الكتاب: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول
المؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
الجزء: ١
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: أشرف على طبعه وتصحيحه : محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٥ - ٢٠٠٤م
المطبعة: ستاره
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
ردمك:
ملاحظات:

بداية الوصول
في شرح كفاية الأصول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
(قدس سره)
أشرف على طبعة وتصحيحه
محمد عبد الحكيم الموسوي البكاء
الجزء الأول
مقدمة 1

الكتاب: بداية الوصول / الجزء الأول
مؤلف: الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي (قدس سره)
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
الطبعة: الأولى 1425 ه‍. ق / 2004 م
المطبعة: مطبعة ستاره
عدد النسخ: (1000) نسخه
جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر
مقدمة 2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة 3

المؤلف في سطور:
هو الشيخ محمد طاهر بن الشيخ عبد الله بن الشيخ راضي - الفقيه المعروف - بن الشيخ محسن بن الشيخ خضر المالكي الجناجي.
ولد في النجف الأشرف عام (1322 ه‍ - 1904 م)، ونشأ فيها على والده - وكان من فضلاء أسرته -، وتعلم القراءة والكتابة في إحدى مدارس النجف الحديثة.
انخرط في الدراسة الدينية، فدرس مقدماتها على الشيخ قاسم محي الدين والشيخ محمد طه الكرمي الحويزي ودرس السطوح على الشيخ المشكيني والميرزا فتاح وبدأ مرحلة البحث الخارج بالحضور لدى الاعلام الميرزا حسين النائيني - لمدة يسيره - والشيخ محمد حسين الأصفهاني - الذي انطبع بآرائه العلمية وتأثر بها - والشيخ آغا ضياء العراقي والشيخ محمد حسن المظفر والشيخ محمد رضا آل ياسين - وكان من خواصه - والسيد عبد الهادي الشيرازي وكتب جملة من التقريرات بحوزتهم في الفقه والأصول.
منحه إجازة الاجتهاد عام (1357 ه‍) أستاذاه العالمان الشيخ محمد حسين الأصفهاني والشيخ آغا ضياء العراقي فضلا عن الإمام السيد أبي الحسن الموسوي ومما جاء في إجازة الشيخ الأصفهاني " وبعد فان العالم المؤيد والفاضل المسدد صفوة الأعلام ومصباح الظلام وملاذ الإسلام البدر الزاهر جناب الشيخ محمد طاهر حفيد شيخ الطائفة الشيخ راضي (قده) ممن صرف عمره الشريف في تحصيل قواعد الدين الحنيف.. حتى فاز ولله الحمد بالمراد وحاز درجة الاجتهاد، فله دام علاه العمل بما يستنبطه من الاحكام.. وقد أجزته أيضا أن يروي عني كلما تصح لي روايته.. ".
مقدمة 5

وله في دراسة الفلسفة وقراءة مصادرها والتوغل في فهم أسرارها، وحضر درسي السيد ميرزا حسن البجنوردي والشيخ ملا صدرا وكتب بعض بحوثهما. وله آثار متفرقة في ذلك، طبع بعضها باسمه والأخرى باسم غيره.
لازم في مقتبل دراسته الأستاذ الشيخ محمد طه الكرمي فأفاد منه في مجال الأدب وبدأ يمارس كتابة الشعر ويشارك في حلبات النجف الشعرية حتى عد قي الطليعة من
شعراء الغري ولم يترك النظم حتى في أواخر أيامه، غير أنه آثر الانصراف عن إذاعته - أخيرا - إلا لخواصه.
درس - عبر سني حياته - مختلف العلوم المقررة ضمن مراحل دراسته الحوزوية ومن العقدين الأخيرين من عمره، كانت له حلقة درس - على مستوى الخارج - تخرج فيها عدد من الأفاضل ممن يشار إليهم بالبنان.
عمل في بعض الأنشطة الدينية والاجتماعية وآزر الكثير من دعاة الإصلاح وكان عضوا عاملا في جمعية علماء النجف التي تشكلت بعد ثورة 14 تموز 1958 لنشر المفاهيم الدينية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ذكر له مترجموه من المؤلفات:
1. بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - وهو هذا الكتاب.
2. شرح المختصر النافع للمحقق الحلي - وهو شرح استدلالي.
3. تقريرات درس أستاذه المحقق الأصفهاني الغروي.
4. تقريرات درس أستاذه المحقق الشيخ آل ياسين.
5. تعليقه على مكاسب الشيخ الأنصاري.
6. مجموعة كتاباته وقد نشر بعضها في مجلات النجف.
7. مجموعة شعره.
ومن مصادر ترجمة حياته:
1. الأدب الجديد: للسيد محمد جمال الهاشمي.
2. دراسات أدبية: للأستاذ غالب الناهي.
3. شعراء الغري: للأستاذ علي الخاقاني.
مقدمة 6

4. ماضي النجف وحاضرها: للشيخ جعفر محبوبة.
5. معارف الرجال: للشيخ محمد حرز الدين.
6. معجم رجال الفكر والأدب في النجف: للدكتور محمد هادي الأميني.
7. المنتخب من أعلام الفكر والأدب: للباحث كاظم الفتلاوي.
8. موسوعة أعلام العراق: للأستاذ حميد المطبعي.
9. موسوعة النجف الأشرف: باشراف جعفر الدجيلي.
اختاره الله إلى جواره عام (1400 ه‍ - 1980 م) وشيع بإجلال واحترام.
مقدمة 7

المقدمة
مقدمة 11

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد: فقد رتبته على مقدمة، ومقاصد، وخاتمة.
أما المقدمة، ففي بيان أمور:
الأول: إن موضوع كل علم: وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية: أي بلا واسطة في العروض (1) هو نفس موضوعات مسائله عينا
1



(1) وهو العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الإصفهاني (قدس سره)، نهاية الدراية: ج 1، ص 4 حجري.
6

وما يتحد معها خارجا، وان كان يغايرها مفهوما تغاير الكلي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده (1).
7

والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة (1) جمعها إشتراكها في الدخل في الغرض الذي لأجله دون هذا العلم (2)، فلذا قد يتداخل بعض
8

العلوم في بعض المسائل مما كان له دخل في مهمين لأجل كل منهما دون علم على حدة فيصير من مسائل العلمين (1).
9

لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما (1).
10

فإنه يقال: مضافا إلى بعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصح لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمين وأخرى لأحدهما. وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين علمين كانا مشتركين في مسالة أو أزيد في جملة من مسائلهما المختلفة لأجل مهمين مما لا يخفى (1).
وقد انقدح بما ذكرنا: إن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كل باب، بل كل مسألة، من كل علم علما على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل. فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد (2)،
11

كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد (1).
13

ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم، وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبر عنه بكل ما دل عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلا (1).
وقد انقدح بذلك: ان موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة (2)، لا خصوص الأدلة الأربعة بما هي أدلة، بل ولا بما هي هي، ضرورة ان البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنة منها هو نفس قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم
14

البحث في كثير من مباحثها المهمة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجية الخبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلة (1) ورجوع
15

البحث فيهما في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت السنة بالخبر الواحد في مسألة حجية الخبر - كما أفيد - وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال، غير مفيد (1)، فان البحث
16

عن ثبوت الموضوع وما هو مفاد (كان) التامة ليس بحثا عن عوارضه، فإنها مفاد (كان) الناقصة (1).

(1) الظاهر أنها كان الناقصة، وإلا فحق العبارة - بحسب نظري القاصر - ان يكون (لا يقال إن البحث ان كان عن ثبوت الموضوع فقط ومفاد كان التامة لم يكن من مسائل العلم).
17

لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي. وأما الثبوت التعبدي - كما هو المهم في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد (كان) الناقصة (1).

(1) الظاهر أنها (غير).
18

فإنه يقال: نعم، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها. فان الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر، كالسنة المحكية به، وهذا من عوارضه، لا عوارضها، كما لا يخفى.
وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وان كان منها، إلا انه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمل جيدا (1).
19

وأما إذا كان المراد من السنة ما يعم حكايتها، فلأن البحث في تلك المباحث وان كان عن أحوال السنة بهذا المعنى (1)، إلا ان البحث في غير
20

واحد من مسائلها - كمباحث الالفاظ وجملة من غيرها - لا يخص الأدلة، بل يعم غيرها، وان كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى (1).
ويؤيد ذلك تعريف الأصول: بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية (2).
21

وان كان الأولى تعريفه: بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل، بناءا على أن مسألة حجية الظن على الحكومة، ومسائل الأصول العملية (2) في
22

الشبهات الحكمية من الأصول كما هو كذلك، ضرورة انه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمات (1).
الأمر الثاني - الوضع: هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما، ناشئ من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى. وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيني، كما لا يخفى (2).
24

ثم إن الملحوظ حال الوضع اما يكون معنى عاما فيوضع اللفظ له تارة ولأفراده ومصاديقه أخرى، وإما يكون معنى خاصا لا يكاد يصح إلا
25

وضع اللفظ له دون العام، فيكون الاقسام ثلاثة. وذلك لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ افراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة وجه الشيء
معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنه بما هو خاص لا يكون وجها للعام، ولا لسائر الافراد، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له ولا لها أصلا، ولو بوجه.
نعم، ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاما كما كان الموضوع له عاما. وهذا بخلاف ما في وضع العام والموضوع له الخاص، فان الموضوع له - وهي الافراد - لا يكون متصورا إلا بوجهه وعنوانه، وهو العام. وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه، وتصوره بنفسه، ولو كان بسبب تصور امر آخر (1).
26

ولعل خفاء ذلك على بعض الاعلام وعدم تميزه بينهما، كان موجبا لتوهم امكان ثبوت قسم رابع - وهو ان يكون الوضع خاصا مع كون الموضوع له عاما - مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمل (1).
27

ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص، كوضع الاعلام. وكذا الوضع العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس. وأما الوضع العام والموضوع له الخاص (1)، فقد توهم انه وضع الحروف
28

وما الحق بها من الأسماء، كما توهم أيضا ان المستعمل فيه فيها خاص مع كون الموضوع له كالوضع عاما (1).
والتحقيق - حسبما يؤدي اليه النظر الدقيق - ان حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء، وذلك لأن الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح ان كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك، بل كليا، ولذا التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا، وهو كما ترى، وان كانت هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا، حيث إنه لا يكاد يكون المعنى حرفيا إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنه ((ما دل على معنى في غيره))، فالمعنى وان كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا كما لوحظ أولا، ولو كان اللاحظ واحدا. إلا ان هذا اللحاظ لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه، وإلا فلا بد من لحاظ آخر
29

متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة ان تصور المستعمل فيه مما لابد منه في استعمال الالفاظ، وهو كما ترى، مع أنه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات (1)، لامتناع صدق الكلي العقلي عليها حيث لا موطن له إلا
30

الذهن (1) فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد والغاء الخصوصية (2) هذا مع أنه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف، إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء. وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.
وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من)، ولفظ الابتداء - مثلا - إلا الابتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلا، كذلك لا يعتبر
32

في معناها لحاظه في غيرها وآلة. وكما لا يكون لحاظه فيه موجبا لجزئيته، فليكن كذلك فيها (1).
ان قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من)، ولفظ الابتداء مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.
قلت: الفرق بينهما، انما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث إنه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره - كما مرت الإشارة اليه غير مرة. فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، وان اتفقا فيما له الوضع. وقد عرفت
33

بما لا مزيد عليه: ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من خصوصياته ومقوماته (1).

(1) منظومة السبزواري، الإلهيات: ص 27 / حجري.
34



(1) الأولى ان يقال: الموجود في نفسه، لنفسه، بنفسه: وهو الواجب.
(2) وكذلك: الموجود في نفسه، لنفسه، بغيره: وهو الموجود الجوهري.
(3) ومثله الموجود في نفسه، لغيره، بغيره: وهو العرض.
35

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وان اتفقا فيما استعملا فيه فتأمل (1).
36

ثم إنه قد انقدح مما حققناه: انه يمكن ان يقال: ان المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضا عام، وان تشخصه انما نشأ من قبل طور
37

استعمالها، حيث إن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب بها المعنى. والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص، كما
لا يخفى (1).
38

فدعوى: ان المستعمل فيه مثل (هذا) و (هو) و (إياك) انما هو المفرد المذكر، وتشخصه انما جاء من قبل الإشارة أو التخاطب بهذه الالفاظ اليه، فان الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه، غير مجازفة (1).
39

فتلخص مما حققناه: ان التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصا خارجيا، كما في مثل أسماء الإشارة، أو ذهنيا كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما، من غير فرق في ذلك أصلا بين الحروف وأسماء الأجناس. ولعمري، هذا واضح، ولذا ليس في كلام القدماء: من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصا في الحروف عين ولا أثر، وانما ذهب اليه بعض من تأخر، ولعله لتوهم كون قصده بما هو في غيره من خصوصيات الموضوع له، أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على انحائه لا يكاد يكون من شؤونه، وأطواره، وإلا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك. فتأمل في المقام، فإنه دقيق. وقد زل فيه اقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.
الثالث - صحة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هي بالوضع، أو بالطبع؟.. وجهان، بل قولان: أظهرهما انها بالطبع، بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه، ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه، ولو مع ترخيصه. ولا معنى لصحته إلا حسنه. والظاهر أن صحة استعمال اللفظ في نوعه، أو مثله من قبيله، كما تأتي الإشارة إلى تفصيله.
الرابع - لا شبهة في صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب - مثلا - فعل ماض، أو صنفه، كما إذا قيل: زيد في (ضرب زيد) فاعل (1)، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله، ك‍ ضرب في المثال فيما
40

