الكتاب: مباحث الأصول
المؤلف: محمد تقي بهجت
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع:
المطبعة: انتشارات شفق - قم
الناشر: انتشارات شفق - قم
ردمك: ٩٦٤-٩٠٣٥٩-٤-×
ملاحظات: انتشارات شفق - قم - تلفن : ٧٧٤١٠٢٨ - فاكس : ٧٧٤٤٨٣٦

بسم الله الرحمن الرحيم
مع اهداء أفضل التحية والسلام إلى:
بقية الله الأعظم حجة بن الحسن المهدي
(عجل الله تعالى فرجه الشريف)
مصادفا لميلاد
الإمام الرؤوف علي بن موسى الرضا
(عليه آلاف والتحية والثناء)
1

مباحث الأصول
العبد
محمد تقي بهجت
3

بهجت محمد تقى، 1294
مباحث الأصول / لسماحة بهجت، - قم: شفق، 1378 ج.
(ج. 1) ISBN 964 _ 90359 _ 4 x
فهرستنويسى براساس اطلاعات فيپا.
عربى.
1. أصول فقه شيعه. الف. عنوان.
2 م 86 ب / 8 / 159 BP 312 / 297
كتابخانه ملى إيران 24957 - 78 م
(مباحث الأصول)
لسماحة الشيخ آية الله العظمى بهجت (مد ظله العالي)
(الطبعة الأولى)
الكمية المطبوعة: 3000 نسخة
قم _ انتشارات شفق تلفون 741028 _ فاكس 744836
شابك × _ 4 _ 90359 _ 964 (المجلد الأول من أربع مجلدات)
ISBN 964 _ 90359 _ 4 _ x (4 VOLSET)
1000 تومان
4

بسم الله الرحمن الرحيم
يمثل هذا الكتاب الجزء الأول من أجزاء أربعة تشكل عامة المباحث
الاصولية التي كتبها شيخنا العلامة سماحة آية الله العظمى بهجت - مد ظله العالي -.
واهتم بتدريسها على مدى سنوات متطاولة وفي خلال عدة دورات تدريسية. وإنما
تشكلت هذه المباحث بداية الأمر في ضمن دفاتر وأوراق ثم أضاف إليها خلال
التدريس والتحقيق فوائد هامة ودقائق كثيرة.
تطبع هذه الدورة - إن شاء الله تعالى - في أربع مجلدات:
1 - المجلد الأول (هذا الكتاب) من أول مباحث الاصول إلى نهاية مبحث الإجزاء.
2 - المجلد الثاني من مقدمة الواجب إلى مباحث القطع.
3 - المجلد الثالث من القطع إلى آخر البراءة.
4 - المجلد الرابع من مبحث الاستصحاب إلى نهاية الاجتهاد والتقليد.
وما يحسن الالتفات إليه: أولا: أنه - مد ظله - وإن كان يتعرض للأقوال الكثيرة
والآراء المختلفة من محققي الاصوليين، لكنه في مقام النقاش والإيراد لا يذكر غالبا
اسم ذويها رعاية للاحتياط والاحترام; ولذا نحن أيضا أعرضنا عن التعرض لذلك
في تحقيق هذا الكتاب رعاية لنظره الشريف، مضافا إلى أن ذلك كان يعوق طبع
الكتاب أكثر من ذلك.
ثانيا: مبحث «تعارض الأحوال» (من مباحث الألفاظ) رغم كونه مكتوبا عنده
بشكل مبسوط، لكنه - مد ظله - لم يهتم بتدريسه لقلة جدواه ولم يرغب في إيراده في
5

متن الكتاب ولذا أوردناه في نهاية الكتاب في قسم الملحقات محافظة على ما فيه
من الفوائد والتحقيقات.
ثالثا: إنه - حفظه الله - حرر بعض المباحث مرتين ومنها مبحث الإجزاء ولذا
أوردنا الكامل منه في متن الكتاب والمشتمل على بعض المباحث في قسم
الملحقات كي لا يفوت عن المراجعين الفوائد الموجودة فيه.
رابعا: كل ما يذكر في [] و {} ليس من المؤلف المعظم - زيد عزه -.
وفي الختام
نشكر الله تعالى للتوفيق في نشر هذا السفر
ونسأله تعالى التعجيل في فرج صاحب العصر الإمام المنتظر
(أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه بمنه وكرمه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
6

تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الأوصياء
المرضيين، واللعن الدائم على أعدائهم وغاصبي حقوقهم أجمعين.
أما بعد، فهذه مقدمة للشروع في مباحث علم الاصول، يذكر فيها موضوع
العلم وتعريفه ومباديه والغرض الداعي إليه.
في موضوع العلم
أما الموضوع للعلم على النحو الكلي، فهو على ما يقال: «ما يبحث في
العلم عن عوارضه الذاتية اللاحقة له بلا واسطة في العروض» (1); ويجعل
العارض بلا واسطة، أو بواسطة أمر أعم داخلي، أو مساو داخلي أو خارجي، من
الأعراض الذاتية، والعارض بواسطة أمر خارج أعم أو أخص، أو بواسطة مبائن،
غريبا، على خلاف في بعض ما ذكر في كتب المنطق المفصلة (2).

(1) فإنه يكون مع الوساطة في العروض، الأولى بذكر المسألة فيه، العلم الباحث عما لا واسطة
في العروض فيه، فلابد من عدمها، أو كون الواسطة في الثبوت، أو كون الواسطة كالعدم
بالنسبة إلى العروض.
(2) قال في «المطالع»: موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه اللاحقة لما هو
هو. وقال في شرحه: الثاني العرض الذاتي، وهو الذي يلحق الشيء لما هو هو، أي لذاته،
كلحوق إدراك الامور الغريبة للإنسان بالقوة، أو يلحقه بواسطة جزئه، سواء كان أعم، كلحوقه
التحيز لكونه جسما، أو مساويا، كلحوقه التكلم لكونه ناطقا، أو يلحقه بواسطة أمر خارج
مساو، كلحوقه التعجب لإدراك الامور العجيبة المستغربة. وأما ما يلحق الشيء بواسطة أمر
أخص، كلحوق الضحك للحيوان لكونه إنسانا، أو بواسطة أمر أعم خارج، كلحوق الحركة
للأبيض لأنه جسم، فلا يسمى عرضا ذاتيا، بل عرضا غريبا; فهذه أقسام خمسة للعرض،
حصره المتأخرون فيها، بينوا الحصر: بأن العرض إما أن يعرض الشيء أولا وبالذات، أو
بواسطة، والواسطة إما داخل فيه أو خارج والخارج إما أعم منه، أو أخص، أو مساو. وزاد
بعض الأفاضل قسما سادسا، رأى عده من الأعراض الغريبة، أولى; وهو أن يكون بواسطة
أمر مبائن، كالحرارة للجسم المسخن بالنار أو شعاع الشمس، والصواب ما ذكره، انتهى
(شرح المطالع ص 18).
7

وقد يورد على جعل الموضوع في سائر العلوم محدودا بما مر، بأن
الموضوع للمسائل في أغلب العلوم أخص، فعارضه غريب بالنسبة إلى الجامع
الموضوعي.
ويجاب تارة: بأن حيثية الانتساب إلى المحمول، مأخوذة في موضوع العلم;
فموضوع العلم مع هذه الحيثية، متحد خارجا مع موضوعات المسائل.
وفيه - مضافا إلى أن المتحيث بحيثية الانتساب إلى المحمول، لا يكون
معروضا له، بل المعروض ذات المتحيث -: أن الاتحاد الوجودي حاصل بين النوع
والجنس، ولو لم يؤخذ معه حيثية، وذلك لا ينافي غرابة العروض الملتزم بها مع
موضوعية النوع للمسألة، لصحة العروض معها، كان الاتحاد المذكور، أو لم يكن،
وإنما الأثر لعروض خاص.
مع أن المتحيث بحيثية الإعراب - مثلا - وإن كان أخص من نفس الكلمة، إلا
أنه أيضا أعم من الفاعل الذي يحكم [عليه] بالرفع في المسألة ولا يفيد العدول من
عام إلى عام أخص بالإضافة إليه، حتى لو جعل الموضوع للعلم «الكلمة المتحيثة
بحيثية الإعراب»، كان الفاعل الموضوع للمسألة - مثلا - أخص منه، وعاد الإشكال.
8

واخرى: بأن الواسطة إن كانت جهة تعليلية، فعوارضها عوارض الموضوع
الجامع. وفيه: أن معروض الرفع مثلا وجود الفاعل، ولا إثنينية له مع وجود الكلمة
خارجا حتى يكون جهة تعليلية للعروض، والفاعلية وإن كانت حيثية تعليلية لرفع
الكلمة، لكنها ليست موضوعا للمسألة ولا معروض الرفع.
{تفصيل الكلام في الأعراض الذاتية والوسائط}
ثم إن عوارض الفصل، من الذاتي بالنسبة إلى النوع المتحصل بذلك
الفصل; وكذا العكس الراجع إلى عارض المساوي على الظاهر; وكذا عوارض
الجنس بالنسبة إلى النوع المتضمن لذلك الجنس المقوم له.
ولا يرد الإيراد: بلزوم صحة ذكر مباحث الأدب الباحثة عن عوارض الكلام،
في النحو، حتى يجاب بالميز بحيثية الإعراب; فإن الكلام في موضوعية النوع
للعلم والجنس للمسألة، لا العكس الذي مر الاستشكال فيه. نعم، تنفع حيثية
الورود في الكتاب والسنة لدفع أعمية موضوع المسألة عن موضوع العلم في مثل
مباحث الأمر والنهي، مع أن موضوع العلم، الأدلة، كما في «الفصول» (1)،
لا العكس; فإنه عارض للأخص الذي هو واسطة للعروض للأعم، وقد تقدم عدم
إغناء أخذ قيد الحيثية في هذا المقام.
{وساطة المساوي الخارجي}
وأما المساوي الخارجي - كعروض الضحك للإنسان بتوسط التعجب
العارض له بواسطة إدراك الكليات - فيمكن جعل وساطة التعجب، من قبيل

(1) الفصول الغروية: ص 11.
9

الواسطة في الثبوت، إلا أنه تقدم ما فيه: من أن الوساطة، للتعجب مثلا،
والمعروضية، للمتعجب. واتحاد الوجود إن كان كافيا هنا، كفى في جعل عوارض
النوع ذاتية للجنس أيضا، لاتحادهما في الخارج في الجملة، مع أنه لا اتحاد بين
التعجب والمتعجب، كما أن الإجمال لابد منه فيما نحن فيه.
ويمكن أن يقال: إن التعجب والضحك إن اخذا بالقوة، فهما بالنسبة إلى
الإنسان كالناطق معه، من المساوي الداخلي، وإن اخذا بالفعل فهما أخص من
الإنسان، ونسبتهما إليه كنسبة الإنسان إلى الحيوان، والعرض حينئذ غريب.
{هل يكفي اتحاد المعروضين وجودا في حقيقية العرض؟}
ويمكن أن يقال: إن كون العرض حقيقيا في عوارض الوجود، يكفي فيه
اتحاد المعروضين وجودا، سمي بالذاتي أو الغريب في مصطلح أهل الفن.
والأزيد من ذلك لو كان معتبرا في موضوع العلم، فإنما هو في كونه حافظا
للعلم من حيث الجامعية والمانعية; فإن وفي لذلك موضوع للعلم، ولو بإضافة قيد
التحيث بالخصوصيات، فهو، وإلا فلابد من تشخيص ما هو الموضوع، لحفظه
للعلم، لا لمجرد كون عوارض موضوعات المسائل عوارض له; فقد يمكن أنهم
أرادوا بلزوم العرض الذاتي، ما يكون معه هذا الموضوع الجامع المانع محققا،
وفهموا انحصار ذلك في العرض الذاتي; فلا يكتفي بمجرد اتحاد الوجود بين
المعروضين، بل لابد وأن يكون العروض لأحدهما عين العروض للآخر، عينية
حقيقية; فإنه مع الواسطة في العروض قد يكون العروض المنسوب إلى أحدهما
بالذات والحقيقة، منسوبا إلى الآخر بالعرض والمجاز; والكلام في نفي الواسطة
بهذا الوجه; فالواسطة إن كانت، لابد وأن تكون في الثبوت، أي في كون أحد
العروضين دخيلا في العروض الآخر على الحقيقة، لا المجاز، ولا بمطلق العلية
10

للعروض; فإنه لا يناسب اتحاد موضوع المسألة مع موضوع العلم وجودا وصدق
أحدهما على نفس الآخر; فمع عينية المعروضين وجودا وعروضا فلا واسطة،
فلا بحث.
{حكم العارض للنوع أو الفصل}
وإن كان العارض، للنوع أو للفصل، أمكن جعله من الذاتي في كل للآخر،
لاتحادهما وجودا وعروضا; فإن العروض منسوب إليهما على الحقيقة،
والعروض - كالمعروض - واحد خارجا، وهذا الواحد متحد في الفعلية والقوة،
والضرورة واللاضرورة، وغيرها من الجهات والحيثيات; وحيث إن المساواة
حاصلة، فلا يضر عدم دخول النوع في الفصل، كالدخول في العكس; والاتحاد في
خصوصية الجهة معتبر أيضا; فضاحكية الإنسان، بالقوة القريبة، وضاحكية
الحيوان، بالقوة البعيدة; وضاحكية المتعجب، بالفعلية.
{حكم عوارض النوع بالنسبة إلى الجنس}
وأما عوارض النوع بالنسبة إلى الجنس، فالاتحاد الوجودي بين
المعروضين وإن كان محفوظا، إلا أن العروض لا يخلو عن تعدد ومغايرة;
[و] يشهد لها أن الكاتب بالقوة يحمل على الإنسان، بالضرورة والفعلية والدوام،
وعلى الحيوان، بالإمكان واللادوام، مع اتحاد المعروضين وجودا ووحدة
العروض خارجا; وإنما كشف اختلاف جهتي النسبة عن عدم كون العروض ذاتيا
لكل منهما، وإلا لم تختلف جهة الانتساب; فالمعروض الذاتي هو حصة من
الجنس متقررة في ذات النوع; فالعرض الذاتي للنوع ذاتي لتلك الحصة، غريب
لذلك الطبيعي الجامع بين الحصص.
11

{حكم عوارض الجنس بالنسبة إلى النوع}
وأما العكس، فيمكن أن يقال: إن ذاتي الذاتي ذاتي لذي الذاتي; فإذا كان
الماشي ذاتيا للحيوان الذي هو ذاتي للإنسان، فهو ذاتي للإنسان أيضا، يعني أن
العرض الذاتي لذاتي الشيء ومقومه، عرض ذاتي، لا غريب لنفس الشيء
المتقوم; والمشي بالقوة لما كان ضروريا للحيوان، فهو ضروري للإنسان أيضا،
والمشي بالفعل بالإمكان، لكل من الحيوان والإنسان، فلا اختلاف في الوجود،
ولا في العروض، ولا في جهة العروض; فيتجه الفرق بين هذه الصورة والسابقة
عليها، لكن الممكن للجنس قد يكون ضروريا للنوع بلا عكس; فهذه جهة
المغايرة بين العروضين.
{حكم العارض بواسطة أمر خارجي أخص أو اعم}
ومما قدمناه يظهر حال العارض بواسطة أمر خارجي أخص، كالضحك
الفعلي العارض للمتعجب الفعلي المتوسط به لعروض الضحك الفعلي للإنسان;
فإن الغرابة في الأخص المتوسط به للأعم - كما مر - مع كون الأعم جنسا، تقتضي
الغرابة هنا بذلك الملاك المشترك.
هذا في الإنسان مع المتعجب بالفعل والضاحك بالفعل; وأما معهما بالقوة،
فهو كالنوع مع الفصل في المساواة وفي ملاك الذاتية، على الوجه الذي ذكرناه في
الاتحاد في الوجود والعروض وجهة الانتساب العروضي، ويطرد ذلك في
العارض للشيء بواسطة المساوي الخارجي في ملاك الذاتية.
وأما العارض بتوسط أمر خارجي أعم، فحيث إن هذا الأمر الخارج أيضا
عارض، أي عرضي، فإن كانت الذاتية محفوظة في العارضين في كل مع معروضه
12

الأولي، وكان الاتحاد في الوجود والعروض وجهة العروض، محفوظا، فهو ذاتي،
لما قدمناه، وإلا كان غريبا.
ولا يجري ما قدمناه في عوارض الجنس مع النوع; فإن العروض بالذات
للعارض بالذات، لا يستلزم العروض للذاتي، ولا أحكام ذلك، كما هو ظاهر;
فالعبرة، بما قدمناه من صيرورة العارض الذاتي للذاتي أو العرضي الذاتي الغير
الغريب، عارضا ذاتيا غير غريب للمعروض الثانوي، ولا يتم حصر الذاتي فيما
ذكروه (1).
ثم إن الاتحاد في الوجود بين المعروضين وإن كان معتبرا في العروض
الذاتي، بل الاتحاد في العروض وفي جهة العروض - كما مر - أيضا معتبر فيه، إلا
أنه بحسب الظاهر غير معتبر في أصل العروض; فمع المباينة في الوجود، يمكن
العروض مع المصحح، كما في حركة السفينة للجالس، ويكون العارض حينئذ
غريبا، ولا يلزم الاتحاد في الوجود في أصل العروض، ولعله هو الذي أراده
«الحكيم السبزواري» (قدس سره) (2) في أخذ الجنس بشرط لا، في العرض الغريب، يعني
في الوجود، لا في العروض.
وأما أخذه لا بشرط، فلا يكفي في كون عارض النوع ذاتيا للجنس، لما
قدمناه من عدم الاتحاد في جهة انتساب العارض; كما أن مجرد البشرط لائية،
لا يكفي في العروض الغريب مالم يكن مصحح له، وإنما يكفي في عدم العروض
الذاتي; لكنه مع المبائنة الوجودية ومصحح العروض، فالعروض مجازي غير
ذاتي; لكنه لا يرتبط بالمقام المفروض فيه اتحاد المعروضين وجودا وكون

(1) هذا، وما قدمناه من أن اللازم، كون الموضوع جامعا مانعا لمسائل العلم، يوجب الغنى عن
كثير من التكلفات في تمييز الذاتي عن الغريب.
(2) الشواهد الربوبية تعليقة «الحكيم السبزواري» (قدس سره) على الإشراق 410.
13

موضوع العلم منطبقا على موضوع المسألة، بل في صورة الانطباق لابد من
التقسيم وإخراج العرض الغريب وما ينطبق على موضوع المسألة، مع أن
محمولها عرض غريب لذلك المنطبق، إذ الغرض هو الجامعية والمانعية، كما مر.
{إشارة إلى أنحاء الجامع وأولوية الاعتبار بالجامع المحمولي}
ولا يخفى أن ثبوت الموضوع على هذا الوجه وإن كان ممكنا في بعض
العلوم - وقد مر النقض بالغالب من موارد أخصية موضوع المسألة عن موضوع
العلم، والإيراد على الجواب عنه - إلا أن الكلام في لابديته فيها، بل اللازم ثبوت
تناسب بين مسائل كل فن، به يصح إدخال مسألة فيه، وإخراج مسألة منه; وهذا
كما يتحقق بالموضوع الجامع المانع، يتحقق بالمحمول والغرض كذلك، بل لعل
الجامع المحمولي أولى، لأنه لا يكفي انتزاع أي موضوع ولو كان ذاتيا جامعا مانعا،
بل لابد وأن تكون عوارض موضوع المسألة، عوارض لذلك الجامع بنحو الذاتية
المقابلة للغريب; فليس منه الجنس الجامع بين النوع والفصل إذا وقعا في موضوع
المسائل.
فإن كان المحمول [بحيث] لابد من ملاحظته في الجامع الموضوعي
وملاحظة عروضه في انتزاع الجامع الموضوعي بحيث تكون عوارض النوع
خارجة من مسائل العلم إن كان لابد من موضوعية ذلك الجنس، أو يكون
الموضوع غير ذلك الجنس مما يساوي النوع أو شبهه إن كانت المسألة لابد منها
في ذلك العلم، فالاعتبار بالجامع بين محمولات المسائل أولى، كالمحكوم
بالإعراب والبناء، أو بالحرمة والعدم، أو بالصحة والاعتلال، ونحوها، بلا تقييد
بخصوصيات الموضوعات.
والأزيد من وجود مناسبة مصححة لتميز العلم، باشتماله على مسألة، وفقده
14

لمسألة، لا برهان عليه، وهذا المقدار لازم، وإلا لزم صحة إدراج أي مسألة في أي
علم، وهو بديهي الفساد.
ويمكن استفادة الاكتفاء بما يتحقق معه التناسب بين المسائل، من محكي
«شرح الإشارات» (1)، في الاكتفاء بالموضوعات المتعددة المتناسبة بالنسبة إلى
الفائدة المترتبة عليها، فليلاحظ.
فائدة:
{في نقل آراء من «الإشارات» وغيره في العرض الذاتي والتحقيق فيها}
ذكر في «الإشارات» (2): أن العارض للشيء بلا واسطة أو بواسطة
المساوي، ذاتي; والعارض بواسطة أمر خارجي أعم أو أخص، غير ذاتي; وعرف
الذاتي في شرحه ناسبا له إلى «الشيخ» " بما يؤخذ الموضوع في حده ".
وعمم «المحقق الطوسي (قدس سره)» الذاتي - في «الشرح» - للعارض لنوع الجنس
المعروض بحسب الاصطلاح، وللعارض لأعراض موضوعه الاخر، أو لأنواع
تلك الأعراض الاخر، وعمم بسبب ذلك، الأخذ في الحد.
وحكي في «الأسفار» (3) تصريح «الشيخ» بأن المحتاج إلى تخصص
استعداد لقبول العرض، فهو بالإضافة إليه غريب، كالضحك للحيوان المفتقر إلى
الإنسانية في الضاحكية.
وذكره في «شرح المطالع» (4) مفرقا بينه وبين تحرك الجسم، أو سكونه

(1) شرح منطق الإشارات النهج التاسع 1: 298.
(2) منطق الإشارات 1: 64.
(3) الأسفار 1: 33.
(4) شرح المطالع: 19.
15

الغير المحتاج إلى حيوانيته، وقد يعبر عن المفتقر إليه بالحيثية التقييدية.
وصدق ذلك على العارض للنوع بواسطة جنسه، واضح وإن لم يدخل في
قسمي الذاتي فيما تقدم عن «الإشارات»، لكنه يمكن فهمه من اعتبار الخروج في
المقابل، يعني خروج الواسطة عن ذات المعروض إن استفيد الاعتبار; وأما
خروج العرض، فهو محل التقسيم إلى الذاتي والغريب، كما يمكن إدخال بعض
أقسام الخارج من التعريف بتحديد (1) العرض بالموضوع; فإنه يشمل ما ليس فيه
ضميمة موجبة لاستعداد المعروض الأولي للعلم، للعرض الثاني للمسألة، كان
نوعا بالنسبة إلى الجنس، أو أمرا خارجا أعم بالنسبة إلى الأخص.
وأما المحتاج إلى الضميمة، فالتحديد بدونها ناقص غير تام وإن اريد به
ما يعم الرسم; فجعل العارض بواسطة الخارج الأعم، كالحركة للأبيض بواسطة
الجسم، أو أخص، كالحركة للموجود بواسطة الجسم، والضحك للحيوان بواسطة
الإنسان - في «الإشارات» - من جهة وجدان الحيثية التقييدية، وحصول التهيؤ
للمعروض بسبب العارض الأولي الذاتي، فلا ينافي الذاتية فيما لم تكن هذه
الحيثية التقييدية المتقدمة.
{وجه جمع بين هذه الأقوال في العرض}
ولعله يمكن الجمع بين الكلمات بذلك، من إدخال ما يعرض للجنس
بواسطة النوع، في الذاتي في الاصطلاح في بحث العرض، في «شرح الإشارات»،
وإخراج العارض بواسطة الأعم أو الأخص في كتاب «البرهان»، عن الذاتي، معللا
للأول بعدم كون الحمل أوليا، ولأنه قد يزول العروض بزوال النوع، وللثاني بعدم
الكلية الموجبة لليقين، كعروض الضاحك للحساس بواسطة الإنسان; وإن كان في

(1) [لفظة «بتحديد» متعلق ب‍ «الخارج» و] علة الخروج.
16

الأول: أنه خلف العروض للجنس بالذات (1)، لكنه لعله لا يجري فيه الملاك
للذاتية، لأن الذاتية للجنس بمعنى، وذاتية الجنس بمعنى آخر; فالثاني مقوم غير
مبحوث عنه في العلوم، والأول عارض ذاتي مطلوب في العلوم البرهانية.
وهذا بخلاف الاكتفاء في الذاتية باتحاد المعروضين في الوجود; فإنه يعم
الأقسام المذكورة بحيث لا تبقى صورة منها للغريب.
{المستفاد مما سبق}
ومما قدمناه يظهر عدم الاعتبار في الذاتية، لعدم الواسطة في العروض، بل
المعتبر عدم الواسطة، أو عدم كونها ضميمة للموضوع في معروضيته بالنحو
المتقدم; فتفسير العرض الذاتي بما ليس له واسطة في العروض رأسا، لا يخلو عن
مسامحة; ويمكن أن يراد به عدم اعتبار عدم الواسطة في الثبوت، وأما الواسطة في
العروض فقد تضر بالذاتية وقد لا تكون مضرة.
{كلام من حاشية الاسفار في الموضوع والملاحظة فيه}
ثم إنه قد يقال - كما في حاشية «الأسفار» (2) -: يستفاد اعتبار الموضوع في

(1) إلا على كون حمل ذاتي على ذاتي، أو على ذي الذاتي، حملا شائعا، لا ذاتيا كما قيل، لكن
الحمل الشايع على هذا، لا يفيد مع كون الجنس داخليا يعم الموضوع بملاك الذاتية; كما أن
زوال العروض بزوال النوع، لا يضر بكون العروض الثاني في تقدير تحقق النوع ذاتيا، لكن
المنتفي فيه ملاك الذاتية بمعنى الأخذ في الحد، لا بمعنى عدم الحيثية التقييدية، ومنه يظهر
الحال في الثاني.
(2) الأسفار 1: 30 و 31 و 32.
17

العلوم بنحو يكون البحث فيها عن عوارضه الذاتية المساوية له، من اعتبار إنتاج
مقدمات البرهان لليقين بالنتيجة; فلذا احتاج إلى جعل العارض للأخص مع ما
يقابله، عرضا ذاتيا للجامع بين الموضوعين; ولازمه الاكتفاء بجعل الجامع بين
المحمولات المتقابلة، أعراضا ذاتية للجامع بين الموضوعات الخاصة المتقابلة;
فيكون حد الموضوع محققا مع وساطة للأخص بهذا التقريب، وإن كان العرض
الخاص الذاتي لحصة خاصة من الموضوع، غريبا بالإضافة إلى موضوع
العلم.
لكنه إنما يصحح البحث عن الجامع للجامع، ولعله لا ينافي الوساطة في
العروض بنحو يحتاج الجامع بين الموضوعات إلى حيثية تقييدية; فإن الاحتياج
في خصوص المحمول الخاص، لخصوص الموضوع، لا للأعم من المتقابلين
محمولا للأعم من المتقابلين موضوعا (1).
لكن البرهان على لزوم البحث عن الموضوعات المندرجة تحت جامع ذاتي
بنحو تكون عوارض العلم ذاتية لذلك الموضوع بالنحو المذكور، غير مستفاد من
الكلام المتقدم، لإمكان تباين موضوعات المسائل بنحو يكون ثبوت المحمول
لموضوعه في المسألة يقينيا بلا جامع بين تلك الموضوعات إلا المردد بين
المتباينات; وجعله ذاتيا لموضوعات المسائل، كما ترى.

(1) هذا، وليس مسائل الفن إلا باحثة عن ثبوت الخاص للخاص، وهي على الفرض عن
الأعراض الغريبة للأعم المحتاج إلى حيثية تقييدية في العروض، لا عن العام للعام حتى
يصح كونها ذاتية، ولا عن الخاص للعام حتى يضر كونها غريبة. ولا يعتبر فيه كونه يقينيا،
ولا لوازم اليقين من الشروط المذكورة، بل يلزم التوافق بين العروضين في اليقين وأسبابه.
ولو كان البحث عن العام للعام، لم يبق محل للنقض بما في الغالب من أخصية موضوع
المسائل من موضوع العلم، مع أن ثبوت العام للعام ربما يكون بديهيا، والنظري ثبوت
الخاص للخاص.
18

وقد عرفت تصريح «المحقق» (قدس سره) في شرح «الإشارات» (1) بإمكان تعدد
الموضوعات المشتركة في النسبة إلى غاية العلم، وذكره «الشريف» في حاشية
«شرح المطالع» (2)، وشيخنا (3) (قدس سره) في بحثه.
وبرهان وحدة المؤثر في الواحد، لا يجري في غير الواحد الشخصي.
ثم على تقدير تمامية ما ذكر، فلا وجه لاختصاصه ببعض العلوم، إذ لا علم
لا يعتبر فيه اليقين بثبوت المحمول لموضوعه في كل مسألة، ولا علم يكون
اعتباريا غير حقيقي.
تنبيه
{وحدة الغاية معلولة لوحدة الجامع بين المسائل}
يمكن أن يقال: إن اختلاف الأغراض واتحادها وإن كان هو المهم، - ويكفي
في تمايز العلوم تمايز الأغراض الداعية إلى تدوينها بما لها من المسائل، ومعه
لا حاجة إلى تشخيص الجامع الموضوعي أو المحمولي بحيث تكون عوارض
الموضوعات للمسائل عوارض ذاتية لذلك الموضوع الجامع في الجامع
الموضوعي، - إلا أن وحدة الغاية المترتبة على المسائل الخاصة، من جهة وحدة
العلة الجامعة بين تلك المسائل; فإن تعدد الغايات يكشف عن تعدد ذيها،
ووحدتها عن وحدة ذيها، للزوم السنخية بين العلة والمعلول، فلا يختلفان من
حيث الوحدة والكثرة بما هما كذلك; وعدم العلم بالموحد في ناحية العلة وأنه
الجامع الموضوعي أو المحمولي، غير عدم لزومه ثبوتا.

(1) منطق الإشارات 1: 298.
(2) شرح المطالع: 18 حاشية السيد الشريف.
(3) نهاية الدراية 1: 26 ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
19

نعم يمكن الاكتفاء في هذه الوحدة في ناحية العلة بكل من الاتحاد
الموضوعي أو المحمولي، لا خصوص الأول وخصوص العروض الذاتي في
الأول; فتبصر فيما فعله في «الكفاية» (1) من جعل التمايز بالأغراض فقط مع
تقريره ما ذكروه في موضوع العلم، فإنه يمكن الجمع بين الأمرين بما قدمناه.
وأما تفسير العرض الذاتي بما لا واسطة فيه في العروض، فيفترق عن
تفسيرهم له باللاحق للشيء بما هو هو، مع تفصيلهم بين الأقسام التي قدمناها في
شرح ذلك.
فيمكن جعل ما هو الموضوع في كثير من العلوم أعم مطلقا من موضوعات
المسائل داخلا في الذاتي بحسب التفسير الأول للاتحاد الوجودي الكافي في
عدم الوساطة في العروض فيها، بخلاف التفسير الثاني مع الحصر المتقدم في
الأقسام الثلاثة المتقدمة، وذلك بضميمة عدم الإضرار في اختلاف جهة العروض
بالضرورة والإمكان ونحوهما في العروض لموضوع العلم معه لموضوع المسائل.
ومما ذكرناه من التفسيرين، يظهر أن توجيه «الحكيم السبزواري» (قدس سره) مبني
على التفسير الأول. والعروض المجازي والوساطة في العروض يناسب المباينة
التي تحقق أيضا بأخذ موضوع العلم بشرط لا; فيكون العرض غريبا على التفسير
الأول المبني على التجوز بعلاقة العموم والخصوص، فلا يكون في توجيهه غرابة.
{موضوع خصوص علم الاصول}
وأما الموضوع في خصوص علم الاصول، فقد يقال بامتناع الجامع
الموضوعي للموضوعات المتباينة جدا، حتى أن المحمول في بعض المسائل

(1) كفاية الاصول ص 8 ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
20

موضوع في بعضها. وهو كذلك، لو اريد الموضوع على النحو المتقدم تقريره
لسائر العلوم، مع الإغماض عما قدمناه من كفاية الجامع الغرضي الذي هو التمكن
من الاستنباط بالنحو الآتي، الذي لا يضر بكونه الجامع ترتب مسألة على مسألة
وترتب الغرض بلا واسطة أو معها.
{الجامع المحمولي لعلم الاصول}
ولو اريد تقريره على ما مر، فلا مانع من جعل الجامع الحافظ للوحدة بين
المسائل: «الحجة على الحكم الشرعي»; فإنها جامعة بين محمولات المسائل
الباحثة عن حجية الشيء على الحكم الشرعي.
وأما المباحث المعينة للأوضاع، فحيث إن مآلها إلى البحث عن تحقق
الحجة وثبوتها، بنحو مفاد «كان» التامة، فمرجع مثل البحث عن ظهور الصيغة في
الوجوب، إلى تحقق الحجة على الوجوب بسبب الصيغة، أي تحقق الظهور الذي
هو من أنواع الحجة، للأمر في الوجوب مثلا; فهو جامع موضوعي بين أمثال هذه
المباحث بحسب اللب، لا العنوان، أي بدون التخصص بخصوص الموضوعية أو
المحمولية; فعلم الاصول باحث عن ثبوت الحجة، أو حجية الثابت بالذات،
أو بالفعل، والأخير مترتب على الثاني، كما أن الثاني متقدم على الأول (1).

(1) ويمكن أن يقال إن التحديد بالغرض للجامع الموضوعي لعلم الاصول أشمل وأسهل،
لصعوبة تحصيل الجامع بغير ذلك، مع ما ترى من الترتب بين المسائل بحيث يكون المحمول
في بعضها موضوعا في بعضها. وليس المراد من الدخول في العلم فيهما شيء من الجامع
الموضوعي أو المحمولي، إلا بالترديد الذي ذكرناه في جعله الحجة على الحكم; كما أن
الجامع الغرضي لا ينفي الواسطة، بل يعم المبدئية للمسألة إذا كان الغرض من التدوين في
العلم مسائل الفن، وإن كان مسألة أو مبدأ في سائر العلوم أيضا، لأن الاجتماع في الغرض
أعم من الاختصاص بفن واحد. وبالجملة فالجامع الغرضي أوسع وأسهل، مع أنه من حيث
العلية، له التقدم على سائر الوحدات المعلولية، فلا يناسب العدول عن العلة إلى المعلولات،
فتدبر.
21

ومثل ذلك يجري في البحث عن وجوب المقدمة الراجع إلى البحث عن
ثبوت الحجة على وجوب المقدمة بسبب الحجة على وجوب ذيها; وفي البحث
عن الإجزاء الراجع إلى ثبوت الحجة على عدم وجوب الإعادة والقضاء بسبب
امتثال الأمر الظاهري أو الاضطراري، أو إلى أن الحجة على الحكم قبل الامتثال
المذكور حجة عليه بعده أيضا; فلا أثر للامتثال بعد انكشاف الخلاف أو تبدل
الاضطرار بالاختيار.
وفي المسألتين نظر، فإن البحث عن الحكم محوج إلى البحث عن الدليل
والحجة على الحكم; فلابد من جعل البحث عن حجية الحجة على أحد
الحكمين على الحكم الآخر، كالبحث عن حجية الظهور.
{الجامع الغرضي لعلم الاصول}
كما يمكن حفظ الوحدة بالغرض الوحداني المترتب على مسائل الاصول،
وهو التمكن من استنباط الحكم الشرعي، ظاهريا كان أو واقعيا، أو من إقامة
الحجة على الحكم في المسألة الفرعية; كذا قيل، ولا يخلو عن إشكال، للاحتياج
إلى سائر العلوم، وفيها ما دون للاستنباط كعلم «الرجال» و «الدراية»; فإن
الاستنباط أهم المقاصد منهما، إلا أن أغلب مسائل الرجال - كاللغة - مسائل
جزئية، لا قواعد كلية. وفي الكلية منه ومن اللغة والدراية، فالموضوع فيها مغاير
للموضوع في [علم] الاصول; فإنه باحث عن الحجة ثبوتا أو حجية، بدون
تخصصه بخصوصية جهة الصدور مثلا، وإن اخذت الخصوصيات في
22

موضوعات المسائل لا في موضوع العلم، لكن البحث عن وثاقة الرجال، بحث
عن تحقق أخبار الثقة بإخبار «فلان» مثلا; فيكون - كالبحث عن تحقق الظهورات
في مباحث الألفاظ - بحثا عن تشخيص الحجة.
والذي يسهل الخطب، كثرة مسائل الرجال المقتضية لأن لا يعامل معها معاملة
باب من الاصول، وقلة مباحث الدراية المقتضية لعدم الفرق بين درجها في
الاصول أو في الرجال، لمناسبته معهما، أو إفراده عنهما.
ودعوى كون الاصول جزءا أخيرا للاستنباط - كما ترى - لا تخلو عن الإجمال،
إلا بما يظهر مما مر من الإشارة إلى أن التمكن الخاص الحاصل من مباحث
الاصول، كتمكن النحوي من حفظ اللسان عن الخطأ في إعراب الكلمة وبنائها.
وذلك، لأن القواعد الكلية النظرية الممهدة لاستنباط الأحكام الفرعية برد
الفرع إلى الأصل، منحصرة في علم الاصول، وينحصر فيها علم الاصول، فلا
يحتاج إلى جامع مانع غير ذلك. ومنه يظهر تعريفه الخاص به.
نعم لا ترفع الحاجة مطلقا في الاستنباط، بسائر العلوم، فهي لتحصيل
التمكن المفقود مع سائر العلوم المعهودة; فالحاجة للمستنبط ماسة إلى الاصول،
وإن حصل سائر العلوم سائر ما يحتاج إليه المستنبط.
{المتحصل من البحث في موضوع العلم}
فقد تحصل مما قدمناه: أن تحصيل الجامع الموضوعي بين موضوعات مسائل
العلم، من لزوم ما لا يلزم; وأن المناسبة المصححة لجمع مسائل خاصة وفقد
غيرها فيها، هي الداعية إلى تدوين علم خاص; وأنه يكفي فيها الاشتراك في
الموضوع بحيث تكون الواسطة كالعدم، ويكون العروض لذيها حقيقيا وذاتيا،
23

محافظة على عدم المصحح للإدراج في علم آخر، كما يكون بالاشتراك في
الجامع بين محمولات مسائل العلم، وكما يكون بالاشتراك في الغرض المترتب
بنحو الإعداد، على تلك المسائل، وإن اختلفت تلك المسائل بحسب الجامع
الموضوعي والمحمولي.
ومن الواضح أنه لا يجري التقسيم إلى العرض الذاتي والغريب، في الجامع
المحمولي، ولا في الجامع الغرضي.
والالتزام بالجامع الموضوعي هو الموجب لاختلاف مباحث علم الاصول
والالتزام بمبدئية بعضها وكون بعضها داخلا في ذي المبدأ واستطرادية بعضها، مع
العلم بعدم إرادة المدونين لذلك الاختلاف واكتفائهم بمطلق المناسبة المصححة،
وإن سلك المتأخرون ما يكون كالانتقاد لمسلك المتقدمين في تدوين مسائل
الاصول، بل المناسبة المصححة، هي الموجبة لأولوية الذكر في هذا العلم من
سائر العلوم في خصوص كل مسألة، بدون إناطة على خصوص الجامع
الموضوعي أو المحمولي.
وهذا كما تحقق في علم الاصول أن البحث في مباحث الألفاظ، عن تحقق
الظهور الذي هو حجة المفروض حجيته، وفي مباحث الحجج، عن حجية
الأمارات المحققة، التي منها الظهور والصدور الظني، فما هو الموضوع في الأول
محمول في الثاني، كما أن الحجية الشأنية المحمولة في الثانية، موضوع في باب
«التعادل» الباحث عن فعلية الحجية لما هو حجة شأنا مع التعارض وعن تعيين
الحجة.
{ضابط تمايز علم الاصول عن غيره}
والمصحح للتدوين في علم واحد لجميع هذه المسائل، اشتراكها في
غرض واحد، وهو «التمكن من الاستنباط من قبلها بنحو الإعداد»; فلا ينتقض
24

بسائر ما يحتاج إليه المجتهد، مما لم يدون لخصوص الاستنباط، أو دون ولكن
امتاز بموضوع آخر للعلم، كعلم «الدراية» و «الرجال» بالنسبة إلى قواعدهما
الكلية.
ولولا ذلك، كان اللازم تدوين علوم ثلاثة في داخل علم الاصول، كما ظهر
مما قدمناه، بعد ملاحظة الجامع الموضوعي والمحمولي بنحويه، بعد البناء على
أن ترتب هذه المسائل المجتمعة في الغرض المحفوظ به وحدة العلم، لا يضر
بوحدة العلم، كترتب البحث عن شروط حجية خبر الواحد على البحث عن
حجية الخبر، فتدبر.
مبادئ علم الاصول
وأما المبادئ فهي [إما] «تصورية» راجعة إلى تحديد موضوعات مسائل
العلم أو محمولاتها، أو «تصديقية» يتوقف عليها التصديق بثبوت تلك
المحمولات للموضوعات; وإنما يلزم التنبيه عليها في مقدمة العلم إن كانت غير
معدودة في مسائل سائر العلوم وغير مبينة فيها.
وقد يقسم كل من القسمين إلى «اللغوية» و «الأحكامية»; ولا مقابلة بين
البحث عن المعني اللغوي، أو ما بحكمه، تصورا أو تصديقا، وبين البحث عن
الأحكام تصورا أو تصديقا.
وقد جعل البحث عن الخبر والإنشاء، من اللغوية التصورية، والبحث عن
الصحيح والأعم، من التصديقية اللغوية، وكذا الحقيقة الشرعية. والمراد من
اللغوية - على هذا - ما يعم مطلق اللفظية، وجعلهما من المبادئ مبني على جعل
المسألة نتيجة البحث في البحثين، أعني ثبوت الإجمال على الصحيح،
25

فلا يتمسك بالإطلاق، بخلافه على الأعم، ولزوم حمل أسامي العبادات على
المعاني الشرعية، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية، مع أن النتيجة غير معنونة،
لإغناء البحث عن المبدأ عن البحث عن النتيجة.
ولعل جعل المبدأين المذكورين لدخلهما في الفقه، من المسائل الاصولية
- كسائر ما وقع البحث فيه عن الوضع أو تعيين الموضوع له - أولى.
وتخلل واسطة - معنونة كانت أو لا، للوصول إلى الحكم الفرعي - لا ينافي
ذلك، كسائر ما وقع البحث فيه عن الظهورات; وعليه، فلا يطرد صحة إخراج
المبادئ من المسائل، بل لابد في كل مبحث من رعاية وجود ملاك المسألة
وعدمه.
{ماهية البحث عن حقيقة الحكم}
وجعل البحث عن حقيقة «الحكم» وتقسيماته، من الأحكامية التصورية،
وعن جواز الاجتماع وعدمه، من الأحكامية التصديقية، مع أنه لا يكفي في كون
المبدأ تصديقيا، كونه بحثا عن ثبوت شيء للحكم في قبال البحث عن تصور
نفس «الحكم» أو ثبوت نفسه، بل كون ذي المبدأ مما يتوقف التصديق فيه على
المبدء، في قبال توقف تصور أطرافه على المبدأ.
وتوقف التعارض على مسألة الاجتماع من جهة توقف صغرى التعارض
على اختيار الامتناع، ليس من توقف التصديق على مسألة; وليس تنقيح صغرى
مسألة لمسألة، موجبا للمبدئية المذكورة، وإنما ذلك فيما كان المتوقف - بالكسر -
التصور أو التصديق; والمتوقف عليه، مما لا ينطبق عليه موضوع العلم، حتى
يجب خروجه عن مسائله بناء على لزوم الموضوع.
26

مع إمكان أن يقال برجوع البحث في مسألة الاجتماع، إلى البحث عن ثبوت
الحجة في مادة الاجتماع، كثبوتها في مادة الافتراق وعدمه، فيترتب على العدم
تحقق التعارض والبحث عما هو الحجة بالفعل من الحجتين، كما أن البحث عن
حجية الشيء، بحث عن الحجية الشأنية المتحققة مع عدم التعارض، إلا مع
المرجح، أو على التخيير مع عدمه.
وأما البحث عن الحكم فهو بالنسبة إلى المباحث التي وقع الحكم فيها
موضوعا أو محمولا، مبدأ تصوري; فلعل هذا الاحتياج في الفقه إلى مثله، أشد منه
في مسائل الاصول، إلا أنه لبناء المتأخرين على إدراج لوازم الفقه الخارجة عن
مسائله، في الاصول، رجح الذكر في الاصول، وإن لم تكن الحاجة فيه بتلك
المرتبة.
{الغرض من علم الاصول}
وأما الغرض المترتب على الاصول الداعي إليه، فهو «التمكن من استنباط
الحكم الشرعي، المعدود من مسائل الفقه بتعلم مباديه التصديقية لإحراز الحجة
- صغرى وكبرى، ثبوتا وحجية - على الحكم الشرعي، سواء كان ظاهريا أو
واقعيا».
{تعريف علم الاصول}
وأما تعريفه فهو «أنه مقدمة لعلم الفقه، يبحث فيه عما لا يخرج عن دائرة
الحجية في علم الفقه، من القواعد العامة المدونة للتمكن من استنباط
الحكم - واقعيا كان أو ظاهريا - بسببها، لتوقف التصديق في المسائل الفقهية
عليها».
27

ومنه يظهر أن الغرض من معرفة الحجة - صغرى وكبرى - التمكن من
الاحتجاج في الفقه بسببها - فيشار في مقام الاستدلال على الحكم المختار في
الفقه في الكتب الاستدلالية - إلى المختار من القواعد العامة في الاصول، كما يشار
إلى ما في سائر العلوم من مبادئ الفقه والترجيحات الواقعة فيها في صورة
الاختلاف إشارة إجمالية.
فقد تحصل مما قدمناه: أن علم الفقه، ما لا يخرج عن دائرة الحجية، إما بكون
الحجة موضوعا لمسائله، كمباحث الظهورات الباحثة عن صغرى ما هو الحجة;
أو محمولا، كمباحث الحجج الباحثة عن حجية خبر الواحد وظهور «الكتاب»
شأنا، أو «التعادل» الباحث عن حجية أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا بالفعل.
وجميع هذه المباحث معنونة للحجة، بمعنى الاحتجاج بها في الفقه، والتمكن من
رد الفروع إلى الاصول المتوقف على فهم الاصول صغرى وكبرى.
{تفصيل في الاصول العملية}
وأما الاصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية، فعلى القول بأنها من
الفقه - للبحث فيها عن حكم نفس العمل، وعدم إضرار توقفها على الفحص الذي
هو شأن المجتهد، ككون التطبيق في قاعدة «ما يضمن بصحيحه»، و «كون الشرط
المخالف فاسدا» بيد المجتهد، كما يرشد إليه اتحاد البحث موضوعا ومحمولا
ودليلا في الشبهة الحكمية والموضوعية، مع مسلمية أن الجارية من الاصول في
الشبهات الموضوعية من الفقه، كسائر مسائله العامة; فيمكن أن لا يكون انحصار
التطبيق للكبرى على الصغرى بالمجتهد، مانعا عن الاندراج في الفقه، كما يقتضيه
إطلاق تعريفه، وما ذكر في موضوعه، كما في سائر المسائل العامة الفقهية
المحتاج في تطبيقها إلى الاجتهاد من جهة الفحص عن الحجة، ومن
28

جهة الفحص عن وجود المعارض، وتقدمه وعدمه; ففي هذه المسائل
يجتمع جهتا الاصولية والفقهية - فلا حاجة إلى تعميم الحكم للظاهري، وإلا احتيج
إليه.
29

المبادئ التصورية اللغوية
= الوضع
= المعنى الحرفي
= تحقيق الإنشاء والإخبار
= علائم الحقيقة والمجاز
31

[الكلام] في المبادئ التصورية
اللغوية، لكونها من مباحث الألفاظ الراجعة
إلى شرح الوضع الواقع موضوعا، أو محمولا
في كثير من مسائل الاصول وانقساماته;
وفيها فصول:
الفصل الأول
في الوضع
{تعريف الوضع وبيان اعتباريته}
«الوضع» [هو] جعل اللفظ مستلزما للمعنى في الإدراك، باعتباره موضوعا
عليه; فالوضع الاعتباري هو المحقق للاستلزام في الانتقال.
وحيث كانت الألفاظ الموضوعة لمعنى وحداني مختلفة باختلاف اللغات
بلا جامع بينها، فلا مناسبة خارجية، بل اعتبارية ناشئة عن مرجح في كل طائفة
لوضع لفظ خاص لمعنى واحد، ليعبروا عنه به في المحاورات ومن تبعهم فيه.
فهو علامة الاعتبارية، لا لزوم اجتماع المتقابلين أو المتماثلين من كون
العلقة الوضعية خارجية أو ذهنية، لأن الوضع للانتقال، ولا انتقال للمقابل
ولا للماثل في الذهن; وذلك لوضوح صحة الوضع للأشخاص، ولا يفيد إلا مع
الانتقال الذهني في الاستعمالات والمحاورات. والموجود الذهني والخارجي إذا
وقعا موضوعين أو محمولين، فهو قابل للتصور لما يلازم الوجودين لا بقيد
الملازمة، ولا يكون التصديق لتلك القضية بلا تصور.
33

وحيث إنه يكفي وجود مصحح للوضع الاعتباري، فلا مانع من وضع
لفظين للواحد في المترادفين، ومن وضع لفظ واحد للمعنيين في المشترك
اللفظي، لأن المناسبة الداعية إلى الاعتبار، لا مانع من ثبوتها في لفظين لمعنى
واحد وفي معنيين مع لفظ واحد، بل في لفظ واحد مع معنيين متضادين، وفي لفظ
واحد مع معنى واحد في لغتين متوافقتين، وفي لفظ واحد لمعنيين في لغتين.
ومثل الأعلام، الحروف الموضوعة لوجودات النسب، المتصورة بتصور
أطرافها بتصور ماهياتها الملازمة لوجوداتها المنتزعة عن تلك الوجودات،
في قبال الماهيات الثابتة في الذهن باختراع العقل أو فرضه لها; فإنه لا يعقل
- بعد كون تمام الذات الوجود المتقوم بوجود الطرف - انسلاخ الذات عن
الوجود.
ويمكن أن يقال - بعد وجدانية الفرق بين اختراع الذهن وانتزاعه المستلزم
للتصور للموضوعات الخارجية في التصديق، بل لمجرد التخيل والتوهم
بلا تصديق حكمي -: إن الوجود الذهني للماهية الشخصية، مرتبة ضعيفة من
الخارجي، والمتصور يبني على إحضار ما في الخارجي في الذهن، ولا يتمكن إلا
من الإتيان بمرتبته الضعيفة في افق النفس; وقد تكون النفس لكمالها مستغنية عن
إحضار الشيء بصورته الذهنية، لمكان إحاطتها بما في الخارج; وأكمل هذا النحو
علم الواجب تعالى المحيط بالموجودات، بلا حاجة إلى [ارتسام] الصور، تعالى
عن ذلك.
وهناك طريق آخر، وهو أن العلم بالأسباب يستلزم العلم بالمسببات، فلا محل
لعلمه بالصورة وعدم علمه بعدم مطابقها في الخارج أو وجوده فيه.
وطريق آخر، وهو أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، فلا معنى لعلمه
بكمال العلة وعدم علمه بأثر الكمال.
34

{تقسيم الوضع إلى ما بالجعل والاستعمال والمناقشة فيه}
وأما تقسيم الوضع إلى ما يكون بالجعل أو بالاستعمال، فقابل للخدشة، بأن
الاستعمال إن كان بداعي التخصيص الاعتباري ومع الدلالة عليه، فهو جعل بغير
لفظ الوضع وشبهه، كان الاستعمال الموجب للجعل حقيقيا أو غير حقيقي،
وإلا لم يفد الوضع; فإن أمكن الجمع بين الوضع الاستعمال الخاص بلا تجوز
فهو، وإلا كان اللازم ثبوت الواسطة بين الاستعمال الحقيقي والمجازي الذي
يراعى فيه العلاقة; فإنه مشترك مع التجوز، في الحاجة إلى دلالة اخرى كالقرينة،
ومع الحقيقة، في عدم العلاقة، فيكون بين المجاز والحقيقة.
وكذا الحال فيما كان بتكراره بالغا إلى حد التخصص الاعتباري المؤثر في
الاستلزام الانتقالي الذي هو أثر تكويني لهذا الجعل أو الانجعال الاعتباري; فإنه
يبلغ إلى حد، يرى فيه أبناء اللغة ملاك صحة الاعتبار، فيعتبرون بها في
استعمالاتهم، فيؤثر في الاستلزام المذكور.
واختلاف أسباب الاعتبار ومناشئه، ووحدة المعتبر - بالفتح والكسر -
وتعدده، مما لا يتحقق به التقسيم، كما لا يتحقق بتعدد الزمان والمكان، فلاحظ.
نعم، يمكن أن يقال: إن الانس الحاصل من كثرة الاستعمال مع القرينة حيث
كان بحد يغني عن القرينة، فذلك غير محتاج في عرفهم إلى وضع واعتبار، بل
يكون اللفظ حينئذ، كالعلم المنصوب للاهتداء في الطريق.
{الجواب عن مناقشة عدم إمكان الجمع بين اللحاظين}
وأما المناقشة في التقسيم المذكور من جهة أن اللفظ ملحوظ في الاستعمال،
آليا، وفي الوضع، استقلاليا، ولا يمكن اجتماعهما في لحاظ واحد، يتقوم به
35

الاستعمال الواحد، فقابلة للدفع: بأن الوضع الاعتباري المصحح للاستعمال، غير
نفس الاستعمال ثبوتا وإثباتا، فإنه محتاج إلى الدلالة عليه، ولو كان الدليل صون
الكلام عن القبيح، إذ إفادة المراد بلفظ لا وضع فيه ولا تجوز، لأن المفروض عدم
لحاظ العلاقة بين المراد وشئ آخر يصح بها الاستعمال المجازي، بل عدم سبق
وضع أصلا يشترط به صحة الاستعمال المجازي، قبيح وغلط.
والاستعمال الصحيح الإمكاني، علة غائية لذلك الأمر الاعتباري، والعلة
غير المعلول; فلحاظ اللفظ في الوضع استقلاليا، لا ينافي لحاظه في الاستعمال آليا
وإن تعدد اللحاظ بتعدد الموجب له.
يعني أن إنشاء الوضع، بإخطار المعنى باللفظ في الاستعمال; فهناك
وجودان طوليان: أحدهما وهو الإنشائي الاعتباري في طول الحقيقي الإخطاري،
وأحدهما متعلق باللفظ، والآخر باللفظ الفاني في المعنى، لا مقيدا به.
مع أن عدم لحاظ اللفظ في الاستعمال، لعدم المقتضي إلا فيه، لا لاقتضاء
العدم; فلو تمكن منه لم يضر بالاستعمال; فللنفس تصور شيئين في زمان واحد،
كما في مقام النسبة; ومرآتية اللفظ للمعنى تؤكد الوحدة الخاصة، فلا يقال: «يجوز
الأول دون الثاني»، فتدبر.
والحاصل: أن إخطار المعنى باللفظ هو الاستعمال، وهو الإيجاد التنزيلي
للمعنى، والملحوظ آليا في هذا المقام هو اللفظ بهذه الحيثية.
وأما كونه إنشاء للوضع واعتبارا له وملحوظا استقلاليا بهذه الحيثية، فليس
فيه محذور، لأنه كإيجاد الفسخ في البيع بالتصرف الإنشائي بالقول أو الفعل في
المبيع بما لا يجوز لغير المالك; فإنه يكون إنشاء للفسخ بفعل ما يتوقف حله على
الفسخ; كما أن الاستعمال هنا، يتوقف صحته وجريه على قانون الوضع - بنحو
تقدمت إليه الإشارة - على الوضع المتحصل به بقصد التسبب به إليه.
36

وليس أصل الاستعمال معلولا حتى يقال: لا يعقل اعتبار المعلول علة، كما
في الوطي مع الفسخ; واجتماع العلة والمعلول في الزمان، يوجب حلية الوطي
وصحة الاستعمال، وكذا الحال في النكاح المعاطاتي الذي هو خلاف ما حكي من
الإجماع.
{جواب آخر}
ويمكن الدفع بأن الآلية للمعنى، بمعنى قصد المعنى باللفظ في قبال قصد
اللفظ بنفسه لنفسه، كما في إخلاء اللفظ عن المعنى، فلا ينافي قصد اللفظ لإبراز
المعنى المقصود وللعبور به إلى المعنى; وكيف يكون التلفظ اختياريا واللفظ غير
مقصود، بل قصد اللفظ، لنفسه تارة، وللعبور به إلى المعنى، اخرى.
ويرشد إلى أن اللفظ مقصود، وقوع إعادة الكلام إذا وقع غلطا أحيانا،
والملازمة على صحته المطلقة إلى حين الفراغ عنه.
وبالجملة: فقصد اللفظ لإرائة المعنى، ينافي قصده لا لإرائة المعنى، ولا
ينافي القصد لغاية اخرى، غير منافية مع الأول. نعم، فيه الجمع بين العلة
والمعلول في استعمال لفظي واحد مقصود به الأمران المترتبان، ولا مانع من
الكشف عن الملزوم بإيجاد لازمه، كما في مثل «اعتق عبدك عني».
فيمكن إيقاع الملزوم الإنشائي بإيجاد لازمه الذي قد يكون إخبارا محضا،
وقد يكون إنشاء ينشأ بوجوده الحقيقي ذلك الأمر الاعتباري الإنشائي الذي هو
الملزوم. هذا على تقدير عدم تصوير الإنشاء القلبي، وإلا فيمكن كشف
الاستعمال عن الوضع السابق عليه ولو بإنشائه قلبا.
وبالجملة: فنسبة الوضع إلى الاستعمال نسبة ما بالقوة إلى ما بالفعل; فالأول
جعل للملازمة الشأنية الاعتبارية، والثاني إيجاد للملازمة فعلا; فأحدهما غير
37

الآخر والملحوظ في أحدهما غير الملحوظ في الآخر; والأول إنشائي
اعتباري، والثاني فعلي تكويني; ويمكن إنشاء الأول بالثاني مع القرينة
المصححة الكاشفة عن تحقق الأول إعتبارا، ولذا صح الثاني تكوينا ولم يكن
غلطا ولا مجازا.
ويمكن دعوى غلبة الوضع بالاستعمال في الأوضاع في اللغات، وأنه لم
يعهد وضع لجميع ألفاظ لغة واحدة لمعانيها معا أو مع التعاقب، فضلا عن
مجموع اللغات، وإنما تعاقبت بتعاقب الاحتياجات الداعية إلى الاستعمال وما
يتوقف عليه من الوضع; ولعل منشأها تعليم الأسماء للبشر الذي أصله واحد معلم
ملهم بالكل.
{مناقشة في الجواب بتغاير الملحوظ}
[هذا] مضافا إلى ما افيد، من أن الملحوظ في الوضع طبيعي اللفظ، وفي
الاستعمال شخصه، ولا اجتماع للحاظين في واحد، وإن كان فيما مر كفاية; فإن
مصحح الاستعمال الوضع المكشوف به، ولا يكون إلا متعلقا بالطبيعي وإن كان
الكاشف الشخص.
مع أنه يمكن أن يناقش فيه: بأن اللحاظ المصحح للاستعمال سابق عليه رتبة،
متعلق بطبيعي اللفظ، وإنما يتشخص بنفس الاستعمال، لا في مرحلة لحاظ
الطبيعي المؤثر في إيجاد شخصه; واللحاظ المقارن للاستعمال أو المتأخر عنه
وإن تعلق بالشخص، إلا أنه ليس مصححا للاستعمال ومشروطا به الاستعمال; فقد
يكون اللفظ في حال تحققه مغفولا عنه رأسا، غير ملحوظ أصلا، وقبل الاستعمال
لا يمكن لحاظ الشخص في الأذهان العادية، وإنما الشرط، اللحاظ المتعلق
بالطبيعي، المؤثر في إرادة إيجاد شخصه، فتدبر.
38

{الوضع جعل المرآتية الشأنية والاستعمال جعل المرآتية الفعلية}
وليعلم أن اللحاظ المصحح للاستعمال، هو المؤثر في إيجاد طبيعي اللفظ
في شخص منه، ولا يكون اللفظ الملحوظ به إلا ملحوظا استقلاليا، وتكون إرادة
إفنائه في المعنى وإرادة المعنى به، من قبيل العلة الغائية لهذا اللحاظ الاستقلالي
المصحح لإيجاد اللفظ عن إرادة; والفاني في المعنى، هو اللفظ الملحوظ بلحاظ
مقارن أو لاحق، غير مؤثرين في اختيار إيجاد اللفظ.
لكن الوضع حيث ليس بنفس الاستعمال، لأعميته منه، فاللحاظ المعتبر
في الوضع مغاير للمعتبر في الاستعمال والمحقق فيه; فإن اللفظ بعض
الملحوظ في الوضع المحتاج إلى القرينة، وتمامه في الاستعمال، والوضع جعل
المرآتية الشأنية، والاستعمال جعل المرآتية الفعلية، وبينهما تفاوت العلة
والمعلول.
{فرق آخر بين الملحوظ في الوضع والاستعمال}
ويمكن أن يقال: إن الملحوظ في الاستعمال ليس هو الشخص الغير الموجود
إلا بوجود الاستعمال; فهو بشخصيته غير موجود قبل الاستعمال ولا حاله حتى
يلاحظ، بل بعده وبعد تحققه المشخص له; وإنما يلاحظ العوارض المشخصة
قبل الاستعمال وحاله، وهو غير ملاحظة الشخص الموجود.
فالفرق بين الوضع والاستعمال، في لابدية لحاظ العوارض الطبيعية معا في
حال الاستعمال فيما لم تكن من المقارنات دون الوضع; وكفى به فارقا ودليلا
على المغايرة، فتدبر.
39

{توضيح لدفع شبهة اجتماع اللحاظين المتقابلين}
ومما قدمناه من أن اللفظ - أعني طبيعيه - ملحوظ في الاستعمالات استقلالا،
بلحاظ مؤثر في إرادة إيجاده في شخص منه، تقدر على دفع شبهة اجتماع
اللحاظين المتقابلين في الجمع بين الدعائية والقرانية; وفي استعمال المشترك في
معنيين; فإن المحال - وهو الفناء الوجداني في شيئين - إنما يكون في اللحاظ
المقارن أو اللاحق، لا السابق المؤثر في الإيجاد; وغيره ربما لا يكون موجودا، بل
يمكن أن يكون اللفظ في غير اللحاظ المؤثر غير ملحوظ رأسا، وإنما الملحوظ
نفس المعنى وما أمكن منه; وهذا اللحاظ المتعلق بالمعنى أيضا غير لازم، فقد
يغفل عنه، واللازم لحاظه قبل الاستعمال كاللفظ بنحو يؤثران في الاستعمال لأن
يكشف اللفظ عن قصده، مع أن الفناء في المجموع ممكن في المقامين.
ولعل السر فيه: أن اللفظ جزء الدال على الخصوصيتين، والآخر، القرينة التي
ليست من قرينة المجاز، لعدم لحاظ العلاقة، فلا مانع من العبور باللفظ إلى أمرين:
أحدهما المعنى، والآخر اللفظ المماثل المنزل قرآنا مع ضميمة القرينة في كل
عبور هو المراد من الاستعمال.
{تقسيم آخر للوضع}
وينقسم الوضع إلى «ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين»، كأسماء
الأجناس; أو خاصين، كالأعلام، وإلى «ما كان الوضع فيه عاما والموضوع له
خاصا» أي كان الملحوظ حال الوضع أمرا عاما والموضوع له مصاديقه أو
معنوناته، وسيأتي بيان ما يكون من هذا القسم.
40

الفصل الثاني
في تحقيق
معاني الحروف، وكيفية الوضع فيها
أما المعنى الحرفي فقد يقال: إنه «الموجود لا في نفسه المتقوم بوجود
الطرفين»، ولا ذاتية له بغير وجود الطرفين; فليس له ماهية، لغاية نقصه، ولا وجود
له غير وجود الطرفين، وإنه في ذاته متقوم بوجود الطرفين، كما أن الماهيات
العرضية في وجودها متقومة بالموضوع; فمن هذه الجهة يشبه الأعراض وليس
منها، لعدم ماهية مقولية، ولأن التقوم، في نفس وجوده، لا لوجوده، كما في
الأعراض.
ويمكن استفادة هذا الوجه مما في «الأسفار» (1)، وقد أوضحه شيخنا (قدس سره) في
كتابه (2) في الاصول.
{إشكال إضافة الوجود الواحد إلى الجوهر وغيره}
ويمكن أن يقال: إن تقوم شيء في ذاته بوجود شيء وحقيقته، يقتضي أن
يكون ذات المتقوم، وجودا، لا شيئا آخر له الوجود; وحيث إن ذلك الوجود
مضاف بالذات إلى ماهية، فلا إضافة له إلى غيرها بالذات، إذ لا تعدد له حتى يصح
كون الإضافتين ذاتيتين; ومع الوحدة فالوجود الواحد كيف يضاف بالذات إلى

(1) الأسفار 1: 47.
(2) نهاية الدراية 1: 51، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
41

جوهر وإلى ما ليس بجوهر ولا من الماهيات المقولية، أعني النسبة؟
هذا في إضافته إلى الموضوع، مع أنه مضاف إلى العرض القائم به أيضا;
فيلزم إضافة وجودين متباينين - أعني الجوهر والعرض - إلى غير ماهيتهما وإلى
ماهيتهما بالذات.
وحيث إن الإضافة المفروضة للموضوع إلى وجود النسبة بالاتحاد، لأنه لازم
التقوم بنفس ذلك الوجود بنحو لا ينتهي إلى المعلولية، وكذا إضافة النسبة إلى كل
من الموضوع والعرض المنسوب إليه، فاللازم اتحاد العرض والموضوع،
واتحادهما مع النسبة الموجودة بعين وجودهما، لأن المتحد مع المتحد مع شيء،
متحد مع ذلك الشيء، بل هذا يكفي في الإشكال; فإن لازم التقوم في نفس
الوجود بنفس وجود الموضوع، الاتحاد; فيلزم من اتحادهما اتحاد العرض
والموضوع في مثل البياض لوجه «زيد»، والمفروض تعدد وجودهما.
وأما تعدد الإضافة على ما سبق، فيمكن التفصي عنه باختلاف الإضافتين
معنى، ولا يستلزم تعدد الواحد هوية.
{الجواب عن الإشكال}
ويمكن أن يقال: إن مدلول الحروف يتضمنه أو يستلزمه مدلول الهيئات
الاشتقاقية، كما يشهد [له] عدم الجمع بينهما في الكلام في «الظرف المستقر» في
مثل: «زيد في الدار»، بخلاف «اللغو» في مثل: «زيد آكل في الدار»، لرجوعه إلى
نسبتين: إحداهما بين الأكل و «زيد»، والاخرى بين «أكل زيد» والدار، ولا جمع
في الأخيرة ولا في الاولى; فاللازم أن المعنى هو داخل في العرضي المنتزع من
اجتماع الموجودين على نحو خاص بالذات، أعني العرض وموضوعه، إلا أن
العرضي هو المنتسب، لا طرفا النسبة ولا النسبة; فالمتهيئ بالهيئة دال على
42

المنتسب الموجود بالعرض، والهيئة، على النسبة الموجودة بالعرض; فهو
موجود بالاعتبار بمصححية اجتماع الطرفين وجودا، وليس موجودا بالذات
بوجود متحد مع الطرفين أو مغاير لهما; فكما أن العرضي موجود بالعرض،
فكذلك النسبة بين الطرفين، موجود بالعرض والاعتبار.
ولعله إلى هذا ينظر كلام (1) الاستاذ (قدس سره) في تنظيره للمعنى الحرفي بوجود
المقبول بوجود القابل وما بالعرض بوجود ما بالذات; فلا يلزم المحال من إضافة
وجود بالذات وبالفعل إلى شيئين غير متحدين في الذات.
{الفرق بين المعنى الحرفي ومدلول المشتق}
ويفترق المعنى الحرفي عن مدلول المشتق، بصحة الحمل على الموجود
بالذات في الثاني دون الأول; فمدلول الحروف - كمدلول الهيئات الدالة على
النسب - كهيئة الأفعال في قبال الهيئة الدالة على طرف النسبة بما أنه منسوب إليه،
أعني هيئة المشتقات، وكلها مشتركة في كونها من الموجود بالعرض، وتفترق
بكون المعنى في الأولين حرفيا وفي الثاني اسميا.
ومثل الثاني في الاسمية مفهوم النسبة; فإنه معنى اسمي مع كونه موجودا
بالعرض أيضا، وسيأتي - إن شاء الله - الكلام فيه وفي منشائه وفي شرح المعنى
الحرفي بوجه آخر.
وعلى تقدير اتحاد مدلول الهيئة والحروف، فهما دالان على النسبة
الموجودة المنتزعة من وجود الطرفين على النحو الخاص بالتخصصات المقولية
الخاصة المفيدة لتعلق أحدهما بالآخر بالتعلق الخاص الذي يدل عليه الحرف

(1) بحوث في الاصول، للعلامة الأصفهاني (قدس سره): ص 25
43

أو الهيئة، أعني تعلق أحدهما بالآخر; فلا فرق في الجهة المذكورة بين «زيد
ضرب»، و «زيد ضارب» في أن الدال على النسبة فيهما الهيئة.
{عدم الفرق بين هيئة المشتق والحرف}
وعليه، فلا فرق بين هيئة المشتق والحرف، حتى في صحة الحمل; فإن
المحمول على الحقيقة في مثل «زيد في الدار»، هو المشتق المقدر لمعلوميته;
وأما المشتق فالهيئة فيه، مدلولها ما مر، والمادة فيه، مدلولها العرض، والمجموع
عرضي مدلوله المنتسب، أعني المنتزع من الذات في حال تلبسها بالعرض، وفي
حال انتساب العرض إليها.
وهذا شاهد على الانتزاع المتقدم; فإن الحمل لازمه الاتحاد، ولا اتحاد بين
وجودين ولا بين العرض وموضوعه; فالمتحد مع «زيد» بنحو يصح الحمل
بينهما، هو الموجود بعين وجود «زيد» اعتبارا منتزعا عنه في حال قيام المبدء به،
إلا أن الدخيل في انتزاع النسبة شيئان: العرض وموضوعه في حال خاص، بخلاف
دخالة وجود «زيد» في انتزاع وجود ماهيته الشخصية بالعرض، الدخيلة في
انتزاع وجود نفس الإنسان بالعرض بواسطة.
فمدلول المشتق، هو المصحح للحمل الذي ملاكه الهوهوية ذاتا أو وجودا،
والأول في الحمل الأولي، والثاني في الحمل الشايع; فالموجود بالعرض هو
العرضي الذي هو عنوان له الانتساب إلى العرض، وهو الموجود بالعرض، كما أن
النسبة موجودة بالانتزاع والاعتبار; فبعد هذا الانتزاع يكون طرفا النسبة مما له
الواقعية المنسوبة إلى ما في الخارج بالذات وإلى عنوانه بالعرض; فيتحد قولنا:
«زيد قائم» مع قولنا: «زيد طرف نسبة القيام» و «زيد في حال القيام»; فمدلول
44

هيئة «فاعل» الشيء المنسوب إلى الفعل، وكذا المفعول، مع اختلاف كيفية
النسبتين.
وأما كون النسبة التي هي مدلول الحرف، ربطا اعتباريا انتزاعيا; فلمكان أنه
يحدث بين المعروض والعرض، شيء يعتبر بسبب الاتصاف الواقعي على نحو
واقعية الطرفين، ربطا واتصالا بينهما، كما يتصل الشيئان بسبب ضم أحدهما مع
الآخر; فالرابط الجوهري هو المعتبر فيما بين العرض وموضوعه في حال
الاتصاف.
وحيث إن تحقق الربط على طبق تحقق الطرفين، فقد يكون أشد مما بين
الجوهرين، كما بين الشيء وعلل قوامه، أو بعضها، كما بين الإنسان والناطق أو
الحيوان الناطق.
{تفرقة بين مدلول المشتقات وهيئتها}
والذي ينساق إليه النظر الدقيق، أن المشتق - على اختلاف أنحائه، أعني
الفاعل والمفعول والماضي والمستقبل والمصدر - يدل بمادته المشتركة بين
جميع الصيغ، على ما هو من الأعراض المغايرة تحصلا مع الجواهر، ولا يمكن
حملها على الجواهر إلا بضرب من التأويل والتجوز كالمبالغة; ويدل بهيئته
المشتركة بين جميع الصيغ على النسب المختلفة فيها المتحققة في الاعتبار بين
طرفين، أحدهما المعروض والآخر العرض.
كما أن خصوصية مدلول الهيئة - أعني النسبة الخاصة - بخصوصية نفس
الهيئة الخاصة; فهيئة «ضرب» تدل على النسبة الماضوية مثلا; والمضارع على
النسبة التلبسية; وهيئة «فاعل» تدل على النسبة، وفيها زيادة مادية تدل على الذات
المنتسبة بتلك النسبة، وهذه الزيادة موجودة في «يفعل» وفي «مفعول»، فهي
الموجبة لصحة الحمل على الذات.
45

وأما فقده في الماضي، فلا يدل على كون ملاك الحمل صرف النسبة التي
هي مدلول الهيئة، بل لمكان أن الدال على العرض نفس المادة بشرط لا عن
الزيادة المادية في الماضي، أو مع زيادة دالة على شيء آخر في الماضي، كالمزيد
فيه، أو مع عدم الزيادة في صورة التهيؤ بهيئة اخرى، كالمصدر.
فمدلول المشتق، الذي هو المتهيئ بهيئة خاصة في ضمن مادة خاصة
وجودية محضة أو مع العدمية، هو الذات الواقعة طرفا للنسبة، المدلول عليها
بنفس الهيئة، بين الذات والعرض المدلول عليه بنفس المادة، والدال على النسبة
بالمطابقة دال على الطرفين على الإبهام بالالتزام; فإذا كان في اللفظ دلالة مطابقية
على الطرفين فهو، وإلا فملاك الحمل في بعض الهيئات - كالماضي من المجرد
وبعض الصفات المشبهة - هو المدلول الالتزامي في أحد الطرفين، لا المطابقي
الذي هو اعتبار بين شيئين، لا عنوان لأحد الطرفين.
وهناك بعض المشتقات المشتركة بين المصدر والصفة، ك‍ «العدل»
ولا بحث فيه; فإنه كاشتراك أسامي الأعيان بين المتباينين.
{تحقيق حول دلالة لفظة «الفاعل»}
ويمكن أن يقال: إن لفظة «الفاعل» فيها الدلالة على الذات المنسوبة إلى
الفعل، ولكل جزء من هذا المدلول جزء من الدال; فإن الفعل دال على المبدء
الذي هو أحد طرفي النسبة المدلول عليها بالهيئة; ففي هذه اللفظة، دلالة على من
يتلبس وينتسب وهو الذات أيضا، وملاك صحة الحمل هو مدلولية الذات وكون
المدلول عنوانا للذات التي هي في الواقع منسوب إليه بتلك النسبة; ف‍ «قائم»
بمعنى «من يقوم»، اجتمع فيه دوال ثلاثة، لكن المحمول هو المدلول الذاتي
العنواني الغير المعلوم إلا من طريق طرفية النسبة الخاصة; فالدالان الآخران،
46

لتعيين المدلول العنواني الذي هو المحمول، كصلة المحمول إذا وقع موصولا
مبهما في نفسه; ويمكن إرجاع غير الفاعل والمفعول من المشتقات، إليهما
بالتأويل إليهما، وإن اختلف وضع الدال في غيرهما معهما دون المدلول.
بل يمكن أن يقال: بأن الموضوع له لكلمة «فاعل» هو «الشيء المنسوب إليه
الفعل»; فالموضوع له هو المقيد، والدال على ذات، المقيد والتقيد والقيد، امور
ثلاثة; فالأول ملاك الاسمية، والثاني للحرفية، والثالث للفعل; وحيث إن
الموضوع له معنى اسمي هو المقيد، فلابد من خصوصية في الدال تؤدي إلى
الثلاثة المذكورة بنحو تقيد معنى الأول بالقيد والتقييد، لا بنحو التركب حتى يكون
الدال كالمدلول، الاسم والفعل والنسبة.
{اتحاد النسبة الذهنية مع الخارجية في الوجود العرضي}
ثم إن المعنى الحرفي - أعني النسبة الموجودة بوجود الطرفين - كما أنها
موجودة في الخارج بالعرض بعين وجود طرفيها أو أطرافها بالذات، فكذلك
لا تكون موجودة في الذهن إلا بالعرض; فلا تكون ملتفتا إليها إلا بعين الالتفات
إلى الطرفين، المنسوب إلى الطرفين بالذات وإليها بالعرض; فإن الالتفات ليس إلا
الوجود الذهني; فالموجود في الذهن حينئذ، أمر مطابق للموجود في الخارج في
خصوصية النسبة وطرفيها، مخالف في الوجود العيني والذهني.
فلو وجدت النسبة في الذهن بالاستقلال لا على هذا النحو، لم تكن عين
النسبة التي هي معنى الحرف، بل كان معنى اسميا مستقلا بالمفهومية، موجودا
عنوانيا وبالعرض، أو حقيقيا مقوليا، كمفهوم النسبة الابتدائية مثلا في الأول،
وككون المكان مبتدءا به في مقولة الإضافة.
47

{إشارة إلى أن الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص}
وهذا لازم كون المعنى الحرفي - أعني النسب التي هي مفاد الحروف
والهيئات - معاني غير مستقلة في شيء من الوجودين، وكون المعنى الاسمي
مستقلا بالمفهومية، كان من الموجودات الحقيقية أو الاعتبارية، وليس المعنى
الحرفي إلا موجودا بالاعتبار، على ما مر.
كل ذلك من لوازم عدم كون النسبة ماهية متأصلة مستقلة بالمفهومية، لا من
المقولات الحقيقية، ولا من العناوين الانتزاعية المستقلة في اللحاظ، الموجودة
في الخارج بالعرض وبالاعتبار، كعناوين المشتقات; فيمكن أن يكون طريق
الوضع في الحروف وما بمثابتها، هو لحاظ العنوان المنطبق على معنوناته
الخارجية، والوضع بمعرفيته للأشخاص المعنونات بذلك العنوان; فلا يكون
الوضع فيها إلا عاما والموضوع له إلا خاصا. وسيأتي - إن شاء الله - تنقيح ذلك في
البيانات الآتية (1).

