الكتاب: المباحث الأصولية
المؤلف: الشيخ محمد إسحاق الفياض
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مكتب آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض
ردمك:
ملاحظات:

المباحث الأصولية
دراسة موضوعية معمقة تستوعب أحدث
ما وصل إليه الباحث الأصولي من الآراء
والنظريات العامة بأسلوب بالغ درجة
كبيرة من الدقة والعمق والشمول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الجزء الثاني
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد
وآله الطيبين الطاهرين المعصومين واللعنة الأبدية
على أعدائهم أعداء الدين أجمعين.
3

الحادي عشر: وضع هيئات الجمل
يقع الكلام هنا في عدة مقامات:
الأول: في تحديد المدلول الوضعي للجمل الناقصة.
الثاني: في تحديد المدلول الوضعي للجمل الخبرية التامة وبيان المائز بين
مدلولها ومدلول الجملة الناقصة.
الثالث: في تحديد المدلول الوضعي للجمل الانشائية.
أما الكلام في المقام الأول فلا فرق بين مدلول هيئات الجمل الناقصة ومدلول
الحروف الداخلة عليها، وقد صرح بذلك جماعة من الأصوليين منهم المحقق
الأصبهاني قدس سره، حيث قال بان الحروف أو ما يقوم مقامها من هيئات الجمل
الناقصة موضوعة بإزاء أنحاء النسب والروابط، فالمعنى الموضوع له الهيئات تلك
الجمل بعينه هو المعنى الموضوع له الحروف، ومنهم السيد الأستاذ قدس سره، حيث قد
صرح بأن الحروف أو ما يشبهها من الهيئات جميعا موضوعة بإزاء التحصيصات
والتضييقات، ومنهم بعض الأكابر، حيث قد صرح بأن الحروف المذكورة أو ما
يقوم مقامها من الهيئات الناقصة موضوعة بإزاء النسب التحليلية، وكذلك الحال
بناء على ما قويناه من أن الحروف المزبورة والهيئات الناقصة كهيئة الإضافة
والتوصيف ونحوهما موضوعة جميعا بإزاء النسب الواقعية الذهنية على تفصيل
تقدم، وتقدم تفصيل سائر الأقوال في المسألة بما لها من النقد والمناقشة
أيضا، فلاحظ.
وأما الكلام في المقام الثاني، وهو مفاد هيئة الجمل الخبرية التامة ففيه
5

نظريتان رئيسيتان:
الأولى: ما هو المعروف والمشهور بين الأصوليين من أن الجمل الخبرية
التامة موضوعة بإزاء النسبة التامة التي يصح السكوت عليها في مقابل الجمل
الناقصة أو الحروف الداخلة عليها.
الثانية: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أنها موضوعة لإبراز أمر نفساني
كقصد الحكاية، والاخبار عن الواقع نفيا واثباتا.
وقد قام قدس سره بمجموعة من المحاولات لتفنيد نظرية المشهور واثبات ما
اختاره قدس سره من النظرية.
المحاولة الأولى: أنه لا يمكن أن تكون الجمل الخبرية التامة موضوعة
للدلالة على ثبوت النسبة الواقعية في الخارج وعدم ثبوتها فيه، لأنها لا تدل على
ثبوتها ولو ظنا مع قطع النظر عن حال المخبر وعن القرائن الخارجية، مع أن
دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع، وإلا فلا فائدة للوضع،
فإذا فرضنا أن الجملة بما هي لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها
عنه أصلا حتى ظنا، فما معنى كون الهيئة موضوعة له، نعم إنها وإن كانت عند
الاطلاق تدل على ثبوت النسبة أو نفيها بالدلالة التصورية إلا أنه بهذه الدلالة
ليس مدلولا للهيئة، فإن مدلولها مدلول تصديقي لا تصوري (1).
وللمناقشة في هذه المحاولة مجال لأنها مبنية على أن تكون الجملة موضوعة
للدلالة على ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها منه، ولكن قد مر أنها لم توضع
لذلك وإنما هي موضوعة بإزاء النسبة الواقعية الذهنية، وتدل الجملة عليها

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 85.
6

جزما بالدلالة التصورية التي هي دلالة وضعية دون الدلالة التصديقية، فإنها
مستندة إلى ظهور حال المتكلم الملتفت لا إلى الجملة نفسها.
المحاولة الثانية: أن الجمل الخبرية التامة لو كانت موضوعة للنسبة
الواقعية الخارجية فلازم ذلك أن لا يكون لها مدلول نهائيا في موارد هل
البسيطة، حيث لا تعقل النسبة خارجا بين وجود الشئ وماهيته، ولا سيما بين
ذاته تعالى ووجوده وصفاته العليا الذاتية كقولنا (الله موجود) أو (قادر) أو
(عالم) ولا في مثل قولنا (شريك الباري ممتنع) و (العنقاء ممكن) و (اجتماع
النقيضين مستحيل) وهكذا، لأن ثبوت النسبة خارجا فرع ثبوت المنتسبين
فيه، ومع عدم ثبوتهما لا يعقل ثبوتها، وبالتالي لا يصح استعمال الجملة في هذه
الموارد، لعدم معنى لها، مع أنه لا شبهة في صحة استعمالها فيها كاستعمالها في سائر
الموارد ويكون على نحو واحد، وهذا يكشف عن أن مدلول الجملة لا بد أن
يكون معنى محفوظا في الموارد المذكورة أيضا، وهو ليس إلا ابراز الأمر النفساني
كقصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفيا أو اثباتا (1).
والجواب: أن هذه المحاولة أيضا مبنية على أن تكون الجملة موضوعة بإزاء
النسبة الخارجية، ولكن قد مر أنها لم توضع بإزائها، وإنما وضعت بإزاء النسبة
الواقعية الذهنية، وهي ثابتة في جميع الموارد المذكورة بدون استثناء، فإذن
لا اشكال من هذه الناحية.
المحاولة الثالثة: أن حقيقة الوضع بناء على ما اخترناه عبارة عن التعهد
والالتزام النفساني، ومقتضاها تعهد كل متكلم أنه متى ما قصد تفهيم معنى
خاص أن يتكلم بلفظ مخصوص، فاللفظ مفهم ودال على أن المتكلم أراد تفهيمه

(1) دراسات في علم الأصول 1: 46.
7

بقانون الوضع، ومن الواضح أن التعهد والالتزام لا يتعلقان إلا بالفعل
الاختياري، إذ لا معنى للتعهد بالإضافة إلى أمر غير اختياري، وحيث إن ثبوت
النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار، فلا تعقل تعلق التعهد به، فإذن لا
مناص من الالتزام بتعلقه بإبراز قصد الحكاية في الجملة الخبرية، وابراز أمر
اعتباري نفساني في الجملة الانشائية، حيث إنهما أمران اختياريان (1).
والجواب أولا: أن هذا مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع، وأما على
مسلك المشهور فلا مانع من وضع الجملة بإزاء النسبة الواقعية أو نفيها، فإن
الوضع على مسلك المشهور لا يتطلب أن يكون متعلقه فعلا اختياريا، سواء
أكان بمعنى اعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى أم بمعنى جعل اللفظ للمعنى أو على
المعنى في عالم الاعتبار أم كان بمعنى القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، فإن متعلقه
على جميع التقادير ذات المعنى دون الفعل الاختياري، ونتيجة ذلك هي انتقال
الذهن من تصور اللفظ إلى تصور المعنى.
وثانيا: مع الإغماض عن ذلك وتسليم أن حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام
النفساني، إلا أن مراد المشهور من وضع الجملة بإزاء النسبة ليس هو التعهد
بثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه لكي يقال إنه لا يعقل تعلق التعهدية باعتبار
أنه خارج عن الاختيار، بل مرادهم منه التعهد، بأنه إذا نطق بالجملة الخبرية
التامة قصد اخطار ثبوت النسبة في ذهن السامع أو نفيها فيه تصورا لا قصد
الحكاية والاخبار عنه، وعليه فيكون المعنى الموضوع له هو قصد اخطار النسبة
في ذهن السامع لا قصد الحكاية عن ثبوتها في الواقع، وذلك لأن الوضع بمعنى
التعهد لا يقتضي أن تكون الجملة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 85.
8

عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، إذ كما يمكن ذلك يمكن أن تكون
موضوعة للدلالة على قصد إخطار ثبوت النسبة في ذهن السامع.
وبكلمة، إن الوضع لو كان بمعنى التعهد فبطبيعة الحال يكون مراد المشهور من
وضع الجملة بإزاء النسبة هو التعهد بقصد اخطارها في ذهن السامع حين النطق
بها، كما أن مراد السيد الأستاذ قدس سره من وضع الحروف أو ما يقوم مقامها
للتحصيصات والتضييقات للمفاهيم الاسمية التعهد بإرادة تفهيمها عند التكلم
بها، وليس مراده وضعها بإزاء نفس التحصيصات والتضييقات، لاستحالة تعلق
التعهد والالتزام بها، باعتبار خروجها عن الاختيار كما هو الحال في الألفاظ
المفردة، فإنه قدس سره يقول بأن لفظ الماء موضوع للجسم السيال ولفظ النار موضوع
للجسم المحرق وهكذا، مع أنه لا معنى للتعهد بثبوت الجسم السيال أو المحرق في
الواقع، لأنه خارج عن الاختيار، فإذن لا محالة يكون مراده من ذلك التعهد،
بأنه إذا قصد تفهيم الجسم السيال ينطق بلفظ الماء، وإذا قصد تفهيم الجسم المحرق
ينطق بلفظ النار وهكذا.
فالنتيجة أن الالتزام بكون حقيقة الوضع التعهد والتباني لا يقتضي وضع
الجملة الخبرية للدلالة على قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها
فيه، إذ كما يمكن ذلك يمكن وضعها للدلالة على قصد اخطارها في ذهن السامع.
المحاولة الرابعة: أن دلالة الجملة الخبرية على معناها الموضوع له بما أنها
دلالة تصديقية لا تصورية، فلا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء النسبة الواقعية
الذهنية، وإلا لم تكن دلالتها تصديقية، فإذن لا مناص من الالتزام بأنها إما أن
تكون موضوعة بإزاء النسبة الخارجية أو بإزاء قصد الحكاية والاخبار عن
الواقع نفيا أو اثباتا، وحيث إنها لم توضع بإزاء الأولى، على أساس أن وضعها
9

بإزائها يستلزم أن لا يكون لها مدلول في موارد هل البسيطة وما شاكلها كما
تقدم، فلا محالة تكون موضوعة بإزاء الثاني، وهو قصد الحكاية.
والخلاصة: أن الجملة لا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء النسبة لا الخارجية
ولا الذهنية، فإذن لا مناص من الالتزام بوضعها للدلالة على قصد الحكاية
والاخبار عن ثبوت الواقع أو نفيه.
والجواب أولا: أن هذه المحاولة مبنية على القول بأن حقيقة الوضع هي التعهد
والالتزام النفساني، فإن الدلالة الوضعية على ضوء هذا القول دلالة تصديقية.
وأما على ضوء سائر الأقوال في باب الوضع فلا مانع من وضع الجملة
الخبرية التامة بإزاء النسبة الذهنية، على أساس أن الدلالة الوضعية على أساس
تلك الأقوال دلالة تصورية لا تصديقية حتى في الجملات تامة كانت أم ناقصة.
وثانيا: أنها لا تتم على مسلكه قدس سره في باب الوضع أيضا، لأن الدلالة الوضعية
على ضوء هذا المسلك وإن كانت دلالة تصديقية مطلقا حتى في الألفاظ
والكلمات الأفرادية، إلا أن ذلك لا يقتضي أن يكون المراد من النسبة في الجمل
التامة النسبة الخارجية، لكي يقال إنها لم توضع بإزائها للمحذور المتقدم، بل من
جهة أن الوضع بهذا المعنى لا يقتضي إلا أن يكون متعلقه اختياريا، وحينئذ فكما
يمكن أن يكون متعلقه ابراز قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الخارج
أو نفيها فيه، فكذلك يمكن أن يكون متعلقه ابراز قصد اخطار النسبة في ذهن
السامع، إذ من الواضح أن الوضع بمعنى التعهد لا يقتضي تعين وضع الجملة بإزاء
المعنى الأول دون الثاني، فالنتيجة أن هذه المحاولة أيضا غير تامة.
المحاولة الخامسة: هي ما ذكره قدس سره في مسألة الوضع من أن الغرض منه
التفهيم والتفهم وابراز المعاني والمقاصد للآخرين، ومن الواضح أن الوضع سعة
10

وضيقا يدور مدار سعة غرضه وضيقه، ولا يمكن أن يكون أوسع منه وإلا فهو
لغو، ومن هنا لا بد أن تكون الدلالة الوضعية تصديقية حتى على سائر
المباني والأقوال في المسألة، إذ لو كانت دائرة الوضع أوسع من دائرة الغرض
كان الوضع لغوا وجزافا.
وعلى الجملة، فالغرض من الوضع إنما هو انتقال الذهن من تصور اللفظ إلى
تصور المعنى في موارد قصد التفهيم والافادة، وأما الإنتقال في غير هذه الموارد
فليس داخلا في دائرة الغرض منه، بل هو من جهة الانس الذهني لا الوضع،
وعليه فلا بد من تقييد العلقة الوضعية بصورة قصد التفهيم، واطلاقها مع
اختصاص الغرض بها يكون بلا فائدة (1).
والجواب عنه: ما ذكرناه هناك موسعا وحاصله أن الغرض من الوضع وإن
كان ذلك إلا أنه حكمة له تدعو إلى إيجاد العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى، ولا
يلزم الواضع بتقييدها بموارد قصد التفهيم، على أساس أن اطلاقها مع فرض
اختصاص الغرض بتلك الموارد لا يكون لغوا، باعتبار أن الاطلاق أمر عدمي
على ما قويناه، فلا تكون فيه مؤنة لحاظية زائدة حتى يكون لغوا، وعلى هذا فلا
مانع من جعل العلقة الوضعية مطلقة، فإنه يفي بالغرض بدون أن تكون فيه مؤنة
زائدة بالنسبة إلى جعلها مقيدة لكي يلزم اشكال اللغوية.
هذا إضافة إلى أن الكلام في امكان أصل هذا التقييد على تفصيل تقدم سابقا.
المحاولة السادسة: أن الجمل التامة لو كانت موضوعة بإزاء النسبة الواقعية
الذهنية فما هو الفارق حينئذ بينها وبين الجمل الناقصة؟ على أساس أن النسبة لا

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 104.
11

تقبل الاتصاف بالتمامية تارة وبالنقصان أخرى، لأنها متقومة ذاتا وحقيقة
بشخص وجود طرفيها في الذهن أو الخارج، بلا فرق في ذلك بين الجمل التامة
والناقصة، وعلى هذا فلا يمكن القول بوضع الجمل التامة بإزاء النسبة، بل لا بد
من القول بأنها موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة
في الواقع أو نفيها فيه، وبذلك تفترق الجمل التامة عن الناقصة فيصح السكوت
عليها دون الناقصة (1).
وغير خفي أن هذه المحاولة ليست نقدا وإشكالا على مسلك المشهور بشكل
مباشر، بل هي في الحقيقة تتطلب منهم بيان الفارق بين الجملتين إذا كانت
كلتاهما موضوعة بإزاء النسبة الذهنية الواقعية، وسوف نشير بعونه تعالى إلى
الفرق بينهما رغم أن كلتيهما موضوعة بإزاء تلك النسبة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي أن ما أورده السيد الأستاذ قدس سره على
مسلك المشهور من الاعتراضات والمحاولات لتفنيده غير تام.
فالصحيح هو أن الجمل الخبرية التامة موضوعة بإزاء النسب الواقعية
الذهنية التي هي نسب بالحمل الشائع، ولها تمام خصائصها الذاتية في موطنها،
وهي الالتصاق والارتباط الحقيقي بين مفهومين موجودين فيه، لأن النسبة في
كل موطن متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها فيه ذهنا كان أم خارجا،
فإن كانت في الذهن فخصائصها مناسبة للموجودات الذهنية، وإن كانت في
الخارج فخصائصها مناسبة للموجودات الخارجية.
ثم إن النسبة الذهنية ثابتة في جميع موارد استعمالات القضايا الحملية، سواء

(1) نقلها عنه في بحوث في علم الأصول 1: 268.
12

أكانت من موارد هل البسيطة أو المركبة حتى في مثل قولنا (الله موجود) أو
(عالم) أو (قادر) و (شريك الباري معدوم) وهكذا، فإن النسبة الخارجية
غير متصورة هناك، بل لا تتصور بين وجود الشئ وماهيته فضلا عن تلك
الموارد، وأما النسبة الذهنية فهي متصورة حتى بين ذاته تعالى ووجوده فضلا
بين وجود الشئ وماهيته وفي الاعتبارات والانتزاعيات، لأن النسبة المذكورة
إنما هي بين الموضوع والمحمول في عالم الذهن، سواء أكان لهما وجود في عالم
الخارج أم لا، وحيث إن مفهوم (الله) ومفهوم (موجود) في القضية المعقولة في
عالم الذهن موجودان حاكيان عن وجود واحد في الخارج حقيقة، وهو وجوده
تعالى وتصادقا عليه فيه، فالنسبة بينهما تكون ذهنية، بمعنى يكون الذهن ظرفا
لها والقضية قضية معقولة فحسب، وأما في الخارج فلا قضية حتى تكون هناك
نسبة، لأن الموضوع والمحمول، إما أنه لا وجود لهما في الخارج كما في
الاعتباريات والانتزاعيات ونحوهما أو أن لهما وجودا واحدا فيه، والنسبة
متقومة ذاتا وحقيقة بالمنتسبين ولا يعقل وجودها بدونهما.
فالنتيجة أن القضية المعقولة في تلك الموارد اما أن لا تحكي عن شئ في
الخارج، كما إذا كان الموضوع والمحمول كلاهما أمرا اعتباريا أو ممتنعا وجوده في
الخارج كشريك الباري مثلا أو تحكي عن وجود واحد فيه كما في القضايا
الحملية التي هي بمفاد كان التامة والهلية البسيطة كقولك (الانسان موجود).
فإن الموضوع والمحمول يحكيان عن وجود واحد في الخارج، ولهذا لا تتصور
النسبة بينهما فيه.
وأما في القضايا الحملية التي هي بمفاد كان الناقصة والهلية المركبة كقولك
(زيد عالم)، فيما أن الموضوع فيها موجود في الخارج، والمحمول يكون من
13

عوارضه فيه، فالمعتبر في صحة الحمل فيها أمران: أحدهما: أن يكون الموضوع
متحدا مع المحمول في الخارج، وإلا كان حمله عليه من حمل المباين على المباين
وهو غير صحيح، والآخر التغاير بينهما من جهة حتى لا يكون من حمل الشئ
على نفسه، وعلى هذا فإن كانت الذات مأخوذة في مفهوم المشتق لكان حمل العالم
على زيد في المثال من حمل الكلي على فرده في الخارج، وحينئذ فلا نتصور
النسبة بينهما منه، باعتبار أنهما موجودات بوجود واحد فيه، وأما إذا لم تكن
الذات مأخوذة في مفهوم المشتق بأن يكون مفهومه نفس المبدأ، فحينئذ
يكون المحمول مباينا للموضوع فلا يصح حمله عليه، إلا أن يرجع إلى الحمل
على الصفة القائمة بزيد وهو من حمل الكلي على فرده، ومن هذا القبيل حمل
الأبيض على الجسم، فإنه يرجع إلى الحمل على الصفة القائمة بالجسم، وهذا
من حمل الكلي على فرده في الخارج، وحيث إن الموجود فيه واحد فلا تتصور
النسبة بينهما فيه.
ثم إنه لا فرق في ذلك بين كون الجملة الخبرية التامة اسمية، كقولك (زيد
عالم) أو فعلية كقولك (ضرب زيد)، فإن كلتا الجملتين موضوعة بإزاء النسبة
الواقعية الذهنية التي هي نسبة بالحمل الشائع، غاية الأمر أن قولك (زيد عالم)
يرجع إلى قولك (زيد شئ له صفة وتلك الصفة علم) فهنا ثلاث نسب: اثنتان
منها من النسب الحملية هما النسبة بين زيد وبين شئ له صفة. والنسبة بين هذه
الصفة القائمة بزيد والعلم والثالثة من نسبة العرض إلى معروضه، وهي نسبة
الصفة إلى الشئ، فإنها من نسبة العرض إلى موضوعه، ولا موطن للنسبتين
الأوليين إلا في صفع الذهن، باعتبار أن الموضوع والمحمول فيهما متحدان في
الخارج، فلا يعقل وجود النسبة بينهما فيه، وأما النسبة الثالثة فهي كما أنها ثابتة
في صقع الذهن كذلك أنها ثابتة في صقع الخارج، على أساس مغايرة العرض مع
14

معروضة في الذهن والخارج.
وأما الجمل الفعلية كقولك (ضرب زيد)، فإن النسبة فيها ليست من النسب
الحملية، وهي نسبة المحمول إلى الموضوع، بل نسبة العرض إلى معروضه، وهي
قد تكون صدورية كالمثال المذكور، وقد تكون حلولية كقولك (زيد قائم)
و (بكر عالم) وهكذا، ولهذه النسبة موطن في الذهن والخارج، بمعنى أنها إن
كانت في الذهن فهي متقومة بشخص وجود طرفيها فيه، وإن كانت في الخارج
فكذلك فيه، فتكون النسبتان متباينتين ذاتا وحقيقة من جهة أن المقومات
الذاتية لكل منهما مباينة للمقومات الذاتية للأخرى.
وأما حكاية النسبة الذهنية عن النسبة الخارجية مع عدم انطباقها عليها على
حد انطباق الطبيعي على فرده فهي إنما تكون بسبب طرفيها، باعتبار أنهما بالنظر
التصوري الآلي عين الخارج، وبهذا النظر ترى النسبة تبعا بأنها عين النسبة
الخارجية، وإلا فنسبتها إليها نسبة المماثل إلى المماثل، لا الطبيعي إلى الفرد
فحكايتها عنها إنما هي بالتبع لا بالأصالة.
والخلاصة: أن كلتا الجملتين الاسمية والفعلية معا موضوعة بإزاء معنى
واحد، وهو النسبة الواقعية الذهنية التي هي نسبة بالحمل الشائع، والاختلاف
بينهما إنما هو في بعض الخصوصيات الخارجة عن حريم المعنى الموضوع له، منها
ما عرفت، ومنها أن الجملة الفعلية تدل على الحدوث في عمود الزمان دون
الاسمية.
لتوضيح ما ذكرناه نظريا وتطبيقيا نذكر أمورا:
الأول: أن نتيجة ما ذكرناه من أن الجملة الخبرية التامة موضوعة للنسبة
الواقعية الذهنية هي أن الدلالة الوضعية لها دلالة تصورية، لما ذكرناه في باب
15

الوضع من أن الدلالة الوضعية للألفاظ على معانيها مطلقا - بلا فرق بين الألفاظ
المفردة والألفاظ المركبة كالجملات من التامة والناقصة - تصورية على أساس
أن تلك الدلالة مستندة إلى الوضع مباشرة دون الدلالة التصديقية، فإنها
مستندة إلى الظهورات الحالية أو السياقية مباشرة دون اللفظ بما هو.
وبكلمة، إن الدلالة الوضعية على جميع المباني في مسألة الوضع دلالة
تصورية ولا يمكن أن تكون تصديقية إلا على مبنى التعهد والالتزام النفساني،
فإن الدلالة الوضعية على أساس هذا المبنى دلالة تصديقية مطلقا في الكلمات
الأفرادية حقيقة أو حكما، والجملات التامة الاسمية والفعلية، فإن الأولى
موضوعة للدلالة على قصد تفهيم معانيها، والثانية موضوعة للدلالة على قصد
الحكاية والاخبار عن ثبوت شئ في الواقع أو نفيه فيه.
فالنتيجة أن الدلالة الوضعية على جميع المباني في باب الوضع دلالة تصورية
لا تصديقية إلا على مبنى التعهد.
الأمر الثاني: أن ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أن الجملة التامة موضوعة
للدلالة على قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، فلا
يمكن المساعدة عليه.
أما أولا فلأن ما اختاره قدس سره مبني على مسلكه من أن حقيقة الوضع هي التعهد
والتباني، فإنه على هذا المسلك تكون الدلالة الوضعية دائما دلالة تصديقية،
فالجملة التامة كقولك (الانسان عالم) موضوعة للدلالة على قصد الحكاية
والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، ولكن قد تقدم أن هذا المسلك
غير تام، وأما على ضوء سائر المسالك في باب الوضع فالدلالة الوضعية دائما
دلالة تصورية، لما ذكرناه هناك من أنه لا يعقل نشوء أكثر من العلاقة التصورية
16

بين اللفظ والمعنى من الوضع طالما لم يرجع إلى التعهد.
وثانيا: لو سلمنا أن الوضع بمعنى التعهد إلا أنه لا يقتضي أكثر من كون متعلقه
أمرا اختياريا، وأما كونه في الجملة التامة كزيد عادل مثلا هو قصد الحكاية عن
ثبوت النسبة في الواقع فهو بحاجة إلى مبرر، إذ كما يمكن ذلك يمكن أن يكون
متعلقه قصد اخطار المعنى في الذهن، فلا ترجيح للأول على الثاني، وعلى هذا فما
أفاده قدس سره من أنه يقتضي كون الجملة التامة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية
بحاجة إلى مبرر.
الثالث: أن الجملة الاستفهامية كقولك (هل زيد عالم) موضوعة للدلالة
على النسبة الاستفهامية بين المستفهم والمستفهم عنه في الذهن، وهذا لا كلام
فيه، وإنما الكلام في أن المستفهم عنه هل هو مدلول الجملة التامة وهو النسبة في
عالم الذهن أو أنه ثبوت النسبة في الخارج.
والجواب: أنه لا ريب في أن المستفهم عنه العلم إلى زيد في الخارج أي كون
زيد عالما فيه، وليس المستفهم عنه النسبة الذهنية التي هي مدلول الجملة وضعا،
كما أنه ليس قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها فيه.
والخلاصة: أن كلمة (هل) تدل على النسبة الاستفهامية، ومدخولها وهو
جملة (زيد عالم) في المثال تدل على واقع النسبة الذهنية، فتكون استفادة
الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول، بأن تكون
النسبة الاستفهامية مدلولا لأداة الاستفهام، والنسبة الذهنية مدلولا للجملة
التامة المدخول عليها الأداة.
وقد أورد على القائل بأن الجملة التامة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية
والاخبار عن ثبوت النسبة في الخارج أو نفيها فيه بالنقض بموارد دخول أداة
17

الاستفهام على الجملة التامة، كما في قولك (هل زيد عادل)، إذ لا شبهة في أن
المستفهم عنه نسبة العدالة إلى زيد في الخارج، أي كون زيد عادلا فيه لا قصد
الحكاية والاخبار عنها (1).
وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ قدس سره بأن أداة الاستفهام أو الجملة
الاستفهامية موضوعة بوضع واحد للدلالة على قصد الاستفهام، فليست
استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول، بأن
يكون الاستفهام مدلولا للأداة، والنسبة التامة مدلولا للجملة، بل الدال والمدلول
واحد، فإن الدال هو الجملة الاستفهامية، والمدلول هو قصد الاستفهام وإنشاؤه.
ولكن هذا الجواب تام على مسلكه قدس سره، فإن تعدد الدال والمدلول في الجملة
الاستفهامية إنما يتصور على مسلك المشهور المختار، وهو أن الدلالة الوضعية
دلالة تصورية، فإن الجملة الاستفهامية تدل على الاستفهام والجملة التامة
المدخول عليها الأداة تدل على النسبة، فإذا قيل: هل زيد قائم كان المتبادر منه
أمران: أحدهما الاستفهام والآخر النسبة بين زيد وقائم، والدال على الأول أداة
الاستفهام، وعلى الثاني الجملة المدخول عليها الأداة من باب تعدد الدال والمدلول.
وأما على مسلك التعهد، فحيث إن الدلالة الوضعية دلالة تصديقية، فلا
يتصور تعدد الدال والمدلول في الجملة الاستفهامية، فإنها تدل على الاستفهام،
والجملة المدخول عليها الأداة لا تدل على قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في
الخارج أو نفيها فيه، لأن هذه الدلالة على ذلك المسلك وإن كانت وضعية إلا أنها
تتوقف على أن تكون الجملة صادرة من متكلم شاعر ملتفت بالاستقلال،
لاختصاص الوضع لها بهذه الحالة، والمفروض أنها لم تصدر إلا في ضمن الجملة

(1) أورده مع نقل الجواب في بحوث في علم الأصول 1: 287.
18

الاستفهامية، فلا ينطبق عليها قانون الوضع بمعنى التعهد، فتكون الجملة حينئذ
منسلخة عن معناها الموضوع له.
ودعوى أن استفادة الاستفهام من الجملة الاستفهامية لو لم تكن من باب
تعدد الدال والمدلول، لم يصح تصديق الاستفهام في مقام الجواب بكلمة (نعم)
أو (لا). لأن مدلول الجملة الاستفهامية مدلول انشائي، وهو غير قابل
للتصديق أو للنفي، فصحة التصديق اثباتا أو نفيا تدل على أن الاستفادة من باب
تعدد الدال والمدلول.
مدفوعة بأن مرد التصديق في مقام الجواب بكلمة (نعم) أو (لا) إلى
تصديق الجملة، حيث إنه بمثابة تكرارها نفيا أو اثباتا، لا إلى تصديق الانشاء
لكي يقال: أنه لا يقبل التصديق لا نفيا ولا اثباتا (1).
وبكلمة، إنه على القول بالتعهد تكون للجملة الاستفهامية مدلول واحد
وضعا بدون أن تكون للجملة المدخول عليها الأداة مدلول وضعي، باعتبار أن
قانون الوضع بمعنى التعهد لا ينطبق عليه، على أساس أن المتكلم بالجملة
الاستفهامية، تعهد بأنه متى تكلم بها أراد انشاء الاستفهام وطلب فهم ثبوت
نسبة العلم إلى زيد في الخارج، وعلى هذا فإذا أجاب المسؤول إليه بقوله (نعم)
أو (لا) كان مرجع جوابه إلى التصديق بثبوت العلم لزيد أو نفيه عنه، لا إلى
التصديق بالانشاء نفيا أو اثباتا لكي يقال إنه غير معقول، لوضوح أن الاستفهام
عن شئ إذا اتجه إلى شخص، فإذا أجاب بقوله (نعم) أو (لا) فبطبيعة الحال
يرجع جوابه إلى التصديق بثبوت ذلك الشئ أو بنفيه، لا إلى التصديق بانشاء
الاستفهام أو بعدمه، ومن الواضح أن رجوع الجواب إلى التصديق بثبوت النسبة

(1) راجع بحوث في علم الأصول 1: 288.
19

في الخارج أو نفيها فيه، لا يتوقف على أن تكون استفادة الاستفهام من الجملة
الاستفهامية من باب تعدد الدال والمدلول، هذا على القول بالتعهد.
وأما على سائر الأقوال في المسألة التي تكون الدلالة الوضعية على ضوئها
دلالة تصورية دائما، فتكون دلالة الجملة الاستفهامية على الاستفهام من باب
تعدد الدال والمدلول، فإذا قيل: هل زيد عالم، فالجملة الاستفهامية تدل على
الاستفهام، والجملة التامة المدخول عليها الأداة، تدل على النسبة بينهما
في الذهن، وهذا معنى أن استفادة الاستفهام منها من باب تعدد الدال والمدلول،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن المسؤول عنه في الجملة الاستفهامية، إنما هو المدلول
العرضي للجملة التامة المدخول عليها الأداة، لا مدلولها الذاتي الوضعي،
وإن شئت قلت: إن المستفهم عنه فيها إنما هو ثبوت النسبة في الخارج، أي كون
زيد عالما فيه، والمفروض أن المدلول الوضعي للجملة التامة، هو النسبة الذهنية
في عالم الذهن.
ومن ناحية ثالثة، أن الجواب عن الاستفهام عن قيام زيد في قولك (هل زيد
قائم) بكلمة (نعم) أو (لا) يرجع في الحقيقة إلى الاخبار والحكاية عن ثبوت
القيام لزيد أو عدم ثبوته له، بلا فرق في ذلك بين القول بالتعهد في باب الوضع
وسائر الأقوال فيه، غاية الأمر أن دلالته على قصد الاخبار والحكاية على القول
بالتعهد إنما هي بالوضع، وعلى سائر الأقوال بالظهور الحالي أو السياقي لا
بالوضع.
وقد أورد النقض على مسلك السيد الأستاذ قدس سره أيضا بما إذا دخل الفعل على
الجملة التامة كما في مثل قولك (أخبرني أن زيدا عادل)، فإن المخبر به
20

نفس النسبة، أي ثبوت العدالة لزيد في الخارج بمعنى كونه عادلا فيه، لا قصد
الحكاية والاخبار عنها (1).
ولكن قد ظهر مما مر أنه لا أساس لهذا النقض، لأن الجملة المدخول عليها
الفعل لا تدل على قصد الحكاية حتى على القول بالتعهد، على أساس أن دلالتها
عليه منوطة بكونها صادرة من متكلم تعهد بأنه لا ينطق بها إلا إذا قصد الحكاية
والاخبار عنها، وهذا الضابط لا ينطبق على الجملة، لأن المتكلم هنا في المقام
طلب الاخبار بها لا هو أخبر بها، وإذا أجاب المخاطب بقوله (إنه عادل)
أو (ليس بعادل)، كان قاصدا الحكاية عنها والاخبار بها.
هذا إضافة إلى أن كون المخبر به نفس النسبة في المثال لا قصد الحكاية عنها،
فإنما هو بلحاظ أنها ذات المعنى الموضوع له حتى على مسلك التعهد، فإن العلقة
الوضعية على هذا المسلك مقيدة بحالة خاصة، وهي حالة ما إذا قصد المتكلم
الحكاية عنها لا المعنى، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن المستفهم عنه في الجملة الاستفهامية والمطلوب فيها
إنما هو ثبوت النسبة الخارجية، لا مدلول الجملة التامة، لا على القول بالتعهد في
مسألة الوضع ولا على سائر الأقوال في المسألة.
الأمر الرابع: ما هو الفارق بين الجملة التامة والناقصة؟
والجواب: أن الأصوليين قد ذكروا وجوها للفرق بينهما:
الوجه الأول: أن النسبة في الجملة التامة نسبة واقعية ذهنية ومورد للحكم
التصديقي، فمن أجل ذلك يصح السكوت عليها، وأما النسبة في الجملة الناقصة

(1) أورده في بحوث في علم الأصول 1: 288.
21

فهي نسبة تحليلية وليس بواقعية، فإن المفهوم منها شئ واحد في الذهن، وهو
ينحل إلى أجزاء ثلاثة منها النسبة، ومن هنا تكون الجملة الناقصة بمثابة المفرد،
فلا تكون نسبتها موردا للحكم التصديقي، فلذلك لا يصح السكوت عليها.
فالنتيجة أن منشأ صحة السكوت في الجملة التامة إنما هو كون نسبتها موردا
للحكم التصديقي باعتبار أنها نسبة واقعية، ومنشأ عدم صحة السكوت في
الجملة الناقصة إنما هو عدم صلاحية نسبتها لأن يكون موردا للحكم التصديقي
باعتبار أنها تحليلية لا واقعية (1).
ولكن قد تقدم أن هذا الوجه غير تام.
الوجه الثاني: ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره، وحاصل ما أفاده: أن الجملة
التامة موضوعة لقصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها
فيه، فلذلك يصح السكوت عليها، باعتبار أنها تتضمن حكما تصديقيا،
وأما الجملة الناقصة فهي موضوعة بإزاء قصد اخطار الحصة في ذهن المخاطب
تصورا، وحيث إنها لم تتضمن مطلبا تصديقيا وإنما تضمنت مطلبا تصوريا،
فلا يصح السكوت عليها (2).
ولكن يمكن المناقشة فيه،
أما أولا: فلأن هذا الفرق بين الجملتين مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع
وهو التعهد، فإنه على ضوئه بنى على أن الجملة التامة موضوعة للدلالة على
قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، والجملة

(1) بحوث في علم الأصول 1: 268.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 75 و 85.
22

الناقصة موضوعة للدلالة على قصد اخطار النسبة والحصة في الذهن تصورا،
ولكن تقدم موسعا أن هذا المسلك غير تام، فإذن لا يمكن الالتزام بهذا الفرق.
وثانيا: مع الإغماض عن ذلك وتسليم أن حقيقة الوضع هي التعهد والتباني
إلا أن ذلك لا يقتضي إلا أن يكون متعلقه فعلا اختياريا، وأما كون الجملة التامة
موضوعة لقصد الحكاية والاخبار، والناقصة لقصد الاخطار في الذهن، فهو
لا يقتضي ذلك، وعلى هذا فوضع الأولى بإزاء قصد الحكاية والثانية بإزاء
قصد الاخطار بحاجة إلى نكتة في المرتبة السابقة تبرر ذلك، والمفروض أنه ليس
هناك أي نكتة تبرره.
وعلى هذا فما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أن الوضع على مسلكنا يقتضي كون
الجملة التامة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية، والجملة الناقصة موضوعة
للدلالة على قصد الاخطار يكون بدون مبرر.
وإن شئت قلت: إن الوضع بمعنى التعهد يقتضي كون الدلالة الوضعية دلالة
تصديقية بأن يكون متعلقه الإرادة والقصد، وعليه فالوضع لا يقتضي أن يكون
متعلقه قصد الحكاية في الجملة التامة وقصد الاخطار في الجملة الناقصة،
فالتعيين بحاجة إلى معين.
وثالثا: مع الاغماض عن ذلك أيضا وتسليم أن الوضع يقتضي التعيين، إلا أن
هذا المدلول التصديقي لا يصلح أن يكون فارقا بين الجملتين، حيث إن الفرق
بينهما موجود في الحالات التي لا يكون للجملة التامة ذلك المدلول التصديقي، كما
في الحالات التي تكون الجملة التامة مدخولا عليها أداة الاستفهام، كما في مثل
قولك (هل زيد عالم)، فإنه إذا دخلت عليها أداة الاستفهام انسلخت عن
مفهومها التصديقي وهو قصد الحكاية، ومع هذا يكون الفرق بينهما محفوظا من
23

تلك الحالات أيضا، حيث إن دخول أداة الاستفهام على الجملة التامة كالمثال
المذكور صحيح، بينما دخولها على الجملة الناقصة غير صحيح، وهذا يكشف عن
أن الفرق بينهما ليس في أن الجملة التامة تدل على قصد الحكاية دون الجملة
الناقصة، فإذن لا بد أن يكون الفارق بينهما متمثلا في شئ آخر.
فالنتيجة، أنه لا يمكن الفرق بينهما في ذلك.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره، وهو يرجع إلى أمرين:
أحدهما: أن الجملة التامة موضوعة بإزاء ايقاع النسبة، والجملة الناقصة
موضوعة بإزاء النسبة الثابتة، فالأولى تحكي عن إيقاع النسبة والثانية عن
النسبة الثابتة، وهذا هو الفارق بينهما (1).
ويمكن المناقشة فيه بأنه إن أريد بإيقاع النسبة إيقاعها في الخارج، وبالنسبة
الثابتة ثبوتها في الذهن، فيرد عليه ما ذكرناه سابقا من أن الجملة التامة لم توضع
بإزاء النسبة الخارجية، ولا تدل على إيقاعها فيه، وإنما هي موضوعة بإزاء
النسبة الواقعية الذهنية كالجملة الناقصة، فلا فرق بينهما من هذه الناحية، وقد
تقدم موسعا أنها لو كانت موضوعة بإزاء النسبة الخارجية، لزم أن لا يكون لها
مدلول في جملة من القضايا الحملية، منها القضايا التي هي في موارد هل البسيطة
وبين ذاته تعالى وصفاته الذاتية والاعتباريات والانتزاعيات، لأن النسبة
الخارجية لا تتصور في هذه الموارد بين الموضوع والمحمول، إما على أساس أنه لا
وجود لهما في الخارج أو أنهما موجودان بوجود واحد فيه حقيقة، مع أن استعمال
الجملة في تلك الموارد كاستعمالها في موارد هل المركبة صحيح بدون أدنى فرق

(1) نهاية الأفكار 1: 54.
24

بينهما.
هذا إضافة إلى أن هذا الفرق لا يؤدي إلى صحة السكوت في الأولى دون
الثانية، إذ كما أن دلالة الأولى على إيقاع النسبة في الخارج مما يصح السكوت
عليه كذلك دلالة الثانية على ثبوتها في الذهن، فإنها مما يصح السكوت عليه،
فإذن لا فرق بينهما من هذه الناحية.
وإن أريد بإيقاع النسبة إيجادها التصوري وبثبوتها وجودها التصوري، فيرد
عليه أولا: أن هذا الفرق لا يؤدي إلى الفرق بين الجملتين في التمامية والناقصية
وصحة السكوت وعدمها في مقام الافادة، إذ مرد هذا الفرق إلى الفرق بينهما في
الايجاد والوجود التصوري، وأن الجملة التامة موضوعة للدلالة على الايجاد
التصوري والجملة الناقصة موضوعة للدلالة على الوجود التصوري، مع أنه لا
فرق بينهما في الواقع إلا باللحاظ والاعتبار.
وثانيا: ما ذكرناه سابقا من أن الذهن ظرف لنفس النسبة لا لوجودها، إذ لا
يعقل لها وجود لا في الذهن ولا في الخارج، باعتبار أنه ليست لها ماهية متقررة
في المرتبة السابقة على الوجود الذهني والخارجي، فلذلك لا يعقل أن تكون
الجملة موضوعة بإزاء وجود النسبة أو إيجادها، لأن وجودها التصوري
واللحاظي مفهوم اسمي وليس بحرفي، والموضوع بإزائه لفظ النسبة لا الجملة،
لأن معناها حرفي لا اسمي، وعلى هذا فكما لا يمكن أن تكون الجملة موضوعة
بإزاء الوجود التصوري ولا إيجاده، فكذلك لا يمكن أن يكون الايجاد والوجود
التصوري دخيلا في المعنى الموضوع له لهما.
وثانيهما: أن الجملة التامة موضوعة بإزاء النسبة التي تحكي عنها بلحاظ
وجودها، مثلا جملة (زيد عالم) تحكي عن النسبة الموجودة بين زيد والعلم،
25

والجملة الناقصة موضوعة بإزاء النسبة التي تحكي عنها بلحاظ نفسها
بقطع النظر عن وجودها وعدمها، فلذلك لا تكون موردا للتصديق وبالتالي لا
يصح السكوت عليها (1).
وهذه المحاولة غير تامة، وذلك لأنه إن أريد بالنسبة التي تحكي عنها بلحاظ
وجودها وجود النسبة في الخارج، بمعنى أنها موضوعة بإزاء النسبة الموجودة
فيه، فيرد عليه.
أولا: أنه لا وجود للنسبة في الخارج ولا للنسبة المقيدة بوجودها فيه، أما
الأول فلما تقدم من أن الخارج ظرف لنفسها لا لوجودها، على أساس أنه لو كان
لها وجود، فلا بد من أن تكون لها ماهية متقررة في المرتبة السابقة على عالم
الوجود، وقد مر أنه لا يعقل أن تكون للنسبة ماهية كذلك، وإلا لم تكن نسبة
بالحمل الشائع، أي متقومة بشخص وجود طرفيها، وأما الثاني فلفرض أنه لا
وجود لها حتى يكون قيدا لها.
وثانيا: مع الإغماض عن ذلك وتسليم أن لها وجودا في الخارج، إلا أن المعنى
الموضوع له اللفظ لا يمكن أن يكون مقيدا بوجودها فيه، فإن الموضوع له طبيعي
المعنى، وهو قد يوجد في الذهن وقد يوجد في الخارج، ولا يعقل أخذ الوجود
الخارجي أو الذهني في مدلول اللفظ.
وثالثا: قد تقدم أن الجملة التامة لم توضع بإزاء النسبة الواقعية الخارجية.
وإن أريد بها وجودها في الذهن أي أنها موضوعة بإزاء النسبة بلحاظ
وجودها في الذهن، فيرد عليه.

(1) نهاية الأفكار 1: 55.
26

أولا، ما عرفت من أنه ليس للنسبة وجود تصوري ولحاظي في الذهن، لأن
المتصور بهذا التصور والملحوظ بهذا اللحاظ مفهوم اسمي وليس بنسبة بالحمل
الشائع، فلا يكون هذا الوجود وجود النسبة التي هي معنى حرفي، بل هو وجود
لمعنى اسمي له تقرر ماهوي بقطع النظر عن وجوده في الذهن أو الخارج، فإذن لا
يرجع ما أفاده قدس سره من أن الجملة التامة موضوعة بإزاء النسبة بلحاظ وجودها
في الذهن إلى معنى محصل ومعقول.
وثانيا: ما تقدم من أن الوجود الذهني كالوجود الخارجي لا يعقل أن يؤخذ
في المعنى الموضوع له اللفظ.
وإن أريد بها أن النسبة في الجملة التامة تلحظ فانية في الخارج بوجودها
التصوري، وفي الجملة الناقصة تلحظ فانية فيه بنفسها لا بوجودها التصوري،
فيرد عليه.
أولا: ما عرفت من أنه ليس للنسبة وجود تصوري لكي تكون ملحوظة
فانية في الخارج به، لأن الموجود بهذا الوجود في الذهن مفهوم اسمي لا حرفي،
وحكاية النسبة الذهنية عن النسبة الخارجية إنما هي بتبع حكاية أطرافها
عن الخارج لا بنفسها.
وثانيا: أن هذا المقدار من الفرق بين الجملتين لا يؤدي إلى الفرق الجوهري
بينهما، وهو صحة السكوت في الجملة الأولى في مقام الافادة وعدم صحته في
الجملة الثانية في هذا المقام، لأن النسبة إذا كانت ملحوظة في كلتيهما فانية في
الخارج، غاية الأمر أن فناءها في الأولى بوجودها التصوري وفي الثانية بنفسها،
ومن الواضح أن هذا الفرق لا يؤدي إلى عدم صحة السكوت في الثانية،
لأن ملاك صحة السكوت التصديق بثبوت النسبة في الخارج، وهو متوفر في
27

كلتا الجملتين معا.
وثالثا: أن النسبة الذهنية لا يعقل أن تحكي بنفسها عن النسبة الخارجية، لما
تقدم من أنها مباينة لها من جهة أن المقومات الذاتية لها مباينة للمقومات الذاتية
لتلك، ولهذا لا يعقل فناؤها فيها وحكايتها عنها بنفسها، فإذن ما أفاده قدس سره من
أن الجملة الناقصة موضوعة بإزاء النسبة التي تحكي بنفسها لا يرجع إلى معنى
محصل، إلا أن يكون مراده من ذلك الحكاية في ضمن حكاية أطرافها وبتبعها،
ولكن في ذلك لا فرق بين النسبة في الجملة التامة والنسبة في الجملة الناقصة.
فالنتيجة: أن ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من نكتة الفرق بين الجملتين لا يرجع
إلى معنى محصل.
إلى هنا قد تبين أن الوجوه التي ذكرت لتمييز الجملة التامة عن الجملة الناقصة
وصحة السكوت على الأولى دون الثانية، لا يتم شئ منها.
فالصحيح في المقام أن يقال: إنه لا فرق بين الجملتين في المدلول الوضعي، فإن
كلتا الجملتين موضوعة للنسبة الواقعية الذهنية التي هي نسبة بالحمل الشائع
ولا فرق بينهما من هذه الناحية، ولكن مع هذا يكون الفرق بينهما محفوظا، حيث
إنه يصح السكوت على الجملة التامة، ولا يصح على الجملة الناقصة فيعامل معها
معاملة المفرد وتجعل اما موضوعا في القضية أو محمولا فيها، بينما الجملة التامة
مركبة من الموضوع والمحمول معا، وعلى هذا فلا بد من أن تكون هناك نكتة
أخرى للفرق بينهما، وتلك النكتة متمثلة فيما يلي:
هو أن الغرض من احضار الجملة التامة في أفق الذهن إنما هو جعلها وسيلة
لاصدار حكم تصديقي عليها في الخارج، ففي مثل قولك (زيد قائم) يكون
الغرض من احضاره في الذهن إنما هو جعله وسيلة لاصدار الحكم بثبوت القيام
28

لزيد فيه، باعتبار أن المتكلم والمخاطب فيها ينظران إلى الموضوع والمحمول بما هما
منطبقان على موجود واحد في الخارج ومتصادقان عليه، فمن أجل ذلك تتضمن
الجملة حكما تصديقيا خارجيا، ولهذا يصح السكوت عليه.
وهذا بخلاف الجملة الناقصة، فإن المتكلم والمخاطب فيها لا ينظران إلى
طرفيهما كموضوع ومحمول في القضية بما هما منطبقان على موجود واحد في
الخارج ومتصادقان عليه لكي تصلح لاصدار حكم تصديقي عليها فيه،
بل ينظران إليهما كموضوع واحد في القضية أو محمول واحد، فلذلك لا
تصلح للحكم التصديقي عليها في الخارج، فحالها حال الكلمات الأفرادية
من هذه الناحية.
وبكلمة، إن الجملة الناقصة وإن كانت مشتملة على النسبة إلا أنها لا تصلح
لاصدار حكم تصديقي عليها في الخارج من دون ضم محمول أو موضوع إليها،
فإذا قيل (الصلاة في المسجد) أو (النار في الموقد) كان المتبادر منها احضار
نفسها في الذهن ومعرفتها كذلك فيه، وفناءها التصوري في الخارج، فلذلك لا
تصلح لاصدار حكم تصديقي عليها فيه.
وهذا بخلاف ما إذا قيل (الصلاة مستحبة في المسجد) أو (النار موجودة في
الموقد)، فإن المتبادر منه احضار نفس الجملة في الذهن ومعرفتها فيه وفناؤها
في الخارج تصورا وتصديقا، فلذلك تصلح لاصدار حكم تصديقي عليها فيه.
والخلاصة: أن الجملة الناقصة بلحاظ مدلولها الوضعي لا تصلح لاصدار
حكم تصديقي عليها في الخارج، لما تقدم من أنها موضوعة بإزاء النسبة الواقعية
في وعاء الذهن، وهي لا تحكي عن الخارج إلا بتبع حكاية طرفيها تصورا لا
تصديقا، وهذا بخلاف الجملة التامة، فإنها تحكي عن الخارج تصورا وتصديقا،
29

فمن أجل ذلك تصلح الجملة التامة لاصدار حكم تصديقي عليها دون الناقصة.
وبكلمة، إن الجملة التامة تتميز عن الجملة الناقصة في المدلول التصوري
والتصديقي معا، أما في الأول فلأن الجملة التامة موضوعة للدلالة على النسبة
التي تلحظ بالنظر التصوري فانية في واقع مفروغ عنه في الخارج، فإذا قيل (زيد
عالم) كان المتبادر منه في الذهن النسبة بينهما كذلك، والجملة الناقصة موضوعة
للدلالة على النسبة التي لم تلحظ كذلك إلا فانية في نفسها، ولهذا كان ذلك هو
المتبادر منها عرفا، فإذا قيل (غلام زيد) مثلا أو (الصلاة في المسجد) كان هذا
هو المنسبق منه، وأما في الثاني فلأن المدلول التصديقي للجملة التامة هو قصد
الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه، وهذا عبادة أخرى عن أن
غرض المتكلم من احضارها في ذهن السامع، هو جعلها وسيلة وموردا للحكم
التصديقي في الخارج، ولهذا يصح السكوت عليها، بينما المدلول التصديقي للجملة
الناقصة هو قصد تفهيم نفسها واخطارها في ذهن السامع بدون جعلها موردا
للحكم التصديقي ووسيلة له.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن الجملة إذا كان مفادها
موردا للحكم التصديقي خارجا، فهي تامة ويصح السكوت عليها في مقام
الافادة، وإذا لم يكن مفادها كذلك، فهي ناقصة ولا يصح السكوت عليها.
هذا تمام كلامنا في تعيين مدلول الجملة الناقصة والتامة وامتياز مدلول الأولى
عن مدلول الثانية.
وأما الكلام في المقام الثالث فيقع في موردين:
الأول: في الجمل المتمحضة في الانشاء.
30

الثاني: في الجمل المشتركة بين الانشاء والاخبار.
أما المورد الأول فالكلام فيه يقع في مرحلتين:
الأولى: في تعيين مدلولها وضعا.
الثانية: في الفارق بينهما وبين الجمل المتمحضة في الاخبار.
أما الكلام في المرحلة الأولى ففيها أقوال:
القول الأول: أن الجملة الانشائية كصيغة الأمر موضوعة بإزاء الطلب
وصيغة الاستفهام موضوعة للاستفهام وصيغة التمني موضوعة للتمني وصيغة
الترجي للترجي.
وغير خفي أن هذا القول مجمل المراد، وذلك لأنه إن أريد بوضع هذه الصيغ
للمعاني المذكورة إيجاد مصاديقها بها حقيقة في عالم الخارج فهو واضح البطلان،
وذلك لأن مصاديق تلك المعاني في الخارج أمور تكوينية غير قابلة للانشاء بها،
لأنها تتبع عللها التكوينية الواقعية وتوجد بوجودها.
وإن شئت قلت: إن مصاديق المعاني المذكورة في الخارج من الصفات
النفسانية الحقيقية القائمة بالنفس كصفات التمني والترجي والطلب والاستفهام،
ولهذا قد تكون داعية للانشاء بالصيغ المذكورة لا أنها منشأة.
وإن أريد إيجاد هذه المعاني في الذهن، فيرده أن الايجاد التصوري اللحاظي
غير مأخوذ في مدلول الألفاظ، لوضوح أنها لم توضع بإزاء إيجاد معانيها
تصورا، وإن أريد به الايجاد الاعتباري في عالم الاعتبار، فيرد عليه أن الايجاد
الاعتباري إنما هو باعتبار المعتبر مباشرة، ولا يعقل أن يكون فعلا له بالتسبيب،
سواء أكان بسبب اللفظ أم كان بغيره، وإن أريد به مفهوم الطلب أو الاستفهام أو
31

التمني أو الترجي، فيرد عليه أنه مفهوم اسمي، فلا يمكن أن يكون مدلولا للجملة
الانشائية، وإن أريد به الايجاد الانشائي في عالم الانشاء بنفس هذه الصيغ بلحاظ
أنه معناه الموضوع له، فيرد عليه أن الكلام إنما هو في حقيقة هذا الوجود
الانشائي وحدوده سعة وضيقا، وهي مسكوت عنها في هذا القول.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن هذه الصيغ موضوعة
للوجود الانشائي الايقاعي (1) مما لا يمكن المساعدة عليه.
وذلك لأنه إن أريد بالوجود الانشائي الوجود الاعتباري، فيرد عليه أنه قائم
باعتبار المعتبر مباشرة، ولا يعقل فيه التسبيب، وإن أريد به الوجود الانشائي
المنشأ بها بلحاظ أنه مدلولها وضعا، فالكلام إنما هو في حقيقة هذا الوجود،
والمفروض أنه غير مبين في كلامه قدس سره وسيأتي توضيحه.
القول الثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره من أن الجملة الانشائية كصيغة
الأمر وصيغتي التمني والترجي وأداة الاستفهام موضوعة بإزاء النسب، كالنسبة
الطلبية والتمنية والترجية والاستفهامية، وهذه النسبة في الجملة الطلبية كقولك
(صل)، متقومة ذاتا وحقيقة بالمادة ومفهوم الطلب الذي هو مفهوم اسمي، وفي
الجملة الاستفهامية كقولك (هل زيد قائم) متقومة ذاتا وحقيقة بالجملة التامة
المدخول عليها الأداة ومفهوم الاستفهام، وفي جملة التمني أو الترجي متقومة
كذلك بالجملة المدخول عليها أداة التمني أو الترجي ومفهومه، لأن الجملة
المدخول عليها أدوات الاستفهام والتمني والترجي بمثابة المادة لهيئات هذه الجمل
التي يكون مدلولها النسب الاستفهامية والترجية والتمنية.

(1) كفاية الأصول: 69.
32

وعلى هذا ففي الجملة الاستفهامية، مثل قولك (هل زيد عالم) نسبتان:
الأولى بين زيد وعالم، الثانية بين مفهوم الاستفهام والجملة المستفهم عنها
وهي جملة (زيد عالم)، وتدل الجملة الاستفهامية على النسبة الاستفهامية
بتعدد الدال والمدلول، بأن يكون الدال على النسبة الأولى الجملة المدخول
عليها الأداة والدال على النسبة الثانية الجملة الاستفهامية، وكذلك الحال
في الجملة التمنية والترجية (1).
وقد يورد على هذا القول بإيرادين:
الأول: أن أحد طرفي النسبة في الكلام وهو الدال على مفهوم الاستفهام غير
مذكور فيه، ولازم ذلك هو أن يكون الكلام على مستوى مدلوله اللفظي ناقصا،
وعليه فلا يمكن أن يدل على هذه النسبة، إذ لو دل عليها، فبطبيعة الحال يدل على
طرفيها الموجودين فيه، حيث إنه لا يعقل وجود النسبة بدون وجود طرفيها (2).
والجواب: أن مفهوم الاستفهام مفهوم ثانوي وليس مدلولا مطابقيا للفظ،
فإن المدلول المطابقي للفظ هو المفهوم الذي يرد على الذهن من الخارج مباشرة
دون المفهوم الثانوي، فإنه لم يرد على الذهن من الخارج كذلك، بل هو منتزع من
المفهوم الأولي ولا موطن له إلا الذهن، ولا يكون مدلولا للفظ، وعلى هذا فلا
تكون الجملة الاستفهامية ناقصة على مستوى مدلولها اللفظي، وذلك لأن كلمة
(هل) في قولك (هل زيد عالم) تدل على النسبة المذكورة التي يكون أحد
طرفيها مفهوم الاستفهام والطرف الآخر الجملة التامة المدخول عليها الأداة
بعنوان المستفهم عنها، وعليه فطرفا النسبة الاستفهامية من المفاهيم الثانوية،

(1) نقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 296.
(2) أورده في بحوث في علم الأصول 1: 297.
33

وهما مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه، فلذلك لا يكون مدلولا للفظ بالمطابقة.
لأنه منتزع من المفهوم الأول وليس مدلولا للفظ مباشرة، وعليه فعدم دلالة
الكلام على مفهوم الاستفهام بالمطابقة، لا يؤدي إلى كونه ناقصا على مستوى
مدلوله اللفظي، لفرض أنه ليس مدلولا للفظ كما عرفت، وحيث إن النسبة لا
تتصور إلا بين المنتسبين، فيكون الطرف الآخر لها، وهو مفهوم الاستفهام
مستفاد من الأداة، على أساس أنها تدل على النسبة بالمطابقة وعلى طرفيها
بالتبع باعتبار أنها لا يعقل بدونهما، ونفس الشئ يقال بالنسبة إلى سائر الجمل
الانشائية، كالجمل التمنية أو الترجية أو الطلبية، على أساس أن هذه النسب
أيضا نسب ثانوية، حيث إن طرفيها من المفاهيم الثانوية.
والخلاصة: أن أداة الاستفهام أو التمني أو الترجي أو هيئة الجملة الاستفهامية
أو التمنية أو الترجية التي تدل على النسبة الاستفهامية أو التمنية أو الترجية
بالمطابقة تدل على طرفيها بالالتزام والتبع، وهما مفهوم الاستفهام الذي هو
مفهوم اسمي والمستفهم عنه وهو الجملة التامة المدخول عليها الأداة، وعلى هذا
فلا تكون الجملة ناقصة على مستوى مدلولها اللفظي، فإذن لا اشكال في هذا
القول من هذه الناحية.
ولكن الذي يرد عليه أن النسبة المذكورة التي تدل عليها الأداة أو الهيئة
المتحصلة من دخولها على الجملة إنما هي نسبة بين المستفهم والمستفهم عنه، لا
بين مفهوم الاستفهام والمستفهم عنه، لأن مفهوم الاستفهام مفهوم اسمي، ولا تدل
الأداة أو الهيئة على النسبة بينه وبين الجملة المدخول عليها الأداة، بل تدل على
النسبة بين المستفهم والمستفهم عنه.
هذا إضافة إلى أن مفهوم الاستفهام مفهوم لحاظي منتزع من النسبة
34

الاستفهامية لا طرف لها، فلذلك لا يصلح أن يكون طرفا للنسبة.
الثاني: أن هذه النسبة التي هي بين مفهوم الاستفهام والجملة المستفهم عنها
لا تخلو من أن تكون نسبة تامة واقعية في صقع الذهن أو ناقصة تحليلية،
وكلتاهما غير معقولة.
أما الأول فلأن ملاك النسبة التامة أن يكون موطنها الأصلي الذهن، وأما
النسب الخارجية الأولية لا يمكن أن ترد إلى الذهن إلا ناقصة، والمقصود
بالنسب الخارجية، كلما ما كان خارج الذهن بوصفه وعاء للتصور واللحاظ،
سواء أكان موجودا في عالم الخارج أي المادة أم في عالم النفس، ونتيجة ذلك أنه
لا يمكن أن تكون النسبة الاستفهامية تامة، لأنها ثابتة خارج الذهن ولو كان هو
عالم النفس الذي هو موطن الاستفهام.
وأما الثاني، فهو غير معقول في المقام، لأن طرفي النسبة التحليلية مع نفس
النسبة يوجدان بوجود واحد في صقع الذهن، وذلك الوجود الواحد ينحل إلى
أجزاء ثلاثة منها النسبة، ومن الواضح أن الصورة الموجودة في الذهن من
الجملة الاستفهامية ليست صورة واحدة كصورة الانسان مثلا وانحلالها عقلا
إلى ذات القيد وذات المقيد والتقيد، بل الموجود فيه صورة جملة تامة، وهي
المركبة من المقيد وهو الجملة المستفهم عنها، والقيد وهو المستفهم، والنسبة
بينهما، فالنتيجة أنه لا ينطبق ضابط النسبة التامة على النسبة الاستفهامية، ولا
ضابط النسبة الناقصة التحليلية (1).
والجواب: ما تقدم موسعا من أن النسبة سواء أكانت في الجملة التامة

(1) أورده في بحوث علم الأصول 1: 297.
35

أم الناقصة ثابتة في الذهن بنفسها لا بوجودها اللحاظي، لأن الملحوظ
بهذا اللحاظ فيه مفهوم اسمي لا حرفي، وانها بنفسها لا تتصف بالتمامية والنقصان
إلا بالتبع.
وبكلمة، قد أشرنا في غير مورد أن الذهن ظرف لنفس النسبة لا لوجودها
التصوري لاستحالة أن توجد النسبة في الذهن، لأن ما وجد فيه تصورا إنما هو
مفهوم النسبة لا واقعها، والمفروض أن مفهوم النسبة ليس بنسبة بالحمل
الشائع، لأنه مفهوم اسمي وليس بحرفي، وعلى هذا فالنسبة الاستفهامية نسبة
ثابتة في الذهن بنفسها لا بوجودها التصوري اللحاظي، حيث إنه لا يعقل أن
يكون لها وجود كذلك، فإذن لا يكون الذهن وعاء وظرفا لوجود النسبة، وإنما
هي ثابتة فيها بنفسها لا بوجودها اللحاظي التصوري، فإذن يكون المراد من
ثبوت النسبة الاستفهامية في عالم النفس دون عالم الذهن ثبوتها بنفسها
لا بوجودها اللحاظي التصوري في عالم الذهن الذي هو وعاء له.
فالنتيجة أن النسبة الاستفهامية نسبة واقعية ثابتة بنفسها في الذهن لا
بوجودها التصوري، وهذا لا ينافي ثبوتها في عالم النفس.
ولكن الذي يرد على هذا القول هو أن أحد طرفي النسبة الاستفهامية ليس
مفهوم الاستفهام بل المستفهم، لأن مفهوم الاستفهام مفهوم انتزاعي منتزع من
النسبة المذكورة في وعاء الذهن، فلا يصلح أن يكون طرفا لها.
القول الثالث: ما اختاره المحقق الأصبهاني قدس سره من أن الجمل المتمحضة في
الانشاء كالجملة الاستفهامية موضوعة بإزاء النسبة بين المستفهم والجملة
المستفهم عنها، ولا وعاء لها إلا وعاء الاستفهام، لأنها توجد فيه، فإذا قيل (هل
زيد قائم)، دلت كلمة (هل) أو هيئة الجملة الاستفهامية على النسبة بين
36

المستفهم والسائل وبين القضية المستفهم والمسؤول عنها، وهذه النسبة أي النسبة
الاستفهامية غير النسبة في الجملة المدخول عليها كلمة (هل)، فإنها بين زيد
وقائم، وتلك بين المستفهم والجملة المستفهم عنها، وتوجد في وعاء الاستفهام
عند وجود الجملة الاستفهامية ودلالتها عليها، باعتبار أن الأداة أو الهيئة تدل
على واقع الاستفهام، والسؤال الذي هو بالحمل الشائع عين الربط والنسبة
بينهما، وكذلك الحال في الجملة التمنية والترجية، وأما مفهوم الاستفهام والتمني
والترجي، فهو مفهوم اسمي وليس بحرفي ولا تدل الأداة عليه (1).
وغير خفي أن هذا القول هو الصحيح وموافق للمتفاهم العرفي الارتكازي
من الجمل الاستفهامية ونظيراتها، فإذا قيل (هل زيد عالم) كان المتبادر منه
واقع الاستفهام عن ثبوت العلم لزيد في الخارج، ومن الواضح أن الاستفهام متقوم
ذاتا وحقيقة بشخص المستفهم والمستفهم عنه، لأنه نسبة بينهما بالحمل الشائع،
وهذه النسبة التي تسمى بالنسبة الاستفهامية غير النسبة في الجملة المدخول
عليها الأداة، لأنها بين زيد وعالم في المثال، ومباينة لها من جهة أن المقومات
الذاتية لكل منهما مباينة للمقومات الذاتية للأخرى، وعلى هذا فالجملة
الاستفهامية تدل على النسبة بين المستفهم والجملة المستفهم عنها بتعدد الدال
والمدلول، فإنها تدل على هذه النسبة، والجملة المدخولة تدل على النسبة فيها،
غاية الأمر أن هذه النسبة تخرج عن صلاحية الحكاية إذا دخلت عليها الأداة.
القول الرابع: ما اختاره بعض المحققين قدس سره، وحاصل ما اختاره أن مفاد
الجملة الاستفهامية وأضرابها أو مفاد الأداة ليس نسبة مغايرة للنسبة المدلول
عليها بالجملة المدخول عليها الأداة بل هو متمم لها.

(1) نقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 297.
37

بيان ذلك أن النسبة بين (زيد) و (عالم) في مثل قولنا (هل زيد عالم) ليس
لها ركنان فحسب، بل لا بد من ركن ثالث لها، على أساس أن النسبة التصادقية
لا معنى لها إلا بلحاظ وعاء يكون فيه التصادق، فإن الذهن يتصور (زيد)
و (عالم) متصادقين على شئ في عالم من العوالم خارج الذهن، وهذا العالم في
الجملة الخبرية المجردة عن الأداة عالم التحقق والثبوت، وفي الجملة الاستفهامية
عالم الاستفهام والسؤال، وفي الجملة التمنية عالم التمني، وفي الجملة الترجية عالم
الترجي وهكذا، ويكون المعنى في الجملة الأولى تصادق المفهومين في وعاء
التحقق والثبوت، وفي الجملة الثانية تصادقهما في وعاء الاستفهام، وفي الجملة
الثالثة وعاء التمني، وفي الجملة الرابعة وعاء الترجي وهكذا، وليس المقصود من
هذا الطرف الثالث وجود مفهوم اسمي ثالث للنسبة التصادقية على حد مفهوم
(زيد) و (عالم)، بل وجود ركن ثالث لقوام النسبة التصادقية، فإنها بحاجة إلى
وعاء يصدق بلحاظه المفهومان.
وإن شئت قلت: إن النسبة التصادقية بين مفهومين لها حصص عديدة إحداها
النسبة التصادقية بلحاظ وعاء التحقق، والأخرى بلحاظ عالم السؤال
والاستفهام، والثالثة بلحاظ عالم التمني وهكذا، وتعيين إحدى هذه
الحصص يكون بالأداة الداخلة على الجملة أو بتجردها عن كل أداة كما في
الجملة الخبرية التامة (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن مفاد الجملة الاستفهامية كقولك (هل زيد
قائم)، وأضرابها، نسبة مغايرة للنسبة المدلول عليها بجملة (زيد قائم) التي
دخلت عليها الأداة، وذلك لما تقدم من أن مغايرة كل نسبة عن نسبة أخرى إنما

(1) بحوث في علم الأصول 1: 298.
38

هي بمغايرة المقومات الذاتية لكل منهما للمقومات الذاتية للأخرى، وحيث إن
المقومات الذاتية للنسبة الاستفهامية التي هي مفاد الأداة أو الهيئة المتحصلة من
دخولها على الجملة، مباينة للمقومات الذاتية للنسبة التي هي مفاد جملة (زيد
قائم) التي هي المدخول عليها الأداة، لأن الأولى متقومة ذاتا وحقيقة بشخص
وجودي المستفهم والجملة المستفهم عنها، والثانية متقومة كذلك بشخص
وجودي (زيد) و (قائم)، فإذن لا محالة تكون النسبة الاستفهامية مغايرة
للنسبة المدلول عليها بجملة (زيد قائم)، وعلى هذا فموطن النسبة الاستفهامية
عالم الاستفهام، وموطن النسبة المدلول عليها بجملة (زيد قائم) الذهن، فهنا
نسبتان وتدل عليهما الجملة الاستفهامية بتعدد الدال والمدلول، فإن أداة
الاستفهام تدل على النسبة الاستفهامية، والجملة المدخول عليها الأداة ك‍ (زيد
قائم) تدل على النسبة بينهما، فوعاء الأولى عالم الاستفهام والسؤال، ووعاء
الثانية عالم الذهن بحسب مرحلة التكوين، وعالم التحقق بحسب مرحلة
التصادق نفيا وإثباتا، فإذن لا يمكن القول بأن مفاد الجملة الاستفهامية
وأضرابها ليس نسبة مغايرة للنسبة المدلول عليها بجملة (زيد قائم) في المثال
التي دخلت عليها الأداة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن النسبة التصادقية ليست مدلولا وضعيا للجملة وإنما
هي مدلول تصديقي لها ومتمثلة في النسبة الخارجية، فإن عالم الخارج والتحقق
هو وعاء تصادق مفهومي طرفي النسبة الذهنية، والمدلول الوضعي للجملة انما
هو النسبة الواقعية الذهنية التي يكون الذهن ظرفا لنفسها وتحكي عن النسبة
الخارجية بتبع أطرافها.
فالنتيجة أنه لا يمكن المساعدة على هذا القول.
39

القول الخامس: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أن الجملة الانشائية
موضوعة لإبراز أمر اعتباري نفساني من الوجوب أو الحرمة أو الملكية أو
الزوجية أو الاستفهام أو التمني أو الترجي، وقد أفاد في وجه ذلك أنه ليس في
موارد الجمل الانشائية عند التحليل إلا اعتبار شئ في صقع الذهن وابرازه في
الخارج بمبرز ما، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن ما هو المشهور والمعروف بين الأصحاب من أن
الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ لا يرجع إلى معنى محصل، وذلك لأنه إن
أريد بالايجاد الايجاد التكويني كإيجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من
الضروريات التي لا تقبل النزاع، بداهة أن الانشاء من المولى بما هو مولى لا
يمكن تعلقه بالموجودات الخارجية بشتى اشكالها وأنواعها، فإنها توجد بوجود
أسبابها وعللها التكوينية، والمفروض أن الألفاظ ليست واقعة في سلسلة عللها
وأسبابها لكي توجد بها، وإن أريد به الايجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب
والحرمة أو الملكية والزوجية وغير ذلك، فيرد عليه أن الايجاد الاعتباري بيد
المعتبر وجودا وعدما، لأنه فعل اختياري له مباشرة، ولا يعقل فيه التسبيب،
ومن هنا يكفي في تحققه نفس الإعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ
والتلفظ به، ولا يعقل أن تكون الجملة الانشائية سببا وعلة لإيجاده، وإلا لكان
فعلا تسبيبا وهذا خلف، نعم يكون اللفظ مبرزا له في الخارج لا موجدا له،
وأما الإعتبار الشرعي أو العقلائي، فهو مترتب على الجملة الانشائية إذا
استعملت في معناها الموضوع له لا مطلقا، والكلام فعلا إنما هو في تعيين هذا
المعنى وتحديده سعة أو ضيقا (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 88 و 81.
40

ما ذكره قدس سره يرجع إلى نقطتين.
الأولى: أن الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على قصد ابراز أمر اعتباري
نفساني خاص، على أساس أن كل متكلم يتعهد بأنه متى ما قصد ابراز ذلك
يتكلم بالجملة الانشائية، مثلا إذا قصد ابراز اعتبار الملكية، يتكلم بصيغة
(بعت) أو (ملكت)، وإذا قصد ابراز اعتبار الزوجية، يبرزه بقوله (زوجت)
أو (أنكحت)، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادة على عهدة المخاطب، يتكلم
بصيغة (افعل) أو نحوهما وهكذا.
ومن هنا قلنا إنه لا فرق بينهما وبين الجملة الخبرية في الدلالة الوضعية
والإبراز الخارجي، فكما أنها موضوعة للدلالة على ابراز أمر اعتباري كالملكية
والزوجية ونحوهما، فكذلك تلك موضوعة للدلالة على ابراز قصد الحكاية
والاخبار عن الواقع.
الثانية: أن ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من أن الجملة الانشائية
موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج لا يرجع إلى معنى محصل.
ولكن كلتا النقطتين قابلة للنقد والمناقشة.
أما النقطة الأولى فلأنها مبنية على مسلكه قدس سره في باب الوضع، وهو التعهد
والالتزام النفساني، فإنه يقتضي أن تكون الجملة الانشائية موضوعة للدلالة
على قصد ابراز أمر اعتباري نفساني في الخارج، ولكن ذكرنا في باب الوضع
موسعا أن هذا المسلك غير تام فلا نعيد.
هذا إضافة إلى أن الوضع بمعنى التعهد لا يقتضي وضع الجمل الانشائية
للدلالة على قصد ابراز الأمر الاعتباري النفساني، إذ كما يمكن ذلك يمكن أن
41

تكون موضوعة للدلالة على قصد اخطار الأمر الاعتباري النفساني في الذهن،
لأن الوضع بهذا المعنى وإن كان يقتضي أخذ الإرادة والقصد في المعنى الموضوع له
أو العلقة الوضعية، باعتبار أن التعهد والالتزام لا بد أن يكون متعلقا بفعل
اختياري قصدي، وأما كون متعلق القصد الابراز أو الاخطار، فهو لا يقتضي
ذلك، وكيف كان فما ذكره قدس سره مبني على مسلكه في باب الوضع، وأما على سائر
المسالك فيه، فلا يتم ما أفاده كما سوف نشير إليه.
وأما النقطة الثانية فمن الواضح جدا أن مراد المشهور من الايجاد ليس هو
الايجاد التكويني الخارجي، على أساس أنه لا يمكن إيجاده بالانشاء باللفظ، ولا
الايجاد الاعتباري، فإنه بيد المعتبر مباشرة ولا يعقل فيه التسبيب، بل مرادهم
منه الايجاد الانشائي التصوري، على أساس أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية
بحتة بدون فرق في ذلك بين الألفاظ المفردة والألفاظ المركبة من الجملات
الخبرية والانشائية، ومعنى الايجاد الانشائي التصوري هو أن المتبادر من الجملة
الانشائية كصيغة الأمر مثلا النسبة المولوية البعثية الطلبية الفانية في واقع يرى
بالنظر التصوري ثبوته بنفس هذه الجملة، بينما كان المتبادر من الجملة الخبرية
النسبة الفانية في واقع يرى بالنظر التصوري مفروغا عنه، هذا هو الفارق بينهما
في المدلول التصوري، فيكون هذا الفرق من شؤون مرحلة المدلول الوضعي،
وأما في مرحلة المدلول التصديقي، فالصيغة تدل على إرادة المولى تحرك المأمور
نحو المادة وكشفها عن هذه الإرادة الجدية، بينما الجملة الخبرية تدل على إرادة
المخبر الحكاية والاخبار عن ثبوت ذلك الأمر المفروغ عنه في الواقع أو نفيه فيه.
وعلى هذا فالظاهر أن المشهور أرادوا بتفسير الانشاء بالايجاد وضع الجملة
الانشائية بإزاء معنى لا واقع له الا في وعاء الانشاء، فإن كانت الجملة الانشائية
42

طلبية فوعاؤه عالم الطلب، وإن كانت استفهامية فوعاؤه عالم الاستفهام، وإن
كانت تمنية فوعاؤه عالم التمني وإن كانت ترجية فوعاؤه عالم الترجي وهكذا، فإذا
كانت الجمل الانشائية موضوعة بإزاء المعاني الموجودة في هذه الأوعية ودالة
على اخطارها في ذهن السامع وإن كانت صادرة من لافظ بغير شعور واختيار
كانت معانيها إيجادية، يعني لا واقع موضوعي لها ما عدا ثبوتها في تلك الأوعية،
فالايجادية صفة للمعنى لا أنها صفة للفظ، لأن اللفظ لا يكون سببا وعلة
لايجاده، فالجملة الانشائية تدل على معنى لا واقع موضوعي له في الخارج،
ولذلك لا تتصف بالصدق والكذب، وهذا بخلاف الجملة الخبرية، فإنها تدل
على معنى له واقع موضوعي، ولهذا تتصف بالصدق والكذب من جهة أنها
قد تكون مطابقة للواقع وقد تكون مخالفة له. تحصل من ذلك أن الايجادية صفة
للمعنى وقائمة به بلحاظ وعائه لا للجملة، واتصافها بها إنما هو بالعرض وبلحاظ
معناها لا في نفسها.
فالنتيجة أن مراد المشهور من أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ هو الايجاد
الانشائي التصوري، لا الايجاد التكويني ولا الايجاد الاعتباري، وهذا هو
الظاهر من الجملة الانشائية بشتى أنواعها وأشكالها.
وبكلمة، إن صيغة (افعل) موضوعة للدلالة على معنى فان في واقع يرى
بالنظر التصوري ثبوته بنفس هذه الصيغة في وعاء الطلب، وهو النسبة الطلبية
المولوية، وصيغة الاستفهام موضوعة للدلالة على معنى - وهو النسبة
الاستفهامية - فإن في واقع يرى باللحاظ التصوري ثبوته بنفس هذه الصيغة في
وعاء الاستفهام، وكذلك الحال في صيغة التمني والترجي وما شاكلهما، وبذلك
تفترق الجملة الانشائية عن الجملة الخبرية في مرحلة المدلول الوضعي
43

التصوري، كما أنها تفترق عنها في مرحلة المدلول التصديقي، هذا تمام الكلام في
المرحلة الأولى وهي تعيين المدلول الوضعي الذاتي للجملة الانشائية.
وأما الكلام في المرحلة الثانية فيقع في تمييز الجمل المختصة بالانشاء عن
الجمل المختصة بالاخبار، وهذا يختلف باختلاف المباني في تفسيرهما.
اما على مبنى السيد الأستاذ قدس سره فكلتا الجملتين تشترك في الدلالة الوضعية،
وهي الدلالة على قصد المتكلم وإرادته، وتختلف في سنخ المقصود، فإنه في
الجملة الأولى ابراز الأمر الاعتباري النفساني، وفي الجملة الخبرية الحكاية
والاخبار عن الثبوت والتحقق في الواقع أو نفيه، فلهذا لا تتصف الأولى بالصدق
والكذب، على أساس أنه لا واقع موضوعي لمدلولها في الخارج لكي يتصف
بالصدق إذا كان مطابقا للواقع، وبالكذب إذا لم يكن مطابقا له، وتتصف الثانية
بالصدق والكذب باعتبار أن لمدلولها واقعا موضوعيا قد يكون مطابقا له وقد
يكون مخالفا له، فعلى الأول تتصف بالصدق، وعلى الثاني بالكذب.
وأما على القول الرابع فلا اختلاف بين الجملتين في ذات المدلول الوضعي وهو
النسبة، وإنما الاختلاف بينهما في وعائها، مثلا جملة (زيد قائم) موضوعة
للدلالة على النسبة بينهما، ووعاؤها عالم التحقق والثبوت في مرحلة التصادق،
وإذا دخلت عليها أداة الاستفهام كجملة (هل زيد قائم) دلت الأداة أو الهيئة
المتحصلة من دخولها عليها على تلك النسبة شفي وعاء الاستفهام، فالفرق بينها
وبين الجملة المجردة عن الأداة إنما هو في الوعاء، وكذلك إذا دخلت عليها أداة
التمني أو الترجي دلت على نفس النسبة في وعاء التمني أو الترجي وهكذا.
والخلاصة: أن النسبة لما كانت بحاجة إلى ركن ثالث - وهو الوعاء - زائدا
على طرفيها، فهذا الركن في الجملة الخبرية إذا كانت مجردة عن الأداة
44

عالم التحقق والثبوت، باعتبار أن طرفي النسبة متصادقان على شئ واحد فيه،
وفي الجملة الانشائية إذا كان استفهامية عالم الاستفهام، وإذا كانت تمنية عالم
التمني وهكذا.
وعلى هذا فالفرق بين الجملة الانشائية والخبرية إنما هو في وعاء المدلول
التصوري الوضعي لا في ذاته، لأن المتبادر من الجملة الاستفهامية النسبة
الاستفهامية التصادقية في وعاء الاستفهام وإن كانت الجملة صادرة من
متكلم بغير شعور واختيار، والمتبادر من الجملة التمنية، النسبة التمنية التصادقية
في وعاء التمني وهكذا، والمتبادر من الجملة الخبرية، النسبة التصادقية في
وعاء التحقق والخارج.
وأما بناء على ما قويناه فتفترق الجملة الانشائية من الجملة الخبرية في
النسبة والوعاء معا، فإن الجملة الانشائية الاستفهامية موضوعة للدلالة على
النسبة بين المستفهم والجملة المستفهم عنها في عالم الاستفهام، والجملة التمنية
موضوعة للدلالة على النسبة بين المتمني والجملة المتمني عنها وهكذا، والجملة
الخبرية (كزيد عالم) موضوعة للدلالة على النسبة التصادقية بينهما في عالم
التحقق والثبوت، وهذه النسبة مغايرة للنسبة في الجملة الانشائية، من جهة أن
المقومات الذاتية لكل منهما مغايرة للمقومات الذاتية للأخرى.
ثم إن إيجادية المعنى الانشائي كما مر إنما هي بلحاظ ثبوته في وعاء لا
واقع موضوعي له في الخارج، كما أن حكائية المعنى الاخباري إنما هي بلحاظ
ثبوته في الواقع.
وأما الكلام في المورد الثاني، فيقع في الجملة المشتركة وهي الجملة
الخبرية التي تستعمل في مقام الانشاء المعاملي كجملة (بعت) أو (اشتريت) أو
45

في مقام إنشاء البعث والطلب كجملة (يعيد) أو (أعاد) وهكذا.
وهل يكون استعمالها في مقام الانشاء في معنى آخر مغاير لمعناها في مقام
الاخبار، فيه أقوال:
القول الأول: ما اختاره المحقق الأصبهاني قدس سره من أن مفاد (بعت) إخبارا
وإنشاءا واحد، وهو نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم، وهيئة (بعت) مستعملة
فيها، وهذه النسبة الايجادية الواقعة بين المادة والمتكلم إن قصد الحكاية عن
ثبوتها في الواقع فالجملة خبرية، وان قصد إيجادها التنزيلي اللفظي في عالم
الانشاء فالجملة انشائية (1).
ونتيجة ما أفاده قدس سره هي أن المدلول الوضعي التصوري للجملة المشتركة
واحد، وهو النسبة الايجادية بين المادة والمتكلم، فإنها تدل عليها وضعا وإن
كان صدورها عن لافظ بغير شعور واختيار، وحينئذ فإن كان في مقام الانشاء
كان يقصد إيجاد هذه النسبة خارجا بوجودها التنزيلي اللفظي، وليس وراء ذلك
أمر آخر، وإن كان في مقام الاخبار كان يقصد - زيادة عن ثبوت المعنى تنزيلا -
الحكاية عن ثبوته في موطنه.
والخلاصة: أن الجملة المشتركة بين الاخبار والانشاء إذا استعملت في مقام
الاخبار، فقد احتوت على نقطة زائدة، وهي قصد الحكاية عن ثبوت المعنى
في عالم التحقق والخارج زائدا على قصد اخطاره في ذهن السامع وإيجاده
التنزيلي بالوجود اللفظي.
وما ذكره قدس سره يرجع إلى نقطتين:

(1) نهاية الدراية 1: 62 و 275.
46

الأولى: أن المدلول التصوري الوضعي في الجمل المشتركة بين الاخبار
والانشاء واحد، وهو إيجاد النسبة المتعلقة بالمادة بالوجود اللفظي التنزيلي
واخطارها في ذهن السامع.
الثانية: أنها في مقام الاخبار تتضمن نكتة زائدة، وهي قصد الحكاية عن
ثبوت النسبة المذكورة في موطنها وعدم ثبوتها فيه.
ولنأخذ بالنظر على كلتا النقطتين:
أما النقطة الأولى: فيرد عليها ما سوف نشير إليه في ضمن البحوث القادمة،
من أن الجمل المشتركة موضوعة بإزاء ذات النسبة المناسبة لكلا النحوين من
اللحاظ التصوري الحكائي والايجادي، وتدل عليها بتعدد الدال والمدلول، بأن
تدل ذات الجملة على ذات النسبة، وخصوصيتها على خصوصيتها من الايجادية
أو الحكائية، فالجملة في مقام الاخبار تدل على نسبة فانية بالنظر التصوري في
مصداق مفروغ عنه في الخارج، وفي مقام الانشاء تدل على نسبة فانية في
مصداق يرى بالنظر التصوري ثبوته بنفس هذه الجملة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى إن ما ذكره قدس سره - من أن المدلول الوضعي لهذه الجملة النسبة
بين المادة والمتكلم، والجملة مستعملة فيها سواء أكانت في مقام الاخبار أم
الانشاء، غاية الأمر إذا كانت في مقام الاخبار قصد أمرا زائدا عليها، وهو
الحكاية عنها في الواقع - لا يمكن المساعدة عليه، لأن الموضوع له لها إذا كان
النسبة الايجادية بينهما، فهي لا تتصف بالحكائية لا تصورا ولا تصديقا، أما
الأول فلأن النسبة الحكائية بالنظر التصوري هي النسبة الفانية بهذا النظر في
واقع مفروغ عن ثبوته في الخارج، ومن الواضح أن هذا في مقابل النسبة الفانية
بالنظر التصوري في مصداق يرى ثبوته ووجوده بنفس الجملة، فلذلك لا يمكن
47

الجمع بينهما، وأما الثاني فلأنه لا يمكن أن يقصد المتكلم الحكاية عن هذه النسبة
التي لا واقع لها غير وجودها بين المادة والمتكلم الحاصلة بنفس الجملة، ومن هنا
كان المتبادر منها بالتبادر التصوري في مقام الاخبار غير ما هو المتبادر منها بهذا
التبادر في مقام الانشاء.
ومن ناحية ثالثة، إن تفسيره الايجاد بالايجاد التنزيلي اللفظي مبني على أن
معنى الوضع عنده هو تنزيل وجود اللفظ وجودا للمعنى، ولكن قد تقدم أن هذا
التفسير للوضع تفسير خاطئ لا يمكن الالتزام به، ومن هنا يكون استعمال
اللفظ في المعنى يقتضي التغاير والإثنينية، لا أنه يتطلب الاتحاد والعينية بالتنزيل
والاعتبار.
وأما النقطة الثانية: فيرد عليها ما مر الآن من أن قصد الحكاية عن النسبة
الايجادية بين المادة والمتكلم التي لا ثبوت لها بالنظر التصوري إلا بثبوت نفس
الجملة مما لا معنى له، إذ لا واقع لها لكي يقصد الحكاية عنها، ومن الواضح أن
قصد الحكاية عن النسبة، يستلزم كون النسبة حكائية بالنظر التصوري، على
أساس أن المدلول التصديقي هو المدلول التصوري، ولا فرق بينهما في نفس المدلول.
القول الثاني: ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره، فإنه بعد ما قوى أن المعنى
الحرفي والاسمي متحدان بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي،
قال لا يبعد أن يكون الانشاء والاخبار أيضا من هذا القبيل، بمعنى أن طبيعي
المعنى الموضوع له واحد فيهما، والاختلاف بينهما إنما هو في الداعي، فإنه
في الانشاء قصد إيجاد المعنى، وفي الخبر قصد الحكاية عنه، وكلاهما خارجان
عن حريم المعنى (1).