إذا قصد (1).
وقد أشرنا إلى أن صحة الاطلاق كذلك، وحسنه انما كان بالطبع، لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها (2)،
41

والالتزام بوضعها لذلك - كما ترى (1).
وأما إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزءين، كما في الفصول.
بيان ذلك: انه ان اعتبر دلالته على نفسه حينئذ لزم الاتحاد، وإلا لزم تركبها من جزءين، لأن القضية اللفظية على هذا انما تكون حاكية عن المحمول والنسبة لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزءين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين (2).
42

قلت: يمكن ان يقال: انه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتبارا، وان اتحدا ذاتا، فمن حيث إنه لفظ صادر عن لافظه كان دالا، ومن حيث أن نفسه وشخصه مراده كان مدلولا (1) مع أن حديث تركب القضية من
43

جزءين - لولا اعتبار الدلالة في البين - انما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان اجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول فيها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الأمر انه نفس الموضوع لا الحاكي عنه، فافهم، فإنه لا يخلو عن دقة (1). وعلى هذا ليس من باب استعمال اللفظ
44

بشيء (1)، بل يمكن ان يقال: انه ليس أيضا من هذا الباب ما إذا اطلق اللفظ وأريد به نوعه، أو صنفه، فإنه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملا فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجا، قد احضر في ذهنه بلا واسطة حاك، وقد حكم عليه ابتداء بدون واسطة أصلا، لا لفظه، كما لا يخفى (2). فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه بما هو مصداق لكلي اللفظ لا بما هو خصوص جزئيه.
نعم، فيما إذا أريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى.
46

اللهم إلا ان يقال: ان لفظ (ضرب) وان كان فردا له، الا انه إذا قصد به حكايته وجعل عنوانا له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان حينئذ كما إذا قصد به فرد مثله (1).
وبالجملة: فإذا اطلق وأريد به نوعه كما إذا أريد به فرد مثله، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، وان كان فردا منه، وقد حكم في القضية بما يعمه. وان اطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته، فليس من هذا الباب. لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهرا ليست كذلك - كما لا يخفى (2) -، وفيها ما لا يكاد يصح ان يراد منه ذلك مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعم شخص اللفظ، كما في مثل (ضرب فعل ماض) (3).
47

الخامس - لا ريب في كون الالفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه: من أن
قصد المعنى على انحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.. هذا مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف.. مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه، بداهة ان المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند اليه في (ضرب زيد) - مثلا - هو نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان.. مع أنه يلزم كون وضع عامة الالفاظ عاما والموضوع له خاصا، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم اخذ مفهوم الإرادة فيه، كما لا يخفى. وهكذا الحال في طرف الموضوع.
وأما ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي: من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظرا إلى كون الالفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة - كما توهمه بعض الأفاضل -، بل ناظر إلى أن دلالة الالفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية: أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع ارادتها منها. وتتفرع عليها تبعية مقام الاثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنه لولا الثبوت في الواقع لما كان للاثبات والكشف والدلالة مجال، ولذا لابد من احراز كون المتكلم بصدد الإفادة في اثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وان كانت له الدلالة
48

التصورية: أي كون سماعه موجبا لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار (1).
49

ان قلت: على هذا يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء ولم يكن له من اللفظ مراد (1).
قلت: نعم، لا يكون حينئذ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة.
ولعمري! ما أفاده العلمان من التبعية على ما بيناه واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم ان يجعل كلامهما ناظرا
52

إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل فضلا عمن هو علم في التحقيق والتدقيق؟! (1).
53

السادس - لا وجه لتوهم وضع للمركبات غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة اليه بعد وضعها بموادها في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكرا) شخصيا، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص اعرابها نوعيا، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات بمزاياها الخاصة، من تأكيد وحصر وغيرهما، نوعيا، بداهة ان وضعها كذلك واف بتمام المقصود منها - كما لا يخفى - من غير حاجة
54

إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى، تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها علاوة على وضع كل واحد منهما (1).
55

السابع - لا يخفى ان تبادر المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه، وبلا قرينة علامة كونه حقيقية فيه، بداهة انه لولا وضعه له لما تبادر (1).
لا يقال: كيف يكون علامة مع توقفه على العلم بأنه موضوع له كما هو واضح. فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار (2).
فإنه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فان العلم التفصيلي بكونه موضوعا له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الاجمالي الارتكازي به لا التفصيلي، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم.
56

واما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى (1).
ثم إن هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ. وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة فلا يجدي أصالة عدم القرينة في احراز كون الاستناد اليه، لا إليها - كما قيل -، لعدم الدليل على اعتبارها إلا في احراز المراد، لا الاستناد (2).
57

ثم إن عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالا كذلك عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة.
والتفصيل: ان عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى، وبالحمل الشايع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا بنحو من أنحاء الاتحاد علامة كونه من مصاديقه وأفرداه الحقيقية (1)، كما أن صحة سلبه
59

كذلك علامة انه ليس منهما (1)، وان لم نقل: بأن اطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وان التصرف فيه في أمر عقلي كما

(1) راجع كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره) ج 1، ص 28 حجري.
61

صار اليه السكاكي (1).
واستعلام حال اللفظ وانه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر: من التغاير بين الموقوف، والموقوف عليه بالاجمال والتفصيل، أو الإضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمل جيدا (2).
62

ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا (1).
ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، وإلا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة (2)، وزيادة قيد من غير تأويل، أو على وجه
63

الحقيقة، وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا انه حينئذ لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتي التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة انه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره (1).
64

الثامن - انه للفظ أحوال خمسة، وهي: التجوز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والاضمار... لا يكاد يصار إلى أحدها - فيما إذا دار الامر بينه وبين المعنى الحقيقي - إلا بقرينة صارفة عنه اليه. وأما إذا دار الامر بينها، فالأصوليون وان ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها، إلا انها استحسانية لا اعتبار بها، إلا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى (1).
65

التاسع - انه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية، وعدمه على أقوال.
وقبل الخوض في تحقيق الحال، لا بأس بتمهيد مقال، وهو: ان الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له بأن يقصد الحكاية عنه (1) والدلالة عليه

(1) النور: الآية 63.
68

بنفسه لا بالقرينة، وان كان لابد - حينئذ - من نصب قرينة، إلا انه للدلالة على ذلك، لا على إرادة المعنى كما في المجاز. فافهم. وكون استعمال اللفظ فيه كذلك في غير ما وضع له، بلا مراعاة ما اعتبر في المجاز (1)،
70

فلا يكون بحقيقة ولا مجاز.. غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره. وقد عرفت سابقا: أنه في الاستعمالات الشايعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا، فدعوى الوضع التعييني في الالفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدا، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا (1).
71

ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته (1).
ويؤيد ذلك أنه ربما لا تكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية، فأي علاقة بين الصلاة شرعا، والصلاة بمعنى الدعاء، ومجرد اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما، كما لا يخفى (2). هذا كله بناءا على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.
73

وأما بناءا على كونها ثابتة في الشرايع السابقة - كما هو قضية غير واحد من الآيات، مثل قوله تعالى: [كتب عليكم الصيام كما كتب...] وقوله تعالى: [وأذن في الناس بالحج]، وقوله تعالى: [وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا]... إلى غير ذلك - فألفاظها حقائق لغوية لا شرعية، واختلاف الشرايع فيها جزء وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية، إذ لعله كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات، كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا، كما لا يخفى (1).
74

ثم لا يذهب عليك انه مع هذا الاحتمال، لا مجال لدعوى الوثوق، فضلا عن القطع، بكونها حقائق شرعية، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (1)
75

لو سلم دلالتها على الثبوت لولاه (1).
ومنه انقدح حال دعوى الوضع التعيني معه (2). ومع الغض عنه، فالانصاف: ان منع حصوله في زمان الشارع في لسانه، ولسان تابعيه مكابرة.
نعم، حصوله في خصوص لسانه ممنوع. فتأمل (3).
76

وأما الثمرة بين القولين، فتظهر: في لزوم حمل الالفاظ الواقعة في كلام الشارع، بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعية على الثبوت، فيما إذا علم تأخر الاستعمال (1). وفيما إذا جهل التأريخ، ففيه اشكال. وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها
77

بأصالة تأخر الوضع لا دليل على اعتبارها تعبدا، إلا على القول بالأصل المثبت، ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك (1).
78

وأصالة عدم النقل انما كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل، لا في تأخره. فتأمل (1).
العاشر - انه وقع الخلاف: في أن ألفاظ العبادات اسام لخصوص الصحيحة أو الأعم منها؟.
80

وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين يذكر أمور (1):
- منها: انه لا شبهة في تأتي الخلاف، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وفي جريانه على القول بالعدم اشكال (2)،
81

وغاية ما يمكن ان يقال في تصويره: ان النزاع وقع على هذا: في أن الأصل في هذه الالفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة، أو الأعم: بمعنى ان أيهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية، وعدم قرينة أخرى معينة للآخر. وأنت خبير بأنه لا يكاد يصح هذا إلا إذا علم أن العلاقة انما اعتبرت كذلك، وان بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم
82

نصب قرينة أخرى على ارادته، بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معينة أخرى، وأنى لهم باثبات ذلك (1).
83

وقد انقدح بما ذكرنا: تصوير النزاع على ما نسب إلى الباقلاني، وذلك: بان يكون النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها، إلا بالأخرى الدالة على اجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الأجزاء والشرائط، أو هما في الجملة، فلا تغفل (1).
84

ومنها: ان الظاهر: ان الصحة عند الكل بمعنى واحد، وهو التمامية، وتفسيرها باسقاط القضاء - كما عن الفقهاء - أو بموافقة الشريعة - كما عن المتكلمين - أو غير ذلك، إنما هو بالمهم من لوازمها، لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الانظار. وهذا لا يوجب تعدد المعنى، كما
85

لا يوجبه اختلافها بحسب الحالات، من السفر والحضر، والاختيار والاضطرار.... إلى غير ذلك، كما لا يخفى (1).
86

ومنه ينقدح: ان الصحة والفساد أمران إضافيان، فيختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة، وفاسدا بحسب أخرى فتدبر جيدا (1).
87

ومنها: انه لابد على كلا القولين من قدر جامع في البين كان هو المسمى بلفظ كذا (1)، ولا اشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة، وامكان الإشارة اليه بخواصه وآثاره، فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع، فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة - مثلا - بالناهية عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن ونحوهما (2).
88

والاشكال فيه: بان الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا، إذ كل ما فرض جامعا يمكن ان يكون صحيحا وفاسدا، لما عرفت.. ولا أمرا بسيطا، لأنه لا يخلو إما ان يكون هو عنوان المطلوب، أو ملزوما مساويا له.
والأول، غير معقول، لبداهة استحالة اخذ ما لا يتاتى إلا من قبل الطلب في متعلقه، مع لزوم الترادف بين لفظة الصلاة، والمطلوب، وعدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الاجمال حينئذ في المأمور به فيها، وانما الاجمال فيما يتحقق به، وفي مثله لا مجال لها، كما حقق في محله.. مع أن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها (1)، وبهذا يشكل لو كان البسيط هو ملزوم المطلوب
90

أيضا.. مدفوع: بان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتحاد. وفي مثله تجري البراءة، وانما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمرا واحدا خارجيا مسببا عن مركب مردد بين الأقل والأكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل، والوضوء فيما إذا شك في اجزائهما. هذا على الصحيح (1).
92

واما على الأعم، فتصوير الجامع في غاية الاشكال. وما قيل في تصويره أو يقال وجوه.
أحدها - ان يكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة، كالأركان في الصلاة - مثلا - وكان الزائد عليها معتبرا في المأمور به، لا في المسمى. وفيه ما لا يخفى.
93

فان التسمية بها حقيقة لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الأركان، بل وعدم الصدق عليها مع الاخلال بسائر الاجزاء والشرائط عند الأعمى. مع أنه يلزم ان يكون الاستعمال فيما هو المأمور به بأجزائه وشرائطه مجازا عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، لا من باب اطلاق الكلي على الفرد والجزئي - كما هو واضح -، ولا يلتزم به القائل بالأعم (1).
94

فافهم (1).
95

ثانيها - أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا. فصدق الاسم كذلك يكشف عن وجود المسمى، وعدم صدقه عن عدمه.
وفيه، مضافا إلى ما أورد على الأول أخيرا: انه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى فكان شيء واحد داخلا فيه تارة وخارجا عنه أخرى، بل مرددا بين ان يكون، هو الخارج أو غيره عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سيما إذا لوحظ هذا مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات (1).
96

ثالثها - ان يكون وضعها كوضع الأعلام الشخصية، كزيد، فكما لا يضر في التسمية فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزيادته، كذلك فيها.
وفيه: أن الاعلام إنما تكون موضوعة للأشخاص، والتشخص إنما يكون بالوجود الخاص، ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا، وان تغيرت عوارضه من الزيادة والنقصان وغيرهما من الحالات والكيفيات، فكما لا يضر اختلافها في التشخص لا يضر اختلافها في التسمية. وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما كانت موضوعة للمركبات والمقيدات، ولا يكاد يكون موضوعا له إلا ما كان جامعا لشتاتها، وحاويا لمتفرقاتها، كما عرفت في الصحيح منها (1).
98