(1) {ملاحظة في دعوى الوضع للنسبة الكلامية}
وأما دعوى الوضع للنسبة الكلامية، فيمكن أن يقال فيها: إن الموضوع له إن كان من سنخ
الكلام، فهو مقطوع بخلافه، إذ ليس في الكلام سوى الدال الموضوع، لا الموضوع له; وإن
كان من غير سنخه وغير واقع النسبة المحققة، كان هناك متكلم أو حاك، أو لا، فهو أيضا لا
برهان عليه، بل البرهان على خلافه، إذ ليس إلا إفهام المعاني بالألفاظ وحسن التعبير
الخاص، بخلاف التعبير الآخر.
و كون المدلول في بعض الحروف والهيئات، النسبة الإنشائية الاعتبارية، ك‍ «حرف النداء»
وهيئة «اضرب»، حيث إنهما لما هو تنزيلا ووضعا نسبة ندائية أو طلبية، كما تكون إحداهما
بالفعل تارة وبلفظ من لغة اخرى، اخرى، لا يقتضي عدم كون المدلول ذا واقعية رأسا واللفظ
إخطاريا أيضا.
48

{إقامة البرهان على أن النسبة موجودة واقعا}
وأما البرهان على وجود النسبة على النحو العام للحقيقي والاعتباري،
فهو تعلق العلم تارة بطرفي النسبة، والجهل بها، وغير المعلوم غير المعلوم،
وصادقية «زيد قائم» تارة وعدم صادقيته اخرى مع العلم بوجود «زيد» ووجود
القيام; فيعلم ثبوت أمر في الصورة الاولى، منتف في الصورة الثانية.
وأما كونها في الغير - أي في الطرفين - فلا يدل على عدم وجودها، وإلا لم
يكن العرض موجودا، لأنه من حالات المعروض وكيفياته. والوحدة للطرف
والتعدد، لا يؤثر [شيء منهما] في الوجود والعدم (1)، بل لو لم توجد النسبة، لم

(1) {تفرقة بين التعبير الإسمي والحرفي وإن كان الواقع واحدا}
ولا يخفى أنه حيث إن الواقع مشتمل على وجود الموضوع ووجود المبدء في المحمول
وعلى وجود الربط بينهما، فهذا الواقع لا يزيد ولا ينقص بسبب التعبير عنه بالاسم، فيقال:
«ظرفية الدار لزيد محققة»، أو الحرف، فيقال: «زيد في الدار»; فلا يمكن أن يكون الوجود
الثالث في الطرفين ولا في لا في الطرفين، وموضوعا أو محمولا تارة، وخارجا عنهما اخرى
حقيقة أو حقيقيا في تعبير، واعتباريا في الآخر; بل مع اشتراكهما في إفادة المراد الواحد،
يفترقان بأن المحفوفية بالطرفين لازمة في المعنى الحرفي، وغير لازمة في المعنى الاسمي
وإن كانت تتحقق تارة، كما في المثال; فلو نظر إلى هذا الرابط، لتعرف حال الطرفين وهذا
غايته; فلا يمكن أن يكون هذا النظر مقصورا على نفسه ومخبرا عنه أو به; فإن اللحاظ للغير
لا يجتمع مع اللحاظ لا للغير.
فيصح أن يقال: إن الظرفية، من الأعراض النسبية، بلا حاجة إلى ذكر الطرفين ومعرفتهما،
وإن كانت لو تحققت لا تتحقق إلا لطرفين، بخلاف ما إذا قصد العبور بها إلى معرفة حال
طرفيها من حيث الظرفية والمظروفية، فلا يمكن الإخبار عن نسبة الظرفية، بل يخبر عن أحد
طرفيها بالآخر في حال الانتساب المذكور; فالمعنى الاسمي هو المعنى الملحوظ في نفسه
وهو المعبر عنه في الحديث (البحار 40: 162) ب‍ «المسمى»; وما يجري مجراه في الجملة
هو المعنى الملحوظ لطرفيه وفي طرفيه، لا أنه موجود في الطرفين وأن الاسم موجود في
نفسه; فإن الواقع لا يتغير الموجود فيه بسبب التعبيرين; بل مغايرة اللحاظين، لأجل مغايرة
الحملين، والمخصوص بأحدهما، الاسم وبالآخر، الحرف; ومخالفة قانون الوضع للغايات
المتعددة المخصوص كل واحدة منها بدال خاص، في قوة المخالفة في نفس الموضوع له،
كما هو ظاهر.
{المعنى الاسمي منظور إليه والحرفي منظور به}
ونتيجة ما مر: أن المعنى الاسمي هو المنظور إليه، والحرفي هو المنظور به; فقهرا يكون
الأول طرفا للنسبة الخارجية والثاني، نفس النسبة الخارجية. وكذا مفهوم النسبة معنى اسمي
يمكن وقوعه طرفا لنسبة خارجية وملحوظ استقلالي، [مثلا] تقول: «نسبة الابتداء بين
السير والبصرة»، وتقول: «مبدء سيري البصرة». مع أن ما في الخارجية ليس إلا النسبة
وطرفاه، بأي تعبير عبر عنها، لكن وضع الاسم لمعناه لا يحتاج إلى مزيد تقييد بالملحوظ
مستقلا، بل هو مقتضى طبع وضع الاسم والفعل، بخلاف الحرف فإنه موضوع للنسبة
المحفوفة بالطرفين الملحوظة لتعرف حال الطرفين ومالهما من الوصف الحاصل بالانتساب.
فالفارق بين المعنى الحرفي - وهو حقيقة النسبة - وبين المعنى الاسمي الموافق لذلك
المعنى الحرفي في الجملة، أن الاسم الدال على العنوان والنسبة والظرفية والابتدائية ونحوها،
أنه وضع للحاظ مدلوله مستقلا بحيث يخبر عنه وبه; والحرف وضع للحكاية عن معنى غير
ملحوظ إلا آلة لتعرف حال الطرفين ووصفهما، ولا يخبر عن ذلك المعنى ولا به، بل به يصح
الإخبار عن شيء بشيء.
49

يصح للهيئات الاشتقاقية في الأسماء والأفعال معنى معقول، كما في «ضارب»
و «يضرب»; فإنهما مع الاختلاف في الاسمية والفعلية والاتفاق في الوجود
المحمولي الاستقلالي، دالتان على الذات المنتسبة، لا على الطرفين، وإلا لم يفترق
«ضارب» في المفهوم عن «زيد» وعن «الضرب»; ولا على نفس النسبة وإلا لم
يحمل على الذات، بل على المنسوب إلى العرض بنحو; فلا يتحقق معنى معقول
50

للضارب إلا مع وجود «زيد» مثلا ووجود «ضرب» مثلا، ونسبة بين الضرب
و «زيد»; والتعبير عن هذه النسبة يكون بالحرف، فيقال: «زيد في اشتغاله
بالضرب»; ويكون بالاسم أو الفعل بنحو التضمن أو الاستلزام، فيقال: «ضارب»
و «يضرب».
{ملاحظة في سلب الماهية أو الوجود عن الحرف}
وأما أن المعنى الحرفي موجود بلا ماهية، أو معها، أو غير موجود إلا في
الاعتبار والانتزاع من اجتماع وجودين على النحو الخاص، فيمكن أن يقال: إن
وجود الممكن ملازم لماهيته، وعدم العلم بالماهية كما هي، لا يوجب عدمها، أي
العلم بعدمها; بل ما نقل من «أن الحرف ما دل على معنى في غيره» (1)، أو «أنه ما
دل على معنى ليس باسم ولا فعل» (2)، يرشد إلى أن معنى الحرف - بحسب النوع -
شيء بين المسمى وحركته، موجود فيما بينهما، يراه العقل ثابتا، وأنه لولا ثبوته لم
يحمل عرضي على موضوعه، كما لا يحمل عرض على الموضوع.
وأما أن الماهية متأصلة مستقلة بالمفهومية، فليس ذلك من لوازم الماهية
التي تختلف اختلافا فاحشا، فقد تكون جوهرا على أنواعه المختلفة، وقد تكون
عرضا ضعيفا في وجوده غايته بالنسبة إلى الوجود الجوهري; وهذا الموجود
أضعف من العرض، لتوقفه على الطرفين، بخلاف العرض الذي هو الطرفين.
وعدم الاستقلال في المعقولية، على وفق عدم الاستقلال في الموجودية
الخارجية; فإن جميع ما في الذهن، على طبق خارجيته في الكمال والنقص، عدا
المخترعات الفرضية الذهنية.

(1) الكافية: ص 211، ط: كراچي.
(2) تأسيس الشيعة: ص 61.
51

وأما الاتفاق على عدم الماهية هنا لغاية الضعف، كعدمها في الواجب، لغاية
الكمال، كما نسب إلى جماعة، فهو لا يناسب اختلافهم في مقولة الإضافة التي هي
النسبة المتكررة، وأنها حقيقية مقولية أو اعتبارية.
{عدم اختلاف النسبة بتكررها، في مقولة الإضافة}
فيمكن أن يقال: إن النسبة لا تختلف بتكررها في مقولة الإضافة، فإن كانت
المتكررة اعتبارية، فكل نسبة كذلك وإن كان لابد من مصحح للاعتبار ومن منشاء
خارجي للانتزاع في المتكررة أيضا; وإن كانت حقيقية، ففي غير المقولة كذلك،
إذ لا فرق في كيفية تحقق النسبة بين انتساب الأب إلى ذات الابن، أو انتسابه إليه
بما أنه ابن منسوب إلى الأب، بل الامور المتأخرة عن انتساب الشيء إلى الشيء
ومنها الانتساب إلى المنسوب إليه، على النحو المتقدم; فلا يمكن اعتبارية المتقدم
وعينية المتأخر; وعلى تقدير اعتباريته وانتزاعيته، فتكون النسبة بين شيئين اعتبار
الربط الخارجي الذي له الماهية، كالرابط الجسماني بين جسمين; فإنه المعتبر
فيما بين العرض وموضوعه.
{القول المنسوب إلى الرضي (قدس سره) ونقده}
ثم إن القول المنسوب إلى «الرضي» (قدس سره)، من «أن الوضع في الحروف،
كالوضع في أسماء الأجناس وأنه لا فرق بينهما» (1)، قد وافقه في «الكفاية» (2)
وادعى الاختلاف في كيفية الاستعمال، وأنه وضع ليقصد مرآة لتعرف حال الغير،
بخلاف الأسماء الموضوعة لتعرف معانيها المستقلة في اللحاظ.

(1) شرح الرضي على الكافية 1: 10، ط: بيروت.
(2) كفاية الاصول: ص 10 و 11، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
52

ويمكن المناقشة فيه، بأن غايتية الاستعمال الخاص إن كانت على وجه تقييد
الموضوع له، فيرجع إلى المخالفة في الموضوع له مع أسماء الأجناس، وإلا فلا
فارق; ومع عدمه يصح استعمال أحدهما بدل الآخر، وهو كما ترى; وليس من
الاستعمال بدلا اختلاف التعبير، بأن يقال: «ابتداء سيري الكوفة وانتهاؤه البصرة»،
أو أن يقال: «سرت من الكوفة إلى البصرة»، كما هو واضح.
{حكاية اخرى عنه (قدس سره)}
لكن هذه الحكاية، منقوضة بالحكاية الاخرى عن «الرضي» (قدس سره)، من إنكار
الوضع في الحروف للمعنى; وأنها كالإعراب علامة الفاعلية والمفعولية; وأن
الطرفين ملحوظان على هذا الوجه الخاص، مع إمكان المناقشة في الفرق بين
العلامة الجعلية والوضع; فإن الإخلاء عن المعنى، مخالف للوحدة المدعاة بين
الأسماء والحروف.
{رد الحكايتين وعدم ورود إشكال السيد الشريف على الرضي (قدس سره)}
لكن التأمل في عبارة «الرضي» (قدس سره) في أول كتابه (1)، يشهد بخلاف النسبتين
للواقع; وأنه في مقام بيان أن معنى الحرف ما ينضاف إلى معنى لفظ آخر; وأنه
وحده لا يفيد المعنى; وأن الاسم الموافق له - كالابتداء - معناه في نفسه، ولذا يخبر
عنه، بخلاف الحرف; فإنه لا يفيد إلا خصوصية في المعنى الذي عبر عنه بلفظ
آخر وضع له، ولم يوضع الحرف إلا لإفادة معنى في لفظ آخر، له معنى آخر;
فلا يستفاد منه إلا تقوم الحرف في ماهيته بالطرف، كما يتقوم العرض في وجوده
بالمعروض.

(1) تقدم آنفا.
53

وهذا الذي شرح به عبارة «الكافية» " إنه ما دل على معنى في غيره " يوافق
ما مر نقله عن أهل المعقول من أنه الوجود لا في نفسه.
والظاهر، أنه على تقدير تحقيق المعنى الحرفي، وأنه هو المتشخص من
حقيقة النسبة بالذات، أو أنه الموجود بالعرض والاعتبار، فلابد من اختيار عموم
الوضع وخصوص الموضوع له; وغير ذلك يتوقف على اختيار المباني الاخر في
تحقيق المعنى الحرفي.
والتأمل في عبارة «الرضي» (قدس سره) من أول كلامه في هذا المقام إلى آخره،
يشهد بعدم ورود اعتراض «السيد الشريف» في حاشيته (1) وفي رسالته في معنى
الحرف، عليه.
{المتحصل مما سبق}
والمتحصل مما قدمناه: أن النسبة هي معنى الحروف والهيئات الدالة على
خصوصيات النسب;
وأنها أمر ثابت، وهو عبارة عن ثبوت شيء لشيء، لكنه - مع عدم الإثنينية
بين شيئين - محض النسبة الحكمية الموجودة في الهلية البسيطة;
وأن النسبة حقيقتها ما عرفت; والبرهان على وجودها ما تقدم;
وأنها سنخ معنى لا يعقل إلا في ضمن معقولية طرفيها، ومع معقولية طرفيها
فهي في نفسها وجود متوسط بين الوجودين.
ولازم ذلك: أنه إذا عقلت النسبة، عقل معها طرفاها، وأن تعقلها تعقل
مرآتي حين النظر إلى ما فيها من الصورة، وأنها إذا لوحظت بنفسها لم تلاحظ

(1) حاشية السيد الشريف على شرح الرضي (قدس سره)، ط: تبريز.
54

حقيقتها، بل العنوان المنطبق عليها كمفهوم النسبة الابتدائية، والابتداء أيضا ليس
إلا هذا المفهوم، وحكم العنوان لا يسري إلى المعنون; ولذا يحكم على كل من
«الحرف» و «الفعل» أي الكلمتين، بالاسمية، مع أن المعنون فيهما ليس باسم;
ومفهوم الوجود يوجد في الذهن بنفسه، وحقيقته لا توجد إلا بصورته الذهنية
الحاكية عن الصورة المادية الخارجية; والإضافة [هي] واقع النسبة المتكررة، لا
عنوانها القابل للحاظها مستقلا، بل لا يلاحظ إلا كذلك.
وعليه، فالفرق بين مفهوم «الابتداء» وما وضع له لفظة «من»، هو الفرق بين
العنوان والمعنون، ولكل حكم عقلا وعرفا.
{لحاظ الآلية والاستقلالية من لوازم الماهية أو المفهوم}
ومنه يظهر أن اللحاظ الآلي والاستقلالي، من لوازم الماهية أو المفهوم، لا أنه
معتبر في الموضوع له اللفظ، الحاكي عن المستقل في اللحاظ أو غير المستقل،
وإلا أمكن لحاظ مفهوم الابتداء آليا، ولحاظ حقيقة النسبة الابتدائية، استقلاليا،
ولأمكن صيرورة الأول خارجا عن طرفي النسبة، وصيرورة الثاني داخلا في أحد
طرفيها.
ولا فرق في حقيقة النسبة التي هي مفاد الهيئة أو الحرف أو شبههما، بين
النسبة التامة والناقصة، كما لا يخفى; فإن الوجود المتوسط قد يحكم بعدمه في
السالبة فضلا عن الوجود التصوري الفرضي في مثل «قيام زيد»، إذا تصور خاليا
عن التصديق إثباتا أو نفيا.
هذا كله في الحروف الموافقة بنحو لبعض الأسماء، في المعنى على الوجه
المتقدم، وإلا فلا إشكال مع المغايرة في استقلالية المعنى الاسمي وآلية المعنى
55

الحرفي المغاير للمعنى الاسمي، وفي أن المعنى الاسمي أحد الطرفين والحرفي
ذو الطرف، ولا اتحاد بينهما بوجه، فلا محل للنقض.
توضيح
{في شرح الرواية الشريفة في المعنى الحرفي}
روي عن إمام الأئمة سلام الله عليهم أجمعين، في تعريف الحرف: أنه «ما دل
على معنى في غيره» (1) وبعبارته عبر في «الكافية» (2). وفي رواية اخرى (3): أنه «ما دل
على معنى ليس باسم ولا فعل» (4).
والكلام، في شرح الأول; فإن مقتضى المقابلة، أن كون المعنى الحرفي في
غيره، ليس لكون حركة المسمى فيه; وإن اريد أن معنى الحرف في ضمن معنى
الاسم أو الفعل، فلا يكاد يفهم ذلك، إذ يكفي في الدلالة على معناه حينئذ، وجود
الدال الآخر الذي لابد منه; فيمكن أن يكون المراد، دلالة الحرف على نسبة تتعلق
بغير مدلول الحرف تعلقا لازما في وضع الحرف، لم يوضع الحرف إلا لها، ولم
يوضع لها سوى الحرف.
والمراد من الغير، الطرفان المعبر عنهما بالاسم، أو باسم وفعل; ويمكن

(1) مناقب ابن شهر آشوب 2: 47، والبحار 40: 162.
(2) الكافية: ص 112.
(3) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ص 51 وص 61 عن «المصباح» لابن عياض الشامي النحوي
و «الأمالي» للزجاج، كما نقل عبارة «ما أوجد معنى في غيره» عن خمسة كتب، و «والحرف
أداة بينهما» عن «شرح الإرشاد» لابن السيد الشريف.
(4) تأسيس الشيعة: ص 51 و 61.
56

استظهار ذلك من الحديث الشريف; فإن الظرفية الواقعة في الحديث، أصلها
المحفوفية بالغير، ولازمه التوقف على الطرفين، بخلاف الاسم الغير المتوقف في
تحقق المدلول على شيء، والفعل المتوقف على المعروض فقط; كما أن التقوم
مدفوع بلزوم دخول وجود الطرفين في مدلول الحرف، فيكون أعلى وجودا من
الاسم والفعل، وهو كما ترى، مع كفاية الدال الآخر على مدلوله.
ومنه يظهر: أن مدلول الحرف وشبهه، ما به الارتباط بين شيئين المتوقف
على الشيئين مع خروج نفس الطرفين عن المدلول، وإن كان الربط في موضوع
المرتبطين بحسب المشروطية لا الشرطية في المفهومية، بل في الوجود، بل
المشروطية في الوجود أيضا، كما يناسبه التدقيق; فمعنى الحرف أنه مع الطرفين
الخاصين، فالارتباط بينهما بهذا النحو.
وما مر عن «الرضي» (قدس سره)، فإنما هو في بيان الفارق بين الحرف والاسم
الموافق له في المعنى في الجملة; فإنه بحسب الوضع يدل على معنى ينضم إلى
معنى الاسم أو الفعل، بخلاف الاسم، حتى الموافق للحرف في المعنى في
الجملة; فإنه قابل لسلب الانضياف، وللإخبار عنه بنفسه في نحو قولك: «الابتداء
خير من الانتهاء»; فلو كان الانضياف بما مر من التضمن، اتجه عليه ما مر من
الإيراد.
وإن كان المراد أن الانضياف شأن المعنى الحرفي المتحصل به، فليس ذلك
إلا في حقيقة النسبة; وتحصيلها بأن حقيقة كون شيء لشيء، غير حقيقة كون
الطرفين، لأن الانفكاك من الطرفين وجداني، حتى في صورة الاجتماع في أصل
الوجود بدون النسبة الخاصة، فالمصحح للحكم لا يفترق عن عدمه إلا بأمر ثبوتي،
ولا يعقل وجود شيء ثالث، إلا حقيقة ثبوت شيء خاص لشيء خاص، به يصح
حمل عنوان أحدهما أو ما هو كالعنوان، على الآخر; ويتحد هذا العنوان مع
57

الطرف الآخر، فيقال: «زيد ضارب» أي ذو ضرب، أي طرف نسبة الضرب;
ونحوه: «زيد ضرب» أي ضارب فيما مضى، أي طرف نسبة متحصلة بينه وبين
الضرب.
وأما ما ذكره «الرضي» (قدس سره) (1) فهو إشارة إجمالية إلى ما ذكرناه، محتاج إلى
التفصيل المذكور. وكأن نظره إلى اصلاح أمر الوضع ولوازم الدلالة الوضعية، ولذا
حمل الغير على اللفظ، فاحتاج إلى الانضياف المذكور إلى المعنى الأصلي لذلك
اللفظ، مع احتمال إرادة غير الحرف من المعاني المستقلة.
والنتيجة وإن كانت واحدة، إلا أن الإجمال في بيانه واقع، بل يحتاج شرح
عبارة «الكافية» الذي هو مطابق في اللفظ للرواية، إلى ما قدمناه. والغرض، أن
منشأ اعتراض (2) «السيد الشريف»، عدم لحاظه مجموع ما ذكره «الرضي» (قدس سره) هنا.
{عدم معقولية ما نسب إلى أهل المعقول}
وأما ما نسب إلى أهل المعقول من أنه «الوجود لا في نفسه»، فقد مر عدم
معقوليته; وأن ضعف الوجود، لا يصحح اتحاده مع القوي خصوصا مع تعدد
القوي، وإلا لاتحد العرض مع الجوهر; واتحاد العرضي مع الذات خارجا،
لانتساب العرضي إلى العرض، وهو في قوة انتساب العرض إلى الجوهر، وقد
يكون هذا أيضا ناشئا من النسبة بين الجوهرين، كالدار مع «زيد»، بالظرفية
والمظروفية، بل يتعين الوجود للقوي بسببه، ولا يشتد وجوده بما لا يسانخه من
الوجودات; والنسبة لا تسانخ الطرفين في الوجود، فكيف تكون فيهما، مضافا إلى

(1) تقدم في الصفحة 52.
(2) حاشية السيد على شرح الرضي (قدس سره): ص 5.
58

ما في دعوى اتحاد الواحد مع مجموع الطرفين من الإشكال، لأنه ليس المجموع،
له وجود حقيقي وحداني يتحد مع وجود النسبة، بل تكون بينهما، وماهيتها على
طبق وجودها.
{لابدية حمل الرواية على ما هو واضح عند الأذهان}
وقوله (عليه السلام)، بحسب الرواية: «ما دل على معنى في غيره» (1)، لابد من حمله
على ما هو الواضح في أذهان العامة، وهو أنه غير ملحوظ إلا آليا لا استقلاليا، وأن
لحاظه التصديقي غير ملتفت إليه في مقام التصديق، وكذا لحاظه التصوري في
النسبة الناقصة، بخلاف لحاظ ما هو عنوان ما في الخارج.
وأما الأسماء والأفعال، فلحاظهما تصوري إفرادي استقلالي، ومحل
اختلافهما، في كون الوجود الملحوظ استقلالا لنفسه أو لغيره; وهذا لا ينافي ثبوته
النفسي في نفس الأمر، كان هناك ملاحظ أو لا، وإنما يكون بحيث إذا لاحظه
الملاحظ، لاحظه آليا لتعرف الطرفين بما لهما من الارتباط المغفول عنه بحسب
اللحاظ الاستقلالي; ففي المعنى الحرفي، اختلاف لحاظي مع غيره، واختلاف
واقعي، وهو أنه في واقعه متعلق بالغير، لا أنه شيء له التعلق بالطرفين.
فائدة:
{في تقريب آخر في شرح الرواية الشريفة}
يمكن أن يقال في شرح الرواية أنه «ما دل على معنى في غيره»: إن المراد أن
مدلول الحرف معنى محفوف بغيره، كما تفيده الظرفية; ولا يكون كذلك إلا إذا كان

(1) تقدم تخريجها في الصفحة 56.
59

بين شيئين; وأما نفس الحركة، فإنها معقولة في نفسها وعارضة لغيرها بحيث
يعتبر في تحققها وجود غيرها لا في نفسها ولا في معقوليتها; ولا يكفي ذلك في
الظرفية، ولذا لا يتحد مدلول الفعل والحرف، بل الفعل وسائر المشتقات بهيئاتها
تدل على المنتسب; فالفعل، على المبدء المنتسب; والاسم المشتق، على الذات
المنتسبة إلى المبدأ; والاسم الجامد، على الذات المحضة.
وأما النسبة، فيعتبر في معقوليتها - مضافا إلى وجودها - احتفافها بالطرفين،
فالتعلق بالطرفين، في نفس ماهيتها، ولذا لا تتعقل إلا معهما; ولا يستلزم ذلك كون
وجودها ولا كون ماهيتها، عين وجود الطرفين ماهية الطرفين; فإنه لا ينفك ممكن
موجود، عن ماهية شخصية، ولا يمكن اتحاد وجود مع وجود، وإلا لزالت
الإثنينية.
وعليه فشرح هذه العبارة «بكون مدلول الحرف منضافا إلى مدلول الاسم أو
الفعل» - بعد ما عرفت أن الانضياف بدال آخر يقتضي تغاير المدلولين، فلابد من
تحصل المتغايرين - لا يكفي في استفادة تمام المقصود.
وقد مر: أن اللحاظ الآلي والاستقلالي لازمان لكون المعنى في ذاته تعلقيا
أو لا; وأن لازم التعلقية في نفسه، عدم التعقل في نفسه، بل في غيره، بخلاف غيره
حتى العرض المعقول مجردا عن لحاظ معروضه; وأنه يكفي في بيان ما للعرض
من الإضافة إلى الموضوع، التعبير عنه بأنه: «حركة المسمى» أو «سكونه»; فإنه
يقتضي كونه بحيث إذا وجد، وجد لغيره ووجد في موضوعه، بخلاف معنى
الحرف; فإن تعلقه، في ذاته، لا في وجوده فقط; فحيث إن انضمام ماهية المعنى
الحرفي إلى غيرها ذاتي لها، فلذا لا تتعقل في نفسها، وتكون محفوفة بطرفيها
خارجا وذهنا.
وبعد تحصل المغايرة بين الوجودات المتعددة والماهيات المتعددة، يعلم أن
60

ماهية المعنى الحرفي - كوجودها - قسم مقابل لسائر الوجودات، بل لسائر
الماهيات النفسية، بنحو من الاستقلال; وأن الاستقلال مطلقا مفقود في المعنى
الحرفي; فهو في قبال الجوهر المستقل خارجا وذهنا، ماهية ووجودا، لا مستقل
لا خارجا ولا ذهنا، لأنه غير مستقل ذاتا وماهية، فلا يكون مستقلا وجودا; وبينهما
العرض المستقل في ذاته، ماهية وذهنا، ولا مستقل خارجا فقط; فالمركب من
الماهية والوجود - أعني الممكن في قبال البسيط المطلق - إما في نفسه - أو لا في
نفسه، والثاني هو المعنى الحرفي، على ما قررناه، والأول إما لنفسه وهو الجوهر،
وإما لغيره وهو العرض.
والعبرة في كونه في نفسه، استقلاله في ذاته الملازم لتعقله بنفسه.
{المعنى الحرفي يقابل المعنى الجوهري لا الواجبي}
وعليه، فمقابلة المعنى الحرفي بالوجود الواجبي، مورد للمناقشة، وإنما تتم
مقابلته بالمعنى الجوهري، وإنما يقابل بالوجود الواجبي تعالى، الوجود الإمكاني
بأسره; فإنه يستحيل في هذه المقابلة التي تلاحظ بين الفعل والفاعل ضميمة
ثبوتية للفعل أو الفاعل، لبساطة الثاني تعالى واقعا والأول فرضا، لأنه لا يشذ عنه
وجود ممكن; فالتعلق والمتعلق فعل واحد عمومي، ولا تكثر فيه إلا بحسب
تقسيماته الداخلية الجنسية، أو النوعية، أو غيرهما في الجواهر والأعراض وما
بينهما.
تنبيه
{في كيفية الوضع في الحروف وجهته}
قد سبقت الإشارة إلى أقسام الوضع; وأن المطابقة بين الوضع والموضوع
61

له في العموم والخصوص، على طبق القاعدة; كما أن عموم الوضع وخصوص
الموضوع له، من جهة مسيس الحاجة إلى الوضع للخاص بهذا النحو، بحيث
يجوز الاستعمال في غير الخاص على الحقيقة، ولا يكون إلا بمعرفية العنوان العام
لما يكون مصداقا له، بخلاف العكس; فإن الخاص لا يعرف العام في موطن
الوضع، إلا بالحضور عند الذهن، ومعه يكون الوضع عاما، كالموضوع له،
واختلاف الأسباب، لا أثر له حينئذ.
{القول بوجود الماهية للنسب وعدمه، لا يؤثر في نحو الوضع}
وأما كون الوضع في الحروف وما بمثابتها عاما والموضوع له خاصا، فلا
يفرق فيه بين البناء على كون الملحوظ في مقام الوضع كليا منتزعا من داخل
الوجودات الخاصة للنسب، كما إذا قلنا بأن النسبة لها ماهية معقولة مع معقولية
طرفيها، وإنما تقال ويحمل عليها قول سائر المقولات الطبيعية على افرادها، كما
احتملوه في مقولة الإضافة التي هي النسبة المتكررة.
وكون الماهية مستقلة في التعقل لا يتوقف تعقلها على تعقل ماهية اخرى،
شيء غير معتبر في مقوليتها ولا في نفسيتها; وإنما تختص بالمحفوفية بالغير
خارجا وتعقلا، وإن اللانفسية بغير هذا المعنى لا معنى لها في الممكن الذي هو
زوج تركيبي; فلا يمكن أن يكون له وجود حقيقي بلا ماهية، أو يكون وجوده
الحقيقي حقيقة وجود الطرف، مع ما فيه من أن إثبات الوجود الحقيقي في قبال
الاعتباري أول الكلام هنا وفي الإضافة، لا أن له وجودا إمكانيا بلا ماهية، وبأنها
كيف تكون لها ماهية لا تعين لها، لدخولها في سائر المقولات حتى الإضافة، وهذا
مشترك بينها وبين مقولة الإضافة.
أو قلنا بأن النسب لا ماهية لها، إذ مع قطع النظر عن الوجودين هي لا شئ;
62

ومع النظر إلى أحدهما ليست كلية مقولة، فليس للنسبة وجود محمولي، بخلاف
الجواهر والأعراض المعتبر في وجودها وجود المعروض، وإنها في ذاتها، لا في
وجودها في الغير; فلا محالة يكون «الابتداء» مثلا معنى عاما اسميا وعنوانا لحقائق
النسب، ولابد في هذا القسم من الوضع، من أن يكون الملحوظ حال الوضع،
منسوبا إلى الموضوع له بالعموم والخصوص، لا أن يكون ذاتيا له حتى يقال: إن
إلغاء خصوصية الطرفين غير الذاتية بإلغاء الوجودين في الماهيات الكلية.
{القول بعدم لحاظ الخصوصيات الوجودية في وضع الحرف والمناقشة فيه}
هذا، ويمكن المناقشة في وضع الحرف للخاص الملحوظ بلحاظ العام بمعنى
الموجود بوجود العام بلا لحاظ الخصوصيات المكتنفة بالوجودات، بأن الاستعمال
ربما يقع حقيقيا في الكلي في مثل «سر من الكوفة»; ومع هذا، فلابد من الالتزام
بعموم الموضوع له; وأن المغايرة بالوضع، لغاية الدلالة الآلية لملاحظة الغير في
الحرف والاستقلالية في الاسم، على حسب ما يأتي بيانه في اسم الإشارة; فيمكن
أن يكون الملحوظ في الوضع، الابتداء الآلي في اللحاظ الاستعمالي، ويوضع
الحرف له; والابتداء الملحوظ مستقلا في الاستعمال، ويوضع له الاسم;
فالموضوع له عام في المقامين، كما يمكن أن يكون الملحوظ نفس الابتداء،
والوضع لخصوصية الإضافية; ولازمه خصوص ما وضع له الاسم أيضا ولو بكونه
جزئيا إضافيا، وهو كما ترى.
{تقريب لمعنى التخصص في وضع الحروف}
إلا أن يقال: إن التخصص من قبل المبدأ والمنتهى مثلا، يكفي في خصوص
ما وضع له الحرف; وهذا حاصل في جميع استعمالاته، بخلاف الابتداء; فإنه
63

لا يدخل التخصص المذكور في مدلوله; فالموضوع له فيه عام، بخلاف الحرف.
وبهذا يحصل تفاوت العنوان والمعنون أيضا، لعدم تحقق النسبة، كانت
مخبرا عنها أو مبعوثا إليها، إلا مع الإضافة إلى طرفين خاصين; وسائر التخصصات
ملغاة في مقام الوضع، بل في الاستعمال أيضا، إلا بدال آخر; فالوجود داخل في
مدلول الحروف بما أنه وجود النسبة الخاصة بين خاصين، لا بسائر
الخصوصيات، وهو خارج عن مدلول الاسم، كسائر المفاهيم العامة والماهيات
الكلية التي هي في طرف معروض الوجود; وإفادته في الاسم بدال آخر، تؤكد
عدم الدخول في الموضوع له، لا أنه ينافيه لكنه لا يوجب كون معنى الحرف جزئيا
إضافيا بالنسبة إلى المعنى الاسمي العام، ولا يوجب الجزئية الحقيقية إلا مع فرض
الوجود بنحو ثابت في الجزئي الحقيقي.
{الالتزام بالاشتراك المعنوي أو اللفظي ومحاذيره}
فالذي يمكن أن يقال: إن معنى الحرف هو واقع النسب، الموجود بالاعتبار، لا
المفهوم العام المنطبق عليه انطباق العنوان على المعنون; فالابتداء الذي هو عرض
مقولي وموجود حقيقي، لا ينطبق على النسبة الابتدائية الواقعية انطباق الكلي
الداخلي على الفرد; فلابد في مقام الوضع من لحاظ العنوان، كمفهوم الابتداء، أو
مفهوم النسبة الابتدائية; فالوضع إن كان لذلك الملحوظ، فالاشتراك معنوي،
وحكمه جار فيه، ويكون الاستعمال في الخاص مجازا دون الجامع; وإن كان
لأفراده على سبيل الاستغراق، فإنه المعقول في الغرض، فالاشتراك لفظي،
ولا تجوز في الاستعمال في الخصوصيات، بل في الجامع العنواني إن صح الاستعمال.
لكنه لا يمكن الالتزام بالاشتراك اللفظي في الأفراد الغير المتناهية إلا في علم
الله تعالى، ولم يعهد نظير له; مع أن الخصوصيات المكتنفة بالأفراد المشخصة
64

لها، مما لا يقع في ذهن السامع، بل المتكلم أيضا في كثير من الموارد.
{طريق الفرار عن محاذير الاشتراك المعنوي واللفظي}
فلابد من الالتزام للفرار عن محاذير نحوي الوضع، بأن الموضوع له في
الحروف هو وجود النسبة الابتدائية بما أنها وجودات للعنوان العام، لا بما أنها
متخصصة بالخصوصيات والعوارض المشخصة; فالوضع للخاص بهذا المعنى،
هو المتعين الدافع للمحذورين المتقدمين; وعدم لحاظ الخصوصية في مثل الأمر
بالسير، استعمال في الخاص بالمعنى المتقدم، بالنسبة إلى غير المفروض وجوده
من النسبة، بل المطلوب إيجادها بالأمر، كما أن لحاظها في الإخبار، أجنبي عن
المستعمل فيه، وإنما الموجب فرض الوجود المستلزم لفرض التشخص
والمشخصات التي قد تكون مغفولا عنها رأسا، وقد يدل عليها بدال آخر غير
استعمال اللفظ في معناه.
وهذا يوافق ما ذكره الاستاذ (قدس سره) (1) في تصحيح تعلق الأمر بالفرد مع عدم
دخل الخصوصيات في متعلق الطلب، وعدم انفكاك الفرد عنها.
وأما المعنى الاسمي، فهو معروض الوجود في جميع المقولات التي لها
واقعية غير النسبة، بل هي أحد طرفيها، لا نفس الوجود المتقوم بالطرفين; فهذا
هو الفارق بين المعنى الاسمي والحرفي المتوافقين في الجملة.
ودعوى الوضع في الاسم للملحوظ استقلاليا، وفي الحرف للملحوظ آليا،
توجب عدم تحقق الموضوع له، لتقيده باللحاظ، ولا يمكن الجمع بين المعرفية
والتقييد.

(1) نهاية الدراية 2: 253، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
65

{وسطية الحرف بين الأعلام والأجناس}
ويمكن أن يعبر عن المعنى الحرفي بأنه وسط بين أسماء الأعلام وأسماء
الأجناس في المحافظة على جميع الخصوصيات الوجودية في الأول، وإلغائها
رأسا في الثاني، فيعتبر وجود النسبة مضافا إلى الطرفين فقط، ويتعلق الأمر بالكلي
حينئذ على ما قرر في تعلق الأمر بالفرد أو الطبيعة، ويلغى عنه سائر
الخصوصيات، وقد يعتبر فيه جميع الخصوصيات لتحققها.
وحيث إن المعرف عنوان عام يلاحظ، فيوضع الحرف لمصاديقه; فلا يلزم
العلم بجميع الخصوصيات الموضوع لها الحرف; فالمدلول بمعرفية النسبة
الابتدائية - مثلا - نسبة ابتدائية محفوفة بالطرفين، تابعة سعة وضيقا للطرفين; فمع
السعة في أحد الطرفين، يكون وسيعا ومع عدمها، شخصيا ضيقا; والكل بالنسبة
إلى المعرف والعنوان والاسم جزئي إضافي أعم من الحقيقي وغيره، فلاحظ.
66

في أسماء الإشارة
{الموضوع له في أسماء الإشارة وصلة الإشارة به}
وأما الكلام في أسماء الإشارة وما يجري مجراها، فحاصله: أنه يستشكل في
تعين الموضوع له من غير قبل الإشارة باللفظ; وأنه إذا لم يتعين، فحال مدلول
الاسم المخصوص حال مدلول المفرد المذكر، وليس فيه الإشارة، بل «زيد
ليضرب» يفيد فائدة «هذا المسمى بزيد آمره بالضرب»، ولا إشارة في الأول وإن
كان تعين موضوع الحكم محفوظا في الأول.
كما أن كون الموضوع له، الإشارة بالمعنى الاسمي، يرد عليه - مع عدم إمكان
التبديل في الاستعمال - أن الإشارة لا يحكم عليها بحكم المشار إليه، واسم
الإشارة يقع محكوما عليه بحكمه، مع أن الإشارة الموضوع لها اللفظ، لابد وأن
لا تكون مقيدة باللفظ الخاص، فلا يؤخذ الدال في المدلول; مع أن ما به الإشارة
آلة لها، فكيف يكون مدلوله ذا الآلة؟
والإشارة التكوينية وكون اللفظ بمنزلتها بالوضع متعلقة بالحاضر، غير
تعيين الحاضر بالإشارة، بل الإشارة اللفظية قد تحتاج إلى ضمائم اخر لتعيين
المشار إليه.
{اسم الإشارة موضوع للدلالة بمعين لفظي أو غيره}
فيمكن أن يقال: بأن اسم الإشارة وما بمثابته كالموصول، إنما وضع - مع
عموم الوضع - لوجودات المفرد المذكر الحاضر المتعين حال الإشارة بمعين
67

لفظي أو غيره، لا بنفس اسم الإشارة مثلا، وخصوص الموضوع له على النحو
الشبيه بالخصوص في الحروف.
ولعل هذا أقرب من أخذ النتيجة من ناحية العلية الغائية للوضع هنا،
المتوسط بين عموم الموضوع له كالوضع، كما في اسم الجنس وبين خصوصهما،
كما في الأعلام; فليتحفظ عليه، فإنه المناسب لأخذ نتيجة الإشارة التكوينية
بالإشارة الوضعية الجعلية; فإن الإشارة التكوينية تعين المشار إليه ولا محذور فيه،
بخلاف الإشارة الجعلية الوضعية، فليست معينة، بل المعين غيرها حالها تعيينا
مانعا عن الصدق على غير الشخص الواحد عند المتكلم وطرفه. وهذا من أقوائية
الإشارة التكوينية من الجعلية الوضعية اللفظية; وكذا الأعلام; فإن تعينها للمتكلم
وطرفه ليس بنفس التلفظ ب‍ «زيد» الدال على المتعين المشخص للطرفين; وكذا
الموصول المعرف بالصلة على الدقة، فإن شرط التعيين غير التعيين.
{اسم الإشارة وسط بين الإشارة التكوينية والأعلام}
فالمتحصل مما مر: أن اسم الإشارة، وسط في التعيين بين الإشارة التكوينية
وبين مثل الأعلام; فالتشخص المانع عن الصدق على المتعدد بالوجود أو
المشخصات الوجودية، بسببه الواقعي علم به أو لم يعلم; ولكن سد باب
الاحتمال لغير الواحد بإعلام الشخص في الإشارة التكوينية، لا يحتاج إلى غير
الدال التكويني، كالعلم المنصوب في الطريق; وفي الأعلام حصول التعيين
للمخاطب، يتوقف على معرفته للشخص ولكونه مسمى بزيد بمعرفته باللغة;
وفي اسم الإشارة حصول التعيين للمخاطب، يتوقف على معرفة المعين وكون
اللفظ كالعنوان له وإشارة إليه بمنزلة الإشارة التكوينية; فوضع اسم الإشارة لأن
يدل به على المفرد المذكر الحاضر مثلا، دلالة آلة الإشارة على المشار إليه; لكن
68

آلة الإشارة لها طريقية محضة واسم الإشارة له عنوانية ومرآتية، ولذا يحكم عليه
بالمشار إليه دون آلة الإشارة التكوينية.
ووضع اسم الإشارة للإشارة به إلى المفرد مثلا - كما يشار بالعلم المنصوب
إلى الطريق الخاص - لا محذور فيه; وليس من أخذ الإشارة في مدلول اسم الإشارة،
كما لا يؤخذ التعيين بلفظ «زيد» في مدلول لفظ «زيد»; فإن الوضع للدلالة على
المدلول - خاصا كان أو عاما - يعم جميع الأوضاع اللفظية.
ومنه يظهر أن علة الوضع وإن كانت هي الاكتفاء بالتلفظ الخاص عن الإشارة
التكوينية، إلا أن دلالة اللفظ، ليست كدلالة آلة الإشارة التكوينية معينة للمشار إليه;
مع أن العلة لو كانت فيه خصوصية، فالمناسب تخصص المعلول أيضا، فلابد من
فرض التعين في المجعول لثبوته في الواقعي.
ولا يخفى أن اسم الإشارة يخالف الحروف; فإنها موضوعة لنفس النسبة،
ولذا لا يحكم عليها بحكم الاستقلال، بخلاف اسم الإشارة، فإنه موضوع لأن يشار
به إلى المتعين; فهو يجعل المتعين مشارا إليه بالوضع والجعل; فاسم الإشارة
عبارة اخرى عن المشار إليه بما أنه كذلك، ولذا يحكم عليه بحكمه، فيقال: «هذا
زيد»; فهو دال إيجادي لخصوصية كون الشئ مشارا إليه لا إخطاري، كما في
«زيد» و «الإنسان».
{مقارنة بين حرف النداء ومدلول «ذا» ومصحح الوضع فيهما}
وحرف النداء موضوع للنسبة الندائية، ودال إيجادي على النداء; والنداء
علامة اسمية المنادي، كما أن هيئة «اضرب» إيجادية للنسبة الطلبية، ولا يحكم
عليها بحكم الاستقلال; فإن هيئة «اضرب» وضعت لأن ينشأ بها النسبة الطلبية
الاعتبارية; فما دل على الإنشاء من الدوال، يوجد بها المعنى في الاعتبار، بخلاف
69

ما دل على الإخطار المتمحض في الحكاية عنه; وكذا الحروف الحاكية عن النسب
الخاصة، بخلاف حرف النداء ونحوه من الإيجاديات; فإنه مثل اسم الإشارة، دال
بدلالة ندائية أو إشارية.
فمدلول «يا» نسبة النداء إلى القريب الحاضر، ودلالتها عليه ندائية لطرف
النسبة، وإيجادية لنفس النسبة الندائية التي هي مدلول حرف النداء; ومدلول «ذا»
المذكر الحاضر، ودلالتها عليه إشارية; وليس لازم ذلك كون الموضوع له في
أسماء الإشارة، عاما كالوضع، بل خاصا على ما ذكرناه، فتدبر.
والظاهر: أن ما لا يستعمل إلا في الخاص لا يكون الوضع فيه إلا لخاص، من
غير فرق بين الإيجادية والإخطارية والاسم والحرف.
وحيث لم يؤخذ النداء باللفظ أو الإشارة باللفظ في الموضوع له، ولا يعقل
أخذهما ولا التقييد بهما فيه; فالذي يمكن به تصحيح الوضع أن الوضع لهذه
الدوال، لغاية الدلالة الخاصة بها على النحو المذكور، بل قد مر تخصص المغيى
وأنها وضعت لإيجاد المعنى كما سبق.
{اعتراض من السيد الشريف ودفعه}
ودعوى: عدم الدليل على هذه العلية أولا، وعلى اتباعها ثانيا، كما يمكن
استفادتها من اعتراض (1) «السيد الشريف»، يمكن دفعها بأن الاطلاع على الوضع
والاستعمالات الحقيقية الحاكية عنه، يوجب القطع بالعلية المذكورة.
وأما عدم الدليل على اتباعها، فالخروج عن قانون الوضع لا يكون إلا
بالتجوز الموقوف على العلاقة الصحيحة المفقودة في موارد الخروج; فكلمة
«من» لا معنى لتبديلها بالابتداء إلا بنحو يوافق الوضع ويفيد المقصود، بأن يقال:

(1) تقدم في الصفحة 59.
70

«ابتداء سيري الكوفة وانتهائه البصرة»; فإنه بمنزلة أن يقال: «سرت من الكوفة إلى
البصرة»; والخروج عن الوضع إنما يصححه العلاقة وإلا كان غلطا في الكلام.
{تفرقة بين الحروف الإخطارية والإيجادية}
وقد بينا: أن الحروف الإخطارية الموضوعة لما ينطبق عليه المفهوم العام،
موضوعة للأعم من الجزئي الإضافي، كما يراد من مثل «سر من الكوفة إلى
البصرة»، والحقيقي المراد من مثل «سرت من البصرة إلى الكوفة»; فهي تابعة في
خصوص المدلول وعمومه على النحوين المذكورين للطرفين، وإنما يتخصص
المدلول بتخصص الطرفين معا.
وأما الإيجادية من الحروف - ك‍ «حرف النداء» و «لام الأمر» - فهي كما سبق،
لإنشاء النسبة الندائية بين المتكلم والقريب مثلا، كما أن هيئة «اضرب» لإنشاء
النسبة الطلبية; والمدلول فيهما النسبة الملحوظة حال الوضع، والدلالة إيجادية
إنشائية، غير مأخوذة في الموضوع له، إلا على الوجه المتقدم; وكذا اسم الإشارة
وما بمنزلته، موضوع للمفرد المذكر الحاضر لغاية الإشارة باللفظ إليه; وحيث
لا تستعمل إلا في الخاص بالخصوصية الوجودية، فالموضوع له ما هو في الخارج
مفرد مذكر.
ولا يغني ذلك عن تقييد الدلالة من قبل الواضع بأن تكون الدلالة إشارية;
فإن تعين «زيد» وهو المشار إليه، لا يغني عن الإشارة ومقتضاها; فإن التشخص
الوجودي، شيء وعدم احتمال المخاطب لغير واحد خاص، شيء آخر وهو
مدلول اسم الإشارة; كما أن التعين بالإشارة باللفظ، لا يمكن أخذه في الموضوع
له، وإن كانت الإشارة لا تنفك عن تعيين المشار إليه.
71

{منشأ دعوى عدم لزوم تبعية تقييدات الواضع ودور الغاية في الوضع}
فدعوى أن تقييدات الواضع غير متبعة، ناشئة عن قياس التقييد الناشئ عن
غايتية أمر خاص للوضع بسائر التقييدات الاختيارية الاختراعية من ناحية
الواضع; ولزوم كون خصوص الغاية موجبا لتخصص الموضوع له، بلا ملزم،
بحيث لو لم يمكن الأخذ في الموضوع له، لم يتمكن من الوضع للوصول إلى
الغاية الخاصة.
فلا محالة يكون الإنشاء القصدي، بنفس الاستعمال; ويكون وضع الهيئة لأن
ينشأ بها النسبة في الهيئة المختصة بالإنشاء، ولإفادتها إنشاء تارة، وإخبارا اخرى
في المشتركة بين الإنشاء والإخبار، من غايات الوضع، المكشوفة من طريق تتبع
موارد الاستعمالات.
فالإنشاء وصف الدلالة المقصودة للواضع غاية، لا [أنه] داخل في
الموضوع له حتى يكون الموضوع له النسبة المنشأة بهذا اللفظ. ولابد من حقيقة
الإنشاء في الدلالة، ولا يكفي مفهومه حتى يمكن تبديل الدال على الحقيقة بالدال
على هذا المفهوم.
وعليه، فالموضوع له الهيئة المختصة بإنشاء النسبة الطلبية، أو «لام الأمر»
و «لاء النهي» في الحروف، وكذا حرف «التمني» و «الترجي» و «الاستثناء»
و «الاستدراك» و «التشبيه» و «التأكيد»، كالوضع، عام.
{إيضاح للخصوصية}
و الخصوصية، من غايات الوضع المتبعة في رعاية قانون الوضع، وليس
خاصا وجوديا كما هو واضح، ولا بخصوصية الطرفين حتى يكون جزئيا إضافيا،
72

إلا على النحو المتقدم، لما مر من أنه غير الإنشاء اللازم بالصيغة المتهيئة; بل العلة
الغائية التي لا تكون أضيق من معلولها، تقتضي أن يكون وضع لفظ المعلول، لأن
يدل به على المعنى دلالة خاصة وإرائة خاصة، أعني الدلالة الإيجادية الإنشائية في
هيئة الطلب ودلالة إشارية في أسماء الإشارة ونحوها، كالإشارة بالدال التكويني
على الطرف.
ولا يبعد أن يكون تخصص المغيى، بسبب تخصص الغاية بضميمة إلى
الدال اللفظي لقصد الإيجاد الإنشائي في هيئة الطلب، وقصد الإشارة باللفظ كما
يشار باليد إلى جهة.
نعم، يمكن الالتزام بالوضع الخاص فيها، من جهة أن تحقق الأمر الاعتباري
- أعني النسبة البعثية - بتحقق أطرافه الموجب لفعلية البعث الإيجابي بفعلية الأمر
والمأمور والبعث، ولو كان مشروطا يتحقق بتحقق شرطه.
وعلى أي، فهذه الخصوصية التي هي خاصة بالإضافة إلى مطلق النسبة
البعثية مثلا، لا تغنى عن خصوصية الإنشاء بالاشتراط.
{نحو وضع الألفاظ المشتركة بين النسبة الطلبية والإخبارية}
وأما المشتركة فحيث لا جامع بين إنشاء النسبة الطلبية ووجودها الاعتباري
والحكاية عن النسبة الواقعية حتى الجامع العنواني، لتغاير سنخ الوجودين
والموجودين، فيمكن أن يقال: بأنها مشترك لفظي بين المشروط بقصد الإنشاء
والعدم، أو المشروط بقصد الحكاية عن وجود النسبة والعدم، أعني نسبة الضرب
إلى المخاطب مثلا، في قبال نسبة طلب الضرب من المخاطب إلى المتكلم،
ويتعين بقرينة التعيين في واحد منهما، والوضع في كل منهما، على حسب الوضع
له لو كان منفردا.
73

لكن الظاهر، لزوم الاشتراك اللفظي بين المتخصص بقصد الإنشاء للنسبة
الاعتبارية، والمتخصص بقصد الحكاية عن واقع النسبة الخارجية على تقدير
عدم تعيين الأمارات للحقيقة في أحدهما، بحيث يكون الاستعمال في غيره
مجازا محتاجا إلى قرينة وعلاقة، لا قرينة التعيين في المشتركات.
إلا أن يقال: بإمكان كون الوضع للنسبة الواقعية - مثلا - المشتركة بين ما كان
واقعيته من غير قبل التلفظ بقصد الإنشاء، لأن المقصود في الإخبار، الحكاية
المحضة، وما كان واقعيته بقصد الإيجاد باللفظ إعتبارا بحيث يحتاج فهم قصد
الإنشاء منه إلى قرائن مقالية أو مقامية.
{تقريب لمعنى الإنشاء والإخبار عند العرف}
ثم إن الظاهر، أن اللفظ وجود جعلي تنزيلي للمعنى في اعتبار الواضع
وأتباعه، وهذا غير وجود المعنى في اعتبار العرف بسبب التلفظ المقصود به
إثبات المعنى في نفس الأمر; فالزوجية العرفية التي لا يختص محصلها وسببها
بلغة خاصة ولا بأصل التلفظ، قد يقصد حصولها بسبب، فهو الإنشاء; وقد يقصد
التنبيه على حصولها وإخطار حصولها في ذهن السامع، فهو الاخبار; فليس
الإنشاء عبارة عن إثبات المعنى باللفظ بلا قصد الحكاية; والاخبار عنه، مع قصد
الحكاية، حتى تكون الخصوصية الوجودية، للإخبار; مع أن الإنشاء يكون بشرط
لا - حينئذ - عن قصد الحكاية; مع أن واقع النسبة مختلف في الإنشاء والإخبار،
فإحداهما خارجية، والاخرى اعتبارية، بل في مثل «يضرب» إخبارا، نسبة
الضرب إلى الضارب، وإنشاء نسبة طلبية من الطالب إلى المطلوب منه; فلا شيء
واحد مفروض يحكي عنه تارة ولا يحكي عنه اخرى.
74

{نحو الوضع في الألفاظ المختصة بالإخبار}
وأما المختصة بالإخبار، فالوضع فيها واضح لو فرض، وإنما المعهود أن
الاختصاص بالقرائن، ولو كان احتياج قصد الإنشاء في المحل القابل إلى القرينة،
موجبا للحمل على الإخبار عرفا; وعموم الموضوع له وخصوصه فيما قصد به
الإخبار أو الإنشاء، تابع له لو كان منفردا، ولا يتغير بالاجتماع مع الوضع، كما في
سائر المشتركات; فالموضوع له خاص في الموضوع للنسبة مطلقا، إلا أن
الملحوظ حال الوضع قد يكون النسبة الواقعية، ويوضع اللفظ لمصاديقها
للانتقال إليها; وقد يكون النسبة الاعتبارية، ويوضع اللفظ لإيجادها بالإنشاء، من
دون فرق بين المختصة والمشتركة.
والحاجة إلى القرينة في المشترك، غير ضائرة، لأنها غير قرينة المجاز التي
لا تكون إلا مع العلاقة بين المعنيين الحقيقي والمجازي، بل يوجد في الألفاظ ماله
معنى اسمي ومعنى حرفي; ولكل حكمه لو كان منفردا في عموم الموضوع له
وخصوصه المطرد في الموضوع للنسب، كما مر.
ثم إن ما ذكرناه في الوضع العام والموضوع له الخاص، كان جريا على ما
بنوا عليه في الإشكالات وأجوبتها; إلا أن الإنصاف أن دعوى كون الوضع عاما
والموضوع له خاصا يعرفه العام [بحيث] يلزم الاشتراك اللفظي في أوضاع اللفظ
المتحدة إجمالا وعنوانا، بعيدة، لأن العام لا يعرف الخاص، بل الأمر بالعكس لمن
أراد العبور الذهني من الخاص إلى العام.
فالمتجه: الالتزام بعموم الموضوع له والاشتراك المعنوي، وإن كان المدلول
الوجود بما أنه مضاف إلى النسبة مثلا، كما يقال في تعلق الأمر بالطبيعة، فتأمل
تعرف.
ومما ذكرنا يظهر الوجه في اتحاد المدلول للدال على النسبة الابتدائية مثلا
75

في مواقع الإنشاء والإخبار المتقدمين، بل المستعمل فيه، فيه أيضا خاص بالحمل
الشايع، لا بما أنه مدلول للدليل، ولذا يفهم المخاطب بما فيه الإخبار عن النسبة،
ولا يفهم العوارض المشخصة، فهي مدلولة لغير الدال على النسبة، فليس الدال
على النسبة دالا على الشخص بعوارضه المدلولة لغيره.
فحق التقسيم أن يقال: إن الموضوع له إذا كان عاما [فإما أن] يضاف إليه حينئذ
مدلولية الوجود أو لا يضاف، والثاني اسم الجنس، والأول معنى الحروف
والهيئات.
وليس الوضع فيها للوجودات حتى يلزم الاشتراك اللفظي بلا نهاية
معلومة، بل الاشتراك هنا أسوء من المشتركات المعهودة; فليس الاشتراك في
وجودات المعني في كل معنى واحد، بخلاف الاشتراك في الأدوات الموضوعة
لوجودات النسب الخارجية على الفرض.
{الموضوع له في الحروف، وجودات النسب}
فتحصل: أن الموضوع له في الحروف وما يجري مجراها، وجودات النسب
الخاصة ووجودات معاني أسماء الإشارة المدلول عليها دلالة، كدلالة آلة الإشارة
ولو بضميمة القرينة بحيث يكون التقييد للدال، لا المدلول، لكنها بما أنها وجود
للعنوان العام يكون عاما و [يكون] الاشتراك معنويا، فالموضوع له فيها أيضا
- كالوضع - عام وإن كان هذا القسم مغايرا لسائر أقسام الوضع العام الذي لم يضف
إليه الوجود.
{دخل الخصوصية الوجودية في الموضوع له يلازم الاشتراك اللفظي بخلاف عدمه}
فتلخص: أن الخصوصيات الوجودية إن كانت داخلة في الموضوع له
76

الأدات، لزم الاشتراك اللفظي بين ما لا يتناهى علما; وإن لم تكن داخلة، لزم عموم
الموضوع له والاشتراك المعنوي، كالأسماء، وإن اختص معنى الحروف
بخصوصيات يعنون بها ما في الخارج، وليست هي نفس الخصوصية الوجودية.
تنبيه
يتعقب وضع الحروف والهيئات:
وهو أن الكلام في وضع المفردات - أعني ما دل على طرفي النسبة المدلول
عليها بالحروف والهيئات - ما قد ذكر.
{وضع الهيئة التركيبية}
وأما وضع الهيئة التركيبية، فهل هو ثابت أو لا؟ مورد اختلاف. والذي يمكن
أن يقال: إن الوضع لا يكون عقلائيا إلا بدعوة الحاجة; فما لم يكن مدلول محتاج
إلى الدلالة عليه، لا محل للوضع فيه; وإذا كان أمر زائد على ما دل عليه بالدوال
المعهودة، لا محل لترك الوضع فيه.
وحيث إن الدلالة على النسبة، حاصلة بجميع صورها بالدال الواحد، فلابد
من المصير إلى وقوع الدلالة على كيفية الانتساب وأنه صدوري أو وقوعي، وأنه
للمظروفية أو للظرفية، وأنه ما المفعول الأول والثاني وما المبدء والمنتهى، من
دال آخر كالإعراب فيما يكفي ويثبت، والتقديم والتأخير الذي يستفاد منه كيفية
الانتساب تارة، ونسبة مخالفة غير مدلول عليها بغيره، اخرى، كما في الحصر.
فدعوى أن مدلول «ضرب زيد عمرو»، ومدلول «ضرب عمرو زيد»
واحد، أو أن المتعدد مدلول للواحد، وليس الدال فيه متعددا، واضحة الفساد، إذ
الاشتراك - بكلا قسميه - يحتاج إلى دال آخر غير الدال على أصل المعنى للفظ.
77

الفصل الثالث
في تحقيق الإنشاء والإخبار
{معنى الإنشاء والإخبار}
قيل في تحديد الإنشاء: «إنه إثبات المعنى باللفظ في نفس الأمر».
ولا يخفى: أن مقتضى ظاهر التقابل بين الأمرين، أن يكون نفس المحكي في
الإخبار موجودا بنفس الكلام، أو شبهه في الإنشاء. وحيث ليس يوجد في
الأعيان ولا في الأذهان في غير الاخبار ما لا يوجد فيها، فالمراد هو إنشاء ذلك
الأمر في افق الوجود المناسب له، ولا يعقل أن يكون غير عالم الاعتبار; فما
لا يقبل الاعتبار، أو لا يتحقق فيه ملاكه من العقلاء، لا يقبل الإنشاء المصطلح
بشيء.
والاعتبار الحاصل بنفس الوضع فيما بين اللفظ والمعنى، مشترك بين الخبر
والإنشاء، مع أن الوضع اعتبار كون اللفظ موضوعا على المعنى، وتتبعه الملازمة
في الانتقال، لا اعتبار اللفظ وجودا للمعنى; فإنه - مع عدم وقوعه إلا بعناية زائدة -
منحصر في مثل ما وضع للماهيات، دون الوجودات، ودون الماهيات الملازمة
للوجودات.
وبالجملة: فالإخبار إخطار وحكاية لما له واقعية غيرهما; والإنشاء إثبات
لواقعية الموضوع في الاعتبار; فالإنشاء واسطة لثبوت ذلك الأمر الاعتباري،
78

ولا جامع بين الاعتباري والحقيقي، وما يوجبه الوضع مشترك بينهما; فلو كان
بينهما جامع، كان التقييد في الدلالة.
{تحديد للإنشاء والإخبار}
ويمكن تحديد الإنشاء والإخبار - بما يجري في مثل «يضرب» إنشاء
واخبارا وفي مثل «بعت» إخبارا وإنشاء - بأن الإنشاء إثبات النسبة بنفس
الاستعمال في الاعتبار، فهو إيجاد للمدلول بالدال; والإخبار إيجاد المدلولية
للنسبة الواقعية، مع قطع النظر عن الدلالة; فلذا يكون المنشأ في «يضرب زيد»،
النسبة الطلبية المتعلقة بضرب «زيد» من المتكلم، والمخبر عنه في «يضرب
زيد»، النسبة الصدورية للضرب من «زيد»; والواقعية تنفك عن الطلب رأسا، كما
أن الطلب ينفك عن الواقعية أحيانا.
والمخبر عنه في مثل «بعت وأنكحت»، نفس النسبة الاعتبارية المحققة
بغير هذا الإخبار، ولذا يصدق الإخبار تارة ويكذب اخرى; والمنشأ به، نفس
اعتبار البيع بالإنشاء والنكاح; والثاني يحدث بحدوث الكلام والدال، والأول
يوصف بالتقدم زمانا - غالبا - على الكلام الدال، لعدم المناسبة بين الدال والمدلول
بغير الوضع.
{الاعتبار يتعلق بنفس اللفظ أو الفعل؟}
نعم، يمكن أن يكون محل الاعتبار نفس اللفظ، بمعنى أن ما اعتبر وجودا
للمعنى نفس اللفظ، لكنه غير الاعتبار الذي هو عين الوضع المشترك بين ما له
الحقيقة الخارجية وما ليست له، يعني أنه يعتبر المتلفظ طالبا، وطرفه مطلوبا منه،
79

والفعل مطلوبا، واللفظ بقصد الإنشاء طلبا وبعثا ومطلوبا به، ومثله سائر
الإنشائيات ك‍ «التزويج».
لكن الأقرب: أن أسباب الإنشاء ما به الاعتبار; فيكون الاعتبار الفعلي مسببا
توليديا للإنشاء بقصد التسبب به إلى الاعتبار الفعلي; وكونه ما به الاعتبار بالقوة
وظيفة الواضع، والتسبب الفعلي إلى الاعتبار الفعلي وظيفة المتكلم المستعمل،
ولذا يعتبر التلفظ بمثل «اضرب» بقصد الإنشاء بعثا وما به البعث، ويعتبر حملا
خارجيا للطرف نحو الفعل.
{الاستعمال في الإخبار علة الانتقال وفي الإنشاء علة الاعتبار}
والذي ينبغي أن يقال: إن الوضع في غير الإنشائيات، بجعل الواضع اللفظ
ملازما للمعنى ينتقل إليه به; وفي الإنشاء، بجعله محققا اعتباريا لما ينشأ به
بالاستعمال، والمشترك بين المعنيين، كالمختص بواحد منهما في المدلول
والدلالة.
وصاحب الاعتبار في الإنشائيات من له أهلية من العقلاء، وقد يكون
المعتبر في الأوضاع شخصا خاصا، ولا اختصاص للانشائيات بلغة خاصة، بل
ولا بالألفاظ، لكفاية الإشارات عنها في الجملة، بخلاف الأوضاع.
فالدال هو الوجود الحقيقي، والمدلول كونه في عالم الاعتبار وجودا لشيء
آخر، ولا محذور فيه; فالاستعمال في الإخبار علة الانتقال، وفي الإنشاء علة
الاعتبار; والمستعمل فيه في الأول، الوجود المناسب للشيء مع قطع النظر عن
الاستعمال; فقد يكون أمرا اعتباريا أيضا، كما إذا قلت: «أبعثك غدا نحو الضرب»
إخبارا، وفي الثاني هو الوجود الاعتباري المتحصل باللفظ بقصد التسبب به إلى
80

ذلك الاعتبار; فالأول إرائة محضة بإيجاد اللفظ، والثاني إيجاد لما بالاعتبار بإيجاد
اللفظ حقيقة.
{لا جامع بين الإخبار والإنشاء حتى يقع الاشتراك المعنوي}
والذي يرشد إليه تدقيق النظر، أن الهيئة المختصة بالإنشاء، وكذا الحروف
الطلبية، إنما وضعت لأن ينشأ بها النسبة الطلبية، وأن المشتركة، من المشترك
اللفظي بين ما ينشأ باللفظ وما تحكى عن واقعيته باللفظ، ويتعين [أحدهما]
بالقصد المدلول عليه بالقرينة، ولا جامع بين المدلولين الذين أحدهما واقعي
والآخر اعتباري; فإن أحدهما نسبة الضرب إلى المخاطب واقعا، والآخر نسبة
طلب الضرب من المتكلم إلى المخاطب اعتبارا انشاء، ولا جامع إلا عنوان نسبة
الضرب إلى المخاطب المحكي عنها في خصوصية، والمنشأة بطلبها في اخرى،
والخصوصية مأخوذة في الموضوع له; فلا عموم للموضوع له حتى يقع الاشتراك
المعنوي.
81

الفصل الرابع
في علائم الحقيقة والمجاز
[الكلام] في علائم الحقيقة والمجاز، الواقعين في أطراف بعض المسائل
الاصولية. ولأجله يكون البحث من المبادئ التصورية اللغوية; فإن مسائل
تشخيص الظهورات في الاصول، تتوقف على النظر فيما به التشخيص من
العلائم، وقد ذكر فيها «التبادر» و «صحة الحمل».
{التبادر}
أما «التبادر»، فالمفيد فيه هو انفهام المعنى من اللفظ بلا ضميمة قرينة،
فلابد من إحراز عدمها، إذ مع الشك لا تعبد بالأصل العملي، لأنه مثبت، وإن سلم
أن له حالة سابقة; ولا باللفظي، لأنه لا بناء عليه إلا مع الشك في المراد، وحينئذ
فالانفهام لابد له من علة، وحيث ينتفي غير الوضع، فيتعين في الوضع; ولابد من
كون الانفهام غير مخصوص بأشخاص وإلا لم يفد الوضع المطلق، ومع عدم
الاختصاص يكون الانفهام عند العالم إمارة للجاهل بالوضع.
{كفاية الظن بعدم القرينة، في التبادر}
ولا يخفى أن الانفهام الغير المستند إلى القرينة، يكفي فيه الظن بعدم
82

الاستناد إلى القرينة، ولا يلزم القطع الذي ربما يحصل من تتبع الاستعمالات
واستقرائها إلى حيث يحصل القطع من شهادة بعضها لبعض، بكون الانفهام من
حاق اللفظ; فلابد من المسبوقية بالوضع التعييني أو التعيني; فإن الظهور، من
الظنون النوعية المعتبرة عند عرف العقلاء; ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا
الظن ناشئا من ملاحظة توافق أهل اللغة، أو مشاهدة التبادر عند أهل اللسان في
قراهم، أو ملاحظة «القرآن الكريم» وكلمات النبي وآله صلى الله عليه وعليهم، الذين
هم أفصح العرب، وشعراء المتقدمين من العرب مثلا.
ودعوى المنع من حصوله من كتب اللغة، غير مسموعة، خصوصا ما تضمن
منها الاستشهاد بأشعار العرب وكلمات فصحائهم وذكر أمثالهم، بل تمييز المجاز
من الحقيقة في بعضها ك‍ «أساس البلاغة»، دون ما يحصل منها مجرد العلم
بالاستعمال الذي هو أعم من الحقيقة.
{جواب إشكال الدور في التبادر}
وتوقف التبادر على علم أهل اللسان بالوضع، لا يوجب الدور، لعدم توقف
علم الجاهل بالوضع على التبادر عنده، إذ العلامة للجاهل; وانسباق الذهن، من
العالم بالوضع.
وأما دفع الدور - بأن الموقوف، العلم التفصيلي بالوضع والموقوف عليه،
العلم الإجمالي الارتكازي من أهل المحاورة - فيمكن إصلاحه: بأن الانفهام
التفصيلي المستلزم للعلم التفصيلي، يكشف عن سبق الارتكاز المنسي الذي يتنبه
له الإنسان بعد التأمل.
ويمكن المناقشة فيه: بأنه إن كان من التذكر بعد النسيان، فليس من أمارية
العلامة وإيجابها العلم التفصيلي.
83

{الارتباط الوثيق بين الوضع وتعيين الظهور}
ولا يخفى أن البحث عن الوضع ومشخصاته، له دخل تام في تعيين الظهور
الفعلي للكلام; فلابد من فهم الوضع في القرينة وذيها حتى يؤخذ بأقوى
الظهورين فيما كانت القرينة أو ذوها لفظيا.
فدعوى أن الظهور الفعلي متبع ولو لم يكن عن وضع، وأن الوضع غير متبع
إذا لم يكن معه ظهور فعلي، لاتصاله بما يصلح للقرينية - كما ترى، لوضوح
الحاجة إلى العلم بالوضع بعلائمه عند عدم القرينة على أحد المعاني المحتملة
لتشخيص الظهور; وعند وجوده أيضا حتى يرجح ظهور القرينة الثابت بالوضع،
على ظهور ذيها الثابت بالوضع لتشخيص الظهور الفعلي الغالب من الظهورين
الوضعيين.
{صحة الحمل واعتبار الحمل الأولي}
وأما الحمل، فيصححه الاتحاد في الوجود، وهو أعم من الاتحاد في
الموضوع له; فلابد في الأمارية من إحراز كونه لا بلحاظ الاتحاد في الوجود، بل
في المفهوم; فينحصر في الحمل الذاتي الأولي المبني صحته على وجود العينية
الحقيقية والتغاير الاعتباري بالإجمال والتفصيل، أو شبههما; فينحصر في مثل
المترادفين، لأن هذا الحمل في غير الصناعات والفنون، غير معهود، وفي
المترادفين مرجعه إلى شرح اللفظ من أهل الخبرة وأهل اللغة; فيكون الملاك،
الظن الحاصل بقول أهل اللغة ولا يزيد عليه، ولا يكون من الامارات القطعية إلا مع
التأيد بالاستقراء القطعي.
ومنه يعلم أن السلب الذاتي أمارة عدم الاتحاد في الذات بالنحو المتقدم،
84

فهو يجامع المجازية، كما في صورة ثبوت العلاقة المصححة مع الموضوع له،
والمبائنة الصرفة التي لا يصح معها الاستعمال المجازي أيضا.
{الحمل الشايع}
وأما الحمل الشايع، فان كان بين الموضوع والمحمول العموم المطلق، كشف
الحمل المبني على الاتحاد في الوجود، عن كون الخاص فردا للعام بما له من
المعنى; فمعناه نفس الخاص بما له من المعنى سوى تخصصه بالخواص
العرضية، كان العام موضوعا أو محمولا.
لكنه لا يخلو عن محذور الدور، فإن فهم العموم، لا يكون إلا بعد معرفة
الوضع، ولا يراد من العموم والخصوص هنا، الاضافيتان، دون الحقيقيتين، كما
هو ظاهر مع اشتراكهما فيما ذكر.
و إن كان غير العموم المطلق، فالاتحاد في الوجود المصحح للحمل، ثابت
في العامين من وجه، مثل «الكاتب شاعر»; والمتساويين، كما في «الضاحك
بالقوة كاتب بالقوة»; وينتهي الأمر إلى ماهية جامعة، إذ مع تباين الماهيات لا يتحد
الأنواع لها في الوجود، لكنه لا ينفع للوضع، لأن ثبوت ماهية جامعة - يكون الدال
عليها أعم من كل من الموضوع والمحمول، ومطلقا عليه على الحقيقة - مسلم،
ولا يثبت الحال في الموضوع والمحمول بالنسبة إلى الدال على أحدهما مع
الآخر.
فتبين: أن كون صحة الحمل الشايع علامة، منحصر في العموم الخصوص،
ولا يكون إلا بعد العلم بالوضع لا من علله; والظاهر أعمية السلب في هذا الحمل
من المجازية في الصورتين إذا رجع إلى سلب الوحدة الحاصلة في صورتي
85

العموم في الوجود; فلاحظ، لأن سلب الاتحاد في الوجود - كعدم صحة الحمل -
يجامع المبائنة وعدمها بنحو يصح الاستعمال المجازي، إذ المسلوب الاتحاد بما
لكل من الموضوع له، لا مطلقا.
86

المبادئ التصديقية اللغوية
= الحقيقة الشرعية
= الصحيح والأعم
= الاشتراك
= استعمال اللفظ في أكثر من معنى
= المشتق
87