(1) كفاية الأصول: 12.
48

توضيح ذلك: أن الصيغ المشتركة كصيغة (بعت) و (ملكت) ونحوهما
تستعمل في معنى واحد مادة وهيئة في مقام الاخبار والانشاء، وأما بحسب المادة
فظاهر، لأن معناها الطبيعي المهمل، وهي تستعمل فيه دائما سواء كانت الهيئة
الطارئة عليها يستعمل في مقام الاخبار أو الانشاء، وأما بحسب الهيئة فلأنها
تستعمل في نسبة إيجاد المادة إلى المتكلم في كلا المقامين، غاية الأمر أن الداعي في
مقام الانشاء إنما هو إيجادها في الخارج، وفي مقام الاخبار الحكاية عنها،
فالاختلاف بينهما في الداعي لا في المستعمل فيه.
وإن شئت قلت: إن العلقة الوضعية في أحدهما غير العلقة الوضعية في الثاني،
فإنها في الجمل الانشائية تختص بما إذا قصد المتكلم إيجاد المعنى في الخارج، وفي
الجمل الخبرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه فيه.
وقد أورد عليه السيد الأستاذ قدس سره بأن الاختلاف بين الجملة الخبرية
والانشائية، إنما هو في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه لا في مجرد الداعي،
بتقريب أن هذه الجمل تقسم إلى صنفين أحدهما ما يستعمل من مقام الانشاء،
والآخر ما يستعمل في مقام الاخبار.
أما الأول فهو موضوع للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت شئ
في الواقع أو نفيه فيه، والثاني موضوع للدلالة على قصد ابراز الأمر الاعتباري
النفساني، فالمعنى الموضوع له في الأول هو قصد الحكاية والاخبار عن الواقع،
وفي الثاني هو قصد ابراز الأمر الاعتباري من الوجوب أو الحرمة أو الملكية أو
الزوجية أو نحو ذلك.
ويؤكد ذلك أن معنى الانشاء والاخبار لو كان واحدا بالذات والحقيقة وكان
الاختلاف بينهما من ناحية الداعي، كان اللازم أن يصح استعمال الجملة الاسمية
49

في مقام الطلب كما يصح استعمال الجملة الفعلية فيه، بأن يقال (إن المتكلم في
الصلاة معيد صلاته)، كما يقال (إنه يعيد صلاته) أو (إنه إذا تكلم في صلاته
أعاد صلاته) مع أنه من أفحش الأغلاط (1).
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس سره، وملخصه أن هذا الاشكال مبني على
مسلكه قدس سره من باب الوضع، فإن الوضع بمعنى التعهد يقتضي كون الجملة ك‍
(بعت) أو (اشتريت) مثلا في موارد الاخبار موضوعة للدلالة على قصد
الحكاية عن الواقع نفيا أو اثباتا، وفي موارد الانشاء موضوعة للدلالة على
قصد ابراز الأمر الاعتباري النفساني، ولا يمكن انخفاظ قصد الحكاية والاخبار
عن ثبوت شئ في الواقع أو نفيه فيه في موارد استعمالها في الانشاء، إذ مقتضى
مسلك التعهد أن كل مستعمل واضع، وعليه فالمستعمل للجملة المشتركة إذا
استعملها في موارد الاخبار، تعهد بأنه لا يتكلم بها في هذه الموارد إلا إذا قصد
الحكاية بها عن ثبوت شئ في الواقع، وإذا استعملها في موارد الانشاء، تعهد
بأنه لا يتكلم بها في هذه الموارد إلا إذا قصد ابراز الامر الاعتباري النفساني،
فإذن يكون لها وضعان: وضع في موارد استعمالها في الاخبار، ووضع في موارد
استعمالها في الانشاء، وعليه فهذا الاختلاف بينهما في المعنى الموضوع له
والمستعمل فيه نتيجة حتمية للالتزام بهذا المسلك، ولكن هذا المسلك غير تام
كما ذكرناه في باب الوضع.
وبكلمة أوضح أن الجمل المشتركة التي تستعمل في مقام الانشاء المعاملي
كصيغة (بعت) و (ملكت) و (زوجت) وهكذا، أو في مقام إنشاء الطلب مثل
(أعاد) و (يعيد) وما شاكل ذلك، هل تستعمل في معنى آخر غير معناها الذي

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 88.
50

يراد منها في موارد استعمالها في مقام الاخبار.
والجواب: أن هناك عدة تفسيرات لذلك.
الأول: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أنهما مختلفتان في المدلول الوضعي،
فإنه في موارد استعمالها في مقام الاخبار قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع
أو نفيها فيه، وفي موارد استعمالها في مقام الانشاء قصد ابراز الأمر الاعتباري،
كان من الاعتبارات المعاملية أم التكليفية على تفصيل تقدم آنفا.
ولكن قد مر أن ذلك مبني على مسلك التعهد في باب الوضع.
الثاني: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره من أن الجمل المشتركة موضوعة
لمعنى واحد، ولا فرق بينهما اخبارا وانشاء فيه، والفرق إنما هو في الداعي، فإن
كان الداعي على استعمالها في معناها الموضوع له إيجاده وإنشاؤه في وعائه فهي
انشائية، وإن كان الحكاية عن ثبوته في الخارج فهي خبرية.
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أنه إن أريد من الداعي إرادة إيجاد مدلولها
الوضعي في وعاء الطلب أو الاعتبار من الاعتبارات المعاملية في موارد استعمالها
في مقام الانشاء وإرادة الحكاية عن ثبوته في وعاء التحقق والخارج في موارد
استعمالها في الاخبار، فيرد عليه أن لازم ذلك هو أن اتصاف الجملة المشتركة
بالخبرية تارة والانشائية أخرى، إنما هو بلحاظ المدلول التصديقي لها دون
المدلول الوضعي، حيث إنه لا اختلاف بينها اخبارا وإنشاء فيه، لأنها بلحاظه لا
انشائية ولا إخبارية، وإنما تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصديقي.
والخلاصة: إن الجمل المشتركة على هذا القول لا تتصف بالخبرية والانشائية
بلحاظ مدلولها الوضعي التصوري، وإنما تتصف بهما بلحاظ مدلولها التصديقي،
51

ولكن سوف نشير إلى أن الفرق بينهما اخبارا وانشاء، إنما هو في المدلول
التصوري لا في المدلول التصديقي فقط.
وإن أريد من الداعي تقييد العلقة الوضعية في كل منهما بحالة خاصة كما فسره
بذلك السيد الأستاذ قدس سره، فيرد عليه أن هذا التفسير لا ينسجم مع مسلكه قدس سره من
أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية لا تصديقية، فإن لازم هذا التفسير هو
الالتزام بأن الدلالة الوضعية تصديقية لا تصورية.
الثالث: أن الجملة في موارد الاخبار تختلف عن الجملة في موارد الانشاء
بالمدلول الوضعي التصوري بالالتزام بتعدد الوضع، بأن تكون الجملة في موارد
الاخبار موضوعة بإزاء النسبة التي تلحظ فانية باللحاظ التصوري في مصداق
مفروغ عنه في عالم التحقق والخارج، وفي موارد الانشاء موضوعة بإزاء نفس
النسبة، ولكنها تلحظ فانية باللحاظ التصوري في مصداق يرى ثبوته بنفس
هذه الجملة، وعليه فخصوصية الحكاية والايجادية بالمعنى المذكور مأخوذة في
المدلول التصوري لكل منهما، فإذن خبرية الجملة وإنشائيتها إنما هي بالمدلول
التصوري دون التصديقي فحسب، وعلى هذا فلا يمكن أن تكون الجملة خبرية
إلا بلحاظ وضعها بإزاء معنى حكائي في عالم التصور، كما لا يمكن أن تكون
انشائية إلا بوضعها بإزاء معنى انشائي كذلك.
الرابع: أن الجملة المشتركة موضوعة بوضع واحد بإزاء معنى اخباري، وهو
المعنى الفاني في واقع مفروغ عنه بالنظر التصوري، فهي بلحاظ وضعها جملة
خبرية لا مشتركة بينها وبين الانشائية، ولكنها في مقام الانشاء استعملت في
معنى إنشائي مجازا، وهو المعنى الفاني في مصداق يرى بالنظر التصوري كأنه
حاصل بنفس هذه الجملة، وعلى هذا فالجملة المذكورة جملة اخبارية وضعا،
52

ولكنها قد تستعمل في مقام الانشاء مجازا، وعليه فخصوصية الاخبارية
والايجادية بالمعنى المذكور مأخوذة في المدلول التصوري بنحو الحقيقة والمجاز.
الخامس: أن الجملة المذكورة موضوعة بإزاء ذات النسبة المناسبة لكلا
النحوين من اللحاظ التصوري الحكائي والايجادي، فتدل عليها بنحو تعدد
الدال والمدلول، بأن تدل الجملة بنفسها على ذات النسبة وبخصوصيتها على
الايجادية أو الحكائية.
وبعد ذلك نقول: أنه لا يمكن الالتزام بالوجه الأول، فإنه مبني على مسلك
التعهد، ولا بالوجه الثاني كما مر.
وحينئذ فهل الظاهر من الوجوه الثلاثة الأخيرة الوجه الأول أو الثاني أو
الثالث، الظاهر هو الثالث دون الأول، فإن الالتزام بتعدد الوضع في الجمل
المذكورة بعيد جدا، لأن الظاهر أن لها وضعا واحدا مادة وهيئة، ودون الوجه
الثاني، لأن الالتزام بأن استعمالها في مقام الانشاء مجاز، خلاف ما هو المرتكز في
الأذهان، وعلى هذا فالظاهر هو أن استعمال هذه الجمل في مقام الانشاء
والاخبار كليهما حقيقي من باب تعدد الدال والمدلول، فإن الجملة بنفسها تدل
على ذات النسبة وبخصوصيتها، ككونها في مقام الاخبار تدل على خصوصية
حكائية، وكونها في مقام الانشاء تدل على خصوصية إيجادية، على أساس
أن كل جملة ظاهرة في أن المدلول التصديقي لها مطابق للمدلول التصوري
طالما لم تكن قرينة على عدم المطابقة، باعتبار أن المدلول التصديقي هو
المدلول التصوري، ولا فرق بينهما إلا في أن الأول متعلق للإرادة والقصد،
والثاني للحاظ والتصور.
فالنتيجة من ذلك كله، أن الظاهر من هذه الوجوه الثلاثة هو الوجه الثالث،
53

وعلى هذا فلا فرق بين الجمل المستعملة في مقام الاخبار والجمل المستعملة في مقام
الانشاء في ذات المعنى الموضوع له، وإنما الفرق بينهما في خصوصيته بدال آخر.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأولى: أن الجملة الناقصة كهيئة الإضافة والتوصيف ونحوهما
موضوعة بإزاء نسبة واقعية ذهنية كالحروف الداخلة عليها، فلا فرق بينهما
من هذه الناحية.
الثانية: أن الجملة الخبرية التامة موضوعة للدلالة على واقع النسبة في
الذهن وهي النسبة بالحمل الشائع، ولها خصائصها الذاتية التكوينية كالارتباط
والالتصاق بين المفاهيم فيه، وأما ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أنها موضوعة
للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه
فهو غير تام، لأنه مبني على مسلك التعهد في باب الوضع، وقد تقدم أن
هذا المسلك غير تام.
الثالثة: أن مدلول الجمل الخبرية التامة بما أنه النسبة الواقعية الذهنية،
فلذلك يصح استعمالها في جميع الموارد، سواء كانت من موارد هل المركبة أم
البسيطة أم ذاته تعالى وصفاته العليا الذاتية والاعتباريات والانتزاعيات، فلو
كان مدلولها النسبة الخارجية لم يصح استعمالها في كثير من تلك الموارد، باعتبار
أنه لا مدلول لها فيها، إما من جهة أنه لا وجود للموضوع والمحمول فيها في
الخارج أو أنهما موجودان بوجود واحد فيه، وعلى كلا التقديرين فلا تعقل
النسبة الخارجية فيها.
الرابعة: أنه لا فرق في ذلك بين الجمل الاسمية كقولك (زيد عالم)، والجمل
الفعلية ك‍ (ضرب زيد) فإن كلتا الجملتين موضوعة بإزاء النسبة الواقعية
54

الذهنية، غاية الأمر أن جملة (زيد عالم) أو ما شاكلها ترجع إلى قولك (زيد
شئ له صفة تلك الصفة علم) على تفصيل تقدم في بحث علامية صحة الحمل.
الخامسة: أن الوضع على مسلك التعهد يقتضي أن يكون متعلقه اختياريا،
وهل في الجملة التامة يقتضي أن يكون متعلقه قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت
النسبة في الواقع أو نفيها فيه؟ والجواب أنه لا يقتضي ذلك، إذ كما يمكن أن يكون
ذلك متعلقه، يمكن أن يكون متعلقه قصد اخطار المعنى في ذهن السامع، فما ذكره
السيد الأستاذ قدس سره من تعين الأول، فهو بحاجة إلى مبرر، ولا مبرر له.
السادسة: أن أداة الاستفهام الداخلة على الجملة التامة كقولك (هل زيد
عالم) أو الهيئة الحاصلة من دخولها عليها، موضوعة للدلالة على النسبة
الاستفهامية بين شخص المستفهم والقضية المستفهم عنها في وعاء الاستفهام.
السابعة: أن المستفهم عنه في الجملة الاستفهامية ليس ثبوت النسبة في
الجملة المدخول عليها الأداة في وعاء الذهن، بل ثبوتها في وعاء الخارج الذي
ليس مدلولا للجملة وضعا، فإن مدلولها الوضعي كما مر، النسبة الواقعية
الذهنية دون النسبة الخارجية، والمسؤول عنه في الجملة الاستفهامية هو النسبة
الخارجية، فإنها أحد طرفي النسبة الاستفهامية.
الثامنة: أن أداة الاستفهام أو الجملة الاستفهامية على مسلك التعهد
موضوعة للدلالة على قصد الاستفهام وإنشائه، وليست دلالتها عليه من باب
تعدد الدال والمدلول، لأن الجملة المدخول عليها الأداة قد انسلخت عن معناها
الموضوع له وهو قصد الحكاية، فإنها في هذه الحالة لا تدل عليه، لعدم توفر
شروط هذه الدلالة فيها في تلك الحالة. وأما على سائر المسالك في باب الوضع،
فتكون دلالة الجملة الاستفهامية على الاستفهام من باب تعدد الدال والمدلول،
55

فإن الأداة تدل على الاستفهام، والجملة المدخول عليها الأداة تدل على
النسبة التامة فيها.
التاسعة: أن المستفهم عنه في الجملة الاستفهامية ليس المدلول الوضعي
للجملة المدخول عليها الأداة، لا على مسلك التعهد في باب الوضع ولا على سائر
المسالك في هذا الباب، أما على الأول فلأنها منسلخة عن معناها الموضوع له،
وهو قصد الحكاية في حالة دخول الأداة عليها، فإذن ليس لها معنى كي يتجه
الاستفهام إليه.
وأما على الثاني فلأن السؤال في الجملة متجه إلى ثبوت النسبة في الخارج، لا
إلى معناها الموضوع له وهو النسبة الواقعية الذهنية، ولا فرق في ذلك بين دخول
الأداة على الجملة التامة كقولك (هل زيد قائم) أو دخول الفعل عليها كقولك
(أخبرني أن زيدا عادل) على تفصيل تقدم.
العاشرة: أن الجملة التامة تتميز عن الجملة الناقصة بالنكتة التالية، وهي أن
الغرض من احضار الجملة التامة في أفق الذهن، إنما هو جعلها وسيلة لاصدار
الحكم التصديقي عليها في الخارج الذي يصح السكوت عليه من دون أن يظل في
حالة الانتظار، بينما يكون الغرض من احضار الجملة الناقصة في الذهن، إنما هو
معرفة نفسها مرآة لما وراءها في الخارج، لا لاصدار حكم تصديقي عليها في
الخارج، باعتبار أنها لا تتضمن مطلبا تصديقيا فيه، فمن أجل ذلك لا يصح
السكوت عليها، وهذا هو الفارق بينهما، لا أن النسبة في الأولى نسبة واقعية
ذهنية وفي الثانية نسبة تحليلية، ولا ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من الفرق بينهما،
فإنه مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع ولا يتم على سائر المسالك في هذا
الباب، ولا ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من الفرق بينهما، وقد تقدم كل ذلك موسعا.
56

الحادية عشرة: الصحيح أن الجمل المتمحضة في الانشاء وكصيغة الاستفهام
مثلا موضوعة بإزاء النسبة الاستفهامية بين المستفهم والقضية المستفهم عنها
في وعاء الاستفهام، وهذه النسبة تختلف عن النسبة بين طرفي القضية المستفهم
عنها ذاتا ووعاء.
الثانية عشرة: تتميز الجمل المتمحضة في الانشاء وكصيغة الأمر والاستفهام
والتمني والترجي عن الجمل المتمحضة في الاخبار كزيد قائم مثلا في النسبة
ووعائها معا، لا في الوعاء فقط كما تقدم.
الثالثة عشرة: أن ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من الفرق بينهما في أن الأولى
موضوعة للدلالة على قصد الحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها فيه،
والثانية موضوعة للدلالة على ابراز الأمر الاعتباري النفساني، مبني
على مسلكه قدس سره في باب الوضع، وحيث إن هذا المسلك غير تام كما ذكرناه هناك،
فلا يمكن الالتزام بهذا الفرق.
الرابعة عشرة: أن المعنى الانشائي إيجادي بلحاظ وعائه كوعاء الاستفهام
والطلب والتمني والترجي وغير ذلك، فإن صيغة الاستفهام تدل على النسبة
الاستفهامية في وعاء الاستفهام، وصيغة الأمر تدل على النسبة الطلبية في وعاء
الطلب، وصيغة التمني تدل على النسبة التمنية في وعاء التمني وهكذا، ولا واقع
موضوعي لها وراء ثبوتها في هذه الأوعية التي توجد بنفس دلالة هذه الصيغ.
وإن شئت قلت: إن صيغة الأمر تدل على النسبة الطلبية الفانية بالنظر
التصوري في مصداق يرى ثبوته بنفس الصيغة، وصيغة الاستفهام تدل على
النسبة الاستفهامية الفانية باللحاظ التصوري في مصداق يرى ثبوته بنفس هذه
الصيغة، وهكذا صيغة التمني والترجي، وهذا بخلاف الجملة الخبرية، فإنها
57

موضوعة للدلالة على النسبة التي تلحظ فانية بالنظر التصوري في مصداق
مفروغ عنه في الخارج، فلهذا تكون معانيها حكائية.
الخامسة عشرة: الظاهر أن الجمل المشتركة بين الانشاء والاخبار موضوعة
للدلالة على ذات النسبة المناسبة لكلا النحوين من اللحاظ التصوري الايجادي
والحكائي، وتدل عليها بتعدد الدال والمدلول، بأن تدل الجملة على ذات النسبة
وخصوصيتها على الحكائية والايجادية.
السادسة عشرة: أن الجمل المستعملة في موارد الانشاء تمتاز عن الجمل
المستعملة في موارد الاخبار بالمدلول التصوري، فإنها في الموارد الأولى
مستعملة في النسبة الفانية باللحاظ التصوري في مصداق يرى كأنه حاصل
بنفس هذه العملية، وفي الثانية مستعملة في النسبة الفانية بالنظر التصوري
في مصداق مفروغ عنه في الخارج.
السابعة عشرة: أن إيجادية الجملة الانشائية إنما هي بلحاظ مدلولها
التصوري الوضعي دون مدلولها التصديقي فحسب، وكذلك حكائية الجملة
الخبرية، باعتبار أن المدلول التصديقي لكل جملة يتناسب مع المدلول التصوري
لها، وحيث إن المدلول التصوري للجملة الانشائية النسبة في وعاء لا واقع
موضوعي لها ما عدا ثبوتها فيه، فالمدلول التصديقي المناسب هو قصد وجود
تلك النسبة في نفس وعائها.
الثامنة عشرة: قد ظهر مما مر أمران:
الأول: أن إيجادية المعنى الانشائي إنما هي بلحاظ وعائه كوعاء الاستفهام
والطلب ونحوهما، على أساس أنه لا واقع موضوعي له وراءه، وحيث إن معنى
الجملة الانشائية مما لا وجود له إلا في هذا الوعاء، فلذلك تتصف بالايجادية،
58

أي انها تدل على معنى لا وجود له إلا فيه.
الثاني: أن إيجادية المعنى الانشائي ليست بمعنى التوليد والايجاد الخارجي،
ولا بمعنى الايجاد الاعتباري النفساني، ولا بمعنى انها في طول دلالة الجملة على
مدلولها التصوري والتصديقي، بل بمعنى أنه لا وعاء له إلا وعاء الجملة الانشائية
تصورا وتصديقا، ولهذا يرى ثبوت مصداقه بنفس الجملة.
ها هنا أمور:
الأول: في مدلول حرف النداء وتعيين حدوده.
الثاني: في مدلول أسماء الإشارة وتحديده سعة وضيقا.
الثالث: في تفسير الوضع النوعي وتمييزه عن الوضع الشخصي.
أما الكلام في الأمر الأول فالظاهر أن أداة النداء موضوعة بإزاء واقع النسبة
بين المنادى بالفتح والمنادي - بالكسر -، فإن معناها الموضوعة له هو النداء،
وهو بالحمل الشائع نسبة بينهما، ولم توضع بإزاء مفهوم النداء، باعتبار أنه ليس
بنداء بالحمل الشائع الصناعي، بل هو نداء بالحمل الأولي، ومفهوم اسمي وليس
بحرفي، والموضوع بإزائه هو لفظ النداء لا حرف النداء.
ثم إن أداة النداء تختلف عن أداة الاستفهام والتمني والترجي في نقطة، وهي أن
تلك الأداة لا تدخل إلا على الجملة التامة، كقولك (هل زيد عالم)، (ولعل
زيدا عادل) و (ليت بكرا قائم) بينما أداة النداء لا تدخل إلا على المفرد أو التثنية
أو الجمع دون الجملة التامة.
وبكلمة، إن أداة الاستفهام موضوعة بإزاء واقع النسبة بين المستفهم والجملة
المستفهم عنها، وأداة التمني موضوعة بإزاء واقع النسبة بين المتمني والجملة
59

المتمني عنها وهكذا، وأداة النداء موضوعة بإزاء واقع النداء الذي هو نداء
بالحمل الشائع بين الشخص المنادي والمنادى - بالفتح - في وعاء النداء، ولا واقع
موضوعي له، غير أنه يرى بالنظر التصوري ثبوته في هذا الوعاء بنفس هذه
الأداة، كوعاء الاستفهام والطلب والتمني والترجي وغير ذلك.
قد يقال كما قيل: إن دلالة حرف النداء على النسبة المذكورة ليست من ناحية
الوضع كسائر الحروف والأدوات، بل من ناحية أن حرف النداء كالصوت منبه
طبيعي، غاية الأمر أن الصوت منبه تكويني عام، وحرف النداء منبه تكويني
خاص، وعليه فإطلاقه إيجاد للمنبه التكويني، لا كما هو حاك عن معناه
الموضوع له ودال عليه (1).
ولكن هذا القول خاطئ جدا، وذلك لأن الاحساسات الأولية للإنسان
والحيوان وإن كانت منبهات طبيعية تكوينية يستخدمها الانسان في حياته
الاعتيادية الأولية لابراز مقاصده وأفكاره للآخرين، إلا أنها لا تنطبق على
الألفاظ بالنسبة إلى معانيها.
بيان ذلك أن المنبه على نوعين:
الأول: المنبه الطبيعي التكويني.
الثاني: المنبه الشرطي الصناعي.
أما الأول فهو يمثل الاحساسات الأولية للانسان والحيوان، فإذا رأى أحد
أسدا مثلا انتقل الذهن إلى صورته مباشرة، وهذا الانتقال والاستجابة الذهنية
نتيجة طبيعية أولية للاحساس البصري، وإذا سمع صوته انتقل الذهن إلى صورة

(1) بحوث في علم الأصول 1: 302.
60

الصوت استجابة طبيعية أولية للاحساس السمعي وهكذا.
ثم إن المنبه الطبيعي تارة يكون أوليا وأخرى يكون ثانويا، فإذا سمع أحد
صوتا كان انتقال الذهن منه إلى صورة الصوت أوليا، لأنه نتيجة الاحساس به
مباشرة، وأما الانتقال منه إلى صورة صاحبه من انسان أو حيوان فهو ثانوي،
مثلا إذا رأى صورة الأسد في جدار مثلا كان انتقال الذهن إلى نفس هذه الصورة
المنقوشة أوليا وبشكل مباشر بدون أي واسطة في البين، وأما انتقاله إلى
صورة الحيوان المفترس في الخارج فهو ثانوي، فالمنبه الطبيعي بكلا قسميه
قانون عام تكويني في حياة الانسان الاعتيادية، ولا يتوقف على أي عامل
وسبب خارجي.
وأما الثاني وهو المنبه الشرطي، فهو يتوقف على عامل خارجي، كما إذا سمع
شخص صوتا من خلف الباب مثلا، فسماعه بالنسبة إلى انتقال الذهن إلى صورة
الصوت منبه أولي، وبالنسبة إلى صورة صاحبه اجمالا منبه ثانوي، وأما بالنسبة
إلى أنه زيد فهو منبه شرطي يتوقف على تكرار سماع هذا الصوت من زيد
بدرجة يحصل التقارن بينه وبين صورة زيد في الذهن، وحينئذ فكلما سمع هذا
الصوت انتقل الذهن إلى أنه صوت زيد، ومن هذا القبيل ما إذا سمع
صوت جرس الباب مثلا من شخص خاص مكررا إلى حد يوجب انتقال الذهن
إلى صورته متى سمع ذلك الصوت، فيكون سماعه حينئذ منبها شرطيا
لانتقال الذهن إليها.
وأما اللفظ فالانتقال منه إلى صورته عند الاحساس به نتيجة طبيعية،
فيدخل في المنبهات التكوينية الأولية، وأما الانتقال منه إلى معناه فهو منبه
شرطي وليس بطبيعي، على أساس أنه بحاجة إلى عامل خارجي كمي أو كيفي،
61

والأول يمثل كثرة الاستعمال إلى أن تؤدي إلى الإشراط والإرتباط الذهني بينه
وبين المعنى، والثاني يمثل الوضع.
فالنتيجة أن اللفظ إنما يكون منبها شرطيا بأحد العاملين المذكورين:
الأول: الوضع التعييني، وهو العامل الكيفي.
الثاني: الوضع التعيني، وهو العامل الكمي.
فاللفظ يكون منبها شرطيا بالنسبة إلى معناه الموضوع له كغيره من الأفعال.
وبعد ذلك نقول: إن حرف النداء ككلمة (يا) مثلا موضوع لواقع النداء الذي
هو نداء بالحمل الشائع وربط حقيقي بين المنادي والمنادى، ومن الواضح أن
حرف النداء لا تدل عليه بالذات وبدون عامل، بل تتوقف دلالته عليه على
عامل كمي أو كيفي كدلالة سائر الحروف على معانيها.
وبكلمة، إن حرف النداء يكون منبها طبيعيا بالنسبة إلى انتقال الذهن إلى
صورته كما هو الحال في سائر الألفاظ، وأما بالنسبة إلى معناه وهو واقع النسبة
بين الشخص المنادي والمنادى في وعاء النداء، فلا يكون منبها طبيعيا لانتقال
الذهن إليه، بل منبه شرطي كسائر الحروف وبحاجة إلى عامل خارجي كالوضع
أو كثرة الاستعمال، وحيث إن نسبة حرف النداء إلى مدخوله وغيره على حد
سواء، فتعيينه بحاجة إلى دال آخر، فإذا أراد نداء زيد مثلا قال (يا زيد) فحرف
النداء يدل على واقع النسبة بين المنادي والمنادى بتعدد الدال والمدلول، بأن
يكون الدال على واقع النسبة حرف النداء، والدال على أن المنادى هو زيد في
المثال، الهيئة المتحصلة من دخول حرف النداء عليه، كأداة الاستفهام وغيرها،
فإنها تدل على النسبة الاستفهامية بتعدد الدال والمدلول، بأن تدل الأداة على
62

هذه النسبة، والجملة المدخولة على النسبة بين جزئيها.
ومن هنا يظهر أن معنى حرف النداء كمعنى حرف الاستفهام ونحوه إيجادي،
بمعنى أنه لا واقع موضوعي له وراء ثبوته في وعاء النداء.
وأما الكلام في الأمر الثاني فيقع في مداليل أسماء الإشارة والضمائر
والموصولات وتحديدها سعة وضيقا، فهنا أقوال:
القول الأول: ما اختاره المحقق الخراساني قدس سره من أنه يمكن أن يقال أن
المستعمل فيه من أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما عام كالحروف وأن تشخصه إنما
جاء من قبل طور استعمالها، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى
معانيها، وكذا بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب
يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن المستعمل في مثل (هذا) و (هو)
و (إياك) إنما هو المفرد المذكر، وتشخصه إنما جاء من قبل الإشارة والتخاطب
بهذه الألفاظ إليه، فإن الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون الا إلى الشخص أو
معه غير مجازفة (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ قدس سره (بأنا لو سلمنا اتحاد المعنى الحرفي والاسمي
ذاتا وحقيقة واختلافهما باللحاظ الآلي والاستقلالي، لم نسلم ما أفاده قدس سره في
المقام، والوجه فيه هو أن لحاظ المعنى في مرحلة الاستعمال مما لا بد فيه ولا
مناص عنه، ضرورة أن الاستعمال فعل اختياري للمستعمل، فيتوقف صدوره
على تصور اللفظ والمعنى، وعليه فللواضع أن يجعل العلقة الوضعية في الحروف
بما إذا لوحظ المعنى في مقام الاستعمال آليا، وفي الأسماء بما إذا لوحظ المعنى

(1) كفاية الأصول: 12.
63

استقلالا، ولا يلزم على الواضع أن يجعل لحاظ المعنى آليا كان أو استقلاليا قيدا
للموضوع له، بل هذا لغو وعبث بعد ضرورة وجوده وأنه في مقام الاستعمال مما
لا بد فيه، وهذا بخلاف أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما، فإن الإشارة إلى المعنى
ليست مما لا بد منه في مرحلة الاستعمال.
بيان ذلك أنه إن أريد بالإشارة استعمال اللفظ في المعنى ودلالته عليه، كما قد
تستعمل في ذلك كما في مثل قولنا (قد أشرنا إليه فيما تقدم) أو (فلان أشار إلى
أمر كذا في كتابه أو كلامه)، فالإشارة بهذا المعنى مشترك فيها بين جميع الألفاظ،
فلا اختصاص لها بأسماء الإشارة وما يلحق بها، وإن أريد بها أمر زائد على
الاستعمال، فلا بد من اخذه في الموضوع له، ضرورة أنه ليس كلحاظ المعنى مما
لا بد منه في مقام الاستعمال، بمعنى أنه ليس شيئا يقتضيه طبع الاستعمال، بحيث لا
يمكن الاستعمال بدونه، وحينئذ فلا بد من اخذه قيدا في المعنى الموضوع له، وإلا
فالاستعمال بدونه بمكان من الامكان. (فالصحيح في المقام أن يقال: إن أسماء
الإشارة والضمائر ونحوهما وضعت للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجا عند
الإشارة والتخاطب لا مطلقا، فلا يمكن ابراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران
بالإشارة أو التخاطب، فكل متكلم تعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم معانيها
أن يتكلم بها مقترنة بأحد هذين الأمرين، فكلمة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على
معناها وهو المفرد المذكر إلا بمعونة الإشارة الخارجية، كالإشارة باليد كما هي
الغالب أو بالرأس أو بالعين، وضمير المخاطب لا يبرز معناه إلا مقترنا بالخطاب
الخارجي، ومن هنا لا يفهم شئ من كلمة (هذا) مثلا عند اطلاقها مجردة عن
أية إشارة خارجية (1))، هذا.

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 90.
64

ويمكن المناقشة فيه.
أما أولا: فلما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره في أنه يمكن أخذ الإشارة
والتخاطب في المعنى الموضوع له كما يمكن أخذها في العلقة الوضعية، فهما من هذه
الناحية يختلفان عن اللحاظ الآلي والاستقلالي، باعتبار أن لحاظ المعنى مما لا بد
منه في مقام الاستعمال دون الإشارة والتخاطب، فلهذا يكون أخذ اللحاظ في
المعنى الموضوع له لغوا دون أخذهما فيه.
وثانيا: إن ما ذكره قدس سره من الفرق بين أسماء الإشارة والضمائر وبين الحروف
لا يتم، وذلك لأن استعمال اللفظ في المعنى بملاك أنه فعل اختياري يتوقف على
أصل اللحاظ والتصور، كما هو الحال في سائر الأفعال الاختيارية، لا على لحاظ
وتصور خاص وهو اللحاظ الآلي أو الاستقلالي، ضرورة أن استعمال كلمة
(من) مثلا في الابتداء الذي هو معناه الموضوع له على مسلكه قدس سره لا يتوقف على
لحاظه آليا، وإنما يتوقف على طبيعي اللحاظ الجامع بين الآلي والاستقلالي
وصرف وجوده، وعليه فلا مانع من أخذ خصوص اللحاظ الآلي في معناها
الموضوع له، باعتبار أنه ليس مما لا بد منه في مقام الاستعمال، وخصوص
اللحاظ الاستقلالي في المعنى الموضوع له الأسماء، وعلى هذا فلا فرق بين المقام
وبين الحروف والأسماء، فكما أنه يمكن أخذ الإشارة والتخاطب قيدا في المعنى
الموضوع له في المقام، يمكن أخذ اللحاظ الآلي أو الاستقلالي قيدا فيه هناك، ولا
يكون لغوا.
وثالثا: أنه لا مانع من أخذ اللحاظ الآلي قيدا للمعنى الموضوع له في
الحروف، والاستقلالي قيدا له في الأسماء ولكن في طول المعنى لا في عرضه، وما
قيل من أن ذلك لا يمكن، لأن اللحاظ المأخوذ قيدا للمعنى الموضوع له إن كان
65

عين اللحاظ الجائي من قبل الاستعمال، لزم أخذ ما هو متأخر رتبة في المتقدم،
وإن كان غيره فهو خلاف الوجدان، مدفوع بأن هذا المحذور إنما يلزم لو أخذ
اللحاظ الآلي أو الاستقلالي قيدا للمعنى الموضوع له في عرضه، وأما إذا أخذ
قيدا له في طوله، بأن يكون المعنى الموضوع له مقيدا باللحاظ الآلي أو
الاستقلالي الجائي من قبل الاستعمال، فلا يلزم المحذور المذكور، على أساس أنه
يتحقق بنفس اللحاظ الاستعمالي.
وبكلمة، إنه لا مانع ثبوتا لذلك من أن يكون المعنى الموضوع له مقيدا بواقع
اللحاظ الآلي طولا في الحروف، وبواقع اللحاظ الاستقلالي كذلك في الأسماء، و
أن هذا القيد الطولي يتحقق بالاستعمال لا أنه متحقق في عرض المعنى، ومن
الواضح أنه لا محذور في وضع لفظ بإزاء معنى مقيد بقيد طولي يتحقق ذلك القيد
بنفس الاستعمال، كما أنه لا مانع من تقييد المعنى الموضوع له بمفهوم اللحاظ الآلي
أو الاستقلالي لا بواقعة، غاية الأمر فالمعنى الموضوع له عندئذ يكون كليا لا
جزئيا، ولكن التقييد بمفهوم اللحاظ ليس مراد صاحب الكفاية قدس سره، فإن مراده
التقييد بواقع اللحاظ الآلي فلذلك يصير المعنى جزئيا، باعتبار أن الوجود
مساوق للتشخص وإن كان وجودا لحاظيا ذهنيا. فالنتيجة: أنه لا مانع من
تقييد المعنى بهذا القيد طولا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من تقييد العلقة الوضعية
بالإشارة والتخاطب الخارجيين لا يتم.
أما أولا: فلأنه لا موجب لهذا التقييد بعد ما كان المعنى الموضوع له
والمستعمل فيه مطلقا وغير مقيد باللحاظ الآلي أو الاستقلالي، فإن الموجب لهذا
التقييد في الحروف، هو أن امتيازها عن الأسماء الموازية لها يتوقف على ذلك، إذ
66

لا امتياز بينهما في ذات المعنى الموضوع له، فلو لم تكن العلقة الوضعية في الحروف
مقيدة بما إذا لوحظ معانيها آليا وفي الأسماء بما إذا لوحظ معانيها استقلاليا، لم يكن
فرق بينهما لا في الوضع ولا في المعنى الموضوع، وأما في المقام فلا موجب لتقييد
العلقة الوضعية في أسماء الإشارة والضمائر بالإشارة والتخاطب، لفرض أن المعنى
الموضوع له فيهما عام ولا مبرر لتقييده ولا تقييد العلقة الوضعية، حيث لا
يتوقف الامتياز بينهما على ذلك، فإذن لا مقتضى له.
وثانيا: إن هذا التقييد لا ينسجم مع ما سلكه قدس سره في باب الوضع من أن الدلالة
الوضعية دلالة تصورية لا تصديقية، فإن مقتضى هذا التقييد هو أنها تصديقية لا
تصورية، لأن تقييد العلقة الوضعية بواقع الإشارة والتخاطب يتطلب كون
الدلالة الوضعية تصديقية، وهذا إنما ينسجم مع مسلك التعهد، لا مع ما
هو التحقيق في باب الوضع من أنها تصورية محضة وثابتة حتى عند التلفظ
بالكلمة بدون قصد وشعور.
فالنتيجة أن ما استظهره المحقق الخراساني قدس سره من أن المعنى الموضوع له في
أسماء الإشارة وأخواتها عام والعلقة الوضعية فيهما خاصة وثابتة في حالة
خاصة، وهي حالة ما إذا أشار المتكلم إلى المعنى الموضوع له والمستعمل فيه أو
خاطب به في مرحلة الاستعمال غير تام، إذ لا موجب لهذا التخصيص أولا،
ومناسب لمسلك التعهد ثانيا دون سائر المسالك.
القول الثاني: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أن أسماء الإشارة ونظيراتها
موضوعة للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجا عند الإشارة والتخاطب لا
مطلقا، فلا يمكن ابراز تفهيم تلك المعاني بدون الاقتران بالإشارة والتخاطب،
فكل متكلم تعهد في نفسه بأنه متى ما قصد تفهيم معانيها أن يتكلم بها مقترنة
67

بأحد هذين الأمرين، فكلمة (هذا) أو (ذاك) لا تدل على معناها وهو المفرد
المذكر إلا بمعونة الإشارة الخارجية، كالإشارة باليد كما هي الغالب أو بالرأس أو
بالعين، وضمير الخطاب لا يبرز معناه إلا مقترنا بالخطاب الخارجي، ومن هنا
لا يفهم شئ من كلمة (هذا) عند إطلاقها مجردة عن الاقتران بأية إشارة
خارجية (1). هذا،
وللنظر فيه مجال، وذلك لأنه مبني على مسلك التعهد الذي هو مختاره قدس سره في
مسألة الوضع، إذ على أساس هذا المسلك لا بد من الالتزام بأن أسماء الإشارة
والضمائر موضوعة للدلالة على قصد تفهيم معانيها خارجا عند الإشارة
والتخاطب، باعتبار أن دلالة الألفاظ على معانيها في ضوء هذا المسلك
دلالة تصديقية لا تصورية، ولكن قد ذكرنا هناك أن مسلك التعهد في باب
الوضع غير تام، ومن هنا قلنا إن الدلالة الوضعية دلالة تصورية بحتة على
تفصيل تقدم هناك.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن أسماء الإشارة موضوعة بإزاء واقع الإشارة
التي هي إشارة بالحمل الشائع، ومن الواضح أن واقع الإشارة يمثل النسبة
بين المشير والمشار إليه، وتدل عليها بالدلالة الوضعية التصورية التي هي
محفوظة حتى عند التكلم بها بدون قصد وشعور، وينتقل الذهن من سماعها إلى
تصور معناها، وهو الإشارة الفانية في واقعها وهو النسبة بين المشير والمشار إليه
في وعاء الإشارة.
وإن شئت قلت: إن كلمة (هذا) أو (ذاك) موضوعة للدلالة على الإشارة
الواقعية وهي النسبة بين المشير والمشار إليه، ولم توضع بإزاء مفهوم الإشارة التي

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 91.
68

هي إشارة بالحمل الأولي ومفهوم اسمي، لأن الموضوع بإزائه هو كلمة (إشارة)،
ومن الواضح أن كلمة (هذا) لا تكون مرادفة لكلمة (الإشارة)، فلو كانت
موضوعة بإزاء مفهومها لكانت مرادفة لها، وهي كما ترى، ومن هنا كان المتبادر
من كلمة (هذا) واقع الإشارة، والمتبادر من كلمة (الإشارة) مفهومها، فيكون
ذاك نظير الحروف الداخلة على الجملة الناقصة ك‍ (من) و (إلى) و (في)
و (على) وما شاكلها، فإن كلمة (من) موضوعة لواقع الابتداء الذي هو ابتداء
بالحمل الشائع، وهو النسبة بين المبتدأ به والمبتدأ منه، ولم توضع بإزاء مفهوم
الابتداء الذي هو ابتداء بالحمل الأولي ومفهوم اسمي، فيكون الموضوع بإزائه
لفظ (الابتداء).
ودعوى أن كلمة (هذا) أو (ذاك) لو كانت موضوعة بإزاء واقع الإشارة،
فلازم ذلك أن تكون الدلالة الوضعية دلالة تصديقية، لأن واقع الإشارة - سواء
كان متمثلا في الفعل الخارجي كالإشارة باليد أو العين أو الرأس أم الفعل
النفساني كتوجه خاص من النفس - مدلول تصديقي.
مدفوعة، بأن المراد من واقع الإشارة هو النسبة الاشارية الواقعية بين المشير
والمشار إليه التي هي إشارة بالحمل الشائع لا الفعل الخارجي ولا الفعل
النفساني، ومن الواضح أن وضعها بإزاء تلك النسبة لا يستلزم كون الدلالة
الوضعية تصديقية، لأن النسبة الاشارية التي هي ثابتة في الذهن بنفسها من
المعاني التصورية كسائر أنحاء النسب والروابط، مثلا كلمة (من) موضوعة
بإزاء واقع النسبة بين المبتدأ به والمبتدأ منه، وكلمة (في) موضوعة بإزاء واقع
النسبة الظرفية بين الظرف والمظروف وهكذا، ولا يستلزم ذلك كون دلالة تلك
الحروف عليها تصديقية، بل هي تصورية بتبع دلالة أطرافها كما مر، ونفس
69

الشئ يقال في الضمائر.
والخلاصة: أن أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما كالحروف الداخلة على
الجمل الناقصة مثل كلمة (من) و (إلى) و (على) و (في) وغيرها، فكما أن
هذه الحروف موضوعة بإزاء النسب الواقعية في عالم الذهن التي هي نسب
بالحمل الشائع، فكذلك أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما، فإنها موضوعة بإزاء
النسب الواقعية في وعاء الذهن، فاسم الإشارة موضوع بإزاء واقع الإشارة وهو
النسبة الاشارية بين المشير والمشار إليه، وضمير المخاطب موضوع لواقع
الخطاب الذي هو خطاب بالحمل الشائع ونسبة بين المتكلم والمخاطب وهكذا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأول: بطلان ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في أسماء الإشارة والضمائر من
أن العلقة الوضعية قد قيدت فيهما بالإشارة والتخاطب مع كون المعنى الموضوع
له فيهما عاما.
الثاني: ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أنهما موضوعتان للدلالة على قصد
تفهيم معانيها خارجا عند الإشارة والتخاطب مبني على مسلكه في باب الوضع،
وهو التعهد، ولكن قد ذكرنا هناك أن المبني غير تام.
الثالث: الصحيح أنهما موضوعتان بإزاء واقع الإشارة والخطاب، وهو النسبة
بين المشير والمشار إليه في عالم الذهن، والنسبة بين المتكلم والمخاطب فيه.
وهناك مجموعة من الدعاوي في المسألة.
الأولى: قد يتوهم أن أسماء الإشارة ك‍ (هذا) موضوعة بإزاء المفرد المذكر،
و (هذه) موضوعة بإزاء المفرد المؤنث.
70

ولكن لا أساس لهذا التوهم، ضرورة أن كلمة (هذا) لم توضع بإزاء المفرد
المذكر، إذ لو كانت موضوعة بإزائه لكان لازم ذلك أن يكون معناها معنى
اسميا لا حرفيا ومرادفة لكلمة المفرد المذكر، وهذا باطل جزما، لوضوح أن
المتبادر من كلمة (هذا) غير ما هو المتبادر من كلمة المفرد المذكر، فإن
المتبادر منها مفهومه، ولذلك تكون من أسماء الأجناس، فلا يعقل أن تكون
مرادفه لأسماء الإشارة.
الثانية: قد يقال: إن أسماء الإشارة موضوعة بإزاء الإشارة الخارجية التي هي
نسبة خارجية بين وجود المشير ووجود المشار إليه في الخارج، في مقابل
الإشارة الذهنية التي هي نسبة بينهما في الذهن.
ولكن هذا القول أيضا باطل.
أما أولا: فلما ذكرناه في باب الوضع من أن الألفاظ لم توضع بإزاء المعاني
المقيدة بالوجود الخارجي منها أسماء الإشارة ونحوها، كما أنها لم توضع بإزاء
المعاني المقيدة بالوجود الذهني، أو فقل: إن وضع اللفظ بإزاء المعنى المقيد
بالوجود الخارجي وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أنه لم يقع في اللغات، لأنها موضوعة
بإزاء معاني قد توجد في الذهن وقد توجد في الخارج، وأما إذا وضعت بإزاء
المعاني المقيدة بالوجود الخارجي، فلا يمكن انطباقها عليها في الذهن، وكذلك
الأمر بالعكس. فالنتيجة أن عدم وضع أسماء الإشارة ونظيراتها للمعاني المقيدة
بالوجود الخارجي أمر مقطوع به.
وثانيا: أن لازم ذلك هو كون الدلالة الوضعية دلالة تصديقية، على أساس
أن الموجود الخارجي مساوق للتصديق به، فإذا كان المعنى الموضوع له مقيدا
بالوجود الخارجي فهو مدلول تصديقي للفظ، ولكن تقدم أن الدلالة الوضعية
71

دلالة تصورية بحتة وثابتة حتى عند صدور اللفظ من لافظ بلا شعور واختيار.
الثالثة: قد يتخيل أن أسماء الإشارة موضوعة بإزاء الإشارة في أفق النفس،
وهي التوجه الخاص منها إلى المشار إليه، وهو المفرد المذكر أو المؤنث.
ولكن يرد عليها أولا: أن لازم ذلك هو كون الدلالة الوضعية لها دلالة
تصديقية، على أساس أن التوجه الخاص من النفس إلى شئ يناسب التصديق
به، لأنه فعل اختياري لها، فلا يمكن صدوره منها بالنسبة إلى شئ بدون
الالتفات والتصديق.
وإن شئت قلت: إن الذهن هو وعاء التصور وموطن صور الأشياء، وأما
وعاء التصديق فهو خارج عن وعاء التصور، سواء كان عالم الخارج أم عالم
النفس، فإذن يكون عالم النفس في وعاء التصديق لا التصور.
وثانيا: إن المتبادر من كلمة (هذا) أو (ذاك) هو واقع الإشارة بين المشير
والمشار إليه في عالم الذهن دون توجه خاص من النفس.
فالنتيجة، أنه لا يتم شئ من هذه الدعاوي الثلاث.
هذا تمام الكلام في تحديد مفاهيم أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما.
وأما الكلام في الأمر الثالث فيقع في مقامين:
الأول: في بيان ضابط الوضع الشخصي والوضع النوعي.
الثاني: أن وضع الهيئات والحروف وما شاكلهما هل هو نوعي أو شخصي.
أما الكلام في المقام الأول فالضابط للوضع الشخصي هو تصور شخص
اللفظ بحده الفردي وشخصه الذاتي ثم وضعه بإزاء معنى، فيكون اللفظ الموضوع
72

شخص الملحوظ والمستحضر في الذهن لا نوعه، مثلا إذا أراد الواضع وضع لفظ
(زيد) مثلا وقام باستحضار شخصه في الذهن ثم وضع نفس المستحضر بإزاء
معنى كان الوضع شخصيا، لأن الموضوع شخص اللفظ المستحضر لا فرده،
وكذا إذا تصور لفظ (الانسان) بحده الشخصي ثم وضع بإزاء معنى كان من
الوضع الشخصي، فإن الضابط فيه كون اللفظ الموضوع شخص اللفظ
المستحضر في الذهن لا فرده المستحضر فيه بنوعه لا بشخصه.
وأما الضابط للوضع النوعي فهو أن الملحوظ والمستحضر في الذهن في مقام
عملية الوضع نوع اللفظ والعنوان العام دون شخص اللفظ الموضوع، كما إذا
تصور الواضع في مقام عملية الوضع هيئة (فاعل) من جهة أنها عنوان عام
للهيئات الخاصة كهيئة (ضارب) و (ناصر) و (عالم) و (عادل) و (قائم)
وهكذا، فإن تصورها تصور لتلك الهيئات الخاصة بعنوانها العام واستحضارها
استحضار لها كذلك، وحيث إن تصور اللفظ الموضوع واستحضاره في الذهن
إجمالا بتصور واستحضار عنوانه العام فيه يكفي في مقام عملية الوضع، فلا
مانع حينئذ من وضع الهيئات الخاصة بعنوانها العام، بأن يقول كل ما كان
على زنة (فاعل) فهو موضوع للمعنى الفلاني، فيكون الموضوع في الحقيقة
شخص كل هيئة خاصة، بينما المستحضر والمتصور في الذهن نوعها وهو الهيئة
العامة المنتزعة.
وقد تسأل هل يمكن وضع الهيئة العامة بإزاء معنى بنحو الوضع العام
والموضوع له العام؟
والجواب: أنه لا يمكن، وذلك لأنه لا يتصور معنى جامع بين معاني الهيئات
الخاصة حتى تكون الهيئة العامة موضوعة بإزائه، باعتبار أن معاني الهيئات
73

المذكورة معان نسبية، وقد تقدم في بحث الحروف أن الجامع الذاتي بين أنحاء
النسب والروابط غير معقول، على أساس أن كل نسبة متقومة ذاتا وحقيقة
بشخص وجود طرفيها، ومع التحفظ على مقومات كل نسبة فهي متباينات
بالذات، من جهة أن المقومات الذاتية لكل منها مباينة للمقومات الذاتية
للأخرى، ومع إلغائها فلا نسبة حتى يتصور الجامع بينها.
هذا إضافة إلى أن معاني تلك الهيئات مختلفة من جهة أخرى أيضا، وهي أن
التلبس والنسبة بين تلك الهيئات قد يكون صدوريا كما في (ضارب) وقد يكون
حلوليا كما في (مائت) و (عالم) هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، أن الهيئة العامة بما أنه لا واقع موضوعي لها في الخارج،
باعتبار أنها منتزعة من الهيئات الخاصة، فلا معنى لوضعها مستقلا في مقابل
وضع تلك الهيئات.
وبكلمة، إن الوضع علاقة بين اللفظ والمعنى، وفي مقام عملية الوضع لا بد من
تصور واستحضار كل من اللفظ (الموضوع) والمعنى (الموضوع له) في الذهن،
فكما أن الواضع قد يستحضر المعنى الكلي الانتزاعي في الذهن ويضع اللفظ
بإزاء أفراده، فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص، وقد يستحضر
المعنى في الذهن ويضع اللفظ بإزاء نفس ذلك المعنى المستحضر فيه، فيكون من
الوضع العام والموضوع له العام، فكذلك قد يستحضر اللفظ الموضوع في الذهن
بشخصه ويضع نفس اللفظ المستحضر بإزاء المعنى، ويكون هذا من الوضع
الشخصي، وقد يستحضر اللفظ بعنوان عام في الذهن ويضع أفراده المستحضرة
باحضاره فيه بإزاء المعاني دون شخص اللفظ المستحضر، ويكون هذا من
الوضع النوعي دون الشخصي.
74

إلى هنا قد تبين ضابط الوضع الشخصي والوضع النوعي.
وأما الكلام في المقام الثاني فيقع في موردين:
الأول: في وضع الهيئات الأفرادية والجملية.
الثاني: في وضع الحروف وما يلحق بها.
أما المورد الأول: فالمعروف والمشهور بين الأصوليين أن وضع الهيئات
نوعي لا شخصي، ووضع المواد شخصي لا نوعي، ويمكن تقريب ذلك بأن المادة
بما أنها ملحوظة بوحدتها الذاتية الشخصية من قبل الواضع في مقام عملية
الوضع ثم توضع نفس تلك المادة المستحضرة بإزاء معنى لا أفرادها، فلا محالة
يكون من الوضع الشخصي، لأن الموضوع شخص اللفظ المستحضر لا نوعه،
مثلا مادة (ضرب) وهي (ض ر ب) فإذا قام الواضع بوضعها استحضرها في
الذهن بحدها الشخصي المميز عن غيرها، ثم وضع شخص تلك المادة
المستحضرة في الذهن بإزاء معنى لا أفرادها، وهذا بخلاف الهيئة، فإن الواضع
في مقام وضع الهيئات يقوم باستحضار هيئة جامعة بينها في الذهن التي هي
عنوان عام لها ومندك فيها في الخارج، وحيث إن استحضارها استحضار لتلك
الهيئات الخاصة بعنوانها العام، فيكفي ذلك في وضع تلك الهيئات في ضمن
هيئة جامعة عامة بالصيغة التالية: هي أن كلما كان على هيئة (فعل) مثلا،
فهو موضوع للمعنى الكذائي، وكل ما كان على هيئة (فاعل)، فهو موضوع
للمعنى الفلاني وهكذا، إذ من البعيد جدا أن يقوم الواضع بوضع كل هيئة
بخصوصها بالوضع الشخصي.
فالنتيجة أن ضابط الوضع النوعي ينطبق على وضع الهيئات، فلذلك يكون
نوعيا لا شخصيا.
75

وقد استشكل على ذلك بوجهين:
أحدهما: أن ملاك شخصية الوضع في المواد إن كان امتيازها عن مادة أخرى
ذاتا وحقيقة وبجوهر حروفها، فهذا الملاك موجود بعينه في الهيئة، لأن كل هيئة
تمتاز عن هيئة أخرى ذاتا وحقيقة وبوحدتها الطبيعية وهويتها الشخصية، فإن
هيئة (فاعل) تمتاز عن هيئة (مفعول) كذلك وهكذا، فإذن ما هو الموجب
لكون وضع المواد شخصيا ووضع الهيئات نوعيا، وإن كان ملاك نوعية وضع
الهيئات عدم اختصاص الهيئة بمادة دون أخرى، فهذا الملاك بعينه موجود في
المواد أيضا، فإن المادة لا تختص بهيئة دون أخرى، لأن مادة (ض ر ب) لا
تختص بهيئة (ضارب)، بل تعم سائر الهيئات ومشتقاتها أيضا، فإذن ما هو
السبب لكون وضع الهيئات نوعيا والمواد شخصيا؟
وقد أجاب عنه المحقق الأصفهاني قدس سره، وتقريب ذلك مع التوضيح أن المادة
بوحدتها الذاتية وهويتها الشخصية وجوهر حروفها جامعة ذاتية بين أفرادها،
لأن جميع أفرادها تشترك في المقومات الذاتية لها، وهي جوهر حروفها
وامتيازها الذاتي والماهوي عن غيرها، والواضع في مقام عملية الوضع قد
استحضر المادة بجوهر حروفها وبوحدتها وهويتها الشخصية المميزة في الذهن
ثم وضعها بإزاء معنى، فيكون الموضوع شخص اللفظ الملحوظ والمستحضر فيه
مباشرة لا نوعه، وهذا هو معنى الوضع الشخصي.
وأما الهيئة فحيث إنها مندكة في المادة ومندمجة فيها غاية الإندماج، فلا
استقلال لها في الوجود اللحاظي كما في الوجود الخارجي كالمعنى الحرفي، فلا
يمكن انفكاكها عنها وتجريدها ولو في الذهن، لأن كل هيئة متقومة ذاتا وحقيقة
بشخص مادتها، فلذلك تكون مباينة للأخرى، من جهة أن المقومات الذاتية
76

لكل منها مباينة للمقومات الذاتية للأخرى، وعليه فلا يتصور جامع ذاتي بين
الهيئات لكي يكون الموضوع ذلك الجامع الذاتي، فإذن لا محالة يجب الوضع
لأشخاصها بجامع عنواني انتزاعي، كقولهم كلما كان على زنة (فاعل) فهو
موضوع لكذا وكذا.
وإن شئت قلت: إن الهيئة الجامعة ذاتا وحقيقة بين جمع الهيئات غير
متصورة، لأن تلك الهيئات متباينات بالذات والحقيقة من جهة أن المقومات
الذاتية لكل منها مباينة للمقومات الذاتية للأخرى وهي المواد، فإذن لا بد
للواضع في مقام الوضع من احضار عنوان انتزاعي يشير به إليها، على أساس أنه
عنوان عام لها وتصوره تصور لها بعنوانها ثم يضع تلك الهيئات بعنوان عام لمعنى،
وهذا هو المراد من الوضع النوعي أي الوضع لها بجامع عنواني، أو ان المراد منه
هو أن المادة حيث يمكن لحاظها فقط، فالوضع شخصي، والهيئة حيث لا يمكن
لحاظها فحسب، بل لا بد أن يكون في ضمن مادة، فالوضع لها يوجب اقتصاره
عليها، فيجب حينئذ أن يقال هيئة (فاعل) وما يشبهها موضوعة لكذا، وهذا
معنى نوعية الوضع أي الوضع لها ولما يشبهها (1).
وقد علق على هذا الجواب بعض المحققين قدس سره بتقريب أنه لا يتم في بعض
الهيئات الأفرادية كهيئة اسم الفاعل وفعل الماضي، فإن الأولى موضوعة للذات
المتلبسة بالمبدأ، والثانية موضوعة للنسبة بين الفعل والفاعل، وتلبس الذات
بالمبدأ قد يكون صدوريا كما في (ضارب) و (قاتل)، وقد يكون حلوليا كما في
(مائت) و (عالم) وهكذا، وكذلك نسبة الفعل إلى الفاعل، فإنها قد تكون
صدورية كما في مثل (ضرب) و (قتل) وقد تكون حلولية كما في مثل (مات)

(1) نهاية الدراية 1: 77.
77

و (علم) و (قام) وهكذا، وعلى هذا فلا يخلو اما أن يكون المعنى الموضوع له
لاسم الفاعل الجامع بين النحوين من التلبس وهو الذات المتلبسة بالمبدأ الجامعة
بين التلبس الصدوري والحلولي أو حصة خاصة منه وهي التلبس الصدوري،
وكلاهما لا يمكن.
أما الأول: فلأن لازمه صحة استعمال هيئة اسم الفاعل في كل من التلبس
الصدوري والحلولي، مع أنه لا يصح استعمال هيئة (قاتل) في التلبس الحلولي،
وكذا هيئة (ضارب)، لأن من تلبس بحلول القتل عليه، فإنه مقتول لا قاتل،
ومن تلبس بوقوع الضرب عليه، فإنه مضروب لا ضارب، كما لا يصح استعمال
هيئة (مائت) في التلبس الصدوري، وكذا هيئة (عالم) و (قائم).
وأما الثاني: فلأن لازمه عدم صحة استعمال هيئة (فاعل) في التلبس
الحلولي على نحو الحقيقة مع أنه لا شبهة في صحة استعمال هيئة (مائت)
و (عالم) ونحوهما فيه حقيقة، وعدم صحة استعمالها في التلبس الصدوري،
ونفس الشئ يقال في نسبة الفعل إلى الفاعل.
وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بأن الواضع حين عملية الوضع يلاحظ كل
هيئة مقرونة بمادتها الخاصة ويضعها للتلبس والنسبة المناسبة لها، مثلا يلاحظ
هيئة (قاتل) مقرونة بمادتها الخاصة وبعنوانها المخصوص ثم يضعها بإزاء معنى
مناسب لها، فيكون الموضوع نفس الهيئة المستحضرة في الذهن لا نوعها، وهذا
هو ضابط الوضع الشخصي دون النوعي (1).
ولكن يمكن التعليق عليه بأنه لا مانع من الالتزام بأن هيئة اسم الفاعل

(1) بحوث في علم الأصول 1: 344.
78

موضوعة بإزاء الذات المتلبسة بالمبدأ، وهيئة فعل الماضي موضوعة بإزاء نسبة
الفعل إلى الفاعل، ولا تدل على أكثر من ذلك، وأما الصدورية أو الحلولية فهي
مأخوذة في مدلول المادة دون الهيئة، فمادة هيئة القاتل موضوعة لمعنى مناسب
للنسبة الصدورية، وكذا مادة هيئة الضارب ونحوها، وأما مادة هيئة العالم
والمائت وما شاكلهما، موضوعة بإزاء معنى مناسب للنسبة الحلولية، وهذا
الاشكال مبني على أن النسبة الصدورية والحلولية مأخوذة في مدلول الهيئة،
فعندئذ لا يمكن الالتزام بوضع واحد نوعي في الهيئات، بل لا مناص من الالتزام
بتعدده بتعدد الهيئات، فيكون وضعها حينئذ شخصيا، بلحاظ أن لكل هيئة
مقترنة بالمادة بشخصها وضعا، وأما إذا كانت هذه النسبة من لوازم معنى المادة،
فلا مانع من الالتزام بالوضع النوعي في الهيئات كلها.
وبكلمة، إن المادة قد تكون قائمة بالذات المتلبسة بها وحالة فيها كمادة الموت
والعلم والقيام ونحو ذلك، وقد تكون صادرة عنها وقائمة بغيرها كمادة القتل
والضرب ونحوهما، وهيئة الفاعل في كل من الموردين تدل على تلبس الذات
بالمادة، وأما كون المادة صدورية أو حلولية فهي لا تدل عليها، لأنها من شؤون
المادة ولوازمها الذاتية، ومدلول هيئة اسم الفاعل تلبس الذات بالمادة، ومدلول
هيئة فعل الماضي نسبة المادة إلى الفاعل، وأما كون النسبة في مورد صدورية وفي
آخر حلولية، فيكون من جهة اختلاف معنى المادة، لا أنها مأخوذة في مدلول
الهيئة، باعتبار أن مدلولها هو التلبس والنسبة فقط بدون الدلالة على خصوصية
أخرى، والمادة موضوعة لطبيعي معناها اللا بشرط، ولا تدل بالدلالة الوضعية
إلا عليه بدون الدلالة على خصوصية أخرى، وأما كون التلبس والنسبة
صدورية أو حلولية، فهو من شؤون خصوصية معنى المادة بالذات، واتصاف
النسبة بها إنما هو بالعرض أي من جهة معنى المادة، فإن المادة في مثل (القاتل)
79

و (قتل) موضوعة لمعنى لا يقبل إلا الصدور من الفاعل، وفي مثل (المائت)
و (مات) و (العالم) و (علم) موضوعة لمعنى لا يقبل إلا الحلول فيه.
وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بالوضع النوعي في الهيئات، فإن هيئة
الفاعل إذا كانت بجميع أصنافها مشتركة في معنى واحد، فلا موجب للوضع
الشخصي لكل صنف، وحينئذ فبامكان الواضع أن يتصور الهيئة المنتزعة
الجامعة بينها التي هي عنوان عام لها ثم يضع تلك الهيئات بسبب تصور
واستحضار عنوانها العام في الذهن، فيكون المستحضر فيه النوع، والموضوع هو
الشخص، وهذا هو المعيار العام للوضع النوعي.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي أن الأظهر أن وضع جميع الهيئات
نوعي بلا فرق بين الهيئات الأفرادية والجملية.
وأما الحروف وما يلحق بها فهل يكون وضعها نوعيا أو شخصيا؟
والجواب: أن هنا نظريتين: الأولى: أن وضعها نوعي، والثانية: أنه شخصي.
أما النظرية الأولى: فيمكن تقريبها بأنه ليس للحروف وضع مستقل، بل
هي موضوعة بوضع ضمني أي في ضمن وضع الجملة، وقد تقدم أن وضع
الجملة نوعي، على أساس أن أفراد الجملة تختلف من مورد إلى مورد آخر
باختلاف موادها، وهي غير محصورة، فلا بد للواضع في مقام عملية الوضع من
احضار عنوان عام جامع يشير به إلى كل جملة تتألف مثلا من الظرف والمظروف
وحرف الظرفية كقولك (الصلاة في المسجد) و (زيد في الدار) وهكذا، ثم
يضعها بإزاء معنى مناسب لها وهو واقع النسبة الظرفية، فيكون الموضوع في
الحقيقة شخص كل جملة تتألف من هذه العناصر الثلاثة المستحضرة في الذهن
80

والمتصورة فيه بنوعها لا بشخصها، وهذا هو معنى الوضع النوعي (1)
ويؤكد ذلك أن دلالة الحروف على معانيها تتوقف على أن تكون في ضمن
جملة وإلا فلا مدلول لها، بينما دلالة الأسماء على معانيها لا تتوقف على ذلك.
وبكلمة، إن الأسماء مستقلة لفظا ومعنى، وموضوعة بإزاء معان مستقلة،
وهي المعاني التي لها تقرر ذاتي ماهوي في المرتبة السابقة على الوجود الذهني
والخارجي، وقد توجد في الذهن وقد توجد في الخارج، وتدل عليها عند
اطلاقها، سواء كانت وحدها أم كانت في ضمن كلام، فإن دلالتها الوضعية
التصورية لا تتوقف على ذلك، بينما تكون الحروف غير مستقلة لفظا ومعنا، فإن
دلالتها على معانيها تتوقف على أن تكون في ضمن كلام، وإلا فلا دلالة لها ولا
مدلول، وعلى هذا فلا مبرر لأن يقوم الواضع بوضعها شخصيا كوضع الأسماء، إذ
يكفي أن يقوم بوضعها في ضمن وضع الجملة، كقوله كل كلام يتألف من الظرف
والمظروف، وحرف الظرفية فإنه موضوع للنسبة الظرفية بينهما، وكل كلام
يتألف من المستعلى والمستعلى عليه، وحرف الاستعلاء فإنه موضوع للنسبة
الاستعلائية بينهما، وكل كلام يتألف من المبتدأ به والمبتدأ منه، وحرف الابتداء
فإنه موضوع للنسبة الابتدائية بينهما.
وأما النظرية الثانية فهي مبنية على أن يكون للحروف وضع مستقل
كالأسماء، فإذا كان لها وضع كذلك فبطبيعة الحال يكون شخصيا، لأن ملاك
شخصية الوضع هو أن يكون الملحوظ والمستحضر في الذهن شخص اللفظ
الموضوع لا نوعه، كما أن ملاك نوعية الوضع هو أن يكون الملحوظ والمستحضر
فيه نوع اللفظ الموضوع لا شخصه، وعلى هذا فالواضع في مقام عملية الوضع

(1) بحوث في علم الأصول 1: 343.
81

يلاحظ كلمة (في) مثلا بوحدتها الذاتية وبحدها الشخصي ثم يضعها بإزاء
معنى، وهو واقع نسبة الظرفية، فيكون الموضوع شخص اللفظ المستحضر في
الذهن والملحوظ فيه لا نوعه، فإذن يكون وضعها كوضع الأسماء شخصي، ولا
فرق بينهما في هذه الناحية.
والخلاصة: أنه لا مانع من وضع الحروف بإزاء معانيها وهي النسب الواقعية،
فإن الوضع لا يتوقف على أكثر من تصور اللفظ الموضوع واحضاره في الذهن
وتصور المعنى الموضوع له.
غاية الأمر أنها لا تدل عليها إلا إذا كانت في ضمن جملة، وهذا لا من جهة أن
وضعها بإزاء المعاني لا بد أن يكون في ضمن وضع الجملة، بل من جهة
خصوصية في معانيها، وهي كونها معان نسبية متقومة ذاتا وحقيقة بشخص
وجود طرفيها من المعاني الاسمية، ولهذا لا تدل الحروف على معانيها إلا إذا كانت
في ضمن جملة حتى بالدلالة التصورية، إذ لا يمكن تصورها إلا في ضمن غيرها،
بينما الأسماء تدل على معانيها مطلقا أي سواء كانت في ضمن الجملة أم كانت
وحدها، على أساس أن معانيها معان مستقلة ذاتا وحقيقة، ولا يتوقف تصورها
على أن تكون في ضمن كلام.
ثم إن الظاهر من هذين القولين هل هو القول الأول أو الثاني؟
والجواب: هو القول الثاني، وذلك لأمرين:
الأول: أن العرف العام واللغة يشهدان على أن الحروف كالأسماء موضوعة
بإزاء معانيها بشخصها الملحوظ لا بنوعها، غاية الأمر أن معاني الحروف بما أنها
معان نسبية متقومة بالذات والحقيقة بشخص وجود طرفيها، فلذلك لا تدل
عليها إلا أن تكون في ضمن جملة ومتعلقة بالمفاهيم الاسمية، وهذا بخلاف
82

الأسماء، فإن معانيها بما أنها معان مستقلة فهي تدل عليها مطلقا، فعدم دلالة
الحروف على معانيها إلا في ضمن جملة، لا يكون قرينة على أنها لم توضع إلا في
ضمن وضع الجملة، لأن أحد الأمرين غير مربوط بالآخر، إذ للواضع أن
يتصور معاني الحروف متعلقه بالمفاهيم الاسمية ثم يضعها بإزائها على نحو الوضع
الشخصي، ولكن بما أنها متعلقه بها ذاتا وحقيقة، فلا يمكن دلالتها عليها وحدها
ومستقلة، بل لا بد أن تكون في ضمن جملة.
الثاني: أن الجملة إذا لم تكن مشتملة على الحروف كقولك (زيد عالم)
فإن هيئتها القائمة بعنصريها هما (زيد) و (عالم) في المثال موضوعة
لواقع النسبة بينهما، وعلى هذا فالدال على النسبة هو هيئة الجملة لا عنصر
الموضوع ولا المحمول.
وأما إذا كانت الجملة مشتملة على الحرف كالجملة المؤلفة من الظرف
والمظروف وحرف الظرفية، كقولك (الصلاة في المسجد) مثلا، فإن لفظ
(الصلاة) موضوع لمعناه ويدل عليه، وكذا لفظ (المسجد) ولا يدل شئ منهما
على النسبة بينهما، وهي نسبة الظرفية، وعليه فلا محالة يكون الدال عليها كلمة
(في) في ضمنها، لوضوح أن الجملة مؤلفة من ثلاثة عناصر وهي كلمة
(الصلاة) وكلمة (المسجد) وكلمة (في)، وكل من تلك العناصر يدل على
معناه، وبذلك يحصل الغرض المطلوب من الجملة ويتم المقصود منها، ومع هذا لا
حاجة إلى وضع الجملة بتمامها، فإنها لو كانت موضوعة فلا محالة موضوعة بإزاء
النسبة المذكورة، والمفروض أن الدال عليها كلمة (في)، وعليه فوضع الجملة بما
هي بإزائها لغو.
فالنتيجة أن وضع الحروف شخصي لا نوعي.
83

قد يدعي أن كلمة (في) في المثال أو ما شاكله لم توضع لنسبة الظرفية،
والموضوع بإزائها إنما هو هيئة الجملة القائمة بعناصرها الثلاثة، فإنها تدل عليها
دون كلمة (في).
ولكن هذه الدعوى فاسدة، إذ لا شبهة في أن كلمة (في) دخيلة في تكوين
هذه الجملة لفظا ومعنا، ومن المعلوم أن معنى دخلها في تكوينها دلالتها على
نسبة الظرفية التي تتكون الجملة بها، وعلى هذا فكلمة (في) لا تخلو من أن تدل
على النسبة المذكورة أو لا تدل، فعلى الأول لا معنى لوضع الهيئة بإزائها، لأنه لغو
محض، وعلى الثاني فهو خلاف الضرورة والوجدان، حيث إن دخلها في تكوين
الجملة لفظا ومعنى أمر وجداني، ومن هنا تختلف الجمل التي لا تتوقف تكوينها
على الحرف عن الجمل التي يتوقف تكوينها عليه.
هذا إضافة إلى أن لازم ذلك أنه ليس لكلمة (في) مدلول في الجملة،
وهذا كما ترى.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن وضع الحروف كوضع
الأسماء شخصي لا نوعي.
نتيجة البحث أمور:
الأول: أن الضابط في الوضع الشخصي هو استحضار شخص اللفظ الموضوع
بحده الشخصي في الذهن ثم وضعه بإزاء معنى مناسب له، فيكون الموضوع
شخص اللفظ المستحضر في الذهن والمتصور فيه بنفسه لا بنوعه.
والضابط في الوضع النوعي هو استحضار الجامع العنواني الانتزاعي مشيرا
به إلى كل ما يكون هذا الجامع عنوانا له، فيوضع كل ما هو المستحضر في الذهن
84

والمتصور فيه بهذا العنوان بإزاء معنى مناسب له، فيكون الموضوع في
الحقيقة شخص كل فرد، ولكن المستحضر في الذهن والملحوظ فيه ليس
شخص كل فرد بنفسه بل بنوعه، وهذا هو ضابط الوضع النوعي.
الثاني: أن وضع الهيئات نوعي، سواء كانت الهيئات أفرادية كهيئات
المشتقات ونحوها أو جملية، ووضع المواد شخصي.
أما الأول: فلأن الواضع يقوم باستحضار هيئة عامة منتزعة كهيئة (فاعل)
مشيرا بها إلى الهيئات الخاصة كهيئة (ضارب) و (عالم) و (قاتل) وهكذا،
فيضع تلك الهيئات الخاصة بعنوانها العام كقولهم كلما كان على زنة الفاعل...،
فيكون الموضوع في الحقيقة شخص هذه الهيئات الخاصة، ولكن المستحضر
والمتصور في الذهن ليس بشخصها بل بنوعها.
وأما الثانية فلأن الواضع يقوم باستحضار شخص المادة بوحدتها الذاتية في
الذهن وبوضعها بإزاء معنى، فيكون الموضوع شخص اللفظ المستحضر
والمتصور في الذهن نفسه، وهذا هو ضابط الوضع الشخصي.
الثالث: أن وضع الحروف شخصي كالأسماء، فلا فرق بينهما من هذه الناحية،
وإنما الفرق بينهما من ناحية أخرى، وهي أن الحروف لا تدل على معناها إلا
في ضمن الجملة، بينما الأسماء تدل على معناها، سواء كانت في ضمن الجملة
أم كانت وحدها.
85

الثاني عشر: الحقيقة الشرعية
يقع الكلام في هذه المسألة في مرحلتين.
المرحلة الأولى: في ثبوت الحقيقة الشرعية.
المرحلة الثانية: في ثمرة هذه المسألة.
أما الكلام في المرحلة الأولى فيتوقف على ثبوت العلقة الوضعية تعيينا أو
تعينا بين ألفاظ العبادات ومعانيها الخاصة المخترعة من قبل الشارع.
أما الأول: وهو الوضع التعييني، فتارة يقع الكلام في قيام الشارع بنفسه
بعملية الوضع بصيغته الصريحة. وأخرى في قصده الوضع بصيغة الاستعمال،
ويسمى ذلك بالوضع التعييني الاستعمالي في مقابل الوضع التعييني بالصيغة
المألوفة الصريحة.
أما القسم الأول فهو غير محتمل، إذ لو كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو القائم
بعملية وضع أسماء العبادات بإزاء معانيها الخاصة بغرض التفاهم بها في المجتمع
الاسلامي في مرأى المسلمين والصحابة لشاعت العملية في ذلك الزمن
واشتهرت بينهم، باعتبار أنها ليست عملية عادية فردية، بل هي عملية
اجتماعية تشكل جانبا مهما من حياة المجتمع، إذ كلما توسعت جوانب حياة
المجتمع علميا وثقافيا، ماديا ومعنويا تتطلب توسع ظاهرة اللغة أكثر فأكثر،
لأنها دخيلة في جميع جوانب الحياة وتطورها وتوسعها، فلو كان النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قائما بهذه العملية الاجتماعية سجله التاريخ ونقل في الأحاديث
واشتهر في الألسنة ووصل إلينا يدا بيد وطبقة بعد طبقة، مع أنه لا عين له ولا أثر
86

لا في التاريخ ولا في الأحاديث.
وأما القسم الثاني وهو الوضع التعييني بصيغة الاستعمال لا بتصريح من
الواضع، فيقع الكلام في إمكانه أولا، وفي وقوعه ثانيا، فهنا مقامان:
أما الكلام في المقام الأول فقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى عدم إمكانه،
بتقريب أن حقيقة الاستعمال هي إفناء اللفظ في المعنى بحيث إن المتكلم كأنه لا
يلقي إلى المخاطب إلا المعنى والمخاطب لا يتلقى منه إلا ذلك المعنى، فاللفظ على كل
حال يكون مغفولا عنه، بينما الوضع يقتضي لحاظ اللفظ بنفسه واستقلالا لا آليا
وفانيا، كما أنه يقتضي لحاظ المعنى كذلك، وعلى هذا فلا يمكن تحقق الوضع
بالاستعمال وكونه مصداقا ومحققا له، وإلا لزم الجمع فيه بين اللحاظ الآلي
والاستقلالي وهو محال، وإن شئت قلت: إنه لا يمكن أن يكون إطلاق اللفظ على
المعنى استعمالا ووضعا معا، فإنه بلحاظ كونه استعمالا، فالنظر إليه آلي وبلحاظ
كونه وضعا فالنظر إليه استقلالي، ولا يعقل أن يكون النظر إليه آليا واستقلاليا في
نفس الوقت (1).
وقد علق عليه السيد الأستاذ قدس سره بتعليقتين.
الأولى: أن الوضع سواء أكان بمعنى التعهد والتباني أم بمعنى الاعتبار النفساني
في مرتبة متقدمة على الاستعمال، أما على الأول فواضح، ضرورة أن التعهد
والتباني بذكر لفظ خاص عند إرادة تفهيم معنى ما يكون مقدما على الاستعمال
لا محالة، من دون فرق بين أن يكون إبراز هذا التعهد بمثل كلمة وضعت أو
نحوها الدالة عليه بالمطابقة أو يكون نفس الاستعمال الدال على ذلك بالالتزام

(1) أجود التقريرات 1: 49.
87

بمعونة القرينة.
وأما على الثاني فلأن اعتبار الملازمة أو نحوها بين لفظ خاص ومعنى خاص
مقدم على الاستعمال بالضرورة وإن كان المبرز لذلك الاعتبار نفس الاستعمال مع
نصب القرينة على ذلك، فالنتيجة أن الاستعمال متأخر عن الوضع، ولا يلزم
محذور الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي إذا قصد الوضع بالاستعمال على
جميع المباني والمسالك في تفسير حقيقة الوضع، على أساس أنه أمر نفساني ثابت
في أفق النفس، والاستعمال أمر خارج عن أفق النفس وكاشف عنه، فلذلك
يكون الوضع سابقا على الاستعمال دائما.
الثانية: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن الاستعمال مقارن للوضع فمع ذلك
إذا قصد الوضع بنفس الاستعمال لم يلزم من تحقق الوضع به محذور الجمع بين
اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ واحد، لأن لزوم هذا المحذور مبتن على
مسلك المشهور في باب الاستعمال، حيث إنهم يرون أن اللفظ في مقام الاستعمال
ملحوظ آليا وفانيا في المعنى.
وأما بناء على ما هو الصحيح من أن حال الألفاظ حال المعاني في مرحلة
الاستعمال، فكما أن المعاني ملحوظة استقلالا فكذلك الألفاظ، فإن المتكلم
حين الاستعمال كما يلتفت إلى المعاني وما لها من الخصوصيات يلتفت إلى الألفاظ
وما لها من الخصوصيات ككونها عربية أو فارسية أو غير ذلك، فلا يلزم من
الجمع بين الوضع والاستعمال الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي.
فالنتيجة أن الوضع التعييني الاستعمالي بمكان من الامكان (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 127.
88

ولنا نظر في كلتا التعليقتين:
أما على الأولى فلأن الوضع يختلف باختلاف المباني، فإنه على أساس
نظرية الاعتبار فلا يمكن إيجاده بالاستعمال، لأن حقيقة الوضع وإن كانت
اعتبارية إلا أنها ليست بإنشائية يتسبب إلى إنشائها في الخارج باللفظ أو نحوه
كما هو الحال في المعاملات العقلائية والشرعية التي يتسبب بها إلى إنشاء
مسبباتها، بل هو أمر اعتباري قائم بنفس المعتبر بالمباشرة ولا واقع موضوعي
له ما عدا اعتبار المعتبر إياه في عالم الاعتبار والذهن، ولا صلة للفظ به أو نحوه
ما عدا كونه مبرزا له، فإن الواضع في مقام عملية الوضع اعتبر العلاقة بين اللفظ
والمعنى مباشرة ولا يعقل التسبيب فيها، لأن العملية ليست عملية تسبيبية
بحاجة إلى سبب.
فالنتيجة أن حقيقة الوضع على ضوء هذه النظرية بما أنه أمر اعتباري، فهي
فعل المعتبر مباشرة ولا تربط بالاستعمال الذي هو عملية خارجية.
وأما على القول بأن حقيقة الوضع التعهد والتباني النفساني فأيضا لا يمكن
إيجاده بالاستعمال، لأن الوضع على ضوء هذه النظرية أمر تكويني وجداني
وفعل قصدي للمتعهد في أفق النفس مباشرة، كان هناك لفظ يتلفظ به أم لا، ولا
يكون فعلا تسبيبا.
وأما على القول بأن حقيقة الوضع هي اختصاص اللفظ بالمعنى كما هو ظاهر
المحقق الخراساني قدس سره، فإن أريد بالاختصاص العلاقة والارتباط التكويني بين
اللفظ والمعنى في الذهن، وحينئذ فإن كان منشؤه الاعتبار، فقد مر أنه لا يتوقف
على الاستعمال، وإن كان منشؤه التخصيص والتعيين الخارجي، فلا مانع من
تحققه بالاستعمال، على أساس أن حقيقة الاستعمال هي تخصيص اللفظ بالمعنى،
89

أو فقل إنها عبارة عن اقتران اللفظ بالمعنى بغرض الدلالة عليه، ولا مانع من
حصول الوضع بمعنى الاختصاص والارتباط بين صورة اللفظ وصورة المعنى في
الذهن بالاستعمال كما أو كيفا.
وكل هذه البحوث قد تقدمت بشكل موسع في ضمن الأبحاث السالفة.
وأما على الثانية فعلى تقدير تسليم أن عملية الوضع متحدة مع عملية
الاستعمال، فمع ذلك لا مانع من أن يقصد المستعمل عملية الوضع بالاستعمال،
ولا يلزم منه محذور الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ، لا من جهة ما
ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أن حقيقة الاستعمال هي جعل اللفظ علامة على
المعنى لا فانيا فيه، وذلك لما ذكرناه في محله من أن هذا التفسير للاستعمال غير
صحيح، لأن اللفظ بما أنه وسيلة وأداة لتفهيم المعاني، فلا محالة يكون النظر
إليه نظر وسيلة وأداة لا علامة، ولكن في نفس الوقت لا مانع من أن
يكون موردا للالتفات والتوجه بتمام خصوصياته، فكونه آلة ووسيلة لا يلازم
كونه مغفولا عنه.
وبكلمة، إن عملية الوضع إن كانت بصيغتها المألوفة الصريحة، فهي تتطلب
لحاظ اللفظ كالمعنى مستقلا وفي نفسه لا بعنوان الوسيلة، وأما إذا كانت بصيغة
الاستعمال، فبإمكان المستعمل أن يقصد وضع اللفظ الملحوظ في هذه العملية
أداة ووسيلة للمعنى المستعمل فيه ولا يتوقف على لحاظه مستقلا، إذ ليس معنى
لحاظه أداة ووسيلة أنه مغفول عنه ولا يكون موردا للالتفات أصلا، بل معناه
أنه مورد الالتفات أداة ووسيلة للمعنى، وهذا يعني أنه أداة ووسيلة وفي نفس
الوقت مورد للالتفات والتوجه، ولا تنافي بين الأمرين أصلا، فان التنافي إنما هو
بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ، لا بين كونه أداة ووسيلة بالذات وكونه
90

موردا للالتفات واللحاظ مستقلا، ومن الواضح أن هذا المقدار من اللحاظ يكفي
في مقام الوضع ولا يتوقف على أكثر من ذلك، وقد تقدم تفصيل ذلك في ضمن
البحوث السابقة أيضا. هذا كله في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني فقد ذكر السيد الأستاذ قدس سره أنه لا شبهة في
وقوع الوضع التعييني بالاستعمال، بل ادعى قدس سره كثرة وقوعه بين العرف والعقلاء
في الاعلام الشخصية والمعاني المستحدثة المخترعة، وعلى هذا فدعوى ثبوت
الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني على النحو المذكور غير بعيدة (1).
توضيح ذلك أن السيرة بين العرف والعقلاء جارية على أن وضع الأسماء بإزاء
المخترعات من الصناعات أو غيرها إنما هو من مسؤولية المخترع، وحيث إن
المعاني الشرعية من مخترعات الشارع، فلا محالة يكون تعيين أسماء بإزائها من
مسؤوليته تبعا للطريقة المألوفة بين العقلاء على أساس أنه رئيسهم، بل لا معنى
لأن يكون ذلك بيد غيره، فإنه لا يليق بمقامه وشأنه، وقد مر أن هذا الوضع لا
يمكن أن يكون بصيغته المألوفة، فلا محالة يكون بالاستعمال. هذا.
ولنا تعليق على ذلك، فإن الكلام هنا يقع تارة في الكبرى وأخرى
في الصغرى.
أما الكلام في الكبرى فلا شبهة في أنه لا يجب على الشارع اتباع هذه الطريقة
المرتكزة لدى العقلاء ولا غيرها، فإنه بحاجة إلى دليل ولا أثر لمجرد احتمال اتباع
الشارع لها، نعم هنا شئ، وهو أن هذه المعاني لو كانت من مخترعات الشارع
فبطبيعة الحال قد استعمل هو تلك الألفاظ فيها في مقام التفهيم، وهذا الاستعمال

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 128.
91

وأن لم يدل على الوضع في نفسه ولكن مركوزية تلك الطريقة في أذهان العقلاء
وأعماق نفوسهم توجب ظهور هذا الاستعمال في أن الشارع قصد به وضع هذه
الألفاظ بإزاء تلك المعاني الشرعية المستحدثة.
وأما الكلام في الصغرى فلأنه لم يثبت كون الشارع هو المخترع لمعاني أسماء
العبادات على حد اختصاص المخترعين بالمخترعات الصناعية وغيرها،
إذ الظاهر من مجموعة من الآيات الشريفة أن جملة من تلك المعاني ثابتة في
الشرائع السابقة كالصلاة والصيام والحج ونحوها، منها قوله تعالى: (وأوصاني
بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (1)، ومنها قوله عز من قائل: (وأذن في الناس
بالحج) (2)، ومنها قوله سبحانه وتعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على
الذين من قبلكم) (3)، حيث إنها تدل على أن إطلاق هذه الأسماء إنما
هو على نفس هذه المعاني هناك، فإذن لا تكون تلك المعاني من مخترعات
هذه الشريعة خاصة.
ودعوى أن هذه الآيات لا تدل على أن الصلاة والصيام والحج ونحوها كانت
موجودة سابقا بنفس المعاني الاسلامية، لوضوح أنها لا تدل على أكثر من أن
هذه العبادات كانت موجودة هناك، وأما أن العبادات الاسلامية عين العبادات
العيسوية فهي لا تدل عليها.
مدفوعة بأن الظاهر من هذه الآيات هو أنها في مقام الحكاية عن ثبوت هذه
المعاني في الشرائع السابقة وعدم اختصاصها بهذه الشريعة، فالاختلاف إنما هو

(1) سورة مريم (19): 31.
(2) سورة الحج (22): 27.
(3) سورة البقرة (2): 183.
92

في بعض الأجزاء والشروط غير الرئيسية والمقومة.
وعلى هذا فلا تكون هذه المعاني من المعاني والماهيات المخترعة من قبل
الشارع فحسب، بل هي ثابتة في الشرائع السابقة، واختلافها مع هذه الشريعة
في جزء أو شرط لا يوجب الاختلاف في الحقيقة والماهية، واحتمال أن يكون
الموجود في الشرايع السابقة سنخ عبادات أخرى مباينة لسنخ العبادات
الاسلامية، بمعنى أن الصلاة العيسوية والصلاة الاسلامية ليستا صنفان لصلاة
واحدة كصلاتي المسافر والحاضر في شرعنا، وأن اطلاق ألفاظ الصلاة عليها
مجاز وكذا غيرها من ألفاظ العبادات غير محتمل بالنظر إلى تلك الآيات وغيرها
من النصوص، إذ لا يحتمل أن يكون إطلاق لفظ الصلاة والصيام والحج ونحوها
على تلك المعاني مجازا في هذه الشريعة، لأن الظاهر من تلك الآيات أن هذه
الاطلاقات إنما هي على المعاني المعهودة والمرتكزة في أذهان الناس منذ نزولها،
لا أنها على معاني غريبة عن أذهانهم، وهذا يكشف عن ثبوت هذه المعاني قبل
الاسلام بنفس هذه الألفاظ.
وبكلمة، إن هذه المعاني ثابتة قبل الاسلام وقديمة إما بنفس هذه الألفاظ،
حيث يظهر أن إطلاقها عليها قبل الاسلام كان أمرا معروفا ومعهودا لدى الناس
هناك، ومن هنا لا يكون إطلاقها عليها بعد الاسلام أمرا غريبا بين الصحابة
والتابعين، حيث إنها بنفس تلك الأسامي ثابتة في مجتمع الجزيرة العربية قبل
الاسلام، ولم يصدر من الشارع بعده إلا بعض الأجزاء والشروط والتفاصيل
غير المقومة لها، أو ثابتة بأسماء أخرى غيرها كالسريانية أو العبرانية، بدعوى
أنه لا ملازمة بين قدم هذه المعاني وثبوتها في الشرايع السابقة والتسمية بهذه
الأسماء الخاصة، ومجرد التعبير عنها في الكتاب العزيز بتلك الأسماء لا يدل على
93

أنها موجودة بنفس هذه الأسماء في الشرايع السابقة، بل هو من أجل اقتضاء
مقام الافادة ذلك، كما هو الحال في سائر القصص والحكايات القرآنية التي كانت
بالسريانية كما في لغة عيسى عليه السلام، أو العبرانية كما في لغة موسى عليه السلام ونقلت عنها
بهذه الألفاظ الخاصة في القرآن الكريم من أجل أن مقام الافادة يقتضي ذلك.
ومن هنا يظهر أن ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن هذه المعاني لو كانت
قديمة وثابتة قبل الاسلام لكانت ألفاظها حقائق لغوية (1) لا يتم، لما عرفت من
عدم الملازمة بين قدم هذه المعاني والتسمية بتلك الألفاظ.
وأما أن هذه المعاني من المعاني المخترعة والمستحدثة في الشريعة الاسلامية
فحسب من قبل الشارع، فهو غير محتمل عرفا وبعيد جدا.
ثم إن الأظهر من الاحتمالين السابقين هو الاحتمال الأول، وأن هذه المعاني
ثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ الخاصة في الجزيرة العربية، إذ احتمال أنها
موجودة بألفاظ أخرى كالسريانية أو العبرانية في المجتمع العربي بعيد جدا،
ويؤكد ذلك أن المسلمين كانوا مأنوسين بهذه الألفاظ الواردة في النصوص
القرآنية وغيرها ولم تكن غريبة عندهم.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأول: أن الشارع لا يكون مخترعا لماهيات العبادات من الصلاة والصيام
والحج وغيرها في هذه الشريعة بحيث لم تكن لها سابقة بهذه الكمية والكيفية في
الأديان الماضية وأن الصلاة والصيام والحج في تلك الأديان مباينة لها في الدين
الاسلامي ولا تشتركان في جامع واحد كصلاتي المسافر والحاضر، بل إنها

(1) كفاية الأصول: 21.
94

قديمة وثابتة في تلك الأديان، غاية الأمر أن الشارع في الدين الاسلامي قد
أكملها وأتمها ببعض الأجزاء والشروط غير المقومة لها.
الثاني: أن ألفاظها على هذا حقائق لغوية لا شرعية، باعتبار أن الواضع لها
بإزاء تلك المعاني ليس هو الشارع لا بالوضع الصريح ولا بالاستعمال، بل هي
موضوعة لها قبل الاسلام.
قد يقال كما قيل إن المراد من اختراع الشارع المعاني العبادية هو استحداثه
التأليف بين أجزائها بتنسيق معين من البداية إلى النهاية كالصلاة مثلا، فإن معنى
كونها مخترعة، هو أن الشارع اخترع التركيب والتأليف بين أجزائها بكيفية
خاصة وكمية مخصوصة، لا أن نفس الأجزاء والمواد مخترعة، ومن الواضح أن
هذا المقدار من الاختراع يكفي لتصديه وضع هذه الأسماء بإزائها، إذ من المستبعد
جدا أن يكون الشارع هو المخترع لتركيب الصلاة بالكيفية المذكورة والكمية
الخاصة، ولكن الواضع للفظ الصلاة بإزائها كان غيره.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره المحقق الأصبهاني قدس سره من أن تلك المعاني العبادية
ليس مجعولة ومخترعة من قبل الشارع غير جعلها في حيز الطلب (1) غير تام،
فإن مراد من يقول بكونها مجعولة ومخترعة من قبل الشارع، هو أن الهيئة
التركيبية لها مجعولة ومخترعة لا موادها الأصلية (2).
والجواب عنه يظهر مما تقدم من أن هذه التركيبات العبادية بمقوماتها
الأساسية قديمة وثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ، غاية الأمر أن الشارع
بعد الاسلام قد يتصرف فيها بزيادة جزء أو شرط أو مانع غير ركني.

(1) نهاية الدراية 1: 89.
(2) بحوث في علم الأصول 1: 18.
95

والخلاصة أن هناك ثلاثة احتمالات.
الاحتمال الأول: أن هذه العبادات بأصولها الثابتة المقومة موجودة في
الشرائع السابقة وليست من مخترعات الشارع ومختصات هذه الشريعة، بل هي
عبادات وطقوس دينية قديمة من لدن تلك الشرائع إلى هذه الشريعة، ولم تمر
فترة على مجتمع لم يعش حياة دينية ولم يسمع شيئا من العبادات والطقوس
الدينية حتى في فترة الجاهلية، فإن جمعا غفيرا من أصحاب الديانتين السابقتين
على الاسلام كان يعيش مع مجتمع الجزيرة الذين هم من القبائل العربية الأصيلة
وكان جمع غفير من مجتمع الجزيرة اعتنقوا إحدى الديانتين وعملوا بعباداتها
والطقوس الدينية لها، ومن المستبعد جدا أنهم كانوا يطلقون على العبادات أسماء
غير عربية رغم شيوع تلك العبادات بينهم وابتلائهم بها، إذ لو كان لها أسماء
أخرى غير العربية لانعكس في التاريخ مع أنه لا عين لها فيه ولا أثر.
ويؤكد وجود هذه الأسماء قبل الاسلام طرح القرآن الكريم نفس هذه الأسماء
منذ بداية الوحي واستعمالها لافادة تلك العبادات، فلو لم تكن تلك الأسماء
مأنوسة عندهم ومركوزة في أذهانهم وكانت من مستحدثات هذه الشريعة
لكان طرح القرآن الكريم لها منذ البداية صدمة لدعوى النبوة ومن إحدى
الموانع، على أساس أن القرآن قد جاء بعرف لغوي جديد وكان عند المجتمع أمرا
بدعا وغريبا، وحيث إنهم لم يستغربوا هذا الطرح والاستعمال وكان مأنوسا
عندهم، فيكشف ذلك عن قدم هذه الألفاظ واستعمالها فيها قبل الاسلام، وعلى
هذا فبإمكاننا إثبات قدم هذه الألفاظ وثبوتها قبل الاسلام بأمور:
الأول: أن العبادات المذكورة عند المجتمع العربي في الجزيرة لو كانت مسماة
بأسماء أخرى لأصبحت معروفة بعد الاسلام، على أساس اهتمام المسلمين بتلك
96

العبادات وبالتالي بأسمائها قبل الاسلام، ولنقلت في التاريخ ولا سيما في تاريخ
الأدب العربي والنصوص.
الثاني: أن من المستبعد جدا أن القبائل العربية الأصيلة الموجودة في الجزيرة
الذين اعتنقوا إحدى الديانتين، كانوا يطلقون على تلك العبادات أسماء غير
عربية رغم أنهم كانوا معروفين في الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية، فإذن كيف
يكون ذلك محتملا في حقهم.
الثالث: طرح نصوص القرآن والسنة هذه الأسماء على العبادات المذكورة بين
الناس منذ الوهلة الأولى للوحي بدون استغرابهم تلك الأسماء مع أنها لو كانت
من الأسماء الجديدة وغير المسبوقة كان إطلاقها عليها بنظرهم بدعا وغريبا، مع
أن الأمر ليس كذلك، حيث إن اطلاقها واستعمالها لإفادة تلك العبادات
كاستعمال غيرها من الألفاظ واللغات لافادة معانيها بين أهل اللسان، فيكشف
ذلك عن وجود هذه الأسماء قبل الاسلام وأنسهم بها، وأن اطلاق نصوص
الكتاب والسنة أسماء العبادات عليها وإلقائها على الناس كان طبعيا واعتياديا
كإطلاق اللغات على أهل اللسان، فلو كانت هذه الأسماء والألفاظ غريبة لكان
هذا الاطلاق في الكتاب والسنة بحاجة إلى عناية زائدة وقرينة.
ومن هنا يظهر أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أنه لا شاهد على ذلك لا من
الكتاب ولا من السنة ولا قرينة من الخارج (1) غير تام، لما عرفتم من أن
نصوص الكتاب والسنة تشهد على ذلك، كما أن هناك قرينة خارجية أيضا،
وهي أن المجتمع العربي في الجزيرة بما أن لغتهم لغة عربية، فلذلك يكون
من المستبعد جدا بل غير محتمل عادة أنهم كانوا يطلقون على تلك العبادات

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 132.
97

أسماء أخرى غير عربية.
الاحتمال الثاني: أن المعاني الشرعية ثابتة في الشرائع السابقة لا بهذه
الألفاظ بل بألفاظ أخرى، ولكن الشارع استعمل هذه الألفاظ فيها منذ بداية
الوحي في نصوص الكتاب والسنة.
الاحتمال الثالث: أن لا تكون هذه المعاني الشرعية ثابتة قبل الاسلام،
وحينئذ فلا محالة تكون مخترعة من قبل الشارع.
وبعد ذلك نقول أما على الاحتمال الأول الذي هو الأظهر، فبما أن تلك
العبادات ثابتة قبل الاسلام بنفس هذه الأسماء ولم يصدر من الشارع إلا بعض
التفاصيل والشروط غير المقومة لحقيقتها الجامعة، فهي حقائق لغوية وهذه
الألفاظ موضوعة بإزاء تلك الحقيقة الجامعة قبل الاسلام، وهي الجامعة بين ما
جاء به الاسلام وما جاءت به الشرائع السابقة.
وأما على الاحتمال الثاني فحيث إن إطلاق هذه الألفاظ الخاصة على تلك
المعاني واستعمالها فيها من قبل الشارع في نصوص الكتاب والسنة ولا يكون من
القديم، فلذلك لا يحتمل أن تكون حقيقة لغوية، فلا محالة تكون حقيقة شرعية
بالوضع الحاصل بالاستعمال، وأما الوضع التعييني فهو غير محتمل كما تقدم
ومن هنا يظهر أن ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن المعاني الشرعية لو
كانت ثابتة في الشرائع السابقة لكانت حقائق لغوية لا شرعية غير تام، لأن
المعيار في كون هذه الألفاظ الخاصة حقائق لغوية أو شرعية إنما هو بوضع تلك
الألفاظ بإزاء المعاني المذكورة، فإن كان هذا الوضع مستندا إلى الشارع بعد
الاسلام فهي حقائق شرعية، وإن كان ثابتا قبل الاسلام فهي حقائق لغوية،
وحيث إن تلك المعاني لم تثبت قبل الاسلام بنفس هذه الألفاظ الخاصة، فلا
98

يمكن أن تكون حقائق لغوية.
فالنتيجة أنه لا ملازمة بين ثبوت المعاني المذكورة قبل الاسلام وثبوتها بنفس
هذه الألفاظ الخاصة، إذ كما يمكن ذلك يمكن أن تكون ثابتة بألفاظ أخرى.
وأما على الاحتمال الثالث، فحيث إن الشارع هو المخترع لتلك العبادات
بالكمية والكيفية الموجودتين في الشريعة من دون أن يكون لها وجود قبل
الاسلام، فلا محالة يكون هو الواضع والمعين للأسماء بإزائها، إذ احتمال أنه اخترع
تلك المعاني من دون أن يعين لها أسماء غير محتمل عادة، فإذن بطبيعة الحال يعين
لها أسماء خاصة، وحيث إنه لا يحتمل أن يكون هذا التعيين منه بالوضع
الصريح، فلا محالة يكون بالاستعمال، وعليه فتكون هذه الألفاظ حقائق شرعية
بالوضع التعييني الاستعمالي لا بالصريح.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية:
الأولى: الظاهر أن المعاني الشرعية قديمة وثابتة قبل الاسلام بأسمائها العربية
في المجتمع العربي الأصيل في الجزيرة، فإنهم بمقتضى عربيتهم كانوا يطلقون عليها
أسماء عربية ويستعملونها في مقام إفادة تلك المعاني العبادية كما هو الحال في سائر
الألفاظ واللغات المستعملة بينهم للإفادة والاستفادة، واحتمال أنهم يتبعون أهل
الديانتين في أسامي تلك العبادات بعيد جدا كما مر، فإذن تكون أسامي العبادات
حقائق لغوية لا شرعية.
الثانية: أن هذه المعاني لو كانت مخترعة من قبل الشارع لكانت
أسماؤها موضوعة بإزائها من قبل الشارع بالوضع التعييني الاستعمالي،
فتكون حقيقة شرعية.
99

الثالثة: أن تلك المعاني إذا كانت ثابتة قبل الاسلام بألفاظ أخرى واستعمال
الألفاظ العربية فيها إنما كان بعد الاسلام في نصوص الكتاب والسنة، فإثبات
الحقيقة الشرعية في هذا الفرض بالوضع التعييني الصريح أو بالاستعمال من قبل
الشارع لا يمكن كما مر.
وأما الثاني وهو الوضع التعيني المستند إلى العامل الكمي ككثرة الاستعمال،
فلا موضوع له بناء على ما استظهرناه من أن هذه الألفاظ حقائق لغوية لا
شرعية، نعم لو كانت تلك المعاني مخترعة من قبل الشارع أو أن تلك الألفاظ
مستعملة فيها في الكتاب والسنة بعد الاسلام فلا ربى في ثبوته، إذ لا شبهة
في كثرة استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني في مختلف الموارد والمناسبات بنحو
تؤدي إلى الوضع.
وقد استشكل في تحقق الوضع التعيني بالاستعمال صغرى وكبرى.
أما الصغرى فلأن استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ من الكثرة بدرجة تؤدي إلى الوضع، نعم استعمالها
فيها في لسانه صلى الله عليه وآله وسلم ولسان تابعيه وإن بلغ من الكثرة درجة تؤدي إلى الوضع
التعيني، أي الاستجابة الذهنية الشرطية إلا أنه ليس بحقيقة شرعية بل
هو حقيقة متشرعية.
والجواب: أن الغرض من ثبوت الحقيقة الشرعية هو حمل الألفاظ الواردة
في الكتاب والسنة على معانيها الشرعية بدلا عن حملها على معانيها اللغوية،
وهذا الحمل يتوقف على ثبوت العلقة الوضعية بين هذه المعاني والألفاظ
المذكورة في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يكن ثبوتها مستندا إلى خصوص
استعماله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الألفاظ لأن الأثر المطلوب من ثبوت الحقيقة الشرعية هو
100

حمل هذه الألفاظ على المعاني المذكورة، وهذا الأثر يحصل في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم
تسمى العلقة الحاصلة بينهما بالحقيقة الشرعية.
فالنتيجة أنه لا شبهة في حصول الوضع التعيني من مجموع استعماله صلى الله عليه وآله وسلم
واستعمال تابعيه منذ أوائل البعثة، على أساس أن هذه الاستعمالات منهم مبنية
على الاهتمام بتلك المعاني وترسيخها وتركيزها في الذهن، فلذلك تحصل الملازمة
بين صورة هذه الألفاظ وصورة تلك المعاني في الذهن في فترة قصيرة.
وأما الكبرى فلأن استعمال هذه الألفاظ في تلك المعاني لما كان استعمالا في
غير معناها الموضوع له فهو بحاجة إلى قرينة، ومن الواضح أن استعمال اللفظ مع
القرينة في معنى مهما بلغ من الكثرة، فهي توجب حصول الأنس بينه وبين اللفظ
المقترن بالقرينة، لا بينه وبين ذات اللفظ المستعمل فيه ولا تتواجد بينهما علقة،
وإنما تتواجد بينه وبين اللفظ المقترن بالقرينة لا مطلقا ولو كان مجردا عنها، فإذن
لا يمكن حصول الوضع التعيني من كثرة استعمال اللفظ في المعنى إذا كان
الاستعمال مع القرينة، على أساس أن الأنس الحاصل منها المترسخ في الذهن
والمتركز فيه إنما هو بين المعنى واللفظ المقترن بالقرينة لا مطلقا.
والجواب: أن الإشكال مبني على أن تكون القرينة كاللفظ عنصرا ثابتا
محفوظا في تمام موارد الاستعمال، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن القرينة عنوان
انتزاعي وأفرادها تختلف في كل مورد عن مورد آخر، فإنها في مورد حالية، وفي
آخر لفظية، وفي ثالث معنوية، وفي رابع ارتكازية وهكذا، والعنصر الثابت في
تمام الموارد هو اللفظ، فإنه لا يختلف باختلافها، وعلى هذا فحيث إن عنصر
القرينة ليس عنصرا ثابتا محفوظا في تمام الموارد وعنصر اللفظ عنصر ثابت
محفوظ في كل الموارد، فبطبيعة الحال يوجب هذا حصول العلقة بين المعنى وذات
101

اللفظ المستعمل فيه، لا بينه وبين اللفظ المقترن بالقرينة، إذ لا أثر لاقترانه بها
بعد تبدلها وتغيرها من مورد إلى آخر.
فالنتيجة أنه لا مانع من حصول الوضع التعيني بعامل كمي، وهو كثرة
الاستعمال بين ذات اللفظ والمعنى، فإذا أطلق انتقل الذهن من تصوره إلى تصور
المعنى، سواء كان مقترنا مع القرينة أم لا. هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى.
وأما الكلام في المرحلة الثانية وهي ثمرة القول بثبوت الحقيقة الشرعية، فقد
ذكروا أنه على القول بثبوت الوضع الشرعي بأحد أنحائه الثلاثة المتقدمة تحمل
النصوص الواردة في الكتاب والسنة على المعاني الشرعية بمقتضى أصالة
الظهور، وعلى القول بعدم ثبوت الوضع الشرعي تحمل النصوص على معانيها
اللغوية عملا بأصالة الحقيقة، وأما إذا لم يثبت القول بالحقيقة الشرعية ولا
عدمها، فتصبح النصوص مجملة فلا يمكن التمسك بها. هذا،
وقد علق المحقق النائيني قدس سره على هذه الثمرة بأنه لا واقع موضوعي لها في
الخارج، وذلك لأن ظهور النصوص الواردة من الأئمة الأطهار عليهم السلام في إرادة
المعاني الشرعية مما لا شبهة فيه ولا يحتمل أن يكون المراد منها المعاني
اللغوية، وأما النصوص الصادرة في زمن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فالثمرة وإن كانت
تظهر فيها إلا أن تلك النصوص لم تثبت من طرقنا إلا ما روي عن الأئمة
الأطهار عليهم السلام بسند تام، فالنتيجة أن الثمرة لا تظهر بين القولين في المسألة (1).
ولكن لا أساس لهذا التعليق، فإنا لو سلمنا أن النصوص الصادرة من النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم تصل إلينا بطرق معتبرة، فما هو موقفك من النصوص القرآنية
التي يتضمن كثير منها العبادات والمعاملات بأساميهما الخاصة، هذا من ناحية.

