالجملة: عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة
على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية، بل هو من جهة خصوصية في المقام،
فلا يرد النقض بهما.
وعلى هذا، فالالتزام بجريان الأصل المزبور عند الشك في مطلق الشرائط
الشرعية المعتبرة في العقد أو في غيره مع احراز الشرائط العرفية للعقد مما لا اشكال
فيه، لتمامية الدليل، وهو السيرة واختلال النظام، سواء قلنا بان صحة العقد مفاد
قضية تعليقية - كما هو شأن المقتضيات أجمع - وان الأصل يجرى في المسبب - كما
ذهب إليه المحقق العراقي على ما عرفت -. أو قلنا بان للعقد صحة أخرى هي التي
تكون مجرى الأصل لا تلك، وهي صحة فعلية منتزعة عن تأثيره وترتب الأثر
107

عليه - فإنه وان كان مقتضيا للأثر لا علة تامة، والشرائط متممات التأثير وشرائط
تأثيره، لكنه هو المباشر للتأثير، فإنه هو المؤثر والأثر يترتب عليه، كمباشرة النار
للاحراق مع كونها مقتضية له لا علة تامة، فصحته يراد بها هذا المعنى وهي فعلية
- فالأصل دائما يجرى في العقد ولو كان الشك في شرائط غيره، لأنه سبب للشك في
صحته - كما سيتضح لك ذلك عن قريب ان شاء الله تعالى - ولا يجرى في المسبب
اما لعدم الحاجة إلى ذلك، أو لعدم قابليته للاتصاف بالصحة والفساد، كما يذكر ذلك
في مبحث الصحيح والأعم، وتحقيقه ليس هذا موضعه.
كما أنه لا يمكن الالتزام بما التزم به المحقق الأصفهاني (قدس سره) من
جريان أصالة الصحة مع الشك في الشرائط العرفية، لما سنذكره في بعض التنبيهات
ان شاء الله تعالى. فانتظر.
ثم إن السيد الخوئي (حفظه الله) بعد كلامه المزبور نسب إلى الشيخ (قدس
سره) جريان أصالة الصحة - مع التنزل والالتزام بعدم جريان الأصل مع الشك في
القابلية - فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد المتعاقدين مع
احراز قابلية الاخر. بتقريب: انه مع احراز قابلية الموجب - مثلا - وكان الشك في
صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل تجرى أصالة الصحة في الايجاب،
فيحكم بتأثير الايجاب وهو معنى صحة العقد. وأورد عليه بان صحة كل شئ
بحسبه، فصحة الجزء معناها قابليته للجزئية ولا يثبت بها وجود الجزء الاخر ولا
صحته، فجريان أصالة الصحة في الايجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته فلا
وجه لما ذكره.
ولكن ما نسبه إلى الشيخ وأورد عليه بما عرفت أجنبي عن ظاهر كلام
الشيخ. فإنه في مقام الايراد على المحقق الثاني الذي ادعى ان ظاهر حال المسلم لا
يصح ان يتمسك به المضمون له - فيما إذا اختلف مع الضامن في وقت الضمان -
وانه كان قبل بلوغ الضمان أو بعده -، لأنه لا يتم الا مع استكمال العقد للأركان التي
108

منها شروط المتعاقدين. وان كلامه على اطلاقه ممنوع لامكان التمسك به في صورة
وتعدد طرفي العقد واحراز قابلية أحد الطرفين لان الظاهر أنه لا يتصرف فاسدا.
وأين هذا من جريان أصالة الصحة في الايجاب وترتب الأثر عليه؟ بل هو أجنبي
عن أصالة الصحة بالمرة. فالتفت ولا تغفل.
المقام الثالث: في اختلاف الصحة بحسب مواردها. وبيان ذلك: ان الصحة
على نحوين تأهلية، وفعلية.
فالأولى عبارة عن قابلية الشئ لترتب الأثر عليه لو انضم إليه غيره مما له
الدخل في ترتب الأثر.
والثانية: تنتزع عن ترتب الأثر الخارجي فعلا على الشئ والصحة التأهلية
انما يتصف بها أجزاء المؤثر ولا تتصف بغيرها لان الأثر لا يترتب فعلا على كل
جزء بل على المجموع، فالصحة في الجزء عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه سائر
الأجزاء والشرائط لترتب الأثر، فالصحيح ما كان بهذه الحيثية، كالايجاب بالعربي
فإنه جزء العقد المؤثر، والفاسد ما لم يكن بهذه الحيثية، كالايجاب بالفارسي على
القول باعتبار العربية فيه.
وعليه، فجريان أصالة الصحة في الجزء لا يثبت الجزء الآخر، لعدم توقف
صحته عليه، ولا يقتضي ترتب الأثر المتوقف على المركب عليه.
والصحة الفعلية انما يتصف بها المجموع المركب المؤثر. وهو لا يتصف بغيرها
كما لا يخفى.
ومن هنا تبين ان صحة كل شئ بحسبه، إذ الأشياء ليست على حد سواء في
الصحة، فالجزء لا يتصف الا بالصحة التأهلية، والكل بالنسبة إلى اثره على العكس
لا يتصف الا بالصحة الفعلية.
وبه يندفع ما قد يتوهم من: ان جريان أصالة الصحة في الايجاب - مثلا -
تكفي في ترتيب آثار الصحة ولو لم يحرز القبول، إذ لا وجه لتخصيص دليل أصالة
109

الصحة بغير المورد، ومع جريانها يترتب الأثر، لأنه معنى: الصحة الفعلية. ووجه
الاندفاع واضح. فان جريان أصالة الصحة في الايجاب لا تجدي في المطلوب، لان
صحته تأهلية والأصل يجرى بمقدارها، فلا تخصيص لدليل الأصل، كما أنه لا
يترتب الأثر على جريانها فيه، فالتفت.
وهذا الامر هو الذي عقد له الشيخ فصلا مستقلا، وهو واضح لا غبار عليه
ولا اشكال فيه.
وانما الاشكال فيما فرعه الشيخ عليه من الموارد التي ذكر ان جريان أصالة
الصحة فيها لا تثبت المشكوك بها المتوقف ترتب الأثر عليه وان جريان أصالة الصحة
في العقد في عدم ثبوت المشكوك بها نظير جريانها في عدم ثبوت القبول بها، وهي
ما لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقق الايجاب
والقبول، أو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي، أو كان العقد في نفسه مبنيا على
الفساد كبيع الوقف بحيث يكون المصحح من الطوارئ. أو شك في وقت بيع الراهن
الرهن مع اذن المرتهن ورجوعه وانه كان قبل الرجوع أو بعده، فإنه أفاد: ان
جريان أصالة الصحة في الهبة أو الصرف أو السلم لا تثبت تحقق القبض، كما أن
جريانها في بيع الفضولي لا يثبت إجازة المالك، والأولى بعدم الجريان مورد بيع
الوقف مع الشك في وجود المسوغ له، وان جريانها في الاذن لا يثبت وقوع البيع
صحيحا وجريانها في الرجوع لا يقتضى فساد البيع، لان صحة كل منهما تعليقية
تأهلية، فهي في الاذن كونه بحيث لو وقع البيع بعده وقبل الرجوع كان صحيحا،
وفى الرجوع كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسدا، وهي محرزة وجدانا. كما أن
جريانها في نفس البيع لا يجدي، لأنه لا يثبت بها رضا المالك المرتهن، لأنه بظاهره
يوهم المنافاة، لما ذكره في الفصل السابق من الالتزام بجريان أصالة الصحة عند
الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين، إذ الموارد المذكورة كلها من هذا
القبيل.
110

فالمهم: بيان مراد الشيخ ونظره والتوفيق بين ما ذكره أولا وأخيرا، بنحو
يرتفع توهم التنافي ويتضح الحال للمستشكل.
والذي ينبغي ان يقال: اما في مسالة الهبة والصرف والسلم وتوقفهما على
القبض، فالوجه في عدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون هو: ان الشك في
الصحة الفعلية للعقد في مرحلة البقاء لا في مرحلة الحدوث لأن العقد حين تحققه
كان متصفا بالصحة التأهلية، ويشك بقاء في صحته الفعلية وعدمها، وأصالة الصحة
لا تجرى فيما إذا كان الشك بين الصحة والبطلان بقاء، بل يختص جريانها فيما إذا كان
الشك من حين حدوث العقد - لأنه هو المناسب لدليل أصالة الصحة ثبوتا - وهو
في المقام غير متحقق إذ لا شك حين حدوثه في صحته، كما لا يخفى.
واما مسالة بيع الفضولي، أو الراهن بلا إجازة المرتهن، فالسبب في عدم
جريان أصالة الصحة فيه يمكن أن يكون أحد وجوه ثلاثة:
الأول: ما ذكر في مسألة الهبة وأخويها، لان الشك في الصحة والبطلان بقاء
لا حدوثا، لان صحة العقد التأهلية محرزة حين حدوثه.
الثاني: انه على تقدير جريان أصالة الصحة في مرحلة البقاء، فهي انما تجرى
لو كان الشك بين الصحة والفساد رأسا - إذ هو ظاهر أدلتها - اما مع كون الشك في
الصحة التأهلية والصحة الفعلية، فلا دليل على جريانها وتعيينها المعنى الثاني والمقام
من هذا القبيل، لان الشك في إجازة المالك يوجب الشك في بقاء العقد على صحته
التأهلية، أو صيرورته صحيحا فعليا بالإجازة.
الثالث: ما أشرنا إليه سابقا من أن موضوع الصحة هو العقد المضاف إلى
المالك، وأصالة الصحة انما تجرى مع احراز موضوع الصحة، وهو غير محرز في
الفرض للشك في إجازة المالك، فلا مجال لجريانها. بل تكون صحة العقد تأهلية
لأنه جزء المؤثر.
وأما مسألة بيع الوقف، فلا يعرف لها وجه خصوصا مع كون الشك في
111

الصحة الفعلية والفساد رأسا.
إلا أن يكون نظر الشيخ إلى أنه بعد أن كان العقد الواقع على الوقف بنفسه
فاسدا وكان طرو المسوغ مصححا له كان طرو المسوغ جزء الموضوع للأثر بحيث
يكون موضوع الصحة هو العقد والمسوغ فالعقد جزء المؤثر فصحته تأهلية فلا
تجدي في اثبات الجزء الآخر وهو المسوغ فتأمل.
واما مسألة بيع الراهن الرهن والاختلاف بينه وبين المرتهن في وقت البيع
فعدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون الوجه فيه هو دوران صحة العقد حين
صدوره بين التأهلية والفعلية لأنه ان كان قبل الرجوع فصحته فعلية وان كان
بعده فصحته تأهلية لأنه يكون كبيع الفضولي - وقد عرفت أنه غير مورد
أصالة الصحة.
ولكن ظاهر الرسائل كون الوجه فيه كون العقد بدون إجازة من له الحق
وهو المرتهن - جزء الموضوع فصحته تأهلية لا فعلية نظير العقد بالنسبة إلى
إجازة المالك في بيع الفضولي فالتفت.
نعم قد يستشكل في هذا الفرع: بأنه لم لا يجرى الأصل في نفس المسبب
وهو البيع - مع أن المفروض كون الشك في صحته الفعلية وفساده ويمكن الجواب
عنه بان الامر في المسبب أيضا دائر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية كما في
نفس العقد حرفا بحرف فلا تجرى أصالة الصحة فيه فتدبر جيدا
المقام الرابع في وجوب احراز عنوان موضوع الأثر.
وبيان ذلك أنه لا بد في ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من احراز
عنوانه الذي به يكون موضوعا للأثر فمع عدم احراز عنوان لا تجرى أصالة
الصحة.
112

وقد عقد الشيخ (رحمه الله) لذلك فصلا مستقلا (1). ولكنه ذكره فقط بلا ان
يبين الوجه فيه والدليل عليه، ولعله (2) لوضوحه، لأن العلم إذا لم يكن بنفسه

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 419 - الطبعة القديمة.
(2) تحقيق الكلام في هذه الجهة باجمال: انه لا إشكال في أنه يعتبر في جريان أصالة الصحة من
كون الفاعل في مقام الاتيان بالعمل الذي هو موضوع الأثر، فما لم يكن الشخص في مقام التطهير
لا يحمل عمله على الصحة، وكذا إذا لم يكن في مقام البيع والنكاح وغيرهما من المعاملات، لا
يحمل ما يصدر منه على الصحة. انما الاشكال في أنه إذا أحرز انه في مقام الاتيان بالعمل ذي
الأثر الخاص، ولكن شك في تحقق ما هو مقوم عقلا لتحقق موضوع الأثر كالقصد في العقود
الانشائية وكإزالة النجاسة في غسل الثوب أو العصر بناء على تقدم الغسل به، فهل تجرى أصالة
الصحة أولا؟ قد يقال: ان أصالة الصحة تتكفل ترتب الأثر على العمل، ولا تتكفل تحقق نفس
العمل، فمع الشك في نفس العمل لا مجال لأصالة الصحة.
ويمكن الاشكال في ذلك: بان الأثر يترتب على اجراء الماء - مثلا - ولكن بواسطة تعنونه
بعنوان الغسل أو ترتب الغسل عليه بنحو المسببية التوليدية، وكذا يترتب على الايجاب والقبول
بواسطة القصد.
وعليه، فينبغي ان يبحث في أن أصالة الصحة هل تتكفل ترتب الأثر المترتب على الفعل بلا
واسطة، أو الأعم منه ومن المترتب بواسطة؟ ولا بد في ذلك من ملاحظة ما عليه السيرة وبناء
العقلاء، لا سلوك طريقة الاستدلال العقلي - كما أشير إليه -
ثم إن بعض من ذهب إلى اجراء أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم، كمثال التطهير،
التزم في اجراء الصحة في عمل الغائب مع عدم احراز قصد النيابة في عمله.
فقد يورد عليه: ان ذلك ينافي مبناه من جريان أصالة الصحة مع عدم احراز القصد المقوم.
ويمكن ان يدفع الايراد: بان أصالة الصحة إنما تلغي احتمال الفساد في العمل الصادر، وهذا
يختص بما إذا كان الشك راجعا إلى جهة دخيلة في الصحة. وليس قصد النيابة دخيلا في صحة
العمل، إذ العمل صحيح حتى إذا لم يقصد النيابة، نعم، لا يقع عن المنوب عنه، وهذا أجنبي عن
الصحة.
وبعبارة أخرى: ان العمل إذا فرض انه صحيح قصد فيه النيابة أم لم يقصد، لم تكن أصالة
الصحة متكفلة لاثبات النيابة مع الشك، نظير ما إذا دار امر الصلاة بين كونها نافلة الصبح أو
فريضة، فأصالة الصحة لا تثبت قصد الفريضة بها.
ثم إنه يقع الكلام في جهة أخرى، وهي انه إذا أحرز قصد النيابة، ولكن احتمل فساد العمل
من جهات أخرى، فهل ينفع اجراء أصالة الصحة في العمل لاثبات براءة ذمة المنوب عنه أم لا؟
وهذا ما يأتي تحقيقه، فلاحظ.
113

وبذاته موضوع الأثر بل بما هو معنون بالعنوان الكذائي، فلا بد في اجراء أصالة
الصحة من احراز موضوع الصحة وهو العمل المعنون بعنوان كذا لا مجرد نفس
العمل، إذ الأثر غير مترتب عليه بنفسه، فمع عدم احرازه لا يحرز موضوع الصحة،
فلا تصل النوبة إلى اجراء أصالة الصحة.
وبعبارة أخرى: ان الوجه فيه هو وجوب احراز موضوع الصحة عرفا في
ترتيب اثار الصحيح، إذ مع عدم احرازه لا يعقل ترتبها، فإذا كان الموضوع هو
العمل المعنون، فلا بد من احراز العنوان الذي به يكون العمل موضوعا، كعنوان
الصلاة في الأفعال الخاصة، أو التعظيم في القيام، أو الخضوع في السجود، أو غير
ذلك.
وعليه، فبلا احراز موضوع الصحة عرفا، لا مجال لجريان أصالة الصحة.
وقد يستشكل: بان ما ذكر يتم بالنسبة إلى ترتيب آثار الصحة الشرعية عند
الشك في الشرائط الشرعية، فإنه مع احراز الشرائط العرفية يحرز الموضوع العرفي
" الصحة الشرعية خ ل " لأصالة الصحة. اما بالنسبة إلى الشرائط العرفية عند
الشك فيها فلا يتم، إذ لا يحرز موضوع الصحة عرفا عند الشك فيها، فيلزم أن لا
تجرى أصالة الصحة عند الشك في الشرائط العرفية، مع أنه لا اشكال في جريانها،
كيف؟! والسيرة العرفية وبناء العقلاء قامت على جريانها - غير السيرة المتشرعة -
ومعناه اجراء العرف الأصل عند الشك في بعض شرائط العمل عندهم، وهو لا
يتفق مع ما ذكر في توجيه لزوم احراز العنوان العرفي في جريان الأصل.
114

والجواب عن الاشكال المذكور ان المراد من الموضوع الواجب احرازه هو
ما كانت نسبة الأثر إليه نسبة العرض إلى معروضه والمسبب إلى سببه والمقتضى
إلى مقتضيه والأثر إلى ذي الأثر إذ لا يخفى انه ليس كل ما له دخل في ترتب الأثر
يكون دخيلا في التأثير وسببا للأثر ويتضح ذلك في العلل والمقتضيات التكوينية
فان مجرد النار ليست علة تامة للاحراق بل يبوسة المحل والملاقاة شرط في ترتب
الأثر - أعني الاحراق -. ولكن الاحراق انما يستند إلى النار ونسبته إليها نسبة
العرض إلى معروضه فإنها هي المؤثرة فيه والشرائط من الملاقاة ويبوسة المحل
دخيلة في تأثير النار لا انها بنفسها مؤثرة فالشرط العرفي ان كانت نسبته إلى
الأثر نسبة المعروض إلى العروض والمقتضي إلى المقتضى بحيث يكون
جزء المؤثر وجب احرازه عند اجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا وإن لم تكن
نسبته كذلك بل كانت من قبيل الشرط وعدم المانع لم يلزم احرازه في اجراء أصالة
الصحة شرعا وعرفا لعدم دخالته في موضوع الأثر وهو مورد جريان أصالة
الصحة التي قامت عليها السيرة العرفية كما في الاشكال.
فجملة القول انه لا بد في اجراء أصالة الصحة من احراز الموضوع للصحة
وهو ما كان مباشرا للتأثير ولا يلزم احراز جميع الشرائط العرفية ولو لم تكن
دخيلة في الموضوعية.
وعليه فلا يرد الاشكال المذكور الا ان يدعى قيام السيرة على جريان
أصالة الصحة بمجرد احراز صورة العنوان ولو لم يحرز العنوان أو غيره من اجزاء
الموضوع كجريانها بالنسبة إلى الغسل مع الشك في وصول الماء إلى بعض الاجزاء.
مع أنه مقوم للموضوع عقلا كما ذهب إلى هذا المحققان الخراساني (1)

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 245 الطبعة الأولى.
115

والأصفهاني (1) (قدس سرهما).
ولكن ثبوت ذلك محل نظر وشكر وهو كاف في منع هذه الدعوى.
وقد مثل الشيخ (رحمه الله) لصغرى المقام أعني ما يشترط فيه احراز
العنوان بالغسل وانه لا تجرى فيه أصالة الصحة ما لم يحرز كون الفاعل بعنوان
التطهير لان الغسل بظاهره ليس فيه صحيح ولا فاسد.
وهذا بظاهره قد يستغرب وقوعه من الشيخ لان الطهارة انما هي من آثار
نفس الغسل إذ لا يشترط في حصولها كونه بعنوان التطهير كما لا يخفى.
ولم أجد من المحققين من تعرض لتوجيه كلام الشيخ.
وغاية ما يمكن ان يقال في هذا المجال ان اتصاف الشئ بالصحة والفساد لا
يدور مدار ترتب الأثر وعدم ترتبه فقط فلا يقال للغسل الحاصل بواسطة قوة
الريح والقائها الثوب في الماء انه صحيح لو طهر الثوب أو فاسد لو لم يطهر.
وانما يدور مدار ترتبه وعدم ترتبه مع كون الفعل صادرا بداعي ترتب الأثر
فالغسل إذا كان صادرا بعنوان التطهير يتصف بالصحة والفساد اما إذا لم يكن
متحققا بهذا الداعي فلا يتصف بهما فمع عدم احراز العنوان لا تحرز قابلية الفعل
للاتصاف بالصحة والفساد.
ثم إن الشيخ بعد أن تعرض إلى هذه الجهة ذكر امرا آخر وهو بيان الفرق
بين مثل الصلاة على الميت والصلاة تبرعا أو استئجارا أو الحج عن العاجز
حيث حكم الأصحاب باجراء أصالة الصحة في الأول ورتبوا عليها سقوط
الوجوب عن الغير وعدم اجرائها في الثاني حيث اشترطوا الثقة والعدالة في النائب
المستأجر مما يكشف عن عدم اعتبارهم أصالة الصحة فيه.
وقد ذكر (قدس سره) لتوجيه التفريق وجهين:

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 318 الطبعة الأولى.
116

الأولى انه في صلاة النائب لا يعلم كونه في مقام ابراء ذمة الميت في صلاته أو
لا يعلم كونه في مقام الصلاة والا فمع العلم بحاله وانه في مقام الاتيان بالصلاة ابراء
لذمة الميت يلتزم بالحمل على الصحة وجريان الأصل في العمل عند الشك
والطريق إلى الوصول إلى ذلك هو العدالة بحيث يوثق بقوله ودعواه انه في مقام
الابراء.
الثاني ان الفعل النائب الصادر بعنوان النيابة حيثيتين: إحداهما حيثية كونه
فعلا للنائب والأخرى حيثية كونه منتسبا إلى المنوب عنه بلحاظ جهة التسبب
ويترتب على الفعل باعتبار كل من الحيثيتين ما لا يترتب عليه باعتبار الأخرى
والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية التي هي موضوع
الأثر وهو فراغ الذمة وعدم وجوب الإعادة.
وهذا بخلاف مثل الصلاة على الميت مما يكتفى في اسقاط الذمة تحقق الفعل
من الغير.
وقد صار هذا الكلام محلا للنقص والابرام بين المحققين الاعلام.
والتحقيق انه لا محيص عن الالتزام به وذلك لان هاتين الحيثيتين
عرضيتان فالفعل بمعناه الاسم المصدري بذاته ينتسب بالاستئجار فإذا شك المنوب
عنه في صحة هذا الفعل المتحقق في الخارج باعتبار انتسابه إليه فلا مجال له لاجراء
أصالة الصحة فيه كي يترتب عليه آثار الفعل الصحيح المنتسب إليه من فراغ
الذمة لأنه بهذا اللحاظ فعل نفسه وأصالة الصحة موضوعها فعل الغير لا فعل
الشخص نفسه.
نعم لو شك المنوب عنه في صحة الفعل باعتبار انتسابه إلى النائب بلحاظ
ترتيب آثاره من استحقاق الأجرة وغيره أمكنه اجراء أصالة الصحة فيه لأنه
بهذا الاعتبار فعل الغير ولكن الصحة من هذه الحيثية لا تثبت الصحة من
117

الحيثية الأخرى. الا بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: أن يكون مفاد أصالة الصحة ثبوت المشكوك تكوينا وخارجا
حقيقة، فمع جريانها بالاعتبار الأول يثبت المشكوك تكوينا فيرتفع شك المنوب
عنه حقيقة ويحصل له العلم الوجداني باجتماع الأجزاء والشرائط.
الثاني: أن يكون اثر الصحة بالاعتبار الثاني في طول اثر الصحة بالاعتبار
الأول، بان يكون هذا موضوعا لذاك شرعا، فإذا ثبت بأصالة الصحة اثر الصحة
بالاعتبار الأول يترتب جزما اثر الصحة بالاعتبار الثاني.
الثالث: ان تكون الإضافة الثانية في طول الإضافة الأولى - فالطولية بين
الإضافتين لا بين الأثرين - بان يكون الفعل الصادر من النائب هو موضوع
الإضافة إلى المنوب عنه لا نفس الفعل بذاته، ويكون موضوع الأثر هو فعل النائب
الصحيح. وعليه فبجريان أصالة الصحة في فعل النائب يترتب الأثر المرغوب.
وجميع هذه الوجوه منتفية:
اما الأول: فواضح، لان مفاد أصالة الصحة هو التعبد بصحة العمل الصادر
لا اثبات تحقق المشكوك تعبدا فضلا عن اثباته تكوينا وحقيقة.
واما الثاني: فلان دعوى كون فراغ الذمة - أعني: ذمة المنوب عنه الذي هو
اثر الصحة بالاعتبار الثاني - حكما من احكام استحقاق الأجرة الذي هو من آثار
الصحة بالاعتبار الأول، واضحة المنع.
واما الثالث: فلان موضوع الإضافة هو نفس العمل الخارجي، فهو بنفسه
مضاف إلى النائب، كما أنه بنفسه مضاف إلى المنوب عنه، فالإضافتان غير طوليتين
بل عرضيتين.
فإذا ثبت التعبد بصحة العمل باعتبار اضافته إلى النائب التي مرجعها إلى
ثبوت آثار عمل النائب الصحيح لا غير، لا تترتب آثار عمل المنوب عنه
الصحيح، كما لا يخفى.
118

ولكن هذا انما يتم في صورة حياة المستنيب كالنيابة في الحج عن العاجز.
اما في صورة استئجار الولي أو الوصي، فلا مانع من جريان أصالة الصحة
في العمل بلحاظ اضافته إلى المنوب عنه، لان الاستئجار يكون من الولي أو
الوصي، وعمل المنوب عنه بالنسبة إليهما فعل الغير، فيكون موردا لأصالة الصحة
وتترتب آثار الصحيح بالنسبة إليهما.
ثم لا يخفى ان هذا كله مبنى على تفسير النيابة، بأنها تنزيل الفاعل نفسه
منزلة المنوب عنه في فعله، بحيث يكون الفاعل وجودا تنزيليا للمنوب عنه فيكون
للفعل انتسابان عرضيان.
اما لو قيل: بان النيابة ليست سوى فعل الشخص عملا لنفسه، غاية الامر
ان نتيجة هذا العمل ترجع إلى الغير، فيكون منوبا عنه، فلا اشكال في كون جريان
أصالة الصحة في فعل النائب بما هو فعل للنائب كافيا في فراغ ذمة المنوب عنه، لان
فراغ ذمته اثر للعمل الصحيح الصادر من الغير، فالتفت.
المقام الخامس: فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار.
والتحقيق: ان الثابت بها ليس إلا اثار العمل الصحيح الشرعية، دون لوازمه
وملزوماته العقلية والعادية، كما لا يثبت بها الجزء المشكوك كي تترتب عليه آثاره.
ولا يفترق الحال في هذا بين ان نقول بان قاعدة الصحة امارة أو أصل - كما هو
الأقرب، لاعتبارها في مورد ينتفى فيه ملاك الا مارية، وهو مورد جهل الفاعل
بالصحيح والفاسد - لما ذكرناه آنفا من أن الامارة بنفسها ليست حجة في لوازم
مفادها وملزوماته - نعم، قد يكون قيام الامارة على الملزوم أو اللازم منشئا لقيام
امارة من فصيلتها على اللازم أو الملزوم، كما في الخبر، لان الاخبار بالملزوم اخبار
باللازم وبالعكس، فيثبتان بالامارة الثانية، ولكن هذا ليس من حجية الامارة في
اللوازم والملزومات - كما لا يخفى - وهذا مما لا اشكال فيه.
وانما الاشكال فيما فرعه الشيخ (رحمه الله) على هذا من: انه إذا شك في أن
119

الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير أو بعين من أعيان ماله،
فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شئ
من تركته إلى البائع، لان كون الثمن خلا أو شاة - مثلا - ليس مفاد أصالة الصحة،
كما أنه ليس من آثار الصحة شرعا، بل هو من اللوازم العقلية، لان صحة البيع
متوقفة عقلا على أن يكون الثمن هو هذا، فلا يثبت بأصالة الصحة.
وقد ذكر في مقام الاشكال على هذا التفريع وجهان:
الأول: انه ان جرت أصالة الصحة في العقد الواقع بلا ان يترتب عليها انتقال
المثمن إلى المشترى، كان جريانها بلا اثر - إذ اثرها هو حصول النقل والانتقال
وهو غير متحقق كما هو الفرض - فلا معنى لجريانها. وان ترتب عليها انتقال المثمن
إلى المشترى بلا انتقال العين من تركته إلى البائع، كان البيع بلا عوض وهو خلاف
مفهوم البيع.
الثاني: العلم الاجمالي بكون أحد العينين ليس ملكا له، لأنه ان وقع البيع
بالخل - مثلا - فقد خرج عن ملكه. وان وقع بالخمر فالمبيع ليس ملكه. فاجراء
الأصلين - أعني: أصالة الصحة، وأصالة بقاء العين على ملكيتها للمشترى -
يستلزم مخالفة قطعية للعلم الاجمالي، وهي غير جائزة.
ولكن هذين الوجهين لا ينهضان لمنع جريان أصالة الصحة في المورد
المزبور.
اما الأول: فيدفع بان الحكم بعدم انتقال الخل لا يستلزم الحكم بوقوع البيع
بلا عوض، بل يقتضى عدم ثبوت العين الخاصة ثمنا، اما عدم ثبوت الثمن بالمرة فهذا
أجنبي عن ذلك، بل ثمن المثل ثابت في الذمة.
واما الثاني: فهو أجنبي عن عدم قابلية الأصل للجريان، إذ عدم جريان
الأصل في الفرض يكون لاجل وجود المانع، لا لأنه في نفسه غير قابل - الذي هو
محل الاشكال - ولذلك فلا مانع من جريانه فيما لو لم يكن العلم الاجمالي منجزا، كما
120

لو كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء، فالتفت وتأمل جيدا والله سبحانه
ولى التوفيق.
المقام السادس: في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول.
والكلام..
تارة يكون في حكم الأصل بالنسبة إلى الأصل الحكمي الجاري في نفسه في
جميع مواردها، وهو أصالة عدم ترتيب الأثر وتحقق النقل والانتقال في العقود.
وأخرى: يكون في حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي الجاري في نفسه
في بعض الموارد، كأصالة عدم البلوغ عند الشك في صحة العقد وفساده من جهة
الشك في البلوغ، فان البلوغ امر حادث فالأصل عدمه.
ثم إنه حيث لم يثبت أمارية القاعدة أو أصليتها - وإن لم يكن فرق بينهما من
حيث عدم ثبوت اللازم والملزوم بها كما أشرنا إليه - لا بد من الكلام من الجهتين،
فيتكلم في حكمها بناء على الا مارية، كما يتكلم في حكمها بناء على الأصلية.
اما نسبتها مع الأصل الحكمي، فهما في رتبة واحدة لاتحاد موردهما، فأصالة
الصحة معناها ترتب الأثر، كما أن أصالة الفساد معناها عدم ترتب الأثر.
فان قلنا بأنها امارة، سواء أثبتت اللازم أو لم تثبته، تكون مقدمة على الأصل
الحكمي بالورود - كما حققناه - والا فبالتخصيص لا بالحكومة، وان كانت قول
المشهور. وعلى كل فهي مقدمة عليه لا محالة، لأنها رافعة لموضوعه اما تكوينا - كما
هو مبنى الورود - أو تنزيلا - كما هو مبنى الحكومة -
وان قلنا بأنها أصل، فمقتضى القاعدة التي تقتضيها الصناعة هو تعارضهما
وتساقطهما، لكن الاتفاق تم على تقدم أصالة الصحة، اما للزوم اللغوية - لان أكثر
مواردها بل كلها يوجد فيها أصل حكمي، فيلزم من سقوطها تخصيص الأكثر وهو
قبيح - أو للزوم اختلال النظام، أو لقيام سيرة المتشرعة على جريانها في مثل هذه
الموارد.
121

واما حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي..
فان قلنا بأنها امارة وهي تثبت اللازم والملزوم كانت حاكمة على الأصل أو
واردة عليه على الخلاف الذي عرفته لان قيامها على الصحة يثبت تحقق
الموضوع المشكوك، فلا يبقى مجال للأصل النافي لقيام الامارة في مورده.
وان قلنا بأنها امارة ولكن لا تثبت اللوازم والملزومات...
فقد يتوهم تقدم الأصل عليها حيث إنه أصل موضوعي وهي امارة
حكمية وما هو في رتبة الموضوع ولو كان أصلا مقدم على ما هو في رتبة الحكم
- ولو كان امارة -.
ولكنه توهم فاسد لأنه انما يتم إذا كان مفاد الامارة ثبوت الحكم على تقدير
ثبوت الموضوع أعني ثبوت الحكم للموضوع بنحو القضية الحقيقية فان
الأصل الجاري في رتبة الموضوع ينقح الموضوع فيتقدم عليها.
اما إذا كان مفاد الامارة ثبوت الحكم في مورد الشك في الموضوع كما فيما
نحن فيه لم يكن الأصل الجاري في الموضوع مقدما عليها لأنه وان رفع الشك
تعبدا ولكنه أعني الشك لم يؤخذ في موضوع الامارة كي ينتفي موضوعها
بجريانه بل هو مأخوذ بنحو الموردية.
وعليه فالامارة في نفسها لا مانع من جريانها كما أن الأصل الموضوعي
يترتب عليه نفي ترتب الأثر فيتعارضان والنتيجة هي التساقط.
وان قلنا بأنها أصل لم يكن شك بمقتضى القواعد الصناعية - في تقدم
الأصل الموضوعي عليها لرفعه لموضوعها كما لا يخفى.
ولكن الصناعة وان كانت على هذين القولين تقتضي عدم جريان أصالة
الصحة فعلا ولكن الالتزام بها في هذه الموارد قول الأصحاب وعللوه بلزوم
اللغوية والسيرة العقلائية وكلا التعليلين غير صالحين لاسناد القول المذكور.
اما لزوم اللغوية فلأن دليل أصالة الصحة ليس لفظيا كي يقال بأنه يلزم من
122

نفي أصالة الصحة في هذه الموارد استعمال المطلق في الفرد النادر.
واما السيرة العقلائية فلأنها انما تكون حجة لو لم يردع عنها ويمكن أن يكون
الشارع قد اكتفى في مقام الردع بهذه الأصول النافية لترتب الأثر فلا دليل
على حجيتها نعم الذي يمكن التمسك به في اثبات القول المذكور هو قيام سيرة
المتشرعة بما هم متشرعة على التمسك بأصالة الصحة في هذه الموارد فتدبر.
هذا بالنسبة إلى أصل المطلب يبقى الكلام في كلام الشيخ بالنسبة إلى الأصل
الموضوعي فقد اضطربت نسخ الرسائل في نقل كلام الشيخ ووقع الخلط فيها بين
كلامه وكلام السيد الشيرازي (قدس سرهما) والذي نقله المحقق الأصفهاني عن
الشيخ يخالف ما في النسخ بالمرة فقد نقل كلاما له والسيد الشيرازي وذكر ان
الشيخ صحح كلام السيد الشيرازي كما رآه بخطه الشريف.
اما ما نقله عن الشيخ فمحصله ان أصالة الصحة تقتضي صحة العقد بمعنى
جامعيته للشرائط التي منها البلوغ - مثلا - فيترتب عليها النقل والانتقال
والاستصحاب يقتضى بضميمة الجزء الآخر المحرز بالوجدان وهو العقد - عدم
ترتب الأثر لتمامية موضوع الفساد وهو العقد الصادر من غير البالغ فيتعارض
الأصلان.
ثم اعترض على هذه المعارضة بان الأثر يترتب على العقد الصادر من
البالغ فنفي هذا الأثر باثبات ضد السبب يكون بالملازمة لان عدم الأثر بعدم
السبب لا بوجود ضد السبب فيبقى الاستصحاب بلا اثر فلا يجرى فتبقى أصالة
الصحة بلا معارض.
ثم عدل عن هذا الأصل أعني: أصالة عدم البلوغ إلى أصل آخر وهو
أصالة عدم السبب الناقل أو أصالة عدم صدور العقد من البالغ الذي هو موضوع
عدم الأثر كما مر فتتحقق المعارضة بين الأصلين لان أحدهما ينفى الأثر
والآخر يثبته. ولكنه (قدس سره) أجاب عن هذه المعارضة بان أصالة عدم السبب
123

بالنسبة إلى نفى الأثر من باب اللا اقتضاء لان عدم السبب انما لا يقتضى وجود
المسبب لا انه يقتضى عدمه وأصالة الصحة بالنسبة إلى اثبات الأثر من باب
الاقتضاء لأنها تثبت مقتضى الأثر ولا مزاحمة بين ما له الاقتضاء وما لا اقتضاء
له وعليه فتجرى أصالة الصحة بلا مزاحم ولا معارض وتتقدم على الأصل
الموضوعي.
هذا ما نقله عن الشيخ (قدس سره) (1).
والاشكال على ما ذكره أخيرا واضح لان ما يتكفل لبيان شئ بنحو
اللا اقتضاء وما يتكفل لبيان ضده بنحو الاقتضاء لم يثبت كون تنافيهما من باب
التزاحم كي يقال بعدم المزاحمة بل سيأتي انه من باب التعارض وعلى تقدير كونه
من باب التزاحم فهما انما لا يتزاحمان فيما لو لم يكن في الدليل الدال على الامر
اللا اقتضائي اقتضاء للا اقتضاء أما مع وجود المقتضى للاقتضاء يحصل التزاحم
طبعا وما نحن فيه كذلك لان التعبد بالأصل انما يكون بلحاظ وجود المصلحة في
المتعبد به والمقتضى لثبوته فالامر اللا اقتضائي الثابت بالاستصحاب له مقتضى قهرا
فيحصل التزاحم.
واما ما ذكره عن السيد الشيرازي (2) فحاصله ان المراد بالصحة في أصالة
الصحة ان كان نفس ترتب الأثر فلا اشكال في تقدم أصالة عدم البلوغ عليها لان
الشك في ترتب الأثر يكون ناشئا عن الشك في بلوغ العاقد والأصل المذكور يرفعه
تعبدا كما هو شأن كل أصل سببي مع الأصل المسببي وان كان بمعنى استجماع
الشرائط التي منها البلوغ يحصل التعارض بين الأصلين بلا حكومة لأحدهما على
الاخر لان أصالة الصحة مقتضاها صدور العقد من البالغ ومقتضى الاستصحاب
- بضميمة الجزء الآخر - صدوره من غير البالغ.
وبعد ان ذكر هذا اعترض على هذه المعارضة بان مفاد أصالة الصحة هو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 323 الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 323 - الطبعة الأولى.
124

التعبد بوجود العقد الصحيح، ومفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود،
ولا تقابل الا بين وجود العقد الصحيح وعدمه، أو بين سببية العقد الموجود
وعدمها.
وهذا الاعتراض مجمل المفاد ويحتمل فيه وجوه ثلاثة:
الأول: ما ذكره الشيخ من كون الاستصحاب من الأصول المثبتة، لان نفى
الأثر المترتب على الضد باثبات الضد الاخر يكون بالملازمة.
الثاني: ان الأثر انما يترتب على وجود العقد الصحيح، فنفى صحة العقد
الواقع لا تستلزم نفى ترتب الأثر، بل الذي يستلزم هو نفى العقد الصحيح، وهو غير
مفاد الاستصحاب.
الثالث: اختلاف مورد الأصلين، فان المعارضة بين الأصلين انما تكون إذا
كان موردهما واحدا، واما مع تعدد موردهما، فلا يحصل بينهما التعارض. ومورد
الاستصحاب هو عدم سببية العقد الموجود، ومورد أصالة الصحة هو وجود العقد
الصحيح، فمورد كل منهما يختلف عن الاخر، فلا تعارض بينهما.
وهذا الوجه هو الذي حمل عليه المحقق الأصفهاني عبارة السيد، مستشهدا
على ذلك بما ذكره السيد في مقام دفع هذا الاعتراض، بان مفاد أصالة الصحة ليس
هو التعبد بوجود العقد الصحيح، بل هو التعبد بصحة العقد الواقع، فيتحد مورد
النفي والاثبات، فيحصل التعارض.
وعليه، فالسيد التزم بالمعارضة بين أصالة الصحة والاستصحاب الموضوعي
الجاري في المقام.
وعليه، فمقتضى الصناعة تساقط الأصلين، ولكن سيرة المتشرعة قائمة على
العمل بأصالة الصحة في هذه الموارد كما ذكرنا. فتدبر جيدا والله ولى التوفيق. انتهى
الكلام في أصالة الصحة (1) والكلام بعده في:

(1) وذلك في يوم الأربعاء 19 / 8 / 82.
125

قاعدة الفراغ والتجاوز
127

قاعدة الفراغ والتجاوز
والكلام فيها في جهات:
الجهة الأولى: في أنها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية.
لا اشكال في كونها قاعدة فقهية لان جميع التعاريف للمسألة الأصولية
بشتى أنواعها تشترك في كون مورد المسألة الأصولية هو الشبهة الحكمية ومورد
القاعدة التي نحن بصددها انما هو الشبهة الموضوعية كما لا يخفى فلو انطبقت جميع
خصوصيات المسألة الأصولية على قاعدة لما استلزم كونها مسألة أصولية لكون
مورها هو الشبهة الموضوعية.
هذا ولكن تقدم تعريف المسألة الأصولية بما لا يختص اجراؤه بالمجتهد بل بما
يعم حكمه الشبهة الموضوعية فراجع.
الا ان يراد من بيان ضابط المسألة الأصولية بيان الضابط لمسائل معينة
129

حررت لغرض الاستنباط فلا تشمل مسائل الشبهة الموضوعية والأمر سهل.
الجهة الثانية ان الشك تارة يكون متعلقا بوجود الشئ وأخرى يتعلق
بصحة العمل الموجود والأول مورد قاعدة التجاوز والثاني مورد قاعدة الفراغ فما
يتكفل الالغاء حكم هذين الشكين هل هو قاعدة واحدة أو قاعدتان؟.. وقع الكلام
في ذلك وهو يقع في مرحلتين مرحلة الثبوت ومرحلة الاثبات.
اما مرحلة الثبوت فالكلام فيها يقع في امكان كون ما يتكفل إلغاء الشكين
قاعدة واحدة.
وقد بين في وجه عدم امكان كونه قاعدة واحدة تقريبات متعددة
أحدها ان متعلق الشك الأول وجود الشئ وهو مفاد كان التامة ومتعلق
الشك الثاني صحة الموجود وهو مفاد كان الناقصة وهما أعني نسبة كان التامة
ونسبة كان الناقصة نسبتان متغايرتان لا جامع بينهما كي يمكن بيان حكمهما
بدليل واحد.
ولكن نسب إلى الشيخ (قدس سره) المناقشة في هذا التقريب ببيان انه يمكن
ارجاع الشك في صحة العمل الموجود إلى الشك فيها بمفاد كان التامة وذلك بان
يكون الشك في وجود العمل الصحيح وهو مفاد كان التامة فكلا المتعلقين بهذه
النسبة فيمكن بيان حكم الشكين بدليل واحد لامكان الجامع (1).
ولكن المحقق العراقي (رحمه الله) (2) أورد على الشيخ بان مورد الأثر

(1) الأنصاري المحقق مرتضى فرائد الأصول / 414 - الطبعة القديمة
(2) التحقيق ان ما افاده قابل للمناقشة فان الأثر العملي يترتب على مجرد وجود العمل
الصحيح سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات.
اما العبادات فلانه يكفى في فراغ الذمة وحكم العقل بالبراءة احراز تحقق العمل الصحيح
ولو لم يعلم صحة هذا المأتي به لان الامتثال يتحقق باتيان المأمور به.
واما في المعاملات:
فقد يشكل بان احراز وقوع العقد الصحيح لا ينفع في ترتب الأثر بل لا بد من احراز ان هذا
العقد صحيح.
وفيه أنه يكفى في ترتب الأثر احراز وقوع البيع الصحيح على العين الكذائية بين
الشخصين لان مقتضاه انتقال كل من العينين إلى مالك الأخرى ولا حاجة إلى احراز صحة
العقد الواقع.
واما ما ذكره (قدس سره) من مثال قضاء السجدة المنسية وبيان ترتب الأثر فيه على احراز
صحة العمل الواقع ولا يكفى مجرد وقوع العمل الصحيح.
ففيه ان دليل لزوم قضاء السجدة لم يقيد بما إذا كانت الصلاة صحيحة بل هو مطلق من
هذه الناحية وانما اعتبر صحة العمل في لزوم القضاء من جهة استظهار ورود الامر بالقضاء
لتصحيح العمل فلا يثبت الامر به مع فساد العمل للغويته.
ولا يخفى ان اللغوية ترتفع في ما إذا ترتب على القضاء فراغ الذمة والقطع بالامتثال ولو لم
يحرز ان هذا العمل صحيح وما نحن فيه كذلك فإنه إذا ثبت بالقاعدة المبحوث عنها وجود
الصلاة الصحيحة وجاء المكلف بالسجدة بعد العمل الذي في يده يحرز فراغ ذمته بخلاف ما
إذا ترك القضاء فإنه لا يقطع بفراغ الذمة فالأثر لا ينحصر بصورة احراز صحة العمل الموجود
بمفاد كان الناقصة بل يترتب على احراز وجود الصحيح بمفاد كان التامة
130

يختلف فتارة يكون موضوعه وجود الشئ بمفاد كان التامة وأخرى يكون
اتصاف شئ بشئ بنحو مفاد كان الناقصة فارجاع الشك في الصحة إلى الشك
بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في ترتب الأثر المرغوب حيث اخذ مورد الأثر
الشك في اتصاف العمل بالصحة وهو مفاد كان الناقصة (1).
كما أورد عليه المحقق الأصفهاني (قدس سره): بان العمل الصحيح المأخوذ
وجوده في موضوع الشك اما أن يكون بالإضافة إلى الصحة مطلقا بمعنى انه لا
يلحظ فيه كونه صحيحا بل يلحظ الشك في وجوده فيرجع إلى القسم الأول من
الشك واما أن يكون بالإضافة إليها مقيدا بان يلحظ العمل المتصف بالصحة

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي نهاية الأفكار 4 / 38 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
131

فيكون بنحو مفاد كان الناقصة كما أنه لا يمكن أن يكون مهملا لامتناع الاهمال في
مقام الثبوت.
ولكنه (قدس سره) أفاد في مقام التفصي عن هذا الاشكال أعني اشكال
اختلاف النسبتين - مع التزامه بان مورد الأثر الشك في الصحة ان الصحة
المشكوكة تارة تلحظ بمفاد كان التامة وأخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة فان
لوحظ في مورد الشك وجود الصحة بلا لحاظ اتصاف عمل بها بان لوحظت وصفا لعمل
خاص كانت بمفاد كان الناقصة وعليه فلا ملزم للالتزام بان الملحوظ في هذا القسم
هو اتصاف العمل بالصحة بل ليس هو الا صحة العمل فإنه مورد الأثر فيمكن
لحاظه بمفاد كان التامة.
وعليه فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما لاتحادهما
ذاتا (1).
ثانيها ما ذكره المحقق الأصفهاني بعد تفصيه عن اشكال تباين النسبتين بما
عرفت وهو انه لا جامع بين الشك في وجود الشئ والشك في صحة الشئ كي
يتكفل بيان حكمهما دليل واحد (2).
وربما يقال إنه يمكن تصوير الجامع بان يكون عنوان المشكوك فيتكفل
الدليل إلغاء الشك والبناء على تحقيق المشكوك وثبوته أعم من نفس العلم وصحته
ويشكل على هذا بان موضوع الكلام تصوير الجامع في مرحلة متقدمة على
الشك فالمطلوب تصوير الجامع في متعلق الشك بحيث يكون الدليل متكفلا لبيان
إلغاء الشك فيه فيعم القسمين وهو لا يتصور بين الصحة والوجود
وللمحقق الأصفهاني بيان لامكان تصوير الجامع وعدم مانعية ما ذكره من

(1) و (2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 296 الطبعة الأولى.
132

اختلاف متعلق الشك وعدم الجامع له محصله ان الصحة التي تكون متعلقا للشك
ويكون الشك فيها موردا للقاعدة تارة تكون بمعنى ترتب الأثر وأخرى تكون
بمعنى استجماع العمل للاجزاء والشرائط وثالثة تكون عنوانا انتزاعيا للاستجماع.
فإن كان المراد بها الأول والثالث كان ما ذكر من عدم تصور الجامع بين
المتعلقين مسلما كما لا يخفى ولكن الامر ليس كذلك إذ ليس مفاد القاعدة المتكفلة
لالغاء الشك ترتب الأثر ولا العنوان الانتزاعي إذ ليس هو موضوعا للأثر بل
مفادها استجماع العمل للشرائط والاجزاء الذي هو موضوع الآثار الشرعية
والعقلية فيرجع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الكل فيكون متعلق الشك
بقسميه هو الوجود وان اختلف موضوعه حيث إنه تارة يكون الكل وأخرى
يكون الجزء - وذلك كاف في تحقق الجامع (1).
ولكن ما افاده (قدس سره) لا يجدي شيئا لما أشار إليه المحقق العراقي (2).
من: ان موضوع الأثر قد يكون صحة العمل الخارجي لا وجود العمل التام وتحققه
في الخارج فرجوع متعلق الشك إلى وجود الكل بحيث يكون مفاد القاعدة وجود
الكل لا كلية الموجود لا يتلاءم مع ما ذكرناه من كون موضوع الأثر في بعض
الموارد تمامية الموجود لا وجود التام.
هذا ولكن بعد أن أرجعت الصحة إلى مفاد كان التامة بحيث اتحد المتعلقان
نسبة فما ذكر من عدم تصور الجامع بالتقريب الثاني لا مجال له إذ يمكن تصور
جامع عنواني يشار به إلى كلتا الصورتين لأنه لا يلزم كونه جامعا حقيقيا ذاتيا
كلفظ الموصول أو لفظ " شئ " فيقال مثلا: " إذا شككت في وجود شئ فابن
على وجوده " أو: " كل ما شككت في وجوده فابن عليه " فإنه يعم الشك في وجود

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 296 الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد حسين نهاية الأفكار 4 / 38 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
133

ذات العمل ووجود صحة العمل فإنها شئ من الأشياء.
ثالثها ان متعلق أحد الشكين أصل وجود الشئ ومتعلق الاخر صحة
الشئ مع الفراغ عن أصل وجوده فالشئ في أحدهما مفروض الوجود وفى
الاخر ليس بمفروضه ولا جامع بين ما هو مفروض الوجود وما هو ليس
بمفروضه.
ولكن هذا التقريب غير تام كأخويه السابقين لأنه بعد أن عرفت أن امكان
اخذ متعلق كلا الشكين بمفاد كان التامة فلا ملزم حينئذ لاخذ فرض الوجود في
أحدهما بل هو غير ملحوظ أصلا لأنه فرع كون المأخوذ مفاد كان الناقصة بحيث
يكون أصل الوجود مفروغا عنه والشك فيما يتعلق به من الصحة اما مع اخذ
المتعلق هو الصحة بمفاد كان التامة فلا تصل النوبة إلى اخذ فرض الوجود في
المتعلق إذ لا معنى له.
نعم العمل في الموارد مفروض الوجود ولكن ذلك أجنبي عن متعلق الشك
رابعها وخامسها ان الجزء لما كان في مرحلة جزئيته مندكا في الكل فلا
يلاحظ مع لحاظ الكل الا بنحو الاندكاك وباللحاظ الآلي وانما يلاحظ بالاستقلال
في مرحلة سابقة عن لحاظ الكل فلحاظه الاستقلالي سابق رتبة على لحاظه الآلي
فإذا أريد بيان حكم الشك في الكل والجزء بدليل واحد فلا بد من لحاظهما معا
بنحو الاستقلال فيلزم حينئذ اجتماع لحاظين للجزء أحدهما آلى والآخر استقلالي
كما ويلزم تأخر المتقدم رتبة وهو اللحاظ الاستقلالي كما لا يخفى وكلا هذين
الامرين ممتنعان.
وقد تفصى المحقق النائيني (قدس سره) عن ذلك بما محصله ان الشك في
الاجزاء لم يلحظ في جعل القاعدة الواحدة كما لوحظ نفس المركب وانما المجعول
ابتداء هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن العمل ثم قامت الأدلة الخاصة على
اعتبار القاعدة في موارد الشك في الاجزاء فهي حاكمة على الأدلة الأولية.
134

فلولا قيام الأدلة الخاصة لاختص مورد القاعدة بالشك بعد الفراغ ولذلك
يقتصر في التعدي إلى الاجزاء بمقدار ما قام الدليل بالنسبة إليه.
ومن هنا يظهر الوجه في خروج اجزاء الطهارات الثلاث عن موضوعها
القاعدة لاختصاص الأدلة باجزاء الصلاة فلا يتعدى منها إلى غيرها لعدم الدليل
على الحاقها بها كما انها ليست بداخلة " تحت خ ل " في ضمن الدليل الأولى.
ولا حاجة بعد هذا إلى تعليل خروجها بورود تخصيصها بالاخبار أو
الاجماع.
هذا ملخص ما افاده المحقق المذكور (قدس سره) ووجه التفصي به واضح
بين إذ الملحوظ ابتداء ليس إلا الكل فلا يجتمع لحاظان كما لا يلزم تأخر
المتقدم (1).
ولكنه غير تام لان الدليل الحاكم المتكفل لبيان اعتبار القاعدة في الاجزاء
ان كان لسانه ومفاده هو الكشف عن أن المراد بموضوعها الحكم في الدليل
الأولى أعم من الجزء والكل فيكون مفاده اخباريا ويثبت للجزء نفس الحكم
الثابت للكل بدليله عاد المحذور بالنسبة إلى الدليل الأولى كما لا يخفى -.
وان كان مفاده تنزيل الجزء منزلة الكل في الحكم بجعل حكم مماثل له كان
ذلك التزاما بتعدد القاعدة وهذا يعنى الالتزام بالمحذور
وبالجملة: فما ذكره (قدس سره) اما لا يجدي في دفع المحذور، أو يرجع إلى
الالتزام بالمحذور.
فالأولى في التفصي عنه ان يقال: ان المحذور انما يرد لو كان الملحوظ عند
جعل القاعدة نفس الجزء والكل ولكن لحاظ المصاديق بخصوصياتها في جعل
الحكم عليها غير لازم كما هو الحال في القضايا الحقيقية - بل هو غير ممكن

الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 2 / 232 الطبعة الأولى.
135

بالنسبة إلى بعض الموارد لعدم تناهى المصاديق أو تميزها فيها بل يكفى في جعل
الحكم على المصاديق من لحاظها بعنوانها المنطبق عليها كما يقرر ذلك في بيان
الوضع العام والموضوع له الخاص والحكم عليها بواسطة العنوان فيكون موضوع
الحكم هو العنوان وهو الملحوظ دون المصاديق
وعلى هذا فلا ملزم للحاظ الجزء والكل بأنفسهما عند جعل القاعدة بل مع
لحاظ جامعهما العنواني وهو لفظ: " الشئ " مثلا وجعله موضوع الحكم فيها.
وعليه فلا يبقى لما ذكر مجال لوحدة اللحاظ وعدم تعدده كي يلزم ما ذكر
من اجتماع اللحاظين وتأخر السابق لعدم لحاظ الجزء ولا الكل بأنفسهما.
سادسها ما ذكره الشيخ في التنبيه الرابع لا بعنوان المحذور (1) ولكن المحقق
النائيني ذكره محذورا يتحقق من وحدة القاعدة وهو محذور التدافع.
ومحصل ما ذكره (قدس سره) انه إذا شك في الاتيان بالجزء في أثناء العمل
بعد التجاوز عن محله فباعتبار لحاظ الجزء بنفسه يصدق انه تجاوز عن محله فلا
يعتنى بالشك وباعتبار لحاظ المركب بما هو يصدق انه لم يتجاوزه فيجب عليه
التدارك فيلزم التدافع في مفاد القاعدة بلحاظ الاعتبارين.
وبعد ان ذكر هذا أورد على نفسه بان التدافع حاصل على القول بتعدد
القاعدة فإنه بمقتضى قاعدة التجاوز لا يعتنى بالشك لحصول التجاوز عن محل
المشكوك وبمقتضى قاعدة الفراغ يعتنى بالشك لعدم حصول التجاوز عن المركب
وأجاب عنه بأنه مع تعدد الجعل تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة
الفراغ لان الشك في صحة العمل وفساده مسبب عن الشك في الاتيان بالجزء
والمفروض ان الشك السببي يلغى بقاعدة التجاوز فينتفى موضوع قاعدة الفراغ
تعبدا وهو الشك في الصحة والفساد.

(1) بالأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 412 الطبعة القديمة.
136

ثم أورد على نفسه بأنه لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخر بين ان
يكونا مجعولين بجعلين كما هو الحال في الاستصحاب والبراءة - أو بجعل واحد -
كحكومة أحد الاستصحابين على الآخر - فمع شمول القاعدة لمورد قاعدة التجاوز
- وهو الشك في الجزء بعد التجاوز عنه - تحقق الحكومة بلا فرق بين الجعل
الواحد والجعلين.
وأجاب عنه بان حكومة أحد الأصلين على الاخر المجعولين بجعل واحد
- تتوقف على تحقق موردهما في حد أنفسهما وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لان
جريان قاعدة الفراغ يتوقف على الانتهاء من العمل وهو غير متحقق لفرض
الشك في الأثناء فلا موضوع لقاعدة الفراغ كي يقال بحكومة قاعدة التجاوز
عليها بل المتحقق فيه عكسها فالمورد باعتبار يدخل في القاعدة وباعتبار آخر
يدخل في عكسها ولا وجه لدعوى الحكومة في مثل هذا.
هذا ملخص ما افاده في تقريب المحذور (1).
ولكنه لا يرجع إلى محصل لان التدافع المدعى.
ان كان بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ فالمفروض انه لا موضوع لقاعدة
الفراغ لكون الشك في أثناء العمل وبذلك قرر عدم الحكومة فليس في البين الا
قاعدة التجاوز.
وان كان التدافع بين منطوق القاعدة ومفهومها بلحاظ الاعتبارين فإذا كان
المورد بلحاظ الجزء مشمولا للقاعدة الواحدة المجعولة لأنه مورد قاعدة
التجاوز المفروض شمول القاعدة لمواردها لأنها قاعدة جامعة يندفع التدافع
بالحكومة لان الشك في الصحة مسبب عن الشك في وجود الجزء كما عرفت
فجريان القاعدة بلحاظ الجزء يوجب انتفاء الشك بلحاظ الكل تعبدا.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 645 - الطبعة الأولى.
137

هذا مع أنه يمكن ان يقال بعدم وصول النوبة إلى الحكومة وذلك لأنه
سيأتي في دفع المحذور السابع انه قد اخذ التجاوز في مورد القاعدة بناء على
وحدتهما بالمعنى الأعم من الحقيقي - المتحقق في الشك في الصحة والادعائي
المسامحي - المتحقق في الشك في الوجود على ما سيظهر - فمورد الحكم بالتعبد هو
التجاوز بالمعنى الأعم ومقتضى ذلك أنه إذا تحقق التجاوز بأي معنى كان يتحقق
موضوع التعبد والحكم بإلغاء الشك والمفروض ان التجاوز بأحد معنييه وهو
المسامحي متحقق في الفرض فيتحقق موضوع القاعدة وتجرى بلا اشكال ولا
تدافع فالتفت.
سابعها ان اسناد التجاوز إلى الشئ في مورد قاعدة التجاوز اسناد مجازى
مسامحي لان الشئ لا يعلم تحققه كي يتجاوز عنه وانما يسند حقيقة في هذا
المورد إلى المحل واسناده إلى الشئ في مورد قاعدة الفراغ اسناد حقيقي لتحقق
العمل خارجا فيصدق التجاوز عنه حقيقة فنسبة التجاوز إلى الشئ في أحد
الموردين مجازية وفى الآخر حقيقية وحيث لا جامع بين النسبتين لان النسبة من
المعنى الحرفية امتنع تكفل دليل واحد لبيان حكم الموردين بالنسبة إلى المتجاوز
عنه.
ويمكن التخلص من محذور هذا التقريب بان اختلاف النسبتين انما يتحقق في
صورة اما إذا أريد من التجاوز في كلا الموردين معناه الحقيق الموضوع له فان
اسناده إلى الشئ يختلف حقيقة ومجازا باختلاف الموردين.
اما إذا أرجعنا المسامحة في الاسناد المتحققة في مورد قاعدة التجاوز إلى
المسامحة في الكلمة بان التزمنا في التجاوز بمعنى أعم بحيث يكون اسناده إلى
الشئ في هذا المورد بهذا المعنى حقيقيا لم تختلف النسبتان حينئذ.
وبالجملة: التخلص عن المحذور يكون بالالتزام بمعنى أعم من معناه
الحقيقي بحيث يكون اسناده إلى الشئ في كلا الموردين بهذا المعنى حقيقيا فيرجع
138

المجاز إلى الكلمة لا الاسناد فإنه بذلك لا اختلاف بين النسبتين فيمكن تكفل دليل
واحد لحكمهما معا.
وبهذا جميعه تبين انه لا مانع ثبوتا من الجمع بين القاعدتين ووحدتهما إذ لم
يتم شئ من هذه المحذورات المذكورة كما عرفت.
وفى قبال القول بعدم امكان وحدتهما ثبوتا القول بلا بدية وحدتهما ثبوتا،
ورجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز بتقريب ان الشك في صحة العمل ينشأ
دائما عن الشك في وجود جزء أو شرط في ذلك العمل باعتبار ان الصحة عبارة عن
الوصف الانتزاعي المنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به وقاعدة التجاوز تتكفل
إلغاء الشك في وجود الشئ بعد تجاوز محله فيرتفع الشك في الصحة تعبدا فاعتبار
قاعدة الفراغ على هذا يكون لغوا (1).
ولكنه محل نظر لان قاعدة الفراغ تجرى في موارد لا تجرى فيها قاعدة
التجاوز كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة أو
كلمات الآية فان مثل هذا الموالاة لا تعد عرفا وجودا مستقلا يتعلق به الشك
ويكون الشك فيه موضوعا للتعبد بالغائه كي يكون الشك فيها من موارد قاعدة
التجاوز بل الشك فيها يرجع في نظر العرف إلى الشك في صحة الكلمة أو الآية
لأنها بنظره من شؤونهما وأطوارهما - ففي مثل هذا المورد لا يكون الشك في صحة
الصلاة مسببا عن الشك في وجود شئ كي يكون محكوما بقاعدة التجاوز ومرتفعا
بها تعبدا.
وأيضا يعتبر في قاعدة التجاوز كما سيتضح الدخول في الغير المترتب
على المشكوك وهذا لا يعتبر في قاعدة الفراغ بل المعتبر فيها هو البناء النفسي على
الانتهاء من العمل سواء دخل في الغير أم لم يدخل وبذلك يتعدد موردهما أيضا

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 271 الطبعة الأولى.
139

ولا يتحد كي ترجع الثانية إلى الأولى للحكومة ولزوم اللغوية وذلك كما يظهر في
مثل ما لو شك بعد الفراغ من العمل في الجزء الأخير منه ولم يكن قد دخل في عمل
آخر مترتب عليه فإنه لا مجال في مثل هذا لجريان قاعدة التجاوز لعدم توفر
شرطها مع أنه مورد لقاعدة الفراغ.
والمتحصل ان ما ذكر اما يتم لو كانت موارد قاعدة الفراغ كلها أو الأغلب
منها قابلة لجريان قاعدة التجاوز ولكن الامر ليس كذلك فان هناك موارد جمة
تكون مجرى لقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا لا
يكون لغوا.
هذا مع أن الحكومة انما تثبت في موارد السببية والمسببية الشرعية وليس ما
نحن فيه كذلك لان الصحة ليست من الآثار الشرعية لوجود الجزء بل هي معنى
انتزاعي يحكم به العقل وليس مجعولا شرعيا فالأصل الجاري في اثبات الجزء لا
يكون حاكما على الأصل الجاري في اثبات الصحة فلاحظ ولا تغفل.
هذا كله في مقام الثبوت الذي بقين منه انه يمكن ثبوتا أن يكون كل من
القاعدتين قاعدة مستقلة بنفسها كما يمكن كونهما قاعدة واحدة كما يمكن رجوع
قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ كما عليه المحقق النائيني وهناك احتمال آخر
وهو عدم وجود قاعدة التجاوز بالمرة وانه ليس إلا قاعدة الفراغ فالاحتمالات
أربعة
واما الكلام في مقام الاثبات فهو حول ما يتكفله الدليل من تعيين أحد هذه
الاحتمالات الأربعة فنقول وبالله الاعتصام -.
اما الاحتمال الثاني وهو كونهما قاعدة واحدة فلا يساعد عليه الدليل
لأنه مبنى - كما عرفت - على الالتزام بالتوسع في معنى التجاوز وكونه أعم من المعنى
140

الحقيقي وهذا لا مجال له بالنسبة إلى بعض النصوص (1) مما يمكن ان تكون نسبة
التجاوز والمضي فيها إلى الشئ بمعناه الحقيقي نسبة حقيقية فإنه مع امكان حمل
اللفظ على ظاهره اللغوي لا وجه للتصرف فيه وحمله على غير معناه الموضوع له
واما الاحتمال الثالث وهو رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ
بالتقريب السابق الذي ذكرناه في دفع المحذور الرابع من كون المجعول أولا هو قاعدة
الفراغ ثم نزل الشك في وجود الجزء منزلة الشك في الكل في خصوص باب الصلاة
فهو ممتنع من جهتين.
الأولى عدم اختصاص قاعدة التجاوز موردا بالصلاة بل تجرى في غيرها
كما ستعرف.
الثانية انه مع تسليم الاختصاص بالصلاة فلا دليل على أن ذلك أعني
عدم الاعتناء بالشك في الجزء فيها كان من باب التنزيل أو الحكومة كما قرره
(قدس سره) كي يرجع الجعل إلى قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ إذ لا ظهور من
لفظ النصوص في ذلك.
هذا ويمكن ان يقرب ما افاده (قدس سره) ان الروايات الواردة في إلغاء
الشك في اجزاء الصلاة مذيلة بحكم عام كقوله (عليه السلام) في رواية زرارة
الآتية: " إذا خرجت من شئ ودخلت في غيره فشكك ليس شئ " (2) وقوله في
رواية إسماعيل الآتية: " كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض
عليه " (3) وهذا الحكم العام ظاهر في كون موضوعه الشك في الصحة لا الوجود
كما هو مقتضى لفظ التجاوز والمضي على المشكوك والخروج منه فان جميع ذلك
ظاهر في كون الشئ مفروغا عن وجوده واما الشك في شأن من شؤونه وهو

(1) كقوله (عليه السلام) كل شئ شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.
(2) وسائل الشيعة 5 / 336 باب: 23 من أبواب الخلل الحديث: 1.
(3) وسائل الشيعة 4 / 971 باب: 15 من أبواب السجود، الحديث 4.
141

الصحة.
وإذا تم هذا يظهر ان تطبيق هذا الحكم على المصاديق المذكورة في الصدر لا
يكون إلا من باب تنزيل الشك فيها منزلة الشك في الصحة وهو مما يقتصر فيه
على مورده المتيقن وهو خصوص اجزاء الصلاة.
هذا غاية ما يمكن ان يوجه به ما افاده (قدس سره) لكن يرد عليه ان
الذيل إذا كان ظاهرا في كون الموضوع هو الشك في الصحة فالتحفظ عليه يستلزم
التصرف في ظهور الصدر وحمل المصاديق المذكورة فيه على بيان مصاديق الشك في
الصحة لا الوجود إذ ليست دلالتها على إرادة الشك في الوجود بنحو النص الذي
لا يمكن التصرف فيه.
فتكون الروايات ظاهرة صدرا وذيلا في بيان قاعدة الفراغ كما سنقربه.
ولو لم يمكن الجمع بذلك فما افاده من الجمع بحمل الرواية على التنزيل ليس
جمعا عرفيا ونتيجة ذلك اجمال النصوص وعدم استفادة شئ منها فلاحظ.
واما الاحتمال الأخير (الرابع) وهو عدم الأساس لقاعدة التجاوز وان
المجعول ليس إلا قاعدة الفراغ فلا يلغى الشك في الوجود شرعا فهو وان كان
احتمالا في قبال الفتاوى والاجماع لكنه مما يمكن الجزم به عند لحاظ روايات الباب
المستدل بها على ثبوت القاعدة فان عمدتها روايتا زرارة (1) قلت لابي عبد الله
(عليه السلام) رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال (عليه السلام):
يمضى قلت: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟.. قال (عليه السلام) يمضى
قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ؟. قال (عليه السلام): يمضى. قلت: شك في
القراءة وقد ركع؟. قال (عليه السلام): يمضى، قلت: شك في الركوع وقد سجد؟. قال
(عليه السلام): يمضى على صلاته. ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت

(1) وسائل الشيعة 5 / 326 باب: 23 من أبواب الخلل الحديث: 1.
142

في غيره فشكك ليس بشئ - وإسماعيل بن جابر (1) - عن أبي عبد الله (عليه
السلام) في حديث قال: إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وان شك في
السجود بعد ما قام فليمض كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره
فليمض عليه -.
وقبل الكلام فيهما لا بد من بيان شئ وهو ان الشك في الشئ قد يطلق
ويراد به الشك في أصل وجود الشئ وقد يطلق ويراد به الشك في شأن من شؤون
الشئ مما يرجع إلى صحته مع تسليم وجوده فهو قابل لكلا الاطلاقين الا انه مع
عدم القرينة ظاهر عرفا في الأول أعني الشك في وجود الشئ إذا عرفت هذا
فنقول:
اما رواية زرارة فصدرها وان كان يشتمل على التعبير بالشك في الشئ
الظاهر عرفا في الشك في وجوده الا ان ذيلها الوارد بنحو تطبيق كبرى كلية على
الموارد الجزئية المذكورة في الصدر ظاهر في كون الشك في صحة الشئ لقوله فيه:
" يا زرارة إذا خرجت من شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ ". فان
الخروج من الشئ ظاهر عرفا في كون أصل الشئ موجودا لأنه مع عدم وجوده
لا يتحقق الخروج عنه.
فلو لم نقل بان ظهور الذيل في الشك في الصحة مع الفراغ عن أصل الوجود
موجب لتغيير ظهور الصدر في الشك في الوجود بأن يكون المراد من الشك في
صحة الشئ فان التعبير قابل لذلك لأنه وارد مورد التطبيق وأقوائية ظهوره في
مؤداه من ظهور الصدر فلا أقل من تصادم الظهورين فتكون الرواية مجملة لا
يعتمد عليها في شئ من القاعدتين.
واما رواية إسماعيل فالكلام فيها كالكلام في سابقتها فان قوله: " شك فيه "

(1) وسائل الشيعة 4 / 971 باب 15 من أبواب السجود الحديث: 4.
143

ظاهر - كما عرفت - في الشك في الوجود ولكن قوله " جاوزه " ظاهر في التجاوز
عن نفس الشئ وهو يقتضى تحقق وجود الشئ فيتصادم الظهوران لدوران
الامر بين حمل: " جاوزه " على خلاف ظاهره والتصرف فيه باسناده إلى المحل أو
حمل " شك فيه " على الشك في صحته ولا مرجح لأحدهما على الاخر بل ابقاء
ظهور لفظ التجاوز على اسناده الحقيقي أولى لظهور قوله فليمض عليه " في أن
تحقق أصل الشئ مفروغ عنه وإلا فلا يتحقق المضي عليه كما لا يخفى
فالمتحصل عدم امكان الاعتماد على هاتين الروايتين في اثبات قاعدة
التجاوز فلا يثبت له أساس في النصوص فلا يبقى الا قاعدة الفراغ.
وعلى هذا فلو شك في الصلاة في جزء سابق وقد دخل في غيره ينبغي له
العود للاتيان به الا إذا كان قد دخل في ركن لفوات محل التدارك حينئذ حتى مع
العلم بترك الجزء وعليه فإن كان الجزء المشكوك من غير الأركان كالقرائة أو
التشهد فلا يبطل عمله بمقتضى حديث " لا تعاد " وان كان من الأركان كالركوع
بعد دخوله في السجدة الثانية حكم ببطلان عمله ولزوم الإعادة.
ولو انتفى هذا الاحتمال أو لم يمكن الالتزام به فلا محيص عن الالتزام بتعدد
القاعدتين وان أحدهما وهي قاعدة التجاوز موضوعها الشك في وجود الشئ
بعد التجاوز عن محله والأخرى وهي قاعدة الفراغ موضوعها الشك في صحة
الشئ بعد فرض وجوده وعلى هذا البناء يقع الكلام في الجهات الأخرى للبحث
الجهة الثالثة في عموم قاعدة التجاوز لجميع صور الشك في الوجود أو
اختصاصها بالصلاة كما ذهب إليه المحقق النائيني على ما عرفت.
وقد استدل للعموم باطلاق لفظ " شئ " في رواية زرارة وعموم لفظ " كل
شئ في رواية إسماعيل فإنهما غير ظاهرين في خصوص شئ دون آخر فلا
محيص عن الالتزام بالعموم لدلالتهما على ذلك.
ولكن من خص جريانها باجزاء الصلاة قرب عدم دلالة الروايتين على
144

العموم بان: " شئ " في رواية زرارة لفظ مطلق ودلالة المطلق على الاطلاق انما هو
بتمامية مقدمات الحكمة واحدها عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهي
منتفية في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو اجزاء الصلاة باعتبار
كونها مورد الرواية - فلا يمكن التمسك باطلاق لفظ: " شئ " لعدم انعقاده واما
لفظ " كل شئ " فهو كسابقه لان " كل " لا تدل على العموم بنفسها وانما بلحاظ
دلالة مدخولها وبعبارة أخرى: ان " كل " تدل على عموم ما يراد من مدخولها
والا فهي بنفسها غير دالة على الاستغراق والعموم فتتوقف دلالتهما على العموم
على انعقاد مقدمات الحكمة في لفظ " شئ " الذي هو مدخولها وإحداها وهي
عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب ومنتفية لوجوده وهو مورد السؤال.
ولكن هذا التقريب انما يتجه صدوره ممن يقول باعتبار عدم القدر المتيقن في
مقام التخاطب من مقدمات الحكمة - كالمحقق الخراساني - واما من لا يقول بتوقف
انعقاد الاطلاق على عدم وجود القدر المتيقن - كالمحقق النائيني - فصدور هذا
التقريب منه غير واضح الوجه.
مع أن نفس المبنى مناقش فيه إذ لا يلتزم أحد بحمل المطلقات على
خصوص مواردها حتى المحقق الخراساني - فلا وجه لاعتبار عدم القدر المتيقن
في مقام التخاطب في التمسك بالمطلقات.
ولو تنزل على ذلك فما ذكر في الرواية الثانية من أن لفظ: " كل " لا تدل على
العموم بالوضع بل بمقتضى دلالة مدخولها فالمتبع هو عموم المدخول وهو يكون
بتمامية مقدمات الحكمة وهي غير تامة كما عرفت.
غير وجيه لما حقق في محله من أن: " كل " من ألفاظ العموم بحيث تدل عليها
بالوضع فلا يحتاج في دلالتها عليه إلى تمامية مقدمات الحكمة وكلام المحقق
الخراساني مختلف من هذه الناحية.
وبالجملة فما ذكر في التخصيص باجزاء الصلاة انما يتم بتمامية أمرين:
145

أحدهما اعتبار عدم المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.
والاخر عدم دلالة كل على العموم بالوضع بل باعتبار ما يراد من
مدخولها.
اما قاعدة الفراغ فهي عامة لجميع الاعمال لأنه وان كانت بعض رواياتها
واردة في الطهور والصلاة الا ان هناك روايتين يتمسك بهما للعموم:
أحدهما رواية: " كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو " فان: " كل "
دالة على العموم ولا ظهور لها في فرد دون آخر.
والأخرى رواية باعتبار ما ذكر فيها من قوله (عليه السلام) فإنه حين
يتوضأ اذكر منه حين يشك "، فإنه وإن لم يكن تعليلا كما قيل - لكنه أشبه به
ولسانه لا يختص بالوضوء وان كان موضوعه بل هو ظاهر في أن الشخص
حين يتوجه للعمل أو حين يشتغل فيه يكون أكثر التفاتا إلى خصوصيات العمل
وجزئياته المعتبرة فيه من وقت شكه وهذا لا يختص بعمل دون آخر.
فالمتحصل مما ذكرناه ان كلتا القاعدتين تجريان في جميع الموارد التي تنطبقان
عليها.
الجهة الرابعة في عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء كما لو شك في
الآية السابقة وهو في اللاحقة أو في الكلمة السابقة في الآية وهو في اللاحقة أو في
الحرف السابق من الكلمة وهو في اللاحق.
وقد قرب عدم عمومها واختصاصها بجزء العمل بوجوه ثلاثة:
الأول ما قرره المحقق النائيني من انه لا وجود لقاعدة التجاوز كي يتمسك
بعموم دليلها أو اطلاقه وانما هي من باب تنزيل الجزء منزلة الكل والحاقه حكما
بالكل فلا بد من الاقتصار على المقدار المنزل منزلة الكل وليس في أدلة التنزيل ما
يتكفل تنزيل جزء الجزء منزلة الكل بل هي مقتصرة في التنزيل على خصوص
الاجزاء كما لا يخفى على من لاحظ الروايات. (*)
146

وهذا الوجه قد عرفت ما فيه من عدم الدليل اثباتا على تكفل الدليل تنزيل
الجزء منزلة الكل بل ظاهره لو تم بيان قاعدة كلية عامة.
الثاني ان المعتبر في قاعدة التجاوز، التجاوز عن محل المشكوك فلا بد من
فرض محل له قد جعله الشارع وقرره بحيث يكون فرض المحل امرا زائدا على
المأمور به لا أمرا يتقوم به المأمور به فمع عدم وجود محل مقرر له شرعا لا يتحقق
موضوع قاعدة التجاوز فلا وجه لجريانها وجزء الجزء لا محل له كي يقال تجاوز
عنه فمثلا أمر الشارع بتكبيرة الاحرام في الصلاة وهي " الله أكبر " فسبق كلمة:
" الله " على كلمة " أكبر " ليس امرا ملحوظا لدى الشارع ومأمورا به بل ليس
المأمور به الا التكبيرة لا اجزاءها والسبق المذكور من مقوماتها فلا يقال لمن
عكس وقال " أكبر الله " انه جاء بالمأمور به (التكبيرة خ ل) من غير ترتيب بل
يقال إنه لم يجئ بالمأمور به، فالترتيب المذكور من مقومات المأمور به لا امر زائد
عليه تعلق به الامر الشرعي.
وهذا الوجه غير تام لأنه لا دليل على ما ذكره فيه من فرض كون المحل امرا
زائدا على المأمور به مقررا من قبل الشارع بحيث يلحظ الترتب الشرعي بل
الأدلة بالنسبة إلى المحل عامة فهي تدل على أنه لو تجاوز عن المحل الشئ المقرر له
مطلقا سواء كان التقرير شرعيا كأجزاء الصلاة - أو غيره - كما في آيات السورة
وكلمات الآية وأحرف الكلمة - فإنه يصدق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى كل هذه
الأمور
الثالث دعوى الانصراف ببيان ان لفظ: " الشئ " في الروايات منصرف إلى
الاجزاء بخصوصها دون أجزائها، فعليها يحمل اللفظ، فتختص القاعدة بها. وهذا
كانصراف لفظ " الحيوان " في أدلة عدم جواز الصلاة في اجزاء غير المأكول منه عن
الانسان إلى غيره.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تمامية هذه الدعوى بالنسبة إلى أحرف
147

الكلمة، لأنها وان كانت شيئا بالدقة، لكن لفظ: " الشئ " في الرواية لا يشملها
عرفا وينصرف عنها.
وهذه الدعوى لا تبتنى على برهان كي يناقش فيه، بل هي دعوى وجدانية
يسهل لكل أحد المناقشة فيها بدعوى عدم الانصراف.
والتحقيق: ان المعتبر في جريان قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتب،
بحيث تكون ذات الغير المأمور بها محرزة، وإن لم يحرز بكونها امتثالا لفرض الشك
في الجزء السابق.
وعليه، نقول: ان المركب المؤلف من اجزاء..
تارة: يكون الاخلال بأحد اجزائه لا يوجب سلب وصف الجزئية عن سائر
الاجزاء بحيث يكون ذات الجزء متحققة، كما لو لم يجئ بالركوع واتى بالسجود،
فإنه يصدق على السجود انه ذات الجزء المترتب عليه، فمع الشك في الركوع وهو في
السجود يكون الشك بعد الدخول في غير المترتب.
وأخرى: لا يكون كذلك، بل يكون الموجود من الاجزاء في ظرف فقدان
البعض الاخر مباينا عرفا للموجود مع وجود البعض الاخر، وفى مثله لو شك في
بعض الاجزاء وقد دخل في غيرها لا يصدق انه دخل في الغير المترتب على
المشكوك لاحتمال فقدان المشكوك، فيكون هذا الجزء مبانا للمأخوذ في العمل
بذاته، فلا يكون قد دخل في الغير المترتب - ولو كان ترتبه عقليا - وهذا نظير
اجزاء الكلمة الواحدة فان الراء من: " أكبر " لا تتصف بأنها جزء: " أكبر " الا إذا
جئ بالكلمة بتمامها، فالانضمام كما هو شرط للامتثال يكون مقوما لصدق عنوان
المأمور به وصيرورة كل حرف جزء لذات المأمور به.
وعليه، فمع الشك في التلفظ بالكاف وقد دخل في الراء لا يصح اجراء قاعدة
التجاوز، لعدم احراز الدخول في الغير. ومثله التكبير المتقوم بكلمة: " الله أكبر ".
بالنحو الخاص، فان انضمام الكلمتين مقوم لصدق عنوان التكبير على اجزائه، وكل
148

كلمة بمفردها لا تكون جزء للتكبير، فمع الشك في قول: " الله " وهو في: " أكبر " لا
مجال لاجراء قاعدة التجاوز. ولعل مثله اجزاء الآية، وكل عنوان واقعي يتقوم
بالمجموع كالحمد والشهادة ونحو ذلك.
والضابط: هو ما عرفت من عدم تحقق ذات الجزء مع الاخلال بالجزء
الاخر، بحيث يعد المتحقق مباينا بذاته لجزء المأمور به المنضم إلى غيره وقد يقع
الاشكال في تشخيص بعض المصاديق.
فالتفصيل في جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء بالنحو الذي عرفت هو
المتعين.
ثم إن ثمرة هذا المبحث تكون كثيرة لو لم نقل بجريان قاعدة الفراغ في مورد
الشك في صحة الجزء بعد الفراغ من الجزء في جزء الجزء لا تجب الإعادة،
ومع البناء على عدم جريانها تجب.
اما مع القول بجريان قاعدة الفراغ في الجزء بعد الفراغ منه، فلا يختلف الحال
عملا في مورد الشك بعد الفراغ عن الجزء في جزئه باختلاف البنائين، لجريان
قاعدة الفراغ في الجزء نفسه، لان الشك المذكور يرجع إلى الشك في صحته بعد
الفراغ منه، وهو مورد القاعدة. فظهور الثمرة العملية ينحصر - على هذا القول - في
مورد الشك في أثناء العمل.
الجهة الخامسة: في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في أثناء
المشروط.
وقد ذكر الأصفهاني لمنع العموم وجوها وأجاب عنها.
الأول: ان نسبة الشرط إلى جميع الاجزاء نسبة واحدة، فمع الشك في تحققه
في الجزء السابق يشك قهرا بتحققه في الجزء اللاحق الفعلي، فاحرازه بالقاعدة
بالنسبة إلى الجزء السابق لا يجدي شيئا، لعدم امكان احرازه بها بالنسبة إلى الجزء
149

الفعلي، لعدم تحقق التجاوز عنه، فيكون اعتبار قاعدة التجاوز في الفرض لغوا،
للتلازم بين الشك في شرط الجزء السابق وشرط الجزء الفعلي اللاحق.
والجواب: ان هذا الوجه انما يتم بالنسبة إلى ما لا يمكن تبدله (حدوثه خ ل)
في الأثناء كالطهارة، اما ما يمكن تبدله كالستر، فلا يتم هذا الوجه فيه، ومثاله: لو
لبس في أثناء الصلاة ما يستره قطعا وشك بعد ذلك في أن ما كان لابسه سابقا كان
سائرا أو لم يكن، فإنه لا ملازمة في مثل الفرض كما لا يخفى، فاعتبار قاعدة التجاوز
لا يكون لغوا لجريانها في هذه الموارد، وهو كاف في رفع اللغوية، فاطلاق المنع لا
يخلو عن الخدش.
الثاني: انه يعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون الشئ ذا محل، والشروط لا
محل لها كي يتحقق التجاوز عنه. والجواب: انه..
ان أريد بعدم المحل ان المشروط ليس ظرفا ومحلا للشرط، كما أن الكل ليس
محلا للجزء، فهذا لا يختص بالشرط المقارن بل يعمه ويعم السابق واللاحق، فكما
تجرى القاعدة بالنسبة إلى الشرط السابق - كالوضوء على القول بشرطية نفسه -
باعتبار كون محله هو الزمان السبق، فكذلك فلتجر بالنسبة إلى المقارن باعتبار كون
محله الزمان المقارن وقد تجاوز عنه الفاعل.
وان أريد بان الشرط انما هو شرط للمجموع لا لكل جزء جزء، فلا محل
له، وانما المجموع محله. ففيه: انه قد حقق في محله ان الشرط انما هو للمركب، وثبت
بان المركب هو عين الاجزاء بالاسر، فهو شرط للاجزاء بأسرها فيكون شرطا
لكل جزء جزء.
واستشهد على ذلك: بأنه لو انتفى الشرط في بعض الاجزاء دون بعض
وأمضى العمل، لا يقال بتبدل الشرط وانه شرط جديد باعتبار ان الشرط الواقعي
للمجموع وهذا للبعض، بل يقال بانتفائه في بعض دون اخر. فالتفت.
150

الثالث: ان الشروط من الكيفيات والحالات للمشروط، فلا يتحقق التجاوز
عنها لا بالحقيقة ولا بالمسامحة، بل التجاوز بكلا معنييه يتحقق بالنسبة إلى المتكيف
بها دونها، فلا مجال حينئذ لجريان قاعدة التجاوز فيها، لعدم صدق موضوعها.
والجواب: ان الشروط على قسمين: قسم له وجود مستقل، كالستر
والاستقبال والطهارة وقسم لا يكون كذلك، بل يكون كيفا للغير، كالترتيب
والموالاة. فالقسم الأول يتحقق بالنسبة إليه التجاوز، فلا يكون مشمولا لهذا
التقريب. نعم يبقى القسم الثاني، فان الكلام فيه تام، لأنه من كيفيات المشروط فلا
وجود له الا بتبع مشروطه.
إلى هنا يظهر ان المحقق الأصفهاني يلتزم بالتفصيل بين ما له وجود مستقل من الشروط وبين ما لا وجود له كذلك، فتجرى القاعدة في الأول دون الثاني.
وقد سبقه إلى ذلك الشيخ وتقريبه واضح، لاخذ الشئ موضوعا للشك
الذي هو مورد القاعدة، وواضح عدم صدقه عرفا على ما لا وجود له بنفسه.
الا انه (قدس سره) ذكر بيانا اخر يحقق فيه عدم جريان القاعدة في مطلق
الشروط، ومحصله: ان التجاوز قد فسر في بعض النصوص بالخروج عن الشئ
والدخول في غيره، وهذا يستدعى المغايرة بين المتجاوز عنه والمتجاوز إليه، ولا
اشكال في عدم صدق هذا المعنى عرفا في الشروط. فان الاستقبال - مثلا - واحد
مستمر، لأنه متعدد بحيث يصدق على الاستقبال في الركعة الثانية انه غير الاستقبال
في الأولى، ومع عدم المغايرة لا يتحقق الخروج والدخول في الغير كما لا يخفى، فلا
موضوع لقاعدة التجاوز في الشروط، فلا مجال لجريانها (1).
وهذا التقريب وان كان بحسب النظر الأولى وجيها، الا انه يمكن المناقشة فيه
بما ذكر في باب استصحاب الأمور التدريجية، من: ان الامر التدريجي وان كان

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 302 - الطبعة الأولى.
151

مستمرا ومتصلا وواحدا دقة الا انه قد يعد عرفا متعددا بلحاظ طرو بعض
الحالات عليه، كما بالنسبة إلى الليل والنهار، فإنهما يعدان عرفا امرين، مع أن الزمان
مستمر لا انقطاع فيه.
وعليه، فالاستقبال - مثلا - وان كان مستمرا غير منقطع، الا انه بلحاظ
اعتبار الشروط للمركب - وهو الاجزاء بالاسر - يعد شرطا لكل جزء، فيرى
متعددا بنظر العرف بهذه الجهة وان كان واحدا بالنظر الدقى، فتتحقق المغايرة عرفا
بين الاستقبال في جزء والاستقبال في جزء اخر، فيصدق الخروج عن الشئ
والدخول في غيره.
هذا كله بالنسبة إلى الشروط التي تكون بنفسها متمحضة في الشرطية
وليس فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية.
وبعده يقع الكلام في الشروط التي تكون فيها جهة أخرى غير جهة
الشرطية بان تكون بنفسها متعلقا للامر وموضوعا لاثر ما، نظير صلاة الظهر،
فإنها شرط في صحة صلاة العصر مع أنها بنفسها متعلق للامر وموضوعا للأثر،
فهل مثل هذه الشروط يكون الشك فيها مجرى قاعدة التجاوز بعد الفراغ والبناء
على جريانها في الشروط الأخرى.
ووجه تخصيصها بالكلام جهتان:
الأولى: احتمال اختصاص أدلة القاعدة بموارد الشك في القسم الأول من
الشروط مضافا إلى الاجزاء.
ويدفعه: ان الأدلة عامة لجميع موارد الشك في الوجود مما كان المشكوك، له
محل مقرر ولو كان مركبا تاما، فيتمسك بعمومها، ولا وجه لاحتمال اختصاص
الأدلة بموارد دون أخرى.
ويؤيده ورود إلغاء الشك في النص بالنسبة إلى الأذان والإقامة، مع أنها
ليست جزءا للصلاة، وهي مأمور بها بالاستقلال، لكن لها جهة ارتباط بالصلاة،
152

ومثلها الأذان.
الثانية: ان مفاد قاعدة التجاوز ليس هو ترتيب الأثر على وجود المشكوك،
بل هو البناء على تحقق المشكوك ووجوده، بحيث لا يلزم الاتيان به بعد هذا.
وعليه، فجريان القاعدة في صلاة الظهر في أثناء العصر أو بعدها يقتضى عدم
لزوم الاتيان بالظهر بعد تمام العصر، لان مفادها هو البناء على تحقق المتجاوز عنه،
فمقتضاها تحقق الاتيان بالظهر، فلا وجه حينئذ لوجوب الاتيان بها بعد العصر، مع أنه
لا يلتزم به أحد. فالالتزام بجريان قاعدة التجاوز يلزم منه ما ذكر، كما أن عدم
الالتزام به يستلزم تخصيص دليلها بلا وجه.
والتحقيق في رفع هذه الشبهة، والتوفيق بين عدم الالتزام بعدم لزوم الاتيان
بالظهر وجريان القاعدة فيها: ان قاعدة التجاوز وان كان مفادها هو البناء على
وجود المشكوك وتحققه، الا انها انما تقتضي التعبد بالمشكوك بمقداره.
والمشكوك الذي يكون موردا للقاعدة ههنا ليس هو صلاة الظهر بقول
مطلق، لأنها بنفسها وبلحاظها ذاتها، لم يتجاوز عن محلها، وانما يكون التجاوز عن
محلها بلحاظ جهة شرطيتها لصلاة العصر. فالمشكوك الذي يكون مورد القاعدة في
الفرض انما هو صلاة الظهر بهذا الاعتبار - أعني باعتبار شرطيتها للعصر ودخالتها
في صحة العصر - لا بلحاظها نفسها وذاتها، فجريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر
لا ينافي الالتزام بوجوب الاتيان بها بعد العصر.
ثم إن الشيخ (رحمه الله) فصل - احتمالا لا اختيارا - بين الشروط التي يكون
محل احرازها قبل العمل - كالوضوء - و الشروط التي يكون محل احرازها أثناء
العمل - كالاستقبال - فاجرى قاعدة التجاوز في الأول مع الشك في أثناء العمل
دون الثاني، لأنه لا بيد من احرازه للاجزاء المستقبلة.
فلا بد من الكلام في هذه الجهة، كما لا بد من دفع توهم سراية ما ذكر بالنسبة
إلى صلاة الظهر بالإضافة إلى اجزاء العمل، لان فيها جهة الشرطية للاجزاء
153

اللاحقة - لارتباطيتها - فاحراز الاتيان بالجزء يجدي لما سبق من الاجزاء دون ما
لحق لعدم التجاوز عن محله.
وتوضيح الكلام على وجه يتضح به الحال يتوقف على بيان أقسام الشروط
- بلحاظ جهة ارتباطها بالعمل التي هي شرط له - واحكامها.
فنقول: الشروط على أقسام أربعة:
الأول: أن يكون فيه جهة زائدة على جهة الشرطية، كان يكون موضوعا
لحكم بنفسه مضافا إلى جهة شرطيته، كاجزاء الصلاة، فان كلا منها مأمور به
بنفسه، كما أنه شرط لغيره.
الثاني: أن يكون متمحضا في جهة الشرطية، وكان بوجوده الواحد المستمر
أو بوجوده المجموعي شرطا لكل جزء من اجزاء العمل، كما لعله يظهر من أدلة
اعتبار الاستقبال انه كذلك وانه امر واحد معتبر في جميع اجزاء الصلاة.
الثالث: ما كان كذلك وكان شرطا لكل جزء في ظرفه، كالتستر.
الرابع: ما كان كذلك، ولكنه كان مما لا بد من احرازه قبل العمل، كالوضوء -
على قول -
اما النحو الأول، فلا اشكال في أن جريان قاعدة التجاوز فيه في الأثناء مجد،
لأنه بذاته له محل مقرر شرعا قد تجاوز عنه، فإذا جرت قاعدة التجاوز فيه بلحاظ
جهة جزئيته تحقق هذا الجزء تعبدا، فيتحقق شرط الاجزاء اللاحقة تعبدا.
فلا وجه حينئذ لان يقال بعدم اجدائه لعدم تحقق التجاوز عن المحل بالنسبة
إلى ما لحق من الاجزاء، لان اجراءها فيه لا يكون بلحاظ جهة شرطيته كي يتأتى
ما ذكر، بل لحاظه نفسه وجهة جزئيته.
واما النحو الثاني، فلا مجال لقاعدة التجاوز فيه في الأثناء مع فرض احرازه
بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لوجهين.
الأول: ان الشرط انما هو الشرط المستمر لا كل جزء منه، فجريان قاعدة
154

التجاوز فيه بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت الشرط الا بالملازمة - كما لا يخفى
- وهو بنفسه لا اثر له شرعا، لان الأثر يترتب على وجوده المستمر.
وقد يقال بأنه يمكن اجراء قاعدة التجاوز فيه ويضم إليها الاستصحاب بان
يستصحب فيثبت استمراره بالاستصحاب لأنه موضوعه فيترتب الأثر لان
الشرط هو موضوع الاستصحاب ولا مانع من استصحاب الشرط كيفما كان.
لكنه يشكل بان الاستصحاب يتوقف على ثبوت اليقين السابق
بالمستصحب اما الوجداني أو التعبدي وكلاهما منتف.
اما الأول فواضح لأنه الفرض.
واما الثاني فلانه انما يثبت بقاعدة التجاوز وجريانها يتوقف على كون
موضوعها مما يترتب عليه الأثر بنفسه وقد عرفت أن لا اثر له مطلقا فلا تجرى
بنفسها فيه.
الثاني انه يعتبر في جريانها تحقق التجاوز عن محل المشكوك وإذا كان
الشرط هو المجموع أو المستمر لا يتحقق التجاوز عنه ما دام في الأثناء كما لا يخفى
واما النحو الثالث فلا يرى هناك مانع لجريانها بالنسبة إلى الاجزاء
السابقة لان المفروض كونه شرطا لكل جزء في ظرفه فقد تحقق التجاوز عنه
بالتجاوز عن نفس الجزء.
واما النحو الرابع وهو موضوع كلام الشيخ فالحق فيه عدم جريانها فيه في
الأثناء لعدم اجدائها. وذلك لان ذات الشرط لا يكون مأمورا به بنفسه والا كان
دخيلا في المركب فيكون جزءا وهو خلاف الفرض وانما اخذ التقيد به دخيلا
وجزءا في الصلاة فالشرطية تنتزع عن اخذ التقيد بالعمل ومعنى التقيد في هذا
النحو من الشروط هو كون العمل المركب مسبوقا بالعمل وهو الوضوء فحيث إن
العمل المركب عبارة عن اجزائه فكل جزء اخذ فيه مسبوقيته بالوضوء فاحراز
المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة لأنها
155

لم يتجاوز عن محلها فلا يتحقق موضوع القاعدة بالنسبة إليها.
وهذا الكلام بعينه جار في مورد الشك في صلاة الظهر في أثناء العصر لان
الصورتين بملاك ونحو واحد.
هذا تمام الكلام في جريان قاعدة التجاوز في الشروط فتدبر جيدا.
الجهة السادسة في عموم قاعدة الفراغ للاجزاء بمعنى انه إذا شك في صحة
الجزء بعد الفراغ عنه فهل تجرى قاعدة الفراغ فيه فيبنى على صحته أو لا بل
تختص بمورد الشك في صحة الكل؟ الذي يقتضيه عموم رواية زرارة " كل ما
شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو " هو جريانها في مورد الشك في صحة
الجزء إذ لا وجه لاختصاصها بالكل وان كانت الرواية الثانية موضوعها الصلاة
والطهور. والتمسك بالعموم على التعميم كاف في المطلوب فلا حاجة حينئذ إلى
الاستدلال بفحوى قاعدة التجاوز من انه إذا كان الشك في وجود الجزء ملغى في
نظر الشارع فالغاء الشك في صحته أولى.
مضافا إلى أنه لم يعلم كون هذه الأولوية من أي نوع هي هل من
الأولوية القطعية أو الظنية التي ترجع إلى القياس؟
نعم يستثنى من ذلك ما إذا كانت جهة الشك مقومة لتحقق الجزء كالموالاة في
حروف الكلمة أو الترتيب بين حروفها فإنه مع الشك فيها لا يمكن اجراء القاعدة
لاثبات صحة الكلمة لعدم احراز الكلمة كي يتعبد بصحتها فتدبر.
الجهة السابعة: في أن قاعدة الفراغ هل تعم ما إذا كان منشأ الشك في
الصحة هو الشك في الشرط أو لا؟ والحق العموم، لمقتضى عموم رواية زرارة
السابقة إذ لا ظهور فيها فيكون المنشأ هو الشك بالاختلال بجزء دون شرط.
ثم إن للشيخ (رحمه الله) كلاما في الموضع السادس يرتبط بهذه الجهة من
الكلام وهذا نصه " ان الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان بل
هو هو، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشئ الصحيح ومحل الكلام ما لا يرجع
156

فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة كما لو شك في تحقق الموالاة
المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية لكن الانصاف ان الالحاق لا يخلو عن
اشكال، لان الظاهر من اخبار الشك في الشئ انه مختص بغير هذه الصورة... ".
وهذه العبارة لا تخلو عن غموض وهي مع قطع النظر عن التعليل المذكور
يمكن حملها على أن قاعدة الفراغ محكومة لقاعدة التجاوز لان نسبتها إليها نسبة
الأصل المسببي إلى الأصل السببي لان الشك في الصحة ينشأ من الشك في وجود
جزء أو شرط ويمكن احرازه بقاعدة التجاوز فلا يبقى لقاعدة الفراغ موضوع
تعبدا وبذلك يكون حكم الشك في الصحة حكم الشك في الاتيان
وهذا انما يتحقق فيما إذا كان منشأ الشك مما له وجود مستقل بحيث يصدق
التجاوز عنه ويكون قابلا للتعبد بنفسه اما ما لا يكون كذلك كالموالاة بين
حروف الكلمة والترتيب بين الكلمات فلا يتم ما ذكر لعدم جريان قاعدة التجاوز
في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها في الوجود فلا يتحقق التجاوز عنها فهذه
الفروض تكون محل اشكال.
ولكن هذا التفسير لا يتلائم مع التعليل المذكور لان ظاهره رجوع مورد
قاعدة الفراغ إلى مورد قاعدة التجاوز لا انتفاء موضوعها تعبدا بجريان قاعدة
التجاوز الظاهر في تعدد المورد نوعا.
وعلى هذا تكون العبارة غير واضحة المراد لان ما ذكره بعد التعليل من
كون محل الكلام ما لم يرجع الشك فيه إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة
كالموالاة. غير تام - بحسب النظر البدوي - لان المنشأ إذا كان هو الشك في مثل
الموالاة يرجع الشك إلى الشك في وجود العمل الصحيح أيضا.
فالجمع بين التعليل وما ذكره بعده مشكل (1).