الفصل الأول
الحقيقة الشرعية
{الحقيقة الشرعية من المبادئ اللغوية الاصولية}
[الكلام] في الحقيقة الشرعية، المبني على ثبوتها حمل ألفاظ العبادات
على معانيها المتداولة عند المتشرعة، المترتب عليها النتائج الفقهية، من اشتراط
شيء ومانعية شيء لا مجال لشيء منها مع الحمل على غير ذلك المعنى الشرعي،
وقد تقدم ما في ذلك، وأن جعل هذا البحث من الاصول أولى من جعل الثمرة
منها، وجعله من المبادئ مع عدم تعنونها بنفسها في الاصول.
ووجه كونها من اللغوية، ارتباطها بالألفاظ، وعدم كونها من التصورية، لأن
التصديق بثبوت شيء من المحمول أو الموضوع، غير شرح الموضوع أو
المحمول; مع أن التصديق بثبوت المحمول لموضوعه ولا ثبوته، متوقف على
ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه، كما مر.
{الحقيقة ثابتة للمتشرعة، فالبحث قليل الجدوى}
ثم إن الوضع من الشارع بإنشائه الاستقلالي، غير معهود ولا منقول، ولو
كان، لم يكن مختفيا; ومثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «صلوا كما رأيتموني اصلي» (1) فيما نقل

(1) عوالي اللئالي 1: 198، ح 8.
89

عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يدل على الوضع، بل على وجوب إتيان الصلاة بما لها من المعنى
على الوجه الذي اتي به; فهو بالدلالة على تقرير الوضع السابق وإيجاب ما فعله
مع الموضوع له الأصلي في مقام الامتثال، أولى.
ولا يبعد تحقق الحقيقة عند المتشرعة، من كثرة الاستعمال ولو مع القرينة;
كما لا ينبغي الاستشكال في بلوغها في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حد، يفهم منها المعنى
الشرعي في محاورات المسلمين; فالوضع التعييني مستبعد الثبوت، والتعيني
مستبعد العدم.
ولأجل ثبوت هذا الوضع، قال شيخنا (قدس سره): «إن البحث عن الحقيقة الشرعية
قليل الجدوى» (1)، بل قد يدعي انتفاء الثمرة رأسا. ويمكن فهم القلة بملاحظة
قلة المباحث الفقهية، المردد فيها في هذه الألفاظ، بين المعاني الشرعية وغيرها،
كما لا يخفى.
{المناقشة في جعل الاستعمالات من إطلاق الكلي على الفرد}
وأما تبادر ما يقابل المعنى اللغوي - كان هو الدعاء أو العطف إلى الله تعالى -
فالظاهر ثبوته في جميع الشرائع الثابت أصلها، كما يظهر من قوله تعالى:
) وأوصاني بالصلاة والزكاة ((2) وإن اختلفت اللغات.
وجعل الاستعمالات من إطلاق الكلي على الفرد - لأن العمل الخاص محقق
للعطف - يدفعه أن الاستعمال مرعي فيه الخصوصية قطعا، ولا يراد منه العطف
الجامع بين العبادات، كما أن علاقة التجوز أيضا مشترك بين العبادات المعطوف
بها إليه تعالى، ولا يكون من الإطلاق للدال على الكلي على الفرد، بل من

(1) بحوث في الاصول للعلامة الإصفهاني (قدس سره): ص 31.
(2) مريم: 31.
90

الاستعمال للدال على العام في الخاص; وحيث لا تجوز إلا بالأعم في المجاز
المشهور المستغني عن القرينة، فلابد من الالتزام بالوضع وأن المحتاج إلى القرينة
غيره.
{اختلاف المعني في الشرائع لا ينفع في إثبات الحقيقة الشرعية}
ثم إن الظاهر عدم الفرق في النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية بين اللغات،
ولا بين الأديان، إلا في الاختلاف في الخصوصيات المقومة للثابت في الشرع
الخاص في قبال المعنى اللغوي; فعلى الثبوت، يكون الوضع في عرف الإسلام،
لما اشتمل على خصوصيات مغايرة لها في عرف اليهود مثلا، لا المشترك فيه بين
الشرائع.
وعليه: فمخالفة اللغة أو الشريعة فيما يعتبر في العبادة الخاصة، لا أثر لها في
منع الحقيقة الشرعية; وإنما النزاع، في أن التسمية في كل شريعة على الحقيقة أو
المجاز; وإن كان على التقدير الأول يحمل اللفظ في كل شريعة - إذا صدر من
أهلها - على الثابت عندهم مما يغاير المعنى اللغوي; وإنما يحمل على اللغوي لو
لم يثبت وضع الشارع، وإلا فنفس صدور اللفظ من الواضع لغرض الإفهام بلا
قرينة - كقرينة المجاز - يعين المعنى الموضوع له شرعا، لأن الواضع هو اللافظ
فرضا، ولا فرق بين الواضع الأصلي ومن يجري مجراه في هذه الجهة.
{تحقق الوضع بالاستعمال وشرائطه}
وأما الوضع بالاستعمال، فهو وإن كان ممكنا إلا أنه لابد عليه من دليل، إذ
لا يكفي مجرد الاستعمال في الدلالة على الوضع الاعتباري كما مر، وهذا لا يختص
بالمقام.
91

إلا أن يقال - في جعل الاستعمال وضعا -: إنه يدل عليه مقدمات الحكمة
فيما لا علاقة مصححة للتجوز، لكنه ينحصر في مورد عدم العلاقة المصححة
لقرينة المجاز; وأما أصل القرينة فمفروض، وإلا لم يعلم إرادة ما يحتمل الوضع له
بالاستعمال، أو يتعين ذلك، لانتفاء شرط التجوز; وكذا يمكن ذلك في مورد عدم
الوضع السابق، فإنه لا محل للتجوز حينئذ.
فالاستعمال مع القرينة على المراد، يكشف عن الوضع المكشوف بلازمه،
أعني الاستعمال مع عدم المحل للتجوز فيه; فالاستعمال من الحكيم الملاحظ
لآداب المحاورة، يكشف عن الوضع، وحيث لا وضع سابقا فهو مقارن; وذلك،
بعد تسلم معقولية جعل الملزوم بجعل اللازم، كما في نظائر المقام، مثل قول
المالك البايع «أعتق عبدي عنك بكذا» ايجابا، وقول المشتري: «أعتق عبدك عني
بكذا» قبولا; فيمكن أن يكون الوضع الاعتباري منشئا بالاستعمال ومحققا به
مقارنا له، وإن كان صحة الاستعمال وموافقته لقانون الوضع، متوقفا عليه، كتوقف
صحة الاعتاق على التملك.
{تفرقة بين القرينة على الوضع والقرينة على المجاز}
ثم إنه سبق: أن القرينة على كون المستعمل في مقام الوضع وإن توقفت على
تعيين المراد في مقام الاستعمال، إلا أنها ليست قرينة على المجاز، لمكان تحققها
فيما لا علاقة فيه بين المعنى اللغوي والمراد، بل مع عدم سبق الوضع رأسا ومع
إرادة الوضع الثاني الاشتراكي الفاقد للعلاقة; بل قرينة المجاز، للصرف عن
اللغوي والإثبات في المجازي والتعيين فيه; فهي قرينة على الاستعمال في فرد من
الموضوع له النوعي; وقرينة إرادة الوضع للمعنى، قرينة على تأسيس المعنى،
فلا يقاس إحداهما بالاخرى.
92

والحاجة إلى القرينة، أعم من المجاز، لثبوتها في المشترك اللفظي أيضا; بل
الوضع بالاستعمال أو بغيره أعم من التأسيس، لإمكان حصول الاشتراك اللفظي
به. نعم قد يكتفي في قرينة التعيين، بعدم مناسبة المقام لغير معنى واحد، ومثله
يفرض في قرينة المجاز أيضا.
{إشكال الجمع بين اللحاظين ودفعه}
والاستشكال فيه بالجمع بين اللحاظين - الاستقلالي والآلي - في الاستعمال
الواحد، مندفع بأن اللحاظ في الوضع المكشوف بالاستعمال، غير اللحاظ
المصحح للاستعمال الذي لابد منه فيه، كان الوضع سابقا أو مقارنا; وما يقال
بكونه آليا هو الثاني.
ومعنى آليته أنه لوحظ لأن يفهم به المعنى، كما أن اللحاظ في الوضع يتعلق
به لأن يعتبر ملازما للمعنى; فما في الوضع، لأجل الدلالة الشأنية، وما في
الاستعمال، لأجل الدلالة الفعلية; فهناك لحاظان، اختلفا أو تماثلا في الآلية
والاستقلالية.
وأما الفناء في اللحاظ، فهو غير ما هو الشرط في الاستعمال، وهو أمر
مقارن أو لاحق للاستعمال، ويمكن أن يكون اللفظ غير ملحوظ فيه أصلا، وليس
بلازم ولا مطرد، لجواز الجمع بين الدعاء والقراءة، على الأصح.
والحاصل: أن اللحاظ متعلق بالطبيعي في الوضع، وبالشخص المفرد
للطبيعي في الاستعمال.
هذا، وقد بينا فيما سبق أن الإرادة والطلب واللحاظ المعتبر لهما، متعلق
بوجود الطبيعة بما أنه مضاف إلى الطبيعة لا بالفرد، فلاحظ.
93

{اشكال في الوضع بالاستعمال والتفصي عنه}
وقد مر في إمكان اجتماع ملاك النفسية والغيرية في واجب، إمكان لحاظ
اللفظ لنفسه في عرض المعنى ولغيره للعبور به إلى المعنى، خصوصا فيما كان
الأول شرطا للثاني; لكن لازم الوضع بالاستعمال كون اللفظ مما يتحقق به كل من
الوضع والاستعمال، فيكون الواحد في مرتبتين، لأنه ما به الوضع، فهو داخل في
علة الاستعمال والإرائة; وما به الإرائة الفعلية، فهو داخل في المعلول، فبه يتحقق
كل من الإرائة الشأنية والفعلية; وكون الشيء الواحد في مرتبة العلة والمعلول،
محال.
ويمكن التفصي بأن اللفظ داخل في الاستعمال والإرائة الفعلية فقط، وإنما
يستكشف الوضع الذي هو جعل الملازمة، بمقدمات الحكمة; حيث إن العاقل
الغير الغافل، لا يستعمل في غير ما وضع له بلا علاقة ولا وضع، فقد وضع
بغير الاستعمال سابقا أو مقارنا بحسب اعتقاده حتى لو قلنا بتمشي الإنشاء
القلبي، ومثله جار فيما مر من قول «اعتق عبدي عنك بكذا»، فلاحظ; فإنه
لا يكون وضعا بالاستعمال، بل بكاشفية الاستعمال عنه وليس من استعمال
بلا وضع.
واللحاظ في الوضع علي استقلالي، وفي الاستعمال علي بمعنى، ومعلولي
غائي بمعنى آخر; وآلي، لأنه علة الاستعمال ومعلول للوضع.
واجتماع اللحاظين في زمان واحد لملحوظين، لا مانع منه اختلفا أو تماثلا،
ولا يلزم منه اجتماع المثلين أو الضدين، والملحوظ في أحدهما، الطبيعي وفي
الآخر فرد الطبيعي، والممنوع اجتماعهما في نفس الطبيعي أو في نفس
الفرد بحيث يتحد الملحوظ باللحاظين المتماثلين أو المختلفين المجتمعين
94

في زمان واحد في شيء له هذه الوحدة المذكورة. وقد مر ما يرجع إليه،
بل المحال اجتماع اللحاظ الاستقلالي مثلا مع عدمه، لا مع اللحاظ الآلي
بملاكين.
{إمكان الوضع التعيني وإنشاء التعييني بنحو التصريح}
وبالجملة: فلا مانع من هذه الجهة من الوضع التعييني; كما لا مانع من التعيني
بكثرة الاستعمال مع القرينة في المعنى المجازي إلى حد يستغني عن القرينة، إلا
أن استعمال الموضوع للدعاء في الصلاة - بسبب اشتمالها على الدعاء - غير خال
عن الإشكال، لأنه الجزء الغير المعتد به فيها، إلا أن يعم الدعاء لمطلق الذكر ولو
بالتسبيح والقراءة; كما أن استعمال الموضوع للعطف في الصلاة، لا يخلو عن
الإشكال، لأن مجموع العبادات الداخلة في الصلاة ليس عطفا واحدا، بل كل عبادة
فيها نوع من العطف، فليس من إطلاق الكلي على الفرد حقيقة ولا من استعمال
الموضوع للكلي في الفرد.
وأما التعييني بمجرد التصريح بالوضع، فلم يعهد من الشارع، ولو كان، لبان
بالنقل.
والظاهر أن المتبادر عند أهل الشرع من لفظ الصلاة مثلا، خصوص هذه
العبادة الخاصة المخترعة للشارع، بحيث لا يحتاج إرادتها من اللفظ إلى القرينة،
وإن احتاج غيره إلى قرينة التعيين; كما أن الظاهر عدم اختصاص الوضع بشارع
الإسلام، وان غير المخترع بحيث يحتاج إلى تسمية جديدة; فهو مقرر لما سبق
من الشرائع في أصل الاختراع لما يغاير اللغة، ومغير في مقوماته تغييرا يجعله
كالتأسيس.
95

{الاستعمال المحقق للوضع، حقيقي}
ثم إن الاستعمال المحقق للوضع حقيقي، لكونه في الموضوع له، سواء قيل
بكونه بنفس الاستعمال، أو بكشف الاستعمال عنه، لكونه أمرا اعتباريا; فدلالة
الاستعمال على الوضع التزامية وعلى المعنى مطابقية. والاولى دلالة على الملزوم
السابق رتبة.
والاحتياج إلى القرينة أعم من المجاز، كما في المشترك اللفظي; كما أن
التجوز مشروط برعاية العلاقة بين المراد والموضوع له، وهذا غير معتبر هنا، بل
ربما نافى اعتباره مع اعتبار الوضع التأسيسي الشخصي، وليس مجازيا، لانتفاء
شرطه كما مر، ولعدم تعقل موضوعه، كما هو ظاهر.
96

الفصل الثاني
الصحيح والأعم
{صلة البحث بالاصول}
وهو كما تقدم مبدء تصديقي للمسألة المتكفلة لحكم المطلق والمجمل،
لتوقف ثبوت الموضوع فيهما على ثبوت الوضع للصحيح وعدمه; فتنقح صغرى
المسألتين بالمختار هنا.
كما يمكن جعلها من المسائل; فإن النسبة بين الظهور للأمر في الوجوب،
والمشتق في المتلبس، مع البحث عن حجية الظهور، هي النسبة بين الصحيح
والأعم مع حجية الظهور من جهة تحقق الصغرى لتلك الكبرى، وإن كان الظهور
هنا إطلاقيا وهناك وضعيا بالنسبة إلى البحث عن المطلق والمجمل، لا بالنسبة إلى
حجية الظهور العام للقسمين.
مع إمكان أن يقال: إن الصحيح أو الأعم، مدلول اللفظ وضعا، وإن كان يتوسط
البحث عن المطلق والمقيد بين البحث عن الوضع للصحيح أو الأعم وبين البحث
عن حجية الظهور، كما هو كذلك في البحث عن مدلول المشتق; فإن التوسط
حاصل فيه أيضا.
ومثل البحث عن المطلق، البحث عن المجمل والمبين في الوساطة بين
مسألتي الصحيح الأعم وحجية الظهور بحسب المختار في الاولى; وقد تقدم مثل
97

ذلك في البحث عن الحقيقة الشرعية; وسبق فيما مر: أن الترتب بين المسائل،
لا يمنع جعلها معا من المسائل، ولا يلجىء إلى جعل الموقوف عليه من المبادئ.
{المراد من الصحيح}
والمراد بالصحيح: هو تام الأجزاء والشرائط بالقياس إلى الأثر المترقب من
الشيء، أو بالقياس إلى وقوعه في حيز الأمر; فمطابقة العمل للمأمور به، صحته;
كما أن موضوع الأثر إذا كان مؤثرا في ذلك الأثر كان صحيحا، وإلا فكل شيء، له
أثر بما فيه من الأجزاء والشرائط، أو مع بساطته.
[و] لا يخفى أن الصحة إذا فسرت بالتمامية، وكان إسقاط الإعادة والقضاء
المترتب على المطابقة في المأتي به للمأمور به، أو الاستجماع للأجزاء والشرائط
الدخيلة في ترتب الأثر المترقب، من لوازم التمامية المهمة في نظر المتكلم أو
الفقيه، فلا يعقل لها معنى إلا ما يتأخر، أو يلازم تعلق الأمر; فإن الغرض الملحوظ
للآمر، يكون المؤثر فيه صحيحا، ومطابقا للمأمور به، بمعنى أن ما لو وقع لكان
مطابقا له وهو الصحيح وهو المتعلق للأمر.
فعلى أي تقدير، لابد من دفع شبهة أخذ ما يتأخر عن الأمر في المأمور به;
والنزاع وإن كان في التسمية إلا أن المفروض اتحاد المسمى مع المأمور به.
{تحرير محل النزاع}
فيقال: بأن الخاصية المترقبة من كل شيء، الملازمة للتقرب في العبادات
دون غيرها; فالموضوع له اللفظ، بلحاظ تلك الخاصية، بحيث أن المأمور به لبا
تلك الخاصية; فهل هي بوجودها الفعلي مسماة ومأمور بها أو بوجودها الشأني؟
98

وهل الموضوع له ما له تلك الخاصية بالفعل أو بالقوة؟
وبذلك يظهر تبعية الأمر - كالتسمية - لترتب تلك الخاصية لكل شيء بالفعل
أو بالقوة; كما أن البحث عن الوضع الشخصي مبني على الحقيقة الشرعية أو
المتشرعية، وعن الأعم من النوعي يجري على عدمها أيضا; وأن الملحوظ فيه
العلاقة مع المعنى اللغوي، هل هو الصحيح أو الأعم منه، بحيث إذا قامت قرينة
على عدم إرادة المعنى اللغوي يحمل على الصحيح أو على الأعم؟
وعلى الأول وإن صح الإطلاق على الفاسد أو الأعم، إلا أنه من سبك
المجاز من المجاز، أو مع التصرف في الأمر العقلي المحتاج فيه الحمل على عدم
إرادة الصحيح بلا تصرف وادعاء لغرض فقدهما في الصحيح.
{لزوم تصوير الجامع، على القولين}
وحيث لابد من تشخيص الموضوع له إجمالا على أي تقدير، فلابد من
تصوير الجامع على كل من القولين ثبوتا حتى يقبل الدليل على خصوصية أحد
القولين إثباتا. أما الجامع المذكور على الوضع للصحيح، فهو عدة امور:
{الجامع الذاتي للوضع للصحيح}
منها: الجامع الذاتي. وفيه لابد من أن يكون الجامع ماهية واحدة نوعية
صادقة على أفرادها، فلا يكون لكل فرد إلا وجود واحد; فلا يمكن فيما كان هناك
لكل مصداق لها وجودات متعددة ولو فرض أنها من ماهية نوعية واحدة، وإلا لزم
اتحاد الواحد مع المتعدد، والبسيط مع المركب، لفرض أن مجموع تلك
الوجودات المتعددة، محقق مسمى الصلاة مثلا.
99

هذا، مع أن تباين مقولات الأجزاء الواقعة في مثل الصلاة، لازمة مع فرض
الجامع اندراج المقولات تحت مقولة واحدة جنسية، فلا تكون أجناس المقولات
عالية متباينة.
وأما النقض عليه بإجدائه للأعمي أيضا، لتداخل مراتب الصحيحة والفاسدة
من أية طبيعة وإنما تختلفان بالإضافة (1)، فيمكن منعه، بأن فرض التمامية في موطن
الأمر، فرض الوضع لذات ما تعلق به الأمر عند تعلق الأمر به; فلا يكون مالم يؤمر
به من مصاديق الموضوع له بما أنه كذلك، بل بما أنه مما أمر به غيره; فكل مرتبة
من كل فاعل لا تقع منه إلا صحيحة داخلة في المسمى والمأمور به، أو فاسدة
خارجة عنهما. ولا أثر لكونها صحيحة من واحد وفاسدة من غيره، ولا مانع من
اجتماع الضدين في موضوعين.
إلا أن يقال: لازم ذلك أخذ ما لا يتأتى إلا من قبل الأمر، في متعلقه، فيقال:
تكفي ملاحظة الأثر في التمامية، والفاسد ليس بمؤثر بالفعل إلا فيمن أمر به.
والاستشكال فيه بمثل ما مر، مندفع بما يندفع به أخذ قصد الأمر في متعلقه.
مع إمكان أن يقال: إن الصحيح ما يترتب عليه الأثر المترقب منه بحسب
نوعه، وفي العبادات ما يترتب عليه الأثر المترقب منه لو أمر به وأتي بقصده
فيترتب عليه الإجزاء مثلا، لمطابقة المأتي به للمأمور به.
{الجامع العنواني}
وأما الجامع العنواني - كعنوان «الناهي عن الفحشاء» - فلازم الوضع له
مرادفة اللفظين، لاتحاد المفهوم، وهو واضح الخلاف، إلا أن يكون الوضع

(1) نهاية الدراية 1: 101، وبحوث في الاصول: ص 33.
100

للعنوان الملزوم لعنوان النهي عن الفحشاء; فعنوان الأثر معرف لعنوان المؤثر في
مقام الوضع، كما إذا قيل: إن عنوان «الناهي» معرف لعنوان «معراج المؤمن»، أو
نحوه مما لا يعلم عنوانيته لمجموع التسعة فقط أو مع العاشر; مع أن المعراج أيضا
عنوان كالناهي، بل الوضع لا يستلزم الترادف; فإن ذكر الموضوع لايراد منه
خصوصية اللفظ، كما هو ظاهر في مثل وضع الإنسان للحيوان الناطق وللبشر; مع
أن صحة الاستعمال وأنسبيته في موارد دون سائر الموارد، موجودة في المترادفين
أيضا، كما يظهر من ملاحظة الفروق في اللغات، وتبديل العنوان بآخر مثله في
الإجمال، وعدم العلم لا أثر له.
{الإشكال في جريان البراءة، على الجامع العنواني ودفعه}
كما أن اللازم - كما افيد - عدم جريان البراءة لتبين المفهوم، وعدم انحلاله
إلى معلوم ومشكوك; مع أن القائل بالبراءة في الأقل والأكثر يقول بها وإن كان
صحيحيا; وإنما الفرق بين القائل بالوضع للصحيح وغيره في التمسك بالإطلاق
في الثاني مع مقدماته، بخلاف الأول.
إلا أن يقال: إن الموضوع له ملزوم النهي عن الفحشاء، وهو مردد بين
المتقوم بالتسعة أو العشرة، فانبساط الأمر النفسي المتعلق بالعنوان الفاني في
المعنون المقوم له على أي تقدير - كان هو الملزوم أو العنوان اللازم وكان المعنون
مجموع العشرة أو مجموع التسعة - معلوم، وإلى العاشر مجهول، للجهل بتعلق
الأمر بخصوص الفاني في العشرة المتقوم بمجموعها.
فلا يلزم من العلم بالوضع لملزوم الأثر بعنوانه الخاص، العلم بخصوص
ذلك العنوان تفصيلا، حتى يقال: إنه لو كان مبينا فلا تجري البراءة، لأن الشك، في
محقق ذلك العنوان ومعنونه الواقعي، بل الشك في نفس العنوان المأمور به.
101

ولا يلزم من ذلك، القول بالوضع لذات الملزوم وخارجيته حتى يستلزم
الاشتراك اللفظي، لأن المفروض عدم الاشتراك المعنوي، لعدم الجامع الماهوي
إلا أن يكتفى فيه أيضا بالعنوان العنواني، بل للعنوان الملزوم وجوده للعنوان
المعلوم للأثر; فإن الموضوع له - على أي - جامع عنواني، إما لخصوص المراتب
الصحيحة أو للأعم، لا مصاديق ذلك الجامع الصحيحة أو الأعم.
فيقال: إن المؤثر في هذا الأثر بعنوانه الواقعي الفاني في معنونه، متعلق
الوضع والأمر، ولا يعلم مع حفظ الأثر كون ذلك عنوانا متقوما بالعشرة أو بالتسعة،
فيجري البراءة في العاشر. وسيأتي ما يرجع إليه إن شاء الله تعالى.
هذا، ولكن الكلام في ملزوم الناهي مفهوما ومصداقا، هو الكلام في عنوان
الناهي كما مر.
إلا أن يجاب بعدم لزوم البدلية في جميع الاستعمالات في المترادفين أيضا،
بل بالدقة لا فرق بين الملزوم واللازم في الآثار المختصة - في لسان الشرع -
بالصلاة مثلا; فإن مراتب النهي والانتهاء عن الفحشاء، مختلفة، وتنتهي إلى ملكة
العدالة القوية، وتأثير الصلاة فيها معلوم عند أهله العالمين بجمع الصلاة من أنواع
العبادات مالم يجمعها غيرها.
{تمحض البحث في عنوان «الناهي» وجريان البراءة}
ويمكن أن يقال: إن البحث هنا متمحض في توسط عنوان «الناهي» مثلا;
وأما البحث عن نفس المعنون إذا تعلق به الأمر والشك في أنه عبارة عن مجموع
العشرة أو التسعة، فذلك يجري في جميع موارد دوران المأمور به بين الأقل
والأكثر الارتباطيين من دون اختصاص بالمقام.
102

فيقال فيما يختص بالمقام: إن العنوان منتزع عن علية المقدمات الداخلية
والخارجية للأثر، فجميع الأجزاء بل التقييدات أيضا علل ناقصة، والكل هو العلة
التامة.
فإذا كان كذلك، نقول: الانتهاء من قبل هذه المقدمة في كل من التسعة
معلوم الوجوب ضمنا بحيث يعاقب بترك هذا الواجب من ناحية تركه، والانتهاء
من قبل العاشر غير معلوم، لأن عليته للأثر وتعلق الأمر بما يشتمل عليه غير
معلوم، فتجري البراءة عن غير المعلوم.
ومنه يظهر تعين تقرير الدليل بالوجوب الضمني النفسي الانبساطي في
المعلوم، وأن التكاليف الضمنية حيث كانت، لها معية في الإيجاب والواجب;
وبعد قصر المعلوم وجوبه ذاتا وتقيدا في الفعلية، ينفي وجوب غير المعلوم ذاتا
وتقيدا، بالأصل، لأنه بعد أخذ المعية معه يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر مثلا من
المتباينين.
{كلام من صاحب «الكفاية» (قدس سره) وعدم منعه عن جريان البراءة}
ولا يمنع هذا الانحلال، الخلف الذي أورده في «الكفاية» حيث قال فيها:
«وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في وجوب الأكثر بدوا،
ضرورة لزوم الإتيان بالأقل لنفسه شرعا أو لغيره كذلك أو عقلا، ومعه لا يوجب
تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر، فاسد قطعا، لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقف
لزوم الأقل فعلا - إما لنفسه أو لغيره - على تنجز التكليف مطلقا ولو كان متعلقا
بالأكثر; فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا بالأقل، كان
خلفا، مع أنه يلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال،
المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده
103

عدمه محال» (1). انتهى.
لأن فعلية وجوب البعض لا تتوقف إلا على فعلية وجوب الكل; وأما تنجز
الفعلي، منوط بالعلم الموجود في ذات البعض الغير الموجود في ذات الكل،
ولكل من المعلوم وغيره حكمه. وليس العلم بوجوب الجزء الفعلي ذاتا، مانعا
عن العلم بفعلية الكل، بل هي غير متنجزة بنفس عدم العلم بها، كما أن الوجوب
الفعلي لذات البعض منجز له بسبب العلم.
مضافا إلى ما في التوقف هنا من الإشكال، فإن جزئية الجزء ذاتا وصفة،
مضائف لكلية الكل كذلك، ولا علية بينهما ولا توقف، بل وجوب البعض
- كالبعض بذاته - بعض وجوب الكل، كما أنه بذاته بعض الكل; فوجوب الكل،
مع وجوب البعض، لا أنه علة له; بل الإيجابات للأجزاء معا، عين إيجاب الكل
بحسب مقام الثبوت.
ومما ذكرنا يظهر: أن عدم تنجز التكليف بالكل، لعدم العلم به، لا للعلم
بوجوب الأقل، فتدبر.
{الفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين والجواب عنه}
وأما الفرق بين المقام وما في الأقل والأكثر الارتباطيين بتخلل العنوان هنا،
فليس فيه إلا دفع محذور الاشتراك اللفظي على عدم القول بالأعم في الوضع،
لا التعلق بالطبيعة أو الفرد; فإنه مشترك، حيث يقال: إذا تعلق الأمر بوجود العشرة
مثلا أو التسعة، فهل المتعلق، الطبائع الخاصة مجموعها، أو الوجودات لها
مجموعة؟

(1) كفاية الاصول: ص 364.
104

والجواب، هو التوسط الذي قدمناه في محله. ولا يذهب عليك الفرق بين
كون المشكوك اعتباره مبطلا على تقدير عدم الاعتبار، فالدوران بين البشرط شيء
والبشرط لا، والاحتياط في صلاتين; أو غير مبطل فلا يلزم التكرار; لكن الشك،
في التكليف الإنبساطي النفسي بالزائد، لا في محصل المكلف به، فتأمل تعرف.
{كيفية الوضع للجامع}
ولا يخفى أنه - بعد انتفاء الاشتراك اللفظي المستلزم لأوامر عديدة بالنسبة إلى
الصلاة بمعنى مخصوص متوجهة إلى أصناف المكلفين المختلفين في الأحوال -
لابد من الالتزام بوحدة الموضوع له لفظ الصلاة بحسب الوضع، والأمر المتوجه
إليها بجهة الوحدة، وليست إلا ترتب غرض واحد نوعي وهو الانتهاء بها عن
الفحشاء; ومن المعلوم أن المتبادر عند المسلمين في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده
قبل نزول آية النهي عن الفحشاء مثلا وبعده من لفظ الصلاة، أمر واحد مختلف
الكمية والكيفية بحسب اختلاف أصناف المكلفين، لا معان عديدة.
ويمكن أن يكون الوضع لنفس العنوان العام الملزوم لعنوان الناهي، مع كون
الملزوم مجهولا كونه عنوانا للتسعة أو للعشرة; فالجهل بمقوم المعنون يوجب
الجهل بالعنوان، كما لو كان الوضع تعينيا غير مقرون بالعلم إلا باللازم لذلك
العنوان المتعلق للأمر واقعا والوضع الواقعي. وحيث لا يمكن التمسك بالإطلاق
مع هذا الجهل، فيتمسك بالعشرة مع القطع بوجوب عنوان يتقوم معنونه بالتسعة;
وكل من العنوانين تعلق الأمر به، يكون ملزوما لعنوان الناهي المعلوم.
وعلى هذا الوجه يكون الوضع عاما والموضوع له كذلك. وقد مر ما يشكل
به الحال في الوضع العام والموضوع له الخاص.
105

والظاهر أن الأسماء الموضوعة للطبائع والماهيات والمفاهيم، لا مداخلة
للوجود فيها، كما في أسماء الأجناس; حيث إنه لا دخالة للوجود في الحمل
الأولي مع انحفاظ الوضع في الدال على الماهية النوعية أو الجنسية.
{تقريب لجريان البراءة}
وحاصل التقرير للبراءة: أن «النهي عن الفحشاء» مثلا الملازم لمصلحة
لزومية، لا يعلم حقيقة تعنون الأفعال الخاصة به، وحده الذي لا يجوز فيه - أي في
علته - الزيادة والنقصان، فيقال: إن علل النهي التسعة واجبة بوجوب نفسي ضمني
منبسط عليها وعلى تقيد بعضها ببعض; وبهذا الأخير امتاز عن المتباين وحصل
الارتباط; وهذا الوجوب والتعنون معلوم والعاشر مشكوك العلية المتقدمة،
فانبساط الوجوب عليه غير معلوم; وحيث إن الجهل بفعل الشارع وبسطه
للوجوب على العاشر الذي لا يعلم دخوله في الصلاة وكونه من مقومات الناهي،
فحاله في هذه الجهة حال الجهل بالوجوب النفسي الاستقلالي في مشموليته لأدلة
البراءة.
وليعلم أنه مع أن الوضع للطبائع، فمتعلق الأمر يضاف الوجود فيه إلى
الطبيعة بما أنه وجود الطبيعة، لأن المراد لا يكون إلا وجودا مضافا إلى الطبيعة،
وهذا هو التوسط بين المتعلق بالكلي أو الفرد.
وأما اسم الكل وهو الصلاة، فالظاهر أنه عبارة اخرى عن مجموع التسعة أو
العشرة، من دون فرق بين الموضوع له والمأمور به بين الجزء باسمه والكل
باسمه; فكما أن الركوع مثلا موضوع للطبيعة، والمأمور به ضمنا هو وجود طبيعة
الركوع، فالمركب منه ومن غيره أيضا كذلك موضوع للمفهوم والمأمور به الوجود
المضاف إليه; والحقيقة الشرعية مميزها أنها للمجموع، بخلاف الجزء; فإن اسمه
106

موضوع لواحد مخصوص، ولا شأن للحقيقة الشرعية إلا الوضع لوجودات على
نحو خاص، فتدبر جيدا.
ودعوى الوضع للمرتبة العالية وبدلية غيرها مع اختلاف المرتبة العالية كما
وكيفا - ممنوعة بما مر من انسباق وحدة المعنى.
{الجهة الموحدة بين مراتب الصلاة، لا تمنع عن الانحلال}
والجهة الموحدة إما نفس عنوان النهي عن الفحشاء أو العلة فيها المتحصلة
من أفعال الصلاة المجهولة بنفسها، لكن الأمر لغرض، غير الأمر بالغرض، وانتزاع
واحد من المختلفات المأمور بها، غير الأمر بذلك الواحد الذي لا يعرفه المكلف;
فالمأمور به - ما أولها التكبير، وآخرها التسليم - وإن كان لغرض الانتهاء، فكانت
ناهية أو معنونة في نفس الأمر لا في مقام التكليف، بعنوان مؤثر في النهي عن
الفحشاء أو ملزوم لعنوان الناهي عن الفحشاء، لكن ذلك العنوان مجهول وعنوان
الناهي لا يتعلق به التكليف، ولو تعلق به لا يعلم أن أية مرتبة من النهي الذي ليس
قوليا ولا إلجائيا بل بينهما، هي الواجبة; بل ما يؤثر فيه التسعة معلوم الوجوب
وأنها علله، وما يؤثر فيه العشرة غير معلوم الوجوب، بل العاشر غير معلوم
الوجوب، لعدم العلم بدخوله في الصلاة وفي علل الانتهاء المذكور.
{الإجمال في العنوان حاصل، فتجري البراءة}
فجعل عنوان الناهي معلوما بحيث يشك في محصله - كما ترى - قابل للمنع،
بل الواجب من النهي غير معلوم بحده، وملزومه غير معلوم بنفسه، والواجب
النفسي الشرعي ليس إلا ما في الخارج، المنحل إلى معلوم الوجوب ومشكوكه;
107

فالإجمال بمعنى عدم التبين المطلق، حاصل، والانحلال الموجب للبراءة،
محقق; والجامع الذي يعرفه النهي عن الفحشاء، بأية مرتبة كانت، فإنها مرتبة
على الأفراد الصحيحة لتصحيح الوضع، والاشتراك المعنوي معلوم بنفسه أو
بمعرفه; والأمر، بنفس الأفعال بلا قيد، فهي الصلاة وهي المأمور بها بلا قيد،
وبذلك تندفع المحاذير.
وأما العنوان الحافظ للوحدة، فغير معلوم الحد; حتى أن الناهي يحتمل
كونه عبارة عن مجموع الانتهائات التي يترشح كل من كل جزء من الصلاة،
فيحتمل فيه وفي ملزومه التقوم بتسعة أو بالعشرة; فهو عنوان مجموع التسعة أو
العشرة، لا المتحصل منهما أو من إحداهما; فهو عبارة اخرى عن إحداهما;
والافتراق، بمجرد الوحدة العنوانية، والكثرة الحقيقية مع الوحدة الاعتبارية، ولذا
سومح في الإطلاقات، ولا تعرف من الصلاة غير نفس هذه الأفعال.
{المتحصل من المباحث المتقدمة}
فتحصل مما قدمناه: إمكان تصوير الجامع بين المراتب الصحيحة بحيث
يكون ألفاظ العبادات، من متحد المعنى; وأنه نفس «الناهي عن الفحشاء بالفعل»،
أي من قبل وجدان المعتبر وجودا أو عدما، أو ملزومه الواحد بسنخ وحدة الأثر،
وهو الانتهاء الحاصل من فعل الصلاة; وأن الأثر كالمؤثر، فالمؤثر مجموع آحاد
النهي، والأثر مجموع آحاد الانتهاء، وملزوم المؤثر الواحد بسنخ وحدة نوعية
عمومية، حذرا من تأثير المتكثرات في الواحد ومن تسمية المتكثرات; والأمر بها
بأنفسها، لا بعنوان واحد مما ينافي الالتزام بالصحيح واتحاد المعنى الذي هو أمر
غير مبين; وأنه لإجماله وإجمال المرتبة الحاصلة والمرتبة المؤثرة، يقع الشك في
108

المعنون بهذا العنوان المجهول حدا، مع الجهل بأصله أو لا. ومثل ذلك لا يتمسك
فيه بالإطلاق، ولا مانع فيه عن البراءة، ولذا ذكرنا أنه بذلك تندفع المحاذير.
بخلاف العنوان المبين الذي لا يشك في تطبيقه إلا بمثل الشك في السبب
مع العلم بالمسبب، ويكون من باب الشك في المحصل الذي يجري فيه قاعدة
الاشتغال.
{الإيراد بلزوم عدم المصلحة في العنوان ودفعه}
وأن الإيراد - بلزوم عدم المصلحة في العنوان الذي لا خارجية إلا لمعنونه، إذ
ليس ذاتيا على الفرض; مع النقض عليه بالأمر بالعناوين التي لا خارجية إلا
لمعنوناتها، فلا مصلحة إلا فيما في الخارج لعنوان «الناهي عن المنكر»، القابل
لتعلق الأمر به بما في معنونه من المصلحة، ولا ينحصر الأمر في الكلي مع الفرد;
مع أنه أيضا يجري فيه أن خارجية المصلحة، في الفرد، لا في نفس الطبيعة،
وخارجية العنوان، عين خارجية المعنون وبالعرض كالطبيعي والفرد، وإن كان
الأول عرضيا والثاني ذاتيا - يندفع بأن العنوان المنتزع من الوجودات لا يكون ذاتيا
مقوليا، بل من خارج المحمول العرضي، فبينهما المفهومية والمصداقية
والعنوانية، والمعنونية لا الكلية والفردية.
مع أن الجهة الجامعة الوجودية بين وجودات المقولات التي هي أبعاض
الصلاة، إن كانت هي أو المنتزع منها، صلاة مع التقيد بالدائرة الخاصة، فلابد من
عدم الصدق مع الخلل في بعض الدائرة في بعض مراتب الصحيحة; وإلغاء قيدية
الدائرة، الخاصة يستلزم الصدق على الفاسدة، لأن الدائرة بمجموعها
بخصوصياتها قيد في مقام التسمية، والأمر للمنتزع من الوجودات المضافة إلى
ما في تلك الدائرة; فمع الاختلال تسلب الصلاة، مع أن الصلاة مثلا توجد تارة
109

وتنعدم اخرى; وعلى تقدير الانتزاع من الوجودات يكون نتيجة حمل الوجود، أن
وجود الدائرة الخاصة موجود، لا أن ما فيها موجود.
وبالجملة: فجعل الموضوع له للعبادات - كسائر الأفعال - نفس الوجود،
ليس مما يحتمل أو يحتمل إصلاحه للمشكل في المقام. ولابد في تحصيل
الجامع، من تحصيل ما لا ينطبق على كل جزء مثلا، بل على مجموع الأجزاء في
كل مرتبة.
{محذور الجامع الحقيقي المقولي}
والجامع الحقيقي إن كان مقوليا، فلابد من انطباقه على جزء من مقولة
وعلى مجموع المقولات التي هي أجزاء المركب; فيلزم اتحاد الجزء والكل;
وقول الطبيعي على كل منهما بحياله; وأن يكون كل من الكل والجزء، موجودا
بوجود واحد حقيقي مقولي.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - أن ما يفرض فعليته جامعة بين المراتب
الصحيحة الفعلية، تكون شأنيته القريبة من الفعلية، جامعة بين مطلق مراتب
الصلاة مثلا التي لها الاقتضاء; لكن الاقتضاء غير محرز مع الشك في الجزئية، إلا
أن يكون الجزء في عرف المتشرعة ملحقا بالشرط في عدم الدخل في المسمى،
أي ما لو كان جزءا لكان كالشرط في ذلك، وإلا ينتهي الأمر إلى الاكتفاء بسلام
واحد، لأنه لو انضم إليه سائر الأجزاء والشروط كان ناهيا عن المنكر بالفعل،
فتدبر.
{الطرق الثلاثة للوضع للصحيح}
ومما ذكرناه في المقام وفي معاني الحروف يظهر: أن الطريق إلى الوضع
110

للصحيح بنحو لا يمكن التمسك فيه بالإطلاق ويمكن فيه التمسك بالبراءة عند
الشك، ثلاثة:
{الطريق الأول}
أحدها: وضع مثل لفظ الصلاة للناهي عن الفحشاء، أو للمؤثر في النهي عن
الفحشاء، بضميمة المناقشة في تبين حد المفهوم; وكذا إن كان الوضع لملزوم
النهي بمناسبة ترشح الواحد النوعي من مثله، لكن الملزوم غير معلوم بنفسه فضلا
عن أن يكون معلوما بحده، فلذا لا يتمسك فيه بالإطلاق; وحيث لا يعلم أنه عنوان
التسعة أو العشرة، كان مجرى للبراءة عن عنوان العشرة أو خصوص العاشر. وهذا
طريق الإجمال المانع عن التمسك بالإطلاق.
{الطريق الثاني}
وأما الطريق الثاني: فهو أن يكون الملحوظ حال الوضع عنوان «الناهي عن
المنكر» مثلا، أو ملزومه، ويكون الوضع لما هو أخص من المتبين بأمر كل صنف
من المكلفين بصنف من طبيعي الصلاة، كالحاضر بأربع والمسافر بركعتين، وفي
الصبح بركعتين، وفي الظهر بأربع.
والجزئية في ذلك إضافية غير مانعة عن التمسك بالإطلاق لو تم مقدماته،
كما تجري البراءة لو لم تتم; وذلك، لمعقولية هذا القسم من الوضع، ولمسيس
الحاجة إليه، كما في معاني الحروف وأسماء الإشارة ونحوهما على وجه، من
دون فرق بين كون الموضوع له جزئيا حقيقيا أو إضافيا في كون الاستعمال في
الخاص حقيقيا; فإن حقيقية الاستعمال ومجازيته على خلاف الإطلاق على
الخاص; فإنه، على الحقيقة وإن كان الوضع للعام والإطلاق للانطباق على
111

الخاص; فتؤثر كيفية الاستعمال في الوضع للعام أو للخاص وفي عدم الاشتراك
اللفظي، إلا في جريان الإطلاق في غير الجزئي الحقيقي وجواز التمسك بالبراءة
مع عدم المقدمات. وسيأتي ما يوضح المقام إن شاء الله تعالى.
{عموم الموضوع له أو خصوصه، لا يؤثر في عدم صحة التمسك بالإطلاق}
ويمكن أن يقال: لا وجه للخصوصية في الموضوع له هنا وإن قيل بها في
أسماء الإشارة ونحوها، لأن الصلاة مثلا، كالقيام والركوع والسجود، إلا في اعتبار
الاجتماع فيها، فتكون - كأسماء الأعراض المقولية - عامة في الوضع والموضوع
له; ولو فرض التخصيص بالأصناف المذكورة - مع أنه على خلاف الواقع -
فلا يزيد على الاشتراك اللفظي الواقع في أسماء الأجناس الموضوعة مع وحدة
اللفظ لأجناس غير مجتمعة تحت جامع وحداني; فإن المانع عن التمسك
بالإطلاق، كون الموضوع له - أياما كان - صحيحا، كان الاشتراك بين الأصناف
الصحيحة لفظيا أو معنويا، كما هو واضح; فعدم صحة التمسك بالإطلاق، لا فرق
فيه بين الالتزام بعموم الموضوع له أو خصوصه بالجزئية الإضافية المذكورة.
{الطريق الثالث}
وأما الطريق الثالث القريب من الثاني، فهو أن يكون الوضع بمعرفية النهي
عن الفحشاء مثلا، لما يؤثر فيه بعنوانه الواقعي الغير المعلوم لنا، بحيث يكون
الوضع عاما والموضوع له عاما، وهو مجموع هذه الامور الدخيلة في الغرض،
المعنونة بالعنوان الملزوم للغرض.
وهذه الامور التي يكون مجموعها صلاة، يعرفها الأثر المعلوم لنا وملزومه
المعلوم للأمر والواضع، لكنها ذات عرض عريض من حيث جزئية هذه الأفعال
112

في حال الاختيار والحضور، وعدم جزئية بعضها في حق المسافر وجزئية بعضها
للملتفت وعدمها لغيره وهكذا; فجميع الصلاة بما لها من الأبدال للأصناف
المختلفين، صلوات ملزومة للنهي عن الفحشاء، لا أن إحداها صلاة والاخريات
أبدالها، بل كلها، تسمى صلاة، ومأمور بها.
وافتراق هذا عن الطريق الثاني، في لزوم التجوز في الأول في المستعمل
في الجامع، دونه على هذا النحو; فإن إطلاق الصلاة على صلاة الصبح والمغرب،
كإطلاق الإنسان على العالم والجاهل.
مع أن الاستعمال في الجامع في مثل «الصلاة عمود الدين» (1) - كاستعمالها
في مقام التقسيم مع القرينة - لا يضر بكون الوضع لما تحت الجامع من
أصناف الصلوات المأمور بكل صنف منها، صنف من المكلفين، بدون أخذ
حيثية الصدور في المسمى المأمور به، مع أن الوضع لكل من العام والخاص،
معقول; فيوضع اللفظ لمعرفية الجامع بما أنه معرف لإضافة ولنفس
الجامع. والاشتراك المنفي ما كان بين الأصناف وفيها، لا بين الجامع
والأصناف.
وحيث إن المتبادر من لفظ الصلاة مجموع هذه الأفعال، لا العنوان المنتزع
منها، فلابد من الالتزام بأن الاستعمال، في المجموع في كل مرتبة، والجامع
بين هذه المراتب على الحقيقة، لا المنتزع من كل مرتبة، والجامع بين
المنتزعات.
وقد أشرنا إلى أنه مع وضع اللفظ للصحيح كما هو المفروض، فلا فرق بين
هذه الفروض في عدم التمسك بالإطلاق، فتدبر.

(1) لئالي الأخبار 4: 8، مطبعة الحكمة.
113

{توضيح لتصحيح الجامع العنواني}
ويمكن أن يقال في توضيح تصحيح الجامع العنواني: إن عنوان الناهي عن
الفحشاء وإن كان بعمومه معلوما، وذلك يمنع عن البراءة ويوجب المرادفة لغير
المرادف، إلا أن الموضوع له ليس هو هذا العام بعمومه; بل مرتبة من الانتهاء عن
الفحشاء، مرتبة على خاص من الناهي، لازمة له.
واختلاف مرتبة الأثر، باختلاف المؤثر شرطا أو وصفا أو شطرا; فما هو
الناهي المأمور به والموضوع له اللفظ، غير معلوم، لكونه عنوانا للتسعة أو
للعشرة، لأن معنونه يترتب عليه مرتبة من الانتهاء غير معلومة بحدها، فلا يعلم
حد المؤثر من حيث اشتماله على الأجزاء والشرائط كما وكيفا، فلا يعلم المأمور
به، من الناهي والموضوع له اللفظ، لأنه ليس هو المعنى العام الشامل لمثل قول
الإنسان لغيره «لا تأت بالمنكر» قطعا.
فإذا كان المأمور به عنوانا مرددا بين ما كان معنونه التسعة أو العشرة، تجري
البراءة، للتردد في نفس المأمور به، أي في العنوان الذي يكون وجوده المجهول
تقومه بأي شيء، عين المأمور به.
وحيث إن الواضع في الحقائق الشرعية، عين الآمر في العبادات، والواضع
مطلقا عالم بالموضوع له بحده، والجاهل غيره، كالمأمور والموظف بترتيب الأثر
على الموضوع له، فالشك في حد المأمور به ومعنون العنوان المأمور به لا يرفعه
الإطلاق، ولا فرق بين الموضوع له والمأمور به إلا في حفظ الوجود في الثاني
دون الأول، ولا يعلم عدم مرادفة الصلاة مع خصوص الناهي المترتب عليه مرتبة
خاصة من الانتهاء، أو مع الدال على ما يساوق هذا المفهوم كما هو ظاهر، فإن كل
لفظ يرادف الدال على معناه بحده لو علم به، وعنوان الناهي كعنوان المؤثر في
النهي، في الأحكام.
114

{إمكان الالتزام بعنوان «واجد الأجزاء والشرائط»}
ومنه يظهر إمكان أن يقال: إن الجامع بين المراتب الصحيحة، «هو واجد
الأجزاء والشرائط» بأنواعها الثابتة في عرض عريض بقيد التأثير بالفعل من قبل
تلك الأجزاء والشروط في مرتبة خاصة من الأثر، أو مع التقيد بخصوصية توجب
التأثير في تلك المرتبة، أو بقيد الملازمة للأثر، أو بخصوصية ملازمة لخصوصية
كونه مأمورا به بالفعل بالنسبة إلى الصلاة المحققة ومصليها; فهذا الكلي لا يشمل
بهذا القيد، غير الصحيح، ولا يفوت عنه صحيح، وإن كان بالنسبة إلى كل مصل،
كليا منحصرا في فرد تقريبا; وإن كان ذلك - كما مر - لا يصحح التمسك بالإطلاق.
والاستشكال في التقييد بالأمر وما يتوقف عليه، مندفع بما يندفع به إشكال
أخذ قصد الأمر في متعلقه في محله.
نعم، من لا يرى صحة أخذ قصد الأمر في متعلقه للزوم الدور أو الخلف أو
تحصيل الحاصل، ليس له تحصيل الجامع بين الأفراد الصحيحة بالتقريب
المذكور، لابتنائه - بجميع أنحائه - على إمكان ما يعتقده مستحيلا; إلا أنه قد مر
إمكان الكشف عن ملزوم المؤثر في النهي عن الفحشاء المؤثر في الأثر المترقب
منه الذي لا يترتب عليه إلا إذا أتى به بقصد الأمر.
{بيان لإمكان تصوير الجامع عند من يرى استحالة أخذ عوارض الأمر في متعلقه}
ويمكن أن يقال: إن وحدة الأثر حيث كانت كاشفة عن وحدة المؤثر، فالمؤثر
في النهي عن الفحشاء - أي في مرتبة منه - جهة واحدة منتزعة عن المراتب
الصحيحة التي كل منها مستجمع للشرائط والأجزاء المعتبرة في التأثير ومتعلق
للأمر بها لخصوص صنف; وهذا الواحد مجهول تفصيلا، إلا أنه معلوم أثرا
115

ومعلوم في الجملة بمعلومية منشأ انتزاعه; وحيث لا يعلم تفصيلا، فلا مجال
للاشتغال، ولا نقض بعدم الترادف.
والانتزاع عن المركب، غير كونه مركبا، وإلا لزم من تركب الجامع تساوي
الزائد والناقص. وملازمة العنوان للأمر ولما يعتبر في التأثير، غير أخذ شيء من
القيدين في نفس العنوان المكشوف وحدته بوحدة الأثر; فيمكن - على هذا -
تصوير الجامع بين المراتب الصحيحة عند من يرى استحالة أخذ عوارض الأمر
في متعلقه ومعروضه.
{عدم تمامية الالتزام بالجامع المركب}
وما ذكرناه إنما هو في تصوير الجامع بسيطا، مقيدا تارة، وغير مقيد بانتزاعه
عن المتقيدات من المراتب، اخرى.
وأما جعله مركبا، فهو غير تام، لأن المركب المأمور به بنفسه لا ينطبق على
الزائد والناقص، والمفروض صحتهما أيضا، فلا يبقى إلا انتزاعه من الكل، فيكون
بسيطا; وإن كان لا يرد على فرض تركبه إشكال البراءة، لفرض دوران نفس العنوان
المأمور به بين كونه مركبا من تسعة أو عشرة; وإنما يستشكل بالعلم بوجود
المركب من الخمسة مثلا في بعض المراتب الصحيحة، كما مر.
{مناقشة فيما ذكر من كشف وحدة الأثر عن وحدة المؤثر، ودفعها}
والمناقشة في الكشف المذكور - مع كون كل مرتبة مركبة من مقولات متباينة
مع عدم إمكان وحدتها مع تعدد أفراد مقولة واحدة، فلا وحدة لمرتبة فضلا عن
المراتب المتفاوتة، مدفوعة - بعد مساعدة مقام الإثبات على الكشف المذكور - بأن
116

الجامع ليس واحدا مقوليا حتى يرد فيه الإشكال من الجهتين المذكورتين، بل هو
عنواني انتزاعي، مصحح الانتزاع تعلق الأمر بكل من المراتب على ما هي عليها من
الخصوصيات، ولذا يؤثر الكل - بجهة مصححة لانتزاع ذلك الواحد منها - في أثر
واحد نوعي، أعني المرتبة الخاصة من النهي عن الفحشاء.
{نقد القول بوضع الصلاة للمرتبة الكاملة}
وأما جعل الصلاة عبارة عن الكاملة وجعل الناقصة أبدالا، فهو وإن كان لا
مناص عنه بناء على استحالة الجامع بين المراتب الصحيحة وعدم تصوير الجامع
للأعم، لكنه مقطوع بعدمه في نفسه، كما لا يخفى على من لاحظ مرتكزات
المتشرعة; فإن الصلاة كانت مطلقة من الصدر الأول، على الكل بجهة واحدة
وبمعنى فارد.
كما أنه لابد من فرض الجامع في المرتبة الكاملة، أعني صلاة القادر
المختار، مع اختلاف بحسب الركعات وكميتها، تارة، كصلاة الحاضر والمسافر،
بل صلوات الليل والنهار لكل منهما، و [ومع اختلاف بحسب الكيفيات، اخرى]
كوجوب الجماعة وعدمه في الجمعة وغيرها، ووجوب القراءة على غير المأموم
وعدمه عليه، ومبطلية زيادة الركوع في غير متابعة المأموم; فإن كان الجامع مركبا،
فكيف ينطبق بنفسه على واجد جزء وفاقده، وواجد شرط وفاقده، وواجد ركعة
وفاقدها; فلا يكون المأمور به من ذلك الجامع إلا متخصصا في كل مرتبة
بخصوصية وجودية أو عدميه، بحيث لو ازيلت الخصوصية كانت فاسدة من
المأمور بالمتخصص بها; فيلزم عدم كونه جامعا بين المراتب الصحيحة، بل بين
ما يتصف بالفساد تارة والصحة اخرى، لأن الواجد لخصوصية، مأمور به
وصحيح، وفاقدها، غير مأمور به وفاسد ممن يضاف إليه الصحيح.
117

مع أنه مع قطع النظر عما قدمناه، فكل مرتبة مركبة خاصة، صحيحة
بالإضافة إلى بعض، وفاسدة بالإضافة إلى غيره، فلا جامع بين الصحيحة فقط.
ومع قطع النظر عن هذا الإشكال المبتني على إضافية الوصفين، فكيف
ينطبق المركب الواحد على المراتب المختلفة بالزيادة والنقصان، ويتحد معها مع
حفظ الحد في الكلي والفرد، كما هو المفروض من كون الجامع مركبا؟ فتدبر.
نعم، لو كان بسيطا منتزعا من المركبات المختلفة، أمكن اختلاف معنوناته
بالزيادة والنقصان على ما مر في الجامع العنواني، ولا يصحح ذلك لحاظ طبائع
الأجزاء في المركب الجامع، لا أشخاصها بحدودها كما وكيفا، لما مر من أن الأمر
بالطبيعة يقتضي الانطباق على الفاقد الفاسد أيضا.
نعم، من يرى أن الجامع للصحيح يكون جامعا للأعمي أيضا، لتداخل مراتب
الصحيح والفاسد، يتجه عنده جعل الجامع ما ذكر، وقد مر ما عندنا في ذلك.
{عدم صحة الجامع الماهوي المشكك}
وأما جعل الجامع، الماهية التشكيكية الصادقة على الزائد والناقص
والضعيف والشديد - بناء على التشكيك في الماهية - فلا يصح مع تعدد المقولات
في كل مرتبة، حيث ليست وجودا واحدا ضعيفا أو شديدا بالقياس إلى الآخر في
المرتبة الاخرى; فأين الماهية النوعية الواحدة المختلف مراتبها بما ذكر من الشدة
والضعف والزيادة والنقصان؟ وكذا الجامع الاعتباري بعد كون كل مرتبة واحدة،
اعتبارية بمصححية وحدة الأثر; فأين المصحح لوحدة المتعددات بتعدد
المراتب؟
118

ووحدة الأثر نوعا لا يصحح إلا ما يسانخه من واحد نوعي منطبق على
الوحدات الاعتبارية جميعها، لا وحدة لمجموعها، فإنه كما ترى، واضح البطلان.
{بيان في التمسك بارتكازات الشيعة للوضع للصحيح}
ويمكن أن يقال: إن مرتكزات الشيعة والمسلمين في مفاهيم ألفاظ العبادات
وغيرها، على نحو مرتكزات العرف، من أهل الأديان وغيرهم، في ألفاظ عباداتهم
المختلفة ومعاملاتهم المتفقة; ولا نراهم جاهلين بتلك المفاهيم; فهل يكون
الوضع تعيينيا ويكون الموضوع له المستغني عن القرينة، مجهولا لدى أبناء
المحاورة؟!
ومن الواضح أن الأفعال العبادية والمعاملية مقدمات للآثار المترقبة، فما
لا يترتب عليه الأثر، كالعدم; فلا يكون الأسماء إلا موضوعة للصحيح المؤثر من
المسميات
وأما غيرها، فإطلاق اللفظ عليه إما للحمل على الصحيح عند الجهل،
أو لإرادة الصحيح عند الفاعل المعتقد للصحة، أو للصحة في بعض مراتبها،
أو للصحة في خصوص طائفة، أو مع القرينة على الصحة الشأنية.
وحيث إن الموضوع له وهو المأمور به في العبادات التي هي حقائق
شرعية يتحد فيها الواضع والآمر، عناوينها المعلومة بالآثار في الجملة، والأمر
بها أمر بمعنوناتها بنحو ما بالذات وما بالعرض; فالمدار عند المكلف، على
الأمر بالمعنون، لأنه المعلوم لديه تفصيلا; فالشك فيه مستلزم للشك في
زيادة الأمر، لاحتمال انبساط الأمر بالعنوان إليه، أي احتمال تعلق أمر
ضمني به.
119

{بيان لتصحيح الجامع المركب}
وعليه، فتركب الجامع الموضوع له اللفظ، المكشوف بالأثر والأمر في
المراتب المختلفة، غير مستحيل الانطباق على الواجد والفاقد بلحاظ ترتب الأثر
عليهما في حق طائفتين، لا طائفة واحدة، كما أن الأمر لطائفتين أيضا.
وهذا مع إرادة الأعم من الأبدال في المأمور به وأبعاضه، حتى أن التكبير
الواحد من الغريق الذي لا يتمكن من غيره مع قصد البدلية عن ركعات، يمكن
انطباق الجامع المركب عليه، بخلاف ما يقصد به إحدى الركعات الممكنة بأبدالها
من التكبيرات المتعددة.
ولو كان ذلك مستلزما للجمع بين دخل شيء وعدمه وتساوي الزائد
والناقص في الانطباق، فالإشكال وارد في البسيط أيضا، لدخالة المركبات في
تحققه، وهي مختلفة بالزيادة والنقصان أيضا، مع أن الاستعمال لا يحتاج إلى قرينة
وملاحظة علاقة بينه وبين الأعم قطعا.
{لا حاجة إلى الوضع للأعم}
وأما الاستعمال في الأعم، فغير معلوم كونه على الحقيقة، مع أنه موقوف
على الوضع الآخر ولا حاجة إليه مع الوضع للصحيح; فإنه وضع نوعي لما يشابهه
في الصورة والأثر، وليس الوضع تعيينيا حتى يتعدد، بل الكلام، في أن التعيني
الواحد حاصل للصحيح أو للأعم; بل في سائر الموارد للتعيين، لا حاجة إلى
الوضع للأعم مع الوضع للخاص، بخلاف العكس.
وقد مر أن الباعث إلى الوضع، لحاظ الأثر وما يترتب عليه، فهو الداعي،
ولا يكون المدعو إلا الوضع للصحيح في جميع الأوضاع العقلائية، فتدبر تعرف.
120

{كثرة الاستعمال في الأعم لا تضر بما ذكر}
ولا يخفى أن الوضع للصحيح والأمر بهذا الموضوع له، هو المتعين بما
يفهم من أن كلا من الوضع والأمر، للوصول إلى الآثار المطلوبة، وما ليس له الأثر
المترقب، كالعدم، لا يوضع له ولا يؤمر به; فإن الوضع أيضا للتفاهم في
الاحتياجات.
إلا أن الاستعمال في الأعم، بل فيما لا يعلم فساده مع القرينة، كثير جدا في
المتشرعة بحيث وصل إلى [حد] الاستغناء عن القرينة; فإنه يعلم الصلاة ولا يعلم
الصحة، وهذا دليل الافتراق; لكن هذا الوضع لا يجدي في حمل الخطابات
الشرعية عليه كما هو واضح، فالإجمال لا مناص عنه.
تنبيه
{في المناقشة بعدم صلاحية ذلك الجامع لتعلق الخطاب، ودفعها}
بعد إمكان تحصيل الجامع العنواني البسيط على ما مر، ومساعدة مقام
الإثبات للوضع للصحيح، أي للمشترك بين المراتب الصحيحة، فلا مجال للمناقشة
فيه بعدم كون ذلك الجامع أمرا عرفيا واقعا موقع الخطاب، بل المكلف به نفس
المعنون إذا لم يكن معلوما لدى العرف، كما أنه لو كان معلوما وشك في محصله
تعين الاشتغال.
أقول: بعد معلومية الجامع بأثره، فلا عبرة بعدم تعلق الخطاب به; فلا مانع
من الأمر بضرب العنق والإلقاء في النار مع العلم بإرادة القتل والإحراق بالسببين;
فلو تخلص المضروب والملقى من القتل، وجبت الإعادة.
121

كما أن إجماله لدورانه بين مفهوم منتزع من الأقل وآخر منتزع من الأكثر، غير
ضائر بتعلق الأمر بواقع مردد عند المأمور بين الأمرين.
{تقرير البراءة في المشتبه بالشبهة المفهومية، بين الأقل والأكثر}
ويمكن القول بجريان البراءة فيما اشتبه متعلق التكليف بالشبهة المفهومية
بين الأقل والأكثر من جهة أن رفع الشبهة بيد الشارع.
فيقال: انبساط الأمر الواقعي النفسي إلى الأقل معلوم وإلى الزائد مشكوك.
وبالجملة، لا أثر لعدم معلومية الجامع بعد معلومية الدال عليه، و [بعد] الدليل على
ثبوته، ومعلومية منشأ انتزاعه في الجملة وإن تردد فيه، لتردد الجامع بين أمرين:
أحدهما ينتزع من الأقل، والآخر، من الأكثر، فتدبر.
وقد مر جريان البراءة فيما لم يكن العنوان الموضوع له اللفظ، معلوما
بنفسه أو بحده. وذلك لأن المأمور به، وجوده وهو عين المعنون; فالتردد، في
نفس المأمور به بين الأقل والأكثر، لا في محصله، لعدم التعدد بين المحصل
والمتحصل فيما كان من قبيل الكلي والفرد وكان للعنوان مجهولية ما، إما للجهل
بنفسه، أو للجهل بحده المؤثر في مرتبة خاصة من الأثر المعلوم.
{تأئيد لعدم إمكان تصوير الجامع للأعم}
وأما الجامع بين مراتب الصلاة من دون تخصيص بالصحيحة - كما يبتني
عليه القول بالوضع للأعم - فقد تصدى في «الكفاية» (1) لذكر وجوهه على

(1) كفاية الاصول: ص 25 - 27.
122

التلخيص ولأجوبتها.
ويؤيد عدم إمكان الجامع هنا على النحو المعهود، عدم إمكان جعل مقدار
خاص من المركب مقوما للصلاتية بمعناها، محفوظا في جميع المراتب
الصحيحة والفاسدة من مسمى الصلاة، لتوجه المنع إلى كل ما يفرض ذلك المقوم
من حيث الطرد والعكس.
{بيان لتصوير الجامع على القول بالأعم}
ويمكن أن يقال: إن المقوم ما يلزم في ركعة واحدة، إذ لا صلاة أقل منها،
والزائد واجبات في الصلاة وإن كانت أجزاء ركنية.
ومجازية الاستعمال في المجموع، غير ضائرة، كما في الإنسان مع «زيد»،
إذ يكفي الإطلاق على الحقيقة.
ودعوى الصدق بدون بعضها وعدم الصدق مع التعمد لترك غير الركن،
يمنعها الأعمي; والتبادل غير ضائر، لأنه في متن الصلاة، كما مر.
بل يقال: إن عرف المتشرعة في الميز عن الصلاة وغيرها، يكتفي بقيام
وركوع وسجود، فالمقوم بنظرهم بعض الأركان.
وتطبيق ذلك على مثل صلاة الغريق لا يخلو عن إشكال، يمكن دفعه
بالفرق بين صلاة المختار والمضطر، في فعلية النهي عن الفحشاء مثلا وشأنيته وما
يظهر بملاحظة الأبدال مع الاصول، كالفرق بين صلاة الحاضر والمسافر; بل
التبديل لا يمنع عن الصدق كتبديل الركوع والسجود بالإيماء في صلاة العاري.
وأما الاكتفاء بما يلزم في ركعة، فلمكان أن الأقل من ركعة ولو مع التبديل،
لا يكون صلاة.
123

وأما الأمر بالنافلة بركعة، فلا يدفع كشفه عن الصلاتية المطلقة، بأنها نافلة،
فإن الاختلاف في كيفية الأمر، ليس اختلافا في صلاتية المأمور به; وإنما يسلم من
الإشكال - كما مر - الوضع للمؤثر شأنا فيما يكون مؤثرا بالفعل في الجملة مع
فرض خصوصياته الوجودية بأن يكون مثله مؤثرا بالفعل في مورد آخر، فيشك
في المورد الآخر أنه مع إحراز شأنية التأثير، هل يكون مؤثرا بالفعل أو لا. وذلك،
فيما لا دليل فيه على الدخل أو عدمه في التأثير الفعلي هذا;
{عدم إمكان التمسك بالإطلاق على الجامع المذكور}
ولكن إحراز المقتضى مع الشك في الجزئية، في غاية الإشكال; ومقايسة
صلاة المختار بصلاة المضطر، غير تامة. وكأن القول بالأعم، جرى على الإطلاق
العرفي بلا يقين بالصحة، ومثله لا ينفع في التمسك بالإطلاق بعد كون الصحيح
هو الموضوع له أولا والمأمور به من طرف الواضع الشارع.
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن جعل المسمى معظم الأجزاء، مع أنه مشتمل
على الإبهام الواضح; لكنه يرد على هذا المسلك المتقدم، عدم صحة التمسك
بالإطلاق على الأعم، لعدم معلومية المؤثر شأنا بحدوده; وأما المعظم، فلا يفيد منه
إلا أغلب الأجزاء.
{تصوير جامع على القول بالأعم}
ويمكن أن يقال - بناء على تصوير الجامع بين المراتب الصحيحة بأحد
الوجوه المذكورة فيما سبق - إن ما يؤثر في الأثر المخصوص إذا كان بنفسه
وبعنوانه، أو بعنوان ملازم له، أو بعنوان منتزع منه، إذا كان هو الصلاة، ولم يكن
124

محذور في جعل الصلاة ذلك المفهوم على الوضع للصحيح، فالمؤثر بالفعل أو
ملازمه أو ما ينتزع منه، هو الصلاة على هذا التقدير.
والقائل بالأعم، له أن يجعل الصلاة موضوعة لما هو المؤثر - بالاقتضاء
والقوة - في الأثر المخصوص; وعدم معلومية ذلك الجامع لا يضر هنا، كما لا يضر
على الصحيح.
{ذكر وجوه لتثبيت الوضع للصحيح}
وقد مر إمكان التشخيص: بالصدق العرفي في عرف المتشرعة على فاقد
المشكوك، يعني أن صدق الصلاة في عرف المتشرعة محفوظ من غير ناحية
وجود المشكوك اعتباره، ولو بملاحظة الفعلية للتأثير في بعض الموارد; وهذا
لا ينتج أمرا كليا، مع ما مر من أن التسامح في عرف المتشرعة لا يؤثر في خطاب
الواضع الذي هو الآمر، فلا ينفع في إطلاق خطابه;
وبالأمر به في سائر الموارد، فإن المؤثر بالفعل في بعضها مؤثر بالاقتضاء في
غيرها، مع إمكان المناقشة في هذه الكلية في الشك في الجزئية;
وبأن الكل مأمور بالصلاة وإن تقيدت بامور على القول بالأعم، لا أنها مأمور
بها بحدها في حق طائفة ولا صلاة في حق اخرى، بل هي إما صلاة فاسدة، وإما
صحيحة في حقهم; وقد مر أن الأمر بالصحيحة وأن الإطلاق من العرف لا يجدي
في إطلاق كلام الواضع الآمر.
{الشك في صدق الصلاة يمنع عن التمسك بالإطلاق}
وأما صحة التمسك بالإطلاق، فإنما يمنع عنه الشك في صدق الصلاة،
ولا يمكن فهم وجود المقتضي للأثر باشتمال الصلاة مثلا على الأركان الخاصة،
125

وإن لم يعلم ملاكيتها للصلاتية ومقوميتها لها، بل علم خلافها وتحقق الصلاة في
أبدالها.
وذلك، لأن الصحة مع وجود الأركان ولو في الجملة، تكشف عن الصلاتية
المطلقة، وإلا كان المشتمل عليها صلاة من بعض وغير صلاة من بعض، وهو
خلف الوضع للأعم من الصحيح، ووحدة معنى الصلاة في الجميع، وعدم الوضع
لخصوص المراتب.
كما أنه إذا علم وجود عشرة أجزاء وعلم صدق الصلاة معها وإن احتمل
تقومها بخمسة غير معينة منها، فإنه حينئذ يتمسك بالإطلاق في نفي الحادي
عشر.
{ذكر ثمرة للبحث}
وبالجملة: إذا جاز للصحيحي دعوى الوضع للمؤثر بالفعل بوجه ما، جاز
للأعمي دعوى الوضع للمؤثر بالقوة بوجه ما.
وصحة التمسك بالإطلاق في الجملة في قبال عدمها على الوضع
للصحيح، يمكن أن يكتفي بها في ثمرة البحث عن الموضوع له وأنه الصحيح أو
الأعم، فتدبر.
{بيان لامكان التمسك بالإطلاق الكلامي على الوضع للصحيح}
ويمكن توجيه التمسك بالإطلاق الكلامي على الوضع للصحيح، بأن يقال:
الأمر بعنوان الصلاة الموضوعة لما لا ينطبق إلا على الصحيح، عين الأوامر المتعلقة
بالأبعاض بالأسر، فهي عنوان لمجموعها الواقع على النحو المؤثر; وهذه العينية
هي مبنى الانحلال في جريان البراءة. وحيث لا يعلم بما هو المؤثر وأنه مجموع
126

التسعة أو العشرة، فلا أصل محفوظا يتمسك بإطلاق الأمر به متعلقا بالمجموع
الذي لا نعلم حد أبعاضه.
لكنه يمكن أن يقال: تعلق الأمر النفسي الضمني بالتسعة مثلا، يعين تعلقه
بعنوان المجموع الواقع صحيحا ومن تلك التسعة تقيد الأبعاض المأمور بها
بعضها ببعض، ولا يعلم تقيد التسعة بالعاشر، إذ لا نعلم الأمر الصلاتي
بالعاشر; فالأمر بالأبعاض - بما أنها أبعاض الصلاة - كالأمر بتقيد بعضها ببعض،
معلوم ولا نعلم الأمر بتقيدها بالعاشر; ومقتضى إطلاق الأمر بالتسعة بما أنها صلاة
وبما أنه عين الأمر بالصلاة الذي هو عين الأمر بأبعاضها بالأسر، عدم تقيد المأمور
به فيها بالعاشر; ولازم عدم التقيد، عدم الأمر الصلاتي الضمني بالعاشر; والظهور
الإطلاقي متبع في مجراه وفي لوازم الجريان في مصبه; فمقتضى الإطلاق، عدم
الأمر النفسي الضمني بالعاشر، وإلا، لتقيد به التسعة المأمور بها. ومقتضى الإطلاق
في الأمر المستفاد بالتسعة عدم التقيد بالعاشر; ولا تضر علية الأمر بالعاشر، للإناطة
به في ثبوت عدم العلة بثبوت عدم المعلول.
تتمة:
{في إمكان الجامع - على الصحيح، على فرض عدم وحدة الأثر - بملاك الأمر}
لا يبتني تحصيل الجامع - على القول بالوضع للصحيح - على تمامية
استفادة وحدة الأثر في الأخبار المشتملة على أن «الصلاة معراج المؤمن» (1)
أو المشتملة كالكتاب على توصيفها بالنهي عن الفحشاء.
بل يمكن أن يقال بكفاية العلم بثبوت المصلحة الصلاتية في جميع المراتب

(1) اعتقادات المجلسي: ص 29.
127

التي أمر بها بعنوان الصلاتية; فلا شبهة في أنها مصلحة خاصة مترتبة على الصلاة
بمراتبها المختلفة، مغايرة لما يترتب على سائر العبادات; فلا يقوم بها بحدودها
شيء من العبادات غيرها; فلا فرق بين جعل الصلاة واجدة لتلك المصلحة، أو
مؤثرة في الآثار المعهودة في انكشاف وحدة الصلاة بما لها من المعنى بسبب
المصلحة أو الأثر.
والفرق: أنه لو لم تكن الدلالة على تلك الآثار، أو لم يتم الاستفادة على
الوجه المفيد - كما قيل - تم انكشاف وحدة المعنى من قبل الأمر المنبعث عن
المصلحة، ويطرد ذلك في سائر العبادات أيضا، فتدبر.
128

ثمرة البحث
بقي الكلام في ثمرة البحث، فيقال بأنها الإجمال المقتضي لعدم صحة
التمسك بالإطلاق، للشك في تحقق المسمى، على الصحيح; والبيان المصحح
للتمسك بالإطلاق بسائر شرائطه، مع إحراز الصدق فيما يقوم المسمى، على
الأعم.
وقد يمنع وجود المطلق في مقام البيان، فيكون التمسك بالإطلاق ممتنعا
بحسب سائر الشروط وبالغير، لا من جهة قصور في اللفظ الواقع موردا للأمر في
الدليل; لكن المنع عنه في جميع العبادات بلا وجه، بل فيما لا إطلاق فيه رأسا،
مثل قوله تعالى:) أقيموا الصلوة وآتوا الزكاة ((1)، حيث إنه للتشريع وليس في مقام
بيان القيود لو كانت، بخلاف أدلة الاعتبار، ففيها مقام البيان، ويتمسك بالإطلاق
فيها، لما اعتبر في دليل الاعتبار لخصوصياته، ولغيره من القيود; فإن ذلك المقام
يقتضي البيان أو الإحالة إلى مجلس آخر مثلا; فإذا لم يكونا، يتمسك بالإطلاق،
وإلا كان البحث لغوا غير منتج لنتيجة فقهية متوقفة على مبدء تصديقي يكون هو
المسألة الاصولية.
{اتجاه التمسك بالإطلاق على القول بالصحيح}
ويمكن منع توقف التمسك بالإطلاق على القول بالوضع للأعم; وذلك لأن
الإطلاق موقوف على إحراز مقام البيان للتقييد لو كان; وذلك يتوقف على كون