(1) أجود التقريرات 1: 48.
102

ومن ناحية أخرى، إن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من عدم ظهور الثمرة بين
القولين في المسألة وإن كان صحيحا من هذه الجهة، إلا أنه غير صحيح من جهة
تخصيص ذلك بخصوص النصوص الصادرة من الأئمة الأطهار عليهم السلام، إذ لا وجه
لهذا التخصيص أصلا، فإن مراد الشارع من النصوص الشرعية، سواء كانت من
الكتاب أو السنة معلوم أنه هو المعاني الشرعية ولا شك في ذلك، بلا فرق فيه بين
النصوص الواردة من الأئمة الأطهار عليهم السلام والنصوص القرآنية والنبوية، إذ لا
شبهة في أن نصوص القرآن مستعملة في المعاني الشرعية، وكذلك نصوص
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، كما هو الحال في نصوص الأئمة الأطهار عليهم السلام، هذا تمام كلامنا
في وضع العبادات.
الحقيقة الشرعية في ألفاظ المعاملات
وأما المعاملات فلا شبهة في أنها أمور عقلائية ثابتة بين العقلاء قبل الشرع،
كما أنه لا شبهة في ثبوتها بنفس هذه الألفاظ الخاصة قبل الاسلام في المجتمع
العربي في الجزيرة، إذ احتمال أنهم كانوا يستعملونها كنظام مالي في حياتهم
الاقتصادية بألفاظ أخرى غير محتمل فيها وإن فرض احتماله في العبادات، على
أساس أن من اعتنق من القبائل العربية إحدى الديانتين بحاجة إلى استعمال
العبادات دون غيره، بينما المعاملات باعتبار أنها نظام مالي حياتي للمجتمع
ككل، فجميع القبائل العربية هناك بحاجة إلى استعمالها بألفاظ عربية في مقام
المفاهمة ونقل الأفكار بها إلى الآخرين، ومن هنا لا يكون طرح القرآن
المعاملات بأسمائها الخاصة منذ بداية الوحي أمرا بدعا وغريبا لدى الناس ولغة
جديدة لهم، بل هم كانوا يتلقون خطابات القرآن كالخطابات المتبادلة بينهم في
103

محاوراتهم بدون أدنى غربة.
نستعرض نتائج البحث حول الحقيقة الشرعية بما يلي:
الأولى: أن من غير المحتمل أن يكون النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو الواضع لأسماء
العبادات بإزاء معانيها مباشرة، وإلا لشاع ذلك بين المسلمين وسجل في التواريخ
والأحاديث مع أنه لا عين ولا أثر له فيهما.
الثانية: في تحقق الوضع التعييني بصيغة الاستعمال خلاف، فذهب المحقق
النائيني قدس سره إلى استحالة ذلك، بدعوى أن الاستعمال يقتضي لحاظ اللفظ آليا
والوضع يقتضي لحاظه استقلالا، والجمع بينهما يستلزم الجمع بين اللحاظ
الآلي والاستقلالي في شئ واحد وهو مستحيل، بينما ذهب السيد الأستاذ قدس سره
إلى إمكانه، بدعوى أن الاستعمال لا يقتضي لحاظ اللفظ آليا، فلا مانع من
الجمع بينهما.
والصحيح في المقام هو التفصيل، فإن ذلك يختلف باختلاف المباني في حقيقة
الوضع، فعلى مبنى أن حقيقة الوضع حقيقة اعتبارية قائمة بالمعتبر مباشرة، فلا
يمكن إيجادها بالاستعمال، وإلا لكانت حقيقة إنشائية تسبيبية لا اعتبارية محضة
وهذا خلف، وكذلك على مبنى التهد والتباني، لأن حقيقة الوضع على هذا المبنى
حقيقة تكوينية وجدانية، وهي فعل المتعهد في أفق النفس مباشرة، ولا يكون
تسبيبا، نعم على مبنى الاختصاص بأن تكون حقيقته اختصاص اللفظ بالمعنى
في عالم الذهن، فإن كان منشؤه التعيين والتخصيص أي الاقتران بين اللفظ
والمعنى في الخارج، أمكن إيجاده بالاستعمال على تفصيل تقدم.
الثالثة: لا يلزم من اتحاد عملية الوضع مع عملية الاستعمال الجمع بين
اللحاظ الآلي والاستقلالي في شئ واحد، لا من جهة ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره
من أن حقيقة الاستعمال جعل اللفظ علامة، فإنه غير صحيح كما تقدم، بل من
104

جهة ما ذكرناه من أن النظر إلى اللفظ بالذات في مقام الاستعمال نظر وسيلة وأداة
وفي نفس الوقت لا مانع من كونه موردا للتوجه واللحاظ مستقلا، فلا يلزم
المحذور المذكور حينئذ من الجمع بين العمليتين.
الرابعة: قد بنى السيد الأستاذ قدس سره على وقوع الوضع التعييني بالاستعمال بين
العرف والعقلاء في الأعلام الشخصية والمعاني المستحدثة المخترعة، منها المعاني
الشرعية، ولهذا قال فدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني
بالاستعمال غيرة بعيدة.
ولكن الصحيح عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لا بهذا الوضع ولا بالوضع
الصريح ولا بالوضع التعيني، لأن الظاهر من جملة من الآيات أن أسامي
العبادات حقائق لغوية بمعنى أنها موضوعة بإزاء تلك المعاني قبل الاسلام، ولم
يصدر من قبل الشارع بعد الاسلام إلا بعض التفاصيل من الأجزاء والشروط
غير المقومة لحقيقة هذه المعاني الجامعة بين ما جاء به الاسلام وما جاءت به
الشرائع والأديان السابقة على ما تقدم تفصيله.
الخامسة: أن كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازي التي تؤدي إلى الوضع
التعيني لا تتوقف على كثرة استعمال اللفظ مجردا عن القرينة فيه، بل من جهة أن
اللفظ عنصر ثابت ومحفوظ في جميع موارد الاستعمال دون القرينة، فإنها تختلف
باختلاف الموارد، فلذلك يحصل منها الأنس الذهني بين ذات اللفظ والمعنى بقطع
النظر عن اقترانه بالقرينة، وهذا هو الوضع التعيني.
السادسة: الظاهر أن الثمرة لا تظهر بين القولين في المسألة، على أساس أن
المراد من النصوص التشريعية في الكتاب والسنة معلوم، وهو المعاني الشرعية،
سواء أكان الاستعمال فيها حقيقيا أم مجازيا على تفصيل تقدم.
105

الثالث عشر: الصحيح والأعم
اختلف الأصوليون في تحديد المدلول الوضعي لألفاظ العبادات والمعاملات
سعة وضيقا، فذهب جماعة منهم إلى أنها موضوعة لحصة خاصة منها وهي
الحصة الصحيحة، وفي مقابل ذلك ذهب جماعة أخرى إلى أنها موضوعة بإزاء
جامع بينها وبين الفاسدة، فهنا مقامان:
المقام الأول في أسماء العبادات. المقام الثاني في أسماء المعاملات.
أسماء العبادات
أما المقام الأول فقبل الدخول في بيان القولين الرئيسيين في المسألة ينبغي
تقديم عدة نقاط:
النقطة الأولى: أن البحث في هذه المسألة ينسجم مع جميع الأقوال في
المسألة المتقدمة، وهي مسألة الحقيقة الشرعية، وقد مر أن الأقوال في
تلك المسألة ثلاثة:
القول الأول: أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزائها من قبل الشارع إما
بالوضع التعييني أو التعيني.
القول الثاني: أنها موضوعة بإزائها قبل الاسلام، على أساس أنها معان قديمة
وليست بمستحدثة في الشريعة المقدسة.
القول الثالث: أنها مستعملة فيها مجازا.
106

أما على القول الأول وهو القول بثبوت الحقيقة الشرعية فالأمر واضح، فإن
القائل بالصحيح في هذه المسألة يدعي أن الشارع وضع ألفاظ العبادات بإزاء
حصة خاصة وهي الصحيحة، والقائل بالأعم يدعي أن الشارع وضع ألفاظها
بإزاء جامع بين الصحيحة والفاسدة.
وأما على القول الثاني وهو أنها موضوعة بإزائها قبل الاسلام، فالأمر أيضا
واضح، لأن مرد هذا النزاع إلى النزاع في تحديد المعاني اللغوية سعة وضيقا،
فالصحيحي يدعي ضيقها والأعمي يدعي سعتها.
وأما على القول بالمجاز فقد قيل في تصوير هذا النزاع وجوه:
الأول: ما جاء في الكفاية من أن غاية ما يمكن أن يقال في تصويره هو أن
النزاع على هذه القول مبني على أن هذه الألفاط التي استعملت في المعاني
الشرعية مجازا في نصوص الكتاب والسنة، هل الأصل في هذه الاستعمالات هو
الاستعمال في خصوص الصحيحة ويكون الاستعمال في الأعم بتبعه ومناسبته، أو
أن الأمر بالعكس (1).
وبكلمة واضحة إن الأقرب إلى المعنى الحقيقي، هل هو خصوص الصحيحة
أو الجامع بينها وبين الفاسدة، فالقائل بالصحيح يدعي أن الأقرب إلى المعنى
اللغوي وأشبه به هو الصحيحة دون الأعم، وعلى هذا فالألفاظ المستعملة في
الكتاب والسنة محمولة عليها، ويكفي في ذلك وجود قرينة صارفة على عدم
إرادة المعنى اللغوي وعدم الحاجة إلى قرينة معينة، تطبيقا لقاعدة أن إرادة المعنى
الحقيقي إذا تعذرت فأقرب المجازات هو المتعين، وأما استعمالها في الأعم، فهو

(1) كفاية الأصول: 23.
107

بحاجة إلى قرينة أخرى، لأن استعمالها فيه إما على أساس مناسبته للصحيحة،
فيكون في طولها، أو على أساس أن مناسبته مع المعنى الحقيقي في مرتبة دون
مرتبة مناسبة الصحيحة معه، والقائل بالأعم يدعي أن الأعم هو أقرب المجازات
إلى المعنى الحقيقي، ولكن هذا البيان بحسب الكبرى وإن كان تاما إلا أن
كون المقام من صغريات هذه الكبرى محل إشكال بل منع، لأن تطبيقها عليه
منوط بأحد افتراضين:
الأول: أن تكون علاقة الصحيحة مع المعنى الحقيقي أقوى وآكد من علاقة
الأعم معه أو بالعكس.
الثاني: أن تكون علاقة المعنى الحقيقي مع أحدهما في طول علاقته مع الآخر.
وكلا الافتراضين غير صحيح.
أما الأول، فلأن العلاقة الموجودة بين المعنى اللغوي وكل من المعنى الشرعي
الصحيح والأعم إنما هي علاقة المشابهة والمشاكلة، ولا تكون هذه العلاقة بين
المعنى اللغوي وبين أحدهما أقوى وآكد من العلاقة بينه وبين الآخر بنظر العرف
بدرجة توجب انصراف اللفظ إليه عند نصب قرينة على عدم إرادة المعنى
اللغوي وعدم حاجة إلى قرينة أخرى المعينة، بينما تكون إرادة الآخر بحاجة
إلى قرينة أخرى.
وأما الثاني: فلأنه لا مجال لتوهم أن علاقة الأعم في طول علاقة الصحيح،
بمعنى أن للصحيح علاقة مع المعنى اللغوي مباشرة وللأعم علاقة مع الصحيح
كذلك ومع المعنى اللغوي بالواسطة، ضرورة أنه لا معنى للطولية بعد أن كانت
العلاقة المصححة محفوظة فيهما بدرجة واحدة.
108

ومن هنا يظهر أن اعتراض المحقق صاحب الكفاية قدس سره على هذا الوجه في
محله، فإنه ناظر إلى أن علاقة كل من الصحيح والأعم مع المعنى اللغوي في
عرض الآخر وعلى مستوى واحد، فلا طولية ولا أقوائية في البين.
الثاني: ما جاء في كلمات المحقق الأصبهاني قدس سره من أنه يمكن تصوير النزاع في
المسألة بما يلي، من أن القائل بالأعم يدعي أن اللفظ كالصلاة مثلا قد استعمل
دائما في الأعم لعلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي، وأما استفادة خصوصية أخرى
كوصف الصحة أو الفساد فهي بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، ومع
عدم دال آخر يحمل اللفظ على الأعم، والخلاصة أن القائل بالأعم يدعي أن
الطريقة المتبعة في استعمال ألفاظ العبادات في نصوص الكتاب والسنة هي
استعمالها في الأعم وهو الجامع بين الصحيح والفاسد وإرادة خصوص الصحيح
أو الفاسد إنما هي بدال آخر.
والقائل بالصحيح يدعي أن اللفظ دائما استعمل في الصحيحة، على أساس
علاقة بينها وبين المعنى اللغوي، وفي الفاسدة لا لعلاقة بينها وبين المعنى الحقيقي
ولا للمشاكلة بينها وبين الصحيحة، بل من أجل التصرف في أمر عقلي وهو
تنزيل المعدوم من الأجزاء أو الشروط منزلة الموجود، لئلا يلزم سبك المجاز من
المجاز، فلا مجاز أصلا من حيث المعنى إلا في استعمال اللفظ في الصحيحة، وحيث
إن الاستعمال دائما في الصحيحة من حيث المفهوم والمعنى فمع عدم القرينة على
التصرف في أمر عقلي يحمل على الصحيحة ويترتب عليه ما يترتب على الوضع
للصحيحة من الثمرة (1).
وغير خفي أن هذا التقريب وإن كان ممكنا عقلا إذ لا مانع من دعوى كل من

(1) نهاية الدراية 1: 92.
109

الصحيحي والأعمي ذلك، إلا أنه لا يمكن عرفا الأخذ به، حيث إن الأخذ به
كذلك منوط بأن يكون بصيغة عرفية مقبولة، حيث لا يحتمل أن يكون استعمال
الشارع هذه الألفاظ في معانيها الشرعية مجازا في الكتاب والسنة خارجا عن
الطريقة المتبعة لدى العرف والعقلاء في باب المحاورات والافادات، ضرورة
اختيار الشارع طريقة التفاهم في باب الألفاظ نفس الطريقة المتبعة لدى العرف
العام في هذا الباب، وهذا أمر واضح، وعلى ذلك فلا بد من النظر إلى دعوى كل
من الصحيحي والأعمى.
أما دعوى الصحيحي بأن اللفظ في الكتاب والسنة دائما مستعمل في
الصحيحة حتى إذا كان المراد منها الفاسدة بعد تنزيلها منزلة الصحيحة بالالتزام
بالمجاز في الأمر العقلي لا في الكلمة، فهي لا تبتني على نكتة عرفية، وذلك لأن
العلاقة المصححة للاستعمال المجازي كما هي متوفرة ومحفوظة بين المعنى اللغوي
والصحيحة، كذلك هي متوفرة ومحفوظة بينه وبين المعنى الأعم، وعليه فدعوى
أن الشارع استعمل اللفظ دائما في الصحيحة إما حقيقة أو ادعاء أي بعد تنزيل
المعدوم من الأجزاء أو الشرائط منزلة الموجود بلا مبرر وموجب، ضرورة أنه
إذا صح استعمال اللفظ في الفاسدة مجازا بواسطة العلاقة بينها وبين المعنى اللغوي
مباشرة فلا مقتضى للتنزيل، ولا يلزم من ذلك سبك المجاز عن المجاز، لأن كلا
المجازين في عرض واحد، لا أن أحدهما في طول الآخر.
هذا إضافة إلى أنه لا محذور في سبك المجاز من المجاز، ولا مانع من أن يكون
استعمال لفظ في معنى مجازا من جهة علاقته بالمعنى الحقيقي مباشرة، واستعماله في
معنى آخر مجازا من جهة علاقته بالمعنى المجازي كذلك.
وبكلمة، إذا كانت لكل من الماهية الصحيحة والأعم علاقة مع المعنى الحقيقي
110

في عرض الآخر، وهي على الفرض مصححة لاستعمال اللفظ في كل منهما،
فحينئذ لا مبرر لتنزيل الحصة الفاسدة منزلة الصحيحة أولا ثم استعمال اللفظ
فيها مجازا، فإنه لغو محض، لأن صحة هذا الاستعمال لا تتوقف على هذا التنزيل،
والمفروض أنه لا يوجب صيرورة هذا الاستعمال استعمالا حقيقيا ولو ادعاء،
لفرض أن استعمال اللفظ في الحصة الصحيحة مجاز على كل حال، أي سواء كانت
صحيحة واقعا أم ادعاء، فإذن اللجوء إلى التنزيل أولا ثم استعمال اللفظ في
الصحيحة الادعائية مجازا رغم صحة هذا الاستعمال في الفاسدة ابتداء بدون
سبق التنزيل بلا موجب، إذ لا يترتب على هذا التنزيل أي فائدة وأثر، لأن
المجاز في الكلمة محفوظ في المقام على كل حال، وحينئذ فالالتزام بالمجاز
في الاسناد والأمر العقلي أيضا يكون لغوا، ولذلك لا تكون هذه الطريقة
طريقة عرفية عقلائية، ولا يمكن للشارع أن يختار هذه الطريقة في نصوص
الكتاب والسنة.
وأما دعوى الأعمي وهي أن خصوصية الصحيحة أو الفاسدة مستفادة من
دال آخر، فهي أيضا لا تبتني على نكتة عرفية، وذلك لأن تعدد الدال والمدلول
وإن كان من الطرق المتبعة لدى العرف والعقلاء في استعمالاتهم ومحاوراتهم، إلا
أنها إنما تتبع في موارد يراد فيها التحفظ على الحقيقة، بأن يستعمل اللفظ في معناه
الحقيقي، والخصوصية مستفادة من دال آخر، وطالما يمكن ذلك، فلا تصل النوبة
إلى المجاز، ولكن ذلك لا ينطبق على المقام، لأن استعمال اللفظ في المقام مجاز على
كل حال، أي سواء كان في الأعم أو في الصحيحة.
ودعوى أن هذه الطريقة وإن كانت تتخذ غالبا للحفاظ على استعمال اللفظ في
المعنى الحقيقي، إلا أنه لا مانع من اتخاذها في المقام أيضا، لأن الاستعمال فيه وإن
111

كان مجازيا على كل حال، إلا أن الظاهر هو أن الشارع استعمل هذه الألفاظ في
النصوص التشريعية في معنى جامع بين الصحيحة والفاسدة، وإرادة خصوص
الصحيحة أو الفاسدة منها بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول.
مدفوعة بأن اتباع هذه الطريقة في المحاورات والاستعمالات العرفية إنما هو
بنكتة أخرى لا مجرد التحفظ على وحدة المستعمل فيه، وهي أن اللفظ في باب
الحقيقة ظاهر عند الاطلاق في إرادة المعنى الحقيقي واستعماله فيه، وعليه فإذا
نصب المتكلم قرينة على إرادة حصة خاصة منه فيدور الأمر بين استعمال اللفظ
في هذه الحصة مجازا ورفع اليد عن ظهوره في معناه الحقيقي، وبين التحفظ على
هذا الظهور وإرادة الحصة بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، فالثاني متعين
تحفظا على ظهوره في معناه الحقيقي، حيث لا موجب لرفع اليد عنه واستعماله في
الحصة مجازا، فإذا قيل (جاء أسد) فلفظ الأسد مستعمل في معناه الحقيقي، وهو
الحيوان المفترس الجامع، وتطبيقه على الفرد إنما هو بدال آخر وهو الرؤية، لا أن
لفظ الأسد مستعمل في الفرد مجازا، لأنه خلاف الظاهر، وهذه النكتة غير
متوفرة في المقام، وذلك لأن استعمال اللفظ فيه في الأعم مجاز على الفرض، وعلى
هذا فإذا أراد المتكلم حصة خاصة منه وهي الصحيحة أو الفاسدة ونصب قرينة
على إرادتها، فلا ظهور للفظ في الأعم وهو الجامع وكون إرادة الحصة منه بدال
آخر، على أساس أن ظهوره فيه مستند إلى القرينة لا إلى الوضع، وعليه فإذا
نصب المتكلم قرينة على إرادة الحصة منه انتفى ظهوره بانتفاء منشئه وهو
القرينة، فإذن لا ظهور له لكي يدور الأمر بين التحفظ عليه وإرادة الحصة منه
بدال آخر وبين رفع اليد عنه واستعماله في الحصة مجازا، لوضوح أنه إذا نصب
قرينة على إرادة الخاص من ألفاظ الكتاب والسنة دون مدلولها اللغوي، فمعناه
أنها مستعملة فيه لا أنها مستعملة في الأعم، وإرادة الخاص بالقرينة من باب
112

تعدد الدال والمدلول، لفرض أنه لم ينصب قرينة على إرادة الأعم واستعمالها فيه،
وإنما نصب قرينة على إرادة الخاص واستعمالها فيه.
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه لا يمكن تصوير النزاع في المسألة بهذه الطريقة
على القول بالمجاز.
الثالث: أن مرجع النزاع في المسألة على هذا القول إلى تحديد مفاد القرينة
العامة التي يعتمد عليها الشارع في استعمال هذه الألفاظ الخاصة في المعاني
الشرعية مجازا، وتلك القرينة العامة متمثلة في استعمال الشارع هذه الألفاظ في
النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في المعاني المذكورة بما أنه شارع لا بما أنه
متكلم عرفي أو لغوي، وهذه الجهة قرينة عامة على استعمال هذه الألفاظ في
الكتاب والسنة في المعاني الشرعية مجازا دون المعاني اللغوية الحقيقية.
فإذن يقع الكلام في تحديد مدلول هذه القرينة العامة، فالصحيحي يدعي أن
مدلولها هو استعمال تلك الألفاظ في الكتاب والسنة في الصحيحة، وإرادة الأعم
أو الفاسدة منها بحاجة إلى قرينة خاصة، والأعمي يدعي أن مدلولها هو
استعمالها فيهما في الأعم، وإرادة خصوص الصحيحة بحاجة إلى قرينة خاصة (1).
والخلاصة: أن القرينة العامة قائمة على أن هذه الألفاظ في الكتاب والسنة
مستعملة في المعاني الشرعية كما إذا كانت موضوعة بإزائها، هذا مما لا إشكال
فيه، والنزاع إنما هو في أن مقتضى هذه القرينة العامة هو استعمالها في الأعم،
وإرادة الخاص في مورد بحاجة إلى قرينة خاصة أو بالعكس، فالقائلون بالأعم
يدعون الأول، والقائلون بالصحيح يدعون الثاني.

(1) بحوث في علم الأصول 1: 189.
113

وإلى ذلك أشار السيد الأستاذ قدس سره من أن مرجع النزاع على هذا القول هو أن
الشارع المقدس من لدن نزول القرآن الحكيم هل استعمل هذه الألفاظ في المعاني
الشرعية الصحيحة من جهة لحاظ علاقة بينها وبين المعاني اللغوية أو استعملها
في الأعم من جهة لحاظ بينه وبين المعاني اللغوية، فعلى الأول الأصل في
استعمالات الشارع الاستعمال في الصحيح إلا إذا قامت قرينة على الخلاف، وعلى
الثاني ينعكس الأمر.
بل يجري النزاع حتى على القول المنسوب إلى الباقلاني، وهو أن هذه الألفاظ
استعملت في لسان الشارع في معانيها اللغوية، ولكنه أراد المعاني الشرعية من
جهة نصب قرينة تدل على ذلك بنحو تعدد الدال والمدلول، والوجه في ذلك هو
أن النزاع يقع في أن الشارع حين إرادته المعاني الشرعية بالقرينة، هل نصب
القرينة العامة على إرادة المعاني الصحيحة حتى يحتاج إرادة الأعم إلى
قرينة خاصة، أو أنه نصبها على إرادة الأعم، فإرادة الصحيحة تحتاج إلى
قرينة خاصة (1).
فالنتيجة أنه لا مانع من تصوير النزاع في المسألة على هذا القول بهذه الكيفية.
النقطة الثانية: في تحديد المراد من الصحة سعة وضيقا، وقد فسرت بوجوه:
الوجه الأول: ما نسب إلى المتكلمين من أن المراد منها موافقة الشريعة أو
تحصيل الغرض.
الوجه الثاني: ما عن الفقهاء من أن المراد منها سقوط القضاء والإعادة.
وقد أورد عليهما بأنهما ليسا معنى الصحة بل هما من لوازمها، فإن لازم صحة

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 134.
114

المأمور به موافقة الشريعة وحصول الغرض، كما أن من لوازمها سقوط القضاء
والإعادة، وليس شئ منها معنى الصحة حقيقة (1).
الوجه الثالث: ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن معنى الصحة هو التمامية من
حيث الأجزاء والشرائط التي يعبر عنها في لغة الفرس بكلمة (درستي) وهي
معناها لغة وعرفا.
ومن هنا أشكل على تفسيرها باسقاط القضاء والإعادة تازة وبموافقة
الشريعة تارة أخرى بأنه تفسير باللازم، فإن الصلاة مثلا إذا كانت تامة
من حيث الأجزاء والشرائط، كان لازمها أنها موافقة للشريعة ومسقطة
للإعادة والقضاء (2).
وغير خفي أن ما ذكره قدس سره بحاجة إلى البحث والنظر، وذلك لأن تمامية الشئ
مرة تكون بلحاظ أنه واجد لذاته وذاتياته بلا فرق بين أن تكون ذاتياته من
الأجزاء الخارجية أو الداخلية كالجنس والفصل، والأول يمثل المركبات
الخارجية كالصلاة ونحوها، والثاني يمثل المركبات التحليلية كالانسان وغيره،
وأخرى تكون بلحاظ الحيثية المطلوبة منه وراء ذاته وذاتياته، مثلا الحيثية
المطلوبة من الصلاة والمرغوب فيها حيثية إسقاط الإعادة في الوقت والقضاء في
خارج الوقت وموافقة الشريعة وحصول الغرض، فتمامية الصلاة بلحاظ أنها
واجدة لهذه الحيثيات.
وبعد ذلك نقول: إن التمامية بالمعنى الأول ليست مساوقة للصحة، فلا يقال
عرفا للشئ التام بهذا المعنى إنه صحيح لوجوه:

(1) راجع كفاية الأصول: 24 ومحاضرات في أصول الفقه 1: 135.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 135.
115

الأول: أن للتمامية بهذا المعنى واقعا موضوعيا، فإنها متمثلة في وجدان الشئ
لذاته وذاتياته وأجزائه وقيوده، على أساس أن ماهية كل شئ في الواقع متقومة
ذاتا وحقيقة بأجزائه، سواء كانت من الأجزاء التحليلية أم كانت من الأجزاء
الخارجية، نعم إن مفهوم التمامية الذي هو تمام بالحمل الأولي مفهوم انتزاعي
ومرآة لواقعها كسائر المفاهيم، ولكن من الواضح أن من يقول بأن معنى الصحة
التمامية لم يرد مفهوم التمامية، بل أراد واقعها الذي هو تمام بالحمل الشائع كما هو
ظاهر، بينما تكون الصحة عنوانا انتزاعيا لا واقع موضوعي لها ومنتزعا من
انطباق المأمور به على الفرد المأتي به في الخارج، نظير حيثية إسقاط القضاء
والإعادة وموافقة الشريعة وغيرها، فإنها جميعا حيثيات انتزاعية لا واقع
موضوعي لها ما عدا وجود المأمور به في الخارج، فإذن لا يمكن أن يكون معنى
الصحة التمامية بهذا المعنى.
الثاني: أن التمامية بالمعنى المذكور تشمل المركب والبسيط، فإن كل شئ
واجد لذاته وذاتياته فإنه تام، سواء كان مركبا أم بسيطا كالانسان، مع أن
البسيط لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد أخرى، فإنهما من مفاد كان الناقصة،
وإنما يتصف بالوجود والعدم الذين هما من مفاد كان التامة.
الثالث: أن الشئ إنما يتصف بالصحة بلحاظ ما يترتب ويتطلب منه من
الأثر، كحيثية سقوط الإعادة والقضاء وموافقة الشريعة وحصول الغرض،
ضرورة أن الصلاة مثلا لا تتصف بالصحة تارة وبالفساد أخرى إلا بلحاظ
ترتب تلك الحيثية عليها وعدم ترتبها، وبقطع النظر عنه، فلا تتصف بالصحة،
فإذن يكون اتصافها بالصحة وجودا وعدما متقوما بالحيثية المذكورة كذلك،
فإن انتزاع الصحة من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به في الخارج منوط
116

بترتب تلك الحيثية عليه، وإلا فلا مجال لانتزاعها منه.
فالنتيجة أنه لا يصح تفسير الصحة بالتمامية بالمعنى الأول.
وأما التمامية بالمعنى الثاني وهي وجدان الشئ للحيثية المطلوبة منه فهي
مساوقة للصحة، إذ لا واقع موضوعي لها ما عدا منشأ انتزاعها، وهو مطابقة
المأتي به للمأمور به في الخارج المتحيث بحيثية إسقاط القضاء والإعادة
وموافقة الشريعة.
ومن هنا ذكر المحقق الأصبهاني قدس سره أن حيثية إسقاط القضاء وموافقة الشريعة
وغيرهما تكون من الحيثيات التي تتم بها حقيقة التمامية، وليست من لوازم
التمامية بالدقة، حيث لا واقع للتمامية إلا التمامية من حيث إسقاط القضاء أو من
حيث موافقة الشريعة أو من حيث ترتب الغرض إلى غير ذلك، ومن الواضح أن
اللازم ليس من متممات معنى الملزوم (1).
فما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أنها من لوازم التمامية إنما يتم بالنسبة إلى التمامية
بالمعنى الأول، ولكن قد عرفت أنها ليست معنى الصحة، وأما التمامية بالمعنى
الثاني فهو أمر نسبي انتزاعي، فلا واقع موضوعي لها إلا إضافة العمل
إلى الحيثيات المذكورة، فالصلاة المسقطة للقضاء والإعادة الموافقة للشريعة
منشأ لانتزاع التمامية والصحة واتصافها بهما، فلذلك لا واقع موضوعي لهما
ما عدا تلك الحيثيات.
والخلاصة: أن التمامية بالمعنى الأول وإن كان لها واقع موضوعي إلا أنها
ليست معنى الصحة كما مر، وأما التمامية بالمعنى الثاني التي هي معنى الصحة، فلا

(1) نهاية الدراية 1: 95.
117

واقع موضوعي لها كما عرفت.
ثم إنه على القول بالصحيح في باب العبادات والمعاملات، هل المأخوذ في
المسمى ما هو الصحيح بالحمل الشائع من أفراد المعنى الشرعي، أو ما هو
الصحيح بالحمل الأولي وهو مفهومه، أما الأول فسوف يقع البحث فيه في ضمن
البحوث القادمة عن كيفية تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة، وأما الثاني وهو
أخذ مفهوم الصحيح في المسمى، فهو مقطوع العدم لوجوه:
الأول: أن المتبادر عرفا من ألفاظ العبادات والمعاملات كالصلاة ونحوها هو
نفس الأجزاء المرتبطة المقيدة بالقيود الخاصة دون مفهوم الصحة بالحمل
الأولي، فإذا قيل (زيد يصلي) كان المتبادر من لفظ الصلاة هو أجزائها الخاصة
المرتبطة بشروطها المخصوصة دون مفهوم الصحيح.
الثاني: أن لفظ الصلاة لو كان موضوعا لمفهوم الصحيح، لزم أن يكون
مترادفا مع لفظ الصحيح مع أن الأمر ليس كذلك، ضرورة أن المتبادر من لفظ
الصحيح غير ما هو المتبادر من لفظ الصلاة.
الثالث: أن مفهوم الصحة بما أنه متأخر عن الأمر ومتفرع عليه، فلا يمكن
أخذه في متعلقه وهو المسمى لأسماء العبادات، حيث إنه متعلق الأمر حتى على
القول بوضعها للصحيح، ومن الواضح أنه لا يمكن أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل
الأمر كاسقاط القضاء والإعادة وموافقة الشريعة ونحو ذلك في متعلقه، على
أساس أن كل هذه الحيثيات حيثيات انتزاعية منتزعة من انطباق المأمور به على
الفرد المأتي به في الخارج ومتفرعة عليه، ومن الطبيعي أنه لا يمكن أخذ الصحة
بهذا المعنى في متعلق الأمر، لأنها في طول تعلق الأمر به.
فالنتيجة أن المتبادر من ألفاظ العبادات هو واقع الصحيح لا مفهومه.
118

النقطة الثالثة: لا شبهة في اعتبار الصحة في مسميات العبادات من ناحية
الأجزاء على القول بالصحيح، ونقصد بصحتها وجدان تلك الأجزاء للحيثيات
المطلوبة منها.
وكذلك لا شبهة في اعتبارها من ناحية الشرائط، فإن وجدان الأجزاء
للحيثيات المطلوبة منها منوطة بتوفر تلك الشروط فيها، سواء كانت شروطا
لنفسها مباشرة أم لأجزائها كذلك.
نعم، نسب إلى شيخنا الأنصاري قدس سره على ما في تقرير بحثه عدم إمكان دخول
الشرائط في المسمى، بدعوى أن الشرط متأخر عن المشروط وفي طوله،
فلا يمكن أخذه معه في العبادات في عرض واحد، فإن معنى أخذه فيها أنه
في عرض الأجزاء (1).
وقد علق عليه السيد الأستاذ قدس سره بأن الطولية بين الشرط والمشروط به وهو
الجزء إنما هي في عالم الوجود لا في عالم المفهوم، ومحل الكلام إنما هو في الثاني،
ومن الواضح أنه لا مانع فيه من ملاحظة الجزء والشرط معا في عرض واحد في
مقام التسمية بدون أن يكون الشرط في طول الجزء. هذا (2).
والصحيح في المقام أن يقال إنه لا طولية بينهما لا في عالم الوجود ولا في عالم
المفهوم، فإن الطولية الرتبية بين شيئين بحاجة إلى ملاك في كلا العالمين، كالعلية
والمعلولية والسببية والمسببية ونحوها، ولا يمكن أن تكون جزافا، والفرض أن
وجود الجزء في عالم الوجود ليس علة لوجود الشرط فيه، كما أنه لا ملاك
لتقدمه عليه في عالم المفهوم، فإذن لا يكون الشرط في طول الجزء لا في عالم

(1) نقله عنه في محاضرات في أصول الفقه 1: 137.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 137.
119

الوجود ولا في عالم المفهوم.
أجل، قد يتوهم أن الجزء يتقدم رتبة على الشرط في مقام تأثيره في
الملاك، على أساس أنه بمثابة المقتضي والفاعل، والشرط في طرف الفاعل
مصحح لفاعليته، وفي طرف القابل مصحح لقابليته، فلذلك يكون متأخرا عن
اقتضاء المقتضي في مقام التأثير.
ولكن لا أساس لهذا التوهم، وذلك لأن تمام المؤثر في المقام إنما هو حصة
خاصة من الجزء وهي الحصة المقيدة بالشرط، ولا اقتضاء للتأثير في ذات الجزء
بما هي حتى يكون الشرط مصححا لفاعليتها ويكون تأثيره في طول تأثيرها،
وقياس الجزء والشرط في المركبات الاعتبارية كالصلاة ونحوها بالمقتضي
والشرط في التكوينيات قياس مع الفارق.
هذا إضافة إلى أن حيثية التأثير حيثية انتزاعية غير مأخوذة في مسمى
اللفظ، وإن شئت قلت: إن حيثية التأثير التي تكون الأجزاء المقيدة بالشروط
واجدة لها اقتضاء لا واقع موضوعي لها في الخارج غير نفس الأجزاء المقيدة
حتى تكون مأخوذة في المسمى في عرض تلك الأجزاء، وأما حيثية التأثير
الفعلي فهي مساوقة لمفهوم الصحيح، وقد تقدم أن ألفاظ العبادات لم توضع
بإزائه، وإنما وضعت بإزاء الصحيح بالحمل الشائع يعني ذوات الأجزاء المقيدة
بالشرائط، وإطلاق الصحيح عليها إنما هو بلحاظ أنها واجدة للحيثية المطلوبة
منها، ومن هنا قلنا إن مجرد تمامية الأجزاء والشرائط ليس معنى الصحة، بل
بلحاظ وجدانهما للحيثية المذكورة.
إلى هنا قد تبين أنه لا ترتب بين الجزء والشرط في المركبات الشرعية، لا في
عالم الوجود ولا في عالم المفهوم ولا في عالم التأثير.
120

ومن ذلك يظهر أن ما علقه السيد الأستاذ قدس سره على الشيخ قدس سره بأن الترتب بين
الجزء والشرط إنما هو في عالم الوجود لا في عالم المفهوم والتسمية، غير تام، لما
عرفتم من أنه لا ترتب بينهما أصلا لا في عالم الوجود ولا في غيره.
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم الطولية بينهما رتبة إلا أن هذه الطولية لا تؤثر
في عالم التصور والانتقال، ولا تمنع من وضع اللفظ بإزائهما معا وفي آن واحد،
فإذا أطلق لفظ (الصلاة) مثلا انتقل الذهن إلى معناها، وهو الأجزاء المقيدة
بالشروط في آن واحد، سواء أكانت بينهما طولية رتبة أم لا، فالطولية الرتبية بين
شيئين كانا متقارنين زمانا لا أثر لها في عالم الوضع والتصور، حيث إن إمكان
الوضع بإزاء المتقدم والمتأخر رتبة في زمان واحد من الواضحات، لأن التأخر في
مقام العلية لا يوجب التأخر في مقام التسمية، فإن أحد المقامين أجنبي عن المقام
الآخر بالكلية، بل لا مانع من وضع اللفظ بإزاء شيئين طوليين زمانا، لأن
طوليتهما، إنما هي بلحاظ وجودهما في الخارج، والمفروض أن اللفظ لم يوضع
بإزاء وجودهما فيه، وإنما وضع بإزاء المركب منهما في عالم المفهوم وهو عالم
التسمية، ومن الواضح أن طوليتهما في عالم الوجود الخارجي لا يقتضي طوليتهما
في عالم التسمية والمفهوم.
فالنتيجة لحد الآن أمران:
الأول: أن ما نسب إلى شيخنا الأنصاري قدس سره على ما في تقرير بحثه لا يرجع
إلى معنى صحيح.
الثاني: أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من تسليم الطولية بين الأجزاء
والشروط رتبة بحسب عالم الوجود في المقام غير تام كما مر.
وأما اعتبار قصد القربة في الصحة على القول بالصحيح، فهو مبني على
121

البحث المعروف بين الأصوليين حول إمكان أخذه في متعلق الأمر، فإنه إن قلنا
بإمكانه، فلا مانع من أخذه في المسمى على هذا القول، لأن القائل بالصحيح
يدعي أن المسمى لأسامي العبادات يصلح أن يقع متعلقا للحكم في الخطابات
الشرعية، وعلى هذا فما يمكن أخذه في متعلق الأمر، فبإمكان الصحيحي أن
يدعي أخذه في المسمى، وما لا يمكن أخذه فيه، فليس بإمكانه أن يدعي أخذه
فيه وإن كان معتبرا في الصحة شرعا أو عقلا.
وأما القيود اللبية التي منها عدم المزاحم بناء على أن صحة العبادة مشروطة
به، ومنها عدم النهي بناء على القول باقتضائه الفساد.
أما الأول وهو عدم المزاحم فإنه غير معتبر في صحة العبادة بناء على القول
بإمكان الترتب كما هو الصحيح، وأما بناء على القول بعدم إمكانه فصحتها وإن
كانت متوقفة في نهاية المطاف - على أساس أن وجود المزاحم لها مانع عن الأمر
بها فعلا، ومع عدم الأمر بها كذلك لا يمكن إحراز اشتمالها على الملاك،
وبالتالي لا يمكن الحكم بالصحة لتوقفها على إحراز أحد أمرين: إما وجود الأمر
بها فعلا أو اشتمالها على الملاك، وإلا فلا يمكن الحكم بالصحة - إلا أنه لا يكون
مأخوذا في المسمى، لأنه ليس قيدا شرعا، وإنما هو قيد لبا بحكم العقل في مورد
التزاحم متأخرا عن المسمى، والصحيحي في مقابل الأعمي لا يدعى إلا وضع
ألفاظ العبادات لمعنى يكون ذلك المعنى هو متعلق الأمر، فما لا يكون مأخوذا في
متعلقه، فليس للصحيحي أن يدعي أخذه في المسمى وإن كان دخيلا في الصحة
عقلا أو شرعا، وحيث إن عدم المزاحم لا يكون مأخوذا في متعلق الأمر
شرعا، فلا يحتمل أن يكون مأخوذا في المسمى.
وأما الثاني وهو عدم النهي عن العبادة، فقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة
122

أنه لا يقتضي فساد العبادة لكي يكون عدمه شرطا لها كسائر شروطها.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن عدم المزاحم وعدم النهي
إن كانا مضافين إلى المسمى بما هو مسمى، كانا في طور المسمى لا محالة، وقد مر
أنه لا ينبغي للصحيحي أن يدعي أخذه فيه، فإنه إنما يدعي أخذ ما يمكن أخذه
في متعلق الأمر، على أساس أنه هو المسمى، والمفروض أن عدم المزاحم وكذلك
عدم النهي في طول متعلق الأمر ومتفرع عليه، فلا يمكن أن يكون مأخوذا فيه،
وإن كانا مضافين إلى ذات المسمى أمكن أن تلحظ الصحة من ناحيتهما أيضا، كما
هو الحال في سائر القيود (1).
فما ذكره قدس سره قابل للمناقشة، أما بالنسبة إلى المزاحم فإنه إنما يتصف بهذا
الوصف من جهة إضافته إلى المسمى بما هو مسمى، لأن التزاحم إنما هو بين
واجبين ولا يتصور بين واجب وغير واجب، وعليه فبطبيعة الحال يكون عدم
المزاحم مضافا إلى المسمى بما هو متعلق الأمر، لا إلى ذات المسمى بقطع النظر
عن كونه متعلقا للأمر.
وأما بالنسبة إلى النهي فيمكن أن يكون عدمه مضافا إلى ذات المسمى كما
يمكن أن يكون مضافا إلى المسمى بما هو مسمى، فعلى الأول يمكن أن تلحظ
الصحة من ناحيته أيضا، وعلى الثاني فلا يمكن ذلك، لأنه في طول المسمى،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ذكر المحقق النائيني قدس سره أنه لا يمكن أخذ جميع هذا في
المسمى، وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله، أن الصحة من جهة عدم المزاحم

(1) بحوث في علم الأصول 1: 191.
123

وعدم النهي وقصد القربة في مرتبة متأخرة عن المسمى وفرع تحققه لكي يتعلق
به النهي أو يوجد له مزاحم أو يقصد به التقرب، وعلى هذا فلا يعقل اعتبارها في
المسمى وأخذها فيه، فيكون من قبيل أخذ ما هو متأخر رتبة في المتقدم كذلك،
وهو غير معقول (1)، والخلاصة أنه قدس سره حكم باستحالة أخذ هذه الأمور في
المسمى، معللا بأنها متفرعة على تحقق المسمى في المرتبة السابقة.
ولكن قد تبين مما تقدم أن ما أفاده قدس سره لا يتم مطلقا، أما قصد القربة فقد مر
أنه على القول بامكان أخذه في متعلق الأمر، فحاله حال سائر الأجزاء والقيود
المأخوذة فيه، وأما على القول بعدم إمكان ذلك فهو خارج عن المسمى، لأن
الصحيحي لا يدعى أخذ ما لا يمكن أخذه في متعلق الأمر في المسمى، وأما عدم
المزاحم، فقد تقدم أنه ليس شرطا للمأمور به على القول بالترتب، وأما على
القول بالعدم، فوجوده وإن كان مانعا عن الأمر بالعبادة، إلا أن عدمه ملحوظ
في طول المسمى بما هو مسمى، فلا يمكن أن تلحظ الصحة من ناحيته. وأما عدم
النهي عن العبادة، فقد مر أنه لا يكون شرطا لصحتها، لأن شرطيته مبنية على
اقتضائه الفساد، وهو محل اشكال بل منع.
وأما السيد الأستاذ قدس سره فقد أورد عليه بأنه لا مانع من وضع لفظ بإزاء شيئين
طوليين رتبة بل زمانا، ولا يلزم منه أي محذور، ومقامنا من هذا القبيل، إذ مجرد
كون قصد القربة وعدم المزاحم وعدم النهي في طول الأجزاء المأمور بها
والشرائط لا يوجب استحالة أخذها في مسمى لفظ (الصلاة) ولا يوجب تقدم
الشئ على نفسه، وما ذكره قدس سره من أن تلك الأمور متفرعة على تحقق المسمى في
المرتبة السابقة مبني على عدم أخذ هذه الأمور فيه، وأما إذا فرض أنها مأخوذة

(1) أجود التقريرات 1: 51.
124

فيه كسائر الأجزاء والشرائط، فلا يتحقق إلا مقيدا بتلك الأمور (1).
وغير خفي أن ما أورده السيد الأستاذ قدس سره من الاشكال على المحقق النائيني قدس سره
إن أراد به مجرد نفي الاستحالة وإمكان وضع اللفظ بإزاء القيد بها فلا بأس به،
وإن أراد بذلك أن بإمكان الصحيحي أن يدعي أخذ هذه الأمور في المسمى رغم
أنها غير مأخوذة في متعلق الأمر، فقد عرفت أنه لا يمكن، إذ ليس للصحيحي
إلا أن يدعى وضع أسامي العبادات بإزاء معنى جامع يصلح متعلقا للأحكام
الشرعية، فما لا يكون مأخوذا في متعلق الأمر الشرعي، إما من جهة عدم
إمكانه أو من ناحية أخرى، فليس بإمكان الصحيحي أن يدعي أخذه في
المسمى وإن كان دخيلا في الصحة عقلا أو شرعا، وهذا ظاهر.
النقطة الرابعة: أن على كل من الصحيحي والأعمي تصوير جامع مشترك
بين الأفراد، فعلى الصحيحي تصويره بين الأفراد الصحيحة، وعلى الأعمي
تصويره بين الأعم منها ومن الفاسدة حتى يكون ذلك الجامع هو المعنى الموضوع
له لأسامي العبادات، والوجه في ذلك هو أن ألفاظ العبادات كلفظ الصلاة
ونحوها ليست من الألفاظ المشتركة بين معان متعددة بأوضاع عديدة، لوضوح
أن لها وضعا واحدا بإزاء معنى واحد، وتستعمل في كلمات الشارع في الكتاب
والسنة في كل الموارد والمقامات فيه بدون استخدام أي قرينة معينه، مع أنها لو
كانت مشتركة لفظية، فحينئذ وإن كان استعمالها في كل صنف من أصنافها أو فرد
من أفرادها حقيقيا إلا أنه بحاجة إلى قرينة معينة، وبدونها فلا تدل على التعيين،
والمفروض أن الأمر ليس كذلك، فإذن لا محالة يكون استعمالها في كل مورد من
الموارد في الجامع، والخصوصية مستفادة من دال آخر من باب تعدد الدال

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 138.
125

والمدلول، وحينئذ فإن كان هناك دال آخر فهو، وإلا فاللفظ لا يدل إلا على
الجامع بدون خصوصية.
ومن هنا يظهر أنه لا يمكن الالتزام بالوضع العام والموضوع له الخاص فيها،
وذلك لنفس المحذور المذكور، وهو كون استعمالها في كل صنف أو فرد منها وإن
كان حقيقيا إلا أنه بحاجة إلى قرينة معينة، حيث إن للوضع العام والموضوع له
الخاص كالمشترك اللفظي من هذه الناحية.
وبكلمة، إنه يمكن تصوير وضع أسامي العبادات واختصاصها بها على
أحد أنحاء.
الأول: أن يكون بنحو الاشتراك اللفظي.
الثاني: أن يكون بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص.
الثالث: أن يكون بنحو الحقيقة في بعض المراتب والمجاز في الباقي.
الرابع: أن يكون بنحو الوضع العام والموضوع له العام.
أما الأول فمضافا إلى القطع بعدم تعدد الوضع فيها بعدد أفرادها أو أصنافها لا
بالوضع التعييني الصريح ولا بالوضع التعييني الاستعمالي ولا بالوضع التعيني، إن
لازم ذلك إجمال ألفاظ العبادات في نصوص الكتاب والسنة وعدم تبادر شئ
منها عند إطلاقها إلا بمعونة قرينة معينة، وهو خلاف الضرورة والوجدان فيها.
وأما الثاني فهو كالمشترك اللفظي في النتيجة، وهي إجمال اللفظ وعدم تبادر
شئ منه بدون قرينة معينة.
وأما الثالث فهو مقطوع البطلان كما سوف يأتي الكلام فيه قريبا.
126

فإذن يتعين النحو الرابع وهو الوضع العام والموضوع له العام.
وعلى هذا الأساس فلا بد على كلا القولين في المسألة من تصوير جامع
بين الأفراد.
ولكن خالف في ذلك المحقق النائيني قدس سره فذهب إلى أنه ليست هناك ضرورة
تدعو إلى تصوير جامع مشترك بين جميع الأفراد بعرضها العريض على كلا
القولين في المسألة. وأفاد في وجه ذلك، أنه لا مانع من الالتزام بأن الموضوع له
في مثل لفظ الصلاة هو المرتبة العليا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط، فان
للصلاة مثلا باعتبار مراتبها عرضا عريضا، ولها مرتبة عليا وهي صلاة المختار،
ولها مرتبة دنيا وهي صلاة الغرقى، وبين الحدين متوسطات، فلفظة الصلاة ابتداء
موضوعة للمرتبة العليا على كلا القولين في المسألة، واستعمالها في غيرها من
المراتب النازلة من باب الادعاء والتنزيل أو من باب الاشتراك في الأثر،
فالصحيحي يدعي أن استعمال لفظ الصلاة في بقية المراتب الصحيحة إما من باب
الادعاء وتنزيل الفاقد منزلة الواجد مسامحة فيما يصح فيه التنزيل، أو من باب
الاشتراك في الأثر واكتفاء الشارع به في مقام الامتثال كما في صلاة الغرقى، فإنه لا
يمكن فيها الالتزام بالتنزيل المذكور، والأعمي يدعي أن استعمالها في بقية مراتبها
الأعم من الصحيحة والفاسدة من باب العناية والتنزيل أو من باب الاشتراك في
الأثر، فكل واحد من الأمرين موجب لجواز الاستعمال حتى في الفرد الفاسد
كصلاة الغرقى من باب تنزيله منزلة الواجد منها المنزل منزلة التام الأجزاء
والشرائط من جهة الاشتراك في الأثر. نعم، استثنى قدس سره من ذلك صلاتي القصر
والتمام، فقال إنهما في عرض واحد فلا بد من تصوير جامع بينهما.
ثم رتب على ذلك بطلان ثمرة النزاع بين قول الأعمي وقول الصحيحي، وهي
127

جواز التمسك بالاطلاق على الأعمي وعدم جوازه على الصحيحي، فإنه بناء
على كون الصلاة مثلا موضوعة لخصوص المرتبة العليا لم يجز التمسك بالاطلاق
ولو فرض وجود مطلق في العبادات، لعدم العلم بالتنزيل والمسامحة في مقام
الاستعمال، ومعه يصبح اللفظ مجملا لا محالة، ثم قال إن الحال في سائر المركبات
الاختراعية أيضا كذلك (1).
ونتيجة ما أفاده قدس سره عدة نقاط:
الأولى: أن المعنى الموضوع له في مثل لفظة الصلاة هو المرتبة العليا على كلا
القولين في المسألة، غاية الأمر أن الصحيحي يدعي صحة الاستعمال في
خصوص المراتب الصحيحة والأعمي يدعي صحته على الاطلاق.
الثانية: أن على كل من الصحيحي والأعمي تصوير جامع بين خصوص
صلاتي القصر والاتمام باعتبار أنهما في عرض واحد.
الثالثة: بطلان ثمرة النزاع بين القولين في المسألة.
الرابعة: أنه لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها من المركبات الاختراعية.
أما النقطة الأولى فيرد عليها أولا أن ما أفاده قدس سره وإن كان ممكنا في مقام
الثبوت إلا أنه لا يمكن الالتزام به في مقام الاثبات، وذلك لأن إطلاق لفظة
الصلاة على جميع مراتبها الطولية من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا يكون على
نسق واحد، لا أن إطلاقها على ما دون المرتبة العليا من المراتب النازلة إطلاقا
عنائيا وبحاجة إلى التنزيل أو ملاحظة الاشتراك في الأثر مثلا، كما أن إطلاقها
على الصلاة مع الطهارة المائية حقيقي كذلك إطلاقها على الصلاة مع الطهارة

(1) أجود التقريرات 1: 53.
128

الترابية، رغم أن الأولى صلاة المختار والثانية صلاة المضطر ودونها في المرتبة،
ومن هذا القبيل صلاة القائم وصلاة القاعد، والصلاة في الثوب النجس والصلاة
في الثوب الطاهر وهكذا.
وبكلمة، إن الصلاة مستعملة في تمام مراتبها في الشرع في معنى واحد،
والاختلاف إنما هو في تطبيقه على مصاديقه وأفراده الطولية، ولكن هذا المعنى
الواحد الجامع لا تكون سعته بحد تشمل مثل صلاة الغرقى، على أساس أن
المقومات الذاتية للصلاة لا بد أن تكون محفوظة في كل مرتبة من مراتبها، وإلا
فلا تكون من مراتبها وبالتالي من مصاديقها، وعلى هذا فإن كانت صلاة الغرقى
واجدة للأركان المقومة، فهي من مراتبها الذاتية النهائية، وإلا فلا تكون
منها ومن مصاديقها.
وعليه فما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أن المعنى الجامع للصلاة يشمل صلاة
الغرقى أيضا وأن إطلاقه عليها إطلاق حقيقي، لا يمكن المساعدة عليه مطلقا.
قد يقال كما قيل: إن لفظة الصلاة منصرفة إلى المرتبة العليا، وهي صلاة
المختار الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، وحيث إنه لا منشأ لهذا الانصراف
والانسباق إلا الوضع، فبطبيعة الحال يكشف ذلك عن وضعها بإزائها.
والجواب أولا: أن هذا الانصراف ممنوع، لأن المتبادر من لفظة الصلاة عند
إطلاقها هو الجامع بين أفراد الصلاة كالأركان، وانطباقه على كل مرتبة من
مراتبه من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا بحاجة إلى عناية زائدة وقرينة معينة،
ولا فرق من هذه الناحية بين المرتبة العليا وسائر المراتب، بل لا فرق في ذلك بين
الأفراد الصحيحة والأفراد الفاسدة، شريطة أن تكون واجدة للعناصر المقومة
وهي الأركان.
129

وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن لفظة الصلاة موضوعة للمرتبة
العليا إلا أنه لا بد من تصوير جامع مشترك بين أفراد تلك المرتبة أيضا، باعتبار
أن المرتبة العليا ليست مرتبة واحدة محددة كما وكيفا، بحيث لا تزيد ولا تنقص
ليكون اللفظ موضوعا بإزائها، بل هي أيضا تختلف باختلاف أصناف الصلاة،
فإن المرتبة العليا من صلاة الظهر أو العصر مغايرة كما وكيفا للمرتبة العليا
من صلاة المغرب، والمرتبة العليا منهما مغايرة كذلك للمرتبة العليا من صلاة
الصبح وهكذا.
وعلى هذا فلو كانت لفظة الصلاة موضوعة بإزاء المرتبة العليا، فلا بد إما من
تصوير جامع مشترك بين أفراد تلك المرتبة على كلا القولين في المسألة أو
الالتزام بتعدد الوضع فيها بتعدد أفرادها، فإذن الالتزام بأن الموضوع له لمثل
لفظة الصلاة هو المرتبة العليا لا يغني عن لا بدية أحد الأمرين: إما تصوير جامع
مشترك بين أفراد هذه المرتبة أو الالتزام بتعدد الوضع.
وأما النقطة الثانية فقد ظهر مما مر من أنه على تقدير تسليم أن الصلاة
موضوعة للمرتبة العليا، فالحاجة إلى تصوير الجامع لا تنحصر بالقصر والتمام،
بل لا بد من تصويره بين صلاة العشاء والمغرب أيضا، على أساس أن المرتبة
العليا من صلاة العشاء غير المرتبة العليا من صلاة المغرب، وهما غير المرتبة
العليا من صلاة الصبح، بل المرتبة العليا من صلاتي الظهرين غير المرتبة العليا من
صلاة العشاء، على أساس اختلافهما في الكيفية، وهي بأجمعها غير المرتبة العليا
من صلاة الآيات والعيدين ونحوهما، وعلى هذا فلا بد من تصوير جامع بين
المراتب العليا في كل من هذه الموارد، فلا وجه للتخصيص بالقصر والتمام.
وأما النقطة الثالثة فما أفاده قدس سره من عدم ظهور الثمرة على هذا بين القولين لا
130

يتم، لأنه مبني على أن تكون المرتبة العليا مرتبة خاصة محددة وليست بنفسها
ذات مراتب متعددة وأفراد مختلفة، ولكن قد عرفت أن لها في نفسها مراتب
متفاوتة كما وكيفا، وعلى هذا فتظهر الثمرة بين القولين، فإنه على القول بالصحيح
لا يمكن التمسك بالاطلاق عند الشك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا، لأن الشك
في ذلك مساوق للشك في تحقق المسمى بدون ذلك الشئ المشكوك فيه، وأما
على القول بالأعم فلا مانع منه.
وأما النقطة الرابعة فيرد عليها أن ما أفاده قدس سره من أن المركبات الاختراعية
كالمركبات الشرعية لا يتم مطلقا، لأن تلك المركبات على أنواع:
الأول: المركبات الكيمياوية.
الثاني: المعاجين كالحلويات وما شاكلها.
الثالث: المركبات الخارجية.
أما النوع الأول فلأن التركيب فيه يقوم على أساس موازين ومقاييس
خاصة محددة كما وكيفا، وليس له مراتب طولية كالصلاة، بل له مرتبة واحدة
محددة واللفظ موضوع بإزائها.
أما النوع الثاني فالظاهر أن حاله حال الصلاة، حيث إن له مراتب متفاوتة
من المرتبة العالية إلى المرتبة الدانية، مثلا كلمة (حلوى) كال‍ (الصلاة)
موضوعة بإزاء الجامع بين مراتبها وأفرادها أو بإزاء خصوص المرتبة العليا
منها، وإطلاقها على ما دونها من المراتب النازلة إما بلحاظ تنزيل الفاقد منزلة
الواجد أو الاشتراك في الأثر.
وأما النوع الثالث فالظاهر أنه كالصلاة من ناحية ويختلف عنها من ناحية
131

أخرى. أما أنه كالصلاة فباعتبار أن له أجزاء رئيسية محددة، وقوامه بها
وبانتفائها ينتفي المركب، وأما أنه يختلف عنها فمن أجل أن الزيادة على الأجزاء
الرئيسية فيه كمال لا واجب وضروري. وهذا بخلاف الزيادة على الأجزاء
الرئيسية في الصلاة، فإنها واجبة وضرورية في تلك المرتبة.
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه لا يصح قياس سائر المركبات الاختراعية
بالعبادات مطلقا، بل لا بد فيها من التفصيل كما مر.
إلى هنا قد تبين أن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في المقام غير تام، وعلى
هذا فلا بد من تصوير جامع مشترك بين أفراد العبادات على كلا القولين في
المسألة لتكون العبادات موضوعة بإزائه، فإذن يقع الكلام تارة في تصوير جامع
بين الأفراد الصحيحة، وأخرى في تصوير جامع بين الأعم منها ومن الفاسدة.
تصوير الجامع على الصحيحي
قد استدل عليه بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أنه يمكن تطبيق قاعدة
فلسفية - وهي أن (الواحد لا يصدر إلا من واحد) - على المقام (1)، بيان ذلك أن
هذه القاعدة الفلسفية ترتكز على مبدأ التناسب والسنخية بين العلة والمعلول،
فإذا كانت العلة واحدة فمن الضروري أن يكون المعلول واحدا تطبيقا لهذا المبدأ
وإلا لأمكن تأثير كل شئ في كل شئ، وهذا هدم لمبدأ العلية، ومن الواضح أن
هدم هذا المبدأ، مساوق لانهيار جميع العلوم من الطبيعية والنظرية والتطبيقية،

(1) كفاية الأصول: 24.
132

حيث لا يمكن حينئذ للانسان الاستدلال بشئ، وهذا واضح. وعلى هذا فحيث
إن أفراد الصلاة الصحيحة مثلا تشترك جميعا في أثر واحد وهو النهي عن
الفحشاء والمنكر بمقتضى قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر) (1).
فمن الطبيعي أن وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر، على أساس مبدأ
التناسب، وعلى هذا فلا يعقل أن يكون المؤثر في هذا الأثر الواحد كل فرد من
الأفراد الصحيحة بحده الفردي، وإلا لزم أن يكون الواحد مسانخا للكثير، وهو
مستحيل، فإذن لا محالة يستكشف كشفا قطعيا عن وجود جامع واحد بين
الأفراد الصحيحة، ويكون ذلك الجامع الواحد هو المؤثر في ذلك الأثر الواحد
تطبيقا لقاعدة أن (الواحد لا يصدر إلا من واحد سنخا).
والخلاصة أن كشف جامع ذاتي بين الأفراد الصحيحة منوط بتوفر أمرين:
الأول: ترتب أثر واحد على تلك الأفراد جميعا بدون استثناء.
الثاني: أن الواحد لا يمكن أن يصدر إلا من الواحد سنخا بمقتضى مبدأ
التناسب والسنخية بين العلة والمعلول، وحيث إن كلا الأمرين متوفر في
المقام، فلا محالة يستكشف من ذلك وجود جامع واحد بين الأفراد الصحيحة،
ويكون ذلك الجامع الواحد هو المؤثر في ذلك الأثر، لاستحالة أن يكون المؤثر
فيه نفس الأفراد بخصوصياتها الفردية المختلفة كما وكيفا كما مر، ومن هنا
قال قدس سره: إن تصوير الجامع الوجداني بين الأفراد الصحيحة خاصة بمكان من
الامكان، بل هو ضروري دون الأعم، لعدم تحقق صغرى هذه القاعدة على

(1) سورة العنكبوت (29): 45.
133

القول بالأعم، وبدونها لا طريق لنا إلى كشف الجامع من ناحية أخرى.
ولنأخذ بالنظر فيه من جهات:
الأولى: أن هذه القاعدة الفلسفية وهي أن (الواحد لا يصدر إلا من واحد)
كما تنطبق على الواحد الشخصي كذلك تنطبق على الواحد النوعي والجنسي،
فان المعلول إذا كانت وحدته شخصية فهي تكشف عن أن علته أيضا كذلك،
على أساس مبدأ التناسب والسنخية بينهما، وهذا ليس شرطا خارجيا، بل هو
مقوم لعلية العلة، باعتبار أن المعلول من سنخ وجود العلة ومن مراتب وجودها
النازلة، وإن كانت وحدته نوعية، فهي تكشف عن أن علته أيضا واحدة بالنوع
بمقتضى هذا المبدأ، وكذلك إذا كانت وحدته جنسية بنفس الملاك، فوحدة
الحرارة تكشف عن وحدة علتها، وحيث إن وحدتها نوعية، فهي تكشف عن
وحدة علتها كذلك، ضرورة أنه لا يعقل أن تكون وحدة المعلول نوعية دون
وحدة العلة، وإلا لزم خلف فرض العلية بينهما، مثلا صفة الضحك التي هي
عارضة على أفراد الانسان المتناسبة والمشتركة في حقيقة واحدة نوعية، تكشف
عن أن المؤثر فيها جهة واحدة مشتركة بينها على أساس قانون التناسب،
ضرورة أنه لا يمكن أن يكون المؤثر في كل فرد من الضحك فرد من الانسان
بحده الفردي، لأنه من تأثير المباين في المباين، فلا محالة يكون المؤثر في وجود
الضحك بما هو وجود الانسان كذلك بقطع النظر عن الخصوصيات العرضية
الطارئة عليها في الخارج، وعلى هذا فترتب أفراد الضحك على أفراد الانسان
يكشف عن أن المؤثر فيها هو الجهة الجامعة الواحدة بين أفراد الانسان، لا كل
فرد بحده الفردي باعتبار أن الضحك صفة للانسان دون الفرد، وكونه صفة له إنما
هو بلحاظ أنه إنسان، ومن هذا القبيل صفة الاحساس التي هي مترتبة على
134

أفراد الحيوان، فإنها تكشف عن جهة واحدة جامعة بينها، فيكون تأثير كل فرد
فيها على أساس وجود تلك الجهة الجامعة فيه تطبيقا للقاعدة الفلسفية.
فالنتيجة أن هذه القاعدة التي تبتني على أساس مبدأ التناسب والسنخية
بين العلة والمعلول من القواعد الأولية التي قياساتها معها، ولهذا لا مجال
للتأمل والنقاش حولها.
الثانية: أن هذه القاعدة لا تنطبق على المقام، وذلك لأن الأثر إذا كانت
وحدته نوعية - بمعنى أن يكون ذا أفراد متناسبة مشتركة في حقيقة واحدة -
تكشف وحدته النوعية عن أن المؤثر فيه أيضا أفراد متناسبة مشتركة في حقيقة
كذلك، وبالتالي يكون تأثير كل فرد بلحاظ اشتماله على الجهة المشتركة لا بحده
الفردي تطبيقا للقاعدة، وأما إذا كانت واحدة الأثر المترتب عليها وحدة
انتزاعية لا نوعية كما في المقام، فإن عنوان النهي عن الفحشاء والمنكر عنوان
انتزاعي، فهي لا تكشف عن جهة واحدة جامعة بينها، إذ لا مانع من انتزاعها
من حقائق مختلفة، كعنوان الطويل أو القصير، فإنه عنوان انتزاعي منتزع من
حقائق مختلفة كالانسان الطويل أو القصير والشجر الطويل أو القصير وهكذا،
فان نسبة هذه الأعراض إلى موضوعاتها نسبة العرض إلى منشأ انتزاعه، لا
نسبة الأثر إلى المؤثر والمعلول إلى العلة، وعليه فلا يمكن تطبيق القاعدة الفلسفية
على الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية.
والخلاصة أن العنوان الانتزاعي الذي هو منتزع من الأفراد في الخارج لا
يكشف عن جهة واحدة جامعة بينها لتكون تلك الجهة الجامعة هي المؤثرة فيه،
إذ لا مانع من انتزاعه عن كل فرد بحده الفردي، وعلى هذا فحيث إن عنوان
النهي عن الفحشاء والمنكر عنوان انتزاعي، فلا مانع من انتزاعه عن الصلاة
135

المركبة من حقائق مختلفة، ولا يكشف عن جهة واحدة جامعة بينها في الخارج،
فلذلك لا يمكن تطبيق القاعدة على المقام.
الثالثة: أنه لا يعقل وجود جامع بسيط ذاتي بين الأفراد الصحيحة، لأن
الصلاة مؤلفة من حقائق مختلفة ومقولات متباينة سنخا كمقولة الكيف المسموع
والكيف النفساني ومقولة الوضع، ومن الواضح أن الجامع الذاتي المشترك
بين هذه المقولات غير متصور، لأنها أجناس عاليات فلا يتصور جنس فوقها،
وإلا لزم الخلف.
وبكلمة واضحة، إنه لا يتصور وجود جامع ذاتي بسيط بين حقيقتين
متباينتين بتمام الذات والهوية، وإلا لم تكونا متباينتين كذلك بل مشتركتين
في حقيقة واحدة، وهذا خلف، والمقام من هذا القبيل، وذلك لأن الصلاة مركبة
من مقولات متباينات بتمام الذات والحقيقة كمقولة الوضع والكيف النفساني
والمسموعي، وقد برهن في محله أن المقولات أجناس عاليات ومتباينات
بتمام الذات والذاتيات، فلا يعقل دخولها تحت جنس فوقها، وإلا لم تكن
أجناسا عاليات، وهذا خلف، فإذن لا يمكن أن تكون الصلاة حقيقة واحدة
نوعية تشترك جميع أفرادها فيها، هذا إذا كان المراد من الجامع الذاتي، الذاتي
في باب الكليات.
وأما إذا كان المراد منه الذاتي في باب البرهان، وهو لازم الماهية، فهو أيضا
غير معقول، إذ لا يتصور أن يكون لماهية الصلاة لازم واحد، لأنها مؤلفة من
الماهيات المتباينات، فلو كان لها لازم واحد لزم أن يكون معلولا لها، ومن
الواضح أن اللازم الواحد لا يمكن أن يكون معلولا لماهيات متباينة ذاتا وسنخا
ومسانخا لها، نعم يعقل وجود جامع عنواني عرضي لمقولات متباينة كعنوان
136

الناهي عن الفحشاء والمنكر أو ما شاكله، إلا أن لفظة (الصلاة) لم توضع بإزاء
هذا الجامع العرضي، وذلك لأمرين:
الأول أن المتبادر من لفظة (الصلاة) هو نفس الأجزاء المقيدة بقيود معينة
دون العنوان المذكور، وهذا دليل إني على أنها لم توضع بإزائه، وإنما وضعت بإزاء
نفس الأجزاء المذكورة.
الثاني: أنها لو كانت موضوعة بإزاء ذلك العنوان العرضي، لزم أن تكون
الصلاة مرادفة مع عنوان الناهي، مع أن الأمر ليس كذلك وجدانا.
إلى هنا قد تبين أنه لا يمكن تطبيق القاعدة الفلسفية على المقام، لأن مورد
القاعدة ما إذا كان الأثر المترتب على شئ أثرا ذاتيا، فإنه يكشف عن وجود
جامع ذاتي بين أفراد ذلك الشئ تطبيقا للقاعدة، وحيث إن الأثر المترتب على
الصلاة في المقام أثر انتزاعي، فلا يكشف عن وجود جامع ذاتي بين أفرادها.
هذا إضافة إلى أنه لا يمكن وجود جامع ذاتي بين أفراد الصلاة.
وقد أورد على ذلك السيد الأستاذ قدس سره بإشكال آخر، وهو أن الأثر في المقام
غير مترتب على الجامع بين الأفراد الصحيحة، وإنما هو مترتب على أفراد
الصلاة بخصوصياتها من الأجزاء والشرائط المعتبرة فيها، فإن ترتب النهي عن
الفحشاء والمنكر على الصلاة، ليس كترتب الاحراق على النار وترتب سائر
الآثار الخارجية على أسبابها، فإن الأثر في جميع هذه الموارد مترتب على الجامع
من دون دخل لأية خصوصية من الخصوصيات الفردية فيه، بينما يكون الأثر في
المقام وهو النهي عن الفحشاء والمنكر مترتبا على أفراد الصلاة وحصصها بما لها
من الخصوصيات المعتبرة في صحتها شرعا، مثلا صحة صلاة الصبح منوطة
بوقوع التسليمة في الركعة الثانية، وصحة صلاة المغرب منوطة بخصوصية وقوع
137

التسليمة في الركعة الثالثة وعدم وقوعها في الركعة الثانية، وصحة صلاة
الظهرين أو ما شاكلها متوقفة على خصوصية وقوع التسليمة في الركعة الرابعة
ومقيدة بعدم وقوعها في الركعة الثالثة وهكذا، فالنتيجة أن المؤثر في النهي
عن الفحشاء والمنكر نفس تلك الخصوصيات لا الجامع بين الأفراد، فإنه
إنما يكون مؤثرا إذا لم يكن دخل للخصوصيات في ترتب الأثر، وهذا لا يتصور
في المقام (1).
وقد علق عليه بعض المحققين قدس سره بما حاصله أنه إن أريد من دخالة
الخصوصيات دخالتها في تحقق الجامع وانتزاعه فهو مسلم، ولكنه لا ملازمة بين
دخالتها في تحقق الجامع ودخولها في المسمى، بل المسمى ذات الجامع، وإن أريد
دخالتها في التأثير وإيجاد الأثر المشترك، فهو ممنوع على ضوء قانون (الواحد
لا يصدر إلا من واحد)، إذ على فرض تصوير وجود جامع بين الأفراد
الصحيحة، فيكون المؤثر هو الجامع في ضمن كل صنف دون الخصوصيات
تطبيقا للقاعدة (2).
ويمكن المناقشة في هذا التعليق، وذلك لأن الخصوصيات المذكورة وإن
كانت دخيلة في تحقق الجامع، فالجامع انتزاعي لا حقيقي، والجامع الانتزاعي
يتحقق بتحقق منشأ انتزاعه وينتفي بانتفائه، وحيث إن منشأ انتزاعه في المقام
الخصوصيات الصنفية لكل صنف من الصلاة، فبطبيعة الحال يلغى الجامع بإلغاء
تلك الخصوصيات، لأنه متقوم بها ومعلول لها، ومع إلغائها فلا جامع، وأما إذا
كان الجامع حقيقيا، فلا تكون الخصوصيات دخيلة في تحققه، لأنه محفوظ مع

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 145.
(2) بحوث في علم الأصول 1: 196.
138

إلغاء جميع هذه الخصوصيات العرضية، وحيث قد فرض في هذا التعليق دخالة
الخصوصيات في تحققه، فبطبيعة الحال يكون الجامع انتزاعيا، وقد مر أنه لا
يمكن تطبيق قاعدة (الواحد لا يصدر إلا من واحد) على الجامع الانتزاعي من
ناحية، وعدم كون هذا الجامع مسمى بأسامي العبادات من ناحية أخرى.
والخلاصة أن الجامع بين الأفراد الصحيحة إن كان ذاتيا فالخصوصيات
العرضية غير دخيلة في تحققه، وإن كان عنوانيا منتزعا فهي دخيله فيه، ولكنه
لا يكون مسمى لأسامي العبادات كالصلاة ونحوها. هذا،
والذي يمكن أن يعلق على ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره هو أنه لا شبهة في
دخالة الخصوصيات في الصحة وترتب الأثر، ولكن لقائل أن يقول إن دخالتها
فيها إنما هي من جهة اشتمالها على الجهة الجامعة لا بحدها الخاص، مثلا تأثير
صلاة الصبح فيها إنما هو من جهة اشتمالها على الجهة الجامعة لا بحدها الخاص،
وكذلك الحال في سائر أصناف الصلاة، وعلى هذا فإن أريد بدخالة هذه
الخصوصيات في الصحة وإيجاد الأثر المشترك دخالتها بما هي، فهي ممنوعة
ومخالفة لقاعدة (الواحد لا يصدر إلا من واحد)، فإن مقتضى هذه القاعدة هو
أن المؤثر فيه هو الجامع المشترك في ضمن هذه الخصوصيات لا نفسها، وما
ذكره قدس سره من أن الخصوصيات والقيودات الخاصة دخيلة في إيجاد الأثر، لا ينفي
أن دخالتها إنما هي من جهة اشتمالها على الجهة المشتركة تطبيقا للقاعدة لا في
نفسها، وإن أريد بدخالتها دخالتها في المسمى، فيرد عليه أن المسمى ذات
الجامع، والخصوصيات خارجة عنه.
فالنتيجة أن ما أورده السيد الأستاذ قدس سره من الاشكال حتى مع فرض إمكان
تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة غير تام.
139

إلى هنا قد تبين أنه لا يمكن ثبوتا تصوير جامع ذاتي بين أجزاء الصلاة،
لتباينها بالذات والحقيقة، ولا مجال لتطبيق قاعدة (الواحد لا يصدر إلا
من واحد) عليها، فما عن المحقق الخراساني قدس سره من التطبيق خطأ لا ينبغي
صدوره من مثله.
الرابعة: أن الجامع الذي فرضه قدس سره بين الأفراد الصحيحة لا يمكن أن يكون
بسيطا كما تقدم، وهل يمكن أن يكون مركبا؟
والجواب: أنه لا يمكن أيضا، بيان ذلك أن لتصويره طريقين، وكلا
الطريقين خاطئ.
الأول: أن يؤخذ في الجامع التركيبي الأجزاء والشرائط المعتبرة في أفراد
الصلوات الصحيحة جميعا.
الثاني: أن تؤخذ فيه الأجزاء والشرائط المعتبرة في صحة الفعل كل بحسب
حاله وموضوعه عن الاختيار والاضطرار ونحوهما.
أما الطريق الأول فلا يمكن تصويره، لأن أيا من المركب افترض بين تلك
الأفراد يتداخل فيه الصحة والفساد، ويكن صحيحا في حالة وفاسدا في حالة
أخرى، وصحيحا من مكلف وفاسدا من مكلف آخر، ضرورة أن الجامع
المركب الذي افترض لا يخلو من أن يكون تاما أو ناقصا، ولا ثالث لهما، والأول
لا ينطبق على الناقص وإن كان صحيحا، والثاني لا ينطبق على التام.
وإن شئت قلت: إن افتراض الجامع المركب إما أن يكون بين خصوص أفراد
المرتبة العليا أو خصوص أفراد المرتبة الدنيا أو بين جميع المراتب بعرضها
العريض، والأول لا ينطبق على أفراد المرتبة الدنيا، والثاني لا ينطبق على أفراد
140

المرتبة العليا، فإذن شئ منهما لا يكون جامعا بين جميع الأفراد الصحيحة بتمام
مراتبها، لأن الجامع بينها لا بد أن يكون متمحضا في الصحة مطلقا وفي جميع
الحالات. والثالث غير معقول، إذ لا يمكن افتراض جامع مركب بين جميع
المراتب بعرضها العريض.
وأما الطريق الثاني فكيفية تصويره على النحو الآتي:
أولا: إن ما يعتبر في صحة العمل مطلقا وفي جميع الحالات كنية القربة مثلا
تؤخذ في الجامع التركيبي تعيينا.
ثانيا: إن ما يكون له بدل في عرضه تخييرا كالتسبيحات الأربع في الركعتين
الأخيرتين - حيث إن المكلف مخير فيهما بين الاتيان بها والاتيان بالحمد - يؤخذ
فيه الجامع بينهما وبين بدلها العرضي.
ثالثا: أن يؤخذ في الجامع التركيبي الطهارة من الحدث، وهي متمثلة
في الوضوء للمحدث بالأصغر وفي الغسل للمحدث بالأكبر، أو يؤخذ فيه
الجامع بين الركعتين الأخيرتين للحاضر وتركهما للمسافر، بمعنى أن المأخوذ في
الجامع التركيبي أحدهما.
رابعا: أن يؤخذ في الجامع التركيبي الطهارة أعم من الطهارة المائية والترابية
مع التقييد بحالتي الاختيار والاضطرار، بمعنى أنه يؤخذ فيه الطهارة المائية في
حال الاختيار والتمكن، والطهارة الترابية في حال العجز عن الأولى.
خامسا: ما يعتبر في صحة الفعل حال الاختيار من دون بدل له أو في حال
التذكر والالتفات كذلك، والأول كالبسملة، فإنها معتبرة في حال الاختيار فقط
دون حال التقية بلا بدل لها في هذه الحالة، والثاني الأجزاء والقيود غير الخمسة
141

للصلاة، فإنها معتبرة في حال الالتفات والتذكر فقط دون حال النسيان والجهل
بلا بدل لها في هذه الحالة، ولكن مع ذلك يمكن تصوير أخذه بما يلي:
أما في الشق الأول فيؤخذ في المسمى التركيبي الجامع بين البسملة وبين
بقية الأجزاء خاصة في حال التقية بها، وأما في الشق الثاني فيؤخذ فيه
الجامع بين الأجزاء غير الخمسة وبين الخمسة خاصة في حال الجهل والنسيان
بتلك الأجزاء.
ولنأخذ بالمناقشة فيه.
أما أولا فلأن تصويره بهذا الطريق أيضا لا يمكن، بيان ذلك أما القسم الأول
والثاني فالأمر فيهما كما مر.
وأما القسم الثالث فالأمر فيه بالنسبة إلى المحدث بالأكبر والمحدث بالأصغر
وإن كان كذلك، باعتبار أن المأخوذ في الجامع التركيبي هو الطهارة بلا فرق بين
أن يكون سببها الغسل أو الوضوء، إلا أن الأمر بالنسبة إلى الركعتين الأخيرتين
ليس كذلك، إذ لا يمكن أن يكون المأخوذ في المسمى التركيبي الجامع بين تقييد
الركعتين الأوليين بالأخيرتين من الحاضر وبين تركهما من المسافر بأن يقيد كل
منهما بموضوعه، وذلك لأنه لا شبهة في أن متعلق الأمر المتوجه إلى الحاضر،
الصلاة المقيدة بوقوع التسليمة بعد الركعة الرابعة، ومتعلق الأمر المتوجه إلى
المسافر، الصلاة المقيدة بوقوع التسليمة بعد الركعة الثانية، ولا يكون متعلق
الأمر الجامع بين التقييد والترك.
وإن شئت قلت: إن كلا التقييدين المذكورين - وهما تقييد وقوع التسليمة بعد
الركعة الرابعة وتقييد وقوعها بعد الركعة الثانية - مأخوذ في متعلق الأمر بالنسبة
إلى كل من الحاضر والمسافر تعيينا، لا أن المأخوذ فيه هو الجامع بين التقييد
142

والترك، فيكون هنا متعلقان متباينان، فلا يتصور الجامع بينهما حتى يكون ذلك
الجامع هو متعلق الأمر.
وأما القسم الرابع فلا يمكن أخذ الجامع بين الطهارة المائية والطهارة الترابية بما
هو جامع في المسمى التركيبي، وإلا كانت نتيجته التخيير، بل لا بد من تقييد
الأولى بموضوعها وهو الواجد للماء، وتقييد الثانية بالفاقد له، ونتيجة هذا التقييد
أن المأخوذ فيه الحصة دون الجامع، فالحصة الأولى مأخوذة بالنسبة إلى المتمكن
من استعمال الماء، والحصة الثانية مأخوذة بالنسبة إلى غير المتمكن من استعماله
وفي طول الأولى، أو فقل: إن الجامع بينهما لا يمكن أن يكون قيدا للمسمى
التركيبي، بل القيد الطهارة المائية للمتمكن منها والطهارة الترابية لغير المتمكن
من الأولى، ومع هذا كيف يعقل أن يكون الجامع قيدا له، ومن هنا يظهر الحال
بالنسبة إلى مراتب الركوع والسجود، فإنه لا يمكن أن يكون المأخوذ فيه الجامع
بين هذه المراتب، لوضوح أن المأخوذ في المسمى التركيبي الذي هو متعلق الأمر
خصوص ركوع القائم عن قيام عند التمكن منه، وعند تعذره ركوع الجالس إن
أمكن، وإلا فالايماء والإشارة.
وأما القسم الخامس فلأن متعلق الأمر في غير حال التقية الصلاة الجامعة
للبسملة وفي حال التقية الصلاة الفاقدة لها، وافتراض أن المأخوذ في المسمى هو
الجامع بين البسملة وتقييد سائر الأجزاء بحال التقية فيها وتعلق الأمر به مجرد
افتراض لا واقع موضوعي له، إذ لا شبهة في أن الأمر المتعلق بالواجد للبسملة
غير الأمر المتعلق بالفاقد لها، فلا جامع بينهما لكي يكون الأمر متعلقا به.
ومن هنا يظهر حال الشق الثاني من هذا القسم، إذ لا شبهة في أن مقتضى
الأدلة تعدد متعلق الأمر بتعدد حالات المكلف من الاختيار والاضطرار
143

والتذكر والنسيان، وافتراض أن المأخوذ في المسمى التركيبي هو الجامع
لا يطابق مع الواقع.
وثانيا لو سلمنا تصوير جامع تركيبي بين الأفراد الصحيحة بهذه الطريقة إلا
أنا نقطع بأن أسامي العبادات لم توضع بإزاء ذلك الجامع، لأنه معنى معقد
وغير عرفي وخارج عن الأذهان، وأسامي العبادات لا بد أن تكون موضوعة
بإزاء معان عرفية يدركها المتشرعة عند إطلاقها وينتقل الذهن من تصويرها
إلى تصوير معانيها، ولا يمكن أن تكون موضوعة بإزاء معان معقدة خارجة
عن الأذهان.
ودعوى أن الواضع لألفاظ العبادات بما أنه الشارع دون العرف العام، فلا
مانع من وضع الشارع تلك الألفاظ بإزاء ذلك الجامع المعقد.
مدفوعة أما أولا فقد تقدم أن الشارع لم يقم بعملية وضع هذه الألفاظ بإزاء
معانيها بالوضع التعييني الصريح ولا بالوضع التعييني الاستعمالي، لأنها إما
موضوعه بإزائها قبل الاسلام أو أنه قد حصل بكثرة الاستعمال، وعلى كلا
التقديرين فلا بد أن يكون الوضع بإزاء معنى عرفي.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن الشارع هو الواضع لها إلا أنه لا
شبهة في أنه وضعها بإزاء معان عرفية، ولا يمكن أن يقوم بوضعها بإزاء معان
معقدة خارجة عن أذهان العرف، لأن ذلك لغو.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن تصوير جامع بين الأفراد
الصحيحة غير معقول لا مركبا ولا بسيطا، وتصوير جامع عنواني وإن كان أمرا
ممكنا إلا أن اللفظ لم يوضع بإزائه ولا بإزاء معنونه وهو الأفراد الخارجية، على
أساس أن الوضع بإزاء معنونه لا يمكن إلا بنحو الوضع العام والموضوع له
144

الخاص، وقد تقدم أن وضع ألفاظ العبادات بإزائها ليس كذلك، وإنما هو بنحو
الوضع العام والموضوع له العام.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي قدس سره من أن الجامع لا ينحصر بالجامع
الذاتي ولا بالجامع العنواني لكي يقال إن الأول غير متصور، والثاني لم يوضع
بإزائه اللفظ، بل هنا جامع ثالث وهو الجامع الوجودي، بتقريب أن الأفراد
الصحيحة وإن كانت متباينات سنخا وذاتا إلا أنها مشتركات في حيثية واحدة
وهي حيثية الوجود.
بيان ذلك أن الصلاة مثلا مركبة من مقولات متباينات بتمام الذات والحقيقة،
وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي، باعتبار أنها أجناس
عاليات إلا أنها مندرجة تحت مرتبة خاصة من الوجود الساري، وتلك المرتبة
الخاصة البسيطة من الوجود حاوية لجملة من المقولات ومحدودة من ناحية
القلة بالأركان على سعتها، وأما من ناحية الزيادة فهو لا بشرط، بمعنى أنه قابل
للانطباق على القليل والكثير، وهذه الجهة الوجودية جهة جامعة بين جميع
الأفراد الصحيحة، فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصة من الوجود المحفوظة
في المقولات بلا دخل لخصوصية المقولية في حقيقة الصلاة، ولا مانع من وضع
لفظة الصلاة بإزاء هذه المرتبة الخاصة من الوجود الساري الجامعة بين
أفرادها الصحيحة (1).
ثم ولنأخذ بالمناقشة فيه.
أما أولا فكما أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات بأنفسها لأنها

(1) مقالات الأصول 1: 142.
145

متباينات بتمام ذاتها وذاتياتها، فلا يمكن أن تندرج تحت مقولة واحدة، فكذلك
لا يعقل تحقق جامع وجودي بين وجوداتها، إذ كما يستحيل اتحاد مقولتين
واندراجهما تحت مقولة واحدة، فكذلك يستحيل اتحاد وجوديهما واندراجهما
تحت وجود واحد بسيط، بداهة أن اتحاد مقولة مع مقولة أخرى ماهية ووجودا
مستحيل، وعلى هذا فالصلاة مثلا مؤلفة من مقولات متباينة ذاتا وسنخا،
ولكل مقولة وجود، ولا يعقل أن يكون وجودها حاويا لغيرها وساريا إليها
ووجودا لها أيضا، ولهذا يستحيل اشتراك مقولتين متباينتين ذاتا وسنخا في
وجود واحد حقيقة، فإن اشتراكهما في وجود واحد يستدعي اشتراكهما في حقيقة
واحدة واندراجهما تحت ماهية واحدة، بقانون أن لكل ماهية وجودا واحدا و
بالعكس، ويستحيل أن يكون وجود واحد وجودا لماهيتين متباينتين ذاتا
وسنخا وبالعكس، لأن الوجود حد للماهية، ولا يعقل أن يكون لها حدان كما
حقق في محله، فإذا كانت الصلاة مركبة من مقولات متباينات بالذات والحقيقة
فبطبيعة الحال يكون لكل واحدة منها وجود واحد مباين سنخا لوجود مقولة
أخرى وهكذا.
فالنتيجة أنه لا يمكن أن تشترك المقولات المتباينة سنخا وذاتا في حيثية
وجودية واحدة حقيقية.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم إمكان اشتراك المقولات المتباينة سنخا
في حيثية وجودية واحدة جامعة بين وجودات المقولات، إلا أن أسامي
العبادات لم توضع بإزاء تلك الحيثية الوجودية، فإنه إن أريد منها واقع الوجود
وحقيقته، فقد تقدم في مبحث الوضع أن الألفاظ لم توضع بإزائه الذي لم يناله
الذهن إلا بعنوانه الانتزاعي، وإنما وضعت بإزاء المفاهيم التي قد توجد في الذهن
146

وقد توجد في الخارج، هذا إضافة إلى أن لازم ذلك كون المدلول الوضعي مدلولا
تصديقيا، وهذا لا يمكن إلا على القول بالتعهد.
وإن أريد منها الحيثية الانتزاعية التي هي عنوان للوجود الخارجي، فمن
الواضح أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزاء هذا العنوان العرضي المشير إلى واقع
الوجود، ضرورة أنه ليس مدلولا لها، ولهذا لا يتبادر منها عند إطلاقها.
وبكلمة، إنه قدس سره إن أراد من الحيثية الوجودية الجامعة المشتركة بين
وجودات المقولات المتباينة سنخا واقع الوجود، فقد مر أن اللفظ لم يوضع
بإزائه، على أساس أنه لا يمكن إحضاره في الذهن إلا بعنوانه العرضي،
والمفروض أن العنوان العرضي ليس مدلولا لأسامي العبادات.
هذا، إضافة إلى أن لازم ذلك أن يكون مدلوله الوضعي مدلولا تصديقيا،
وهو لا يمكن إلا على القول بالتعهد.
وإن أراد قدس سره من تلك الحيثية الحيثية الانتزاعية التي يعبر عنها بمفهوم الوجود
كما صرح قدس سره في مقالاته بقوله: إن الصلاة اسم لمفهوم منتزع من الوجود الجامع
بين الوجودات الخاصة المحددة التي يكون كل منها محفوظا في مقولته (1)، فيرد
عليه أن أسامي العبادات لم توضع بإزائه، باعتبار أن مفهوم الوجود المنتزع
عنوان عرضي في طول العناوين الخاصة لأجزاء الصلاة كالركوع والسجود
والقراءة والتشهد وغير ذلك، وهذا وإن كان أمرا معقولا إلا أن مرده إلى تصوير
جامع انتزاعي بين أفراد الصلاة وأجزائها، وقد تقدم أن ألفاظ العبادات لم توضع
بإزاء نفس الجامع العنواني الانتزاعي، ولا بإزاء معنونه وهو الوجودات

(1) مقالات الأصول 1: 143.
147

الخارجية الخاصة.
وعلى الجملة فشأن مفهوم الوجود المنتزع في المقام شأن سائر المفاهيم، فلا
مانع من وضع اللفظ بإزائه في نفسه، وليس كوضع اللفظ بإزاء الموجود
الخارجي، إلا أن أسامي العبادات لم توضع بإزاء مفهومه، فلذلك كان المتبادر
والمنسبق من لفظة الصلاة مثلا نفس الأجزاء المقيدة بقيود محددة دون مفهوم
وجود تلك الأجزاء المركبة.
فتلخص مما ذكرناه أن ما أفاده المحقق العراقي قدس سره من تصوير جامع بين الأفراد
الصحيحة لا يرجع إلى معنى صحيح.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الأصبهاني قدس سره من إمكان تصوير جامع مشترك
بين الأفراد الصحيحة، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليكم نصه: (والتحقيق أن سنخ
المعاني والماهيات وسنخ الوجود العيني الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم في
مسألة السعة والاطلاق متعاكسان، فان سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف
والابهام، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية، فلذا كلما كان الضعف
والابهام في المعنى أكثر، كان الاطلاق والشمول أوفر، وكلما كان الوجود أشد
وأقوى، كان الاطلاق والسعة أعظم وأتم.
فإن كانت الماهية من الماهيات الحقيقية، كان ضعفها وإبهامها بلحاظ
الطوارئ وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها كالانسان مثلا، فإنه لا إبهام فيه
من حيث الجنس والفصل المقومين لحقيقته، وإنما الابهام فيه من حيث
الشكل وشده القوي وضعفها وعوارض النفس والبدن حتى عوارضها اللازمة
لها ماهية ووجودا.
وإن كانت الماهية من الأمور المؤتلفة من عدة أمور بحيث تزيد وتنقص كما
148

وكيفا، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو
مبهم في غاية الابهام بمعرفية بعض العناوين الغير المنفكة عنها، فكما أن الخمر
مثلا مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما، ومن حيث اللون
والطعم والريح، ومن حيث مرتبة الاسكار، ولذا لا يمكن وصفه إلا بمائع خاص
بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا، بحيث إذا أراد المتصور
تصوره لم يوجد في ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلا حيثية
المائعية بمعرفية المسكرية، كذلك لفظ (الصلاة) مع هذا الاختلاف الشديد بين
مراتبها كما وكيفا، لا بد من أن يوضع لسنخ عمل معرفه النهي عن الفحشاء أو
غيره من المعرفات، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ (الصلاة) إلا إلى سنخ
عمل خاص مبهم إلا من حيث كونه مطلوبا في الأوقات الخاصة، ولا دخل لما
ذكرناه بالنكرة، فإنه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية كما أخذت فيها.
وبالجملة الابهام غير الترديد، وهذا الذي تصورناه في ما وضع له الصلاة بتمام
مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي وجامع عنواني ومن دون الالتزام
بالاشتراك اللفظي مما لا مناص له بعد القطع بحصول الوضع ولو تعينا، وقد التزم
بنظيره بعض أكابر فن المعقول (1) في تصحيح التشكيك في الماهية جوابا عن
تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة والناقصة، حيث قال:
نعم الجميع مشترك في سنخ واحد مبهم غاية الابهام بالقياس إلى تمام نفس
الحقيقة ونقصانها وراء الابهام الناشئ فيه عن اختلاف الأفراد بحسب هوياتها
انتهى، مع أن ما ذكرناه أولى به مما ذكره في الحقائق المتأصلة والماهيات

(1) هو صدر المتألهين في الأسفار 1: 431.
149

الواقعية كما لا يخفى) (1).
ثم قال قدس سره: (وأما على ما تصورنا الجامع، فالصحيحي والأعمى في إمكان
تصوير الجامع على حد سواء، فإن المعرف إن كان فعلية النهي عن الفحشاء،
فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة، وإن كان اقتضاء النهي عن
الفحشاء، فهو كاشف عن الجامع بين الأعم) (2) انتهى كلامه.
ملخص ما أفاده قدس سره أمور:
الأول: أن الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والاطلاق، فالوجود
كلما كان أشد وأقوى، كان الاطلاق والشمول فيه أوسع وأوفر، بينما الماهية كلما
كان الضعف والابهام فيها أكثر، كان الاطلاق والسعة فيها أشمل وأوفر.
الثاني: أن الجامع بين الماهيات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ عمل مبهم
في غاية الابهام، فإنه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها كما وكيفا، وصادق
على القليل والكثير والزائد والناقص، مثلا الجامع بين أفراد الصلاة سنخ
عمل مبهم من جميع الجهات إلا من حيث النهي عن الفحشاء والمنكر أو من
حيث فريضة الوقت.
الثالث: أن الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة
إبهامها، غاية الأمر أن إبهام الأولى اعتبارية وابهام الثانية ذاتية.
ولنأخذ بالنظر على هذه الأمور:
أما الأمر الأول: فهو في غاية الصحة والمتانة، فإن الماهية كلما كانت مبهمة

(1) نهاية الدراية 1: 101.
(2) نهاية الدراية 1: 113.
150

وخالية عن جميع القيودات والخصوصيات الذهنية والخارجية، فهي أكثر سعة
وأوسع شمولا، وأما الوجود فهو كلما كان أشد وأقوى، كان أكثر شمولا وأوسع
إطلاقا بعكس الماهية كما حقق في محله.
وأما الأمر الثاني فيرد عليه:
أولا: أن حقيقة الصلاة مثلا عبارة عن عدة مقولات متباينة ذاتا وسنخا
ومقيدة بقيود محددة من التكبيرة إلى التسليمة ولا إبهام فيها، وأما العمل المبهم
غاية الابهام فهو لا يخلو من أن يكون عنوانا ذاتيا لها أو انتزاعيا، ولا ثالث لهما.
أما الفرض الأول فهو غير معقول، لما مر من أن الجامع الذاتي بمعنى الجنس
والفصل بين تلك المقولات المتباينة ذاتا وسنخا غير متصور، لاستحالة اندراج
هذه المقولات تحت جامع ذاتي واحد، وإلا لم تكن أجناسا عاليات، وهذا
خلف، وكذلك بمعنى لازم الماهية، لاستحالة أن يكون لتلك المقولات المتباينة
سنخا لازم واحد، على أساس أن لازم الماهية بمثابة المعلول لها ومسانخ معها،
وعليه فلا يعقل أن يكون اللازم الواحد مسانخا لماهية مقولة من تلك المقولات
الصلاتية وفي نفس الوقت يكون مسانخا لماهية مقولة أخرى منها.
وأما الفرض الثاني وهو كون العمل المبهم جامعا عنوانيا انتزاعيا فهو أمر
معقول في نفسه، إذ لا مانع من انتزاعه من حقائق مختلفة كعنوان الناهي عن
الفحشاء والمنكر ونحوه، وتكون نسبته إلى تلك الحقائق المختلفة نسبة العرض
إلى منشأ انتزاعه لا نسبة المعلول إلى علته، ولكن حيث إنه لا واقع موضوعي له
ما عدا ثبوته في عالم المفهوم والذهن، فلا يمكن أن يكون مسمى لاسم الصلاة،
بداهة أنه ليس وراء المقولات التي تكون الصلاة مركبة منها شيئا آخر زائدا
عليها حتى يمكن تعلق الأمر به.
151

هذا إضافة إلى أن لفظة (الصلاة) لم توضع بإزائه جزما، وذلك لأن المتبادر
منها عند الاطلاق هو نفس الأجزاء المتباينة والقيود المختلفة سنخا، وواضح أن
هذا التبادر والانسباق كاشف عن أنها موضوعة بإزاء نفس تلك الأجزاء
والشرائط، دون عنوان العمل المبهم المنتزع، مع أنها لو كانت موضوعة بإزائه
لكانت مرادفة له، وهذا كما ترى.
وثانيا: أنه إن أريد بإبهام مسمى الصلاة وغيرها إبهامه في مقام الثبوت
والواقع فهو غير معقول، بداهة أنه لا إبهام فيها من حيث المفهوم والمعنى
الموضوع له، وإبهامها إنما هو من حيث انطباقها على ما في الخارج، مع أنها
ليست من الأسماء المبهمات، بل هي من أسماء الأجناس.
وبكلمة، إن المعنى لا يمكن أن يكون مبهما في جوهر ذاته وذاتياته ثبوتا، بل
هو متعين فيه، فلا يعقل دخول الابهام في تجوهر ذاته، لأن الشئ بتجوهر ذاته
متعين ومتحصل في الواقع، وعلى هذا فمسمى الصلاة في الواقع متعين ولا يعقل
دخول الابهام في جوهر ذاته، لأنه متمثل في مجموعة من المقولات المتباينة
سنخا المتعينة في الواقع، وإنما يتصور الابهام بلحاظ الطوارئ والعوارض
الخارجية كما صرح هو قدس سره بذلك في الماهيات المتأصلة، فحقيقة الصلاة حقيقة
متعينة بتجوهر ذاتها، والابهام فيها إما أن يكون بلحاظ الطوارئ والعوارض
الخارجية أو بلحاظ انطباقها على ما في الخارج.
وإن أريد بذلك أن المسمى عنوان عرضي يشار به إلى واقع تلك المركبات
الخارجية، فيكون مبهما لعدم تبين تلك المركبات، فيرد عليه أن ألفاظ العبادات
لم توضع بإزاء العنوان العرضي كما مر آنفا.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره قدس سره من أن لفظ الخمر موضوع بإزاء مائع مبهم، فإن
152

أريد أنه مبهم ثبوتا، فقد عرفت أنه غير معقول، لأن كل معنى متعين بجوهر ذاته
وذاتياته في الواقع ومقام الثبوت، وإن أريد أنه مبهم من حيث إنه مأخوذ لا
بشرط من ناحية مرتبة إسكاره ومنشأ اتخاذه من العنب أو غيره، ففيه أنه ليس
من الابهام في المعنى الموضوع له، على أساس أن المأخوذ فيه طبيعي الاسكار لا
مرتبة خاصة منه، كما أنه لا فرق فيه بين كون منشأ اتخاذه العنب أو غيره، لأن
الابهام فيه لا يوجب الابهام في المعنى الموضوع له، وإن أريد من الابهام الابهام
في تشخيص المعنى الموضوع له لدى العرف العام كما في أسامي بعض المركبات
والمعاجين، فيرد عليه حينئذ أنه لا إبهام في المعنى الموضوع له، وإنما الابهام في
طريقة تشخيص ذلك لدى العرف العام.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن ما أفاده المحقق الأصبهاني قدس سره من
أن أسامي العبادات كالصلاة مثلا موضوعة بإزاء عمل مبهم غاية الابهام لا
يرجع بالتحليل إلى معنى معقول.
نتيجة البحث أمور:
الأول: أنه لا بد من تصوير جامع ذاتي يشترك فيه جميع الأفراد الصحيحة أو
الأعم منها ومن الفاسدة على كلا القولين في المسألة، خلافا للمحقق النائيني قدس سره،
حيث إنه منع عن هذه اللابدية وقال: إن المسمى بأسامي العبادات هو المرتبة
العليا، واستعمالها في سائر المراتب إما بالتنزيل أو من جهة الاشتراك في الأثر،
ولكن قد تقدم نقده، وقلنا بأن ما أفاده قدس سره لا يرجع إلى معنى صحيح، ولا يغني
عن تصوير جامع.
الثاني: أن تمسك المحقق الخراساني قدس سره لاثبات الجامع بين الأفراد الصحيحة
بقاعدة فلسفية، وهي أن (الواحد لا يصدر إلا من واحد) في غير محله، فإن
153

المقام كما مر ليس من صغريات هذه القاعدة، ولا يمكن تطبيقها عليه.
الثالث: أن ما أفاده المحقق العراقي قدس سره من أن الجامع لا ينحصر بالجامع الذاتي
الماهوي لكي يقال إنه غير متصور، ولا بالجامع العنواني لكي يقال إن ألفاظ
العبادات لم توضع بإزائه، بل هنا جامع ثالث، وهو الجامع الوجودي، ولا مانع
من اشتراك الأفراد الصحيحة فيه ووضع اللفظ بإزائه، ولكن قد تقدم أنه إذا لم
يمكن تصوير جامع مقولي بين الأفراد الصحيحة لم يمكن تصوير جامع وجودي
بينها أيضا، إذ لا يعقل اندراج وجودات المقولات المتباينة سنخا تحت وجود
واحد، لأن لكل ماهية وجودا واحدا، ولا يعقل أن يكون وجود واحد وجودا
للماهيات المتعددة المتباينة، وأما مفهوم الوجود فهو وإن أمكن انتزاعه من
حقائق مختلفة، إلا أن ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.
الرابع: ما ذكره المحقق الأصبهاني قدس سره من أن المسمى لأسامي العبادات هو
العمل المبهم من جميع الجهات، ولا يمكن تعريفه إلا من طريق أنه مطلوب
وفريضة الوقت والناهي عن الفحشاء والمنكر، ولكن تقدم أن أسامي العبادات
لم توضع بإزائه، فأنه إن أريد بالعمل المبهم الجامع الذاتي بين أفراد العبادات
الصحيحة، فقد مر أنه غير معقول، وإن أريد به الجامع العنواني، فقد عرفت أن
ألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.
تصوير الجامع على الأعمي
قد استدل عليه بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما أفاده المحقق الأصبهاني قدس سره من أن العمل المبهم كما يمكن أن
154

يكون جامعا بين الأفراد الصحيحة يمكن أن يكون جامعا بين الأعم منها ومن
الفاسدة، بتقريب أن المعرف للجامع المذكور إن كان فعلية النهي عن الفحشاء
والمنكر، فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة فحسب، وإن كان اقتضاء
النهي عن الفحشاء والمنكر، فهو كاشف عن وجود جامع بينها وبين الفاسدة،
فالنتيجة أن العمل المبهم كما يصلح أن يكون جامعا بين الأفراد الصحيحة
على القول بالصحيح، يصلح أن يكون جامعا بين الأعم منها ومن الفاسدة
على القول بالأعم (1).
ولكن تقدم أن العمل المبهم الذي لا يمكن وصفه إلا بعنوان الناهي عن
الفحشاء والمنكر أو فريضة الوقت لا يصلح أن يكون جامعا، فإن المراد منه إن
كان الجامع الذاتي، فهو غير متصور بين أفراد العبادات كالصلاة ونحوها، وإن
كان الجامع العنواني، فألفاظ العبادات لم توضع بإزائه.
الوجه الثاني: ما عن المحقق القمي قدس سره من أن العبادات أسام للأركان خاصة،
وأما بقية الأجزاء والشرائط، فهي دخيله في المأمور به دون المسمى، فلفظ
الصلاة مثلا موضوع لذات التكبيرة والركوع والسجود والطهور المقيدة بالوقت
والقبلة، فإنها من العناصر المقومة وأركانها، وأما غيرها من الأجزاء
والشرائط، فهي معتبرة جميعا في مطلوبيتها شرعا لا في تسميتها عرفا (2).
ونتيجة ما أفاده قدس سره أمران:
الأول: أن ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء الأركان التي هي من أجزائها
الرئيسية المقومة.

