الكتاب: أنوار الهداية
المؤلف: السيد الخميني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الثاني ١٤١٤ - ١٣٧٢ ش
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
ردمك:
ملاحظات:

مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
فرع قم المقدسة - ج 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد
وآله الطاهرين.
1

مباحث الشك
10

الأصول العملية
قوله: المقصد السابع: في الأصول العملية.. إلخ (1).
ينبغي التنبيه على أمور:
الأمر الأول
في ترتيب مباحث الأصول
أنه قد جرى ديدنهم في أول مبحث القطع (2) بتقسيم حالات المكلف:
من أنه إما أن يحصل له القطع، أو الظن، أو الشك، وذكر مجاري الأصول،
ولقد أطالوا الكلام في النقض والإبرام، والإشكال في الطرد والعكس فيها.
وبعد اللتيا والتي لا يخلو شئ منها من إشكال أو إشكالات، لأن أحسن
ما قيل في المقام ما أفاده شيخنا العلامة (3) - أعلى الله مقامه -: من أن

(1) الكفاية 2: 165.
(2) انظر فرائد الأصول: 190 سطر 14 - 16، فوائد الأصول 3: 2 - 3، مقالات الأصول
2: 2، نهاية الأفكار - القسم الأول من الجزء الثالث: 2.
(3) درر الفوائد 2: 2.
11

المكلف إذا التفت إلى حكم: فإما أن يكون قاطعا به، أولا.
وعلى الثاني: فإما أن يكون له طريق منصوب من قبل الشارع، أولا.
وعلى الثاني: إما أن يكون له حالة سابقة ملحوظة، أولا.
وعلى الثاني: إما أن يكون الشك في حقيقة التكليف، أو في متعلقه.
وعلى الثاني: إما أن يتمكن من الاحتياط، أولا (1) انتهى.
وفيه أولا: أن المراد بالقطع: إما أن يكون قطعا تفصيليا، أو أعم منه ومن
الإجمالي.
فعلى الأول: يرد عليه أولا: أن الاختصاص به مما لاوجه له، فإن المختار
عدم الفرق بين القطع التفصيلي والإجمالي في وجوب المتابعة.
وثانيا: بناء على الاختصاص لا وجه لذكر القطع الإجمالي في مبحث القطع.

(1) كان الأولى في ترتيب مباحث الأصول أن يبحثوا عن القطع بقسميه - التفصيلي،
والإجمالي - في مبحث، ويدرجوا فيه بعض مباحث الاشتغال والتخيير مما كان الحكم
معلوما إجمالا بالعلم القطعي، ثم يردفوه بمبحث الظن والأمارات، سواء كانت الأمارة
تفصيلية أو إجمالية، ويدرجوا فيه سائر مباحث الاشتغال والتخيير، ويدرجوا بحث
التعادل والتراجيح في ذيل حجية الخبر الواحد، ثم يردفوه ببحث الاستصحاب، ثم
مبحث البراءة، حتى يكون ترتيب المباحث حسب ترتيب حالات المكلف، فإنه إما
قاطع بالحكم إجمالا أو تفصيلا، أو ظان بظن معتبر تفصيلا أو إجمالا، أو شاك وقامت
حجة على الحكم الواقعي أو لا، فالأول مبحث القطع بقسميه، والثاني مبحث الظن
والطرق بقسميها من التفصيلي والإجمالي، ومبحث التعادل مناسب لمبحث الظن،
والثالث مبحث الاستصحاب، فإنه حجة على الحكم الواقعي من غير أن يكون طريقا،
والرابع مبحث البراءة. والأمر سهل. [منه قدس سره]
12

وعلى الثاني: [يحصل] تداخل بينه وبين الشك في المتعلق، فإن جميع
أقسام الشك إنما هو في مقابل القطع، والمفروض أنه أعم من الإجمالي،
فالشك في المتعلق من القطع، ولابد وأن يذكر في مبحث القطع. هذا حال
القطع.
وكذلك الإشكال وارد على الطريق المنصوب من قبل الشارع إذا عرض
الإجمال لمتعلقه، فيتداخل مع الشك في المتعلق بما ذكرنا.
وثانيا: أن الظاهر من هذا التقسيم أن يكون إجمالا لما فصل في الكتاب
من المباحث، فيلزم أن يكون جل مباحث الظن - لو لم يكن كلها -
مستطردا، فإن الطريق المنصوب من قبل الشارع: إما مفقود رأسا، بناء على
ما هو الحق من أن حجية الخبر الواحد إنما هي إمضائية لا تأسيسية،
فلا يكون نصب طريق من قبله أصلا.
وإما مختص بخبر الثقة إن قلنا بتأسيسية الحجية له، فيكون سائر المباحث
استطرادا، والظن على الانسداد لا يكون حجة شرعية كما عرفت (1).
وثالثا: أن قيد اللحاظ في الاستصحاب - لأجل تخصيصه بما اعتبره
الشارع - يجعله كالضروري بشرط المحمول، فكأنه قيل: المختار في مجرى
الاستصحاب ما هو معتبر شرعا، وهو كما ترى.
والأولى أن يقال: إن هذا التقسيم إجمال المباحث الآتية في الكتاب
تفصيلا، وبيان لسر تنظيم الكتاب على هذه المباحث، فإن هذا التنظيم لأجل

(1) انظر الجزء الأول صفحة: 347 وما بعدها.
13

حالات المكلف بالنسبة إلى الحكم الشرعي، فإنه لا يخلو من القطع بالحكم أو
الظن أو الشك به، والشك لا يخلو: إما أن يكون له حالة سابقة أولا، والثاني
لا يخلو: إما أن يكون الشك في التكليف أو المكلف به، والثاني لا يخلو: إما
أن يمكن الاحتياط فيه أولا، فرتبت مباحث الكتاب على حسب حالات
المكلف من غير نظر إلى المختار فيها.
فللقطع مباحث تأتي في محلها، وكذلك للظن والشك بأقسامه، فلا يرد
عليه إشكال، لعدم التداخل بين المباحث وعدم الاستطراد.
نعم يرد عليه: إشكال التداخل بين القطع والشك في المتعلق، فإنه - أيضا -
من القطع الإجمالي.
ويمكن أن يقال: إن ما ذكر في مبحث القطع هو حيثية حجية القطع وما
يرتبط بها، وما ذكر في مباحث الاشتغال هو أمور أخر مربوطة بالشك،
فلا يتداخلان، لاختلاف اللحاظ، وعلى ما ذكرنا لا احتياج [إلى] تقييد
الحالة السابقة بالملحوظة.
الأمر الثاني
وجه تقديم الأمارات على الأصول
قد أشرنا سابقا (1) إلى ضابطة الحكومة، وأنها هي كون الدليل الحاكم
متعرضا للمحكوم نحو تعرض ولو بنحو اللزوم العرفي أو العقلي مما لا يرجع

(1) انظر الجزء الأول صفحة: 370 - 372.
14

إلى التصادم في مرحلة الظهور، أو كون دليل الحاكم متعرضا لحيثية من
حيثيات دليل المحكوم مما لا يتكفله دليل المحكوم توسعة وتضييقا.
وبما ذكرنا من الضابط يظهر وجه تقديم الأمارات على الأصول.
لكن لابد من التعرض لنكتة: وهي أن الحكومة لم تكن بين
نفس الأمارات والأصول، بل تكون بين دليليهما، فالحكومة إنما تتقوم
بكيفية التأدية ولسان الدليل، فلم تكن بين الأدلة اللبية الصرفة. نعم
قد يكون أحد الدليلين اللبيين واردا على الدليل الآخر اللبي، لكن الدليل
الحاكم لابد وأن يكون دليلا لفظيا يتصرف في المحكوم نحو تصرف، على
ما فصلناه سالفا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن أدلة الأمارات مختلفة: فقد يكون دليلها هو
البناء العقلائي أو الإجماع، مثل أصالة الصحة في فعل الغير بناء على
أماريتها، فإن دليلها السيرة العقلائية أو الإجماع، دون الدليل اللفظي، فتقديم
دليلها على الاستصحاب لم يكن بنحو الحكومة، بل بنحو الورود أو
التخصيص أو غير ذلك، وسيأتي في محله (1).
ومثل أدلة حجية خبر الثقة، فإنها مختلفة، فإن كان المستند هو مفهوم آية
النبأ - بناء على المفهوم - فلا يبعد أن يكون بنحو الحكومة، لأن [مفهوم]
قوله: * (إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) * (2) أن خبر العادل

(1) رسالة الاستصحاب المطبوعة ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام قدس سره: 236 - 244.
(2) الحجرات: 6.
15

متبين، ولم يكن الإقدام معه جهالة، فيقدم على أدلة الأصول التي يكون
موضوعها عدم العلم والجهالة.
وإن كان المستند هو الأخبار، فلسان بعضها يكون بنحو الحكومة، وإن
كان غالبها لم تكن بتلك المثابة.
وإن كان المستند هو بناء العقلاء، فلا يبعد أن يكون التقديم بنحو الورود.
وأما أدلة قاعدة الفراغ والتجاوز فهي حاكمة على الاستصحاب ولو قلنا
بأمارية الاستصحاب، فإن أدلته - بناء على أماريته - وإن كان لسانها هو إطالة
عمر اليقين - كما أشرنا إليه سابقا (1) - لكن الشك أيضا مأخوذ فيها، لا بنحو
الموضوعية وترتب الأحكام عليه حتى يكون أصلا، بل اعتبر الشك لكن بما
أنه أمر غير مبرم لا ينقض به اليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم.
وأما دليل القاعدة فمفاده عدم شيئية الشك مع التجاوز، وما كان مفاده
عدم الشك مقدم على ما كان مفاده تحقق الشك، لكن لا يكون بمثابة ينقض
به اليقين، فإن قوله: (إنما الشك في شئ لم تجزه) (2)، وقوله: (فشكك ليس

بشئ) (3) لسانهما الحكومة على قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) (4) ولو قلنا
(1) انظر الجزء الأول صفحة: 37.
(2) التهذيب 1: 101 / 111 باب 4 في صفة الوضوء..، مستطرفات السرائر: 25 / 3 من
نوادر أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، الوسائل 1: 331 / 2 باب 42 من أبواب الوضوء.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) التهذيب 1: 8 / 11 باب 1 في الأحداث الموجبة للطهارة، الوسائل 1: 174 / 1 باب 1
16

بأمارية الاستصحاب، ولا غرو في ذلك بعد أن يكون المناط في الحكومة
هو لسان الأدلة، فتقدم أمارة على أمارة لأجل ذلك.
وأما إن كان الاستصحاب أصلا فلا إشكال في حكومة أدلتها على أدلته،
فإن مفاد أدلة الاستصحاب: أنه إذا شككت فابن على اليقين عملا، ورتب
آثار اليقين الطريقي، فموضوعه الشك، ولسان أدلة الفراغ والتجاوز هو عدم
شيئية الشك، وهو لسان الحكومة كما لا يخفى.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الحكومة إنما تكون بين أدلة الأمارات
والأصول، فلا بد من ملاحظة الأدلة وكيفية تأديتها، فربما لا تكون الحكومة
بحسب دليل، وتكون بحسب دليل آخر، وربما يكون دليل الأصل حاكما
على دليل الأمارة، فتدبر جيدا.
ثم إن بعض أعاظم العصر - رحمه الله - نسب إلى ظاهر كلام الشيخ
- قدس سره - في المقام وفي مبحث التعادل والترجيح: أن الوجه في التنافي
بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي
والظاهري، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
ثم رده: بأن المناطين مختلفان في الجمع والتنافي، والجمع بين الأمارات
والأصول إنما هو بالحكومة، لا بما أفاد الشيخ (1) انتهى.
من أبواب نواقض الوضوء.

(1) فوائد الأصول 3: 326.
17

ولا ينقضي منه العجب، فإن كلام الشيخ قدس سره - في المقام وفي
مبحث التعادل والترجيح - عار عما نسبه إليه، بل صرح الشيخ بأن وجه
تقديم الأمارات على الأصول هو الحكومة (1).
وظني أن المحقق المعاصر لحسن ظنه بضبطه وحفظه لم يراجع كلام الشيخ
حين الإلقاء والتدريس، والفاضل المقرر - رحمه الله - أيضا لحسن ظنه بضبط
أستاذه وإتقانه لم يراجع حين التقرير، فوقعا فيما وقعا، فراجع كلامهما.
الأمر الثالث
وحدة مناط البحث في أقسام الشبهات
لا يخفى أن المناط واحد في البحث عن جميع أقسام الشبهات،
موضوعية كانت أو حكمية، وجوبية أو تحريمية، تكون الشبهة لأجل فقدان
النص أو إجماله أو تعارض النصين، واختصاص بعض الأقسام بالخلاف دون
غيره، أو بحكم من دليل خارج، لا يوجب إفراد البحث فيها، ضرورة أن ذلك
خارج عما هو مناط البحث، فالأولى عدم إفراد البحث فيها، وعطف النظر
إلى ما هو محط الكلام ومناط البحث إشكالا وحلا ودليلا. نعم بعض الأدلة
عام لجميع الشبهات وبعضها مخصوص ببعضها.

(1) فرائد الأصول: 191 - 192 و 432 سطر 4.
18

أدلة القول بالبراءة
19

الاستدلال بالكتاب
إذا عرفت ذلك، فقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة:
أما الكتاب فبآيات:
الآية الأولى
منها: قوله - تعالى -: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (1).
وتقريب الاستدلال بها على وجه يدفع الإشكالات عنها أن يقال: إنه
لا إشكال في أن المتفاهم العرفي من الآية الشريفة - ولو بمناسبة الحكم
والموضوع - أن بعث الرسل يكون طريقا إلى إيصال التكاليف [إلى] العباد،
لا أن له جهة موضوعية - خصوصا مع انتخاب لفظ الرسول المناسب
للرسالة والتبليغ - فلو فرضنا أنه - تعالى - بعث رسولا، لكنه لم يبلغ الأحكام
إلى العباد في شطر من الزمان لجهة من الجهات ومصلحة من المصالح،

(1) الإسراء: 15.
21

لا يمكن أن يقال: إنه - تعالى - يعذبهم لأنه بعث الرسول، ضرورة أن
المتفاهم من الآية أن البعث لأجل التبليغ وإتمام الحجة يكون غاية لعدم
التعذيب، وهذا واضح.
وكذا لو فرضنا أنه بلغ بعض الأحكام دون بعض، كان التعذيب بالنسبة
إلى ما لا يبلغه مخالفا للوعد في الآية الشريفة، وكذا لو فرض أنه بلغ إلى
أهل بلد خاص دون سائر البلدان، وانقطع بالنسبة إليها لأجل حوادث، أو بلغ
جميع الأحكام إلى جميع البلدان في عصره، ثم عرض الاشتباه، وانقطع
وصول التبليغ على ما هو عليه بالنسبة إلى سائر الأعصار، فإن في جميع
تلك الصور يفهم عرفا من الآية الشريفة: أن الغاية - التي هي إيصال الأحكام
إلى العباد وإتمام الحجة عليهم - لم. تحصل، فكما أن مجرد وجود الرسول بين
الأمة قبل تبليغه الأحكام لا يصحح العقاب، كذلك التبليغ الغير الواصل إلى
العباد في حكم عدم التبليغ في ذلك عند العقل والعرف.
فإذا اشتبه حكم موضوع، وعمل العبد ما تقتضي وظيفته من التفتيش
والفحص، ولم يصل إلى حكم المولى، ولم يكن له علم إجمالي أو تفصيلي
بالإلزام، يكون مشمولا لقوله تعالى: * (ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (1)،
لما عرفت من أن البعث ليس له جهة موضوعية، بل هو لأجل إيصال الحكم
إلى العباد جعل غاية للوعد بحسب الفهم العرفي.
فما أفاده بعض أعاظم العصر - قدس سره - من أن مفاد الآية أجنبي عن

(1) الإسراء: 15.
22

البراءة، فإن مفادها الإخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة، فلا دلالة لها على
حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه (1) ليس في محله، لأن المشتبه الذي
لم يصل حكمه من الله - تعالى - إلى العباد بعد الفحص مشمول للآية: إما
بما ذكرنا من أن البعث كناية عن إيصال الحكم، أو بالغاء الخصوصية بنظر
العرف بمناسبة الحكم والموضوع.
ثم اعلم أن التعبير بقوله: * (ما كنا معذبين..) * - دون قوله: ما عذبنا - مما
يشير إلى معنى آخر بحسب المتفاهم العرفي: وهو أن التعذيب قبل البيان
مناف لمقام الربوبية، وأنه - تعالى - أجل من أن يعذب قبل تبليغ الحكم إلى
العباد وإتمام الحجة عليهم، فكأنه - تعالى - قال: ما كنا مرتكبين لهذا الأمر
الذي ينافي مقامنا الأرفع وجنابنا الأمنع.
ومن هذا التركيب والبيان: إما أن يفهم عرفا أن التعذيب قبل البيان مناف
لمقام عدله، ويكون أمرا قبيحا مستنكرا منه - تعالى - كما لا يبعد، وإما أن
يفهم أنه مناف لمقام رحمته ولطفه بالعباد.
فعلى الأول: يفهم منه عدم الاستحقاق أيضا، فإنه مع الاستحقاق
لا يكون التعذيب منكرا منافيا لعدله - تعالى - وحينئذ يكون الاستدلال بها
للبراءة مما لا إشكال فيه.
وعلى الثاني: لا يفهم منه إلا رفع فعلية العقاب، وهو لا ينافي الاستحقاق.
فاورد على الاستدلال بها:

(1) فوائد الأصول 3: 333 - 4 33.
23

تارة: بأنها مربوطة بنفي تعذيب الأمم السالفة قبل بعث الرسل (1) فهي
أجنبية عما نحن فيه.
واخرى: بأن الاستدلال بها لما نحن فيه متقوم بكونها في مقام نفي
الاستحقاق، لانفي الفعلية، لأن النزاع في البراءة إنما هو في استحقاق
العقاب على ارتكاب المشتبه وعدمه، لافي فعلية العقاب (2).
هذا، ويرد على الإشكال الأول:
أولا: بمنع كونها مربوطة بالأمم السالفة، بل الظاهر من الآيات المتقدمة
عليها أنه عند الحساب يقال للإنسان الذي الزم طائره في عنقه: * (اقرأ كتابك
كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * (3) وترى أن الجزاء على ميزان العدل، من
غير أن تزر وازرة وزر أخرى، ومن غير أن يكون التعذيب بلا تمامية التبليغ
وإرسال الرسول وإيصال التكليف، فلا دلالة فيها على كونها راجعة إلى
الأمم. ولا دلالة لقوله: * (مما كنا) * بصيغة الماضي على ذلك، فإن النظر إلى يوم
الحساب، ويعتبر المضي بالنسبة إليه، ولذا قال: * (وكل إنسان ألزمناه طائره) * (4)
مع أن زمان صدور الآية لم يكن كذلك إلا بتأويل.
وثانيا: لو سلم بأن موردها نفي تعذيب الأمم السالفة، لكن يفهم منها - ولو

(1) فرائد الأصول: 193 السطر الأخير.
(2) الفصول: 353 سطر 7 - 8.
(3) الإسراء: 14.
(4) الإسراء: 13.
24

بمناسبة الحكم والموضوع، وكيفية التعبير - أن التعذيب قبل البيان مناف لمقامه
الشامخ، وهو منة ثابتة وسنة جارية إلى نفخ الصور، فهل ترى أنه - تعالى -
رفع العقوبة الدنيوية - من مثل تسليط الوزغة في أيام معدودة محدودة - منة
على عباده، ثم أخبر بأن ذلك أي هذه التعذيبات اليسيرة منافية لمقام رحمته
وإفضاله، ثم عذب العباد قبل البيان بالنار التي تطلع على الأفئدة وبأنواع
العقوبات العجيبة الخالدة الأخروية؟!
وبالجملة: يفهم من الآية - ولو بإلقاء الخصوصية ومؤنة مناسبة الحكم
والموضوع - أن التعذيب قبل البيان لم يقع، ولا يقع أبدأ.
وعلى الإشكال الثاني:
أن توقف الاستدلال بها على ما ذكر - وكون النزاع في البراءة إنما هو
في استحقاق العقوبة لا فعليتها - غير مسلم، فإن نزاع الأصولي والأخباري
إنما هو في لزوم الاحتياط في الشبهات وعدمه، وبعد ثبوت المؤمن من قبل
الله لا نرى بأسا في ارتكابها، فشرب التتن المشتبه حرمته إذا كان ارتكابه مما
لاعقاب فيه - ولو بمؤمن شرعي وترخيص إلهي - ليس في ارتكابه محذور
عند العقل.
وبالجملة: رفع العقوبة الفعلية وحصول المؤمن من عذاب الله يكفي القائل
بالبراءة في تجويز ارتكاب الشبهات وإن لم يثبت بها الإباحة، ولذا
ترى يستدلون بحديث الرفع وأمثاله للبراءة ولو مع تسليم كون مفاده
25

رفع المؤاخذة (1).
وبما ذكرنا من تقريب الاستدلال يظهر: أنه لا وقع لما زعمه الأخباريون
من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل والشرع (2) بل لا وقع لكثير مما
ذكر في المقام إشكالا ودفعا، تدبر.
كما يظهر - مما قربنا [به] وجه الدلالة - أنها أظهر الآيات التي استدل بها
في المقام.
نعم لا يزيد دلالة الآية هذه - كما أفاد الشيخ الأعظم (3) - على حكم
العقل، فلو دل دليل على لزوم التوقف أو الاحتياط يكون واردا عليها، كما
لا يخفى.
وقد استدل بآيات اخر:
الآية الثانية
منها: قوله - تعالى -: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (4).
والاستدلال بها يتوقف على كون المراد من الموصول التكليف، ومن
الإيتاء الإيصال والإعلام، أو كون الموصول والإيتاء مستعملين في معنى أعم

(1) انظر فرائد الأصول: 196 - 197، درر الفوائد 2: 104، مقالات الأصول 2:
58 - 59، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 225 سطر 5 - 8.
(2) انظر فرائد الأصول: 194 سطر 1 - 2، القوانين 2: 5 سطر 7 - 10.
(3) فرائد الأصول: 194 سطر 13 - 16 و 195 سطر 5 - 10.
(4) الطلاق: 7.
26

شامل للتكليف والإيصال.
وأنت خبير بأن إرادة خصوص التكليف منه مخالف لمورد الآية وما قبلها
وبعدها، وهو قوله - تعالى -: * (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه
فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) *
وهو - كما ترى - آب عن الحمل المذكور.
نعم الظاهر أن قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * هو الكبرى الكلية
بمنزلة الدليل على ما قبلها، وهي أن الله - تعالى - لا يكلف نفسا إلا بشئ
أعطاها وأقدرها عليه، كما يظهر من استشهاد الإمام - عليه السلام - بها حين
سئل عن تكليف الناس بالمعرفة (1) فإن العرفان بالله - وهو العلم الشهودي
الحضوري بوجوده الخارجي - لا يمكن للعباد إلا باقداره وتأييده - تعالى -
ومطلق العلم بوجود صانع للعالم - الذي هو فطري - لا يكون معرفة وعرفانا،
والتعبير عن الإقدار - لإعطاء الكبرى - بالإيتاء الذي بمعنى الإعطاء، لا يبعد
أن يكون للمناسبة والمشاكلة مع قوله - قبيل ذلك -: * (فلينفق مما آتاه الله) *.
وأما كون الموصول أعم من التكليف فالظاهر عدم إمكانه، لأن نحو تعلق
الفعل بالمفعول المطلق - أعم من النوعي منه وغيره - يباين نحو تعلقه بالمفعول
مع الواسطة، أي المنصوب بنزع الخافض أو المفعول به، لعدم الجامع بين
التكليف والمكلف به بنحو يتعلق التكليف بهما على نعت واحد، فإن البعث

(1) الكافي 1: 163 / 5 باب البيان والتعريف ولزوم الحجة من كتاب التوحيد، توحيد
الصدوق: 414 / 11 باب 64 في التعريف والبيان والحجة.
27

لا يصير مبعوثا إليه، ولا العكس، وفي قوله - تعالى -: * (لا يكلف الله نفسا إلا
مما آتاها) * تكون كلمة النفس مفعولا به، والموصول منصوبا بنزع الخافض -
على الظاهر - أو المفعول به، ولا يمكن أن يكون الموصول هو المعنى الأعم
الشامل له وللمفعول المطلق - نوعيا كان أو غيره - لأن المفعول المطلق هو
المصدر أو ما في معناه المأخوذ من نفس الفعل - إما نوعا منه أو غيره - والمفعول
به ما يقع الفعل عليه، ولاجامع بينهما، كما لاجامع بين المفعول المطلق
والمنصوب بنزع الخافض في المقام (1).

(1) والعجب من بعض أهل التحقيق، حيث زعم رفع الإشكال: بأن الموصول لم يستعمل
إلا في معناه الكلي العام، وأن إفادة الخصوصيات إنما هي بتوسيط دال آخر خارجي،
وكذا في تعلق الفعل بالموصول، حيث لا يكون إلا نحو تعلق واحد، والتعدد بالتحليل إلى
نحو التعلق بالمفعول به والمفعول المطلق لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع - أي
الموصول - غاية الأمر يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول (أ) انتهى.
وأنت خبير بما فيه، فإن مباينة نحو تعلق الفعل بمفعول به - أي المبعوث إليه - وبمفعول
مطلق، بحيث يكون أحدهما مفروض الوجود قبل الفعل، والآخر من كيفيات نفس الفعل،
تمنع عن إرادتهما باستعمال واحد. والمراد من تعدد الدال والمدلول إن كان دالين
آخرين ومدلولين آخرين غير مفاد الآية، فهو كما ترى، وإن كان القرينتين الدالتين على
المعنى المراد منها، فمع عدم إمكان إرادتهما منها معا لا معنى لإقامة القرينة والجامع
بينهما مفقود، بل غير ممكن، حتى تكون الخصوصيات من مصاديقه.
نعم لو كان المراد من التكليف هو المعنى اللغوي - أي الكلفة والمشقة - لأمكن تعلقه
بالحكم تعلق المفعول به، فيرتفع الإشكال كما أفاد (ب).
لكن بعد إمكان إرادة الجامع الانتزاعي لا يجوز التمسك بالإطلاق على المطلوب،
لا لما أفاد من أن القدر المتيقن في مقام التخاطب مانع منه (ج) فإنه غير مانع،
28

...
كما حقق في محله (د).
ولا من جهة ما أفاد أيضا - تبعا للشيخ (ه‍) -: من أن مفاد الآية مساوق لحكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان، فلا يضر الأخباري، لإثباته الكلفة من جهة جعل إيجاب الاحتياط (و)
لأن جعل الاحتياط لأجل حفظ التكاليف الواقعية ينافي سوق الآية، حيث من الله -
تعالى - على المكلفين بأن لم يجعلهم في الضيق والكلفة [من جهة التكليف] إلا مع
الإيصال، والاحتياط ضيق بلا إيصال بالضرورة، لأنه لم يكن طريقا إلى الواقع،
فالاحتياط في الشبهات البدوية - على فرض وجوبه - كلفة من قبل الله من غير إيصال
الواقعيات، وهو مناف للآية.
ولا لما أفاد ثالثا: بأن سوق الآية يكون مساق قوله: (إن الله سكت عن أشياء لم يسكت
عنها نسيانا) (ز) فكانت دلالتها ممحضة في نفي الكلفة عما لم يوصل علمه إلى العباد
لمكان سكوته وعدم بيانه (ح)، ضرورة أن ذلك بعيد عن مساق الآية غاية البعد، بل
تعرض لمثل ما هو ضروري، فيرجع مفاد الآية: بأن الله لا يكلف نفسا بما هو ساكت عنه
ولم يكلف العباد، وهو كما ترى.
بل عدم جواز التمسك بالإطلاق لأن الاحتجاج بالإطلاق إنما هو بعد ظهور اللفظ
ودلالته، وحينئذ لو جعل طبيعة دالة على معنى موضوعا لحكم، واحتملنا دخالة قيد
في الحكم بحسب اللب والجد، لدفع الاحتمال بأصالة الإطلاق، وفي مثل المقام الذي
لا يثبت ظهور اللفظة - وأنه هل أراد المعنى الجامع الانتزاعي الذي نحتاج في تصور
إرادته إلى تكلف، أو أراد أحد المعاني الاخر؟ - لا مجال للتمسك بالإطلاق،
كما لا يخفى.
[منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 202 - 203.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 203 سطر 2 - 13.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 203 - 204.
(د) فوائد الأصول 1: 574 - 576. -
29

مضافا إلى أن مجرد الإمكان لا يوجب ظهور اللفظ، ولا إشكال في أن
الظاهر - بمناسبة الصدر والذيل في الآية الشريفة - هو أن [مفاد] قوله:
* (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * (1) أنه لا يكلف نفسا إلا بما أقدرها عليه
وأعطاها.
وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر - رحمه الله -: من
أن المراد بالموصول خصوص المفعول به، ويكون مع ذلك شاملا للتكليف
وموضوعه، وأن إيتاء كل شئ بحسبه، وأن المفعول المطلق النوعي والعددي
يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية، وأن الوجوب والتحريم يصح تعلق
التكليف بهما باعتبار مالهما من المعنى الاسم المصدري (2) فراجع كلامه (3)
(ه‍) فرائد الأصول: 193 - 194 سطر 13 - 16.
(و) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 204 سطر 2 - 6.
(ز) الفقيه 4: 53 / 15 باب 17 في نوادر الحدود، الوسائل 18: 129 / 61 باب 12
من أبواب صفات القاضي.
(ح) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 204 سطر 22 - 24.

(1) الطلاق: 7.
(2) لا يخفى أن كلامه هذا مع عدم رجوعه إلى محصل - ضرورة أن تعلق البعث بالبعث بنحو
المفعول به لا معنى له - أن لازمه الجمع بين الاعتبارين المتنافيين، فإن حاصل
المصدر في رتبة متأخرة عن المصدر، والمفعول به في الاعتبار مقدم على المصدر،
لأنه
إضافة إليه، فيلزم مما ذكره اعتبار المتأخر في الاعتبار متقدما بالاعتبار في حال كونه
متأخرا، فتدبر. [منه قدس سره]
30

(3) فوائد الأصول 3: 332.
فإنه لا يخلو من تكلف أو تكلفات.
وأما ما أفاده بقوله: ثانيا: في مقام الإشكال على دلالة الآية من الخدشة
في دلالتها - بعد تسليم كون الموصول بمعنى التكليف، والإيتاء بمعنى
الإيصال والإعلام -: بأن أقصى ما تدل عليه الآية هو أن المؤاخذة لاتحسن
إلا بعد بعث الرسل وتبليغ الأحكام، وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك
في التكليف بعد البعث والإنزال وعروض اختفاء التكليف بما لا يرجع إلى
الشارع، فالآية لا تدل على البراءة، بل مفادها مفاد قوله - تعالى -: * (ما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا) * (1) (2).
فقد عرفت ما فيه عند تقرير دلالة هذه الآية. مع أنه بعد التسليم
المذكور في الآية يكون دلالتها على البراءة ظاهرة غير محتاجة إلى
ما قررنا في آية: * (ما كنا معذبين..) * من إلقاء الخصوصية وغيره من البيان،
كما لا يخفى.

(1) الإسراء: 15.
31

(2) فوائد الأصول 3: 333.
32

الاستدلال بالسنة
حديث الرفع
قوله: وأما السنة فروايات: منها: حديث الرفع (1) (2).
تقريب الاستدلال به واضح، فالمهم بيان أمور يتم بها ما يستفاد من الحديث
الشريف:
الأمر الأول
في شموله للشبهات الحكمية
قد استشكل في الاستدلال به للشبهات الحكمية التي [هي] محل البحث
بوجوه:

(1) الكافي 2: 463 / 2 باب ما رفع عن الأمة، توحيد الصدوق: 353 / 24 باب 56 في
الاستطاعة، الخصال 2: 417 / 9 باب التسعة، الوسائل 11: 295 باب 56 من أبواب
جهاد النفس
(2) الكفاية 2: 168.
33

أحدها: أن دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام، لشهادة الوجدان
على وجود الخطأ والنسيان في الخارج، وكذا غيرهما، فلا بد من تقدير أمر
صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية، والظاهر أن المقدر هو المؤاخذة،
وهي في (ما لا يطيقون)، و (ما اضطروا إليه)، و (ما استكرهوا عليه) على نفس
هذه المذكورات، ولو قلنا بشمول الموصول في (ما لا يعلمون) الحكم - أيضا -
لما أمكن مثل هذا التقدير، إذ لا معنى للمؤاخذة على نفس الحكم، فيخصص
بالشبهة الموضوعية (1).
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه -: بأنه
لا حاجة إلى التقدير، فإن التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام
عليه، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي، أو كان الرفع رفعا تكوينيا
فلا بد في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب، وأما إذا كان
الرفع رفعا تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير، فإن الرفع التشريعي كالنفي
التشريعي ليس إخبارا عن أمر واقع، بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي
بنفس الرفع والنفي (2) انتهى.
وأنت خبير بما فيه، فإن الفرق بين الإخبار والإنشاء في احتياج أحدهما
إلى التقدير دون الآخر في غاية السقوط، فإن المصحح لنسبة الرفع إلى
المذكورات إن كان متحققا، يخرج الكلام عن اللغوية والبطلان إخبارا كان

(1) فرائد الأصول: 195 سطر 16 - 21.
(2) فوائد الأصول 3: 342.
34

أو إنشاء، كما يخرج الإخبار عن الكذب، وإلا يصير الكلام لغوا باطلا إنشاء
كان أو إخبارا، والإخبار يصير كذبا، ففي كل مورد تصح النسبة إلى غير
ما هو له ادعاء تصح في الإخبار والإنشاء، فيصح الإخبار يأن الشارع رفع ما
لا يطيقون وما اضطروا إليه، كما يصح الإنشاء، وإلا فلا يجوز في الإخبار
والإنشاء (1).
هذا، وأما رفع أصل الشبهة فكما قال: بأنه لا يحتاج إلى التقدير، لكن
لا بما أفاده: من أن الرفع رفع تشريعي فلا يحتاج إلى التقدير، فإنه - مع كونه
خلاف الاصطلاح - لا محصل له، فإنه يرجع إلى رفع الآثار والأحكام
الشرعية، وهو عين التقدير. بل بمعنى أن الرفع رفع ادعائي، وادعاء [كون] ما
لا يقبل الرفع مما يقبله.
اللهم إلا أن يرجع الرفع التشريعي إلى ذلك، فيرد عليه: أن ذلك خلاف
اصطلاح علماء فن البيان.
فتحصل مما ذكر: أن نسبة الرفع إلى المذكورات غير محتاجة إلى التقدير،

(1) مضافا إلى منع كون حديث الرفع إنشاء، بل هو إخبار عن الواقع الثابت وهو رفع الله
- تعالى - هذه التسعة منة على هذه الأمة، وليس رسول الله - صلى الله عليه وآله -
مشرعا، حتى يحمل إخباره على الإنشاء.
مع أن الإخبارات التي تكون بدواعي الإنشاء آت لا تنسلخ عن الإخبارية، ولا تكون من
قبيل استعمال الإخبار في الإنشاء، بل تكون باقية على إخباريتها، ويكون الإخبار
بداعي البعث، كما هو الحال في الاستفهام بداعي أمر آخر، فخروجها عن الكذب إنما هو
لأجل تلك الدواعي. [منه قدس سره]
35

بل هذه النسبة حقيقة ادعائية سيأتي مصححها (1) إن شاء الله.
ثانيها: أن وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في (ما
لا يعلمون) الموضوع المشتبه، لأن المراد من الموصول في (ما استكرهوا عليه)
و (ما لا يطيقون) و (ما اضطروا إليه) هو الفعل الخارجي، لا الأحكام الشرعية، لعدم
عروض هذه العناوين لها، فيختص الحديث بالشبهات الموضوعية (2).
ثالثها: أن إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هوله، وإسناده إلى الموضوع
إلى غير ما هوله، ولاجامع بين الحكم والموضوع، ولا يجوز أن يراد كل منهما
مستقلا، لاستلزام استعمال اللفظ في معنيين، فلابد أن يراد من الموصول في
الكل الشبهات الموضوعية، لوحدة السياق (3).
وأجاب عنهما المحقق المتقدم - على ما في تقريرات بحثه -: بأن المرفوع
في جميع التسعة إنما هو الحكم الشرعي، وإضافة الرفع في غير (ما لا يعلمون)
إلى الأفعال الخارجية لأجل أن تلك العناوين إنما تعرض الأفعال الخارجية
لا الأحكام، وإلا فالمرفوع هو الحكم الشرعي في الجميع، وهو الجامع بين
الشبهات الحكمية والموضوعية، ومجرد اختلاف منشأ الجهل في الشبهات
لا يقتضي الاختلاف فيما أسند الرفع إليه، فإن الرفع قد أسند إلى عنوان
(ما لا يعلمون) ولمكان أن الرفع التشريعي لابد وأن يرد على ما يكون قابلا

(1) انظر صفحة: 40.
(2) فرائد الأصول: 95 1 سطر 14 - 15.
(3) حاشية فرائد الأصول: 114 سطر 21 - 25.
36

للوضع والرفع الشرعي، فالمرفوع هو الحكم الشرعي في الشبهات الحكمية
والموضوعية، فكما أن قوله: (لا ينقض اليقين بالشك). يعم كلا المشتبهين بجامع
واحد، كذلك قوله: (رفع عن أمتي تسعة أشياء) (1) انتهى.
وفيه: أن كون المرفوع بحسب الواقع هو الحكم، لا يفي برد الإشكالين،
لأن مناط الإشكال الأول: أن الموصول في أخوات (ما لا يعلمون) إذا كان
الأفعال الخارجية والموضوعات، فوحدة السياق تقتضي أن يراد في
(ما لا يعلمون) أيضا الموضوع الخارجي الغير المعلوم، فيختص بالشبهات
الموضوعية، فكون رفع تلك العناوين بلحاظ رفع أحكامها وآثارها أجنبي عن
الإشكال.
ومنه يعلم ما في جوابه عن ثاني الإشكالين، لأن مناطه إنما هو في الإسناد
بحسب الإرادة الاستعمالية، فإن الإسناد إلى الحكم إسناد إلى ما هو له، دون
الموضوع، فلابد أن يراد في جميعها الموضوع، حتى يكون الإسناد مجازيا في
الجميع، فكون المرفوع بحسب الجد هو الحكم الشرعي أجنبي عن الإشكال.
والتحقيق في الجواب: هو ما أفاد شيخنا العلامة - قدس سره -: أما عن
الأول: فلأن عدم تحقق الاضطرار والإكراه في الأحكام لا يوجب التخصيص
في قوله: (ما لا يعلمون) ولا يقتضي السياق ذلك، فإن عموم الموصول
إنما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه، فقوله: (ما اضطروا إليه) أريد منه
كل ما اضطر إليه في الخارج، غاية الأمر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة

(1) فوائد الأصول 3: 245.
37

إلى الحكم، فيقتضي اتحاد السياق أن يراد من قوله: (ما لا يعلمون) أيضا كل
فرد من أفراد هذا العنوان.
ألا ترى أنه إذا قيل: " ما يؤكل وما يرى " في قضية واحدة، لا يوجب
انحصار أفراد الأول في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني بذلك البعض (1)

(1) وإن شئت قلت: إن الموصول في تمام الفقرات مستعمل في معناه، وكذا الصلات،
ولا يكون شئ منها مستعملا في المصاديق الخارجية، والاختلاف بينها إنما هو في
تطبيق العناوين على الخارجيات، وهو غير مربوط بمقام الاستعمال ووحدة السياق،
وكثيرا ما يقع هذا الخلط، أي بين المستعمل فيه وما ينطبق عليه، كما في باب الإطلاق،
حيث توهم إفادة العموم لأجل الخلط بين الدلالة وانطباق المدلول على الخارج.
وأما ما أفاد بعضهم من إنكار وحدة السياق في الحديث أولا لشهادة الطيرة والحسد
والوسوسة، مع أنها ليست من الأفعال، وبلزوم ارتكاب خلاف وحدة السياق لو أريد
الشبهة الموضوعية ثانيا، لأن الظاهر من الموصول في " مالا يعلمون " هو ما كان بنفسه
غير معلوم، كما في غيره من العناوين، حيث كان الموصول فيها معروضا للأوصاف،
مع أن تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا الظهور، إذ لا يكون الفعل
بنفسه معروضا للجهل، وإنما المعروض هو عنوانه، ولازم ذلك حفظا لظهور السياق أن
يحمل الموصول على الشبهات الحكمية فقط، للترجيح العرفي بين السياقين (أ) انتهى.
ففيه أولا: أن المدعى وحدة السياق في الموصولات، لا جميع الفقرات.
وثانيا: أن الفقرات الثلاث - أيضا - يراد بها الأفعال، غاية الأمر أنها من قبيل الأفعال
القلبية، ولهذا تقع موردا للتكليف، فالحسد عمل قلبي، هو تمني زوال النعمة عن الغير،
والطيرة مصدر، وهي عمل قلبي، وهكذا الوسوسة.
وثالثا: أن الشرب مجهول حقيقة، وإن كانت الإضافة صارت موجبة لتعلق الجهل به،
فالعنوان من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض، ومثله لا يكون خلاف الظاهر والسياق.
ورابعا: بعد التسليم لا يوجب ذلك الاختصاص بالشبهة الحكمية، لأن الرفع ادعائي،
38

وهذا واضح جدا (1).
وأما عن الثاني: فإن الأحكام الواقعية إن لم تكن قابلة للرفع وتكون باقية
على فعليتها في حال الجهل، يكون الإسناد في كل العناوين إسنادا إلى غير
ما هو له، وإن كانت قابلة للرفع يكون الإسناد إلى (ما لا يعلمون) إسنادا إلى ما
هو له، وإلى غيره إلى غير ما هو له، ولا يلزم محذور، لأن المتكلم ادعى
قابلية رفع ما لا يقبل الرفع تكوينا، ثم أسند الرفع إلى جميعها حقيقة (2).
وبعبارة أخرى: جعل كل العناوين - بحسب الادعاء - في رتبة واحدة
وصف واحد في قبولها الرفع، وأسند الرفع إليها حقيقة، فلا يلزم منه
محذور (3).
ويجوز تعلقه بنفس الموضوع، فيدعي رفع الخمر بلحاظ آثاره، فلا وجه للاختصاص
بالشبهة الحكمية. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 216 سطر 15 وما بعده.

(1) درر الفوائد 2: 102 سطر 5 - 11.
(2) درر الفوائد 2: 102 - 103.
(3) وقد يقال (أ) باختصاص الحديث بالشبهة الحكمية، لأن الموضوعات الخارجية غير
متعلقة للأحكام، وإنما هي متعلقة بنفس العناوين، فرفع حكم عن الموضوعات
المشتبهة فرع وضع الحكم لها، وهو ممنوع (ب).
وفيه أولا: أنه منقوض بسائر العناوين، فإن الاضطرار والإكراه إنما يحصلان في
الموضوع، كالطلاق المكره [عليه] مع أنه مشمول للحديث بلا إشكال، كما في صحيح
البزنطي (ج).
وثانيا: أن الحديث رفع الحكم عن العناوين، كالبيع المكره [عليه] والشرب المضطر إليه،
والخمر المجهول حكما أو موضوعا، إلا أن معنى رفع الحكم هو رفع إيجاب الاحتياط، أو
39

الأمر الثاني
معنى حديث الرفع
قيل: إن الرفع في الحديث الشريف بمعنى الدفع أو الأعم منه، لا بمعناه
الحقيقي، لعدم تحققه في بعض تلك العناوين (1).
والتحقيق: أنه فيه إنما هو بمعناه الحقيقي، وهو إزالة الشئ بعد
وجوده وتحققه، وذلك لأن الرفع إنما نسب إلى نفس تلك العناوين،
أي الخطأ والنسيان.. إلى آخر التسعة، وهي عناوين متحققة قد نسب
الرفع إليها ادعاء، ومصحح هذه الدعوى بحسب الواقع والثبوت
كما يمكن أن يكون رفع الآثار، يمكن أن يكون دفع المقتضيات عن
التأثير، لأن رفع الموضوع تكوينا كما يوجب رفع الآثار المترتبة عليه
والمتحققة فيه، كذلك يوجب عدم ترتب الآثار عليه بعد رفعه وإعدامه،
رفع الفعلية، أو رفع المؤاخذة، على اختلاف المسالك، ورفع الموضوع كذلك إن لم نقل
برفع الحكم عن الموضوع المجهول حقيقة كما في سائر العناوين، والظاهر عدم
التزامهم به في بعض الموارد. [منه قدس سره]
(أ) موضع التعليقة في المخطوطة غير معين، ولعل المناسب ما أثبتناه.
(ب) فوائد الأصول 3: 344.
(ج) المحاسن للبرقي 2: 339 / 124 من كتاب العلل، الوسائل 16: 164 / 12 باب 12
من أبواب الأيمان.

(1) درر الفوائد 2: 104.
40

ولذلك يجوز نسبة الرفع إلى الموضوع ادعاء بواسطة رفع آثاره أو دفعها
أو دفع المقتضي عن التأثير، وذلك لا يوجب أن يكون الرفع المنسوب
إلى الموضوع بمعنى الدفع، ولذا ترى أن تبديل الرفع بالدفع يخرج الكلام
عن البلاغة، فإذا قيل: دفع النسيان والخطأ إلى غير ذلك، يصير الكلام
باردا مبتذلا.
هذا كله إذا نسب الرفع إلى نفس تلك العناوين ادعاء من غير تقدير في
الكلام، كما هو التحقيق.
ولو سلمنا بأن التقدير رفع الأحكام والآثار أمكن أن يقال - أيضا -: إنه
بمعناه الحقيقي لا بمعنى الدفع: أما في الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما
لا يطيقون وما اضطروا إليه فالأمر واضح، لشمول أدلة الأحكام - إطلاقا أو
عموما - مواردها، فقوله - تعالى -: * (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (1)
و * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (2) يشمل جميع المكلفين
ولو كانوا منطبقين للعناوين المذكورة، فدليل الرفع إنما يرفع الأحكام عنهم،
فالرفع إنما تعلق بالأحكام الثابتة المتحققة في الموضوعات بحسب الإرادة
الاستعمالية، وإن كان كل رفع بحسب الإرادة الاستعمالية دفعا بحسب
اللب، كما أن كل تخصيص تخصص لبا، ولكن ذلك لا يوجب أن يكون
الرفع بمعنى الدفع، والتخصيص والحكومة بمعنى التخصص، وذلك لأن مناط

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
41

حسن الاستعمال هو الإرادة الاستعمالية وحصول المناسبات في تلك المرحلة،
فالرفع إنما استعمل باعتبار رفع الحكم القانوني العام عن منطبق هذه العناوين،
ولا معنى للدفع في هذا المقام.
نعم، بناء على عدم جواز خطاب الناسي يكون الرفع في الأحكام التكليفية
البعثية بالنسبة إليه في غير مورده بناء على هذا الوجه.
هذا، وأما في الطيرة والحسد والوسوسة في الخلق، فالظاهر أن استعمال
الرفع فيها - أيضا - بمعناه الحقيقي، وذلك لأن الظاهر من الحديث الشريف
- من اختصاص رفع التسعة بالأمة المرحومة - أن لتلك العناوين كانت
أحكام في الأمم السالفة، ومعلوم أن الأحكام الصادرة عن الأنبياء
المشرعين - على نبينا وآله وعليهم السلام - لم تكن بحسب الوضع القانوني
والإرادة الاستعمالية مقيدة بزمان ومحدودة بحد، بل كان لها الإطلاق أو
العموم بالنسبة إلى جميع الأزمنة، وبهذا الاعتبار يقال: إنها منسوخة، وإن لم
يكن بحسب اللب نسخ ورفع، بل كان أمدها وأجلها إلى حد محدود، فإذا
كان للأحكام المترتبة على تلك الموضوعات إطلاق أو عموم بالنسبة إلى
جميع الأزمنة، يكون استعمال الرفع فيها بمعناه الحقيقي، ولا يكون للدفع
معنى بالنسبة إليها إلا بحسب اللب والواقع، وهو ليس مناط صحة الاستعمالات.
ولا يخفى أن هذا الوجه يأتي بالنسبة إلى جميع العناوين، فإن الظاهر أن
لجميعها أحكام رفعت عن هذه الأمة امتنانا، ولولا ذلك كانت ثابتة لها
كالتي قبلها.
42

وأما في (ما لا يعلمون) بالنسبة إلى الشبهات الحكمية، فإن قلنا بإطلاق
الأحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل - كما هو التحقيق، وأشرنا إليه فيما
سلف (1) - فالأمر واضح.
وإن قلنا بعدم الإطلاق فلا إشكال في قيام الإجماع - بل الضرورة - على
اشتراكهما في الحكم، فبهذا الاعتبار يصح استعمال الرفع فيه، تأمل.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الرفع إنما هو بمعناه الحقيقي، سواء قلنا
بتقدير الأحكام - كما قيل - أولا، كما هو التحقيق.
وبما حققناه يظهر النظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله - على
ما في تقريرات بحثه - من أن الرفع في الأشياء التسعة بمعنى الدفع، مضافا
إلى ما ادعى من أن استعمال الرفع مكان الدفع ليس مجازا، ولا يحتاج إلى
عناية أصلا، فإن الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان
اللاحق، لأن بقاء الشئ - كحدوثه - يحتاج إلى علة البقاء، فالرفع في مرتبة
وروده على الشئ إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء، وإن كان رفعا
باعتبار الوجود السابق، فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة
المجاز، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر
اللفظ، لأن غلبة استعمال الرفع فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره
في ذلك (2) انتهى.

(1) انظر الجزء الأول صفحة: 198 - 199.
(2) فوائد الأصول 3: 337.
43

وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلأن إنكار ظهور الرفع في إزالة الشئ عن صفحة
الوجود بعد تحققه، وعدم احتياج استعماله في الدفع إلى عناية وعلاقة،
مكابرة ظاهرة.
وأما ثانيا: فلأن كون بقاء الشئ - كحدوثه - محتاجا إلى العلة، وكون
الرفع - باعتبار دفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق - دفعا، مما لا محصل
له، لأن الرفع لا يصير دفعا بهذا الاعتبار، بل الرفع عبارة عن إزالة الشئ عن
صفحة الوجود، والدفع عبارة عن منع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق،
وهذا لا يوجب أن يكون الرفع بمعنى الدفع، كما أن الحدوث عبارة عن وجود
الشئ بعد العدم وجودا أوليا، والبقاء عبارة عن استمرار هذا الوجود، وذلك
لا يوجب أن يكون أحدهما بمعنى الآخر.
وأما ثالثا: فلأن ما أفاد في المقام ينافي ما أفاده في التنبيه الأول من
تنبيهات الاشتغال، حيث قال:
إن الدفع إنما يمنع عن تقرر الشئ خارجا وتأثير المقتضى في الوجود، فهو
يساوق المانع. وأما الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود، ويقتضي إعدام الشئ
الموجود عن وعائه. نعم قد يستعمل الرفع في مكان الدفع، وبالعكس، إلا أن
ذلك بضرب من العناية والتجوز، والذي تقتضيه الحقيقة هو استعمال الدفع
في مقام المنع عن تأثير المقتضي في الوجود، واستعمال الرفع في مقام المنع
44

عن بقاء الشئ الموجود (1) انتهى.
وأما رابعا: فلأن ما أفاده في المقام ينافي ما أفاده في الأمر الخامس في بيان
عموم النتيجة: من أن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وأن الرفع
يتوجه على الموجود فيجعله معدوما.. إلى غير ذلك من تعبيراته (2).
وفي كلامه مواقع اخر للنظر تركناها مخافة التطويل.
الأمر الثالث
حكومة الحديث على أدلة الأحكام
أن النسبة بين كل واحد من أدلة الأحكام مع غالب تلك العناوين
المأخوذة في الحديث وإن كانت عموما من وجه، إلا أن الحديث حاكم
عليها، فلا تلاحظ النسبة بينهما، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام وبين
ما دل على نفي الضرر والعسر والحرج لحكومتها عليها، إلا أن الشأن في
الفرق بين الحكومات الثلاث.
قال بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه -: ولافرق بين أدلة
نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل الرفع، سوى أن الحكومة في أدلة نفي
الضرر والحرج إنما تكون باعتبار عقد الحمل، حيث إن الضرر والعسر والحرج
من العناوين الطارئة على نفس الأحكام، فإن الحكم قد يكون ضرريا أو

(1) فوائد الأصول 4: 222.
(2) فوائد الأصول 3: 353.
45

حرجيا، وقد لا يكون، وفي دليل رفع الإكراه ونحوه إنما يكون باعتبار عقد
الوضع، فإنه لا يمكن طرو الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس
الأحكام، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها، فحديث الرفع يوجب
تضييق دائرة موضوعات الأحكام، نظير قوله: (لاشك لكثير الشك) (1)
و (لاسهو مع حفظ الإمام) (2) (3) انتهى.
وفيه أولا: أن الحكومة في أدلة نفي الضرر والحرج لم تكن باعتبار
عقد الحمل، فإن (لا ضرر) (4) نفي نفس الضرر وحقيقته، لا الأمر الضرري،
حتى يقال: إن الحكم قد يكون ضرريا، وقوله: * (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) * (5) مفاده عدم جعل نفس الحرج، لا الحرجي. وقد مر كيفية الحكومة
فيهما، فراجع (6).
وثانيا: أن لسان دليل نفي الضرر والحرج لم يكن واحدا، ولم تكن

(1) هذه قاعدة متصيدة، راجع الوسائل 5: 329 - 330 باب 6 1 من أبواب الخلل الواقع
في الصلاة.
(2) هذه قاعدة متصيدة أيضا، راجع الوسائل 5: 338 باب 4 2 من أبواب الخلل الواقع في
الصلاة.
(3) فوائد الأصول 3: 47 3.
(4) الفقيه 4: 243 / 2 باب 171 في ميراث أهل الملل، الوسائل 12: 364 / 3 - 5 باب
17 من أبواب الخيار.
(5) الحج: 78.
(6) انظر الجزء الأول صفحة: 369.
46

الحكومة فيهما باعتبار واحد، وقد عرفت سابقا (1) أقسام الحكومة، فدليل
الضرر مفاده نفي نفس الضرر، بخلاف دليل الحرج، فإنه ينفي جعل الحرج،
وهما ضربان من الحكومة كما مر (2).
وثالثا: أن الضرر والحرج ليسا من العناوين الطارئة على نفس الأحكام،
بل من العناوين الطارئة على الموضوعات الخارجية، فالوضوء والصوم
الحرجيان والغبن في المعاملة ضرر، والمعاملة الغبنية ضررية.
نعم ينسب الضرر والحرج إلى الأحكام - أيضا - بنحو من العناية
والمسامحة، فإن الحكم قد يصير منشأ لوقوع المكلف في الضرر والحرج،
وقد مر (3) أن نفي نفس الضرر والحرج إنما هو بهذه العناية.
ورابعا: أن ما أفاد - من أن الخطأ والنسيان لا يمكن طروهما على نفس
الأحكام (4) - من عجيب الكلام، والظاهر أنه من سبق لسانه أو سهو قلم
الفاضل المقرر رحمهما الله.
الأمر الرابع
في مصحح نسبة الرفع إلى العناوين المأخوذة في الحديث
قد عرفت أن نسبة الرفع إلى تلك العناوين التسعة تحتاج إلى ادعاء

(1) في الجزء الأول صفحة: 370 - 371.
(2) في الجزء الأول صفحة: 396.
(3) في الجزء الأول صفحة: 380.
(4) مر تخريجه قريبا.
47

ومسامحة، واعلم أن المصحح لهذه المسامحة: إما أن يكون رفع جميع الآثار،
أو رفع خصوص المؤاخذة في الجميع، أو رفع الأثر المناسب لكل من
المذكورات، والفرق بينها واضح.
والتحقيق: أن المصحح لها إنما هو رفع جميع الآثار التي بيد الشارع.
أما رفع المؤاخذة فقط فمما لاوجه له، فإنها ليست من الآثار الواضحة،
الظاهرة التي يدعي رفع الموضوع لرفعها، وتكون هذه الدعوى والمسامحة
مصححتين لنسبة الرفع إلى أصل الموضوع، كما هو واضح.
فما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه - من أن الظاهر لو خلينا وأنفسنا
أن نسبة الرفع إلى المذكورات إنما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة (1) - مما
لا ينبغي صدوره منه قدس سره.
ومنه يعلم: أن استشهاد الإمام في صحيحة صفوان والبزنطي بحديث
الرفع على الاستكراه على اليمين (2) ليس بأمر مخالف للظاهر في مقابل
الخصم، فبقى الاحتمالان الآخران.
والتحقيق: هو رفع جميع الآثار، لالما أفاد شيخنا العلامة - أعلى الله
مقامه -: من استلزام رفع الأثر المناسب في كل منها لملاحظات عديدة (3)،
لأن ذلك مما لا محذور فيه، بل لأن رفع الموضوع ادعاء مع ثبوت بعض الآثار

(1) درر الفوائد 2: 103.
(2) المحاسن للبرقي: 339 / 124 من كتاب العلل، الوسائل 16: 164 / 12 باب 12
من أبواب الأيمان.
(3) درر الفوائد 2: 103.
48

له في نظر المتكلم، مما لا يجتمعان، ويكون من الجمع بين المتنافيين. إلا أن
يدعى: أن رفع الأثر الكذائي بمنزلة رفع جميع الآثار، فيرفع الموضوع بادعاء
آخر.
وبعبارة أخرى: إن حمل الكلام على رفع بعض الآثار الخاصة يحتاج إلى
ادعاءين ومسامحتين:
إحداهما: دعوى أن الأثر الكذائي جميع الآثار.
وثانيتهما: دعوى أن الموضوع الذي - ليس له أثر فهو مرفوع.
وأما الحمل على جميع الآثار فلا يحتاج إلا إلى الدعوى الثانية،
فحمله على جميع الآثار أسلم عن مخالفة الظاهر، فافهم، فإنه لا يخلو
عن دقة (1) مع أن إطلاق الدليل - أيضا - يقتضي رفعه لجميع الآثار.

(1) إن قلت: إن الدعوى الأولى محتاج إليها بلحاظ الآثار الغير الشرعية، فلا بد من دعوى
كون غير الآثار الشرعية في حكم العدم، ثم ادعى الدعوى الثانية.
قلت: إن الرفع في محيط التشريع، ومعه لا يكون الآثار التكوينية منظورا إليها، بل هي
بهذا اللحاظ مغفول عنها، فلا يحتاج إلى الدعوى.
فإن قلت: إن للخطأ والنسيان بعنوانهما آثارا، ولا شبهة في عدم رفعها وعدم شمول
الحديث لها، فلا بد من الدعوى الأولى بلحاظها.
قلت: إن الخطأ والنسيان - بما هما من العناوين التي [هي] كالعناوين المرآتية - أخذا
طريقا إلى المتعلقات، فلا يفهم العرف من رفعهما إلا رفع آثار ما أخطئ والمنسي. ألا
ترى إنه لو قيل: (إن خطايا الأمة معفوة) لا يفهم منه إلا ما أخطأوا، لا نفس الخطأ، كما لو
قيل: (إن جهالاتهم معفوة).
فحينئذ نقول: إن الحديث ناظر إلى آثار الخطأ والنسيان الطريقيين، لا آثار نفسهما، ولهذا
49

الأمر الخامس
في شمول الحديث للأمور العدمية
بناء على أن المرفوع تمام الآثار، هل يشمل الحديث الأمور العدمية، أم
يختص بالوجوديات؟
مثلا: لو نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره على الترك، أو اضطر إليه، أو نسي
أن يشرب، وقلنا بعدم اختصاص الكفارة بصورة تعمد الحنث، فهل يمكن
التمسك بالحديث لرفع وجوب الكفارة، أم لا؟
ترى أن في صحيحة البزنطي نقل الحديث بلفظ (ما أخطأوا)، وليس ذلك إلا لأجل ما
يفهم منه عرفا، لكن لا بمعنى استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما لا يخفى.
وبما ذكرنا يظهر: عدم شمول الحديث لآثار عنوانهما النفسي من غير لزوم تكلف
وتخصيص.
ويدفع أيضا: إشكال التفكيك بين فقرات الحديث، وذلك لأن العناوين السبعة الأول
لما كانت عناوين طريقية، فلا محالة ينتقل ذهن العرف منها إلى المترائي بها ولو فرض
أخذ نفس العناوين في الموضوع، فضلا عن نسبته الرفع إلى الموصول في أربعة منها،
ولا تفكيك بين الخطأ والنسيان وبين ما أخذ الموصول فيه موضوعا، لما عرفت من
طريقية عنوانهما.
وأما الثلاثة الأخيرة - أي الحسد والطيرة والوسوسة - فعناوين نفسية منظور إليها، فلا
محالة يتعلق الرفع بذاتها. ففي الحقيقة تعلق الرفع في جميع الفقرات بعناوين نفسية،
لكن في المخطى والمنسي بتوسط الطريق إليهما، وفي غيرهما بتوسط الموصول أو ذكر
نفس العناوين، من غير ارتكاب خلاف ظاهر كما توهم (أ) [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 211 سطر 8 - 9.
50

ذهب بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - إلى الثاني.
وحاصل ما أفاد في وجهه:
أن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة
الموجود، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنما يكون وضعا لارفعا،
والمفروض أن المكلف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان، فلم يصدر منه
أمر وجودي قابل للرفع، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا
وجعله كالشرب، حتى يقال: إنه لم يتحقق مخالفة النذر، فلا حنث
ولا كفارة.
والحاصل: أنه فرق بين الوضع والرفع، فإن الوضع يتوجه على المعدوم
فيجعله موجودا، ويلزمه ترتيب آثار الوجود، والرفع بعكسه، فالفعل الصادر
من المكلف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه، وأما الفعل الذي لم
يصدر من المكلف عن نسيان أو إكراه فلا محل للرفع فيه، لأن رفع المعدوم
لا يمكن إلا بالوضع والجعل، والحديث لا يتكفل ذلك (1) انتهى.
وأنت خبير بما فه: فإنه يرد عليه - مضافا إلى أن العدم إذا فرض تعلق
الرفع به يكون له ثبوت إضافي بالنسبة إلى عدمه، وليس عدم العدم هو
الوجود، ولارفع المعدوم هو الوضع كما توهم - أن الكفارة إذا ترتبت على
ترك الشرب كما هو المفروض، يكون له ثبوت اعتباري في عالم التشريع، فإن
ما لا ثبوت له بوجه من الوجوه لا يمكن أن يصير موضوعا للحكم، وقد فرض

(1) فوائد الأصول 3: 353.
51

أن الكفارة مترتبة على الترك، فلابد أن يكون الترك - ولو باعتبار انطباق
الحنث عليه - ملحوظا ومعتبرا عند الشارع، حتى يصير موضوعا للحكم،
وبعد هذا الثبوت الاعتباري لا مانع من تعلق الرفع به بلحاظ آثاره، وهذا
واضح جدا، فما أفاد من أن الرفع لا يمكن إلا بالوضع، في غاية السقوط (1).
وقد ظهر مما ذكرنا: أن كل أمر عدمي يكون موضوعا لأثر شرعي أو حكم

(1) هذا مضافا إلى أن الرفع الادعائي لا مانع من تعلقه بالعدم، والمصحح له هو عدم ترتب
الآثار عليه، كما أن الرفع لم يتعلق بالوجوديات حقيقة، بل ادعاء بلحاظ الآثار، فكذا في
جانب العدم.
مع إمكان أن يقال: إن الرفع تعلق بالأشياء بمعرفية العناوين المذكورة في الحديث - أي
الاضطرار وغيره - فكما يمكن تعلق الاضطرار بالعدم بنحو من الاعتبار يمكن تعلق
الرفع به. مع أن الرفع متعلق بتلك العناوين - أي الموصول المشار به للأشياء - إجمالا،
ولا تكون الواقعيات المشار إليها في ذهن المخاطب والمتكلم بنحو التفصيل حتى
تلاحظ الوجوديات مستقلة والعدميات كذلك.
فتحصل مما ذكر: أنه لا مانع من الأخذ بإطلاق الحديث.
وأما ما أفاد بعضهم في مقام الجواب عنه: من أن الرفع مطلقا متعلق بموضوعية
الموضوعات للأحكام، فمعنى رفع ما اضطروا إليه أنه رفع موضوعيته للحكم، وكذا
في جانب العدم والترك (أ) فلا يخفى ما فيه، لأن ذلك أسوأ حالا من تقدير الآثار. مع أن
ظاهر الحديث هو الرفع الادعائي، كما اعترف به هذا القائل (ب) وذلك ينافي ما ذكره من
الرجوع إلى رفع الموضوعية، إلا أن يرجع كلامه إلى ما ذكرنا، فتدبر. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 219 - 220.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 209 سطر 14 - 25 و 211
سطر 16 - 22.
52

تكليفي أو وضعي، ويكون في رفعه منة على العباد، مشمول للحديث،
ولا يحتاج رفعه إلى الوضع.
الأمر السادس
تصحيح العبادة المنسى منها جزء أو شرط بالحديث
بناء على عموم الآثار لو نسى جزء أو شرطا من العبادات هل يمكن
تصحيحها بالحديث، أم لا؟
اختار ثانيهما المحقق المتقدم - على ما في تقريرات بحثه - وحاصل ما أفاد
في وجهه أمور:
الأول: ما تقدم منه من أن الحديث لا يشمل الأمور العدمية، لأنه لا محل
لورود الرفع على الجزء أو الشرط المنفيين، لخلو صفحة الوجود عنهما،
فلا يمكن أن يتعلق الرفع بهما.
الثاني: أن الأثر المترتب على الجزء أو الشرط ليس إلا الإجزاء وصحة
العبادة، وهما ليسا من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع، بل من الآثار
العقلية.
الثالث: أنه لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة،
فإن ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة، وهو ينافي الامتنان، وينتج
عكس المقصود، فإن المقصود من التمسك بالحديث تصحيح العبادة،
لافسادها. هذا كله بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط.
53

وأما بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسي، فهو وإن كان
أمرا وجوديا قابلا لتوجه الرفع إليه، إلا أنه:
أولا: ليس هو المنسي أو أنمكره عليه ليتوجه الرفع إليه.
وثانيا: لا فائدة في رفعه، لأن رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت
المركب الواجد له، فإن ذلك يكون وضعا لارفعا، وليس للمركب الفاقد
للجزء أو الشرط أثر يصح رفع المركب بلحاظه، فإن الصلاة بلا سورة - مثلا -
لا يترتب عليها أثر إلا الفساد وعدم الإجزاء، وهو غير قابل للرفع الشرعي.
ولا يمكن أن يقال: إن الجزئية والشرطية مرفوعتان، لأن جزئية الجزء لم
تكن منسية، وإلا كان من نسيان الحكم، ومحل الكلام إنما هو نسيان الموضوع،
فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بأن الجزئية غير قابلة للرفع، فإنها
غير مجعولة، فيجاب بأنها مجعولة بجعل منشأ انتزاعها (1) انتهى بطوله.
والتحقيق أن يقال: إن رفع الجزء والشرط المنسيين، كما يمكن أن يكون
باعتبار نسيان الجزئية والشرطية - أي نسيان الحكم - كذلك يمكن باعتبار
نسيانهما مع تذكر الحكم، فإن الجزء إذا صار منسيا فترك، يرتفع بالحديث،
وكذلك الشرط، فإن المسلم من الحديث هو رفع ما نسوا - أي ما يكون
منسيا - والفرض أن الجزء أو الشرط هو المنسي، فالرفع يتعلق به، فيصير
المركب الفاقد لهما تمام المأمور به.
وبعبارة أخرى: إذا كان المركب المأمور به بحسب الجعل الابتدائي ذا أجزاء

(1) فوائد الأصول 3: 353.
54

وشرائط، ويكون المأمور به هو المركب بجميع أجزائه وشرائطه، ويكون
الحديث حاكما [على] أدلة الأحكام الأولية من أدلة الأجزاء والشرائط وأدلة
أصل المركبات، تصير نتيجة الأدلة الأولية - بعد إعمال الحكومة - هو
اختصاص الأجزاء بغير حال النسيان، فيصير المركب المأمور به هو الطبيعة
فاقدا للجزء أو الشرط المنسيين، ولا دليل من عقل أو نقل على اختصاص
الحديث بنسيان جزئية الجزء وشرطية الشرط - أي نسيان الحكم - بل يشمل
نسيان الموضوع مع تذكر الحكم، فإذا ترك جزء أو شرط من المركب يصير
الفرد الفاقد لهما مصداقا للطبيعة بعد حكومة حديث الرفع، ومسقطا لأمرها
وموجبا للإجزاء (1).

(1) وقد يقال: إن ما ذكر غير تام، لأن النسيان إذا تعلق بالموضوع، ولم يكن الحكم منسيا،
لا ترتفع جزئية الجزء للمركب، لعدم نسيانها، فلابد من التسليم بمصداق واجد للجزء
حتى ينطبق عليه عنوان المأمور به، ولا معنى لرفع الجزء والشرط من مصداق المأمور
به، ومع رفعهما فرضا لا يكون مصداقا للمأمور به ما لم يدل دليل على رفع الجزئية.
وبالجملة: لا يعقل صدق الطبيعة المعتبر فيها الجزء والشرط على المصداق الفاقد لهما،
ولا معنى لحكومة دليل الرفع على الأدلة الواقعية مع عدم النسيان بالنسبة إليها، كما
أنه لا معنى لحكومته على مصداق المأمور به (أ).
وفيه: أن مقتضى ما ذكرنا من عموم الآثار أن المنسي إذا كان الجزء يكون مرفوعا، ومعنى
رفعه رفع جميع آثاره، ومن آثاره الشرعية جزئيته، فهي مرفوعة، وبعد رفعها في حال
النسيان، يصدق على المأتي به أنه تمام المأمور به، ولا محالة يسقط الأمر المتعلق
بالطبيعة، لأجل إتيانها بمصداقها التام، ولا مجال لبقاء الأمر بعد الإطاعة، فلا معنى لبقائه
أو حدوثه بعد رفع النسيان، كما توهم بعض أهل التحقيق، بزعم أن حديث الرفع لا يتكفل
بتحديد دائرة المأمور به، ولا إطلاق له لرفع الجزء أو الشرط حتى بعد زوال النسيان (ب).
55

وبهذا يظهر الخلل في جميع ما أفاده:
أما في أول الوجوه: فلأن الجزء المنسي متعلق للرفع، ومعنى تعلقه به
إخراجه عن حدود الطبيعة المأمور بها، ولا يكون ترك الجزء متعلقا للرفع، حتى
يقال: إن الرفع لا يتعلق بالأعدام.
وأما في ثانيها: فإن الجزء والشرط مما تنالهما يد الشارع ولو بواسطة منشأ
انتزاعهما، ولا يحتاج رفعهما إلى لحاظ أثر آخر.
وبهذا يظهر الإشكال في ثالثها، وكذا في سائر ما أفاد، مع ما فيها من
التكلف والتعسف.
فإن قلت: إنما يصحح حديث الرفع العبادة الفاقدة للجزء والشرط إذا
أمكن اختصاص الناسي بالتكليف، وأما مع عدم إمكانه فلا يمكن تصحيحها.
قلت: أولا: يمكن اختصاصه بالخطاب ببعض التصويرات التي أفادها
وبما ذكرنا يدفع ما ذكر، ضرورة عدم الاحتياج إلى كون الحديث ناظرا إلى بعد رفع
النسيان، بل الرفع في حاله يكفي لتطبيق المأتي به على المأمور به، ومعه يسقط الأمر،
ولا معنى لتجديده.
وإن شئت قلت: إن الحديث بحكومته على الأدلة مخصص لها بلسان الرفع، فهو
تخصيص واقعا ودفع، واستعمال الرفع لأجل الحكم القانوني المجعول على نحو العموم
والإطلاق. [منه قدس سره]
(أ) انظر قوامع الفضول: 461 سطر 37 - السطر الأخير.
(ب) انظر مقالات الأصول 2: 56 سطر 21 - السطر الأخير، نهاية الأفكار - القسم
الثاني من الجزء الثالث: 220 - 221.
56

المشايخ (1) وإن [كان] لا يخلو كلها أو جلها عن الخدشة.
وثانيا: تصحيحها لا يتوقف على إمكان اختصاص الناسي بالخطاب، فإن
الأمر المتعلق بالطبيعة مما يبعث الذاكر للجزء والناسي له بنحو واحد، فكما أن
الذاكر للأجزاء والشرائط إذا قام لإتيان الصلاة تكون مبعوثيته لأجل الأوامر
المتعلقة بالصلاة في الكتاب والسنة، ويكون إتيانه لها إطاعة لقوله:
* (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (2) فكذلك الناسي للجزء أو
الشرط يكون آتيا لطبيعة الصلاة، ومطيعا لقوله: * (أقم الصلاة) * بلا افتراق
بينهما من هذه الجهة، وإنما الافتراق بينهما في مصداق الطبيعة المأمور بها،
فإن مصداقها للناسي - بعد حكومة الحديث - يكون الفرد الناقص، وأن
الطبيعة تصير متحققة بعين الفرد الناقص، كما أنها تتحقق بالفرد الكامل،
فالفرد الناقص والكامل فردان من الطبيعة المأمور بها، وهي متحققة بهما،
وبإتيانهما يسقط الأمر المتعلق بها بلا افتراق بينهما من هذه الحيثية أيضا،
كالصلاة مع الطهارة الترابية والمائية، فكما أن أدلة تنزيل التراب منزلة الماء،
والطهارة الترابية منزلة المائية، تجعل الفرد مصداقا للطبيعة، ولا تكون طبيعة
الصلاة متعلقة لأمرين: أحدهما الصلاة مع الطهارة المائية، وثانيهما هي مع
الترابية، فكذلك حديث الرفع يجعل الفاقد مصداق الطبيعة، ولا تصير الطبيعة

(1) انظر الكفاية 2: 240، فوائد الأصول 4: 70 - 74، نهاية الأفكار - القسم الثاني من
الجزء الثالث: 421 - 422.
(2) الإسراء: 78.
57

متعلقة لأمرين، ولا تحتاج إلى خطابين، حتى يبحث في إمكان اختصاص
الناسي بالخطاب.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: صحة التمسك بحديث الرفع لتصحيح العبادة
الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط بواسطة النسيان.
ومن الغريب أن المحقق المتقدم تمسك لمختاره في ذيل كلامه: بأن المدرك
في صحة الصلاة الفاقدة للجزء والشرط نسيانا هو دليل: (لا تعاد..) (1)
فإن المدرك فيها لو كان حديث الرفع كان اللازم صحة الصلاة بمجرد
نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها، فإنه
لا يمكن استفادة التفصيل من حديث الرفع. ويؤيد ذلك أنه لم يعهد من
الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من سائر المركبات (2)
انتهى.
وفيه: أن حديث الرفع عام قابل للتخصيص، فاستفادة التفصيل من الأدلة
الأخر المخصصة لدليل الرفع لا توجب عدم جواز التمسك بالحديث، وعدم
كونه مدركا لصحة الصلاة.
وأما ما أفاد - من عدم معهودية تمسك الفقهاء به لصحتها - فهو ممنوع،
لتمسك القدماء والمتأخرين به لصحتها.

(1) الفقيه 1: 181 / 17 باب 42 في القبلة و 1: 225 / 8 باب 49 في أحكام السهو في
الصلاة، التهذيب 2: 152 / 55 باب 9 في تفصيل ما تقدم ذكره..، الوسائل 4:
934 / 5 باب 10 من أبواب الركوع.
(2) فوائد الأصول 3: 355.
58

فهذا علم الهدى قد تمسك به في الناصريات، حيث قال: دليلنا على أن
كلام الناسي لا يبطل الصلاة - بعد الإجماع المتقدم - ما روي عنه عليه
السلام: (رفع عن أمتي النسيان، وما استكرهوا عليه) (1) ولم يرد رفع الفعل، لأن
ذلك لا يرفع، وإنما أراد رفع الحكم، وذلك عام في جميع الأحكام إلا ما قام
عليه دليل (2).
وقريب منه كلام السيد ابن زهرة في الغنية (3).
وكلامهما وإن كان في التكلم، إلا أنه يظهر من ذيل كلامهما شمول
الحديث لجميع الموارد إلا ما قام عليه دليل.
وقد تمسك به العلامة (4) والأردبيلي وغيرهما (5) ونقل الشيخ

(1) انظر الكافي 2: 463 / 2 باب ما رفع عن الأمة، توحيد الصدوق: 353 / 24 باب 56
في الاستطاعة، الخصال 2: 417 / 9 باب التسعة، الوسائل 11: 295 باب 56 من
أبواب جهاد النفس.
(2) الناصريات - الجوامع الفقهية -: 199 سطر 27 - 28 من المسألة: 94.
(3) الغنية - الجوامع الفقهية -: 566 سطر 12 - 14.
(4) التذكرة 1: 131 سطر 4 - 6.
العلامة: هو الإمام الأجل الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف
ابن زين الدين علي بن مطهر الحلي، ولد سنة 648 ه‍ في مدينة الحلة، قرأ على جم
غفير من علماء الإسلام، وتلمذ عليه كثير من الفضلاء، توفي سنة 726 ه‍، له مؤلفات
جمة أشهرها: تذكرة الفقهاء، نهاية الأصول، نهج الحق وغيرها. انظر مستدرك الوسائل
3: 459، مقابس الأنوار: 13.
(5) مجمع الفائدة والبرهان 3: 55 وانظر ذكرى الشيعة: 216 سطر 14.
الأردبيلي: هو الفقيه الكبير المحقق المولى الشيخ أحمد بن محمد الأردبيلي النجفي كان
59

الأعظم (1) في مسألة من ترك غسل موضع النجو: أن المحقق في
المعتبر تمسك: بالحديث لنفي الإعادة في مسألة ناسي النجاسة (2) وتمسك
هو (3) وغيره (4) في غير موضع به لتصحيح الصلاة، كما يظهر للمراجع
المتتبع.
هذا مضافا إلى أن عدم تمسكهم به لو سلم، إنما هو لعدم الاحتياج إليه
بعد ورود الأدلة الخاصة في غالب الموارد، كما أن التمسك بقوله: (لا تعاد
الصلاة..) (5) أيضا لم يكن في كلماتهم في غالب الموارد، لورود الأدلة
أورع أهل زمانه وأعبدهم وأتقاهم، أخذ عنه العلامة السيد محمد الطباطبائي، والعلامة
الأوحد الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني، له عدة مصنفات مشهورة منها: مجمع الفائدة
والبرهان، زبدة البيان وغيرها، توفي سنة 993 ه‍ بالنجف الأشرف. انظر أمل الآمل 2:
23، إحياء الداثر: 8، مقابس الأنوار: 15.

(1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 166 سطر 1 - 3.
(2) المعتبر: 122 سطر 31.
المحقق: هو الإمام الفقيه الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى الهذلي
الحلي، المعروف بالمحقق على الإطلاق، ولد سنة 602 ه‍ أخذ عن والده والشيخ ابن
نما والسيد محمد بن زهرة وغيرهم، توفي سنة 676 ه‍ وخلف آثارا ثمينة منها: شرائع
الإسلام، المعتبر، معارج الأصول وغيرها. انظر رجال ابن داود: 62، أمل الآمل 1: 48،
لؤلؤة البحرين: 227.
(3) المعتبر: 195 سطر 17 - 18.
(4) انظر إيضاح الفوائد 1: 116 - 117.
(5) مر تخريجه آنفا.
60

الخاصة فيها.
ثم إنه - قدس سره - قال: هذا إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت
المضروب للمركب، وأما في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح، فإنه
لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في
بقيته، لأن المأمور به هو الفرد الكلي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في
جزء من الوقت، فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء
وقته لو كان المدرك حديث الرفع، لأن المأتي به لا ينطبق على المأمور به، فلولا
حديث: (لا تعاد..) كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع
التذكر في أثناء الوقت (1) انتهى.
وأنت خبير بما فيه، لأنك قد عرفت أن الأمر إنما تعلق بطبيعة المأمور به،
فبعد حكومة حديث الرفع على أدلة الأجزاء والشرائط، وتحقق النسيان ولو
في جزء من الوقت، وإتيان الناسي الفرد الفاقد للجزء أو الشرط المنسيين،
تصير النتيجة حصول المأمور به، وكون الفرد الناقص فردا للطبيعة، وهي
متحققة به، وبعد تحققها به لا معنى لبقاء الأمر.
وبالجملة: لافرق بين النسيان المستوعب وغيره، لأن تحقق الطبيعة إنما
يكون بتحقق الفرد الكامل في غير الناسي، وبالفرد الناقص مع تحقق النسيان
ببركة حديث الرفع [سواء] كان مستوعبا أولا.