رابعها - إن ما وضعت له الالفاظ ابتداء هو الصحيح التام الواجد لتمام الأجزاء والشرائط، إلا ان العرف يتسامحون - كما هو ديدنهم - ويطلقون تلك الالفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له منزلة الواجد، فلا يكون مجازا في الكلمة على ما ذهب اليه السكاكي في الاستعارة، بل يمكن دعوى صيرورته حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات من دون حاجة إلى الكثرة والشهرة، للأنس الحاصل من جهة المشابهة في الصورة، أو المشاركة في التأثير، كما في أسامي المعاجين الموضوعة ابتداء لخصوص مركبات واجدة لاجزاء خاصة، حيث يصح اطلاقها على الفاقد لبعض الاجزاء المشابه له صورة والمشارك في المهم أثرا، تنزيلا أو حقيقة.
100

وفيه: انه إنما يتم في مثل أسامي المعاجين وسائر المركبات الخارجية مما يكون الموضوع له فيها ابتداء مركبا خاصا، ولا يكاد يتم في مثل العبادات التي عرفت ان الصحيح منها يختلف حسب اختلاف الحالات وكون الصحيح بحسب حالة فاسدا بحسب حالة أخرى، كما لا يخفى. فتأمل جيدا (1).
101

خامسها - ان يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل المثقال، والحقة، والوزنة... إلى غير ذلك مما لا شبهة في كونها حقيقة في الزائد والناقص في الجملة. فان الواضع وان لاحظ مقدارا خاصا، إلا انه لم يضع له بخصوصه، بل للأعم منه، ومن الزائد والناقص، أو إنه وان خص به أولا، إلا انه بالاستعمال كثيرا فيهما بعناية انهما منه قد صار حقيقة في الأعم ثانيا.
102

وفيه: ان الصحيح - كما عرفت في الوجه السابق - يختلف زيادة ونقيصة، فلا يكون هناك ما يلحظ الزائد والناقص بالقياس عليه كي يوضع اللفظ لما هو الأعم فتدبر جيدا (1).
103

ومنها: ان الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامين، واحتمال كون الموضوع له خاصا بعيد جدا، لاستلزامه كون استعمالها في الجامع في مثل (الصلاة تنهى عن الفحشاء) و (الصلاة معراج المؤمن) و (عمود الدين) و (الصوم جنة من النار) مجازا، أو منع استعمالها فيه في مثلها... وكل منهما بعيد إلى الغاية، كما لا يخفى على أولي النهاية (1).
105

ومنها: ان ثمرة النزاع اجمال الخطاب على قول الصحيحي، وعدم جواز الرجوع إلى اطلاقه في رفع ما إذا شك في جزئية شيء للمأمور به وشرطيته أصلا، لاحتمال دخوله في المسمى - كما لا يخفى -.
وجواز الرجوع اليه في ذلك على قول الاعمي في غير ما احتمل دخوله فيه، مما شك في جزئيته أو شرطيته. نعم، لابد في الرجوع اليه فيما ذكر من كونه واردا مورد البيان، كما لابد منه في الرجوع إلى سائر المطلقات (1). وبدونه لا مرجع أيضا، إلا البراءة، أو الاشتغال على
106

الخلاف في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. وقد انقدح بذلك: ان الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال (1) في موارد اجمال الخطاب،
109

أو اهماله على القولين، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم، والاشتغال على الصحيح (1)، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة مع ذهابهم إلى الصحيح (2).
وربما قيل بظهور الثمرة في النذر أيضا.
قلت: وان كان تظهر فيما لو نذر لمن صلى اعطاء درهم في البر، فيما لو أعطاه لمن صلى، ولو علم بفساد صلاته، لإخلاله بما لا يعتبر في الاسم
110

على الأعم، وعدم البر على الصحيح (1)، إلا انه ليس بثمرة لمثل هذه المسألة، لما عرفت: من أن ثمرة المسألة الأصولية: هي أن تكون نتيجتها واقعة في طريق استنباط الاحكام الفرعية. فافهم (2).
111

وكيف كان، فقد استدل للصحيحي بوجوه:
أحدها: التبادر، ودعوى: ان المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الالفاظ على هذا القول مجملات،
112

فان المنافاة انما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا الوجه مبينة بوجه. وقد عرفت كونها مبينة بغير وجه (1).
113

ثانيها: صحة السلب عن الفاسد بسبب الاخلال ببعض اجزائه، أو شرائطه بالمداقة، وان صح الاطلاق عليه بالعناية (1).
114

ثالثها: الاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار للمسميات، مثل (الصلاة عمود الدين) أو (معراج المؤمن) و (الصوم جنة من النار)..... إلى غير ذلك. أو نفي ماهيتها وطبايعها، مثل (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) ونحوه، مما كان ظاهرا في نفي الحقيقة بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا أو شرطا، وإرادة خصوص الصحيح من الطائفة الأولى، ونفي الصحة من الثانية لشيوع استعمال هذا التركيب في نفي مثل الصحة أو الكمال خلاف الظاهر لا يصار اليه، مع عدم نصب قرينة عليه (1)، بل واستعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع حتى
115



(1) الكافي ج 4: 62 / 1 باب ما جاء في فصل الصوم والصائم من كتاب الصيام.
116



(1) مستدرك الوسائل المجلد الأول: 274 / 5 باب 1 من أبواب القراءة.
117

في مثل (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) مما يعلم أن المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة في مثله أيضا بنحو من العناية، لاعلى الحقيقة، وإلا لما دل على المبالغة. فافهم (1).

(1) الوسائل ج 3: 478 / 1 باب 2 من أبواب أحكام المساجد.
119

رابعها: دعوى القطع: بأن طريقة الواضعين، وديدنهم وضع الالفاظ للمركبات التامة، كما هو قضية الحكمة الداعية اليه. والحاجة وان دعت - أحيانا - إلى استعمالها في الناقص أيضا، إلا انه لا يقتضي ان يكون بنحو الحقيقة، بل ولو كان مسامحة، تنزيلا للفاقد منزلة الواجد.
والظاهر أن الشارع غير متخط عن هذه الطريقة. ولا يخفى ان هذه الدعوى وان كانت غير بعيدة إلا انها قابلة للمنع، فتأمل (1).
120

وقد استدل للأعمى أيضا بوجوه:
منها: تبادر الأعم. وفيه: انه قد عرفت الاشكال في تصوير الجامع الذي لابد منه، فكيف يصح معه دعوى التبادر (1)؟.
121

ومنها: عدم صحة السلب عن الفاسد. وفيه: منع، لما عرفت (1).
ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم. وفيه: انه انما يشهد على أنها للأعم لو لم تكن هناك دلالة على كونها موضوعة للصحيح - وقد عرفتها - فلا بد ان يكون التقسيم بملاحظة ما يستعمل فيه اللفظ، ولو بالعناية (2).
122

ومنها: استعمال الصلاة وغيرها في غير واحد من الاخبار في الفاسدة، كقوله - عليه الصلاة والسلام -: (بني الاسلام على الخمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية. ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية، فاخذ الناس بالأربع وتركوا هذه. فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة).
فان الاخذ بالأربع لا يكون بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية إلا إذا كانت أسامي للأعم. وقوله - عليه السلام -: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، ضرورة انه لو لم يكن المراد منها الفاسدة لزم عدم صحة النهي عنها، لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.
وفيه: ان الاستعمال أعم من الحقيقة، مع أن المراد في الرواية الأولى هو خصوص الصحيح بقرينة انها مما بني عليها الاسلام، ولا ينافي ذلك بطلان عبادة منكري الولاية، إذ لعل اخذهم بها انما كان بحسب اعتقادهم، لا حقيقة وذلك لا يقتضي استعمالها في الفاسد أو الأعم والاستعمال في قوله: فلو ان أحدا صام نهاره... الخ
كان كذلك: أي بحسب اعتقادهم، أو للمشابهة والمشاكلة (2).

(1) الكافي ج 2: 18 / 3 كتاب الايمان والكفر، باب دعائم الاسلام.
124

وفي الرواية الثانية النهي للارشاد إلى عدم القدرة على الصلاة وإلا كان الاتيان بالأركان وسائر ما يعتبر في الصلاة، (1)، بل بما يسمى في

(1) الوسائل ج 1: 546 / 2 باب من 7 أبواب الحيض.
127

العرف بها ولو أخل بما لا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا وان لم تقصد به القربة، ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية فتأمل جيدا (1).
ومنها: انه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث بفعلها ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يكاد يحصل به الحنث أصلا لفساد الصلاة المأتي بها لحرمتها كما لا يخفى - بل يلزم المحال - فان النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحيح منها ولا تكاد تكون معه صحيحة وما يلزم من فرض وجوده عدمه محال (2).
129

قلت: لا يخفى انه لو صح ذلك لا يقتضي إلا عدم صحة تعلق النذر بالصحيح لا عدم وضع اللفظ له شرعا (1)، مع أن الفساد من قبل النذر لا ينافي صحة متعلقه فلا يلزم من فرض وجودها عدمها.
ومن هنا انقدح: أن حصول الحنث انما يكون لأجل الصحة لولا تعلقه.
نعم، لو فرض تعلقه بترك الصلاة المطلوبة بالفعل لكان منع حصول الحنث بفعلها بمكان من الإمكان (2).
131

بقي أمور الأول: أن أسامي المعاملات ان كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم، لعدم اتصافها بهما كما لا يخفى، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى (1).
133

واما ان كانت موضوعة للأسباب فللنزاع فيه مجال (1).
لكنه لا يبعد دعوى: كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وان الموضوع له: هو العقد المؤثر لأثر كذا شرعا وعرفا (2)، والاختلاف بين الشرع العرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى، بل
134

الاختلاف في المحققات والمصاديق (1)، وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره محققا لما هو المؤثر كما لا يخفى
135

فافهم (1).
الثاني: ان كون ألفاظ المعاملات أسامي للصحيحة لا يوجب اجمالها كألفاظ العبادات كي لا يصح التمسك باطلاقها عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها شرعا، وذلك لأن اطلاقها لو كان مسوقا في مقام البيان ينزل على أن المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند العرف ولم يعتبر في تأثيره عنده غير ما اعتبره فيه عندهم كما ينزل عليه اطلاق كلام غيره حيث إنه منهم ولو اعتبر في تأثيره ما شك في اعتباره، كان عليه البيان، ونصب
136

القرينة عليه، وحيث لم ينصب بان عدم اعتباره عنده أيضا ولذا يتمسكون بالاطلاق في أبواب المعاملات مع ذهابهم إلى كون ألفاظها موضوعة للصحيح.
نعم لو شك في اعتبار شيء فيها عرفا فلا مجال للتمسك باطلاقها في عدم اعتباره (1)، بل لا بد من اعتباره لأصالة عدم الأثر بدونه
137

فتأمل جيدا (1).
138

الثالث: ان دخل شيء وجودي أو عدمي في المأمور به تارة: بان يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره وجعل جملته متعلقا للأمر فيكون جزءا له وداخلا في قوامه.
وأخرى: بان يكون خارجا عنه، لكنه كان مما لا تحصل الخصوصية المأخوذة فيه بدونه، كما إذا أخذ شيء مسبوقا أو ملحوقا به أو مقارنا له متعلقا للامر فيكون من مقدماته لا مقوماته.
وثالثة: بان يكون مما يتشخص به المأمور به بحيث يصدق على المتشخص به عنوانه وربما يحصل له بسببه مزية أو نقيصة، ودخل هذا فيه أيضا طورا بنحو الشطرية، وآخر بنحو الشرطية، فيكون الاخلال بماله دخل بأحد النحوين في حقيقة المأمور به وماهيته موجبا لفساده لا محالة، بخلاف ماله الدخل في تشخصه وتحققه مطلقا شرطا كان، أو شطرا حيث لا يكون الإخلال به إلا اخلالا بتلك الخصوصية مع تحقق الماهية بخصوصية أخرى غير موجبة لتلك المزية، بل كانت موجبة لنقصانها، كما أشرنا اليه كالصلاة في الحمام.
ثم إنه ربما يكون الشيء مما يندب اليه فيه بلا دخل له أصلا لا شطرا، ولا شرطا في حقيقته، ولا في خصوصيته وتشخصه، بل له دخل ظرفا في مطلوبيته بحيث لا
يكون مطلوبا إلا إذا وقع في أثنائه، فيكون مطلوبا نفسيا في واجب أو مستحب، كما إذا كان مطلوبا كذلك قبل أحدهما أو بعده، فلا يكون الإخلال به موجبا للإخلال به ماهية ولا تشخصا وخصوصية أصلا.
139

إذا عرفت هذا كله، فلا شبهة في عدم دخل ما ندب اليه في العبادات نفسيا في التسمية بأساميها، وكذا فيما له دخل في تشخصها مطلقا.
وأما ماله الدخل شرطا في أصل ماهيتها فيمكن الذهاب أيضا إلى عدم دخله في التسمية بها، مع الذهاب إلى دخل ماله الدخل جزء فيها فيكون الاخلال بالجزء مخلا بها، دون الاخلال بالشرط، لكنك عرفت: ان الصحيح اعتبارهما فيها (1).
140

الحادي عشر: الحق وقوع الاشتراك للنقل، والتبادر، وعدم صحة السلب بالنسبة إلى معنيين، أو أكثر للفظ واحد (1)، وإن أحاله بعض
143

لاخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن، لمنع الاخلال أولا، لإمكان الاتكال على القرائن الواضحة، ومنع كونه مخلا بالحكمة ثانيا، لتعلق الغرض بالاجمال أحيانا (1)، كما أن استعمال المشترك في القرآن

(1) وهو العلامة النهاوندي في تشريح الأصول: ص 47 حجري.
144

ليس بمحال كما توهم لأجل لزوم التطويل بلا طائل مع الاتكال على القرائن، والاجمال في المقام لولا الاتكال عليها وكلاهما غير لائق بكلامه تعالى - جل شأنه - كما لا يخفى، وذلك لعدم لزوم التطويل فيما كان الاتكال على حال أو مقال أتي به لغرض آخر، ومنع كون الاجمال غير لائق بكلامه تعالى مع كونه مما يتعلق به الغرض، وإلا لما وقع المشتبه في كلامه، وقد اخبر في كتابه الكريم بوقوعه فيه قال الله تعالى: [منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات] (1).
146

وربما توهم وجوب وقوع الاشتراك في اللغات لأجل عدم تناهي المعاني وتناهي الألفاظ المركبات فلا بد من الاشتراك فيها وهو فاسد لوضوح امتناع الاشتراك في هذه المعاني لاستدعائه الأوضاع غير المتناهية، ولو سلم لم يكد يجدي إلا في مقدار متناه، مضافا إلى تناهي المعاني الكلية وجزئياتها وان كانت غير متناهية، إلا ان وضع الألفاظ بإزاء كلياتها يغني عن وضع لفظ بإزائها كما لا يخفى، مع أن المجاز باب واسع - فافهم (1).