(1) نهاية الدراية 1: 113.
(2) قوانين الأصول 1: 44.
155

الثاني: أن سائر أجزائها وشرائطها دخيلة في المأمور به فحسب
دون المسمى.
وأورد عليه بأن المعنى الموضوع له لألفاظ العبادات لو كان خصوص
الأركان، لزم أن يكون إطلاق لفظة الصلاة على الصلاة الواجدة لها ولبقية
الأجزاء والشرائط مجازا واستعمالا في غير المعنى الموضوع له من باب إطلاق
اللفظ الموضوع للجزء على الكل، مع أن الأمر ليس كذلك، لوضوح أن إطلاقها
عليها إطلاق حقيقي، فلذلك لا يمكن الالتزام بهذا القول (1).
ويمكن الجواب عن ذلك بأن اطلاق لفظ الصلاة مثلا على الواجدة لجميع
الأجزاء والشرائط حقيقي لا بلحاظ أنه مستعمل في الكل، بل بلحاظ أنه
مستعمل في معناه الموضوع له وهو الأركان، والخصوصيات الزائدة مستفادة من
دال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، وسوف نشير إلى توضيح ذلك. نعم هنا
شئ آخر، وهو ما تأتي الإشارة إليه عن قريب من أن الظاهر هو انحصار أركان
الصلاة في أجزاء ثلاثة: الركوع والسجود والطهور، وأما الوقت والقبلة فهما وإن
كانا دخيلين في صحة الصلاة مطلقا وفي جميع الحالات إلا أنه لم يثبت كونهما من
الأركان المقومة لمسمى الصلاة، ومثلها التكبيرة على الأظهر.
الوجه الثالث: ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن أسامي العبادات موضوعة
بإزاء الأركان بنحو لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط، ومرجع هذا
إلى أن الأجزاء أو الشرائط الأخرى عند وجودها داخلة في المسمى، وعند
عدمها خارجة عنه، مثلا لفظ (الصلاة) موضوع بإزاء الأركان الملحوظة لا
بشرط بالنسبة إلى سائر أجزائها وشرائطها، ونتيجة ذلك أنها عند وجودها

(1) كفاية الأصول: 25.
156

داخلة في مسماها وعند عدمها خارجة عنه، ولذلك نظائر كثيرة في المركبات
الخارجية الاعتبارية كالدار مثلا، فإنها موضوعة لمعنى مركب من العناصر
الرئيسية المقومة، وهي الحيطان والساحة والغرفة وإنها أركانها، ولم يلحظ فيها
موادا معينة ولا شكلا معينا من الأشكال الهندسية، وأما بالإضافة إلى الزائد
عليها فهي مأخوذة لا بشرط، بمعنى أن الزائد على تقدير وجوده داخل في
المسمى وعلى تقدير عدمه خارج عنه، فالموضوع له معنى وسيع يصدق على
القليل والكثير والتام والناقص على نسق واحد. ومن هذا القبيل الكلمة
والكلام، فإن الكلمة موضوعة للمركب من حرفين فصاعدا، فإن زيد عليهما
حرف أو أزيد فهو داخل في معناها، وإلا فلا، والكلام موضوع للمركب من
كلمتين فما زاد وهكذا.
وبكلمة، إن المركبات الاعتبارية على نحوين:
أحدهما: ما لوحظ فيه حد خاص محدد من طرفي القلة والكثرة معا
كالأعداد، فإن كل مرتبة منها مركبة من عدد خاص محدد من طرفي القلة
والكثرة، كالخمسة مثلا أو الأربعة أو الستة وهكذا.
والآخر: ما لوحظ فيه أجزاء معينة من جانب القلة فقط، وله حد خاص من
هذا الطرف، وأما من جانب الكثرة ودخول الزائد فقد أخذ لا بشرط، كالأمثلة
المتقدمة وما شاكلها، والصلاة من هذا القبيل، فإنها موضوعة للأركان فصاعدا،
والزائد عليها من الأجزاء والشرائط عند وجوده داخل في المسمى، وإلا فلا.
فالمتحصل من تعبيراته قدس سره المختلفة في المقام عنصران:
الأول: أن المعنى الموضوع له للصلاة مثلا الأركان بنحو لا بشرط بالنسبة
إلى الزائد.
157

الثاني: أن المعنى الموضوع له لها الأركان وما زاد.
والعنصران متقابلان فلا ينطبق أحدهما على الآخر، فإن معنى العنصر الأول
هو أن الأركان مأخوذة لا بشرط، يعني مطلقة وغير مقيدة بشئ لا وجودا ولا
عدما، لأن ماهية لا بشرط هي الماهية المطلقة التي لم يؤخذ فيها أي قيد، في
مقابل ماهية بشرط شئ وماهية بشرط لا، فإن الأولى مقيدة بوجود شئ،
والثانية مقيدة بعدم شئ آخر. ومعنى العنصر الثاني هو أن المعنى الموضوع له
مركب من عنوانين، أحدهما الأركان، والآخر ما زاد عليها.
وفي كلا العنصرين إشكال.
أما العنصر الأول، فلأن الاطلاق الذي هو مفاد لا بشرط إما بمعنى رفض
القيود وعدم أخذ شئ منها في المطلق كما أختاره قدس سره أو بمعنى عدم القيد كما
قويناه، وعلى كلا القولين فاللابشرط المأخوذ في مسمى العبادات المساوق
للاطلاق لا يدل على دخول الأجزاء أو الشرائط فيه عند وجودها، أما على
القول الأول فلأن مفاد الاطلاق رفض القيود، وهو ملازم لخروجها عن المطلق
وجودا وعدما لا جمع القيود، وأما على الثاني فلأن مفاده عدم التقييد بقيد، وهو
يلازم خروجه عنه وجودا وعدما، وعليه فما أفاده قدس سره من أن سائر الأجزاء عند
وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه لا ينسجم مع ما بنى
عليه قدس سره من أن المسمى وهو الأركان ملحوظ بنحو لا بشرط، فإن معنى اللا
بشرط هو الاطلاق، والاطلاق على كلا القولين كما مر ملازم لخروج سائر
الأجزاء والشرائط عن المسمى وجودا وعدما، وإلا لم يكن المسمى ملحوظا
لا بشرط، لأن الأجزاء الأخرى لو كانت داخلة فيه عند وجودها، فمعناه
أنه مأخوذ بشرط شئ لا لا بشرط، ولو كان عدمها داخلا فيه فمعناه أنه
158

مأخوذ بشرط لا.
وبكلمة، إن مسمى العبادات كالصلاة ونحوها إذا كان هو الأركان، فلا يخلو
إما أن يؤخذ لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط أو يؤخذ بشرط
شئ بالنسبة إليها أو بشرط لا، ولا رابع في البين، وعلى الأول فالمسمى مطلق
ولا يدخل فيه شئ من الأجزاء أو الشرائط الأخرى لا وجودا ولا عدما،
وعلى الثاني فالمسمى مقيد بوجود الأجزاء والشرائط الأخرى، وعلى الثالث
فهو مقيد بعدمها، وعلى هذا فما ذكره قدس سره من أن المسمى مأخوذ لا بشرط بالنسبة
إلى الزائد من الأجزاء والشرائط الأخرى في طرف النقيض مع ما بنى عليه قدس سره
من أن الزائد عند وجوده داخل فيه، لأن معنى كونه مأخوذا لا بشرط أن الزائد
غير داخل فيه لا وجودا ولا عدما، ومعنى أن الزائد داخل فيه عند وجوده أنه
مأخوذ بشرط شئ بالنسبة إليه لا لا بشرط.
هذا إضافة إلى إنه لا يمكن أن يكون الزائد عند وجوده داخلا في المسمى
وجزءا له، لأن المسمى هو المعنى الموضوع له، وهو من سنخ المفهوم، حيث إن
اللفظ لم يوضع إلا بإزاء المفهوم، دون الموجود الخارجي أو الذهني، وعلى هذا
فلا يعقل أن يكون الزائد عند وجوده داخلا في المسمى وجزءا له، لأن الموجود
الخارجي لا يمكن أن يكون جزءا للمفهوم، نعم يكون جزءا لمصداقه عند
وجوده، وعدم كونه جزءا له عند عدمه.
وعلى هذا فالمسمى لا ينطبق في الخارج إلا على الأركان فقط، سواء أكان
معها أجزاء أخرى أم لا، على أساس أن كل مفهوم ينطبق على مصاديقه وأفراده
فيه لا على غيرها، والمسمى بما أنه مفهوم الأركان، فهو ينطبق عليها دون غيرها
من الأجزاء، فإذن كما أن الأجزاء الأخرى ليست جزء المسمى وداخلة فيه عند
159

وجودها كذلك، ليست جزء مصداقه بما هو مصداقه وإن كانت جزء الموجود
الخارجي، ولكن الموجود الخارجي بما هو ليس مصداقه بل هو مركب منه ومن
غيره، كما هو الحال في سائر أسماء الأجناس، وعليه فكما أن دخول الزائد عند
وجوده في مصداق المسمى لا يستلزم المجاز في الكلمة، لأن الكلمة الصلاة مثلا
مستعملة في جميع أفرادها وتمام مراتبها الطولية في معناها الموضوع له،
وهو الأركان، سواء أكانت معها أجزاء أخرى أم لا، كذلك لا يستلزم المجاز
في الاسناد والتطبيق أيضا، لأن المسمى منطبق على مصداقه فقط كان معه
شئ آخر أم لا.
ومن هنا يظهر أن نتيجة وضع أسماء العبادات بإزاء الأركان بنحو لا بشرط
هي صحة انطباقها على جميع أفرادها في الخارج المشتملة عليها، وأما اشتمالها
على الأجزاء الأخرى والخصوصيات العرضية، فهو لا يمنع عن انطباقها على
مصاديقها، فلحاظ الأركان لا بشرط لا يتطلب كون الأجزاء الأخرى عند
وجودها داخلة في المسمى، بل قد أشرنا آنفا أن ذلك غير معقول، بل لا يتطلب
كونها عند وجودها داخلة في مصداقه في الخارج بما هو مصداقه، نعم إنها داخلة
فيه بما هو موجود في الخارج.
وأما العنصر الثاني فلأن لازم كون المسمى مركبا من الأركان وما زاد عليها
عدم انطباقه على الأركان فقط، وانتفاؤه بانتفاء ما زاد الذي هو عنوان لسائر
الأجزاء والشرائط، لأن المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وبذلك يظهر حال ما
أفاده قدس سره في المركبات الخارجية الاعتبارية.
والخلاصة أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن ألفاظ العبادات موضوعة
بإزاء الأركان بنحو لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء أو الشرائط، فإن أريد
160

بكلمة لا بشرط الاطلاق كما هو معناه، فقد عرفت أنه يلازم خروج سائر
الأجزاء والشرائط عن المسمى وجودا وعدما، وإن أريد بها ما زاد على المسمى
من الأجزاء والشرائط الأخرى، فقد عرفت أن لازم ذلك عدم انطباق المسمى
على الأركان فقط.
ثم إن هناك إشكالات أخرى على هذا القول.
الأول: ما عن المحقق النائيني قدس سره، وحاصله أنه إن أريد بعدم دخول بقية
الأجزاء والشرائط في المسمى عدم دخولها فيه دائما، فيرده أنه ينافي الوضع
للأعم، فإن لازمه عدم صدق لفظ (الصلاة) على الفرد الصحيح إلا بنحو من
العناية والمجاز ومن باب إطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل، وإن أريد به
دخولها فيه عند وجودها وخروجها عنه عند عدمها فهو غير معقول، ضرورة
أن دخول شئ واحد في ماهية عند وجوده وخروجه عنه عند عدمه أمر
مستحيل، لاستحالة كون شئ جزءا لماهية مرة وخارجا عنها مرة أخرى، فإن
كل ماهية متقومة بجنس وفصل أو ما يشبههما، فلا يعقل أن يكون شئ واحد
مقوما لماهية عند وجوده ولا يكون كذلك عند عدمه، يعني أنها لا تنتفي بانتفائه،
فإذن لا يعقل أن تكون بقية الأجزاء داخلة في المسمى عند وجودها وخارجه
عنه عند عدمها، فإن معنى دخولها فيه عند وجودها أنها مقومة له، فإذا كانت
مقومة له فلا محالة ينتفي بانتفائها، ومعنى خروجها عنه عند عدمها أنه لا ينتفي
بانتفائها، وبالتالي لا تكون مقومة له، فإذن يكون مرد دخولها في المسمى عند
وجودها وخروجها عنه عند عدمها إلى أنها مقومة له وفي نفس الوقت لا تكون
مقومة له، وهذا تناقض (1).

(1) أجود التقريرات 1: 61.
161

وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ قدس سره بأنه مبني على الخلط بين المركبات
الحقيقية والمركبات الاعتبارية، وما أفاده قدس سره إنما يتم في المركبات الحقيقية، حيث
إنها مركبة من جنس وفصل ومادة وصورة، باعتبار أن لكل واحد من الجزئين
جهة افتقار بالإضافة إلى الآخر، فلا يعقل فيها تبديل الأجزاء بغيرها ولا
الاختلاف فيها كما وكيفا، فإذا كان شئ واحد جنسا أو فصلا لماهية، فلا يعقل
أن يكون جنسا أو فصلا لها في حالة ولا يكون كذلك في حالة أخرى، إذ معنى
ذلك أنه مقوم لها وفي نفس الوقت لا يكون مقوما لها، مثلا الناطق فصل مقوم
للانسان، ولا يعقل أن يكون فصلا له عند وجوده ولا يكون فصلا له عند
عدمه وهكذا.
وأما في المركبات الاعتبارية فهو لا يتم، لأن التركيب فيها بين أمرين مختلفين
أو أزيد، وليس بينهما أي جهة اتحاد حقيقية ولا افتقار ولا ارتباط، بل إن كل
واحد منهما موجود مستقل على حياله ومباين للآخر في التحصل والفعلية،
والوحدة العارضة عليهما وحدة اعتبارية، لاستحالة التركيب الحقيقي بين أمرين
أو أمور متحصلة بالفعل، وعلى هذا فلا مانع من كون شئ واحد داخلا في
المركب الاعتباري عند وجوده وخارجا عنه عند عدمه.
ومن أمثلة ذلك كلمة (الدار)، فإنها موضوعة لمعنى مركب، وهو ما اشتمل
على الحيطان والساحة والغرفة، وهي أجزاؤها الرئيسية ومقومة لصدق
عنوانها، وحينئذ فإن كان لها غرفة أخرى وسرداب أو طبقة ثانية أو غير ذلك
فهي من أجزائها وداخلة في المسمى، ومن هذا القبيل (الكلمة) و (الكلام)
ونحوهما كما مر، وعلى هذا فحيث إن العبادات كالصلاة ونحوها من المركبات
الاعتبارية، فلا مانع من الالتزام بأن مسماها الأركان وما زاد عليها من الأجزاء
162

داخل فيه عند وجوده وخارج عنه عند عدمه كما تقدم.
فالنتيجة أن الالتزام بذلك لا يمكن في المركبات الحقيقية الواقعية، وأما في
المركبات الاعتبارية، سواء أكانت شرعية أم عرفية فلا مانع من ذلك (1). هذا،
ولكن قد سبق أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من الطريقة في وضع المركبات
الاعتبارية أعم من الشرعية والعرفية في نفسه غير صحيح، لا من جهة ما ذكره
المحقق النائيني قدس سره، فلنا دعويان.
الأولى: أن عدم صحته من جهة ما ذكرناه.
الثانية: أن عدم صحته ليس من جهة ما ذكره المحقق النائيني قدس سره.
أما الدعوى الأولى، فلما عرفت موسعا من أنه لا يمكن أن يكون ما زاد على
المسمى عند وجوده داخلا فيه بما هو مسمى، لأن الموجود الخارجي لا يعقل أن
يكون جزء المفهوم الذهني، كما لا يمكن أن يكون داخلا في مصداقه بما هو
مصداقه، نعم هو داخل في الموجود الخارجي بما هو موجود فيه.
وأما الدعوى الثانية، فلأن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره مبني على عدم الفرق
بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية، ولكن الفرق بينهما واضح، فإن
المركبات الاعتبارية بما أنها بيد معتبرها ومخترعها سعة وضيقا، فله أن يجعل
بعض أجزائها على البدل، كما أن له أن يجعل الشئ داخلا فيه عند وجوده
وخارجا عنه عند عدمه، هذا في مقام الاختراع.
وأما في مقام الوضع، فلأن الوضع بما أنه علقة بين اللفظ والمعنى في عالم
المفهوم، فلا محالة يكون وضع هذه المركبات بإزاء المعاني في عالم المفهوم، وعليه

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 159.
163

فلا يمكن أن يكون الشئ داخلا فيها عند وجوده وخارجا عنها عند عدمه، إذ
لا يعقل أن يكون الشئ الموجود خارجا جزء المعنى في عالم المفهوم، وعلى هذا
فلا بد أن يكون وضعها بإزاء مفاهيم محددة في ذلك العالم، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: إن المركبات الاعتبارية على نوعين:
النوع الأول: ما يكون متقوما بأركان محددة متمثلة في أجزاء معينة،
كالمركبات الشرعية من الصلاة ونحوها وبعض المركبات العرفية.
النوع الثاني: ما يكون متقوما بأركان غير محددة بأجزاء معينة خارجا،
وذلك كالدار والبستان والكلمة والكلام ونحوها.
أما النوع الأول: فلا يبعد القول بأنه موضوع بإزاء الأركان بنحو لا بشرط في
مقابل بشرط شئ وبشرط لا، بمعنى أنه لا يؤخذ في معناه الموضوع له شئ من
الخصوصيات الزائدة لا وجودا ولا عدما، وعلى هذا فاطلاق أسماء هذا النوع
من المركبات على جميع مواردها ومراتبها إطلاق حقيقي بلحاظ أن معناه
الموضوع له محفوظ فيها، وأما الخصوصيات الزائدة عليه أعم من الخصوصيات
العرضية أو الأجزاء والشرائط الأخرى، فهي مستفادة من دال آخر من باب
تعدد الدال والمدلول، والدال الآخر قد يكون قرينة حالية كحال المصلي من
الاختيار والاضطرار، وقد يكون مقامية، وإذا كثر الاستعمال في الواحدة لبقية
الأجزاء والشرائط بالقرينة، فقد تؤدي إلى تحقق الوضع التعيني والمنبه
الشرطي، على أساس أن القرينة ليست عنصرا ثابتا في كل الموارد المستعملة،
بل هي تختلف من مورد إلى آخر بينما اللفظ عنصر ثابت في جميع موارد
الاستعمال، فمن أجل ذلك يحصل الأنس الذهني بين ذات اللفظ والمعنى كانت
هناك قرينة أم لا، وإذا أطلق لفظ الصلاة حينئذ، كان المتبادر منه صورة الصلاة
164

الواجدة من التكبيرة إلى التسليمة.
والخلاصة أن أسامي العبادات مستعملة في معانيها الموضوعة لها فقط - وهي
الأركان - دائما وفي جميع الموارد، لا أنها مستعملة فيها مع الأجزاء والشرائط
الأخرى، فإن تلك الأجزاء والشرائط مستفادة من دال آخر عند الحاجة وتعلق
الغرض بأفهامها، كما هو الحال في سائر أسماء الأجناس، نعم قد يحصل الوضع
التعيني لها بإزاء المجموع بعامل كمي كما عرفت.
ثم إن التزام السيد الأستاذ قدس سره بأن ما زاد على المسمى وهو الأركان داخل فيه
عند وجوده وخارج عنه عند عدمه، إنما هو من جهة تخيل أنه لو لم يلتزم
بذلك، فلا بد من الالتزام بأن استعمال العبادات في الواجدة لجميع الأجزاء
والشرائط في كل مرتبة من مراتبها يكون مجازا ومن باب استعمال اللفظ
الموضوع للجزء في الكل، مع أن الأمر ليس كذلك.
ولكن قد تقدم أنه لا ملازمة بين الأمرين، إذ لا مانع من القول بوضع
العبادات للأركان فقط واستعمالها فيها دائما، سواء أكان معها أجزاء أخرى أم لا،
واستفادة تلك الأجزاء عند الحاجة وتعلق الغرض بأفهامها إنما هي بدال آخر
من باب تعدد الدال والمدلول، فإذن لا مانع من الالتزام بوضعها بإزاء
الأركان فحسب.
وأما النوع الثاني وهو الذي متقوم بأركان غير محددة بأجزاء معينة، فالظاهر
أنه موضوع لمفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحو الابهام مباشرة المنطبق على
تجمع الأركان وحدها وعلى تجمع المشتمل عليها وعلى الأجزاء والشرائط
الأخرى، مثلا لفظ (كلمة) موضوع بإزاء عنوان ما زاد على حرف، وهذا
العنوان كما ينطبق على الكلمة الثنائية الحروف كذلك ينطبق على الكلمة الثلاثية
165

الحروف وهكذا، ولفظ (كلام) موضوع بإزاء عنوان ما زاد على كلمة، وهذا كما
ينطبق على الكلام المركب من كلمتين ينطبق على الكلام المركب من كلمات
وهكذا، ولفظ (الدار) موضوع بإزاء مفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحو
الابهام بدون التحديد بحد خاص لا كما ولا كيفا، وهو يصدق على القليل
والكثير والتام والناقص وهكذا.
ودعوى أن ألفاظ العبادات أيضا موضوعة بإزاء مفهوم منتزع مباشرة من
تجمع الأجزاء بنحو الابهام بدون تعيين حد له لا كما ولا كيفا، وهذا المفهوم
يصدق على الصلاة التامة والناقصة في كل مرتبة من مراتبها.
مدفوعة بأنها لم توضع بإزاء ذلك المفهوم المنتزع، لعدم كونه متبادرا منها عند
الاطلاق كما هو واضح.
الاشكال الثاني: هو أن الأركان بنفسها مختلفة كما وكيفا ولها عرض
عريض ومراتب طويلة، فإذن لا بد من تصوير جامع ذاتي مشترك بين تلك
المراتب لكي يصدق على القليل والكثير والناقص والتام على نسق واحد، فيعود
المحذور، وذلك لأن هذا الجامع الذاتي لا يمكن أن يكون بسيطا، سواء أكان المراد
من الذاتي، الذاتي في باب الكليات أم باب البرهان، وكذلك لا يمكن أن يكون
مركبا على تفصيل تقدم (1).
ويمكن الجواب عنه بأحد طريقين:
الأول: أن المأخوذ في المسمى طبيعي الأركان بعرضها العريض ومراتبها
الطويلة، وهو الجامع بين الطهارة المائية والطهارة الترابية، وبين ركوع القائم

(1) أجود التقريرات 1: 61.
166

وركوع الجالس وهكذا، فيكون المأخوذ فيه الجامع بين البدل والمبدل بقطع
النظر عن حيثية البدلية والمبدلية، فإن الحيثية غير مأخوذة فيه، إذ مع أخذ
حيثية كل منهما بعين الاعتبار لا يتصور جامع بينهما فيعود الاشكال. وأما تقييد
الجامع بين البدلين بحالتي الاختيار والاضطرار، فهو إنما يكون في مرتبة تعلق
الأمر به لا في مرتبة المسمى، فإن الأمر المتعلق بالصلاة الواجدة لجميع
الأجزاء والشرائط، مقيدة بالطهارة المائية في حال الاختيار والتمكن، وبالطهارة
الترابية في حال الاضطرار والعجز عن الأولى، وكذلك الحال بالنسبة إلى
الركوع والسجود.
فالنتيجة أنه لا تقييد للجامع في مرتبة التسمية، والتقييد إنما هو في مرتبة
تعلق الأمر به.
ولكن قد يشكل عليه بأن متعلق الأمر هو المسمى، فإذا كان المسمى الجامع
كان متعلق الأمر هو الجامع، لا أن متعلقه حصة خاصة منه.
والجواب أن هذا تام على القول بالصحيح، فإنه على هذا القول لا يمكن
الاختلاف بين المسمى ومتعلق الأمر، والمفروض أن المسمى على هذا القول هو
الجامع بين الأفراد الصحيحة، فإذا كان المسمى ذلك كان هو متعلق الأمر، ولا
يمكن أن يكون مشتملا على خصوصية زائدة على المسمى جزءا أو شرطا وإلا
لزم الخلف، وأما على القول بالأعم فيختلف متعلق الأمر عن المسمى.
الثاني: ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أنه لا مانع من وضع الصلاة للأركان
بعرضها العريض على سبيل البدل، بأن يكون المقوم للمركب أحد أمور على نحو
البدلية طولا، فالطهارة المائية مقومة للصلاة في حال الاختيار، والطهارة الترابية
مقومة لها في حال الاضطرار وفي مرتبة متأخرة، والركوع من القائم عن قيام
167

مقوم لها في حال التمكن والاختيار، ومن الجالس عن جلوس مقوم لها في حال
العجز والاضطرار وهكذا، ومثل ذلك لفظ (الحلوى) فإنه موضوع للمركب
المطبوخ من سكر وغيره، وذلك الغير قد يكون دقيق حنطة وقد يكون دقيق
حمص أو أرز أو غير ذلك، فإن كل واحد منها مقوم له على سبيل البدل، غاية
الأمر أن الفرق بين هذا المثال وما نحن فيه، هو أن المأخوذ في المركب في هذا
المثال أحد هذه الأمور على نحو البدلية في عرض الآخر، بينما المأخوذ في مسمى
العبادات في المقام أحد الأمور المذكورة على نحو البدلية في طول الآخر.
والخلاصة: أن وضع أسامي العبادات بإزاء الأركان على سبيل البدل، بأن
يكون المأخوذ في المسمى مثلا ركوع القائم في حال القيام، وإذا تعذر ذلك ركوع
الجالس في حال الجلوس وهكذا، فبما أنه ممكن، فلا تصل النوبة إلى تصوير
جامع مشترك بين مراتب الأركان ولا حاجة إليه (1).
ويمكن المناقشة فيه بما ذكرناه آنفا، من أن هذا التقييد إنما هو في مرتبه تعلق
الأمر بالمسمى لا في مرتبة التسمية، حيث إن الظاهر في هذه المرتبة كما مر
ملاحظة جامع بين مراتب الأركان بدون أن تلحظ طوليتها في هذا المقام كحيثية
البدلية والمبدلية، بينما تلحظ هذه الطولية في مقام تعلق الأمر بالمسمى.
هذا إضافة إلى أن أخذ أحد أمور على سبيل البدل في المركبات الاعتبارية
وإن كان ممكنا إلا أنه ليس بعرفي، وعلى هذا فالصحيح في دفع هذا الاشكال
وعلاجه ما ذكرناه لا ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره.
الاشكال الثالث: دعوى القطع بأن الصلاة لم توضع بإزاء الأركان فحسب،

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 162.
168

إذ لو كانت موضوعة لها كذلك لم تصدق على الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء
والشرائط إذا كانت فاقدة لبعض الأركان، مع أن صدقها عليه من الواضحات،
وهذا يدل على أن هذه الصلاة لم توضع بإزاء الأركان فقط، كما أنها لا تصدق
على الأركان فحسب بدون اقترانها ببقية الأجزاء أو الشرائط، فإذن لا يدور
صدق الصلاة مدار الأركان وجودا وعدما.
وهذا الاشكال ينحل إلى جانب إيجابي، وهو صدق الصلاة بما لها من المعنى
على الفاقدة لبعض الأركان إذا كانت واحدة لبقية الأجزاء والشرائط، وإلى
جانب سلبي وهو عدم صدقها كذلك على الأركان فقط إذا كانت خالية عن سائر
الأجزاء والشرائط جميعا.
ولكن كلا الجانبين لا يخلو عن إشكال بل منع، حيث إنه لا منشأ لهذه
الدعوى وإنها مبنية على المسامحة لدى العرف والمتشرعة، إذ لا شبهة في أن
الصلاة تدور مدار الأركان وجودا وعدما، وبانتفاء واحد منها تنتفي الصلاة،
سواء أكانت سائر الأجزاء والشرائط موجودة أم لا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، قد ذكر السيد الأستاذ قدس سره أن كل مركب اعتباري لا بد أن
يعرف من قبل مخترعه، سواء أكان ذلك المخترع هو الشارع المقدس أم غيره،
وحيث إن العبادات كالصلاة ونحوها من مخترعات الشارع من حيث الكمية
والكيفية، فلا بد من أن يعرف حقيقتها التي يدور صدقها مدارها وجودا وعدما
من قبل الشارع، فإذن لا بد من الرجوع إلى النصوص الشرعية لتعيين حقيقتها
وتحديدها كما وكيفا، وقد استفدنا منها أن حقيقة الصلاة التي يدور صدقها
مدارها نفيا وإثباتا عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهور، وأما بقية
169

الأجزاء فهي غير مأخوذة فيها (1)، فهنا دعويان:
الأولى: أن بقية الأجزاء غير مأخوذة في المسمى.
الثانية: أن المأخوذ في المسمى الأركان الأربعة.
أما الدعوى الأولى فيدل عليها حديث لا تعاد (2)، فإن مفاده أن الاخلال
بغير الخمسة من الأجزاء والشرائط نسيانا أو جهلا إذا كان مركبا أو بسيطا
شريطة أن يكون معذورا فيه لا يضر بصحة الصلاة فضلا عن صدقها ما دامت
الخمسة موجودة، ومن الواضح أن هذا ناص في عدم أخذ غير الخمسة من
الأجزاء والشرائط في المسمى.
ودعوا أن الحديث على القول بالصحيح لا يدل على أن تلك الأجزاء
والشرائط غير مأخوذة في المسمى، وذلك لأن الصحيحي إنما ينتزع الجامع عما
يكون مطابقا للمأمور به بمقدار دخالته فيه لا أكثر، فإذا كان اعتباره منوطا بحال
دون حال أخذ الجامع مقيدا بذلك الحال، وحينئذ فلا يكون إخلال به في الحال
الأخرى، على هذا فحيث إن اعتبار الاجزاء والشرائط غير الخمسة مقيد بحال
الالتفات والتذكر، فإذن لا إخلال في حال النسيان وعدم الالتفات،
مدفوعة أما أولا فلأن محل الكلام في المسألة إنما هو على القول بالأعم
دون الصحيح.
وثانيا قد تقدم أن تصوير الجامع المركب على القول بالصحيح بالنحو المذكور
وإن فرض أنه ممكن إلا أن من الواضح عدم لفظ الصلاة بإزائه، لأنه معنى

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 161.
(2) الوسائل 6: 91 ح 5 / أبواب القراءة ب 29.
170

معقد خارج عن الفهم العرفي كما مر.
وثالثا أن لازم ذلك هو أن مسمى الصلاة في حال الاختيار والالتفات غير
مسماها في حال النسيان والجهل، وهو مما لا يمكن الالتزام به.
فالنتيجة أنه لا شبهة في أن الأجزاء والشرائط غير الخمسة لم تؤخذ في
المسمى، وإنما أخذت في المأمور به.
وأما الخمسة، فهل يدل الحديث على أنها من الأركان التي بدور صدق
عنوان الصلاة مدارها وجودا وعدما؟
والجواب أنه لا يدل على ذلك، بتقريب أن مفاده في عقد المستثنى منه يكون
إرشادا إلى أن اعتبار غير الخمسة من الأجزاء والشرائط مقيد بحال الالتفات
والتذكر لا مطلقا، وعلى هذا فلا يكون إخلال بها في حال النسيان والغفلة حتى
تبطل الصلاة به، وفي عقد المستثنى يكون إرشادا إلى اعتبار الخمسة مطلقا حكما
وملاكا وفي جميع الحالات، فلذلك تبطل الصلاة بالاخلال بها وإن كان نسيانا.
وبكلمة، إن الموضوع في عقد المستثنى والمستثنى منه في الحديث هو الصلاة،
ومفاده الارشاد في كلا العقدين، وفي العقد الأول إرشاد إلى أن غير الخمسة من
الأجزاء أو الشرائط إنما اعتبرت جزءا وشرطا في حال التذكر والالتفات لا
مطلقا أي حتى في حال النسيان والجهل، وفي العقد الثاني إرشاد إلى أن الشارع
اعتبر الخمسة جزءا وشرطا مطلقا وفي جميع الحالات، فلهذا تبطل الصلاة
بالاخلال بها ولو نسيانا، وعلى هذا فالحديث الشريف في مقام بيان الفرق بين
الخمسة المستثناة فيه وبين غيرها من الأجزاء والشرائط في أن الخمسة دخيلة
في الملاك والحكم مطلقا وفي تمام الحالات، بينما يكون غيرها دخيل فيهما في حال
الالتفات والتذكر فقط لا مطلقا، وليس في مقام بيان أنها من الأركان المقومة.
171

هذا إضافة إلى إيجاب إعادة الصلاة بالاخلال بالخمسة يدل على أن حقيقة
الصلاة لا تنتفي بالاخلال بها، على أساس أن كلمة الإعادة تنص على الوجود
الثاني للصلاة بعد الفراغ عن وجودها الأول، فلو كانت الخمسة من الأركان،
فلا صلاة عند الاخلال بها، لا أنها وجدت فاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط،
فالنتيجة أن حديث لا تعاد لا يدل على أن الخمسة من الأركان بل يدل على
أنها ليست منها.
وأما الدعوى الثانية فقد ذكر السيد الأستاذ قدس سره أن صحيحة الحلبي التي
تنص على أن الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الطور، وثلث منها الركوع،
وثلث منها السجود (1)، فقد دلت على حصر الصلاة بهذه الثلاثة وأنها حقيقتها،
ولكن لا بد من رفع اليد عنها من هذه الجهة بما دل من الروايات على أن التكبيرة
أيضا ركن ومقوم لها، وأما عدم ذكرها في حديث لا تعاد، فلعله من جهة أن
الدخول في الصلاة لا يصدق بدونها حتى يصدق على الاتيان بها الإعادة، لأنها
عرفا وجود ثان للشئ بعد وجوده أولا، باعتبار أن المستفاد من روايات
التكبيرة هو أن الصلاة عمل خاص لا يمكن الدخول فيه بدون الافتتاح بها، فلو
دخل فيه بدونها نسيانا أو جهلا فلا يكون مشمولا للحديث، فالنتيجة هي
تقييد إطلاق رواية التثليث بروايات التكبيرة، وعليه فأركان الصلاة أربعة:
التكبيرة والركوع والسجود والطهور، وهذه الأركان هي مسمى الصلاة (2)، هذا.
والتحقيق يتطلب النظر إلى المسألة في مقامين:
الأول: النظر إلى رواية التثليث ومدى دلالتها على حقيقة الصلاة التي يدور

(1) الوسائل 6: 31 ح 1 / أبواب الركوع ب 9.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 163.
172

صدقها مدارها وجودا وعدما.
الثاني: النظر إلى روايات التكبيرة ومدى دلالتها على أنها ركن.
أما المقام الأول فلا شبهة في أن رواية التثليث ظاهرة في بيان حقيقة الصلاة
وتكونها من الأجزاء الثلاثة، ولكن مع هذا فقد نوقش فيها بوجوه:
الوجه الأول: أن دلالة رواية التثليث على ركنية الثلاثة وإن كانت بالنص
ولكن دلالتها على نفي ركنية غيرها إنما هي بالاطلاق الناشئ من السكوت في
مقام البيان، ونتيجة ذلك أن دلالتها على حصر الأركان بها إنما هي بالاطلاق
المذكور، وحيث إن هذا الاطلاق من أضعف مراتب الدلالة، فلذلك لا يصلح أن
يعارض روايات التكبيرة التي كانت تدل على أنها ركن، فإذن لا بد من رفع اليد
عن إطلاقها بها تطبيقا لقاعدة حمل الظاهر على الأظهر.
ويمكن المناقشة فيه بأن دلالة رواية التثليث على الحصر وإن كانت
بالاطلاق الناشئ من السكوت في مقام البيان، إلا أن روايات التكبيرة بتمام
طوائفها كما سوف نشير إليها ضعيفة إما دلالة وسندا أو دلالة فحسب، ولا يدل
شئ منها على أنها ركن، فلهذا لا تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق رواية التثليث.
قد يقال بأنه لا تنافي بين رواية التثليث وروايات التكبيرة، بدعوى أن
المراد من قوله عليه السلام في رواية التثليث (الصلاة ثلاثة أثلاث) إنما هو بعد الدخول
فيها بالتكبيرة.
والجواب أولا أن حمل رواية التثليث على ذلك خلاف ظاهر، لأن الظاهر
منها أنها في مقام بيان حقيقة الصلاة لا أنها في مقام بيان تثليثها بعد الدخول
فيها بالتكبير.
173

وثانيا أن ذلك لا ينسجم مع كون أحد الثلاثة الطهور، فإنه لا بد أن يكون
مقارنا مع التكبير، ولا يمكن أن يكون بعده، وإلا لزم كون التكبير بدون
طهور، وهو باطل.
الوجه الثاني: أن حديث التثليث لا يكون ظاهرا في بيان حقيقة الصلاة، فإنه
إما أن يكون ظاهرا في إرادة التثليث من حيث الأهمية والثواب أو يكون مجملا.
والجواب: ما مر من أنه لا شبهة في ظهور الحديث في إرادة التثليث من حيث
بيان حقيقة الصلاة لا أهميتها، لوضوح أن قوله عليه السلام: (الصلاة ثلاثة أثلاث)
ظاهر في أن حقيقة الصلاة تنقسم إلى الثلاثة، ولا رابع لها، لأن الصلاة اسم
لحقيقتها، وإرادة الأهمية منها بحاجة إلى قرينة.
الوجه الثالث: أن حديث التثليث وإن كان ظاهرا في بيان حقيقة الصلاة إلا
أنه لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور بقرينة قوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب) (1) وقوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقم صلبه) (2) وهكذا، مع أن فاتحة
الكتاب ليست ركنا للصلاة، وكذا القيام منتصبا، فإذن هذا التعبير أو ما شابهه
لا يدل على أنه في مقام بيان حقيقة الصلاة وتكوينها.
والجواب: أنه لا شبهة في ظهور تلك الروايات في نفسها في نفي الحقيقة،
ولكن رفعنا اليد عن ظهورها في ذلك لقرائن خارجية، ولولا تلك القرائن فلا
مناص من الأخذ به، والمفروض أنه لا قرينة في المقام، فإذن لا مناص من الأخذ
بظهور حديث التثليث، وهو أن أركان الصلاة ثلاثة: الركوع والسجود
والطهور، هذا من ناحية.

(1) مستدرك الوسائل 4: 158 ح 5 و 8.
(2) ورد هذا المضمون في الوسائل 5: 488 ح 1 و 2 / أبواب القيام ب 2.
174

ومن ناحية أخرى، إن حديث التثليث هل يدل على أن الأركان الثلاثة
هي مسمى الصلاة؟
والجواب أنه لا يدل على ذلك، فإن مفاده أن حقيقة الصلاة ثلاثة أثلاث، أما
أن لفظ (الصلاة) موضوع بإزائها فقط أو الأعم منها ومن غيرها، فهو لا يدل
على شئ منهما وساكت عن ذلك.
وأما المقام الثاني فلأن روايات التكبير في نفسها قاصرة عن الدلالة على
ركنيته للصلاة، وهي على طوائف ثلاث.
الطائفة الأولى: هي الروايات التي جاءت تارة بلسان أن افتتاح الصلاة
بالتكبير كرواية ناصح المؤذن (1)، وأخرى بلسان لا تفتتح الصلاة إلا بها كما في
رواية المجالس (2)، وثالثة بلسان أن لكل شئ أنف، وأنف الصلاة التكبير كما في
رواية إسماعيل بن مسلم (3)، وتقريب الاستدلال بها أنها جميعا تحكي عن مطلب
واحد، وهو أن مبدأ الصلاة التكبير ولا تنعقد إلا به.
والجواب: أما عن الرواية الأولى فلأنها وإن دلت على أن افتتاح الصلاة
بالتكبير وأنها لا تنعقد بدونه، إلا أن دلالتها على ركنية التكبير ودخالته في
المسمى منوطة بأن تكون في مقام بيان حقيقة الصلاة وما يعتبر فيها، لا في مقام
بيان ما يعتبر في مطلوبيتها شرعا، ولكن الظاهر منها الثاني دون الأول، فإن
مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية وهي صدورها من المولى تقتضي أنها في
مقام الإشارة إلى جزئية التكبير للصلاة المأمور بها شرعا وبيان أنه مبدؤها،

(1) الوسائل 6: 10 ح 7 / أبواب تكبيرة الافتتاح ب 1.
(2) نفس المصدر: 12 ح 12.
(3) نفس المصدر: 10 ح 6.
175

وحملها على أنها في مقام بيان أنه جزء المسمى ودخيل فيه بحاجة إلى قرينة، ومع
الاغماض عن ذلك وتسليم أنه لا ظهور لها في ذلك، إلا أنه لا ظهور لها في الأول
أيضا، فتصبح الرواية مجملة، بل لو سلمنا ظهورها في الأول ومع ذلك لا يمكن
الأخذ بها من جهة ضعفها سندا.
وأما الرواية الثانية فمن المحتمل أن تكون الجملة فيها ناهية لا خبرية، وهذا
الاحتمال يمنع عن الاستدلال بها، هذا إضافة إلى أنها لا تدل على أكثر من كون
التكبير جزءا للصلاة، وأما أنه جزء مقوم لها فهي لا تدل عليه، هذا إضافة إلى
أنها ضعيفة سندا.
وأما الرواية الثالثة فهي تدل على عكس المطلوب، فإن تشبيه التكبير
بالأنف للشئ يدل على أنه ليس بركن، باعتبار أن أنف الشئ لا يكون ركنا،
هذا إضافة إلى أنها ضعيفة سندا أيضا.
الطائفة الثانية: التي جاءت بلسان أن تحريمها التكبير، فإنها لا تدل على أكثر
من حرمة الاتيان بمنافيات الصلاة بعد الدخول فيها بالتكبير، فلا إشعار فيها
فضلا عن الدلالة على أنه ركن.
الطائفة الثالثة: منها قوله عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام:
(التكبيرة الواحدة في افتتاح الصلاة تجزئ، والثلاث أفضل) (1)، بدعوى أنه
يدل على أن الصلاة لا تتحقق بدون التكبيرة، فلو دخل المصلي في القراءة بدون
أن يكبر، لا يصدق أنه دخل في الصلاة.
ولكن يمكن المناقشة في دلالتها، بتقريب أنها لا تدل على أكثر من إجزاء

(1) نفس المصدر: ح 4.
176

تكبيرة واحدة في افتتاح الصلاة والشروع فيها، وكلمة الاجزاء تدل على
أن الصحيحة في مقام بيان ما يعتبر في صحة الصلاة لا في مقام بيان حقيقتها،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إنها في مقام بيان أن تكبيرة واحدة تكفي في مقابل الأكثر،
وليست في مقام بيان أنها ركن.
ومنها قوله عليه السلام في موثقة عمار في جواب السؤال: (عن رجل سها خلف
الامام فلم يفتتح الصلاة، يعيد الصلاة، ولا صلاة بغير افتتاح) (1)، بدعوى أن
قوله عليه السلام لا صلاة بغير افتتاح، ظاهر في أن التكبيرة معتبرة في حقيقة الصلاة،
ولهذا نفى الصلاة بدونها.
ولكن بإمكاننا المناقشة في دلالتها على ذلك، فإنا لو كنا نحن وقوله عليه السلام: (لا
صلاة بغير افتتاح)، فلا مناص من الالتزام بظهوره في نفي حقيقة الصلاة بدون
التكبيرة، ولكن بما أنه مسبوق بقوله عليه السلام: (يعيد الصلاة) فهو يصلح أن يكون
مانعا عن ظهوره في ذلك، على أساس أن وجوب الإعادة ظاهر في الوجود
الثاني للصلاة بعد الفراغ عن وجودها الأول، ومعنى هذا أن التكبيرة غير دخيلة
في حقيقة الصلاة وأنها لا تنتفي بانتفائها، ولكن حيث إنها كانت فاسدة من جهة
الاخلال بها، فتجب إعادتها مرة أخرى.
وبكلمة، إن ظهور قوله عليه السلام: (يعيد الصلاة) في أن التكبيرة غير دخيلة في
حقيقة الصلاة وإنما هي دخيلة في صحتها مطلقا وفي تمام الحالات يصلح أن
يكون مانعا عن ظهور قوله عليه السلام: (لا صلاة بغير افتتاح) في نفي الحقيقة، باعتبار

(1) الوسائل 6: 14 ح 7 / أبواب تكبيرة الاحرام ب 2.
177

أنه من جهة مسبوقيته بالجملة المتقدمة، ظاهر في أن الصلاة المنفية فيه هو نفس
الصلاة التي أمر بإعادتها في الجملة السابقة.
ومع الاغماض عن ذلك فتقع المعارضة بينهما، فإن جملة (يعيد الصلاة)
ظاهرة في الارشاد إلى فساد الصلاة المأتي بها في الخارج بدون التكبيرة، ومن
المعلوم أن الصحة والفساد صفتان للصلاة الموجودة في الخارج، فإنها إن كانت
مطابقة للصلاة المأمور بها اتصفت بالصحة، وإلا فبالفساد، أو فقل: إن كلمة
الإعادة بنفسها تدل على أن وجودها الأول مفروغ عنه في الخارج، وحيث إنه
لا يجزئ في مقام الامتثال لعدم مطابقته للمأمور به، فلذلك أمر بالإعادة مرة
أخرى، وجملة لا صلاة بغير افتتاح، ظاهرة في نفي حقيقة الصلاة بدون الافتتاح،
ولا يمكن الجمع بينهما عرفا بتطبيق أحد عناصر الجمع العرفي، لأن المقام ليس
من موارده، فإذن لا محالة تكون بين الظهورين معارضة، فيسقطان معا من جهة
المعارضة، فتصبح كلتا الجملتين مجملة حكما، فلا يمكن العمل بشئ منهما.
فالنتيجة في نهاية الشوط أنه لا دليل على أن تكبيرة الافتتاح ركن مقوم
لحقيقة الصلاة، وعلى هذا فلا مقيد لرواية التثليث.
وخلاصة ما حققناه لحد الآن هو أن المسمى لأسامي العبادات كالصلاة
ونحوها، الأركان التي تدور العبادات مدارها وجودا وعدما، وحيث إن
الأركان محفوظة بين جميع أفرادها ومراتبها الطولية من المرتبة العليا إلى المرتبة
الدنيا، فتكون كالمقومات الذاتية من الجنس والفصل في المركبات الحقيقة التي
هي محفوظة بين أفرادها بقطع النظر عن خصوصياتها العرضية، وعلى هذا فكما
أن إطلاق الانسان على كل فرد من أفراده إطلاق حقيقي، باعتبار أنه مستعمل في
معناه الموضوع له - وهو الجامع الذاتي - والخصوصية مستفادة من دال آخر من
178

باب تعدد الدال والمدلول، فكذلك إطلاق الصلاة على كل فرد من أفرادها
إطلاق حقيقي، لأنها مستعملة في معناها الموضوع له وهو الأركان،
والخصوصيات الزائدة عليها من الأجزاء والشرائط مستفادة من دال آخر بتعدد
الدال والمدلول.
وقد يقال كما قيل إن لفظ الصلاة موضوع بإزاء معظم الأجزاء ويدور صدقه
مداره وجودا وعدما (1).
ولكن هذا القول لا يرجع إلى معنى محصل، وذلك لأن المراد من وضع لفظ
الصلاة بإزاء معظم الأجزاء ليس وضعه بإزاء مفهومه بالحمل الأولي، بداهة أنه
ليس معنى الصلاة ومفهومها، وإلا لزم أن يكون لفظ الصلاة مرادفا للفظ معظم
الأجزاء، بل المراد وضعه بإزاء واقع معظم الأجزاء الذي هو معظم بالحمل
الشائع، وعلى هذا فإن أريد بمعظم الأجزاء خصوص الأركان، فقد تقدم الكلام
فيه، وإن أريد به الأركان منضمة إلى جملة من الأجزاء أو الشرائط الأخرى،
فيرد عليه أن لازم ذلك تبادل القيود الزائدة على الأركان المأخوذة في المسمى،
بأن يكون شئ واحد داخلا فيه تارة وخارجا عنه أخرى، بل مرددا بين أن
يكون هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء والشرائط، ولا سيما بالنسبة
إلى ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب اختلاف حالات المكلفين
من السفر والحضر والاختيار والاضطرار ونحو ذلك، كما أنها مختلفة في أنفسها
باختلاف أصنافها من حيث الكمية والكيفية، وعليه فالأجزاء الزائدة على
الأركان بما أنها تختلف كما وكيفا من الناحيتين المذكورتين، فيلزم من ذلك
دخول شئ واحد في المسمى مرة وخروجه عنه أخرى، بل عند اجتماع تمام

(1) نقله في كفاية الأصول: 26.
179

الأجزاء لا تعيين ولا تمييز بين ما هو الداخل فيه وما هو الخارج عنه، باعتبار أن
نسبة كل جزء إلى المسمى على حد سواء، فإذن كون هذا الجزء داخلا فيه دون
آخر ترجيح من دون مرجح.
وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ قدس سره بأن المسمى وهو معظم الأجزاء قد
اعتبر لا بشرط بالإضافة إلى الزائدة، ونتيجة ذلك أن قوام المسمى بواقع معظم
الأجزاء، وأما الزائد عليه فهو داخل فيه عند وجوده، وخارج عنه عند عدمه،
ولدى اجتماع جميع الأجزاء والشرائط فالجميع داخل في المسمى، لا أنه لا
تعين للداخل (1).
ولنأخذ بالنقد عليه.
أما أولا فلأن واقع معظم الأجزاء يختلف كما وكيفا باختلاف حالات
المكلفين، كما أنه يختلف باختلاف نفس العبادات، لأن معظم الأجزاء في صلاة
الصبح غير معظم الأجزاء في صلاة المغرب مثلا وهكذا، فإذن لا بد من تصوير
جامع بين أفراد معظم الأجزاء المختلفة، ولهذا لا يقاس معظم الأجزاء بالأركان،
فإن الأركان في الواقع متعينة ومحددة في جميع الحالات وبالنسبة إلى تمام أصناف
الصلاة، بينما لا يمكن تحديد معظم الأجزاء كما وكيفا.
وثانيا إن معنى اللا بشرط هو الاطلاق مقابل التقييد، فإذا اعتبر المسمى لا
بشرط، فمعناه أنه اعتبره مطلقا مقابل تقييده بقيد الذي هو معنى بشرط الشئ،
والاطلاق إما بمعنى عدم التقييد أو بمعنى رفض القيود، وعلى كلا المعنيين أي
سواء أكان بالمعنى الأول كما هو الصحيح أم بالمعنى الثاني كما هو مختاره قدس سره،

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 167.
180

فلازمه خروج الزائد عن المسمى وجودا وعدما، فلو كان الزائد داخلا فيه عند
وجوده فلازمه تقييد المسمى به، وهو خلف فرض اعتباره لا بشرط، وعلى
الجملة فعلى مسلكه قدس سره من أن الاطلاق هو رفض القيود لا ينسجم مع افتراض
كون الزائد داخلا في المسمى عند وجوده، فإنه في طرف المقابل له.
هذا إضافة إلى أن الوضع بإزاء معنى على سبيل البدل غير عرفي.
وإن أريد به أعم من أن يكون مشتملا على جميع الأركان أو على بعضها،
فيرد عليه أن معظم أجزاء الصلاة مثلا إذا لم يكن مشتملا على تمام أركانها،
فلا يكون صلاة كما مر.
فالنتيجة أن معظم الأجزاء لا يصلح أن يكون مسمى لأسامي العبادات
كالصلاة ونحوها.
أدلة القول بالأعم
قد استدل على ذلك بوجوه:
الوجه الأول: الأخبار البيانية، وهي وردت في تحديد أجزاء الصلاة
وقيودها المقومة، وقد قرب الاستدلال بها السيد الأستاذ قدس سره ببيان أن حديث
التثليث يدل على أن الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الطهور وثلث منها الركوع
وثلث منها السجود، ومقتضى هذا الحديث حصر حقيقة الصلاة بالمؤلفة من
هذه الأجزاء الثلاثة، ولكن لا بد من رفع اليد عنه من هذه الجهة بما دل من
الروايات على أن التكبير أيضا ركن، ونتيجة ذلك أن أركان الصلاة أربعة:
التكبير والركوع والسجود والطهور، وأما الأجزاء الأخرى غيرها، فلا تكون
181

مقومة للمسمى (1)، هذا.
وفيه ما تقدم موسعا من أن روايات التكبير بتمام طوائفها قاصرة عن الدلالة
على أنه ركن من أركان الصلاة، هذا مضافا إلى قصور جملة منها سندا أيضا.
وأما حديث لا تعاد فقد مر أنه لا يدل على الخمسة من الأركان، هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى فقد تقدم أن حديث التثليث وإن دل على أن حقيقة الصلاة
ثلاثة أثلاث إلا أنه لا يدل على أنها مسمى الصلاة والموضوع له لها.
الوجه الثاني: التبادر، بتقريب أن المتبادر في الذهن من أسماء العبادات
كالصلاة مثلا عند إطلاقها هو المعنى الأعم.
وقد يورد عليه بأن المتبادر والمنسبق منها عند الاطلاق في زماننا هذا وإن
كان هو المعنى الأعم إلا أنه لا يكشف عن وضعها بإزائه في زمن الشارع، لاحتمال
أنها كانت موضوعة بإزاء الصحيح في ذلك الزمن ولكنها نقلت عنه إلى المعنى
الأعم من جهة كثرة استعمالها فيه عند المتشرعة، ولا دليل على أصالة عدم
النقل، فإن هذه الأصالة إنما تكون حجة من باب الظهور، ولا ظهور لها في
عدم النقل (2).
والجواب: أن تبادر المعنى الأعم وانسباقه عند المتشرعة من إطلاقات
الكتاب والسنة فعلا، كاشف إنا عن وصوله إليهم كذلك يدا بيد وطبقة بعد طبقة
من زمن الشارع، على أساس أن المتشرعة تتبع الشارع في استعمالات ألفاظ

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 163.
(2) أورده في بحوث في علم الأصول 1: 206.
182

العبادات في الكتاب والسنة، فإذا فرضنا أن ألفاظ العبادات موضوعة للأعم في
زمن الشارع بالوضع التعييني أو التعيني على تفصيل تقدم ومستعملة في
النصوص التشريعية فيه، فلا يمكن مخالفة المتشرعة للشارع في ذلك، فإن
المتشرعة الموجودين في زمان الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام يستعملون
تلك الألفاظ في الكتاب والسنة في نفس المعنى الذي استعملها الرسول صلى الله عليه وآله فيه
والأئمة الأطهار عليهم السلام، وكذلك الحال في الطبقة بعد هذه الطبقة، لأن كل طبقة تتبع
في ذلك الطبقة المتقدمة، باعتبار أنهم أقرب إلى زمان المعصومين عليهم السلام وهكذا،
واحتمال النقل من المتشرعة بعيد جدا وغير محتمل عادة.
وأما التوسع في الاطلاقات عند المتشرعة، بأن تستعمل ألفاظ العبادات في
الأعم مع أنها موضوعة للصحيح، فهو لا يقتضي النقل، إذ يمكن إشباع
هذا التوسع بالاستعمال المجازي، حيث إن باب المجاز واسع، فلا تصل النوبة
إلى النقل.
وبكلمة، إن التوسع في الاطلاقات والاستعمالات إنما هو من جهة توسع
الحاجة إليها، ومن الواضح أنه يمكن إشباع هذه الحاجة بالاستعمال والاطلاق
المجازي، ولا ضرورة للنقل والوضع الجديد بل لا مبرر له.
ولكن قد يتوهم أن توسع الاطلاق والاستعمال المجازي من جهة توسع
الحاجة قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقق الوضع التعيني، بتقريب أن ألفاظ
العبادات لو كانت موضوعة بإزاء المعنى الصحيح في زمان الشارع ولكن توسع
الحاجة تطلب الاستعمال في الأعم مجازا بواسطة القرينة، فإذا كثر هذه الاستعمال
وتوسع بمرور الأيام والأزمان عند المتشرعة من جهة توسع الحاجة وأدى في
نهاية الشوط إلى حصول العلاقة بين ذاتها وبين المعنى المجازي، بحيث ينتقل
183

الذهن إليه عند إطلاقها مجردة عن القرينة وسماعها، فقد تحقق الوضع التعيني
للأعم، فإذن يكون المتبادر فعلا من ألفاظ العبادات كالصلاة ونحوها في الكتاب
والسنة عند المتشرعة وإن كان هو المعنى الأعم، ولكن لا يمكن أن يستكشف من
ذلك وضعها للأعم في زمن الشارع، إذ كما يمكن ذلك أن يكون منشؤه حصول
الوضع التعيني من كثرة الاستعمال بين المتشرعة رغم أنها موضوعة للصحيح في
زمن الشارع، ولا معين للاحتمال الأول.
والجواب أن هذا التوهم لا أساس له، لأنه مبني على أن توسع الحاجة إلى
استعمال ألفاظ العبادات في الأعم كان يصل من الكثرة بدرجة يصبح استعمالها في
الصحيح نادرا، ولكن الأمر ليس كذلك جزما، فإنها لو كانت موضوعة بإزاء
الصحيح كانت مستعملة فيه عند المتشرعة غالبا، والحاجة إلى استعمالها في
الأعم وإن كانت تتفق في غير مورد، إلا أن توسعها ليس بدرجة يتطلب كثرة
الاستعمال فيه بنحو توجب حصول العلاقة بينه وبين ألفاظ العبادات تعينا.
الوجه الثالث: قوله عليه السلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) (1) بتقريب أن صلاة
الحائض بما أنها فاقدة للطهارة من الحدث فهي فاسدة، ومع ذلك أطلق
عليها لفظ (الصلاة)، وظاهر الاطلاق أنه حقيقي، إذ لو كان مجازيا كان
بحاجة إلى قرينة.
ويرد عليه أولا: أن الاطلاق أعم من الحقيقة ولا يدل عليها.
وثانيا: أن هذا النهي ليس نهيا حقيقيا، بل هو نهي إرشادي، ويكون مفاده
الارشاد إلى مانعية حدث الحيض عن الصلاة، ولهذا تكون حرمتها عليها حرمة

(1) الوسائل 2: 287 ح 2 / أبواب الحيض ب 7.
184

تشريعية لا ذاتية، وعليه فبطبيعة الحال يكون المراد من الصلاة المنهي عنها هو
خصوص الصلاة الصحيحة، بقرينة أن حدث الحيض مانع عنها دون الفاسدة.
أو فقل: إن النهي في المقام إنما هو عن الصلاة التي كانت الحائض موظفة
بالإتيان بها بقطع النظر عن طروء الحيض عليها لا الصلاة التي لم تكن موظفة بها.
قد يقال كما قيل: إن حمل النهي في الرواية على الارشاد إلى عدم قدرة
الحائض على الصلاة عن طهارة في حال الحيض لغو، لفرض عدم قدرة الحائض
عليها في هذه الحالة (1).
والجواب: أن مفاد الجملة الانشائية الناهية في الرواية هو الارشاد إلى أن
الشارع جعل حدث الحيض مانعا عن الصلاة، فتكون الرواية في مقام جعل
المانعية لا في مقام النهي عن الصلاة، كما هو الحال في سائر النواهي في باب
العبادات، كالنهي عن الصلاة في الحرير والذهب والميتة وغير ذلك، فإنه ظاهر
في الارشاد إلى مانعية هذه الأمور عن الصلاة، ولا يمكن حمله على النهي
المولوي، ومن هنا قلنا إن ظهور النهي في المولوية ينقلب في باب العبادات
كالصلاة ونحوها إلى ظهوره في الارشاد إلى المانعية، كما أن ظهور الأمر في هذا
الباب ينقلب عن المولوية إلى ظهوره في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية، فإذن
لا يكون نهي الحائض عن الصلاة في حال الحيض نهيا تكليفيا لكي يستلزم
التكليف بالمحال.
الوجه الرابع: صحة تقسيم أسامي العبادات بما لها من المعاني إلى الصحيحة
والفاسدة، وهي تدل على صحة إطلاقها على المقسم وهو الجامع بينهما، وظاهر
185

الاطلاق هو الاطلاق الحقيقي.
والجواب: أنها لا تدل على أكثر من صحة استعمالها في الأعم، وهي أعم
من الحقيقة ولا تدل عليها.
الوجه الخامس: ما ورد في الروايات الكثيرة من التعبير بالإعادة في موارد
الاخلال بالصلاة جزءا أو شرطا، بتقريب أن كلمة (الإعادة) تدل بالالتزام
على وجود الصلاة المفروغ عنها في الخارج، وحيث إنها كانت فاسدة فتجب
إعادتها مرة ثانية، وهذا لا يمكن إلا على القول بالأعم.
والجواب: أن هذه الروايات لا تدل على أكثر من صحة إطلاق الصلاة على
الصلاة الفاسدة، والمفروض أنها أعم من الحقيقة.
الوجه السادس: ما تقدم في مسألة الحقيقة الشرعية من أن فيها
أربعة احتمالات.
الأول: أن تكون أسامي العبادات حقائق لغوية وموضوعة بإزاء هذه المعاني
قبل الاسلام.
الثاني: أن تكون حقائق شرعية بالوضع التعيني.
الثالث: أن تكون حقائق شرعية بالوضع التعييني الاستعمالي.
الرابع: أن تكون حقائق متشرعية لا شرعية.
أما على الاحتمال الأول، فلا شبهة في أنها موضوعة للأعم، وهو الجامع بين
العبادات ما قبل الاسلام والعبادات ما بعده، على أساس أن الشارع قد اعتبر
فيها من الأجزاء القيود غير المتقومة التي لم تكن معتبرة فيها قبل الاسلام كما تقدم.
186

وأما على الاحتمال الثاني، فالظاهر أنها موضوعة بالوضع التعيني للأعم
أيضا، وذلك لما تقدم من أن كثرة استعمالها في المعاني الشرعية في لسان الشارع
والمتشرعة من الصحابة والتابعين تكون بدرجة تؤدي إلى الوضع التعيني لها
واتصافها بالمنبه الشرطي، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، الظاهر أن هذا الاستعمال من الشارع في نصوص الكتاب
والسنة كان في الأعم وتكشف عن ذلك شيوع الاستعمال في الأعم عند
المتشرعة، إذ احتمال أنهم قاموا بوضعها للأعم تعيينا أو تعينا بعيد جدا، فإن
الظاهر أنهم تابعون لنصوص الكتاب والسنة في الاستعمال، فلو كانت مستعملة
في تلك النصوص في الصحيح، فمن المستبعد جدا أن يكون استعمال المتشرعة
على خلافها، واحتمال أن توسع الحاجة قد دعاهم إلى الاستعمال في الأعم رغم
أنها كانت مستعملة في زمن الشارع في الصحيح ضعيف جدا، إذ لو كان الأمر
كذلك لنبهوا على هذه المخالفة، مع أنه كان بإمكانهم إشباع هذه الحاجة
بالاستعمال المجازي، هذا إضافة إلى ما تقدم آنفا من أن الحاجة إلى الاستعمال في
الأعم ليست بدرجة تتطلب كثرة الاستعمال فيه بنحو توجب الوضع التعيني.
وأما على الاحتمال الثالث فليس لنا طريق إلى إحراز الوضع التعييني
الاستعمالي من قبل الشارع للصحيح، وأما للأعم فيمكن ذلك بوجهين:
الأول: أنه لا شبهة في أن المتشرعة كانوا يستعملون أسامي العبادات في
الأعم بدون عناية، بمعنى أن استعمالها في الصحيح كاستعمالها في الفاسد على حد
سواء، وهذا يكشف عن الوضع الأعم وأن استعمالها في كل من الصحيح والفاسد
إنما هو باعتبار مصداقيته له، إذ احتمال تخلف المتشرعة عما صنعه الشارع من
الوضع غير محتمل عادة، فإنهم بصفة كونهم تابعين له في العبادات
187

والمعاملات، فلا يمكن مخالفتهم معه في ذلك، وفي حالة توسع الحاجة،
فبإمكانهم إشباعها بالاستعمال المجازي.
هذا إضافة إلى أن طريقة العقلاء في المركبات الاعتبارية هي الوضع للأعم
من التام والناقص.
الثاني: أن تدريجية بيان أجزاء العبادات كالصلاة ونحوها تقتضي الوضع
للأعم، بمعنى أن ألفاظ العبادات موضوعة للمعنى الجامع القابل للانطباق على ما
هو موجود في زمن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من الأجزاء والشرائط وعلى ما زاد عليه في
المستقبل على حد سواء، لأن الوضع بإزاء مفهوم الصحيح الذي هو صحيح
بالحمل الأولي غير محتمل، وأما الوضع بإزاء واقع الصحيح الذي هو صحيح
بالحمل الشائع وهو الأجزاء والشرائط التي لم تعرف بعد ومبهمة، فلا ينسجم مع
الغرض من الوضع وهو التفهيم والتفهم، وأما الوضع بإزاء خصوص المبين من
الأجزاء والشرائط فعلا، فهو لا يمكن أن يظل محفوظا في المستقبل، فلا محالة
يتغير كما وكيفيا ببيان الأجزاء والشرائط الأخرى فيما بعد.
ولكن لا يخفى أن هذا الوجه لا يصلح لترجيح الوضع للأعم على الوضع
للصحيح، لأن الوضع سواء أكان للأعم أو الصحيح، فلا بد أن يكون للجامع
المنطبق على الأجزاء والشرائط الموجودتين في صدر الاسلام فقط وعلى
المشتملتين على ما زاد عليهما في المستقبل على السواء، غاية الأمر أن الصحيحي
يدعي أن الجامع المذكور ينطبق على التجمع من الأجزاء والشرائط الموجودتين
في صدر الاسلام الواجد للحيثية المطلوبة منه فعلا وعلى المشتمل على ما زاد
عليهما في الآتي على حد سواء، والأعمي يدعي أن الجامع المزبور ينطبق على
التجمع المذكور الموجود في صدر الاسلام الواجد للحيثية المطلوبة منه اقتضاء
188

وعلى المشتمل على ما زاد في المستقبل على حد سواء، فالنتيجة أن هذا الوجه لا
يصلح أن يكون دليلا على الوضع للأعم فالعمدة هي الوجه الأول.
وأما على الاحتمال الرابع، فالظاهر أنه لا شبهة في حصول الوضع التعيني
للعبادات في الأعم من كثرة استعمال ألفاظها فيه عند المتشرعة، وحيث إن هذا
الوضع حاصل من كثرة الاستعمال لديهم فالحقيقة متشرعية، والدليل على ذلك
أن إطلاق لفظ (الصلاة) على الصلاة الفاسدة كإطلاقها على الصلاة
الصحيحة، على حد سواء، وهذا قرينة على الوضع الأعم وأن إطلاق لفظ
(الصلاة) على كل منهما إنما هو باعتبار أنه مصداق له، إذ لو كان موضوعا
لخصوص الصحيحة كان إطلاقه على الفاسدة مجازا، مع أن الأمر ليس كذلك،
ولهذا لا فرق بين الاطلاقين في عدم الاحتياج إلى عناية زائدة وقرينة صارفة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن القول بالوضع للأعم
هو الصحيح دون غيره.
أدلة القول بالوضع للصحيح
الأول: التمسك بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة.
أما في الكتاب فبقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1)،
وأما في السنة فبروايات كثيرة منها قوله عليه السلام: (الصلاة قربان كل تقي) (2)

(1) سورة العنكبوت (29): 45.
(2) الوسائل 4: 43 ح 1 و 44 ح 2 / أبواب أعداد الفرائض ب 12.
189

ومنها: (الصلاة عماد الدين) (1) ومنها: (الصلاة معراج المؤمن) (2).
وتقريب الاستدلال بها أن هذه النصوص تدل على أن (الصلاة) اسم للعبادة
التي تكون لها هذه الآثار، وأما إذا لم تكن لها تلك الآثار، فهي ليست بصلاة
حقيقة، لا أنها صلاة فاسدة.
والجواب: أن هذه النصوص وإن كانت تدل على أن الصلاة التي لها هذه
الآثار صلاة صحيحة إلا أنها لا تدل على أن ما لا يترتب عليه هذه الآثار، فهو
ليس بصلاة، لأن خروج الصلاة الفاسدة عن هذه النصوص كما يحتمل أن يكون
بالتخصيص يحتمل أن يكون بالتخصص، فعلى الاحتمال الأول فهي لا تدل على
الوضع للصحيح، بل تدل على العكس، وعلى الاحتمال الثاني فتدل على الوضع
للصحيح، وحيث إنه لا ظهور لها في نفسها لا في الاحتمال الأول ولا في الاحتمال
الثاني، فلا تدل على أن لفظ (الصلاة) موضوع بإزاء الصحيح.
وبكلمة، إن غاية ما في هذه النصوص هو استعمال لفظ (الصلاة) في
الصحيحة، وهو أعم من الحقيقة، ولا يدل عليها إلا على القول بحجية أصالة
الحقيقة من باب التعبد، ولا دليل عليه، فإذن الاحتمالات الموجودة فيها ثلاثة:
الأول: أن يكون هذا الاطلاق حقيقيا.
الثاني: أن يكون مجازيا.
الثالث: أن يكون من باب التطبيق بتعدد الدال والمدلول: بأن تكون الصلاة
مستعملة في الأعم، وتطبيقها على الصحيحة يكون بدال آخر.

(1) الوسائل 2: 373 ح 5 / أبواب الاستحاضة ب 1 و 4: 27 ح 12 / أبواب أعداد الفرائض ب 7.
(2) محاسن البرقي - كتاب ثواب الأعمال: ح 60 ص 44.
190

فإرادة الاحتمال الأول بحاجة إلى قرينة، ولا قرينة في البين، فالنتيجة أنة لا
يمكن الاستدلال بالنصوص الذكورة على القول بالصحيح.
الثاني: أن المتبادر والمنسبق من لفظ (الصلاة) عند إطلاقة هو
الصلاة الصحيحة دون الأعم، فإذا قيل (فلان صلى) يفهم منة أنة أتى بصلاة
صحيحة وهكذا.
والجواب: أن هذا التبادر وإن كان موجودا إلا أنه غير مستند إلى اللفظ حتى
يكون علامة على الوضع، بل هو مستند إلى قرينة حالية وهي أن حال كل
مكلف في مقام الامتثال تتطلب الاتيان بما هو وظيفته الشرعية بشكل مبرئ
للذمة، وعلى هذا فالمتبادر من مثل قولك (فلان صلى) أو (يصلي) أو مثل
قولنا (صليت) أو (صلى) وإن كان الصلاة الصحيحة إلا أنه ليس من ذات
اللفظ، بل بضميمة القرينة الخارجية وهي حال المكلف في مقام الامتثال وإبراء
الذمة.
الثالث: أن الطريقة العقلائية للمخترعين في المركبات الاعتبارية هي وضعها
للصحيح دون الأعم، وحيث إنه لم يظهر من الشارع في المركبات الشرعية طريق
آخر للوضع فيه، فلا محالة يتبع هذه الطريقة.
والجواب أولا: (الظاهر أن الطريقة المتبعة عند العقلاء للمخترعين في
المركبات الاختراعية الاعتبارية هي الوضع للأعم إلا في المركبات التي تكون
أجزاؤها محددة من طرفي الزيادة والنقيصة كمراتب الأعداد أو ما شاكلها، وأما
المركبات التي لا تكون أجزاؤها محددة من طرف الزيادة، فهي موضوعة للأعم
بأصنافها المختلفة.
وثانيا: أن الطريقة المتبعة إن كانت ارتكازية عند العرف والعقلاء وناشئة من
191

أعماق نفوسهم وموافقة للفطرة والجبلة، فحينئذ إذا لم يصدر من الشارع ردع
عنها، كان ذلك كاشفا عن إمضائه لها وموافقته بها، وأما إذا لم تكن كذلك كما هو
الحال في المقام، فإن مجرد أن طريقة المخترعين عند العقلاء هو وضع أسامي
المركبات للصحيحة، فلا دليل على حجيتها ولا تكشف عن موافقة الشارع لها.
فالنتيجة أن مجرد ثبوت هذه الطريقة عند العقلاء لا يكشف عن اتباع الشارع
لها في وضع أسماء العبادات.
الرابع: ما دل على نفي الصلاة عن الفاقد كقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب) (1) أو ما شاكله، فإنه يدل على الوضع للصحيح، وإلا فلا معنى لنفي
الصلاة عن الفاقدة لفاتحة الكتاب.
والجواب: أن لسان الحديث هو الارشاد إلى جزئية فاتحة الكتاب وبيان
اعتبارها فيما هو وظيفة المكلف من الصلاة في مقام الأداء والامتثال لا في مقام
التسمية، أو فقل: إن محتملات هذا الحديث ثلاثة:
الأول: أن يكون الخبر المقدر لكلمة (لا) فيه (حقيقة).
الثاني: أن يكون (صحيحة).
الثالث: أي يكون (واجبة).
وهذه الجملة في نفسها ظاهرة في الاحتمال الأول، ويكون مفادها على هذا
الاحتمال ركنية فاتحة الكتاب للصلاة وانتفاؤها، ولكن لا بد من رفع اليد عن هذا
الظهور بروايات أخرى التي تدل على أن فاتحة الكتاب ليست بركن، منها
حديث (لا تعاد)، وعليه فتكون الجملة في مقام بيان جزئية فاتحة الكتاب

(1) مستدرك الوسائل 4: 158 ح 5 و 8.
192

للصلاة المطلوبة من المكلف، فإذن لا محالة يكون الخبر المقدر في تلك الجملة
(صحيحة) بلحاظ أنها في مقام بيان جزئية الفاتحة للصلاة التي تكون وظيفة
المكلف الاتيان بها في مقام الامتثال لا في مقام بيان المسمى لهما.
إلى هنا قد تبين أنه لا دليل على القول بأن أسامي العبادات موضوعة
للصحيحة.
ثمرة النزاع بين القولين
المهم ثمرتان:
الأولى: أن الأعمي يتمسك بأصالة البراءة في موارد الشك في الأجزاء
والشرائط، والصحيحي يتمسك بقاعدة الاشتغال والاحتياط في تلك الموارد.
وهذه الثمرة ترتكز على ركيزتين:
الأولى: أن يكون المسمى جامعا بسيطا على القول بالصحيح، وجامعا مركبا
على القول بالأعم.
الثانية: أن تكون نسبة الجامع بسيطا إلى الأفراد الصحيحة نسبة المسبب إلى
السبب والمعلول إلى العلة، لا نسبة الطبيعي إلى أفراده ومصاديقه.
فإذا تمت هاتان الركيزتان تظهر الثمرة بين القولين في المسألة، أما على القول
بالأعم، فلأن المسألة حينئذ تصبح من إحدى صغريات كبرى مسألة الأقل
والأكثر الارتباطيين، وقد ذكرنا هناك أن الصحيح في تلك المسألة هو الرجوع
إلى أصالة البراءة، لانحلال العلم الاجمالي فيها إلى علم تفصيلي بالأقل وشك
بدوي في التقييد الزائد، والمرجع فيه البراءة على تفصيل مذكور هناك، وأما على
193

القول بالصحيح، فالشك في جزئية شئ أو شرطية آخر يرجع إلى الشك في
المحصل للواجب، وهو الجامع البسيط، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال
والاحتياط، فإذا شك في جزئية السورة للصلاة مثلا، فالشك إنما في جزئيتها
للمحصل، حيث إن الصلاة المركبة من الأجزاء الخارجية المقيدة بقيود كذلك،
محصلة للمأمور به الذي هو أمر بسيط ومسبب عنها، لا أنها نفسها مأمور بها.
فإذا كان الشك في المحصل، فالمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
ولكن كلتا الركيزتين خاطئة ولا واقع موضوعي لها، أما الركيزة الأولى فيرد
عليها ما تقدم من أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بسيط بين الأفراد الصحيحة، لا
من الذاتي باب الكليات ولا من باب البرهان.
وأما الركيزة الثانية، فعلى تقدير تسليم وجود جامع ذاتي بسيط بين الأفراد
الصحيحة، إلا أن نسبته إلى الأفراد في الخارج ليست نسبة المسبب إلى السبب
والمعلول إلى العلة، بل نسبة الطبيعي إلى أفراده، وعلى هذا فالشك في جزئية
شئ أو شرطية آخر لا يرجع إلى الشك في المحصل ليكون المرجع فيه قاعدة
الاشتغال، على أساس أن الطبيعي عين الفرد في الخارج، فالشك في جزئية شئ
للفرد في الخارج بعينه هو الشك في جزئيته للطبيعي الذي هو المأمور به، فإذا كان
الشك في جزء المأمور به أو شرطه، فالمرجع فيه قاعدة البراءة.
ولا فرق في ذلك بين الجامع الذي استكشفه المحقق الخراساني قدس سره بين الأفراد
الصحيحة من جهة تطبيق قاعدة فلسفية عليها، وهي أن (الواحد لا يصدر إلا
من واحد) والجامع الذي حاول المحقق الأصبهاني قدس سره تصويره بينها بمعرفية
بعض العناوين غير المنفكة عنها كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر، والجامع
الذي ذكره المحقق العراقي قدس سره.
194

أما على الأول، فلأن الجامع الذاتي المستكشف بالقاعدة عين الأفراد في
الخارج، وعليه فالشك في جزئية شئ للفرد أو شرطية آخر له بعينه هو الشك
في جزئيته للمأمور به أو شرطيته له، ولا يكون من موارد الشك في المحصل،
فإذن يكون المرجع فيه أصالة البراءة بناء على ما هو الصحيح من جريانها في
مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين.
وبكلمة، إن الطبيعي الجامع عين أفراده خارجا ومتحد معها عينا، فالأمر
المتعلق به متعلق بالأجزاء مع شرائطها، سواء فيه القول بأن متعلق الأوامر
الطبائع أم القول بأن متعلقها الأفراد، أما على الثاني فهو واضح، وأما على الأول
فلاتحاد الطبيعي معها خارجا، غاية الأمر أن الخصوصيات الفردية العرضية
غير دخيلة في ذلك، فعلى كلا القولين يرجع الشك في اعتبار شئ جزءا أو
شرطا إلى الشك في إطلاق المأمور به وتقييده، لا إلى أمر خارج عن دائرة
المأمور به، فبناء على ما هو الصحيح من جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين، كان المرجع في المقام البراءة عن التقييد الزائد المشكوك فيه.
أما على الثاني فهو واضح، لأن الجامع على هذا القول بما أنه جامع عنواني لا
ذاتي، فلا وجود له في الخارج لكي يكون ذلك متعلق الأمر، لأن الموجود فيه
واقعا إنما هو منشأ انتزاعه، وعليه فالأمر في الحقيقة متعلق به، وهو في المقام
نفس الأجزاء والشرائط، وأخذ ذلك الأمر الانتزاعي في لسان الدليل إنما هو
لأجل الإشارة إلى ما هو متعلق الأمر في القضية، وعلى هذا فالشك في اعتبار
شئ جزءا أو قيدا يرجع إلى الشك في تقييد المأمور به بقيد زائد على المقدار
المتيقن، فالمرجع فيه أصالة البراءة دون قاعدة الاشتغال.
وأما على الثالث فلأن الجامع بين الأفراد الصحيحة جامع تشكيكي يصدق
195

على جميع مراتب الصلاة من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا، فإن اختلاف مراتب
الصلاة من حيث الأجزاء والشرائط يؤدي إلى سعة ذلك الجامع وضيقه، على
أساس أن ذلك الجامع البسيط الذي هو ذو مراتب تشكيكية كل مرتبة منه
متحدة مع مرتبة من مراتب الصلاة خارجا، ونسبتها إليها نسبة الطبيعي إلى
الفرد لا نسبة المسبب إلى السبب، بأن يكون هناك وجودان أحدهما مسبب
والآخر سبب، بل وجود واحد وله إضافتان، إحداهما إلى الفرد بحده الفردي،
والأخرى إلى الجامع بحده الجامعي.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن موارد الشك في الجزئية
أو الشرطية على القول بالصحيح ليست من موارد الشك في المحصل للمأمور به
خارجا لكي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال والاحتياط.
وأما على القول بأن الجامع بين الأفراد الصحيحة مركب، فلا يعقل أن يكون
ذلك الجامع المركب مسببا عن الأفراد الخارجية، لأنه عين الأجزاء والشرائط،
فالأجزاء المقيدة بالشرائط بأنفسها متعلقة للأمر، ووحدتها ليست وحدة
حقيقية، بل وحدة اعتبارية، بداهة أنه لا تحصل من ضم ماهية الركوع إلى
ماهية السجود ماهية ثالثة مباينة لماهيتهما، وعليه فلا مانع من الرجوع إلى
أصالة البراءة عند الشك في اعتبار شئ زائد على المقدار المعلوم، بناء على ما هو
الصحيح من جريانها في مسألة دوران الواجب بين الأقل والأكثر الارتباطيين،
نعم بناء على القول بعدم انحلال العلم الاجمالي في تلك المسألة، فالمرجع
فيها قاعدة الاشتغال.
إلى هنا قد تبين أنه لا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة، وأن المرجع على كلا
القولين فيها قاعدة البراءة دون الاشتغال.
196

ولكن خالف في ذلك المحقق النائيني قدس سره وقال بظهور هذه الثمرة بين القولين في
المسألة، فعلى القول بالصحيح لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، وعلى
القول بالأعم إلى قاعدة البراءة، وقد أفاد في وجه ذلك بما يلي:
أما على القول بالصحيح، فلأن تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة لا يمكن
إلا بتقييد المسمى بعنوان بسيط خاص، إما من ناحية علل الأحكام كعنوان
المحصل للملاك أو من ناحية معلولاتها كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر أو
نحو ذلك، وهذا العنوان خارج عن المأتي به في الخارج ومأخوذ في المأمور به،
وعليه فالشك في اعتبار شئ فيه جزءا أو شرطا لا محالة يوجب الشك في
حصول العنوان المذكور بدون ذلك الشئ المشكوك فيه، وهذا من الشك في
المحصل، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال (1).
وقد اعترض عليه السيد الأستاذ قدس سره بتقريب أن الجامع على القول بالصحيح
ينطبق على نفس الأجزاء والشرائط انطباق الكلي على فرده، ولهذا يكون الشك
في اعتبار شئ جزءا أو شرطا في المقام من صغريات كبرى دوران الأمر بين
الأقل والأكثر الارتباطين، فبناء على ما هو الصحيح فيه من انحلال العلم
الاجمالي، فالمرجع قاعدة البراءة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن ما ذكره قدس سره من أنه على القول بالصحيح لا بد من تقييد
المسمى بعنوان بسيط إما من ناحية علل الأحكام أو معلولاتها، مبني على الخلط
بين الصحة الفعلية التي تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به في الخارج
والصحة بمعنى التمامية التي هي مأخوذة في المسمى، فالحاجة إلى التقييد إنما
تكون فيما إذا كان النزاع بين الصحيحي والأعمي في أخذ الصحة الفعلية في

(1) أجود التقريرات 1: 66.
197

المسمى وعدم أخذها فيه، فإنه على هذا لا بد للصحيحي من تقييده بعنوان
خاص كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر أو المحصل للغرض، ولكن قد
تقدم أنه لا يعقل أخذها في المأمور به فضلا عن المسمى، فلا تكون الصحة بهذا
المعنى موردا للنزاع (1).
ولنا في المقام تعليقان:
الأول على ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من الاعتراض.
الثاني: على ما ذكره المحقق النائيني قدس سره.
أما الأول فلأنه لا ملازمة بين تقييد المسمى بعنوان الناهي عن الفحشاء
والمنكر أو المحصل للغرض وكون مورد النزاع أخذ الصحة الفعلية في المسمى،
لكي يقال إن أخذها فيه غير معقول، لتأخرها عن وجود المسمى في الخارج
فضلا عن ماهيته، وذلك لما ذكرناه سابقا من أن معنى الصحة ليس هو التمامية،
كما أنها ليست مرادفة لعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر، وقد تقدم تفصيل
ذلك بشكل موسع، بل هي عبارة عن وجدان المأمور به للحيثية المطلوبة منه.
وبكلمة: إن عنوان الناهي إن أخذ لمجرد المعرفية والطريقية المحضة للصلاة
الواجدة للحيثية المطلوبة منها، كحيثية إسقاط القضاء والإعادة وموافقة
الشريعة وحصول الغرض، ومن الواضح أن الصلاة الواجدة للحيثية المطلوبة
هي الصلاة التامة لا محالة، ضرورة أنها واجدة لها دون الناقصة، ولكن اتصافها
بالصحة إنما هو بلحاظ وجدانها لتلك الحيثية لا بلحاظ تماميتها فحسب، وقد
عرفتم أن هذا هو معنى الصحة في المقام لا مجرد التمامية، فالعنوان المذكور عنوان

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 173.
198

للمسمى الواجد للحيثية المطلوبة، لا أنه عنوان للموجود الخارجي المتصف
بالصحة الفعلية، فأخذه في المسمى معناه أخذ الحيثية المطلوبة منه فيه، لا معناه
أخذ الصحة الفعلية فيه التي هي منتزعة من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به
في الخارج، لكي يقال إن أخذها فيه غير معقول، فتقييد المسمى بعنوان الناهي
لا يستلزم أن يكون النزاع في أخذ الصحة الفعلية فيه كما مر، وعلى هذا فالصحة
الفعلية لا يمكن أخذها في المسمى.
وأما الصحة بمعنى وجدان المسمى للحيثية المطلوبة منه فلا، مانع من أخذها
فيه، غاية الأمر أن الصحيحي يدعي أن المأخوذ فيه وجدانه للحيثية المطلوبة
منه فعلا، والأعمي يدعي أن المأخوذ فيه وجدانه للحيثية المطلوبة منه شأنا
واقتضاء لا فعلا.
وأما الثاني فلأن ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من ظهور الثمرة بين القولين في
المسألة لا يتم، وذلك لأن عنوان الناهي كما تقدم عنوان انتزاعي صرف مشير
إلى المسمى ومعرف له، وليس له واقع موضوعي في الخارج في مقابل المسمى،
ولا وجود له في الخارج إلا بوجود المسمى الواجد للحيثية المطلوبة، فإذن لا
يرجع الشك في جزئية شئ أو شرطية آخر إلى الشك في المحصل لكي يكون
المرجع فيه قاعدة الاشتغال، لأن الشك فيه إنما يكون في المحصل إذا كان العنوان
المذكور قيدا زائدا على المسمى في الخارج لا مجرد كونه عنوانا معرفا له،
والمفروض أنه ليس قيدا زائدا عليه.
ودعوى أن عنوان الناهي عن الفحشاء وإن كان عنوانا انتزاعيا صرفا وليس
له ما بإزاء في الخارج إلا أن منشأ انتزاعه ليس ذات المسمى بما هو، لوضوح أنه
إنما ينتزع عنه بلحاظ تلبسه بخصوصية ما، وهي كونه واجدا للحيثية المطلوبة
199

منه فعلا، وعلى هذا فإذا شك في اعتبار شئ فيه، فبطبيعة الحال يرجع إلى الشك
في أنه دخيل في اتصافه بتلك الحيثية أو لا، ومعه لا يمكن التمسك بالبراءة،
مدفوعة بأن مرجع الشك في جزئية شئ أو شرطية آخر إلى الشك في أنه
دخيل شرعا جزءا أو شرطا في وجدان سائر الأجزاء والشرائط للحيثية
المطلوبة منهما فعلا أو لا، وفي مثل ذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن
دخالته فيه، وبالتالي عن جزئيته أو شرطيته.
وإن شئت قلت: حيث إن مرد هذا الشك إلى الشك في أن وجدان سائر
الأجزاء والشرائط للحيثية المطلوبة منهما، هل هو مقيد ومشروط بهذا الشئ
المشكوك فيه جزءا أو شرطا، فلا مانع من الرجوع إلى إصالة البراءة عن هذا
التقييد الزائد بناء على ما هو الصحيح من جريان الأصالة في دوران الأمر بين
الأقل والأكثر الارتباطيين.
الثمرة الثانية: ذكر جماعة من الأصوليين منهم المحقق الخراساني قدس سره أنه يجوز
التمسك باطلاقات الكتاب والسنة على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شئ
جزءا أو شرطا، ولا يجوز التمسك بها على القول الصحيح، بل لا بد فيه من
الرجوع إلى الأصول العملية (1).
بيان ذلك أن التمسك بالاطلاق من الكتاب والسنة وغيرهما يتوقف على
تمامية مقدمات الحكمة، وهي:
الأولى: أن يكون الحكم في القضية واردا على الجامع بين الأفراد والحصص
لا على حصة خاصة أو فرد مخصوص.