(1) المزمل: 20.
129

الحكم بحسب الدليل واردا على الأعم من جامع الأجزاء والشروط، وإلا فتقييد
الواجد ممتنع; فالمستعمل فيه اللفظ، هو الأعم ولو كان الوضع للصحيح. والقرينة
على الاستعمال، القيام مقام بيان القيد لو كان، ولا قيد للصحيح رأسا، بل لما
يمكن أن يقع صحيحا وفاسدا، حتى في مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (1) أو «إلا
بطهور» (2); فإن القرينة - على تقدير الصحيحة - تقتضي عدم أخذ الصحيحة في
المسند إليه الصحة; فاستفادة الصحة، بدال آخر; فيتجه التمسك بالإطلاق ولو قلنا
بالوضع للصحيح.
{مع إحراز مقام البيان، لا يلتزم باجمال ما في الدليل}
كما أنه مع إحراز مقام البيان - وهو تقدير صحة التمسك بإطلاق
المطلقات - لا يحمل ما في الدليل على الإجمال، لأن المفروض وحدة الأمر
بالعنوان الملزوم للنهي عن الفحشاء مع الأمر بالمعنون المجهول تركبه من تسعة
أو عشرة، وإن كان أحدهما كالكلي والجزئي بالذات، والآخر بالعرض.
وعليه، [إذا كان] مقام الأمر هو مقام البيان، وقد فرض أن المبين لا يزيد على
التسعة; فلو كان العاشر داخلا في أحد الأمرين، كان عليه البيان; فيكشف عدم
الدخول من عدم البيان في مقامه.
ولا يعتبر في الإطلاق الكلامي أزيد من ذلك، بأن يرد الحكم على المقسم
للصحة والفساد وواجد الجزء وفاقده; كما أنه لابد من إحراز مقام البيان في جميع
موارد الإطلاق الكلامي أيضا، فلا أثر للجهل بخصوص العنوان المعلوم في

(1) عوالي اللئالي 1: 196، ح 2، و 2: 218، ح 13، ومستدرك الوسائل 4: 158.
(2) الوسائل 1 الباب 1 من أبواب الوضوء ح 1 و 6.
130

الجملة بأثره ومعنونه لا تفصيلا.
مع أن الإطلاق لا مانع منه في الأمر بالتسعة، الذي هو عين الأمر بالعنوان
فرضا; فإن مرجعه إلى أن الصلاة المعلوم تألفها من تسعة، بين بعضها في هذا
الدليل، المفروض أنها لو كان لها جزء أو شرط آخر غير المعلوم وغير ما هو
المبين هنا، لبينه; فإنه ينتج أن الصلاة عنوان التسعة، كان معها عاشر أو لا; وأن
التسعة مأمور بها بعنوان الصلاتية بما لها من العنوان المجهول تفصيلا المعلوم
بالأثر في الجملة.
وبالجملة: فمحل بيان صلاتية الأجزاء مجموعها وتعنونها بالعنوان الذي
تكون به صلاة، هو هذا الكلام الدال على الأمر بالتسعة بعنوان الدخالة في
الصلاتية بضميمة غيرها من القيود المعلوم قيديتها; فإن عدم البيان يكشف عن
عدم القيدية، وعن تحقق عنوان الصلاتية لما بين أو علم دخله في الصلاتية، كان
هناك شيء آخر يحتمل بدوا دخالتها أو لم يكن; فمن هذا البيان يستفاد الإطلاق،
والمفروض أن الأمر الواقع في مقام البيان مبين لتحقيق الصلاة بما في داخلها مما
يعتبر في الصحة، لا لتقييدها بالخارج عنها، كما هو على الوضع للأعم.
{المتحصل مما سبق، وأن نتيجة الإطلاق الكلامي ثابتة قطعا}
فقد تحصل مما ذكرناه: أن الإطلاق، [ثابت] للمستعمل فيه، كان المراد
الاستعمالي هو الموضوع له أو غيره; وأن ما دل على اعتبار شيء في العبادة
يستفاد منه الدخالة في الصحة، كانت زائدة على المراد في لفظ «الصلاة» مثلا، أو
داخلة في مسماها; فإن اريد الأعم، كانت زائدة; وإن اريد الصحيح، كانت داخلة;
فيستفاد أن الصلاة التي لا تكون إلا صحيحة، لا تكون إلا بطهور مثلا; فمع إحراز
مقام البيان يستفاد من ترك التقييد، الإطلاق، لأن محل البيان هو هذا المقام فرضا،
131

فيمكن تسميته كلاميا لذلك، لا لأن اللفظ مطلق لواجد القيد وفاقده على
الصحيح، ومقاميا، لأنه ليس كالتعبير باللفظ عن الأعم الذي هو مقسم للصحيح
والفاسد، كما هو [كذلك] على القول بالأعم، بل من طريق فهم الفرق بين
الاستعمال والوضع لو كان [الوضع] للصحيح، في الأدلة البيانية; فتأمل تعرف; فإن
نتيجة الإطلاق الكلامي، ثابتة هنا قطعا، ولعله هو المراد من التعبير بالإطلاق
المقامي.
{القول بانتفاء الثمرة بوجود البيان وما فيه}
كما أنه يقال: لا أثر للإجمال مع وجود أخبار البيان في مثل «الصلاة»
و «الوضوء» و «الحج»، لأن الموجود فيها معتبر، وغيره غير معتبر ولو قيل بالوضع
للصحيح، لكن البيان - لو سلمت دليليته وتمامية دلالته - غير عام لسائر العبادات،
فلا تلزم اللغوية المتوقفة على وجود البيان.
ووجود الثمرة في النذر، لا يجعل البحث من المسائل الاصولية الواقعة في
طريق استنباط الأحكام الكلية الفقهية، وإنما الموقوف عليه في النذر، تنقيح
مقصود الناذر وتحقيقه، والله العالم.
{القول بظهور الثمرة في انحصار القول بالبراءة عند الشك، على الأعم وما فيه}
وقد يقال بظهور الثمرة في انحصار القول بالبراءة عند الشك في اعتبار
شيء - جزءا أو شرطا أو مانعا - على اختيار الوضع للأعم، لأنه إذا شك في تحقق
العنوان الموضوع له اللفظ في الناقص، فقد شك في محصل المأمور به وفيه،
فالقاعدة تقتضي الاشتغال.
ويمكن أن يقال: إنه إنما يصار إلى الاحتياط في الفرض، لو كان الأمر بنفس
132

العنوان، نفسيا وبمحصله، غيريا، على القول بوجوب المقدمة; وأما إذا كان
المعنون مأمورا به نفسيا ولا يكون مع عدم تعدد الأمر النفسي إلا بالالتزام باتحاد
العنوان والمعنون وجودا وأمرا، فالشك في كمية المعنون شك في كمية المأمور به
بالأمر النفسي، وفيه تجري البراءة.
توضيحه: أن المأمور به وجود العنوان وهو عين وجود المعنون، فالشك في
وجود المعنون عين الشك في وجود العنوان، كما أنه عين الشك في كمية المأمور
به للشك في كمية ما هو المعنون.
{القول بلزوم الاحتياط عند الجهل بالمأمور به وما فيه}
فإن قلت: إذا كان العنوان معلوما، فالمأمور به معلوم بوجهه; وإن لم يكن
معلوما بكنهه ومطلقا ومن جميع الجهات، فلابد من الاحتياط في تحصيله، كما
إذا أمر بالكلي وشك في فردية الفرد له.
قلت: مرجع الشك في كمية العنوان، إلى الشك في كون العنوان المأمور به
الذي تعلق الأمر بإيجاده بإيجاد معنونه، هو الناهي في مرتبة من النهي مثلا أو في
مرتبة أعلى منها، فهو - أي العنوان المأمور به - مردد بين عنوانين ينطبق أحدهما
على الناقص والآخر على الزائد وفيه تجري البراءة، لأن المأمور به بنفسه مردد
بين الأقل والأكثر، أي بين أن يكون عنوانا ينتزع من الأقل وعنوانا ينتزع من الأكثر;
وهذا بخلاف ما علم فيه العنوان المأمور به مفهوما وصدقا، وشك في مصداقه
للشبهة الموضوعية; فإنه مورد للاحتياط; وكذا ما أمر فيه بالمسبب وشك في
تحقق سببه المغاير له وجودا وأمرا; فما نحن فيه أشبه باشتباه العنوان المأمور به
مفهوما بين الأقل والأكثر.
133

هذا كله على تقدير كون الجامع على الصحيح ما وجهنا تحصيله فيما سبق،
وجه اختياره، وإن قيل بأولوية البراءة أو تعينها على سائر الوجوه.
{أدلة القول بالوضع للصحيح}
ثم إنه يمكن الاستدلال للوضع للصحيح بوجوه:
منها: «التبادر»، ولا ينبغي إنكاره، لأنه المرتكز في أذهان المتشرعة في
محاوراتهم، المشتملة على تلك الأسامي. والعلم الإجمالي بأن المراد هو
الصحيح التام، لا ينافي الجهل التفصيلي بما به الصحة والتمامية، كما هو أظهر من
أن يخفى; فلا ينافي دعوى التبادر، الاعتراف بالإجمال.
ومنها: «الطريقة العقلائية» في الأوضاع المتبعة لولا الصارف القطعي، للقطع
بوحدة الداعي والمصلحة، لاستواء الطريقة بين الشارع وغيره من العقلاء، وبأنه
لو كان للشارع طريقة مخالفة، نبه عليها، كما هو ديدنه في جميع موارد المخالفة،
وهذا أيضا لا ينبغي إنكاره لغير المكابر. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - ما يرجع إلى
تكميل هذا الوجه وما فيه من التفصيل.
ومنها: «صحة السلب» عن الفاسد; فإنه لا وجه للسلب في قبال الحمل
الشائع مع الوضع للأعم المتحد وجودا مع كل صحيحة وفاسدة; كما أن صحة
الحمل على الصحيحة تدل على الوضع للجامع بين المراتب الصحيحة; وأما
صحة الحمل الأولي على الصحيح، فلا معنى لها.
ولا يخفى أن السلب المقابل للحمل بنحو الاستعمال، لا يقتضي عدم
الوضع للأعم، كما أن التبادر لا يقتضي الوضع للصحيح، إلا مع الاستعمال في
خصوصه وصحته على الشيوع، بلا حاجة إلى القرينة و [ليس هكذا] كذا التبادر
الاطلاقي، فإن الأول لا منشأ له إلا الوضع للصحيح.
134

{الاستدلال بروايات الآثار وما فيه}
وأما الاستدلال بروايات إثبات الآثار للصلاة أو بروايات نفي الصلاة عن
الفاسدة بسبب فقدان بعض ما يعتبر في الصحة، فقد يورد عليه: بعدم إمكان نفي ما
يحتمل من تقدير الصحيحة في الأول وفي الثانية، أو الكاملة في الأخير، حتى
يكون الاستعمال في خصوص الصحيحة بلا تجوز ولا إضمار بأصالة الحقيقة مع
العلم بالمراد والشك في كيفية الإرادة.
ولا يخفى إمكان إرجاع ذلك إلى صحة الحمل على الصحيح وصحة السلب
عن الفاسد، فيكشف الأول عن الوضع للجامع بين المراتب الصحيحة خاصة
لمكان حمل الأثر على الصلاة الظاهر في انحصار المؤثر في الصلاة بما لها من
المعنى، بخلاف حمل الصلاة إطلاقا على المؤثر الغير المنافي لمؤثرية شيء آخر;
فإن الحمل المبني على الاتحاد في الوجود، يصلح كل من جزئي القضية فيه
للحمل على الآخر; فإذا كانت الصلاة - بما هي صلاة - مؤثرة، فالمؤثرة صلاة لا
غيرها، فيكشف عن الوضع للجامع بين المراتب الصحيحة.
فتكون هذه الروايات، من مؤكدات ما ادعيناه من صحة الحمل الشائع;
لكن الحمل الشائع لا يتوقف على الاستعمال في الخاص، بل يجامع الإطلاق
عليه أيضا; فلا يثبت به الوضع المصحح للاستعمال في الخاص; وإنما يثبت
بما ذكرناه في البرهان على الوضع للصحيح وبأن تقدير الصحة يحتاج إلى
قرينة مفقودة وتقدير الوجود كالعدم، فهو أولى; وكذا في السلب عن الفاسدة
في أبعدية تقدير غير الوجود من تقديره، فيكشفان عن أن الصلاة لا توجد
إلا صحيحة وهو المطلوب. وكذا مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (1) سلب الاتحاد

(1) تقدم تخريجها في الصفحة 130.
135

مع الصلاة وجودا مع الخالي عن الفاتحة; فلو كان الوضع للجامع، لما صح
السلب.
وحيث إن السلب متحد للسلب المرتكز في أنفسنا من السلب بلا تقدير
بالإضافة، علم أن المسلوب إنما هو الصلاة بما لها من المعنى المتلقى عن الشرع
يدا بيد.
ولا حاجة إلى أصالة الحقيقة في نفي كون المسلوب، الصحة، حتى يناقش
فيه بما تقدم. وسيأتي الكلام فيما يرجع إلى ذلك.
{ما استدل به للقول بالأعم}
ثم إنه قد استدل للأعمي بوجوه لا بأس بالإشارة إليها; وإن كان تقريب أدلة
الصحيحي - بما بيناه - يقتضي بطلان سند الأعمي.
فمنها: «تبادر الأعم». وقد عرفت أن المتبادر هو الصحيح.
نعم لا إشكال في هذه الدعوى ثبوتا، لما قدمناه من إمكان تصوير الجامع
على الوضع للأعم، وإثباتا فيما سيأتي من موارد اختيار التفصيل.
ومنها: «عدم صحة السلب عن الفاسدة». وقد تقدمت صحة دعوى صحة
السلب عنها.
ومنها: «صحة التقسيم». وهي تدل على الاستعمال للدال على المقسم في
مقام التقسيم في الأعم، وهو أعم من الحقيقة المتبينة بالدليل على الوضع
للصحيح، كما مر; كما أنه لو لم يتم الدليل، لما كشف الاستعمال في الأعم مع
القرينة، عن الحقيقة.
136

{تمسك الأعمى بالاستعمال في الفاسدة وما فيه}
ومنها: استعمال الصلاة وغيرها في الفاسدة، كما في رواية أخذ الناس بالأربع
وترك الولاية المعتبرة في صحة الأربع (1)، فإن الأخذ لا يكون إلا بالفاسدة; ورواية
النهي عن الصلاة في الاقراء (2)، لعدم التمكن عن الصحيحة، فالمنهي عنه
الفاسدة.
وفيه: أن الاستعمال في الفاسدة لا يكشف عن الوضع للأعم، لإمكان
التجوز مع القرينة الذي لا يدفعه أصالة الحقيقة; مع أن المستعمل فيه الأربع،
الصحيحة لولا الولاية بالقرينة، لا مطلق الفاسدة، فيجرد الموضوع للصحيح
المطلق عن الصحة المطلقة إلى الصحة الخاصة، أي غير ما كان من قبل الولاية
بالقرينة; وكذا المنهي عنه، الصحيحة لولا الحيض، لا مطلق الفاسدة; فليست
محرمة ذاتا ما كان فاسدا لولا الحيض; مع أن النهي في الثانية إرشادي لا مولوي،
ومرجعه إلى عدم تحقق الصلاة في الحيض، لاعتبار عدمه في تحققها وفي
صحتها المقتضية لكونها صلاة، وهذا لا ينافي الاستعمال في الصحيح، كما هو
الظاهر.
{رد استشهاد على القول بالأعم}
ولا شهادة في حصول الحنث بفعل الصلاة المنذور تركها في المكان
المكروه على الوضع للأعم; نظرا إلى أن عدم القدرة على الصحيحة بواسطة النذر
وعدم إمكان الصحة فيما يأتي به، يجعل الحنث محالا، بل النذر أيضا غير ممكن

(1) الوسائل 1 الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات ح 24.
(2) الكافي 3: 88، والتهذيب 1: 384.
137

الصحة، لتوقف صحته على إمكان فعل الصحيح وهو ممتنع مع صحة النذر;
وذلك لأن المنذور تركه، الصحيح لولا النذر، وهو مقدور، ويحصل به الحنث لو
تمشى فيه القربة وقلنا بالحنث بغير العلم والعمد; كما أنه لو كان المنذور تركه،
الصحيح بقول مطلق، أمكن المنع عن صحة النذر الموجب لانتفاء الصحة
المطلقة في متعلقه كما هو ظاهر.
{إشارة إلى المتحصل مما سبق}
قد عرفت إمكان تصوير الجامع ثبوتا على كل من القولين; وأنه - على
الصحيح - هو «المؤثر بالفعل في الآثار الملحوظة للمخترع» وهو الشارع، أو ملزوم
هذا العنوان: و [هو] «المؤثر شأنا» - على القول بالأعم - ولو كان بالشأنية القريبة من
الفعلية أو الأعم المحرز تحققه من ناحية فقد المشكوك اعتباره في الصحة; وأنه
لا ثمرة للنزاع، لجريان البراءة على القولين، وجواز التمسك بالإطلاق مع تمامية
المقدمات، عليهما، إلا أنه إطلاق مقامي على الصحيح وكلامي على الأعم.
{الاستدلال على القولين بنحو اللم}
هذا في مقام الثبوت. وأما الإثبات فقد يستدل للقول بالصحيح، بطريقة
عرف العقلاء، وهذا من الاستدلال بالعلة على المعلول; كما أن التبادر ونحوه من
الاستدلال بمعلول الوضع على العلة; فإن الداعي للوضع علة غائية له.
وقد وقع الاستدلال بهذه الطريقة لكل من القولين:
فتقريب الأول: أن المخترع لمركب، محتاج إلى التعبير عنه بوضع اللفظ بلا
حاجة إلى التجوز [و] إنما يدعوه الداعي إلى اختراع المؤثر في الآثار الملحوظة
138

لديه وإلى الوضع لذلك المؤثر; والشارع غير متخط لطريقة العقلاء، فوضعه
كاختراعه، كوضعهم واختراعهم.
وتقريب الثاني: أن أسماء المخترعات يراد بها ما له شأنية التأثير من دون
دخل للشروط وماله دخل في فعلية التأثير في المسمى; فقد يكون للزمان
والمكان والامور الخارجة عن حقيقته، دخل في فعلية التأثير، بل الأجزاء مختلفة
في تقويم المؤثر والدخالة في أصله أو مراتبه وأنحائه.
{التفصيل بين أسماء المعاني والأعيان}
ويمكن التفصيل - في هذا المقام - بين أسماء المعاني والأعيان، فالثاني
يعبر به عما له شأنية التأثير; وذلك لأن الأعيان توجد قابلة للاتصاف بكل من
الصحة والفساد بعد الوجود، والحاجة ماسة إلى التسمية.
والغاية وان [كانت هو] المؤثر، إلا أن المقتضي، مما هو العمدة في الحاجة
بعد وجوده، بحيث إذا أرادوا المؤثر فعلا، قيدوه بالصحة، بخلاف أسماء المعاني
والأفعال، فإنها توجد صحيحة أو فاسدة، وليس لها بعد وجودها حالة اقتضاء
لكل من الصحة والفساد; فالداعي إلى التعبير القائم بما في صراط المؤثر، داع إلى
الوضع للمؤثر بالفعل; فلو أرادوا الفاسد أو الأعم، أقاموا قرينة المجاز، وليس مما
يقع في طريق الغرض الداعي إلى الاختراع والوضع، وأي أمر لا تقع الحاجة إلى
التعبير عنه، مجازا.
وحيث إن أسماء العبادات من أسماء المعاني، فيتعين الالتزام بالوضع
للصحيح فيها، وأن التقريب الصحيح ينتج الالتزام بالوضع للصحيح بعد الفراغ
عن تحصيل الجامع، على الصحيح، كما قدمناه.
139

{رد التفصيل المذكور}
ويمكن أن يقال: إن ما قدمناه - من البرهان من أن الاستعمال في الصحيح
لا يحتاج إلى ملاحظة العلاقة فيكشف عن الوضع له، ومعه يستغني عن الوضع
التعييني للأعم، لصحة الاستعمال مع الوضع النوعي مع القرينة - يجري في هذا
المقام أيضا، فيدفع التفصيل المذكور.
وأما الوضع التعيني فيحتاج إلى الاستغناء عن القرينة لكثرة الاستعمال
معها، وهو مختلف في الموارد وليس له حكم كلي; لكنه إن صح ما ادعيناه،
فلا يحتاج الاستعمال لأسماء الأعيان في الأعم، إلى رعاية العلاقة بينه وبين
الصحيح ولا إلى نصب قرينة، فالصحيح ما كان منها تام الاقتضاء; فلا يدخل في
اسم الدواء الخاص لعلاج المرض الخاص، شروط استعماله وتناوله، وهذا
لا ريب فيه، فالوضع للصحيح مستغنى عنه فيها; فاستعماله في المؤثر بالفعل،
كاستعمال الإنسان في العالم، ليس للوضع للخاص; بل كمال الموضوع له كنقصه
مع وجود المقوم المطلق، خارجان عن حريم الوضع; وهو الهادي.
{تحقيق حول استدلال الطائفتين بالتبادر وغيره}
ثم إنه قد وقع الاستدلال لكل من الصحيح والأعم، «بالتبادر» و «عدم صحة
السلب» و «بصحة السلب عن الفاسد» للصحيحي; مع أن الأخير مشترك بينهما إذا
كان السلب في قبال الحمل الأولي، لا الشائع المصحح للحمل والإطلاق دون
الاستعمال.
وأما صحة السلب عن الصحيح، فلم يركن إليها، مع أنها لازم الوضع
للأعم، المستلزم لصحة السلب في قبال الاستعمال في خصوصه، لا في قبال
140

الإطلاق على الصحيح إلا مع الاشتراك اللفظي بين العام والخاص، وهو خارج عن
النزاع، للزوم القرينة على التعيين، والمفروض الاستغناء عن القرينة مطلقا.
ويمكن أن يكون منشأ استدلال الأعمي بالتبادر وما يرجع إليه، كثرة
الاستعمال الإطلاقي في الفاسد; لكن الشأن، في بلوغها حد الاستغناء عن القرينة;
ولا يخلو عن قرب، لإطلاق الصلاة في عرف المتشرعة على ما لم تعلم صحته إذا
لم يحمل على أصالة الصحة في عمل الغير، أو على الصلاتية عند الفاعل المصلى
وباعتقاده.
كما أن دعوى الاستدلال بالتبادر للصحيح، إنما تتم لو أثبت شيوع
الاستعمال لا مستندا إلى القرينة، كما يرشد إليه الداعي إلى الوضع والأمر; بل لو
كان مطلق في كلام الشارع، فلا مناص عن الحمل على إرادة الصحيح، وليس
كإطلاق عرف المتشرعة المبني على المسامحات; ومع التنازع الموجب للتوقف
في الدعويين فرضا، يمكن ترجيح دعوى الصحيحي بموافقته للطريقة العقلائية
في الاختراع والتسمية، على ما مر.
{استدلال الفريقين بروايات الآثار والتحقيق فيه}
وقد وقع الاستدلال لكل من القولين بروايات الآثار; فللصحيحي
الاستدلال بأن مفادها: أن الصلاة مؤثرة بالفعل في هذه الآثار; فما لا يؤثر
بالفعل، ليس بصلاة; وللأعمي الاستدلال بأن مفادها اقتضاء الصلاة لهذه الآثار،
فالمقتضي لها صلاة وإن كان فاقدا لما يعتبر في فعلية التأثير، كما يقال: «هذا الدواء
مسهل».
لكنه يمكن أن يورد على الأول - بعد تسلم استفادة الفعلية -: أن إفادتها
141

يمكن أن يكون من طريق فهم المناسبة بين الموضوع والحكم، وأن الأثر الفعلي
يستلزم مؤثرا فعليا; فيمكن أن يكون هذا قرينة على إرادة المؤثر بالفعل،
ولا يستلزم كون المؤثر بالفعل هو معنى الصلاة بنفسها بل بالقرينة المفيدة له.
ويمكن أن يقال: إن ما فيه بيان الآثار، كما فيه: «أن الصلاة الخاصة - مثلا -
تحط الذنوب، كما تحط أوراق الأشجار» المقصود بها الجامع للشروط، ولا
عرفية للموضوع المؤثر عند العرف، لأنه متخذ من الشرع.
لكنه يقطع بأنه لو سئل عن هذه الصلاة المؤثرة: ما هي؟ ولم يسع الوقت
للجواب على التفصيل، لم يقل: «ما تعرفون أنه صلاة»، بل كان يقول: «صلوا كما
رأيتموني اصلي كل يوم وليلة»، وقد كانت صحيحة مؤثرة.
واتحاد محل الأمر والوضع، قد سبق منا ما فيه، وأن الوضع لمكان الوصول
إلى المراد في مقام الحاجة بالأمر والتفهيم، فيتحدان.
نعم، ثبوت المراتب في الأثر والمؤثر واختلاف الأصناف باختلاف
الموضوعات بل الأفراد المختلفة باختلاف الشروط كالمكملات، لا ينبغي انكاره
وليس مضرا بما نحن بصدده; كما أن استفادة الأعم تشبيها بنظائرها في ذكر
خواص الأدوية، لعلها من الاستعمال مع القرينة، لوضوح اعتبار الشروط الاخر
في الفعلية وليست من الاستعمال بلا قرينة مع ما مر من اتجاه التفصيل المتقدم;
والاستعمال لا يفيد الوضع إلا مع العلم بعدم القرينة وعدم قرينية الموجود.
{تمسك القائل بالصحيح بالإطلاق، ليس دليلا على الوضع للأعم}
كما أن الاستدلال للأعم، بالاتفاق العملي على التمسك بالإطلاقات، حتى من
الصحيحي، فهو أعمى من حيث لا يشعر، كما افيد - يمكن منعه، مع إنتاجه -
142

لو سلمت الدعوى - بما لا يرد عليه عدم كون المسألة مما يؤثر فيه الإجماع; فإن
عرف المتشرعة لا يمكن مخالفته مع اتفاق العلماء الذين يقطع بعدم جهلهم
بالثابت في هذا العرف.
وأما وجه المنع: فهو أن الإطلاق المقامي ثابت على القول بالصحيح أيضا،
كما مر.
كما أنه يمكن دعوى الإجمال مع الأعم - على تقدير تسلم الجامع - بأن
المؤثر الشأني أيضا غير محفوظ عن الزيادة والنقصان، فيلزم الإجمال; وهو وإن
كان ممنوعا بما مر، إلا أنه مع التسلم، يمنع عن الإطلاق الكلامي دون المقامي،
على أحد الوجهين المتقدمين; والآخر جواز كونه كلاميا، لأن الكلام الدال على ما
يعتبر فيه، هو محل بيان ما له دخل، وقد فرض عدم البيان وأن التقييد أعم من
الدخل في تحقق الصلاة مثلا أو في صحة الصلاة المحققة.
{رد إيراد على القول بالأعم}
كما أن المنع عن أدلة الأعمى - بأن مقام الثبوت فيه غير معقول، لعدم تعقل
الجامع - لا يكون بحجة إذا ادعى الأعمي تعقله; بل لو تمت الأمارة للوضع
وجودا، كشفت عن معقوليته، لأنا لم نتعقل الجامع بنفسه، لا أنا تعقلنا استحالته
بمجرد عدم إمكان انطباق الشيء على القليل والكثير، على التسوية في التقويم،
مع إمكان دفعه بما قدمناه، مضافا إلى أنه مشترك الورود بعد التأمل بين القولين;
وقد مر الجواب عنه بأن مساواة الناقص والزائد في الصلاتية أو في الصلاة
الصحيحة، ليست في حق صنف واحد من المكلفين، فلا محذور فيها، فتدبر.
وأما الاستدلال للأعم بعدم صحة السلب عن الفاسد، فالمراد به عدم صحة
السلب الملازم هذا العدم لصحة الحمل إطلاقا; فإنه أمارة الوضع للأعم، لو لم
143

يكن مستندا إلى القرينة، ولم تكن أمارة على ما ينافيه من الوضع لخصوص
الصحيح وصحة الحمل عليه حتى استعمالا.
وقد مر التفصيل وأنه - أي عدم صحة السلب - إنما يسلم في أسماء
الأعيان، وقد مر التعيين إذا تعارضت الأمارتان بحسب الدعويين.
{القول باسقاط التبادر عن الدليلية في المقام ودفعه}
وأما دفع الاستدلال بالتبادر مطلقا - لخروج العرف عن الأوضاع المختصة
بالشرع - ففيه: أن عرف الشارع المكشوف بعرف المتشرعة، هو الملحوظ في هذا
التبادر، وشروط التبادر عند العرف في الأوضاع العرفية، جارية في التبادر في
أذهان المتشرعة، والنتيجة ثابتة فيهما; فالمنع عن إنتاج التبادر هنا دون الأوضاع
العرفية، غير متجه.
{القول برفع الإجمال بالأخبار وما يرد عليه}
وأما رفع الإجمال - حتى على الصحيح بواسطة الأخبار البيانية الواقعة في مقام
بيان الأجزاء والشروط، كصحيحة «حماد» في الصلاة لقوله (عليه السلام) فيها: «هكذا
صل» (1) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوضوء البياني: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (2)
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «خذوا عني مناسككم» (3) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما روي «صلوا كما رأيتموني
اصلي» (4) - فقد يورد عليه: بأنها أيضا من المجملات، للقطع بالاشتمال على

(1) الكافي 3: 312، والبحار 85: 279.
(2) الفقيه ج 1، ص 38 ح 76.
(3) عوالي اللئالي 1: 215.
(4) تقدم في الصفحة 89.
144

المندوبات، فلا تميز الواجب من الندب ولا يعلم المشار إليه بقوله (عليه السلام): «هكذا» أو:
«هذا وضوء».
ودعوى الحمل على الوجوب فيما لم يعلم فيه بالندب ولو بدليل آخر،
مدفوعة: بأنها في مقام بيان الصلاة بحدودها الداخل فيها المستحبات قطعا; وكذا
الوضوء المستمر عليه عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا صلواته لم تكن خالية عن المكملات
عند التسليم مثلا; فالظهور في وجوب المجموع ضعيف، لا أنه تام في غير ما ثبت
عدم وجوبه ولو بدليل منفصل.
نعم، لا مانع عن استفادة البيان، لعدم وجوب مالم يتبين فيها، مما لو كان،
لما غفل عند الراوي، لا مطلقا مما كان الابتلاء به عاما أو واقعا فيما نقل فيه العمل.
وبالجملة: فاستفادة الحصر من قوله: «هكذا فصل» إضافي بالنسبة إلى عمل
الراوي وأمثاله، الذي لم يكن خاليا عن الواجبات، بل عن خصوص بعض
المكملات، وبالإضافة إلى عمل العامة في الوضوء، المبائن لما في عمل الخاصة
وأهل الحق، لا حصر حقيقي إلزامي مطلق إلا في خصوص محتمل الجزئية أو
الشرطية لما ليس في تلك الأعمال المحكية على الوجه المتقدم.
{المناقشة في ورود المطلقات في مقام البيان ودفعها}
وأما المناقشة في ورود جميع مطلقات العبادات في الكتاب والسنة، في مقام
البيان، فلا يختص عدم جواز التمسك بالإطلاق فيها بالقول بالوضع للصحيح، بل
الأعمي أيضا لا يمكنه التمسك بالإطلاق بأنها في مقام أصل التشريع، ولذا لم
يذكر فيها شيء من القيود أو ذكر بعضها المقصود بيان ذلك البعض خاصة -
فيمكن المناقشة فيها: بأن البيان اللازم هو مطلق البيان ولو كان منفصلا، لا البيان في
145

شخص مجلس الخطاب، وعليه فجميعها، مما قصد بيانها ولو في مقامات اخر
قبل وقت الحاجة أو بعد التمكن منه. وهذا لا ينتج الإهمال، بحيث لو تفحص في
جوامع ما وقع فيها البيان فلم يظفر، لا يمكنه الأخذ بإطلاق تلك المطلقات
المقصود بيانها ولو في غير مجلس الخطاب بما له دخل في الأمر بنحو، بل
المقصود بها كلا، البيان، وإن كان بيان بعض المطلوب في هذا المجلس
والأبعاض الاخر في غيره; وبعد ضم ما في آخر الجوامع إلى أولها، يكون الجميع
كالمذكور في مجلس واحد; فيؤخذ بإطلاق المنضم والمنضم إليه فيما يقبل
الإطلاق على أحد الوجهين السابق ذكرهما من الكلامي أو المقامي.
وأما ما وقع فيه بيان بعض القيود، فإطلاق المذكور فيها من القيود لجميع
الخصوصيات المفروضة فيها، أمر واضح.
146

في أسامي المعاملات
بقي الكلام في أسامي المعاملات.
وقد عرفت اشتراك الدليل على الوضع للصحيح بينها وبين أسامي
العبادات، وأن بعضها المغاير في وجه الاستدلال - كالمشروط بالقبض أو التقابض
في بعضها - متحد مع غيره في فهم الموضوع له.
{التفصيل بين الموضوع للمسبب والموضوع للسبب وما فيه}
ثم إنه قد يقال: بأنه إن كانت الأسامي موضوعة للأثر المسبب، فلا مجرى
فيها للنزاع; فإن المسبب إما أن يوجد أو لا، وليس له أثر إنشائي، ولا ينشأ به أمر
آخر، وترتب الحكم عليه، بترتب الحكم على موضوعه، لا المسبب الإنشائي
على سببه.
لكنه يمكن التمسك بالإطلاق فيها على هذا التقدير، وإن كان خارجا عن
مورد النزاع، خروجا عن إجراء أصالة العدم عند الشك في تحقق ذلك الأثر
المسمى فرضا بالبيع، بنفس التقرير الآتي، للتمسك بالإطلاق بناء على الوضع
للصحيح - أي المؤثر فعلا - وإن كانت أسامي للأسباب، كما يرشد إليه تفسيرها
بالعقود.
إلا أن يقال: إن لزوم القصد في التسبب وتعلق القصد بالمسبب، يقتضي كون
المسبب إيجاديا تسبيبيا، والسبب مباشريا، لا أن البيع هو السبب والمسبب أثر
147

توليدي كالاحراق للإلقاء; فالمسبب اعتبار يحصل بالإنشاء المقصود به تحقيق
ذلك الأمر الاعتباري.
وعلى أي، فالوضع للمؤثر بالفعل مقارب بحسب النتيجة مع الوضع
للمسبب، ولا إشكال في تغايرهما وجودا وأن أحدهما اعتباري إنشائي تسبيبي
والآخر مباشري تكويني.
{يصح التمسك بالإطلاق على الصحيح إلا عند الشك في المؤثر}
وعلى الوضع للأعم، لا إشكال في صحة التمسك بالإطلاق;
وأما على الأول، فقد يقاس المقام بأسامي العبادات، ويستشكل في صحة
التمسك بالإطلاق.
ويدفع: بأن الموضوع في أدلة النفوذ، سواء كان هو الأثر أو المؤثر
بالفعل، فمرجع الإنفاذ إلى إمضاء الشارع لطريقة العرف وتقريره ما عندهم; فليس
الموضوع إلا المحقق عند العرف وبحسب اعتبارهم، أو ما هو المؤثر عند العرف
في اعتبارهم; وأن المراد من ترتب الحكم عليه بالنفوذ، هو تقريره ما لديهم; وأن
الثابت لدى الشرع مماثل للثابت عندهم، أو أن المؤثر عند الشرع هو المؤثر
لديهم، إذ لا يكون موضوع التقرير إلا ذلك.
ومما ذكرنا ظهر عدم الفرق بين تسمية الأثر بالبيع أو المؤثر بالفعل، في هذا
الإطلاق.
{تقرير الإطلاق الكلامي في المقام}
بل يمكن أن يقال: إن الإطلاق في التقديرين كلامي، لا مقامي، ولو قلنا بأن
148

الإطلاق في العبادات على الوضع للصحيح مقامي، لأن حكم الثابت لدى العرف
أو المؤثر عند العرف في اعتبارهم - أي في كونه موضوعا لاعتبارهم ومحققا
لاعتبارهم - هو الثبوت أو التأثير التقريري من الشرع; فالثابت عرفا بأي سبب
عرفي، ثابت شرعا; وأي سبب يؤثر عرفا في المسبب، يؤثر شرعا فيه; فالتقييد من
الشرع، مخالفة من جهة منافية للتقرير المطلق، لا يصار إليها إلا مع البيان; ومع
عدمه، فالإطلاق بمقدماته يقتضي الحكم بالتقرير المطلق في قبال الردع
والتخطئة، أو التأسيس، أو مطلق التقرير.
نعم، لو شك في المؤثر عند العرف ولو كان المشكوك العرف السابق الثابت
في زمان صدور الخطابات، لا يمكن التمسك بالإطلاق حتى المقامي، كما
لا يخفى. ومثل هذا الشك يختص بالمعاملات ولا يتأتى في العبادات، لعدم
الطريق للعرف إلى فهم المخترعات الشرعية.
ودعوى الوضع للمؤثر الشرعي المستلزم للحقيقة الشرعية في المعاملات،
كما ترى.
ومثل ما ذكر، صورة الشك في مقومات البيع العرفي أو المبيع المقصود
بيعه، فضلا عن صورة القطع بالانتفاء في عدم جواز التمسك بالإطلاق، كما هو
ظاهر.
فتحصل: أن مقتضى مثل) أحل الله البيع ((1)، أن الثابت البيعي العرفي، ثابت
عند الشرع; وأن المقرر مقرر في البيع الغير الربوي، ومخطئ في البيع الربوي; وأن
شيئا من التصويب - أعني التقرير - والتخطئة - أعني الردع - غير منوط بضميمة إذا
كان المقام مقام البيان على ما قدمناه; فلا فرق في جواز التمسك بالإطلاق بين

(1) البقرة: 275.
149

اختيار الوضع للمسبب لدى العرف، أو للسبب الأعم، أو للسبب المؤثر بالفعل
عرفا.
{رد نظرية عدم الرجوع إلى العرف في المصاديق}
وعلى ما ذكرنا يظهر: أن توهم عدم الرجوع إلى العرف في المصاديق وأنه إنما
العرف مرجع في المفاهيم، لا يخفى ما في تطبيقه على المقام; فإنه لا يخلو عن
الخلط، لأن الرجوع هنا في التسمية العرفية، من طريق التبادر وغيره; وأن
الموضوع له هو الأثر أو السبب الأعم أو الصحيح.
بل الأخذ بالإطلاق من طريق عمل العرف، ليس رجوعا في تعيين
المفهوم من طريق العرف الذي يجوز، ولا رجوعا في تعيين المصداق من
طريق العرف الممنوع; بل حيث إن طريقة العرف مستقرة على المعاملات
التي هي مسميات عندهم للأسماء المعهودة، وعلى اعتبار السبب في عدة
من الأسباب، كان التسمية لأي شيء وقد قرر الشارع بعض المعاملات
العرفية؟ فعلم أن موضوع تقريره هو عملهم المغاير لتسميتهم، كان الدال
على الموضوع مستعملا فيما وضع له، أو [في] غيره مجازا مع القرينة; فإن
التسمية، لاعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى في الانتقال الذهني; والعمل،
للوصول إلى المنافع التي هي غايات للمعاملات; فكون اللفظ موضوعا للمؤثر
عرفا أو لا، أمر; وكون المؤثر عند الشرع هو المؤثر عند العرف فيما لم يبين
خلافه، أمر آخر.
ودليل الثاني، هو مقدمات الحكمة المبنية على التخطئة أو التصويب،
بالردع الإرشادي أو الإمضاء كذلك، ودليل الأول هو التبادر ونحوه.
150

{تفصيل الكلام في أسامي المعاملات}
تفصيل الكلام في أسامي المعاملات. وتوضيحه، أنها إن كانت أسامي
للمسببات - كما هو الأظهر - فهي حينئذ لا تتصف إلا بالوجود والعدم، لا بالصحة
والفساد، وسيأتي بيان صحة التمسك بالإطلاق في هذا الفرض وعدمها.
وإن كانت أسامي للأسباب - كما يرشد إليه تعريفهم لها بالعقد الخاص
وبالايجاب والقبول الدالين على كذا، ولعله لمكان الملازمة المصححة للإطلاق،
خصوصا مع كون ما هو البيع بالحمل الشائع مثلا مسببا توليديا للإنشاء الخاص
الذي لا يشاهد غيره - فهي تتصف بالصحة والفساد.
وحيث إن الأظهر في هذا الفرض هو الوضع للصحيح، للتبادر المتقدم
المبني على الملازمة، ولبعض ما مر في وجه المختار في أسامي العبادات،
فللبحث عن صحة التمسك بالإطلاق مجال.
{عدم المخالفة من الشارع في مقام البيان، دليل الموافقة}
فنقول: لو احرز مقام البيان، ينزل كلام الشارع - في ترتيب الحكم على
المعاملة - على أنه بلحاظ الشرع والعرف واحد; فالمؤثر عند الشرع وما هو بيع
عنده، نفس المؤثر عند العرف وما هو بيع عندهم، وليس له اختراع في هذا
الموضوع وإلا لكان عليه البيان، لفرض عدم قصد الإهمال والإجمال، وإيراد
الحكم على المتيقن بالنسبة إلى موارد الشك; فنفس عدم بيان المخالفة، بيان
عقلي للموافقة بين النظرين في ماهية هذا الموضوع; مع أن المفهوم من أدلة
الأحكام، إمضاء الطريقة العرفية في غير موارد بيان المخالفة، ولا معنى للإمضاء
الظاهر مع المغايرة المحتملة.
151

{تعلق الوضع بالمؤثر الواقعي أو العرفي}
وهل يكون اللازم [هو] الوضع للمؤثر عند العرف فعلا أو لذات المؤثر، أو
يكون المحمول عليه ما في كلام الشارع، ما هو مؤثر بنظره; فيكون مقتضى
الإطلاق في دليل إمضاء السبب، أن المؤثر عند العرف يترتب عليه الأثر الشرعي
بلا قيد، ولازمه كون المؤثر عند الشرع في اعتباره هو المؤثر عند العرف في
اعتبارهم وتوافق الاعتبارين موردا، كما يمكن استفادة ترجيحه في كلام
الأستاذ (قدس سره) (1).
وعليه، فلا يدور المفهوم من الخطابات الشرعية بما هو الموضوع له، على
الصحيح أو على الأعم. ومنشأ الاحتمال الأخير أن الوضع، لما هو المؤثر واقعا،
ومخالفة الشارع تخطئة للعرف في اعتبار الملكية عند سبب خاص، وموافقته
إمضاء في رؤية البيع الخاص وملاك الاعتبار فيه (2); فإذا لم يبين الخلاف علم أن
المؤثر عنده وفي اعتباره هو المؤثر بنظر العرف وفي اعتبارهم; فإذا أحرز البيع
العرفي، ترتب عليه الحكم الشرعي، إذ مع كونه بيعا شرعا ومؤثرا عند الشرع ولو
بمعرفية كونه بيعا عرفا ومؤثرا عندهم، لا يحتمل اعتبار شيء في ترتب الأثر عليه -
وجهان أقربهما الثاني، وفاقا للمحكي عن «هداية المسترشدين» (3) الموافق لما
في «الكفاية» (4) وقد ذكرنا ما ينقح ذلك في بعض ما حررناه في المقام.

(1) نهاية الدراية 1: 136.
(2) ولا يخفى أن المسبب إذا كان واقعه الاعتبار، فلا يمكن فيه إصابة بعض أهل الاعتبار وخطأ
بعض، إلا بأن يكون الاعتبار بالسبب الخاص عند بعضهم ذا ملاك واقعي مصحح لذلك
الاعتبار وعند آخر جزافا غير ناش عن مصحح. فلذلك يفترق الشرع في بعض الموارد مع
العرف في الامور الاعتبارية.
(3) هداية المسترشدين: ص 100، ط: الحجرية.
(4) كفاية الاصول: ص 32 و 33، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
152

{التمسك بالإطلاق في الفرض على القولين}
وقد بينا أن الإطلاق يتبع المراد الاستعمالي دون الوضع; فمع تعيين المراد
ولو كان بالقرينة ولو كان من سبك مجاز من المجاز، صح التمسك بالإطلاق
وكفانا ذلك.
وقد ظهر أن معلومية الإمضاء لما عند العرف والإشارة إلى المعاملة
المعهودة، فيها الغنى عن تعيين الموضوع له بتعين المراد الاستعمالي، إلا إذا
شك في المشار إليه وأنه المسبب الثابت بالإمضاء أو السبب المؤثر بالإمضاء.
وفي هذا الفرض يتمسك بالإطلاق المقامي مطلقا، والكلامي على الإشارة إلى
السبب، على الأعم، أو إلى المسبب بالتخصيص بالعلة والإطلاق في قباله، كما
ذكرناه.
وأما على الإشارة إلى السبب واختيار الوضع للصحيح، فيقال: إن الصحيح
عند العرف معرف للصحيح عند الشرع، ولو كان معرف غيره، لبينه، إلا إذا كان في
مقام الإهمال، والفرض خلافه; فالإجمال في الفرض في غير العبادات ممنوع،
فتدبر.
ولا يلزم من ترتيب الأثر على المؤثر، الضرورة بشرط المحمول، لأن المراد
أن مجموع الامور المؤثر اجتماعها في تحقق الأثر لدى العرف، يترتب عليه الأثر
عند الشرع كالعرف، تصويبا من الشرع للطريقة العرفية، أو موافقة لاعتباره مع
اعتبارهم موردا; فالتأثير في نظرين يمكن الانفكاك فيهما.
وعلى أي، فمع الشك في الشرائط العرفيه، لا يتمسك بالإطلاق إلا على
القول بالوضع للأعم، أي لذات ما هو المؤثر واقعا المكشوف كونه ذات المؤثر
153

عند العرف، أو لذات ما هو المؤثر عند العرف.
{انحصار الإطلاق الكلامي في القول بالأعم}
ولا يخفى أن الإطلاق لا يكون كلاميا إلا على القول بالوضع للأعم،
المنحصر في تقدير القول بالوضع للسبب، وإلا فالإطلاق مقامي لا محالة، إذ ليس
في الكلام في دليل الإمضاء ما يعلم أن له صورتين، ينتج الإطلاق عموم الحكم
لهما، سواء كان الموضوع نفس المسبب أو السبب المؤثر عند الشرع أو واقعا; وقد
مر تقريب الإطلاق بأقسامه فيما سبق.
وأما بناء على ما تقدم من الوضع للمسبب، وأن أدلة الإمضاء واردة على
تقرير المسبب الذي لا يرتفع الشك في دخالة شيء في تأثير السبب بمجرد إثبات
المسبب وتقريره وترتيب الحكم عليه، للشك في وجود المسبب بالشك في تأثير
السبب الخاص. وحيث ليس الفرض جواز الإهمال على المتكلم بأن يكون
الغرض تشريع المسبب الثابت لدى العرف وإبقائه على ما هو عندهم من دون
تكفل لبيان السبب وتشريعه وإمضائه; وبالجملة: فالفرض إحراز مقام البيان، وأنه
لو كان الشارع مختصا بمصداق للسبب الصحيح لو كان هو المراد، أو بسبب
للمسبب الذي قرره وأثبته، كان عليه البيان; فحينئذ يحمل ما بينه، على ما عندهم
فيما يكون مصداقا للسبب.
ولا اختلاف للنظرين في السبب الصحيح الموضوع للإنفاذ، أو فيما يكون
محققا للمسبب الموضوع للتثبيت والتقرير، وأن محققه عنده ما هو المحقق
عندهم، لعدم امتيازه بسبب ينفرد به عن العرف وإلا كان مبينا لجهة الامتياز للسبب
النافذ عنده أو للسبب المحقق لما أثبته وقرره، فتدبر.
154

{تقرير للاطلاق الكلامي والمقامي}
ويمكن تقرير الإطلاق الكلامي بدعوى تحصص المعلول بسبب علله
كمقارناته. ولازم تقرير الطبيعي تنفيذ جميع حصص العلل وإلا لزم عدم تقرير
جميع حصص المعلول، لعدم الإطلاق، للإهمال أو لعدمه إلا في شؤونه
وعوارضه الوجودية دون إضافاته من قبل علته أو غيرها أو عدم كونه شموليا.
ويمكن تقرير الإطلاق المقامي في فرض منع التحصص النافع في الإطلاق
إلا فيما يرجع إلى شؤون الطبيعي وعوارضه الحقيقية، لا في إضافاته الاعتبارية;
مع أن المنع المذكور ممنوع هنا - كما لا يخفى - بدعوى أن الأثر حيث كان تسبيبيا لا
مباشريا; فتقريره بإثباته أو بترتيب الحكم المناسب لثبوته مع عدم بيان السبب
وعدم تعلق الغرض بالإجمال، يكشف عن وحدة السبب عند الشرع مع السبب
لدى العرف، وأن ما يراه العرف بيعا هو الذي يراه الشرع بيعا وإلا كان مبينا
للمخالفة بين الاعتبارين، أي بين النظرين في الواقع المختلف فيه بثبوت مصلحة
الاعتبار وعدمها.
ويكتفي بهذا الإطلاق المقامي لنفي الشك في اعتبار شيء في السبب، لعدم
اعتباره فيه عرفا فيما لم يقع الشك في الشرائط العرفية، بخلاف صورة الوضع
للسبب، للحاجة إلى اطلاقين فيها، كما مر.
وكأن ما في «الكفاية» (1) مبني على اختياره الوضع للسبب، ولذا لم يتعرض
لبيان صحة التمسك بالإطلاق إلا في تقدير القول بالوضع للصحيح، المنحصر
جريانه في تقدير القول بالوضع للسبب. وهو الذي نقل الاستاذ (قدس سره) في تعليقته (2)،

(1) كفاية الاصول: ص 32.
(2) نهاية الدراية 1: 138 - 140.
155

تقريب الإطلاق بما يقرب مما في «الكفاية»، عن «هداية المسترشدين» (1)،
وتكلم فيه بما لا يخلو عن فائدة علمية، وإن كان يمكن تسوية الملاك الذي قرره
في تصحيح الإطلاق بأدنى تغيير متقدم، إلى تقدير القول بالوضع للمسبب.
{إمكان التمسك بالإطلاق المقامي على القولين}
ثم إنه ظهر مما قدمناه: إمكان تصحيح التمسك بالإطلاق المقامي، على كل
من القول بالوضع للسبب، المختار فيه الوضع للصحيح، والقول بالوضع
للمسبب، كما يتمسك بالإطلاق الكلامي في خصوص تقدير القول بالوضع
للسبب مع اختيار القول بالوضع للأعم، إلا على ما مر من التحصيص بالعلل،
حيث إن إطلاق المسبب عليه كلامي أيضا.
وقد مر إمكان فهم الصحيح عنده من قبل معرفية الصحيح العرفي، فيكون
الإطلاق كلاميا أيضا.
{لو ثبت أن الإمضاء غير لفظي فلا يحتاج إلى التفصيل}
وأما الكلام في دليل الإمضاء، فيمكن أن يقال: بأنه يتم الاستدلال بمجرد عدم
الردع الخصوصي عن الطريقة المستمرة العقلائية بالنسبة إلى المعاملات الجارية
المتداولة قبل الشرع وبعده، بحيث يعلم عدم ارتداعهم بمثل النهي عن اتباع غير
العلم برفع اليد عن عملهم في تلك المعاملات في غير ما ثبت الردع الخاص من
الشارع; فمجرد عدم الردع الخاص فيما لم يثبت، يكون دليلا على التقرير

(1) تقدم في الصفحة 152.
156

والإمضاء للمعاملات بالطرق العقلائية والأسباب التي يتوصلون بها إلى مقاصدهم
منها.
وحينئذ، فلا لفظ محتاج إليه في دليل الإمضاء حتى يبحث عن أن المراد به
المسبب أو السبب، وعلى الثاني، الصحيح أو الأعم; وأن إطلاق دليل التقرير
مقامي إلا في الأخير.
واستمرار عمل العقلاء - من المتشرعة وغيرهم - على معاملاتهم بعد الشرع
على ما عليه قبل الشرع في غير موارد المنع الخصوصي وحاجة الارتداع إلى ردع
خاص بسبب هذا الاستمرار الذي هو أقوى من كل ما يستمر العمل عليه - مما هو
واضح لدى كل عاقل. والعبرة بسيرة المتشرعة من العقلاء بعد مجيء الشرع، وإن
كانوا في معاملاتهم حدوثا تبعا للعقلاء وبقاء لهم أيضا بتخلل تصرفات من
الشرع، كما لا يخفى.
نعم، يحتاج إلى البحث عن الأقوال المتقدمة في [أن] الوضع للمسبب، أو لا،
وللصحيح، أو لا، فيما إذا تمسكنا للإمضاء، بالأدلة اللفظية، مثل قوله تعالى:
) وأحل الله البيع ((1); وقوله تعالى:) أوفوا بالعقود ((2); وقوله تعالى:) إلا أن تكون
تجارة عن تراض ((3); فإنه إن اريد بالبيع، المسبب أو السبب مع الوضع للصحيح،
تعين التمسك بالإطلاق المقامي على المعروف الذي مر البحث فيه في
التقريرين; وإلا فالكلامي، فيما كان الإحلال بمعنى الإنفاذ، ولو بمعونة ملاحظة أن
البيع والربا مما لا يقصد بهما إلا حصول المسبب; فلا يراد من التجويز والمنع إلا
التنفيذ وحصول المقصود وعدمه.

(1) البقرة: 275.
(2) المائدة: 1.
(3) النساء: 29.
157

وكذا إن تعلق بالمسبب من جهة تبعيته لوجود تمام السبب، فلا يكون
الإحلال حينئذ إلا الإرشاد إلى الحصول، وفي قباله التحريم في الربا; وفيهما
يستفاد الإرشاد إلى الصحة وتقريرها، لا الصحة التعبدية الاختراعية; ومثل
الصحة، الحصول اللازم لنفوذ السبب.
فهذا، إن استظهرنا الإرشاد إلى الصحة والفساد من الاحلال والتحريم بما
مر. ولكن إن حمل على التكليف، فإن كان المنهي عنه أو الحلال، الصحيح ولو
بعد النهي أو الاحلال، كشف عن الصحة في المقامين، بخلاف ما لو اريد الصحيح
لولا النهي أو الأعم من الصحيح.
وأما لو كان الإحلال تكليفيا وتعلق بالمقدر من التصرفات وكذا التحريم،
فالدلالة على الصحة في البيع والفساد في الربا واضحة; كما أن دلالة آيتي «التجارة»
و «الوفاء» على الصحة مطلقا، أو في المتعارف من التجارات والعقود، واضحة.
والفرق مع آية إحلال المسمى بالبيع، في ارتكاب التخصيص بالنسبة إلى
موارد ثبوت التقييد بما يساعده العرف في معاملاتهم على الإطلاق في التجارة
والعقود، والتخصص على التقييد بالعرفية; فإن فاقد القيد العرفي ليس ببيع عرفا
وإن كان عقدا وتجارة كتعين التخصيص في القيود الشرعية، فتدبر.
158

الفصل الثالث
الاشتراك
وقد جعل من المبادئ التصديقية اللغوية، لتوقف الحمل فيه على
الموضوع له، على إمكانه ووقوعه، والبحث هنا عن إمكانه.
{ادعاء استحالة الاشتراك وما فيه وإثبات الإمكان}
وقد يدعي استحالته، لاستلزامه انتقالين دفعة واحدة فعلا مع تعدد القرينة
على الإرادة; وفيه - مع ابتنائه على إمكان الإرادة الاستعمالية للأكثر في استعمال
واحد ومحله البحث الآتي في الفصل اللاحق، والكلام هنا في الوضع للأكثر
إمكانا ووقوعا، وكذا لو جعل البحث في علية التلفظ بالواحد لمعلول متعدد
وانتقالين متعددين; فإن العلة هنا ما به الوجود ومن المعدات، لاتمام العلة التامة،
ولا يجري فيه محذور تعدد المعلول لعلة واحدة مع أنه يرجع إلى البحث الآتي
أيضا - أنه لا محذور فيه; فإن الطرفين في حال النسبة وزمانها، حاضران في الذهن
في زمان واحد; فلا محذور من تصورين للنفس الواحدة في زمان واحد، وإن قيل
بالمحذور في صورة وحدة الدال الموجب للانتقال من دون اختصاص بالمشترك
لعمومه للحقيقة والمجاز والدفع دخالة قرينة التعيين وقرينة المجاز في الدال
بالفعل.
ومن الشواهد على الإمكان، تواتر النقل على الوقوع في اللغات، كما هو
159

ظاهر. وبقية الإشكالات مع أجوبتها، مذكورة في سائر كتب الاصول.
{وقوع الاشتراك ورد دعويين}
والحق وقوع «الاشتراك» و «الترادف»، ويشهد له ثبوت العلامات الكافية
في الوقوع ولو بنحو تساويها بالنسبة إلى جميع المعاني المتغايرة الغير المناسبة.
ودعوى وجود الجامع بينها وإن كان مخفيا - كما ترى - غير معقولة بنحو
معقول لأهل اللسان، في المتضادين الواقع فيهما الاشتراك أيضا; مع أن وجود
الجامع، لا يدل على الوضع للجامع المشترك معنى - كما في الاعلام الشخصية -
لافراد طبيعة نوعية واحدة.
ودعوى أن لازم الاشتراك، فعلية الانتقال دفعة إلى كلا المعنيين، وهو غير
لازم عندهم ومحال عند بعضهم، مدفوعة بأن الوضع، لشأنية الانتقال; وفعلية
الانتقال موقوفة على عدم قرينة المجاز، وعلى قرينة التعيين ولو كانت قرينة على
عدم إرادة المعنى الآخر، ولو مثل عدم تناسب الحكم الخاص مع المعنى الآخر.
فلو لم يكن الاشتراك، يلزم الحمل على أقرب المجازات إلى ذلك المعنى
المنفرد فرضا، بخلاف ثبوت الاشتراك.
{عدم البأس بالإجمال اللازم للاشتراك}
والاجمال عند عدم القرينة رأسا - كإثبات الحكم للمردد بين شيئين مثلا
لسلبه على الثالثة - قد يكون مما يحتاج إليه العقلاء; مع أن البيان والإجمال
إضافيان، فقد يبين للبعض ويحال غيرهم إليه لحكمة جعل الوسائط، كما في
المتشابهات وما لا يعلم من القرآن إلا من طريق الأوصياء «صلوات الله عليهم».
160

نعم لا يبعد - بنحو الإيجاب الجزئي - أن يكون تعدد الأوضاع، من الطوائف
المختلفة من أهل لغة واحدة في أمكنة متباعدة أو أزمنة متفاوتة.
ويمكن أن يكون قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «نزل القرآن على سبعة أحرف» (1) يراد به
مميزات السبعة من طوائف اللغة العربية، وأن في القرآن اختصاصات جميعهم في
اللغة العربية.

(1) الخصال 2: 358، البحار 92، الباب 8، وتفسير الصافي: ص 28 و 52، ط: مشهد الرضوي.
161

الفصل الرابع
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
في إمكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وامتناعه.
{ماهية البحث}
وكونه من المبادئ التصديقية اللغوية، لتوقف التصديق بتعين حمل اللفظ
على معناه مع التعدد، على إمكان الحمل في صورة تعدد المراد; وإلا فإما لا يحمل
على الممتنع، أو يتعين ارتكاب التجوز مع تعين الحمل بالحمل على كل واحد
مجازا، وليس مثله مما يصار إليه في موقع الدوران والتردد، لعدم جريان أصالة
الحقيقة، لفرض عدم الإمكان مع الحقيقة; وفرض التجوز، فيما يمكن.
{احتمال عدم ترتب الثمرة على البحث ودفعه}
نعم يمكن أن يكون القرينة على التجوز مقدمات الحكمة، لعدم القرينة
على التعيين في البعض، ولا على إرادة البعض دون الكل، وتساوي الكل في تعلق
الإرادة الاستعمالية وعدم تعلق الغرض بالإجمال، بل بالبيان; والمفروض امتناع
إرادة الكل على الحقيقة، فيتعين التجوز.
فعليه لا ثمرة للبحث، لأنه مع القيود المتقدمة، يتعين الحمل على الكل،
162

أمكن أو لا; فعلى الإمكان يكون الاستعمال حقيقيا، وعلى الامتناع مجازيا، لأن
كلا المعنيين أقرب المجازات بالنسبة إلى كل منفردا.
لكنه يمكن الدفع بأن البرهان على امتناع استعمال لفظ واحد في أزيد من
معنى واحد، يعم الحقيقيين والمجازيين والمختلفين; فامتناع الأول لا يسوغ معه
الحمل على الثاني، بل مع الفرض المتقدم يتعين الحمل على المعنى المراد ولو
بقرينية أقربية أحدهما بحد لا تكون قرينة في تقدير الإمكان، بل مع الامتناع
والقيود المتقدمة، أو يحتاط عملا مع عدم الأقربية أو عدم الاكتفاء بها، أو يلتزم
بالإجمال عندنا، وإن كان المتكلم معذورا لاعتماده على مالم نفهمه، في قبال
إخلاء اللفظ الصادر من العاقل عن المعنى على الإمكان، إذ مع الامتناع وعدم
القرينة المبينة، لا محل لشيء من الحقيقة أو المجاز; فالبحث، من مبادي حمل
اللفظ على معناه المستعمل فيه، سواء كان هو الموضوع له وهو المتقدم في الرتبة،
أو المعنى المجازي بعد التنزل عن الأول.
{تقرير إشكال اجتماع اللحاظين على مبنى كون الاستعمال ايجادا}
وكيف كان فقد يقال: إن كان الاستعمال جعل اللفظ علامة على المعنى، فلا
مانع من إعلامين بلفظ واحد مجعول علامة بالوضع الشخصي أو النوعي أو بهما.
وإن كان إيجاد المعنى باللفظ، فلازمه - مع تعدد المعنى - اجتماع اللحاظين
في واحد حكما; فإن اللفظ الواحد في استعمال واحد وإيجاد واحد، ملحوظ
بلحاظين، كل منهما مقوم لاستعمال واحد وإرادة إفهام معنى واحد بذلك اللفظ.
وفيه محذور اجتماع المثلين وإن لم يكن منه حقيقة، إذ اللحاظان وجودان ذهنيان
لا خارجيان، والملحوظ ماهية الوجود الخارجي، لا الموجود الخارجي; فغاية
163

ما فيه، عدم قبول ماهية واحدة لوجودين ذهنيين كانا أو خارجيين مع التحفظ
على وحدتها بأية شخصية كانت، بل حيث كان مقوم اللحاظ صورة ما في
الخارج، فمعروض الوجود الذهني غير الوجود الخارجي، إلا أنه بنظر الملاحظ
عينه، فلا يمكن لحاظه لواحد خارجي فرضا، بلحاظين في زمان واحد.
ودعوى (1) أن الامور الذهنية تابعة للقصد، واللحاظ من هذا القبيل، فلحاظ
اللفظ آلة لمعنى ملحوظ مستقلا، غير لحاظه آلة لمعنى آخر، مدفوعة بأن معلول
العلة الغائية نفس لحاظ اللفظ، لا اللحاظ بوصف معلوليته بنحو الحيثية التقييدية
حتى يلزم تغاير اللحاظين وعدم كونهما مثلين.
{استدلال من العلامة الإصفهاني (قدس سره) على عدم الإمكان}
وقد أتى الاستاذ (قدس سره) (2)، بصدد الاستدلال عليه بوجه آخر، وهو أن اللفظ
الواحد لا يمكن أن يكون وجودا تنزيليا لمعنيين في استعمال واحد وإيجاد واحد،
لأن الوجود التنزيلي تابع للحقيقي، وحدة وتعددا; فتعدد ما بالعرض يقتضي
تعدد ما بالذات.
والوضع وإن اقتضى التعدد للواحد، إلا أنه وجود بالاقتضاء لا بالفعل.
والمحذور، في الفعلية للمتعدد بالعرض مع الوحدة لما بالذات، يعني اللفظ الذي
هو وجود بالذات للكيف المسموع وبالجعل والمواضعة للمعنى، فهو وجود
المعنى بالعرض.

(1) نهاية الدراية 1: 64 و 65.
(2) نهاية الدراية 1: 152 و 153.
164

{بيان لدفع إشكال اجتماع اللحاظين في واحد}
ويمكن أن يقال: إن متعلق اللحاظ المصحح للاستعمال وإيجاد اللفظ لتفهيم
المعنى، طبيعي اللفظ لا شخصه، ولا محذور في تعدد وجود طبيعة واحدة في
زمان واحد من شخص واحد، لغايتين متعددتين، كما نلاحظ وجودي الطبيعة في
زمان واحد، تصورا لا تصديقا، لاشتراكهما في المحذور العقلي المراد في هذا
الوجه. وتأثير لحاظي الطبيعة في إيجاد واحد، لازمه تأثير مجموع السببين
المجتمعين، في الواحد، [بحيث] لو انفردا، أثر كل منهما في إيجاده لإحدى
الغايتين; فلما اجتمعا، أثرا معا وتحققت الغايتان وهو إفهام المعنيين، والمفروض
وفاء مقام الإثبات بالإفهام.
{إثبات أن متعلق اللحاظ، طبيعي اللفظ}
وأما أن المتعلق هو الطبيعة لا الشخص، فلمكان أن المعلول متأخر
رتبة عن العلة الحقيقية، ومتعلق اللحاظ متقدم - طبعا - على اللحاظ المؤثر في
وجود اللفظ خارجا; ولا يمكن تعلق اللحاظ وأي وجود بما هو متأخر عنه
بشخصه المعلول لذلك اللحاظ، مع كون العلية حقيقية لا اعتبارية، كما في الوجود
مع الماهية; فإنه حينئذ في مرتبة وجود العلة، لا شيء تتعلق به، فضلا عن تقدمه
عليها، لفرض تأخر المعلول عن رتبة العلة; فنفس الملحوظ موجود بعين وجود
اللحاظ، ولا يمكن أن يكون المعلول موجودا بعين وجود العلة الحقيقية للمعلول
الحقيقي.
وبعبارة اخرى: متعلق اللحاظ يكون معدوما في نظر الملاحظ، ليوجده
باللحاظ المؤثر في الإيجاد، لا مفروض الوجود بأسبابه; ففرض تعلق اللحاظ
بالموجود - أي بصورة منتزعة مما في الخارج - فرض غناه عن هذا اللحاظ;
165

وفرض تأثير هذا اللحاظ، فرض معدومية متعلقه في نظره في الخارج، ولا يمكن
أن يرى الملاحظ شيئا واحدا، موجودا في الخارج ومعدوما، مترشحا عن لحاظه
وغير مترشح عنه، من دون فرق بين كون وجود الصورة وذيها متقارنين أو لا;
فلا يمكن أن يكون انتزاع الصورة، الذي هو عين اللحاظ، علة ومعلولا في نظر
الملاحظ; فحيث إنه شرط الوجود، علة; وحيث إنه متأخر عن الوجود، معلول في
نظر المستعمل; فهذا ما يجري في إشكال اجتماع اللحاظين في لفظ واحد
شخصي، ودفعه.
{بيان آخر لدفع إشكال اجتماع اللحاظين، باثبات وحدة اللحاظ}
ويمكن أن يقال: إذا تعدد داعي الاستعمال، بحيث يؤثر كل في اللحاظ المؤثر
في إيجاد اللفظ لتفهيم المعنى، يتحقق هناك لحاظ واحد متعلق باللفظ الواحد
بسببين لأجل تفهيم معنيين، ولا يلزم منه تعدد اللحاظ لملحوظ واحد في زمان
واحد من واحد، بل [يلزم] كون اللحاظ الواحد معلولا لعلتين مستقلتين يؤثر
مجموعهما في صورة الاجتماع، وكل منهما في صورة الانفراد. وحيث كان هذا
اللحاظ معلولا لعلتين، لا محالة يكون أثره إعلامين بلفظ واحد ملحوظ وموجود
بلحاظ واحد، وليس ذلك من تصحيح التعدد بالحيثيات الاعتبارية، كما هو
واضح. وقد فرضنا في هذا الدليل أن لا مانع من جهة فرض الهوهوية للفظ مع
المعنى ولا حيثية كون اللحاظين آليين، بل مجرد حيثية تعدد اللحاظ المتعلق
بواحد من واحد; وهذا الجواب أسد برهانا، فتدبر.
{المناقشة في تبعية الوجود التنزيلي للحقيقي}
وأما تبعية الوجود التنزيلي، للحقيقي في الوحدة والتعدد، فيمكن أن يقال فيه:
166

إن اللفظ - بالوضع - ليس وجودا تنزيليا للمعنى بأن يجعل عين المعنى اعتبارا،
وإنما ذلك في الإنشائيات، لا في مطلق الموضوعات، كما مر منا سابقا، وليس
البحث في خصوصها.
وإنما الوضع، اعتبار وضع شيء على شيء أو في شيء، لغاية الملازمة في
الانتقال; ولا مانع من اعتبار وضع شيء على شيئين لأن يحصل بسببه الانتقال
الذهني إليهما; وليس الاستغراق شرطا في الوضع الحقيقي بحيث إذا صدق وضع
شيء على شيء لا يصدق وضعه على شيء آخر في عرضه; فكذا في الوضع
الاعتباري الذي يكون المقوم للحقيقي مفقودا فيه وإنما الموجود الغاية بالوجه
المناسب للملازمة في الانتقال الذهني.
{رفع إشكال وحدة ما بالعرض وتعدد ما بالذات على القول بالتنزيل}
ولو تسلمنا انتاج الوضع لأزيد من ذلك، وهو الهوهوية الاعتبارية بين
اللفظ والمعنى بحيث يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى تابعا له في الوحدة
والكثرة والحصول في الذهن، فإشكال وحدة ما بالعرض وتعدد ما بالذات من جهة
عدم انتزاع الواحد من الكثير، كالعكس، يمكن دفعها بأن المستحيل وحدة الأمر
الانتزاعي مع تعدد المنشأ للانتزاع إذا كان الأمر الانتزاعي واحدا محضا، لا مثل ما
نحن فيه; فإن الدال بالفعل على أحد المعنيين، هو اللفظ المنضم إليه قرينة التعيين
اللازمة في المشترك المستعمل في الواحد أو المتعدد، وهذا اللفظ بعينه في هذا
الاستعمال دال على المعنى الآخر بضميمة قرينة اخرى تدل على إرادة المعنى
الآخر أيضا من ذلك اللفظ الواحد; فاللفظ جزء الدال بالفعل على المعنيين، كما
هو جزئه على معنى واحد، كدلالة اللفظ على المجاز بضميمة قرينة المجاز وعلى
الحقيقة بلا ضميمة.
167

بل لو تم الإشكال لم يجز الاستعمال في الواحد ولا يصححه تعاقب
الاستعمالين وتعددهما، لأن اللفظ بنوعه لا يكون عين معنى تنزيلا وعين آخر
كذلك، لتبعية التنزيل للواقع، فيلزم إمكان اتحاد المتعدد الواقعي في الواقع.
والحل: أن اللفظ جزء الدال المعتبر تنزيلا، وجودا للمدلول مع ضم
القرينة، ولا مانع من جزئية واحد لدلالتين، كما أن «زيدا» واحد خارجي ومتعدد
بالعرض والاعتبار; فيصدق «الشاعر» و «الكاتب» و «الفقيه» و «الطبيب»
و «النحوي» بانضمام مبادئ متعددة يصح بلحاظها عناوين عرضية متعددة
لموضوع واحد خارجي وتصدق عليه جميعها.
فتحصل: أن اتحاد ما بالعرض مع تعدد ما بالذات، لا مانع منه إذا كان الاتحاد
بحيثيتين متعددتين; بل الدال على كل واحد من المعنيين، مركب من جزئين
أحدهما اللفظ، وبضميمة قرينة تعين واحدا، وبضم قرينة تعين المعنى الآخر;
والشاهد حصول الانتقال، وهو أخص من الإمكان; فإن المفروض وفاء مقام
الإثبات بإفادة ذلك بالقرائن، وإنما الإشكال في مقام الثبوت.
{تقرير دعوى الاستحالة بالقول بالفناء والمناقشة فيها}
وأما دعوى استلزام الاستعمال فناء اللفظ في المعنى ورؤيته عينه ولا يمكن
رؤية الشيء شيئين، فكأنها ترجع إلى دعوى الوجدان.
ويمكن تقريرها بنحو ترجع إلى البرهان، بأن يقال: اللفظ فان في المعنى بنظر
المستعمل، وبينهما الهوهوية في نظره التابع لنظر الواضع، والمعنى لا اتحاد بينه
وبين المعنى الآخر، لعدم الجامع الموجب لاتحاد ما; فاللفظ لا يمكن وحدته مع
المعنى الآخر مع هذه المغايرة لما اتحد به.
168

وسواء رجعت [هذه الدعوى] إلى الوجدان - كما قدمناه - أو إلى البرهان
بهذا الوجه، فيمكن أن يقال فيها: إن الفناء في المعنى الواحد، لازم فرض الاستعمال
في الواحد خاليا عن الشريك، فهو من الضرورة بشرط المحمول، وأما إذا استعمل
في الأكثر، فالمفني فيه مجموع الأكثر، لا كل واحد. وترتب الحكم على الكل غير
تعلق اللحاظ بكل، كما إذا لم يكن غيره ملحوظا، فتدبر.
والشاهد وقوع هذا الفناء في الدلالة التصورية، ولا فرق بينها وبين
التصديقية إلا في النسبة إلى إرادة اللاحظ، وموضوعية المراد للحكم، لا في نفس
معلول الوضع وما يرجع إلى تصور المعنى.
فدعوى استحالة الدلالة التصديقية مع اشتراكها مع التصورية، ووجدانية
وقوع التصورية، استنادا إلى أن الفناء في الشيء وفيما يباينه وقد لا يكونان تحت
جامع واحد، في قوة فناء شيء في شيء وعدم فنائه فيه، مدفوعة بما مر من أن
الفناء في الواحد في حال الانفراد، لا يستلزم الفناء فيه في حال الاجتماع، بل في
المجموع، وإن كان كل جزئيه على نحو لو كان وحده، لكان اللفظ مرآة له; بل مر
أن اللفظ علة لحضور مدلوله المراد في ذهن السامع بحضور اللفظ، كان المراد
واحدا أو متعددا، والفرض كفاية القرينة للإثبات على تقدير إمكان الاستعمال،
فلا تغفل.
وعلية العلة المعدة الناقصة الواحدة، لشيئين، أي لحضورهما في ذهن
السامع بالفعل، كما كان بالقوة بالوضع، لا يجري فيها برهان امتناع صدور الكثير من
الواحد.
{تقرير الإشكال في الإنشائيات ودفعه}
وأما ما يجري في الإنشائيات في وجه الإشكال، فهو الذي يجري نظيره في
169

تقدير القول بأن استعمال اللفظ عبارة عن جعله علامة على المعنى، في أن الأول
اعتبار شيء شيئين، والثاني تأثير لفظ واحد في إعلامين; والوجود الاعتباري
المسلم في الإنشائيات ومطلق الإيجاديات، غير مسلم في الاخطاريات، مع أنه
قد مرت حكاية عدم الإشكال على هذا التقدير في الاستعمال في الأزيد من معنى
واحد.
فيمكن أن يقال في دفع الإشكال: إن اللفظ، جزء الدال بالفعل بالعينية
الاعتبارية وبالتأثير في الانفهام، والجزء الآخر هو القرينة; فالحد المشترك بين
المعنيين معلول لنفس اللفظ، والمائز مدلول للقرينة المعينة المميزة، ولا محذور
في ذلك; فإن المستعمل في الوجوب والاستحباب - مثلا - يكون الجامع الغير
الخارج عنهما مدلولا لنفس اللفظ، والفصلان مدلولين للقرينتين، والحد المشترك
بين المعنيين المتباينين - في تقدير القول بأن الاستعمال إيجاد العلامة - بمعنى
عدم الخروج من الشيئين أو الأشياء، مدلول لنفس اللفظ الموضوع لهما أو لها،
والخصوصيات مدلولة للقرائن المعينة; فعلى ذلك لا محذور في استعمال اللفظ
في أكثر من معنى واحد.
{إشكال علية الواحد للكثير ودفعه}
ومما ذكرنا يظهر الجواب عن إشكال آخر، وهو أن لازم حضور لفظ واحد
وإحضاره في ذهن السامع وسببيته لإحضار معنيين لا جامع بينهما، علية الواحد
للكثير بلا جهة جامعة بين الكثرات تسانخ بها ذلك الواحد.
فإنه يقال: إن الدال على المعنى الواحد من المعنيين، ليس هو اللفظ وحده،
بل هو مع القرينة المعينة; فاللفظ في كل دلالة على مدلول، جزء الدال، ولا مانع
من وحدة العلة الناقصة مع تعدد المعلولات; فإن ما به صدور الإحضار في أحد
المعنيين وهو مجموع المقترنين، مغاير لما به الصدور للإحضار في المعنى
170

الآخر، مغايرة حقيقية لا يضر بها الاشتراك في بعض المقدمات الداخلية; بل
لا بأس بجعل عدم نصب القرينة على الوحدة مع مقام البيان، قرينة على تعدد
المراد، لترجيحه حينئذ على سائر الاحتمالات، وهو كاف في القرينية المنحلة لبا
إلى القرينة على إرادة كل واحد من المعنيين مع إرادة الآخر، لأن القرينة لكل واحد
حقيقة هي عدم القرينة على عدم إرادته مع إمكانها والالتفات إلى ذلك، فتحفظ.
{تصحيح استعمال المشترك في أكثر من معنى، بتعدد الدال والمدلول}
ويمكن تصحيح ما جعلوه من استعمال المشترك في الأزيد من معنى واحد
بأن يقال: بأن اللفظ المشترك إذا القى للاستعمال في المعنى، فإنما يكون له الإرائة
الفعلية لما لا يخرج عن أطراف الشبهة وهي معاني المشترك. وتخصيص المرئي
بالخصوصيات مرئي ومستفاد من القرينة لفظية كانت أو غير لفظيه; فهناك دالان
ومدلولان ولو في الاستعمال في معنى واحد محتاج إلى قرينة التعيين.
ومثله الحقيقة والمجاز، بل مثله الحقيقة الموقوفة على عدم قرينة المجاز;
فيكون هذا العدم كالقرينة وإن كان عدميا، ويكون فعلية الأمرين بضم أمر عدمي
إلى أمر وجودي، ويكشف عن عدم القرينة عدمه في مظان الوجود بعد الفحص.
ومثله المجاز المتوقف على القرينة على تخصيص الموضوع له النوعي
بخصوصية موافقة للقرينة الوجودية.
ومثل ذلك قرينة التخصيص والتقييد في أن الدال على العام والمطلق غير
الدال على التخصيص والتقييد.
وكون الدال عقليا في بعض المقامات، لا يضر بما نحن بصدده; فالدال في
جميع الصور متعدد والمدلول المرئي به أيضا متعدد، لا أن الدال واحد والمدلول
171

متعدد حتى يقال: إنه لا يتمشى من غير الأحول.
نعم، لازم ذلك إنكار موضوع البحث في استعمال المشترك في أزيد من
معنى كما هو واضح.
{تأئيد الجواز بالإشارة ونحوها}
ثم إنه يمكن تأييد الجواز - مضافا إلى ما ادعى من الوقوع في الأشعار
والحكايات - بالوقوع في الدلالات الغير اللفظية، كالإشارة والكتابة ونحوهما; فإنه
لا يتوهم الامتناع في هذا المقام في جعل أمر واحد علامة لأمرين متباينين، كما إذا
جعلت استقامة العلم علامة لدخول الخارج وتوقف الداخل للبلد، وميله
بالعكس.
ولا مانع من جعل ما ورد من البطون «للقرآن العظيم» من هذا القبيل، أي
من الاستعمال في المتعدد بالقرائن المعلومة لدى من يراد إعلامهم، كما ورد في
الروايات تفسير الواحد بالمتعدد.
{تحقيق في تثنية الأسماء الأعلام وتائيدها للجواز}
ومما يؤيده أيضا، عدم الفرق في فهم العرف لأقسام المثنى، ك‍ «الزيدين»
و «الرجلين» و «العينين»; فلا يمكن وضع التثنية في الأعلام للمتباينين معنى، وفي
غيرها لفردين من معنى واحد بحيث لا يمكن استعماله في الطبيعتين والمعنيين;
بل ليس الموضوع له إلا معنى المفرد، والأداة علامة دالة على تكرار اللفظ. ولا
ملزم لإرادة معنى واحد من المكرر والمكرر به المدلول للأداة; كما لا ملزم له فيما
إذا قيل: «عين وعين توصفان بكذا وكذا»، قاصدا لقرينية الوصفين لمعنيين كما إذا
قيل: «زيد وزيد يفعلان كذا» وكذا مع القرينية المتقدمة.
172

وتصحيح إرادة المتعدد في التثنية بالحمل على المسمى ب‍ «زيد»، خروج
عن وضع الأعلام; فإنه للمسمى بالحمل الشايع، لا بالحمل الأولي; ففيه التجوز
مع أنه مستلزم لتنكير المدلول إلا أن يكتفي في المعرفية بالكلي في المعين، وهو
بعيد، مع أنه لا يصير تثنية للعلم الشخصي.
وكذا التصحيح بإرادة طبيعي اللفظ الذي له فردان ولكل معنى; فإنه من
استعمال اللفظ في نوعه. ولا يخطر بالبال من سماع «الزيدين» إلا المعنيان
المسمى كل «بزيد».
مع أن استعمال اللفظ في الطبيعي بما له من المعنى، إن اريد منه استعمال
الطبيعي في المعنى، فالطبيعي على الفرض معنى اللفظ، لا أن له معنى [عنده (قدس سره)]،
وإن اريد استعمال اللفظ في الطبيعي ذي المعنى، فكل منهما جزء المعنى.
والأداة، لتعدد المادة أو المعنى، لا لتعدد جزء المعنى. وإذا لم تستعمل المادة في
المعنى - فرارا عن المحاذير - ولا الطبيعي في معناه - لأن الطبيعي غير مستعمل بل
مستعمل فيه - فما الدال على معنى الطبيعي دلالة استعمالية؟
وأما الإيراد على جواز الاستعمال في التثنية، بلزوم التجوز في تثنية غير
الأعلام، من استعمال اللفظ الموضوع للطبيعي في الفرد إذا اريد فردان من
طبيعتين، لا تعدد المعنى [على الفرد] بمفاد التثنية; فاستفادة الوجود الخارجي من
غير دال وضع له، لا يكون إلا مجازا; فيمكن دفعه بأن التعدد للمعنى الواحد، لا يكون
إلا في الوجود; وفي المعاني المتعددة يمكن الحكم عليها في أنفسها وفي
الوجود. وذلك يعلم بترتب الأحكام الوجودية أو أحكام الطبائع، وليس من
استعمال الموضوع للطبيعة في الفرد، كانت الطبيعة المستعمل فيها اللفظ واحدة
أو متعددة في المفرد أو التثنية والجمع.
وبالجملة: فمنشأ هذه التمحلات، الالتزام بامتناع الاستعمال في المعنيين;
173

وقد عرفت أن أدلة الامتناع مدخولة، بل مر إرجاع الاستعمال في الأكثر مع القرينة
إلى تعدد الدال والمدلول.
فاتضح أن التثنية - في الأعلام وغيرها - بوضع واحد، إلا أن تعدد المعنى في
الأعلام متعين، وفي غيرها محتمل محتاج إلى القرينة.
إلا أن يقال: لو كانت قرينة على تعدد المعنى في غير الأعلام، فلا حاجة إلى
أداة التثنية، وإلا فلا فائدة لها.
فإنه يقال: إن الأداة تفيد التعدد والقرينة تفيد أن التعدد في المعنى، لا للمعنى
الواحد; فالتثنية مشتركة حتى فيما كانت المادة مشتركة ولم يرد منها المعاني
المتعددة.
{قصد المعنى حال قراءة القرآن الكريم}
بقي الكلام فيما ورد من قصد المعاني في القراءة وغيرها من «القرآن»، كما
هو الظاهر من رواية (1) شرح الفاتحة وتقسيمها أقساما ثلاثة. وقوله تعالى في
بعض الروايات: «قولوا يا أيها العباد» (2)، لا يعارض ذلك، لوضوح عدم إرادة القول
في غير الصلاة ولا في مقام غير القراءة.
وقد يتفصى عن الإشكال - بناء على الامتناع - بإرادة حكاية لفظ
«القرآن» بالقراءة وإرادة المعاني بالألفاظ المحكية دون الحاكية; فهناك استعمالان
طوليان وإن كان المحكي كلام الله تعالى، لا القاري; فإن له إرادة معنى القران به
مالم يكن محالا; وكذا في مثل حكاية قصيدة «امرء القيس» في الأبيات المناسبة
لإرادة المعنى.