(1) آل عمران: الآية 7.
147

الثاني عشر: انه قد اختلفوا في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد والاستقلال: بان يراد منه كل واحد، كما إذا لم يستعمل إلا فيه على أقوال، أظهرها: عدم جواز الاستعمال في الأكثر عقلا.
وبيانه: ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل جعله وجها وعنوانا له، بل بوجه نفسه كأنه الملقى ولذا يسري اليه قبحه وحسنه كما لا يخفى، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر، حيث إن لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلا بتبع لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه، والعنوان في المعنون، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال؟.
وبالجملة: لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين، وفانيا في الاثنين، إلا أن يكون اللاحظ أحول العينين.
فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللفظ مطلقا مفردا كان، أو غيره في أكثر من معنى بنحو الحقيقة أو المجاز (1).
149



(1) المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره)، نهاية الدراية: ج 1، ص 64.
151

ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه، فان اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيته لا يقتضي عدم الجواز بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للوضع، ولا للموضوع له كما لا يخفى (1).
154

ثم لو تنزلنا عن ذلك فلا وجه للتفصيل بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع، وعلى نحو المجاز في المفرد مستدلا على كونه بنحو الحقيقة فيهما، لكونهما بمنزلة تكرار اللفظ، وبنحو المجاز فيه، لكونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر لزم الغاء قيد الوحدة فيكون مستعملا في جزء المعنى بعلاقة الكل والجزء فيكون مجازا، وذلك لوضوح أن الالفاظ لا تكون موضوعة إلا لنفس المعاني بلا ملاحظة قيد الوحدة، وإلا لما جاز الاستعمال في الأكثر، لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل يباينه مباينة الشيء بشرط شيء، والشيء بشرط لا كما لا يخفى (1).
156

والتثنية والجمع وان كانا بمنزلة التكرار في اللفظ، إلا ان الظاهر أن اللفظ فيهما كأنه كرر وأريد من كل لفظ فرد من افراد معناه، لا أنه أريد منه معنى من معانيه، فإذا قيل - مثلا -: جئني بعينين أريد فردان من العين الجارية والعين الباكية.
والتثنية والجمع في الاعلام انما هو بتأويل المفرد إلى المسمى بها، مع أنه لو قيل: بعدم التأويل وكفاية الاتحاد في اللفظ في استعمالهما حقيقة بحيث جاز إرادة عين
جارية وعين باكية من تثنية العين حقيقة لما كان هذا من باب استعمال اللفظ في الأكثر لأن هيئتهما إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانية استعمالا لهما في معنى واحد، كما إذا استعملا وأريد المتعدد من معنى واحد منهما كما لا يخفى:
نعم لو أريد - مثلا - من عينين فردان من الجارية وفردان من الباكية كان من استعمال العينين في المعنيين، إلا أن حديث التكرار لا يكاد يجدي
158

في ذلك أصلا، فان فيه الغاء قيد الوحدة المعتبرة أيضا، ضرورة أن التثنية عنده انما تكون لمعنيين أو لفردين بقيد الوحدة والفرق بينها وبين المفرد انما يكون في: انه موضوع للطبيعة وهي موضوعة لفردين منها أو معنيين كما هو أوضح من أن يخفى (1).
159

(وهم ودفع): لعلك تتوهم: أن الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلا على أن ارادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعله كان بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى، لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وان كان أفهامنا قاصرة عن ادراكها (1).
161

الثالث عشر إنه اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال، أو فيما يعمه وما انقضى عنه على أقوال، بعد الاتفاق على كونه مجازا فيما يتلبس به في الاستقبال، وقبل الخوض في المسألة، وتفصيل الأقوال فيها، وبيان الاستدلال عليها، ينبغي تقديم أمور (1):
163

أحدها: إن المراد بالمشتق هاهنا ليس مطلق المشتقات، بل خصوص ما يجري منها على الذوات، مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات، بملاحظة اتصافها بالمبدأ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد، كان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والايجاد، كأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهات، بل وصيغ المبالغة، وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات، كما هو ظاهر العنوانات، وصريح بعض المحققين (1)، مع عدم
164

صلاحية ما يوجب اختصاص النزاع بالبعض إلا التمثيل به، وهو غير صالح، كما هو واضح. فلاوجه لما زعمه بعض الأجلة، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما يلحق بها، وخروج سائر الصفات، ولعل منشأه توهم كون ما ذكره لكل منها من المعنى، مما اتفق عليه الكل، وهو كما ترى، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات، بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة - حسبما يشير إليه لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع ها هنا، كما لا يخفى (1).
165

ثم إنه لا يبعد أن يراد بالمشتق في محل النزاع، مطلق ما كان مفهومه ومعناه جاريا على الذات ومنتزعا عنها، بملاحظة اتصافها (1) بعرض أو عرضي ولو كان جامدا، كالزوج والزوجة والرق والحر (1)، وإن أبيت
168

إلا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق، كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه (1)، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع. كما يشهد به

(1) منظومة السبزواري، قسم المنطق: ص 29 حجري.
169

ما عن الايضاح في باب الرضاع، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان، أرضعتا زوجته الصغيرة، ما هذا لفظه (1): تحرم المرضعة
170

الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الأخرى، ففي تحريمها خلاف، فاختار والدي المصنف رحمه الله وابن إدريس تحريمها لأن هذه يصدق عليها أم زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا ها هنا، وما عن المسالك في هذه المسألة، من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق فعليه كلما كان مفهومه منتزعا من الذات، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات - كانت عرضا أو عرضيا - كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والإضافات، كان محل النزاع وإن كان جامدا (1)، وهذا بخلاف ما كان مفهومه
171



(1) النساء: الآية 23.
(2) الوسائل ج 14: 280 / 1 باب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
172

منتزعا عن مقام الذات والذاتيات، فإنه لا نزاع في كونه حقيقة في خصوص ما إذا كانت الذات باقية بذاتياتها (1).

(1) البقرة: الآية 124.
(2) المائدة: الآية 38.
174

ثانيها: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لان الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أن الوصف الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعم المتلبس به في المضي.
175

ويمكن حل الاشكال: بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام، مع انحصاره فيه تبارك وتعالى (1).
176

ثالثها: إن من الواضح خروج الافعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع، لكونها غير جارية على الذوات، ضرورة أن المصادر المزيد فيها كالمجردة في الدلالة
على ما يتصف به الذوات ويقوم بها - كما لا يخفى - وإن الافعال إنما تدل على قيام المبادئ بها قيام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو تركها منها، على اختلافها (1).
178

إزاحة شبهة: قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان، حتى أخذوا الاقتران بها في تعريفه (1). وهو اشتباه، ضرورة عدم دلالة
179

الامر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك، غاية الأمر نفس الانشاء بهما في الحال، كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو
180

المستقبل أو بغيرهما، كما لا يخفى (1)، بل يمكن منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم
181

القول بالمجاز والتجريد عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.
نعم لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع - بحسب المعنى - خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة، في الزمان الماضي في الماضي، وفي الحال أو الاستقبال في المضارع، فيما كان الفاعل من الزمانيات (1).
182

ويؤيده: أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال، ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (1)، كما أن الجملة الاسمية، كزيد
185

ضارب يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا، فكانت الجملة الفعلية مثلها (1).
وربما يؤيد ذلك: أن الزمان الماضي في فعله، وزمان الحال أو الاستقبال في المضارع، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة، وفي المضارع ماضيا كذلك، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالإضافة، كما يظهر من مثل قوله: يجيئني زيد بعد عام، وقد ضرب قبله بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا، وهو يضرب في ذلك الوقت، أو فيما بعده مما مضى، فتأمل جيدا (2).
186

ثم لا باس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه، بما يناسب المقام، لأجل الاطراد في الاستطراد في تمام الاقسام.
فاعلم أنه وإن اشتهر بين الاعلام، أن الحرف ما دل على معنى في غيره، وقد بيناه في الفوائد بما لا مزيد عليه، إلا أنك عرفت فيما تقدم، عدم الفرق بينه وبين الاسم بحسب المعنى، وأنه فيهما لم يلحظ فيه الاستقلال بالمفهومية، ولا عدم الاستقلال بها، وإنما الفرق هو أنه وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو. وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهومية، وعدم الاستقلال بها، إنما اعتبر في جانب الاستعمال، لا في المستعمل فيه، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى، فلفظ الابتداء لو استعمل في المعنى الآلي، ولفظة (من) في المعنى الاستقلالي، لما كان مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له، وإن كان بغير ما وضع له (1)
188

فالمعنى في كليهما في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي، وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد، وإن كان بالوجود الذهني، فافهم وتأمل فيما وقع في المقام من الاعلام (1)،
189

من الخلط والاشتباه، وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل فيه في الحروف خاصا، بخلاف ما عداه فإنه عام.
وليت شعري إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا، فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له وهل يكون ذلك إلا لكون هذا القصد، ليس مما يعتبر في الموضوع له، ولا المستعمل فيه بل في الاستعمال، فلم لا يكون فيها كذلك؟ كيف، وإلا لزم أن يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية، لكونها على هذا كليات عقلية، والكلي العقلي لا موطن له الا الذهن، فالسير والبصرة والكوفة، في (سرت من البصرة إلى الكوفة) لا تكاد تصدق على السير والبصرة والكوفة، لتقيدها بما اعتبر فيه القصد فتصير عقلية، فيستحيل انطباقها على الأمور الخارجية (1).
190

وبما حققناه يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي، والصدق على الكثيرين، وإن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا، والكلية بلحاظ نفس المعنى، ومنه ظهر عدم اختصاص الاشكال والدفع بالحرف، بل يعم غيره، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام للاعلام، وقد سبق في بعض الأمور بعض الكلام (1)، والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة والإفادة،
192

فافهم (1).
رابعها: إن اختلاف المشتقات في المبادئ، وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة، وفي بعضها قوة وملكه، وفي بعضها فعليا، لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى، غاية الأمر إنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال، فيكون التلبس به فعلا، لو أخذ حرفة أو ملكة، ولو لم يتلبس به إلى الحال، أو
193

انقضى عنه، ويكون مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا، فلا يتفاوت فيها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات، كما أشرنا إليه (1).
194

خامسها: إن المراد بالحال في عنوان المسألة، هو حال التلبس لا حال النطق ضرورة أن مثل كان زيد ضاربا أمس أو سيكون غدا ضاربا حقيقة إذا كان متلبسا بالضرب في الأمس في المثال الأول، ومتلبسا به في الغد في الثاني، فجري المشتق حيث كان بلحاط حال التلبس، وإن مضى زمانه في أحدهما، ولم يأت بعد في الآخر، كان حقيقة بلا خلاف (1)، ولا ينافيه الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز، فإن
196

الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال، كما هو قضية الاطلاق، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس، فيكون الجري والاتصاف في الحال، والتلبس في الاستقبال (1).
ومن هنا ظهر الحال في مثل زيد ضارب أمس وأنه داخل في محل الخلاف والاشكال. ولو كانت لفظة أمس أو غد قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.
199

وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في كون المشتق حقيقة، فيما إذا جرى على الذات، بلحاظ حال التلبس، ولو كان في المضي أو الاستقبال، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ حال التلبس في الاستقبال (1).
ويؤيد ذلك اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات (2) ولا ينافيه اشتراط العمل في بعضها
200

بكونه بمعنى الحال، أو الاستقبال، ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة، كيف لا وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال (1).
201

لا يقال: يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه، وادعي أنه الظاهر في المشتقات، إما لدعوى الانسباق من الاطلاق، أو بمعونة قرينة الحكمة.
لأنا نقول: هذا الانسباق، وإن كان مما لا ينكر، إلا أنهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه (1).
202

سادسها: إنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له (1)، وأما ترجيح
204

الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز إذا دار الامر بينهما لأجل الغلبة،
205

فممنوع، لمنع الغلبة أولا، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا (1) وأما الأصل العملي فيختلف في الموارد، فأصالة البراءة في مثل أكرم كل عالم يقتضي عدم وجوب إكرام ما انقضى عنه المبدأ قبل الايجاب، كما أن قضية الاستصحاب وجوبه لو كان الايجاب قبل الانقضاء.
206