(1) كفاية الأصول: 28.
200

الثانية: إحراز أن المتكلم في مقام البيان ولو بأصل عقلائي لا في مقام الاهمال
والاجمال، ويكفي في إثبات هذه المقدمة ظهور حال المتكلم في ذلك.
الثالثة: إحراز أنه لم ينصب قرينة على التعيين والتقييد.
فإذا تمت هذه المقدمات في مقام الاثبات ثبت الاطلاق فيه، وبه يكشف عن
الاطلاق في مقام الثبوت وأن مراده الاستعمالي مطابق لمراده الجدي، وحينئذ
فإذا شك في دخل شئ جزءا أو شرطا في المأمور به، فلا مانع من التمسك
بإطلاقه لدفع ما شك في اعتباره فيه، على أساس أنه شك في اعتبار أمر زائد على
صدقه، ومعه لا مانع من التمسك بالاطلاق.
وحيث إن هذه المقدمات تامة على القول بالأعم، فلا مانع من التمسك
بالاطلاق فيه عند الشك في اعتبار شئ جزءا أو قيدا، باعتبار أنه شك في أمر
زائد على صدق طبيعي المطلق فيدفع باطلاقه. وهذا بخلاف القول بالوضع
للصحيح، فإن المقدمة الأولى التي هي مقدمة رئيسية من تلك المقدمات الثلاث
غير متوفرة على هذا القول، فإن الحكم فيه لم يرد على الجامع بين الصحيحة
والفاسدة، وإنما ورد على حصة خاصة منه، وهي خصوص الصحيحة المتقومة
بوجدانها لجميع الأجزاء والشرائط، ولو شك عندئذ في جزئية شئ أو شرطية
آخر لها، فلا محالة يرجع الشك إلى الشك في صدقها على الفاقد للمشكوك فيه،
لاحتمال دخله في المسمى، ومعه لا يمكن التمسك بالاطلاق.
والخلاصة أن الشك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا على هذا القول مساوق
للشك في صدق المسمى، لأنه إن كان جزءا أو شرطا له في الواقع فهو داخل فيه،
وإلا فهو خارج عنه، وحيث إنا لا نعلم بذلك، فيكون صدقه على الفاقد له
مشكوكا فيه، ومعه لا مجال للتمسك بأصالة الاطلاق.
201

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي إمكان التمسك باطلاق
الكتاب والسنة على القول بالأعم وعدم إمكان التمسك به على القول بالصحيح.
نعم لو كان الشك في اعتبار شئ ركنا للصلاة مثلا لم يجز التمسك بالاطلاق
حتى على القول بالأعم، لأن الشك فيه مساوق للشك في الصدق، فلا يكون
صدق طبيعي المطلق على الفاقد محرزا حتى يكون الشك في اعتبار أمر زائد.
وقد نوقش في هذه الثمرة بعدة وجوه:
الأول: أنه لا فرق بين القولين في إمكان التمسك بالاطلاق وعدم إمكانه،
والسبب فيه أن المناط في إمكان التمسك بالاطلاق إنما هو يكون المتكلم في مقام
البيان ولم ينصب قرينة على التقييد، وعليه فكما أن الأعمى يتمسك بالاطلاق
فيما إذا احتمل دخل شئ في المأمور به زائدا على المقدار المتيقن، فكذلك
الصحيحي يتمسك به فيما إذا شك في اعتبار شئ زائدا على المقدار المعلوم، ومن
هنا يتمسك الفقهاء قدس سرهم باطلاق صحيحة حماد التي قد وردت في مقام بيان
الأجزاء والشرائط، حيث إن الإمام عليه السلام في الصحيحة قد بين جميع أجزاء الصلاة
من التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ونحوها مقتصرا
على تلك الأجزاء وساكتا عن غيرها، وحينئذ فإذا شك في أن الاستعاذة مثلا
جزء لها، فلا مانع من التمسك بإطلاقها لاثبات عدم كونها جزءا.
والجواب: أن هذه المناقشة مبنية على الخلط بين التمسك بالاطلاق اللفظي
والتمسك بالاطلاق المقامي الناشئ من السكوت في مقام البيان، ومحل الكلام في
المقام إنما هو في الأول، وقد تقدم أن التمسك به يتوقف على تمامية مقدمات
الحكمة، وهي متمثلة في الثلاث، أولاها إحراز تعلق الحكم بالجامع بحسب
المراد الاستعمالي وقابلية انقسامه إلى قسمين أو أقسام في الواقع، وهذه المقدمة
202

لا بد من إحرازها، وإلا فلا يعقل الاطلاق في مقام الثبوت لكي يستكشف ذلك
بالاطلاق في مقام الاثبات، وحيث إن الحكم على القول بالصحيح متعلق بحصة
خاصة وهي خصوص الحصة الصحيحة، فالمقدمة الأولى غير تامة على هذا
القول، وحينئذ فالاطلاق اللفظي غير معقول فيه.
وأما صحيحة حماد، فإطلاقها يكون مقاميا ناشئا عن السكوت في مقام
البيان، ولا فرق في جواز التمسك به بين القول بالصحيح والقول بالأعم، والسر
في ذلك واضح، وهو أن المعتبر فيه سكوت المتكلم عن البيان حتما كان يورد
الحكم على نفس الأجزاء والشرائط أو الأفراد تفصيلا، مثلا إذا كان المولى في
مقام بيان ما يحتاجه في اليوم من اللحم والخبز واللبن والأرز والحمص وغير
ذلك، فأمر خادمه بشرائها وسكت عن غيرها، فسكوته هذا في مقام البيان
كاشف عن عدم إرادة غير هذه الأشياء، وإلا لم يسكت، ولهذا لا نحتاج في هذا
النحو من الاطلاق إلى وجود لفظ مطلق في القضية، وهذا بخلاف الاطلاق
اللفظي، فإن المعتبر فيه ورود الحكم في القضية على الطبيعي الجامع القابل
للانطباق على أفراد وحصص عديدة، ولا أقل من حصتين ثم إحراز أن المتكلم
في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال، وأنه لا ينصب قرينة على إرادة
الخلاف، فإذا تمت هذه المقدمات تم الاطلاق في مقام الاثبات الكاشف عن
الاطلاق في مقام الثبوت، وحينئذ فإذا شك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا، فإن
كان اعتبار ذلك الشئ زائدا على صدق المطلق والموضوع في القضية على الفاقد
له كما هو الحال على القول بالأعم، يتمسك بالاطلاق لدفع اعتباره طالما لم يدل
دليل على ثبوته، وإن لم يكن زائدا عليه بأن يكون الشك في اعتباره مساوقا
للشك في تحقق المطلق والموضوع في القضية كما هو الحال على القول بالصحيح،
فلا يمكن التمسك بالاطلاق لدفع اعتباره.
203

فالنتيجة: أن الاطلاق إذا كان مقاميا، جاز التمسك به مطلقا بلا فرق بين
القولين في المسألة أصلا، وإذا كان لفظيا، فلا بد من التفصيل فيه، فعلى القول
بالأعم يجوز التمسك به دون القول بالصحيح.
الثاني: أن أدلة العبادات جميعا مجملة في الكتاب والسنة، فلا إطلاق لها حتى
يمكن التمسك به، لما مر من أن الاطلاق منوط بثبوت مقدمات الحكمة الثلاث
جميعا، والمفروض في المقام عدم ثبوت المقدمة الثانية وهي كون المتكلم فيها في
مقام البيان، وعلى هذا فلا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة.
وبكلمة، إن أدلة العبادات بما أنها جميعا في مقام أصل التشريع والجعل بلا
نظر لها إلى خصوصياتها التفصيلية كما وكيفا، فلا إطلاق لها حتى يمكن التمسك
به، غاية الأمر أن عدم جواز التمسك بها على القول بالأعم من جهة واحدة وهي
عدم كونها في مقام البيان، وعلى القول بالصحيح من جهتين وهما عدم ورودها
في مقام البيان وعدم تعلق الحكم فيها بالجامع والمقسم، فالنتيجة عدم إمكان
التمسك بالاطلاق على كلا القولين في المسألة، وعليه فلا تظهر الثمرة بينهما.
والجواب: - مضافا إلى أن ذلك مبني على الحدس والاجتهاد الخاطئ بدون
القيام بالفحص والبحث عن الآيات والروايات - أن الأمر ليس كذلك.
أما الروايات الواردة في أبواب العبادات فكثير منها في مقام البيان ولها
إطلاق، ولا مانع من التمسك بإطلاقها عند الشك في اعتبار شئ فيها، وهذا
واضح لكل فقيه يقوم بعملية الاجتهاد والاستنباط في تلك الأبواب.
وأما الآيات فمنها قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
204

من قبلكم) (1)، فإن المفهوم من كلمة الصيام عرفا هو كف النفس عن الأكل
والشرب، وهو معناه اللغوي والعرفي، فالصيام بهذا المعنى ثابت في الشرائع
السابقة والأديان الأخرى، ويدل على ذلك قوله تعالى: (كلوا واشربوا حتى
يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (2)، فإذن حقيقة
الصيام هي كف النفس عن الأكل والشرب في جميع الشرائع، نعم تختلف هذه
الشريعة عن الشرائع السابقة في بعض الشروط غير المقومة لحقيقة الصيام
كالكف عن الجماع والاستمناء والكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله والأئمة
الأطهار عليهم السلام وغير ذلك، وعلى هذا فإذا شك في اعتبار شئ فيه جزءا أو شرطا
زائدا على صدقه، فلا مانع من الرجوع إلى إطلاق الآية الشريفة، ومقتضاه عدم
اعتباره، فإذن حال الآية الشريفة حال قوله تعالى: (أحل الله البيع) (3)
و (تجارة عن تراض) (4) و (أوفوا بالعقود) (5) ونحو ذلك، فكما أنه لا مانع
من التمسك بإطلاق هذه الآيات في باب المعاملات، فكذلك لا مانع من التمسك
بإطلاق الآية المباركة في باب الصوم عند الشك في دخل شئ في صحته شرعا.
هذا إضافة إلى أنه يكفي في ظهور هذه الثمرة إمكان ترتبها، لأن المعتبر في
أصولية المسألة إمكان وقوعها في طريق عملية الاستنباط لا فعلية ذلك، وعلى
هذا فلو فرضنا أن أدلة العبادات جميعا من الكتاب والسنة مجملة، فلا يمكن
التمسك بها عند الشك في اعتبار شئ فيها جزءا أو شرطا، إلا أن ذلك لا يمنع

(1) سورة البقرة (2): 183.
(2) سورة البقرة (2): 187.
(3) سورة البقرة (2): 275.
(4) سورة النساء (4): 29.
(5) سورة المائدة (5): 1.
205

عن إمكان ترتب هذه الثمرة لو كان هناك إطلاق، وهذا المقدار يكفي في كون
المسألة أصولية.
الثالث: أن الاطلاق والتقييد في العبادات إنما يلاحظ بالإضافة إلى المأمور به
ومتعلق الأمر لا بالقياس إلى المسمى، لوضوح أن الاطلاق أو التقييد في كل كلام
إنما هو بالقياس إلى مراد المتكلم منه، فإذا كان المتكلم هو الشارع، فلا محالة
لوحظ الاطلاق أو التقييد بالنسبة إلى مراده وأنه مطلق أو مقيد لا إلى ما هو
أجنبي عنه، وعلى ذلك فلا فرق بين القولين في المسألة، فكما أن الصحيحي لا
يمكنه التمسك بالاطلاق فكذلك الأعمي. أما الصحيحي فلما تقدم من عدم إحراز
الصدق على الفاقد لما شك في اعتباره جزءا أو قيدا، وأما الأعمي فمن أجل أنه
يعلم بأن مراد المولى هو المسمى بوصف كونه مأمورا به ومتعلق الأمر، ومن
الواضح أن المأمور به حصة خاصة من المسمى وهي الحصة الصحيحة، ضرورة
أن الشارع لا يأمر بالحصة الفاسدة ولا بالأعم منها ومن الصحيحة، وعلى هذا
فلا يمكن التمسك بالاطلاق عند الشك في جزئية شئ أو شرطية آخر، للشك في
صدق المأمور به حينئذ على الفاقد للشئ المشكوك فيه.
والخلاصة: أن الصحة لو كانت مأخوذة في المسمى، سواء أكانت مأخوذة
فيه بما هو مسمى كما هو الحال على القول بالصحيح أم مأخوذة فيه بوصف كونه
مأمورا به ومتعلق الأمر كما هو الحال على القول بالأعم، فلا يمكن التمسك
بالاطلاق لا على القول الأول ولا على الثاني.
والجواب: أن الاطلاق والتقييد في مقام الثبوت والواقع إنما يلحظان
بالإضافة إلى ذات المأمور به ومتعلق الأمر لا بوصف كونه مأمورا به ومتعلق
الأمر، لأن الأمر في الواقع لا يخلو إما أن يكون متعلقا بالمسمى مطلقا أو مقيدا،
206

ولا ثالث لهما، لاستحالة الاهمال في الواقع، وعلى هذا فإن كان في مقام الاثبات
دليل مطلق من آية أو رواية، فلا مانع من التمسك بإطلاقه عند الشك في اعتبار
شئ في المأمور به جزءا أو شرطا على القول بالأعم، باعتبار أن صدق المطلق
على الفاقد للشئ المشكوك فيه محرز، والشك إنما هو في اعتبار أمر زائد،
وحينئذ فلا مانع من التمسك بإطلاقه لدفع اعتباره فيه، وبه يستكشف أن المأمور
به في الواقع مطلق.
وبكلمة، إنه إذا شك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا في الصلاة المأمور بها
مثلا كالسورة، فعلى القول بالوضع الأعم حيث إن صدق الصلاة بما لها من المعنى
الموضوع له على الفاقدة للسورة معلوم، والشك إنما هو في اعتبار أمر زائد فلا
مانع من التمسك بالاطلاق لنفي اعتباره والحكم بأن المأمور به في الواقع ومقام
الثبوت هو الصلاة بدون السورة، وأما على القول بالوضع للصحيح، فحيث إن
صدق الصلاة بما لها من المعنى على الفاقدة للسورة مشكوك فيه لاحتمال دخلها في
مسماها، فلا إطلاق لها لكي يمكن التمسك به.
فالنتيجة: أن هذا الوجه مبني على نقطة خاطئة، وهي كون المسمى بوصف
كونه مأمورا به متعلق الأمر، وهذا مستحيل لاستحالة أخذ هذا الوصف
في متعلق الأمر، لأنه متأخر منه ومنتزع من تعلقه بالمسمى، فكيف يعقل
أخذه في متعلقه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أنه لا غبار في ظهور هذه
الثمرة بين القولين في المسألة، هذا تمام كلامنا في العبادات.
207

أسماء المعاملات
المقام الثاني في المعاملات. يقع الكلام فيه من عدة جهات:
الجهة الأولى أن في المعاملات اتجاهين رئيسيين:
الأول: ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من أن المعاملات أمور
إنشائية تسبيبية.
الثاني: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أن المعاملات أمور اعتبارية نفسانية
مبرزة في الخارج بمبرز ما.
أما الاتجاه الأول فقد ذكر الأصحاب قديما وحديثا أن المعاملات تنقسم إلى
أسباب ومسببات. أما الأسباب فهي متمثلة في صيغ خاصة لفظية كانت أو
فعلية مشتملة على الأجزاء والشرائط، فمن أجل ذلك تتصف بالصحة تارة
وبالفساد أخرى. وأما المسببات فهي متمثلة في الملكية أو الزوجية أو نحوها
سواء أكانت شرعية أم عقلائية، وهي لا تتصف بالصحة أو الفساد، بل بالوجود
تارة والعدم أخرى، على أساس أنها أمور بسيطة.
أما الاتجاه الثاني فقد ذكر السيد الأستاذ قدس سره أن أسامي المعاملات موضوعة
لابراز أمر اعتباري نفساني غير قصد الحكاية، مثلا صيغة بعت موضوعة
للدلالة على قصد إبراز ملكية المبيع، حيث إن البائع في مقام البيع اعتبر
ملكيته للمشتري، ثم يبرزها في الخارج بصيغة بعت أو ما شاكلها لكي تدل على
أنه قصد إبرازها (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 192 و 195.
208

ومن هنا ذكر قدس سره أن معنى الانشاء هو إبراز الأمر الاعتباري النفساني في
الخارج بمبرز ما من قول أو فعل (1)، ومن الواضح أن كلا من الاعتبار والابراز
فعل اختياري للمعتبر مباشرة لا تسبيبا، فلا يكون هناك سبب ولا مسبب ولا
آلة ولا ذيها.
وبكلمة، إنه ليس في باب المعاملات إلا أمران، أحدهما الأمر الاعتباري
القائم بنفس المتعاملين مباشرة، والآخر الأثر الشرعي أو العقلائي المترتب على
فعل المتعاملين كذلك، وكلاهما فعل مباشر ولا يعقل أن يكون فعلا تسبيبيا. أما
الأول فهو فعل نفساني للمتعاملين بالمباشرة وبيدهما وجودا وعدما، ولا يعقل
أن يكون مسببا عن شئ آخر. وأما الثاني فهو فعل الشارع أو العقلاء
بالمباشرة، غاية الأمر أن الشارع أو العقلاء يعتبر الملكية أو الزوجية كذلك في
موضوع خاص، هذا إضافة إلى أن مراد المشهور من المسبب ليس هو الأثر
الشرعي أو العقلائي، فالنتيجة أنه ليس في باب المعاملات سببية ولا مسببية ولا
آلة ولا ذيها، لأن كل ذلك غير موجود، فالموجود إنما هو اعتبار المتعاملين
الملكية أو الزوجية في عالم الاعتبار والنفس وإبرازه في الخارج بمبرز ما من قول
أو فعل، ومجموع المبرز - بالكسر - والمبرز - بالفتح - بمثابة الموضوع للأثر
الشرعي أو العقلائي، هذا ملخص ما أفاده قدس سره.
وما أفاده قدس سره يرجع إلى نقطتين:
الأولى: أن الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني بمبرز ما
من قول أو فعل.

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 88.
209

الثانية: أنه لا سببية ولا مسببية في باب المعاملات.
أما النقطة الأولى، فيرد عليها أن تفسير الانشاء بذلك مبني على مسلكه قدس سره
في باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني، باعتبار أن لازم هذا
المسلك هو كون الدلالة الوضعية دلالة تصديقية لا تصورية، وعليه فلا بد من
الالتزام بأن المعاملات موضوعة للدلالة على قصد إبراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج بمبرز ما حتى تكون دلالتها الوضعية دلالة تصديقية، ولكن
حيث إنا قد ذكرنا في باب الوضع عدم صحة هذا المسلك موسعا وقلنا هناك بأن
الدلالة الوضعية دلالة تصورية لا تصديقية، فمن أجل ذلك لا يمكن تفسير
المعاملات بذلك، وقد تقدم في ضمن البحوث السالفة تفسير الانشاء فيها بما
ينسجم مع كون الدلالة الوضعية لها دلالة تصورية.
وأما النقطة الثانية، فلأنه لا مانع من أن يراد من المسبب في المعاملة الأثر
العقلائي أو الشرعي المترتب عليها ترتب الأثر على المؤثر والمسبب على
السبب، باعتبار أنه الأثر المطلوب من إيجاد المعاملة في الخارج بما لها من المعنى
الانشائي التسبيبي.
وبكلمة، إن جعل هذا الأثر بنحو القضية الحقيقية وإن كان بفعل الشارع أو
العقلاء في مرحلة الجعل والاعتبار، ولكن فعلية هذا الأثر إنما هي بيد المتعاملين،
فإنهما إذا قاما بإيجاد السبب وهو المعاملة بما لها من الشروط، ترتب عليه ذلك
الأثر، ومن الواضح أن هذا الترتب إنما هو مستند إلى فعل المتعاملين من باب
ترتب الأثر على المؤثر والمسبب على السبب، وقد تحصل من ذلك أن فعلية الأثر
الشرعي أو العقلائي هي المسبب في باب المعاملات، وأما الصيغة بما لها من المعنى
الانشائي فهي سبب لها، غاية الأمر أن العلاقة بين السبب والمسبب تارة تكون
210

ذاتية بينهما كالعلاقة بين النار والحرارة، وأخرى تكون جعلية كما في المقام،
فالجامع بين المقامين هو استحالة انفكاك أحدهما عن الآخر خارجا إما بالذات
أو بالجعل، والظاهر أن هذا هو مراد المشهور من المسبب في باب المعاملات.
ولكن قد يستشكل في ذلك بأن السببية بهذا المعنى لا تختص بالمعاملات،
لأن كونها سببا لفعلية الأثر ليس إلا بلحاظ أنها موضوع له، على أساس أن
فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه خارجا واستحالة انفكاكها عنها، ولا
فرق في ذلك بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية، فكما أن فعلية الأحكام
الوضعية تتبع فعلية موضوعاتها في الخارج فكذلك فعلية الأحكام التكليفية،
فإنها تتبع فعلية موضوعاتها فيه، وعلى هذا فإطلاق الأسباب على موضوعات
الأحكام الوضعية دون موضوعات الأحكام التكليفية ليس إلا مجرد اصطلاح
بلا أي نكتة مبررة لذلك. هذا،
ولكن الظاهر أن هذا الفرق مبني على نكتة، وهي أن موضوعات الأحكام
الوضعية تختلف عن موضوعات الأحكام التكليفية في نقطة، وهي أن
موضوعات الأحكام الوضعية التي هي متمثلة في المعاملات أمور إنشائية
قصدية، مثلا جملة (بعت) الانشائية تدل على قصد إيجاد معناها في وعاء
التصور والتصديق، والغرض منه الوصول إلى أثره الشرعي أو العقلائي المترتب
عليه ترتب المسبب على السبب، فالصيغة بما لها من المعنى الانشائي سبب، لأن
المتعامل في مقام المعاملة يقصد بها التسبيب ولو ارتكازا إلى ترتب الأثر
الشرعي عليها. وعلى الجملة فتسمية المعاملات بالأسباب في الأحكام
الوضعية مع أنها موضوعات لها في الحقيقة، فإنما هي من جهة أنها أمور
إنشائية تسبيبية، ولا يمكن تحققها بدون قصد التسبيب بها ولو في أعماق نفسه
211

ارتكازا وفطرة.
وهذا بخلاف موضوعات الأحكام التكليفية، فإنها بين ما يكون خارجا عن
قدرة المكلف كالعقل والبلوغ والوقت ورؤية الهلال وما شاكلها، وما يكون
الموضوع فيها جامعا بين الحصة الاختيارية وغير الاختيارية كالاستطاعة
ونحوها، والجامع أن القصد والإرادة غير دخيل في تحققها أصلا.
فالنتيجة أن موضوعات الأحكام الوضعية في باب العقود والايقاعات أمور
إنشائية قصدية في نفسها، فلذلك تسمى بالأسباب بالإضافة إلى ما يترتب
عليها من الأحكام، بينما لا تكون موضوعات الأحكام التكليفية كذلك، فلهذا لا
تسمى بالأسباب بالنسبة إلى ما يترتب عليها من الآثار.
وكيف كان فما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أن المعاملات أمور اعتبارية نفسانية
مبرزة في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، لا يتم إلا على مسلكه قدس سره في باب
الوضع، حيث لا شبهة في أنها أمور إنشائية قصدية بصيغتها الخاصة من قول أو
فعل، وقد تقدم تفصيل ذلك في بابي الانشاء والاخبار موسعا.
الجهة الثانية: أن محل النزاع في أن أسماء المعاملات موضوعة للصحيح أو
الأعم، هل هو بنظر الشرع أو العقلاء؟ فيه قولان:
فذهب السيد الأستاذ قدس سره إلى القول الثاني، بدعوى أن المعاملات المأخوذة في
موضوع أدلة الامضاء كالبيع والإجارة ونحوهما معاملات عرفية عقلائية
وموجودة قبل مجئ الشرع ولم يتصرف الشارع فيها بعد مجيئه أي تصرف
أساسي لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بل أمضاها بما لها من المفاهيم
لدى العرف والعقلاء قبل الاسلام، حيث إن المعاملات بهذه الأسامي كانت
دارجة بين الناس في الجزيرة العربية، واحتمال أن المعاملات موجودة عند العرب
212

بألفاظ أخرى غير الألفاظ العربية التي يعبر بها عنها في الكتاب والسنة
غير محتمل، ويؤكد ذلك أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حينما طرح المعاملات بأساميها
الخاصة على الناس منذ بداية الاسلام لم تكن هذه الأسامي غريبة عندهم، بل
كانوا مأنوسين بها.
ومن هنا تفترق المعاملات عن العبادات، فإن العبادات حيث إنها ماهيات
مخترعة عند الشارع بجميع أجزائها وشرائطها، فلو كانت موضوعة للصحيحة
فلا يمكننا التمسك بإطلاقها عند الشك في جزئية شئ أو شرطية آخر، لاحتمال
دخله في المسمى كما سبق، وهذا بخلاف المعاملات، فإنها ماهيات مخترعة عند
العرف والعقلاء، فلو شككنا في اعتبار شئ فيها شرعا، فيكون الشك في اعتبار
أمر زائد على ما كان معتبرا عندهم، وفي مثله لا مانع من التمسك بالاطلاق ولو
على القول بكونها موضوعة للصحيحة عندهم.
نعم لو شككنا في اعتبار شئ فيها عرفا كاعتبار المالية مثلا أو نحوها، فلا
يمكننا التمسك بالاطلاق، لعدم إحراز صدق البيع على فاقد المالية أو نحوها على
القول بالوضع للصحيح.
والخلاصة أن محل النزاع إنما هو في وضع المعاملات للصحيحة أو الأعم بنظر
العقلاء دون الشرع، إذ لو كانت موضوعة للصحيحة لدى الشرع، لأدى ذلك
إلى كون أدلة الامضاء كقوله تعالى: (أحل الله البيع)، و (تجارة عن تراض)
ونحوهما لغوا، فإن مرد ذلك إلى قولنا البيع الصحيح صحيح، التجارة الصحيحة
صحيحة وهكذا، فلذلك لا يمكن أن يكون محل النزاع في الوضع للصحيحة أو
الأعم بنظر الشرع، بل يتعين أن يكون بنظر العقلاء فقط (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 193.
213

وقد استشكل عليه بأنه لا مانع من أن يكون محل النزاع في وضع المعاملات
للصحيحة أو الأعم عند الشارع، غاية الأمر إذا كانت موضوعة للصحيحة
كانت مستعملة في الأعم مجازا في مقام ورودها للامضاء (1).
وهذا الاشكال غريب جدا، ضرورة أنها لو كانت مستعملة في الأعم مجازا
في أدلة الامضاء، فحينئذ ما هو المبرر لوضعها شرعا للصحيحة، ومن الواضح
أنه لا مبرر له بعد ما كانت صحتها مستفادة من أدلة الامضاء، وإن شئت قلت:
إنها لو كانت موضوعة للصحيحة عند الشارع، فوقتئذ إما أن يكون وضعها لها
لغوا أو أن أدلة الامضاء لغو، فلذلك لا أساس لهذا الاشكال.
فالصحيح في الجواب أن يقال: إنه لا مانع من تصوير النزاع في المسألة
للصحيح أو الأعم بنظر الشرع أيضا، وذلك لأن ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من
محذور اللغوية في أدلة الامضاء وإنما يلزم لو كانت الصحة المأخوذة في مسمى
المعاملات الصحة بمعنى الامضاء أو مفهوم الصحة المنتزع من إمضاء الشرع لها،
ولكن من الواضح أن الصحة بهذا المعنى غير مأخوذة في مسمى المعاملات،
ضرورة أنه لا يحتمل أن تكون أسماء المعاملات موضوعة بإزاء المعاملات
الموصوفة بالصحة والامضاء حتى يكون الامضاء لغوا، إذ معناها حينئذ أن
المعاملة الصحيحة صحيحة والبيع الممضى ممضى وهكذا، بل الصحة المأخوذة في
المسمى على القول بوضعها للصحيح هي الصحة بمعنى تمامية المعاملة بأجزائها
وشروطها الواجدة للحيثية المطلوبة منها، فإنها الصحة بالحمل الشائع، ولا
مانع من وضع أسماء المعاملات بإزائها، ولا يستوجب ذلك محذور لغوية أدلة
الامضاء، فإنها على هذا تعلقت بالمعاملة تامة الأجزاء والشرائط الواجدة

(1) بحوث في علم الأصول 1: 211.
214

للحيثية المطلوبة، فإذا تعلقت بها ترتب عليها آثارها، مثلا العقد الواقع بين
المتعاملين المقرون بالتراضي بينهما إذا تعلق به دليل الامضاء كقوله تعالى:
(تجارة عن تراض) أو (أوفوا بالعقود) ترتب عليه أثره، وإلا فلا.
وبكلمة أوضح، إنه لا فرق من هذه الناحية بين العبادات والمعاملات، فكما
أنه لا يمكن أخذ مفهوم الصحة وعنوانها بالحمل الأولي في مسمى العبادات،
على أساس أنه منتزع من انطباق العبادة المأمور بها على الفرد المأتي به في
الخارج ولا يعقل أخذه فيه كما تقدم، فكذلك لا يمكن أخذ مفهوم الصحة بالحمل
الأولي في مسمى المعاملات، لأنه منتزع من تعلق دليل الامضاء بالمعاملة في
الخارج ولا يمكن أخذه فيه، وإلا لكان دليل الامضاء لغوا.
وأما واقع الصحة الذي هو صحة بالحمل الشائع، فكما أنه لا مانع من أخذه
في مسمى العبادات، فكذلك لا مانع من أخذه في مسمى المعاملات، لأن واقع
الصحيح هو المركب المشتمل على تمام الأجزاء والشرائط الواجد للحيثية
المطلوبة منه، ولا فرق بين أن يكون ذلك المركب عبادة أو معاملة، إذ معنى وضع
لفظ (البيع) للصحيح وضعه بإزاء تمليك عين بعوض المقرون بالرضا المنشأ بفعل
أو قول من بالغ وعاقل، وهو متعلق لدليل الامضاء، وعليه فإذا تعلق الامضاء
به ترتب عليه الأثر الشرعي وهو حصول الملك شرعا، وإذا لم يتعلق به دليل
الامضاء، لم يحكم بحصول التمليك وترتيب الأثر عليه.
وهذا هو معنى الصحة في العبادات والمعاملات، ولا فرق بينهما فيه أصلا،
وأما الصحة الجائية من قبل الامضاء في المعاملات والمتقومة به والصحة الجائية
من قبل الأمر في العبادات المتقومة به، فلا يمكن أخذها في المسمى لا في
المعاملات ولا في العبادات، هذا من ناحية.
215

ومن ناحية أخرى، إن تصوير النزاع في وضع أسماء المعاملات للصحيحة أو
للأعم من وجهة نظر الشرع وإن كان ممكنا، إلا أنه غير واقع في الخارج، لأن
الواقع هو وضع أسماء المعاملات بإزاء معانيها قبل الاسلام، ولهذا تكون حقائق
عرفية عقلائية لا شرعية، فإن هذه الأسماء مستعملة في تلك المعاني قبل مجئ
الاسلام وبعده على حد سواء، غاية الأمر أن الشارع قد يتصرف فيها فنهى عن
بعض المعاملات الدارجة بينهم كالمعاملة الربوية وما شاكلها، وزاد في
بعض الموارد قيدا أو جزءا لم يكن معتبرا عند العقلاء كاعتبار البلوغ في
المتعاقدين ونحو ذلك.
ومن هنا يجوز التمسك بإطلاقات أدلة المعاملات في الكتاب والسنة عند
الشك في اعتبار شئ فيها شرعا جزءا أو شرطا، بلا فرق في ذلك بين أن تكون
أسماء المعاملات عند العقلاء موضوعة للصحيح أو للأعم، ولهذا لا تظهر الثمرة
بين القولين في المسألة عند الشارع، نعم تظهر الثمرة بينهما عند العقلاء.
الجهة الثالثة: قد تسأل هل يجري النزاع في وضع أسماء المعاملات بمعنى
المسببات للصحيحة أو الأعم؟
والجواب: أن المعروف المشهور بين الأصحاب أنه لا يجري في المعاملات
بمعنى المسببات، والوجه في ذلك هو أن المسبب كالملكية أو الزوجية أو نحوها
بسيط ويدور أمره بين الوجود والعدم المحموليين، لا بين الصحة والفساد بمفاد
كان وليس الناقصتين، فلذلك لا يعقل جريان هذا النزاع في المسببات، وعلى
هذا فالنزاع إنما هو في أسماء المعاملات بمعنى الأسباب، على أساس أنها تتصف
بالصحة تارة وبالفساد أخرى، باعتبار أنها مركبة من أجزاء ومقيدة بقيود، فإن
كانت واجدة لتمام أجزائها وقيودها اتصفت بالصحة، وإن كانت فاقدة لبعضها
216

اتصفت بالفساد، فإذن يختص النزاع في باب المعاملات بالأسباب، ولا يمكن
جريانه في المسببات لعدم قبولها للاتصاف بالصحة تارة وبالفساد أخرى.
ولكن السيد الأستاذ قدس سره قد علق على ذلك بأن في باب المعاملات لا سبب ولا
مسبب ولا آلة ولا ذيها، وقد أفاد في وجه ذلك أن ما هو المعروف بين الأصحاب
من أن الانشاء إيجاد المعنى باللفظ لا يرجع إلى معنى محصل، لأنه إن أريد بالايجاد
الايجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول، بداهة أن اللفظ لا يكون واقعا في
سلسلة علل وجوده وأسبابه، وإن أريد به الايجاد الاعتباري، فيرد عليه أنه
يوجد بنفس اعتبار المعتبر، سواء كان هناك لفظ يتلفظ به أم لا، فاللفظ لا يكون
سببا لإيجاده الاعتباري ولا آلة له، فإذن ليس في باب المعاملات إلا أمران:
أحدهما المبرز - بالفتح - وهو الأمر الاعتباري النفساني في أفق النفس، والآخر
المبرز - بالكسر - وهو اللفظ أو الفعل في الخارج، والمعاملة اسم للمركب من
هذين الأمرين.
وبكلمة، إن المعاملات أسام للمركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه
في الخارج باللفظ أو نحوه، لأن الآثار المترقبة لا تترتب إلا على المركب من
هذين الأمرين، فالبيع والايجار والصلح والنكاح وما شاكلها لا يصدق على
مجرد الاعتبار النفساني بدون إبرازه في الخارج بمبرز ما، فلو اعتبر أحد ملكية
داره أو فرسه لزيد مثلا في أفق نفسه بدون أن يبرزها في الخارج بمبرز ما من قول
أو فعل، فلا يصدق أنه باع داره أو فرسه من زيد، كما أن هذه العناوين لا تصدق
على مجرد إطلاق اللفظ أو نحوه من دون اعتبار نفساني في أفق الذهن، كما لو كان
في مقام تعداد صيغ العقود أو الايقاعات، أو كان التكلم بها بداع آخر غير
إبراز ما في أفق النفس من الأمر الاعتباري، فلو قال أحد بعت أو زوجت أو
217

نحو ذلك من دون اعتبار نفساني، فلا يصدق عليه عنوان البيع أو التزويج
والنكاح وهكذا.
والخلاصة: أن المعاملات بعناوينها الخاصة من البيع أو الهبة وما شاكلها أسام
للمركب من الأمرين، فلا يصدق على كل واحد منهما بالخصوص، فإذن لا
سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذيها، بل أمر اعتباري نفساني في أفق النفس
وإبرازه في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل، وعلى هذا فكما أن المبرز الذي
يمثل صيغ العقود يتصف بالصحة تارة باعتبار وجدانه للشروط وبالفساد أخرى
باعتبار فقدانه لها، فكذلك الأمر الاعتباري النفساني الذي هو بمثابة موضوع
للاعتبار العقلائي والشرعي، فإنه يتصف بالصحة والفساد باعتبار استتباعه
للأثر الشرعي وعدمه، لأنه إذا كان واجدا للشرائط كما إذا كان صادرا من
العاقل البالغ المالك اتصف بالصحة، وإذا كان صادرا من الصبي أو المجنون أو
الفضولي فبالفساد.
أو فقل: إن ما يسمى بالمسبب أمران: الأول الأثر الشرعي أو العقلائي
كالملكية أو الزوجية أو نحوهما، والثاني الأثر المنشأ من قبل المتعاقدين أنفسهما،
وهو اعتبار شخصي قائم بالمتعاقدين، ويكون موضوعا للمسبب الأول وهو
الأثر الشرعي أو العقلائي، والذي لا يتصف بالصحة والفساد إنما هو المسبب
بالمعنى الأول، لأنه إما موجود أو غير موجود، ولا ثالث لهما، وأما المسبب
بالمعنى الثاني، فهو يتصف بالصحة والفساد (1).
وغير خفي أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره في المقام من التفسير للانشاء في باب
المعاملات مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع، وهو أنه التعهد والتباني، على

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 192.
218

أساس أن لازم هذا المسلك كون المدلول الوضعي مدلولا تصديقيا، وهو يتطلب
تفسير الانشاء في هذا الباب بهذا التفسير لكي يكون المدلول الوضعي
للمعاملات مدلولا تصديقيا، هذا، ولكن ذكرنا في باب الوضع موسعا عدم
صحة هذا المسلك، ولهذا نقول بأن المدلول الوضعي مدلول تصوري لا تصديقي،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إنه لا شبهة في أن المعاملات أمور إنشائية تصدر من
المتعاملين بالتسبيب، لا أنها أمور اعتبارية تصدر منهم بالمباشرة كما مر.
ومن ناحية ثالثة، إن ظاهر المشهور من المعاملة بمعنى المسبب الأثر الشرعي
أو العقلائي المترتب عليها خارجا ترتب المسبب على السبب، باعتبار أن ترتبه
هو النتيجة المطلوبة من قبل المتعاملين ومسبب عن فعلهما، وعليه فلا يمكن
جريان النزاع في المعاملات بمعنى المسبب، لأنها بهذا المعنى لا تتصف بالصحة
والفساد، بل بالوجود والعدم.
وبكلمة، إن مضمون المعاملة المنشأة من قبل المتعاملين بصيغتها الخاصة من
قول أن فعل، يكون بمثابة الموضوع والسبب للأثر الشرعي أو العقلائي، باعتبار
أن ترتبه عليها هو النتيجة المتوخاة من قبلهما، لأن الغرض من هذا الانشاء
والاعتبار الشخصي هو الوصول إلى تلك النتيجة وتحققها خارجا، وعلى هذا
فإذا ترتب على ذلك المنشأ من قبلهما أثر شرعي أو عقلائي، اتصفت المعاملة
بالصحة، وإلا فبالفساد، ومعنى اتصافها بالصحة أن المنشأ يصبح شرعيا،
فالملكية المنشأة من قبل المتعاملين تصبح ملكية شرعية قانونية، وترتب الأثر
عليها منوط بتوفر الشروط المعتبرة في إنشائها شرعا، كالبلوغ والعقل وأن لا
تكون فضوليا، وأن تكون بصيغة خاصة إذا كان انشاؤها منوطا بها، وفي ضوء
219

ذلك إن كان مراد المشهور من المسبب هو ترتب الأثر الشرعي عليها خارجا كما
هو الظاهر منهم، فهو لا يتصف بالصحة والفساد، ولا يمكن جريان النزاع فيه،
وإن كان مرادهم منه نفس المنشأ الشخصي في المعاملة من قبل المتعاملين بقول أو
بفعل، فهو يتصف بالصحة إن كانت شروطه متوفرة، وبالفساد إن لم يكن كذلك.
الجهة الرابعة: أن المعاملات إذا كانت أسامي للأسباب، فلا شبهة في جواز
التمسك بإطلاق أدلة الامضاء، كقوله تعالى: (أحل الله البيع) و (تجارة عن
تراض) ونحوهما، حتى على القول بوضعها للصحيح عند العقلاء، باعتبار أن
الصحيح عندهم أعم منه عند الشارع، فإذا شك في اعتبار شئ فيها شرعا، فلا
مانع من التمسك بإطلاقها، لأن صدق لفظ المطلق على الفاقد للشئ المشكوك
فيه لدى العقلاء محرز، والشك إنما هو في اعتبار أمر زائد عليه، نعم على هذا
القول إذا شك في اعتبار شئ فيها عند العقلاء، فلا إطلاق لفظي لكي يتمسك
به، باعتبار أن الصدق حينئذ على الفاقد غير محرز، كما أن الأمر كذلك على القول
بالوضع للصحيح الشرعي.
فالنتيجة أن الثمرة لا تظهر شرعا بين القولين في المسألة بناء على ما هو
الصحيح من أن المعاملات أمور عرفية عقلائية وموضوعة بإزاء معانيها قبل
الشرع والشريعة ومستعملة فيها في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فإذا شك
في اعتبار شئ منها شرعا جزءا أو شرطا، فلا مانع من التمسك بإطلاق تلك
النصوص على كلا القولين في المسألة.
نعم تظهر الثمرة بينهما بناء على وضعها للصحيح عند الشارع، فإنه على هذا
القول لا يتصور فيها إطلاق لفظي لكي يتمسك به، بينما على القول بوضعها للأعم
يتصور فيه إطلاق لفظي يمكن التمسك به عند الشك في اعتبار شئ جزءا أو
220

شرطا، ولا فرق من هذه الناحية بين العبادات والمعاملات.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من أن هذا النزاع في باب
المعاملات لا يجري عند الشارع، على أساس أنه لا يمكن أخذ الصحة الشرعية
في مسمى المعاملات الذي هو موضوع لأدلة الامضاء، وإلا لكان معنى قوله
تعالى: (أحل الله البيع) أن البيع الممضى ممضى، وهذا مما لا معنى له، لأنه من
القضية بشرط المحمول - لا يتم، لما تقدم من أنه لا مانع من تصوير هذا النزاع
عند الشارع، ولا فرق من هذه الناحية بين المعاملات والعبادات، فإن الصحة
المأخوذة في المسمى، سواء كانت في العبادات أم في المعاملات، إنما هي واقع
الصحة أي الصحة بالحمل الشائع، وهو المركب المشتمل على جميع الأجزاء
والقيود الواجد للأثر المطلوب منه، فإذا تعلق به دليل الامضاء، ترتب عليه ذلك
الأثر واتصف بالصحة فعلا، ومن الواضح أن هذه الصحة الفعلية لا يمكن أخذها
في المسمى، لأنها متفرعة على دليل الامضاء المتعلق به، كما أن الصحة المنتزعة
من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به في الخارج، لا يمكن أخذها في المسمى في
باب العبادات، لأنها متقومة بالأمر، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إنه بناء على ما استظهرناه سابقا من أن أسامي العبادات
حقائق لغوية وموضوعة بإزائها قبل الاسلام، فأيضا لا تظهر الثمرة بين القولين
فيها، أما على القول بالأعم فواضح، وأما على القول بالصحيح، فلأن الصحة
عندهم أعم منها عند الشارع بعد الاسلام، فإذن لا فرق بين العبادات
والمعاملات من هذه الناحية أيضا.
وأما إذا كانت المعاملات أسامي للمسببات، فهل يمكن التمسك باطلاقات
أدلة الامضاء من الآيات والروايات لامضاء أسبابها؟ فيه قولان: الأول جواز
221

التمسك بها، والثاني عدم جوازه.
أما القول الأول، فقد اختاره المحقق النائيني قدس سره، وقد أفاد في وجه ذلك أن
نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست منه الأسباب إلى المسببات لتكونا
موجودين خارجيتين تترتب إحداهما على الأخرى ترتبا قهريا، ويكون تعلق
الإرادة بالمسبب بتبع تعلقها بالسبب، من جهة أن اختيارية المسبب إنما هي
باختيارية السبب، كما هو الحال في جميع الأفعال التوليدية، بل نسبتها إليها نسبة
الآلة إلى ذيها، والإرادة تكون متعلقة بنفس المعاملة ابتداء، كما هو الحال في سائر
الانشاءات، فإن قولنا (بعت) أو (صل) ليس بنفسه موجدا للملكية أو
الطلب في الخارج نظير إلقاء الحطب في النار الموجد للاحراق، بل الموجد في
الواقع هو الإرادة المتعلقة بإيجاده إنشاء، والخلاصة أنه إذ لم تكن الصيغ من قبيل
الأسباب والمعاملات من قبيل المسببات، فلم يكن هناك موجودان خارجيان
مترتبان كي لا يكون إمضاء أحدهما إمضاء للآخر، بل موجود واحد، غاية ما
في الباب أنه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة، فالبيع المنشأ بالمعاطاة
قسم، وبغيرها قسم آخر، وباللفظ العربي قسم، وبغير العربي قسم آخر وهكذا،
فإذا كان دليل إمضاء البيع مثلا في مقام البيان ولم يقيده بنوع دون نوع
فيستكشف منه عمومه لجميع الأقسام والأنواع، كما في بقية المطلقات
حرفا (1) بحرف.
ولكن للنظر فيه مجالا، وذلك لأن أدلة الامضاء المتعلقة بالمعاملات بمعنى
المسببات، إن كانت ناظرة إلى أسبابها أيضا وهي صيغ العقود دلت على
إمضائها، سواء أكانت تلك الصيغ مسماة بالأسباب أم بالآلات، وحينئذ فإن كان

(1) أجود التقريرات 1: 73.
222

لها إطلاق من هذه الناحية فلا مانع من التمسك به، وإن لم تكن ناظرة إلى
إمضائها، فهي لا تدل عليه وإن كانت مسماة بالآلات، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إنه لا ريب في أن وجود الصيغ في باب المعاملات مغاير
لوجود المسببات في هذا الباب، فإن المسببات فيه أمور إنشائية اعتبارية لا
وجود لها إلا في عالم الانشاء والاعتبار، بينما تلك الصيغ أمور واقعية حقيقية
موجودة في الخارج، وهي الألفاظ والأفعال فيه، سواء أكان يعبر عنها
بالأسباب أم بالآلات، فان الاختلاف في التعبير لا يغير الواقع.
فما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أن نسبة صيغ العقود إلى المعاملات ليست نسبة
الأسباب إلى المسببات، بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها، فإن أريد بذلك أنهما
ليستا موجودتين في الخارج حتى تترتب إحداهما على الأخرى خارجا قهرا
كترتب المسببات الخارجية على أسبابها والمعلولات على عللها، بل الموجود فيه
الصيغ فقط دون المسببات، فإنها أمور اعتبارية إنشائية ولا وجود لها إلا في عالم
الانشاء والاعتبار دون الخارج، ولهذا تكون نسبتها إليها نسبة الآلات إلى ذيها،
فيرد عليه أن نسبة الصيغ إليها وإن لم تكن كنسبة الأسباب إلى مسبباتها
الخارجية إلا أن ذلك لا يجدي في دفع الاشكال، وهو أن إمضاء المعاملات بمعنى
المسببات لا يستلزم إمضاء صيغها، فإن هذا الاشكال مبني على أن وجود الصيغ
مباين لوجود المعاملات، فإنها موجودة في الخارج بوجود حقيقي، والمعاملات
موجودة في عالم الاعتبار والانشاء دون الخارج.
وإن أريد بذلك أن نسبة الصيغ إلى المعاملات إن كانت نسبة الآلة إلى ذيها،
فإمضاء ذي الآلة يستلزم إمضاء الآلة، دون ما إذا كانت نسبتها إليها نسبة السبب
إلى المسبب، فيرد عليه أن مجرد التغيير في الاسم لا يغير الواقع.
223

وعلى ضوء ذلك أن أدلة الامضاء من الآيات والروايات المتجهة إلى إمضاء
المعاملات بمعنى المسببات، هل تنظر إلى إمضاء كل ما يمكن إيجادها به،
سواء أكان ذلك مسمى بالسبب أم بالآلة، فإن المعيار إنما هو بالواقع لا بالتسمية،
فيه قولان:
فذهب السيد الأستاذ قدس سره إلى القول الأول، وقد أفاد في وجه ذلك ما ملخصه
أن المسببات كالأسباب متعددة، وتنحل خارجا بعدد الأسباب، بلا فرق في
ذلك بين أن يكون المراد من المسبب الأمر الاعتباري النفساني كما اختاره قدس سره أو
الوجود الانشائي المتحصل من الصيغة القولية أو الفعلية كما هو المشهور بين
الأصحاب أو الامضاء العقلائي الذي هو مسبب عن فعل المتعاملين.
أما على الأول فلأن الاعتبار النفساني في كل معاملة غير الاعتبار النفساني
في معاملة أخرى، فإذا باع داره بالصيغة العربية وباع فرسه بالصيغة الفارسية
وباع كتابه بالمعاطاة وهكذا، كانت هناك أسباب ومسببات بعددها، لأن
الاعتبار المبرز بالصيغة العربية غير الاعتبار المبرز بالصيغة الفارسية، وهما غير
الاعتبار المبرز بالمعاطاة.
وأما على الثاني فالأمر أوضح من الأول، لأن المنشأ بكل صيغة عربية أو
فارسية أو فعلية غير المنشأ بالأخرى.
وأما على الثالث فالأمر أيضا كذلك، ضرورة أن العقلاء يمضون كل بيع
صادر من البائع إذا كان واجدا للشروط، فإذا باع زيد كتابه، فهو مورد لامضاء
العقلاء، وإذا باع فرسه كان موردا لامضائهم، وإذا باع داره فكذلك وهكذا.
وعلى ذلك فإذا أمضى الشارع المسبب الموجود والمبرز باللغة الفارسية أو
بالمعاطاة، فلا محالة أمضى المعاطاة أو الصيغة الفارسية، إذ لا معنى للقول بامضاء
224

المسبب منها والمنشأ بها دون نفسها.
والخلاصة أن المسبب بأي معنى كان يتعدد بتعدد الأسباب، وإمضاء كل
مسبب لا يمكن أن ينفك عن إمضاء سببه، وعلى هذا فلا مانع من التمسك بإطلاق
أدلة الامضاء بالنسبة إلى الأسباب أيضا، فإنها إذا كانت مطلقة بالنسبة إلى
المسببات، فهي مطلقة بالنسبة إلى الأسباب أيضا، على أساس أنها تنحل
بانحلال المسببات، فيكون لكل مسبب إمضاء، والمفروض أن انحلال المسببات
إنما هو بانحلال أسبابها، فإذن تدل أدلة الامضاء على إمضاء المسببات بالمطابقة،
وعلى إمضاء الأسباب بالالتزام (1). هذا،
ولكن الظاهر هو القول الثاني، وهو عدم إمكان التمسك بإطلاقات أدلة
الامضاء بالنسبة إلى الأسباب، وذلك لأن مفاد أدلة الامضاء إعطاء قاعدة كلية
لا إمضاء كل مسبب في الخارج، مثلا مفاد قوله تعالى: (أحل الله البيع وحرم
الربا) هو إمضاء المبادلة بين المالين، يعني تمليك عين بعوض إذا لم تكن ربوية،
وأما إمضاؤها عن كل طريق وسبب يمكن إيجادها به فهو لا يدل عليه، وليس
مفاده إمضاء كل مبادلة تقع في الخارج وبأي سبب.
وإن شئت قلت: إن المتفاهم العرفي منه هو أن الله تعالى قد منح الناس الفرصة
على إيجاد البيع وهو المبادلة بين المالين في قبال المنع عنه. وأما أن هذه الفرصة
متاحة لهم بأي طريق وسبب يمكن إيجاده به فلا إطلاق له، لأن معنى إمضاء
المعاملة عند الشارع والعقلاء، إنما هو إعطاء الفرصة للناس على إيجادها في
مقابل المنع، كما هو مقتضى قوله تعالى: (أحل الله البيع وحرم الربا)، فإذا كان
ذلك هو معنى إمضاء المعاملة شرعا وعقلائيا، فلا إطلاق لفظي في أدلة

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 188.
225

الامضاء، على أساس أن إعطاء الفرصة ومنحها للناس لايجاد المسبب كالمبادلة
بين المالين مثلا لا يقتضي منح إيجاده عن أي سبب يمكن إيجاده به.
وعلى هذا فإن كان بين الأسباب قدر متيقن فلا بد من الأخذ به، وفي الزائد
يرجع إلى الأصل وإن لم يكن بينها قدر متيقن حكم بامضاء الجميع، إذ الحكم
بامضاء البعض دون بعض ترجيح من غير مرجح.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من التلازم بين إمضاء المسببات
وإمضاء الأسباب، لا يمكن المساعدة عليه على نحو الإطلاق.
الجهة الخامسة: في ثمرة النزاع بين القولين في المسألة، ولكن ظهر مما تقدم
أن الثمرة لا تظهر بينهما.
وعلل ذلك السيد الأستاذ قدس سره بأن المعاملات تفترق عن العبادات، فإن
العبادات بما أنها ماهية مخترعة من قبل الشارع المقدس، فلو كانت موضوعة
للصحيحة فلا يمكننا التمسك بإطلاق أدلتها، لأن الشك في اعتبار شئ فيها جزءا
أو شرطا يرجع إلى الشك في صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد للشئ
المشكوك فيه، لاحتمال مدخليته في المسمى، وهذا بخلاف المعاملات، فإنها
حيث كانت ماهيات مخترعة من قبل العقلاء لحفظ النظام، فلو كانت موضوعة
للصحيحة لم يكن مانع من التمسك بالاطلاق، باعتبار أن الصحيح عند العقلاء
أعم موردا من الصحيح عند الشارع، نعم تظهر الثمرة بين القولين في باب المعاملات
أيضا فيما إذا شك في اعتبار شئ فيها عند العقلاء جزءا أو شرطا كما مر (1).
وغير خفي أن ما ذكره قدس سره من أن المعاملات أمور عرفية عقلائية وإن كان

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 184.
226

صحيحا، إلا أن ما ذكره قدس سره من أن العبادات من مخترعات الشارع غير صحيح،
لما تقدم من أن العبادات بصورها الخاصة المحددة كما وكيفا موجودة قبل الاسلام
بألفاظها المخصوصة، ولا يتصرف الشارع فيها بعد الاسلام إلا بما لا يكون ذلك
من مقوماتها، فإذن لا فرق من هذه الناحية بين العبادات والمعاملات.
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم هذا الفرق، إلا أنه لا يوجب عدم جريان
نزاع الصحيح والأعم في باب المعاملات عند الشارع، لما مر من أنه لا فرق بينهما
من هذه الناحية أيضا.
فالنتيجة أن الثمرة لا تظهر بين القولين في المسألة، لا من جهة ما ذكره السيد
الأستاذ قدس سره من الفرق بين العبادات والمعاملات، بل من جهة أن أسامي
المعاملات أسام عرفية عقلائية لا شرعية، سواء أكان هناك فرق بينهما
وبين العبادات أم لا.
الجهة السادسة: قد تسأل هل أن أسامي المعاملات موضوعة للمعاملات
بمعنى الأسباب أو المسببات.
والجواب: أنها موضوعة للأولى دون الثانية. فلنا دعويان:
الأولى: أنها موضوعة للمعاملات بمعنى الأسباب.
الثانية: أنها لم توضع للمعاملات بمعنى المسببات.
أما الدعوى الأولى، فلا شبهة في أن المعاملات بمعنى الأسباب كالبيع
والإجارة والنكاح والهبة والصلح وما شاكل ذلك من العناوين الخاصة كلها اسم
لفعل المتعاملين، وهو إنشاء مضمون المعاملة من الملكية أو الزوجية أو نحوها
عن قصد بصيغتها الخاصة من قول أو فعل، ولا يصدق عنوان البيع مثلا على
227

الصيغة فقط، بل عليها بما لها من المضمون الانشائي، فإذا أنشأ البائع تمليك عين
بعوض بلفظ أو ما يقوم مقامه وكان جادا فيه، تحقق البيع في الخارج وصدق
عليها عنوانه الخاص ويكون مشمولا لدليل الامضاء كقوله تعالى: (أحل الله
البيع)، فإنه أوجد البيع الذي أحله تعالى ورخص فيه.
وبكلمة أوضح، إن المعاملات المذكورة متقومة بثلاثة عناصر:
الأول: أداة الانشاء من لفظ أو ما يقوم مقامه.
الثاني: إنشاء مضمون المعاملة بها.
الثالث: أن يكون جادا في إنشائه.
فالمعاملة تتكون من هذه العناصر الثلاثة، فإذا تحققت كانت مشمولة لدليل
الامضاء وترتب عليها أثرها القانوني، وهو حكم الشارع بالصحة، فإذا أنشأ
البائع المبادلة بين مالين بأداتها من قول أو فعل وكان جادا في ذلك ومتوفرا
شروطها وشروط المتعاملين، تحقق البيع خارجا وصدق عليه اسمه وترتب عليه
أثره الشرعي، لمكان شمول دليل الامضاء له.
وأما قصد التسبيب إلى ذلك الأثر، فهل هو معتبر في تحقق المعاملة بعنوانها
الخاص واسمها المخصوص زائدا على العناصر المتقدمة، فيه قولان:
فذهب بعض المحققين قدس سره إلى اعتباره في تحقق المعاملة التي هي بمثابة الموضوع
لدليل الامضاء (1).
ولكن الظاهر أن قصد التسبيب إلى الأثر الشرعي أو العقلائي غير معتبر في

(1) بحوث في علم الأصول 1: 214.
228

تحقق المعاملة، وليس من أركانها وعناصرها المقومة، ومن هنا قد يكون قصد
التسبيب إلى الأثر الشرعي أو العقلائي القانوني أمرا مغفولا عنه عن أذهان
المتعاملين، ولهذا لم يؤخذ في تعريف المعاملة كالبيع أو نحوه، وأدلة الامضاء لا
تدل على أن قصد التسبيب دخيل في تحقق المعاملة وأنه من أحد عناصرها
المقومة، لأن مفادها إمضاء المعاملات بعناوينها الخاصة كالبيع والإجارة
والنكاح والصلح وغيرها، والترخيص في إيجادها.
ودعوى أن البيع أو نحوه من المعاملات معاملات تسبيبية متقومة بالقصد،
مدفوعة بأن ذلك إنما هو من جهة أن الشارع جعلها سببا لترتب الأثر الشرعي
وموضوعا له، ومن الواضح أن قصد موضوعية الموضوع غير معتبر في
موضوعيته، وكذلك قصد سببية السبب.
هذا إضافة إلى أن البائع إذا كان في مقام إنشاء البيع وكان جادا في ذلك، فلا
محالة يكون قصد التسبيب موجودا في أعماق نفسه ارتكازا، فلا يلزم قصده
تفصيلا، إلا أن يكون مراده قدس سره من قصد التسبيب أعم من قصده ارتكازا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن ألفاظ المعاملات المعنونة
بعناوين خاصة أسام لها، شريطة وجدانها للعناصر الثلاثة المتقدمة.
أما الدعوى الثانية، فلأنه إن أريد بالمسبب الشرعي نفس الحكم الشرعي،
وهو حلية إيجاد البيع والترخيص فيه الذي هو مفاد أدلة الامضاء، فلا شبهة في
أن المعاملات ليست أسامي له، فإن المعاملات موضوعة ومتعلقة له، وإن أريد
به الأثر الشرعي القانوني الذي هو نتيجة أدلة الامضاء، فلا اثنينية بين السبب
والمسبب حينئذ إلا بالاعتبار، لأن تمليك عين بعوض كما في البيع سبب بلحاظ
أنه تحقق بانشاء البائع بالمباشرة، ومسبب بلحاظ أن الشارع أحل هذا التمليك
229

وأقره وأمضاه، فالممضى هو نفس التمليك المذكور الذي هو فعل البائع، وبعد
تعلق الامضاء به اتصف بالشرعي، وعلى هذا الأساس فليس هنا فردان من
التمليك لا في عالم الخارج ولا في عالم الاعتبار، بل فرد واحد من التمليك وهو
المنشأ من البائع بالقصد والاختيار، وحينئذ فإذا تعلق به الامضاء من قبل
الشارع صح إسناده إليه أيضا، فلا اختلاف بينهما إلا بالاعتبار والإضافة، فإنه
باعتبار إضافته إلى الشارع مسبب، وباعتبار اضافته إلى البائع سبب.
وبكلمة أوضح إن الانشاء الشخصي الصادر من البائع في باب البيع كتمليك
عين بعوض، تارة يكون موردا لامضاء الشارع إذا كان واجدا لشرائط
الامضاء، وأخرى لا يكون موردا له كما إذا لم تتوفر فيه الشروط المعتبرة من قبل
الشارع، ولكن يكون موردا لامضاء العقلاء بلحاظ توفر شروط إمضائهم فيه،
وثالثة لا يكون موردا لا لهذا ولا لذاك.
أما على الأول، فلأن للمنشأ بهذا الانشاء الشخصي ثبوت وتحقق في عالم
الاعتبار والانشاء لدى الشارع، وكان يتصف بالصفة الشرعية ويترتب عليه
آثاره، ولا اثنينية بين ما يسمى بالسبب وما يسمى بالمسبب ذاتا وحقيقة،
فالاختلاف بينهما إنما هو بالاعتبار، وعلى هذا الأساس لا معنى للنزاع في أن
ألفاظ المعاملات موضوعة للسبب أو المسبب إلا إذا كانت حيثية إضافته إلى
الشارع دخيله في المسمى، وهي غير محتملة.
وأما على الثاني، فلأن للمنشأ بهذا الانشاء الشخصي ثبوت وتحقق في
عالم الاعتبار والانشاء لدى العقلاء دون الشرع، أي لا ثبوت له في هذا
العالم لدى الشارع، ومن هنا يكون البيع صحيحا عند العقلاء ولا يكون
صحيحا عند الشارع.
230

وأما على الثالث، فلأنه لا ثبوت للمنشأ بالانشاء المذكور لا عند الشارع
ولا عند العقلاء، باعتبار أن شروط الصحة غير متوفرة فيه مطلقا حتى عند
العقلاء، وإنما له ثبوت وتحقق شخصي عند المتعاملين مع علمهما بعدم ثبوته لا
عند الشارع ولا عند العقلاء.
ومن هنا يظهر أن المراد من المسبب ليس هو نفس إمضاء الشارع وحكمه
بالحلية، بل المراد منه هو الممضى والمحلل شرعا الذي هو متمثل في الملكية
المنشأة بإنشاء المتعاملين أو الزوجية المنشأة بإنشاء المتعاقدين في باب النكاح
وهكذا، فالنتيجة أنه لا تعدد بين السبب والمسبب ذاتا وحقيقة، والاختلاف
بينهما إنما هو بالاعتبار، هذا.
وقد يقال: إن السبب عبارة عن أداة الانشاء فحسب من لفظ أو ما يقوم
مقامه، وهو غير المسبب الذي هو عبارة عن مضمون المعاملة، وهو الملكية
أو الزوجية.
ولكن هذا القول غير صحيح، إذ من الواضح جدا أن المراد من السبب ليس
هو نفس الأداة للانشاء، بل هي أداة للسبب الذي هو نفس إنشاء مضمون
المعاملة بها عن جد.
إلى هنا قد تبين أن المعاملة كالبيع أو نحوه اسم لمجموع العناصر الثلاثة
المتقدمة.
الجهة السابعة: قد عرفتم أن المعاملات متقومة بالعناصر والأركان الثلاثة،
ونتيجة ذلك أنها موضوعة للأعم، وهو الجامع بين ما ينطبق على المعاملة
المشتملة على الأركان الثلاثة فقط والمشتملة عليها وعلى غيرها من الأجزاء
والشروط غير المقومة على حد سواء، نظير ما ذكرناه في باب العبادات،
231

ويدل على ذلك أمران:
الأول: صحة إطلاق المعاملة على المعاملة الفاسدة كإطلاقها على المعاملة
الصحيحة بلا فرق بينهما في ذلك، مثلا إطلاق البيع على البيع الفاسد كإطلاقه
على البيع الصحيح على حد سواء، وهذا يكشف عن أن المعنى الموضوع له هو
الجامع بين الصحيح والفاسد، واللفظ مستعمل فيه دائما، وإرادة كل من الخاص
إنما هي بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول.
الثاني: أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله منذ بداية الوحي قد طرح نفس هذه الأسماء في
نصوص الكتاب والسنة لإفادة معانيها على المجتمع الاسلامي من الصحابة
والتابعين له بدون أي استغراب منهم على هذا الطرح، بل يظهر منها أنهم كانوا
مأنوسين بها، وهذا يدل على أن المعاملات كانت موجودة بنفس تلك الأسامي
قبل الاسلام ودارجة بها بين العرب في الجزيرة، إذ من الواضح أنها لو لم تكن
دارجة بين الناس قبل الاسلام بنفس الأسامي الموجودة في نصوص الكتاب
والسنة، بأن تكون موجودة بأسامي ولغات أخرى من العبرانية أو السريانية،
لكان طرح النبي الأكرم صلى الله عليه وآله المعاملات منذ بداية الوحي بهذه الأسماء والألفاظ
العربية الخاصة أمرا مستغربا عندهم، حيث إنهم كانوا مأنوسين بألفاظ أخرى
دون هذه الألفاظ، فعدم استغرابهم من هذا الطرح، يكشف عن أنها كانت
موجودة بنفس هذه الألفاظ قبل الاسلام، غاية الأمر أن الشارع بعد الاسلام قد
اعتبر فيها جزءا أو شرطا أو مانعا لم يكن معتبرا فيها عند العقلاء ولا مانعا،
ومن هنا لا ملازمة بين الصحيح لدى العقلاء والصحيح عند الشارع، فربما تكون
المعاملة صحيحة عند العقلاء ولا تكون صحيحة عند الشارع.
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه لا شبهة في أن المعاملات موضوعة للأعم
232

دون الصحيح.
نتيجة بحث الصحيح والأعم تمثل عدة نقاط:
الأولى: أن النزاع في وضع أسماء العبادات والمعاملات للصحيح أو الأعم
يجري على جميع الأقوال في مسألة الحقيقة الشرعية، أما على القول بوضعها من
قبل الشارع بإزاء المعاني الشرعية فالأمر واضح، وكذلك على القول بوضعها
بإزاء تلك المعاني قبل الاسلام، وأما على القول المجاز، فالصحيح في تصويره أن
يقال: إن مفاد القرينة العامة التي يعتمد عليها الشارع في استعمال هذه الألفاظ
الخاصة في المعاني الشرعية مجازا، هل هو استعمال الشارع تلك الألفاظ في
المعاني الصحيحة وإرادة الأعم بحاجة إلى قرينة خاصة، أو استعمالها في الأعم
وإرادة الصحيحة بحاجة إلى قرينة خاصة؟ والأعمي يدعي الأول، والصحيحي
يدعي الثاني على تفصيل تقدم.
الثانية: أن تفسير الصحة بمعنى التمامية غير واقعي، لأن التمامية بمعنى وجدان
الشئ لذاته وذاتياته ليست مساوقة للصحة، سواء كان ذلك الشئ بسيطا أم
مركبا، وكذلك بمعنى وجدان الشئ للأجزاء والشرائط، بل الظاهر أن التمامية
بمعنى وجدان الشئ للحيثية المطلوبة منه مساوقة للصحة، وهذه الحيثية هي
حيثية إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الشريعة في العبادات.
الثالثة: قد تقدم أنه لا شبهة في أن الصحة من ناحية الأجزاء والشرائط على
القول بالصحيح معتبرة في مسمى العبادة كالصلاة ونحوها، ولا طولية بينهما لا في
عالم الوجود ولا في عالم آخر، وأما الصحة من ناحية قصد القربة، فهي منوطة
بإمكان أخذه في المسمى الذي هو متعلق الأمر، وأما الصحة من ناحية عدم
المزاحم والنهي عن العبادة، فلا تكون مأخوذة في المسمى.
233

الرابعة: أن على كل من الصحيحي والأعمي تصوير جامع بين أفراد
العبادات لكي تكون أسماؤها موضوعة بإزاء ذلك الجامع، فعلى الصحيحي
تصويره بين الأفراد الصحيحة، وعلى الأعمي تصويره بين الأعم منها ومن
الفاسدة، على أساس أن احتمال الاشتراك اللفظي أو الوضع العام والموضوع له
الخاص غير موجود على تفصيل تقدم سابقا.
الخامسة: أن ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أنه لا ضرورة تدعو إلى تصوير
جامع بين أفراد العبادات على كلا القولين في المسألة، غير تام على ما تقدم.
السادسة: أن المحقق الخراساني قدس سره قد استدل على وجود جامع بين الأفراد
الصحيحة بقاعدة فلسفية، وهي أن (الواحد لا يصدر إلا من واحد) على
أساس اشتراك تلك الأفراد في أثر واحد، ولكن تقدم أنه لا يمكن تطبيق تلك
القاعدة عليها في المقام.
السابعة: أنه لا يعقل وجود جامع ذاتي بسيط بين الأفراد الصحيحة، باعتبار
أن الصلاة مركبة من حقائق مختلفة ومقولات متباينة، والجامع الذاتي بين تلك
المقولات غير معقول.
الثامنة: أنه لا يتصور وجود جامع مركب بين الأفراد الصحيحة، لأن كل
مركب فرض أنه جامع، فهو صحيح في حالة وفاسد في حالة أخرى، فلا يمكن
تصويره بينها في تمام الحالات.
التاسعة: أن ما ذكره المحقق العراقي قدس سره - من أن الجامع بين الأفراد الصحيحة
لا ينحصر بالجامع الذاتي ولا بالجامع العنواني لكي يقال إن الأول غير
متصور، والثاني لم يوضع اللفظ بإزائه، بل هنا جامع ثالث وهو الجامع
الوجودي بينها - غير تام.
234

العاشرة: أن ما ذكره المحقق الأصبهاني قدس سره - من أن الجامع بين الأفراد
الصحيحة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات إلا من حيث كونه مطلوبا في أوقات
خاصة أو من حيث أثره الخاص كالناهي عن الفحشاء والمنكر - غير تام.
الحادية عشرة: أن ما ذكره المحقق القمي قدس سره - من أن أسماء العبادات كالصلاة
مثلا موضوعة بإزاء الأركان فقط، وأما بقية الأجزاء والشرائط، فهي دخيلة في
المأمور به دون المسمى - غير بعيد على تفصيل تقدم.
الثانية عشرة: ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره - من أن ألفاظ العبادات موضوعة
بإزاء الأركان بنحو لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط، بمعنى أنها
عند وجودها داخلة في المسمى وعند عدمها خارجة عنه - غير تام، لأن الماهية
لا بشرط هي الماهية المطلقة في مقابل الماهية بشرط شئ وبشرط لا التي هي
الماهية المقيدة بالوجود أو بالعدم، والاطلاق إما بمعنى رفض القيود كما هو
مختاره قدس سره أو بمعنى عدم التقييد كما قويناه، فعلى كلا التقديرين ليس معنى لا
بشرط دخول سائر الأجزاء والشرايط في المسمى عند وجودها وعدم دخولها
فيه عند عدم وجودها، فإن ما ذكره قدس سره من التفسير لكلمة لا بشرط ليس
تفسيرا لها على ما تقدم.
الثالثة عشرة: أن ما أورده المحقق النائيني قدس سره من أن شيئا واحدا لا يمكن أن
يكون داخلا في المركب عند وجوده وخارجا عنه عند عدمه، مبني على الخلط
بين المركبات الحقيقية والمركبات الاعتبارية، فما أفاده قدس سره تام في المركبات
الحقيقية دون الاعتبارية.
الرابعة عشرة: يمكن القول بأن ألفاظ المركبات الاعتبارية كالعبادات
ونحوها، موضوعة بإزاء مفهوم منتزع من تجمع الأجزاء بنحو الابهام المنطبق
235

على تجمع الأركان وحدها وعلى تجمع المشتمل عليها وعلى الأجزاء والشرائط
الأخرى، ولكن تقدم أن هذا القول أيضا غير تام.
الخامسة عشرة: أن الأركان المأخوذة في المسمى طبيعي الأركان بعرضها
العريض ومراتبها الطويلة، فالمأخوذ الطهارة الحدثية الجامعة بين الطهارة المائية
والترابية، والركوع الجامع بين ركوع القائم وركوع الجالس وهكذا، هذا إذا كان
بين البدل والمبدل جامع، وإلا فالمأخوذة كل منهما على البدل، وما عن السيد
الأستاذ من أن الأركان مأخوذ فيه على سبيل البدل، لا يتم مطلقا.
السادسة عشرة: أن حديث لا تعاد لا يدل على أن الخمسة ركن وتدور
الصلاة مدارها وجودا وعدما، بل يدل على أنها دخيلة في صحة الصلاة حتى في
حال النسيان، وأما روايات التكبيرة، فإنها أيضا لا تدل على أنها ركن مقومة
للصلاة، نعم رواية التثليث تدل على أن الثلاثة مقومة للصلاة ويدور صدقها
مدارها وجودا وعدما، ولكنها لا تدل على أنها مسمى الصلاة فقط، وقد تقدم
تفصيل ذلك.
السادسة عشرة: أن القول بوضع الصلاة بإزاء معظم الأجزاء، لا يرجع إلى
معنى محصل كما مر.
الثامنة عشرة: الصحيح أن أسماء العبادات موضوعة بإزاء الأعم
دون الصحيحة.
التاسعة عشرة: أن الثمرة لا تظهر بين القولين في الأصول العملية، فإن المرجع
على كلا القولين أصالة البراءة.
العشرون: أن الثمرة تظهر بين القولين بالنسبة إلى الأصول اللفظية، فإنه
236

على القول بالأعم لا مانع من الرجوع إلى إطلاق الأدلة من الكتاب والسنة عند
الشك في جزئية شئ أو شرطية آخر، وأما على القول بالصحيح، فلا يمكن
التمسك بإطلاقها.
الحادية والعشرون: الصحيح أن معنى المعاملة أمر إنشائي منشأ بصيغة
خاصة من قول أو ما يقوم مقامة، فإذا كان المتعامل جادا في ذلك ومتوفرا
شروطه، ترتب عليه أثره، وليس معناه اعتبار الأمر النفساني في أفق النفس
وإبرازه بمبرز ما في الخارج من قول أو فعل كما بنى عليه السيد الأستاذ قدس سره.
الثانية والعشرون: أن محل النزاع في وضع أسماء المعاملات للصحيح أو
للأعم، هل هو بنظر الشرع أو العقلاء؟ فذهب السيد الأستاذ قدس سره إلى أنه بنظر
العقلاء وعدم إمكان أن يكون بنظر الشارع، إذ لو كانت موضوعة للصحيح بنظر
الشارع، استحال تعلق دليل الامضاء به، لأن مفاد دليل الامضاء صحة
المعاملة، فلو كانت صحيحة في المرتبة السابقة، لكان معنى تعلقه بها أن المعاملة
الصحيحة صحيحة، وهذا كما ترى.
ولكن الصحيح إمكان هذا النزاع بنظر الشارع أيضا، لأن ما ذكره قدس سره من
المحذور مبني على وضع أسماء المعاملات للصحيح بالحمل الأولي، وهو مفهوم
الصحيح المتقوم بالامضاء، وأما وضعها بإزاء واقع الصحيح - وهو المركب التام
من الأجزاء والشرائط الواجد للأثر المطلوب منه - فلا مانع من وضعها بإزائه.
كما هو الحال في العبادات على ما تقدم تفصيله.
الثالثة والعشرون: أن المعاملات بمعنى المسببات لا تتصف بالصحة والفساد.
بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى إذا كان المراد بالمسبب ترتب الأثر الشرعي أو
العقلاني، كما هو ظاهر المشهور، وأما لو كان المراد به الأمر الانشائي المنشأ من
237

قبل المتعاملين بصيغته الخاصة من لفظ أو ما يقوم مقامه كالملكية أو الزوجية
فهو يتصف بالصحة تارة وبالفساد أخرى.
الرابعة والعشرون: يجوز التمسك بإطلاق أدلة الامضاء على كلا القولين في
المسألة، ولا تظهر الثمرة بينهما بناء على ما هو الصحيح من أن المعاملات أمور
عرفية عقلائية، إذ على هذا فالصحيح عند العقلاء أعم منه عند الشارع، فلا
مانع حينئذ من التمسك بإطلاق أدلة الامضاء إذا شك في اعتبار شئ فيها شرعا،
لأن صدق اللفظ بما له من المعنى على الفاقد للشئ المشكوك فيه محرز، والشك
إنما هو في اعتبار أمر زائد عليه، نعم تظهر الثمرة بينهما إذا شك في اعتبار شئ فيها
عند العقلاء، فإنه على القول بالأعم يجوز التمسك بالاطلاق دون القول
بالصحيح، وكذلك لو كان هذا النزاع عند الشارع، كما هو الحال في العبادات.
الخامسة والعشرون: أن ما ذكره السيد الأستاذ قدس سره - من أن أدلة الامضاء لو
كانت متجهة إلى إمضاء المعاملات بمعنى المسببات، فهي تدل على إمضاء أسبابها
أيضا بالالتزام - لا يتم.
السادسة والعشرون: أن أسماء المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب التي هي
متمثلة في العناصر الثلاثة:
1 - أداء الانشاء من لفظ أو ما يقوم مقامه.
2 - إنشاء مضمون المعاملة بها.
3 - أن يكون جادا في ذلك.
238

الرابع عشر: المشتق
ها هنا جهات من البحث.
الجهة الأولى: في تنقيح موضوع البحث وتحديده سعة وضيقا.
وغير خفي أن موضوع البحث في المسألة ومحوره الاسم في مقابل الفعل
والمصدر، فإنهما خارجان عن محل النزاع كما سوف نشير إليه.
ثم إن الاسم على أنواع.
النوع الأول: متمثل في الاسم الذي يكون مفهومه منتزعا عن مقام ذاته
وذاتياته، وهي جنسه وفصله الذاتيين بلا دخل لأي شئ خارج عن مقام ذاته
وذاتياته فيه، وذلك كمفهوم الانسان والحيوان والشجر والحجر وما شاكل ذلك،
فإن تلك المفاهيم منتزعة عن ذوات هذه الأسماء بذاتها وذاتياتها على أثر اتصاف
تلك الذوات بالمبادئ الذاتية لها، كاتصاف ذات الانسان بصورته النوعية وهي
صورة الانسانية، فإن هذا الاتصاف هو المنشأ لانتزاع مفهوم الانسان وهكذا.
النوع الثاني: متمثل في الاسم الذي يكون مفهومه منتزعا عن أمر خارج عن
ذاته وذاتياته بملاك اتصاف ذاته به، وذلك كمفهوم الزوج والزوجة والرق والحر
وما شابه ذلك.
النوع الثالث: متمثل في الاسم الذي يكون وصفا اشتقاقيا، وذلك كأسماء
الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات بالفعل وأسماء الأزمنة والأمكنة ونحو
ذلك، هذا من ناحية.
239

ومن ناحية أخرى إن دخول كل اسم في موضوع البحث منوط بتوفر
مرين فيه:
أحدهما: أن يكون الاسم جاريا على الذات المتلبسة بالمبدأ بنحو من أنحاء
التلبس ومحمولا عليه حقيقة.
وثانيهما: بقاء الذات في حال انقضاء المبدأ عنها وعدم استحالة ذلك، بأن
تكون الذات جامعة بين الفرد المتلبس بالمبدأ والفرد المنقضي عنه المبدأ.
وعلى ضوء هذا الأساس فالنوع الأول من الأسماء خارج عن موضوع النزاع
في المسألة، لعدم توفر شئ من الشرطين فيه، أما عدم توفر الشرط الأول فلأنه
عين ذاته وذاتياته، فلذلك لا يمكن حمله عليها إلا بالحمل الأولي الذاتي لا
بالشائع الصناعي، لأن حمل الانسان على الحيوان الناطق حمل أولي لا شائع،
وأما عدم توفر الشرط الثاني فلأن بقاء الذات فيه مع انقضاء المبدأ عنها
مستحيل، على أساس أنه ذاتي لها من الذاتي باب الكليات، ولا يعقل بقاء ذات
الانسان مع زوال صورته النوعية.
وأما النوع الثاني من الأسماء، فالظاهر أنه داخل في محل النزاع، على أساس
أن كلا الشرطين متوفر فيه، أما توفر الأول فلمكان صحة حمله على الذات،
كقولك زيد زوج أو رق أو حر وهند زوجة وهكذا. وأما توفر الثاني فلأن
الذات لا تنتفي بانتفاء المبدأ عنها، لأنه ليس من مقوماته.
وأما النوع الثالث، فهو القدر المتيقن من دخوله في محل النزاع.
فالنتيجة أن دخول كل اسم في محل النزاع منوط بتوفر الشرطين المذكورين
فيه. ومن هنا يظهر أن خروج الأفعال والمصادر عن محل النزاع إنما هو من جهة
240

عدم توفر الشرط الأول فيهما، وهو صحة الحمل والجري على الذات.
قد يقال كما قيل: إن لازم اعتبار الشرط الثاني خروج مجموعة كبيرة من
العناوين الاشتقاقية عن محل النزاع.
منها العناوين التي تكون مبادئها من لوازم ذواتها، فيستحيل انفكاكها عنها
خارجا، وذلك كالممكن والممتنع والواجب والمعلول والعلة وما شاكل ذلك،
فإن مبادئ هذه العناوين وإن كانت حيثية عرضية لها، إلا أنها لازمة لذاتها
ولا يمكن زوالها عنها إلا بزوال ذاتها، ولهذا تكون تلك المبادئ من الذاتي باب
البرهان، مثلا إمكان الممكن منتزع عن مقام ذاته لا عن شئ خارج عن ذاته،
وإلا لزم أن يكون الممكن خاليا عن الامكان في مرتبة ذاته، وهذا مستحيل،
لاستلزام ذلك انقلاب الممكن إلى أحد أخوية، ونفس الشئ يقال في الواجب
والممتنع والمعلول والعلة ونحوها.
فمن أجل ذلك ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى خروج هذه العناوين عن محل
النزاع كالعناوين الذاتية، ولا معنى للبحث عن أنها موضوعة لخصوص المتلبس
بالمبدأ فعلا أو للجامع بينه وبين المنقضي عنه المبدأ، باعتبار أن انقضاء المبدأ عنها
لا يتصور إلا بانقضاء نفس الذات في الخارج.
وإن شئت قلت: إن المواد الثلاث وهي الوجوب والامكان والامتناع وإن
كانت خارجة عن ذات الشئ وذاتياته، إلا أنها منتزعة عن مقام ذاته لا عن
شئ خارج عن ذاته، ولهذا تكون من الخارج المحمول، ولا يعقل خلو شئ من
الأشياء في الواقع عن إحدى هذه المواد الثلاث في الخارج، ومن هذا القبيل
العلية والمعلولية، فإنهما منتزعتان عن مقام ذات العلة وذوات المعلول، وهما وإن
كانتا خارجتين عن مفاد ذاتيهما ولكن لا يعقل زوالهما مع بقاء الذات، وإلا لزم
241

اتصاف ذات العلة وذات المعلول بغيرهما، وهو كما ترى (1).
وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ قدس سره بتقريب أو وضع الهيئات لو كان
شخصيا كوضع المواد، فلا يمكن دفع هذا الاشكال، ضرورة أنه لا معنى للبحث
حينئذ عن أن هذه الهيئات الخاصة موضوعة لخصوص الذات المتلبسة بالمبدأ
فعلا أو للأعم منها ومن الذات المنقضية عنها المبدأ رغم أن بقاء الذات فيها مع
انقضاء المبدأ عنها مستحيل، وأما إذا كان وضعها نوعيا كما هو كذلك، فلا مجال
لهذا الأشكال، لأن النزاع عندئذ إنما هو في وضع الهيئة الجامعة بين الهيئات
الخاصة التي لا يمكن فيها بقاء الذات مع زوال المبدأ عنها والهيئات الأخرى التي
يمكن فيها بقاء الذات مع زوال المبدأ عنها، لأن البحث عن وضع الهيئة الجامعة
سعة وضيقا لا يكون لغوا بعد ما كانت الذات باقية بعد زوال المبدأ في جملة كثيرة
من أفرادها، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن النزاع إنما هو في وضع هيئة
(مفعول) وهيئة (فاعل) وهيئة (مفعل)، ومن الواضح أن هذه الهيئات لا
تختص بالمواد التي هي منتزعة عن مقام ذاتها وذاتياتها ولازمة لها، بحيث لا
يعقل زوالها مع بقاء ذاتها، كالممكن والممتنع والواجب والعلة والمعلول
ونحوها لكي لا يجري النزاع فيها، بل تشمل ما يمكن فيه بقاء الذات مع زوال
التلبس بالمبدأ وانقضائه عنها، كالمقيم والمنعم والضارب والمالك والمملوك
والقادر والمقدور وهكذا.
والخلاصة أن وضع الهيئات بما أنه نوعي، فلا موجب لخروج تلك العناوين
عن محل النزاع، فإن الخارج عن محل النزاع أمران لا غير.

(1) أجود التقريرات 1: 79.
242

الأول العناوين الذاتية، والثاني الأفعال والمصادر (1). هذا،
ويمكن التعليق على ذلك بتقريب أنه لا مانع من الالتزام بدخول تلك
العناوين في محل النزاع حتى القول بأن وضع الهيئات شخصي كوضع المواد،
وذلك لأن استحالة وجود فرد في الخارج لا تمنع عن إمكان الوضع بإزاء مفهوم
جامع بينه وبين فرد آخر إذا كان الجامع قابلا للتصور واللحاظ.
وعلى هذا فدخول العناوين المذكورة في محل النزاع مبتن على ركيزتين:
الأولى: إمكان تصور الجامع بين الفرد المتلبس والمنقضي.
الثانية: أن استحالة تحقق الفرد المنقضي في الخارج لا تمنع عن الوضع بإزاء
الجامع.
أما الركيزة الثانية فالظاهر أنه لا وجه للنقاش فيها، إذ استحالة أحد فردي
الجامع في الخارج لا تمنع عن إمكان الوضع بإزاء جامع بينه وبين الفرد الآخر،
وعلى هذا فلا مانع من وضع المشتق بإزاء جامع بين المتلبس بالمبدأ فعلا وبين
المنقضي عنه المبدأ وإن استحال وجود الفرد المنقضي في الخارج.
ودعوى أن مثل هذا الوضع لغو ولا فائدة فيه، مدفوعة بأنه إنما يكون لغوا
إذا كان الفرض مترتبا على فرده في الخارج، وهو خصوص المتلبس في المقام،
بحيث لا يستعمل اللفظ إلا فيه دون الجامع، وأما إذا فرض أن اللفظ مستعمل
في الجامع واستفادة الفرد إنما هي بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول،
فلا يكون لغوا.
فالنتيجة، أن الجامع بين المتلبس والمنقضي إذا كان متصورا، فاستحالة

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 229.
243

وجود الفرد المنقضي في الخارج لا تمنع عن الوضع بإزاء الجامع.
وأما الركيزة الأولى: فقد يقال إن الجامع بين الفرد المتلبس والمنقضي في
العناوين المذكورة غير متصور حتى يكون اللفظ موضوعا بإزائه، فلذلك تخرج
عن محل النزاع، فيكون حالها من هذه الناحية حال العناوين الذاتية، فكما أن
الجامع بينهما في تلك العناوين غير متصور، لاستلزامه التناقض في عالم التصور
واللحاظ، فكذلك في هذه العناوين.
بيان ذلك أن تصور الجامع بين الذات المتلبسة بالامكان مثلا والذات الفارغة
عنها الامكان يستلزم في نفس الوقت عدم تصوره بينهما، على أساس أن الذات
الفارغة عنها الامكان ليست بذات الممكن حتى يكون هذا الجامع جامعا بين
فرديها، وهذا هو معنى التناقض في عالم التصور واللحاظ، كما هو الحال في
العناوين الذاتية.
والخلاصة أن خروج هذه العناوين العرضية عن محل النزاع ليس من جهة
استحالة وقوع الفرد المنقضي فيها خارجا، بل من جهة عدم إمكان
تصور الجامع بين الفردين فيها واستلزامه التناقض في هذه المرحلة أي مرحلة
التصور. هذا،
والجواب، أن استحالة انفكاك المبدأ عن الذات في الشرط الثاني تتصور
على نحوين:
الأول: أنها وقوعية فعلية، لا ذاتية منطقية.
الثاني: أنها ذاتية منطقية.
وعلى هذا فالاستحالة إن كانت على النحو الأول، فهي لا تمنع عن تصور
244

الجامع بينهما في عالم المفهوم، وإن كانت على النحو الثاني تمنع عن تصوره،
وحيث إن استحالة الانفكاك في تلك العناوين وقوعية فعلية لا ذاتية منطقية، فلا
تمنع عن حضور الجامع بين فردي المتلبس والمنقضي فيها، وذلك لأن المبدأ في
العناوين المذكورة مغاير للذات مفهوما ومصداقا، غاية الأمر أنه لا ينفك عنها
خارجا، لأنه من لوازمها الذاتية من الذاتي باب البرهان، ولكن ذلك لا يمنع عن
تصور الجامع بينهما، لأن المبدأ إذا كان مغايرا مع الذات كما هو المفروض في
العناوين المذكورة، أمكن تصور الذات فارغة ومنقضية عنها المبدأ في عالم
التصور واللحاظ، ولا يلزم من ذلك عدم تصورها حتى يكون تصورها
مستحيلا بملاك التناقض في نفس عالم التصور واللحاظ، وإنما يلزم ذلك إذا كان
المبدأ عين الذات حقيقة كما في العناوين الذاتية كالانسان والحيوان ونحوهما،
فإنه لا يمكن تصور ذات الانسان فارغة عن مبدئها وهو الانسانية التي هي
صورتها النوعية المقومة، بداهة أن تصورها كذلك ليس تصورا لها في نفس
الوقت، فيلزم حينئذ التناقض في عالم التصور واللحاظ، وهو مستحيل.
وبكلمة، إن تصور الشئ بدون صورته النوعية المقومة له وبقطع النظر عنها
ليس تصورا له، وهذا معنى أنه يلزم من تصوره كذلك عدم تصوره، وما يلزم
من تصوره عدم تصوره، فتصوره مستحيل، وأما تصور ذات الممكن بدون
الامكان وبقطع النظر عنه، فهو بمكان من الامكان، باعتبار أن مبدئها مغاير لها،
فلا مانع من التفكيك بينهما في عالم التصور واللحاظ، وإنما لا يمكن ذلك في عالم
الواقع والخارج، وعلى هذا فبإمكان الواضع تصور الجامع بين الذات المتلبسة
بالامكان والذات الفارغة عنها الامكان ووضع لفظ (الممكن) بإزائه، ونفس
الشئ يقال في نظائره، غاية الأمر أن تحقق الفرد المنقضي في الخارج مستحيل.
245

فالنتيجة أن استحالة وقوع الفرد المنقضي في الخارج لا تمنع عن دخول
العناوين المذكورة في محل النزاع ووضع اللفظ بإزاء الجامع بعد إمكان تصوره.
ومن هنا يظهر أن المراد من استحالة انفكاك المبدأ عن الذات في الشرط الثاني
هو الاستحالة الذاتية المنطقية، وحينئذ فاشتراط عدمها مساوق لاشتراط
المغايرة بين المبدأ والذات ولو كان المبدأ لازما لها خارجا، وأما إذا كان المبدأ
متحدا مع الذات ومقوما لها حقيقة وذاتا، فلا يكون هذا الشرط متوفرا فيه كما
في العناوين الذاتية مثل الانسان والحيوان والشجر والحجر ونحوها، فإن مبدأ
الانسان المتمثل في صورته النوعية المقومة وهي الانسانية لا يعقل انفكاكه عنه
لا في عالم الخارج ولا في عالم التصور واللحاظ، بداهة أنه لا يمكن تصور ذات
الانسان فارغة عن الانسانية، لأنه ليس تصورا لها، فيلزم حينئذ من فرض
تصورها عدم تصورها، وهو مستحيل.
إلى هنا قد تبين أن العناوين العرضية التي يكون مبدؤها لازما لذاتها من
الذاتي باب البرهان، داخلة في محل النزاع حتى على القول بأن وضع الهيئات
شخصي، وأما العناوين الذاتية التي يكون مبدؤها مقوما لذاتها من الذاتي باب
الكليات، فهي خارجة عن محل النزاع.
ومنها ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن أسماء الأزمنة خارجة عن محل
النزاع، بتقريب أن الشرط الثاني وهو إمكان انخفاظ الذات مع زوال المبدأ عنها
غير متوفر فيها، باعتبار أن الذات فيها هي نفس الزمان، وهو ينصرم آنا فآنا
ولا يعقل انخفاظه وبقاؤه، وعلى هذا فالزمان الذي وقع فيه المبدأ فقد انصرم
ومضى، والزمان الذي هو موجود فعلا لم يقع فيه المبدأ، ونتيجة ذلك أن الشرط
246

الثاني غير متوفر فيها، فلذلك تكون خارجة عن محل النزاع (1).
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن هذا الاشكال مبني على أن يكون
لأسماء الأزمنة وضع على حدة في قبال أسماء الأمكنة، ولكن الأمر ليس كذلك،
فإن الهيئة المشتركة بينهما وهي هيئة (مفعل) موضوعة بوضع واحد لمعنى واحد
كلي، وهو ظرف وقوع الفعل في الخارج أعم من أن يكون زمانا أو مكانا، وقد
مر أن النزاع في المقام إنما هو في وضع الهيئة بلا نظر إلى مادة دون مادة، فإذا لم
يعقل بقاء الذات في مادة مع زوالها، لم يوجب ذلك عدم جريان النزاع في الهيئة
نفسها التي هي مشتركة بين ما يعقل فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها وما لا
يعقل فيه ذلك، وحيث إن الهيئة في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بين
الزمان والمكان، كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو الأعم نزاعا
معقولا، غاية الأمر أن الذات إذا كانت زمانا لم يعقل بقاؤها مع زوال التلبس عن
المبدأ، وإذا كانت مكانا يعقل فيه ذلك، ولا مانع من وضع اللفظ للجامع بين
الفرد الممكن والممتنع إذا تعلقت الحاجة بتفهيمه. نعم، لو كانت هيئة اسم الزمان
موضوعة بوضع على حدة لخصوص الزمان الذي وقع فيه الفعل، لم يكن مناص
من الالتزام بخروج اسم الزمان عن محل النزاع (2)، وقد سبقه في هذا الجواب
المحقق الأصبهاني قدس سره (3).
ولنا تعليق على هذا الجواب، وحاصل هذا التعليق هو أن هيئة اسمي الزمان

(1) كفاية الأصول: 40.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 232.
(3) نهاية الدراية 1: 172.
247

والمكان وإن كانت هيئة واحدة ومشتركة بينهما، إلا أن اشتراكهما فيها إنما هو في
اللفظ فقط لا في المعنى، وذلك لأن معنى كل من اسمي الزمان والمكان معنى
حرفي، وليس معناه مفهوم الظرفية بالحمل الأولى الذي هو مفهوم اسمي، بل
واقع الظرفية الذي هو ظرف بالحمل الشائع ونسبة بين الظرف والمظروف،
وحيث إن النسبة متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها، فبطبيعة الحال
تختلف النسبة الظرفية في ظرف الزمان عن النسبة الظرفية في ظرف المكان، على
أساس أن شخص طرفيها في الأول يختلفان عن شخص طرفيها في الثاني، فإذن
لا محالة تختلف النسبتان ولا يعقل اشتراكهما في جامع ذاتي، لما ذكرناه في بحث
الحروف من أن الجامع الذاتي بين أنحاء النسب والروابط غير معقول، لأن
المقومات الذاتية لكل نسبة مباينة للمقومات الذاتية للنسبة الأخرى، ومع
إلغائها فلا نسبة في البين، ومع الحفاظ عليها، فالنسب وإن كانت ثابتة إلا أنها
متباينات بالذات والحقيقة.
وعلى هذا فما أفاده قدس سره من أن هيئة (مفعل) موضوعة بوضع واحد لمعنى
واحد كلي فلا يمكن المساعدة عليه، لأنه إن أريد بالمعنى الكلي الجامع الذاتي بين
ظرف الزمان وظرف المكان، فقد عرفت أن الجامع الذاتي بينهما غير متصور،
وإن أريد بالجامع العنواني الانتزاعي، فهو وإن كان أمرا معقولا وجامعا
بينهما إلا أن الهيئة المشتركة لم توضع بإزائه، لأنه مفهوم اسمي لا حرفي، ومعنى
الهيئة معنى حرفي.
ودعوى أنه لا مانع من الالتزام بوضع الهيئة للنسبتين بالوضع العام
والموضوع له الخاص، بأن يتصور الواضع الجامع العنواني بينهما، وهو
عنوان الظرفية ويوضع اللفظ بإزاء واقعه وهو النسبتان بنحو الوضع العام
248

والموضوع له الخاص.
مدفوعة بأن لازم ذلك أن الصيغة المشتركة لا تدل على خصوصية كون
الظرف زمانيا أو مكانيا إلا بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، باعتبار أن
حالها حينئذ حال اللفظ المشترك بين معنيين أو أكثر مع أن الأمر ليس كذلك،
فإن الصيغة بنفسها تدل على الخصوصية من الزمانية أو المكانية.
ولكن غير خفي أن هذا الدفع لا يخلو عن تأمل، وذلك لأن النسبة الظرفية في
أسماء الأزمنة مباينة للنسبة الظرفية في أسماء الأمكنة من جهة أن المقومات
الذاتية لكل منها مباينة للمقومات الذاتية للأخرى، ومن الواضح أن الدال على
الأولى، وبما لها من خصوصية كون الظرفية زمانية هو أسماء الأزمنة، والدال على
الثانية كذلك هو أسماء الأمكنة، ولكن مع هذا فمن يقول بأن الهيئة المشتركة
موضوعة بإزاء النسبتين بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص أو بنحو
الاشتراك اللفظي فلا مجازفة فيه، بقرينة أنها لا تدل بنفسها على الخصوصية
الخاصة بدون قرينة عليها، كخصوصية كون الظرف زمانيا أو مكانيا، مثلا إذا
قيل (مقتل زيد) فلا تدل الهيئة على شئ من الخصوصيتين، فالدلالة عليها
بحاجة إلى ضم قرينة في البين من الحالية أو المقامية أو غيرها، وما مر من أن
الهيئة بنفسها تدل على الخصوصية لعله خلاف الوجدان.
الثاني: ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن انحصار مفهوم كلي في فردين
أحدهما ممكن والآخر ممتنع، لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى
وضعه للفرد الممكن، فإن له أن يلاحظ المعنى الجامع بين الفردين ووضع اللفظ
له، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد وهو الفرد
المتلبس لا يوجب وصفه له، بل يمكن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بإزائه،
249

لأن انحصاره في الخارج في فرد وهو الزمان المتلبس بالمبدأ بالفعل وامتناع تحقق
فرده الأخر وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ لا يمنع عن وضع لفظ للجامع بين الفرد
الممكن والمستحيل، ومن هنا وقع النزاع في وضع لفظ الجلالة (الله) وأنه اسم
للجامع أو علم لذاته المقدسة، فلو لم يكن الوضع للكلي الجامع بين الممكن
والممتنع لم يصح النزاع فيه، بل كان المتعين أنه علم لا اسم جنس، بل قال قدس سره إن
كلمة الواجب موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر أفراده غير ذاته تعالى
وتقدس (1)، هذا.
وقد أورد عليه السيد الأستاذ قدس سره بأن وضع لفظ للمعنى الجامع بين الفرد
الممكن والممتنع وإن كان ممكنا بل لا مانع من وضع لفظ لخصوص الفرد
المستحيل، كوضع لفظ بسيط للحصة المستحيلة من الدور أو التسلسل أو لمفهوم
اجتماع النقيضين فضلا عن الوضع للجامع بين ما يمكن وما يستحيل، كما هو
الحال في لفظ الدور والتسلسل والاجتماع وما شاكل ذلك، فإن الجميع وضع
للمفهوم العام مع امتناع بعض أفراده في الخارج، ولكن وقوع مثل هذا الوضع
متوقف على تعلق الحاجة بتفهيم الجامع المذكور، وذلك لأن الغرض من الوضع
والداعي إليه التفهيم والتفهم في المعاني التي تتعلق الحاجة بإبرازها كما في الأمثلة
المذكورة، لأن الحاجة كثيرا ما تتعلق باستعمال تلك الألفاظ في الجامع، بل تطلق
كثيرا ما ويراد منها خصوص الفرد المستحيل والحصة الممتنعة، وأما إذا لم تتعلق
الحاجة بذلك فيكون الوضع لغوا، وحيث إن الحاجة لم تكن متعلقة باستعمال
أسماء الأزمنة في الجامع بين الزمان المنقضي عنه المبدأ والزمان المتلبس كان
الوضع بإزائه لغوا، فلذلك تخرج عن محل النزاع.