(1) فوائد الأصول 3: 355.
61

في شمول الحديث للأسباب:
وبالتدبر فيما ذكرنا من أول هذا البحث إلى هاهنا يظهر النظر فيما أفاده
المحقق المتقدم في باب الأسباب: من أن وقوع النسيان والإكراه والاضطرار
في ناحيتها لا يقتضي تأثيرها في المسبب، ولا تندرج في حديث الرفع، لما تقدم
في باب الأجزاء والشرائط من أن حديث الرفع لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة
الواجد، فلو اضطر إلى إيقاع العقد بالفارسية، أو أكره عليه، أو نسي العربية،
كان العقد باطلا بناء على اشتراط العربية، فإن رفع العقد الفارسي لا يقتضي
وقوع العقد العربي، وليس للعقد الفارسي أثر يصح [رفعه بلحاظ] رفع أثره،
وشرطية العربية ليست منسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية (1)
انتهى.
أقول: أما النسيان: فقد يتعلق بأصل السبب، وقد يتعلق بشرائطه. وعلى
الثاني: فقد يكون الشرط من الشرائط العقلائية التي يتقوم تحقق العقد عرفا
بها، كقصد تحقق مفهوم العقد مثلا، وقد يكون من الشرائط الشرعية،
كالعربية، وتقديم الإيجاب على القبول، وأمثالهما.
فإن تعلق النسيان بأصل إيجاد السبب، أو بما يتقوم العقد به عرفا، فلا
إشكال في عدم جواز تصحيح العقد بحديث الرفع، ووجهه واضح.
وأما إن تعلق بالشرائط الشرعية التي لا يتقوم العقد بها، فلا إشكال في

(1) فوائد الأصول 3: 356.
62

جواز التمسك بالحديث لتصحيح العقد، لأن تحقق العقد العرفي وجداني،
والشرائط الشرعية قابلة للرفع، والنسيان وإن تعلق بإيجاد الشرط لا بشرطيته،
لكن لا قصور في شمول الحديث لذلك، لرفع الشرط المنسي، ورفعه رفع
شرطيته.
وبالجملة: يصير العقد الفاقد للشرط الكذائي تمام السبب، كما عرفت في
شرائط العبادات.
فما أفاده رحمه الله - من أن رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد
العربي - فيه ما لا يخفى، فإن الرفع لم يتعلق بالعقد الفارسي، بل تعلق بالعربية
المنسبة، فجعل العقد مع فقدان العربية تمام السبب في ظرف النسيان (1)

(1) وقد يقال: إن رفع الشرائط خلاف الامتنان في حق المكلف، لأن لازمه اقتضاء الوضع
الذي هو التكليف بالوفاء بالفاقد (أ).
وفيه ما لا يخفى، ضرورة أن كل من يقدم على معاملة - بحسب حوائجه ومهماته -
غرضه صحتها ونفوذها، ولو فرض كون النسيان لشرط مثلا موجبا لبطلانها صار
المكلف في حرج وكلفة، فأي منة أعظم من أن يكون النكاح الواقع - بعد عشرين سنة
وتشكيل العائلة - المنسي منه شرط من الشرائط صحيحا، ويتعلق الرفع بشرطية ما
نسي فيه، فدعوى عدم المنة من غريب الدعاوي.
ثم إن بما ذكرنا يظهر حال الاضطرار أيضا، ومجمل الكلام فيه: أن الاضطرار: إما أن
يتعلق بحكم تكليفي - أي بإيجاد حرام نفسي أو ترك واجب كذلك - فلا إشكال في رفع
الحكم أي الحرمة في الإيجاد والترك إن كان حراما، ولو بالاستلزام العرفي بين الأمر
بالشئ ومبغوضية تركه وحرمته.
وإما أن يتعلق الاضطرار بإيجاد مانع في العبادات، أو المعاملات على فرض المانع
فيها، فلا إشكال في تعلق الرفع وتصحيحها بما سبق في نظائرها.
63

هذا كله في النسيان.
وأما الإكراه: فإن تعلق بترك إيجاد السبب، أو ترك ما يتقوم بعه العقد،
وأما إذا اضطر إلى ترك جزء أو شرط، فإن كان لنفس الترك أثر شرعي، فيرفع أثره
النفسي، وأما تصحيح العبادة والمعاملة فلا يمكن به، لأن ترك الجزء أو الشرط لا أثر
لهما، وليس البطلان ووجوب الإعادة إلى غير ذلك من آثار تركهما شرعا، كما يتوهم (ب)
بل هي آثار عقلية، وليس للشارع إلا جعل الجزئية أو الشرطية تبعا أو استقلالا - بناء
على إمكانه - أو إسقاطهما، وأما بعد جعلهما فإيجاب تركهما للإعادة عقلي، وكذا عدم
انطباق المأتي به على المأمور به، والبطلان المنتزع منه.
وأما رفع الجزئية والشرطية، فلا وجه له بعد عدم تعلق الاضطرار بهما، بل تعلقه
بتركهما، فالرفع لا بد أن يتعلق بما اضطر إليه بلحاظ آثاره، وهو الترك، ولا تكون
الجزئية من أحكام ترك الجزء.
وما قد يقال: إن وجوب الإعادة مترتب على بقاء الأمر الأول، كترتب عدم وجوبها على
عدم بقائه، فإذا كان بقاء الأمر كحدوثه أمرا شرعيا تناله يد الجعل والرفع، فلا محذور
في التمسك بالحديث لنفي وجوب الإعادة (ج) كما ترى، ضرورة أن وجوب الإعادة
ليس حكما مجعولا، ولا أثرا شرعيا لبقاء الأمر، وما قد يرد في الشرع من إيجاب
الإعادة، ليس هو إلا إرشادا إلى بطلان العمل ولزوم إطاعة الأمر الأول، ولهذا لا يستحق
التارك للإعادة إلا عقابا واحدا لترك المأمور به، لا لترك الإعادة، واستحقاق العقابين
خلاف الضرورة، كانقلاب التكليف الأول إلى تكليف وجوب الإعادة.
وبالجملة: ليس لترك الشرط والجزء أثر يتعلق الرفع به بلحاظه.
وبهذا يظهر حال الإكراه على تركهما أيضا، كما يظهر الفرق بين نسيان الجزء والشرط
والإكراه والاضطرار إلى تركهما، فإن ما نسي هو الجزء والشرط. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 221 سطر 14 - 17.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 219 - 220.
(ج) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 219 سطر 5 - 10.
64

فهو كالنسيان، وإن تعلق بإيجاد السبب والمسبب، فلا إشكال في جواز
التمسك به للحكم بالبطلان.
وإن تعلق بترك شرط شرعي أو إيجاد مانع شرعي: فإما أن يكون العاقد
مضطرا بالاضطرار العادي أو الشرعي لإيجاد العقد، والمكره يكرهه على ترك
الشرط أو إيجاد المانع، فالظاهر جواز التمسك بالحديث لرفع الشرط والمانع،
وإن لم يكن مضطرا لذلك فلا يجوز، لعدم صدق الإكراه.
كما أن المضطر إلى ترك الشرط أو إيجاد المانع أيضا كذلك، فمع
الاضطرار إلى إيجاد العقد عادة أو شرعا، يجوز التمسك به لرفعهما دون
غيره، فمن اضطر إلى إيجاد عقد ولم يعرف العربية، ويضطر إلى إيجاده
بالفارسية، يصح عقده دون غيره.
اللهم إلا أن يقال: إن الاضطرار تعلق بترك الجزء والشرط، وليس للترك
أثر شرعي، كما فصلنا في الهامش.
وبما ذكرنا يظهر الخلل فيما أفاده المحقق المتقدم.
في شمول الحديث للمسببات:
وفي كلامه في المسببات - أيضا - بعض مواقع للنظر، خصوصا في القسم
الثاني منها، وهو ما كان المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع
كالطهارة والنجاسة، فإنها غير قابلة للرفع التشريعي إلا بلحاظ آثارها... إلى
أن قال: ولا يتوهم أن لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على
65

الجنابة، أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة، بدعوى: أن
الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي، إلا أنها باعتبار مالها من
الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع، فإن الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر
الشارع بهما عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا، من غير فرق بين الجنابة
والنجاسة الاختيارية وغيرها (1) انتهى.
وفيه: أن ما تفصى [به] عن الإشكال مما لا يرجع إلى محصل، فإن
كونهما أمرين وجوديين لا يوجب عدم رفعهما بالحديث، وإطلاق أدلتهما
لحال الاختيار وغيره لا يوجب ذلك، لحكومته عليها، بل من شرط حكومته
عليها إطلاقها لحال تلك العناوين المأخوذة في الحديث.
والتحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال: إن غسل الجنابة مستحب نفسي
وشرط للصلاة، فبالنسبة إلى الأثر الاستحبابي لا يشمله الحديث، لعدم المنة في
رفع المستحبات، وأما بالنسبة إلى اشتراط الصلاة به، فالإكراه إنما يتحقق إذا
أكره على ترك الغسل للصلاة، فحينئذ إذا كان المكلف مختارا في التيمم
وضاق الوقت، يتبدل تكليفه به، ووجهه ظاهر، وإن أكره على تركه أيضا،
فإن قلنا: بأن الصلاة بلا طهور لا تكون صلاة في نظر الشارع يسقط التكليف
بها، فيكون حاله حال المكره على ترك الصلاة.
وأما بالنسبة إلى الطهارة الخبثية، فمع كونه مكرها على ترك غسل البدن
والساتر الراجع إلى الإتيان مع المانع، يرفع وجوب طهارتهما واشتراطها بهما

(1) فوائد الأصول 3: 358.
66

بدليل الرفع، وفي غير الساتر ينزع، بل فيه - أيضا - على الأقوى، إلا أن يكون
مكرها في لبسه، فيكون مكرها في إيجاد المانع، فيشمله دليل الرفع (1).
ويمكن أن يجاب عن الإشكال: بأن الإكراه - بحسب نظر العرف - لا يتعلق

(1) وقد يقال: باختصاص مجرى الرفع في قوله: (رفع... ما أكرهوا عليه) بباب المعاملات
بالمعنى الأخص - بعكس عنوان الاضطرار - فلا يجري في التكليفيات، لصدق الإكراه
بمجرد التوعد اليسير، ولا يمكن الالتزام بجواز ارتكاب المحرم لأجله (أ).
وفيه أولا: أن ذلك لا يوجب الاختصاص بالمعاملات بالمعنى الأخص، ضرورة أن مثل
الطلاق والعتاق والنكاح والوصية وغيرها من المعاملات بالمعنى الأعم والإيقاعات
مشمولة للحديث، بل المصرح به في بعض ما ذكر الشمول (ب).
وثانيا: أن ما ذكر - من عدم إمكان الالتزام في الجملة - لا يوجب عدم الالتزام مطلقا بعد
تصريح بعض الروايات (ج) بأن رفع ما أكرهوا إشارة إلى قوله تعالى: (إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان) (د) مما هو في قضية عمار (ه‍) التي هي حكم تكليفي، وبعد
ورود عدم الشئ على الزوجة المكرهة على الجماع في يوم رمضان (و) وعدم الحد
على المكرهة على الزنا (ز).
وما قال القائل: بأن الإكراه إن وصل إلى حد الحرج جاز ذلك، إلا أنه من جهة الحرج
لا الإكراه (ح).
ففيه أولا: أنه خلاف الإطلاق في الروايات والآية.
وثانيا: أن الإكراه على عنوان مع التوعد الغير المتحمل لا يوجب أن يكون العنوان المكره
عليه حرجيا، فشرب الخمر مع التوعد لا يكون حرجيا، ويكون متعلقا للإكراه، فلا يشمله
دليل الحرج إلا مع التكلف، دون حديث الرفع.
نعم بعض مراتب الإكراه لا توجب جواز الارتكاب، كما أن بعض المحرمات والعظائم
عند الشرع لا يمكن التزام رفع حكمه بالحديث، ولا بدليل الحرج، ولا بأدلة التقية، كما
فصلنا ذلك في رسالة التقية (ط) فتدبر. [منه قدس سره]
67

إلا بفعل المكلف، وهو إما سبب كالجماع، أو مسبب كالإجناب بالمعنى
المصدري، ورفعهما برفع آثارهما الشرعية، والمفروض أن الجنابة أمر واقعي
لا شرعي، فلا معنى لرفعها، كما لا معنى لرفع أثرها، إذ لم يتعلق الإكراه به،
فالمرفوع آثار الجماع والإجناب لا الجنابة، فتدبر.
الأمر السابع
تصحيح العبادة المشكوك في مانعية شئ لها بالحديث
لو شك في مانعية شئ للصلاة، فالحديث ينفع لصحة صلاته، لما
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 224 سطر 1 - 9.
(ب) انظر الكافي 6: 127 - 128 / 1 و 2 و 4 باب طلاق المضطر والمكره و 191 / 1
باب عتق السكران والمجنون والمكره، الوسائل 15: 331 أكثر أحاديث باب 37 من
أبواب مقدماته وشرائطه و 16: 29 / 1 و 2 باب 19 من أبواب العتق.
(ج) تفسير العياشي 2: 272 / 75، الكافي 2: 462 - 463 باب ما رفع عن الأمة.
(د) النحل: 106.
(ز) تفسير العياشي 2: 271 / 71، التبيان 6: 428، جامع البيان 14: 121 - 122.
(و) الفقيه 2: 73 / 6 باب 33 فيما يجب على من أفطر أو جامع..، الوسائل 7: 37 -
38 / 1 باب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
(ز) الكافي 7: 196 / 1 باب المرأة المستكرهة، الفقيه 4: 29 / 2 باب 5 في حد ما
يكون المسافر فيه معذورا..، الوسائل 18: 382 - 383 / 1 و 2 و 4 و 5 باب 18 من
أبواب حد الزنا.
(ح) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 224 سطر 10 - 11.
(ط) الرسائل 2: 177.
68

عرفت (1) أن مقتضى حكومة الحديث على الأدلة الأولية رفع المانعية،
وصيرورة المأتي به مع وجود المانع المشكوك فيه مصداقا للطبيعة، وعدم
معقولية بقاء الأمر مع الإتيان بمصداق المأمور به، ولافرق في ذلك بين الشبهة
الحكمية والموضوعية بعد صيرورة المأتي به مصداقا للطبيعة.
وقد استشكل شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في الشبهة الحكمية،
وقال: إن الصحة فيها إنما تكون ما دام شاكا، فإذا قطع بالمانعية يجب عليه
الإعادة، ولا يمكن القول بتخصيص المانع بما علم مانعيته، فإنه مستحيل،
بخلاف الشبهة الموضوعية، لإمكان ذلك فيها (2).
وفيه: أن المستحيل هو جعل المانعية ابتداء للعالم بالمانعية، وأما إنشاؤها
بنحو الإطلاق، ثم رفع مانعيتها وفعليتها عن المشكوك فيه، مما لا استحالة فيه
أبدا، وقد حقق ذلك في مبحث الإجزاء (3) وفي مبحث الجمع بين الأحكام
الظاهرية والواقعية (4) فرا جع.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى دليل الرفع هو توسعة نطاق الطبيعة
إلى الفرد الناقص والكامل، أو جعل الفرد الناقص مصداقا لها، فبعد ذلك
لا معنى لبقاء الأمر المتعلق بها بعد إتيانها بإتيان الفرد.
هذا تمام الكلام في حديث الرفع، وقد عرفت دلالته على المدعى

(1) في صفحة: 45.
(2) درر الفوائد 2: 106 سطر 9 - 16.
(3) انظر الجزء الأول من كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(4) الجزء الأول صفحة: 200.
69

بما لا مزيد عليه.
حديث الحجب
ومما استدل [به] على البراءة:
قوله: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (1).
وتقريب الاستدلال به أن يقال: إن الظاهر من حجب العلم عن العباد ليس
هو الحجب عن مجموع المكلفين أو عن جميعهم على وجه الاستغراق، بل
الظاهر منه أن كل من كان محجوبا عن الحكم فهو موضوع عنه، ولو كان
معلوما لغيره من سائر المكلفين، كما أن قوله: (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) أيضا
كذلك، أي كل من لا يعلم الحكم فهو مرفوع عنه، وهذا واضح جدا.
كما أن الظاهر من قوله: (هو موضوع عنهم) أن الحكم المجعول بحسب
الواقع موضوع عن الجاهل، وهكذا دليل الرفع.
كما أن المصحح لنسبة الحجب إليه - تعالى - هو الحجب الذي لا يكون
بواسطة تقصير العبد عن الفحص، بل يكون لا باختياره، وأن الجهات
الخارجية و [الحوادث] الكونية موجبة للحجب، كوقوع المهالك العامة،
مثل الزلزلة، والحريق، والغرق، وأمثالها، فصارت سببا لضياع الكتب
وحجب العباد، فهذه الأمور مما تنسب إلى الله تعالى، فقوله: (كل ما حجب
الله علمه عن العباد) أي كل حكم يكون المكلف محجوبا عنه لا بتقصير منه

(1) التوحيد للصدوق: 413 / 9 باب 64 في التعريف والبيان..
70

- بل بواسطة أمور خارجة عن قدرته، كطول الزمان، وضياع الكتب
[بسبب حوادث] كونية تكون بقدرة الله تعالى - فهو موضوع عنه، وكذلك
الأمر فيما إذا كان الحجب لا بتقصير من العبد، بل لقصوره وبأمر
غير اختياري.
وإن شئت قلت: إنه بمناسبة الحكم والموضوع يفهم أن الحجب لا بتقصير
من المكلف - بل بأمر غير اختياري يكون تحت قدرة الله تعالى دون العبد -
تمام الموضوع لرفع الحكم ووضعه عنه.
والإنصاف: أن حديث الحجب لا يكون دون حديث الرفع في الدلالة على
البراءة.
وأما ما أفاده المحققون (1): من أن الظاهر من (ما حجب الله علمه) هو ما لم
يبينه للعباد، وتعلقت عنايته - تعالى - بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم أمر رسله
بتبليغه، حيث إنه بدونه لا يصح إسناد الحجب إليه - تعالى - فالرواية مساوقة
لما ورد من: (إن الله تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا) (2).
فهو بمعزل عن مفهوم الرواية، ومخالف للمناسبة المغروسة في ذهن أهل
المحاورة، ومخالف لقوله: (فهو موضوع عنهم) لما عرفت من أن الظاهر من
الوضع عن العباد هو وضع ما هو المجعول، لاعدم التبليغ رأسا، كما عرفت
(1) انظر فرائد الأصول: 199 سطر 9 - 12، الكفاية 2: 176 سطر 1 - 5.
(2) الفقيه 4: 53 / 15 باب 17 في نوادر الحدود، الوسائل 18: 129 / 61 باب 12 من
أبواب صفات القاضي.
71

السر في نسبة الحجب إليه - تعالى - مع أن نسبة مطلق الأفعال إلى الله
- تعالى - قد شاعت في الكتاب والسنة، بحيث صارت من المجازات الراجحة
التي كأنه لا يعد ارتكابها مخالفة الظاهر بنظر العرف، فلا تصادم الظهورات
الاخر، فتدبر.
حديث الحلية
ومنها: قوله: (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام) (1) أو (أنه حرام
بعينه) (2).
ودلالته واضحة (3) ولا يختص بالشبهات الموضوعية بقرينة قوله: (بعينه) لعدم
القرينية.
نعم لا يبعد دعوى ظهور قوله: (بعينه) في مقابل المعلوم بالإجمال، فيكون
الحديث بصدد الترخيص في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال حتى يعرف

(1) لو قلنا: إنه صدر الموثقة. [منه قدس سره]
(2) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، التهذيب 7: 226 / 989
باب من الزيادات، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من أبواب ما يكتسب به،
باختلاف يسير.
(3) بناء على كونها رواية مستقلة كما هو ظاهر بعضهم (أ) وأما لو كانت صدر رواية مسعدة
ابن صدقة (ب) ففي دلالتها إشكال. [منه قدس سره]
(أ) فرائد الأصول: 201 سطر 8 - 9، الكفاية 2: 203.
(ب) مر تخريجها قريبا.
72

الحرام بعينه، أي تفصيلا.
كما أن الظاهر من قوله: (كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى
تعرف الحرام بعينه) (1) هو ذلك، أي ترخيص في التصرف بالمال المختلط بالحرام.
فهذان الحديثان يمكن أن يكونا منسلكين في سلك الأحاديث الواردة في
المال المختلط بالحرام، وقد جمع شتاتها السيد العلامة الطباطبائي في حاشيته
على المكاسب في باب جوائز السلطان (2) منها: موثقة سماعة: (إن كان خلط
الحلال بالحرام، فاختلطا جميعا، فلا يعرف الحلال من الحرام، فلا بأس) (3) ومنها:

(1) الكافي 5: 313 / 39 باب النوادر من كتاب المعيشة، التهذيب 7: 226 / 988 و 9:
79 / 337، الوسائل 12: 59 / 1 باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
(2) حاشية المكاسب للطباطبائي اليزدي: 33 سطر 12 - 23.
العلامة الطباطبائي: هو الفقيه الأكبر المحقق السيد محمد كاظم بن السيد عبد العظيم
الطباطبائي اليزدي، ولد في مدينة يزد سنة 1247 ه‍ تتلمذ على الميرزا الشيرازي،
والشيخ مهدي كاشف الغطاء وغيرهما، له عدة مصنفات في الفقه والأصول مثل:
الحاشية على المكاسب، العروة الوثقى وغيرها، توفي سنة 1337 ه‍. انظر معارف
الرجال 2: 326، أعيان الشيعة 10: 43، الأعلام للزركلي 7: 12.
(3) الكافي 5: 126 / 9 كتاب المعيشة، الوسائل 12: 59 / 2 باب 4 من أبواب ما
يكتسب به.
سماعة: هو سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي الكوفي، من أصحاب الإمامين
الصادق والكاظم عليهما السلام، عده الشيخ المفيد في (رسالته العددية) من الأعلام
الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم ولا
طريق إلى ذم واحد منهم. انظر رجال النجاشي: 193، رجال الشيخ الطوسي: 214،
معجم رجال الحديث 8: 297.
73

صحيحة الحذاء: (لا بأس به حتى يعرف الحرام بعينه) (1) فراجع.
فبناء عليه أن الحديثين أجنبيان عن الشبهات التحريمية.
ومنها: قوله: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) (2) ولا يخفى ما فيه (3).

(1) الكافي 5: 228 / 2 باب شراء السرقة والخيانة من كتاب المعيشة، الوسائل 12:
162 / 5 باب 52 من أبواب ما يكتسب به.
الحذاء: هو أبو عبيدة زياد بن عيسى الحذاء الكوفي، عده الشيخ وغيره في أصحاب
الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، كان حسن المنزلة عند آل محمد صلى الله
عليه وآله، له كتاب يرويه علي بن رئاب، مات في حياة الإمام الصادق. انظر رجال
الشيخ الطوسي: 122 و 202، تنقيح المقال 1: 456.
(2) الفقيه 1: 208 / 22 باب 45 في وصف الصلاة، الوسائل 18: 127 - 128 / 60
باب 12 من أبواب صفات القاضي.
(3) ومما يستدل به قوله: (الناس في سعة ما لا يعلمون) (أ) إذ لو كان الاحتياط واجبا لما
كان الناس في سعة، والعلم بوجوب الاحتياط لا يرفع موضوع الحديث، لعدم كون
إيجاب الاحتياط طريقا إلى الواقع حتى يرفع عدم العلم، وإطلاق العلم على الحجة
- كما سبق منا (ب) - إنما هو على الطرق العقلائية والشرعية، لا على مثل الاحتياط الذي
ليس كاشفا بوجه، فلا وجه لشمول العلم - ولو بالمعنى الموسع - له، ولهذا لو أفتى أحد
على الواقع بقيام أمارة عليه لا تكون فتواه بغير علم، بخلاف ما لو أفتى [على] الواقع
بواسطة وجوب الاحتياط.
وقد يقال إن وجوب الاحتياط إن كان نفسيا يدفع المعارضة بين الحديث وبين أدلة
الاحتياط، لحصول الغاية بعد العلم بوجوب الاحتياط (ج).
وفيه: أن الحكم بلزوم إتيان مجهول الحكم والترخيص فيه متضادان، ولو كان
الترخيص لأجل مجهولية الواقع، فإذا كان شرب التتن مجهول الحرمة فالناس في سعة
من شربه، وهو مخالف لأخبار الاحتياط ولو كان نفسيا.
نعم لو أمكن القول بالسعة من حيث التكليف بما لا يعلمون، وإن كان الضيق من حيث
74

...
الاحتياط النفسي ومصلحة خاصة، لكان له وجه. ولكنه كما ترى، فإن جعل السعة
يكون لغوا بعد عدم انفكاك موضوعه عن موضوع الاحتياط. والحمل على الشبهة
الوجوبية أو الموضوعية اعتراف بالمعارضة، مع أنه لا شاهد له.
ومما يستدل به: صحيحة عبد الصمد بن بشير المنقولة في أبواب تروك الإحرام - باب
45 [من الوسائل] - عن أبي عبد الله في حديث: (إن رجلا أعجميا دخل المسجد يلبي
وعليه قميصه، فقال لأبي عبد الله: إني كنت رجلا أعمل - إلى أن قال -: ليس عليك
الحج من قابل، أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شئ عليه) (د)، دل على أن الإتيان
بمجهول الحكم لا يوجب شيئا.
وقد ردها الشيخ الأعظم: بظهور مثل هذا التركيب في الجاهل المركب الغافل.
وقيل في توجيهه: إن الباء للسببية، والجاهل الغافل يكون جهله سببا للارتكاب (ه‍).
وأيد الشيخ مقالته: بأن تعميم الجهالة لصورة الترديد يحوج الكلام إلى التخصيص
بالشاك الغير المقصر، وسياقه يأبى عن التخصيص، ثم أمر بالتأمل (و).
ولعل وجه تأمله: عدم تمامية دعواه، ضرورة عدم كون هذه التراكيب ظاهرة فيما ذكر،
كما في قوله - تعالى -: (أن تصيبوا قوما بجهالة) (ز)، وقوله: (إنما التوبة على الله للذين
يعملون السوء بجهالة) (ح).
نعم، مورد الرواية هو الجاهل الغافل، لكن لا يكون المورد مخصصا، خصوصا في مثل
هذا العام الذي ورد لإلقاء قاعدة كلية، ويكون من قبيل العموم.
ويؤيد ما ذكرنا: ورود روايات - في باب الحج (ط) والصوم (ي) - بمعذورية الجاهل من
غير استفصال عن جهله.
وأما تأييده بكون الباء للسببية، ففيه منعه، ضرورة أن الجهل - بسيطا أو مركبا - لا
يكون سببا للفعل، بل السبب له هو مبادئه. نعم ربما يكون العلم بالحكم مع بعض
المبادئ مانعا عن ارتكاب الفعل، فالباء هاهنا يمكن أن تكون بمعنى " عن ".
ومع كونها للسببية يصدق أن الارتكاب يكون بجهالة مع الفحص عن الحكم، وعدم
75

...
العثور عليه، فارتكب، فإن السببية لا تكون بمعنى صدور الفعل عنه، بل بمعنى دخالته
ولو في الجملة، وهي حاصلة في الجاهل الملتفت.
وأما تأييده بلزوم التخصيص مع عدم جوازه، ففيه: - مضافا إلى أن التخصيص لازم
على أي حال - [أنه] لا يكون في المقام مانع عن التخصيص، ودعوى إبائه عنه غير
مسموعة، ضرورة عدم وجه للإباء، وعدم كون لسانه آبيا عنه، ولا التخصيص مستهجنا.
ومما يستدل به للبراءة حسنة ابن الطيار عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (إن الله
احتج على الناس بما اتاهم وعرفهم) (يا). دلت على أن الاحتجاج إنما يكون بإيتاء القدرة
والسعة والعقل والفهم، وبتعريف الله أحكامه.
والظاهر أن قوله: (آتاهم) إشارة إلى قوله - تعالى -: (لا يكلف الله نفسا إلا ما
اتاها) (يب)، و (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (يج)، كما استدل بهما أبو عبد الله - عليه
السلام - في رواية عبد الأعلى لعدم التكليف على المعرفة، وأن على الله البيان، وذلك
لعجزهم عنها (يد).
ولا يخفى أن إيتاء السعة والقدرة يكون بالنسبة إلى كل مكلف لإتمام الحجة عليه، ولا
يكفي الإيتاء في الجملة للاحتجاج [على] سائر المكلفين، فكذلك العلم والمعرفة، فما لم
يعرف الله عبده الحكم لا تتم حجته عليه، فإذا جد واجتهد المكلف، ولم يصل إلى
معرفة حكم الله - تعالى - لأسباب لا تكون تحت قدرته، يصدق أنه ما عرفه الله، فلا
تتم الحجة عليه، وهو المقصود.
ثم إن هذه الرواية منقولة مع ذيل في الكافي في باب حجج الله على خلقه عن ابن
الطيار - هو حمزة بن محمد - عن أبي عبد الله، قال: (قال لي: اكتب، فأملى علي: أن
من قولنا: إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثم أرسل إليهم رسولا، وأنزل
عليهم الكتاب، فأمر فيه ونهى...) إلخ (يه).
وقد يقال: إن الظاهر أن ابن الطيار نقل الرواية مع ذيلها لأبان الأحمر في الثانية، وتقطيعا
لجميل في الأولى، فيشكل الاستدلال بها لمكان ذيلها، فإن الظاهر أن إرسال الرسل وإنزال
76

...
الكتب كانا بعد إيتائهم وتعريفهم، فلابد من كون التعريف عبارة عن المعرفة الفطرية
بالصانع، لا المعرفة بالأحكام، فتكون أجنبية عما نحن فيه.
أقول: الأخذ بظاهر الرواية غير ممكن، لأن ظاهرها أن إرسال الرسل وإنزال الكتب
متأخران عن الاحتجاج بما آتاهم وعرفهم، فلابد وأن يقال: إن المقصود منه أن سنة الله
- تعالى - هو الاحتجاج على العباد بما آتاهم وعرفهم، وهي منشأ لإرسال الرسل
والتعريف، فتخلل لفظة (ثم) يكون مناسبا لذلك.
مع أن في ذيل الرواية دلالة على ذلك، فإن الظاهر أن ذيلها مربوط بهذا الكلام، فقد
تصدى لبيان أن التعريف على الله لإتمام الحجة بقوله: (ثم أرسل إليهم رسولا...) إلخ،
وأن إيتاء السعة والقدرة - أيضا - شرط لإتمام الحجة بقوله: (فنام رسول الله عن
الصلاة..) إلى آخر ما ذكر من الاستشهاد بالآيات على أن التكليف موضوع عن الضعفاء
والمرضى والفقراء، فراجع.
وبالجملة: هذا الذيل لا يضر بالدلالة، بل يؤيدها.
وأما ما قيل: إن ما دل على الاحتياط وارد على مثلها (يو) ففيه ما لا يخفى، فإن الظاهر
منها أن المعرفة بالأحكام موجبة للاحتجاج، وبما أنه في مقام الامتنان والتحديد، تدل
على أنه مع عدم المعرفة لا يقع الاحتجاج، ولا يكون الضيق والكلفة، كما دل عليه ذيل
الرواية الثانية، ولزوم الاحتياط لا يوجب المعرفة بالأحكام، ضرورة عدم طريقيته
للواقع، لا حكما ولا موضوعا، فلو احتج علينا على الواقع بالاحتياط يكون احتجاجه بلا
تعريف، وهو يناقض الرواية، وليس الاحتياط واجبا نفسيا حتى يحتج به، بل بعد إلزام
الاحتياط يحتج بالواقع، فلا إشكال في مناقضة الاحتياط معها.
بل لا يبعد حكومتها على أدلة الاحتياط، لتعرضها لنفي الاحتجاج - الذي لازم جعل
الاحتياط - مما لا تتعرض له أدلة الاحتياط، فتدبر.
وقريب منهما ما روي في الوافي عن الكافي في باب البيان والتعريف باسناده عن اليماني،
قال: (سمعت أبا عبد الله يقول: إن أمر الله كله عجب، إلا أنه قد احتج عليكم بما عرفكم
77

...
من نفسه) (يز) بالتقريب المتقدم.
واحتمال كون المراد من (عرفكم من نفسه) تعريف نفسه وذاته - حتى تكون ذاته
معروفة بتعريفه - بعيد، بل الظاهر أن الاحتجاج بالأحكام بعد تعريفه - تعالى - فتعريف
أحكامه عليه، لا على غيره.
ومنها: المرسلة المروية في الوسائل - في باب 12 / 60 - من كتاب القضاء عن محمد بن
علي بن الحسين، قال: قال الصادق: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) (يح).
ولا يخفى أن مثل هذا الإرسال والنسبة إلى المعصوم بنحو الجزم من مثل الصدوق
لا يمكن إلا مع إحرازه صدور الرواية، فهي رواية محرزة لديه ولو بالقرائن القائمة
لديه، ورفع اليد عن مثلها في غاية الإشكال في موارد إثبات حكم إلزامي، بل لا يبعد
صحة الاحتجاج بمثلها.
وكيف كان فمحتملاتها كثيرة، لأن الإطلاق: إما بمعنى اللا حرج والحظر، أو بمعنى
الإباحة الشرعية الواقعية، أو بمعنى الإباحة الظاهرية المجعولة للشاك.
والنهي: إما بمعنى النهي الواقعي المتعلق بالعناوين الأولية، أو الأعم منه ومن
الظاهري كالمستفاد من الاحتياط، أو خصوص الظاهري.
والورود: إما بالمعنى المساوق للصدور، أو المساوق للوصول إلى المكلف.
وقد يقال بامتناع إرادة بعض الاحتمالات (يط):
منه: إرادة الإطلاق بمعنى الإباحة الواقعية، والورود بمعنى الصدور الواقعي، لأن
الإباحة الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع لخلوه عن المصلحة والمفسدة، فلا يعقل
ورود حرمة في موضوعها، للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أنه
لا اقتضاء، وفرض عروض عنوان آخر مقتض للحرمة، مخالف لظاهر الرواية الدالة على
أن الحرمة وردت على نفس ما وردت عليه الإباحة.
وإن كان المراد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده بأن ما لم يرد فيه نهى مباح، فهو
- مع كونه خلاف الظاهر - فاسد، لأنه إن كان بنحو المعرفية فهو كالإخبار بأمر بديهي
78

...
لا يناسب شأن الإمام - عليه السلام - وإن كان بنحو التقييد والشرطية فهو غير معقول،
لأن تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد - حدوثا أو بقاء - غير معقول، لأن عدم الضد
ليس شرطا لوجود ضده.
ومنه: احتمال إرادة الإباحة الظاهرية والورود هو الصدور، بوجوه:
منها: لزوم تخلف الحكم عن موضوعه التام، فإنه مع فرض كون الموضوع - وهو
المشكوك - موجودا، يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع للشك واقعا، فلا يعقل أن يتقيد
إلا بورود النهي على المكلف.
ومنها: أن الإباحة إذا كانت مغياة بصدور النهي واقعا، أو محددة بعدمه، والغاية والقيد
مشكوكا الحصول، فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم صدوره لفعلية الإباحة.
وإجراء الأصل إن كان لمجرد نفي الحرمة فلا مانع منه، إلا أنه ليس من الاستدلال
بالخبر، وإن كان للتعبد بالإباحة الشرعية - واقعية أو ظاهرية - فقد علم امتناع ذلك
مطلقا، وإن كان للتعبد بالإباحة بمعنى اللا حرج فهي ليست من مقولة الحكم، ولا هي
موضوع ذو حكم.
ومنها: أن ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة،
ومقتضى فرض. عدم الحرمة إلا بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا، ومقتضاه عدم الشك
في الحلية والحرمة من أول الأمر، فلا معنى لجعل الإباحة الظاهرية، وليست الغاية غاية
للإباحة الإنشائية - حتى يقال: إنه يحتمل في فرض فعلية الشك صدور النهي واقعا - بل
غاية لحقيقة الإباحة (ك)... (كا). [منه قدس سره]
(أ) الحدائق الناضرة 1: 43.
(ب) في الجزء الأول صفحة: 23.
(ج) الكفاية 2: 177.
(د) الوسائل 9: 125 - 126 / 3 باب 45 من أبواب تروك الإحرام.
(ر) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 229 سطر 18 - 20.
(و) فرائد الأصول: 199 سطر 18 - 20.
79

...
(ز) الحجرات: 6.
(ح) النساء: 17.
(ط) الكافي 4: 373 - 374 / 1 و 3 و 4 و 6 باب المحرم يواقع امرأته.. من كتاب
الحج، الوسائل 9: 253 - 254 / 1 - 6، و 255 / 2، و 257 / 9 و 12 باب 2 و 3
وغيرهما من أبواب كفارات الاستمتاع.
(ي) التهذيب 4: 221 / 19 و 21 باب 57 في حكم المسافر..، الوسائل 7: 35 / 12
باب 9 من أبواب ما يمسك عنه الصائم و 7: 127 / 2 و 3 باب 2 من أبواب من يصح
منه الصوم.
(يا) الحديث في أصول الكافي في باب البيان والتعريف. [منه قدس سره]. ج 1:
ص 162 - 163.
(يب) الطلاق: 7.
(يج) البقرة: 286.
(يد) الكافي 1: 163 / 5 باب البيان والتعريف ولزوم الحجة من كتاب التوحيد،
التوحيد للصدوق: 414 / 11 باب 64 في التعريف والبيان والحجة والهداية.
(يه) الكافي 1: 164 / 4 باب حجج الله على خلقه من كتاب التوحيد.
(يو) مقالات الأصول 2: 62 سطر 6 - 7.
(يز) الكافي 1: 86 / 3 باب أدنى المعرفة، الوافي - الجزء الأول من المجلد الأول -:
121 باب البيان والتعريف.
(يح) الفقيه 1: 208 / 22 باب 45 في وصف الصلاة..، الوسائل 18: 127 / 60 باب
12 من أبواب صفات القاضي.
(يط) نهاية الدراية 2: 187 - 188.
(ك) نهاية الدراية 2: 188 سطر 6 وما بعده.
(كا) هكذا بياض في الأصل فلاحظ.
80

أدلة القول بالاحتياط
81

الاستدلال بالكتاب
قوله: فبالآيات الناهية (1).
احتج الأخباريون على وجوب الاحتياط بآيات:
منها: ما دل بظاهره على لزوم التورع والاتقاء، مثل قوله: * (اتقوا الله حق
تقاته) * (2) * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * (3)، وقوله: * (فاتقوا الله ما
استطعتم) * (4).
ولقد أجاب عنها شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه -: بأن الاتقاء يشمل
[فعل] المندوبات وترك المكروهات، ولا إشكال في عدم وجوبهما، فيدور
الأمر بين تقييد المادة بغيرهما، وبين التصرف في الهيئة بحملها على إرادة
مطلق الرجحان، حتى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه، ولا إشكال في

(1) الكفاية 2: 182.
(2) آل عمران: 102.
(3) الحج: 78.
(4) التغابن: 16.
83

عدم أولوية الأول إن لم نقل بأولوية الثاني من جهة كثرة استعمالها في غير
الوجوب، - حتى قيل (1): إنه من المجازات الراجحة المساوي احتمالها مع
الحقيقة (2) انتهى.
ويمكن المناقشة فيه:
أما أولا: فبالمنع من شمول الاتقاء لفعل المندوب وترك المكروه، فإن
التقوى - عرفا - عبارة عن الاحتزار عما يوجب الضرر أو محتمله، مثل ترك
المحرمات ومشتبهاتها، واستعمالها في فعل الواجب ومشتبهه إنما هو بمناسبة
أن في تركه ضررا أو احتماله، ويتضح ما ذكرنا بمراجعة موارد استعمال مادة
التقوى في الكتاب والسنة والمحاورات العرفية.
وأما ثانيا: فبالمنع من أكثرية استعمال الأمر في غير الوجوب من تقييد
المادة، فإن تقييدها شائع كثير في جميع أبواب الفقه، حتى يشكل الاطلاع
على مطلق باق على إطلاقه، ولو كان فإنه نادر جدا، وأما استعمال الأمر في
الوجوب فإلى ما شاء الله ولا أظن أن ما أفاد في المقام، وتكرر منه في مجلس
بحثه - من رجحان التصرف في الهيئة على التصرف في المادة عند الدوران -
يكون موردا لعمله قدس سره في الفقه، لأنه يلزم منه تأسيس فقه جديد كما
لا يخفى.
نعم يتعين في المقام حمل الهيئة على مطلق الرجحان، وعدم ارتكاب

(1) معالم الدين: 48 سطر 13 - 15.
(2) درر الفوائد 2: 91 - 92.
84

التقييد في المادة لخصوصية فيه، لالما ذكره، وذلك لأن الآيات الشريفة آبية
عن التقييد، فإن الاستثناء من قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * (1) وأمثاله يكون
بشيعا، فلا يجوز أن يقال: " اتقوا الله ما استطعتم إلا في مورد كذائي " ولما
كانت الآيات الشريفة شاملة للشبهات الموضوعية والحكمية، ولا يجب
الاحتياط فيها بلا إشكال، يدور الأمر بين تقييدها بغيرها وبين حمل الأوامر
على مطلق الرجحان، وحيث كان التقييد غير جائز يتعين الحمل عليه.
مضافا إلى أن الآيات شاملة للمحرمات والواجبات المعلومة، ولا إشكال
في امتناع تعلق الأمر التعبدي بوجوب إطاعتهما، فيجب حمل الأوامر فيها
على الإرشاد، فتصير تابعة للمرشد إليه.

(1) ال عمران: 102.
85

الاستدلال بالسنة
قوله: وما دل على وجوب الاحتياط (1).
إن ما دل على وجوبه طائفتان:
إحداهما: الأخبار الخاصة، كصحيحة عبد الرحمن بن حجاج (2) وموثقة
عبد الله بن وضاح (3).

(1) الكفاية 2: 182.
(2) الكافي 4: 391 / 1 باب القوم يجتمعون على الصيد من كتاب الحج، الوسائل 18: / 1
112 باب 12 من أبواب صفات القاضي.
عبد الرحمن بن الحجاج: هو أبو علي البجلي الكوفي، بياع السابري، عده الشيخ
والبرقي في أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، كان ثقة ثبتا وجها،
معروفا بكثرة العبادة. انظر رجال الشيخ الطوسي: 230 و 353، رجال البرقي: 24 و
48، معجم رجال الحديث 9: 315.
(3) التهذيب 2: 259 / 68 باب 13 في المواقيت، الوسائل 18: 122 / 37 باب 12 من
أبواب صفات القاضي.
عبد الله بن وضاح: هو أبو محمد الكوفي، من أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام، له
87

ويرد عليهما - مع كثرة الاحتمالات المسقطة [لهما] عن الاستدلال -
أنهما شاملتان للشبهات الموضوعية والحكمية الوجوبية، فيدور أمرهما بين
التصرف في المادة والهيئة، والثاني أولى، لإبائهما عن التخصيص.
وثانيتهما: الأخبار العامة، كقوله: (أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) (1).
ويرد عليها - مضافا إلى ما ذكر أخيرا - أن مثل حديث الرفع له
نحو حكومة عليها، فإن الدين عبارة عن الأحكام، أي احتط في مورد
تكون شبهة مخالفة الحكم الإلهي، ولسان حديث الرفع هو رفع الحكم
الإلهي عن مورد الشبهة، ومع عدم الحكم لا يكون مورد للاحتياط لأجل
التحفظ عليه.
وبمثل ما ذكر يمكن الجواب عن خبر التثليث (2) فإن حديث الرفع يرفع
موضوع الريب، ويرفع الإشكال والشبهة.
مضافا إلى أن لسان خبر التثليث هو لسان الإرشاد إلى عدم الوقوع
في المحرمات بواسطة التعود على ارتكاب الشبهات، كما تشهد عليه
الروايات.
عدة كتب منها: كتاب التفسير، وكتاب الصلاة. انظر رجال الشيخ الطوسي: 355،
فهرست الشيخ الطوسي: 193، رجال النجاشي: 215.

(1) أمالي الشيخ الطوسي 1: 109 / 22، الوسائل 18: 123 / 41 باب 12 من أبواب
صفات القاضي.
(2) الفقيه 4: 285 - 286 / 34 باب 176 في النوادر، الوسائل 18: 114 / 9 و 118 / 23
باب 12 من أبواب صفات القاضي.
88

الاستدلال بالعقل
قوله: وأما العقل (1).
استدلوا بالعلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة، فلابد من
الاحتياط (2).
والجواب عنه يتوقف على بيان ميزان انحلال العلم الإجمالي حقيقة أو
حكما، حتى يتضح الحال في المقام.
فنقول: قد يتوهم أن ميزان الانحلال الحقيقي أن يتعلق العلم بأن ما علم
إجمالا من التكليف هو هذا المعلوم بالتفصيل (3) فإذا علم بموطوئية غنم بين
قطيعة لابد في الانحلال أن يتعلق العلم بأن هذه الغنم هي الغنم التي تعلق
بها العلم الإجمالي.
وبعبارة أخرى: يحتاج في الانحلال إلى أمرين: أحدهما: العلم التفصيلي

(1) الكفاية 2: 185.
(2) الفوائد الطوسية: 507.
(3) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 250 سطر 11 - 16.
89

بمقدار المعلوم بالإجمال، والثاني: العلم بانطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم
بالتفصيل. وعلى هذا قلما ينحل علم إجمالي، خصوصا في الشبهات
الحكمية، بل يمكن دعوى عدم مورد فيها كذلك.
هذا، ولكن هذا خلاف التحقيق، لعدم تقوم الانحلال بالعلم بالانطباق،
بل احتماله كاف فيه، وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يكون منجزا للأطراف
إذا بقيت الأطراف على طرفيته، وإنما تبقى عليها فيما إذا كان الإجمال باقيا
في النفس، وإنما يبقى الإجمال إذا كان كل طرف طرفا للاحتمال بنحو
القضية الحقيقية، أو مانعة الخلو، فيصدق عليه: إما هو واجب أو الطرف
الآخر، ومع العلم التفصيلي بوجوب طرف لايبقى الترديد، ضرورة خروج
الطرف المعلوم بالتفصيل عن طرفية العلم الإجمالي، لمناقضة مفاديهما،
فينحل العلم الإجمالي، ولا يبقى إجمال في النفس، فيصير أحد الأطراف
معلوما بالتفصيل، والبقية محتملة.
وبالجملة: تنحل القضية الحقيقية أو مانعة الخلو إلى قضية حملية بقية، وإلى
قضية أخرى كذلك، أو قضية مشكوك فيها، من غير بقاء العلم الإجمالي.
إن قلت: لو خرج أحد الطرفين عن طرفية العلم بالسبب الحادث لانحلت
القضية المنفصلة إلى قضية بتية ومشكوك فيها مع بقاء أثر العلم الإجمالي
بلا إشكال، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين في أول النهار، ثم
وقعت نجاسة في أحدهما المعين في آخر النهار، فإن إحداهما تصير معلومة
تفصيلا، والاخرى مشكوك فيها، مع بقاء أثر العلم الإجمالي، ووجوب
90

الاجتناب عن الأخرى.
قلت: يشترط في بقاء أثر العلم الإجمالي أن يكون باقيا بالنسبة إلى الزمان
الأول، أي يكون المكلف عالما في الزمان الثاني بوجود التكليف في الزمان
الأول، وبهذا يفرق بين صيرورة بعض الأطراف مفصلا بالسبب الحادث،
وبين احتمال الانطباق من أول الأمر، فإن الثاني يوجب الانحلال دون
الأول، كما أن هذا وجه الافتراق بين ما نحن فيه، وبين الخروج عن محل
الابتلاء، أو إتيان بعض الأطراف.
فتحصل مما ذكرنا: أن ميزان الانحلال الحقيقي هو صيرورة القضية
المنفصلة قضيتين: حملية بتية موجبة، وحملية بتية سالبة، إن كانت المنفصلة
حقيقية، وقضية مشكوكا فيها إن كانت مانعة الخلو.
وأما الانحلال الحكمي: فهو صيرورة القضيتين كذلك، لكن باعمال تعبد
من الشارع ولو إمضاء، كما لو قامت أمارة على أحد الأطراف، فإنه يصير
المعلوم الإجمالي بها مفصلا، ولا يبقى أثره بحكم التعبد.
ردود على أدلة الأخباريين
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه قد أجيب عن الأخباريين بأمور:
جواب المحقق الحائري قدس سره:
أحدها: أن العلم الإجمالي منحل حقيقة، وذلك لأن العلم لما كان صفة
91

قائمة بالنفس، وله إضافة كشف إلى المعلوم، يكون له جهتان: جهة كونه
صفة نفسانية كالقدرة والإرادة، وجهة كونه كاشفا عن الواقع، وموضوع
حكم العقل في تنجيز الواقع هو جهة كونه طريقا إلى الواقع، لاكونه صفة
قائمة بالنفس، والأمارات مشتركات معه من هذه الحيثية، وامتيازه عنها إنما
هو في كونه صفة، وهو غير دخيل في التنجيز، فما هو ملاك حكم العقل
مفصل، وما بقى على إجماله ليس ملاكا لحكم العقل (1).
وبالجملة: الأمارات مصداق حقيقي للعلم بما هو طريق إلى الواقع
وكاشف عنه، فينحل العلم بقيامها ببعض الأطراف.
هذا وفيه: أن كون العلم صفة نفسانية مقابل القدرة والإرادة أمر،
وكونه كاشفا مطلقا أمر، وكونه متصفا بتمام الكشف وكمال الإراءة
أمر آخر.
والعلم وإن كان حقيقة بسيطة، لكن [يحلله]، العقل إلى مطلق الكشف
الجامع بينه وبين سائر الأمارات بل الظنون، وإلى تمام الكشف وكمال الإراءة
عن الواقع، وبهذا يمتاز عن سائر الأمارات والظنون، وما هو ملاك حكم العقل
في التنجيز هو الكاشفية التامة، التي هي ما بها الامتياز بين العلم وغيره، حيث
يحكم العقل بعدم تطرق الجعل إليه لأجلها نفيا وإثباتا دون غيره، وأما مطلق
الكاشفية المشتركة فليس ملاك حكم العقل في التنجيز، وإلا لزم كون مطلق
الكواشف حجة عقلية بنفسها من دون جعل، ولزم امتناع الردع عنها أو

(1) درر الفوائد 2: 100.
92

تطرق الجعل إليها، وهو كما ترى.
فما هو ملاك حكم العقل في التنجيز في العلم ليس هو في الأمارات
المجعولة أو الغير المردوعة، فإن ملاك حكم العقل فيه هو تمامية الكشف،
وملاكه فيها هو البناء العقلائي، أو التعبد الشرعي جعلا أو إمضاء،
فالانحلال بها إن كان إنما يكون انحلالا تعبديا لا حقيقيا.
جواب المحقق الخراساني قدس سره:
ثانيها: ما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله - ومحصله: أن العلم
الإجمالي بالأحكام ينحل - تعبدا وحكما - بواسطة العلم الإجمالي بثبوت
طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ
لاعلم بتكاليف اخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة في الطرق
والأصول العملية.
إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات.
قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا، وأما إذا لم يكن
كذلك، بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، ينحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي
والشك البدوي... إلى آخر ما أفاد (1).
وفيه: أن ميزان انحلال العلم الإجمالي في الدائرة الكبيرة بالعلم الإجمالي
في الدائرة الصغيرة، إنما هو تنجيز الأطراف بالعلم الصغير بحيث لايبقى

(1) الكفاية 2: 187.
93

مجال لتنجيزها بالكبير، فلا محالة يصير العلم الصغير بمنجزيته للأطراف مما
ينحل به العلم الكبير، وذلك إنما يكون فيما إذا تقدم المعلوم بالعلم الإجمالي
الصغير على المعلوم بالعلم الكبير، فإن المنجزية في هذه الصورة تختص
بالصغير، وتكون منجزية الكبير بالنسبة إليها من قبيل تنجيز المنجز، وهو
محال، فلا محالة يصير العلم الكبير غير مؤثر بالنسبة إلى الأطراف، فتنحل
أطرافه إلى العلم بالمنجز الفعلي بالنسبة إلى أطراف الصغير وإلى الشك
البدوي.
وأما في صورة مقارنة المعلومين، أو تقدم الكبير، فلاوجه للانحلال، لأن
العلم الكبير لا يصير بلا أثر، أما في صورة تقدمه على الصغير فواضح، فإن
الكبير منجز للأطراف دون الصغير إلا على نحو التعليق، وأما في صورة
مقارنتهما، فلأن الصغير والكبير يشتركان في تنجيز أطراف الصغير، لمقارنة
علتي التنجيز فيها، ويختص الكبير بتنجيز أطرافه المختصة به.
وبالجملة: في رتبة تنجيز الصغير لأطرافه يتنجز أطراف الكبير به أيضا،
لعدم استحالة مقارنة المنجزين لشئ واحد كما لا يخفى.
فتحصل من ذلك: أن الانحلال بالعلم الإجمالي مما لا يمكن فيما نحن فيه،
لأن المعلوم بالعلم الإجمالي في الدائرة الصغيرة يقارن المعلوم في الكبيرة أو
يتأخر عنه، ولا يكون مقدما عليه قطعا.
ومما ذكرنا يظهر: النظر فيما أفاده، مضافا إلى الخلل في كلامه من تناقض
الصدر والذيل، ومن الخلط بين قيام الأمارة على أحد الأطراف معينا وبين
94

قيامها بنحو الإجمال، فراجع.
المختار من الأجوبة:
الثالث - وهو المعتمد (1) -: أنه بعد قيام الأدلة والأمارات - من قبيل
الخبر الواحد - على الواجبات والمحرمات بمقدار المعلوم، ينحل العلم الإجمالي
إلى العلم التفصيلي والشك البدوي (2).
ولا إشكال في أن خبر الثقة كاف في الفقه، بحيث لايبقى لنا علم
بالتكليف زائدا عما يكون مفاد الأخبار، ولا إشكال في انحلال العلم
الإجمالي تعبدا لأجل قيام الأمارات على بعض الأطراف على نحو التعيين
بمقدار المعلوم بالإجمال، فإنها دالة على التكاليف الواقعية، ويجب ترتيب
الآثار عليها، فتصير الأطراف بين ما يجب أو يحرم معينا وبين مشكوكهما،
فلا معنى لبقاء الإجمال والترديد بكون التكليف إما في هذا الطرف أو هذا،
فتنحل القضية المنفصلة الحقيقية إلى قضايا حملية بتية موجبة وسالبة، إن
كانت المنفصلة حقيقية، والقضية المنفصلة المانعة للخلو إلى قضايا حملية بتية
موجبة وقضايا مشكوكة.
ثم إن ما ذكرنا من الانحلال إنما هو إذا كان مفاد أدلة حجية الأمارات
التعبد بالأحكام الواقعية.

(1) قد رجعنا عنه في الدورة اللاحقة. [منه قدس سره]
(2) درر الفوائد 2: 99.
95

وأما بناء على جعل الحجية: فإن قلنا: بأن للحجة وجودا واقعيا وإن
لم نعثر عليها، ينحل العلم بها.
وإن قلنا: بأن لا معنى للوجود الواقعي لها، بل الحجة إنما تتقوم بالعلم،
فلا ينحل العلم الإجمالي، لأنها حادثة عند تحقق العلم، والتكليف الحادث مما
لا ينحل العلم [به] كما أشرنا إليه سابقا (1).
هذا ولكن يمكن أن يقال بالانحلال في هذه الصورة أيضا، لأن الحجة
وإن كانت حادثة، لكنها حجة على التكليف الواقعي من أول الأمر، وقد
عرفت (2) أن ميزان الانحلال بمقارنة المعلوم بالتفصيل للمعلوم بالإجمال، أو
تقدمه عليه، من غير دخالة لتقدم العلم وتأخره.
هذا مضافا إلى أن لا معنى لجعل الحجية، بل قد عرفت سابقا (3) أن خبر
الثقة أمارة عقلائية أمضاها الشارع، وحجة عند العقلاء لأجل كشفه عن
الواقع وطريقيته إليه، والحجية من آثار الطريقية، وأما نفس الحجية - أي
احتجاج المولى على العبد، وهو عليه - فهي غير قابلة للجعل. نعم جعل
الأمارة بحيث ينتزع منها الحجية ممكن، لكنه غير جعل الحجية.

(1) في صفحة: 91.
(2) في صفحة: 94.
(3) انظر الجزء الأول صفحة: 105.
96

تنبيهات البراءة
اشتراط عدم أصل موضوعي في موردها
قوله: الأول أنه إنما تجري أصالة البراءة... (1).
أقول: لا إشكال في أن جريان أصالة البراءة يتوقف على عدم أصل
حاكم أو وارد فس موردها، موافقا كان أو مخالفا.
وأما وجه تقديم الأمارات على الأصول فسيأتي تفصيله في محله (2).
فلو شك في حتية حيوان أو طهارته من جهة الشك في قبوله التذكية،
حكم عليه بالحرمة والنجاسة بناء على جريان أصالة عدم التذكية، ولا تجري
أصالة الحل والطهارة فيه.
في أصالة عدم التذكية:
ولا بأس بالإشارة إلى ما يتعلق بالمثال من جهة الشبهة الحكمية

(1) الكفاية 2: 190.
(2) رسالة الاستصحاب المطبوعة ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام قدس سره: 236 - 244.
97

والموضوعية على سبيل الاحتمالات الأصولية، لاعلى سبيل التصديق
الفقهي، فإنه خارج عن المقام، وذلك يتم برسم أمور:
الأول: أن الشبهة: إما حكمية أو موضوعية، والحكمية: إما تكون لأجل
الشك في قابلية الحيوان الكذائي للتذكية، وإما لأجل الشك في شرطية شئ
أو جزئيته لها، وإما لأجل الشك في مانعية شئ عنها.
والشك في قبول التذكية: إما من جهة الشبهة المفهومية، كما لو شك في
حيوان أنه داخل في نوع الكلب، وإما من جهة أخرى، كما لو شك في أن
الحيوان المتولد من الحيوانين - مع عدم دخوله في عنوان أحدهما - مما يقبل
التذ كية، أولا.
والشك في المانعية: تارة يكون لأجل وصف لازم، وتارة يكون لأجل
وصف حادث كالجلل.
والشبهة الموضوعية: تارة تكون لأجل الشك في حيوان بأنه غنم أو كلب
لأجل الشبهة الخارجية، وتارة يكون الشك في جزء من الحيوان أنه جزء من
الغنم أو الكلب، وتارة يكون الشك في جزء من الحيوان بأنه مأخوذ مما يعلم
تذكيته أو مما لم يعلم تذكيته، وتارة في جزء منه بأنه مأخوذ مما يعلم تذكيته
أو يعلم عدم تذكيته، وأيضا تارة يكون الشك لأجل الشك في تحقق التذكية
خارجا، مع عدم كونه في يد مسلم أو سوق المسلمين، وعدم مسبوقيته بهما،
وتارة يكون لأجل الشك في طرو المانع بعد إحراز المانعية، كما لو قلنا بأن
الجلل مانع، وشككنا في حصوله.
98

الثاني: أن التذكية الموجبة للطهارة، أو هي مع الحلية، إما أن تكون أمرا
بسيطا، أو مركبا خارجيا، أو مركبا تقييديا.
وعلى الأول: تارة تكون أمرا متحصلا مسببا من الأجزاء الخارجية، وتارة
تكون منتزعا منها موجودة بعين وجودها كسائر الانتزاعيات.
والمراد من المركب الخارجي - هاهنا -: أن تكون التذكية عبارة عن
الأمور الستة: أي فري الأوداج، بالحديد، إلى القبلة، مع التسمية، وكون
الذابح مسلما، والحيوان قابلا ولا يكون أمر آخر معتبرا فيها سواها.
والمراد من المركب التقييدي: أن تكون التذكية عبارة عن أمر متقيد بأمر
آخر، وحينئذ تارة تكون أمرا بسيطا متحصلا من الأمور الخمسة متقيدا
بقابلية المحل مثلا، وتارة تكون أمرا منتزعا منها متقيدا بها، وتارة تكون أمرا
مركبا منها متقيدا بها، ففي جميع هذه الصور يكون المركب تقييديا. نعم قد
تكون التذكية بسيطة متقيدة، وقد تكون مركبة متقيدة.
الثالث: إن دل دليل شرعي على تعيين أحد المحتملات، ورفع الشبهة من
جهة أو جهات، فهو، وإلا فالمرجع هو الأصول الموضوعية أو الحكمية على
اختلاف الموارد في جريانها، كما ستأتي الإشارة إليه (1).
وأما تصديق بعض المحتملات فهو منوط بالبحث الفقهي، وخارج عما
نحن بصدده من بيان الأصل في كل محتمل.
إذا عرفت ذلك فنقول: لو كان الشك من جهة قابلية الحيوان للتذكية، سواء

(1) في صفحة: 13 1 - 116.
99

كانت الشبهة لأجل الشبهة المفهومية أولا، ولم يدل دليل على قابلية كل
حيوان للتذكية، فهل تجري أصالة عدم القابلية وتحرز الموضوع، أم لا؟
قد يقال بجريانها، وتوضيحه:
أن العارض قد يكون عارض المهية، وقد يكون عارض الوجود، وعلى
أي تقدير قد يكون لازما وقد يكون مفارقا، فالعرض اللازم للماهية
كزوجية الأربعة، وكون زوايا المثلث مساوية للقائمتين، والمفارق لها
كعروض الوجود لماهية الممكن - تأمل - والعرض اللازم للوجود كموجوديته
المصدرية، ونوريته، ومنشئيته للآثار، والمفارق كالسواد والبياض العارضين
للموجود.
ولا إشكال في أن قابلية الحيوان للتذكية من العوارض اللازمة للوجود أو
الموجود، وليست من العوارض اللازمة للماهية، وتكون من العوارض المفارقة
للماهية بتبع الوجود كجميع عوارض الوجود.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الحيوان الكذائي - ونشير إلى مهيته - لم يكن
قابلا للتذكية قبل وجوده، ونشك في أنه حين تلبسه به عرض له القابلية لها،
أولا، فالأصل عدم عروضها له.
نعم لو كان الموضوع هو الوجود، أو كانت القابلية من لوازم المهية،
لم يكن وجه لهذا الاستصحاب، لعدم الحالة السابقة، لكن الموضوع هو
المهية، والقابلية عارضة لها بعد وجودها، فهذه المهية قبل تحققها لم تكن
متصفة بالقابلية بنحو السالبة المحصلة، والآن كما كانت.
100

ومن ذلك يعلم جريان أصالة عدم القرشية وأمثالها، فأصالة عدم القابلية
جارية وحاكمة على أصالة عدم التذكية، وعلى الأصول الحكمية.
هذا غاية ما يمكن أن يقرر [به] هذا الأصل. ولقد أصر شيخنا
العلامة - أعلى الله مقامه - على جريانه (1) ولكن التحقيق أن هذا الأصل مما
لا أصل له.
في بيان اعتبارات القضايا:
توضيحه يتوقف على بيان اعتبارات القضايا السالبة، ولا بأس بالإشارة
إلى مطلق القضايا لكي يتضح المقصود.
فنقول: إن القضايا المعتبرة في العلوم إما تكون موجبة، أو سالبة، أو
معدولة المحمول موجبة وسالبة، والأوليان قد تكونان بنحو الهلية البسيطة،
وقد تكونان بنحو الهلية المركبة، فإذن القضايا التي لها اعتبار عند العقل
والعقلاء ستة:
الأولى: القضية الموجبة بنحو الهلية المركبة، كقولنا: " زيد قائم " ولا إشكال
في أنها تنحل إلى: موضوع، ومحمول، ونسبة (2) ولكل منها محكي،

(1) لم نعثر عليه في درر الفوائد، وربما استفاده - قدس سره - من مجلس بحثه أو
مصدر آخر.
(2) قد عدلنا عما هاهنا من اشتمال جميع القضايا على النسبة، وفصلنا بين القضايا،
وحققنا حالها بما لا مزيد عليه في بحث أوضاع الحروف، وفي العام والخاص، فراجع.
[منه عفي عنه]
101

فالموضوع يحكي عن زيد الخارجي، والمحمول عن القيام، والنسبة عن
حصوله له. وأما تحقيق أن الكون الرابط متحقق في الخارج، أولا، وعلى
فرض تحققه فبأي نحو، فأمر صعب خارج عن مقصدنا، ومذكور
في محله (1) وعلى أي حال للقضية حكاية وكشف عن أمر خارجي،
موضوعا، ومحمولا، ونسبة أو كونا رابطا.
الثانية: القضية الموجبة بنحو الهلية البسيطة، كقولنا: " زيد موجود "،
و " الوجود موجود " ولا إشكال في أن هذه القضية مركبة ذهنا من الموضوع
والمحمول والنسبة، كما لا إشكال في أن المحكي عنه فيها لم يكن بنحو المحكي
عنه في القضية الأولى، فإن موجودية المهية لم تكن على نحو عروض
الأعراض الخارجية للموضوع، كما أن موجودية الوجود لم تكن عارضة له
في الخارج، بل المحكي الخارجي ليس إلا الوجود البسيط، فيحلله العقل
إلى موضوع ومحمول، ويخترع له نسبة من دون أن يكون في الخارج
معروض وعرض، وموضوع ومحمول ونسبة. وأوضح مما ذكرنا قولنا:
" زيد زيد " و " الوجود وجود " فإن المحكي ليس إلا نفس ذات الموضوع، ومناط
الصدق في أمثال هذه القضايا هو تحقق الموضوع بنفس ذاته، أو تحقق
المحمول بذاته.
الثالثة: القضية الموجبة المعدولة، والميزان في اعتبارها أن يكون للمعنى
العدمي المنتسب إلى الموضوع نحو حصول في الموضوع كأعدام الملكات،

(1) الأسفار 1: 327 - 330، منظومة السبزواري: 61 - 62.
102

مثل " زيد لا بصير " المساوق ل‍ " زيد أعمى " فإن إثبات العمى واللا بصير
للموضوع إنما هو باعتبار أن لهذا المعنى العدمي نحو تحقق فيه، وهو قابليته
للاتصاف بالبصر، وهذا الاعتبار ليس في القضية السالبة المحصلة، للفرق
الواضح بين سلب شئ عن موضوع وإثبات السلب له، فإن معنى الإثبات
هو حصول الأمر العدمي له، ومعنى السلب البسيط سلب هذا الثبوت عنه،
ولهذا تكون القضية المعدولة - التي لها اعتبار في مقابل القضايا - فيما إذا كان
للسلب ثبوت بنحو العدم والملكة، فقولنا: " زيد لا بصير " قضية معتبرة، و " زيد
لا عمرو " غير معتبرة، ك‍ " الجدار لا بصير أو أعمى " فمناط الصدق في مثلها
هو نحو تحقق للمعنى السلبي في الموضوع، وثبوته له بنحو من الثبوت،
ف‍ " الجدار لا بصير " قضية غير صادقة، و " هو ليس ببصير " صادقة،
و " زيد لا بصير " صادقة، ك‍ " زيد ليس ببصير ".
الرابعة: القضية السالبة المعدولة، كقولنا: " الجدار ليس بلا بصير " وهي
أيضا قضية معتبرة، ومفادها سلب تحصل هذا الأمر العدمي للموضوع.
الخامسة: القضية السالبة بنحو الهلية البسيطة، كقولنا: " زيد ليس بموجود "
مما مفادها سلب الموضوع ففي مثل هذه القضايا ليست حكاية حقيقية
ولا كشف واقعي عن أمر أصلا، وليس لها محكي بوجه، لكن العقل يدرك
بنحو من الإدراك بطلان الموضوع، وهذا الإدراك - أيضا - يكون بتبع أمر
وجودي، كالصورة المدركة الذهنية التي يخترعها العقل، وتكون مناط
إدراكه وحكمه. فقولنا: " المعدوم المطلق ليس بشئ، أو معدوم " لا يحكي عن
103

أمر واقعي، بل ينبه على بطلان المعدوم وعدم شيئيته، وليس للبطلان وعدم
الشيئية واقعية حتى يحكي شئ عنها.
فصرف البطلان - الذي يخترع العقل له مفهوما، يكون بالحمل الأولي
هو البطلان، ويحكم عليه ببطلان مصداقه - هو مناط الصدق. نعم يتوهم
العقل المشوب أن للبطلان واقعية، والمفهوم يحكي عنه، والتخلص عن
ملاعبة الواهمة أمر صعب.
السادسة: القضية السالبة المحصلة بنحو الهلية المركبة، كقولنا: " زيد ليس
بقائم " ففي مثلها قد يكون الموضوع محققا يسلب عنه المحمول، وقد يكون
السلب بسلب الموضوع.
فمع تحقق الموضوع يكون لموضوع القضية حكاية وكشف، دون
محمولها، لكن العقل يدرك بوسيلة الصورة المخترعة الموجودة في الذهن أن
الموضوع لم يكن متصفا بالمحمول، فيحكم به من دون أن يكون لعدم الاتصاف
حقيقة خارجية، ولهذا المعنى السلبي واقعية محكية. ومناط صدقه
عدم اتصاف الموضوع بالمعنى المقابل للمعنى العدمي.
ومع عدم تحقق الموضوع ليس للقضية حقيقة واقعية أصلا، لا موضوعا
ولا محمولا ولا نسبة، وليست هذه القضية مثل القضية الموجبة المركبة
مما تحكى القضية اللفظية عن موضوع ومحمول ونسبة، بل هذه
القضية اختراع صرف من العقل، منشؤه إدراك البطلان للموضوع بصورة
ذهنية، وإدراك البطلان للمحمول بصورة ذهنية أخرى، وتوهم سلب المحمول
104

عن الموضوع.
كل ذلك بملاعبة الواهمة ودعابة المتصرفة، وأما بحسب
الواقع فليس أعدام ممتازة: أحدها الموضوع، والآخر المحمول، والثالث
النسبة، لعدم الميز في الأعدام، وعدم الكثرة والوحدة فيها، فالبطلان
الصرف لا يكون حاكيا ولا محكيا، ولا دالا ولا مدلولا، ولا موضوعا
ولا محمولا، فهذه القضايا غير حاكية عن شئ أصلا، إلا بتوهم شيطنة
الواهمة واكذوبتها.
إذا عرفت حال القضايا اتضح لك: أن سلب شئ عن شئ قبل
تحقق الموضوع ليس له واقع، وإنما هو من اختراع العقل،
لا كاشفية ومكشوفية في البين، فقولنا: " هذه المرأة قبل تحققها لم تكن قرشية،
أو هذا الحيوان قبل تحققه لم يكن قابلا للتذكية، والآن كما كان " مما
لا معنى له، لأن هذه المرأة قبل تحققها لم تكن هذه، وهذا الحيوان لم يكن
هذا، ولا يمكن أن يشار إليهما حسا ولاعقلا، وإنما تتوهم الواهمة أن
لهذا المشار إليه هذية قبل تحققه، فهذه المرأة قبل وجودها لم تكن مشارا
إليها، ولا مسلوبا عنها شئ على نعت سلب شئ عن شئ.
فالقضية المشكوك فيها ليست لها حالة سابقة، وإنما سابقتها في عالم
الاختراع بتبع أمور وجودية، وتوهم الواهمة لما ليس له تحقق تحققا، ولما
ليس له واقع واقعا.
وبالتأمل فيما ذكرنا يدفع ما يمكن أن يقال: إن المرأة الكذائية قيل تحققها
105

إما قرشية أو ليست بقرشية، لامتناع ارتفاع النقيضين، فإذا كذب
" أنها قرشية " صدق " أنها ليست بقرشية " (1).
وذلك لأن نقيض " أنها قرشية " ليس " أنها ليست بقرشية " على نعت
سلب شئ عن شئ له واقعية، بل نقيضه أعم من ذلك ومن بطلان
الموضوع، وهو يلازم بطلان المحمول والنسبة، فليتأمل فإنه دقيق.
فتحصل مما ذكرنا: أن هذا الحيوان لم يكن هذا الحيوان، لا أنه حيوان سابقا
ولم يكن قابلا (2) فأصالة عدم القابلية في الحيوان كأصالة عدم القرشية في
المرأة، ليس لها أساس، من غير فرق في الشك في القابلية بين الشبهة المفهومية
- وأن هذا الحيوان هل هو داخل في مفهوم السبع أم لا؟ - وبين غيرها،
كالشك في الحيوان المتولد من الحيوانين مع عدم الشك في المفهوم، فمع عدم
جريان أصالة عدم القابلية يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية.
التحقيق في المسألة:
والتحقيق فيها: أن التذكية إن كانت أمرا مركبا خارجيا - ككونها نفس
الأمور الستة الخارجية - فأصالة عدمها غير جارية بعد وقوع الأمور الخمسة

(1) مستمسك العروة الوثقى 3: 156.
(2) ولو قيل: إن موضوع الأثر المرأة حال الوجود، ويكفي في الاستصحاب كون الموضوع
ذا أثر في زمان الشك.
يقال: إن استصحاب السلب المطلق لإثبات بعض حالاته أو مصاديقه مثبت، وهو نظير
استصحاب الحيوان الجامع بين البق والفيل لإثبات الفيل وآثاره تدبر. [منه قدس سره]
106

على حيوان شك في قابليته، لعدم جريان أصالة عدم القابلية، وعدم كون
التذكية أمرا مسبوقا بالعدم، لكونها عبارة عن الأمور الخارجية، والفرض
حصول خمسة منها، وعدم جريان الأصل في السادس منها، فحينئذ يكون
المرجع أصالة الحل والطهارة.
وفي غير هذه الصورة - من كون التذكية أمرا بسيطا محضا، أو بسيطا
متقيدا، أو مركبا تقييديا - فأصالة عدم التذكية جارية مع الغض عن الإشكال
الآتي المشترك الورود.
أما إذا كانت أمرا بسيطا متحصلا من الأمور الخارجية فواضح، لأنه
مسبوق بالعدم قبل تحقق الأمور الخارجية، والآن كما كان، واختلاف منشأ
الشك واليقين لا يضر به.
وكذلك إذا كانت أمرا بسيطا منتزعا، لأن هذا الأمر الانتزاعي الموضوع
للحكم وإن كان على فرض وجوده يتحقق بعين منشأ انتزاعه لكنه مسبوق
بالعدم.
وأما إذا كانت أمرا مركبا تقييديا - سواء كانت بسيطة متحصلة أو منتزعة
من الأمور الخمسة متقيدة بقابلية المحل، أو مركبة منها ومتقيدة بالقابلية -
فجريان أصالة عدم التذكية لا مانع منها، لأن المتقيد بما أنه متقيد مسبوق
بالعدم، ومشكوك تحققه، والفرض أن موضوع الحكم متقيد.
وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاد بعض أعاظم العصر - على ما في
تقريراته - من أن التذكية إذا كانت الأمور الخمسة، وتكون قابلية المحل شرطا
107

للتأثير، ولها دخالة في تأثير الأمور الخمسة، لا تجري أصالة عدم التذكية، بل
المرجع أصالة الحل والطهارة (1).
وذلك لأن دخالة القابلية في التأثير عبارة أخرى عن تقيد موضوع الحكم،
فموضوع حكم الشارع بالحلية، والطهارة الواقعيتين هو الأمور الخمسة
المشترطة بالقابلية، وهذا المعنى المتقيد المشترط مسبوق بالعدم، واختلاف
منشأ الشك واليقين مما لا يمنع عن جريان الاستصحاب. هذا مما لا إشكال فيه.
إنما الإشكال في جريان أصالة عدم التذكية مطلقا - بسيطة كانت
التذكية أو لا - من جهة أخرى، وهي أن حقيقة التذكية - أي التي من فعل
المذكي - عبارة عن إزهاق روح الحيوان بكيفية خاصة وشرائط مقررة، وهي
فري الأوداج الأربعة، مع كون الذابح مسلما، وكون الذبح عن تسمية، وإلى
القبلة، وآلته من حديد، وكون المذبوح قابلا للتذكية، وعدم هذه الحقيقة بعدم
الإزهاق بالكيفية الخاصة والشرائط المقررة.
ولا إشكال في أن هذا الأمر العدمي - بنحو " ليس " التامة - ليس موضوعا
للحكم الشرعي، فإن هذا المعنى العدمي متحقق قبل تحقق الحيوان وفي زمان
حياته، ولم يكن موضوعا له، وما هو الموضوع عبارة عن الميتة، وهي الحيوان
الذي زهقت روحه بغير الكيفية الخاصة بنحو الإيجاب العدولي، أو زهوق
الروح من الحيوان زهوقا لم يكن بكيفية خاصة، على نحو " ليس " الناقصة أو
الموجبة السالبة المحمول، وهما غير مسبوقين بالعدم، فإن زهوق الروح لم يكن

(1) فوائد الأصول 3: 382.
108

في زمان محققا بلا كيفية خاصة، أو مسلوبا عنه الكيفية الخاصة، فما هو
موضوع الحكم غير مسبوق بالعدم، وما هو مسبوق به ليس موضوعا له،
واستصحاب " ليس " التامة لا يثبت زهوق الروح بالكيفية الخاصة إلا على
الأصل المثبت. مضافا إلى الإشكال الذي سبق منا (1) بالنسبة إلى تلك
القضايا السلبية.
إن قلت: إن الموضوع للحرمة والنجاسة مركب من جزأين: زهوق روح
الحيوان، وعدم تذكيته، ويكفي في تحقق الموضوع اجتماع الجزأين في الزمان،
لأنهما عرضيان لمحل واحد، والموضوع المركب - من عرضين لمحل واحد، أو
من جوهرين، أو من جوهر وعرض لمحل آخر، كوجود زيد وقيام عمرو -
لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان، إلا إذا استفيد من الدليل كون
الإضافة الحاصلة من اجتماعهما في الزمان دخيلة في الحكم، كعنوان الحالية،
والتقارن، والسبق، واللحوق، من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في
الزمان، ولكن هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه، وإلا فالموضوع المركب من
جزأين لارابط بينهما إلا الوجود في الزمان، لا يقتضي أزيد من اجتماعهما
في الزمان.
وفيما نحن فيه - بعد ما كان الموضوع مركبا من خروج الروح وعدم
التذكية، وهما عرضيان للحيوان - يكفي إحراز أحدهما بالأصل، وهو عدم
التذكية، والآخر بالوجدان، وهو خروج الروح، فمن ضم الوجدان إلى

(1) في صفحة: 105.
109

الأصل يلتئم كلا جزأي المركب (1).
قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال، وهو الذي أفاده بعض أعاظم العصر
- على ما في تقريراته - لكن يرد عليه: أن عدم التذكية ليس في عرض زهوق
الروح، فإنه عبارة عن زهوقه بلا كيفية خاصة، كما أن التذكية عبارة عن
إزهاقه بالكيفية الخاصة.
فما أفاده - من أنهما عرضيان لموضوع واحد - ليس على ما ينبغي.
بل عدم التذكية عرض المحل إن كان الموضوع بنحو القضية المعدولة، أي
الحيوان الغير المذكى، وهو - أي عدم التذكية - زهوق الروح بلا كيفية خاصة،
فالكيفية الخاصة من حالات زهوق الروح، وزهوق الروح بلا كيفية خاصة من
حالات الحيوان، فالحيوان قد تعرضه التذكية - أي زهوق الروح بالكيفية
الخاصة - وقد تسلب عنه التذكية، أي لم تزهق روحه بالكيفية الخاصة، لكن
هذا الأمر السلبي - أي عدم الزهوق الكذائي - ليس موضوعا للحكم، بل
الموضوع هو زهوق الروح بلا كيفية خاصة، أو مسلوبا عنه الكيفية الخاصة،
وهما مما لم يكن لهما حالة سابقة، فالموضوع للحكم الشرعي هو الحيوان
الذي زهقت روحه بلا كيفية خاصة بنحو العدول، أو بنحو الموجبة السالبة
المحمول، أو مسلوبا عنه الكيفية الخاصة بنحو السلب الناقص، لا التام.
فما أفاده - رحمه الله - لا يخلو من اختلاط ومغالطة، فإن جعل زهوق
الروح وعدم التذكية عرضيين لمحل واحد تفكيك بين الشئ وذاتياته،

(1) فوائد الأصول 4: 434.
110

لما عرفت من أن عدم التذكية عبارة عن زهوق الروح بغير الكيفية الكذائية،
فزهوق الروح جزء مفهوم عدم التذكية - أي الذي هو موضوع حكم الشرع -
لا أن زهوق الروح وعدم التذكية جزءان للموضوع كما أفاده رحمه الله
تعالى.
إن قلت: ما ذكرت إنما يصح لو كان الموضوع هو الحيوان الذي زهقت
روحه بلا كيفية خاصة، أو مسلوبا عنه الكيفية الخاصة، وأما لو كان الموضوع
هو الحيوان الذي زهقت روحه ولم ترد عليه الكيفية الخاصة - أي لم يكن
نحو القبلة، ولم يكن المسلم ذابحا له، ولم يذكر اسم الله عليه، إلى غير
ذلك - فلا، لأن هذه الأمور كلها مسبوقات بالعدم، فبعد زهوق الروح
وجدانا، ولم ترد عليه الكيفيات بالأصل، يحرز الموضوع.
قلت: هذا مجرد فرض لاواقع له، فإن الموضوع في التذكية هو الحيوان
الذي زهقت روحه بيد المسلم، إلى القبلة، وعن التسمية، وبآلة الحديد، فهذه
الأمور أخذت حالات للذبح وزهوق الروح، وعدم المذكى - أي الميتة التي
هي الموضوع للحكم - هو الزهوق لا بالكيفيات الخاصة.
وبعبارة أخرى: كل ذلك تقيدات للموضوع المفروض الوجود، أي
الزهوق، وليس لواحد منها حالة سابقة. نعم الأعدام المطلقة لها حالة سابقة،
لكنها ليست بموضوعة.
ثم لو شككنا في أن الموضوع ما ذكر أو ما ذكرنا أو غير ذلك، لا يجري
الأصل، لعدم إحراز الحالة السابقة، ويصير المرجع هو أصالة الحلية والطهارة.
111

وظني أن من تأمل فيما ذكرنا حق التأمل يصدقه، ويتضح له أن أصالة
عدم التذكية مطلقا مما لا أساس لها.
ويؤيد ما ذكرنا، بل يشهد عليه: ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه
السلام -: (أن أمير المؤمنين - عليه السلام - سئل عن سفرة وجدت في الطريق
مطروحة، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها، وفيها سكين.
فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: يقوم ما فيها ثم يؤكل، لأنه يفسد، وليس
له بقاء، فان جاء طالبها غرموا له الثمن.
فقيل: يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي.
فقال: هم في سعة حتى يعلموا) (1).
فإن التمسك بدليل أصل الإباحة لا يتضح وجهه إلا بما ذكرنا من عدم
جريان أصالة عدم التذكية، وإلا فالسفرة إما كانت في أرض المسلمين وقلنا
بأماريتها كيد المسلمين للتذكية، وإما لم تكن فيها، أو كانت وقلنا بعدم
الأمارية، وعلى أي حال لاوجه للتمسك بأصالة الإباحة في مقابل الأمارة
والاستصحاب، وأما مع عدم جريان الاستصحاب فيتضح وجهه.
وكذا يشهد لما ذكرنا بعض الروايات الواردة في باب الجلود، فراجع (2).

(1) الكافي 6: 297 / 2 باب النوادر من كتاب الأطعمة، الوسائل 2: 1073 / 11 باب
5 من أبواب النجاسات.
(2) الفقيه 1: 167 و 172 / 38 و 62 باب 39 فيما يصلي وما لا يصلي فيه..، الوسائل 2:
1071 - 1072 / 2 - 4 و 1073 - 1074 / 12 باب 50 من أبواب النجاسات.
112

هذا كله فيما إذا كان منشأ الشك الشك في قابلية الحيوان للتذكية، سواء
كانت الشبهة من جهة الاشتباه المفهومي، أولا.
وأما مع الشك في شرطية شئ للتذكية، أو مانعية شئ عنها، أي الشك
في جعل الشارع شيئا زائدا عما ثبت اشتراطه أو منعه، فأصالة عدم الجعل في
بعض الموارد جارية، وفي بعضها مثبتة.
ولا يهمنا البحث في أطراف الصور الأخرى التي ذكرناها، لأن حالها
معلومة غالبا.
في الشبهة الموضوعية:
نعم فيما إذا كان الشك من جهة الشبهة الموضوعية، ويكون الشك في
أن الحيوان الكذائي هل ذكي، أم لا؟ أو شك في أن الجزء الفلاني
- كالجلد - من المذكى أو غيره أو من مشكوكه مما هو محل الابتلاء، ففي
جريان أصالة عدم التذكية مطلقا أو التفصيل بين الصور إشكال. هذا مع
قطع النظر عن الإشكال الذي مر ذكره (1) مما يعم جميع صور المسألة وأقسام
الشكوك.
فهاهنا صور:
الصورة الأولى: الشك في حيوان مذبوح أنه مذكى أولا، أو في جزء من
حيوان شك في تذكيته. وهذا مورد تسالمهم على جريان أصالة عدم التذكية

(1) في صفحة: 105 - 106 و 108.
113

ولا إشكال فيها غير الإشكال السيال الذي مر ذكره (1).
الصورة الثانية: الشك في جزء من الحيوان - كالجلد مثلا - بأنه مأخوذ مما
علم تذكيته، أو مما علم عدم تذكيته، فحينئذ إما أن يكون الحيوانان - المأخوذ
من أحدهما - مع أجزائهما مشتبهين موردين للابتلاء، أولا.
فعلى الأول: لا تجري أصالة الحلية والطهارة فيه، ولا أصالة عدم التذكية،
للعلم الإجمالي المنجز، بناء على عدم جريان الأصل في أطراف العلم مطلقا،
وإلا فبأصالة عدم التذكية في الحيوانين يحكم بنجاسة الجزء وحرمته، لعدم
المخالفة العملية في جريانهما.
وعلى الثاني: كما لو شك في جزء من الحيوان، كالجلود التي تأتي
من البلاد النائية مما ليس الحيوان المأخوذ منه موردا للابتلاء، فالظاهر
عدم جريان أصالة عدم التذكية، بناء على عدم جريان الأصل في الخارج
عن محل الابتلاء، وعدم تأثير العلم الإجمالي، وذلك لأن التذكية
وعدمها إنما هما وصفان للحيوان، لا لأجزائه، فما هو غير
المذكى - أي زهقت روحه بلا كيفية خاصة - أو المذكى - أي ما ذبح
بالشرائط الشرعية - هو الحيوان، وأما الحكم بنجاسة الأجزاء وحرمتها، أو
طهارتها وحلتها، إنما هو من جهة أنها أجزاء للمذكى أو غيره، فالأصل
بالنسبة إلى الجزء مما لا معنى لجريانه، وأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ
منه الجزء مما لا مسرح لجريانها، لأنه مردد بين معلوم التذكية ومعلوم عدمها،

(1) في صفحة: 105 - 106 و 108 من هذا المجلد.
114

وليس في البين ما شك [في] تذكيته.
وبعبارة أخرى: ليس في الخارج شك، وإنما الشك في أن هذا من المعلوم
تذكيته أو من المعلوم عدمها، وفي مثله لا يجري الأصل، مع أن جريان
الأصل في الحيوان لا يثبت كون الجزء منه.
الصورة الثالثة: الشك في جزء من الحيوان بأنه مأخوذ من الحيوان المشكوك
تذكيته، أو من المعلوم تذكيته، أو من المعلوم عدمها، كالجلود التي صنعت في
بلاد الكفر، مما هي مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المسلمين إليهم
- فصنعوا بها ما صنعوا وردت بضاعتهم إليهم - وبين غيرها مما هو من جلود
ذبائحهم، أو مما هو مشكوك تذكيته، ففي مثله - أيضا - لا تجري أصالة عدم
التذكية، لما عرفت من أن التذكية واللا تذكية إنما هما مما تعرض الحيوان،
لا أجزاءه، فلا يجري الأصل بالنسبة إليها.
وأما بالنسبة إلى الحيوان المأخوذ منه فلا يجري - أيضا - نظرا إلى
الشبهة المصداقية لدليل الأصل، فإن المأخوذ منه أمره دائر بين معلوم
التذكية وغيره، فإن اخذ من المعلوم يكون من نقض اليقين باليقين،
وإلا فيكون من نقض اليقين بالشك. مضافا إلى أن جريانه في الحيوان لا يثبت
كون الجزء منه.
وبالجملة: أن الجزء قد يشك في أخذه من معلوم التذكية تفصيلا أو معلوم
عدم التذكية تفصيلا، وقد يشك في أخذه من أحد الحيوانين اللذين علم
إجمالا بتذكية أحدهما وعدم تذكية الآخر، وقد يشك في أخذه من معلوم
115

التذكية تفصيلا أو مشكوكها، ففي جميع هذه الصور لا تجري أصالة عدم - التذكية،
وإن كان الوجه فيها مختلفا.
فتلخص مما ذكرنا: أن الجلود التي صنعت في أرض غير المسلمين - مما يشك
في كونها من المذكى أو من غيره - لا تجري فيها أصالة عدم التذكية، والمرجع فيها
أصالة الطهارة والحلية، إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك.
تتمه:
نقل عن ظاهر بعض الأساطين (1): التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال
المتقدم (2) فحكم عليه بالطهارة، وحرمة اللحم.
ولاوجه لهذا التفصيل، فإن مقتضى أصالة عدم التذكية النجاسة والحرمة،
ومقتضى أصالتي الطهارة والحلية الطهارة والحلية.
ونقل عن شارح الروضة (3) في وجهه ما حاصله: أن ما حل أكله من

(1) الروضة البهية 1: 49.
(2) أي المتقدم في كلام المحقق الميرزا النائيني - قدس سره - والمثال هو: الحيوان المتولد
من طاهر ونجس مخالف لهما بالاسم ولا يندرج تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة.
(3) المناهج السوية في شرح الروضة البهية 1: 166 مسألة نجاسة الكلب والخنزير
(مخطوط).
شارح الروضة: هو الإمام الفقيه الشيخ بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن بن محمد
الأصفهاني، الشهير بالفاضل الهندي، المولود سنة 1062 ه‍، والمتوفى في أصفهان
سنة 1137 ه‍ له مصنفات كثيرة جدا منها: المناهج السوية في شرح الروضة البهية،
وكشف اللثام وغيرها. انظر مقابس الأنوار: 18، الكنى والألقاب 3: 8، الذريعة 22: 345.
116

الحيوانات محصور معدود في الكتاب (1) والسنة (2) وكذلك النجاسات
محصورة معدودة فيهما، فالمشكوك إذا لم يدخل في المحصور منهما كان
الأصل فيه الطهارة وحرمة اللحم (3).
وفيه: أن المدعي إن كان أن المستفاد من الأدلة حصر المحلل في أمور
- بحيث دلت بمفهوم الحصر على حرمة ما عداها - وكذلك في النجاسات،
فهو ممنوع. نعم إنما يشعر به بعض الروايات، كرواية تحف العقول (4) لكن
لا يمكن إثبات هذا الحكم بمثله.
وإن كان المدعي أن كون المحللات معدودة في عدة محصورة لازمه
الحرمة فيما يشك، مع عدم كونه من جملة تلك المعدودات، فهو - أيضا -
ممنوع، لأن تعديد المحلل لا يدل على تحريم غيره، فأصالة الحلية كأصالة
الطهارة مما لا مانع منها. والظاهر أن مراده ما ذكرنا.
وأما بعض أعاظم العصر فوجه قوله بما لا يخلو من غرابة ومناقشة، قال ما
حاصله: إن تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه، فمع الشك في
هذا الأمر يبنى ظاهرا على عدم تحققه، للملازمة العرفية بين تعليقه عليه وبين
عدمه عند عدم إحرازه، وهذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم، وهي ملازمة

(1) الأنعام: 118 و 142 - 144، النحل: 5 و 14، الحج: 28 و 30 و 36.
(2) انظر على سبيل المثال تحف العقول: 251 - 252 ما يحل أكله من لحوم الحيوان،
الوسائل 17: 61 - 62 / 1 باب 42 من أبواب الأطعمة المباحة.
(3) فوائد الأصول 3: 384.
(4) تقدم تخريجه في الهامش رقم (2).
117

ظاهرية في مقام العمل. ويترتب على ذلك فروع مهمة:
منها: البناء على نجاسة الماء المشكوك الكرية عند ملاقاته للنجاسة مع عدم
العلم بالحالة السابقة، كمخلوق الساعة المجهول كريته، فإن الحكم بالعاصمية
قد علق على كون الماء كرا، كقوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا) (1) أو
(لم ينجسه شئ) (2) فلا يجوز ترتيب آثار الطهارة عند الشك في الكرية مع
ملاقاته للنجاسة، لأنه يستفاد من دليل الحكم أن العاصمية إنما تكون عند
إحراز الكرية، لامن جهة أخذ العلم في موضوع الحكم، بل من جهة الملازمة
العرفية الظاهرية.
ومنها: أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال، فإن الحكم بجواز
الوطء قد علق على الزوجة وملك اليمين، والحكم بجواز التصرف قد علق
على كون المال مما قد أحله الله، فلا يجوز الوطء والتصرف مع الشك في
الزوجية وكون المال مما قد أحله الله تعالى.
وقد تخيل شارح الروضة أن باب النجاسات واللحوم من صغريات
تلك الكبرى، بتقريب: أن النجاسات معدودة في عناوين خاصة، كالدم
والميتة وغير ذلك، وقد علق وجوب الاجتناب على تلك العناوين الوجودية،

(1) عوالي اللآلي 1: 76 / 156، 2: 16 / 30، مستدرك الوسائل 1: 27 / 6 باب 9 من
أبواب الماء المطلق.
(2) الكافي 3: 2 / 1 و 2 باب الماء الذي لا ينجسه شئ، الاستبصار 1: 6 / 1 - 3 باب 1
في مقدار الماء الذي لا ينجسه شئ، الوسائل 1: 117 - 118 / 1 و 2 و 6 باب 9 من
أبواب الماء المطلق.
118

فلابد في الحكم بالنجاسة من إحرازها، ومع الشك في تحققها يبني على
الطهارة.
وكذا جواز الأكل قد علق على عنوان الطيب، كما قال تعالى: * (أحل
لكم الطيبات) * (1) وهو أمر وجودي عبارة عما تستلذه النفس ويأنس به
الطبع، والحيوان المتولد من حيوانين لم يعلم كونه من الطيب، فلا يحكم عليه
بالحلية، بل يبني على حرمته ظاهرا مالم يحرز كونه من الطيب. هذا غاية ما
يمكن أن يوجه [به] كلامه.
ولكن يرد عليه أولا: أن الكبرى - وهي أن تعليق الحكم على أمر وجودي
يقتضي إحرازه - وإن كانت من المسلمات، إلا أن ذلك في خصوص ما علق
الحكم الترخيصي الإباحي على عنوان وجودي، لا الحكم العزيمتي التحريمي،
فإن الملازمة العرفية بين الأمرين إنما هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل
والامتنان، لافي مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة، وإلا لم يبق موضوع
لقوله: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر) (2) فإدراج باب النجاسات في تلك
الكبرى ليس في محله. نعم إدراج الحكم بحل الطيبات فيها في محله لو سلم
عما سيأتي.
وثانيا: منع كون الطيب أمرا وجوديا، بل هو عبارة عما لا تستقذره
النفس، ولا يستنفر منه الطبع، في مقابل الخبيث الذي هو عبارة عما

(1) المائدة: 4 و 5.
(2) مستدرك الوسائل 1: 164 / 4 باب 29 من أبواب النجاسات.
119

يستنفر منه الطبع.
وثالثا: سلمنا كون الطيب أمرا وجوديا، ولكن الخبيث الذي علقت عليه
الحرمة - أيضا - أمر وجودي، والكبرى المذكورة إنما هي في مورد لم يعلق
نقيض الحكم على أمر وجودي آخر، وإلا كان المرجع عند الشك في تحقق
أحد الأمرين الوجوديين - اللذين علق الحكمان المتضادان عليهما - إلى
الأصول العملية، وهي في المورد ليست إلا أصالة الحل.
ولا يجري استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته، فإن للحياة
دخلا - عرفا - في موضوع الحرمة، ولا أقل من الشك، فلا مجال
للاستصحاب والطهارة، فالأقوى ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع
فروض المسألة (1) انتهى كلامه بطوله.
وفيه أولا: أن تلك الملازمة العرفية ممنوعة، لا دليل عليها، وإنما هي
دعوى مجردة عن البينة، وهذه نظير قاعدة المقتضي والمانع - بل عينها - مما
لا أساس لها.
وبالجملة: لا أرى وجها للدعوى المذكورة، وعد تلك الكبرى من
المسلمات لا يخلو من غرابة ومجازفة.
وأما الفروع التي رتبها عليها فمنظور فيها:
أما الحكم بنجاسة الماء المشكوك كريته عند ملاقاته للنجاسة فممنوع:
أما أولا: فلأن المستفاد من الأدلة أن الماء القليل ينفعل، والماء البالغ

(1) فوائد الأصول 3: 384 وما بعدها.
120

حد الكر لا ينفعل، وأما أن الماء مقتض له، والكرية مانعة، فلا يستفاد
من شئ منها، فأصالة الطهارة في الماء المذكور محكمة، لا مانع من
جريانها.
وأما ثانيا: فلأنه لو سلم أن العاصم هو وصف الكرية، والماء مقتض
للانفعال، لكن الحكم بالمقتضى مع إحراز المقتضى والشك في المانع ممنوع،
بل لابد من إحراز عدمه حتى يحكم بوجوده.
وأما أصالة الحرمة في باب الفروج والأموال فليست من جهة هذه
الكبرى، فإنه لو كانت من جهتها لم يختص الحكم بتلك الموارد، بل لابد من
إسرائه إلى كل مورد علق الحكم على أمر وجودي، سواء كان في الأموال
والأعراض أو غيرهما مع أن الأمر ليس كذلك.
مضافا إلى أن في هذه الموارد تكون الحلية معلقة على أسباب حادثة تكون
مسبوقة بالعدم، ويستصحب عدم حدوثها، كأصالة عدم حدوث العلاقة
الزوجية، وأصالة عدم طيب نفس المالك، إلى غير ذلك.
وثانيا: أن ما أفاد من تخيل شارح الروضة - أن باب النجاسات واللحوم
من صغريات تلك الكبرى - لا شاهد عليه، بل الظاهر من كلامه المنقول
ما احتملناه من تخيله استفادة الحصر من الأدلة، فيدل الدليل الاجتهادي
على حرمة ما عدا المحصور، كما تشعر به بعض الروايات (1).
والشاهد عليه: أن المنقول من كلامه أن ماحل أكله من الحيوانات

(1) كرواية تحف العقول التي مضى قريبا تخريجها.
121

محصور معدود في الكتاب والسنة (1) لا أن الحلية علقت على أمر وجودي
مثل الطيب. ولا يخفى أن حمل كلامه على ما ذكره بعيد غايته.
مع أن مثل هذا التعليق - أي إثبات حكم لأمر وجودي - لا يكون موردا
لتوهم الدخول في الكبرى المدعاة. نعم كل حكم تعلق بموضوع وجودي أو
عدمي لابد في الحكم بثبوته من إحراز الموضوع، فإذا ورد: " أكرم العلماء "
فلابد في الحكم بوجوب إكرام الأشخاص الخارجية أن يحرز كونها مصداقا
للعالم.
وبالجملة: لابد من إحراز الصغرى والكبرى [سواء] كان الموضوع
وجوديا أو عدميا، وهذا غير ما يدعى من الملازمة العرفية، فإن تلك الدعوى
إنما كانت في مثل: (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) (2) أو (لا يحل مال إلا
من حيث ما أحله الله) (3) مما سلب حكم بنحو كلي، وجعل سبب انقلابه إلى
ضده منحصرا في أمر وجودي، ففي مثل قوله: (لا يحل مال امرئ إلا
بطيب نفسه) جعل طريق الحلية منحصرا في أمر وجودي هو طيب
نفس صاحب المال، فيدعي أن العرف لا يحكم بالحلية إلا إذا أحرز
طيب نفسه، كما أن شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - أيضا كان يدعي

(1) مضى تخريج ما يستفاد ذلك منهما قريبا، فراجع.
(2) عوالي اللآلي 1: 222 / 98، مسند أحمد بن حنبل 5: 72.
(3) الكافي 1: 547 - 548 / 5 2 باب الفئ والأنفال..، الاستبصار 2: 59 / 9 باب 32
فيما أباحوه - عليهم السلام - لشيعتهم من الخمس، الوسائل 18: 114 / 8 باب 12 من
أبواب صفات القاضي، وفي المصادر الثلاثة: (.. إلا من وجه أحله الله).
122

ذلك (1) ويقول: هل ترى من نفسك أن في مورد الشك في تحقق
طيب نفس صاحب المال يتصرف الإنسان فيه، ويتعذر بأنه شبهة مصداقية
للعام لا يجوز التمسك به، ويجوز التصرف تمسكا بقوله: (كل شئ لك
حلال..) (2)؟
وما، ادعى - رحمه الله - في خصوص المثال وإن كان صحيحا، لكن
لا من جهة الضابط الكلي والقانون العام في كل مورد استثنى حكم وجودي
من حكم كلي بنحو الانحصار، فإذا ورد: " لا تشرب مائعا إلا الماء "
وكان مائع مرددا بين كونه ماء أو غيره، لا يمكن أن يدعى أن نفس هذه
القضية مانعة عن شربه، لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه
لا لمخصصه، لأن الاستثناء المتصل بالكلام يوجب عدم انعقاد الظهور
للعام، ففي المثال المذكور يتقيد المائع بغير الماء، فكأنه قال: " لا تشرب
غير الماء " ولا إشكال في عدم جواز التمسك بالعموم في مثله،
ودعوى الملازمة العرفية ممنوعة. ولا يبعد أن يكون في مثل الأموال لأجل
الأهمية في نظر العقلاء، أو لأجل استصحاب عدم طيب النفس، لأنه أصل
عقلائي في الجملة.
وثالثا: أن ما أفاده - من أن الملازمة العرفية إنما هي في خصوص ما علق

(1) درر الفوائد 2: 112 - 113.
(2) لم نعثر على قول المحقق الحائري - قدس سره - في المصادر المتوفرة لدينا، ولعله
مستفاد من مجلس بحثه.
123

فيه الحكم الترخيصي الإباحي على أمر وجودي، فإنها هي فيما إذا كان
الحكم لأجل التسهيل والامتنان - غريب منه، لخلو هذه الدعوى عن الشاهد،
بل هي دعوى مجردة لا دليل عليها من عقل ونقل وحكم عقلائي، وإن كان
أمثاله منه - قدس سره - غير عزيز.
مضافا إلى أن الامتنان والتسهيل يقتضيان التوسعة، لا التضييق، فإذا
علق حكم اعتصام الماء على الكرية - امتنانا على العباد - لا يقتضي ذلك
أن يكون الأمر مضيقا عليهم، بحيث لا يحكم بعدم الانفعال إلا مع
إحراز الكرية.
ولعمري إن ما ذكره هاهنا لا يخلو من قصور وخلط، فما
هذا الحكم الترخيصي الامتناني في قوله: (لا يحل مال إلا من حيث ما أحله
الله) (1) أو (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) (2) أو فيما علق جواز الوطء
على الزوجية وملك اليمين؟! فإن كل ذلك من الأحكام التضييقية،
لا التسهيلية الامتنانية.
ورابعا: أن ما أفاد - من أن الطيب أمر عدمي هو ما لا تستقذره النفس،
ولا يستنفر منه الطبع - ممنوع، لأن حقيقة الطيب ليست عبارة عن عدم
الاستقذار والاستنفار، بل هما من لوازم الطيب، بل هو عبارة عن صفة
وحالة وجودية يكون الطبع غير مستنفر منها.