(1) يمكن أن يكون نظره (قدس سره) إلى التفصيل بين الشرائط المعتبرة شرعا في الصحة مما
لا يتقوم بها العمل المشروط كالطهارة والاستقبال بالنسبة إلى اجزاء الصلاة وبين الشرائط
المقومة عقلا للعمل وليست معتبرة شرعا في صحته ولا وجود لها مستقل عن وجود المشروط
كالموالاة في الكلمة فان فقدانها يستلزم عدم صدق الكلمة على الحروف الملفوظة ففي الأول
تجرى القاعدة مع الشك في الشروط لأنها ذات وجود مستقل ومتعلقة للامر الشرعي.
واما في الثاني فيشكل جريانها في نفس الشرط لعدم تعلق الامر به ولا في المشروط لظهور
الأدلة في كون موضوع القاعدة هو الشك في أصل الوجود لا ما إذا علم وجود شئ وشك في أنه
هو الجزء أو غيره فمراده ان محل الكلام في الحاقه بالشك في الوجود هو القسم الثاني لا الأول
لان الأول مجرى القاعدة بنفسه بلا حاجة إلى الالحاق كما أنه يشكل الالحاق في القسم الثاني
للاستظهار المتقدم فلا بد من التماس دليل آخر على اثبات صحة العمل مع الشك فيه فتدبر
وقد تحمل بعض الاعلام في توجيه كلام الشيخ (رحمه الله) والله سبحانه العالم.
157

ويمكن ان يقال في مقام التوفيق ان ما يعتبر في الصحة عنوانا تارة يكون في
نفسه خارجا عن حقيقة الشئ كالطهارة والاستقبال فإنهما من شروط الصلاة
ولكنهما خارجان عن حقيقتهما إذ صدق الصلاة لا يتقوم بهما وأخرى يكون
مقوما كالموالاة بين الحروف والكلمات فإنها مقومة عقلا لصدق الكلمة والآية
وبدونها لا تصدقان ولذلك كانت من الشروط العقلية فإذا وجد الشك في الموالاة
حصل الشك في وجود نفس الكلمة أو الآية.
ومن هنا يتضح المراد من كون محل الكلام ما لم يكن من هذا القبيل أعني
من قبيل الشك في الموالاة -، فان ما كان من هذا القبيل تجرى فيه قاعدة التجاوز
رأسا فلا اشكال فيه.
فالمراد ان محل الكلام في السراية أعني سراية أدلة قاعدة التجاوز إليه
باعتبار رجوع الشك فيه إلى الشك في الوجود - هو النحو الأول اما النحو الثاني
فلا اشكال فيه لان الشك فيه شك في الوجود فلا يتكلم في السراية بالنسبة إليه
لمشموليته لقاعدة التجاوز بلا كلام.
158

وبهذا لا يكون هناك تناف بين التعليل وما ذكره بعده إذ ليس المفاد ما قد
يستظهر من أن ما كان من قبيل الموالاة محل اشكال في ارجاعه إلى مورد قاعدة
التجاوز كي تشمله أدلتها بل المفاد انه من مواردها فلا كلام فيه وانما الكلام في
غيره.
وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق الأصفهاني من انه ان أراد عدم جريان
قاعدة الفراغ في الفرض فهو وجيه لان موردها الشك في صحة الموجود لا في
الموجود وان أراد عدم جريان قاعدة التجاوز في نفس الموالاة فهو وجيه أيضا.
لعدم استقلالها في الوجود الا انه يمكن جريان القاعدة في نفس الجزء للشك في
وجوده (انتهى) فإنه لا مجال حينئذ إلى مثل هذا كما لا يخفى.
الجهة الثامنة فيما يعتبر في قاعدة التجاوز والكلام في موضعين:
الأول: في اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه.
لا اشكال في اعتبار التجاوز عن المحل في جريان قاعدة التجاوز فإنه من
مقومات موضوعها لما عرفت من أن التجاوز عن نفس المشكوك مع فرض الشك
غير متصور انما الاشكال في تعيين المحل الذي لا بد من تحقق التجاوز عنه فهل هو
خصوص المحل الشرعي الذي قرره الشارع أو هو أعم منه ومن غيره من العقلي
والعادي؟ فان المحل..
تارة: يكون مقررا من قبل الشارع كمحل اجزاء الصلاة فان الترتيب
الخاص بينها من مقررات الشارع.
وأخرى يكون مقررا من قبل العقل بمقتضى الوضع أو غيره وليس مقررا
من قبل الشارع نظير تقدم " الله " على " أكبر " في التكبيرة أو تقدم حروف الكلمة
بعضها على بعض فان ذلك ليس من مجعولات الشارع بحيث يكون العكس اتيانا
بالمأمور به من غير ترتيب بل من مقررات العقل فلو عكس لم يتحقق المأمور به
بالمرة بنظر العقل.
159

وثالثة يكون بمقتضى العادة والالتزام النوعي أو الشخصي كما لو كان من
عادة شخص الصلاة في أول الوقت أو الموالاة في الغسل أو نظير ذلك -.
أما التجاوز عن المحل الشرعي فمما لا كلام فيه أصلا.
وانما الكلام في التجاوز عن المحل العقلي أو العادي، فهل تجري قاعدة
التجاوز مع حصوله أو لا.
أما التجاوز عن المحل العقلي، فالتحقيق كفايته في جريان القاعدة لاطلاق
الأدلة إذ لم يقيد التجاوز فيها بالمحل المقرر شرعا بل اخذ مطلقا ويصدق على
الدخول في الغير مطلقا تجاوز عن محل الشئ ولو كان الترتيب غير شرعي
فيكون مشمولا للأدلة.
هذا مع أنه يمكن ان يقال ان المحل العقلي معتبر شرعا فيكون محلا شرعيا
وذلك لان الامر يتعلق بالكلمة بكيفيتها الخاصة لا بذات الحروف كيفما تحققت
وبعبارة أخرى ان الامر متعلق بالكلمة الخاصة وهي عبارة عن الحروف بالكيفية
الخاصة فالترتيب بين حروف الكلمة ملحوظ في متعلق الامر فيكون شرعيا.
هذا مع ما تقدم من عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الكلمة والتكبيرة مع
الشك في جزئها مع قطع النظر عن كون المحل عقليا أو شرعيا وعلى هذا فالبحث
المزبور يخلو عن الفائدة فالتفت.
واما التجاوز عن المحل العادي فقد بنى الشيخ (رحمه الله) على التأمل في
كفايته في جريان القاعدة لاطلاق الأدلة وعموم التعليل في قوله: " هو حين يتوضأ
اذكر منه حين يشك " فإنه ظاهر في تقديم الظاهر على الأصل فالمدار على الظهور
النوعي ولو كان من العادة ولأنه يلزم من جريانها تأسيس فقه جديد ومخالفة
اطلاقات كثيرة (1).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 411 الطبعة القديمة.
160

ولكن الانصاف ان ما ذكره من شمول اطلاق الأدلة للفرض وعموم التعليل
له غير ثابت وذلك لان الظاهر من الأدلة ان الشئ المتجاوز عنه مما له محل بالنظر
إلى ذاته وبقول مطلق بحيث لا يختلف فيه مكلف عن آخر.
وهذا غير متحقق بالنسبة إلى ما له محل عادى فان كون محل الشئ هو هذا
ليس بلحاظ ذاته بل بالإضافة إلى الشخص أو النوع فمثل هذا لا يكون مشمولا.
للأدلة من رأس.
ونظير هذا ما يقال من عدم شمول ما دل على حرمة الصلاة في اجزاء محرم
الأكل لما كان محرما بالعرض بالنسبة إلى مكلف خاص - كما لو كان لحم الغنم
مضرا له فيحرم اكله عليه - باعتبار ظهور الدليل في إرادة محرم الأكل بقول مطلق
وبالنظر إلى ذاته.
واما التعليل فهو لا يقتضى التعميم لان ظاهره انه مقام تقديم خصوص
ظهور حال المسلم في أنه في مقام أداء الوظيفة الشرعية لا يترك ما هو جزء أو
شرط على الأصل لا مطلق ظهور حاله، فلا يشمل تقديم ظهور حاله في عدم ترك
ما اعتاده النوع أو بشخصه بلحاظ الاعتياد النوعي أو الشخصي كما ذكره (قدس
سره) لعدم دخله في مقام أداء الوظيفة الشرعية لعدم ارتباطه بها كما لا يخفى.
الثاني: في اعتبار الدخول في الغير وتعيينه.
لا اشكال في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز لاخذه في
الرواية في موضوع القاعدة وانما الاشكال في أن الغير الذي لا بد من الدخول فيه
هل هو مطلق الغير ولو لم يكن مترتبا شرعا على المشكوك كما هو مقتضى اطلاق
الغير في النصوص كمقدمات الأفعال نظير الهوي إلى السجود بالنسبة إلى الركوع؟
أو خصوص الغير المترتب شرعا كالسجود بالنسبة إلى الركوع فلا يدخل ما كان
من قبيل المقدمات؟. فإن كان المراد هو مطلق الغير كان قيد الدخول في الغير
المأخوذ في الرواية قيدا توضيحيا للتجاوز والخروج عن الشئ لان التجاوز لا
161

يتحقق الا بالدخول في الغير ولا يكون قيدا احترازيا.
ومن هنا لا يتضح المراد من ما ذكره الشيخ في الموضع الثالث من أن
الدخول في غير المشكوك تارة يكون محققا للتجاوز وأخرى لا يكون بل يكون
التجاوز حاصلا بدونه لان التجاوز مطلقا لا يتحقق الا بالدخول في الغير (1).
وقد ذهب المحقق العراقي (قدس سره) إلى أن مقتضى الاطلاقات الدالة على
اعتبار التجاوز عن المحل هو اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لعدم تحقق
التجاوز عن المحل بدونه وان اخذه في لسان النصوص لاجل كونه محققا للتجاوز
عن المحل لا لخصوصية فيه (2).
أقول ان التجاوز عن المحل لا يتحقق الا بالاشتغال بما يكون بينه وبين
المتجاوز عنه طولية وترتب فالاشتغال بالذكر في أثناء القيام لا يعد تجاوزا عن
محل القراءة لعدم الترتب والطولية بينهما، بخلاف ما إذا دخل في الركوع.
وبما أن الركوع عن قيام لا يمكن بدون الهوي إليه عقلا فاعتبار القراءة عن
قيام واعتبار الركوع بعدها مستلزم لترتب الهوي إلى الركوع على القراءة وتأخره
عنها اما بحكم الشرع بدعوى أن اعتبار ذي المقدمة وهو الركوع - مستلزم
لاعتبار مقدمته واما بحكم العقل بلحاظ توقف الركوع على الهوي فإذا فرض
تأخر الركوع عن القراءة كان الهوي إليه متأخرا عنها أيضا وعليه فالدخول في
الهوي مستلزم للتجاوز عن محل القراءة وهو القيام غاية الامر التجاوز عن محله
العقلي لا الشرعي لعدم اخذ الهوي متعلقا للامر.
وعليه فلا بد من البحث في أن المحل الذي يعتبر التجاوز عنه هو المحل
الشرعي كالدخول في الركوع بالنسبة إلى القراءة أو ما يعم المحل العقلي كالدخول

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 411 - الطبعة القديمة.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي نهاية الأفكار 4 / 54 طبعة المؤسسة النشر الاسلامي.
162

في الهوي بالنسبة إليها.
واما الالتزام باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لاجل تقوم التجاوز به
فهو مصادرة وأول الدعوى إذ عرفت أن التجاوز عن المحل يتحقق بالدخول في
مثل الهوي نعم التجاوز عن المحل الشرعي لا يكون الا بالدخول في الغير المترتب
شرعا فينبغي ايقاع الكلام في هذه الجهة كما عرفت.
هذا مضافا إلى ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من: ان عنوان التجاوز عن
المحل لم يؤخذ في لسان النصوص بل المأخوذ التجاوز عن الشئ المشكوك والمراد
به التجاوز بالعناية والمسامحة لان التجاوز الحقيقي لا يصدق الا إذا فرض وجود
الشئ ومن الواضح صدق التجاوز عن القراءة مسامحة إذا دخل في الهوي ولا
يعتبر فيه الدخول في المترتب شرعا.
اذن فالمطلقات لا تقتضي اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بل يكفى
مطلق المترتب ويقع الكلام بعد ذلك في وجود ما يقيد هذه العمومات أو المطلقات
ظاهره اعتبار الدخول في المترتب شرعا.
وقد ذهب الشيخ (رحمه الله) إلى ذلك وأفاده في بيانه ان الظاهر من صحيحة
إسماعيل بن جابر - المتقدمة - هو ذلك، وذلك لظهور انه (عليه السلام) ذكر الأمثلة
المذكورة في الصدر توطئة وتحديدا للقاعدة الكلية المذكورة في الذيل فمقتضاه ان
الغير الذي لا بد من الدخول فيه في جريان القاعدة ما كان من قبيل السجود
بالنسبة إلى الركوع والقيام بالنسبة إلى السجود وان ما كان من قبيل الهوي
والنهوض لا يعد غيرا، يكون الدخول فيه محققا لموضوع القاعدة والا لقبح ذكر
السجود والقيام في مقام التحديد والتوطئة " انتهى " (1).
وقد نفاه المحقق الأصفهاني (قدس سره) بان الظاهر أن الأمثلة المذكورة في

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 411 الطبعة القديمة.
163

الصدر من باب التمثيل لا التحديد والا للزم الاخذ بجميع خصوصيات الصدر
فيقتصر فيها على مورده وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود والشك في
السجود بعد الدخول في القيام.
والقول بالتفكيك بين موضوع الشك والغير بحمل ذكر الأول على التمثيل
وذكر الثاني على التحديد تحكم بحت. وعدم تعرض الإمام (عليه السلام)
للانتصاب والهوي ليس من جهة عدم اعتبار الدخول فيهما بل لاجل ان الغفلة
الموجبة للشك لا تحصل - عادة - في حالهما لقربهما من الفعل المشكوك (1).
ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به لظهور ان ذكر الخصوصيات في رواية
إسماعيل انما هو في مقام تحديد الغير.
واما ما ذكره من استلزام ذلك للالتزام بجميع خصوصيات الصدر المستلزم
للاقتصار على خصوص مورد الرواية..
فهو ممنوع للعلم بان خصوصية الركوع والسجود لم تؤخذ في موضوع
الشك وإلا لكان تعقيب الصدر بالقاعدة الكلية لغوا محضا - كما لا يخفى -
فبالجملة ان الصدر ظاهر في كونه في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة
الكلية وهو يشتمل على جبهتين:
موضوع الشك.
والغير الذي لا بد من الدخول فيه.
ومقتضى القواعد الأولية هو الاخذ بكلتا الجهتين بخصوصياتهما الا انه
حيث كان هناك مانع من الاخذ بخصوصيات الجهة الأولى لاستلزامه لغوية ذكر
القاعدة الكلية اقتصر على الاخذ بخصوصيات الجهة الثانية حيث لا مانع منه.
فالتفكيك في الصدر بالقول بأنه تحديد من جهة وتمثيل من جهة مما لا بد منه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 3 / 309 - الطبعة الأولى.
164

فتدبر.
إلحاق: افتى صاحب المدارك (قدس سره) بعدم الاعتناء بالشك في الركوع
لو كان في حال الهوي إلى السجود وبالاعتناء بالشك في السجود في حال نهوضه
إلى القيام (1).
وقد أشكل عليه صاحب الحدائق (رحمه الله) بان هذه الفتوى أشبه بالفتوى
بالمتناقضين (2). وقد أورد على صاحب الحدائق بان هذا الكلام مما لا يصلح صدوره من
الفقيه لان قاعدة التجاوز ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص
والتقييد بل هي من القواعد التعبدية التي يقتصر فيها على مورد الدليل، فكما لا
تجرى القاعدة بالنسبة إلى اجزاء الوضوء لورود النص فكذلك يمكن أن لا تجري
في مورد الشك في السجود في حال النهوض لورود النص أيضا (3).
ولكنه يمكن الاعتذار عنه بان نظره إلى أن قاعدة التجاوز من القواعد
العامة فاما أن يكون دليلها شاملا لمورد الشك في الشئ بعد الدخول في مقدمة
الفعل الآخر فيكون عاما لجميع الموارد واما أن لا يكون شاملا فيكون عاما لجميع
الموارد أيضا فالتفكيك بين الموردين غير ظاهر.
وعلى كل فالظاهر استناد صاحب المدارك في فتواه إلى روايتي عبد الرحمن
الواردتين في كلا الموردين المتضمنين لمضمون الفتوى.
اما الأولى فهي: " قلت لابي عبد الله: رجل اهوى إلى السجود فلم يدر اركع
أم لم يركع؟ قال (عليه السلام): قد ركع " (4).

(1) العاملي الفقيه السيد محمد مدارك الاحكام 4 / 249 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة 9 / 177 - الطبعة القديمة.
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 302 الطبعة الأولى
(4) وسائل الشيعة 4 / 937 باب: 13 من أبواب الركوع الحديث: 6.
165

وأما الثانية، فهي: " قلت لابي عبد الله رجل رفع رأسه عن السجود فشك
قبل أن يستوى جالسا فلم يدر اسجد أم لم يسجد؟ قال (عليه السلام) يسجد
قال: فرجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوى قائما فلم يدر اسجد أم لم
يسجد؟ قال (عليه السلام): يسجد (1).
وهاتان الروايتان غير متباينتين منطوقا لاختلاف موردهما.
وانما الكلام في نسبتهما مع رواية إسماعيل بن جابر.. فمن يذهب إلى اعتبار
الدخول في مطلق الغير بمقتضى الاطلاق - كالمحقق الأصفهاني - كان في سعة لان
غاية ما يترتب على قوله هو خروج الدخول في النهوض عن الاعتبار بمقتضى
الرواية الثانية بالتقييد لان المستفاد من رواية إسماعيل قاعدة كلية يقيد اطلاقها في
هذا المورد.
ولا محذور فيه ولا التواء هذا مع أن التأمل في الرواية الثانية يقرب حملها
على قاعدة الفراغ وذلك لأنه في سؤاله الأول فرض رفع رأسه عن السجود ثم
تحقق الشك وهو ظاهر في وقوع السجود منه فشكه في السجود وعدمه لا بد ان
يرجع إلى الشك في أنه سجد واحدة أو اثنتين ولكنه لا يتلاءم مع تقييد الشك بما
قبل الاستواء جالسا إذ لا يختلف الحال في ذلك بين كونه قبل الجلوس أو بعده مع أن
ظاهر النص كون المشكوك فيه نفس ما رفع رأسه عنه.
وعليه فاما ان تحمل الرواية على إرادة رفع رأسه عن السجود متخيلا ذلك
ثم شك فيه أو تحمل على إرادة الشك في صحة سجوده الواقع ويمكن ان ينفى
السجود بانتفاء بعض خصوصياته المعتبرة فيه فالشك فيها يصحح قوله: " اسجد
أم لم يسجد " - كما ورد في بعض النصوص انه لا سجود لمن لم يصب انفه بما يصبب
جبينه وهو مستعمل عرفا وليس ببعيد وفى مثله يحتمل الفرق بين الجلوس وما

(1) وسائل الشيعة 4 / 972 باب: 15 من أبواب السجود، الحديث: 6.
166

قبله باعتبار ان الجلوس حالة أخرى والسائل يشك في أن النهوض للجلوس هل
هو حالة أخرى أو لا؟ وقد ورد في بعض روايات قاعدة الفراغ اعتبار الدخول في
حالة أخرى وحمل النص على هذا الاحتمال أقرب عرفا (1) فيكون أجنبيا عن
قاعدة التجاوز فتدبر ومثله سؤاله الآخر لوحدة السياق واتحاد التعبير في
السؤالين.
وأما من يرى دلالة الرواية على اعتبار الدخول في خصوص الغير المترتب
شرعا فالتنافي بين هذه الرواية - أعني رواية إسماعيل - والرواية الأولى عنده
حاصل لان رواية إسماعيل بصدرها تقتضي - بمقتضى ورودها للتحديد - إلغاء
الدخول في الهوي عن الاعتبار وهذه الرواية - أعني رواية عبد الرحمن - تدل على
اعتباره فالتنافي ظاهرا حاصل بينهما اما الرواية الثانية فهي واردة على مقتضى
القاعدة المستفادة من رواية إسماعيل فلا بد من علاج هذا التنافي وحله.
وقد قرب المحقق النائيني عدم التنافي والعلاج بما بيانه: ان السجود تارة نقول
بأنه من الأفعال وأخرى نقول بأنه من الهيئات.
فعلى الأول لا بد من القول باعتبار آخر مرتبة الهوي المتصل بالهيئة
الساجدية أو تمام الهوي بعد الركوع في حقيقة السجود فإذا تحقق أول جزء منه فقد
تحقق السجود.
وعلى هذا لا تكون هناك منافاة بين الروايتين لأنه على الاعتبار الثاني
أعني اعتبار تمام الهوي في حقيقة السجود - تكون رواية عبد الرحمن موضوعها
الشك في الركوع بعد السجود لان المفروض انه دخل في السجود بمجرد تحقق
الهوي منه وهذا الموضوع هو بنفسه موضوع رواية إسماعيل.

(1) لم يظهر وجه الأقربية بل الأقرب هو الأول فيكون المورد من موارد قاعدة التجاوز قبل
الدخول في الغير المترتب وهو الجلوس بعد السجود فلاحظ (منه عفى عنه)
167

وعلى الاعتبار الأول أعني اعتبار آخر مراتب الهوى في حقيقة السجود
تحمل رواية عبد الرحمن على هذه المرتبة بقرينة رواية إسماعيل الواردة في مقام
التحديد فيتحد موردهما فلا منافاة بينهما بل بينهما تمام الوفاق.
وعلى الثاني فيخرج الهوي عن حقيقة السجود فيحصل التعارض بين
الروايتين الا انه يمكن علاجه بالالتزام بتقييد رواية إسماعيل لرواية عبد الرحمن
وذلك لان دلالة رواية عبد الرحمن على كفاية مطلق الدخول في الهوي انما كانت
بالاطلاق فيمكن تقييده وحمله على خصوص الهوي المنتهى إلى السجود بواسطة
رواية إسماعيل الدالة على اعتبار الدخول في السجود (1).
ولكن (2) ما أفاده في بيان تقييد رواية عبد الرحمن عجيب منه، وذلك لما
تقرر من أن التقييد انما يقتضى تخصيص موضوع الحكم بالطبيعة الملازمة للقيد.
وبعبارة أوضح انه عبارة عن تقييد موضوع الحكم في الدليل المطلق، وهو
الطبيعة السارية بحصة خاصة منه مع المحافظة على موضوعية الطبيعة للحكم،
فأحد الدليلين انما يكون مقيدا للاخر فيما كان مفاده ان موضوع الحكم ليس هو
الطبيعة على الاطلاق بل الطبيعة المتقررة في الفرد الخاص منها.
اما إذا كان مفاد أحد الدليلين ان موضوع الحكم هو الحصة الخاصة لا
الطبيعة المتحصصة، فلا يكون هذا مقيدا للدليل الاخر الدال على أن موضوع الحكم

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 474 - الطبعة الأولى.
(2) يمكن ان يناقش أيضا: ان دلالة رواية إسماعيل على الاعتناء بالشك قبل السجود انما هي
بالمفهوم - على ما يأتي - ومن الواضح ان المفهوم بالنسبة إلى رواية عبد الرحمن مطلق لشموله
لحالتي القيام والهوي، واختصاص رواية عبد الرحمن بحالة الهوي ومقتضى القواعد الصناعية
تقييد المفهوم برواية عبد الرحمن والالتزام بتعدد الشرط في إلغاء الشك في الركوع.
ويحتمل ان إلغاء الشك حال الهوي يستلزم إلغاء خصوصية الشك حال السجود، لأنه
متأخر عن الهوي، فيتحقق التعارض بين النصين، فلاحظ. (منه عفى عنه).
168

هو الطبيعة السارية، بل يكون متعارضا معه ومنافيا له.
فحمل المطلق على المقيد انما يصلح لو كان لسان المقيد بالنحو الأول لا
الثاني. فمثلا لو ورد: " أكرم العالم " ثم ورد: " أكرم العادل ". فتارة: يستفاد من الدليل
الثاني تقييد موضوع الحكم وهو العالم بالعادل. وأخرى: يستفاد منه ان موضوع
الحكم هو العادل بلا دخل للعلم فيه.
فعلى الأول: يحمل المطلق عليه. وعلى الثاني: لا يحمل لتنافيهما في مقام
الدلالة - كما لا يخفى -
وما نحن فيه من قبيل الثاني، وذلك لان مفاد رواية عبد الرحمن على ما ذكره
الاعتبار بالشك الحادث حال الهوى مطلقا سواء تعقبه السجود أو لم يتعقبه.
ومفاد رواية إسماعيل الاعتبار بالشك الحادث في خصوص السجود، فقد
اخذ حدوثه في حال السجود موضوعا للحكم فيها. واما بقاؤه إلى حال السجود
مع كون حدوثه حال الهوى فهو غير معتبر في هذه الرواية.
وبالجملة: ليس مفاد رواية إسماعيل على اعتبار الشك الحاصل في السجود
ولو بقاء كي يقيد به اطلاق رواية عبد الرحمن لعدم المنافاة بينهما حينئذ، بل مفادها
ان موضوع الاعتبار هو الشك الحادث في السجود دون الحادث في حال الهوى، فهما
متنافيان مفادا، ولا وجه لحمل إحداهما على الأخرى، إذ مقتضى كونها مقيدا
للاطلاق كون مفادها هو عدم الاعتناء بالشك الحاصل حال الهوى المتعقب
بالسجود، وهو أجنبي عن مفادها بالمرة كما هو واضح جدا.
كما أن أعجب منه ايراد السيد الخوئي عليه: بان التنافي بين المنطوقين غير
حاصل، وانما هو بين مفهوم رواية إسماعيل ومنطوق رواية عبد الرحمن، ولا مفهوم
لرواية إسماعيل الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لاخذ الشك في مدخول الشرط،
169

فلا تصلح للتقييد حينئذ (1).
ووجه العجب: ان الاستدلال برواية إسماعيل على نفى اعتبار الدخول في
الهوى لم يكن باعتبار مفهوم الشرط كي يقال بأنه هنا سالبة بانتفاء الموضوع
كمفهوم آية النبأ. بل كان باعتبار مفهوم التحديد الذي قيل عنه بأنه أقوى المفاهيم
وإن لم يذكر في كتب الأصول، وهو تام ههنا كما لا يخفى. فالايراد بما ذكر خروج
عن الفرض.
مع أنه يمكن الالتزام مفهوم الشرط ههنا وعدم كون الشرط لبيان تحقق
الموضوع، كي يكون المفهوم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. بتقريب ان موضوع
الكلام في الحديث هو الشاك والمقام مقام بيان حكمه، فقوله (عليه السلام): " ان
شك في الركوع بعدما سجد " تفصيل في الشاك، فالموضوع المقسم هو الشاك في
الركوع، فيكون المفهوم انه ان شك قبل ما سجد يعتنى بشكه، وليس الموضوع هو
الشاك في الركوع بعد السجود. فانتبه.
هذا، مع أن الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع إذا كان مقيدا بما لا يكون
دخيلا في الموضوع عقلا - كما فيما نحن فيه وآية النبأ - قد يلتزم بثبوت المفهوم فيه
إذا انتفى ذلك القيد، وان ناقشناه في محله، فراجع مبحث الاستدلال على حجية خبر
الواحد مفهوم آية النبأ، وقد تقدم ان من جملة القائلين بالمفهوم السيد الخوئي.
ثم إنه (حفظه الله) أجاب عن الصحيحة بقصورها عن اثبات المدعى بنفسها.
بتقريب: انه قد عبر فيها بلفظ: " اهوى " بصورة الماضي، وهو يدل على تحقق الهوى
ومضيه، فيكون موردها هو الشك بعد الوصول إلى السجود، ولا دلالة فيها على
عدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوى.
نعم، لو عبر بلفظ المضارع لدلت على المدعى، واستشهد لما ذكر بمراجعة

(1) الواعظ الحسيني. محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 303 - الطبعة الأولى.
170

الاستعمالات العرفية وان قولنا: " زيد يصلى " يختلف مفادا عن: " زيد صلى ".
فالأول يدل على اشتغاله في الصلاة والثاني يدل على انتهائه منها وتحققها منه.
وهذا التقريب منه غير تام، فان لفظ " اهوى " وان دل على تحقق الهوى
ومضيه، الا انه لا ينافي إرادة الشك حال الهوى، نظير قوله (عليه السلام) في بعض
النصوص: " بعد ما سجد " فإنه لا اشكال في إرادة الشك حال السجود منه
مع دلالة اللفظ على تحققه بعد تحقق السجود.
نعم، ما ذكره في مثل " صلى " ويصلى " تام، ونكتة الفرق: ان اللفظ تارة
يكون موضوعا لمجموع اجزاء العمل بحيث لا يصدق على كل جزء بخصوصه.
وأخرى يكون موضوعا للمجموع ولكن يصدق على كل جزء من اجزائه. فالأول
نظير لفظ: " الصلاة " فإنها موضوعة لمجموع الاجزاء ولا يصدق على كل جزء
لفظ: " الصلاة ". ولا تصدق قبل الاتيان بالمجموع. والثاني نظير لفظ السجود،
فإنه يصدق على كل جزء من هذه الهيئة الخاصة سجود، ويصدق السجود بتحقق
أول جزء منه.
فما كان من قبيل الأول لا يصح التعبير به بلفظ الماضي بعد تحقق مجموع
الاجزاء، ولذلك كان التعبير بلفظ: " صلى "، دالا على تحقق الصلاة منه ومضيها،
والتعبير بلفظ: " يصلى " دالا على الاشتغال بها.
اما ما كان من قبيل الثاني، فيصح التعبير به بلفظ الماضي بعد الاتيان بأول
جزء منه ولو لم ينته منه، فيقال: " زيد سجد " إذا تحقق منه السجود ولو كان حين
الاخبار عنه مشغولا بعد بالسجود. ومن قبيل: " السجود " لفظ: " الهوى " فإنه لم
يوضع لمجموع اجزاء العمل الخاص بل يصدق على كل جزء منه لفظ الهوى، فلا
مانع من التعبير بلفظ: " اهوى " الدال على تحقق الهوى ومضيه مع إرادة حال
الهوى، ولا منافاة بين الامرين ويشهد له التعبيرات الكثيرة الواردة في لسان
171

النصوص، فراجع.
وعليه، فلا ظهور في الرواية في كون موردها هو الشك في الركوع بعد
الوصول إلى السجود.
فالأولى في الجمع بين الروايتين ان يقال: ان رواية عبد الرحمن تدل على إلغاء
الشك الحاصل بعد تحقق الهوي، وهذا مطلق يحتمل فردين:
الأول: الشك حال الهوي.
الثاني: الشك بعد الانتهاء منه والوصول إلى السجود.
فان كلا منهما يصدق عليه شك بعد الهوي. ورواية إسماعيل تدل على إلغاء
خصوص الفرد الثاني من الشك دون الأول، فيقيد بها اطلاق رواية عبد الرحمن. ولا
يرد على هذا الحمل الاشكال المزبور الذي ذكرنا وروده على ما ذكره المحقق
النائيني، لان المطلق لم يؤخذ ههنا هو الشك حال الهوي، كي يقال بان رواية
إسماعيل منافية مفادا لتلك الرواية، لان مفادها كون موضوع الحكم هو الشك
الحادث حال السجود فقط، فالطبيعة السارية غير مأخوذة في موضوع الدليل
المقيد، بل اخذ ههنا الشك بعد الهوي، وهو مأخوذ في موضوع رواية إسماعيل، لان
موضوعها هو الشك الحادث حال السجود، وهو شك بعد الهوي كما لا يخفى.
هذا، مع أن التحقيق عدم تصور تحقق التجاوز عن الركوع بالهوي إلى
السجود، لان الهوي إذا لم يكن قد وصل إلى حد الركوع وشك في الركوع لم يكن
متجاوزا عن محل الركوع لتمكنه من الركوع فعلا بلا أي شئ، بل هذا الهوى من
مقدمات الركوع. وان كان الهوى متجاوزا حد الركوع، فهو ليس بنفسه مما يترتب
على الركوع بل المترتب هو مجموع الهوى بين القيام والسجود. اذن فلا يتصور
تحقق التجاوز عن الركوع بتحقق الهوي، لأنه بكلا حديه غير محقق للتجاوز، لأنه
ليس من الدخول في الغير المترتب ولو بالترتب غير الشرعي.
172

وعليه، فاما ان تحمل الرواية على بيان حكم تعبدي بإلغاء الشك في الركوع
إذا وجد الانسان نفسه مشغولا بالهوي إلى السجود ولو لم يكن من مصاديق قاعدة
التجاوز. واما ان تحمل على تحقق الشك بعد السجود لا قبله ويكون المراد بقوله:
" اهوى إلى السجود " هو الكناية عن سجوده. والاحتمال الأول بعيد جدا بل يقطع
بخلافه فيتعين الثاني (1).

(1) ثم إنه يقع الكلام في موردين:
المورد الأول: في جريان قاعدة التجاوز مع الدخول في جزء مستحب كالشك في القراءة بعد
الدخول في القنوت.
وتحقيق الكلام: انه اما ان نلتزم بان القنوت جزء مستحب بالتصوير المتقدم في أواخر
مبحث الصحيح والأعم، واما أن لا نلتزم بذلك، ونقول باستحالته كما ذهب إليه بعض ونلتزم
بأنه مستحب في واجب.
فعلى الأول: تجرى قاعدة التجاوز في القراءة.
وعلى الثاني لا تجرى. وذلك لان التجاوز عن المحل المعتبر في قاعدة التجاوز لا يتحقق الا
إذا فرض اخذ المشكوك سابقا على المدخول فيه بان اعتبر سابقيته عليه كما اعتبر تأخر
المدخول فيه عنه.
والا فمجرد الدخول في الغير المترتب المعتبر تأخره عن المشكوك لا يوجب صدق التجاوز
عن محل المشكوك، لعدم اخذ المشكوك سابقا عليه، فلم يفت محله، ولا يصدق التجاوز عنه.
ولذا بينا ان قاعدة التجاوز لا تجرى في صلاة الظهر مع الشك فيها بعد الدخول في صلاة
العصر، لعدم اعتبار سابقيتها على صلاة العصر فيها وان اعتبر ذلك في صلاة العصر، نعم بمقدار
شرطيتها لصلاة العصر تجرى فيها قاعدة التجاوز.
وعلى هذا فإن كان القنوت جزء للواجب بحيث يشمله الامر المؤكد على ما قربناه، كان
يعتبر في القراءة المتعلقة لهذا الامر ان تكون سابقة على القنوت، فإذا دخل في القنوت تحقق
التجاوز عن القراءة فمع الشك فيها تجرى القاعدة.
واما إذا لم يكن القنوت جزء بل كان مستحبا ظرفه الصلاة. فهو وان اعتبر فيه أن يكون
مسبوقا بالقراءة. لكن لم يؤخذ في القراءة ان تكون سابقة على القنوت ولذا لو تركه لا يلزم
اخلال في القراءة. ومقتضاه ان الدخول في القنوت لا يحقق التجاوز عن القراءة لعدم فوات
محلها، فلا تجرى قاعدة التجاوز فيها مع الشك الا بمقدار تصحيح القنوت بها، لأنها بهذا المقدار
مما تحقق التجاوز عنه، كما في مثل صلاة الظهر وصلاة العصر. فتدبر.
المورد الثاني: في جريان قاعدة التجاوز في مثل السجدة إذا شك فيها وهو في القيام للثالثة مع
علمه بنسيان التشهد.
والحق عدم الجريان ووجهه: ان المعتبر في التجاوز الدخول في ذات الغير المترتب - كما
عرفت -. ومن الواضح ان القيام المترتب على السجود هو القيام المسبوق بالتشهد لا مطلق
القيام. فمع العلم بعدم تحقق التشهد يعلم بان هذا القيام ليس هو القيام المترتب بذاته على
السجود، فلا يتحقق به التجاوز عن محل السجدة.
وهذا الوجه هو العمدة. لا ما ورد في بعض الكلمات من لغوية القيام شرعا في تنزيله منزلة
العدم، أو انه بالعود إلى التشهد يكون الشك شكا في المحل. فتدبر. هذا حكم ما لو علم بترك
التشهد.
اما لو شك فيه أيضا بان شك في الاتيان بالسجدة والتشهد فله صورتان:
إحداهما: ان يشك فيهما بنحو التلازم وبشك واحد، بان كان يدور امره بين الاتيان بهما معا
وتركهما معا.
والأخرى: ان يشك في كل منهما بشك مستقل بلا تلازم بينهما.
اما الصورة الأولى: فالحكم فيها أن لا تجرى فيها قاعدة التجاوز لا في السجدة ولا في
التشهد.
اما في السجدة فلانه مع الشك في تحقق التشهد لا يعلم ان القيام الذي هو فيه هو المترتب
على السجود أو غيره، كما أشرنا إليه، فلا يجوز تحقق التجاوز، فيكون من موارد الشبهة
المصداقية لعموم القاعدة.
وأما في التشهد، فلعدم احراز تجاوز المحل بالنسبة إليه وذلك لان المعتبر في التشهد أن يكون
بعد السجود وقبل القيام، فمحله ما بين السجدة والقيام، فمع الشك في تحقق السجدة لا يحرز
تجاوز محل التشهد عند الدخول في القيام، لان تجاوز محله يتوقف على تحقق السجدة، والمفروض تحقق الشك فيها. ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثانية وانه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في السجدة ولا في
التشهد.
173

تذنيب (1) في الشك في الجزء الأخير من العمل، وهو يتصور على وجوه:

(1) تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الجزء الأخير: ان الاحتمالات أو
الأقوال فيها أربعة:
عدم الجريان مطلقا سواء دخل في امر مرتب شرعا كالتعقيب، أو دخل في المنافي السهوي
والعمدي كالاستدبار.
والجريان مطلقا.
والتفصيل بالجريان في الأول دون الثاني
والتفصيل بالعكس.
وهذا هو الأقوى. وبيانه: ان التجاوز عن المحل يعتبر فيه اخذ المتجاوز عنه سابقا على
المدخول فيه ولا يكفى فيه مجرد اخذ المدخول فيه متأخرا عن المشكوك كما عرفت في القنوت
والقراءة وصلاة الظهر وصلاة العصر. وبعبارة أخرى، يكون السبق مأخوذا في صحة السابق ولا
يكفى اخذه في صحة اللاحق.
وعليه، فمثل التعقيب وان اخذ متأخرا عن التسليم، الا انه لم يؤخذ في التسليم أن يكون قبل
التعقيب، بل يصح ولو لم يتعقبه تعقيب. فلو قدم التعقيب لم يبطل التسليم، بل يبطل التعقيب
لفقدان شرطه. وعليه فلا يتحقق التجاوز عن التسليم بالدخول في التعقيب - كما ادعى لاجل
انه دخول في الغير المترتب شرعا -، نظير الوضوء لو اخذ بنفسه شرطا للصلاة فإنه قد عرفت أن
قاعدة التجاوز انما تجرى فيه بمقدار ما يصحح به الصلاة لا باتيانه بقول مطلق وهكذا في مثل
صلاة الظهر لو شك فيما بعد الدخول في العصر.
ومن الغريب ان من يذهب في تلك الموارد إلى عدم اجراء قاعدة التجاوز الا بمقدار تصحيح
المشروط بالمشكوك، يذهب في ما نحن فيه إلى جريان القاعدة لاثبات التسليم، مع أنهما من واد
واحد. فتدبر. فظهر بهذا البيان وجه عدم جريان القاعدة عند الشك في التسليم بعد الدخول في
التعقيب.
واما جريانها عند الشك فيه بعد الدخول في المنافى السهوي والعمدي. فقد ينفى بان المنافى
ليس امرا مترتبا على التسليم كي يكون الدخول فيه محققا للتجاوز.
ولكن التحقيق: ان التسليم وإن لم يؤخذ سابقا على المنافى في لسان الأدلة. الا انه من
ملاحظة دليل مانعية المنافي إذا وقع أثناء الصلاة يستفاد اعتبار تعقب التسليم للتشهد بلا فصل
بالمنافي، فيعتبر في التسليم بعد
التشهد بلا فصل فإذا فرض تحقق المنافي في الأثناء لزم من ذلك فوات محل التسليم وتجاوزه
فالشك فيه والحال هذه يكون من الشك بعد التجاوز، فيكون من موارد القاعدة.
هذا تحقيق الحال في هذه المسألة وقد ظهر مما ذكرناه وجوه الأقوال الأخرى ومناقشتها هذا
بالنسبة إلى قاعدة التجاوز.
واما جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير فتحقيق الكلام فيه باجمال ان الشك
في الجزء الأخير تارة يكون مع عدم الدخول في الغير أصلا بل هو بعد على هيئة المصلى ولكن
يشك انه جاء بالجزء الأخير أو لم يجئ وفى مثله لا تجرى قاعدة الفراغ لعدم العلم بتحقق
المضي والفراغ من العمل لاحتماله أن يكون سكوته من الآنات المتخللة بين أفعال الصلاة لا
الآن المتعقب للتسليم فلا يحرز موضوع القاعدة وأخرى يكون مع الدخول في المنافى السهوي
كالاستدبار ومحل الكلام ما إذا وجد نفسه في حالة غير صلاتية بمعنى انه لم يكن ناويا للصلاة
وشك في أن ذلك كان منه قبل التسليم سهوا أو انه كان منه بعده ومثل له بما إذا أفاق فرأى نفسه
في السجود وشك في أنه سجود الشكر بعد الصلاة أو انه سجود الركعة الأخيرة فان حالته
الفعلية حالة غير صلاتية وقد اعتبر المحقق النائيني في جريان القاعدة بتحقق معظم الاجزاء
ونوقش بان تحقق المعظم يلحظ في تحقق عنوان الصلاة في قبال عدمه لا في كون الشك بعد
الفراغ في قبال كونه في الأثناء الذي هو المقصود فيما نحن فيه.
والتحقيق ان المراد من لفظ الفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل فان مفهومه يساوق ذلك فإنه
بمعنى الخلو ومن الواضح ان تحقق المنافي السهوي بالنحو الذي فرضناه يحقق عدم الاشتغال
بالعمل الخلو عنه لعدم كونه ناويا للصلاة فعلا فيصدق به الفراغ فيكون من موارد القاعدة
وليس المراد بالفراغ هو الاتمام والانتهاء من العمل في قبال كونه في الأثناء بل صدق الفراغ على الاتمام من باب استلزامه للخلو وعدم الشغل.
ولو سلم كون المراد منه هو اتمام العمل والانتهاء منه، فلا يخفى ان المراد بالعمل ما يعم
الصحيح والناقص لا خصوص الصحيح التام، لأنه ينافي فرض الشك في الصحة ومن الواضح
انه يصدق بتحقق المعظم فإذا تحقق المعظم صدق الفراغ عن العمل والانتهاء منه بعد الدخول في
القاطع فان الدخول في القاطع دخول في حالة مباينة للصلاة والمفروض تحقق الصلاة بتحقق
المعظم فقد صدق الانتهاء من الصلاة - بالمعنى الأعم -.
ولعل هذه النكتة هي السبب في اعتبار المحقق النائيني تحقق المعظم في جريان القاعدة فلا
يتوجه عليه النقاش المزبور.
هذا مع أنه ليس في روايات الباب ما ورد فيه التعبير بالفراغ الا رواية زرارة الواردة في
الوضوء المتكفلة للتفصيل بين الشك في أثناء الوضوء والشك بعده وهي واضحة الدلالة بملاحظة
صدرها على كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل وعدم الخلو منه. فلاحظها.
هذا كله بالنسبة إلى عنوان الفراغ.
واما لفظ المضي، فقد ذهب السيد الخوئي إلى أنه بمعنى الفوات وعدم امكان التدارك ولذا لم
يلتزم بجريان القاعدة إذا كان الشك بعد الدخول في المنافى العمدي خاصة كالتكلم لاحتمال كونه
سهويا فيمكن التدارك.
ولكن فيه: انه لا قرينة على هذا الظهور بل الظاهر أنه بمعنى التحقق في الزمان الماضي
والسابق، وعليه، فلا يختلف الحال فيه بين الدخول في المنافى السهوي أو العمدي، بعد تحقق
معظم الاجزاء لصدق مضى الصلاة إذا وجد نفسه فعلا في حالة غير صلاتية. كما هو محل الكلام.
ثم لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه من كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل، لا يتحقق
الفراغ الا بالبناء على تمامية العمل، فيكون الفراغ المقصود هو الفراغ البنائي، لكن لا من باب
استعمال لفظ الفراغ في البنائي دون الحقيقي كي يقال إنه لا دليل عليه بعد كونه خلاف
الظاهر، بل الفراغ مستعمل في الفراغ الحقيقي، لكن الفراغ الحقيقي بالمعنى الذي عرفته لا يتحقق
الا بعدم نية العمل وبنائه على تماميته، إذ ما دام ناويا للعمل يكون مشتغلا به.
نعم، الفراغ بمعنى الاتمام والانتهاء في مقابل الأثناء يتحقق حقيقة ولو بدون بناء إذ العمل يتم
ولو فرض انه بعد بانيا على عدم التمامية اشتباها وسهوا. واما الاشتغال فلا حقيقة له الا نية
العمل لان الصلاة معنى قصدي يتقوم بالقصد فما دام ناويا للصلاة فهو بعد مشتغلا بها ولو كان
اشتغاله سهويا. فلاحظ تعرف.
175

الأول: أن يكون الشك فيه مع عدم الاشتغال بشئ أصلا وعدم تحقق
السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك، ولا اشكال في عدم كون مثل هذا
الشك موردا لقاعدة التجاوز، لعدم تحقق التجاوز عن المحل والدخول في الغير
المعتبر في جريان القاعدة.
الثاني: أن يكون الشك بعد الاشتغال بامر غير مرتب على الجزء الأخير
ولكنه كان منافيا له بوجوده العمدي، كما لو شك في التسليم وهو مشغول في الكلام.
وقد بنى السيد الخوئي (حفظه الله) - في مصباح الأصول - على عدم جريان
قاعدة التجاوز في مثل هذا الفرض، لعدم التجاوز عن المحل وامكان التدارك لكون
المفروض انه ليس منافيا للجزء الأخير بوجوده المطلق بل بوجوده العمدي،
فيمكن التدارك لاحتمال كون الكلام صدر عن سهو (1).
وفيه:
أولا: ان فوات محل التدارك ليس مقوما لتحقق التجاوز عن المحل والا للزم
ان يخص جريانها في موارد الشك في الشئ مع الدخول في الغير الركن، فلا تشمل
مورد الشك في التكبيرة وهو في القراءة والشك في السجود وهو في التشهد أو في
القيام، ولا ملتزم بذلك كيف؟ وهذه الموارد مورد النصوص.
وثانيا: انه لم يؤخذ في لسان الرواية التجاوز عن المحل من مقومات قاعدة
التجاوز كي يقال بأنه في مثل هذا الفرض لا تجرى القاعدة لعدم التجاوز عن المحل،
بل المقوم لجريان القاعدة هو صدق التجاوز عن الشئ بالعناية، سواء تجاوز عن
المحل أم لم يتجاوز، لأنه هو المأخوذ في لسان الرواية موضوعا للقاعدة.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 293 - الطبعة الأولى.
178

وفى مثل الفرض يصدق التجاوز بالعناية باعتبار ان الملتفت إلى العمل لا
يترك الجزء الأخير ويأتي بالمنافي، فمع اتيانه بالمنافي يصدق لا محالة التجاوز عن
التسليم بالعناية، فيتحقق موضوع القاعدة.
وهذا الوجه مأخوذ مما افاده المحقق الأصفهاني في مقام تحقق معنى الغير
الذي لا بد من الدخول فيه، وبه جزم بان المراد به مطلق الغير مما لا يجتمع مع ترك
المشكوك حال الالتفات (1).
ومما ينبغي ان يعلم ان هذا الكلام في هذا الفرض مبنى على اعتبار الدخول
في مطلق الغير، والا فمع اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بالخصوص لا
اشكال في عدم جريان القاعدة حينئذ.
الثالث: أن يكون الشك فيه بعد الاشتغال بامر مرتب عليه شرعا، ولكنه
غير مانع من تداركه، كالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.
وقد بنى المحقق النائيني (قدس سره) في هذا المثال بالخصوص على جريان
قاعدة التجاوز لصدق الدخول في الغير، واستشهد على ذلك بإلغاء الشك في الأذان
بعد الدخول في الإقامة الوارد في رواية زرارة بتقريب: ان الحكم بعدم
الاعتناء بالشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم
الاعتناء بالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب، لاتحادهما في الخروج عن
حقيقة الصلاة (2).
وأورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله) بايرادين:
الأول: انه لا ملازمة بين الموردين في جريان قاعدة التجاوز، لأنه منوط
بالتجاوز عن المحل، وهو لا يصدق الا فيما كان محل المشكوك سابقا بحسب الجعل

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 309 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 2 / 234 - الطبعة الأولى.
179

الشرعي على الغير الذي صار الشك بعد الدخول فيه، وكان محل الغير مؤخرا عن
المشكوك فيه.
وهذا المعنى موجود في الأذان والإقامة دون التسليم والتعقيب فان الأذان قد
اخذ محله شرعا سابقا على الإقامة اخذ محلها متأخرا عن الأذان ولو بلحاظ أفضل
افرادها.
والتعقيب وان اخذ مؤخرا عن التسليم، لكن التسليم لم يؤخذ شرعا سابقا
على التعقيب، إذ لا يشترط في التسليم وقوعه قبل التعقيب كما لا يخفى، فالتجاوز
عن المحل صادق عند الشك في الأذان حال الاشتغال بالإقامة، وغير صادق عند
الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب، فجريان قاعدة التجاوز هناك لا يستلزم
جريانها هنا.
الثاني: بالنقض بما لو شك في اتيان الصلاة حال الاشتغال بالتعقيب، فإنه مع
الالتزام بجريان القاعدة في الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب باعتبار الدخول
في الغير المترتب شرعا، لا بد من الالتزام بجريانها في الشك في الصلاة مع الاشتغال
بالتعقيب بنفس الاعتبار، لان التعقيب مترتب شرعا على الصلاة. مع أنه لا ملتزم
بذلك من الفقهاء بل المتفقهين (1). وهذان الايرادان وجيهان في الجملة، ولكنه يمكن مناقشتهما في أنفسهما..
اما الأول: فهو تام لو لم يلتزم بما افاده المحقق الأصفهاني الذي ذكرناه في
الوجه الثاني، لتقوم صدق التجاوز عن المحل باعتبار السابقية على الغير شرعا.
اما مع الالتزام بما افاده (قدس سره) من عدم اعتبار صدق التجاوز عن
المحل في جريان القاعدة، بل المعتبر هو صدق التجاوز بالعناية، فلا يبقى فرق فارق
بين الصورتين - أعني،: صورة الشك في الأذان وصورة الشك في التسليم - لتحققه في

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 294 - الطبعة الأولى.
180

صورة الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار السابق، وهو ان
الملتفت لا يترك التسليم ويأتي بالتعقيب، فمع اتيانه بالتعقيب يصدق التجاوز عن التسليم بالعناية.
فالفرق الذي ذكره مع الالتزام بهذا القول لا يكون فارقا.
واما الثاني: وهو النقض، فحله بناء على الالتزام بهذا الرأي بان صدق
التجاوز المسامحي عن الشئ غير المترتب شرعا انما يتحقق بملاك ان الملتفت لا
يجمع بين الامر الداخل فيه وترك المشكوك عمدا. وهذا الملاك انما يوجب الصدق
المسامحي فيما لو كان عدم ترك المشكوك لاجل امتثال الامر المتعلق به، اما لو كان
عدم تركه ليس لاجل امتثال الامر المتعلق به، بل لاجل امتثال الامر المتعلق بالغير
الداخل فيه، فلا يكون هذا الملاك موجبا لصدق التجاوز المسامحي عن المشكوك،
فلا يكون المورد مجرى لقاعدة التجاوز.
بيان ذلك فيما نحن فيه: ان عدم ترك التسليم والدخول في التعقيب عمدا من
الملتفت انما يكون لاجل امتثال الامر المتعلق بالتسليم، ولان تركه يوجب بطلان
الصلاة وليس هو لاجل تحقق مشروعية التعقيب - لأنه غير مشروع قبل انتهاء
الصلاة - وان كان بعدم الترك يصير مشروعا. اما عدم ترك الصلاة عمدا من
الملتفت والدخول في التعقيب، فهو ليس إلا لاجل تحقق مشروعية التعقيب وحتى
لا يكون الاتيان به بدون الصلاة لغوا، وليس لاجل امتثال الامر المتعلق بالصلاة، إذ
بالترك لا يتحقق شئ ولا يفوت محلها.
ولأجل ذلك لا يصدق التجاوز عن الصلاة فلا تكون موردا لقاعدة التجاوز،
بخلاف التسليم فإنه يصدق التجاوز عنه فتجرى فيه قاعدة التجاوز. فالفرق بين
الصورتين بجريان قاعدة التجاوز في الأولى دون الثانية هو هذه الجهة، فالتفت ولا
تغفل.
ثم إنه قد يشكل على جريان القاعدة في التسليم بعد الدخول في التعقيب..
181

بان رواية إسماعيل لما كانت واردة في مقام التحديد، فهي كما تدل على تحديد
الغير بالغير المترتب شرعا كذلك تدل على تحديد موضوع الشك والغير بالجزء
الشرعي، بحيث يكون كل من المشكوك المتعبد به والغير الداخل فيه جزء للعمل،
فلا تشمل القاعدة ما كان الشك في جزء مع الدخول في غير الجزء المترتب
كالتسليم والتعقيب. ولو تنزل عن ظهورها في ذلك، فلا أقل من احتماله ومع احتمال
ذلك يلزم اجمال العموم المذكور في الذيل من هذه الجهة، لاحتفافها بما يصلح
للقرينية، فلا يصح التمسك به على التعميم، بل يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما
ذكرناه من كون المشكوك والمدخول فيه جزئين لعمل واحد.
والجواب: منع ظهورها في ذلك، فإنه لا دلالة في الكلام على ذلك كي يؤخذ
به بمقتضى مفهوم التحديد. واما احتماله فهو وان كان موجبا لاجمال العام المذكور في
الذيل، الا ان ذلك لا يضر بالتعميم لعموم رواية زرارة، واجمال رواية إسماعيل لا
يضير بظهور عموم رواية زرارة في التعميم.
الرابع: أن يكون الشك فيه بعد الدخول في المنافى المطلق أعني العمدي
والسهوي كالاستدبار والحدث.
ولا اشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز لو التزم باعتبار الدخول في الغير
المترتب لان المنافى غير مترتب كما لا يخفى.
واما مع الالتزام بكفاية الدخول في مطلق الغير، فلا مانع من جريان القاعدة
فيه لصدق التجاوز المسامحي بالملاك السابق الذكر.
وقد بنى السيد الخوئي على عدم جريانها لعدم صدق التجاوز عن المحل لان
التسليم غير مأخوذ سابقا على المنافى (1).
ولكنه يرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل بل ليس

الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 293 الطبعة الأولى.
182

المعتبر الا صدق التجاوز العنائي وقد عرفت صدقه.
وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في المقام بان مختاره في الدورة السابقة
كان جريان القاعدة حيث يصدق الدخول في الغير المترتب شرعا لان المنافى مباح
بعد الصلاة لقوله: " تحليلها التسليم " فيكون مترتبا على الصلاة لان التسليم محلل
للمنافيات الا انه عدل عنه في هذه الدورة باعتبار اختصاص أدلة القاعدة بما كان
الغير المدخول فيه من اجزاء المركب أو من ملحقاته لا مطلق الغير ولو كان أجنبيا
فلا تكون الصورة مجرى للقاعدة لان الغير المدخول فيه أجنبي عن المركب (1).
ولكن ما ذكره أخيرا يندفع باطلاق النصوص وعدم ظهورها في
الاختصاص بمورد خاص.
واما ما ذكره أولا - والظاهر ارتضاؤه له بنفسه وعدم عدوله عنه بذاته بل
انما عدل عن نتيجته - من ترتب المنافى على التسليم باعتبار كون التسليم محللا، فلا
نعرف له وجها ظاهرا لان المنافى كالاستدبار لا معنى لترتبه بلحاظ ذاته على
التسليم وانما يتصور ترتبه باعتبار حكمه وهو ذو احكام أربعة الحرمة التكليفية
والحرمة الوضعية - وهي القاطعية والمنافاة - والجواز التكليفي والجواز الوضعي.
والأولان يترتبان عليه إذا حصل في الأثناء والأخير ان يترتبان عليه إذا حصل
بعد الفراغ فإذا كان المنافى محكوما بهذه الاحكام بالاعتبارين فلا يتصور ترتبه
بنفسه على الصلاة كي يكون الدخول فيه محققا للدخول في الغير المترتب وانما هو
بأحد صوره مترتب وهو الفرد المحلل ولكن الواقع حيث لا يعلم حاله فلا يمكن
الجزم بأنه الفرد المترتب أو غيره فلا يعلم بتحقق الدخول في الغير المترتب نعم لو
كان بجميع احكامه ملحوظا بعد الفراغ كان مترتبا شرعا ولكنه ليس كذلك
فتصور ترتب مثل الاستدبار على التسليم غير واضح. فتدبر.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 2 / 472 - الطبعة الأولى.
183

تنبيه:
قد يقال بان اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يستلزم عدم جريان
قاعدة التجاوز في جزء الجزء لما عرفت من أن الترتيب بين اجزاء الجزء ليس
بشرعي بل هو مقوم للمأمور به بحيث يكون الاخلال به اخلالا بنفس الجزء
المأمور به لا اتيانا به بغير ترتيب كما تقدم تقريبه في تكبيرة الاحرام وعليه فمع
الشك في جزء الجزء مع الدخول في الجزء الآخر للجزء كالشك في كلمة: " الله " مع
الدخول في كلمة: " أكبر " لا يتحقق الشك بعد الدخول في الغير المترتب شرعا لعدم
ترتب كلمة: " أكبر " على كلمة " الله " شرعا بل الترتيب بينهما عقلي فلا مجال
لجريان قاعدة التجاوز.
ولكنه يمكن التفصي عن هذا الاشكال بأحد وجهين:
الأول: ان الترتيب وان كان مقوما للمأمور به عقلا الا ان هذا لا ينافي تعلق
الامر به وذلك لان المأمور به إذا كان متقوما بالترتيب كان مركبا من مادة وصورة،
فالمادة هي نفس الألفاظ الخاصة كلفظ: " الله " و: " أكبر " في التكبير والصورة هي
الهيئة الخاصة التي يؤتى بالألفاظ عليها وحينئذ فالامر بهذا المركب امر بمادته
وصورته لان معناه الاتيان بهذه الألفاظ بالنحو الخاص من التقديم والتأخير
فالصورة التي هي عبارة أخرى عن الترتيب مأمور بها كما أن المادة مأمور بها
وذلك لا يتنافى مع تقوم المأمور به بالترتيب فمثلا بيت الشعر عبارة عن الألفاظ
الخاصة على الهيئة المخصوصة بحيث إذا كان الاتيان بالألفاظ لا على الهيئة
المخصوصة لا يعد ذلك شعرا فالوزن مقدم لصدق الشعر فالامر بالشعر لما كان
معناه الامر بالألفاظ الموزونة يكون في الواقع امرا بالوزن كما هو امر بنفس
الألفاظ.
وعليه فإذا كان الترتيب مأمورا به شرعا كان الدخول في الجزء الآخر للجزء دخولا في الغير المترتب شرعا.
184

الثاني: انه لو تنزل عن هذا وقيل بعدم تعلق الامر بالترتيب فرواية إسماعيل
لا دلالة لها على عدم إلغاء الشك في جزء الجزء بعد الدخول في غيره غير المترتب
شرعا وذلك لان غاية ما تدل عليه بمقتضى مفهوم التحديد هو عدم اعتبار
الدخول في المقدمات عند الشك في الجزء اما عدم اعتبار كون المشكوك جزءا
مستقلا للعمل فهو وان كان محتملا الا انه لا دلالة لها بوجه على ذلك كما لا دلالة
لها على اعتبار كون المشكوك وظرف الشك جزءين لعمل واحد على ما عرفت
وعليه فيمكن التمسك على تعميم القاعدة لجزء الجزء برواية زرارة فالتفت
هذا تمام الكلام فيما يعتبر في جريان قاعدة التجاوز
الجهة التاسعة في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ.
والكلام في هذه الجهة في مقامين:
المقام الأول: فيما إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في غير الجزء
الأخير بحيث يتحقق الفراغ بمجرد الاتيان بالجزء الأخير.
فهل يعتبر الدخول في الغير مطلقا أو لا يعتبر مطلقا بل يكتفى بمجرد الفراغ
أو يفصل بين الوضوء وغيره فيعتبر في الأول دون الثاني؟ وجوه وأقوال.
ومقتضى اطلاق الأدلة الدالة على اعتبار القاعدة عدم اعتبار الدخول في
الغير إذ لم يؤخذ في موضوعها سوى تحقق المضي عن العمل وهو يتحقق بمجرد
الفراغ ولو لم يدخل بعد في غير العمل.
وقد قيل بتقييد هذه المطلقات برواية زرارة الواردة في باب الوضوء عن أبي
جعفر (عليه السلام): قال: (عليه السلام): " إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر
أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو لم
تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد
صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما
185

أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شئ عليك فيه.. " (1).
بتقريب انه اخذ في إلغاء الشك بعد الفراغ الصيرورة في حال أخرى ولم
يكتف بمجرد الفراغ وهي وان كان موضوعها الشك في الوضوء الا انه بضميمة
عدم القول بالفصل بين الوضوء وغيره من الاعمال تدل بالالتزام على اعتبار
الدخول في الغير عند الشك في غير الوضوء بعد الفراغ عنه فيبنى حينئذ على تقييد
المطلقات بهذه الرواية كما هو شأن كل مطلق ومقيد.
الا ان هذا القول غير وجيه إذ لم يثبت عدم الفصل بين الوضوء وغيره
فيحتمل أن يكون الوضوء له خصوصية تقتضي اعتبار الدخول في الغير في جريان
قاعدة الفراغ فيه وهي لا توجد في غيره من الاعمال بل ثبت بعدم قاعدة التجاوز
في اجزاء الوضوء وجريانها في غير اجزائه وجود الفرق بين الوضوء وغيره فلا
يبعد ان يعتبر الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه دون غيره.
ثم إنه قد استشكل في دلالة الرواية على أصل المدعى أعني اعتبار
الدخول في الغير من وجوه:
الأول: ان موضوع الشك بعد الفراغ لم يبين في الرواية فيمكن ان يحمل على
الجزء الأخير فيكون الدخول في الغير من محققات الفراغ عن الوضوء لا امرا زائدا
عليه.
ووجه الحمل هو ظهور المطلقات في كفاية مطلق الفراغ فوجه الجمع بينهما
حمل الرواية على كون موضوع الشك هو الجزء الأخير فلا يكون هناك تغاير
وتناف بينهما حتى بالاطلاق والتقييد بل تكون الرواية واردة في بيان احدى
صغريات الكبرى الدالة عليها المطلقات لما عرفت أن المضي عن العمل لا يتحقق
مع الشك في الجزء الأخير الا بالدخول في الغير.

(1) وسائل الشيعة 1 / 330، باب 42 من أبواب الوضوء الحديث: 1.
186

وفيه ما لا يخفى، فان هذا انما يتجه ان يقال لو لم يذكر في الصدر مورد الشك،
فيقال الرواية مجملة من هذه الجهة فتحمل على إرادة الشك في الجزء الأخير جمعا
بينها وبين المطلقات اما بعد أن ذكر صريحا في الصدر بكون موضوع الشك هو
جميع اجزاء الوضوء من غسل ومسح فلا وجه لهذا القول حينئذ وذلك لان
الظاهر من الرواية هو المقابلة بين حال القعود على الوضوء وحال القيام عنه في
الحكم المترتب على الشك في الاجزاء وهي تقتضي أن يكون موضوع الشك الذي
اخذ في حال القعود عينه موضوعا للشك الحاصل في حال القيام وإلا لانتفت
المقابلة لان المقابلة انما تتحقق بين الحكمين إذا كانا واردين على موضوع واحد
اما إذا تعدد موضوعهما واختلف فلا مقابلة بينهما كما لا يخفى.
وبالجملة فموضوع الشك بعد القيام هو عين موضوع الشك حال القعود
وهو جميع الاجزاء.
الثاني ان ظاهر الرواية كون الذيل بيانا لمفهوم الصدر وهو: " إذا كنت قاعدا.. "
لا لخصوصية فيه بنفسه فالظاهر حينئذ كون المدار هو الشك في الأثناء كما هو
مقتضى المنطوق والشك بعد الفراغ كما هو مقتضى المفهوم سواء دخل في الغير أو لم
يدخل.
وعليه فلا منافاة بين هذه الرواية وبين المطلقات بل هما بمفاد واحد.
والجواب ان الذيل ليس كذلك لان المذكور فيه الموضوع وجودي فلا معنى
لكونه مفهوما للصدر لان المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الامر المترتب
عليه فلا بد ان يؤخذ فيه موضوع عدمي يترتب عليه عدم الحكم كما أن مفهوم
الشرط فيما نحن فيه: " إذا لم يكن قاعدا " بنحو السالبة بانتفاء الموضوع وليس هو
" إذا كنت قائما " عن الوضوء أو نحوه من التعبيرات
وبالجملة ترتيب الحكم على موضوع وجودي أجنبي عن بيان
المفهوم وكون الحكم المترتب عليه باعتبار كونه محققا لمفهوم الشرط فالتفت.
187

الثالث: ان الفراغ عن العمل ملازم مع الكون على حال أخرى ولو كانت
هي السكون وإلا لما صدق الفراغ وليس المذكور في الرواية الا الصيرورة في حال
أخرى وهو ليس بامر زائد عما يقتضيه صدق الفراغ والمضي فليس في الرواية قيد
زائد على نفس الموضوع وهو الفراغ والمضي فلا دلالة لها على التقييد.
وهذا الوجه انما يتجه لو لم تفسر الحال الأخرى في الرواية وذكرت مطلقة،
إذا يمكن حملها على ما لا يزيد على تحقق الفراغ إلا أنها فسرت في الرواية
بالدخول في ما يغاير العمل الذي كان فيه كما يدل عليه قوله: " وصرت إلى حال
أخرى في الصلاة وغيرها ". فلا يتجه هذا القول حينئذ فالتفت.
فالمحصل: ان هذه الوجوه غير ناهضة لنفى دلالة الرواية على التقييد مطلقا.
فلا بد من الالتزام بدلالتها على التقييد بالدخول في الغير لكن لا مطلقا بل في
خصوص الوضوء.
وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى اعتبار الدخول في الغير مطلقا
سواء في ذلك الوضوء وغيره.
ببيان ان الأدلة الدالة على حجية القاعدة منها ما يدل على التقييد بالدخول
في الغير كرواية زرارة، ومنها ما لم يعتبر في أكثر من المضي والتجاوز كموثقتي ابن
بكير وابن أبي يعفور فيدور الامر بين حمل المطلق على الفرد الغالب فان الغالب
من موارد الشك موارد الدخول في الغير وبين حمل القيد على الغالب فلا يظهر في
كونه قيدا احترازيا والأول هو المتعين لا من جهة اقتضاء الدليل المقيد للمفهوم ولا
لحمل المطلق عليه وانما هو لاجل انصراف المطلق في نفسه إلى الفرد الغالب
باعتبار كون الماهية تشكيكية بحيث يكون شمولها للفرد النادر خفيا بنظر العرف
فان ذلك يوجب انصراف المطلق عنه إلى الفرد الغالب لا باعتبار نفس الغلبة فإنها
لا توجب الانصراف ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من كونه قدرا متيقنا في مقام
188

التخاطب فالمطلق في نفسه قاصر عن شمول مورد عدم الدخول في الغير (1).
وهذا الذي ذكره لا تمكن الموافقة عليه بجميعه لوجوه:
الأول انه عد رواية زرارة من أدلة قاعدة الفراغ مع انك عرفت انها تعد
من أدلة قاعدة التجاوز وان ناقشنا في دلالتها على ذلك.
الثاني انه جعل وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا من انعقاد
الاطلاق مع أنه: (قدس سره) لا يرى ذلك في مبحث المطلق والمقيد ويورد على
المحقق الخراساني في اختياره ذلك (2).
الثالث: ان ما ذكره من ايجاب التشكيك للانصراف مناقش فيه كبرويا
وصغرويا
اما كبرويا فلانه قد حقق قى محله بان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم
وتشخيصها من حيث السعة والضيق اما نظره في تشخيص المصداق فهو مردود لا
يعتمد عليه فعدم صدق المطلق على الفرد النادر بنظر العرف لخفائه غير قادح في
التمسك باطلاقه ولا يوجب صرفه عنه بعد أن كان يصدق عليه حقيقة.
واما صغرويا فلان التشكيك انما يوجب الانصراف لو سلم كبرويا فيما
كان التفاوت بين الافراد من حيث الظهور والخفاء اما فيما كان التفاوت بينها من
حيث الأظهرية والظهور بمعنى ان صدق الطبيعة على هذا الفرد كان أظهر من
صدقها على ذلك فلا يتحقق الانصراف وما نحن فيه كذلك فان صدق الطبيعة
(الفراغ) على مورد الدخول في الغير أظهر من صدقه على مورد عدم الدخول في
الغير كما لا يخفى لا ان صدقه على مورد عدم الدخول في الغير خفى وصدقه على
مورد الدخول ظاهر. فتدبر.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 3 / 471 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 1 / 530 الطبعة الأولى.
189

وإذا لم يثبت القول بالتقييد مطلقا ولم يثبت القول بعدم التقييد مطلقا
فالالتزام بالتفصيل بين باب الوضوء وبين غيره باعتبار الدخول في الغير فيه دون
غيره هو المتعين.
المقام الثاني فيما كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في الجزء الأخير
ولا بد من تحقق الدخول في الغير - في الجملة - في جريان القاعدة لتوقف صدق
الفراغ عن العمل والمضي عنه بالدخول في الغير لأنه مع عدم الدخول في الغير
وبقاء محل التدارك لا يتحقق مضى العمل إذ يمكن أن لا يكون قد أتى بالجزء
الأخير المحقق للمضي والفراغ.
وقد ذكر بعضهم ان الشك في الجزء الأخير تارة يكون بعد الدخول في
الغير.
وأخرى يكون قبل الدخول في الغير الا انه كان قد حصل اليقين آنا ما
بتحقق الفراغ عن العمل وثالثة يكون قبل الدخول في الغير وعدم حصول اليقين
بتحقق الفراغ فالقاعدة في الصورتين الأولتين تجرى دون الصورة الثالثة (1).
وأورد الشيخ (قدس سره) عليه في ذهابه إلى جريان القاعدة في الصورة
الثانية بان الفراغ لا يصدق باليقين به آنا ما ونفس اليقين الآتي السابق المتبدل إلى
الشك لا موضوعية له بل هو طريق إلى الواقع فلا دليل على حجيته بعد تبدله
بالشك الا أحد امرين قاعدة اليقين وهي غير ثابتة وظهور حال اليقين في كونه
مطابقا للواقع وهذا الامر لا دليل عليه وغير ثابت.
واما جريان القاعدة في الصورة الأولى وعدم جريانها في الثالثة فملاكه
واضح لا يحتاج إلى بيان ولا اشكال فيه (2).