(1) كفاية الأصول: 40.
250

ثم إنه قدس سره قد أشكل عليه بأن قياس المقام باسم الجلالة قياس مع الفارق، لأن
الحاجة تتعلق باستعمال لفظ الجلالة في الجامع في مسألة البحث عن التوحيد
وغيره، فلذلك لا يكون وضعه بإزاء الجامع لغوا (1).
ولنا تعليق عليه، وحاصل هذا التعليق هو أن تصور الجامع بين الفرد
المتلبس والمنقضي في أسماء الأزمنة إذا فرض أنه ممكن، فلا مانع من وضع
اللفظ بإزائه.
ودعوى أن اسم الزمان بما أنه مستعمل دائما في خصوص الفرد المتلبس،
فيكون وضعه بإزاء الجامع لغوا وبلا فائدة.
مدفوعة أما أولا، فلأن الجامع إذا كان متصورا بينهما وكان اللفظ موضوعا
بإزائه، فلا مانع من استعماله فيه، وإرادة خصوص الفرد المتلبس عند
تعلق الحاجة به إنما هي بدال آخر من باب تعدد الدال والمدلول، كما هو الحال
في سائر الموارد.
وثانيا: إن الغرض الكلي من وضع الألفاظ إنما هو إعطاء صفة الصلاحية لها
لاستخدامها واستعمالها كوسيلة لنقل المعاني والأفكار إلى الآخرين لدى الحاجة
بنحو القضية الشرطية، وأما فعلية هذا الاستخدام والاستعمال، فهي تتبع فعلية
الحاجة، وعلى هذا فإذا فرض أن أسماء الأزمنة موضوعة بإزاء الجامع، فقد
ترتب على وضعها بإزائه أثره، وهو صفة الصلاحية للدلالة عليه، فلا يكون
لغوا، وأما فعلية الاستعمال والدلالة، فهي منوطة بفعلية حاجة المستعمل،
وعليه فإذا فرض أن حاجة المستعمل دائما متعلقة بتفهيم الفرد دون الجامع،

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 231.
251

فهي لا تدعو إلى استعمالها في الفرد مجازا لا في الجامع، إذ كما يمكن ذلك يمكن
استعمالها في الجامع وإرادة الفرد بدال آخر، فلا يكون هذا الوضع حينئذ لغوا،
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى هل يمكن تصور الجامع بين المتلبس والمنقضي في أسماء
الأزمنة أم لا؟
والجواب: أنه لا يمكن بنظر العقل، وذلك لأنه يلزم من تصور الزمان الفارغ
عنه المبدأ عدم تصوره، وما يلزم من تصوره عدمه فتصوره محال.
وبكلمة، إن مفهوم الزمان الذي هو زمان بالحمل الأولي وإن كان جامعا بين
الزمان المتلبس بالمبدأ والزمان المنقضي، إلا أن أسماء الأزمنة لم توضع بإزاء
مفهوم الزمان، لأنه مفهوم اسمي، ومعنى اسم الزمان معنى حرفي.
هذا إضافة إلى أن لازم ذلك أن يكون اسم الزمان مرادفا مع لفظ الزمان في
المعنى، وهو كما ترى.
وأما واقع الزمان الذي هو زمان بالحمل الشائع، فلا يمكن تصور جامع بين
الزمان المتلبس بالمبدأ والزمان المنقضي عنه المبدأ، على أساس أنه يلزم من
تصوره عدم تصوره، وهو مستحيل.
هذا كله بحسب النظر الدقي العقلي، وأما بحسب النظر العرفي، فسوف يأتي
الكلام فيه عن قريب.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنه على ضوء النظر الدقي العقلي، فإن
كان الجامع بين المتلبس والمنقضي متصورا في أسماء الأزمنة، فلا مبرر لخروجها
عن محل النزاع، وإن لم يكن متصورا بينهما، فلا مناص من خروجها عن محل
252

النزاع، لعدم توفر الشرط الثاني فيها.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق العراقي قدس سره من أن الذات محفوظة في اسم
الزمان بعد زوال المبدأ عنها، بتقريب أن الاتصال بين اللحظات الزمنية وآناتها
مساوق للوحدة بنظر العرف، وذلك مثل اليوم مثلا، فإنه بنظر العرف شئ
واحد يوجد بوجود أول جزء منه حقيقة وينتفي بانتفاء آخر جزء.
وعليه فإذا وقع القتل مثلا في جزء منه تلبس اليوم به بلحاظ ذلك الجزء، وإذا
انقضى هذا الجزء وجاء الجزء الثاني فقد انقضى عنه المبدأ بلحاظ هذا الجزء،
فالذات وهي اليوم محفوظة في كلتا الحالتين، هما حالة التلبس وحالة الانقضاء.
وبكلمة، إن واقع الزمان تدريجي تصرمي متقوم بالتدريج والتصرم ذاتا
وحقيقة، بمعنى أن التدرج والتصرم من المقومات الذاتية له كالجنس والفصل
للنوع، وقد قسم هذا الزمان إلى قطعات خاصة بلحاظ ما يترتب عليها من
الآثار الشرعية أو العرفية، ويكون كل قطعة منها المعنونة بعنوان مخصوص
والمسماة باسم خاص موضوع للأثر، وذلك كاليوم والليل والأسبوع والشهر
والسنة والدهر والساعة وهكذا، ويكون لكل قطعة منها وجود مستقل يوجد
حقيقة بوجود أول جزء منها ويستمر وجودها إلى انتهاء آخر جزء منها، وعلى
هذا فإذا وقع قتل في يوم الجمعة مثلا، فقد تلبس نفس يوم الجمعة بالقتل حقيقة
بلحاظ وجوده بوجود الجزء الواقع فيه القتل، كما أنه قد انقضى عنه القتل كذلك
بلحاظ وجوده بوجود الجزء الثاني وانقضاء الجزء الواقع فيه القتل وهكذا،
وعلى كلا التقديرين فالذات وهي نفس يوم الجمعة محفوظة في كلتا الحالتين معا،
وهما حالة التلبس وحالة الانقضاء، فيكون حال أسماء الأزمنة حينئذ حال
أسماء الأمكنة ولا فرق بينهما، فكما أن الذات في أسماء الأمكنة محفوظة في
253

كلتا الحالتين فكذلك في أسماء الأزمنة، وعليه فلا إشكال في دخولها في
محل النزاع (1).
وهذا الجواب هو الأقرب وأظهر ما في الباب.
إلى هنا قد تبين أن النظر إلى الزمان إن كان بدقة عقلية فبما أن كل آن منه
بهذا النظر مباين للآخر، فبطبيعة الحال لم يتوفر فيه الشرط الثاني، وإن كان
بنظر عرفي فبما أن لكل قطعة من الآنات المتصلة وحدة وجودية، فيكون حاله
حال اسم المكان.
ومنها ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من أن اسم الآلة خارج عن محل النزاع في
المسألة، بتقريب أن الهيئة في أسماء الآلة قد وضعت للدلالة على قابلية الذات
للتلبس بالمبدأ واستعدادها له، فإذا كانت الذات كذلك صدق عليها اسم الآلة
حقيقة وإن لم تتلبس بالفتح فعلا، مثلا هيئة المفتاح تصدق على آلة الفتح حقيقة
وبدون عناية وإن لم تتلبس بالفتح فعلا، ومن هنا يكفي في صحة إطلاق اسم الآلة
حقيقة شأنية الآلة وقابليتها للتلبس بالمبدأ وإن لم تكن متلبسة به بالفعل، فإذن
لا معنى للنزاع في أن هيئة أسماء الآلة موضوعة لخصوص الذات المتلبسة بالمبدأ
فعلا أو للأعم منها ومن الذات المنقضية (2).
ولكن يمكن المناقشة فيه، بتقريب أنه لا شبهة في أن المبدأ في أسماء الآلة
كالمفتاح والمكنس ونحوهما هو القابلية والشأنية، فما دامت قابلية الذات
للاتصاف بالمبدأ موجودة فالتلبس فعلي، والاطلاق حينئذ يكون على المتلبس،
لأن الانقضاء فيها إنما هو بزوال تلك القابلية عنها ولو بكسر بعض أسنانها أو

(1) نهاية الأفكار 1: 129.
(2) أجود التقريرات 1: 124.
254

غير ذلك، وعلى هذا فبناء على القول بكون المشتق موضوعا للمعنى الجامع بين
الذات المنقضية عنها المبدأ والمتلبسة به فعلا يصدق عليه أنه مفتاح على نحو
الحقيقة، وعلى القول بكونه موضوعا للمتلبس به فعلا لا يصدق عليه إلا مجازا،
ومن هنا لا شبهة في صدق لفظ المفتاح حقيقة على كل ما فيه قابلية للفتح ولو لم
يقع الفتح به خارجا، وكذا المكنس.
فالنتيجة أن المبدأ فيها هو القابلية والشأنية لا الفعل الخارجي كالفتح
والكنس الخارجيين، وعليه فما أفاده قدس سره من خروج اسم الآلة عن محل النزاع
مبني على الخلط بين شأنية اتصاف الذات بالمبدأ وفعليته به، وتخيل أن المعتبر في
التلبس إنما هو التلبس بالمبدأ بالفعل.
ومنها استثناؤه قدس سره أسماء المفعولين، بدعوى أن هيئة تلك الأسماء موضوعة
للدلالة على وقوع المبدأ على الذات، وهو مما لا يعقل فيه الانقضاء، لأن ما وقع
لا ينقلب عما وقع عليه (1).
والجواب أولا بالنقض بأسماء الفاعلين، لأن ما أفاده قدس سره من المبرر لخروج
أسماء المفعولين موجود بعينه في أسماء الفاعلين، إذ كما أن الشئ إذا وقع في
الخارج لا ينقلب عما وقع عليه كذلك إذا صدر شئ عن الفاعل فيه، استحال أن
ينقلب عما صدر عنه.
وثانيا بالحل، وحاصله أن ما ذكره قدس سره من المبرر لخروج أسماء المفعولين عن
محل النزاع مبني على الخلط بين الأمرين، أحدهما أن يكون المبدأ في مثل هيئة
المضروب الضرب الواقع على الذات في الخارج، والآخر أن يكون المبدأ فيها

(1) أجود التقريرات 1: 124.
255

الضرب الذي يقع عليها فعلا، فإن كان المبدأ الأول فالأمر كما أفاده قدس سره، إذ
يستحيل أن ما وقع في الخارج ينقلب عما وقع عليه، ولكن الأمر ليس كذلك،
فإن الأول لا يصلح أن يكون مبدأ لهيئة المفعول كالمضروب، وذلك لأن المتفاهم
العرفي من هيئة المضروب مثلا إما خصوص من يقع عليه الضرب فعلا أو الأعم
منه وممن ينقضي عنه الضرب.
وبكلمة، إن الضرب مبدأ للفاعل والمفعول معا، غاية الأمر أن تلبس الذات
به في الفاعل تلبس فاعلي يتضمن حيثية الصدور، وفي المفعول تلبس مفعولي
يتضمن حيثية الوقوع، وهاتان الحيثيتان من حيثيات نسبة المبدأ إلى الفاعل
والى المفعول، فإن نسبته إلى الأول تستبطن حيثية الصدور، والى الثاني حيثية
الوقوع، وحيث إن كل نسبة متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها في
الذهن أو الخارج، فعليه تكون نسبته إلى الفاعل مباينة لنسبته إلى المفعول،
ولكن بما أنهما تشتركان في طرف واحد وهو المبدأ، فبانتفائه تنتفي كلتا النسبتين
معا، وحينئذ فيقع الكلام في أن إطلاق هيئة المضروب مثلا على الذات التي
انقضت نسبة المبدأ عنها وزالت، هل هو إطلاق حقيقي أو مجازي، فعلى القول
بوضع المشتق للأعم حقيقي، وإلا فمجازي، وكذلك الحال في طرف الفاعل
كالضارب مثلا، فإنه بعد زوال نسبة المبدأ عنه بزواله، فعلى القول بالأعم
حقيقي، وعلى القول بالأخص مجازي.
والخلاصة أنه لا فرق بين اسم الفاعل والمفعول، فكما أن النزاع يجري في
هيئة اسم الفاعل وأنها وضعت بإزاء مفهوم كان مطابقه في الخارج فردا واحدا
وهو خصوص المتلبس بالمبدأ فعلا أو فردين أحدهما المتلبس والآخر المنقضي
فكذلك يجري في هيئة اسم المفعول وأنها وضعت لمعنى كان مطابقه في الخارج
256

فردا واحدا أو فردين.
ويمكن تقريب ذلك بطريق آخر، وهو أن للمبدأ نسبتين: نسبة إلى مفعوله،
ونسبة إلى فاعله، وهاتان النسبتان متقابلتان بتقابل التضايف لدى المتفاهم
العرفي الارتكازي، مثلا للعلم نسبتان:
نسبة إلى العالم، ونسبة إلى المعلوم، والأولى نسبة فاعلية، والثانية نسبة
مفعولية، فإذا فرض أن زيدا كان يعلم باجتهاد عمرو مثلا فزيد عالم واجتهاد
عمرو معلوم، ونسبة العلم إلى زيد نسبة فاعلية، ونسبته إلى اجتهاد عمرو نسبة
مفعولية، ويستحيل انفكاك إحدى النسبتين عن الأخرى، باعتبار أنهما
متضايفتان، فلا يعقل الانفكاك بينهما، وإلا لزم الخلف، وعلى هذا فإذا زال المبدأ
وهو العلم عن زيد في المثال، فقد زال عن اجتهاد عمرو أيضا، ويستحيل بقاؤه
على صفة المعلومية مع زوال صفة العالمية عن زيد، لفرض أنه كان معلوما بعلمه
لا بعلم آخر، والمفروض أن علمه قد زال، فإذن كما يقع الكلام في أن إطلاق
العالم على زيد بعد زوال العلم عنه، هل هو إطلاق حقيقي أو مجازي، فعلى القول
بوضع المشتق للجامع، حقيقي، وعلى القول الآخر مجازي، كذلك يقع الكلام في
أن إطلاق المعلوم على اجتهاد عمرو بعد انقضاء صفة العلم عنه وزوالها، هل هو
حقيقي أو مجازي، فعل القول الأول حقيقي وعلى الثاني مجازي، وعلى ذلك فلا
يمكن التفكيك بين اسم الفاعل واسم المفعول، باعتبار أن كلتا الهيئتين مشتركة في
مادة واحدة، فطالما المادة باقية، فالتلبس فعلي في كليهما، وإذا زالت وانقضت،
فقد زالت عن كليهما معا، فما ذكره قدس سره من عدم تصور حالة الانقضاء في اسم
المفعول لا يرجع إلى معنى محصل، بداهة أنها لو لم تتصور في اسم المفعول لم تصور
في اسم الفاعل أيضا بملاك التقابل بينهما.
257

وأما في هيئة المضروب فالأمر فيها أيضا كذلك، فإن للضرب نسبتين: نسبة
إلى الفاعل، ونسبة إلى المفعول، وهاتان النسبتان أيضا متقابلتان بتقابل
التضايف، فيستحيل انفكاك إحداهما عن الأخرى، وعلى هذا فهيئة المضروب
على القول بالأعم موضوعة للجامع بين من يقع عليه الضرب فعلا ومن ينقضي
عنه الضرب، أي الجامع بين المتلبس والمنقضي، وعلى القول الآخر موضوعة
لخصوص من يقع عليه الضرب فعلا، وكذلك هيئة الضارب، فإنها على القول
بالأعم موضوعة للجامع بين من يصدر منه الضرب بالفعل ومن ينقضي عنه
صدور الضرب طالما يصدر من زيد مثلا ويقع على عمرو، فزيد متلبس
بالضرب صدورا بالفعل وعمرو متلبس بالضرب وقوعا كذلك، وإذا انقطع
صدور الضرب عنه انقطع وقوعه على عمرو أيضا، إذ لا يعقل الانفكاك بينهما،
وعندئذ فكما يقع الكلام في أن إطلاق الضارب على زيد الذي انقضى عنه المبدأ
هل هو حقيقي أو مجازي، فعلى القول بالأعم حقيقي، وعلى القول الآخر مجازي،
فكذلك يقع في أن إطلاق المضروب على عمرو بعد انقضاء الضرب عنه، هل هو
حقيقي أو مجازي، فعلى القول الأول حقيقي وعلى الثاني مجازي، ولا يمكن القول
بأن هيئة المضروب موضوعة للأعم وهيئة الضارب لخصوص المتلبس رغم
التقابل بينهما بتقابل التضايف، لأن زوال نسبة المبدأ عن الفاعل زوال نسبته عن
المفعول أيضا، كما أن التلبس الأول بالمبدأ تلبس الثاني به أيضا، ولا يمكن التفكيك
بينهما في ذلك، وعليه فالقول بأن هيئة المضروب موضوعة للأعم لا يمكن الا
على القول بوضع المشتق له، لأنه متفرع عليه، فإذن لا فرق بين هيئة الضارب
وهيئة المضروب، وكون هيئة المضروب خاصة موضوعة للأعم غير محتمل.
وعلى الجملة فإن كانت هيئة المضروب موضوعة لمن يقع عليه الضرب
لكانت هيئة الضارب موضوعة لمن يصدر عنه الضرب بقرينة التقابل بينهما،
258

وحينئذ فإن كانت هيئة المضروب موضوعة للجامع بين من يقع عليه الضرب
فعلا ومن ينقضي عنه وقوع الضرب، لكانت هيئة الضارب موضوعة للجامع
بين من يصدر عنه الضرب فعلا ومن ينقضي عنه صدور الضرب، وإن كانت
هيئة المضروب موضوعة لخصوص من يقع عليه الضرب فعلا، لكانت هيئة
الضارب موضوعة لخصوص من يصدر عنه الضرب فعلا، كل ذلك بقرينة أن
التقابل بينهما من تقابل التضايف.
وثالثا مع الاغماض عن ذلك أيضا وتسليم أنه لا تقابل بين اسم الفاعل واسم
المفعول، إلا أن ما ذكره قدس سره لو تم فإنما في مثل هيئة المضروب والمقتول، ولا
يتم في كثير من أسماء المفعولين كالمعلوم والمملوك والمصبوع والمسجور
والمسجون والمطلوب والمديون والمنصور والمعيوب والمنقوص وما شاكل ذلك،
فإنه لا شبهة في إمكان انقضاء المبدأ عن الذات في هذه الأسماء ووقوع النزاع في
صدقها على الذات مع زوال المبدأ عنها فعلا، فالأعمي يدعي أن صدق المعلوم
على الشئ بعد زوال العلم عنه حقيقي، وصدق المطلوب على شئ بعد زوال
الطلب عنه كذلك، وكذا صدق المعيوب بعد زوال العيب والمملوك بعد زوال
الملك وهكذا، وأما على القول بالوضع لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلا، فلا
يصدق إلا مجازا.
فالنتيجة أن ما أفاده قدس سره لو تم فإنما يتم في مثل هيئة المضروب والمقتول
ونحوهما دون غيرهما من أسماء المفعولين.
قد يقال كما قيل بخروج أسماء الصناعات والحرف وما يلحق بها كالمهندس
والطبيب والخياط والبناء والصائغ والسايق والمجتهد وما شاكل ذلك عن محل
النزاع في المسألة، بدعوى أنه لا شبهة في صدق هذه العناوين حقيقة في حالات
259

انقضاء المبدأ عن الذات، بل لا شبهة في صدقها كذلك على من لم يتلبس بالمبدأ
بعد كالطبيب، فإنه يصدق حقيقة على من لديه علم الطب وإن لم يقم بعد بعملية
الطبابة خارجا، والمجتهد يصدق على من لديه قدرة على عملية الاستنباط وإن لم
يقم بعد بالعملية، وكذا المهندس والصائغ والخياط وهكذا، وهذا يكشف إنا عن
أنها موضوعة للأعم من المتلبس والمنقضي وغير المتلبس بعد، ولهذا لا مجال
للنزاع فيها أنها موضوعة للأعم أو لخصوص المتلبس.
والجواب: أنه لا بد من الالتزام فيها بأحد أمرين:
الأول: الالتزام بأنها موضوعة للجامع بين المتلبس والمنقضي وغير
المتلبس بعد.
الثاني: أن المبدأ في مثل المجتهد والمهندس والطبيب وما شاكل ذلك القوة
والاستعداد لا الفعل الخارجي، فمن كانت عنده قدرة على عملية الاستنباط فهو
مجتهد حقيقة وإن لم يقم بالعملية بعد، ومن كانت عنده قدرة على عملية الطبابة
فهو طبيب وإن لم يقم بعد بالعملية وهكذا، والمبدأ في مثل الخياط والبناء والبزاز
والحداد والنساج والنجار وغير ذلك هو الحرفة والصنعة، فمن أخذ الخياطة
حرفة له فهو خياط فعلا ومتلبس بالمبدأ بالفعل، سواء كان مشغولا بالخياطة
خارجا أم لا، ومن أخذ البناء حرفة له فهو بناء وهكذا، والانقضاء في مثل ذلك
إنما يكون بترك هذه الحرفة، فما دام لم يتركها ولم يعرض عنها، فالتلبس فعلي وإن
لم يشتغل بالخياطة أو البناء أو غير ذلك.
أما الأمر الأول فلا يمكن الالتزام به لوجهين:
الأول: أنه مبني على أن يكون المبدأ فيها الفعل الخارجي، ولكن قد عرفت
أن المبدأ في بعض تلك العناوين القدرة والاستعداد العلمي، وفي بعضها
260

الآخر الحرفة والصنعة، فإذن لا موجب فيها للالتزام بالوضع للأعم بل حالها
حال سائر المشتقات، وتدور مدارها في الوضع للأعم أو لخصوص المتلبس
بالمبدأ بالفعل.
الثاني: أن ذلك لا ينسجم مع كون وضع الهيئات نوعيا، لأن معنى كون
وضعها نوعيا أن المعنى الموضوع له في جميع الهيئات الخاصة على نحو واحد سعة
وضيقا، فلا يمكن أن يكون المعنى الموضوع له في بعض تلك الهيئات أوسع من
المعنى الموضوع له في بعضها الآخر رغم أن الجميع قد وضعت بجامع عنواني
واحد لسنخ معنى كذلك كما وكيفا، ولا يمكن تعدد المعنى الموضوع له سنخا، بأن
يكون معنى هيئة الضارب مثلا خصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، ومعنى هيئة
الصائغ الجامع بينه وبين المنقضي وهكذا، مع أنهما موضوعان بجامع عنواني
واحد.
فالنتيجة أنه لا يمكن الالتزام بأن وضع تلك العناوين الخاصة للأعم أمر
مسلم.
وأما الثاني: وهو أن المبادئ في هذه العناوين ليست الأفعال الخارجية، بل
في بعضها القوة والملكة العلمية وفي بعضها الآخر الحرفة والصنعة فهو الصحيح،
وعلى هذا ففي مثل المجتهد والمهندس والطبيب طالما الملكة والقوة موجودة في
نفوسهم، فالاطلاق إطلاق على المتلبس بالمبدأ بالفعل، وإذا زالت هذه الملكة
والقوة، فعندئذ على القول بالأعم فالاطلاق حقيقي وعلى القول الآخر مجازي،
وفي مثل الخياط والنجار والصائغ ونحو ذلك، فطالما كانوا متخذين هذه الأعمال
حرفة وصنعة لهم فالصدق يكون على المتلبس بالفعل، لأن فعلية التلبس حينئذ
تدور مدار اتخاذها شغلا وكسبا وانتسابها إلى الذات، ولا فرق بين أن يكون
261

ذلك الانتساب انتسابا حقيقيا كما في الخياط والنساج والنجار وما شاكلها، أو
تبعيا كما في البقال والبزاز والحداد والتامر واللابن وأمثالها، لأن موادها من أسماء
الأعيان وإنها غير قابلة للانتساب إلى الذات حقيقة، فلا محالة يكون انتسابها
إليها بتبع اتحاد الفعل المتعلق بها حرفة وشغلا، فمن اتخذ بيع التمر شغلا له صار التمر
مربوطا به تبعا، ومن اتخذ بيع اللبن شغلا له صار اللبن مربوطا به وهكذا،
والانقضاء في أمثال ذلك إنما يكون بترك هذه الحرفة وذاك الشغل، وحينئذ فعلى
القول بوضع المشتق للأعم فالصدق أيضا حقيقي، وعلى القول بوضعه لخصوص
المتلبس بالمبدأ فعلا فالصدق مجازي.
إلى هنا قد وصلنا إلى النتائج التالية:
الأولى: أن الدخول في محل النزاع في المسألة منوط بتوفر أمرين:
الأول: صحة المحل والجري على الذات.
الثاني: إمكان انفكاك الذات عن المبدأ ولو في عالم المفهوم والتصور والمغايرة
بينهما، فكل اسم إذا توفر فيه كلا الأمرين فهو داخل في محل النزاع، وإلا فلا.
الثانية: أن العناوين الذاتية كالانسان والحيوان ونحوهما خارجة عن محل
النزاع بمقتضى الأمر الثاني، حيث إنه لا يمكن انفكاك الذات عن المبدأ في تلك
العناوين حتى في عالم التصور واللحاظ فضلا عن عالم الخارج، على أساس أن
المبدأ فيها صورة نوعية للذات ومتحد معها ولا مغايرة بينهما.
الثالثة: أن المراد من استحالة انفكاك المبدأ عن الذات في الشرط الثاني هو
الاستحالة الذاتية يعبر عنا بالاستحالة المنطقية أيضا لا الاستحالة الوقوعية،
ولذلك قلنا إن العناوين التي يكون مبدؤها لازما لذاتها بحيث يستحيل انفكاكه
262

عنها واقعا خارجا داخلة في محل النزاع، باعتبار أن استحالة الانفكاك فيها
وقوعية لا منطقية.
الرابعة: أن اسم الزمان كاسم المكان داخل في محل النزاع، هذا لا من جهة ما
أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن الهيئة المشتركة بينهما موضوعة بإزاء معنى جامع
بينهما وهو الظرفية، سواء أكانت زمانية أم مكانية، لما تقدم من أن الجامع بينهما
غير متصور، لأن النسبة الزمانية مباينة للنسبة المكانية، بل من جهة أن لكل
قطعة من الزمان وحدة بنظر العرف، فلذلك تتصور حالة الانقضاء فيها كما تقدم،
نعم دعوى وضع الهيئة المشتركة بإزاء اسمي الزمان والمكان بنحو الوضع العام
والموضوع له الخاص، غير بعيدة كما تقدم.
الخامسة: أن استثناء المحقق النائيني قدس سره اسمي الآلة والمفعول عن محل النزاع،
مما لا يرجع إلى معنى صحيح.
الجهة الثانية: في كيفية وضع الأفعال والمصادر
والأوصاف الاشتقاقية
ويقع الكلام فيها في مقامات:
المقام الأول: في كيفية وضع الأفعال.
المقام الثاني: في كيفية وضع المصادر.
المقام الثالث: في كيفية وضع الأوصاف الاشتقاقية.
أما الكلام في المقام الأول وهو وضع الأفعال، فلا شبهة في أن المتفاهم العرفي
263

الارتكازي من هيئة الفعل كقولك (ضرب) مثلا نسبة المادة إلى الذات المبهمة
الفاعلة، وهذه النسبة تختلف باختلاف الأفعال، فإنها في مثل (ضرب)
صدورية، وفي مثل (مات) حلولية، وفي مثل (قعد) و (قام) حلولية
وصدورية معا وهكذا.
ثم إن هذه الخصوصيات هل هي مأخوذة في مدلول المادة أو في مدلول الهيئة؟
والجواب: أن هنا قولين:
الأول: أنها مأخوذة في مدلول الهيئة.
الثاني: أنها مأخوذة في مدلول المادة دون الهيئة.
أما القول الأول فهو لا يتم، بناء على القول بأن وضع الهيئات نوعي، إذ على
هذا القول فجميع الهيئات الخاصة المشتركة في الهيئة المنتزعة الجامعة بينها
المندكة فيها موضوعة بواسطتها بوضع واحد نوعي لمعنى واحد كذلك، ولا يمكن
اختلاف تلك الهيئات الخاصة في سنخ المعنى كما وكيفا، وعلى هذا فلا يمكن أن
تدل هيئة (ضرب) مثلا على نسبة المادة إلى الذات المبهمة صدورا، وهيئة
(مات) حلولا، ولذلك لا يمكن أن تكون خصوصية الصدورية أو الحلولية
مأخوذة في مدلول الهيئة، بل هي من خصوصيات مدلول المادة.
وأما على القول بأو وضع الهيئة شخصي، فهل هذه الخصوصيات مأخوذة
في مدلولها الخاص؟
والجواب: أن ذلك وإن كان ممكنا بأن توضع هيئة (ضرب) مثلا في ضمن
مادتها الشخصية للنسبة الصدورية، وهيئة (مات) في ضمن مادتها كذلك
للنسبة الحلولية وهكذا، ولكن مع ذلك يكون المتفاهم العرفي من كل هيئة
264

خاصة النسبة بدون خصوصية زائدة عليها، والخصوصية إنما جاءت من قبل
مادتها، فإنها مختلفة وينسجم بعضها مع خصوصية الصدورية كالضرب مثلا،
وبعضها الآخر مع خصوصية الحلولية كالموت ونحوه.
والخلاصة: أن المادة إذا كانت من قبيل الضرب ونحوه، فهي تتضمن كون
نسبتها إلى الفاعل صدورية، وإذا كانت من قبيل الموت ونحوه، فتتضمن كون
نسبتها إليه حلولية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن لجملة (ضرب زيد) مثلا هيئتين: الأولى هيئة الفعل،
والثانية هيئة الجملة، وهذا مما لا كلام فيه، وإنما الكلام في أن هيئة الفعل هل
وضعت للنسبة التامة، وهيئة الجملة لتعيين طرفها وهو الذات، أو إنها وضعت
للنسبة الناقصة، وهيئة الجملة للنسبة التامة، فيه قولان.
الصحيح هو القول الأول دون الثاني، فلنا دعويان:
الأولى: أن هيئة الفعل موضوعة للنسبة بين المادة والذات المبهمة، وهيئة
الجملة موضوعة لتعيين أحد طرفيها، وهو الذات المبهمة في فرد معين في
الخارج، ولم توضع للنسبة الأخرى.
الثانية: أن هيئة الفعل لم توضع للنسبة الناقصة وهيئة الجملة للنسبة التامة.
أما الدعوى الأولى فقد عرفت أن المتفاهم العرفي من هيئة الفعل عند إطلاقها
نسبة المادة إلى الذات المبهمة، وهذه النسبة نسبة بالحمل الشائع، لوضوح أنها لم
توضع بإزاء مفهوم النسبة الذي هو نسبة بالحمل الأولي، لأنه مفهوم اسمي لا
حرفي، وتامة لما ذكرناه آنفا من أن تمامية النسبة إنما هي بوجود طرفيها في الذهن
أو الخارج، نعم لا ملازمة بين كون النسبة تامة وبين ما صح السكوت عليها،
265

لأن النسبة في الجمل الناقصة تامة، ومع ذلك لا يصح السكوت عليها، والنكتة
في ذلك أن النسبة متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها، ولا نعني بتماميتها
إلا ثبوتها بثبوتهما في الذهن أو الخارج، باعتبار أنهما من المقومات الذاتية لها
وبمثابة الجنس والفصل للنوع، فلذلك يدور أمرها بين كونها ثابتة أو غير ثابتة.
لا بين أنها بعد الثبوت تامة أو ناقصة.
وبكلمة، إن ثبوت النسبة إنما هي بثبوت طرفيها، فإذا كانا ثابتين في الذهن
أو الخارج فالنسبة ثابتة، وإلا فلا نسبة، لا أنها ثابتة ناقصة، بداهة أنه لا يعقل
ثبوت النسبة الناقصة بدون ثبوت طرفيها، ومع ثبوتهما فالنسبة تامة، وأما كون
الجملة ناقصة، فهو ليس بملاك أن نسبتها ناقصة، بل بملاك آخر، وقد تقدم
الكلام فيه موسعا، ومن هنا يكون المتفاهم العرفي الارتكازي من هيئة الفعل
نسبة المادة إلى الفاعل المبهم في عالم الذهن، ومن الهيئة القائمة بالفعل والفاعل
كقولك (ضرب زيد) تعيين الفاعل المبهم المستتر في فرد معين كزيد مثلا لا
النسبة، لأن الدال عليها هيئة الفعل التي هي أسبق منها.
وأما الدعوى الثانية فقد ظهر حالها مما تقدم، وجه الظهور هو أنه لا
يمكن القول بأن هيئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة، وهيئة الجملة موضوعة
للنسبة التامة.
أما أولا فقد عرفت أن النسبة لا تتصف بالتمامية والنقصان، فإنها إمام ثابتة
في وعائها أو لا، على أساس أن طرفيها إن كانا ثابتين فيه فهي ثابتة بثبوتهما،
وإلا فلا ثبوت لها، ولا يعقل أن تكون النسبة ثابتة بثبوت طرفيها ومع ذلك
تكون ناقصة، إلا أن يراد من نقصانها عدم صحة السكوت عليها، ولكن قد مر
أن ذلك مرتبط بنقصان الجملة، بمعنى أنها لا تصلح أن تكون موردا للحكم
266

التصديقي لا بمعنى أن نسبتها ناقصة.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن النسبة تتصف بالتمامية والنقصان إلا
أنه لا يمكن القول بأن هيئة الفعل تدل على النسبة الناقصة وهيئة الجملة على
النسبة التامة، وذلك لأن المتفاهم العرفي الارتكازي من الفعل هو النسبة التامة،
ومن هيئة الجملة تعيين أحد طرفيها وهو الفاعل، فإذا قيل (ضرب) كان
المتبادر منه نسبة الضرب إلى فاعل ما، وإذا قيل (ضرب زيد) كان المتبادر منه
أن فاعل الضرب هو زيد، وعليه فقولك ضرب زيد يدل على أمرين من باب
تعدد الدال والمدلول، فهيئة الفعل تدل على نسبة المادة إلى فاعل ما، وهيئة
الجملة على تعيين الفاعل ورفع الاجمال عنه، لا أن هيئة الفعل تدل على النسبة
الناقصة وهيئة الجملة على النسبة التامة، لأن ذلك غير متبادر من الجملة
جزما، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن شخص المادة لا يمكن أن يكون طرفا لنسبتين
متباينتين في عرض واحد وإن كانت إحداهما تامة والأخرى ناقصة، لأنه لا
يمكن أن يكون مقوما ذاتيا لهما معا، فالنتيجة أن قيام نسبتين متباينتين في عرض
واحد بمادة واحدة وطرفين آخرين غير معقول.
ومن ناحية ثالثة، إنه إن أريد بالنسبة الناقصة النسبة التي يكون أحد طرفيها
المادة وطرفها الآخر الفاعل المبهم المقدر، ففيه أنها نسبة تامة، إذ لا يحتمل أن
يكون تعيين الفاعل دخيلا في تمامية النسبة، وإن أريد بها الخصوصية القائمة
بالمادة لا النسبة التي هي متقومة بالطرفين، باعتبار أن المادة تدل على أحد
طرفيها ولا يوجد في الكلام ما يدل على طرفها الآخر، وأما الفاعل فهو طرف
للنسبة التامة لا الناقصة، والمفروض أن النسبة لا تتصور بدون وجود طرفيها،
267

لأنهما من المقومات الذاتية لها كالجنس والفصل للنوع، فلذلك يكون المراد من
النسبة الناقصة الحيثية القائمة بالمادة، وهي حيثية الصدور والحلول، فإنها إن
أضيفت إلى الفاعل فالحيثية القائمة بها صدورية، وإن أضيفت إلى المفعول فهي
حلولية، وهيئة الفعل تدل على أنها صدورية، وهي حالة قائمة بالمادة كقيام
المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، وهي غير النسبة، ولهذا تكون قائمة بطرف واحد،
وإن أريد ذلك، فيرد عليه أن هيئة الفعل كما مر تدل على النسبة التامة الصدورية
بالمطابقة وعلى طرفيها بالالتزام، على أساس أنها لا تتصور إلا بين الفعل وفاعل
ما، لا أنها تدل على حيثية الصدور فحسب دون النسبة الصدورية.
هذا إضافة إلى أنه إن أريد بالحيثية الصدورية الحالة القائمة بالمادة التي
يستبطنها معناها، فالمادة تدل عليها لا هيئة الفعل، وإن أريد بها النسبة
الصدورية وهي نسبة المادة إلى فاعل ما، فالدال عليها هيئة الفعل، فإنها إذا
طرأت على المادة التي تتضمن حيثية الصدور، فتدل على النسبة الصدورية، لا
من جهة أن حيثية الصدور مأخوذة في مدلولها، بل من جهة أنها من
خصوصيات مادتها، وإذا طرأت على المادة التي تتضمن حيثية الحلول، فتدل
على النسبة الحلولية بنفس ما مر من الملاك.
فالنتيجة أن هيئة الفعل الدالة على النسبة الواقعية التامة بالمطابقة، فلا محالة
تدل على وجود طرفيها بالالتزام، وهما في المقام المادة والذات المبهمة، فإذن
لا حاجة إلى وجود ما يدل في الكلام على الذات المبهمة لكي يقال إنه لا يوجد
فيه ما يدل عليها.
ودعوى أن انفهام الذات المبهمة من الفعل خلاف الوجدان، مدفوعة بأنها
وإن لم تكن جزء معنى الفعل إلا أنه يدل عليها بالالتزام كما مر وجدانا.
268

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن مدلول هيئة الفعل النسبة
التامة بين المادة والذات المبهمة، ومدلول هيئة الجملة تعيين الذات المبهمة في
فرد خاص، هذا.
ولكن قد اعترض على هذا المحقق العراقي قدس سره نقضا وحلا.
أنا نقضا ففي بعض الجمل الاسمية كجملة (زيد ضرب) مثلا، فإنها بلحاظ
اشتمالها على هيئة الفعل كجملة (ضرب زيد)، وعلى هذا فلو كانت هيئة الفعل
في جملة (ضرب زيد) موضوعة للنسبة التامة دون هيئة الجملة لكان الأمر
كذلك في جملة (زيد ضرب) أيضا، لاشتراكهما في الاشتمال على هيئة الفعل مع
أن الأمر فيها ليس كذلك (1).
وقد أجيب عن ذلك بأن الفرق بين الجملتين واضح، فإن الجملة الاسمية
كجملة (زيد ضرب) مشتملة على نسبتين: الأولى النسبة بين المادة والضمير
المستتر في الفعل، والثانية النسبة بين المبتدأ والجملة الفعلية، وهيئة الفعل تدل
على النسبة الأولى، وهيئة الجملة تدل على النسبة الثانية، بينما الجملة الفعلية لا
يمكن أن تكون مشتملة على نسبتين، وإلا لزم أحد محذورين، إما تقوم كل من
النسبتين بعين ما تقومت به الأخرى، لأن المفروض أن المقومات الذاتية للنسبة
في المقام واحدة، وهي المادة والفاعل، ولا يعقل تعدد النسبة بينهما، لأن
تعددها إنما هو بتعدد المقومات الذاتية لها التي هي بمثابة الجنس والفصل،
فإذا كانت واحدة استحال تعددها، وإما أن يكون إحداهما قائمة بطرف واحد،
وهو غير معقول.

(1) نقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 314.
269

ولنا تعليق على هذا الجواب، وتقريبه أن تحليل جملة (زيد ضرب) إلى
جملة اسمية وجملة فعلية أي إلى جملة كبيرة وجملة صغيرة وملاحظة كل جملة
بحيالها بحاجة إلى ملاك مبرر لذلك، ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا وبلا ملاك،
وملاكه إما تعدد الموضوع أو المحمول والنسبة، وأما مع وحدة الموضوع
والمحمول والنسبة، فلا ملاك للانحلال وتحويل الجملة إلى جملتين، وعلى هذا ففي
المقام لا موجب للانحلال، لأن الموضوع والمحمول فيه واحد، فإن الموضوع في
القضية (زيد) والمحمول فيها الجملة الفعلية، وعليه فبطبيعة الحال تكون النسبة
بينهما واحدة ولا يمكن تعددها، وإلا لزم أحد المحذورين المتقدمين، فإذن ما هو
الدال على هذه النسبة الواحدة؟
والجواب: أن الدال عليها هيئة الفعل، فإنها تدل على نسبة المادة إلى فاعل
ما، وهو الضمير المستتر فيه، وهيئة الجملة تدل على تعيين هذا الفاعل بفرد
خاص، وعلى ذلك فلا فرق بين جملة (زيد ضرب) وجملة (ضرب زيد)، فإن
مدلول هيئة الفعل في كلتا الجملتين النسبة التامة بين المادة والذات المبهمة،
ومدلول هيئة الجملة تعيين الذات المبهمة في فرد خاص، إذ كما أن في
جملة (ضرب زيد) لا يمكن أن يكون مدلول هيئة الفعل النسبة الناقصة
ومدلول هيئة الجملة النسبة التامة كما تقدم كذلك من جملة (زيد ضرب) لا
يمكن أن يكون مدلول هيئة الفعل النسبة الناقصة ومدلول هيئة الجملة النسبة
التامة بنفس الملاك.
فالنتيجة أن الجملة المذكورة جملة واحدة ومؤلفة من الفعل والفاعل، فحالها
حال جملة (ضرب زيد)، فلا فرق بينهما إلا في الصورة والشكل.
وأما حلا فقد ذكره قدس سره أن هيئة الفعل موضوعة لنسبة المادة إلى فاعل ما،
270

ولكن حيث إنها هيئة أفرادية فوضعها لا يغني عن وضع هيئة الجملة القائمة
بالفعل والفاعل (1).
ولكنه قابل للنقد، وذلك لأنه إن أريد بذلك أن هيئة الفعل موضوعة للنسبة
الناقصة وهيئة الجملة موضوعة للنسبة التامة، فيرد عليه:
أولا ما تقدم من أن النسبة لا تتصف بالتمامية والنقصان، لأنها إما ثابتة
بثبوت شخص طرفيها في وعاء الذهن أو الخارج أو لا، ولا ثالث لهما،
وثانيا أن طرفي النسبة الناقصة إن كانا نفس المادة والذات الفاعلة فهي عين
النسبة التامة، إذ لا يمكن تعدد النسبة مع وحدة الطرفين، وإن لم تكن الذات أحد
طرفيها، لزم أن تكون قائمة بطرف واحد، وهذا مستحيل، إلا أن يراد من النسبة
الناقصة الحيثية الصدورية أو الحلولية التي هي حالة قائمة بالمادة، ولكن مضافا
إلى أن ذلك بحاجة إلى قرينة إن هيئة الفعل لا تدل عليها، فإن الدال عليها نفس
المادة.
وإن أراد قدس سره بذلك أن وضع هيئة الفعل بإزاء النسبة التامة لا يغني عن وضع
هيئة الجملة للدلالة على تعيين أحد طرفيها وهو الفاعل، ففيه أنه لم يقل أحد إن
وضعها للنسبة التامة يغني عن وضع هيئة الجملة للتعيين، بل يقول إن وضعها
بإزاء النسبة التامة يغني عن وضع هيئة الجملة بإزائها أيضا، باعتبار أنه لغو.
فالنتيجة أن ما أفاده قدس سره من الجواب الحلي إن كان مرده إلى ما ذكرناه فهو،
وإلا فلا يتم.
ثم إنه لا فرق بين ما ذكرناه بين فعل الماضي وفعل المضارع، فإن هيئة الفعل

(1) نقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 314.
271

ماضيا كان أم مضارعا موضوعة للنسبة التامة بين المادة والذات المبهمة
الفاعلة، وهيئة الجملة الطارئة عليها تدل على تعيين الذات المبهمة في فرد
خاص، ولا فرق من هذه الناحية بين الفعلين، وإنما الفرق بينهما من ناحية
أخرى، وهي ما مر من أن النسبة في فعل الماضي تتضمن حيثية الحكاية عن
الثبوت والتحقق في عالم الخارج، بينما إنها في فعل المضارع تتضمن حيثية الوقوع
فعلا أو استقبالا.
إلى هنا قد تبين أن القول بأن هيئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة وهيئة
الجملة موضوعة للنسبة التامة لا يرجع إلى معنى صحيح، فالصحيح هو القول
بأنها موضوعة للنسبة التامة وهيئة الجملة لتعيين أحد طرفي النسبة.
وهنا قولان آخران في المسألة:
الأول: ما اختاره المحقق النائيني قدس سره من أن هيئة فعل الماضي موضوعة لنسبة
المادة إلى فاعل ما على نحو التحقق، وهيئة فعل المضارع موضوعة لنسبة المادة
إلى فاعل ما على نحو الترقب، وبذلك يمتاز فعل الماضي عن المضارع (1). هذا،
وغير خفي أنه قدس سره إن أراد بإضافة هذا القيد أن حيثية التحقق مأخوذة في
مدلول هيئة فعل الماضي، بمعنى أنها موضوعة بإزاء النسبة الخارجية، وحيثية
الترقب مأخوذة في مدلول هيئة فعل المضارع، بمعنى أنها موضوعة بإزاء النسبة
التي تقع في الخارج أو سوف تقع فيه، فيرد عليه:
أولا أن لازم وضع هيئة الفعل للنسبة الخارجية أن يكون مدلولها الوضعي
تصديقيا لا تصوريا، وهو كما ترى، لما ذكرناه في بحث الوضع موسعا من

(1) أجود التقريرات 1: 91.
272

أن الدلالة الوضعية على جميع المباني في باب الوضع غير مبنى التعهد دلالة
تصورية لا تصديقية.
ثانيا: أن لازم ذلك عدم صحة استعمال هيئة الفعل فيما لا تتصور فيه النسبة
الخارجية، كما في صفات الذاتية لله تعالى كقولنا (علم الله) وموارد الهلية
البسيطة والاعتباريات الانتزاعيات، فإن النسبة الخارجية لا تتصور في هذه
الموارد، مع أن استعمال فعل الماضي والمضارع في هذه الموارد كاستعمالهما في
غيرها من الموارد التي تتصور فيها النسبة الخارجية على حد سواء، وهذا كاشف
عن أن هيئة الفعل لم توضع بإزاء النسبة الخارجية.
وإن أراد قدس سره بذلك أن النسبة في فعل الماضي تتضمن حيثية الحكاية والاخبار
عما وقع في خارج الذهن، وفي فعل المضارع تتضمن حيثية الحكاية والاخبار
عما يقع فيه فعلا أو في المستقبل القريب فهو صحيح، لأن هيئة فعل الماضي
موضوعة لنسبة المادة إلى فاعل ما التي تتضمن حيثية الحكاية بتبع حكاية
طرفيها عما تحقق في الخارج وتدل على هذا المعنى الحكائي بالدلالة التصورية في
مرحلة التصور، وبالدلالة التصديقية في مرحلة التصديق، وهيئة فعل المضارع
موضوعة لنسبة المادة إلى فاعل ما التي تتضمن حيثية الحكاية عما يقع فيه
تصورا وتصديقا، ومن هنا إذا سمع الانسان لفظ (ضرب) ولو من لافظ بلا
شعور واختيار، كان المتبادر منه في الذهن ارتكازا وفطرة معناه الحكائي
عما تحقق في الخارج، كما أن المتبادر من لفظ (يضرب) هو معناه الحكائي
عما يتحقق فيه.
ومن هنا يظهر أن ما قيل من أنه لا فرق بين فعل الماضي والمضارع في المدلول
التصوري، وإنما الفرق بينهما في المدلول التصديقي، فإنه في فعل الماضي قصد
273

الحكاية عن ثبوت المبدأ وتحققه في الخارج، وفي فعل المضارع قصد الحكاية عما
يقع في الخارج غير صحيح، وذلك لما عرفت من الفرق بينهما في نفس المدلول
التصوري، حيث إنه في كل منهما متخصص بخصوصية خاصة كما مر، ولذلك
يختلف المدلول التصديقي في كل منهما عن المدلول التصديقي في الآخر،
وإلا فلازمه أن يكون المدلول التصديقي لكل منهما مخالفا لمدلوله التصوري
الوضعي، وهو كما ترى، لوضوح أن المدلول التصديقي للفظ هو المدلول
التصوري، غاية الأمر أنه في مرحلة التصور متعلق للتصور، وفي مرحلة
التصديق متعلق للتصديق.
القول الثاني: ما اختاره السيد الأستاذ قدس سره من أن هيئة الفعل سواء كان
ماضيا أم مضارعا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن ثبوت
الواقع أو نفيه، فيكون قصد الحكاية عن الواقع هو المدلول الوضعي لها، ولذلك
تكون دلالتها الوضعية دلالة تصديقية لا تصورية (1).
وفيه أن ذلك مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد
والالتزام النفساني، فإن الدلالة الوضعية على ضوء هذا المسلك دلالة تصديقية
لا تصورية، ولكن قد تقدم نقد هذا المسلك بشكل موسع، فلاحظ.
إلى هنا قد تبين أن الأقوال في المسألة أربعة، فالصحيح منها هو القول الثاني،
هذا تمام الكلام في فعل الماضي وفعل المضارع.
وأما فعل الأمر ففيه جهتان:
الجهة الأولى متمثلة في النظر إليه بما أنه فعل كأخويه من فعل

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 85، 235.
274

الماضي والمضارع.
الجهة الثانية متمثلة في النظر إليه بما أنه يتضمن طلب المادة من المخاطب، وبها
يمتاز عن أخويه الماضي والمضارع.
وأما الكلام في الجهة الأولى، فلأن ملاك فعليته أن يتضمن نسبة المادة إلى
فاعل كالماضي والمضارع، على أساس أن فعلية الفعل متقومة بتلك النسبة،
وهي محفوظة فيه كما هي محفوظة فيهما، غاية الأمر أنه تدل عليها في وعاء الطلب
والارسال، وهما يدلان عليها في وعاء التحقق والاخبار، وهذا الفرق لا يمثل
فارقا فيما هو مدلول الفعل بما هو فعل.
وأما الكلام في الجهة الثانية، فلأنه يدل على النسبة في عالم الطلب والانشاء،
بينما يدل فعل الماضي والمضارع عليها في عالم التحقق والاخبار، وبذلك
يمتاز عنهما.
وبكلمة، إن فعلية الفعل متقومة بدلالته على نسبة المادة إلى فاعل ما وتدور
مدارها وجودا وعدما، والمفروض أنها محفوظة في فعل الأمر كما أنها محفوظة في
نظيريه، وأما خصوصية كون النسبة نسبة طلبية إنشائية في عالم الانشاء والطلب
أو حكائية إخبارية في عالم التحقق والثبوت، فهي تمثل حقيقة مدلول الفعل،
ومن هنا تمتاز الخصوصية التي تنشأ من قبل الهيئة كالطلبية والانشائية في فعل
الأمر والاخبارية والحكائية في فعل الماضي والمضارع عن الخصوصية التي تنشأ
من قبل المادة كالصدورية والحلولية في نقطة، وهي أن الأولى من مقومات
النسبة التي هي مدلول الهيئة، والثانية من لوازم مدلول المادة.
إلى هنا قد تبين أن فعل الأمر يشترك مع فعل الماضي والمضارع في ذات
المدلول، وهي النسبة بما هي، ويمتاز عنهما في وعائها المقوم لها، حيث إنه يدل
275

على النسبة في وعاء الطلب والانشاء، بينما هما يدلان على النسبة في وعاء
الاخبار والحكاية عن الواقع، ونتيجة ذلك أن النسبة وإن كانت محفوظة في فعل
الأمر التي هي ملاك فعليته، إلا أنها غير النسبة في فعل الماضي والمضارع، فإنها
متمثلة في النسبة الطلبية الانشائية تصورا وتصديقا، بينما النسبة فيهما متمثلة في
النسبة الحكائية والاخبارية كذلك، فإذن يمتاز فعل الأمر عن أخويه في المدلول
التصوري، لأن المتبادر منه عند سماعه هو النسبة الطلبية وإن كان من لافظ بغير
شعور واختيار، كما أن المتبادر منهما النسبة الاخبارية الحكائية كذلك، ومن هنا
إذا استعمل فعل المضارع في النسبة الطلبية الانشائية لم يجرد عن كونه فعلا، لأن
استعماله فيها لا ينافي فعليته.
والخلاصة أن ملاك فعلية الفعل إنما هو دلالته على نسبة المادة إلى فاعل ما
صدورا أو حلولا، غاية الأمر أن هذه النسبة قد تكون في وعاء الطلب
والانشاء، وقد تكون في وعاء التحقق والاخبار، فالنسبة الصدورية من الفاعل
في كلا الوعائين ثابتة، ولا فرق بين أن تكون هذه النسبة بنحو الطلب منه أو
بنحو التحقق والاخبار عنه، وعلى هذا فملاك فعلية الفعل محفوظة في صيغة الأمر
كما أنه محفوظة في صيغة المضارع إذا استعملت في مقام الانشاء والطلب.
نعم لو كان ملاك فعلية الفعل دلالته على النسبة في وعاء التحقق والاخبار
لم تكن صيغة الأمر فعلا، لفرض أنها لا تدل على النسبة في ذلك الوعاء، ولكن
لازم هذا تجريد فعل المضارع عن الفعلية أيضا إذا استعمل في مقام الطلب
والانشاء، وهو كما ترى.
قد يقال كما قيل: إن من خاصة الفعل المميزة دلالته على الزمان، وحيث إنها
لم تتوفر في فعل الأمر لعدم دلالته عليه، فلا يكون فعلا.
276

والجواب: أن الدلالة على الزمان ليست من مقومات فعلية الفعل، فلهذا لا
يدل عليه فعل الماضي والمضارع أيضا كما سوف نشير إليه، فإذن ليست الدلالة
على الزمان من ملاك فعلية الفعل.
بقي هنا أمران:
الأول: أن الفعل لا يقع محكوما عليه ويقع محكوما به، أما عدم وقوعه
محكوما عليه، فلأن الفعل وإن كان متكونا من المادة التي هي معنى اسمي والهيئة
التي هي معنى حرفي، إلا أن الملحوظ والمنظور فيه إنما هو المعنى الحرفي، أي
مدلول الهيئة الذي هو ملاك فعلية الفعل، دون مدلول المادة المشتركة، فإنه معنى
اسمي وليس دخيلا في فعلية الفعل، لأنها متقومة بهيئته الطارئة على المادة التي
هي بمثابة الصورة النوعية له، ولهذا يكون امتياز كل فعل عن آخر إنما هو بهيئته،
فمن هذه الجهة لا يقع الفعل محكوما عليه.
فالنتيجة أن الفعل وإن كان مركبا من المعنى الاسمي الذي هو مدلول المادة
والمعنى الحرفي الذي هو مدلول الهيئة، إلا أن الدخيل في فعليته إنما هو
مدلول الهيئة، وهو النسبة بين المادة والفاعل، فاحتياج الفعل إلى المادة
كاحتياج الصورة إلى الهيولي، باعتبار أن فعلية الفعل إنما هو بصورته النوعية
القائمة بالمادة لا بمادته، ومن الواضح أن تلك النسبة لا تصلح أن تقع موضوعا
للحكم في القضية.
وأما وقوعه محكوما به كما في مثل (زيد قام) فإنما هو من أجل أن المتفاهم
العرفي من الفعل الواقع خبرا للمبتدأ في الجملة الاسمية هو الذات المتلبسة
بالمبدأ، ولهذا ترجع الجملة المذكورة إلى جملة (زيد قائم)، وعليه فوقوعه
محمولا إنما هو بهذا اللحاظ لا بلحاظ مدلوله في نفسه وهو النسبة، وبذلك تمتاز
277

الجملة الفعلية كقولك (قام زيد) عن الجملة الاسمية المشتملة على الفعل كقولك
(زيد قام)، لأن الفعل في الجملة الاسمية مشتمل على الذات بلحاظ الضمير
فيه، ولهذا كان المتفاهم منه الذات المتلبسة بالمبدأ، بينما الفعل في الجملة الفعلية
مشتمل على المادة والهيئة فحسب دون الذات، نعم إنها تدل عليها بالالتزام كما
تقدم، فإذن وقوعه محكوما به فإنما هو بلحاظ اشتماله على الذات.
الثاني: أن الزمان غير مأخوذ في مدلول الفعل، لما عرفت من أن مدلوله
نسبة المادة إلى فاعل ما، ولا يعتبر فيه وقوعه في الخارج في زمان، لأن موطنه
عالم الذهن أو عالم الطلب والبعث، ومن هنا يظهر أن ما نسب إلى النحاة من
دلالة الفعل على الزمان لا أصل له، لأن الفعل لم يوضع بإزاء النسبة الخارجية
لكي يتوهم أنها تقع في زمان ما، مع أن وقوعها فيه لا يدل على أنه مأخوذ في
مدلوله جزءا أو قيدا، بل لعله من باب أن كل زماني لا بد أن يقع في زمان، مع أن
الزمان لو كان مأخوذا في مدلوله لكان مدلوله تصديقيا لا تصوريا، لأن معنى
ذلك أنه موضوع بإزاء النسبة الخارجية لا الذهنية، والحال أن الأمر ليس
كذلك، لما مر من أنه موضوع بإزاء واقع النسبة التي يكون الذهن ظرفا لنفسها لا
لوجودها اللحاظي، لأنها بهذا الوجود معنى اسمي لا حرفي، كما أشرنا إليه
سابقا، هذا تمام كلامنا حول وضع الأفعال وامتياز بعضها عن بعضها الآخر.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو وضع المصادر، فلا شبهة في أن المصدر
بما هو لا يكون مبدأ المشتقات، لأن المبدأ لها لا بد أن يكون ساريا في جميع
أنواعها وأشكالها، بأن يكون خاليا ومجردا عن كل الخصوصيات لفظا ومعنى
حتى يقبل أي صورة تطرأ عليه كالهيولي في الأشياء، بينما المصدر ليس كذلك، فإنه
مشتمل على خصوصية لفظا ومعنى، أما لفظا فلأنه مشتمل على هيئة خاصة،
278

وأما معنى فلأنه مشتمل على خصوصية زائدة على صرف الحدث.
والخلاصة أن المبدأ كالهيولي الأولى، فكما أنها عارية عن كل خصوصية من
الخصوصيات، وإلا فلا يمكن أن تقبل أي صورة ترد عليها ولا تصلح أن تكون
مادة لجميع الأشياء فكذلك المبدأ، وهذا بخلاف المصدر، فإنه مشتمل على
خصوصية زائدة على نفس الحدث المشترك.
ومن هنا يظهر أن ما هو المشهور بين النحاة من أن المصدر أصل المشتقات
ومبدأ لها لا يرجع إلى معنى محصل، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد تسأل أن الخصوصية التي تدل عليها هيئة المصدر ما
هي؟
والجواب: أن فيه قولين:
الأول: ما ذهب إليه جماعة من أنها عبارة عن النسبة الناقصة بين المادة
والذات المبهمة، وهيئة المصدر موضوعة بإزائها وتدل عليها، هذا.
وعليه تعليقان:
الأول: ما عن المحقق النائيني قدس سره من أن المصدر لو كان موضوعا للنسبة
الناقصة بين المادة والذات المبهمة، فلازمه أن يكون مبنيا من جهة مشابهته
للحرف في معناه النسبي، مع أنه معرب لا مبني (1).
ولكن هذا التعليق غير صحيح.
أما أولا: فبالنقض بالأوصاف الاشتقاقية، فإنها موضوعة بإزاء معان نسبية

(1) أجود التقريرات 1: 93.
279

وهي نسبة المبدأ إلى الذات، مع أنها معربة وليست بمبنية.
وثانيا: بالحل وهو أن وضع هيئة المصدر للنسبة الناقصة وإن كان مؤديا
إلى مشابهته للحرف في مدلول هيئة، إلا أنه لا أثر لهذه المشابهة، لأنها لا
تستدعي أن يكون المصدر مبنيا، لأن الملاك في كونه مبنيا إنما هو مشابهته
للحرف بمدلول مادته كما في أسماء الإشارة والضمائر ونحوهما، ولا قيمة لمشابهته
للحرف بمدلول هيئته.
وبكلمة، إن المصدر مركب من أمرين: الأول المادة التي هي معنى اسمي،
والثاني الهيئة التي هي معنى حرفي، فالمصدر بلحاظ مادته اسم ولا يشبهه
الحرف، وشباهته له بلحاظ هيئته لا تضر بكونه معربا بلحاظ مادته، لأنه من
جهة ما يشبه المعنى الحرفي لا دخل له في حيثية كونه معربا، ومن جهة ماله دخل
في ذلك لا يشبه المعنى الحرفي، فلذلك لا يكون مبنيا.
هذا إضافة إلى أن الملحوظ في المصدر بالأصالة إنما هو مدلول المادة، لأنه
العنصر الأساسي فيه دون مدلول الهيئة، فإنه مندك فيه ولا ينظر إليه إلا تبعا،
فلهذا يقع المصدر محكوما عليه دون الفعل، حيث إن فعلية الفعل إنما هي بهيئته لا
بمادته، بينما يكون المصدر بعكس ذلك.
الثاني: أن هيئة المصدر لو كانت موضوعة للنسبة الناقصة بين المادة والذات
المبهمة لم تصح إضافة المصدر إلى الذات في مثل (ضرب زيد) و (قيام عمرو)
و (علم خالد) وهكذا، لاستلزم ذلك قيام نسبتين ناقصتين في عرض واحد بين
مادة واحدة وطرفين أحدهما الذات المبهمة والآخر الذات المعينة كزيد مثلا،
وهذا مستحيل، لاستحالة أن يكون شخص المادة طرفا لنسبتين متباينتين معا،
لما مر من أن كل نسبة متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها في الذهن أو
280

الخارج، ومن الواضح أنه لا يعقل أن يكون شخص المادة من المقومات الذاتية
لنسبتين متباينتين في عرض واحد، فإن هذا نظير أن يكون فصل واحد من
المقومات الذاتية لنوعين متباينتين كذلك، وهو كما ترى.
أو فقل: إن شخص وجود المادة في الذهن أو الخارج إذا كان طرفا لنسبة فيه،
فلا يعقل أن يكون في نفس الوقت طرفا لنسبة أخرى فيه مباينة للأولى، لما تقدم
من أن الجامع الذاتي بين أنحاء النسب غير متصور، لأنها متباينات بالذات
والحقيقة بتباين مقوماتها الذاتية، لأن المقومات الذاتية لكل نسبة مباينة
للمقومات الذاتية للأخرى، حيث إنها بمثابة الجنس والفصل للنوع، فكما أن كل
نوع من الأنواع مباين للنوع الآخر باعتبار أن الجنس والفصل لكل منها مباين
للجنس والفصل الآخر، فلا يعقل اشتراك نوعين متباينين في شخص
الجنس والفصل ولا في أحدهما فقط دون الآخر، فكذلك الحال في أنحاء النسب،
فإنه لا يعقل اشتراك نسبتين متباينتين في شخص الطرفين أو في أحدهما فحسب
دون الآخر (1).
ولكن يمكن المناقشة فيه، إذ بإمكان القائل بهذا القول أن يقول بأن هيئة
المصدر تدل على النسبة الناقصة، وهيئة الإضافة على تعيين الذات المبهمة التي
هي أحد طرفيها في فرد معين في الخارج، لا على النسبة الناقصة الأخرى في
عرض الأولى. هذا،
والصحيح في نقد هذا القول أن يقال إن هيئة المصدر لم توضع للنسبة
الناقصة بين الحدث والذات المبهمة، وإنما وضعت لحصة خاصة من الحدث،
فلنا دعويان:

(1) ذكره في بحوث في علم الأصول 1: 315.
281

الأولى: أن المصدر لم يوضع للنسبة الناقصة بين الحدث والذات المبهمة.
الثانية: أنها موضوعة لحصة خاصة من الحدث.
أما الدعوى الأولى فلأن هيئة المصدر لو كانت موضوعة للنسبة بين الحدث
والذات المبهمة، فلا بد من أن تكون النسبة التامة، لما ذكرناه سابقا من أن تمامية
النسبة في أي وعاء إنما هي بتمامية شخص طرفيها فيه سواء أكان ذلك الوعاء
وعاء الخارج أم الذهن، لأن ذهنية النسبة أنما هي بذهنية طرفيها، كما أن
خارجيتها إنما هي بخارجيتها، ولا يعقل أن توجد النسبة في الذهن أو الخارج
ناقصة، لأن طرفيها إن وجدا في الذهن أو الخارج فالنسبة ثابتة فيه، وإلا فلا
نسبة، لا أنها موجودة ناقصة.
والخلاصة أن هيئة المصدر لو كانت موضوعة بإزاء النسبة بين الحدث
والذات المبهمة لم يكن فرق بينها وبين هيئة الفعل في المعنى الموضوع له، حيث قد
مر أن هيئة الفعل أيضا موضوعة للنسبة بين الحدث والذات المبهمة، مع أن
الفرق بينهما في المعنى الموضوع له واضح وجدانا وارتكازا، ومن هنا يختلف
المصدر عن الفعل في عدة نقاط:
منها: أن المصدر يصح وقوعه محكوما عليه دون الفعل.
ومنها: أن المصدر يصح إضافته إلى الفاعل تارة والمفعول أخرى دون الفعل،
فإنه لا يصح إضافته إلى شئ منهما.
ومنها: أن العنصر الأساسي في المصدر إنما هو مادته دون هيئته، بينما الأمر في
الفعل على العكس.
ومن الواضح أن تلك تدل بوضوح على أن هيئة المصدر لم توضع بإزاء
282

النسبة بين الحدث والذات المبهمة، وإلا كان حاله حال الفعل، فلا فرق بينهما
من هذه الناحية.
وأما الدعوى الثانية فلأن المتفاهم العرفي من هيئة المصدر حيثية خاصة قائمة
بذات الحدث كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، وليست تلك الحيثية نسبة حتى
لا يعقل قيامها بطرف واحد.
وبذلك يفترق المصدر عن الفعل، وهذا يمثل الفرق بينهما جوهريا، لأن
المصدر متقوم بمدلول مادته وهو ذات الحدث الفارغة عن جميع الخصوصيات
والحيثيات الطارئة، دون مدلول هيئته وهو الحيثية القائمة بها، والفعل متقوم
بمدلول هيئته وهو النسبة بين المادة والذات المبهمة كما تقدم، دون مدلول مادته.
وعلى الجملة فالظاهر أن هيئة المصدر موضوعة بإزاء الحيثية القائمة بذات
الحدث التي هي معنى مادته وتدل عليها، وهذه الحيثية وإن كانت تستلزم إضافة
الحدث إلى الذات المبهمة إلا أنها لم تؤخذ في مدلولها، لأن الأخذ فيه شئ
والاستلزام شئ آخر.
وما ذكرناه سابقا من أن حيثية الصدور أو الحلول لم تؤخذ في مدلول الهيئة،
وإنما هي مأخوذة في مدلول المادة لا ينافي ما مر الآن من أن هيئة المصدر تدل
على خصوصية قائمة بذات المادة، لأن الخصوصية التي تكون مدلولة لهيئة
المصدر هي خصوصية الايجاد، فإن المصدر في مرحلة التصور قد يلحظ بما هو
حدث وإيجاد، وقد يلحظ بما هو موجود بالذات في الخارج، نظير الخلق
والمخلوق والايجاد والوجود، فإنهما متحدان في الواقع ذاتا وحقيقة ومختلفان
اعتبارا، فالقيام تارة يلحظ بما هو حدث وإيجاد، وأخرى يلحظ بما هو وجود في
الخارج، فهيئة المصدر موضوعة للقيام بلحاظ الحيثية الأولى، أي بما هو حدث
283

وإيجاد، وأما خصوصية الحلولية، فهي مقتضى أرضية القيام وخاصته، فلا
تكون هيئة المصدر موضوعة لها، ومن هنا يظهر حال اسم المصدر، فإنه موضوع
للحدث بلحاظ الحيثية الثانية، لأن كلتا الحيثيتين من حيثيات الحدث ومن
الحالات القائمة بذاته، غاية الأمر أن مدلول هيئة المصدر حينئذ موجود في
ضمن مدلول كل هيئة من الهيئات الاشتقاقية، حيث إنه أسبق رتبة من سائر
المشتقات، وكذلك اسم المصدر.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن هيئة المصدر موضوعة للحيثية
القائمة بذات الحدث لا للنسبة بينها وبين الذات المبهمة.
وهنا قولان آخران:
القول الأول: ما عن المحقق النائيني قدس سره فإنه في مقام التمييز بين المصدر واسم
المصدر قال: إن المصدر موضوع للحدث الملحوظ بنحو قابل لورود النسبة
عليه، أي إنه موضوع للحدث الملحوظ بنحو لا بشرط، واسم المصدر
موضوع للحدث بشرط عدم هذه النسبة، يعني أنه موضوع للحدث الملحوظ
بشرط لا (1). هذا،
ولكن للمناقشة فيه مجالا واسعا، وذلك لأنه قدس سره إن أراد بكلمة (لا بشرط)
عنوانها ومفهومها وأن المصدر موضوع بإزائه، فيرد عليه أن مفهوم هذه الكلمة
مفهوم اسمي، فلا يمكن أن تكون هيئة المصدر موضوعة بإزائه، لأن مدلولها معنى
حرفي لا اسمي.
وإن أراد بها واقعها الموضوعي، وهو الخصوصية التي يستبطنها الحدث

(1) أجود التقريرات 1: 91، 93.
284

كخصوصية الصدورية أو الحلولية، وهي قابلية الحدث لورود الإضافة والنسبة
عليه، وهذه الخصوصية قائمة بذات الحدث كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي،
وليست نسبة بالمعنى الذي يحتاج إلي الطرفين، وأما كونها مأخوذة لا بشرط
فإنما هو بالنسبة إلى إضافة الحدث إلى الذات وعدم إضافته إليها، فيرد عليه أن
لازم ذلك كون المصدر مبنيا عنده قدس سره للمشابهة بالمعنى الحرفي وهو الخصوصية
المذكورة، ومن هنا منع قدس سره عن وضع هيئة المصدر بإزاء النسبة بين المادة
والذات، معللا لأنها لو كانت موضوعة بإزائها لكان المصدر مبنيا بملاك المشابهة
لا معربا، والخصوصية المذكورة وإن لم تكن نسبة إلا أنها معنى حرفي، فإذا كانت
معنى حرفيا، فلا يرى قدس سره وضع المصدر بإزائها بنفس الملاك المتقدم، فالنتيجة أنه
لا يمكن أن يكون مراده قدس سره من اللا بشرط تلك الخصوصية.
وإن أراد قدس سره بها ذات المعنون بعنوان لا بشرط، وهي طبيعي الحدث الذي لم
يلحظ معه أي خصوصية من الخصوصيات العرضية، بأن يكون مهملا من جميع
الجهات والخصوصيات، فيرد عليه أن الحدث بهذا المعنى مبدأ للمشتقات، فلا
يمكن أن يكون مدلولا للمصدر، لأن المصدر مشتمل على خصوصية زائدة لفظا
ومعنى، فلا يصلح أن يكون مبدأ لها كالهيولي، بل هو من أحد المشتقات،
هذا إضافة إلى أن الحدث بهذا اللحاظ معنى اسمي، فلا يمكن أن يكون مدلولا
لهيئة المصدر.
فالنتيجة أن هذه المحاولة بتمام محتملاتها غير تامة.
نعم، قد يظهر من بعض كلماته أن المصدر وضع للحدث القائم بموضوع،
واسم المصدر وضع للحدث بشرط عدم لحاظ قيامه به، فهما متباينان معنى (1).

(1) أجود التقريرات 1: 94.
285

ويمكن المناقشة فيه بأنه إن أراد قدس سره بقيامه بالموضوع قيامه به خارجا، فيرد
عليه أن لازم ذلك وضع هيئة المصدر للنسبة الخارجية، لأن قيام الحدث
بالموضوع في الخارج عبارة أخرى عن نسبته إليه، ومن الواضح أنه لا يمكن
الالتزام به، لأن لازمه أن يكون المدلول الوضعي لها مدلولا تصديقيا، وأيضا
لازمه أن يكون المصدر مبنيا عنده قدس سره مع أنه لا يلتزم بالبناء.
هذا إضافة إلى أن لازم وضعها للنسبة الخارجية عدم ثبوت المدلول لها في
موارد الهلية البسيطة والصفات الذاتية له تعالى والاعتباريات والانتزاعيات،
من جهة أن النسبة الخارجية لا تتصور في هذه الموارد كافة.
وإن أراد قدس سره بذلك قيامه بالموضوع في صقع الذهن، فيرد عليه أن لازم ذلك
وضع هيئة المصدر للنسبة الذهنية، والحال أنه قدس سره لا يلتزم به، بل ينفي ذلك معللا
بأن وضعها لها يستلزم كون المصدر مبنيا مع أنه معرب، فالنتيجة أنه ليس بوسعه
الالتزام بوضع المصدر بإزاء النسبة ولا بإزاء الخصوصية القائمة بالحدث،
لاستلزام ذلك كونه مبنيا عنده.
وأما ما أفاده قدس سره بالنسبة إلى اسم المصدر، فلا يمكن المساعدة عليه.
أما أولا: فلأن لازم ذلك عدم وجود مصداق لمدلول اسم المصدر في الخارج،
لأن الحدث بشرط عدم لحاظ إضافته إلى ذات فيه مجرد مفهوم في عالم
الذهن لا واقع له خارجا، ضرورة أنه لا يمكن فرض وجود حدث بدون انتسابه
إلى ذات فيه.
وثانيا: أنه لا شبهة في صحة أضافة اسم المصدر إلى فاعله، فلو كان موضوعا
للحدث بنحو بشرط لا، أي بشرط عدم الإضافة إليه، لزم إلغاء معناه الموضوع
له واستعماله في غيره في مثل قولك (غسل زيد) مثلا، أو فقل إنه يلزم التناقض
286

والتهافت بين مدلوله ومدلول الإضافة.
القول الثاني: ما ذهب إليه السيد الأستاذ قدس سره من أن هيئة المصدر موضوعة
للدلالة على قصد نسبة الحدث إلى فاعل ما، وهيئة اسم المصدر موضوعة
للدلالة على قصد الحدث من دون لحاظه منتسبا إلى ذات في الخارج.
وأما هيئة فعل الماضي، فقد تقدم أنها موضوعة للدلالة على قصد الحكاية
عن تحقق المبدأ في الخارج قبل التكلم بها ولو آنا ما، وهيئة فعل المضارع
موضوعة للدلالة على قصد الحكاية عن تحقق المبدأ حال التكلم أو بعده ولو
بآن، وعلى هذا فتمتاز هيئة المصدر عن اسم المصدر في المعنى الموضوع له،
وكذلك تمتاز هيئة المصدر عن هيئة الفعل في ذلك (1)، هذا.
ويمكن المناقشة فيه.
أما أولا فلأن ما ذكره قدس سره مبني على نظريته في مسألة الوضع، وهي التعهد
والالتزام النفساني، حيث إن لازم هذه النظرية كون الدلالة الوضعية دلالة
تصديقية، والفرق بين هيئة المصدر وهيئة الفعل على ضوئها ظاهرة، وأما على
ضوء سائر النظريات في باب الوضع فقد مر أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية،
وعلى هذا فما هو الفارق بين هيئة المصدر وهيئة الفعل بعد ما كان المدلول
الوضعي في كلتيهما هو النسبة بين الحدث والذات المبهمة، وقد تقدم أنه على
هذا لا فرق بينهما.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم نظرية التعهد، ولكن مع هذا يكون
المتبادر من هيئة المصدر عرفا قصد تفهيم الخصوصية القائمة بالحدث دون

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 235 و 277.
287

النسبة بينه وبين الذات المبهمة، كما أنها هي المتفاهم منها عرفا على ضوء سائر
النظريات، وقد تقدم أن هذا هو الصحيح.
وأما هيئة اسم المصدر، فإن كانت متحدة مع هيئة المصدر كما هو الغالب
في اللغة العربية فالمدلول الوضعي لها واحد، وذلك مثل (الضرب) و (النصر)
ونحوهما، لوضوح أنه ليس لها معنيان: أحدهما المعنى المصدري، والآخر
المعنى الاسم المصدري.
وأما إذا كانت لكل منهما هيئة مستقلة ك‍ (الغسل) و (الغسل)، فالظاهر أن
هيئة اسم المصدر موضوعة للحدث بلحاظ أنه موجود في موطنه، وهيئة
المصدر موضوعة بإزائه بلحاظ إيجاده، فيكون الفرق بينهما الفرق بين الايجاد
والوجود، فالمصدر وضع لحيثية الايجاد، واسم المصدر لحيثية الوجود.
ثم إن مرادنا من الايجاد والوجود ليس هو الايجاد والوجود الخارجيين لكي
يقال إن اللفظ لم يوضع بإزاء الوجود الخارجي، بل المراد منهما أن الحدث في عالم
التصور قد ينظر إليه بما أنه حدث وإيجاد وقد ينظر إليه بما أنه وجود في موطنه،
والأول المعنى المصدري، والثاني المعنى الاسم المصدري.
نتيجة البحث عدة نقاط:
الأولى: أن هيئة الفعل بشتى أنواعه موضوعة للنسبة بين المادة والذات
والمبهمة في وعاة التحقق والطلب، وهيئة الجملة في مثل قولك (ضرب زيد)
وضعت لتعيين الذات المبهمة في فرد خاص.
الثانية: أن صدورية النسبة وحلوليتها إنما هي من خصوصيات المادة دون
الهيئة، وهذا واضح على القول بأن وضع الهيئة نوعي، وأما على القول بأن
288

وضعها شخصي فالظاهر أن الأمر أيضا كذلك كما تقدم.
الثالثة: أن القول بأن هيئة الفعل موضوعة للنسبة الناقصة وهيئة الجملة
موضوعة للنسبة التامة، لا يرجع إلى معنى صحيح، بل لازم ذلك قيام نسبتين
متباينتين في عرض واحد بمادة واحدة وطرفين آخرين، وهو غير معقول كما مر.
الرابعة: أنه لا فرق بين جملة (ضرب زيد) التي هي جملة فعلية وبين جملة
(زيد ضرب) التي هي جملة اسمية، فكما أن هيئة الفعل في الجملة الأولى تدل
على النسبة التامة بين المادة والذات المبهمة، وهيئة الجملة تدل على تعيين الذات
المبهمة في فرد معين في الخارج كزيد مثلا فكذلك هيئة الفعل في الجملة الثانية،
فإنها تدل على النسبة بين المادة والذات المبهمة المستترة فيه، وهيئة الجملة تدل
على تعيين الذات المبهمة في فرد خاص، غاية الأمر أن هيئة الفعل في الجملة
الأولى تدل على الذات المبهمة بالالتزام، على أساس دلالتها على وقوع المادة
وتحققها خارجا، وأما في الجملة الثانية فتدل عليها بالمطابقة، وهي الضمير
المستتر فيه.
ودعوى أن الجملة الثانية تنحل إلى جملتين صغيرة وكبيرة ومشتملة على
نسبتين، فالصغيرة جملة فعلية تدل على النسبة بين المادة والفاعل المبهم وهو
الضمير المستتر فيه، والكبيرة جملة اسمية تدل على النسبة بين المبتدأ والخبر وهو
الجملة الفعلية، بينما الجملة الأولى لا تنحل إلى جملتين كذلك.
مدفوعة بأن هذا الانحلال وإن كان معروفا إلا أنه لا ملاك له، بل هي جملة
واحدة كالجملة الأولى، غاية الأمر أن الفاعل في الجملة الأولى متأخر عن
الفعل وفي الثانية متقدم عليه، ولكن هذا المقدار من الاختلاف لا يمثل الفرق
بينهما واقعا وجوهرا.
289

الخامسة: أن ما أفاده بعض الأعاظم قدس سره - من أن هيئة الفعل في الجملة
الاسمية وإن كانت موضوعة بإزاء نسبة المادة إلى فاعل ما، إلا أنها لما كانت هيئة
أفرادية، فوضعها بإزائها لا يغني عن وضع هيئة الجملة القائمة بالفعل والفاعل -
غير تام كما تقدم.
السادسة: أن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره - من أن هيئة فعل الماضي موضوعة
لنسبة المادة إلى فاعل ما بنحو التحقق، وهيئة فعل المضارع موضوعة لنسبة
المادة إلى فاعل ما بنحو الترقب، وبذلك يمتاز فعل الماضي عن المضارع - مما لا
يمكن المساعدة عليه، إلا أن يكون مراده قدس سره من ذلك أن النسبة في فعل الماضي
تتضمن حيثية الحكاية والاخبار عما وقع في الخارج، وفي فعل المضارع تتضمن
حيثية الحكاية والاخبار عما يقع فيه فعلا أو في المستقبل، فعندئذ ما أفاده قدس سره
تام.
السابعة: أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره - من أن هيئة الفعل ماضيا كان أم
مضارعا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفيا أو إثباتا
- مبني على مسلكه قدس سره في باب الوضع، وحيث إنه غير تام عندنا، فلا يمكن
المساعدة على ما أفاده قدس سره.
الثامنة: أن فعلية صيغة الأمر إنما هي بلحاظ اشتمالها على النسبة بين المادة
والفاعل كأخويها من فعل الماضي والمضارع، على أساس أن فعلية الفعل
متقومة بتلك النسبة، وحيث إن فعل الأمر مشتمل عليها، فهو يشترك معهما في
الفعلية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى إن وعاء هذه النسبة في فعل الأمر وعاء الطلب والانشاء،
وفي فعل الماضي والمضارع وعاء التحقق والاخبار، وبذلك يمتاز فعل
290

الأمر عنهما.
التاسعة: أن الفعل لا يقع محكوما عليه، بنكتة أن فعلية الفعل إنما هي بهيئته
التي هي بمثابة صورته النوعية دون مادته التي هي بمثابة الهيولي، فلذلك يكون
مدلول الفعل معنى حرفيا، باعتبار أنه مدلول هيئته، والمعنى الحرفي لا يصلح أن
يحكم عليه، وأما وقوعه محكوما به، فلا يكون من جهة معناه الموضوع له وهو
النسبة، لأنه من هذه الجهة كما لا يحكم عليه لا يحكم به أيضا، بل من جهة أن
الجملة الفعلية إذا وقعت خبرا للمبتدأ كقولك (زيد قام) ترجع في الحقيقة إلى
جملة اسمية وهي قولك (زيد قائم)، على أساس أن المتفاهم العرفي منها هو
تلبس الذات بالمبدأ، فيكون المحمول في الحقيقة هو تلك الذات المتلبسة كما
تقدم، دون الفعل، بما هو فعل دال على النسبة.
العاشرة: أن المصدر لا يصلح أن يكون مبدأ للمشتقات وأصلا لها كما في
كلمات النحاة، لأنه مشتمل على خصوصية زائدة لفظا ومعنى، والمبدأ لا بد أن
يكون خاليا عن جميع الخصوصيات العرضية حتى يكون ساريا في جميع
المشتقات بشتى أنواعها وأشكالها.
الحادية عشرة: أن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من أن هيئة المصدر لو كانت
موضوعة بإزاء النسبة الناقصة بين المادة والذات المبهمة كما مبنيا من
جهة المشابهة غير تام، لأن المصدر معرب من جهة مادته التي هي معنى
اسمي، والمفروض أنه لا يشبه الحرف من هذه الجهة، وإنما يشبه الحرف من
جهة هيئته، والشباهة من هذه الجهة لا ترتبط بالجهة التي يكون المصدر معربا
من تلك الجهة.
الثانية عشرة: أن صحة إضافة المصدر إلى الذات ك‍ (ضرب زيد) و (قيام
291

عمرو) تمنع عن وضع هيئته للنسبة الناقصة، وإلا لزم قيام نسبتين ناقصتين في
عرض واحد بين مادة واحدة وطرفين، وهما الذات المبهمة والذات المعينة،
وهذا مستحيل، لاستحالة أن يكون شخص المادة طرفا مقوما لنسبتين
متباينتين معا كما تقدم.
الثالثة عشرة: الصحيح أن هيئة المصدر موضوعة لخصوصية خاصة قائمة
بالحدث، وهي ليست بنسبة حتى تحتاج إلى وجود طرفين لها، بل هي من
الحالات القائمة بالغير كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.
الرابعة عشرة: أن المصدر يمتاز عن الفعل بعدة نقاط: منها وقوعه محكوما
عليه، ومنها صحة إضافته إلى الفاعل، ومنها إلى المفعول، بينما لا يقع الفعل
محكوما عليه ولا يصح إضافته إلى الفاعل ولا إلى المفعول.
وأما الكلام في المقام الثالث وهو وضع الأوصاف الاشتقاقية، ففيه
قولان رئيسيان:
القول الأول: أنها موضوعة للمتلبس بالمبدأ فعلا.
القول الثاني: أنها موضوعة للجامع بينه وبين ما انقضى عنه المبدأ.
وأما الأقوال الأخرى في المسألة: فهي أقوال جانبية ويظهر حالها من بيان
القولين الرئيسين فيها.
ثم إنه هذا النزاع مبتن على إمكان تصوير جامع بين المتلبس بالمبدأ والمنقضي
عنه المبدأ، وأما على تقدير عدم إمكان تصويره، فلا موضوع لهذا النزاع، لأنه
بنفسه دليل على بطلان القول بالأعم وتعين القول بالوضع لخصوص المتلبس،
فلذلك يقع الكلام في مقامين:
292

الأول: في مقام الثبوت.
الثاني: في مقام الاثبات.
أما الكلام في المقام الأول فعلى القول ببساطة مفهوم المشتق وأنه نفس المبدأ
الملحوظ لا بشرط من حيث الحمل، فلا يعقل تصور معنى جامع قابل للانطباق
على المتلبس والمنقضي معا في الخارج، لأن المبدأ إما أن يكون موجودا فيه أو
معدوما، ولا ثالث لهما، فتصويره تصوير جامع بين النقيضين، وهو غير معقول،
وعليه فالمشتق بما أنه عين المبدأ ذاتا وحقيقة، فطالما يكون المبدأ موجودا
فالمشتق صادق، إذا زال وانقضى زال المشتق ولا يعقل بقاؤه، وعلى هذا القول
يكون حال العناوين الاشتقاقية كحال العناوين الذاتية كالانسان والحيوان
ونحوهما، فكما أنه يستحيل بقاء تلك العناوين مع زوال مبادئها الذاتية التي هي
حقيقتها، باعتبار أن شيئية الشئ إنما هي بصورته النوعية المقومة فكذلك
عنوان المشتق، فإنه يستحيل بقاؤه مع زوال المبدأ، وإلا لزم خلف فرض كونه
عينه، بل هو أسوء حالا من العناوين الذاتية، فإن تلك العناوين مركبة من المادة
والصورة، فإذا زالت صورتها النوعية زالت العناوين بصورتها لا بمادتها.
هذا إضافة إلى أن هناك بحثا في الفلسفة عن إمكان انفكاك الذات عن
صورتها النوعية من جهة البحث عن مدى تقوم الصورة الجسمية بالصورة
النوعية، فهناك قول بأن الصورة النوعية كالأعراض للصورة الجسمية، ولا
دخل لها فيها، وقول بأن الصورة الجسمية متقومة بإحدى الصور النوعية على
البدل، وقول بأنها متقومة بأشخاص الصور النوعية، وتمام الكلام هناك،
فالغرض هنا الإشارة إلى أن مسألة عدم انفكاك الذات عن صورتها النوعية
ليست من المسائل المسلمة لدى الفلاسفة، وهذا بخلاف المشتق، فإنه على
293

القول ببساطته عين المبدأ، فزواله بزوال المبدأ أمر وجداني غير قابل
للبحث، فلذلك لا موضوع حينئذ للنزاع في أنه وضع للأعم أو الخصوص
المتلبس بالمبدأ بالفعل.
وبكلمة أخرى، إن الركن الوطيد على هذا القول هو نفس المبدأ غاية الأمر
أنه ملحوظ لا بشرط، ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات، وحينئذ فالصدق
متقوم بالمبدأ وجودا وعدما، فإذا انعدم لم يصدق العنوان الاشتقاقي إلا بالعناية
والمجاز، وبذلك تختلف العناوين الاشتقاقية عن العناوين الذاتية، فإن العناوين
الاشتقاقية على الرغم من كونها عين مبادئها ذاتا وحقيقة وبسيطة، سواء أكانت
المبادئ من إحدى المقولات أم كانت من غيرها، فإذا زالت المبادئ زالت
العناوين الاشتقاقية بالكلية، ولكن مع هذا يصح إطلاقها على الذات قبل
الاتصاف بها وبعده مجازا بعلاقة الأول والمشارفة أو علاقة ما كان.
بينما العناوين الذاتية على الرغم من كونها مركبة من الصورة والمادة، فإذا
زالت الصورة وتبدلت بصورة أخرى بقيت المادة، ولكن مع هذا لا يصح إطلاقها
على المادة ولو مجازا، فإذا صار الانسان أو الكلب ملحا لم يصح إطلاق الانسان
على المأة ولا الكلب لا حقيقة ولا بالعناية والمجاز، والنكتة في ذلك هي أن
المتصف بالإنسانية حصة من الهيولي، وتزول تلك الحصة بزوال صورتها وهي
الانسانية، والباقي هو الهيولي المشتركة بين جميع الأشياء، وهي بحدها لا تتصف
بالإنسانية أصلا، بل لا يعقل اتصافها بها، وأما الحصة المتصفة بالترابية، فهي
مباينة للحصة المتصفة بالإنسانية وهكذا، فلذلك لا يصح إطلاق العناوين
الذاتية على الهيولي المشتركة ولا على حصة أخرى منها مباينة ولو مجازا، لعدم
العلاقة المجوزة في البين، وهذا بخلاف الذات في باب العناوين الاشتقاقية، فإنها
294

قبل الاتصاف بها وحين الاتصاف بها وبعدة ذات واحدة شخصية.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتيجتين التاليتين:
الأولى: أنه على القول ببساطة مفهوم المشتق لا موضوع للنزاع في أنه وضع
للأعم أو لخصوص المتلبس.
الثانية: أن هذا القول بنفسه دليل قطعي على وضع المشتق لخصوص المتلبس
بالمبدأ بالفعل.
وأما على القول بأن مفهوم المشتق مركب من الذات والمبدأ، فهل يمكن حينئذ
تصوير معنى جامع بين المتلبس والمنقضي أو لا؟
فيه قولان:
فذهب المحقق النائيني قدس سره إلى القول الثاني بتقريب أن تصوير معنى جامع بين
الذات المتلبسة بالمبدأ فعلا والذات الفاقدة له كذلك غير ممكن، لأن تصويره
بينهما كتصوير جامع بين الواجد والفاقد والوجود والعدم، وهو غير معقول.
فالنتيجة أن وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المتلبس
والمنقضي في الواقع ومقام الثبوت وهو غي متصور (1). هذا،
وقد علق عليه السيد الأستاذ قدس سره بأنه يمكن تصوير الجامع على القول
بالتركيب بأحد الوجهين التاليين.
الأول: أن الجامع بين المتلبس والمنقضي هو اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة،
في مقابل الذات التي لم تتلبس به بعد، فإن الذات في الخارج على نوعين:

(1) فوائد الأصول 1: 121، أجود التقريرات 1: 115.
295

الأول: الذات التي لم تتلبس بالمبدأ بعد، وهذا النوع من الذات خارج
عن المقسم.
الثاني: الذات التي تتصف بالمبدأ، وهي أعم من أن يكون اتصافها باقيا حين
النطق أو لا يكون باقيا، وهو جامع بين المتلبس والمنقضي، وينطبق على كل
منهما انطباق الطبيعي على أفراده، وعلى هذا فالموضوع له على القول بالأعم هو
صرف وجود الاتصاف العاري عن أي خصوصية من الخصوصيات العرضية،
كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد، وهو كما ينطبق على الفرد
المتلبس حقيقة كذلك ينطبق على الفرد المنقضي، باعتبار أن هذا المعنى موجود
في كلا الفردين.
وإن شئت قلت: إن الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود، فان
المبدأ كما خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس كذلك خرج في موارد
الانقضاء، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده بقاء جامع بين
الفردين، وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد خارجتان عن
المعنى الموضوع له.
الثاني: أنا لو سلمنا أن تصوير جامع حقيقي بين الفردين غير ممكن إلا أن
بإمكاننا تصوير جامع انتزاعي بينهما، وهو عنوان أحدهما، نظير ما ذكرناه في
بحث الصحيح والأعم من تصوير جامع انتزاعي بين الأركان، ولا ملزم لأن
يكون الجامع ذاتيا، لعدم مقتض له، إذ في مقام الوضع يكفي الجامع
الانتزاعي، لأن الحاجة التي قد دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بإزائه،
وهو لا يستدعي أزيد من تصوير معنى ما، سواء أكان ذلك المعنى من الماهيات
296

المتأصلة أم كان من الماهيات الاعتبارية أم الانتزاعية (1).
وقد علق على كلا الوجهين بعض المحققين قدس سره.
أما على الوجه الأول فبأمرين:
الأول: أن المتفاهم عرفا من المشتقات ليس هو خروج المبدأ من العدم إلى
الوجود، بل المتفاهم منها تلبس الذات بالمبدأ لا بتوسيط عدمه (2).
وفيه: أن هذا التعليق في غير محله.
أما أولا فلأن الكلام في المقام إنما هو في إمكان تصوير معنى جامع بين الفرد
المتلبس والمنقضي ثبوتا، وأما كون هذا الجامع هو المتفاهم من المشتق عرفا في
مقام الاثبات أو أن المتفاهم منه شئ آخر في هذا المقام، فهو مسألة أخرى
سوف يأتي الكلام فيها.
وثانيا: أن هذا التعليق أشبه بالتعليق على صيغة التعبير لا على المضمون،
حيث إن مقصوده قدس سره من هذه الصيغة هو تلبس الذات بصرف وجود المبدأ لا أن
قيد العدم دخيل في الجامع، أو فقل إن هذا التعبير عن واقع الحال،
وهو أن المبدأ كغيره من الأشياء يخرج من العدم إلى الوجود، لا أن سبقه بالعدم
دخيل فيه.
الثاني: أنه إن أريد بالجامع مفهوم المتلبس، ففيه أن المتلبس نفسه من
المشتقات، ولا بد من تحديد معناه سعة وضيقا، فلا يمكن أن يكون المعنى
الموضوع له للأوصاف الاشتقاقية وجامعا بين الفردين فيها، وإن أريد به واقع

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 25.
297

المتلبس، وهو التلبس بنحو الفعل الماضي، ففيه أنه لا يمكن أخذ مضمون الفعل
الماضي في مفاد المشتقات، وإلا فلازمه عدم صدق المشتق على الذات بلحاظ آن
حدوث المبدأ، لأن الفعل الماضي لا يصدق إلا حينما يكون المبدأ حادثا قبل زمان
الجري، وأيضا لا زمة عدم صحة جري المشتق بلحاظ المستقبل كقولك (زيد
من قائم غدا)، لعدم عرفية إجراء الماضي بلحاظ المستقبل، هذا إضافة إلى أنه لا
يصح أخذ مفاد الفعل الماضي في جملة من المشتقات كأسماء الآلة وأسماء الأزمنة
والأمكنة ونحوها (1).
ويمكن المناقشة فيه بأن المأخوذ في الجامع ليس هو مفهوم المتلبس ولا مفاد
الفعل الماضي، بل المأخوذ فيه تلبس الذات بالمبدأ في الجملة، أي بنحو صرف
الوجود، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المتقدمة، لأنه ليس بنحو مفاد
الفعل الماضي، لأن التلبس بنحو الفعل الماضي إنما يتصور بالنسبة إلى
الفرد المنقضي في مرحلة التطبيق لا في الجامع، والمفروض أن صدق الجامع
على المنقضي إنما هو بلحاظ تلبسه بالمبدأ في الجملة أي بنحو صرف
الوجود، والتلبس كذلك يصدق عليه حقيقة في مقابل عدم صدقه كذلك على
من لم يتلبس به بعد.
نعم، إن الجامع بين الحالتين هما حالة التلبس وحالة الانقضاء لا يمكن
تصويره، لأنهما من الحالتين المتضادين فلا جامع بينهما، وأما الجامع بين الذاتين
هما الذات في حال التلبس والذات في حال الانقضاء فهو بمكان من الامكان،
وهو صرف التلبس بالمبدأ، لأن كلتيهما مشتركة فيه، وهو جامع بين الفردين في
الحالتين بدون أن يكون شئ من الحالتين مأخوذا في الجامع ودخيلا فيه.

(1) بحوث في علم الأصول 1 373.
298

وعلى هذا فالصحيح هو ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من إمكان تصوير جامع
بين الفردين على القول بالتركيب.
ودعوى أن الجامع بينهما لا بد أن يكون واجدا لصفتي كل منهما وهما حالة
الانقضاء وحالة التلبس، ومن الواضح أنه لا يتصور جامع يكون واجدا لكلتا
الحالتين المتضادتين.
مدفوعة بأن الجامع لا بد أن يكون عاريا عن جميع الخصوصيات العرضية،
وهي الخصوصيات الطارئة على أفراده، والجامع في المقام هو صرف تلبس
الذات بالمبدأ في الجملة، ولم يؤخذ فيه أية خصوصية لا خصوصية التلبس في
الحال ولا خصوصية الانقضاء، فإنهما من خصوصيات الفرد العرضية.
أما على الوجه الثاني فلأن تصوير جامع انتزاعي كعنوان أحدهما بين
الفردين في المسألة وإن كان بمكان من الامكان بل لا مانع منه حتى بين النقيضين،
إلا أن الكلام إنما هو في تصوير معنى جامع يكون المشتق موضوعا بإزائه،
والظاهر أن المشتق لم يوضع بإزائه، لعدم انفهامه منه (1).
وفيه: أن مجرد دعوى عدم الانفهام والتبادر لا يكون دليلا على أن عنوان
أحدهما لا يصلح أن يكون معنى للمشتق في المسألة، إذ بإمكان القائل بالأعم أن
يدعى وضع المشتق بإزائه بنحو الوضع العام والموضوع له العام، أو لمصداقه
بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن تصوير الجامع بين
الفردين في المسألة ثبوتا بمكان من الامكان على القول بالتركيب.

(1) بحوث في علم الأصول 1: 372.
299

وأما الكلام في مقام الاثبات، فعلى القول بأن مدلول المشتق بسيط فلا
موضوع للنزاع في هذا المقام، لأنه متفرع على إمكان تصوير جامع في مقام
الثبوت، والفرض عدم إمكانه فيه، ومن هنا يكون نفس هذا القول دليلا قطعيا
على وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.
أما على القول بأن مدلول المشتق مركب من الذات والمبدأ، فحيث إن الجامع
متصور فيه ثبوتا، فيقع النزاع فيه في مقام الاثبات على أقولا عمدتها قولان:
الأول: أن هيئة المشتق موضوعة لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل.
الثاني: أنها موضوعة للجامع بينه وبين المنقضي.
أما القول الأول فقد استدل عليه بوجوه:
الأول: التبادر، بتقريب أن المتبادر والمنسبق من المشتق في العرف العام لدى
الاطلاق ارتكازا هو المتلبس خاصة دون الأعم، ولا فرق في هذا التبادر بين أن
يكون المشتق في ضمن الجملة التامة كقولك (زيد عالم) أو في ضمن الجملة
الناقصة ك‍ (دار عالم) و (علم مجتهد) وهكذا أو لا يكون في ضمن أي منهما،
فإنه على كل حال كاشف عن وضعه للمتلبس خاصة.
وقد علق على هذا الوجه بأن منشأ التبادر قد يكون الوضع وقد يكون
الانصراف الناجم من كثرة الاستعمال، وفي المقام كما يحتمل الأول كذلك يحتمل
الثاني، ومع هذا الاحتمال لا يكون كاشفا عن الوضع (1).
والجواب: أن كثرة الاستعمال في المتلبس خاصة إذا بلغت درجة ينجم منها
تبادر خصوص المتلبس عند الاطلاق فمعنى ذلك تحقق الوضع بعامل كمي، وهو

(1) نقله في بحوث علم الأصول 1: 374.
300

كثرة الاستعمال، فإذن تكون النتيجة أن تبادر المتلبس من المشتق عند الاطلاق
مستند إلى الوضع وكاشف عنه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الوضع تعيينيا أو
تعينيا، فإن الغرض هو إثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس سواء أكان
بالوضع التعييني أم التعيني.
ودعوى أن كثرة الاستعمال مع القرينة مهما كانت لا تؤدي إلى الوضع، لأنها
إنما توجب العلاقة بين المعنى واللفظ المقترن بالقرينة لا مطلقا، فإذا جرد اللفظ
عن القرينة لم يكن المعنى متبادرا منه، لعدم حصول العلاقة بينه مجردا وبين
المعنى، فإذن لا تكون نتيجة هذه الكثرة حصول الوضع التعيني.
مدفوعة بأن لهذا الاستعمال عنصرين: أحدهما: اللفظ والآخر القرينة،
والأول عنصر ثابت في جميع موارد الاستعمال على حد سواء، والثاني، عنصر
متغير، لأن القرينة تختلف من استعمال إلى استعمال آخر، ففي مورد تكون لفظية
وفي آخر تكون حالية وفي ثالث عهدية وفي رابع مقامية وهكذا، لأن القرينة في
كل مورد من موارد الاستعمال حسب ما يتطلبها انفهام المعنى المجازي من اللفظ
فيه، وحيث إن اللفظ عنصر ثابت ولا يختلف باختلاف الموارد، فبطبيعة الحال
إذا كثر الاستعمال كانت تؤدي إلى حصول العلاقة بينه وبين المعنى، سواء أكانت
معه قرينة أم لا، وهي الأنس الذهني الحاصل بينهما من العامل الكمي الموجب
لتبادر المعنى منه عند إطلاقه، نعم لو كان عنصر القرينة عنصرا ثابتا كاللفظ في
جميع الموارد، فلا يمكن حصول الوضع التعيني من كثرة الاستعمال مهما بلغت.
وقد أجيب عن ذلك بأن استعمال المشتق في المنقضي في موارد الانقضاء أكثر
من استعماله في المتلبس خاصة، وعليه فلا يحتمل أن يكون تبادر المتلبس من
المشتق ناجما من كثرة الاستعمال فيه، وإلا لكان الأمر بالعكس، فإذن لا محالة
301

يكون مستندا إلى الوضع وناجما منه (1).
وقد يعترض على ذلك بأن المشتق لو كان موضوعا للمتلبس خاصة ومع
ذلك يكون استعماله في موارد الانقضاء أكثر، لزم كونه منافيا لحكمة الوضع التي
تتطلب تعين الوضع على طبقها، وهو الوضع للأعم.
والجواب أولا: أن هذا الاشكال لو تم فإنما يتم لو كان الوضع إلهيا، إذ حينئذ
لا يمكن صدوره منه تعالى بدون حكمة تتطلب ذلك، وأما إذا كان الوضع بشريا
فلا يتم ذلك مطلقا، لأن صدور الوضع من الواضع البشري إنما هو بحسب ما
يدركه من متطلبات المجتمع وحاجياتهم، فان أدرك أن وضع المشتق للمتلبس
خاصة أوفى بها من وضعه بإزاء الجامع بينه وبين المنقضي قام بوضعه له، وإن
أدرك العكس فبالعكس، ولا يعلم بمتطلبات حياتهم الاجتماعية والفردية في
المستقبل، ولعلها تتطلب استعمال المشتق في الأعم أكثر منه في المتلبس خاصة في
الآتي لظروف خاصة أو عامة، نعم إذا علم حين الوضع أن الحاجة تدعو إلى
استعمال المشتق في الأعم أكثر منه في المتلبس خاصة، لكان وضعه بإزاء المتلبس
منافيا لحكمة الوضع.
وثانيا: أنه لا يتم حتى على القول بكون الوضع إلهيا، لأن الوضع إذا كان من
صنعه تعالى ومع ذلك إذا وضع المشتق للمتلبس خاصة، رغم أن استعماله في
موارد الانقضاء أكثر من استعماله في خصوص المتلبس، فلا محالة يكون ذلك
عن حكمة مبررة له، إذ كون ذلك جزافا وبلا حكمة غير محتمل، غاية الأمر أنه
لا طريق لنا إلى تلك الحكمة المبررة.