(1 و 2) تقدم تخريجهما قريبا.
124

تقرير إشكال الاحتياط في العبادة
قوله - قدس سره -: ربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات (1)...
أقول: ما يمكن أن يقال في تقرير الإشكال أمران:
أحدهما: ما أفاد الشيخ - رحمه الله -: وهو أن العبادة لابد فيها من نية
القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا، وفي الشبهات
البدوية لاعلم بالأمر، فلا يمكن الاحتياط (2).
وإن شئت قلت: إن العبادة متقومة بقصد التقرب، وفي الشبهات البدوية:
إما أن يقصد ذات الشئ بلا قصد التقرب، أو ذات الشئ مع قصد التقرب،
أو ذات الشئ مع احتمال التقرب:
والأول خلف.
والثاني ممتنع، لأن القصد الحقيقي لا يتعلق بالأمر المجهول المشكوك فيه.
والثالث غير مفيد، لأن الإتيان باحتمال التقرب غير الإتيان بقصده،
وما يعتبر فيها قصده، لا احتماله.
وفيه: أن هذا عبارة أخرى عن اعتبار الجزم في النية، ولا دليل عليه، وما
يعتبر في عبادية العبادة ليس إلا أن يكون الإتيان بداع إلهي، ويكون الإتيان
للتوصل إلى أغراض المولى ولو احتمالا، فإن العقل الحاكم في أمثاله لا يحكم

(1) الكفاية 2: 194.
(2) فرائد الأصول: 228 سطر 17 - 19.
125

بأزيد من ذلك كما هو واضح.
وثانيهما: أن حقيقة الإطاعة عبارة عن الانبعاث ببعث المولى والتحرك
بتحريكه، ولا يعقل أن يكون الأمر بوجوده الواقعي محركا للعبد وباعثا إياه
نحو العمل، ففي صورة احتمال الأمر يكون المحرك هو احتمال الأمر - طابق
الواقع، أولا - فلا يكون الأمر بوجوده النفس الأمري محركا، وإلا لزم أن
لا يكون الاحتمال مع عدم مطابقته للواقع محركا، مع أنه محرك ولو
لم يطابق الواقع.
فتحصل من ذلك: أن انبعاث العبد لا يكون في الشبهات البدوية ببعث
المولى، فلا يكون العبد مطيعا، ولا هذا الإتيان إطاعة، مع أن صدور الفعل عن
إطاعة المولى من مقومات العبادة.
وفيه: أن الإطاعة أمر عقلائي، ولا إشكال عند العقلاء في أن العبد الآتي
بالمحتمل يكون مطيعا للمولى في صورة المطابقة، ويكون إتيانه به نحو إطاعة
وامتثال له.
وإن شئت قلت: إن تقوم الإطاعة بكون الانبعاث ببعثه ممنوع، بل
الانبعاث والتحرك التكويني لا يكون في شئ من الموارد بواسطة البعث
والتحريك التشريعيين في نفسهما، فإن مبادئ الانبعاث تكون أمورا أخر في
النفس، كحب المولى، أو معرفته، أو الخوف من عقابه، أو الطمع في ثوابه،
إلى غير ذلك من المبادئ حسب اختلاف العباد، وإنما الأمر موضوع
للطاعة، لا باعث نحوها، فإذا كان الأمر كذلك قد يكون بعض المبادئ
126

موجودا في نفس العبد فيحركه نحو العمل مع احتمال أمره، فإن طابق الواقع
يكون مطيعا حقيقة لأمره، وإلا يكون منقادا له.
وبالجملة: كون الإطاعة عبارة عن الانبعاث ببعث المولى ممنوع، والشاهد
هو حكم العقل.
تصحيح عبادية الشئ بأوامر الاحتياط
ثم لو قلنا بعدم إمكان الاحتياط مع احتمال الأمر، هل يمكن تصحيح
العبادة لأجل أوامر الاحتياط، فيقصد المكلف الأمر الاحتياطي المتعلق
بالعبادة، أم لا؟
التحقيق: عدم إمكانه، لأن الاحتياط في العبادات إذا كان غير ممكن
حسب الفرض، فلابد من تقييد أوامر الاحتياط بغير الشبهات الوجوبية
التعبدية، لامتناع إطلاقها بالنسبة إليها، لحكم العقل بعدم إمكانه فيها، فتعلق
أوامر الاحتياط بالعبادات يتوقف على إمكانه فيها، ولو توقف إمكانه عليه لزم
توقف الشئ على نفسه.
وتخيل تعلق أوامر الاحتياط بذات العمل، مع قطع النظر عن قصد
التقرب، أو مع قطع النظر عن الإتيان بداعي احتمال الأمر (1) فاسد، وخروج
عن موضوع الاحتياط، والتزام بالإشكال (2).

(1) فرائد الأصول: 229 سطر 9 - 12.
(2) مع أن أوامر الاحتياط تعلقت بعنوانه، ولا يمكن التعدي منه إلى ما ينطبق عليه خارجا،
127

ولقد تصدى بعض مشايخ العصر رحمه الله - على ما في تقريراته -
للجواب عمن تصدى تصحيح العبادات بأوامر الاحتياط، بما حاصله:
أن الأمر بالعمل قد يكون بنفسه عباديا كالأمر بالصلاة، وقد يكتسب
العبادية من أمر آخر، وشرط اكتساب العبادية أن يكون متعلق الأمر
التوصلي والعبادي متحدا، كنذر صلاة الليل، فإن النذر يتعلق بذات الصلاة،
ولا يمكن تعلقه بها بما أنها مستحبة، وإلا كان النذر باطلا، لعدم القدرة على
وفائه، لصيرورتها بالنذر واجبة، فلا يمكن إتيانها بعد النذر بعنوان
الاستحباب، فالنذر لابد أن يتعلق بذات الصلاة، والأمر الاستحبابي - أيضا -
متعلق بذاتها، لا بوصف كونها مستحبة، لأنه جاء من قبل الأمر، ولا يمكن أن
يؤخذ فيه، فإذا اتحد متعلقهما يكتسب كل منهما من الآخر ما كان فاقدا
له، فالأمر النذري يكتسب العبادية من الاستحبابي، وهو يكتسب الوجوب
من النذري.
وأما إذا لم يتحد متعلقهما فلا يمكن الاكتساب المذكور، كالأمر بالوفاء
بالإجارة إذا أوجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبة على الغير، فإن
الأجير إنما يستأجر لتفريغ ذمة الغير، وما في ذمته إنما هي الصلاة بوصف
كونها واجبة أو مستحبة، فمتعلقه [هي] مع قيد الاستحباب، ومتعلق الأمر
الاستحبابي نفس الصلاة، فلا يتحد المتعلقان، فلا يكتسب أحدهما وصف
ولهذا يكون الاحتياط في الواجب بنحو، وفي المحرم بنحو آخر، فلو كان مرجع الأمر به
إلى التعلق بذات العمل يلزم أن يكون الأمر بالاحتياط أمرا ونهيا. [منه قدس سره]
128

الآخر، فالأمر الاستحبابي باق على استحبابه، لأنه مستحب على المنوب
عنه، والأمر الوجوبي باق على توصليته، لأنه متعلق بالأجير، فلا ربط
لأحدهما بالآخر.
إذا عرفت ذلك فالأوامر الاحتياطية فاقدة لكلتا الجهتين:
أما الجهة الأولى: - أي كونها عبادية بنفسها - فواضح، فإنها توصلية، وإلا
يلزم بطلان الاحتياط في التوصليات.
وأما الجهة الثانية: فلأن متعلق الأمر بالاحتياط إنما هو العمل مع قيد كونه
محتمل الوجوب، لأنه مأخوذ في موضوعه، وإلا لم يكن من الاحتياط،
بخلاف الأمر المتعلق بالعمل، فإنه على فرض وجوده - متعلق بذات العمل،
فلا يتحد المتعلقان، فلا يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية منه.
وبالجملة: إن كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافيا في العبادية،
فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط، وإلا فهي لا توجب عبادية العمل (1) انتهى
كلامه رفع مقامه.
وفيه أولا: أن تعلق الأمرين المستقلين - الوجوبيين، أو الاستحبابيين،
أو المختلفين - بموضوع واحد ذاتا وجهة مستحيل، كاجتماع الأمر والنهي
في موضوع واحد، لامن جهة التضاد بين الأحكام، فإنه لا أصل له،
بل من جهة امتناع تعلق الإرادتين كذلك من شخص واحد على موضوع
وا حد.

(1) فوائد الأصول 3: 403.
129

نعم مع وحدة الإرادة لا مانع من تكرار الأوامر الوجوبية أو الاستحبابية
على نعت التأكيد.
وثانيا: أن متعلق الأمر النذري غير متعلق الاستحبابي المتعلق بذات
الصلاة، فإن تمام متعلق الأمر النذري هو الوفاء بالنذر، لا الصلاة أو غيرها،
فعنوان الوفاء بالنذر شئ لامساس له - في عالم متعلقيته للأمر النذري - مع
متعلق الأمر الصلاتي، وإنما يتحد العنوانان في الخارج، وهو ظرف سقوط
الأمر، لا ثبوته.
وبالجملة: ما نحن فيه نظير باب اجتماع الأمر والنهي، فكما أن الأمر هناك
تعلق بعنوان الصلاة، والنهي تعلق بعنوان الغصب، ولامساس بين العنوانين
في ظرف التعلق وإن اتحدا في الخارج، فكذلك فيما نحن فيه، وهذا واضح
جدا.
وثالثا: على فرض تسليم اتحاد المتعلقين، فأي دليل على اكتساب
الأمر التوصلي وصف التعبدية، والأمر الاستحبابي وصف الوجوب
من صاحبه، وهل هذا إلا دعوى بلا برهان؟! بل الدليل على بطلانها،
فإن مبادئ الإرادات إذا كانت مختلفة تختلف الإرادات حسب
اختلافها، فإذا صارت الإرادات مختلفة تختلف الأوامر الناشئة منها
حسب اختلافها، فمبادئ الأوامر التوصلية غير مبادئ الأوامر التعبدية،
وكذا مبادئ الأوامر الوجوبية تغاير مبادئ الأوامر الاستحبابية، فانقلاب
أحدها إلى الآخر لا يمكن مع اختلاف مبادئها، وهي مختلفة ذاتا لا يمكن
130

تبديل واحد منها بالآخر.
وبالجملة: لا معنى لهذا الاكتساب. اللهم إلا أن يكون الوجوب
والاستحباب والتوصلي والتعبدي كالمائعات الخارجية المختلطة المنفعلة بعضها
عن بعض نحو انفعال.
وفي كلامه مواقع أخرى للنظر تركناها مخافة التطويل، مع أنه لا طائل
تحته.
البحث عن أخبار (من بلغ)
ثم اعلم أن من مؤيدات إمكان الاحتياط في التعبديات، بل من أدلته، هو
أخبار (من بلغ) (1) فإن الظاهر منها أن العمل المأتي به برجاء إدراك الواقع
والتوصل إلى الثواب والأجر، إذا صادف الواقع يكون عين ما هو الواقع،
ويستوفي المكلف نفس ثواب الأمر الواقعي، وإن لم يصادف الواقع يعطي له
مثل ثواب الواقع تفضلا، ولو كان الإتيان باحتمال الأمر لغوا أو تشريعا
محرما لما كان وجه لذلك.
وأما تصحيح الاحتياط بأخبار (من بلغ) فلا يمكن إلا على وجه دائر،
كما ذكرنا في أوامر الاحتياط (2).

(1) الكافي 2: 87 / 1 - 2 باب من بلغه ثواب..، الوسائل 1: 59 باب 18 من أبواب مقدمة
العبادات.
(2) في صفحة: 127.
131

ثم الأظهر أن يكون أخبار (من بلغ) بصدد جعل الثواب لمن بلغه ثواب،
فعمله باحتمال إدراكه، أو طلبا لقول النبي - صلى الله عليه وآله - فهذا الجعل
نظير الجعل في باب الجعالة: " بأن من رد ضالتي فله كذا " فكما أن ذلك
جعل معلق على رد الضالة، فهذا - أيضا - جعل معلق على إتيان العمل بعد
البلوغ برجاء الثواب.
وإنما جعل الثواب على ذلك حثا على إتيان كلية مؤديات الأخبار
الدالة على السنن، لعلم الشارع بأن فيها كثيرا من السنن الواقعية،
فلأجل التحفظ عليها جعل الثواب على مطلق ما بلغ عن النبي - صلى الله
عليه وآله - نظير قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (1) حيث
جعل تضاعف الأجر للحث على إتيان الحسنات، فالأخبار الشريفة بصدد
الترغيب والحث على ما بلغ، ولها إطلاق بالنسبة إلى كل ما بلغ، بسند معتبر
أو غيره.
وبهذا يظهر: أن استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل، فإن المستحب
ما يتعلق به الأمر لأجل خصوصية راجحة في ذاته، ويكون الثواب لأجل
استيفاء تلك الخصوصية الراجحة، والمستفاد من أخبار (من بلغ) أن إعطاء
الثواب بما بلغ ليس لأجل خصوصية ذاتية فيما بلغ مطلقا، بل لأجل إدراك
المكلف ما هو الواقع المجهول بينها، كما لو جعل الثواب على مقدمات علمية
لأجل إدراك الواقع، وكما في جعل الثواب للمشي إلى زيارة قبر مولانا أبي

(1) الأنعام: 160.
132

عبد الله الحسين - عليه الصلاة والسلام (1) - ضرورة أن المشي ليس له
خصوصية ذاتية سوى المقدمية، لكنه - تعالى - جعل الثواب في كل خطوة
لأجل الحث على زيارته.
اللهم إلا أن يناقش في هذا المثال: بأن المشي له خصوصية هي الأقربية إلى
الخضوع لله - تعالى - ولأوليائه - عليهم السلام - فيكون له جهة زائدة على
المقدمية.
وبالجملة: أظهر الاحتمالات في أخبار (من بلغ) هو ما ذكرنا.
وبهذا يظهر ما في قول المحقق الخراساني - رحمه الله -: من أنه لا يبعد
دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، لظهوره في أن
الأجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغ عن النبي - صلى الله عليه وآله -
أنه ذو ثواب (2).
لما عرفت من أن الظاهر منها أن جعل الثواب إنما هو لأجل الحث على
الإتيان بمؤدى الروايات، لإدراك ما هو محبوب ومستحب واقعا، وفي مثله
لا يصير العمل مستحبا بذاته، ولا يسمى مستحبا اصطلاحا.
وأما ما اختاره بعض علماء العصر - رحمه الله - بعد ذكر احتمالات
وجعله أقرب الاحتمالات، فهو على الظاهر أبعدها من مساق الأخبار، بل

(1) كامل الزيارات: 132 - 134 باب 49، ثواب الأعمال: 117 / 31 - 33، مصباح
المتهجد: 657 - 658.
(2) الكفاية 2: 197.
133

مدعي القطع بخلافه ليس مجازفا. مضافا إلى بعض الأنظار في كلامه.
قال ما حاصله:
الثاني من الاحتمالات: أن تكون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء، وفي مقام
بيان استحباب العمل، ويمكن أن يكون ذلك على أحد وجهين:
أحدهما: أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته، سواء
كان واجدا لشرائط الحجية أولا، كما هو ظاهر الإطلاق، فيكون مفاد
الأخبار مسألة أصولية هي حجية الخبر الضعيف، ومخصصة لما دل على
اعتبار الوثاقة والعدالة في الراوي.
إن قلت: إن النسبة بينهما عموم من وجه، حيث ما دل على
اعتبار الشرائط يعم القائم على الوجوب والاستحباب، وأخبار (من بلغ) تعم
الواجد للشرائط وغيره، وتختص بالمستحبات، فيقع التعارض بينهما.
قلت: - مع إمكان أن يقال: إن أخبار (من بلغ) ناظرة إلى إلغاء
الشرائط، فتكون حاكمة على ما دل على اعتبارها - إن الترجيح لها،
لعمل المشهور بها. مع أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط عليها
لم يبق لها مورد، بخلاف تقديمها عليها، فإن الواجبات والمحرمات
تبقى مشمولة لها، بل يظهر من الشيخ (1) - رحمه الله - اختصاص ما دل
على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرمات، فإن ما دل عليه: إما الإجماع،

(1) رسالة التسامح في أدلة السنن - ضمن كتاب أوثق الوسائل في شرح الرسائل -: 302
السطر قبل الأخير، وعنها في فوائد الأصول 3: 413 وما بعدها.
134

وإما آية النبأ (1):
والإجماع مفقود في المقام، بل يمكن دعوى الإجماع على خلافه.
والآية بملاحظة ذيلها من التعليل مختصة بالواجبات والمحرمات.
ولكن الإنصاف: أن ما أفاده لا يخلو من ضعف، فإن الدليل على اعتبار
الشرائط لا ينحصر بالإجماع والآية، بل العمدة هي الأخبار المتضافرة أو
المتواترة، وهي تعم المستحبات... إلى أن قال: ولا يبعد أن يكون هذا الوجه
أقرب، كما عليه المشهور (2) انتهى كلامه.
وفيه أولا: أن هذا الاحتمال بعيد غايته عن مساق الأخبار، فإن لسان
إعطاء الحجية هو إلقاء احتمال الخلاف، وكون المؤدى هو الواقع، وهو ينافي
فرض عدم كون الحديث كما بلغه، أو فرض عدم صدوره عن رسول الله
- صلى الله عليه وآله - فلو جمع قائل بين قوله: " خذ معالم دينك من فلان،
وأن ما يؤدي عني فعني يؤدي "، وبين قوله: " وإن لم يكن المؤدى عني "، جمع
بين المتنافيين، فلسان أدلة (من بلغ) آبية عن جعل الحجية والطريقية.
وثانيا: أن جعل أخبار (من بلغ) مخصصة أو معارضة لأدلة اعتبار قول
الثقة، في غير موقعه، لأن أخبار (من بلغ) وما دل على الاعتبار - سوى
منطوق آية النبأ - متوافقان، ولا استبعاد في أن يكون خبر الثقة مطلقا حجة،
والخبر مطلقا حجة في المستحبات، وليس - على الظاهر - في أخبار الاعتبار

(1) الحجرات: 6.
(2) فوائد الأصول 3: 412 وما بعدها.
135

ما دل على عدم اعتبار قول الفاسق أو غير الثقة، إلا إشعارات أو ما هو قابل
للمناقشة، فالنسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه، لكنهما متوافقتان من
غير تعارض بينهما.
وثالثا: حكومة أخبار (من بلغ) على تلك الأخبار ممنوعة، لفقدان مناط
الحكومة، وما أدعى - من أن أخبار (من بلغ) ناظرة إلى إلقاء الشرائط - فيه ما
لا يخفى.
وبالجملة: تحكيمها عليها مما لاوجه له، فإن مفادها - بعد التسليم - حجية
قول المخبر [في] المستحبات مطلقا، ومفاد أدلة اعتبار قول الثقة حجية قول
الثقة مطلقا، وليس إحدى الطائفتين ناظرة إلى الأخرى، ولا متصرفة في جهة
من جهاتها مما هي دخيلة في الحكومة.
ورابعا: أن ما أفاده - من ترجيح أدلة (من بلغ) لعمل المشهور بها - ليس
على ما ينبغي، لعدم معلومية وجه فتواهم، ولعلهم عملوا بها لأجل عدم فهم
التنافي بينهما، كما أشرنا إليه، أو لعل فتواهم بالاستحباب لأجل ذهابهم إلى
أن نفس البلوغ من أي مخبر موضوع لاستحباب المضمون، وموجب
لحدوث المصلحة فيه.
وما أدعى - من أن ظاهر عنوان المشهور لا ينطبق إلا على القول بالقاء
شرائط الحجية في الخبر القائم على الاستحباب، حيث إن بناءهم على
التسامح في أدلة السنن - ممنوعة، لأن التسامح في أدلة السنن كما يمكن أن
يكون لأجل إلقاء شرائط الحجية، يمكن أن يكون لأجل ما ذكرنا.
136

وبالجملة: الترجيح بعملهم فرع انقداح التعارض بينهما عندهم، وهو غير معلوم.
وخامسا: أن ما أفاده - من أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط لم يبق
لتلك الأخبار مورد، بخلاف العكس - فيه ما لا يخفى، فإنه - بعد فرض
التعارض - لا يكون إحدى المرجحات ما ذكر.
مضافا إلى ممنوعية عدم بقاء مورد لها، لأنها شاملة بإطلاقها لخبر الثقة
وغيره، ومورد التعارض بينهما إنما يكون في مورد خبر الفاقد للشرط، وأما
الواجد له في المستحبات فيكون موردا لكلتا الطائفتين، ولا يلزم أن يكون
المورد الباقي مختصا بها.
نعم لو كان مضمونها إلقاء اعتبار الشرائط، أو حجية الخبر الضعيف
بالخصوص، لكان لما ذكره وجه، لكن إذا كان مضمونها حجية قول المخبر
في المستحبات، وكان إطلاقها شاملا للواجد للشرائط وغيره ما كان وجه
لقوله - قدس سره - لأنها بعد تقديم مورد التعارض تصير من أدلة حجية خبر
الثقة في المستحبات.
ثم إنه لم يحضرني رسالة الشيخ - رحمه الله - في مسألة التسامح في أدلة
السنن، لكن من المحتمل أن يكون نظره - في جعل التعارض بين أخبار (من
بلغ) وبين الإجماع وآية النبأ، دون الأخبار - إلى - ما أشرنا إليه من أن مفاد
تلك الأخبار موافق لأخبار (من بلغ) بقى الإجماع المنعقد على عدم حجية
قول الفاسق ومنطوق آية النبأ المعارض - بإطلاقه - للأخبار، فأجاب عنهما بما
أجاب، وبناء عليه يكون اعتراضه غير وارد عليه.
137

الشبهة الموضوعية التحريمية
قوله: الثالث: أنه لا يخفى أن النهي عن شئ... إلخ (1).
أنحاء متعلق الأمر والنهي
الأوامر والنواهي قد يتعلقان بالطبيعة على نحو صرف الوجود، وقد
يتعلقان بها على نحو العام المجموعي، وقد يتعلقان بها على نحو العام
الأصولي، أي الطبيعة السارية أو جميع أفراد الطبيعة، وقد يتعلقان بنفس
الطبيعة من غير لحاظ الوحدة والكثرة، والسريان وعدمه، والاجتماع وعدمه.
والمراد من الصرف: هو الطبيعة المأخوذة على نحو لا تنطبق إلا على أول
الوجود، ولا تتكثر بتكثر الأفراد، فإذا وجد ألف فرد من الطبيعة دفعة لا يكون
الصرف إلا واحدا، وإذا وجد فرد وتحقق الصرف به ثم وجد فرد آخر،
لا يتكرر الصرف به، ويكون الوجود الثاني غير منطبق للصرف، فصرف

(1) الكفاية 2: 200.
139

الوجود هو ناقض العدم، والطبيعة المأخوذة بقيد الوحدة بالمعنى الحرفي،
وتكون نسبة الأفراد إليه نسبة المحصل إلى المتحصل، أو نسبة الأمر المنتزع إلى
المنشأ للانتزاع.
فإذا تعلق الأمر بالطبيعة على نحو صرف الوجود يسقط الأمر بإتيان أول
الوجودات، ولو أوجد المكلف ألف فرد دفعة لا يكون إلا إطاعة واحدة هي
إتيان الصرف، والأفراد مقدمة عقلية له ليست متعلقة للأمر بنفسها، فوجوده
بأول الوجودات، وعدمه بعدم جميعها، وليست الكثرة فيه، بل هي في
المحصلات. هذه لوازم تعلق الأمر بالصرف.
وأما إذا تعلق النهي بالطبيعة على نحو صرف الوجود، يكون المزجور عنه
واحدا هو الطبيعة المأخوذة على نحو ما ذكرنا، ولازمه أن يكون له إطاعة
واحدة وعصيان واحد، فإن أتى المكلف بواحد من أفرادها يسقط النهي
وتتحقق المعصية، تأمل. ولو أتى بعدة أفراد لا تكون إلا معصية واحدة هي
إتيان الصرف، وإطاعته إنما تكون بترك جميع الأفراد عقلا.
وأما إذا تعلق الأمر أو النهي على نحو الوجود الساري - أي الطبيعة
باعتبار السريان - أو بنحو العام الأصولي - أي كل فرد من أفراد الطبيعة -
فلازمه إتيان جميع الأفراد في جانب الأمر، وترك جميعها في طرف النهي،
فينحلان إلى الأوامر والنواهي، ولكل منهما إطاعات وعصيانات، وللطبيعة
الكذائية وجودات وأعدام.
وإذا تعلق الأمر أو النهي بنفس الطبيعة، ويكون الأمر باعثا نحو
140

الطبيعة - أي إيجادها - والنهي زاجرا عنها، من غير لحاظ شئ في جانب
المأمور به والمنهي عنه إلا نفس الطبيعة، فلازمه العقلي في جانب الأمر أن
يسقط بأول الوجودات، لتحقق تمام متعلق الأمر، وهو نفس الطبيعة بلا شرط
واعتبار زائد.
وإذا (1) أتى بعدة أفراد دفعة يكون المطلوب كل واحد منها، ويكون
مطيعا بالنسبة إلى كل فرد منها، فإن الطبيعة تتكثر بتكثر الأفراد، والأمر قد
تعلق بنفس الطبيعة القابلة للكثرة، وإنما يسقط الأمر بأول الوجودات
لا لقصور في ناحية الطبيعة، بل لقصور مقتضى الأمر.
والفرق بين المقام وبين ما إذا تعلق بالصرف: أن الصرف غير قابل للتكرار
والتكثر، وأما نفس الطبيعة فقابلة لهما، وتكون متكثرة بتكثر الأفراد، ولازمه
انطباق المأمور به على كل واحد منها، وحصول الإطاعة بكل واحد منها.
وإذا أتى المكلف بواحد من الأفراد وترك الباقي يكون مطيعا محضا، لأن
الإتيان بالفرد إتيان بتمام مقتضى الأمر.
وأما في جانب النهي، فالزجر عن الطبيعة والمنع عن تحققها زجر ومنع
عن جميع الأفراد عقلا، لأن كل فرد هو الطبيعة نفسها، فإذا عصى العبد
وأتى بفرد منها لم يسقط النهي، لأن النهى ليس - طلب الترك (2) حتى يقال:
تحقق مطلوبه، والعصيان لا يمكن أن يصير مسقطا للأمر ولا للنهي، وما هو

(1) قد عدلنا عنه في باب الأوامر، فراجع. [منه قدس سره]
(2) هذا حكم عرفي ولو كان النهي طلب الترك، كما قلنا في غير المقام. [منه قدس سره]
141

المعروف - من أن الأوامر والنواهي كما يسقطان بالإطاعة قد يسقطان
بالعصيان (1) - بظاهره فاسد.
نعم إذا كان الأمر موقتا، وترك العبد في جميع الوقت، يكون عاصيا
ويسقط الأمر، لا للعصيان، بل لقصور مقتضاه، كما أن النهي عن الصرف
- بالمعنى الذي أشرنا إليه - يسقط مع العصيان، لقصور في المقتضى.
وبالجملة: مقتضى الزجر عن الطبيعة أن تكون الطبيعة في كل فرد مزجورا
عنها، وما دام بقاء النهي يزجر عنها، فلا يسقط بالعصيان، وهذا - أيضا - غير
الزجر عن كل. فرد، بل زجر عن نفس الطبيعة، ولازمه العقلي هو المزجورية
عن كل فرد، لاتحادها معها.
وإذا تعلق الأمر بمجموع الوجودات من حيث المجموع بحيث يكون
المأمور به أمرا واحدا - يكون إطاعته بإتيان المجموع، وعصيانه بترك المجموع
الذي ينطبق على ترك الجميع، وترك فرد من الأفراد. وإذا تعلق النهي به
يكون إطاعته بترك المجموع، وهو يتحقق بترك البعض، وعصيانه بالجمع بين
جميعها.
هذا كله بحسب مقام الثبوت والتصور، وأما بحسب مقام الإثبات
فالأوامر والنواهي متعلقة نوعا بالطبائع أو بإيجادها، بلا تقيد بشئ أصلا.

(1) انظر هداية المسترشدين: 176 سطر 33 - 34، مطارح الأنظار: 19 سطر 22 - 23،
الكفاية 1: 252 - 253، فوائد الأصول 1: 242، نهاية الدراية 1: 231 سطر 8
و 232 سطر 6 - 8 و 279 سطر 19 - 22.
142

اختلاف الأصول العملية باختلاف متعلقات الأحكام
ثم اعلم: أن الأصول العملية تختلف حسب اختلاف متعلقات الأحكام
وموضوعاتها، فإذا تعلق الأمر أو النهي بالوجودات السارية - كما لو تعلق
وجوب الإكرام بكل فرد من العلماء، أو تعلقت الحرمة بكل فرد من الخمر -
يكون المرجع في الشبهات الموضوعية البدوية هو البراءة، لأن العلم بالكبرى
لا يصير حجة على الصغرى، ولا يمكن كشف حال الفرد منها.
فإذا شك في كون زيد عالما، أو كون مائع خمرا، لا تكون الكبرى حجة
عليهما، لا لما ذكره بعض مشايخ العصر رحمه الله - كما في تقريرات بحثه -
من أن الخطاب لا يمكن أن يكون فعليا إلا بعد وجود الموضوع، لأن التكاليف
إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية المنحلة إلى قضية شرطية، مقدمها
وجود الموضوع، وتاليها عنوان المحمول، فلابد من فرض وجود الموضوع في
ترتب المحمول، فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجا يعلم عدم فعلية
التكليف، ومع الشك فيه يشك فيها، لأن وجود الصغرى مما له دخل في
فعلية الكبرى (1) انتهى.
عدم انحلال القضية الحقيقية إلى شرطية
ضرورة أن القضايا الحقيقية لا تنحل إلى قضايا شرطية حقيقة، وإن أصر

(1) فوائد الأصول 3: 393.
143

عليه - رحمه الله - في كثير من المواضع (1) زعما منه أن ما اشتهر - أن في
القضايا الحقيقية يكون الحكم على الأفراد المحققة أو المقدرة الوجود، في
مقابل القضايا الخارجية التي يكون الحكم [فيها] مقصورا على الأقراد
الخارجية - أن المقصود منه أن قد القضايا تنحل إلى الشرطيات حقيقة. نعم
يوهم ذلك بعض عبائر المنطقيين (2).
لكن الأمر ليس كذلك قطعا، فإن القضايا الحقيقية قضايا بتية كالقضايا
الخارجية، ولا افتراق بينهما من هذه الجهة، وإنما أريد من كون الحكم فيها
على الأفراد المحققة أو المقدرة دفع توهم قصر الحكم على الأفراد الخارجية،
وتفرقة بين القضيتين، وإلا فالقضايا الحقيقية يكون الحكم فيها على عنوان
الموضوع، بحيث يكون قابلا للانطباق على الأفراد أعم من الموجود أو
سيوجد.
ف‍ " كل نار حارة " إخبار جزمي وقضية بتية يحكم فيها على كل فرد
من أفراد النار، وليس في الإخبار اشتراط أصلا، لكن لا تكون النار نارا
ولا حارة إلا بعد الوجود الخارجي، وهذا غير الاشتراط، ولا يكون مربوطا
بمفاد القضية.
ولو كانت القضايا الحقيقية مشروطة حقيقة، لزم أن يكون إثبات لوازم

(1) انظر فوائد الأصول 1: 179، رسالة حكم اللباس المشكوك فيه - في ذيل كتاب منية
الطالب في حاشية المكاسب -: 258 سطر 4 - 5.
(2) شرح الشمسية: 78 سطر 3 - 5، شرح المنظومة - قسم المنطق -: 50 سطر 13 - 16.
144

المهيات لها بنحو القضية الحقيقية مشروطا بوجودها الخارجي، مع أنها لازمة
لها من حيث هي، فقولنا: " كل مثلث فإن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين "
و " كل أربعة زوج " قضية حقيقية جزما، ولو كانت مشروطة لزم أن يكون
إثبات التساوي والزوجية لهما مشروطا بالوجود الخارجي، مع أن اللوازم ثابتة
لذواتها من غير اشتراط أصلا.
نعم، لا تكون المهية مهية ولا اللازم لازما إلا بالوجود بنحو القضية الحينية،
لا المشروطة، لأن الاشتراط معناه دخالة الشرط في ثبوت الحكم، وهو خلاف
الواقع في لوازم المهيات.
وكذا يلزم أن يكون حمل ذاتيات المهية عليها مشروطا بتحققها، مع أن
الذاتي ثابت للذات بذاته من غير اشتراط.
مضافا إلى أنه لو كان الأمر كما زعم لزم عد تلك القضايا في
الشرطيات، لا الحمليات، مع تسالم المنطقيين [على] كونها حمليات بتيات.
وبالجملة: ما أظن التزام أحد من أهل التحقيق بكون القضية الحقيقية قضية
شرطية على نهج سائر الشرطيات، من غير فرق بين الإخباريات
والإنشائيات، على إشكال في إطلاق الحقيقية فيها، فقول القائل: " كل نار
حارة " إخبار فعلي بحرارة كل نار موجودة أو ستوجد، وقوله: " أكرم كل
عالم " إنشاء للحكم الفعلي لموضوعه، وهو عنوان " كل عالم ". نعم، الإنشاء
الكذائي لا أثر له إلا بعد تحقق موضوعه خارجا.
فإن كان المراد من عدم فعلية الحكم قبل تحقق موضوعه خارجا عدم
145

باعثيته نحو الموضوع الغير المحقق، فهو حق، لكن لا يلزم أن يكون الحكم
مشروطا، بل يكون فعليا بالنسبة إلى موضوعه، وهو العنوان المأخوذ
للموضوعية، لكن كما لا يدعو حكم إلا إلى متعلقه لا يدعو إلا إلى
موضوعه، فكما لا يدعو وجوب إكرام العالم إلا إلى عنوان الإكرام، كذلك
لا يدعو إلا إلى إكرام العالم، فلا معنى لدعوته إلى من ليس بعالم، كما
لا معنى لأن يدعو إلى ما ليس بإكرام، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون
الوجوب بالنسبة إلى الإكرام أو إلى العالم مشروطا.
وبالجملة: فرق بين اشتراط الحكم بأمر وبين عدم تحقق موضوع الحكم.
وإن كان المراد أنه بعد تحقق الموضوع إذا لم يعلم المكلف به لا تكون
الكبرى حجة عليه، ولا يمكن للمولى الاحتجاج على العبد بالحكم المتعلق
بالكبرى الكلية، فذلك حق لامرية فيه، ولكن ليس هذا معنى عدم فعلية
الحكم، فإن الظاهر أن مرادهم من الفعلية واللا فعلية أن تتغير إرادة المولى،
وتكون قبل علم المكلف بالموضوع أو قبل تحققه خارجا معلقة على شئ،
ويكون حكمه إنشائيا، وبعد تحققه وعلم المكلف به تغير إرادته، ويصير الحكم
الإنشائي فعليا، والمشروط منجزا. ولازم ذلك أن تتغير إرادة المولى وحكمه
في كل آن بالنسبة إلى حالات المكلفين من حصول الشرائط العامة وعدم
حصولها. وهذا ضروري البطلان.
نعم، ما هو المعقول من الإنشائية والفعلية هو أن الأحكام قد تصدر من
الموالي العرفية أو الحقيقية على نعت القانونية وضرب القاعدة، وأحالوا
146

مخصصاتها وحدودها إلى أوقات اخر، ثم بعد ذكر المخصصات والحدود
تصير فعلية، بمعنى، أنها قابلة للإجراء والبعث الحقيقي.
فقوله - تعالى -: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (1)
حكم قانوني مضروب يحال بيان حدوده إلى خطاب آخر، وبعد تتميم
الحدود والشرائط يصير فعليا، ويقع في موقع الإجراء، إلا أنه حكم متعلق
بعنوان خاص هو المستطيع، فإذا صار المكلف مستطيعا يصير موضوعا له،
وإذا تمت شرائط التكليف بالنسبة إليه يكون هذا الحكم حجة عليه، وليس له
عذر في تركه.
وبالجملة: لا معنى للإنشائية والفعلية المعقولتين إلا ما ذكرنا، والتنجز عبارة
عن تمامية الحجة على العبد.
فتحصل من جميع ذلك: أن الأحكام إذا كانت على نحو العام الأصولي
- بحيث تنحل إلى أحكام مستقلة لموضوعات مستقلة - فعند الشك في
الموضوع لا تكون الكبرى الكلية حجة على الموضوع المشكوك فيه، فتجري
أصالة البراءة.
في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص
إن قلت: إذا لم تكن الكبرى حجة على المصاديق المشتبهة، فلم
لا يتمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص؟! فإن المخصص لم يكن

(1) آل عمران: 97.
147

حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك فيه، والعام حجة بالنسبة إلى فرده، ولا يجوز
رفع اليد عن الحجة بلا حجة.
لا يقال: إن العام المخصص يعنون، فقوله: " أكرم العلماء " بعد التخصيص
بالفساق بمنزلة: " أكرم العلماء الغير الفساق " فالتمسك به تمسك في الشبهة
المصداقية لنفس العام، وهو غير جائز (1).
فإنه يقال: فعليه يسري إجمال الخاص إليه في الشبهة المفهومية، مع أن
الأمر ليس كذلك، وليس ذلك إلا لأجل عدم تعنونه بعنوانه.
قلت: التحقيق عدم تعنونه بعنوان الخاص، ولا يسري الإجمال إليه،
ومع ذلك لا يجوز التمسك به في الشبهة المصداقية، وذلك لأن حجية العام
تتوقف على أصول عقلائية، منها: أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع
الجدية، وهذا أصل عقلائي يتمسك به العقلاء إذا شك في أصل التخصيص،
وأما مع العلم به والشك في مصداق أنه من مصاديق المخصص - حتى
لا تتطابق الإرادتان بالنسبة إليه - أولا، فلا يجوز التمسك بالأصل العقلائي،
لعدم بناء العقلاء على ذلك. فعدم التمسك بالعام ليس من قبيل رفع اليد عن
الحجة بلا حجة، بل يكون اقتضاء العام ناقصا، لأجل عدم تمامية الأصول
العقلائية فيه.
ولعل هذا مرادهم من أن المصداق المشتبه وإن كان مصداقا
للعام، إلا أنه لم يعلم أنه من مصاديقه بما هو حجة، لاختصاص حجيته

(1) درر الفوائد 1: 185 - 186.
148

بغير الفاسق (1).
وأما الإجمال فلاوجه لسرايته، فإن الإجمال واللا إجمال من عوارض
الظهورات، والخاص المنفصل لا يتصرف في ظهور العام. هذا كله فيما إذا
تعلق الحكم بالطبيعة السارية.
في تعلق الأمر والنهي بصرف الوجود أو بالمجموع
وأما إذا تعلق الأمر بها على نحو صرف الوجود، ويكون حال المصاديق
حال المحصلات، أو المناشئ للانتزاع بالنسبة إلى الأمر المنتزع منها، فالأصل
في المشتبهات الاشتغال، لأن الاشتغال اليقيني بصرف الوجود يقتضي البراءة
اليقينية، ومع إتيان المشتبه يشك في البراءة، كما إذا قيل: " كن لا شارب
الخمر " يجب تحصيل هذه الصفة لنفسه، ومع ارتكاب المشكوك فيه يشك في
إطاعة هذا الأمر.
وأما إذا تعلق النهي بالصرف، ويكون الأفراد من قبيل المحصلات من
غير تعلق نهي بها، يكون الأصل هو البراءة، لأن النهي ليس طلب الترك
- كما مر في باب النواهي (2) - حتى يكون مقتضاه كالأمر، فيقال: إن الطلب
إذا تعلق بالترك لابد مع الاشتغال اليقيني بهذا العنوان [من] الخروج
عن عهدته يقينا، بل يكون مفاد النهي هو الزجر عن الطبيعة، ومع الشك

(1) انظر الكفاية 1: 343، درر الفوائد 1: 185.
(2) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
149

في كون الخارج محصل الطبيعة أو مصداقها لا يكون النهي حجة عليه
عقلا بالنسبة إلى المشكوك فيه، كما قلنا في الانحلاليات، ولافارق بينهما
من هذه الجهة.
وهكذا الحال في تعلق الأمر والنهي بالمجموع، فإن مقتضى تعلق
الأمر به هو الاشتغال، لأنه مع ترك المشكوك فيه يشك في صدق
المجموع على البقية، ومقتضى الأمر هو الاشتغال بالمجموع، فلابد من البراءة
اليقينية.
وقياسه بالأقل والأكثر الارتباطي مع الفارق، فإن فيما نحن فيه تعلق
الأمر بعنوان يشك [في] انطباقه على الخارج، وفي الأقل والأكثر لو كان الأمر
كذلك لا محيص من الاشتغال، فإذا أمر بالصلاة، وشك في جزء مع الشك
في كونه مقوما للصلاة - بحيث مع فقدانه شك في صدق الصلاة على المأتي
به - لا شبهة في لزوم الاحتياط والبراءة اليقينية.
وأما النهي إذا تعلق بالمجموع فلا يكون حجة على المشكوك فيه، لما قلنا:
إن مفاده الزجر عن متعلقه، لاطلب تركه.
ومما ذكر يظهر الحال في مقتضى الأمر والنهي المتعلقين بالطبائع أيضا.
إنما الكلام في الأصل المحرز للموضوع:
أما إذا تعلق النهي بالطبيعة بنحو العام الأصولي، ويكون الأفراد موضوعة
استقلالا، فلا إشكال في أن استصحاب الخمرية يحرز الموضوع، واستصحاب
عدم الخمرية يخرجه عن تحت النهي.
150

وأما إذا كان النهي متعلقا بالصرف، أو يرجع إلى إيجاب عدولي،
فاستصحاب عدم الخمرية لا يثبت أن ارتكابه لا يكون محصلا للصرف،
ولا يثبت أن بارتكابه لا يخرج عن وصف اللا شاربية.
وهل استصحاب عدم كونه مرتكبا للخمر إذا شرب المشكوك فيه، أو
استصحاب كونه لاشارب الخمر إذا شرب المشكوك فيه، أو بعد شربه، يفيد
في تجويز الارتكاب له؟ لا يخلو من إشكال.
مسألتان
المسألة الأولى
في دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وأن الأصل فيه البراءة أو الاحتياط.
وتنقيح البحث يستدعي رسم أمور:
الأمر الأول
حقيقة الواجب التخييري
هل الواجب التخييري قسم خاص من الواجب متعلق بشيئين أو الأشياء
على سبيل الترديد الواقعي، بأن يقال: إن الإرادة كما يمكن أن تتعلق بشئ
معين يمكن أن تتعلق بشيئين على سبيل التردد الواقعي، وكذلك البعث
والإيجاب.
وبالجملة: الوجوب التخييري سنخ من الوجوب في مقابل التعييني، وليس
151

قسما منه (1) أم يرجع إلى الواجب التعييني بحسب اللب، وأن الواجب هو
القدر الجامع بين الأطراف، ويكون الأمر المتعلق بها على سبيل الترديد إرشادا
عقليا إلى مصاديق الجامع، حيث لا طريق للعقل إلى إدراكه؟
وقد يقال في كيفية إنشاء التخييري: إنه عبارة عن تقييد إطلاق الخطاب
المتعلق بكل فرد من الأفراد بما إذا لم يأت المكلف بعدله، فيكون كل طرف
مشروطا بعدم إتيان عدله (2).
والحق هو الأول، بشهادة الوجدان به، وعدم الدليل على امتناعه.
وما يقال: من عدم تأثير الكثير في الواحد، لأن الواحد لا يصدر إلا من
الواحد، كما أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد (3) أجنبي عن مثل المقام كما
هو واضح عند أهله (4).

(1) وقد حققنا في [مناهج الوصول] حقيقة الواجب التخييري بحيث لا يلزم محذور منه
عقلا، فراجع. [منه قدس سره]
(2) أجود التقريرات 1: 182 و 186.
(3) الكفاية 1: 226.
(4) مع أنه على فرض صحته لا يلزم عدم الواجب التخييري، لإمكان كون كل من الطرفين
واجدا لملاك تام، لكن يكون لإيجابهما محذور ملاكي أو خطابي، أو كانت مصلحة
التسهيل أوجبت الإيجاب تخييرا.
هذا، مع أن الوجوب منتزع من البعث، فإذا تعلق تخييرا يكون الواجب تخييريا، وإن كان
المؤثر لتحصيل الملاك هو الجامع الواحد على فرض صحة إجراء القاعدة في مثل المقام.
[منه قدس سره]
152

الأمر الثاني
أقسام الواجب التخييري
قد قسم بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - الواجب
التخييري إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الواجب التخييري الابتدائي، كخصال الكفارات.
الثاني: الواجب التخييري الناشئ من تزاحم الحكمين في مقام الامتثال،
وقال: لما كان هذا التخيير يعرض للخطابين بعد ما كانا عينيين يمتاز عن
القسم الأول.
الثالث: التخيير الناشئ من تعارض النصين مع تساويهما في مرجحات
باب التعارض، فإنه بناء على الطريقية - كما هو المختار - قسم آخر من التخيير
أجنبي عن القسمين. نعم، بناء على السببية يكون التخيير بينهما من قبيل
باب التزاحم (1) انتهى محصله.
وأنت خبير بأن التخيير الناشئ من تعارض النصين - بناء على الطريقية -
ليس قسما في مقابل القسم الأول، فإن الاختلاف في المخير فيه - أي كون
أحدهما مسألة فقهية، والآخر أصولية - ليس اختلافا في الواجب التخييري،
وإلا تتكثر الأقسام حسب تكثر المتعلقات.
اللهم إلا أن يقال: إن التخيير الناشئ من تعارض النصين مفترق عن

(1) فوائد الأصول 3: 417 وما بعدها.
153

الابتدائي، بأن في التخيير الابتدائي يكون كل من الأطراف واجدا للملاك
ووافيا للغرض، بخلاف تخيير باب التعارض، فإن أحد الطرفين - لا محالة -
مخالف للواقع، وغير واجد للملاك.
وبالجملة: في التخييرات الابتدائية يكون التخيير ناشئا من خصوصية في
كل من الأطراف، يكون بتلك الخصوصية مسقطا للغرض، لاستيفاء الملاك،
بخلاف التخيير في باب التعارض، فإنه ناش من نوعية أداء أحدهما للواقع
من غير إمكان معرفته، ولما كان ما يكون مطابقا للواقع مجهولا - نشأ التخيير
الإلجائي على حذو التخيير في أطراف العلم الإجمالي الذي يكون المكلف
مضطرا إلى ارتكاب أحدها لا بعينه، فيكون حكم العقل بالتخيير في إتيان
أحدها ناشئا من الاحتياط للتوصل إلى الواقع.
فالحكم الشرعي بالتخيير (1) - بعد سقوطهما عن الحجية عقلا - ليس على
حذو التخييرات الشرعية الابتدائية، فإنها عبارة عن نحو تعلق للإرادة
بالطرفين على سبيل التردد الواقعي، والتخيير في باب التعارض يكون لأجل
التحفظ على واقع معين في علم الله لا يمكن تعريفه للمكلف، فيصح أن
يقال: هذا قسم آخر يباين القسمين.
هذا، ولكن - بعد اللتيا والتي - ليس هذا اختلافا في التخيير حتى يختلف
القسمان، بل اختلاف في متعلقه مما لا يكون مناطا لتكثير أقسامه.
بل يمكن أن يقال: إن التخيير في باب التزاحم - مما هو بحكم العقل - ليس

(1) قد رجعنا عنه بما هو الحق. [منه قدس سره]
154

قسما للتخيير مخالفا في حيثية التخيير عن أخويه، فتدبر (1).
الأمر الثالث
حكم الشك في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء
يعتبر في جريان البراءة العقلية الشك في أصل التكليف من غير اعتبار
شئ آخر فيه، من كون وضعه ورفعه بيد الشارع ابتداء أو مع الواسطة، ومن
غير أن يكون في رفعه منة على العباد أولا، أو يكون في وضعه ضيق عليهم
أو لا، أو يكون من الأمور الوجودية أو لا.
وبالجملة: تمام المناط هو عدم تمامية الحجة على العبد، وكون العقاب عليه
- على فرضه - بلا بيان.
كما أن ميزان الاشتغال هو الشك في السقوط بعد تمامية الحجة، ووصول
البيان، من غير اعتبار شئ آخر، وهذا مما لا إشكال فيه.
إنما الكلام فيما أفاده بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه -:
من أن الشك في اشتراط التكليف في مرحلة البقاء والاستمرار يرجع إلى

(1) إلا أن يكون مراده تقسيم الواجب - أي المتعلق - لكن ظاهره هو تقسيم التخيير وإن جعل
المقسم الواجب التخييري.
ثم إنه يرد عليه إشكال آخر: وهو أن الأمر في المتزاحمين ليس كما زعم من تقييد
التكليف عقلا وصيرورة التكليف بعد ذلك من قبيل الواجب المخير (أ) وقد حققنا ذلك
بما لا مزيد عليه في باب الترتب، فراجع. [منه قدس سره]
(أ) فوائد الأصول 3: 419.
155

الشك في السقوط، والأصل فيه الاشتغال.
قال ما حاصله: إنه كما يمكن أن يكون التكليف في عالم الثبوت والتشريع
مشروطا كاشتراط الحج بالاستطاعة، كذلك يمكن أن يحدث للتكليف
الاشتراط في مرحلة البقاء بعد ما كان مطلقا في مرحلة الثبوت والحدوث؟ كما
لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام، وهذان الفرضان متعاكسان
في جريان البراءة والاشتغال عند الشك، فإن الأصل في الأول البراءة، وفي
الثاني الاشتغال، لأن حقيقة الشك في الثاني يرجع إلى أن الصيام في المثال
هل يكون مسقطا للتكليف بالصلاة أو لا؟ وذلك واضح (1) انتهى.
أقول: مراده من الاشتراط في مرحلة البقاء - كما يظهر منه فيما سيأتي (2) -
نظير الاشتراط في الواجب التخييري، من كون كل من التكليفين مشروطا
بعدم إتيان الآخر، بناء على رجوع الواجب التخييري إلى تقييد إطلاق كل
من الطرفين بعدم إتيان الآخر، ففي مثل خصال الكفارات يكون كل من
الأطراف مقيدا بعدم إتيان الآخر.
ولا يخفى أنه لو قلنا برجوع الواجب التخييري إلى تقييد الإطلاق
لا يرجع الشك إلى مرحلة البقاء والاستمرار، بل يرجع إلى مرحلة الثبوت،
لأن تقييد ما يكون مطلقا بحسب اللب والثبوت محال يرجع إلى البداء
المستحيل، فيكون التكليف واقعا إما مطلقا أتى بالآخر أولا، وإما مشروطا

(1) فوائد الأصول 3: 421.
(2) في صفحة: 159.
156

بعدم إتيان الآخر.
ولافرق في اشتراط التكليف بين أن يكون شرطه إتيان شئ أو حصول
شئ، فالحج مشروط بحصول الاستطاعة، والواجب التخييري يرجع لبا
- على الفرض - إلى الاشتراط بعدم الإتيان بصاحبه، فيكون التكليف في
مرحلة الثبوت والحدوث مشزلي طا بعدم إتيان الآخر، فيرجع الشك إلى الشك
في التكليف المطلق، والأصل فيه يقتضي البراءة، لأن حجة المولى لم تكن
تامة بالنسبة إلى الطرف بعد الإتيان بصاحبه.
ولا يمكن أن يقال: إن التكليف قبل الإتيان بصاحبه كان مطلقا، وبالإتيان
صار مشروطا، لعدم تعقل صيرورة المطلق ثبوتا مشروطا كذلك، فالتكليف:
إما مطلق مطلقا، وإما مشروط كذلك. نعم عند حصول الشرط في المشروط
يصير التكليف المشروط فعليا، لتحقق شرطه.
وبالجملة: لاوجه لما أفاده في الواجبات التي تكون شروطها شرعية. نعم
فيما إذا كان الشك في الشروط العقلية - كالشك في القدرة - يرجع الشك
إلى السقوط، والأصل فيه الاشتغال، لأن التكليف من قبل المولى مطلق،
والملاك تام، ويكون تقييد الإطلاق في مورد عدم القدرة عقليا، ومن قبيل
تفويت المصلحة اضطرارا (1) وفي مثل ذلك يحكم العقل بالاحتياط إلا إذا
ثبت المؤمن، فإذا شك المكلف في القدرة لا يجوز: - له القعود عن التكليف
حتى يثبت له عجزه، وإلا تكون حجة المولى عليه تامة، بخلاف الشرط

(1) بل التحقيق عدم التقييد أصلا. [منه قدس سره]
157

الشرعي، فإنه من قيود الموضوع لبا، والفرق بينهما واضح لا يحتاج إلى تجشم
الاستدلال.
الأمر الرابع
في أنحاء الشك في التعيين والتخيير
الشك في التعيين والتخيير قد يكون بعد العلم بتوجه الخطاب بأحد
الشيئين في أن وجوبه يكون تعيينيا أو يكون شئ آخر عدله، وقد يكون بعد
العلم بتوجه الخطاب بشيئين في أن وجوبهما يكون على سبيل التعيين أو
التخيير، وقد يكون بعد العلم بتعلق التكليف بشئ وجوبا وسقوطه بإتيان
شئ آخر، لكن يشك في أنه عدله، أو يكون مباحا أو مستحبا مسقطا
للواجب.
في مقتضى الأصل في الأنحاء الثلاثة
وليعلم أن موضوع البحث هو مقتضى الأصل العقلي أو الشرعي، مع قطع
النظر عن ظهور الأوامر.
في النحو الأول:
فنقول: إذا شككنا في التعيين والتخيير بعد العلم بتعلق التكليف بأحد
الشيئين، كما إذا شك في أن الشئ الفلاني عدل لهذا الواجب أو لا، ويكون
158

التخيير من التخييرات الابتدائية الشرعية - أي القسم الأول من التخيير - فهل
الأصل العقلي يقتضي البراءة عن التعيينية أو الاحتياط؟
التحقيق: أنه إن قلنا بأن الواجب التخييري يرجع إلى الواجبين أو
الواجبات المشروطة بعدم إتيان ما بقي، فالأصل فيه البراءة، لأن الشك يرجع
إلى الإطلاق والاشتراط في التكليف، فمع الإتيان ببعض الأطراف يشك في
أصل التكليف.
وما أفاده المحقق المتقدم: من أن الشك يرجع إلى السقوط، لأن التقييد
إنما يكون في مرحلة البقاء والاستمرار (1) قد عرفت ما فيه (2). نعم لو كان
التكليف مطلقا، وشك في سقوطه بإتيان شئ آخر من غير اشتراطه شرعا
بعدم إتيانه، كان الشك في السقوط، لكنه خلاف المفروض.
وإن قلنا بأن الواجب التخييري يرجع إلى التخيير العقلي الذي كشف عنه
الشارع، ويكون الجامع بين الأطراف واجبا شرعيا تعيينا. ففيه وجهان:
من حيث إن الأمر دائر بين وجوب قدر الجامع بين الفرد وصاحبه
وبين وجوب الخصوصية، فيكون من صغريات المطلق والمقيد، والأصل فيه
البراءة.
ومن حيث إن التكليف بالخاص هاهنا معلوم يجب الخروج عن عهدته،
ولا يكون الجامع معلوم الوجوب بما أنه جامع والقيد مشكوكا فيه، كما في

(1) فوائد الأصول 3: 428.
(2) انظر صفحة: 156 - 157.
159

المطلق والمقيد، فإن المطلق هناك معلوم الوجوب والقيد مشكوك فيه فيرفع
بالأصل، بخلاف ما نحن فيه، فإن الجامع لا يكون متعلق التكليف على أي
حال، بل هو واجب على فرض الوجوب التخييري، فالتكليف بالخاص
معلوم يجب البراءة منه عقلا، وإتيان الفرد الآخر لا يوجب البراءة عن
التكليف المتعلق بأمر معلوم (1).
وإن قلنا بأن الواجب التخييري سنخ آخر من الوجوب متعلق
بالأطراف على نحو التردد الواقعي، ففي جريان البراءة أو الاشتغال - أيضا -
وجهان:
من حيث إن الحجة من قبل المولى لم تتم إلا بتكليف مردد بين التعينية
المقتضية لإتيان الفرد الخاص، والتخييرية الغير المقتضية إلا لعدم ترك جميع
الأطراف، فما قامت به الحجة هو عدم جواز ترك الأطراف، وأما وجوب
الخصوصية فلا.
ومن حيث إن الحجة قامت على الفرد الخاص، فإنه واجب بلا إشكال،
والاشتغال اليقيني يوجب البراءة اليقينية، ولا يمكن البراءة بفرد أجنبي لدى

(1) لكن هنا مطلب آخر، وهو أنه بناء على أن الواجب هو الجامع يكون الخطاب المتعلق
بالمصداق إرشاديا، لا مولويا، ومع الشك في التعين والتخيير يشك في إرشادية
الطلب ومولويته، فلا يكون حجة على المكلف بالنسبة إلى الخصوصية، حتى يقال: إن
الاشتغال اليقيني بها يقتضي البراءة اليقينية، فلا حجة للمولى بالنسبة إليها، فالقاعدة
تقتضي البراءة، وكون الأمر ظاهرا في المولوية خلاف مفروض البحث العقلي المناسب
للمقام. [منه قدس سره]
160

العقل، ولا عذر للمكلف في ترك التكليف المعلوم وإتيان الفرد المشكوك فيه
بتوهم كونه أحد طرفي الواجب التخييري. وهذا هو الأقوى.
فتحصل مما ذكرنا: أن الواجب التخييري إن كان من قبيل الواجبات
المشروطة، فالأصل في دوران الأمر بينه وبين الواجب التعييني البراءة، وإلا
فالأصل هو الاشتغال.
وأما البراءة الشرعية فالظاهر عدم جريانها، لأن رفع التعيينية - على فرض
إمكانه - لا يثبت كون الفرد المشكوك الوجوب طرفا لمعلوم الوجوب، حتى
يجوز الاكتفاء به عن الفرد المعلوم.
النحو الثاني:
مما ذكرنا يتضح الأمر في الفرض الآخر من الشك في التعيين والتخيير،
وهو ما إذا علم توجه التكليف بشيئين وشك في التعيين والتخيير، فإن الأصل
فيه - أيضا - البراءة إذا رجع التكليف التخييري إلى الواجبات المشروطة،
والاشتغال على غيره، وإن كان احتمال البراءة في هذا الفرض أقرب من
الفرض السابق، مع كون الواجب التخييري سنخا آخر من الوجوب، لإمكان
أن يقال: إن أصل تعلق الوجوب بالفردين يقيني قامت الحجة عليه،
وأما كيفية تعلقه بهما - وأنه على سبيل التعيين حتى يجب الإتيان بهما،
أو على سبيل التخيير حتى لا يجب إلا الإتيان بواحد منهما - فغير
معلوم، وليس للمولى حجة على التعيينية، لأن المردد بين الأمرين لا يكون
161

حجة على أحدهما، فليس للمولى المؤاخذة على ترك البقية بعد الإتيان
بواحد منهما (1).
كما أنه لا يبعد جريان البراءة الشرعية - أيضا - عن تعيينية الوجوب.
ولا يصغى إلى ما قيل: من أن وصف التعيينية ليس وجوديا قابلا للرفع (2)
للمنع عن كونه عدميا، فإنه ينتزع من تمركز الإرادة والإيجاب في شئ
معين، ولازمه عدم الاكتفاء بغيره عنه. مضافا إلى منع تقوم جريان حديث
الرفع بكون الشئ وجوديا، وما ذكر في الضابط فيه ليس بشئ (3).
النحو الثالث:
بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه الشك في التعيين والتخيير: وهو
ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين، وعلم - أيضا - بأن الشئ الآخر
مسقط للتكليف به، ولكن شك في أن إسقاطه له لكونه عدلا له أو لكونه
مفوتا لموضوعه، سواء كان إسقاطه من حيث كون عدمه شرطا لملاك
الواجب، ويكون هو بالنسبة إليه مشروطا، أو كان إسقاطه من حيث كونه
مانعا عن استيفاء الملاك مع بقائه على ما هو عليه.

(1) إلا أن يقال: إن التكليف المتعلق بكل طرف لا يجوز تركه لأجل الإتيان بالآخر.
[منه قدس سره]
(2) انظر فوائد الأصول 3: 427.
(3) نفس المصدر السابق.
162

فإن شك في ذلك وتردد الأمر بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري
أو أحد الوجهين الآخرين، فالأصل فيه يقتضي البراءة: فمع التمكن من إتيان
ما هو متعلق التكليف يجوز الاكتفاء بالطرف الاخر، لأن كونه من قبيل
الواجب المشروط أحد الاحتمالات، ومع تردد الواجب بين المطلق والمشروط
فالأصل البراءة مع فقدان شرطه، ومجرد احتمال كون المسقط مفوتا للملاك
ومانعا عن استيفائه، لا يوجب استحقاق العقوبة مع عدم تمامية الحجة
بالنسبة إلى الواجب المطلق. فما أفاده بعض أعاظم العصر (1) - على ما في
تقريرات بحثه - منظور فيه (2).
ومع عدم التمكن من إتيان ما هو متعلق التكليف، فالأصل في الطرف
الآخر المسقط - مع الشك في كونه أحد طرفي الواجب التخييري، أو كونه
مباحا أو مستحبا مسقطا للتكليف - البراءة، وهذا واضح.
هذا كله حال الشك في التعيين والتخيير مع القسم الأول من أقسام
الواجب التخييري، أي التخيير الشرعي الابتدائي.
وأما القسم الثاني: وهو تخيير باب التزاحم - فإن دار الأمر بين التخيير
والتعيين في هذا القسم، بأن احتمل أقوائية ملاك أحدهما المعين - كما إذا
احتمل كون أحد الغريقين هاشميا، مع العلم بأهمية إنقاذ الهاشمي أو

(1) فوائد الأصول 3: 430.
(2) ويأتي فيه ما تقدم بالنسبة إلى سائر احتمالات الواجب التخييري، ولا جدوى في
تكراره. [منه قدس سره]
163

احتمالها - فالأصل فيه الاشتغال، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله
- على ما في تقريراته -: من أن تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء يقتضي
الاشتغال (1) لما عرفت ما فيه (2) بل لأن التقييد هاهنا عقلي بعد تمامية الملاك
والحجة من قبل المولى، فإن في مثله لا يجوز للعبد التقاعد عن تكليف مولاه
بمجرد الشك في التقييد، نظير الشك في القدرة على امتثال أمره، فإن العقل
يحكم بالاشتغال، وعدم جواز التقاعد عن الامتثال بمجرد الشك، كل ذلك
لأن التكليف من قبل المولى مطلق والملاك تام، ومع الشك في العذر لابد من
قيامه بوظائف العبودية، وليس الشك عذرا له.
وبالجملة: فرق بين التقييدات الشرعية والعقلية التي ترجع إلى العجز
عن إتيان تكليفه بعد تمامية ملاكه، فمع الشك في الإطلاق والتقييد
الشرعيين الأصل البراءة، وأما مع الشك في التقييد العقلي فالأصل
الاشتغال (3).
وأما القسم الثالث من أقسام الواجب التخييري، وهو ما إذا كان التخيير

(1) فوائد الأصول 3: 433.
(2) انظر صفحة: 156 - 157.
(3) هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير الاشتغال.
لكن التحقيق هو البراءة، وفرق بين المقام وباب الشك في القدرة، لأن حجة المولى في
المقام لا تتم إلا بالنسبة إلى طبيعة إنقاذ الغريق، ولا يمكن أن يصير مثل هذا الدليل حجة
على أمر زائد عن متعلقه، فالشك يرجع إلى تكليف زائد متوجه إلى إنقاذ محتمل
[الأهمية] والأصل فيه البراءة [منه قدس سره]
164

لأجل تعارض الحجتين فإن قلنا بالسببية في الأمارات، وسلكنا مسلك
المنتسب إلى الأشعري (1) - من أن قيام الأمارات سبب لحدوث مصلحة في
المؤدى تستتبع الحكم على طبقها، بحيث لا يكون وراء المؤدى حكم في حق
من قامت لديه الأمارة، وتكون الأحكام الواقعية مختصة بالعالم بها -
فالأصل يقتضي البراءة عن التعيين لدى الشك، لأن الشك في كون إحدى
الأمارتين ذا المزية شك في حدوث التكليف على طبقها.
وكذا الكلام فيما إذا سلكنا مسلك المنتسب إلى المعتزلي (2) وهو سببية
قيام الأمارة لحدوث مصلحة في المؤدى تكون أقوى من مصلحة الواقع،
ويكون الحكم الفعلي تابعا للمؤدى، فإن فيه أيضا - مع احتمال المزية في
إحدى الأمارتين - يكون الشك في حدوث التكليف تابعا لذي المزية،
والأصل فيه البراءة.
نعم، بناء على ما [إذا] سلكنا مسلك من قال: إن قيام الأمارة سبب
لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ماهما عليه،
بل المصلحة إنما تكون في تطرق الطريق وسلوك الأمارة (3) فللقول
بأن الأصل يقتضي الاشتغال - عند الشك في التعيين والتخيير - وجه،
لصيرورة باب التعارض - بناء عليه - كباب التزاحم، فإن قلنا به هناك نقله

(1) انظر المستصفى 2: 363، فواتح الرحموت - المطبوع في حاشية المستصفى - 2: 380.
(2) بدائع الأفكار 1: 297.
(3) فرائد الأصول: 26 - 27.
165

ها هنا، لأن مناط باب التزاحم أن يكون كل من المتزاحمين واجدا للملاك،
والمتعارضان - بناء على السببية في خصوص المسلك الثالث - يكونان
كذلك، لأن في سلوك كل من الأمارتين ملاكا تاما، فيصيران من صغريات
باب التزاحم.
وأما بناء على المسلكين الآخرين فلا يصير من قبيل باب التزاحم، لأن
المؤدى الواحد إذا قامت الأمارتان عليه يحكم إحداهما بوجوبه والاخرى
بحرمته مثلا، فحدث بمقتضاهما مصلحة ومفسدة فيه، يقع بينهما الكسر
والانكسار، فيصير الحكم تابعا للغالب منهما إن زاد ملاك أحدهما، وإلا
فتصير النتيجة التخيير بينهما.
فلو قامت أمارة على وجوب صلاة الجمعة، واخرى على حرمتها،
فحدثت بمقتضى كل منهما مصلحة ومفسدة فيها، فإن كان إحدى
الأمارتين ذات مزية مرجحة تكشف عن غلبة الملاك في ذيها، فيصير الحكم
تابعا لذيها، وإن تساويتا بحسب المزية يكشف عن تساوي الملاكين، فيحكم
بالتخيير، وإن احتمل في إحداهما مزية يحكم بالبراءة، للشك في حدوث
الحكم الشرعي التابع للملاك، وهذا بخلاف المسلك الثالث، فإن متابعة كل
من الأمارتين غير متابعة الأخرى، والفرض أن في تطرق الطريق مصلحة
وملاك يوجب الحكم، فيصير من صغريات باب التزاحم.
ويمكن أن يقال بالبراءة في المقام دون باب التزاحم، لأن السر في
الاشتغال هناك أن للمولى حكما مطلقا ذا ملاك متعلقا بكل واحد من
166

الموضوعين، وعند التزاحم بينهما يقيد العقل إطلاقه لعجزه عن الجمع بينهما،
وفي التقييدات العقلية الراجعة إلى مقام الامتثال يكون الأصل الاشتغال،
والمولى لم يلاحظ ظرف المزاحمات، ولم يقيد حكمه بلحاظ باب التزاحم،
ولم يتكفل ترجيح أحد المتزاحمين، بخلاف ما نحن فيه، فإن حكم المولى
- بناء على السببية - يحدث بتبع قيام الأمارة وترجيح سلوكها على مصلحة
الواقع، وقد لاحظ المولى مقام تزاحم الأمارتين وترجيح إحداهما على
الأخرى، وجعل الحكم تابعا لذي المزية.
وبالجملة: يحدث الحكم عند حدوث المصلحة الراجحة بتبع قيام الأمارة
التي هي ذو المزية، فيرجع الشك فوط التعيين والتخيير إلى الشك في حدوث
التكليف، والأصل فيه البراءة. تأمل.
وقد اتضح بما ذكرنا من التفصيل على السببية ما في تقريرات بحث
بعض الأعاظم - رحمه الله -: من أن الكلام على السببية مطلقا كالكلام في
الغريقين عند احتمال أحقية أحدهما المعين، ويكون الباب من صغريات باب
التزاحم (1) هذا كله على السببية.
وأما على الطريقية والكاشفية: فبعد تعارض الأمارتين وتساقطهما عقلا،
والرجوع إلى الأدلة الشرعية في الأخذ بالمرجحات، يكون الأصل لدى
الشك في التعيين والتخيير الناشئ عن الشك في المزية الاشتغال، لرجوعه
إلى الشك في حجية الأمارة التي ليس فيها احتمال المزية، والأصل عدم

(1) فوائد الأصول 3: 434.
167

الحجية عند الشك فيها.
المسألة الثانية
في دوران الأمر بين الواجب العيني والكفائي:
هل الأصل يقتضي العينية فلا يسقط الواجب بفعل الغير، أو الكفائية
فيسقط بفعله؟ وليس المقصود إثبات عنوان العينية أو الكفائية، بل المقصود أن
الأصل يقتضي الاحتياط، فيجب إتيانه ولو أتى به الغير، أو البراءة إذا أتى به
غيره.
في تصويرات الواجب الكفائي
وتحقيق المقام يبتني على تصوير الواجب الكفائي، وتحقيق حقيقته،
وما قيل في تصويره وجوه:
الأول: أن يكون التكليف متعلقا بجميع المكلفين مشروطا بعدم سبق الغير
بالفعل، فينحل الخطاب إلى خطابات عديدة - حسب تعدد المكلفين -
مشروطة بعدم سبق الغير بالفعل.
الثاني: أن يتعلق خطاب واحد إلى النوع، ولمكان انطباق النوع على
الآحاد يكون كل فرد منهم مكلفا، فإذا أتى [به] واحد منهم يسقط عن
الآخرين، لأن الخطاب الواحد لا يقتضي إلا امتثالا واحدا (1).

(1) فوائد الأصول 3: 437.
168

الثالث: أن يكون التكليف متوجها إلى آحاد المكلفين على نحو الواجب
العيني، لكن المكلف به يكون صرف الوجود، فإذا أتى به واحد منهم يحصل
المتعلق والغرض، ويسقط التكليف (1).
وبناء عليه يفترق الكفائي عن العيني بمتعلق التكليف بعد اشتراكهما في
تعلقه بجميع المكلفين عينا، فإن متعلق التكليف في الواجب العيني هو نفس
الطبيعة القابلة للكثرة، أو الطبيعة المتقيدة بصدورها من كل مكلف، فتتكثر
بتكثر المكلفين، ولا يسقط بفعل بعضهم عن بعض، لأن الطبيعة المتقيدة
بصدورها عن كل مكلف تغاير الطبيعة المتقيدة بصدورها عن غيره، لكن
لابد من فرضها بنحو لا يلزم المحذور العقلي.
وأما المتعلق في الواجب الكفائي فهو صرف الوجود الغير القابل للتكرار،
ومتوجه إلى جميع المكلفين، فيجب على جميعهم إتيانه، فإذا سبق أحدهم
بالإتيان أتى بتمام المتعلق وسقط الغرض والتكليف، وإن ترك الكل يكون
جميعهم عصاة، لعصيان التكليف المتوجه إليهم، وإن أتى الجميع معا يكون
كلهم مطيعين، لإتيان الكل ما هو متعلق التكليف.
الرابع: أن يكون المتعلق في الواجب الكفائي هو واحد من المكلفين - أي
هذا العنوان القابل للانطباق على كل واحد منهم - لكن بإتيان واحد منهم
يسقط التكليف، وهذا على نحوين: تارة يكون بشرط لا، واخرى لا بشرط.
الخامس: أن يكون التكليف في الكفائي على نحو الواجب التخييري،

(1) انظر القوانين 1: 120 - 121، الكفاية 1: 228 - 229.
169

لكن التخيير يكون بين المكلفين، لا المكلف به (1).
السادس: أن يكون التكليف على آحاد المكلفين، لكن إتيان بعضهم
موجبا لسقوط التكليف، إما بملاك الاستيفاء لتمام الملاك، أو غير ذلك.
اختلاف الأصل باختلاف الوجوه في الكفائي
إذا عرفت ذلك فالأصل بحسب هذه الوجوه مختلف في البراءة
والاشتغال:
أما على الوجه الأول: فلا إشكال في البراءة، لأن الأمر دائر بين الواجب
المطلق والمشروط مع عدم تحقق شرطه بعد إتيان بعض المكلفين، فإن الشرط
فيه لابد وأن يكون عدم سبق الغير إلى زمان يفوت التكليف إن تأخر منه،
لاعدم سبقه في الجملة، لأن لازمه أن يصير التكليف مطلقا بالنسبة إلى كل
المكلفين مع عدم السبق في الجملة، ولا يسقط بفعل بعضهم، وهو كما ترى،
فإن الواجب الكفائي كفائي إلى الآخر، فبناء على أن يكون الشرط عدم سبق
الغير إلى زمان يفوت لو تأخر عنه، فمع إتيان بعضهم لا يكون شرطه محققا،
فدار الأمر - في الشك بين الوجوب العيني والكفائي - بين الواجب المطلق
والواجب المشروط مع عدم تحقق شرطه، كما لو دار أمر الحج بين كونه
واجبا مطلقا أو مشروطا بالاستطاعة مع عدم تحققها، فإنه لا إشكال في
جريان البراءة فيه.

(1) انظر قوامع الفضول في الأصول: 177 - 178.
170

وأما الثالث: فقد يقال فيه بالبراءة، لأن الأمر دائر بين أن يكون التكليف
متعلقا بنفس الطبيعة، أو بالطبيعة المتقيدة بصدورها عن آحاد المكلفين،
فتعلقه بنفس الطبيعة متيقن، وقيد صدورها من الآحاد مشكوك فيه، ومدفوع
بالأصل، فإذا أتى واحد منهم بالطبيعة لا يكون للمولى حجة على إتيان
البقية، لأن ما قامت الحجة بها - وهي أصل الطبيعة - قد اتي بها، ولا حجة له
على صدورها من الجميع.
وبالجملة: يدور الأمر بين المطلق والمقيد، والأصل فيه البراءة.
وفيه: أن الأمر دائر بين صرف الوجود والطبيعة المتقيدة بصدورها من كل
مكلف - أي نفس الطبيعة القابلة للكثرة - فمع إتيان بعضهم يشك في سقوط
الأمر، فالأصل الاشتغال.
وعلى الوجه الثاني: فالظاهر أن الأصل فيه يقتضي الاحتياط، لأن التكليف
المتوجه إلى المكلف معلوم قبل إتيان الغير، لأنه إما مكلف بالتكليف العيني،
أو مكلف لانطباق النوع عليه، وبعد إتيان الغير يشك في سقوط التكليف.
وليس النوع مع الشخص من قبيل المطلق والمقيد حتى يقال: إن التكليف
المتوجه إلى النوع معلوم، والتكليف المتوجه إلى الشخص مشكوك فيه يدفع
بالأصل، لأن التكليف المتوجه إلى الشخص ليس متوجها إلى النوع
المتشخص وإن ينسب إليه بعد التوجه إلى الشخص.
هذا، ولكن الإشكال في أصل المبنى، وأن التكليف في الواجب الكفائي
متوجه إلى النوع، لأن هذا لا يرجع إلى محصل كما لا يخفى على المتأمل.
171

فظهر مما ذكرنا: أن الأصل في الشك بالعيني والكفائي هو البراءة على
بعض التصاوير والاشتغال على بعض، كالشك في الواجب التعيني
والتخييري، بل جريان الأصل هاهنا أظهر. فسقط بما ذكرنا جميع ما في
تقريرات بعض أعاظم العصر - رحمه الله - في المقام من المبنى والبناء (1).
في دوران الأمر بين المحذورين
قوله: فصل: إذا دار الأمر بين... إلخ (2).
ذهب بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه - إلى عدم جريان
شئ من الأصول العقلية والشرعية في موارد دوران الأمر بين المحذورين، ولما
كان في كلامه موارد من الخلط نذكر المهمات منها، ونشير إلى ما فيها.
في جريان الأصل العقلي
وحاصل ما أفاد في باب عدم جريان الأصل العقلي: أن التخيير العقلي
إنما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفاؤه، ولم يتمكن
المكلف من الجمع بين الطرفين، كالتخيير في باب التزاحم، وفي دوران الأمر
بين المحذورين ليس كذلك، لعدم ثبوت الملاك في كل من الطرفين، فالتخيير
العقلي فيه إنما هو من التخيير التكويني - حيث إن الشخص لا يخلو بحسب

(1) فوائد الأصول 3: 436.
(2) الكفاية 2: 203.
172

الخلقة من الأكوان الأربعة - لا التخيير الناشئ عن الملاك، فأصالة التخيير عند
الدوران بين المحذورين ساقطة (1).
وأما البراءة العقلية: فغير جارية، لعدم الموضوع لها، فإن مدركها قبح
العقاب بلا بيان، وفي دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب، لأن
وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير، فالقطع بالمؤمن
حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان (2).
وفيه ما لا يخفى، أما بالنسبة إلى أصالة التخيير: فلأن انحصارها
في المتزاحمين اللذين يكون في كل منهما ملاك يلزم استيفاؤه، مما لاوجه له،
فإن في موارد الاضطرار - إلى بعض الأطراف الغير المعين من العلم
الإجمالي - يحكم العقل بالتخيير في رفع الاضطرار بأيهما شاء،
ويحكم بالتخيير لترك أيهما شاء، مع أن الملاك لا يكون في كل من الطرفين،
ففي دوران الأمر بين المحذورين يحكم العقل بعدم ترجيح أحدهما المعين،
لقبح الترجيح بلا مرجح، ويحكم بتساوي الفعل والترك، وهذا هو حكمه
بالتخيير.
وبالجملة: إذا كان طرفا الفعل والترك في نظر العقل متساويين يحكم
بالتخيير بينهما، ومجرد كون الإنسان لا يخلو من طرفي النقيض لا يوجب
عدم حكم للعقل في موردهما.

(1) فوائد الأصول 3: 444.
(2) فوائد الأصول 3: 448.
173

وبالجملة: إن العقل إما يرى ترجيحا ملزما في أحد الطرفين فيحكم
بالتعيين، وإلا فيحكم بالتخيير، ولا يبقى مرددا لا يحكم بشئ.
ولا يخفى أن عدم خلو الإنسان من الأكوان الأربعة أجنبي عن المقام.
نعم الإنسان كما لا يخلو عن الأكوان الأربعة لا يخلو عن أحد طرفي النقيض
أيضا.
وأما ما أفاد في وجه عدم جريان البراءة العقلية فلا يخلو من غرابة، فإن
كون العلم الإجمالي كعدمه لا يوجب القطع بالمؤمن، ولولا قبح العقاب
بلا بيان فأي مانع للمولى من العقاب على التكليف الواقعي وجوبا كان أو
حرمة؟! وإنما المؤمن بالنسبة إلى نوع التكليف هو قبح العقاب بلا بيان، وأما
أصل التكليف المردد بين الوجوب والحرمة، فلما كان معلوما لا يكون موردا
للقاعدة، ولا يجوز العقاب لا للقاعدة، بل لعدم قدرة المكلف على الموافقة
القطعية، فعدم العقاب بالنسبة إلى نوع التكليف لقاعدة قبح العقاب بلا بيان،
وبالنسبة إلى الموافقة القطعية للتكليف بينهما لعدم قدرة العبد عليها. هذا كله
بالنسبة إلى الأصل العقلي (1).

(1) وأما ما أفاده بعض المحققين في وجه عدم جريان الأصول عقلية وشرعية: من أن
الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان إنما هو في طرف سقوط العلم الإجمالي عن
التأثير، والمسقط له - حيثما كان - هو حكم العقل بمناط الاضطرار، فلا يبقى مجال
لجريان البراءة العقلية والشرعية، نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة
عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك (أ).
ففيه: أن حكم العقل بالتخيير في الرتبة المتأخرة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان في طرفي
174

في جريان الأصل الشرعي
وأما الأصول الشرعية فحاصل ما أفاد في عدم جريان أصالة الإباحة
أمور:
الأول: عدم شمول دليلها للمقام، فإنه يختص بما إذا كان طرف الحرمة
الحل والإباحة، لا الوجوب، كدوران الأمر بين المحذورين، كما هو ظاهر قوله:
(كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال) (1).
الثاني: ما مر (2) من أن دليل أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية،
ولا يعم الشبهات الحكمية.
الثالث: أن جعل الإباحة الظاهرية لا يمكن مع العلم لجنس الإلزام، فإن
أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمالي، لأن مفادها الرخصة
في الفعل والترك، وذلك يناقض العلم بالإلزام وإن لم يكن لهذا العلم أثر
الفعل والترك، وإلا فلو فرض عدم قبحه بالنسبة إلى خصوص أحد الطرفين لم يحكم
بالتخيير بالضرورة، فالاضطرار لا يكون إلا لواحد منهما، وأما بخصوص كل منهما فلا
يكون مضطرا، فلو فرض كونه واجبا بحسب الواقع، وترك المكلف مع قدرته على فعله
بالضرورة، لم يكن عدم العقاب للاضطرار وعدم القدرة، بل لقبح العقاب بلا بيان، وكذا
في الترك بالخصوص. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 93 2 سطر 22 - السطر الأخير.

(1) الكافي 5: 313 / 39 باب النوادر من كتاب المعيشة، الفقيه 3: 216 / 92 باب 96
في الصيد والذبائح، الوسائل 12: 59 / 1 باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
(2) فوائد الأصول 3: 363 - 364.
175

عملي، إلا أن العلم بثبوت الإلزام لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا، فإن
الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي.
وبين أصالة الإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب فرق واضح، فإن جريان
أصالة الإباحة في كل من الفعل والترك يغني عن الجريان في الآخر، لأن
معنى إباحة الفعل هو الرخصة في الترك، وبالعكس، ولذلك يناقض مفادها
- مطابقة - لجنس الإلزام، دون الاستصحاب وأصالة البراءة، فإن جريانهما في
كل من الطرفين لا يغني عن الآخر، لأن استصحاب عدم الوجوب غير
استصحاب عدم الحرمة، وكذلك في البراءة (1) انتهى.
أقول: أما ما مر منه من اختصاص دليل أصالة الحل بالشبهات الموضوعية
فقد مر الكلام فيه (2) فلا نعيده، وإن كان الاختصاص في بعضها لا يبعد.
وأما ما أفاده أخيرا ففيه:
أولا: أنه مناف لما أفاده أولا من اختصاص دليل أصالة الإباحة بما إذا كان
طرف الحرمة الحلية لا الوجوب، لأن جعل الرخصة في الفعل والترك إنما
يكون فيما إذا كانت الشبهة في الوجوب والحرمة جميعا، وأما مع مفروضية
عدم الوجوب، وكون الشك في الحرمة والحلية، فلا معنى للرخصة في الترك،
فإن الرخصة الظاهرية تكون لغوا مع العلم بالرخصة الواقعية، فمفاد دليله
الأول أن طرف الحرمة يكون الحلية لا الوجوب، ولازم دليله الثالث - من جعل

(1) فوائد الأصول 3: 445.
(2) في صفحة: 72 من هذا المجلد.
176

الرخصة في الفعل والترك - أن طرف الشبهة يكون الوجوب أيضا، وهما
متنافيان (1).
وثانيا: أن ما أفاد - من أن مفاد دليل الحل والإباحة متناف بمدلوله المطابقي
مع العلم بالإلزام - لا وجه له، فإن دليل الحل لو كان مثل: (كل شئ لك حلال
حتى تعرف الحرام) (2) لم يكن مفاده الرخصة في الفعل والترك، ضرورة أن
الحلية إنما هي في مقابل الحرمة، لا الوجوب، فدليل أصالة الحل يختص
بالشبهات التحريمية، وليس في الأدلة ما يظهر منه الرخصة في الفعل والترك إلا
قوله: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر) - على رواية الشيخ (3) على ما
حكي (4) - مع إشكال فيه (5).
وثالثا: أن مناقضة الترخيص الظاهري مع الإلزام الواقعي ليس إلا
كمناقضة الأحكام الواقعية والظاهرية، والجمع بينهما هو الجمع بينهما، فإن

(1) بل على ما ذكره يختص دليل أصالة الإباحة بمورد الدوران بين المحذورين، لبطلان
جعل الترخيص في طرف الفعل في مورد الشبهة الوجوبية، وفي طرف الترك في مورد
الشبهة التحريمية. [منه قدس سره]
(2) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من
أبواب ما يكتسب به، باختلاف يسير.
(3) أمالي الشيخ الطوسي 2: 281، مستدرك الوسائل 3: 19 / 6 باب 12 من أبواب
صفات القاضي، باختلاف يسير.
(4) انظر القوانين 2: 17 سطر 9، فرائد الأصول: 236 سطر 12.
(5) فلا دليل على أصالة الإباحة بالمعنى الذي ذكره، بل مفاد الأدلة أصالة الحل، وهي
مختصة بالشبهات التحريمية. [منه قدس سره]
177

المناقضة - لو كانت - إنما هي بين نفس الأحكام بحسب مقام الثبوت، لابين
العلم بالإلزام والرخصة، فإذا لم يكن بين الحكمين مناقضة لا مانع من العلم
بالحكم الواقعي والعلم بالحكم الظاهري من ناحية المناقضة.
نعم يمكن أن يقال: إن جعل الرخصة إنما هو مع الجهل بالإلزام، ومع العلم
به تكون غايتها حاصلة. ولعل هذا مراده من عدم انحفاظ رتبة أصالة
الإباحة (1) وقد خلط الفاضل المقرر رحمه الله.
هذا، ولكن الشأن في كون أصالة الإباحة بالمعنى الذي ذكره يدل عليه
دليل، مضافا إلى منع كون أصالة الإباحة والحلية غير أصالة البراءة الشرعية،
ولا يبعد أن يكون مفاد: (كل شئ لك حلال) بعض مفاد حديث الرفع (2).
تأمل.
وأما ما أفاده في وجه عدم جريان أصالة البراءة: وهو أن مدركها قوله:
(رفع ما لا يعلمون) والرفع فرع إمكان الوضع، وفي مورد دوران الأمر بين
المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما، لاعلى سبيل التعيين،
ولاعلى سبيل التخيير، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع، فأدلة
البراءة الشرعية لا تعم المقام أيضا (3).
ففيه: أن مورد دوران الأمر بين المحذورين يكون مصداقين لحديث الرفع:

(1) فوائد الأصول 3: 446.
(2) توحيد الصدوق: 353 / 24 باب 56 في الاستطاعة، الخصال: 417 / 9 باب التسعة،
الاختصاص: 31.
(3) فوائد الأصول 3: 48 4.
178

فمن حيث إن الوجوب غير معلوم يكون الوجوب مرفوعا، ومن حيث
إن الحرمة غير معلومة تكون الحرمة مرفوعة، ولا يكون المجموع من حيث
المجموع مفاد دليل الرفع، ولا إشكال في إمكان وضع كل واحد من الوجوب
والحرمة في مورد الدوران، فما لا يمكن وضعه هو المجموع، وهو لا يكون
مفاد الرفع، وما يكون مفاده - وهو كل واحد منهما - يمكن وضعه،
فيمكن رفعه.
والتحقيق: أنه لا مانع من شمول حديث الرفع للمقام، لأن المخالفة العملية
والالتزامية غير لازمتين. وأما المنافاة بين الإلزام والرفع فلا مانع منه، لأن نفس
الإلزام - أي الجامع بين الوجوب والحرمة - فهو ليس بمجعول شرعي، بل هو
أمر انتزاعي، وما هو المجعول نفس الوجوب والحرمة، أي نوع التكليف،
فمفهوم الإلزام أو جنس التكليف كمفهوم أحدهما أو واحد منهما مما لم
يتعلق الجعل به، ونوع التكليف الذي هو مجعول غير مانع من جريان
الحديث، لأنه مشكوك فيه.
وأما ما أفاده من عدم جريان الاستصحاب، فحاصله: أن الاستصحاب
من الأصول التنزيلية، وهي لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا، فإن
البناء على مؤدى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية، فإن البناء على عدم
الوجوب والحرمة واقعا لا يجتمع مع التدين بأن لله - تعالى - في هذه الواقعة
حكما إلزاميا (1).