(1) النجفي الشيخ محمد حسين جواهر الكلام 2 / 361 الطبعة الحديثة.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى كتاب الطهارة / 162 الطبعة القديمة.
190

ولكن ما ذكره الشيخ (رحمه الله) يمكن الخدشة فيه بتقريب ان صدق الفراغ
والمضي عن العمل المركب يكون بأحد امرين الاتيان بالجزء الأخير منه وقطعه
والاقتصار على بعض اجزائه بعد مضي قسم منه يصدق عليه لفظ المركب في نفسه،
فإنه بالاتيان بهذا المقدار لا يصدق الفراغ عرفا ما دام مشغولا بباقي الاجزاء ولكنه
مع قطعه وعدم المضي في باقي الاجزاء يصدق تحقق العمل والفراغ منه وهذا واضح
ولا اشكال فيه.
ولما كانت وحدة المركبات الاعتبارية ومنها الصلاة انما هي بالقصد والنية
إذ لا وحدة لها حقيقية لاختلاف اجزائها ماهية ومقولة كان اليقين بالفراغ ولو
آنا ما سببا لتحقق الفراغ لأنه موجب لتبدل القصد والنية فيتحقق الانقطاع
وبذلك يصدق العمل والفراغ عنه.
فجريان القاعدة في هذه الصورة ليس من جهة موضوعية اليقين في نفسه
بل لاجل تحقق الانقطاع بحصوله الموجب لصدق موضوع القاعدة وهو الشك في
صحة العمل بعد الفراغ عنه.
وبذلك يظهر انه لا محيص عن الالتزام بما ذكره صاحب الجواهر من جريان
القاعدة في الصورتين الأولتين وانه لا وجه لما ذكره الشيخ في مقام الاشكال عليه
ولبعض الفقهاء تقريب لتصحيح كلام الجواهر والخدشة في كلام الشيخ بيانه:
انه مع اعتبار تحقق الفراغ في جريان القاعدة يدور الامر بين إرادة الفراغ الحقيقي
وإرادة الفراغ الادعائي وإرادة الفراغ البنائي يعنى البناء على تحقق الفراغ عن
العمل لا يمكن الالتزام بإرادة المعنى الحقيقي والمعنى الادعائي للفراغ.
اما الأول فلانه انما يصدق عند الاتيان بالعمل بجميع اجزائه وشرائطه
فاعتباره يلزم تعطيل قاعدة الفراغ لان موردها الشك في صحة العمل لفقد جزء أو
شرط والفراغ الحقيقي غير صادق مع هذا الشك.
وأما الثاني فلأنه يصدق بالاتيان بمعظم الاجزاء فاعتباره يستلزم صحة
191

جريان القاعدة مع الشك في الصحة بعد الاتيان بالمعظم وقبل الانتهاء من العمل مع أنه
لا اشكال في عدم صحة ذلك لعدم صحة جريان القاعدة في أثناء العمل.
وإذا لم يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي ولا الفراغ الادعائي تعين الالتزام
بإرادة الفراغ البنائي. وهو يحصل باليقين بالتمام فجريان القاعدة مع تحقق اليقين
الآني بالفراغ ليس لاجل حجية اليقين بعد زواله أو لاجل ظهور الحال كي ينفى
بعدم الدليل عليه بل لاجل صدق الموضوع المأخوذ في لسان الدليل وهو الفراغ.
البنائي (1).
ولكن ما ذكره لا تمكن الموافقة عليه لوجهين:
الأول انه يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي بلا استلزام للمحذور المذكور
أعني محذور التعطيل وذلك بالالتزام بكون متعلق الفراغ العمل الجامع بين
الصحيح والفاسد لا خصوص العمل الصحيح كي يلزم ما ذكر - وبذلك يتحقق
الفراغ الحقيقي بلا عناية ولا تكلف مع الشك في فقد جزء أو شرط كما لا يخفى
وتوهم ان الامر يدور حينئذ بين التصرف في لفظ الفراغ والتصرف في
متعلقه بحمله على الأعم فما هو المرجح؟ كي يلتزم بالأخير.
فاسد فان التصرف في المتعلق بحمله على الأعم مما لا بد منه على القولين
بل هو صريح الروايات لان فيها اسناد الفراغ إلى العمل مع الشك فيه مما يكشف
عن إرادة الأعم فالالتزام بإرادة المعنى الحقيقي للفراغ لا يستدعى مؤونة زائدة
بخلاف العكس.
الثاني ان اعتبار تحقق الفراغ البنائي في جريان قاعدة الفراغ مطلقا يستلزم
عدم جريان القاعدة مع الاتيان بالجزء الأخير والشك في الاتيان بما قبله بلا فصل
كالاتيان بالتسليم مع الشك في التشهد فإنه في حال الشك لا يقين له بالفراغ إذ

(1) الحكيم الفقيه السيد محسن مستمسك العروة الوثقى 2 / 518 الطبعة الأولى.
192

يحتمل أن يكون اتيانه بالتسليم عن غفلة لا انه عن التفات وبعد الاتيان بالتشهد
وفى تلك الحال كان غافلا فلم يتحقق منه الفراغ البنائي أصلا مع أنه لا اشكال في
جريان القاعدة في هذه الصورة:
فالمحصل ان ما ذكره هذا القائل لا يعرف له وجه ظاهر فالمتعين هو ما
ذكرناه.
بقي الكلام في جريان قاعدة الفراغ في الصور الأربع التي ذكرناها للشك في
الجزء الأخير عند الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه.
فالتحقيق ان جريان القاعدة في الصورتين الأوليتين - وهما صورة تحقق
الشك مع عدم الاشتغال بشئ مناف أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الماحي
لصورة الصلاة وصورة تحقق الشك مع الاتيان بالمنافي العمدي كالكلام بالنسبة إلى
الصلاة انما يصح لو تحقق في الحالين اليقين بالفراغ ولو آنا ما اما مع عدم تحققه
فنفس الحالين لا يحققان المضي والفراغ كما لا يخفى.
واما الصورتان الأخيرتان وهما صورة تحقق الشك مع الاشتغال بامر
مرتب على العمل كالتعقيب بالنسبة إلى الصلاة وصورة تحقق الشك مع الاشتغال
بالمنافي العمدي والسهوي فالقاعدة جارية فيهما.
أما جريانها في الأخيرة فواضح لانقطاع العمل بالاشتغال بالمنافي وتحقق
الفراغ عنه وصدق مضيه كما لا يخفى.
واما جريانها في الثلاثة فلأن الاشتغال في الامر المترتب بعنوانه الخاص -
كالاشتغال في التعقيب بما أنه تعقيب لا بما أنه دعاء أو ذكر مثلا - لا يكون الا بعد
البناء على الفراغ واليقين بالانتهاء من العمل وذلك موجب لصدق المضي
لانقطاعه بتبدل القصد هذا تمام الكلام في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في
الصحة للشك في الجزء.
193

الجهة العاشرة (1): في تحقيق جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو

(1) تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ عند الشك في الشرط ان يقال ان
الشرط على أقسام:
ما يكون شرطا مقوما للمأمور به عقلا بحيث يتقوم به صدق عنوان المأمور به كقصد
الصلاتية في تحقق عنوان الصلاة وقصد الظهرية في تحقق عنوان الظهر.
وما يكون شرطا مقوما للجزء كقصد الركوع في تحقق الركوع إذ ليس كل انحناء ركوع بل
الانحناء الركوعي هو المأتي بعنوان الركوع وكالموالاة بين الحروف في تحقق الكلمة.
وما يكون شرطا شرعيا للكل كالاستقبال بالنسبة إلى الصلاة
وما يكون شرطا شرعيا للجزء كالجهر بالنسبة إلى القراءة
اما الشرط المقوم عقلا للمأمور به كالنية فقد التزم البعض بجريان قاعدة التجاوز فيه إذا
تحققت شرائطها وذهب البعض إلى عدم جريانها فيه كما يظهر من مراجعة الفرع الأول من
فروع العلم الاجمالي من العروة وما كتب حوله.
والتحقيق ان متعلق الامر هو عنوان الصلاة أو الظهر وقصد الصلاتية أو الظهرية محقق
لعنوان المأمور به من دون ان يلحظ في متعلق الامر جزء أو شرطا وانما هو شرط
تكويني.
وعلى هذا فلا معنى لاجراء القاعدة فيه إذ لا يقع مثله مورد التعبد الشرعي لعدم دخله
شرعا في المأمور به فالتعبدية لا يجدي شيئا ولا يترتب عليه اثر شرعي مترقب، وترتب
عنوان المأمور به عليه ترتب عقلي لا ينفع فيه التعبد.
وبهذا يظهر انه لا وجه يقتضى جعله موردا للكلام كما ارتكبه الاعلام.
ولعله إلى ذلك ينظر المحقق العراقي في منعه جريان القاعدة فيه معللا بان المعتبر في العمل
نشوؤه عنه لا نفسه فإنه يمكن أن يكون نظره إلى ما ذكرناه من عدم اعتباره في العمل وانما
المعتبر هو عنوان الصلاتية أو الظهرية.
ولو تنزلنا عن هذه الجهة فنقول ان القصد المعتبر اما يكون قصدا واحدا مستمرا وعليه
يبتنى مبطلية نية القطع أو القاطع كما التزم به بعضهم واما يكون متعددا بتعدد الاجزاء فهو
معتبر في كل جزء ولذا لا تبطل الصلاة بنية القطع.
ولا يخفى ان قاعدة التجاوز انما تجرى في القصد إذا كان اعتباره بالنحو الثاني لصدق التجاوز عنه
بتجاوز الجزء.
اما إذا كان اعتباره بالنحو الأول فلا مجال لجريان القاعدة فيه لان المفروض انه امر واحد
مستمر ومحله جميع العمل فلا يتحقق التجاوز عنه في الأثناء.
هذا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في النية واما بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في نفس
العنوان المأمور به فتحقيق الحال فيه أنه يتصور على انحاء.
فتارة يقال إنه امر واحد مستمر يعنون به مجموع العمل.
وأخرى يقال إنه متعدد بتعدد الاجزاء وهو تارة يكون متقوما بمجموع الاجزاء بحيث لا
ينطبق الا على المجموع نظير الحمى القائمة باجزاء البدن فان كل جزء لا يقال إنه محموم بل
مجموع البدن محموم وأخرى يكون متقوما بكل جزء فكل جزء ينطبق عليه انه صلاة أو ظهر
ولا يخفى انه لا مجال لتوهم جريان قاعدة التجاوز في العنوان بناء على الاحتمالين الأولين،
لعدم تحقق التجاوز عنه بعد تقومه بالكل.
نعم لتوهم جريان القاعدة فيه مجال على الاحتمال الثالث لتجاوز محله بتجاوز الجزء وان
وقع محل الاشكال من جهات أخرى.
واما الشرط المقوم للجزء عقلا كقصد الركوعية في الركوع فقد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في
شرط الكل إذ عرفت أنه لا مجال لتوهم جريان القاعدة في الشرط العقلي التكويني لعدم ترتب
اثر شرعي عليه.
واما اجراء القاعدة في وصف الركوعية فللمنع عنه مجال لان الانحناء الركوعي مباين
عرفا للانحناء غير الركوع والذاتان متباينتان والمطلوب هو الذات المعنونة بعنوان الركوع ومن
الواضح ان اثبات تحقق الركوعية لا يثبت تحقق الذات المعنونة وهي الركوعية الا بالملازمة
واما اجراء القاعدة في نفس الركوع فقد تقدم الاستشكال فيه بدعوى انصراف اخبار
القاعدة إلى الشك في أصل الوجود لا في اتصاف الموجود بعنوان الجزء.
نعم يمكن اجراء قاعدة الفراغ في الانحناء واثبات صحته بناء على عدم اعتبار احراز
العنوان في جريانها وسيجئ البحث فيه.
واما الشرائط الشرعية المعتبرة في الكل فالحق فيها هو التفصيل بين ما هو معتبر حال
العمل الاستقبال والستر ونحوهما وما هو معتبر سابقا على العمل كالوضوء على قول فتجرى
القاعدة في الثاني دون الأول.
والوجه في ذلك على سبيل الاجمال - ان التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما هو معتبر في
حال العمل لا يصدق ولو مع دخول المكلف في الجزء اللاحق إذ غاية ما يمكن تصوير تحقق
التجاوز عن محل الشرط مع الدخول في الجزء اللاحق هو ما يقال من أن المعتبر في كل جزء
تقيده بالشرط المفروض فمع التجاوز عن الجزء يتحقق التجاوز عن التقيد المأخوذ فيه فتجرى
القاعدة في تقيده بالشرط، ويترتب الأثر مع احراز التقيد بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة.
ولكن هذا المطلب لا يمكن الالتزام به فان التقيد من شأن المفاهيم والعوارض ولا يتصور في
المعاني المتباينة مثل الطهارة والركوع فان كلا منهما يباين الآخر فلا معنى لان يكون أحدهما
مقيدا بالآخر إذ الطهارة من عوارض المكلف لا الركوع.
نعم يتصور اخذ التقيد بنحو آخر وهو أن يكون الواجب هو الركوع المقارن للطهارة
فيؤخذ القيد وصف المقارنة للطهارة.
ولكن هذا مما لا يلتزم به والا لأشكل الامر في استصحاب الطهارة فإنه لا يثبت الوصف
الملحوظ المأخوذ في الواجب وهو وصف المقارنة.
وعليه، فالذي يلتزم به في باب الشروط هو اخذ الشرط بنحو المعية في الوجود مع الجزء،
نظير نفس الاجزاء فيما بينها الا ان الفرق تعلق الامر بالجزء دون الشرط.
ومن الواضح ان اخذ الشرط بهذا النحو لا يستلزم كون الجزء محلا له وظرفا بحيث يكون
التجاوز عنه تجاوزا عن الشرط، بل بالاتيان بالجزء دون الشرط لن يفت محل الشرط ويمكن
الاتيان به مع الجزء في كل وقت ولو بإعادة الجزء.
وقد يلتزم في باب الشروط بوجه آخر وهو اعتبار الإضافة إلى الشرط بمعنى ان الواجب
هو ايقاع الجزء في طرف الشرط، فيلحظ الجزء مضافا إلى الزمان الخاص وهو زمان
الشرط.
ولكن لو تم هذا لم ينفع في المطلوب، لان طرف الإضافة هو نفس الزمان دون الخصوصية،
فالشك في الخصوصية - أعني الشرط - لا يستلزم الشك في طرف الإضافة بل في خصوصيته.
والوجه فيه أن
طرف الإضافة لو كان هو الزمان الخاص لأشكل الامر في مثل استصحاب الشرط
كالطهارة لعدم اثباته إضافة الجزء للطهارة حتى يتحقق طرف الإضافة فكيف يجدي في
الامتثال؟ فمقام الثبوت والاثبات يساعدان على كون طرف الإضافة نفس الزمان والخصوصية
للزمان نفسه لا مأخوذة في الإضافة فيعتبر ان تكون الصلاة في زمان فيه طهارة فيصح اجراء
استصحاب الطهارة لاثبات خصوصية الزمان نظير استصحاب الخمرية لاثبات حرمة شرب
المائع المشكوك فإنه لا يثبت كون شرب هذا المائع شرب الخمر ولكن يثبت به انه شرب مائع
هو خمر وليس الملحوظ في الحكم أزيد من ذلك فليس المحرم الشرب المضاف إلى الخمر بل
الشرط المضاف إلى مائع هو خمر.
وعليه فإذا ثبت ان طرف الإضافة هو الزمان والشرط لوحظ كخصوصية للزمان لا طرفا
للإضافة فالمشكوك لا يكون طرف الإضافة بل خصوصية الطرف وهي مما لم يفرض لها محل.
هذا مع اخذ الشرط طرفا للإضافة لا يظهر منه سوى كون الشرط ظرفا للجزء لا العكس،
فاعتبار كون الركوع في حال الطهارة ظاهر بحسب لسان الدليل في كون الطهارة ظرفا للركوع لا
كون الركوع ظرفا للطهارة فانتبه.
فتبين من جميع ذلك أنه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في الشرط المقارن.
واما الشرط السابق على العمل، فالقاعدة تجرى فيه إذا شك فيه بعد الدخول في العمل
لتجاوز محله بعد الدخول، لان ظرفه هو الزمان السابق على العمل. وهذا مما لا اشكال فيه. انما
الاشكال في أنه هل يعتبر احرازه للاجزاء اللاحقة أو لا؟ ذهب المحقق العراقي إلى لزوم ذلك،
وان القاعدة لا تنفع الا في ما مضى من الاجزاء، إذ ما يأتي من الاجزاء لم يتجاوز عنه، ودليل
القاعدة انما يتعبد بها بمقدار ما تحقق التجاوز عنه، وهذا منه مبنى على اعتبار التجاوز عن نفس
المشروط لا خصوص المشكوك، وهو مما لا دليل عليه، إذ غاية ما يدل عليه الدليل اعتبار
التجاوز عن المشكوك، وهو فيما نحن فيه حاصل، إذ الشرط إذا كان مأخوذا سابقا على العمل فمع
الدخول في العمل يتحقق التجاوز عن محله حتى بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لان شرطها هو
الفعل السابق عن العمل.
نعم، بالنسبة إلى الاعمال المستقلة الأخرى كصلاة ثانية لا تنفع، لان قاعدة التجاوز
انما تتعبد بالمشكوك بمقدار التجاوز عنه، والوضوء للصلاة الأخرى لم يتجاوز عن محله بالدخول
في هذه الصلاة.
نعم، هو تجاوز عن محل الوضوء لهذه الصلاة، فلا تثبت القاعدة الا وضوء هذه الصلاة لا
غير، فيلزمه الوضوء للصلوات الأخرى. ومن هنا ظهر الحال ما إذا شك في صلاة الظهر بعد
دخوله في صلاة العصر، فان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر انما تثبت تحقق صلاة الظهر بمقدار
تأثيرها في صحة العصر، واما صلاة الظهر بما هي واجبة مستقلا فلم يتجاوز عن محلها، إذ لا
يعتبر فيها ان تكون قبل العصر بل المعتبر ان تكون العصر بعدها فيلزمه على هذا الاتيان بالظهر
بعد العصر. هذا تمام الكلام في الشروط
194

الشك في الشرط، وذلك يتوقف على بيان أقسام الشروط.
وقد ذكر المحقق العراقي (قدس سره) أقساما عديدة للشروط وذكر حكمها
مما يرتبط بما نحن بصدده من جريان قاعدة الفراغ، مع ذكره حكمها بالنسبة إلى
جريان قاعدة التجاوز.
ومحصل ما افاده: ان الشروط..
منها: ما يكون شرطا عقليا في تحقق عنوان المأمور به من الصلاتية والظهرية
ونحوهما، كالنية، فان هذه العناوين لما كانت أمورا قصدية فلا تتحقق الا بالقصد
والنية.
ومنها: ما يكون شرطا شرعيا لصحة المأمور به بعد الفراغ عن تحقق
عنوانه، كالطهور والستر والاستقبال ونحوها.
ومنها: ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء بمعنى كونه مما يتوقف عليه وجود
الجزء عقلا، كالموالاة بين حروف الكلمة.
ومنها: ما يكون شرطا شرعيا للجزء، كالجهر والاخفات بناء على القول
بكونهما شرطا للقراءة، لا للصلاة في حال القراءة.
ثم ما كان شرطا شرعيا اما أن يكون مما له محل مقرر شرعا، بان يكون قبل
198

الدخول في المشروط كصلاة الظهر بالنسبة إلى العصر، وكالطهارة على قول. أو لا
يكون له محل مقرر، كالستر والاستقبال.
فالأقسام خمسة.
اما ما كان شرطا عقليا لعنوان المأمور به، بمعنى انه مقوم لتحققه عقلا
كالنية، فلا اشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه مع الشك، وذلك لأنه مضافا
إلى عدم وجود محل له مقرر شرعا مع اختصاص القاعدة بذلك، لا تكون القاعدة
تجدي في احراز عنوان المشروط، فان جهة نشوء الأفعال عن قصد الصلاتية
ونحوها من اللوازم العقلية للقصد والنية، فالتعبد بوجود القصد لا يجدي في اثبات
هذه الجهة. وكذلك لا تجرى قاعدة الفراغ في المشروط مع الشك، لاختصاصها بما
إذا كان العمل محرزا بعنوانه وكون الشك في صحته وفساده، نظير قاعدة الصحة في
عمل الغير - فإنهما من سنخ واحد - ومع فرض الشك في القصد يشك في تعنون
العمل بعنوانه المطلوب، فلا مجال لقاعدة الفراغ.
هذا بالنسبة إلى النية المقومة بعنوان المأمور به.
اما بالنسبة إلى النية بمعنى قصد القربة، فمع الشك فيها في الأثناء لا تجرى
قاعدة التجاوز - وان قلنا بكونها مأخوذة في المأمور به شرعا لا عقلا - لعدم كونها
ذات محل مقرر شرعا كي يصدق عليها عنوان التجاوز من المحل.
واما قاعدة الفراغ فهي تجرى بناء على كونها شرطا شرعيا ولو بنحو
التقييد. واما بناء على القول بكونها شرطا عقليا فلا تجرى، لعدم الشك في صحة
المأتي به الشرعية، بمعنى استجماع المأتي به للاجزاء والشرائط الشرعية، فإنه محرز
مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة فضلا عن الشك.
واما ما كان شرطا شرعيا للصلاة مع عدم وجود محل له شرعي كالستر،
فلا تجرى فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في المشروط.
واما قاعدة الفراغ: فتجرى في المشروط للشك في صحته بالشك في الشرط.
199

هذا بعد الفراغ منه. اما إذا كان الشك في الأثناء، فقاعدة الفراغ انما تجرى إذا كانت
الاجزاء الماضية بنحو يكون لها بنظر العرف مستقل كالركعة، دون غيره مما
لا يعد كذلك كالآية. الا ان قاعدة الفراغ انما ينفع جريانها في الأثناء لو كان الشرط
محرزا حال الشك بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة، اما مع الشك فيه حتى بالإضافة إلى
الاجزاء اللاحقة والحالية، فلا ينفع جريانها فيما مضى من الاجزاء، فلا مجال على
هذا لجريانها.
واما الشرط الشرعي ذو المحل، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر
ونحوها، فما ذكره (قدس سره) مما يرتبط بالمقام من جريان قاعدة التجاوز وقاعدة
الفراغ لا يزيد عما ذكرناه سابقا نتيجة فراجع.
واما ما يكون شرطا عقليا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة، فلما كان
الشك فيه يرجع إلى الشك في وجود الكلمة، تجرى فيها - أي: في الكلمة - قاعدة
التجاوز.
واما ما يكون شرطا شرعيا للجزء، كالجهر والاخفات - لو قيل بكونهما
شرطا للقراءة - فلا تجرى فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشئ على مثله، فالأدلة
منصرفة عنه.
واما المشروط، فهو وان صدق عليه الشئ الا ان الشك ليس في وجوده بل
في صحته، فهو مورد لقاعدة الفراغ. الا ان البحث عنه قليل الجدوى لورود النص
على عدم الإعادة مع نسيان الجهر والاخفات فضلا عن صورة الشك، ولم نعثر على
مثال للفرض غير هذا.
هذا ملخص ما افاده (قدس سره) (1)، ولكن في كلامه مواقع للنظر.
الأول: ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز مع الشك في تحقق القصد

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 63 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
200

بتقريب: أن موضوع الأثر ليس هو القصد، بل ما يلازم القصد عقلا من تعنون
العمل بعنوان المأمور به أو جهة نشوء الأفعال عن قصد العنوان المأمور به - كما قد
يظهر من كلامه - أعني: الترديد في موضوع الأثر فاثبات تحقق القصد بالقاعدة لا
يقتضى ثبوت الجهة المرغوبة.
ووجه النظر فيه: ان الشك في تحقق القصد ملازم للشك في تعنون العمل
بعنوان المأمور به أو نشوء الأفعال عن قصد العنوان، فلا ملزم حينئذ لاجراء قاعدة
التجاوز في نفس القصد كي يتأتى ما ذكره، بل يمكن حينئذ اجراء القاعدة في نفس
موضوع الأثر - وهو أحد الامرين - لتحقق الشك فيه بالشك في تحقق القصد، فلا
يرد ما افاده كما لا يخفى.
الثاني: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض نفسه لعدم احراز
عنوان العمل مع اعتباره في جريانها قياسا على أصالة الصحة في عمل الغير، لأنهما
من سنخ واحد والاختلاف في مورد جريانهما.
ووجه النظر فيه: ان هذا - على تقدير تسليمه - انما يتأتى في صورة الشك في
تحقق أصل قصد العنوان كالشك في تحقق قصد الصلاتية، لعدم احراز العنوان. اما
مع العلم بقصد الصلاتية والشك في خصوصية القصد من الظهرية والعصرية
ونحوهما، فلا مجال لما ذكره من منع جريان قاعدة الفراغ، لاحراز عنوان العمل من
كونه صلاة والشك في صحته وفساده.
مع أن ما ذكره من لا بدية احراز عنوان العمل في جريان قاعدة الفراغ،
كاعتباره في قاعدة الصحة غير مسلم، لأن اعتباره في أصالة الصحة لم يكن لقيام
دليل عليه، بل لعدم الدليل على عدم اعتباره، حيث إن دليل أصالة الصحة - كما
عرفت - دليل لبي لا لفظي، وهو السيرة العقلائية، ومعه يقتصر على القدر المتيقن
بمجرد الشك، فمع الشك في اعتبار احراز عنوان العمل وعدمه، يبنى على الاعتبار
من باب عدم الدليل على عدمه والاخذ بالقدر المتيقن من دليل الأصل، وهو غير
201

صورة عدم الاحراز.
وما نحن فيه ليس كذلك، لان دليل قاعدة الفراغ ليس دليلا لبيا بل هو دليل
لفظي، يمكن التمسك بعمومه مع الشك ولم يقم دليل آخر على اعتبار احراز العنوان.
فلا وجه لتخصيص القاعدة بصورة احرازه، بل الوجه تعميمها لصورة عدم الاحراز
تمسكا بالعموم.
وعليه، فيصح جريانها فيما نحن فيه للشك في أن هذا العمل المأتي به مطابق
للمأمور به أو غير مطابق، فتجرى فيه قاعدة الفراغ وتثبت صحته ولو لم يحرز
العنوان، فتدبر.
وبالجملة: لا دليل صناعيا على ما افاده، فلا وجه لرفع اليد عن العموم لان
الشك في الصحة يجامع الشك في العنوان فيشمله الدليل. الا ان يدعى انصراف لفظ
الشئ في قوله: " كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو " (1)، إلى كونه
مشيرا إلى الأفعال بعناوينها المأخوذة في ترتب الأثر لا إلى ذات العمل، وهي غير
سهلة الاثبات.
الثالث: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في تحقق قصد
القربة، بتقريب: انه لا شك في صحة المأتي به بمعنى مطابقته للاجزاء والشرائط
المأمور بها شرعا، للعلم بالمطابقة مع اليقين بعدم تحقق قصد القربة فضلا عن صورة
الشك فيه.
ووجه النظر فيه: انه بعد عدم معقولية اخذ قصد القربة في متعلق الامر
بالعمل أو في متعلق امر اخر، وحكم العقل بوجوب الاتيان بالعمل مقارنا لقصد
القربة، لتوقف تحقق الغرض عليه وتحصيله واجب في مقام الامتثال، لا يمتنع على
الشارع الاكتفاء في مقام الامتثال بالاتيان بما يحتمل معه تحقق الغرض، إذ لا مانع
من ذلك عقلا، إذ أي محذور في أن يقول الآمر بأني اكتفي في مقام الامتثال باحتمال
تحقق الغرض دون الجزم به.

(1) وسائل الشيعة 5 / 336 باب 23 من أبواب الخلل، الحديث: 3.
202

وإذا ثبت ذلك في نفسه، فيمكن ان يثبت فيما نحن فيه، بان يكتفى الشارع
بالاتيان بما يحتمل تحقق الغرض به في الامتثال، فيكتفى بما يحتمل مقارنته لقصد
القربة.
ويكون الدليل المتكفل لذلك هو عموم دليل قاعدة الفراغ، فإنه يدل على
عدم الاعتناء بالشك والاكتفاء بالمأتي في مقام الامتثال، ومنه ما نحن فيه، فيكون
من الاكتفاء بما يحتمل تحقق الغرض به، وقد عرفت أنه لا مانع منه، وانه من
صلاحيات الشارع. فالتفت.
الرابع: ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الأثناء مع الشك في الشرط
الشرعي للعمل، الا إذا كان ما مضى من الاجزاء بنحو يعد عملا من الاعمال.
فإنه غير وجيه، لأنه ان كان لاجل استفادته من بعض النصوص كقوله
(عليه السلام): " كل ما مضى من صلاتك وطهورك... " - فإنه يستفاد منه كون
مجرى القاعدة امرا ذا عنوان مستقل كعنوان الصلاة والطهور - فذلك يدفعه اطلاق
قوله (عليه السلام): " كل ما شككت فيه مما مضى فشك ليس بشئ "، فإنه
باطلاقه يشمل الكل والجزء وذا العنوان وغيره.
مضافا إلى أن ما ذكره ههنا ينافي ما ذكره في اخر كلامه من كون الجزء
المشكوك في شرطه موردا لقاعدة الفراغ في نفسه، الا انها لا تجرى لانتفاء الأثر.
واما ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز عن ما لا محل له من الشروط
الشرعية كالستر والاستقبال وقصد القربة - على أحد القولين - فيعرف صحته
باطلاقه وعدم صحته مما نقحناه سابقا. فراجع.
الجهة الحادية عشرة: في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث.
والتحقيق: انه لا اشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في فعل
من أفعال الوضوء بعد الدخول في غيره وقبل الفراغ من الوضوء فقد انعقد الاجماع
على ذلك، وادعى الشيخ ورود الاخبار الكثيرة في ذلك (1).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 412 - الطبعة القديمة.
203

وقد ألحق الأصحاب الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة
التجاوز، فأدلة قاعدة التجاوز مخصصة بالاخبار والاجماع.
هذا كله مما لا كلام فيه، وانما الكلام في موثقة ابن أبي يعفور: " إذا شككت
في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ. انما الشك إذا كنت في
شئ لم تجزه (1). حيث إن ظاهرها إلغاء الشك في أحد الاجزاء الوضوء مع
الدخول في الجزء الآخر، وهو يقتضى جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء.
وذلك ينافي معقد الاجماع ودلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن
عموم القاعدة.
وقد تخلص الشيخ من هذه المنافاة بارجاع الضمير في: " غيره " إلى الوضوء،
فيكون مفاد الصدر إلغاء الشك في جزء الوضوء مع الدخول في غير الوضوء لا غير
الجزء من الاجزاء الأخرى. وهذا لا يتنافى مع معقد الاجماع والاخبار، لان
مفادهما عدم إلغاء الشك ما دام في الأثناء.
ثم إنه (قدس سره) أفاد: ان الظاهر من الموثقة كون هذا الحكم - وهو عدم
إلغاء الشك في أثناء الوضوء - ليس حكما تعبديا صرفا خارجا عن مقتضى القاعدة
وثبت بالتخصيص، وانما هو حكم على طبق القاعدة، بمعنى انه حكم جزئي لقاعدة
كلية تنطبق موردا على الوضوء، كما هو مقتضى ذيلها، فان ظاهره انه حكم كلى
طبق على المورد، فالمستفاد من الرواية قاعدة كلية مقتضاها عدم إلغاء الشك في
جزء العمل، ما دام في أثناء العمل واختصاص الالغاء بما إذا دخل في غير العمل (2).
ومن هنا يتوجه عليه اشكالان:
أحدهما: ان هذا يستلزم إلغاء الشك في جزء من اجزاء الوضوء باعتبار

(1) وسائل الشيعة 1 / 330، باب: 42 من أبواب الوضوء، الحديث 2.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 412 - الطبعة القديمة.
204

الشك في جزئه بعد الدخول في غيره، كالشك في غسل بعض اليد بعد الفراغ
منها والدخول في غيرها من اعمال الوضوء، لأنه يصدق عليه انه شك في جزء العمل
بعد الفراغ عن العمل والدخول في غيره، مع أن إلغاء هذا الشك خلاف الاجماع
لانعقاده على الاعتناء بمطلق الشك في الأثناء.
والاخر: هو حصول التعارض بين هذا الخبر وبين الاخبار الدالة على إلغاء
الشك في الشئ بعد التجاوز عنه، فيما إذا شك في جزء من اجزاء الوضوء بعد
الدخول في غيره من الاجزاء وقبل الفراغ من الوضوء، إذ باعتبار انه شك بعد
تجاوز المحل يكون مشمولا لاخبار قاعدة التجاوز. وباعتبار انه شك في جزء العمل
قبل الفراغ عن العمل يكون موردا لهذا الخبر.
وقد يستشكل: بان التعارض المذكور حاصل دائما بين منطوق دليل قاعدة
التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء بعد تجاوزه وقبل الفراغ عن
العمل، إذ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك ومفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء
به لأنه في الأثناء.
ولكنه فاسد جدا، لما عرفت أن هذا التعارض البدوي ينحل بحكومة دليل
قاعدة التجاوز على دليل قاعدة الفراغ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في
الجزء، فيرتفع بجريان قاعدة التجاوز فيه.
وهذا غير ما نحن فيه، لان المورد واحد لكلتا القاعدتين، وموضوع إحداهما
عين موضوع الأخرى، إذ لا شك الا شك واحد تنطبق عليه كلتا القاعدتين.
وقد تفصى الشيخ (رحمه الله) عن هذين الاشكالين: بان الوضوء بأجزائه
كلها فعل واحد ينظر الشارع، بمعنى: ان هذا الامر المركب في الحقيقة اعتبره الشارع
امرا واحدا، فلم يلحظ كل جزء منه فعلا مستقلا بل لوحظ المجموع فعلا واحدا.
والمصحح لهذا الاعتبار هو وحدة المسبب وهو الطهارة، فإنها امر بسيط غير مركب
يترتب على الوضوء، وهذا امر ليس بالغريب المستبعد لارتكاب المشهور مثله
205

بالنسبة إلى أفعال الصلاة، فإنهم لم يجروا قاعدة التجاوز في كل جزء من اجزاء
الفاتحة أو الآية أو الكلمة، بل الظاهر كون الفاتحة - بل القراءة - بنظرهم فعلا
واحدا، بل القرينة على هذا الاعتبار والشاهد له هو الحاق المشهور الغسل والتيمم
بالوضوء في هذا الحكم، إذ لا وجه له بحسب الظاهر الا ملاحظة كون الوضوء امرا
واحدا باعتبار وحدة مسببه، فيطرد في الغسل والتيمم. وإذا ثبت هذا الامر وتقرر،
فلا وجه حينئذ لكلا الاشكالين، لان اجزاء الوضوء لم تلحظ بنظر الشارع أفعالا
مستقلة كي يتحقق التجاوز عنها والدخول في غيرها - فتكون موردا للتعارض -
أو يتحقق الشك في اجزائها بعد الفراغ عنها - فيشملها الذيل فيلزم مخالفة الاجماع
-، بل لوحظ مجموعها فعلا واحدا، فالتجاوز عنها لا يتحقق الا بعد الفراغ من
الوضوء، فالاعتناء بالشك في الأثناء انما كان لعدم صدق التجاوز بنظر الشارع.
ومن الغريب ما جاء في تقريرات السيد الخوئي (دام ظله) من حمل كلام
الشيخ في نفى جريان قاعدة التجاوز في الوضوء على: ان المطلوب في باب الوضوء
هو الطهارة، وهي امر بسيط لا اجزاء له، واما الوضوء فهو مقدمة للمأمور به
وليس متعلقا للامر الشرعي، فلا تجرى فيه قاعدة التجاوز. ثم أورد عليه
بايرادين (1). ووجه الغرابة: ان كلام الشيخ في المقام لا غموض فيه، بل هو صريح
فيما بيناه ولا إشارة فيه إلى ما جاء في التقريرات. فلاحظه تعرف.
وقد أورد المحقق العراقي (قدس سره) على الشيخ في تقريبه المزبور بوجهين:
الأول: ان وحدة الوضوء الاعتبارية (لا تجتمع مع) تنافي التصريح في صدر
الرواية بالشك في شئ من الوضوء الذي يفيد كون الوضوء عملا ذا اجزاء.
الثاني: انه لو كان الملاك والعلة في هذا الاعتبار وحدة الأثر المترتب على
العمل، لاطرد ذلك في سائر العبادات من الصلاة وغيره، فان الصلاة مما يترتب

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول / 3 / 314 - الطبعة الأولى.
206

عليها اثر واحد بسيط وهو النهى عن الفحشاء ونحوه، مع أنه لا اشكال في عدم
اطراده لعدم الاعتناء بالشك في جزء الصلاة بعد التجاوز عنه وقبل الفراغ من
الصلاة، بلا ريب ولا اشكال. وذلك دليل عدم اعتبار الوحدة، والا لما جرت قاعدة
التجاوز في الأثناء (1).
وكلا الوجهين مخدوش فيهما:
اما الأول: فلأن الواحد بالاعتبار لا بد وأن يكون مركبا في نفسه وواقعه،
والا لما احتيج إلى اعتبار وحدته.
وعليه، فهو ذو مرتبتين: مرتبة الاعتبار، وهو فيها امر واحد بسيط. والمرتبة
السابقة على الاعتبار، وهو فيها امر مركب ذو اجزاء. ولا اشكال في صحة اطلاق
المركب عليه باعتبار المرتبة السابقة على الاعتبار، بل لا اشكال في صحته مع
التصريح باعتبار الوحدة، بان يقول المعتبر: " هذا الامر ذو الاجزاء قد اعتبرته
واحدا ". فمع قيام الدليل وثبوت اعتبار الوحدة يحمل التعبير الدال على التركيب
على لحاظ المرحلة السابقة على الاعتبار، ومنه ما نحن فيه، فالتعبير في الصدر
بالشك في شئ من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت وتم الدليل عليه.
واما الثاني: فلأن الأثر الذي يترتب على العمل تارة: يكون تكوينيا.
وأخرى: يكون جعليا. والأثر الشرعي تارة تكون نسبته إلى ذي الأثر نسبة
الحكم إلى الموضوع. وأخرى: تكون نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب -
والفرق بين السبب والموضوع ليس محل بيانه هنا بل يذكر في مبحث النهى عن
المعاملة - والأثر المترتب على الوضوء وأخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة
المسبب إلى السبب. فملاكية وحدة المسبب لاعتبار وحدة الوضوء انما تقتضي اطراد
ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب دون كل أمر

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 49 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
207

يترتب عليه أثر ما.
وهذا انما يكون في العقود، لأنها سبب في ترتب آثار عليها. أما الصلاة
ونحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية، فلا تصلح مادة للنقض على
الاطراد، لعدم اعتبار الوحدة فيها، بل النقض انما يتوجه بباب العقود.
ولكن لم يثبت الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في اجزائها قبل تمامها كي
يكون ذلك دليلا على عدم اعتبار الوحدة مع وحدة المسبب. كما أن عدم الالتزام بها
في هذا الباب لا يستلزم أي محذور.
ثم إنه (قدس سره) ذكر تقريبا للتخلص عن منافاة الموثقة للأدلة الخاصة،
ومحصله: انه يلتزم برجوع الضمير في: " غيره " إلى الوضوء بقرينة الاجماع والنص
وقرب المرجع، وذلك يرجع إلى الالتزام بتقييد التجاوز عن المشكوك فيه في
خصوص اجزاء الوضوء بالتجاوز الخاص المساوق للتجاوز عن الوضوء مع ابقاء
التجاوز في الذيل على اطلاقه وظهوره في مطلق التجاوز عن الشئ، ومرجع
الالتزام بتقييد التجاوز في باب الوضوء إلى التوسعة في محل الجزء وانه لا يتحقق
التجاوز عن محله الا بعد الفراغ من الوضوء.
وبالجملة: الموثقة صدرا وذيلا ظاهرة في اعتبار القاعدة، الا ان موضوعها -
وهو التجاوز - مقيد بنحو خاص في خصوص مورد الرواية وهو الوضوء. ولا
محذور في تقييد المورد، بل هو واقع، مثل تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه
في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر، مع ابقاء الكبرى على
شمولها لقبول خبر العادل بلا ضميمة خبر عدل آخر إليه في غير المورد.
وبهذا البيان يندفع ما ذكر من الاشكال على الموثقة.
وقد ذكر الاشكالات وبيان اندفاعها بهذا التقريب. ولا حاجة لنا ببيانه.
وما ذكره (قدس سره) من توجيه الرواية وان كان أمرا دقيقا وجيها في
نفسه، الا ان أرادته من مثل هذا التعبير لا يساعد عليه الذوق العرفي لأساليب
208

الكلام، وذلك لان لفظ الوضوء وان كان أقرب إلى الضمير من لفظ: " شئ "، لكن
المسوق له الكلام هو: " شئ "، والوضوء ملحوظ من متعلقات ما هو المسوق له
الكلام، وذلك يقتضي كون مرجع الضمير هو: " شئ "، لا الوضوء. مضافا إلى أن
تقييد مورد العام، أو المطلق بقيد واثبات حكم العام له بلسان ثبوت الحكم لسائر
افراد العام - كما لو قال: " أكرم زيدا العالم إذا كان عادلا " لوجوب اكرام العالم -
مستهجن عرفا وان رجع إلى اخذ الموضوع في المورد بنحو خاص، كما لا يخفى على
من له مرانة في كلام العرب.
واما ما ذكره بالنسبة إلى آية النبأ ففيه: ان مورد الآية لم يطرأ عليه تقييد، إذ
ليس المورد هو الموضوع الخارجي، بل موردها خبر الفاسق في الموضوع
الخارجي. والمفروض ان الآية نفت حجيته بلا تقييد.
والمتحصل: ان ما افاده الشيخ (قدس سره) في مدلول الرواية وتوجيهه بنحو
لا يرد عليه الاشكالات وان كان في نفسه متينا ولكنه احتمال لا دليل عليه. كما أن
ما ذكره المحقق العراقي وجيه لولا بعده عن الذوق العرفي.
فالأولى في حل اشكال معارضة الاجماع والنص ان يقال: (1) ان الضمير في

(1) ان ضمير " غيره " يرجع إلى الجزء المشكوك فيه، ولكن المراد بالشك فيه ليس الشك في
وجوده - كما هو ظاهره الأولى مثل الشك في صحته -، فتكون الرواية ناظرة إلى إهمال الشك في
صحة الجزء بعد الدخول في غيره، فلا تنافى بما دل على الاعتناء بالشك في وجود الجزء إذا كان
في أثناء الوضوء، كرواية زرارة المتقدمة، والقرينة على حمل الشك في الشئ في رواية ابن أبي
يعفور على الشك في الصحة هي الذيل الوارد مورد التطبيق، وذلك لان تجاوز الشئ لا يصدق
إذا لم يكن نفس الشئ موجودا. فقوله و " انما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه " ظاهر في المفروغية
عن تحقق الشئ، فيكون قرينة على كون المراد بالشك فيه هو الشك في صحته لا في وجوده،
وقد تقدم صحة إرادة الشك في الصحة من الشك في الشئ، وان كان خلاف الظهور الأول لكن
يحمل الكلام عليه مع القرينة.
ويمكن ان يحل الاشكال في الرواية بوجه آخر وهو ان يقال: بان المراد من ضمير: " غيره " هو
الوضوء والملحوظ في الرواية نفى الشك في الصحة لا في الوجود، بان يكون المراد بالشك في
الشئ ليس مدلوله المطابقي بل المدلول الالتزامي بنحو الكناية وهو الشك في الصحة، لان
الشك في وجود بعض الاجزاء يلازم الشك في صحة الوضوء، فتكون رواية ناظرة بصدرها
وذيلها إلى بيان جريان قاعدة الفراغ في الوضوء إذا كان الشك بعد الانتهاء عنه، وعدم جريانها
إذا كان الشك في الأثناء.
وبهذا البيان نتخلص عن اشكال تقييد المورد الذي تقع فيه إذا كان المنظور في الصدر
جريان قاعدة التجاوز. ولكن هذا الوجه انما نلتزم به ونرفع اليد عن الوجه الأول الذي هو
أقرب للظاهر إذا فرض ان رواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء تشمل
مطلق الشك الأعم من الشك في صحة الجزء أو وجوده، فتكون قرينة على التصرف في هذه
الرواية وحمل صدرها على إرادة الدخول في غير الوضوء واما لو فرض استظهار كون موردها
خصوص الشك في وجود الجزء - كما هو القريب - فلا وجه لرفع اليد عن التوجيه الأول وحمل
الرواية على بيان جريان قاعدة الفراغ في أثناء الوضوء مع الشك في صحة الجزء، فتدبر.
209

" غيره " وان كان بالظهور البدوي راجعا إلى الشئ المشكوك فيه، الا ان ارجاعه
إلى الوضوء بقرينة الاجماع والنص على عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء
الوضوء، وقرب المرجع لا يكون فيه مخالفة صريحة للظاهر، فإذا أرجع الضمير في:
" غيره " إلى الوضوء كان الصدر ظاهرا في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء
الوضوء، وان عدم الاعتناء بالشك انما يكون بعد الفراغ من الوضوء، وحينئذ يرتفع
التنافي بين الصدر وبين الاجماع والنص كما لا يخفى.
يبقى تطبيق الحصر في الذيل على الصدر، والأفضل ان يقال فيه: ما أشرنا
إليه سابقا في روايات الباب، وهو: ان الذيل ليس ظاهرا في ضرب قاعدة كلية بمفاد
قاعدة التجاوز - كما افاده العراقي - بل يمكن أن يكون لضرب قاعدة كلية بمفاد
قاعدة الفراغ، وذلك بقرينة اسناد التجاوز إلى نفس الشئ الظاهر في كون أصل
الشئ مفروغا عن وجوده والشك في صحته، وان كان الشك في الشئ ظاهرا بدوا
210

في الشك في أصل وجود الشئ، الا انه يحمل على الشك في الصحة بقرينة اسناد
التجاوز، وكونه تطبيقا على الصدر الذي عرفت أنه من موارد قاعدة الفراغ.
وحمل الذيل على ما أفاده الشيخ خلاف الظاهر، لأنه يستلزم أن يكون
متعلق الشك غير متعلق التجاوز، وهو خلاف ظاهر الكلام، كما أنه يلزم منه
التأويل المذكور للتخلص عما يرد عليه من الاشكال وهو مؤونة زائدة غير ظاهرة
من الكلام.
فالحاصل: ان الرواية أجنبية بالمرة عن جريان قاعدة التجاوز في اجزاء
الوضوء بل هي متكفلة صدرا وذيلا لبيان جريان قاعدة الفراغ فيه، فلا منافاة بينها
وبين الاجماع والنص فالتفت.
ثم إنه لا وجه لالحاق الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة
التجاوز بعد اختصاص الاجماع والنص بالوضوء، لشمول مطلقات القاعدة لهما بلا
مخصص ومقيد. فتدبر (1).

(1) قد عرفت عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء. فهل تجرى قاعدة الفراغ فيها مع
الشك في صحتها أولا؟. فمثلا إذا دخل في غسل اليد اليسرى وشك في صحة غسل اليمنى أو
الوجه لفقد بعض شرائطه، فهل تجري قاعدة الفراغ لاثبات صحة الغسل أو لا؟.
ولا يخفى ان البحث. في ذلك بعد الفراغ عن جريان القاعدة في الشك في صحة الجزء بعد
الفراغ منه بقول مطلق وفى سائر المركبات.
والتحقيق: ان مقتضى العموم كقوله (عليه السلام): " كل شئ شككت فيه مما قد مضى
فامضه كما هو " هو جريان القاعدة في الوضوء. وانما الشبهة من جهة رواية زرارة الآنفة الذكر
الدالة على الاعتناء بالشك في الأثناء. لكن عرفت انها ظاهرة في كون موضوعها خصوص
الشك في وجود الجزء فلا تشمل الشك في صحة الجزء المشكوك.
هذا وقد استثنى السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من ذلك ما إذا كان الشك فيما سماه
الله سبحانه في كتابه كما لو شك في الغسل بالماء المطلق أو المضاف، فإنه لا تجري قاعدة الفراغ في
الجزء المشكوك لكون الشك فيما سماه الله كما يظهر من قوله: " فاغسلوا وجوهكم... " بضميمة " فان لم تجدوا ماء "، وإذا كان الشك فيما سماه الله سبحانه كان مشمولا لرواية زرارة الدالة على
الاعتناء بالشك فيه.
وما ذكره حفظه الله تعالى لا يخلو عن كلام وذلك: لان المستفاد من رواية زرارة ان كان
الاعتناء بالشك في خصوص وجود الاجزاء غسلا أو مسحا بحيث كان قوله (عليه السلام) فيها:
" مما سماه الله... " قيدا توضيحيا، لان جميع الغسلات والمسحات مما ذكرت في الكتاب الكريم،
فلا نظر للرواية حينئذ إلى الشك في مثل الغسل بالماء أو من الأعلى أو غير ذلك مما يرتبط بصحة
الجزء.
وان كان المستفاد منها هو الاعتناء بالشك في كل ما يرتبط بالوضوء من اجزاء وشرائط
بقول مطلق، فيكون قوله (عليه السلام) " مما سماه الله " قيدا احترازيا.
ومن الواضح ان مقتضاها حينئذ تخصيص قاعدة الفراغ أيضا فلا تشمل مورد الشك في
أثناء الوضوء، لكن لا يخفى ان التقييد بما سماه الله كما يستلزم طرح قاعدة الفراغ في اجزاء
الوضوء في خصوص ما إذا رجع الشك فيه إلى الشك فيما سماه الله كذلك يستلزم تقييد إلغاء
قاعدة التجاوز في خصوص ذلك المورد، فالالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء
الوضوء وشرائطه بقول مطلق، وتخصيص عدم جريان قاعدة الفراغ بخصوص ما إذا رجع الشك
إلى الشك فيما سماه الله ليس بصحيح. فما افاده لا يخلو عن اشكال، وبعبارة أوضح نقول: ان القدر
المتيقن من الرواية هو نظرها إلى إلغاء قاعدة التجاوز في الوضوء بلا اشكال لدى الكل، وعليه
فيكون التقييد المزبور راجعا إلى تقييد إلغاء قاعدة التجاوز لا خصوص قاعدة الفراغ. فانتبه.
ثم انك قد عرفت أن الرواية تختص بالشك في خصوص وجود الغسلات والمسحات ولا نظر
لها إلى غير ذلك. وعليه فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بقول مطلق. فتدبر.
(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 481 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 306 - الطبعة الأولى.
211

الجهة الثانية عشرة: هل يختص جريان قاعدة الفراغ بصورة الشك في الغفلة
والذكر حال العمل أو يعم صورة ما إذا علم بالغفلة ولكنه احتمل الاتيان
بالمشكوك من باب الاتفاق؟.
التزم المحق النائيني (1). بالتعميم لعموم الأدلة. وخالفه السيد الخوئي (2)،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 481 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 306 - الطبعة الأولى.
212

فالتزم بالتخصيص، بمقتضى التعليل المذكور في الرواية، ولكون مرجع القاعدة إلى
أصالة عدم الغفلة، وهي انما تجرى مع الشك في الغفلة، اما مع العلم بها فلا وجه
لجريانها.
والتحقيق ان يقال: ان القاعدة ان كانت من الأصول التعبدية، فمقتضى عموم
دليلها هو تعميم جريانها للصورتين لتحقق موضوعها وهو الشك في الصحة.
وان (1) كانت من الامارات، فالامر يختلف باختلاف ملاك الا مارية، فقد ذكر لها
ملاكات ثلاثة: الأول: ما ذكره المحقق النائيني، وهو الملازمة النوعية بين الإرادة المتعلقة
بالمركب والاتيان بالجزء فان إرادة المركب هي المحركة لكل واحد من الاجزاء في
محله وان كان الجزء حال الاتيان به مغفولا عنه الا ان الاتيان به ناش عن الإرادة
الاجمالية الارتكازية ولا يحتاج إلى تعلق الإرادة التفصيلية به (2).
الثاني: ان العاقل إذا أراد الاتيان بعمل ما فمقتضى القاعدة عدم غفلته عن
الاتيان بخصوصياته واجزائه، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى أصالة عدم الغفلة.
الثالث: ان العاقل إذا اعتاد على عمل ما، وأراد الاتيان به فهو بمقتضى طبعه
وعادته لا يترك اجزاء العمل وخصوصياته.

(1) تحقيق الحال في ذلك باجمال: ان ما ذكر لكون قاعدة الفراغ امارة وجه استحسانية لا
دليل عليها، مع أن الأول يرتبط بقاعدة التجاوز ولا يشمل قاعدة الفراغ، لان من مواردها
المتيقنة مورد احتمال الغفلة من حين العمل، ولا يتأتى فيه الملاك المزبور.
واما استفادة الا مارية من التعليل المذكور في رواية الوضوء، وهو قوله (عليه السلام): " وهو
حين يتوضأ اذكر من حين يشك " فسيأتي الكلام فيه وبيان اختصاصه بصورة خاصة، فلا يصلح
لتقييد المطلقات.
اذن، فالعمل على طبق مطلقات الباب الشاملة لصورة العلم بالغفلة متعين.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 463 - الطبعة الأولى.
213

فعلى الملاك الأول، يختص جريان القاعدة بصورة العلم بتحقق الالتفات أول
العمل المركب وان احتمل تبدله إلى الغفلة في الأثناء، إذ مع عدم العلم بالالتفات لا
يحرز تحقق ملاك جريان القاعدة، وهو الملازمة بين إرادة المركب والاتيان بالجزء، إذ
لا يعلم بتحقق الإرادة للمركب.
وعلى الملاك الثاني: تشمل القاعدة صورة الشك في الغفلة والذكر من أول
العمل لأصالة عدم الغفلة من العاقل عن خصوصيات العمل الذي يشرع فيه.
ولكنها لا تشمل صورة العلم بالغفلة وان احتمل تبدلها إلى الذكر في الأثناء
لمزاحمة استصحاب الغفلة لهذا الأصل العقلائي في أماريته وكشفه.
وعلى الملاك الثالث: فالقاعدة تشمل جميع الصور حتى صورة العلم بالغفلة
واستمرارها إلى ما بعد محل المشكوك فيه، لثبوت الملاك في هذه الصورة - وهو
اقتضاء الطبع والعادة للاتيان بالجزء وان كان مغفولا عنه بالمرة - نعم، يستثنى منها
صورة ما إذا كانت الغفلة عن الجزء أو الشرط ناشئة عن الجهل بحكمه فان العادة لا
تقتضي بالاتيان به لعدم تحققها بالنسبة إليه، كما لو لم يكن يعلم بوجوب السورة ولم
يكن يخطر على باله وجوبها وشك بعد الاتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة ولم
يكن يخطر على باله وجوبها وشك بعد الاتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة أو
بدونها.
فالمتحصل ان الصور أربع:
الأولى: العلم بتحقق الالتفات حال العمل والشك في تبدله في الأثناء إلى
الغفلة.
الثانية: الشك في تحقق الغفلة أو الذكر حال العمل.
الثالثة: العلم بالغفلة حال العمل والشك في تبدله إلى الالتفات في الأثناء،
الرابعة: العلم بالغفلة واستمرارها.
فالقاعدة بالملاك الأول تجرى في خصوص الصورة الأولى.
وبالملاك الثاني تجرى في الصورتين الأولتين.
214

وبالملاك الثالث تجرى في جميع الصور الا ما عرفت استثناءه من الصورة
الأخيرة.
وقد يستدل على جريان قاعدة الفراغ في صورة العلم بالغفلة عن المشكوك
فيه برواية الحسين بن أبي العلا: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الخاتم إذا
اغتسلت؟ قال: حوله من مكانه. وقال: في الوضوء تدره فان نسيت حتى تقوم في
الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة " (1)، فإنها تدل على عدم الاعتناء بالشك في
وصول الماء إلى البشرة بعد الفراغ مع العلم بالغفلة عن ذلك وعدم الالتفات إليه
لنسيان تحريك أو تحويل الخاتم.
وقد نوقش الاستدلال به: بان الظاهر من الخبر ان التحويل والإدارة
مطلوبان في أنفسهما لا باعتبار وصول الماء إلى البشرة المخفية بالخاتم، إذ لا وجه
لذكر التحويل في الغسل والإدارة في الوضوء لو كانا مطلوبين لايصال الماء لكفاية
العكس في ذلك، بل كل منهما كاف في ذلك في الوضوء والغسل. فهذا التفريق بينهما
شاهد في مطلوبيتهما في أنفسهما، غاية الامر علم من الخارج عدم وجوبهما، بل نفس
الخبر يدل على ذلك لقوله: " فان نسيت فلا آمرك ان تعيد الصلاة "، فإنه يدل على أنهما
ليسا شرطين لصحة الغسل والوضوء، بل هما امران راجحان فيهما. وعلى كل
فالخبر أجنبي عن المدعى.
ولكن هذه المناقشة لا تخلو من اشكال، فإنه مما لا يخفى على من له أدنى
ذوق ان سؤال السائل عن الخاتم في الغسل ليس إلا لما يترتب عليه من منع
لوصول الماء أو شك في ذلك، اما السؤال عن الخاتم لاحتمال خصوصية فيه فهذا بعيد
عن ظاهر السؤال. فتوجيه الجواب بما ذكر بعيد عن ظاهر السؤال.
فالتحقيق في الاشكال على الاستدلال بهذه الرواية، ان يقال: ان طريق العلم

(1) وسائل الشيعة 1 / 329، باب 41 من أبواب الوضوء، الحديث: 2.
215

بوصول الماء إلى البشرة تحت الخاتم وعدمه موجود غالبا، وذلك بملاحظة الخاتم
من ناحية الضيق والسعة، ولو وصل إليه الماء فهو بغير الشرط الشرعي من
الترتيب، فلا بد من حمل الرواية على صورة العلم بعدم وصول الماء - لا الشك فيه
لعدم تحققه غالبا - فيكون غرض الإمام (عليه السلام) هو الامر بايصال الماء
ولزوم غسل ما تحت الخاتم، والإدارة والنزع طريقان إليه والاختلاف بينهما تفنن في
التعبير لا لخصوصية فيهما والإشارة إلى كفايتهما معا. ثم ما ذكره من عدم الامر
بالإعادة عند النسيان يحمل على العفو عن عدم وصول الماء إلى بعض البشرة في
صحة الصلاة بعد فراغها ويكون مقيدا لحديث: " لا تعاد " ان التزمنا بشموله لصورة
الاخلال بغسل بعض البشرة، ولم نقل بظهوره في الاختصاص بصورة ترك أصل
الطهارة ولا يشمل صورة الاخلال بها.
الجهة الثالثة عشرة: في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة
العمل محفوظة.
وتوضيح الحال: ان الشك في الصحة تارة: يكون ناشئا عن الشك في امر
اختياري للمكلف، كالاتيان بالجزء أو الشرط. وأخرى: يكون ناشئا عن الشك في
امر غير اختياري له، كما لو صلى إلى جهة معينة، ثم يشك في أن هذه الجهة هي
القبلة أو لا؟ فان كون هذه الجهة هي القبلة ليس بامر اختياري للمكلف. ويعبر
عن هذه الصورة بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.
فالقسم الأول، هو القدر المتيقن من موارد قاعدة الفراغ.
واما القسم الثاني، فهو محل الكلام..
وقد اختار المحقق النائيني عدم جريان القاعدة فيه، لان الأدلة انما تشمل
صورة الشك في انطباق المأتي به على المأمور به. إما صورة الشك في انطباق المأمور
216

به على المأتي به - كما فيما نحن فيه - فلا تشمله الأدلة (1).
ولم يذكر وجه عدم شمول الأدلة له.
ولا يخلو الحال في الوجه فيه عن أحد أمور ثلاثة:
اما اجمال الأدلة فيقتصر فيها على القدر المتيقن، وهو غير هذه الصورة.
واما انصرافها إلى غير هذه الصورة.
واما دعوى: ان سياق الكلام يدل على أن مورد القاعدة ما إذا كان الشك
راجعا إلى العمل بحيث يكون محله العمل لا أن يكون المشكوك فيه امرا خارجا
عنه وان ارتبط به.
والأول: لا يعترف به (قدس سره)، إذ لا يقول باجمال الأدلة.
و الثاني: ممنوع في نفسه، مضافا إلى أنه لا يقول بالانصراف الا في موارد
خاصة - وهي موارد التشكيك في الصدق - ليس ما نحن فيه منها.
والثالث: لا يخلو عن المغالطة، لان الشك وان تعلق أولا، وبالذات بالأمر
الخارج عن العمل، لكنه يسبب الشك في صحة العمل باعتبار تحقق الشرط
بالموجود، فيكون موردا للقاعدة.
وبهذا البيان يندفع ما يظهر منه (قدس سره) من: ان الشك ههنا راجع إلى
وجود الامر، ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الامتثال. ووجه اندفاعه: ان أصل
وجود الامر لا شك فيه، إذ لا شك في شرطية الاستقبال، وانما يشك في موافقة ما
أتى به لما هو المأمور به، وهو مجرى القاعدة.
فالتحقيق ان يقال: ان بنى على أصلية القاعدة، فالقول بجريانها في هذه
الصورة متعين، لاطلاق الأدلة، ولا دليل يعتد به على التخصيص، الا ان يدعى
انصرافها إلى ما إذا كان الشك في الموافقة وعدمها إلى ما يرجع إلى اختياره بحيث

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 482 - الطبعة الأولى.
217

يكون عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ناشئة عن تركه الاختياري، لا عن امر
آخر، فتأمل.
وان بنى على الأمارية بمقتضى التعليل بالأذكرية، أو بغيره من الملاكات، فلا
وجه لجريانها، لان الأذكرية انما هي بالنسبة إلى ما يمكن صدوره منه وتحققه
باختياره، اما بالنسبة إلى ما هو خارج عن اختياره فلا يتحقق ملاك الأذكرية، إذ
الشك في الصورة لا يرجع إلى الغفلة وعدم الالتفات ولا يرتبط بها أصلا، إذ هو
حاصل حتى مع العلم بالاتجاه إلى هذه الجهة والالتفات إليه. فتدبر.
الجهة الرابعة عشرة: فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية،
كما لو صلى وشك في أن صلاته كانت مع السورة أو بدونها مع الجهل بوجوب
السورة.
وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره): ان الشك تارة: يكون في مطابقة عمله
لفتوى مجتهده الذي تحقق منه تقليده. وأخرى: يكون في مطابقة عمله للمأمور به
الواقعي مع عدم تحقق تقليد منه.
ففي الشق الأول تجرى القاعدة، لكون الشك في مطابقة المأتي به للمأمور به
المعين، فيكون كالشبهة الموضوعية.
واما الشق الثاني، فلا تجرى فيه القاعدة، لان التكاليف الواقعية تكون
منجزة بواسطة العلم الاجمالي، فيجب الخروج عن عهدته اما باحراز اتيانه أو
باتيان بدله الظاهري، كما في صورة الانحلال بالتقليد. وقاعدة الفراغ لا تثبت
انطباق الامر الواقعي المجهول على المأتي به (1).
وما افاده في كلا الشقين ممنوع..
اما الشقق الأول، فلا بد من التفصيل بين الا مارية والأصلية، فتجرى على

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 481 - الطبعة الأولى.
218

الثاني دون الأول، لعدم تحقق ملاكها مع الجهل بالحكم حال العمل كما تقدم.
مع أنه ما ذكره من كونه من الشبهة الحكمية عجيب، لأنه بعد تقليده تعين
لديه المأمور به وانه مع السورة - مثلا - فالشك يرجع حينئذ إلى أنه جاء بالمأمور
به أولا وهذا شك في الموضوع كما لا يخفى. نعم قبل التقليد كان جاهلا حكما الا
انه في حال اجراء القاعدة بعد التقليد يرتفع جهله الحكمي فالشق المذكور من
صور الشبهة الموضوعية.
واما الشق الثاني فما ذكره من عدم انحلال العلم الاجمالي وتنجزه ان كان
تمهيدا لبيان عدم جريان القاعدة فلا كلام فيه واما ان كان تتمة للاستدلال على
عدم جريانها فلا يعرف له وجه لان قاعدة الفراغ مؤمنة في صورة العلم التفصيلي
بالتكليف، فضلا عن صورة العلم الاجمالي، فلا فرق في الانحلال بين التقليد وعدمه
الجهة الخامسة عشرة: هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ أن يكون الشك
حادثا بعد العمل أو لا فتجرى ولو كان الشك قد حدث في الأثناء؟
التحقيق هو الأول
اما على القول بان القاعدة امارة فواضح لأنه إذا فرض ان الشك كان في
أثناء العمل فلا تتحقق أذكريته بل لا معنى لها إذ حاله قبل الفراغ كحاله بعد
الفراغ لأنه شاك في الحالين.
واما على القول بأنها أصل، فلظهور الروايات في كون موضوع الالغاء هو
الشك المتعلق حدوثا بالعمل الماضي المفروغ عنه لا الشك الحادث قبل الفراغ
المستمر إلى ما بعد الفراغ كما لا يخفى (1).

(1) وقد تعرض بعض الاعلام في هذا المبحث إلى فرع تقدم تحقق الكلام فيه في أوائل
الاستصحاب وهو ما إذا شك الانسان قبل صلاته في الطهارة والحدث وكانت حالته السابقة هي
الحدث فاستصحبه ثم غفل وصلى وبعد صلاته تنبه وحصل له الشك في صحة صلاته لاحتمال
الطهارة واقعا.
ولهذا الفرع صورتان أحدهما ان يعلم بأنه لم يتوضأ بعد الاستصحاب وانما يتمحض احتمال
الصحة باحتمال الطهارة الواقعية والأخرى ان يحتمل انه توضأ بعد الاستصحاب كما يحتمل أن يكون
غفل وصلى بدون وضوء رافع للحدث الثابت بالاستصحاب.
وقد التزم المحقق النائيني بجريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية دون الأولى ووجه جريانها
بان حكم استصحاب الحدث لا يزيد على حكم اليقين الوجداني به ولا شك انه مع اليقين
بالحدث قبل الصلاة ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ ثم صلى أو غفل وصلى تجري في حقه قاعدة.
الفراغ فكذلك ما إذا كان مستصحب الحدث.
واما عدم جريانها في الصورة الأولى فلأجل الاستصحاب الجاري قبل العمل وعدم احتمال
انتقاضه وقاعدة الفراغ ناظرة إلى الاستصحاب الجاري بعد العمل بلحاظ الشك الحاصل بعد
العمل ولا نظر لها إلى الاستصحاب الجاري قبل العمل بلحاظ الشك الحاصل قبل العمل
وقد ناقشه المحقق العراقي بأنه لا وجه للتفكيك بين الصورتين فان القاعدة لا تجرى في كلتا
الصورتين وذلك لان المعتبر في القاعدة أن لا يكون الشك في الصحة مسبوقا بشك آخر قبل
العمل من سنخه أو غير سنخه. وبما أن الشك في كلتا الصورتين مسبوق بشك آخر قبل العمل لم
يكن من موارد القاعدة.
كما أنه ناقش ما افاده في الصورة الأولى من عدم حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب
الجاري قبل العمل بان الاستصحاب بما أنه حكم مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير فلا يجرى الا
مع الالتفات اما مع الغفلة كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا مجال لتأثيره لامتناع التنجيز في حق
الغافل اذن فلا استصحاب أثناء العمل كي يكون مقدما على قاعدة الفراغ.
أقول قد تقدم منا تقريب جريان استصحاب الحدث مع الغفلة ببيان ان الاستصحاب انما
يتكفل التنجيز في الأحكام التكليفية دون الوضعية كالحدث والطهارة والملكية والزوجية ونحو
ذلك فلا مانع من جريانه مع الغفلة فكما أن وجودها الواقعي لا يرتفع بالغفلة كذلك وجودها
الظاهري ولذا تترتب آثار الملكية ونحوها من الأحكام الوضعية مع الغفلة عنها.
واما ما افاده في مناقشة جريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية من عدم جريان قاعدة
الفراغ في الشك المسبوق بشك آخر من سنخه أو من غير سنخه.
فيمكن التأمل فيه بان أصل الكبرى التي فرضها وان كانت لا تخلو عن قرب بعد حملها على
أن يكون المراد من إرادة الشك غير المسانخ ما له نحو ارتباط بالشك في الصحة لا مطلق الشك
غير المسانخ ولو كان أجنبيا بالمرة عن الشك في الصحة إذ لا وجه له محصل.
ووجه قرب ذلك أن الشك في الصحة وان كان حادثا بعد العمل الا ان المرفوع بقاعدة
الفراغ هو الشك في أداء الوظيفة والخروج عن العهدة ومع وجود الشك السابق لا يرجع الشك
في الصحة إلى الشك في أداء الوظيفة لان الشك السابق معين لوظيفة خاصة على المكلف
والمعلوم عدم أدائها.
لكن الاشكال في تطبيقها على ما نحن فيه فإنها تختص بما إذا كان الشك السابق حادثا حين
العمل لا ما إذا كان قبل العمل بمدة واحتمل الالتفات حال العمل، والعمل بما هو مقتضى وظيفة
الشاك من الوضوء ورفع الحدث الاستصحابي فان أداء الوظيفة مشكوك في هذا الحال لا معلوم
العدم فلا مانع من جريان القاعدة.
وعلى هذا فالتفصيل بين الصورتين كما افاده المحقق النائيني وجيه. فتدبر
ثم إن المحقق العراقي تعرض إلى البحث في جهتين أخرتين:
الجهة الأولى في أن المضي على المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز رخصة أو عزيمة وقد
ذهب (قدس سره) إلى أنه عزيمة فلا يجوز الاتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع ويكون الاتيان
به من الزيادة العمدية بالنسبة إلى المشكوك والغير الذي دخل فيه وذلك يوجب البطلان
واستند في ذلك إلى ظهور الامر بالمضي في اخبار الباب وقوله (عليه السلام): " بلى قد ركعت " في
وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه في محله فلا يشرع الاحتياط لعدم الموضوع له
بعد حكم الشارع بوجود المشكوك هذا ما افاده (قدس سره).
ويمكن المناقشة في استدلاله وما رتبه من الأثر على مدعاه.
اما استدلاله فلانه من الواضح ان قوله (عليه السلام) " بلى قد ركعت " لا يراد به الاخبار
عن تحقق الركوع واقعا، وانما هو تعبد ظاهري بتحقق الركوع ومن البين ان الحكم الظاهري لا
يمنع من الاحتياط فيما نحن فيه لأنه مسوق مساق التأمين والتعذير فهو رخصة لا عزيمة.
واما الامر بالمضي فهو امر واقع مورد توهم الحظر يعنى حظر المضي ولزوم العود واتيان
المشكوك فلا يفيد سوى عدم الحظر وعد لزوم المضي وحرمة العود فالتفت
واما ما رتبه من الثمرة وهو ان الاتيان بالمشكوك يكون من الزيادة العمدية فيرد عليه: انه
لا يتم في الاجزاء التي يتقوم صدق زيادتها باتيانها بقصد الجزئية كالقراءة والتشهد ونحو ذلك،
إذ بالاتيان بها رجاء لا تصدق الزيادة لعدم قصد الجزئية.
نعم في مثل السجود والركوع بناء على القول بتحقق زيادتهما بمجرد الاتيان بهما بذاتهما ولو
لم يقصد بهما الجزئية يتأتى ما ذكره. مع امكان الرجوع إلى أصالة عدم زيادة الركوع في نفى
عروض المبطل على الصلاة الواقعية. فتأمل.
الجهة الثانية في أنه إذا دار امر الجزء الفائت بين ما يستلزم فواته البطلان كالركن وما لا
يستلزم فواته البطلان كغير الركن فهل تجرى قاعدة التجاوز في كلا الجزءين وتسقط بالمعارضة
أو لا؟ كما لو علم اجمالا بفوات الركوع منه أو التشهد فإنه قد يقال ان كلا من الركوع والتشهد
مجرى القاعدة ومقتضى ذلك التساقط لكنه " قدس سره " ذهب إلى عدم جريان القاعدة في
مثل التشهد وذلك لأنه يعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون المشكوك على تقدير وجوده واقعا مما
يجزم بأنه مأتي به على طبق امره فلو لم يكن المشكوك كذلك لم تجر القاعدة لعدم ترتب اثر
عملي على التعبد بالمضي عليه وما نحن فيه كذلك لان وجود التشهد ملازم لفوت الركوع وهو
مستلزم لبطلان صلاته فلا يترتب على وجوده اثر علمي حتى يثبت بالقاعدة.
وببيان آخر يقال إنه في الفرض يعلم تفصيا بعدم الاتيان بالتشهد موافقا لامره اما لعدم
الاتيان به رأسا واما للاتيان به في صلاة باطلة. ومع العلم التفصيلي المزبور لا مجال لجريان
القاعدة فيه فتكون قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض.
وقد تلقي ما افاده بالقبول وطبق في فروع متعددة من فروع العلم الاجمالي في العروة الوثقى
وهو بيان علمي رصين، لكنه لا يخلو عن مناقشة وذلك: لان قاعدة التجاوز اما أن يكون
مفادها الصحة الفعلية للصلاة بحيث يكون مقتضى جريانها اثبات الامر بغير المشكوك فيكون
العمل المأتي به موافقا للامر واما أن يكون مفادها الصحة من جهة المشكوك خاصة فهي تتكفل
التامين من ناحية المشكوك من دون اثبات امر ظاهري آخر غير الامر بالمقام.
فعلى الأول لا يمكن اجراء القاعدة مع تعدد الجزء المشكوك ركنا كان أم غير ركن لان
اجراءها في كل واحد منهما يقتضى إفادة الصحة الفعلية واثبات امر ظاهري بغير المشكوك وهذا
يمتنع مع فرض الشك في اتيان الجزء الاخر المستلزم للشك في الصحة، وليس لدينا قاعدة
واحدة تجرى في كلا الجزئين المشكوكين معا، لان كل جزء مشكوك موضوع مستقل لعموم دليل
القاعدة.
وعلى الثاني: فلا مانع من جريان القاعدة في التشهد في نفسه لعدم العلم بتركه والمفروض
انهما تتكفل التامين من ناحية عدم الاتيان به خاصة وهو غير معلوم، فلا يتجه ما ذكره من
العلم بعدم امتثال امره اما لتركه أو لترك الركن الموجب للبطلان، فإنه يتم لو فرض تكفل
القاعدة للتأمين الفعلي لا التامين من جهة كما هو الفرض.
نعم، يبقى اشكال اللغوية وان التامين من ناحية التشهد لا اثر له مع عدم صحة العمل.
ويندفع: بان قاعدة التجاوز الجارية في الركوع تثبت الصحة وتنفى البطلان. فلا يكون
جريانها في التشهد بلا اثر ولغوا.
نعم، لمكان العلم الاجمالي تتحقق المعارضة بين القاعدتين، وبعبارة أخرى: يكفى في رفع
اللغوية ترتب المعارضة على جريانها لان اللغوية ترتفع بأدنى اثر. ولا وجه لطرح قاعدة
التجاوز في التشهد خاصة. فتدبر والله سبحانه العالم.
219

الجهة السادسة عشرة: في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك
احتمال عدم صدور الامر من المولى، كما لو صلى ثم شك في دخول وقتها حين
الاتيان بها وعدمه، فان الشك في الصحة ههنا ناشئ عن الشك في تعلق الامر
بالصلاة. وكما لو اغتسل للجنابة ثم شك في أنه كان جنبا فيصح غسله أو لا؟.
وقد ذكر السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - انه لا اشكال في عدم
جريان قاعدة الفراغ، لان قاعدة الفراغ امارة على وقوع الفعل من المكلف باجزائه
وشرائطه، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى ما هو من فعل المولى وصدور الامر منه.
ويدل عليه ما ورد من التعليل بالأذكرية، فإنه من المعلوم ان كونه اذكر حال العمل
223

بالنسبة إلى ما يصدر منه من الاعمال دون ما هو من أفعال المولى (1).
ولكن التحقيق ان هذا التقريب لعدم الجريان غير واف فيه، فان الشك في كلا
المثالين يرجع إلى ما هو من أفعال المكلف، فالتعليل بالأذكرية يشمله بلا
توقف.
اما مثال الصلاة، فلأن صحة صحة الصلاة لا تدور مدار تعلق الامر بها فعلا، كما
يدل على ذلك صحة صلاة الصبى بعد دخول الوقت وقبل بلوغه لو بلغ في أثناء
الوقت، مع أنه لم يكن مأمورا بها فريضة. بتقريب: ظهور دليل وجوب الصلاة كون
المقصود تحققها بشرائطها المعتبرة فيها، فلا يشمل الدليل من تحققت منه الطبيعة التي
تكون متعلقا للامر ولو كان ذلك بلا امر، بل المدار هو تحقق ما هو قابل في نفسه
لتعلق الامر به - وبعبارة أخرى: تحقق فرد الطبيعة التي تعلق بها الامر وإن لم يشمل
الامر هذا الفرد - وهو الصلاة بشرائطها ومنها الوقت. فالشك يرجع إلى الشك في
كون الصلاة في الوقت أو لا، وهذا من أفعال المكلف، وان لازم الشك في صدور
الامر من المولى. فالمورد مشمول للتعليل كما هو ظاهر.
نعم، ههنا شئ وهو ان الظاهر من لسان أدلة قاعدة الفراغ والغاء الشك في
العمل بعد مضيه، ان الالغاء يكون في مقام لولاه لوقع المكلف في كلفة الإعادة، فهي
بلسان رفع الكلفة. اما في غير هذه الصورة فلا تجرى القاعدة ولا يتحقق الالغاء.
وعلى هذا فلا بد اتباع السيد الطباطبائي " قدس سره " (2) في التفصيل فيما
نحن فيه بين ما إذا كان الشاك في صحة الصلاة للشك في دخول الوقت جازما
بدخول الوقت حال الشك فتجرى القاعدة. وما إذا لم يكن جازما بدخول الوقت
حال الشك، بل كان شاكا أيضا، فلا تجرى القاعدة. اما جريانها في الأول، فلانه مع

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 308 - الطبعة الأولى.
(2) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى / المسالة الخامسة في احكام الأوقات.
224

عدم الحكم بإلغاء الشك يكون المكلف مأمورا بالصلاة حال الشك لدخول الوقت،
فيقع في كلفة الإعادة، وهذا مما تنفيه أدلة القاعدة.
واما عدم جريانها في الثاني، فلانه لو لم يحكم بصحة الصلاة لا يقع المكلف
في الكلفة لفرض الشك فعلا بدخول الوقت الملازم للشك في صدور الامر،
وبمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت يثبت عدم الامر تعبدا، فيكون هذا المورد
خارجا عن الأدلة في نفسه.
واما مثال الغسل، فلان الشك فيه شك فيما يرجع إلى المكلف، وهو الكون
جنبا، فهو مشمول للتعليل بالأذكرية، فيكون من موارد القاعدة في نفسه. لكن
المشهور والمسلم عدم جريانها فيه.
ولعل السر فيه ما يقال من: ان عدم وجوب الوضوء لا يترتب على
صحة الغسل، بمعنى ان صحة الغسل موضوع لعدم وجوب الوضوء، حتى يكون
اجراء قاعدة الفراغ في الغسل ذا اثر شرعي وهو رفع وجوب الوضوء وجواز
الدخول في الصلاة بدونه، لان وجوبه يترتب على امرين - بنحو الجمع - وهما:
تحقق الحدث الأصغر، وعدم الكون جنبا، فمع تحققهما يجب الوضوء.
ولا يخفى انه بجريان القاعدة في الغسل مع الشك في أصل الجنابة لا يثبت
تحقق الجنابة كي ينتفى موضوع وجوب الوضوء، فإنه أجنبي عن مفاد القاعدة،
فباستصحاب عدم الجنابة يثبت موضوع وجوب الوضوء، فلا يجدي اثبات صحة
الغسل في رفع كلفة الوضوء، فتبقى القاعدة بلا اثر، فلا يتجه جريانها من جهة عدم
الأثر.
الجهة السابعة عشرة: في كون القاعدة من الأصول أو الامارات.
وقد ذكرنا أنه قد ذكر للأمارية ملاكات ثلاثة:
أحدها: ما ذكره المحقق النائيني من الملازمة النوعية بين إرادة المركب
225

والاتيان بالجزء في محله ولو مع الغفلة حال الجزء (1).
والثاني: ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من كون الاتيان بالاجزاء والشرائط
امرا بمقتضى العادة والطبع المستند إليها (2).
والثالث: ما قرره السيد الخوئي، من الأصل في العاقل القاصد للاتيان
بالمركب عدم الغفلة عن الاتيان باجزائه وشرائطه (3).
وكل من هذه الملاكات غير صالح لاعتبار قاعدة الفراغ من باب الا مارية
والكشف..
اما الأول: فلعدم ثبوت الملازمة النوعية بين إرادة المركب والاتيان بالجزء في
ظرفه ولو مع الغفلة - بلا استناد إلى العادة - الا في صورة كون الاجزاء من سنخ
واحد كالمشي والقراءة المتكررة ونحوهما. اما ما كانت الاجزاء فيها ليست من سنخ
واحد بل متغايرة، فالملازمة مع الغفلة لا تثبت الا مع الاعتياد، بحيث يكون الاتيان
به مستندا إلى العادة لا إلى الملازمة.
واما الثاني: فهو مختص بصورة الاعتياد على العمل، فلا ينبغي - مع اعتبار
القاعدة بلحاظه - ان تجرى في صورة عدم الاعتياد، ككثير من المعاملات وبعض
العبادات كالحج لغير المعتاد وكالصلاة في أول الاسلام أو التكليف إذا لم يسبق منه
الاعتياد على الصلاة.
واما الثالث: فهو يقتضى إلغاء قاعدة الفراغ بالمرة، لان أصالة عدم الغفلة من
الأصول العقلائية المسلمة فاعتبار القاعدة بلحاظه لا يكون الا امضاء للعمل به لا
تأسيسا لقاعدة مستقلة.
مضافا إلى أنه لم يعلم من حال العقلاء العمل بهذا الأصل في عمل الشخص

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 463 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 305 - الطبعة الأولى.
(3) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 262 - الطبعة الأولى.
226

نفسه بل المتيقن هو العمل به في عمل الغير، فلا يصلح للملاكية لظهور كون موارد
القاعدة عمل الشخص نفسه. فتدبر جيدا.
فالمتحصل: ان شيئا من هذه الملاكات لا يصلح ملاكا لأمارية قاعدة الفراغ.
يبقى الكلام في التعليل بالأذكرية الوارد في بعض الروايات وهو قوله " عليه
السلام ": هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ".
وهو يحتمل معان ثلاثة:
الأول: التعبد بالواقع من باب غلبة الذكر نوعا.
الثاني: التعبد بالذكر الشخصي من باب غلبة الذكر النوعي، فيثبت الواقع
بالملازمة.
الثالث: التعبد بالذكر الشخصي رأسا بلا لحاظ شئ فيه، فيثبت الواقع
بذلك.
فمع حمل التعليل على الوجه الأول يكون شاملا لصورة العلم بالغفلة
الشخصية. بخلاف ما إذا حمل على الوجهين الأخيرين، فإنه لا يكون شاملا لهذه
الصورة، إذ يمتنع التعبد بالذكر الشخصي مع العلم بالغفلة.
والظاهر منه هو الوجه الأخير، فإنه " عليه السلام " يسند الأذكرية إلى نفس
الشاك بلا تعليل بشئ من غلبة الذكر نوعا ونحوه.
ثم إنه لا يخفى ان الالتفات والذكر غير قابل للتفضيل مع اتحاد موضوعه، فان
الشخص اما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت، فالتفاضل في الالتفات والذكر لا
يكون الا بنحو المسامحة.
وعليه، فلا بد من أن يكون التفضيل المسند إلى الذكر بلحاظ موجباته،
فيكون المراد ان موجبات الذكر في حال العمل أكثر منها في حال الشك، وانما جعل
التفضيل في نفس الذكر تسامحا وتجوزا.
ثم إن المشهور في معنى التعليل: ان المكلف في حال العمل اذكر منه في حال
227

الشك، فهو يأتي بالعمل في محله وظرفه لالتفاته إليه.
ولكن الوجه المذكور أجنبي عن مدلول الكلام، لان الشاك ملتفت إلى نفس
الجزء في حال شكه، فليس هو في حال العمل أكثر التفاتا منه في حال الشك.
كما أنه ليس الملحوظ في حال الشك هو الاتيان فعلا بالجزء كي يقال بأنه
في حال العمل اذكر منه فيأتي به دون حال الشك لعدم التفاته، بل متعلق الشك انما
هو تحقق ايقاع العمل المشكوك في محله، وانه هل جاء به أو لا؟ فمورد التفضيل انما
هو هذا الامر.
فيكون مفاد الرواية (1): ان المكلف في حال العمل تكون موجبات الالتفات
إلى تحقق جزء العمل منه بالنسبة إليه أكثر منها في حال الشك، لقربه من محل الجزء
حال العمل وبعده منه حال الشك، ولوجود بعض القرائن من حس أو حال قد
يغفل عنها بعد عمله، فاستمراره في العمل وبناءه على الاتيان بالجزء، يكون كاشفا

(1) التحقيق في مفاد الرواية: انها ناظرة سؤالا وجوابا إلى صورة خاصة، فلا تصلح للتقييد،
لان المسؤول عنه صورة خاصة لا مطلق الشك بعد الفراغ كي يكون التعليل مقيدا.
وتوضيح ذلك: ان المراد بالأذكرية ههنا هو توفر موجبات الذكر والالتفات لا التفاضل في
نفس الذكر، فإنه لا يقبل التفاضل - كما أشير إليه في المتن.
وعليه، فالمراد ان الانسان حين وضوءه تكون موجبات ذكره أزيد مما إذا كان في حالة
أخرى، وذلك لأنه يستطيع ان يرى ما غسل وما لم يغسل من أعضائه، بخلاف حالة شكه، فان
الأعضاء يتبس فلا يستطيع التمييز، وهذا امر يقال في حق الوسواسي الذي يكثر من التأمل
والغسل ثم يحصل له الوسوسة بعد الشك فلا يستطيع ان يتميز ما غسله عما لم يغسله، فيقال له:
انك حين العمل تستطيع المعرفة أكثر من حال الشك، فالرواية واردة في مثل هذا الشخص،
والقرينة على ذلك نفس السؤال بلفظ المضارع: " رجل يشك بعد ما يتوضأ "، فإنه ظاهر في كونه
امرا استمراريا لا من باب الصدفة، وهذا انما يكون عند الوسواسي.
وإذا كان المسؤول عنه صورة خاصة، كان الجواب مختصا به، ولا نظر له إلى مطلق الشك بعد
الفراغ فتدبر.
228

عن تحقق الجزء منه، فيلغى الشك فيه ولا يعتنى به، لان بناءه على الاتيان به في
حال كثرة موجبات الالتفات يكون مقدما على الشك فيه في حال قلتها.
ولا يخفى ان هذا يختص بصورة تحقق الالتفات منه حال العمل و البناء على
تحقق المشكوك، ثم حدث عنده الشك بعد العمل.
اما صورة العلم بالغفلة أو التردد فيها، فلا يشملها التعليل، لعدم تحقق
الظهر المقدم على الشك لديه - وهو البناء على تحقق المشكوك في حال كثرة
موجبات الالتفات - أو عدم احرازه.
ومن هنا يمتنع القول بكون هذا الكلام واردا للتعليل بحيث يدور الحكم
مداره وجودا وعدما وضابطا وملاكا للأمارية، ضرورة ان صورة الشك في الغفلة
وعدمها من الموارد المتيقنة لجريان قاعدة الفراغ، مع أنها تخرج بمقتضى هذا الكلام
مضافا إلى عدم ظهور ذلك من نفس اللفظ - كما لا يخفى - فلا محيص عن
الالتزام بكونه من قبل الحكمة لا العلة، وبهذا يثبت عدم الدليل على لحاظ جهة
الطريقية والكشف في جعل قاعدة الفراغ، بل لو ثبت ذلك لم يكن دليلا على كونها
من الامارات، بل تكون من الأصول المحرزة التي تتفق مع الامارة بلحاظ جهة
الطريقية فيها، وتختلف عنها بكون الشك مأخوذا في موضوعها - كما هو الحال في
قاعدة الفراغ - دون الامارة.
فالحاصل: انه لا دليل على أمارية القاعدة ولو ثبت لحاظ جهة الطريقية في
اعتبارها، فيتعين كونها من الأصول.
الجهة الثامنة عشرة: في شمول القاعدة لصورة احتمال الاخلال العمدي.
والمقصود بالكلام ليس هو احتمال الاخلال العمدي في الأثناء، إذ العاقل لا
يستمر بالعمل عادة إذا أخل به عمدا، وانما الفرض هو ما إذا رأى نفسه خارجا عن
العمل واحتمل أن يكون لانتهائه عن العمل، أو لرفعه اليد عنه عمدا لغاية من
الغايات. وعلى هذا، فالتعليل الوارد في رواية الوضوء لا يشمل المورد بالتقريب
229

الذي أفاده الشيخ وتبعه عليه العراقي، وهو ان مفاد التعليل ان احتمال الترك السهوي
خلاف فرض الذكر، واحتمال الترك العمدي خلاف إرادة الابراء، لأنه يحتمل انه
عدل عن قصد الابراء. نعم، المطلقات تشمل المورد.
وقد تقدم المراد من التعليل وانه بنحو لا يصلح لتقييد المطلقات. فلاحظ.
الجهة التاسعة عشرة: في نسبتها مع الاستصحاب.
ولا اشكال في تقدمها عليه..
أما مع فرض الا مارية أو كونها من الأصول المحرزة دون الاستصحاب،
فواضح.
واما مع فرض تساويهما في الأصلية، فتقدمها عليه بالتخصيص، إذ ما من
مورد قاعدة الفراغ الا والاستصحاب جار فيه موضوعا. فيلزم من تقدم
الاستصحاب عليها الغاؤها بالمرة، فتدبر جيدا وتأمل.
وقد تم - بحمد الله - الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز في يوم الأحد
الموافق 1 / 2 / 1383. والكلام بعده في:
230

القرعة
231

القرعة
وقد وردت فيها روايات مختلفة المؤدى - كما قيل - فورد: " القرعة لكل امر
مجهول " (1)، و: " القرعة لكل امر مشتبه " (2)، و: " القرعة لكل امر مشكل " (3).
وقد أفاد المحقق العراقي: بان دليل القرعة..
ان كان هو الأخير، لم يكن هناك علاقة للقرعة بأي أصل من الأصول،
لظهور المشكل فيما لا تعين له في الواقع، كما لو أعتق أحد عبيده، وما لا تعين له في
الواقع - وبعبارة أخرى الامر المردد - لا يكون موردا لأصل من الأصول.
واما لو كان دليلها الروايتين الأوليين، فتكون موردا للتعارض مع الأصول،
ولكنه في خصوص موارد الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي دون الشبهة
الحكمية مطلقا والشبهة الموضوعية البدوية، لظهور المشتبه والمجهول في كونه وصفا
لذات الشئ المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء، لا وصفا لحكمه ولا

(1) وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 11.
(2) وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث: 11.
(3) عوالي اللئالي 2 / 112 - الطبعة الأولى.
233

عنوانه، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية لان الاشتباه فيها في حكم الشئ لا في
ذاته، ولا الشبهات الموضوعية لان الاشتباه في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم
على الموجود الخارجي لا فيما قد انطبق عليه العنوان بعد الفراغ عن تحقق الانطباق
خارجا، بل يختص في المشتبه موضوعا المردد.
ثم إنه في هذا الحال..
تارة: بكون المشتبه متعلقا لحكم الله، فلا تجرى القرعة لوجود المانع، وهو
العلم الاجمالي المنجز غير المنحل بالقرعة. ثم استقرب انحلاله بها، لكونها من باب
جعل البدل، فالعمدة في المنع هو الاجماع على عدم جريانها في المورد.
وأخرى: يكون متعلقا لحق الناس، فلا بد فيه من الاحتياط التام أو الناقص
- إن لم يمكن التام - للعلم الاجمالي، ومع عدم امكان كلا النحوين من الاحتياط
كالولد المردد كان المورد من موارد القرعة، وان احتمل العمل بقاعدة العدل
والانصاف في بعض هذه الموارد. ثم يتعرض بعد ذلك إلى نسبتها مع
الاستصحاب (1).
هذا فهرست ما افاده (قدس سره)، ولكنه لا يخلو من نظر في أغلب
مقطوعاته..
فما ذكره من تفسير المشكل، وتفسير المشتبه بنحو يختص بالشبهة
الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي، ومن عدم انحلال العلم الاجمالي بها. كل ذلك
موضوع المناقشة، وليس المورد محل الكلام فيها، لأنه لا اثر يترتب عليه.
وانما الذي لا بد ان يقال: هو ان القرعة بمقتضى رواياتها عامة لجميع موارد
الاشتباه البدوية و المقرونة بالعلم الاجمالي الحكمية والموضوعية.
ولكن الأصحاب التزموا بها في موارد خاصة ولم يلتزم بها أحد في جميع
الموارد.
فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الأدلة، لان ابقاءها يستلزم تخصيص الأكثر

(1) البروجردي. الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 4 / 104 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
234

المستهجن.
وبهذا يظهر انه لا يتجه البحث عن نسبتها مع الاستصحاب، لأنه إذا قام
الدليل من اجماع أو رواية على العمل بها في خصوص مورد، فلا يتوهم حينئذ تقدم
الاستصحاب أو غيره من الأصول أو الامارات عليها، بل يكون الدليل مخصصا
لعموم أدلة الأصول والامارات.
ومع عدم قيامه على العمل بها في خصوص مورد لم يكن مجال لان يعمل بها
فيه كي تلاحظ نسبتها مع الأصول الجارية في ذلك المورد. فتدبر والتفت والله
الموفق (1). وقد تم البحث فيها في يوم الثلاثاء 3 / 2 / 1383.