(1) نقله في بحوث في علم الأصول 1: 374.
302

وثالثا: أن الغرض من وضع الألفاظ في كل لغة إنما هو إشباع حاجة الانسان
في حياته الاعتيادية في وجه هذه الكرة في كل وقت وعصر، وحيث إن حياة
الانسان منذ ولادته على وجه الكرة حياة بسيطة جدا ولهذا يكتفي في مقام
التفهيم والتفهم مع الآخرين بالوسائل الطبيعية البدائية الساذجة كالاشارات
والتصويرات وتقليد الأصوات وما شاكلها، ويعبر عنها بالمنبهات الطبيعية، ثم
بدأت تتكامل وتتوسع بتمام شؤونها يوما بعد يوم وقرنا بعد آخر، فلهذا تتطلب
استخدام الوسائل والأساليب الأكثر شمولا واستيعابا للمعاني وعدم كفاية
استخدام الوسائل البدائية وهي متمثلة في الألفاظ واللغات التي تلعب دورا
محوريا أساسيا في كل مجتمع، ومن المعلوم أن الغرض من الوضع لا يختص
بالوضع الحقيقي الشخصي، بل يترتب على الأعم منه ومن الوضع النوعي
المجازي، إذ كما أن العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى بالوضع الشخصي مصححة
للاستعمال ووافية بالغرض، كذلك العلاقة الحاصلة بينه وبين المعنى المجازي بتبع
العلاقة الأولى، فإنها مصححة له.
فإذا فرض وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، فإنه كما يوجب
صحة استعماله واستخدامه فيه إذا تعلقت الحاجة بإبرازه للآخرين، كذلك
يوجب صحة استعماله في الأعم منه عند تعلق الحاجة به، وعلى هذا فأكثرية
استعمال المشتق في المنقضي في حال انقضاء المبدأ عنه من استعماله في المتلبس
خاصة لا ينافي حكمة الوضع، لأن حكمة الوضع تتطلب وضع اللفظ بإزاء معنى
بغرض استعماله فيه وفي كل ما يناسبه من المعاني، لا أنها تتطلب استعماله في
الأول فقط وهو معناه الموضوع له مباشرة دون غيره، فالنتيجة أن الحكمة التي
تتطلب وضع الألفاظ بإزاء المعاني هي استخدامها واستعمالها فيها عند تعلق
الحاجة بإبرازها للآخرين بلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المعاني من المعاني
303

الحقيقية أو المجازية.
ورابعا: أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان أكثر من استعماله في
موارد التلبس، إلا أن ذلك لا يستلزم أن يكون استعماله في المنقضي أكثر من
استعماله في المتلبس، وذلك لأن استعمال المشتق في موارد الانقضاء إنما يكون
استعمالا في المنقضي عنه المبدأ بالفعل إذا كان بلحاظ حال النطق، وأما إذا كان
بلحاظ حال التلبس والاسناد، فهو استعمال في المتلبس لا في المنقضي.
بيان ذلك أن الموارد التي استعمل المشتق فيها لا تخلو من أن يكون من الجمل
الانشائية الحقيقية كقوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1)
وقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (2)
ونحوهما أو من الجمل التطبيقية الفعلية أو الاسمية.
أما في الجمل الحقيقية التي هي جمل تقديرية لا تطبيقية، فلا يمكن الاستشهاد
بها على أن المشتق في تلك الجملات مستعمل في المنقضي أو في الأعم منه ومن
المتلبس، وذلك لأن الموضوع فيها قد أخذ مفروض الوجود، سواء أكان
موجودا في الخارج أم لا، ففي الآية الأولى قد فرض المولى وجود شخص
متلبس بالسرقة وحكم عليه بقطع اليد، وفي الآية الثانية فرض وجود شخص
متلبس بالزنا وحكم عليه بمائة جلدة، فالمشتق في كلتا الآيتين استعمل في
المتلبس، وهو تمام الموضوع للحكم المذكور فيهما، وقد ذكرنا في غير مورد أن
الموضوع في القضايا الحقيقية مأخوذ مقدر الوجود في الخارج، ولهذا ترجع كل
قضية حقيقية إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له،

(1) سورة المائدة (5): 38.
(2) سورة النور (24): 2.
304

وحيث إن الآيتين الشريفتين من القضايا الحقيقية فالموضوع فيهما إنسان فرض
تلبسه بالسرقة أو الزنا في الخارج، ولا يعقل الانقضاء في هذه المرحلة، فإنه إنما
يتصور في مرحلة التطبيق والقضايا الخارجية لا في مرحلة الجعل والتقدير بنحو
القضية الحقيقية، وعليه فعنوان الزاني والسارق في الآيتين مستعمل فيمن فرض
تلبسه بالمبدأ، غاية الأمر أن زمان القطع والجلد متأخر في الخارج عن زمان
التلبس، فقد تحصل أن الاستعمال في المنقضي في القضايا الحقيقية غير معقول،
وإلا لزم الخلف، أي ما فرض موضوعا في لسان الدليل ليس بموضوع.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من أن المشتق في الآيتين أو ما شاكلهما
استعمل فيمن انقضى عنه المبدأ، وهذا دليل على أنه موضوع للأعم وإلا لم يصح
استعماله فيه إلا بالعناية والمجاز، مبني على الخلط بين القضايا الحقيقية والقضايا
الخارجية، وتخيل أن إطلاق السارق والزاني في الآيتين إنما هو بلحاظ ظرف
تطبيق الحكم وإجرائه لا بلحاظ ظرف الجعل، مع أن الأمر ليس كذلك،
لوضوح أن الاطلاق فيهما إنما هو بلحاظ ظرف الجعل، لما عرفت من أن الآيتين
الشريفتين من قبيل القضايا الحقيقية، فتكونان بصدد جعل الحكم على المتلبس
بالسرقة والزنا، لا في مقام تطبيقه عليه في الخارج، كما أنه لا وجه لما أفاده المحقق
الخراساني قدس سره في مقام الجواب عن هذا الاستدلال من أن الاستعمال فيهما إنما
يكون بلحاظ حال التلبس دون الانقضاء (1)، وذلك لأن حالة الانقضاء لا
تتصور في القضايا الحقيقية لكي يكون الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبس دونها.
والخلاصة أن العناوين الاشتقاقية الواردة في لسان الأدلة التي أخذ تلبس
الذات بالمبدأ فيها مفروض الوجود في الخارج مستعملة في المتلبس خاصة،

(1) كفاية الأصول: 50.
305

ولا يعقل استعمالها في المنقضي إلا في مقام التطبيق.
وأما الجمل التطبيقية، فإن كانت فعلية كقولنا (قام العالم) و (أكرمت العالم)
و (ضربت الفاسق) فلا شبهة في ظهورها عرفا في إطلاق المشتق في هذه
الجملات إنما هو بلحاظ حال الاسناد والنسبة لا حال النطق، وعليه فيكون
استعماله فيها في المتلبس خاصة لا في المنقضي، وحينئذ فلا يمكن الاستشهاد بها
على استعمال المشتق في المنقضي في موارد الانقضاء.
وإن كانت اسمية فإن كانت من قبيل قولنا (زيد عالم)، (بكر عادل)،
(عمرو فاسق) وهكذا، فهي وإن كانت ظاهرة في أن إطلاق المشتق فيها يكون
بلحاظ حال الاستعمال والنطق دون حال التلبس، إلا أن موارد انقضاء المبدأ عن
الذات في هذا القسم من الجملات التطبيقية ليست بأكثر وأغلب من موارد عدم
الانقضاء فيها وتلبس الذات به، حتى يكون استعمال المشتق في المنقضي في
تلك الجملات أكثر من استعماله في المتلبس فضلا عن كونه أكثر بالنسبة إلى
جميع موارد الانقضاء.
وإن كانت من قبيل قولنا (الشيخ الأنصاري فقيه) مثلا، و (الشيخ النائيني
عالم أصولي) وهكذا، والجامع أن لا يكون الموضوع الذي يحمل عليه المشتق
باقيا ومحفوظا، فهي ظاهرة في أن الاطلاق إنما هو بلحاظ حال الاسناد
والجري لا حال النطق.
فالنتيجة أن في الجمل الاسمية إن كان الموضوع محفوظا وموجودا فعلا،
فالجملة وإن كانت ظاهرة في أن إطلاق المشتق فيها يكون بلحاظ حال النطق لا
حال التلبس، إلا أنك عرفت أن موارد الانقضاء فيها ليست بتلك الكثرة لكي
تنافي حكمة الوضع، وإن لم يكن الموضوع محفوظا وموجودا فيها، كانت
306

ظاهرة في أن الاطلاق يكون بلحاظ حال الاسناد والنسبة، فتحصل أنه لا بأس
بالاستدلال على القول بأن المشتق موضوع للمتلبس خاصة بالتبادر لدى
العرف العام.
الوجه الثاني: أنه لا شبهة في أن المرتكز في أعماق نفوس الانسان هو التضاد
بين العناوين الاشتقاقية بما لها من المبادئ، ولا يمكن اجتماع اثنين منها في
موضوع واحد، كالعالم والجاهل والمتحرك والساكن والمسافر والحاضر
والفاسق والعادل والقائم والقاعد وهكذا، وارتكازية هذا التضاد تكشف عن
وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل، إذ لو كان موضوعا للأعم لم يكن
التضاد موجودا بينها، ويصدق حينئذ على شخص واحد عنوان العالم والجاهل
معا في آن واحد حقيقة إذا كان جاهلا سابقا ثم صار عالما، وعنوان المتحرك
والساكن معا على شئ واحد إذا كان متحركا سابقا والآن ساكن وهكذا، مع أن
التضاد بينها ثابت ارتكازا.
ولكن لا يمكن أن يكون هذا الوجه وجها مستقلا في مقابل التبادر، بل مرده
إليه في نهاية المطاف، حيث إنه لا منشأ للمضادة بين العناوين الاشتقاقية إلا
تبادر المتلبس خاصة منها عند إطلاقها ارتكازا، إذ لا يحتمل أن تكون المضادة
بينها ذاتية، فإن المضادة الذاتية إنما هي بين مبادئها دون نفس تلك العناوين،
ومن هنا فالقائل بالأعم لا يقول بالمضادة بينها، وإنما يقول بها بين مبادئها
فحسب كالعلم والجهل، لا العالم والجاهل، إذ لا مانع من صدقهما معا على
شخص واحد في آن واحد، باعتبار أن صدقهما عليه لا يستلزم اجتماع مبدئهما
فيه وهو العلم والجهل، وكذلك الحال في نظائرهما. أو فقل إن المعيار في صدق
المشتق على القول بالأعم إنما هو بتلبس الذات بالمبدأ في الجملة وإن زال المبدأ
307

عنها بعد ذلك، لا بوجود المبدأ حين الصدق، ولكن ارتكازية التضاد في الأذهان
تحكم على القول بالأعم، إذ لازم هذا القول صحة استعمال المشتق في كل من
المتلبس والمنقضي على حد سواء، وهي تؤدي لا محالة إلى ارتكازية التجانس
وعدم التنافي بين العناوين الاشتقاقية بعضها مع بعضها الآخر، فإذن ارتكازية
التضاد بينها لا محالة تكشف عن الوضع للمتلبس خاصة.
ثم إن هذا الوجه يختلف بحسب الصورة عن الوجه الأول وهو التبادر لا
بحسب الجوهر، لأن التبادر دليل على الوضع بإزاء المتلبس، كانت مضادة بين
العناوين الاشتقاقية بعضها مع بعضها الآخر أم لا، ولا تتوقف دليليته على
وجود المضادة بينها، وهذا بخلاف هذا الوجه، فإن دليليته إنما هي بافتراض
وجود المضادة بينها، ولكن منشأ هذه المضادة التبادر لا الذات.
الوجه الثالث: صحة سلب المشتق عن المنقضي عنه بالمبدأ، فإذا كان زيد
عادلا ثم زالت عنه العدالة، صح أن يقال زيد ليس بعادل.
وقد اعترض عليه بوجهين:
الأول: في كبرى علامية صحة السلب للحقيقة وعدم صحته للمجاز.
الثاني: مع الاغماض عن ذلك وتسليم الكبرى أنها في خصوص المقام لا
تصلح أن تكون علامة، بتقريب أنه إن أريد بها سلب المطلق حتى بلحاظ حال
التلبس فهو غير صحيح، وإن أريد بها سلب المقيد فهو لا يكون علامة، لأن
سلب المقيد لا يستلزم سلب المطلق، هذا.
وقد أجاب المحقق الخراساني قدس سره عن الاعتراض الثاني بأن سلب المطلق عن
الذات حتى بلحاظ حال التلبس وإن كان غير صحيح، إلا أن سلب المقيد تارة
308

يكون بلحاظ أن القيد قيد للمسلوب عنه، وأخرى بلحاظ أنه قيد للسلب،
وثالثة بلحاظ أنه قيد للمسلوب، أما على الأول والثاني فلا يضر التقييد، كما إذا
قيل زيد الآن ليس بعادل، فإنه علامة ودليل على أن المشتق لم يوضع للأعم،
وإلا لم يصح سلبه عن زيد في حال الانقضاء، لفرض أنه موضوع للجامع بين
المتلبس والمنقضي، فكما يصدق عليه في حال تلبسه بالمبدأ فكذلك يصدق عليه
في حال الانقضاء المبدأ عنه، وكذلك إذا كان القيد قيدا للسلب، كما إذا قيل زيد
الآن ليس بعادل، فإنه قيد للسلب الذي هو مفاد ليس، لا للمسلوب ولا
للمسلوب عنه، وهو يدل على أن المشتق لم يوضع للأعم، وإلا لم يصح هذا
السلب. وأما على الثالث وهو ما إذا كان القيد قيدا للمسلوب كما إذا قيل زيد
ليس بقائم الآن، فلا يكون علامة ودليلا على عدم وضع المشتق للأعم، لأن
سلب الأخص لا يدل على سلب الأعم، وإنما يدل على أن المشتق لم يوضع بإزاء
الأخص، ولا يدل على أنه لم يوضع بإزاء الأعم، ولكن تقييده ممنوع.
وغير خفي أن منشأ هذا الاعتراض هو الخلط بين تقييد المادة بحال الانقضاء
الفعلي وتقييد الوصف الاشتقاقي بها.
بيان ذلك أن حال الانقضاء إن كان قيدا للمادة كما في مثل قولك (زيد ليس
متلبسا بالعدالة الآن)، فإنه لا يدل على أنه لم يكن متلبسا بها سابقا أيضا،
لأن المنفي عنه هو التلبس بالعدالة فعلا، ومن الواضح أن نفيه عنه لا يستلزم
نفي الأعم منها ومن العدالة السابقة، فإن زيدا إذا كان متلبسا بالعدالة سابقا ثم
زالت عنه العدالة، صح أن يقال إنه كان متلبسا بالعدالة في السابق وليس بمتلبس
بها في الحال.
وبكلمة، إن سلب المادة كالعدالة مثلا عن الذات المنقضية عنها المادة فعلا لا
309

يستلزم سلبها عنها مطلقا حتى في السابق، على أساس أن سلب الأخص لا
يستلزم سلب الأعم، وهذا بخلاف سلب الوصف الاشتقاقي كعنوان العادل مثلا
عن زيد مقيدا بحال الانقضاء، فإنه يدل على عدم وضعه للأعم، وإلا لم يصح
سلبه عنه بنحو السلب بالحمل الشائع، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القيد قيدا
للمسلوب عنه أو للمسلوب، وما في كلام المحقق الخراساني قدس سره من الفرق
بينهما (1)، لا يرجع إلى معنى محصل إلا إذا كان مراده من ذلك أن القيد إذا كان
للمسلوب، فهو راجع إلى المادة دون الوصف الاشتقاقي، بينما إذا كان للمسلوب
عنه فلا يمكن رجوعه إلى المادة، وهذا هو الفارق بينهما، ولكن استفادة ذلك من
كلامه بحاجة إلى عناية زائدة، إذ لا ظهور له فيه وإن كان محتملا، هذا إضافة إلى
أنه لا فرق من هذه الناحية أيضا بين أن يكون القيد قيدا للمسلوب أو المسلوب
عنه كما لا يخفى.
وأما ما ذكره قدس سره من أن القيد قد يكون للسلب الذي هو مفاد ليس في مقابل
المسلوب والمسلوب عنه فلا يمكن المساعدة عليه، لأن السلب معنى حرفي ولا
يمكن تقييده إلا بتقييد متعلقه من المسلوب أو المسلوب عنه في المقام.
ودعوى أن الاعتراض المذكور إنما يكون ناشئا من الخلط إذا كان المراد من
سلب الوصف الاشتقاقي عن المنقضي في حال الانقضاء السلب بالحمل الشائع،
فإنه يدل على أنه لم يوضع للجامع، وإلا لم يصح سلبه عن مصداقه وفرده، ولا
فرق في ذلك بين أن يكون حال الانقضاء قيدا للمسلوب أو للمسلوب عنه،
وأما إذا كان المراد من سلبه عن المنقضي بلحاظ حال الانقضاء السلب بالحمل
الأولي الذاتي، فالاعتراض حينئذ يكون في مورده، فإن سلب الوصف

(1) كفاية الأصول: 47.
310

الاشتقاقي بما له من المعنى الارتكازي عن المنقضي مقيدا بحال الانقضاء بالحمل
الأولي لا يدل على سلبه كذلك عن الجامع، فإن عدم وضع المشتق للمنقضي لا
يكون أمارة على عدم وضعه للجامع.
مدفوعة، بأنه لا يمكن أن يراد من سلب الوصف الاشتقاقي عن المنقضي
مقيدا بحال الانقضاء السلب بالحمل الأولي، بداهة أنه لا يحتمل أن يكون
المشتق موضوعا بإزاء المنقضي خاصة، كما لا يحتمل تعدد الوضع فيه، فإذن لا
محالة يكون المشتق موضوعا إما لخصوص المتلبس أو للجامع بينه وبين المنقضي
ولا ثالث لهما، وعليه فلا يمكن أن يراد من سلب المشتق عن المنقضي في حال
الانقضاء السلب بالحمل الذاتي الأولي، بل لا محالة يكون المراد منه السلب
بالحمل الشائع، وهو بطبيعة الحال يكون أمارة على عدم الوضع للجامع،
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه لا بأس بالاستدلال بصحة السلب في المقام في
نفسه.
ولكن الكلام إنما هو في كبرى علاميتها، وقد تقدم الاشكال فيها في باب
علامات الحقيقة والمجاز بشكل موسع فلاحظ، فمن أجل ذلك لا يمكن
الاستدلال بها في المقام.
هذه هي أهم الوجوه التي استدل بها على وضع المشتق للمتلبس خاصة،
وعمدتها الوجه الأول.
وأما القول الثاني وهو وضع المشتق للأعم، فقد استدل عليه بعدة وجوه:
الوجه الأول: التبادر، بدعوى أن المتبادر من المشتق عند الاطلاق عرفا،
هو الأعم دون خصوص المتلبس بالمبدأ.
311

وفيه: ما عرفت من أن المتبادر والمنسبق منه في أذهان العرف عند الاطلاق
هو المتلبس خاصة دون الأعم.
الوجه الثاني: عدم صحة سلب المشتق بما له من المعنى عن الأعم، وهذا
أمارة على كونه موضوعا له، وإلا صح سلبه عنه.
وفيه مضافا إلى ما تقدم من المناقشة في كبرى علامية صحة السلب، أن عدم
صحة سلبه عن الجامع أول الكلام، بل ظهر مما مر أنه يصح.
الوجه الثالث: أن إطلاق المشتق في موارد الانقضاء كإطلاقه في موارد
التلبس يكون على نحو الحقيقة، فيقال (هذا قاتل زيد) و (ذاك مقتول عمرو)
وهكذا بدون أي عناية في البين.
وفيه: الظاهر أن مثل هذا الاطلاق في موارد الانقضاء إنما هو بلحاظ حال
التلبس، لا بلحاظ حال الانقضاء والنطق، فلا يكون دليلا على الوضع للأعم،
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن هذا الاطلاق إنما هو بلحاظ حال الانقضاء
والنطق لا بلحاظ حال التلبس، إلا أنه مع ذلك لا يدل على الوضع للأعم، لأن
الاطلاق أعم من الحقيقة، فدلالته عليها بحاجة إلى عناية زائدة.
الوجه الرابع: أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء أكثر من استعماله في
موارد التلبس، فلو كان المشتق موضوعا للمتلبس خاصة، لزم أن يكون
استعمال المشتق في المعنى المجازي أكثر من استعماله في المعنى الحقيقي، وهذا بعيد
في نفسه مع أنه ينافي حكمة الوضع.
وفيه أولا: ما أشرنا إليه سابقا من أنه لا مانع من أن يكون الاستعمال
المجازي أكثر من الاستعمال الحقيقي ولا ينافي ذلك حكمة الوضع، باعتبار أن كلا
312

الاستعمالين معلول للوضع ومن متطلباته، لا خصوص الاستعمال الحقيقي، غاية
الأمر أن الوضع كان يعطي صلاحية الدلالة للفظ على المعنى الحقيقي بالمباشرة
وعلى المعنى المجازي بالواسطة، حيث إن الغرض من وضع الألفاظ ذلك لكي
يتمكن من استخدامها كوسيلة لابراز المعاني والأفكار للآخرين، ومن الواضح
أن اللفظ بعد الوضع كما يصلح للدلالة على المعنى الحقيقي كذلك يصلح
للدلالة على المعنى المجازي، فإذن حكمة الوضع لا تنحصر بدلالة اللفظ على
المعنى الحقيقي فقط.
وثانيا: أن هذا لو تم فإنما يتم لو كان الوضع إلهيا، وأما إذا كان بشريا كما هو
الصحيح، فلا يتم كما تقدم موسعا.
وثالثا: أنه لا يتم ولو كان الوضع إلهيا كما مر.
ورابعا: أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء وإن كان أكثر من استعماله في
موارد التلبس، إلا أن ذلك لا يستلزم كون استعماله فيها في المنقضي بلحاظ حال
النطق أكثر من استعماله في المتلبس بلحاظ حال التلبس، حيث إن استعماله في
موارد الانقضاء كثيرا ما يكون بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء
والنطق كما مر تفصيل ذلك.
الوجه الخامس: قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (1) وتقريب
الاستدلال به أنه يدل على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة ولو بعد دخولهم في
الاسلام، ولذلك استشهد الإمام عليه السلام بالآية على عدم لياقة الخلفاء الثلاث
للخلافة الإلهية، وهذا الاستشهاد منه دليل على أن المشتق موضوع للأعم، إذ

(1) سورة البقرة (2): 124.
313

لو كان موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدأ بالفعل لم يتم الاستشهاد بها، لأنهم في
زمن دعواهم لمنصب الخلافة كانوا متشرفين بالاسلام وغير متلبسين بالظلم
وعبادة الوثن، وإنما كان تلبسهم به قبل التشرف بالاسلام وفي زمن الجاهلية،
فإذن لا يتم الاستدلال بالآية إلا على القول بالوضع للأعم لكي يصدق عليهم
عنوان الظالم فعلا.
والجواب: أنه لا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة على وضع المشتق للأعم،
لأن مفادها هو القضية الحقيقية، وقد تقدم أن القضية خارجة عن محل النزاع،
لأن الموضوع فيها قد أخذ مفروض الوجود في الخارج واللفظ مستعمل فيه،
فإذا كان الموضوع في لسان الدليل العنوان الاشتقاقي كما في الآية الكريمة فقد أخذ
تلبس الذات بالمبدأ فيه مفروض الوجود، واللفظ مستعمل فيه. ومن هنا قلنا إن
النزاع في أن المشتق مستعمل في المتلبس خاصة أو في المنقضي مختص بالقضايا
الخارجية، ولا يتصور ذلك في القضايا الحقيقية.
فالنتيجة أن عنوان (الظالمين) في الآية الشريفة مستعمل في المتلبسين بالظلم
لا في الأعم ولا في المنقضي.
وأما استشهاد الإمام عليه السلام بالآية الشريفة على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة
للخلافة، فلا يكون مبنيا على وضع المشتق للأعم، بل هو مبني على نزاع آخر،
وهو أن العناوين التي تؤخذ في موضوعات الأحكام الشرعية ومتعلقاتها في
القضايا الحقيقية، هل تدور تلك الأحكام مدارها حدوثا وبقاء أو تدور مدارها
حدوثا فقط؟
والجواب: أن تلك العناوين تارة تكون من العناوين المأخوذة في موضوعات
القضايا الخارجية، وأخرى تكون مأخوذة في موضوعات القضايا الحقيقية، أما
314

على الأول فهي على قسمين:
أحدهما: أنها مأخوذة بنحو المعرفية الصرفة لما هو الموضوع في القضية بدون
أي دخل لها فيه، كما في مثل قولك (صل خلف هذا القائم)، فإن عنوان القائم قد
أخذ بنحو المعرفية والمشيرية إلى من هو الموضوع لجواز الاقتداء به في الصلاة،
إذ لا يحتمل أن يكون له دخل فيه لا جزءا ولا قيدا.
والآخر: أنها مأخوذ بنحو الموضوعية، كما في مثل قولنا (صل خلف
العادل)، فإن عنوان العادل المأخوذ في الموضوع، إنما أخذ بنحو الموضوعية، بأن
يكون له دخل فيه ومقوم له ويدور الحكم المجعول عليه مداره وجودا وعدما.
وأما على الثاني فهي على أنحاء:
النحو الأول: ما يكون مأخوذا بنحو المعرفية والطريقية الصرفة لما هو
الموضوع في القضية واقعا.
النحو الثاني: ما يكون مأخوذا في لسان الدليل بنحو الموضوعية بحيث يدور
الحكم مداره حدوثا وبقاء، كما في مثل قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت
من استطاع إليه سبيلا) (1)، فإن عنوان الاستطاعة دخيل في اتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ، وفي الحكم في مرحلة الجعل، وفي مثل قولك (أكرم
العلماء) و (أطعم الفقراء) وهكذا، فإن الحكم في أمثال هذه القضايا يدور مدار
العنوان المأخوذ في الموضوع في لسان الدليل وجودا وعدما حدوثا وبقاء.
النحو الثالث: ما يكون حدوثه دخيلا في الحكم حدوثا وبقاء، بمعنى أن
حدوثه سبب لحدوث الحكم وبقاؤه معا، هذا كله بحسب مقام الثبوت.

(1) سورة آل عمران (3): 97.
315

وأما بحسب مقام الاثبات، فالمعيار في أن العناوين المأخوذة في لسان الأدلة
هل هي مأخوذة على النحو الأول أو الثاني أو الثالث إنما هو فهم العرف ارتكازا
بمناسبة الحكم والموضوع في كل قضية، وقد يكون المتفاهم العرفي من العنوان
المأخوذ في لسان الدليل فيها بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية هو النحو
الأول كما في قوله تعالى: (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر) (1)، فإن المتفاهم العرفي من عنوان التبين المأخوذ في
لسان الآية الشريفة بمناسبة الحكم والموضوع هو المعرفية والطريقية المحضة.
وقد يكون المتفاهم العرفي منه على أثر المناسبات الارتكازية هو النحو
الثاني، كما هو الغالب في العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية، كعنوان
(الاستطاعة) الذي أخذ في موضوع وجوب الحج في الآية الشريفة، فإن
المتفاهم العرفي منه بمناسبة الحكم والموضوع أنه دخيل في الحكم والملاك
معا حدوثا وبقاء، ومنها عنوان (العادل) المأخوذ في موضوع جواز الصلاة
خلفه وقبول شهادته وغيرهما، ومنها عنوان (المجتهد) الذي هو مأخوذ في
موضوع جواز التقليد ونفوذ حكمه في باب القضاء بل مطلقا، ومنها عنوان
(المسافر) المأخوذ في موضوع وجوب القصر، وعنوان (الحاضر) في موضوع
وجوب التمام وهكذا.
وقد يكون المتفاهم العرفي منها بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية أن
حدوثه دخيل في الحكم حدوثا وبقاء، بمعنى أن بقاء الحكم لا يدور مدار بقاء
العنوان.
وبعد ذلك نقول: إن العناوين التي أخذت في موضوعات القضايا الحقيقية،

(1) سورة البقرة (2): 187.
316

فهي لا تخلو عن أحد النحوين الأخيرين، وأما النحو الأول، فهو في تلك
القضايا قليل جدا، نعم إنه غالبا يكون في القضايا الخارجية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن ظاهر العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية أنها
أخذت على النحو الثاني، بمعنى أنها دخيلة في الحكم والملاك حدوثا وبقاء، ولا
يكفي حدوثها في بقاء الحكم والملاك، وأما إرادة النحو الثالث منها، فهي بحاجة
إلى عناية زائدة، وإلا فالعناوين بنفسها ظاهرة في النحو الثاني، مثلا قوله تعالى:
(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (1)، وقوله تعالى:
(السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) ظاهران عرفا في أن العنوان فيهما
مأخوذ على النحو الثالث، ولكن بعناية زائدة وهي أن الحكم فيهما لو كان دائرا
مدار العنوان المأخوذ وجودا وعدما حدوثا وبقاء كان لغوا، لعدم إمكان إجراء
هذا الحكم في مرحلة التطبيق، حيث إنه قد زال تلبسه بالسرقة أو الزنا في هذه
المرحلة، فمن أجل هذه النكتة كانت الآيتان ظاهرتين في أن تلبس شخص بالزنا
أو السرقة حدوثا دخيل في حدوث الحكم عليه وبقائه معا طالما لم يطبق عليه
خارجا وإن زال المبدأ عنه.
وعلى ضوء هذا الأساس يقع الكلام في أن عنوان (الظالم) المأخوذ في الآية
الشريفة، هل هو مأخوذ على النحو الثاني بأن يكون الحكم في الخارج يدور
مداره حدوثا وبقاء أو أنه مأخوذ على النحو الثالث، فالاستدلال بالآية
الشريفة على عدم لياقة عبدة الأصنام للخلافة مبتن على أن يكون مأخوذا على
النحو الثالث.

(1) سورة النور (24): 2.
(2) سورة المائدة (5): 38.
317

والجواب: الظاهر أن مناسبة الحكم والموضوع الارتكازية تقتضي أن عبده
الأوثان لا يليقون لمنصب الخلافة والإمامة التي هي من أعظم المناصب الإلهية
بعد الرسالة، فإن المرتكز في أعماق نفوس الناس أن المتقمص لهذا المنصب الإلهي
العظيم لا بد أن يكون مثالا ساميا في المجتمع ومنزها عن جميع الأعمال الدنية
والمفاسد الأخلاقية في طول عمره وقدوة للناس في سيرته وسلوكه اجتماعيا
وفرديا ومعرا عن أي منقصة خلقية وخلقية، ومن هنا أن شارب الخمر أو الزاني
إذا ترك شرب الخمر أو الزنا وتاب ثم ادعى منصب الخلافة والإمامة من قبل الله
تعالى لم يقبل الناس منه هذه الدعوى فطرة وارتكازا، ويقولون إنه كان يشرب
الخمر في الأمس والآن يدعي الإمامة والخلافة.
وبكلمة، إن المرتكز في أعماق نفوس الناس فطرة وجبلة أن المتلبس بثوب
الرسالة أو الإمامة من قبل الله تعالى لا بد أن يكون إنسانا كاملا في المجتمع خلقا
وخلقا ومثالا روحيا للبشر ومربيا لهم في سيرته وسلوكه وداعيا إلى الله
بأخلاقه وأعماله ولم تكن في سجلات حياته التاريخية في مختلف مجالاتها من
الاجتماعية والفردية نقطة سوداء تحط من شأنه وجلالة قدره وتأثيره في
النفوس، وإلا فهو بنظر الناس لا يصلح أن يكون ممثلا من قبل الله تعالى
وسفيرا، وعلى هذا فمن عبد الوثن مدة معتدا بها من عمره ثم ترك
وتشرف بالاسلام، فإنه وإن كان يجب ما قبله كالتوبة إلا أن في سجل حياته
نقطة سوداء، وهي تبقى في نفوس الناس وتحط من شأنه ولياقته لمنصب الخلافة
والإمامة ولا يصلح أن يكون ممثلا وسفيرا من الله تعالى، إذ من الواضح أن
المتصدي لمنصب الرسالة والإمامة لديهم لا بد أن يكون مثالا أعلى في المجتمع
الانساني في علو الشأن وجلالة القدر والمكانة حتى يكون له وقر وأثر كبير في
نفوس الناس قولا وعملا.
318

ويؤكد ذلك ما ورد في الروايات من النهي عن الصلاة خلف المحدود
والمجزوم، ولعل نكتة ذلك أن منصب إمامة الجماعة وإن كان دون منصب الإمامة
والخلافة بمراتب إلا أنه في نفسه منصب مهم في الشريعة المقدسة، والمتصدي له
لا بد أن لا يكون ساقطا عن الأنظار خلقيا، وبما أن المحدود ساقط عن الأنظار
كذلك، فلا يصلح لهذا المنصب، بل إن هذا الارتكاز الناشئ من الفطرة والجبلة
ثابت حتى بين العقلاء في المناصب الدنيوية أيضا، لأن من يريد أن يتصدى
لمنصب الرئاسة أو الوزارة يدقق في سجل تاريخ حياته الاجتماعية والفردية، فإن
كانت فيه نقطة سوداء تحط من شأنه في المجتمع وكرامته عند الناس خلقيا
وبالتالي سقوطه عن الأنظار لم ينتخب رئيسا أو وزيرا.
وعلى هذا فاستدلال الإمام عليه السلام بالآية الشريفة على عدم لياقة هؤلاء الثلاثة
لمنصب الخلافة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ليس مبتن على وضع المشتق للأعم،
بل هو مبتن على هذه النكتة، وهي أن هؤلاء الثلاثة لما كانوا من عبدة الأوثان
والأصنام فترة معتدا بها من عمرهم فبعد تشرفهم بالاسلام تبقى هذه النقطة
السوداء في سجل تاريخ حياتهم، وهي تمس من كرامتهم وتحط من قدرهم
وشأنهم في المجتمع، فلذلك لا يليق مثل هؤلاء لمنصب الخلافة عن الرسول صلى الله عليه وآله
والإمامة التي هي من أعظم المناصب الإلهية بعد الرسالة، لأن علو شأن هذا
المنصب وجلالة قدره ومكانته يتطلب أن يكون المتصدي لها مثالا أعلى في
المجتمع الانساني ككل في الخلق والكرامة وعلو الشأن وجلالة القدر والمكانة،
فيكون إنسانا كاملا خلقا وخلقا، فإذن تشير الآية الشريفة إلى مطلب
ارتكازي فطري للبشر، وهذا قرينة على أن صرف حدوث مبدأ الوصف
الاشتقاقي المأخوذ في موضوع الآية الشريفة علة للحكم حدوثا وبقاء.
319

فقد تحصل مما ذكرناه أنه لا يتم شئ من الوجوه التي استدل بها على وضع
المشتق للأعم، فالصحيح أنه موضوع للمتلبس خاصة.
نتيجة البحث عن وضع الأوصاف الاشتقاقية عدة نقاط:
الأولى: أن الجامع بين المتلبس والمنقضي على القول بأن مفهوم المشتق بسيط
غير متصور، ولهذا لا مناص على هذا القول من الوضع لخصوص المتلبس، وأما
على القول بأن مفهومه مركب من الذات والمبدأ، فهل يمكن تصوير معنى جامع
بينهما، فيه قولان: الأظهر أنه ممكن كما تقدم.
الثانية: الصحيح أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ، أما على
القول بالبساطة فهو واضح، وأما على القول بالتركيب، فأيضا الأمر كذلك على
القول بعدم إمكان تصوير جامع بينهما، وأما على القول بإمكان تصويره،
فالظاهر أنه موضوع أيضا للمتلبس خاصة دون الأعم، بملاك أنه المتبادر منه
عرفا عند الاطلاق كما تقدم.
الثالثة: أن ما قيل - من أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء بما أنه أكثر من
استعماله في موارد التلبس، فهو يتطلب وضعه للأعم، وإلا لكان منافيا لحكمة
الوضع - فقد تقدم الجواب عنه بعدة وجوه.
الرابعة: أن المشتق في القضايا الحقيقية مستعمل دائما في المتلبس بالمبدأ
خاصة لا في الأعم ولا في المنقضي كما مر، وأما في القضايا التطبيقية، فإن كانت
فعلية، فالظاهر أن استعمال المشتق في موارد الانقضاء إنما هو بلحاظ حال
التلبس والاسناد لا بلحاظ حال النطق والانقضاء، وإن كان اسمية، فهي تختلف
باختلاف الموارد كما تقدم.
320

الخامسة: أن المضادة بين العناوين الاشتقاقية بعضها مع بعضها الآخر وإن
كانت مرتكزة في الأذهان فطرة إلا أن منشأها إنما هو المضادة بين مبادئها ذاتا، إذ
لا يمكن اجتماع العلم والجهل مثلا في شخص واحد، وأما انطباق عنواني العالم
والجاهل على الشخص الذي كان عالما سابقا ثم صار جاهلا أمر ممكن، فإن
القائل بوضع المشتق للأعم يقول بانطباق كلا العنوانين عليه في آن واحد حقيقة،
نعم الذي لا يمكن هو اجتماع العلم والجهل فيه، فالاستدلال بالمضادة بينها يرجع
في نهاية المطاف إلى الاستدلال بالتبادر، ولا يكون وجها آخر في مقابلة كما مر.
السادسة: أنه لا يصح الاستدلال على وضع المشتق للمتلبس خاصة بصحة
السلب عن المنقضي، وذلك لما ذكرناه في بحث علائم الحقيقة والمجاز من المناقشة
في كبرى أمارية صحة السلب وعدم صحته، وأما مع الاغماض عن ذلك
فالاعتراض عليه - بأنه إن أريد بصحة السلب سلب المطلق فهو غير صحيح،
وإن أريد بها سلب المقيد فهو ليس بعلامة - غير وارد، لأنه مبني على الخلط بين
تقييد المادة وتقييد الوصف الاشتقاقي كما تقدم.
السابعة: أنه لا يصح الاستدلال على وضع المشتق للأعم بالتبادر، ولا بعدم
صحة السلب، ولا بقوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) على تفصيل قد مر.
الجهة الثالثة: ما هو المراد من الحال المأخوذ في عنوان النزاع في المسألة.
قد يقال كما قيل: إن المراد منه زمان النطق، وهو مأخوذ في مدلول المشتق،
بدعوى أن المتبادر عرفا من جملة (زيد ضارب) و (عمرو عادل) و (بكر
عالم) ونحوها هو تلبس الذات بالمبدأ في زمان النطق، وهذا التبادر دليل على أن
زمان الحال وهو زمان النطق مأخوذ في مدلول المشتق، إذ إرادة التلبس في غير
زمان النطق كزمان الماضي أو المضارع بحاجة إلى قرينة.
321

ولكن لا أساس لهذا القيل.
أما أولا: فلأن المشتق في هذه الجملات وإن كان ظاهرا في تلبس الذات
بالمبدأ في زمان الحال إلا أن ذلك ليس من جهة أن زمان الحال مأخوذ في مدلوله
جزءا أو قيدا، بل من جهة أن كل أمر زماني لا بد أن يقع في زمان ما من الماضي
أو المضارع أو الحال، وحيث إن مدلوله تلبس الذات بالمبدأ أن يكون في زمان،
وليس معنى ذلك أن الزمان مأخوذ في مدلوله، بل هو من لوازمه.
هذا إضافة إلى أن ظهور المشتق في النسبة التلبيسية في زمن الحال إنما هو
إذا كان في ضمن الجملات الحملية التطبيقية إذا كان الموضوع فيها محفوظا لا
مطلقا كما تقدم، وأما إذا كان في ضمن الجملات الفعلية التطبيقية كقولنا
(أكرمت العالم) و (ضربت الفاسق) وهكذا، فهو ظاهر في النسبة التلبسية
في زمان الجري والاسناد لا زمان النطق، وهذا شاهد على أن الزمان غير
مأخوذ في مدلول المشتق.
وثانيا: إن هذا الظهور ليس بظهور المشتق نفسه وبقطع النظر عن الظمائم
الخارجية، بل هو ظهور وقوعه في ضمن الجملة الحملية التطبيقية، ولهذا لا بأس
بتسمية هذا الظهور بالظهور السياقي لها لا ظهور المشتق نفسه، ومن هنا إذا لم
يكن في سياق الجملة، فلا ظهور له إلا في واجدية الذات للمبدأ بدون الدلالة
على أنها في زمان الماضي أو المضارع أو الحال.
هذا إضافة إلى أن هذا الظهور مدلول تصديقي، فلا يمكن أن يكون مدلولا
للمشتق وضعا، لأن مدلوله الوضعي تصوري لا تصديقي.
وثالثا: إن لازم ذلك أن يكون إطلاق المشتق في مثل قولك (زيد ضارب
غدا) أو (ضارب في الأمس) مجازا، مع أن الأمر ليس كذلك جزما، لأن هذا
322

الاطلاق إنما هو بلحاظ زمان التلبس، والاطلاق بلحاظ هذا الزمان إطلاق
حقيقي حتى على القول بوضع المشتق للمتلبس خاصة وهذا شاهد على أن زمان
الحال غير مأخوذ في مدلول المشتق.
ورابعا: أن مدلول المشتق لا يمكن أن يكون مقيدا بزمان الحال، وهو زمان
النطق، لأنه أريد بتقييده بمفهوم زمان النطق، فيرد عليه أن مفهومه بالحمل
الأولي الذاتي ليس بزمان الحال، فلا يكون تقييد مدلول المشتق به تقييدا بزمان
الحال بالحمل الشائع، هذا إضافة إلى أن عدم المشتق على مفهوم زمان
الحال واضح، لأن الدال عليه هو لفظ الحال.
وإن أريد به واقع زمان النطق الذي هو زمان الحال بالحمل الشائع، فيرد
عليه أن تقييد مدلول المشتق به يستلزم كون مدلوله مدلولا تصديقيا، وهذا لا
يمكن إلا على مسلك التعهد، فإنه على هذا المسلك تكون الدلالة الوضعية دلالة
تصديقية والمدلول الوضعي مدلول تصديقي، وأما على سائر المسالك في باب
الوضع، فالمدلول الوضعي مدلول تصوري، ولا يمكن أن يكون مقيدا بقيد
تصديقي، إذ لا معنى لتقييد المعنى الموضوع له بقيد إلا الانتقال من اللفظ إليه مع
قيده، فلو كان قيده تصديقيا استحال الانتقال من اللفظ إليه بمقتضى الوضع، لأن
هذا الانتقال تصديقي لا تصوري، والمفروض أن مقتضى الوضع على غير مسلك
التعهد هو الانتقال التصوري من اللفظ إلى المعنى الموضوع له بتمام قيوده لا
التصديقي، فلذلك لا يمكن أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مقيد بقيد تصديقي،
حيث لا يمكن الانتقال إليه إلا بانتقال تصديقي، وهو خلف فرض كون مقتضى
الوضع الانتقالي التصوري دون التصديقي.
هذا إضافة إلى أنه لا معنى لتقييد مفهوم المشتق بواقع زمان النطق في الخارج،
323

وإلا فلازمة أن لا يدل المشتق على معنى بدون تحقق النطق به خارجا وهو كما ترى.
فالنتيجة أنه لا يمكن تقييد المدلول الوضعي للمشتق بواقع زمان
الحال والنطق.
وقد يقال كما قيل: إن المراد من الحال هو زمان الجري والاسناد، بمعنى أن
المشتق موضوع للمتلبس بالمبدأ مقارنا لزمان الجري والاسناد، بدعوى أنه
المتبادر منه عرفا عند الاطلاق، فإذا قيل (جاء قاتل) كان المتبادر منه التلبس
بالمبدأ في زمان الجري والاسناد لا في زمن النطق.
والجواب أولا: أنه ليس المتبادر من المشتق في نفسه، فإن المتبادر منه
كذلك كما مر واجدية الذات للمبدأ بدون الدلالة على أنها في زمان الجري
والاسناد أو في زمان النطق، ولهذا لا يتبادر من المشتق عن الاطلاق أي زمان لا
زمان الحال ولا غيره.
وثانيا: أنه إن أريد بذلك تقييد مدلول المشتق بمفهوم زمان الجري والاسناد
بالحمل الأولي الذاتي فهو باطل، لأنه ليس بزمان بالحمل الشائع، فلا يكون
التقييد به تقييدا بزمان الجري والاسناد، وإن أريد به واقع زمان الجري والاسناد
وهو الزمان الخارجي، فيرد عليه:
أولا: أن لازم ذلك لا يدل المشتق على معناه من دون تحقق الجري
والاسناد خارجا، باعتبار أنه قيد مقوم له.
وثانيا: أن نتيجة هذا كون مدلوله الوضعي مقيدا بقيد تصديقي، وهو لا
يمكن، لأن معنى كونه قيدا للمعنى الموضوع له أن الانتقال من اللفظ إليه بمقتضى
الوضع تصوري لا تصديقي، ومعنى كونه قيدا تصديقيا أن الانتقال منه إليه لا
324

يمكن إلا بالانتقال التصديقي دون التصوري، وبالتالي يلزم من فرض كونه قيدا
للمعنى الموضوع له عدم كونه قيدا له.
فالنتيجة أنه لا يمكن أن يراد من الحال المأخوذ في عنوان المسألة زمان النطق
ولا زمان الجري والاسناد.
ومن هنا ذكر السيد الأستاذ قدس سره أن المراد بالحال فيه ليس زمن النطق والتكلم
ولا أحد الأزمنة الثلاثة، بل المراد به فعلية تلبس الذات بالمبدأ بمعنى أن
النزاع في المسألة إنما هو في سعة مفاهيم المشتقات وضيقها، وأنها موضوعة
للمفاهيم التي مطابقها في الخارج خصوص الذات حال تلبسها بالمبدأ أو الأعم
من ذلك ومن حال الانقضاء، فبناء على القول بالأعم كانت مفاهيمها قابلة
للانطباق خارجا على فردين هما المتلبس فعلا والمنقضي عنه المبدأ، وعلى القول
بالأخص كانت مفاهيمها غير قابلة للانطباق إلا على فرد واحد، وهو خصوص
المتلبس بالمبدأ فعلا (1).
وهذا التفسير هو الصحيح، ولا معنى له غير واجدية الذات للمبدأ وفعلية
تلبسها به في مقابل انقضائه عنها، وليس شيئا زائدا على ذلك.
قد يقال كما قيل: إن الظاهر من إطلاق المشتقات وحملها على شئ هو فعلية
تلبس الذات بالمبدأ حين النطق والتكلم، فإن الظاهر من قولنا (زيد قائم) كونه
كذلك بالفعل وفي زمن النطق، وحينئذ فلا معنى للنزاع في كون المشتق موضوعا
للأعم أو للأخص بعد التسالم على أن المرجع في تعيين مداليل الألفاظ ومفاهيمها
سعة وضيقا هو الفهم العرفي العام.

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 24.
325

والجواب: أن محل النزاع في المسألة إنما هو في وضع المشتق بنفسه وبقطع
النظر عن كونه واقعا في ضمن القضايا التطبيقية وأنه موضوع لمعنى جامع أو
لمعنى خاص، وأما إذا كان واقعا في ضمن تلك القضايا، فإن كانت فعلية،
فالظاهر أن إطلاقه إنما هو بلحاظ الجري والاسناد لا حال النطق والتكلم،
ولكن هذا الظهور ليس من جهة أن المشتق في نفسه ظاهر في ذلك، بل من جهة
ظهور الجملة في أن إطلاقه إنما هو بهذا اللحاظ لا بلحاظ حال النطق، وإن كانت
حملية كالمثال المتقدم ونحوه، فالظاهر أن إطلاق المشتق فيها إنما هو بلحاظ حال
النطق، ولكن هذا الظهور أيضا ليس من جهة أنه في نفسه ظاهر في ذلك، بل من
جهة ظهور الجملة الحملية في أن إطلاقه إنما هو بلحاظ حال النطق.
فالنتيجة أن ظهور المشتق في القضايا الحملية التطبيقية في فعلية تلبس الذات
بالمبدأ حين النطق والتكلم، إنما هو من جهة ظهور تلك القضايا في ذلك لا من
جهة ظهور المشتق بنفسه فيه، وقد تقدمت الإشارة إلى أن القضايا التطبيقية
مختلفة في ذلك، وليس لها ضابط واحد في تمام الموارد.
الجهة الرابعة: هل المشتق بسيط أم مركب؟
اختلف الأصوليون في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه، فذهب جماعة إلى أنه
بسيط، منهم المحقق الشريف والمحقق الدواني والمحقق النائيني، وخالف فيه
جماعة فذهبوا إلى أنه مركب، منهم المحقق العراقي والمحقق الأصبهاني والسيد
الأستاذ قدس سره.
ثم إن القائلين بالتركيب قد اختلفوا إلى قولين: فذهب المحقق العراقي قدس سره إلى أن
مادة المشتق موضوعة لذات الحدث الخالي عن كافة الخصوصيات العرضية،
وهيئته موضوعة لنسبته إلى الذات، وأما المحقق الأصبهاني والسيد الأستاذ قدس سره
326

فقد اختارا أن هيئة المشتق موضوعة للذات المنتسب إليها المادة، فالمشتق على
الأول يدل على نسبة المادة إلى الذات وعلى الثاني يدل على الذات المنتسب إليها
المادة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن محل النزاع في أن مفهوم المشتق بسيط أو مركب إنما هو
بلحاظ عالم الواقع والتحليل العقلي، لا بلحاظ عالم الادراك والتصور الساذج،
وذلك لأن البساطة الادراكية تجتمع مع تركب المفهوم واقعا وحقيقة، ضرورة أن
المتبادر في الذهن في مرحلة التصور من كل لفظ مفرد عند الاطلاق معنى بسيط،
سواء أكان في الواقع وعالم التحليل أيضا بسيطا أم كان مركبا، وهذا بلا فرق بين
المشتقات وغيرها من الألفاظ، وحينئذ فلا معنى لأن يجعل مركز البحث
البساطة والتركيب بحسب التصور والادراك، لأن ذلك أمر وجداني غير قابل
للبحث والنظر فيه وإقامة البرهان عليه.
ومن هنا يظهر أن ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره - من أن معنى البساطة بحسب
المفهوم وحدته إدراكا وتصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد لا
شيئان وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى
شئ له الحجرية أو الشجرية مع وضوح بساطة مفهومهما (1) - غريب جدا، لما
عرفت من أن ما يصلح لأن يكون مورد البحث والنزاع هو البساطة والتركيب
بحسب التحليل العقلي لا بحسب الادراك والتصور، ضرورة أن البساطة
اللحاظية لا تصلح لأن تكون محورا للبحث ومركزا لتصادم الأدلة والبراهين
العقلية، بل لا تقع تحت أي بحث علمي ولا فلسفي، لأن المرجع في إثباتها فهم
العرف وإدراكه الوجداني، حيث إن واقعها انطباع صورة علمية واحدة في مرآة

(1) كفاية الأصول: 54.
327

الذهن، سواء أكانت قابلة للانحلال في الواقع كمفهوم الانسان ونحوه أم لم تكن،
فمناط البساطة اللحاظية وحدة المفهوم إدراكا، ووحدته كذلك أمر وجداني ولا
يقع لأحد فيه شك ولا ريب.
فالنتيجة أن مركز النزاع في المسألة إنما هو في البساطة والتركيب بلحاظ عالم
الواقع والتحليل الفلسفي، لا بلحاظ عالم الادراك والتصور، ومن ذك يظهر أن
المحقق الخراساني قدس سره في الحقيقة من القائلين بالتركيب لا البساطة.
وبعد ذلك نقول: إن المشهور بين الفلاسفة والمتأخرين من الأصوليين بساطة
المفاهيم الاشتقاقية والاصرار على أنه لا فرق بينها وبين مبادئها حقيقة وذاتا،
والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار، أي باللحاظ اللا بشرطي والشرطي اللائي،
وفي مقابل ذلك ذهب جماعة إلى أنها مركبة من الذات والمبدأ. فإذن يقع الكلام
في مقامين:
المقام الأول: في أدلة القائلين بالبساطة.
المقام الثاني: في أدلة القائلين بالتركيب.
أما الكلام في المقام الأول فقد استدل على بساطة مفهوم المشتق بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أن مفهوم المشتق لو كان مركبا
من الذات والمبدأ فبطبيعة الحال تكون النسبة بينهما داخلة فيه، فإذن يكون
مفهوم المشتق مشتملا على معنى حرفي، ولازم ذلك أن يكون المشتق مبنيا
للمشابهة لا معربا، مع أنه معرب، وهذا كاشف عن أن مفهومه بسيط لا مركب.
والجواب: أن مجرد اشتمال مفهوم المشتق على النسبة بين الذات والمبدأ لا
يوجب كونه مبنيا حتى تكون معربيته دليلا على بساطته، إذ لا مانع من كون
328

مفهومه مركبا مشتملا على النسبة ومع ذلك يكون معربا لا مبنيا، والنكتة فيه أن
للمشتق جهتين: الأولى جهة اشتماله على المادة التي هي معنى اسمي، والأخرى
جهة اشتماله على الهيئة التي هي معنى حرفي، فالمشتق معرب من الجهة الأولى ولا
يشبه الحرف من تلك الجهة، وإنما يشبه الحرف من الجهة الثانية، والمفروض أن
إعرابه ليس من هذه الجهة حتى تكون شباهته مانعة عنه، وعليه فالجهة التي
تكون دخيلة في إعرابه لا يشبه الحرف من هذه الجهة حتى يكون مبنيا، والجهة
التي لا تكون دخيلة في اعرابه وإن كان يشبه الحرف من تلك الجهة إلا أنه لا أثر
لذلك، فإنها لا تؤثر في الجهة الأولى ولا تجعلها شبيهة بالحرف، فإذن قياس
المشتق بأسماء الإشارة والضمائر قياس مع الفارق، فإن أسماء الإشارة تشبه
الحروف في معناها الموضوع له، وكذلك الضمائر، بينما المشتق لا يشبه الحروف في
مدلول مادته الذي هو مدلول اسمي، وإنما يشبهه في مدلول هيئته الذي هو مدلول
حرفي، والمفروض أن إعراب المشتق إنما هو باعتبار مدلول أحد جزأيه وهو
المادة دون مدلول جزئه الآخر وهو الهيئة.
فالنتيجة أن المشتق بلحاظ مادته اسم ومعرب ولا يشبه الحرف، وبلحاظ
هيئته حرف، وعلى هذا فإن كان المشتق بسيطا فلا يتضمن معنى حرفيا أصلا،
وإن كان مركبا فهو وإن كان يتضمن معنى حرفيا إلا أنه لا يكون دخيلا في الجهة
التي تقتضي إعرابه، فلذلك يكون من الأسماء المعربة سواء أكان بسيطا أم مركبا.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره أيضا من أن أخذ الذات في مفهوم
المشتق وإن سلمنا أنه ممكن إلا أنه غير واقع في الخارج، وذلك لأن أخذها فيه لا
يمكن أن يكون جزافا، بل لا بد أن يكون مبنيا على نكتة، وتلك النكتة هي أن
حمل المشتق بماله من المفهوم على الذات غير صحيح بدون أخذها فيه، وأما إذا
329

صح الحمل بدون ذلك فلا مقتضى له، والمفروض أنه صحيح بدون ذلك، لأن
لحاظ المادة لا بشرط وبما هي متحدة مع الذات خارجا مصحح له، ومعه يكون
أخذ الذات فيه لغوا (1).
والجواب أولا: أن ما يدعو إلى وضع الألفاظ بإزاء المعاني هو سعة الحاجة
وتطورها وعدم كفاية الوسائل الأولية لابرازها، فإذن يكون الغرض الداعي
إلى وضع المشتقات بإزاء معانيها هو إبرازها بها لدى الحاجة في كل مورد وعدم
كفاية الأساليب الأخرى البدائية لذلك، بلا فرق بين أن تكون تلك المعاني
بسيطة أو مركبة، قابلة للحمل أم لا، وأما صحة الحمل وعدم صحته، فهي من
صفات المعنى وليست من الدواعي للوضع.
وثانيا: أن ملاك صحة الحمل الأولي الذاتي إنما هو اتحاد الموضوع والمحمول
ذاتا وحقيقة واختلافهما اعتبارا كالتفصيل والاجمال ونحوهما، كقولك (الانسان
حيوان ناطق)، وملاك صحة الحمل الشائع الصناعي إنما هو اتحاد الموضوع
والمحمول في الخارج، بأن يكونا موجودين بوجود واحد فيه، واختلافهما في
المفهوم كقولك (زيد انسان).
أو فقل: إن صحة الحمل الشائع ترتكز على ركيزتين:
الأولى: اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود الخارجي واقعا وحقيقة.
الثانية: تغايرهما في المفهوم الذهني كذلك.
وأما إذا كان الموضوع مغايرا مع المحمول في الوجود الخارجي فلا يمكن حمله
عليه، لأنه من حمل المباين على المباين، وعلى هذا فإذا كان مفهوم المشتق متمثلا

(1) أجود التقريرات 1: 98.
330

في المبدأ فحسب بدون أخذ الذات فيه، كان مباينا معها في الوجود الخارجي
واقعا، لأن المبدأ سواء كان من مقولة العرض أم من الاعتباريات والانتزاعيات
مباين للذات في الخارج وجودا، ولا يعقل اتحاده معها فيه، ومن الواضح أن ما
يكون مباينا للذات وجودا واقعا في الخارج ومغايرا لها عينا لا يمكن تصحيح
حمله عليها باعتبار اللا بشرطية، ضرورة أن مجرد اعتبارها ولحاظها لا يوجب
انقلاب الواقع، ولا يجعل المبدأ المباين للذات متحدا معها خارجا، لاستحالة
انقلاب الشئ عما هو عليه في الواقع، مع أن صحة الحمل منوطة بالاتحاد
والعينية بين الموضوع والمحمول، وعليه فلو كان المبدأ متحدا مع الذات صح حمله
عليه، سواء اعتبرناه لا بشرط أم بشرط لا عن الحمل، وإلا لم يصح حمله عليها
وإن اعتبرناه لا بشرط.
وبكلمة، إن صحة الحمل منوطة بالاتحاد والعينية بين الموضوع والمحمول
واقعا في الخارج، وعدم صحته منوط بعدم الاتحاد والعينية بينهما فيه، وعلى هذا
ففي المقام إن كان المبدأ متحدا مع الذات في الوجود الخارجي واقعا بأن يكونا
موجودين بوجود واحد في الخارج، صح حمله عليها واقعا وحقيقة وإن
اعتبرناه بشرط لا عن الحمل لحاظا، ضرورة أنه لا أثر لهذا الاعتبار واللحاظ
الذي لا يخرج عن أفق الذهن إلى الواقع، والمفروض أن صحة الحمل منوطة
بالاتحاد والعينية في الواقع، وهو مجرد. وإن لم يكن متحدا معها فيه، لم يصح
حمله عليها وإن اعتبرناه لا بشرط.
الثالث: ما ذكره المحقق النائيني قدس سره أيضا من أن الذات لو كانت مأخوذة في
مفهوم المشتق لزم أخذ النسبة بينها وبين المبدأ أيضا فيه، إذ لا يمكن أخذها بدون
أخذ النسبة بينهما، وعندئذ يلزم اشتمال جملة واحد كجملة (زيد عالم) على
331

نسبتين في عرض واحد، إحداهما النسبة بين الذات والمبدأ والأخرى النسبة بين
زيد والذات المتلبسة بالمبدأ، وهو لا يمكن، لأن وجود نسبتين متباينتين في
عرض واحد يقتضي وجود طرفين كذلك لكل منهما، لأن تعدد النسبة إنما هو
بتعدد شخص طرفيها، باعتبار أنها متقومة بهما ذاتا وحقيقة كتقوم النوع
بالجنس والفصل، وفي المقام ليس كذلك، لأن الذات المتلبسة هي زيد، ولا فرق
بينهما إلا بالاجمال والتفصيل (1).
والجواب: أن الجملة الواحدة وإن كانت لا يمكن أن تكون مشتملة على
نسبتين متباينتين في الذهن أو الخارج، لأن وجود النسبتين كذلك يتطلب وجود
طرفين مستقلين لكل منهما متباينين مع الطرفين للأخرى، على أساس أن تباين
كل نسبة عن نسبة أخرى إنما هو بتباين المقومات الذاتية لكل منهما للمقومات
الذاتية للأخرى، وهي شخص وجود طرفيها، إلا أنه لا مانع من اشتمالها على
نسبة واحدة تامة ونسبة تحليلية يتضمنها المشتق، لأن مفهوم المشتق في
أفق الذهن وإن كان واحدا، وهو طرف للنسبة بينه وبين موضوع الجملة، إلا
أنه ينحل بتعمل من العقل وتحليله إلى ذات ومبدأ ونسبة بينهما، وهذه النسبة
نسبة تحليلية لا واقعية.
والخلاصة: أنه لا مانع من اشتمال الجملة الواحدة على نسبة تامة واقعية
ونسبة تحليلية، وحيث إن النسبة التحليلية هي النسبة التي يحللها العقل من
الشئ الواحد كالانسان مثلا إلى أجزاء ثلاثة منها النسبة، فلذلك ليست بنسبة
واقعية لا في الذهن ولا في الخارج حتى تكون في عرض نسبة الجملة فيه،
وبالتالي فالجملة لا تشتمل إلا على نسبة واحدة واقعية، فتحصل مما ذكرناه أن

(1) أجود التقريرات 1: 100.
332

ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من الوجوه الثلاثة لا يتم شئ منها.
الوجه الرابع: ما أفاده المحقق الدواني قدس سره من أنه لا شبهة في صحة إطلاق
المشتق على المبدأ وحده كإطلاق الأبيض على البياض والموجود على الوجود
ونحو ذلك، ومن هذا القبيل إطلاق العالم القادر على ذاته تعالى وتقدس،
مع أن صفاته العليا الذاتية عين ذاته تعالى، ولا يعقل وجود ذات وراء تلك
الصفات في عالم العين والخارج، وهذا دليل على عدم أخذ الذات في مفهوم
المشتق، إذ لو كانت الذات مأخوذة فيه لم يصح إطلاقه في الموارد المذكورة
إلا بالعناية والمجاز (1).
والجواب: أن هذا الوجه مبني على أن مفهوم المشتق لو كان مركبا من الذات
والمبدأ، فلا بد أن تكون الذات مغايرة للمبدأ في الوجود الخارجي، وعلى هذا
فالمشتق يدل على تلبس الذات بالمبدأ في عالم الخارج، ومن الواضح أن التلبس
في عالم الخارج يقتضي الاثنينية فيه، كما أن التلبس في عالم الذهن يقتضي
الاثنينية فيه، وعلى هذا فإذا كانت المغايرة معتبرة بين الذات والمبدأ في الخارج،
فبطبيعة الحال يكون مدلول المشتق تلبس الذات بالمبدأ فيه، وحيث لا مغايرة
بين الذات والمبدأ في الموارد المذكورة خارجا، فلا محالة يكون إطلاق المشتق في
تلك الموارد بالعناية والمجاز. هذا،
ولكن ذلك البناء غير صحيح، لأن التعدد والإثنينية المعتبر بين الذات والمبدأ
إنما هو في عالم المفهوم والذهن، وهو موجود بينهما حتى في الموارد المذكورة، لأن
الصفات الذاتية له تعالى كالعالم والقادر والحياة ونحوها وإن كانت مبادئها عين
الذات خارجا إلا أنها مغايرة لها مفهوما، وهذه المغايرة تكفي في صحة إطلاقها

(1) نقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 322.
333

على ذاته تعالى، وكذلك الحال في إطلاق الموجود على الوجود وإطلاق الأبيض
على البياض وهكذا، فإنه يكفي في صحة هذا الاطلاق المغايرة بين المبدأ والذات
مفهوما وإن كان عينها خارجا، وعلى هذا فالمشتق موضوع للذات المتلبسة
بالمبدأ في عالم الذهن الفانية في الخارج تصورا وتصديقا، باعتبار أن المدلول
الوضعي له مدلول تصوري لا تصديقي، ولا يمكن أن يكون المشتق موضوعا
للذات المتلبسة بالمبدأ خارجا، وإلا لزم أن لا يكون للمشتق مدلول في الموارد
المتقدمة، على أساس أن التلبس يقتضي المغايرة والإثنينية خارجا، ولا اثنينية
بين ذاته تعالى وصفاته العليا كذلك، وكذا بين الوجود والموجود وبين البياض
والأبيض وهكذا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن لازم وضع المشتق للمتلبس في الخارج كون مدلوله
الوضعي مدلولا تصديقيا، وهذا مما لا يمكن الالتزام به إلا على القول بالتعهد.
وبكلمة، إن تلبس الذات بالمبدأ الذي هو مفهوم المشتق إنما هو التلبس في
عالم الذهن والمفهوم دون عالم الخارج، وعلى هذا فإذا كان المبدأ مغايرا للذات
مفهوما كفى ذلك في صدق المشتق وإن كان عينها خارجا، وحينئذ فلا يكون
إطلاق العالم والقادر والحي على الله تعالى مجرد لقلقة اللسان، بل هو إطلاق
حقيقي كإطلاق العالم على زيد، على أساس أن المعيار في صحة الاطلاق إنما هو
بتغايرهما مفهوما، سواء كانا متغايرين خارجا أم لا، ولا يمكن أن يكون المشتق
موضوعا للمتلبس في الخارج، إذ مضافا إلى أن لازم ذلك كون المدلول الوضعي
له مدلولا تصديقيا لا تصوريا، يلزم أن لا يكون مدلول له أصلا في الموارد الهلية
البسيطة والصفات العليا الذاتية والاعتباريات والانتزاعيات، حيث إن التلبس
الخارجي غير متصور في تلك الموارد، مع أن إطلاق المشتق فيها كإطلاقه في
334

غيرها مما يتصور فيه التلبس الخارجي على حد سواء.
ومن هنا يظهر أن ما التزم به صاحب الفصول قدس سره في الصفات العليا الذاتية
والأسماء الحسنى الجارية على ذاته تعالى بالنقل والتجوز (1)، مبني على أن
المشتق موضوع لتلبس الذات بالمبدأ خارجا، وحيث إنه لا يتصور في
الصفات المذكورة، فإذن لا بد من الالتزام بالنقل والتجوز، فالنتيجة أن هذا
الوجه أيضا لا يتم.
الوجه الخامس: ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن الذات لو كانت مأخوذة
في مدلول المشتق لزم تكرار الموضوع في مثل قولنا (زيد عالم)، (الانسان
كاتب) ونحوهما، فإن الأول يؤول إلى قولنا (زيد زيد له العلم) والثاني يؤول
إلى قولنا (الانسان انسان له الكتابة) مع أن هذا التكرار خلاف الوجدان
والمتفاهم العرفي من المشتق عن الاطلاق فطرة وارتكازا، وعدم انفهامه منه
عرفا، وهذا دليل على عدم أخذ الذات في مدلوله (2).
والجواب: أنه مبني على أن يكون المأخوذ في مدلول المشتق مصداق الشئ
لا مفهومه، فعندئذ يؤول قولنا (زيد عالم) إلى قولنا (زيد زيد له العلم)، وأما
إذا كان المأخوذ فيه مفهوم الشئ فلا يلزم التكرار، فإن قولنا (الانسان كاتب)
يؤول إلى قولنا (الانسان شئ له الكتابة) ولا تكرار فيه، لأن التكرار عرفا هو
إعادة عين الشئ الأول مرة ثانية، ولهذا لا مانع من التصريح بجملة (الانسان
شئ له الكتابة)، فإنها كجملة (الانسان كاتب)، فكما لا تكرار فيها فكذلك لا
تكرار في تلك.

(1) الفصول، فصل المشتق، التنبيه الثالث. ونقله عنه في كفاية الأصول: 56.
(2) كفاية الأصول: 54.
335

وعلى الجملة فحيث إن المأخوذ في مفهوم المشتق شئ مبهم ومعرى عن كل
خصوصية من الخصوصيات العرضية ما عدا قيام المبدأ به، ولا تعين له إلا
بالانطباق على ذوات خاصة معينة في الخارج كزيد وعمرو ونحوهما، فلا يلزم
التكرار في مثل (زيد عادل) و (بكر عالم) و (الانسان ضاحك) وغير ذلك،
لوضوح أنه لا فرق بين جملة (زيد عادل) وجملة (زيد شئ له العدالة)، فكما
لا تكرار في الجملة الأولى فكذلك في الثانية.
فالنتيجة أن هذا الوجه كالوجوه السابقة فلا يدل على عدم إمكان أخذ
الذات في مفهوم المشتق.
الوجه السادس: ما أفاده صاحب الفصول قدس سره من أن الذات لو كانت
مأخوذة في مفهوم المشتق لزم انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، مثلا
قضية (الانسان كاتب) قضية ممكنة في نفسها، فلو كان مفهوم الذات مأخوذا
في مدلول المشتق لزم الانقلاب المذكور، باعتبار أن صدق مفهوم الذات على
جميع الأشياء والذوات الخاصة ضرورية (1).
والجواب: أن المحمول في القضية تارة يكون طبيعي الشئ بنحو اللا
بشرط، وأخرى يكون مقيدا بقيد خاص، وذلك القيد لا يخلو من أن يكون
مباينا للموضوع في القضية أو مساويا له أو عاما أو خاصا، فإن كان المحمول
ملحوظا على النحو الأول، فثبوته للموضوع وإن كان ضروريا إلا أن محمول
القضية في المقام ليس كذلك، لأنه على القول بالتركيب الشئ المقيد بنحو بشرط
الشئ لا المطلق بنحو لا بشرط، مثلا المحمول في مثل قضية (الانسان كاتب)
هو الشئ المقيد بالكتابة لا المطلق، وعلى هذا فكون القضية ضرورية أو ممكنة

(1) الفصول، فصل المشتق، التنبيه الأول.
336

أو ممتنعة تتبع القيد المأخوذ في محمولها، فإن كان ثبوت ذلك القيد ضروريا
للموضوع فالقضية ضرورية، كما إذا كان القيد من ذاتيات الموضوع في باب
الكليات أو باب البرهان، وذلك مثل قولك (الانسان ناطق)، فإن ثبوت المبدأ
وهو النطق للانسان الذي هو الموضوع في القضية ضروري، وإن لم يكن
ضروريا له، فإن كان من العوارض المفارقة له كالكتابة ونحوها، فبما أن ثبوته
للموضوع ممكن فالقضية ممكنة، وذلك مثل قولك (الانسان كاتب)، فإن
ثبوت القيد وهو الكتابة لموضوع القضية كالانسان إنما هو بالامكان،
فلذلك تظل القضية على إمكانها، ولا يوجب أخذ مفهوم الشئ في مدلول
المشتق الانقلاب في مثل المثال، وإن كان من الأشياء الممتنعة ثبوتها
للموضوع فالقضية ممتنعة، وذلك كقولك (شريك الباري ممتنع) و (اجتماع
النقيضين مستحيل) وهكذا.
إلى هنا قد تبين أن أخذ مفهوم الذات والشئ في مدلول المشتق لا يوجب
انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، لوضوح أن قضية (الانسان كاتب)
قضية ممكنة مطلقا، أي سواء أكان مفهوم الذات مأخوذا في مدلول المشتق أم
لا، وقضية (الانسان ناطق) قضية ضرورية كذلك، لأن أخذ مفهوم الشئ في
مدلول المشتق لا يؤثر في جهة القضية أصلا، فإنها إن كانت ممكنة ظلت على
إمكانها، وإن كانت ضرورية ظلت على ضرورتها، وهكذا.
فما أفاده صاحب الفصول قدس سره من أن أخذ مفهوم الشئ في مدلول المشتق
يوجب الانقلاب لا يرجع إلى معنى صحيح.
قد يقال كما قيل: هذا فيما إذا كان المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الشئ،
وأما إذا كان المأخوذ فيه واقع الشئ ومصداقه لزم الانقلاب، إذ حينئذ تؤول
337

قضية (الانسان كاتب) إلى قضية (الانسان إنسان له الكتابة)، وعليه
فالمحمول في القضية إما ذات المقيد، والقيد قد أخذ بنحو المعرفية والمشيرية إليها
أو المقيد بما هو المقيد، والقيد قد أخذ بنحو الموضوعية، فعلى الأول تكون القضية
ضرورية، فإن ثبوت الانسان للانسان ضروري، وعلى الثاني تكون ممكنة،
لأن ثبوت الانسان المقيد بالكتابة للانسان ممكن.
والجواب أولا: أن المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الشئ المبهم، لا واقعه
وهو الذوات الخاصة، وهذا واضح بناء على أن وضع الهيئات نوعي، وأما بناء
على أن وضعها شخصي فالأمر أيضا كذلك إذا كان وضعها من باب الوضع العام
والموضوع له العام، نعم إذا كان من باب الوضع العام والموضوع له الخاص
فالمأخوذ فيه الذوات الخاص، ولكنه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له.
وثانيا: أن لزوم الانقلاب هنا مبني على نقطة خاطئة، وهي أن يكون المحمول
في القضية ذات الانسان وقيد الكتابة قد أخذ بنحو المعرفية والمشيرية إليه بدون
أن يكون له دخل فيه، ولكن من الواضح أن هذه النقطة خاطئة، إذ لازم ذلك أن
يكون المحمول في قضية (الانسان كاتب) هو ذات الانسان، وعنوان الكاتب قد
أخذ بنحو المعرفية المحضة من دون أن يكون له دخل فيه، وعليه فتكون القضية
ضرورية، لأن ثبوت الانسان للانسان ضروري، وهذا كما ترى، وبداهة أنها
قضية ممكنة، لأن المحمول فيها على القول بالتركيب الانسان المقيد بالكتابة الذي
هو مدلول المشتق لا طبيعي الانسان، وعليه فطبيعة الحال يكون المحمول في
القضية المنحلة والمؤولة نفس ذلك المحمول، والفرق إنما هو بالاجمال والتفصيل
والانحلال وعدمه، ومن الواضح أن المحمول إنما يكون قابلا للانحلال على القول
بتركب المشتق من الذات والمبدأ والنسبة.
338

ومن هنا يظهر أن الانقلاب غير معقول، بلا فرق بين أن يكون المأخوذ في
مدلول المشتق مفهوم الشئ ومصداقه، باعتبار أن المحمول وهو مدلول المشتق
مركب من الذات والمبدأ والنسبة، وإمكان القضية إنما هو من جهة أن ثبوت المبدأ
لموضوعها إن كان بالامكان فالقضية ممكنة، وإن كان بالضرورة فضرورية،
ولا فرق في ذلك بين أن يكون مدلول المشتق محمولا في القضية بالاجمال أو
بالتفصيل والتحليل، ولا يعقل أن يكون ثبوته بالتحليل ضروريا وبالاجمال
ممكنا، وإلا لم يكن الفرق بينهما بالاجمال والتفصيل بل بالتباين، وهذا خلف.
قد يقال كما قيل: إن القيد إذا كان مأخوذا بنحو الموضوعية بأن يكون قيدا
للمحمول واقعا لا معرفا له فحسب، فهو وإن كان يدفع محذور الانقلاب إلا أنه
يستلزم محذورا آخر، وهو حمل الأخص على الأعم، لأن الانسان المقيد
بالكتابة أو نحوها يكون أخص من الانسان المطلق وغير المقيد، ومن المعلوم أن
حمل الأخص على الأعم غير صحيح، لأن ملاك صحة الحمل هو اتحاد المحمول
مع الموضوع في القضية خارجا وجودا، وهذا إنما هو فيما إذا كان المحمول مساويا
مع الموضوع أو أعم منه، وأما إذا كان أخص منه، فهو لا يتخذ إلا مع حصة منه،
فلذلك لا يصح حمل الأخص على الأعم إلا بالتأويل والعناونية، فإذن لا بد أن
يكون القيد مأخوذا بنحو المعرفية والمشيرية لا بنحو الموضوعية.
والجواب: أن المحمول في مثل قضية (الانسان كاتب) أو (ضاحك) ليس
أخص من الموضوع فيها، لأن قيد الكتابة مثلا بما أنه ملحوظ ثبوته له بنحو
الامكان فهو بهذا اللحاظ ليس أخص منه، وعلى هذا فلا يكون حمل الكاتب
على الانسان في قولنا (الانسان كاتب) من حمل الأخص على الأعم، بل هو من
حمل المساوي على المساوي، وأما إذا كان القيد أخص من الموضوع، فلا يصح
339

حمله على الأعم إلا بالتأويل.
وبكلمة، إن حمل الأخص مفهوما على الأعم كذلك غير صحيح إذا كان كل
منهما ملحوظا بحده بنحو الموضوعية، وأما إذا كانا ملحوظين بنحو الفناء في
حقيقة واحدة في الخارج ومعبران عنها في مرحلة التصادق، فحينئذ وإن كان
الحمل صحيحا لتوفر ملاكه وهو انطباقهما على موجود واحد، إلا أنه ليس من
حمل الأخص مفهوما على الأعم كذلك، إلا صورة، فإنه في الحقيقة من حمل
المساوي على المساوي، ومن هذا القبيل ما إذا جعل الموضوع فانيا في مصداق
المحمول، فإن الحمل وقتئذ وإن كان صحيحا إلا أنه من حمل المساوي على
المساوي، لا حمل الأخص على الأعم إلا صورة، فالنتيجة أن حمل الأخص على
الأعم لا يصح إلا بالتصرف والتأويل، لحد الآن قد تبين أن أخذ مفهوم الشئ في
مدلول المشتق أو واقعة الموضوعي لا يوجب الانقلاب.
ولكن قد يقال: إن أخذ واقع الشئ فيه إنما لا يوجب الانقلاب فيما إذا كان
قابلا للتقييد، كما في مثل قولنا (الانسان كاتب) أو (ضاحك)، وأما إذا لم يكن
قابلا للتقييد فأخذه يوجب الانقلاب، كما في مثل قولنا (زيد عالم)، فإنه ينحل
إلى قولنا (زيد زيد له العلم)، وزيد بما أنه جزئي حقيقي فلا يقبل التقييد، فإذن
يكون القيد مجرد معرف ومشير إليه من دون أن يكون له دخل فيه، وحينئذ
فتكون قضية (زيد زيد له العلم) قضية ضرورية، لأنه من حمل الشئ على
نفسه، وهذا هو معنى الانقلاب (1).
والجواب: أولا: أن الانقلاب إنما يلزم لو كان المأخوذ في مدلول المشتق

(1) نقله في بحوث في علم الأصول 1: 332.
340

خصوص ما لا يقبل التقييد لا مطلقا، مع أن القائل به يدعي لزومه مطلقا.
وثانيا: أن لزوم الانقلاب في مثل المثال المذكور إنما هو لو كان المأخوذ في
مدلول المشتق شخص الموضوع في القضية، وهو زيد في المثال، ولكن الظاهر أن
المأخوذ فيه نوع الموضوع لا شخصه، بقرينة أن المراد من واقع الشئ المأخوذ
فيه ما يكون معروضا للمبدأ عادة في الخارج، ومن الواضح أن ما يكون
معروضا له عادة هو الانسان، باعتبار أن العلم والعدالة والكتابة ونحوها من
عوارضه، لا من عوارض الفرد بحده الفردي كزيد مثلا، فإن عروضها عليه إنما
هو بلحاظ أنه انسان لا بلحاظ أنه زيد، وحينئذ فتنحل قضية (زيد عالم) إلى
قضية (زيد انسان له العلم) لا إلى قضية (زيد زيد له العلم)، فإذن لا انقلاب.
وثالثا: مع الاغماض عن جميع ذلك وتسليم أن المأخوذ في مدلول المشتق
شخص الموضوع في القضية، فمع هذا لا يلزم الانقلاب، وذلك لأن الجزئي لا
يقبل التقييد الافرادي، وأما الأحوالي فلا مانع منه، وعلى هذا فمثل قولنا (زيد
عالم) وإن انحل إلى قولنا (زيد زيد له العلم) ولكن زيد بما أنه مقيد بحالة العلم،
فلا يكون حمله مقيدا بها على زيد - الذي هو موضوع القضية مطلقا - ضروريا،
من جهة أن ثبوت تلك الحالة له ليس بضروري، وإنما هو بالامكان.
وقد يقال كما قيل: إن أخذ واقع الشئ في مدلول المشتق يؤدي إلى انحلال
القضية الواحدة إلى قضيتين: إحداهما ضرورية، وهي (الانسان إنسان)،
والأخرى ممكنة، وهي (الانسان له الكتابة) مع أن قضية (الانسان كاتب)
قضية واحدة ممكنة لدى العرف والعقلاء، وهذا شاهد على عدم أخذ واقع
الشئ في مدلول المشتق (1).

(1) كفاية الأصول: 52.
341

والجواب: أن انحلال القضية الواحدة الممكنة إلى قضيتين: الأولى ضرورية،
والثانية ممكنة مبني على أحد أمرين:
الأول: اشتمال القضية على نسبتين في عرض واحد، إحداهما النسبة بين
الانسان والكاتب، والأخرى النسبة بينه وبين المبدأ كالكتابة ونحوها، وحيث
إن وحدة القضية وتعددها إنما هي بوحدة النسبة وتعددها، فإذا كانت النسبة
واحدة فالقضية واحدة، وإذا كانت متعددة فالقضية متعددة، على أساس أن
النسبة هي المقومة للقضية ولا يمكن تكوينها بدونها.
الثاني: انحلال عقد الحمل إلى قضية، وهذه القضية وإن كانت تقييدية وصفية
إلا أنها تصبح قضية إخبارية مستقلة بقانون أن الوصف قبل العلم به إخبار.
ولنا تعليق على كلا الأمرين:
أما على الأمر الأول فلأن اشتمال القضية على نسبتين في عرض واحد إنما
يوجب تعددها وانحلالها إلى قضيتين إذا كانت النسبتان تامتين، إذ حينئذ لا يعقل
أن تكون القضية واحدة، لما ذكرناه في ضمن البحوث السابقة من أن كل نسبة
مباينة ذاتا وحقيقة للنسبة الأخرى، من جهة أن المقومات الذاتية لكل منهما
مباينة للمقومات الذاتية للأخرى، وهي متمثلة في شخص وجود طرفيها هما
الموضوع والمحمول في القضية، فلذلك لا يعقل أن تكون القضية واحدة موضوعا
ومحمولا مشتملة على نسبتين تامتين، بداهة أنه يلزم من افتراض وحدتها كذلك
تعددها، وما يلزم من افتراض وجوده عدمه، فوجوده مستحيل.
ولكن الأمر في المقام ليس كذلك، لأن قضية (الانسان كاتب) مشتملة على
نسبة واحدة، وهي النسبة بين الانسان والكاتب، ولا يعقل اشتمالها على نسبة
342

أخرى تامة كما عرفت، وأما المحمول في تلك القضية وهو (الكاتب)، فلا
يكون مشتملا على نسبة واقعية تامة، وإلا لزم قيام النسبة بطرف واحد، وهو
مستحيل، نعم إنه بتحليل من العقل ينحل إلى أجزاء ثلاثة: الذات والمبدأ
والنسبة بينهما، إلا أن تلك النسبة نسبة تحليلية لا واقعية، فإنها ليست في وعاء
الذهن أو الخارج، فلهذا لا تستدعي وجود طرفين فيه، لأن الموجود في الذهن
مفهوم واحد، وهو مفهوم الكاتب، ولكن العقل في مقام التحليل يحلله إلى ثلاثة
أجزاء، فتلك الأجزاء تحليلية عقلية لا خارجية ولا ذهنية، فالمعيار في وحدة
القضية إنما هو بوحدة الموضوع والمحمول في عالم الذهن أو الخارج، وحيث إن
الموضوع والمحمول في قضية (الانسان كاتب) واحد فيه فالقضية واحدة،
وانحلال الكاتب إلى أجزاء ثلاثة لا يؤثر في وحدتها ولا يجعلها متعددة، ومن
هنا لا يكون النسبة التحليلية في عرض النسبة الواقعية، فإن أحد طرفي النسبة
الواقعية (الكاتب)، وهو موجود واحد في أفق الذهن، والمفروض عدم نسبة
أخرى في هذا الأفق في عرض النسبة الأولى، فإذن تكون القضية المذكورة
مشتملة على نسبة واحدة في عالم الذهن أو الخارج، والنسبة التحليلية ليست
بنسبة في عالم الواقع، بل هي نسبة في عالم التحليل فحسب، فيكون المقام نظير
قولنا (زيد انسان) فإنه قضية واحدة مشتملة على نسبة واحدة، وهي النسبة
بين (زيد) و (انسان) في عالم الذهن، ولا يضر بوحدتها اشتمال الانسان
بالتحليل من العقل على نسبة تحليلية، وهي النسبة بين الحيوان والناطق، ومن
الواضح أن النسبة التحليلية لا تشكل قضية واقعية ولا لها دخل في تكوينها،
لأن قضية (الانسان كاتب) قضية واحدة مشتملة على نسبة واحدة، وهي
343

النسبة بين الانسان والكاتب، بلا فرق في ذلك بين أن يكون الكاتب مشتملا
على النسبة التحليلية أو لا، وكذلك قضية (زيد انسان).
فالنتيجة أن القضية المذكورة مشتملة على نسبة واحدة، سواء أكان الشئ
مأخوذا في مدلول المشتق أم لا.
وأما التعليق على الأمر الثاني، فلأن قضية (الانسان كاتب) على القول
بالتركيب تتضمن إخبارين: أحدهما الاخبار عن ثبوت المقيد، وهو (إنسان له
الكتابة)، والآخر الاخبار عن ثبوت المطلق في ضمن المقيد، وهو (انسان) في
المثال، بملاك أن الاخبار عن ثبوت المقيد يستلزم الاخبار عن ثبوت المطلق،
فالاخبار الأول مدلول مطابقي للقضية وجهته الامكان، والاخبار الثاني مدلول
تضمني لها وجهته الضرورة، وهذا ليس من الانقلاب في شئ.
وإن شئت قلت: إنه على القول بأخذ مصداق الشئ في مدلول المشتق
فالمحمول في مثل قولك (الانسان كاتب) انحل إلى محمولين: أحدهما المقيد وهو
(إنسان له الكتابة) والآخر المطلق وهو (إنسان)، فثبوت الأول للموضوع
بالامكان، والثاني بالضرورة، وحيث إن القضية المطابقية هي القضية المقيدة،
فهي باقية على جهتها وهي الامكان، ولا انقلاب فيها، وأما القضية الضمنية
وهي القضية المطلقة، فهي وإن كانت ضرورية إلا أنها بملاك أن جهتها الواقعية
الضرورة لا من جهة الانقلاب، هذا نظير جملة (زيد خطيب بارع) و (عمرو
طبيب ماهر) وهكذا، فإنها تنحل إلى إخبارين: أحدهما الاخبار عن المدلول
المطابقي لها، وهو براعة زيد في فن الخطابة، ومهارة عمرو في فن الطبابة،
والآخر عن المدلول التضمني لها، وهو الاخبار عن خطابة زيد وطبابة عمرو،
ولا مانع من أن تكون جهة القضية بلحاظ مدلولها المطابقي الامكان وبلحاظ
344

مدلولها التضمني الضرورة.
وهذا أمر طبيعي في القضايا المذكورة وأشباهها، وليس من الانقلاب في
شئ، لأن القضايا التي تكون محمولاتها من القضايا الوصفية تنحل إلى قضيتين
طبعا: الأولى قضية مستقلة وهي القضية المقيدة، والثانية قضية ضمنية وهي
القضية المطلقة، مثلا قضية (زيد خطيب بارع) تنحل إلى الاخبار عن براعة
زيد في الخطابة والاخبار عن خطابته ضمنا، والأولى قضية مستقلة، والثانية:
قضية ضمنية وهكذا، باعتبار أن كل قضية يكون محمولها مقيدا بقيد تتضمن
قضية أخرى في ضمن القضية المستقلة، وكل قضية يكون محمولها بسيطا فلا
تتضمن قضية أخرى، وعلى هذا فعلى القول بأخذ مصداق الشئ في مدلول
المشتق، فالمحمول في مثل قضية (الانسان كاتب) مقيد بالمبدأ في الواقع، وكذلك
إذا كان المأخوذ فيه مفهوم الشئ، وأما على القول ببساطة مفهوم المشتق
فالمحمول فيها بسيط ولا موضوع للانحلال.
والخلاصة أنه إن أريد بالانحلال أن المحمول على القول بالتركيب بما أنه
مشتمل على نسبة، فيلزم عروض نسبتين على الذات في عرض واحد وهو
مستحيل، فيرد عليه أن المحال إنما هو عروض نسبتين واقعيتين على شئ واحد،
والمفروض في المقام أن النسبة الواقعية في وعاء الذهن أو الخارج واحدة، وأما
النسبة بين الذات والمبدأ، فهي نسبة تحليلية في المرتبة السابقة على الحمل لا
واقعية، وإن أريد به انحلال المحمول إلى إخبارين: أحدهما الاخبار عن القضية
المقيدة المستقلة، والآخر الاخبار عن القضية المطلقة الضمنية، فيرد عليه أن هذا
الانحلال أمر طبيعي على القول بالتركيب، وليس هذا من الانقلاب المستحيل،
لأنه متمثل في انقلاب مادة الامكان إلى الضرورة.
345

الوجه السابع: ما ذكره المحقق الشريف من أن المأخوذ في مدلول المشتق إن
كان مصداق الشئ لزم انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، وإن كان
المأخوذ فيه مفهوم الشئ لزم دخول العرض العام في الفصل كالناطق مثلا، وهو
لا يمكن، لاستحالة أن يكون العرض جزءا من الجوهر ومقوما له، وعلى هذا
فلو ان العرض داخلا في الفصل لزم أن يكون مقوما للانسان والحيوان ونحوهما
وذاتيا لها، وهو كما ترى (1). هذا،
والجواب عن ذلك: أما عن الشق الأول من كلامه، فقد تقدم موسعا فلا
حاجة إلى الإعادة.
وأما عن الشق الثاني منه وهو دخول العرض العام في الفصل، فقد أجيب
عنه بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره وجماعة من الفلاسفة المتأخرين
منهم السبزواري، من أن الناطق فصل مشهوري وليس فصلا حقيقيا، وقد أفاد
في وجه ذلك أن معرفة حقائق الأشياء وفصولها الحقيقية متعذرة ولا يمكن
الوصول إليها إلا للباري عز وجل، ومن أجل ذلك قد وضعوا مكانها ما هو من
لوازمها وخاصتها التي يشيروا بها إليها، فالناطق والصاهل والناهق جميعا
ليست بفصول حقيقية، فإن الناطق إن أريد به النطق الخارجي الذي هو من
خاصة الانسان، فهو من مقولة الكيف المسموع، فلا يعقل أن يكون مقوما
للجوهر النوعي، وإن أريد به الادراك الباطني أعني إدراك الكليات، فهو كيف
نفساني وعرض من أعراض الانسان، فيستحيل أن يكون مقوما له، لأن
العرض إنما يعرض على الشئ بعد تقومه بذاته وذاتياته وتحصله بفصله، وإما

(1) شرح المطالع: 11.
346

الصاهل والناهق فكلاهما من الكيف المسموع، فلا يعقل أن يكون مقوما
للجوهر النوعي، ومن هنا قد يجعلون لازمين وخاصتين مكان فصل واحد،
فيقولون (الحيوان حساس متحرك بالإرادة) ومن الطبيعي أن الحساس
والمتحرك بالإرادة خاصتان للحيوان وليستا بفصلين له، ضرورة أن الشئ
الواحد لا يعقل أن يتقوم بفصلين، لأن كل فصل مقوم للنوع وذاتي له، فلا يعقل
اجتماعهما في شئ واحد، وعليه فلا يلزم من أخذ الشئ في المشتق دخول
العرض العام في الفصل، بل يلزم منه دخوله في الخاصة، وهذا أمر طبيعي ولا
محذور فيه، فإن العرض العام كالشئ إذا قيد بقيد خاص أصبح خاصة، فما أفاده
المحقق الشريف من استلزام أخذ مفهوم الشئ في مفهوم المشتق دخول العرض
العام في الفصل غير تام، ولا يرجع إلى معنى محصل (1).
الوجه الثاني: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من أن الناطق بمعنى النطق الظاهري
أو إدراك الكليات وإن كان من لوازم الانسان وعوارضه الخاصة ولا يعقل أن
يكون فصلا مقوما له، إلا أن الناطق بمعنى صاحب النفس الناطقة فصل حقيقي
له، فيلزم حينئذ من أخذ مفهوم الشئ في المفهوم الاشتقاقي دخول العرض
العام في الفصل (2). هذا،
وقد علق عليه السيد الأستاذ قدس سره بأن صاحب النفس الناطقة هو الانسان،
وهو نوع لا فصل (3)، نعم لو فسر الناطق بالنفس الناطقة لم يرد عليه هذا
الاشكال، فإن النفس الناطقة هي الفصل الحقيقي للانسان، وهي بسيطة،

(1) كفاية الأصول: 52.
(2) أجود التقريرات
: 102.
(3) محاضرات في أصول الفقه 1: 270.
347

والناطق اسم لها وليس من الأوصاف الاشتقاقية، فإذن لا موضوع لما ذكره
المحقق الشريف من أن مفهوم الشئ إن كان مأخوذا في مدلول المشتق لزم
دخول العرض العام في الفصل، لأن الناطق بمعناه اللغوي وهو النطق الظاهري
أو الادراك الباطني ليس بفصل، فلا يلزم المحذور المذكور، وبمعنى النفس الناطقة
وإن كان فصلا إلا أنه بهذا المعنى بسيط، فلا يكون مفهوم الشئ مأخوذا فيه.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق النائيني قدس سره أيضا من أن الشئ ليس من
العرض العام، بل هو جنس الأجناس وجهة مشتركة بين جميع المقولات من
الجواهر والأعراض، وقد أفاد في وجه ذلك أن ضابط العرض العام هو ما كان
خاصة للجنس القريب أو البعيد، كالماشي والمتحيز، والشيئية تعرض لكل
ماهية من الماهيات وتنطبق عليها، فهي جهة مشتركة بين جميعها وليس ورائها
أمر آخر، يكون ذلك الأمر هو الجهة المشتركة وجنس الأجناس لتكون الشيئية
عارضة عليه وخاصة له، كما هو شأن العرض العام، وعلى هذا فاللازم من أخذ
مفهوم الشئ في المشتق دخول الجنس في الفصل لا دخول العرض العام فيه،
ومن الواضح أنه كما يستحيل دخول العرض العام في الفصل كذلك يستحيل
دخول الجنس فيه، لأن لكل واحد من الجنس والفصل ماهية تباين ماهية
الآخر ذاتا وحقيقة، فلا يكون أحدهما ذاتيا للآخر، فالحيوان ليس ذاتيا
للناطق وبالعكس، بل هو لازم أعم بالإضافة إليه، وذلك لازم أخص، وعليه
فيلزم من دخول الجنس في الفصل انقلاب الفصل إلى النوع، وهو محال.
والخلاصة أن خروج مفهوم الشئ عن مفهوم المشتق أمر ضروري، سواء
فيه القول بأن الشئ عرض عام أو جنس، وسواء أكان الناطق فصلا حقيقيا
أم مشهوريا، فإن دخول الجنس في اللازم كدخوله في الفصل الحقيقي
348

محال (1)، هذا.
وقد أورد عليه السيد الأستاذ قدس سره بأن هذا غريب منه، فإن الشئ لا يعقل أن
يكون جنسا عاليا للأشياء جميعا من الواجب والممتنع والممكن بأقسامه من
الجواهر والأعراض والاعتباريات والانتزاعيات، فإنه وإن كان صادقا على
الجميع حتى على الممتنعات، فيقال (شريك الباري شئ ممتنع) و (اجتماع
النقيضين شئ مستحيل) وهكذا، إلا أن صدقه ليس صدقا ذاتيا ليقال إنه
جنس عال له، بداهة استحالة وجود الجامع الماهوي بين ذاته تعالى وبين غيره
من المقولات المتأصلة والماهيات الاعتبارية والانتزاعية والأشياء الممتنعة، بل
لا يعقل الجامع الذاتي بين المقولات العشر بأنفسها، لأنها أجناس عاليات
ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها، بل ذكر قدس سره أنه قد برهن في محله أن الجامع الحقيقي
بين المقولات التسع العرضية فضلا عن الجامع كذلك بين جميع المقولات غير
متصور (2). هذا.
وما ذكره السيد الأستاذ قدس سره يرجع إلى نقطتين.
الأولى: أن الشئ لا يعقل أن يكون جنسا عاليا للجميع من الواجب
والممكن والممتنع.
الثانية: أنه قد برهن في محله أن المقولات العشرة أجناس عاليات ومتباينات
بتمام ذاتها وذاتياتها، ولا يعقل أن تندرج تحت مقولة واحدة ذاتا وحقيقية. هذا،
وغير خفي أن النقطة الأولى واضحة ولا تقبل الشك، بداهة أنه لا يعقل أن

(1) أجود التقريرات 1: 102.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 271.
349

يكون الشئ بعرضه العريض جنسا عاليا للأشياء جميعا.
وأما النقطة الثانية فقد يناقش فيها بأنه لم يقم برهان في الفلسفة على استحالة
وجود جنس أعلى للمقولات العشرة لا أنه قام برهان على الاستحالة، وقد
صرح بذلك صاحب الأسفار (1).
وفيه أنا وإن سلمنا عدم قيام برهان على استحالة وجود جنس أعلى
للمقولات العشر إلا أن الشئ لا يعقل أن يكون جنسا أعلى لها جامعا ذاتيا
بين جميع الأشياء لأمرين:
الأول: أن الشئ يصدق على الواجب والممتنع والممكن بشتى أنواعه
وأشكاله، ومن الواضح استحالة تصوير جامع حقيقي بينها جميعا، بداهة أنه لا
يعقل أن يكون الواجب تعالى شريكا مع الممكن والممتنع في الجنس.
الثاني: أن الشئ لو كان جنسا أعلى للمقولات العشر لكان كل مقولة مركبة
منه ومن فصل يميزه عن المقولات الأخرى، وحينئذ نقول إن الفصل شئ أو لا؟
والثاني لا يمكن، فعلى الأول فإن كانت الشيئية تمام حقيقته لزم اتحاد الجنس
والفصل، وإن كانت جزئه لزم تركبه من جزئين، وحينئذ فتنقل الكلام إلى جزئه
الثاني فهل هو شئ؟ والجواب: نعم إنه شئ، وهكذا يذهب إلى ما لا نهاية له،
فإذن لا يمكن الوصول إلى ما يميز المقولات بعضها عن بعضها الآخر.
فالصحيح أن الشئ عرض عام للأشياء جميعا من الواجب والممكن
والممتنع، ويصدق على الجميع صدقا عرضيا، فلذلك يكون من العرض العام،
لا من العرض المقابل للجوهر، فإنه لا يصدق على وجود الواجب تعالى ولا على

(1) بحوث في علم الأصول 1: 331.
350

غيره من الاعتباريات والانتزاعيات ونحوهما، ومن الواضح أن الشئ بما له من
المفهوم يصدق على الجميع على نسق واحد.
وأما ما أفاده قدس سره - من أن ضابط العرض العام أن يكون خاصة للجنس
القريب أو البعيد بأن يكون ما وراءه جنسا وهو عارض عليه وخاصة له،
وضابط العرض الخاص أن يكون خاصة للنوع كالضحك مثلا، وهذا الضابط لا
ينطبق على الشئ - فلا أصل له، وذلك لأنه قدس سره إن أراد بذلك أن عروض
العارض على الجنس مقوم لعمومه لا لعرضيته، ففيه أن كونه مقوما لعمومه إنما
هو بملاك أنه أكثر أفرادا وأوسع دائرة من النوع، فإذن يكون ملاك اتصاف
العرض بالعرض العام كون دائرة معروضة أوسع من دائرة معروض العرض
الخاص، وأما كونه جنسا قريبا كان أم بعيدا أو غيره فغير معتبر، إذ لا يحتمل أن
تكون جنسية معروضة، دخيلة في اتصافه بالعرض العام، وإن أراد به أنه مقوم
لعرضيته، ففيه أن عرضية العرض متقومة ذاتا وحقيقة بعروضه على شئ،
سواء أكان ذلك الشئ جنسا أم لا، ثم إن كون العرض عاما وخاصا أمر إضافي
نسبي، فالماشي عرض عام باعتبار وإضافة، وخاص باعتبار آخر وإضافة
أخرى، فالنتيجة ما أفاده قدس سره من الضابط للعرض العام لا يرجع إلى معنى صحيح
فالمعيار فيه ما ذكرناه.
الوجه الرابع: أن محل الكلام في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه، حيث إنه في
مدلوله اللغوي، فلا يلزم من أخذ مفهوم الشئ في مدلوله لغة دخول العرض
العام في الفصل الحقيقي حتى يكون محالا، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فقد أجيب في شرح المطالع عن شبهة وجهت على تعريف
الادراك بترتيب أمور معلومة لتحصيل أمر مجهول، وهي أنه لا يشمل التعريف
351

بالحد الناقص، وهو التعريف بالفصل وحده، فأجيب عنها بأن الفصل
أيضا مركب من أمور وليس بسيطا، فالناطق شئ له النطق، فإذن لا إشكال
في التعريف (1).
ولكن علق على هذا الجواب المحقق الشريف بأن لازم ذلك دخول العرض
العام في الفصل الحقيقي (2). ومن الواضح أن الشريف أراد من الناطق الفصل
الحقيقي بقرينة أن التعريف إنما هو به بقطع النظر عن باب الدلالة اللغوية
والعرفية، وعليه فما ذكره المحقق الخراساني قدس سره - من أن الناطق فصل مشهوري
لا حقيقي، ووضع مكان الفصل الحقيقي باعتبار أنه لازم له، وحينئذ فلا يلزم من
أخذ مفهوم الشئ في مدلول المشتق دخول العرض العام في الفصل الحقيقي، وإنما
يلزم من ذلك دخول العرض العام في الفصل المشهوري، وهذا مما لا محذور فيه -
ليس جوابا عن تعليق المحقق الشريف، لما عرفت من أن نظره فيه متجه إلى
الفصل الحقيقي دون المشهوري، فإذن لا صلة لما ذكره المحقق الخراسان قدس سره بما
علق عليه الشريف. هذا،
فالصحيح في المقام أن يقال إن هنا مسألتين:
الأولى: أن مدلول المشتق بسيط أو مركب.
الثانية: أن الناطق هل هو فصل بمعناه اللغوي العرفي أو لا.
أما المسألة الأولى فهي مسألة لغوية، والمرجع في إثباتها الطرق المقررة لدى
العرف العام، كالتنصيص والتبادر ونحوهما.