(1) فوائد الأصول 3: 449.
179

ففيه: منع كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية بالمعنى الذي يدعي (1)
فإنه ليس في أدلته ما يستشم منها ذلك إلا ما في ذيل صحيحة زرارة الثالثة،
حيث قال: (ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين، فيبني عليه) (2) وأنت
خبير بأن البناء على اليقين هو البناء على تحقق اليقين وبقائه عملا، وأما البناء
القلبي على كون الواقع متحققا فلا.
كما أن الكبرى المجعولة في أدلة الاستصحاب وهي: (لا ينقض اليقين
بالشك) لا ينبغي أن يتوهم منها أن عدم نقض اليقين بالشك يدل على البناء
والالتزام على كون الواقع متحققا، بل الأصل التنزيلي بالمعنى المدعي مما
لاعين له ولا أثر في الشرعيات، فراجع أدلة التجاوز والفراغ، وسائر أدلة
القواعد والأصول، حتى تعرف صدق ما ادعيناه. نعم قد يمكن أن يدعي من
أدلة الشكوك في باب الصلاة ذلك، ولكن فيه ما فيه أيضا.
تنبيه
فيما لو كان لأحد الحكمين مزية
إذا كان لأحد الحكمين مزية على الآخر - إما من حيث الاحتمال أو
المحتمل - فلا إشكال في جريان البراءة عن التعيينية، ولو قلنا بأصالة التعيين عند

(1) فوائد الأصول 4: 486.
(2) الكافي 3: 351 - 352 / 3 باب السهو في الثلاث والأربع، الوسائل 5: 321 / 3 باب
10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
180

الشك في التخيير والتعيين، لأن أصل التكليف مشكوك فيه، فضلا عن
خصوصياته.
نعم، لو كان أقوائية المحتمل بحيث يكون لازم الاحتياط عقلا أو شرعا
حتى في الشبهة البدوية وجب الاحتياط فيه، كما لو دار الأمر بين كون المرأة
زوجته التي حلف [على] وطئها أو امه، أو دار الأمر بين كون شخص نبيا أو
شخصا لازم القتل. فما أفاد بعض الأعاظم رحمه الله - من أن وجود المزية
كعدمها، حتى لو كان المحتمل من أقوى الواجبات الشرعية وأهمها (1) -
ليس بإطلاقه صحيحا.
هل التخيير في المقام بدوي أو استمراري
تتميم: إذا تعددت الواقعة في دوران الأمر بين المحذورين، فهل التخيير
يكون بدويا أو استمراريا؟
الأقوى هو الثاني، لأن في الواقعة الثانية إذا أتى بخلاف الواقعة الأولى
يعلم بمخالفة قطعية وموافقة قطعية، وليس في نظر العقل ترجيح بينهما،
فصرف لزوم المخالفة القطعية لا يمنع عن التخيير بعد حكم العقل بعدم الفرق
بين تحصيل تكليف قطعا وترك تكليف قطعا. فلو علم بوجوب صلاة الجمعة
أو حرمتها في كل جمعة، وأتى بالجمعة في جمعة، وتركها في جمعة أخرى،
يعلم بموافقة التكليف الواقعي في يوم ومخالفته في يوم آخر، وليس في نظر

(1) فوائد الأصول 3: 450 - 451.
181

العقل فرق بينهما، فيحكم بالتخيير الاستمراري.
وأما ما في تقريرات بعض أعاظم العصر - رحمه الله - ففيه نظر ظاهر،
قال ما محصله: إن المخالفة القطعية لم تكن محرمة شرعا، بل هي قبيحة
عقلا، وقبحها فرع تنجز التكليف، فإن مخالفة التكليف الغير المنجز لاقبح
فيها، كما لو اضطر إلى أحد أطراف المعلوم بالإجمال فصادف الواقع، فإنه
مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا، وليس ذلك إلا لعدم تنجز
التكليف، وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجزا في كل واقعة، لأن في كل
منها يكون الأمر دائرا بين المحذورين، وكون الواقعة مما تتكرر لا يوجب تبدل
المعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذورين (1) انتهى
موضع الحاجة.
وفيه: أن عدم تنجز التكليف في المقام ليس لقصور فيه، ضرورة كونه تاما
من جميع الجهات، وإنما لم يتنجز لعدم قدرة المكلف على الموافقة القطعية
ولا المخالفة القطعية، بحيث لو فرضنا - محالا - إمكان الموافقة القطعية حكم
العقل بلزومها، ولو فرض عدم إمكان الموافقة القطعية، لكن أمكن المخالفة
القطعية، حكم بحرمتها، لتمامية التكليف.
وبالجملة: فيما نحن فيه يكون التنجيز فرع إمكان المخالفة، لا حرمة المخالفة
فرع التنجيز، فإذا أمكن المخالفة يصير التكليف منجزا، لرفع المانع، وهو امتناع
المخالفة القطعية.

(1) فوائد الأصول 3: 453 - 454.
182

والشاهد عليه: أنه لو فرضنا قدرة المكلف على رفع النقيضين في الواقعة
الواحدة حكم العقل بحرمته، وليس ذلك إلا لعدم القصور في ناحية
التكليف، وإنما القصور في قدرة العبد، وفي الوقائع المتعددة يكون العبد
قادرا على المخالفة، فيتنجز التكليف.
في دوران الأمر بين المتباينين
قوله: في دوران الأمر بين المتباينين... إلخ (1).
قد مضى شطر من الكلام في هذا المضمار (2) فلنتعرض له بنحو
الاختصار، فنقول: قد أصر المحقق الخراساني - رحمه الله - في جملة من
تحريراته (3) على أن للأحكام مراتب أربعة، وقد مضى أن ما هو متصور من
المراتب ليس إلا مرتبتين (4):
المرتبة الأولى: مرتبة الإنشاء ووضع الأحكام القانونية، كالأحكام الصادرة
قبل عروض التقييدات والتخصيصات، وكالأحكام التي أوحى الله - تعالى -
إلى نبيه - صلى الله عليه وآله - وأمره بعدم تبليغها في صدر الإسلام، وجعلها
مخزونة محفوظة عند أئمة الهدى - عليهم السلام - والآن مخزونة عند ولي
الأمر - صلوات الله عليه - ولا تقتضي المصلحة إبرازها وإجراءها إلى زمن

(1) الكفاية 2: 208.
(2) في الجزء الأول صفحة: 159 وما بعدها.
(3) حاشية كتاب فرائد الأصول: 36 سطر 4 - 7، والفوائد: 314 سطر 9 - 13.
(4) انظر الجزء الأول صفحة: 39.
183

ظهوره - عجل الله تعالى فرجه - ولما كان الوحي منقطعا بعد النبي
- صلى الله عليه وآله - فلا محيص عن إيحاء الأحكام التي تكون المصلحة في
إجرائها في آخر الزمان، وهذه الأحكام هي أحكام إنشائية، لا تكون المصلحة
في إجرائها إلى أمد معين، كما أن موارد التخصيصات والتقييدات من
الأحكام الإنشائية التي لا تكون المصلحة في إجرائها.
والمرتبة الثانية: مرتبة إجرائها وإنفاذها بين الناس، وهي المرتبة الفعلية،
وليس سوى هاتين المرتبتين مرتبة أخرى، فعد مرتبة الاقتضاء والتنجز من
المراتب مما لاوجه له، كما أشرنا إليه سابقا (1).
نعم بعد فعلية الحكم، وعدم الفرق من هذه الحيثية بين العالم والجاهل
والقادر والعاجز، لا يكون منجزا بالنسبة إلى الجاهل والعاجز، بمعنى عدم
جواز مؤاخذة المولى للعبد ب‍ " لم تركت، أو فعلت " فعلم العبد بالحكم الفعلي
موجب لحكم العقل بقبح المخالفة، وجواز المؤاخذة.
وأما في ناحية الحكم فلا يفرق بين حال العلم والجهل، فلا يكون حكم
المولى بالنسبة إلى العالم غيره بالنسبة إلى الجاهل، وكذا بالنسبة إلى القادر
والعاجز، ولا تتغير إرادته في جميع الحالات، فحكم المولى بحرمة الخمر حكم
فعلي للموضوعات المقدرة متوجها إلى كل مكلف علم أولم يعلم، فالمولى
أنشأ هذا الحكم ليعلم المكلف وليطيع، وليس في ناحية حكمه تقييد بحال
العلم والجهل، ولهذا أمر الأنبياء والعلماء بتبليغه إلى الناس، بل أوجب على

(1) في الجزء الأول صفحة: 39.
184

كل مكلف تبليغ أحكامه.
وإنما الاختلاف بين حال العلم والجهل عن عذر في تمامية الحجة
وعدمها، وقبح المخالفة وعدمه، وصحة العقوبة وعدمها، وهذه الأمور متأخرة
عن الحكم، ولا ينبغي جعلها من مراتبه، كما أن الاقتضاء والمصلحة من
مبادئ جعله، لا مراتبه.
في حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي
إذا عرفت ما تلوناه عليك فالكلام في العلم الإجمالي يقع في مقامين:
أحدهما: في حرمة المخالفة القطعية، وثانيهما: في وجوب الموافقة القطعية.
أما المقام الأول (1): فلا إشكال في قبحها عقلا إذا كان الحكم فعليا، وهذا
مما لا يحتاج إلى تجشم استدلال، سوى مراجعة الوجدان والعقل الحاكم في
مثل المقام.
ولا يخفى أنه ليس للمولى الإذن في جميع الأطراف، فإن الإذن في
المعصية مما يشهد العقل بقبحه، ونقض الغرض ممتنع على كل ذي شعور،
فضلا عن الحكيم.
فإن قلت: احتمال وقوع الشئ عقلا مساوق لعدم الامتناع، فإن الممتنع
(1) ذكرنا تفصيل المطلب في ورقة على حدة، ورجعنا عما في الكتاب إلى ما هو التحقيق.
[منه قدس سره]
ومع الأسف فإنا لم نعثر عليها ضمن مصورة المخطوطة التي لدينا.
185

مما يحكم العقل بعدم وقوعه جزما، فإذا احتمل وقوع شئ عقلا فهو يدل
على عدم البرهان على امتناعه، فاحتمال الإذن في المخالفة ونقض الغرض
في مورد يدل على عدم حكم العقل بامتناعهما، فحينئذ ما تقول في الإذن
في ارتكاب الشبهة البدوية، بل في ارتكاب أطراف المعلوم بالإجمال في
الشبهة الغير المحصورة؟ وهل هذا إلا احتمال نقض الغرض؟! وهو في
الامتناع واللا امتناع مساوق للعلم به.
قلت: لا محيص لنا إلا تشريح موارد النقض وغيرها، حتى يتضح الأمر،
ويدفع الإشكال، فنقول: أما النقض بالشبهة الغير المحصورة فغير وارد، لأن
الإذن في ارتكاب جميع الأطراف ممتنع جدا كالإذن في المحصورة، كما أن
ارتكاب بعضها - بقصد ضم البقية وارتكاب تمام الأطراف - قبيح غير ممكن
الإذن.
وأما ارتكاب بعض الأطراف فهو جائز، لالما ذهب إليه المحقق الخراساني
- رحمه الله - من النقص في المعلوم (1) ضرورة عدم حصول النقصان فيه
بمجرد عدم الحصر، بل التكليف بقى على فعليته كالمحصورة، بل لما أشرنا إليه
سابقا (2) من أن الأطراف إذا كثرت جدا - بحيث عدت غير محصورة
عرفا - يصير احتمال الإصابة في بعض الأطراف موهوما بحيث لا يعتني به
العقلاء، فكأن الطريق العقلائي قائم على عدم المعلوم في هذا المورد المنفرد

(1) الكفاية 2: 214 - 215.
(2) الجزء الأول صفحة: 161.
186

في مقابل الموارد الغير المحصورة.
فإن قلت: كيف يجتمع الاطمئنان بعدم المعلوم في كل مورد مورد مع
العلم الإجمالي بوجوده في الأطراف، فإن الاطمئنان بالسالبة الكلية لا يعقل
مع العلم بالموجبة الجزئية؟
قلت: هذه مغالطة نشأت من الخلط بين بعض الأطراف بشرط لا عن
البقية، وبينه مع الاجتماع معها، فإن ما ذكرنا من الاطمئنان بعدم المعلوم في
بعض الأطراف، فيما إذا كان بعض الأطراف مقيسا إلى البقية الغير
المحصورة، وفي مقابلها، فكل واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل البقية
يكون موردا للاطمئنان بعدم كونه هو الواقع، ضرورة أنه احتمال واحد في
مقابل احتمالات غير محصورة، وما لا يجتمع مع العلم هو الاطمئنان بعدم
كون الواقع في جميع الأطراف.
وإن شئت قلت: إن الاطمئنان متعلق بكل واحد في مقابل البقية، أي
سلب كل واحد في مقابل الإيجاب بالنسبة إلى البقية، وهو لا ينافي
الإيجاب الجزئي، والمنافي هو السلب الكلي في مقابل الإيجاب الجزئي.
فتحصل مما ذكرنا: أن فعلية الحكم في الأطراف الغير المحصورة لا ينافي
تجويز ارتكاب بعض الأطراف، لقيام الطريق العقلائي على عدم كون المعلوم
ذلك.
وأما الشبهة البدوية فالترخيص فيها - أيضا - لا ينافي فعلية الحكم.
توضيحه: - بعد ما عرفت معنى الفعلية، وأن المراد منها هو الحكم الذي
187

يكون على طبقه إرادة جدية، ويكون الحاكم بصدد إجرائه، لتمامية
الاقتضاء، وعدم موانع الإجراء - أنه قد عرفت أن الأحكام لم تكن مشروطة
أو مقيدة بحال العلم، وتكون التكاليف فعلية علم المكلف أولا، لكن مع ذلك
ليست التكاليف بوجودها الواقعي قابلة للباعثية، والمولى إنما أنشأ التكاليف
ليعلم المكلف فيعمل بها، ولهذا أوجب على العالم إرشاد الجاهل وعلى
الجاهل التعلم، لئلا تصير أحكامه معطلة.
لكن مع كمال اهتمامه بتبليغ الأحكام ورفع الجهالة عن الأنام، كثيرا
ما يتفق عدم وصول بعض الأحكام إلى العباد لعلل كثيرة، ولا يمكن أن تكون
التكاليف بوجودها الواقعي باعثة للمكلف وداعية إلى الاحتياط، فحينئذ إن
لم يمنع مانع يلزم عليه إيجاب الاحتياط في مطلق الشبهات، للوصول إلى
التكاليف الواقعية الفعلية، وإن كان في إيجابه مفسدة - كاختلال النظام، أو
الحرج والعسر - أو في تركه مصلحة غالبة، فلا يوجبه.
ولما كان المورد من الموارد التي يحكم العقل بالبراءة لو خلي ونفسه،
ويكون وجود التكليف الواقعي كعدمه بلا أثر على أي حال، لا يرى العقل
ترخيص المولى في مثله قبيحا، ولا منافيا لفعلية التكليف، فالتكليف مع كونه
فعليا لما كان غير مؤثر في نفس العبد، ولا داعيا إياه نحو العمل، ويحكم
العقل في مورده بالبراءة، لا يمنع عن الترخيص والتوسعة إذا كان في إيجاب
الاحتياط مفسدة.
وبالجملة: لا يوجب الترخيص إلقاء المكلف في المفسدة، لأنه لا يزيد على
188

حكم العقل، ولولا مفسدة الاحتياط كان سكوت المولى في موارد الشبهة
- إذا رأى إصابة الواقع ولو قليلا - قبيحا، ومعها كما لا يقبح السكوت لا يقبح
الترخيص.
ومفسدة الاحتياط لاتزاحم فعلية التكليف، لأن المزاحمة في رتبة المصالح
والمفاسد مع وحدة الموضوع توجب قصور التكليف عن الفعلية، كما لو
فرضنا في مورد الشبهة يكون عروضها موجبا لحصول مصلحة غالبة على
مصلحة الواقع في موضوعها، فإنه مع مزاحمة المصلحة والمفسدة في موضوع
واحد يقع الكسر والانكسار بينهما، ويصير الحكم الفعلي تابعا للغالب
منهما، فلا محالة يصير الحكم الواقعي مخصصا بغير مورد الشبهة في صورة
الإمكان.
وأما مع تعدد الموضوع، كما لو قامت المصلحة في موضوع وقامت
المفسدة في غيره، لكن وقعت المزاحمة في مقام العمل - كما فيما نحن فيه،
حيث قامت المصلحة أو المفسدة بالموضوع الواقعي، وقامت المفسدة في
الجمع بين المشتبهات، أي الاحتياط بإتيان كل محتمل الوجوب وترك كل
محتمل الحرمة - فلا معنى لصيرورة التكليف ناقصا عن الفعلية.
ومن هذا الباب مزاحمة المهم والأهم، فإن التكليف في المهم لا ينقص من
الفعلية بواسطة أهمية تكليف آخر مزاحم معه في مقام العمل، ولا يكون
التكليف في المهم مشروطا أو مقيدا من قبل المولى بشئ أصلا، بل العقل
يحكم بلزوم ترك المهم مع فعليته ولزوم الأخذ بالأهم، والمولى لا يؤاخذ عبده
189

بتركه المهم، لا لمكان عدم التكليف الفعلي، بل لمكان عدم قدرة العبد إطاعة
تكليفه الفعلي، واشتراط التكاليف بالقدرة والعلم ليس مثل اشتراطها
بالشرائط الشرعية المنافية لفعلية التكليف.
فاتضح بما ذكرنا: أن الترخيص في موارد الشبهات البدوية لا ينافي فعلية
التكليف، ولا يكون مع ذلك قبيحا من المولى. نعم تركه لإيجاب الاحتياط
قبيح مع فعلية التكليف لولا مفسدته، ومعها لاقبح فيه أيضا.
في وجوب الموافقة القطعية
ومما ذكرنا يظهر الحال في ترخيص بعض أطراف المعلوم بالإجمال،
فإنه - أيضا - لا ينافي فعلية التكليف إذا كان في الجمع بين المشتبهات
مفسدة غالبة، فإنه لابد للمولى من الجمع بين غرضيه - حفظ الواقع بمقدار
الميسور، والتحرز عن مفسدة الجمع بين المشتبهات - بالترخيص في بعض
الأطراف.
وأما في جميعها فلا يمكن مع فعلية التكليف، فإنه لابد من مزاحمة
مصلحة الواقع مع مصلحة الترخيص في المشتبه بما أنه مشتبه، وقد عرفت أن
المزاحمة في موضوع واحد توجب تبعية فعلية الحكم لما هو أقوى ملاكا، فلو
زاحمت جهة المفسدة في شرب الخمر جهة المصلحة في ترخيص المشتبه، فإن
غلبت مفسدة الخمر تكون الحرمة فعلية، ولا يمكن الترخيص في جميع
الأطراف، لامتناع نقض الغرض الفعلي، وإن غلبت مصلحة الترخيص يكون
190

الحكم الفعلي هو الترخيص، ولا يمكن أن تكون حرمة الخمر فعلية.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الترخيص في المخالفة القطعية مما لا يمكن إلا
مع عدم فعلية التكليف، وهو خارج عن موضوع البحث، وأما الترخيص في
بعض الأطراف والإذن في المخالفة الاحتمالية فلا ينافي فعلية التكليف،
ولا يكون قبيحا لو زاحم المفسدة الأقوى، سواء كان الترخيص في بعض
أطراف المعلوم بالإجمال أو موارد الشبهات البدوية.
واتضح مما ذكرنا: أن عدم جريان الأصول في أطراف المعلوم بالإجمال
إنما هو للزوم المخالفة القطعية العملية، من غير فرق بين الأصول مطلقا من
هذه الجهة.
وأما الشيخ العلامة الأنصاري - رحمه الله - فقد جعل المحذور في مقام
الإثبات (1) وأن أدلة الأصول مما لا يمكن شمولها لأطراف المعلوم بالإجمال،
للزوم مناقضة الصدر والذيل في مثل قوله: (لا ينقض اليقين بالشك، ولكن ينقضه
بيقين مثله) (2) وكذا قوله: (كل شئ لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه) (3) وقد
فرغنا من جوابه في مباحث القطع (4) فراجع.

(1) فرائد الأصول: 241 سطر 10 - 12، و 429 سطر 10 - 16.
(2) التهذيب 1: 8 / 11 باب 1 في الأحداث الموجبة للطهارة، الوسائل 1: 174 - / 1
175 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، باختلاف يسير.
(3) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4 من
أبواب ما يكتسب به، باختلاف يسير.
(4) الجزء الأول صفحة: 163.
191

تفصيل بعض الأعاظم
وأما بعض أعاظم العصر - رحمه الله - فقد جعل المحذور أمرا آخر، وفصل
بين أصالة الإباحة في دوران الأمر بين المحذورين وبين الأصول التنزيلية
وغيرها، وجعل محذور كل واحد منها أمرا غير الآخر (1). وقد فرغنا من
جوابه في ذلك المقام أيضا (2) وقلنا: إن الاستصحاب ليس من الأصول
المحرزة التنزيلية.
والآن نقول أيضا: إن غاية ما يمكن أن يقال في كونه منها: إن الكبرى
المجعولة فيه - وهي قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) (3) - تدل على حرمة نقض
اليقين السابق بالشك عملا، ووجوب ترتيب آثار اليقين الطريقي في ظرف
الشك، ولما كان اليقين الطريقي كاشفا عن الواقع كان العامل بيقينه يعمل
به على أنه هو الواقع، لكونه منكشفا لديه. فإذا صلى صلاة الجمعة مع علمه
بوجوبها، وأن تكليفه الواقعي هو إتيانها، يأتي بها بما أنها هي الواقع، فيصلي
صلاة الجمعة في زمن اليقين معتقدا بأنها هي الواقع، وبما أنها هي هو، فإذا
قيل: لا ينقض اليقين بالشك عملا يكون معناه: عامل معاملة اليقين ورتب
آثاره في ظرف الشك، ومعنى ترتيب آثاره والعمل على طبقه أن يأتي

(1) فوائد الأصول 3: 444 وما بعدها.
(2) الجزء الأول صفحة: 165.
(3) تقدم تخريجه قريبا.
192

بالمشكوك فيه في زمان الشك مبنيا على أنه هو الواقع.
وإن شئت قلت: إن هذا الأصل إنما اعتبر لأجل التحفظ على الواقع في
ظرف الشك.
هذا، وأنت خبير بأن المتيقن إنما يعمل على طبق يقينه من غير توجه إلى أنه
هو الواقع توجها اسميا استقلاليا، بل يعمل على طبقه، ويأتي بالواقع
بالحمل الشائع، بلا توجه إلى أنه مصداق هذا المفهوم ومعنون هذا العنوان،
فضلا عن أن يبني على أنه هو الواقع، نعم لو سئل عنه: أن ما تعمل هو الواقع
أولا؟ يتبدل توجهه الحرفي بالاسمي، ويكون جوابه مثبتا، فمعنى لا ينقض
اليقين بالشك عملا: هو ترتيب آثار القطع الطريقي، أي ترتيب آثار المتيقن،
لا ترتيب آثاره على أنه هو الواقع.
وأما حديث جعل الاستصحاب لأجل التحفظ على الواقع: إن كان المراد
منه أن جعله بلحاظ حفظ الواقع - كما لو دل دليل على الاحتياط في الشبهة
البدوية - فهو كذلك، لكن لا يوجب ذلك أن يكون التعبد بالمتيقن على أنه
هو الواقع، كما في الاحتياط، فإنه - أيضا - بلحاظ الواقع، لاعلى أن المشتبه
هو الواقع.
وإن كان المراد منه هو التعبد على أنه هو الواقع فهو مما لا شاهد له
في الأدلة، فإن الكبرى المجعولة ليست إلا حرمة نقض اليقين بالشك،
فهي إما بصدد إطالة عمر اليقين، وإما بصدد حرمة النقض عملا، أي
ترتيب آثار اليقين أو المتيقن، وأما كونها بصدد بيان وجوب البناء على أنه
193

هو الواقع فلا.
ولو سلم كون الاستصحاب من الأصول المحرزة والتنزيلية، فعدم جريانه
في أطراف العلم الإجمالي ممنوع.
وما ذكره المحقق المتقدم ذكره في وجه المنع: من أن المجعول فيها لما كان
هو البناء العملي، والأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف
الآخر، فلا يمكن مثل هذا الجعل في تمام الأطراف، للعلم بانتقاض الحالة
السابقة في بعضها، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف
إلى إحراز آخر يضاده، ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في
جميع الأطراف ولو تعبدا؟! فإن الإحراز التعبدي لا يجتمع مع الإحراز
الوجداني بالخلاف (1) انتهى.
في محل المنع، لأن كل طرف من الأطراف يكون مشكوكا فيه، فتمت
أركان الاستصحاب، ومخالفة أحد الأصلين للواقع لا توجب عدم جريانه
لولا المخالفة العملية، كاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد إذا غسل بالماء
المشكوك الكرية، فإن للشارع التعبد بوجود ما ليس بموجود، والتعبد بتفكيك
المتلازمين وتلازم المنفكين.
وبالجملة: لا مانع من اجتماع الإحراز التعبدي مع الإحراز الوجداني
بالضد.
والعجب أنه - قدس سره - قد تنبه إلى هذا الإشكال في آخر مبحث

(1) فوائد الأصول 4: 14.
194

الاستصحاب، وأجاب عنه بما هو في غاية السقوط، ومحصل كلامه في
ذلك المقام:
أنه ربما يناقش فيما ذكرناه - من عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف
العلم الإجمالي مطلقا وإن لم يلزم مخالفة عملية - بأنه يلزم على هذا عدم
جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند
الوضوء بمائع مردد بين البول والماء، لأن الاستصحابين ينافيان العلم الوجداني
بعدم بقاء الواقع في أحدهما، وكذا بين المتلازمين العقليين أو العاديين،
كاستصحاب بقاء الكلي وعدم حدوث الفرد، واستصحاب حياة زيد وعدم
نبت لحيته، ولا يمكن الالتزام بعدم جريان الاستصحاب في أمثال المقامات،
لتنافيه مع القول بعدم حجية الأصول المثبتة.
والتحقيق في دفع الشبهة أن يقال: إنه فرق بين كون مفاد الأصلين متفقين
على مخالفة ما يعلم تفصيلا - كاستصحاب نجاسة الإناءين أو طهارتهما مع
العلم بانتقاض الحالة السابقة، فإن الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم
تفصيلا - وبين ما لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب
ما يؤديان إليه، بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن
يتوافقا في مخالفة المعلوم تفصيلا، وما منعنا عن جريانه في أطراف العلم
الإجمالي هو الأول دون الثاني، لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين
اللذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالإجمال.
وأما لزوم التفكيك بين المتلازمين الواقعيين فلا مانع منه، لأن التلازم
195

بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر (1) انتهى.
وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلأن جريان استصحاب الطهارة أو النجاسة في كل واحد من
الإناءين لا ينافي الإحراز الوجداني، وليس لمجموعهما أصل حتى يكون منافيا
للعلم التفصيلي، بل المنافاة بين جريان كليهما مع العلم الإجمالي، أي يعلم
بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع، وهو عين المحذور في مورد النقض، أي
التفكيك بين المتلازمين.
وبعبارة أخرى: إن استصحاب نجاسة أحد الإناءين لا يصادم العلم، وكذا
استصحاب نجاسة الآخر، وليس استصحاب آخر مصادم له، نعم جريانهما
مخالف للعلم الإجمالي، فيعلم مخالفة أحدهما للواقع، كما أن استصحاب
طهارة البدن من الماء المردد غير مناف للعلم، واستصحاب الحدث كذلك،
لكن جريانهما مناف للعلم الإجمالي، فيعلم كذب أحدهما.
فما هو ملاك الجريان واللا جريان في كليهما واحد، ومجرد توافق
الاستصحابين في المفاد لا يوجب الفرق. مع أن توافقهما فيه - أيضا - ممنوع،
فإن مفاد أحدهما نجاسة أحد الإناءين ومفاد الآخر نجاسة الإناء الآخر، وإنما
توافقهما نوعي، ومورد الموافقة ليس مجرى الأصل، وما هو مجراه وهو
النجاسة الشخصية لا يكون موافق المضمون مع صاحبه بحيث ينافي العلم
التفصيلي.

(1) فوائد الأصول 4: 693 وما بعدها.
196

وأما ثانيا: فلأنه يلزم مما ادعى التفصيل في جريان الاستصحاب في
أطراف العلم الإجمالي بين موارد يكون الأصلان فيها متوافقي المضمون
- كالمثالين المتقدمين - وبين ما لا يكون كذلك، كما لو علم بوجوب صلاة
الجمعة وحرمة شرب التتن سابقا، وعلم انتقاض أحدهما، فجريان
الاستصحابين فيهما على ما ذكره مما لا مانع منه، لأنهما غير متوافقي
المضمون، مع أنه لم يفصل بين الاستصحابات.
في شمول أدلة الترخيص لبعض أطراف المعلوم بالإجمال
ثم بعدما علمت أن الإذن في بعض الأطراف مما لا محذور فيه، ولا ينافي
فعلية المعلوم في البين، يقع الكلام في إمكان استفادة الترخيص في بعضها من
الأدلة العامة بعد عدم دليل خاص في البين.
وما قيل في المقام وجوه مذكورة في مسفورات (1) المشايخ - رحمهم
الله - مع أجوبتها:
الوجه الأول:
منها: أن يقال إن أدلة الترخيص وإن لم تدل على الترخيص في الواحد
الغير المعين، إلا أنه يمكن استكشافه من الدليل اللفظي بضميمة حكم العقل،
بأن يقال: إن مقتضى إطلاق المادة في الأدلة المرخصة هو وجود الملاك في

(1) سفر الكتاب يسفره سفرا: أي كتبه، فهو مسفور. لسان العرب 4: 370 سفر.
197

كل مشتبه، فالمشتبه بما أنه مشتبه تمام الموضوع للحكم بالترخيص من غير
دخالة قيد فيه، ففيه الملاك بلا تقيده بشئ، ولما كان التقييد العقلي واردا على
الهيئة بواسطة لزوم الإذن في المعصية، يستكشف العقل - بعد سقوط
الترخيصين المعينين في طرفي العلم بحكم العقل - ترخيصا تخييريا بواسطة
إطلاق المادة وكشف الملاك، فكما أن الملاك في المشتبهات يوجب الترخيص
فيها، كذلك وجود الملاك في أحد المشتبهين يوجب الترخيص فيه،
كالواجبين المتزاحمين اللذين بعد سقوط خطابهما يستكشف العقل حكما
تخييريا بواسطة الملاك المستكشف بإطلاق المادة (1).
لا يقال: استكشاف الملاك لا يمكن إلا بإطلاق الهيئة، فإذا لم يكن لها
إطلاق فلا طريق إلى استكشافه، لإمكان أن يكون لمورد سقوط
الخطاب خصوصية مزاحمة للملاك لا يجب على المولى بيانها، لعدم
مفسدة في ترك البيان.
فإنه يقال: لو سلم قصور إطلاق المادة عن إثبات الملاك بعد تقييد الهيئة،
فإنما يكون قصوره بمقدار التقييد لاغير، والفرض أن التقييد العقلي ليس إلا
فيما يلزم [منه] الترخيص في المعصية، وهو في الجمع بين تمام الأطراف،
وليس في البين أمر آخر يوجب سقوط الخطاب.
نعم، يسقط الخطاب عن الطرفين، لا لحكم العقل بالتقييد - لعدم
لزوم المخالفة القطعية إلا في الجمع بينهما فيما نحن فيه، وعدم العجز إلا

(1) درر الفوائد 2: 115 - 116.
198

عن الجمع في باب التزاحم كالغريقين - بل لقبح الترجيح بلا مرجح
ولزوم (1) شمول العام لواحد غير معين، مع كون المقتضي والملاك في
غير مورد المخالفة القطعية والإذن في المعصية وفي غير مورد العجز موجودا
بلا إشكال.
هذا، مع أن في التقييدات العقلية لا يكون التقييد من قبل المولى، بل
يكون التكليف من قبله تاما، وإنما يحكم العقل بامتناع الخطاب الفعلي
المنجز في مورد العجز، أو الإذن الفعلي في مورد لزوم الإذن في المعصية.
هذا، والجواب عنه: أن استكشاف الخطاب التخييري لو سلم فإنما هو فيما
إذا يقطع بأن الجري على طبق أحد الاقتضاءين لا مانع منه كما في الغريقين،
وأما فيما نحن فيه فكما أن الشك يقتضي الترخيص، كذلك التكليف
الواقعي يقتضي الاحتياط بحكم العقل في أطراف العلم، ولعل اقتضاء
التكليف الواقعي يكون أقوى في الاحتياط من اقتضاء الشك في الترخيص،
ومع هذا الاحتمال لاوجه للقطع بالترخيص (2).
الوجه الثاني:
ومنها أن يقال: إن نسبة أدلة الأصول إلى كل واحد من الأطراف
وإن كانت على حد سواء، لكن لا يقتضي ذلك سقوطها عن جميع

(1) الكلمة غير واضحة في المخطوطة، وقد أثبتناها استظهارا، فلاحظ.
(2) درر الفوائد 2: 116.
199

الأطراف.
توضيحه: أن الأدلة المرخصة كما يكون لها عموم أفرادي بالنسبة إلى كل
مشتبه، يكون لها إطلاق أحوالي بالنسبة إلى حالات المشتبه، فكل مشتبه
مأذون فيه أتى المكلف بالآخر أو تركه، وعند التزاحم بينهما إنما يقع التزاحم
بين إطلاقهما لا أصلهما، فإن الترخيص في كل واحد منهما في حال ترك
الآخر مما لا مانع منه، فالمخالفة العملية إنما نشأت من إطلاق الحجية
والترخيص لحال إجراء الآخر وعدمه، فلابد من رفع اليد عن إطلاقهما
لا أصلهما، فتصير النتيجة الإذن في كل واحد منهما مشروطا بترك الآخر (1)
وهذا مساوق للترخيص التخييري، وهذا نظير باب التزاحم، وحجية
الأمارات على السببية.
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر - رحمه الله - بما لا يخلو عن إشكال، بل
عن إشكالات.
فقال ما حاصله: إن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه
بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين: إما اقتضاء الكاشف والدليل الدال على
الحكم التخيير في العمل، وإما اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان
الدليل يقتضي التعيينية.
فمن الأول: ما إذا ورد عام كقوله: " أكرم العلماء " وعلم بخروج زيد
وعمرو عنه، لكن شك في أن خروجهما هل هو على وجه الإطلاق بحيث

(1) نفس المصدر السابق.
200

لا يجب إكرام كل منهما في حال من الأحوال - أوليس كذلك، بل كان
عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بحال إكرام الآخر؟! أي يدور الأمر بين
كون المخصص أفراديا وأحواليا أو أحواليا فقط، فلابد حينئذ من القول
بالتخيير، وإنما نشأ ذلك من اجتماع دليل العام وإجمال المخصص، ووجوب
الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص، وليس التخيير لأجل اقتضاء
المجعول، بل المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني، والتخيير
نشأ من ناحية الدليل لا المدلول.
ومن الثاني: ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على
الجمع بينهما، فإن التخيير في باب التزاحم إنما هو لأجل أن المجعول في باب
التكاليف يقتضي التخيير، لأنه يعتبر عقلا في المجعولات الشرعية القدرة على
امتثالها، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك
الآخر، وحيث لا ترجيح في البين، وكل تكليف يستدعي نفي الموانع عن
متعلقه وحفظ القدرة عليه، فالعقل يستقل حينئذ بصرف القدرة في أحدهما
تخييرا: إما لأجل تقييد التكليف في كل منهما بحال عدم امتثال الآخر،
وإما لأجل سقوط التكليفين واستكشاف العقل حكما تخييريا، لوجود الملاك
التام، وعلى أي حال التخيير في باب التزاحم لم ينشأ من ناحية الدليل، بل
نشأ، من ناحية المدلول بالبيان المتقدم.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما
لا شاهد عليه، لا من ناحية الدليل، ولا المدلول:
201

أما من ناحية الدليل: فهو مما لا يكاد يخفى، فإن دليل اعتبار كل أصل إنما
يقتضي جريانه عينا، سواء عارضه أصل آخر أولا، وليس في الأدلة ما يوجب
التخيير عند التعارض.
وأما من ناحية المدلول: فلأن المجعول فيها ليس إلا الحكم بتطبيق العمل
على مؤدى الأصل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة،
وهي: الجهل بالواقع، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع، وعدم
لزوم المخالفة العملية، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف
العلم الإجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جميعا، وكون المجعول
أحدها تخييرا ممكن إلا أنه لا دليل عليه، لامن ناحية أدلة الأصول، ولامن
ناحية المجعول فيها. وقياسها بباب الأمارات على السببية ليس في محله، لأن
المجعول فيها مما يقتضي التخيير، لاندراجها في باب التزاحم (1) انتهى.
وفيه مواقع للنظر نشير إلى بعض:
منها: أن ما أفاد - من أن التخيير في الصورة الأولى من مقتضيات
الكاشف والدال لا المنكشف والمدلول، فإن المجعول في كل من العام والخاص
هو الحكم التعييني - ليس في محله، فإن دوران الأمر في المخصص بين التعيين
والتخيير - أي خروج الفردين مطلقا، أو خروج كل منهما مشروطا بدخول
الآخر - موجب للحكم بالتخيير، فإنه القدر المتيقن من التصرف في العام،
وإلا فلو علم أن المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني،

(1) فوائد الأصول 4: 28 وما بعدها.
202

فلا مجال للحكم بالتخيير، وهذا واضح. نعم لو خرج واحد معين واقعا وغير
معين عندنا أمكن القول بالتخيير في بعض الصور أيضا.
ومنها: أن لنا أن نقول: إن التخيير في الأصلين المتعارضين من مقتضيات
الدال والكاشف، كالمثال المذكور في الصورة الأولى، لأن اجتماع دليل العام
وإجمال دليل الخاص بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقن في
التخصيص كما أوجب الحكم بالتخيير، كذلك اجتماع دليل الأصول - مثل
قوله: (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) (1) - مع لزوم التخصيص،
ودورانه بين خروج الفردين مطلقا وفي جميع الأحوال، أو خروج كل منهما
في حال عدم ارتكاب الآخر، موجب للحكم بالتخيير.
وبالجملة: الإطلاق الأحوالي لدليل العام ولزوم الأخذ بالقدر المتيقن في
التخصيص، هو الملاك فيما نحن فيه وفيما ذكر من المثال، بل فيما نحن فيه
أولى مما ذكره، لأن التخصيص فيه عقلي، والعقل يحكم جزما بأن ما يوجب
الامتناع هو إطلاق الدليل لا عمومه الأفرادي، فالمخصص لم يكن أمره دائرا
بين الأقل والأكثر كالمثال المذكور، بل يحكم العقل بأن ملاك التصرف في
العام - أي أدلة الأصول في أطراف العلم الإجمالي - ليس إلا في تقييد
الإطلاق، لا تخصيص الأفراد.
ومنها: أن ما أفاد في الصورة الثانية - من أن التخيير في باب تزاحم

(1) الكافي 5: 313 / 40 باب النوادر من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 60 / 4 باب 4
من أبواب ما يكتسب به.
203

الواجبين من ناحية المدلول والمنكشف، لا الدال والكاشف - ليس في محله،
فإن التخيير فيه لأجل إطلاق العام أحوالا، ولزوم الأخذ بالقدر المتيقن في
التصرف فيه، فالتخيير إنما نشأ من إطلاق الدليل، وعدم الدليل على
التصرف فيه إلا بمقدار يحكم العقل بامتناع العمل بالعام، وهو الأخذ
بالإطلاق الأحوالي في كلا الفردين، فلابد من التصرف فيه من تلك الجهة،
ونتيجته الحكم بالتخيير.
وبالجملة: لافرق بين الصورة الأولى والثانية إلا من ناحية المخصص، فإن
المخصص في الأولى دليل لفظي مجمل دائر بين الأقل والأكثر، وفي الثانية
دليل عقلي يحكم بخروج القدر المتيقن من العام.
نعم لو بنينا على أن التكليفين يسقطان معا، ويستكشف العقل لأجل
الملاك التام حكما تخييريا، يمكن أن يقال: إن التخيير بينهما إنما يكون لأجل
المدلول لا الدليل على إشكال فيه، لكنه خلاف مسلكه.
ومنها: أن لنا أن نقول: إن ما نحن فيه أيضا يكون الحكم [فيه]
بالتخيير من ناحية المدلول والمنكشف كما في المتزاحمين، فإن الترخيص
المستفاد من أدلة الأصول مقيد عقلا بعدم لزوم الإذن في المعصية
القطعية، أي بكون المكلف قادرا تشريعا على إتيانه، وكل واحد من
المتعارضين يقتضي صرف قدرة المكلف إلى متعلقه، ونفي الموانع عن
وجوده، فلما لم يكن للعبد إلا صرف قدرته في واحد منهما - أي يكون
عاجزا عن إتيانهما - يقع التعارض بينهما، فحينئذ: إما أن نقول بسقوط
204

التكليفين واستكشاف العقل تكليفا تخييريا، أو نقول بتقييد إطلاق
كل منهما بحال امتثال الآخر. وبالجملة: يكون حال ما نحن فيه حال
المتزاحمين طابق النعل بالنعل.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن جوابه مع طوله مما لا طائل تحته.
التحقيق في المقام
والتحقيق (1): أن عدم جريان الأصول بالنسبة إلى بعض الأطراف إنما
هو لأمر آخر، وهو قصور أدلة الترخيص عن شمول الأطراف، لأن العقل بعد
ما يحكم حكما ضروريا بلزوم الموافقة القطعية، وترك جميع الأطراف في
الشبهة التحريمية، وإتيانها في الشبهة الوجوبية، وبعد فعلية الحكم وتنجزه،
لا يكاد يمكن استفادة الترخيص من الأدلة العامة، بل لابد من التصريح
بذلك، لأنه حكم مخالف لحكم العقل، ويحتاج بعد التصريح إلى تصوير
إمكانه بالدقة العقلية وإقامة البرهان عليه، وما كان حاله كذلك لا يستفاد
الترخيص فيه من مثل العمومات، نظير ما ذكر في باب حجية الخبر الواحد
والأمارات العقلائية: من أن الأدلة العامة لا تصلح للرادعية عنها، بل لابد
في الردع من التصريح (2) بل ما نحن فيه أولى بتلك الدعوى مما ذكر

(1) قد ذكرنا في الورقة (العلى حدة) ما هو التحقيق في المقام. [منه قدس سره]
ومع الأسف فإنا لم نعثر عليها في تصوير الأصل المتوفر عندنا.
(2) فوائد الأصول 3: 195.
205

في باب حجية الخبر.
وبالجملة: أن الأدلة العامة لا تصلح لشمول أطراف المعلوم بالإجمال.
تنبيه
في بدلية الطرف الغير المأذون فيه عن الواقع
يظهر من الشيخ الأعظم (1) - وتبعه بعض آخر (2) -: أن الترخيص في
بعض الأطراف يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه
بدلا عن الواقع.
وهذا بمكان من الغرابة، لعدم ملاك البدلية في الطرف بوجه،
فلو فرض الطرف مباحا فتركه ليس فيه ملاك البدلية حتى يكون بدلا عنه،
وأسوأ منه لو كان الطرف مستحبا في الشبهة التحريمية، ومكروها في الشبهة
الوجوبية.
وترخيص الشارع ليس له سببية لتحقق الملاك، خصوصا بالنسبة إلى
الطرف الآخر، ولو أمر بترك البقية فهو أمر إرشادي، ولا يعقل المولوية في مقام
الإطاعة، ولا يعقل فيه السببية ولو قلنا أبها، في غيره.
والتحقيق: أن الترخيص - على فرضه - إنما هو لمصلحة التسهيل، أو
مفسدة التضييق، من غير تغير في الواقعيات بوجه من الوجوه، فهو راجع إلى

(1) فرائد الأصول: 242 سطر 8 - 10 وسطر 15 - 17.
(2) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 311 - 314.
206

رفع اليد عن التكليف الواقعي على بعض الفروض، لأجل أغراض أهم من
حفظ الواقع في هذا الحال.
في الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال
قوله: الأول: إن الاضطرار... إلخ (1).
لو اضطر المكلف إلى بعض الأطراف: فتارة يكون اضطراره قبل تعلق
التكليف بأحدها وقبل تعلق العلم.
وتارة يكون قبل العلم وبعد التكليف.
وتارة يكون بعد العلم والتكليف.
وتارة يكون مقارنا لهما أو لأحدهما.
وتارة يكون بعد العلم بالخطاب وقبل تعلق التكليف، كما لو علم
بالواجب المشروط قبل تحقق شرطه، ثم اضطر إلى بعض الأطراف، ثم تحقق
الشرط.
وعلى جميع التقادير: تارة يكون الاضطرار إلى المعين، وتارة يكون إلى
غيره.
وعلى التقادير: قد يكون الاضطرار عقليا ونتكلم فيه مع قطع النظر
عن حديث الرفع، وقد يكون عاديا مشمولا للحديث ونتكلم فيه مع
النظر إليه.

(1) الكفاية 2: 216.
207

وعلى التقادير: قد يكون المعلوم هو الحرام، وقد يكون هو الواجب.
وعلى التقادير: قد يكون الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف، وقد
يكون إلى تركه.
ومفروض الكلام في جميع التقادير ما إذا كان الاضطرار بمقدار المعلوم أو
الزائد منه، وإلا فلا تأثير له في سقوط العلم عن التأثير.
فإن كان الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا قبل تعلق التكليف أو بعده
وقبل العلم به، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن غير مورد
الاضطرار، سواء كان الاضطرار عقليا أو عاديا، وسواء كان الاضطرار
العقلي موجبا لتحديد التكليف وتقييد فعليته كما عليه المشايخ (1) أو غير
موجب له بل هو باق على ما هو عليه من الفعلية، لكن العبد يكون معذورا
في تركه مع الاضطرار العقلي، كما هو مسلكنا في جميع الأعذار العقلية.
أما بناء على عدم فعلية التكليف فواضح، لأن العلم الإجمالي لم يتعلق
بالخطاب الفعلي، ولابد في تنجيز العلم من كون جميع الأطراف بحيث
يكون التكليف بالنسبة إليها صحيحا.
وأما على مسلكنا فلأن التكليف الفعلي وإن كان معلوما حتى بعد
الاضطرار، لكن لابد في تأثير العلم الإجمالي أن يتعلق بتكليف فعلي صالح
للاحتجاج، والاضطرار موجب لقطع الاحتجاج ولموجهية عذر العبد.

(1) انظر الكفاية 2: 216، درر الفوائد 2: 119 - 120، نهاية الدراية 2: 250
سطر 4 - 13.
208

فإن قلت: على هذا المبنى لو علم العبد بالتكليف الفعلي، وشك في
قدرته على إتيانه، فلا يكون معذورا عن التقاعد، ولابد له من العلم بالعذر،
وليس له الاكتفاء بالشك مع العلم الفعلي، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن
العلم الإجمالي قد تعلق بالتكليف الفعلي، والمكلف شاك في كونه مضطرا
إلى إتيان متعلق التكليف، فيكون من قبيل الشك في القدرة، فيجب عليه
الاحتياط، ولافرق في ذلك بين العلم الإجمالي والتفصيلي.
قلت: نعم، لافرق في الشك في القدرة ولزوم الاحتياط فيه بين العلم
الإجمالي والتفصيلي، فلو علم إجمالا بتكليف فعلي وشك في قدرته لابد له
من الاحتياط، لكن المقام ليس كذلك، فإن العبد يعلم بعجزه واضطراره
ويشك في انطباق التكليف على مورد عذره وعجزه أو غيره، وفرق واضح
بين الشك في القدرة أو الاضطرار مع العلم بالتكليف، وبين العلم بالعجز أو
الاضطرار مع الشك في انطباقه على مورد التكليف أو غيره، فإن العلم
بالعجز والاضطرار يكون عذرا وجدانيا، فلم يتعلق علم العبد بتكليف فعلي
لا يكون معذورا فيه، ولكن الشك في العجز لا يكون عذرا عند العقلاء مع
فعلية التكليف، وهذا هو الفارق بين المقامين.
وإن اضطر إلى المعين مقارنا لحصول العلم: فلا تأثير للعلم أيضا، لأن
العلم الإجمالي المقارن للعذر لا يمكن أن يصير حجة، وهذا واضح.
وإن اضطر إليه بعد العلم فلا إشكال في لزوم الاحتياط في البقية، لتحقق
العلم بالحجة واليقين بالاشتغال، فلابد له من البراءة اليقينية،
209

والاضطرار لا يكون عذرا إلا في الامتثال القطعي، دون الاحتمالي الذي
يحكم به العقل أيضا.
وبالجملة: بعد تمامية الحجة والعلم بالتكليف الفعلي الصالح للاحتجاج به
يحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية، ومع عدم إمكانه يحكم بلزوم الموافقة
الاحتمالية، والاضطرار لا يكون عذرا إلا بمقداره.
وبما ذكرنا يظهر حال الواجب المشروط لو تعلق العلم به قبل تحقق شرطه،
وكذا يضطر إليه قبله، فإنه إن قلنا بأن الواجب المشروط قبل تحقق شرطه
لم يكن تكليفا فعليا، يكون حاله حال الاضطرار قبل العلم بالتكليف، وإن
قلنا بأنه تكليف فعلي - ويكون الشرط قيدا للمادة، أو ظرفا لتعلق التكليف -
يكون حاله حال الاضطرار بعد العلم.
وأما الاضطرار إلى غير المعين: فالأقوى فيه وجوب الاجتناب مطلقا،
لعدم لحوق الاضطرار لمتعلق التكليف، وجواز اجتماع التكليف الواقعي في
بعض الأطراف مع الاضطرار إلى بعض من غير مصادقة بينهما، وإنما
يتزاحمان في مقام العمل لجهل المكلف بعد الاختيار، واختياره بعد فعلية
التكليف وسبقه عليه لا يوجب عدم تأثير العلم، والشك الحاصل بفعلية
التكليف بعد اختيار المكلف أحد الأطراف - لإمكان كون المأتي به مورد
الاضطرار - كالشك الحاصل بعد فقد أحدهما، أو إتيان المكلف أحدهما مع
عدم الاضطرار، طابق النعل بالنعل.
وبالجملة: نفس الاضطرار لا يكون مزاحما للتكليف في البين، كما أن
210

الجهل بمتعلق التكليف لا يوجب سقوط العلم عن التأثير، فقبل إتيان بعض
الأطراف يكون التكليف فعليا بلا مزاحم، وقابلا للاحتجاج بالنسبة إلى
الموافقة الاحتمالية، ولا يمكن أن يكون الشك الحاصل من الإتيان به موجبا
لسقوطه عن التأثير، وإلا لزم سقوط علية العلوم الإجمالية عن التأثير بعد إتيان
بعض الأطراف أو فقده.
رد على المحقق الخراساني
والمحقق الخراساني - رحمه الله - اختار سقوط العلم عن التأثير مطلقا،
معللا بأن جواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا، ينافي العلم
بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينهما فعلا، ونفي الفرق بين سبق الاضطرار على
العلم وبين لحوقه، معللا بأن التكليف المعلوم بينهما يكون محدودا بعدم
عروض الاضطرار إلى متعلقه من أول الأمر. وبهذا فرق بين فقد بعض
الأطراف بعد تعلق العلم وبين الاضطرار إليه بعده، حيث أوجب الاحتياط
في الأول دون الثاني (1).
ثم رجع عما ذكره في الهامش، وفصل بين الاضطرار إلى أحدهما
لا بعينه وبين الاضطرار إلى المعين، وأوجب الاحتياط في الثاني دون الأول،
معللا بأن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي المحدود في هذا الطرف أو المطلق
في الطرف الآخر يكون منجزا، وأما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه

(1) الكفاية 2: 216 - 218.
211

فإنه يمنع عن فعلية التكليف مطلقا (1) انتهى ملخصا.
وفيه نظر:
أما أولا: فلمنع منافاة الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه مع التكليف في
البين، لعدم المزاحمة بينهما. نعم قد يكون مختار المكلف منطبقا على المحرم
الواقعي لأجل جهله بالواقعة، ولا يعقل أن يكون التكليف الواقعي متقيدا
باختيار المكلف وعدمه، والترخيص في أحدهما لا بعينه لا ينافي التكليف
بأحدهما واقعا، ألا ترى أنه لو علم بالواقعة لوجب عليه رفع اضطراره بغير
مورد التكليف، وهذا يدل على عدم المزاحمة في رتبة التكليف.
وليته - رحمه الله - عدل في الهامش عن ذلك، فإنه أولى بالعدول مما
عدل عنه.
وأما ثانيا: فلمنع كون الاضطرار وأضرابه من قيود التكليف وحدوده،
ضرورة أن التكاليف ليست محدودة بأمثال ذلك من الأعذار العقلية لو كان
الاضطرار عقليا ويكون البحث عقليا، نعم في الأعذار العقلية يكون ترك
التكليف الفعلي المتوجه إلى كل المكلفين بخطاب واحد مما لا مانع منه،
ويكون المكلف معذورا فيه، ولا حجة للمولى على المكلف، بل له عليه الحجة،
وهذا أمر آخر غير محدودية التكليف وتقيده.
نعم لو تكلمنا على مقتضى حديث الرفع، وأن التكاليف محدودة به في
الاضطرار العرفي، يكون لهذا الكلام مجال، لكن مع الاضطرار إلى غير

(1) حقائق الأصول 2: 98 2 - 99 2.
212

المعين لا مصادقة بين حديث الرفع وأدلة التكاليف، لعدم عروض الاضطرار
إلى متعلق التكليف كما أشرنا إليه، ومع الاضطرار إلى المعين يكون العلم
الإجمالي - المردد بين أن يكون التكليف المحدود في هذا الطرف أو المطلق في
الطرف الآخر - منجزا على الفرض المتقدم.
وأما ثالثا: فلأن الافتراق بين فقد المكلف به وعروض الاضطرار فيما نحن
فيه مما لا يرجع إلى محصل، لأن تأثير التكاليف الواقعية إنما يكون مع وجود
الموضوع، ومع فقده لا تكون إلا كبريات كلية مما لا تأثير فيها، ضرورة عدم
صحة الاحتجاج بالكبرى على الصغرى، ولهذا لو فقد بعض الأطراف، ثم
علم إجمالا بأن المفقود أو الموجود خمر، لم يكن للعلم تأثير، كالاضطرار إلى
المعين قبل العلم، كما أنه لو فقد بعض الأطراف بعده كان العلم حجة على
الطرف الموجود، لأجل احتمال انطباق التكليف عليه، كما أنه قبل فقده
يكون نفس هذا الاحتمال حجة عليه، وهذا بعينه يجئ في الاضطرار إلى
الطرف المعين كما لا يخفى.
في اشتراط الابتلاء بتمام الأطراف لتنجيز العلم الإجمالي
قوله: الثاني: لما كان النهي... إلخ (1).
قد استقرت آراء المحققين من المتأخرين (2) على أن من شرائط تنجيز العلم

(1) الكفاية 2: 218.
(2) انظر فرائد الأصول: 251 سطر 3 - 10، الكفاية 2: 218 - 223، درر الفوائد 2: 120،
فوائد الأصول 4: 54، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 338 - 340.
213

الإجمالي أن يكون تمام الأطراف مما يمكن عادة ابتلاء المكلف بها، فلو كان
بعضها خارجا عن محل الابتلاء لا ينجز العلم، ويكون الطرف الآخر موردا
للبراءة العقلية والشرعية.
وعللوا ذلك باستهجان الخطاب أو الخطاب المنجز أو التكليف الفعلي
بالنسبة إلى الخارج عنه، ضرورة أن النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود
في أقصى بلاد المغرب، أو ترك وطء جارية سلطان الصين يكون مستهجنا، لأن
التكاليف إنما تتوجه إلى المكلفين لأجل إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترك، فما
لا يمكن عادة تركه أو إتيانه لا مجال لتعلق التكليف به. والمقصود من الخروج
عن محل الابتلاء أعم مما يكون غير مقدور عادة، أو يرغب عنه الناس عادة
وتكون الدواعي مصروفة عنه نوعا، والميزان: استهجان الخطاب عند العقلاء.
وإن شئت قلت: إن الغرض من الأمر والنهي ليس إلا حصول ما اشتمل
على المصلحة، أو عدم حصول ما اشتمل على المفسدة، ومع عدم التمكن
العادي من الترك أو الفعل لا تكاد تفوت المصلحة أو تحصل المفسدة،
فلا موجب للتكليف بل لا يمكن، لاستهجانه. هذا غاية ما أفادوا - رحمهم
الله - في وجه اعتبار هذا الشرط.
الخطابات القانونية والشخصية
وعندي فيه إشكال: وهو أنه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلية المتوجهة
إلى عامة المكلفين وبين الخطاب الشخصي إلى آحادهم، فإن الخطاب
الشخصي إلى خصوص العاجز أو غير المتمكن عادة أو عقلا مما لا يصح
214

كما أفيد، ولكن الخطاب الكلي إلى المكلفين المختلفين بحسب الحالات
والعوارض مما لا استهجان فيه.
وبالجملة: استهجان الخطاب الخاص غير استهجان الخطاب الكلي،
فإن الأول فيما إذا كان الشخص غير متمكن، والثاني فيما إذا كان العموم
أو الغالب - الذي يكون غيره كالمعدوم - غير متمكن عادة، أو مصروفة
دواعيهم عنه.
لا يقال: إن الخطابات الشرعية منحلة بعدد نفوس المكلفين، ولا يكاد يخفى
أن الخطاب المنحل المتوجه إلى غير المتمكن مستهجن.
فإنه يقال: إن أريد من الانحلال كون كل خطاب خطابات بعدد
المكلفين، حتى يكون كل مكلف مخصوصا بخطاب خاص به وتكليف
مستقل متوجه إليه، فهو ضروري البطلان، فإن قوله: * (يا أيها الذين آمنوا
أوفوا بالعقود) * (1) خطاب واحد لعموم المؤمنين، فالخطاب واحد والمخاطب
كثير، كما أن الإخبار ب‍ " أن كل نار حارة " إخبار واحد والمخبر عنه كثير،
ولذا لو قال أحد: " كل نار باردة " لا يكون إلا كذبا واحدا، فقوله:
* (لا تقربوا الزنا) * (2) خطاب واحد متوجه إلى كل مكلف، ويكون الزنا تمام
الموضوع للحرمة، والمكلف تمام الموضوع لتوجه الخطاب إليه، وهذا الخطاب
الوحداني يكون حجة على كل مكلف، من غير إنشاء تكاليف مستقلة، أو

(1) المائدة: 1.
(2) الإسراء: 32.
215

توجه خطابات عديدة.
لست أقول: إن المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلفين فإنه ضروري الفساد،
بل أقول: إن الخطاب واحد، والإنشاء واحد، والمنشأ هو حرمة الزنا على كل
مكلف، من غير توجه خطاب خاص أو تكليف مستقل إلى كل أحد،
ولا استهجان في هذا الخطاب العمومي إذا كان المكلف في بعض الأحوال
أو بالنسبة إلى بعض الأمكنة غير متمكن عقلا أو عادة.
فالخمر حرام على كل أحد، تمكن من إتيانه أو لم يتمكن، وليس جعل
الحرمة لغير المتمكن بالخصوص، حتى قيل: يستهجن الخطاب أو التكليف
المنجز، فليس للمولى إلا خطاب واحد لعنوان واحد يرى الناس كلهم أنه
حجة عليهم، ولا إشكال في عدم استهجان هذا الخطاب العمومي.
كما لا إشكال في أن التكاليف الشرعية ليست متقيدة بهذه القيود، أي:
عدم الجهل، والعجز، والخروج عن محل الابتلاء، وأمثالها (1).

(1) والقائلون باستهجان الخطاب ولو بنحو العموم لا محيص لهم إلا الالتزام بأن الخطابات
والأحكام الوضعية - أيضا - مختصة بما هو محل الابتلاء، لأن جعل الحكم الوضعي إن
كان تبعا للتكليف فواضح، ومع عدم التبعية فالجعل إنما هو بلحاظ الأثر، ولهذا لا يمكن
جعل ما ليس له أثر مطلقا، فجعل النجاسة للخمر والبول للآثار المترتبة عليهما،
كالشرب، والصلاة فيه، وأمثال ذلك، والفرض أن الآثار مع عدم كون الموضوع محل
الابتلاء، لا يجوز أن يترتب عليها، فلا بد من القول بأن النجاسة والحلية وغيرهما من
الوضعيات من الأمور النسبية بلحاظ المكلفين، فالخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من
كان مبتلى بهما دون غيرهما، ولا أظن التزامهم بذلك، للزوم الاختلال في الفقه،
والدليل العقلي غير قابل للتخصيص. [منه قدس سره]
216

إذا عرفت ذلك: فالعلم الإجمالي المتعلق بالتكليف الفعلي المنجز لابد من
الخروج عن عهدته، وهو يقتضي الموافقة القطعية والاحتمالية، وترك المخالفة
القطعية والاحتمالية، ومجرد كون أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء
ومصروفة عنه الدواعي لا يوجب عدم تنجيز التكليف المعلوم.
ولو لوحظ التكليف بالنسبة إلى كل أحد، والخطاب متوجها إلى كل
واحد من المكلفين، ويراعي الاستهجان وعدمه في التكليف الانحلالي، للزم
استهجان الخطاب إلى التارك الذي لا يصير التكليف باعثا له، فلزم أن لا تكون
العصاة مكلفين بالفروع، والكفار بالأصول والفروع، ولزم أن يكون التارك
للمنهي عنه بمقتضى دواعيه غير متوجه إليه النهي، ضرورة عدم الفرق في
الاستهجان بين النهي عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد المغرب، وبين
النهي عن كشف العورة في ملأ من الناس لمن له شرف، والنهي عن أكل
القاذورات والخبائث، فلافرق بين عدم القدرة العادية على المنهي عنه وبين
كون الدواعي مصروفة عنه.
لست أقول: إن التكليف متقيد بالإرادة، حتى يقال: إن التقييد بها غير
معقول، دون التقييد بالقدرة العقلية أو العادية، ولكن أقول: إن التكليف إنما
يتوجه إلى المكلف لأجل إيجاد الداعي له ولو بمباد اخر من خوف العقاب
والطمع في الثواب، والتارك للشئ بإرادته - سواء تعلق به النهي أم لا -
لا يصير النهي داعيا له وباعثا إياه، فيكون مستهجنا لغوا، بل في جميع تلك
الموارد يكون التكليف الجدي للبعث محالا، لعدم تحقق مبادئ الإرادة فيها،
217

فمن يترك الشرب بإرادته كمن لا يقدر عادة عليه يستهجن بل يمتنع الخطاب
بالنسبة إليه، وهذا واضح لا سترة فيه.
مع أن الالتزام بذلك مما لا يمكن، فلا يجوز أن يقال: إن صرف مصروفية
الدواعي عن إتيان المتعلق يوجب استهجان التكليف، والسر في ذلك
ما حققناه (1) من أن استهجان الخطاب العمومي غيره في الخطاب الشخصي،
ولا ينبغي أن يقاس بينهما، فالخطابات الإلهية بنحو العموم ثابتة وتكون فعلية،
كان المكلف جاهلا أو عاجزا أولا، مصروفا عنه داعيه أولا، لكن الجاهل
العاجز معذور في تركه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الخروج عن محل الابتلاء لا يوجب
نقصانا في التكليف، ولابد من الخروج عن عهدته بترك ما يكون في محل
الابتلاء.
فإن قلت: هذا بالنسبة إلى حكم العقل، فما تقول في الأدلة النقلية
والأصول الشرعية كأصلي الطهارة والحلية، فإن جريان الأصل العملي
بالنسبة إلى الخارج عن محل الابتلاء مما لا معنى له، ومع عدم جريانه بالنسبة
إلى بعض الأطراف يكون جريانه بالنسبة إلى البعض الآخر مما لا مانع منه،
لعدم لزوم الإذن في المخالفة القطعية، والإذن في المخالفة الاحتمالية مما
لا مانع منه؟!
قلت: أولا: إن عدم جريان الأصول العملية في الخارج عن محل الابتلاء

(1) في صفحة: 214.
218

محل المنع، فإن جعل الطهارة والحلية الظاهريتين في المشكوك فيه بنحو الجعل
العام مما لا مانع منه، وليس لكل أحد أصل مجعول بالخصوص، بل الشارع
جعل الحلية والطهارة بنحو العموم للمشكوك فيه، ولازمه ترتيب الآثار
العملي، وليست الأدلة ناظرة إلى آحاد الأشخاص وآحاد الوقائع المشكوك
فيها، كما ذكرنا في أدلة الأحكام الواقعية (1).
وثانيا: لو سلم عدم جريانه في الطرف الخارج فلا يجري في الطرف
الآخر، لعين ما ذكرنا (2) من أن الأدلة العامة لا تصلح للترخيص بالنسبة إلى
أطراف المعلوم بالإجمال، بل لابد فيه من دليل دال على نحو الصراحة،
فراجع (3).
فتحصل مما ذكرنا: أن خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء مما لا تأثير له
في منجزية العلم الإجمالي.
وأما صحيحة علي بن جعفر - عليه السلام - عن أخيه - الواردة فيمن
رعف فامتخط، فصار الدم قطعا صغارا، فأصاب إناءه (4) - فحمله على

(1) انظر الصفحة السابقة.
(2) في صفحة: 205.
(3) وقد ذكرنا وجها آخر لعدم جريان الأصول في بعض الأطراف. [منه قدس سره]
(4) الكافي 3: 74 / 16 باب النوادر من كتاب الطهارة، الوسائل 1: 112 / 1 باب 8 من
أبواب الماء المطلق.
علي بن جعفر: هو العالم الكبير سليل العترة أبو الحسن علي بن الإمام جعفر الصادق بن
الإمام محمد الباقر بن الإمام السجاد بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب العريضي
الحسيني الهاشمي، روى عن أبيه الصادق وابن أخيه الرضا ولزم أخاه الإمام الكاظم وروى
219

العلم الإجمالي بإصابة ظهر الإناء أو باطنه المحتوي للماء، وحملها على خروج
ظاهر الإناء عن محل الابتلاء - كما صنع العلامة الأنصاري (1) رحمه الله -
فلا يخلو من غرابة، فإن ظاهر الإناء الذي يكون تحت يد المكلف وداخلا في
استعمالاته كيف لا يكون محل ابتلائه؟!
فلابد من حملها - بعد ظهورها في إصابة الماء -:
إما على ما ذهب [إليه] شيخ الطائفة (2) - رحمه الله - من أن الأجزاء
الصغار جدا - مما لا يدركها الطرف، ولابد لرؤيتها من استعمال الآلات
المكبرة - مما لا حكم له شرعا، لخروجها عن الموضوع العرفي، كالأجزاء
الصغار التي تكون بنظر العرف لونا، ولا ينافي العلم بالإصابة، فإن العلم بها
غير إدراك الطرف.
وإما حملها على إبداء الشك في أصل الإصابة مطلقا (3).
نعم حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة بعيد.
الأصل عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء
ثم لو قلنا بمقالة من قال بتأثير الخروج عن محل الابتلاء في عدم منجزية
عنه شيئا كثيرا، له كتاب (المسائل) المشهور المتداول. انظر الإرشاد للمفيد: 287،
عمدة الطالب: 241، معجم رجال الحديث 11: 307 / 7967.

(1) فرائد الأصول: 251 سطر 20.
(2) الاستبصار 1: 23 ذيل حديث 12 باب 10 في الماء القليل...، المبسوط 1: 7.
(3) مسالك الإفهام 1: 3 سطر 6 - 7، المعتبر: 11 سطر 12 - 13.
220

العلم الإجمالي (1) لو شككنا في الخروج عن محل الابتلاء لامن جهة الأمور
الخارجية، بل من جهة إجمال ما هو خارج عن مورد التكليف الفعلي، فهل
الأصل العقلي يقتضي الاحتياط أو البراءة؟
قد يقال بالأول قياسا بالشك في القدرة، بأن يقال: إن البيان المصحح
للعقاب عند العقل - وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين أمور - حاصل، وإن
شك في الخطاب الفعلي من جهة الشك في حسن التكليف وعدمه، وهذا
المقدار يكفي حجة عليه، نظير ما إذا شك في قدرته على إتيان المأمور به
وعدمها بعد إحراز كون ذلك الفعل موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا، فإنه
لا يجوز له التقاعد عن الإتيان بمجرد الشك في الخطاب الفعلي الناشئ
من الشك في القدرة (2).
هذا، ولكن التحقيق: أن الأصل هو البراءة بعد البناء على كون المتعلق
في محل الابتلاء من قيود التكليف وحدوده، لأن الشك يرجع إلى
الشك في أصل التكليف، ومجرد احتمال كون المبغوض في الطرف
هو المبتلى به لا يوجب تمامية الحجة على العبد، بل له الحجة من جهة شكه
في أصل التكليف، لاحتمال كون المعلوم في الطرف الآخر، فلا يؤثر
العلم الإجمالي.

(1) انظر فرائد الأصول: 251 سطر 3 - 10، الكفاية 2: 218 - 223، درر الفوائد 2: 120.
(2) انظر درر الفوائد 2: 121.
221

وأما قضية الشك في القدرة فهو أيضا كذلك لو قلنا بمقالة القوم (1)
من أن التكليف متقيد بالقدرة، وأنها من حدوده. وأما على ما هو التحقيق
- من أن التكاليف الشرعية فعلية حتى مع العجز العقلي، لكن معه
يكون المكلف معذورا في ترك التكليف الفعلي، وله الحجة عليه - فعند
الشك في القدرة لابد من الاحتياط، لأن التكليف الفعلي حجة إلا مع
إحراز العذر، ومع الشك فيه تكون الحجة تامة. فقياس باب القدرة
بما نحن فيه مع الفارق إلا على مبناهم، وعليه يكون الأصل البراءة في
كلا المقامين.
وقد يتمسك لوجوب الاحتياط بإطلاق أدلة المحرمات، بأن
يقال: لا إشكال في إطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر وشموله
لصورتي الابتلاء به وعدمه، والقدر الثابت من التقييد عقلا هو ما إذا كان
الخمر خارجا عن محل الابتلاء بحيث يلزم الاستهجان بنظر العرف، فإذا
شك فيه فالمرجع هو إطلاق الدليل، لأن المخصص مجمل دائر بين الأقل
والأكثر، ولا يسري إجماله إلى العام، خصوصا إذا كان لبيا، فإن في
المخصصات اللبية يتمسك بالعام ولو في الشبهة المصداقية، فضلا عن
المفهومية. والسر في التمسك بالعام في المخصصات اللبية هو أن العقل
لا يخرج العنوان عن تحت العموم، بل يخرج ذوات المصاديق الخارجية،

(1) فرائد الأصول: 438 سطر 19 - 20، فوائد الأصول 4: 53، نهاية الأفكار - القسم
الثاني من الجزء الثالث: 338 - 339.
222

فالشك يكون شكا في التخصيص الزائد، ولا تكون الشبهة مصداقية
كالمخصصات اللفظية.
فإن قلت: المخصصات اللبية الحافة بالكلام - كما نحن فيه - يسري
إجمالها إلى العام كالمخصصات اللفظية المتصلة المجملة.
قلت - مضافا إلى أنه يمكن منع كون المخصص هنا من الضروريات
المرتكزة في الأذهان -: إن هذا مسلم إذا كان الخارج عنوانا واقعيا غير
مختلف المراتب، كالفاسق المردد بين مرتكب الكبيرة أو الأعم، وأما إذا كان
عنوانا ذا مراتب مختلفة، وعلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشك في بعض
آخر، فلا، لأن الشك يرجع إلى التخصيص الزائد.
فإن قلت: التمسك بالإطلاق فرع إمكان الإطلاق الواقعي، وفيما نحن
فيه يكون الشك في صحة الإطلاق النفس الأمري، لاحتمال استهجان
التكليف.
قلت: هذا ممنوع، لأن التمسك بالإطلاق لو كان فرع الإمكان الواقعي
لما جاز التمسك به مطلقا، لأن في كلية الموارد يكون الشك في إمكان
الإطلاق النفس الأمري، خصوصا على مذهب العدلية من تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد، فإن الشك يرجع إلى الشك في وجود مصلحة أو
مفسدة، ويمتنع الإطلاق مع عدمهما، فكما أن الإطلاق يكشف عن المصلحة
النفس الأمرية، فكذلك يكشف عن عدم الاستهجان.
هذا محصل تقرير كلمات بعض الأعاظم في جواز التمسك بالإطلاق
223

فيما نحن فيه (1).
وفيه أولا: أن منع كون المخصص هنا ضروريا مرتكزا في الأذهان
قابل للمنع. مضافا إلى أن التحقيق أن إجمال المخصص اللبي - الذي مثل
ما نحن فيه - يسري إلى العام ولو كان نظريا، ضرورة أنه بعد النظر يكشف
العقل بأن الخطاب من الأول غير متوجه إلى الخارج عن محل الابتلاء، ففرق
بين ورود المخصص منفصلا، وبين الغفلة عن الواقع والعلم بمحدودية الخطاب
وتقييده من أول الأمر. وهذا نظير كشف القرينة اللفظية الحافة بالكلام
بعد حين.
وبالجملة: إذا علم بعد النظر أن الخطاب لا يتوجه إلى العاجز من أول الأمر،
وأن الخارج عن محل الابتلاء خارج، والخطاب محدود بالداخل في محل
الابتلاء، يسري الإجمال بلا إشكال (2).
وثانيا: أن إجمال المخصص اللبي الحاف بالكلام كالمخصص اللفظي
المتصل به يسري إلى العام بلا كلام، ضرورة أن ظهور العام لا ينعقد إلا في
المقدار المتقيد، والفرض أن القيد مجمل دائر بين الأقل والأكثر، فلا يكون
العام المتقيد حجة إلا في القدر المتيقن. كما أن التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية في المخصص اللبي لا يجوز أيضا، ولافرق بينه وبين المخصص
اللفظي.

(1) فوائد الأصول 4: 57 وما بعدها.
(2) الكلمتان (بلا إشكال) غير واضحة في الأصل وأثبتناهما استظهارا.
224

وما قال بعض المحققين (1) تبعا للشيخ الأنصاري (2) على ما نقل عنه -:
من أن السر في الجواز في اللبي أن العقل يخرج ذوات المصاديق، لا العنوان
حتى تصير الشبهة فيه مصداقية، بل - تصير من قبيل التخصيص الزائد -
ممنوع، فإن العقل قد يخرج الأفراد بملاك واحد، وقد يخرج كل فرد بملاك
يخصه:
فإن كان من قبيل الثاني فلا إشكال في جواز التمسك بالعام، فإن الشك
في الفرد الآخر يكون من قبيل الشك في التخصيص الزائد، لكن المخصص
اللفظي - أيضا - لو أخرج كل فرد بعنوان خاص به يكون كذلك.
وإن كان من قبيل الأول - أي يكون الإخراج بملاك واحد في الكل، كما
لو كانت العداوة ملاك الخروج - فلا إشكال في أن المخرج هو العنوان
الوحداني، ويكون المخصص واحدا، لا كثيرا، وتصير الشبهة مصداقية، لا يمكن
التمسك بالعام فيها لعين ما ذكر في المخصص اللفظي.
وما قيل: - إن الجهات قد تكون تعليلية في اللبيات، ويخرج العقل نفس
الأفراد بالجهة التعليلية (3) - فليس بشئ، فإن كلية الجهات التعليلية عند
العقل ترجع إلى الجهات التقييدية، فلو قيل: " لا تشرب الخمر لأنه مسكر "
فالمسكرية جهة تعليلية في القضية اللفظية، لكن العقل يرى الموضوع بحسب

(1) انظر فوائد الأصول 2: 537.
(2) مطارح الأنظار: 194 سطر 24 - 30 و 195 سطر 13 - 16.
(3) فوائد الأصول 1: 288.
225

الواقع هو المسكر، ويثبت الحكم للمسكر.
وبالجملة: لا نجد فرقا بين اللفظيات واللبيات من هذه الجهة أصلا.
وثالثا: أن ما أفاده بعض أعاظم علماء العصر - رحمه الله -: من الفرق بين
المخصص الذي له عنوان واقعي غير ذي مراتب، وبين الذي له مراتب
مختلفة، وجوز التمسك بالعام في الثاني حتى في المخصص المتصل - لفظيا
كان أو لبيا - دون الأول، معللا بأن الشك في الثاني يرجع إلى التخصيص
الزائد فيما عدا المراتب المتيقنة (1).
ففيه أولا: لم يتبين الفرق بين مفهوم الفاسق ومفهوم الخارج عن محل
الابتلاء، حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأول، مع أن الخروج عن
طاعة الله له مراتب مختلفة: مرتبة منه ارتكاب الصغائر، ومرتبة منه أشد منه
هو ارتكاب الكبيرة، ومرتبة أشد منهما هو ارتكاب الموبقات، ونشك في
مفهوم الفاسق أنه مطلق الخارج عن طاعة الله أو الخارج عنها بمرتبة شديدة،
كما أن البلاد مختلفة المراتب من حيث القرب والبعد، فبعضها في أقصى
بلاد المغرب، وبعضها أقرب منه، ونشك في أن الخارج عن محل الابتلاء هو
البلاد النائية جدا أو الأعم منها. ولعل مفهوم الفاسق أولى بادعاء كونه ذا
مراتب من مفهوم الخارج عن محل الابتلاء.
وثانيا: أن دعوى عدم سراية الإجمال إلى العام في المخصص المتصل
إذا كان مفهوم الخص ذا مراتب، ممنوعة، فلو ورد: " أكرم العلماء إلا

(1) فوائد الأصول 4: 60.
226

الأبيض منهم " وشككنا في أن الخارج هو الأبيض الشديد أو أعم منه، فلا
إشكال في عدم جواز التمسك بالعام لوجوب إكرام الأبيض الناقص،
لرجوعه إلى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس العام،
لا المخصص، لأنه ليس للكلام حينئذ إلا ظهور واحد، فمع إجمال القيد
لا يعقل عدم السراية.
وثالثا: فرض كون مفهوم ذا مراتب، وشك في خروج بعض مراتبه من
العام، خروج عن الشبهة المفهومية، لأن معناها أن المفهوم مجمل في مقام
مفهوميته، فلا يعلم انطباقه على موضوع، مثل مفهوم الفاسق المردد بين كونه
بمعنى مرتكب الكبائر أو الأعم، فيكون الشك في انطباق مفهوم الفاسق على
مرتكب الصغيرة، وأما لو علم أن مفهوما له مراتب، وشك في خروج بعض
مراتبه بعد العلم بخروج بعضها، فهو خارج عن الشبهة المفهومية، وداخل في
إجمال المراد بعد كون المفهوم مبينا.
وأما ما ذكر - أن التمسك بالإطلاق والعموم ليس مشروطا بإحراز إمكان
الإطلاق [والعموم] وإلا لا نسد باب التمسك بهما، خصوصا على مذهب
العدلية - ففيه: أنه فرق واضح بين قضية استهجان الخطاب وغيره، فإن في
الشك في التقييد أو التخصيص في موارد أخر يكون الخطاب تاما متوجها إلى
المكلف، ويكون الأصل العقلائي هو مطابقة الإرادة الاستعمالية للجذية، ثم
إذا شك في التقييد أو التخصيص تكون أصالة الإطلاق أو العموم محكمة.
وكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد النفس الأمرية مما يغفل عنه العامة،
227

وإنما هو أمر مبحوث عنه عند العلماء الباحثين عن دقائق المسائل، فإذا ورد:
" أكرم العلماء " يفهم العرف والعقلاء وجوب إكرام كل عالم، وعند الشك
في التخصيص يتمسكون بالعام من غير توجه إلى إمكان الإطلاق النفس
الأمري على مسلك العدلية. وهذا بخلاف قضية استهجان الخطاب مما يكون
كالضروري عندهم، ولو شك في استهجانه ولغويته لا يكون بناؤهم على
التمسك بالإطلاق لكشف حاله، فالتمسك بأصالة الإطلاق فرع إحراز
إمكانه بهذا المعنى.
فتحصل مما ذكرنا: أن التمسك بالإطلاق - كما أفاد الشيخ، وقرره بعض
أعاظم العصر، وشيد أركانه - مما لا يجوز.
في الشبهة الغير المحصورة
قوله: الثالث: أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم... إلخ (1).
عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة في الجملة مما لا إشكال
فيه، وعليه دعوى الإجماع، بل الضرورة (2) وإنما الكلام في وجهه. ولابد
أن يمحض الكلام فيها بحيث لو كانت محصورة وجب الاحتياط، ففرض
خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو الاضطرار إلى بعضها، أو

(1) الكفاية 2: 223.
(2) انظر روض الجنان: 224 سطر 18 - 21، حاشية مدارك الأحكام للوحيد البهبهاني:
26 - العمود الأيمن سطر 8.
228

حرجية الاحتياط، خروج عن محل البحث.
في الاستدلال على عدم وجوب الاحتياط في المقام
وقد اضطرب كلام القوم (1) في ميزان الشبهة الغير المحصورة، والسر في
عدم وجوب الاجتناب عن بعض أطرافها أو جميعها.
وأسد ما قيل في المقام هو ما أفاده شيخنا العلامة الحائري - قدس سره -
لكنه لأجل شبهة أشكل عليه الأمر في عدم وجوب الاحتياط.
قال - قدس سره -: غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط:
هو أن كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلا في طرف
خاص، بحيث لا يعتني به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي، فيكون في كل
طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائي على عدم كون الحرام
فيه (2) انتهى.
وإن شئت توضيح ذلك وتصديقه فارجع إلى طريقة العقلاء ترى أن كثرة
الأطراف قد تكون بحد يعد الاعتناء ببعضها خروجا عن طريقة العقلاء
وحكم العقل، مثلا: لو كان الإنسان في بلد له عشرة آلاف بيت، وسمع أنه
وقع في واحد من بيوت البلد حريق، فوثب للتفتيش عن الواقعة، وأظهر

(1) انظر مدارك الأحكام: 174 سطر 4، روض الجنان: 224 سطر 18 - 23، فرائد
الأصول: 260 - 261، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 328 - 329،
فوائد الأصول 4: 117.
(2) درر الفوائد 2: 125.
229

الوحشة والاضطراب، معللا بأنه يمكن أن يكون في بيتي، لعد عند العقلاء
ضعيف العقل، وليس ذلك إلا لكثرة الأطراف وضعف الاحتمال، وإلا فالعلم
الإجمالي محقق، وبيته أحد الأطراف، غرضه تام في حفظ بيته.
ولو سمع أحد أن واحدا من أهل بلدة فيها مائة ألف نسمة قتل [وكان]
ولده العزيز فيها، فاضطرب من هذا الخبر، ورتب عليه الأثر من التفتيش عن
حال ولده وإظهار الوحشة والاضطراب، لعد سفيها ضعيف العقل، وليس
ذلك إلا لكثرة الاحتمال، وأن العقلاء لا يعتنون به لأجل موهوميته، وهذا
واضح.
وأما الشبهة التي أوقعت شيخنا العلامة في التأمل في ذلك (1) فقد مرت
مع جوابها في خلال المباحث السالفة (2) وحاصلها: أن الاطمئنان بعدم
الحرام في كل واحد من الأطراف لا يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها.
وجوابه: أن ما لا يجتمع هو الاطمئنان بعدم الحرام في كل من الأطراف
بنحو السالبة الكلية مع العلم بوجوده بينها، وأما الاطمئنان بعدم الحرام في
واحد في مقابل البقية، ومقايسة احتمال واحد في مقابل مائة ألف احتمال،
فلا مانع من اجتماعه معه، فكل واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل
البقية يكون احتمالا واحدا في مقابل الاحتمالات الكثيرة، ولا إشكال في
ضعف احتمال واحد في مقابل مائة ألف احتمال.

(1) نفس المصدر السابق.
(2) انظر صفحة: 187.
230

وبهذا يتضح الضابط في الشبهة الغير المحصورة، وهو أن الكثرة تكون
بمثابة لايعتنى العقلاء باحتمال كون الواقع في بعض الأطراف في مقابل
البقية، لضعف الاحتمال الحاصل لأجل الكثرة (1).

(1) ويمكن الاستدلال على المطلوب بطوائف من الروايات:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه) (أ) فهي ظاهرة في
خصوص العلم الإجمالي كما قررنا سابقا (ب) خرج منها الشبهة المحصورة إما بالإجماع
أو العقل، وبقيت الشبهة الغير المحصورة.
وتوهم ندرة الغير المحصورة في غاية السقوط، ضرورة أن غالب الشبهات غير
محصورة، وقد تتفق المحصورة لبعض المكلفين.
ومنها: الروايات الواردة في باب الجبن، كمرسلة معاوية بن عمار عن أبي جعفر،
وفيها: (سأخبرك عن الجبن وغيره: كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال، حتى
تعرف الحرام فتدعه بعينه) (ج) وقريب منها رواية عبد الله بن سليمان (د).
ومصب هذه الروايات هو الشبهة الغير المحصورة، كما تشهد به رواية أبي الجارود،
قال: (سألت أبا جعفر عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال:
أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة
فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشتر، وبع، وكل، والله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم
والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون، هذه البربر وهذه السودان) (ه‍)؟!
وأورد عليها الشيخ الأعظم: باحتمال أن المراد جعل الميتة في الجبن في مكان واحد
لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره من الأماكن، فيكون خارجا عن المدعي، وأما قوله:
(ما أظن كلهم يسمون) فالمراد منه عدم وجوب الظن أو القطع بالحلية، بل يكفي أخذها
من سوق المسلمين، إلا أن يقال: إن سوق المسلمين غير معتبر مع العلم الإجمالي،
فلا مسوغ للارتكاب إلا كون الشبهة غير محصورة. ثم أمر بالتأمل (و).
وأنت خبير بأن احتماله الأول في غاية البعد عن مساق الرواية، خصوصا مع ذيلها مما هو
231

...
كالنص في العلم الإجمالي، ومعلوم أن ذيلها لم يكن أمرا أجنبيا عن الصدر. كما
أن قوله: (ما أظن...) إلخ ظاهر في أن القطع حاصل بعدم التسمية، فإن الطائفتين غير
مسلمين، فلا إشكال في دلالتها على المطلوب.
نعم هي ضعيفة السند كرواية عبد الله بن سليمان، وفيهما احتمال التقية كما مر سابقا.
ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبد الله في بعض عمال بني أمية، وفيها: (إن كان خلط
الحرام حلالا فاختلطا جميعا، فلم يعرف الحرام من الحلال، فلا بأس) (ز). ولا يبعد أن
يكون موردها الغير المحصورة.
ومنها: صحيحتا الحلبي وأبي المعزى في باب الربا (ح) وموردهما - أيضا - العلم
الإجمالي، والظاهر أن مصبهما الغير المحصورة، إلى غير ذلك.
ومقابلها روايات أخر محمولة على المحصورة كروايات التخميس (ط) فإنها محمولة
على ما جهل المقدار واحتمل مقدار الخمس والزيادة والنقيصة، وأما لو علم أن في
ماله - الذي بلغ خمسين ألف دينار - دينارا من الحرام لا إشكال في عدم وجوب الخمس.
وبالجملة: دلالة الروايات على الشبهة الغير المحصورة واضحة. نعم يخرج منها بعض
الموارد، كما لو عرف صاحب المال فيجب التخلص من ماله. ومحل الكلام في سائر
الأقسام في الفقه. [منه قدس سره]
(أ) الكافي 5: 313 / 39 باب النوادر من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 59 / 1 باب 4
من أبواب ما يكتسب به.
(ب) في صفحة: 72.
(ج) المحاسن للبرقي: 496 / 601 باب 75 في الجبن من كتاب المآكل، الوسائل 17:
92 / 7 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
(د) الكافي 6: 339 / 1 باب الجبن من كتاب الأطعمة، المحاسن للبرقي: 495 / 596
باب 75 في الجبن من كتاب المآكل، الوسائل 17: 90 / 1 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
(ه‍) المحاسن للبرقي: 495 / 597 باب 75 في الجبن من كتاب المآكل، الوسائل 17:
232

وبهذا يظهر: أن المكلف لو شرع في الأطراف قاصدا ارتكاب جميعها
- ولو في طول سنين - لم يكن معذورا، لأن التكليف باق على فعليته. وكذا
لو قسم الأطراف الغير المحصورة بأقسام معدودة محصورة، وأراد ارتكاب
بعض الأقسام الذي يكون نسبته إلى البقية نسبة محصورة، كأن تكون
الأطراف عشرة آلاف، وقسمها عشرة أقسام، وأراد ارتكاب قسم منها، فإنه
غير معذور فيه، لأنه من قبيل الشبهة المحصورة، لعدم كون احتمال الواقع في
القسم الذي أراد ارتكابه ضعيفا بحيث لا يعتني به العقلاء. نعم بناء على أن
يكون المستند الأخبار يجوز ارتكاب الجميع.
وكذا الحال في الشبهة الوجوبية: فإنه لو كان أطرافها كثيرة
- بحيث لا يعتني العقلاء بكون الواجب في بعض الأطراف في مقابل البقية -
لم يجب الاحتياط، كما لو نذر شرب كأس، واشتبه بين غير محصور
تكون جميع أطرافه محل ابتلائه، ثم خرج جميع الأطراف عن محل
91 / 5 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة.
(و) فرائد الأصول: 259 سطر 6 - 10.
(ز) الكافي 5: 126 / 9 باب المكاسب الحرام من كتاب المعيشة، الوسائل 12: 59 /
2 باب 4 من أبواب ما يكتسب به، باختلاف يسير عن رواية الكافي.
(ح) الكافي 5: 145 / 4 - 5 باب الربا من كتاب المعيشة، التهذيب 7: 16 / 69 - 70
باب 1 في فضل التجارة..، الوسائل 12: 431 / 2 - 3 باب 5 من أبواب الربا.
(ط) الفقيه 3: 117 / 35 باب 60 في الدين والقروض، الوسائل 6: 352 - 353 باب
10 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
233

الابتلاء، وبقى واحد منها، ففي هذه الصورة لا يكون الاحتياط واجبا، لقيام
الأمارة العقلائية على عدم كونه هو الواقع، ولا يعتني العقلاء بمثل هذا
الاحتمال الضعيف.
نعم لو تمكن المكلف من إتيان عدة من الأطراف يكون نسبتها إلى البقية
نسبة محصورة وجب الاحتياط، فلو تمكن من إتيان ألف من بين عشرة آلاف
وجب عليه الاحتياط.
وبما ذكرنا ظهر حال الشبهة الغير المحصورة موضوعا وحكما.
مناقشة بعض الأعاظم في ضابط الشبهة الغير المحصورة
ولقد تصدى بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريراته - لبيان
ضابطها، فقال ما حاصله: والأولى أن يقال: إن ضابطها أن تبلغ الأطراف
حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال، من أكل وشرب وأمثالهما، فلو علم
نجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة لا يكون من غير المحصور، لإمكان
استعمال الحقة، مع أن نسبتها إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف،
وأما لو علم نجاسة إناء من لبن البلد فيكون منه، ولو لم تبلغ الأواني ألفا، لعدم
التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال، وإن كان المكلف متمكنا
من آحادها، فليس العبرة بكثرة العدد فقط، إذ رب كثير تكون الشبهة فيه
محصورة كالحقة من الحنطة، كما لا عبرة بعدم التمكن من الجمع فقط، إذ
ربما لا يتمكن عادة والشبهة محصورة، ككون أحد الأطراف في أقصى بلاد
234

المغرب، بل لابد من الأمرين: كثرة الأطراف، وعدم التمكن العادي
من الجمع، وبهذا تمتاز الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في الشبهة
المحصورة من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد من أطرافها، فإن إمكان
الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع، فالشبهة الغير المحصورة
ما تكون كثرة الأطراف فيها بحد يكون عدم التمكن في الجمع في
الاستعمال مستندا إليها.
ومن ذلك يظهر حكمها، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية، وعدم وجوب
الموافقة القطعية:
أما عدم الحرمة فلأن المفروض عدم التمكن العادي منها.
وأما عدم وجوب الموافقة القطعية فلأن وجوبها فرع حرمة المخالفة
القطعية، لأنها هي الأصل في باب العلم الإجمالي، لأن وجوب الموافقة
القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف، وتعارضها يتوقف على
حرمة المخالفة القطعية، فيلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية
للتكليف، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية لم يقع التعارض بين الأصول، ومعه
لا يجب الموافقة القطعية (1) انتهى.
وفيه أولا: أن المراد من عدم التمكن من الجمع في الاستعمال: إما أن
يكون عدم التمكن دفعة، وإما أن يكون أعم منه ومن عدمه تدريجا ولو في
ظرف سنين متمادية.