(1) الكلام في القرعة من ناحيتين:
الناحية الأولى: في تحقيق مواردها، والضابط العام لمجراها، وهي ناحية فقهية ليس المقام محل
ذلك
الناحية الثانية: في نسبتها مع الاستصحاب وسائر الأصول، وهي محل الكلام فيما نحن فيه..
وقد يتوهم معارضتها للأصول باعتبار ورود قوله (عليه السلام): " كل مجهول ففيه القرعة "
الظاهر في جريان القرعة هي جميع موارد الجهل. ولكن التحقيق انه توهم فاسد، لان أدلة
الأصول أخص منها، لان كل أصل يشبه دليله في مورد خاص من موارد الجهل.
حتى الاحتياط، فإنه وان كان عقليا، لكن ورد في موارده تقرير الشارع له وعدم ايجاب
القرعة.
فالالتزام بالقرعة يوجب طرح جميع الأصول وهو مما لا معنى له، فلا بد من حمل القول
المزبور على تقدير صحة سند الرواية، اما على إرادة المجهول المطلق، من حيث الواقع والظاهر
المساوق للمشكل، فتكون موارد الأصول خارجة موضوعا، أو على بيان أصل تشريع القرعة
في المجهول وعدم تشريعها في غير موارد الجهل، ردا على احتمال جريانها مطلقا. الذي يمكن أن يكون
جاء في ذهن السائل والسؤال مجمل من هذه الناحية، فيكون الجواب مما لا اطلاق له،
فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.
انتهى مبحث القرعة في هذه الدورة الثلاثاء 25 / 11 / 1394 ه‍.
235

تعارض الاستصحاب مع الأصول
237

تعارض الاستصحاب مع الأصول
اما أصالة البراءة..
فما كان منها مدركه العقل لا يعارض الاستصحاب لأنه بيان للحكم
الظاهري، فينتفى موضوع قاعدة قبج العقاب بلا بيان.
ومثله ما كان مدركه النقل المساوق لحكم العقل، كالمستفاد من الآية
الشريفة: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1) بناء على دلالتها على البراءة.
وإذا كان مدركه مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ مطلق حتى يرد فيه
نهى (2)، فقد ذكر في الرسائل وجوها ثلاثة لعدم المعارضة:

(1) سورة الإسراء: الآية 15.
(2) وسائل الشيعة: 18 / باب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.
239

الوجه الأول: ان مورد الاستصحاب خارج تخصصا عن عموم هذه الرواية،
لأنه يصدق على المستصحب انه شئ ورد فيه نهى ولو بلحاظ الزمان السابق.
الوجه الثاني: ان مورد الاستصحاب خارج بالورود، وذلك لان النهى الثابت
بعدم نقض اليقين محقق للغاية، فترتفع به الرخصة المغياة.
الوجه الثالث: - وهو الذي اختاره الشيخ (قدس سره) - هو تقريب
الحكومة.
وبيانه: ان مفاد الاستصحاب هو تعميم النهى السابق إلى الزمان اللاحق
تنزيلا، فيكون رافعا لموضوع الإباحة تعبدا، فيتقدم على البراءة الثابتة بالرواية
بالحكومة، فإنه كما لو ثبت بنفس الدليل الأولى للحرمة استمرارها وعمومها لجميع
الازمان حقيقة يتقدم ذلك الدليل على البراءة، فكذلك ما يتكفل لاثبات الاستمرار
تنزيلا وان كان الأول يتقدم بالتخصص أو الورود.
والثاني: بالحكومة والاستصحاب من قبيل الثاني فإنه بمنزلة المعمم للنهى إلى
الزمان اللاحق، فيكون حاكما على البراءة فان الرخصة مغياة بورود النهى المحكوم
عليه بالدوام، والاستصحاب يثبت الدوام ولو بنحو التنزيل.
وقد أورد الشيخ (قدس سره) (1) على الوجه الأول: بان الفرد المشكوك
حرمته لاحقا غير المعلوم حرمته سابقا، فهما فردان متغايران، فورود النهى عن
أحدهما لا يوجب صدق وروده عن الاخر، كالافراد العرضية لكلي، فكما أن النهى
عن فرد لا يكون نهيا عن الاخر، فكذلك ما نحن فيه. والتفريق في الافراد بين ما
كان تغايرها بتبدل الأحوال والازمان - وهي الافراد الطولية - وغيرها من الافراد
شطط من الكلام.
وفيه مالا يخفى: فان المفروض ان المورد في نفسه من موارد الاستصحاب،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 423 - الطبعة القديمة.
240

ومبنى الاستصحاب على اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحيث يصدق النقض أو الابقاء.
ومع الالتزام بان المشكوك فرد غير الفرد المتيقن لا يتحقق حينئذ ما هو
الأساس في الاستصحاب من الاتحاد، وهذا الخلاف الفرض والواقع، فان تبدل
الحالات لا يوجب التعدد.
فالأولى في الايراد ان يقال: بان مفاد الرواية كون الغاية هي الوصول وفعلية
الحكم لا مجرد وروده ولو آنا ما، وهي غير متحققة حال الشك، لان الحكم فيه غير
واصل وليس فعليا لفرض الشك. وكونه فعليا في السابق لا يجدي في تحقق الغاية
لأنها: " ما وصل حكمه فعلا " لا: " ما كان حكمه واصلا " كما هو مقتضى التعبير
بالمضارع.
وأورد (قدس سره) أيضا على الوجه الثاني: بان ظاهر الرواية كون الغاية
ورود النهى عن الشئ بعنوانه الأولى لا بما أنه مشكوك الحكم، والنهى الثابت
بالاستصحاب بعنوان كونه مشكوكا، والا فيمكن عكس القضية بان يقال: ان النهى
عن النقض انما يثبت في صورة عدم ثبوت الإباحة بالأصل، فيختص الاستصحاب
في غير مورد جريان البراءة.
وتقريب ما ذكره بنحو لا يتجه عليه ما قد يوجه من أن ذلك مجرد دعوى:
بان أساس كون الرواية من أدلة البراءة إرادة الوصول والعلم بالحكم من الورود لا
ثبوته الواقعي - والا خرجت عن أدلة البراءة - فمفادها يكون كل شئ مجهول
الحكم مطلق حتى يعلم حكمه الواقعي، ففرض الجهل والعلم بالحكم يقتضى اخذ
الحكم المعلوم أو المجهول في مرحلة سابقة على الشك والجهل الفعلي، سواء كان
ثبوته السابق للشئ بعنوان الأولى أو بعنوان الشك كالحكم الثابت بالأصل سابقا
ثم يشك في استمراره.
وعليه، فالغاية هي العلم بالحكم الثابت في المرحلة السابقة عن الشك
241

الفعلي، فلا يكون النهى الثابت بالاستصحاب محققا للغاية، لان ثبوته كان بلحاظ
الشك الفعلي لا في المرحلة السابقة عليه. فالتفت.
واما ما ذكره الشيخ (قدس سره)، فهو انما يتم بناء على أن مفاد أدلة
الاستصحاب تنزيل الشك منزلة اليقين والحكم بان الشاك متقين، فان الغاية وهي
العلم بالحكم تتحقق به تنزيلا فيكون حاكما. اما بناء على أن مفادها تنزيل
المشكوك منزلة المتيقن - كما هو مذهب الشيخ -، فلا تتم دعوى الحكومة، لان
الغاية هي العلم بالواقع والحكم لا ثبوت الواقع، فثبوت الحكم تعبدا بالاستصحاب
لا يحقق الغاية.
ولا بد (1)، في تحقيق الحال في نسبة الاستصحاب مع البراءة من بيان المجعول

(1) العمدة في الاشكال ما كان من أدلة البراءة مفاده جعل الحلية الظاهرية كقوله (عليه
السلام): " كل شئ حلال.. ". واما ما كان مفاده رفع المؤاخذة، فقد عرفت أنه كالبراءة العقلية.
ودعوى ارتفاع موضوع الحلية الظاهرية تعبدا بقيام الاستصحاب لتكفل دليله جعل اليقين
وفرض الشاك متيقنا، فيكون الاستصحاب حاكما.
يدفعها - بعد تسليم ذلك -
أولا: ان موضوع الحلية ليس امرا عدميا وهو مجرد عدم العلم والجهل كي يرتفع بالاثبات،
بل هو أمر وجودي وهو الاحتمال وذلك لعدم جريان دليل البراءة في حق الغافل مع أنه غير
عالم، بل تجرى في حق الملتفت المتردد، فيكشف ذلك عن اخذ جهة وجودية في الموضوع وليس
هو مجرد عدم العمل، وليست تلك الخصوصية سوى الاحتمال والتردد، ومن الواضح ان التعبد
بالعلم لا يلازم التعبد بعدم الاحتمال، فان التعبد بأحد الضدين لا يلازم التعبد بعدم الاخر.
وعليه، فلا يرتفع موضوع البراءة بقيام الاستصحاب.
وثانيا: - وهو العمدة - ان ظاهر دليل الاستصحاب المتكفل للنهى عن النقض بمثل " لا
ينبغي " الظاهر في كون متعلقه امرا اختياريا - لعدم صحة حمل " لا ينبغي " على الارشاد - كون
المجعول هو اليقين بمعنى لزوم ترتيب اثار بقائه عملا، فلا نظر في الدليل إلى جعل صفة اليقين
والتعبد بها، بل نظره إلى لزوم ترتيب اثار اليقين بقاء، وأين هذا من جعل اليقين؟! فلا يتصرف دليل الاستصحاب في موضوع البراءة بل هو يتنافى معها رأسا، لان مقتضاها الحلية ومقتضاه
الالزام فيتصادمان من دون مرجح على الاخر.
ولكن الذي يهون الخطب، انا لم نلتزم بجعل الحلية في الشبهات الحكمية لاختصاص الدليل
بالشبهات الموضوعية. ولا نعهد - فعلا - موردا يصطدم فيه الاستصحاب الحكمي مع البراءة
فيها، واما الاستصحاب الموضوعي فهو مقدم على البراءة، لما سيجئ من تقديم الأصل السببي
على المسببي. فلاحظ وسيأتي التوقف في ذلك بالنسبة إلى البراءة وبيان الحكومة بوجه اخر.
واما ما ذكره في الكفاية من تقديم الاستصحاب على البراءة بما ذكر وجهه في حاشيته على
الرسائل - كما حكى عنه - فجوابه ظاهر كما افاده المحقق الأصفهاني فراجع تعرف.
242

بأدلة الاستصحاب، فنقول - وبه سبحانه الاعتصام -: الأقوال في المجعول ثلاثة:
الأول: - وهو ما اختاره الشيخ (1)، والخراساني (2) - ان المجعول بها
هو المتيقن، بمعنى ان التعبد انما كان بالمتيقن حال الشك فاليقين والشك لوحظا مرآتا
لمتعلقهما موضوعا أو حكما ولم يلحظا بأنفسهما.
الثاني: ان المجعول هو الطريقية، بمعنى ان التعبد بنفس اليقين من جهة
طريقيته وكاشفيته عن الواقع.
الثالث: - وهو الذي التزم به المحقق النائيني (3) - ان المجعول هو نفس اليقين،
ولكن لا من باب الطريقية بل بلحاظ الجرى العملي.
والوجه الأخير لا نعرف له وجها في مقام الثبوت. لان المجعول ان كان هو
نفس الجرى العملي، بمعنى ان التعبد انما هو بتحقق الجرى العملي نحو المكلف به، فهو
أجنبي عما نحن بصدده من اثبات الحكم أو نفيه بالاستصحاب لأنه مرتبط بمقام
الامتثال، ومفاده الحكم بموافقة الامر وتحقق الامتثال، والمفروض انه بالاستصحاب
يثبت التكليف - مثلا -، فيجب امتثاله، لا ان مفاده انه لا يجب عليه لموافقته وعمله

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 318 الطبعة القديمة.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 384 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 343 - الطبعة الأولى.
243

بالأمر (1).
وان كان التعبد باليقين - لا بنفس الجري العملي - ولكن بلحاظ الجري
العلمي - كما هو الظاهر من كلامه - فلا يخفى ان المحركية والجري العملي على طبق
اليقين فرع انكشاف الواقع باليقين وتنجزه عليه، فليس هو متفرعا على اليقين
رأسا، بل عليه بضميمة جهة الطريقية فيه، فلا معنى لاعتباره بهذا اللحاظ بلا لحاظ
جهة الطريقية، فيرجع حينئذ إلى القول الثاني الذي فر منه.
وعلى هذا فالامر ثبوتا يدور بين القولين الأولين، وهما: جعل المتيقن. وجعل
اليقين من باب الطريقية.
واما اثباتا، فروايات الاستصحاب على نحوين:
فمنها: ما هو بلسان الاخبار عن عدم انتقاض اليقين بالشك، وهذا النحو
ظاهره التعبد بنفس اليقين، وذلك لأنه يرجع إلى الاخبار عن اعتبار عدم نقض
اليقين بالشك، واعتبار صفة اليقين في مرحلة الشك، إذ لا معنى للاخبار عن عدم
الانتقاض حقيقة كما لا يخفى.
ومنها: ما هو بلسان الانشاء كقوله: " ولا ينقض اليقين بالشك ". ولا يخفى ان
النهى عن نقض اليقين بالشك لا معنى له على حقيقته، لانتقاضه حقيقة فالنهى عنه
محال لأنه تكليف بغير الممكن، فلا بد من رجوعه إلى امر ممكن وهو النهى عن
النقض عملا وايجاب الابقاء عملا.
والعمل على طبق اليقين لازم لامرين: أحدهما: اليقين باعتبار كاشفيته
ومحركيته. والاخر: المتيقن، فان الامتثال بنظر العامل من اثار نفس المتيقن والواقع
المنكشف باليقين، دون نفس اليقين، ولكنه في الحقيقة من اثار اليقين فهو عمل على

(1) لاحظ ما ذكرناه حول كلام المحقق المذكور في بيان عدم امكان تكفل الأدلة لجعل
الاستصحاب وقاعدة اليقين، فعله ينفعك.
244

طبق اليقين. فالنهى عن النقض عملا كما يمكن أن يكون للعبد بنفس اليقين كذلك
يمكن أن يكون للتعبد بنفس المتيقن. والكلام وان كان ظاهرا في الأول، لكنه يظهر
في الثاني بعد ملاحظة بعض النصوص مما يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على
الوجود الواقعي للمتيقن لا العلمي، كرواية زرارة الأولى التي يكون التعبد فيها
بلحاظ ما يترتب على الطهارة من الآثار، كالدخول في الصلاة وأمثاله. فان الطهارة
شرط واقعي للصلاة لا علمي، فلا بد من رجوع التعبد فيها إلى نفس المتيقن - وهو
الطهارة - لا إلى اليقين بها، إذ اليقين بها ليس الملاك في ترتب الأثر المرغوب عليه.
ويشهد لما ذكرنا أيضا: ان سؤال السائل في أغلب الروايات انما هو عما
يترتب على شكه، وانه بشكه هل يبنى على انقلاب الواقع عما كان عليه أو على
عدم ترتيب اثاره أو يبنى على بقائه وعدم تبدله فتترتب عليه اثاره؟. فالتفت.
وعليه، فإذا تعين ان المجعول انما هو المتيقن لا صفة اليقين، فيشكل الامر في
تقدم الاستصحاب على البراءة المأخوذ في موضوعها الجهل بالحكم وفى غايتها
العلم بالحكم - بل يشكل الامر أيضا في تقدم الامارات عليها بناء على ما هو
التحقيق من كون مفاد أدلتها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - لان التعبد بنفس الحكم
لا بالعلم به كي يكون حاكما عليها لتكفله تحقيق الغاية ورفع الموضوع تنزيلا
وتعبدا. وقد تقدم ايضاح ذلك في نفى حكومة الامارات على الأصول إذا كان
مؤداها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - والعلم الوجداني بهذا الحكم المتعبد به لا يكفى
في الورود، لما عرفت من اخذ متعلق العلم الحكم السابق في ثبوته على مرحلة
الشك الفعلي، والحكم المتعبد باستمراره ودوامه انما هو بلحاظ حال الشك - كما لا
يخفى - فلا يكون العلم به محققا للغاية -
وتوهم: ان ملاك الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الاخر بمدلوله اللفظي،
وهو متحقق ههنا، لان التعبد وان كان واقعا بالحكم لكنه بلسان التعبد باليقين
فيكون حاكما على الأدلة المأخوذة في موضوعها اليقين، نظير: " لا شك لكثير الشك
245

و: " الطواف بالبيت صلاة "، فان التعبد فيها واقعا بالحكم والآثار مع أنها حاكمة
على الأدلة الأخرى باعتبار اخذ نفس الشك والصلاة في الدليل.
فاسد: لان تحقق نظر أحد الدليلين إلى الاخر فيما إذا كان التعبد فيه بنفس
اثار الموضوع أو بنفيها بلسان اثبات الموضوع أو نفيه كما في: " لا شك ". فان المتعبد
به نفى الآثار المترتبة على الشك بلسان نفى الشك. ولذلك كان ناظرا لأدلة اعتبار
الشك، ومثله على العكس: " الطواف بالبيت صلاة " (1).
اما ما نحن فيه، فليس كذلك، لان التعبد لم يكن بآثار اليقين بلسان التعبد
باليقين حتى يكون ناظرا إلى الأدلة الأخرى وحاكما عليها. بل التعبد بالمتيقن
بلسان التعبد باليقين، والمتيقن ليس من اثار اليقين كما لا يخفى. فلا يكون الدليل
المتكفل واقعا للتعبد به ناظرا إلى أدلة اليقين، ولو كان التعبد بلسان اليقين فلا يكون
حاكما، لان التنزيل الموجب للحكومة هو التوسعة أو التضييق في الموضوع بلحاظ
ترتيب اثاره أو نفيها. دون غيره، فالتفت.
وتحقيق الحال بوجه يرتفع به الاشكال: ان روايات البراءة على انحاء ثلاثة:
النحو الأول: ما كان بنحو: " رفع عن أمتي ما لا يعلمون ". والتحقيق: ان المراد
بالعلم فيها ليس هو الصفة الوجدانية النفسانية، بل مطلق الحجة والدليل على
الحكم، وذلك لأنه مما لا اشكال فيه أن مفادها ليس هو نفى الواقع بعدم العلم وبيان
ان ثبوت الحكم الواقعي دائر مدار العلم، كما أنه لا اشكال في عدم كون الشارع في
مقام إهمال الواقع وعدم نصب طرق وامارات عليه. فالمفهوم من هذا النص ان
الشارع في مقام عدم العلم والطريق إلى الواقع لم يجعل الاحتياط - إذ كان بامكانه
جعله فلم يجعله - لأنه إذا لم يكن في مقام نفى الواقع ورفعه واقعا، كما أنه ليس في
مقام إهمال الواقع وايكال العلم به إلى الصدفة والاتفاق، فلا بد أن يكون المراد هو

(1) إشارة إلى أن التعبد فيها بنفس الآثار لا بنفيها بلسان اثبات الموضوع.
246

عدم جعل الاحتياط ورفع الحكم ظاهرا عند عدم الطريق إلى الواقع، والا - فلو
كان المراد رفع الحكم وعدم جعل الاحتياط والطرق - لكان اهمالا للواقع، وهو
خلف.
وبتقريب آخر: انه لا اشكال في وجود طرق غير علمية إلى الواقع. ولا
اشكال انه عند ورود هذا النص لم يفهم منه أحد إلغاء اعتبار هذه الطرق، بل
المفهوم انما هو رفع التكليف وعدم جعل الكلفة بالاحتياط منة على الأمة ولطفا.
وبما أن نفى الاحتياط امتنانا انما يتحقق في مقام يكون في جعله كلفة، وهذا انما
يكون مع عدم وجود ما يثبت التكليف، اما مع وجود الدليل المثبت له فنفى
الاحتياط لا يكون منة ولطفا، إذ ليس فيه رفع كلفة.
فبهاتين المقدمتين - وهما: كون الرواية في مقام نفى الاحتياط فقط لا نفى
طرق الواقع اجمع من امارة واستصحاب واحتياط، لأنه ليس في مقام إهمال الواقع،
كما أنه ليس في مقام نفيه، وكون نفى الاحتياط من باب الامتنان وهو انما يتحقق في
صورة عدم الطريق المثبت للحكم. بهاتين المقدمتين - يثبت كون موضوع البراءة
عدم الطريق و الحجة على الحكم لا عدم العلم الوجداني.
وان أبيت إلا عن استظهار الصفة الوجدانية من العلم، فنقول: ان البراءة انما
تجرى في حال عدم العلم في صورة عدم وجود الطريق إلى الحكم، فيرجع ذلك إلى
تقييد الموضوع. وبهذا يكون الاستصحاب واردا على البراءة لأنه رافع لموضوعها
حقيقة ببركة التعبد.
ولو لم يثبت - جدلا - ما ذكرناه، فلا مفر عن الالتزام بالمعارضة بين
الاستصحاب و البراءة.
ولكن نحو المعارضة يختلف باختلاف الآراء في مفاد الرواية، فإنه اختلف
في أن المرفوع بها ما هو؟ والأقوال ثلاثة:
الأول: كون المرفوع بها الحكم الكلى، فتختص بالشبهات الحكمية
247

الثاني: كون المرفوع بها مطلق الحكم الكلى والجزئي، فتعم الشبهات الحكمية
والموضوعية.
الثالث: ان المرفوع فيها خصوص الموضوع، فتختص بالشبهات الموضوعية.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه: ان الرفع في السابق متعلق بنفس الحكم
الجزئي، وههنا متعلق بموضوعه، وان كان في الحقيقة متعلق به بلسان رفع
موضوعه.
فبناء على القول الأول: لا تجرى البراءة - بهذا الدليل - في الشبهات
الموضوعية، فتختص المعارضة في خصوص الشبهات الحكمية، ولا محذور في
الالتزام بالمعارضة وعدم الالتزام بالاستصحاب في هذه الشبهات - كما قد التزم به
بعض بغير هذا الوجه.
وبناء على القول الثاني: تختص المعارضة أيضا في موارد الشبهات الحكمية،
لان الاستصحاب الجاري في الموضوع يكون حاكما على البراءة الجارية في الحكم
الجزئي - كما سيأتي بيانه في الشك السببي والمسببي -
وبناء على القول الثالث: - تكون المعارضة بين الاستصحاب والبراءة في
مطلق موارد الشك الموضوعي، فالالتزام بالتساقط مشكل، إذ يلزم منه نفى جريان
الاستصحاب مطلقا أو في الغالب وهو مما لا يمكن الالتزام به، فلا بد من الالتزام
بتقدمه عليها بالتخصيص، كما لا بد من الالتزام بذلك في تقدم الامارات على البراءة
- لعين الملاك فلاحظ -
ولكن عرفت أن النوبة لا تصل إلى هذا الحل، بل الامارات والاستصحاب
واردة على البراءة على الأقوال كلها، فتدبر.
النحو الثاني: قوله: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى ". ولم تثبت صراحة
هذه الرواية في ثبوت أصالة البراءة، إذ يمكن أن يكون المراد من الورود الثبوت
الواقعي للاحكام، فيكون مفادها بيان الإباحة الأصلية للأشياء حتى يتعلق بها
248

نهى من المولى، وبهذا يكون مفادها أجنبيا عن البراءة بالكلية.
نعم، لو لم يكن المراد بالورود هو الثبوت الواقعي، بل الوصول كانت دليلا
على البراءة، ولكنه لم يؤخذ في الغاية احراز النهي والوصول العلمي بل اخذ مطلق
الوصول والورود وظاهره إرادة وصول الحكم الواقعي وثبوته في ذمة المكلف بأي
طريق كان، ومنه الاستصحاب فيكون واردا لأنه محقق للغاية تكوينا، كما لا يخفى.
النحو الثالث: مثل: " كل شئ لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه.. ".
ودلالة هذه الرواية على البراءة مناقشة في أن ثبوت الحلية في المصاديق المذكورة في
الموثقة انما هو بواسطة الأصول والامارات الموضوعية السابقة بالرتبة
على الاستصحاب والبراءة، كأصالة الصحة وقاعدة اليد، فيكون الحكم بالحلية
حكما بمفاد تلك القواعد الظاهرية وفى مقام الأمر بعدم الاعتناء بالاحتمال الناشئ
عن الوسواس ونحوه مع وجود القواعد، لا حكما بمفاد أصالة البراءة كي يستكشف
جعل البراءة في مثل هذه الموارد.
واما أصالة الاشتغال..
فالاستصحاب مقدم عليها، لان موردها الشك في براءة الذمة بملاك لزوم
دفع الضرر المحتمل، ومع قيام الاستصحاب على التعيين يزول احتمال الضرر لقيام
الحجة الشرعية على تعيين أحد الافراد.
وهكذا الكلام بالنسبة إلى أصالة التخيير. فان حكم العقل بالتخيير في
فرض التحير، وبالاستصحاب يرتفع التحير.
وبالجملة: الاستصحاب وارد على الأصول العقلية من براءة واحتياط
وتخيير، لأنه رافع لموضوعها تكوينا ببركة التعبد الشرعي.
249

تعارض الاستصحابين (1)
ويقع الكلام بعد ذلك في تعارض الاستصحابين.
وقد ذكر الشيخ (2) (رحمه الله) صورا متعددة للاستصحابين المتعارضين من
كونهما موضوعيين أو حكميين أو مختلفين. ومن كونهما وجوديين أو عدميين أو
مختلفين. وغير ذلك. الا ان هذا الاختلاف لا أثر له في اختلاف حكم المتعارضين.
وانما الكلام يقع في صورتين هما الجامع بين هذه الصور المختلفة في محل
الكلام، وهما:
الأولى: أن يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الاخر، كالشك في
بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء كان متيقن الطهارة، فان الشك في بقاء نجاسة الثوب
مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء.
الثانية: أن يكون الشك فيهما مسببا عن امر غيرهما.
واما تصور كون الشك في كل منهما مسببا عن الاخر - كما ينسب إلى المحقق
النراقي - فهو باطل لما ستعرفه من أن السببية والمسببية تنشأن من كون أحد
المشكوكين من احكام الآخر، وهذا يعنى كون أحدهما موضوعا للاخر، فيمتنع أن يكون
كل من المشكوكين موضوعا للاخر - كما لا يخفى -
وعليه، فالكلام يقع في مقامين:
المقام الأول: في الشك السببي والشك المسببي.
وتحقيق الكلام فيه: انه مما لا اشكال فيه عند الاعلام تقدم الأصل السببي
على الأصل المسببي، وانما الاشكال في وجه التقديم من حكومة، وورود وغيرهما،

(1) لم أتوفق لحضور درس سيدنا الأستاذ (حفظه الله) في هذه المباحث لبعض الموانع ونظرا إلى
طلبي منه تقريرها لي، أجابني إلى ذلك. ولعل هذا التقرير يخالف تقريرات الآخرين نظرا لتبدل
الرأي. فلينتبه.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 424 - الطبعة القديمة.
250

فالكلام في جهتين:
الجهة الأولى: في وجه التقديم.
وقد ذكر لذلك وجوه متعددة:
الأول: ما ذكره الشيخ من الاجماع على ذلك كما يظهر للمتتبع، فان الفقهاء
لا يتوقفون في تقدم الأصل السببي على المسببي.
ولكن الاعتماد على الاجماع في مثل ما نحن فيه مشكل، إذ لا يحرز كونه
اجماعا تعبديا بعد وجود الوجوه العقلية وغيرها المستدل بها على التقديم، فلا
يكشف عن قول المعصوم (عليه السلام).
الثاني: (1) ما افاده الشيخ أيضا - وهو المهم من الوجوه التي ذكرها - من أن

(1) ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الوجه الثاني مرجعه [حمل السيد الأستاذ (دام ظله) عبارة
الشيخ على ما حمل عليه في الدرس في الدورة السابقة، لا على ما هو مذكور في المتن. فالتفت
(المقرر)] إلى الورود ويمكن ان يقرب بوجهين:
الأول: أن يكون المراد بالشك عدم الحجة فيكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي
بالحجة وفيه:
أولا: انه ينافي ما التزم به قريبا من حكومة الامارة على الاستصحاب لا ورودها كما هو
مقتضى هذا التوجيه.
وثانيا: ان المراد بالحجة الرافعة هي الحجة على الواقع المتيقن في السابق كالخبر فان مفاده
الكشف عن الواقع والمفروض انه حجة في مؤداه. وليس الاستصحاب كذلك، لأنه حكم
ظاهري مجعول في ظرف الجهل لا بعنوان انكشاف الواقع، وان تكفل التنجيز والتعذير كسائر
الأحكام الظاهرية كأصالة الطهارة.
الثاني: أن يكون المراد بالشك عدم العلم ولو بعنوان اخر، ومع العلم بالحكم بعنوان ظاهري
يرتفع الموضوع قهرا.
وفيه: ما تقدم في مناقشة صاحب الكفاية عند البحث في تقدم الامارة على الاستصحاب
فراجع.
وقد يوجه كلام الشيخ (رحمه الله) بان الأصل السببي يحقق موضوع دليل الحكم الثابت
لمجراه فيكون هو الحكم، وهو المقدم على الأصل المسببي لا الأصل.
وهذا مما لا تأباه عبارته، ولعله ماخذ ما ذكره صاحب الكفاية من إجزاء الأمر الظاهري
الجاري في تحقيق متعلق التكليف كأصالة الحل والطهارة واستصحابهما.
وقد أورد على هذا الالتزام بايرادات متعددة عمدتها ان مقتضاه الحكم بطهارة المغسول
بالماء المستصحب الطهارة ولو انكشف بعد ذلك أنه نجس وهو مما لا يلتزم به أصلا. وفى مراجعة
مبحث الاجزاء فائدة.
ثم إن هذا الوجه يختص بما إذا كان مجرى الأصل السببي حكما شرعيا قابلا للجعل بنفسه
كالطهارة والحلية ونحوهما. ولا يتأتى فيما إذا كان مجراه موضوعا تكوينيا كالعدالة والحياة، لعدم
ثبوته به حقيقة حتى يمكن تطبيق الدليل. فانتبه.
وبالجملة: فما افاده الشيخ (رحمه الله) في الوجه الثاني غير تام.
واما ما ذكر في الوجه الثالث: فقد تصدى (قدس سره) لمناقشته بما لا يخلو عن اشكال.
والتحقيق في مناقشته: ان قلة المورد لا تعد محذورا إذا لم يساعد الدليل على العموم، فأي
ضرر في أن يكون الاستصحاب قاعدة في موارد خاصة.
وان كان مراد المستدل ان ذلك يتنافى مع مورد الرواية، حيث إن موردها اجراء
الاستصحاب في الموضوع وهو الطهارة. ففيه: انه يمكن أن لا يكون المنظور في النص اجراء
الاستصحاب في نفس الطهارة والوضوء، بل في عدم وجوب الوضوء كما هو مورد السؤال،
فالمستصحب هو المسبب رأسا لا السبب. ومما يؤيد عدم تقدم الأصل السببي على المسببي انه لم
يتصد في النص إلى اجراء الاستصحاب في السبب وهو عدم الرافع، وهو النوم.
واما ما ذكره في الوجه الرابع، ففيه: ان الاشتغال لا يكون مجرى للاستصحاب كما تقدم بيانه
في مبحث الأقل والأكثر، والأصل المسببي في مورد الرواية هو الأصل الجاري في نفى وجوب
الوضوء وهو يوافق الأصل السببي، وقد تقدم امكان كون المنظور في الرواية هو جريان الأصل
في المسبب رأسا.
وأما ما أفاده أخيرا تحت عنوان..، ففيه: ان الكلام ليس في ترتيب اثار الأصل السببي بل
الكلام في عدم معارضته بالأصل المسببي وليس فيما ذكره إشارة إلى أن ارتكاز العرف عليه، مع أن
المبحث عقلي لا عرفي.
والمتحصل: ان شيئا من هذه الوجوه الأربعة لا يفي بالمطلوب. ولا يخفى عليك ان مقتضى
الوجه الثاني هو الورود، اما الثالث والرابع فمقتضاه من هذه الجهة بحمل، وانما هما يتكفلان
التقديم لا أكثر.
واما دعوى تقديم الأصل السببي على المسببي بالحكومة - كما عليه المحقق النائيني على ما
نقل كلامه في المتن - فيدفعها ما عرفت في تقديم الاستصحاب على البراءة من أن المفهوم من أدلة
الاستصحاب بملاحظة النهى عن النقض بمثل " لا ينبغي " إرادة النقض والابقاء العملي، وهذا لا
يرجع إلى جعل اليقين واعتباره، بل إلى الامر بترتيب آثار بقاء اليقين. هذه مع غض النظر عما
أشرنا إليه في المتن من أن التعبد باليقين بشئ لا يستلزم التعبد باليقين بآثاره. والنافع في دعوى
الحكومة اثبات التعبد باليقين بالأثر لا التعبد باليقين بالموضوع. فلاحظ.
والذي يمكن ان يقال في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي: هو ان الأصل السببي ناظر
إلى مفاد الأصل المسببي وملغ له، فيكون حاكما. وذلك لان التعبد بطهارة الماء - مثلا - مرجعه
إلى ترتيب اثار طهارته ومن جملتها حدوث الطهارة للمغسول به بعد نجاسته وصيرورته طاهرا.
ومن الواضح ان مرجع التعبد بالحدوث هنا إلى إلغاء الحالة السابقة وعدم الاعتناء بها، وهذا
ينافي جريان الاستصحاب في المغسول به، لان ابقاء الحالة السابقة يتنافى مع الغائها وعدم
الاعتناء بها. فيكون الأصل السببي ناظرا لمفاد الأصل المسببي فيتقدم عليه بالحكومة.
وبالجملة: اطلاق دليل الاستصحاب الشامل لمورد الشك السببي يمنع من شمول الاطلاق
للشك المسببي.
وهذا هو معنى الحكومة في ما نحن فيه، فلا يرد الاشكال فان الحكومة تكون بين دليلين لا في
دليل واحد.
الا ان هذا انما ينفع في اثبات حكومة الاستصحاب السببي على خصوص الاستصحاب
الجاري في الشك المسببي، لأنه متفرع على ملاحظة الحالة السابقة، فيكون محكوما لما يقتضى
الغاءها.
وأما مثل أصالة الإباحة أو الطهارة الجارية في الشك المسببي فلا ينفع البيان المزبور لاثبات
محكوميتها للاستصحاب السببي لعدم النظر فيها إلى الحالة السابقة، بل هي تتكفل مجرد الثبوت.
فتصطدم مباشرة مع اثر الأصل السببي.
وتحقيق الكلام في هذا المجال: ان المولى إذا الزم المكلف المتحير والمتردد بين احتمالين
بأحد الطرفين بأي لسان كان الالزام. من جعل المؤدى أو جعل اليقين وصفا أو عملا أو المنجزية،
كان مرجع الالزام - عرفا - إلى إلغاء الاعتناء بالطرف الاخر من الترديد ولعل هذا ما يقصده
الشيخ بإلغاء احتمال الخلاف - لا بمعنى جعل العلم واعتباره - لأنه يلتزم بجعل المؤدى ونتيجة
ذلك هو نفى ما يقتضى اعتباره لان لسانه لسان نفى ترتيب الأثر لا مجرد عدم الاعتناء به. وعليه
فيكون الاستصحاب حاكما على البراءة في مورده، لتكفل دليل الاستصحاب تعيين أحد طرفي
الترديد لان لسانه لسان عدم النقض والابقاء وهو ناظر إلى إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء
به فينفي أصالة الإباحة الراجعة إلى الاعتناء بالاحتمال. وهكذا الكلام في أصالة الطهارة.
ولا تصح دعوى العكس، لان كلا من أصالة البراءة وأصالة الطهارة لا يتكفل تعيين أحد
المحتملين، بل تتكفل بيان وظيفة المكلف مع فرض تردده وشكه وغض النظر عن الواقع. وليس
كذلك الامارة والاستصحاب.
والمتحصل: ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي بالبيان السابق.
واما حكومة الاستصحاب السببي على البراءة وأصالة الطهارة في الشك المسببي بل مطلقا فهي
بالبيان الأخير. فتدبر واعرف. ومن هذا البيان ظهر تقريب حكومة الامارة على الاستصحاب
لو لم تتم دعوى الورود بالبيان السابق، فان الامارة بمقتضى دليل اعتبارها تتكفل إلغاء احتمال
الخلاف فتنصرف في موضوع الاستصحاب وتنفيه، والاستصحاب وان كان كذلك لكن لم يؤخذ
الجهل موضوعا في الامارات بل موردا.
ومعه لا وجه لانكار صاحب الكفاية - في مباحث التعادل والترجيح - دعوى الحكومة
بعدم النظر، إذ عرفت منشأ نظر دليل اعتبار الامارة إلى دليل الاستصحاب ولو لم يلتزم بان
المجعول فيها الطريقية.
واما ما يظهر من عبارته - في ذلك المبحث - من احتمال تكفل دليل الاعتبار مطلقا ولو
في الأصول لالغاء احتمال الخلاف فهو غير واضح، إذ لا يحتمل هذا المعنى في أدلة البراءة
أصلا.
251

الأصل السببي بجريانه يمنع من شمول العموم لمورد الأصل المسببي، وذلك لان العام
انما هو عدم نقض اليقين بالشك، ومع جريان الأصل السببي لا يكون نقض اليقين
في مورد الأصل المسببي بالشك، بل بالدليل، وان كان موضوع الحكم وهو الشك
واليقين ثابتا. بخلاف العكس، فإنه بجريان الأصل المسببي لا يرتفع صدق النقض
بالشك في مورد الأصل السببي، فالأصل السببي بجريانه يتصرف في محمول الأصل
المسببي - وهو النقض بالشك - لا في موضوعه - وهو الشك -، فالتفت (1).
والاشكال عليه: بان ما ذكر من عدم قابلية مورد الشك المسببي لشمول
العموم له انما يتحقق على تقدير الالتزام بالأصل السببي، ولكنه محل الكلام وما هو
الوجه في الالتزام به وطرح الأصل المسببي؟.
مندفع: بان مقتضى شمول العام - وهو حرمة النقض في مورد الشك السببي -
ثابت لصدق النقض بالشك والمانع مشكوك فينفي بأصالة عدم التخصيص. بخلاف
الشك المسببي، فان مقتضى الشمول - وهو صدق النقض بالشك - معلق على عدم
ثبوت العام في مورد الشك السببي، وقد عرفت ثبوته بأصالة عدم التخصيص.
وعليه: فقد يشكل: بأنه بعد فرض ان موضوع الحكم في كلا الموردين ثابت
وهو اليقين السابق والشك اللاحق - ولما كانت نسبة الحكم بعدم النقض إليهما على
حد سواء إذ نسبة حكم العام إلى افراده بالسوية، لأنها جميعها في عرض واحد، لم
يكن وجه لجعل شمول الحكم العام لفرد ببناء العقلاء على أصالة عدم التخصيص
مانعا عن شموله لفرد اخر، لان أصالة عدم التخصيص جارية فيهما على حد سواء
مع قطع النظر عن الاخر.
وعليه، فلا وجه لجعل أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي مانعة
عن شمول العام لمورد الشك المسببي، إذ لولا جريانه وثبوت حكم العام لمورد الشك

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 425 - الطبعة القديمة.
255

السببي بواسطتها، كان حكم العام ثابتا في مورد الشك المسببي، ولم يثبت بناء العقلاء
على جريانها في الفرد السببي دون المسببي ويندفع بما افاده (قدس سره): من الوجه
العقلي في بيان عدم صلاحية الشك المسببي لمانعيته عن شمول حكم العام للشك
السببي.
ومحصله: ان فردية الشك المسببي لحكم العام بحيث يكون مشمولا له انما
تتحقق بعد فرض رفع اليد عن حكم العام في مورد الشك السببي المفروض فرديته،
ورفع اليد عنه في هذا المورد لا وجه له بعد فرض فرديته الا ثبوت حكم العام
وشموله لمورد الشك المسببي، وهذا دور، فمانعية الأصل المسببي عن الأصل السببي
انما تكون بوجه دائر، فثبوت أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي
واقتضائها لشمول حكم العام له لم يكن عن دعوى تعبد محض من العقلاء، كي
يقال بعدم ثبوت ذلك منهم، بل كان من جهة ثبوت المقتضى يه وعدم صلاحية
الشك المسببي للمانعية عنه الا على وجه دائر.
وبالجملة: ان الأصل في مورد الشك السببي يجرى لثبوت مقتضى الجريان
فيه، وبجريانه لا يبقى مورد الشك المسببي قابلا لفرديته الفعلية لحكم العام وشمول
الحكم له للتصرف في محموله، وهو النقض بالشك، ويمتنع كون الأصل المسببي مانعا
عن جريان الأصل السببي الا على وجه دائر. فلا وجه حينئذ لطرح الأصل السببي
والاخذ بالأصل المسببي، لثبوت مقتضيه وعدم المانع بخلاف العكس كما عرفت.
هذا محصل ما يمكن ان يستفاد من عبارة الرسائل فإنها تبدو بألفاظها ومعانيها
مرتبكة غير متلائمة.
الثالث: ما افاده الشيخ (رحمه الله) بعنوان الجواب عن الاشكال الأخير على
الوجه الثاني بقوله: " وإن شئت قلت: إن حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك
السببي كما هو شان الحكم الشرعي وموضوعه.. " (1) وقد حملها المحقق الخراساني في

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 426 - الطبعة القديمة.
256

حاشيته على الرسائل وتابعه المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) على ما
يبدو منها أولا من أن الشك المسببي باعتبار كونه معلولا للشك السببي وان حكم
العام باعتبار كونه - بالنسبة إلى الشك السببي - من قبيل لوازم الوجود كانا
متأخرين عن الشك السببي وفى مرتبة واحدة، فيمتنع أن يكون الشك المسببي
محكوما بحكم العام لأنه يستلزم كونه موضوعا له وذلك يقتضى تقدمه عليه ولو
بالطبع وهو خلاف المفروض من كونهما في مرتبة واحدة.
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني إيرادات متعددة. والوجه الذي اشترك به
مع أستاذه الخراساني هو ما قرره من أن عموم " لا تنقض " ينحل إلى احكام
متعددة بتعدد افراد الموضوع، فالحكم الذي يقتصد ترتبه على الشك المسببي غير
الحكم الذي وفرض كونه معه في مرتبة واحدة. كما لا يخفى.
ولكنه يبعد حمل كلام الشيخ (قدس سره) على هذا التقريب لوضوح فساده،
فالأولى ان يقال ان مراده (قدس سره) ان الشك المسببي لا يصلح لان يكون مانعا
عن حكم العام الثابت للشك السببي لان المانع عن الشئ يكون سابقا عليه في
المرتبة لأنه في مرتبة موضوعه وعلته، وحكم العام والشك المسببي في مرتبة
واحدة، لأنهما معا من قبيل لوازم الوجود بالنسبة إلى الشك السببي، فيمتنع أن يكون
الشك المسببي مانعا عن الحكم الثابت في مورد الشك السببي لان مانعيته عنه
تقتضي تقدمه عليه ولو طبعا.
وعلى هذا الوجه لا يرد شئ مما أورده المحقق الأصفهاني. فلاحظ.
الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (2): من أن الأصل في الشك السببي رافع تشريعا
لموضوع الأصل في الشك المسببي. وبما أن جعل الاحكام بنحو القضايا الحقيقية فلا
نظر للحكم إلى وجود موضوعه وعدمه، بل الدليل يتكفل ثبوته على تقدير وجود
الموضوع.

(1) المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدارية 3 / 132 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 683 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
257

وعليه فلا يصلح الأصل في الشك المسببي للمنع عن الأصل السببي لان
مانعيته عنه معناها المحافظة على موضوع نفسه لأنه يمنع عما يمنع عن موضوعه
وقد عرفت أن الحكم لا يصلح لذلك وانما هو يثبت على تقدير ثبوت الموضوع اما
أنه يكون بنحو يثبت الموضوع فذلك أجنبي عن مفاد أدلة الاحكام فإنها انما
تتكفل ثبوت الاحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها ولا تتكفل ثبوت
الموضوعات.
وهذا الوجه غير تام نقضا وحلا..
اما الأول فإنه ينتقض بالمتزاحمين فان الحكم في كل منهما يمنع عما يمنع عن
موضوعه وهو الحكم الآخر الموجب لصرف القدرة إلى متعلقه المانع عن موضوع
ذاك الحكم وهو القدرة نظير التزاحم بين وجوب انقاذ هذا الغريق ووجوب انقاذ
ذاك الغريق فان وجوب انقاذ كل منهما يقتضى صرف القدرة إلى متعلقه وهذا يعنى
المحافظة على موضوعه والمنع عن الحكم الاخر المانع عن موضوعه باقتضائه
صرف القدرة إلى متعلقه.
واما الثاني: فمجمله ان امتناع كون حكم الشك المسببي مانعا عن حكم
الشك السببي إما لأجل ان دليل الحكم في القضايا الحقيقية يتكفل ثبوته على
فرض ثبوت الموضوع فيمتنع حينئذ تكفله للمحافظة على موضوعه لأنه خلف
وإما لأجل ان الحكم بعد فرض كونه ثابتا على تقدير الموضوع كان متأخرا عن
موضوعه فيمتنع ان يؤثر فيما هو في رتبة العلة لموضوعه وهو المانع لاستلزامه
تقدم المتأخر على مرتبته وهو محال.
فإن كان المحذور هو الأول فهو تام في نفسه إذ محافظة دليل الحكم على
موضوع الحكم خلف فرض كونه متكفلا لثبوته على تقدير الموضوع ولكنه انما
يمتنع ذلك بالمباشرة اما إذا كان دليل الحكم مؤثرا في شئ يلزمه الموضوع فلا
محذور فيه نظير تأثير الحكم المأخوذ في موضوعه القدرة في حكم العقل بعدم
258

صحة تعجيز المكلف نفسه المستلزم لتحصيل القدرة والمحافظة عليها بنفس الخطاب
المتكفل لبيان الحكم وما نحن فيه من هذا القبيل فان دليل الحكم انما يؤثر في رفع
المانع المستلزم لثبوت الموضوع وليس تأثيره في ثبوت الموضوع بالمباشرة.
وان كان الثاني فحله - في نفسه - بوجهين - وان كان ما يرتبط بما نحن فيه من
هو الثاني دون الأول الا انه ذكرناه استقصاء للحل بالنسبة إلى غير ما نحن فيه من
الموارد.
الأول أن يكون التأثير بقاء لا حدوثا بمعنى ان الحكم الثابت لموضوعه فعلا
يؤثر في المحافظة على موضوع استمرار الحكم فالحكم المتأخر عن الموضوع
المحافظ عليه هو الحكم في مرحلة الاستمرار والبقاء.
اما الحكم المؤثر فهو الحكم في مرحلة الحدوث وهو غير متأخر رتبة عن
موضوع الحكم في مرحلة استمراره وبقائه.
الثاني: أن يكون التأثير في مرحلة الاقتضاء وذلك لان الحكم الثابت على
تقدير ثبوت موضوعه انما هو الحكم الفعلي اما الحكم في مرحلة الاقتضاء وقبل
الوصول إلى حد الفعلية فهو ثابت ولو لم يثبت الموضوع فيمكن أن يكون المؤثر في
رفع المانع عن الموضوع فيما نحن فيه انما هو الحكم في مرحلة الاقتضاء الثابت قبل
ثبوت الموضوع وهو غير متأخر رتبة عن مرحلة الموضوع وعلله، وبالمحافظة على
الموضوع يثبت الحكم الفعلي فتدبر جيدا.
الخامس ما عن المحقق النائيني (قدس سره) من أن الأصل المسببي لا يصلح
لمعارضة الأصل السببي لاستلزامه تقدم الشئ على نفسه لان الشك السببي
علة؟؟ للشك المسببي والحكم المترتب عليه - أي على المسبب - في رتبة متأخرة
عنه ضرورة تأخر كل حكم عن موضوعه والحكم في الشك السببي بما أنه رافع
للشك المسببي يكون في رتبة سابقة عليه فمعارضة الحكم في الشك المسببي
للحكم في الشك السببي يستلزم تقدم الشئ على نفسه - لأنه متأخر عنه
259

بمرحلتين -. وهو محال (1).
وهذا الوجه كسابقه غير تام لان اتحاد الرتبة بين الأصلين المتعارضين ليس
شرطا في امكان التعارض كي تكون معارضة المتقدم للمتأخر مستلزمة للمحال
من تقدم الشئ على نفسه بل المعارضة تصح بين المتقدم والمتأخر زمانا فضلا
عن فرض التقدم والتأخر الرتبي نظير تعارض الأصول في أطراف العلم الاجمالي
في الأمور التدريجية.
الجهة الثانية: في كيفية التقديم فهل هو بالورود أو الحكومة؟ أو غيرهما؟
الحق انه بالورود، وبيانه يتضح بذكر وجه التقديم فانتظر.
وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى أنه بالحكومة بتقريب انه حيث:
تعتبر السببية الشرعية بين الشك السببي والمسببي بان يكون أحد المشكوكين من
آثار المشكوك الآخر شرعا.
ويعتبر أيضا كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي وهو الشك
يكون الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي لأنه رافع لموضوعه.
والاشكال فيه بان من مقومات الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الاخر
في مرحلة دلالته وهذا لا يتم في مثل الاستصحابين إذ الاستصحاب بجميع افراده
مدلول لدليل واحد لان استناد الحكم الاستصحابي في شتى موارده من دليل
واحد فلا يتحقق فيه شرط الحكومة وان قلنا بانحلال الدليل العام إلى قضايا
متعددة بتعدد موارده إذ ذلك لا يستلزم تعدد الأدلة وتحقق النظر المقوم للحكومة،
إذ لا معنى له في القضايا الانحلالية الحاصلة بالتعمل العقلي.
مندفع بان هذا ناشئ عن عدم التفريق بين الحكومة الظاهرية والحكومة
الواقعية فان اعتبار نظر أحد الدليلين إلى الاخر المستلزم لتعدد الدليل خارجا انما

(1) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 / 682 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
260

هو في مورد الحكومة الواقعية كحكومة أدلة إلغاء شك كثير الشك على أدلة احكام
الشك. دون الحكومة الظاهرية كما فيما نحن فيه فإنه لا يعتبر فيها الا كون الدليل
الحاكم رافعا لموضوع الاخر في عالم التشريع.
ويؤخذ على هذا الكلام مؤاخذات
الأولى: ان الحكومة بأي معنى كانت - واقعية أو ظاهرية - لا بد فيها من نظر
الدليل الحاكم إلى المحكوم إذ لا وجه لتقدم الدليل المتكفل لنفى الموضوع على الدليل
المتكفل لاثبات الحكم لموضوعه الواقعي الا كونه ناظرا إلى نفى آثاره واحكامه
الثابتة له بالدليل المحكوم وإلا فلا وجه لتقدمه عليه إذ مفاد الحاكم نفى الموضوع
تشريعا لا تكوينا كي تنتفي آثاره الشرعية الثابتة له بمقتضى الدليل المحكوم.
الثانية: انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم لزوم النظر في الحكومة الظاهرية،
فالمقام ليس من موارد الحكومة الظاهرية كما قرره (قدس سره)، إذ ليس المراد من
الحكومة الظاهرية كون الدليلين متكفلين للحكم الظاهري، بل المراد ان أحد
الدليلين لا يكون ناظرا إلى مدلول الاخر بحسب الواقع - وان كان ذلك الاخر دليلا
ظاهريا إذ واقع كل بحسبه - بل يكون ناظرا إليه ومتصرفا فيه مع فرض الاغماض
عن الواقع والجهل به - ولذلك عرفها (قدس سره) في مبحث التعادل والترجيح بما
كان موضوع الدليل الحاكم متأخر الرتبة عن موضوع الدليل المحكوم، كحكومة
الامارات على الأدلة الواقعية - فتمامية الحكومة الظاهرية في المورد انما تتحقق
بفرض الشك في تحقق موضوع الاستصحاب المسببي وهو غير مفروض بل غير
متحقق، إذ موضوعه - وهو الشك واليقين - لا شك فيه مع قطع النظر عن
الاستصحاب السببي، فالحكومة لو تمت فهي واقعية، وهي تستلزم النظر بلا كلام،
كما اعترف به (قدس سره) في صريح كلامه.
الثالثة: - وهي أهم المؤخذات - انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بامكان تحقق
الحكومة الواقعية بين مدلولي دليل واحد فالأصل السببي غير حاكم على الأصل
261

المسببي كما ادعى إذ الحكومة تتقوم بالتصرف في موضوع المحكوم توسعة وتضييقا.
والأصل السببي لا يتصرف في موضوع الأصل المسببي سواء قلنا بان
المجعول بدليل الاستصحاب هو اليقين أو المتيقن..
اما بناء على تكفله جعل المتيقن، فعدم حكومته واضح، وذلك أن موضوع
الاستصحاب هو اليقين والشك، وبجريان الأصل السببي لا يرتفع الشك بالأثر
الذي يكون مجرى الأصل المسببي تعبدا، إذ به يثبت الموضوع وتترتب عليه آثاره،
فالتعبد انما هو بنفس الآثار لا باليقين بها.
وبعبارة أوضح: ان الذي يتكفله الأصل السببي انما هو تنزيل الأثر منزلة
الواقع، لا تنزيل اليقين به منزلة اليقين بالواقع.
والحكومة انما تتحقق بالمفاد الثاني لا الأول واليقين الوجداني بالواقع
التعبدي لا يجدي في رفع الموضوع، إذ المأخوذ في الموضوع هو اليقين بالواقع بنحو
التقييد لا التركيب، والأصل لا يتكفل التعبد بالمقيد بما هو كذلك، بل انما يتعبد
بالقيد، وهو لا يحقق ثبوت المقيد بما هو مقيد - وقد مر بيان ذلك تفصيلا في رد
امكان دعوى حكومة الامارة على الاستصحاب بناء على جعل المؤدى فراجع -
واما بناء على تكفله جعل اليقين بالمستصحب، فتارة يلتزم بأنه كما يتكفل
جعل اليقين بالمشكوك يتكفل أيضا جعل اليقين بآثاره ولوازمه الشرعية. وأخرى:
لا يلتزم بذلك، بل يلتزم بأنه يتكفل جعل اليقين بنفس المشكوك فقط وتترتب
عليه نفس الآثار، فالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها.
فالكلام في البناء الأول - أعني: البناء على جعل المتيقن لا اليقين - يجرى
بعينه على الالتزام الثاني - أعني: الالتزام بالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها - كما هو
واضح جدا.
واما على الالتزام الأول، فالأصل السببي وان كان يتكفل التعبد باليقين
بطهارة الثوب كما يتعبد بطهارة نفس الماء - مثلا - إلا أن الاستصحاب المسببي
262

أيضا يتكفل - في نفسه - التعبد باليقين بنجاسة الثوب بقاء، فأحد الأصلين يتكفل
التعبد باليقين ببقاء المستصحب والآخر يتكفل التعبد باليقين بزواله، فكيف يجعل
أحدهما حاكما على الاخر؟ وباي ملاك يكون ذلك؟
ونتيجة ما ذكرناه: ان الأصل السببي لا يكون بدلالته الالتزامية الشرعية
حاكما على الأصل المسببي، إذ لا يتكفل رفع الموضوع تعبدا، بل الأصلان
متعارضان، فالأصل المسببي بدلالته المطابقية يعارض الأصل السببي بدلالته
الالتزامية - إذ دلالته المطابقية لا تتنافى بنفسها مع دلالة الأصل المسببي - وعليه
فالأصل السببي..
اما أن يكون مجراه ذا اثر آخر غير المشكوك في مورد الأصل المسببي،
كطهارة الماء، فان لها اثر غير طهارة الثوب المشكوكة وهو حلية الشرب.
واما ان ينحصر اثره الشرعي بالمشكوك بالشك المسببي.
فعلى الأول: يكون الأصل السببي متكفلا بالالتزام الشرعي لثبوت كلا
الأثرين من حلية الشرب وطهارة الثوب في استصحاب طهارة الماء والأصل
المسببي بدلالته على نجاسة الثوب انما ينافيه في احدى دلالتيه الالتزاميتين، وهي
دلالته طهارة الثوب المغسول بالماء، فالمعارضة انما تكون بين هذه الدلالة الالتزامية
وبين الأصل المسببي، فتجرى قواعد التعارض بينهما بالخصوص ويبقى الأصل
السببي بدلالته المطابقية والالتزامية الأخرى سالما عن المعارض فيلتزم به.
هذا إذا قلنا بان للأصل دلالات التزامية متعددة بتعدد الآثار، ولم نقل بان
دلالة الأصل السببي على ترتب آثاره المتعددة بدلالة التزامية واحدة تتكفل ترتب
جميع آثاره بنحو الاطلاق، والا فمع القول بذلك يكون الأصل المسببي مقيدا
لاطلاق الدلالة الالتزامية وبذلك يجمع بينهما عملا.
وعلى الثاني: فالتعارض بين الدلالة الالتزامية الوحيدة للأصل السببي
والدلالة المطابقية للأصل المسببي، ومقتضى التعارض التساقط، وبعده يبقى مجرى
263

الأصل السببي بلا اثر شرعي، فيكون التعبد به لغوا، فيسقط الأصل السببي
باللغوية لا بالتعارض، إذ قد عرفت عدم التنافي بين الدلالتين المطابقيتين للأصلين
حتى بدوا.
والمحصل: انه في مورد المنافاة بين الأصلين يسقطان معا لتعارضهما ولا يتقدم
أحدهما على الاخر. وبعد ذلك فإن كان للمستصحب في مورد الأصل السببي اثر
آخر غير موضوع المعارضة جرى وترتب بواسطته ذلك الأثر والا لم يجر أصلا
للغوية التعبد فلاحظ.
ومن هنا يظهر ما في بعض كلمات الشيخ في الرسائل، وقرره المحقق
الخراساني (1) في الكفاية في تقريب وجه تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي
من: انه مع الاخذ بالأصل السببي يكون رفع اليد عن الأصل المسببي بوجه بخلاف
العكس فان الاخذ بالأصل المسببي يستلزم رفع اليد عن الأصل السببي بلا وجه أو
على وجه دائر.
فان هذا التقرير غير وجيه بعد ما عرفت إذ مع الاخذ بالأصل المسببي بأي
وجه كان، فإن كان لمجرى الأصل السببي اثر آخر، لا ترفع اليد عنه بل يبقى ثابتا
ويترتب بواسطته ذلك الأثر. وإن لم يكن له اثر، فرفع اليد يكون بوجه غير دوري
وهو اللغوية، لا بوجه دائر ولا بلا وجه.
ومركز الغفلة، هو اخذهم الأصل السببي بمجراه ودلالته المطابقية طرف
المعارضة مع الأصل المسببي. ومعه لا يتم الوجه الذي ذكروه، إذ الأصل السببي في
مورد يؤخذ به ولا ترفع اليد عنه، وفى مورد ترفع اليد عنه ولكن بوجه وهو لغوية
التعبد به.
واما ما افاده الشيخ في الوجه الثاني - على ما وجهنا به عبارة الكتاب من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 431 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
264

انه بجريان الأصل السببي يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الشك المسببي، إذ
النقض يكون بالدليل.
ففيه: ما أشرنا إليه في مبحث تقريب ورود الامارة على الاستصحاب من انه
مع الالتزام بإرادة الشك الوجداني من الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب لا
عدم الحجة: لا وجه للالتزام بإرادة السببية من الباء في قوله: " بالشك " بل يكون
المراد عدم نقض اليقين في مورد الشك، سواء كان الاستناد إليه أو إلى غيره، فكون
النقض بالدليل في مورد الشك المسببي مع جريان الأصل السببي لا يجدي في
خروج المورد عن عموم دليل الاستصحاب مع ثبوت الشك في مورده كما هو
الفرض. فتدبر جيدا.
والذي ينبغي ان يقال: ان الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي بالورود،
وذلك لما تقدم في تقريب ورود الامارة على الاستصحاب: ان المراد بالشك المأخوذ
في موضوع الاستصحاب، هو عدم الحجة والدليل لا الصفة الوجدانية الخاصة.
وعليه، فالأصل السببي بجريانه يرفع موضوع الأصل المسببي وهو الشك -
بمعنى عدم الحجة - لأنه يكون دليلا وحجة على خلاف الحالة السابقة فيه ومعه
يرتفع موضوعه.
وبما أن المقتضي لجريان الأصل السببي ثابت لتمامية موضوعه، وليس هناك
ما يمنع من جريانه الا ما يتوهم من الأصل المسببي ولما كان الأصل السببي -
بدلالته الالتزامية - رافعا لموضوعه تكوينا ونافيا لمقتضيه، فلا يصلح حينئذ للمانعية
عن الأصل السببي، إذ مانعيته تتوقف على ثبوته المتوقف على عدم جريان الأصل
السببي، فيمتنع ان يستند عدم جريان الأصل السببي إليه للزوم الدور. وليس
الأصل المسببي ناظرا إلى نفس مجرى الأصل السببي بحيث يرتفع بجريانه موضوعه
كي يحصل التمانع من الطرفين، ويكون مقتضى كل منهما متوقفا على عدم الاخر، فلا
يصلح أحدهما بخصوصه دون الآخر للمنع عن الآخر.
265

وهذا الوجه تام في جميع الصور، سواء كان الأصل المسببي مخالفا للأصل
السببي أم موافقا، وسواء كان مجرى الأصل السببي بنفسه اثرا شرعيا - كطهارة
الماء - أم لم يكن كذلك بل كان أمرا تكوينيا يترتب عليه اثر شرعي - كالكرية -
وان كان توهم عدم تقدم الأصل السببي في الأخير أقوى والاستدلال عليه أوجه
لان المجعول في الحقيقة بالأصل السببي هو الحكم، فيكونان متعارضان، لان أحد
الأصلين يثبت الحكم والاخر ينفيه.
لكن ذلك لا يجدي بعد أن عرفت أن الملاك هو كون الأصل السببي رافعا
لموضوع الأصل المسببي دون العكس إذ لا يرفع الأصل المسببي الشك في مجرى
السببي - وهو الامر التكويني - فيكون المقتضى في أحدهما منجز الثبوت وفى
الاخر معلقا فلا يصلح للمانعية الا على وجه دائر، وليس الملاك هو كون أحدهما
يثبت الموضوع والاخر الحكم كي يتأتى ما ذكر -
هذا كله بالنسبة إلى الاستصحابين المتعارضين وكان أحدهما سببا والاخر
مسببا.
واما لو كان الأصل السببي غير الاستصحاب كأصالة الطهارة، فقد استشكل
المحقق الأصفهاني (قدس سره) في تقدمها على الاستصحاب المسببي.
ولعل الوجه فيه: ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب انما هو عدم
الحجة، وأصالة الطهارة ليست حجة على الطهارة، بل هي قاعدة منتزعة عن ثبوت
الحكم في موارد الشك والدليل الدال عليها وان كان في نفسه حجة الا انه حجة
على الطهارة الظاهرية لا على الواقع، فلا يرتفع بأصالة الطهارة ولا بدليلها موضوع
الاستصحاب المسببي.
وهذا الوجه مخدوش بوجهين:
الأول: انه لم يثبت ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة، بل
يمكن الالتزام بأنه عدم المستند في مقام العمل، ولا يخفى ان الدليل على أن الطهارة
266

الظاهرية مستند في مقام العمل ولذلك يصح قصد القربة فيما يحتاج إلى الطهارة من
الاعمال.
الثاني: انه لو سلم كون المأخوذ عدم الحجة لا مطلق عدم المستند، فالطهارة
حجة بالمعنى المأخوذ عدمه في موضوع الاستصحاب، وهو المنجزية والمعذرية، فان
المعذر في صورة المخالفة والمنجز في صورة الموافقة ليس إلا هذا الحكم الظاهري وهو
الطهارة، لأنه وان كان حكما ظاهريا الا انه حكم طريقي لتنجيز الواقع نظير
وجوب الاحتياط المستفاد من الدليل الشرعي في كونه حكما طريقيا لتنجيز الواقع
- ولذا يكون العقاب مع عدم الاحتياط ومخالفة الواقع على مخالفة الواقع لا على
مخالفة وجوب الاحتياط -
وعليه، فمع الالتزام بما التزم به المحقق الخراساني من كون أدلة الطهارة حاكمة
بالحكومة الواقعية على أدلة الاشتراط - أعني أدلة شرطية الطهارة للصلاة
وغيرها - بمعنى انها توجب التصرف في موضوعها بجعل أحد افراده ولو كان في
مرحلة الظاهر فيثبت للطهارة الظاهرية الأثر المترتب على عنوان الطهارة بلسان
الأدلة. كان للدليل الدال على ترتب الأثر على الطهارة هو الوارد على الاستصحاب،
إذ دليل الطهارة لا يتكفل سوى اثبات الموضوع ليترتب عليه الأثر المدلول لذلك
الدليل، فترتب الأثر المخالف للحالة السابقة في الشك السببي بواسطة الدليل
الاجتهادي، فهو الوارد على الاستصحاب.
وهذا الكلام [لا يتأتي في] الاستصحاب السببي، لأنه انما يتكفل المتيقن على أنه
الواقع المشكوك، وعرفت ان ما يتكفل اثبات الفرد الواقعي لا يكون حاكما على
الدليل الاخر.
واما مع عدم الالتزام بذلك بدعوى أن موضوع الأثر بلسان الأدلة هو
الطهارة الواقعية، ودليل الطهارة انما يتكفل ثبوتها في حال الشك والجهل بالواقع
فهي طهارة ظاهرية، فدليل الطهارة بنفسه يكون واردا إذ مرجعه حينئذ إلى اثبات
267

اثر الطاهر للمشكوك بنفسه لا بواسطة الدليل الآخر، إذ ذاك انما يثبت ترتب الأثر
على موضوعه وهو الطهارة الواقعية.
وبالجملة: فأصالة الطهارة تكون سببا لرفع اليد عن الاستصحاب المسببي
على أي تقدير، فتدبر.
المقام الثاني: في الشكين المسببين عن ثالث..
كالشك في نجاسة هذا الاناء والشك في نجاسة ذاك المسببين عن العلم
الاجمالي بنجاسة أحدهما، إذ لولاه لما حصل الشك في نجاسة كل منهما بل يعلم
بطهارتيهما. والعلم الاجمالي تارة: يتعلق بالحكم الاقتضائي أو بما يستتبعه، كالعلم
المتعلق بنجاسة أحدهما فإنه يستتبع وجوب الاجتناب عنه وهو حكم اقتضائي،
فيكون جريان الأصلين معا مستلزما للمخالفة العملية القطعية. وأخرى: يتعلق
بحكم غير اقتضائي أو بما لا يستتبعه كالعلم المتعلق بطهارة أحدهما مع سبق
نجاستيهما، فلا يكون جريان كلا الأصلين مستلزما للمخالفة العملية القطعية. نعم،
يستلزم المخالفة الالتزامية بالبناء على نجاستيهما مع العلم بطهارة أحدهما.
فالكلام يقع في موردين:
المورد الأول: ما إذا كان يلزم من اجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية
للتكليف المعلوم بالاجمال.
والكلام تارة: يكون في وجود المقتضى لجريان كل من الأصلين. وأخرى في
ثبوت المانع وعدمه بعد فرض وجود المقتضى.
اما وجود المقتضى: فقد نفاه الشيخ في الرسائل وادعى قصور الأدلة عن
شمول المورد، بتقريب: تحقق المنافاة بين صدر الدليل وذيله بالنسبة إلى الفرض،
وذلك لان مجرى كل منهما بخصوصه حيث كان متيقن الحدوث مشكوك البقاء كان
مشمولا للصدر وهو: " لا تنقض اليقين بالشك "، ومقتضاه جريان كلا الأصلين
وحرمة النقض في كليهما، وبما أن أحدهما متيقن الارتفاع كان مشمولا للذيل، وهو:
268

" ولكن تنقضه بيقين آخر "، ومقتضاه لزوم النقض في أحدهما وعدم جريان أحد
الأصلين.
ولا يخفى ان ما يقتضيه الصدر يتنافى مع ما يقتضيه الذيل، إذ السالبة (الموجبة
خ ل) الكلية - وهي مدلول الصدر - تناقضها الموجبة (السالبة خ ل) الجزئية -
وهي مقتضى الذيل - فيتعارض الصدر والذيل بالنسبة إلى المورد ولا مرجح
لأحدهما على الاخر، فيكون الدليل مجملا، فيؤخذ به بما في القدر المتيقن، والمورد
ليس منه فيكون قاصرا عن شموله. وبهذا الوجه يخرج المورد عن موارد المعارضة، إذ ليس هو من موارد
جريان الأصلين كي تتحقق المعارضة بينهما (1).
ولكن ما ذكره الشيخ لا يمكن الالتزام به لوجهين:
الأول: ان ظاهر الخبر لزوم كون اليقين الناقض المذكور في الذيل من سنخ
اليقين بالحدوث - كما هو ظاهر المقابلة بين الصدر والذيل - فلا يصلح اليقين
الاجمالي لنقض اليقين التفصيلي يكون المورد مشمولا للأدلة، بلا ان يحصل التنافي
فيها.
الثاني: انه لو سلم إرادة اليقين الأعم من الاجمالي والتفصيلي من اليقين
المذكور في الذيل، وعدم ظهور الكلام في لزوم السنخية بين اليقين الناقض
والمنقوض، فلا وجه أيضا لدعوى قصور الأدلة عن شمول المورد، إذ من الأدلة ما
لا يشتمل على الذيل المزبور، بل يقتصر فيه على الصدر، فهو لا يقصر عن شمول
المورد، ولا يسرى اجمال غيره إليه لانفصاله عنه.
وقد أشير إلى هذين الوجهين في الكفاية (2).

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 429 الطبعة القديمة.
(2) ويمكن الخدشة فيما افاده (قدس سره) ثانيا بأنه انما يتم الرجوع إلى الروايات الخالية عن
الذيل لو فرض ان الذيل المزبور كان من القرائن المتصلة فإنه يستلزم اجمال ما اتصل به خاصة،
269

واما الكلام في ثبوت المانع وعدمه، فتحقيقه انه مع الالتزام - كما هو الحق -
بكون العلم الاجمالي علة تامة لتنجيز الواقع بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري -
سواء كان مؤدى الأصل أو الامارة - في أطرافه يكون العلم الاجمالي بالتكليف في
المقام مانعا عن جريان كل من الأصلين، لكون الواقع المنجز محتمل الانطباق على
كل من الفردين، فيمتنع ان يجرى الأصل في كل منهما كما مر توضيح ذلك في
مبحث العلم الاجمالي.
ومع هذا الالتزام يخرج المورد أيضا عن موارد المعارضة، إذ لا يكون من
موارد جريان الأصول في نفسه.
نعم، بناء على ما اختاره المحقق النائيني، من كونه علة تامة بالنسبة إلى حرمة
المخالفة القطعية، وبنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، فتجوز
المخالفة الاحتمالية - بناء على هذا - يكون المورد من موارد المعارضة، إذ العلم

اما لو فرض انه من القرائن المنفصلة كما هو الظاهر لان: " لكن " هنا للاستدراك، فتكون كلاما
مستقلا - فلا يتم ما افاده لأنها تكون مقيدة لجميع النصوص حتى غير المذيلة بها لان نسبتها إلى
الجميع على حد سواء
والتحقيق انه لا ظهور لكلام الشيخ في إرادة اجمال الأدلة كما حملت عليه عبارته بل نظره
(قدس سره) إلى امر آخر وتوضيحه: انه (قدس سره) اخذ انطباق الذيل في مورد العلم
الاجمالي مفروغا عنه وبنى ايراده على ذلك، فإنه بعد أن كان مقتضى الذيل لزوم نقض الحالة
السابقة في المعلوم بالاجمال فلا يخلو الحال اما ان يجرى الاستصحاب في كلا الطرفين أو في
أحدهما المعين أو في أحدهما المخير، والجميع باطل.
اما الأول: فلانه مناف للامر بالنقض في أحدهما المعلوم بالاجمال المفروض ثبوته.
واما الثاني: فلانه ترجيح بلا مرجح.
واما الثالث: فلان الفرد المردد ليس فردا ثالثا له وجود في الواقع فيتعين سقوط
الاستصحاب في كلا الموردين. هذا توضيح ما افاده وهو أجنبي عن دعوى الاجمال في الدليل
كما لا يخفى.
270

الاجمالي لا يمنع من جريان كل من الأصلين، بل يكون مانعا عن أحدهما، إذ
جريانهما معا يستلزم المخالفة القطعية المحرمة وإذ لا مرجح لأحدهما على الاخر في
نفسه يحصل التعارض بينهما إذ الاخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح -.
وهل الحكم التساقط أو التخيير؟ التحقيق انه التخيير لا التساقط كما حققناه
في مباحث الاشتغال.
المورد الثاني: ما لا يلزم من اجرائهما مخالفة عملية للتكليف المعلوم
بالاجمال فالتحقيق انه مع الالتزام انه مع الالتزام بما هو ظاهر الشيخ على ما تقدم من قصور
الأدلة عن شمول موارد العلم الاجمالي فلا مجال لدعوى امكان اجرائهما أو
معارضتهما، إذ المورد مشكوك المصداقية.
الا ان الذي يؤخذ على الشيخ في الألسنة والتحريرات ما التزم به من
جريان الأصلين فيما لو توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء فيجرى
استصحاب بقاء الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء مع العلم بانتقاض الحالة
السابقة لأحدهما كما لا يخفى.
والوجه فيه وحل الاشكال سنتعرض له قريبا ان شاء الله تعالى فانتظر
ومع عدم الالتزام بذلك، والالتزام بما هو الحق من كون العلم الاجمالي علة
تامة للتنجيز بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري مطلقا في أطرافه لا وجه أيضا
للالتزام بجريان أحد الأصلين وان كان المعلوم بالاجمال حكما غير اقتضائي لما
تقرر في مبحث الاشتغال من امتناع جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الاجمالي
سواء تعلق بحكم اقتضائي أو بغيره.
واما مع الالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني من كونه مقتض للتنجيز فهو علة
لحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.
أو الالتزام بأنه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ولكن امتناع جعل
الأصول في أطرافه يختص بما إذا كان المعلوم بالاجمال حكما اقتضائيا تنجيزيا دون
271

ما كان متعلقه حكما غير اقتضائي إذ لا تنجيز كي يتنافى مع جعل الأصول كما
هو ظاهر الكفاية (1).
مع الالتزام بأحد هذين الالتزامين فمقتضى القاعدة صحة جريان كلا
الأصلين في الفرض بلا معارضة كما التزم به في الكفاية لثبوت المقتضى وعم
المانع من المخالفة القطعية العملية.
الا ان المحقق النائيني (قدس سره) لم يلتزم بذلك في الأصول المحرزة والتزم
به في خصوص الأصول غير المحرزة.
وقرب التفصيل بينهما: - كما في مصباح الأصول (2) انه حيث كانت
الأصول المحرزة كالاستصحاب - تتكفل جعل الشاك متيقنا فجريان
الاستصحابين في الفرض معناه التعبد بكونه متيقنا بنجاسة هذا والتعبد بكونه متيقنا
بنجاسة ذاك وهذان التعبدان ينافيان العلم الوجداني بطهارة أحدهما.
واما الأصول غير المحرزة فحيث لا تتكفل جعل اليقين بل انما تتكفل تعيين
الوظيفة العملية في مرحلة الظاهر فلا ينافي جعل نجاسة كلا الإناءين ظاهرا العلم
الاجمالي بطهارة أحدهما واقعا
وأورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله) نقضا وحلا.
اما النقض: فيما لو كان أحد جنبا وصلى وشك بعد الانتهاء من الصلاة في أنه
اغتسل للصلاة أو لا؟ فإنه يحكم بصحة الصلاة بمقتضى قاعدة الفراغ، وبوجوب
الغسل للصلوات الآتية بمقتضى استصحاب بقاء الحدث مع العلم الاجمالي بمخالفة
أحد هذين الأصلين للواقع وكلاهما من الأصول الاحرازية.
واما الحل بأنه انما يتم لو كان التعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين - بنحو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 432 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول / 260 - الطبعة الأولى.
272

العموم المجموعي إذ التعبد باليقين بالمجموع ينافي العلم بانتفائه والامر ليس
كذلك إذ لا يقين بنجاسة المجموع بما هو مجموع بل التعبد يكون بنجاسة كل من
الإناءين لتحقق موضوع الاستصحاب في كلا الطرفين وهو اليقين السابق والشك
اللاحق والعلم الاجمالي لا يمنع من جريان كل واحد من الأصلين بخصوصه إذ لا
يتنافى معه.
ثم إنه بعد هذا تعجب من الشيخ والنائيني في التزامهما بجريان الاستصحاب
في مثل ما لو توضأ بمائع مردد بين البول والماء كما أشرنا إليه مع العلم الاجمالي
بمخالفة أحد الأصلين للواقع.
الا ان التحقيق عدم ورود شئ مما افاده على المحقق النائيني بعد امكان
رجوع كلامه (قدس سره) إلى أحد وجهين:
الأول ان التعبد باليقين بنجاسة كل من الإناءين وان كان يغاير التعبد
باليقين بنجاسة الآخر لتعدد الموضوع خارجا الا انه في الحقيقة يرجع إلى تعبد
واحد بنجاسة كلا الإناءين بنحو التعبد بالمجموع لا الجمع بين التعبدين وهو بهذه
الجهة ينافي العلم الاجمالي بطهارة أحدهما وانتفاء المجموع.
ونظيره ذلك ما يقال في منع الجمع بين طلب المهم وطلب الأهم بأنه يرجع
في الحقيقة إلى طلب الجمع فيكون من طلب الضدين وان كان بحسب الظاهر من
الجمع بين الامرين كما أشار (1) إلى ذلك بقوله: " ان هذا وإن لم يكن من طلب
الجمع بحسب الظاهر في نفي الا انه بحسب النتيجة والواقع مرجعه إلى ذلك " ويشهد
لذلك مراجعة الوجدان في الأمور التكوينية فان العلم بوجود زيد والعلم بوجود
عمرو يرجع في الحقيقة إلى العلم بوجودهما ويرجع إلى ذلك.

(1) من هنا يتضح وهو ما جاء في تقريرات بحث السيد البروجردي (رحمه الله) من أن نكتة
رجوع ذلك إلى طلب الجمع مما لم تدركها افهام من كان سابقا. فلاحظ.
273

الثاني ان التعبد باليقين وجعل الشاك متيقنا لا ينافي بنفسه العلم الوجداني
بالخلاف لان التعبد لا يعدو التنزيل والجعل وهو كثيرا ما يكون على خلاف الواقع
كما في سائر موارد الحكومة وانما المنافاة بين التعبد باليقين في كلا الطرفين والعلم
الاجمالي ناشئة من كون التعبد باليقين بالنجاسة يقتضى ترتيب الآثار الشرعية
للنجس على المشكوك المستصحب وذلك انما يكون بتوسط تنجيز (1) الواقع فعلا
بجعل اليقين فالتعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين يقتضى تنجز الواقع في كلا
الطرفين وهذا ينافي العلم بطهارة أحدهما للعلم بعدم كون الواقع في أحدهما منجزا
وبالجملة فالتعبد الاستصحابي في كلام الطرفين لما كان يرجع إلى جعل
المنجز الفعلي للواقع في كليهما كان منافيا لمقتضى العلم الاجمالي من عدم تنجز
الواقع في أحدهما.
وهذا الوجه أمتن من سابقه إذ الأول وجه تصوري لا برهان عليه.
وبهذا الوجه يندفع الايراد بالنقض إذ قاعدة الفراغ وان كانت من الأصول
المحرزة كما اعترف بذلك المحقق المزبور (قدس سره) - الا انها لا تتكفل تنجيز
الواقع مع استصحاب الحدث كي تنافي العلم الاجمالي بل تتكفل التعذير والحكم

(1) وبذلك تفترق الأصول المحرزة عن غيرها، إذ غير المحرزة لا تتكفل جعل المنجز الفعلي
للواقع وان كانت فعلا مؤداها، بل الواقع انما ينجز بها على تقدير المصادفة.
والتنجز الذي تتكفله الأصول المحرزة هو التنجز الفعلي وهو واقع التنجز بحيث يرى
المكلف ان الواقع بقيام الأصل صار في عهدته كما لو تيقن وجدانا وهذا ينافي العلم بعدم كونه
في أحد الطرفين في العهدة.
واما التنجز الذي يتكفله الأصول غير المحرزة فهو التنجز التعليقي وهو لا ينافي العلم
الوجداني إذ لا يرى المكلف ان الواقع بقيام الأصل صار منجزا في كلا الطرفين فلاحظ
بهذا الوجه تفترق الأصول المحرزة عن غيرها لا بلحاظ كون التقييد في المحرزة بلحاظ
ترتيب الأثر، إذ هو مشرك بين كلا الأصلين فلاحظ وتدبر.
274

بفراغ الذمة فلا تنافى العلم الاجمالي.
ومنه يتضح أيضا الوجه في الحكم بجريان الأصول فيما لو توضأ بمائع مردد
بين الماء والبول ونظيره مما يكون التلازم بين مجرى أحد الأصلين وعدم مجرى
الآخر فان استصحاب الطهارة لا يتكفل التنجيز إذ الطهارة ليست حكما اقتضائيا
فلا تنافى بين الأصلين وبين العلم الاجمالي فتدبر جيدا.
واما توجيه ما ذكره الشيخ من جريان الأصلين في الفرض مع التزامه سابقا
بقصور الأدلة عن شمول موارد العلم الاجمالي، فبتقريب: ان المعلوم بالاجمال - وهو
زوال أحدهما لا يترتب عليه اثر شرعي إذ الواحد المردد بينهما ليس بموضوع
لأثر شرعي فلا يكون مشمولا للذيل وهو وجوب النقض إذ لا يشمل الا ما كان
مورد الأثر.
وعليه فيبقى الصدر بلا مزاحم فيشمل باطلاقه المورد ولا مانع منه إذ لا
يلزم من جريانهما مخالفة عملية لتكليف منجز.
وبالجملة ما يكون مانعا عن ثبوت المقتضى لجريان الأصلين وعن تأثيره
مفقود في الفرض فيثبت الأصلان وقد أشار (قدس سره) إلى ذلك في كلامه،
فلاحظ وتأمل والله ولى العصمة.
انتهى تحرير مبحث تعارض الاستصحاب مع غيره من الأصول والامارات
في يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رجب في السنة الثالثة والثمانين بعد الألف
والثلاثمائة واما تدريسه فقد انتهى في تمام من ربيع الأول من هذه السنة ويليه
مبحث التعادل والترجيح.
275

التعادل والترجيح
277

التعادل والترجيح
تمهيد
لما كان معنى التعادل هو تساوى الأدلة في المزايا، والترجيح هو اشتمال
أحدها على مزية ليست في الآخر. كان المهم من موارده الروايات المتعارضة بل
كان مورده تعارض الأدلة. فلا بد أولا من تعريف التعارض وبيان ضابطه كي تتميز
الموارد التي تجرى فيها قواعد الترجيح والتعادل من غيرها فنقول ومنه نستمد
العصمة - الاحتمالات في ضابط التعارض ثلاثة:
الأول: انه تنافى المدلولين، كأن يكون أحد المدلولين منافيا للاخر، كما إذا كان
أحدهما الوجوب والاخر الحرمة. وهو الذي ينسب إلى المشهور.
الثاني: انه تنافى الدليلين بلحاظ تنافى مدلوليهما، فالتنافي أولا وبالذات بين
المدلولين أنفسهما، وينسب إلى الدليلين بالمسامحة - لما هناك من المناسبة بين الدليل
والمدلول - ولا تنافى بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقة، لان كلا منهما يفيد الظن
النوعي، بل مورد الكلام ما كان الدليلان كذلك.
279

نعم، لو كان دليلية الدليل من باب الظن الشخصي، لكان التنافي الحقيقي بينهما
ممكن الوقوع، إذ لا مجال لافادتهما معا الظن الشخصي كما لا يخفى، لكنه خلاف
الفرض.
وهذا التنافي المسامحي هو الذي ينطبق عليه التعارض حقيقة، فالتنافي
منسوب إلى الدليلين بالمسامحة، والتعارض منسوب إليهما حقيقة، ولا منافاة كما لا
يخفى.
الثالث انه تنافي الدليلين لكن لا بلحاظ تنافي مدلوليهما بل بلحاظ مقام
الاثبات والدليلية فان كلا منهما يحاول اثبات ما ينافي ما يريد اثباته الآخر.
وينفى الاحتمال الأول بما أفاده بعض الأعاظم من أن التعارض انما يتحقق
بين أمرين موجودين خارجا فيعارض أحدهما الآخر والمدلولان بذاتيهما لا
يمكن وجودهما لتنافيهما فلا معنى لحصول التعارض بينهما فتأمل (1).
فيدور الامر بين الاحتمالين الآخرين.
ويمكن ان يقال في ترجيح الاحتمال الثالث ان المفهوم من لفظ التعارض
عرفا هو المدافعة الحاصلة بين شيئين أو أشياء على شئ واحد بحيث تكون غاية
كل منهما الحصول على ذلك الشئ.
وهذا للاحتمال الثالث أقرب منه إلى الاحتمال الثاني فان كلا من الدليلين -
على الاحتمال الثالث - يحاول اثبات مضمونه وجعله حقيقة خارجية.
وليس على الاحتمال الثاني هذا المعنى إذ ليس هناك امر يدافع أحد الدليلين
الاخر لغاية الحصول عليه.
هذا مع عدم تصور التنافي في مقام الدلالة والكشف بعد اعتبار الظن النوعي
في الحجية لا الظن الشخصي وحمله على التنافي مسامحة وكون التنافي حقيقة بين
ذات المدلولين خلاف الظاهر.

(1) الخراساني الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 437 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
280

مضافا إلى أن هناك من لا يقول بتكفل الامارات أحكاما شرعية ظاهرية
بل يقول بان مفادها الحجية أو المنجزية ونحوهما.
فالتدافع بين الامارات انما يكون في مقام الاثبات لا مقام الدلالة إذ لا نظر
للاعتبار إلى المدلول أصلا.
وما ذكرناه يمكن أن يكون مراد صاحب الكفاية (1) وان احتمل غيره
والأمر سهل.
ثم إن التنافي في الدلالة على وجه التناقض غير متصور لان الدلالة من
الأمور الوجودية فالتنافي بين الدلالتين لا يكون الا على وجه التضاد.
ثم إن صاحب الكفاية ذكر: ان التنافي قد يكون عرضيا كما لو علم اجمالا
بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا.
ويبدو من المحقق النائيني الاشكال فيه، وان مثل ذلك يكون من موارد
اشتباه الحجة باللا حجة (2).
والتحقيق ان العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين له صور ثلاث:
الأولى ان يعلم بسقوط أحدهما من باب العلم بعدم امكان الجمع بين
الدليلين مع عدم العلم بكذب أحدهما واقعا بحيث لا يتميز كما في الأصلين
المتعارضين في موارد العلم الاجمالي، فان الجمع بين الحكمين الظاهريين ممتنع
لاستلزامه الترخيص في المعصية ولا يعلم بكذب أحدهما في الواقع.
الثانية ان يعلم بعدم صحة أحد الخبرين واقعا وهو المعبر عنه بالكذب
الخبري كما لو قام أحد الخبرين على وجوب القصر والاخر على وجوب التمام
وعلم بعدم وجوب احدى الصلاتين.
الثالثة ان يعلم بعدم صدق أحد الخبرين بالكذب المخبري.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 437 طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
(2) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 / 703 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
281

والصورة الأخيرة هي مورد اشتباه الحجة باللا حجة دون الأولتين
فالاشكال لو كان فإنما هو على اطلاق الكفاية على أصل مراده. فلاحظ
وعلى كل حال فهذا ليس بمهم في محل الكلام بعد ما عرفت تحقيق الحال
وانما المهم من الكلام يقع فيما افاده من خروج بعض الموارد عن التعارض
وهي موارد الحكومة والورود والجمع العرفي، والخاص والعام والمطلق والمقيد
والنص أو الأظهر والظاهر.
فالكلام في موارد:
المورد الأول في الحكومة والبحث فيها في جهتين:
الأولى: في وجه تقديم الدليل الحاكم على المحكوم، وقد سبق الكلام في ذلك
مفصلا، فراجع
الثانية في معنى الحكومة بنظره - أي صاحب الكفاية - وانها عنده عبارة
عن نظر أحد الدليلين إلى الاخر في مرحلة دلالته، مطلقا بأي نحو من انحاء النظر
أو انها بنظره أخص من ذلك بمعنى انها نظر أحد الدليلين إلى الاخر بالشرح
والتفسير بكلمة: " أعني " ونحوها كما نسب ذلك إليه المحقق النائيني (قدس
سره) (1).
قد يقال بان الضابط لديه هو النحو الأول ولا أساس لنسبة المحقق المذكور
إليه تخصيص ضابطها بالنظر بنحو الشرح، لظهور عبارته في المقام في الأول ويؤيده
ما افاده في الحاشية (2) من موافقته الشيخ (رحمه الله) (3).
ولكن الانصاف ان النسبة المذكورة غير مجازفة في القول بل لها أساس تبتني
عليه وهو ما ذكره في المقام في نفي حكومة الامارات على الأصول من: ان دليل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 438 طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 256 الطبعة الأولى.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 432 - الطبعة القديمة.
282

اعتبارها ليس ناظرا إلى أدلتها وشارحا لها.
ومراده بالشرح خصوص التفسير بألفاظه لا مطلق النظر والقرينية - إذ انه
شرح بالملازمة - لما يذكره بعد ذلك في وجه تقدم الأظهر على الظاهر ومنه العام
والخاص من انه بالقرينية، مع التزامه انه ليس بنحو الحكومة بل بنحو الجمع
العرفي فإنه ظاهر في أن مطلق القرينية غير موجب للحكومة وإلا لكان تقدم
الأظهر على الظاهر بنحو الحكومة عنده ولا يلتزم به فتدبر.
المورد الثاني في الجمع العرفي والكلام فيه مع صاحب الكفاية من جهتين:
الأولى في وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على
الظاهر وهو ما كانت ملاحظة كلا الدليلين موجبة للتصرف فيهما.
قد يذكر لذلك ما إذا ورد الدليل على وجوب شئ وورد الآخر على
وجوب غيره فإنه بملاحظتهما معا يحملان على بيان الوجوب التخييري وتلغى
خصوصية التعيين المستفادة بالاطلاق من كل منهما الموجبة لحصول التنافي بين
الدليلين.
ولكن هذا في الحقيقة من باب تقديم النص على الظاهر لان كلا منهما نص
في الوجوب ظاهر في التعيين بواسطة الاطلاق فظاهر كل منهما ينافي نص الاخر
فالمثال من موارد تقديم النص على الظاهر وما يكون أحدهما قرينة على التصرف
في الآخر.
وقد يجعل هذا المورد من موارد تعارض الاطلاقين والقاعدة تقتضي
التساقط برفع اليد عن اطلاق كل منهما المقتضى للتعيين وعليه لا يكون المورد من
موارد الجمع العرفي أصلا بل هو نظير تعارض العامين من وجه وتساقطهما في
المجمع.
الثانية: ما ذكره من أن تقديم الأدلة المتكفلة للاحكام بعناوينها الثانوية
كأدلة نفي الضرر أو الحرج على الأدلة المتكفلة للاحكام بعناوينها الأولية بالجمع
283

العرفي بحمل الأولى على الحكم الفعلي والثانية على الحكم الاقتضائي فهو مثال لما
تكون ملاحظة الدليلين موجبة للتصرف في أحدهما كما لا يخفى -.
وفيه تأمل لوجهين:
الأول ان الحكم الاقتضائي بمعنى لا معنى له فيما نحن فيه وبمعنى آخر لا
يلتزم به صاحب الكفاية.
بيان ذلك أنه (1) ان أريد بالحكم الاقتضائي ما هو المشهور المصطلح
للوجود الاقتضائي للشئ وهو ان المقتضى - بالفتح - بوجود مقتضيه وينسب إليه
الوجود مسامحة وبالعرض فالحكم موجود لوجود مقتضيه.
فهذا لا معنى له في الفرض لان المقتضى الذي يترشح عنه المعلول في
الاحكام هو الجاعل وهو الله سبحانه وتعالى فالاحكام مطلقا موجودة منذ
الأزل بوجوده الأزلي وهذا غير ما نحن فيه لان المراد ان المحمول على الاقتضاء
هو الحكم المدلول للدليل في قبال غيره لا ذات الحكم بلحاظ جاعله وموجده.
وان أريد به كونه ذا مصلحة يقتضي تحققها فهو ذو اقتضاء للتحقق باعتبار
وجود المصلحة في متعلقه فهو غير معقول لان نفس المصلحة معادلة لمتعلقه
بالوجود ومتأخرة عنه فلا يعقل ان تكون موجودة في رتبة الحكم ويكون للحكم
بها نحو ثبوت.
وان أريد به الحكم الطبعي الذي هو عبارة عن ثبوت الحكم لذات الموضوع
بلا لحاظ عوارضها الخارجية فالموضوع مهمل في مقام الاثبات إذ لا يعقل

(1) أقول ليس الحكم الاقتضائي ما هو الظاهر في لسان الأصوليين وهو ما كان واجدا
للملاك فهو ذو اقتضاء للثبوت لواجديته لملاكه ولكن هناك مانع من فعلية هذا الملاك وقد
عرضت هذا على السيد الأستاذ - دام ظله - فأقره وقرب واجدية الملاك بان الأدلة المتكفلة
لبيان الاحكام بالعنوان الثانوي ظاهرة في الامتنان والتسهيل وذلك ظاهر في أن رفع الحكم لم
يكن لعدم الملاك بل من باب التسهيل على المكلف والا فالملاك موجود وعلى هذا فما ذكر من
التفصيل لا مجال له فينحصر الاشكال على الآخوند بالثاني فتدبر.
284

اهماله في مرحلة الثبوت فالدليل مهمل بالنسبة إلى الفرد الخاص
ويكون الدليل الدال على نفي الحكم عن الفرد الخاص مخصصا للموضوع
فهو وان كان معقولا الا انه (قدس سره) لا يلتزم به لأنه يقتضى عدم ثبوت الملاك
في الموضوع الخاص مع أنه يلتزم ببقاء الملاك ويستفيد بقاءه من اطلاق نفس
الدليل الدال على الحكم ومع الالتزام بالاهمال فيه كيف يستفاد منه ثبوت الملاك في
مورد المزاحمة؟
الثاني انه مع التنزل والتسليم بوجود معنى معقول للحكم الاقتضائي لا
محذور فيه فما ذكره من الحمل العرفي المذكور يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ولا نرى
لذلك وجها، كما أنه لم يذكر الوجه فيه فهو يرجع إلى الجمع التبرعي غير المستند
إلى وجه وهو غير حجة كما لا يخفى.
والتحقيق هو التفصيل بين ما يكون دليل حكم العنوان الأولي متكفلا لحكم
اقتضائي كالوجوب وما يكون الدليل متكفلا للإباحة ففي الأول يقع التعارض بين
دليل الحكم الأولي ودليل الحكم الثانوي ولا وجه لحمل الأول على الحكم
الاقتضائي في الثاني فالتفت.
المورد الثالث: في الورود وقد تقدم الكلام مفصلا في وجه تقديم الوارد على
المورود وفي بطلان ما ساقه الآخوند (رحمه الله) من الوجه على التقديم وعدم
تماميته فلا نعيد.
واما تقديم الامارة على الاستصحاب فقد تقدم الكلام فيه مفصلا وتقدم
بعض الإشارة إلى ما ذكره في الكفاية في هذا البحث فراجع.
المورد الرابع: في تقديم الخاص والمقيد على العام والمطلق.
وبما أن هناك من يرجع العام والخاص إلى المطلق والمقيد - كالمحقق
النائيني (1) - لا بد من تقديم الكلام عن تقدم المقيد والمطلق.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 443 الطبعة الأولى.
285

وفى تحقيق الحال في ذلك لا بد من تحقيق امر له كل المساس فيما نحن فيه كما
له المساس المهم فيما يأتي من البحث عن انقلاب النسبة (1).