(1) شرح المطالع: 11.
(2) هامش المصدر المتقدم.
352

وأما المسألة الثانية: فلا شبهة في أن الناطق بما له من المعنى اللغوي لا يصلح
أن يكون فصلا حقيقيا للانسان، وكذلك الصاهل والناطق ونحوهما، ولا فرق
في ذلك أن يكون المشتق موضوعا لمعين بسيط أو مركب، لأن المبدأ في الناطق
وهو النطق لا يمكن أن يكون فصلا حقيقيا للانسان، باعتبار أنه إن كان بمعنى
النطق الظاهري، فهو من مقولة الكيف المسموع، وإن كان بمعنى الادراك
الباطني، فهو من مقولة الكيف النفساني، وعلى كلا التقديرين فلا يصلح أن
يكون فصلا حقيقيا، بلا فرق بين أن يكون مفهوم الشئ مأخوذا فيه أولا،
وعلى هذا فجعل الناطق في باب الكليات من الذاتي والفصل الحقيقي للانسان
لا يمكن بدون تجريده عن معناه اللغوي مادة وهيئة وإرادة معنى آخر منه.
وهو النفس الناطقة.
وبكلمة، إن الناطق عند العرف واللغة موضوع للشئ المتلبس بالنطق
الظاهري أو الباطني، وهو بهذا المعنى لا يصلح أن يكون فصلا حقيقيا للانسان
ومقوما له، وعليه فجعله في المنطق فصلا حقيقيا لا يمكن أن يكون بمعناه
اللغوي، فلا محالة يكون قد جرد عنه تماما واستعمل في معنى جامد بسيط، وهو
النفس الناطقة، فإنه بهذا المعنى يصلح أن يكون فصلا حقيقيا ومقوما، على
أساس أن نظر المناطقة إلى حقائق الأشياء من الجنس والفصل الذاتيين، لا إلى
الأوضاع اللغوية والمعاني العرفية، فلذلك جعلوا الناطق أسماء للنفس الناطقة،
وهو بهذا المعنى فصل حقيقي للانسان.
وعلى هذا فلا يلزم من أخذ مفهوم الشئ في مدلول المشتق لغة وعرفا دخول
العرض العام في الفصل الحقيقي، لما عرفت من أن الناطق أو ما شاكله ليس بمعناه
اللغوي فصلا، وإنما هو فصل بمعنى آخر، وهو النفس الناطقة التي هي صورة
353

الانسان وحقيقته، ومن هنا يظهر أن اعتراض المحقق الشريف بأن مفهوم الشئ
لو كان مأخوذا في مدلول المشتق، لزم دخول العرض العام في الفصل مبني على
الخلط بين المسألتين، لأن مفهوم الشئ لو كان مأخوذا فيه، لزم دخول العرض
في معناه اللغوي لا في الفصل الحقيقي كما تخيله.
هذا إضافة إلى أن هذا الوجه لو تم فإنه يمنع عن دخول مفهوم الشئ في
مدلول المشتق، ولا يمنع عن دخول النسبة فيه، بأن يكون المشتق موضوعا
للمبدأ ونسبته إلى الذات، ولا يلزم منه أي محذور.
ودعوى أن أخذ النسبة في مدلول المشتق يستلزم أخذ الذات فيه أيضا
لاستحالة تقوم النسبة بطرف واحد.
مدفوعة، فإن استحالة ذلك إنما هي بلحاظ أنها متقومة ذاتا وحقيقة بشخص
وجود طرفيها في الذهن أو الخارج، ولكن هذا لا يقتضي استحالة وضع اللفظ
مع طرف واحد، لأن عملية الوضع عملية اختيارية للواضع، فإن له أخذ شئ
في المعنى الموضوع له قيدا، وله عدم أخذه فيه كذلك، فاللفظ على الأول يدل
على المعنى المقيد به لا أكثر، وعلى الثاني على المعنى المطلق كذلك، وفي المقام لا
مانع من وضع المشتق بإزاء المبدأ والنسبة بدون أخذ الذات فيه، فإنه حينئذ لا
يدل إلا على المبدأ ونسبته إلى الذات دون نفس الذات، وهذا ليس معناه قيام
النسبة بطرف واحد، بل دلالة اللفظ عليها مع طرف واحد. ومن هنا فالحروف
موضوعة للنسب والروابط فحسب بدون أخذ أطرافها في معناها الموضوع له،
مع أنها متقومة بها ذاتا وحقيقة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن شيئا من الوجوه التي
استدل بها على بساطة مفهوم المشتق لا يتم، فلا يمكن القول حينئذ بالبساطة.
354

وأما الكلام في المقام الثاني وهي القول بأن مفهوم المشتق مركب من الذات
والمبدأ والنسبة بينهما، فنقول إن المراد من الذات المأخوذة في مفهوم المشتق هو
الذات المبهمة غاية الابهام ومعراة عن كل خصوصية من الخصوصيات العرضية
ما عدا قيام المبدأ بها، وليس المراد منها مصداقها، فلنا دعويان:
الأولى: أن مصداق الذات والشئ غير مأخوذ في مفهوم المشتق.
الثانية: أن المأخوذ فيه مفهوم الشئ والذات بنحو الابهام.
أما الدعوى الأولى فهي باطلة جزما، لأن لازم ذلك أن يكون المشتق من
متكثر المعنى، بأن يكون الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا، وهذا خلاف
الارتكاز العرفي منه فطرة، لأن المرتكز منه كذلك معنى واحد مبهم غاية الابهام،
ولهذا يقبل الحمل على الواجب تعالى كقولك (الله عالم وقادر وحي) وهكذا،
وعلى الممكن بشتى أنواعه من الماهيات المتأصلة كالجواهر والأعراض
والماهيات الاعتبارية والانتزاعية، وعلى الممتنع كقولك (شريك الباري ممتنع)
و (اجتماع النقيضين مستحيل) وهكذا، والجميع على نسق واحد.
وأيضا لازم ذلك أن يكون استعمال المشتق في الذات المتلبسة بالمبدأ المعراة
عن الخصوصيات العرضية مجازا، لأنه استعمال في غير معناه الموضوع له، وأن
يكون المشتق مجملا إذ لم تكن هناك قرينة على تعيين المصداق، باعتبار أن حكمه
حينئذ حكم اللفظ المشترك، فلا يدل على التعيين.
ودعوى أن جعل المصداق موضوعا في القضية يدل على أنه مأخوذ
في مدلول المشتق.
مدفوعة بأن المشتق لا يكون محمولا دائما، بل قد يكون محمولا وقد لا
355

يكون، كما في مثل قولنا (أكرم العالم) و (لا تصل خلف الفاسق) وهكذا، فإنه
لا يكون محمولا في مثل هذه الموارد مع أن استعماله فيها كاستعماله فيما إذا كان
محمولا بلا فرق بينهما أصلا.
والخلاصة أن القول بأن المأخوذ في مفهوم المشتق الشئ لا يرجع إلى
معنى محصل.
وأما الدعوى الثانية وهي أن المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الشئ المبهم
من جميع الجهات والخصوصيات حتى من جهة خصوصية أنه عين المبدأ خارجا
كما في صفات الباري عز وجل الذاتية، فيدل عليها أمران:
الأول: أن المتبادر من المشتق عند إطلاقه ارتكازا وفطرة هو تلبس الذات
المبهمة بالمبدأ، فإذا قيل (زيد عالم) تمثل في النفس ذات مبهمة متلبسة بالعلم،
وتنطبق في المثال على زيد، ومن الواضح أن هذا التبادر الارتكازي الموافق
للفطرة في أعماق النفس دليل قطعي على أن مفهوم الشئ والذات المبهمة مأخوذ
في مدلول المشتق وضعا، وحيث إنه مبهم من جميع الجهات حتى من جهة اتحاده
مع المبدأ، فلهذا يصدق على الجميع من الجوهر والعرض والأمر الاعتباري
والانتزاعي والزمان وما فوقه من الواجب تعالى وغيره على نسق واحد بدون
لحاظ أية عناية في شئ منها.
الثاني: أنه لا شبهة في صحة حمل المشتق بما له من المعنى المرتكز في الذهن
على الذات في الخارج، كقولنا (زيد عالم) و (الانسان ضاحك) وهكذا، ومن
الواضح أنه لا يمكن تصحيح هذا الحمل بدون أخذ مفهوم الذات في مدلول
المشتق، لأن المبدأ مغاير للذات مفهوما وعينا، وقد مر أن صحة الحمل ترتكز
على ركيزتين: الأولى: اتحاد المحمول مع الموضوع في عالم الوجود، والثانية:
356

مغايرتهما في عالم المفهوم، وبانتفاء أية من الركيزتين فلا موضوع للحمل، وفي
المقام حيث إن المبدأ مغاير للذات في الوجود الخارجي والمفهوم الذهني معا فلا
يمكن حمله عليها، ومجرد اعتباره لا بشرط ومتحدا مع الذات لا يوجب اتحاده
معها خارجا وقلبه عما كان عليه في الواقع من المغايرة والمباينة، بداهة أن المغايرة
بينهما واقعية لا اعتبارية لكي تنتفي باعتبار آخر، فإذن لا قيمة لاعتبار المبدأ لا
بشرط، ولا يوجب صحة حمله على الذات التي هي منوطة بأن يكون متحدا
معها في الخارج حقيقة. هذا،
ولكن المحقق النائيني قدس سره قد أصر في المقام على أن اعتبار المبدأ لا بشرط
ولحاظه متحدا مع الذات يكفي في صحة حمله عليها، ولذلك بنى على أن الذات
غير مأخوذة في مفهوم المشتق، وقد أفاد في وجه ذلك أن وجود العرض في نفسه
عين وجوده لموضوعه، وهذا لا بمعنى أن له وجودين: أحدهما لنفسه والآخر
لموضوعه، لاستحالة أن يكون لماهية واحدة وجودان، بل بمعنى أن وجوده
النفسي عين وجوده الرابطي لموضوعاته.
وإن شئت قلت: إن للعرض وجودا واحدا في الخارج، ولكن له حيثيتان:
الأولى حيثية أنه لنفسه، والثانية حيثية أنه لموضوعه، وعلى هذا فإن لوحظ
العرض من الحيثية الأولى أي بما أنه شئ من الأشياء وموجود من الموجودات
في الخارج بحياله واستقلاله في مقابل وجود الجوهر كذلك، فهو بهذا الاعتبار
واللحاظ عرض مباين لموضوعه وجودا وغير محمول عليه، وإن لوحظ من
الحيثية الثانية أي بما هو واقعه في الخارج بلا أي مؤنه أخرى وأن وجوده في
نفسه عين وجوده لموضوعه فيه، فهو بهذا اللحاظ والاعتبار عرضي ومشتق
وقابل للحمل على موضوعه ومتحد معه، حيث إنه من شؤونه وأطواره،
357

فإن شأن الشئ لا يباينه.
والخلاصة أن للمبدأ لحاظين: أحدهما لحاظه موجودا في الخارج بحياله
واستقلاله في مقابل الذات، والآخر لحاظه لا بشرط أي بما هو واقعة
الموضوعي، وهو أن وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، ولا يمكن حمله
عليها باللحاظ الأول، وأما باللحاظ الثاني فلا مانع منه، لأنه بهذا اللحاظ متحد
معها بنحو من أنحاء الاتحاد في الخارج (1). هذا،
وقد علق عليه السيد الأستاذ قدس سره بعدة وجوه:
الوجه الأول: أن ما ذكره قدس سره من الفرق ليس فارقا بين المشتق ومبدئه، بل
هو فارق بين المصدر واسم المصدر، فإن العرض كالعلم مثلا متحيث بحيثيتين
واقعيتين: الأولى حيثية وجوده في نفسه، والثانية حيثية وجوده لموضوعه،
فيمكن أن يلحظ مرة بالحيثية الأولى، وهي أنه شئ من الأشياء وموجود من
الموجودات بحياله، واستقلاله في مقابل وجود الجوهر، وبهذا الاعتبار يعبر عنه
باسم المصدر، ومرة أخرى بالحيثية الثانية، وهي أن وجوده في نفسه عين
وجوده لموضوعه، وأنه طور من أطواره، وبهذا الاعتبار يعبر عنه بالمصدر،
حيث قد اعتبر فيه الاسناد إلى فاعل ما دون اسم المصدر.
وبكلمة، إن اسم المصدر وضع للدلالة على الوجود المحمولي في قبال العدم
المحمولي، والمصدر وضع للدلالة على الوجود النعتي في مقابل العدم النعتي،
فما ذكره قدس سره ليس فارقا بين المشتق ومبدئه، وإنما هو فارق بين المصدر
واسم المصدر (2).

(1) أجود التقريرات 1: 107.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 277.
358

ويمكن نقد هذا الوجه من عدة جهات:
الأولى: ما تقدم موسعا في باب الوضع من أن الألفاظ لم توضع بإزاء
الموجودات الخارجية ولا الموجودات الذهنية، وإنما هي موضوعة بإزاء طبيعي
المعنى الذي قد يوجد في الذهن وقد يوجد في الخارج، بدون أن يكون الوجود
الذهني أو الخارجي قيدا له.
هذا إضافة إلى أن لازم الوضع بإزاء الموجود الخارجي كون المدلول الوضعي
مدلولا تصديقيا، وهو لا يمكن إلا على القول بالتعهد.
وعلى هذا فالمصدر لم يوضع للوجود النعتي واسم المصدر للوجود المحمولي،
إلا أن يكون مراده قدس سره من ذلك وضع المصدر بإزاء معنى فان في الوجود النعتي في
الخارج، واسم المصدر بإزاء معنى فان في الوجود المحمولي فيه، ولكن إرادة ذلك
من كلامه قدس سره بحاجة إلى قرينة.
الثانية: ما تقدم آنفا من أن المصدر لم يوضع لنسبة المادة إلى الذات، وإنما
وضع بإزاء خصوصية قائمة بالمادة كالصدورية أو الحلولية ونحوهما، وتلك
الخصوصية غير النسبة، لأنها متقومة بالطرفين، فلا يمكن قيامها بطرف واحد،
بينما هي قائمة بطرف واحد، واسم المصدر وضع بإزاء الحدث بما هو بدون لحاظ
أي خصوصية معه، وهذا الفرق بينهما إنما هو بحسب المفهوم، وذلك لا يمنع عن
وحدتهما في الوجود الخارجي.
الثالثة: الظاهر أن المحقق النائيني قدس سره أراد بذلك الفرق بين المشتق والمصدر، لا
بينه وبين مبدئه، ولا بين المصدر واسم المصدر، بقرينة أنه قدس سره ذكر أن للعرض في
مقابل الجوهر حيثيتين واقعيتين، وهما حيثية وجوده في نفسه، وحيثية وجوده
لموضوعه، فإن لوحظ من الحيثية الأولى فهو عرض ومصدر ومباين للذات
359

وجودا ولا يقبل الحمل عليها، وإن لوحظ من الحيثية الثانية فهو عرضي
ومشتق يقبل الحمل، باعتبار أنه من شؤونه وأطواره ومن مراتب وجوده،
وشؤون الشئ لا تكون أجنبية عنه.
الوجه الثاني: لا ريب في أن وجود العرض في الخارج في مقابل وجود
الجوهر فيه، وأنه مباين له وإن كان يختلف عنه سنخا، لأن وجود الجوهر في
نفسه لنفسه، ووجود العرض في نفسه لغيره، وهذا ليس بمعنى أن وجوده من
حدود وجوده وأنه ليس هناك إلا وجود واحد وهو وجود الجوهر، بل بمعنى أن
وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، لا أنه عين وجود موضوعه.
وبكلمة، إنه لو لم يكن في الخارج إلا وجود واحد وهو وجود الجوهر،
والعرض من حدود وجوده ومرتبة من مراتبه وليس موجودا مستقلا في مقابله
فلا شبهة في صحة حمله عليه، لمكان الاتحاد بينهما، ولكن هذا مجرد افتراض لا
واقع موضوعي له، بداهة أن العرض ليس من حدود وجود الجوهر، بل هو
مباين له وجودا، وعليه فمجرد اعتباره لا بشرط بالنسبة إلى موضوعه لا يؤثر
في الواقع ولا يوجب انقلابه عما كان عليه من المغايرة، ضرورة أنها ليست
بالاعتبار، فإذن لا يمكن القول بأن العرض إن لوحظ لا بشرط وعلى ما هو عليه
في الواقع فهو من شؤون موضوعه وطور من أطواره، وشؤون الشئ لا
تباينه، وإن لوحظ بشرط لا وعلى حياله واستقلاله وأنه شئ من الأشياء في
الخارج في مقابل موضوعه فيه، فهو مغاير له ولا يمكن حمله عليه، وذلك لأن
العرض لو كان متحدا مع الجوهر وجودا في الخارج بأن يكونا موجودين
بوجود واحد فيه، صح حمله عليه سواء أكان ملحوظا لا بشرط أم لا، وإن كان
مغايرا معه وجودا في الخارج، بأن يكون هناك وجودان: أحدهما وجود
360

العرض، والآخر وجود الجوهر، لم يصح حمله عليه وإن اعتبره لا بشرط (1).
وغير خفي أن ما أفاده السيد قدس سره من أنه لا أثر لاعتبار المبدأ لا بشرط، فإنه
لا يصحح حمله على الذات بعد ما كان مغايرا لها وجودا، صحيح وغير قابل
للمناقشة لا نظريا ولا تطبيقيا، ولكن يمكن أن يقال إن نظر المحقق النائيني قدس سره
ليس إلى ذلك، بل إلى واقع لا بشرط، بمعنى أن لحاظ المعنى لا بشرط تارة يكون
بنحو الموضوعية وأخرى بنحو الطريقية، ولا يبعد أن يكون نظره قدس سره في المقام إلى
الثاني، بقرينة أنه قدس سره قال في مقام الفرق بين العرض والعرضي (المبدأ والمشتق)
أن ماهيتهما واحدة بالذات والحقيقة، والفرق بينهما إنما هو بالاعتبار واللحاظ،
ببيان أن لماهية العرض حيثيتين واقعيتين: إحداهما حيثية وجودة في نفسه،
والأخرى حيثية وجوده لموضوعه، فهي تارة تلحظ من الحيثية الأولى وبما هي
موجودة في حيالها واستقلالها وأنها شئ من الأشياء في قبال وجودات
موضوعاتها، فهي بهذا اللحاظ والاعتبار عرض معنون بعنوان البشرط لائية
م وغير محمول على موضوعه لمكان المباينة بينهما، وأخرى تلحظ بما هي موجودة
في الواقع ونفس الأمر وأن وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعها ومن
مراتب وجوده، فهي بهذا الاعتبار عرضي ومشتق معنون بعنوان اللا بشرطية
ومحمول على الذات، وهذا الكلام منه قدس سره يدل على أن نظره إلى اللا بشرطية
والشرط لائية ليس بنحو الموضوعية، بل بنحو الطريقية والمعرفية الصرفة.
ولكن هذا أيضا غير تام، وذلك لأن صحة حمل العرض على موضوعه مبنية
على فرضية، وعدم صحة حمله عليه مبني على فرضية أخرى.
أما الفرضية الأولى فهي ترتكز على ركيزة واحدة، وهي أن الموجود في

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 278.
361

الخارج واحد وهو وجود الجوهر، وأما العرض فلا وجود له في قبال وجوده،
وإنما هو شأن من شؤون وجوده وحدوده، وحد الشئ نفس الشئ ولا يغايره،
وعليه فيصح الحمل لمكان الاتحاد.
وهذه الفريضة وإن كانت لا واقع موضوعي لها ومخالفة للوجدان الموافق
للفطرة، إلا أنه مع ذلك قيل إنه لم يقم برهان في الفلسفة على أن للعرض وجودا
في الخارج في قبال وجود الجوهر، ولهذا نسب إلى بعض الفلاسفة أن الصور
العلمية العارضة على النفس من مراتب وجودها وحدوده، وليس لها وجود في
قبال وجودها، حيث إن هناك وجودا واحدا وهو وجود النفس، وتلك الصور
العارضة عليها من مراتب ذلك الوجود وحدوده، فإذا كانت الصور المذكورة
التي هي من مقولة الكيف النفساني متحدة مع النفس، كان الأمر كذلك في سائر
المقولات العرضية أيضا، إذ الفرق غير محتمل (1)، وعلى هذا فلو أراد قدس سره من
ذلك أن العرض شأن من شؤون موضوعه وطور من أطواره وأنه لا وجود له في
الخارج إلا وجود موضوعه، ففيه أن حمله على الذات حينئذ وإن كان صحيحا
لمكان الاتحاد بينهما وجودا، إلا أن ذلك مجرد افتراض لا واقع موضوعي له، إذ
لا شبهة في أن وجود العرض غير وجود الجوهر في الخارج، وهما نحوان
وسنخان من الوجود فيه، وهذا أمر لا يقبل الشك كما تقدم.
وأما الفرضية الثانية فهي تبتني على أن وجود العرض مباين لوجود الجوهر
في الخارج، وهما سنخان متباينان من الوجود، فإن وجود العرض وجود
يتوقف على موضوع محقق فيه ولا يمكن وجوده بدونه، بينما وجود الجوهر
وجود مستقل فلا يتوقف على ذلك، فإذن كيف يعقل أن يكون وجود العرض

(1) بحوث في علم الأصول 1: 326.
362

عين وجود الجوهر في الخارج ومن حدود وجوده، وعلى ضوء ذلك فلا يمكن
الحمل لمكان المغايرة، وملاك صحة الحمل الاتحاد.
وعليه فما ذكره المحقق النائيني قدس سره - من أن العرض إن كان ملحوظا من حيث
وجوده في نفسه وأنه شئ من الأشياء في الخارج في مقابل الجوهر، فهو مباين
له وغير قابل للحمل عليه، وإن كان ملحوظا من حيث أن وجوده في نفسه عين
وجوده لموضوعه وأنه من شؤونه، فهو قابل للحمل عليه - لا يرجع إلى معنى
صحيح، فإنه إن أريد بالشؤون أنه من حدود وجود موضوعه في الخارج ولا
وجود له فيه إلا وجود موضوعه فيه، فيرده أنه خلاف مفروض كلامه، لأن
مفروض كلامه أن للعرض وجودا في الخارج في مقابل وجود الجوهر، وأن
هناك سنخين من الوجود: وجودا في نفسه لنفسه، ووجودا في نفسه لغيره،
والأول وجود الجوهر والثاني وجود العرض، وإن أريد بها أنه من عوارضه في
الخارج ولا يوجد بدون وجوده فيه، ففيه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن معنى
هذا أن له وجودا فيه في قبال وجود موضوعه، غاية الأمر أن سنخ وجوده
يختلف عن سنخ وجود موضوعه، ونتيجة ذلك عدم صحة حمله عليه.
الثالث: أن ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من أن العرض قد يلحظ بنفسه بمفاد
كان التامة، وقد يلحظ بما هو قائم بموضوعه في الخارج بمفاد كان الناقصة لو تم
فإنما يتم في المشتقات التي تكون مبادئها من المقولات الحقيقية التي لها وجود في
الخارج، ولا يتم في المشتقات التي تكون مبادئها من الأمور الاعتبارية أو
الانتزاعية التي لا وجود لها في الخارج لكي يلحظ تارة بنفسه وبمفاد كان التامة،
وأخرى بما هو قائم بموضوعه وبمفاد كان الناقصة (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 279.
363

وغير خفي أن هذا التعليق بدل ما يبرهن عدم صحة حمل المشتقات التي
تكون مبادئها من الأمور الاعتبارية أو الانتزاعية يبرهن الفرق بينها وبين
المشتقات التي تكون مبادئها من الأعراض، وحينئذ فبإمكان المحقق النائيني قدس سره
أن يدعي أن صحة حمل تلك المشتقات على الذوات لا تتوقف على لحاظ مبادئها
لا بشرط لكي يقال إنها لا توجد في الخارج حتى تلحظ كذلك، بينما صحة حمل
هذه المشتقات تتوقف على ذلك، فإذن لا مجال لهذا التعليق. هذا،
ولكن الصحيح في الجواب أن يقال: إن المبدأ إذا كان من المقولات فقد تقدم
أن وجوده في الخارج مباين لوجود موضوعه واقعا وحقيقة، ولا يجدي لحاظه
لا بشرط، لا بنحو الموضوعية ولا بنحو الطريقية، وأما إذا كان المبدأ أمرا
اعتباريا أو انتزاعيا كالملكية أو الزوجية أو نحوها، فلا يكون عنوانا لمصداق
الموضوع في الخارج لكي ينطبق عليه انطباق العنوان على المعنون، فإذن لا يتوفر
فيه ملاك صحة الحمل، وقد مر أن ملاك صحته إما اتحاد المحمول مع الموضوع في
الوجود الخارجي بأن يكونا موجودين بوجود واحد فيه أو انطباق المحمول مع
الموضوع على موجود واحد، وكلا الملاكين غير متوفر في المقام، أما الأول فهو
واضح، وأما الثاني فلأن المبدأ ليس عنوانا لمصداق الموضوع في الخارج لكي
ينطبق عليه انطباق العنوان على المعنون، مثلا قولنا (زيد مالك) لا يمكن أن
يكون المالك بلحاظ مدلوله الوضعي البسيط وهو الملكية عنوانا لزيد في
الخارج، لأن كونه عنوانا له لا يمكن إلا بلحاظ اشتماله على الذات، بأن يكون
مفهومه مركبا منها ومن المبدأ، وأما المبدأ فهو بنفسه لا يصلح أن يكون عنوانا
للموضوع في الخارج، لا بلحاظ نفسه ولا بلحاظ منشأ انتزاعه، وهذا بخلاف
مفهوم الشئ والذات، فإنه وإن كان من المفاهيم الانتزاعية التي لا وجود لها في
الخارج، إلا أنه لما كان بنفسه عنوانا للموضوع في الخارج صح حمله عليه كقولك
364

(زيد شئ له الكتابة..) مثلا.
الرابع: أن ما أفاده قدس سره لو تم في المشتقات التي تكون مبادئها وضعا للذات
سواء أكان من المقولات أم من الاعتبارات أو الانتزاعات، ولا يتم في المشتقات
التي لا يكون المبدأ فيها صفة للذات، كما في أسماء الأزمنة والأمكنة وأسماء الآلة،
لأن اتحاد المبدأ فيها مع الذات غير معقول، لأن المبدأ في اسم الزمان كالمقتل هو
القتل، والذات فيه الزمان، وفي اسم المكان المكان، ولا يعقل اتحاده لا مع الزمان
ولا مع المكان وكذلك الحال في اسم الآلة كالمفتاح، فإن المبدأ فيه وهو الفتح لا
يعقل أن يكون متحدا مع الذات فيه وهو الحديد مثلا، وأوضح من ذلك كله
المشتقات التي تكون مبادئها من الأعيان الخارجية كالبقال والتامر واللابن وما
شاكل ذلك، فإن المبدأ في الأول البقل، وفي الثاني التمر، وفي الثالث اللبن، ومن
الواضح أن شيئا من هذه المبادئ لا يعقل أن يتحد مع الذات.
والخلاصة: أنا لو سلمنا الوصف متحد مع موضوعه في الوعاء المناسب له من
الذهن أو الخارج بلحاظ أن الوصف شأن من شؤون الموصوف ومن حدود
وجوده، فلا نسلم اتحاده مع زمانه أو مكانه أو آلته وغير ذلك من ملابساته (1).
ويمكن نقده أيضا، فإن لحاظ المبدأ قائما بموضوعه قيام صدور أو حلول إنما
هو باعتبار أنه متلبس به بنحو من أنحاء التلبس من الصدوري أو الحلولي، ولا
يمكن تحققه بدون ذلك، وهذا الملاك موجود بالنسبة إلى زمانه ومكانه وآلته،
بداهة أن المبدأ كما هو بحاجة إلى فاعل ما كذلك بحاجة إلى زمان ومكان وآله،
لأن كل فعل زماني لا يعقل أن يوجد بدون شئ من ذلك، وعلى هذا فالمبدأ كما
أنه قائم بالفاعل قيام صدور أو حلول، كذلك إنه قائم بظرف الزمان أو المكان

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 280.
365

قيام المظروف بالظرف أو بالآلة قيام ذيها بها، غاية الأمر أن قيامه بالفاعل
يكون على أحد النحوين المذكورين، وقيامه بالزمان والمكان والآلة على نحو
واحد، وهو قيام المظروف بالظرف وقيام ذي الآلة بها، مثلا القتل مبدأ للقتل،
فإنه كما يكون وصفا لموضوعه وهو القائل، يكون وصفا لزمانه ومكانه أيضا،
والفتح في المفتاح فإنه كما يكون وصفا لموضوعه وهو الفاتح، يكون وصفا لآلته
أيضا وهي الحديد وهكذا، وأما المبدأ في مثل اللابن والتامر والبقال ونحو ذلك،
فهو ليس من الأعيان الخارجية، بل هو من الحرف، ومن هنا يصدق التامر
واللابن والبقال على الشخص حقيقة وإن لم يكن مشغولا به فعلا، بل كان
مسافرا أو نائما أو غير ذلك، كأصحاب الملكات من المجتهد والمهندس والطبيب
والبناء والنجار والخياط وما شاكل ذلك، ومن الواضح أن المهن والحرف
أوصاف لأربابها كالأعراض التي هي أوصاف لمعروضاتها.
فالنتيجة أنه لا فرق بين أسماء الأزمنة والأمكنة والآلة وبين سائر المشتقات،
فكما أن المبدأ في تلك المشتقات وصف من أوصاف الذات وقائم بها فكذلك في
هذه الأسماء، غاية الأمر أن قيامه بها هناك قيام صدور أو حلول، وأما قيامه بها
هنا قيام المظروف بالظرف وقيام ذي الآلة بها. هذا،
وقد أجيب عن ذلك بأنه يمكن التخلص عن هذا الاعتراض بافتراض أن
المبدأ في أسماء الأزمنة والأمكنة ليس هو الحدث، بل المحلية والمعرضية للحدث
التي تكون نسبتها إلى الزمان والمكان نسبة العرض إلى موضوعه (1).
وفيه: أنه لا يمكن الالتزام به، لوضوح أن المبدأ في مثل المقتل القتل
لا المعرضية والمحلية، نعم المعرضية صفة للذات المنتزعة من وقوع المبدأ فيها

(1) بحوث في علم الأصول 1: 326.
366

لا أنها مبدأ.
إلى هنا قد تبين أن تعليقات السيد الأستاذ قدس سره على ما ذكره المحقق النائيني من
أن صحة حمل المشتق على الذات لا تتوقف على أخذ مفهومها فيه وإن كانت
قابلة للمناقشة في صيغها الخاصة، إلا أن المجموع من حيث المجموع يدل على
أن ما أفاده قدس سره غير صحيح، لأن وجود العرض إذا كان مباينا لوجود الجوهر
في الخارج، فلا يكفي مجرد قيامه به خارجا وعروضه عليه في صحة الحمل
بعد تغايرهما وجودا.
لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أنه لا يمكن حمل المشتق
على الذات على القول ببساطة مفهومه، فلذلك لا مناص من الالتزام بالقول بأن
مفهومه مركب من الذات المبهمة المعراة عن جميع الخصوصيات العرضية والمبدأ،
فيصح حينئذ حمله عليها، ويكون من حمل الطبيعي على فرده في الخارج على ما
تقدم تفصيله في ضمن البحوث السالفة.
ثم إن هنا قولا ثالثا في مقابل القول بالبساطة والتركيب، وهو أن مادة
المشتق موضوعة لطبيعي الحدث، وهيئته موضوعة للنسبة بينه وبين الذات،
وأما الذات فهي غير مأخوذة في مدلوله، وقد اختار هذا القول المحقق العراقي قدس سره
وأفاد في وجه ذلك أن الاستقراء في وضع الهيئات بشتى أنواعها وأشكالها من
الهيئات الأفرادية والهيئات التركيبية في اللغات، يشهد بأن كل هيئة موضوعة
بإزاء النسبة، ومن الواضح أن هيئة المشتق لا تكون خارجة عنها، ونتيجة ذلك
أن مادة المشتق موضوعة بإزاء الحدث، وهيئته موضوعة بإزاء النسبة أي نسبة
الحدث إلى الذات، فالذات خارجة عن مدلولها، وحيث إنه ملتفت إلى أن هناك
إشكالا متجه عليه على أساس هذا القول وهو أن معنى المشتق على هذا معنى
367

حرفي فلا يصح حمله على الذات، مع أن صحة حمله عليها من الواضحات
الأولية، فلهذا حاول دفع هذا الاشكال عنه وعلاج هذه النقطة بمحاولتين:
المحاولة الأولى: أن هيئة المشتق وإن كانت موضوعة بإزاء نسبة المادة إلى
الذات، إلا أن النسبة بما أنها متقومة ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها في
الذهن أو الخارج واستحالة قيامها بطرف واحد، فهي تدل على الذات بالدلالة
الالتزامية، بملاك أنها أحد طرفي مدلولها الوضعي، وعليه فصحة حمله على
الذات إما هي بلحاظ مدلوله الالتزامي دون المطابقي.
المحاولة الثانية: أن مدلول هيئة المشتق بما أنه النسبة الاتحادية بين الذات
والمبدأ، فلا مغايرة بينها وبين الذات في الخارج، والتغاير بينهما إنما هو في الذهن،
وعلى هذا فالنسبة متحدة مع الذات في الخارج ومتغايرة معها في الذهن، وهذا
هو ملاك صحة حمل المشتق على الذات (1).
ولنأخذ بالنقد على كلتا المحاولتين:
أما المحاولة الأولى فيرد عليها أنه لا شبهة في أن المشتق في مثل قولنا (زيد
عالم) محمول على (زيد) بماله من المعنى الموضوع له، لا أنه مستعمل في مدلوله
الالتزامي مجازا وهو محمول عليه، لوضوح أنه لا فرق بين أن يكون المشتق
محمولا في قولنا (زيد عالم) وبين أن لا يكون محمولا كما في قولنا (جاء عالم)
فان (العالم) في كلام المثالين مستعمل في معنى واحد، لا أنه في المثال الأول
مستعمل في مدلوله الالتزامي مجازا دون الثاني.
فالنتيجة أن المشتق سواء أكان محمولا في القضية أم لا، فهو مستعمل في معناه

(1) نهاية الأفكار 1: 143، ونقله عنه في بحوث في علم الأصول 1: 327.
368

الموضوع له، لا أنه إذا كان محمولا في القضية، فمستعمل في مدلوله الالتزامي
مجازا، وإذا لم يكن محمولا فيها، فمستعمل في مدلوله المطابقي، فإنه خلاف
الضرورة عرفا.
هذا إضافة إلى أن لازم ذلك صحة حمل المصدر على الذات، بناء على المشهور
من أن هيئة المصدر موضوعة للنسبة بين الذات والحدث، وحينئذ فتكون
الذات مدلولا التزاميا للمصدر، فيصح عندئذ حمله على الذات بلحاظ مدلوله
الالتزامي، مع أن حمله على الذات غير صحيح حتى على المشهور، بل هو قدس سره
أيضا لا يرى صحة حمله على الذات.
وقد أجاب عن ذلك بعض المحققين قدس سره بأن المشتق الذي يدل بالدلالة
الالتزامية على أخذ الذات طرفا للنسبة لا يدل على أنها طرف لها بنحو المقيد،
يعني ذات متلبسة بالمبدأ، أو بنحو القيد يعني مبدأ لذات، والذي يجدي في صحة
الحمل هو الأول دون الثاني (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن أخذ الذات طرفا للنسبة بنحو المقيد لا
يحتاج إلى عناية زائدة، بل هو على القاعدة، باعتبار أن المبدأ وصف من أوصاف
الذات وعرض من أعراضها في المرتبة السابقة عليه، وما يعرض عليها فبطبيعة
الحال يكون من حالاتها وقيودها منها المبدأ، وأما العكس وهو أن يكون المبدأ
مقيدا والذات قيدا له، فهو بحاجة إلى عناية زائدة، وعلى هذا فبطبيعة الحال يدل
المشتق بالدلالة الالتزامية على أن الذات المأخوذة طرفا للنسبة مأخوذة بنحو
المقيد دون القيد، ولا فرق بين أن تكون مأخوذة في مدلوله المطابقي أو
الالتزامي، فإنه على كلا التقديرين يكون أخذها بنحو المقيد يعني ذات متلبسة

(1) بحوث في علم الأصول 1: 328.
369

بالمبدأ لا بنحو القيد يعني مبدأ الذات، فإنه يشبه الأكل من القفاء، فإذن
يكون المنساق والمتبادر من كون الذات طرفا للنسبة، كونها طرفا لها بنحو المقيد
كما هو مقتضى طبع القضية.
وأما المحاولة الثانية فهي لا ترجع إلى معنى محصل.
أما أولا فلأن الكلام في المقام في صحة حمل المشتق على الموضوع في القضية
وعدم صحته إذا لم تؤخذ الذات في مدلوله، وأما وضع المشتق بإزاء النسبة بين
الذات والمبدأ، فهو لا يرتبط بذلك ولا يعالج المشكلة، لأن المبدأ إن كان متحدا
مع الذات في الخارج صح حمله عليها لمكان الاتحاد، لا من جهة أن المشتق
موضوع للنسبة الاتحادية، وإن كان مغايرا معها فيه لم يصح حمله عليها، لمكان
المغايرة وإن كان المشتق موضوعا بإزاء النسبة المذكورة.
وثانيا إنه قدس سره إن أراد بالنسبة الاتحادية النسبة بين الذات والمبدأ إذا كانتا
متحدتين في الخارج، فيرد عليه أن النسبة حينئذ لا تتصور بينهما، لأنها متقومة
ذاتا وحقيقة بشخص وجود طرفيها المتغايرين في الذهن أو الخارج، وإن أراد
بها النسبة بينهما في الذهن وأنها متحدة مع طرفيها في الخارج إذا كانا متحدين
فيه، فيرد عليه أنها لا تعقل أن تتحد مع طرفيها فيه، لأنها إذا كانت متقومة ذاتا
بشخص وجود طرفيها في الذهن يستحيل أن تتحد معهما وجودا في الخارج،
وإن أراد بها أن النسبة بما أنها متقومة بالذات والحقيقة بشخص وجود طرفيها،
على أساس أنهما من المقومات الذاتية لها وبمثابة الجنس والفصل للنوع، فلا
محالة تكون متحدة معهما، فيرد عليه أن تقومها بهما غير تقوم النوع بالجنس
والفصل، لأن معنى تقوم النوع لهما أنهما تمام الذات له، ومعنى تقوم النسبة
بطرفيها أنها بذاتها وحقيقتها بما أنها تعلقية يستحيل تحققها بدون طرفيها، لا أن
370

طرفيها تمام الذات لها.
فالنتيجة أن ما ذكره قدس سره من أن هيئة المشتق موضوعة للنسبة الاتحادية بين
الذات والمبدأ لا يرجع إلى معنى معقول.
هذا كله مضافا إلى أن المنساق والمتبادر من المشتق عرفا عند الاطلاق هو
الذات المتلبسة بالمبدأ لا غير.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن الصحيح من الأقوال في
المسألة، هو القول بأن مدلول المشتق مركب من الذات والمبدأ والنسبة، هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى إن المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الذات والشئ
بنحو الابهام بالنسبة إلى كل خصوصية من الخصوصيات العرضية، بحيث لم
تلحظ فيه أي خصوصية من تلك الخصوصيات ما عدا قيام المبدأ بها إجمالا وإن
كان قيامه بها بنحو العينية، ومن هنا يصدق على الواجب والممتنع والممكن
بجميع أقسامه من جواهره واعراضه وانتزاعياته واعتبارياته، ولا فرق في ذلك
بين أن يكون وضع المشتق نوعيا كما هو الظاهر أو شخصيا بنحو الوضع العام
والموضوع له العام.
نتيجة البحث أمور:
الأول: أن المراد من الحال المأخوذ في عنوان النزاع في المسألة ليس زمان
الحال والنطق في مقابل زمان الماضي والمضارع، فإن الزمان غير مأخوذ في
مدلول المشتق، وما قيل من أن المتبادر من مثل قولنا (زيد عالم)، (بكر عادل)
ونحوهما هو تلبس الذات بالمبدأ في زمان النطق، وهذا التبادر دليل على أنه
مأخوذ في مدلول المشتق، مدفوع بأنه - مضافا إلى أن هذا التبادر مستند إلى
وقوع المشتق في ضمن الجملة، لا إلى ظهوره في نفسه - لا يمكن أن يكون زمان
371

النطق مأخوذا في مدلوله، لا مفهومه بالحمل الأولي لأنه ليس بزمان، ولا واقعه
بالحمل الشائع لأنه أمر تصديقي، ولا يعقل تقييد المدلول التصوري بقيد
تصديقي، لاستحالة الانتقال إليه بانتقال تصوري، ومن هنا يظهر أنه لا يمكن أن
يكون المأخوذ في مدلول المشتق زمان الجري والاسناد أيضا بنفس الملاك.
الثاني: أن المراد بالحال هو فعلية تلبس الذات بالمبدأ وواجديتها له، وحيث
إن فعلية التلبس أمر زماني، فلا بد أن يقع في زمان ما.
الثالث: أن محل النزاع في أن مفهوم المشتق بسيط أو مركب، إنما هو بلحاظ
عالم الواقع والتحليل العقلي لا بلحاظ عالم الادراك والتصور الساذج، لأن
البساطة الادراكية لحاظا تجتمع مع كون المفهوم مركبا واقعا وحقيقة، وما يظهر
من المحقق الخراساني قدس سره من أن المراد من البساطة في محل النزاع البساطة بحسب
الادراك والتصور لا بحسب الواقع والتحليل العقلي، غريب جدا كما تقدم.
الرابع: أن ما ذكره المحقق النائيني قدس سره - من أن مفهوم المشتق لو كان مركبا من
الذات والمبدأ، فلا محالة تكون النسبة بينهما داخلة فيه، وعندئذ فلا بد من
الالتزام بكون المشتق مبنيا لا معربا لمكان المشابهة - غير تام، لأن كون المشتق
معربا إنما هو من جهة مادته التي هي معنى اسمي، ولا يشبه الحرف من هذه
الجهة، وإنما يشبه الحرف من جهة هيئته، وهذه الجهة غير دخيلة في إعرابه.
الخامس: تخيل أن أخذ الذات في مدلول المشتق إنما هو من جهة أنه لا يمكن
حمله عليها بدون ذلك، وأما إذا أمكن بدونه من جهة أخرى وهي لحاظه لا
بشرط، فلا موجب لأخذها فيه، لأنه لغو، قد تقدم فساده، لأن أخذ شئ في
المعنى الموضوع له مقام الوضع إنما هو من جهة أن الحاجة تدعو إلى ذلك في مقام
التفهيم والتفهم لا من أجل صحة الحمل، فإنها من صفات المعنى وليست من
372

دواعي الوضع، هذا إضافة إلى أن المبدأ إذا كان مغايرا للذات وجودا في
الخارج، فلا أثر للحاظه لا بشرط، فإنه لا يغير الواقع عما كان عليه من المغايرة
إلى الاتحاد، لأنها ليست بالاعتبار حتى تنتفي باعتبار آخر.
السادس: أن الذات لو كانت مأخوذة في مفهوم المشتق، لزم أخذ النسبة بينها
وبين المبدأ فيه أيضا، ولازم ذلك اشتمال جملة واحدة كجملة (زيد عالم) على
نسبتين في عرض واحد، وهو مستحيل، ولكن قد تقدم أن الجملة المذكورة لا
تشتمل إلا على نسبة واحدة واقعية، وهي النسبة بين زيد وعالم في وعائها، وأما
المشتق إذا كان مفهومه مركبا، فهو مشتمل على نسبة تحليلية لا واقعية، وهي
ليست في عرض النسبة الواقعية.
السابع: أن القول بأن صحة إطلاق المشتق على المبدأ وحده كإطلاق الأبيض
على البياض والموجود على الوجود وإطلاق العالم والقادر على الله عز وجل،
دليل على أن الذات غير مأخوذ في مفهوم المشتق غير تام، لأنه مبني على أن
الذات المأخوذة في مفهومه لا بد أن تكون مغايرة للمبدأ خارجا، ولكن تقدم أنه
تكفي المغايرة بينهما مفهوما وإن كان المبدأ عين الذات خارجا، كما في موارد الهلية
البسيطة والصفات العليا الذاتية له تعالى.
الثامن: أنه لا يلزم من أخذ الذات في مفهوم المشتق التكرار، كما ذكره
صاحب الكفاية قدس سره.
التاسع: أن أخذ مفهوم الشئ في مدلول المشتق لا يوجب انقلاب القضية
الممكنة إلى قضية ضرورية، كما عن صاحب الفصول قدس سره لأن الانقلاب مبني على
أن يكون المحمول في القضية طبيعي الشئ بنحو لا بشرط، والمفروض أنه
الشئ المقيد، وعليه فإن كان ثبوت القيد الموضوع ضروريا فالقضية
373

ضرورية وإن كان ممكنا فالقضية ممكنة، فلا انقلاب في البين.
العاشر: أن ما قيل - من أخذ مفهوم الشئ في مدلول المشتق وإن لم يوجب
الانقلاب إلا أن أخذ واقع الشئ فيه يوجب الانقلاب، كما في مثل قولنا
(الانسان كاتب)، فإنه يؤول إلى قولنا (الانسان إنسان له الكتابة)، وحمل
الانسان على الانسان ضروري، لأنه من حمل الشئ على نفسه - غير صحيح،
لأنه مبني على أن يكون القيد في مثل المثال مأخوذا بنحو المعرفية والمشيرية
بدون أن يكون له دخل في المحمول أصلا، وهذا كما ترى، ضرورة أنه لا شبهة
في أن قيد الكتابة في المثال ملحوظ بنحو الموضوعية، وأن المحمول هو
الانسان المقيد بالكتابة لا طبيعي الانسان، فإذن لا فرق بين أن يكون المأخوذ
في مدلول المشتق مفهوم الشئ أو المأخوذ فيه واقعه، فعلى كلا التقديرين
لا يلزم الانقلاب.
الحادي عشر: أن ما ذكر من أخذ واقع الشئ في مدلول المشتق يؤدي إلى
انحلال القضية الواحدة إلى قضيتين: إحداهما ضرورية والأخرى ممكنة مبني
على أحد الأمرين، وقد علقنا على كليهما معا كما تقدم.
الثاني عشر: أن ما ذكره المحقق الشريف من أن المأخوذ في مدلول المشتق إن
كان مصداق الشئ، لزم انقلاب القضية الممكنة إلى قضية ضرورية، وإن كان
مفهوم الشئ، لزم دخول العرض العام في الفصل، ولكن كلا الاشكالين غير تام
على تفصيل قد سبق.
الثالث عشر: أن الشئ عرض عام للأشياء بكافة أنواعها من الواجب
والممكن والممتنع، لا أنه جنس الأجناس كما ذكره المحقق النائيني قدس سره، بداهة أنه
لا يعقل وجود مانع ذاتي بين جميع الأشياء كذلك.
374

الرابع عشر: أن الميزان في العرض العام أن تكون دائرة معروضه أوسع من
دائرة معروض العرض الخاص نسبيا، باعتبار أن العموم والخصوص فيهما أمر
نسبي لا مطلق، فيمكن أن يكون شئ واحد عرضا عاما بالنسبة إلى موضوع
وخاصا بالنسبة إلى موضوع آخر، فما ذكره المحقق النائيني قدس سره من أن الميزان في
العرض العام أن يكون معروضه جنسا قريبا كان أم بعيدا، والميزان في العرض
الخاص أن يكون معروضه نوعا، فلا مبرر له.
الخامس عشر: أن محل الكلام في أن مفهوم المشتق بسيط أو مركب بما أنه
في مدلوله اللغوي العرفي، فلا يلزم من أخذ مفهوم الشئ فيه دخول العرض
العام في الفصل الحقيقي.
السادس عشر: أن الناطق بما له من المعنى اللغوي لا يصلح أن يكون فصلا
حقيقيا للانسان، ولا فرق في ذلك بين أن يكون بسيطا أو مركبا، لأن المبدأ فيه
وهو النطق إما بمعنى النطق الظاهري أو بمعنى الادراك الباطني، وعلى كلا
التقديرين، فلا يصلح أن يكون ذاتيا للانسان، وحينئذ فلا يلزم من أخذ مفهوم
الشئ في مدلوله دخول العرض العام في الفصل.
السابع عشر: أنه إذا فرض عدم إمكان أخذ الذات في مدلول المشتق، فلا
مانع من أخذ النسبة فيه مع المبدأ، بأن يكون موضوعا للمبدأ ونسبته إلى الذات
مع خروج الذات عن مدلوله الوضعي.
الثامن عشر: الصحيح أن المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الشئ بالنحو
المبهم والمعرى عن جميع الخصوصيات العرضية ما عدا قيام المبدأ به.
التاسع عشر: أنه لا يصح حمل المبدأ على الذات، لأنه مغاير لها وجودا، وما
ذكره المحقق النائيني قدس سره - من المحاولة لتصحيح حمله عليها باعتباره لا بشرط -
375

غير تام بداهة أن اعتباره لا بشرط لا يوجب انقلابه عما كان عليه من المغايرة
إلى الاتحاد، لأنها ليست باعتبارية لكي تنتفي باعتبار آخر، ولهذا علق عليه
السيد الأستاذ قدس سره بعدة وجوه، ونحن وإن ناقشنا في صيغ تلك الوجوه وأسلوبها
ولكن أصل الاشكال وهو أن لحاظ لا بشرط لا يجدي في صحة الحمل تام ولا
مناص عنه. وإن شئت قلت: إن المبدأ إن لوحظ لا بشرط بنحو الموضوعية فلا
أثر له، ولا يوجب انقلاب الواقع عما كان عليه من المغايرة إلى الاتحاد،
وإن لوحظ بنحو الطريقية فلا واقع لها، لأن المبدأ في الواقع لا يكون متحدا
مع الذات بنحو من أنحاء الاتحاد.
العشرون: أن ما ذهب إليه المحقق العراقي قدس سره - من أن هيئة المشتق موضوعة
بإزاء نسبة المبدأ إلى الذات، وأما الذات فهي خارجة عن معناها الموضوع له - لا
يرجع إلى معنى محصل كما تقدم.
الحادي والعشرون: أن الصحيح من الأقوال في المسألة هو القول بأن المشتق
موضوع للذات المتلبسة بالمبدأ دون القول بالبساطة.
الثاني والعشرون: أن المأخوذ في مدلول المشتق مفهوم الذات بنحو الابهام
دون مصداقه، ولهذا يصدق على الواجب والممتنع والممكن بكافة أنواعه.
مقتضى الأصل العملي في المسألة
يقع الكلام هنا في مقامين:
الأول: في مقتضى الأصل العملي في المبادئ الأصولية.
الثاني: في مقتضى الأصل العملي في المسألة الفقيهة.
376

أما الكلام في المقام الأول، فهل يمكن التعويل على الأصل العملي عند الشك
في تعيين المعنى الموضوع له وأنه المعنى الوسيع أو الضيق بعد فرض عدم تمامية
الأدلة على تعيين الوضع لأحدهما؟
والجواب: أنه لا يمكن، وذلك لأن وضع المشتق لكل من المعنى الأعم
والأخص وإن كان مسبوقا بالعدم، إلا أن استصحاب عدم وضعه للأعم
معارض باستصحاب عدم وضعه للأخص، فيسقطان معا. هذا إضافة إلى أنه لا
يجري في نفسه، لأن استصحاب عدم وضعه للأعم لا يثبت الوضع للأخص
وبالعكس إلا على القول بالأصل المثبت.
ودعوى أن الوضع للمتلبس خاصة بحاجة إلى عناية زائدة دون الوضع
للأعم، وهي لحاظ خصوصية التلبس زائدة على لحاظ المعنى الأعم، وعليه
فلحاظ المعنى الأعم في مقام الوضع متيقن إما مستقلا أو في ضمن الأخص،
والشك إنما هو في لحاظ خصوصية زائدة، وحينئذ فلا مانع من التمسك
باستصحاب عدم أخذ تلك الخصوصية قيدا في مقام الوضع، وبذلك يثبت
الوضع للأعم بناء على ما هو الصحيح من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل الايجاب والسلب، وإن شئت قلت: إن وضع المشتق للمعنى معلوم،
والشك إنما هو في الاطلاق والتقييد، وباستصحاب عدم التقييد يثبت الاطلاق
وينفي المقيد، خاطئة جدا، لأن الشك في المقام إنما هو في أن الواضع في مقام
الوضع، هل لاحظ المعنى الأعم في عالم المفهوم ووضع اللفظ بإزائه أو المعنى
الأخص ووضع اللفظ بإزائه، ومن الطبيعي أن لحاظ كل واحد منهما في عالم
المفهوم مباين للحاظ الآخر فيه، بداهة أن المفاهيم في حد مفهوميتها اللحاظية
متباينات، فلا يعقل فيها الاطلاق والتقييد، فإن ذلك إنما يعقل بلحاظ الصدق في
377

الخارج، لأن المفهومين متباينان دائما بحسب عالم اللحاظ والمفهوم، سواء أكانا
بحسب عالم الصدق والخارج متحدين أم لا، فالنتيجة أن الشك في المقام ليس في
الاطلاق والتقييد، بل الشك في وضع المشتق بإزاء أحد المعنيين المتباينين في
عالم المفهوم واللحاظ.
وبكلمة، إن نسبة المفاهيم بعضها مع بعض بلحاظ عالم الصدق والانطباق
خارجا، إما الاتحاد في الوجود الخارجي أو التباين فيه أو العموم من وجه أو
العموم المطلق، وأما بلحاظ عالم المفهوم فهي التباين دائما، لأن الوجود اللحاظي
لكل مفهوم في هذا العالم مباين للوجود اللحاظي لمفهوم آخر فيه.
وعلى هذا فلا يعقل أن يكون لحاظ المعنى الأخص في المقام مشتملا على
لحاظ المعنى الأعم مع خصوصية زائدة، ضرورة أن لحاظ المعنى الأخص هو
وجوده اللحاظي في عالم الذهن بحده، ولحاظ المعنى الأعم هو وجوده اللحاظي
فيه كذلك، وهما وجودان متباينان في هذا العالم، فالنتيجة أن الجامع والمتلبس
خاصة وإن كان متحدين بحسب عالم الصدق في الخارج إلا أنهما متباينان بحسب
عالم اللحاظ والمفهوم.
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن أصالة عدم لحاظ الخصوصية تجري في
المقام وتثبت بها الوضع للأعم، إلا أن ذلك لا يجدي في ترتب الأثر الشرعي على
المسألة، فإنه إنما يترتب على الظهور لمكان حجيته لا على الوضع، وإثبات
الظهور بإثبات الوضع بالاستصحاب من الأصل المثبت.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو التمسك بالأصل العملي في المسألة الفقهية،
فقد ذكر المحقق الخراساني قدس سره أنه يختلف باختلاف الموارد التي نشك
فيها حدوث الحكم بعد انقضاء المبدأ عن الذات يرجع فيها إلى أصالة البراءة، كما
378

إذا فرضنا أن زيدا كان عالما ثم زال عنه العلم، وبعد ذلك ورد في الدليل (أكرم
كل عالم) فشككنا في وجوب إكرام زيد لاحتمال كون المشتق موضوعا للأعم.
وأما في الموارد التي نشك فيها في بقاء الحكم بعد حدوثه وثبوته، فالمرجع
فيه هو الاستصحاب كما إذا كان زيد عالما حينما أمر المولى بوجوب إكرام
كل عالم، ثم بعد ذلك زال عنه العلم وأصبح جاهلا لسبب أو آخر، ففي مثل
ذلك لا محالة يكون الشك في بقاء الحكم، لاحتمال كون المشتق موضوعا للأعم،
فإذن يستصحب بقاؤه (1).
وقد علق على ذلك التفصيل السيد الأستاذ قدس سره، وأفاد أنه لا فرق بين الموارد
التي يكون الشك فيها في حدوث الحكم من الأول والموارد التي يكون الشك فيها
في بقاء الحكم بعد حدوثه، فإن المرجع في جميع هذه الموارد أصالة البراءة، أما في
موارد الشك في حدوث التكليف فعدم جريانه فيها واضح، وأما في موارد الشك
في البقاء، فبناء على ما قويناه في باب الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات
الحكمية خلافا للمشهور فالأمر فيها أيضا كذلك، وأما على المسلك المشهور بين
الأصحاب من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، فالظاهر أنه لا يجري
في المقام أيضا، وذلك لاختصاص جريانه بما إذا كان مفهوم اللفظ متعينا
ومعلوما من حيث السعة والضيق وكان الشك متمحضا في سعة الحكم المجعول
وضيقه، كالشك في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال،
فإن المرجع فيه هو استصحاب بقاء الحرمة إلى أن تغتسل، أو الشك في بقاء
نجاسة الماء المتغير بأحد أوصاف النجس بعد زوال تغيره في نفسه، أو في بقاء
نجاسة الماء المتمم كرا بناء على نجاسة الماء القليل بالملاقاة، فإن المرجع في جميع

(1) كفاية الأصول: 45.
379

ذلك، هو استصحاب بقاء النجاسة وبه يثبت سعتها.
وأما إذا لم يكن مفهوم اللفظ متعينا ومعلوما، بأن يكون منشأ الشك في الحكم
سعة وضيقا هو الشك في المفهوم كذلك، فلا يجري الاستصحاب فيه، لا في
الحكم ولا في الموضوع.
أما في الأول فلأن المعتبر في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة مع
القضية المشكوك فيها موضوعا ومحمولا، بداهة أنه لا يصدق نقض اليقين
بالشك مع اختلاف القضيتين في الموضوع أو المحمول، وفي الشبهات المفهومية
حيث لم يحرز الاتحاد بينهما موضوعا، فلا يمكن التمسك بالاستصحاب الحكمي،
كما إذا شك في بقاء وجوب صلاة العصر أو الصوم بعد استتار القرص وقبل
ذهاب الحمرة المشرقية عن قمة الرأس من جهة الشك في مفهوم المغرب سعة
وضيقا وأن المراد به الاستتار أو ذهاب الحمرة، فعلى الأول لم يبق موضوع
الوجوب، وعلى الثاني فالموضوع بعد باق، وبما أنا لم نحرز بقاء الموضوع فلم
نحرز الاتحاد بين القضيتين فيه، وبدونه فلا يمكن جريان الاستصحاب الحكمي.
وأما في الثاني وهو استصحاب بقاء الموضوع فلعدم الشك في شئ خارجا لا
في انقلاب شئ ولا في حدوث حادث، فإن استتار القرض عن الأفق معلوم لنا
حسا، وذهاب الحمرة غير متحقق كذلك، فإذن لا شك في المقام إلا في وضع لفظ
المغرب وتردد مفهومه بين السعة والضيق، وقد مر أنه لا أصل يمكن التعويل
عليه في تعيين الوضع سعة وضيقا.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فان الشبهة فيه مفهومية، والمعنى الموضوع له
فيها مردد بين خصوص المتلبس أو الأعم منه ومن المنقضي، فالاستصحاب
الحكمي فيه لا يجري للشك في بقاء موضوعه، لأن موضوع الحكم إن كان هو
380

الجامع كان باقيا، وإن كان خصوص المتلبس كان منتفيا، وحيث إنا لم نحرز أن
المشتق موضوع الأول أو الثاني، فبطبيعة الحال نشك في بقاء موضوعه، ومعه لا
نحرز الاتحاد بين القضيتين، فلا يمكن جريان الاستصحاب الحكمي.
وأما الاستصحاب الموضوعي، فهو لا يجري في المقام لعدم الشك في شئ
خارجا مع قطع النظر عن وضع المشتق وتردد مفهومه بين الأعم والأخص، وقد
مر أنه لا أصل في المقام يمكن التعويل عليه لتعيين وضعه لأحدهما.
وبكلمة، إن المعتبر في جريان الاستصحاب أمران: اليقين السابق والشك
اللاحق مع وحدة متعلقهما في الخارج، والشك في المقام غير موجود، فإن تلبس
زيد بالمبدأ سابقا متيقن، وكذلك انقضاؤه عنه فعلا، فلا شك في شئ منهما،
والشك في المقام إنما هو في وضع المشتق للأعم أو للأخص، وقد عرفت أنه لا
أصل فيه يرجع إليه في تعيينه، فالنتيجة أن المرجع في المسألة أصالة البراءة
مطلقا، أي سواء أكان الانقضاء قبل ثبوت الحكم أم بعده، ولا وجه لما ذكره
المحقق صاحب الكفاية قدس سره من التفصيل بينهما أصلا (1). هذا،
ويمكن المناقشة فيه، وذلك لأن هناك مسألتين:
الأولى: مسألة شبهة المفهومية، يعني تردد معنى اللفظ وضعا بين
السعة والضيق.
الثانية: مسألة مدى تشخيص موضوع الاستصحاب بقاء.
والظاهر أن إحدى المسألتين لا ترتبط بالأخرى، فان المرجع في تعيين
المسألة الأولى إحدى العلائم المذكورة في محلها، منها التبادر، وأما في الثانية فهو

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 243.
381

المناسبات الارتكازية العرفية بين الحكم وموضوعه، فان الخصوصية المأخوذة
في موضوع الحكم المستصحب بمناسبة الحكم والموضوع الارتكازية، تارة
تكون من الخصوصيات التعليلية غير المقومة، وأخرى تكون من الخصوصيات
التقييدية المقومة، فعلى الأول لا ينتفي الموضوع بانتفائها، وعلى الثاني ينتفي
بانتفائها، وعلى هذا فخصوصية تلبس الذات بالمبدأ إن كانت بمناسبة الحكم
والموضوع الارتكازية من الجهات التعليلة لم ينتف الموضوع بانتفائها، ولا فرق
في ذلك ين كون المشتق موضوعا للأعم أو الخصوص المتلبس، فان وضعه
لخصوص المتلبس شئ ومدى تشخيص العرف موضوع الحكم بالمناسبات
الارتكازية العرفية شئ آخر، فيمكن أن يكون المشتق موضوعا للذات
المتلبسة بالمبدأ خاصة وموضوع الحكم بمدى تشخيص العرف بالمناسبات
المذكورة هو الذات، وخصوصية التلبس من الجهات التعليلية التي لا ينتفي
الموضوع بانتفائها لا التقييدية، فإذا ورد في الدليل (الماء المتغير نجس) كان
المتفاهم العرفي منه بالمناسبات الارتكازية العرفية أن موضوع النجس طبيعي
الماء، وخصوصية التغير من الجهات التعليلية لا التقييدية، وحينئذ ينتفي
الموضوع بانتفائها، ولهذا لا مانع من استصحاب بقاء نجاسته بعد زوال التغير،
بلا فرق في ذلك بين أن يكون المشتق موضوعا للأعم أو للمتلبس خاصة، كما
أنه لا فرق بين أن يكون الوارد في لسان الدليل (الماء المتغير نجس) أو الوارد في
لسانه (الماء إذا تغير الخ)، فإنه على كلا التقديرين يكون المتفاهم العرفي منه
بمناسبة الحكم والموضوع أن خصوصية التغير من الجهات التعليلية لا التقييدية،
بينما إذا ورد في الدليل (أكرم كل عالم) مثلا كان المتفاهم العرفي منه بمناسبة الحكم
والموضوع أن خصوصية التلبس فيه من الجهات التقييدية لا التعليلية، بلا فرق
في ذلك بين أن يكون المشتق موضوعا للأعم أو للمتلبس خاصة، فإنه على
382

الأول وإن كان عنوان العالم يصدق على الذات بعد زوال حيثية التلبس عنها، إلا
أن هذا الصدق إنما هو بلحاظ الوضع لا بلحاظ مدى تشخيص العرف موضوع
الحكم، على أساس المناسبات المذكورة، فإنه على ضوء تلك المناسبات مقيد
بحيثية التلبس الفعلي وينتفي بانتفائها.
وبكلمة، إن العرف يفهم من الدليل المذكور بمناسبة الحكم والموضوع
الارتكازية أن التلبس بالعلم تمام الموضوع والملاك للحكم، لا أنه مجرد علة
والموضوع هو الذات، ولهذا يدور الحكم بنظرهم مدار العلم وجودا وعدما
حدوثا وبقاءا، لا مدار صدق عنوان المشتق، فإنه يصدق على الذات على القول
بالوضع للأعم بعد انقضاء العلم عنها أيضا، ومع ذلك لا يكون موضوعا
للحكم، حيث إنه متقوم عندهم بحيثية وجود العلم فيها بالفعل، لا بحيثية صدق
عنوان العالم عليها كذلك وإن كان العلم منقضيا عنها.
فالنتيجة أنه لا بد في كل مورد من موارد الشبهة المفهومية من ملاحظة
الخصوصية المفقودة فيه، وأنها بنظر العرف ومدى تشخيصه، هل هي من
الحيثيات التعليلية لموضوع الحكم أو التقييدية، ولا يدور ذلك مدار أنها
مأخوذة في المعنى الموضوع له أو لا، فإنه على الرغم من تردد الوضع بين السعة
والضيق، فالعرف، يشخص على ضوء المناسبات المذكورة أن الحيثية الزائلة عن
الموضوع حيثية تعليلية فحسب أو تقييدية كذلك، فما ذكره السيد الأستاذ قدس سره من
عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية إذا كان منشؤها الشبهة المفهومية
مبني على نقطة خاطئة، وهي أن موضوع الحكم في القضية يدور سعة وضيقا
مدار الوضع كذلك، فإذا كان الوضع مجهولا من هذه الناحية، كان موضوع
الحكم أيضا مجهولا، ولكن قد عرفت أن الأمر ليس ذلك، فإن تشخيص
383

موضوع الحكم منوط بمدى فهم العرف على ضوء المناسبات العرفية ولا يرتبط
بالوضع، فإذن ملاك جريان الاستصحاب فيها وعدم جريانه شئ آخر لا كون
الشبهة مفهومية وعدمها.
الفرق بين المشتق والمبدأ
أما على القول بأن مفهوم المشتق مركب من الذات والمبدأ والنسبة، فهو
واضح ولا كلام فيه، وأما على القول بأن مفهوم المشتق بسيط، فالمعروف بين
الفلاسفة هو أن الفرق بين المبدأ والمشتق إنما هو باعتبار اللا بشرطية والبشرط
لائية، فمدلول المشتق ملحوظ لا بشرط ومدلول المادة ملحوظ بشرط لا، ولهذا
يصح حمل الأول على الذات دون الثاني.
بيان ذلك أن ماهية العرض والعرضي (المبدأ والمشتق) واحدة بالذات
والحقيقة، والفرق بينهما بالاعتبار واللحاظ، من جهة أن لماهية العرض حيثيتين
واقعيتين: الأولى حيثية وجوده في نفسه، والثانية حيثية وجوده لموضوعه،
فهي تارة تلحظ من الحيثية الأولى وبما هي موجودة في حيالها واستقلالها وأنها
شئ من الأشياء في قبال وجودات موضوعاتها، فهي بهذا الاعتبار واللحاظ
عرض ومبدأ (بشرط لا) وغير محمول على موضوعه لمباينته معه في الخارج،
وملاك صحة الحمل الاتحاد في الوجود، وتارة أخرى تلحظ بما هي في الواقع
ونفس الأمر وأن وجودها في نفسه عين وجودها لموضوعها وأنه ظهوره وطور
من أطواره ومرتبة من وجوده، وظهور الشئ لا يباينه، فهي بهذا الاعتبار
عرضي ومشتق (لا بشرط)، فيصح حملها عليه.
وبنفس هذا البيان قد جروا في مقام الفرق بين الجنس والمادة والفصل
384

والصورة، حيث قالوا إن التركيب بين المادة والصورة تركيب اتحادي لا
انضمامي، لأنهما موجودتان في الخارج بوجود واحد حقيقة، وهو وجود النوع
كالانسان ونحوه، لأن المركبات الحقيقية لا بد لها من جهة وحدة حقيقية، وإلا
لكان التركيب بين أجزائها انضماميا، ومن الطبيعي أن الوحدة الحقيقية لا تحصل
إلا إذا كان أحد الجزأين قوة صرفة والآخر فعلية محضة، فإن الاتحاد الحقيقي بين
الجزأين فعليين أو الجزأين كليهما بالقوة غير معقول، لإباء فعلية عن فعلية
أخرى، وكذلك كل قوة عن قوة أخرى، ولذلك صح حمل كل من الجنس على
الفصل وبالعكس، وحمل كل منهما على النوع، وكذا العكس، ومن الواضح أن
التركيب لو كان انضماميا لم يصح الحمل، لمكان المباينة والمغايرة، وعلى هذا
فالتحليل بين أجزاء المركبات الحقيقية لا محالة تحليل عقلي، بمعنى أن العقل يحلل
تلك الجهة الواحدة إلى ما به الاشتراك وهو الجنس، وما به الامتياز وهو
الفصل، فالجنس هو الجهة الجامعة والمشتركة بين هذه الحقيقة الواحدة وبين
سائر الحقائق، ويعبر عن تلك الجهة الجامعة بالجنس بلحاظ الاجزاء الذهنية
التحليلية، وبالمادة بلحاظ الأجزاء الخارجية التحليلية، وأما الفصل فهو الجهة
المميزة بين تلك الحقيقة الواحدة وبقية الحقائق، ويعبر عن تلك الجهة المميزة
بالفصل بلحاظ عالم الذهن، وبالصورة بلحاظ عالم الخارج، وليس ذلك إلا من
جهة أن اللحاظ مختلف.
فقد تلاحظ جهة الاشتراك في الخارج بما لها من المرتبة الخاصة والدرجة
المخصوصة من الوجود الساري وهي كونها قوة صرفة ومادة محضة، وقد
تلاحظ جهة الامتياز كذلك بما لها من المرتبة الخاصة من ذلك الوجود الساري
وهي كونها فعلية وصورة، وحيث إن الدرجتين والمرتبتين بما هما درجتان
ومرتبتان متباينتان، فلا يصح حمل إحداهما على الأخرى، ولا حمل كلتيهما على
385

النوع، لمكان المباينة ولمغايرة، والمعتبر في صحة الحمل الاتحاد في الوجود.
وقد تلاحظ كل من جهتي الاشتراك والامتياز بما لهما من الاتحاد الوجودي في
الواقع، نظرا إلى شمول الوجود الواحد لهما، وهو الساري من الصورة وما به
الفعلية إلى المادة وما به القوة، ومتحدتان في الخارج بوحدة حقيقية، لأن
التركيب بينهما اتحادي لا انضمامي كما مر، وبهذا اللحاظ صح الحمل كما أنه بهذا
اللحاظ يعبر عن جهة الاشتراك بالجنس، وعن جهة الامتياز بالفصل، وهذا هو
مرادهم من لحاظهما لا بشرط.
فالنتيجة أن ما به الاشتراك إن لوحظ لا بشرط، فهو جنس قابل للحمل على
الفصل والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو مادة غير قابلة للحمل على الصورة
ولا على النوع، وكذا ما به الامتياز، فإنه إن لوحظ لا بشرط، فهو فصل قابل
للحمل على الجنس والنوع، وإن لوحظ بشرط لا فهو صورة غير قابل للحمل
على المادة ولا على النوع.
ولنا تعليق على كلا الموردين:
أما المورد الأول فقد تقدم موسعا أن العرض مباين للجوهر وجودا في
الخارج، فلا يكونان موجودين بوجود واحد، بل بوجودين متباينين سنخا،
والمعتبر في صحة الحمل الاتحاد في الوجود والتغاير في المفهوم، ولحاظ العرض
لا بشرط واعتباره كذلك لا يجعله متحدا مع الجوهر وجودا خارجا، كيف فإن
اللحاظ والاعتبار لا يخرج عن عالم الذهن والاعتبار إلى عالم الواقع حتى يكون
مؤثرا فيه، فإذا كان الغرض مباينا للجوهر وجودا في الخارج، فلا أثر لاعتباره
لا بشرط، فإنه لا يوجب انقلابه عما كان عليه في الواقع من المغايرة، كما أنه لو
كان متحدا معه فيه بأن يكون من حدود وجوده، فلا أثر لاعتباره بشرط لا،
386

فإنه لا يوجب انقلابه عما كان عليه من الاتحاد، وتمام الكلام هناك.
وأما المورد الثاني فهو يختلف عن المورد الأول، فإن الحيثيتين الواقعيتين
لماهية العرض إنما هما بلحاظ وجوده في الخارج، فإن وجوده منه في نفسه عين
وجوده لموضوعه، وهذا بخلاف الحيثيتين الواقعيتين لجهتي الاشتراك والامتياز،
فإن إحداهما بلحاظ عالم الذهن، والأخرى بلحاظ عالم الخارج، فإن الجنس
والفصل من الأجزاء التحليلية الذهنية لماهية النوع، والمادة والصورة من
الأجزاء التحليلية الخارجية لها، وعلى أساس ذلك فالجنس والفصل وإن كانا
متغايرين مفهوما في عالم الذهن إلا أنهما متحدان في عالم الخارج وموجودان فيه
بوجود واحد، فلذلك صح حمل أحدهما على الآخر وحمل كليهما على النوع
لمكان الاتحاد، وهذا بخلاف المادة والصورة، فإنهما حيث كانتا من الأجزاء
التحليلية الخارجية، فتكونان متغايرتين في الخارج، لأن المادة فيه متمثلة في
القوة المحضة، ويعبر عنها بالهيولى أيضا التي تقبل أية صورة ترد عليها، فلذلك
لا يصح حمل إحداهما على الأخرى ولا حمل كلتيهما على النوع لمكان المغايرة.
وبكلمة، إن النوع كالانسان مثلا وإن كان موجودا في الخارج بوجود واحد
حقيقة، إلا أنه في الواقع وبتحليل من العقل مركب من جزأين متباينين في
الخارج، أحدهما المادة وهي القوة الصرفة، والآخر الصورة وهي الفعلية المحضة،
فالمادة بحدها الشخصي مباينة للصورة كذلك، وحيث إن المادة قوة صرفة فتقبل
أي صورة ترد عليها، فلذلك يكون التركيب بينهما حقيقيا باعتبار أن فعليتها إنما
هي بصورتها، إذ لو كان كلاهما فعليا أو بالقوة لم يعقل أن يكون التركيب حقيقيا
لإباء كل فعلية عن فعلية أخرى وكل قوة عن قوة أخرى، فلهذا لا يصح حمل
الصورة على المادة وبالعكس، ولا حمل كل واحدة منهما على النوع، ضرورة
387

عدم صحة حمل المركب على أجزائه ولا حمل أجزائه عليه، بلا فرق في ذلك بين
الأجزاء التحليلية كما في المركب الحقيقي والأجزاء العينية كما في المركب
الاعتباري، وهذا بخلاف الجنس والفصل، فإنهما وإن كانا من أجزاء الانسان إلا
أنهما من أجزائه الذهنية، فيكونان متباينين مفهوما في عالم الذهن ومتحدين
وجودا في عالم الخارج، فلهذا يصح حمل أحدهما على الآخر وحمل كل منهما على
النوع، ومن هنا يظهر أن الفرق بين الجنس والفصل والمادة والصورة إنما هو في
الوعاء، فوعاء الجنس والفصل عالم الذهن، ووعاء المادة والصورة عالم الخارج،
فلهذا يكون الجنس والفصل متباينين في الذهن لا في الخارج، والمادة والصورة
متباينتين في الخارج.
وبذلك يتضح أن الفرق بين الجنس والفصل والمادة والصورة ليس من جهة
أن ما به الاشتراك إن لوحظ لا بشرط فهو جنس، وإن لوحظ بشرط لا فهو
مادة، وكذلك ما به الامتياز، فإنه إن لوحظ لا بشرط فهو فصل، وإن لوحظ
بشرط لا فهو صورة، ضرورة أن ما به الاشتراك إن كان متحدا مع ما به الامتياز
في الخارج، فلا أثر للحاظه بشرط لا، لأنه لا يغير الشئ عما كان عليه في الواقع
من الاتحاد، وإن كان مغايرا معه وجودا فيه، فلا أثر للحاظه لا بشرط، فإنه لا
يوجب انقلاب الشئ عما كان عليه في الواقع من المغايرة، هذا إذا كان المراد من
لحاظ اللا بشرطية والشرط لائية اللحاظ بنحو الموضوعية.
وأما لو كان المراد من لحاظهما اللحاظ بنحو الطريقية والمعرفية المحضة فهو
صحيح، إذ لا مانع من جعل اللا بشرطية عنوانا ومعرفا للجنس والفصل،
باعتبار أنهما متحدان في الخارج وجودا ومتغايران مفهوما، والبشرط لائية
عنوانا معرفا للمادة والصورة، باعتبار أنهما متغايران في الخارج وجودا، فإذن
388

عنوان اللا بشرطية والبشرط لائية في المقام من العناوين المعرفة والمميزة، ولكن
إرادة ذلك من كلمات الفلاسفة وغيرهم مما لا يمكن، لأن الظاهر منها أن اللا
بشرطية والبشرط لائية ملحوظتان بنحو الموضوعية لا بنحو الطريقية والمعرفية
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد اتضح مما ذكرناه الفرق بين العرض والجوهر وبين
الجنس والفصل والمادة والصورة، فإن العرض مباين للجوهر وجودا في الخارج
فلا يمكن حمله عليه، ولا أثر للحاظه لا بشرط كما مر، وأما الجنس والفصل فهما
متحدان في الخارج وجودا، وهذا ليس من جهة أن ما به الاشتراك وما به
الامتياز كليهما ملحوظان لا بشرط، لما مر من أنه لا أثر لذلك، بل من جهة أنهما
جزءان تحليليان في وعاء الذهن ومتحدان في وعاء الخارج، وأما المادة والصورة
فهما متغايران في الخارج وجودا، وهذا لا من جهة أن ما به الاشتراك وما به
الامتياز كليهما ملحوظان بشرط لا، بل من جهة أنهما جزءان تحليليان لحقيقة
واحدة في وعاء الخارج، فلهذا تكونان متباينتين فيه، فالنتيجة أن تحليل جهة
الوحدة في المركبات الحقيقية إلى ما به الاشتراك وما به الامتياز إن كان في وعاء
الذهن، صح حمل أحدهما على الآخر لمكان الاتحاد بينهما في الخارج، وإن كان في
وعاء الخارج، لم يصح الحمل لمكان المغايرة بينهما فيه.
تلبس الذات بالمبدأ
هل يقتضي هذا التلبس التغاير بين المبدأ والذات مفهوما ووجودا أو مفهوما
فحسب أو لا هذا ولا ذاك، فيه وجوه بل أقوال:
القول الأول: أنه يقتضي التغاير بينهما مفهوما ووجودا.
389

القول الثاني: أنه يقتضي التغاير بينهما مفهوما فحسب.
القول الثالث: أنه لا يقتضي التغاير بينهما أصلا لا وجودا ولا مفهوما.
أما القول الأول: فقد مال إليه صاحب الفصول قدس سره، ولذلك التزم في الصفات
الذاتية العليا الجارية على ذاته تعالى بالنقل والتجوز، من جهة عدم المغايرة بين
مبادئ تلك الصفات والذات في الخارج، فلا تعقل النسبة بينهما فيه (1).
ولكن لا يمكن المساعدة على هذا القول من وجوه:
الأول: أن المشتق لو كان موضوعا للذات المتلبسة بالمبدأ في الخارج، كان
اللازم من ذلك أن يكون المدلول الوضعي له مدلولا تصديقيا، ولا يمكن الالتزام
به إلا على القول بإن حقيقة الوضع هي التعهد، كما اختاره السيد الأستاذ قدس سره،
وأما على سائر الأقوال في مسألة الوضع، فالمدلول الوضعي للفظ مدلول
تصوري لا تصديقي.
الثاني: أن الألفاظ كما ذكرناه غير مرة لم توضع للموجودات الخارجية ولا
للموجودات الذهنية، وإنما وضعت بإزاء طبيعي المعنى الذي قد يوجد في الذهن
وقد يوجد في الخارج، فالوجود الخارجي كالوجود الذهني، فكما لا يمكن أن
يكون تمام المعين الموضوع له، فكذلك لا يمكن أن يكون قيدا له.
الثالث: مع الاغماض عن ذلك إلا أن لازم وضع المشتق للموجود الخارجي
أن لا يكون له مدلول وضعي عند كذب المتكلم كما إذا قال (زيد عالم) وهو ليس
بعالم في الواقع، فإنه لا مدلول له وضعا حينئذ، لأن مدلوله الوضعي تلبس الذات
بالمبدأ في الخارج، وهو غير متحقق إذا كان الكلام كاذبا، وهو كما ترى.

(1) الفصول: فصل المشتق، التنبيه الثالث.
390

الرابع: أن لازم ذلك عدم صحة إطلاق الصفات العليا الذاتية على ذاته تعالى
ولا يعقل تلبيها بها، باعتبار أن المبدأ فيها عين الذات وجودا وعينا، ولا
مغايرة بينهما خارجا، فلذلك التزم قدس سره بالنقل والتجوز فيها، وهو لا يرجع إلى
معنى محصل، فإنه إن أراد قدس سره نقل مبادئ هذه الصفات من المعنى المعهود منها
إلى معنى ضده، ففيه أنه لا يمكن، بداهة أنه لا يصلح إطلاق ضد العلم عليه تعالى
أو ضد القدرة، وإن أراد بذلك معنى زائد على ذاته تعالى كعلم زيد وقدرته، ففيه
أنه لا يمكن أن يراد من صفاته العليا الذاتية معنى زائد، وإلا لزم أن يكون
عروضها على ذاته تعالى وتلبسها بها بحاجة إلى علة، وهو كما ترى، أو فقل إنها
لو كانت زائدة على ذاته تعالى، فلا تخلو من أن تكون قديمة أو حديثة، فعلى
الأول لزم تعدد القدماء، وعلى الثاني فمضافا إلى أن عروضها على ذاته يكون
بحاجة إلى علة يلزم كون ذاته محلا للحوادث والعوارض، وكلاهما مستحيل كما
حقق في محله، وإن أراد قدس سره معنى آخر لا هذا ولا ذاك، فهو - مضافا إلى أنه مجهول
- مقطوع البطلان، ضرورة أن إطلاق العالم عليه تعالى إنما هو بمعناه المعهود، وكذا
سائر صفاته تعالى لا مجرد لقلقة اللسان.
فالنتيجة أن هذا القول لا يرجع إلى معنى محصل.
وأما القول الثاني وهو تلبس الذات بالمبدأ لا يقتضي أكثر من التغاير بينهما
مفهوما، فقد أختاره المحقق الخراساني قدس سره
والمحقق النائيني قدس سره، بتقريب أنه يكفي
في صدق تلبس الذات بالمبدأ كون المبدأ مغايرا لها مفهوما وإن كان عينها
خارجا، كما في الصفات العليا لذاته تعالى، فإن المبدأ فيها عين ذاته سبحانه
خارجا ولكنه مغاير لها مفهوما، لأن مفهوم المبدأ كالعلم أو القدرة مغاير لمفهوم
ذاته تعالى، وتكفي المغايرة المفهومية في صحة الحمل والجري، ولا يلزم معها
391

حمل الشئ على نفسه (1). هذا،
ويمكن المناقشة فيه بأن الاشكالات المتقدمة وإن لم ترد على هذا القول، إلا
أنه لا يحل المشكلة فيما إذا كان المبدأ متحدا مع الذات وجودا ومفهوما معا، كما في
مثل قولنا (الوجود موجود)، (البياض أبيض)، (الضوء مضئ) وهكذا،
فإن المبدأ والذات معا في الموجود هو الوجود وفي المضئ الضوء وفي الأبيض
البياض وهكذا بدون أية مغايرة بينهما، مع أن اطلاق المشتق في هذه الموارد
حقيقي كإطلاقه في غيرها من الموارد، ولا فرق بين قولنا (زيد موجود) وقولنا
(الوجود موجود)، فإن الموجود في كلا المثالين مستعمل في معنى واحد، وهذا
دليل على أنه لا يعتبر في تلبس الذات بالمبدأ التغاير بينهما أصلا، هذا.
ولكن هذه المناقشة لا تخلو عن إشكال بل منع، إذ الظاهر أن المغايرة بينهما
ثابتة مفهوما حتى في هذه الأمثلة كما سوف نشير إليه.
وأما القول الثالث: وهو أنه لا يعتبر في تلبس الذات بالمبدأ المغايرة بينهما
لا وجودا ولا مفهوما، فقد اختاره السيد الأستاذ قدس سره، بتقريب أن المراد بالتلبس
والقيام ليس قيام العرض بمعروضه وتلبسه به، وإلا لاختص البحث عن ذلك
بالمشتقات التي تكون مبادئها من المقولات التسع، ولا يشمل ما كان المبدأ فيه
من الاعتباريات أو الانتزاعيات أو كان عين الذات خارجا كما في الصفات العليا
الذاتية لله تعالى، مع أن البحث عنه عام، بل المراد واجدية الذات للمبدأ في قبال
فقدانها، وهي تختلف باختلاف الموارد، فمرة يكون الشئ واحدا لما هو مغاير له
وجودا ومفهوما، كما هو الحال في غالب المشتقات، وأخرى يكون واجدا لما هو
عينه خارجا وإن كان مغايرا له مفهوما، كواجدية ذاته تعالى لصفاته العليا

(1) كفاية الأصول: 56، أجود التقريرات 1: 125.
392

الذاتية، وثالثة يكون واجدا لما هو متحد معه وجودا ومفهوما، كواجدية الشئ
لنفسه، فإنها نحو من الواجدية، بل هو أتم مراتبها وأشد من واجدية الشئ
لغيره، لأن الوجود موجود بالذات، وغير موجود به، فلذلك يكون صدق
الموجود على الوجود أولى من صدقه على غيره.
فالنتيجة أن المراد من التلبس الواجدية، وهي كما تصدق واجدية الشئ
لغيره كذلك تصدق على واجدية الشئ لنفسه، فالواجدية بهذا المعنى وإن كانت
خارجة عن الفهم العرفي إلا أن الكلام ليس في أنها من المتفاهم العرفي، بل
الكلام في تطبيق المفهوم العرفي من المشتق وهو تلبس الذات بالمبدأ عليها،
وهو بيد العقل لا العرف (1). هذا،
ولكن لا يمكن المساعدة على هذا القول، وذلك لأن تلبس الذات بالمبدأ
ووجدانها له إنما يكون بلحاظ عالم العين والخارج، فإنه فيه قد يكون عرضيا،
سواء كان بنحو الصدور أو الحلول، وقد يكون ذاتيا من الذاتي باب البرهان،
وقد يكون ذاتيا من الذاتي باب الكليات كتلبس الانسان بالحيوانية والناطقية،
وقد يكون عينيا كما في وجدان ذاته تعالى للصفات العليا الكمالية وكما في مثل
قولنا (الوجود موجود) وهكذا، فإن صدق التلبس والواجدية في الجميع بنحو
الحقيقة، بل صدقه على الوجود أتم وأقوى من صدقه على غيره، باعتبار أن كل
شئ موجود بالوجود، والوجود بنفسه، وأما بلحاظ عالم الذهن فلا بد من
التغاير بينهما فيه مفهوما، بداهة أن الشئ الواحد وجودا ومفهوما لا يعقل فيه
التلبس والواجدية، لأنه نسبة بين الذات والمبدأ، فإذا كان المبدأ عين الذات
خارجا، فلا بد من فرض النسبة بينهما في الذهن، وإلا فلا يعقل التلبس

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 291.
393

والواجدية، فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ قدس سره من أن المبدأ عين الذات
وجودا ومفهوما في مثل قولك (الوجود موجود) لا يصح، إذ لا شبهة في أن
مفهوم الوجود غير مفهوم الموجود في الذهن.
هل يعتبر في صدق المشتق حقيقة إسناده إلى ما هو له؟
لا يعتبر ذلك إذ لا مانع مع استعمال المشتق في معناه الموضوع له على الرغم
من كون اسناده إلى غير ما هو له، ومن هنا لا فرق بين قولنا (الماء جار) وقولنا
(الميزاب جار)، فكما أن كلمة الجاري مستعملة في معناها الموضوع له في المثال
الأول فكذلك في المثال الثاني، والمجاز فيه إنما هو في الاسناد والتطبيق لا في
الكلمة، مثلا لو قيل (زيد أسد) فلفظ الأسد استعمل في معناه الموضوع له وهو
الحيوان المفترس، فيكون حقيقة، ولكن يلحظ في تطبيقه على زيد نحو من
التوسعة والعناية، فيكون المجاز في التطبيق لا في الكلمة، فلا ملازمة بين المجاز في
الاسناد والمجاز في الكلمة، فإن كلمة الجاري في مثل قولنا (النهار جار) أو
(الميزاب جار) قد استعملت في معناها الموضوع له وهو المتلبس بالجريان،
والمجاز إنما هو في إسناد الجري إلى النهر أو الميزاب، هذا من دون فرق بين أن
يكون مفهوم المشتق بسيطا أو مركبا.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره صاحب الفصول قدس سره من أنه يعتبر في صدق المشتق
واستعماله فيما وضع له حقيقة أن يكون الاسناد والتطبيق أيضا حقيقيا مبني على
الخلط بين المجاز في الأسناد والمجاز في الكلمة (1)، ولا ملازمة بينهما كما عرفت.
نتائج البحث عدة نقاط:

(1) الفصول، فصل المشتق: التنبيه الثالث.
394

الأولى: ما إذا شك في أن المشتق موضوع لخصوص المتلبس بالمبدأ أو للأعم
ولم يقم دليل على وضعه للأول ولا للثاني، فهل هناك أصل موضوعي في المسألة
يمكن التعويل عليه في إثبات وضعه لأحدهما؟
والجواب أنه ليس في المسألة أصل موضوعي يمكن الاعتماد عليه في إثباتها،
وعلى هذا فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي، وهل هو أصالة البراءة أو
الاستصحاب أو التفصيل، فيه قولان:
فذهب المحقق الخراساني قدس سره إلى التفصيل بين ما إذا كان الشك في أصل
حدوث الحكم وما إذا كان الشك في بقائه بعد حدوثه، فعلى الأول يرجع إلى
أصالة البراءة، وعلى الثاني إلى الاستصحاب. هذا،
وأشكل عليه السيد الأستاذ قدس سره أولا بأن الشبهة في المقام بما أنها حكمية، فلا
يجري الاستصحاب فيها لمكان المعارضة باستصحاب عدم الجعل.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك أن الاستصحاب فيها إنما يجري إذا لم يكن منشأ
الشك فيها الشبهة المفهومية، إلا فلا يجري، وحيث إن منشأ الشك في المقام
الشبهة المفهومية فلا يجري الاستصحاب فيه.
ولكن قد تقدم أن مجرد كون الشبهة مفهومية لا يمنع عن جريان الاستصحاب
لأنه منوط بمدى تشخيص العرف بقاء موضوعه على ضوء المناسبات العرفية
الارتكازية، ومن هنا قد تكون الخصوصية الزائلة في الشبهة المفهومية بنظر
العرف من الحيثية التعليلية لا التقييدية، وحينئذ فلا يكون الشك في بقاء
الموضوع لكي يمنع عن جريان الاستصحاب.
الثانية: المشهور بين الفلاسفة هو أن الفرق بين المبدأ والمشتق بناء على كون
395

مدلول المشتق بسيطا إنما هو بالاعتبار، فإن المعنى بالذات والحقيقة فيهما واحد،
ولكن ذلك المعنى الواحد إن اعتبر لا بشرط، فهو مشتق وقابل للحمل على
الذات، وإن اعتبر بشرط لا، فهو مبدأ وغير قابل للحمل عليها، وقالوا بمثل
ذلك في مقام الفرق بين الجنس والفصل والمادة والصورة، فإن ما به الاشتراك في
المركبات الحقيقية إن لوحظ لا بشرط، فهو جنس وقابل للحمل على الفصل
والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو مادة غير قابلة للحمل على الصورة ولا على
النوع، وكذلك ما به الامتياز فيها، فإنه إن لوحظ لا بشرط، فهو فصل قابل
للحمل على الجنس والنوع، وإن لوحظ بشرط لا، فهو صورة غير قابلة للحمل
على المادة ولا على النوع.
وفيه ما تقدم من أن لحاظ المعنى لا بشرط لا يغيره عما كان عليه في الواقع من
المغايرة، وأما صحة حمل الجنس على الفصل وبالعكس وعدم صحة حمل المادة
على الصورة وبالعكس، فليست من جهة لحاظ جهتي الاشتراك والامتياز لا
بشرط وبشرط لا بنحو الموضوعية، بل من جهة أن الجنس والفصل بما أنهما
من الأجزاء الذهنية، فهما متغايران في الذهن ومتحدان في الخارج، فلذلك
صح حمل أحدهما على الآخر، وأما المادة والصورة فبما أنهما من الأجزاء
الخارجية، فتكونان متباينتين في الخارج، فلهذا لم يصح حمل إحداهما
على الأخرى وبالعكس.
الثالثة: أن المراد من تلبس الذات بالمبدأ الذي هو معنى المشتق واجدية
الذات للمبدأ، وهي تشمل واجدية الشئ لنفسه أيضا، بل هي من أتم وأقوى
مراتب الواجدية، فلذلك يكون إطلاق المشتق في جميع الموارد على حد سواء،
بلا فرق بين أن يكون المبدأ مغايرا للذات مفهوما ووجودا أو مغايرا لها مفهوما
396

فحسب، كما في موارد الهلية البسيطة والصفات الذاتية لله تعالى.
الرابعة: أنه لا يعتبر في استعمال المشتق في معناه الحقيقي أن يكون إسناده إلى
ما هو له، ومن هنا لا فرق بين قولنا (الماء جار) وقولنا (الميزاب جار)، فإن
كلمة الجاري في كلا المثالين مستعملة في معناها الحقيقي، مع أن الاسناد في الأول
حقيقي وفي الثاني مجازي، فلا ملازمة بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة.
397