فإذا عرفت ما تلونا عليك، فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت، إلا أنها حدثت بين المتأخرين، بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين (1)،
207

لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مباديه في المعنى، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال، وقد مرت الإشارة إلى أنه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده، ويأتي له مزيد بيان في أثناء الاستدلال على ما هو المختار، وهو اعتبار التلبس في الحال، وفاقا لمتأخري الأصحاب والأشاعرة، وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة (1)، ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ
208

في الحال، وصحة السلب مطلقا عما انقضى عنه، كالمتلبس به في الاستقبال، وذلك لوضوح أن مثل: القائم، والضارب، والعالم، وما يرادفها من سائر اللغات، لا يصدق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ، وإن كان متلبسا بها قبل الجري والانتساب، ويصح سلبها عنه (1)، كيف
209

وما يضادها بحسب ما ارتكز من معناها في الأذهان يصدق عليه، ضرورة صدق القاعد عليه في حال تلبسه بالقعود، بعد انقضاء تلبسه بالقيام، مع وضوح التضاد بين
القاعد والقائم بحسب ما ارتكز لهما من المعنى، كما لا يخفى (1).
وقد يقرر هذا وجها على حدة، ويقال: لا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة، على ما ارتكز لها من المعاني، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم، لما كان بينها مضادة بل مخالفة، لتصادقها فيما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر (2).
211

ولا يرد على هذا التقرير ما أورده بعض الأجلة من المعاصرين: من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط، لما عرفت من ارتكازه بينها، كما في مبادئها (1).
212

إن قلت: لعل ارتكازها لأجل الانسباق من الاطلاق، لا الاشتراط (1).
213

قلت: لا يكاد يكون لذلك، لكثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء لو لم يكن بأكثر (1).
إن قلت: على هذا يلزم أن يكون في الغالب أو الأغلب مجازا، وهذا بعيد ربما لا يلائمه حكمة الوضع (2).
214

لا يقال: كيف؟ وقد قيل: بأن أكثر المحاورات مجازات. فإن ذلك لو سلم، فإنما هو لأجل تعدد المعاني المجازية بالنسبة إلى المعنى الحقيقي الواحد (1).
215

نعم ربما يتفق ذلك بالنسبة إلى معنى مجازي، لكثرة الحاجة إلى التعبير عنه. لكن أين هذا مما إذا كان دائما كذلك (1)؟
216

فافهم (1).
قلت: مضافا إلى أن مجرد الاستبعاد غير ضائر بالمراد، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة عليه، إن ذلك إنما يلزم لو لم يكن استعماله فيما انقضى بلحاظ حال التلبس، مع أنه بمكان من الامكان، فيراد من جاء الضارب أو الشارب وقد انقضى عنه الضرب والشرب جاء الذي كان ضاربا وشاربا قبل مجيئه حال التلبس بالمبدأ، لا حينه بعد الانقضاء، كي يكون الاستعمال بلحاظ هذا الحال، وجعله معنونا بهذا العنوان فعلا بمجرد تلبسه قبل مجيئه، ضرورة أنه لو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين (2).
217

وبالجملة: كثرة الاستعمال في حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الاطلاق، إذ مع عموم المعنى وقابلية كونه حقيقة في المورد - ولو بالانطباق - لا وجه لملاحظة حال أخرى، كما لا يخفى، بخلاف ما إذا لم يكن له العموم، فإن استعماله - حينئذ - مجازا بلحاظ حال الانقضاء وإن كان ممكنا، إلا أنه لما كان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقيقة بمكان من الامكان، فلا وجه لاستعماله وجريه على الذات مجازا وبالعناية وملاحظة العلاقة (1)، وهذا غير استعمال اللفظ
219

فيما لا يصح استعماله فيه حقيقة، كما لا يخفى (1) فافهم (2).
221

ثم إنه ربما أورد على الاستدلال بصحة السلب، بما حاصله: إنه إن أريد بصحة السلب صحته مطلقا، فغير سديد، وإن أريد مقيدا، فغير مفيد، لأن علامة المجاز هي صحة السلب المطلق (1).
وفيه: إنه إن أريد بالتقييد، تقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق - كما هو واضح - فصحة سلبه وإن لم تكن علامة على كون المطلق مجازا فيه، إلا أن تقييده ممنوع، وإن أريد تقييد السلب، فغير ضائر بكونها علامة، ضرورة صدق المطلق على أفراده على كل حال، مع إمكان منع تقييده أيضا، بأن يلحظ حال الانقضاء في طرف الذات الجاري عليها المشتق، فيصح سلبه مطلقا بلحاظ هذا الحال، كما لا يصح سلبه بلحاظ حال التلبس، فتدبر جدا (2).
222

ثم لا يخفى أنه لا يتفاوت في صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ، بين كون المشتق لازما وكونه متعديا، لصحة سلب الضارب عمن يكون فعلا غير متلبس بالضرب، وكان متلبسا به سابقا، وأما إطلاقه عليه في الحال، فإن كان بلحاظ حال التلبس، فلا إشكال كما عرفت، وإن كان بلحاظ الحال، فهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا دلالة على كونه بنحو الحقيقة، لكون الاستعمال أعم منها كما لا يخفى، كما لا يتفاوت في صحة السلب عنه، بين تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس - أيضا - وإن كان معه أوضح.
ومما ذكرنا ظهر حال كثير من التفاصيل، فلا نطيل بذكرها على التفصيل (1).
225

حجة القول بعدم الاشتراط وجوه:
الأول: التبادر، وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس (1).
الثاني: عدم صحة السلب في مضروب ومقتول، عمن انقضى عنه المبدأ.
وفيه: إن عدم صحته في مثلهما، إنما هو لأجل أنه أريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال، ولو مجازا.
وقد انقدح من بعض المقدمات أنه لا يتفاوت الحال فيما هو المهم في محل البحث والكلام ومورد النقض والابرام، اختلاف ما يراد من المبدأ
227

في كونه حقيقة أو مجازا، وأما لو أريد منه نفس ما وقع على الذات، مما صدر عن الفاعل، فإنما لا يصح السلب فيما لو كان بلحاظ حال التلبس والوقوع - كما عرفت - لا بلحاظ الحال أيضا، لوضوح صحة أن يقال: إنه ليس بمضروب الآن بل كان (1).
228

الثالث: استدلال الامام عليه السلام تأسيا بالنبي - صلوات الله عليه - كما عن غير واحد من الاخبار بقوله: (لا ينال عهدي الظالمين (على عدم لياقة من عبد صنما أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة، تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مديدة، ومن الواضح توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للأعم، وإلا لما صح التعريض، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة (1).
231

والجواب: منع التوقف على ذلك، بل يتم الاستدلال ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس.
وتوضيح ذلك: يتوقف على تمهيد مقدمة: وهي إن الأوصاف العنوانية التي تؤخذ في موضوعات الاحكام تكون على أقسام:
أحدها: أن يكون أخذ العنوان لمجرد الإشارة إلى ما هو في الحقيقة موضوعا للحكم، لمعهوديته بهذا العنوان، من دون دخل لاتصافه به في الحكم أصلا.
ثانيها: أن يكون لأجل الإشارة إلى علية المبدأ للحكم، مع كفاية مجرد صحة جري المشتق عليه، ولو فيما مضى.
232

ثالثها: أن يكون لذلك مع عدم الكفاية، بل كان الحكم دائرا مدار صحة الجري عليه، واتصافه به حدوثا وبقاءا.
إذا عرفت هذا فنقول: إن الاستدلال بهذا الوجه إنما يتم، لو كان أخذ العنوان في الآية الشريفة على النحو الأخير، ضرورة أنه لو لم يكن المشتق للأعم، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهرا حين التصدي، فلابد أن يكون للأعم، ليكون حين التصدي حقيقة من الظالمين، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا كان على النحو الثاني، فلا، كما لا يخفى (1)، ولا قرينة على أنه على النحو الأول، لو لم نقل بنهوضها
233



(1) بحار الأنوار ج 2: ص 246.
(2) قد أورد الحديث بالمضمون راجع الوسائل ج 5: 317 / 1 باب 7.
234

على النحو الثاني، فإن الآية الشريفة في مقام بيان جلالة قدر الإمامة والخلافة وعظم خطرها ورفعة محلها، وإن لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم أن المناسب لذلك، هو أن لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا، كما لا يخفى (1).
235

إن قلت: نعم، ولكن الظاهر أن الامام عليه السلام إنما استدل بما هو قضية ظاهر العنوان وضعا، لا بقرينة المقام مجازا، فلابد أن يكون للأعم، وإلا لما تم (1).
236

قلت: لو سلم، لم يكن يستلزم جري المشتق على النحو الثاني كونه مجازا، بل يكون حقيقة لو كان بلحاظ حال التلبس - كما عرفت - فيكون معنى الآية، والله العالم: من كان ظالما ولو آنا في الزمان السابق لا ينال عهدي أبدا، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال، لا بلحاظ حال التلبس (1).
237

ومنه قد انقدح ما في الاستدلال على التفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به، باختيار عدم الاشتراط في الأول، بآية حد السارق
238

والسارقة، والزاني والزانية، وذلك حيث ظهر أنه لا ينافي إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقا، ولو بعد انقضاء المبدأ (1)، مضافا إلى وضوح بطلان تعدد الوضع، حسب وقوعه محكوما عليه أو به، كما لا يخفى.

(1) المائدة: الآية 38.
(2) النور: الآية 2.
239



(1) البقرة: الآية 124.
240

ومن مطاوي ما ذكرنا - ها هنا وفي المقدمات - ظهر حال سائر الأقوال، وما ذكر لها من الاستدلال، ولا يسع المجال لتفصيلها، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بالمطولات (1).
بقي أمور: الأول: إن مفهوم المشتق على ما حققه المحقق الشريف في بعض حواشيه بسيط منتزع عن الذات باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به غير مركب. وقد أفاد في وجه ذلك: أن مفهوم الشيء لا يعتبر في مفهوم الناطق مثلا، وإلا لكان العرض العام داخلا في الفصل، ولو اعتبر فيه ما صدق عليه الشيء، انقلبت مادة الامكان الخاص ضرورة، فإن الشيء الذي له الضحك هو الانسان، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. هذا ملخص ما أفاده الشريف، على ما لخصه بعض الأعاظم (2).

(1) حاشية مير السيد الشريف على شرح المطالع: ص 11.
242

وقد أورد عليه في الفصول، بأنه يمكن أن يختار الشق الأول، ويدفع الاشكال: بأن كون الناطق - مثلا - فصلا، مبني على عرف المنطقيين، حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات، وذلك لا يوجب وضعه لغة كذلك (1).
246

وفيه: إنه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى (1).
247

والتحقيق أن يقال: إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه (1)، وإنما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه، بل لا يكاد يعلم، كما حقق في محله (2)، ولذا
248

ربما يجعل لازمان مكانه إذا كانا متساويي النسبة إليه، كالحساس والمتحرك بالإرادة في الحيوان، وعليه فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء في مثل الناطق، فإنه وإن كان عرضا عاما، لا فصلا مقوما للانسان، إلا أنه بعد تقييده بالنطق واتصافه به كان من أظهر خواصه (1).
وبالجملة: لا يلزم من أخذ مفهوم الشيء في معنى المشتق، إلا دخول العرض في الخاصة التي هي من العرضي، لا في الفصل الحقيقي الذي هو من الذاتي، فتدبر جيدا (2).
249

ثم قال: إنه يمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، ويجاب بأن المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، وليس ثبوته

(1) منظومة السبزواري، قسم المنطق: ص 29.
250

للموضوع حينئذ بالضرورة، لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا انتهى (1).
ويمكن أن يقال: إن عدم كون ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد خارجا، وإن كان التقيد داخلا بما هو معنى حرفي، فالقضية لا محالة تكون (2)
251

ضرورية، ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان (1) وان كان المقيد بما هو مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية الانسان ناطق تنحل في الحقيقة إلى قضيتين إحداهما قضية الانسان إنسان وهي ضرورية، والأخرى قضية الانسان له النطق وهي ممكنة، وذلك لأن الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا، فعقد الحمل ينحل إلى القضية (2)، كما أن عقد
253

الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ، وقضية ممكنة عند الفارابي (1)،
255

فتأمل (1).