(1) فوائد الأصول 4: 117 وما بعدها.
235

فعلى الأول يلزم أن يكون غالب الشبهات المحصورة من غيرها، وعلى
الثاني يلزم أن يكون غالب الشبهات الغير المحصورة من المحصورة، فإنه قلما
يتفق عدم إمكان الجمع بين الأطراف ولو في ستين سنة، فلو كان جميع
الأطراف في محل الابتلاء، وتمكن المكلف من جمعها في الاستعمال ولو
تدريجا في سنين متمادية، كانت الشبهة - بناء على هذا الضابط - محصورة،
وهذا مما لا يمكن الالتزام به.
لا يقال: إن ارتكاب جميع الأطراف في السنين المتمادية مما لا يمكن نوعا،
لفقدان بعض الأطراف في طول المدة لا محالة. مع أن تأثير العلم في
التدريجيات محل إشكال.
فإنه يقال: - مضافا إلى أن فرض الفقدان خلاف المفروض - إن فقدان
بعض الأطراف بعد العلم لا يضر بتنجز العلم الإجمالي في بقية الأطراف.
وتأثير العلم في التدريجي من حيث الاستعمال مما لا إشكال فيه، وفي
التدريجي من حيث الوجود - أيضا - مؤثر على الأقوى.
وأما ثانيا: فلأن الميزان في تأثير العلم الإجمالي هو فعلية التكليف، وعدم
استهجان الخطاب، والفرض أن مورد التكليف يكون محل الابتلاء، لأن كل
واحد من الأطراف مما يمكن استعماله ويكون محل الابتلاء، فتعلق التكليف
به مما لا مانع منه، وأما الجمع بين الأطراف وعدمه فمما لا يكون متعلقا
لخطاب وتكليف، وإنما هو حكم العقل في أطراف العلم الإجمالي لاغير،
فما يكون متعلق التكليف يكون المكلف متمكنا من إتيانه، لأنه متمكن
236

بالنسبة إلى كل واحد منها، والمكلف به لا يكون خارجا منها، ومالا يكون
متمكنا منه - وهو الجمع في الاستعمال - لم يتعلق به تكليف من المولى،
فالعلم الإجمالي منجز بالنسبة إلى الأطراف وإن لم يتمكن المكلف من الجمع
بينها، ونتيجته حرمة المخالفة الاحتمالية بارتكاب بعض الأطراف، فارتكاب
بعضها لا يجوز عقلا، لتعلق العلم بالتكليف الفعلي وكونه منجزا بالنسبة إلى
جميع الأطراف.
فاتضح بما ذكرنا النظر فيما ادعى في ذيل كلامه: من عدم حرمة المخالفة
القطعية، وعدم وجوب الموافقة القطعية، لأجل تفرع الثانية على الأولى.
كما اتضح بما أسلفناه - من ضابط الشبهة الغير المحصورة، وأنه معه لافرق
بين الشبهات التحريمية والوجوبية - النظر فيما ذكر في ذيل التنبيه بقوله:
ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنما يختص بالشبهات
التحريمية... إلخ (1) فراجع.
تنبيه
في سقوط حكم الشك البدوي بعد سقوط العلم الإجمالي
بناء على ما ذكرنا في الشبهة الغير المحصورة - من أن العقلاء لا يعتنون
بالعلم الإجمالي بالنسبة إلى بعض الأطراف، بل يكون الاعتناء به. من
الوسوسة وخلاف المتعارف لديهم - يسقط حكم الشك البدوي - أيضا - عن

(1) فوائد الأصول 4: 119.
237

بعض الأطراف بعد سقوط العلم الإجمالي، فلو علم إجمالا بكون مائع
مضاف بين الأواني الغير المحصورة من الماء جاز التوضي ببعض الأطراف،
لقيام الطريق العقلائي على عدم كونه مضافا، فلا يجري فيه حكم الشك
البدوي أيضا.
وأما على ما أفاد المحقق المتقدم من الضابط فلازمه عدم سقوط حكم
الشك، لأن عدم حرمة المخالفة القطعية الجائية من قبل عدم إمكان الجمع في
الاستعمال، اللازم منه عدم وجوب الموافقة القطعية، لا يلازم سقوط حكم
الشك كما لا يخفى، مع أن الفاضل المقرر - رحمه الله - قال: إنه
- رحمه الله - كان يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضا (1) وهذا مما لاوجه له
على مبناه، ومتجه على ما ذهبنا إليه.
في ملاقي بعض أطراف المعلوم بالإجمال
قوله: الرابع: أنه إنما يجب عقلا... إلخ (2).
هاهنا جهات من البحث:
الجهة الأولى
في صور العلم بالملاقاة
أن العلم بالملاقاة قد يكون بعد العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف،

(1) فوائد الأصول 4: 122.
(2) الكفاية 2: 224.
238

وقد يكون قبله، وقد يكون مقارنا له، وعلى أي حال: قد يكون الملاقى
- بالفتح - خارجا عن محل الابتلاء رأسا، ولا يعود إليه، وقد يكون عائدا إليه
بعد خروجه حين العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف، وأمثلتها
واضحة.
الجهة الثانية
ما هو الأصل العقلي في هذه الصور؟
قد يقال: إن الأصل العقلي في جميعها يقتضي البراءة، لأن العلم
الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف منجز لها، فإذا علم بالملاقاة، أو بكون
نجاسة الملاقي - على فرض كونه نجسا - من الملاقي، لا يؤثر العلم الإجمالي
الثاني، لأن العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف تكون رتبته سابقة على
العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - والطرف، سواء كان بحسب الزمان مقارنا
له، أو متقدما عليه، أو متأخرا عنه، فينجز الأطراف في الرتبة السابقة على
تأثير العلم الثاني، وبعد تنجيز الأول الأطراف لا يمكن أن يؤثر العلم الثاني،
لعدم إمكان تنجز المنجز، للزوم تحصيل الحاصل.
فإذا علم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو الطرف، ثم علم بنجاسة الملاقى
- بالفتح - أو الطرف، وأن نجاسته - الملاقي بالكسر - على فرضها تكون من
الملاقي، ينجز العلم المتأخر زمانا أطرافه في الرتبة السابقة، لأن معلومه يكون
متقدما على المعلوم الأول، والمناط في التنجيز هو تقدم المعلوم زمانا أو رتبة،
239

لا العلم، كما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم في أحد الأواني الثلاث، ثم
علمنا بوقوع قطرة منه قبله في أحد الإناءين منها، يكون العلم الأول بلا أثر،
ولا يجب الاجتناب عن الطرف المختص به، لأن العلم الثاني يؤثر في تنجيز
معلومه في الزمان السابق على العلم الأول..
وبالجملة: بعد تقدم تنجز الملاقى - بالفتح - على الملاقي - بالكسر -
بالرتبة، يكون العلم المتعلق بالملاقي والطرف في جميع الصور بلا أثر فيجب
الاجتناب عن الملاقى - بالفتح - والطرف دون الملاقي.
وأما قضية الخروج عن محل الابتلاء، فمضافا إلى ما أسلفناه (1) من عدم
مانعيته عن تأثير العلم الإجمالي أساسا، سيأتي (2) أن المقام له خصوصية
لأجلها لا يكون الخروج عن محل الابتلاء مانعا عن تأثير العلم.
لا يقال: إن العلم الثاني وإن كان معلولا للعلم الأول ومتأخرا عنه
رتبة، لكن لم لا يجوز أن يصيرا بجامعهما منجزين بالنسبة إلى المعلوم الأول؟
وبعبارة أخرى: يمكن أن ينجز العلم السابق رتبة الطرفين حدوثا، وبعد تولد
العلم الثاني من الأول يؤثر العلم الأول والثاني - أي المعلول والعلة - بجامعهما
في تنجيز الطرفين، ويستقل المعلول في تنجيز الملاقي بالكسر، وترتبهما لا يضر
بتأثير جامعهما.
فإنه يقال: إن قضية تأثير الجامع في العلل التكوينية - أيضا - مما لا أساس

(1) في صفحة: 214 وما بعدها.
(2) في صفحة: 251.
240

له، وإنما هو كلام صدر ممن لأقدم راسخ [له] في العلوم العقلية (1) اغترارا
ببعض الأمثلة الجزئية مما لامساس لها بالصادرية والمصدرية بنحو الفاعلية
الإلهية، كتأثير النار والشمس في حرارة الماء، وتأثير " البندقتين " في قتل
الإنسان، وأمثالهما من الفواعل الطبيعية، وهذه مسألة [ليس] هاهنا مقام
التعرض لها، وإنما حصل الاشتباه فيها من الخلط بين الفواعل الإلهية
والطبيعية، ثم بعد هذا الاشتباه انجر الأمر إلى أن اتسعت دائرته، وجر ذيله
إلى الأمور الاعتبارية والمعاني العقلائية المبحوث عنهما في مثل علم
أصول الفقه، فيقال - مثلا -: إن موضوع علم الأصول لابد وأن يكون
واحدا، لقاعدة عدم صدور الواحد إلا من الواحد، وإن الصلاة حقيقة واحدة
لتلك القاعدة، وإن العلم في المنجزية لابد وأن يكون واحدا في التأثير، ومع
اجتماع العلمين يكون الجامع مؤثرا، كل ذلك للخلط الواقع بين مسائل
العلوم العقلية الإلهية وغيرها من العلوم الرسمية المفترقة عنها موضوعا،
ومحمولا، وبرهانا.
ففيما نحن فيه ليس تأثير وتأثر وتأثر ومؤثر وصدور وصادر، حتى يأتي فيه
ما ذكر في غيره من تأثير الجامع عند الاجتماع، وإن كان تأثيره - أيضا - غير
معقول كما هو ظاهر عند أهله، فتعلق العلم بموضوع ذي أثر شرعي يتم
الحجة على العبد، وينجز الواقع، ويحكم العقل بلزوم الاجتناب عن
الأطراف، لتمامية الحجة، ولا معنى لتمامية الحجة مرتين بالنسبة إلى موضوع

(1) انظر درر الفوائد - طبعة جامعة المدرسين - 1: 192 هامش رقم 1.
241

واحد، فلو علم بنجاسة بعض الأطراف تمت الحجة على العبد، ويتنجز
النجس في البين، بحيث لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان
مستحقا للعقوبة، ولا معنى لحصول هذا الأمر مرتين بالنسبة إلى موضوع
واحد.
نعم لو علم بنجاسة أخرى غير الأولى صار العلم بها - أيضا - منخزا
للأطراف، بحيث لو ارتكب الاثنين وصادفا للواقع صار مستحقا للعقوبة
بالنسبة إليهما.
ففي باب الملاقي والملاقى يكون العلم الإجمالي بنجاسة في البين حجة
على مكلف ومنجزا للأطراف، بحيث لو ارتكب بعضها وصادف الواقع صار
مستحقا للعقوبة، وعند حصول الملاقاة يعلم إجمالا بأن الملاقي - بالكسر - أو
الطرف نجس، لكن العلم الأول صار منجزا للطرف بما ذكرنا، ولا معنى
للتنجيز فوق التنجيز، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدوية (1).

(1) هذا، ولكن الحق هو التفصيل الذي اختاره المحقق الخراساني (أ) - رحمه الله - فإن شرط
منجزية العلم الإجمالي هو أن يكون كاشفا فعليا ومنجزا فعليا على جميع التقادير، ومع
تعلق العلم بالملاقي - بالكسر - والطرف يكون العلم كاشفا فعليا عن التكليف بينهما
ومنجزا فعليا على جميع التقادير، فإذا حصل العلم بأن نجاسة الملاقي - على فرضها -
فمن الملاقي، يحدث علم إجمالي، لكنه لا يمكن أن يتصف بالكاشفية الفعلية ولا
بالمنجزية الفعلية على جميع التقادير، فإنه على تقدير كون النجس هو الطرف يكون مكشوفا فعليا
بالعلم الأول ومنجزا فعليا به، ولا يعقل تعلق كشف فوق الكشف، ولا تنجيز فوق التنجيز،
وتوهم انقلاب العلم والتظير بالعلم بوقوع القطرة في غير محله، لأن العلم الأول باق
على ما هو عليه بالضرورة، بخلافه في المثال المتقدم، لأنه إذا علم بعد العلم بوقوع قطرة في
242

إحدى الكؤوس أنه وقعت قطرة قبل القطرة المعلومة (ب) أولا في إحدى الكأسين يعلم
بأن علمه (ج) بالتكليف على أي تقدير كان جهلا مركبا، لأن القطرة إذا كانت واقعة (فيما
وقعت) (د) فيه القطرة قبلا لم تحدث تكليفا، فالعلم الثاني يكشف عن بطلان العلم الأول،
بخلاف (ما نحن فيه) (ه‍)، فإن العلم الأول باق على ما هو عليه، ومانع عن (و) وقوع
كشف وتنجيز بالنسبة إلى التكليف الثاني كان في الطرف.
وبهذا يظهر (الحال في الصورة الثالثة) (ز)، وأن العلم متعلق بتكليف فعلي منجز إما في
الطرف وإما في الملاقي والملاقى، فالعلم كاشف فعلي ومنجز كذلك بالنسبة إلى جميع
الأطراف.
ثم اعلم: أنه لا تأثير لتقدم الرتبة عقلا في تقدم التنجيز - كما اشتهر في الألسن (ح) -
ضرورة أن التنجيز إنما هو أثر العلم في الوجود الخارجي، وتقدم السبب على المسبب
ليس تقدما خارجيا، بل هو معنى يدركه العقل، وينتزع من نشوء أحدهما عن الآخر،
فالعلم الإجمالي المتعلق بالملاقى - بالفتح - والطرف لو كان مقدما على العلم الإجمالي
بالملاقي والطرف في الرتبة العقلية لا يوجب تقدمه في التنجيز، حتى يصير مانعا من
تنجيز المتأخر رتبة، فالعلم إذا تعلق بالأطراف بعد العلم بالملاقاة، والعلم بأنه ليس
للملاقي نجاسة غير ما اكتسب من الملاقى، لكن حصل العلم الإجمالي بنجاسة الطرف
والملاقى في زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقي - بالكسر - والطرف، يكون منجزا،
ويجب الاجتناب عن جميع الأطراف.
وما ذكرنا من عدم تأثير التقدم الرتبي (ط) باب واسع يتسع نطاقه إلى الأصل السببي
والمسببي مما جعل الشيخ الأعظم (ي) من وجوه تقدمه عليه هو التقدم الرتبي، وتبعه
شيخنا العلامة (ك) - أعلى الله مقامه - ويأتي التفصيل في الاستصحاب (ل) إن شاء الله.
[منه قدس سره]
(أ) الكفاية 2: 4 22 - 227.
(ب - د) لم تظهر هذه الكلمات في الخطوط، فأثبتناها استظهارا.
(ه‍ - و، ط) هذه الكلمات اختفى أكثر حروفها، فأثبتناها استظهارا أيضا.
243

الجهة الثالثة
بيان الأصل الشرعي في الملاقي
بناء على ما قويناه من عدم جريان الأصول الشرعية في أطراف المعلوم
بالإجمال، وأن الأدلة العامة غير وافية للترخيص ولو في بعض الأطراف،
لايبقى إشكال بالنسبة إلى جريان الأصول في الملاقي في الصورة الأولى
والملاقى - بالفتح - في الثانية، بعد عدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه، وأنه
كالشبهة البدوية عقلا، فإن الأصل - بناء عليه - لا معارض له.
وأما بناء على جريانها في الأطراف وسقوطها بالمعارضة، فقد تصدى
المحققون لرفع التعارض (1): بأن الأصل في الملاقي حاكم على الأصل في
الملاقي - بالكسر - لكون الشك في طهارته ونجاسته ناشئا من الشك في
الملاقي، فجريان الأصل فيه يرفع الشك عن ملاقيه، فلا مجرى للأصل في
الملاقي في رتبة جريان الأصل في الملاقى - بالفتح - فأصالة الطهارة في الملاقى
- بالفتح - معارضة لمثلها في الطرف، وبعد سقوطهما تبقى في الملاقي جارية
(ح) فوائد الأصول 4: 1 8 - 82، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 358 -
359.
(ي) فرائد الأصول: 253 - 254.
(ك) درر الفوائد 2: 258 - 259.
(ل) انظر رسالة الاستصحاب ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام (قدس سره): 246 - 249.

(1) انظر فرائد الأصول: 253 - 254، فوائد الأصول 4: 82.
244

بلا معارض، من غير فرق بين تأخر العلم بالملاقاة عن العلم بنجاسة بعض
الأطراف أو تقدمه أو مقارنته، ومن غير فرق بين خروج الملاقى - بالفتح - عن
محل الابتلاء ثم عوده إليه وغيره، وذلك لأن رتبة السبب مقدمة على
المسبب، والأصل الجاري فيه يرفع الثلث عن المسبب كلما تحقق، فإذا علم
إجمالا بنجاسة الملاقي - بالكسر - والطرف، ثم علم بأنه لو كان نجسا فإنما
هو من الملاقى - بالفتح - يكون الأصل فيه رافعا للشك في ملاقيه،
ويصير معارضا للأصل في الطرف، ويصير الأصل في الملاقي - بالكسر -
بلا معارض بقاء.
إشكال وحلول
لكن (1) هاهنا إشكال استصعب حله على هذا المبنى ذكره شيخنا
العلامة (2) قدس سره: وهو أن الطرفين كما هما مشكوكان من حيث
الطهارة والنجاسة، كذلك هما مشكوكان من حيث الحل والحرمة، والشك
في الحل والحرمة فيهما مسبب عن الشك في الطهارة والنجاسة، فأصالة
الطهارة فيهما حاكمة على أصالة الحل، فهي جارية في الطرفين قبل جريان
أصالة الحل قبلية بالرتبة - فإذا تساقطا بالتعارض جرت أصالة الحل في الملاقى

(1) وهاهنا إشكال آخر أوردناه في باب الأصل السببي والمسببي في الاستصحاب،
فراجع (أ). [منه قدس سره]
(أ) انظر رسالة الاستصحاب ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام (قدس سره): 246 - 249.
(2) درر الفوائد 2: 469 و 635.
245

- بالفتح - والطرف وأصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - معا، لكونها في
عرض واحد بلا تقدم وتأخر، فإن الشك في الحلية في الملاقى - بالفتح -
والشك في الطهارة في الملاقي - بالكسر - مسببان عن الشك في الطهارة في
الملاقي، وليس بينهما سببية ومسببية، فإذا تعارضت الأصول الثلاث - أي
أصالتا الحل في الملاقي والطرف، وأصالة الطهارة في الملاقي بالكسر - جرت
أصالة الحل في الملاقي - بالكسر - بلا معارض.
وبعبارة أخرى: في كل من الطرفين والملاقي أصل موضوعي، هو أصل
الطهارة، وأصل حكمي، هو أصل الحل، والأصول الحكمية محكومة
بالنسبة إلى الموضوعية، والأصل الموضوعي في الملاقي - بالكسر - محكوم
الأصل الموضوعي في الملاقى - بالفتح - فإذا تعارض الأصلان الموضوعيان في
الطرفين تصل النوبة إلى الأصلين الحكميين فيهما وإلى الأصل الموضوعي في
الملاقي - بالكسر - فتتعارض هذه الأصول، ويبقى الأصل الحكمي في الملاقي
سليما عن المعارض، فالملاقي - بالكسر - محكوم بالاجتناب من حيث
النجاسة، ومحكوم بالحلية لأصالة الحل.
هذا، والجواب عن هذه الشبهة - بناء على عدم جريان الأصول في
أطراف العلم الإجمالي بالتقريب الذي ذكرنا سابقا (1): من أن الأدلة العامة
المرخصة لا تصلح لشمول الأطراف أو بعضها - واضح، فعليه تكون الأصول
الموضوعية والحكمية غير جارية في الملاقى - بالفتح - والطرف، وأما جريانها

(1) في صفحة: 205 من هذا المجلد.
246

بالنسبة إلى ملاقيه فلا مانع منه، لعدم تأثير العلم الإجمالي بالنسبة إليه، فيكون
- بحكم العقل - كالشبهة البدوية، فلا مانع من جريان الأصول الشرعية فيه.
جواب العلامة الحائري ومناقشته
ولقد أجاب (1) شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - عنها: بأنه يمكن

(1) والتحقيق في الجواب عن الإشكال: - بعد تسليم كون الأصل المسببي لا يجري مع
السببي، والإغماض عما أوردنا عليه (أ) في الاستصحاب، وبعد تسليم وجود الدليل على
قاعدة الحل في كل مشتبه، والإغماض عما أوردنا عليه (ب) وبعد الإغماض عن أن
أصالة الحل جارية في عرض أصالة الطهارة، وأن تقديم الشك السببي على المسببي في مثل المقام
لا أصل له، لعدم الدليل على أن كل طاهر حلال - أن أصالة الطهارة في الملاقي - في
الصورة التي تقدم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى - بالفتح - والطرف غير معارضة لأصالة
الحل في الطرف، فلا مانع لجريانها، لأن التعارض بين أصل الطهارة فيه وأصل الحل في
الطرف متقوم بالعلم الإجمالي المنجز، حتى يلزم من جريانهما المخالفة العملية الغير الجائزة،
وفي المقام لا تأثير للعلم الإجمالي الثاني لما تقدم (ج) فمخالفة هذا العلم الغير المنجز لا مانع
منها، فلا يوجب ذلك منع جريان الأصل في أطرافه، وفي المقام يكون الملاقي - بالكسر -
طرف العلم الغير المنجز، فيجري الأصل فيه بلا معارض، وعدم جواز ارتكاب الطرف
للملاقى - بالفتح - ليس للعلم الإجمالي الثاني، بل للأول المنجز، فحينئذ يجري أصل
الطهارة ولا يعارض أصل الحل في الطرف، لكن يعارض أصل الحل [هذا] أصل الحل [في]
الملاقى - بالفتح - لكونهما طرفي علم إجمالي منجز.
وبهذا يظهر وجه جريان الأصل في الصورة الثانية في الملاقى - بالفتح -.
وأما الصورة الثالثة - أي التي تعلق [فيها] العلم بنجاسة الملاقي والملاقى والطرف في
عرض واحد - فالتحقيق فيها عدم جريان الأصول في شئ منها، لما حققنا من قصور الأدلة، ومع
الغض تجري الأصول وتعارض من غير تقدم للأصل السببي على المسببي، لما حققنا
247

أن يقال: إن الأصول في أطراف العلم غير جارية حكمية كانت
أو موضوعية: إما لأجل التناقض الواقع في مدلول الدليل، وإما لأجل أن
أصالة الظهور في عمومات الحل والطهارة معلقة بعدم العلم على
خلافه، فحيثما تحقق العلم يصير قرينة على عدم الظهور فيها، من غير
فرق بين كون العلم سابقا على مرتبة جريانها أو مقارنا، فحينئذ نقول:
إن العلم الإجمالي المانع من جريان الأصلين الموضوعيين - لأجل التناقض،
أو لأجل عدم جريان أصالة الظهور في العمومات - مانع عن جريان
الأصلين الحكميين أيضا، لكونه قرينة على عدم الظهور، غاية الأمر تكون
قرينيته بالنسبة إلى الأصل الموضوعي مقارنة، وبالنسبة إلى الأصل الحكمي
مقدمة، ولافرق من هذه الحيثية، فمورد جريان الأصل الحكمي ووجود الشك
في الأصل المحكوم كان حين وجود القرينة على خلافه، فلا يبقى الظهور لأدلة
الأصول، فيبقى الأصل الموضوعي في الملاقي سليما عن المعارض (1).
وجهه (د) في الاستصحاب (ه‍). [منه قدس سره]
(أ) انظر رسالة الاستصحاب ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام قدس سره: 246 - 247 و 249.
(ب) نفس المصدر السابق: 112 - 113.
(ج) في صفحة: 239 من هذا الكتاب.
(د) انظر رسالة الاستصحاب للسيد الإمام قدس سره: 249 - 250.
(ه‍) هذه الحاشية قد ضرب السواد على أطرافها، فمحا كثيرا من كلماتها، فبذلنا غاية
الجهد في تصحيحها وتتميم نقصها.

(1) درر الفوائد 2: 469.
248

وفيه أولا: أن ما أفاد من لزوم التناقض في مدلول الدليل: إن كان مراده
ما أفاد الشيخ الأنصاري - رحمه الله - في أدلة الاستصحاب (1) من لزوم
تناقض صدرها لذيلها، وكذا في دليل أصالة الحل (2) فقد فرغنا عن جوابه
فيما سلف (3) فرا جع.
وإن كان مراده لزومه بواسطة جريان الأصلين للعلم بمخالفة أحدهما
للواقع، فهذا ليس تناقضا في مدلول الدليل، بل هو مناقضة الحكم الظاهري
مع الواقعي، وقد فرغنا عن رفع المناقضة بينهما (4).
وثانيا: أن ما ادعى من كون العلم قرينة على عدم الظهور في أدلة
الأصول، فيرد عليه: أن كل واحد من الأطراف لا يكون إلا مشكوكا فيه،
والعلم بمخالفة بعضها للواقع لا يوجب صرف ظهورها بعد رفع المناقضة بينها
وبين الواقع.
الجهة الرابعة
تعميم الأصل في الملاقي لجميع الصور
بناء على جريان الأصول العملية في الأطراف، وحكومة الأصل الجاري
في الملاقى - بالفتح - على الجاري في الملاقي - بالكسر - لا إشكال في جريان

(1) فرائد الأصول: 429 سطر 10 - 16.
(2) فرائد الأصول: 241 - 247.
(3) في الجزء الأول صفحة: 163.
(4) انظر الجزء الأول صفحة: 199 وما بعدها.
249

الأصل في الملاقي - بالكسر - من غير معارض في جميع صور الملاقاة، من
غير فرق بين تقدم العلم بنجاسة أحد الطرفين على العلم بالملاقاة أو تأخره عنه
أو مقارنتهما، فإن الأصل في السبب في جميع الصور يرفع الشك عن
المسبب، غاية الأمر أن الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسببي من أول
الأمر في بعض الصور، ويرفع الموضوع ويمنع عن الجريان في مرحلة البقاء في
بعضها.
فإذا عالم بنجاسة الملاقي - بالكسر - أو شئ آخر، ثم علم بنجاسة الملاقى
- بالفتح - أو الطرف، وأن النجاسة في الملاقي لو كانت فهي من الملاقى
- بالفتح - ينقلب الأمر عما هو عليه، ويجري الأصل السببي في الرتبة
السابقة، ويرفع موضوع الأصل المسببي.
ولا معنى لما يقال: إن الأصل في المسبب قد جرى وسقط بالتعارض،
والساقط لا يعود (1) فإنه كلام شعري لا يصغى إليه، لأن التقدم الزماني
لا دخالة له بعد رفع الموضوع.
الجهة الخامسة
في خروج الملاقى عن محل الابتلاء
من الصور التي أوجب المحقق الخراساني - رحمه الله - الاجتناب [فيها]
عن الملاقي - بالكسر - والطرف دون الملاقى، ما إذا كان الملاقى - بالفتح -

(1) انظر درر الفوائد 2: 635، نهاية الأفكار 4: 113.
250

خارجا عن محل الابتلاء، قال - رحمه الله -: وكذا - أي وكذا يجب
الاجتناب عن الملاقي بالكسر والطرف دون الملاقى - لو علم بالملاقاة، ثم
حدث العلم الإجمالي، ولكن كان الملاقي خارجا عن محل الابتلاء في حال
حدوثه، وصار مبتلى به بعده (1).
فأورد عليه بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته -: بأنه لا أثر لخروج
الملاقى - بالفتح - عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى
محل الابتلاء بعد العلم، نعم لو فرض أن الملاقى - بالفتح - كان في ظرف
حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو
بالأصل، فالعلم الإجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا أثر له، ويبقى الملاقي
- بالكسر - طرفا للعلم الإجمالي، فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف (2).
أقول: - مضافا إلى ما عرفت من أن الخروج عن محل الابتلاء مما
لا أثر له - إنه لو سلم أن الخروج عن محله يؤثر في عدم جريان الأصل
بالنسبة إليه، لكنه فيما إذا لم يكن للخارج أثر يكون محل الابتلاء، وأما لو
فرض أن له أثرا في الجملة كان الأصل جاريا فيه بلحاظ ذلك الأثر، وفيما
نحن فيه يكون كذلك، لأن أثر نجاسة الملاقى - بالفتح - الخارج عن محل
الابتلاء هو نجاسة الملاقي الذي هو محل الابتلاء، فأصالة الطهارة في الملاقى
جارية بلحاظ أثره - الذي هو محل الابتلاء - أي نجاسة ملاقيه.

(1) الكفاية 2: 227.
(2) فوائد الأصول 4: 86.
251

فتحصل: أن الأصل في الملاقى - بالفتح - جار وحاكم على الأصل في
الملاقي وإن لم يعد إلى محل الابتلاء، فظهر أن الأصل في جميع الصور في
الملاقي - بالكسر - سليم عن المعارض.
الجهة السادسة
وجوه أخرى في وجوب الاجتناب عن الملاقي
قد يستدل على وجوب الاجتناب عن الملاقي لأحد الأطراف: بأن معنى
وجوب الاجتناب عن النجس هو الاجتناب عنه وعن ملاقيه (1)، بحيث
يكون الاجتناب عن ملاقيه من شؤون وجوب الاجتناب عنه، وليس وجوب
الاجتناب عن الملاقي لأجل تعبد آخر وراء التعبد بوجوب الاجتناب عن
النجس، فالاجتناب واللا اجتناب عن الملاقي هو الاجتناب واللا اجتناب عن
النجس، ويكون المرتكب للملاقي معاقبا على ارتكاب النجس لاعلى
ارتكاب ملاقيه، لعدم الحكم للملاقي مستقلا.
وبالجملة: ليس في البين حكم إلا وجوب الاجتناب عن عين
النجس، لكن لا يتحقق الاجتناب عنها إلا بالاجتناب عنها وعن ملاقيها، فإذا
علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين يحكم العقل بوجوب الاجتناب عنهما
وعن ملاقي أحدهما بعين حكمه بوجوب الاجتناب عن الملاقى، للعلم
بوجوب الاجتناب شرعا إما عن الملاقى - بالفتح - وملاقيه الذي يكون

(1) فرائد الأصول: 252 سطر 23 - 24.
252

اجتنابه من شؤون اجتناب الملاقي، وإما بوجوب الاجتناب عن الطرف،
فيتنجز التكليف في البين، ولازمه الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف.
واستدل ابن زهرة في الغنية على ذلك (1) بقوله - تعالى - * (والرجز
فاهجر) * (2) وفيه ما فيه.
كما لاوجه للاستدلال عليه برواية جابر عن أبي جعفر - عليه السلام -
فإن قوله - عليه السلام -: (إن الله حرم الميتة من كل شئ) (3) ليس للاستدلال
على نجاسة الملاقي للفأرة، بل لبيان أن قوله: (إن الفأرة أهون علي من أن أترك
طعامي لأجلها) استخفاف بحكم الله - تعالى - لتعلق حكمه بكل ميتة.
ويمكن أن يستدل على كون الملاقي نجاسة أخرى مستقلة بالجعل والتعبد
بالاجتناب عنه بمفهوم قوله: (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ) (4) فإن

(1) الغنية - التي في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية - 2: 379 حيث صرح بانفعال الماء القليل
بملاقاة النجس مستدلا بالآية، ولم نعثر عليها في الطبعة الحجرية المعتمدة سابقا، انظر
فرائد الأصول: 252 - 253.
(2) المدثر: 5.
(3) التهذيب 1: 420 / 46 باب 1 2 في المياه وأحكامها، الاستبصار 1: 34 / 3 باب 11
في حكم الفأرة والوزغة..، الوسائل 1: 149 / 2 باب 5 من أبواب الماء المضاف.
جابر: هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، نزل المدينة وشهد بدرا وثماني
عشرة غزوة مع النبي - صلى الله عليه وآله - وكان منقطعا إلى أهل البيت عليهم
السلام مات سنة 78 ه‍. انظر معجم رجال الحديث 4: 11، بهجة الآمال 2: 480.
(4) الكافي 3: 2 / 1 - 2 باب الماء الذي لا ينجسه شئ، الاستبصار 1: 6 / 1 - 3 باب 1
في مقدار الماء الذي لا ينجسه شئ، الوسائل 1: 117 - 118 / 1 - 2 و 5 - 6 باب 9
من أبواب الماء المطلق.
253

المفهوم منه أن الماء الغير البالغ حد الكر ينجسه بعض النجاسات، أي يجعله
نجسا، فالظاهر منه أن الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء، فيصير
الماء لأجل الملاقاة للنجس فردا من النجاسات مختصا بالجعل ووجوب
الاجتناب، وبقوله: (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر) (1) أي حتى تعلم أنه صار
قذرا بواسطة الملاقاة.
وكذا يمكن أن يستدل عليه بما دل على أن الماء والأرض والشمس وغيرها
مطهرات للأشياء، فإن الظاهر منها أنها صارت نجسة فتطهر بالمطهرات.
وبالجملة: لا إشكال في أن نجاسة الملاقي للنجاسات إنما هي من نجاسة
الأعيان النجسة التي يلاقيها، كما أن الظاهر أنه مختص بجعل آخر ووجوب
اجتناب مستقل به، لا أن وجوب الاجتناب عنه عين وجوب الاجتناب عن
الأعيان النجسة من غير جعل آخر متعلق به.
الجهة السابعة
الأصل عند الشك في اختصاص الملاقي بجعل مستقل
إذا شككنا في أن الملاقي مخصوص بجعل مستقل حتى لا يجب
الاجتناب عنه، أو لا حتى يجب الاجتناب عنه، فهل الأصل يقتضي
الاحتياط أو البراءة؟

(1) الكافي 3: 1 / 2 - 3 باب طهور الماء، الوسائل 1: 100 / 5 باب 1 من أبواب الماء
المطلق، بأدنى تفاوت.
254

الظاهر (1) جريان البراءة العقلية والشرعية فيه، لرجوع الشك فيه إلى
الأقل والأكثر، فإن التكليف بوجوب الاجتناب عن نفس الأعيان النجسة
معلوم، وشك في أن الوجوب هل هو متعلق بها على نحو وخصوصية
يقتضي وجوب الاجتناب عن ملاقي بعض الأطراف أم لا؟
وبعبارة أخرى: تكليف المولى بوجوب الاجتناب عن النجس معلوم،
وكونه بحيث يكلف العبد بوجوب الاجتناب عن الملاقي مشكوك فيه، ألا
ترى أنه لو لم يدل دليل على وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لم تكن
نفس الأدلة الدالة على وجوب الاجتناب عن الأعيان النجسة حجة على
المكلف لقصورها عن إفادة ذلك؟!
نعم لو ادعى أحد أن وجوب الاجتناب عن الملاقي إنما هو بحكم العقل،
وأنه من كيفيات إطاعة وجوب الهجر للرجز، لكان للاحتياط عند الشك
(1) والتحقيق أن يقال: إن الاشتغال متقوم بتعلق العلم الإجمالي بتكليف واحد مقتض
للاجتناب عن النجس وملاقيه، فيكون علم إجمالي واحد متعلق بتكليف واحد مع هذا
الاقتضاء، ومع التردد في أن الحكم على الأعيان النجسة كذلك أولا، لا يمكن تنجيز العلم
الإجمالي الأول للتكليف مع تلك الخصوصية المشكوك فيها، والعلم الإجمالي الثاني - على
فرضه - غير منجز كما مر سابقا (أ) ومع عدم تمامية حجة المولى وعدم منجزية العلم
الإجمالي للخصوصية تجري البراءة العقلية والشرعية، لعدم المانع في الثانية بعد جريان
الأولى، فتبصر. فما في تقريرات العلمين (ب) غير وجيه جدا. [منه قدس سره]
(أ) انظر صفحة: 239 من هذا الكتاب.
(ب) فوائد الأصول 4: 86، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث:
365 - 366.
255

وجه، لكنه معلوم البطلان.
واختار بعض مشايخ العصر - رحمه الله - وجوب الاجتناب عنه، وجعل
المسألة مبتنية على أمر يشبه بالأكل من القفا، قال - رحمه الله - ما محصله:
إن الأقوى وجوب الاجتناب، ويتضح وجهه بتمهيد مقدمة: هي أنه لو دار
الأمر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر، فتارة كانا من الضدين اللذين
لا ثالث لهما، كما إذا شك في أن الجهر بالقراءة شرط في الصلاة، أو أن
الإخفات بها مانع، لعدم الواسطة بينهما، لعدم إمكان خلو القراءة عن
الوصفين، واخرى يكون واسطة بينهما، كما إذا شك في أن السورة بشرط
الوحدة شرط في الصلاة، أو أن القران مانع، فتكون الصلاة بلا سورة
واسطة بينهما.
لا إشكال في جريان البراءة عن الشرطية المشكوك فيها في القسم الثاني،
لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر، لأن شرطية السورة بقيد الوحدة تقتضي
بطلان الصلاة بلا سورة، ومانعية القران لا تقتضي ذلك، فتجري البراءة
بالنسبة إلى الأثر الزائد، ويعمه حديث الرفع.
وبعبارة أخرى: يعلم تفصيلا بأن القران مبطل، إما لفقد الشرط، أو لوجود
المانع، ويشك في بطلان الصلاة بلا سورة، للشك في الشرطية، فتجري فيه
البراءة.
وأما القسم الأول فالشك فيه يرجع إلى المتباينين، لاشتراك الشرطية
والمانعية في الآثار، وليس للشرطية أثر زائد، إذ كما أن شرطية الجهر تقتضي
256

البطلان عند الإخفات، كذلك مانعية الإخفات تقتضي ذلك عنده، فلافرق
بين الشرطية والمانعية في عالم الجعل والثبوت في الأثر.
نعم هما يفترقان عند الشك، لأن الشرط لابد من إحرازه، ولا يكفي
الشك في وجوده، بخلاف المانع، فإنه لا يلزم إحراز عدمه بناء على جريان
أصالة عدم المانع.
ففي المثال لو شك المأموم في أن الإمام أجهر بالقراءة أو أخفت بها، فبناء
على المانعية يجري الأصل ويتم صلاته معه، بناء على شرطية الجهر ليس له
الإتمام معه، لعدم إحراز ما هو الشرط في صحة صلاته، فلزوم إحراز الشرط
إنما هو من آثار نفس الشك في الشرطية، لاجعل الشرطية.
وحينئذ يقع الكلام في أن هذا المقدار من الأثر الذي اقتضاه الشك
لا الجعل مما تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع أو لا؟ بأن يقال: يلزم من
جعل الشرطية ضيق وكلفة، للزوم إحراز الشرط، بخلاف جعل المانعية، ففي
رفع الشرطية توسعة ومنة.
وفيه: أنه يعتبر في الرفع - مضافا إلى ذلك - أن يكون المرفوع من
المجعولات الشرعية ولو تبعا، وخصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من
المجعولات الشرعية ولا من لوازمها، بل هي من الآثار المترتبة على الشك فيما
هو المجعول الشرعي، ومثل هذه الخصوصية لا يعمها حديث الرفع.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الوجهين اللذين ذكرناهما في نجاسة الملاقي
يشتركان في الأثر، لأنه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس على كل تقدير،
257

سواء قلنا بالسراية أو لم نقل، وليس هنا أثر يختص به أحد الوجهين في عالم
الجعل والثبوت، نعم يظهر لأحد الوجهين أثر زائد عند الشك، فإنه بناء على
السراية يجب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي المعلوم بالإجمال، ولا يجري
فيه أصالة الطهارة، وبناء على الوجه الآخر لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه
أصالة الطهارة، فيكون الشك في أحد الوجهين كالشك في شرطية أحد
الشيئين ومانعية الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما، من حيث عدم
اقتضاء أحد الجعلين أثرا زائدا، واقتضاء الشك فيما هو المجعول أثرا زائدا،
وحيث قلنا بعدم جريان البراءة هناك لم تجر هاهنا، لأنه طرف العلم الإجمالي
وجدانا، وإنما أخرجناه عن ذلك بمعونة السببية والمسببية، وهما مبتنيان على
أن لا تكون نجاسة الملاقي بالسراية، فلو احتمل كونها بالسراية تبقى طرفيته
للعلم الإجمالي على حالها كالملاقى - بالفتح (1) - انتهى.
وفيه مواقع للنظر:
الأول: ما ذكر في القسم الثاني - من رجوع الشك إلى الأقل والأكثر،
ومثل [له] بالشك بين شرطية السورة بشرط الوحدة وبين مانعية القران، وجعل
الواسطة بينهما خلو الصلاة من السورة - خلط وتركيب بين شكين: أحدهما
الشك في جزئية السورة في الصلاة وعدمها، وثانيهما على فرض الجزئية
الشك في شرطية الوحدة للسورة ومانعية القران.
وبعبارة أخرى: الوحدة شرط الجزء، لا الجزء بشرط الوحدة شرط الصلاة،

(1) فوائد الأصول 4: 89.
258

ومعلوم أن الشك في شرطية شئ لجزء الصلاة بعد الفراغ عن الجزئية، وليس
الشك في الجزئية وشرطية شئ للجزء في رتبة واحدة، حتى يجعل أحدهما
واسطة بين الآخر وضده، وإلا فلنا أن نقول: إن ما مثل [به] للقسم الأول
أيضا من الضدين اللذين لهما ثالث، بأن يقال: إن الشك في أن القراءة
المجهور بها شرط للصلاة أو الإخفات مانع، وتكون الصلاة بلا قراءة واسطة
بينهما، لإمكان خلو الصلاة عن القراءة.
الثاني: أن ما ادعى - من أن لزوم إحراز الشرط من الآثار المترتبة على نفس
الشك في الشرطية، لا من آثار جعل الشرطية - فاسد، ضرورة أن لزوم الإحراز
إنما هو من آثار الشرطية، فإن الأمر إذا تعلق بالصلاة بشرط الطهارة لابد من
إحرازها عند الامتثال، نعم إذا كانت محرزة لا معنى لإحرازها بأصل وغيره،
وعند الشك يجب إحرازها ولو بالأصل.
وبالجملة: أن لزوم الإحراز عند الشك من آثار جعل الشرطية، لامن آثار
الشك فيها، وهذا واضح جدا.
ومنه يظهر: أن ما جعله مانعا عن جريان البراءة وتعميم حديث الرفع - من
أن خصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية،
ولا تنالها يد الوضع والرفع - ليس بشئ، فإن المرفوع هو الشرطية الآتي من
قبلها لزوم الإحراز، لا خصوصية لزوم الإحراز.
ومنه اتضح الأمر فيما نحن فيه، فإن لزوم الاجتناب عن الملاقي إنما هو
من آثار كيفية الجعل، وأنه بما هو متعلق بالأعيان النجسة هل تعلق بنحو
259

وخصوصية أوجب الاجتناب عن ملاقيها، ويكون الاجتناب عنه من شؤون
الاجتناب عنها، أم لا؟ فجريان البراءة شرعا وعقلا إنما هو من الخصوصية
الزائدة في الجعل.
الثالث: ما ذكر - أن الشرط لابد من إحرازه، بخلاف المانع فإنه لا يلزم
إحراز عدمه بناء على جريان أصالة عدم المانع عند الشك في وجوده -
لا يخفى ما فيه من سوء التعبير، فإن عدم لزوم الإحراز ليس مبنيا على أصالة
عدم المانع عند الشك، فإنها - على فرض جريانها - من وجوه (الإحراز،
لا مبنى) (1) عدم لزومه.
نعم بناء على المانعية لا يلزم الإحراز ولو بالأصل، لجريان البراءة العقلية
والشرعية بناء عليها، وعدم جريانها بناء على الشرطية. ولكن لو بنينا على
لزوم الإحراز حتى بناء على المانعية، وبنينا على جريان أصالة عدم المانع، كان
من وجوه الفرق بين جعل الشرطية والمانعية هو إمكان إحراز عدم المانع
بالأصل وعدم إمكان إحراز الشرط عند الشك. ولعل هذا التعبير من فلتات
قلم الفاضل المقرر رحمه الله.
الرابع: أن ما قال: - إنه لو شك المأموم في أن الإمام جهر بالقراءة أو أخفت
بها، فبناء على مانعية الإخفات يجوز الائتمام، لجريان أصالة عدم المانع،
وبناء على الشرطية لا يجوز له الائتمام - لعله بيان مقتضى القاعدة الأولية مع
قطع النظر عن القواعد الأخر، وإلا فلا إشكال في جواز الائتمام مع الشك

(1) ما بين القوسين غير واضح في المخطوط وقد أثبتناه استظهارا.
260

في واجدية الإمام للشرائط أو فاقديته للموانع، فلو شك في أن الإمام على
طهر أو أن قراءته صحيحة جاز الائتمام به، لأصالة الصحة، وبناء المتشرعة
على الائتمام به من دون إحراز الشرائط ولو بالأصل، غير أصالة الصحة.
في بيع أحد طرفي المعلوم بالإجمال حرمته
تذييل استطرادي:
قد ذكر بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريرات
بحثه - مقدمة على البحث عن الملاقي لبعض أطراف الشبهة مالا يكون
التعرض له خاليا عن الفائدة. قال ما محصله: لا إشكال في وجوب ترتيب
كل ما للمعلوم بالإجمال من الآثار الشرعية على كل واحد من الأطراف،
للقطع بالفراغ، فكما لا يجوز شرب كل من الإناءين المعلوم خمرية أحدهما،
كذلك لا يصح بيع كل واحد منهما، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحدهما،
فأصالة الصحة في كل معارضة لها في الآخر، وبعد سقوطهما يحكم بفساد
البيع، لكفاية عدم ثبوت الصحة للحكم به.
إن قلت: ما ذكرت حق لو كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع للأثر، وأما
إذا كان جزءه فما لم يثبت الجزء الآخر لا يجب ترتيب الأثر، ففي المثال الخمر
لا يكون تمام الموضوع لفساد البيع بل جزءه، وجزؤه الآخر وقوع البيع، إذ
الصحة والفساد من الأحكام اللاحقة للبيع بعد صدوره، فلاوجه للحكم
261

بفساد بيع أحد الإناءين، للشك في وقوعه على الخمر، فتجري فيه أصالة
الصحة، ولا يعارضها أصالة الصحة في بيع الآخر، لأن المفروض عدم وقوعه
عليه، فلا موضوع لأصالة الصحة فيه.
قلت: لاوقع لهذا الإشكال، فإن الخمر تمام الموضوع لعدم السلطنة على
بيعه، وعدم السلطنة عليه يلازم الفساد، بل عينه، لأنه ليس المجعول الشرعي
إلا حكما واحدا، غايته أنه قبل البيع يعبر عنه بعدم السلطنة، وبعده يعبر عنه
بالفساد، فعدم السلطنة عليه عبارة أخرى عن فساده، والسلطنة عليه عبارة
أخرى عن صحته، فأصالة الصحة في بيع كل منهما تجري قبل صدور البيع
وتسقط بالمعارضة.
وبالجملة: لا إشكال في أن عدم السلطنة على بيع الخمر وفساده من الآثار
المترتبة على نفس المعلوم بالإجمال، وقد عرفت أن كل ما للمعلوم بالإجمال
من الأحكام وضعا أو تكليفا يجب ترتبه على كل من الأطراف (1) انتهى.
وفيه أولا: أنه لم يتضح مراده من أصالة الصحة، هل هي عبارة عن أصالة
الصحة المعروفة الجارية في فعل الغير - التي يدل على اعتبارها بناء العقلاء
على الأقوى، أو الإجماع على ما قيل (2) وقواه هذا المحقق في مبحثها (3) - أو
المراد منها قاعدة الفراغ أو التجاوز، أو المراد منها عمومات حل البيع (4)

(1) فوائد الأصول 4: 68.
(2) فرائد الأصول: 416 سطر 6 - 9.
(3) فوائد الأصول 4: 654.
(4) البقرة: 275.
262

والوفاء بالعقود (1) أو المراد منها قاعدة السلطنة على الأموال؟
فعلى الأول لا معنى لجريانها في فعل نفسه.
وأما قاعدة التجاوز والفراغ فلا تجريان قبل العمل.
وأما العمومات فلا يجوز التمسك بها ولو في الشبهة البدوية، فإنها
مخصصة بالنسبة إلى بيع الخمر وأشباهه، فلا يجوز التمسك بها في الشبهة
المصداقية.
ومنه يتضح حال قاعدة السلطنة، فإنها أيضا مخصصة، وتكون الشبهة
مصداقية. فعدم جواز بيع أحد الإناءين المشتبهين ليس لأجل العلم الإجمالي،
بل لو كانت الشبهة بدوية - أيضا - لما حكمنا بالصحة، لعدم الدليل
عليها، ويكفي في الحكم بالفساد عدم ثبوت الصحة.
وثانيا: أن ما ذكره - من أن المجعول الشرعي ليس إلا حكما واحدا، غايته
أنه قبل البيع يعبر عنه بعدم السلطنة وبعده يعبر عنه بالفساد - مما لا محصل له،
لأن قاعدة السلطنة قاعدة عقلائية أو شرعية موضوعها الناس ومحمولها
كونهم مسلطين، ويكون اتصاف الناس بالسلطنة في سلسلة علل المعاملات
والمعاقدات، والصحة والفساد مما تتصف بهما المعاملات، لأجل حصول
النقل والانتقال الواقعيين، والتأثير والتاثر النفس الأمريين، فهما واقعان في
سلسلة معاليلها، فهما مختلفان موضوعا ومحمولا وموردا، فأين أحدهما من
الآخر، حتى يقال: إن المجعول شئ واحد يختلف اسمه باختلاف الاعتبار؟!

(1) المائدة: 1.
263

وثالثا: أن ما ادعى - من أن المعلوم بالإجمال إذا كان تمام الموضوع لحكم
يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف وضعا كان أو تكليفا - مما لا ينبغي أن
يصغى إليه، فإن وجوب الاجتناب عن الأطراف حكم عقلي من باب
الاحتياط والمقدمة العلمية، ولا معنى لترتيب آثار الواقع على كل واحد من
الأطراف مع أن الواحد منها ليس واقعا، ولازم ما ذكره أنه لو ارتكب كلا
المشتبهين يكون معاقبا عليهما، إلا أن يقال: إن العلم التفصيلي مأخوذ في
موضوع حسن العقوبة، ويكون الواقع جزء الموضوع، ولازمه أن لا يكون
معاقبا أصلا، وكلا الالتزامين خلاف الضرورة.
إن قلت: لولا ترتب آثار الواقع على الطرفين، فما وجه الحكم بفساد البيع
الواقع على كل واحد من الأطراف؟
قلت: عدم الحكم بالصحة لعدم الدليل عليها، ويكفي عدم الدليل للحكم
بالفساد، هذا إذا أوقع البيع على واحد منها، ولو أوقع على كليهما لم يمكن
الحكم بالصحة لو لم يكن الواقع متميزا عند البائع والمشتري، لعدم جواز
الانتفاع بواحد منهما، نعم لو أمكن للمشتري تميز الواقع ولو في المستقبل
يجوز بيع ما هو الواقع بينهما مع ارتفاع الغرر بالتوصيف مثلا.
حكم التوابع لأطراف المعلوم بالإجمال حرمته
ثم قال - رحمه الله - في تعقيب ما أفاده ما حاصله: إنه قد عرفت أن كل
ما للمعلوم من الأحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف، سواء كان
264

من مقولة الوضع أو التكليف، وسواء قارن زمان الابتلاء بالتصرف في أحد
الأطراف لزمان العلم أو تأخر عنه، إذ المدار في ترتب الأحكام عليها على
فعليتها وتنجزها، لازمان الابتلاء.
وعلى هذا يتفرع وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع
المتصلة والمنفصلة، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين، فإنه كما يجب
الاجتناب عن نفسهما يجب الاجتناب عن ثمرتهما، من غير فرق بين أن
يكون كل منهما من ذوات الأثمار أو أحدهما كذلك، وبين وجود الثمرة
حال العلم وعدمه، وبين ثمرة هذا السنة والسنين الآتية، وبين بقاء الطرف
الآخر أو الأصل حال وجود الثمرة وعدمهما، ففي جميع التقادير يجب
الاجتناب عن الثمرة كالاجتناب عن أصلها والطرف، لأن وجوب الاجتناب
عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفسه، فإن النهي عن
التصرف فيه نهى عنه وعن توابعه ومنافعه.
فلو فرض أن الشجرة المثمرة مغصوبة، فوجوب الاجتناب عن
ثمرها المتجدد وإن لم يكن فعليا لعدم وجود موضوعه، إلا أنه يكفي
في وجوب الاجتناب عنه فعلية وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة بما لها
من المنافع والتوابع، وحينئذ تسقط أصالة الحل عن الثمرة بنفس سقوطها
عن ذي الثمرة بالمعارضة لأصالة الحل في الطرف الآخر، فلا تجري أصالة
الحل في الثمرة بعد وجودها وفقدان طرف العلم الإجمالي. وقس على ذلك
الدار ومنافعها، والحمل وذا الحمل، وسائر ما كان لأحد الأطراف منافع
265

متجددة دون الآخر.
وليس المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل هو
فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما، فإنه معلوم البطلان، بل
المقصود منها هو [أن] النهي عن التصرف في الشجرة يقتضي النهي عن
التصرف في الثمرة عند وجودها، وكذا الدابة، فلا يحتاج حرمة التصرف
فيهما في ظرف وجودهما إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل
بمنافعه، فحرمة التصرف في المنافع من شؤون حرمة التصرف في ذي المنفعة،
فإن تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الثمرة والحمل ومنافع الدار إنما هو
نفس المعلوم بالإجمال، وقد عرفت أنه مهما كان المعلوم بالإجمال تمام
الموضوع لحكم فلابد من ترتبه على الأطراف، بخلاف ما إذا كان جزء
الموضوع له، وعلى ذلك يتفرع عدم جواز إقامة الحد على من شرب أحد
طرفي المعلوم بالإجمال، فإن الخمر المعلوم في البين إنما يكون تمام الموضوع
بالنسبة إلى شربه وفساد بيعه، وأما بالنسبة إلى إقامة الحد فيتوقف على أن
يكون شربه عن عمد واختيار.
وإن شئت قلت: إن علم الحاكم بشرب الخمر اخذ جزء الموضوع لوجوب
إقامة الحد، ولا علم مع شرب أحد الطرفين انتهى.
ثم فرع على ما ذكر حكم الملاقي وبنى وجوب الاجتناب عنه على كونه
بالنسبة إلى الملاقى - بالفتح - كثمرة الشجرة بالنسبة إليها (1).

(1) فوائد الأصول 4: 70 وما بعدها.
266

وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلأن دعوى كون وجوب الاجتناب عن التوابع والمنافع بعين
وجوبه عن المتبوع وذي المنفعة - بحيث يكون أحدهما من شؤون الآخر من
غير تعلق جعل وتعبد به، وكون أدلة الغصب دالة على حرمة العين المغصوبة
بمنافعها وتوابعها من غير تعلق حكم بهما - خالية عن البينة والبرهان، وإنما
هي مجرد الدعوى، فإنه لم يرد في باب الغصب دليل لفظي معتد به يكون
دالا على مدعاه، وما ورد: (أن الغصب كله مردود) (1) لا يدل على ما ذكر،
وما نسب إلى صاحب الزمان روحي له الفداء - ء: (لا يحل لأحد أن يتصرف في
مال غيره بغير إذنه) (2) لا يدل على ذلك.
مضافا إلى عدم ملازمة التصرف للغصب. مع إمكان أن يقال: إنه يدل
على تعلق الحرمة بكل ما يكون مالا بالاستقلال، فهو على خلاف المطلوب
أدل. وبالجملة: لا دليل على مدعاه بوجه.
وأما ثانيا: فلأن ما ينتج في باب المنافع والتوابع والملاقي هو أن
يكون وجوب الاجتناب عنها من شؤون وجوب الاجتناب عن المتبوعات،
بحيث يعاقب المكلف في التصرف في التوابع على المتبوعات، فيقال

(1) الكافي 1: 539 - 542 / 4 باب الفئ والأنفال..، الوسائل 6: 365 / 4 باب 1 من
أبواب الأنفال، و 17: 309 / 3 باب 1 من أبواب الغصب.
(2) الاحتجاج 2: 480 توقيعات الناحية المقدسة، في أجوبة محمد بن جعفر الأسدي،
الوسائل 6: 376 - 377 / 6 باب 3 من أبواب الأنفال، و 17: 309 / 4 باب 1 من
أبواب الغصب.
267

لمن تصرف في الثمرة والحمل والملاقي: لم تصرفت في الشجرة وذي الحمل
وارتكبت الملاقى - بالفتح؟
مع أن الضرورة في الشجرة وذي الحمل قاضية على خلافه، لأن الغصب
مفهومه مبين، فإنه استيلاء اليد واستقلالها على مال الغير بغير إذنه، فلو
استقلت اليد على ثمرة الشجرة وحمل الدابة دون الشجرة وذي الحمل،
لا يمكن أن يؤاخذ على غصب الشجرة وذي الحمل، لأنه لم يغصبهما وإنما
غصب منافعهما.
وبالجملة: استيلاء اليد على الشجرة وذي الحمل دون منافعهما، وعلى
المنافع دون الأصول، بل على الدار دون المنفعة، وعليها دون الدار، ممكن،
ويكون الاستيلاء على كل غير الآخر، ولا يمكن أن يعاقب على ما ليس
بمغصوب لأجل غصب آخر.
نعم النهي عن ارتكاب الملاقي يمكن أن يكون بوجه يكون الملاقي
- بالكسر - من شؤونه، ويكون العقاب في ارتكابه لأجل عدم هجر
الرجس، فقياس باب الشجرة والحمل بباب الملاقي مع الفارق، لأن الحرمة
بملاك الغصب لا يمكن أن تتعلق بما ليس بمغصوب، ولا يمكن أن تكون الحرمة
من شؤون أمر غير محرم كما في غصب الثمرة دون الشجرة، فغصب
الشجرة قد يكون منفكا عن غصب ثمرتها، وقد يكون توأما معه، فيكون
غصب الثمرة غصبا مستقلا وله حرمة مستقلة.
ودعوى: أن في الصورة الثانية - أي إذا كانا توأمين - تكون حرمة واحدة
268

متعلقة بغصب الشجرة دون الثمرة، كما ترى، ولو سلم إمكانه ثبوتا لا دليل
عليه إثباتا. مع أن في المنافع المنفصلة لا يمكن الالتزام به قطعا، لكونه خلاف
الضرورة والبداهة.
وأما ثالثا: فلأن ما ذكره - من أن الخمر بالنسبة إلى حرمة شربه وفساد
بيعه تمام الموضوع، وبالنسبة إلى إقامة الحد جزؤه، وجزؤه الآخر أن
يكون الشرب عن عمد واختيار، أو أن علم الحاكم جزؤه الآخر - فمنظور
فيه، لأن شرب أحد الأطراف شرب اختياري، فلو صادف الواقع
يكون شرب الخمر اختياريا، فلهذا لو ارتكب أحد الأطراف وصادف الواقع
يستحق العقوبة عليه، مع أن صحة العقوبة تكون في مخالفة الواقع عن عمد
واختيار.
كما أن أخذ علم الحاكم جزء الموضوع - أيضا - واضح البطلان، ضرورة
أن موضوع الحد بحسب الأدلة هو شرب الخمر عصيانا، وفي صورة ارتكاب
بعض الأطراف لا يثبت الحد، للشك في حصول شرب الخمر، ولو كان الخمر
تمام الموضوع لحكم الحد لا يجوز إجراء الحد - أيضا - على من شرب بعض
الأطراف، لعدم العلم بتحقق الموضوع.
ودعواه - بأنه مهما كان المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لحكم تكليفي أو
وضعي، فلابد من ترتيب آثار ذلك الحكم على كل واحد من الأطراف - قد
عرفت ما فيها، وأنه مما لا يمكن الالتزام بها.
269

تنبيهات
ثم ينبغي التعرض لتنبيهات ذكرها الشيخ العلامة الأنصاري (1) وتعرض
لها المحقق المتقدم (2):
التنبيه الأول
في التفصيل بين الشرائط والموانع في وجوب الاحتياط
لا ينبغي الإشكال في غدم الفرق في وجوب الاحتياط عند الجهل
بالموضوع بين الشرائط والموانع وغيرها، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات
عند اشتباه القبلة، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس،
ولاوجه لسقوط الشرط والمانع بمجرد الإجمال.
فما حكي عن المحقق القمي - رحمه الله - من التفصيل بين ما يستفاد

(1) فرائد الأصول: 9 6 2 - 272.
(2) فوائد الأصول 4: 134 وما بعدها.
271

من مثل قوله: (لا تصل فيما لا يؤكل) (1) فذهب إلى السقوط،
وبين ما يستفاد من مثل قوله: (لا صلاة إلا بطهور) (2) فذهب إلى عدم
السقوط (3)، لعله مبني على ما ذهب إليه من عدم منجزية العلم الإجمالي (4)
وأنه كالشك البدوي، على ما هو المعروف منه، ففصل بين الشرائط والموانع،
فيكون حالهما بعد سقوط العلم الإجمالي عن الأثر كالشك البدوي، فيجب
إحراز الشرط دون عدم المانع، فما هو المستفاد من مثل: (لاتصل فيما لا يؤكل)
لا يجب إحرازه، فيجوز أن يصلي المصلي في الثوبين المعلوم كون أحدهما مما
لا يؤكل، وما هو المستفاد من مثل قوله: (لا صلاة إلا بطهور) - حيث يستفاد منه
الشرطية - يجب إحرازه، فيجب أن يكرر الوضوء بالماء المشتبه بالمضاف، وأن
يكرر الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة لتحصيل الشرط.
وأما ما احتمل بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريراته - من
أن المحقق قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة وبالعجز، ثم

(1) الكافي 3: 397 - 401 باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه، علل الشرائع 2: 342 / 1 -
2 باب 43، الوسائل 3: 250 - 252 باب 2 من أبواب لباس المصلي. والحديث منقول
بالمضمون.
(2) الفقيه 1: 35 / 1 باب 14 فيمن ترك الوضوء..، الوسائل 1: 256 / 1 و 6 باب 1 من
أبواب الوضوء.
(3) لم نعثر على هذا التفصيل في القوانين، وإنما عثرنا على قوله بالمساواة بالسقوط في
الشرط والمانع، راجع القوانين 2: 38 - 39.
(4) القوانين 2: 25 سطر 3 - 15.
272

استشكل عليه (1) فهو ساقط احتمالا وإشكالا:
أما احتمالا: فلأن القياس المذكور لا يقتضي التفصيل الذي ذهب إليه
المحقق، ضرورة أن العجز عن الشرط والمانع على حد سواء، فإن كان الشرط
والمانع على نحو الإطلاق - أي حتى حال العجز - فلازمه سقوط التكليف عن
المشروط والممنوع، وإلا فلازمه سقوط الشرطية والمانعية.
وأما إشكالا: فلأن محصل إشكاله: أن القدرة من شرائط ثبوت التكليف،
والعلم من شرائط التنجيز، وفيه ما مر سابقا (2) من منع كون القدرة من
شرائط التكليف، بل حالها حال العلم، ولهذا يجب الاحتياط عند الشك
فيها.
وأما ما نسب المحقق المعاصر رحمه الله إلى الحلي - من أن ذهابه
إلى عدم وجوب الستر عند اشتباه اللباس، لعله بدعوى سقوط الشرط
عند عدم العلم به تفصيلا، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط (3) - فهو من
غرائب الكلام، فإن الحلي رحمه الله قد صرح في السرائر بخلاف ذلك،
وجعل وجه ما ذهب إليه هو لزوم كون المكلف عالما بتحقق الشرط عند
إتيانه (4).

(1) فوائد الأصول 4: 135.
(2) انظر صفحة: 222.
(3) فوائد الأصول 4: 134.
(4) السرائر 1: 185.
الحلي: هو الفقيه الكبير المحقق الشيخ أبو عبد الله محمد بن إدريس العجلي الربعي
273

التنبيه الثاني
في كيفية النية لو كان المعلوم بالإجمال أو المحتمل من العبادات
إذا كان المعلوم بالإجمال أو المحتمل من العبادات، وقع النزاع في كيفية
النية، ففصل الشيخ - رحمه الله - بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم،
بكفاية مجرد قصد احتمال المحبوبية والأمر في الشبهات البدوية، فإنه هو
الذي يمكن في حقه، وعدم كفايته في المقرونة بالعلم، بل لابد من قصد
امتثال الأمر المعلوم بالإجمال على كل تقدير.
قال: ولازمه أن يكون المكلف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصدا للإتيان
بالمحتمل الآخر، إذ مع عدم قصد ذلك لا يتحقق قصد امتثال الأمر المعلوم
بالإجمال على كل تقدير، بل يكون قاصدا لامتثال الأمر على تقدير تعلقه
بالمأتي به، وهذا لا يكفي في تحقق الامتثال مع العلم بالأمر (1).
وتنظر فيه بعض أعاظم العصر - رحمه الله -: بأن العلم بتعلق الأمر بأحد
المحتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات، فإن الطاعة في كل من
الحلى، كان من شيوخ الفقه بالحلة، متقنا للعلوم، كثير التصانيف، يروي عن الشيخ
عربي بن مسافر العبادي، وأبي المكارم حمزة الحسيني وغيرهم، ويروي عنه جماعة
من الأفاضل منهم: الشيخ نجيب الدين بن نما الحلي، والسيد شمس الدين فخار بن معد
الموسوي، توفي سنة 598 ه‍. انظر مقابس الأنوار: 11، أمل الآمل 2: 243،
لؤلؤة البحرين: 279.

(1) فرائد الأصول: 270 سطر 10 - 15.
274

المحتملين ليست إلا احتمالية كالشبهة البدوية، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من
قصد امتثال الأمر الاحتمالي عند الإتيان بكل من المحتملين، وليس المحتملان
بمنزلة فعل واحد مرتبط الأجزاء حتى يقال: العلم بتعلق التكليف بعمل واحد
يقتضي قصد امتثال الأمر المعلوم، فلو أتى المكلف بأحد المحتملين من دون
قصد الإتيان بالآخر يحصل الامتثال على تقدير تعلق الأمر بالمأتي به، وإن
كان متجريا في قصده عدم الامتثال على كل تقدير (1) انتهى.
أقول: أما قضية كيفية قصد الامتثال فلاينبغي أن يستشكل في أن الداعي
للإتيان بالمحتمل في الشبهة البدوية ليس إلا احتمال الأمر أو الأمر المحتمل،
وأما في الشبهة المقرونة بالعلم فالداعي ليس احتمال الأمر فقط، بل الداعي
بالنسبة إلى أصل الإتيان هو الأمر المعلوم، لكن ينشأ من هذا الداعي داع آخر
لإتيان المحتمل لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه، فالداعي الأول لإتيان
المحتمل هو الأمر المعلوم، والداعي الآخر المنشأ منه هو احتمال الانطباق، فما
أفاد الشيخ رحمه الله - من أنه لابد من قصد امتثال الأمر المعلوم - حق لو
كان مراده ذلك، لكن مع توسط قصد متعلق بالظرف، لاحتمال انطباق
المعلوم عليه.
وما أفاد المحقق المعاصر - من أنه لا يمكن للمكلف أزيد من قصد امتثال
الأمر الاحتمالي - غير تام، ضرورة أن الداعي للإتيان ليس إلا امتثال الأمر
المعلوم في البين، لكن لا يكفي هذا الداعي للتحريك نحو المحتمل، بل لابد

(1) فوائد الأصول 4: 136 - 137.
275

من إرادة أخرى منشأة منه، وهذا بوجه نظير إرادة ذي المقدمة التي يتولد منها
إرادة المقدمات.
وأما ما أفاد الشيخ رحمه الله - من أن إطاعة الأمر المعلوم تتوقف على أن
يكون المكلف حال الإتيان بأحد المحتملين قاصدا للإتيان بالمحتمل الآخر - فهو
ممنوع، لأن الداعي إلى إتيان أحد المحتملين ليس إلا إطاعة المولى، فهو على
فرض الانطباق مطيع لأمره، وكونه قاصدا لترك الإتيان بالمحتمل الآخر
ومتجرئا بالنسبة إليه لا يضر بذلك، فلا يتوقف امتثال الأمر المعلوم على قصد
امتثال كلا المشتبهين، وهذا - أيضا - واضح.
التنبيه الثالث
حكم ما لو كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتبين شرعا
لو كان المعلوم بالإجمال أمرين مترتبين شرعا كالظهر والعصر المرددين
بين الجهات عند اشتباه القبلة، هل يجب استيفاء جميع محتملات المترتب
عليه قبل الشروع في الآخر، أو يجوز الإتيان بهما مترتبين إلى كل جهة،
فيجوز الإتيان بظهر وعصر إلى جهة وظهر وعصر إلى الأخرى وهكذا حتى
يستوفي جميع الجهات (1)؟
اختار بعض أعاظم العصر - رحمه الله - أولهما (2) بناء على ما قواه سابقا

(1) فرائد الأصول: 271 سطر 8 1 - 22.
(2) فوائد الأصول 4: 37 1 - 38 1.
276

من ترتب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي (1) وأن فيما نحن فيه
جهتين: إحداهما: إحراز القبلة، فهو مما لا يمكن على الفرض، والاخرى:
إحراز الترتيب بين الظهر والعصر، وهو بمكان من الإمكان، وذلك بإتيان
جميع محتملات الظهر، ثم الاشتغال بالعصر، وعدم العلم حين إتيان كل
عصر بأنه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر إنما هو للجهل بالقبلة، لا الجهل
بالترتيب، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه لا يوجب
سقوطه في سائر الشروط مع الإمكان. هذا حاصل ما ذكره.
وفيه منع كبرى وصغرى:
أما ممنوعية الكبرى: فقد مر ذكره (2) من عدم طولية الامتثال الإجمالي
بالنسبة إلى الامتثال التفصيلي، فيجوز الاحتياط مع التمكن من الاجتهاد
والتقليد، ويجوز الجمع بين المحتملات مع التمكن من العلم، ما لم ينجر إلى
اللعب بأمر المولى، ويكون فيه غرض عقلائي، والشاهد عليه حكم
العقل والعقلاء.
وأما ممنوعية الصغرى: فلأن الإتيان بكل ظهر وعصر مترتبين إلى كل جهة،
مما يكون فيه موافقة تفصيلية على تقدير، وعدم الموافقة رأسا بالنسبة إلي
الظهر والعصر على تقدير آخر، وليس الأمر دائرا بين الموافقة الإجمالية
والتفصيلية حتى يقال: إنهما مترتبتان، فإن كل جهة إما تكون قبلة، فيكون

(1) فوائد الأصول 3: 72.
(2) انظر الجزء الأول صفحة: 182.
277

الظهر والعصر مترتبين بحسب الواقع، وإما لا تكون قبلة فلا يتحقق ظهر
ولا عصر، ولا ترتيب بينهما حتى يقال: إنه موافقة إجمالية، والعلم بحصول
الترتيب بين الظهر والعصر حين الإتيان بهما لا يمكن على أي حال، سواء أتى
بجميع محتملات الظهر قبل العصر أو لا.
ولا يصغى إلى ما ادعى - رحمه الله - من أن ذلك إنما هو من جهة الجهل
بالقبلة لا الجهل بالترتيب، ضرورة أن الترتيب إذا كان بين الظهر والعصر
الواقعيين يكون مجهولا عند الإتيان بكل عصر، فإنه لا يعلم المكلف عند
الإتيان به أنها صلاة واقعية عقيب الظهر، بل يعلم إجمالا أنها إما صلاة
واقعية مترتبة على الظهر، وإما ليست بصلاة، وهذا العلم حاصل عينا فيما إذا
أتى بكل ظهر وعصر مترتبين إلى كل جهة، فإنه يعلم بأن العصر إما صلاة
واقعية مترتبة على الظهر، وإما ليس بصلاة، وهذا من الوضوح بمكان.
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
قوله: المقام الثاني: في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين... إلخ (1).

(1) الكفاية 2: 227.
واعلم أن الفرق بين الأقل والأكثر الاستقلاليين والارتباطيين ظاهر، والفرق بينهما إنما
هو قبل تعلق التكليف وفي مرتبة الغرض القائم بالموضوع، فما قد يقال: - إن الفرق
إنما هو بوحدة التكليف وكثرته (أ) - غير وجيه، إلا أن يراد بيان فرق آخر غير مربوط
بموضوع الأقل والأكثر.
ثم إن محط البحث متقوم بأخذ الأقل لا بشرط، وإلا يرجع إلى المتباينين. وقد يتوهم
278

تنقيح البحث يتوقف على بيان مقدمات:
الأولى: أن وزان المركبات الاعتبارية في عالم الاعتبار من بعض الجهات
وزان المركبات الحقيقية في الخارج، فإن المركب الحقيقي إنما يحصل بعد
كسر سورة الأجزاء بواسطة التفاعل الواقع بينها، فتخرج من استقلال
الوجود بواسطة الفعل والانفعال والكسر والانكسار، وتحصل صورة مستقلة
أخرى هي صورة المركب، فلها وجود ووحدة غير ما للأجزاء، والمركب
الاعتباري أيضا يحصل بكسر سورة الأجزاء في عالم الاعتبار، وخروجها
عن استقلال الوجود اللحاظي، وفنائها في صورة المركب، وحصول الوحدة
الاعتبارية كالوجود الاعتباري، فما لم يحصل للمركب صورة وحدانية في
خروج ما دار الأمر بين الطبيعي والحصة من موضوع البحث، كتردده بين وجوب إكرام
الإنسان وإكرام زيد، بدعوى أن الطبيعي - باعتبار قابليته للانطباق على حصة أخرى
منه المباينة مع حصة أخرى - لا يكون محفوظا بمعناه الإطلاقي في ضمن الأكثر (ب).
وفيه: - مضافا إلى أن ما سماه حصة مخالف للاصطلاح - أن لازم ما ذكر خروج المطلق
والمقيد عن محط البحث بعين ما ذكر، فإن المطلق لم يبق بإطلاقه في ضمن المقيد.
والتحقيق: أن خروج الطبيعي وفرده عن البحث لأجل أنه يشترط في باب الأقل والأكثر
كون الأمر في الأكثر داعيا إلى الذات والقيد، بحيث لو فرضنا الانحلال ينحل إلى الأمر
بالذات والقيد، والطبيعي والفرد ليسا كذلك عرفا، وإن انحل الفرد بالنظر الفلسفي إلى
الذات والخصوصية، فدوران الأمر بين الفرد والطبيعي والجنس ونوعه كالحيوان والإنسان
خارج عن موضوع البحث. نعم لا يبعد دخول مثل الحيوان والحيوان الأبيض أي الطبيعي
وحصته في مورد البحث. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 373 سطر 5 - 7.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 373 سطر 22 - 25.
279

عالم الاعتبار لم يكن له وجود، فإن ما لا وحدة له لا وجود له، وإنما تحصل
الوحدة بذهاب حكم الأجزاء وحصول صورة أخرى مجملة غير صورة
الأجزاء، أي المفصلات.
الثانية: أن كيفية تحصل المركب في ذهن الآمر غالبا إنما تكون عكس
كيفية إتيانه في الخارج، بمعنى أن المكلف إذا هم بإتيان مركب تتعلق إرادته
أولا بوجوده الوحداني، غافلا عن أجزائه وشرائطه، ثم ينتقل منه إليها، وتتولد
إرادات أخرى متعلقة بها على وجه يحصل المركب منها، فإذا هم بإتيان
الصلاة تتعلق إرادته أولا بأصل طبيعتها من غير تعلق بالأجزاء، ويكون المحرك
للعبد الأمر المتعلق بالطبيعة، ولما رئي أنها لا تحصل إلا بإتيان أجزائها
وشرائطها على طبق المقرر الشرعي تتولد إرادات تبعية متعلقة بها.
وأما الآمر إذا هم بتعليق الأمر بالمركب فلابد له - غالبا - من تصور
الأجزاء والشرائط أولا مستقلا، ثم ترتيبها حسب ما تقتضي المصلحة والملاك
النفس الأمريين ثم لحاظها على نعت الوحدة وإفناء الكثرات فيها ليحصل
المركب الاعتباري، ثم يجعلها موضوعا للأمر ومتعلقا للإرادة، فالامر ينتهي
من الكثرة إلى الوحدة غالبا، والمأمور من الوحدة إلى الكثرة (1).
(أ) ثم إن الصور في المركبات الاعتبارية غير مغايرة للأجزاء بالأسر، بل هي هي،
والاختلاف بينهما بالوحدة والكثرة، فلا تكون صور المركبات بالنسبة إلى أجزائها
كالمحصل والمحصل، ضرورة أن الأمر لم يتعلق بأمر خارج من الأجزاء تكون هي
محصلة له، فالأمر بالعشرة عين الأمر بالوحدات في لحاظ الكثرة.
وبالجملة: الفرق بينهما بالوحدة والكثرة والإجمال والتفصيل، لا بالمحصلية والمحصلية.
280

الثالثة: أن الأمر المتعلق بالمركب واحد متعلق بواحد، وليست الأجزاء
متعلقة للأمر، لعدم شيئية لها في لحاظ الامر عند لحاظ المركب، ولا يرى عند
البعث إليه إلا صورة وحدانية هي صورة المركب فانيا فيها الأجزاء، فهي
تكون مغفولا عنها، ولا تكون متعلقة للأمر أصلا، فالآمر لا يرى في تلك
الملاحظة إلا أمرا واحدا، ولا يأمر إلا بأمر واحد، لكن هذا الأمر الوحداني
يكون داعيا إلى إتيان الأجزاء بعين داعويته للمركب وحجة عليها بعين
حجيته عليه، لكون المركب هو الأجزاء في لحاظ الوحدة والاضمحلال (1)
والأجزاء هو المركب، فلكون المركب يتركب من الأجزاء وينحل إليها يكون
الأمر به حجة عليها لا بحجية مستقلة، وداعيا إليها لا بداعوية على حدة (2).
الرابعة: أن الحجة على المركب إنما تكون حجة على الأجزاء، والأمر
ولا يذهب عليك عدم تنافي ما ذكرناه هاهنا لما ذكرناه في بحث المقدمة من
إسراء النزاع إلى الأجزاء (أ) فتدبر تعرف. وإن شئت فاجعل هذا مقدمة أخرى للمقصود.
[منه قدس سره]
(أ) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.

(1) بنحو، وهذا لا ينافي ما ذكرنا في مبحث مقدمة الواجب (أ) من أن كل جزء مقدمة،
وهو غير الكل، وفيه مناط المقدمية، فلا تنفل. [منه قدس سره]
(2) ومن ذلك ينبغي أن يقال: إن في عقد البحث بأن الواجب يتردد بين الأقل والأكثر
لا يخلو من مسامحة، لأن الأمر متعلق بالصورة الوحدانية، وفي هذا اللحاظ لا أقل
ولا أكثر في البين، وإنما الدوران في صورة لحاظ الكثرة وباعتبار الانحلال، والأمر
سهل. [منه قدس سره]
(أ) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام - قدس سره -.
281

المتعلق به إنما يكون داعيا إليها، إذا قامت الحجة على كون المركب متركبا
من الأجزاء الكذائية ومنحلا إليها، وأما مع عدم قيام الحجة عليه فلا يمكن أن
يكون الأمر به حجة عليها وداعيا إليها، فمع الشك في جزئية شئ للمركب
لا يكون الأمر المتعلق به حجة عليه، ضرورة أن تمامية الحجة إنما تكون
بالعلم، والعلم بتعلق الأمر بالمركب إنما يكون حجة على الأجزاء التي علم
بتركب المركب منها، لما عرفت من أن سر داعوية الأمر المتعلق به للأجزاء
ليس إلا كونه منحلا إليها ومتركبا منها، فمع الشك في دخالة شئ في
المركب واعتباره فيه عند ترتيب أجزائه، لا يكون الأمر بالمركب حجة عليه.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأصل العقلي في باب الأقل والأكثر الارتباطيين هو
البراءة، فإذا اجتهد العبد في تحصيل العلم بأجزاء المركب، وبذل جهده في
التفحص عن الأدلة بمقدار ميسوره، وقامت الحجة على عدة أجزاء للمركب،
وعلم أن المولى قد أخذها فيه قطعا، وشك في اعتبار شئ آخر جزء، فأتى بما
قامت الحجة عليه، وترك غيرها مما هو مشكوك فيه، لا يعد عاصيا، ويكون
العقاب على تركه بلا بيان ولا برهان.
الإشكالات على جريان البراءة في المقام
نعم هاهنا إشكالات لابد من التفصي عنها لتحقيق المقام:
الأول: أن العلم الإجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر حجة على التكليف
ومنجز له، ولابد من الاحتياط بإتيان الجزء المشكوك فيه، ولا ينحل هذا العلم
282

الإجمالي بالعلم بوجوب الأقل والشك في الأكثر، لتردد وجوبه بين المتباينين،
فإنه لا إشكال في مباينة المهية بشرط شئ للماهية لا بشرط، لكونهما قسيمين،
فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به إنما يكون لا بشرط عن الزيادة،
ولو كان الأكثر فالتكليف بالأقل يكون بشرط انضمامه مع الزيادة، فوجوب
الأقل يكون مرددا بين المتباينين، باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ
لا بشرط شئ أو بشرطه.
كما أن امتثاله يكون مختلفا - أيضا - حسب اختلاف الوجوب، فإن
امتثال الأقل إنما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا
بشرط شئ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط، فيرجع الشك في الأقل
والأكثر الارتباطيين إلى الشك بين المتباينين تكليفا وامتثالا (1).
وفيه أولا: أن التكليف لم يكن ملحوظا لا بشرط أو بشرط شئ، بل
اللا بشرطية أو بشرط الشيئية - لو كانتا - إنما " هما في متعلق التكليف لا نفسه،
فلا يخلو ما أفاده من سوء التعبير.
وثانيا: أن متعلق التكليف - أيضا - لم يكن من قبيل المهية لا بشرط شئ
وبشرطه، فإن التكليف لم يكن مرددا بين تعلقه بالأقل لا بشرط انضمامه مع

(1) نسب هذا الإشكال في الفوائد 4: 152 إلى صاحب الحاشية، ولكن بمراجعة الهداية:
449 - 450 تجد الوجه الأول من وجوه أقوائية الاحتياط في المقام ينطبق على مختار
المحقق النائيني رحمه الله كما جاء في الفوائد 4: 158، وقد نبه على ذلك المحقق
الكاظمي رحمه الله راجع الفوائد هامش صفحة: 158.
283

الزيادة، أو بشرط الانضمام بحيث يكون الأقل متعلقا له والزيادة من قبيل
الشرائط، فإن الأجزاء كلها في رتبة واحدة لا يكون بعضها جزء وبعضها
شرط الجزء، بل الأمر دائر بين تعلق التكليف بالأقل - أي المركب المنحل إليه -
أو الأكثر - أي المركب المنحل إليه - ولا تكون الأجزاء متعلقة للتكليف بما أنها
أجزاء، كما عرفت في كيفية تعلقه بالمركبات (1).
وثالثا: أن الأقل اللابشرط أو التكليف الذي هو اللابشرط - بتعبيره -
لم يكن مباينا لما هو بشرط الشئ، فإن معنى كون الأقل لا بشرط أن الملحوظ
نفس الأقل من غير لحاظ انضمام شئ معه، لاكون عدم لحاظ شئ معه
ملحوظا حتى يصير متباينا مع الملحوظ بشرط شئ، ومعلوم أن نفس الأقل
مع الأقل بشرط شئ لم يكونا متباينين، فيكون الأقل متيقنا، والزيادة
مشكوكا فيها، فينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل،
والشك البدوي في وجوب الزيادة.
هذا، لكن التحقيق - كما عرفت (2) -: أن الأجزاء لم تكن متعلقة للتكليف
بل متعلقه واحد هو المركب في نعت الوحدة، كما أن نفسه واحد، لكنه حجة
على الأجزاء المعلومة الاعتبار فيه، ولا يكون حجة على الزيادة المشكوك فيها.
ورابعا: لازم كون الأقل والأكثر من قبيل المتباينين لزوم إتيان الأقل
منفصلا عن الأكثر، لا منضما إليه، فيجب الإتيان بالصلاة مرة مع الزيادة،

(1) في صفحة: 281.
(2) مر ذلك قريبا فلاحظ.
284

ومرة بغير هاج لأن المتباينين غير ممكني الاجتماع في التحقق والامتثال، مع أن
القائل لم يلتزم به.
جواب المحقق النائيني عن الإشكال ورده
هذا وأجاب عن الشبهة بعض أعاظم العصر - رحمه الله -: بأن المهية
لا بشرط والماهية بشرط شئ ليستا من المتباينين اللذين لاجامع بينهما، فإن
التقابل بينهما ليس تقابل التضاد، بل من تقابل العدم والملكة، فإن المهية
لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شئ معها بحيث يؤخذ العدم قيدا
للماهية، وإلا رجعت إلى المهية بشرط لا، ويلزم تداخل أقسامها، بل المهية
لا بشرط معناها عدم لحاظ شئ معها، ومن هنا قلنا: إن الإطلاق ليس أمرا
وجوديا، بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد، فالماهية لا بشرط ليست مباينة
بالهوية والحقيقة مع المهية بشرط شئ بحيث لا يوجد بينهما جامع، بل
يجمعهما نفس المهية، والتقابل بينهما بمجرد الاعتبار واللحاظ.
ففيما نحن فيه يكون الأقل متيقن الاعتبار على كل حال - سواء لوحظ
الواجب لا بشرط أو بشرط شئ - فإن التغاير الاعتباري لا يوجب خروج
الأقل من كونه متيقن الاعتبار (1) انتهى.
وفيه: أن المهية لا بشرط - أي التي لم يلحظ معها شئ - هي المهية
المقسمية التي هي نفس المهية، ولا يعقل الجامع بين المهية الكذائية وغيرها،

(1) فوائد الأصول 4: 154.
285

ونفس ذات المهية عبارة أخرى عن المهية التي لم يلحظ معها شئ بنحو
السلب البسيط، لا الإيجاب العدولي، وأقسام المهية - أي بشرط شئ،
وبشرط لا، ولا بشرط - من الاعتبارات الواردة على نفس المهية، وتكون تلك
الأقسام متقومة بالاعتبار الذهني، وليس لها وجود في الخارج حتى المهية
بشرط شئ، فإن المهية الملحوظة بشرط شئ إنما تتقوم باللحاظ.
وما قيل: إن اللحاظ حرفي لا اسمي، أو أن هذه الاعتبارات مصححة
لموضوعية الموضوع على الوجه المطلوب، لا أنها مأخوذة فيه (1) مما لا ينبغي أن
يصغى إليه، فإن تحصل الأقسام الثلاثة للماهية ليس إلا بتلك الاعتبارات،
وهذه الاعتبارات مقومة للأقسام، وما هو موجود في الخارج لم يكن إلا نفس
المهية، لا المهية بشرط الوجود التي هي إحدى أقسامها واعتباراتها، وإنما
خرجت المهية عن كونها من حيث هي بالوجود لاقبله، كما أن الاعتبارات
الملحقة بالمهية تخرجها عن كونها من حيث هي، لا أنها خرجت عن نفس
كونها مهية من حيث هي قبل الاعتبارات، وتكون هي واردة على المهية
الملحوظة بالقياس إلى أمر خارج عن ذاتها، كما ذهب إليه بعض أعاظم فن
المعقول على ما قيل (2) وتبعه بعض محققي محشي الكفاية (3) ممن له حظ
من هذا الفن.

(1) نهاية الدراية 1: 353 سطر 13 - 14.
(2) انظر شرح المنظومة - قسم الفلسفة: 58 و 70 و 92 و 95.
(3) نهاية الدراية 1: 352 - 353.
286

وبالجملة: أن المهية لا بشرط شئ - التي هي مقسم الاعتبارات - إنما هي
نفس المهية من غير لحاظ شئ معها، ولحوق الاعتبارات الثلاثة بها يجعلها
أقساما، وهي متقومة بالاعتبار، لا يمكن انسلاخ الاعتبار عنها وبقاؤها على
تقرر القسمية، ولهذا لا تكون الأقسام موجودة في الخارج، والموجودات
الخارجية مصداق نفس المهية لا المهية بشرط شئ، وإن ذهب إليه بعض
المحققين من أهل المعقول، واستدل على موجودية المهية: بأن المهية التي بشرط
شئ موجودة، والمقسم هو القسم، فالمقسم موجود (1) لكنه خلاف
التحقيق، كما لا يخفى على المتأمل الدقيق.
فتحصل مما ذكرنا: أن نفس المهية ليست جامعة للماهية بشرط شئ والماهية
لا بشرط - أي التي لم تلحظ معها شئ ولم تتقيد بشئ - وإنما تكون جامعة
للماهية بشرط شئ واللابشرط أي التي تلحظ متقيدة باللابشرطية ومتقومة
بها، فالماهية اللابشرط بالمعنى الأول ليست متقابلة مع المهية بشرط شئ بنحو
من التقابل، لا العدم والملكة ولاغيره، فما أفاده - من تقابلهما بنحو العدم
والملكة - ليس بشئ، مع أن المتقابلين بنحو التضاد - أيضا - يكون لهما جامع
جنسي، كالبياض والسواد الداخلين تحت مطلق اللون.
مضافا إلى أن مجرد وجود الجامع بينهما لا يوجب سقوط الاحتياط إذا
كان بين المتعلقين تباين ولو بنحو العدم والملكة، ألا ترى أنه لو علم إجمالا

(1) شرح المنظومة - قسم الفلسفة: 96 - 97.
287

بوجوب إكرام أحد مردد بين كونه كوسجا (1) أو ملتحيا يجب الاحتياط
عقلا، ولكن لو علم بوجوب إكرام أحد مردد بين مطلق الإنسان والإنسان
الرومي، لا يجب إلا إكرام إنسان واحد روميا كان أو غيره، لعدم التقابل
بينهما، وعدم كون المتعلق مرددا بين المتباينين (2).
الإشكال الثاني: أن يقال أيضا: إن متعلق التكليف في باب الأقل والأكثر
مردد بين المتباينين، فإن المركب الملتئم من الأقل له صورة وحدانية غير صورة
المركب الملتئم من الأكثر، فهما صورتان وحدانيتان متباينتان، ويكون
التكليف مرددا بين تعلقه بهذا أو ذاك، فلابد من الاحتياط (3).
وفيه: أن ما ذكرنا في كيفية تركيب المركبات الاعتبارية - من أن الأجزاء
في لحاظ الوحدة مركب - ليس المقصود منه أن المركب الاعتباري له صورة
أخرى وحدانية تكون تلك الصورة نسبتها إلى الأجزاء نسبة المتحصل إلى
المحصل، ويكون الأمر متعلقا بالصورة التي هي حقيقة أخرى وراء الأجزاء،

(1) الكوسج: الذي لا شعر على عارضيه، قال سيبويه: أصله بالفارسية كوسه. لسان
العرب 2: 352 كسج.
(2) ثم اعلم أن ما ذكرنا في المقام في تقسيم اللابشرط إلى الأقسام وكيفيته، إنما هو موافق
لظاهر كلام القوم والمشهور بينهم، وأما التحقيق عندنا فغير ذلك، وقد ذكرنا نبذة مما
هو التحقيق في باب المطلق والمقيد (أ) وبعض موارد أخر في مباحث الألفاظ (ب) فراجع
تجد الحق. [منه قدس سره]
(أ) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(ب) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(3) هداية المسترشدين: 449 - 450.
288

حتى يكون المتحصل من عدة أجزاء غير المتحصل من عدة أخرى أكثر، بل
ليس للمركب تحصل إلا تحصل الأجزاء، فهو هي، وهي هو، لكن العقل قد
يرى الأجزاء في لحاظ الوحدة، وقد يرى الكثرات، واختلاف ملاحظة العقل
لا يوجب اختلافا جوهريا في الملحوظ.
وبالجملة: ليس الاختلاف بين الأقل والأكثر إلا بالأقلية والأكثرية لاغير،
فهما مشتركان في عدة أجزاء، وممتازان في بعض أجزاء اخر، وليس
اختلافهما في الأجزاء الداخلة في الأقل، بل في الزيادة، ومجرد لحاظ العقل
للأجزاء بنحو الوحدة لا يوجب تباين الملحوظ لملحوظ آخر.
وإن شئت قلت: لا إشكال في أن الحجة قائمة على وجوب إتيان الأقل،
والزيادة مشكوك فيها لم تقم حجة عليها.
هذا، مضافا إلى أن ما ذكرت من إيجاب تباين الصورتين للاحتياط لازمه
تكرار المركب بإتيانه تارة في صورة الأقل، وتارة في صورة الأكثر، ولا يكاد
يكفي إتيان الأكثر كما لا يخفى.
الإشكال الثالث: أن يقال: إن وجوب الأقل دائر بين كونه نفسيا
أصليا توجب مخالفته العقاب، وبين كونه نفسيا ضمنيا لا يعاقب على تركه؟
فإن العقاب إنما هو على ترك الواجب الأصلي لا الضمني، فلا يحكم
العقل بلزوم إتيان الأقل على أي تقدير، بل يكون أمره من هذه الجهة
كالمردد بين الواجب والمستحب، فإذا لم يحكم العقل بوجوب إتيانه
كذلك فلا ينحل به العلم الإجمالي، فلابد من الخروج عن عهدته
289

بضم الزيادة إليه (1).
والجواب عنه: أولا: أن ترك المركب الذي هو واجب أصلي إنما هو بترك
كل واحد من الأجزاء أو جميعها، لا بمعنى أن للمركب تروكا، لأن نقيض
الواحد لا يمكن أن يكون إلا واحدا، بل بمعنى أن المركب له ترك واحد هو
عدمه، وهو كما يتحقق 1 بعدم الإتيان به رأسا يتحقق بعين عدم الإتيان بكل
جزء أو شرط منه، فعدم الحمد عين عدم الصلاة، وعدم السورة كذلك،
وهكذا.
فحينئذ إذا ترك المكلف المركب رأسا، أو ترك الأجزاء المعلومة منه - أي
الأقل - فقد ترك بعين تركه أو تركها المأمور به من غير عذر، فيكون معاقبا
على ترك المأمور به بلا عذر، وأما لو أتى بالأقل المعلوم وترك الزيادة بعد
الفحص والاجتهاد وعدم العثور [على ما يفيد العلم] بكونها جزء، فقد ترك
المأمور به عن عذر.
ففي كلتا الصورتين يكون المكلف تاركا للمركب المأمور به، لكن الفرق
بينهما: أنه في الأولى يكون تركه عصيانا للمولى، لأن تركه للأجزاء عين ترك
المأمور [به] سواء كان الأقل أو الأكثر، فيكون معاقبا على ترك المأمور به
بلا عذر وإن كان هو الأكثر، لأن ترك الأكثر عين ترك الأجزاء. وأما في الثانية
فلا يكون تركه عصيانا للمولى، فإنه عن عذر، فالأقل واجب الإتيان بحكم
العقل على كل حال، والزائد مشكوك فيه.