(1) و (2) تفسير الصافي 1: 75 و 71.
174

{دعوى عدم إمكان اللحاظ الاستقلالي والآلي حال القراءة ودفعها}
ودعوى أن القران - مثلا - مستعمل فيه، لا مستعمل، ويكون بالاستعمال
موجودا ذهنيا لا خارجيا يراد من التلفظ به معناه، أي يكون في الذهن; فيحضر
معناه في الذهن، فاللفظ المحكي لا يكون ملحوظا مستقلا وآليا، مدفوعة لما مر من
أنه لا مانع من تعدد لحاظ الطبيعة في استعمال واحد. وذلك في المتعدد عرضا
فكذا طولا، لرجوعه إلى قصد المعاني المترتبة ولو مع القصد والقرينة; وليس
ببعيد فيما كان المقصود باللفظ لفظا له معنى ويقصد ذلك، لا اخطار اللفظ لنفسه،
كتمرين أدائه; فاللفظ الحاضر في ذهن السامع مثلا، ملحوظ آليا لإحضار المعنى
به وهو علة لإحضاره وملحوظ استقلالي معلولي لسماع اللفظ الملحوظ آليا
ومستعملا وعلة لإحضار اللفظ في ذهن السامع مثلا لإحضار المعنى به; فالتلفظ
إذا كان علة لإحضار اللفظ بقصد الحكاية عنه، محقق للقرائة، وإذا قصد المعنى
باللفظ الذي أحضره في ذهن المخاطب، فإنه يتحقق به الطلب مثلا; فالعلية
لشيء، لا تنافي المعلولية لشيء آخر. والدلالة على المعنى هنا - كما في مطلق
الدلالة الإلتزامية - طولية قصدية بالنسبة إلى الدلالة على الملزوم المطابقية القصدية.
فالملحوظ باللحاظ العلي للحاظ المعنى استقلالي، واللفظ الملحوظ
باللحاظ المعلولي لإخطار اللفظ، آلي والمستقل في اللحاظ بلا آلية هو المعنى،
والآلي بلا استقلال هو اللفظ الحاكي عن لفظ «القرآن».
{دعوى عدم خارجية لفظ القرآن الكريم ودفعها}
ودعوى أن لفظ القرآن ليس في الخارج حتى يستعمل في معناه، مدفوعة
بعدم لزوم الخارجية في المستعمل، بل يكفي أخذ نتيجتها بإحضارها في الذهن
175

لإحضار المعنى، والوضع يعم ما في الذهن، كما يعم غير التلفظ من الخارجيات
كالكتابة; فإيجاد اللفظ لإحضار اللفظ المحضر للمعنى، كإيجاد اللفظ لإحضار
معناه الملزوم لإحضار لازمه طولا.
والشاهد على جواز ذلك، أن قولنا: «ضرب فعل ماض» كما يوجب انتقال
اللفظ الخاص بهيئته الخاصة إلى ذهن السامع، فإنه ينتقل ذهنه أيضا إلى معنى
الضرب بالانتقال التصوري، وكونه تصديقيا يتوقف على إرادة المتكلم الموقوفة
على إمكانها. والفرض، الفراغ عن القرينية على قصد المعنى واللفظ بلفظ واحد،
والتردد في إمكانه ثبوتا وعدمه، وأنه على تقدير إمكان ذلك، فهل يمكن عرضية
الدلالتين أيضا، أو لا يمكن إلا الطولية المذكورة.
{نقل وجه لتصحيح الجواز عن العلامة الإصفهاني (قدس سره)}
وهنا وجه آخر للتصحيح ذكره الاستاذ (قدس سره) (1)، وحاصله: أن القراءة ليست من
استعمال اللفظ في اللفظ بحيث ينافيها إنشاء المعنى باللفظ، بل هي عبارة عن
إيجاد مماثل لفظ آخر بقصد أنه مماثل، وهو يحصل بتكرار وجوده اللفظي; وكونه
استعمالا إنما يكون إذا لم يقصد به غير هذا التكرار وإخطار اللفظ بالبال لا هذا،
والمعنى المناسب للمقام، كما يشهد له الأمر الوارد بقراءة دعاء «كميل» مثلا; فإنه
لايراد عدم قصد إنشاء الدعاء بمضامين عباراته ولا تغيير العبارات أو ترجمتها
بالمرادفات أو بلغة اخرى; فهو أمر بإيجاد المماثل، وهو أعم من الاستعمال
المعهود وبقصد المعنى بالمماثل للأصل.
ومن المستبعد جدا الأمر بهذه الأدعية والزيارات، مع اعتبار عدم صدق

(1) نهاية الدراية 1: 163.
176

واحد من القراءة أو الدعاء ونحوه، بل يستكشف من هذه الأوامر اجتماع
القصدين، أو كون القراءة غير الاستعمال في اللفظ; لكنه لا يبعد أن يكون اختلاف
القراءة واستعمال اللفظ في اللفظ من قبيل اختلاف الدواعي، لوضوح أن القاري
يمكنه عدم قصد المعنى كما فيما لا يناسبه قصد المعنى، فليس لاغيا مخليا للفظ
عن المعنى، ولا يكون إلا بالدلالة باللفظ على اللفظ وهو الاستعمال. وقد مر عدم
المحذور العقلي في مجامعته مع قصد المعنى، فتذكر.
{القول بنقض فناء الواحد في المتعدد بالعام الاستغراقي، ودفعه}
وأما نقض ما تقدم - من المحذور في فناء الواحد في المتعدد - بالعام
الاستغراقي، كما عن بعض الأجلة (1)، فيمكن دفعه بأن مطابق المفهوم الواحد
وجوده الخارجي، ليس إلا وثبوت الحكم لجميع وجوداته إنما هو بالإطلاق
بمقدمات الحكمة المحتاج إليها في كل من العموم البدلي والشمولي المراد من
المقام; ومقتضاها ثبوت الحكم لجميع خصوصيات وفروض هذا الواحد عنوانا
ومعنونا بلا تخصص وارتهان ببعضها دون بعض; ولازمها ثبوت أحكام عديدة
لموضوعات وخصوصيات عديدة، وإن وقع اجتماعها في بيان واحد، لأن التعدد
اللبي في ما يفيده الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة; فإن لازم ثبوت طبيعي
الوجوب لطبيعي الإكرام المضاف إلى طبيعي العالم، وحدة الثلاثة في الوحدة
والتعدد; فلحصة من العالم، حصة من الوجوب المتعلق بحصة من الإكرام
المضافة إلى العالم مثلا، وإلا لزم الضيق في دائرة وجوب إكرام العالم بكون
الواجب إكرامه غير «زيد» مثلا.

(1) درر الفوائد: ص 147.
177

الفصل الخامس
المشتق
الكلام في «المشتق» وأنه موضوع لخصوص المتلبس بالمبدء في الحال،
أو للأعم منه ومن انقضى عنه، بعد الاتفاق على المجازية في المتلبس في
الاستقبال.
{صلة البحث بالاصول}
ويمكن جعل البحث من مسائل الاصول وإن كان المنسوب إلى الاصوليين
إدراجه في المبادئ; وذلك لترتب الثمرة الفقهية - وهو الحكم بثبوت الحكم
الشرعي في صورة الانقضاء - على اختيار الوضع للأعم فيما وقع في موضوع
الحكم في الأدلة، بعد الفراغ عن حجية الدليل عليه صدورا وظهورا طبعا وفعلا
لعدم المعارض أو للرجحان عليه أو للتخيير; فالمسألة كما يبحث فيه عن عموم
الموضوع له وخصوصه في ترتب الحكم الفقهي على أحد الطرفين وعدمه على
الآخر.
{مقدمات البحث}
ثم إنه يقع الكلام في امور لها المبدئية لما هو من المسألة المبحوث
عنها.
178

{المقدمة الأولى}
1 - منها: أن البحث عن الحقيقة والمجاز - كما هو ظاهر العناوين - بحث عن
الوضع والظهور، ومباحث الظهورات كلها من مسائل الاصول على ما حررناه
سابقا; فلا فرق بين البحث عن ظهور الأمر أو النهي في الإيجاب والتحريم وظهور
المشتق في خصوص المتلبس، في كونهما باحثين عن تشخص الحجة في الفقه
وتحقق الظهور الذي هو الحجة; وحيث لا يبحث عنه في علم آخر، فلا وجه
لجعله من المبادئ، وجعل البحث في الأوامر وما بعدها خاصة من المسائل.
{النزاع في المسألة ليس في صحة الإطلاق وعدمه}
ومما ذكرنا ظهر: أن النزاع في أن الاستعمال في غير المتلبس - أي فيما انقضى
عنه المبدء - حقيقة أو مجاز، ليس نزاعا في صحة الإطلاق، بعد الفراغ عن الوضع
والاستعمال; حيث إن استعمال العام في الخاص مجاز وإطلاقه عليه حقيقة، لأن
الاستعمال في القدر المشترك الذي وضع له اللفظ وانطباقه على الفرد، عقلي
وليس استعمالا آخر.
لكنه على القول بالوضع لخصوص المتلبس، لا يمكن الفرار عن المجازية
بالعدول عن الاستعمال إلى الإطلاق، لأنه لابد من الاستعمال إما في الخاص - أي
خصوص ما انقضى عنه المبدء - ولا يكون إلا مجازيا; أو في المشترك، وقد فرضنا
عدم الوضع له.
ولا يمكن إخلاء اللفظ عن المستعمل فيه; فلا محل لصحة الإطلاق
بعد فرض الوضع لخصوص المتلبس بنحو لا يتأتى فيه التجوز، كما
لا يخفى.
179

{المقدمة الثانية: المراد من المشتق}
2 - منها: أن المراد بالمشتق، خصوص ما يجري على الذات في ظرف
اتصافها بالمبدء وباعتبار الاتصاف المذكور. ويتصور فيه التلبس والانقضاء;
فلا يعم الأفعال، لدلالة هيئتها على النسبة بين الذات والمادة، فليست متحدة
الوجود مع الذات; ولا المصادر المزيدة بناء على المعروف من اشتقاقها من
المجردة، لدلالتها على الطرف الآخر للنسبة وليس إلا غير الذات.
ولا اختصاص لموضوع البحث بمثل «اسم الفاعل»، فيعم صيغ المبالغة
وشبهها، لعدم الفرق بين كون المبدء أصل الشيء أو زيادته أو شدته، كعدم الفرق
بين كون المبدء فعلية أو ملكة، في جهة البحث المتوقفة على ذات واتصاف
يفرض فيها التلبس تارة والانقضاء اخرى، كان الوصف المتلبس به، فعلية أو
ملكة.
{مسألة من كان له زوجتان وزوجه صغيره، وارضاعهما لها، وصلتها بالمشتق}
ولا يختص موضوع البحث بما له الاشتقاق التام، بل يجري في مثل
«الزوج» و «الحر» ونحوهما، كما يظهر من المحكي عن «الفخر» و «المسالك» (1)
من ابتناء تحريم المرضعة الثانية للصغيرة التي أرضعتها الاولى من الزوجات
الثلاث مع الدخول بالاولى، على الخلاف في المشتق; كما عن «الإيضاح» (2) في
مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة، أنه تحرم المرضعة
الاولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين، وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها
خلاف; فاختار والدي المصنف (رحمه الله) و «ابن إدريس»، تحريمها، لأن هذه يصدق

(1) المسالك 1: 379.
(2) إيضاح الفوائد 3: 52.
180

عليها ام زوجته، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه، هكذا ههنا. انتهى.
والصحيح التعبير عن المدخول بها بالاولى كما هو ظاهر.
وإن كان خروج الاولى عن الابتناء قابلا للمناقشة بما بينه الاستاذ العلامة (قدس سره) (1)
وملخصه أن البنتية مضائفة للامومة وهي مضادة شرعا للزوجية، فلا امومة في
زمان الزوجية، كما لا بنتية إلا على القول بالوضع للأعم; وكذلك أشار «العلامة
القوچاني» (قدس سره) (2) في حاشيته إلى أن الاولى مثل الثانية في الابتناء بحسب الدقة
إلا بمثل الإجماع والخبر، أو بالمسامحة العرفية لو لم يرجع إلى الخطأ في
التطبيق.
ودعوى: أن عدم الزوجية في مرتبة متأخرة عن البنتية المضائفة للامومة، لا
في مرتبة البنتية، فالزوجية في تلك المرتبة ثابتة وإلا لثبت عدمها فيها، فلا مانع من
اجتماع الامومة والزوجية في مرتبة واحدة، مدفوعة بأن عدم الزوجية وإن كان في
مرتبة متأخرة عن البنتية، إلا أنه في زمانها، للزوم اجتماع العلة والمعلول في زمان
واحد; ففي زمان البنتية والامومة، لا زوجية، لثبوت عدمها في ذلك الزمان ولو في
رتبة متأخرة; ولابد في تحقق موضوع الحكم، من اجتماع الامومة والزوجية في
زمان واحد، إلا على القول بالوضع للأعم من المتلبس; فيكفي سبق الزوجية على
الامومة وانعدامها حين الامومة والبنتية في تحقق ام الزوجة وحكمها من الحرمة
الأبدية. وقضية المضادة بين البنتية والزوجية، عدم اجتماعهما في زمان واحد;
فلا حكم لام الزوجة حيث لا موضوع، إلا على القول بالوضع للأعم،
فتدبر.
ثم إنه مع عدم الدخول بالكبيرتين، فلا شبهة في انفساخ نكاح الاولى

(1) نهاية الدراية 1: 168.
(2) كفاية الاصول مع حاشية القوچاني (قدس سره): ص 34.
181

والرضيعة، لحرمة الجمع بين الام والبنت بقاء كحرمته حدوثا; ولا طريق إلى العدم
إلا الفرق بين البقاء والحدوث.
وأما الحرمة الأبدية، فهي للام خاصة على المشهور المكتفين باتصال
الزوجية زمانا بالامومة والبنتية المزيلتين لها.
وأما الصغيرة، فلا تحرم أبدا، بل له تجديد العقد عليها في الفرض; وأما
الكبيرة الأخيرة في الإرضاع، فلا تحرم أبدا إلا على الوضع للأعم، لانفصال زمان
امومتها عن زوجيته بنتها، إلا إذا أمكن واتصل الإرضاعان من ثديين بدوا وختما،
واكتفى بذلك، لا في الفروض المتعارفة الغير النادرة.
ولا تحرم البنت أبدا، لأنها كانت وصارت بنت الزوجة الغير المدخول بها،
إلا مع فرض الدخول بخصوص هذه الثانية; فإنها تصير بالرضاع الثاني بنت
الزوجة المدخول بها، بناء على كفاية الاتصال في الصدق ولو قيل بالوضع
لخصوص المتلبس.
أما مع الدخول بالكبيرة الاولى، فتحرم ام الزوجة وبنت الزوجة المدخول
بها على الوجه المذكور المشهور; وحرمة الثانية بإرضاعها، موقوفة على صدق
المشتق - على الحقيقة - على غير المتلبس فعلا.
وأما ما في خبر «ابن مهزيار» (1) من عدم تحريم الثانية، لأنها أرضعت
البنت، فعدم العمل بها مع ضعف طريقها يمنع عن العمل بها; فإن المشهور - كما
قيل - التفكيك بين الفقرتين فيها في العمل، يعني فيما فيها من تحريم الاولى
والرضيعة وعدم تحريم الثانية الكبيرة. وبقية الفروع والأحكام في هذه المسألة،
مذكورة مع التفصيل في «البلغة».

(1) الوسائل 14 الباب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع ح 1.
182

{عدم جريان النزاع في اسم الزمان إلا على الاشتراك المعنوي}
وأما أسماء الزمان - أعني أسماء أزمنة الفعل - فيلغو النزاع فيها بعد انحصار
الفرد فيها في المتلبس، لعدم الفرد الباقي بذاته المنقضي عنه التلبس بالوصف ولو
قيل بعموم المفهوم مع اختصاص المصداق، إلا إذا قيل بالاشتراك المعنوي، كأن
يوضع «المقتل» مثلا لظرف القتل بحيث يعم المكان، فله فردان; وانحصار
خصوص ظرف الزمان في فرد، لا يلغي النزاع في لفظ المفهوم العام الذي له
فردان في الجملة.
{تحقيق حول لفظ الجلالة والأسماء الإلهية}
ومثل الأخير لفظ الجلالة إن كان موضوعا للعام المنحصر مصداقه في
المتلبس، إلا أنه يبتني على عدم الوضع للشخص، تعالى عن الشريك، وعلى كونه
مشتقا ك‍ «الإله» المأخوذ منه الذي هو بمعنى «المألوه» اشتقاقا وعموما للموضوع
له، مع انحصار المفهوم بحده في واحد، وكلاهما لا يخلو عن التأمل.
ومثل أسماء الزمان في الخروج، العناوين المنتزعة عن الذات، كالموجود
والمعدوم، لانتزاعهما عن المتحقق بالذات أو بالتقدير، بنفسه فلا يتصور فيهما
الانقضاء مع بقاء الذات.
ويمكن أن يقال: إن عموم المفهوم الموضوع له اللفظ، لا يجدي مع انحصار
فرده فيما ليس له تلبس وانقضاء; فإن الواجب بذاته تعالى، ليس يعقل فيه
الانقضاء، والواجب بغيره، ليس للذات فيه بقاء مع انقضاء التلبس، بل مع
الانقضاء لا ثبوت له حتى يبحث عن الصدق على الحقيقة أو المجاز، والفعل
الواجب ثابت في الذمة ومع زوال الاتصاف بالإيجاد مثلا، لا شئ في الذمة حتى
يبحث عن حقيقيته ومجازيته فيما يستعمل فيه; فهو كالثابت في المفهوم
183

والمصداق; بل جميع العناوين الانتزاعية عن مقام الذات، لا يعقل فيها البقاء
والانقضاء، إذ مع بقاء الذات، لا يزول الانتزاع وإلا لم ينتزع من نفس الذات، ومع
عدم بقائها، لا انتزاع وإلا انتزع من غير الذات.
مع أن الواجب لا وضع له بالخصوص له تعالى; وإنما هو يستفاد من قرينة
لذاته أو مع الإطلاق المفيد للوجوب المطلق في قبال مطلق الوجوب. ولفظ
الجلالة لا شبهة في وضعه للشخص الذي هو خالق الموجودات، كان الاشتقاق
مرعيا في أول الاستعمالات أو لا; ولا محل للبحث بحسب الوضع الفعلي
للشخص تعالى ولو كان تعينيا.
{القول باختلاف زمان التلبس والانقضاء بحسب إرادة المستعمل، وما فيه}
ثم إنه قد يستفاد من بعض ما افيد، أن زمان التلبس والانقضاء يختلف
بحسب إرادة المستعمل الوحدة التي قصد رعايتها للفعل، فقد يكون نفس ساعة
الفعل أو يومه أو شهره أو سنته; فيكون زمان الانقضاء، ما بعد ذلك الزمان
الملحوظ واحدا بأجزائه، لا خصوص الجزء المقارن للفعل; فيلزم كون
الاستعمال في ذلك الواحد، على الحقيقة ولو قلنا بالوضع لخصوص المتلبس،
وهو مشكل; فإن الإرادة وصحة الاستعمال، أعم من الحقيقة ولو كانتا مع القرينة;
فيمكن الالتزام بالوضع لخصوص المتلبس وفي زمان تحقق الصفة دقة وكون
الاستعمال في يوم منه، مجازا، وفي الخارج عن اليوم، مجازا في مجاز.
ودعوى عرفية أعمية زمان التلبس من هذه الوحدات الملحوظة، إنما تتجه لو
اريد أخذ زمان التلبس في الموضوع له; فيمكن أن يكون المأخوذ هذه الوحدة،
لا نفس حال التلبس على حسب الاعتبار في غير الزمان من الذوات المتصفة حين
الاتصاف دون الحين الملحوظ الذي وقع فيه الاتصاف.
184

وأما الاكتفاء باتصال أجزاء الزمان واستمرار نفسه، فلازمه عدم تحقق
الانقضاء رأسا، لأن تخلل النقيض غير قادح على هذا ولعله إنما يتسلم تخلل
الضد وهو كما ترى.
لكن الأخذ في الموضوع شيء لا ينوط بالاستعمال المبني على الوضع،
فتكون العبرة بقصد الواضع، لا قصد المستعمل المختلف جدا في الموارد،
لاستعمال لفظ واحد، فضلا عن هيئة اشتقاقية واحدة، إلا أن يكون الوضع تعينيا
ناشئا من كثرة الاستعمالات المقصودة; واختلاف تعلق الأغراض في الوحدات،
يمنع عن الجزم بتعين الوضع لبعضها بالاستعمالات المختلفة المشتملة على
قرائن الأغراض المعينة للوحدات.
و [الأقرب] في هذا الفرض، بل الفرض الأظهر تحققه وهو الوضع التعييني
المعتبر فيه قصد الواضع، هو الوضع للأعم وإن اختلفت الاستعمالات المقصودة،
أو خصوص الزمان المقارن للتلبس، أي للمتلبس في زمان التلبس، وأن
الاستعمال في غيره لاشتماله على ذلك الزمان ومسانخته معه وثبوت العلاقة
المصححة. (وفي المقام اشكالات مذكورة بأجوبتها في تعليقة الاستاذ (قدس سره) (1)
فليراجع فيها إليها).
تنبيه
{في جريان البحث في الفعل ولو لم يدل على الزمان}
لا يخفى أن عدم دلالة الفعل على الزمان - لو قيل به - لا يلغو معه البحث في
الصدق على الحقيقة في زمان الانقضاء.

(1) نهاية الدراية 1: 170.
185

وذلك، لأن التلبس الفعلي داخل في الموضوع له المشتق يقينا ويصدق
معه على الحقيقة في المتيقن قطعا، وإنما البحث في أن تحقق التلبس يكفي في
الصدق على الحقيقة بعد انقضائه، أو أنه إنما يبقى الصدق الحقيقي ببقاء التلبس
كما يحدث بحدوثه.
{المناقشة في منع دلالة الفعل على الزمان}
ثم إنه قد يمنع دلالة الفعل على الزمان، والمعروف بحسب النقل والسماع،
الدلالة. وقد يوجه المنع بلزوم التجريد مع الإسناد إلى غير الزماني، كالمجردات
والزمان.
وفيه أن المدلول، السبق على زمان النسبة أو المقارنة; وليس لازم ما يعم
السبق والمقارنة، عدم الأزلية، كما لا يلزم عدم الأبدية; فالحدوث الزماني
والانقطاع بعد الحدوث في الحادث، كلاهما غير ما يستلزمه السبق أو المقارنة;
بل المقوم له، التحقق في زمان متقدم على زمان النسبة أو مقارن، بالتحقق المطلق
المجامع للأزلي والأبدي وغيرهما.
وأما دلالة المضارع على الاستقبال أو ما يعمه، فسيأتي - إن شاء الله تعالى -
ما فيه وفي سائر المترتبات الزمانية.
ويشهد للدلالة، غلطية استعمال الفعل الماضي المسند إلى الزماني، في
المستقبل واستعمال المضارع - هكذا - في الماضي بحسب زمان النسبة المقصود،
لا زمان التكلم; فإنه لولا الأخذ لم يلزم التجوز، فضلا عن الغلط; فلزوم الغلط
يكشف عن الأخص من الدخول في الموضوع له.
نعم - كما يأتي منا - لازم ذلك، أخذ تعيين الزمان المفهوم من الإسناد إلى
الزماني في الزمان الخاص، فلا تجوز ولا تجريد في غير ذلك.
186

أو يقال: إن عدم زمانية الشيء لا ينافي ترتب ما ينسب إليه من الأفعال زمانا
والعبرة في التلبس والانقضاء، لحاظ الفعل والنسبة بحسب الزمان; وأنه مع
انقضاء الفعل في زمان النسبة هل اللازم، التجوز في الصدق أو لا؟
{القول بعدم الجامع بين الزمانين في المضارع ونقده}
وقد يؤيد ما تقدم في وجه المنع، بعدم اشتراك المضارع معنى، لعدم الجامع
بين الزمانين; فالمأخوذ معنى يصح انطباقه على كل منهما، ويبعد مخالفة الماضي
في الأخذ في المدلول مع المضارع وإن اختلفا في ما هو المأخوذ.
وفيه: - مضافا إلى أن الجامع لا يعتبر فيه عرضية الأفراد، فلا مانع من وجود
الجامع بين الأفراد المترتبة الوجود وإن اشتركت في التأخر عن زمان خاص كزمان
النسبة وبالإضافة إلى زمان ماض بالنسبة إلى زمان النسبة ويحتاج حينئذ - في
التخصيص بالحال أو الاستقبال - إلى قرينة كسائر المشتركات المعنوية، بل مع
الاشتراك اللفظي أيضا يحتاج إلى قرينة التعيين كما هو واضح - أنه لو سلم عدم
الاشتراك اللفظي في المضارع، فالمأخوذ فيه هو الجامع بين اللحوق والاقتران،
وهو الاستقبال بالنسبة إلى زمان محقق للسبق، أي الزمان السابق على زمان النسبة;
فإنه يقابله الزمان المتأخر عن زمان السبق، فقد يكون مقارنا لزمان النسبة وهو
الحال، وقد يتأخر عنه وهو الاستقبال.
والجامع العنواني بين الزمانين، كالجامع بين الثلاثة كأحد الأزمنة في
الإمكان والامتناع في الأخذ في المدلول ووقوع ذلك وعدمه. وحيث يبنى على
كون المأخوذ في الماضي هو الزمان السابق على زمان الإسناد، فيكون المأخوذ
في المضارع، الزمان اللاحق لذلك الزمان السابق وهو الأعم مما يقارن زمان
الإسناد وما يتأخر عنه ويدل على كل منهما بالقرينة.
187

والتمثيل باستعمال الماضي في المستقبل حقيقة والمضارع في الماضي
حقيقة، فالمأخوذ ليس زمان الماضي حقيقة، بل بالإضافة في الماضي وكذا في
المضارع - كما في «الكفاية» (1) - لا يؤيد عدم الأخذ في الماضي والحال والمستقبل
ولو بالنسبة إلى زمان خاص في تلك الموارد، لا خصوص زمان النطق، كما هو
واضح، بل يؤيد عدم أخذ المضي على الإطلاق.
والاعتراف بثبوت خصوصية غير مأخوذة في المدلول ولا آتية من الاسناد،
لأن الاسناد إلى الزماني بأية صيغة، لا يقتضي على الفرض أزيد من وقوع الفعل في
الزمان، وعدم إثباتها من القرائن، اعتراف بالمحال، كما هو واضح; فإنه يتعين
الأخذ إما في المدلول، أو الإتيان من الخارج بأحد الأنحاء.
فانقدح مما مر: أن المنقول من الدلالة على الزمان هو الأوفق بالاعتبار.
{التحقيق فيما اسند إلى غير الزماني ك‍ «علم الله»}
ثم إن الظاهر أن الهيئة الدالة على خصوصية النسبة وأنها ماضوية أو غيرها،
إنما هو فيما إذا أسند الفعل إلى الزمان أو الزماني، بل فيما كان الفعل زمانيا مسبوقا
بالعدم في الزمان، كما في مثل «خلق الله نوحا قبل إبراهيم (عليهما السلام)»; فالهيئة الخاصة تدل
على أن الزمان المفهوم متعين في زمان خاص، فلو أسند إلى غيره فلا زمان مفهوم
للفعل أصلا حتى يتعين بالهيئة; فلا يلزم التجريد في مثل «علم الله».
وكذا قطعات الزمان الملحوظة بنحو يترتب بعضها على بعضها بنحو
يجري فيها التقدم والتأخر والترتب وإن كان لا زمان لها، فذلك اللحاظ المفرد في
الاعتبار يكفي في صدق المضي والاستقبال بالإضافة، لا على الإطلاق،

(1) كفاية الاصول: ص 41.
188

ولا يضر به الاتصال الواقعي بين الأجزاء.
وبهذا التقرير، يكون الإسناد إلى الزمان - أي إلى قطعاته - كالإسناد إلى
الزماني; فإن اختلاف الزمانيات لا يكون إلا باختلاف الزمان المنحصر فيما ذكرنا
طريقه; أما مع كون المعلوم زمانيا، فزمانية العلم بالعرض.
ومنه يظهر: أن العلم الفعلي له تعالى، المنسوب إلى الزمانيات المترتبة،
يتصف بالعرض بما يتصف به المعلوم بالذات.
فخالقيته للأب في زمان ماض، بالنسبة إلى خلقه للابن، وهذا في زمان
مستقبل بالإضافة إلى ذلك; وهو وعلمه الذاتي وصفاته الذاتية، أجل من سوى
الإحاطة بالمجموع على نحو يكون كإحاطة واحد بواحد.
فمما قدمناه يكون قوله: «خلق الأب» كقولك: ««ضرب زيد عمرا»، من
دون تجريد; وقولك: «علم الله بذاته» مسلوبا عنه المضي بلا تجريد، كما قدمناه;
فعدم التجريد مشترك بين المسند إلى المترتب الزماني وإلى غيره، لكنه على
وجهين، كما تقدم; بل يمكن كون العلم الفعلي عين الفعل المعلوم الحاضر بذاته
لديه تعالى، بخلاف علمه تعالى بذاته أو بصفاته الذاتية، فلا تجوز ولا تجريد ولا
زمانية فيه; ومعيته مع السابق عين معيته مع اللاحق; والكلام في استفادة ما لا
يجتمع فيه السابق واللاحق، لا الأعم مما يجتمع، بل يتحد، فتدبر.
وأما الأوصاف فاشتراكها بين الثلاثة، كاشتراك المضارع بين الاثنين; لكنه
لا يستلزم أخذ الزمان العام للثلاثة في المدلول; فإنه كأخذ صرف وجود الزمان فيه،
بل النسبة المتقيد بها المدلول هي التحققية المجامعة لما في الزمان بأقسامه وما
لا ينوط به. وتستفاد الخصوصيات، أعني خصوصية الزمان من الإسناد إلى الزماني
ونحوه مما مر، وخصوصية أقسام الزمان الحاصلة من مقايسة زمان التلبس مع
زمان النطق أو زمان خاص آخر، من القرائن المقامية أو الكلامية.
189

{المقدمة الثالثة: المراد من الحال}
3 - منها: أن المراد بالحال في العنوان في هذا الكتاب وغيره من كتب
الاصوليين، «حال التلبس» لا «حال النطق». وكأن الحال في الأمرين - أي في
الإثبات والنفي - ليس بمعنى واحد; فإنه في الأول، بمعنى قيدية التلبس وتحققه
في الصدق من دون مداخلة للزمان، فيعم التلبس في غير الزمانيات; وفي
الثاني، بمعنى قيدية زمان النطق حيث لا يعقل قيدية النطق.
فقد ظهر: أن صورة الإطلاق بمعنى الصدق الذي لا تنفك فعليته عن فعلية
التلبس، كانت في حال النطق أو فيما مضى عنه أو فيما يأتي له، وهي صورة
الجري والصدق والحمل، لا ينبغي الخلاف فيها، وهو المراد من الجري بلحاظ
حال التلبس في قبال الجري الفعلي لأجل التلبس وبمصححية التلبس المنقسم
إلى الأقسام الثلاثة.
فمرجع البحث، إلى أن حدوث التلبس يكفي في الصدق بقاء، أو أن
الصدق يتبع التلبس حدوثا وبقاء; وأما الصدق بلحاظ حال التلبس فيما بعده، فهو
عين الصدق الحدوثي.
وصورة فعلية الإطلاق مع سبق فعلية التلبس، هي محل الخلاف في
التجوز، وصورة فعلية الإطلاق مع استقبال زمان التلبس، مورد الاتفاق المحكي
على التجوز.
وأما لزوم القرينة في مورد، فيبتني على التجوز، وإلا فلا قرينة لازمة إلا
للتعيين في موارد احتمال غير الواحد; فإن كل مجاز يحتاج إلى نصب قرينة
ورعاية علاقة وليس كل ما يحتاج إلى القرينة مجازا.
190

{تأئيد للمختار}
ويستشهد للأول - أعني الحقيقية في الجري بلحاظ فعلية التلبس في أي
زمان كان التلبس وفي أي زمان وقع الجري والاسناد - بعدم التجوز في مثل «زيد
ضارب أمس أو غدا»، ولو قلنا بلزومه فيما لو قال: «زيد ضارب حالا» فيما كان
ضاربا بالأمس وبنى على عدم كفايته في بقاء الصدق على الحقيقة; مع لزومه - وإن
كان مع القرينة - على الوجه الثاني، يعني أخذ زمان النطق; فمن عدم المجازية،
يعلم عدم أخذ هذا الزمان في المدلول.
فيعلم منه أن الجري بلحاظ حال النسبة الواقعية والتلبس الحقيقي، على
الحقيقة، كانت النسبة والتلبس قبل زمان النطق، أو بعده، بخلاف الجري في زمان
النطق وبلحاظه فيما تأخر التلبس عنه; فإنه على المجاز اتفاقا وفيه رعاية علاقة
الأول; والجري في الحال مع انقضاء التلبس، فإنه على الخلاف المذكور في العنوان.
ويبعد إرادة الثاني، أن اللازم أخذ الزمان الخاص وهو الحال في الوصف مع
عدم أخذه في كلية الأسماء، بل ولا في المضارع المشترك، على ما مر.
واشتراط العمل في بعضها بأخذ الزمان، لا يجدي في أخذ زمان الحال ولا
في أخذ المشترك في المدلول، بل في وجوب تعيين زمان المدلول بدال آخر في
صحة العمل، فلا ربط له بالمقام; وأيضا اللازم ندرة فرض الاستعمال الحقيقي
جدا في جل المشتقات أو كلها.
{المقدمة الرابعة: عدم الفرق بين فعلية التلبس وغيرها}
4 - منها: أنه لا فرق في الجهة المبحوث عنها بين كون المبدء فعلية التلبس
بشيء، أو شأنيته وملكته، كما في الصناعات وما يجري مجراها; وهذا واضح، وإن
191

وقع بعض التوهمات المتوقفة على الفرق.
ولا يخفى أن المبدء إذا كان ملكة، كما في الصناعات، فإن اريد من
الاستعمال، صاحب الحرفة، ففعليتها ثبوت الشأنية للعمل المناسب لها. ولا زوال
لهذه الفعلية إلا بالرجوع إلى حالة قبل العلم; فيجري الخلاف بعد زوال الملكة في
أن بقاء الصدق على الحقيقة أو لا؟
وإن اريد منه الفعلية العملية فيجري الخلاف بعد رفع اليد عن العمل
الخاص - كالخياطة الفعلية والبناء الفعلي - في بقاء الصدق على الحقيقة; فانقضاء
التلبس في الصورتين مختلف بحسب اختلاف التلبس فيهما من كونه بحصول
الملكة، أو العمل الفعلي عن ملكة خاصة; فللخائط مثلا معنيان، «من له ملكة
الخياطة» و «من له الخياطة الفعلية عن ملكة»، ولكل منهما تلبس وانقضاء مناسب
له.
{المقدمة الخامسة: مقتضى الأصل اللفظي والعملي في المقام}
5 - منها: أنه لا أصل في المسألة يتعين بها المشكوك المبحوث عنه، لفظيا،
لتعارض أصالتي عدم تخصص الموضوع له بالتلبس وعدم عمومه بنحو الاشتراك
المعنوي; مع أنه على تقدير السلامة عن المعارضة، لا دليل على اعتبارها من بناء
من العقلاء في تعيين الأوضاع. وليس كأصالة عدم القرينة في تعيين المراد،
لإحراز البناء فيها;
مع أن الوضع المحقق بأحد اللحاظين، لا يجري فيه الأصل إن رجع إلى
الاستصحاب، لعدم الحالة السابقة إلا محموليا، فتقع المعارضة لو عمت الحجية
للمثبت ولم نبحث عن المدرك; وإن لم يرجع إليه، فلابد من دليل على حجية
الأصل المذكور. وكذا رجحان الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز للغلبة
192

الممنوعة أصلا واعتبارا في الترجيح في إمكان منعه.
وأما الأصل العملي، فمقتضاه البراءة عن التكليف إن لم يكن مقتضى
الاستصحاب ثبوته أو انتفائه، وسلم من إشكال عدم إحراز الموضوع اكتفاء
بالموضوع العرفي أو الدليلي في بعض الموارد.
ويمكن أن يقال: إن علة الصدق لعنوان المشتق على معنونه إن كانت هو
اجتماع امور ثلاثة، أعني المنتسبين والنسبة، فلابد في بقاء الصدق من بقاء علته;
ولا يكون العلة المحدثة مبقية. حتى أن المعدات الكافي حدوثها في بقاء المعلول
المستعد له إنما يكون العلة الناقصة فيه لحدوث أثر لها يبقى ببقاء المعلول وإن
زالت العلة، لأنها إنما توجب القرب بين الفاعل والقابل وهو أمر يبقى إذا لم يزله
مزيل أزال علة القرب، كالبناء مثلا للدار المبنية الباقية لولا الهدم.
{الاستدلال علي الوضع للمتلبس بالتبادر}
إذا عرفت المقدمات المذكورة، فاعلم أنه يمكن الاستدلال للقول المحكي
عن الأشاعرة ومتأخري الأصحاب - وهو الوضع لخصوص المتلبس في الحال
في قبال الوضع للأعم المنقول عن المعتزلة ومتقدمي الأصحاب - «بالتبادر»
و «صحة السلب».
{المناقشة في التبادر والجواب عنها}
والمناقشة في التبادر بإمكان كونه من الانسباق من الإطلاق لا من الوضع،
غير مقبولة هنا، كما في سائر موارد الاستدلال بالتبادر في الوضع للخاص في قبال
الوضع للعام، كالصحيح والأعم وغيره.
193

والجواب في الجميع، أنه إن كان انسباقا معولا عليه عند العرف المنسوب
إليهم الانسباق بحيث يحكمون به ولا يتوقفون في العمل عليه، فلا فرق في مقام
العمل بين الانصراف المانع عن الأخذ بالإطلاق بهذا القيد وبين الوضع في جميع
موارد عدم القرينة على الخلاف.
وإن كان غير معول عليه، فإن كان موجبا لتحير العرف، فهو خلف الفرض
من دعوى ما لا يتوقف معه في العمل.
وإن كان غير مانع عن العمل عندهم بالإطلاق الموافق للوضع للأعم،
فلازمه أنه - مع خلو الذهن عما لا قرينية له ولا اعتماد عليه وقصر النظر إلى حاق
اللفظ - فالمتبادر حينئذ الأعم، والموجود فيه صحة الحمل، لا صحة السلب;
والمفروض أنه مع قطع النظر عن الامور الخارجية من مثل كثرة الاستعمال وقلته،
فالمتبادر من حاق اللفظ هو المتلبس في الحال.
وبالجملة: فالانصراف إن كان بحد يمنع عن الإطلاق، فلا حاجة إلى كونه
بسبب الوضع; وإن كان كالانصراف البدوي غير معتنى به، فلا محالة لا يكون
بسبب الوضع كما لا يمنع عن الإطلاق.
والسر فيه، أن كثرة الاستعمال إذا بلغت حدا يوجب الانسباق بحيث
لا ينصرف الذهن إلى غيره، فتلك موجبة للوضع التعيني الكافي في المطلوب،
وإلا فلا عبرة بها.
فمقتضى التبادر الذي لا يسئل عن سببه، ليس إلا الاشتراط; ومرجعه إلى
قيدية التلبس حدوثا وبقاء في الصدق على الحقيقة; فلا يكون الاستعمال للعنوان
في حال الجري مع الانقضاء إلا مجازا، ويكون حقيقيا مع إرادة حال التلبس ماضيا
- كان في حال الجري أو مستقبلا - لرجوعه إلى إرادة من حدث منه الفعل أو
يحدث، فلا ينافي القيدية; بخلاف إرادة من هو حال الجري معنون به مع عدم
194

بقاء القيد; فإذا كان الوضع للمتلبس، فالمستعمل فيه ما يكون مع القيد، إما في
حال الجري، أو في غير زمانه، بلحاظ ذلك الغير. ولا فرق بينهما في النتيجة، لأن
الحكم لصاحب القيد في زمان المصاحبة، بخلاف صورة البناء على الوضع للأعم
الصادق على من انقضى عنه المبدء في زمان الانقضاء.
{جواب «الكفاية» عن الإشكال والمناقشة فيه}
ويمكن الجواب أيضا بما في «الكفاية» (1)، ملخصا من أن احتمال كون التبادر
انسباقا من الإطلاق ناشئا من كثرة الاستعمال، تدفعه كثرة الاستعمال في المنقضي
أيضا ولو كان على الحقيقة، لكونه بلحاظ التلبس الماضي، فمع الاشتراط للتلبس
لا يصار إلى التجوز مع الانقضاء مع التمكن من الجري على الحقيقة بلحاظ حال
التلبس، بخلاف القول بالأعم.
ويمكن المناقشة فيه بأن الجري بلحاظ حال التلبس، أو بلحاظ حال الجري،
معنيان، لا معنى واحد، فيكون حقيقة على الأعم مطلقا، بخلاف الوضع للخاص
حيث يكون مجازا إلا مع ملاحظة حال التلبس، فلا مجوز للتجوز مع التمكن من
الاستعمال الحقيقي بلحاظ حال التلبس.
إلا أن يقال: إن المعنيين متحدان بالنتيجة والاختلاف بعد لحاظ حال التلبس
في الاستعمال المجازي في حال الانقضاء وعدمه. فيقال: الكثرة مشتركة بين
المتلبس بالفعل في زمان الجري والمتلبس بلحاظ الزمان الماضي، فتبادر الأول
لا يكون منشأه الكثرة المشتركة مع كون الاستعمال حقيقيا في النحوين; بل لا منشأ
له إلا الوضع لخصوص المتلبس فعلا في زمان الجري والحمل، كما يشهد به

(1) كفاية الاصول: ص 46، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
195

تبادر هذا من حاق اللفظ، لا من كثرة الاستعمال، كما مر.
فإنه لا داعي [على الأعم] إلى ملاحظة غير زمان الجري مع كون الاستعمال
حقيقة باللحاظين; فلا يكون انسباق المتلبس معلولا إلا للوضع للمتلبس، لعدم
الداعي إلى تبادر المتلبس مع الوضع للأعم وكون الإطلاق على الحقيقة بلحاظ
زمان الجري.
{هل الوضع للأعم يستلزم عدم التضاد بين العالم والجاهل؟}
ثم إن الوضع للأعم يستلزم عدم التضاد بين مثل «العالم» و «الجاهل» بما
لهما من المعنى، لإمكان التحفظ على الحقيقة في الجري مع عدم اجتماع المتضاد
بالذات وهو القيام والقعود في زمان واحد، بخلاف الوضع للمتلبس; فلابد من
ارتكاب التجوز في أحدهما أو اختلاف الملاحظة في الوصفين بإرادة المتلبس
في زمان التلبس المغاير لزمان الجري في أحدهما دون الآخر. والمفروض تحقق
المضادة بينهما بما لهما من المعنى المرتكز في الأذهان، المتحد في الجميع;
فإنكار التضاد يستلزم التسوية بين «العالم» و «الجاهل» في المعنى الارتكازي
لهما، ولازمها، التسوية بين العلم والجهل، أو تجويز اجتماعهما في زمان واحد
في شخص واحد.
ويمكن المناقشة في ذلك، بأن التضاد حكم عقلي لا ينوط بالأوضاع
ولا يرتبط به الأوضاع; وحقيقة التضاد، في التشخص الذي هو الوجود، وجريانه
في المفاهيم والكليات، أمر بالعرض; فالتضاد بين «القائم» و «القاعد» ليس إلا
التضاد بين القيام والقعود، وافق الوضع في العنوانين أو لا.
واللازم في التضاد المعتبر فيه وحدات التناقض، اجتماع الوجودين
المتخالفين في موضوع واحد بتلك الوحدات; فتضاد العنوانين يتبع تضادهما
196

وليس للعقل فيهما حكم مستقلا بالتضاد حتى يتبع الوضع أو يعرف الوضع
وليس شيئا يعرف من قبل الوضع ولا من العرف العارف بالوضع ولا ربط لشيء
من الوضع والتضاد بالآخر.
{توقف جريان النزاع على القول ببساطة المشتق، وعدمه}
وقد يستدل للوضع للمتلبس، بما دل على بساطة المشتق; فإن النزاع مبتن
على التركيب الذي يتحقق معه بقاء الذات المأخوذ في المشتق مع انقضاء التلبس
بالوصف المأخوذ في المشتق انتساب الذات إليه; وأما على البساطة، فالمشتق،
كالجامد، في كون المدلول شيئا فاردا لا بقاء له مع الانقضاء، إذ المنتفي فيهما نفس
المدلول، لا صفة مأخوذة فيه، بل القائم حينئذ كالقيام والحجرية، في عدم مجيء
احتمال الصدق مع الانقضاء، وإن افترقت ببقاء علاقة التجوز في القائم دون القيام
والحجر ونحوهما.
وقد نسب القول بابتناء النزاع على التركيب إلى «الشيخ الأنصاري» (قدس سره) في
ما عن بعض تلامذته (1).
{إرائة طريقين لجريان النزاع علي البساطة}
ويمكن أن يقال: إذا كان الأمر الانتزاعي البسيط منتزعا عن شيء بسيط أو
مركب، فمن الممكن أن يكون حدوث منشأ الانتزاع كافيا ومصححا لانتزاع ذلك
الأمر البسيط بلا إناطة ببقاء المنشأ، وإن كان الأصل فيه التبعية في الحدوث والبقاء;
لكن أوسعية الأمر الانتزاعي الذي يدور مدار تحقق المصحح من منشأ الانتزاع
وعدم لغوية الانتزاع مع عدم بقاء المنشأ، بخلاف صورة عدم المنشأ رأسا،

(1) انظر بدائع الأفكار: ص 175.
197

أمر معقول; وسيأتي - إن شاء الله - أن الانتزاع العقلي لابد فيه من بقاء المنشأ
والمصحح لبقاء الانتزاع، بخلاف التعبدية، فيتصور فيه الأمران.
وسيأتي - إن شاء الله - احتمال البساطة على غير الوجه المنقول عن
«الشريف» (1) وغيره، وهو أن يكون مدلول الهيئة نفس الذات في حال الانتساب
بنحو خروج النسبة أو دخولها.
وعليه، فيمكن دعوى البقاء لمدلول الهيئة مع زوال التلبس، لكنه لابد فيه
من ضم الحيثية التعليلية في أخذ النسبة; فإن بقاء الذات لا يكفي في صدق المشتق
بمجرد تحقق مدلول الهيئة فرضا مع زوال المبدء المستفاد من المادة; فإن النزاع،
في صدق المشتق، ولا يكفي في بقائه بقاء بعض مدلوله بعد تخصص ذلك
البعض بغيره من نسبة وطرفها الآخر غير الذات. ولا يكون ذلك إلا بكون
الانتساب الخاص علة للصدق ولا يلزم في بقاء المعلول بقاء العلة الناقصة مطلقا;
فإن المعلول يحدث ويبقى مع عدم بقاء المعد، فليكن هذا من ذاك حكما، إلا أنه
بعد محتاج إلى دليل في مقام الإثبات; وسيأتي أن مقتضى القاعدة كون البقاء ببقاء
العلة لا بحدوثها.
لكن بساطة المدلول - على هذا - قابلة للمناقشة، فإن التقيد بالانتساب إلى
المبدء، يكون داخلا في المدلول، لأن الاستعمال فيما لا انتساب هناك، غلط; ومع
استقبالية الانتساب، مجاز; ومع مضيه، محل الخلاف; فيكون مدلول القائم،
«المنسوب إلى القيام».
نعم التقيد، من الإضافات، وموطن ثبوتها محل الاعتبارات; فليس المدلول
مركبا من الوجودين الحقيقيين إلا مع دخول طرفي النسبة في المدلول.

(1) حاشية السيد على لوامع الأسرار في شرح مطالع الأنوار.
198

{إمكان اسمية الانتساب الداخل في هيئة بعض المشتقات}
ثم إن الدال على النسبة - كما سيأتي - يحتمل أن يكون على هذا
التقدير، نفس صوغ الهيئة الخاصة من المادة الخاصة، أعني اجتماع الخاصين بعد
دلالة الهيئة على الذات يقينا على ما سيأتي، أعني الذات المنسوبة إلى
المبدء.
ويمكن أن يكون الانتساب الداخل في مدلول هيئة بعض المشتقات، معنى
اسميا عنوانا، وإن كان معنونه ربطا محضا يمكن التعبير عنه بحرف رابط، كما هو
كذلك في مثل «زيد» المنسوب إلى القيام، أو قولك: «بين القيام وزيد نسبة»; فإن
ما هو النسبة اسم والمعنون من معاني الحروف.
والصدق على الذات مع الانتساب الرابط بين الطرفين، شاهد على الاسمية
في مدلول هيئة «فاعل» مثلا; فيكون كل من الذات والنسبة الملحوظة في المدلول
معنى اسميا، والقيام الواقع طرفا من المعاني الاسمية، وإن كان معنون النسبة معنى
حرفيا غير قابل للتصور بنفسه، إلا أن يكون المتصور اسما يعنون به واقع الربط
ويمكن التفرقة بين المثالين المتقدمين; فإن المنسوب ما له الربط والنسبة عين
الربط.
{دلالة هيئة المشتقات المحمولة على الذوات على معنى اسمي، بخلاف غيرها}
والذي ينساق إليه النظر الدقيق في معنى المشتقات المحمولة على الذوات،
أن الفرق بين «زيد» و «قائم» مثلا، في أن مدلول «زيد» نفس الذات ومدلول هيئة
المشتق، الذات الخاصة، أعني المنسوبة إلى القيام; فالموضوع له هيئات
المشتقات المحمولة على الذوات وأمثالها، معنى اسمي وهو طرف النسبة مقيدا
بوقوعه طرفا لها، وهذا بخلاف الهيئات الغير المحمولة على موضوعاتها.
199

ويشهد لذلك صحة قيام ذي فضل - مثلا - مقام فاضل، فيدل على أن هيئة
«فاعل» قائمة مقام ذي بما له من المدلول; فلا شبهة في استفادة النسبة من هذا
الاسم، فكذا في الهيئة، والمعهود في الهيئات الدلالة على المعنى الحرفي، فتدبر.
{تفرقة بين الحيثية التعليلية والتقييدية في المقام}
ويمكن أن يكون مبنى الوجهين، هو كون المصحح للصدق والحمل المبتنى
على الانتزاع - وهو قيام المبدء بالذات - حيثية تعليلية للصدق والحمل والانتزاع،
فتبقى مع زوال الناقصة المعدة; أو تقييدية، فلا تبقى إلا مع بقاء القيد وهو التلبس
الفعلي من دون مداخلة للزمان في هذا الفرض أيضا، كما هو ظاهر. فعلى الثاني،
يكون المنتزع تابعا للمنشأ المصحح، كتبعية المقيد للقيد; وعلى الأول، يمكن
الاكتفاء بسبق العلة المعدة.
وإذا انتهى الأمر إلى ذلك، فالطريق إلى تعيين الحيثية التقييدية وما يخالفها
من قسمي التعليلية بعد تسلم التبعية في الحدوث وعدم انفكاك الأمر الانتزاعي
عن المنشأ حدوثا بتقدم الانتزاع على المنشأ للاتفاق على المجازية، بل لابد من
المقارنة في الحدوث; وإنما الكلام في التبعية في البقاء بعد الاتفاق على
صحة الإطلاق ولو مجازا، والخلاف في صحة الإطلاق حقيقة إذا لم يكن
الإطلاق الفعلي بلحاظ حال التلبس وإلا كان حقيقة أيضا، لانحصار الخلاف
في الإطلاق بلحاظ حال الجري، كما لو صرح بأنه قائم حالا بتلبسه بالقيام سابقا
فقط، هو ما أشرنا إليه من تبادر التضاد بين العنوانين فيما تضاد المبدئان، ولو لم
تكن التبعية في البقاء مستفادة من المفهوم الذي وضع له اللفظ لما وقع التضاد،
كما هو ظاهر; فيعلم منه تبعية الأمر الانتزاعي لمنشائه بقاء كتبعيته له
حدوثا.
200

ولا يكون ذلك إلا بأخذ المعية مع المبدء في ذلك المفهوم على التركيب أو
ما ينتج نتيجته على البساطة بحيث لا يبقى المفهوم مع عدم بقاء المبدء; فلا يكون
القيام في منشأ الانتزاع بالذات إلا حيثيتة تقييدية أو تعليلية غير معدة، بحيث
يكتفي بسبق العلة على المعلول فضلا عن المقارنة في الحدوث مع عدم بقاء
العلة، فتدبر. وقد مر الكلام في هذا الاستدلال.
وأما دعوى عدم صدق المشتغل والفارغ على واحد في زمان واحد وهو
يدل على عرفية الوضع للمتلبس، فيمكن دفعها بأن ذلك لمكان ظهور وحدة
اللحاظ في العنوانين وعدم الاجتماع فيها مسلم مطلقا; إلا أن يقال بمنع ذلك، لأنه
مع وحدة اللحاظ والقول بالوضع للأعم لا تضاد في صدق العنوانين.
{احتياج بعض الاستعمالات إلي القرينة يناسب الوضع للمتلبس}
ويمكن تقرير الاستدلال بأن يقال: إن لزوم التلبس وقتا ما وبحسب الخارج
مسلم; كما أن الجري بلحاظ زمان التلبس، على الحقيقة مطلقا; إلا أن الجري
بلحاظ التلبس الفعلي في زمان الجري، لا يحتاج إلى عناية وقرينة، بخلاف الجري
بلحاظ التلبس السابق أو اللاحق; والعرف شاهد صدق على ذلك.
والجري فعلا بمصححية التلبس السابق، يشترك مع الجري بلحاظ التلبس
السابق، في الاحتياج إلى القرينة; لكن هذا الجري لا يحتاج إلى قرينة المجاز، لأن
الاستعمال في نفس الموضوع له، وليس كل قرينة يعتبر فيها العلاقة للتجوز،
بخلاف الجري المبحوث عنه; فإنه لو احتاج إلى القرينة، فهي قرينة المجاز مع
العلاقة المصححة للتجوز، كما يشهد به المصححية المستلزمة لعدم صحة
الاستعمال والجري إلا مع علية ملاحظة التلبس السابق، ولا يكون إلا برعاية علاقة
ما كان، بخلاف الاستعمال في نفس السابق مع الكشف عنه بالقرينة.
201

فعدم الحاجة في إفادة التلبس المقارن للجري، إلى عناية (1) وقرينة، يدل
على أن الوضع يوافق هذا الجري وما يدل عليه، ولا يكون إلا بالوضع للمتلبس;
فإن حاجة بعض أقسامه إلى القرينة، بل إلى رعاية العلاقة، لا تناسب الوضع للأعم
منه، بل له أو للأخص منه لو فرض، فتدبر تعرف.
{دعوى الحاجة إلي القرينة في جميع الصور على عدم المجازية ودفعها}
ودعوى أن الحاجة إلى القرينة مشتركة بين الصور المذكورة، فلم صارت
علامة المجاز في المنقضي مع الجري فعلا دون غيره؟ مخدوشة بأن الاستعمال في
المتلبس وإقامة القرينة على زمان التلبس، غير الاستعمال في غير المتلبس، أي في
خصوص المنقضي مع عدم إقامة القرينة على زمان التلبس، لأن النظر، إلى
الاستعمال والجري فعلا; فلا حاجة إلى تعيين زمان التلبس، بل قد يراد الأعم من
المتلبس وغيره بلا أية قرينة على هذا القول.
ويمكن جعل الصور الملتزم فيها بالحقيقة، من باب واحد، وهو معية
التلبس والجري وإن اختلف زمان التلبس; فإن الجري، بحسب ذلك الزمان، وكل
ذلك متفق فيه في الحقيقة، مع أن المحتاج إلى قرينة التعيين، غير المتلبس في
حال النطق والنسبة; فالدعوى، أن المعية لا تحتاج إلى القرينة المصححة
للاستعمال، بخلاف غير صورة المعية.
ومنه يظهر أنه لو كان الوضع للأعم، فكل من المنقضي والمتلبس لا يجوز

(1) بل مجرد عدم القرينة على القسمين الآخرين، يكفي في الحمل على هذا القسم، أعني
المتلبس في وقت الجري، بل الفرق بين المتلبس والمنقضي في عدم الحاجة في الأول إلى
القرينة بخلاف الثاني، وأما الجري بلحاظ حال التلبس فهو على الحقيقة، والقرينة فيه للتعيين
لا للمجاز المرعى فيه العلاقة، بل هو خارج عن محل البحث والخلاف.
202

الاستعمال فيه وإنما يجوز الإطلاق عليه.
وصحة الاستعمال في خصوص أحد الخاصين بلا قرينة - كما اتفقوا عليها
ظاهرا في الاستعمال في خصوص المتلبس في حال الجري - قرينة عدم الوضع
للأعم، وهذا وجه آخر للمدعي.
كما ظهر أن تبادر الأعم - لو صح - لزم منه التجوز في الاستعمال في
الخاص; ومن البعيد جدا التزامه; كما أن تبادر الخاص يستلزم التجوز في
الاستعمال في غيره، كان هو الأعم، أو خصوص المنقضي. ولا يركن إلى الخدشة
في أمارية التبادر بما يجري في جميع موارد الاستدلال بها.
{تدقيق في الحيثية التقييدية في المقام}
بقي الكلام في الحيثية التقييدية، مع قطع النظر عن العلائم المثبتة في مقام
الإثبات.
وحاصله: أن الانتزاع إن كان عقليا، كانت الحيثية في منشأ الانتزاع تقييدية،
لكن الشأن، في أن القيد، له مداخلة في الحدوث، دون البقاء، أو فيهما; فقد يكون
القيد، هو مطلق الحدوث للحدوث والبقاء، كاستطاعة المكلف شرعا لوجوب
الحج بقاء أيضا; وشأن الأمر الانتزاعي العقلي المحتاج إلى منشأ الانتزاع ومصحح
الانتزاع، هو التبعية حدوثا وبقاء; فلا يمكن انتزاع الفوقية فعلا بمجرد ثبوت
المنشأ وذي المنشأ سابقا.
والمسامحة العرفية، غير كافية في انتزاع العقل، وإلا جاز بقاء الفوقية
بلا تحتية، لعدم ما هو تحت ومضاف مشهوري، بعد التسلم على التكافؤ في
الحدوث; فإن الفوقية وإن كانت كالتحتية، إلا أن بقاء الفوق بفوقية سابقة، لا يلازم
203

بقاء ذات ما هو تحت وإن كان يستلزم بقاء ذات ما هو فوق، وكذا الحال في
«الضارب» و «المضروب»; فالحيثيات في موضوع الحكم العقلي، تقييدية،
حدوثها، في حدوث الموضوع وحكمه، وبقائها لبقائهما. ولا يكفي الحدوث
للبقاء بالملاك الموجب لافتقار الحدوث إلى الحدوث.
{ثمرة القول بالبساطة أو التركيب، في المقام}
ثم إن لازم الالتزام بالتركيب، إمكان البقاء; ولازم البساطة، عدم البقاء، لعدم
اثنينية يزول معها أحدهما ويبقى الآخر.
وقد مر أن ذلك في الانتزاع العقلي وأن الشرعي التعبدي يتصور فيه
الأمران; والكلام في المقام في الانتزاعات العرفية والعقلية دون التعبدية
الجعلية.
وأما فعلية البقاء على التركيب، فهي قابلة للمنع، لاحتمال التقوم للمركب
ببعض الأجزاء الداخلية. ولابد من النظر في أن التركب المفيد هل هو الأعم من
تحليل العقل وان كانت الصورة الآتية في الذهن واحدة، كالإنسان والشجر،
أو خصوص التحليل الابتدائي للآتي في الذهن إلى شيئين؟
{تقرير إشكال في نفي التركيب ودفعه}
وقد يقع الإشكال في نفي التركيب، بملاحظة نفي دخول المعروض في
العارض، كان ذاتيا أو لا، بعد تسلم انتفاء الصدق بانتفاء الذات; وأن محل الخلاف
انتفاء المبدء مع بقاء الذات; فيعلم تقوم المشتق مطلقا بالذات، والخلاف، في
تقومه بقاء بالتلبس بالمبدء، والبساطة والتركيب لابد من ورودهما في مورد
204

واحد، فكيف ينفي التركيب ويلتزم مع البساطة بلزوم بقاء التلبس كالذات في بقاء
المفهوم الاشتقاقي.
إلا أن يقال: برجوع كلام «الشيخ» (قدس سره) إلى أن البساطة لا تناسب محل النزاع
الموقوف على الانتفاء بانتفاء الذات مع وقوع الخلاف في الانتفاء مع انقضاء
التلبس بالمبدء.
ويمكن دفع الإشكال، بأن المحال اتحاد العارض والمعروض، لا اجتماعهما
في دال واحد يدل عليهما معا; فإن الكلام، في العرضيات المشتقة، لا في
الأعراض العارضة لموضوعاتها التي تكون من الجواهر.
ويظهر الجواب عن الإشكال الأخير بما نختاره في مدلول المشتق.
{تبيين مفاد هيئة المشتق}
ويمكن أن يقال في تحصيل مفاد هيئة المشتق: «إنه الذات المنسوبة إلى
المبدء».
أما أنه الذات، فللاتحاد مع الموضوع المستفاد من الحمل; وأما الدلالة
على النسبة بنحو المعنى الحرفي، فهي لمكان أن تهيوء المادة بهذه الهيئة المفيدة
للفاعل، أقوى من الإضافة المفيدة لصدور شيء من شيء في مثل «زيد ذو
ضرب» و «زيد ضارب عمرو»، إذ لا معنى لجعل المبدء متهيئا بالهيئة المتحدة
مدلولا مع خارجية الموضوع، إلا كون النسبة بين المعروض والعرض، مطوية في
المدلول.
فوضع هيئة المشتق للمنسوب إلى المبدء وهو جزئي إضافي ومصاديق
المدلول، يتخصص بتخصص الطرفين وواقع النسبة بين الخصوصيتين; والدال
205

على الخصوصيات الثلاث، غير الدال على الحصة الموضوع لها التي هي جزئي
إضافي بالنسبة إلى الأعم منه ك‍ «الرجل» مع كون الوضع والموضوع له في كل
منهما عامين; فيستفاد أحد طرفي النسبة، بالمادة، والنسبة، بالهيئة، والطرف الآخر
لها، بتهيوء المادة بالهيئة الخاصة. وإحدى الدلالتين سابقة على الاخرى; فلو كان
المبدء متهيئا بغير هذه الهيئة، أو كانت الهيئة لغير هذه المادة، لم تستفد نسبة
خاصة بهذين الطرفين; فالفاعلية للضرب - كالضاربية - تستفاد من غير معنى أصل
الضرب وأصل هيئة «فاعل»، بل من تشكل خصوص الضرب بشكل خصوص
هيئة «فاعل»; فمدلول كل مع المشخصات، أخص من مدلوله بنفسه; وبقاء الذات
لازم في مدلول الهيئة بنوعها، وبقاء المبدء [لازم]، في مدلولها الشخصي على
القول باستفادة المتلبس مع الجري.
وأما الكلام في «البساطة» و «التركيب»، فمحصله: أن مدلول الهيئة - على ما
وصفناه - عبارة عما ينتزع عن الذات المتلبسة وهو القابل للاتحاد مع الموضوع،
وهو الذي يعرفه الموضوع والمبدء المنسوب إليه، كذي ضرب والمنسوب إلى
الضرب، وتخصصه مع عموم مدلول الهيئة، بدال آخر كما عرفت.
وكونه عرضيا أو ذاتيا، يختلف باختلاف المبادئ المنسوبة إلى
الموضوعات; فما يدل عليه المادة المتهيئة، أحد طرفي الانتساب المدلول للهيئة
بنفسها، كما أن طرفه الآخر مدلول للمادة بنفسها; وحيث إن النسبة بطرفيها منشأ
الانتزاع، فشرط الحدوث معتبر في البقاء بقائه.
ولا يقاس أية علة مع معلولها، بأية علة مع معلولها; فما كان شأنه التقريب
بين الفاعل والفعل، ليس كما ينتزع من الشيء انتزاع العنوان والمعنون والمفهوم
والمصداق، بل الكلي الذاتي وجزئيه، حيث لا يلتزمون بالبقاء مع بقاء الجسمية
وإن تبدل النوع.
206

وبالجملة: فلا فرق بين المنقضي عنه المبدء ومن لا تلبس له إلا بعد زمان
الجري، في عدم [إمكان] الانتزاع الفعلي حال الجري بمصححية التلبس الماضي
أو الآتي إلا مجازا، أو بلحاظ حال التلبس.
والفرق بينهما بمجرد حدوث التلبس قبل الجري، والنسبة، غير فارق في
الانتزاع الفعلي حال الجري، كما يظهر بملاحظة عدم صدق الفوق بعد زوال
التحتية بالانقضاء إلا بمجاز يحتاج إلى قرينة جلية بحسب اختلاف المجازات في
القرب والبعد عن الحقيقة.
{استدلال آخر على الوضع للمتلبس باتحاد الذات والمبدء}
ومما قدمناه يظهر وجه آخر لاعتبار التلبس، غير جار في غير المشتقات
ك‍ «ذي ضرب» بل وفي مثل «صاحب الضرب» و «واجد الضرب» من المشتقات.
وهو، أن الهيئة حيث صارت تشكلا للمادة لفظا وغير منفصلة عنه في
الوجود اللفظي، فهي مع اتحاد مدلولها بالموضوع، متقومة في مرحلة وجودها
اللفظي بالدال على المبدء، ولا استقلال لها فيه; فهي من تشكلات المبدء لفظا مع
كونها في غير الوجود اللفظي وجودا للمعروض خارجا، لا في التلفظ; كما أن
المبدء - بحسب الخارجية لا التلفظ - من تشكلات الموضوع وتطوراته، فكيف
يمكن مع كون الدال غير مستقل في الوجود اللفظي الدلالتي بحيث يكون مدلوله
مستقلا عن مدلول المادة باقيا مع زوال المبدء; فإن مساس هذا الصوغ بالمبدء،
أتم من مساسه بالموضوع، مع تسلم انتفائه بانتفاء الذات، بل الدقة ترشد إلى أن
الذات والمبدء جعلا وفرضا شيئا واحدا، دالا ومدلولا; فالتبعض في المدلول
يستلزم التبعض في الدال المقتضي لانتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه; فإن وحدة
207

الدال، تقتضي وحدة المدلول، لا التعدد الملازم لبقاء الشيء مع انتفاء الآخر.
ولا ينتقض بأدوات العموم ونحوها; فإن المراد الاستعمالي - أي المراد
بالاستعمال - قد يكون أوسع من المراد الحكمي، أي المراد موضوعيته للحكم
بالتخصيص الغير الكاشف عن إرادة البعض من لفظ الكل مثلا، بل عن الحكم
على بعض المراد من الكل استعماليا; فالوحدة الوجودية اللفظية تقتضي الوحدة
الاعتبارية الانتزاعية للمدلول في الحدوث والبقاء.
ولا ينافي ما ذكرنا، تعدد الهيئة وذيها دالا ومدلولا; فإن وجود اللفظ واحد
وإن تعددت الدلالة بتعدد الهيئة والمادة. والانتزاع الذي هو المدلول، واحد
اعتبارا وإن تعدد منشأ الانتزاع بتعدد النسبة وطرفيها. وقد مر أن مدلول مجموع
المادة والهيئة غير مدلول كل واحد منهما.
{تتميم للمختار في التركب والبساطة}
فتحصل مما قدمناه: أن الالتزام بالتركيب التحليلي على الوجه المتقدم إليه
الإشارة في منشأ الانتزاع، هو المناسب.
هذا، ولكن الأنسب بما قدمناه بحسب النتيجة، كون مدلول المشتق
الجاري على الذات بسيطا منتزعا من النسبة بطرفيها، لا مركبا من الثلاثة، لأن
التركب مما لا يتحد بالموضوع وجودا، لا يفيد اتحادا به، فهو انتزاعي اعتباري،
منشأه تلك الأشياء المجتمعة، لا أنه مجموعها، لما عرفت.
نعم، البساطة في قبال التركيب تجامع التقييد، ومعه يجوز الحمل، بخلاف
التركيب; ومع التقييد، لا انسلاخ عن شيء من النسبة وطرفيها، كما هو مقتضى
السنخية بين العلة والمعلول; وهذا لا يختص بالمشتق، بل يجري في مثل «زيد
208