(1) تحقيق الكلام في هذا المقام ان يقال: ان تعدد الإرادة في الكلام ووجود الإرادة الاستعمالية
والإرادة الجدية بالمعنى المذكور في المتن مما لا اشكال فيه ولا يقبل الانكار، كما أنهما قد يختلفان
كما في موارد الاستعمالات الكنائية - وقد يتفقان.
وانما الاشكال في طريق تشخيص المراد الجدي للمتكلم وكونه على طبق ظاهر كلامه
أو غيره وانه هل هو بواسطة ظاهر اللفظ كما هو المعروف - حيث إن المعروف تشخيص المراد
الجدي من طريق ظاهر اللفظ فيكون الظاهر حجة وهو المعبر عنه بأصالة الظهور ومطابقة مقام
الاثبات لمقام الثبوت -، أو انه بطريق آخر؟. الحق هو الثاني وذلك لان المراد الجدي للمتكلم
يعرف بأمرين ينضم أحدهما للاخر..
أحدهما: احراز كون المتكلم في مقام الجد في كلامه وانه يريد بيان امر واقعي به في قبال
الهزل أو غيره.
والآخر احراز مدلول الكلام وما قصد به تفهيمه.
فإذا حصل هذان الأمران يحصل العلم بالمراد الواقعي وانه مطابق للمراد الاستعمالي وما
قصد تفهيمه.
فمثلا لو قال: " جاء زيد من مكة المكرمة " فلدينا أمور ثلاثة: الامر الخارجي من مجئ زيد
وعدمه والمراد التفهيمي والمراد الجدي وهو ما قصد الحكاية عنه.
ولا يخفى ان الأول لا يعرف بالخبر وهو خارج عنه ولذا يتحقق الخبر مع العلم بعدم
المطابقة والكذب فليس الامر الخارجي وهو ذات ما أخبر عنه بمراد جدي وانما المراد الجدي
هو ما قصد الحكاية عنه بما هو متعلق القصد أو فقل: ان الاخبار عن الشئ هو المراد الجدي.
وهذا هو المطلوب معرفته بالكلام وهو يعرف - كما تقدم - باحراز مدلول الكلام واحراز
قصد الحكاية به وان المتكلم في مقام الاخبار لا في مقام آخر.
وهذا ليس من حجية الظهور في شئ إذ احراز مدلول الكلام ينشأ من العلم بالوضع
وملاحظة القرائن واحراز انه في مقام الجد ينشأ من قرينة حالية أو مقالية.
وقد يقال: ان المراد الجدي قد يتخلف عن المراد الاستعمالي سعة وضيقا كما لو كان مراده
الجدي المعنى الخاص وكان اللفظ المستعمل فيه مطلقا فإذا حصل هذا الاحتمال في الكلام فلا
دافع له إلا ظهور الكلام وعدم التقييد وهذا معنى حجية الظهور.
ويندفع هذا القول:
أولا: بأنه لا يتم فيما كان المعنى الآخر مباينا للموضوع له إذ لا يحتمل ارادته من اللفظ بلا
قرينة بعد عدم دلالة اللفظ عليه إذ كيف يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه؟
وثانيا: بأنه لا يتم حتى في مثل المطلق والمقيد لان الجميع يلتزمون بأن احراز كونه في مقام
الجد في الجملة لا يجدي في اثبات ان مراده المطلق إذا احتمل انه ليس في مقام الجد من بعض
الجهات بل لا بد من احراز كونه في مقام الجد في تمام المدلول ومن جميع الجهات وإذا أحرز ذلك
لم يحتج في اثبات مراده إلى الكشف عنه من طريق الظهور للعلم بأن مراده تمام المدلول وإذا لم
يحرز ذلك لم يمكن تشخيص ان مراده المطلق من طريق اللفظ.
وعمدة التحقيق: ان المراد بقصد الجد والحكاية ليس ما يساوق معنى الإرادة والنية بل ما
يساوق معنى الداعي المترتب على الشئ.
ومن الواضح انه لا يمكن أن يكون الداعي إلى الشئ ما لا يترتب عليه فلا يمكن ان يقصد
الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه لعدم ترتبها عليه ومعنى احراز الداعي إلى الحكاية يحرز ان
مراده لا يتعدى مدلول اللفظ لان الفرض انه قصد الحكاية عن امر بما قصد تفهيمه فتدبر.
ومن هنا يظهر ان مجرى مقدمات الحكمة في باب المطلق والمقيد انما هو المراد الاستعمالي لا
المراد الجدي لوضوح تبعية المراد الجدي للمراد الاستعمالي وما قصد تفهيمه والانتقال منه
إليه فلا بد في تشخيص المراد الجدي من معرفة المراد الاستعمالي سعة وضيقا وهو يحصل
بالقرينة، والقرينة على إرادة الاطلاق هي مقدمات الحكمة كما يبين في محله - وبدونها لا يمكن
احراز المراد الاستعمالي ومعه لا يمكن تشخيص المراد الجدي وإذا توفرت المقدمات في المراد
الاستعمالي فلا حاجة حينئذ لجريانها في المراد الجدي كما هو واضح.
ثم إنه مما ذكرناه يظهر ان دلالة الكلام على المراد الجدي مع احراز انه في مقام الجد تكون
دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف لأنها تنشأ من ضم جهة وجدانية وهي كونه في مقام الحكاية -
إلى جهة عقلية وهي استحالة أن يكون الداعي إلى الشئ ما لا يترتب عليه.
وعلى هذا الأساس يشكل الامر في موارد تقديم النص أو الأظهر على الظاهر فان المعروف
بين الأصحاب تقديم النص وهو ما لا يمكن إرادة غير معناه المفهوم منه - على الظاهر وهو ما
يمكن أن يراد به غير معناه المفهوم منه، لكنه كان ظاهرا في المعنى المعروف.
وذلك فإنه - على ما ذكرناه - لا فرق بين النص الظاهر في عدم احتمال إرادة غير معناه
المفهوم منه.
فان الظاهر وان أمكن ان يستعمل ويراد به معنى آخر لكنه لا يصح بلا نصب قرينة إذ
إرادة غير الظاهر من دون قرينة غير صحيحة فمع عدم القرينة لا يكون المفهوم من اللفظ سوى
المعنى الظاهر فيه والمفروض ان المدلول الاستعمالي هو ما قصد تفهيمه للمخاطب فينحصر أن يكون
هو المعنى الظاهر لاستحالة إرادة غيره بدون قرينة لعدم ترتب التفهيم على حاق اللفظ
286



وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي هو المعنى الظاهر كان هو المراد الجدي قطعا لما تقدم من أن قصد
الحكاية انما هو بما قصد تفهيمه لا بغيره.
وبالجملة: ما يمكن ان يقصد تفهيمه هو ظاهر الكلام فتكون دلالته على المستعمل فيه
قطعية - كالنص - بمقتضى البيان المزبور، كما أن دلالته على المراد الجدي قطعية لان المفروض انه
قصد الحكاية بما قصد تفهيمه فبمقتضى ذلك تكون دلالة الكلام على المرادين الاستعمالي
والواقعي قطعية.
وبذلك لا يبقى فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لكل منهما وان دلالة كل منهما عليه
قطعية فأي وجه لتقديم النص على الظاهر؟.
وقد يقال ان احتمال وجود القرينة المتصلة بالنسبة إلى الكلام الظاهر وغفلة الناقل لنا عنها
في مقام السماع أو النقل، موجود. وانما يدفع بأصالة عدم الغفلة التي عليها مبنى العقلاء في
أمورهم. وهذا الأصل لا يعتنى به مع وجود النص على خلاف الظاهر فيسقط الظاهر عن
الدلالة القطعية على مدلوله.
ولكن هذا لو تم في نفسه فإنما يتم لو كان احتمال الغفلة معتدا به وإلا فلا مجال له.
هذا ولكن المشكلة المزبورة انما يظهر اثرها في بعض الموارد كما لو كان المعنى الآخر الظاهر
معنى مباينا للمعنى الظاهر فيه.
واما الموارد الأخرى التي تجعل من مصاديق تقديم النص على الظاهر فيمكن حل المشكلة
فيها وهي متعددة:
الأول مورد ورود الدليل الظاهر على الوجوب أو الحرمة وورود النص على الترخيص في
الترك أو الفعل فان المشهور هو حمل دليل الالزام على أصل الرجحان من استحباب أو كراهة
ويمكن البناء على ذلك بالالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) في صيغة الامر
والنهى من عدم دلالتهما وضعا على الالزام، وانما يدلان على مجرد الطلب والزجر. غاية الامر
ان العقل يحكم بلزوم الامتثال إذا لم يرد ترخيص من الشارع واما مع ثبوته فلا يحكم بوجوب
الامتثال.
وعليه فورود النص على الترخيص - فيما نحن فيه - يرفع موضوع حكم العقل بالالزام ولا
يصطدم مع ظهور الامر أو النهى أصلا.
الثاني: مورد المطلق والمقيد.
ويمكن ان يقال في الجمع بينهما: بان أساس استفادة الاطلاق هو احراز كون المتكلم في مقام
البيان وهذا يستفاد غالبا من ظهور الحال وليس من طريق قطعي.
وعليه فيمكن ان يجعل ورود الدليل المقيد رافعا لهذا الظهور سواء ارجع إلى التصرف في
المراد الاستعمالي بحيث يكشف عن عدم كونه في مقام تفهيم المطلق أو رجع إلى التصرف في
المراد الجدي بأن يكشف عن عدم كونه في مقام الجد بتمام المدلول.
فان كلا منهما كاف في رفع التنافي وان كان الأول أولى اعتبار لان الالتزام بإفادة المطلق
استعمالا مع عدم ارادته منه جدا في جميع هذه المطلقات على كثرتها مستبعد جدا، إذ ليس في
ذلك داع عقلائي واضح. وقد نبه على هذه الجهة الفقيه الهمداني (قدس سره) في بعض كلماته
الفقهية.
ومن هنا ظهر الكلام في العام والخاص لو التزم برجوع العام إلى المطلق وان دلالة الأداة على
العموم تتبع ما يراد من المدخول.
واما لو التزم بان الدلالة على العموم وضعية فالكلام فيه نؤجله إلى مجال آخر خشية
الإطالة.
الثالث: ما إذا ورد دليل على تعلق الحكم بأمر ذي اجزاء وورد دليل آخر يدل على تعلقه
ببعض اجزائه كما ورد في أدلة التيمم ما ظاهره لزوم مسح الوجه وورد ما ظاهره كفاية مسح
الجبهة والجبينين فإنهما متعارضان بدوا، إذ الوجه اسم لمجموع اجزائه فلا يصدق على الجبين
وقد بنى الأصحاب على حمل مسح الوجه بعضه حملا للظاهر على النص وقد
عرفت ما في ذلك من اشكال ويمكن ان يقال ان إضافة الفعل إلى الوجه تارة يراد بها تعلق
الفعل ببعضه كما لو قال: " لمست وجهه ".
وأخرى يراد بها تعلقه بتمامه كما لو قال: " غسلت وجهه " ومثله غيره من الأمور المركبة
فإنها قد تصدق على الكل وقد تصدق على البعض.
وإذا ثبت اختلاف موارد الاستعمال فظهور مسح الوجه في إرادة مسح تمامه لا يكون الا
بواسطة السياق وهذا الظهور السياقي انما يكون لو لم يكن نص على كفاية مسح البعض ومع
النص لا يستظهر العرف من السياق إرادة تمام الوجه فتدبر والله سبحانه ولى التوفيق.
ثم إنه ذكر صاحب الكفاية في أواخر كلامه عن موارد الجمع العرفي: بأنه لا فرق فيما بين أن يكون
السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا، فيقدم النص أو الأظهر وان كان بحسب السند ظنيا
على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا.
وهذا الامر ذكره لدفع ما قد يتوهم من عدم تقديم النص الظني السند على الظاهر القطعي
السند من جهة حصول التعارض بين دليل اعتبار السند في الظني ودليل اعتبار الظاهر في
القطعي، والنسبة بينهما هي العموم من وجه.
ولكنه توهم فاسد المنشأ، وذلك لأنك عرفت أن ورود النص يستلزم سقوط الظاهر عن
ظهوره. وعليه فبما ان دليل الحجية يتكفل التعبد بصدور كل ما كان امرا ممكنا ولا يلزم منه
محذور على تقدير ثبوته واقعا، لم يكن مانع من التعبد بصدور النص، إذ لا محذور على تقدير
ثبوته لعدم صلاحية الظاهر لمصادمته، بل هو ناف للظاهر ومسقط له، فتدبر.
286

وهو ما تعرض إليه في الكفاية في مبحث المطلق والمقيد من: ان المراد من
البيان المأخوذ في احدى مقدمات الحكمة هل هو بيان المراد الاستعمالي أو بيان
المراد الجدي الواقعي (1).
وتوضيح ذلك: ان كون الآمر في مقام البيان هل المراد منه كونه في مقام بيان
مراده الاستعمالي، يعنى ما يقصد تفهيمه من اللفظ واحضاره في ذهن المخاطب
بواسطته، من الاطلاق أو التقييد، فإذا لم يأت بالقيد يعلم منه انه أراد منه تفهيم
المطلق لا المقيد والا لقيد.
أو المراد منه كونه في مقام بيان المراد الواقعي لمصب الحكم من نفس الذات
أو الذات المقيدة، فإذا لم يرد المقيد في الدليل يكشف عن أن مراده الواقعي هو الذات
المطلقة لا المقيدة، والا لبينها بالاتيان بالقيد مع المطلق، فيدلان على المقيد بنحو
تعدد الدال والمدلول؟.
والثمرة في الخلاف تظهر فيما لو ورد المقيد المنفصل.
فإنه على الأول لا ينثلم بوروده الاطلاق، لان المقيد انما يكشف عن أن
المراد الواقعي هو غير المطلق، فهو يوجب التصرف في المراد الواقعي لا في
الاطلاق، بل المطلق على حاله واستعماله في الاطلاق - إذ لا تصرف للمقيد في
المطلق في مرحلة الاستعمال كما لا يخفى - فيصح التمسك به في غير مورد التقييد، في
اثبات كون المراد الواقعي غير المقيد مطلقا.
واما على الثاني: فينثلم اطلاق المطلق، لان ورود التقييد يكشف عن أن

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
290

الآمر لم يكن في مقام بيان تمام مراده الجدي والا لبينه بالقيد حينذاك. فينتفي أساس
مقدمات الحكمة، وهو كون المتكلم في مقام البيان، فلا يصح التمسك بالاطلاق في
غير مورد التقييد، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في المطلق المصححة للتمسك
باطلاقه.
وقد اختار صاحب الكفاية الأول، وان المقصود كونه في مقام بيان المراد
الاستعمالي ليكون حجة وقانونا على المكلف - لكشفه عن المراد الجدي ببناء
العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي - حتى تقوم حجة أقوى على
تقييد المراد الجدي فيؤخذ بها ولا ينثلم بها اطلاق المطلق.
واستدل على ذلك بتمسك أهل العرف بالمطلقات في غير مورد التقييد في نفي
مشكوك القيدية. وهذا يكشف عن أن اعتبارهم للبيان بالنحو الأول لا الثاني، لأنه
على النحو الثاني لا يصح التمسك بالمطلق لانهدام أساس مقدماته - كما عرفت -
فتمسك أهل العرف دليل إني على إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا
الواقعي (1).
وقد أنكر المحقق النائيني (قدس سره) (2) وجود نحوين للإرادة، وانه ليس
للاستعمال - الذي حقيقته القاء المعنى باللفظ ولحاظها ثانية في المعنى - إرادة مغايرة
لإرادة المعنى الواقعي، بل المستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو،
والا كان هازلا.
وتتضح عدم وجاهة ما افاده بما حقق من أن للمتكلم الملتفت إرادتين:
أحدهما: إرادة تفهيم المعنى باللفظ واحضار المعنى بواسطة اللفظ.
الثانية: ارادته نفس المعنى، بمعنى ان المعنى الذي قصد تفهيمه كان مرادا له

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 248 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) تعرض إلى ذلك في مبحث العام والخاص في البحث عن مجازية العام المخصص. - راجع
التقرير الكاظمي -.
291

واقعا وانه لم يكن في التفهيم في مقام الاستهزاء ونحوه.
فالنحو الأول هو المقصود بالإرادة الاستعمالية والمراد الاستعمالي. والنحو
الثاني هو المقصود بالإرادة الجدية الواقعية والمراد الواقعي.
والكلام فيما نحن فيه: ان الشرط في التمسك بالاطلاق هل هو كون المتكلم في
مقام بيان مراده الاستعمالي التفهيمي، أو كونه في مقام بيان مراده الواقعي؟
فما افاده من عدم التفكيك بين الإرادتين غير وجيه (1).
نعم، يمكن التنظر فيما أشار إليه صاحب الكفاية (2) من الثمرة التي بنى عليها
استدلاله على ما ذهب إليه بما افاده المحقق المزبور - وتعرض له غيره من الأعاظم -
من انكار انثلام الاطلاق بعد ورود التقييد بالنسبة إلى غير مورده على القول الثاني.
وذلك ببيان ان ما ذكره صاحب الكفاية انما يتم فيما لو كانت المقدمة كون
المتكلم في مقام بيان تمام المراد بلحاظ التمام بنحو العموم المجموعي، بمعنى ان تكون
هناك إرادة واحدة تتعلق ببيان امر واحد وهو تمام المراد. وذلك لان ورود التقييد
يكشف عن عدم كونه في مقام بيان التمام بنحو المجموع، فينثلم الاطلاق لانتفاء

(1) وقد أنكر المحقق النائيني التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية، ببيان: ان
المقصود بالإرادة الاستعمالية إذا كان إرادة ايجاد المعنى باللفظ، فهي عين الإرادة الجدية وليست
معنى آخر غيرها، لتقوم الاستعمال بذلك. وان كان المقصود منها الإرادة الهزلية المنفكة عن إرادة
الايجاد - وبعبارة أخرى: كان المقصود هو الإرادة لا بداعي الجد - فذلك مما لا يتصور له معنى
معقول في الإرادة الاستعمالية.
ولا يخفى ان هذا الانكار بهذا البيان ناشئ عن التعبير بالجد في قبال الإرادة الاستعمالية،
والا فهو لا يرتبط بواقع الدعوى، إذ لا اشكال في وجود إرادتين في الاستعمال، إرادة التفهيم
وهي الإرادة الاستعمالية، وإرادة الحكاية من الخارج بالمفهم وهي الإرادة الواقعية، والانفكاك
بينهما بديهي الحصول في بعض الاستعمالات كالاستعمالات الكنائية. فالمراد بالإرادة الجدية التي
يقال إنها غير الإرادة الاستعمالية، وانها مجرى المقدمات، أم الاستعمالية وهي الإرادة الواقعية.
لا الإرادة بداعي الجد، كي يقال ان الإرادة الاستعمالية لا تنقل عن الجد والا كان المتكلم هازلا
لا مستعملا، فالانكار ناشئ عن التعبير فقط دون واقع المطلب.
(2) أفاد - دام ظله - في مباحث العموم ما يرد هذه التنظر.
292

أساس المقدمات المصححة للتمسك به في مورد الشك.
ولكن لا وجه للالتزام بذلك، بل المقدمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده
بالنسبة إلى كل خصوصية وقيد، فالتمام ملحوظ بنحو العموم الاستغراقي، بمعنى ان
البيان متعلق بكل خصوصية ويضاف إلى كل قيد ويلحظ فيه كل وصف بنحو
الانفراد، فورود التقييد انما يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالإضافة
إلى هذا القيد بالخصوص دون غيره، فيبقى الاطلاق سالما بالنسبة إلى باقي القيود
ويصح التمسك به في مورد الشك لتمامية مقدماته بالنسبة إليها.
نعم ينثلم اطلاق اللفظ - على هذا القول - بالنسبة إلى مورد القيد، لعدم
تمامية المقدمات بالنسبة إليه، بخلافه على القول الآخر لتماميتها بالنسبة إلى مورد
القيد أيضا، كما عرفت. ولكنه غير ضائر في ما نحن بصدده من نفي الثمرة المذكورة.
فالتمسك بالاطلاق في غير مورد القيد بعد ورود المقيد صحيح على البنائين.
ومن هنا يظهر عدم صحة الاستدلال ببناء العرف على التمسك بالاطلاق بعد
التقييد على القول الأول - وهو إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي - لعدم
كشف ذلك - إنا - عن الالتزام بهذا القول بعد أن عرفت صحة التمسك به على
القولين.
ولكن قول صاحب الكفاية هو المتعين، ولا بد من تعيين موضوع النزاع قبل
تحرير الذي ينبغي ان يقال في الاستدلال عليه، فنقول: ان انفكاك الإرادة الاستعمالية
عن الإرادة الواقعية مما لا اشكال فيه، سواء في الاخباريات أو الانشائيات..
فالأول: نظير الاستعمالات الكنائية، فان المراد تفهيمه باللفظ هو اللازم،
ولكن المقصود بالاخبار هو الملزوم من دون أي قصد للاخبار عن اللازم - إذ قد
يكون كذبا -
والثاني: كانشاء الامر لا بداعي البعث، فان المراد تفهيمه هو الطلب والامر
ولكن لم يكن ذلك بقصد التحريك والبعث نحو المأمور به، بل كان بداعي آخر
293

كالامتحان.
فالمراد الجدي الواقعي الذي هو الاخبار والكشف عن الواقع في
الاخباريات والتحريك والبعث ونحوهما - بحسب المنشأ - في الانشائيات ينفك عن
المراد الاستعمالي الذي هو تفهيم هذا المعنى الخاص باللفظ. وإذا ثبت امكان
انفكاكها عنها، فان قلنا..
بان للمراد الجدي الواقعي نحو ثبوت وجود مماثل لوجود المراد الاستعمالي،
بحيث يكون الكلام كاشفا عن المرادين بنحو الطولية، بمعنى انه ينتقل من المراد
الاستعمالي وهو التفهيم إلى المراد الجدي وهو الاخبار أو البعث - كما يتصور هذا
على القول بان الانشاء ابراز لامر نفسي موجود في النفس كما لا يخفى - كان للنزاع
في أن المراد من كونه في مقام البيان - هل كونه في مقام بيان المراد الواقعي أو المراد
الاستعمالي؟ - مجال واسع.
اما لو كان المراد الواقعي متفرعا في الوجود على المراد الاستعمالي، بمعنى انه
يتعلق بما قصد تفهيمه باللفظ وانه لا وجود له في غير عالم الكلام، لم يبق للنزاع
مجال، وذلك لأنه بعد أن كان المراد الواقعي قد تعلق بما هو المقصود بالتفهيم فلا
معنى لاجراء مقدمات الحكمة فيه لاحرازه من دون احراز المقصود تفهيمه المتعلق
هو به، إذ لا فائدة في ذلك بدون احراز المراد بالتفهيم، فيتعين أن يكون اجراؤها في
المراد الاستعمالي، ويثبت كون المراد الجدي على طبقه ببناء العقلاء بلا حاجة
لمقدمات الحكمة.
والصحيح في المراد الواقعي هو الثاني كما عرفت في تصويره، فإنه متفرع في
وجوده على المراد الاستعمالي ويتعلق بما قصد تفهيمه، لا انه ذو وجود مستقل في
النفس يكشف عنه اللفظ بواسطة المراد الاستعمالي، لما عرفت من انه من قبيل
الداعي للتفهيم، والداعي - بوجوده الداعوي لا الحقيقي الخارجي - متفرع عما
يدعو إليه.
294

إذا تم ما عرفت، فاعلم: ان من يلتزم بأن ظهور المطلق في الاطلاق يتوقف
على احراز كون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي - كالمحقق النائيني - يرى ان
ورود المقيد كاشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالنسبة إلى هذا القيد،
فينثلم الاطلاق في هذا المورد كما عرفت، فلا يحصل التعارض والتنافي بين الدليل
المقيد والدليل المطلق في مورد القيد، لعدم شمول المطلق لهذا المورد بعد ورود التقييد،
لأنه يكون كالتقييد المتصل الموجب لقلب الظهور. فتقدم المقيد على المطلق على هذا
القول واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
واما على القول بأن المراد من كون المتكلم في مقام البيان كونه في مقام بيان
مراده الاستعمالي، فيشكل الامر، لان ظهور المطلق في الاطلاق يبقى ولا ينثلم بعد
ورود المقيد لنظر المقيد إلى المراد الجدي لا الاستعمالي، فيكون كل من المطلق
والمقيد كاشفا عن المراد الجدي في مورد القيد فيحصل التنافي بينهما لاختلاف
مفاديتيهما. فان مفاد المطلق: ان عدم دخل الخصوصية مراد جدا. ومفاد المقيد: ان
دخل الخصوصية مراد واقعا. والالتزام بتعلق الإرادة بكلا الأمرين لا مجال له. وإذا
ثبت التنافي بينهما مفادا فأيهما المقدم؟ وبأي وجه؟
ولا بد من التكلم في مقامين:
الأول: في أن استعمال المطلق في الاطلاق بلا أن يكون على طبقه مراد جدي
وواقعي، هل يكون استعمالا لغويا أو لا يكون كذلك بل يكون استعمالا عقلائيا
عرفيا؟ الثاني: في وجه تقديم المقيد على المطلق بعد تحقيق عدم لغوية استعمال المطلق
في الاطلاق بلا إرادة واقعية على طبقه.
اما المقام الأول: فتحقيق الحال فيه: ان الاستعمال المذكور لا يكون لغويا
بأحد وجهين:
الأول: ما افاده صاحب الكفاية من: ان استعمال العام في العموم والمطلق في
295

الاطلاق يكون حجة وقاعدة للمكلف حتى تقوم حجة أقوى على خلافه،
فاستعمال العام في الاستغراق وإن لم يكن بإرادة جدية للعموم الا انه لا يكون بذلك
لغوا لكونه مستتبعا لتحقق الحجية بالنسبة إلى مورد القيد، وهو كاف في رفع
اللغوية، لان جعل الحجية بنفسه اثر عقلائي يرفع اللغوية (1).
الثاني: ما أفاده المحقق الأصفهاني من وجود الإرادة الجدية على طبق العموم
حين الاستعمال الا انها محدودة لورود التخصيص، فهي في غير مورد التخصيص
مستمرة لاقتضاء مصلحتها ذلك، واما فيه فمرتفعة بورود التخصيص، فيكون ورود
التخصيص بالنسبة إلى الإرادة الواقعية من قبيل الناسخ (2).
وليس المهم في المقام تحقيق أي الوجهين، فإنه متروك إلى محله، بل المهم هو
الإشارة إلى وجود ما يرفع اللغوية المتوهمة في الاستعمال.
واما المقام الثاني: فتحقيق الحال فيه: ان المطلق والمقيد تارة يكونان متفقين
في الاثبات والنفي ك‍: " أكرم العامل " و " أكرم العالم العادل " أو: " لا تكرم الجاهل "
و: " لا تكرم الجاهل الفاسق ". وأخرى يكونان مختلفين نفيا واثباتا نظير: " أكرم
العالم " و: " لا تكرم العالم الفاسق ".
فأفاد صاحب الكفاية: انه مع الاختلاف نفيا واثباتا، فلا اشكال في تقديم
المقيد على المطلق.
واما مع الاتفاق في النفي والاثبات، فيدور الامر بين التصرف في المطلق
بحمله على المقيد والتصرف في المقيد بحمله على بيان أفضل الافراد. الا انه بعد أن
ذكر هذا اختار تقديم المقيد وحمل المطلق عليه لأنه أظهر في التعيين - بمعنى دخالة
الخصوصية في الحكم لظهور القيد في كونه احترازيا، لا التعيين مقابل التخيير حتى
يقال إنه يستفاد من اطلاق القيد لا وضعه وظهوره، فيدور الامر بين الاطلاقين فلا

(1)
الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 218 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 231 - الطبعة الأولى.
296

مرجح فيه - من المطلق في عدمه ونفي دخالة الخصوصية، فيقدم عليه ببناء
العرف (1).
الا ان ما افاده من أظهرية المقيد يشكل الالتزام به بناء على الالتزام بما ذهب
إليه (قدس سره) من كون المقدمة هي الكون في مقام بيان المراد الاستعمالي.
وذلك لان مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي قطعية
المفاد، لأنها عقلية، فجريانها يوجب القطع بإرادة الاطلاق من اللفظ. فظهور
المطلق في الاطلاق قطعي بواسطة مقدمات الحكمة، فهو نص في الاطلاق لعدم
احتمال خلافه من الكلام.
ولا يخفى ان الأظهرية والظاهرية (2) انما هي في عالم الاستعمال والمراد من
اللفظ. فان الكلام ان كان يدل على المعنى بحيث لا يحتمل خلافه منه كان نصا فيه.
وان كان يدل عليه مع احتمال خلافه فهو ظاهر فيه، فقد يكون احتمال الخلاف
ضعيفا فهو أظهر، والاخر الذي يكون احتمال الخلاف فيه أقوى يكون ظاهرا، ومع
نصية المطلق في الاطلاق لا وجه لدعوى أظهرية المقيد في التعيين منه في عدم
التعيين.
وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) ان المقيد المنفصل يقدم على المطلق
بالقرينية، إذ ضابط القرينية في حال الانفصال هو ان اللفظ يكون بنحو لو كان
متصلا بالكلام لأوجب التصرف في ظهوره، والقدر المتيقن منه هو الوصف والحال
ونحوهما من الفضلات في الكلام. والمقيد المنفصل بهذه المثابة، فإنه لو كان متصلا
لقلب ظهور المطلق وتصرف فيه. الا ان الفرق بين المقيد المتصل والمقيد المنفصل ان
الأول يوجب التصرف في ظهور الكلام الكاشف عن المراد الجدي. والثاني انما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 250 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) دفع لما قد يتوهم من انه يمكن أن يكون المراد بالأظهرية الأظهرية في مقام الكشف عن
المراد الجدي. كما لا يخفى.
297

يتصرف في المراد الجدي دون المراد الاستعمالي، فالمطلق بعد وروده يبقى على
ظهوره الاطلاقي (1).
وما أفاده (قدس سره) محل نظر من جهتين:
الجهة الأولى: ما ذكره من أن تقدم المقيد على المطلق بالقرينية، ووجه
الاشكال فيه: ان القرينة لها اصطلاحان: قرينة بالمعنى الأعم. وقرينة بالمعنى
الأخص.
اما القرينة بالمعنى الأخص، فهي على نحوين:
الأول: ما يكون مقترنا بالكلام بحيث يوجب التصرف في موضوع الحجية،
وهو ظهور الكلام، نظير: " يرمي " في قولك: " رأيت أسدا يرمى "، فإنها توجب -
ببناء العرف - قلب ظهور لفظ: " الأسد " في: " الحيوان المفترس " إلى ظهوره في
" الرجل الشجاع "، لان الرماية بالنبل من شؤون الرجل لا الحيوان المفترس.
وملاك التقديم واضح: فإنه بعد أن كان الالتزام بكلا الظهورين غير ممكن
للمنافاة، فيدور الامر بين التصرف في ظهور لفظ: " الأسد " في معناه الحقيقي وظهور
لفظ: " يرمى " في معناه.
والأول هو المتعين بعد أن سيق لفظ " يرمى " للقرينية، فان الالتزام بظهوره
يوجب قلب ظهور لفظ: " الأسد "، فيرتفع التنافي، بخلاف الالتزام بظهور: " الأسد "،
فإنه لا يوجب التصرف في ظهور: " يرمى " لعدم كونه قرينة عليه، فيحصل التنافي
ولا ترتفع غائلته.
الثاني: ما يكون منفصلا عن الكلام الا انه ناظر بدلالته اللفظية إلى المراد
الجدي من الدليل الاخر، فيوجب التصرف فيه تضييقا وتوسعة، وهذا كالدليل
الحاكم بالنسبة إلى المحكوم.
وملاك تقديمه واضح أيضا، لان بناء العقلاء على مطابقة المراد الجدي للمراد

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 535 - الطبعة الأولى.
298

الاستعمالي فيما لم يقم المتكلم الدليل على أن مراده غير المقدار المفهم. اما مع اقامته
الدليل على ذلك، فلا وجه لبنائهم على كون مراده الواقعي ما فهمه بالكلام.
ويجمع هذين النحوين كونهما مقدمين على ذي القرينة مطلقا ولو كانا أضعف
ظهورا منه كما لا تلاحظ بينهما النسبة
واما القرينة بالمعنى الأعم، فهي ما تشمل الأظهر بالنسبة إلى الظاهر، ونحوه
مما كان أحد الدليلين ناظرا إلى المراد الجدي من الدليل الاخر، ولكن لا بالدلالة
العرفية بل بالدلالة الالتزامية العقلية، نظير المخصص بالنسبة إلى العام والمقيد
بالنسبة إلى المطلق، فإنه يقال أيضا بان تقديم الخاص والمقيد على العام والمطلق
بالقرينية، الا انها ليست كالقرينية السابقة ولذا يلاحظ فيها الأظهرية وتراعى فيها
النسبة، لعدم وجود ملاك التقدم فيها كما في تلك.
فالمقيد المنفصل بالنسبة إلى المطلق ليس كالقرينة - بالمعنى الأخص -
بالنسبة إلى ذي القرينة، إذ لا يوجب التصرف في الظهور لانفصاله عن الكلام
وانعقاد الظهور قبل وروده. كما أنه ليس ناظرا بدلالته اللفظية إلى المطلق، كالحاكم
بالنسبة إلى المحكوم، بل ناظرا إليه بالالتزام العقلي باعتبار حكم العقل بعدم امكان
اجتماع الحكمين المطلق والمقيد. فالتزامه (قدس سره) بتقدمه على المطلق بالقرينية
بالمعنى الأخص بحيث لا يلاحظ فيه الأظهرية ولا يراعى فيه النسبة كالمقيد
المتصل، مما لا يعرف له وجه أصلا.
الجهة الثانية: ما ذكره من بقاء ظهور المطلق في الاطلاق على حاله بعد ورود
المقيد المنفصل، وانما التصرف في المراد الجدي.
ووجه الاشكال فيه: ما عرفت من انه بعد البناء على جريان مقدمات
الحكمة في تشخيص المراد الجدي لا المراد الاستعمالي يكون ورود المقيد مخلا
باطلاق المطلق بالنسبة إلى هذا القيد، لأنه يكشف عن عدم كونه في مقام البيان
الذي هو أساس انعقاد الاطلاق، فيقدم المقيد عليه بلا كلام لعدم الاطلاق المنافي له.
299

وهذا الالتزام لا يجتمع مع الالتزام ببقاء المطلق على اطلاقه. وقد عرفت التزامه
(قدس سره) بكلا الامرين. وهو ما لا يمكن تصور وجهه.
وحيث عرفت أنه لم نلتزم بما التزم به (قدس سره) من جريان مقدمات
الحكمة في تشخيص المراد الجدي، بل التزمنا بما التزم به صاحب الكفاية من
جريانها في المراد الاستعمالي.
فلا محيص حينئذ من الالتزام ببقاء ظهور المطلق على اطلاقه بعد ورود
المقيد، الا انه من الواضح تقديم المقيد على المطلق في الحجية وتضييق حجيته
بالنسبة إلى المراد الجدي، لأقوائية ظهوره في معناه من ظهور المطلق فيه.
واما ما تقدم من الاشكال على صاحب الكفاية من: ان ظهور المطلق في
الاطلاق بمقدمات عقلية فتكون دلالته عليه قطعية.
فيدفع: بان المقدمات وان كانت عقلية لكنها لا توجب القطع، لأنها غير
قطعية بمجموعها، لان كونه في مقام البيان انما يرجع إلى ظهور حاله في ذلك،
وظهور الحال لا يوجب القطع بما يتعلق به ويترتب عليه، فنتيجة المقدمات غير
قطعية لأنها تتبع أخسها، فكل منهما ظاهر في معناه - والى ذلك يرجع تعبير القوم
بالظهور الاطلاقي - الا ان الظهور المستفاد من الوضع أقوى من الظهور المستفاد
من ظاهر الحال، فيكون ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق، لان الأول لفظي
والأخير بظاهر الحال.
وبناء العرف والعقلاء على تقييد حجية الظاهر في الكشف عن المراد الجدي
بما إذا لم يقم دليل أظهر منه، فان الظاهر يؤخر عن مقام الحجية ويقدم الأظهر، فلا
يكون حينئذ بين المقيد والمطلق تدافع في مقام الحجية عرفا، لان المقيد هو المقدم،
فلا تعارض بينهما.
هذا كله في المقيد والمطلق.
اما العام والخاص، فتحقيق الكلام فيهما، انه قد وقع الخلاف في أن دلالة العام
300

على العموم، هل هي بالوضع أو لا، بحيث يحتاج في العام إلى اجراء مقدمات
الحكمة في مدخول الأداة؟. ثم القائلون بالوضع يختلفون في أن المخصص المنفصل
هل يوجب التصرف في ظهور العام في العموم - بتقريب: ان لفظ العموم موضوع
لإرادة استيعاب جميع الافراد ما لم تقم قرينة متصلة أو منفصلة على العدم - أو لا،
بل يبقى العام على ظهوره العمومي، ويكون المخصص ناظرا إلى المراد الجدي.؟
وقد عرفت أيضا الكلام في مقدمات الحكمة، وانها تجرى في تعيين المراد
الجدي أو المراد الاستعمالي، وهو يجرى أيضا فيما نحن فيه إذا قلنا بالاحتياج إلى
مقدمات الحكمة في المدخول في استفادة العموم.
فالاحتمالات أربعة، والخاص مقدم على العام على جميعها.
اما على القول بان اللفظ موضوع للعموم والخاص المنفصل موجب
للتصرف في ظهوره، والقول بعدم الوضع وجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي،
فواضح، لان ورود الخاص موجب لانهدام ظهور العام في العموم فلا تنافي.
واما على القولين الآخرين، فالعام وان كان يبقى على ظهوره العمومي، الا ان
الخاص مقدم عليه لأقوائية ظهوره - وجه الأظهرية: ان دلالة الخاص على الفرد
المخصص دلالة مطابقية، بخلاف دلالة العام عليه فإنها دلالة تضمنية، لوضوح ان
العام ليس بموضوع لكل فرد فرد، بل لمجموع الافراد.
والدلالة المطابقية أقوى من التضمنية وان كانتا لفظيتين، فلاحظ - وقد
عرفت تقييد حجية الظاهر عرفا بما إذا لم يكن دليل أظهر منه.
المورد الخامس: في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر. والكلام فيه يتضح
مما سبق من بيان ان حجية الظاهر مقيدة بما إذا لم يقم ما هو أقوى منه ظهورا،
فورود النص أو الأظهر يوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجية فلا يكون بينهما
تدافع في هذا المقام فلا تعارض.
وبذلك اتضح خروج موارد المقيد والمطلق والخاص والعام والظاهر والأظهر
301

عن مفهوم التعارض بالمعنى الذي اخترناه، لعدم التدافع بينهما في مقام الحجية
والدليلية بحسب بناء العرف والعقلاء. كما عرفت - قبل الآن - خروج موردي
الحكومة والورود عن تعريفه. فلا تجرى فيها جميعا احكام التعارض فتدبر.
تتمة: فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق
قد عرفت أن الخاص بعد وروده يدفع العام عن موضوع الحجية، لتقييد
حجية العام بما إذا لم يقم دليل أقوى منه على خلافه كالخاص. وهكذا الحال في
المطلق بالنسبة إلى ورود المقيد.
فعليه..
ان كان الخاص أو المقيد قطعي الورود، كان موجبا لخروج العام أو المطلق
عن الحجية بالتخصيص، لانتفاء موضوع الحجية تكوينا وحقيقة، لان موضوعها
هو العام الذي لم يرد دليل على خلافه أقوى ظهورا منه، وقد ورد قطعا على خلافه
في الفرض، فلا حجية للعام بالتخصص.
وان كان ظني الورود، كان دليل حجيته المتكفل للبناء على وروده والعمل به
حاكما على دليل حجية العام أو المطلق، لأنه ينفى القيد تعبدا وتنزيلا لا تكوينا
فيكون حاكما.
وعليه، فلا وجه لما افاده المحقق النائيني من اختصاص مورد التخصص بما
إذا كان الخاص قطعي الدلالة والسند. وفى غيره مما كان الخاص ظنيهما أو ظني
أحدهما يكون دليله مقدما على دليل العام بالحكومة.
بتقريب: انه ليس المأخوذ في موضوع الحجية عدم ورود الخاص كي تكون
قطعية الورود موجبة للتخصص، بل موضوع الحجية مقيد بالشك، فمتى ارتفع الشك
حقيقة عند ورود الخاص خرج العام عنها بالتخصص، وذلك كما إذا كان الخاص
قطعيهما ومتى لم يرتفع الشك حقيقة، بل بالتعبد والتنزيل كما في غير هذه الصورة -
لأنه مع ظنية أحدهما تكون النتيجة ظنية - كان دليل الخاص حاكما على أصالة
302

العموم المتكفلة لحجية العام، لتكفله لنفى الموضوع تنزيلا.
وذلك لان الأساس الذي بنى عليه اختياره - وهو تقييد أصالة العموم بحال
الشك - لا صحة له، لان أصالة العموم من الامارات، لأنها من الأصول اللفظية
العقلائية وقد تحقق عند الكل ان الشك لم يؤخذ في موضوع الامارة قيدا لاستلزامه
كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة - كما عرفت بما لا مزيد
عليه - مضافا إلى أنه لو كانت أصالة العموم فيما نحن فيه قد قيد موضوعها بحال
الشك، لكان بين دليلي العام والخاص تحاكم لا حكومة، لان استفادة الخاص من
الدليل الخاص كان أيضا بأصالة الظهور، فحجية الخاص مقيدة بحال الشك أيضا،
فيكون دليل العام رافعا له تعبدا، فكل من دليل العام ودليل الخاص يرفع موضوع
الاخر وهذا هو معنى التحاكم.
فالوجه الوجيه ما ذكرناه من اختصاص حجية العام بعدم ورود الأقوى
كالخاص، ويتفرع عليه ما عرفت من كون المناط في الحكومة والتخصص ظنية
الورود وقطعيته.
وقد يتساءل: بأنه إذا كان تقديم المخصص على العام بالحكومة أو
بالتخصص، فما هو الوجه في اعتبار الأظهرية وملاحظة النسبة بعد أن تقرر ان
الحاكم يتقدم على المحكوم بأي نحو كان ظهورا ونسبة بالإضافة إلى المحكوم؟. وما
هو الوجه في جعل التخصيص منفردا عن الحكومة بحثا واحكاما؟
والجواب عن هذا التساؤل يتضح من مطاوي ما ذكرناه، فان الحاكم ليس هو
نفس الخاص، حتى يتأتى فيه ما ذكر للحكومة من احكام، وانما الحاكم دليله الذي
يتكفل التعبد به والبناء عليه باعتبار انه بذلك يتكفل رفع موضوع الحجية، لأنه
مقيد بعدم ورود الأقوى ظهورا.
ولأجل ذلك لا بد من اعتبار أظهرية الخاص كي تتحقق حكومة دليل
303

اعتباره، كما أنه لا بد من ملاحظة النسبة، لانتفاء الأظهرية في صورة كون
نسبتهما للعموم من وجه، فلا يكون دليل اعتباره حاكما، لأنه لا يتكفل ورود الأقوى
ظهورا.
وبالجملة: نفس الدليل الخاص ليس من افراد الحاكم، وانما الحاكم دليل
اعتباره واحكام الحكومة تجرى فيه دون نفس الخاص، بل لا بد في الخاص من
اعتباره الأظهرية ليكون دليله متكفلا لنفى موضوع دليل العام فيكون حاكما.
في الفرق بين التعارض والتزاحم
اخرج الأصوليون بعض موارد تنافى الحكمين الساري إلى الدليلين عن
احكام التعارض ورتبوا لها احكاما خاصة، واصطلحوا عليها بموارد التزاحم. فما
هو ضابط هذه الموارد، ولم لا تجرى احكام التعارض فيها؟
ذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى: انه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا
الحكمين فالمورد من موارد التزاحم. ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من
موارد التعارض. فالتزاحم عنده هو التنافي في فرض ثبوت الملاك. والتعارض هو
التنافي في فرض عدم ثبوته (1).
وذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى: اختلاف موردي التزاحم والتعارض.
فكل منهما له مقام يستقل عن مقام الآخر وينفرد عنه.
وذلك، فان التنافي بينهما..
ان كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع، بحيث لا يمكن جعل
كلا الحكمين. فهو التعارض - كالتنافي بين وجوب الشئ وحرمته، فإنه يستحيل
جعل كلا الحكمين من المولى لتضادهما -.
وان كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعلية الحكمين، بأن كان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 299 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
304

جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضية الحقيقية ممكنا للمولى، فلا تنافى بينهما في
عالم الجعل، وانما التنافي بينهما في مرحلة فعليتهما، باعتبار عدم امكان امتثالهما معا
لعدم تحقق موضوعيهما معا.
فهو التزاحم - كوجوب انقاذ هذا الغريق ووجوب انقاذ ذاك الثابتين
بدليليهما في زمان واحد - فان جعل كلا الحكمين لا محذور فيه، لان جعل الاحكام
بنحو القضية الحقيقية وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه، بل هو ثابت ولو لم
يكن الموضوع ثابتا وموجودا، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة الا على انقاذ
أحدهما لا يوجب التنافي بين الحكمين في عالم الجعل، بل في عالم الفعلية، لاجل
التردد في صرف القدرة في هذا الطرف فيكون حكمه فعليا دون الاخر أو بالعكس.
ولا يخفى ان هذا - أعني: تعيين أحدهما - ليس من شأن المولى والجاعل، إذ
لا يرتبط بمولويته وبجعله، بل من وظائف غيره، وهو لا يضر بنفس الجعل، لأنه
ينفى موضوع الحكم الاخر، لا انه ينفى الحكم عن موضوعه، فلاحظ (1).
والمورد الذي تظهر فيه ثمرة الخلاف بين المحققين (قدست أسرارهما) هو
مورد توارد الحكمين المتنافيين على موضوع واحد، بحيث لا يكون التنافي ناشئا من
جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكل من الحكمين، كالصلاة في
الدار المغصوبة بناء على الاتحاد والانحصار، فإنها مشمولة لدليل: " صل " ولدليل:
" لا تغصب " فان مثل هذا المورد من موارد التزاحم عند المحقق الخراساني لوجود
الملاك - كما يلتزم به - ومن موارد التعارض عند المحقق النائيني، لرجوع التنافي إلى
عالم الجعل لا إلى مرحلة الفعلية، لعدم امكان اجتماع الامر والنهى وامتناعه.
وفي غير هذا المورد لا تظهر الثمرة بين القولين وان اختلفا مفادا، لثبوت
الملاك في مثل مثال الانقاذ، مما تعدد فيه موضوع الحكمين.

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 704 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 270 - الطبعة الأولى.
305

وعلى كل، فيقع الكلام فيما افاده المحقق النائيني (قدس سره) من تفسير
التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل وان تعيين الوظيفة ليس
براجع إلى المولى الجاعل بل إلى غيره.
وتحقيق الحال: ان ما ذكره لو تم متين جدا لأنه يوجب انحياز موارد
التعارض عن التزاحم بالكلية لان التعارض الذي يهمنا البحث عنه وعن الفرق
بينه وبين التزاحم هو التنافي بين الأدلة - كما عرفت - سواء أكان بلحاظ الدليلية
أو الدلالة.
وهذا المعنى ليس بثابت في مورد التزاحم على هذا الاختيار لان التنافي في
مرحلة الفعلية ان تم انفصاله عن عالم التشريع والجعل كما هو الفرض - لم يكن
مرتبطا بالأدلة كما هو ظاهر جدا ويكون أجنبيا عن التعارض بمفهومه العرفي الذي
ذكرناه وبه يكون محط الاحكام الا ان تماميته والتسليم بان مثل هذا التنافي لا
يسري إلى مرحلة الجعل محل نظر.
بيان ذلك: ان المأخوذ في موضوع التكليف في مثل المثال الذي استشهد به
على كون التنافي في مرحلة الفعلية دون الجعل اما أن يكون هو القدرة في حد
نفسها - مع قطع النظر عن المزاحمة - أو يكون المأخوذ هو القدرة الفعلية ولو مع
المزاحمة فإن كان المأخوذ هو القدرة الفعلية، فلا تحقق لها فيما نحن فيه في كل من
المتعلقين فيكون المورد من موارد عدم وجود الموضوع فلا معنى لفرض التزاحم
وان كان المأخوذ هو القدرة في حد نفسها - كما هو الظاهر من فرض
التزاحم بل بدونه - فهي متحققة بالنسبة إلى كل من المتعلقين لان كلا من
الانقاذين مقدور بنفسه ومع قطع النظر عن مزاحمه فيكون كلا منهما فعلى الحكم
لتحقق شرطه فيحصل التدافع بين الحكمين الفعليين إذ لا يمكن امتثالهما معا لعدم
القدرة على كلا الانقاذين بنحو الجمع إذ الموجود قدرة واحدة يتردد صرفها في
أحد الفردين وبذلك يلغو جعل كلا الحكمين معا كما يلغو جعل الحكم على غير
306

المقدور لعدم فرض الداعوية والتحريك في كليهما معا لعدم القدرة على متعلقيهما
جمعا فيسرى التنافي إلى مرحلة الجعل إذ يتردد المجعول بينهما بعد أن لم يمكن
جعلهما معا ومن التنافي في مرحلة الجعل يسرى التنافي إلى الدليل المتكفل لبيان
الجعل كما اعترف بذلك (قدس سره) فإنه ذكر ان ملاك التخيير في صورة التنافي
في مرحلة الجعل هو تقييد كل من الاطلاقين للاخر وظاهر ان الاطلاق ليس امرا
غير الدليل.
وبذلك لا يظهر انحياز مفهوم التعارض عن موارد التزاحم
والذي ينبغي ان يقال ان لفظ التزاحم لم يرد في آية ولا رواية وانما هو لفظ
اصطلح به على بعض الموارد التي تشترك في جملة احكام جعلها الأصوليون لها -
كما أشرنا إليه في صدر الفصل - فلا بد من معرفة حد التزاحم من معرفة مقدار تلك
الآثار.
والذي نراه ان هذه الأحكام انما تجرى في صورة تنافي الحكمين من جهة
عجز المكلف وعدم قدرته على الاتيان بمتعلقيهما لا تنافيهما مطلقا ولو من حيث
أنفسهما.
فالكلام يقع في جهات ثلاث:
الأولى في بيان جريان جميع هذه الأحكام في هذه الصورة أعني صورة
كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.
الثانية في بيان عدم جريان احكام التعارض التعبدية في هذه الصورة إذ
لقائل أن يقول إنه بعد فرض ان هذا النحو من التنافي يسري إلى الدليلين فيوجب
تعارضهما فما هو الوجه في العدول عن اجراء احكام التعارض الثابتة بالأدلة
الشرعية في هذه الصورة إلى اجراء احكام أخرى لم يرد بها تشريع؟
الثالثة في بيان ان موضوع الخلاف بين المحققين الخراساني والنائيني - هل
يندرج تحت أحد العنوانين - التزاحم والتعارض - أم له حكم آخر؟ ومنه يظهر
307

عدم جريان احكام التزاحم بمجموعها في غير مورد كون التنافي ناشئا عن العجز
خاصة.
أما الجهة الأولى فتحقيق الكلام فيها: ان احكام باب التزاحم هو..
التخيير في صورة تساوى المتعلقين في المزايا اما بملاك الترتب الذي محصله
تقييد امر كل منهما بترك الآخر أو بحكم العقل بلزوم الاتيان بأحدهما للمحافظة
على ملاكات الاحكام مهما أمكن - على القول بعدم الترتب -
أو الترجيح في صورة اشتمال أحدهما على مزية من أهمية الملاك وتقييده
بالقدرة العقلية مع تقييد الآخر بالقدرة الشرعية وعدم وجود بدل له يحصل الملاك
مع وجوده للآخر فان ذا المزية يقدم بحكم العقل.
ومن الظاهر جدا ان هذه الأحكام من تخيير وترجيح انما تثبت في صورة
العجز عن الجمع بين الامتثالين إذ مع امكانه لا تصل النوبة إليها بل لا بد من
الاتيان بكلا المتعلقين كما انها لا تجرى بجملتها في غير صورة التنافي الناشئ عن
خصوص العجز كما يظهر في الجهة الثالثة من جهات الكلام. واما الجهة الثانية فتحقيق الكلام فيها ان الحكمين المتنافيين اما ان يكونا
مدلولين لدليل واحد، ك‍ " أنقذ كل غريق " المنحل إلى احكام متعددة متزاحمة في
مورد الاجتماع وعدم القدرة واما ان يكونا مدلولين لدليلين.
فعلى الأول فخروج المورد موضوعا عن احكام التعارض لا يحتاج إلى
بيان لان موضوع التعارض هو التنافي بين الدليلين لا في مدلول دليل واحد.
وعلى الثاني: فمحل الكلام ما كان العجز عن الامتثالين اتفاقيا لا دائميا مثل
" لازم زيدا دائما " و: " لازم عمرا دائما " مع افتراق عمرو عن زيد فان مثل هذا ليس
من موارد التزاحم للغوية كلا الجعلين مطلقا فيرجع إلى موارد التعارض قطعا
وذلك كموارد انطباق العامين من وجه على موضوع واحد أو في مورد واحد بحيث
لا يمكن امتثالهما معا فبناء على خروج مورد العامين من وجه عن موضوع الأدلة
308

التعبدية المتكفلة لاحكام التعارض فالامر واضح ويكون المرجع فيه هو الاحكام
العرفية من التساقط أو التخيير.
واما بناء على دخوله في موضوع الأدلة فمحل الكلام في هذه الجهة ما كان
الحكمان المتنافيان واردين على موضوعين بحيث يكون منشأ التنافي هو خصوص
العجز لا ما إذا كانا واردين على موضوع واحد - كالوجوب والحرمة المستفادين
من مثل: " أكرم العلماء ولا تكرم الفساق " المجتمعين على العالم الفاسق فإنه
موضوع الكلام في الجهة الثالثة فانتظر.
وتحقيق الكلام في محل الكلام انه اما أن يكون لاحد المتعلقين مزية
على الاخر بحيث توجب قوة اقتضائية للحكم أو يتساويان في الأهمية.
فعلى الأول يتقدم الأهم وتتضيق دائرة اطلاق المهم بحكم العقل.
بيان ذلك أن كلا من الحكمين ذو مقتضى ثبوتا وهو الملاك - واثباتا - وهو
الاطلاق الا انه لما كان مقتضى الثبوت أعني الملاك - في أحدهما أقوى من
مقتضى الاخر يرى العقل ان الأهم صالح للمانعية عن المهم ثبوتا لحكمه بلزوم
صرف القدرة إلى متعلقه دون متعلق المهم فيمنع من شمول الاطلاق للفرد المهم في
صورة المزاحمة ولا يرى ذلك أي المانعية في طرف المهم لأنه غير صالح لمنع
ثبوت الأهم فيبقى اطلاقه سالما حال المزاحمة وبذلك يرتفع التنافي بين الاطلاقين
لان أحد الاطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة في الفرد الأهم لا
يشمل هذا الغرض لعدم القدرة على متعلقه.
ومع ارتفاع المنافاة بين الاطلاقين يخرج المورد عن التعارض موضوعا فلا
مجال للقول بجريان احكامه فيه.
وعلى الثاني فالحكم هو التخيير الا انه..
تارة يكون بالالتزام بالترتب بمعنى تقييد امر أحدهما بعدم الاتيان بالاخر
وهذا رافع للتنافي الموجود بالنظر البدوي لثبوت الامر في صورة عدم امتثال الآخر
309

وعدم انثلام الاطلاق.
نعم يسقط في صورة امتثال الاخر لكنه لحصول العجز عن متعلقه لأنه
بالاتيان بأحدهما يحصل العجز القهري عن الاخر فيكون تقييد امر كل منهما بعدم
الاخر من باب تقييد الحكم بالقدرة على متعلقه وليس تقييدا زائد على
موضوع الحكم كي يكون ذلك تصرفا بالدليل.
نعم يبقى شئ وهون انه يلزم حصول عصيان أحدهما بامتثال الآخر إذ
الامر لا يقيد بعدم العجز الاختياري والا لما حصل العصيان غالبا مع أن الالتزام
بحصول العصيان في الفرض ممنوع.
والجواب ان عدم حصول العصيان انما هو بحكم العقل إذ لا يستطيع
التفصي عن هذا المقدار من الترك بعد أن كان لا يستطيع الجمع بين الدليلين
بحيث يرتفع التنافي بينهما فلا تصل النوبة إلى احكام التعارض لارتفاع موضوعها.
وأخرى لا يكون بالالتزام بالترتب لعدم تماميته بنظر بعض والتزامهم
بتساقط الدليلين - بواسطة حكم العقل بالتخيير بينهما بحيث لا يجوز تركهما
والاشتغال بامر ثالث من باب محافظته على تحصيل ملاكات الاحكام وبذلك يثبت
حكم تخييري للشارع على طبق حكم العقل ولا مجال له غير هذا فلا معنى
لاجراء احكام التعارض.
ولكن هذا يبتنى على الالتزام بتحقق الملاك في كلا المتعلقين كما هو المشهور
اما مع المناقشة في ذلك فلا محيص عن الالتزام بدخوله في موارد التعارض
وجريان احكامه فيه ولا محذور فيه الا انه مجرد فرض فتدبر.
واما الجهة الثالثة فتحقيق الكلام فيها ان المورد الذي كان محل الخلاف
وظهور الثمرة بين المحققين ليس من موارد التزاحم ولا من موارد التعارض بل هو
برزخ بينهما.
310

وذلك لان آثار التزاحم اجمع لا تجرى فيه كما لا تجرى فيه احكام التعارض
التعبدية.
اما عدم جريان احكام التزاحم فلان التخيير بملاكيه ملاك الترتب وملاك
حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى مهما أمكن مع الالتزام بالتساقط غير جار
هنا مع تساوي الحكمين في الأهمية من جهة الملاك وذلك.
اما عدم التخيير بملاك الترتب فلأمرين:
الأول ان من شروط صحة الترتب كما يذكر في بعض تنبيهات مبحثه أن لا
يكون المتعلقان لا ثالث لهما إذ مع كونهما كذلك لا معنى لتعليق الامر على عصيان
الآخر لان عصيان أحدهما يحصل بالاتيان بالمتعلق الآخر فيكون الامر به لغوا
لأنه من باب طلب تحصيل الحاصل.
وهذا المناط موجود فيما نحن فيه لان عصيان الحرمة انما يكون بالاتيان
بمتعلق الوجوب فلا معنى لتعليق الوجوب على عصيان الحرمة إذ لا مجال للبعث
والتحريك بعد عصيان الحرمة والاتيان بمتعلق الامر.
الثاني ان الترتب انما يلتزم به لرفع التنافي بين الحكمين من جهة عدم القدرة
والعجز عن الامتثالين معا لأنه يرجع إلى جعل الطولية في الامتثال الرافع لعدم
القدرة.
وبذلك يصحح اجتماع الحكمين زمانا لان محذور اجتماعهما يرتفع بالالتزام
بالترتب اما لو كانت هناك جهة أخرى موجبة للتنافي غير جهة العجز فلا يفيد
الترتب في رفعه والمقام من هذا القبيل فان اجتماع الوجوب والحرمة لا ينحصر
محذور في مرحلة الامتثال كي يرتفع بالترتب بل هو ممتنع في نفسه وفى مرحلة
انقداح الإرادة والكراهة والترتب لا ينظر إلى رفع التنافي في هذه المرحلة.
واما عدم التخيير بواسطة حكم العقل فلانه مع تساوى الحكمين في الملاك
يحصل الكسر والانكسار بين الملاكين ويكون نتيجته إباحة المتعلق ولا حكم
311

للعقل بلزوم أحدهما لعدم اقتضاء ملاكه بعد مزاحمته بالملاك الآخر ويتضح ذلك
بملاحظة العرفيات.
واما عدم جريان احكام التعارض فلانه بعد العلم بثبوت الملاك لكل من
الحكمين في المتعلق لا محيص عن الحكم بالإباحة كما عرفت فلا معنى لترجيح
أحدهما على الاخر بملاك الأشهرية ونحوها من الأحكام التعبدية للعلم بعدم جعل
كلا الحكمين بعد تساوى الملاك والترجيح انما يتم في صورة احتمال جعل أحدهما
واشتباهه إذ للشارع جعل الطريق الأشهر مثلا طريقا إلى حكمه.
واما في صورة كون ملاك أحد الحكمين أهم من ملاك الآخر فذو الملاك
الأهم مقدم قطعا على غيره للعلم بجعله وتشريعه دون الآخر لانعدام ملاكه
بالتزاحم.
ومن ها يتضح الوجه في كون هذا المورد برزخا بين التعارض والتزاحم
وليس من أحدهما لعدم جريان احكام كل منهما فيه.
وبذلك يظهر ان تحديد التزاحم بأنه التنافي بين الحكمين من خصوص جهة
العجز عن الجمع بين الامتثالين وان سرى إلى الدليلين هو المتعين فان رجع هذا
إلى ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) فهو والا فهو تعريف ثالث غيرهما فتدبر
جيدا والله سبحانه العالم.
312

فصل
هل يختص مورد التعارض بخصوص ما ثبت حجيته بالدليل اللفظي من
الأدلة أو يعم ما ثبت بالدليل اللبي؟.
قد يتوهم الاختصاص بتقريب: انه مع الشك في حجية كل من الدليلين في
مورد المعارضة لا دليل على حجيتهما لو كان الدليل لبيا، للاخذ به في القدر المتيقن
دون مورد الشك ومع انتفاء حجيتهما يخرجان عن موضوع التعارض وهذا بخلاف
ما لو كان دليلهما لفظيا لثبوت حجيتهما بالاطلاق
وهو مندفع بان الاقتصار على القدر المتيقن في الدليل اللبي انما يكون فيما لو
احتمل تقييده بقيد غير ثابت إذ مع الشك لا اطلاق له حتى يتمسك به وليس
الامر كذلك فيما نحن فيه فان الدليل اللبي يتكفل اثبات حجية الخبر أو غيره
بالمقدار الذي يتكفله الدليل اللفظي لو كان.
نعم يقيد بعدم المانع العقلي عن حجيته كما يقيد الدليل اللفظي بذلك فالدليل
313

لفظيا كان أو لبيا يتكفل حجية الدليل والخبر الاقتضائية بمعنى حجيته في حد
نفسه ومع قطع النظر عن المحذور العقلي الثابت في مورد التعارض فهما في مورد
المعارضة داخلان في حد ذاتيهما تحت دليل الحجية بنحويه - إذ لا يحتمل تقييد
حجيتهما بغري مورد المعارضة بل حجيتهما اقتضائية كما عرفت فيتحقق بهما
موضوعه.
وبعد كل هذا مما عرفته يقع الكلام في مقامات
المقام الأول في تأسيس الأصل والقاعدة في الدليلين المتعارضين كي يكون
هو المرجع في صورة عدم ثبوت الأحكام الشرعية لمورد ما
فهل هو التساقط أو التخيير أو الاحتياط أو التوقف؟ والمراد بالتوقف
هو التوقف عن الرجوع إلى ثالث يخالفهما كالرجوع إلى أصالة الباحة عند ورود
الدليلين على الحرمة والوجوب بل لا يخرج في مقام العمل عن أحدهما على حسب
ما تقتضيه الأصول والقواعد الموافقة لأحدهما.
وبذلك يتضح الفرق بينه وبين الاحتياط فإنه العمل بنحو يدرك الواقع مع
الامكان بالجمع بين الدليلين عملا كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على
الاستحباب أو الإباحة كما يتضح الرفق بينه وبين التساقط والتخيير لان الأول هو
عدم العمل بكلا الدليلين والرجوع إلى الأصول العملية سواء وافقت أحدهما أم
خالفت.
والثاني هو العمل بأحد الدليلين سواء كانت القاعدة على طبقة أو على
خلافه.
وتحقيق الحال انه اما ان يلتزم في باب الامارات بالسببية أو يلتزم
بالطريقية.
فعلى القول بالسببية أفاد الشيخ (قدس سره) ان الأصل التخيير لدخول
المورد في موارد التزاحم لأنه بقيام الامارة تحدث مصلحة في متعلقها فيكون ملاكا
314

الحكمين ثابتين فالحكم في مثل الحال هو التخيير (1).
وللمناقشة في ما ذكره مجال لان التنافي اما أن يكون منشأه خصوص العجز
وعدم قدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين كما في فرض الحكمين المتواردين على
موضوع معين واما أن يكون منشأه تنافى الحكمين في أنفسهما كما في فرض اجتماع
الوجوب والحرمة على موضوع واحد.
فما يكون من موارد التخيير والتزاحم هو النحو الأول لاجتماع ملاكي
الحكمين في الموضوعية الا انه لا يختلف الحال على القول بالسببية والطريقية
لوجود الملاكين على التقديرين.
واما النحو الثاني فهو خارج عن موارد التزاحم والتخيير وان قيل بالسببية
إذ يعلم عدم جعل كلا الحكمين بعد فرض تحقق ملاكيهما لحصول الكسر
والانكسار فيتساوى الفعل والترك فلا وجه للتخيير اللزومي الثابت بحكم العقل
بل الحكم هو الإباحة كما تقدم.
مضافا إلى أن التخيير في الفعل الواحد مما لا يمكن تحققه في بعض الأحيان
وهو ما إذا لم يكن الوجوب أو الحرمة المدلولين للدليلين تعبديا إذ معه لا يكون
أحدهما قهري الحصول بل يمكن تركهما معا كما لا يخفى - لان الترك أو الفعل قهري
الحصول ولا يمكن تعديهما كي يحكم بلزوم أحدهما.
نعم التخيير بمعنى الإباحة الذي يرجع إلى التخويل في أحد الامرين لا مانع
منه الا انه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم.
واما بناء على الطريقية فالذي التزم به الشيخ (2) وصاحب الكفاية (3) هو
التوقف وان اختلفا بحسب الطريق ولا بد في تحقيق الحال من بيان امرين:

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 439 الطبعة القديمة.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 439 الطبعة القديمة.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 439 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
315

الأول ان التعارض من حيث السند الذي هو مورد احكام التعارض انما
يتحقق فيما كان الدليلان قطعي الدلالة أو ظنيهما ولكن لم يمكن التوفيق عرفا بين
دلالتيهما فإنه حينئذ يعلم بعدم شمول دليل الحجية لكل منهما لعدم امكان الاخذ
يهما معا اما مع كونهما ظني الدلالة وأمكن التوفيق بينهما عرفا بحيث يرتفع التنافي
الظاهري البدوي فلا تعارض بينهما لامكان شمول دليل الحجية لكل منهما
بعد الجمع ورفع التنافي.
الثاني ان الالتزام بالتساقط في مورد المعارضة انما هو لاجل عدم امكان
التخيير والا فمع امكانه فلا وجه للالتزام به لأنه في الجملة جمع بين الدليلين فيرتفع
التنافي.
وحينئذ فنقول ان التخيير..
تارة يطلق ويراد به التخويل في الفعل والترك أو في أحد الفعلين وعدم
الحرج والمانع من الاخذ بكل منها وهو معنى الإباحة.
وأخرى يطلق ويراد به الوجوب التخييري بمعنى لزوم أحدهما وعدم جواز
تركهما معا بل لا بد من الاخذ بأحدهما والتخيير الذي هو محل الكلام هو التخيير
بالمعنى الثاني لا الأول.
لان التخيير بالمعنى الأول انما يكون بعد تساقط الدليلين والرجوع إلى
الأصول ومحل الكلام ما كان قسما للتساقط ومعترضا لوقوعه وهو المعنى الثاني
منه وهو..
تارة يكون في الحكم الفرعي فيكون تخييرا عمليا في المسالة الفرعية بمعنى
وجوب الاتيان بأحد الفعلين كالتخيير بين خصال الكفارة.
وأخرى يكون في المسالة الأصولية يعنى في الدليل على الحكم فيكون
بمعنى وجوب الاخذ بأحد الدليلين وهو..
تارة يكون بين الدليلين على الحكم كالخبرين.
316

وأخرى بين دليلهما المتكفل للتعبد بهما.
فهو يكون في مقامات ثلاثة.
ثم إن التخيير ثبوتا يتصور على انحاء ثلاثة:
الأول: تعلق الامر والوجوب بكل من الفردين مقيدا بترك الاخر.
الثاني: انه سنخ وجوب متعلق بكل من الفردين مشوب بجواز الترك كما
يختاره صاحب الكفاية في ماهية الوجوب التخييري (1)
الثالث انه وجوب أحدهما كما يختاره المحقق النائيني (2).
والكلام في التخيير في المسالة الفرعية اثباتا انما يكون بناء على الالتزام بان
التخيير هو النحو الأول لا على الالتزام بأنه على النحوين الآخرين.
وذلك لان الدليلين المتنافين اما ان يكونا عامين من وجه بحيث يكون
التنافي بحسب المجمع أو يكونا جزئين دالين على وجوب شيئين.
فان كانا عامين من وجه فالالتزام في موضع التنافي بوجوب أحدهما أو
بوجوب كل منهما سنخ خاص يستلزم التفكيك في مدلول دليل واحد بالنسبة إلى افراده.
وان كانا جزئيين فظاهرهما الدلالة على وجوب كل منهما بخصوصه بالمعنى
المعروف للوجوب فلا يتفق مع كون الواجب أحدهما أو مدلولهما الوجوب بنحو
خاص منه لأنه طرح للدليلين لا جمع بينهما عرفا.
وبعد هذا فاعلم أنه قد يمكن التخيير في المسالة الفرعية كما لو دل أحد
الدليلين على وجوب صلاة الظهر والاخر على وجوب صلاة الجمعة أو دل
أحدهما على وجوب شئ والآخر على حرمة شئ آخر وعلم بعدم جعل كلا
الحكمين بخصوصه بنحو الجمع فإنه يمكن إلغاء خصوصية التعيين في كل من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 140 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 1 / 182 الطبعة الأولى.
317

الحكمين وجعل وجوبهما تخييريا بمعنى ان كيون وجوب كل منهما مقيدا بترك
الآخر إذ يمكن أن يكون الامر في الواقع كذلك لأنه لا مانع من جعل وجوب
الجمعة والظهر تخييريا ومع امكانه فيجمع بين الدليلين بذلك فيرتفع التنافي بينهما
ويكون كل منهما مشمولا لدليل الحجية.
نعم لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يعلم بعدم جعل أحد الحكمين أصلا بل
علم بعدم لزوم الاتيان بهما معا إذ مع العلم بعدم جعل أحد الحكمين بالمرة لا يرتفع
التنافي والتكاذب بالجمع بالوجوب التخييري بهذا النحو لان مقتضاه هو اجتماع
الوجوبين لو لم يأت بكل منهما لحصول شرطيهما معا وهو يتنافى مع عدم جعل
أحدهما بالمرة.
اما مع عدم العلم بعدم جعل أحد الحكمين من أساسه، بل كان العلم متعلقا
بعد لزوم الاتيان بكل منهما، فهو متعلق بعدم الجمع عملا لا جعلا وتشريعا، فالجمع
التخييري يرفع التنافي كما عرفت.
وقد يستشكل: بان كلا من الدليلين له له دلالتان: دلالة مطابقية، وهي دلالته
على الوجوب التعييني - ودلالة التزامية، وهي دلالته على نفى أصل وجوب الاخر.
إذ بعد فرض العلم بعدم جعل كلا الحكمين بنحو التعيين، كان الدليل الدال على
وجوب أحدهما تعيينا دالا بالالتزام على نفى وجوب الاخر، لان مقتضى الوجوب
التعييني لأحدهما عدم جعل الاخر من رأس. وعليه فالتصرف في المدلول المطابقي
لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين، لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة
الالتزامية، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجية وان تبعتها في الوجود.
والجواب عن هذا الاشكال: ان الدلالة الالتزامية..
تارة: تكون عرفية كما لو كان التلازم عرفيا.
وأخرى: تكون غير عرفية، بل عقلية أو اتفاقية كما لو كان التلازم عقليا أو
اتفاقيا.
318

والحجة من الدلالات الالتزامية هي العرفية، لأنها موجبة للظهور العرفي
للكلام. دون غير العرفية.
ودلالة كل من الدليلين بالالتزام على نفى وجوب المتعلق الاخر ليست دلالة
عرفية، لان التلازم بين وجوب أحدهما تعيينا، وعدم وجوب الاخر اتفاقي، إذ لا
محذور في اجتماع الوجوبين التعيينيين في نفسه، فلا حجية لهذه الدلالة كي توجب
التوقف في الجمع بالتخيير، فلاحظ.
ولو لم يمكن التخيير في المسالة الفرعية - كما لو دل أحد الدليلين على الحرمة
والاخر على الوجوب، أو دل أحدهما على إباحة شئ والاخر على وجوب شئ
اخر -، وعلم بعدم جعل أحد الحكمين - فإنه لا معنى للتخيير اللزومي بين الإباحة
والوجوب ولو في شيئين. أو الحرمة والوجوب في شئ واحد. أو دل أحد الدليلين
على وجوب شئ والاخر على وجوب آخر أو حرمته، وعلم من الخارج بعدم
جعل أحد الحكمين من رأس، فإنه لا يمكن التخيير بالنحو الأول كما عرفته - فيقع
الكلام في امكان التخيير في المسألة الأصولية، يعنى بين الدليلين في الحجية، بمعنى
لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه، بحيث يحكم بمؤداه ويعمل بمقتضاه - كما
هو المشهور عند تعارض المجتهدين المتساويين في الميزات في الفتوى -
وقد عرفت أن الوجوب التخييري يتصور على انحاء ثلاثة. فالكلام يقع في
امكان كل نحو من الانحاء فيما نحن فيه بالنسبة إلى الحجية ثبوتا فتحقيقه: ان التخيير
بانحائه الثلاثة في المسالة الأصولية لا يتصور له معنى معقول.
اما التخيير بمعنى وجوب أحدهما - كما التزم به المحقق النائيني على ما عرفت،
بتقريب: ان عنوان أحدهما جامع انتزاعي ينطبق على كل من المتعلقين، فكما يمكن
تعلق الحكم بالجامع الحقيقي بين شيئين أو أشياء فيكون التخيير عقليا، كذلك يمكن
تعلق الحكم بالجامع الانتزاعي العنواني، ويكون التخيير شرعيا. فملخص الفرق بين
التخيير العقلي والشرعي هو ان الحكم في الأول متعلق بجامع حقيقي. وفى الثاني
319

متعلق بجامع انتزاعي (1) -، بان يقال: إنه كما يلتزم في باب الواجب بهذا الامر
كذلك يلتزم به في باب الحجية، فيقال ان موضوع الحجية هو أحد الدليلين، وهو
جامع انتزاعي ينطبق على كل من الدليلين، وهو معنى التخيير الشرعي في باب
الحجية والدليلية، فلان الفرق بين المقامين موجود، لان التخيير في الوجوب في
متعلق الحكم الذي يكون الحكم محركا إليه وباعثا نحوه، والمتعلق لا بد من فرضه
غير موجود خارجا حال الحكم، بل يتعلق به الحكم ليحصل الانبعاث نحوه.
فيمكن ان يتعلق الحكم بالطبيعي أو الجامع الانتزاعي، فيوجد بوجود أحد فرديه.
اما الدليلان، فهما موضوعا الحجية لا متعلقا لها. والموضوع لا بد من فرض
وجوده سابقا على الحكم، كنفس المكلف بالنسبة إلى احكامه. فلو وجد الدليلان
فكل منهما ينطبق عليه عنوان: " أحدهما "، فيدور الامر حينئذ بين أم يكون كلاهما
موضوعين للحجية، أو أحدهما المعين. أو أحدهما على البدل.
وكل من الاحتمالات باطل..
اما الأول: فلانه خلاف الفرض، لان الفرض هو التخيير في الحجية لا ان
كلا منهما حجة.
واما الثاني: فلانه ترجيح لا مرجح
واما الثالث: فلان أحدهما على البدل لا وجود له خارجا، لان كل فرد عبارة
عن نفسه لا عبارة عنه أو غيره. فالموجود خارجا هو الفرد نفسه لا الفرد أو غيره.
وعليه، فالالتزام بهذا النحو من التخيير مشكل ثبوتا. ولو تنزلنا عن ذلك
وقلنا بامكانه في عالم الثبوت، ففيه:
أولا: انه لا يجدي في اجراء اثار التخيير المفروضة، وهي صحة الالتزام
بمؤدى أحدهما والحكم والفتوى بمقتضاه، أو العمل على طبقه بقصد التقرب لو كان
متوقفا عليه، ونحو ذلك.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 184 - الطبعة الأولى.
320

وذلك لان موضوع الحجية - على الفرض - هو أحدهما. فالجائز ترتيب
اثار هذا العنوان فقط. ولا يخفى ان ما يتكفل لاثبات خصوص وجوب الظهر أو
الجمعة مثلا هو الفرد بخصوصه لا بما أنه أحدهما، فلا يصح الالتزام بما يؤديه الفرد
عملا إذ ما قامت عليه الحجة هو الجامع، كالوجوب مثلا. اما خصوصية وجوب
الظهر أو غيرها فلم تقم عليه الحجة.
وبالجملة: فالجائز هو ترتيب اثار ما يشترك في بيانه كلا الدليلين، كأصل
الوجوب. اما خصوصياته التي يختلف الدليلان في بيانها، فهي ليست من مؤديات
الجامع، بل من خصوصيات الافراد، فلا وجه للالتزام بها في مقام العمل لخروجها
عن مقتضى الحجية.
وثانيا: انه لا معنى للتخيير بهذا المعنى في بعض الموارد، كما لو دل أحد
الدليلين على الوجوب والاخر على الحرمة، فإنه لا معنى للالتزام بان الحجة
هو الجامع بين الدليلين المذكورين، إذ لا جامع بين مدلوليهما كي يلتزم به مقتضى
حجية الجامع، فلاحظ.
واما التخيير بمعنى سنخ وجوب مشوب بجواز الترك، بان يقال فيما نحن فيه:
ان الحجية ثابتة لكل من الدليلين لكنها سنخ حجية ضعيفة متوسطة بين الحجية
واللا حجية.
فلانه - مع قطع النظر عن عدم تعقل ذلك في نفسه، إذ الكلام فيه يحتاج إلى
بسط مقال لا يسعه المجال - يقال: ان المقصود من الحجية أو معناها - بأي معنى
كانت من أن المجعول هو المؤدى فيترتب عليه المنجزية والمعذرية، أو الطريقية، أو
نفس الحجية - هو ترتب المنجزية والمعذرية على الحجة، فمع اجتماع الدليلين
وحجيتهما في أنفسهما بهذا السنخ من الحجية الضعيفة يدور الامر بين ان تترتب
المنجزية على كلا الدليلين مطلقا، أو لا تترتب مطلقا، أو تترتب على تقدير دون
آخر.
321

فعلى الأول: يلزم المحذور لاجتماع المنجزين على امرين متضادين ذاتا أو
عرضا.
والثاني: خلف فرض الحجية
والثالث: يقع الكلام فيه في النحو الثالث لرجوعه إليه.
واما التخيير: بمعنى الوجوب المشروط بان يكون وجوب كل منهما مقيدا
بترك الاخر، فالمراد منه في باب الحجبة أحد احتمالات ثلاثة:
الأول: ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم حجية الاخر، وهو باطل لأنه
يستلزم ان تكون حجية كل منهما مانعة عن حجية الاخر، فتكون حجيتاهما
متمانعتين. فلا يمكن اجتماعهما أصلا، لان إحداهما تمنع عن الأخرى. فينتفى موضوع
التخيير.
الثاني: ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدى الاخر،
وهو باطل أيضا، إذ يمكن أن يكون مؤدى أحدهما وجوب الشئ والاخر حرمته،
فمع ترك العمل على طبق الدليل الدال عل الحرمة بالاتيان بالفعل، لا معنى لحجية
الدال على الفعل والامر بالعمل به، إذ لا معنى للامر بالفعل مع الاتيان به. مع أن هذا
الفرض يقتضيه.
الثالث: ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم الاستناد إلى الاخر وهو
فاسد، لاستلزامه شمول الحجية لكل منهما، مع عدم الاستناد إلى كل منهم، لحصول
شرط حجية كل منهما، فيرجع التنافي.
وهذا المحذور يتأتى في الفرض الثاني أيضا، إذ مع ترك العمل بمؤدى كل منهما
يكون دليل الحجية شاملا لكل منهما، فيرجع لحصول التنافي.
والمتحصل: ان التخيير في باب الحجية بانحائه الثلاثة في باب الاحكام لا
يتصور له معنى معقول، فتدبر جيدا.
نعم، هناك نحو آخر يتصور ثبوتا للتخيير في مقام الحجية، وهو ان تكون
322

حجية كل منهما مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤداه، فمع عدم البناء على الالتزام
بمقتضاه لا يكون مشمولا للحجية.
وهذا معنى معقول ثبوتا فيمكن ان يحمل عليه ما ورد من أدلة التخيير بين
الدليلين في بعض الموارد، بلا حاجة إلى تكلف تأويل له بالحمل على التخيير في
المسالة الفرعية، كما هو الحال لو لم يثبت تعقل التخيير في المسالة الأصولية.
الا ان هذا النحو لا يجدي فيما نحن فيه، إذ لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفا -
كما في التخيير في المسألة الفرعية -، إذ لا يستلزم التصرف بمؤدى كل منهما بنحو
يرتفع التنافي، بل كل باق على مؤداه، فلا وجه للالتزام به في المورد الذي نحن فيه.
ومع عدم تعقل تلك الانحاء ثبوتا، وعدم امكان الالتزام بهذا النحو اثباتا،
فلا محيص عن الالتزام بأحد الاحتمالات الأخرى، من التساقط أو التوقف أو
غيرهما.
وقد عرفت أن الشيخ التزم بالتوقف وتساقط الدليلين في الدلالة المطابقية
لهما وبقائهما على الحجية في نفى الثالث - وهو معنى التوقف - وبنتيجة ذلك التزم
صاحب الكفاية (قدس سره) الا انه بغير الطريق الذي سلكه الشيخ، بل ذهب إلى أن
الدليلين لا يتساقطان، بل يسقط أحدهما عن الحجية ويبقى الاخر تحت دليل
الحجية، غاية الامر انه لا تترتب اثار العلم الاجمالي على ذلك - كما في مسالة
اشتباه الحجة باللا حجة - بل هما بالنسبة إلى الدلالة المطابقية كالمتساقطين، نعم،
يظهر الأثر في شئ اخر أجنبي عن محل الكلام وهو نفى الثالث.
وبيان ذلك (1): ان دليل الحجية لا يشمل ما يعلم كذبه من الأدلة كما لا يخفى.