(1) انظر الفصول: 357 سطر 11 - 17.
290

وثانيا: أن مستند حكم العقل بالبراءة - فيما يحكم بها - هو القطع
بالمؤئن، وهو لا يكون إلا في مورد يحكم بأن العقاب قبيح، والقبيح ممتنع
على الله - تعالى - فالعقاب ممتنع عليه، وتمام الموضوع لحكم العقل بالاحتياط
هو احتمال العقاب وعدم المؤمن القطعي ولو كان الاحتمال ضعيفا،
ولو كان التكليف مرددا بين كونه مما يعاقب عليه أو لا، لحكم العقل بلزوم
الاحتياط.
وليعلم: أن ما يصحح العقوبة ويخرجها عن كونها بلا بيان هو بيان
الأحكام، لابيان العقوبة عليها، فإذا بين المولى حكم الخمر بأنه محرم يكون
العقاب على ارتكابه مع البيان، ولو احتمل العبد أن المولى لا يعاقبه عليه،
فالشك في العقوبة لا يكون مؤمنا بعد بيان التكليف.
ألا ترى: أنه لو شك العبد في أن المحرم الكذائي هل هو موجب للعقوبة
الشديدة أو الضعيفة، فارتكبه فصادف كونه مما يوجب العقوبة الشديدة،
لم يكن له عذر، ويكون العقاب عليه مع البيان، لأن المولى ليس له إلا بيان
الحكم لا العقوبة عليه.
إذا عرفت ذلك نقول: إن التكليف بالمركب - كما عرفت - عين التكليف
بالأجزاء، فالأقل يكون متعلقا للأمر بعين تعلقه بالمركب، لكن أمره دائر بين
كونه تكليفا نفسيا أصليا - أي كونه تمام المركب حتى يكون العبد معاقبا على
تركه - أو كونه ضمنيا، ويكون المركب هو الأكثر، ولا يكون معاقبا على ترك
الأقل، ففي مثله يحكم العقل بلزوم إتيانه، لأنه لو صادف كونه تمام المركب
291

فلا يكون العقاب عليه بلا بيان، فإن ما لزم على المولى هو بيان التكليف
الإلزامي، والفرض أنه بينه، وليس عليه بيان كون الواجب مما في تركه عقوبة
أولا، فإذا أمر المولى بالصلاة، وعلم العبد أن الأجزاء الكذائية مأمور بها بعين
الأمر بالصلاة، فترك الصلاة، فصادف كون تلك الأجزاء تمام حقيقة
الصلاة، يكون العقاب عليها مع البيان، فإذا حكم العقل بلزوم إتيان الأقل
وشك في الزيادة ينحل العلم.
ولعمري: إن انحلال العلم في المقام مما ينبغي أن يعد من الضروريات؟
لأن كون الأقل واجبا تفصيليا مما هو واضح، ولا يعقل أن يكون شئ
واجبا تفصيليا وطرفا للعلم الإجمالي، ولا ينبغي أن يصغى إلى ما قيل: إن
تفصيله عين إجماله، فإنه كلام شعري، وإن صدر عن بعض الأعاظم
- رحمه الله (1) -.
الإشكال الرابع: ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في
تقريراته - وهو أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف
القطعي، ضرورة أن العلم بالاشتغال يستدعي العلم بالفراغ، لتنجز التكليف
بالعلم به ولو إجمالا، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب
عليه، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به، لا يكون العقاب
على تركه بلا بيان.
ففيما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلا، لأنه يشك معه في

(1) فوائد الأصول 4: 160.
292

الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم
بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة، والعلم التفصيلي بوجوب
الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شئ هو عين العلم الإجمالي
بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن
يوجب الانحلال، لأنه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال
نفسه (1) انتهى.
وفيه ما لا يخفى، فإن الاشتغال اليقيني وإن استدعى البراءة اليقينية، لكن
ثبوت الاشتغال إنما هو بمقدار تمامية الحجة والعلم بالتكليف، ولا إشكال في
أن الحجة لا تكون قائمة إلا على وجوب الأقل، وأما الزيادة فليست إلا
مشكوكا فيها بالشك البدوي، فإن الضرورة قاضية بأن الأقل واجب، لأن
الأكثر ليس إلا الأقل والزيادة، ولا يفترق حال الأقل بالنسبة إلى تعلق أصل
التكليف به، ضم إليه الزيادة أو لم تضم.
وبالجملة: القطع التفصيلي من غير دخول الإجمال والاحتمال حاصل
بالنسبة إلى وجوب الأجزاء التي يعلم انحلال المركب إليها، وإنما الشك في
أن الجزء الزائد هل يكون دخيلا فيه حتى يكون متعلق التكليف بعين تعلقه
بالمركب أم لا فلا يكون هذا إلا الشك الساذج، كما لا يكون ما تعلق بسائر
الأجزاء المعلومة إلا العلم التفصيلي الساذج.
وما ادعى - من أن الأقل المردد بين لا بشرط وبشرط شئ هو عين العلم

(1) فوائد الأصول 4: 159.
293

الإجمالي، فيلزم أن يكون العلم الإجمالي موجبا لانحلال نفسه - واضح
البطلان، لأن الأقل متعلق للعلم التفصيلي ليس إلا، والشك إنما هو في
الزيادة، لافي مقدار الأقل.
وإن شئت قلت: إن تعلق العلم الإجمالي بالأقل والأكثر لا يعقل، لامتناع
أن يكون ما به الاشتراك بينهما طرفا لما به الامتياز، فما به الاشتراك مختص
يتعلق العلم التفصيلي، وما به الامتياز مشكوك فيه ليس إلا، فلا يكون في البين
علم إجمالي من رأس، لا أن العلم الإجمالي يكون متحققا فانحل، كما في
قيام الأمارة مثلا بأحد الأطراف.
تقريران آخران للإشكال الرابع
ثم إنه - قدس سره - قرب مدعاه بتقريب آخر حاصله: أن الشك في تعلق
التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط، وإن كان عقلا
لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو، للجهل
بتعلق التكليف به، إلا أن هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق
العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلقه بها، وهي احتمال الارتباطية
وقيدية الزائد للأقل، فإن هذا الاحتمال بضميمة العلم الإجمالي يقتضي
التنجيز، فإنه لا رافع لهذا الاحتمال، وليس من وظيفة العقل وضع القيدية أو
رفعها، بل ذلك من وظيفة الشارع، ولاحكم للعقل من هذه الجهة، فيبقى
حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله،
294

فلابد من ضم الخصوصية الزائدة (1) انتهى موضع الحاجة.
وفيه: أنه بعد الاعتراف بأن الخصوصية مشكوك فيها لا يكون العقاب
عليها إلا عقابا بلا بيان، لاوقع لدعوى العلم الإجمالي المنجز، واحتمال
الارتباطية والقيدية - أيضا - من القيود الزائدة المشكوك فيها، ولا تكون الحجة
قائمة بالنسبة إليها.
وبالجملة: لافرق بين الجزء الزائد وحيثية الارتباطية في جريان البراءة
العقلية، وليس معنى البراءة العقلية هو رفع التكليف حتى يقال: إنه ليس من
وظيفة العقل، بل كما أن العقل يحكم بأن العقاب على الجزء الزائد بلا برهان
- كما اعترف به، وجرى الحق على لسانه - كذلك يحكم بأن العقاب على
الارتباطية بلا برهان بعد تعلق العلم التفصيلي بوجوب الأقل من غير كون
الخصوصية متعلقة للعلم، بل تكون مشكوكا فيها بالشك البدوي.
ولعمري: إن بين صدر كلامه وذيله مناقضة ظاهرة، تدبر فيها لعلك
تجد مفرا منها.
وهاهنا تقرير ثالث للاشتغال: وهو أن الأقل معلوم الوجوب بالضرورة، ومع
إتيانه يشك في البراءة عن هذا التكليف المعلوم، لأن الأكثر لو كان واجبا
لا يسقط التكليف المتوجه إلى الأقل بإتيانه بلا ضم القيد الزائد، فلابد للعلم
بحصول الفراغ من ضمه إليه (2).

(1) فوائد الأصول 4: 161.
(2) انظر نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 387 - 388، الفصول: 357
295

وفيه: أن الأقل لا يكون واجبا مستقلا، بل هو واجب بعين وجوب
المركب، بمعنى أن الوجوب المتعلق به يكون حجة على الأقل بلا إشكال
وريب، فحينئذ نقول: ما قامت الحجة عليه - وهو الأقل - يكون المكلف آتيا
به، وما تركه لم تقم الحجة عليه، وليست نسبة الأجزاء إلى المركب نسبة
المحصل إلى المتحصل منه، بل المركب عين الأجزاء، وقيام الحجة عليه عين
قيام الحجة عليها فيما كانت الأجزاء معلومة.
وبالجملة: لا يعقل داعوية الأمر بالمركب بالنسبة إلى أجزائه
مرتين، فالمكلف إذا جد جهده في الفحص عن أجزاء المركب، وأتى بما هو
معلوم وترك ما هو مشكوك فيه، يكون العقاب عليه عقابا بلا بيان.
وإن شئت قلت: بعد الإتيان بالأقل لا يكون الأمر داعيا إليه، وما لم يأت
به يكون مشكوكا فيه، فلا دعوة للأمر بالنسبة إليه رأسا.
الإشكال الخامس: ما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله -: وهو دعوى
تحقق العلم الإجمالي وامتناع الانحلال:
إما للزوم الخلف، وتقريره: أن تنجز التكليف مع تعلقه بالأكثر لابد وأن
يكون مفروضا حتى لزم الأقل فعلا على أي تقدير إما لنفسه أو لغيره، لأنه مع
عدم مفروضية تنجزه لا يعقل العلم بفعلية التكليف بالنسبة إلى الأقل على أي
تقدير، فإن أحد التقديرين كونه مقدمة للأكثر، فلو لزم من فعلية التكليف
بالأقل عدم تنجز الأكثر كان خلف الفرض.
سطر 11 - 17.
296

وإما للزوم كون وجود الانحلال مستلزما لعدمه، وتقريره: أن لازم
الانحلال عدم تنجز التكليف على أي تقدير، أي على تقدير تعلقه بالأكثر،
وعدم تنجز التكليف على أي تقدير مستلزم لعدم لزوم الأقل على أي تقدير،
وهو مستلزم لعدم الانحلال، فلزم من وجود الانحلال عدمه، وهو محال،
فالعلم الإجمالي منجز بلا كلام ولا إشكال (1).
وفيه: أن منشأ الإشكالين إنما هو توهم الوجوب الغيري المقدمي للأقل
الناشئ من الأكثر، ومعه لا مناص عن الإشكال، فإن المقدمة في الوجوب
وتنجزه تابعة لذيها، ولا يعقل تنجزه بالنسبة إليها مع عدم تنجزه بالنسبة إليه،
لأن العلم بالتكليف الفعلي موجب للتنجز سواء كان العلم إجماليا أو
تفصيليا، والعلم بالتكليف الفعلي للأقل على أي تقدير لا يمكن إلا مع العلم
بفعلية التكليف على تقدير كون الأكثر واجبا، ومعه يكون التكليف منجزا
على تقدير تعلقه بالأكثر للعلم الإجمالي، وهو موجب لعدم الانحلال إلا
على الوجه المحال.
وبالجملة: لا مناص عن الإشكال بعد تسليم كون وجوب الأجزاء مقدميا،
فما تفصى عنه بعض أعاظم العصر على ما في تقريراته - بقوله: ثانيا... (2) -
مما لا ينبغي أن يصغى إليه.
ولكن كون وجوبها مقدميا ناشئا من الوجوب المتعلق بالمركب، محل

(1) انظر الكفاية 2: 228، حاشية كتاب الفرائد: 1 5 1 - 52 1.
(2) فوائد الأصول 4: 158.
297

منع كما عرفت (1) واعترف - رحمه الله - به في غير المقام (2).
ومع كون الأجزاء واجبة بعين وجوب الكل، لا يتوقف وجوب الأقل على
تنجز الأكثر، فإن الأمر بالمركب معلوم، وهو أمر بالأجزاء المعلومة، أي ينحل
المركب الذي تنجز الأمر بالنسبة إليه إلى الأجزاء المعلومة بلا إشكال، سواء
كان الجزء الآخر واجبا أو غير واجب، فتنجز الأمر بالأقل عين تنجز الأمر
بالمركب، ولا يتوقف وجوبه على وجوب شئ آخر، فلا إشكال في وجوب
الأقل على أي تقدير، أي كان المركب منحلا إلى تلك الأجزاء فقط أو إليها
وإلى أمر آخر.
الإشكال السادس: ما أورده العلامة الأنصاري وأجاب عنه (3) - وتوهم
وروده المحقق الخراساني ورد جوابه (4) - وهو: أن المشهور بين العدلية أن
الأوامر والنواهي تابعة لمصالح ومفاسد في المأمور بها والمنهي عنها، وأن
الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، وهذه العناوين النفس
الأمرية، أي المصلحة واللطف:
إما هي المأمور بها بالأمر النفسي، وتعلق الأوامر بما تعلقت بها
ظاهرا، كالصلاة والصوم والحج وأمثالها، لأجل كونها محصلات للمأمور
نجها النفس الأمرية، وأن الأوامر إرشادية محضة، أرشد المولى إليها لعدم علم

(1) في صفحة: 296 من هذا المجلد.
(2) الكفاية 1: 140 - 141.
(3) فرائد الأصول: 273 - 274.
(4) الكفاية 2: 232 - 234.
298

العباد بكيفية تحصيل متعلقات الأوامر الواقعية، ولو اطلع العقل على تلك
المصالح وهذه المحصلات لحكم بلزوم إتيانها، فالمصالح والألطاف هي المأمور
بها بالأمر النفسي، ومتعلقات التكاليف في ظاهر الشرع هي المحصلات،
وأوامرها إرشادية مقدمية، وصوم أنه مع الشك في المحصل يكون الاحتياط
محكما.
وإما تكون تلك المصالح والألطاف من قبيل الأغراض الداعية إلى
الأوامر، ولا يحرز الغرض إلا بإتيان الأكثر.
وإن شئت قلت: إن تحصيل الغرض علة تامة لتعلق التكليف بتلك
المتعلقات، والأشياء ذوات العلل كما لا يمكن وجودها إلا بعللها لا يمكن
انعدامها إلا بانعدامها، فلابد في سقوط الأوامر من سقوط الأغراض الداعية
إليها، فلابد في إحراز سقوطها من إحراز حصولها، فمع إتيان الأقل يشك
في إحراز المصالح، فيشك في سقوط الأوامر، فمع العلم بالثبوت لابد من
العلم بالسقوط، وهو لا يحصل إلا بإتيان الأكثر.
والفرق بين الأول والثاني مما لا يكاد يخفى، فإن محصل الأول: أن المأمور
بها بالأوامر النفسية هي المصالح والألطاف، ومحصل الثاني: أن الأوامر
النفسية هي التي تعلقت بالمتعلقات في ظاهر الشرع، لكنها لأجل ترتب آثار
وحصول مصالح وألطاف، فما لم تحصل تلك الأغراض لا تسقط الأوامر.
وهذا الثاني هو الموافق لما في الكفاية، لكن العلامة الأنصاري قرر الإشكال
بكلا التقريرين.
299

ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكرنا هو الموافق تقريبا لما أفاده الشيخ
- رحمه الله - بتقريب وتوضيح مناج ضرورة أن قوله: - فاللطف إما هو المأمور
به حقيقة، أو غرض للأمر، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف، وقوله
قبيل ذلك: كما إذا أمر بمعجون، وعلم أن المقصود منه إسهال الصفراء،
بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة، أو علم أنه الغرض من المأمور به (1) -
ظاهر بل كالنص في أن ما هو المأمور به في الشق الأول هو الغرض من الأمر
في الشق الثاني.
وبذلك ظهر فساد ما زعم بعض أعاظم العصر: أن مراده لا يكون مصلحة
الحكم وملاكه، بل المراد منه التعبد بالأمر وقصد امتثاله، ثم فصل في أطراف
هذا الاشتباه تفصيلا وتطويلا لا يخلو من غرابة (2)، وسيأتى - إن شاء الله -
التعرض لبعض كلامه.
وكيف كان، فالجواب عن الأول:
أما أولا: أن مسألة كون الأوامر والنواهي تابعة لمصالح ومفاسد في المأمور
بها والمنهي عنها شعبة من المسألة الكلامية المعروفة: من أنه تعالى يفعل
لغرض، ويمتنع عليه تعالى الإرادة الجزافية، للزوم العبث في فعله والظلم على
العباد في تكليفه، فالأوامر والنواهي لكونها من الأفعال الاختيارية لله
- تعالى - لابد لها من غرض وغاية، في مقابل الأشاعرة النافين للأغراض

(1) فرائد الأصول: 273 سطر 15.
(2) فوائد الأصول 4: 171.
300

والغايات في مطلق أفعاله.
وأمثال هذه الأدلة الكلامية لا تثبت دعوى كون الأوامر النفسية متعلقة
بتلك العناوين والمصالح، كما لا تثبت كون المصالح والمفاسد في المأمور بها
والمنهي عنها، لإمكان أن يكون الغرض في نفس الأمر، أو تكون تلك
المتعلقات في ظاهر الشرع محبوبات ذاتية من قبيل نفس الأغراض، أو
الغرض منها أمر آخر لا نعلمه.
وبالجملة: هذه الأدلة - على فرض تماميتها - لا تدل على تعلق الأوامر
بالمصالح والألطاف.
وأما ثانيا: إن تعلق الأوامر بتلك المصالح النفس الأمرية محال عليه تعالى،
للزوم اللغوية والعبث عليه، فإن تعلق الأوامر بالمتعلقات إنما يكون للبعث
والحث والإغراء نحوها، فلابد وأن تكون تلك الأوامر مما يمكن أن تكون
باعثة نحوها، ولا يعقل أن تكون الأوامر النفس الأمرية الغير الواصلة إلى
المكلفين متعلقة بعناوين واقعية مجهولة لديهم، باعثة نحوها، فتعلقها بها
لا يكون إلا لغوا ممتنعا عليه تعالى.
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن الثاني أيضا، فإن ما قام به
الدليل الكلامي إنما هو امتناع خلو فعله - تعالى - عن الغرض، وأما
كون الغرض قائما بأي شئ فلا دلالة عليه، واحتمال كون الغرض في
نفس الأمر أو المأمور به - بمعنى كونه محبوبا بالذات، من غير أن
يكون محصلا للغرض وخارجا عنه - ينفي الاشتغال، ويصير من قبيل
301

الأقل والأكثر (1).
مضافا إلى أن العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه مجهول العنوان بحيث
لا ينقدح في ذهن المكلف أبدا لا يكون منجزا، فإن تنجيزه متوقف على إمكان
الباعثية على أي تقدير، أي في أي طرف من الأطراف، وإذا كان بعضها
مجهول العنوان لا يمكن البعث نحوه.
وما نحن فيه كذلك، فإنه ما من تكليف من التكاليف المركبة إلا ويحتمل
أن يكون له جزء دخيل في سقوط الغرض يكون مخفيا عنا لعدم العثور على
دليله، فمن الممكن أن يكون للصلاة جزء أو شرط آخر لم يصل إلينا ويكون
دخيلا في سقوط الغرض، فالعلم بأن الغرض إما قائم بالأقل أو الأكثر، أو هو
مع شئ آخر لا نعلمه، لا يمكن أن يكون منجزا.
وقريب مما ذكرنا ما أفاد الشيخ - رحمه الله -: من احتمال دخالة قصد

(1) مع أن العقل لا يحكم إلا بالخروج عن العهدة بمقدار الاشتغال، والغرض إذا لم تقم حجة
عليه لا يحكم العقل بلزوم تحصيله، ولما لم تقم حجة إلا على الأقل فلا يحكم العقل إلا
بإتيانه، فلو لم يسقط لأجل بقاء الغرض يكون من قبل قصور المولى، لعدم إقامة الحجة
أو إيجاب الاحتياط.
وبالجملة: أن الكشف عن الغرض إنما هو بمقدار قيام الحجة، ومع إتيان ما قامت عليه
الحجة يكون العقاب على الأزيد بلا بيان وحجة، والعلم بسقوط الأمر بهذا المعنى
المدعي غير ممكن لنا، لاحتمال دخالة أمور أخر لم تصل إلينا.
بل لنا أن نقول: إن الأمر الفعلي يسقط بإتيان الأقل، ويحصل الغرض بمقداره،
ولولا ذلك لوجب على المولى إيجاب الاحتياط، وإلا لزم نقض الغرض عليه، فتدبر.
[منه قدس سره]
302

الوجه أو التميز في المأمور به، ويكون دخيلا في سقوط الغرض، والمكلف
لا يقدر على إتيانه (1).
وإن شئت قلت: العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه غير مقدور من أول
الأمر لا يكون منجزا، وما نحن فيه كذلك، فإنا نعلم بأن الغرض إما قائم
بالأكثر، أو الأقل مطلقا، أو مع قصد الوجه والتميز تفصيلا، ومعلوم أنه غير
مقدور من أول الأمر، فلا يكون العلم الكذائي منجزا، تأمل.
الإشكال السابع: ما يختص بالواجبات التعبدية، وهو أن الواجب فيها قصد
التقرب، ولا يحصل إلا بقصد إتيان ما هو تكليف نفسي للمولى، إذ الواجبات
الغيرية لا يتأتى فيها قصد التقرب، فيجب منه جهة حصول هذا المعنى المبين
إتيان الأكثر، وقصد التقرب بما هو واجب في الواقع (2).
وأجاب عنه شيخنا الأستاذ (3) - رحمه الله - بما لا يخلو من إشكال.
والتحقيق في الجواب: أن ما هو المعتبر في العبادات هو أن يكون العبد
متحركا بتحريك الأمر، ويكون الأمر باعثا فعليا نحو المتعلق، أو يكون
متحركا بداعي العبودية، ولا يكون الداعي في إتيانه أغراضه النفسانية، لا بأن
يكون قصد الأمر والامتثال والتقرب وأمثالها منظورا إليها بالحمل الأولي، بل
حقيقة الامتثال ليست إلا كون الأمر داعيا وبه يحصل التقرب، ويصير العبد

(1) فرائد الأصول: 273 - 274.
(2) فرائد الأصول: 275 سطر 17 - 18 و 276 سطر 7 - 11.
(3) درر الفوائد 2: 131 - 132.
303

ممتازا عن غيره ممن لا تحركه أوامر الموالى. هذا أصل.
وقد عرفت أن المركب العبادي عبارة عن أجزاء وشرائط في لحاظ
الوحدة، ويكون الأمر الداعي إلى نفس المركب داعيا إلى الأجزاء والشرائط
لا بداعوية أخرى، بل بداعوية نفس المركب. وهذا أصل آخر.
وإذا عرفتهما نقول: لا إشكال في أن الآتي بالأقل القائل بالبراءة، والآتي
بالأكثر القائل بالاشتغال كليهما متحركان بتحريك الأمر المتعلق بالمركب،
فإذا سئل منهما ما محرككما في إتيان هذا الموجود الخارجي؟ أجابا قوله
- تعالى -: * (أقيموا الصلاة) * (1) وأمثاله، فإتيانهما للأجزاء المعلومة يكون
بداعوية الأمر المتعلق بالمركب، من غير فرق بينهما من هذه الجهة أصلا،
وإنما يفترقان في أن القائل بالبراءة لا يرى نفسه مكلفا بإتيان الجزء المشكوك
فيه، بخلاف القائل بالاشتغال، وهذا لا يصير فارقا فيما هما مشتركان فيه،
وهو الإتيان بالأجزاء المعلومة بداعوية الأمر المتعلق بالمركب (2). هذا كله في
الأصل العقلي.

(1) البقرة: 43.
(2) هذا هو التحقيق. وأما مع فرض الوجوب الغيري للأجزاء فيمكن أن يقال: إن الآتي
بالأقل يمكنه قصد التقرب، وما لا يمكن له إنما هو الجزم بالنية، وهو غير معتبر في
العبادات، ولهذا كان التحقيق صحة عمل الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد،
وكما أن الجزم بالنية غير ميسور مع الإتيان بالأقل غير ميسور مع الإتيان بالأكثر
- أيضا - للشك في أن الواجب هو الأقل أو الأكثر، ومعه لا يمكن الجزم بالنية، فقصد
القربة ممكن منهما والجزم غير ممكن منهما بلا افتراق بينهما. [منه قدس سره]
304

الأصل الشرعي في دوران الأمر بين الأقل والأكثر
وأما الأصل الشرعي: فجريان مثل حديث الرفع والحجب مما لا مانع منه
بناء على ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي، وكون الجزء أو الشرط الزائد
مشكوكا فيه.
وتوضيحه: أن شأن حديث الرفع في مشكوك الجزئية هو الرفع التعبدي،
ومعناه البناء على عدم [كون] المشكوك فيه جزء للمركب، فالآتي بسائر
الأجزاء - أي المعلومة - إنما يأتي بها بداعوية الأمر المتعلق بالمركب الداعي إلى
الأجزاء، ويعمل مع الجزء المشكوك فيه بواسطة حديث الرفع عمل من يرى
عدم جزئيته، من الاكتفاء بسائر الأجزاء وعدم الإتيان بالمشكوك فيه، من غير
احتياج إلى إثبات كون الأجزاء تمام المأمور به أو مصداقا له.
فإذا أتى بما هو المعلوم وترك ما هو المرفوع بحديث الرفع يكون مأمونا من
العقاب، ولكن كون البقية هو المأمور به لا يمكن إثباته بحديث الرفع.
أما إثبات كونها مصداقا للمأمور به الواقعي، فلأن حديث الرفع لا يتكفل
رفع الجزئية واقعا، ولا يكون مخصصا للأوامر الواقعية، فضلا عن الدلالة على
تعيين ما هو المأمور به واقعا.
وأما التعبد بكونها هو المأمور به، فلأن الحديث لا يتكفل إلا تعبدا واحدا
هو التعبد بنفي الجزئية، وأما التعبد بكون البقية حالها ما هو فلا، وهذا واضح.
وبهذا يظهر النظر فيما أفاده المحقق الخراساني - رحمه الله -: من كون
305

نسبة الحديث إلى الأدلة الدالة على بيان الأجزاء نسبة الاستثناء، وهو معها
يكون دالا على جزئيتها إلا مع الجهل (1) ضرورة أن حديث الرفع لا يكون
مخصصا للأحكام الواقعية، وإنما هو حكم ظاهري تعبدي.
فتحصل مما ذكرنا: أن الحديث لا يكون مثبتا لكون البقية مصداق المأمور به
وتمام متعلق الأمر (2).
إن قلت: إن التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس تقابل التضاد، لكي يكون
إثبات أحد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت، بل التقابل بينهما تقابل
العدم والملكة، وليس الإطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد، فحديث الرفع
بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الأمر بالأقل وعدم قيدية الزائد.
قلت: نعم هذا ما أفاده بعض أعاظم العصر (3) رحمه الله.
وفيه أولا: ليس ما نحن فيه من قبيل الإطلاق والتقييد فيما إذا كان الشك
في الجزئية، فإن الشك في أن المركب ذو تسعة أجزاء أو عشرة، لا أن التسعة
مطلقا تكون مأمورا بها أو مقيدة بالعاشرة، نعم يمكن إرجاع الشك إليه
بالعرض، ولكنه لايعتنى به.

(1) الكفاية 2: 238.
(2) هذا ما ذكرنا سابقا، لكن عدلنا عنه في باب الإجزاء (أ) وفي الاجتهاد والتقليد (ب) فراجع.
[منه قدس سره]
(أ) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(ب) انظر كتاب الرسائل للسيد الإمام - قدس سره - رسالة الاجتهاد والتقليد: 164.
(3) فوائد الأصول 4: 163.
306

وثانيا: أن الإطلاق عبارة عن كون الشئ تمام الموضوع للأمر من غير
دخالة شئ معه، وسلب الجزئية لا يثبت كون البقية تمام الموضوع.
وثالثا: أن تقابل العدم والملكة في قوة تقابل الضدين من هذه الجهة، فإن
سلب الجزئية لا يثبت عدم التقييد عما من شأنه كذلك، وليس الإطلاق
- باعترافه - عبارة عن السلب المطلق، حتى يكون سلب الجزئية مساوقا له،
ويكون المدلول المطابقي لحديث الرفع هو الإطلاق.
إن قلت: يمكن أن يدعي أن رفع الوجوب عن جزء المركب بعد فرض
وجوب الباقي، يفهم منه عرفا أن الباقي واجب نفسي.
ويؤيده: قول الإمام - عليه السلام - في خبر عبد الأعلى: (يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (1) امسح على
المرارة) (2)، حيث إن الإمام - عليه السلام - دلنا على أن المدلول العرفي للقضية
رفع ما يكون حرجا، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة، وإثبات
الباقي وهو أصل المسح، وهاهنا نقول أيضا: بأن المجهول مرفوع، والتكليف
ثابت في الباقي بمدلول قضية: (رفع ما لا يعلمون).
قلت: نعم هذا ما أفاده شيخنا العلامة (3) - أعلى الله مقامه - ولكن
يرد عليه:

(1) الحج: 78.
(2) الكافي 3: 33 / 4 باب الجبائر..، الاستبصار 1: 77 - 78 / 3 باب 46 في المسح على
الجبائر، الوسائل 1: 327 / 5 باب 39 من أبواب الوضوء، بأدني تفاوت.
(3) درر الفوائد 2: 133.
307

أولا: أنه لم يتضح أن مراده - عليه السلام - من قوله: (هذا وأشباهه يعرف
من كتاب الله) أن المسح على المرارة - أيضا - يعرف منه، ولعل ما يعرف منه هو
رفع المسح عن البشرة لا إثباته على المرارة، فإن العرف لا يفهم هذا من كتاب
الله كما يتضح بالرجوع إلى الوجدان، وليس المسح على المرارة ميسور المسح
على البشرة، حتى يدعى أن قاعدة " الميسور " ارتكازية.
وبالجملة: ليس قوله - تعالى -: * (امسحوا برؤوسكم وأرجلكم) * (1) من
الأحكام الانحلالية عرفا من أصل المسح ومباشرة الماسح للممسوح حتى
يرفع أحدهما ويبقى الآخر.
وثانيا: لو سلم أن العرف يفهم ذلك، لكن لا يفهم أن الوجوب
المتعلق بالباقي وجوب نفسي إلا بالملازمة العقلية، فإن كون بقية الأجزاء
واجبة أمر، وكونها تمام المكلف به ومصداقه أمر آخر لا يمكن إثباته بحديث
الرفع.
وبالجملة: ما يفهم من حديث الرفع ليس إلا رفع جزئية السورة - مثلا -
والأمر بالصلاة يدعو إلى بقية الأجزاء، وأنها واجبة، وأما كونها تمام المأمور
به أو كونها واجبا نفسيا فلا يفهم منهما إلا بالملازمة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الحديث يدل على الرفع التعبدي للجزء ولو
برفع منشئه، والأمر بالمركب يدل على وجوب الأجزاء المعلومة بعين وجوب
الكل، والمكلف إذا أتى بها فهو في أمن من العقاب، وغنى عن إثبات كونها

(1) المائدة: 6.
308

تمام المكلف به، أو كونها واجبا نفسيا.
هذا كله بناء على ما ذكرنا من انحلال العلم الإجمالي.
وأما بناء على عدمه فيشكل جريان حديث الرفع، سواء قلنا بأن الأجزاء
واجبات عقلية من باب المقدمة، أو شرعية كذلك، أو شرعية بالوجوب
الضمني، فإن رفع الوجوب النفسي عن الأكثر معارض برفع الوجوب النفسي
عن الأقل، ورفع جزئية الجزء لا معنى له على مذهبهم إلا رفع منشئه، فإن
الجزء غير مجعول إلا بالعرض، ومعنى المجعولية العرضية هو انتساب الجعل
إليه ثانيا وبالمجاز، وإلا فلا جعل إلا للوجوب المتعلق بالمركب، وأما كون
المركب هو المأمور به والأجزاء أجزاءه، ككون المتكلم آمرا والمكلف مأمورا،
فهي أمور انتزاعية غير متعلقة للجعل أصلا، ومثل هذا المجعول المجازي غير
قابل للرفع إلا برفع ما هو مجعول حقيقة، والمجعول ليس إلا الوجوب النفسي
المتعلق بالأكثر، وهو معارض بمثله.
وأما رفع وجوب الجزء، فبناء على وجوبه العقلي فلا معنى لرفعه، وبناء
على وجوبه الشرعي المقدمي، فحيث كان وجوب المقدمة ولو شرعا للملازمة
العقلية بين وجوب الشئ ووجوب ما يتوقف عليه، لا يكون جريان الحديث
في السبب رافعا للشك في المسبب إلا بالأصل المثبت، وبناء عليه يكون
جريان الحديث في عرض واحد بالنسبة إلى الوجوب النفسي في الأقل
والنفسي في الأكثر والغيري للجزء، فتتعارض.
مضافا إلى أن رفع الوجوب عن الجزء مما لا ينحل به العلم الإجمالي
309

المتعلق بالأقل والأكثر، ولا يثبت به رفع الوجوب عن الأكثر حتى ينحل
العلم.
في دوران الأمر بين المطلق والمشروط
قوله: إنه ظهر مما مر حال... إلخ (1).
أما دوران الأمر بين المطلق والمشروط - سواء كان منشأ انتزاع الشرطية
أمرا مباينا للمشروط في الوجود كالطهارة في الصلاة، أو أمرا متحدا معه
كالإيمان في الرقبة - فالكلام فيه هو الكلام في الأقل والأكثر في
المركبات، من جريان البراءة العقلية بالنسبة إلى الشرط المشكوك فيه:
أما فيما إذا كان المنشأ أمرا مباينا فظاهر، فإن داعوية الأمر إلى ذات المقيد
معلومة تفصيلا، سواء تعلق الأمر بها من غير اشتراط، أو تعلق بها مشروطة
والتقيد والاشتراط مشكوك فيه، أو القيد والشرط مشكوك فيه، ومورد جريان
البراءة العقلية.
وأما فيما إذا كان المنشأ أمرا متحدا معه كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة، فقد
يقال: إن الأصل هو الاحتياط، لرجوع الدوران بين المطلق والمقيد فيه إلى
المتباينين (2).
توضيحه يتوقف على بيان مقدمتين:

(1) الكفاية 2: 238.
(2) القوانين 1: 5 32 - 6 32.
310

الأولى: أن المناط في الانحلال هو صيرورة بعض الأطراف معلوما
تفصيلا، وبعض آخر مشكوكا فيه بالشك البدوي، كالدوران بين الأقل
والأكثر في الأجزاء كما عرفت (1) ففيما نحن فيه - أي الدوران بين المطلق
والمقيد المتحدين في الوجود، كالرقبة والرقبة المؤمنة - لابد في الانحلال من
الرجوع إلى العلم التفصيلي بوجوب مطلق الرقبة ولو في ضمن الكافرة،
والشك في اعتبار كونها مؤمنة، ولو لم يرجع إلى ذلك لا يمكن القول
بالانحلال، وهذا واضح.
الثانية: أن التحقيق في باب الكلي الطبيعي - كما عليه أهله - أنه في
الخارج إنما يتحقق بنعت الكثرة والتباين، بمعنى أنه ليس للأفراد جامع في
الخارج، وإنما الجامع أمر عقلي ذهني لا الخارجي، وإلا لزم قول الرجل
الهمداني - المصادف للشيخ الرئيس في مدينة همدان (2) -: من كون الكلي
بنعت الوحدة موجودا في الخارج، فالرقبة - فيما نحن فيه - في ضمن الرقبة
الكافرة مباينة لها في ضمن الرقبة المؤمنة في الخارج.
إذا عرفت ذلك يتضح لك عدم الانحلال، فإن الرقبة المطلقة بما أنها
جامعة بين الطرفين لم تتحقق في الخارج، وإنما المتحقق فيه الرقبة المؤمنة
خاصة، والرقبة الكافرة خاصة، وهما متباينتان، فالأمر دائر بين المتباينين،
فيجب الاحتياط. هذا غاية تقريب القول بالاحتياط.

(1) في صفحة: 291 من هذا المجلد.
(2) انظر الأسفار 1: 72 2 - 73 2.
311

لكنه مدفوع، لوقوع الخلط في المقدمة الثانية، فإن التحقيق في باب الكلي
الطبيعي هو أنه موجود في الخارج بنفس ذاته، ولكن بنعت الكثرة لا التباين،
فإن الطبيعي هو نفس المهية، وهي موجودة بتبع الوجود في الخارج، وحيث
إنها لم تكن بذاتها واحدة ولا كثيرة ولا كلية ولا جزئية، تكون مع الواحد
واحدة ومع المتكثر متكثرة، فيكون الطبيعي موجودا مع كل فرد بتمام ذاته،
ويكون متكثرا بتكثر الأفراد.
فزيد إنسان، وعمرو إنسان آخر، وبكر إنسان ثالث، لا أنها متباينات من
حيثية الإنسانية، فالحقيقة الإنسانية تتكثر بتكثر الأفراد، لا أنها متباينة كما
زعم القائل في المقدمة الثانية، ولا أنها واحدة بالوحدة العددية كما زعم
الرجل الهمداني، فالطبيعي في الخارج موجود بنفس ذاته مع كل فرد،
والكثرة والوحدة في الخارج والعقل خارجتان عن ذاته.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الرقبة المؤمنة في الخارج ينطبق عليها العنوانان:
أحدهما: طبيعي الرقبة، وثانيهما: طبيعي المؤمنة، فهي مصداق لمفهومين،
كما أن الرقبة الكافرة مصداق لمفهومين: طبيعي الرقبة، وطبيعي الكافرة، فهما
في مصداقيتهما للرقبة لا افتراق بينهما، فالرقبة المؤمنة مصداق الرقبة، وكذا
الكافرة - أيضا - مصداقها، وليستا بمتباينتين مع كونهما رقبتين، وإنما افتراقهما
من جهات أخرى، ككون إحداهما مصداق المؤمنة، والاخرى مصداق
الكافرة، وإحداهما متشخصة بتشخص خاص غير الأخرى، وأما في
مصداقيتهما لطبيعي الرقبة فلا افتراق بينهما، بمعنى أنهما مصداقان للرقبة.
312

فإذا أمر المولى بعتق مردد بين طبيعي الرقبة والرقبة المؤمنة - أي الطبيعي مع
قيد زائد - يكون طبيعي الرقبة موضوعا للأمر، والأمر داعيا إليه، غايته أنه إذا
كان المأمور به بحسب الواقع هو الرقبة المؤمنة لا ينطبق على الرقبة الكافرة،
كما أن الأمر كذلك في باب الأقل والأكثر في جميع الموارد، وعدم انطباق
المأمور به عليها ليس لأجل عدم انطباق الرقبة عليها، بل لأجل عدم انطباق
القيد عليها، فالأمر يكون حجة على الرقبة تفصيلا، والقيد مشكوك فيه، فإذا
أتى المأمور بالرقبة الكافرة أتى بما قامت الحجة عليه، وما لم يأت به لم يقم
حجة عليه، فتجري البراءة بالنسبة إليه.
ومما ذكرنا يظهر الحال في المركبات التحليلية مطلقا، سواء كانت بسائط
خارجية كالبياض والسواد المنحلين إلى اللون المفرق أو القابض للبصر، أو
لا كالإنسان المنحل عقلا إلى الحيوان الناطق، فإنهما لم يكونا من الأجزاء
الخارجية للمحدود، بل هما من أجزاء الحد، وإن كان مأخذهما المادة
والصورة بوجه، على ما هو المقرر في مقاره (1).
وقريب منهما بعض الأصناف والاشخاص المنحلين في العقل إلى المهية
والعوارض المصنفة، والماهية والشخصية.
وسواء توقف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوك فيها على مؤنة زائدة
ثبوتا وإثباتا، كبعض الألوان والروائح والطعوم التي لم يوضع بازائها لفظ
خاص، بل تعرف بإضافتها إلى أمر خارج، كاللون الفستقي والطرنجي،

(1) الأسفار 2: 37 - 39.
313

ورائحة المسك والجلاب، أولا كالبياض والسواد والإنسان، ففي جميعها
تجري البراءة عن الخصوصية الزائدة.
فإذا دار الأمر بين صبغ ثوب المولى بمطلق اللون أو الأسود، يكون مطلق
اللون - أي اللابشرط المنطبق على الأسود وغيره على السواء - معلوما تفصيلا،
وخصوصية الأسودية مشكوك فيها، فاللون الأحمر - مثلا - في الخارج
مصداق طبيعي اللون، ولا افتراق في مصداقيته له بينه وبين سائر الألوان،
فيكون متيقنا والخصوصية الزائدة مورد البراءة، وهكذا سائر الأمثلة والموارد
من غير فرق بينها.
بل التحقيق: أن ملاك جريان البراءة موجود في جميع الموارد المتقدمة، فإن
جميع الأمثلة في الوجود الخارجي موجودة بوجود واحد، وفي الانحلال
العقلي تنحل إلى المعلوم والمشكوك فيه، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين
الصلاة في الخارج، كما أن الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه، والإنسان عين
الحيوان.. وهكذا، وإنما الافتراق في التحليل العقلي، وهو - أيضا - في
جميعها على السواء، فكما تنحل الصلاة المشروطة بالصلاة والاشتراط، كذا
ينحل الإنسان بالحيوان والناطق، ففي جريان البراءة وعدم تمامية الحجة
بالنسبة إلى الزائد لافرق بين جميع الموارد، وإنما الاختلاف في وضوح الأمر
وخفائه، وهو صار منشأ للاشتباه والتفصيل.
وأما ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في تقريراته - من
أن الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل
314

والأكثر، إلا أنه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين،
لأن الإنسان بماله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا،
فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الإنسان أو الحيوان، فاللازم هو الاحتياط
بإطعام خصوص الإنسان، لأن نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام
الإنسان والحيوان على حد سواء، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط
بالمعارضة مع الأخرى، فيبقى العلم الإجمالي على حاله، ولابد من العلم
بالخروج من عهدة التكليف، ولا يحصل ذلك إلا بإطعام خصوص الإنسان،
لأنه جمع بين الأمرين، فإن إطعام الإنسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا (1)
انتهى.
فهو من غريب المقال:
أما أولا: فلأن الإنسان والحيوان وإن كانا بنظر العرف من قبيل المتباينين،
لكن ليس جميع موارد الترديد بين النوع والجنس كذلك، كما إذا دار الأمر
بين الحيوان والفرس، فإنهما ليسا بنظرهم من قبيل المتباينين، أو دار الأمر بين
مطلق اللون واللون الأبيض، أو مطلق الرائحة ورائحة المسك.
وبالجملة: إشكاله يرجع إلى المناقشة في المثال.
وأما ثانيا: فلأن الدوران بين الإنسان والحيوان لو كان من قبيل المتباينين،
لابد من الجمع بين إطعامهما في مقام الامتثال، ولا معنى لما ذكره من أن
طريق الاحتياط إنما هو بإطعام الإنسان لأن إطعامه يستلزم إطعام الحيوان،

(1) فوائد الأصول 4: 208.
315

وهل هذا إلا مناقضة في المقال (1)؟!.
ومما ذكرنا يتضح النظر في مقالة المحقق الخراساني - رحمه الله - أيضا: من
أن الصلاة - مثلا - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين
وجودها، وفي ضمن صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون مباينة
للمأمور بها (2).
فإنك قد عرفت (3) أن تكثر المهية اللابشرط بتكثر الأفراد، واتحادها معها
في الوجود، غير تباينها في كل فرد فرد، فإن التباين بين الخصوصيات لا يجعل
المهية المتحدة مع كل فرد وخصوصية متباينة مع الأخرى، فإن الإنسان بحكم
كونه مهية لا بشرط شئ غير مرهون بالوحدة والكثرة، وهو مع الكثير كثير،
فهو بتمام حقيقته متحد مع كل خصوصية، فالإنسان متكثر غير متباين مع
الكثرة، فافهم، فإنه دقيق جدا، وقلما يتفق الوصول إلى مغزاه إلا للأوحدي
من أهله. ولا يخلو صدر كلام المحقق الخراساني وذيله (4) من تهافت.
بقي أمران:

(1) بل ما ذكره هو الدليل على انحلال العلم الإجمالي، لأن إطعام الإنسان إذا كان إطعام
الحيوان - أيضا - لا بد وأن يكون عنوان الحيوان منطبقا عليه، ومعه يكون الحيوان
متيقنا والزائد مشكوكا فيه. [منه قدس سره]
(2) الكفاية 2: 38 2.
(3) في صفحة: 311 - 312 من هذا المجلد.
(4) الكفاية 2: 238 - 240.
316

الأمر الأول
في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأسباب والمحصلات (1)
أما العقليات والعاديات منها فلا مجال لجريان البراءة فيها، لأن المأمور به

(1) ومحط البحث في المقام هو العلم بتعلق الأمر بطبيعة، ولا يكون في محط الأمر ومتعلقه
شك بين الأقل والأكثر، وإنما الشك في أسبابه ومحصلاته.
فلو علمنا باشتراط الصلاة بالطهر، وشككنا في حصوله بالمسحتين والغسلتين مطلقا،
أو مع شرط أو كيفية خاصة، لكان الأمر في المحصل دائرا بين الأقل والأكثر لا في
المحصل - بالفتح - ومعه لا إشكال في عدم جريان البراءة، من غير فرق بين كون العنوان
البسيط - الذي هو المأمور به - ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول، وبين كونه دفعي الحصول.
فلو قلنا بحصول الطهارة في الغسل تدريجا، لكن شككنا في أن هذه الحقيقة المتدرجة
الوجود هل تحصل بمطلق الغسل، أو يشرط بأمر آخر كقصد الوجه - مثلا - أو تقديم
بعض الأجزاء على البعض، فلا إشكال في الاشتغال.
فما في تقريرات بعض المحققين من التفصيل (أ) خلط وخروج عن محط النزاع على
فرض، وهو فرض الشك في المأمور به بين الأقل والأكثر، وخلاف التحقيق على فرض
آخر، وهو فرض معلومية المأمور به والشك في محصله.
كما أن تفصيله الآخر (ب) - وهو التفصيل بين كون العلم الإجمالي مقتضيا أو علة تامة -
في غير محله، لأن الاشتغال اليقيني بعنوان معلوم بالتفصيل يقتضي البراءة اليقينية،
وليس المقام من قبيل العلم الإجمالي في المأمور به حتى يأتي فيه ما ذكر، والعلم
الإجمالي في المحصل عين الشك في البراءة، لا الشك في مقدار الاشتغال، فراجع
كلامه. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 401 - 402.
(ب) نفس المصدر السابق: 402 سطر 10 - 20.
317

فيها مبين، والشك إنما هو في حصوله وامتثاله، كما لو أمر المولى
بقتل زيد وتردد سببه بين ضربة أو ضربتين، أو أمر بتنظيف البيت وتردد
حصوله بين كنسها أو هو مع رش الماء، فالاشتغال اليقيني لابدله من البراءة
اليقينية.
وأما ما وقع في تقريرات بعض أعاظم العصر - من أن المجعول الشرعي
فيها ليس إلا المسبب (1) - فهو منظور فيه، فإن المسببات العقلية والعادية
كأسبابها ليست تحت الجعل التشريعي، نعم قد يتعلق الأمر بتحصيلها كما
أشرنا إليه. وكيف كان فلا إشكال في وجوب الاحتياط فيها، وعدم جريان
البراءة شرعا أو عقلا.
وأما الشرعيات منها فقد يقال بجريان البراءة الشرعية فيها، وتوضيحه
يحتاج إلى بيان كيفية جعل الأسباب والمسببات الشرعية، فنقول:
لا إشكال في أن السببية والمسببية في الشرعيات والأمور الاعتبارية
العقلائية، ليست بمعنى كون الأسباب مؤثرات حقيقية في المسببات، بحيث
قبل تحقق السبب لم يكن المسبب في عالم التكوين، وبعده وجد في عالم
التكوين شئ هو المسبب، وهذا واضح.
وليست - أيضا - بمعنى تأثير الأسباب في إيجاد المسببات في عالم
الاعتبار، لا اعتبار العقلاء ولا اعتبار الموجد للسبب، وذلك لأن اعتبار العقلاء
أمر قائم بأنفسهم وله أسباب خاصة، وليس جعل المنشئ للسبب مؤثرا في

(1) فوائد الأصول 4: 144.
318

نفوس العقلاء بمعنى أن يكون قول القائل: " بعت "، و " اشتريت " علة موجدة
لاعتبار العقلاء، وكذا في اعتبار نفسه، فإن للاعتبار والمعتبر أسبابا خاصة من
قبيل مبادئ الإرادة، وليس وراء وجود الحقيقي والاعتباري شئ آخر يؤثر
السبب فيه نحو تأثير الأسباب في المسببات.
بل التحقيق: أن معنى السببية والمسببية العقلائية، أن الأسباب تكون
موضوعا لاعتبار العقلاء، فإذا قال القائل: " بعت داري من زيد بكذا " بماله
من المعنى الإنشائي يصير موضوعا لاعتبار العقلاء بأن الدار التي كانت
مضافة إلى البائع قبل إنشائه بالإضافة الاعتبارية صارت مضافة إلى زيد
بواسطة بيعه له، فإذا علم البائع هذا المعنى - أي اعتبار العقلاء عقيب إنشائه
الجدي للبيع - ويريد بيع داره لزيد، يستعمل لفظة الصيغة استعمالا إيجاديا
بالمعنى الذي ذكرنا، أي يريد تحققه الاعتباري بمعنى صيرورته كذا، فيصير
موضوعا لاعتبار نفسه وسائر العقلاء.
وليس معنى الإيجاد الاعتباري أن يصير اللفظ موجدا لمعنى اعتباري،
لعدم حقيقة للمعنى الاعتباري مع قطع النظر عن اعتبار العقلاء، والفرض أنه
ليس اعتبار العقلاء ولا المنشئ للبيع مسببا عن هذا اللفظ، بل له أسباب
خاصة تكوينية.
وبالجملة: إذا استعمل لفظ موضوع للإنشاء بداعي تحقق المنشأ، يصير بما
له من المعنى موضوعا للاعتبار المذكور، من غير أن يصير اللفظ علة لتحقق
الاعتبار ولا لتحقق شئ آخر.
319

إذا عرفت ذلك نقول: إن المجعولات الشرعية في باب الأسباب والمسببات
على قسمين:
أحدهما: أن يكون المسبب أمرا عقلائيا يكون متعارفا عندهم بأسباب
خاصة عقلائية، فيردع الشارع [عن] تلك الأسباب، ويسلب السببية عنها،
ويجعل السببية لأمر آخر، كباب الطلاق، فإن الطلاق - أي الهجران
للزوجة وزوجيتها - متعارف عند العقلاء في كل ملة منتحلة بدين
وغيره، ولم يتصرف الشارع في تلك الحقيقة، وليست مجعولة من
قبل الشرائع، بل هو أمر عقلائي كسائر الحقائق العقلائية، وإنما تصرف
الشارع في سببها، وسلب السببية عن الأسباب المتعارفة العقلائية، وردعهم
عن ترتيب الآثار على تلك الأسباب، وحصر السببية على لفظ خاص
هو " هي طالق " فاعتبر السببية الاعتبارية لتلك اللفظة دون غيرها، فخلع
سائر الأسباب عن السببية من غير تصرف في المسبب، ويمكن أن لا يردع
الشارع عن الأسباب العقلائية، لكن يجعل سببا آخر في عرض سائر
الأسباب، فيعطي السببية للفظ أو فعل آخر، فتتسع به دائرة الأسباب المحققة
لتلك الحقيقة.
وثانيهما: أن لا يكون المسبب من الأمور العقلائية، بل يكون من المخترعات
الشرعية من غير سابقة له عند العقلاء، ففي مثله لابد وأن يكون سببه
- أيضا - أمرا مجعولا شرعيا، ولا يعقل أن يتعلق الجعل بالمسبب دون سببه،
لأن المفروض أن المسبب ليس أمرا عقلائيا، بل يكون اختراعيا، وما كان
320

كذلك لا يعقل أن يكون له سبب عقلائي أو عقلي أو عادي، فلابد من كون
سببه - أيضا - اختراعيا، فيجب تعلق الجعل بالسبب ومسببه، سواء تعلق
ابتداء بالسبب أو بالمسبب أو أدى كلاما يتكفل الجعلين.
وبالجملة: في الأسباب والمسببات الجعلية لا يمكن أن يتعلق الجعل بالسبب
فقط أو بالمسبب فقط، ويكون جعل أحدهما مغنيا عن جعل الآخر.
ومن ذلك يتضح فساد دعوى بعض أعاظم العصر رحمه الله - على ما في
تقريرات بحثه -: من أنه لا يعقل أن يتعلق الجعل الشرعي بكل من السبب
والمسبب، لأن جعل أحدهما يغنى عن جعل الآخر، فبناء على تعلق الجعل
بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة
للوضع والرفع... إلخ (1).
ضرورة أن المسبب الاختراعي لا يعقل أن يكون له سبب عقلي أو عادي،
أو يكون سببه مثلهما في التناسب الذاتي بينه وبين مسببه، فإذا كان المسبب
اختراعيا اعتباريا يكون سببه - أيضا - كذلك، وإلا فإما أن يكون المسبب
بذاته متعلقا بسببه، فيكون التأثير والتاثر التكويني، فيخرج عما نحن فيه، لأن
المفروض أن المسبب اختراعي جعلي، وإما أن يكون له أسباب عقلائية، فلابد
وأن يكون المسبب أيضا كذلك، وهو - أيضا - خلاف المفروض.
فاتضح من ذلك: أنه لا يعقل أن يكون جعل المسبب مغنيا عن جعل
سببه، ولا يخفى أن الجعل إنما يتعلق بوصف السببية، أي يجعل الشارع

(1) فوائد الأصول 4: 145.
321

ما ليس بسبب سببا، ويعطيه وصف السببية، ف‍ " أنت كظهر أمي " - مثلا - قبل
تعلق الجعل به لم يكن سببا للظهار، وبعد إعطاء السببية به صار سببا له،
فالجعل يتعلق بوصف السببية، أي صيره الشارع سببا بعدما
لم يكن كذلك، لا أن الجعل تعلق بالسبب ويكون وصف السببية انتزاعيا
كما اشتهر بينهم (1).
وسر هذا الاشتهار مقايسة الأسباب التشريعية بالأسباب التكوينية، فإن
الجعل التكويني إنما يتعلق بوجود السبب جعلا بسيطا، وسببية السبب غير
مجعولة إلا بالعرض، فالجاعل جعل النار، لا النار نارا أو مؤثرة وسببا،
ولما كان الأمر في الأسباب التكوينية كذلك صار منشأ للاشتباه في الأسباب
التشريعية، واشتهر أن الجعل إنما يتعلق بالسبب لا بالسببية.
مع أن الأمر في التشريع ليس كذلك، فإن لفظة " أنت كظهر أمي "
- مثلا - ليست متعلقة للجعل التشريعي، لا مفرداتها ولا جملتها التركيبية، بل
هي موضوعة بالوضع اللغوي، لكنها لم تكن قبل اعتبار الشارع وجعله مؤثرة
في الافتراق بين الزوجين، فأعطاها الشارع وصف السببية بالمعنى الذي
ذكرنا.
فالمجعول هو سببية تلك اللفظة بما لها من المعنى الإنشائي، لا ذات
السبب، أي ذات تلك اللفظة التي تكون مجعولة بالجعل اللغوي، وكذا الأمر
في مطلق الأمور الاعتبارية العقلائية والشرعية، ولا إشكال في جواز جعل

(1) فوائد الأصول 4: 394.
322

السببية الاعتبارية، لعدم التأثير والتاثر الحقيقي، بل السببية في عالم التشريع
عبارة عن كون السبب موضوعا لاعتبار الشارع المقنن، وصيرورته كذلك
يكون نافذا في أمته وتابعيه، وذلك واضح عند التأمل في موارد المجعولات
الشرعية والعقلائية.
إذا عرفت ذلك، فغاية ما يمكن أن يقال في جريان البراءة الشرعية: إن
السببية والتسبب إذا كانتا شرعيتين، فتردد الأمر بين الأقل والأكثر، فأتى
المكلف بالأقل، يصير الشك في تحقق المسبب مسببا عن الشك في دخالة
الجزء أو الشرط المشكوك فيهما، فجريان حديث الرفع في السبب يرفع الشك
عن المسبب، فيحكم بتحققه، لوجود الأقل وجدانا، ورفع الزيادة بالحديث،
فيرفع الشك عن تحقق السبب، فيحكم بأنه موجود، وليست السببية عقلية
حتى يكون من الأصل المثبت.
وفيه: أن السببية وإن كانت شرعية، ولكن الشك في تحقق المسبب ناش
عن كون الأقل تمام السبب وتمام المؤثر، ورفع الزيادة لا يثبت كونه كذلك
إلا بالأصل المثبت.
وليس عدم دخالة الزيادة وحصول الأقل سببا بنحو التركيب، حتى يقال:
إن الموضوعات المركبة مما يمكن تحصيلها بالأصل والوجدان، فيحكم
بحصول السبب وترتب المسبب عليه، لأنه شرعي لا عقلي، ضرورة أنه مع
سببية الأقل لا تكون الزيادة - وجودا وعدما - دخيلة في حصول المسبب،
وإنما الأقل هو تمام السبب، فلابد من إثبات سببية الناقص وأن الأقل هو تمام
323

السبب حتى يترتب عليه المسبب، وذلك لا يمكن بجريان حديث الرفع في
الزيادة.
نعم لو دل دليل شرعي بأنه إذا وجد الأقل ولم تتحقق الزيادة وجد
المسبب، أمكن دعوى إثبات أحد الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان، لكنه
عدول عن مبحث الأقل والأكثر.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الأصل في باب الأقل والأكثر في
الأسباب والمحصلات هو الاشتغال، وليس فيه مورد جريان البراءة العقلية
والشرعية.
الأمر الثاني
في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطي في
الشبهة الموضوعية والأقسام المتصورة فيها، وذكر غير الارتباطي تبعا
واعلم أن التكليف قد يكون له تعلق بالموضوع الخارجي، أي
يكون لمتعلقه متعلق، وإن شئت قلت: قد يكون له موضوع، وقد لا يكون
كذلك، بل يكون له متعلق وليس لمتعلقه متعلق، فالأول مثل " أكرم العلماء "،
والثاني مثل " صل ".
وعلى أي حال: قد يكون التكليف أمرا وقد يكون نهيا.
وأيضا قد يكون الشك في أصل التكليف، وقد يكون في جزء المكلف به،
وقد يكون في شرطه، وقد يكون في مانعه، وقد يكون في قاطعه.
324

وعلى أي حال: قد يكون الموضوع أو المتعلق صرف الوجود، وقد يكون
تمام الوجودات، وقد يكون مجموعها.
وجميع الأقسام متصورة، وإن كان بعضها صرف التصور ولا واقعية له.
ولا يخفى أن الشبهة الموضوعية متصورة سواء تعلق التكليف بموضوع
خارجي، أو لا، وسواء كان الشك في الشرط أو الجزء أو المانع.
والأول كالشك في أن زيدا عالم أولا، أو أن المائع الكذائي خمر أولا.
والثاني مثل ما [لو] علم أن الغناء المحرم هو التضيف (1) وشك في أن الصوت
الكذائي تضيف (2) أو لا من جهة الشبهة الخارجية. والشك في الشرط والمانع
معلوم. والشك في الجزء كما لو شك في أن سورة النور هي من القرآن أو
سورة الناس والفلق منه أولا.
فما ادعى بعض أعاظم العصر - رحمه الله -: من أنه لا يمكن تحقق
الشبهة الموضوعية في الأجزاء، لأن التكليف بها ليس له تعلق بالموضوع
لخارجي (3) منظور فيه، كادعاء بعض آخر من عدم تصور الشبهة الموضوعية
مطلقا (4).
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان التكليف الإيجابي بنحو صرف الوجود،
سواء كان له تعلق بالموضوع الخارجي كقوله: " أكرم عالما "، أو لا كقوله:

(1 و 2) كذا في المخطوطة.
(3) فوائد الأصول 4: 202 - 203.
(4) أورده في الفوائد 4: 200 كاحتمال في كلام الشيخ الأعظم رحمه الله.
325

" صل " فلا إشكال في لزوم الإطاعة والخروج عن الاشتغال بإكرام عالم معلوم
وإتيان الصلاة، ولا يجوز الاكتفاء بإكرام من كان مشكوك العالمية،
ولا الاكتفاء بأمر يكون صدق الإكرام عليه مشكوكا فيه، وكذا الحال في
الخروج عن عهدة الصلاة.
كما أن الأمر كذلك فيما إذا كان الاشتراط والجزئية بنحو
صرف الوجود، كاشتراط كون الصلاة مع الطهور، وكجعل صرف
وجود السورة جزء للصلاة، فلا يجوز الاكتفاء بسورة مع الشك في كونها
من القرآن (1).

(1) وكذا الحال فيما إذا تعلق الأمر بالمجموع، فإن الاشتغال بهذا العنوان مقتضاه البراءة
اليقينية منه، كما مر فيما سلف فراجع.
ومنه يظهر الحال فيما إذا جعل الجزء أو الشرط مجموع الوجودات.
والسر في أن الحكم على نحو الاستغراق عند الشك مورد البراءة بخلاف المجموع: أن
الحكم في الأول لم يتعلق بعنوان واحد شك في انطباقه على المأتي به، فإن الكل في
قوله: " أكرم كل عالم " أو " صل مع كل سورة " لم يكن له موضوعية، بل هو وسيلة
لإيصال الحكم إلى الموضوعات الواقعية، وهي أفراد الطبيعة، فكأنه أنشأ أحكاما
عديدة علم مقدارا منها وشك في شئ منها.
وأما العام المجموعي فبخلاف ذلك، فإن وصف الاجتماع مأخوذ في موضوع الحكم،
فيكون ما هو الموضوع أمرا وحدانيا في الاعتبار، هو المجموع من حيث المجموع، ومع
الشك في الموضوع يكون الشك في انطباق المأمور به على المأتي به، ولا إشكال في
كونه مورد الاشتغال.
وبهذا ظهر أن ما أفاد الشيخ الأعظم من لزوم الاحتياط إذا أمر بالصوم بين الهلالين
في غاية المتانة، وتكون الشبهة - مع الشك في تمامية الشهر ونقصانه - موضوعية، وفي انطباق
326

المأتي به للمأمور به.
نعم، مثل - قدس سره - للشبهة الموضوعية بمثال آخر هو الأمر بالطهور، وفسره بالفعل
الرافع للحدث أو المبيح للصلاة، وحكم بالاشتغال فيه أيضا (ب).
ولا إشكال في الاشتغال في هذا المثال أيضا، ولا يكون الشك في المحصل، لأن
المفروض بحسب تفسيره عدم تعلق الأمر بالطهور حتى يكون الشك في محصله، بل
بالفعل الرافع، ويكون الشك في انطباق المأمور به مع المأتي به، ويكون كالشبهة
الموضوعية بوجه، وإن كانت الشبهة حكمية بوجه آخر، لكن لما تعلق الحكم بعنوان
الفعل الرافع للحدث علم الاشتغال بهذا العنوان، ولابد من الخروج عن عهدته بإيجاد
مصداق محرز، فالإشكالات الموردة من الأعلام (ج) عليه في غير محلها، فراجع. وهذا
الذي ذكرنا هو الميزان في البراءة والاشتغال في جميع الموارد. هذا حال الأمر.
وأما النهي: فلما لم يكن طلبا بل زجرا عن الوجود - كما مر سابقا (د) - فلا فرق في
جريان البراءة في الشبهة الموضوعية فيه بين أنحاء تعلقه، فإذا تعلق بصرف وجود
الخمر، وشك في موجود خارجي أنه خمر، يجوز ارتكابه، وتجري البراءة.
كما أنها تجري لو تعلق بالمجموع وترك المشكوك فيه وارتكب الباقي، للشك في كون
الباقي موضوعا للحكم ومتعلقا للنهي.
وكذا الحال في الموانع، هذا إذا قلنا بأن المانع للشئ هو ما كان وجوده مضادا له، لا ما
كان عدمه شرطا، فحينئذ تجري البراءة في الشك في المانع، ولو كان المانع بنحو صرف
الوجود، أو نفس الطبيعة، أو مجموع الوجودات، على إشكال في الكل، فلا نحتاج في
جريان البراءة في اللباس المشكوك فيه إلى الذهاب إلى تحليلية النهي في قوله: (لا
تصل في وبر ما لا يؤكل) (ه‍).
نعم لو قلنا بأن المانع ما يكون عدمه قيدا، يصير حاله حال الشرط في التفصيل بين
الانحلال وعدمه.
ولا يبعد أن يكون الشك في القاطع - أيضا - كذلك، لأن الشك يرجع إلى مضادة الشئ
327

وأما في بقية الصور فالظاهر أنها مورد جريان البراءة العقلية والشرعية،
سواء كان التكليف المستقل النفسي كقوله: " أكرم كل عالم " وشك في عالمية
زيد، أو " لا تشرب الخمر " أو صرف وجود الخمر، أو مجموع وجوداته، وشك
في إناء أنه خمر، أو جعل الشرط بنحو الاستغراق، أو الجزء كذلك، أو المانع
والقاطع بنحو الصرف أو الاستغراق أو مجموع الوجودات، ففي جميع
الصور تجري البراءة، للرجوع إلى الأقل والأكثر.
فلو جعل المانع صرف وجود غير المأكول، وشك في شئ أنه من غير
المأكول، يرجع الشك إلى مانعية هذا الموجود، فتجري البراءة، وكذا الحال
في سائر الصور.
مع الهيئة الاتصالية المأخوذة في المركب، ومع الشك في عروض القاطع تجري
البراءة، وإن لا تخلو من إشكال لو قلنا بأن الهيئة الاتصالية مأخوذة في المأمور به على
وجه العنوان، وسيأتي تتميم في ذلك في استصحاب الهيئة الاتصالية عن قريب إن شاء
الله (و). [منه قدس سره]
(أ) فرائد الأصول: 283 - 284.
(ب) فرائد الأصول: 284 سطر 1 - 2.
(ج) فوائد الأصول 4: 200، نهاية الدراية - القسم الثاني من الجزء الثالث: 410 سطر
19 - 26.
(د) انظر مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(ه‍) لم نعثر على حديث بهذا النص، وعثرنا على روايات عديدة بهذا المضمون، لاحظ
ذلك في الكافي 3: 397 - 399 باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه، وعلل الشرائع:
342 باب 43، والوسائل 3: 250 - 252 باب 2 من أبواب لباس المصلي.
(و) في صفحة: 353.
328

إن قيل: إن وظيفة الشارع بيان الكبريات لا الصغريات، فإذا قال:
" أكرم العلماء " تم بيانه بالنسبة إلى إكرام كل عالم واقعي، وكذا إذا قال:
" لا تشرب الخمر " وكذا الحال في الأجزاء والشرائط والموانع للمأمور به،
فإن بيانه بالنسبة إلى الكبرى تام، وليس من وظيفته بيان الصغرى، فلابد
من الاحتياط خروجا عن مخالفته بحسب الأفراد الواقعية التي تم بيانه
بالنسبة إليها.
وبعبارة أخرى: لابد للمكلف من الخروج عن عهدة تلك الكبرى المعلومة
يقينا، وهو لا يحصل إلا مع الاحتياط.
قلت: إن أردت من كون الكبرى بيانا أنها بيان بالنسبة إلى الفرد المشكوك
فيه، فلا إشكال في بطلان تلك الدعوى، فإن قوله: " لا تشرب الخمر " لا يعقل
أن يكون بيانا واصلا بالنسبة إلى ما كان مصداقيته مشكوكا فيها، والتكليف
لا يدعو إلا إلى متعلقه.
وإن أردت أن التكليف تعلق بحسب الواقع بالفرد الواقعي سواء شك فيه
أولا، فهذا مسلم، لكنه لا يكفي في البيان.
وأما ما ذكرت - من أن وظيفة الشارع بيان الكبريات - فهو أيضا
مسلم، لكن الكبرى لا تصير حجة على الصغرى ما لم تحرز وجدانا أو بطريق
متبع.
وبالجملة: إن بيان الشارع بنحو الكبرى لا ينتج ما لم يضم إليه صغرى
محرزة.
329

وقياس ذلك بالعلم الإجمالي - حيث يكون حجة على المشكوك فيه
مع عدم إحراز كونه واقعا - مع الفارق، لأن العلم الإجمالي قد تعلق
بالصغرى، وتردد أمرها بين أمرين أو أزيد، فالحجة بالنسبة إلى الصغرى تامة،
وعروض الإجمال لا تأثير له في تمامية الحجة، بخلاف ما نحن فيه، فإن
الصغرى لم تتعلق بها الحجة ولم تكن معلومة لا تفصيلا ولا إجمالا، وذلك
واضح (1).
إن قلت: عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية - كما هو
المعروف بينهم (2) - مبني على كون الخاص حجة بالنسبة إلى الأفراد الواقعية،
وإلا يلزم رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، فعليه تكون الكبرى حجة على
الصغرى، وذلك يوجب الاحتياط.
قلت: لا نسلم كون المبنى فيه ذلك، بل هو مبني على أن بناء العقلاء في
تطابق الإرادة الجدية للاستعمالية في العام قاصر عن شمول مثل الشبهة
المصداقية للمخصص، فإذا علم خروج الفساق من العلماء عن قوله:
" أكرم العلماء " وشك في فرد أنه فاسق أو لا يكون قوله: " لاتكرم الفساق "
حجة على الفرد المشكوك فيه، لكن يوجب سلب الحجية عن قوله:
" أكرم العلماء "، لما ذكرنا من قصور شمول بناء العقلاء لذلك.

(1) ولا يكون عنوان الكل مأخوذا في الموضوع حتى يكون الشك من قبيل الشك في الأداء،
بل يكون بالنسبة إلى المشكوك فيه الشك في الاشتغال. [منه قدس سره]
(2) انظر مطارح الأنظار: 192 - 193، فوائد الأصول 2: 525، درر الفوائد 1:
183 - 186.
330

وإن شئت قلت: إن مورد الشبهة المداقية شبهة مصداقية لبناء العقلاء
على تطابق الإرادتين.
وبالجملة: بعد خروج عنوان الخاص عن العام، والشك في كون المصداق
من الخارج أو الداخل، لا يحكم العقلاء بتطابق الإرادتين في العام بالنسبة أي
الفرد المشكوك فيه، فيخرج العام عن الحجية.
إن قلت،: إن جعل شئ مانعا باعتبار مجموع الوجودات يرجع
إلى اشتراط ترك واحد من أفراد ما جعل مانعا، فلابد من إحرازه، لأن أصل
الاشتراط معلوم، فاللازم منه العلم بوجود الشرط، وهذا واضح.
قلت: لازم كون مجموع الوجودات مانعا أن لا يكون تمام الوجودات
باستثناء واحد منها مانعا، فيجوز الصلاة في جميع الأفراد المعلومة، ولا يجوز
الجمع بين تمام الأفراد المعلومة والمشكوك فيها، لأن في الجمع بينها يصير
مصداق المانع محرزا.
وأما إتيان المشكوك فيه مع ترك واحد من المعلومات فمما لا مانع منه فردا
وجمعا مع البقية، كما أن ترك المشكوك فيه مع ارتكاب تمام المعلومات لا مانع
منه، للشك في تحقق المانع لاحتمال أن يكون المشكوك فيه من تتمة
المجموع، ومعه لا تتحقق المانعية مع تركه.
وبالجملة: مانعية المجموع المركب من المشكوك فيه والمعلوم معلومة، ومع
ترك واحد من المعلومات لا تكون المانعية للبقية قطعا، ومع ترك المشكوك فيه
وارتكاب البقية تكون المانعية بالنسبة إليها مشكوكا فيها، فتجري البراءة
331

بالنسبة إليها (1).
الشك في الجزئية أو الشرطية في حال النسيان
قوله: الثاني: أنه لا يخفى أن الأصل... إلخ (2).
الكلام في هذا التنبيه والتنبيه الثالث يقع في مقامات:
الأول: فيما إذا ثبت جزئية شس ء في الجملة، وشك في أن نقصه سهوا
يوجب بطلان المركب أم لا، وما هو الأصل العقلي؟
وبعبارة أخرى: الأصل هو الركنية أولا؟
الثاني: في حال الأصل الشرعي في ذلك.
الثالث: في حال الزيادة العمدية أو السهوية، ومقتضى الأصل العقلي
والشرعي فيهما.
الرابع: في أنه على فرض أصالة الركنية هل قام دليل شرعي على الاجتزاء
بالمأتي به في حال النسيان أو الأعم منه أم لا؟

(1) وقد تقدم (أ) عدم رجوع جعل المانع إلى جعل عدمه شرطا، والسر في جريان
البراءة هو هذا. وأما لو جعل العدم قيدا فلا محيص من الاشتغال في مثل المقام.
[منه قدس سره]
(أ) انظر هامش صفحة: 327.
(2) الكفاية 2: 240.
332

المقام الأول
وهو أنه إذا ثبت جزئية شئ في الجملة، وشك في أن نقصه سهوا يوجب بطلان
المركب أم لا، فهل الأصل العقلي يوجب الإعادة أم الاكتفاء بالناقص؟
ولابد قبل تحقيق المقام من تذكر أمر، وهو أن محط البحث في جريان
البراءة أو الاشتغال العقليين ما إذا لم يكن لدليل المركب والجزء أو الشرط
إطلاق، وإلا لم يصل المجال إليهما.
ثم إنه ليس [لدينا] ميزان كلي في ثبوت الإطلاق وعدمه لدليل المركب أو
الأجزاء والشرائط. نعم، لا يبعد أن يكون دليل المركب غالبا بصدد مقام
التشريع، ولأدلة الأجزاء والشرائط إطلاق غالبا، وكيف كان لابد من
ملاحظة الموارد والأدلة.
وقد يقال (1): إن أدلة إثبات الأجزاء والشرائط وكذا الموانع إن كانت
بنحو التكليف، مثل قوله: (اغسل ثوبك) (2) وقوله: * (فاغسلوا وجوهكم...) * (3)
إلخ، و (لاتصل في وبر مما لا يؤكل) وهكذا، لا يمكن إثباتها لحال الغفلة والنسيان،
لانتزاع الوضع من التكليف، ولا يمكن تعلق التكليف بهما (4)، بخلاف ما إذا

(1) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 424 سطر 3 - 6.
(2) الكافي 3: 57 / 3 باب أبوال الدواب وأرواثها، الوسائل 2: 1008 / 2 باب 8 من
أبواب النجاسات و 2: 1011 / 13 باب 9 من أبواب النجاسات.
(3) المائدة: 6.
(4) أي بالغافل والناسي.
333

كانت بنحو الوضع، مثل: (لا صلاة إلا بطهور) (1) أو (بفاتحة الكتاب) (2).
وهو حق لو سلم امتناع إطلاق أدلة التكاليف وعمومها لهما، لكن قد مر
منا في باب الخروج عن محل الابتلاء (3) تصحيح تعلق التكليف بمثلهم، فراجع.
وقد يقال: على فرض الامتناع - أيضا - لا مانع من ذلك: إما لأجل ظهور
تلك الأدلة في الإرشاد إلى الحكم الوضعي، وأن ذلك جزء أو شرط أو
مانع، وإما لأجل أنه مع تسليم ظهورها في المولوية لا يكون امتناع تكليف
الناسي والغافل من ضروريات العقول، حتى يكون كالقرينة الحافة بالكلام
المانعة من الظهور، بل هو من النظريات المحتاجة إلى التأمل في مبادئها،
فتكون حاله كالقرائن المنفصلة المانعة عن حجية الظهور، لا أصل الظهور.
فيمكن أن يقال: إن غاية ما يقتضيه العقل المنع عن حجية ظهورها
في الحكم التكليفي دون الوضعي، فيؤخذ بظهورها بالنسبة إلى إثبات
الجزئية ونحوها.
وعلى فرض الإغماض عنه يمكن التمسك بإطلاق المادة لدخل الجزء في
الملاك والمصلحة حتى حال النسيان (4) انتهى.

(1) الفقيه 1: 35 / 1 باب 14 فيمن ترك الوضوء..، دعائم الإسلام 1: 100، الوسائل 1:
256 / 1 باب 1 من أبواب الوضوء.
(2) عوالي اللآلي 1: 196 / 2 و 2: 218 / 13، مستدرك الوسائل 1: 274 / 5 باب 1 من
أبواب القراءة في الصلاة.
(3) انظر صفحة: 222 من هذا الكتاب.
(4) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 424 سطر 9 - 25.
334

وأنت خبير بما فيه:
أما أول الوجوه: فلأن الأوامر والنواهي الإرشادية ليست مستعملة في النهي
الإرشادي، ولا تنسلخ عن حقائقها ومعانيها، أي البعث والزجر، غاية الأمر
أن البعث والزجر في وادي المركبات يفهم منها الإرشاد، فمعنى (لاتصل في
وبر ما لا يؤكل) هو النهي حقيقة عن الصلاة فيه، لكن العرف يفهم من هذا أن
تعلق النهي والزجر عن الصلاة فيه ليس لأجل مفسدة ذاتية فيه، بل لأجل
مانعيته عنها، فحينئذ يكون الإرشاد إلى الجزئية وغيرها بمقدار إمكان تعلق
النهي، وإلا فلا وجه للإرشاد ولا دليل عليه.
وأما ثاني الوجوه: فلأن استفادة الجزئية تبع لتعلق التكليف، فحينئذ لو
سلم نظرية الامتناع، فالعقل - بعد النظر إلى المبادئ - يحكم حكما جازما
على هذا المبنى بامتناع صدور التكليف متوجها إلى الغافل
والساهي، ومعه كيف يمكن انتزاع الوضع مع فقد منشئه؟! وما قرع الأسماع
من التفكيك في حجية الظهور بين الملزوم واللازم ليس في مثل المقام، كما
يظهر بالتأمل.
وأما ثالثها: فلأن كشف الملاك والمصلحة من إطلاق المادة، إنما هو
في مورد تعلق التكليف بها مطلقا، لأن كشف المصلحة على مذهب العدلية
إنما هو من الأمر والطلب الحقيقي، ومع امتناع ذلك لا يمكن الكشف.
نعم قد يقطع بوجود الملاك في بعض الموارد، وهو خارج عما نحن فيه،
فتدبر.
335

إشكال الشيخ الأعظم في المقام
إذا عرفت ذلك ففي جريان البراءة وعدمه وجهان:
اختار ثانيهما العلامة الأنصاري، واحتج عليه: بأن ما كان جزء
حال العمد يكون جزء حال الغفلة والنسيان، لامتناع اختصاص الغافل
والساهي بالخطاب بالنسبة إلى المركب الناقص، لأن الخطاب إنما يكون
للانبعاث، ويمتنع انبعاث الغافل، لأنه يتوقف على توجهه إلى الخطاب
بعنوانه، ومعه يخرج عن كونه غافلا، فخطابه لغو، فالأصل العقلي هو لزوم
الاحتياط (1).
وأجاب عنه المحققون (2) بما لا يخلو جلها عن الإشكال.
والتحقيق أن يقال: لا يتوقف جريان البراءة على اختصاص الغافل والساهي
بالخطاب، بل اختصاصهما بالخطاب لغو، لأن الخطاب ليس إلا لأجل
التحريك والبعث نحو المطلوب، فلو فرض أن نفس الخطابات الباعثة للعامد
والعالم نحو المركب التام باعثة للغافل والساهي نحو المركب الناقص
بلا افتراق بينهما من هذه الجهة، يكون اختصاصهما بالخطاب لغوا، والأمر

(1) فرائد الأصول: 286 - 287، مطارح الأنظار: 22 سطر 20 - 31، درر الفوائد 2: 141.
(2) انظر حاشية فرائد الأصول: 156 سطر 8 - 21، فوائد الأصول 4: 210، درر الفوائد 2:
141 - 143، نهاية الدراية 2: 279 - 281، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء
الثالث: 420 - 422.
336

كذلك، ضرورة أن الساهي عن جزء من المركب والغافل عنه لا يكون محركه
وباعثه نحو المركب الناقص إلا قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
غسق الليل) * (1) مثلا، كما أن العالم العامد ينبعث ويتحرك نحو التام منه،
فإذا فرض أن المركب التام ذو ملاك واقتضاء بالنسبة إلى العامد، والمركب
الناقص ذو ملاك واقتضاء بالنسبة إلى الساهي الغافل، ويكون باعثهما نحو
ما هو المطلوب منهما هو الخطابات المتعلقة بالطبائع، فلا معنى لاختصاص
كل منهما بخطاب.
وبعبارة أخرى: ليس الغرض من الخطاب إلا صيرورته وسيلة إلى
تحريك المكلف نحو ما هو المطلوب، أو صيرورته متمكنا من العبودية
لو فرض أن في نفس تعلق الأوامر بالمأمور بها ملاكا واقتضاء، من جهة
عدم حصول كمالات المكلف إلا بالإتيان على نعت العبودية، وهو لا يحصل
إلا بالأمر، وعلى أي حال تكون الخطابات الواقعية المتعلقة بالطبائع محركة
للعامد نحو ما هو المطلوب منه، وهو المركب التام، وللغافل الساهي نحو
ما هو المطلوب منه، وهو المركب الناقص، فلا معنى لاختصاص الخطاب
بكل منهما.
فإذا أتى الساهي بالمركب الناقص، ثم تنبه وشك في أن الجزء المنسى هل
كان له اقتضاء بالنسبة إليه في حال النسيان حتى تكون صلاته تامة،
أولا حتى تحتاج إلى الإعادة، يمكن جريان البراءة في حقه لعين ما ذكرنا في

(1) الإسراء: 78.
337

باب الأقل والأكثر (1) من غير فرق بين النسيان المستوعب لجميع الوقت
وغيره، لأن الأمر المتعلق بالمركب كان داعيا إلى الأجزاء بعين داعويته إلى
المركب، والفرض أن الأجزاء التي كان داعيا إليها قد أتى المكلف بها، والحال
شاك في أن الأمر هل له دعوة أخرى إلى إتيانها ثانيا ويكون داعيا إلى إتيان
الجزء المنسي، أم لا؟ فالأصل فيه يقتضي البراءة.
والحاصل: أن المقام من صغريات الأقل والأكثر إشكالا وجوابا.
هذا إذا قلنا بأن التكليف ساقط عن الناسي، وفرق بينه وبين غيره في تعلق
التكليف، وأما لو قلنا بأن النسيان والغفلة والعجز والقدرة كالعلم والجهل في
تعلق التكليف، وأنه فعلي بالنسبة إليهم، غاية الأمر أن مخالفة التكليف
الفعلي قد تكون لعذر وقد تكون لا لعذر، وأن الناسي معذور عقلا في ترك
تكليفه الفعلي بالطبيعة كالجاهل والعاجز، لا أن التكليف يتغير عما هو عليه،
فمع ترك الجزء نسيانا يجب الإعادة إذا كان لدليل الجزء إطلاق، لعدم الإتيان
بالمأمور به بجميع أجزائه.
الوجوه التي ذكرت في دفع إشكال الشيخ وردها
وهاهنا وجوه أخر في رفع إشكال المحقق الأنصاري:
أحدها: الالتزام بعدم الخطاب أصلا حين الغفلة، لا بالتام المغفول عنه،
ولا بالناقص المأتي به، لأنه غير قادر على التام، وغير قابل للخطاب بالناقص،

(1) انظر صفحة: 281 من هذا الكتاب.
338

فتوجه الخطاب إليه لغو، هذا حال الخطاب. وأما مجرد الاقتضاء والملاك
فبالنسبة إلى التام والناقص سواء.
فعلى هذا إنا نشك بعد ارتفاع العذر أن الغافل صار مكلفا بغير المركب
الناقص الذي أتى به، والأصل عدمه، وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلى الجزء
الفائت لا دليل عليه، والأصل البراءة عنه، كما هو الشأن في الأقل
والأكثر (1) هذا.
وهذا الوجه دافع للإشكال، لكن دعوى امتناع بعثه نحو الناقص قد
عرفت ما فيها.
الثاني: ما حكاه بعض أعاظم العصر عن تقريرات بعض الأجلة لبحث
الشيخ، من إمكان أخذ الناسي عنوانا للمكلف وتكليفه بما عدا الجزء المنسي،
بتقريب: أن المانع من ذلك ليس إلا توهم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه
في ذلك الحال، فلا يمكنه امتثال الأمر، لأنه فرع الالتفات إلى ما اخذ عنوانا
للمكلف.
ولكن يرد عليه: بأن امتثال الأمر لا يتوقف على الالتفات إلى ما اخذ عنوانا
له بخصوصه، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه ولو كان من
باب الخطأ في التطبيق، فيقصد الأمر المتوجه إليه بالعنوان الآخر، فالناسي
للجزء يقصد الأمر الواقعي له، وإن أخطأ في تطبيق أمر الذاكر عليه.
وأورد عليه الحاكي المعظم له: بأنه يعتبر في صحة البعث والطلب أن يكون

(1) درر الفوائد 2: 141.
339

قابلا للانبعاث عنه، بحيث يمكن أن يصير داعيا لانقداح الإرادة وحركة
العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة، وهذا التكليف الذي يكون دائما من
الخطأ في التطبيق لا يمكن أن يكون داعيا أصلا، فهو لغو، ولا يقاس هذا بأمر
الأداء والقضاء، لأن الخطأ في التطبيق فيهما قد يتفق بخلاف ما نحن فيه (1).
ويرد على المورد: أنه - بعد تصديق كون الأمر الواقعي المتعلق بالناسي
بعنوان أنه ناس محركا واقعا، وإنما وقع الخطأ في تطبيق عنوان أمر الذاكر
على الناسي - لا مجال لهذا الإشكال، لأن المفروض أن المحرك للناسي دائما
إنما هو الأمر الواقعي المتعلق به، لا الأمر المتوجه إلى الذاكر.
نعم يرد على المجيب: أن دعوى كون الأمر الواقعي المتوجه إلى الناسي
محركا له واقعا وإن كان الخطأ في التطبيق، ممنوعة، لأن المحرك له ليس إلا
الأمر المتوجه إلى الذاكر،. فإن خطأه إنما هو في تطبيق عنوان الذاكر على
نفسه، وتوهمه أنه متذكر، وبعد هذا الخطأ لا يكون محركه إلا الأمر المتوجه
إلى الذاكر.
والشاهد عليه: أن وجود الأمر المتوجه إلى الناسي وعدمه سواء، بمعنى أنه
يتحرك نحو المأمور به كان في الواقع أمر متوجه إلى الناسي أولا.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق الخراساني وارتضاه بعض أعاظم العصر (2)
وحاصله:

(1) فوائد الأصول 4: 211 - 212.
(2) فوائد الأصول 4: 213.
340

أنه يمكن أن يكون المكلف به أولا في حق الذاكر والناسي هو خصوص
ما عدا الجزء المنسي، ويختص الذاكر بخطاب يخصه، وإنما المحذور في
تخصيص الناسي بخطاب يخصه (1).
وفيه: أنه لا داعي إلى الخطابين مع انبعاث الذاكر والناسي بالخطاب
الواحد المتوجه إلى مطلق المكلفين، كما عرفت سالفا.
ثم اعلم: أنه إن لم يكن لدليل الجزء إطلاق، واحتمل اختصاص الجزئية
بحال الذكر، فالمرجع هو البراءة، سواء كان النسيان مستوعبا لجميع الوقت
أولا:
أما بناء على عدم تكليف الناسي لا بالتام ولا بالناقص فواضح، لأن الآتي
بالناقص بعد تذكره يشك في توجه التكليف إليه، ومنشأ شكه أن الجزء
المنسي هل كان له اقتضاء في حال النسيان أم لا، والأصل يقتضي البراءة.
وكذا الحال بناء على الوجه الثاني من كون الناسي مكلفا بما عدا الجزء،
فإنه بعد الإتيان يشك في توجه التكليف إليه، والأصل هو البراءة.
ومن ذلك يعرف الأصل بناء على الوجه الثالث، فإن المكلف به في حق
الذاكر والناسي بحسب الخطاب الأول هو بقية الأجزاء، وبحسب الخطاب
الخاص للذاكر هو الجزء المنسي، فإذا أتى الناسي بالبقية في حال النسيان فقد
أتى بما يدعوه [إليه] الخطاب الأول، ويشك بعد التذكر في توجه الخطاب
الثاني إليه، ومنشأ شكه أن جزئية الجزء المنسي هل هي مختصة بحال الذكر

(1) الكفاية 2: 240.
341

أم لا، فهو من مصاديق الأقل والأكثر، والمرجع هو البراءة كما عرفت.
فما أفاده بعض أعاظم العصر على ما في تقريراته - من التفصيل بين
استيعاب النسيان لتمام الوقت وغيره بحسب الأصل العقلي - منظور فيه، فإن
حاصل ما أفاده في وجهه:
أن أصالة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب
الفرد التام في ظرف التذكر، بل مقتضى إطلاق الأدلة وجوبه، لأن المأمور به
هو صرف وجود الطبيعة التامة في مجموع الوقت، ويكفي في وجوب ذلك
التمكن من إيجادها كذلك ولو في جزء من الوقت، ولا يعتبر التمكن في
تمامه، كما هو الحال في سائر الأعذار.
والحاصل: أن رفع الجزئية بأدلة البراءة في حال النسيان لا يلازم رفعها في
ظرف التذكر، لأن الشك في الأول يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال النسيان،
وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر.
هذا إذا لم يكن المكلف ذاكرا في أول الوقت ثم عرض له النسيان في
الأثناء، وإلا فيجري استصحاب التكليف، للشك في سقوطه بسبب النسيان
الطارئ الزائل في الوقت (1) انتهى.
وفيه: أنه بعد الاعتراف بأن التكليف بالنسبة إلى الجزء المنسي ساقط في
حال النسيان، يرجع الشك إلى ثبوت التكليف بالجزء بعد التذكر، وتوجه
داعوية أخرى للتكليف الثابت للمركب بالنسبة إلى بقية الأجزاء المأتي بها،

(1) فوائد الأصول 4: 220.
342

والأصل يقتضي البراءة. وكون المأمور به هو صرف الطبيعة التامة في
مجموع الوقت وكفاية التمكن فيه في الجملة حق لو لم يأت بالمأمور به
رأسا، وأما لو أتى به بعد سقوط التكليف عن الجزء، فتوجه التكليف إليه
وتجديد داعوية أخرى بالنسبة إلى البقية مشكوك فيهما ويجري فيه البراءة،
كما أن التمسك باستصحاب التكليف الثابت في أول الوقت بعد سقوط
التكليف عن المركب التام كما ترى.
فتحصل مما ذكرنا: أن الأصل العقلي في الجزء المنسي يقتضي البراءة، إلا
على مسلك من ذهب إلى أن التكليف بالنسبة إلى الناسي وغيره سواء إلا في
المعذورية العقلية، وهي لا تقتضي سقوط التكليف.
المقام الثاني
مقتضى الأصل الشرعي عند الشك في المقام
فالتحقيق: أن التمسك بحديث الرفع لرفع الجزئية في حال النسيان - ولو
نسيان الموضوع مما لا مانع منه، وتصير نتيجة الأدلة الأولية - على فرض
إطلاقها لحال النسيان - وحديث الرفع الحاكم عليها الدال على أن الجزء
مرفوع في حال النسيان، أن المأمور به في حال النسيان هو البقية (1).