(1) منظومة السبزواري، قسم الإلهيات: 27.
256

لكنه (قدس سره) تنظر فيما أفاده بقوله: وفيه نظر لأن الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا، إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة، وإلا صدق السلب بالضرورة، مثلا: لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالقوة أو بالفعل كاتب بالضرورة انتهى (1).
257

ولا يذهب عليك أن صدق الايجاب بالضرورة، بشرط كونه مقيدا به واقعا لا يصحح دعوى الانقلاب إلى الضرورية، ضرورة صدق الايجاب بالضرورة بشرط المحمول في كل قضية ولو كانت ممكنة، كما لا يكاد يضر بها صدق السلب كذلك، بشرط عدم كونه مقيدا به واقعا، لضرورة السلب بهذا الشرط، وذلك لوضوح أن المناط في الجهات ومواد القضايا، إنما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلك الموضوع موجهة
258

بأي جهة منها (1)، ومع أية منها في نفسها صادقة، لا بملاحظة ثبوتها له واقعا أو عدم ثبوتها له كذلك، وإلا كانت الجهة منحصرة بالضرورة،
259

ضرورة صيرورة الايجاب أو السلب بلحاظ الثبوت وعدمه واقعا ضروريا، ويكون من باب الضرورة بشرط المحمول (1).
وبالجملة: الدعوى: هو انقلاب مادة الامكان بالضرورة، فيما ليست مادته واقعا في نفسه وبلا شرط غير الامكان (2).
260

وقد انقدح بذلك عدم نهوض ما أفاده رحمه الله بإبطال الوجه الأول، كما زعمه (قدس سره)، فإن لحوق مفهوم الشيء والذات لمصاديقهما، إنما يكون ضروريا مع إطلاقهما، لا مطلقا، ولو مع التقيد إلا بشرط تقيد المصاديق به أيضا، وقد عرفت حال الشرط (1)
262

فافهم (1).
263

ثم إنه لو جعل التالي في الشرطية الثانية لزوم أخذ النوع في الفصل، ضرورة أن مصداق الشيء الذي له النطق هو الانسان، كان أليق بالشرطية الأولى، بل كان أولى لفساده مطلقا، ولو لم يكن مثل الناطق بفصل حقيقي، ضرورة بطلان أخذ الشيء في لازمه وخاصته، فتأمل جيدا (1).
264

ثم إنه يمكن أن يستدل على البساطة، بضرورة عدم تكرر الموصوف في مثل زيد الكاتب، ولزومه من التركب، وأخذ الشيء مصداقا أو مفهوما في مفهومه (1).
265

إرشاد: لا يخفى أن معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا وتصورا، بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شيء واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى شيئين، كانحلال مفهوم الحجر والشجر إلى شيء له الحجرية أو الشجرية، مع وضوح بساطة مفهومهما.
وبالجملة: لا ينثلم بالانحلال إلى الاثنينية بالتعمل العقلي وحدة المعنى، وبساطة المفهوم كما لا يخفى، وإلى ذلك يرجع الاجمال والتفصيل الفارقان بين المحدود والحد، مع ما هما عليه من الاتحاد ذاتا، فالعقل بالتعمل يحلل النوع، ويفصله إلى جنس وفصل، بعد ما كان أمرا واحدا إدراكا، وشيئا فاردا تصورا، فالتحليل يوجب فتق ما هو عليه من الجمع والرتق (1).

(1) المحقق الأصفهاني (قدس سره)، نهاية الدراية: ج 1، ص 92.
266

الثاني الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما، أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ، ولا يعصي عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس ونسب إليه كان غيره، لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية (1)، وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق
268

بينهما، من أن المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا: أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه، وصاحب الفصول (رحمه الله) حيث توهم أن مرادهم إنما هو بيان التفرقة
269

بهذين الاعتبارين، بلحاظ الطوارئ والعوارض الخارجية مع حفظ مفهوم واحد أورد عليهم: بعدم استقامة الفرق بذلك، لأجل امتناع حمل العلم والحركة على الذات، وإن اعتبر لا بشرط، وغفل عن أن المراد ما ذكرنا (1)، كما يظهر منهم من بيان الفرق بين الجنس والفصل،
270

وبين المادة والصورة، فراجع (1).
272

الثالث: ملاك الحمل كما أشرنا إليه هو الهوهوية والاتحاد من وجه، والمغايرة من وجه آخر، كما يكون بين المشتقات والذوات، ولا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين المتغايرين، واعتبار كون مجموعهما بما هو كذلك واحدا، بل يكون لحاظ ذلك مخلا، لاستلزامه المغايرة بالجزئية والكلية ومن الواضح أن ملاك الحمل لحاظ بنحو الاتحاد بين الموضوع والمحمول، مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا في طرف الموضوعات، بل لا يلحظ في طرفها إلا نفس معانيها، كما هو الحال في طرف المحمولات، ولا يكون حملها عليها إلا بملاحظة ما هما عليه من نحو من الاتحاد، مع ما هما عليه من المغايرة ولو بنحو من الاعتبار.
273

فانقدح بذلك فساد ما جعله في الفصول تحقيقا للمقام. وفي كلامه موارد للنظر، تظهر بالتأمل وإمعان النظر (1).
274

الرابع: لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما، وإن اتحدا عينا وخارجا، فصدق الصفات مثل: العالم،
277

والقادر، والرحيم، والكريم، إلى غير ذلك (1) من صفات الكمال
278

والجلال (1) عليه تعالى، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته، يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها وإن كان عين ذاته تعالى خارجا، إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما.
ومنه قد انقدح ما في الفصول، من الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى، بناء على الحق من العينية، لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما، ولا اتفاق على اعتبار غيرها، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره، كما لا يخفى، وقد عرفت ثبوت المغايرة كذلك بين الذات ومبادئ الصفات.
الخامس: إنه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة كما عرفت بين المبدأ وما يجري عليه المشتق، في اعتبار قيام المبدأ به، في صدقه على نحو الحقيقة، وقد استدل من قال بعدم الاعتبار، بصدق الضارب والمؤلم، مع قيام الضرب والا لم بالمضروب والمؤلم بالفتح.
والتحقيق: إنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من أولى الألباب، في أنه يعتبر في صدق المشتق على الذات وجريه عليها، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارة، واختلاف الهيئات أخرى، من القيام صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه، أو
280

انتزاعه عنه مفهوما مع اتحاده معه خارجا، كما في صفاته تعالى، على ما أشرنا إليه آنفا، أو مع عدم تحقق إلا للمنتزع عنه، كما في الإضافات والاعتبارات التي لا تحقق لها، ولا يكون بحذائها في الخارج شيء، وتكون من الخارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، ففي صفاته الجارية عليه تعالى يكون المبدأ مغايرا له تعالى مفهوما، وقائما به عينا، لكنه بنحو من القيام، لا بأن يكون هناك اثنينية، وكان ما بحذائه غير الذات، بل بنحو الاتحاد والعينية، وكان ما بحذائه عين الذات، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة، إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة، ولو بتأمل وتعمل من
العقل. والعرف إنما يكون مرجعا في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على مصاديقها.
وبالجملة: يكون مثل العالم، والعادل، وغيرهما من الصفات الجارية عليه تعالى وعلى غيره جارية عليهما بمفهوم واحد ومعنى فارد، وإن اختلفا فيما يعتبر في الجري من الاتحاد، وكيفية التلبس بالمبدأ، حيث أنه بنحو العينية فيه تعالى، وبنحو الحلول أو الصدور في غيره، فلاوجه لما التزم به في الفصول، من نقل الصفات الجارية عليه تعالى عما هي عليها من المعنى، كما لا يخفى، كيف ولو كانت بغير معانيها العامة جارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى، فإن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم إلا بما يقابلها، ففي مثل ما إذا قلنا: إنه تعالى عالم، إما أن نعني أنه من ينكشف لديه الشيء فهو ذاك المعنى العام، أو أنه مصداق لما يقابل ذاك
281

المعنى، فتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وإما أن لا نعني شيئا، فتكون كما قلناه من كونها صرف اللقلقة، وكونها بلا معنى، كما لا يخفى (1).
282

والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره، وهو كما ترى، وبالتأمل فيما ذكرنا (1)، ظهر الخلل فيما استدل من الجانبين والمحاكمة
288

بين الطرفين (1) فتأمل (2).
السادس: الظاهر أنه لا يعتبر في صدق المشتق وجريه على الذات حقيقة، التلبس بالمبدأ حقيقة وبلا واسطة في العروض، كما في الماء الجاري، بل يكفي التلبس به ولو مجازا، ومع هذه الواسطة، كما في الميزاب الجاري، فاسناد الجريان إلى الميزاب، وإن كان إسنادا إلى غير ما هو له وبالمجاز، إلا أنه في الاسناد، لا في الكلمة، فالمشتق في مثل المثال، بما هو مشتق قد استعمل في معناه الحقيقي، وإن كان مبدؤه مسندا إلى الميزاب بالاسناد المجازي، ولا منافاة بينهما أصلا، كما لا يخفى.
ولكن ظاهر الفصول بل صريحه، اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق حقيقة، وكأنه من باب الخلط بين المجاز في الاسناد والمجاز في الكلمة، ولهذا صار محل الكلام بين الاعلام، والحمد لله، وهو خير ختام (3).
289

المقصد الأول
في الأوامر
293

المقصد الأول
في الأوامر
وفيه فصول:
الأول: فيما يتعلق بمادة الامر من الجهات، وهي عديدة (1):
الأولى: إنه قد ذكر للفظ الامر معان متعددة (2).
295

- منها الطلب، كما يقال، أمره بكذا.
- ومنها الشأن، كما يقال: شغله أمر كذا.
- ومنها: الفعل، كما في قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) (1).
- ومنها: الفعل العجيب، كما في قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا).
- ومنها: الشيء، كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا.
- ومنها: الحادثة، ومنها الغرض، كما تقول: جاء زيد لامر كذا.
ولا يخفى أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة أن الامر في جاء زيد لامر كذا ما استعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دل على الغرض، نعم يكون مدخوله مصداقه، فافهم (2)،

(1) هود: الآية 97.
296

وهكذا الحال في قوله تعالى فلما جاء أمرنا يكون مصداقا للتعجب، لا مستعملا في مفهومه، وكذا في الحادثة والشأن (1). وبذلك ظهر ما في

(1) هود: الآية 82.
297

دعوى الفصول، من كون لفظ الامر حقيقة في المعنيين الأولين (1)، ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء، هذا بحسب العرف واللغة (2).
وأما بحسب الاصطلاح، فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة في القول المخصوص، ومجاز في غيره (3)، ولا يخفى أنه عليه لا يمكن منه
298

الاشتقاق، فإن معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا، مع أن الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح عليه بينهم، لا بالمعنى الاخر، فتدبر (1).
299

ويمكن أن يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا عنه بما يدل عليه (1)، نعم القول المخصوص أي صيغة الامر إذا أراد العالي بها الطلب يكون من مصاديق الامر، لكنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
وكيف كان، فالامر سهل لو ثبت النقل (2)، ولا مشاحة في الاصطلاح، وإنما المهم بيان ما هو معناه عرفا ولغة، ليحمل عليه فيما إذا ورد بلا قرينة (3)، وقد استعمل في غير واحد من المعاني في الكتاب والسنة، ولا حجة على أنه على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة والمجاز. وما ذكر في الترجيح، عند تعارض هذه الأحوال، لو سلم، ولم يعارض بمثله، فلا دليل على الترجيح به، فلابد مع
300

التعارض من الرجوع إلى الأصل في مقام العمل (1)، نعم لو علم ظهوره في أحد معانيه، ولو احتمل أنه كان للانسباق من الاطلاق، فليحمل
301

عليه، وإن لم يعلم أنه حقيقة فيه. بالخصوص، أو فيما يعمه (1)، كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول.
الجهة الثانية (2): الظاهر اعتبار العلو في معنى الامر، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا، ولو أطلق عليه كان بنحو من العناية، كما
302

أن الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه. وأما احتمال اعتبار أحدهما فضعيف، وتقبيح الطالب السافل من العالي المستعلي عليه، وتوبيخه بمثل: إنك لم تأمره، إنما هو على استعلائه، لا على أمره حقيقة بعد استعلائه، وإنما يكون إطلاق الامر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه، وكيف كان، ففي صحة سلب الامر عن طلب السافل، ولو كان مستعليا كفاية (1).
303

الجهة الثالثة: لا يبعد كون لفظ الامر حقيقة في الوجوب، لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيده قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) وقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك) وقوله: (لبريرة بعد قولها: أتأمرني يا رسول الله (لا، بل إنما أنا شافع)... إلى غير ذلك، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره،
305

وتوبيخه على مجرد مخالفته، كما في قوله تعالى: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) (1).