(1) قد يبدو الالتزام بسقوط أحدهما وبقاء أحدهما - بهذا المقدار من العنوان - مشكلا، لكن
القوم يلتزمون بنظيره في بعض الموارد:
فمن ذلك: مورد تعلق الامر بفردين من طبيعة واحدة بلا أن يكون لأحدهما خصوصية يمتاز
بها على الاخر، كموارد قضاء الصوم إذا كان الفائت يومين - مثلا - وموارد الدين الثابت
في الذمة كدينارين. فإنه يلتزم فيما إذا أتى المكلف بأحد الفردين بلا تعيين سقوط أحد الامرين
وبقاء الاخر بلا تعيين الساقط والباقي منهما، فلو أعطاه دينارا بعنوان الوفاء التزم ببقاء دينار في
الذمة بل تعيين كونه أي الدينارين.
ومن ذلك: مورد الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي لا بعينه، بناء على الالتزام
بالتوسط في التنجيز - كما عليه الشيخ " ره " - فإنه يلتزم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بلا
تعيينه، لكون الاضطرار إلى أحدهما بلا تعيين.
ثم إن الالتزام ببقاء أحدهما على الحجية ينحو لا يترتب عليه اثر احدى الخصوصيتين، لا بد
وان يوجه بكون موضوع الحجية هو العنوان الانتزاعي الجامع بين الخبرين - وهو عنوان
أحدهما - وليس المراد به أحدهما المعين في الواقع، لأنه مضافا إلى كونه ترجيحا بلا مرجح،
يترتب عليه اثار العلم الاجمالي، وهو مما لا يقصده صاحب الكفاية، كما أنه ليس المراد به
أحدهما المردد كي يرد عليه انه لا خارجية له. بل المراد به ما عرفت من أحدهما الجامع بين
الخبرين، ولا جل ذلك لا يثبت به سوى الجامع بين المدلولين.
وقد عرفت أن لمثل هذا نظائر، كمثال الدين والاضطرار.
وهذه الموارد تختلف، فتارة: يترتب على بقاء أحدهما اثر الفرد الخاص، كما في موارد الامر
المتعدد كالدين.
وأخرى: لا يترتب عليه أي اثر كاخبار خمسة متعارضة في الدلالة على الأحكام الخمسة
وثالثة: يترتب عليه اثر الجامع، كما لو لم يكن تعارض الخيرين في الوجوب والحرمة.
هذا غاية ما يمكن توجيه كلام الكفاية به، وبه تندفع بعض الايرادات عليه.
ولكن يرد عليه:
أولا: انا لم نلتزم في محله - (يلاحظ مبحث النية من كتاب الصوم) - بأساس هذا الالتزام،
وبينا عدم معقولية سقوط أحد الامرين وبقاء الاخر، وانما يسقط الأمران معا ويحدث امر آخر
ناش من غرض واحد.
وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه، فانا إذا التزمنا بسقوط كلا الخبرين عن الحجية، فأي مقتض
لحدوث حكم جديد يتعلق بأحدهما؟
وثانيا: مع عدم تعقل ما ذكر، ان ثبوت الجامع بين المدلولين..
ان كان بأحدهما الانتزاعي، فهو ليس فردا خارجيا غير الفردين الساقطين عن الحجية،
فمقام الاثبات قاصر عن شموله.
ولعله إلى ذلك يرجع اشكال الشيخ على التخيير: بان أحدهما ليس فردا ثالثا كي يشمله
دليل الحجية الثابت لافراد الخبر.
وان كان بكلا الخبرين، فهو راجع إلى حجيتهما معا، وهو خلاف مدعاه من سقوط أحدهما
عن الحجية.
هذا مع أن الجامع مدلول ضمني للخبرين، والاخذ بالمدلول التضمني مع سقوط المطابقي عن
الحجية لا وجه له للتلازم بينهما في الحجية، فتدبر جيدا.
323

وحيث إن أحد الدليلين معلوم الكذب كان خارجا عن دليل الحجية بلا كلام.
واما الاخر، فهو محتمل الإصابة وغير معلوم المخالفة للواقع فيبقى مشمولا
لدليل الحجية.
وبما أن خروج أحدهما عن الحجية وبقاء الاخر ليس إلا بعنوان أحدهما لا
أكثر، إذ لا تعين للمعلوم بالاجمال ظاهرا في الواقع بحيث لو انكشف كان الاخر غير
معلوم الكذب وكان هو معلومه، فكل واحد منهما ليس بمعلوم الكذب واقعا دون
الاخر، فالمعلوم كذبه لا تعين له الا بهذا المقدار - أعني: أحدهما - ومثله غير
معلومه، فالحجة وغير الحجة هو أحدهما بلا عنوان.
بذلك خرج المورد عن اشتباه مورد الحجة باللا حجة - كاشتباه خبر العادل
بخبر الفاسق - إذ المعلوم بالاجمال في ذاك المورد له تعين في الواقع يمتاز به عن غيره،
بحيث إذا انكشف كان هو دون غيره، كخبر زيد مثلا، فكانت احدى الخصوصيتين
اللتين يتكفل الدليلان بيانهما ثابتة في الواقع ومنجزة للعلم بها اجمالا، فلا بد من
الاحتياط - في مورده - وهذا بخلاف ما نحن فيه، لان الحجة ليس إلا الخبر بعنوان
أحدهما، فكلتا الخصوصيتين لا منجز عليهما كي يتعين الاحتياط، لان كلا منهما
غير معلوم الحجية بعنوانه الذي يكون متعلق العلم الاجمالي.
نعم، يترتب على الخبر الذي يكون حجة واقعا نفى الثالث. فنفى الثالث
يكون بأحدهما بلا عنوان، لا بكليهما، لان أحدهما ساقط عن الحجية.
و بهذا يتفق مع الشيخ في النتيجة (1).
وللنظر فيما افاده مجال من وجوه:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / - 439 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
325

الأول: ان شرط الحجية هو احتمال الإصابة، وهو متحقق في كل من الدليلين
في نفسه، فكل منهما بنفسه يشتمل على شرط الحجية فيكون موضوعا للحجية، فلا
وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجية بالعلم الاجمالي، إذ العلم الاجمالي لا يكفى
في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما في حد ذاته.
الثاني: انه لو سلمنا خروج أحدهما عن الحجية وبقاء أحدهما على الحجية،
فكون أحدهما على البدل وبلا عنوان موضوعا للحجية غير وجيه إذ لا تعين ل‍
" أحدهما على سبيل البدل " في الواقع ولا وجود له كي يكون قابلا لشمول الحجية
له - كما تقدم -
الثالث: انه لو سلمنا بامكان تصور الفرد على البدل، الا ان اثبات حجيته
يحتاج إلى دليل آخر يتكفل ذلك، لان دليل الحجية يتكفل اثبات الحجية لكل فرد
بخصوصه، فهو قاصر عن شمول الواحد على سبيل البدل، فلاحظ.
وعلى كل، فهل الوجه هو التساقط مطلقا، أو الاحتياط، أو التوقف؟
اما الاحتياط فلا أصل له الا رواية (1) مخدوش في سندها وراويها حتى ممن
يتساهل في العمل بالاخبار - كصاحب الحدائق -
واما التوقف في العمل الذي يرجع إلى الاحتياط بملاك أدلته المذكورة في
مورد البراءة، فكالأول، لاختصاص رواياتها بموارد ليس ما نحن فيه منها.
فالمتعين هو التوقف، بمعنى نفى الثالث، كما التزم بها الشيخ، لما تحقق في
محله (2) من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية في مثل ما نحن فيه، مما لم
يعلم بانتفاء المدلول المطابقي واقعا بل يحتمل ثبوته، وحيث إن الدليلين متصادمان
في دلالتهما الالتزامية عن الحجية لخروجهما عن مورد المعارضة، فكل من الدليلين
ينفى الثالث بالالتزام. ومنه يظهر منع الالتزام بالتساقط مطلقا.

(1) هي مرفوعة زرارة، المروية في غوالي اللئالي 4 / 133، حديث: 229.
(2) راجع الكلام في ذلك في مبحث اقتضاء الامر بالشئ للنهى عن ضده.
326

ثم إنه لا يخفى ان الأصل المذكور غير ذي اثر عملي بالنسبة إلى الخبرين
المتعارضين لأنهما مورد الاخبار العلاجية، فهما خارجان عن الأصل كيف كان،
فلاحظ.
تذييل: هل الجمع مهما أمكن أولى بحيث انه مع امكانه ولو بضرب من
التأويل لا يرجع إلى الأصل الأولي ولا الأصل الثانوي - وهو مفاد الاخبار
العلاجية -؟
وقع الكلام في ذلك، وقد أطنب في الكلام عن هذه القاعدة بعض (1). وغاية
ما يمكن الاستدلال به على هذه الدعوى وجهان:
الأول: ان دليل الاعتبار والحجية يتكفل لزوم العمل بالدليل الا في فرض
لزوم محذور عقلي في العمل به، فإذا أمكن العمل بنحو يرتفع المحذور العقلي كان
مقتضى دليل الحجية لزوم العمل به.
وعليه، فبما ان كلا من الدليلين موضوع للحجية، فدليلها يتكفل لزوم العمل
بهما بالمقدار الذي لا يلزم منه المحذور العقلي، فإذا أمكن تأويلهما بنحو يرتفع بينهما
التنافي الظاهر المانع عن العمل بهما عقلا فهو المتعين، لأنه مقتضى دليل الاعتبار.
الثاني: انه كما يرتكب التأويل في مقطوعي الصدور لرفع التنافي بينهما، كذلك
مقتضى دليل الحجية ذلك في مظنوني الصدور، لأنه يتكفل الالزام بمعاملتهما معاملة
مقطوعي الصدور، فتترتب عليهما اثار المقطوعين صدورا.
وقد أنكر الشيخ (رحمه الله) هذين الدليلين، باعتبار اختلاف المورد الذي
نحن فيه عن مورد القاعدة بادلتها المذكورة.
ببيان: ان الامر فيما نحن فيه يدور بين الالتزام بدليل حجية الظهور والالتزام
بدليل حجية السند. وذلك فان كلا من الخبرين موضوع لدليلين:
أحدهما: دليل حجية السند واعتباره.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 433 - الطبعة القديمة.
327

والاخر: دليل اعتبار الظهور وحجيته.
والقدر المشترك بين الالتزام بالقاعدة والالتزام بالاخبار العلاجية هو الاخذ
بدليل اعتبار السند وتصديق الخبر في أحدهما. ويبقى الامر بعد هذا دائرا بين العمل
بدليل اعتبار الظهور في هذا الخبر أو طرحه والعمل بدليل اعتبار السند للخبر
الاخر، فالمورد خارج عن مورد القاعدة، لأنها تبتني على ثبوت الاعتبار، كي يقال
بان مقتضاه لزوم العمل بالمقدار الممكن، وهذا في ما نحن فيه محل الاشكال والكلام.
ومنه يظهر: انه لا وجه لقياس المقام بالدليلين القطعي الصدور، لثبوت دليلي
اعتبار السند في كل منهما ويبقى دليلا اعتبار الظهور متعارضين، فيجمع بينهما
بالمقدار الممكن الرافع للتنافي ويؤخذ بالدليلين بالنحو الميسور.
وعلى هذا فلا دليل على هذه القاعدة، بل الدليل على خلافها وهو الاخبار
العلاجية، إذ بالالتزام بهذه القاعدة لا يبقى مورد لهذه الاخبار الا ما شذ، فتكون
لغوا.
وقد يستشكل: بأنه قد تقدم انه لو ورد دليلان يدلان على وجوب شيئين مع
العلم بعدم وجوبهما تعيينا يتصرف فيهما بتقييد اطلاق كل منهما الدال على التعيين
بترك العمل بمتعلق الاخر، فيكون وجوبهما تخييريا، وبه يرتفع التنافي ويكون كلا
الدليلين مشمولين لدليل الحجية. فكما يرفع التنافي هناك بالتقييد فليرفع فيما نحن فيه
به أيضا فيحمل - مثلا - " ثمن العذرة سحت " (1)، على عذرة الانسان، ويحمل: " لا
بأس ببيع العذرة " (2) على عذرة غيره، فيرتفع التنافي فيكون دليل الحجية شاملا
لكلا الدليلين.
والجواب: ان بين المقامين فرقا فارقا، فان المورد السابق لما كان التنافي فيه
بحسب بعض المدلول - وهو التعيينية - التزم برفع اليد عن ذلك البعض في كلا

(1) وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به، حديث: 1.
(2) وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به، حديث: 2 و 3.
328

الدليلين بالتقييد الذي هو حقيقة الوجوب التخييري، فيبقى الباقي - وهو أصل
الوجوب - مطابقا للمتفاهم العرفي للدليل، إذ هو بعض المدلول لا انه غيره.
بخلاف هذا المورد، فان التنافي في كل المدلول ومجموعه كما لا يخفى، وليس
هناك مورد يفترق فيه أحد الدليلين عن الاخر، فالالتزام برفع اليد عن مورد التنافي
التزام بتساقط الدليلين. والالتزام بالنحو المذكور من التقييد التزام بجمع تبرعي لا
يتفق مع التفاهم العرفي للكلام فيحتاج إلى الدليل.
والمحصل: ان الجمع بين الدليل إذا لم يكن عرفيا موافقا لمتفاهم الكلام بحيث
يكون للكلام ظهور فيه - وإن لم يكن بدويا - فلا دليل عليه.
ثم إنه قد تقدم (1) ذكر بعض موارد الجمع العرفي، وكان منها تقديم الأظهر
على الظاهر.
ولكن تشخيص الأظهر على الظاهر قد يشكل باعتبار اختلاف الافهام.
وقد ذكر الاعلام بعض الموارد شخصوا فيها ذلك وجعلوها مطردة في جميع
مصاديقها: فمنها: لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين، مثل " أكرم

(1) لا بأس قبل التعرض إلى تحقيق بعض صغريات الجمع العرفي من التنبيه على امر، وهو: ان
الاخبار العلاجية لو تمت بأي نحو من أنحائها من تخيير أو ترجيح، هل تشمل موارد الجمع
العرفي، كموارد العام والخاص والمطلق والمقيد، أو لا تشمل تلك الموارد، بل تختص بموارد
التعارض المستحكم عرفا بين الدليلين؟
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ذلك وبين وجه الشمول كنا بين دفعه.
وتحقيق ذلك باجمال: انه لا يمكن فرض كون هذه الأخبار العلاجية رادعة عن السيرة
المستمرة على تقديم النص على الظاهر في الموارد الثابتة فيها، وذلك للعلم بصدور المخصصات
للعمومات والمقيدات للمطلقات من قبل الشارع قبل صدور الاخبار العلاجية، ومن الواضح ان
صدورها يكون لغوا لو فرض عدم اقرار الشارع لطريقة العقلاء القائمة على الجمع بينهما، إذ بناء
العرف عند صدورها وقبل ورود الرادع على الجمع العرفي، والمفروض ان الشارع لا يقر ذلك
فيكون صدورها لغوا إذ لا يترتب عليه المقصود، فتدبر.
329

عالما " و: " لا تكرم الفاسق " فإنه ادعي أظهرية الأول من الثاني.
وقد قرب المحقق النائيني (قدس سره) ذلك بوجهين:
الأول: انه مع الالتزام بالاطلاق الشمولي في مورد الاجتماع والتنافي لا يلزم
التصرف بالاطلاق البدلي، فان مفاد الاطلاق البدلي ثبوت الحكم إلى أحد الافراد،
فاخراج بعض الافراد عنه لا يوجب التصرف بمدلوله المذكور، فان الحكم ثابت
لأحد الافراد كما لا يخفى. نعم، يوجب تضييق دائرة متعلقه.
والالتزام بمدلول الاطلاق الشمولي، لان مدلوله ثبوت الحكم لكل فرد فرد،
فرفع اليد عن الحكم في بعض الافراد يستلزم التصرف في مدلوله فالتنافي من جهة
الاطلاق الشمولي يرجع إلى مدلول الكلام. ومن جهة الاطلاق البدلي ليس كذلك.
فيتعين رفع اليد عن الاطلاق البدلي، لأنه ليس فيه رفع لليد عن مدلول الكلام
وتصرف في ظاهر الدليل.
الثاني: ان عموم المطلق البدلي لجميع افراده باعتبار حكم العقل بتساوي
الافراد وعدم المميز لأحدها على الاخر ومع وجود الاطلاق الشمولي يرتفع حكم
العقل المذكور، إذ مقتضاه وجود الميزة لهذا الفرد، فيخرج عن دائرة المطلق البدلي،
فتكون نسبة الاطلاق الشمولي إلى البدلي نسبة الوارد إلى المورود، كما لا يخفى (1).
وقد أورد على الأول:
أولا: بأنه وجه استحساني لا عبرة به في الترجيح في باب الألفاظ في مقام
التفهيم، ولا يقوم دليلا على تعيين مراد المتكلم وحجة عليه يستند إليه في مقام
الفتوى واستنباط المسالة الأصولية، فان شان الأصولي ايصال دليله إلى العلم أو
العلمي، وليس الوجه موجبا للعلم كما أنه لا دليل على ثبوته والالتزام به شرعا ولو
بتوسط سيرة العقلاء، فلاحظ.
وثانيا: بان كل اطلاق بدلي يشتمل على اطلاق شمولي، وهو جواز التطبيق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 519 - الطبعة الأولى.
330

بالنسبة إلى كل فرد، فيحصل التعارض بينهما. فيلزم من تقدم الاطلاق الشمولي
التصرف في مدلول الاطلاق البدلي بلحاظ اشتماله على الشمولية.
وعلى الثاني: بان حكم العقل بتساوي الافراد لم يكن مأخوذا في موضوع
الاطلاق البدلي كي يكون الدليل الشمولي الدال على المزية رافعا لموضوعه وواردا
عليه، بل هو مستفاد من نفس الاطلاق ومقدمات الحكمة الجارية فيه فلا تكون
نسبة الاطلاق الشمولي إليه نسبة الوارد إلى المورود (1).
هذا، ولكن يمكن توجيه كلام المحقق النائيني بنحو لا يتوجه عليه أي ايراد،
ويتضح ذلك ببيان أمور ثلاثة:
الأول: ان ظهور المطلق في الاطلاق لما كان بمقدمات الحكمة فيقدم عليه كل
ما " يصادم الاطلاق خ ل " يصلح للدلالة على التقييد لفظيا كان أم عقليا، وذلك:
اما لانهدام الاطلاق بورود ما يصلح للمقيدية - لو قلنا بجريان مقدمات
الحكمة في المراد الجدي - لانتفاء احدى مقدمات انعقاده وهي عدم البيان، لان
المراد به على هذا عدم البيان إلى الأبد، وقد انتفى بالدليل على الشمول.
أو لاجل قيام الحجة الأقوى ظهورا على خلافه مع بقائه على اطلاقه - لو
قيل بجريانها في المراد الاستعمالي، إذ عليه لا يكون المقيد المنفصل رافعا للاطلاق -
وهذا واضح لا غبار عليه وقد تقدم بيانه مفصلا.
الثاني: ان استفادة البدلية والشمولية انما هي بقرينة خارجية وليست من
نفس مدلول الكلام، إذ المطلق بمقدمات الحكمة لا يدل الا على نفس الطبيعة مجردة
عن كل قيد ووصف.
اما إرادة الطبيعة كذلك الموجودة بوجود أحد افرادها - كما هو مقتضى
البدلية - أو جميعها - كما هو مقتضى الشمول - فذلك يعلم من دليل اخر خارجي.
كما استفيدت البدلية من: (أقيموا الصلاة) لعدم امكان الجمع بين جميع

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 334 - الطبعة الأولى.
331

الوجودات فلا يصح الامر بها واستفيدت الشمولية من: (أحل الله البيع) للغوية
تعلق الحلية ببيع واحد من جميع البيوع كلها.
الثالث: (1) - وهو عمدة الأمور - ان التنافي في الاطلاق البدلي والشمولي انما
هو بين نفس الشمولية والاطلاق، فان دلالة الاطلاق في المطلق البدلي على الطبيعة
من دون أي قيد ينافيه شمول الاطلاق الاخر لبعض الافراد. والا فبين الاطلاقين لا
يوجد أي تناف، ويدل على ذلك أنه لو كان كلا الاطلاقين بدليين لم يكن هناك أي
تناف نظير: " أكرم عالما " و: " لا تكرم فاسقا ".
وهذا كاشف عن انه لا تنافى بين الاطلاقين بما هما بل من ناحية أخرى. كما

(1) هذا ما بنينا عليه سابقا، لكن الانصاف حصول التنافي بين الاطلاقين بحيث لا يمكن
اجتماعهما وإرادتهما في أن واحد.
نعم، منشأ التنافي هو إرادة الشمول في أحد الاطلاقين، ولكن ليس نتيجة ذلك حصول
التنافي بين الشمولية والاطلاق الاخر، بل نتيجته حصول التنافي بين الاطلاقين، نظير التنافي
الحاصل بين الاطلاقين الناشئ من تنافى الحكمين، بحيث لو لم يكن الحكمان متنافيين لم يكن
تناف بين الاطلاقين بتاتا، فالتفت.
هذا ولكن الانصاف ان تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي مما عليه
السيرة العرفية، وأمر ثابت لا يقبل الانكار، ولذا لا نجد أحدا يتوقف في تقديم دليل: " لا
تغصب " على دليل وجوب الصلاة بناء على امتناع اجتماع الامر والنهى.
ولعل السر في هذا الامر المسلم، هو عدم التضاد بين هذين الحكمين فلا منافاة بين الدليلين.
اما بناء على عدم التضاد بين الاحكام الا في مرحلة الامتثال فواضح، إذ يمكن امتثال هذين
الحكمين بلا تزاحم ولا تناف بينهما، فلا مانع من الالتزام بكلا الاطلاقين، غاية الامر يحكم
العقل بلزوم اختيار الفرد غير المحرم في مقام امتثال الامر جمعا بين الامتثالين.
واما بناء على التضاد بين الاحكام في أنفسها، فلان دليل التضاد لا اطلاق له حتى يشمل هذه
الصورة، بل ملاك التضاد المذكور في محله لا يشمل ما نحن فيه، لتعلق الامر بالطبيعة على نحو
البدلية وتعلق النهى بكل فرد، فلا مجمع للحكمين.
ولو سلم التضاد أمكن ان يعالج بملاحظة مرجحات باب التزاحم، فيقدم دليل الاطلاق
الشمولي، لأنه مقدم على الاطلاق البدلي في مقام التزاحم، لا مكان امتثال البدلي في غير الفرد
المحرم، فتدبر.
332

انه ليس التنافي بين شمولية أحد الاطلاقين وبدلية الاخر، لما عرفت من أن الالتزام
بالشمول لا يوجب التصرف في البدلية، بل التصرف في متعلقها وهو الطبيعة
المرسلة، ولذا يرتفع التنافي بمجرد تقييد الطبيعة مع المحافظة على أصل البدلية وكون
الموضوع أحد الافراد، فالتنافي انما هو بين الشمول والاطلاق، والشمولية هي
الموجبة لحصول التنافي.
إذا عرفت ذلك يتضح الوجه في تقدم المطلق الشمولي على البدلي، لان دلالة
الاطلاق البدلي على الشمولي بمقدمات الحكمة.
وقد عرفت - بالمقدمة الأولى - انها انما تقتضي الشمول والعموم مع عدم
الدليل أو ما يصلح للدليلية على الخلاف.
وعرفت - بالمقدمة الثانية - ان الشمولية التي هي منشأ التنافي والتصادم - كما
هو مقتضى المقدمة الثالثة - تعلم بقرينة خارجية ودليل أجنبي عن مدلول الكلام.
وهو صالح لتقييد الاطلاق البدلي، فيكون متقدما عليه لا محالة، اما لانهدام
الاطلاق البدلي أو لقيام الحجة الأقوى على خلافه.
ويمكن استظهار هذا من كلامه (قدس سره) بما افاده من: انه بتقديم الاطلاق
الشمولي لا يتصرف في البدلي، فإنه ظاهر في أن البدلية ليست محل التنافي، فتقديم
الشمولية لا يوجب التصرف فيها، فلاحظ.
وبهذا لا وجه حينئذ للايراد عليه بأنه وجه استحساني، أو ان الاطلاق
الشمولي معارض باطلاق شمولي اخر.
إذ قد عرفت أن تقدمه عليه ليس لمحض الاستحسان، بل لانهدام اطلاقه أو
عدم شمول دليل الحجية له.
كما أن الاطلاق الشمولي الاخر ثابت من مقدمات الحكمة بالدلالة
الالتزامية، وهي منهدمة أو معارضة بما هو أقوى منها دلالة، وهي القرينة العقلية
على الشمول.
333

والمتحصل: انه لا مانع من الالتزام بأظهرية الاطلاق الشمولي من الاطلاق
البدلي وتقدمه عليه مطلقا، بل لا بد من الالتزام به مطردا، فتدبر جيدا فيما ذكرناه
فإنه لا يخلو عن دقة.
ومنها: ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي. فقد ذكر: ان العام مقدم على
المطلق بتقريب، ان ظهور العام في العموم لما كان بالوضع كان تنجيزيا. بخلاف
ظهور المطلق في الاطلاق فإنه معلق على تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم
البيان، مع صلاحية العام للبيانية تنتفى هذه المقدمة فينهدم الاطلاق من أساسه
ويتقدم العام عليه (1).
وقد أورد عليه صاحب الكفاية: بان هدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة
انما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا. لفرض كونه في مقام بيان المراد
الاستعمالي لا الواقعي - والعام ليس بيانا في مقام التخاطب لانفصاله عن المطلق،
فيكون ظهور المطلق في الاطلاق تاما فيتعارض الظهوران، فلا بد في ترجيح
أحدهما على الاخر من ملاحظة خصوصيات كل منهما بحسب الموارد، ولا يمكن
الجزم والحكم بتقدم أحدهما على الاخر بقول مطلق (2).
وقد اختار المحقق النائيني (3) تقدم العام على المطلق ولم يتعرض مقرر وبحثه
إلى بيان السر في ذلك بعد اشكال الكفاية.
والسر فيه ما عرفته سابقا من اختياره كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد
الجدي الواقعي، وهذا يقتضى كون ورود ما يصلح للبيانية - ولو كان منفصلا -
هادما للاطلاق لارتفاع مقدمات انعقاده.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 457 - الطبعة القديمة.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 450 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 729 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
334

فالذي ينبغي ان يقال (1): انه لا بد من التفصيل على البنائين في مجرى

(1) تحقيق الكلام: ان تقديم المقيد على المطلق قد عرفت أنه من باب كشف المقيد عن عدم
كون المتكلم في مقام البيان، الذي هو الأساس في ثبوت الاطلاق، وعرفت انه يخل بالمراد
الاستعمالي.
وهذا انما يتم في مورد يمكن ان يلتزم بذلك - أعني: عدم كونه في مقام البيان، اما ما لا يمكن
الالتزام به - كما لو كان الموضوع المقيد موضوع السؤال في المطلق، أو كان الاطلاق واردا لبيان
حكم عمل المكلف بحيث لا يتصور انه يسمع التقييد بعد ذلك - كما أشرنا إليه في مبحث المطلق
والمقيد فراجع - فلا يقدم المقيد على المطلق، بل يحصل التعارض بينهما.
والكلام فيما نحن فيه انما هو في غير هاتين الصورتين، بل في مورد لو كان بدل العام دليلا
مقيدا لقيد المطلق، فيتكلم في أن العام هل يؤدى مهمة الدليل المقيد فيقيد به المطلق ويكون
كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان، أو ليس له هذه المهمة؟
والتحقيق: ان تقديم العام على المطلق يتوقف على الالتزام بان دلالة العام على العموم
وضعية بواسطة الأداة لا اطلاقية بواسطة مقدمات الحكمة، وكون دلالة الأداة تتبع اطلاق
المدخول.
فإنه على الأول يصلح العام لان يكون كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان،
فيتصرف في المطلق ولا يصلح المطلق للتصرف في العموم، لان دلالة العام غير منوطة بمقدمات
الحكمة بل هي بالوضع.
واما على الثاني، فلا يصلح العام للتصرف في المطلق، لأنه يتوقف على مقدمات الحكمة،
فيكون المورد من موارد تعارض الاطلاقين.
والبحث في كون العموم في العام هو مدلول الأداة أو انه مقتضى مقدمات الحكمة، والأداة لا
تتكفل الا بيان خصوصية العموم من استغراقية أو بدلية، قد أشرنا إليه في مبحث العام والخاص،
وقد قربنا الثاني، ونزيد هنا توضيحا لما تقدم.
أولا: ان مدخول الأداة قد لا يكون في بعض الأحيان مما له عموم افرادي، بحيث يكون له
افراد متعددة، كقول القائل: " سهوت في كل الصلاة " أو: " وقع كل الصلاة في النجس "، فان
الصلاة هنا ليس لها افراد متعددة يقصد بيان ارادتها بواسطة: " كل "، بل لا يقصد الا بيان
استغراق حالة السهو لجميع حالات وآنات الصلاة، فهي لا تفيد سوى الاستغراق، والالتزام
بتعدد المعنى لها غير صحيح، لان الملحوظ انها تستعمل في مثل: " أكرم كل عالم "، ومثل المثال
السابق في معنى واحد، لا معنيين.
وثانيا: ان مدلول قول المولى: " أكرم كل عالم " إذا حللناه نجده بمعنى: " أكرم كل فرد من افراد
العالم "، وهنا يصح ان يسال ان المراد بالعالم خصوص الفقيه أو الأعم، وهذا يكشف عن عدم
إفادة لفظ: " كل " التعميم من حيث أنواع العالم، فلا بد من دليل اخر يدل على التوسعة، وهو
ليس إلا مقدمات الحكمة.
ثالثا: انه لو فرض كون الدلالة على العموم بواسطة الأداة، لأشكل الامر في تقديم الخاص
على العام، بل كانا متعارضين، بناء على ما عرفت من أن دلالة اللفظ على المعنى دلالة قطعية، فلا
وجه حينئذ لتقديم الخاص على العام الذي هو مبنى السيرة العقلائية العرفية. ووجه ذلك
منحصر بالالتزام بكون دلالة الأداة على العموم يتبع سعة المدخول المستفاد من جريان
مقدمات الحكمة فيه.
وبالجملة: فلفظ " كل " يفيد شمول الحكم لجميع الافراد، في قبال العموم البدلي الذي لا
يكون الحكم متعلقا الا بفرد على البدل، اما تعلق الحكم بكل فرد فرد أو بالمجموع، فهو خارج
عن مفاد لفظة: " كل "، بل يستفاد من قرائن أخرى، فتدبر.
335

مقدمات الحكمة.
فعلى البناء على كون مجراها هو المراد الجدي - كما عليه النائيني - يكون
العام مقدما على المطلق بلا كلام، لأنه رافع لمقدماته فيختل الاطلاق - لكن الامر
الذي لم يعلم وجهه هو التزام المحقق النائيني بذلك مع التزامه بان دلالة العام على
العموم بالاطلاق لا بالوضع، إذ يكون التعارض على هذا بين الاطلاقين -
وعلى البناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي - كما عليه الآخوند - لا
وجه لتقدم العام على المطلق، لانعقاد ظهور المطلق في الاطلاق قبل ورود العام،
لتمامية مقدمات الحكمة، فتكون المعارضة بين شمول كل منهما واطلاق الاخر فترجع
المعارضة إلى الشمولين.
وكون شمول العام بالوضع وشمول المطلق بالقرينة العقلية، لا يوجب تقدم
العام على المطلق، إذ لم يعلم أقوائيتها من الدلالة العقلية.
نعم، لو كان الشمول في المراد الجدي - بمعنى ان مقتضى المقدمات العقلية هو
العموم في المراد الجدي - كان العام مقدما عليه، لان ملاك الشمول في الاطلاق هو
تساوى الاقدام وعدم الميزة لبعض الافراد على بعض، فيكون تخصيص بعضها
336

بالحكم ترجيحا بلا مرجع، ومع ورود العام يخرج بعض الافراد لوجود المقيد، ولا
يجرى هذا في العام لكون دلالته بالوضع لا بهذا الملاك، فالتفت.
ومنها: ما لو تعارض مفهوم الشرط مع مفهوم الغاية. فقد التزم المحقق
النائيني بتقدم الثاني على الأول، لان دلالة الكلام على مفهوم الغاية بالوضع ودلالته
على مفهوم الشرط بالاطلاق، وهو متوقف على تمامية المقدمات المختلة بورود ما
يصلح للتقييد (1). والكلام فيه كبرويا، ما عرفت من التفصيل بين البنائين في مجرى مقدمات
الحكمة.
وصغرويا، ما تقدم منه (قدس سره) في محله من: ان دلالة الكلام المغيى على
المفهوم بالاطلاق لا بالوضع، بعين ما ثبت في مفهوم الشرط، فليراجع.
ومنها (2): ما لو دار الامر بين التخصيص والنسخ. كما لو ورد خاص أولا ثم
ورد بعد حضور وقت العمل به عام، ودار الامر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ
الخاص بالعام.
أو ورد عام أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به خاص ودار امره بين أن يكون
ناسخا للعام - بمعنى انه رافع لحكم العام من حين وروده لا من أول ورود
العام - أو مخصصا له - بمعنى انه كاشف عن عدم إرادة الخاص من العام أولا -
ولا ثمرة في هذا القسم، إذ لا اشكال في ارتفاع حكم العام عند ورود
الخاص، سواء كان مخصصا أو ناسخا.
نعم، تظهر الثمرة فيما لو كان اثر عملي لثبوت حكم العام في المدة بين ورود

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 733 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) هذا البحث يمكن ان يقال إنه علمي بحت، إذ لا مورد له في الخارج، لان مفاد الدليل
المتأخر سواء كان عاما أو خاصا انما هو بيان ثبوت الحكم من الأول لا من حين وروده. وعليه
فلا يحتمل أن يكون ناسخا، بل يتعين أن يكون مخصصا، وبعبارة أخرى: لا اختلاف في زمن
المنقول والمبين من الحكم، بل في زمن النقل والبيان.
337

العام والخاص من قضاء أو كفارة أو نحوهما.
وعلى كل حال، فقد حكم بتقديم التخصيص على النسخ، بمعنى تقديم ظهور
الدليل في الدوام والاستمرار على أصالة العموم، فيخصص العام، وذلك لندرة النسخ
وشيوع التخصيص وكثرته، فإنه يوجب ضعف ظهور أصالة العموم في مدلولها.
وقد ذكر صاحب الكفاية: ان هذا مناف لما التزم به في تقديم العام على
المطلق من أقوائية ظهور العام لأنه تنجيزي وظهور الاطلاق تعليقي. لان ظهور
الكلام في الدوام والاستمرار انما هو بالاطلاق، بخلاف ظهوره بالعموم فإنه بالوضع،
فمقتضى ذلك الوجه لا بد من تقديم أصالة العموم على الاطلاق فيما نحن فيه لا
العكس.
واما شيوع التخصيص، فهو انما يوجب أقوائية الظهور الاطلاقي لو كان من
قبيل القرائن المكتنفة للكلام، بحيث يوجب تبدل ظهور العام. والا فهو لا يقتضى
الأقوائية وان أوجب الظن بالتخصيص، فلاحظ.
فالذي يظهر منه (قدس سره) هو التوقف في ترجيح أحد الظهورين بنفسه.
وقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) ان الدوام والاستمرار ليس بثابت
بالاطلاق حتى يقع الكلام في ترجيح أحد الظهورين. بل هو ثابت بالاستصحاب.
توضيح ذلك: ان الدوام والاستمرار.
تارة: يلحظ وصفا وعارضا على الجعل، نظير الحكم بوجوب الحج على
المستطيع، فإنه قد لا تحصل الاستطاعة أصلا فلا ثبوت للحكم الفعلي مع استمرار
هذا الجعل ودوامه مطلقا.
وأخرى: يكون وصفا للمجعول دون الجعل. نظير جعل وجوب التسبيح
ساعة عند الدخول إلى البلد، فان الاستمرار ساعة من شؤون المجعول وهو
الوجوب دون الجعل إذ الجعل واحد كما لا يخفى.
والنسخ الذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام انما يرتبط باستمرار
338

الجعل لا المجعول، فان الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلا.
وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقف عليه توقف العارض على
معروضه لم يصلح الدليل المتكفل لانشاء الجعل لبيان الاستمرار، لأنه متأخر عن
وجود الجعل، والدليل الانشائي انما يتكفل ايجاد الجعل، فيمتنع ان يتكفل بنفسه
اثبات استمراره، بل لا بد من دليل اخر يتكفل بيان الاستمرار.
وليس من الأدلة الاجتهادية ما يصلح لبيان ذلك الا ما يتوهم من قوله:
" حلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة.. "، وهذا الدليل ظاهر في
بيان دوام الشريعة المحمدية بما لها من الاحكام والمجموع بما هو مجموع، لا دوام كل
حكم من احكامه.
وعليه، فالدليل الذي يتكفل الاستمرار هو الاستصحاب، فباستصحاب
الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.
وإذا كان الاستمرار ثابتا بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم في
ما نحن فيه، لأنها دليل اجتهادي حاكم أو وارد عليه بلا كلام.
مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور، وهو صورة تأخر الخاص،
فإنه مع احتمال كون الدليل مخصصا وان حكم العام لم يكن ثابتا للخاص من حينه،
لا مجال لاستصحاب الحكم لان الشك في أصل الحدوث، فيبتنى جريانه على قاعدة
اليقين وهي غير تامة.
وبالجملة: ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الاخر، بل المعارضة
البدوية بين الاستصحاب وأصالة العموم، ولا كلام في تقدمها عليه. فالالتزام
بالنسخ - بحسب قواعد المعارضة - متعين.
الا انه لما كان بناء العقلاء منعقدا على عدم العمل بأصالة العموم لو كان
هناك خاص ولو كان سابقا أو لاحقا، لأنه يكون قرينة عليه، لم يمكن الالتزام
بأصالة العموم فيما نحن فيه.
339

فعدم الالتزام بالعموم انما كان لهذا الامر لا لأقوائية ظهور دليل الاستمرار
إذ دليله الأصل ولا ظهور فيه فتدبر جيدا (1).
والذي يتلخص من كلامه امران:
الأول ان استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لبيان الجعل
لأنه متأخر عن وجود الجعل فلا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لايجاد الجعل
فالدليل عليه هو الاستصحاب إذ لا دليل اجتهاديا يتكفل بيانه.
الثاني: ان الخاص المتقدم والمتأخر يكون قرينة على العام بحيث يسلم
ظهوره كما في أحد تقريرات بحثه (2) - أو يكون حاكما عليه لأقوائية ظهوره من
ظهور العام كما في التقرير الآخر (3) -
والكلام معه يقع في كلا الامرين:
اما الامر الأول (4) فتحقيقه ان الدليل بدلالته على نفس الجعل وان كان

(1) الكاظمي الشيخ على فوائد الأصول 4 / 733 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات 1 / 513 الطبعة الأولى.
(3) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 / 733 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(4) هذا ما ذكرناه سابقا.
والتحقيق ان الجعل ليس مدلولا للكلام كي يبحث عن كون استمراره مما يؤدى باطلاقه أو
لا يؤدى لأنه فرع أصل الثبوت.
وذلك لما أشرنا إليه في مبحث دوران الامر بين العموم واستصحاب حكم المخصص من كون
الجعل عبارة عن نفس الفعل الخارجي الصادر من المولى نظير الاخبار والانشاء والاستعمال
بل هو نفس الانشاء بداعي تحقق المنشأ في ظرفه أو لابراز الاعتبار النفسي.
ومن الواضح ان الاستعمال والاخبار والانشاء ليست من مداليل اللفظ المستعمل في ذلك
المقام بل هي تتحقق بالقاء الكلام وإرادة المعنى به فهي مسببة عنه لا محكية به.
هذا مع أنه ليس من سنخ المفاهيم القابلة للسعة والضيق بل هو من سنخ الوجودات
نظير المعنى الحرفي على ما حقق في محله.
ومن الواضح انه يعتبر في الاطلاق أن يكون المعنى مدلولا للفظ وأن يكون من المفاهيم
القابلة للسعة والضيق وكلا الامرين مفقودان في الجعل ونحوه مما عرفت.
هذا كله مضافا إلى ما حققناه في مباحث الخيارات من انه لا بقاء للعقد الانشائي لان
340

يمتنع ان يتكفل بيان استمراره لتأخره عن وجود الجعل الا انه بالدلالة الالتزامية
يمكن ان يتكفل بيان الاستمرار.
بيان ذلك أن فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية لا تتحقق الا مع
بقاء الجعل إلى زمان فعليته فمثلا لو علق الحكم على امر لم يكن حال الجعل
بحاصل ثم حصل فالحكم انما يكون فعليا في هذا الفرض أعني فرض حصول
الشرط لو كان الجعل مستمرا إلى هذا الزمان والا فلو رفع الجعل لم يصر الحكم
فعليا كما هو واضح جدا كما أنه يلغوا الجعل لامر متأخر إذا فرض رفع اليد عنه لان
الجعل انما هو بلحاظ تحقق المجعول وهو لا يتحقق مع رفع الجعل ففعلية الحكم
تستلزم استمرار الجعل ودوامه.
وعليه فالدليل المتكفل لجعل الحكم في زمان وفعليته في وقت يدل بالالتزام
على استمرار الجعل إلى ذلك الوقت فالدليل يتكفل بيان استمرار الجعل بالالتزام

الانشاء يتصرم بتصرم الاستعمال وإذا فرض ان الجعل بمعنى الانشاء كما بيناه في مبحث القطع
كان متصرم الوجود فلا بقاء له.
نعم الأثر يترتب عليه لمجرد حدوثه فإذا حصل الانشاء في ظرف يتحقق المنشأ في ظرفه
ولو كان بعيدا عن ظرف الانشاء بل ولو لم يكن المنشأ في ذلك الظرف قابلا للاعتبار كما في
الوصية بوقف داره بعد موته بسنة.
وعلى هذا فلا يتصور الشك في بقاء الجعل كي يرجع فيه إلى الاطلاق أو غير ذلك.
نعم هنا شئ وهو ان المنشأ انما يترتب في ظرفه اللاحق على الانشاء السابق إذا لم يرفع
المنشئ اليد عن المنشأ أو أنشأ ما أنشأه أولا وهذا الشرط اما هو مأخوذ بوجوده الواقعي أو
مأخوذ بوجوده العلمي بان يكون عدم العلم وعدم وصول الجعل المخالف كافيا في تحقق المنشأ
في ظرفه أدى العقلاء فالشك في النسخ يرجع إلى الشك في تحقق انشاء مخالف للانشاء السابق
فيمكن ان يرجع في نفيه إلى الاستصحاب.
لكن الاستصحاب لا يقاوم العموم فإذا تأخر العام عن الخاص كان حاكما أو واردا على
الاستصحاب وكان متكفلا لبيان تحقق الانشاء المخالف.
واما ما ذكره المحقق النائيني من الرجوع إلى الخاص والحكم بالتخصيص في هذه الحال
فهو غريب كما أوضحناه في المتن فلاحظ.
341

بمقدار ثبوت فعلية الحكم المجعول.
فمع ثبوت استمرار المجعول بالاطلاق كما فيما نحن فيه حيث إن ثبوت
الحكم للافراد الطولية بواسطة الاطلاق يكون الدليل المتكفل للجعل دالا
بالالتزام على استمرار الاطلاق المجعول فهو مفاد الاطلاق التزاما ولعله إلى هذا
يرجع ما يذكره الاعلام من أن ظهور الدليل في الاستمرار بالاطلاق.
وبذلك لا يحتاج إلى اثبات الاستمرار بالاستصحاب إذ هو مفاد نفس الدليل
بالالتزام.
واما الامر الثاني فهو موضع العجب من كلامه بالنسبة إلى الخاص المتقدم.
وذلك لان مفاد العام
ان كان هو ثبوت الحكم من الزمان الأول أعني زمان النبي (صلى الله عليه
وآله) كما هو الظاهر من النصوص الواردة عن أهل البيت) عليهم السلام فلا
كلام في تقدم الخاص عليه إذ لا يحتمل حينئذ كونه ناسخا للخاص لان الخاص
يكون قرينة عليه موجبة للتصرف اما في ظهوره أو في حجيته ولكنه خلاف
الفرض إذ المفروض ان الامر يدور بين التخصيص والنسخ وعلى الفرض المذكور
يتعين التخصيص.
وان كان مفاد ثبوت الحكم من حين ورود الدليل كما هو الفرض إذ عليه
يتأتى احتمال النسخ فلا تنافى بين العام والخاص حدوثا إذ لا منافاة بين الحكم
على فرد في زمان والحكم عليه في زمان آخر وانما التنافي بين حكم العام وبقاء
حكم الخاص إذ يلزم اجتماع الحكمين المتنافيين على موضوع واحد.
وقد عرفت أنه (قدس سره) يرى ان بقاء جعل حكم الخاص انما يكون
بالاستصحاب لا بنفس الدليل فكيف يكون الاستصحاب قرينة على العام
وموجبا للتصرف في ظهوره أو في حجيته كما أنه لا معنى لجعل الخاص قرينة بعد
عدم تكفله بمدلوله لحال البقاء هذا هو موضع العجب والذي لا نعرف له حلا
342

يتوافق مع القواعد الصناعية إذ ليس من يدعى مصادمة الاستصحاب لأصالة
العموم فضلا عن كونه موجبا لإلغائها في مورده.
واما السيرة العقلائية فلم يثبت قيامها في مفروض البحث نعم هي قائمة
على تقديم الخاص من الروايات على العام لكن أشرنا إلى أنه لا احتمال للنسخ في
النصوص لأنها جميعها تتكفل بيان الحكم من الأول فلا يتصور فيها النسخ، فتكون
خارجة عن مورد البحث.
ولم يتعرض أحد من الاعلام إلى هذه الجهة من كلامه بل من تعرض
لكلامه ركز مناقشته على أصل الدعوى من ايجاب الخاص التصرف في العام ظهورا.
أو حجية.
ومما ذكرنا يتضح عدم صحة ما افاده السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته -
في حل التردد من أن الخاص المقدم يكون قرينة عرفية على العام ينافي ظهوره
ومن أن مفاد العمومات ثبوت الاحكام العامة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله)
لا من حين صدروها لان الأئمة (عليه السلام) مبينون للاحكام لا مشرعون فلا
احتمال للنسخ (1).
إذ الأخير وان كان تاما في نفسه لكنه خروج عن موضع الدعوى إذ
المفروض فيه تردد الامر بين النحوين.
والأول محل كلام لان ثبوت حكم الخاص في زمان العام على مذهبه وان
كان بالاطلاق الا انه لم يظهر بعد كون الاطلاق قرينة عرفية على العام فتدبر.
والتحقيق ان يقال اما قى صورة تقدم الخاص ان مفاد العام..
ان كان ثبوت الحكم من الزمان الأول لا من حين وروده فلا اشكال في
تقدم الخاص على العام إذ لا احتمال للنسخ حينئذ بل التخصيص متعين اما لانهدام
ظهور العام أو لعدم حجيته على الكلام في ظهوره في العموم بالوضع أو بالاطلاق،

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 385 الطبعة الأولى.
343

وجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي أو الجدي على الأخير.
وان كان مفاد ثبوت حكم العام من حين وروده كما هو المفروض -
فيدور الامر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاص بالعام وحيث إن ثبوت
الاستمرار والدوام كان بالاطلاق - إذ دلالة الدليل عليه بالالتزام من جهة الاطلاق
فهو من ملازمات الاطلاق - فمن يلتزم بتقديم ظهور العام الوضعي على الظهور
الاطلاقي لاختلال الاطلاق الحاصل من الظهور الوضعي على الظهور الاطلاقي لأنه
مسبب عن ظهور الوضع فيتعين عليه فيما نحن فيه الالتزام بالنسخ وتقديم أصالة
العموم.
ومن لا يلتزم بذلك كما تقدم منا - فليس لديه ما يرجح به أحد الظهورين
على الاخر فلا بد من ملاحظة كل مورد بنفسه وخصوصياته والحكم بترجيح
أحدهما على طبقها.
اللهم الا ان يدعى ان كثرة التخصيص وندرة النسخ وإن لم تكن من القرائن
العرفية المكتنفة للكلام بحيث توجب عدم انعقاد ظهور للعام في العموم من أول
الامر الا انها موجبة لتضعيف ظهوره في العموم بحيث يكون الظهور الاطلاقي في
الفرض أقوى من ظهور العام فيتعين التخصيص دون النسخ ولكن هذه دعوى
تحتاج إلى اثبات كما لا يخفى.
واما في صورة تأخر الخاص فالامر لا يدور بين النحوين على التقديرين
لأنه على تقدير كون مفاد الخاص هو ثبوت الحكم من أول الامر فالتخصيص
متعين إذ لا يحتمل كونه ناسخا على هذا الفرض لان مفاده نفي الجعل لا نفى
استمراره.
وعلى تقدير كون مفاده ثبوت الحكم من حين وروده فالنسخ متعين ولا
يحتمل التخصيص إذ لا تنافى بين مفاد الخاص والعام حدوثا بل التنافي بين مفاد
الخاص واستمرار جعل حكم العام فتقدم الخاص معناه الالتزام بالنسخ كما لا
344

يخفى.
وتوهم تأتي الاحتمالين لو تردد مفاد الخاص بين أن يكون ثبوت الحكم من
الأول أو من الحين، إذ عليه يحتمل كونه ناسخا أو مخصصا.
واضح الفساد إذ مع اجمال الخاص بالنسبة إلى ثبوت حكمه من أول الامر
يؤخذ بالقدر المتيقن منه وهو ثبوت الحكم من حين وروده فتبقى أصالة العموم
إلى حين وروده سالمة عن المعارض فيتعين الالتزام بالنسخ أيضا فلاحظ.
وللمحقق العراقي كلام في المقام ينافي جميع ما تقدم محصله ان دوران الامر
بين النسخ والتخصيص لا يرجع إلى التصادم بين الظهورين كي تصل النوبة إلى
الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهورا بل التصادم بين أصالة الجهة وأصالة
الظهور.
وذلك لان النسخ تصرف في جهة الكلام إذ مرجعه إلى أن الكلام لم يكن
صادرا عن واقع بحيث يجب على المكلف الاخذ به بل كان بداع آخر مع حفظ
ظهوره ودلالته على مدلوله فيكون نظير صدور الكلام عن تقية.
وعليه فاحتمال النسخ لا يرجع إلى مقام الظهور والدلالة بل يرجع إلى
مرحلة جهة صدور الكلام فيكون التعارض فيما نحن فيه بين أصالة الجهة وأصالة
الظهور فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما على الاخر في مقام الدلالة والظهور
وما افاده (قدس سره) لا يرجع إلى محصل وحيث إنه ربط مورد النسخ
بمورد التقية لا بد من معرفة حقيقة التقية في تحقيق مناقشة ما افاده فنقول ان التقية
على نحوين:
الأول التقية في مقام العمل وذلك بان يكون الدليل الدال على الحكم دالا
عليه واقعا وجدا، بحيث يجب على المكلف امتثاله ويأثم بمخالفته غاية الامر يكون
الملاك لجعل الحكم ملاكا ثانويا محدودا واقعيا وهو التقية وحفظ النفس من الهلاك
الثاني: التقية في مقام الحكم وذلك بان لا يكون مراد واقعي على طبق
345

الانشاء بل كان الانشاء بداع آخر غير الواقع وهو الاحتراز عن الضرر فالغرض
متمحض في الاظهار لا غير فلا يجب على المكلف الاخذ بذلك.
وتشبيه مورد النسخ بمورد التقية - بتقريب كونه يرجع إلى بيان ان صدور
الحكم لم يكن عن إرادة واقعية بحيث يتحتم على المكلف الالتزام به بل كان هناك
غرض آخر يتناسب مع إرادة المعنى الثاني من التقية إذ على الأول يجب على
المكلف الاخذ بالحكم للإرادة الجدية على طبقه، ويكون ارتفاعه عند ارتفاع ملاكه
من باب تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر.
وعليه يكون النسخ والتخصيص في مرحلة واحدة إذ التخصيص يكشف
أيضا عن عدم الإرادة الحقيقة على طبق العام فالدليل الناسخ والمخصص يشتركان
في أن مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جدا وحقيقة فالتصادم يرجع إلى مرحلة
الدلالة والكشف عن المراد الجدي
فتتجه حينئذ مراعاة المرجحات الدلالية.
هذا إذا كان مراده بالتقية في مقام الحكم ذلك كما هو المشهور واما إذا كان
مراده منها معنى يجتمع مع الإرادة الحقيقية للحكم وذلك بان تكون التقية هي
صدور الحكم وإرادته جدا ولكن لا بداعي الجد بل بداعي حفظ النفس - مثلا -
وهو أيضا لا يجب امتثاله لأنه وان كان مرادا جدا لكن ارادته الجدية لم تكن
بداعي الجد فيكون معنى النسخ حينئذ غير ما ذكر من رجوعه إلى بيان عدم
القصد الحقيقي على طبق المنسوخ.
بل هو أن يكون الكلام على طبقه مراده الحقيقي الا ان هذا لم يكن عن داعى
الجد في الواقع على حد تعبيره بل كان بداع آخر فالنسخ بيان لعدم كون المراد
الواقعي عن داعى الجد فيختلف حينئذ عن التخصيص مرحلة لان التخصيص
بيان لعدم كون العموم مرادا جدا فهو في مرحلة المراد الحقيقي والنسخ بيان لعدم
كون المراد الجدي بداعي الجد وبملاك واقعي بل كان بداع آخر فهو في مرحلة
346

الداعي للإرادة الجدية وهو المعبر عنه بجهة الصدور.
فهذا المعنى - على تقدير تسليم صحته وعدم الخدشة فيه بعدم تصور عدم
كون الإرادة الجدية بداعي الجد - لا يجدي في كون التعارض بين أصالة الجهة
وأصالة الظهور بل لا تصل النوبة في المعارضة إلى أصالة الجهة.
وذلك لان شأن أصالة الجهة شأن أصالة الصدور في لزوم فرض تماميتها في
كلا الدليلين ابتداء وملاحظة مدلوليهما فان أمكن الجمع بينهما عرفا بنحو يرتفع
التنافي بها فهو، والا سرى التنافي بينهما إلى السندين إذ لا يمكن صدور المتنافيين
معا.
ففي ما نحن فيه وان كان احتمال النسخ يرجع إلى التصرف في الجهة بهذا
المعنى - الا انه يفرض تمامية الجهة في كل من الدليلين ابتداء وتلحظ المعارضة بين
المدلولين فان أمكن الجمع بينهما لا تصل النوبة إلى تعارض أصالتي الجهة أو
الصدور والا سرى التنافي إلى المرتبة السابقة على الدلالة من الجهة أو الصدور إذ
لا تنافى بين أصالتي السند أو الجهة في كل من المدلولين لولا تنافى مدلوليهما فمع
امكان الجمع لا تصل النوبة إلى التنافي بين السندين أو الجهتين والا سرى إليهما.
وعليه فالتعارض بين ظهوري العام والاطلاق لما كان حاصلا فيما نحن فيه
إذ يمتنع العمل بأصالة الظهور في كل منهما لمنافاة المراد الجدي في أحدهما له في
الآخر فلا بد من ملاحظتهما وملاحظة مرجحات أحدهما على الآخر ولا نحتاج
إلى أكثر من هذا.
واما عدم صحة تسمية هذه المعارضة بالدوران بين النسخ والتخصيص -
لان النسخ لا يرتبط بمرحلة الظهور - فهو لا يضر بواقع المطلب من حصول
المعارضة بينهما وترتب الأثر الشرعي عليه وعدم وصول النوبة إلى المعارضة بين
أصالة الجهة وأصالة الظهور.
فمحصل الاشكال ان النسخ بمعنى لا يرجع إلى التصرف بأصالة الجهة
347

وبمعنى آخر وان كان يرجع إليها الا ان المعارضة في مرحلة الظهور.
انقلاب النسبة
هذا كله في الجمع العرفي الدلالي فيما كان التعارض بين دليلين واما إذا كان
التعارض بين أكثر من دليلين فهل يلاحظ الجمع والعلاج بين كل منهما وغيره دفعة
واحدة أم يصح الترتيب في العلاج ويلزمه انقلاب النسبة بين بعض المتعارضات
والاخر كما لو ورد " أكرم العلماء " ثم ورد " لا تكرم فساق العلماء " ثم ورد " لا
تكرم النحويين " فإنه مع الالتزام بالترتيب في العلاج لو خصص العام أولا بدليل
" لا تكرم الفساق " انقلبت نسبته مع دليل " لا تكرم النحويين " إلى العموم من وجه
بعد ما كانت العموم المطلق بخلاف ما لو لوحظ العلاج دفعة واحدة فإنه يخصص
العام بكلا الخاصين ويبقى الباقي؟
فمحل الكلام انه مع التعارض بين أكثر من دليلين هل يلزم الترتيب في
العلاج بين المتعارضات فتنقلب النسبة بين المتعارضات الأخرى أو لا يلاحظ
الترتيب بل تلاحظ المتعارضات دفعة واحدة؟
وقد فصل الشيخ الأعظم (قدس سره) بين صور التعارض.
فحكم في بعضها بعدم صحة الترتيب في العلاج وهي صور ما إذا كانت
نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبة واحدة كما لو كانت نسبتها نسبة الخاص إلى
العام نظير ما لو ورد " أكرم العلماء " ثم ورد " لا تكرم النحويين " و: " لا تكرم
الصرفيين ".
وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج وهي صور ما إذا
كانت نسبة المتعارضات مختلفة كما لو ورد عام ثم ورد عام آخر نسبته مع الأول
نسبة العموم من وجه ثم ورد مخصص لأحدهما نظير " أكرم العلماء " و: " لا تكرم
فساق العلماء " و: " يستحب اكرام العدول " فإنه حكم بتخصيص: " أكرم العلماء "
348

بدليل " لا تكرم فساقهم " فتنقلب نسبته إلى دليل " يستحب اكرام العدول " إلى
نسبة الأخص مطلقا فيخصص به.
وتكون النتيجة: حرمة اكرام فساق العلماء ووجوب اكرام عدولهم
واستحباب اكرام العدول من غير العلماء
وقد استدل على عدم صحة الترتيب في الأول:
أولا بان تقديم أحد الخاصين المعين على العام ثم ملاحظة نسبة العام مع
الخاص الآخر ترجيح بلا مرجح فيتعين ملاحظتهما معا بالنسبة إلى العام.
وثانيا بأنه مع تخصيص العام بأحد المخصصين لا ينعقد له ظهور في الباقي الا
مع احراز عدم المخصص ومع وجود الخاص الآخر لا مجال لاحراز عدم المخصص
حتى بالأصل.
وعليه فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاص الآخر،
وملاحظة النسبة بينهما.
وبالجملة انعقاد ظهور العام في الباقي حتى يكون صالحا للمعارضة يتوقف
على العلاج بالنسبة إلى الخاص الآخر ونفي مخصصيته والعلاج بالنسبة إليه يتوقف
على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.
وبهذا الدليل دفع توهم صحة الترتيب في العلاج مع كون أحد الخاصين
ثابتا بالاجماع أو العقل فإنه وان أقره في نفس الترتيب لأنه يكون كالمخصص
المتصل الذي لا اشكال في تقدمه على العام لكنه لم يقره في دعوى انقلاب النسبة به
كما ادعاه المتوهم -.
واستدل على ملاحظة الترتيب في الثاني باستلزام عدم الترتيب لمحذور
طرح النص أو طرح الظاهر في مدلوله اجمع.
وذلك لأنه لو لم يرتب في العلاج وقدم الآخر وخصص به العام كما لو
خصص: " أكرم العلماء " ب‍: " يستحب اكرام العدول " فاما ان يخصص العام بالخاص
349

وهو: " لا تكرم فساق العلماء " أولا.
فعلى الثاني يلزم طرح النص لان الخاص نص في مدلوله والعام ظاهر فيه
وعلى الأول يلزم طرح الظاهر مطلقا وهو ممنوع لان العام نص في منتهى
التخصيص فيلزم من طرحه طرح النص.
وبالجملة يلزم من عدم الترتيب طرح أحد النصين وهو محذور كما لا
يخفى (1).
وقد يورد على ما افاده الشيخ (قدس سره) أخيرا من ملاحظة الترتيب
وانقلاب النسبة في القسم الثاني بوجهين:
الأول في ما ذكره في نفى توهم صحة الترتيب وانقلاب النسبة من عدم
انعقاد ظهور للعام في الباقي الا بعد العلاج ونفى المخصص ومع وجوده لا يتم له
ظهور فيخرج عن موضوع المعارضة لأنه يكون مجملا.
فإنه جار في هذا القسم على ما يظهر منه إذ مع فرض وجود المزاحم
للعام المخصص وهو العام الآخر لا ينعقد للعام ظهور في الباقي بعد التخصيص الا
بعد العلاج ونفي مزاحمه العام الآخر له والا كان مجملا فلا يصلح للتخصيص
فالكلام المتقدم في تلك الصورة يجرى بعينه في هذه الصورة.
الثاني فيما ساقه من الدليل على لا بدية الترتيب وانقلاب النسبة به في
الصورة الثانية.
فإنه يمكن الخدشة فيه بان الامر لا ينحصر بين الترتيب في العلاج ولزوم
المحذور الذي ذكره كي يتعين الالتزام بالترتيب وانقلاب النسبة فرارا عن المحذور،
بل يمكن الالتزام بشق ثالث وهو تساقط الأدلة بمجموعها بالمعارضة فإنه إذا كان
تخصيص: " أكرم العلماء " بدلي: " يستحب اكرام العدول " يلزم منه المحذور المزبور،
يقع التعارض بين مجموع: " لا تكرم فساق العلماء " و: " يستحب اكرام العدول "

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 458 الطبعة القديمة.
350

و: " أكرم العلماء ".
والنتيجة هي التساقط - نظير الخاصين الموجبين لخلو العام عن المورد -
فالمحذور لا يوجب الالتزام بانقلاب النسبة بل يمكن الالتزام بالتساقط
لاجله.
ولكن الانصاف ان كلا الوجهين غير تامين.
اما الثاني فلأنه يمكن أن يكون مراد الشيخ امرا غير ما ذكر لا يتوجه عليه
الاشكال المذكور.
وقبل التعرض لبيانه لا بد لنا من الإشارة إلى شئ وهو: ان المعارضة بين
الدليلين المتساويين في النسبة لا تتحقق مع كون حجية أحد الدليلين الفعلية تستلزم
وقوع محذور غير محذور المعارضة فإنه مع هذا لا يكون الدليل المستلزم للمحذور
صالحا للمانعية عن الدليل الآخر فيبقى الدليل الآخر بلا معارض.
إذا عرفت هذا فنقول: انه حيث كان الالتزام بالعام الآخر غير المنافى
للخاص - وهو: " يستحب إكرام العدول " - وحجيته الفعلية في المجتمع مستلزما
لوقوع محذور طرح أحد النصين - كما عرفت - كان غير صالح للمانعية عن العام
الآخر، وهو: " أكرم العلماء " في المجمع وعليه فيكون العام ثابتا في هذا المجمع
ويخصص بالخاص حينئذ.
وذلك نتيجة انقلاب النسبة فلا تمكن حينئذ دعوى التساقط لأنها فرع
ثبوت المعارضة الفعلية وقد عرفت عدمها بعد كون الالتزام بأحد العامين مستلزما
للمحذور.
ومن هنا يتضح الجواب عن الايراد الأول وهو ايراد المهافتة فإنه (1)، يبتنى

(1) فان ما ذكره هناك يبتنى على القول بانقلاب النسبة فإنه ادعى عدم انعقاد الظهور له في
الباقي كي يقال بانقلاب النسبة وفى المقام لم يلتزم بالانقلاب بل التزم بما هو نتيجة الانقلاب
وهو حجية العام المخصص في المجمع دون الآخر، فلا مهافتة.
351

على كون العام الآخر صالحا للمانعية إذ يجرى حينئذ الكلام بالمتقدم
وقد عرفت عدم صلاحيته للمانعية والمعارضة بعد فرض كون الالتزام به
مستلزما للمحذور.
كما أنه يمكن دفعه بوجهين آخرين وهما:
الأول ان المانع من انعقاد الظهور في الباقي ليس هو مطلق وجود المعارض
كي يكون عدمه شرطا في انعقاد الظهور بل هو وجود الأظهر المتقدم عليه فعدم
الأظهر هو الشرط في انعقاد الظهور في الباقي وليس العام الآخر فيما نحن فيه أظهر
من العام المخصص بالخاص إذ المفروض كون النسبة بينهما عموما من وجه ولم
تفرض أظهريته حتى يكون صالحا للتقدم عليه وتخصيصه بغير المجمع.
وهذا بخلاف القسم الأول فان المفروض فيه وجود الأظهر المانع من انعقاد
ظهور العام في الباقي وهو الخاص.
الثاني ان العام المخصص وهو: " أكرم العلماء " نص في منتهى التخصيص.
وعليه فهو متقدم على العام الآخر ومخصص له بهذا المقدار ولو كان مجملا
غير معين وتكون رتبته سابقا في العام الآخر لا سبقية رتبة الخاص على العام فلا
يصلح العام الآخر لمعارضته في المقدار الزائد على منتهى التخصيص.
ومعه يتمسك باطلاقه في اثبات إرادة جميع الباقي ويخصص العام الآخر به
حينئذ بهذا المقدار كما هو الحال في كل خاص بالنسبة إلى العام فلاحظ.
والمتحصل مما افاده الشيخ (قدس سره) انه يلتزم بان للعموم ظهورا ثانويا
في الباقي بعد التخصيص وبه تنقلب النسبة الا انه غير تام ولا ينعقد في صورة
لوجود المعارض الصالح للتخصيص فلا يقيد الترتيب في العلاج في انقلاب النسبة،
وتام في بعض الصور الأخرى لعدم المانع، فيكون الترتيب في العلاج سببا لانقلاب
النسبة.
وعلى هذه الجهة يتركز كلام صاحب الكفاية (رحمه الله) واليها ينظر في
352

تحقيقه فقد أفاد (قدس سره) في الكفاية بان النسبة الملحوظة بين الأدلة المتعارضة
انما هي بملاحظة ظهور الكلام في مدلوله ومع ورود المخصص المنفصل لا ينثلم
ظهور العام في العموم كي يدعى انقلاب النسبة إذ المخصص المنفصل انما يقتضى
تضييق المراد الجدي من العام مع بقاء العام على عمومه فتبقى نسبته مع غيره بعد
التخصيص هي عينها التي كانت قبل ملاحظة المخصص.
والا لم يكن وجه لانعقاد ظهور له في الباقي دون غيره من المراتب لعدم
الوضع وعدم القرينة المعينة وانعقاد الظهور في الباقي يتوقف على أحدهما كما لا
يخفى (1).
وقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) وجها لتقريب انقلاب النسبة
وتوضيحه ان للكلام دلالات ثلاث:
دلالة تصورية وهي انتقال المعنى من اللفظ عند ابرازه وهي لا تتوقف على
صدور اللفظ عن إرادة وقصد بل هي تحصل ولو لم يكن صدور اللفظ عن اختيار
وهي نفس الدلالة الوضعية عند بعض.
ودلالة تصديقية وهي الحاصلة من ضم بعض اجزاء الكلام إلى بعض
ولملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام فقد يكون دالا على غير المعنى الوضعي
الأولي لوجود القرائن المغيرة لظهوره الأولي ويسند المجموع إلى المتكلم ويحكم
بأنه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام وهذه الدلالة تتوقف على صدور
الكلام عن إرادة وقصد.
ودلالة ثالثة على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد للمتكلم جدا وواقعا
ويعبر عنها بالدلالة التصديقية في الكشف عن المراد الجدي وموضوع الحجية هي
القسم الثالث من الدلالات المذكورة فان الكشف النوعي للكلام عن المراد الجدي
هو الذي يكون موضوع الحجية والاعتبار عند العقلاء.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية / 452 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
353

والمعارضة بين الأدلة انما هي باعتبار الكشف النوعي لكل منها عن المراد
الجدي المنافى للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بكل منها - والا فمع الغض عنه لا
تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منهما إذ مع العلم بأنه لا مراد جديا
على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين
الأدلة -.
ولأجل ذلك تلاحظ النسبة في باب المعارضة بلحاظ مقدار الكشف النوعي
للدليل عن المراد الجدي فمع تخصيص أحد الدليلين بالمخصص المنفصل تتضيق دائرة
كشفه عن المراد الجدي إذ يعلم ان المراد الجدي أضيق مما يتوهم فيتضيق موضوع
الحجية قهرا.
ومعه تنقلب النسبة بالضرورة إذ بعد فرض تضييق دائرة كشف العام عن
المراد الجدي وكون الملحوظ في باب المعارضة هو كشف الدليلين عن المراد
الجدي كانت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاص إلى العام لان ما
يلحظ في مقام المعارضة أخص فيه منه في العام الآخر.
ولا وجه لملاحظة مجموع مدلول العام بعد أن لم يكن كاشفا بمجموعه عن
المراد الجدي.
وبالجملة فموضوع أصالة الظهور هو الكشف عن المراد الجدي الواقعي
ويثبت بها نفس المراد الجدي ومطابقته لظاهر الكلام ومدلوله الاستعمالي وبذلك
تفترق عن أصالة الجهة فإنها تجرى في تعيين كون الكلام مسوقا بيان المراد
الواقعي وانه صادر عن الإرادة الحقيقية الجدية لا عن تقية أو امتحان أو نحوهما
فأصالة الجهة تجرى في اثبات الإرادة الجدية وأصالة الظهور تجرى لاثبات المراد
الجدي وما تعلقت به الإرادة الجدية وأصالة الظهور تجرى لاثبات المراد
الجدي وما تعلقت به الإرادة الجدية بعد فرض ثبوتها وتحققها.
ومن هنا يظهر ما في كلام السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه (1) -

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 387 الطبعة الأولى.
354

من المسامحة والغفلة في عد أصالة الظهور وأصالة الجهة أصلا واحدا يختلف التعبير
عنه وهو يتضيق بعد ورود المخصص فتتضيق الحجية قهرا وتنقلب النسبة.
ولكن ما افاده (قدس سره) وان كان قد استوضحه بحيث جعل انقلاب
النسبة بملاحظته من القضايا التي قياساتها معها لا تمكن الموافقة عليه وذلك لان
مراده..
ان كان ان موضوع المعارضة هو الكشف عن المراد الجدي لأنه موضوع
الحجية فمع تخصيص الدليل بالمنفصل تتضيق دائرة كشفه فتنقلب النسبة حينئذ.
ففيه:
أولا ان الكشف الذي يكون موضوع الحجية ليس عن الكشف الشخصي
الفعلي الظني أو العلمي كي يكون قيام الدليل الآخر المنافى له رافعا له إذ لا يبقى
معه علم أو ظن بثبوت المراد الجدي على طبق الكلام.
وانما هو الكشف النوعي الطبعي الثابت مع الظن بالخلاف، بل مع العمل به -
وإن لم يكن موضوع الحجية في هذا الحال - إذ معناه ان الدليل لو خلي ونفسه
كاشف وموجب للظن بالمراد الجدي نوعا ولا يخفى اجتماع هذا المعنى مع الظن
الشخصي بالخلاف.
وقيام الدليل المخصص لا يوجب تضييق دائرة كشفه النوعي كي تنقلب
النسبة في مقام المعارضة بل يبقى الدليل على ما هو عليه من الكشف وإن لم يكن
حجة فيه.
وثانيا ان الكشف النوعي ليس هو موضوع الحجية بل موضوعها امر آخر
وهو الظهور بمعنى ان الدلالة الاستعمالية للكلام الظاهرة في المعنى هي التي تكون
موضوع الحجية على المراد الجدي عند العقلاء نعم منشأ ذلك هو ما يقتضيه
الظهور من الكشف النوعي عن المراد الجدي.
والدليل على ذلك ما هو المتداول على الألسنة والمرتكز في الأذهان من
355

" حجية الظاهر " و " ان الظاهر حجة عند العقلاء " ونحو ذلك من التعبيرات وظاهر
انه ليس المراد من الظهور هو نفس الكشف النوعي بل ما هو من صفات الكلام
المساوق للوضوح وعدم الابهام والخفاء
اما نفس الكشف النوعي فهو ليس موضوع الحجية وانما هو ملاكها نظير
الطريقية التي تكون منشأ لحجية نفس الخبر لا ان الطريقية بنفسها حجة عند
الشارع أو عند العقلاء.
وان كان مراده ان الملحوظ في مقام المعارضة هو الحجية إذ مع فرض عدم
حجية أحد الدليلين في مدلوله لا تعارض فمع تضييق دائرة الحجية بورود المخصص
تنقلب النسبة قهرا ويكون العام المخصص أخص مطلقا من العام الآخر.
ففيه مضافا إلى أنه لا يستدعى مثل هذا التطويل والاسهاب وبيان ان
الكشف النوعي هو موضوع الحجية إذ الحجية تتضيق دائرتها بورود المخصص ابا
كان موضوعها فيكفى ان يقال بنحو الايجاز انه بقيام الدليل تتضيق دائرة الحجية
ومعه تنقلب النسبة ولا داعى إلى هذا التطويل - انه:
ان أريد بذلك ان طرفي المعارضة هما الظهوران بما انما حجة بحيث يكون
وصف الحجية مقوما لموضوع التعارض.
فهو ممنوع إذ من البديهي ان الملحوظ في المعارضة وأقوائية الدلالة وضعفها
انما هو ذات الدليلين بلا لحاظ اتصافهما بالحجية بل الاتصاف انما يكون بعد
العلاج فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معا عن الحجية وقد يتقدم أحدهما لكونه
أقوى فيتصف بها دون الآخر، فالحجية في طول التعارض والعلاج لأنها مأخوذة
في موضوع التعارض فلاحظ.
وان أريد ان طرفي المعارضة هو ذات الظهورين ولكن بالمقدار الذي يكونان
به موضوعا للحجية، فحيث إنه بورود المخصص يكون الظهور الموضوع للحجية
أضيق دائرة من ظهور العام الآخر فنقلب النسبة قهرا.
356

ففيه انه...
ان أريد بالحجية الحجية الفعلية فقد عرفت انها في طول التعارض والعلاج
إذ مع المعارضة لا معنى لفرض الحجية الفعلية لكلا الظهورين لأنها مركز المعارضة
وما عليه التدافع.
وان أريد بها الحجية الشأنية الاقتضائية فهي لا تتضيق بالتخصيص إذ
الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجية لولا المعارض الأقوى.
ولو تنزلنا عن ذلك فما قرره (قدس سره) لا يفيد في اثبات المدعى من
ترتب آثار انقلاب النسبة وتقدم العام المخصص على غيره من العمومات المعارضة
له.
لان تقدم الخاص على العام انما هو باعتبار أقوائية دلالته وظهوره في
الخاص من العام - كما أشرنا إليه سابقا -
ولا يخفى انه بورود الدليل الخاص لا تتضيق دائرة دلالة العام بحيث تقتصر
على الباقي الذي هو موضع التنافي بل هو على ظهوره العمومي كما هو الفرض
وانما المتضيق هو دائرة الحجية فالباقي مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم فلا
يكون العام المخصص أقوى ظهورا في الباقي من العام الآخر إذ كل منهما يدل عليه
ضمنا بلحاظ دلالته على العموم وان كان أحدهما أضيق دائرة في مقام الحجية من
الآخر الا انه لا يجدي في التقدم فتدبر جيدا.
هذا كله فيما يتعلق بكلام هؤلاء الاعلام وتحقيق الحال ان يقال (1) ان من

(1) لا يخفى انه ينبغي ان يبحث عن أن أحد العامين من وجه إذا خصص بمخصص هل
يتحقق فيه ملاك تقديم الخاص على العام أو لا؟ وهكذا لو خصص العام بأحد الخاصين هل
يفقد الخاص الآخر ملاك التقديم على العام أو لا؟
ولا أهمية لبيان انقلاب النسبة وعدمه فان هذا العنوان لم يؤخذ في موضوع دليل بل المدار
على ما عرفت فإنه هو محط الأثر العملي في تقديم دليل على آخر وعدم تقديمه ولو بقيت النسبة
على حالها بين الدليلين.
وتمهيدا لذلك لا بد من الإشارة إلى الآراء في تقديم الخاص على العام وهي وجوه:
منها ما قربناه من أن دلالة العام على العموم تتبع جريان مقدمات الحكمة في المدخول
فيكون الخاص منافيا لاطلاق المدخول فيتأتى فيه الوجه في تقديم المقيد على المطلق وهو
كشفه عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة المقيد فلا اطلاق له.
ومنها ما ذهب إليه المحقق النائيني - في بعض كلماته - من انه لاجل قرينية الخاص على
العام، والقرينية مقدمة عرفا على ذي القرينة بلا كلام وعلى هذا بنى تقديم الخاص على العام ولو
كان ظهور الخاص أضعف من ظهور العام.
ومنها ما يظهر من صاحب الكفاية وغيره من انه لاجل كون الخاص أظهر من العام
والأظهر يقدم على الظاهر عرفا.
إذا عرفت ذلك فلنبدأ في الكلام بالصورة الثانية وهي ما إذا ورد عامين بينهما العموم من
وجه ثم ورد خاص لأحدهما يخصه في مورد الافتراق كما لو ورد: " أكرم العلماء " وورد " لا
تكرم النجفيين " وورد " لا تكرم العلم غير النجفي ".
وليعلم ان البحث يقع في: ان الخاص بمجرد ثبوته ووجوده هل يؤثر في قلب النسبة بين: " لا
تكرم النجفيين " و: " أكرم العلماء " بالمعنى الذي عرفته لانقلاب النسبة أو لا يؤثر؟ وليس
البحث في أنه بعد اعمال الخاص وتقديمه هل تنقلب النسبة أو لا؟ كي يرد عليه، بأنه ما الوجه في
ملاحظة الخاص أولا قبل العام الآخر.
يبقى في المقام شئ لا بد من التنبيه عليه فيما نحن فيه وان تعرض له الاعلام في مجال آخر
وهو انه على القول بانقلاب النسبة ولزوم الترتيب في العلاج في بعض الموارد قد نعين لزوم
الترتيب في العلاج بين الخاصين الصادرين عن امامين، فيخصص العام بالأول فمع ورود الثاني
تكون نسبته مع العام نسبة العموم من وجه لا نسبة العموم المطلق.
وأورد عليه في مصباح الأصول بأنه قد مر مرارا بان الكلام الصادر عن المعصومين بمنزلة
كأنه كلام واحد لأنهم في مقام بيان الاحكام لا تأسيسها فلا وجه حينئذ لملاحظة الخاص
الأسبق زمانا ثم يلاحظ المتأخر بل يخصص العام بهما دفعة واحدة كما تقدم.
والتحقيق ان يقال: ان القائل بانقلاب النسبة اما لاجل ان المخصص المنفصل يهدم ظهور
العام في العموم كالمخصص المتصل، باعتبار ان ظهور العام في العموم بالاطلاق، واعتبار جواز
المقدمات في المراد الجدي كما تقدم، أو لاجل انه يضيق دائرة حجيته وموضوع المعارضة هو
الدليل بلحاظ حجيتهما - مع بقاء ظهور العام في العموم اما لان ظهوره بالوضع أو بالاطلاق
ولكن المقدمات تجرى في المراد الاستعمالي.
وعلى كلا التقريبين يتعين الترتيب في الملاحظة مع السبق الزماني ولو من امام واحد.
اما على الأول فواضح لأنه بعد ورود الخاص الأول ينهدم ظهور العام في الباقي فتكون
نسبة الثاني حين وروده نسبة العموم من وجه كما لا يخفى.
واما على الثاني فظهور العام وان كان بعد ورود الخاص الأول على حاله الا ان حجيته
التي هي مناط المعارضة لا ظهوره - تتضيق قطعا، فيكون العام حجة في غير مورد الخاص
الأول ويبقى هكذا حتى ورود الخاص الثاني ومعارضة الخاص الآخر انما هي بمقدار حجيته لا
بمقدار ظهوره كما هو الفرض.
وهما بهذا اللحاظ عامان من وجه وان كان بينهما بلحاظ الظهور عموم وخصوص مطلق
ومن هنا يظهر ما في كلام مصباح الأصول من الابتعاد عن موضع الكلام ونكتته، فان كون
كلام الكل بمنزلة كلام واحد لا ينافي ما ذكرنا إذ تعدد الصادر منه الكلام ووحدته لا ترتبط
بنكتة المطلب التي بيناها المتقومة بالسبق الزماني وان صدر الكلامان عن امام واحد.
نعم هذا أعني ما ذكرناه انما يجدي بالنسبة إلى من أدرك الامامين وسمع من الأول
الخاص الأول ومن الاخر الثاني اما بالنسبة إلى من تأخر عن زمان الأئمة (عليهم السلام)
وعثر على العام والمخصصين المترتبين زمان فلا يجدي ما ذكر لان ما ذكرناه متقوم بكون العام
حجة لديه في غير مورد الخاص الأول ثم يرد الخاص الآخر والحجية انما تكون بالوصول ومع
وصول المجموع دفعة واحدة لم يكن العام قبل ورود أحد الخاصين حجة بالنسبة إليه كي تنقلب
نسبته مع وروده بل هو في هذه الحال حجة في غير مورد الخاصين فلاحظ.
357

يلتزم بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق ليست بالوضع وبنفسها بل بتبع ما
يراد من مدخولها بحسب جريان مقدمات الحكمة فيه.
ويلتزم أيضا بان مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي بحيث يكون
الدليل المنفصل موجبا لتضييق دائرة ظهوره الاطلاقي كالمتصل وكاشفا عن انه لم
يكن في مقام البيان من جهة القيد فينهدم اطلاقه من هذه الجهة وينعقد في غيرها
من يلتزم بهذين الالتزامين لا محيص له عن الالتزام بانقلاب النسبة إذ مع
ورود الدليل الخاص المنافى لاحد العامين ينهدم اطلاقه وينعقد في غير مورد القيد،
فيكون بالنسبة للعام الآخر خاصا.
وبما أن المحقق النائيني يلتزم بكلا الالتزامين فانقلاب النسبة لديه ضرورة
واضحة.
359

واما من يلتزم بدلالة ألفاظ العموم عليه بنفسها لا بتبع ما يراد من مدخولها
أو يلتزم بجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي بحيث لا يكون المخصص
المنفصل هادما لظهوره الاطلاقي بل رافعا لحجيته على المراد الجدي.
فلا وجه لالتزامه بانقلاب النسبة إذ ظهور العام في الاستغراق لا ينهدم
بورود المخصص فتبقى نسبته مع العام الآخر كما كانت قبل التخصيص.
نعم بناء على أن ورود الخاص المنفصل يكون هادما لظهور المطلق في المراد
الاستعمالي أيضا بحيث يكشف عن انه ليس في مقام البيان لمراده الاستعمالي يتجه
القول بانقلاب النسبة وان كانت مقدمات الحكمة جارية في المراد الاستعمالي كما لا
يخفى.
فمجمل القول ان انقلاب النسبة لا محيص عن القول به على بعض
الالتزامات في باب العام والمطلق ولا وجه له على الالتزامات الأخرى
هذا كله في بيان انه بعد التخصيص هل ينقلب ظهور العام وينعقد له ظهور
ثانوي في الباقي فتنقلب النسبة. أو لا ينقلب ظهوره وبقي على ما كان عليه فلا
تنقلب النسبة (1)؟

(1) اما بناء على المسلك المختار، فلان العام نص في بعض افراده بنحو الجملة، يعنى لا يمكن ان
يفرض انه ليس في مقام البيان في بعض الافراد بنحو الموجبة الجزئية.
نعم، اثبات الحكم للجميع انما هو بالاطلاق، فإذا ورد المخصص للعام، كشف عن عدم كونه
في مقام البيان من جهته، ودل بالملازمة على أن العام في مقام البيان من جهة غيره من الافراد،
فكان العام بمقتضى دلالة الخاص التزاما نصا في بعض الافراد غير الخاص، ومقتضى ذلك أن يكون
مقدما على العام الاخر غير المخصص، لأنه نص في مورد الاجتماع، فيكون كما لو فرض ان
مورد الاجتماع كان موردا لاحد العامين، بحيث لا يمكن حمله على غيره لان تخصيص المورد
مستهجن.
ولا يقال: ان هذا انما يتم إذا لوحظ الخاص أولا، ولم يقدم الخاص على العام الاخر.
وذلك، لان ملاحظة العامين أولا تستلزم التصرف في التخصص، لان عدم حجية العام في
المجمع من باب التساقط، وهو لا يستلزم كونه نصا في غير المجمع كي تنقلب النسبة بينه وبين
الخاص الاخر.
وعليه، فلا بد من تقديم الخاص في مقام العلاج، لأنه بوجوده يتصرف في ظهور العام
ويوجب قلب النسبة بدلالته الالتزامية، فيكون المورد من قبيل تقديم الوارد على المورود،
فالتخصيص رافع لموضوع التساقط، لكن التساقط لا يرفع موضوع التخصيص لأنه لا يوجب
الانقلاب.
واما صورة كون أحد الخاصين قطعيا، فالانقلاب أيضا متعين، لأنه مع القطع بخروج بعض
الافراد، لا مجال لجريان أصالة العموم في العام، فيعلم ان مورد العموم غير الخاص، فتكون
النسبة بين العام والخاص الاخر هي العموم من وجه. ولا مجال لدعوى تقديم الخاص الاخر،
للعلم بخروج الخاص القطعي، سواء قدم الخاص الاخر، أو لوحظ في عرض واحد، أو لا؟
فلاحظ.
واما صورة الخاص الأخص، فلا وجه لتقديمه أولا بدعوى العلم بخروجه على كل تقدير،
لان أحد تقديري العلم هو التخصيص بالأعم، بل يخصص العام بهما معا، فلاحظ.
هذا تقريب الانقلاب على المختار.
واما على مختار صاحب الكفاية، فالامر كذلك، لأنه بعد ملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص
يكون وروده موجبا خصوصية العام المخصص في غير مورده، فيكون أظهر في الجمع من العام
الاخر، وكذلك على مختار القرينية، فلاحظ.
هذا تحقيق الكلام.
واما كلمات الاعلام ففيها كلام.
اما مطلب صاحب الكفاية، فيرده: ان أساس تقديم العام المخصص على العام الاخر لم يكن
على انقلاب الظهور وتبدله وعدمه، بل على نصوصية في المجمع بملاحظة الدلالة الالتزامية
للخاص، سواء بقي على ظهوره في العموم أو لم يبق، فهو كما عرفت نظير العام الذي يكون مورد
الاجتماع موردا له، فإنه لا يخرج عن ظهوره في العموم بذلك، ولكنه يقدم على العام الاخر،
فكأنه (قدس سره) لاحظ لفظ: " انقلاب النسبة " وناقش ذلك على هذا الأساس، والحال انه لا
وجه لذلك، بعد عدم ورود هذا التعبير في لسان دليل.
واما مطلب النائيني، فقد حققنا رده في المتن بنحو التفصيل، والعمدة ان موضوع النسبة ليس
هو الظهور الحجة، بل الظهور بنفسه الذي له مقتضى الحجية، وإن لم يكن حجة فعلا للمعارضة أو
لغيره.
واما كلام الشيخ، فهو لا يخلو عن اجمال.
هذا، ولكن الذي يبدو لنا ان هذا المبحث لا نفع فيه كثير كما كنا نتخيل سابقا، إذ في هذه
الصورة لا بد من الالتزام بنتيجة انقلاب النسبة، سواء قلنا به أم لم نقل به، وذلك.
اما في صورة العامين من وجه وتخصيص أحدهما المخصص، فلا بد من تقديم العام المخصص،
اما للانقلاب، واما لعدم المورد له واستلزامه لغويته، كما أشار إليه الشيخ.
واما في صورة المخصصين اللذين أحدهما قطعي، فلا بد من تقديم الخاص الاخر على العام
لعدم الانقلاب.
واما لان تقديم العام في المجمع يستلزم لغوية الخاص الاخر وعدم ثبوت الحكم لعنوانه مع أنه
نص فيه، فمثلا لو ورد: " أكرم العالم " وورد: " لا تكرم النحويين " وكان قطعيا، وورد: " لا تكرم
العالم النجفي "، ففي الفقيه النجفي يتعارض الخاص مع العام. فان قدم العام واقتصر في التخصيص
على النجفي النحوي بقي الخاص الاخر، ولم يبق مورد بعنوانه.
واما في صورة الخاص الأخص، فلو قدم الخاص الأخص، فلا بد من تقديم الخاص الاخر
الأعم اما لعدم الانقلاب واما لاستلزامه اللغوية أيضا كما تقدم، وقس على هذا البيان سائر
الصور، فلاحظ جيدا.
يقع الكلام في نصوص ضمان العارية واختلافها، وتحقيق الحال فيها:
اما نصوص الاشتراط، فالاستثناء فيها أشبه بالمنقطع، بناء على ما تقرر في محله من الجمع بين
أدلة الشروط وأدلة الأحكام الأولية بحملها على ثبوت الحكم في نفسه، فدليل نفى الضمان راجع
إلى بيان عدم الاقتضاء في العارية بما هي، ودليل الثبوت مع الشرط راجع إلى بيان الاقتضاء
بلحاظ الشرط، ولا منافاة أصلا بين الحكمين. ولو سلم انه من التخصيص، فلا ينافي سائر
الروايات، لأنها واردة مورد الشرط وعدمه كما أشير إلى ذلك في المتن.
واما نصوص الدرهم والدينار، فهي:
أولا: غير ظاهرة في خصوصية الدرهم والدينار بما هما، بل بلحاظ جهة جامعة، كما يقال:
" ان فلانا يحب الدينار " فإنه لا ظهور له في أنه يحبه لنفسه، بل بما هو نقد أو غير ذلك.
وثانيا: ان خصوصيتها ملغاة بمقتضى ما تقرر من أن ترتيب الحكم الواحد على موارد
متعددة يكشف عن إلغاء الخصوصية، كما في دم الطير والأرنب ونحو ذلك. وعليه فلا بد من
ملاحظة الجهة الجامعة، وهي مرددة بين أمور، فتكون مجملة، ولكن روايات الذهب تبين الجامع،
360



ولا أقل من ارتفاع التنافي فيها.
وثالثا: انه لا عقد سلبي للروايات المزبورة مطلقا، لأنها في مقام بيان ان عدم الضمان ينتفى في
هذه الموارد، لا انها في مقام نفى الضمان مطلقا وثبوته هنا، فلا دلالة لها على الحصر حينئذ،
ومقتضى ذلك ثبوت الضمان في جميع هذه المذكورات لعدم التنافي.
ولو سلم التنافي بملاحظة وجود العقد السلبي وغض النظر عما ذكرناه، فيقع التعارض بين
العقد السلبي لكل منها والعقد الايجابي للاخر، لكن روايات الدرهم والدينار تقيد إحداهما
الأخرى.
واما النسبة بينها وبين روايات الذهب والفضة، فهي العموم من وجه.
وقد يقال: بتقديم العقد السلبي، لان دلالته بالعموم والعقد الايجابي دلالته بالاطلاق. ولكن
لو سلم كبرى هذا المطلب فهي هنا غير مسلمة، لان تقديم العام ههنا يقتضى القاء المطلق بالمرة
أو تخصيصه بالفرد النادر جدا وهو مستهجن. هذا مع عدم العموم لتقييد كل منهما بالاخر في
الدينار والدرهم، مما يكشف عن عدم إرادة العموم قطعا.
ثم إنه لو تحقق التعارض، فقد يقال بالرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على عدم الضمان،
ولكن ذلك يشكل: بأنه يبتنى على عدم انقلاب النسبة، والا فالعموم الفوقاني يتضيق أيضا
لتقيده جزما بروايات الدرهم والدينار، فيكون حاله حال العقد السلبي في تلك الروايات، ومن
هنا يعلم ارتباط هذا الفرع بمسألة انقلاب النسبة، فلاحظ.
نعم، يتعرض لصورة تعارض العام مع الخاصين المستغرقين وكيفية معالجة التعارض، كما
يتعرض لصورة تعارض أحد العامين من وجه مع العام الاخر والخاص المخصص له.
واما شمول الاخبار العلاجية للعامين من وجه، فعلى القول بتعدد التعبد في المقامات الثلاثة -
كما أشير إليه في المتن، وهو المذهب الصحيح - فلا وجه للقول بالشمول، لان الاخبار العلاجية
تتكفل الترجيح من جانب الصدور، وواردة في مورد لا يمكن البناء على صدور الخبرين معا،
ففي المورد الممكن التزام صدورهما لا اشكال حينئذ.
وما نحن فيه كذلك، لامكان الالتزام بصدورهما والتساقط في الدلالة وحجية الظهور في
بعض المدلول.
نعم، في المورد الذي يكون التساقط في جميع المدلول تسرى المعارضة للصدور، إذ لا معنى
للتعبد بصدور ما لا يؤخذ به أصلا، فيقع التعارض في أدلة اعتبار السند.
وقد يقال: بان الخبر العام منحل إلى اخبار متعددة بتعدد الافراد، فالخبر بمورد الاجتماع غير
الخبر بمورد الافتراق، فيكون التعارض بين الخبرين الضمنيين، ونتيجته الترجيح أو التخيير في
أحدهما.
والجواب: ان الخبر الضمني في المقام خبر تحليلي لا خبر عرفي، والا فالحكاية أو الانشاء
واحد لا يقبل التعدد، وانما التعدد في مقام التطبيق والفعلية. وتوضيح ذلك.
أولا: ان التعارض في النقلين وهما ينقلان قول المعصوم وهو واحد لا متعدد، والانحلال على
تقدير في المنقول لا في النقل.
وثانيا: ان الانحلال المتعقل انما هو في القضايا الخارجية كبيع الصفقة، والاخبار بفسق
هؤلاء، ونحو ذلك، فيكذب من جهة دون أخرى. ولا يتعقل في القضايا الحقيقية، فلو قال: " السم
قاتل " وتخلف ذلك في بعض الافراد لم يكن الا كاذبا لا صادقا وكاذبا، وذلك لان القضية الحقيقية
اخبار بالملازمة بين المحمول والموضوع بلا نظر إلى وجود الموضوع خارجا والانحلال في مقام
التطبيق. والأحكام الشرعية كلها منشئة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، فلاحظ.
واما على القول بوحدة التعبد في المقامات الثلاثة، وان مرجع التعبد بالصدور إلى التعبد،
بالمضمون أيضا، فقد يتصور سراية التعارض الدلالي إلى التعارض السندي، لعدم امكان الجمع
بين التعبدين بصدورهما معا.
ولكنه مبنى فاسد أولا.
وثانيا: لا تساعده اخبار العلاج اثباتا، موضوع التعارض المطلق ومن جميع الجهات لا من
جهة دون أخرى، فلاحظ.
واما ما افاده السيد الخوئي في المقام، فالكلام معه في جهات: في تحديده محل الكلام. وفى
تفصيله بين العام والمطلق. فان غاية تقريبه: ان الاطلاق حيث إنه بمقدمات الحكمة، وهي تجرى
من قبل المكلف نفسه والسامع للخبر، فمع تضاد الحكمين يعلم اجمالا بعدم كونه في مقام البيان في
أحد الاطلاقين، فلا تتم مقدمات الحكمة في أحدهما، فلا ينعقد لأحدهما ظهور كي تتحقق
المعارضة، بخلاف العموم فان دلالته وضعية.
والاشكال عليه: بان مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي لا الجدي، وهو غير معلوم العدم
في أحدهما.
يمكن رده: بأن بيان المراد الاستعمالي بنحو الاطلاق مع عدم كونه مرادا جدا، انما يقرب على
أساس كون الاطلاق يكون قاعدة ظاهرية يرجع إليها عند الشك ما لم يثبت التقييد، ومثل هذا
مفقود فيما نحن فيه، لأنه بعد ورود الاطلاق الأول، فلا محصل لإرادة القاعدة الظاهرية من
الاطلاق الثاني، فكيف بين الاطلاق استعمالا ولا يراد جدا؟ فإنه لغو محض. اذن فالتفكيك
موجود بين العام والمطلق بما بيناه.
ولكن هذا لو تم لأشكل الامر في مطلق التعارض، إذ التعارض يتوقف على تمامية مقتضى
الحجية في كل الدليلين في نفسه، فقد يقال: ان الظهور انما يكون حجة إذا لم يكن له معارض،
فعدم المعارض اخذ في موضوع الحجية. وعليه فكل من المتعارضين ساقط عن الحجية، فلا
تعارض أصلا لعدم حجية الظهور في كل منهما، فيكونان كالمجملين، فلا فرق فيما ذكره بين العامين
من وجه وبين المتباينين، فتدبر.
360