(1) وتقريبه أن يقال: لا إشكال في أن النسيان إنما يتعلق بطبيعة الجزء لا بوجودها
الخارجي، ويصير النسيان للطبيعة منشأ لعدم الإيجاد، فرفع النسيان يقتضي رفع جميع
الآثار بعد إرجاعه إلى رفع ما يكون النسيان منشأ للابتلاء به، إما لكونه منسيا، أو
لكون النسيان موجبا له:
343

لا يقال: رفع الجزئية غير ممكن لأنها من الأمور الانتزاعية، فليست الجزئية
تحت الجعل ولا تنالها يد التشريع، وكون منشأ انتزاعها بيد الشرع عبارة
أخرى عن رفع التكليف عن المركب، فلا بد من القول بأن التكليف مرفوع
فالأول: مثل ترك الجزء أو الشرط، حيث يكون المنسي هو طبيعة الجزء والشرط.
والثاني: كإيجاد المانع والقاطع، حيث يكون النسيان منشأ لإيجادهما.
والمصحح لذلك الإرجاع هو دعوى كون ما يلابس النسيان نسيانا، ودعوى رفعه
بواسطة رفع جميع الآثار، على ما نبهنا عليه سابقا (أ) ومن آثار طبيعة الجزء والشرط
الجزئية والشرطية.
فما يقال: - إن أثر وجود الجزء هو الصحة، ورفعها يناقض المطلوب - ليس بشئ:
أما أولا: فلأن المنسي هو الطبيعة لا وجودها.
وثانيا: أن وجود الطبيعة في الخارج عين الطبيعة، والصحة ليست أثرا جعليا، بل لا يمكن
أن تكون مجعولة إلا بمنشئها، وما هو المجعول هو الجزئية أو الشرطية، على ما هو
التحقيق من قابلية تعلق الجعل بهما، وكيف كان يرفع الحديث الجزئية والشرطية.
لا يقال: إن رفع الجزئية في مقام الدخل في الملاك ممتنع، لأنه تكويني ممتنع الرفع،
والرفع التشريعي بلحاظ الانتزاع عن التكليف فرع إمكان تكليف الناسي، وهو
ممنوع (ب).
فإنه يقال: - مضافا إلى ما تقدم من إمكان تكليفه - هذا مخالف لقوله حيث قال بجواز
الجزئية المطلقة إذا كان لسان الجعل نحو قوله: (لا صلاة إلا بطهور) أو كانت التكاليف
إرشادية (ج) بل تنبه في مورد من كلامه بأن البحث عن البراءة الشرعية بعد الفراغ عن
إطلاق أدلة الجزء والشرط (د) فتذكر. [منه قدس سره]
(أ) انظر صفحة: 48 من هذا الكتاب.
(ب) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 427 سطر 7 - 12.
(ج) نفس المصدر السابق: 424 سطر 3 - 10.
(د) نفس المصدر السابق: 426 سطر 4 - 7.
344

عن المركب بحديث الرفع، لتعلق الرفع بمنشأ انتزاع الجزئية، وبناء عليه
لا يمكن إثبات التكليف لبقية الأجزاء، فلم تكن البقية مصداقا للمأمور به حتى
يكون الإتيان بها مجزيا عنه (1).
فإنه يقال: ليس معنى رفع الجزئية في حال النسيان هو أن الجزء الثابت
بالأدلة الأولية جدا مرفوع بحديث الرفع جدا، فإنه من قبيل النسخ الممتنع،
بل الرفع رفع بحسب الإرادة الاستعمالية، وكاشف عن سلب الإرادة الجدية
من رأس.
وإن شئت قلت: إن الرفع رفع بحسب التعميم القانوني، لا الحكم الواقعي،
كما أن الحال كذلك في جميع الأدلة الثانوية الحاكمة على الأدلة الأولية،
فحديث الرفع يكشف عن أن الأمر المتعلق بالمركب التام صورة المطلق لحال
الذكر والنسيان لا يكون متعلقا إلا بالمركب الناقص في حق الناسي (2).

(1) فوائد الأصول 4: 226.
(2) وبه يدفع ما قد يقال: إن غاية ما يقتضي الحديث إنما هو رفع إبقاء الأمر الفعلي
والجزئية الفعلية حال النسيان، الملازم - بمقتضى الارتباطية - لسقوط التكليف عن
البقية ما دام النسيان، وأما اقتضاؤه لسقوط المنسي عن الجزئية والشرطية - في حال
النسيان - لطبيعة الصلاة المأمور بها رأسا، على نحو يستتبع تحديد دائرة الطبيعة في
حال النسيان بالبقية، ويقتضي الأمر بإتيانها، فلا، بداهة عدم تكفل الحديث لإثبات
الوضع والتكليف، لأن شأنه هو الرفع محضا (أ) انتهى.
ضرورة أن حديث الرفع لا يتكفل الوضع على ما قررنا (ب) بل يكشف عن عدم الجزئية
والشرطية لحال النسيان من أول الأمر، ومعه لا معنى لرفع التكليف عن البقية، بل الرفع
بما ذكره يرجع إلى النسخ المستحيل والبداء المحال، كما يظهر بالتأمل.
345

لا يقال: لابد في التمسك بحديث الرفع من كون المرفوع له نحو تضرر
وثبوت، فلا يتعلق الرفع بالمعدومات وإن تنالها يد التشريع، ورفع النسيان
لو تعلق بجزئية الجزء يكون من نسيان الحكم لا الموضوع، والحال أن المنسي
نفس الجزء، أي الإتيان به قولا أو فعلا، ومعنى نسيانه خلو صفحة الوجود
عنه، فلا يعقل تعلق الرفع به، لأنه معدوم.
وأيضا ليس محل البحث النسيان المستوعب، ونسيان الجزء في بعض
الوقت كنسيان أصل المركب فيه، فكما أن الثاني لا يوجب سقوط التكليف
رأسا كذلك الأول (1).
فإنه يقال: إن الرفع يتعلق بالجزئية حال نسيان الموضوع، فالجزء المنسي
مرفوع من المركب الذي هو جزؤه بحسب الأدلة الأولية، ولا دليل على
اختصاص الرفع بنسيان الحكم، بل يعم نسيان الموضوع، وعدم نسيان الحكم
لا يقتضي ثبوت الجزء من حيثية نسيان الموضوع، وحديث الرفع يقتضي رفعه
من حيث نسيانه.
وبالجملة: الرفع إنما يتعلق بالجزئية حال نسيان الموضوع، وهي أمر
وجودي، فما ادعى - من لزوم تعلق الرفع بالمعدوم - لا ينبغي أن يصغى إليه.
فالبقية مأمور بها بنفس الأوامر الأولية، ومع رفع الجزئية تكون البقية مصداقا للمأمور
به، ويسقط الأمر المتعلق بالطبيعة، وهذا معنى الإجزاء. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 429 سطر 3 1 - 22.
(ب) انظر صفحة: 51 - 53 من هذا المجلد.
(1) فوائد الأصول 4: 225.
346

وأما قياس نسيان الجزء بنسيان نفس المركب فهو من عجيب الأمر، فإن
عدم الإتيان بالمركب لا يمكن أن يقتضي الإجزاء، بخلاف الإتيان به مع رفع
جزئه بالحديث، فإن الناقص يصير مصداق المأمور به بعد حكومة الحديث
على الأدلة، والإتيان به يقتضي الإجزاء.
فتحصل مما ذكرنا: أن مقتضى جمع الحديث مع الأدلة الأولية، هو
كون المكلف به ما عدا الجزء المنسي في النسيان، من غير فرق بين المستوعب
وغيره.
المقام الثالث
حال الزيادة العمدية والسهوية
فلابد قبل التعرض له من التنبيه على أمر، وهو أن وقوع الزيادة على وزان
وقوع النقيصة مما لا يتصور ولا يعقل، سواء اخذ المركب بشرط لا والجزء
كذلك، أو كلاهما لا بشرط، أو اخذا مختلفين، وذلك لأن الجزئية من الأمور
الانتزاعية من تعلق الأمر بمجموع أمور في لحاظ الوحدة، كما مر سابقا (1)
فإذا تعلق به كذلك ينتزع من المجموع الكلية، ومن كل واحد منها الجزئية
للمأمور به، فالجزئية من الانتزاعيات التابعة لتعلق الأمر بالمركب، فحينئذ
نقيصة الجزء ممكنة، فإنها عبارة عن إتيان المركب مع ترك ما اعتبر جزء واخذ
فيه في لحاظ التركيب.

(1) انظر صفحة: 279 - 281 من هذا المجلد.
347

وأما الزيادة بهذا المعنى فإنها تنافي الجزئية، فلا يعقل الإتيان بشئ معتبر
في المركب لمكان انتزاع الجزئية ومع ذلك يكون زائدا (1) فوقوع الزيادة في

(1) وقد تصدى بعض المحققين لتصوير الزيادة الحقيقية، وأوضحه بمقدمات:
منها: لزوم كون الزيادة من سنخ المزيد فيه.
ومنها: اعتبار كون المزيد فيه محدودا بحد مخصوص ولو اعتبارا.
ثم قال: الثالث: أن أخذ الجزء أو الشرط في المركب في مقام الاعتبار يتصور على وجوه:
أحدها: بنحو بشرط لا من طرف الزيادة.
وثانيها: بنحو لا بشرط في طرف الزيادة، على معنى أنه لو زيد عليه لكان الزائد خارجا
عن المركب، باعتبار عدم تعلق اللحاظ بالزائد في مقام اعتباره جزء للمركب، كما لو
فرض - في جعل مهية الصلاة - الركوع الواحد لا مقيدا بكونه بشرط عدم الزيادة ولا
طبيعة الركوع، فإن في مثله يكون الوجود الثاني خارجا عن الصلاة، لعدم تعلق اللحاظ
به في مقام جعل المهية.
ثالثها: بنحو لا بشرط، بنحو لو زيد عليه لكان الزائد - أيضا - من المركب لا خارجا عنه،
كما [لو] اعتبر الركوع الجامع بين الواحد والمتعدد في الصلاة، أي في كل ركعة، لا
الركوع الواحد.
فحينئذ لا مجال لتصور الزيادة على الأول، لرجوعها إلى النقيصة، وكذا على الثاني،
لأن الزائد عليه ليس من سنخ المزيد عليه، لخروج الوجود الثاني عن دائرة اللحاظ،
فيستحيل اتصافه بالصلاتية.
وأما على الثالث فيتصور الزيادة الحقيقية، سواء اخذ الجزء في مقام الأمر بشرط لا أو
لا بشرط بالمعنى الأول أو الثاني.
أما على الأولين فظاهر، لأن الوجود الثاني من طبيعة الجزء مما يصدق عليه الزيادة
بالنسبة إلى ما اعتبر في المأمور به من تحديد الجزء بالوجود الواحد، حيث إنه بتعلق
الأمر بالصلاة المشتملة على ركوع واحد تتحدد طبيعة الصلاة بالقياس إلى دائرة المأمور به
منها بحد يكون الوجود بالنسبة إلى ذلك الحد من الزيادة، لقلب حده إلى حد آخر، وإن لم تصدق
348

الأجزاء والشرائط على وزان وقوع النقيصة فيهما ضروري البطلان، من غير
فرق بين أنحاء الاعتبارات المذكورة.
الزيادة بالنسبة إلى المأمور به بما هو مأمور به. وكذلك الأمر على الأخير، إذ بانطباق
صرف الطبيعي على الوجود الأول في المتعاقبات تتحدد دائرة المركب والمأمور به بحد
قهرا يكون الوجود الثاني زيادة في المركب والمأمور به، فتأمل (أ) انتهى ملخصا.
ولعله بالتأمل أشار إلى وجوه من الخلط الواقع في كلامه، نذكر بعضها:
منها: أن اللابشرط بالمعنى الأول مع تمثيله بالركوع الواحد مما لا يرجع إلى محصل،
فإن معنى اللابشرط هو أخذ نفس الطبيعة بلا قيد، لا الطبيعة المقيدة بالوحدة، فحينئذ إن
كان الواحد قيدا يصير بشرط الوحدة، وهو مساوق للماهية بشرط لا عن الزيادة، وإن لم
يكن قيدا يكون المأخوذ نفس الطبيعة، فيرجع إلى المعنى الثاني من اللابشرط.
ومنها: أن الظاهر من كلامه - كما صرح به فيما يأتي (ب) - أن ما يعتبر قبل تعلق الحكم
غير ما تعلق به الحكم، وبهذا يريد تصوير الزيادة، وهذا بمكان من الغرابة، ضرورة أن
اعتبار المهية قبل تعلق الحكم لا بشرط ثم تعليق الحكم بها بنحو بشرط لا أو لا بشرط
بالمعنى الثاني لغو محض، وإنما يعتبر الناقص قبل تعلق الحكم موضوعا يريد أن يحكم
عليه، فلا معنى لاعتباره بوجه ثم الرجوع عنه واعتباره بوجه آخر يريد أن يحكم عليه،
ولا يمكن الجمع بين الاعتبارين لتنافيهما.
ومنها: أنه مع تسليم كل ذلك لا يتصور الزيادة، لأن ما يوجب البطلان هو الزيادة في
المكتوبة، والزيادة في صلاة المكلف، والموضوع الذي اعتبره قبل تعلق الحكم ولم
يأمر به لم يكن مكتوبة ولا مرتبطة بالمكلف حتى يكون صلاته.
ومنها: أن الزيادة المتخيلة لا تكون في المأمور به كما اعترف به، ولا يمكن أن تكون
في الطبيعة اللابشرط، لفرض كونها بنحو كل ما أوجد يكون من المركب، فأين
الزيادة؟! [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 436 - 438.
(ب) نفس المصدر السابق.
349

كما أن الزيادة بالمعنى العرفي ممكنة، فإن وجود الثاني لما اخذ جزء
للمركب زائد عرفا، سواء اخذ المركب والجزء لا بشرط أو بشرط لا أو
مختلفين، فإن الجزء إذا اخذ بشرط لا، ينحل إلى ذات الجزء للمركب وشرط
للجزء له، فالإتيان بالوجود الثاني يكون زيادة لذات الجزء ونقيصة لشرطه،
فالوجود الثاني كما هو منشأ انتزاع النقيصة يكون منشأ انتزاع الزيادة، فهو
بذاته زيادة وباعتبار آخر منشأ للإخلال بقيد الجزء، ولامانع من كون شئ
زيادة ومنشأ للنقصان.
فما أفاده المحقق الخراساني قدس سره: - من اعتبار عدم الزيادة شرطا أو
شطرا في الواجب مع عدم اعتباره في جزئيته، وإلا لم يكن من زيادته بل من
نقصانه (1) - ليس على ما ينبغي.
نعم، هاهنا بحث آخر وراء تصوير الزيادة، وهو أن البطلان هل يستند
عقلا إلى الزيادة أو إلى النقيصة؟
ولا إشكال في أن الزيادة العمدية فضلا عن السهوية لا توجب البطلان،
لأن الفساد والبطلان إنما ينتزع من عدم تطابق المأتي به للمأمور به، والفرض
أن الجزء الزائد بما أنه زائد غير دخيل في المأمور به، فما هو الدخيل هو تقيد
الجزء أو المأمور به بعدمها، وبهذا الاعتبار يكون المأتي به غير منطبق على
المأمور به، فالبطلان مستند إلى النقيصة لا الزيادة.
كما أن الإتيان بضميمة زائدة - مع عدم أخذ عدمها قيدا في المأمور به أو

(1) الكفاية 2: 244.
350

في جزئه - على نحو التشريك في الداعوية يوجب البطلان، لا للزيادة بما هي
زيادة، بل لنقص ما هو معتبر عقلا في الامتثال من كون الأمر مستقلا في
الداعوية.
فتحصل مما ذكرنا: أن الزيادة مطلقا لا توجب البطلان، إلا إذا اخذ عدمها
في المركب أو الجزء حتى ترجع إلى النقيصة، فإذا شك في ذلك يكون من
مصاديق الأقل والأكثر، والمرجع فيه البراءة.
ثم إنه قد يتمسك لصحة ما اتي به مع الزيادة بالاستصحاب، ويمكن
تقريره بوجوه:
أحدها: استصحاب عدم قاطعية الزيادة أو مانعيتها بنحو العدم الأزلي،
فيشار إلى ماهية الزائد بأنها قبل تحققها لم تكن متصفة بالقاطعية، والآن كما
كان (1).
وفيه ما عرفت سابقا (2): من عدم محفوظية الهذية، لأن الشئ قبل
تحققه لم يكن مشارا إليه، ولا محكوما بشئ إثباتا ونفيا، والماهية قبل
وجودها لا شيئية لها حتى يقال: إنها قبل وجودها كانت كذا، أولم تكن
كذا.
وإن شئت قلت: لابد في الاستصحاب من وحدة القضية المتيقنة
والمشكوك فيها، وليس في السالبة بانتفاء الموضوع - على حذو سائر القضايا -

(1) انظر فوائد الأصول 4: 32 2 - 33 2.
(2) في صفحة: 104 - 105 من هذا الكتاب.
351

موضوع ومحمول ونسبة حاكية عن الواقع ولو بنحو من الحكاية،
فاستصحاب العدم الأزلي مما لا أصل له.
مع إمكان أن يقال: إن إثبات صحة المأتي به باستصحاب عدم
اتصاف الزائد بالقاطعية عقلي، بل لا يبعد أن يقال: إن سلب قاطعيته
للصلاة الموجودة بذلك الاستصحاب - أيضا - عقلي (1) وفيه نظر آخر يطول
ذكره.
ثانيها (2): استصحاب عدم وقوع القاطع في الهيئة الاتصالية التي في
الصلاة، بناء على اعتبارها فيها - على ما سيأتي الإشارة إليه (3) - بأن يقال:
إن الصلاة لها هيئة إتصالية متحققة حين اشتغال المصلي بها، ولم يكن القاطع
واقعا فيها قبل تحققها، أي تحقق الزيادة، فإذا وجدت الزيادة يشك في
حصول القاطع، فيستصحب عدمه.
وبهذا البيان يمكن أن يستصحب عدم المانع لدى الشك في كون الزيادة
مانعة.
لا يقال: لعل الصلاة تكون متقيدة بعدم المانع، والاستصحاب لا يثبت
التقيد.
فإنه يقال: إنه جار في نفس التقيد - أي الكون الرابط - فإن استصحاب

(1) انظر درر الفوائد 2: 514، فوائد الأصول 4: 320.
(2) فوائد الأصول 4: 233.
(3) في صفحة: 359 من هذا المجلد.
352

عدم تحقق المانع في الصلاة عبارة أخرى عن كونها بلا مانع، وهذا مما
لا إشكال فيه (1).
ثم إنا لا نحتاج إلى إثبات الهيئة الاتصالية للصلاة في جريان هذا
الاستصحاب.
ولا يخفى أن هذا إنما يجري في غير ما يقارن الصلاة من أول وجودها،
وإلا فلا يجري كاللباس المشكوك فيه، كما أن المفروض في القاطع أيضا
كذلك.
ثالثها (2): استصحاب الهيئة الاتصالية، وهي أمر اعتباري وراء نفس
الأجزاء، يكون تحققها من أول وجود المركب إلى آخره، فصار المركب
بحسب هذا الاعتبار أمرا وحدانيا متصلا كالموجودات الغير القارة، يكون
أوله بأول جزئه، ويكون متصلا ممتدا بلا تخلل عدم إلى آخره.
والأجزاء مع قطع النظر عن هذا الاعتبار في المركبات وإن كانت لها
وحدة بحسب الاعتبار، لأن المركب يتقوم بنحو من الوحدة، كما ذكرنا في

(1) إلا أن يقال: إن عدم تحقق المانع فيها ملازم عقلا لكونها بلا مانع، نظير استصحاب
عدالة زيد لإثبات كونه عادلا، فإن الظاهر أنه مثبت أيضا.
ثم إن جريان هذا الاستصحاب موقوف على البناء على أن المانع والقاطع منتزعان من
تقيد المأمور به بعدمهما مع نحو اختلاف في اعتبارهما. وأما لو قلنا: إن اعتبارهما من
جعل الضدية بينهما وبين المأمور به فلا يجري الاستصحاب، لكونه مثبتا.
[منه قدس سره]
(2) فرائد الأصول: 290 سطر 1 - السطر قبل الأخير.
353

باب الأقل والأكثر (1) لكن السكونات المتخللة في البين إذا لم تعتبر الهيئة
الاتصالية تكون خارجة عن نفس المركب، ومعه تكون داخلة فيها، لاعلى
حذو سائر الأجزاء فتكون في عرضها، بل هي أمر معتبر فيه كخيط ينظم
شتات الأجزاء ويتصل به بعضها ببعض، فيكون الآتي بالمركب داخلا فيه من
أوله إلى آخره حتى في السكونات المتخللة.
وهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه، وقد دل عليه الدليل في الصلاة، فإنها
بحسب ارتكاز المتشرعة - الكاشف القطعي عن اعتبار الشارع - أمر مستمر
من أولها إلى آخرها، يصير المصلي بتكبيره داخلا فيها إلى أن يخرج منها
بالسلام، ويرى كل مصل نفسه داخلا في الصلاة ومشتغلا بها حتى في
السكونات.
ألا ترى أن تعبيراتهم في باب فساد الصلاة هو القطع والنقض، فيقال:
فلان قطع صلاته أو نقضها، مما يكشف عن كونها بحسب ارتكازهم أمرا
متصلا ممتدا قابلا للقطع والنقض، وهذا أمر تلقاه المتشرعة كل طبقة عن
طبقة، وكل خلف عن سلف، حتى ينتهي إلى صاحب الشريعة.
ويدل عليه الروايات المستفيضة المعبرة عن جملة من المفسدات
بالقواطع (2) ولولا اعتبار الهيئة الاتصالية فيها لما يحسن التعبير

(1) انظر صفحة: 79 2 - 1 8 2 من هذا المجلد.
(2) انظر الكافي 3: 364 - 366 باب ما يقطع الصلاة..، الوسائل 4: 1240 - 1253
أبواب قواطع الصلاة.
354

بالقطع والقاطع.
واستشكل بعض أعاظم العصر - رحمه الله - على استصحاب
الهيئة الاتصالية:
تارة: بأن مجرد تعلق النواهي الغيرية لا يدل على اعتبار الهيئة الاتصالية
فيها، إذ من الممكن أن تكون الصلاة هي الأجزاء والشرائط مقيدة بعدم
تخلل القواطع في أثنائها.
واخرى: بأنه بعد تسليم ذلك يمكن أن يمنع تعلق الطلب بها على
نحو تعلقه بالأجزاء، بل هو إنما تعلق بنفس عدم تخلل الالتفات ونحوه
فيها.
وثالثة: على فرض تسليم ذلك، إلا أنه لا إشكال في تعلق الطلب بعدم
وقوع القواطع فيها، لدلالة ظواهر الأدلة عليه، فلا بد من علاج الشبهة عند
وقوع ما يشك في قاطعيته، ولا ترتفع باستصحاب الهيئة الاتصالية، لأن
الشك في بقائها مسبب عن الشك في قاطعية الموجود، والشك المسببي
لا يرفع الشك السببي إلا بالأصل المثبت، وعلى فرض منع السببية فلا أقل من
كونهما متلازمين، فلا مجال لاستصحاب الهيئة لرفع الشك عن قاطعية
الزيادة، ولابد من علاجه، وطريقه ينحصر بأصالة البراءة (1) انتهى ملخصا.
ويرد على أولاها: بأن استفادة الهيئة ليست من تعلق النواهي الغيرية،
ضرورة عدم دلالتها عليها، بل مما ذكرنا آنفا.

(1) فوائد الأصول 4: 235.
355

وعلى ثانيتها: أنه بعد تسليم كونها معتبرة فيها بحسب الأدلة لا معنى
لإنكار تعلق الطلب بها على نحو سائر ما يعتبر فيها، فإن الأجزاء والشرائط
- أيضا - لم يتعلق بها طلب مستقل، بل لم يتعلق الطلب إلا بالمركب بما أنه
مركب، ومعلوم أنه كل ما يعتبر فيه من الأجزاء والشرائط يكون متعلقا له
بعين تعلقه بالمركب، فمنع تعلق الطلب الاستقلالي في محله، لكن الأجزاء
- أيضا - لم يتعلق بها الطلب كذلك، وأما منع تعلقه مطلقا على نعت تعلقه
بالأجزاء فممنوع.
وعلى ثالثتها: أنه بعد تسليم تعلق الطلب بالهيئة الاتصالية لا مجال
لتعلقه بالقواطع أيضا، لأن شرطية أحد الضدين ومانعية الآخر أو قاطعيته
مما لا يمكن، كما اعترف به وفصله في الأمر الثالث في رسالته المعمولة
في اللباس المشكوك فيه، بل جعل امتناعه في الوضوح تاليا لامتناع اجتماع
الضدين فيه، فراجع (1).
فحينئذ بعد تسليم تعلق الطلب بالهيئة الاتصالية لابد من صرف ظواهر
النواهي المتعلقة بالقواطع عن ظاهرها إلى كونها إرشادية إلى اعتبار الهيئة
الاتصالية، فاستصحاب الهيئة كافي لإثبات الصحة من غير احتياج إلى
إحراز عدم قاطعية الزائد، لعدم تقيد الصلاة بعدم القواطع، بل تتقيد بوجود
الهيئة الاتصالية.
إن قلت: امتناع شرطية أحد الضدين ومانعية الآخر مسلم فيما إذا كان

(1) منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 243 - 246.
356

الضدان تكوينيين، وأما في الأمور الجعلية الاعتبارية، كشرطية شئ للمأمور
به ومانعية شئ له، مما تكون الشرطية باعتبار التقيد بوجود شئ، والمانعية
باعتبار التقيد بعدم شئ، فمما لا يمكن الالتزام به، لأن الضدية لا تتحقق
إلا باعتبار أخذ عدم شئ في تحقق الآخر في عالم الاعتبار والتشريع،
فإن الطهور - مثلا - لا يكون مضادا للحدث تكوينا، بل الضدية إنما هي
باعتبار أخذ عدم الأحداث في تحقق الوضوء حدوثا وبقاء، ومن ذلك ينتزع
الضدية والتمانع.
فإذا لا يمكن تحقق الضدية بين الهيئة الاتصالية والقواطع لها إلا باعتبار
تقيدها بعدمها، وإلا فمع عدم اعتبار عدمها فيها لا يكاد يحصل الفرق بين
القهقهة والتبسم، ولابين البكاء لأمر الدنيا ولخوف الله - تعالى - حيث يكون
أحدهما قاطعا دون الآخر، وليس ذلك إلا باعتبار أخذ عدم أحدهما فيها
دون الآخر، فحينئذ لا محيص من اعتبار الهيئة الاتصالية واعتبار تقيد الصلاة
بعدم القواطع، فلا بد من أخذ أحد الضدين شرطا والآخر قاطعا.
قلت: ما يكون ممتنعا هو جعل أحد الضدين شرطا لشئ والآخر قاطعا له،
بحيث يكون اعتبار كلا الضدين وجودا وعدما في نفس المركب، ضرورة
لزوم اللغوية.
وأما اعتبار عدم شئ في شئ، واعتبار المتقيد بذلك في شئ آخر،
فلا إشكال فيه، ففي باب الطهارة يكون عدم الأحداث المعهودة معتبرا فيها
حدوثا وبقاء، فتنتزع منه القاطعية وتقع الضدية بينهما بهذا الاعتبار، لكن
357

ما جعل معتبرا في الصلاة هو الطهارة لاعدم الأحداث، فلا تكون الصلاة إلا
مشروطة بالطهارة.
وقس على ذلك اعتبار الهيئة الاتصالية في الصلاة، فإنها هي المعتبرة
فيها، وأما القواطع فأعدامها معتبرة في تحقق الهيئة الاتصالية، لافي
الصلاة في عرض الهيئة، فعدم القواطع قيد شرط الصلاة لاقيدها، فلا يكون
ممتنعا.
إن قلت: ظاهر أدلة القواطع أنها قاطعة للصلاة نفسها، ضرورة أن قوله:
(الالتفات إذا كان بكله يقطع الصلاة) (1) وقوله: (لا يقطع الصلاة إلا أربع: الخلاء،
والبول، والريح، والصوت) (2) ظاهران في كونها قاطعة لنفس الصلاة، لا أنها
قاطعة لشرطها وينسب القاطعية إليها بالعرض والمجاز.
قلت: - مضافا إلى أن ما نتعرض [له] هاهنا إنما هو تصورات في مقام
الثبوت، ولاستفادة شرائط الصلاة وقواطعها محل آخر - إنه بعد إثبات كون
الصلاة ذات هيئة إتصالية بالارتكاز القطعي من المتشرعة ودلالة أدلة القواطع،
لا مجال لهذا الإشكال، لأن المركب كما أنه موجود بعين وجود أجزائه
وشرائطه لا بوجود آخر مسبب منهما، كذلك عدمه بنفس عدمهما، لا أن

(1) الاستبصار 1: 405 / 1 باب 244 في الالتفات في الصلاة..، الوسائل 4: 1248 / 3
باب 3 من أبواب قواطع الصلاة، بتفاوت يسير.
(2) الكافي 3: 364 / 4 باب ما يقطع الصلاة، الاستبصار 1: 400 / 1 باب 242 في أن
البول والغائط والريح يقطع الصلاة..، الوسائل 4: 1240 / 2 باب 1 من أبواب قواطع
الصلاة، بتفاوت يسير.
358

عدمه مسبب عن إعدامهما، فانتساب قواطع الهيئة إلى الصلاة لا يوجب
مجازا في اللفظ ولا مخالفة للظواهر.
رابعها: استصحاب الصحة التأهلية للأجزاء بعد وقوع ما يشك في
قاطعيته أو مانعيته (1) ومعنى الصحة التأهلية: أن الأجزاء السالفة تكون لها
حيثية استعدادية للحوق الأجزاء اللاحقة بها، ولم تخرج بواسطة تخلل
ما يشك في قاطعيته عن تلك الحيثية، ولم يبطل الاستعداد بواسطته.
فحينئذ لا يرد عليه ما أورده بعض أعاظم العصر (2): من أنه استصحاب
تعليقي أولا، ولا مجال لجريانه ثانيا، لأن معنى الصحة التأهلية هو أنه
لو انضم إليها البقية تكون الصلاة صحيحة، وهذا المعنى فرع وقوع
الأجزاء السالفة صحيحة، وهذا مما يقطع به، فلا شك حتى يجري
الاستصحاب، لما عرفت أن معنى الصحة التأهلية هو الحيثية الاستعدادية
المعتبرة في الأجزاء السابقة لتأهل لحوق البقية إليها، وهذا أمر مشكوك فيه،
ولا يكون تعليقيا.
نعم يرد على هذا الاستصحاب: أن أصالة بقاء الاستعداد في الأجزاء
السابقة لا يثبت ربط الأجزاء اللاحقة بها وتحقق الصحة الفعلية إلا بالأصل
المثبت.

(1) فرائد الأصول: 289 - 290، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 441
سطر 11 - 22.
(2) فوائد الأصول 4: 232 - 233.
359

المقام الرابع
وهو قيام الدليل على خلاف ما اقتضت القاعدة
فقد قامت الأدلة على بطلان الصلاة بالزيادة:
منها: ما في الكافي بإسناده عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله - عليه
السلام -: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة) (1).
ومنها: ما فيه بإسناده عن زرارة وبكير ابني أعين، عن أبي جعفر - عليه
السلام - قال: (إذا استيقن أنه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها، واستقبل صلاته
استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا) (2).
ومنها غير ذلك.
وبإزائها حديث (لا تعاد):
وهو ما عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر

(1) الكافي 3: 355 / 5 باب من سها في الأربع والخمس..، الوسائل 5: 332 / 2 باب 19
من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(2) الكافي 3: 354 / 2 باب من سها في الأربع والخمس..، الوسائل 5: 332 / 1 باب 19
من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
بكير بن أعين: ابن سنسن الشيباني الكوفي، يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو الجهم، روى
عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام، وروى عنه أبان وجميل بن دراج
وحريز وغيرهم. مات في حياة الصادق عليه السلام. انظر معجم رجال الحديث 3:
352، رجال الكشي 2: 419.
360

- عليه السلام - أنه قال: (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة،
والركوع، والسجود، ثم قال: القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة
الفريضة) (1).
والمهم بيان نسبة الحديثين وما هو بمضمونهما مع حديث (لا تعاد...)
فنقول:
أما ما دل بظاهره على بطلان الصلاة بمطلق الزيادة كالحديث الأول،
وكقوله فيمن أتم في السفر: (إنه يعيد، لأنه زاد في فرض الله) (2) وما ورد في
النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة معللا بأن: (السجود زيادة في المكتوبة) (3)
فالظاهر منها أن كل زيادة في الصلاة موجبة للبطلان، أعم من أن تكون من
سنخ الصلاة كالركعة والركعتين، أو من سنخ الأجزاء كالسجدة والركوع
والقراءة، أو من غيرهما كالتكتف وقول: " امين " وأمثالهما إذا أتى بها بعنوان
الصلاة، فإن [هذه] كلها زيادة في المكتوبة.
واستظهار شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من قوله: (من زاد في
صلاته...) إلخ أنه بمعنى الزيادة التي من سنخ الصلاة، ولا تتحقق إلا بالركعة،

(1) الفقيه 1: 225 / 8 باب 49 في أحكام السهو في الصلاة، التهذيب 2: 152 / 55 باب 9
في تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة، الوسائل 4: 770 / 5 باب 29 من أبواب القراءة
في الصلاة.
(2) الوسائل 5: 532 / 8 باب 17 من أبواب صلاة المسافر، والحديث قد نقل بالمضمون.
(3) الكافي 3: 318 / 6 باب عزائم السجود، الوسائل 4: 779 / 1 باب 40 من أبواب
القراءة في الصلاة.
361

كقوله: " زاد الله في عمرك " (1) منظور فيه، بل الظاهر أن كل زيادة إذا زادت
بعنوان الدخول في الصلاة وكونها جزء منها - جهلا كانت أو عمدا أو سهوا
أو نسيانا - تعد زيادة في المكتوبة.
نعم لو لم يأت [بها] بعنوان الصلاة لم يصدق أنه زاد في صلاته، ولم تدل
مثل هذه الأدلة على بطلانها بها إلا قوله في باب زيادة سجدة العزيمة إنها:
(زيادة في المكتوبة) (2) فإنه يدل على أن الإتيان بأمثالها ولو بعنوان آخر من
الزيادة.
وبالجملة: أن قوله: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة) ظاهر في مطلق الزيادة.
وأما قوله: (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة...) إلخ، فهو وإن كان شموله لمطلق
النقصان والزيادة ولو عن عمد مما لا محذور فيه عقلا، لإمكان أن يكون
الإتيان بالخمسة موجبا لاستيفاء مرتبة من المصلحة مما لايبقى معه مجال
لاستيفاء المصلحة ثانيا بإعادتها مع بقية الأجزاء، لكنه منصرف عن الزيادة
العمدية قطعا، وأما الزيادة من غير العمد فلا إشكال في شموله لها، إلا أن
المحكي عن المشهور اختصاصه بالخلل السهوي (3).

(1) انظر كتاب الصلاة للعلامة الحائري: 312، درر الفوائد 2: 491 و 493.
(2) الكافي 3: 318 / 6 باب عزائم السجود، الوسائل 4: 779 / 1 باب 40 من أبواب
القراءة في الصلاة.
(3) كتاب الصلاة للشيخ الأعظم: 217 سطر 3 - 4، فرائد الأصول: 293
سطر 12، حاشية فرائد الأصول: 159 سطر 5، أوثق الوسائل في شرح الرسائل:
384 سطر 33 - 34، فوائد الأصول 4: 239، نهاية الأفكار - القسم الثاني من
362

وأما محتملات الحديث فكثيرة، لا يبعد كون الأظهر منها أنه لا تعاد
الصلاة من قبل شئ زيادة أو نقيصة إلا من قبل الخمسة زيادة أو نقيصة،
وعدم تصور الزيادة في بعضها لا يضر بالظهور.
ودعوى ظهوره في النقيصة فقط، أو في النقيصة في المستثنى دون
المستثنى منه حتى تصير الزيادة في الخمسة داخلة في المستثنى منه (1).
مدفوعة، ضرورة أن الزيادة في المهية بشرط لا مضرة عرفا بما أنها زيادة فيها
وإن كانت راجعة إلى النقيصة عقلا، فإذا قيل: إن الصلاة أولها التكبير
وآخرها التسليم من غير زيادة ونقيصة، تكون الزيادة مخلة بها عرفا، من غير
توجه إلى أن العقل بحسب الدقة يحكم بأن عدم الزيادة من قيود المأمور به
وترجع الزيادة إلى النقصان، كما يشهد بذلك التعبير في الروايات بالزيادة في
المكتوبة، فإذا قيل: (لا تعاد الصلاة إلا من خمسة) يكون ظهوره العرفي أن
الزيادة والنقيصة الواردتين عليها من قبل غير الخمسة لا توجبان الإعادة،
بخلاف الخمسة فإن زيادتها أو نقيصتها مخلة.
فحينئذ تصير النسبة بين (لا تعاد...) وقوله: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة)
هي العموم من وجه، إن قلنا بأن المستثنى والمستثنى منه جملتان مستقلتان
يقاس كل منهما إلى غيره في مقام التعارض بعد ورود الاستثناء على المستثنى
منه، فتنقلب النسبة، فإن جملة المستثنى منه حينئذ تختص بغير الأركان وتعم

الجزء الثالث: 33 4 سطر 9 - 9 1.
(1) أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 384 سطر 23 - 26.
363

الزيادة والنقيصة، وقوله: (من زاد...) يختص بالزيادة ويعم الأركان وغيرها،
فيقع التعارض بينهما في الزيادة الغير الركنية.
وإن قلنا بأنهما جملة واحدة لهما ظهور واحد تلاحظ النسبة بينها وبين
غيرها بنسبة واحدة ولحاظ واحد، يمكن أن يقال أيضا: بينهما العموم من
وجه، لأن (لا تعاد...) أعم من النقيصة والزيادة، ولا يشمل الزيادة العمدية
انصرافا، وهو بمنزلة التقييد، وقوله: (من زاد...) أعم من العمد وغيره على
الأظهر.
ولو قلنا بأنه منصرف - أيضا - عن العمد، لأن الزيادة العمدية لاتصدر من
المكلف الذي بصدد إطاعة المولى، فيكون منصرفا عنها، والبطلان بسببها إنما
هو بالمناط القطعي أو بدلالة نفس أدلة الأجزاء والشرائط، فتصير النسبة الأعم
المطلق، لأن الموضوع في (لا تعاد...) هو الصلاة بلحاظ جميع الأجزاء
والشرائط، والمحمول كالمردد بين الركنية وغيرها، فحديث (لا تعاد...) كقضية
مرددة المحمول، فيكون الملحوظ فيها كل الأجزاء والشرائط وإن كان حكمها
مختلفا، وقوله: (من زاد...) - أيضا - يشمل كل الأجزاء إلا أنه مختص
بالزيادة، فحينئذ يخصص (لا تعاد...) بالنقيصة، فتبقى الزيادة موجبة للبطلان
بمقتضى الدليل الخاص.
وأما بناء على كون النسبة هي العموم من وجه، فقد يقال: إن حديث
(لا تعاد...) حاكم على قوله: (من زاد...) وعلى سائر الأدلة الدالة على بطلان
الصلاة بالزيادة، كما أنه حاكم على الأدلة المعتبرة للأجزاء والشرائط،
364

فقد ذهب إليه العلامة الأنصاري (1) - قدس سره - وتبعه المحققون (2).
وقيل في وجه حكومته: إن قوله: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة...) إنما
هو بصدد بيان كون الصلاة متقيدة بعدم الزيادة، فهو على وزان الأدلة الدالة على
اعتبار الأجزاء والشرائط، فقوله: (لا تعاد...) ناظر إلى تحديد حدودها بأن
الزيادة والنقيصة السهوية لا توجب الإعادة، فهو حاكم عليها (3).
ولا يخفى ما فيه، لأن قوله: (من زاد في صلاته...) إنما هو متعرض
للزوم الإعادة في صورة الزيادة، وإن كان ملازما لتقيدها بعدم
الزيادة، والحكومة إنما تتقوم بلسان الدليل، ومعلوم أن لسان (لا تعاد...)
ولسان (عليه الإعادة...) واحد، من غير أن يتعرض أحدهما لما لا يتعرض
الآخر.
وبالجملة: ليس فيهما ميزان الحكومة، وفرق بين قوله: " فاتحة الكتاب
- مثلا - جزء الصلاة "، أو " اقرأ في الصلاة " وبين قوله: (من زاد في صلاته فعليه
الإعادة...)، فإن الأول متعرض لاعتبار القراءة فيها من غير تعرض لحال
تركها أو زيادتها، ولسان (لا تعاد...) المتعرض لحال تركها أو زيادتها لعذر
لسان الحكومة. وأما الثاني فهو متعرض لحال الزيادة وأنه يجب الإعادة معها،
ولسانه لسان (لا تعاد...) بعينه.

(1) فرائد الأصول: 293 سطر 12.
(2) درر الفوائد 2: 145، فوائد الأصول 4: 238، أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 384
سطر 35 و 385 سطر 21، نهاية الدراية 2: 294 سطر 8 - 11.
(3) نهاية الدراية 2: 293 سطر 11 - 15.
365

والميزان الذي حققناه في الحكومة - من كون دليل الحاكم متعرضا لعقد
الوضع أو الحمل توسعة أو تضييقا، أو متعرضا لسلسلة العلل أو المعلولات -
لم يكن في المقام، فإن الدليلين هاهنا كل منهما متعرض لما تعرض الآخر،
وينفي أحدهما ما يثبت الآخر مع وحدة الموضوع والمحمول.
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إن حديث (لا تعاد...) أقوى ظهورا من
تلك الأدلة، لقوة ظهوره لأجل الاستثناء، ولأجل اشتمال ذيله على
قوله: (... القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة) لكونه تعليلا
للحكم.
بل يمكن أن يقال: إن لقوله: (السنة لا تنقض الفريضة...) نحو حكومة على
الأدلة، لأن النقض واللا نقض في سلسلة علل الإعادة، فإذا قيل: لا ينقض
الصلاة الزيادة الكذائية تنهدم علة الإعادة.
لكن في تقديم (لا تعاد...) على (من زاد في صلاته) إشكال آخر، وهو
لزوم تخصيص الأكثر منه في الأدلة، فإن في المستثنى من حديث (لا تعاد...)
لا يتصور الزيادة إلا في الركوع والسجود، والزيادة العمدية على فرض دخولها
في تلك الأدلة تكون نادرا.
مضافا إلى إمكان دعوى أن حديث (لا تعاد...) يكون شموله للزيادة
ظهورا ضعيفا، حتى أنكره بعض الفحول وادعى ظهوره في النقيصة (1)
فيحمل الحديث على النقيصة حملا للظاهر على الأظهر، فتبقى الزيادة

(1) درر الفوائد 2: 144 - 145.
366

موجبة للبطلان مطلقا (1). هذا حال (لا تعاد...) مع قوله: (من زاد في صلاته
فعليه الإعادة).
وأما النسبة بينه وبين قوله: (إذا استيقن أنه زاد في صلاته...) إلخ، فهي
العموم من وجه إن اعتبرت بينهما بلحاظ المستثنى منه، فإن (لا تعاد...) أعم
من الزيادة ومختص بغير الخمسة، و (إذا استيقن...) أعم من الخمسة ومختص
بالزيادة.
وإن اعتبرت بلحاظ مجموع المستثنى والمستثنى منه - كما أشرنا إليه
آنفا (2) - فالنسبة هي العموم المطلق، فإن (لا تعاد...) أعم من الزيادة والنقيصة،
ومتكفل بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها، وأعم من السهو وسائر الأعذار،
بل الجهل عن تقصير - أيضا - بحسب الظاهر مع قطع النظر عن الجهات
الخارجية، والحديث مختص بالزيادة، ومثل (لا تعاد...) في سائر الجهات.
فعلى الثاني يخص (لا تعاد...) بالنقيصة، وعلى الأول يقع التعارض
بينهما، وقضية الحكومة قد عرفت حالها، وتقديم (لا تعاد...)
عليه موجب للتخصيص الأكثر، وأما تقديمه على (لا تعاد...) فلا محذور فيه،

(1) ويمكن التخلص عن الإشكال بحمل قوله: (من زاد في صلاته..) على زيادة الركعة أو
الركن - كما ادعى شيخنا ظهورها في الأول (أ) - وهذا أقرب إلى فتاوى الأصحاب، وإن
ضعفناه سابقا (ب) في نفسه. [منه قدس سره]
(أ) انظر صفحة: 361 من هذا الكتاب.
(ب) انظر صفحة: 362 من هذا الكتاب.
(2) انظر صفحة: 363 من هذا الكتاب.
367

إلا إذا صح الإجماع على الملازمة بين مبطلية الزيادة السهوية ومبطلية
النقيصة السهوية، لما يلزم منه صيرورة (لا تعاد...) بلا مورد، لكن الدعوى
غير ثابتة.
ولكن الذي يسهل الخطب أن هذا الحديث قد رواه في الكافي (1)
والتهذيب (2) والاستبصار (3) - على ما في الوافي (4) - كما قدمنا، ورواه في
الوسائل (5) مع زيادة (ركعة) فيه، وكذا رواه في شرح الكافي في باب السهو
في الركوع (6) بالسند المذكور باسقاط بكير بن أعين، والمتن المذكور بزيادة
لفظة (ركعة)، وفي باب من سها في الأربع والخمس (7) رواها عن زرارة
وبكير بلا زيادة لفظ (ركعة) مع تفاوت يسير، مما يطمئن الفقيه بأنهما رواية
واحدة قد سها بعض الرواة فيها بزيادة أو نقص، وفي دوران الأمر بينهما
لا يبعد تقديم أصالة عدم الزيادة.
وبالجملة: من لاحظ الروايتين يطمئن بأنهما واحدة، ولا أقل من أنه

(1) الكافي 3: 354 / 2 باب من سها في الأربع والخمس..
(2) التهذيب 2: 194 / 64 باب 10 في أحكام السهو في الصلاة.
(3) الاستبصار 1: 376 / 1 باب 219 فيمن تيقن أنه زاد في الصلاة.
(4) الوافي 2: 144 باب السهو في أعداد الركعات من أبواب ما يعرض المصلي من
الحوادث.
(5) الوسائل 4: 938 / 1 باب 14 من أبواب الركوع و 5: 332 / 1 باب 19 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة.
(6) الكافي 3: 348 / 3 باب السهو في الركوع، مرآة العقول 15: 187 / 3.
(7) الكافي 3: 354 / 2 باب من سها في الأربع والخمس، مرآة العقول 15: 200 / 2.
368

لايبقى وثوق بالنسبة إليها فتصير مجملة، والقدر المتيقن منها هو زيادة
الركعة، ولا يبعد أن تكون (الركعة) بمعنى الركوع كما أطلقت عليه في
روايات أخر (1) فلا معارضة بينها وبين حديث (لا تعاد...) (2).
وبعض أعاظم العصر - رحمه الله - على ما في تقريرات بحثه (3) قد
ارتكب اشتباها في بيان النسبة بين هذه الرواية و (لا تعاد...) مما لا ينقضي منه
العجب، فراجع.
وأعجب من ذلك ما وقع منه أو من الفاضل المقرر - رحمهما الله - في
ذيل قوله: " تكملة "، فإنه بعد بيان ما صدق عليه الزيادة وما لم يصدق قال
ما حاصله: إن الظاهر من التعليل في بعض الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في
الصلاة من أن: (السجود زيادة في المكتوبة) (4) أنه لا يعتبر في صدقها عدم
قصد الخلاف، بل الإتيان بمطلق مسانخ أفعال الصلاة زيادة.
ولكن يمكن أن يقال: إن المقدار المستفاد منه صدق الزيادة على ما لا يكون

(1) التهذيب 2: 148 / 38 باب في تفصيل ما تقدم ذكره في الصلاة، تفسير القمي 1:
42، الوسائل 4: 934 - 935 باب 11 من أبواب الركوع و 4: 928 / 8 باب 6 من
أبواب الركوع.
(2) وظني أن الكليني لم يرو الرواية تارة مع الزيادة واخرى مع النقيصة، بل رواها مع
الزيادة، ولما احتمل في قوله: (ركعة) أن يكون بمعنى الركوع أثبتها في باب سهو
الركوع، ولما كان ظاهرها زيادة الركعة أثبتها في السهو في الركعات. [منه قدس سره]
(3) فوائد الأصول 4: 239 - 240.
(4) الكافي 3: 318 / 6 باب عزائم السجود، الوسائل 4: 779 / 1 باب 40 من أبواب
القراءة في الصلاة.
369

له حافظ وحدة ولم يكن بنفسه من العناوين المستقلة، وأما ما كان كذلك
كإتيان صلاة في أثناء صلاة الظهر، فالظاهر عدم اندراجه فيه، لأن السجود
والركوع المأتي بهما لصلاة أخرى لادخل لهما بصلاة الظهر، ولا تصدق
عليهما الزيادة فيها.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه: ما ورد في بعض الأخبار (1) أنه لو ضاق وقت
صلاة الآيات، وخاف المكلف أنه لو أخرها إلى فراغ اليومية يفوت وقتها،
صلاها في أثناء الصلاة اليومية، ويبني عليها بعد الفراغ من الآيات من غير
استئناف، وليس ذلك إلا لعدم صدق الزيادة، فيمكن التعدي إلى عكس
المسألة بإتيان الصلاة اليومية في أثناء الآيات في ضيق الوقت، فإن بطلان
الآيات إما للزيادة فالمفروض عدم الصدق، وإما لفوات الموالاة فلا ضير فيه إذا
كان لأجل واجب أهم، وعلى هذا يبتني جواز الإتيان بسجدتي السهو من
صلاة في أثناء صلاة أخرى (2) انتهى.
وفيه أولا: أن كون الشئ ذا عنوان مستقل لادخل له بصدق الزيادة وعدم
صدقها، ولا مجال للتشكيك في أن العرف يفهم من التعليل الوارد في باب
النهي عن قراءة العزيمة من أن (السجدة زيادة في المكتوبة) أن الإتيان بصلاة
مشتملة على التكبير والركوع والسجود والسلام أنها زيادة فيها.

(1) انظر الفقيه 1: 346 / 22 باب 81 في صلاة الكسوف والزلازل، الوسائل 5: 147 -
148 / 2 - 4 باب 5 من أبواب صلاة الكسوف.
(2) فوائد الأصول 4: 242 - 243.
370

نعم لولا التعليل الوارد في هذه الرواية يمكن أن يقال: إن الإتيان بشئ
بغير عنوان الصلاة لا يعد من الزيادة - كما أشرنا إليه سابقا (1) - كان له عنوان
مستقل أو لم يكن.
وثانيا: أن سجدة العزيمة - أيضا - لها عنوان مستقل ولها حافظ وحدة، فلم
صارت الصلاة عنوانا مستقلا دون سجدة العزيمة، مع أنها عنوان مستقل
مسبب عن تلاوة آية السجدة؟!
وثالثا: ما الفرق بين سجدة العزيمة وسجدتي السهو؟! حيث يظهر منه
عدم إبطالهما الصلاة، مع أنهما أشبه بعدم الاستقلال.
ورابعا: أن ما ورد في بعض الأخبار إنما هو في عكس المسألة، وهو ما إذا.
ضاق وقت الفريضة اليومية في أثناء صلاة الآيات، فدل الدليل على إقحامها
في وسطها والبناء عليها بعد الفراغ من اليومية، وقد أفتى الأصحاب على
طبقها (2) ولا محذور فيه، ولكن لا يجوز إسراء الحكم إلى إقحام الآيات في
اليومية، أو إقحام يومية في يومية أخرى، لجواز أن يكون للآيات خصوصية
بها جاز إقحام اليومية فيها دون العكس.
وخامسا: أن ما ذكره - من أن البطلان إما للزيادة فلا تصدق، وإما لفوات
الموالاة فلا ضير، لأهمية الفريضة - ممنوع ولو على اشتباهه، لأن أهمية

(1) انظر صفحة: 362 من هذا المجلد.
(2) مدارك الأحكام 1: 234 سطر 12 - 13، رياض المسائل 1: 201 سطر 35 - السطر
الأخير.
371

الفريضة لا توجب سقوط الموالاة إذا دل الدليل على اعتبارها مطلقا، بل إنما
توجب تقديم الأهم على المهم وإتيانه خارج الوقت، إلا أن يسقط لأجل
أهمية الوقت.
نعم لو دل الدليل على طبق اشتباهه لا يبعد إلغاء الخصوصية عرفا بالنسبة
إلى سائر الفرائض.
ولا يخفى أن أمثال هذه الاشتباهات العظيمة من الأعاظم إنما هي
للاعتماد على الحافظة والاغترار بها، وليكن المحصلون على ذكر من أمثاله،
ولا يعتمدون في الأحكام الشرعية على حفظهم، فإنه لا يتفق للإنسان
العصمة من الزلل إلا من عصمه الله.
البحث في تعذر الجزء أو الشرط
قوله: الرابع: أنه لو علم بجزئية شئ... إلخ (1).
محصل الكلام في المقام أنه قد يكون للدليل الدال على المركب إطلاق
دون دليل اعتبار الجزء أو الشرط، وقد يكون بعكس ذلك، وقد لا يكون لواحد
منهما إطلاق، وقد يكون لكليهما.
لا إشكال في الأولين، لأنه على الأول منهما يجب الإتيان بالمركب الفاقد
للجزء أو الشرط بحكم إطلاق دليله، وعلى الثاني لا يجب، لتعذره بتعذر
جزئه أو شرطه.

(1) الكفاية 2: 245.
372

وأما إذا كان لكلا الدليلين إطلاق، فإما أن يكون لأحدهما تقدم على
الآخر بنحو الحكومة أو غيرها، أولا.
فعلى الأول: فإن كان التقدم لدليل المركب يكون حكمه كإطلاقه، أو
لدليل الجزء أو الشرط فكإطلاق دليلهما.
وأما ما يقال: من أن إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيد،
كحكومة إطلاق القرينة على ذيها (1) فممنوع في المقيس والمقيس عليه.
أما في باب قرائن المجاز، فلأن التقدم ليس على نحو الحكومة غالبا،
بل من باب تقديم الأظهر على الظاهر، والفرق بين البابين محقق في
محله (2).
وأما فيما نحن فيه، فلأن دليل المركب قد يكون حاكما على دليل اعتبار
الجزء أو الشرط، كقوله: (الصلاة لا تترك بحال) بالنسبة إلى قوله: (إقرأ) أو
(الركوع جزء الصلاة) مثلا.
لا يقال: المركب ينتفي بانتفاء جزئه، وكذا المقيد بانتفاء قيده، فلا تكون
الصلاة بلا قراءة أو ركوع أو ستر صلاة، فلا يكون دليل المركب حاكما على
دليلهما، بل العكس أولى.
فإنه يقال: المفروض في المقام هو القول بالأعم في باب المهيات المركبة،
وإلا لاوجه للتمسك بالإطلاق، فالفاقد لهما صلاة، وقوله: (الصلاة لا تترك

(1) فوائد الأصول 4: 250.
(2) انظر رسالة الاستصحاب ضمن كتاب (الرسائل) للسيد الإمام قدس سره: 37 2 - 39 2.
373

بحال) (1) حاكم على أدلتهما، ووجه الحكومة أن دليل المركب تعرض لما
لا تتعرض له أدلة اعتبار الجزء والشرط، وهو مقام الترك المتأخر عن اعتبارهما،
وقد ذكرنا في محله أنه داخل في باب الحكومة.
نعم قد يكون دليل اعتبارهما حاكما على دليل المركب، كقوله:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (2) و (لا صلاة إلا بطهور) (3) فإنهما حاكمان
على قوله: (الصلاة لا تترك بحال) فضلا عن غيره من أمثال قوله:
* (أقم الصلاة) * (4).
وأما لو لم يكن لأحد الدليلين حكومة، أو تقدم على الآخر مع قطع النظر
عن باب الترجيح، يكون الحكم كما لو لم يكن لهما إطلاق.
ولعل (5) إلى ما ذكرنا - من التفصيل بين ما إذا كان دليل اعتبارهما مثل
قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) أو (لا صلاة إلا بطهور) وبين غيرهما مما
لا يكون لدليل اعتبارهما حكومة على دليل المركب - يرجع ما نسب من

(1) انظر جواهر الكلام 5: 232، مستمسك العروة الوثقى 4: 382.
(2) عوالي اللآلي 1: 196 / 2 و 2: 218 / 13، مستدرك الوسائل 1: 274 / 5 باب 1 من
أبواب القراءة في الصلاة.
(3) الفقيه 1: 35 / 1 باب 14 فيمن ترك الوضوء..، دعائم الاسلام 1: 100، الوسائل 1:
256 / 1 باب 1 من أبواب الوضوء.
(4) الإسراء: 78.
(5) وجه رجوعه إليه: أنه في صورة حكومة دليل اعتبارهما يصير المركب متعذرا، فيسقط
الأمر به، وفي صورة عدم الحكومة يكون قوله: (الصلاة لا تترك بحال) محكما، فيجب
الإتيان به. [منه عفي عنه]
374

التفصيل إلى الوحيد البهبهاني (1) - قدس سره - على ما في تقريرات بعض
أعاظم عصرنا، لا إلى ما ذكره من التوجيه، فإنه غير وجيه.
قال ما محصله: إن مقتضى إطلاق دليل القيد سقوط الأمر بالمقيد عند
تعذر القيد مطلقا، سواء يستفاد القيد من مثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) أو
من مثل: الأوامر والنواهي الغيرية، وقد نسب التفصيل بينهما إلى الوحيد
البهبهاني، فذهب إلى سقوط الأمر بالمقيد عند تعذر القيد في الأول دون
الثاني.
ويمكن توجيهه: بأن الأمر الغيري مقصور بالتمكن من متعلقه، لاشتراط
كل خطاب بالقدرة عليه، فلابد من سقوط الأمر بالقيد عند عدم التمكن
منه، ويبقى الأمر بالباقي على حاله، وهذا بخلاف القيدية المستفادة من مثل
قوله: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، والطهور " مما يفيد القيدية بلسان الوضع
لا التكليف، فلا يشترط فيه القدرة، هذا غاية ما يمكن توجيهه.
ولا يخفى ما فيه، لأن القدرة معتبرة في متعلقات التكاليف النفسية،

(1) الوحيد البهبهاني: هو الإمام المحقق الشيخ محمد باقر بن محمد أكمل الإصفهاني
البهبهاني، ركن الطائفة وعمادها، وأورع نساكها وعبادها، الشهير بالأستاذ الأكبر
وبالوحيد، ولد سنة 1118 ه‍ في مدينة إصفهان، انتهت إليه في عصره زعامة الشيعة
ورئاسة المذهب الإمامي، خرج من معهد درسه جم من أعلام الدين وشيوخ الطائفة
منهم السيد المقدس الأعرجي، والشيخ الأكبر جعفر كاشف الغطاء، والسيد مهدي بحر
العلوم، توفي سنة 1205 ه‍ ودفن في حرم الإمام الحسين عليه السلام. انظر الكنى
والألقاب 2: 99، الكرام البررة: 171، مستدرك الوسائل 3: 384.
375

لكونها طلبا مولويا وبعثا فعليا، بخلاف الخطابات الغيرية، فإنه يمكن أن يقال:
إن مفادها ليس إلا الإرشاد م إلى دخل متعلقاتها في متعلق الخطاب النفسي،
كالخطابات الغيرية في باب الوضع والأسباب والمسببات، حيث إن مفادها
ليس إلا دخل المتعلق في حصول المسبب، ففي الحقيقة الخطابات الغيرية
مطلقا بمنزلة الإخبار من دون بعث وتحريك حتى تقتضي القدرة على المتعلق.
ولو سلم الفرق بين الوضعيات والتكليفيات، وأن الخطاب في الثانية
يتضمن البعث، فلا إشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات ملاك البعث
المولوي، وإلا لخرجت عن كونها غيرية، بل ملاك البعث المولوي قائم
بالمجموع، فالقدرة معتبرة فيه لافيها، فلا فرق بين القيدية المستفادة من مثل:
(لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) أو المستفادة من الأمر والنهي الغيري (1) انتهى.
وفيه أولا: أنه لو أراد الوحيد البهبهاني - رحمه الله - أن يفصل بين
الوضعيات والتكليفيات، فلا وجه لاختصاصه بمثل المثالين مما لهما جهة زائدة
على إفادة الوضع، فالظاهر منه تحقق نحو خصوصية في مثلهما دون غيرهما.
تأمل.
وثانيا: أن ما ذكره - من أن الخطابات الغيرية تكون بمنزلة الإخبار بالجزئية
أو الشرطية، ولا بعث فيها بوجه - مما تكون الضرورة على خلافه، فإن الأوامر
مطلقا نفسية كانت أو غيرها مولوية أو إرشادية، إنما هي للبعث والتحريك
نحو المتعلق من غير فرق بينها من هذه الجهة.

(1) فوائد الأصول 4: 251 - 253.
376

إنما الفرق بينها من جهات أخرى: فإن الغرض من البعث النفسي
المولوي الوصول إلى المطلوب الذاتي، ومن البعث الغيري إفادة دخالته في
المطلوب الذاتي جزء أو شرطا، ومن البعث الإرشادي هو الإرشاد إلى
ما يحكم به العقل، أو الإرشاد إلى دخالته فيما هو مطلوب المكلف، كأوامر
الأطباء التي هي إرشاد إلى دخالة المأمور به في إرجاع الصحة، فجميع الأوامر
والنواهي مشتركة في كونها بعثا وتحريكا نحو المتعلقات كما يحكم به
الوجدان، ويظهر بالمراجعة إلى موارد استعمال الأوامر والنواهي الإرشادية
والغيرية، ولا إشكال في عدم الفرق في اعتبار القدرة في المتعلقات بين أنحاء
البعث والتحريك.
فما ذكره أخيرا - من أنه لا إشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات الغيرية
ملاك البعث المولوي، وإلا لخرجت عن كونها غيرية - فيه مالا يخفى، فإنه
بعد تسليم أن التكاليف الغيرية - أيضا - تتضمن البعث والتحريك، لابد من
تسليم اعتبار القدرة في متعلقاتها، فإن الملاك في اعتبارها ليس المولوية، بل
نفس البعث والتحريك.
فتحصل مما ذكرنا: أن كلا من توجيهه لكلام الوحيد وإشكاله عليه ليس
على ما ينبغي.
ثم إن محل البحث في المسألة إنما هو في موردين:
أحدهما: إذا لم يكن لدليل المركب ولا لدليل اعتبار الجزء أو الشرط
إطلاق.
377

وثانيهما: ما إذا كان لهما إطلاق، ولكن لا يكون أحد الإطلاقين مقدما
على الآخر بنحو من التقدم.
فالكلام إنما يقع في مقامين: أحدهما: في مقتضى الأصل العقلي
والقاعدة الأولية، وثانيهما: في مقتضى القواعد الأخر:
المقام الأول
في مقتضى الأصل العقلي في المقام
فالحق فيه جريان البراءة، سواء كان العجز من أول زمن التكليف، كمن
لا يقدر على القراءة من أول بلوغه، أو كان طارئا في واقعة واحدة، كما إذا
كان في أول الظهر قادرا على إتيان الصلاة تامة ثم طرأ عليه العجز عن جزء
أو شرط في الوقت، أو في واقعتين كالقادر في الأيام السابقة الطارئ عليه
العجز في يومه، لأن الشك في كلها يرجع إلى أصل التكليف:
أما في الأول: فواضح.
وأما في الثالث: فلأن التكليف في الايرلام السابقة لم يكن حجة عليه
بالنسبة إلى يومه، فهو في هذا اليوم شاك في توجه التكليف إليه.
وأما في الثاني: فلأن التكليف وإن توجه إليه في أول الوقت، لكن المتيقن
منه هو التكليف بالصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط، وهو ساقط للعجز
عنه، والتكليف بالفاقد للجزء أو الشرط مشكوك فيه من أول الأمر، فلا يكون
الشك في السقوط، بل يكون في الثبوت.
378

والقياس بالشك في القدرة - حيث يحكم العقل فيه بالاحتياط - مع
الفارق، لأن [في] مورد الشك في القدرة يكون التكليف الفعلي من قبل
المولى معلوما يشك في العجز عن إتيانه، وفيما نحن فيه يكون المعلوم هو
الجزئية في حال القدرة، وفي حال العجز يشك في جزئيته، فالعجز عن الجزء
معلوم، والتكليف بالفاقد مشكوك فيه مع القدرة عليه، فلا يقاس بالشك
فيها.
كما أن القياس بالعلم الإجمالي الذي طرأ الاضطرار على بعض أطرافه،
حيث يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية مع العجز عن الموافقة القطعية
- أيضا - مع الفارق، لعدم العلم الإجمالي في المقام، وإنما فيه علم تفصيلي
بوجوب الصلاة التامة الأجزاء والشرائط، وشك بدوي في وجوب الفاقدة
لبعضها، فلا إشكال في جريان البراءة العقلية.
كما لا إشكال في عدم جريان مثل حديث الرفع لإثبات وجوب البقية
إذا لم يكن لدليل المركب ولا لدليل اعتبارهما إطلاق، لأن رفع الجزئية
أو الشرطية لا يفيد وجوب البقية، ووجوبها لم يكن مفاد دليل الرفع،
لأن مفاده ليس إلا الرفع لا الإثبات، وهذا غير كونه خلاف المنة، لأن فرض
مخالفة المنة إنما هو بعد فرض جريانه في ذاته، والحال أن إثبات الحكم
ليس مفاده.
نعم إذا كان للدليلين إطلاق من غير تقدم لأحدهما على الآخر، يمكن
رفع الجزئية بالحديث، والتمسك بإطلاق دليل المركب لإثبات وجوب البقية،
379

لرفع التعارض بينه وبين دليل الجزء ببركة حديث الرفع وحكومته، وليس هذا
خلاف المنة حتى لا يجري الحديث، لأن موافقة المنة ومخالفتها إنما تلحظان
في مجرى الحديث، ورفع الجزء حين الاضطرار منة، وإثبات وجوب البقية
ليس بمفاده، ولا من لوازمه العادية أو العرفية أو العقلية، بل لازمه رفع
التعارض، ومع رفعه يكون إثبات الحكم مفاد دليل المركب.
هذا، لكن الحديث إنما يجري في الاضطرار العادي، وأما الاضطرار
العقلي فيمكن أن يقال: إنه لا يكون مجرى الحديث، لأن العقل يحكم
بسقوطه. تأمل (1).
المقام الثاني
مقتضى سائر القواعد
فربما يتمسك بالاستصحاب لوجوب ما عدا المتعذر، وبقاعدة الميسور.
أما الاستصحاب فيقرر بوجوه:
أحدها: استصحاب القسم الثالث من الكلي (2).

(1) ثم إن ما ذكرنا إنما هو على فرض جريان حديث الرفع في الاضطرار على الترك، وأما
على عدمه فلا، وجريان قوله: (.. ما لا يعلمون..) وإن كان لا مانع منه ولا فرق فيه بين
الموارد، لكنه لا يفيد في المقام على الظاهر، ويشكل القول بحكومته على دليل الجزء،
ومع تعارضه مع دليل المركب حتى يبقى دليل المركب قابلا للتمسك به لإثبات وجوب
البقية. [منه قدس سره]
(2) الكفاية 2: 49 2.
380

إما بأن يقال: إن البقية كانت واجبة بالوجوب الغيري حال وجوب ال‍ وقد ارتفع، وشك في حدوث الوجوب النفسي لها مقارنا لزواله، فالجامع
بينهما كان متيقنا وشك في ارتفاعه (1).
أو بأن يقال: إن البقية كانت واجبة بالوجوب الضمني النفسي،
وقد ارتفع، وشك في حدوث الواجب النفسي الاستقلالي، فالجامع بينهما
كان متيقن الوجود بوجود مصداقه، ومشكوك فيه لأجل الشك في
حدوث مصداقه الآخر (2).
ويرد عليهما: أن الجامع بين الوجوبين لا يكون حكما ولا موضوعا ذا حكم،
فلا يجري فيه الاستصحاب، أما عدم كونه موضوعا فواضح، وأما عدم كونه
حكما فلأن الحكم المجعول هو كل واحد من الوجوبين، أي ما هو بالحمل
الشائع وجوب وحكم، وأما الجامع بينهما فهو أمر انتزاعي غير متعلق للجعل،
فبعدما حكم الشارع بوجوب الصلاة ووجوب الصوم - مثلا - ينتزع العقل
منهما أمرا مشتركا جامعا بينهما من غير تعلق جعل به، فالحكم هو مصداق
الجامع لا نفسه.
وإن شئت قلت: إن الجامع بنعت الكثرة حكم شرعي، وبنعت الوحدة
لم يكن حكما ولا مجعولا، فلا يجري فيه الاستصحاب.
هذا مضافا إلى أن الوجوب الغيري للأجزاء مما لا محصل له كالوجوب

(1) فرائد الأصول: 94 2 سطر 6 - 7.
(2) انظر فرائد الأصول: 397 - 398.
381

النفسي لها أيضا، أما الأول فواضح، وأما الثاني فسيأتي الكلام فيه.
الثاني: استصحاب الوجوب النفسي الشخصي بدعوى المسامحة العرفية
في موضوعه، فإن تعذر بعض أجزاء المركب لا يضر به عرفا، كما إذا كان
زيد واجب الإكرام فقطعت يده أو رجله فشك في وجوب إكرامه، فإنه
لا إشكال في استصحاب الوجوب (1).
وفيه أولا: أن قياس العناوين الكلية بالموجود الخارجي مع الفارق، فإن
كل عنوان كلي مع فقدان قيد أو جزء أو زيادة قيد أو جزء يصير عنوانا
مغايرا للأول عرفا، فالإنسان العالم غير الإنسان الغير العالم، والماء المتغير
غير الماء الغير المتغير، والصلاة مع السورة غير الصلاة بغيرها... وهكذا،
وأما الأمور الموجودة في الخارج فقد يكون فقدان أمر أو أمور منه، أو
زيادة صفة أو جزء عليه، لا يوجب اختلاف الشخصية والهذية مما تعتبر في
الاستصحاب.
فإذا وجب إكرام زيد، أو تنجس الكر بالتغير، ثم زال بعض أجزاء زيد أو
أوصافه، وزال تغير الماء، وشك في بقاء الحكم، فلا إشكال في جريان
الاستصحاب، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها، وذلك لبقاء الهوهوية
عرفا، وهذا بخلاف العناوين الكلية الغير المتحققة، كالصلاة الكلية المركبة
من الأجزاء والشرائط، فإن رفع جزء أو قيد منها موجب لتبدل الموضوع إلى

(1) فرائد الأصول: 294 سطر 8 - 10 و 397 سطر 7 - 12.
382

موضوع آخر عرفا.
وثانيا: أن ما يقال في الاستصحاب من أن تبدل بعض الحالات لا يوجب
تغير الموضوع، إنما يكون فيما إذا تعلق حكم بعنوان وشك في كونه واسطة
في الثبوت أو في العروض، وإن شئت قلت: شك في أن العنوان دخيل في
الحكم حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط، فيستصحب مع زوال العنوان، وأما إذا
علم أن العنوان دخيل في الحكم ويكون جزء للموضوع، فلا معنى لجريان
الاستصحاب. وما نحن فيه من قبيل الثاني، فإنا نعلم أن الأمر متعلق
بالمركب بما له من الأجزاء، فمع انتفاء جزء منه ينتفي الحكم المتعلق بالمركب
بالضرورة، فلا معنى للشك في بقاء شخص الحكم.
ولا يمكن أن يقال: إن وجود الجزء المفقود وعدمه سواء لدى العرف، فإنه
نظير الحالات المتبادلة، نظير استصحاب الكرية فيما نقص منه مقدار فشك
في بقائه على الكرية، وذلك لأن الجزء بالنسبة إلى المركب - بعد تسليم كونه
جزء - لا يكون إلا مقوما، لامن قبيل الحالات، وقياسه باستصحاب الكرية مع
الفارق، لأن دخالة المقدار المفقود في الكرية مشكوك فيها، لاحتمال كون
الكر هو البقية، فيكون المقدار الناقص كالحجر جنب الإنسان، وأما جزء
المركب فدخالته في تعلق الحكم به معلومة، كما أن فقدان المركب بفقدان
بعض الأجزاء كذلك، كما أن رفع الحكم برفع موضوعه كذلك، فلا مجال
لدعوى الشك في المقام.
فتحصل مما ذكرنا: أنه لا مجال لاستصحاب الحكم الشخصي من باب
383

المسامحة العرفية في الموضوع.
الثالث: استصحاب الوجوب النفسي الشخصي أيضا، بأن يقال: إن
البقية واجبة بالوجوب النفسي، ونشك في ارتفاعه، لاحتمال أن
تكون الجزئية مقصورة على حال التمكن منه، فيبقى وجوب الباقي على
حاله (1).
وفيه: أنه لا يعقل أن يتعلق طلب شخصي أو إرادة شخصية بالمركب التام
والناقص، وتعدد المطلوب موجب لتعدد الطلب والإرادة، فيتعلق طلب وإرادة
على التام لمن يقدر عليه، وطلب آخر وإرادة أخرى على الناقص لمن لا يقدر
عليه، ولا يعقل بقاء الطلب المتعلق بالتام مع فقد جزئه، فلا مجال
لاستصحاب الحكم الشخصي.
الرابع: استصحاب الحكم الشخصي النفسي أيضا، بأن يقال إن
الأجزاء الباقية واجبة بعين الوجوب المتعلق بالمركب، فإن وجوبه ينبسط على
الأجزاء بالأسر، فإذا زال انبساطه عن الجزء المتعذر يشك في زوال انبساطه
عن سائر الأجزاء، فيستصحب بلا مسامحة في الموضوع ولا في
المستصحب (2).
وفيه مالا يخفى:
أما أولا: فلأن انبساط الوجوب على الأجزاء مما لا يرجع إلى محصل، لأن

(1) فرائد الأصول: 397 سطر 12 - 15.
(2) فوائد الأصول 4: 558 - 560.
384

الإرادة أمر بسيط تتعلق بالمركب في حال الوحدة واضمحلال الأجزاء
وفنائها في صورته الوحدانية، فتعلق الإرادة بالمركب من قبيل تعلق واحد
بواحد لا واحد بكثير، لا بمعنى كون الأجزاء من قبيل المحصلات له، بل هي
عينه في صورة الوحدة، فلا معنى لانبساط الإرادة البسيطة على الأجزاء
وتجزئها بتبعها، ولا تعلق إرادات بها.
وكذا الحال في الوجوب والبعث الناشئ عنها، فإنه - أيضا - واحد متعلق
بواحد من غير قبول تجزئة ولا انبساط، فلا يبعث الأمر إلا إلى نفس المركب
في حال رؤية الوحدة، ولا يتعلق الوجوب إلا به في هذا الحال.
نعم البعث إلى المركب عين البعث إلى الأجزاء في حال الوحدة من غير
تجزئة وتكثير، وقد بسطنا القول فيه في مبحث الأقل والأكثر (1) فلا معنى
لرفع الوجوب عن جزء وبقائه للبقية.
وثانيا: لو سلم كونه منبسطا على الأجزاء انبساط العرض على موضوعه،
لكن الوجوب المتعلق بالأجزاء تبع لوجوب المركب، ولا يعقل بقاء الوجوب
على المركب مع انتفاء بعض أجزائه، فالوجوب الشخصي المتعلق بالمركب
ينتفي بالضرورة، وبانتفائه ينتفي الوجوب الضمني التبعي المتعلق بالأجزاء،
فلا معنى للشك في بقائه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الاستصحاب مما لا مجرى له في
بقية الأجزاء.

(1) انظر صفحة: 278 من هذا المجلد.
385

في جريان قاعدة الميسور
وأما القاعدة، فقد يقال: إن وجوب الإتيان بالبقية هو مقتضى النبوي
المشهور: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم) (1) والعلويين المشهورين:
(الميسور لا يسقط بالمعسور) (2) و (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (3) فلا بد من بيان
حدود دلالتها مع الغض عن ضعف إسنادها، وعدم جبرها باستناد المتأخرين
عليها مع عدم ذكرها في كلام المتقدمين على ما ذكر (4).
في دلالة النبوي على المقام
أما النبوي فمع قطع النظر عن صدره المروي في قضية الحج، فأظهر
احتمالاته أنه إذا أمرتكم بشئ أعم من المركب ذي الأجزاء أو الكلي ذي
الأفراد، فأتوا منه كل ما كان في استطاعتكم.
وما يقال: إن نسبة الأفراد إلى الكلي ليست نسبة البعض إلى الكل،
والظاهر من لفظة " من " هو كونها تبعيضية، فلا بد من حمله على المركب

(1) عوالي اللآلي 4: 58 / 206، مجمع البيان 2: 250 في ذيل آية: 101 من سورة
المائدة.
(2) عوالي اللآلي 4: 58 / 205، باختلاف يسير.
(3) عوالي اللآلي 4: 58 / 207.
(4) أوثق الوسائل في شرح الرسائل: 388 سطر 18 - 21.
386

دون الأعم (1).
فمردود، لأن معنى كون لفظة " من " تبعيضية ليس كونها مرادفة للفظ
" بعض " فإنه ضروري البطلان، بل المراد أنه قد ينطبق على ما هو بعض
المركب، فليس معنى " أكلت من السمكة " أنه أكلت بعضها، كما يظهر
بالمراجعة إلى موارد استعمالاتها في العربية ومرادفها في الفارسية، ألا ترى أن
قوله: " البيع الكذائي من طبيعة البيع " و " إن زيدا من طبيعة الإنسان " ليس
تجوزا، ولو قال: " إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة فأتوا منها كل فرد يكون في
استطاعتكم " ليس مرتكبا لخلاف الظاهر.
وإن أبيت عن ذلك يمكن أن يقال: إن الطبيعة في نظر العرف بمنزلة مخزن
يخرج منه الأفراد، فيكون منطبقا على التبعيض بالحمل الشائع عرفا، فحينئذ
يكون قوله: (إذا أمرتكم بشئ...) أعم من المركب والطبيعة، ولا داعي
لاختصاصه بأحدهما.
ومنه يعرف النظر في كلام بعض أعاظم العصر - من أن إرادة الأعم
توجب استعمال لفظة " من " في الأكثر، لعدم الجامع بين الأجزاء والأفراد،
ولحاظ الأجزاء يباين لحاظ الأفراد، ولا يصح استعمال كلمة " من " في الأعم
وإن صح استعمال لفظة " شئ " في الأعم من الكل والكلي (2) - لما عرفت
من أن لفظة " من " ليست مرادفة للبعض، بل يكون معناها أن ما بعدها مقتطع

(1) نهاية الدراية 2: 298 سطر 24 - 26.
(2) فرائد الأصول 4: 254 - 255.
387

مما قبلها بنحو من الاقتطاع، أو يكون ما قبلها مخزنا لما بعدها كالطبيعة
بالنسبة إلى الأفراد عرفا. هذا كله مع قطع النظر عن صدره.
وأما بالنظر إليه فالظاهر منه إرادة الأفراد، لا الأجزاء ولا الأعم منهما،
لمخالفتهما لسوق الحديث، فإن الظاهر منه أن إعراضه عن عكاشة أو سراقة (1)
واعتراضه - صلى الله عليه وآله - عليه، لمكان أن العقل يحكم بأن الطبيعة إذا
وجبت يسقط وجوبها بإتيان أول مصداق منها.، فبعد هذا الحكم العقلي
لا مجال للسؤال والإصرار عليه، ولذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم - بناء
على هذا النقل: (ويحك، ما يؤمنك أن أقول: نعم؟! والله لو قلت: نعم،
لوجب) (2) أي في كل سنة.
وأما مع عدم قوله: (نعم) فيكون على طبق حكم العقل، وهو السقوط
بإتيان أول المصاديق، فقوله: (إذا أمرتكم بشئ...) - بعد هذا السؤال والجواب -
قاعدة كلية مطابقة لحكم العقل من السقوط بأول المصاديق، فحينئذ تكون

(1) سراقة: هو ابن مالك بن جعشم المدلجي الكناني أبو سفيان، له صحبة، روى عن النبي
صلى الله عليه وآله، وعنه جابر بن عبد الله، وابن عباس، والحسن وغيرهم، مات في
صدر خلافة عثمان سنة 24 ه‍ وقيل إنه مات بعد عثمان. انظر التاريخ الكبير للبخاري
4: 208، تهذيب التهذيب 3: 456، تقريب التهذيب 1: 284.
عكاشة: هو أبو محصن عكاشة بن محصن الأسدي حليف قريش، الصحابي المعروف،
روى عنه أبو هريرة، وابن عباس وغيرهما، قتل في خلافة أبي بكر سنة 12 ه‍.
انظر سير أعلام النبلاء 1: 307، تهذيب الأسماء واللغات 1: 338، الجرح والتعديل
للرازي 7: 39.
(2) انظر مجمع البيان 2: 250 ذيل آية: 101 سورة المائدة.
388

لفظة (ما) في قوله: (ما استطعتم) مصدرية زمانية، أي إذا أمرتكم بشئ فأتوا
منه زمان استطاعتكم، وليست موصولة حتى يكون النبي - صلى الله عليه
وآله - بصدد تحميل كل مصداق مستطاع، فإنه خلاف مساق الحديث،
فحينئذ لا معنى لإرادة المركب، فإن المركب إذا وجب علينا لابد لنا من إتيان
تمام أجزائه لا بعض أجزائه.
الكلام في مفاد العلوي الأول
وأما العلوي الأول ففيه احتمالات:
أحدها: أن الميسور لا يسقط عن عهده المكلف.
والثاني: أن حكمه لا يسقط عن عهدته.
والثالث: أن حكمه لا يسقط عن موضوعه.
والرابع: أن الميسور لا يسقط عن موضوعيته للحكم.
أظهرها الأول، لأنه يعتبر في تحقق مفهوم السقوط أمران:
أحدهما: كون ما يتعلق به السقوط ثابتا بنحو من الأنحاء.
وثانيهما: كون ما ثبت في محل مرتفع بنحو من الارتفاع يمكن أن يسقط
منه وأن لا يسقط.
والطبائع لما كانت ثابتة على عهدة المكلف ورقبته بواسطة الأوامر، فكأن
عهدته ورقبته محل مرتفع يكون المكلف به محمولا عليه بواسطة الأمر، فإذا
ثبت المكلف به على عهدته ثبتت أجزاؤه بعين ثبوته، وإذا تعذر جزء منه
389

وسقط لتعذره لا تثبت بقية الأجزاء لولا قيام الدليل عليه.
وأما بعد ورود مثل قوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) فلا تسقط البقية
حقيقة من غير مسامحة ولو كان ملاك الثبوت مختلفا، فإن ملاكه قبل التعذر
هو الأمر المتعلق بالمركب، وبعده هو الأمر المتعلق بالبقية المستفاد من مثل قوله
ذلك، واختلاف جهة الثبوت لا يوجب اختلاف أصله، كالدعائم التي تتبدل
تحت سقف محفوظ بها، فإن شخص السقف محفوظ وباق بواسطتها
حقيقة وإن كانت هي متبادلة.
فحاصل المعنى: أن الميسور من الطبيعة الذي هو ثابت على عهدة المكلف
لا يسقط عنه بالمعسور وإن كان عدم السقوط لأجل أمر آخر، لتعدد المطلوب
والطلب.
وأما الاحتمالات الأخر فأردأها الأخير، وإن اشترك الكل في مخالفة
الظاهر والاحتياج إلى المسامحة، وإنما الأردئية باعتبار أن لفظة " السقوط "
لا تلائم هذا الاحتمال، لما عرفت من اعتبار كون الساقط في محل مرتفع ولو
اعتبارا ككون الحكم بالنسبة إلى الموضوع، وأما كون الموضوع موضوعا
للحكم فلا يعتبر فيه العلو حتى يطلق عليه السقوط إلا مسامحة، لأن الحكم
يسقط عن الموضوع، لا الموضوع عن الموضوعية إلا تبعا وعرضا، نعم لو كان
الموضوع لأجل موضوعيته صار مكانه مرتفعا يقال: سقط عنه، كسقوط
الأمير عن الإمارة، وليس هذا الاعتبار فيما نحن فيه.
وأما خلاف الظاهر المشترك بينها، فلأن الحكم الأول المتعلق بالميسور
390

- سواء قلنا: إنه وجوب غيري أو نفسي ضمني - يسقط بتعذر بعض الأجزاء،
والثابت له إنما هو حكم آخر بأمر آخر، فنسبة السقوط إليه يحتاج إلى
المسامحة، بخلاف الاحتمال الأول (1).