(1) النور: الآية 63.
306



(1) الوسائل ج 1: 354 / 4 باب 3 من أبواب السواك.
308



(1) مستدرك الوسائل المجلد الثاني: 600 / 3 باب من أبواب نكاح العبيد والإماء.
(2) الأعراف: الآية 12.
309

وتقسيمه إلى الايجاب والاستحباب، إنما يكون قرينة على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى (1)، وأما ما أفيد من أن الاستعمال

(1) الحجر: الآية 29، ص: الآية 72.
310

فيهما ثابت، فلو لم يكن موضوعا للقدر المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز، فهو غير مفيد، لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى، وفي تعارض الأحوال، فراجع (1).
312

والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة، وكل طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى من منع الكبرى، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي، وإلا لا يفيد المدعى (1).
313

الجهة الرابعة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الامر، ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي، بل الطلب الانشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا، بل طلبا إنشائيا، سواء أنشئ بصيغة افعل، أو بمادة الطلب، أو بمادة الامر، أو بغيرها (1).
314

ولو أبيت إلا عن كونه موضوعا للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الانشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الانشائي، كما أن الامر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة، من المغايرة بين الطلب والإرادة، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة، من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام، وإن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لما لم تكن عن
317

المحذور خالية، والإعادة ليست بلا فائدة ولا إفادة، كان المناسب هو التعرض ها هنا أيضا (1)
فاعلم أن الحق كما هو عليه أهله وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة: هو اتحاد الطلب والإرادة، بمعنى أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم
318

واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الانشائية.
وبالجملة: هما متحدان مفهوما وإنشاءا وخارجا، لا أن الطلب الانشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا، ضرورة أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس. فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والامر به حقيقة كفاية، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، فإن الانسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها، يكون هو الطلب غيرها، سوى ما هو مقدمة تحققها، عند خطور الشيء والميل وهيجان الرغبة إليه، والتصديق لفائدته، وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.
وبالجملة: لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب، فلا محيص إلا عن اتحاد الإرادة والطلب، وأن يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة، أو المستتبع لامر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك، مسمى بالطلب والإرادة كما يعبر به تارة وبها أخرى، كما لا يخفى (1).
319

وكذا الحال في سائر الصيغ الانشائية، والجمل الخبرية، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس، من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك، صفة أخرى كانت قائمة بالنفس، وقد دل اللفظ عليها، كما قيل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا (1).
322

وقد انقدح مما حققناه، ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالامر مع عدم الإرادة، كما في صورتي الاختيار والاعتذار من الخلل، فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين، لا طلب كذلك فيهما، والذي يكون فيهما إنما هو الطلب الانشائي الايقاعي، الذي هو مدلول الصيغة أو المادة، ولم يكن بينا ولا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الانشائية.
وبالجملة: الذي يتكفله الدليل، ليس إلا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية، والطلب المنشأ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما وهو مما لا محيص عن الالتزام به، كما عرفت، ولكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي، كما لا يخفى (1). ثم إنه يمكن مما حققناه أن يقع الصلح بين الطرفين، ولم يكن
324

نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب، كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه،
327

والحقيقي من الإرادة، كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا (1)، فافهم (2).
328

دفع وهم: لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة، من نفي غير الصفات المشهورة، وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي، كما يقول به الأشاعرة، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام.
329

إن قلت: فماذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة (1)؟
330

قلت: أما الجمل الخبرية، فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها، أو نفيها في نفس الامر من ذهن أو خارج، كالانسان نوع أو كاتب (1).
331

وأما الصيغ الانشائية، فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا موجدة لمعانيها في نفس الامر، أي قصد ثبوت معانيها وتحققها بها، وهذا نحو من الوجود (1)، وربما يكون هذا منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا
332

أو عرفا آثار، كما هو الحال في صيغ العقود والايقاعات (1).
نعم لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني بالدلالة الالتزامية على ثبوت هذه الصفات حقيقة، إما لأجل وضعها لايقاعها، فيما إذا كان الداعي إليه ثبوت هذه الصفات، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة، فلو لم تكن هناك قرينة، كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها، لأجل قيام الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس، وضعا أو إطلاقا (2).
336

إشكال ودفع: أما الاشكال، فهو إنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة، في تكليف الكفار بالايمان، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان، إما أن لا يكون هناك تكليف جدي، إن لم يكن هناك إرادة، حيث أنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، واعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة، فكيف تتخلف عن المراد ولا تكاد تتخلف، إذا أراد الله شيئا يقول له: كن فيكون (1).
338

وأما الدفع، فهو إن استحاله التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية وهي العلم بالنظام على النحو الكامل التام، دون الإرادة التشريعية، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف. وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية، فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والايمان، وإذا تخالفتا، فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان (1).
339

إن قلت: إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والإيمان، بإرادته تعالى التي لا تكاد تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف، لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا (1).
341

قلت: إنما يخرج بذلك عن الاختيار، لو لم يكن تعلق الإرادة بها
342

مسبوقة بمقدماتها الاختيارية، وإلا فلابد من صدورها بالاختيار، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن ذلك علوا كبيرا (1).
343

إن قلت: إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما، إلا أنهما منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشية الإلهية، ومعه كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار (1)؟
344

قلت: العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار (1) الناشئ عن مقدماته، الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما،
346

فإن السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن أمه والناس معادن كمعادن الذهب والفضة، كما في الخبر، والذاتي لا يعلل،
347

فانقطع سؤال: إنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ فإن السعيد سعيد بنفسه والشقي شقي كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى، قلم اينجا رسيد سر بشكست... قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام (1).
348

وهم ودفع: لعلك تقول إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل، لزم بناء على أن تكون عين الطلب كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم، وهو بمكان من البطلان.
لكنك غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح، إنما يكون خارجا لا مفهوما، وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم، لا الطلب الخارجي، ولا غرو أصلا في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا (1)، بل
350

لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى، لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه (1).
(الفصل الثاني): فيما يتعلق بصيغة الامر وفيه مباحث (2):
الأول: إنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عد منها: الترجي، والتمني، والتهديد، والانذار، والإهانة، والاحتقار، والتعجيز، والتسخير، إلى غير ذلك، وهذا كما ترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها (3)، بل لم يستعمل إلا في إنشاء
351



(1) يوسف: الآية 87. (2) التوبة: الآية 105. (3) الدخان: الآية 49. (4) هود: الآية: 65. (5) المؤمنون: الآية 108. (6) البقرة: الآية 23. (7) البقرة: الآية 65. (8) البقرة: الآية 282. (9) يس: الآية 82.
352

الطلب، إلا أن الداعي إلى ذلك، كما يكون تارة هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون أخرى أحد هذه الأمور، كما لا يخفى (1).
353

وقصارى ما يمكن أن يدعى، أن تكون الصيغة موضوعة لانشاء الطلب، فيما إذا كان بداعي البعث والتحريك، لإبداع آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره، فلا تغفل (1).
354

إيقاظ: لا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الامر، جار في سائر الصيغ الانشائية، فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام. بصيغها، تارة هو ثبوت هذه الصفات حقيقة، يكون الداعي غيرها أخرى، فلاوجه للالتزام بانسلاخ صيغها عنها، واستعمالها في غيرها، إذا وقعت في كلامه تعالى، لاستحالة مثل هذه المعاني في حقه تبارك وتعالى (1)، مما لازمه العجز أو الجهل، وأنه لا وجه له، فإن المستحيل
355

إنما هو الحقيقي منها لا الانشائي الايقاعي، الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة، كما عرفت، ففي كلامه تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الانشائية أيضا، لا لاظهار ثبوتها حقيقة، بل لامر آخر

(1) إبراهيم: الآية 10.
(2) طه: الآية 17.
356

حسب ما يقتضيه الحال من إظهار المحبة أو الانكار أو التقرير إلى غير ذلك (1)، ومنه ظهر أن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا (2).
357

المبحث الثاني: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب، أو في الندب، أو فيهما، أو في المشترك بينهما، وجوه بل أقوال، ولا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب (1)، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو
358

مقال (1)، وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه، لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه، إلا أنه كان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه، ليرجح أو يتوقف، على الخلاف في المجاز المشهور، كيف؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص، حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص ولم
359

ينثلم به ظهوره في العموم، بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص (1).

(1) راجع معالم الدين: تحقيق عبد الحسين البقال: ص 214.
360

المبحث الثالث: هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل يغتسل، ويتوضأ، ويعيد ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها، وليس الوجوب بأقواها، بعد تعذر حملها على معناها من الاخبار، بثبوت النسبة والحكاية عن وقوعها الظاهر الأول، بل تكون أظهر من الصيغة (1)، ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية
363

الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها، بل تكون مستعملة فيه، إلا أنه ليس بداعي الاعلام، بل بداعي البعث بنحو آكد، حيث أنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه، إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه، فيكون آكد في البعث من الصيغة، كما هو الحال في الصيغ الانشائية، على ما عرفت من أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواع أخر، كما مر (1).
364

لا يقال كيف ويلزم الكذب كثيرا، لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.
فإنه يقال: إنما يلزم الكذب، إذا أتي بها بداعي الاخبار والاعلام، لا لداعي البعث، كيف وإلا يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل زيد كثير الرماد أو مهزول الفصيل لا يكون كذبا، إذا قيل كناية عن جوده، ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ، فإنه مقال بمقتضى الحال (1)
366

هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب، فإن تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده، فإن شدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب، موجبة لتعين إرادته إذا كان بصدد البيان، مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره، فافهم (1).
368

المبحث الرابع: إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون، قيل: بظهورها فيه، إما لغلبة الاستعمال فيه، أو لغلبة وجوده أو أكمليته، والكل كما ترى، ضرورة أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما الأكملية فغير موجبة للظهور، إذ الظهور لا يكاد يكون إلا لشدة
369

أنس اللفظ بالمعنى، بحيث يصير وجها له، ومجرد الأكملية لا يوجبه، كما لا يخفى (1).
370

نعم فيما كان الآمر بصدد البيان، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على الوجوب، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مؤونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك، بخلاف الوجوب، فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان، كاف في بيانه (1)
372

فافهم (1).
المبحث الخامس: إن إطلاق الصيغة هل يقتضي كون الوجوب توصليا، فيجزي إتيانه مطلقا، ولو بدون قصد القربة، أو لا؟ فلابد من الرجوع فيما شك في تعبديته
وتوصليته إلى الأصل. لابد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات (2).
373

إحداها: الوجوب التوصلي، هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب، ويسقط بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، فإن
374

الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابد في سقوطه وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى (1).
ثانيتها: إن التقرب المعتبر في التعبدي، إن كان بمعنى قصد الامتثال
والاتيان بالواجب بداعي أمره (2)، كان مما يعتبر في الطاعة
375

عقلا (1)، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما
376

لا يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشيء في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا (1)، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للامر، لا يكاد يمكن
377

إتيانها بقصد امتثال أمرها (1).
وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي، ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة، والتمكن من
379

إتيانها كذلك، بعد تعلق الأمر بها، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر (1)، واضح
380

الفساد (1)، ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان، إلا أنه لا يكاد يمكن الاتيان بها بداعي أمرها، لعدم الامر بها، فإن الامر
381

حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به، لا إلى غيره.
إن قلت نعم، ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورا بها بالامر بها مقيدة (1).
قلت: كلا لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا، فإنه ليس إلا وجود واحد واجب
382

بالوجوب النفسي، كما ربما يأتي في باب المقدمة (1).
إن قلت: نعم لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا، وأما إذا أخذ شطرا، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد، يكون متعلقا للوجوب، إذ المركب ليس إلا نفس الاجزاء بالأسر، ويكون تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحة الاتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (2).
383

قلت: مع امتناع اعتباره كذلك، فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري، فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا، إلا أن إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى، وإلا لتسلسلت ليست باختيارية، كما لا يخفى. إنما يصح الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامتثال، بداعي امتثال أمره (1).
384

إن قلت: نعم لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد، وأما إذا كان بأمرين: تعلق أحدهما بذات الفعل، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره، فلا محذور أصلا، كما لا يخفى. فللأمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده، بلا منعة (1).
386

قلت: مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبات، غاية الأمر يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات والعقوبات، بخلاف ما عداها، فيدور فيه خصوص المثوبات، وأما العقوبة فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة (1).
387

ان الأمر الأول إن كان يسقط بمجرد موافقته، ولو لم يقصد به الامتثال، كما هو قضية الأمر الثاني، فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك، فلا يكاد يكون له وجه، إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله، وإلا لما كان موجبا لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الامر، لاستقلال العقل، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه، فيسقط أمره هذا كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال (1).
389

وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه، أو كونه ذا مصلحة
390

أو له تعالى، فاعتباره في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الامكان، إلا أنه غير معتبر فيه قطعا، لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال، الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه
بديهة. تأمل فيما ذكرناه في المقام، تعرف حقيقة المرام، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الاعلام (1).
391

ثالثتها: إنه إذا عرفت بما لا مزيد عليه، عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ولو كان مسوقا في مقام البيان على عدم اعتباره، كما هو أوضح من أن يخفى، فلا يكاد يصح التمسك به إلا فيما يمكن اعتباره فيه (1).
392

فانقدح بذلك أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها (1)، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل
393

الامر، من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها (1)، نعم إذا كان الامر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه، وإن لم يكن له دخل في متعلق أمره، ومعه سكت في المقام، ولم ينصب دلالة على دخل قصد الامتثال في حصوله، كان هذا قرينة على عدم دخله في غرضه، وإلا لكان سكوته نقضا له وخلاف الحكمة، فلابد عند الشك
395

وعدم إحراز هذا المقام، من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل ويستقل به العقل (1).
396

فاعلم: أنه لا مجال ها هنا إلا لأصالة الاشتغال، ولو قيل بأصالة البراءة فيما إذا دار الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وذلك لأن الشك ها هنا في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها، فلا يكون العقاب مع الشك وعدم إحراز الخروج عقابا بلا بيان، والمؤاخذة عليه بلا برهان، ضرورة أنه بالعلم بالتكليف تصح المؤاخذة على المخالفة، وعدم الخروج عن العهدة، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة (1)، وهكذا الحال في كل ما
397

شك دخله في الطاعة، والخروج به عن العهدة، مما لا يمكن اعتباره في المأمور به كالوجه والتمييز (1).
نعم: يمكن أن يقال إن كل ما يحتمل بدوا دخله في امتثال أمر، وكان مما يغفل عنه غالبا للعامة، كان على الآمر بيانه، ونصب قرينة على دخله واقعا، وإلا لا دخل بما هو همه وغرضه، وأما إذا لم ينصب دلالة على دخله، كشف عن عدم دخله، وبذلك يمكن القطع بعدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، حيث ليس منهما عين ولا أثر في الاخبار والآثار، وكانا مما يغفل عنه العامة، وإن احتمل اعتباره بعض الخاصة، فتدبر جيدا (2).
400

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كان قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار، لوضوح أنه لابد في عمومها من شيء قابل للرفع والوضع شرعا، وليس ها هنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي، بل واقعي ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك، إلا أنهما قابلان للوضع والرفع شرعا، فبدليل الرفع ولو كان أصلا يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك، يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام، فإنه علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت (1)،
402