ذو كتابة» ونحو ذلك; فإن المحمول، هو المقيد، لا المركب; والدال على النسبة
وطرفيها، متعدد في جميع المقامات وإن كانت الدلالة بصورة التفريق، في غير
المشتق; وبصورة الجمع ووحدة الكلمة، في المشتق.
{دفع ما يورد على التركيب}
بقي الكلام في دفع الإشكال الوارد على التركيب، وهو أن الداخل إن كان
مفهوم الشيء، لزم دخول العرض في الذاتي، يعني الفصل; وإن كان مصداقه، لزم
الانقلاب.
ولا يخفى أن فصلية الفصل، بكونه آخر الذاتيات المنحل إليها الماهية
المنتزعة عنها، بلا دخل لشيء من العوارض، وهذا لا يرتبط بالحمل ومصححاته
ووضع اللفظ لنفسه، أو لما ينحل إليه، أو لما يصحبه; فلو كان «الناطق» عبارة عن
«شيء له النطق»، كان الفصل نفس النطق، يعني إدراك الكليات بالمرتبة
المنحصرة في الإنسان وإن كان لا يميزها النفوس الغير الكاملة; وكذا كونه ناطقا إذا
لم يختلف معه; ولو اختلف معه - كما هو لازم التركيب - فالفصل غير مختلف
باختلاف الحمل والعبارات; واتحاد الموجود مع العرضي حاصل، كان مستفادا
من الكلام أو لا; وتقوم الموجود بنفس الفصل والجنس، حاصل على أي حال
كما مر; فدعوى أن الناطق فصل، فليس مركبا، كلام غير برهاني.
وأما على تقدير أخذ مصداق الشيء، فالمقيد بغير الضروري، غير
ضروري; فلا يلزم الانقلاب. وتقييد الموجود بتضيق الوجود لا يجري في غير
الكلي، إلا أن التقييد الأحوالي يجري فيه، كتقييد «زيد» بحال قيامه.
وقد مر أن المأخوذ، ما هو اللازم في هيئة النوع، لا في شخص الهيئة; وأن
الدلالة على المصداق بموضوعية الخاص وبدال آخر، لا بنفس مدلول الهيئة
الاشتقاقية.
209

وعليه، فلا محل لأخذ مصداق الشيء في مدلول المشتق، لأن المصداق
ليس مأخوذا في المشتق ولا مدلولا عليه به، بل بدال آخر.
هذا مضافا إلى استهجان الحمل ل‍ «زيد» على الكاتب على «زيد» بمجرد
هذا الاختلاف، بخلاف ما إذا قيل: «زيد ذو كتابة» أو «له الكتابة» أو «صاحب
كتابة» مع عموم مفهوم المحمول على الخاص، عموما لا يتخصص، إلا من قبل
التقييد، أو التطبيق ولو بمعونة الدال الآخر.
ومما ذكرنا ظهر: أن الترديد بين أخذ المفهوم أو المصداق، ليس بسديد; وأن
المتعين هو الأول على التقريب المتقدم.
{ما اورد على البساطة}
وأما ما يرد على القول بالبساطة، الذي جعل القول باعتبار التلبس لازما له
- فيما نسب إلى «الشيخ الأنصاري» (قدس سره) احتمالا أو جزما - فهو أن ذلك الأمر الواحد
إن كان هو المبدء، فالاعتبار وإن كان لازما له، إلا أن المبدء محمول بالاشتقاق
وبحمل ذي هو، لا بالمواطاة، مع أن المشتق محمول بالمواطاة.
ودعوى لحاظه لا بشرط عن الاتحاد، فيحمل، كما ترى; فإنه لا معنى للحاظ
العرض لا بشرط عن الاتحاد بالجوهر مثلا ليحمل عليه، لتباينهما ماهية
ووجودا.
وقد مر في انحلال شبهة الحمل، أن مدلول كل من المادة والهيئة، غير
مدلول اجتماعهما النوعي; وأن تثليث المدلول يحتاج إلى دوال ثلاثة; وأن منشأ
الانتزاع إذا كان اجتماع ثلاثة، فلا يمكن في مدلول المشتق المنتزع من ذلك
الاجتماع، انفكاك بعض الثلاثة عن بعضها حدوثا ولا بقاء، إلا أن يرجع - كما في
210

«الكفاية» (1) - إلى سنخ معنى لا يأبى عن الحمل; فلا يكون إلا مع التغاير بين معنى
المشتق ومعنى المبدء; فلا يمكن جعل أحدهما عين الآخر.
ولا يخفى أن النزاع في البساطة والتركيب، بالنسبة إلى هذه الثلاثة، أعني
النسبة وطرفيها، وإلا فمن الواضح تركب كل من الذات والمبدء في المشتقات
المنطبقة على الجواهر وأعراضها تحليلا من أجناسها وفصولها.
{إيراد على الوضع للأعم بالحصر بين مفروض العدم والمحال}
ثم إن اختيار الوضع للأعم، ليس من جهة صدق الدال عندهم على الذات
وبقائه; فإنه لا إشكال في عدم الصدق حدوثا وبقاء بلا تلبس بالمبدء في حيثية
الصدق على الذات فيما يدل عليها، بل يدعي صدق ما كان صادقا على المتلبس
حدوثا في البقاء أيضا، وكفاية حدوث منشأ الصدق في بقاء الصدق، أي ببقاء
الذات المتلبسة حدوثا بالمبدء فيقال - بعد تجريد الكلام عن الجري بلحاظ حال
التلبس الحدوثي -: إنه هل يدعي بقاء الصدق بدون بقاء النسبة في طرفيها أو معه؟
والثاني مفروض العدم، والأول محال.
وكفاية بقاء النسبة إلى الحدوث، أي إلى الوجود الحدوثي، لا إلى
نفس الوجود الذي هو بنفسه طرف النسبة في الحدوث وإن كان ذلك
الوجود المنسوب إليه حدوثا في الواقع حدوثيا; لكنه لا لكون المنسوب
إليه لوحظ واعتبر فيه الحدوث، بل لوحظ فيه في الحدوث أيضا نفس
الوجود فهذه الدعوى إذا لم ترجع إلى الجري بلحاظ حدوث التلبس، إنما تتم
مع أخذ الحدوث في المبدء الذي هو طرف النسبة، لا ما يعرضه الوجود

(1) كفاية الاصول: ص 55.
211

بلا تقييد بالحدوث; ولازمه الإناطة بالبقاء، كمثلها بالحدوث; مع أن
الحدوث منقض على أي حال، وإنما الباقي وجود الحادث، لا حدوث الموجود،
فتدبر.
{هل يكفى التلبس في الجملة في الصدق الحقيقي على الذات؟}
إن قلت: ما المانع من كون عنوان المتلبس بالمبدء مشيرا إلى الذات
المتلبسة، بحيث يكفي التلبس في الجملة في الصدق على الحقيقة على ذات
المتلبس، وهو الموافق للحيثية التعليلية والعلية للحدوث والبقاء معا، كما قدمناه،
وكما هو الظاهر في مثل «جاز الظالم والمحسن بجزاء عملهما» فلا يراد إلا
الإشارة إلى من له فعلية التلبس في الجملة.
قلت: لا ننكر الاستعمال في ذلك مع القرينة وكونه على الحقيقة في
الاستعمال بلحاظ حال التلبس، لا حال الانقضاء، كما يتعين التلبس بالفعل حال
الجري في مثل «أكرم من زارنا أو الزائر لنا، أو «أكرم الضيف»; إلا أن الكلام، في
تبادر الأعم، أو خصوص المتلبس الذي لم ينقض عنه التلبس; ومقتضى اعتبار
الحدوث مقوما للمدلول، هو اعتبار البقاء كذلك; بل لا يعهد مقوم المدلول
الحقيقي في الحدوث دون البقاء بالنسبة إلى الدال بالوضع; بل قد مر أن المقام من
قبيل تعدد الدال والمدلول بالدقة، فلا يمكن التفكيك بلا قرينة بين كل دال مع
مدلوله; فمع ثبوت الدال، لا ينتفي مدلوله; ومع انتفاء المدلول، لا يثبت الدال عليه،
كما هو في الحدوث كذلك; فكيف يثبت الدال على القيام بقاء ل‍ «زيد» ولا قيام
في الخارج بقاء له؟
ومر أيضا أن المشتق هو الدال الثالث، أعني المادة المتهيئة الموضوعة
بالوضع النوعي للذات المتلبسة، أي لما ينتزع من اجتماع الثلاثة; كما أن
212

الهيئة، موضوعة لنفس النسبة، بالوضع النوعي; والمادة بشخصها، بالوضع
الشخصي; ولابد من الالتزام بذلك وإرجاع ما قيل في الفرق بين المبدء والمشتق،
إليه.
وكأن ما ذكر من دلالة بعض الهيئات على المعنى الحرفي، يراد به ما يقابل
هيئة المشتق، وأن مدلوله معنى اسمي. وقد مر أن المشتق كذلك، لكن الدال على
المعنى الاسمي، المادة المتهيئة، دون الهيئة التي تدل على النسبة التي هي من
معاني الحروف ومن الوجود الرابط.
وقد مر ثبوت الوضع لغير المفردات، فالدال على المبدء، هو المصدر
وعلى نفس النسبة هو الهيئة; والدال على معنى المشتق المحمول على الموضوع،
هو المادة المتهيئة، لا نفس الهيئة ولا مجرد المتهيئ بها بنفسه، بل بما أنه متهيئ
بها. ومر أن مدعي الوضع للأعم، يدعي إلغاء أحد الدالين عن الدلالة رأسا لا
الاكتفاء بالسبق مع الانقضاء.
{التحقيق في صحة السلب في المقام ودفع ما اورد على الاستدلال بها}
ثم إنه قد أورد على الاستدلال بصحة السلب، بأنه إن اريد صحته مطلقا بدون
تقييد السلب ولا المسلوب بحال الانقضاء، فممنوع; وإن اريد صحته مقيدا، فهي
ليست من علائم المجاز، لأن سلب المقيد لا يقتضي سلب المطلق، بل يجامع
صدقه على الحقيقة (1).
واجيب بأن تقييد المسلوب وإن كان غير مقتض للمجازية كما تقدم، إلا أنه
ممنوع; والمسلم تقييد السلب أو المسلوب عنه بحال الانقضاء مع إطلاق

(1) كفاية الاصول: ص 47.
213

المسلوب; فإنه يقتضي المجازية، لصدق المطلق في جميع الأحوال وعلى جميع
أطوار موضوعه; فالسلب في بعضها يكشف عن عدم إطلاق الموضوع له.
وأما لزوم التقييد، فلمكان القطع بعدم صحة السلب مطلقا بنحو يعم حال
التلبس; فالتقييد، لأجل إخراج الجري بلحاظ حال التلبس الذي هو حقيقة على
كل من القولين.
وأما كون القيد إحترازيا، فلا يقتضي تقييد المسلوب، لأن الاحتراز إنما هو
عن الجري في زمان التلبس، أو بلحاظ التلبس الماضي الزائل، لا لتقييد
المسلوب.
إلا أن يقال بأن ظهور التقييد، في الاحتراز عما يخالف التقييد مطلقا، لا عن
بعض ما يخالفه، فلا يكون إلا لتقييد المادة; وهو كما مر، لا يقتضي المجازية.
إلا أن يقال: لا يتم الاستدلال إلا بالتقييد، فلا يكشف عن تقييد المادة وليس
للقيد الموردية المحضة والوجه في ذلك واضح.
ومنه يظهر وجه النظر في ما افيد (1) من صحة السلب على الإطلاق
عمن انقضى عنه المبدء فعلا; فإنه بقيد الفعلية، خرج عن السلب المطلق،
لاشتماله على تقييد المسلوب عنه، ولو لم يقيد منعنا صحة إطلاق السلب، فتدبر.
ويمكن أن يقال: إن المجامع مع الوضع للأعم من أقسام صحة السلب، هو
تقيد المادة في المشتق بزمان الانقضاء; فإنه لا يقتضي المجازية، لمجامعته للوضع
للأعم، كما مر.
وأما غيره - سواء كان الزمان المذكور قيدا فيه للمسلوب عنه، أو للسلب
بمعنى النسبة السلبية، أو بمعنى سلب النسبة المقيدة - فإنه يقتضي المجازية; فإن

(1) كفاية الاصول: ص 48.
214

«الضارب» في حال الانقضاء إذا كان مسلوبا، دل ذلك على عدم كفاية سبق
الضرب في كونه ضاربا في حال الانقضاء، وكذا المسلوب عنه إذا كان مقيدا بزمان
الانقضاء وكان المسلوب مطلق الضاربية.
وأما تقييد المادة بأن يقال: «ليس ضاربا بضرب اليوم»، فلا ينافي كونه
ضاربا بضرب الأمس، أي بمصححية ضرب الأمس، كما لا ينافي كونه ضاربا في
الأمس مع إرادته فقط، ولا ينافي كونه ضاربا بقول مطلق، كما مر.
وأما تقييد النسبة بالنحو المعقول من نحو «ضيق فم الركية» بكون أطرافها
ثلاثة أو اثنين، فالظاهر كون سلبها - كتقيد مفاد الهيئة أو تقيد الموضوع - أمارة على
المجازية; فإنه لولا دخول المتلبس في الموضوع له المشتق، فلا يصح سلب
النسبة مع إطلاق الطرفين بما لهما من المدلول.
والظاهر أن تقيد النسبة السلبية أيضا، ينتج هذه النتيجة; فإنه لولا الوضع
للمتلبس، لما كان للنسبة السلبية في حال الانقضاء نفس أمرية، بل كان النفس
الأمري خلافها، أعني النسبة الثبوتية في حال الانقضاء مع إطلاق الطرفين، فتدبر.
وأما تقييد النسبة السلبية، المذكور، أو سلب النسبة الإيجابية على الوجهين
في مرجع السالبة المحصلة، فالظاهر رجوعه، إلى أخذ القيد في أحد طرفي النسبة
بحيث تكون النسبة بذلك مقيدة، من دون فرق بين تقييد مفاد الهيئة الاشتقاقية
وإيراد السلب على النسبة الكذائية، أو بين تقييد مفاد أداة السلب من النسبة; فإن
مفاد الهيئة الاشتقاقية هو النسبة; ومفاد أداة السلب، هو كون النسبة سلبية، فهما
من معاني الحروف.
وتقييد النسبة أو كونها سلبية، تقييد للوجود الرابط بتعدد أطرافه، أو بزيادة
أطرافه في الكمية، أو الكيفية; والغرض أن تقييد المادة، هو المفر بكون صحة
السلب علامة المجازية، دون سائر الصور.
215

وأما تقييد المسلوب عنه، فلا يخلو عن إشكال، من جهة عدم كونه من
الامور الوسيعة المتخصصة بالزمان، فلابد من تقدير مثل حدوث «زيد» في
الزمان أو بقائه فيه حتى يرجع إلى اعتبار ما ليس له ضيق وقرار.
ويمكن تخصصه بالزمان، لكنه لا يطرد في التقييدات الاحوالية الممكنة
للتشخصات الوجودية، بل وغيرها أيضا مع كون المسلوب عنه من الكليات.
ومع هذا، فيشكل أن يكون قسما من غير القسمين، لرجوعه أيضا إلى
تقييد النسبة، لشهادة عدم اختلاف المعنى بذلك مع تقييد النسبة.
بل الفرق بين القسمين الآخرين أيضا - كالفرق بين السالبة المحصلة
والموجبة المعدولة المحمول - لا يرجع إلى فارق حقيقي; فالمدار، على تقييد
النسبة السلبية وعدمه، في الكشف عن المجازية وعدمه، باستثناء صورة تقييد
مادة المشتق بالزمان، فلا يكشف صحة السلب معه عن المجازية.
{ما استدل به للوضع للأعم}
وقد استدل للقول بعدم الاشتراط بوجوه:
منها: «التبادر» و «عدم صحة السلب».
وقد مر ثبوتهما في المتلبس في الحال، إلا أن المستدل به من عدم صحة
السلب هنا، عدمه في مثل «المقتول» و «المضروب»; ويمكن أن يكون ذلك
لإرادة من به أثر الضرب والقتل، مما لا انقضاء له; فيكون «الضارب» و «القاتل»
بهذا المعنى مثلهما.
والحكم في عدم صحة السلب، بالعكس، لو اريد نفس الحدث المضائف
216

صدوره عن الفاعل مع وقوعه على المقتول; وموارد القرينة على المراد خارجة
عن البحث والاستدلال.
والأولى، الحمل على إرادة من حدث عليه أو منه القتل مثلا; فإنه من الامور
التي إذا حدثت تبقى إلى المعاد; فلا يقتضي عدم صحة السلب فيه، عدم أخذ
التلبس وعدم صحة السلب في غيره.
{الاستدلال بآية «لا ينال» والتحقيق فيها}
ومنها: استدلال الإمام (عليه السلام) تأسيا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما روي (1) بقوله تعالى:
) لا ينال عهدي الظالمين ((2)، على عدم لياقة من عبد الصنم لمنصب الإمامة،
تعريضا بمن تصدى لها بعد [صرف العمر] مدة في عبادة الأوثان; ولا يكون ذلك
تاما، إلا على القول بالوضع للأعم، لانقضاء التلبس حين التصدي للخلافة.
وقد يقال: يتم الاستدلال بدون الابتناء على القول بالوضع للأعم إذا كان
المراد كفاية حدوث العنوان لبقاء الحكم لمكان عدم أهلية الخلافة لمضي التلبس
بهذا الظلم أيضا وليس إطلاقه حينئذ مجازا لإرادة حال التلبس; فالاستعمال فيها،
على الحقيقة، على أي تقدير، والاستدلال يتم على كليهما، فلا يتعين به
أحدهما.
وفيه: أن عدم الأهلية إن كانت ثابتة مرتكزة مسلمة، فلا حاجة إلى
الاستدلال بالآية الشريفة إلا أن يكون تأيدا بإرشاد «القرآن» بحيث لا يكون مفر
للمكابر للوجدان; وإلا كان الاستدلال مبتنيا على القول بالوضع للأعم.

(1) تفسير الصافي 1: 169، ط: سعيد، مشهد.
(2) البقرة: 124.
217

وقد يقال: في وجه عدم الابتناء - وفاقا «للفخر» (1) في تفسيره -: إن المستفاد
أن المتلبس بالظلم حينه محكوم بعدم نيل العهد إلى الأبد، قضية لاستفادة الإطلاق
في الحكم.
وفيه: أن إطلاقه لما بعد الإسلام الهادم لما قبله - كسائر أنحاء الظلم - قابل
للمنع; مع أنه معارض بإطلاق المقتضي للمفهوم; فإن لازمه، نيل من هو غير ظالم
فعلا حين النيل وإن كان سابقا ظالما وكان لا ينالها، بأن يكون المستفاد من عدم
نيل الظالم، نيل العادل فعلا للعهد، لا مجرد عدم المقتضى لعدم النيل، أي عدم
المانع للنيل وهو أعم من المقتضى للنيل بسبب العدالة الفعلية حين التصدي;
فيمكن أن يكون اقتضائه للنيل منوطا بعدم سبق الظلم، كما هو لازم كفاية سبق
الظلم لعدم النيل.
{بيان لعدم دلالة الآية الشريفة على الوضع للأعم}
ويمكن أن يقال: إن المراد من الآية الشريفة، تخصيص الدعاء العام من
إبراهيم (عليه السلام)، وليس يتوهم عاقل عموم دعائه (عليه السلام) للمتلبس بالفعل أن يكون إماما
حين تلبسه، بل لو كان دعائه عاما، فإنه يعم المتلبس في الماضي.
وقوله تعالى:) لا ينال عهدي (، يريد به تخصيص الدعوة العامة، وأن
المتلبس من الذرية بالظلم السابق على نيل الإمامة، ليس أهلا لأن ينالها; ومثله
لا يدفع بعموم البحث لو كان لدليله عموم، لوروده في مورد سبق الظلم بالشرك
على زمان الحكم بعدم النيل; ولا منافاة بين انتفاء العقاب وانتفاء شرط الكرامة
الخاصة.
ومما ذكرنا تبين عدم توقف تمامية الاستدلال، على القول بالوضع للأعم،

(1) تفسير الفخر 4: 45 و 46.
218

فلا يكشف عنه، لأن المستعمل فيه هو المتلبس في زمانه السابق على زمان فعلية
الحكم بعدم النيل، فتدبر.
ويمكن أن يقال: إن المستفاد من الآية الشريفة المخصصة للدعاء العام: أن
الظالم حين إعطاء الخلافة تشريعا وأخذ هذا المنصب المقدس، ليس قابلا للإنالة
والنيل.
ومما ثبت لدى الفريقين، أن نصب الخليفة والوصي، كان في أول البعثة،
كما رواه (1) الفريقان في إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) لعشيرته الأقربين بدعوة أربعين من ولد «عبد
المطلب» واستدعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن يؤمن به ويكون وصيه وخليفته وأنه لم يجب
دعوته في ذلك المجلس ومحل الدعوة إلا الإمام علي صلوات الله عليه; وغيره من
الكفار المتلبسين بالكفر والشرك لم يجب دعوته ولم يكن أهلا للخلافة تشريعا
إلا بالايمان في ذلك المجلس الذي هو مجلس إعطاء المنصب، ولا اعتبار بزمان
التصدي للخلافة بعد أن كان مسبوقا بزمان الولاية للعهد تشريعا وقد كان غير علي
صلوات الله عليه في ذلك الزمان متلبسا بالكفر المانع عن تشريع الولاية; فلا محل
للاستدلال بالظالمية حين التصدي بسبق الظلم على عدم نيل الخلافة وبطلانها
حتى يدل على الوضع للأعم. مع أن إرادة الأعم من الكلام بقرينة، لا تقتضي
صحة الإطلاق على الحقيقة بلا قرينة; والإشكال في كفاية سبق الظلم لعدم النيل،
لابد من رفعه على أي تقدير.
تنبيهان
{عودة إلى البحث عن البساطة والتركيب وبسط الكلام فيه}
الأول: أن مفهوم المشتق بسيط أو مركب؟

(1) راجع المراجعات، المراجعة 20.
219

ومبدئيته لما نحن فيه من المسألة، من جهة أن في الأقوال قولا
بابتناء المسألة على التركيب، وأنه على البساطة يتعين القول بالوضع للمتلبس،
كما مر.
وحيث إن الواقع مشتمل على نسبة وطرفيها، والخلاف واقع في أن الوضع
لبعضها، أو لمجموعها، أو لشيئين منها، فلا غرض لنا في تعيين مفهوم البساطة;
فإن وحدة الملحوظ في حال الوضع أمر معلوم، إذ لا معنى لوحدة الوضع وتعدد
الموضوع له.
فالنزاع في أن ذلك الواحد في اللحاظ، هل ينحل إلى أزيد من واحد،
فيكون مركبا حقيقة معنونه تركبا ما، أو أنه كعنوانه واحد خارجا كما هو واحد
بصورته الملحوظة؟ وإن كان لو كان واحدا، أمكن أن يتعدد بالتحليل أيضا عقلا;
فإن الذات والمبدء والنسبة متعدد عقلا; فالبساطة إضافية، أي غير معتبر معية
شيء مع الآخر في ما وضع له لفظ المشتق، لا حقيقية بمعنى أنه لا انحلال في ذاته
عقلا إلى شيئين وأنه بسيط بقول مطلق، فتدبر.
فالبساطة، في قبال التركيب المعهود من الثلاثة، كما لعله ظاهر كلام من رده
«الشريف» (1) أو من المبدء والنسبة كما عن «الشريف» (2) أو من الذات والنسبة
كما احتملناه، على أن يكون المدلول الذات المنسوبة إلى المبدء، كما يظهر من
المطابقة المدلولية بين قولنا: «زيد قائم» وقولنا: «زيد ذو قيام»، وعدم الفرق عرفا
إلا في الوحدة للدال وكثرته أي في الجمع والتفريق. وتتعين البساطة في كون
المفهوم نفس المبدء، كما عن «الدواني» (3)، مع الاتفاق على وحدة الملحوظ وإن

(1) الفصول الغروية: ص 61.
(2) تعليقات الشريف على شرح المطالع: ص 11 ط: الحجرية، تبريز.
(3) الحاشية على شرح التجريد للدواني: ص 94، والأسفار 6: 64.
220

كان مركبا من الثلاثة، كوحدة أجزاء الدار في المدلولية للفظ، فتدبر.
{تحقيق في الاستدلال للبساطة، بلزوم محذور أخذ العرض في الفصل على التركيب}
واستدل للبساطة وأنه منتزع عن الذات باعتبار التلبس بالمبدء، بأنه إن كان
المأخوذ في المدلول مفهوم الذات والشيء، لزم أخذ العرض العام في الفصل
والثاني ذاتي لا يقومه العرض، كما هو واضح.
{الإشكال في فصلية «الناطق» ودفعه}
وأورد عليه بأن مثل «الناطق» ليس بفصل، إما لأن البسيط لا يعلم بالعلم
الحصولي المتحصل في الحد المشتمل على الجزئين المتوقف على التركب، لأنه
خلف، كما عن «الشيخ الرئيس» (1). ويمكن الخدشة فيه بأن تركب المحدود
والحد، لا يستلزم تركب كل جزء من أجزاء الحد وهو المدعى في الفصل.
أو لأن حقائق الأشياء غير معلومة لغير خالقها.
ويمكن الخدشة فيه بأن المنحصر فيه تعالى، العلم بالكنه مطلقا وفي جميع
ما ينتهى إليه المعلومات في الشيء، لا مطلق العلم بالحقائق، كما يظهر من تعليمه
تعالى «آدم» للأسماء.
أو لأن النطق بمعنى التكلم، من الكيف المسموع; وبمعنى إدراك الكليات،
من الكيف النفساني، وهما غير ذاتيين للحقيقة الجوهرية الإنسانية; وإنما هو لازم
الفصل، ودخول العرض فيه غير مستحيل. وسيأتي ما يرجع إلى الوجه الأخير.

(1) نهاية الدراية 1: 204 والأسفار 2 ص 25.
221

{دفع الإشكال بوجه آخر والمناقشة فيه}
وقد يتفصى عن الإشكال، بجعل الفصل، مبدء الاشتقاق الجعلي وهو
النفس الناطقة; وإنما يحتاج في التعبير عنه بما يصح حمله على الآخر وعلى
النوع، إلى المشتق الجعلي ك‍ «الناطق» أو إضافة كلمة «ذي» بمعنى الصاحب
المتحد معنى مع المشتق الجعلي.
وفيه: أنه هدم لصحة الحمل في الأجزاء التحليلية في بعضها على البعض
وفي مجموعها على الكل، لأن المحمول حينئذ غير الجزء منتزع عن الشيء الذي
له الجزء، والجزء غير قابل للحمل، لأن تركب غير النفس معها ليس حينئذ
حقيقيا.
والحمل يستدعي الاتحاد الحقيقي في المفهوم في المقام وفي الوجود في
الحمل الشائع; كما في حمل الناطق على الحيوان أو على الإنسان، على ما ذكروه
من أن حمل ذاتي على ذاتي أو على ذي الذاتي، حمل شائع، لا ذاتي، لا حمله مع
الحيوان على الإنسان الذي هو من الحمل الذاتي; مع أن الاشتقاق الجعلي لو صح
في الناطق، صح في الحيوان.
فإذا كان الاختصاص الذاتي بالنفس الناطقة وكان عين الفصل، فالاشتراك
الذاتي، بالبدن وهو عين الجنس; فإذا كان الناطق بمعنى ذي نفس ناطقة، كان
الحيوان بمعنى صاحب بدن له الحس والحركة، كالتامر واللابن; مع أن
الموجودين لا تركيب فيهما إلا انضماميا، بل هو أبعد عن الجنس والفصل من
المادة والصورة اللذين لا تغاير لهما مع الأجزاء التحليلية إلا بالاعتبار، أي
اللابشرطية من الحمل والبشرط لائية من الحمل والاتحاد الغير المتنافيين مع
اشتراط الانضمام.
222

{تعيين محل التركيب الاتحادي والانضمامي في الإنسان}
والظاهر أن التركيب الاتحادي، محله صاحب البدن وصاحب النفس
الناطقة أو صاحب الحياة الجسمية الحيوانية مع صاحب إدراك الكليات،
لاتحادهما في الوجود واتحادهما معا مع صاحب الإنسانية وجودا وماهية;
والانضمام حاصل بين النفس والبدن بما أنهما موجودان لا يتحدان، ولا اتحاد
لهما معا مع الإنسانية، لا هوية ولا ماهية. وهذا يظهر من رجوع المشتق إلى ذي
المبدء، كما مر.
فالفرق بين المادة والصورة النوعية مع الجنس والفصل حيث يصح الحمل
بالنحو المتقدم في الثاني دون الأول، أن الأول يراد فيه درجة القوة والفعلية،
والثاني يراد فيه ماله القوة والفعل، فالاتحاد في الأخير دون الأول; فإن القوة
لا تكون فعلية، بل صاحب القوة يصير صاحب الفعلية; فالاختلاف الاعتباري في
الفارق عن منشأ صحيح، لا مجرد فرض اللابشرطية عن الاتحاد والبشرط لائية
عن غير الانضمام.
والشاهد على ما ذكر، ما مرت الإشارة إليه من عدم صحة حمل الحياة على
النطق وبالعكس وعدم صحة حملهما على الإنسان بأحد الحملين، بخلاف حمل
ذي الحياة على ذي النطق وبالعكس حملا شائعا، وحمل كليهما معا على الإنسان
بالحمل الأولي، وعلى كل واحد منهما بالحمل الشائع على ما تقدم.
مع أنه يستلزم جعل الناطق معرفا لما هو الفصل ولازما له وإلا لزم من ضمه
إلى النفس بحيث يكون الفصل ذو نفس ناطقة، تقوم الذاتي بالعرض بمعنى
التكلم أو إدراك الكليات.
وعلى تقدير المصير إلى الملازمة، فلا ملجئ إلى جعل النفس فصلا،
223

لكفاية معرفته باللازم في التحديد وعدم ورود محذور أخذ العرض في الذاتي
على هذا التقدير بوجه غير مشتمل على الإشكال المتقدم. وإذا كان التحديد بلازم
الفصل، فلا فرق حينئذ بين «الناطق» و «الضاحك» في أن ما كان منهما بالقوة،
يكون ملازما لما هو الذاتي.
{إيضاح لذاتيات الإنسان}
ويمكن أن يقال: إن المعلوم في الحقيقة الإنسانية اشتمالها على جهتين
ذاتيين، إحداهما: مشتركة بينها وبين سائر النفوس الحيوانية وهي الحياة أو
ملزومها; والاخرى: مختصة بها من بينها وهي النطق أو ملزومه. والذاتي مرتبة
النفس ولازمها إدراك الكليات، أو قوة النطق بمعنى التكلم أو إدراك الامور
المجردة الوسيعة. والجهتان قائمتان بالنفس لا غير; فليس أحدهما قائما بالبدن
والآخر بالروح، كما قد يتخيل.
ولعل منشأه، أن النفس الحية، تكون ناطقة تارة، وغير ناطقة
اخرى، ولا يكون إلا متعلقة ببدن حيوان حساسه متحركة، وذلك غير معروضية
البدن، كما هو ظاهر.
ويمكن أن يكون المجموع من الروح الحيواني والبدن، هو الحيوان
المندرج تحت الجسم النامي، والناطق نوع من الحيوان وهو الإنسان، ولا يكون إلا
بكمال الروح بالقوة هو فوق كمالات سائر الأنواع للحيوان المقوي عليها في تلك
الأنواع; فيكون هذا المجموع الملزوم للنطق، أو لمعظم المزيات الصورية، أو
لإدراك الامور العالية، فكلها معرف لتلك المرتبة الذاتية.
لكن المجموع ليس له وجود واحد، بل لكل من البدن والروح وجود
وماهية. ولا اتحاد بينهما إلا انضماميا، وإنما الاتحاد بين صاحب الروح ما دام مع
224

البدن مع صاحب البدن ما دام معه الروح، كما أن الروح، روح الحيوان ما دام مع
البدن والبدن بدن الحيوان والإنسان.
{عدم لزوم تقوم النوع بالعرض إلا على الانحلال}
ولا يلزم تقوم النوع بالعرض في التعبير عنه بعبارة جامعة بين الجنس
والفصل المشتقين بما لهما من المفهوم، إلا إذا رجع إلى انحلال النفس في ذاتها
التي هي مبدء للحيوانية بأمر عرضي، أو في مرتبتها التي هي مبدء للإدراك إلى
ذلك العرضي.
وعلى تقدير هذا الانحلال، فاللازم تقوم كل من الجنس والفصل، بالعرض
العام، كما هو واضح، لا ما كان سببا للإشارة إلى اتحاد مفهومين مصادقين على
حقيقة واحدة نوعية: أحدهما، ما يعبر عنه بالنوع; والآخر، ما يعبر عنه بالجنس مع
الفصل اتحادا ذاتيا لا يضر به المخالفة الاعتبارية بالإجمال والتفصيل، بل المخالفة
بوجه شرط صحة الحمل.
والعبرة في الحد والرسم، بما يفهم من مبادئ الأوصاف الاشتقاقية، لا
بنفس الأوصاف.
والمبدء الذاتي وإن صح عقلا حمله على الموضوع للاتحاد خارجا
ومفهوما مع اجتماعه إلى مبدء ذاتي آخر، إلا أن توسيط المشتق، لاطراد الحكم في
التعاريف; حيث إن الرسم وما لا يكون المبدء فيه ذاتيا، أو ما لا يكون الذاتي فيه
تمام الذات، لا يجري فيه الاتحاد المفهومي; فلا جامع بين موارد صحة الحمل
الجامع بين ما كان للاتحاد الوجودي أو المفهومي، إلا ما كان بتوسيط أمر اشتقاقي
حيث لا يصح الحمل بدون توسيطه عقلا.
225

{القول بجعل الفصل مبدء المشتق الجعلي والتحقيق فيه}
وقد سبق أنه قد يجعل الفصل مبدء المشتق الجعلي، وهو النفس الناطقة;
ويستشكل بتوصيف النفس بالناطقة الموجب لعود المحذور الثابت في الاشتقاق
الحقيقي، وكون المشتق هو الفصل الحقيقي; مع أن الصفة كيف، لا مقوم ذاتي
للجوهر الإنساني; مع أن جعل المشتق جعليا والفصل النفس الناطقة كجعل
الفصل مجردا عن الذات بحسب عرف المنطقيين، كما ادعى، حيث لا يتوقفون
في الأوضاع والألفاظ في الحدود العقلية في الإشكال.
وما اجيب به: [من] أن الناطق بما له من المعنى، فصل، لا بتغير كتجريد، أو
دعوى الاشتقاق الغير الحقيقي، ففيه: أن التحفظ على الظهور بترك التجريد، جمود
في غير محله; كما أن الاستشكال في الفصلية على تقديري إرادة النطق والإدراك،
مما يؤيد كونه لازم الفصل، لا فصلا مقوما.
والتفصي عنه بجعل المشتق جعليا والفصل مبدءا لهذا المشتق الجعلي، إنما
يفيد إذا لم نحتج إلى توصيف النفس أيضا بالناطقة.
نعم، على تقدير اندفاع هذا الإشكال وصحة فصلية النفس، أمكن الجواب
عن محذور أخذ الشيء في المشتق الجعلي بأنه لتصحيح الحمل، لا لتحقيق
الفصل، فتدبر.
{بيان لحل إشكال التسلسل ودخول العرض في الذاتي، لتصحيح التركب}
ويمكن أن يقال: إنه لو اعتبر مفهوم الشيء في المشتق، لزم من كونه بنفسه
أيضا من المشتقات - فإن الشيء ماله الشيئية - التسلسل في المفاهيم التحليلية
للمشتقات، مضافا إلى ما تقدم من دخول العرض في الذاتي; لكنه يمكن أن يعتبر
في المشتق، الجامد المحض، كالذات بالمعنى الغير الاشتقاقي، كما إذا اريد به
226

ماله الصفة، كما إذا اريد بالصفة المعنى الغير الاشتقاقي، أعني صفة الذات
وهو العرض، لا العرضي، فلابد من تجريد كل عن الآخر مدلولا.
وحينئذ يمكن أن يستدل للتركب، بأن المبدء العارض - كالضحك والقيام -
غير قابل للحمل المبني على الاتحاد المفهومي أو الوجودي، على الذات
الجوهري، أو ما هو عرضي، لا عرض.
والمعلوم اتحاد الوضع في جميع المشتقات من دون فرق بين الموارد
المختلفة موضوعا ومحمولا.
وعليه، فالمبدء باختلاف الدال عليه هيئة، لا يمكن تصحيح حمله على
الذات مالم يكن هناك اختلاف في ناحية المحمول.
ومجرد اعتبار اللابشرطية لا يجدي شيئا; فلا يقال: يعتبر «الحجر» لا بشرط
عن الاتحاد ب‍ «الفرس»، فيحمل عليه.
ومجرد العروض هنا، ليس بفارق ولا مصحح لحمل العرض، بل المحمول
هو العرضي; فلابد من أن يراد بالقائم، ذات له القيام بعد تمحض الذات في
المعنى المغاير لمعاني المشتقات; فمدلول المشتق، كمدلول الموصول واسم
الإشارة في انهما كالإشارة الذهنية إلى الذات بمعرفية الصلة والصفة.
ودخول غير الذاتي في الذات أولى في التعبير عن الإشكال. والجواب عنه
ما مر منا في تقرير انتزاع الجنس والفصل.
{إشارة إلي إشكالات أخذ الذات في المشتق والجواب عنها}
ومما قدمناه يظهر الجواب عن عدة إشكالات في أخذ الذات في
المشتق:
227

منها: أن اللازم في الحمل، اللابشرطية; ولازم أخذ الذات كون
المبدء، بشرط شيء، وهو خلاف ما هو اللازم.
وفيه: أن المحمول ليس هو المبدء لا بشرط ولا بشرط شيء، بل هو عنوان
الذات المنسوبة إلى المبدء، فبشرط شيئية الذات الواقعة بنفسها أو بعنوانها في
مقام الحمل بالانتساب إلى المبدء، لا ربط لها بمثل ذلك في المبدء الغير القابل
للحمل; مع ما فيه من النقض بالموصولات; فإن مفاهيمها غير الصلة يقينا وشرائط
الحمل فيها موجودة. ولا بشرطية المبدء عن الحمل غير صحيحة لما قدمناه;
والمغايرة في الجملة مصححة للحمل; ولا يلزم البشرط شيئية، إلا فيما كان
الموضوع نفس الذات وما يرجع إلى ذلك بالنحو المذكور فيما تقدم.
ومنها: عدم الفائدة في أخذ الذات. وتقدمت فائدته ولزومه بالنحو المتقدم.
ومنها: لزوم أخذ المعروض في العرض. وتقدم أن المأخوذ فيه عرضي،
لا عرض.
ومنها: لزوم انقلاب كل من الجنس والفصل إلى النوع، لأخذ كل منهما في
الآخر; وعدم لزومه في أخذ الذات ونحوه واضح، إلا فيما كان المأخوذ مصداق
مفهوم الذات، لا نفس المفهوم. والإشكال في أخذ الذات والشيء، قد مر جوابه.
ومنها: لزوم التكرار، ولا تكرار بمجرد الاتحاد الخارجي مع التغاير
المفهومي بين الموضوع والمحمول، كما يشهد بصحته، الحاجة إلى مثل هذا
التعبير، ومرجع الحمل مع موضوعية الذات والشيء، إلى ما يعبر عنه بأنه ذو مبدء
خاص.
ومنها: اشتمال الكلام إلى أزيد من نسبة واحدة. ولا محذور فيه بل يتعين،
لتعين كون المحمول المنسوب إلى المبدء بهذا العنوان، أو ما يقاربه; وإحداهما
228

متقدمة ناقصة يدل عليها ما سيأتي في مدلول المشتق، والثانية تامة متأخرة يدل
عليها مثل الإعراب في «قائم» في «زيد قائم» وما بمنزلته من الروابط.
{عدم دفع احتمال البساطة بما ذكر وبيان لدفعه}
ثم إن ما قدمناه إنما يدفع المحذور المذكور ترتبه على التركيب; وأما دعوى
البساطة بوجه مطلق، فلا تندفع بنفي تلك المحاذير، لبقاء الاحتمال حينئذ.
فيقال: أما كون المشتق نفس المبدء لا بشرط بأن يكون الفرق بينهما هو
اعتبار البشرط لائية في المبدء دون المشتق منه، فقد عرفت فساده; وأن الصالحية
للحمل والاتحاد، لا يكون جزافا أو اعتبارية بلا منشأ صحيح; وأنه يتعين أن يكون
هناك شيء يصلح للاتحاد مع الموضوع، وليس إلا عنوانا ينطبق على ذات
الموضوع في حال تلبسه بالمبدء; فلا يبقى إلا احتمال أن يكون المأخوذ في
المدلول، نفس الذات أو الذات المنسوبة إلى المبدء بأن يكون التقييد بالانتساب
إلى المبدء داخلا في المدلول والقيد خارجا; أو بأن يكون القيد داخلا أيضا وهذا
في غاية الضعف، ويسقط احتمال البساطة بكون المبدء نفس المدلول.
{بيان لاثبات التركب}
ويمكن أن يقال: إن مدلول «قائم» مثلا هو بعينه مدلول «الذي قام» و «ذو
قيام»; والجهات المدلول عليها بدوال ثلاثة في «الذي قام» مدلول عليها بدال
واحد عرفا في «قائم»; والمنتشر في الأول دالا ومدلولا، مجتمع في «قائم» دالا
ومدلولا تقريبا.
والتحقيق اختلاف الدال في «قائم» أيضا، فالمادة تدل على المبدء في أية
229

هيئة، والهيئة تدل على النسبة بين أي طرف وطرف، والمادة المتهيئة تدل على
مجموع الثلاثة، أو على ما لا يخلو عن الثلاثة، أعني الذات المنسوبة إلى المبدء،
لا على التركب المتساوي أجزائه، بل على خصوص طرف في حال الانتساب إلى
الآخر، ك‍ «ضارب» لأحد الطرفين; و «مضروب» لآخر; و «مضروب فيه» للزمان أو
المكان; و «مضروب به» لآلة الضرب; ومعروض به للضرب ومعروض له
للمعروض ومطلق الموضوع. والمدلول للمجموع هو المشتمل على النسبة
وأطرافها; ولابد من حمله على بعض تلك الأطراف واتحاده ببعضها في حالة
الاجتماع والانتساب على اختلاف الهيئات; فالمقيد إما هو المدلول أو ما ينتزع
من المقيد.
وأما المغايرة في الدال والمدلول فيما ذكرناه مع ما عن القوم، فلما ذكرناه
سابقا من أن اختلاف المدلول يدل على اختلاف الدال والوضع الشخصي
لخصوص المادة على المبدء وهو في غيره نوعي.
ومما قدمناه ظهر: أن الإيراد على دعوى البساطة بما مر - من الفرق بين المبدء
والمشتق، بالبشرط لائية واللابشرطية; وأن المشتق لقلب المبدء عن البشرط لائية
إلى اللابشرطية حينئذ، بلزوم عدم الفرق بين «الضارب» و «المضروب»
و «الضراب» - لو ورد عليها لم يرد على ما ذكرناه; فإن المجموع يدل على ذات
صدر منه الفعل في «ضارب» وذات وقع عليه الفعل في «مضروب»; فالمحمول
على «زيد» هو المبدء اللابشرط من الحمل عليه فاعلا، والمحمول على
«عمرو» هو اللابشرط من الحمل عليه مفعولا; وهكذا في صيغ الآلة والزمان
والمكان.
ونفس المبدء المجرد عن الهيئات الخاصة لا يتحد مع شيء منها، وإنما هو
الفعل الذي لو وجد، لاتحد بشيء من طرف الفاعل والمفعول والآلة والظرف; فإن
230

هيئة «الفاعل» موضوعة لذات صدر منه الفعل، وهيئة «المفعول» لذات وقع عليها
الفعل وهيئة «الفعال» لمن صدر عنه الفعل بكثرة، والمبدء، لتعيين الفعل
المنسوب إلى الذات.
{تقرير إشكال انقلاب الإمكان الخاص إلي الضرورة من «السيد الشريف»}
وأما جعل المأخوذ في المفهوم مصداق الشيء بنحو الوضع العام والموضوع
له الخاص المختلف باختلاف الموضوعات مصاديقه، فقد أورد عليه «الشريف»
في محكي (1) حاشيته على «شرح المطالع» (2)، بانقلاب الإمكان الخاص إلى
الضرورة; فإن الشيء الذي له الضحك، هو الإنسان، وهو ضروري الثبوت
للموضوع إذا كان هو الإنسان.
واجيب عنه: بأن المحمول هو المقيد بالمبدء الغير الضروري والمقيد بغير
الضروري غير ضروري.
وأورد عليه: بأن انحلال عقد الحمل مما كان المحمول المقيد بما هو مقيد،
يوجب كون إحدى القضيتين التحليليتين ضرورية; كما أنها بنفسها ضرورية مع
عدم الانحلال، بكون المحمول ذات المقيد ودخول التقييد في المحمول بما أنه
معنى حرفي وخروج القيد عنه.
{بيان لدفع إشكال الانقلاب}
ويمكن أن يقال: إن المحمول هو المقيد بجهة الوحدة، لا بجهة الكثرة
بحسب قصد المتكلم، وهو بهذا القصد غير ضروري فرضا، بداهة أن المحمول

(1) الفصول الغروية: ص 61.
(2) حاشية السيد الشريف على «لوامع الأسرار» في شرح مطالع الأنوار.
231

واحد قصدا وكلاما، وذلك الواحد لا ينفك عن ملاحظة المبدء فيه.
فالعبرة بثبوت المبدء له إمكانا وضرورة، لا بما ينفك عنه لحاظا. وواقعية
غير ذلك - أعني التعدد أحيانا - لا يرتبط بما هو مقصود المتكلم من جهة القضية;
فإما أن يكشف عن أن المأخوذ هو المفهوم دون المصداق; أو أن التركيب
الحاصل في المقيد، لا يوجب الانحلال إلى الضروري (1)، أو عن التجريد في مقام

(1) لرجوعه إلى مثل حمل المجموع من امور بعضها غير ضرورية، وهو غير حمل الجميع
بالإمكان; سلمنا تعدد الحمل، لكنه غير ضروري بالحمل الثاني بالضرورة، وهو كاف في
المقصود من القضية الموجهة بالإمكان على حسب قصد المتكلم; فلا مسرح للانقلاب، لأنه
من الواضح أن الموجه بالإمكان بحسب قصد المتكلم هو ما لا يخلو عن انتساب المبدء فيه
إلى الذات; فملاحظة الموضوع مستقلا في الحمل وكونه موجها بالضرورة أجنبي عما حكم
عليه المتكلم بالإمكان.
ويمكن تتميم ذلك بأن يقال: مقتضى ما قدمناه في الجواب عما افيد في محاذير التركب،
من عدم المحذور في اشتمال الكلام على نسبتين مختلفتين بالتقدم والتأخر - أن النسبة
الناقصة المتقدمة موجهة بالإمكان لو كانت الجهة لها; وأما التامة فهي واردة على المنسوب
وهو مقيد بما هو غير ضروري للمنسوب إليه أولا; وأما المنسوب إليه أخيرا فلا إشكال في
كونه غير ضروري إذا كان المقيد هو الشيء الذي له الضحك وكذا الإنسان الضاحك وكذا مثل
زيد الكاتب.
ولا يقال: إن ثبوت الشيء لنفسه ضروري في جميع الأحوال ومع جميع القيود; فإن
المحكوم بالضرورة هو ثبوت الشيء لنفسه مع جميع القيود في الكلي وفي جميع الأحوال
في الشخصي لا العكس; فإن الإنسان الضاحك كالإنسان الغير الضاحك إنسان بالضرورة
لا العكس; فليس كون الإنسان إنسانا ضاحكا ضروريا للتخلف، وكذا «زيد الكاتب زيد
بالضرورة»، لا أن «زيدا زيد كاتب بالضرورة»، للتخلف عنه في غير حال كتابته.
وجعل الأمرين الثابتين في المحمول حملين مستقلين، خلف ما فرضناه وتسلمناه من
تقدم إحدى النسبتين على الاخرى; فلا يتحد مثل «زيد شاعر مجيد» أو مكثر مع مثل «زيد
كاتب شاعر».
وقاعدة جزئية الصفة قبل العلم، يراد بها الجزئية لنفس الموصوف أو لما يتحد به بلا جهة
مغايرة حدثت أو تحدث ولو بالتوصيف; فليس لازمها في المقام حملين مستقلين غير
مختلفين بالتقدم والتأخر حتى يكون أحدهما موجها بالإمكان والآخر بالضرورة.
232

الحمل عن الذات، أو عن البساطة وعدم التركيب إما لإرادة المبدء لا بشرط - كما
قيل - أو لإرادة الذات بعد الانتساب إلى المبدء، كما ذكرناه. ولا معين لخصوص
الأخير على الوجه الأول من وجهيه.
هذا في حمل الذات المأخوذة، وأما مفهوم الشيء والذات، فهو قابل
للتضييق بالتقييد، وباعتباره يكون غير ضروري ولا يرجع إلى حمل الشيء على
نفسه ليكون ضروريا على أي حال.
ثم إنه أورد فيما حكى عنه على نفسه فيما ذكر، من أن المقيد بغير الضروري
غير ضروري، بأن الواقع إن كان على طبق ما في القضية، كانت ضرورية الوفاق وإلا
كانت ضرورية الخلاف.
واجيب عنه، بأن موافقة الواقع ومخالفته مناط الصدق والكذب، لا الضرورة
وعدمها; وإن اريد الضرورة بشرط الواقع، فهي محققة في جميع القضايا الممكنة،
فالعبرة في الجهة، بعدم الاشتراط.
{استبعاد الالتزام بأخذ المصداق في مفهوم المشتق}
ثم إن الالتزام بأخذ المصداق في مفهوم المشتق، أمر مستبعد لا داعي إليه;
فإنه لا مانع من الوضع للجامع العنواني كعنوان كل قابل للاتصاف، بحيث يكون
تطبيقه على المصداق في مرحلة الاستعمال، بيد المتكلم ويكون الاستعمال في
ذلك الجامع المراد به شيء خاص بخصوصية جنسية أو نوعية أو شخصية،
أو نحوها من الخصوصيات.
233

وإنما يلتزم بالوضع للمصاديق المتكثرة في مثل اسم الإشارة مما يعتبر
التشخص فيما وضع له، لأن الاستعمال، في الشخص وعلى الحقيقة، لا فيما
يستعمل في الكليات أيضا، فيقال: «الحيوان شيء ماش» أو «متحرك بالإرادة»
بعبارة «الحيوان ماش» مثلا.
وبالجملة: فالواقع مشتمل على نسبة وطرفيها، بل وسائر الأطراف أيضا.
والبحث في البساطة والتركب، يمكن رجوعه إلى أن الموضوع له المشتق واحد
منها أو أزيد من واحد من هذه الثلاثة، لكن الواقع من البحث إنما هو في اشتمال
المدلول على الذات وعدمه، ولازمه البحث في كمية ما في المدلول. ولعل دخول
المبدء في المفهوم على سبيل الإجمال أمر مسلم بين الطرفين.
{تثبيت خروج المبدء عن مفهوم الهيئة الاشتقاقية}
والذي يقتضيه الإنصاف، هو خروج المبدء عن مفهوم الهيئة الاشتقاقية
وتمحض مدلولها في نسبة المتلبس بالانتساب إلى المبدء، إما مطلقا بنحو الحيثية
التعليلية على القول بالوضع للأعم من المتلبس، أو في حال التلبس بنحو الحيثية
التقييدية على القول بالوضع لخصوص المتلبس في حال التلبس.
نعم، يعتبر النسبة مع الذات، إما في الدال على الذات المتقيدة بنحو دخول
التقيد وخروج القيد; أو أن الاعتبار، في منشأ الانتزاع، كما لو قلنا بأن الدال على
الذات المتلبسة مجموع الدال على المبدء والدال على النسبة بدلالة اخرى ووضع
آخر، أو مع الدال على ما مر من الوجهين فيه.
وقد بسطنا الكلام في توجيه الثاني، فالمبدء وإن كان خارجا عن المدلول
إلا أن النسبة يمكن دخولها، وحيث إنها معنى حرفي، فدخولها كدخول طرفيها
234

تقريبا، لا تحقيقا. وأين حال دخول الطرف بنفسه مع حال دخوله بدخول
النسبة؟ فإن الأول مستلزم لانحلال المشتق إلى جوهر وعرض فيما كان الموضوع
جوهرا، بخلاف الثاني، فتدبر.
والحاصل: أنه لا ينبغي الارتياب في أن معنون عنوان «القائم»، «زيد» فقط
وأنه لا يتعنون به نفسه إلا في حال القيام; فالذات في حال الانتساب هو الذي
يصدق عليه القائم مثلا; والقيام المستفاد من المادة، لا يدل عليه الهيئة مرة اخرى،
مع أنه لا يدل المشترك على الخاص، والهيئة مشتركة، والقيام ما به التخصص.
{دعوى بساطة المدلول بنحو، والمناقشة فيها}
ودعوى: عدم المانع عن كون المدلول بسيطا منتزعا عن الذات باعتبار
التلبس، لا نفس الذات، إحالة إلى المجهول وفرار عن المحذور المتيقن في شيء
إلى المحتمل في شيء آخر لمحض عدم العلم به حتى يعلم ثبوته فيه أو لا ثبوته;
فأي معنى انتزاعي لا يحمل على غير الذات في حال الانتساب ولا يجئ فيه ما
يجئ في كون المدلول نفس منشأ الانتزاع.
{إمكان تصحيح البساطة، بالوحدة الاعتبارية للمدلول}
نعم، يمكن أن يكون المنتزع من أمرين أو امور، واحدا اعتباريا يكون
وحدته - كوجوده - بمحض الاعتبار. ومصبه ومورده نفس الذات في حال
انتساب المبدء إليه; كما يكون الطبيعة الواحدة الجنسية أو النوعية كالحيوان
والإنسان واحدا حقيقيا جنسيا أو نوعيا ومنحلا بالتحليل العقلي إلى جنس
وفصل; فالتعدد بالتحليل لنفس الطبيعة الواحدة كالتعدد في الأمر الانتزاعي
العنواني فيما نحن فيه بلا خلل في جهة الوحدة المطلوبة.
235

وعلى هذا، فلبساطة مفهوم الهيئة الاشتقاقية صرفا، وجه ممكن بإرجاع
التعدد إلى المنشأ المصحح للانتزاع، لكن ما قربناه أخيرا، فيه التزام بالبساطة مع
أخذ نتيجة التركيب، فتدبر.
{بيان لتعين الوحدة ووسطية المشتق بين البسيط والمركب}
ويمكن أن يقال: بتعين اختيار هذه الوحدة، لأن عنوان المشتق يطلق على
أحد طرفي النسبة في حال الانتساب، لا على نفس النسبة ولا على أحد الطرفين
في نفسه، وليس المتعدد الذي في الخارج شيء من أبعاضه كذلك; فلابد من
الالتزام بالمغايرة بين مفهوم المشتق وعنوانه لما هو في الخارج من النسبة
بأطرافها مغايرة مفهومية; فلابد وأن يكون بسيطا كعنوان المقيد بالانتساب
المنحل إلى ذات وتقيد، لا مركبا ولا عنوانا لصرف الطرف; فهو بأن يكون بين
البسيط والمركب أشبه، ولا تترتب اللوازم إلا بذلك.
{جريان البحث في وضع المشتق على البساطة المقيدة}
وقد ظهر مما مر: أن التركيب والبساطة، يجري عليهما البحث في وضع
المشتق وأنه لا يختص بخصوص الأول بعد أن كان مصبه وما هو المحمول عليه
نفس الذات ولو في حال دون حال، أي بالأخذ بالمتيقن في وضعه.
وحينئذ، فللبحث مع هذه البساطة مجال، بخلاف ما لو قيل بالبساطة
المطلقة وأن الموضوع له نفس المبدء لا بشرط الاتحاد مع الموصوف; فإن للقول
بعدم المجال، لاحتمال العموم لحال الانقضاء مجالا، كما تقدم نقله عن بعض
الأجلة.
236

تنبيه
{القول بتعين الوضع لخصوص المتلبس، لعدم المعقولية، وما فيه}
قد يقال بتعين القول بالوضع لخصوص المتلبس، حتى على القول
بالتركيب، فضلا عن البساطة، من دون حاجة إلى إعمال قواعد الحقيقة والمجاز.
وذلك، لعدم معقولية الوضع للأعم; فإن المركب إن كان عبارة عن «ذات
حصل له الضرب في زمان»، فالمقوم للمدلول فعل ماض منسوب إلى الذات،
ومثله لا يصدق على المتلبس في زمان الحال، يعني الحدوثي، إلا بالتجريد البعيد
الآتي في المستقبل أيضا; وإن كان هو «من له الضرب» مثلا بإهمال النسبة عن
الزمان، فاللازم الصدق حقيقة على المتلبس في الاستقبال مع الاتفاق على
مجازيته (1).
ويمكن أن يقال: إن لازم الإهمال، الأخذ بالمتيقن، لا الإطلاق; مع أنه لا مجال
للأخذ بالإطلاق فيما يمكن تعيينه بمراجعة العرف، ولم يعلم الوضع إلا من
الاستعمالات العرفية.

(1) والأولى تقريب الاستدلال بأن يقال: إنه على تقدير الدلالة على الزمان الخاص، فإن كان
ماضيا، فلا يصدق على الحادث تلبسه في الحال وهو كما ترى، لأن النزاع في الوضع
للمتلبس في الحال، كان بقائيا أو حدوثيا أو الأعم ممن انقضى عنه التلبس، أو يلغى
خصوصية الزمان رأسا، فيصدق على التلبس في الاستقبال وهو متفق على خلافه; فلابد من
اختيار الوسط بين ذلك العموم وذلك الخصوص وهو المتلبس في الحال، بقائيا كان
أو حدوثيا في الحال. ويدل عليه عدم الاحتياج مع إرادة الحال إلى القرينة، بخلاف الآخرين
فإن المحتاج إلى القرينة مجاز أو مشترك فيه لفظا، والثاني منتف قطعا، فيتعين الأول.
ومنه يظهر: أن إرادة التلبس فيما مضى محتاجة إلى القرينة فيما كان بعبارة اسم الفاعل
ونحوه لا فعل الماضي.
237

وليس هناك كلام من الواضع يتمسك بإطلاقه، بل علم الإطلاق على
الحقيقة على المتلبس في الحال ولم يعلم الوضع لما يعم غيره، لكنه ينتهي إلى
تعين مراجعة الأمارات المفروض عدمها في هذا المقام.
والأصل اللفظي، قد مر ما في التمسك به للقولين، لكن النسبة المأخوذة في
المدلول يمكن كونها تعليلية لا يعتبر في بقاء الصدق بقائها، وما هو الموضوع له،
التلبس الذي هو منشأ النسبة الفعلية; كما يمكن كونها على النحو المعتبر بقائه في
بقائها، كاعتبار حدوثه في حدوثها، كما إذا كانت تقييدية.
وأما الاتفاق على المجازية في المستقبل، فلعل منشأه عدم العلم غالبا،
بالتلبس في المستقبل، وهو مانع عن الإطلاق على سبيل الجزم; لكنه يبعده لزوم
كون الإطلاق غلطا إذا كان جزميا، لعدم العلم بمنشائه المصحح له مجازا; فهو
كالإطلاق بلحاظ زمان التلبس المستقبل إذا لم يعلم بمنشائه، في أنه يكون غلطا أو
كذبا اعتقاديا مع عدم العلم بالمنشأ وعلى الحقيقة مع العلم بالمنشأ لا مجازا على
أي تقدير.
وبالجملة: فالاتفاق على المجازية في المستقبل، لا يزيد على دعوى الظهور
في المتلبس في الحال، بل هذه أخص من الأول منشئا، فتدبر.
وأما على البساطة، فإن كانت لدعوى الاتحاد بين المبدء والوصف ذاتا،
فعدم معقولية النزاع، في محله، وإلا فهو قابل للمنع بما ظهر وجهه مما مر،
فليتدبر.
وقد ذكرنا أن التركيب - على القول به - ليس من أجزاء عرضية، وإلا فكيف
يتركب الواحد من الجوهر والعرض، أو الاسم والفعل على الاحتمال المذكور، ثم
يحمل ذلك الواحد على خصوص الذات دون المبدء؟ وإن كان التركيب الغير
العرضي أيضا موردا للمناقشة بما مر.
238

تحصيل وتدقيق:
{في كلام العلامة الإصفهاني (قدس سره) من اعتبار أمر مبهم في المشتق}
قد يقال، كما في حاشية العلامة الاستاذ (قدس سره) (1): إن المشتق - بعد الفراغ عن
بساطة مفهومه لحاظا وتمحض الكلام في البساطة والتركيب له تحليلا وحقيقة -
يعتبر فيه أمر مبهم مقوم لعنوانية العنوان المتحد مع الذات خارجا; فهو تفصيل
لذلك الواحد في اللحاظ، ويعبر عنه بالصورة المتلبسة بالضرب مثلا; ولا يكون
المأخوذ شيئا أو ذاتا ولا جوهرا ولا عرضا ولا اعتباريا، بل مبهما من جميع هذه
الجهات قابل الانطباق على جميعها.
ولا يخفى: أن إبهام ما وضع له اللفظ إن رجع إلى المجهولية، فلا يعقل جهل
الواضع بالموضوع له; وإن رجع إلى الإطلاق، فلابد من تشخيص مصبه; وليس
في كلامه الشريف، ما يمنع عن أخذ الشيء ولا عن التعبير عنه بالشيء المتلبس
بالضرب مثلا; فإن الصورة المتلبسة تشمل على محاذير أخذ الشيء المتلبس
ولا تزيد على محاسنه. والتوسعة المترائاة من الصورة المبهمة حاصلة في الشيء
المتلبس أيضا. ولعل في الصورة إبهاما إلى الهيئة الغير المتحدة مع الذات ليس
ذلك في الشيء.
والذي ينقدح في الذهن: أن حال الهيئة الاشتقاقية مع الجملة الدالة على تحقق
النسبة بطرفيها مطابقة في كيفية الدلالة وتعيين المدلول، كحال السقف مع البيت
في الأسماء في أن المعتبر واحدا اعتباريا، قد يوضع اللفظ لمجموع أجزائه
بلا أولوية لبعضها، فيكون المجموع مدلولا مطابقيا له; وقد يوضع لبعض ذلك
المجموع في حال الاجتماع، فيكون غير ذلك البعض مدلولا التزاميا; فالأول

(1) نهاية الدراية 1: 219 و 220.
239

كالبيت، والثاني كالسقف، المستلزم مدلوله لسائر أجزاء البيت.
ولا لفظ هنا موضوع لمجموع النسبة مع طرفيها بالمطابقة، وإنما الموضوع
ألفاظ متعددة في مثل «ضرب زيد»، لكن مدلول «الضارب» أحد طرفي النسبة
في حال تحققها، والضرب بمعنى المصدر، الطرف الآخر في حال تحققها،
ومدلول هيئة الماضي، نفس النسبة المحققة في الماضي.
وليس الحاصل في ذهن الواضع المريد لوضع هيئة المشتق، إلا الشيء
المنسوب إليه شيء، ولا يمكن في حقه الجهل بالموضوع له.
نعم، يمكن الإطلاق بالنسبة إلى جميع الخصوصيات المتصورة، كما
عرفت أن الموضوع له ليس هو طبيعي الشيء، بل في حال طرفيته لنسبة شيء
معه وفي صورة كونه منسوبا إليه شيء; فالموضوع له هو الشيء المتحد مع ذات
المنسوب إليه، لكن لا مطلقا، بل في حال انتساب شيء إليه ومع لحاظ ذلك
الانتساب. والدلالة على الانتساب، التزامية بناء على استفادة النسبة من الاجتماع،
ومطابقية، بناء على استفادتها من الدال على الطرف. وقد ذكرنا تعين الدال على
النسبة، فلاحظ.
تتمة وتكميل
تبين مما قدمناه: الفرق بين المشتق ومبدئه، بالمبائنة; وأن مدلول أحدهما
طرف للنسبة والآخر الطرف الآخر لها; وأن الدال عليهما في المشتق هو صوغ
المشتق الدال على الذات والنسبة، من المادة; ومرجعه إلى دلالة المجموع بوضع
آخر على مدلول آخر، يعني أحد الأطراف في حال الانتساب والاجتماع،
لا مطلقا، ولا مجموع الامور الثلاثة مثلا.
240

والشاهد على استفادة الذات من المتهيئ بالهيئة، هو صحة الحمل،
بخلاف سائر الهيئات، كهيئة الأفعال الدالة على النسبة مع دلالة المتهيئ بها
بنفسه على المبدء وحده، فتدل على النسبة وأحد طرفيها فيها، وهنا تدل على
الطرف الآخر للنسبة مع الدلالة على النسبة; وأنه لو كان مفاد الهيئة، النسبة، ومفاد
المادة، المبدء، ولم تكن دلالة اخرى ودال آخر، فلا وجه للحمل الذي ملاكه
الاتحاد في الوجود، على الذات; ولا وجه للفرق بين مثل «اسم الفاعل» وبين
«المضارع» في المدلول، مع وضوح الفرق في المفهوم العرفي لهما بالشهادة
المتقدمة.
{تفرقة بين المشتق ومبدئه ودفعها}
والفرق بين المشتق ومبدئه، باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية بالنسبة إلى
العوارض، كما في «الفصول» (1)، أو خصوص الاتحاد مع الذات كما عن غيره،
غير تام; فإن المبائن للذات لا يحمل عليها ولا يتحد معها باعتبار اللابشرطية
عن الاتحاد، ولا يعقل فيه شرط الاتحاد، حتى يعقل الإطلاق المساوق
لللابشرطية.
والاتحاد بين العرض وموضوعه - لو تم - لا يصحح الحمل في نظر من
لا يرى إلا المبائنة ويصحح حمل الدال على المبدء، والعرف قاض بخلافه. ولو
كان المبدء مستفادا من المادة والنسبة من الهيئة، فليس هناك في اللفظ شيء آخر
يمكن أن يدل على الذات وكان حال المشتق حال هيئة المضارع، كما مر. وقد
ذكر العلاج في هذا المقام.

(1) الفصول: ص 62.
241

{إمكان انتزاع المشتق بمفهومه عن الذات، وعدمه}
وهل يمكن دعوى أن المشتق بمفهومه، منتزع عن الذات ولو باعتبار تلبسها
بالمبدء ومنطبقا عليه ومع هذا يكون الذات بعنوانها أو بعنوان مقارب لها، صدقا
ومنطبق عليها، غير واقع في ذلك المفهوم؟
فالذي يمكن أن يقال: إن الأوصاف تفترق عن غيرها في دلالة المتهيئ بالهيئة
فيها على الموصوف، ودلالة الهيئة فيها وفي غيرها على الاتصاف النسبي مع
اشتراكهما في الدلالة على المبدء دالا ومدلولا، أعني المادة والمبدء في الجميع;
وصحة الحمل وعدمها هو الفارق بين الأوصاف والأفعال، فليتدبر.
{بيان لانتفاء النزاع في بساطة أو تركب المدلول، بتعدد الدال}
وبالجملة: فالصورة الملحوظة بنهج الوحدة هي الموضوع لها اللفظ، أعني
المشتق، ولا ينبغي التفوه بدلالتها على المبدء المستفاد من المادة; فإنه لا يمكن أن
تكون الدلالة على المبدء في الكلمة الواحدة بدالين، كما في سائر المشتقات من
الأفعال; فالذي ينحل إليه الصورة الموضوع لها لفظ المشتق، إنما هو الذات حال
الانتساب إلى المبدء بنحو دخول النسبة وكونها مفادة بصوغ المشتق الدال على
الذات من المادة الدالة على المبدء.
فلا ينبغي أن ينازع في أن مدلول المشتق بسيط أو مركب، لأنه مشتمل على
دالين لكل منهما مدلول كالفعل المضارع; فالوضع والموضوع له متعدد، لا بسيط
ولا مركب فيهما والمادة فيهما دالة على المبدء أو على المصدر، والأقرب الأول.
والأصح، أن مدلول المشتق بعد كونه واحدا لحاظا على مقتضى وحدة
الوضع فهو متعدد تحليلا إلى ذات ونسبة; لكن الدلالة على المنتسب تنظيرا
242

بالاسم القائم مقام المشتق ك‍ «ذي قيام»، لا تخلو عن وجه موافق لما قدمناه،
فيسقط سائر الاحتمالات.
{إشارة إلي المحاذير التي تترتب على بعض الأقوال وبيان المختار}
فاتضح مما قدمناه، أنه - بعد الفراغ عن وحدة الملحوظ في مقام الوضع
والاستعمال، وتمحض البحث في التعدد بعد التحليل وعدمه، وأن التعدد
المبحوث عنه إنما هو أن يكون مجموع الامور الثلاثة في موطن التحليل، أو اثنان
منها، أو خصوص الواحد، والأخير هو البساطة المنسوبة إلى «الدواني» والوسط
ما عن «الشريف» (1) والأول ما عن غيره من القائلين بالتركب - ينبغي ملاحظة ما قد
مر من أن القول بالبساطة بالوجه الأخير لازمه عدم صحة الحمل وعدم الفرق بين
القيام والقائم; والتركب على الوجه المنسوب إلى «الشريف» (2)، لازمه عدم الفرق
بين الفعل والمشتق; مع وضوح الفرق بصحة الجري والحمل في الثاني دون
الأول إلا بحسب التأويل، مع تنافي القول بالانتزاع عن الذات باعتبار التلبس
بالمبدء المستلزم لصحة الحمل على منشأ الانتزاع مع القول بخروج الذات
رأسا، لا بنفسه ولا بما يعمه، عن المدلول.
كما أن القول باعتبار الصورة المبهمة قد عرفت وجه المناقشة فيه، فيتعين
الاحتمال الآخر، وهو أن يكون المدلول في موطن التحليل، الذات في حال
التلبس بنحو خروج النسبة عن مدلول الهيئة أو دخولها على الاحتمالين.
وهذا الذي يتعين أن يكون ملاكا للحمل المبني على الاتحاد، ولا يضر عدم
استفادته من الأقوال على اختلافها بعد تعينه عقلا، كما عرفت. والله العالم.

(1) و (2) - تقدم في الصفحة 231.
243

وأما لزوم التكرر من أخذ المفهوم أو المصداق، فقد مرت الإشارة إلى دفعه
فيما تقدم والظاهر عدم لزومه في أخذ الشيء ونحوه من المفاهيم العامة. وليس
تطبيق الكلي على مصاديقه مستلزما للتكرار; وليس لاعتبار المصداق وجه حتى
يدفع محذور التكرار فيه بوجه.
التنبيه الثاني
{في التحقيق في الفرق بين المشتق ومبدئه}
إن الفرق بين المشتق ومبدئه، كالفرق بين المتخالفين الذين قد يكونان من
المتقابلين، فيمتنع اجتماعهما في واحد; وقد لا يكونان منهما، فلا يمتنع
اجتماعهما; فمثل السواد والأسود والبياض والأبيض ومثل صفات الواجب الذاتية
المتحد مبدئها مع ذاته - تعالى عن الصفات الكمالية الزائدة على الذات - لا تقابل
بين المشتق والمبدء فيها; ومثل «زيد الأبيض» والبياض و «زيد القائم» والقيام،
لا اتحاد للذات فيها مع العرض إلا بوجه دقيق عقلي يذهب إليه القائل باتحاد
العرض والموضوع وجودا.
وليست الإطلاقات العرفية إلا مبنية على التعدد; ولذا لا يصح حمل المبدء
عند العرف على الذات ويصح حمل المشتق لعدم رؤيتهم سوى المبائنة.
والمعتبر في الحمل ثبوت الاتحاد من جهة والمغائرة من جهة ما بين الموضوع
والمحمول; ولا مداخلة في صحة الحمل لاتحاد مبدء المحمول مع الموضوع، بل
هو أمر يتفق أحيانا، ويدور مدار ما قدمناه في قسمي المتخالفين; ولا يدور صحة
الحمل مدار ثبوته - أي الاتحاد بين المبدء والموضوع - ولا مدار عدمه.
ففي الحمل الأولي لابد من المغايرة ولو بالإجمال والتفصيل والجمع
244

والنشر، وفي الشائع لابد من الاتحاد في الخارجية، ولا يكون إلا بكون هوية
واحدة منسوبة إلى الموضوع والمحمول فيهما بالذات أو بالعرض أو مع
الاختلاف بحسب اختلاف الموضوعات والمحمولات في الذاتية والعرضية.
واختلاف انحاء الصدق بل وصوله إلى حد لا يعرفه العرف بعد أخذ المفهوم
وما يرجع إليه من العرف، لايضر بالحقيقة في الإطلاقات، لعدم ارتباط غير
المفاهيم بالعرف; فكون شيء لشيء، محفوظ ملاكا في كون البياض أبيض وكون
الواجب عالما وعلما. وعدم معرفة العرف للمصداق يمنع عن جريه بما هو من
أهل العرف قبل المعرفة، وأما بعدها ولو بسبب من الإيمان فلا.
ومما أشرنا إليه يظهر الخلل في كثير مما قيل في المقام من التفصيلات
والتكلفات.
{جريان النزاع في الإسناد المجازي إلى المبدء}
ثم إن النزاع في المشتق يجري فيما كان الإسناد إلى المبدء مجازيا
كالحقيقي; فلا فرق في جريان النزاع بين مثل الماء الجاري والميزاب
الجاري، ولكل منهما تلبس وانقضاء. والتفرقة، بلا وجه متجه; بل يمكن أن يقال
بالجريان مع المجاز في الكلمة، الدال على المبدء.
وتكون نتيجة البحث في سبك المجاز من المجاز وعدمه. والعنوان هو
التجوز بالنسبة إلى المتلبس في حاله وعدمه، كان الإطلاق في حال التلبس
مشتملا على تجوز آخر أو لا; فالبحث في التجوز يعم البحث في التجوز الثاني
والبحث في أصل التجوز كما فيما كان الأصل حقيقة، فتدبر، والله العالم.
245

الأوامر
= مادة الأمر وصيغته
= تقسيمات الواجب
= تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد؟
= نسخ الوجوب
= أقسام الوجوب
= المرة والتكرار
= الفور والتراخي
= الإجزاء
247

والبحث في الأوامر - من جهة رجوعه
إلى البحث في تشخيص الظهور - من
مسائل الاصول على الميزان المذكور
سابقا، وبعض المباحث الراجعة إلى التصور
والتصديق المربوطين بهذه المسألة
الاصولية، من مباديها.
الفصل الأول
في مادة الأمر وصيغته
{مادة الأمر}
فمنها: شرح مفهوم «الأمر» المستعمل في معان عديدة، لكن المستعمل
فيه، بلا قرينة وبدال واحد، بحسب الظاهر، معنيان: الطلب المدلول عليه بدال
إنشاء، والشيء; والأمر فيهما يدور بين الحقيقة والمجاز والاشتراك المعنوي
واللفظي.
{محاذير الحقيقة والمجاز والاشتراك المعنوي في مفهوم الأمر}
أما الحقيقة والمجاز، فلازمهما العلاقة بين الطلب والشيء; ومصححية ما
بينهما من العموم والخصوص، للتجوز، في غاية البعد، مع ما سيأتي من النقض
المشترك.
249

وأما الاشتراك المعنوي، فلازمه عدم الحقيقة إذا استعمل في خصوص
الطلب، إذ لا جامع أعم من الشيء، فهو الموضوع له; مع أن وحدة المعنى لازمة
الانحفاظ في التصاريف; مع أن ما بمعنى الطلب يجمع على «أوامر» وما بمعنى
الشيء على «امور»، وهذا يعين الاشتراك اللفظي.
مضافا إلى أن ما بمعنى الطلب يطرد اشتقاقه، لأنه من الأعراض; وما بمعنى
الشيء لا يطرد اشتقاقه، والمعنى الواحد لا يمكن أن يكون حدثيا مشتقا وغير
حدثي، أو جامعا بينه وبين الجواهر، فلا يكون له قيام بشيء مختلفا نسبة القيام
المصحح لاختلاف المشتقات.
{بيان لتقوية الاشتراك المعنوي ودفعه}
ويمكن أن يقال: إن الإرادة، بمعنى المشية، وهي مختلفة بحسب المتعلق;
فالمتعلقة بفعل النفس تكوينية، والمتعلقة بفعل الغير تشريعية، والاولى قوية،
والثانية ضعيفة، لاحتمال الانفكاك عن المراد التشريعي.
وإضافة المراد إلى المريد، معنى حدثي قابل للاشتقاق، كانت تكوينية أو
تشريعية، وإضافتهما إلى القابل مختلفة; ففي التشريعية حدث قابل للاشتقاق،
وفي التكوينية يختلف باختلاف المتعلق من الجواهر والأعراض; فلا مانع من
جعل الموضوع له الجامع بين المرتبتين، القابل للاشتقاق بحسب الإضافة إلى
الفاعل مطلقا، وإلى القابل، في بعض الموارد والمراتب دون بعضها.
ويمكن دفعه بأن جميع علائم الحقيقة موجودة في الطلب الإنشائي، ولازم
الاشتراك المعنوي، التجوز في الاستعمال في الخصوصية، دون الإطلاق، مع أن
إطلاق الشيء يتبادر منه المعنى المنسوب إلى القابل - يعني الماهية المشيئ
وجودها - الذي لا يطرد اشتقاقه، وكذا الأمر بمعناه، بخلاف الشيء المصدري
250

بمعنى المشية والإرادة المنسوبة إلى الشائي والمريد.
وأما إطلاق الأمر في مقام الإرادة التكوينية، فمحتاج إلى القرينة الثابتة في
مثل قوله تعالى:) إنما أمره إذا أراد شيئا... ((1) الآية; مع أنه - كما مر - يكون الأمر
بمعنى الشيء بالمعنى المجموع ب‍ «أمور»، غير الأمر والشيء بالمعنى المجموع
على «أوامر»; فالموضوع له في الموضعين متغايران متعددان; فالأظهر ثبوت
الاشتراك اللفظي للأمر، بين الطلب الإنشائي والشيء بمعنى الماهية المشية،
المقصور فيها النظر إلى الإضافة إلى القابل من الجواهر والأعراض، وجمعهما
مختلف، والأول مشتق والثاني لا يطرد اشتقاقه.
ولابد فيهما من قرينة، كما في كل مشترك لفظي; ويمكن الاكتفاء بالقرينة
على انتفاء إرادة كل منهما في تعيين الآخر، فيقدم على أقرب المجازات أيضا إلا
مع قرينة خاصة على إرادته.
{اعتبار العلو وعدمه في مادة الأمر}
وهل يعتبر في الأمر العلو، أو الأعم منه ومن الاستعلاء، أو لا يعتبر؟ كما
ربما يستفاد من صحة توبيخ الآمر إذا كان سافلا، فيجاب بالتوبيخ على الآمر
الإدعائي بالاستعلاء، لا على الحقيقي ولو بالاستعلاء.
يمكن أن يقال بكفاية المعرضية للائتمار ولو لم يكن علو ولا استعلاء، كما
لا يكفي مطلق الاستعلاء والعلو بلا معرضيته، ولازمه عدم تحقق الأمر مع العصيان
المعلوم المطلق مع إمكان الائتمار، وإنما تنكشف الإرادة المستحق بسببها العقاب
في الجملة، كما فيما لم يتمكن المولى من كشفها.