ثم إنه على القول بانقلاب الظهور بالتخصيص وانقلاب النسبة، لا بد من
التكلم في أنه هل يلزم الترتيب في العلاج بحيث تنقلب النسبة بينه وبين الطرف
الاخر غير الملحوظ ابتداء أو لا؟
والتحقيق: انه لا بد من التفصيل بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان
ينافيانه. وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما.
ففي الصورة الأولى لا وجه للالتزام بالترتيب وتقديم أحد الخاصين ثم
ملاحظة العام والخاص الاخر، لان تقديم أحدهما بخصوصه ترجيح بلا مرجح،
فلا بد من الالتزام بتخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة.
نعم، يستثنى من ذلك صورة ما إذا كان أحد الخاصين قطعيا والاخر ظنيا،
فإنه يقدم الخاص القطعي على الظني، ثم تلاحظ النسبة بين العام والخاص الظني.
والوجه في ذلك: ان الدليل الخاص الظني انما يتقدم على العام ببناء العقلاء
لكونه صالحا للبيانية، وهذا انما يتم بعد فرض انعقاد ظهور العام في العموم، ومع
وجود الدليل القطعي على عدم إرادة بعض الافراد تتضيق دائرة العام تكوينا للعلم
بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة، فتنقلب النسبة بينه وبين الخاص
الظني قهرا.
وهذا بخلاف الخاص القطعي، فان تقدمه على العام لا يتوقف على بناء
العقلاء، وظهور العام في العموم ليقينيته، فهو متقدم عليه سواء خصص العام بذلك
الخاص أم لم يخصص. وبعبارة أخرى: تقدمه عليه ليس من باب التخصيص كي
تكون ملاحظته ابتداء من الترجيح بلا مرجح، بل للعلم به وبعدم إرادة العموم.
وبالجملة: تقدم الخاص الظني على العلم وصلاحيته للبيانية انما يفرض عند
ثبوت العموم، ومع العلم بعدم ثبوته وانه لم يكن في مقام البيان من بعض الجهات لا
365

مجال لتقدمه على العام لانقلاب النسبة إلى العموم من وجه.
واما الصورة الثانية - نظير ما لو ورد: " أكرم العلماء " ثم ورد: " لا تكرم
فساقهم " ثم ورد: " يستحب اكرام العدول " - فلا يخلو الحال فيها من احدى ثلاث:
الأولى: أن يكون العام المخالف للخاص أظهر من العام غير المخالف له.
الثانية: أن يكون العام غير المخالف أظهر من العام المخالف.
الثالثة: ان يكونا متساويي الظهور.
ففي الحال الأولى: لا ثمرة عملية للكلام في صحة تقديم الخاص ثم مراعاة
النسبة بين العامين، لان العام المخالف للخاص يتقدم على العام الاخر سواء قلنا
بتقديم الخاص وانقلاب النسبة أو لم نقل، لأظهريته.
واما في الحال الثانية: فالثمرة العملية موجودة، لأنه إذا قدم الخاص وصارت
نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاص إلى العام كان أظهر منه فيتقدم
عليه بخلاف ما إذا لم يقدم فان العام الآخر يقدم عليه في المجمع لأنه أظهر فيه منه.
وعليه فللكلام في لزوم تقديم الخاص في مقام العلاج أو عدم لزومه مجال
والتحقيق: انه...
ان قلنا بان تقدم الخاص على العام ليس من جهة الأظهرية بل من جهة
كون عدمه مأخوذا في موضوع أصالة العموم فيكون عدمه جزء المقتضى ويتقدم
عليه مطلقا ولو لم يكن بأظهر ويكون الأظهر غير الخاص من قبيل وجود
المانع ان قلنا بهذا - كان الوجه ملاحظة الخاص ابتداء إذ ملاحظة المقتضى
بشؤونه أسبق من ملاحظة عدم المانع وباقي اجزاء العلة.
وعليه فلا وجه لملاحظة العام الآخر قبل لحاظ الخاص أو معه لان نسبته
إلى العام المخالف للخاص نسبة المانع ولا وجه لملاحظته قبل تمامية مقتضيه ولحاظ
حده، فلا بد من ملاحظة الخاص أولا ثم يلاحظ العام الآخر.
واما ان قلنا - كما هو الحق - بان تقدم الخاص للأظهرية فلا يتجه تقديم
366

لحاظه على لحاظ العام الاخر بل الوجه انهما يلحظان معا ويخصص بهما العام
لتساويهما في مقام المعارضة بالنسبة إلى العام فلاحظ.
واما في الحال الثالثة فقد يقال بلزوم ملاحظة الخاص بين الطرفين انما تتحقق بعد
فرض تمامية موضوع الحجية ومقتضيها في كلام الطرفين ولما كان تقدم الخاص
وملاحظته ابتداء موجبا للتصرف في موضوع المعارضة ظهورا أو حجية أو كشفا
على الخلاف بحيث تنقلب النسبة بين العامين بملاحظته بخلاف تقدم العام فإنه
ليس من باب التصرف ولا يوجبه بل العام المطروح يبقى على ما هو عليه من
الحجية والظهور في المجمع ولو لم تكن حجيته فعلية فلم توجب ملاحظته انقلاب
النسبة بين العام والخاص إلى التباين أو غيره لما كان الامر كذلك كانت نسبة
ملاحظة الخاص إلى معارضة العام الآخر نسبة الوارد والمورود لان ملاحظته
ابتداء ترفع موضوع المعارضة فيتقدم عليه قهرا بملاك تقدم الوارد على المورود.
ولكن هذا الوجه وان كان تاما فيتقدم عليه قهرا بملاك تقدم الوارد على المورود.
ولكن هذا الوجه وان كان تاما في نفسه الا انه لا يجدي فيما نحن فيه لان
مثل هذا الوجه انما يجدي في مورد يكون فيه الدليل ثابتا في مقام الاثبات بحيث
يكفى الوجه في رفع بعض المحاذير التي تذكر، نظير الترتب المجدي في رفع استحالة
اجتماع الحكمين، فان تصوره في مقام الثبوت مساوق لتحققه اثباتا لتمامية الدليل في
مرحلة الاثبات اما في ما نحن فيه فليس الامر كذلك لان تقدم الدليل الخاص
وملاحظته أولا في مقام المعارضة ليس امرا مفروضا عنه اثباتا والكلام في وجهه
الثبوتي. بل هو محل الاشكال. فلا يجدي ما ذكر من أن ملاحظة الدليل أولا رافعة
لموضوع المعارضة بين العامين لأنه وان كان كما ذكر الا ان الملاحظة الابتدائية
للخاص هي محل الاشكال والكلام ولا دليل عليها.
وليس هذا نظير الوارد والمورود فان الوارد بمدلوله رافع لموضوع الدليل
367

الآخر وحيث إنه موضوع الحجية فيتقدم لثبوت مقتضيه وعدم المانع وفى المقام
ليس المدلول كذلك بل البناء عليه والاخذ به وملاحظته أولا كذلك وهي لا دليل
عليها ولم يثبت مقتضيها.
هذا، ولكن الانصاف ثبوت الدعوى المذكورة وذلك لان انقلاب النسبة
ان قرب بدعوى: ان المخصص بوروده يتصرف في ظهور العام ويقلبه عما كان
عليه كانت مرتبة الخاص فيما نحن فيه أسبق من مرتبة العام المعارض فإنه في
مرتبة المقتضى لأنه مانع عن ثبوته، والعام المعارض في مرتبة المانع لأنه مانع عن
تأثير المقتضى لا عن ثبوته إذ هو لا يتصرف في الظهور الذي يكون موضوعا
لأصالة العموم وعليه فلا بد من ملاحظة الخاص أولا إذ لا وجه لملاحظة أحد
العامين مع الاخر قبل تمامية المقتضى في أحدهما وثبوت عمومه كما عرفت قبل
قليل -
وان قرب انقلاب النسبة بان موضوع المعارضة ما كان موضوع الحجية من
الأدلة أو بان المعارضة بلحاظ الكشف النوعي فمعارضة أحد العامين للاخر لا
تثبت الا بعد فرض تمامية حجيتهما أو كشفهما في مدلولهما ومع وجود المخصص
لأحدهما تتضيق حجيته أو كشفه قهرا فلا يكون معارضا للعام الاخر بل يكون
مخصصا.
وبالجملة تحقق المعارضة بين الدليلين لا يتم الا بتمامية ما به التعارض في كلا
الدليلين وثبوت الخاص يضيق ما به التعارض في أحدهما فتنقلب النسبة قهرا
هذا تمام الكلام في مرحلة ثبوت المسألة.
ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق صور المسألة وبيان حكمها من انقلاب
النسبة - على القول به - وعدمه وغير ذلك مما ينبغي تحقيقه وهي متعددة.
الصورة الأولى ما إذا ورد عام وخاصان. وهي تتفرع إلى فروع.
الأول: أن يكون الخاصان متباينين.
368

الثاني: أن يكون بين الخاصين عموم من وجه.
الثالث: أن يكون بينهما عموم مطلق
اما الفرع الأول فان لم يلزم من تخصيص العام بكلا الخاصين محذور
الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقاءه بلا مورد نظير: " أكرم العلماء " و: " لا
تكرم النحويين، ولا تكرم الأصوليين " - فلا اشكال في تخصيص العام بهما دفعة
واحدة إذ لا وجه لملاحظة أحدهما ابتداء فإنه ترجيح بلا مرجح كما عرفت آنفا.
واما ان لزم من تخصيصه بهما المحذور نظير: " أكرم العلماء، ولا تكرم
فساقهم ويستحب اكرام العدول منهم " فلا يخصص العام بهما بل يقع التعارض
بينهما وبين العام وتكون نسبتهما إليه نسبة التباين.
وقد ذكر لهذا النحو أحوال ستة:
الأول أن يكون الخاصان أرجح من العام
الثاني أن يكون العام أرجح منهما.
الثالث: أن يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الاخر.
الرابع أن يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للاخر.
الخامس أن يكون مساويا لأحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الاخر.
السادس أن يكون مساويا لهما.
اما في الحال الأول فلا اشكال في تقدم الخاصين وطرح العام من رأس.
واما في الثاني فلا اشكال أيضا في الاخذ بالعام وانما الاشكال في أنه هل
يطرح كلا الخاصين أو لا يطرح الا أحدهما فيقع التعارض العرضي بينهما ويقدم
الراجح منهما أو يتخير بينهما ويخصص به العام؟
وقد اختار صاحب الكفاية الثاني (1) ووافقه الاعلام من بعده.
ومركز الخلاف يرجع إلى أن طرف المعارضة هل هو مجموع الأخصين فلا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 452 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
369

يطرح الا أحدهما أو جميعهما فيطرحان معا؟
ولا بد من توضيح الحال ببيان الفرق بين الجميع والمجموع مع غض النظر عن
نفس التعبير إذ لا يخلو التعبير بهما؟؟ عن غموض.
فنقول ان طرف المعارضة تارة يؤخذ ذات الدليلين وأخرى يؤخذ وصف
اجتماعهما وانضمامهما.
والمراد بالمجموع هو هذا المعنى يعنى ان المأخوذ في طرف المعارضة وصف
الاجتماع فلا يستلزم تقديم العام الا إلغاء هذا الوصف وهو لا يقتضى الا طرح
أحدهما لا كليهما والمراد بالجميع هو المعنى الأول.
والالتزام بان طرف المعارضة هو المجموع بهذا المعنى الذي عرفته غير وجيه
لوجهين:
الأول: ان طرف المعارضة لا بد وأن يكون دليلا فيه جهة الدلالة والحجية
كي تكون معارضة للدليل الآخر من احدى الجهتين وليس وصف الاجتماع دليلا
اخذ موضوعا للحجية ويشتمل على جهة الدلالة فلا يصلح لان يكون طرف
المعارضة.
الثاني لو سلم امكان كونه طرف المعارضة - بالتنزل عن اعتبار جهة الدلالة
أو الدليلية في المعارض - فليس هذا النحو من المعارضة مشمولا للاخبار
العلاجية المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح إذ معنى الطرح جعل المانع من
حجية أحد الطرفين، وقد عرفت أن وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجية
كي يكون قابلا للطرح والاخذ.
وعليه فالمتعين أن يكون طرف المعارضة هو ذات الدليلين بمعنى أن يكون
كل منهما معارضا للعام في ظرف انضمام الآخر إليه نظير وجوب المركبات فان
الواجب هو كل واحد من الاجزاء لكن عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل
واحد بنفسه ومعروض الوجوب هو نفس الجزء لا بقيد الانضمام، بل عند الانضمام.
370

ثم إنه لو قيل بامكان التبعيض في حجية العام بمعنى امكان كون العام حجة
في بعض مدلوله دون الآخر في بعض موارد المعارضة كما ستأتي الإشارة إليه
ففي المقام تتشكل حينئذ معارضتان متعددة الأطراف إذ كل من الخاصين يعارض
ما ينافيه من مدلول العام وظهوره في مقام الحجية.
ومع فرض أرجحية العام من الخاصين يطرح الخاصان معا لأرجحية كل
قسم من العام من الخاص المعارض له فتقدم العام مع رجحانه على هذا القول
واضح لا غبار عليه.
واما على القول بعدم امكان التبعيض وان مصب الحجية في العام واحد لا
يتبعض،، فطرف المعارضة مع كلا الخاصين هو مجموع العام فالعام معارض لكل
من الخاصين في حال انضمام الآخر إليه ففي المقام معارضتان الا ان أحد الطرفين
فيهما واحد وهو العام - نظير ما لو كان هناك ثلاث أوان شرقي وغربي ووسط
ووقعت في حين واحد نجاستان ترددت أحدهما بين الاناء الوسط والغربي
والأخرى بين الاناء الوسط والشرقي فان أحد الطرفين في العلمين الاجماليين واحد
وهو الاناء الوسط ويكون الأصل فيه معارضا لكل من الأصلين في الطرفين
الآخرين لو قيل بالمعارضة بين الأصول في أطراف العلم الاجمالي ففي فرض
أرجحيته من كلا الخاصين يتقدم عليهما في المعارضتين لرجحانه عليهما ويطرحان
معا.
ويمكن ان يقال: انهما معا يكونان طرف المعارضة لأنهما بمنزلة دليل واحد
فلا تكون الا معارضة واحدة طرفاها العام وكلا الخاصين يتقدم عليهما العام في
فرض رجحانه ويسقطان معا لأنهما بمنزلة دليل واحد وظهور واحد كما يسقط
الدليل الواحد بمعارضة ما هو أرجح منه فكذلك الخاصان.
والمحصل انه إذا كان طرف المعارضة ذات الدليلين يسقطان معا عند
أرجحية العام منهما.
371

ولا وجه لما ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من: انه بعد أن
كان العلم الاجمالي متعلقا بكذب أحد الأدلة الثلاثة، فلا وجه لطرح كلا الخاصين
عند تقديم العام، إذ بعد تقديمه لا يعلم الا بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضا
بينهما، وتجرى فيهما احكام المعارضة من ترجيح أو تغيير.
وذلك لان مجرد العلم الاجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في تحقيق
المعارضة (1) بين الدليلين، بل لا بد من انضمام امر آخر إليه، وهو اشتمال كل من
الدليلين على مقتضى الحجية و قابليتهما لها، بحيث تكون حجيتهما فعلية لولا
المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الاجمالي بكذب أحدهما، فالعلم الاجمالي بنفسه
كاحتمال المصادفة للواقع، فكما أن احتمال مصادفة الخبر للواقع لا يكون بنفسه مناطا
لشمول دليل الحجية للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء للحجية، كذلك العلم
الاجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطا للمعارضة بين الدليلين ما لم
يكن في الدليلين اقتضاء الحجية.
وهذا غير موجود فيما نحن فيه، إذ بعد ترجيح العام وتقدمه يلزم طرح
الخاصين كلاهما، لأنهما طرفا المعارضة - كما عرفت - ومعنى الطرح جعل المانع عن
حجية كل منهما بتقديم الطرف الاخر، فالعلم الاجمالي بكذب أحدهما لا يوجب
تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما، لكون حجية كل منهما مقرونة بالمانع من
غير جهة المعارضة.
نعم، لو كان طرف المعارضة وصف الاجتماع، كان ما ذكر في محله، لان
المطروح هو وصف الاجتماع من دون تعرض لنفس الدليلين، وهما في أنفسهما
حاويان لمقتضى الحجية. لكنك عرفت بطلان هذا الالتزام، فلاحظ
واما لو تساوى العام والخاصان، فيختلف الحال على القولين: القول بامكان
التبعيض في حجية العام. والقول بعدمه.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 390 - الطبعة الأولى.
372

فعلى الأول: فحيث قد عرفت أنه تتشكل معارضتان طرف كل منهما أحد
قسمي العام والخاص المنافى له.
فله الاخذ - في هذا الفرض - بطرف العام - أي ببعضه - في احدى
المعارضتين، وبالخاص في الأخرى، لأنه مخير مع التساوي في الاخذ بأي طرف من
المعارضة.
وعلى الثاني: فالمعارضة وان كانت متعددة، الا ان أحد الطرفين فيها واحد
وهو مجموع العام، فيتعين اما الاخذ بالعام بمجموعه وطرح الخاصين معا، أو الاخذ
بالخاصين وطرح العام - واما على الاحتمال الاخر من أن المعارضة واحدة طرفها
كلا الخاصين والعام، فالتخيير المذكور بين اخذ العام وطرح الخاصين واخذ
الخاصين وطرح العام يكون واضحا جدا -
واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للاخر.
فعلى القول بامكان التبعيض وتعدد المعارضة وطرفاها، فالحكم واضح، إذ
يؤخذ بالشق الراجح من العام ويتخير في الشق الاخر المساوي للخاص الاخر بين
الاخذ به وطرح الخاص المقابل له، وطرحه والعمل بالخاص.
واما على القول بعدم امكانه، فقد يقال: بأنه بعد أن كان العام راجحا من أحد
الخاصين، فيمكن ان يطرح الخاص المرجوح بالأخذ بالعام ثم يتخير في المعارضة
الأخرى بين العام والخاص الاخر المساوي، فله طرح العام والاخذ بالخاص
وبالعكس. وبذلك قد تكون النتيجة هي العمل بأحد الخاصين فقط.
ولكن هذا القول غير وجيه، لان تقديم العام على الخاص المرجوح انما يصح
بعد فرض حجيته الفعلية التعيينية، ومع وجود المعارض الاخر للعام لا يصلح العام لالغاء الخاص المرجوح ما لم يؤخذ به، ويتعين في الاخذ دون الخاص المساوي.
وعليه فمع الاخذ به يطرح الخاص المرجوح. واما مع طرحه والعمل بمعارضه
الخاص المساوي، فيبقى المرجوح بلا معارض فيعمل به.
373

ونتيجة ذلك: انه اما ان يؤخذ بالعام ويطرح كلا الخاصين، أو يؤخذ
بالخاصين ويطرح العام، فتدبر.
واما على الاحتمال الاخر من وحدة المعارضة بكون طرف المعارضة مع العام
هو كلا الخاصين، فيشكل شمول الاخبار العلاجية لمثل الفرض مما يتفاوت فيه سند
الخاصين من جهة الرجحان، إذ الظاهر منها كون موضوعها معارضة الدليلين بنحو
يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح منهما.
وليس الامر فيما نحن فيه كذلك، لتعدد السند واختلافه، فليس هناك سند
واحد للدليلين الخاصين يلاحظ الترجيح بينه وبين سند العام.
فالمتعين هو الرجوع إلى القاعدة الأولية، وهي التساقط كما عرفت.
اللهم الا ان يقال - توسعا في الخيال - ان الظاهر من أدلة العلاج كون
المرجحات المذكورة انما هي لترجيح مضمون أحد المتعارضين على الاخر بلا
اعتبار وحد السند ولا نظر إليها، بمعنى ان طرف المعارضة إذا اشتمل على بعض
هذه المرجحات دون الطرف الاخر فقدم عليه وطرح الاخر.
وعليه، ففي المقام يلاحظ سند مجموع الخاصين يحصل الكسر والانكسار بين
سنديهما، ثم يلاحظ بالنسبة إلى سند العام، والمتعين هو العام لأرجحية سنده من
سند الخاصين.
واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الاخر.
فعلى الالتزام بامكان التبعيض ونتيجته، فالحكم ظاهر، إذ اللازم الاخذ
بالقسم الراجح من العام وطرح الخاص المقابل له وطرح القسم المرجوح منه
والعمل بالخاص منه المعارض له.
واما على الالتزام بعدم امكانه وتعدد المعارضة ولكن أحد الطرفين فيهما
واحد وهو العام، فالعام لا يصلح لان يكون مانعا عن الخاص المرجوح في
معارضته له، لأنه انما يصلح أن يكون كذلك بعد فرض تعينه وعدم وجود ما يصلح
374

لمانعية حجيته، ومع فرض وجود الخاص الأرجح يسقط العام عن الحجية لاقتران
مقتضيها بالمانع، فيبقى الخاص المرجوح بلا مانع. ونتيجة ذلك هو تعين الاخذ
بالخاصين.
واما على الاحتمال الاخر وامكان كون المقام مشمولا للاخبار العلاجية -
بالتقريب الذي عرفته - فالحكم هو التخيير لحصول التساوي بين سند العام وسند
الخاصين بعد الكسر والانكسار، فيتخير بين الاخذ بالعام وطرح الخاصين، والاخذ
بهما وطرح العام.
واما لو كان العام مرجوحا بالنسبة لأحدهما مساويا للاخر.
فالحكم على القول بتعدد المعارضة وتعدد طرفيهما - كما هو الحال على القول
بامكان التبعيض في حجية العام - واضح أيضا، إذ يؤخذ بالخاص الراجح على
معارضه من قسمي العام، ويتخير في المعارضة الأخرى بين الاخذ بالعام - أعني:
ببعضه المعارض للخاص المساوي - والاخذ بالخاص.
واما على القول الآخر - أعني: تعدد المعارضة واتحاد أحد طرفيها - فالمتعين
هو الاخذ بالخاصين، إذ العام مع وجود الخاص الأرجح لا يصلح لمعارضة الخاص
المساوي ومانعيته عنه لاحتفاف حجيته بالمانع، فهو مطروح بلا اشكال، فيؤخذ
بالخاص المساوي مع تعين الاخذ بالخاص الراجح، وبذلك تكون النتيجة هي
الاخذ بالخاصين وطرح العام.
واما على الاحتمال الأخير الذي عرفت تقريبه، فالمتعين هو الاخذ بالخاصين
أيضا، لأرجحية سندهما بعد الكسر والانكسار من سند العام فيطرح، فلاحظ
وتدبر.
يبقى الكلام فيما افاده السيد الخوئي من: ان التعارض ليس بين العام ومجموع
الخاصين فقط، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة والآخرين، إذ العلم الاجمالي انما
هو بكذب أحدها فقط، ولذلك فما ذكره لهذا الفرض من احكام بحسب صوره
375

الستة جار في مطلق موارد التعارض بين أكثر من دليلين مما كان العلم الاجمالي
متعلقا بكذب أحدها، كما لو قام الدليل على وجوب شئ واخر على حرمة شئ
اخر وثالث على كراهة امر ثالث وعلم اجمالا بكذب أحد هذه الأدلة (1).
ولا بد في بيان عدم نهوض ما ذكره من التكلم في جهتين:
الأولى: ان مفهوم التعارض المأخوذ في أدلة العلاج هل يشمل موارد العلم
الاجمالي بكذب أحد الدليلين مع عدم تنافيهما ذاتا، بحيث يكون السبب في التنافي
هو العلم الاجمالي فقط، أو يختص بموارد تنافى الدليلين ذاتا وبحسب مدلوليهما
أنفسهما؟
الثانية: انه مع الالتزام بشمول التعارض لموارد العلم الاجمالي، فهل يشمل
موارد تنافى أكثر من دليلين أو لا؟
اما الجهة الأولى: فلمدع ان يدعى اختصاص التعارض في مدلول الاخبار
العلاجية بموارد التنافي الذاتي بين الدليلين بحيث يكون كل منهما بمدلوله وظهوره
ينافي الاخر، دون موارد التنافي العرضي الناشئ من العلم الاجمالي الثابت من
الخارج بعدم اعتبار مضمون أحدهما مع التلاؤم بين الدليلين بحسب مدلوليهما
وعدم المنافاة بينهما من ناحيتهما أنفسهما.
والى هذا يشير كلام المحقق النائيني
(قدس سره) (2).
ويمكن تقريبها: بان التنافي المقوم لمعنى التعارض لا بد أن يكون عرفيا يدركه
العرف، وهو انما يتحقق مع كون كل من الدليلين بذاته وبمدلوله وظهوره ينافي
الاخر، بحيث يرى العرف التنافي بينهما عند ملاحظتهما، كالتنافي بين الدليل الدال
على وجوب شئ والدليل الدال على جوازه.
اما مع عدم تنافيهما ذاتا، بل علم خارجا بكذب أحدهما، فنفى كل منهما

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 390 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 702 طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
376

للاخر ليس بحسب فهم العرف والملازمة العرفية، بل بالملازمة العقلية الحاصلة من
العلم الاجمالي، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي.
ويمكن الاستشهاد له بما تقرر في محله من تساقط الأصول المتعارضة عرضا
بواسطة العلم الاجمالي - كما لو علم اجمالا بأنه مدين بدينار مثلا اما لزيد أو لعمرو،
وكان عدم الدين لعمرو له حالة سابقة دون زيد، فان استصحاب عدم وجوب أداء
هذا المال لعمرو - يعارض أصالة البراءة من وجوبه لزيد - مع الالتزام بشمول أدلة
العلاج لموارد العامين من وجه.
فإنه لولا أنه من المرتكز عدم المعارضة في موارد العلم الاجمالي، لما صح
القول بالتساقط، لحصول التعارض حينئذ بين اطلاق كل من الأصلين واطلاق
الاخر، للعلم الاجمالي بعدم صحة أحدهما، ومقتضاه الترجيح أو التخيير لا
التساقط.
وبهذا المورد ونحوه ينقض على من يلتزم بالمعارضة مع العلم الاجمالي.
ولو تنزلنا وقلنا إن التعارض بمفهومه العرفي هو مطلق التنافي أعم من العرفي
والدقي، فلا عبرة في خروج المورد عن التعارض بعدم التنافي العرفي، فيشمل موارد
العلم الاجمالي.
فيقع الكلام في الجهة الثانية، فنقول: ان ذلك ينحصر في موارد التنافي بين
الدليلين فقط، إذ مع العلم بكذب أحدهما نافيا للاخر فيحصل التنافي.
اما في فرض التنافي العرضي أكثر من دليلين فلا يتحقق مصداق التعارض،
لان كلا من الأدلة لا يتكفل نفى غيره من الدليلين أو الأدلة - لان المعلوم كذبه
أحدهما لا غير - بل مفاده اثبات مدلوله وان الكاذب في الدليلين الآخرين -
وبذلك تحصل المعارضة العرضية بين الآخرين عند ثبوته - وهذا ليس من مفهوم
التعارض في شئ، لان مفهومه التنافي المتقوم بنفي كل منها للاخر، وقد عرفت أن
كلا من الأدلة لا يتكفل الا اثبات ذاته، اما نفى غيره فليس من مقتضاه أصلا،
377

فيخرج عن مورد المعارضة.
ومن هنا يتبين بطلان ما افاده أولا من: ان التعارض ليس بين العام ومجموع
الخاصين فقط بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة وأخويه، لان المعلوم بالاجمال
هو كذب أحدهما فقط فلاحظ وتأمل والله ولي العصمة.
واما الفرع الثاني: وهو ما إذا كان بين الخاصين عموم من وجه - فله
صورتان:
الأولى أن لا يكون بينهما تناف في المجمع كما لو قال: " أكرم العلماء " ثم قال:
" لا تكرم فساق العلماء " ولا تكرم النحويين ".
الثانية أن يكون بينهما تناف في المجمع نظير: " أكرم العلماء " ولا تكرم
فساقهم ويستحب اكرام النحويين " فإنهما متنافيان في المجمع وهو النحوي الفاسق،
إذ أحدهما يقتضى حرمة اكرامه والاخر يقتضى استحبابه.
اما الصورة الأولى: فالكلام فيها عين الكلام المتقدم في الفرع الأول:
من لزوم تخصيص العام بهما دفعة واحدة بلا تقديم أحدهما وملاحظة النسبة
بين العام بعد تخصيصه والخاص الاخر لأنه ترجيح بلا مرجح فيما لم يلزم من
تخصيصه بهما محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقائه بلا مورد.
ومن معاملتهما مع العام معاملة المتباينين وفرض الأحوال الست المتقدمة
فيما لزم المحذور المذكور فراجع.
واما الصورة الثانية: فلا تصل النوبة فيها إلى الكلام في صحة تقديم أحدهما
على الاخر في مقام العلاج، إذ كل منهما لا يصلح لان يكون مخصصا مع وجود
المعارض له، فلا بد من اجراء احكام التعارض فيما بينهما في مورد المنافاة.
فان التزم بالتساقط، كان العام في مورد المنافاة سالما عن المخصص فيعمل به،
ويخصص بكلا الخاصين في غير هذا المورد دفعة واحدة، إذ يكونان كالمتباينين بلا
مرجح لأحدهما على الاخر وان التزم بالتخيير أو الترجيح، خصص بما اخذ به
378

منهما فلاحظ.
واما الفرع الثالث وهو ما إذا كان بين الخاصين عموم مطلق وهما..
تارة غير متنافيين كما لو كانا متحدي الحكم نظير: " أكرم العلماء، ولا تكرم
النحويين، ولا تكرم فساق النحويين ".
وأخرى متنافيان كما لو كانتا مختلفي الحكم نظير: " أكرم العلماء " ولا تكرم
النحويين ويستحب اكرام عدول النحويين ".
ففي الحال الأولى لا وجه لملاحظة أحدهما قبل الآخر مع العام ولا مرجح
لأحدهما على الاخر فالوجه ملاحظتهما معا وتخصيص العام بهما دفعة لتساوي
نسبتهما إلى العام.
واما ما افاده المحقق العراقي في لزوم تقديم الخاص الأخص على الاخر
فتنقلب النسبة بين العام وبين الخاص الأعم إلى العموم من وجه، من: ان الخاص
الأخص معلوم التخصيص فهو خارج يقينا عن العام ويبقى غيره مشكوكا،
فيتمسك بأصالة العموم وتنقلب النسبة بين العام والخاص الأخص (1).
ففيه انه..
ان كان المفروض في التردد هو تخصيص العام بمقدار الأخص اما به
استقلالا أو في ضمن تخصيصه بالأعم
فهو لا يجدي في المطلوب لان تردد المخصص بين عنوانين الأخص والأعم
يرجع إلى التردد بين المتباينين لا الأقل والأكثر كي يؤخذ بالقدر المتيقن - نعم
هو افرادا كذلك لا عنوانا - كما هو الفرض -
وان كان المفروض في التردد هو تخصيص العام بالخاص الأخص اما وحده
أو مع تخصيصه بالأعم بحيث يكون المخصص على كلا التقديرين هو الدليل
الأخص الا انه تارة وحده. وأخرى مع غيره بخلاف الفرض الأول، فان اخراج

(1) العراقي المحقق آغا ضياء الدين. حاشية فوائد الأصول 3 / 442 طبع مؤسسة النشر الاسلامي.
379

الفرد الأخص اما بالدليل الأخص أو بواسطة الدليل الأعم -
ففيه: أولا: ان القدر المتيقن انما يفرض بعد فرض الترديد بين الامرين، والترديد
انما يكون بالعلم الاجمالي بأحد الطرفين، وهو انما يكون فعلي التأثير مع عدم فرض
الدليل المعين لاحد الطرفين، والمفروض ان مقتضى القواعد الأصولية هو تعيين
الطرف الاخر - أعني: تخصيص العام بهما دفعة واحدة - فيرتفع الترديد وينحل
العلم الاجمالي حكما، فلا مجال للاخذ بالقدر المتيقن بلحاظ تردد التخصيص بين
الأقل والأكثر.
وثانيا: ان أحد فروض تخصيص العام بالأخص تخصيصه مع الأعم، وفى هذا
الفرض لا ينعقد للعام ظهور في غير مورد الأخص، فكيف يجعل تخصيص العام
بالخاص الأخص على جميع تقاديره موجبا لانعقاد ظهور له في الباقي - أي في غير
مورد الأخص -؟ ونظيره يرد على الفرض الأول، فإنه بعد فرض كون أحد تقادير
خروج مورد الأخص تقدير تخصيصه بالأعم، فلا وجه لجعل خروجه على جميع
تقاديره موجبا لانقلاب النسبة بينه وبين الخاص الاخر الأعم.
هذا ان أريد بالقدر المتيقن في مقام التخصيص. واما ان أريد به في مقام المراد
الجدي والواقع وان المتيقن خروج مورد الأخص عنه. ففيه: انه ليس متيقنا في نفسه
لامكان كون الخاص في الواقع كاذبا، وانما هو بحسب الأدلة اللفظية والقواعد
المقتضية لتقديمها، فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع، فتدبر.
وعلى كل، فلا وجه لتقديم الخاص الأخص على الخاص الأعم كي تنقلب
النسبة بين العام وغيره، بل اللازم تخصيص العام بهما دفعة واحدة.
نعم، يبقى في المقام سؤال فائدة التخصيص بالخاص الأخص بعد امكان
اخراج الفرد بالأعم.
وجوابه ما تقرر في محله في حل محذور لغوية ورود العام والخاص المتوافقين،
380

من امكان وجود خصوصية للخاص يكون بها ذا أهمية أو كونه مورد السؤال، أو
نحو ذلك.
واما في الأخرى، فالوجه هو تخصيص الخاص الأعم بالخاص الأخص ثم
تخصيص العام بالباقي، إذ لا يصلح الخاص الأعم لتخصيص العام بمدلوله اجمع
لوجود المانع عن حجيته في بعض افراده، وهو الخاص الأخص، فيخصص به ويبقى
حجة في غير مورد الأخص فيخصص به العام، كما يخصص بالأخص أيضا
ويكونان حينئذ كالمتباينين حكما وافرادا.
هذا كله فيما إذا كان كلا الخاصين - الأعم والأخص - منفصلين عن العام.
اما لو كان الأخص متصلا، كما لو قال الآمر: " أكرم العلماء الا فساق
النحويين " ثم قال: " لا تكرم النحويين "، فهل تنقلب النسبة بين العام والخاص
المنفصل أو لا؟. التزم الاعلام بانقلاب النسبة باعتبار انعقاد ظهور العام في غير
مورد الخاص المتصل من أول الامر، فتكون نسبته إلى الخاص المنفصل نسبة العموم
من وجه.
والذي ينبغي ان يقال: ان من لا يلتزم بانقلاب النسبة بملاك كون المعارضة
والنسبة انما هي بين الظهورات وعدم اختلال الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل -
كما عليه صاحب الكفاية - لا بد في الفرض من أن يلتزم بانقلابها.
لاختلال المقدمة الثانية التي بنى عليها مذهبه - وهي عدم اختلال الظهور
بالمخصص المنفصل -، إذ الظهور التصديقي يختل بالمخصص المتصل وينعقد ظهور
ثانوي في غير مورد الخاص، فتنقلب نسبة العام إلى الخاص المنفصل قهرا لتضيق
دائرة ظهوره الذي هو الملحوظ في باب المعارضة.
واما من يلتزم بانقلاب النسبة اما لاجل كون المخصص وان كان منفصلا
يهدم ظهور العام في العموم، أو من جهة تضييق دائرة حجيته وهي الملاك في
المعارضة وملاحظة النسبة، فلا بد له من التفصيل فيما نحن فيه بين صورة ورود
381

المخصص المنفصل الأعم قبل حضور وقت العمل، وصورة وروده بعده.
ففي الصورة الأولى: لا وجه لانقلاب النسبة، لان ظهور العام في الباقي بعد
تخصيصه بالمتصل انما ينعقد بتمامية مقدمات الحكمة، وهي انما تنعقد بناء على هذا
القول إلى حين زمان العمل لا حين الكلام، والخاص المنفصل حكمه حكم المتصل
في كونه بيانا للعام وهادما لظهوره، فمع وروده قبل زمان العمل لا ينعقد للعام ظهور
في الباقي لفقدان احدى مقدمات ظهوره فيه وهي عدم البيان.
وكذلك حجيته في الباقي لا تتم قبل زمان العمل مع ورود المخصص، لأنه مانع
عن الحجية، إذ العام لا يكون حجية في العموم الا حين زمان العمل وعدم المخصص.
وفى الصورة الثانية: فحيث إنه حين زمان العمل انعقد ظهور العام في الباقي
لتمامية مقدماته، كما أنه كان حجة فيه لعدم المانع، فلا تكون نسبة الخاص الوارد بعد
ذلك نسبة الخاص إلى العام، بل نسبة العموم من وجه.
وبالجملة: فحيث إنه على الالتزام بانقلاب النسبة بلحاظ كون الخاص
المنفصل كالمتصل في هدمه الظهور، لم يكن فرق بين كون الخاص الأخص متصلا أو
منفصلا في عدم انقلاب النسبة إلى حكم الأعم، وان كان منفصلا كحكم الأخص،
وان كان متصلا في هدمه للظهور، ففي صورة وروده قبل تمامية مقدمات الحكمة
وانعقاد ظهور للعام في الباقي يكون مخصصا للعام بلا كلام.
والحكم في زماننا كذلك، إذ مع فرض امكان العثور على المخصص المنفصل
بالفحص لا يكون العام حجة في خصوص الباقي ولا ظاهرا فيه، إذ زمان العمل
بالنسبة الينا يكون بعد الفحص، فلاحظ. وقد مرت الإشارة إلى هذا الكلام فيما تقدم
من مباحث انقلاب النسبة، فراجعه.
ثم إن المحقق النائيني (قدس سره) بعد أن اختار انقلاب النسبة في الفرض
المذكور، الحق به فرضا اخر، وهو: ما إذا ورد مضافا إلى العام المخصص بالمتصل
والى الخاص المنفصل، عام اخر مجرد عن الخاص المتصل، نظير: " أكرم العلماء،
382

وأكرم العلماء الا فساق النحويين ولا تكرم النحويين "، فاختار فيه انقلاب النسبة
بين العام المجرد وهو: " أكرم العلماء "، وبين الخاص المنفصل وهو " لا تكرم
النحويين " (1).
ونسب إليه السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - في توجيهه وجهين:
الأول: ان العام الأول قد تخصص بالمخصص المتصل بالعام الثاني يقينا،
فيكون مفاد العام الأول عين مفاد العام الثاني المخصص بالمتصل، ومن الظاهر أن
النسبة بينه وبين الخاص المنفصل هي العموم من وجه.
الثاني: ان الخاص المنفصل مبتلى بالمعارض، وهو العام المتصل به أخص
الخاصين، فلا يكون صالحا لتخصيص العام الأول.
ثم أورد على الأول: بأنه لا وجه له بعد ما تقدم من عدم الوجه من تخصيص
العام بأحد المخصصين أولا ثم ملاحظة نسبته مع الخاص الاخر.
وعلى الثاني: بأنه وان كان تاما في نفسه، لكنه لا يصلح دليلا لانقلاب النسبة
وحصول المعارضة بين العام المجرد وبين الخاص المنفصل، لأنه بعد ابتلاء الخاص
المنفصل بالمعارض لا بد من معالجة التعارض بينهما، ثم ملاحظة العام المجرد.
فان التزم بالتساقط، كان العام بلا معارض في مورد المنافاة فيكون هو
المحكم. وإن لم يلتزم بالتساقط، فان أخذ بالعام المتصل به أخص الخاصين ترجيحا
أو تخييرا يطرح الخاص المنفصل، فيبقى العام المجرد بلا معارض. وان اخذ بالمخصص
المنفصل كذلك يخصص به العام، لكون نسبته إليه نسبة الخاص والعام لا العموم من
وجه. فلا تعارض بين العام المجرد والمخصص المنفصل أصلا، انتهى (2).
الا انه بعد ملاحظة ما تقدم من المحقق النائيني (قدس سره) من عدم الالتزام
بتخصيص العام بأخص الخاصين أولا، ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاص الاخر

(1) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 744 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 39 - الطبعة الأولى.
383

للأعم - فيما لو كانا منفصلين - يحصل الاطمئنان بان نظره في الفرض إلى وجود
نكتة يفترق بها عن الفرض السابق. فالايراد عليه بما تقدم من عدم الوجه في تقديم
أحدهما على الاخر لتساوي نسبتهما إلى العام في غير محله، بل كان اللازم معرفة
نكتة الفرق والكلام فيها نفيا أو ثباتا.
ويمكن توجيه الفرق: بان الخاص الاخر المتصل بالعام حيث إنه بمدلوله
المطابقي اللفظي يدل على نفى حكم العام عن مورده، وبمفهومه اللفظي يدل على
تخصيص حكم العام و المراد الجدي منه بغير مورده، فيعلم بواسطة ذلك أن المراد
الجدي في العام المجرد لا يزيد على ذلك، كما لو كان ذلك مفاد دليل اخر، إذ لا
اشكال مع ورود دليل خارجي يدل على أن المراد الجدي من العام هو المقدار
الكذائي في تضييق دائرة العام بالإضافة إلى المراد الجدي.
فالسر فيما يستفاد من العام المتصل به الخاص الأخص، ليس نفى الحكم عن
مورد الخاص واثبات الحكم لغير مورده فقط، إذ الخاص المتصل - على هذا - انما
يخصص العام المتصل به ولا يرتبط بالعام المجرد، ولا يكون بين العام المجرد
والمحفوف بالخاص تناف لتوافقهما في الحكم، وان كان أحدهما أضيق دائرة فلا
يقتضى انقلاب النسبة.
بل السر، هو: ان ما يستفاد منه بالمفهوم اللفظي انما هو تخصيص المراد
الجدي بغير مورده فيضيق قهرا حجية العام المجرد ويحصر دائرة المراد الجدي فيه
فتنقلب النسبة بينه وبين الخاص المنفصل قهرا - وبهذا الاعتبار الحق (قدس سره)
هذا الفرض بفرض اتصال الخاص الأخص في انقلاب النسبة -
وهذا بخلاف ما إذا كان الخاص الأخص منفصلا ومستقلا في الكلام، إذ
بتقديمه لا يدل على تخصيص حكم العام بغير مورده، بل لا يتكفل سوى نفى حكمه
عن مورده، واختصاص حكم العام بغير مورده يكون بواسطة تمامية مقدمات
الحكمة، ومع صلاحية الخاص الأعم في نفسه للتخصيص لكون نسبته نسبة
384

الخصوص المطلق كان مانعا عن انعقادها. وقد أشير إلى هذه النكتة في
أجود التقريرات (1)، فلاحظ.
واما الايراد الثاني، فهو تام لو كان المحقق النائيني قد ساق الوجه دليلا على
المعارضة وانقلاب النسبة في الفرض، الا ان سوقه بنحو الدليل انفرد به
السيد الخوئي في تقريره دون المرحوم الكاظمي، فإنه ذكره دفعا لتوهم قد يذكر (2).
فلاحظ والأمر سهل.
الكلام في روايات ضمان العارية
وقد تعرض الاعلام بعد هذا المبحث إلى الكلام في روايات ضمان العارية،
وتكلموا في الجمع بينها، وفى انقلاب النسبة بين بعضها.
و الذي ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ان الروايات على
أصناف خمسة.
الأول: ما يدل على نفى ضمان العارية مطلقا (3).
الثاني: ما يدل على نفى ضمان العارية في غير الدرهم، واثباته فيه (4).
الثالث: ما يدل على نفى ضمان العارية في غير الدينار، واثباته فيه (5).
الرابع: ما يدل على نفى الضمان في غير عارية الذهب والفضة، واثباته في
عاريتهما (6).
الخامس: ما يدل على نفى الضمان في غير مورد الاشتراط، واثباته في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 2 / 519 - الطبعة الأولى.
(2) الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 4 / 744 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) وسائل الشيعة 13 / 237 باب 1، من أبواب احكام العارية الحديث: 10.
(4) وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3، من أبواب احكام العارية، الحديث: 3.
(5) وسائل الشيعة 13 / 239 باب 3، من أبواب احكام العارية، الحديث: 1.
(6) وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3، من أبواب احكام العارية، الحديث: 4.
385

مورده (1).
ثم ذكر بعد ذلك: ان نسبة ما يدل على ثبوت الضمان مع الشرط مع سائر
المخصصات نسبة العموم من وجه - لامكان أن يكون الاشتراط في غير عارية
الدرهم أو الدينار أو الذهب أو الفضة، وامكان ان تكون عارية أحدهما بلا اشتراط
- ومقتضى القاعدة - كما عرفت - تخصيص العام بجميع هذه المخصصات.
واما ما دل على نفى الضمان في غير الدرهم واثباته فيه، وما دل على نفى
الضمان في غير الدينار واثباته فيه، فهما بمنزلة دليل واحد، لان العقد الايجابي من كل
منهما يقيد العقد السلبي من الاخر، لأنه ينافيه وأخص منه، فيجمع بينهما كذلك
ويكونان بمنزلة دليل واحد، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دل على نفى
الضمان في غير عارية الذهب والفضة واثباته فيهما، لان النسبة بين العقد السلبي لهذا
الدليل وبين العقد الايجابي لما دل على نفى ضمان غير عارية الذهب والفضة هي
العموم من وجه - لان العقد السلبي لهذا الدليل مفاده نفى الضمان عن غير عارية
الدرهم والدينار سواء كان ذهبا أو فضة أو غيرهما.
والعقد الايجابي لذاك مفاده اثبات ضمان عارية الذهب والفضة سواء كان
درهما أو دينارا أو غيرهما من غير المسكوك - ويدور الامر بين رفع اليد عن أحد
الاطلاقين، ومقتضى القاعدة هو التساقط، الا انها غير تامة ههنا، لان رفع اليد عن
اطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضة في مورد المعارضة بالتساقط - يلزم
تخصيصه بالفرد النادر - لان إعارة الدينار والدرهم نادرة لعدم الانتفاع بها مع بقاء
عينها غالبا وهو مستهجن.
هذا محصل ما افاده السيد الخوئي في المقام (2)، وهو بعينه ما افاده الشيخ، الا

(1) وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3، من أبواب احكام العارية، الحديث: 3.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 396 - الطبعة الأولى.
386

انه (قدس سره) لم يتعرض لذكر أدلة نفى الضمان في غير مورد الاشتراط أصلا (1).
الا انه لا بد من التعرض إلى جهات أغفلها السيد الخوئي في كلامه:
الجهة الأولى: الجمع بين المخصصات أنفسها، لأنها - على النحو الذي ذكره
متنافية في مفادها. فان المدلول الايجابي لما دل على نفى الضمان في غير عارية
الاشتراط ينافي المدلول السلبي لباقي الأدلة المخصصة، وهي ما دل على نفى الضمان في
غير عارية الدرهم، وما دل على نفى الضمان في غير عارية الذهب والفضة، وما دل
على نفى الضمان في غير عارية الدينار. وهكذا المدلول السلبي لأدلة ضمان العارية مع
الاشتراط، فإنه ينافي المدلول الايجابي للأدلة الأخرى المذكورة.
وذلك لان أدلة ضمان العارية مع الاشتراط تقتضي بمدلولها الايجابي ضمان
العارية مع الاشتراط، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم، دينارا أو غير دينار،
ذهبا وفضة أو غيرهما، وذلك ينافي المدلول السلبي لأدلة نفى ضمان غير عارية
الدرهم، لأنها تقتضي بمدلولها السلبي نفى ضمان غير عارية الدرهم، سواء اشترط
الضمان أم لم يشترط، فيتنافيان في عارية غير الدرهم مع الاشتراط، فان أحدهما
يثبت الضمان فيه والاخر ينفيه.
وهكذا الحال بالنسبة إلى المدلول السلبي لأدلة نفى ضمان غير عارية الدينار،
ولأدلة نفى ضمان غير عارية الذهب والفضة.
وتقتضي أيضا بمدلولها السلبي نفي الضمان مع عدم الاشتراط، سواء كانت
العارية درهما أو غير درهم، دينارا أو غيره، ذهبا أو فضة أو غيرها.
وذلك ينافي المدلول الايجابي لما دل على ثبوت الضمان في هذه الموارد، إذ هو
باطلاقه يدل على ثبوته ولو مع عدم الاشتراط، فيحصل التنافي في عارية الدرهم أو
الدينار أو غيرهما من أنواع الذهب الفضة مع عدم الاشتراط.
ومع وجود التنافي بين نفس المخصصات لا يتجه تخصيص العام الفوق بها

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 460 - الطبعة القديمة.
387

اجمع - حكم به في مصباح الأصول (1) -، لما أشرنا إليه من عدم صلاحية الخاص
للتخصيص مع ثبوت المعارض له في بعض مدلوله، بل لا بد من علاج التعارض
بينها ثم يخصص العام بها بعد العلاج.
وعليه، فهي صالحة للتخصيص في مورد عدم التنافي، إذ هي متساقطة في
الجمع ومورد التنافي، فلا حجية لها فيه.
فالمقدار الخارج من العام هو موارد عارية الدرهم والدينار والذهب والفضة
مع الاشتراط، إذ هذا المقدار هو المتفق عليه في دلالة المخصصات المزبورة، وغيره
موضع التنافي.
الا ان ما ذكرناه من الجمع والنتيجة انما يتم بناء على ما افاده من تصنيف
الروايات إلى هذه الأصناف الخمسة بالنحو المذكور سلبا وايجابا.
واما على ما هو الصحيح في مفادها، فلا يتم ذلك، إذ مفادها ليس كما قرره
(حفظه الله)، فان ما دل على نفى الضمان في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب
والفضة واثباته فيها صرح فيه بأن ثبوت الضمان فيها أعم من صورة الاشتراط
وعدمه.
وعليه، فلا معارضة بين مدلولها الايجابي والمدلول السلبي، لما دل على نفى
الضمان في غير صورة الاشتراط، إذ يكون المدلول الايجابي لهذه الأدلة أخص مطلقا
من المدلول السلبي لذلك الدليل - للتصريح بثبوت الحكم في مورد المنافاة والنص
عليه، فلا تكون دلالته على ثبوت الحكم فيه بالاطلاق أو العموم كي يتعارض
الاطلاقان أو العمومان، بل بالنص والتعيين، وقد تقرر في محله ان نسبة الدليل العام
مع ذكر الافراد تعيينا تكون أخص من العام الاخر -، فيخصص به عموم المدلول
السلبي لدليل اعتبار الشرط في ثبوت الضمان، وترتفع المنافاة حينئذ.
واما المنافاة بين المدلول السلبي لهذه الأدلة والمدلول الايجابي لذلك الدليل

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 398 - الطبعة الأولى.
388

والمعارضة بينهما، فهي منتفية أيضا، لان استثناء ضمان عارية الدراهم والدنانير كان
بعد استثناء صورة الاشتراط من العام، فيكون استثناء عارية الدراهم والدنانير من
اختصاص الضمان بصورة الاشتراط، المستفاد من العام واستثناء صورة الاشتراط،
فالاستثناء كان من مفاد المجموع من المستثنى والمستثنى منه، وهو اختصاص الضمان
بصورة الاشتراط.
ويشهد له - مضافا إلى الظهور العرفي للكلام - نفى الفرق في عدم الضمان بين
صورتي الاشتراط وعدمه، فإنه تأكيد لمفاد الاستثناء من المجموع.
وعليه، فلا مدلول لأدلة ضمان عارية الدرهم والدينار كي ينافي ويعارض
المدلول الايجابي لدليل الضمان في صورة الاشتراط. وهكذا الحال لو قلنا بان
استثناء عارية الدرهم والدينار من أصل العام لا المجموع، فإنه وان ثبت المدلول
السلبي - وهو المستثنى منه - الا انه ورد عليه استثناء ان أحدهما المدلول الايجابي
للضمان في صورة الاشتراط، فلا تتجه دعوى المعارضة. لان المدلول السلبي ضيق
الدائرة من أول الامر بواسطة المدلول الايجابي، فلا يصلح للمعارضة لعدم شموله
لمورد المدلول الايجابي. وبعبارة أخرى: ان ذلك يكون من قبيل استثناء الامرين
معا، ولا يعقل في هذا الحال تنافى المستثنى منه مع المستثنى وتعارضه معه، فلاحظ.
واما عارية الذهب والفضة، فاستثناؤها وان كان مستقلا ومن العموم رأسا
بلا استثناء لصورة الاشتراط أصلا، الا انه حيث ينفى الفرق بعد الاستثناء بين
صورتي الاشتراط وعدمه، يستظهر منه بان ثبوت الضمان مع الاشتراط في غيرهما
من المفروغ عنه، فالمدلول السلبي - وهو العموم - وان كان عاما لغيرهما مع
الاشتراط، الا انه بقرينة نفى الفرق بعد استثنائهما بين صورة الاشتراط وصورة
عدمه يعلم بان المراد منه غير صورة الاشتراط، وان الضمان نفى صورة الاشتراط
مفروغ الثبوت، فتدبر.
وعليه، فيكون المقدار الخارج من العام الفوق بواسطة هذه المخصصات هو
389

موارد عارية الدرهم وعارية الدينار وعارية الذهب أو الفضة ولو مع عدم
الاشتراط، ومورد عارية غيرها مع الاشتراط.
وهذا وان كان يوافق مقتضى ما افاده السيد الخوئي في الجمع من تخصيص
العام الفوق بجميع هذه المخصصات. الا انه لا يتأتى الا بناء على ما عرفت من مفاد
الأدلة، لا بناء على ما ذكره من مفادها، فان الجمع بناء على ما افاده كما سبق لا كما
افاده.
الجهة الثانية: دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن اطلاق المدلول
الايجابي - لما دل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة بواسطة التساقط،
لمعارضته بالمدلول السلبي لما دل على ضمان عارية الدرهم والدينار، لتخصيص
المطلق بالفرد النادر المستهجن عرفا - بأنه لا استهجان في ذلك بعد فرض كون
المتكلم أثبت الحكم بدليل منفصل لهذا الفرد النادر، فلا يستهجن أن يكون ذلك
الدليل المنفصل قرينة على إرادة الفرد النادر من المطلق.
إذ لم يتعرض - في مصباح الأصول - إلى ذلك مع سبق التفصي، وكان
الأنسب التعرض لدفع التفصي لا ذكر ما ذكره الشيخ واهمال ما ذكر من التفصي
عنه.
وحاصل الاشكال على ما ذكر: ان الاشكال ليس من جهة استهجان ترتيب
الحكم على الفرد النادر كي يتفصى عنه بما ذكر، بل من جهة استعمال المطلق وإرادة
الفرد النادر منه، واستهجانه يرتبط بالقواعد العربية، فلا ينتقض بثبوت الحكم
للفرد النادر بدليل منفصل مع كون ارادته بلفظه لا بواسطة المطلق.
الجهة الثالثة: في بيان مناسبة التعرض لهذه المسألة في ذيل صورة وجود عام
فوق وعام آخر متصل بأخص الخاصين وخاص أعم منفصل - فإنه أهمل ذكر
هذه الجهة مع لزوم التعرض إليها، لوضوح كون المسألة فقهية، فلا بد من ذكر
مناسبة ذكرها في مثل هذا المجال من مجالات علم الأصول -
390

والوجه في ذكرها ههنا هو: وجود عام فوق، وهو ما دل على نفى ضمان
العارية مطلقا. وخاص أخص متصل بعام اخر، وهو ما دل على نفى الضمان الا في
الدراهم والدنانير. وخاص أعم، وهو ما دل على ثبوت الضمان في الذهب والفضة.
الا ان الكلام في تلك الصورة لا يجرى ههنا، إذ مع الالتزام في تلك الصورة
بما التزم به المحقق النائيني من انقلاب النسبة بلحاظ دلالة الخاص الأخص على
تخصيص المراد الجدي بغير مورده، لا يمكن الالتزام به هنا، لان ذلك انما يتم لو كان
الخاص الأعم منفصلا. وفى المقام ليس كذلك، إذ هو أيضا متصل بالعام، فان الدليل
لم يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة فقط، بل دل على نفى الضمان في
العارية الا فيهما.
وعليه، فكلاهما - أي الخاص الأخص والخاص الأعم - يدلان على
تخصيص حكم العام الفوق بغير موردهما في مرتبة واحدة، بلا وجه لتقدم لحاظ
أحدهما على الاخر، لكونهما بنحو واحد بالإضافة إلى العام الفوق.
وهكذا الكلام فيما دل على نفى الضمان الا مع الاشتراط.
فذكر هذه المسالة عقيب تلك الصورة ليس إلا لاجل المشابهة، لا لاجل
الاشتراك في الحكم، فلاحظ وتدبر.
الصورة الثانية - من صور المسألة - ما إذا ورد عامان ومخصص، وذلك
على انحاء ثلاثة:
الأول: أن يكون المخصص واردا على مورد الاجتماع والتنافي بين العامين،
فيكون مخصصا لهما، لكونه أخص مطلقا منهما، ويرتفع التعارض بينهما، وذلك نظير
ما لو ورد: " أكرم العلماء " وورد: " لا تكرم الفساق " ثم ورد: " يكره اكرام فساق
العلماء " فان الخاص يخصص كلا من العامين بغير مورده: وبذلك يرتفع التعارض
بينهما، إذ تعارضهما في مورد الخاص - أعني: فساق العلماء - فلاحظ.
الثاني: أن يكون المخصص واردا على مورد الافتراق من أحدهما، كما لو ورد:
391

" يستحب اكرام العلماء "، و " لا تكرم الفساق "، ثم ورد: " يجب اكرام عدول العلماء ".
وقد تقدم الكلام في هذا النحو في أوائل هذا البحث، فراجع.
هذا إذا كان المخصص مخرجا لتمام مورد الافتراق، كما في المثال المتقدم.
اما لو كان مخرجا لبعضه، كما لو كان المخصص في المثال: " يجب اكرام عدول
الفقهاء " فإنه بتقديم الخاص لا تنقلب النسبة بين العامين - في مورد الالتزام
بانقلابها في هذا النحو -
الثالث: أن يكون المخصص واردا على مورد الافتراق لكل من العامين
ومخرجا له، كما لو ورد: " يستحب اكرام العلماء " و: " يكره اكرام الفساق "، ثم ورد:
" يجب اكرام عدول العلماء "، و: " يحرم اكرام فساق الجهال ". والوجه هو تقديم كلا
الخاصين وتخصيص العامين بهما، فتنقلب النسبة بينهما إلى التباين، لاختصاص كل
منهما بعد تخصيصه بالعلماء الفساق، واحدهما يدل على استحباب اكرامه والاخر
يدل على كراهته.
ولا بد حينئذ من اجراء قواعد التعارض فيما بينهما بالخصوص.
الا ان السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ذهب إلى وقوع التعارض بين
الأدلة الأربعة العامين والخاصين، لان العلم الاجمالي الذي هو منشأ التعارض
يتعلق بكذب أحد الأربعة لا بكذب أحد العامين فقس (1).
وفيه: ما تقدم منا من الاشكال عليه من: ان العلم الاجمالي بنفسه لا يكون
منشأ للتعارض ما لم يكن في الأدلة اقتضاء الحجية، ونفى كون التعارض يكون بين
أكثر من دليلين لان معناه التنافي الراجع إلى نفى أحدها للباقي، وهذا ليس بثابت فيما
نحن فيه كما سبق فراجع تعرف.
الصورة الثالثة: ما إذا تعارض دليلان بالتباين وورد مخصص، وهو على
انحاء ثلاثة أيضا:

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 400 - الطبعة الأولى.
392

الأول: ما إذا كان المخصص مخصصا لأحدهما، فإنه يتقدم عليه وتنقلب
النسبة حينئذ بين العام المخصص والعام الاخر من التباين إلى العموم والخصوص
المطلق، فيخصص العام الاخر به، وذلك كما لو ورد: " أكرم العلماء " وورد: " لا تكرم
العلماء " ثم ورد: " أكرم العلماء العدول "، فان الأخير يخصص دليل: " لا تكرم
العلماء " بغير مورده، وهو العلماء الفساق، وحينئذ يكون أخص مطلقا من دليل:
" أكرم العلماء " فيخصصه أيضا بغير مورده.
ومن هذا الباب أدلة ارث الزوجة من العقار، فان منها ما يدل على ارثها منه
مطلقا (1)، ومنها ما يدل على عدم ارثها منه مطلقا (2)، ومنها ما يدل على ارث
خصوص أم الولد (3)، فإنه يخصص ما يدل على عدم ارثها مطلقا، فتنقلب النسبة
بين هذا الدليل وبين ما يدل على ارثها مطلقا، فيخصص به.
الثاني: أن يكون المخصص واردا على كل واحد منهما، مع عدم التنافي بين
المخصصين أنفسهما، فيخصص بهما كلا العامين وتنقلب النسبة بينهما إلى العموم من
وجه ويقع التعارض بينهما في مورد الاجتماع، نظير ما لو ورد: " أكرم العلماء " وورد:
" لا تكرم العلماء " ثم ورد: " أكرم النحويين " وورد: " لا تكرم الأطباء "، فان دليل:
" لا تكرم الأطباء " يخصص دليل: " أكرم العلماء " بغير الأطباء، ودليل: " أكرم
النحويين " يخصص دليل: " لا تكرم العلماء " بغير النحويين، فتكون النسبة بين
العامين بعد التخصيص العموم من وجه، إذ يفترقان في الطبيب غير النحوي وفى
النحوي غير الطبيب - إذ الأول مورد افتراق: " لا تكرم العلماء " والثاني مورد
افتراق " أكرم العلماء " - ويجتمعان في غير الطبيب وغير النحوي كالفقيه، فان
أحدهما يدل على حرمة اكرامه والآخر يدل على وجوبه.

(1) وسائل الشيعة 17 / 522 باب: 7 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث: 1.
(2) وسائل الشيعة 17 / 517 باب: 6 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث: 1 و 8.
(3) وسائل الشيعة
17 / 523 باب: 7 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث: 2.
393

الثالث: ان يرد المخصص على كل منهما ويكون بين المخصصين تناف، كما لو
دل دليل على وجوب اكرام العلماء، ودل اخر على حرمة اكرامهم، ودل ثالث على
وجوب اكرام عدولهم، ودل رابع على حرمة اكرام النحويين.
والموجود في مصباح الأصول: انه لا اثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه
في هذه الصورة، إذ على القول بانقلابها تكون النسبة بين دليل وجوب اكرام العلماء
ودليل عدم وجوب اكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأول وخروج العالم
العادل من الثاني هي العموم من وجه، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي،
ويفترقان في العالم العادل غير النحوي وفى العالم الفاسق النحوي، فيحكم بوجوب
اكرام العالم العادل غير النحوي وبعدم وجوب اكرام العالم الفاسق النحوي، ويرجع
إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في اكرام العالم العادل النحوي.
واما على القول بإنكار الانقلاب، يسقط العامان من الاعتبار رأسا ويؤخذ
بالخاصين، وحيث إن بينهما العموم من وجه يعمل بهما في مورد افتراقهما ويرجع إلى
الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع - وهو العالم العادل
النحوي - فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة انتهى (1).
ولا يخفى ما فيه، إذ يرد عليه:
أولا: ما تقدم من انه مع التنافي بين المخصصات بالعموم من وجه، لا وجه
لتخصيص العام بها قبل علاج التعارض الحاصل فيما بينها، كما ارتكبه ههنا في
مصباح الأصول.
وثانيا: انه مع تخصيص العامين بالخاصين بلا لحاظ تعارضهما قبلا، فلا
يكون مورد التنافي والاجتماع هو: العادل النحوي " في المثال المذكور كما ذكره، كي
ينتفى الفرق بين القولين القول بالانقلاب والقول بعدمه، إذ العادل والنحوي
خارجان عن كلا العامين بعد التخصيص، بل المجمع ومورد التنافي يكون هو الفاسق

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 402 - الطبعة الأولى.
394

غير النحوي.
وعليه، فلا ينتفي الفرق بين القولين، إذ مورد الرجوع إلى الأصول العملية أو
الترجيح والتخيير على القول بالانقلاب يكون الفاسق غير النحوي. وعلى القول
بعدمه يكون العادل النحوي. وذلك كاف في الفرق، فلاحظ.
نعم، على ما قررناه من لزوم معالجة المعارضة بين الخاصين قبل تخصيص
العام بهما، لا يكون هناك فرق عملي بين القولين.
وذلك لأنه بعد لحاظ المعارضة بين خاصين يتساقطان (1)، في المجمع وهو
" العادل النحوي "، فيكون مدلول أحدهما: " لا تكرم فساق النحويين " والاخر:
" أكرم عدول غير النحويين من العلماء "، وبعد ذلك يخصص بهما العامان بهذا المقدار،
فيكون مدلول أحد العامين: " أكرم العلماء الا فساق النحويين " ومدلول الاخر: " لا
تكرم العلماء الا عدول غير النحويين "، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه،
ومورد الاجتماع هو: " العادل النحوي والفاسق غير النحوي "، ومورد افتراق دليل
الوجوب: " العادل غير النحوي " فإنه غير مشمول لدليل الحرمة، ومورد افتراق
دليل الحرمة: " الفاسق النحوي " فإنه غير مشمول لدليل الوجوب.
ولا يخفى ان مورد افتراق كل منهما مشمول لمخصص الدليل الاخر، فان
" العادل غير النحوي " مشمول لدليل: " أكرم العدول غير النحويين " المخصص
لدليل: " وكذلك: " الفاسق النحوي "، فإنه مشمول لدليل: " لا
تكرم فساق النحويين " المخصص لدليل: " أكرم العلماء "،
فبالنسبة إلى موارد الافتراق لا يختلف الحال على القولين، لثبوت الحكم فيها
اما بواسطة العامين لو قلنا بانقلاب النسبة وحصول التعارض في المجمع فقط. أو

(1) هذا أحد فرض المسألة ومثله الكلام في الفرض الاخر - أعني فرض جريان الترجيح أو
التخيير بينهما - فإنه لا يفرق الحال بالنسبة إلى ثبوت الحكم في مورد الافتراق أو الاجتماع على
القولين وان تضيق مورد الاجتماع على هذا الفرض. فلاحظ تعرف. (المقرر).
395

بواسطة الخاصين لو لم نقل به وأخذنا بأحد العامين ترجيحا أو تخييرا، بلحاظ
حصول المعارضة في مجموع المدلول، إذ مورد افتراق العام الآخر المطروح يثبت له
الحكم بواسطة الخاص المخصص للعام المأخوذ به.
واما مورد الاجتماع، فالحال كذلك لا يختلف على القولين، لان الحكم في
المجمع على القول بانقلاب النسبة هو ترجيح أحد العامين مع وجود المرجح أو
التخيير بينهما، فيثبت فيه حكم أحد العامين، وكذلك على القول بعدم الانقلاب إذ
يثبت في المجمع حكم أحد العامين تخييرا أو ترجيحا، فتدبر.
هذا بناء على شمول الاخبار العلاجية الدالة على لزوم الاخذ بأحد
المتعارضين ترجيحا أو تخييرا لمورد العامين من وجه.
واما بناء على ما هو المشهور من عدم شمولها لموردها، فالفرق بين القولين
موجود فيما نحن فيه، إذ على القول بانقلاب النسبة يكون حكم العامين التساقط في
المجمع، فلا يثبت فيه حكم أحدهما. وعلى القول بعدم الانقلاب لا يكون الحكم
التساقط، لأنهما يكونان متباينين لا عامين من وجه، فتشملهما الاخبار العلاجية
فيكون المجمع مشمولا لاحد العامين، فلاحظ جيدا.
هذا تمام الكلام في صور انقلاب النسبة، ومنه يتضح الحكم فيما قد يفرض
من الصور.
ويقع الكلام بعد ذلك في حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية.
ولا بد من بيان مورد المعارضة، فنقول: انه بعد أن عرفت أن التعارض عبارة
عن التنافي الحاصل بين الدليلين في مقام الحجية، بمعنى أن يكون كل منهما مزاحما
للاخر في كسب الحجية لجانبه.
وهذا انما يتم في فرض ثبوت مقتضى الحجية في كل منهما، بمعنى أن يكون كلا
منهما موضوعا للحجية لولا المانع، وهو الدليل الاخر.
ومن هنا يظهر: انه يمتنع حصول التعارض في مورد يكون موضوع الحجية
396

ومقتضيها هو القطع أو الظن الفعلي، بمعنى انه في المورد الذي يكون ثبوت الحجية
لكلا الدليلين موجبا للتعارض لعدم امكان اجتماع حجيتهما اما ذاتا أو عرضا، يمتنع
حصول التعارض لو كان ملاك الحجية فيهما هو القطع أو الظن الشخصي بالمفاد،
لامتناع حصول اليقين بمفاد كلا الدليلين، أو الظن الفعلي به لفرض التنافي بينهما، اما
الذاتي أو العرضي فيكون من اليقين بالضدين أو الظن بهما وهو محال، مع لزوم ثبوت
مقتضى الحجية في نفسه ومع قطع النظر عن المعارض.
وعليه، فمورد المعارضة ما كان موضوع الحجية فيه هو الظن النوعي، إذ لا
يمتنع قيام الدليلين المقتضيين للظن النوعي على متنافيين، فيحصل التعارض بينهما.
لامتناع حجية كلا الدليلين بعد تنافي مدلوليهما.
وإذا حصل التعارض بين المدلولين - بمعنى التعارض بين أصالتي الظهور فيهما
- يسرى إلى السند - فيحصل التعارض بين دليل حجية سند كل منهما ودليل حجية
سند الاخر - لو كان قابلا للتعارض، كالسندين الظنيين - إذ بعد كون مفاد الخبرين
متنافيين يمتنع التعبد بسند كل منهما وصدوره، إذ مرجعه إلى التعبد بمؤدى الخبر،
والمفروض تنافيهما في المؤدى، إذ لا معنى للتعبد بخصوص الصدور بلا رجوع ذلك
إلى إيجاب العمل على طبق مؤداه، كما لا يخفى - دون القطعيين، إذ القطع بالصدور لا
يترتب عليه تعبد به كي يقال بامتناع التعبد بصدورهما مع تنافى مدلوليهما، لرجوع
التعبد بالصدور إلى إيجاب العمل على طبق مفاده ومؤداه، بخلاف الظن بالصدور
فإنه موضوع التعبد.
وحيث تصل النوبة إلى التعارض بين السندين، كان ذلك محل الكلام في
المقام. فيقع الكلام في تمامية دلالة النصوص الواردة في هذا المورد على أي حكم من
الأحكام من ترجيح، وتخيير، وتوقف واحتياط.
- وقد عرفت فيما سبق ان الذي تقتضيه القاعدة الأولية في المتعارضين هو
التوقف، بمعنى نفى الثالث، لتساقط الدليلين في دلالتيهما المطابقيتين دون الالتزاميتين
397

لعدم التنافي فيها بينها -
ولا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحال من تأسيس الأصل عند دوران الامر
بين الترجيح والتخيير بمعنى انه بعد فرض استفادة لزوم العمل بأحدهما
المتعارضين - وعدم جواز طرحهما معا ولكن لم يتعين بالأدلة أحد الامرين من
الترجيح والتخيير وشك في ذلك فهل مقتضى القواعد هو تعين الاخذ بما فيه المزية
والمرجح أو لا بل مقتضاها التخيير بينهما؟
وثمرته بأنه لو تم قيام القاعدة على الترجيح كفى ذلك دليلا عليه بمجرد
الشك في ثبوت أدلة التخيير بلا حاجة إلى إقامة الدليل الخاص عليه.
والتحقيق ان مقتضى القاعدة تعيين الاخذ بذي المزية والمرجح لأنه معلوم
الحجية على التقديرين دون الآخر لدوران الامر بين التعيين والتخيير.
وكون المسألة في موردها محل خلاف للمناقشة في كون الأصل هو التعيين
بأن القدر المتيقن من التكليف هو التكليف بالجامع، وغيره الزائد عليه مشكوك
فيه فأصالة البراءة تنفيه وهي معذرة فيثبت التخيير دون التعيين.
لا يضر فيما نحن فيه ولذا التزم بان الأصل فيما نحن فيه مقتضى الترجيح
من لا يلتزم بالتعيين في مسألة الاشتغال -
وذلك لان دوران الامر بين التعيين والتخيير هناك انما هو بالنسبة إلى الحكم
الشرعي الفرعي فأصالة البراءة يمكن دعوى جريانها في نفي التعيين.
واما في ما نحن فيه فالدوران بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى الحجية
والمفروض ان الأصل في باب الحجية مع الشك هو عدم الحجية وذلك ينتهى بنا فيما
نحن فيه إلى الترجيح بعكس أصالة البراءة في مسألة الاشتغال وذلك لأنه مع
احتمال لزوم الترجيح يكون غير ذي المزية مشكوك الحجية والأصل عدمها
فالامر يدور حينئذ بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ولا اشكال في لزوم
الاخذ بما هو مقطوع إذ مشكوك الحجية مساوق لمقطوع عدم الحجية.
398

الا ان هذا التقريب يتم لو قلنا بأن الحجية التخييرية فعلية كما لو كان مرجع
الحجية التخييرية إلى حجية العنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما فان كلا منهما
منطبق هذا العنوان أو قلنا انها معلقة على ترك الاخذ بالآخر ولكن عرفت
التشكيك في صحة هذين التصويرين للحجية التخييرية وان الوجه المعقول لها هو
تعليق الحجية على الاخذ بالخبر نفسه فيكون حجة على تقدير الاخذ به وقد
أشار إلى هذا الوجه غير واحد من الاعلام.
وعليه فلا مجال بناء على هذا القول - للتقريب المذكور - لعدم حجية كل
منهما قبل الأخذ به بناء على التخيير فقبل الأخذ بكل منهما لا يدور الامر بين ما
هو مقطوع الحجية ومشكوكها لان ذا المزية لا يكون حجة قطعا الا على القول
بالترجيح أو بعد الاخذ به وكلاهما غير متحقق لكنه مع هذا يتعين الاخذ بذي
المزية (1) بتقريب، انه بعد فرض وجوب الاخذ بأحدهما من باب حكم العقل

(1) تحقيق الكلام في المقام ان يقال إنه لا دليل من الخارج على لزوم الاخذ باحدى الحجتين
المتعارضتين من خبرين أو فتويين أو غيرهما مما يعلم بعدم سقوطهما معا عن الحجية
نعم قد يجب الاخذ بأحدهما مقدمة لتحصيل الحجة في بعض الموارد
توضيح ذلك أن لتعارض الحجتين صورا:
إحداها أن يكون مفادهما حكما خاصا مع وجود دليل عام يتكفل حكم جميع الافراد كما
لو ورد: " أكرم العلماء " ثم ورد: " لا تكرم النحويين " وورد: " أكرم النحويين ".
الأخرى أن يكون هناك علم اجمالي بالتكليف ويتعارض الدليلان في تعيينه.
الثالثة أن لا يكون هناك دليل عام ولا علم اجمالي بل التكليف محتمل بدوا ويتعارض
الدليلان في اثباته ونفيه.
اما الصورة الأولى فالأثر العملي لاثبات لزوم الأخذ بأحد الدليلين الخاصين انما يظهر لو
فرض ان محتمل الترجيح هو الدليل الخاص المخالف للعام وهو قوله: " لا تكرم النحويين " في
المثال المتقدم.
واما لو فرض انه هو الدليل الموافق للعام فلا اثر للزوم الاخذ بأحدهما لان نتيجته هو
الاخذ بالموافق وهو يتفق عملا مع طرحهما والرجوع إلى العام الفوقاني.
وكيف كان فلا دليل في مثل ذلك على لزوم الاخذ بأحدهما سوى ما قد يقال من لزوم
الفحص عن المخصص عند إرادة العمل بالعام والمفروض امكان تحصيل الدليل المخصص
بواسطة الاخذ به.
ولكنه غير سديد لان الثابت في بناء العقلاء إناطة العمل بالعام بالفحص عن المخصص
المحتمل الوجود وانه مع التمكن من استكشافه لا يجوز العمل بالعام.
واما لزوم ايجاد المخصص فهذا مما لم يثبت من بنائهم وما نحن فيه كذلك لان الاخذ بالدليل
محقق لحجيته فيكون مخصصا وبدونه لا يكون حجة ولا دليل على لزوم ايجاد الحجة على
التخصيص وانما الثابت هو لزوم الفحص عما هو حجة على التخصيص فانتبه.
واما الصورة الثانية فهي مما نلتزم فيها بلزوم الاخذ بأحد الدليلين لمن لا يريد الاحتياط
بل يريد الاقتصار على بعض المحتملات إذ لا بد في تعيينه أحد المحتملات من استناده إلى حجة
تستلزم انحلال العلم الاجمالي حكما، فيلزمه الاخذ بأحد الدليلين.
ولكن لا يمكن الاستناد إلى هذا البيان في باب التقليد إذا دار امر المجتهدين بين التعيين
والتخيير والحكم بلزوم تقليد محتمل التعيين كما لو كان أحدهما أورع واحتمل تعين تقليده
وذلك بان يقال ان المكلف قبل تقليده يعلم اجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فلا بد في الخروج عن
عهدتها مع عدم الاحتياط من الاستناد في عمله إلى حجة فيلزمه الاخذ بفتوى أحد
المجتهدين ويتعين عليه قول محتمل الترجيح للجزم بحجيته على تقدير الاخذ به بخلاف قول
الآخر.
والسر في عدم صحة هذا القول هو ان الدوران المزبور بين القولين انما هو في موارد
الاختلاف اما مع الاتفاق فلا تعارض كي يدور الامر بينهما فيكون كل منهما حجة.
وبما أن موارد الاتفاق كثيرة بحد ينحل العمل الاجمالي بها ففي مورد الاختلاف لا يكون
هناك علم اجمالي، بل ليس إلا احتمال التكليف احتمالا بدويا، فيكون المورد من موارد الصورة
الثالثة.
وقد يدعى فيها عدم جريان البراءة للزوم الفحص عن الحجة ومع امكان تحصيلها - كما في
المقام بواسطة الأخذ بأحدهما - لا يمكن التمسك بالبراءة العقلية.
ولكن هذا الكلام ممنوع بان اللازم هو الفحص عن الحجة المحتملة الوجود لا ايجاد الحجة
وما نحن فيه من الثاني لا الأول كما عرفت في الصورة الأولى، فما نحن فيه نظير وعظ الراوي
الفاسق ليصير عادلا فيصير خبره حجة، فإنه مما لا يتوهم انه واجب من باب لزوم تحصيل
الحجة. اذن فقبل الاخذ بأحدهما لا حجة شرعا على التكليف لعدم الجزم بالتعيين فيكون
المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
هذا تمام الكلام في دوران الامر بين التعيين والتخيير في باب الحجج والأدلة على الطريقية
واما على السببية فقد عرفت رجوع التعارض إلى التزاحم وقد عرفت تحقيق الحال في
دوران الامر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم في مباحث اجتماع الامر والنهى فراجع.
ولكن الذي ذكرناه هناك يرتبط بدوران الامر بين التعيين والتخيير في المتزاحمين بناء على
كون التزاحم هو التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال مع وجود الاطلاق لكلا الحكمين بحيث
يرجع التخيير إلى تقييد اطلاق كل منهما بترك امتثال الآخر وبناء على ما نسب إلى الكفاية من
كون التزاحم هو التنافي في المقتضيين مع عدم تكفل الدليلين للحكم الفعلي بحيث يكون الامر
بأحدهما المعين أو التخيير بينهما بحكم العقل من باب لزوم تحصيل الفرض الملزم.
واما بناء على كون التخيير بينهما بحكم الشارع بدعوى سقوط كلا الدليلين واستكشاف
حكم شرعي آخر بالتخيير بينهما فلم نتكلم فيه ولا بأس بتحقيقه بنحو الاجمال فنقول ان
مرجع دوران الامر بين التعيين والتخيير على هذا المبنى إلى دوران الامر بين التعيين والتخيير
في الحكم الشرعي في المسألة الفرعية.
وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر تحقيقه مفصلا.
وقد قربنا هناك الالتزام بالبراءة على جميع محتملات الوجوب التخييري.
لكن التحقيق انه لو التزمنا في حقيقة الوجوب التخييري انه سنخ وجوب وسط بين
الوجوب التعييني والاستحباب، والتزمنا بأن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب لا يرجع
إلى الاختلاف في البعث والإرادة شدة وضعفا بل هما ينتزعان عقلا عن ترخيص المولى في
الترك وعدمه لان كل طلب يجب موافقته عقلا إذا لم يرخص المولى في الترك - كما عليه المحقق
النائيني -
كان المتعين فيما نحن فيه هو الاحتياط وذلك لان مرجع الوجوب التخييري على هذا المبنى
إلى الطلب الذي حكم الشارع بالترخيص في عدم امتثاله إلى بدل، فمن ملاحظة ذلك ينتزع
العقل الوجوب التخييري للشئ في قبال التعييني المنتزع من الطلب مع عدم الترخيص في
الترك مطلقا والاستحباب المنتزع عن الطلب مع الترخيص في الترك مطلقا فإذا تعلق الطلب
بشئ وشك في التخيير بينه وبين غيره فمرجع ذلك إلى الشك في ترخيص الشارع في تركه إلى
بدل وعدمه.
ومن الواضح ان العقل - على هذا المبنى - يحكم بلزوم الامتثال والاتيان بمتعلق الطلب ما لم
يحرز الترخيص فمع عدم احرازه يتعين موافقته وعدم جواز مخالفته فتدبر تعرف.
399

بوجوب تحصيل الحجة على الحكم للعلم الاجمالي فمع الاخذ بذي المزية يعلم
بحصول الحجة على الواقع اما من جهة انه حجة في نفسه لو ثبت الترجيح ثبوتا أو
401

من جهة الاخذ به لو ثبت التخيير.
واما مع الاخذ بغير ذي المزية فلا يعلم بتحصيل الحجة لاحتمال لزوم
الترجيح فالأخذ بذي المزية متعين بحكم العقل فلاحظ.
وبعد هذا لا بد في تحقيق الحال في حكم المتعارضين بحسب المستفاد من
النصوص.
وقد التزم الشيخ (قدس سره) بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى (1).
وأنكر لزومه صاحب الكفاية (قدس سره) والتزم باستحبابه وان الوظيفة
في الخبرين المتعارضين هي التخيير.
بدعوى أن اخبار الترجيح قاصرة الشمول للمورد لخروجه موضوعا عنها.
ولو تنزل عن ذلك فلا بد من الالتزام بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما
دل على التخيير مطلقا.
توضيح ذلك: ان الخبر الجامع لمزايا الترجيح هو المقبولة (2)، والمرفوعة (3)،
وهما مع غض النظر عما بينهما من الاختلاف في المفاد، لتقديم الترجيح بصفات
الراوي على الشهرة في الأولى وتأخيره عنها في الثانية - يختصان بمورد التحاكم
وفصل الخصومة ودلالتها على لزوم الترجيح في مقام الافتاء محل اشكال
خصوصا بملاحظة ان ارتفاع الخصومة مع التعارض لا يكون الا بالترجيح لان
التخيير لا يحل النزاع كما لا يخفى.
ولا يبقى معها مجال دعوى دلالتها على الترجيح في مقام الفتوى بوحدة
الملاك لوجود الفرق الفارق بين المقامين.
ومع التنزل عن ذلك بادعاء عدم الخصوصية لمورد التحاكم وان التعرض

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 450 - الطبعة القديمة.
(2) وسائل الشيعة 18 / 75 باب: 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
(3) غوالي اللئالي 4 / 133 الحديث 299.
402

إليه لأنه مورد السؤال فهي ظاهرة في مورد التمكن من لقاء الإمام (عليه السلام)
ولأجله لم يرجع إلى التخيير مع فقد المرجح فلا تصلح لتقييد اطلاقات التخيير في
زمان عدم التمكن من لقائه (عليه السلام) كزماننا الذي نحن فيه.
واما الاخبار الأخرى الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة
فكونها من اخبار ترجيح أحد المتعارضين على الآخر محل اشكال بل الظاهر أنها
من باب تمييز الحجة عن اللا حجة فيخرج عن باب التعارض لاشتراط اشتمال
كلا الخبرين على مقتضى الحجية في تحققه بدعوى أن الخبر المخالف للكتاب أو
الموافق للعامة بنفسه لا يكون حجة كما تشير إلى ذلك هذه الأخبار المتضمنة
لكون مثل هذا الخبر زخرفا وباطلا ونحوهما لا انه لا يكون حجة فعلا بواسطة
المعارض الأقوى.
والذي تحتمله عبارة الكتاب في تقريب هذه الدعوى أحد وجوه ثلاثة:
الأول: ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بملاحظة وجود الخبر
الموافق للكتاب أو الخبر المخالف للعامة الموثوق بصدوره يحصل الاطمئنان بوجود
خلل اما في صدوره أو جهته أو ظهوره فيحصل العلم بعدم حجيته في مورد
المعارضة هذا امر ارتكازي أرشدت إليه الروايات الدالة على أن مثل هذا الخبر
زخرف أو انه لم نقله، ونحو ذلك مما يدل على عدم حجية الخبر في نفسه في هذا
المورد.
الثاني: ان عدم حجية مثل هذا الخبر انما هو باعتبار دلالة هذه الأخبار على
ذلك بلحاظ لسانها المذكور لا باعتبار الاطمئنان الخارجي لعدم حجيته كي
تكون دلالتها ارشادية ولا يختص ذلك بمورد المعارضة، لظهورها في أن مجرد المخالفة
للكتاب والموافقة للعامة هي الموجبة لعدم حجية الخبر وكونه باطلا وزخرفا بلا
خصوصية لمورد المعارضة.
الثالثة انه يحصل الاطمئنان بواسطة هذه الأخبار بعدم حجية الخبر المخالف
403

للكتاب أو الموافق للعامة في مورد المعارضة، فالاطمئنان يحصل من هذه الأخبار،
لا انه حاصل من الخارج والاخبار مرشدة إليه.
والذي تحصل: ان اخبار الترجيح لا تشمل موضوعا مورد الخبرين
المتعارضين الذي نحن فيه. ولو تنزل عن ذلك وقيل بشمولها لما نحن فيه، فلا بد من
التصرف فيها بحملها على الاستحباب، إذ تقييد مطلقات التخيير بها يستلزم
تخصيصه بالفرد النادر - لندرة كون الخبرين متساويين في جميع المزايا - وهو
مستهجن، فطريق الجمع هو حمل اخبار الترجيح على الاستحباب لا اللزوم. هذا
محصل ما ذكره صاحب الكفاية (رحمه الله) (1).
وقد نوقش في كلامه بجهاته..
اما ما ذكره في كون المقبولة واردة في مورد التحاكم فلا تشمل غيره من
الموارد..
فوجه المناقشة فيه: ان صدر الرواية في المقبولة وان كان ظاهرا في كون
الترجيح في مقام الحكومة، الا ان ما بعده ظاهر في كون الترجيح بين الروايتين بلا
لحاظ هذا المقام بل مطلقا.
واما ما ذكره من ظهورها في مورد التمكن من لقاء الإمام (عليه السلام)
فيختص الحكم بذلك..
فوجه المناقشة فيه (2): انه بمناسبة الحكم والموضوع يعلم بعدم الفرق في
الترجيح بين زمان الحضور وغيره، إذ من المعلوم أنه لا وجه لكون الشهرة أو
غيرها مرجحا في زمان دون اخر كما لا يخفى.
واما ما ذكره في غيرها من اخبار الترجيح وانها من باب تمييز الحجة عن

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 443 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) سيأتي في تحقيقه - دام ظله - عدم صحة هذه المناقشة ورجوع جميع نصوص المقام إلى
تمييز الحجة عن اللا حجة. فراجع.
404

اللا حجة.
فقد نوقش فيه: بأن بعض الاخبار وان كانت ظاهرة في التمييز، الا ان هناك
غيرها مما هو ظاهر في مقام ترجيح الحجة على الحجة، لا في مقام التمييز.
فلا بد ان تحمل هذه الأخبار على إرادة المخالفة لنص الكتاب كالمخالفة بنحو
التباين الكلى، إذ من المعلوم وجدانا تخصيص كثير من عمومات الكتاب بالاخبار،
فيكون هذا العلم قرينة على هذا الحمل وتحمل الاخبار الأخرى الظاهرة في
الترجيح على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب، كالمخالفة بنحو العموم والخصوص ونحوه،
فدلالة هذه الأخبار تامة، بعد الجمع المذكور.
وهذا الجواب هو المناسب للاحتمال الثاني لكلامه (رحمه الله)، لا ما أجيب به
من: بطلان دعوى حصول الاطمئنان، لوجود خلل في الخبر الموافق للعامة
لموافقتنا لهم في كثير من الاحكام، فلعل ما يؤديه الخبر من موارد الموافقة (1)، فان
هذا الجواب انما يتناسب مع الاحتمال الأول والثالث كما لا يخفى، فلاحظ.
واما ما ذكره من انه مع الالتزام بشمول هذه الأخبار موضوعا لما نحن فيه،
لا بد من حملها على الاستحباب لاستلزام تقييد مطلقات التخيير بها إرادة الفرد
النادر من المطلق..
فوجه المناقشة فيه: ان ذلك انما يلزم مع الالتزام بالترجيح بغير موافقة
الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات المنصوصة وغيرها. اما مع الالتزام بالترجيح
بخصوصهما دون غيرهما، فموارد التخيير كثيرة لكثرة موارد التساوي في
الخصوصيات، فلاحظ.
هذا مجمل المناقشة المذكورة في كلمات الاعلام (قدس سرهم) لكلام
صاحب الكفاية (رحمه الله)، الا ان المقام يستدعى زيادة في التحقيق والدقة، فلا
كفاية بالنحو الذي انهى به صاحب الكفاية ومجيبوه الكلام، فلا بد من تحقيقه من

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 408 - الطبعة الأولى.
405

استعراض الأخبار الواردة في المورد والانتهاء بما يقتضيه الذوق والصناعة منها،
فنقول - وبه الاعتصام -: الاخبار على طوائف خمس:
الأولى: ما ظاهره لزوم الترجيح ببعض المزايا، كالشهرة وموافقة الكتاب
ومخالفة العامة (1).
الثانية: ما ظاهره جواز التخيير والاخذ بأيهما شاء (2).
الثالثة: ما ظاهره لزوم الاحتياط، يعنى الاخذ بالأحوط (3).
الرابعة: ما ظاهره لزوم التوقف (4).
الخامسة: ما ظاهره لزوم الترجيح بأحدث الخبرين (5).
اما طائفة الترجيح بالشهرة ونحوها، فهي اخبار كثيرة..
والجامع منها للمرجحات خبران: مقبولة عمر بن حنظلة، ومرفوعة زرارة
المروية في غوالي اللئالي.
اما مقبولة ابن حنظلة (6)، فمع الغض عن سندها - وان عبر عنها بالمقبولة (7)
- لا تصلح للدلالة على الترجيح في مورد تعارض الخبرين لجهات:
الأولى: ان الجري العرفي في حل المخاصمات لا يتناسب والتحاكم عند رجلين
يرتضيهما كلا المتداعيين، إذ لا تنحل الخصومة مع اختلافهما، ففرض التحاكم عند

(1) وسائل الشيعة 18 / 84 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 29.
(2) وسائل الشيعة 18 / 87 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 40.
(3) وسائل الشيعة 18 / 111 باب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 1.
(4) وسائل الشيعة 18 / 75 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 1.
(5) وسائل الشيعة 18 / 79 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 17.
(6) وسائل الشيعة 18 / 75 باب: 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث: 1.
(7) وذلك لأنه لو كان المراد بها ثبوتها عند الأصحاب يعنى انجبار ضعف سندها بالشهرة
والاعتبار، لكان ذلك وجها لاعتبارها سندا. ولكن مقبوليتها انما كانت باعتبار صفوان بن يحيى
وهو كما قيل من أصحاب الاجماع، أي الذي اجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وذلك
غير مسلم عند الكل حتى من يلتزم بانجبار ضعف الرواية بالشهرة. (المقرر).
406

رجلين في الرواية لا يعلم له وجه بحسب المجرى العرفي. ولو أريد - كما هو الظاهر
من النص - الرجوع إلى ما يتفقان عليه، فمع الاختلاف لا يكون كل منهما حجة في
حكمه، فلا معنى للسؤال عن الترجيح.
الثانية: ان المفروض في الرواية (1). والمسلم عند الفقهاء، انه لاحق لمجتهد
الحكم على خلاف ما حكم به مجتهد اخر، فكيف يتصور ثبوت حكمين منهما
مختلفين؟!، بل لا بد لأحدهما من امضاء حكم الاخر الذي قد حكم أولا.
الثالثة: انه مع صلاحية كل منهما لفصل الخصومة، لا يتصور عدم عثوره على
الرواية المعارضة لما استند إليه، مع فرض كون الحاكم الاخر من الرواة، كما هو
الشأن في المجتهدين في زمان الحضور، إذ عدم عثوره عليها يعنى تقصيره في
الفحص، ومعه لا يجوز له القضاء والحكم، ومع عثوره عليها كيف يحكم على
إحداهما بلا ملاحظة ما هو الحكم عند التعارض؟!.
الرابعة: انه من المتسالم عند الفقهاء انه لاحق للمتخاصمين الفحص عن
مستند حكم الحاكم، بل لا بد من التعبد به كيفما كان، فكيف يفرض امر الإمام (عليه السلام) لهما بالفحص عن المستند؟!.
الخامسة: ان الرواية أولا وآخرا انما تدل على ترجيح أحد الحكمين على
الاخر، لا إحدى الروايتين على الأخرى، كما يدل عليه قوله (عليه السلام): " الحكم
ما حكم به أعدلهما.. " وقوله (عليه السلام): " فيؤخذ به (يعنى بالمجمع عليه) من
حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور "، وقوله (عليه السلام): " ينظر ما وافق
حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب.. ".
السادسة: انه لو سلم كونها في مقام ترجيح احدى الروايتين على الأخرى،
فهي ظاهرة في مقام عدم كون التعارض بين السندين - كما هو مفروض البحث -،
بل التعارض في مقام آخر.