فافهم (1).
405

المبحث السادس: قضية إطلاق الصيغة، كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقيد الوجوب وتضيق دائرته، فإذا كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شيء آخر أو لا، أتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى (1).
406

المبحث السابع: إنه اختلف القائلون بظهور صيغة الامر في الوجوب وضعا أو إطلاقا فيما إذا وقع عقيب الحظر أو في مقام توهمه على أقوال: نسب إلى المشهور ظهورها في الإباحة. وإلى بعض العامة ظهورها في الوجوب، وإلى بعض تبعيتها لما قبل النهي، إن علق الامر بزوال علة النهي، إلى غير ذلك (1).
409



(1) التوبة: الآية 5.
411

والتحقيق: إنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال، فإنه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب، أو الإباحة، أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها، لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه.
غاية الأمر يكون موجبا لاجمالها، غير ظاهرة في واحد منها إلا بقرينة أخرى، كما أشرنا (1).
412

المبحث الثامن: الحق أن صيغة الامر مطلقا، لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فإن المنصرف عنها، ليس إلا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها، فلا دلالة لها على أحدهما، لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة، فإنما هو لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة، كما لا يخفى (1).
414

ثم لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين، لا يدل إلا على الماهية على ما حكاه السكاكي لا يوجب كون النزاع ها هنا في الهيئة كما في الفصول فإنه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك، لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليست مادة لسائر المشتقات،
بل هو صيغة مثلها، كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادة لها فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها، كما لا يخفى (1).
415



(1) شرح ابن عقيل: ج 3، ص 123.
416

إن قلت: فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (1).
قلت: مع أنه محل الخلاف، معناه (2) أن الذي وضع أولا بالوضع
420

الشخصي (1)، ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا سائر الصيغ التي
421

تناسبه (1)، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة (2) في كل منها ومنه (3)،
422

صورة ومعنى كذلك (1)، هو المصدر أو الفعل (2)، فافهم (3). ثم المراد بالمرة والتكرار، هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع، وإن كان لفظهما ظاهرا في المعنى الأول (4)، وتوهم أنه لو أريد بالمرة الفرد، لكان الأنسب، بل اللازم أن
423

يجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتي، من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد فيقال عند ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد، هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث كما فعلوه، وأما لو أريد بها الدفعة، فلا علقة بين المسألتين، كما لا يخفى (1)، فاسد لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد
425

أيضا، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج، ضرورة أن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا مطلوبة
426

ولا غير مطلوبة (1)، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين
427

وعدمها، أما بالمعنى الأول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات (1)، وإنما عبر بالفرد
428

لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد (1)، غاية الأمر خصوصيته وتشخصه على القول بتعلق الامر بالطبائع يلازم المطلوب وخارج عنه، بخلاف القول بتعلقه بالافراد، فإنه مما يقومه (2).
تنبيه: لا إشكال بناء على القول بالمرة في الامتثال، وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا، على أن يكون أيضا به الامتثال، فإنه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار، فلا يخلو الحال: إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان، بل في مقام الاهمال أو الاجمال، فالمرجع هو الأصل. وإما أن يكون إطلاقها في ذلك المقام، فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال (3)، وإنما الاشكال في جواز أن لا يقتصر
429

عليها، فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها، هو الاتيان بها مرة أو مرارا، لا لزوم الاقتصار على المرة، كما لا يخفى (1).
431

والتحقيق: إن قضية الاطلاق إنما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد، فيكون إيجادها في ضمنها نحوا من الامتثال، كإيجادها في ضمن الواحد، لا جواز الاتيان بها مرة ومرات، فإنه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر، فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الأقصى، بحيث يحصل بمجرده، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا، لما عرفت من حصول الموافقة بإتيانها، وسقوط الغرض معها، وسقوط الامر بسقوطه، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو
432

يتوضأ فأتي به، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا (1)، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه، بل مطلقا، كما كان له ذلك قبله،
433

على ما يأتي بيانه في الاجزاء (1).
المبحث التاسع: الحق أنه لا دلالة للصيغة، لا على الفور ولا على التراخي، نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدهما، فلابد في التقييد من دلالة أخرى (2)، كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على
435

الفورية (1). وفيه منع، ضرورة أن سياق آية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (وكذا آية (فاستبقوا الخيرات (إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير، من دون استتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر، كان البعث بالتحذير

(1) البقرة: الآية 148. (2) آل عمران: الآية 133.
437

عنهما أنسب، كما لا يخفى (1) فافهم (2). مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات، وكثير من الواجبات بل أكثرها، فلابد من حمل الصيغة
438

فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب (1)، ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق، وكان ما ورد من الآيات والروايات
439

الواردة في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك، كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة (1)، فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها، ولو لم يكن هناك أمر بها، كما هو الشأن في الأوامر الارشادية (2)،
440

فافهم (1).
تتمة: بناء على القول بالفور، فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا أيضا، في الزمان الثاني، أو لا؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة على هذا القول، هو وحدة
441

المطلوب أو تعدده (1) ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فتدبر جيدا (2).
442

الفصل الثالث: الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام، ينبغي تقديم أمور (1):
أحدها: الظاهر أن المراد من وجهه في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا، فإنه عليه يكون على وجهه قيدا توضيحيا، وهو بعيد، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناء على المختار، كما تقدم من أن قصد
443

القربة من كيفيات الإطاعة عقلا، لامن قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فإنه مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره، إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلابد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه، كما لا يخفى (1).
444

ثانيها: الظاهر أن المراد من الاقتضاء ها هنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (1).
446

إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر، كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحو يفيد الاجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده (1).
447

قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنه على نحو يستقل العقل بأن الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه، وعدم دلالته ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا، بخلافه في الاجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلا كبرويا، لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض (1)
448

فافهم (1).
ثالثها: الظاهر أن الاجزاء ها هنا بمعناه لغة، وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما يكفي عنه، فإن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي، فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالأمر الاضطراري أو الظاهري (2) الجعلي،
450

فيسقط به (1) القضاء، لا أنه يكون ها هنا اصطلاح، بمعنى إسقاط التعبد
451

أو القضاء (1)، فإنه بعيد جدا (2).
رابعها: الفرق بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار، لا يكاد يخفى، فإن البحث ها هنا في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا، بخلافه في تلك المسألة، فإنه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة أخرى. نعم كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها، بخلاف هذه المسألة، فإنه كما عرفت في أن الاتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه ثانيا أداءا أو قضاءا، أو لا يجزي، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا. إذا عرفت هذه الأمور، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (3):
452

الأول: إن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزي عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بأنه لا مجال مع موافقة الامر بإتيان المأمور به على وجهه، لاقتضاء التعبد به ثانيا (1).
نعم لا يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا، بدلا عن التعبد به أولا، لا منضما إليه، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض، وإن كان وافيا به لو اكتفى به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه، فلم يشربه بعد، فإن الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد، وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب
455

حدوثه، فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة، فله إليه سبيل (1).
456

ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى فرادى جماعة، وأن الله تعالى يختار أحبهما إليه (1).

(1) الوسائل ج 5: 455 / 1 باب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
459

الموضع الثاني: وفيه مقامان:
المقام الأول: في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري، هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا، بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة، وفي خارجه قضاء، أو لا يجزي تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء، وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه (1).
فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار، كالتكليف الاختياري في حال الاختيار، وافيا بتمام المصلحة، وكافيا
460

فيما هو المهم والغرض، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك، بل يبقى منه شئ أمكن استيفاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه، أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى أنه إن كان وافيا به فيجزي، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، لا قضاء ولا إعادة (1)، وكذا لو لم يكن وافيا، ولكن
461

لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا لمصلحة كانت فيه، لما فيه من نقض الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة، لولا مراعاة ما هو فيه من الأهم (1).
462

فافهم (1).
464

لا يقال: عليه، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (1).
465

فإنه يقال: هذا كذلك، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت (1)، وأما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى، فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا، أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض (2) وإن لم يكن وافيا، وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت، أو مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت، فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي، بل لابد من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلا فيجزي، ولا مانع عن البدار في الصورتين، غاية الأمر يتخير في الصورة الأولى بين البدار والاتيان بعملين: العمل الاضطراري في هذا الحال، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار، والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه البدار ويستحب إعادته بعد طرو الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء (3)، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله،
466

مثل قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا (وقوله عليه السلام ((التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين)) هو الاجزاء، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، ولابد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.
467

وبالجملة: فالمتبع هو الاطلاق لو كان (1)، وإلا فالأصل، وهو يقتضي
468



(1) الوسائل ج 2: 995 / 5 باب 23 من أبواب التيمم، بتفاوت يسير.
(2) النساء: الآية 43.
469

البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكا في أصل التكليف (1)، وكذا عن
470

إيجاب القضاء بطريق أولى (1)، نعم لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع، ولو لم يكن هو فريضة، كان القضاء واجبا عليه، لتحقق سببه، وإن أتى بالغرض لكنه مجرد الفرض (2).

(1) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 359 / 1 باب 6 من أبواب قضاء الصلوات.
471

المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه (1).

(1) الوسائل ج 1: 256 / 6 باب 1 من أبواب الوضوء.
(2) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 3: 250 / 1 باب 2 من أبواب لباس المصلي.
473

والتحقيق: إن ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلقه، وكان بلسان تحقق (1) ما هو شرطه أو شطره، كقاعدة

(1) أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 5: 329 / 2 باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
474

الطهارة أو الحلية (1)، بل واستصحابهما في وجه قوي، ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية يجري، فإن دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط، ومبينا لدائرة الشرط، وأنه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل،
475

وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنه ما هو الشرط واقعا (1)، كما هو لسان الامارات، فلا يجزي، فإن دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو شرطه الواقعي، فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك، بل كان لشرطه فاقدا هذا على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والامارات، من
476

أن حجيتها ليست بنحو السببية (1)، وأما بناءا عليها، وأن العمل بسبب أداء أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره، يصير حقيقة صحيحا كأنه واجد
477

له، مع كونه فاقده (1)، فيجزي لو كان الفاقد معه في هذا الحال كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب وإلا لاستحب. هذا مع إمكان استيفائه، وإلا فلا مجال لاتيانه، كما عرفت في الامر الاضطراري (2).
478

ولا يخفى أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجتزاء بموافقته أيضا (1)، هذا فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية، أو
479

بنحو الموضوعية والسببية (1)، وأما إذا شك فيها ولم يحرز أنها على أي الوجهين (2)، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة
480

في الوقت (1)، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي، ولا يثبت كون ما أتى به مسقطا، إلا على القول بالأصل

(1) وهو العلامة المحقق المشكيني (قدس سره)، راجع حاشيته على كفاية الأصول: ج 1، ص 134.
481

المثبت، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي (1). وهذا بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، وشك في أنه يجزي عما هو
483

المأمور به الواقعي الأولي كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية، بناء على أن يكون الحجية على نحو السببية، فقضية الأصل فيها كما أشرنا إليه عدم وجوب الإعادة، للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقينا، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف (1).
484

وأما القضاء فلا يجب بناء على أنه فرض جديد، وكان الفوت المعلق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان، إلا على القول بالأصل المثبت، وإلا فهو واجب، كما لا يخفى على المتأمل (1)
487

فتأمل جيدا (1).
488

ثم إن هذا كله فيما يجري في متعلق التكاليف، من الأمارات الشرعية والأصول العملية، وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها مطلقا، غاية الأمر أن تصير صلاة الجمعة فيها أيضا ذات مصلحة، كما لا يخفى (1)، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب
489

صلاتين في يوم واحد (1).
491

تذنيبان
الأول: لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون موافقة للامر فيها، وبقي الامر بلا موافقة أصلا، وهو أوضح من أن يخفى (1)، نعم ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا الحال، أو على مقدار منها، ولو في غير الحال، غير ممكن مع استيفائه استيفاء الباقي منه، ومعه لا يبقى مجال لامتثال الامر الواقعي (2)، وهكذا الحال في الطرق، فالاجزاء ليس لأجل اقتضاء امتثال
492

الامر القطعي أو الطريقي للاجزاء بل إنما هو لخصوصية اتفاقية في متعلقهما، كما في الاتمام والقصر، والاخفات والجهر (1).
494

الثاني لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الأصول والطرق والامارات، على ما عرفت تفصيله، لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه في تلك الموارد، فإن الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل، ليس إلا الحكم الانشائي المدلول عليه بالخطابات المشتملة على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الأولية، بحسب ما يكون فيها من المقتضيات، وهو ثابت في تلك الموارد كسائر موارد الامارات، وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي
البعثي، وهو منفي في غير موارد الإصابة، وإن لم نقل
495

بالاجزاء، فلا فرق بين الاجزاء وعدمه، إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة الامر الظاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة، وسقوط التكليف بحصول غرضه، أو لعدم إمكان تحصيله غير التصويب المجمع على بطلانه، وهو خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة (1)، كيف وكان الجهل بها بخصوصيتها أو بحكمها مأخوذا
496

في موضوعها، فلابد من أن يكون الحكم الواقعي بمرتبته محفوظا فيها كما لا يخفى (1).

(1) قد أورد الحديث بالمضمون، راجع الوسائل ج 2: 1054 / 1 باب 37 من أبواب النجاسات.
499