(1) ومما ذكر يتضح فساد ما قيل: إن المراد من عدم السقوط عدم سقوطه بما له من الحكم
الوجوبي أو الاستحبابي، لظهور الحديث في ثبوت ما ثبت سابقا بعين ثبوته أولا، الراجع
إلى إبقاء الأمر السابق، نظير قوله: " لا تنقض اليقين بالشك " (أ) الشامل للوجوب
والاستحباب (ب).
وذلك لأن الحكم الوحداني الثابت على المركب، والإرادة الوحدانية المتعلقة بالمجموع
الوحداني المتشخصة بتشخص المراد، لا يمكن بقاؤهما مع عدم بقاء الموضوع
والمتعلق، وعدم بقاء المركب بعدم بعض الأجزاء ضروري، ومعه كيف يمكن البقاء؟!
والقياس بأدلة الاستصحاب في غير محله، ضرورة أن مفادها التعبد بابقاء اليقين عند
الشك في بقاء المتيقن، وفي المقام لا شك في سقوط ما ثبت، أي الحكم، نعم يشك في
ثبوت البقية على الذمة، لاحتمال مقارنة وجود علة أخرى لفقد علته الأولى كما عرفت.
وأما التشبث بالتسامح العرفي - كما صنع الشيخ (ج) وتبعه شيخنا العلامة (د) أعلى الله
مقامه - فغير واضح، لمنع ذلك، فإن الوجوب التبعي الغيري الساقط كيف يكون عند
العرف عين الوجوب النفسي الثابت بدليل آخر؟! وقد عرفت سابقا حال التسامح في
الموضوع (ه‍) أيضا. [منه قدس سره]
(أ) الكافي 3: 351 - 352 / 3 باب السهو في الثلاث والأربع، الوسائل 5: 321 / 3
باب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(ب) فوائد الأصول 4: 255، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 457 -
458.
(ج) فرائد الأصول: 397 سطر 4 - 6.
(د) درر الفوائد 2: 46 1 - 147.
(س) انظر صفحة: 382 - 384 من هذا المجلد.
391

ثم إنه على هذا الاحتمال لا يبعد ظهوره في الواجبات، لعدم العهدة في
المستحبات، وإن كان اعتبار العهدة فيها - أيضا - لا يخلو من وجه، وأما مع
دعوى ظهوره في الواجبات فتسرية الحكم إلى المستحبات - بدعوى تنقيح
المناط أو إلقاء الخصوصية (1) - فمجازفة.
الكلام في مفاد العلوي الثاني
وأما العلوي الثاني وهو قوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (2) فلا يبعد
ظهوره في الكل المجموعي، لكن دلالته على حرمة ترك البقية مبنية على
أظهرية (لا يترك كله) في مفاده من ظهور الموصول في مطلق الراجحات، وهو
غير معلوم.
وما أفاد العلامة الأنصاري - من أن قوله: (لا يترك) كما أنه قرينة على
تخصيص الموصول بغير المباحات والمحرمات قرينة على ذلك أيضا (3) - ممنوع،
فإن القرينة على صرف الموصول عن غير الراجحات هو قوله: (لا يدرك كله)،
لأن الدرك واللا درك إنما يطلقان في مقام يكون للمكلف - بما هو كذلك -
داع إلى إتيانه وكذا للآمر، وهو لا يكون إلا في الراجحات.
فيكون معنى قوله: (ما لا يدرك كله..) أي كل راجح يكون للمكلف داع

(1) فرائد الأصول: 296 سطر 1.
(2) عوالي اللآلي 4: 58 / 207.
(3) فرائد الأصول: 295 سطر 18 - 19.
392

إلى إتيانه ولم يدرك كله لا يترك كله، فيمكن أن يدعى أن ظهور الصدر في
مطلق الراجحات قرينة على صرف الذيل عن الظهور في التحريم، فيحمل
على مطلق المرجوحية.
والسر في قرينية الصدر على الذيل غالبا، إلا أن يكون ظهور الذيل أقوى:
أنه إذا توجه ذهن المخاطب إلى الصدر وجلب ذهنه إلى ظهوره، يمنع ذلك عن
انعقاد الظهور للذيل، فلا بد أن يكون للذيل ظهور أقوى منه حتى ينصرف
الذهن عما توجه إليه.
وإن شئت قلت: إن مانعية ظهور الصدر عن انعقاد ظهور الذيل أهون من
رافعية ظهور الذيل لظهور الصدر، فإن الدفع أهون من الرفع.
ولو منع من ذلك فلا أقل فيما نحن فيه من عدم رجحان ظهور الذيل
على ظهور الصدر في العموم.
ثم إن الكل في الجملتين إما أن يراد منه المجموع، أو كل جزء منه، أو يراد
في الأولى المجموع وفي الثانية كل جزء منه، أو بالعكس.
لا سبيل إلى الأول، لأن درك المجموع بدرك جميع أجزائه، وعدم دركه
بعدم درك بعضها، وأما ترك المجموع فبترك بعض أجزائه، وعدم تركه بإتيان
جميعها، فيصير المعنى - حينئذ - مالا يمكن إتيان جميع أجزائه يؤتى بجميع
أجزائه، وفساده واضح، ومنه يظهر فساد الاحتمال الرابع.
وأما الاحتمال الثاني، وهو أنه مالا يدرك كل جزء منه لا يترك كل
جزء منه، فهو مما لا مانع منه، لأن مقابل درك كل جزء منه عدم درك
393

كل جزء، وهو مساوق لدرك البعض، ومقابل ترك كل جزء عدم
تركه المساوق لعدم ترك البعض، ويفهم منه عرفا عدم ترك البقية، أي الغير
المتعذر من الأجزاء.
وما أفاد العلامة الأنصاري قدس سره - من: أنه لابد أن يراد من (ما
لا يدرك كله) المجموع لا المتعدد، وإلا يكون المعنى مالا يدرك شئ منه لا يترك
شئ منه، وهو فاسد (1) - ممنوع، لوضوح الفرق بين قولنا: " ليس كل إنسان
في الدار "، وبين قولنا: " ليس واحد منه فيها "، فإن الأول يفيد سلب العموم،
والثاني عموم السلب.
وما يقال: - إن المسلوب لما كان متعددا، فالسلب والمسلوب عنه يجب أن
يكونا كذلك، لمكان التضايف الواقع بينها (2) - ممنوع، ضرورة أن " ليس كل
إنسان في الدار " ليس قضايا متعددة ولا أسلوبا كثيرة، كما نبهنا عليه فيما
سلف.
فمثل قوله: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ (3) يكون مفهومه:
إذا لم يبلغ الماء قدر كر ليس لا ينجسه شئ، ولازمه سلب تلك القضية

(1) فرائد الأصول: 295 سطر 22 - 23.
(2) نهاية الدراية 2: 300 سطر 17 - 20.
(3) الكافي 3: 2 / 1 - 2 باب الماء الذي لا ينجسه شئ، الاستبصار 1: 6 / 1 - 3 باب 1
في مقدار الماء الذي لا ينجسه شئ، الوسائل 1: 117 - 118 / 1 و 2 و 6 باب 9 من
أبواب الماء المطلق.
394

السالبة الكلية، وهو يتحقق بالإثبات الجزئي، فنقيض " كل إنسان حيوان "
هو " ليس كل إنسان حيوانا "، فإن نقيض كل شئ رفعه، وهو ملازم
ل‍ " بعض الإنسان ليس بحيوان "، ولهذا يكون نقيض السالبة الكلية
الموجبة الجزئية.
وبالجملة: ما ذكره الشيخ هاهنا من فروع النزاع بينه وبين بعض
الفحول (1) في باب المفاهيم (2) والحق مع ذلك البعض.
ومما ذكرنا يتضح صحة الاحتمال الثالث أيضا، فإن معنى ما لا يدرك
مجموعه لا يترك كل جزء منه: أن ما يتعذر بعض أجزائه لا يترك بكليته،
والأظهر من الاحتمالين أن يراد بالكل في الجملة الأولى المجموع، وفي الثانية
كل جزء منه، أي مالا يدرك مجموعه لا يترك بالكلية وبجميع أجزائه،
وبمساعدة العرف يفهم منه أنه لا يترك غير المتعذر لأجل المتعذر، وهذا هو
الاحتمال الثالث من بين الاحتمالات.
اعتبار صدق الميسور في جريان القاعدة
قوله - قدس سره -: ثم إنه حيث كان الملاك... إلخ (3).
قد اشتهر بينهم أن جريان قاعدة الميسور يتوقف على صدق الميسور - أي

(1) انظر جواهر الكلام 1: 107.
(2) مطارح الأنظار: 174 سطر 31.
(3) الكفاية 2: 253.
395

ميسور الطبيعة - على البقية عرفا (1) وطريق استفادة ذلك إنما يكون من
حدود دلالة الأدلة الدالة عليها، فنقول:
أما قوله: (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم) (2) فبعد قرينية صدره
يحتمل أن يكون دالا على المقصود في بادئ النظر، بأن يقال: إن معناه إذا
أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا منها ما يكون في استطاعتكم، أعم من الأفراد
العرضية أو الطولية، بمعنى أنه إذا كانت الطبيعة صادقة على الأفراد الفاقدة
لبعض الأجزاء والشرائط لابد من إتيانها لدى تعذر الواجد، بخلاف ما إذا لم
تصدق لفقد معظم أجزائها أو بعض أجزائها الركنية في نظر العرف، [فيكون
المعنى] إذا أمرتكم بطبيعة الصلاة وتعذر مصداقها الكامل، فأتوا منها
ما تصدق عليها ولو كان ناقصا بالنسبة إلى المتعذر.
لكن قد عرفت (3) أن الأظهر باعتبار سياق الرواية كون " ما " مصدرية
وقتية لا موصولة.
وأما قوله: (ما لا يدرك كله...) فيمكن أن يقال: إن الظاهر منه أن كل
مركب لا يدرك كل جزء من أجزائه لا يترك ذلك المركب بكليته، أي لابد من
إتيان المركب الناقص إذا تعذر التام.
وفيه: أن الأظهر في معنى الحديث أن كل مركب لا يدرك مجموعه أو

(1) انظر الكفاية 2: 253، فوائد الأصول 4: 256، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء
الثالث: 458 سطر 12 - 13.
(2) عوالي اللآلي 4: 58 / 206.
(3) انظر صفحة: 388 - 389 من هذا الكتاب.
396

كل جزء من أجزائه لا يترك جميع أجزاءه، بل يؤتى بما تيسر منها لامن
الطبيعة، ولا إشكال في صدق جزء المركب على كل جزء منه ولو أصغر
صغير منها.
فالعمدة في ذلك هو قوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) (1) واحتمالاته أربعة:
الأول: أن الميسور من كل طبيعة مأمور بها لا يسقط بالمعسور منها، بمعنى
أن ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها.
والثاني: أن الميسور من أجزاء الطبيعة المأمور بها لا يسقط بالمعسور منها،
أي من أجزائها.
الثالث: أن الميسور من الطبيعة - أي الطبيعة الميسورة - لا تسقط بالمعسور
من أجزائها.
الرابع: عكس الثالث.
فعلى الاحتمال الأول والثالث تكون الرواية دالة على المقصود، ولا يبعد
دعوى أظهرية الاحتمال الأول، أو يقال: إن القدر المتيقن من القاعدة هو
ما يصدق على البقية ميسور الطبيعة المأمور بها (2).

(1) عوالي اللآلي 4: 58 / 205 باختلاف يسير.
(2) ثم إن المرجع في تعيين الميسور هو العرف كما في جميع الموضوعات، من غير فرق
بين الموضوعات العرفية والشرعية، لأن الظاهر أن موضوع القاعدة هو نفس الطبائع المأمور بها كما
أشرنا إليه (أ) ولا شبهة في أن العرف يشخص الميسور منها، ضرورة أن الوضوء - مثلا -
طبيعة قد تصدق بنظر العرف على الناقص لشرط أو جزء وقد لا تصدق، فوضوء ذي
الجبيرة وضوء ناقص إذا كانت الجبيرة في بعض العضو، وإن عمت جميع الأعضاء وبقي
397

منها جزء كموضوع المسح لا يصدق عليه الوضوء، وقد يشك في الصدق مثل الشك في
الموضوعات العرفية، فالتفصيل بين الموضوعات الشرعية والعرفية (ب) في غير محله.
وليس المراد من الميسور هو ما يكون وافيا بالغرض أو ببعضه حتى يقال: ليس للعرف
تشخيصه، ضرورة أنه خروج عن ظاهر اللفظ بلا داع، فعليه يكون ما ورد على خلاف
القاعدة مخصصا لها.
وقد يقال: إنه بناء عليه لا يجوز الاتكال على القاعدة، لكثرة ورود التخصيص عليها،
فلابد في التمسك بها من انتظار عمل المشهور (ج).
وفيه: أنه بعدما قلنا بظهور القاعدة في الواجبات بقرينة عدم تحقق العهدة في غيرها،
وبعدما قلنا باعتبار الميسور بالمعنى المتقدم فيها، لم يتضح ورود كثرة التخصيص
عليها، ضرورة عدم ورود التخصيص عليها في الصلاة ومقدماتها، وفي الحج كذلك،
وكذا سائر الواجبات.
وأما الصوم فلا يتحقق فيه الميسور والمعسور، لأنه ليس عبارة عن الاجتناب عن
المفطرات، بل هو أمر بسيط وضعي تكون المفطرات مفسداته، فلا يصدق الصوم ولو
ناقصا مع الشرب القليل مثلا.
نعم لو كان المراد بالميسور الأجزاء كما تقدم، ولم نعتبر كون البقية مصداقا للطبيعة،
لكان ورود التخصيص الكثير المستهجن حقا، ولكنه خلاف التحقيق كما مر.
نعم لو أنكرنا ظهور قوله: (الميسور) في الطبيعة، وقلنا بأن المحتمل منها أن يكون
الميسور من الأجزاء، أو قلنا بأن القدر المتيقن منها هو ما يصدق عليه الميسور، يشكل
الأمر. [منه قدس سره]
(أ) انظر صفحة: 389 - 390 و 397.
(ب) فوائد الأصول 4: 256 - 258.
(ج) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 460 سطر 9 - 11.
398

الإشكالات على أصالة الاحتياط
قوله - قدس سره -: أما الاحتياط (1).
ها هنا إشكالات، بعضها راجع إلى مطلق الاحتياط، وبعضها إلى
الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، وبعضها إلى الاحتياط فيما قامت
الأمارة على خلافه، كما لو دلت الأمارة على وجوب الجمعة فأراد المكلف
إتيان الظهر أيضا احتياطا:
أما الإشكال على مطلق الاحتياط: فهو أن الاحتياط ليس عبارة عن إتيان
العمل مطلقا، بل لابد من إتيان العمل بانبعاث من قبل المولى، لعدم صدق
الإطاعة بغيره، فإطاعة المولى إنما تتحقق مع كون الأمر داعيا إلى إتيان المأمور
به، وصيرورة العبد متحركا بتحريكه، مع أن محركية الأمر المجهول غير
معقولة، واحتمال الأمر وإن كان محركا لكن المحرك نفس الاحتمال، كان
الأمر في الواقع أو لم يكن، ولو كان الأمر الواش دخيلا في تحريك العبد
بنحو الاستقلال أو جزء الموضوع، فلا يعقل تحريكه وانبعاثه بدونه، مع أنه
منبعث حتى مع عدم الأمر الواقعي.
وبالجملة: نسبة احتمال الأمر إلى الأمر الواقعي وعدمه على السواء، فكون
الأمر الواقعي باعثا ومحركا مما لا يعقل مع استواء نسبته إليه وإلى عدمه، فإذا
امتنعت محركية الأمر يصير الاحتياط ممتنعا، لتوقفه على باعثية الأمر.

(1) الكفاية 2: 255.
399

وبعبارة أخرى: أن الباعث هو الصورة القائمة بالنفس من غير دخالة
للأمر الواقعي ولو بنحو التشريك، ومعه لا تتحقق الإطاعة، فلا يمكن
الاحتياط.
بل يمكن توسعة دائرة الإشكال، بأن يقال: إن محرك الإنسان في جميع
حركاته وأفعاله ليس إلا الصورة الذهنية، غاية الأمر أنه يتوهم الفاعل كونها
حاكية عن الواقع، لكن وجود الواقع وعدمه على. السواء.
مثلا: من اعتقد أن الأسد في طريقه، فيخاف ويفر منه، لا يكون خوفه
وفراره إلا من الصورة المتوهمة التي اعتقد أنها حاكية عن الواقع، فالخائف
وإن توهم أن خوفه من الواقع، لكن لا يخاف حقيقة إلا من توهم الواقع، وهو
صورة قائمة بنفسه.
والدليل عليه: أن المعتقد المتوهم يخاف ويفر كان أسد بحسب الواقع أو
لم يكن، فلو كان الأسد دخيلا - ولو بنحو جزء الموضوع - في الإخافة
والفرار، لم يمكن أن تؤثر الصورة المتوهمة التي ليست لها واقعية فيهما، مع أن
وجود الأسد وعدمه في الخوف والفرار على السواء.
وكذا الكلام في إطاعة الأمر المعلوم من المولى، فإن المكلف إذا اعتقد
وجود الأمر فانبعث نحو المأمور به، يكون انبعاثه لأجل اعتقاده بالأمر كان
أمر في الواقع أو لا، فوجوده وعدمه سواء، فالباعث نفس الاعتقاد لا الأمر،
ولو كان الواقع دخيلا فالتحريك ولو بنحو جزء الموضوع لم يتحرك في صورة
تخلف الاعتقاد عن الواقع، مع أن الأمر ليس كذلك بالضرورة، فالصورة
400

المتوهمة هي الباعثة والزاجرة، فأين إطاعة أمر المولى؟!
وصورة البرهان على هيئة الشكل الأول: أن كل إطاعة هو انبعاث ببعث
المولى، ولا شئ من الانبعاث ببعث المولى بممكن، فلا شئ من الإطاعة
بممكن.
والجواب: أما عن دعوى امتناع الإطاعة في صورة العلم بالأوامر
والنواهي:
فأولا: أن الصورة الذهنية الاعتقادية لما كانت حاكية بنظر القاطع عن
الواقع، ففي صورة مصادفتها يكون الانبعاث عن نفس الواقع، لأنه منكشف
ولو بالواسطة، فتلك الصورة وسيلة إلى انكشاف الواقع، والانبعاث يكون من
نفس الواقع المنكشف لا بالجهة التقييدية، كما أنه في صورة اعتقاد الأسد
ومصادفة الاعتقاد للواقع يكون الأسد الواقعي المنكشف موجبا لخوفه وفراره،
لا الصورة الاعتقادية الفانية فيه، فالإنسان العالم خائف من الأسد ومنبعث
من أمر المولى ومطيع لأمره.
وثانيا: إن كان المراد من الانبعاث ببعث المولى - المأخوذ في صغرى
البرهان - هو الانبعاث بالبعث بالذات فنمنع دخالته في الطاعة، لأنها متقومة
بالبعث ولو بالعرض، ضرورة أن العقلاء لا يشكون في أن المولى
إذا أمر عبده فأتى بالمأمور به لأجله يكون مطيعا له، مع أن الباعث أولا
وبالذات هو الصورة الذهنية وثانيا وبالتبع هو الواقع المنكشف بها، فلا يعتبر
في حقيقة الطاعة أن يكون أمر المولى بنفسه حاضرا في ذهن العبد وموجبا
401

لتحريك عضلاته، فإنه غير معقول، ولا ينال أحد شيئا من خارج ذاته نيلا
بالذات وبلا واسطة، بل العلم بالخارج لا يكون إلا بالعرض والواسطة كالبعث،
ويكفي ذلك في حقيقة الطاعة.
وإن كان المراد من البعث أعم مما بالعرض فنمنع كلية الكبرى، ضرورة
إمكان تحقق الانبعاث بالبعث بالعرض بل وقوعه دائما، لأن الواقع منكشف
بالتبع وباعث بالعرض.
هذا كله في الأوامر المعلومة ولو بالعلم الإجمالي، فإن الواقع حينئذ
منكشف ولو بالإجمال، وهو محرك للعبد.
وأما الاحتياط في الشبهة البدوية والمحتمل المخالف لقيام الأمارة، فلا يمكن
أن يقال: إن الأمر المحتمل باعث، ويكون في صورة مصادفة الاحتمال للواقع
ما هو المحرك هو نفس الواقع بالذات أو بالعرض، لأن الأمر الواقعي غير
منكشف، ولا يكون الأمر المحتمل داعيا، بل الداعي الباعث هو احتمال الأمر
لا الأمر المحتمل، وفرق واضح بينهما، إلا أن يراد به الأمر المحتمل بما هو
محتمل حتى يرجع إلى احتمال الأمر، وإلا فلو قيل: إن الأمر المحتمل - أي
الأمر الواقعي الذي هو موصوف بكونه محتملا - باعث ومحرك، فلا بد
وأن يكون هذا الأمر الواقعي بهذه الصفة منكشفا حتى يكون باعثا بالعرض،
وهو غير معقول، فالباعث في الشبهة البدوية هو احتمال الأمر، فلا يأتي فيه
الجواب المتقدم، ولا تتحقق الإطاعة - أي الانبعاث ببعث الأمر - في هذا
الاحتياط.
402

لكن الذي يسهل الخطب أن عبادية العبادة لا تتقوم بداعوية الأمر
وتحقق مفهوم إطاعة الأمر، بل لو كان الداعي إلى إتيانه هو شئ آخر
راجع إلى المولى كقصد التقرب أو الوصول إلى غرضه يصير العمل عبادة،
ألا ترى أنه لو سقط أمر المولى بواسطة المزاحمة أو الضدية مع القول
بامتناع الترتب، يكون المأتي به عبادة صحيحة مع عدم صدق مفهوم إطاعة
الأمر عليه؟!
فلا نحتاج في صحة العبادة وعباديتها إلى كون الانبعاث ببعثه، بل
الانبعاث باحتمال أمر المولى - أيضا - كاف في العبادية، فالإتيان بالمحتمل
لاحتمال تعلق أمر المولى به إذا صادف الواقع عبادة صحيحة، بل الذي
ينبعث باحتمال الأمر كان الأتم في العبودية ممن لا ينبعث إلا بالأمر المعلوم،
فلا إشكال في تحقق الاحتياط المرغوب فيه من هذه الجهة.
الإشكال الثاني: ما يختص بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إذا صار
موجبا للتكرار: وهو أن تكرار العبادة فيما يمكن تحصيل العلم التفصيلي لعب
بأمر المولى، ومعه كيف تتحقق العبادة (1)؟! ألا ترى أنه لو علم عبد بأن
للمولى مطلوبا، وتردد أمره بين أمور كثيرة غير مرتبطة، فترك السؤال عنه مع
إمكانه، فقام بإتيان الأطراف، فدعا جمعا من العلماء باحتمال أن منظوره
انعقاد مجلس عقد النكاح، وأخبر حملة الموتى باحتمال موت بعض أقربائه،
وأتى بعدة من الحمالين والبنائين والنجارين والمواشي والأنعام والطيور،

(1) فرائد الأصول: 299 سطر 18 - 22.
403

عد لاعبا بأمر مولاه، وتكون هذه الكيفية سخرية بالمولى مع إمكان السؤال
ورفع الاشتباه.
والجواب أولا: أن استنتاج النتيجة الكلية من الأمثلة الجزئية مما لا يجوز،
فالمدعي هي عبثية مطلق التكرار، وهي لا تثبت بهذا المثال، بل لابد من قيام
دليل على كون مطلق التكرار عبثا ولعبا، وهو مفقود.
وثانيا: أنه لو فرض كون العبد بصدد السخرية بالمولى وإهانته، ولم يكن
الباعث له للجمع بين المحتملات احتمال أمر المولى، بل له بواعث اخر مثل
اللعب والعبث والسخرية فهو خارج عن محط النزاع، ولا إشكال في
استحقاقه للعقوبة لأجله، بل لو أتى بالمعلوم بالتفصيل كذلك يستحق
العقوبة عليه.
وأما لو فرض كونه بصدد إطاعة المولى، ويكون الباعث له نحو المحتملات
هو العلم الإجمالي بمطلوب المولى، فحينئذ إن كان في التكرار غرض عقلائي
فلا إشكال فيه، ولو فرض عدمه وكونه لاعبا في كيفية إطاعته - وإن كان
الإتيان بأصل المأمور به لأجل إطاعة المولى - فلا يضر بعباديته، فإنه من قبيل
الضمائم المباحة، ولا تخلو عبادة من ضمائم هي الخصوصيات الفردية الغير
الدخيلة في العبادية، فإن الأوامر إنما تعلقت بالطبائع وخصوصيات الأفراد
خارجة عن حريمها.
ولو كانت الخصوصيات الخارجة مضرة بالخلوص لزم عدم صحة جميع
العبادات، لعدم إمكان خلوها منها، فتلك الخصوصيات الغير الدخيلة إذا
404

انضمت إلى المأمور به مع كون الداعي إلى إتيان أصل المأمور به هو الداعي
الإلهي، والداعي إلى الخصوصيات أغراضا اخر عقلائية أو غيرها، لا توجب
بطلانها، مع أن التكرار لم يكن من قبيل الضمائم، بل أمره أهون كما
لا يخفى.
فما يقال: إن التكرار لعب بأمر المولى (1) إن أراد باللعب به أنه لا ينبعث
عن أمر المولى المعلوم بالإجمال، بل يكون داعيه السخرية بالمولى واللعب
بأمره، فهو خارج عن موضوع البحث، وإن أراد أنه مع انبعاثه عن أمره يكون
التكرار مع إمكان الاكتفاء بواحد منها سفهيا، فهو لا يوجب بطلان العبادة،
بل لو فرض أن الداعي [إلى] إتيان الخصوصية يكون اللعب والمزاح وإدخال
السرور في قلوب الحضار لا تكون مبطلة لها، مثلا: لو أتى المكلف بصلاته في
رأس منارة مرتفعة، ويكون داعيه اللعب لكن في الخصوصية لافي أصل
العبادة تكون صحيحة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن التكرار لأجل الاحتياط مما لا بأس به.
الإشكال الثالث: أنه يعتبر في العبادات قصد الوجه عقلا وشرعا، وهو
لا يحصل إلا بالعلم التفصيلي، وأيضا يعتبر الجزم في النية، وهو موقوف على
العلم التفصيلي (2).
وفيه: أنه أما قضية اعتبار قصد وجه الوجوب والاستحباب فممنوع أولا،

(1) فرائد الأصول: 299 سطر 21.
(2) الغنية - الجوامع الفقهية -: 525 سطر 14 - 17.
405

ومع تسليمه ممكن مع الجهل ثانيا، سواء فرض الشك البدوي أو المقرون
بالعلم، نعم لو اعتبر الجزم في النية فيها فهو غير ممكن إلا مع العلم التفصيلي،
فالإشكال إنما هو في صورة اعتبار الجزم فيها، ولكن لا دليل عليه عقلا
ولا شرعا:
أما الأول: فلأن الأمر لا يقتضي إلا الإتيان بمتعلقه بتمام قيوده وحدوده،
والواجب التعبدي يعتبر فيه قصد التقرب والإخلاص، ولا دليل على اعتبار
شئ آخر فيه من قصد الأمر أو الجزم في النية، فلو أتى المكلف بالصلاة بتمام
قيودها الشرعية من التكبيرة إلى التسليم باحتمال مطلوبيتها وتعلق الأمر بها،
يكون عند العقل والعقلاء مطيعا مقربا، من غير فرق في ذلك بينه وبين من
أتى بها مع علمه بالوجوب، ولا فرق عند العقل والعقلاء بين الانبعاث بالبعث
المعلوم والانبعاث باحتمال البعث ولو مع إمكان تحصيل العلم التفصيلي،
فالميزان في صحة العبادة عقلا موافقة المأتي به للمأمور به.
وأما عدم الدليل الشرعي فيظهر لمن تتبع في مظانه.
نعم قد يستدل بالإجماع على اعتبار قصد الوجه في العبادة (1) وأن تارك
طريقي الاجتهاد والتقليد عبادته باطلة، المعتضد بدعوى الاتفاق المحكي عن
أهل المعقول والمنقول (2) المعتضدة بالشهرة المحققة (3).
وفيه: أن دعوى الإجماع الكاشف عن الدليل المعتبر التعبدي في

(1) رياض المسائل 1: 153 سطر 17.
(2 - 3) فرائد الأصول: 299.
406

مثل تلك المسألة العقلية التي يكون الاستدلال بحكم العقل فيها رائجا
عندهم مما لا يخلو من مجازفة، أما اتفاق المتكلمين - على فرضه - فليس إلا
لأجل عقلية المسألة، كما أن الفقهاء - أيضا - لا يبعد أن تكون دعواهم
مبنية عليها.
ودعوى السيد الأجل الرضي - قدس سره - إجماع أصحابنا على بطلان
صلاة من صلى صلاة لا يعلم أحكامها (1) لا يبعد أن تكون مبنية على وضوح
اعتبار قصد الوجه وأمثاله عقلا عندهم، كما أن المنقول عن المحقق الطوسي
- قدس سره - دعوى الإجماع أو الاتفاق على أن استحقاق الثواب في العبادة
موقوف على نية الوجه (2) مع وضوح أن قضية استحقاق الثواب عقلية
لا شرعية.

(1) حكاه عنه الشهيد في ذكرى الشيعة: 259.
الرضي: هو العلامة الكبير الأديب السيد الأجل أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى
بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، أخو الشريف المرتضى،
أمره في العلم والفضل وعلو الهمة والجلالة أشهر من أن يذكر، ولد سنة 359 ه‍ وتوفي
سنة 406 ه‍، وأشهر تآليفه (نهج البلاغة) جمع فيه كلام الإمام علي عليه السلام. انظر
سفينة البحار 1: 526، الكنى والألقاب 2: 272، مستدرك الوسائل 3: 10 5.
(2) المحقق الطوسي: هو الحكيم الفيلسوف قدوة المحققين الإمام الشيخ محمد بن محمد
ابن الحسن الطوسي، ولد في سنة 597 ه‍ بطوس، صنف كتبا ورسائل نافعة نفيسة في
فنون العلم، وبنى بمدينة مراغة مرصدا عظيما وظل يعمل فيه حتى وفاته
في سنة 672 ه‍. انظر أعيان الشيعة 9: 414، أمل الآمل 2: 299، الكنى
والألقاب 3: 250.
407

فظهر: أن الإشكال من هذه الحيثية - أيضا - مرتفع، فالاحتياط جائز حتى
مع إمكان العلم التفصيلي.
الإشكال الرابع: أنه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة
شرعية أن يعمل المكلف أولا بمؤدى الحجة، ثم يعقبه بالعمل على خلاف
مقتضى الحجة إحرازا للواقع، إلا إذا لم يستلزم منه تكرار العمل واستئناف
جملته، فإذا قامت الحجة على وجوب الجمعة لا يجوز الابتداء بالظهر، نعم
إذا أتى بالجمعة لا بأس بإتيانه من باب الاحتياط.
والسر فيه: أن معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا
وعدم الاعتناء به، والعمل على طبق الاحتمال المخالف للحجة عين الاعتناء
به، وهذا بخلاف ما إذا قدم العمل بمؤدى الطريق، فإنه حيث أتى بما هو
وظيفته فالعقل يستقل بحسن الاحتياط رعاية للواقع.
هذا، مع أنه يعتبر في حسن الإطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الإطاعة
التفصيلية، فإن للإطاعة مراتب عقلا:
الأول: الامتثال التفصيلي.
الثاني: الامتثال الإجمالي.
الثالث: الامتثال الظني.
الرابع: الامتثال الاحتمالي.
ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلا بعد تعذر السابقة، لأن حقيقة
الإطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى، بانبعاثه عن بعثه وتحركه
408

عن تحريكه، وهذا يتوقف على العلم بالبعث، ولا في الانبعاث بلا بعث
واصل، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثا، فلا تتحقق معه
الإطاعة، نعم هو - أيضا - نحو من العبودية فيما إذا تعذر الانبعاث عن البعث
المعلوم الذي هو حقيقة العبودية (1). هذا والجواب عنه:
أولا: أن معنى اعتبار الأمارة ليس إلغاء احتمال الخلاف بمعنى عدم جواز
العمل على طبق الاحتمال، بل مفاد أدلته وجوب العمل على طبقها وترتيب
أثر الواقع عليه عملا، وأما عدم جواز العمل على الاحتمال المخالف من باب
الاحتياط فلا دليل عليه، ولا يكون ذلك معنى اعتبار الأمارة.
نعم، لا يجوز الاكتفاء بالعمل على طبق الاحتمال المخالف، لامن باب
عدم جواز العمل على طبقه، بل من باب ترك العمل بالأمارة المعتبرة، وذلك
واضح.
وثانيا: أنه لو فرض أن معنى اعتبار الأمارة إلقاء احتمال الخلاف لزوما،
فالعمل على طبقه عين الاعتناء به، سواء لزم منه التكرار أولا، أو كان الاعتناء
قبل العمل أولا، فلا وجه للتفصيلين المذكورين. اللهم إلا أن يدعى أن
أدلة الاعتبار - الدالة على إلقاء احتمال الخلاف - منصرفة عن الموردين،
وهو كما ترى.
وما ذكر - أن العقل بعد العمل بالوظيفة يستقل بحسن الاحتياط رعاية
للواقع - حق، لكنه مستقل بحسنه قبل العمل بالوظيفة أيضا، فإن الاحتياط

(1) فوائد الأصول 4: 265 وما بعدها.
409

لا ينافي العمل بها، فلا فرق بينه قبل العمل بها وبعده.
وثالثا: أن ترتب مراتب الامتثال عقلا بما ذكر ممنوع، فإن العقل يستقل
بكفاية إتيان الماهية المأمور بها بجميع قيودها ولو باحتمال الأمر، فمع
احتمال وجوب الجمعة يجوز الإتيان بها احتياطا ولو مع التمكن من العلم
التفصيلي.
وكون الإطاعة انبعاثا ببعث الأمر، وهو لا يحصل إلا مع العلم، فمع
ممنوعيته - لما ذكرنا سالفا (1) أن الانبعاث له مباد اخر من مثل الخوف والطمع
في نفس المكلف، وإنما الأمر يكون موضوعا لتحقق الطاعة، فمع احتمال
الأمر يكون بعض تلك المبادئ محركا - يرد عليه: أن صحة العبادة لا تتوقف
على باعثية الأمر، ولو لم يصدق على الإتيان حينئذ إطاعة أمر المولى، بل
صحتها متوقفة على إتيان الماهية موافقة لغرض المولى مع جميع قيودها، كما
لو فرض أن المولى كان غافلا عن الأمر بمتعلق له مصلحة ملزمة بحيث لو
توجه إليه لأمر به قطعا، كإنقاذ ولده الغريق يجب عليه القيام به، ومعه يكون
مقربا ومستحفا للثواب، ولو كان الماتى به عبادة تقع صحيحة، كما أن الأمر
بالصلاة لو سقط للابتلاء بالضد، لا يوجب بطلانها ولو مع امتناع الترتب، مع
احتمال أن تصدق الطاعة على المأتي به باحتمال الأمر عرفا إذا صادف
الواقع، لأن الباعث لا يكون الأمر على أي حال كما عرفت، والمبادئ الباعثة
موجودة في كلتا الصورتين كالإتيان بالمأمور به مع جميع قيوده، فالمسألة

(1) في صفحة: 126 من هذا المجلد.
410

خالية من الإشكال.
اعتبار الفحص في جريان البراءة العقلية
قوله: وأما البراءة العقلية (1).
أما البراءة في الشبهة الحكمية فشرط جريان الأصل فيها الفحص،
واستدل عليه بالأدلة الأربعة:
الدليل العقلي على وجوب الفحص
أما العقل: فبأن يقال: إن مناط قبح العقاب بلا بيان وإن كان البيان
الواصل عقلا، لكن ميزان وصول البيان ليس إيصاله إلى مسامع المكلفين
ومداركهم، بل المعتبر فيه هو الإيصال المتعارف (2) بحسب اختلاف الموالي
والعبيد والأحكام.
فالمولى المقنن للعباد جميعهم يكون إيصاله للأحكام بوسيلة أنبيائه ورسله،
وكتبه المنزلة، والأحاديث المروية عنهم المحفوظة في الزبر والكتب المعدة لها،
لا الإرسال إلى كل واحد واحد من المكلفين كتابا مخصوصا به وخطابا
مسموعا لديه، فبيان المولى المقنن هو التقنين والإيصال إلى رسله، وإيصال
الرسل هو البث في العباد بنحو متعارف، وهو تعليمها لعدة من العلماء وكتبها

(1) الكفاية 2: 255.
(2) فوائد الأصول 4: 278.
411

في الدفاتر والزبر وبسطها بين الناس.
فلو لم يصل البيان من قبل المولى، أو وصل إلى الرسول ولم يبلغ، أو بلغ
دون المتعارف، يكون العقاب على المخالفة بلا بيان، وأما مع إيصال الله
- تعالى - وتبليغ الرسول والأئمة، وحفظ الأحكام في الكتب والصحف،
وترك العبد وظيفته من الفحص والتفتيش، فلم يكن عقابه بلا بيان، وليس عند
العقلاء معذورا، فالعقل يحكم بوجوب الفحص لدى الشبهة، ولا تجري
البراءة العقلية حينئذ.
وقد يستشكل بأن الحكم مالم يعلم غير قابل للباعثية والمحركية، ضرورة
أنه بوجوده الواقعي غير باعث ولا زاجر، بل بوجوده العلمي يكون كذلك،
وإنما تتصف الأوامر الخارجية بالباعثية بالعرض بواسطة كشفها بوجودها
العنواني الفاني فيها كما في المعلوم بالعرض، والكشف عن الواقع إنما
يكون مع الوجود العلمي التصديقي لا الاحتمالي، فإنه غير كاشف
عن الواقع، وما كان حاله كذلك لا يمكن أن يكون منجزا للواقع، فإن
الواقع بنفسه لا يكون باعثا بالضرورة، والفرض أن احتمال تحققه ليس
كاشفا عنه، فلا يكون الاحتمال موجبا لاتصاف الواقع بالباعثية ولو بالعرض،
فالواقع ليس باعثا بالذات ولا بالعرض، فلا يكون الاحتمال منجزا له،
فاحتمال الواقع ليس مساوقا لاحتمال المنجز، ولا يعقل فعلية الأمر الواقعي
الذي عليه طريق واقعي بنحو الباعثية والمحركية إلا بعد وصوله حقيقة، فإذا
لم يكن فعليا وباعثا حقيقة فكيف يعقل أن يكون منجزا حتى يكون احتماله
412

احتمال المنجز (1)؟!
وفيه: أن تنجز الحكم كفعليته لا يتوقف على علم المكلف، فالأحكام التي
تكون من قبل المولى تامة وقابلة للإجراء فعلية منجزة، ومعنى تنجزها كون
مخالفتها موجبة لصحة العقوبة اتصفت بالباعثية أولا، بل قد عرفت (2) أن
الأوامر والنواهي ليست باعثة ولا زاجرة بذاتها حتى في صورة العلم بها، بل
الزاجر والباعث مباد أخرى موجودة في نفس المكلف.
وبالجملة: أن تنجز التكليف - أي صيرورته بحيث يحكم العقل بأن
مخالفته موجبة لصحة العقوبة - لا يتوقف على الباعثية والمحركية، بل قد يكون
احتمال التكليف موجبا للتنجيز كما فيما نحن فيه، ضرورة أن العقل يحكم
بأن العبد غير معذور في مخالفة حكم المولى الذي هو مكتوب في صحيفة
مرسلة إليه مع احتماله لذلك، وليس للعبد أن يترك قراء ته قائلا بأنه لا يكون
التكليف بوجوده الواقعي منجزا ولا داعي لي إلى تحصيله، فنفس الاحتمال
قبل الفحص موجب لصحة العقوبة على التكليف الواقعي لو صادف الواقع.
ولو توقف التنجيز على المحركية والباعثية الفعلية للزم منه أن لا تصح
العقوبة على التكليف الواقعي في صورة قيام الأمارة المعتبرة عليه مع الشك
فيه أو الظن بخلافه، لأن التكليف الطريقي المعلوم لا يوجب صحة العقوبة،
والتكليف الواقعي مع الشك فيه لا يكون محركا ومنكشفا ولو بالعرض،

(1) نهاية الدراية 2: 305 - 306.
(2) انظر صفحة: 126 من هذا المجلد.
413

ومجرد معلومية الأمارة لا يوجب انكشاف التكليف عقلا حتى يصير لأجله
محركا، ومدعى هذا القائل أن الحكم مالم يصر محركا وباعثا فعليا لا يصير
منجزا، مع أنه ضروري البطلان، فالتنجيز لا يتوقف على المحركية الفعلية كما
ادعى القائل.
فتلخص من ذلك: ان احتمال التكليف قبل الفحص منجز، موجب لصحة
العقوبة عقلا على التكليف الواقعي.
وقد يقرر حكم العقل على وجوب الفحمى بوجه آخر: وهو أن الاقتحام قبل
الفحص خروج عن زي الرقية ورسم العبودية فيما إذا كان التكليف لا يعلم
عادة إلا بالفحص، فالإقتحام بلا فحص ظلم على المولى.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أن العقوبة على الوجه الأول إنما هي
على مخالفة التكليف الواقعي المنجز، وعلى الثاني على الإقدام بلا فحص،
لأنه بنفسه ظلم وملاك لاستحقاق العقوبة، سواء خالف الواقع أولا، كما في
التجري، فمناط صحة العقوبة هو تحقق عنوان الظلم، لا مخالفة التكليف
الواقعي حتى يقال: إنها قبيحة بلا بيان، فعقاب المولى عبده على مخالفة
التكليف الواقعي قبيح وظلم، كما أن إقدام العبد أو تركه بلا فحص ظلم على
المولى، ولكل منهما حكمه. نعم التحقيق أن الظلم لا ينطبق على الإقدام، بل
على ترك الفحص عن التكليف الذي لا يعلم عادة إلا به (1).
وفيه نظر واضح، ضرورة أنه ليس تحقق الظلم إلا باعتبار احتمال مخالفة

(1) نهاية الدراية 2: 305 سطر 11 - 20.
414

المولى، ولا ينطبق عنوان الظلم على ترك الفحص بالذات، بل بلحاظ احتمال
المخالفة، وبعد جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحكم العقل بأن التكليف
الواقعي على فرض وجوده لا أثر له، والعبد في سعة من مخالفته، لا معنى
لتحقق عنوان الظلم على ترك الفحص عنه.
وبالجملة: تحقق عنوان الظلم والتجري متفرع على تنجز التكليف،
والتكليف الغير المنجز الذي يحكم العقل بعدم قبح ارتكابه لا يعقل أن يصير
منشأ لتحقق عنوان قبيح على ترك الفحص منه، فدعوى أن لكل من مخالفة
التكليف الواقعي وترك الفحص حكمه، ممنوعة بعد وضوح تفرع عنوان
الظلم والتجري على الأول، أي على تنجز التكليف الواقعي، إذ قد عرفت أن
عنوان الظلم والتجري فيما نحن فيه لا يكون مستقلا في مقابل تنجز
التكليف، حتى لا يتنافى تحققه مع عدم تحقق ذلك.
ثم إنه لا يخفى ما في تحقيقه أخيرا من أن عنوان الظلم ينطبق على ترك
الفحص دون الإقدام، ضرورة أن نفس ترك الفحص لم يكن ظلما مع احتياط
المكلف بإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة، بل الظلم ينطبق على
مخالفة المحتمل، لأنه لا نفسية لترك الفحص، بل إنما هو بلحاظ التحفظ على
التكليف.
وقد يقرر حكم العقل بوجوب الفحص بتقرير ثالث: وهو حصول العلم
الإجمالي لكل أحد - قبل الأخذ في استعلام المسائل - بوجود واجبات
ومحرمات كثيرة في الشريعة، ومعه لا يصح التمسك بأصل البراءة، لأن
415

الشك في المكلف به لا التكليف (1).
وهو من الضعف بمكان، لأن كلامنا في المقام إنما هو في شرائط جريان
أصل البراءة بعد المفروغية عن مجراه، وهو الشك في التكليف لا المكلف به،
فالاستدلال بالعلم الإجمالي خروج عن موضوع البحث، فالنقض والإبرام
في أطرافه في غير محلهما، لكن المحققين لما تعرضوا له فلا محيص عنه بنحو
الإجمال.
فقد نوقش فيه أولا: بأنه أخص من المدعي، فإنه وجوب الاستعلام عن كل
مسألة كان علم إجمالي أولا، والدليل إنما يوجب الفحص قبل استعلام
جملة من الأحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه لانحلال
العلم الإجمالي بذلك (2).
وثانيا: أنه أعم منه، لأنه هو الفحص عن الأحكام في خصوص ما بأيدينا
من الكتب، والمعلوم بالإجمال هو الأحكام الثابتة في الشريعة مطلقا،
والفحص في تلك الكتب لا يرفع أثر العلم الإجمالي (3).
وردهما بعض أعاظم العصر - رحمه الله - بما حاصله: ولا يخفى ما في
كلا وجهي المناقشة من الضعف:
أما في الأول: فلأن استعلام مقدار من الأحكام يحتمل انحصار المعلوم

(1) فرائد الأصول: 301 سطر 3 - 5، فوائد الأصول 4: 278.
(2) فرائد الأصول: 301 سطر 13 - 14.
(3) فرائد الأصول: 301 سطر 12 - 13.
416

فيها لا يوجب الانحلال، إذ متعلق العلم تارة يتردد من أول الأمر بين الأقل
والأكثر، كما لو علم بأن في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردد بين العشرة
والعشرين، واخرى يكون المتعلق عنوانا ليس بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر
من أول الأمر، بل المعلوم هو العنوان بما له من الأفراد الواقعية، كما لو علم
بموطوئية البيض من هذا القطيع وترددت بين العشرة والعشرين.
ففي الأول ينحل العلم الإجمالي دون الثاني، فإنه لا ينحل بالعلم
التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيه، بل لابد من الفحص
التام عن كل محتمل، لأن العلم يوجب تنجز متعلقه بماله من العنوان.
وما نحن فيه من هذا القبيل، لأن المعلوم بالإجمال هي الأحكام الموجودة
فيما بأيدينا من الكتب، ولازم ذلك هو الفحص التام، ألا ترى أنه ليس
للمكلف الأخذ بالأقل لو علم اشتغاله لزيد بما في الطومار وتردد بين الأقل
والأكثر، بل لابد له من الفحص [في] الطومار كما عليه بناء العقلاء، وما
نحن فيه من هذا القبيل بعينه.
وأما في الوجه الثاني: فلأنه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة أعم
مما بأيدينا من الكتب، إلا أنه يعلم إجمالا بأن فيما بأيدينا أدلة مثبتة للأحكام
مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها، فينحل العلم
الإجمالي العام بالعلم الإجمالي الخاص، ويرتفع الإشكال، ويتم الاستدلال
بالعلم الإجمالي لوجوب الفحص (1) انتهى.

(1) فوائد الأصول 4: 279 - 280.
417

وفيه أولا: أنه لافرق في الانحلال بين تعلق العلم بعنوان ويكون العنوان
بماله من الأفراد الواقعية مرددا بين الأقل والأكثر، وتردد المتعلق من أول الأمر
بينهما، فيما إذا كان العنوان مما ينحل بواسطة انحلال التكليف، فإذا علم
بوجوب إكرام العالم بماله من الأفراد وترددت بين الأقل والأكثر، فلا محالة
ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشك البدوي.
نعم إذا كان نسبة العنوان إلى المعنون نسبة المحصل والمحصل وتردد
المحصل بين الأقل والأكثر لابد من الاحتياط، وأما العنوان المنحل إلى
التكاليف المستقلة كالبيض من الغنم، فلا إشكال في كونه كالمردد من أول
الأمر بين الأقل والأكثر.
وثانيا: لو سلم ذلك فلا إشكال في عدم كون ما نحن فيه من هذا القبيل،
لأن معنى تعلق العلم بعنوان وتنجزه به أن يكون العنوان بذاته متعلق الحكم،
وأما تعلق العلم بعنوان غير ذي حكم فلا أثر له.
فحينئذ نقول: إن العلم بوجود أحكام في الكتب التي بأيدينا لا يوجب
تنجزها بهذا العنوان، فإن عنوان كون الأحكام في الكتب ليس من العناوين
التي تعلق بها الحكم حتى يتنجز بماله من العنوان، ضرورة أنه من الانتزاعيات
بعد جمع الأحكام في الكتب، وهذا مما لا يتعلق به حكم، ولا تكون الأحكام
بذلك العنوان موردا لتكليف، فالعلم الإجمالي المؤثر متعلق بنفس الأحكام
بوجودها الواقعي، ويتردد من أول الأمر بين الأقل والأكثر، فينحل العلم
الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.
418

ومما ذكرنا يتضح أن ما ذكره من المثالين المتقدمين مورد للمناقشة، فإن
عنوان البيض ليس مما تعلق به الحكم حتى يكون العلم المتعلق به منجزا له
بعنوانه، فإنه عنوان عرضي مقارن من باب الاتفاق مع ما تعلق به التكليف،
وهو عنوان الموطوء، فالمتعلق هو الموطوء لا الأبيض، فالعلم المتعلق به موضوع
الأثر أي التنجز، فحينئذ لو صح ما ذكره - من أنه لو كان العلم متعلقا بعنوان
كان منجزا لأفراده الواقعية، ولا ينحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك -
كان المثال الأول كذلك لتعلق العلم بالموطوء وتردده بين الأقل والأكثر، كما
أن المثال الثاني أيضا كذلك لما ذكرنا، لا لتعلق العلم بعنوان البيض من الغنم
كما هو واضح.
وثالثا: بناء على صحة دعواه لايبقى مجال لدعوى انحلال العلم
الإجمالي العام بالعلم الإجمالي الخاص الذي تعلق بما في الكتب التي بأيدينا،
لإمكان أن يقال: إن العلم الإجمالي العام تعلق بعنوان واحد هو الأحكام التي
في الكتب مطلقا أو الأحكام الصادرة عن الشريعة وأمثال ذلك، والمفروض
أن تعلقه به موجب لتنجزه بما له من الأفراد الواقعية، وتردده بين الأقل
والأكثر لا يوجب الانحلال.
اللهم إلا أن يدعى أن كون الأحكام في الكتب التي بأيدينا عنوان واحد،
دون كونها في مطلق الكتب أو غير ذلك من العناوين، وهو كما ترى.
وأما ما ذكره - من أنه ليس للمكلف الأخذ بالأقل لو علم باشتغاله بما في
الطومار - فهو أجنبي عن المقام، بل هو من قبيل الشبهات الموضوعية - التي
419

سيتعرض هذا المحقق لها، ويختار وجوب الفحص فيها - مما لا يحتاج حصول
العلم بالموضوع [فيها] إلى مقدمات كثيرة، بل يحصل بمجرد النظر (1)
فالفحص فيها لازم ولو مع عدم العلم الإجمالي، فالعلم الإجمالي من قبيل
الحجر المضموم لجنب الإنسان (2).

(1) فوائد الأصول 4: 302.
(2) وقد يقال في الجواب عن إشكال أخصية الدليل: بأنه متجه لو كان متعلق العلم
الإجمالي مطلقا، أو كان مقيدا بالظفر به على تقدير الفحص، ولكن كان تقريب العلم
الإجمالي هو كونه بمقدار من الأحكام على وجه لو تفحص ولو في مقدار من المسائل
لظفر به، وأما لو كان تقريبه بأنا نعلم بمقدار من الأحكام في مجموع المسائل المحررة
على وجه لو تفحص في كل مسألة تكون مظان وجود محتمله لظفر به فلا يرد إشكال (أ).
وفيه: أن هذا مجرد تقريب وفرض يرجع إلى أمر واضح الخلاف، وهو العلم بأن في كل
مسألة دليل إلزامي لو تفحصنا لظفرنا به، وهو - كما ترى - مخالف للوجدان، فكأن
القائل أراد دفع الإشكال بأي وجه وتقريب ممكن طابق الواقع أولا.
والإنصاف أنه لا علم إجمالي إلا بأحكام بنحو الإجمال، ومع التفحص في أبواب الفقه لا
يتفق انحلاله بالضرورة، فلو كان المستند هو العلم الإجمالي فلا محيص عن الإشكال،
لكن قد عرفت أن الاستناد [إلى] العلم الإجمالي خروج عن الفرض، وهو شرط أصالة
البراءة هذا حال الشبهات الحكمية.
وأما الموضوعية فالظاهر أن حكم العقل فيها - أيضا - الفحص، وعدم معذورية الجاهل
قبل الفحص، لحكومة الوجدان بأن المولى إذا أمر عبده بإكرام كل ضيف أله، وشك في
كون زيد ضيفه، لا يجوز له بحكم العقل - مع إمكان تفحص حاله، والعلم بأنه ضيفه أو
لا - غض البصر عنه، خصوصا إذا كان رفع الشبهة سهلا أو المشتبه مهما.
فحكم العقل بمعذورية الجاهل، وقبح العقاب بلا حجة وسبب، إنما هو فيما إذا لم يكن
جهله في معرض الزوال، ولم يكن العبد مقصرا في تحصيل غرض المولى، نعم بعد جد
العبد واجتهاده في تحصيل غرضه، وعدم حصول لا العلم له، يكون حكم العقل
420

وجوه أخرى للاستدلال على وجوب الفحص
ثم اعلم أنه بعد تمامية حكم العقل بوجوب الفحص، وعدم
معذورية الجاهل قبل الفحص كما عرفت (1) لا تتم دعوى الإجماع
القطعي على وجوبه (2)، ضرورة قوة احتمال كون مستند المجمعين هو
الدليل العقلي لا الشرعي، كما أن دعوى كون الآيات والروايات الدالة
على لزوم التفقه والتعلم إرشادية إلى حكم العقل (3) لا تأسيسية تعبدية، غير
بعيدة.
هذا مضافا إلى أن الأمر إذا تعلق بالعناوين المرآتية كالتفقه والتعلم يكون
ظاهرا في المقدمية للتحفظ على العناوين المستقلة الذاتية، فإذا قيل: (تفقهوا في
الدين) أو (طلب العلم فريضة) (4) يكون ظاهرا في الوجوب المقدمي لحفظ
بالبراءة محكما.
فملاك لزوم الفحص عقلا هو عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا حجة وسبب قبل الفحص،
ومعه لا أمن من العقاب إلا بعد الفحص، وسيأتي حال البراءة الشرعية.
[منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 471 - 472.

(1) انظر صفحة: 411 وما بعدها من هذا المجلد.
(2) فرائد الأصول: 300 سطر 15 و 301 سطر 19 - 20.
(3) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 474 سطر 19 - 21.
(4) تقدم تخريجهما.
421

الدين وأحكام الله والعمل بها.
مع أن في نفس الأدلة شواهد على ما ذكرنا، مثل آية النفر (1) الدالة على
أن غاية وجوب التفقه في الدين تحذر المستمعين، ومعلوم أن نفس التحذر
ليس مطلوبا، بل المطلوب هو العمل بالأحكام.
ومثل ما ورد في تفسير قوله تعالى: * (فلله الحجة البالغة) * (2) أنه:
(يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلا عملت، وإن قال:
لا، قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل) (3) فإنه صريح في أن التعلم إنما هو للعمل
ولا نفسية له.
مناط استحقاق تارك الفحص للعقاب
واتضح مما ذكرنا: أن استحقاق عقاب التارك للفحص إنما هو على ترك
الواقع لا الفحص كما نسب (4) القول به إلى المدارك (5) ولا على ترك
الفحص والتعلم المؤديين إلى ترك الواقع كما ذهب إليه بعض أعاظم
العصر (6) رحمه الله.

(1) التوبة: 122.
(2) الأنعام: 149.
(3) أمالي الشيخ الطوسي 1: 8 - 9، تفسير نور الثقلين 1: 775 - 776 / 300.
(4) الناسب هو الشيخ الأعظم في فرائد الأصول: 302 سطر 9 - 10.
(5) مدارك الأحكام: 123 سطر 31 - 32.
(6) فوائد الأصول 4: 285.
422

أما كونه على ترك الواقع فلما عرفت من أن الواقع منجز مع الاحتمال
قبل الفحص، ومعنى تنجزه صحة العقوبة على تركه ولا يكون الجهل به
عذرا.
وأما عدم العقاب على ترك الفحص فلعدم الدليل على حرمته، بل ظاهر
الأدلة هو الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص، وهو لا يكون إلا لحفظ
الواقعيات ولا نفسية له.
ومن ذلك يعلم أن دعوى قبح ترك الفحص لأجل التجري (1) - أيضا -
مما لا أساس لها، فإن تحقق التجري - أيضا - إنما يكون بعد تنجز التكليف
الواقعي على فرض وجوده، فترك محتمل الوجوب كإتيان محتمل الحرمة
قبل الفحص تجر على المولى مع عدم المصادفة ومعصية في صورة المصادفة،
فلا يكون العقاب على ترك. الفحص.
وأما ما ذهب إليه بعض الأعاظم - من كون العقاب على ترك الفحص
المؤدي إلى ترك الواقع، قائلا: إن العقاب على ترك الفحص ينافي وجوبه
الطريقي الذي لا نفسية له، ولا يجوز على ترك الواقع للجهل به، فلابد وأن
يكون لترك الفحص المؤدي إلى ترك الواقع (2) - فمما لا محصل له، لأن الواقع
مما لاعقاب عليه فرضا، وترك الفحص - أيضا - لاعقاب عليه، فكيف يعقل
أن يكون العقاب على مثل ذلك، أي على ترك الفحص الذي لاعقاب عليه

(1) الكفاية 2: 258.
(2) فوائد الأصول 4: 285.
423

المؤدي إلى ترك الواقع الذي لاعقاب عليه؟!
مضافا إلى أن التعلم إذا كان وجوبه طريقيا محضا فلا يمكن تبدل
طريقيته إلى النفسية بمجرد أدائه إلى ترك الواجب، فالعقاب عليه مما لا معنى له
وإن أدى إلى ترك واجب نفسي.
هذا، مع أن إنكار استحقاق العقوبة على الواقع قبل الفحص إنكار
للضروري كما عرفت (1) (2). هذا حال التبعة.

(1) انظر صفحة: 412 وما بعدها من هذا المجلد.
(2) والتحقيق: أنه مع قطع النظر عن روايات الباب وملاحظة حكم العقل أن حكمه يدور
مدار مخالفة الواقع، وأنها مع البيان توجب الاستحقاق وبلا بيان لا توجبه، ولما كان
وصول البيان إنما هو بوروده في الكتاب والسنة يحكم العقل بلزوم الفحص، ومع
عدمه يحكم باستحقاقه العقاب على الواقع، لعدم كون العقاب عليه بلا بيان، فلا قبح
لترك الفحص بذاته، ولا نفسية للفحص عند العقل، وما قيل: - إنه ظلم على المولى
بنفسه (أ) - كلام شعري ممنوع.
ثم إنه يقع الكلام في أنه مع ترك الفحص يستحق العقاب على الواقع - على فرض
مخالفته - ولو لم يكن بيان. عليه بحيث لو تفحص وصل إليه، بل ولو كان طريق على
ضده بحيث وصل إليه مع الفحص، فلو كان شرب التتن حراما واقعا، فشربه بلا فحص،
استحق العقوبة ولو لم يكن فيما بأيديه طريق إلى حرمته، بل ولو كان طريق إلى حليته،
أو يستحق إذا كان طريق إلى حرمته لو تفحص عنه وصل إليه.
يمكن أن يقال بالاستحقاق مطلقا، إما لأجل أنه خالف الواقع بلا عذر، والطريق الواقعي
على الحلية ليس عذرا وحجة يمكن أن يتكل عليه في مقام الاعتذار (ب) وإما لأجل حكم
العقل بالاحتياط على فرض ترك الفحص، وهو بيان على الواقع، نعم لو تفحص لم
يحكم بالاحتياط، ويختص موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان [بما] لو لم يصل إليه
بيان، وأما قبل الفحص فيحكم العقل على سبيل التخيير بلزوم الفحص أو الاحتياط، ومع عدم
424

الفحص لزم عليه الاحتياط، فمخالفة الواقع مع حكم العقل بالاحتياط موجبة
للاستحقاق (ج).
اللهم إلا أن يقال: إن حكم العقل بالاحتياط في المقام ليس لأجل التحفظ على الواقع
مستقلا ومستقيما، بل لاحتمال وصول البيان وضبطه في الكتاب والسنة، ومعه يتم
البيان ويرفع موضوع القاعدة، وفي مثله لا يوجب ترك الاحتياط استحقاق العقاب على
الواقع بلا بيان، فضلا عن ورود بيان الضد.
ثم إنه يتم الكلام بذكر أمرين ذكرهما في الكفاية:
الأول: ظاهر الكفاية أن المخالفة فيما نحن فيه تكون مغفولا عنها، لكن لما كانت منتهية
إلى الاختيار يستحق العبد العقوبة عليها (د).
وهو غير وجيه على إطلاقه، لأن الكلام في شرائط جريان الأصل، ولا إشكال في أن
المورد ملتفت إليه، واحتمال المخالفة مورد الالتفات وإن كانت المخالفة غير معلومة،
ففرق بين كونها غير معلومة وكونها مغفولا عنها، والمقام من قبيل الأول.
وكيف كان لو فرض أن ترك الفحص صار موجبا لبقاء الغفلة عن تكليف، كما لو فرض أن
الفحص عن حرمة شرب التتن يصير موجبا للعثور على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال،
وكان الثاني مع عدم الفحص عن الأول مغفولا عنه، فشرب العبد التتن مع عدم الفحص،
وترك الدعاء عند رؤية الهلال غفلة عن وجوبه، فهل يستحق العقاب على ترك الدعاء
باعتبار أن هذه الغفلة الباقية بتقصير منه ولو في ترك الفحص عن تكليف آخر ليست
عذرا، فهو ترك الواقع وخالف المولى بلا عذر، أو آنها عذر ومجرد عدم الفحص
والتقصير في تكليف آخر لا يوجب انقطاع عذره؟
لا يبعد عدم معذوريته عند العقل، لأن المعذورية: إما لأجل عدم فعلية الأحكام الواقعية
في حال غفلة المكلف عنها، وقد ذكرنا في محله (ه‍) عدم دخل الغفلة والجهل والعجز في
عدم فعليتها ومقابلاتها في فعليتها، وأن مناط الفعلية والشأنية أو الإنشائية ليس ما ذكر.
وإما لأجل كون الغفلة مطلقا - بأي سبب كان - عذرا عند العقل مع فعلية الأحكام.
425

ففيه: منع كونها بنحو الإطلاق كذلك، ألا ترى أنه لو أوجد سبب الغفلة باختياره كما لو
شرب اختيارا دواء يوجب الغفلة فترك المأمور به غفلة لا يعذره العقل، ففيما نحن فيه
يكون سبب بقاء الغفلة وترك المأمور به عن غفلة هو تركه الفحص طغيانا، وبلا عذر،
وفي مثله لا يكون معذورا في ترك المأمور به وفعل المنهي عنه الفعليين، بل العقاب
في مثله لا يكون بلا بيان وبلا مناط.
الثاني: لو صار ترك الفحص موجبا لترك واجب مشروط أو موقت، بمعنى أنه ترك
الفحص قبل تحقق الشرط والوقت مع احتمال كون تركه موجبا لترك المشروط
والموقت في زمان تحقق الشرط والوقت، فصار كذلك، فهل يكون مستحقا للعقوبة كما
في ترك الفحص في الواجب المطلق أولا؟
قد يقال بالتفصيل بين ما إذا قلنا في المشروط والموقت بفعلية الوجوب وإن كان
الواجب استقباليا (و) وبين ما [إذا] قلنا فيهما بمثل مقالة المشهور في الواجب المشروط
من عدم الوجوب إلا عند تحقق الشرط (ز) خصوصا لو قلنا بأن وجوب الفحص غيري من
باب وجوب المقدمة، لأن تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها كالنار على المنار (ح).
أقول: التحقيق: استحقاقه العقوبة مطلقا سواء قلنا بمقالة المشهور أو لم نقل، وسواء
قلنا بأن مناط وجوب الفحص هو المقدمية أو لا، فإنا لو قلنا بمقالة المشهور في الواجب
المشروط، وقلنا بالوجوب المقدمي أيضا، نقول: إنا قد حققنا في باب وجوب
المقدمة (ط) أن ما هو المعروف - من أن وجوبها مترشح من وجوب ذيها (ي) وعليه لا
يعقل وجوبها قبل وجوبه، للزوم كون المعلول قبل علته - ليس على ما ينبغي، بل
لوجوب المقدمة - كوجوب ذيها - مباد ومقدمات خاصة بها، إذا وجدت وجد الوجوب
وإلا فلا، وجب ذو المقدمة فعلا أو لا.
فلو قلنا بوجوب المقدمة وسلمنا التلازم نقول: إن المولى إذا تصور توقف الواجب
المشروط - الذي سيتحقق شرطه - على شئ قبل مجئ الشرط، بحيث لو تركه العبد
في الحال يوجب سلب القدرة عنه في حال تحقق الشرط، فلا ريب في تعلق إرادته بإيجاده بمناط
426

المقدمية، لحصول مبادئ إرادتها من التصور والتصديق بالفائدة وغيرهما، وعدم تحقق
الوجوب في الحال لا يوجب عدم حصول مبادئ إرادة المقدمة وإيجابها.
نعم بناء على ما قيل من معلولية وجوب المقدمة عن وجوب ذيها، وترشح وجوبها عن
وجوبه، تكون التبعية كالنار على المنار، لكن التأمل في إرادة ذي المقدمة ومبادئها
وإرادة المقدمة ومبادئها، يرفع الريب عن عدم وجاهة ما ذكروا، فحينئذ يكون ترك
الفحص - الموجب لفوات الواجب في محله بلا عذر - موجبا لاستحقاق العقوبة.
ولو لم نقل بوجوب المقدمة أو كون وجوبها بمناطها - كما هو الحق في المقامين - فلا
شبهة أيضا في استحقاقه العقوبة، لحكم العقل والعقلاء بأن تفويت الواجب المشروط -
الذي يأتي شرطه في محله - بلا عذر موجب للاستحقاق، ولا عذر لمن يعلم أن شرط
الواجب يحصل غدا أن يتساهل في مقدماته الوجودية المفوتة ولو صرح المولى بأن
الواجب المشروط قبل شرطه ليس بواجب أصلا.
وذلك لا للقاعدة المعروفة: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما توهم بعض أهل
التحقيق (يا) لما ذكرنا في محله (يب) من أن تلك القاعدة العقلية غير مربوطة بمثل المقام،
بل هي مربوطة بمسألة عقلية فلسفية في قبال توهم بعض المتكلمين المنكر للإيجاب
والامتناع السابقين، بتوهم أن التزامه موجب لصيرورة الفاعل موجبا - بالفتح - فأنكر
على مثله أهل الفن بأن الوجوب بالاختيار وكذا الامتناع بالاختيار لا ينافيان الاختيار (يج).
وأما مثل المقام فلا شبهة أن الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار، فمن ترك السير إلى أن
ضاق الوقت خرج إتيان الحج عن اختياره ولو كان الامتناع باختياره، لكن لا يكون هذا
الامتناع عذرا عند العقل والعقلاء، وهو قاعدة أخرى غير القاعدة المشتهرة.
فاتضح من ذلك دفع ما قال المحقق المتقدم [من أن مورد القاعدة] ما إذا كان الامتناع
بسوء اختياره، ولا يكون ذلك إلا بعد فعلية التكليف وتساهله في تحصيل المقدمات
حتى عجز عن امتثاله (يد) وذلك لأن العقل لا يفرق بين الواجب المشروط المعلوم تحقق
شرطه وبين الواجب المطلق في عدم معذورية العبد، والعقلاء حاكمون بالاستحقاق، فارجع إليهم
427

حتى يتضح الحال.
وأما ما عن الأردبيلي (يه) وصاحب المدارك (يو) من الالتزام بالوجوب النفسي التهيئي
واستحقاق العقوبة على تركه مطلقا، فغير وجيه، لا لما قال المحقق المنقدم من لزوم
محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وأن تبعية وجوبها عن وجوبه كالنار على
المنار (يز)، ضرورة عدم مناط المقدمية فيه، لعدم التوقف الوجودي، لكن لما رأى
المولى أن ترك الفحص موجب للوقوع في ترك المأمور به أو فعل المنهي عنه أحيانا، ولا
يكون في الفحص مناط المقدمية حتى يجب بناء على الملازمة، فلا محالة يأمر به لسد
الاحتمال، كالأمر بالاحتياط في الشبهة البدوية.
لكن يرد عليهما: - مضافا إلى عدم دليل من عقل أو نقل عليه: أما العقل فواضح، وأما
النقل فسيأتي [عند] بيان مفاد الأدلة - أن مخالفة الوجوب النفسي التهيئي لا توجب
عقوبة عقلا، لعدم المحبوبية الذاتية فيه، ولا يكون تعلق الأمر به لأجله حتى يكون
مولويا ذاتيا موجبا لاستحقاق العقوبة، بل يكون لأجل التحفظ على الغير كالأمر
بالاحتياط، فالالتزام بما ذكرا - مع كونه بلا موجب - لا يدفع الإشكال. مع أن إنكار
استحقاق العقوبة على مخالفة نفس الواقع غير وجيه.
هذا كل حال حكم العقل مع قطع النظر عن الأدلة الشرعية.
وأما حال الأدلة فملخص الكلام فيها: أن مقتضى التدبر في الأخبار الكثيرة المتفرقة في
أبواب متفرقة، أن التفقه - وتحصيل مرتبة الفقاهة والاجتهاد في الأحكام - مستحب
نفسي أكيد أو واجب كفائي نفسي.
ويدل على المطلوبية النفسية أخبار كثيرة في فضل العلم والعلماء، كقول أبي جعفر في
مرسلة ربعي: (الكمال كل الكمال التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير
المعيشة) (يح) وكقول أبي عبد الله: (إن العلماء ورثة الأنبياء) (يط) وكقوله: (العلماء أمناء
الله) (ك) وقوله: (العلماء منار) (كا) وكقول رسول الله: (من سلك طريقا يطلب فيه علما
سلك الله به طريقا إلى الجنة) (كب) وكأخبار فضل العالم على العابد (كج) وغيرها (كد)
428

مما لا تعد، ولا ريب في دلالتها على المطلوبية النفسية، ولا يبعد استفادة الوجوب
الكفائي من طائفة منها (كمه) بل من آية النفر (كو) أيضا.
وهنا طائفة منها تدل على أن ترك السؤال والفحص لا يكون [عذرا، كما يدل عليه مرسلة
يونس عن بعض أصحابه، قال: (سئل أبو الحسن - عليه السلام - هل يسع الناس ترك
المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا) (كز).
وصحيحة الفضلاء قالوا: (قال أبو عبد الله - عليه السلام - لحمران بن أعين في شئ
سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون) (كح).
ورواية المجدور الذي غسلوه ولم ييمموه (مط).
وما ورد في تفسير قوله - تعالى -: * (فلله الحجة البالغة) * (كي) أنه (يقال للعبد يوم
القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلا عملت، وإن قال: لا، قيل له: هلا تعلمت
حتى تعمل) (ل) إلى غير ذلك مما هو ظاهر في أن العلم للعمل (لا).
وهذه الروايات إرشاد إلى حكم العقل من لزوم السؤال والتعلم، لتمامية الحجة على
العبد على فرض ورود البيان من المولى، ولا تدل على الوجوب النفسي، ولا النفسي
التهيئي، لأن مفادها تابع لحكم المرشد إليه، وهو حاكم بعدم وجوبه نفسيا.
وهاهنا روايات كثيرة لا يسع المقام لإيرادها وتوضيح مقاصدها، وفيما ذكرنا كفاية إن
شاء الله تعالى] (لب). [منه قدس سره]
(أ) نهاية الدراية 2: 305 سطر 11 - 14.
(ب) فرائد الأصول: 307 سطر 5 - 6 و 22 - 25.
(ج) فوائد الأصول 4: 288 - 289، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث:
478 - 479.
(د) الكفاية 2: 258.
(ه‍) انظر الجزء الأول صفحة: 98 1 - 201.
(و) مطارح الأنظار: 45 - 46، نهاية الأفكار 1: 295.
429

(ز) الفصول الغروية: 79 سطر 23، هداية المسترشدين: 192 سطر 22 - 26، الكفاية
1: 152.
(ح) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 479 - 481.
(ط) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(ي) الفصول الغروية: 82 سطر 20، الكفاية 1: 200، فوائد الأصول 1: 262.
(يا) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 481 سطر 4 - 13.
(يب) انظر كتاب مناهج الوصول للسيد الإمام قدس سره.
(يج) كشف المراد: 218.
(يد) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 481 سطر 4 - 6.
(يه) مجمع الفائدة والبرهان 1: 342.
(يو) مدارك الأحكام: 123 سطر 31 - 32.
(يز) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 481 سطر 2 - 3.
(يح) الكافي 1: 32 / 4 باب صفة العلم وفضل العلماء.
(يط) الكافي 1: 32 / 2 باب صفة العلم وفضل العلماء، ثواب الأعمال: 159 - 160 /
1 ثواب طالب العلم.
(ك) الكافي 1: 33 / 5 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، باختلاف يسير.
(كا) نفس المصدر السابق.
(كب) الكافي 1: 34 / 1 باب ثواب العالم والمتعلم، ثواب الأعمال: 159 / 1 ثواب
طالب العلم.
(كج) الكافي 1: 34 / 1 باب ثواب العالم والمتعلم، ثواب الأعمال: 159 - 160 / 1
باب ثواب طالب العلم، بصائر الدرجات: 26 - 28 باب فضل العالم على العابد.
(كد) الكافي 1: 32 - 33 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء و 34 - 35 باب ثواب
العالم والمتعلم.
430

في صحة عمل الجاهل أو فساده
وأما حال الأحكام فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة، بل
في صورة الموافقة في العبادات فيما لا يتأتى منه قصد القربة، وذلك لعدم
الإتيان بالمأمور به، مع عدم الدليل على الصحة والإجزاء إلا في الإتمام في
موضع القصر، أو الإجهار والإخفات في موضع الآخر، لورود الدليل وفتوى
الأصحاب على صحة الصلاة في الموردين (1) وتماميتها مع الجهل ولو عن
تقصير، مع استحقاق العقوبة على ترك المأمور به على ما هو عليه، فصار
(كمه) الكافي 1: 30 - 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.
(كر) التوبة: 122.
(كز) الكافي 1: 30 / 3 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.
(كح) الكافي 1: 40 / 2 باب سؤال العالم وتذاكره.
(كط) الكافي 3، 68 / 5 باب الكسير والمجدور... و 1: 40 / 1 باب سؤال العالم
وتذاكره، الوسائل 2: 967 / 1 و 3 باب 5 من أبواب التيمم.
(كي) الأنعام: 149.
(ل) أمالي الشيخ الطوسي 1: 8 - 9، تفسير نور الثقلين 1: 775 - 776 / 300.
(لا) الكافي 1: 44 - 45 باب استعمال العلم.
(لب) ما بين الحاصرتين أخذناه من تهذيب الأصول 2: 430 لتتميم السقط الموجود
هنا.

(1) انظر تذكرة الفقهاء 1: 117 سطر 8 - 9 و 193 سطر 4 - 6، رياض المسائل 1:
162 سطر 1 و 257 - 258، كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: 126 - 127،
و 403 سطر 10.
431

الموردان [منشأ للإشكال في المقام، لأنه لو كان المأتي به هو المأمور به
فلا وجه لاستحقاق العقاب، وإلا فلا وجه للصحة.
وإن شئت قلت: إن وجوب الجهر والإخفات [و] كذا القصر إن توقف
على العلم به فهو يستلزم الدور المعروف، وإن كان غير متوقف عليه فيلزم
عدم صحة الصلاة، لعدم الإتيان بالمأمور به، وإن كان من باب تقبل العمل
الناقص بعد وجوده بدلا عن الكامل، وسقوط ما كان واجبا من قبل، فهو مما
يأباه العقل، من سقوط الواجب مع بقاء وقته مع المؤاخذة على تركه، وإن
قلنا بعدم استحقاقه العقوبة فهو يتنافى مع ما تسالموا عليه من عدم معذورية
الجاهل واستحقاقه للعقوبة.
والحاصل: أنه كيف تجتمع الصحة والعقوبة مع بقاء الوقت؟ فإن الناقص لو
كان وافيا بمصلحة التام لصح العمل ولا يستحق العقاب، وإلا فلا وجه
للصحة إلا إذا كان الناقص مأمورا به، وهو خلاف الواقع، للإجماع على
عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
ولقد أجاب عن هذه العويصة ثلة من المحققين، لا بأس بالإشارة إلى تلك
الأجوبة:
منها: ما أفاده المحقق الخراساني من احتمال كون الناقص واجدا لمصلحة
ملزمة مضادة في مقام الاستيفاء مع المصلحة القائمة بالتام، والتام بما هو تام
مشتمل على مصلحة ملزمة، ويكون مأمورا به لا الناقص، لكن مع الإتيان
بالناقص يستوفي مقدار من المصلحة المضادة لمصلحة التام، فيسقط أمر التام
432

لأجله، وتكون الصلاة صحيحة لأجل استيفاء تلك المصلحة (1) انتهى.
وهذا الجواب يدفع الإشكال بحذافيره: أما صحة الصلاة المأتي بها
فلعدم توقفها على الأمر واشتمالها على المصلحة الملزمة، وأما العقاب
فلأنه ترك المأمور به عن تقصير، والإتيان بالناقص أوجب سقوط أمره قهرا،
وعدم إمكان استيفاء. الفائت من المصلحة، لأجل عدم اجتماعها مع
المستوفاة.
وأورد عليه بعض أعاظم العصر بأن الخصوصية الزائدة من المصلحة
القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل، إن كان لها دخل في حصول الغرض
من الواجب، فلا يعقل سقوطه بالفاقد لها، خصوصا مع إمكان استيفائها في
الوقت، كما لو علم بالحكم في الوقت.
ودعوى عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء - لأن استيفاء
أحدهما يوجب سلب القدرة عن استيفاء الأخرى - واضحة الفساد، لأن
القدرة على الصلاة المقصورة - القائمة بها المصلحة التامة - حاصلة، ولا يعتبر
في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها.
وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والإتمام،
غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير (2)] (3).

(1) الكفاية 2: 261.
(2) فوائد الأصول 4: 291 - 292.
(3) ما بين الحاصرتين مقتبس من تهذيب الأصول 2: 430 - 432 تتميما للنقص الحاصل
في المخطوطة.
433

وفيه: أن الخصوصية الزائدة لازمة الاستيفاء، لكن لا دخالة لها في حصول
المصلحة القائمة بالناقص، فالمصلحة القائمة به تستوفى مع الإتيان به فاقدا
للخصوصية الزائدة اللازمة الاستيفاء بحسب الغرض الأكمل، ومع الإتيان
به تكون المصلحة القائمة بالخصوصية الزائدة غير ممكنة الاستيفاء، للتضاد
الواقع بين المصلحتين، أو لعدم إمكان استيفائها إلا في ضمن المجموع، وإعادة
الناقص بعد إتيانه مما لا مجال لها، لاستيفاء المصلحة القائمة به، فإعادته لغو،
ولا يمكن استيفاء المصلحة الزائدة بإتيانها مستقلا أو في ضمن الناقص الغير
القائم به المصلحة، وهذا معنى عدم القدرة على استيفاء الخصوصية بعد
الإتيان بالناقص، فما أفاده - من أن هذه الدعوى واضحة الفساد، لأن القدرة
على إتيان الصلاة المقصورة حاصلة - خلط بين القدرة على صورة الصلاة
المقصورة وبين القدرة على ما قامت به المصلحة، والقدرة حاصلة بالنسبة إلى
الأولى لا الثانية (1).

(1) وقد يدفع الإشكال بتعدد الطب والمطلوب، بتعلق أمر بالطبيعة الجامعة وأمر آخر
بالواجد للخصوصية (أ).
وهذا إنما يصح لو قلنا بكون المطلق والمقيد عنوانين دافعين للتضاد بين الأحكام، وقد
رجحنا عدم كون المطلق والمقيد العنواني داخلا في محل النزاع في باب الاجتماع،
بدعوى عدم كون المطلق عنوانا مغايرا للمقيد، بل المقيد هو هو مع قيد، فلا يدفع التضاد
بين الأمر والنهي المتعلقين بهما.
اللهم إلا [أن] يفرق بين الأمر والنهي والأمرين، بدعوى امتناع تعلق إرادة البعث
والزجر بالمطلق والمقيد، دون إرادة أمرين بهما مع تعدد المطلوب، لعدم التضاد
المتوهم بين الأحكام، وعدم إمكان تعلق إرادة البعث والزجر ليس للتضاد بل لأمر آخر.
434

ومن الأجوبة عن الإشكال ما نقل (1) عن كاشف الغطاء من الالتزام
بالأمر الترتبي، وأن الواجب على المكلف أولا هو القصر، وعند العصيان وترك
الصلاة المقصورة ولو لجهله بالحكم يجب عليه الإتمام (2).
واستشكل عليه: تارة بعدم تعقل الترتب (3) وتارة مع تسليم إمكانه أن
المقام أجنبي عنه، لأنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من المتعلقين
وبالجملة: يمكن دعوى شهادة الوجدان بامكان تعلق أمرين بهما، ضرورة أن من كان
مطلق الماء دافعا لهلاكه يطلبه بنحو الإطلاق، وكان مطلوبه الآخر الماء البارد يطلب
المقيد، ولا تنافي بين مطلوبيتهما، بخلاف المطلوبية والمبغوضية، فإنهما لا يجتمعان في
نفس الماء والمقيد منه مع بقاء الإطلاق على إطلاقه.
فلو قيل. إن تشخص الإرادة بالمراد، فمع وحدته لا يمكن تعلق الإرادتين، ومع كثرته لا
فرق بين الأمرين والأمر والنهي.
يقال: يكفي في تشخصهما اختلاف المتعلق هوية، ولا يكفي ذلك في جواز تعلق البعث
والزجر، أي تعلق الإرادتين المتضادتين. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 484 سطر 20 - 23.

(1) الناقل هو الشيخ في فرائده: 309 سطر 5 - 7.
(2) كشف الغطاء: 27 سطر 22 - 23.
كاشف الغطاء: هو الفقيه الأكبر الإمام المحقق الشيخ جعفر بن الشيخ خضر بن يحيى بن
سيف الدين المالكي الجناجي النجفي، زعيم الإمامية ومرجعها الأعلى في عصره، ولد
سنة 1156 ه‍ في النجف الأشرف، حضر عند الوحيد البهبهاني، والشيخ محمد مهدي
الفتوني، والسيد بحر العلوم، ترك آثارا ناصعة في جبين الدهر أشهرها وأهمها (كشف
الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء) توفي سنة 1228 ه‍. انظر الكرام البررة: 248،
مستدرك الوسائل 3: 397، مقابس الأنوار: 19.
(3) فرائد الأصول: 309 سطر 8.
435

واجدا لتمام ما هو ملاك الحكم، ويكون المانع من تعلق الأمر بكل منهما هو
عدم القدرة على الجمع للتضاد بينهما، والمقام ليس كذلك، لعدم ثبوت
الملاك فيهما، وإلا لتعلق الأمر بكل منهما، لإمكان الجمع بينهما وليسا
كالضدين، فعدم تعلق الأمر بهما يكشف عن عدم الملاك.
هذا، مع أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا
بعصيان الأهم، وفي المقام لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي،
فإنه لا يلتفت إليه، وإلا يخرج عن عنوان الجاهل، ولا تصح منه حينئذ الصلاة
التامة، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب (1).
والجواب أما عن الإشكال الأول: فبأنه مبني على إمكان الترتب، فالإشكال
بنائي.
وأما عن الثاني: فبأنه لا يعتبر فيه أن يكون كل من المتعلقين واجدا للملاك
في عرض الآخر ومقارنا له، بل لو حدث الملاك - عند الجهل بحكم القصر،
أو عند العصيان - بنحو ما يعتبر في الترتب، كفى في الخطاب الترتبي، ويمكن
أن يكون ما نحن فيه كذلك، بل لا إشكال في واجديتهما للملاك، لصحة
صلاة القصر لو فعل، وصحة التمام مع عدم إتيان القصر نصا وإجماعا، وقد
تقدم كونهما متضادين ومعنى تضادهما (2).
وأما الإشكال بأنه لا يعقل أن يخاطب التارك بعنوان العاصي،

(1) فوائد الأصول 4: 293.
(2) انظر الجزء الأول صفحة: 126 وما بعدها.
436

ففيه: أنه لا يعتبر في صحة توجه الخطاب أن يكون المخاطب متوجها إلى
العنوان بما أنه هو، بل لو كان الشرط حاصلا بحسب الواقع يجوز توجه
الخطاب إليه.
وما نحن فيه كذلك، فإن عنوان الجهل بحكم القصر أو العصيان للأمر
القصري حاصل بحسب الواقع، والمكلف ينبعث باعتقاد الأمر التمامي، فإذا
توجه إليه هذا الأمر يكون انبعاثه بهذا البعث المتوجه إليه ولو لم يعلم بأنه
عاص للأمر القصري، ولا يحتاج في البعث أن يتوجه المبعوث إلى شرائط
البعث لو كان الشرط حاصلا بحسب الواقع، فالتصحيح بالأمر الترتبي - على
فرضه - بمكان من الإمكان، تأمل (1).
ثم إن هاهنا وجوها اخر لدفع الإشكال (2) بعضها تام وبعضها غير تام
تركناها مخافة التطويل. هذا كله في البراءة العقلية.
اشتراط جريان البراءة الشرعية بالفحص
وأما البراءة الشرعية فقد يقال: إن مقتضى إطلاق أدلتها عدم وجوب

(1) قوله: - " تأمل " - وجهه: أن الترتب مع فرض معقوليته غير صحيح في المقام، إذ
العصيان - المنوط به الأمر بالإتمام - بترك القصر في تمام الوقت، والمفروض بقاء
الوقت، ولا يحصل العصيان إلا بخروجه.
ويمكن أن يقال: إن هذا الإشكال وارد على كبرى صحة الترتب، فراجع.
[منه قدس سره]
(2) فوائد الأصول 4: 294 - 301.
437

الفحص، فإن قوله: (رفع... ما لا يعلمون) (1) و (الناس في سعة ما لا يعلمون) (2) هو
رفع ما لا يعلم والتوسعة فيه، كان قبل الفحص أو لا (3).
وأجيب عنه بقيام الإجماع على وجوب الفحص (4) وبه تقيد
الإطلاقات، وهو كما ترى، كما أنه لا مجال للتمسك بالعلم الإجمالي (5)
لما عرفت (6) أن الكلام في شرائط جريان أصل البراءة بعد تحقق مجراه، وهو
مع فقد العلم الإجمالي.
ويمكن أن يقال: إن أدلة البراءة مما لا يمكن إطلاقها لما قبل الفحص،
ضرورة أن حكم العقل بوجوب اللطف على الله - تعالى - في بعث
الرسل وإنزال الكتب لئلا يكون الناس كالبهائم والمجانين إنما هو للانتفاع
بأحكام الله في العاجل والآجل، والعمل على طبقها صلاحا لحال
معاشهم ومعادهم، وإنما أرسل الله - تعالى - رسله وأوحى إليهم لهذه
الغاية، فهل يجوز عند العقل بعد ذلك أن يكون من أحكامه - تعالى -

(1) الخصال 2: 417 / 9 باب التسعة، الوسائل 11: 295 / 1 باب 56 من أبواب جهاد
النفس وما يناسبه.
(2) الكافي 6: 297 / 2 باب نوادر، الوسائل 2: 1073 / 11 باب 50 من أبواب
النجاسات و 16: 373 / 2 باب 38 من أبواب الذبائح.
(3) الكفاية 2: 255 - 256، نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 469 سطر
13 - 15.
(4) فرائد الأصول: 300 سطر 15، الكفاية 2: 256.
(5) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 470 سطر 12 - 16.
(6) وذلك في صفحة: 416 من هذا المجلد.
438

رفع ما لا يعلم، بمعنى أن قاطبة الناس يجوز لهم عدم سماع قول الأنبياء
والعلماء، وترك تعلم أحكام الله، وجعل أصابعهم في آذانهم، والذهاب إلى
أقطار لا يسمعون [فيها] من أحكامه شيئا؟! فهل هذا إلا الإذن بأن يصير
الناس كالبهائم والمجانين؟!
وإن أبيت عن التقييد العقلي، وقلت: لا امتناع عند العقل - بعد وضوح
كثير من الأحكام والعلم الإجمالي بكثير منها - أن تجري البراءة بالنسبة إلى
البقية، فلا أقل من انصراف أدلة البراءة عما قبل الفحص (1).

(1) بل التحقيق أن في مثل قوله: (رفع.. مالا يعلمون) لا يكون الموضوع هو
عدم العلم الوجداني، حتى تكون أدلة الأمارات والأصول الحاكمة عليه من قبيل
المخصص له، لاستهجان مثله ولو كان بنحو الحكومة، بل الموضوع هو عدم الحجة،
فكأنه قال: رفع مالا حجة عليه، ولا إشكال في أن الحجة الموجودة في الكتاب والسنة
حجة واصلة بحسب المتعارف، فمع عدم الفحص لا يعلم تحقق موضوع الأصل، وهذا
واضح لدى التأمل.
ولو فرض الإطلاق فيقيد بما في نفس أدلة البراءة، مثل قوله - تعالى -: * (ما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا) * (أ) فجعل بعث الرسول غاية لرفع التعذيب، وبمناسبة الحكم
والموضوع يكون المراد أن الرسول إذا بلغ من ارسل إليه بحسب المتعارف تتم الحجة
ووقع التعذيب على فرض المخالفة، والمفروض - كما تقدم - أن التبليغ المتعارف
تحقق، ووجود الأحكام في الكتاب والسنة حجة تامة على الأمة، ولا يجوز لهم غض
البصر عنها.
ومثله قوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما اتاها) * (ب) بناء على كونه من الأدلة، ومثلهما
الروايات التي بهذا المضمون أو قريبة منه، كقوله: (إنما يحتج على العباد بما
آتاهم وعرفهم) (ج) وقوله: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) (د) فإنها صالحة
439

ثم مع الغض عنها فلا إشكال في تقدم أدلة وجوب التعلم والتفقه (1)
عليها، لحكومتها عليها، كقوله - صلى الله عليه وآله - في المستفيضة
المشهورة: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) (2).
وكمرسل الكافي عن علي - عليه السلام -: (ألا وإن طلب العلم أوجب
عليكم من طلب المال - إلى أن قال -: والعلم مخزون عند أهله، وقد امرتم بطلبه
من أهله، فاطلبوه) (3).
وما في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام -: (تفقهوا في الدين، فإنه من
لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي) (4).
وما في الكافي عن يونس، عن بعض أصحابنا، قال: (سئل أبو الحسن:
لتقييد الإطلاقات على فرضها. [منه قدس سره]
(أ) الإسراء: 15.
(ب) الطلاق: 7.
(ج) الكافي 1: 162 - 163 / 1 باب البيان والتعريف ولزوم الحجة، باختلاف يسير.
(د) الفقيه 1: 208 / 22 باب 45 في وصف الصلاة...، الوسائل 18: 127 - 128 / 60
باب 12 من أبواب صفات القاضي.

(1) الكافي 1: 30 - 31 باب فرض العلم ووجوب طلبه...، بصائر الدرجات: 22 - 23 / 3
في العلم أن طلبه فريضة على الناس.
(2) الكافي 1: 30 - 31 / 1 و 5 باب فرض العلم ووجوب طلبه..، بصائر الدرجات: 22 /
1 و 23 / 3 باب 1 في العلم أن طلبه فريضة على الناس.
(3) الكافي 1: 30 / 4 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.
(4) الكافي 1: 31 / 6 باب فرض العلم ووجوب طلبه وألحت عليه.
440

هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون إليه؟ فقال: لا) (1).
وما في الكافي في الصحيح: (قال أبو عبد الله لحمران بن أعين في شئ
سأله: إنما يملك الناس لأنهم لا يسألون) (2). إلى غير ذلك من الروايات (3).
ومعلوم أنها حاكمة على إطلاق أدلة البراءة على فرضه، فإن روايات
البراءة بإطلاقها تدل على رفع مالا يعلم حتى قبل الفحص، وهذه الروايات
تحكم بوجوب التفقه والتعلم والفحص، فهذه تتعرض لموضوع أدلة البراءة
وتتقدم عليها بالحكومة (4).

(1) الكافي 1: 30 / 3 باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.
(2) الكافي 1: 40 / 2 باب سؤال العالم وتذاكره.
حمران بن أعين: الكوفي الشيباني، يكنى بأبي الحسن، تابعي ومن أكابر مشايخ
الشيعة المفضلين، وكان أحد حملة القرآن ومشاهير القراء، عده الشيخ في أصحاب
الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام. انظر مجمع الرجال 2: 233، معجم رجال
الحديث 6: 254، رجال السيد بحر العلوم 1: 227.
(3) كرواية غسل المجدور (أ) ورواية طول الجلوس في بيت الخلاء (ب) وما ورد في تفسير
قوله: * (فلله الحجة البالغة) * (ج) (د).
(أ) الكافي 1: 40 / 1 باب سؤال العالم وتذاكره، الوسائل 2: 967 / 1 و 3 باب 5 من
أبواب التيمم.
(ب) الفقيه 1: 45 - 46 / 6 باب 18 في الأغسال، الوسائل 2: 957 / 1 باب 18 من
أبواب الأغسال المسنونة.
(ج) أمالي الشيخ الطوسي 1: 8 - 9، تفسير نور الثقلين 1: 775 - 776 / 300.
(د) الأنعام: 149.
(4) وقد يقال: إن هذه الأدلة لا تصلح لتقييد المطلقات، لظهورها في الإرشاد إلى حكم
441

وقد ذكر لجريان أصل البراءة شرطان آخران، لا يخفى [ما] فيهما من
الضعف.
العقل، فتكون المطلقات واردة عليها كما وردت على حكمه.
مضافا إلى إمكان دعوى اختصاصها بصورة العلم الإجمالي، فتكون إرشادية أيضا.
مع أنها قاصرة عن إفادة تمام المطلوب، لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون
الفحص مؤديا إلى العلم بالواقع، والمطلوب أعم من ذلك (أ) انتهى.
وفيه مالا يخفى، أما في دعوى ورودها عليها فلأنه على فرضه لا معنى لتعيير العبد
على عدم العلم (ب) ولا وجه لهلاك العبد بعدم السؤال (ج) ولا للدعاء عليه بقوله: (قاتلهم
الله) (د) فكيف يجمع بين ما ذكره وبين إطلاق أدلة الرفع وورودها عليها؟! بل يكشف
من ذلك أن لا إطلاق لها، أو هي مقيدة على فرضه.
وأما دعوى الاختصاص بالعلم الإجمالي فساقطة، لعدم شاهد عليها، بل إطلاقها يعم
الشبهة البدوية.
وأما ما ذكره أخيرا - [من] اختصاصها بصورة كون الفحص مؤديا - ففيه منع واضح،
لإطلاق الأدلة لصورة الشك في الوصول وعدمه.
نعم لا إشكال في عدم وجوبه مع العلم بعدم الوصول، لأن إيجاب التعلم مقدمة للعلم
على فرض الواقع، ومع العلم بعدم النتيجة لا وجه للتعلم والسؤال ولا موضوعية له،
وأما مع الشك في الحكم واحتمال الوصول فالإطلاق محكم كما لا يخفى، فلا إشكال
في تقديم الأدلة على الإطلاقات لو سلمت، فتدبر. [منه قدس سره]
(أ) نهاية الأفكار - القسم الثاني من الجزء الثالث: 474 - 475.
(ب) الكافي 1: 40 / 1 باب سؤال العالم وتذاكره و 3: 68 / 4 و 5 باب الكسير
والمجدور..، الوسائل 2: 967 - 968 / 1 و 3 و 6 باب 5 من أبواب التيمم.
(ج) الكافي 1: 40 / 2 باب سؤال العالم وتذاكره.
(د) الكافي 3: 68 / 4 باب الكسير والمجدور..، الوسائل 2: 967 - 968 / 6 باب 5
من أبواب التيمم. وفي المصدرين: (قتلهم الله..).
442

ثم إن المحقق الخراساني (1) - رحمه الله - تبع العلامة الأنصاري (2)
- قدس سره - في الاستطراد بذكر قاعدة الضرر، ولما كانت مباحثها كثيرة
أفردنا لها رسالة مستقلة كافلة لجميع مطالبها.
هذا تمام الكلام في مباحث البراءة والاشتغال، والحمد لله أولا وآخرا
وظاهرا وباطنا، وقد فرغت من تبييضها صبيحة يوم الحادي عشر من شهر
رمضان المبارك سنة " 1368 " القمرية في قرية " دركه " من محال شميران.

" والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا "
(1) الكفاية 2: 265.
(2) فرائد الأصول: 313 سطر 24.
443