(1) يس: 82.
251

والبحث عن ذلك غير مثمر في الاصول، لأن الأوامر الشرعية، من العالي،
تقوم الأمر بالعلو أولا؟
ودعوى أن أمر السافل - بماله من المفاد - لا إيجاب فيه، والأمر لا يتقوم
بالعلو، فالأمر بماله من المفهوم ليس ظاهرا في الوجوب، فالمسألة اصولية، مع
أنها في المسألة الآتية مفيدة، فلا حاجة إلى عقد مسألة اخرى، مدفوعة: بأن
للمخالف أن يقول: الأمر ظاهر في الوجوب وأمر السافل لا إيجاب فيه، فليس
أمرا، فالأمر متقوم بالعلو.
والحل: أن المسلم انتفائه هو الإيجاب في عرف العقلاء وأحكامه، لا مطلقا
ولو كان من قبل الآمر، بل يمكن التسلم على نفي الأمر موضوعا أو حكما في
عرف العقلاء إذا كان من السافل، وذلك غير المبحوث عنه في اللغة والعرف.
{ظهور مادة الأمر في الوجوب وعدمه}
ثم إنه وقع الكلام في مادة الأمر: أنها ظاهرة في الوجوب، أو الأعم، أو أنها
من المشترك اللفظي؟
فعلى الأول تحمل على الظاهر مالم تقم قرينة، على المجاز.
وهذا البحث [وما يليه، بحث] عن تشخص الظهور الذي هو
حجة، كالبحث عن وضع المشتق للمتلبس، وعن الوضع للصحيح وعن
الحقيقة الشرعية، وهو من الاصول، للوقوع في طريق استنباط الحكم
الشرعي، فيشمله الجامع الغرضي على ما قدمناه، بل الموضوعي بنحو الترديد،
أي البحث عن الحجية أو تحقق ماله الحجية، والأول، عن الشأنية أو
الفعلية.
252

وبعبارة اخرى، البحث عن ثبوت الحجة بنحو الهلية البسيطة أو المركبة
وبنحو الشأنية أو الفعلية.
والبحث المذكور يبتنى على انقسام الحكم إلى لزومي وغيره، وذلك
- بحسب الملاك - يعرف بكون الفعل نافعا يضر تركه فيكون واجبا; أو لايضر
تركه فيكون مندوبا; أو كونه ضارا يحتاج إلى تركه ويضطر إلى تركه أو لا يضطر
إلى تركه، فيكون الأول حراما والثاني مكروها; وقد لا ينفع ولا يضر فيكون مباحا;
والمدار; على النفع والضرر العامان لمجموع النشآت بحسب علم الشارع المحيط
بمصالحها ومفاسدها أي بمصلحاتها ومفسداتها.
فالكلام في احتياج الوجوب إلى القرينة، أو الندب، أو احتياجهما
للاشتراك اللفظي أو المعنوي; ومع عدمها يتوقف على الثالث ويرتب أثر الجامع،
لو كان له أثر، للعلم بإرادة واحد أو الجامع وعدم العلم بالزائد فيعمل معاملة
الندب والمكروه لا بخصوصهما; لأصالة عدم الإلزام.
ويستدل على الأول، [أي الظهور في الوجوب] بالانسباق من الإطلاق، وقد
يجعل ذلك من التبادر الإطلاقي في مقابل الذي هو علامة الحقيقة مع الاشتراك
في الاختلال بالقرينة على الخلاف; فلعله يريد أن المختل هو الدلالة التصديقية
دون التصورية; فبالقرينة على الخلاف يتسلم الظهور الأول دون الثاني.
ويؤيد ذلك بآيات وروايات، منها قوله تعالى:) فليحذر الذين يخالفون عن
أمره ((1) الخ وفي الاستدلال أن الأمر الاستحبابي خارج، ولا يعلم أن خروجه
بالتخصيص أو التخصص، ولا يثبت الثاني بأصالة العموم مع العلم بالمراد والشك
في كيفية الإرادة.

(1) النور: 63.
253

ويمكن المناقشة في الاستدلال بآية «الذم» (1) على ترك السجود المأمور به،
بأنه يمكن أن يكون لكون الأمر محفوظا بقرينة الحتم أو بالصيغة، على القول بأنها
حتمية، كما يستفاد من آية اخرى هي قوله تعالى:) فقعوا له ساجدين ((2)، لا لكونه
مصداقا للأمر; سلمنا، لكن الجواب بالخيرية يدل على إنكار الأمر الاستحبابي
أيضا بالسجود وأنه طلب للمرجوح، ومثل هذا كفر مستحق عليه العقاب، لا بما
أنه مخالفة للأمر.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لولا أن أشق على امتي لأمرتهم بالسواك» (3); فإنه يدل على
انتفاء الأمر بما له من المعنى مع ثبوت الاستحباب.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا بل إنما أنا شافع» (4); فإنه نفى الأمر مع ثبوت
الاستحباب ولو بسبب شفاعته.
ويمكن الجواب عن الاستدلال، بمثل ما مر من معلومية المراد; وأنه نفى
الإلزام، ولعله كان قرينة على إرادة الأمر الإيجابي أو الملازم للائتمار; وأنه المنفي
في المقامين لا مطلق الأمر. والاستعمال أعم من كونه بلا قرينة، وأصالة عدمها
متبعة في تعيين المراد وهو معلوم، والمجازية غير مساق لها البيان، مضافا إلى
بعد الحقيقة الشرعية في مادة الأمر; فالمحاورة منهم (عليهم السلام) جرى على الطريقة
العرفية. وكشف المفهوم العرفي بهذه التعبيرات وإن كان ممكنا، إلا أنه، حيث
لا يتبين المفهوم العرفي، وإلا فمع بيانه ومخالفته، تحمل هذه التعبيرات على
بعض ما مر.

(1) الأعراف: 12.
(2) ص: 72.
(3) الوسائل 1 الباب 3 من أبواب السواك ح 4.
(4) مستدرك الوسائل 3: 32، والموجود فيه «شفيع» بدل «شافع».
254

{صيغة الأمر}
{ظهور صيغة الأمر وما بحكمها في الوجوب}
ويمكن أن يقال: إن الحكم متحد في جميع ماله دلالة على إنشاء الطلب،
كان هو الأمر بمادته أو بصيغته أو الكتابة المقصود بها الإنشاء ولو بنحو الحكاية
عنه، أو الإشارة الفعلية، مما لا ريب في صحة إنشاء الطلب بها، مع أن الطلب
يكون قويا حتميا تارة، وضعيفا ندبيا اخرى، ولا مؤاخذة في الثاني دون
الأول.
[و] إنما الكلام في استفادة الإلزام بمجرده، أو أنها محتاجة إلى القرينة عليه،
أو أن المحتاج إليها الندب، فتحمل على الإلزام مالم تقم قرينة على الندب.
{الاستدلال بعرف العقلاء في الظهور في الوجوب}
والمعلوم بسبب المراجعة إلى عرف العقلاء، وما يجري بين الآمر العالي
منهم والداني، أن الدال على البعث والطلب بأي طريق [وقع]، فهم لا يتحيرون في
العمل به بسبب عدم القرينة على الحتم، مع اختلاف الدواعي من المأمورين
المختلفين في الفعل والترك اللذين لا محذور فيهما مع الندب الواقعي،
ولا يراجعون الآمر في أنه أراد الحتم حتى يجروا نحو العمل، أو الندب حتى
يراعوا مصالحهم، فيتركون العمل حتى يثبت لهم القرينة على إرادة الحتم، بل
لا يتركون حتى يثبت لهم إرادة الندب.
255

{إرادة الندب تحتاج إلى القرينة بخلاف الوجوب}
فمن ذلك يعلم: أن المحتاج إلى قرينة الترخيص هو الندب; وأن الحتم
لا يحتاج إلى دلالة أزيد من الدلالة على الطلب; وأن مجرد إنشاء الطلب لا نقص
في منجزيته للتكليف، بل في معذريته لعدم التكليف; فالمحتاج إلى الإعلام
والاستعلام، هو الندب والترخيص في الترك، لا تحتم الطلب; فإما أن يكون
الوجوب هو الحقيقة والندب هو المجاز، أو يكون الاشتراك اللفظي بينهما،
ويكون عدم القرينة على الندب كافيا في تعين الوجوب، بخلاف العكس.
وربما يمكن دعواه في الوضع للقدر المشترك وأن الكمال غير محتاج إلى
البيان، بخلاف النقص، كما ذكروا اقتضاء إطلاق الأمر النفسية والتعيينية والعينية،
لأن المقابل هو المحتاج إلى البيان.
وعلى أي تقدير، فلا ينبغي إنكار أصل هذا المطلب وقد ادعي اتفاق العلماء
إلى زمن الصحابة على الاستدلال للوجوب بالأوامر من غير نكير، ونقل ذلك عن
السيد (قدس سره) (1)، ولابد من تأويله بما يناسب مذاقه من الاشتراك اللفظي ببعض ما
أشرنا إليه.
{كثرة الاستعمال في الندب غير مانعة عن الظهور في الوجوب}
ثم لا يخفى: أن كثرة الاستعمال في الندب مع القرينة لا يختص بالشرعيات،
بل هي كذلك في العرفيات، ولا ينثلم به الظهور فيما يستمر العمل على بقاء
ما كان، كما لا يخفى. وأما النقض بالعام والخاص، فإنما يتم في الجامع بين
النظائر، وإلا فلا مجازية في التخصيص.

(1) معالم الاصول: ص 46، والذريعة إلى أصول الشريعة 1: 52 و 53.
256

وهذا الذي ذكرناه، لا يختص بصيغة الأمر ولا بمادة الأمر، بل يعم كل ما
ينشأ به الطلب، كما لا يختص بطلب الفعل، بل يعم كل ما ينشأ به الزجر وطلب
الترك.
نعم، لا يجري فيما لا يعبر به عن الواجب إلا بقرينة ك‍ «أحب»، و «ينبغي» أو
ما لا يعبر به عن الندب إلا بقرينة صارفة عن الصراحة، ك‍ «لابد» و «عليه»
ونحوهما، أو ما لا يعبر به عن الحرام إلا بقرينة ك‍ «لا يصلح»، أو عن المكروه إلا
بالصارف عن الصراحة ك‍ «لا يحل» ونحوه.
وأما ما افيد من أن الاستعمال كثيرا في الشرعيات في الندب، يمنع عن
استفادة الوجوب من مجرد الأمر، أو الأمر بالصيغة، ففيه: أن الاستعمال الكثير في
غير الإلزام لا يختص بالشرعيات، بل هو واقع في العرفيات أيضا، وأنه حيث كان
مع القرينة فالبلوغ إلى حد الاستغناء عن القرينة إما بتقديم المجاز المشهور، على
القول به، أو إيجابه للتوقف عن الحمل على الحقيقة الأصلية يعني الوجوب،
ممنوع.
والعمل المستمر من عرف العقلاء يشهد بتعين الحمل على الوجوب; وأنه
لا قصور في إفادته للوجوب مع عدم القرينة على الندب; كما أن المفروض في
الشرعيات انتهاء الأمر - بعد الفحص عن الجوامع الحديثية - إلى الوصول والعدم;
فالمتنازع فيه هو صورة عدم القرينة الواصلة على الندب مع الفحص.
وعليه: فعمل المتشرعة، كعمل العقلاء في الحمل على التحتم مع عدم
القرينة على الندب ولو بعد السؤال والمراجعة; وأنه مع العدم لا يحتاج استفادة
الحتم إلى الدليل عليه; وأنه لا يرونه معذورا في المخالفة بمجرد عدم وصول
القرينة على الحتم. وليفرض انحصار الطريق إلى القرائن في مثل كتاب
«الوسائل»، وأن فاقد الاطلاع على القرينة على الندب فيه لا يكون معذورا، لعدم
257

القرينة على الإيجاب فيه. وعمل المتشرعة، هنا كعمل العقلاء في أوامرهم،
فتحفظ.
ومما قدمناه ظهر: أن الظهورات اللفظية الوضعية، على طبق الظهورات
الفعلية بالنسبة إلى ما تحمل عليه بسبب الغلبة ونحوها، لا أن النزاع يختص
بخصوص الألفاظ المنشأ بها البعث، بل يجري ملاكه في جميع ما ينقسم إلى
القسمين - دالا ومدلولا - على حسب ما قدمناه. وكثرة الاستعمال في كل مع
القرينة لا تؤثر في موارد عدم القرينة، وليست الكثرة بالغة إلى حد المجاز
المشهور المستغنى عن القرينة، بل يأتي مثله في سائر الدوال على الإنشاء.
نعم، الإنشاء اللفظي - لأنه توسعة إكرامية للبشر - فاللفظ فيه نائب
بالمواضعة عن الإشارة بغير اللفظ، كما أنها تنوب عنه في صورة عدم التمكن أو
تعلق الغرض بعدم التلفظ; وكما أن المحتاج في الإشارة إلى القرينة، الندب
والكراهة، فكذا في النائب عنهما، لعدم الاختلاف في الدلالة ولا في شروطها بل
في الدال.
وأما الجمل الخبرية المستعملة في الطلب - إسمية كانت أو فعلية - فقد مر
أن الكاشف عن إنشاء البعث هو الذي يستظهر منه الحتم مع عدم بيان الندب، من
دون اختصاص ببعض أقسامه، إلا ما يغلب التعبير به عن غير الحتم.
{تحقيق في الإنشاء بالإخبار}
وأما الإنشاء بالإخبار عن الوقوع، وهو الذي جعل مفروغا عنه، بل جعل
التوسيط بالإخبار سببا للأظهرية من الصيغة في الدلالة على الوجوب، فلابد من
النظر في كيفيته بحسب الصناعة; فإن مثل «يعيد» ليس المخبر عنه قابلا للإنشاء
المتعلق بالنسبة التي هي مضمونه، بخلاف مثل «أنكحت»; فإن النسبة الإنشائية
258

يمكن الإخبار عن سبق تحققها بإنشاء آخر، ويمكن إيقاعها بهذا الإنشاء، بل
حيث كان واقع الإعادة مثلا ممن لا داعي له إليها سوى البعث، لازما للبعث فهي
كاشفة عنه، كشف اللازم عن الملزوم، كما أنه يكشف عنها في المنقادين
كشف الملزوم عن اللازم.
وعليه: فهذا الاستلزام يكفي في الدلالة; والإنشاء لا يعتبر فيه إلا أن يكون
المنشأ به دالا على المنشأ وكاشفا عنه بحيث يصح إنشائه به، بلا اختصاص بغير
الدلالة الالتزامية مع القرينة على الإنشاء وتعلقه بالمدلول الإلتزامي ولو لمكان أن
غيره غير قابل للإنشاء. وأما الكذب فلا مانع منه في الكنايات المقصود بها غيرها
من اللازم أو الملزوم، أعني الإخبار عن الغير أو إيقاع الغير بالإنشاء، كما لايضر
في مثل «زيد كثير الرماد» إلا عدم الجود واقعا.
نعم، حيث كان الملزوم طبيعة إنشاء الطلب، فلا يلزم إنشاء المخبر بهذا
الإخبار، بل لا يلزم أصل إنشائه، كما هو الحال في إخبارات نقلة الفتاوى; فإنه
يكفي كشف الإنشاء للطلب المخبر عنه بالإخبار عن لازمه، من دون إنشاء من
المخبر عن اللازم.
وأما كون الإنشاء بسبب الإخبار أبلغ في الوجوب، فلمكان أن إعلام
الإنشاء للوصول إلى النتيجة العملية; فالوصول بالعكس من النتيجة العملية ادعاء،
إلى إعلام الإنشاء، آكد في مضمون الإنشاء، فهو أظهر في الإيجاب.
{تفرقة بين الهيئات المشتركة بين الإنشاء والإخبار والمختصة}
ثم إنه يفترق الهيئات المشتركة بين النسب الإنشائية والخبرية، عن
المختصة، باحتياج الأولى في الدلالة على إنشاء الطلب وغيره من الإنشائيات
بها، إلى القرينة، لأن الموضوع له في الهيئات، خاص، ولا جامع بين
259

الخصوصيات إلا العنواني الاسمي، كما لا جامع بين ما أخبر عنه وما انشئ إلا
عنوانيا، فلا يمكن تفهيم الإنشاء إلا بالقرينة، كسائر المشتركات اللفظية المحتاجة
إلى التعيين القصدي والكلامي في كل من المعاني، وإن كان إحدى الخصوصيتين
هنا - وهي الإخبار - غير محتاجة إلى القرينة بخلاف الإنشاء; فمع قصد الإنشاء
ونصب القرينة عليه، يكون كالإنشاء بالصيغة المختصة، ويلزمها الوجوب الذي
يلازم حكم العقل بالتحسين والتقبيح.
فعليه: لا فرق بين الجمل الخبرية، إذا قصد بها إنشاء الطلب ودل عليه
بالقرينة، في أصالة الوجوب، بمعنى الغلبة التي هي منشأ الظهور بلا حاجة إلى
القرينة على الوجوب، بل المحتاج إليها الندب.
ومما قدمناه ظهر: أنه لا تأثير لكون إرادة الإنشاء على الحقيقة في الاستعمال;
بل إذا علم قصد الإنشاء في مورد، ولو بنحو سبك المجاز، فإن ظهوره الفعلي في
الإيجاب متبع، كما لو كان الاستعمال حقيقيا.
كما ظهر: أن خصوص الموضوع في الدال على النسبة، وعدم الجامع بين
الخصوصيات الوجودية للنسب، واختلافها بالحقيقة في الإخبار والاعتبارية في
الإنشاء مع كون الافتراق من الطرفين، ودخول الطالب في الاعتبارية لأنها نسبة
طلبية، وأجنبية المتكلم في الاخبار عن الواقعية، يوجب الاشتراك اللفظي. وأصله
الحاجة في التعيين إلى القرينة، إلا أن يكون عدم القرينة في مقام على إحدى
الخصوصيات، بحكم القرينة على بعضها المعين. وقد مر الكلام فيما يرجع إلى
عموم الوضع وخصوص الموضوع له في محله.
{صلة البحث بالتحسين والتقبيح}
وحيث عرفت أعمية مورد الحكم من الألفاظ، عرفت أنه ليس شيئا مربوطا
260

باللغة; وأنه ثابت في كل بعث أو زجر إنشائيين، بل تعرف أنه حكم عقلي منته إلى
التحسين والتقبيح; وأن من شأن العبودية التحرك بالتحريكات المولوية حتى
يتبين عدم الحتم والانزجار بزجر المولى كذلك، ولو كنا نحن لكنا نحكم بأن ذلك
إحسان حسن، لا أن تركه ظلم قبيح; لكن العمل المستقر عليه العقلاء يكشف عن
أنه من الإحسان الذي هو عدل وتركه ظلم; وأن الانتظار إلى القرينة على الحتم
لا يوجب العذر في المخالفة، وأن ذلك شيء له مدخل في حفظ نظام النوع،
فيكون تركه من الظلم الذي هو إخلال قانوني للنظام، فتدبر تعرف.
261

الفصل الثاني
في تقسيمات الواجب
1 - النفسي والغيري:
وينقسم - بحسب العلة أو المصلحة - إلى الواجب الذي وجوبه معلولي
لوجوب آخر على مكلف واحد، وإلى ما كان وجوبه نفسيا في قبال ما ذكر، وليس
الواجب لمصلحة فيه غيريا وإلا لكان كل واجب كذلك، حتى المعرفة; فإن الداعي
إلى إيجابها - عقلا وشرعا - ما فيها من المصالح التي لابد منها، وفي تركها من
المفاسد المهمة في النشأتين، وكذا الواجب على شخص لواجب على آخر ليس
واجبا غيريا.
ويمكن التعريف بأن «النفسي»: ما مصلحته في نفسه; و «الغيري»:
ما مصلحته في غيره; فليس فيه مصلحة سوى التوصل به إلى مصلحة شيء آخر
وإلى شيء آخر، كان ذلك الشيء واجبا أو لا، وكان وجوبه على هذا الشخص
أو لا.
فالمأمور بشراء اللحم ثم طبخه، إذا لم يشتر، يعاقب على ترك الاشتراء،
لا على ترك الطبخ، لكون الأمر به مشروطا بأخذ اللحم، بخلاف ما كان الوجوب
للاشتراء غيريا، فإنه يعاقب على ترك الطبخ الواجب الموجب لمقدمته العادية من
أخذ اللحم بشراء أو غيره، فبمثل ذلك يفرق بين التعريفين.
262

2 - التعييني والتخييري:
وينقسم بحسب كون المصلحة بدلية وكيفية الوجوب تخييريا أو لا، إلى
«التخييري» و «التعييني».
فالأول، ما يجوز تركه إلى بدل، بخلاف الثاني الغير الجائز فيه الترك مطلقا.
{تقرير الإشكال في معقولية الواجب التخييري ودفعه}
والكلام، في معقولية مجامعة الإيجاب إلى جواز الترك في الجملة، مع
إطلاق الإيجاب والواجب، وعدمها، لا يصلحه دعوى كونه سنخا من الوجوب
يجوز تركه إلى بدل، أو كون الوجوب فيه مشوبا بجواز الترك إلى بدل; فإن
البحث في معقولية الموضوع والمتخصص، في رتبة سابقة على الحكم
والتخصص.
وحاصل الإشكال: أنه إن كان هناك جامع ذاتي بين أطراف التخيير، فالتخيير
عقلي لا شرعي; وإن لم يكن، فالتكليف بالمردد الغير الموجود غير معقول،
وبالمعين لا يلزمه جواز الترك أصلا ولو إلى بدل.
ويمكن دفعه: بعدم لزوم الجامع الذاتي حتى يقال بالتخيير العقلي، كما
لا ملزم له من طريق قاعدة «الواحد»، فإنها [تجري] في الواحد الشخصي، علة
كان أو معلولا; فلا مانع من ترتب الواحد النوعي بفرد منه، على وجود ماهية،
وبفرد على وجود ماهية مبائنة، كترتب الحرارة على الغضب تارة، والحركة
اخرى، والنار ثالثة، وهي مقولات متباينة.
بل يمكن أن تكون علة الواحد النوعي متحدة بوحدة عنوانية لا ذاتية، كان
263

ذلك العنوان خارجا محمولا أو محمولا بالضميمة أو أمرا اعتباريا عرفيا; فالأول
ذاتي في البرهان، والثاني عرضي محض، والثالث إضافة اعتبارية أو تسمية عرفية;
فإن اشتراك المتباينات في أثر واحد بالنوع - بالنحو المتقدم - يصحح انتزاع
الاشتراك في التأثير في الواحد النوعي بنحو الاقتضاء أو التأثير بالفعل، وبنحو
الجامع عند الأعمي أو عند الصحيحي، فيكون هو المأمور به. وحيث ليس أمرا
يعرفه العرف، كان التخيير شرعيا لا عقليا.
وكذلك الجامع العنواني الاعتباري، كمفهوم «أحدهما»، بحيث يراد من
الأمر به إيجاد معنونه، وليس إلا بتعيين الشارع للإثنين، فالتخيير شرعي.
وحيث إن بدلية المصالح في الكفاية معقولة; وانتهاء الأمر على هذا النحو إلى
أحد المؤثرين في إحدى المصالح، لا ريب فيه، فلا مانع من هذا الأمر، بل يتعين
ذلك في المصلحة البدلية التي لا يعرف العرف محصلها بدون مراجعة الشرع.
{دفع الإشكال بالتفصيل في المأمور به}
هذا، ولكنه يمكن دفع ذلك بأن الجامع العنواني المكشوف بتأثير أشياء
خاصة في مصالح متبادلة، إن كان هو المأمور به، فالأمر تعييني والتخيير عقلي;
ومن ثمراته، كفاية الأقوى مصلحة في نظر العرف، عن الثلاثة. ومن
لوازمه، عدم التعبد في بيان المصداق، والحمل على الإرشاد، ولا مانع من عدم
معرفة المأمور به إلا بهذا المقدار مع العلم بما هو المتحصل والأثر.
وإن كان المأمور به الأفعال الخاصة - ولذا كان الأمر تخييريا شرعيا فلابد
من تعقل الوجوب وعدم التعيين ودفع الإشكال المذكور فيه بوجه آخر،
فهذا الوجه غير حاسم لمادة الإشكال. إلا أن يقال: الجامع الاعتباري الخاص
264

أو ما يلازمه، لا ينتهي الأمر به إلى التخيير العقلي، كما لا يخفى على من
تأمل.
{دفع للإشكال والمناقشة فيه}
وقد يدفع بكون الإيجاب أو الواجب غير مطلق باشتراط الوجوب بترك
الطرف الآخر، أو واجب بالحصة الملازمة لترك العدل، فمع فعلهما لا امتثال، كما
يتعدد العقاب مع تركهما معا; وكذا الاشتراط بعدم السبق بالعدل، فيتحقق الامتثال
مع فعلهما، ويتعدد العقاب مع تركهما.
إلا أن يدفع: بأن العقاب، لتفويت المصالح، وعليه يدور الظلم; فمع بدلية
المصلحة وكفاية كل منهما لحاجة المحتاج، لا يتعدد العقاب; ومع التفويت بلا
أمر - لعدم تمكن المولى منه - يحصل العقاب لحصول الظلم عقلا، ولا يجري
حصول المصلحة في تقدير الاشتراط بالترك، لترتبها - على الفرض - على العبادة
اللازم فيها الأمر، إلا أن يكتفى فيه وفي صورة التفويت بلا أمر، بكونه بحيث لو
أمر به بالفعل كان أمره عباديا، فتدبر.
{دفع الإشكال، بالالتزام بالعينية بين الأمر والنهي عن الضد العام}
ويمكن الدفع أيضا بأن يقال: إن الأمر بالشيء عين النهي عن الضد العام;
ومقتضى إطلاق الأمر والنهي المذكور عدم العدل للمأمور به وشمول النهي
لجميع ما كان مرسوما بشيء من الأضداد الخاصة; ومقتضى التقييد ثبوت العدل
للمأمور به وتقيد العدم بغير ما كان مرسوما بالعدل الخاص.
ولا كلام في اقتضاء الإطلاق عدم العطف «بأو» في المأمور به وعدم
الاستثناء في المنهي عنه المذكور، كما أن مقتضى التقييد خلاف ذلك، إنما الكلام
265

في معقولية ذلك. والتقييد المذكور في الأمر والنهي لا مانع منه ومما يقتضيه،
والأمر كالإرادة والنهي كالكراهة، في ضعف التقييد فيهما بالنسبة إلى الإطلاق.
وعدم جريان هذا الضعف والتقييد في الإرادة التكوينية، لمكان تعيين نفس
الإرادة لمتعلقها الغير القابل لأن يفرض له عدل، وإن كان لو تعلقت به كان كعدله
الأول، كما في رغيفي الجائع; والملازمة بين التشريعية والتكوينية في جميع
التصورات [التطورات] والتقسيمات، لا دليل عليها.
والحاصل: أن التخيير الغير العقلي بين عدة أشياء مؤثرة في أغراض متباينة
سنخا أو متحدة بالسنخ، لا شبهة في وقوعه في أوامر العقلاء، فيكشف عن عدم
محذور ثبوتي، وتعيين ذلك - بالبرهان على التفصيل - يكون ببعض ما مر،
والأخير منها أقربها.
{الجواب بالتفرقة بين الإرادتين والمناقشة فيه}
والجواب بعدم المانع من تعلق الإرادة التشريعية بالمردد، وليست
كالتكوينية في جميع ما يجوز وما لا يجوز، بل عدم التعلق بالمردد، من خواص
التكوينية التي هي الجزء الأخير للعلة، فلا يمكن تعلقه بالمردد، كما ترى، فإنه إذا
كان للمردد ثبوت، فلا مانع من تأثير العلة فيه; وإذا لم يكن له ثبوت، فأي مصحح
لتعلق التشريعية بغير ماله ثبوت خارجي; والثابت في الخارج متعين، وغير
المتعين لو كان ثابتا لكان ثابتا آخر، أو كليا موجودا بالعرض، وكلاهما مفروض
العدم، فلا يمكن تعلق التشريعية بالمبهم والمردد اللاثابت.
{إمكان التخيير الشرعي بين الأقل والأكثر وعدمه}
بقي الكلام في إمكان التخيير الشرعي بين الأقل والأكثر، وليكن محل
266

البحث مالم يمكن فيه التخيير العقلي، كما أن أصل التخيير الشرعي، فيما لا يقع
فيه العقلي.
وحاصل الإشكال: أن الزائد من الأقل، يجوز تركه لا إلى بدل، فلا يكون واجبا
ولا جزئا لما لا يجوز تركه إلا إلى بدل، لأن وجوب الكل يسري إلى الأجزاء.
{دعوى وجوب الأقل بشرط لا، ودفعها}
ودعوى: أن الأقل واجب بشرط لا من الزيادة المعتبرة وجودا في الأكثر،
مدفوعة، بأن اللازم دخالة وجود الزيادة في المصلحة اللازم استيفائها، ودخالة
عدمها فيها، اتحدت المصلحتان سنخا أو تغايرتا، ولا يمكن أن يكون شيء واحد
بالنسبة إلى واجب واحد وهو الأقل، شرطا ومانعا، لكون عدمه شرطا لضده، بل
مع الإتيان بالأقل إما أن تحصل المصلحة اللازمة الاستيفاء، فيلغو الزائد; وإما أن
لا تحصل، فيتعين الزائد.
إلا أن يدفع هذا الأخير بالمراعاة باستمرار حد الأقل إلى آخر أزمنة الإمكان،
فيكشف عن تحقق المصلحة; فيكون وجوب الأكثر منوطا بعدم الاستمرار على
حد الأقل وهو ملازم لفعل الأكثر; فيكون وجوب الأكثر منوطا بما يلازم فعله وهو
في قوة الإناطة بفعله، بل يلزم كون المصلحة المقدمية لما يلزم استيفائه في عدم
الأكثر، والمصلحة النفسية اللازمة الاستيفاء في فعل الأكثر، وكلتاهما لمكان العالية
بالذات أو بالتبع مستدعيتان لبعثين; ولا يعقل بعثان نحو الفعل والترك لتحصيل
الحاصل وإن كانا تخييريين، فضلا عن فرض التعيينية بالاشتراط، كما هو مقتضى
الجواب الأخير في الواجب التخييري الشرعي.
ويلزم أيضا في الزائد تعليق الوجوب بالإرادة، فإنه مع فعل الزائد يكون
267

واجبا، لكونه جزءا للواجب، ومع الاقتصار على غيره لا يكون الزيادة
واجبة، لخروجها عن الجزئية للواجب، والدفع السابق في المصلحة بجوابه، آت
هنا.
{التغاير في الطويل والقصير لا يدفع إشكال اللغوية في التدريجيات}
وأما كون كل من الطويل والقصير فردا مغايرا للآخر، فإنما يصح به التخيير
الشرعي بل العقلي أيضا في الدفعي، كرسم الطويل أو القصير بالنقش الواقعي
دفعة، لا في التدريجي الذي يلغو الازدياد بعد تحقق ما يمكن الاقتصار عليه; فإنه
مع عدم الاقتصار وإن كان فردا واحدا ممتدا بالفعل للاتصال، إلا أنه بحسب
التقدير متعدد يجوز الاقتصار في تحقق الطبيعة على حدين منه أو أزيد.
ومثل ذلك قراءة التسبيحات الأربعة متصلة بلا فاصل مناسب; فإن وحدة
القراءة التدريجية، لا تدفع إشكال اللغوية فيما زاد، وكونه جائز الترك لا إلى بدل،
مع أن الاتصال غير لازم في طرف التخيير; فهناك أفراد فعلية، فكيف يكون
مجموعها فردا واحدا عدلا للفرد الواحد؟
وكون الواجب الشرعي مركبا في أحد العدلين وغير مركب في الآخر، معقول
في غير الجزء الذي هو زيادة على الأقل فقط، لا شيء آخر، فلا يكون الواجب إلا
الأقل تعيينا، ويكون الزائد مستحبا.
{بيان لتصحيح التخيير بحسب المصلحة دون الايجاب}
ويمكن أن يقال: بإمكان تأثير الطبيعة - في حد ومقدار - في مصلحة، وتأثيرها
في حدها الآخر ومقدارها الآخر، في ضد تلك المصلحة; فمع التضاد بين
المصلحتين قد يكون الحد الآخر باطلا ومبطلا، كزيادة ركعات الصلاة، أو أشواط
268

الطواف; وقد يكون كلا الحدين مطلوبا تخييرا، فيكون تأثير الأقل في الضد مراعى
بعدم لحوق الزيادة في محل إمكانها; فمع العدم يكون الأقل هو الواجب
الخارجي، ويتحقق ما فيه من المصلحة اللزومية; ومع اللحوق يكون الأكثر هو
الواجب الخارجي، وتتحقق المصلحة المضادة المطلوب تحصيلها تخييرا.
لكنه - بحسب المصلحة - وإن كان بلا محذور إلا على الوجه الذي أورد ناه
أخيرا من اجتماع المصلحتين: المقدمية والنفسية في فعل الزيادة وتركها، مع
كونهما لزوميتين مستدعيتين لبعثين متخالفين، إلا أنه بحسب الإيجاب لا يخلو عن
محذور تعليق الإيجاب بالإرادة، وكون الزائد يجوز تركها لا إلى بدل، ولا شيء
من الواجب كذلك; فمع عدم معقولية التخيير، لابد من حمل ما ورد - مما ظاهره
التخيير والعدلية - على استحباب الزيادة إلى حد خاص على الواجب المزيد عليه;
ويحمل التصدي في الإثبات لبيان الحدود، على حكم، يعلم بعضها كالتنبيه على
مطلوبية ترك الختم على الزوج.
3 - العيني والكفائي:
ينقسم أيضا، إلى «العيني» و «الكفائي». والثاني، يجوز فيه الترك مع قيام
الغير، ويعاقب الكل مع تركهم. والإشكال في الجمع بين الإيجاب وترخيص
الترك، آت هنا; والجواب أيضا نظير الجواب فيه، وهو اشتراط الوجوب تعيينا
على كل أحد بعدم سبق الغير، والشرط محقق في فعلهم معا، فيثابون به، وفي
تركهم معا، فيعاقبون عليه.
{النظر في بعض الأجوبة عن الإشكال في الكفائي}
وأما الجواب: بأن الموضوع للتكليف - كمتعلقه في موارد التخيير العقلي -
269

صرف وجود طبيعة المكلف والمكلف به، فيترتب عليه اللوازم المعهودة، فيمكن
دفعه بأن صرف الوجود في المتعلق لايراد به إلا أول الوجود، ولا معنى له في
المكلف، ولا لأول القائم بالفعل، فإنه مسقط للإيجاب لا شرط له، بل الموضوع
وجودات المكلف بالحمل الشائع; فلابد من الجمع بين الإيجاب المقتضى
للتعيين مع الترخيص في الترك.
كما أن الجواب بأنه سنخ من الوجوب، لازمه كذا أو وجوب مشوب بجواز
الترك مع قيام الغير - إحالة إلى المجهول، أو التزام بالإشكال.
وكذا الجواب بأن الموضوع الفرد المردد، يجري فيه ما مر; أو أن الوجوب
مشروط بترك الغير، يجري فيه النقض بالاجتماع في الفعل; وكذا كون الموضوع
مجموع المكلفين; فإن المجموع ليس له بعث وزجر، لأنه ليس له وجود
غير وجود الجميع المفروض عدم تعلق التكليف به حتى بالتعاون في
الفعل.
نعم، مع ترك الجميع وعقاب الكل، فقد عرفت صحة المقتضي له، إلا أن
المناسب للاعتبار انبساط ما به العقاب على الكل; فلا يشترك الاحتياج إلى
مصلحة قائمة بوجود من الفعل بالنسبة إلى كل فرد مع القائمة بوجوده مرة
واحدة.
والمدار في الظلم - كما مر - على تفويت الحاجة، لا مخالفة الأمر والنهي
مطلقا، كما تقدم.
ولا فرق في وجه المعقولية - بحسب ما ذكرناه - بين تعلق التكليف
بالمباشرة، أو الأعم من التسبيب، وبين إيقاع الفعل بتمامه أو ببعضه بالتعاون، أو
بالأعم منهما ومن الاستقلال.
270

4 - الموسع والمضيق:
وينقسم الواجب باعتبار اختلاف الزمان المأخوذ فيه شرعا من حيث الطول
والقصر، إلى «موسع» و «مضيق»; فإن الزمان معتبر عقلا في الأفعال الزمانية
المختلفة في الوقوع في زمان قصير أو طويل; فالمعتبر شرعا غير المعتبر عقلا;
فلا يكون إلا خصوصية الزمان المعتبر عقلا، ولو كانت غير زائدة عن ذلك وهو
المضيق; أو مع زيادة الزمان الخاص المعتبر شرعا، عن المقدار اللازم عقلا، وهو
الموسع، ومن الأخير عدم اعتبار أزيد مما هو لازم عقلا في الشرع كالموسع ما دام
العمر.
{تقرير إيراد على تعريف للموسع والجواب عنه}
وأورد على توصيف الموسع، بأنه: «ما يجوز تركه إلى بدل في الضيق،
بخلاف المضيق الذي لا يجوز تركه بحال»، بأن خصوصيات الأزمنة الطولية إن
كانت قيودا، فهي أبدال يجوز الترك فيها إلى بدل، لكن المآل [هو] التخيير
الشرعي في المضيق، لا التعييني الموسع المفروض; ولا فرق في التخيير الشرعي
بين أفراد الدفعية والتدريجية، وإن لم يكن قيودا فالواجب - وهو نفس الطبيعة بين
الحدين - لا يجوز تركه إلى بدل، والفرد الجائز تركه ليس بواجب.
والجواب: أن الواجب هو طبيعة الفعل بلوازمه العقلية، أو الطبيعة
المتخصصة بزمان خاص بكونه فيما بين الحدين، بنحو تكون الخصوصيات
جزئيات للكلي المعتبر شرعا لا أجزاء، فالمعتبر مع الواجب في الموسع المعتبر
فيه زمان خاص، هو الكون المتوسط الجامع; وفي المضيق هو الحركة القطعية التي
تكون الآنات المحققة أبعاضا للمعتبر، لا أفرادا.
والمعتبر هنا مجموع تلك الخصوصيات; وفي الموسع، الجامع بين تلك
271

الخصوصيات. والمقيد بالجامع لا يجوز تركه، وما يجوز تركه إلى بدل بالرمي
والإحالة من الخصوصيات، ليس بواجب، بل صالح لأن يكون مصداقا للواجب،
كما في الأفراد العرضية للكلي الواجب; فإن الكلي لا بدل له ولا يجوز تركه،
والخصوصيات التي لها البدل يجوز تركها ولا يجب فعل شيء منها، والصلاحية
للمصداقية لما هو الواجب، مشتركة بين العرضية والطولية.
ثم إنه قد ظهر مما مر: أن مثل الصوم، من المضيق; فإن الإمساك في مجموع
النهار ليس فيه زيادة المعتبر شرعا عن اللازم عقلا، بل الشرعية، من حيث اعتبار
خصوصية زمان الإمساك وهو النهار المخصوص، كما أنه لو كان الإمساك واجبا
بنحو المضادة للأكل أو العدم المقابل للملكة، فزمانه زمان مسمى الأكل. وفي
الأول يكون المعتبر بخصوصيته هو البعد الممتد في الوهم ومجموع أجزاء الزمان
الخاص، لا الجامع بين الخصوصيات.
{كيفية جريان الإطلاق في الواجب الموسع والمعلق}
ولا يخفى: أنه حيث لا يمكن إطلاق الواجب المقيد بطبيعي الزمان الخاص
الجامع بين الخصوصيات الطولية، فحيث لا يمكن فعلية الوجوب في ابتداء ذلك
الزمان مع تقييد الواجب بالجزء الأخير من ذلك الزمان إلا على إمكان الواجب
المعلق، فلا يمكن فيه الإطلاق اللحاظي المقابل للتقييد تقابل العدم والملكة; فلابد
من الالتزام في مثل ذلك، إما بالتعليق بالنسبة إلى الخصوصيات التي لا يمكن فعلية
الوجوب فيها مع استقبالية الواجب إلا بالتعليق; أو بالاكتفاء بالإطلاق الذاتي الذي
مرجعه في المقام إلى تنقيح المناط وفهم إلغاء الخصوصية بعد أخذ عدم إجزاء
الإتيان فيما بعد الحدين، من الشرع; وبعد قصر التقييد عقلا على ما يمكن من
أجزاء الزمان فعلية الوجوب فيه مع تأخره.
272

5 - المطلق والمشروط:
ينقسم الواجب باعتبار اختلاف كيفية وجوبه - في غير الشروط العامة
الأربعة المشروط بها كل تكليف - إلى «مطلق» و «مشروط» أي في وجوبه.
{حل إشكال استحالة التقييد للملحوظ آليا}
وهو الذي يستفاد من اللغة من رجوع القيد في الجملة الشرطية إلى مفاد
الهيئة، وهذا المستفاد متبع إلا أن يدفع بالعقل، ولا دافع له إلا استحالة التقييد
للملحوظ آليا.
وفيه: أن التقييد لا يرد على الملحوظ آليا، بل اللحاظ الآلي يرد على المقيد.
[و] توضيحه: أن التقييد حيث كان عبارة عن كثرة أطراف النسبة، والإطلاق
عن قلتها، فالنسبة الواقعة بين الأطراف حين الطلب، واقعة بين الطالب والمطلوب
منه والمطلوب والمطلوب عليه; وتعلقها بالمطلوب على تقديره، كتعلقها
بالمطلوب في كيفية اللحاظ; وكما أن وحدة المطلوب المقتضية للتعيين، إطلاقها،
وتعدده المقتضي للتخيير تقييدها، وكذلك العكس فيما نحن فيه.
ومثل تعدد المطلوب ووحدته، تعدد المطلوب منه ووحدته في الكفائي
والعيني; فتقييد مفاد الهيئة مثل قولهم «ضيق فم الركية»، يعني جعله بين أطراف
أربعة.
هذا هو حل الإشكال المنقول من الشيخ المحقق «الأنصاري» (قدس سره) (1) حيث
نسب إليه إنكار المشروط وإدراجه في المعلق، لكنه جعل في المشروط بغير

(1) مطارح الأنظار: ص 43 - 45.
273

الاختياري تعلق التكليف بمتعلقه المقيد على نحو لا يسري الوجوب إلى القيد،
مع أنه لا طريق إلى عدم السراية إلى الأمر الاختياري إلا تعليق الطلب فهو كأن
يقال: يجب الكل على نحو لا ينبسط الوجوب إلى خصوص بعض المركب;
وحيث التزم بذلك جعل التقسيم إلى المعلق والمنجز غير مطابق للواقع، لأن كل
مشروط عنده معلق، فلا محل لما نقل عن «الفصول» (1) عنده (قدس سره).
{الالتزام بالواجب المعلق لتصحيح وجوب المقدمات المفوتة}
وحيث إن الالتزام بالمشروط لا يجدي في تصحيح الوجوب للمقدمات
المفوتة، لذا التجأ في «الفصول» (2) إلى تصوير المعلق.
وقد مر الوجه في معقوليته; وأنه ليس المعلق كل ما كان مقيدا بما ليس
تحت القدرة، بل خصوص المقيد بالزمان المستقبل بالإضافة إلى زمان الإيجاب
أو ما يتقيد بذلك الزمان، كقدوم الحاج; وأنه أسهل طريق في تصحيح الوجوب
في المقدمات المفوتة الشرعية; وأما العقلية والعادية، فالإيجاب النفسي فيها كاف
للمقصود.
ومر أن المعلق لا يغني عن الشرط المتأخر وإلا لم يلزم وقوع القيد في
المستقبل في إيجاب المقدمة، واقعا قبل زمان ذي المقدمة مع أن لازمه عدم
القدرة على ذيها، فكيف يخاطب بالمقدمة، كما أن الإيجاب النفسي غير نافع مع
الدخالة في الصحة شرعا.
وأما الالتزام بالشرط المتأخر، فلا يغني عن المعلق وإلا لزم جواز إيقاع ذي

(1) مطارح الأنظار: ص 44.
(2) الفصول: ص 79.
274

المقدمة قبل الزمان المتأخر إذا علم بتحققه، أي بتحققه جامعا لشروط التكليف،
ومثله الزماني المتأخر، كقدوم الحاج.
{إيراد على أصل الإشكال في الواجب المشروط}
ويرد على أصل الإشكال في المشروط، أن الالتزام بالمقيد بأمر اختياري،
يرد فيه ما يرد على الالتزام بتقيد الطلب; فإن الواجب إنما يكون مقيدا في وجوبه
واتصافه بالمطلوبية، أي بنسبة الطلب إليه بقيد; فيكون القيد للنسبة الطلبية أيضا;
فيقع الدخول في محل الفرار. ولا معنى للمقيد لا في الاتصاف إلا في مقام الإخبار
دون إنشاء النسبة الطلبية.
{تحقيق في طور الإنشاء والمنشأ والإرادة، في الواجب المعلق}
ولا يخفى: أن إنشاء الطلب على تقدير بحيث ينتزع منه البعث الاعتباري على
ذلك التقدير، فعلي في حد الإنشاء بلا تعليق ولا تعليق في تحققه بحده الإنشائي
على القيد حتى على ذكره وإن ذكر معه قبله أو بعده، وإنما المعلق الحكم المنشأ
والاعتبار المنتزع منه.
ومعنى تعليقه خروجه من حد القوة إلى حد الفعلية المترقبة بحيث لا حالة
منتظرة بعده; فيكون تحقق الأمر الاعتباري تحققا لا انتظار بعده بتحقق الشرط
خارجا بعد أن كان محققا في مرتبة من الاعتبار قبله وبعد الإنشاء أيضا، ولا فرق
في شرط الحكم بين دخالته في مصلحة متعلقه أو تحققها أو في مصلحة
الإيجاب، كالاستطاعة المشروط بها وجوب الحج مع حصول مصلحته في
المندوب أيضا دون المصلحة اللزومية أي الملازمة للزوم التحصيل وإن اشتركا
275

كاشتراك ماء الحلو والقراح في رفع العطش. هذا فيما يرجع إلى النسبة الطلبية
واشتراطها.
وأما الإرادة: فإن اريد بها الطلب، فيجري فيها ما ذكر فيه; وإن اريد بها الجزء
الأخير للعلة التامة في الأفعال الاختيارية، فالتكوينية منها في فعل المأمور المنقاد
وفي فعل الآمر في نفس الإنشاء الذي هو بعث اعتباري.
وأما بالنسبة إلى فعل الغير، فهي في المشروطة، بالقوة إلى حصول الشرط;
وبعد حصوله تكون بالفعل، بمعنى أنه لو كان متعلقها فعل النفس لفعل، كما أنه
حيث كان فعل الغير بعث إليه بعثا حقيقيا من قبل الآمر، وإرادة الواجب تعالى
لا يلزم العلم بكنهها; فإن المعلوم أنها بحسب النتيجة، موافقة لإرادة المولى العرفي
وما يستحق بها الثواب والعقاب وان كانت بحسب المبادئ مختلفة.
276

الفصل الثالث
في أن الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد؟
هل الأمر متعلق بالطبيعة أو الفرد؟
لعل نظر القائل بالفرد من العلماء، إلى امتناع تحقق الطبيعي بنفسه،
فالمتعلق غيره وليس إلا الفرد، أو أن ماله الخارجية هو الوجود لا الماهية،
والمطلوب خارجية ما يمكن خارجيته وهو الفرد.
ويمكن أن يقال - بعد الحمل على عقلائية النزاع -: إن القائل بالطبيعة يذهب
إلى عدم دخول عوارض التشخص الملزومة لمرتبة خاصة من التشخص، كان
المتشخص بالذات هو الماهية، أو الوجود في المطلوب; ولذا يجزي بأية مرتبة
ملزومة لعوارض خاصة; فالمتعلق نفس الأمر الانتزاعي، لكن لا بنفسه، بل جعله
متحققا بالعرض بجعل منشأ انتزاعه; فلا تدخل المراتب للتعلق بالمنتزع
- بالكسر -. ولا يستغنى عما في الخارج، لأن المطلوب جعل الأمر الانتزاعي
متحققا.
فإن اريد من الطبيعي هذا المعنى فليس فيه إشكال، كما أنه إن اريد من الفرد
تعلق الأمر بما له الخارجية لأن ينتزع منه ذلك العنوان العام الموجود بالعرض،
فقهرا لا تدخل المراتب في الأمر، ولا ملزومها من العوارض، فلا إشكال فيه، فيكون
لكل من الطبيعة والفرد وجه لتعلق الأمر به.
277

ومعلومية الغرض وترتبه على ما في الخارج وتحصله من جميع المراتب،
تصحح كلا من القولين للوجهين المذكورين.
ومنه يظهر: أن جعل الثمرة جواز الاجتماع - على تقدير اختيار الطبيعة
وعدمه على الفرد - مخدوش، بأن شيئا منهما لا يستغنى به عن ملاحظة الآخر، فلا
خصوص مطلقا حتى لا يجوز أن يجتمع الأمر والنهي، ولا عموم مطلقا حتى يجوز
الاجتماع، لأن الوجه المذكور المتخذ من مراجعة عرف العقلاء في أوامرهم، هو
التوسط بين المتعلق محضا بالطبيعة أو الفرد، فلا يتحصل حكم كل واحد من
الخصوصيتين.
278

الفصل الرابع
في نسخ الوجوب
إذا نسخ الوجوب بدليل دال على رفعه في زمان، فهل يرتفع ما سوى المنع
من الترك، كالطلب والإذن، أو لا؟
{مقتضى دليل المنسوخ والناسخ}
يمكن أن يقال: بأن الدال على الوجوب إنما دل على ثبوته بصورته الواحدة،
ولو كان - مركبا كتركب الإنسان من الجزئين - فارتفاع هذه الوحدة الحاصلة
بالتركيب كما يكون مع ارتفاع كلا الجزئين، يكون مع ارتفاع ما هو كالفصل فقط،
ولا مرجح لأحدهما ولا دليل على نفيه أيضا; فكل من الثبوت والانتفاء محتاج إلى
دليل آخر غير دليل الناسخ والمنسوخ، بمعنى أن دليل المنسوخ أفاد شيئا أزاله
دليل الناسخ.
ومنه يعلم: أنه لا وجه لدلالة دليل الناسخ على بقاء شيء، وإنما الممكن بقاء
دلالة دليل المنسوخ على غير ما أزاله بخصوصه دليل الناسخ.
وأما لو كان الوجوب بسيطا، فارتفاعه لا يبقى معه شيء; فاحتمال ثبوت
الطلب أو الجواز بعد حدوث الوجوب وزواله - كاحتمالهما قبل حدوث
الوجوب - لا مساس له إثباتا أو نفيا بدليل الوجوب، كي يكون له المساس بدليل
الزوال، يعني أن يكون إثباته بدليل الإيجاب ونفيه برفعه.
279

وحيث إن النسخ دفع لبا - وإن كان رفعا صورة - فهو دفع الإطلاق الزماني
ويكون معه دليل المنسوخ غير مطلق لما بعد الزمان الخاص، فهو فيما بعد الغاية
كنفسه مع فقد سائر القيود الذي يستفاد من دليل التقييد وحدة المطلوب.
ولا يمكن استفادة المطلوبية بمرتبة ضعيفة لفاقد القيد إلا بدليل آخر، كدليل
القضاء، أو يكون عموم للدليل شامل للكل بحيث يعلم بأن البلوغ قيد للوجوب لا
نفس المطلوبية العامة، لا مع عدم العموم أو عدم خصوص التقييد، بل كان الظاهر
رجوع القيود إلى نفس المطلوبية بحيث يكون المقيد واجبا على البالغ، مستحبا
من المميز الغير البالغ، لا أن الواجب مختلف مع المندوب تقيدا.
{استصحاب كلي الطلب}
هذا بحسب الدليل، وأما الأصل، فلا مانع من استصحاب كلي الطلب من
القسم الثالث، بناء على أن الوجوب والاستحباب من مراتب طلب واحد زال
فرده، أعني مرتبته الأكيدة، وشك في بقائه بمرتبة ضعيفة مقارنة لارتفاع القوية،
بل يمكن استصحاب الشخص، لأن المتيقن زوال حد الشخص لا أصله،
فيستصحب الطلب الزائل مرتبته مع احتمال بقائه بمرتبة اخرى يراها العرف بقاء
ما كان.
والشك في المقتضى إن منع هنا، منع عن استصحاب الحركة فيما لو دامت،
لبقيت بمقتض ضعيف; بل لو كان المدرك بناء العقلاء أو الظن الاستصحابي فهو
حاصل في المقام، إذ الغالب عدم انقطاع الحركة الغير الاختيارية آنا بتاتا، بل
تمحو تدريجا شيئا فشيئا. وقد سبق الكلام فيه في الاستصحاب.
وأما منع المراتب في الاعتباريات، فقد ذكرنا أن مراتبه باعتبار مراتب
المعتبر - بالفتح - لا محذور فيه، وكذا الإرادة والكراهة الملزومتان للبعث والزجر.
280

{مناقشة في الاستصحاب ودفع}
ويمكن المناقشة في الاستصحاب، بأن ماله المراتب وهو الصفة النفسانية،
ليس من الحكم الاختياري المجعول شرعا، ونفس الاعتبار والإنشاء لا تشكيك
فيه، بل هما فردان من الإنشاء والاعتبار، متباينان; فلا يكون إلا من استصحاب
الكلي في الأفراد المحتمل نيابة بعضها عن الزائل المتيقن، ولا يسلم مع عدم
اختلاف المراتب.
إلا أن يقال: إن الوجوب هو اعتبار الدفع القوي الخارجي، والندب الإنشائي
اعتبار الدفع الرفقي الضعيف; فنيابة أحدهما نيابة الضعيف عن القوي; وأما نفس
الصفة النفسانية فعدم اختياريتها مطلقا، قابل للمنع، للتمكن من إزالتها وإزالة
حدها بالتأمل من المخلوق.
{دعوى تسوية الوجوب والندب في الضعف والقوة ودفعها}
ودعوى: أنهما إن انتهيا إلى الإنشاء، فلا ضعف فيهما، وإلا فلا قوة فيهما
ولا حكم، مدفوعة: بأن المراد كونهما بحيث لا يمنع عن تحققهما أو تأثيرهما
إرادة المأمور، فذلك القوي، بخلاف الضعيف.
ولا فرق في ذلك بين البعث والإرادة; فإن الإيجاب من البعث يعتبر دفعا بلا
رفق، وفي الندب دفعا معه رفق، كان الفاعل مجموع الآمر والمأمور، لاعتبار
رضاهما. والإرادة وإن كانت ليست من الأحكام المجعولة الشرعية إلا أن لازمها
وهو الإنشاء بداعي البعث حكم شرعي، مع أن الأحكام العقلية للموافقة
والمخالفة تعم الإرادة التي لو تمكن المولى معها من الإنشاء على طبقها، لفعل.
ويعمهما التحسين والتقبيح العقليان، كما لا يخفى على من راجع عرف العقلاء.
281

الفصل الخامس
في أقسام الوجوب
واقتضاء الإطلاق أي قسم منها
قد يقال: «بأن الوجوب في الواجب الكفائي، سنخ وجوب يسقط بفعل
الغير، وفي التخييري، سنخ وجوب يسقط بفعل البدل».
وهو تحديد باللازم مع عدم إمكان تحديد نفس الملزوم; مع إمكان
الاستشكال ثبوتا في التحديد باللازم أو غيره، بأنه مع تحقق الوجوب المطلق
فلا يعقل السقوط بفعل الغير; ومع عدم تحققه، فكيف يعاقب بالترك
المطلق؟
وما ذكره هنا في «الكفاية» (1) يبتنى على ثبوت تقييد في الكفائي والتخييري
بما مر، ومع عدمه إثباتا يحكم بعدمه ثبوتا; فيثبت العيني والتعييني بمقدمات
الحكمة; فيمكن أن يكون فرقا بالإطلاق وجوبا وواجبا في العيني مثلا، دون
الكفائي، ومثله التعييني والتخييري.
ويمكن أن يكون لمكان أن كلا من الواجبين وإن كان قسما خاصا، إلا
أن المحتاج إلى البيان خصوص الكفائي دون العيني، وكذا التخييري دون
التعييني.

(1) كفاية الاصول: ص 143، ط: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
282

{تفرقة بين الوجوب الكفائي والتخييري ودفعها}
ويمكن التفرقة بالإطلاق والتقييد في الوجوب أو الواجب، بأن الكفائي: ما
كان مشروطا وجوبا أو مقيدا واجبا بعدم سبق الغير بالفعل; فمع مقارنتهما في
الفعل امتثلا، لتحقق شرط الأمر والمأمور به; ومع السبق لم يمتثل اللاحق
المسبوق بفعل الغير وكذا التخييري; وهذا ليس فيه بعض خواص الواجب وهو
العقاب على الترك; فإن الترك مع فعل الغير لا يعاقب عليه، وإنما يعاقب على
بعض تروكه وهو الترك في ظرف ترك الآخر، وهذا لا يجري في التخييري; فإن
الترك مع فعل البدل هدم لشرط الوجوب، ومع ترك البدل يستحق عليه العقاب مع
شرط الأمر والمأمور به.
ويمكن دفعه: بأن الترك في ظرف فعل الآخر ترك في تقدير عدم الشرط، لأن
فعل الآخر مع ترك المكلف المفروض، هدم لشرط الإيجاب عليه، لأن فرض
ترك أحدهما في صورة فعل الآخر مستلزم لسبق الفاعل بالفعل على التارك
المفروض ترتب أمره على عدم سبق الفاعل، فيتحقق سبق الفاعل ولا يتحقق
سبق التارك; وعدم سبقه شرط لأمر الفاعل ولذا كان محققا دون أمر التارك; وتركه
في ظرف ترك الآخر واجد للشرط ومستحق عليه العقاب، فتماثل الإيجاب
الكفائي والتخييري في هذه الجهة.
{تفرقة بين الوجوب الكفائي وسائر اقسام الوجوب}
ويمكن أن يقال: بأن الأمر صورتا، بمحصل الغرض، ولبا، بتحصيل
الغرض، عدل عنه لعدم علم المأمور بالغرض وما يقوم به بحده إلا من طريق
الأمر; فمع السبق، حصل الغرض الوحداني ولغى المتأخر; ومع التقارن، اشترك
283

العلتان في المعلول الواحد; فوحدة الغرض هو الفارق بين القسمين، بمعنى ترتبه
على السابق، واشتراك المقارنين في تحصيله، بخلاف سائر الأقسام للواجب،
لتعدد المكلف به في التعيين، فتدبر.
واشتراكها جميعا، في إمكان تحصل الغرض بالتقارن وتركه بالتقارن في
الترك، والاختلاف بتحصل السابق فقط هنا، وبتحصلهما في العيني مع التعاقب
وفي التعييني أيضا.
{تفرقة اخرى}
ويمكن التفرقة أيضا، بكون الوجوب في الكفائي، متعلقا بأول دفعة،
فيكون قيدا وعنوانا للواجب; فمع العدم يعصى الكل; ومع التقارن في الدفعة
الاولى يمتثل الكل; ومع التعاقب يمتثل المتقدم فقط، بخلاف العيني فليس فيه
هذا التقييد، فلذا يمتثل في الدفعة الثانية، أعني المتأخر، لبقاء الوجوب. وهذا
يتحد مع الفرق بالغرض، بل معلول لذلك، حيث إن اختلاف سنخ الغرض
بالوحدة، يوجب اختلاف العنوان المذكور.
ويصحح الغرض في التخييري بأن الواجب أول دفعة من امتثال شخص
الأمر المتعلق بأحد شيئين مثلا، كأن يفعل العدلين أو أحدهما، فهو المحصل
للغرض ولعنوان الدفعة الاولى. وبعد حصول الغرض والعنوان لذيه، فلا يبقى
محل للأمر والامتثال.
284

الفصل السادس
في دلالة
الصيغ الطلبية على المرة والتكرار وعدمها
الظاهر، جريان البحث في مطلق الدلالة على الطلب، كانت بالصيغة
أو بالمادة أو بالجملة الخبرية الفعلية أو الاسمية أو بغير الألفاظ.
{الطلب والمطلوبية يدوران حول المصلحة}
وحيث إن الطلب بأي سبب إنشائي، كان ناشئا عن المصلحة، فلابد من
ثبوتها في الفعل، ومن عدم حصولها بغير الفعل، ومن عدم حصولها في زمان
الأمر; فكما أنه لولاها لم يمكن أو لم يحسن الطلب، فكذا مع حصولها بتحقق
ما تقوم به، فالوجود الثاني أو المتأخر، لا مصلحة فيه تؤثر في الإرادة التكوينية
أو التشريعية، لأنها حاصلة; ومع عدمها فاتصافها بالمطلوبية لو صح، لصح
المطلوبية حدوثا مع عدم أصل المصلحة أو مع تحققها بدون الأمر; فكما لابقاء
للطلب مع حصول المصلحة - إذ لا حدوث له مع حصولها بغير الفعل أو عدم
المصلحة في الفعل - فكذا لا يتعدى دائرة المطلوبية عن الطبيعة التي تقوم بها
المصلحة، بل كل واحد منضما إلى الغير غير مطلوب، وفي نفسه بدلا عن الغير
مطلوب.
285

{عقلية الدلالة على المرة}
وعليه: فالدلالة على المرة الغير المتجاوزة عن الطبيعة، عقلية لا لفظية; فإنها
لازمة عقلا للدلالة التامة على نفس وجود الطبيعة.
ويتضح ذلك، بملاحظة الدوال الغير اللفظية كالإشارة; فلا يحتمل تعلقها
بغير وجود الطبيعة، ولا بقائها إلى الوجود المتأخر في الدفعات المنفصلة، ولا إلى
ثاني الوجودين من أفراد طبيعة واحدة أمر بها; وليس الوضع إلا تنزيلا للدال عقلا
وعرفا تكوينا، لا جعلا ووضعا، فالمدلول فيهما واحد.
وعليه: فالدلالة على المرة تقريبا توافق الدلالة على الطبيعة، وهي فيهما
عقلية محتاجة إلى مقدمات الحكمة لا لفظية، إلا على نحو الظهور الإطلاقي; فإن
مصبه اللفظ، والحاجة إلى المقدمات العقلية واضحة.
{جواز تبديل الامتثال مع بقاء العنوان}
ثم إنه لا إشكال في جواز تبديل الامتثال مع التحفظ على هذا العنوان; فإنه
بمنزلة إعدام ما أتى به أولا، فتعود الحاجة والمصلحة الداعية إلى البعث الوجوبي
فيما لم يكن مانع آخر من الإعدام، كالتصرف في ملك غير المأمور; كما إذا أمر
بإحضار الماء للشرب، فأحضر كأسا ثم أخرجه في الوقت وأتى بكأس آخر
أفضل أو مساو للأول لغرض آخر يرجع إلى المأمور أو إلى الآمر.
ولا ينافي ذلك ما افيد: من أن الغرض، التمكن من الشرب مثلا، فمع حصوله
يسقط الأمر، فلا محل له ثانيا، إذ مع عدم بقاء التمكن وجواز إعدامه بقاءا من
المأمور وفعله، تعود الحاجة; وكما أن فقد المصلحة حدوثا علة للأمر، فكذا بقائا
بأي سبب كان إذا فهم المصلحة والحاجة ووجودها وعدمها حدوثا أو بقاء.
286

{الامتثال عقيب الامتثال}
وأما الامتثال عقيب الامتثال فهو بهذا العنوان محال، إذ بعد سقوط الأمر لا
مجال للامتثال ثانيا، إذ الأمر الواحد ليس له إلا امتثال واحد.
{بيان لرفع محذور التكرار والجمع بين الروايات المربوطة}
يمكن أن يقال: إن المحسنات التعبدية على طبق المحسنات العقلية، بل هي
منها واقعا; فإن الواجبات السمعية ألطاف في الواجبات العقلية، وهل ترى
محذورا في الزيادة والتكرار في المحسنات التي طريقها العقل فقط؟ فكذا ما
يحسنه الشرع، إلا أن يدل دليل على محذور في الزيادة والتكرار عمدا أو مطلقا،
كما ورد في موارد.
وهذا الطريق أقرب في الجمع بين التعبيرات المختلفة في روايات الإعادة،
ففي بعضها: «فإن له صلاة اخرى» (1) وفي بعضها: «وهو أفضل» (2)، وفي بعضها:
«يختار الله» (3) إلى آخره، وفي بعضها: «يجعلها الفريضة» (4) بزيادة «إن شاء» في
الفقيه وبدونها في الكافي، وفي بعضها: «يجعلها تسبيحا».
وسائر الطرق لا تخلو من مناقشات برهانية، بل [يلزم عليها] صعوبة الجمع
بين هذه التعبيرات في الروايات، مع سهولته فيما ذكرناه وعدم المناقشة فيما
قدمناه.
{أعمية الطلب عن الإيجاب}
وعدم تجاوز الإيجاب عن الطبيعة، لا يستلزم عدم تجاوز الطلب عن

(1) و (2) و (3) و (4) الوسائل 5 الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
287

الطبيعة، وثابتة بالفحوى في مراتب إيجاد الطبيعة، ويحصل القطع بذلك في
ملاحظة الأمر في النوافل; فإن الإيجاب بالنسبة إلى ما زاد عن الطبيعة نفل محض.
نعم، لابد من تحصيل مرجح على ابتداء النفل، ولعله يشكل تحصيله في
الإعادة بالمساوي للمبتداء.
نعم، لابد من إحراز القابلية للتعدد ومن ثبوت مزية للثاني على النافلة
المبتدئة المطلوبة في كل حال; والمزية لابد من مطلوبيتها للشارع، ويمكن أن
تكون المزية في نفسها راجحة، فتساوي الرجحان في النافلة المبتدئة، كما يرشد
إليه قوله (عليه السلام): «فإن لك صلاة اخرى» (1)، مع أن المورد تبديل الفرادى بالجماعة; كما
يمكن أن يكون التسبب إلى صلاة جمع جماعة، كأنه مزية راجحة شرعا، كافية في
رجحان الجماعة الثانية بعد الإتيان بالصلاة جماعة أيضا على فعل النافلة.
{إشارة إلى بعض الروايات الدالة على جواز التكرار}
وهذا الذي قدمناه يسهل به الجمع بين مضامين الروايات المختلفة بحسب
الظاهر.
ففي بعضها: «يجعلها الفريضة إن شاء» (2)، وفي بعضها: «فإن له صلاة
اخرى» (3)، وفي بعضها: «يحسب له أفضلها وأتمها» (4) الموافق لقوله في بعضها:
«يختار الله (تعالى) أحبهما إليه» (5)، وفي بعضها: «واجعلها تسبيحا» (6)، وفي بعضها:
«نعم وهو أفضل» (7); فإن الظاهر تعين الجمع بأن يكون للاختيار للمصلي بعد
صلاته في تقرير الامتثال على الاولى، جعل الثانية صلاة نافلة فعلية، وإن كانت

(1) الفقيه 1: 383 ح 1131.
(2 - 7) الوسائل 5 الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة.
288

فريضة شأنية أو بالعكس، لرؤيته الثانية أفضلهما، كرفع كأس أحضره وإحضار
الأحسن منه، أو إيكال قرار الامتثال إلى الله تعالى بعد أن كان الشروع والاتمام في
الثانية مستحبا بالفعل، إلا أنه ينوي في الشروع الوجوب الساقط بالأولى.
نعم يمكن أن يكون الإتيان بمتعلق التكليف، مراعى بالاقتصار على المأتي
به، حيث إن الحق لا يتجاوز الأمر والمأمور; فكما أن المأمور مخير حدوثا بين
الخصوصيات، فكذا بقاء ولا اعتراض عليه.
وحصول الغرض بإيجاد الطبيعة والتمكن من الاستيفاء إنما يوجب استقرار
الامتثال وانطباق الطبيعة على الخاص مع عدم التعقب بالأفضل بل المساوي; فإذا
جمع بينهما، فللمولى الاستيفاء في أية خصوصية، للاشتراك في صدق الطبيعة
والتمكن من الاستيفاء; فالمستقر عليه الامتثال إنما هو المأتي به الخاص مع عدم
التعقب بالمثل أو الأفضل، وإلا فله الاستيفاء فيما أراد، للاشتراك في الطبيعة
وأحكام تحققها ورضى كل منهما بالخصوصية، والمعتبر رضا المأمور وهو
حاصل في الجمع، كما في التبديل، ويفترقان بإعدام الأول في التبديل والجمع
بينهما في الثاني.
نعم يكون مثل الإعادة جماعة، من الجمع لا التبديل، كما أن رفع الكأس
الأول وإحضار الثاني، من التبديل; ولابد من إحراز الموضوع ثبوتا وإثباتا ولو
بالتعبد، فتحفظ.
289

الفصل السابع
في دلالة
الصيغ الطلبية على الفور أو التراخي
الظاهر جريان هذا البحث في مطلق إنشاء البعث، كان بالصيغة، أو بمادة
الأمر، أو بالجمل الفعلية أو الاسمية; كما أن الظاهر أنه لا وجه للدلالة على التراخي
سوى عدم الدلالة على الفور بما لهذا العدم من الحكم العقلي; كما أن دعوى
الدلالة على الفور بمعنى أول زمان الإمكان، مما يقطع بعدمه، بل تكفي الفورية
العرفية على هذا القول أيضا.
ويقال: إن الامتثال قد يكون فوريا، وقد يكون مؤخرا في قبال الفورية
العرفية، ولا إشكال في تحقق الامتثال فيهما، كما يستفاد من مفهوم التراخي; فإنه
التراخي في الامتثال الغير الراجع إلى أن الامتثال هل يتحقق مع التراخي؟
{عدم إناطة الامتثال بالفورية}
ومنه يظهر: أنه لا ينبغي التردد في الوضع وعدم اعتبار الفورية في تحقق
الامتثال التابع لتحقق متعلق الأمر الذي لم يؤخذ فيه الفورية عقلا ولا عرفا، لأن
العرف يحكم بأنه إتيان بمتعلق الأمر لا معجلا، لا أنه لا إتيان ولو احتمالا.
وليس في مقام الدلالة اللفظية إلا المادة والهيئة، وليس في شيء منهما
الفورية، وليس الغرض مما ينوط بالفورية في الأحكام العرفية إلا فيما يحتاج إلى
290

التقييد المفروض عدمه، فليقس الإنشاء الكلامي بالإنشاء بالفعل والإشارة;
فلا تستفاد الفورية منها قطعا.
والعلم بإناطة الغرض بها أحيانا، كالعلم بها بسبب الدلالة الزايدة أحيانا،
خارجان عن محل البحث.
فنقول: أما التأخير إلى حد يصل إلى التهاون والاستخفاف بأمر المولى،
فذلك حرام نفسيا لا وضعيا; ففي صورة الأداء إلى الترك يعاقب عقابين، وفي
صورة العدم يعاقب بعقاب واحد، لكونه ظالما بالاستخفاف بتكليف المولى.
وأما الإتيان فورا، فهو من مراتب التعظيم والتوقير للأوامر المولوية، وهو
إحسان في العبودية، لا أنه واجب يحرم تركه; كما أن دخله في الغرض أحيانا لابد
له من دليل آخر، ومع عدمه يحكم بالعدم بالأصل.
كما أنه لو دل دليل على الفورية، فإنه يستفاد منه مراتب الفورية، أو سقوط
الواجب في ثاني أزمنة الفور; ومع عدم الاستفادة، يحكم بما تقتضيه قاعدة
«الميسور»; فيكون الأمر بعد أول مراتب الفورية وعدم الإطاعة، كنفسه بعده;
وهكذا في سائر المراتب.
{عدم دلالة آية المسارعة على وجوب الفور}
وأما آية «المسارعة» (1)، فلا يستفاد منها الوجوب، كما يستفاد من مفهوم
المسارعة إلى المغفرة مع المسارعة في المغفرة; فلا يستفاد أن التارك له عقابان،
والمؤخر له عقاب واحد; كما أنه - على تقدير الاستفادة - فلا يستفاد منها الوجوب
الشرطي الملازم للقيدية للمأمور به بحيث لو أخر فلابد من التماس دليل

(1) آل عمران: 133.
291

للوجوب غير الدليل الأول، كما اشير إليه من قاعدة «الميسور» ونحوها.
ولعل ارتكاز مطلوبية المسارعة وأنها على الندب وطلب الفضيلة والكمال،
يكفي قرينة على إرادة الندب لو كان مولويا، لا إرشادا إلى رجحان المسارعة، لأنها
عدل في عدل; فيكون كأوامر الطاعة العامة لغير التعبديات، حيث ليست مما
يترتب على تركها بأنفسها عقاب غير عقاب مخالفة الأمر بما هو طاعة بالحمل
الشايع، لا الأولي.
292

الفصل الثامن
في أن الإتيان
بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا؟
{الإجزاء من المسائل الاصولية العقلية}
وهذه المسألة معدودة من المسائل الاصولية العقلية، لكونها من المبادئ
التصديقية للمسائل الفقهية; حيث إن حكم العقل بكون الإتيان بالمأمور به مجزيا
عن أمره أو أمر آخر، كبرى لإثبات سقوط الإعادة والقضاء في المسائل الجزئية
الفقهية، كقولك: «إن الصلاة مع التيمم مأتي بها بالأمر الاضطراري، وكل مأتي به
بالأمر الاضطراري يجزي عن الأمر الاختياري عقلا، فهي تجزي عن الإعادة
والقضاء».
وعنوان البحث وإن اختص بالمأمور به، إلا أنه بملاكه يشمل ماله انتقاض
ملازم لعدم الإجزاء، فيجري في المعاملات. والملاك في الجميع، الطريقية في
دليل الاعتبار والموضوعية، وما يكشف عن الأخير من دعاوى الإجماعات
وغيرها من السيرة والحرج وغيرهما في السببية المعقولة، الغير المجمع على
بطلانها.
{اجزاء الإتيان بالمأمور به عن امره مطلقا}
لا إشكال في الإجزاء في الإتيان بالمأمور به عن أمره، كان واقعيا اختياريا أو
293

اضطراريا، أو ظاهريا طريقيا، لأن الإتيان ثانيا إن كان لا بعنوان التدارك،
فالمفروض تحقق امتثال الأمر الأول وعدم ثبوت الأمر الآخر. وإن كان بعنوان
التدارك، فالمفروض عدم الخلل في المأتي به على وجهه، ولا يعقل قسم آخر،
فلا يكون المأتي به ثانيا بحيث يعقل تعلق الأمر بإتيانه، أو لا يكون فرض وقوع
الأمر بإتيانه إلا خلفا كما مر.
ومنه يظهر: أن البحث في الإجزاء عن نفس الأمر الأول، ليس من النظريات
التي يناسب البحث عنها في الاصول، وإنما هو توطئة للبحث عن الإجزاء عن
الأمر الآخر، وسيأتي ما يرجع إليه.
{الامتثال عقيب الامتثال وتبديله}
نعم، يقع الكلام في إمكان تبديل الامتثال بفرد آخر محتمل رجحانه على
الأول، بعد وضوح بطلان الامتثال عقيب الامتثال للأمر الواحد.
نعم، يكون تبديل الامتثال - على القول بعدم جوازه - من قبيل الامتثال عقيب
الامتثال; وعلى القول بجوازه، من الامتثال الفعلي عقيب الامتثال الشأني.
يمكن أن يقال: إنه لا إشكال في عود الأمر بعود الملاك فيما أحضر الماء
المأمور بإحضاره لرفع العطش ثم أخذه للإتيان بفرد آخر; فإنه يأتي بالثاني بداعي
الأمر الوجوبي المعلوم، فهذا أمر ممكن لا ريب فيه.
فيقال: إن وقوع الدليل في الصلاة المعادة وهو قوله (عليه السلام): «يجعلها الفريضة إن
شاء» (1) يكشف عن كون الصلاة القابلة للإعادة المأمور بها، قابلة لرفع اليد عنها
وتبديلها بالعدول عنها بعدها.