(1) بقوله (عليه السلام): الراد عليه كالراد على الله.
407

وقد تمسك السيد الخوئي لذلك باطلاق المشهور على أحد الخبرين، فان لفظ
الشهرة لغة بمعنى الوضوح المساوق للاطمئنان والعلم العادي.
وهذا يعنى: ان المشهور مقطوع الصدور وغيره مقطوع عدم الصدور،
واستشهد لذلك بقوله (عليه السلام): " فان المجمع عليه لا ريب فيه "، فان نفي الريب
ظاهر في حصول العلم بالمجمع عليه، وقوله هذا ظاهر في كونه إشارة إلى امر
ارتكازي عرفي، وبقوله: " امر بين رشده وأمر بين غيه.. "، فان تطبيق بين الرشد
على المجمع عليه ظاهر في كونه مجزوم الحجية، ومعه فإذا كان كلا الخبرين
مشهورين كانا مقطوعي السند فلا تعارض بين السندين (1).
الا انه يشكل: بان المراد بالشهرة لو كان هو الشهرة في روايته عن شخص
الإمام (عليه السلام) بحيث يكون الراوي عن الامام متعددا، كان ما ذكر في محله،
لأنه يكون من قبيل المتواتر.
وان كان هو الشهرة عن شخص راو عن الإمام (عليه السلام) بحيث يتحد
الراوي عن شخص الامام مباشرة ويتعدد الرواية عن هذا الراوي، لم يتم ما ذكر، إذ
لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر بل يكون كغيره من الاخبار. ولا دليل (2) على
إرادة الأول، إذ اطلاق الشهرة على النحو الثاني متعارف.
واما قوله: " لا ريب فيه "، فلا يصلح شاهدا لما ذكر، إذ يمكن أن يكون المراد

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 412 الطبعة الأولى.
(2) قرب دام ظله في الدورة الثانية إرادة الشهرة بالمعنى الأول أعني الشهرة في الطبقة الأولى
الرواية عن الإمام (عليه السلام) ببيان انه مضافا إلى كونه ظاهر النص لظهور قوله " قد رواهما
الثقات عنكم " في ذلك أن الشهرة في الطبقات اللاحقة المتوسطة مع وحدة الراوي عن الإمام (عليه السلام)
لا يستلزم ترجيحا في جانب السند إذ هو لا يزيد على السماع من الراوي عن
الإمام (عليه السلام) مباشرة فغاية الامر يقطع برواية زرارة مثلا عن الإمام (عليه السلام) اما
صدور الحديث عنه (عليه السلام) فلا يرتبط بالشهرة مع أن النقل عن الإمام (عليه السلام)
بوسائط كان قليلا في تلك العصور، ولذا إن ثبت إرادة الشهرة عن الإمام (عليه السلام) مباشرة
كان ذلك مستلزما للقطع بصدور النص فلا يرتبط بترجيح جانب السند بالشهرة فتدبر.
408

به نفي الريب عنه بالنسبة إلى غير المشهور لا في نفسه، وذلك بقرينة تثليث الأقسام
فيما بعد واطلاق المشتبه على غير المشهور، فإنه يقتضى كونه مشكوك الصدور لأنه
مما يعلم عدم صوره.
فالأولى في الاستدلال على المدعى بما يفرضه الراوي من معرفة كلا الحكمين
حكميهما من الكتاب والسنة، فإنه ظاهر في أن مستنديهما هما الكتاب والسنة - وهما
امران قطعيان بلا اشكال -، وانه لا اشكال من ناحية الصدور ومنشأ الحكمين،
وانما الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في الاستظهار من الكتاب والسنة.
فالترجيح (1)، بعد هذا لا يكون في مقام السندين، بل في مقام آخر غيرهما، إذ لا
شك في السندين.
ثم إنه (2) بعد أن لم يعين إرادة النحو الثاني من لفظ المشهور، بل كان اللفظ
مطلقا، استفيد من اطلاقه امكان إرادة كلا النحوين، ومع هذا - أعني: إرادة كلا
النحوين من المشهور بمقتضى الاطلاق - لا بد من أن لا يفرض الترجيح في مقام
السند وبلحاظ التعارض فيه، إذ بعض افراد المشهور لا تعارض فيه في مقام السند
للقطع بصدور أحدهما.
وبالجملة: فالمقبولة لا تصلح للتمسك بها على المدعى لا بلحاظ سندها ولا
دلالتها.
والعجب ان الشيخ (رحمه الله)، قد أشار إلى بعض جهات الاشكال فيها، ثم
التزم بصراحتها في لزوم الترجيح بين الروايتين، وأتعب نفسه الزكية في الجمع
الدلالي بينها وبين المرفوعة (3).
واما مرفوعة زرارة، فالكلام حول دلالتها لا يغني ولا يسمن من جوع،

(1) هذا بالنسبة إلى الترجيح بما بعد الشهرة.
(2) هذا بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 447 - الطبعة القديمة.
409

لضعف سندها حتى أنه ضعفها سندا من لا عادة له بتضعيف الاخبار والقدح
بسندها، وهو صاحب الحدائق.
واما الاخبار الأخرى..
فاما ما يتكفل الترجيح بخصوص مخالفة العامة وطرح الموافق لهم فهو وان
كان متعددا وتام الدلالة الا انه مخدوش السند لروايته عن رسالة القطب الراوندي
بسنده الصحيح الا انه نقل عن النراقي التشكيك في صحة نسبة هذه الرسالة إلى
شخص الراوندي ولم تثبت شهادة غيره بصحة نسبتها إليه بمستند قطعي - حتى
صاحب الوسائل فإنه يذكر طرقا أربعة يتوصل بها إلى اثبات نسبة الكتاب إلى
صاحبه -.
ومن هنا يظهر الوجه في ما نقل عن المحقق الحلي من انه لا وجه للترجيح
بمخالفة العامة - وثبوت مسألة علمية كهذه - برواية رويت عن الإمام الصادق
(عليه السلام) إذ بعد أن عرفت الشك في ثبوت الروايات المنسوبة إلى القطب فلا
يبقى ما يصلح للدلالة على الترجيح بمخالفة العامة الا المقبولة وقد عرفت ما فيها
وما في الاستدلال بها فكيف يستند إليها في مثل هذه المسألة المهمة فلا وجه لما
أنكر عليه المتأخرون بدعوى وجود الروايات على ذلك البالغة حد الاستفاضة
المعتبرة سندا ودلالة. وقد أناط اللثام عن ذلك المحقق الأصفهاني (1).
واما ما يتكفل الترجيح بموافقة الكتاب وطرح المخالف له.
فمنه ما هو ظاهر في عدم حجية المخالف للكتاب في نفسه الا انه قد عرفت
حمله على إرادة المخالفة لنص الكتاب، كالمخالفة بنحو التباين الكلى بقرينة العلم
بثبوت تخصيص وتقييد بعض عمومات ومطلقات الكتاب بالاخبار.
ومنه ما قد يظهر - كما ادعي - في مقام الترجيح في مورد أصول الدين لا
فروعه.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 167 - الطبعة الأولى.
410

واما ما يظهر منه الترجيح - لا تمييز الحجة عن اللا حجة - في مورد الفروع -
لا الأصول - المحمول على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب كالمخالفة بالعموم
والخصوص فهو (1) أربع روايات: المقبولة والمرفوعة ورواية عن رسالة القطب
ورواية عيون الاخبار عن الإمام الرضا (عليه السلام) اما الأوليان فعدم صحة
الاعتماد عليهما ظاهر مما تقدم وكذلك الثالثة واما رواية عيون الاخبار فهي وان
كانت بالمقدار الذي يذكر منها شاهدا وافية الدلالة الا انه بملاحظة صدرها (2).
يتضح عدم كونها واردة في مقام تعارض الخبرين بل في مقام آخر فلا تصلح
للاستدلال.
وبذلك يتحصل انه لا يمكن التمسك بشئ من الاخبار على الترجيح فتدبر
واما التوقف فالذي يتمسك به له روايتان أحدهما المقبولة.
والأخرى رواية سماعة بن مهران المروية في الاحتجاج: " قال قلت لابي
عبد الله (عليه السلام) يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ والآخر ينهانا؟
قال: لا يعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسئل قلت لا بد ان نعمل بواحد
منهما؟ قال خذ بما فيه خلاف العامة " (3).
والأولى مع ما عرفت ما فيها وان موردها الحكمان لا الروايتان، حدد فيها

(1) بل التحقيق انه لا بد من حمل النص الوارد في ترجيح الموافق على المخالف للكتاب على
تمييز الحجة من اللا حجة لا ترجيح احدى الحجتين على الأخرى وذلك أولا لما تقرر في محله
من أن لفظ المخالفة لا يظهر منه المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه اما المخالفة بنحو الاطلاق
أو التقييد أو العموم والخصوص فهو مما لا يعد مخالفة عرفا.
وثانيا ان الغالب في الروايات المتعارضة هو ما يرد منها في أبواب العبادات وليس في
الكتاب الكريم عمومات أو اطلاقات بالنسبة إليها فلا يتصور المخالفة من هذه الجهة لعدم
الموضوع فلا معنى لحمل الاخبار المتكفلة للترجيح عليها بل لا بد من حملها على المخالفة
بالتباين ومثله يكون الخبر ساقطا عن الحجية في نفسه فتدبر.
(2) وسائل الشيعة 18 / 81 باب: 9 من أبواب صفات القاضي الحديث: 21.
(3) وسائل الشيعة 18 / 88 باب: 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 42.
411

التوقف بلقيا الإمام (عليه السلام) فهي تختص بزمان الحضور لا الغيبة كزماننا.
والثانية ضعيفة السند مع معارضتها بالمقبولة لكون الحكم فيها بالتوقف
من أول الامر والحكم بالترجيح بعد عدم امكانه والحكم في المقبولة بالتوقف بعد
فقد المرجح مضافا إلى تحديد التوقف بلقيا الإمام (عليه السلام) فهي مختصة أيضا
بزمان الحضور.
واما الاحتياط فروايته مرفوعة زرارة وقد عرفت ما في الاستدلال بها،
فلا نعيد.
واما ما ظاهره لزوم الترجيح بالأحدثية فهو روايات:
الأولى: رواية الحسين بن مختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه
السلام): " قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه
بأيها كنت تأخذ؟ قال كنت آخذ بالأخير فقال لي: رحمك الله تعالى " (1).
الثانية رواية أبى عمرو الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) وهي توافق
في المضمون الرواية الأولى لكن زيد فيها: " أبى الله الا ان يعبد سرا اما والله لئن
فعلتم ذلك أنه لخير لي ولكن أبى الله لنا في دينه الا التقية " (2).
الثالثة رواية محمد بن مسلم قال: " قلت لابي عبد الله (عليه السلام) ما بال
أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتهمون
بالكذب فيجئ منكم خلافه؟ قال إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (3).
الرابعة رواية المعلى بن خنيس: " قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) إذا
جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟ قال خذوا به حتى
يبلغكم عن الحي فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله قال: ثم قال أبو عبد الله (عليه

(1) وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9، من أبواب صفات القاضي الحديث 7.
(2) وسائل الشيعة 18 / 79 باب 9، من أبواب صفات القاضي، الحديث 17.
(3) وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9، من أبواب صفات القاضي الحديث 4.
412

السلام): انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم " (1).
وهذه الروايات لا تصلح للدلالة على المدعى.
اما الأوليان (2)، فالمفروض فيهما هو القطع بصدور كلام الحديثين لان

(1) وسائل الشيعة 18 / 78 باب 9، من أبواب صفات القاضي الحديث 8.
(2) تحقيق الكلام في هاتين الروايتين من حيث مدلولهما ان يقال ان ظاهرهما كما أشير إليه
في المتن - كون الحكمين المختلفين صادرين من نفس الإمام (عليه السلام) مشافهة، فالالزام
بالأخذ بالمتأخر لا يرتبط بترجيح سند احدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى وتعيين
صدورها فهما أجنبيتان عن محط الكلام، لكن لو تم مدلولهما وسندهما أشكل الاخذ بهما على
ظاهرهما وذلك لان مرجع مفادهما إلى بيان ان الحكم السابق ليس حكما واقعيا يلزم الاخذ به
وانما هو حكم صوري اقتضت المصلحة بيانه مؤقتا.
وبما أن مطلق الروايات المتكفلة للحكمين المختلفين في زمن الصدور إذ لا تصدر الروايتان
منهما في آن واحد عادة بل تكون أحدهما متقدمة زمانا على الأخرى فمقتضى هذه النصوص
ان احدى هاتين الروايتين وهي السابقة - صدرت لغير الحكم الواقعي فإذا علم بالسابقة من
الروايتين كانت معلومة البطلان وان اشتبه الحال كما في الروايتين الصادرتين من امام واحد
كان المورد من اشتباه الحجة باللا حجة لان إحداهما الواقعية المعينة معلومة البطلان ولكنها غير
مميزة.
وعلى هذا لا يبقى للتعارض مورد أصلا وهو خلاف النصوص الأخرى التي تفرض
للتعارض موضوعا وخلاف الضرورة من الصدر الأول إلى الآن فان وجود التعارض بين
الروايات هو من الأمور المفروغ عنها بين الكل فمدلول هذه النصوص مما يصطدم مع الضرورة
فلا يمكن الركون إليه
ومع الغض عن هذا الاشكال نقول إن لزوم الاخذ بالأحدث لا وجه له الا التقية
اما في الحكم السابق وارتفاعها فعلا فيتعين الاخذ باللاحق لارتفاع العارض.
واما في الحكم اللاحق لاقتضاء التقية رفع اليد عن الحكم الواقعي
ومن الواضح اختصاص هذا بما إذا كان أحد الحكمين موافقا للتقية دون ما إذا لم يكن
أحدهما كذلك فاطلاق الحكم بلزوم الاخذ بالأحدث في الروايتين مما لا يظهر له وجه.
هذا مضافا إلى أن التشريع الناسخ للتشريع السابق وان كان للامام (عليه السلام) ومن
صلاحياته الا انه لم يكن يتصدى خارجا إليه بل كان بيانه الحكم من باب انه الحكم الواصل
إليهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما يشير إليه التعبير في الروايتين المزبورتين ب‍ " حدثتك
بحديث " كما أنه لا يحتمل في حقهم (عليهم السلام) فلا بد وأن يكون ناشئا عن ملاحظة ظروف
التقية التي تحيط بهم أو بالسائل.
وعلى هذا الأساس يكون مقتضى القاعدة هو الاخذ بالحكم الا حدث ولو لم يبين ذلك في
النصوص، وذلك لأنه اما أن يكون الحكم السابق موافقا للتقية، فبيان خلافه متأخرا يكشف
عن زوال التقية، فيلزم الاخذ به. واما أن يكون اللاحق هو الموافق للتقية، فيلزم الاخذ به
للتقية. فالحكم اللاحق يلزم الاخذ به، اما للتقية أو لأنه الحكم الواقعي، لكن لا يخفى ان هذا هو
حكم من كان في زمن التقية، فلا يشمل من كان في غير زمن التقية، كزماننا الذي نحن فيه، بل
المستفاد من هذه النصوص هو لزوم الاخذ لما يخالف العامة بالنسبة إلى من هو في هذه الأزمنة
لأنه هو الحكم الواقعي، فلا يستفاد من هذه النصوص امر زائد على اخبار الترجيح بمخالفة
العامة.
وهذا البيان أولى مما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) من اختصاص هذه النصوص
بزمن التقية وهو زمن الحضور، فلا تتكفل حكم زمن الغيبة، فالمرجع فيه الاخبار العلاجية
الأخرى.
فإنه يرد عليه: ان الاخبار العلاجية نص بالنسبة إلى زمن الحضور فإنه القدر المتيقن منها، إذ
لا يحتمل انها تتكفل بيان حكم زمن الغيبة خاصة. وعليه فتكون معارضة لهذه الاخبار، وهذا
بخلاف ما بيناه من استفادة الاخذ بمخالف العامة في غير زمن الغيبة من نفس الاخبار بلا
احتياج إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية في ذلك، لعل مراده ما ذكرناه.
413

المفروض انه هو الذي يحدث المخاطب لا انه يروى عنه فالمخاطب يسمع الحديث
مباشرة منه فليس التنافي بين السندين بل يكون بحسب الظهور فيحصل الأول
السابق على التقية كما يشير إليه ذيل رواية الكناني وهذا هو الذي يفهمه المخاطب
بالحديثين بحسب المتعارف.
واما الثالثة فهي أيضا ظاهرة في كون الخبرين مقطوعي الصدور للتعبير
" بأنه يجئ منكم خلافه " فمجئ خلاف ما حدث به عن الرسول (صلى الله عليه
وآله) منسوب إليهم مباشرة وهو لا يتناسب مع عدم الجزم بصدوره منهم كما أن
ظاهر السؤال هو المفروغية عن صدورهما معا لا التشكيك في أحدهما وانما
الاشكال في مخالفتهم (عليهم السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله) مع ما صدر
منهم من أنهم لا يفتون بما يخالف سنة الرسول ويؤيده تقرير الإمام (عليه السلام)
414

له ورفع ما في ذهنه بان الحديث ينسخ، مشيرا إلى انهم (عليهم السلام) اطلع من
غيرهم بنسخ أحاديث الرسول في زمانه (صلى الله عليه وآله) فيبينونه الآن.
واما الربعة، فعدم صلاحيتها للدلالة على المدعى من جهة ظهورها في لزوم
الاخذ بالحديث حتى يبلغ عن الحي خلافه، فإنه ظاهر في اختصاص لزوم الاخذ
بالأحدث بزمان الحضور بلحاظ معرفة الأئمة (عليهم السلام) ما يقتضيه أحوال
زمانهم من التقية وعدمها، ويشهد له قوله بعد ذلك: " انا والله لا ندخلكم الا فيما
يسعكم " الظاهر في كون اختلاف الحكم باعتبار اقتضاء حال زمان الحكم له، وهذا
يختص في زمان الحضور وان ما يقوله الامام الحي لا بد من الاخذ به وان خالف
حكمه حكم الامام السابق، لان تفاوت حكمهم (عليهم السلام) بتفاوت حال
الزمان الذي هم فيه من حيث لزوم التقية وعدمها، ولأنهم (عليهم السلام)
يلحظون في احكامهم ما يقتضيه الحال، فلاحظ.
واما ما ظاهره ان الوظيفة هي التخيير، فسيأتي الكلام فيه بعد التكلم في مقامين:
المقام الأول: انه مع التنزل عن المناقشات في سند بعض روايات
الترجيح (1)، فالقدر المتيقن هو لزوم الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة، لدلالة
الاخبار المروية عن رسالة القطب عليه.
واما الترجيح بغيرهما من الشهرة أو صفات الراوي، فلم يرد ذلك الا في
المقبولة والمرفوعة، وقد عرفت عدم نهوض الأولى دلالة والثانية سندا، ومع التنزل
والالتزام بدلالة الأولى وانجبار ضعف سند الثانية بعمل الأصحاب - كما ادعاه
الشيخ - فلا بد من الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي من الأعدلية
والأوثقية وغيرهما مما ذكره لكنه يقع الكلام في الجمع بين الروايتين المذكورتين
للتنافي الحاصل بينهما، إذ قدم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة في المقبولة،

(1) وهي روايات رسالة القطب الراوندي.
415

واخر في المرفوعة، فيحصل التعارض بينهما في مورد تعارض الخبرين، وكان
أحدهما مشهورا والآخر راويه أعدل، إذ مقتضى المرفوعة تقديم المشهور منهما،
ومقتضى المقبولة تقديم المروي عن الأعدل.
وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) وجوها ثلاثة للجمع:
الأول: ان الترجيح بالصفات في المقبولة انما كان في مورد تعارض الحكمين
لا الروايتين، فهي غير ناظرة فيه إلى تعارض الروايتين بخلاف المرفوعة فالمقدم
يكون هو الخبر المشهور بمقتضى المرفوعة ولا تعارضها المقبولة أصلا.
الثاني: ان مقتضى دلالة المرفوعة على لزوم الاخذ بالمشهور عند معارضته
للشاذ هو الاخذ في المورد بالمقبولة لأنها أشهر من المرفوعة، ومعه يكون المقدم هو
الخبر المروي عن الأعدل دون المشهور.
الثالث: انه لم يثبت من المشهور تقديم الخبر المشهور على غيره ولو كان
أصح منه سندا، فلم يثبت عمل الأصحاب بالمرفوعة في الفرض كي يحصل
التعارض بينها وبين المقبولة، فالمحكم يكون هو المقبولة ويقدم الخبر الأصح سندا
على المشهور (1).
ولا يخفى اختلاف النتيجة على الوجوه، إذ هي على الوجه الأول غيرها
على الوجهين الآخرين.
اما الوجه الأول، فهو تام بلا اشكال.
واما الثالث، فهو عجيب بعد دعوى انجبار ضعف سند المرفوعة بعمل
الأصحاب بها، إذ عمل الأصحاب بها انما يثبت بعملهم بها في المورد الذي تفترق به
عن المقبولة - إذ في مورد اتفاقها معها لا يعلم كون عملهم بمضمونها، إذ قد يكون
بمضمون غيرها الموافق لها -، والمورد الذي تفترق به المرفوعة عن المقبولة هو هذا
بالخصوص، فمنع عمل المشهور بها فيه لا يتناسب مع دعوى عمل المشهور بها.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 447 - الطبعة القديمة.
416

واما الثاني، فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني (رحمه الله) من جهات:
الأولى: انه لم يثبت شهرة المقبولة رواية، إذ يمكن أن يكون التعبير عنها
بالمقبولة من جهة كون راويها صفوان بن يحيى، وهو من أصحاب الاجماع الذين
أجمعت العصابة على تصحيح ما صح عنهم - كما أشرنا إليه - لا من جهة شهرتها
رواية.
الثانية: ان الحكم بترجيح المقبولة استنادا إلى المرفوعة يتوقف على كون
جعل الحكم في المرفوعة بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية، وتنقيح
الملاك بحيث يكون الحكم الذي تتكفله شاملا لها.
الثالثة: ان الالتزام بترجيح المقبولة بواسطة المرفوعة وطرح المرفوعة
يستلزم المحال، لان الالتزام بالمرفوعة في ترجيح المقبولة يستلزم طرح المرفوعة كما
لا يخفى، فيلزم من الاخذ بالمرفوعة طرحها، وهو محال لان ما يلزم من وجوده
عدمه محال (1).
الا ان ما ذكره أخيرا لا نعرف له وجها، وذلك لان المرفوعة باطلاقها تقتضي
الاخذ بالمشهور سواء كان المعارض له الشاذ أصح منه سندا أو لم يكن كذلك، فهي
تشمل المقبولة وتشمل الخبر المعارض بالأصح سندا، فشمولها للمقبولة يستلزم
طرحها بالنسبة إلى الخبر المعارض بالأصح، فالأخذ بها في بعض مدلولها يستلزم
طرحها في البعض الاخر لمدلولها، فلا يكون ذلك مما يلزم من وجوده عدمه،
لاختلاف مورد الاخذ والطرح، فتدبر.
نعم، الوجه الذي يؤخذ على الشيخ، هو عدم التزامه بترجيح المقبولة
بمقتضى مدلولها أيضا، لأنها أيضا تقتضي ترجيح المشهور على الشاذ، والمفروض
أيضا ان جعل الحكم فيها بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية، ولكن
سريان الحكم إليها بتنقيح الملاك، إذ هو الملاك في ترجيح المقبولة بمدلول المرفوعة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 165 - الطبعة الأولى.
417

كما عرفت، فلاحظ.
والمتحصل مما ذكرناه: انه يلتزم بالترجيح بالشهرة والصفات بلا تعارض.
المقام الثاني: انه بناء على الترجيح، هل يجوز التعدي من المرجحات
المنصوصة إلى غيرها في مقام الترجيح، أو لا يجوز ذلك، بل يلزم الاقتصار على
المنصوص منها؟. التزم الشيخ بلزوم التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة مما
يوجب أقربية ذي المزية إلى الواقع من معارضه، واستند في ذلك إلى وجوه أربعة:
الأول: ظهور الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة، في أنه
باعتبار ما فيهما من الطريقية إلى الواقع وايجابهما أقربية الخبر إليه بلا مدخلية
لخصوصيتهما في الترجيح أصلا.
وأيد ذلك: بان الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن
وجود بعضها، وانما سال عن حكم صورة تساوى الروايتين في جميع المزايا
المنصوصة وغيرها، حتى قال: " لا يفضل أحدهما على الاخر "، وهذا كاشف عن
فهمه كون كل من هذه الصفات وما شابهها مزية مستقلة توجب الترجيح.
الثاني: تعليله (عليه السلام) في المقبولة الاخذ بالمشهور بان: " المجمع عليه لا
ريب فيه "، إذ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذ - لا النفي مطلقا بحيث
يكون قطعيا من جميع الجهات، إذ لا معنى معه لفرضهما مشهورين لامتناع القطع
بهما بجميع جهاتهما - فيكون المعنى: ان الريب والاحتمال الموجود في الخبر الشاذ غير
موجود في المشهور. ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة ان كل خبرين كان
في أحدهما احتمالا لا يوجد في الاخر، بحيث يكون أقرب من ذلك بعدم هذا
الاحتمال كان الاخر مقدما.
الثالث: تعليلهم (عليهم السلام) لتقديم الخبر المخالف للعامة بان: " الحق
والرشد في خلافهم " ونحوه، إذ من المعلوم ان هذه القضايا غالبية لا دائمة - لاتفاقنا
معهم في بعض الاحكام - فكان التعليل ناظر إلى أن ما يخالفهم أقرب إلى الواقع من
418

موافقتهم لغلبة مخالفتهم، فيتعدى إلى كل مزية توجب أقربية ذيها من غيره بمقتضى
التعليل.
الرابع: قوله (عليه السلام): " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "، فإنه يدل
باطلاقه على أنه إذا دار الامر بين امرين في أحدهما ريب وليس في الاخر ذلك
الريب يجب الاخذ به، وليس المراد نفى مطلق الريب بل نفيه بالإضافة (1).
وقد ناقشه المحقق الخراساني في الوجوه الثلاثة الأول دون الرابع - ولعله
لوضوح المناقشة فيه، إذ لم يرد هذا التعبير في اخبار الترجيح، بل هو وارد في اخبار
البراءة والاحتياط، فلا يصلح للاستشهاد به على المدعى فيما نحن فيه -
اما المناقشة في الوجه الأول: فبأنه لم يعلم كون تمام الملاك في الترجيح
بالأصدقية والأوثقية هو ما فيها من جهة الطريقية والكشف عن الواقع، لاحتمال
دخالة خصوصية في الترجيح خصوصا بملاحظة الترجيح بما لا يحتمل الترجيح به
الا تعبدا، كالأفقهية لعدم جهة الطريقية فيها.
واما المناقشة في الوجه الثاني: فبأن المشهور في الصدر الأول يكون مما لا
ريب فيه في نفسه لحصول الاطمئنان بالصدور دون كل مزية.
ونظيرها المناقشة في الوجه الثالث بدعوى أن الخبر الموافق يحصل
الاطمئنان والوثوق بوجود خلل في جهة من جهاته فتنتفى حجيته ولا بأس
بالتعدي إلى كل ما كان كذلك دون كل مزية وإن لم توجب الاطمئنان (2).
والتحقيق ان ما ذكره في مناقشته الوجه الأول وجيه الا انه ترك المناقشة فيما
ساقه الشيخ تأييدا لكلامه وهو عدم سؤال السائل عن صورة انتفاء بعض الصفات
دون بعض.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول / 450 الطبعة القديمة.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 447 طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
419

ووجه المناقشة في ذلك: انه لم يعلم ان السائل فهم مرجحية هذه الصفات
وغيرها واما قوله: " لا يفضل أحدهما على الاخر " فلعله يكون ناظرا إلى عدم
التفاضل في هذه الصفات المذكورة دون كل مزية.
واما المناقشة في الوجهين الآخرين فلا تمكن الموافقة عليها.
اما المناقشة في الوجه الثاني فلأن إرادة عدم الريب في نفسه المساوق
لحصول الاطمئنان والوثوق بالصدور ممنوعة لان المفروض هو الحكم بلزوم
الاخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة ولا يخفى ان مجرد القطع بالسند لا يوجب
لزوم الاخذ فعلا بالخبر قبل تمامية جهاته الأخرى من جهة الصدور والدلالة.
ومع فرض تماميتها فيهما فعلا يأتي محذور فرض الخبرين مشهورين كما لا
يخفى.
فلا بد من إرادة عدم الريب بالإضافة إلى الخبر المعارض - إذ إرادة عدم
الريب في نفسه من جميع الجهات غير ممكنة لفرضها بعد ذلك مشهورين ويمتنع
العلم بمطابقتهما كليهما للواقع - فيكون المعنى - كما عرفت - ان الريب الثابت في ذلك
الخبر ليس موجودا في هذا الخبر وهو لا يلازم الاطمئنان بموافقة الخبر الواقع بل
قد يقارنه أحيانا إذ قد يكون مما فيه الريب في نفسه كشأن كل خبر
واما المناقشة في الوجه الثالث فلأنك قد عرفت أن المخالفة في نفسها لا
توجب الوثوق بالرشد دائما لكثرة الاتفاق بيننا وبين العامة ولذلك كانت هذه الأخبار
من اخبار الترجيح وانما هي امارة غالبة توجب أقربية المخالف للواقع من
الموافق ومن هنا يندفع ما ذكره من احتمال إرادة رجحان نفس المخالفة وان لها
موضوعية وخصوصية في نفسها.
هذا كله مع أن بعض هذه المناقشات ترجع إلى بيان عدم دلالة الاخبار على
الترجيح من حيث الصدور لاستلزام المرجح المذكور فيها الوثوق بالصدور وهذا
خلف المفروض إذ المفروض الكلام في التعدي بعد الالتزام بكون هذه الروايات
420

تتكفل الترجيح من حيث الصدور للروايتين المتعارضتين الواجدتين لمقتضى
الحجية في حد أنفسهما فتدبر.
واما ما أورده السيد الخوئي من: ان نفس المخالفة - على هذا - تكون امارة
توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النظر عن المعارض فالتعدي يقتصر فيه
على مثل ذلك ولا بأس به (1).
فهو غير وجيه لان كون الرشد في خلافهم انما يكون امارة ظنية على كون
الحق في ما خالف العامة لا كون الحق هو الخبر المخالف لان المخالف للعامة أعم
من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره لتنوع الاحكام فالمخالفة لا تكون امارة على
صحة خصوص هذا الخبر لعدم انحصار المخالفة بمفاده فتعليل الاخذ بالمخالف بها
انما يتجه باعتبار ايجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق لكونه
أحد مصاديق المخالفة - لا باعتبار انه بنفسه قريب إلى الواقع فلا بد من التعدي إلى
كل مورد يكون أحد الخبرين أقرب إلى الواقع من معارضه وإن لم تقم امارة على
قربه في نفسه.
والذي يتحصل ان الوجه هو الالتزام بما التزم الشيخ من التعدي إلى غير
المرجحات المنصوصة على القول بالترجيح.
هذا ولكن الانصاف عدم صحة ما افاده (قدس سره) وذلك لان نفس
اخبار الترجيح تصدت للحكم بالتخيير مع تساوى الخبرين في المرجحات
المفروضة واحدا بعد واحد ولو فهم السائل عموم الترجيح بأي مزية لكان ينبغي
ان يسأل عن صورة التساوي في مطلق المزايا - بهذا العنوان - لا التساوي في
المرجحات المذكورة في صدر النص بل لا معنى لسؤاله عن المرجحات واحدا بعد
آخر لو فرض دلالة قوله: " فان المجمع عليه لا ريب فيه " على الترجيح بكل مزية
لأنه يفهم منه ذلك فيأخذ باطلاقه فلا موضوع للسؤال حينئذ عن صورة تساويهما

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 422 الطبعة الأولى.
421

من حيث الشهرة ونحو ذلك وقد نسب هذا الاشكال إلى صاحب الكفاية في
حاشيته على الرسائل (1).
يقع الكلام بعد ذلك في اخبار التخيير وهي ثمان روايات:
الأولى ما عن فقه الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث: ".. وقد روى
ثمانية عشرة يوما، وروى ثلاث وعشرين يوما "، وبأي هذه الأحاديث اخذ من
جهة التسليم جاز " (2).
الثانية ما في ذيل مرفوعة زرارة من قوله (عليه السلام) بعد فرض السائل
كون الخبرين موافقين للاحتياط أو مخالفين له: " إذا فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع
الآخر " (3). الثالثة: رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا (عليه السلام): " قلت يجيئنا
الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟. قال (عليه السلام):
فإذا لم تعلم فوسع عليك بأيهما اخذت " (4).
الرابعة مرسلة الكافي حيث قال: " وفى رواية أخرى بأيهما اخذت من باب
التسليم وسعك " (5).
الخامسة رواية الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا
سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فوسع عليك حتى ترى القائم فترد
إليه " (6).
السادسة رواية سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن رجل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم حاشية فرائد الأصول / 273 الطبعة الأولى.
(2) مستدرك وسائل الشيعة 3 / باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 12 - الطبعة الأولى.
(3) الأصول الكافي 1 / 67، باب اختلاف الحديث، الحديث: 10.
(4) وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث: 40
(5) وسائل الشيعة 18 / 80 باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 19.
(6) وسائل الشيعة 18 / 87 من أبواب صفات القاضي الحديث 41.
422

اختلف عليه رجلان من اهل دينه في امر كلاهما يرويه أحدهما يأمره بالأخذ
والآخر ينهاه كيف يصنع؟ قال (عليه السلام) يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في
سعة حتى يلقاه (1).
السابعة ما روى عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد
إلى أبي الحسن (عليه السلام) اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي عبد الله (عليه
السلام) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم صلهما في المحمل وروى بعضهم،
لا تصلهما الا على الأرض فوقع (عليه السلام) موسع عليك بأية عملت (2).
الثامنة مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان
(عجل الله تعالى فرجه) وقد سئل فيها عن استحباب التكبير بعد التشهد الأولى
إلى أن قال (عليه السلام) في الجواب ان في ذلك حديثين اما أحدهما فإذا انتقل
من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.
واما الآخر فإنه روى انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس
ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجرى هذا
المجرى فأيهما اخذت من باب التسليم كان صوابا " (3).
وقد نوقش في الاستدلال بالأربع الأولى بضعف سندها - مع تمامية دلالتها -
إذ لم يثبت كتاب فقه الرضا كي يصح الاعتماد وشذوذ المرفوعة وارسالها،
وارسال رواية الحسن بن الجهم ورواية الكافي.
وقد شكك في كون مرسلة الكافي رواية مستقلة غير الروايات الأخرى
واحتمل انها إشارة إلى بعض هذه الروايات المذكورة.

(1) وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.
(2) وسائل الشيعة 18 / 88 باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 44.
(3) وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 39.
423

ولكنه (1)، تشكيك لا أساس له، يدفعه ظهور كلام الكافي في أنه رواية
مستقلة وعدم ثبوت هذا التعبير في رواية غيرها. فالعمدة في الاشكال في
الاستدلال بها إرسالها، مع امكان التشكيك في دلالة رواية الحسن بن الجهم، فان
فرض وثاقة كلا الرجلين ظاهر في فرض اطمئنانه بصدور الخبرين، ولكن يجهل
الواقع منهما، فتكون أجنبية عن التخيير في مقام الحجية.
واما الرواية الخامسة - أعني: رواية الحرث - فقد نوقش الاستدلال بها
بضعف سندها بالارسال، وعدم دلالتها على المدعى - أعني: التخيير في مقام
التعارض، كما فهمه الأصحاب - بدعوى (2) ظهورها في حجية اخبار الثقة وجواز
العمل بها في نفسها مع قطع النظر عن مقام المعارضة.
الا انه يدفع هذه الدعوى ويمنع الاستظهار المذكور من الرواية جهات فيها:
الأولى: تعليق الحكم بالوسعة على وثاقة الكل، فإنه لا يتناسب مع كون
المنظور إليه تعدد الواقعة وتعدد الاخبار وان كل خبر يكون مرويا عن ثقة، إذ لا
ترتبط حجية أحدها بوثاقة الراوي للاخر، بل ملاك الحجية وثاقة الراوي لنفس
الخبر سواء كان الراوي لغيره ثقة أو لم يكن كذلك. كما أنه لا يمكن ان يحمل على
إرادة الحديث الذي سلسلته ثقاة كلهم، إذ تعدد الواسطة في الخبر في زمان الامام
نادر جدا، بل الغالب هو الرواية عن الإمام (عليه السلام) رأسا.
مضافا إلى أنه لا يتناسب مع فرض السماع من الكل، إذ هو ظاهر في تعدد
الرواة عرضيا لا طوليا، إذ لا يصدق على المخبر بذي الواسطة بأنه سمع من افراد
السلسلة كما لا يخفى.
وعليه، فتعليق الحكم على وثاقة الكل ظاهر في تعدد الخبر في الواقعة

(1) ارتضى هذا التشكيك في الدورة الثانية وشبه قول الكليني المزبور بحكاية أي مجتهد لمدلول
النصوص بقوله " روى كذا ".
(2) أشار إلى ذلك المحقق العراقي والتزم به السيد الخوئي.
424

الواحدة ووثاقة الرواة فيكون من موارد التعارض
الثانية: ان الظاهر من الرواية كون منشأ الترديد والمشكلة هو وثاقة الكل،
وانه مع عدم وثاقة البعض لا تكون هناك مشكلة، وهذا انما يتناسب مع موارد
التعارض دون غيره، إذ لا مشكلة في وثاقة الكل في غير مورده، بل يؤخذ بالجميع.
الثالثة: ظهور قوله (عليه السلام): " فموسع عليك " في عدم الالزام بالأخذ
بالخبر، وهذا لا يتناسب مع كون المقصود بيان حجية خبر الثقة، إذ المناسب لها هو
الالزام بالأخذ والحكم بوجوبه، ولا معنى لجواز الاخذ بعد عدم وجود المعذر
والمنجز في مطلق مواردها غيرها.
ويضاف إلى هذه الجهات الثلاث في الاشكال: انه لم يرد في غير هذا الخبر في
لسان رواية الالزام بالعمل بخبر الواحد ابتداء، بلحاظ كونه امرا ارتكازيا لا يحتاج
إلى بيان، وانما المسؤول عنه غالبا هو مصداق الثقة، وذلك يضعف حمل الرواية على
ما ذكر.
هذا ولكن لا يمكن البناء على دلالتها لوجهين:
أحدهما: انها غير ظاهرة في التخيير بين الخبرين، بل هي ظاهرة في السعة،
ولعل ذلك يرجع إلى تساقط الاخبار والرجوع إلى الأصل المبيح، فمدلول هذه
الرواية نظير مدلول قوله: " الناس في سعة ما لم يعلموا.
والاخر: انها واردة في حكم زمان الحضور والتمكن من الوصول إلى الإمام (عليه السلام)
، فلا تنفع في اثبات حكم مثل زماننا.
واما الرواية السادسة - أعني: رواية سماعة، فقد نوقش فيها: بان موردها
حيث كان من موارد دوران الامر بين محذورين - للترديد بين الحرمة والوجوب -
وكان الحكم فيها عقلا هو التخيير، فقوله (عليه السلام): " فهو في ساعة " بيان
وتقرير لهذا الحكم العقلي لا أكثر، وليس هو حكم بالتخيير بالأخذ باحدى
الروايتين في مقام التعارض.
425

الا انه يشكل:
أولا: بان ما ذكره السائل من أن أحدهما يأمره والاخر ينهاه انما كان على
سبيل المثال لمورد الاختلاف بين الروايتين، لا ان المسؤول عنه هو هذا النحو من
الاختلاف.
وثانيا: بأنه لو سلم ذلك، فليس المورد من موارد دوران الامر بين محذورين،
لأنه انما يكون كذلك مع العلم بأصل الالزام، ولم يثبت ذلك للشك في حجية كل من
الخبرين، فيمكن أن يكون الحكم غير الوجوب والحرمة كالإباحة.
فالتحقيق ان يقال: ان السؤال في الرواية ان كان عن العمل، وانه الفعل
و الترك، كان قوله (عليه السلام): " فهو في سعة ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام
العمل ويكون مرجع ذلك إلى الحكم بالبراءة. وان كان السؤال عن الاخذ باحدى
الروايتين، كان المزبور ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام الاخذ باحدى الروايتين
فيرجع ذلك إلى التخيير.
وتعيين أحد المعنيين من قوله (عليه السلام) انما يتم بتعيين جهة السؤال،
وحيث إنه لم يظهر من الامر والنهى المفروضين في الخبر إرادة الامر الوجوبي
والنهى التحريمي منهما - كي يصلح الكلام، لكون المسؤول عنه هو العمل لحصول
التحير معه - فيمكن حملهما على الأعم من الامر الوجوبي والاستحبابي والنهى
التحريمي والتنزيهي، بقرينة اطلاق الجواب وعدم تقييده بصورة الامر الوجوبي
والنهى التحريمي، ومعه يتعين كون المسؤول عنه هو الاخذ بالرواية وكون المراد
بالسعة التخيير، كعدم التحير والضيق في مقام العمل مع دوران الامر بين الوجوب
والكراهة أو الحرمة والاستحباب أو الاستحباب والكراهة كي يحكم بالسعة،
فلاحظ.
هذا، ولكن الانصاف انها غير تامة الدلالة، لورودها في مورد التمكن من لقاء
المعصوم (عليه السلام)، مع أن قوله: " فهو في سعة... " متفرع على قوله: " يرجئه "،
426

ظاهر في عدم العمل بكلا الخبرين والرجوع إلى الأصل العملي، لا لزوم العمل
بأحد الخبرين. واما لفظ الامر والنهى فهما ظاهران في الالزاميين كما حقق في محله،
بل يمكن جعل قوله: " فهو في سعة " قرينة على ذلك.
واما الرواية السابعة - أعني: رواية علي بن مهزيار - فقد ناقش السيد
الخوئي الاستدلال بها: بان مورد الرواية والتخيير في نافلة الفجر بين الاتيان بها في
المحمل والاتيان بها على الأرض، وظاهر حكم الإمام (عليه السلام) بجواز الاتيان
بها في المحمل وعلى الأرض والتخيير بين الصورتين، ان التخيير واقعي، لأنه لو لم
يكن الحكم الواقعي هو التخيير لكان الأنسب للامام (عليه السلام) - بمقتضى مقامه
- بيان الحكم الواقعي لا التخيير بين الحديثين.
وعليه، فالحكم بالتخيير ليس ناظرا إلى التخيير بين الحديثين، بل لان
الحكم الواقعي هو التخيير، فلا دلالة للرواية على المدعى (1). ولكن الخدشة في هذه المناقشة ظاهرة، فان المورد ليس من موارد التخيير،
للعلم بجواز الصلاة على الأرض، وانما المشكوك جوازها في المحمل، فلا يظهر الامر
في: " صلهما في المحمل " في تعينه، بل في الإباحة لأنه في مقام توهم الحظر، فالامر
دائر بين جواز الصلاة فيه وعدم جوازها ولا يكون مثل هذا من موارد التخيير،
وليس دائرا بين جوازها في المحمل فقط وجوازها على الأرض فقط كي يظهر
الحكم بالتخيير في كونه بيانا للحكم الواقعي، فظاهر الحكم بالتخيير هو التخيير في
المسالة الأصولية والاخذ باحدى الروايتين.
ويؤيده قوله (عليه السلام): " موسع عليك باية عملت "، فإنه ظاهر في
الحكم بالتوسعة في مقام العمل بالرواية، وان السائل في سعة بأي رواية عمل لا في
الاتيان بأي الكيفيتين شاء.
واما دعوى: كون الأنسب مع هذا السؤال هو بيان الحكم الواقعي لو كان

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 425 - الطبعة الأولى.
427

غير التخيير لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.
فمندفعة: بأن اغماض الإمام (عليه السلام) عن بيان الحكم الواقعي في
المسالة الخاصة ببيان حكم كلى في المسالة الأصولية الكثيرة الابتلاء، يمكن أن يكون
لمصلحة هناك في نفسه كالمصلحة في عدم الابتداء ببيان الحكم.
مضافا إلى امكان دعوى (1)، عدم كون المسؤول عنه هو الوظيفة الواقعية
بالنسبة إلى الصلاة، وانما هو حكم الاختلاف بين الاخبار في المورد. فالجواب
المناسب هو بيان الحكم لمقام المعارضة لا بيان الوظيفة العملية الفرعية.
واما الرواية الثامنة - أعني: مكاتبة الحميري - فقد ناقش السيد الخوئي
الاستدلال بها أيضا: بأنه لا تعارض بين الحديثين المفروضين في الرواية، إذ بينهما
عموم مطلق، ومقتضى القاعدة هو الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد الذي
مقتضاه عدم استحباب التكبير بعد التشهد الأول، وانما حكم الإمام (عليه السلام)
استحباب التكبير والتخيير بين الاتيان به وعدمه، لأنه ذكر في نفسه، والذكر
مستحب في الصلاة في جميع أحوالها (2).
الا ان ما ذكره من أن حكم الإمام (عليه السلام) بالتخيير واستحباب
التكبير باعتبار انه ذكر في نفسه غير وجيه..
اما على القول بان للصلاة اجزاء مستحبة كما لها اجزاء واجبة - فالقنوت،
مثلا جزء للصلاة الا انه مستحب - فواضح، لان سؤال السائل عن كون التكبير
بعد التشهد الأول في نفسه وبعنوانه الخاص من اجزاء الصلاة المستحبة، فالحكم
بالتخيير من باب استحباب الذكر في نفسه لا تتلاءم مع السؤال، إذ ليس الذكر من
اجزاء الصلاة المستحبة حتى على هذا القول، لعدم ثبوت المحل الخاص له.
واما على القول بان المستحبات في الصلاة ليست اجزاء لها، بل هي

(1) هذه الدعوى خلاف الظاهر كما لا يخفى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 425 - الطبعة الأولى.
428

مستحبات استقلالية ظرفها الصلاة - كما يلتزم به السيد الخوئي بلحاظ ان فرض
الجزء المستحب للواجب خلاف فرض كونه واجبا - فلان المسؤول عنه هو
استحباب التكبير بعنوانه في هذا المحل الخاص بحيث يؤتى به في ذلك المحل بداعي
امره المختص به - نظير الاتيان بالقنوت في محله الخاص بداعي امره، وعدم صحة
الاتيان به بداعي الامر بالقنوت في غير ذلك المحل - فالحكم باستحبابه من باب انه
ذكر لا يجدي في الاتيان به بداعي الامر بخصوصية محله، إذ لا محل للذكر
بخصوصه.
وعليه، فلا اشكال في كون التخيير بين الاخذ بالحديثين انما هو بلحاظ
استحباب التكبير في نفسه وعدمه.
واما عدم مناسبة ذلك لكون النسبة بينهما العموم المطلق، فيمكن توجيهه:
بحمل الرواية العامة المطلقة على كون موردها التكبير بعد التشهد الأول، بحيث
تكون نصا في استحبابه بعده - كما هو الحال في كل عام ومطلق بالنسبة إلى مورده
- فيحصل التعارض بينهما وان كانت النسبة العموم من وجه، لتساويهما من حيث
الظهور بالنسبة إلى مورد التنافي.
ويشهد لذلك الحكم المذكور من الإمام (عليه السلام) مع التفاته (عليه
السلام) إلى أن مقتضى الجمع العرفي هو التقييد وانه لا تنافى بينهما عرفا، وعدم
سؤال السائل عن ذلك وتقبله الجواب.
ويمكن الاستشهاد لذلك من نفس الرواية، حيث عبر (عليه السلام): " ان في
ذلك حديثين اما أولهما... " والمشار إليه هو التكبير بعد التشهد الأول، وهو ظاهر
في أن المطلق وارد فيه، فتأمل (1).
والمتحصل: ان هذه الرواية لا اشكال فيها من جهة دلالتها، نعم، المناقشة

(1) إشارة إلى المناقشة في هذا الاستظهار، لامكان إرادة ان ما ورد مما تتكفل حكم هذا المورد
حديثان، فلا دلالة له على كون مورد المطلق مورد السؤال.
429

التي يمكن فرضها فيها وفى سابقتها ما ذكره المحقق الأصفهاني (1)، من عدم الاطلاق
فيها، لاختصاصها بمورد المستحبات - لا خصوص موردها كما قد يظهر من السيد
الخوئي لعدم احتمال الخصوصية بهذا المقدار والا لأشكل الامر في كثير من الاحكام،
لاستفادة كثير من الاحكام من المطلقات التي يرد كثير منها في مورد خاص - فلا
يمكن التعدي منها إلى مورد كون مدلول الخبرين المتنافيين إلزاميا لعدم الجزم بعدم
الخصوصية، خصوصا بملاحظة ذهاب المشهور إلى حجية الخبر الضعيف في باب
المستحبات، كما بين في مسالة قاعدة التسامح في أدلة السنن.
واما ما ذكره السيد الخوئي بعد كل هذا من: عدم الدليل للتخيير في مقام
الافتاء، مع عدم المرجح في كلام العلماء، مما يضعف الاعتماد على الاخبار المسوقة
له (2).
فهو ليس بوجه، إذ أكثر القدماء التزموا بالتعدي إلى غير المرجحات
المنصوصة من المزايا، وهذا يعنى - كما أشرنا إليه - عدم وجود مورد يتكافأ فيه
الخبران في المزايا والقرب إلى الواقع، فلعل عدم حكمهم بالتخيير من جهة فقدان
المورد له.
واما الحكم بالتساقط لو كان، فلم يظهر كونه في مورد التعارض
بنحو التباين، بل يمكن أن يكون في مورد التعارض بالعموم من وجه، وسيأتي
الكلام فيه، وان المشهور على عدم جريان الاخبار العلاجية في مورده.
والذي يتحصل: انه يمكن الجزم بثبوت التخيير بين الروايتين المتعارضتين،
بملاحظة الروايات الخمس الأولى مع ضعف سندها لبلوغها حد الاستفاضة
وبملاحظة ما ورد في ديباجة الكافي من اسناد التخيير إلى الإمام (عليه السلام)
رأسا بعنوان انه من مقوله لا بنحو الرواية، بعنوان انه مما روى عنه - كي

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 338 - الطبعة الأولى.
(2) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 3 / 426 - الطبعة الأولى.
430

يشكل بارسالها - فإنه ظاهر في ثبوت التخيير لديه بواسطة الخبر الموثوق لديه،
بحيث يصحح نسبة القول إلى الإمام (عليه السلام)، بل حتى مع فرض حصول
الجزم بصدوره لديه يكون ذلك قرينة على المدعى لقرب العهد من الإمام (عليه السلام)
، ودقة الكليني في الحديث بحيث يعلم بان أسباب حصول الجزم لديه من
الأسباب المتعارف حصول القطع بها أو الوثوق.
وبملاحظة ما يستفاد من الاخبار الثلاثة الأخيرة، وان نوقش في دلالة
بعضها، وباختصاص الاخر في المستحبات.
وبثبوت الحكم بالتخيير من الصدر الأول إلى الآن.
فإنه بملاحظة مجموع ذلك يحصل الجزم بان التخيير بين المتعارضين ثابت في
الجملة، وانه مما له الأساس في الأدلة، لكن قد عرفت المناقشة في أكثر هذه
النصوص من حيث الدلالة والسند، وبذلك لا يظهر للتخيير وجه صحيح يمكن
الاعتماد عليه (1).

(1) وجملة القول في المقام: انه لم يثبت لدينا ما دل على الترجيح بالشهرة أو بموافقة الكتاب أو
غير ذلك، كما لم يثبت لدينا ما دل على التخيير، فلا بد من الرجوع إلى القاعدة. وتحقيق الحال
باجمال: انه قد عرفت منا في مبحث حجية خبر الواحد التوقف في حجية الخبر الا إذا كان مفيدا
للاطمئنان والوثوق.
وعليه، فإذا كان ملاك الحجية هو حصول الاطمئنان الشخصي لم يتصور تحقق التعارض بين
الخبرين، لان التعارض لا يكون الا إذا كان كل من الخبرين جامعا لشرائط الحجية في نفسه
ومع قطع النظر عن المعارضة، ومن الواضح استحالة تحقق الاطمئنان بأمرين مختلفين متباينين.
فلا موضوع لبحث الترجيح والتخيير على ما سلكناه في حجية خبر الواحد.
نعم، إذا كان أحد الخبرين موافقا للعامة يمكن دعوى حصول الوثوق بالخبر الاخر، لما
عرفت من أن الدلالة قطعية وكذا الجهة لفقدان احتمال التقية، واما السند فيتحقق الوثوق به
بلحاظ وثاقة الراوي.
ومعه لا يحصل الوثوق في الرواية الأخرى، لعدم جريان أصالة الجهة فيها بعد ملاحظة
وجود الرواية المخالفة.
وبذلك يمكن ان يقال: ان الترجيح بمخالفة العامة الوارد في بعض النصوص انما هو على
القاعدة، فلا مانع من الالتزام به.
ثم إنه بناء على الالتزام بالتخيير في مورد التعارض يقع الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: في ما يفتى به المجتهد بالذي ورد لديه الخبران المتعارضان.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى: انه يصح له ان يفتى بما اختاره من الخبرين، لان اختياره
يستلزم قيام الحجة على الحكم، فيصح له الافتاء به استنادا إلى الحجة. كما أن له ان يفتي بالتخيير
في المسالة الأصولية، بان يسوغ للمقلد الاخذ بأحد الخبرين ويعمل بما يأخذ به منهما ولو كان
على خلاف ما اختاره المجتهد.
واما التخيير في المسالة الفرعية فلا وجه للافتاء به، لعدم الدليل على التخيير في المسالة
الفرعية، لان كل حجة تقول على ثبوت مدلولها بنحو التعيين. فالحكم الظاهري الثابت في حق
المقلد هو أحدهما المعين بحسب ما يختاره من الحجة فلا منشأ للتخيير فيها فان التخيير الثابت
تخيير في الحكم لا في العمل.
وما ذكره (قدس سره) واضح لا كلام لنا فيه.
الجهة الثانية في أن التخيير بدوي أو استمراري؟
ذهب صاحب الكفاية إلى أنه استمراري تمسكا بالاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية
الاطلاقات.
ودعوى أن موضوع التخيير هو المتحير ولا تحير بعد اختيار أحدهما فلا مجال للتمسك
بالاطلاق أو الاستصحاب لاختلاف الموضوع.
مندفعة بان التحير بمعنى تعارض الخبرين والتردد فيهما باق على حاله ولم يزل بالاختيار
وبمعنى آخر من الحيرة في مقام الوظيفة العملية لم يؤخذ في موضوع الأدلة الدالة على التخيير
هذا ما افاده في الكفاية في هذا المقام.
والتحقيق ان متعلق الشك قبل الاختيار يختلف عنه بعد الاختيار فان متعلق الشك قبل
الاختيار هو حجية كل من الخبرين تعيينا أو تخييرا أو عدم حجية أحدهما فاخبار التخيير
تثبت حجية كل منهما بنحو التخيير والبدلية.
وبعد اختيار أحدهما يعلم انه حجة عليه ولا يحتمل زوالها بل يقطع بان ما اخذ به حجة اما
تعيينا أو تخييرا.
وانما يشك في أنه هل له إلغاء حجية ما اخذ به بترك الاخذ به والاخذ بغيره أو لا؟ ومن
الواضح ان هذا الشك يختلف عن الشك الأول بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك
الأول فلا يمكن التمسك بالاطلاقات لان موضوعها الشك الأول كما لا معنى للتمسك
بالاستصحاب لان الحكم المشكوك غير الأول.
ولعل هذا هو مراد من ذهب إلى أن موضوع التخيير هو التحير والمفروض زواله.
وبالجملة: التخيير على هذا بدوي لا استمراري، ولا حاجة إلى التطويل بعد الإشارة إلى
نكتة المنع، فتدبرها فإنها لا تخلو عن دقة.
431

ثم إنه مع احتمال الترجيح بذي المزية يتمسك باطلاقات التخيير في اثبات
حجية غير ذي المزية وبذلك ينفى ما يقتضيه الأصل من تعيين الاخذ بذي المزية
كما عرفت في ما سبق.
نعم الاحتياط يقتضى الاخذ بذي المزية لو لم يكن مخالفا للاحتياط في
المسألة الفرعية لاحتمال تعينه دون غيره خصوصا إذا كان موافقا لحجة أخرى من
عام ونحوه.
نعم لو كان مخالفا للاحتياط في المسالة الفرعية كما لو كان مدلوله الإباحة
ومدلول الآخر الوجوب كان الأحوط الاخذ بالآخر لموافقته للاحتياط عملا كما
لا يخفى.
يبقى الكلام في امر وهو انه على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين
المرجحات وتقديم بعضها على الاخر في مقام التزاحم أو لا؟
توضيح ذلك: ان..
من المرجحات ما يرجع إلى مقام أصل الصدور، بمعنى انه يوجب تقوية
صدور الخبر في قبال الآخر، وذلك كالأوثقية والأصدقية ونحوهما، فان مجئ
الخبر عن الموثق انما يقوى أصل صدوره عن المعصوم (عليه السلام). اما كون
صدوره لغير تقية وغيرها، فلا يرتبط بوثاقة الراوي وصدقه كما لا يخفى.
ومنها: ما يرجع إلى مقام جهة الصدور، بمعنى انه على تقدير الصدور يبقى
احتمال صدوره لغير بيان الحكم الواقعي وهو التقية، كمخالفة العامة فإنها ترتبط
بجهة الصدور لا بأصله، إذ المخالفة للعامة لا تقتضي صدوره، بل تقتضي انتفاء
433

احتمال الصدور للتقية الموجود في غيره المعارض له.
ومنها: ما يرجع إلى المضمون ومفاد الخبر، كالشهرة في الفتوى - وهو
واضح -.
فيقع الكلام في: انه مع التزاحم بين المرجح الصدوري وغيره، هل يقدم
الخبر ذو المرجح الصدوري. أو غيره، أولا يقدم أحدهما على الاخر، فيرجع إلى
التخيير أو التساقط؟
ذهب الشيخ (قدس سره) إلى تقديم المرجح الصدوري على المرجح
الجهتي (1).
وذهب الميرزا حبيب الله الرشتي (قدس سره) - تبعا للوحيد البهبهاني
(قدس سره) (2) - إلى تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري (3).
وذهب المحقق الخراساني (رحمه الله) إلى عدم تقديم أحدهما على الاخر
ولزوم الرجوع مع التزاحم إلى مطلقات التخيير (4).
اما تقريب الشيخ لمدعاه: فهو: ان الرجوع إلى المرجح الجهتي انما يكون بعد
فرض العلم بصدور كلا الخبرين كالمتواترين، أو تكافؤ احتمال الصدور فيهما معا،
وذلك لتفرع مقام الجهة على مقام الصدور، فان الصدور لتقية انما يفرض بعد فرض
أصل الصدور كما لا يخفى.
وعليه، فمع وجود المرجح الصدوري لاحد الخبرين لا يكون احتمال الصدور
في كل منهما متكافئا، والمفروض عدم العلم بصدورهما، فلا يبقى مجال لتحكيم
المرجح الجهتي.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 468 - الطبعة القديمة.
(2) الوحيد البهبهاني المحقق محمد باقر. الفوائد الحائرية / 215 - الفائدة: 21.
(3) الرشتي المحقق ميرزا حبيب الله. بدائع الأفكار / 455 - المقام الرابع في تريب المرجحات
(4) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 454 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
434

وناقش في ذلك صاحب الكفاية مدعيا قصور الأدلة عن الالتزام بالترتيب
وتقديم بعض المرجحات على بعض مع التزاحم، بيان ذلك: انه بناء على الالتزام
بالتعدي لغير المرجحات المنصوصة - كما عليه الشيخ - فالمرجح هو الأقربية إلى
الواقع أو الظن بالصدور - على الخلاف في ملاك التعدي - وهذه المرجحات ليست
مرجحات بعنوانها الخاص، بل بعنوان ايجابها الأقربية أو الظن.
وعليه، فمع تزاحم المرجحين يلاحظ الأقرب إلى الواقع أو المظنون صدوره
فيؤخذ به ان كان والا فالمرجع مطلقات التخيير. واما بناء على عدم التعدي
والاقتصار فيه على المنصوص من المرجحات، فما قد يستدل به على الترتيب هو
المقبولة ونحوها، الا انه لكثرة اطلاقات الترجيح الخالية عن الترتيب والواردة مورد
البيان، لا بد ان تحمل المقبولة على عدم كونها واردة لبيان حكم تزاحم المرجحات
وعدم كونها ناظرة إلى ذلك المقام، بل هي لبيان ان هذا مرجح وذلك مرجح لا
أكثر، لعدم صلاحيتها لتقييد المطلقات. وعليه فمع التزاحم لا دليل على الترتيب في
تقديم أحدهما على الاخر فالمرجح هو مطلقات التخيير.
واما ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة عن مقام الصدور، فقد ناقش فيه:
بأنه انما يتم ويجرى في الترتيب المدعى لو التزم بكون المرجح الجهتي مرجحا للخبر
في ذلك المقام بخصوصه - أعني: مقام جهة الصدور - ولكنه غير صحيح، بل هو
راجع إلى مقام الصدور وترجيح صدور أحد الخبرين على الاخر - وإن لم يوجب
تقوية احتمال صدوره - وذلك لامتناع التعبد بالصدور مع الالتزام بصدوره عن
تقية، فلا يمكن الالتزام بأن الموافقة للعامة تدل على كون صدور المتعبد به لتقية،
للغوية التعبد حينئذ لعدم ترتب الأثر المرغوب. فالمرجحات كلها ترجع إلى مقام
واحد، وهو مقام الصدور، فلا تفرع لبعضها على بعض.
لكن الانصاف يقضى بعدم ورود ما ذكره صاحب الكفاية على الشيخ، وان
نظر الشيخ إلى جهة أغفلها صاحب الكفاية في مقام الايراد. توضيح ذلك: ان احتمال
435

التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور، بمعنى انه انما يثبت بعد فرض الصدور،
فمحتمل التقية وغيره انما هو الكلام الصادر واقعا دون غيره، وموضوع الترجيح
الجهتي هو عدم احتمال التقية. فالترجيح انما يترتب على غير محتمل التقية على
تقدير صدوره، فمع وجود ما يرفع موضوع هذا المرجح، وهو أصل الصدور تعبدا،
ينفى الترجيح به، لارتفاع موضوعه بالحكومة، والمرجح الصدوري في الخبر الموافق
للعامة بتحكيمه يرفع موضوع المرجح الجهتي في الخبر المخالف - وهو أصل صدوره
- دون العكس، لان المرجح الجهتي في الخبر المخالف وان كان يرجع إلى مقام
الصدور - يعنى يرجح صدور ذيه من غيره - الا انه بتحكيمه لا يرتفع موضوع
المرجح الصدوري في الخبر الموافق، لعدم كون موضوعه أصل الصدور كما لا يخفى.
فتقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي لاجل حكومته عليه.
وهذا الوجه وان كان يتلاءم مع ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة على
مقام الصدور، الا انه لا يرتبط بما ذكره في صدر كلامه من اختصاص الترجيح
بالمرجح الجهتي بالمتكافئين في الصدور علما أو تعبدا، لجريانه ولو مع عدم التكافؤ
كما لا يخفى. ولذلك فهو لا يصلح لان يكون تقريبا لكلام الشيخ، وان كان تاما في
نفسه ووجها للتقديم المدعى.
والذي يمكن تقريب عبارة الشيخ به هو: ان احتمال التقية في الخبر الموافق
للعامة، لا يكون في نفسه موجبا لطرح الخبر، بل انما يطرح به الخبر مع قيام الامارة
المعتبرة على تأييده، والخبر المخالف يكون امارة على التقية في الخبر الموافق، فان
الظن بصدوره ظن بالتقية في مقابله، إلا أن لا يجدي في طرحه ما لم يثبت التعبد به.
وحينئذ، فاما ان تغلب الامارة المخالفة، أو تغلب الموافقة، أو لا يغلب
إحداهما على الأخرى. فمع غلبة المخالفة، لا يبقى مجال لاحتمال التقية في الموافقة، لنفى
الصدور من اصله، فلا مجال للترجيح بعدم وجود هذا الاحتمال. ومع غلبة الموافقة
تنتفى أمارية المخالفة، فلا يكون احتمال التقية في نفسه موجبا للطرح. واما مع
436

تساويهما وتكافؤهما في السند فتصل النوبة حينئذ إلى الترجيح بمخالفة العامة
فالمرجح الجهتي انما يفرض مع التكافؤ لأنه مع عدمه لا مجال للترجيح به اما
لغلبة ذي المرجح أو لغلبة معارضه ومع وجود المرجح الصدوري في أحدهما
يرتفع التكافؤ فلا مجال للمرجح الجهتي وهو أي المرجح الجهتي - وان رجع إلى
مقام الصدور بمعنى انه موجب لترجيح التعبد بصدور ذيه دون غيره الا انه في
وجوده لما كان متفرعا على أصل الصدور كان المرجح الصدوري رافعا لموضوعه
فيكون حاكما عليه كما تقدم تقريبه.
وهذا الوجه وإن لم تحرز تماميته الا انه يتلاءم مع عبارة الشيخ أولا وآخرا
ولا تهمنا مناقشته بعد ما عرفت أن أساس التقديم الذي ينظر إليه الشيخ - وهو
الحكومة - تام في نفسه فلا يتجه عليه ما أورده المحقق الخراساني إذ ذلك لا
يتوقف على رجوع المرجح الجهتي إلى مقام الجهة ترجيحا بل هو تام على الالتزام
برجوعه إلى مقام الصدور موضوعا لا ترجيحا ولا محذور فيه.
كما أنه لا يبتنى على استظهار الترتيب من المقبولة ونحوها كي يقال بأنها
ليست في مقام البيان من هذه الجهة وانها ليست ناظرة إلى صورة التزاحم بين
المرجحات فإنه لا تزاحم بينهما بناء على الحكومة أصلا كما أنه لا يتنافى على
القول بالتعدي لان مخالفة العامة انما توجب الأقربية أو الظن بفرض عدم احتمال
التقية على فرض الصدور والمرجح الصدوري ينفيه كما عرفت فلا مجال له.
واما ما ادعاه الميرزا الرشتي (قدس سره) خلافا للشيخ وجزم به بنحو
عجيب وأنكر على الشيخ بتعبير غريب، فمحصله انه يستفاد من الروايات ان
المرجح الجهتي انما يكون في مقطوعي الصدور وذلك يستلزم بالبداهة تحكيمه في
ظنيهما وذلك لان ظنية الصدور واحتمال عدمه إن لم يكن موجبا لطرح الخبر فلا
يكون موجبا للتعبد به فتقديم ذي المزية الجهتية على غيره في فرض القطع
437

بالصدور وانسداد باب احتمال عدم الصدور يستلزم لا محالة تقديمه على ما يكون
ظنيا في صدوره.
وتقريب ما ادعاه يتضح ببيان شئ وهو ان كل خبر وان كان يشتمل على
مقامات ثلاثة: مقام الصدور وجهته والدلالة، الا ان التعبد مع احتمال المخالفة للواقع
من هذه الجهات الثلاث تعبد واحد مفاده لزوم الاخذ به والبناء على أنه الواقع
وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل فيه صدورا أو جهة أو دلالة وليس التعبد يتعدد
بتعدد المقامات ويستلزم كل منها إلغاء احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه ومع
كون الخبر قطعيا من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في
غيرها.
وعليه فإن كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لأنه يكون
من جهتين فقط فتقديم ذي المزية الجهتية على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه
يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه، كما إذا كان ظني
الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من جهاته الثلاث ثم إنه (قدس سره) أضاف إلى
ذلك أن الموافق للعامة يدور امره بين عدم الصدور رأسا كما لو كان ظنيا لدلالة
الاخبار على إلغائه وعدم صدقه، وبين الصدور للتقية كما لو كان قطعي الصدور،
لدلالة الاخبار على أن ما سمع منهم يشبه قول العامة فهو تقية.
ويشكل هذا الأخير - بما ذكره المحقق الخراساني - بامتناع الدوران المذكور
لاحتمال أن يكون الخبر الموافق صادرا لبيان الحكم الواقعي - كما لو كان الحكم
الواقعي موافقا لقول العامة - والمخالف ليس بصادر أصلا أو انه صادر لكنه لم يرد
به ظاهره ولزوم حمله على التقية أو البناء على عدم صدوره انما يتم في فرض كون
المعارض المخالف قطعيا بجميع جهاته إذ يتعين معه كون الموافق اما غير صادر أو
صادرا للتقية ومع عدم قطعيته بجهاته كلها - كما هو الفرض - لا دليل على دوران
438

الموافق للعامة بين عدم صدوره أو صدوره للتقية (1) واما ما ذكره أولا من الملازمة البديهية فالمناقشة فيه واضحة وذلك لأنه مع
القطع بصدور كلا الخبرين يكون احتمال المخالفة للواقع في الخبر الموافق للعامة أقوى
من المخالف لانتفاء احتمال التقية فيه ووجوده في الموافق فاحتمال المخالفة في المخالف
أضعف منها في الموافق لانحصاره فيه في مورد الدلالة وجهة الصدور من غير
أضعف منها في الموافق فإنه في مورد الدلالة وجهة الصدور مع احتمال التقية
واما مع عدم القطع بصدورهما فيزيد في الخبر المخالف احتمال المخالفة في الصدور
والخبر الموافق وان كان كذلك أيضا الا انه مع وجود المرجح الصدوري فيه يكون
احتمال المخالفة في الصدور أضعف منه في الخبر المخالف. فلعل جهة تقديم المخالف على
الموافق مع القطع بالصدور لعدم أضعفية احتمال المخالفة فيه من الموافق وذلك ليس
موجودا مع الظن بالصدور لعدم أقوائية احتمال المخالفة في الموافق لضعف احتمالها فيه
في جانب الصدور بوجود المرجح وقوته في المخالف فلا يستلزم تقديم المخالف من
القطعيين تقديمه من الظنيين وليس هو من الأمور البديهية كما ادعاه. وللميرزا المذكور كلام آخر ذكره في الكفاية وأورد عليه لكن لا يهمنا
ذكره.
والمتحصل هو: لزوم الالتزام بما التزم به الشيخ من تقديم المرجح الصدوري
على المرجح الجهتي فتدبر.
هذا كله في صورة ما إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين هما التباين.
واما لو كان بينهما العموم من وجه فهل تشملهما الاخبار العلاجية الدالة على
الترجيح أو التخيير أو لا فيرجع فيهما إلى الأصل الأولى وهو التساقط؟
والتحقيق في المقام ان يقال: إنه..
تارة يلتزم بأن لكل خبر تعبد واحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف فيه في

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول / 456 طبعة مؤسسة آل البيت (ع)
439

مقاماته الثلاثة: الصدور وجهته والمدلول ومعناه هو التعبد بمفاد هذا الخبر
ومضمونه والالزام بالأخذ به.
وأخرى يلتزم - كما عليه الأكثر - بثبوت تعبدات ثلاثة في كل مقام تعبد
فهناك تعبد بصدور الخبر وتعبد بأنه لبيان الحكم الواقعي وتعبد بمدلوله وظاهره،
وهذه التعبدات عرضية ويترتب عليها جمعا الأثر لا طولية لعدم الأثر لكل منها
بخصوصه.
فان قلنا بالثاني فلا يتصور التبعيض في حجية السند في الصدور لان
المتعبد به في هذا المقام - وهو الصدور - امر واحد بسيط غير قابل للتعدد لوحدة
متعلقه وهو الكلام.
نعم التبعيض في حجية المدلول ممكنة بتعدد المدلول فيمكن صدور التعبد
ببعضه دون الآخر.
الا انه قد عرفت فيما تقدم ان التعارض في مقام الصدور انما يحصل مع عدم
امكان العمل بمدلول كل من المتعارضين بحيث يكون التعبد بصدور كل منهما لغوا
فيحصل التعارض بينهما.
ومع كون التعارض في المقام - الفرض - في بعض المدلول دون الآخر فلا
يحصل التعارض في مقام الصدور بينهما لامكان العمل بمدلول كل منهما ببعضه وهو
كاف في رفع لغوية التعبد بصدور كل منهما لوجود العمل على طبقه ولو بلحاظ
بعضه.
وبالجملة فعلى هذا الالتزام لا يمكن تصور التبعيض في حجية الصدور مع
عدم ثبوت التعارض في هذا مقام الذي هو موضوع الاحكام فلا تصل النوبة إلى
الكلام في شمول الاخبار العلاجية وعدمها.
وبهذا البيان تعرف ما في دعوى السيد الخوئي (حفظه الله) - كما في مصباح
الأصول -، لامكان التبعيض في حجية الصدور مع التزامه بهذا الالتزام - منظرا
440

له بقيام البينة على ملكية زيد لعشرة دراهم وقيام أخرى على نفي ملكيته لخمسة
فإنه يؤخذ بالبينة الأولى في اثبات ملكيته لخمسة دراهم وهو معنى التبعيض (1).
ولكن التنظير المذكور ليس بشئ فان التبعيض في مورد البينة انما هو في
المدلول - وهو الملكية - وقد عرفت أنه قابل للتبعيض لتعدده لا الصدور للقطع به،
بل لا معنى له لان مفادها ليس الحكاية عن الإمام (عليه السلام) وموضوع
الكلام في الخبر هو التبعيض في حجية الصدور فلا يتجه القياس المذكور
ثم إنه فرض أولا احتمال القول بالتساقط في المجمع والاخذ بكل من العامين
في مورد افتراقه عن الاخر مستدلا على ذلك بان طرحهما في مورد افتراقهما طرح
للحجية بلا معارض وهو ممنوع ثم فرض احتمال الرجوع في المجمع إلى الاخبار
العلاجية وبين صحة هذا الاحتمال وتنجزه على ثبوت معقولية التبعيض في الحجية
وعدمها ثم جزم بمعقولية التبعيض بعد ذلك.
ولا يخفى على النبيه ان الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع والالتزام بهما في
مورد الافتراق التزام بالتبعيض في الحجية المفروض كونه محل الاشكال فكيف
يفرض الكلام في معقولية التبعيض وعدمها متأخرا عن فرضه وأنه يكون بناء على
الاحتمال الآخر بحيث انه مع عدم معقوليتها ينتهى إلى عدم الرجوع إلى الاخبار
العلاجية وتعين الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع مع أنه يستلزم تساقطهما في
مجموع مدلولهما كما لا يخفى على المتدبر؟ كما أنه على هذا - أعني: فرض التبعيض
على القول بالتساقط - لا يصح الانتهاء إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية بفرض
معقولية التبعيض كيف؟ والمفروض انه لازم كلا القولين!.
وان قلنا بالأول..
فتارة يلتزم بان مفاد هذا التعبد الواحد إلغاء احتمال الخلاف في المقامات
الثلاثة للخبر فهو يتكفل إلغاء احتمال الخلاف في كل مقام ضمنا.

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 428 - الطبعة الأولى.
441

وأخرى يلتزم بأن مفاده ليس ذلك، بل مفاده رأسا الالزام بمضمون الخبر
ولازم ذلك هو إلغاء احتمال الخلاف في مقاماته الثلاثة لا ان مفاده رأسا ذلك.
فعلى الأول يكون الكلام فيه عين الكلام على القول الأول من امتناع
التبعيض في الحجية في مقام الصدور ثبوتا لعدم معقولية التبعيض فيه كي ينفى
احتمال الخلاف ضمنا في بعضه دون الآخر وعدم شمول الاخبار العلاجية له اثباتا لعدم انتهاء المعارضة إلى مقام السند والصدور.
وعلى الثاني فلما كان التعبد بالخبر يرجع إلى الالزام بالأخذ بمضمونه ومفاده
والبناء على أنه حكم الله كان التبعيض في حجيته ممكن التحقق بلا اشكال لتعدد
المدلول وامكان التفكيك بين افراده في الحجية والتعبد فشمول الاخبار العلاجية
ثبوتا ممكن على هذا الالتزام الا ان الكلام في شمولها اثباتا بمعنى ان مقتضى
الاخبار العلاجية ومفادها بنحو يشمل مورد العامين من وجه أو لا يشمل بل
يختص بمورد المتباينين.
والحق عدم شمولها لعدم سريان التعارض إلى مقام السند والصدور كما
عرفت واختصاص الاخبار في المتعارضين في هذا المقام كما عرفت مرارا والسر
فيه: ان موضوع الاحكام في الاخبار المزبورة هو الخبران المتعارضان وظاهر ان
المخبر به انما هو قول المعصوم وصدور هذا الدال منه (عليه السلام) وليس هو نفس
المدلول والمضمون.
وبعبارة أخرى: ان الإخبار بقوله (عليه السلام) لا بمقول القول وعليه
فالتعارض بين الخبرين معناه التعارض بينهما في هذا المقام ومن هذه الجهة أعني
جهة الخبر لان معناه التنافي بينهما في مدلوليهما المخبر به وذلك يكون لو كان
التنافي مقام الصدور بمعنى انه لا يمكن الالتزام بصدور هذين الكلامين، فلاحظ
والمتحصل: انه لا وجه للالتزام بشمول أدلة العلاج في مورد التعارض
بالعموم من وجه لأنه ممتنع اثباتا على بعض التقادير واثباتا وثبوتا على بعض
442

آخر.
ولو تنزلنا عن الالتزام بتعدد التعبد أو رجوعه إلى المتعدد والتزمنا بوحدته
حقيقة وحكما وتنزلنا عن الالتزام باختصاص الاخبار العلاجية بمورد التعارض
في مقام السند والصدور والتزمنا بعمومها لجميع الموارد كان اللازم مراعاة
الترجيح والتخيير بين الخبرين بمجموع مدلوليهما لا بخصوص مورد الاجتماع لان
التعارض انما هو بين هذا الخبر وذاك وان كان منشأه التنافي في بعض المدلول الا ان
يلتزم بشمول الاخبار لمورد التعارض بين الخبرين الضمنيين أيضا فتختص
ملاحظة المرجحات في مورد الاجتماع لصدق الخبر الضمني على بعض المدلول لان
الاخبار بالمجموع استقلالا اخبار بالبعض ضمنا.
الا ان اثبات ذلك من الاخبار مشكل جدا بل ممنوع لظهورها في إرادة
الخبرين بالاستقلال فلاحظ وتدبر.
يبقى الكلام فيما افاده السيد الخوئي في ما لو كان التعارض بين الاطلاقين من
سقوط الروايتين في مورد الاجتماع من الأول بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات
وذلك لان الاطلاق بمعنى اللابشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول
اللفظ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة المعبر عنها باللا بشرط المقسمي فلا يروي
الراوي عن الإمام (عليه السلام) الا ثبوت الحكم للطبيعة المهملة واما اطلاقه فهو
خارج عن مدلول اللفظ ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة وعلى هذا
فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما إذ لا تنافى بين ثبوت الحكم
بوجوب اكرام العالم على نحو الاهمال وحرمة اكرام الفاسق على هذا النحو أيضا
فلا تنافى بين الخبرين أيضا ولا سبيل للعقل إلى الحكم بان المراد منهما وجوب
اكرام العالم مطلقا ولو كان فاسقا وحرمة اكرام الفاسق مطلقا ولو كان عالما لأنه
حكم بالجمع بين الضدين والحكم بالاطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا
443

مرجح فيسقط الدليلان معا في مادة الاجتماع (1).
وتحقيق الحال فيما ذكره - بعد ظهور ان نظره في ذلك إلى أن اجراء مقدمات
الحكمة انما هو بيد المكلف لا الراوي، بل الراوي لا ينقل سوى ثبوت الحكم
للطبيعة المهملة والعقل يستظهر بمقدمات الحكمة إرادة العموم وهي غير تامة فيما
نحن فيه - ان الراوي اما ان ينقل المعنى أو اللفظ والمراد بنقل المعنى واسناده إلى
المعصوم (عليه السلام) هو اللفظ لا المدلول كما لا يخفى.
فإن كان الراوي ناقلا بالمعنى فمعناه انه ينقل صدور الدال على المعنى
الاطلاقي وهو العموم من الإمام (عليه السلام) وهذا يعنى اجراؤه بشخصه
مقدمات الحكمة في كلام الإمام (عليه السلام) لا المكلف. نعم، المكلف يجري
مقدمات الحكمة في كلام الراوي كي يستظهر صدور المطلق من المعصوم. باعتبار ان
الراوي يخبر بصدور الدال على هذا المعنى الذي يبديه من الإمام (عليه السلام).
ولو كان النقل باللفظ، فمقدمات الحكمة من الأمور الواقعية المستفادة من
الراوي وروايته فان عدم نصب القرينة انما يعلم من الراوي وهكذا كونه في مقام
البيان، فإنه يعرف من ملاحظة خصوصيات الحديث وشؤونه وهو ما يرتبط
بالراوي وعليه فالمعنى الاطلاقي يكون مدلولا لكلام الراوي وليس هو خصوص
الطبيعة المهملة، والاطلاق يحكم به العقل بواسطة مقدمات الحكمة ومعه يحصل
التعارض بين الروايتين باعتبار مدلوليهما، فلاحظ.
ولو أغمضنا النظر عن هذا كله والتزمنا بأن اجراء مقدمات الحكمة بيد
المكلف فما رتبه على ذلك من سقوط الدليلين في مورد الاجتماع لعدم تمامية
المقدمات، لاستلزام الاطلاق فيها الحكم بالجمع بين الضدين، والالتزام بإطلاق
أحدهما ترجيح بلا مرجح انما يتم لو كان مجرى المقدمات المذكورة هو المراد

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 429 الطبعة الأولى.
444

الجدي وقد عرفت في صدر المبحث خلاف ذلك وان مجراها المراد الاستعمالي
ومعه لا محذور في انعقاد الاطلاق في كل منهما نظير العامين بالوضع ويلتزم
بتعارضهما في مورد الاجتماع كالعامين بلا فرق أصلا لا موضوعا ولا حكما فتدبر
هذا تمام الكلام في مبحث التعادل والترجيح وبه تمت الدورة الأصولية
والحمد لله أولا وآخرا وهو ولي التوفيق وكان ذلك في صباح الاثنين الموافق
للثامن عشر من شهر شوال سنة (1383 ه‍) وقد تم تسجيله مساء الاثنين في
اليوم نفسه نسأله جلت عظمته ان يوفقنا للعلم والعمل الصالح ليكون ذلك ذخرا
لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم، انه سميع مجيب وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
عبد الصاحب الحكيم.
445