(1) تقدم في الصفحة 288.
294

{وجه معقولية تبديل الامتثال}
ويمكن أن يكون الوجه في معقولية ذلك، التي يكشف عنها مقام الإثبات،
هو أن إيجاب الطبيعة وتحقق الامتثال بالإتيان بالفرد الأول غير مناف لكون
العدول، عن الاقتصار على الفرد المحقق للامتثال بمنزلة رفع الماء الذي أحضره
من عند المولى موجبا لإيجاب الطبيعة بعد تحققها بالفرد الأول، ورفع اليد عنها
تعبدا بالعدول المستمر إلى زمان تحقق جميع أجزاء الصلاة; وحيث إن الباني
على العدول عالم بتحقق هذا الشرط، فهو يعلم بوجوب الطبيعة على نحو علمه
بوجوب الإحضار بعد الرفع من عند المولى، فله أن لا يعدل أو لا يديم عدوله إلى
زمان آخر الأجزاء، إلا أنه مع العدول المستمر والعلم به، يعلم بوجوب الطبيعة
ويقصد الوجوب.
وجواز الترك برفع اليد اختيارا عن الموضوع - اعني العدول - أو بتخيير
المولى بين فردين يحتمل الرجحان في كل منهما، أو في الثاني منهما مع احتمال
عدم فعلية استيفاء الغرض الأقصى، لا ينافي وجوب الطبيعة في تقدير العدول،
كما في نظائر المقام.
وفي هذا نظر، لملازمة قصد العدول عن الاقتصار مستمرا إلى آخر الأجزاء،
لقصد الفرد الثاني الذي لا يكون وجوبه إلا وجوب الطبيعة مشروطا بإتيان هذا
الفرد، مع أن المفروض ليس هو العدول عن الاقتصار، ولا أنه كان المقصود هو
الاقتصار على الأول.
{وجه آخر للمعقولية}
كما يمكن أن يكون الوجه، هو تقيد متعلق الأمر بكونه حصة خاصة ملازمة
للاستيفاء، ولو في نفس العبد بنحو المعرفية للحصة الممتازة واقعا عن سائر
295

الحصص في نفس الأمر; فمع العلم بالإتيان بالأكمل، يعلم بعدم الاستيفاء من
الأول، لأنه يرجح الراجح.
ولا يضر عدم العلم بالامتثال مع الشك في الإتيان بالأكمل، لأنه - خارجا -
إما يقتصر على الأول، فلا يجب عليه شيء، لاستقرار الامتثال بمضي الوقت وعدم
الثاني، على المأتي به; أو لا يقتصر، فيستقر الامتثال في الثاني ويقصد الوجوب
في الثاني، لعلمه بعدم تحقق الحصة الخاصة مع علمه بتحقق الأكمل بسبب بنائه
عليه.
وليس في تقييد الطبيعة المأمور بها بالتحصص بالاستيفاء ما يوجب
زيادة التكليف، وليس في هذا التقييد إلا فائدة الانتفاع بالأكمل لو كان; وإنما ينبه
على ذلك ملاحظة أن العبد في العرف بعد إحضار الماء وقبل استيفاء المولى،
له أن يحضر ماء آخر أفضل من الأول، بل هذا إحسان زائد من العبد، فإنه
يكشف عن أن الأمر كذلك مطلقا; وإنما يحتمل في أوامر الشرع عدم الاستيفاء،
وينبه على كفاية الاحتمال، مقام الاثبات بما فيه من التعليل العام في الموارد
كلها.
ولا يرد عليه لزوم عدم قصد الوجوب مع العزم على الفرد الثاني
الأفضل، لأن غايته كون القيد، الحصة المحتمل لاستيفاء الغرض منه، وهي على
حالها في الفردين المتفاضلين، لاحتمال الخلل الواقعي في الأفضل أيضا، فإنما
المضر القطع بتحقق الاستيفاء، وعليه، فلا مانع من التبديل مع المساواة أيضا;
فتدبر.
ولا يخفى: أن هذا الوجه - على تقدير تماميته وانحصاره إمكانا - يتعين
بكشف دليل استحباب الإعادة وجوب المعادة عنه ولا يصار إلى إطلاق المأمور
به المقتضي لكونه الطبيعة لا الحصة.
296

{الإطلاق في المقام لا يغني عن الدليل الخاص}
لا يخفى أنه ليس فيما نحن فيه إلا الإطلاق للدفعات والأفراد، بنحو يكون
مجموع الدفعات أو الأفراد في الدفعة الواحدة، امتثالا واحدا يكون أكمل من
صورة الاقتصار على الدفعة والوحدة; مع إمكان المناقشة في الفرض في تعلق
الامتثال بالمجموع، بل هو واقعا بالمستوفى منه واقعا وإن كان الامتثال الوجداني
بالجميع.
ولا طريق إلى عقلائية ذلك، في الواجبات الشرعية التي لا يعلم فيها كيفية
استيفاء المصالح، أعني التعبديات; وقد ثبت ذلك - في الجملة - في إعادة الصلاة
جماعة، ولا يتضح وجه التعدي إلى كل مطلوب، كالصلاة في البيت ثم في
المسجد، ولو صح الإطلاق لا يتحفظ فيه على عنوان التبديل; فله التبديل والعدول
إلى الأكمل; وله ضم صلاة اخرى إلى الاولى; وله ايكال الأمر إلى الله تعالى في
اختيار ما هو أكمل لديه «تعالى».
ومع فرض عدم العلم، فليس إلا الإتيان برجاء التكميل بنحو من الأنحاء
المذكورة; والإطلاق في تقدير بقاء محل التكميل; لا يثبت به بقاء المحل. وفيما
ورد في مقام الإثبات جواز التبديل بنحو، فإنه يستعلم بما ورد في خصوصيات
التبديل من الأنحاء المقدم إليها الإشارة.
وبالجملة: المسلم عدم تعدد الامتثال الفعلي لأمر واحد شخصي، لا لأمرين
متماثلين ولا تعدد ما به الامتثال شأنا لأمر واحد شخصي بالتكميل ولو بالدفعات
المتعاقبة كما فيما نحن فيه، أو بتعدد الافراد العرضية في مثل إحضار
كأسين.
297

{تعميم جواز الإعادة، لغرض التكميل في العبادات}
ولو ادعى مما ورد في إعادة الفرادى: أن الأمر في التكميل في
العبادات، كمثله في التوصليات العرفية، لم يكن جزافا، كما أنه لا يكون قياسا،
كما يرشد إليه ألسنة الروايات كقوله (عليه السلام): «يختار الله أحبهما إليه» (1)، فهل يقبل
مثل البيان للتخصيص بالمورد؟ كما أن الاختيار يدل على شأنية انطباق
الطبيعة الواجبة على كل منهما، لا أن الثاني عمل مستحب في نفسه بعد
الإتيان بالواجب، بل هذا البيان يلائم ما قيل من «أن الإعادة مستحبة
والمعادة واجبة»، يعني مستقر الطبيعة الواجبة بعد عدم الاستقرار في الاولى إلا
شأنيا.
ومع استفادة العقلائية يكفي الدخول في الإطلاقات التي لا فرق فيها بين
الدفعات على النحو المعقول والافراد المتعددة وما يقابلها بعد البناء على عدم
معقولية الامتثال بعد الامتثال على نحو ما مر من تعقب الامتثال الفعلي، بالامتثال
الفعلي، لا مع الاختلاف في الشأنية والفعلية.
{عدم التنافي بين وجوب المعادة واستحبابها بعنوان آخر}
ثم إن استحباب العدول المحقق لفرض المعدول إليه المستفاد من قوله (عليه السلام):
«ويجعلها الفريضة إن شاء» (2) بناء على أن المستفاد منه استحباب الإعادة ووجوب
المعادة، لا ينافي ما دل عليه غيره من قوله (عليه السلام): «فإن لك صلاة اخرى» (3) من استحباب
الوجود الثاني لمحض إدراك ثواب مثل ما أدركه بالأول; فإن تعدد ثواب صلاتين

(1) و (2) و (3) تقدم في الصفحة 288.
298

غير تعدد الفردين، أو لاحتمال استيفاء المولى من الثاني، لاحتمال خلل في الأول
واقعي معذور منه، أو لاحتمال مزية في الثاني غير معزوم عليها أو غير موجبة
لوجوب ذي المزية، أو للقطع بالاستيفاء منه حتى يمكن الوجوب وقصده غاية;
فإن استحباب رفع اليد غير استحباب الثاني.
ولذا بنوا على جواز قصد الندب - كما عليه الأكثر - وقصد الفرض. والأول
إنما هو فيما لم يتحقق فيه شرائط وجوب المعدول عنه، على ما ذكرنا في
الوجهين المتقدمين.
فالأول المبني على وجوب المعدول إليه، نظير رفع الماء الذي أحضره أولا
وتبديله بماء آخر مماثل أو أكمل على ما مر; والثاني كإضافة ماء إلى ماء لغرض
الاستيفاء مما هو الأوفق بمقصوده مما لا يشخصه العبد مع استقرار الامتثال على
الأول وإن كانت فعلية الاستيفاء من الثاني أحيانا; ونظيره الإتيان بفردين من الماء
ليختار الأحب منهما.
{استحباب الإتيان بفردين لا ينافي وجوب الطبيعة}
فاستحباب الإتيان بفردين، لا ينافي وجوب الطبيعة، وكون الإتيان بهما
بداعي الوجوب المتعلق بالطبيعة.
واستحباب التعدد في الفرد، للتوسعة على المولى في الاستيفاء بما هو
الأليق بمقصوده الأصلي الذي ليس تحت الطلب، وإنما الغرض من المأمور به
ما يقوم به لا محالة; ففي الحقيقة ليس هذا القسم المأتي به بقصد الندب، من
تبديل الامتثال، بل من انضمام ما وقع به الامتثال بمثله أو أكمل منه بلا لزوم قلب
محال، ليقع بالإمكان بدلا في الاستيفاء المتأخر عن الامتثال.
299

{إيراد ودفع}
ويمكن أن يورد على الوجه الثاني من وجهي قصد الوجوب، بأنه متوقف
على كون الأمر متعلقا بالحصة الملازمة للاستيفاء ومقصور على الإتيان ثانيا
بالأكمل; وقصد الندب متوقف على استقرار الامتثال بالأول الواجب، ولازمه كون
متعلق الأمر نفس الطبيعة، ولا ينوط بكون الثاني أكمل قطعا، بل يكفي احتمال
الأوفقية بمقصود المولى في الأصل; فلا يرد الوجهان موردا واحدا في صورة
واحدة.
ويمكن الدفع: بأن هذا التقييد المذكور ليس كسائر التقييدات، بل لا فائدة له
إلا جواز قصد الفرض بالثاني وهو المستفاد من قوله (عليه السلام): «يجعلها الفريضة إن شاء»
منطوقا ومفهوما.
وأما الاستيفاء، فلا ينوط بأكملية الثاني في نظر العبد، بل بالأوفقية والأحبية
الواقعية التي بها قرار الامتثال الفرضي; وتحقق امتثال الأمر الصلاتي فيهما، غير
قرار امتثال الأمر الفرضي فيهما; فإن كسب المعيد جماعة أزيد من كسب من صلى
جماعة فقط; فبذلك تجتمع تعبيرات الروايات الموافقة لعمل الأكثر.
{إحراز الأمر بوجوب شئ وعدم وجوب شئ آخر، يدل على الإجزاء}
لا يخفى: أن ملاك عمل المختار الداعي إلى إيجابه في حال الاختيار، إن كان
بحده قائما بعمل المضطر بلا تفاوت في الكمية والكيفية، فيكون الاختيار
كالحضر، والاضطرار كالسفر، في لابدية الوصف عند العمل الخاص بلا جهة
ملزمة اخرى، فلا وجه لعدم الإجزاء من دون فرق بين الإعادة والقضاء; فإن إحراز
أصل الأمر لابد منه في المقامين في إحراز الملاك; فلابد من فهم الترخيص
300

المكشوف بالأمر في البدار حتى يعلم المصلحة فضلا عن هذه المصلحة
الخاصة.
وكذا إن بقي شيء غير قابل للتدارك; فإن المصلحة المحرزة بتجويز البدار
في الجملة إن كانت هكذا، فلابد من الإجزاء عن الإعادة أيضا.
والكلام في هذا الفرض الثاني، باستلزامه تفويت شيء لزومي من المصلحة
بلا جهة لو تم، فهو مناقشة في صحة هذا الفرض وكاشف عن عدم واحد من
الإطلاق المقتضي لجواز البدار، أو عدم بقاء شيء لزومي من المصلحة.
وإن كانت في الواقع مما يبقى شيء قابل للتدارك بعد رفع الاضطرار، ففي
الاضطرار المستوعب لا يجوز الأمر إلا لرعاية مصلحة الوقت المقدمة على
المصلحة الفائتة، ولا مجال للإجزاء مع إمكان إدراك الفائتة بالقضاء; فلو علم الأمر
و علم عدم وجوب صلاتين، إحداهما قضاء، علم الإجزاء، لعدم إمكان الجمع
للمولى بين المصلحتين بحسب ذلك العلم، وترجيحه ما يفوت برعاية الوقت على
ما يفوت في الوقت.
وفي غير المستوعب، يكون الإذن واقعا في البدار تفويتا للواجب القابل
للاستيفاء في الوقت إلا إذا جاز صلاتان: إحداهما، لرعاية الفضيلة والاخرى،
لرعاية المصلحة الملزمة بحدها وإلا تعين الانتظار لإتيان ما هو وظيفة المختار.
ومنه يظهر: أنه إذا احرز الأمر بصلاة واقعا، وعدم وجوب صلاة اخرى واقعا
ادائيتين أو مختلفتين، لزم الإجزاء في جميع الصور، بخلاف صورة عدم الإحراز.
كما يظهر: أن مجرد الأمر بالنسبة إلى الإجزاء عن القضاء - فضلا عن الإعادة -
لا اقتضاء له، وإنما يقتضيه مع ضم مثل الإجماع على عدم وجوب صلاتين تكون
إحداهما سادسة بنحو من الأنحاء المتقدمة.
301

{مدخلية ظهور الدليل في استفادة الإجزاء}
كما أنه يكون الاستدلال بما في مقام الإثبات، بحثا عن المسألة الفقهية.
ولعل ما فيها من الأدلة، مختصة بباب; فمثل «التراب أحد الطهورين» (1) يفيد البدلية
المطلقة، فيتمسك به في غير ما علم أو ثبت فيه عدم الإجزاء، كما إذا فرض أنه
يفهم من إطلاقه الواقعي المطلق; لكنه مختص بالصلاة بالنسبة إلى تعذر الطهارة
المائية.
ويمكن أن يقال: إن ظاهره إطلاق البدلية، الكاشف عن البدلية المطلقة، وإنما
علم التقييد بمطلق التعذر، وأما التعذر المطلق بالتعذر في تمام الوقت، فلم يعلم
التقييد به، فيؤخذ بإطلاقه في غير ما علم التقييد فيه.
نعم، إذا استظهر من مثل «إن لم تجدوا ماء»، قيدية عدم الوجدان في موطن
الأمر - وهو الصلاة مع الطهارة بين الحدين - لا مطلق عدم الوجدان ولو في بعض
الوقت، فهو تقييد الإطلاق المتقدم، كما أنه مع إجماله وتردده بين الأقل
والأكثر، تقييد بالمتيقن، وهو مطلق التعذر، لا التعذر المطلق في تمام الوقت.
{جريان الاستصحاب مع الشك وعدم وجود الإطلاق}
بل يمكن أن يقال: إنه مع الشك في قيدية الأزيد من مطلق التعذر في الطهارة
الترابية المقيد بها الصلاة وفرض عدم الإطلاق الرافع لهذا الشك، يستصحب عدم
التكليف بالصلاة مع الترابية، لاحتمال قيدية التعذر المطلق للأمر بها، فلا يكفي
دخول الوقت في تحقق التكليف، إلا أن الشك في التكليف ناش من الشك في

(1) وما عثرنا عليه: «التيمم أحد الطهورين» الوسائل 2 الباب 21 من أبواب التيمم ح 1.
302

قيدية المشكوك وجوده وهو التعذر المطلق، أو مع البناء على قيدية العذر إلى
آخر الوقت يشك في بقاء العذر إلى آخر الوقت، فيستصحب بقائه إليه; فمع
استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت، يتيقن بالتكليف، إما لكفاية مطلق التعذر،
أو لاستصحاب العذر الذي هو قيد في حدوث التكليف.
{تعيين موطن الأمر بالصلاة وثبوت التكليف بحسبه}
نعم يمكن دعوى: أن تقييد الأمر بالطهارة [الترابية] بعدم التمكن، كتقييد الأمر
بالمائية بالتمكن، يرجعان إلى التطهر بأحدهما في موطن ثبوت الأمر بالصلاة مع
الطهارة; وحيث إن موطنه ما بين الحدين، فموطن الأمر بالمائية أو الترابية ما بين
الحدين.
فعليه: يكفي للتمكن، تحقق القدرة في بعض الوقت المقدور إيقاع الصلاة
مع المائية فيه، ولا يكفي لانتفاع التمكن إلا عدم القدرة في جميع أبعاض الوقت،
كما هو الشأن في مناقضة الموجبة الجزئية مع السلب الكلي. وسيأتي ما يرجع إلى
ذلك.
{جهة إناطة جواز البدار بوجود الدليل وعدمه}
ويمكن أن يكون الاعتبار في أن الأصل عدم جواز البدار إلا مع الدليل أو
جوازه إلا مع الدليل، أن التكليفين المترتبين إن رجع الأمر فيهما إلى انقلاب
التكليف بانقلاب الموضوع، كالسفر والحضر; ففي كل قطعة من أزمنة التكليف،
واجد الماء في تلك القطعة يكلف بالصلاة مع المائية فيما بين الحدين ما دام
الموضوع باقيا والصلاة غير مأتي بها; وغير واجد الماء في تلك القطعة، يكلف
بالصلاة مع الترابية فيما بين الحدين ما دام الموضوع باقيا والصلاة المذكورة غير
مأتي بها، ومثله الحال في السفر والحضر; فإن متعلق التكليف فيهما مغاير.
303

وهذا بخلاف انتفاء الموضوع وانتفاء التكليف الأولي كالاضطرار الموجب
لانتفاء شرط التكليف بالجعل وهو القدرة، فبانتفائه ينتفي التكليف بغير المقدور
وهو الكل لا البعض; فإن الشرط، القدرة على المتعلق فيما بين الحدين، فلابد في
انتفاء التكليف من انتفائها كذلك، ففرق بين موارد التمسك بقاعدة «الميسور»
و «ما لا يدرك» و «رفع الاضطرار»، وبين مثل حكم المسافر والحاضر وواجد الماء
وغير واجد الماء; فالأصل يقتضى جواز البدار في الثاني دون الأول. فتدبر جيدا.
ولا ينافي ما ذكرناه: أن نقيض الإيجاب الجزئي هو السلب الكلي; فإن
الإيجاب عمومه في قطعات الزمان الطولية بدلي; ففي كل زمان، يكلف الواجد
بالصلاة بين الحدين مع المائية; وغير الواجد في ذلك الزمان [يكلف] بالصلاة مع
الترابية بين الحدين كالسفر والحضر. والعموم البدلي كالشمولي في احكام
الامتثال إلا في الاكتفاء بامتثال أمر واحد في موضوعه في البدلي دون الشمولي.
وكذا مثل «فلم تجدوا ماءا» إذا استفيد منه كفاية مطلق عدم الوجدان ولو في
بعض الوقت الذي هو وقت القيام للصلاة، خصوصا على النحو المتعارف في
الأعصار المتقدمة من طلب الصلاة في أول الوقت، لا خصوص عدم الوجدان
المطلق بالعذر المستوعب للوقت، نظرا إلى أن المأمور به هو مطلق الطهارة،
لا الطهارة المطلقة; فتعذره بتعذر مطلق الطهارة، لا ما يعم مطلق التعذر ولو كان
تعذر الطهارة المطلقة في أول الوقت مثلا.
{وجود الأمر وجواز القيام بالمأمور به، دليل الإجزاء}
نعم، مع فرض الأمر وجواز القيام في أول الوقت ولو لغير القاطع بارتفاع
العذر في الوقت، يستكشف وفاء المأمور به بتمام المصلحة، وإلا كان الأمر زيادة
304

في التكليف بالصلاة مع الترابية، لا ترخيصا وإرفاقا ورفعا للحرج والعسر
الملحوظين في تشريع التيمم.
وكذا مثل عمومات التقية إذا استفيد جواز الصلاة في أول الوقت مع
المندوحة الزمانية، أي في الزمان المتأخر، بل المكانية أي في هذا الوقت في
مكان آخر; فإن الأمر بالاجتماع معهم مع الإعادة في مكان آخر أو زمان متأخر;
زيادة في التكليف، لا تسهيل وتيسير، إلا أن يكون المراد الصورة المنجية من
الفعل; لا مع إسقاط الشروط والموانع التي لا يمكن التحفظ عليها مع الاجتماع
المذكور.
ومن المعلوم أن التقية للنجاة من شر الدارين، لا الدنيا فقط، وإلا فلا معنى
للأمر بالقراءة في النفس. وهما بخلاف مثل «رفع الاضطرار» و «قاعدة
الميسور»، للزوم تعلقهما بنفس المأمور به إذا وقع مورد الاضطرار وهو الجامع
بين جميع الأفراد الطولية والعرضية، وهو الثابت الذي يسقط بكونه معسورا
ولا يسقط ما هو الميسور.
{لابدية ثبوت الأمر الاضطراري في فرض عدم استيعاب العذر}
بقي الكلام في استفادة الإجزاء الغير اللازم للأمر، أي لمجرد الأمر
ثبوتا.
وحاصله: أن الأمر الاضطراري لابد من فرض ثبوته مع العذر الغير
المستوعب، وإلا لا محل للبحث عن الإجزاء، ولابد في ثبوته من دليل خاص، أو
إطلاق الأمر لصورة عدم الاستيعاب ولاحتمال عدم الاستيعاب، فإذا شك في
موارد ثبوت هذا الأمر المفروض في التخييرية على النحو المتقدم من التخيير بين
الأقل والأكثر المحتمل في مقام الثبوت بأن يكون العمل في حال الاضطرار مع
305

العمل في حال حدوث الاختيار عدلا للعمل المنتظر الذي هو عمل المختار
بشرط لا عن الضميمة، فيكون العدل لكلا العملين المنضمين لا لخصوص
أحدهما، فمقتضى الاستصحاب: عدم فعلية التكليف بالترابية، كما إذا شك في
دخول الوقت بالنسبة إلى أصل التكليف بالصلاة; فإن المتيقن، ثبوته في آخر
الوقت إما لاستمرار العذر بالترابية، أو لزواله بالمائية.
إلا أن الشك مسبب عن الشك في الاستمرار الذي هو مقتضى استصحاب
العذر، فيثبت التكليف فعلا بالترابية لولا أن مقتضى الإطلاق ثبوت الأمر بعد
الوقت بلا إناطة بغير مطلق العذر في قبال العذر المطلق في جميع الوقت.
{التمسك بالإطلاق لنفي وجوب العدل والضميمة لإثبات الإجزاء}
ويدفع الإطلاق في موضوعه الذي هو عدم وجدان الماء للتطهر فيما بين
الحدين، وجوب العدل، لاقتضاء الإطلاق، التعيين، كما يدفع الإطلاق من حيث
الضميمة وجوب أزيد من صلاة واحدة مع اخرى; فإن الضم متعين وإن كان الأمر
بالمنضم تخييريا، أي يخير بين العمل بشرط الضميمة وبينه بشرط لا عنها، لكن
الضميمة حيث لم تكن قيدا، فلا يدفع وجوبها بالإطلاق.
إلا بأن يقال لو كانت الضميمة واجبة لكان وجوب المنضمين تخييريا، لجواز
ترك البدار والانتظار، وحيث يدفع التخيير بالإطلاق، استلزم ذلك نفي وجوب
الضميمة.
وفيه: أنه خلط بين الإطلاق المقتضي لنفي الضم والمقتضي لنفي العدل، مع
أن كل ذلك بالإطلاق أيضا وطريق هذا الإطلاق سهل العبور; فإن التقييد المذكور
من الغرائب المحتاجة إلى البيان الخاص لا محالة، وهو صعب التحصيل، وسواء
306

في ذلك الإطلاق لنفي العدل ولنفي الضم الخاص; مع أنه كيف يحكم بالتخيير مع
احتماله بقاء العذر; فهو مكلف واقعا بواحدة مع الترابية أو زواله، فهو مكلف
واقعا بالمائية، فهو واقعا غير مأمور بالجمع رأسا، فهو مردد لا مخير، وإنما التخيير
مع التمكن من الطرفين في زمان واحد.
وأسهل منه إنكار الإطلاق للعذر الغير المستوعب الذي فرض ثبوته في
البحث عن الإجزاء في نفس أدلة الاضطرار ولو بمعونة القرائن أو من الأدلة
الخاصة.
وأما كون هذا التكليف تخييريا أحد طرفي التخيير، العملان
والآخر، الواجد، فذلك غير التخيير العقلي في أمر واحد بالنسبة إلى الطبيعة
حيث يتخير بين الأفراد الطولية والعرضية، وإلا لم يكن أحد طرفي
التخيير العملين، وحينئذ فلا معنى لهذا التخيير الذي أحد طرفيه موضوعه الواجد،
والآخر موضوعه غير الواجد في بعضه، والواجد أو المحتمل كونه واجدا في
بعضه الآخر. ولا فعلية للتكليف بالطرفين في موضوع واحد في زمان واحد
لا يكون فيه إلا واجدا أو غير واجد، وعلى تقدير الإغماض عن هذا الإيراد فهو
يبتنى على عدم الإجزاء. والأمر الثابت بالإطلاق، على حسب الأمر بالنص
والتعيين، في ظهور دليله في تمامية المتعلق للتكليف بلا حاجة إلى عدل أو
ضميمة.
فعليه: لا محل لغير الإجزاء، فلا حاجة إلى ضميمة، كما لا لزوم للانتظار;
فإذا أثبت الأمر ولو بالإطلاق، فلا يبقى إلا التخيير العقلي المتقدم، ولا ينتج إلا
الإجزاء عن الإعادة مع البدار، كالإجزاء عن القضاء إذا أتى به مع العذر في آخر
الوقت.
307

{إشكال في استفادة الإطلاق وحله}
ويمكن أن يقال: إن إطلاق الأمر للعذر الغير المستوعب احتمالا، مترتب على
إحراز موضوعه، وهو موقوف على إرادة مطلق عدم الوجدان; ولازمه كفاية عدم
الوجدان في أول الوقت، لفعلية الأمر بالترابية ولو مع العلم بارتفاع العذر في آخر
الوقت، وهو مناف لإطلاق الوجدان لذلك الوقت، المقتضي لفعلية الأمر بالمائية
حينئذ، مع أن الظاهر عدم الالتزام بالإطلاق مع العلم بارتفاع العذر بعدئذ، بل
المناسب حمل الوجدان والعدم، على ما كان في موطن الأمر وهو ما بين الحدين;
فالوجدان في بعضه، كاف في الأمر بالمائية، ولا يكفي لعدم الوجدان إلا عدم
الوجدان في تمام أبعاض ما بين الحدين.
إلا أن يقال: إن الوجدان والعدم - كالسفر والعدم، أي الحضر - يراد به ما كان
في كل قطعة من أزمنة التكليف، لا مجموع تلك الأزمنة، والمكلف في كل زمان
واجد للماء أو لا للصلاة المحدودة بما بين الحدين، فهو مشمول لإطلاق دليل
الحكمين فيما لم يعلم بالخروج، كصورة العلم بارتفاع العذر في آخر الأزمنة على
ما مر.
{تصحيح الإطلاق باستصحاب بقاء العذر}
نعم، مقتضى استصحاب العذر إلى آخر الوقت، هو التكليف فعلا بالترابية،
كما إذا علم أو أخبرت البينة بعدم الارتفاع إلى آخر الوقت; كما أن مقتضى
استصحاب الوجدان، أنه مع احتمال طرو العذر بعد الوجدان، لا تجب المبادرة
إلى الفعل مع بقاء الوجدان بالاستصحاب إلى زمان العلم بارتفاع التمكن; فإذا
استصحب في الأول بقاء العذر إلى آخر الوقت، ترتب عليه الأمر بفعل الصلاة في
أبعاض الوقت، والمتيقن منه صورة إحراز عدم الوجدان مطلقا، سواء كان بالتأخير
308

إلى آخر الوقت وكان إذ ذاك غير واجد أيضا أو بالتقديم مع العلم ببقاء العذر إلى
آخر الوقت; فيكون التقديم في صورة عدم العلم، مشمولا لإطلاق الأمر مع عدم
الوجدان الفعلي المستصحب.
ومما قدمناه يظهر ما فيما مر، من أن تقيد مثل «يكفيك عشر سنين» (1)،
بمطلق عدم الوجدان متيقن; وبعدم الوجدان المطلق، مشكوك يدفع بالإطلاق;
وأنه إذا لم يكن استظهار قيدية عدم الوجدان إلى آخر الوقت مما يمكن إحرازه
باستصحاب عدم الوجدان المحرز في أوله إلى آخره.
{الأصل العملي في فرض عدم الدليل}
ولو فرض عدم الإطلاق في هذا المقام فالإتيان مع الترابية، لمكان
استصحاب العذر إلى الآخر، فيحقق موضوع عدم الوجدان إلى الآخر; فلو اتفق
زوال العذر في الآخر، فالأمر السابق اضطراري ظاهري، وله حكمهما; فالشك في
التكليف بالإعادة بعد رفع الاضطرار في الوقت، شك في حدوث تكليف
مستصحب العدم وفي تأثير رفع الاضطرار في ثبوت ذلك التكليف، وذلك لكفاية
الموضوع العرفي المتحد في اتحاد الفرضين: المتيقن والمشكوك، أعني الواجد
وغير الواجد، كالماء المتغير الزائل تغيره من قبل نفسه.
وقد علم بتأثير الاضطرار الخاص في حدوث تكليف ظاهري اضطراري
لدخالة استصحاب الموضوع في ثبوته، وقد علم بأن التكليف الحادث في زمان
الاضطرار تحقق امتثاله; كما أنه لو لم يكن مثبت عمومي أو خصوصي للتكليف
في زمان الاضطرار، كان مقتضى الاستصحاب عدم حدوث التكليف، كما في

(1) الوسائل 2 الباب 14 من أبواب التيمم ح 12.
309

الشك في دخول الوقت.
{حكم القضاء مع استيعاب العذر وعدمه}
وكذا في الشك في وجوب القضاء مع عدم الإعادة في الوقت بعد زوال
العذر فيه; فإن ما لا تجب الإعادة فيه - ولو بالأصل - لا يجب القضاء فيه، نظرا إلى
أن الأصل ينفي الفرض الذي هو موضوع وجوب القضاء في دليله; فحيث
لا فرض في الظاهر في الوقت، فالفريضة غير فائتة، فلا يجب قضائها. ولو كان
نفي الفرض بالدليل المقتضي للإجزاء، فمقتضى نفي الفرض في الوقت نفي
القضاء في خارجه لو لم يأت به في الوقت، لما ذكرناه من انتفاء موضوع وجوب
القضاء بنفي الفرض في الوقت بالدليل، كما مر في الأصل.
وأما مع الاستيعاب، فينفي التكليف بالقضاء، بالأصل، بعد عدم إمكان
التمسك بعموم دليل القضاء، لأن فوت الفريضة للوقت مسلم العدم، وفوت ملاك
الفريضة الشأنية محتمل لا معلوم، فلا محل للتمسك بالعموم. والأصل كاف
لنفيه، مع وضوح الحاجة في مثل هذا التكليف إلى البيان الواضح الذي يمكن
دعوى: أن العرف يفهم من مجرد الأمر في زمان الاضطرار عدم تكليف آخر،
فتدبر.
310

تفصيل الكلام
في إجزاء الأمر الاضطراري
{الإجزاء بالنسبة إلى مقام الثبوت}
وأما تفصيل الكلام في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي،
فقد يقع في مقام الثبوت (1)، وقد يقع في الإثبات; أما الأول: فمحصله أنه مع وفاء
المأتي به بتمام مصلحة الاختياري بحدها، يتعين الإجزاء; فإن المأتي به في
الصلاتية متحد عنوانا ومعنونا مع عمل المختار، واختلافهما في الكيفية، كاختلاف
القصر والاتمام في الكمية، واختلافهما مع هذا في الموضوع أيضا، كذلك; ففي
جهة هذه الحيثية لا وقع للبحث عن الإجزاء، كما أنه في جهة كون الأمر ظاهريا
بسبب دخول استصحاب العذر; فمحل البحث منه، إجزاء الأمر الظاهري.
{بيان للإجزاء بورود التحديد بالوقت على المشروط دون العكس}
وأما الاكتفاء بإجزاء الاضطراري عن الأمر بعمل المختار، فطريقه أن يقال:
إن الأمر بالصلاة مع المائية محله - كما في الآية الشريفة (2) - حين القيام إلى الصلاة،

(1) ولا يخفى أن التشقيق في مقام الثبوت على الكلية وقصر النظر في مقام الإثبات في أدلة
التيمم - كما في الكفاية (ص 84 و 85) - لا يناسب المسألة الاصولية، إلا أن تستظهر المساواة
بين الكل في مقام الإثبات، كما يظهر من استشهاد «الجواهر» (ج 5 ص 162)، لعدم التضيق في
فقدان الماء، بظهور المساواة مع سائر الأعذار، كالمسلوس والمستحاضة وذي الجبيرة، وإنما
يتم بعدم الاختلاف في تلك المسائل.
(2) المائدة: 6.
311

وذلك في بعض أوقات ثبوت الأمر بالصلاة; فالمستفاد أنه حين العمل بالأمر
بالصلاة - وذلك ما بين الحدين - إن كان واجدا، تطهر بالماء; وإن كان غير واجد
في ذلك الحدين، تطهر بالتراب; فوقت الشرطين، حين العمل، ووقته وقت الأمر،
أي أبعاض الوقت; فالعمل بالأمر بالصلاة المشروط بالتطهر بالماء مع الوجدان،
وبالتراب مع عدم الوجدان، وقته وقت الأمر وهو محدود بالحدين; فالتحديد يرد
على المشروط بالشرطين على النحو المذكور، لا أن الاشتراط المذكور يرد على
التحديد بالحدين حتى يوجب مناقضة السلب الكلي للإيجاب الجزئي، لأن عدم
الوجدان إنما يحصل بعدمه في جميع أبعاض الوقت.
وعليه، يكون حال الماء والتراب للواجد والفاقد، حال الإتمام والقصر
للحاضر والمسافر، في التحديد بزمان العمل; ويكون المشروط محدودا بما بين
الحدين، لا أن المحدود بالحدين مشروط حتى يرد الاشتراط على المحدود،
حتى يستفاد بضميمة المناقضة المذكورة، أن الشرط عدم الوجدان في تمام هذا
الحد.
نعم، لازم ذلك ثبوت الأمر بالترابية مع العلم بزوال العذر في آخر الوقت،
ولا محذور فيه; كما هو كذلك في القصر، إلا أن يقوم الإجماع على خلافه; ولو
تم، كشف عن التقييد وأن مطلق التعذر هو القيد; فيؤخذ بإطلاق قوله تعالى:) فلم
تجدوا ((1) إلا في صورة العلم بالتمكن في آخر الوقت، ومعه يلتزم بعدم الأمر في
أول الوقت، لا أن الأمر الثابت مشروط بالتعذر المطلق، بل بمطلق التعذر غير
التعذر المعلوم ارتفاعه في الآخر بعلم في الأول مثلا.
ويؤيد ما قدمناه، ما روي (2) في طرقنا عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن المعنى: إذا

(1) المائدة: 6.
(2) الوسائل 1 الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ح 7.
312

قمتم من النوم، ولو كان التقييد بالرواية محمولا على الغلبة; فإنه يصلح للقرينية
على وقت الأمر بالطهارتين وأنه وقت العمل، بل التحديد بالحدين مخصوص
ببعض موارد المطلق; فإن التقييد بالطهارتين عام للصلوات المندوبة والواجبة
المحدودة بالحدين وغيرها من ذوات الأسباب الاختيارية وغيرها، كما هو كذلك
في أقسام النوافل الموقتة وغيرها من المسببات والمبتدئات; بل يمكن استظهار
ذلك من الآية الشريفة نظرا إلى أن الطهارة وخصوصياتها معتبرة في نفس الصلاة،
وحيث إنها عبادة لازمها الأمر، فوقت الطهارة - بقسميها - وقت الأمر، كان إيجابا
أو ندبا مع التوقيت أو لا معه، فوقت الأمر إن كان واجدا، تطهر بالماء وإلا
فبالتراب.
{تعين عدم الإجزاء مع عدم وفاء المأتي به بتمام المصلحة الاختيارية}
وأما مع عدم وفاء المأتي به بتمام المصلحة الاختيارية بحدها لبقاء البعض
أو مرتبة فاضلة غير مستوفى وقابلا للتدارك في الوقت بالإعادة وفي خارجه
بالقضاء، يتعين عدم الإجزاء. ولابد فيه من ترتب المصلحة المطلقة، على الجامع
بين العملين، والقوية الشديدة، على الجامع المتخصص بخصوصية عمل
المختار، أو كون مصلحة واحدة مترتبة على الجامع ومصلحة اخرى على الجامع
المتخصص.
{تصحيح الأمر لتحصيل المصلحة الشديدة أو المصلحة الاخرى}
فعليه مع كون ما به التفاوت - كان شدة المصلحة المحققة أو مصلحة
اخرى - لزوميا، يتعين الأمر بما يقوم به تلك المصلحة القوية أو المصلحة الخاصة
اللزومية لاستيفاء ما لم يتحقق. وفرض الأمر فرض لزوم ما يقوم بمتعلقه من
313

مصلحة الجامع، كما أن فرضه، يستلزم فرض جواز الإتيان بمتعلقه ولو كان بدارا.
ثم إن تأثير الجامع المتخصص في المصلحة الشديدة، كتأثيره في المصلحة
الاخرى الغير المحققة، أي في تقدير تعدد المصلحة دون الاختلاف بالمرتبة مع
فرض تأثيره في أصل المصلحة، فيؤثر الثاني في تحقق مالم يتحقق; فإن لم
يتحقق شيء أثر في مصلحة شديدة أو في مصلحتين; وإن تحقق أثر في شدة ما
تحقق وفي المصلحة الغير المحققة، لاستحالة تحصيل الحاصل.
فالأمر ثانيا بالمتخصص لتحصيل ما يقوم به من المصلحة الشديدة أو
المصلحة الاخرى، وإن كان المحقق بالجامع المتخصص في صورة الإتيان بعمل
المضطر، شدة ما تحقق أو ثانية المصلحتين، لا محذور فيه.
وكون المصلحة بعد تحققها غير قابلة للشدة بسبب آخر، ككون الشدة مترتبة
على خصوصية عمل المختار، لا على العمل المتخصص بالخصوصية، فيكون
الأمر بنفس المبدل مقدميا للأمر النفسي بالتقيد بالخصوصية الذي يقوم به شدة
المصلحة - قابلان للمنع المقبول فرضا في ترتب ثانية المصلحتين على العمل
المتخصص بالاختيار دون خصوصية عمل المختار حتى يسلم أن الأمر بعمل
المختار نفسي لا مقدمي، للأمر بخصوصيته المؤثرة في المصلحة الثانية. ولا
يسلم في الأمر بالعمل المتخصص إذا كان بما هو كذلك مؤثرا في المصلحة
الشديدة.
وبالجملة: فالفرق بين الوجهين في مقام الثبوت قابل للمناقشة بما مر; فإن
تأثير التقيد في شدة المصلحة، كتأثيره في المصلحة الثانية; فاسناد إحداهما إلى
العمل المتخصص والاخرى إلى خصوصية العمل، يمكن منعه، مع أن المصلحة
حيث لم تكن تحت الأمر، فالعمل واجب نفسي على أي حال، كان الأمر بداعي
تقوية ما كانت من المصلحة أو إحداث مالم يكن، فتدبر.
314

{تفصيل بين وحدة المتعلق في الاختياري والاضطراري وعدمها}
ثم إنه إن كان تكليف كل من المختار والمضطر متعلقا بعنوان واحد، هو
الصلاة المختلف معنوناتها بحسب اختلاف أحوال المكلف من الاختيار
والاضطرار والسفر والحضر، فمع تسلم الأمر وصدق الصلاة التي هي المأمور بها
على عمل المضطر، فلا يعقل بقاء الأمر بعد تحقق متعلقه; كما لا يعقل بقاء شيء
من مصلحته بعد فعلية الانطباق على ما في الخارج مما وقع امتثالا للأمر بها.
وإن كان كل من المضطر والمختار مكلفا بشيء يغاير الواجب على الآخر
وإن اشتركا في صدق الصلاة، إلا أن الواجب على كل، مرتبة خاصة، لا نفس
الطبيعة; فللبحث عن بقاء مصلحة المرتبة الاخرى المصححة للأمر بعد رفع
الاضطرار ثبوتا وإثباتا مع فعلية امتثال الأمر بمرتبة اخرى، مجال.
فعلى الأول، يكون الامتثال مجزيا، لوضوح الإجزاء عن الأمر بنفس ما تعلق
به هذا الأمر; واختلاف المصاديق مالم يوجب اختلاف الأمر باختلاف المأمور به،
لا يجدي شيئا.
وعلى الثاني، يمكن عدم الإجزاء، لمكان أن الامتثال يمكن أن لا يكون
مجزيا عن الأمر الآخر بمرتبة اخرى مغايرة للمرتبة الحاصلة امتثالا للأمر بها.
فالظاهر: أن استدلال الشيخ (قدس سره) (1) للإجزاء، يبتني على إثبات الوجه الأول،
كما أن ما في «الكفاية» (2) من ملاحظة أنحاء المصلحة، يبتني على إثبات الوجه
الثاني أو عدم تعين أحدهما.
وهذا البرهان الذي لخصناه في هذا التقرير هو الذي بنى عليه الشيخ (قدس سره)

(1) مطارح الأنظار: ص 20.
(2) كفاية الاصول: ص 84.
315

وقرره وأوضحه في المقام من دون إضافة شيء آخر، وإنما أشار إلى تقسيم
المصلحة ثبوتا إلى المساوي والناقص للعمل الاضطراري وحكم عدم المساواة،
في ضمن البحث عن الإجزاء للأمر الظاهري.
{المناقشة في الملازمة بين الإجزاء ووحدة المتعلق}
ويمكن المناقشة في الترديد المتقدم، بأن انطباق عنوان الصلاة على عمل
المضطر حيث ليس بالوجدان بل بالتعبد، فلابد من تشخيصه بالأمر، ولا يمكن
الالتزام بأمرين: يتعلق أحدهما بعنوان الصلاة، والآخر بتطبيقه على عمل
المضطر، فلابد من اتحاد الأمر وتعلقه بالمتخصص.
وحيث إن الأمر به وبالصلاة واحد، علم أن المتخصص صلاة المضطر، كما
أن المتخصص الآخر صلاة المختار، وإن كانت معرفة الانطباق مخصوصا
بالشارع، ولذا اكتفى بأمر واحد صلاتي بعمل خاص للمضطر وبعمل خاص
للمختار، وينتج ذلك حكم التعلق بالعنوان المختلف مصداقه في الإجزاء.
لكن عدم ملاحظة الجامع، أمر على خلاف وجدان المتشرعة بأن يكون
المأمور به أمورا متباينة لا جامع بينها، أو لا يلاحظ الجامع في الوضع والأمر; لكن
ملاحظة الجامع فيهما لا تنافي ملاحظة الخصوصية أيضا; وثبوت المصلحة
اللزومية للجامع لا ينافي ثبوت مصلحة اخرى لزومية للمتخصص، امر لأجلها
بالإعادة أو القضاء.
فالحاصل: أن الوضع وإن كان لنفس الجامع إلا أن المأمور به هو الجامع
المتخصص، وذلك غير مستلزم للإجزاء إلا مع إحراز البدلية في المصلحتين ولو
بكشف الإطلاق الآتي عن ذلك; وعليه: فلا ملازمة بين الوحدة والإجزاء.
316

{ملاحظة فيما سبق من التفصيل بين العدم المطلق ومطلق العدم}
وأما ما سبق من الدوران بين كون الشرط مطلق عدم الوجدان أو العدم
المستمر إلى آخر الوقت وأن الثاني مشكوك مدفوع بالأصل، ففيه: أن استظهار
الثاني - بملاحظة أن عدم وجدان الماء للصلاة بين الحدين ظاهر في ذلك - لا يبقي
مجالا للأصل المناقش فيه بأن شرط الوجوب لا يرفعها الأصل الامتناني; إلا أن
يجاب: بأن المشكوك اشتراط الصحة بالأزيد، فيدفع بالأصل.
وأما بدلية عدم الوجدان للوجدان الصادق في كل زمان بين الحدين،
فيكون مثله في إطلاق عدم الوجدان، فتدفع باستظهار أن نقيض الايجاب الجزئي
السلب الكلي المؤيد بما مر من فهم غاية الوجدان والعدم.
نعم، مع هذا الفهم الذي قدمناه، يمكن الانتفاع باستصحاب العذر إلى آخر
الوقت، لبقاء العذر إلى آخر الوقت مع ترتب الحكم على واقع بقاء العذر إلى آخر
الوقت; وحيث إن الأمر مع الوجدان تخييري في جميع أزمنة ما بين الحدين، فكذا
مع عدم الوجدان، ولو كان بالاستصحاب.
نعم، يكون الأمر متعبدا به وظاهريا اضطراريا، والكلام في الإجزاء هنا يقع
من جهتين.
إلا أن يقال: إن المناسب لسهولة الدين وعظم الصلاة، [هو] المقتضى لسهولة
أمرها على الكل وأن المكلف له اختيار وقته الحاضر لا الأعم منه ومن الغائب،
وذلك يقتضي التوسعة والإرفاق ولا يكون إلا بالإجزاء; فإن الجمع أصعب، لا أنه
أرفق، مؤيدا بما هو المرتكز لدى المتشرعة من عدم العسر بأزيد من
المعلوم.
317

{تذكرة إلى ما سبق في فرض عدم تساوي المصلحتين}
ثم إنه قد تبين مما قدمناه: أنه مع عدم وفاء المأمور به الاضطراري لتمام
مصلحة الاختياري بحدها، مع لزومية ما به التفاوت وإمكان الوصول إليها ولو في
خارج الوقت - فلا يمكن الأمر بالعمل الاضطراري، لعدم إمكان التدارك بأمر نفسي
آخر في الوقت أو خارجه، على ما قدمناه; فمع فعلية الأمر الاضطراري، يستكشف
الوفاء بالمصلحة بحدها اللزومي، فلا محل للإعادة فضلا عن القضاء، إذ غاية ما
يحتمل في القضاء أن يكون فاقدا لشيء وواجدا لشيء، ومثله الأداء; حيث إن
المولى لابد له من ترجيح أحد المفقودين; وحيث إن الأمر بالأداء مسلم
فالترجيح له محقق، لدلالة دليل الأمر على أنه كالصلاة المأمور بها مع المائية في
الخواص والأحكام، ومثله في هذه الجهة، الأمر بالبدار بعد تسلم الإطلاق، حيث
يثبت به ما يثبت للمختار في أول الوقت من التطهر بالماء.
{القول بنفي وجوب القضاء وإيراد العلامة الإصفهاني (قدس سره) عليه}
وأما ما افيد في نفي وجوب القضاء من أن القيد المتعذر إن كان دخيلا في
الملاك مطلقا، فلا مجال للأمر الاضطراري، وإلا فلا فوت حتى يجب القضاء،
لتحقق الملاك فرضا (1) فقد أورد عليه الاستاذ (قدس سره) بما يفهم مما مر من إمكان دخلها
في مصلحة دون اخرى أو في شدتها دون أصلها (2). وقد قدمنا عدم معقولية
أمرين نفسيين مع التفاوت بأحد النحوين.

(1) كفاية الاصول: ص 85، ط: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
(2) بحوث في الاصول للعلامة الإصفهاني: ص 115.
318

{بيان لنفي التخيير في فرض ثبوت الأمرين}
لكنه يمكن أن يقال: حيث إن المصلحة داعية إلى الأمر وخارجة عن حريمه،
فلا مانع من الأمر في الوقت بداعي تحصيل مصلحة الوقت، وفي خارجه بداعي
تحصيل المصلحة الفائتة أو شدة الحاصلة إذا لم يناف المعلوم من عدم وجوب
صلاتين في يوم واحد ولو كان مع الاختلاف في الأدائية والقضائية; لكن التخيير
بين عمل وعملين، لا يستلزم وجوب السادسة على نحو وجوب الخمس المعلوم
انتفائه، مع أن التخيير بلا دليل; فإن عمل المضطر، إن شمله الإطلاق للأفراد
الطولية والعرضية في موضوعه، فالظاهر أن هذا الفرد، كسائر الأفراد في الكفاية
وعدم التقييد بعمل آخر وفي الوفاء بالغرض اللزومي، وإلا فلا مسوغ له إلا الرجاء
المنكشف فيه الخلاف بتبدل الموضوع في الوقت أو خارجه.
بل حيث إن غير الواجد يتعين عليه الأداء في الوقت، كما أن الواجد في
خارج الوقت يتعين عليه القضاء مع فوت شيء من الملاك اللزومي، فلا محل
للتخيير هنا، وإنما التخيير في غير المستوعب، بل هذا أيضا لا تخيير فيه على
المعنى المعهود، إذ لا محل للتخيير مع تغاير موضوعي الأمرين وأحدهما الواجد،
والآخر من لم يكن واجدا في الوقت ثم وجد فيه، وليس فيه شرط التخيير شرعا
ولا عقلا.
{القول بنفي وجوب الإعادة بجواز البدار والجواب عنه}
وما افيد في نفي وجوب الإعادة من عدم حكم العقل بالتخيير بين الأفراد
الطولية في صورة اختلافها في التمكن من المائية وعدمه، لعدم إحراز تساويها في
الملاك، فإذا ثبت جواز البدار كشف ذلك عن تساويها في تحقيق الملاك، فيكون
عدم الإجزاء مع ذلك من وجوب صلاتين في يوم واحد وهو مجمع على خلافه،
319

ويكون وجوب الإعادة بعد تحقق الملاك، كما هو المفروض، من الامتثال بعد
الامتثال وهو باطل، فيمكن أن يقال فيه - بعد الإغماض عن لزوم إحراز التساوي في
الملاك في حكم العقل بالتخيير، لإمكان أن يقال بكفاية التساوي في انطباق
العنوان المأمور به في الحكم بالتخيير عقلا، ولا يضر احتمال عدم التساوي في
الملاك بالمقدار اللزومي، وإنما يضر القطع بعدمه; نعم ثبوت التساوي في
الانطباق، لا طريق له من العرف، بل طريقه الأمر كما ذكرناه في تقريب الوضع
للصحيح -: بأن جواز البدار يجامع عدم الإجزاء، لأنه يكشف عن تخيير ما، فإن كان
التخيير الثابت بين الصبر إلى العمل الاختياري في آخر الوقت والبدار في أوله،
استلزم ذلك، الإجزاء، لأنه لا يزيد على التخيير العقلي بين أفراد الصلاة المأمور
بها بين الحدين، الطولية، كانت متفقة في كون الطهارة فيها مائية أو ترابية أو
مختلفة.
وإن كان بين الصبر إلى العمل الاختياري الواحد وبين البدار مع استيفاء ما
بقي بعمل آخر هو وظيفة المختار بعد رفع الاضطرار، فلا إجزاء; فالبدار الجائز،
لا يكشف عن الإجزاء، ولا عن تساوي الإقدام; وإنما يقتضي الأمر به بنحو يمكن
استيفاء مصلحة أول الوقت به.
وعدم وجوب صلاتين على التعيين مسلم، لأن أحد طرفي التخيير
الاقتصار على عمل المختار في آخر الوقت، والمقصود جواز الجمع بين العملين
وإدراك تمام المصالح اللزومية وغيرها بعملين أو لخصوص اللزومية في آخر
الوقت.
{الإجماع أمر إثباتي ولا يرتبط بالمقام}
ودعوى أن المستفاد من الإجماع عدم وجوب صلاتين واقعا، ولو كانت
إحداهما قضائيا، أو كان الواجب تخييرا عملين لمجموعهما عدل واحد مطلقا،
320

أو في غير يوم الجمعة على القول بالتخيير فيه، أمر - لو سلم - إنما يأتي في مقام
الإثبات - مع إمكان منعه بما مر - والكلام هنا في مقام الثبوت ومقتضى القاعدة
الأولية.
{رد آخر على التخيير}
لكن التخيير المذكور مخدوش، بأن وجوب الاختياري على التعيين
في تقدير رفع الاضطرار وفي فرض قيام المصلحة اللزومية به، مسلم، فلا يمكن
جعله عدلا للواجب التخييري. ويندفع بما يندفع به شبهة التخيير بين الأقل
والأكثر، من اعتبار الأقل بشرط لا، لكنه قد مر الإشكال في التخيير من غير هذه
الجهة أيضا.
{تقرير لاستدلال الشيخ الأعظم على وحدة المتعلق}
وأما ما تقدم في تقرير استدلال الشيخ (قدس سره) (1)، من ابتنائه على أن المأمور به
نفس الصلاة لا مراتبها المختلفة، فيمكن أن يقرر تعين الأول، بأن لازم موافقة الأمر
الاضطراري مع الاختياري حدا من حيث الوقت، أن المأمور به نفس الصلاة بين
الحدين، وأن الاضطرار يسوغ ويقرر انطباقها على الفرد الاضطراري ما دام
الاضطرار، وإلا لم يمكن انحفاظ التحديد مع اختلاف متعلق الأمرين ورفع
الاضطرار في الأثناء، وكان الأمر بكل عمل - ما دام موضوعه، من الاضطرار
وعدمه - فيما بين الحدين، لا محدودا بالحدين.
وإن كان فيه: أن التحديد شيء، ومغايرة المحدودين شيء آخر وفي

(1) مطارح الأنظار: ص 20.
321

موضوعين متغايرين بينهما الترتب، إلا أن إمكان المصير إلى هذا القسم من التحديد
المشترك مع الآخر في النتيجة المسلمة، كما هو كذلك في صلاة الحاضر
والمسافر، يمنع عن تعين وحدة متعلق الأمرين بالنحو المتقدم; فالمعين له هو
لزوم الجامع على الصحيح المفروض انطباقه على العمل الاضطراري، وهذا
الجامع - مع العرض العريض في أفراده ومراتبه - قد فرض تحققه وانطباقه على
المأتي به في حال الاضطرار، فلا يعقل أمر آخر بالعمل الاختياري، لأنه في نفس
الجامع في قوة تحصيل الحاصل.
{القول بالإجزاء على فرض التخيير والمناقشة فيه}
وأما استفادة الإجزاء مع القول بالتخيير، لعدم الاحتياج إلى استظهار التعيين
في المصير إليه، لذهابهم إلى الإجزاء مع ذهابهم إلى التخيير، ولعدم إمكان الالتزام
بالتعيين - مع ما فيه: من أن التخيير المذكور غير التخيير المسلم بتقريب الإطلاق
من حيث الضميمة سواء كان كلاميا مربوطا بالهيئة ومفادها أو المادة أو المقامي
الغير المربوط بهما من جهة الاقتصار في وظيفة الوقت للإعادة أو في مطلق
الوظيفة للقضاء على العمل الاضطراري الواحد - فيمكن أن يناقش [فيها] بأن العمل
الثاني إن كان قيدا لامتثال الأمر بالأول، فهو مقطوع بعدمه، لمكان تحقق امتثال
الأمر الاضطراري; وإن كان قيدا لامتثال الأمر بالصلاة المنطبقة على مجموع
العملين مع ارتفاع العذر في الوقت، فشئ منهما ليس صلاة، بل جزءا للصلاة أو
لما يتعنون بها; وإن كان الأمر بهما أمرا بصلاتين، فلا تعدد للصلاة الواجبة في
الوقت الواحد، إلا إذا رجع إلى التخيير المتقدم، ولازمه - بعد انحصار الثاني في
تحصيل المصلحة الفائتة في الأول - الأمر النفسي بما لا يقوم به المصلحة اللزومية
بنفسه، كما مر.
322

فنفس عدم إمكان أمرين نفسيين - بشيء من الوجوه - يكشف عن عدم
إمكان تدارك ما فات إذا كان لزوميا; فإما لا أمر، لأنه مفوت للازم الغير القابل
للتدارك، وإما لا فوت، لوفاء الاضطراري بمصلحة الاختياري بحدها. وحيث
لا يمكن التدارك في الوقت مع ارتفاع العذر فيه، فلا قضاء في الخارج لما لا إعادة
له في الوقت، لأن عدم التدارك في الوقت، يعين عدم الأمر في الوقت أو حصول
المصلحة اللزومية به، ومعها لا مجال للقضاء.
وأما مع استيعاب العذر للوقت فقد يقال: لا دافع للقضاء إلا الإطلاق
المقامي بالوجه الثاني الجاري في كل من الإعادة والقضاء. وقد مر عدم إمكان
التمسك بالإطلاق، لما مر من المناقشة; وكذا عدم إمكان استيفاء الباقي بأمر
نفسي في الوقت أو خارجه بنفس الصلاة مثلا.
لكنه نقول: مع وفاء الفعل بمصلحة العمل الاختياري في صورة رفع العذر
في الوقت، فالمأتي به في آخر الوقت أولى بالوفاء، لأن الثاني حافظ لمصلحة
الوقت والأول غير حافظ، قضية لعدم الوجوب، ومع ذلك اخترنا الوفاء
بالمصلحة بحدها، فلا يكون الثاني أقل منه أثرا أو أضعف منه، فلا يمكن الجمع
بين وفاء الأول بها بحدها دون الثاني بالالتزام بالإجزاء عن الإعادة دون القضاء.
إلا أن لا نلتزم بالأول، فيقال: بأن الأمر في الثاني لمصلحة الوقت، فيكون
الفائت متداركا بالقضاء. وقد تقدم الحال في أمرين نفسيين.
{التمسك بالإطلاق الكلامي أو المقامي لنفي الإعادة والقضاء}
هذا، ويمكن أن يقال: بأن الإنصاف إمكان تعدد مصلحة العمل الاختياري أو
اشتدادها مع قيام المصلحة اللزومية بالجامع المتخصص، لرجوع الشرائط إلى
323

الدخل في الفاعل أو القابل، فهناك أثر أو اشتداده، غير حاصل بالجامع
إلا متخصصا; فالأمر بالثاني كالأول يكون نفسيا، ولا دافع له إلا الإطلاق كلاميا
ومقاميا من حيث ضم الوجود الثاني للصلاة متخصصة، لمكان استظهار تمام
وظيفة الوقت أو تمام الوظيفة من الأمر بعمل المضطر في الوقت أو آخره، بلا بيان
لتقييد ما هو الواجب بكونه في ضمن صلاتين هما معا أحد طرفي التخيير. وكذا
الحال في اقتضاء الأصل نفي وجوب الضميمة في أحد طرفي التخيير.
ويمكن توضيح ذلك، بأن الجامع بين مطلق المراتب المختلفة واجب تعييني،
وإنما التخيير والتقييد لو كانا [فهما] في أفراده. والأمر الاضطراري لا أقل من كشفه
عن الإذن في تطبيق الواجب التعييني المطلق في جميع الخصوصيات حتى تعدد
الوجود، على ذلك العمل; ومقتضى إطلاق الكاشف عن الإذن من حيث الضميمة
حتى التعدد في الوجود، كفاية ذلك، وانطباق ما لا يجوز تركه ولا يجب معه شيء
آخر ولا وجود آخر لإطلاقه، عليه، فهو يجزي عن الضميمة إطلاقا وأصلا حتى
عن ضميمة الوجود الثاني في حال الاختيار.
{وضوح إجزاء الأمر الاضطراري عن القضاء والإعادة على وجه}
والإنصاف، أن إجزاء الأمر الاضطراري عن القضاء، الكاشف عما ذكرناه من
تمامية الإطلاق في نفي وجوب غير الواحد بسبب حدوث الوقت، من الواضحات.
وأما عن الإعادة، فوجه نظريته نظرية جواز البدار، أعني ثبوت الأمر في
أول الوقت، وإلا فالإجزاء - على تقدير الثبوت أيضا كالإجزاء عن القضاء
بالإطلاق المتقدم - واضح مرتكز في الأذهان، يحتاج خلافه إلى بيان صريح.
وحيث إن الإجزاء عن الوجود الثاني للواجب، بحدوث الوقت وسبب
324

الوجوب، فلا تدور مدار تحقق القضاء، فيجري في الحج أيضا، مضافا إلى
ما ذكرناه في الإجزاء عن الإعادة بنفس ذلك الإطلاق، فتحفظ.
وأما نظرية جواز البدار، فقد مر ما فيها من لزوم العسر والحرج في تأخير
الصلاة عن وقت الإمكان بما [سعت] ذلك الوقت; فإن التحديد توسعة امتنانية،
لا تضيق وتشديد.
{التمسك بالأصل في نفى وجوب الإعادة}
وأما التمسك بالأصل في نفي وجوب الإعادة مع الشك في نحوي التخيير
وأنه بين العملين أو بين العمل الاختياري بشرط لا والعملين معا، فينفي وجوب
الضميمة عن أحد العدلين بالأصل المذكور - مع ما مر في عدم معقولية التقييد
بكون العمل الاختياري قيدا في مطلوبية عمل المضطر - فقد عرفت ابتنائه على
إمكان استيفاء مصلحة العمل الاختياري بأمرين نفسيين من دون خلل في المختار
من الوضع للصحيح ووجوب الجامع بين المراتب الصحيحة، وإلا فمع انطباق
الجامع على الفرد بإرشاد من الشارع - لفرض ثبوت الأمر الاضطراري - لا مجال
للأمر بالضميمة إلا إذا احتمل أن المجموع صلاة واحدة وواجب واحد مستوفى
بعملين، وهو كما ترى. أو احتمل أن يكون الأمر مراعى مع اليأس ويؤتى به رجاء
مع احتمال زوال العذر، وهو كما ترى خلاف الفرض من إثبات أمر قطعي;
والبحث، عن إجزائه أو احتياجه إلى الضميمة المذكورة.
نعم على تقدير الشك في وجوب الإعادة، فيمكن نفي وجوب الضميمة
بالأصل، لمكان أن ضمائم المأمور به بالأمر التخييري الشرعي كضمائم المأمور به
بالأمر التعييني، بل ذكرنا في محله احتمال رجوع الواجب المخير إلى المعين
المشروط، فلا يكون التخيير مانعا عن إجراء الأصل في عدل الواجب. وقد مر
ما في الشك في القيدية هنا.
325

{القول بلزوم الاحتياط عقلا في الإعادة، وما فيه}
وما افيد في الاستشكال في التمسك بالأصل لنفي وجوب الإعادة، من أنه
مع الجزم (1) بعدم الوفاء بمصلحة المختار يشك في القدرة على تحصيل الزائد،
فلابد من الاحتياط عقلا; ففيه: أن لازم الجزم المذكور استقلال العقل بقبح
التفويت، فإما لا أمر بالبدل، أو الأمر به مع الضميمة، فلا إجزاء عقلا لا للاحتياط
العقلي، ومع الغمض عنه، فالقدرة لا طريق لها إلا الأمر الغير المعلوم تعلقه
بخصوص العمل الاختياري إلى زمان طرو الاختيار، والأصل البراءة عنه بعد
الإتيان بالبدل وعدم دليل آخر ولو كان إطلاقا.
وما افيد في صورة احتمال الوفاء بتمام مصلحة المختار، من أن الشك في
وجوب الاختياري في التعيين والتخيير، ومقتضى الأصل فيه الفراغ اليقيني
بالمتيقن ففيه: أنه قد فرض الأمر بالبدل، فلا تعين للمبدل بخصوصه بالانتظار إليه
قطعا، وإنما المحتمل وجوب الضميمة إلى البدل ومقتضى الأصل عدمه، كما مر،
بل مقتضى الإطلاق عدم وجوب الضميمة، بل قد مر ما في قيدية الضميمة،
فالإطلاق في جميع موارد شموله بالنسبة إلى الأمر بالضميمة، مقامي لا كلامي.
أو يحتمل أن يكون طرف التخيير نفس البدل أو هو مع ضم المبدل على
تقدير معقولية هذا النحو، وعدم القطع بعدمه بعد الأمر بالبدل، وإلا فعدم تعين

(1) أما الجزم بعدم الوفاء، فلا سبيل إليه مع عدم الإحاطة بالمصالح فيحتمل الوفاء هنا وفي
القصر والإتمام، لاختلاف الموضوعين للتكليفين; بل لا محل للزيادة وعدمها في
الموضوعين المتخالفين، مع أن المصلحة ليست تحت الأمر، بل المأمور به ما يؤثر في
المصلحة الغير المربوطة بالمكلف; وعلى الإغماض عن المذكور فمصلحة الجامع معلوم
الحصول، ومصلحة الخاص مشكوك الوجوب بالنحو المذكور، فلا محل للاحتياط
اللزومي (منه عفى عنه).
326

شيء من البدل أو المبدل بالانتظار وعدم وجوب الجمع واقعا على التعيين، ينتج
تعين خصوص البدل في الطرفية للواجب التخييري.
وأما التنزل في ما افيد في مقام نفي وجوب القضاء إلى الأصل بدعوى:
احتمال اختصاص المصلحة بالوقت، فلا مقتضى للأصل في الاحتياط، فيمكن أن
يقال فيه: بأنه لا يزيد على احتمال الوفاء بتمام مصلحة الجامع المطلوب في
الوقت، فإن أمكن البراءة عن الأمر بالخصوص بعد الوقت، أمكنت في الوقت;
فإن التكليف بالخصوصية لو كان، فهو جديد بطرو الاختيار في الوقت، وبخروجه
في القضاء مع الاختيار أيضا.
{تقريب لجريان الأصل لنفي وجوب الإعادة}
ويمكن تقريب الأصل المتقدم في نفي وجوب الإعادة، بأن المتيقن وجوب
صلاة واحدة مخير فيها بين الصبر إلى آخر الوقت بعد زوال العذر، والمبادرة إليها
في أول الوقت، فاولى الصلاتين المحتمل وجوبهما معا، واجبة هكذا يقينا;
والزائدة الثانية إنما يحتمل وجوبها في صورة المبادرة إلى عمل المضطر في أول
الوقت، وفي هذه الصورة يشك في وجوب الثانية بنحو لا إجماع على عدمه في
الوقت الواحد، فمقتضى الأصل، البراءة عن الزائد على المتيقن وهي الواحدة
بأحد النحوين; وكذا الوجوب بعد الوقت قضاءا، فإنه بأمر جديد منفي بعدم العلم
به.
نعم، لو كان بنفس الأمر الأول، فاستصحاب عدم الإتيان بالفريضة
بملاكها، يثبت الفوت على ما مر، فيحقق وجوب طبيعة عمل المختار، لكنه
خلاف الصواب.
327

إلا أن يقال: إن هذا الفرض أيضا يأتي فيه ما تقدم في الوقت; فإن التكليف
بعمل المختار حادث بعد زوال العذر مع الشك في ثبوت مصلحته وعدمها; وعدم
التقيد للمصلحة بالوقت، لا ينافي تقيده بالاختيار الحادث - والمفروض الشك
فيه - فينفى بالأصل. وقد تقدم ما يرجع إلى التمسك بالإطلاق.
{تقريب آخر للأصل}
ويمكن تقريبه بوجه آخر، وهو أن العمل الاضطراري إن كان مأمورا به بما أنه
من مصاديق الجامع بين العملين المأمور به بلا قيد، فلا مورد للأمر بالثاني رأسا،
وإن كان بما أنه من مراتبه الممكن استيفائه مع إمكان استيفاء الباقي في الجملة، أو
أنه حيث كان بحكمه في اشتماله على مصلحة دون غيرها الممكن استيفائها فلذا
أمر به، فلابد من بيان عليه، لاحتياجه - على الفرض في تحصيل المراتب - إلى
ضميمة في الوقت أو خارجه، وحيث لا بيان يحكم بعدمه وعدم كونه بالنحو
الثاني.
{التمسك بالأصل لنفى وجوب القضاء}
وأما القضاء، فيمكن أن يقال: مقتضى أصالة عدم إتيان الفريضة - أعني العمل
الاختياري - بملاكها بحده وبتمامه، هو وجوب القضاء.
وهذا الاستصحاب مخدوش، بأن ترتب وجوب العمل الاختياري على
بقاء عدم ملاكه عقلي لا شرعي وما هو المستصحب عدم التكليف بعمل المختار
وهو الموافق للبراءة أيضا.
ودعوى ملازمة الفوت والثبوت لعدم الإتيان بعمل المختار بملاكه، فلا يثبت
أحد المتلازمين بالأصل الجاري في الآخر، مدفوعة، بأن فوت الفريضة ليس
328

أمرا ثبوتيا، بل هو الفوت الاقتضائي، وهو المنتزع عن عدم الشيء في زمان
الترقب.
وعليه، فالعدم في تمام الوقت عين الفوت، والتعبد بالأول تعبد بالثاني
وأحكامه، لكن الشأن، في عموم الدليل، لأنه ناظر إلى وجوب كيفية القضاء
لا أصله. والمستفاد من مثل «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (1) أنه يراعى في
القضاء موافقة الفائت في الخصوصيات، لا أنه يقضي كل فائت.
إلا أن يقال: الأمر بالقضاء المقيد بالخصوصية، أمر بنفس المقيد; ومع الشك
في كونه بصدد بيانه، يحمل على موافقة الثبوت للإثبات وأنه مريد لما يستفاد من
كلامه الظاهر في وجوب المقيد ذاتا وصفة.
لكنه، بملاحظة ما قدمناه من عدم فهم تعلق الأمر النفسي بالعمل بعد
فعل البدل بالأمر من إطلاق الأدلة، يمكن قصر العموم على الفوت من غير بدل،
وفيه يتمكن المولى من استيفاء الفائت من المصلحة بالأمر النفسي في خارج
الوقت.
مع إمكان أن يقال - بعد اختيار عدم وجوب الإعادة في الوقت - إن ما لا يمكن
استيفائه مما فات من الملاك لو كان في الوقت، فهو أولى بعدم إمكان الاستيفاء في
خارج الوقت في صورة استيعاب العذر للوقت، لأنه لو لم يستوعب لم يمكن
تداركه; ففرض الأمر الاضطراري وعدم لزوم التدارك في الوقت فيه، يلازم عدم
إمكان الاستيفاء في الخارج، للاشتراك في الفوت ومحذور الأمر الثاني ومزيد
الأول بدرك مصلحة الوقت أيضا.
إلا أن يدفع: بأن العموم - لو سلم في القضاء - يمنع عن نفي وجوب الإعادة،

(1) الوسائل 5 الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات ح 1، وغوالي اللئالي 3: 107.
329

لا العكس، فإنه بمقتضى الأصل.
والانصاف: انصراف الدليل إلى الفائت من غير بدل وهو الفائت المطلق،
فلا يعم مطلق الفائت، فتدبر جيدا.
{كيفية إثبات الأمر بالفاقد في فرض الاضطرار}
ثم إنه قد يستفاد من بعض الكلمات، أن دليل الاضطرار لو كان هو مثل ما
دل على رفع العسر والحرج والاضطرار، فلا يثبت معها الأمر بالفاقد كي يبحث
عن الإجزاء وعدمه.
ويمكن أن يقال: إن البحث الاصولي متمحض في الإجزاء على تقدير
الأمر، لا في تتبع تقادير ثبوت الأمر وما يثبت فيه وما لا يثبت.
وأما ما افيد في تلك الأدلة، فيمكن أن يقال فيها: بكفاية ما دل على الأمر
بالمقيد بعد تقييده بدليل الاضطرار ومثله، في إثبات الأمر بالفاقد، بتقريب أن
مفهوم دليل الأمر بالمقيد بالشيء في حال عدم الاضطرار، مرجعه إلى الأمر
بالذات في حال الاضطرار، لا إلى قيدية عدم الاضطرار في الأمر بالمقيد ذاتا
وتقيدا بنحو تكون اختيارية القيد الخاص قيدا لجميع الأجزاء، بل هي قيد
لخصوص ذلك القيد.
ووجهه، أن الاضطرار حيث تعلق بالقيد، فالمرفوع خصوص الأمر المتعلق
بذلك الجزء ولو كان تقيدا بشيء بما له من الشأن; فإذا كان شأنه الضمنية فلازم
رفع الأمر الضمني رفع تقيد المأمور به واختصاص غيره من الأجزاء بتعلق الأمر
بها، إذ لا وجه لرفع أمرها إلا تقيد المتعلق بالمضطر إليه وكون المقيد بالمضطر إلى
تركه مضطرا إلى تركه بالعرض; فإذا ارتفع القيد برفع منشائه وهو الأمر الضمني،
330

فلا وجه لارتفاع الأمر بسائر الأجزاء، لأنه من رفعه عن غير المضطر إليه.
فغير المضطر إليه له فردان: أحدهما، المشتمل على القيد الخاص في حال
الاختيار، والآخر، الفاقد له في حال الاضطرار، والمضطر إليه له فرد واحد وهو
المشتمل على القيد في حال الاضطرار، والمرفوع خصوص الأخير، والموضوع،
الأولان بقسميهما، فإنه مقتضى الجمع بين دليلي الأمر والاضطرار.
ومنه يظهر: انطباق قوله (عليه السلام): «امسح على المرارة» بعد قوله (عليه السلام): «يعرف هذا
وأشباهه» (1) إلى آخره، على القاعدة.
{تتميم}
نعم، لابد من تتميم ذلك بأن الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية إذا رفع
تقيدها فيه بالمائية في حال الاضطرار أمر بالصلاة مع الطهارة الغير المائية،
لوضوح لزوم الطهارة للصلاة مطلقا وانحصارها في المائية والتيمم، فإذا رفع
الأول وضع الثاني، لا أنه يرفع الطهارة أو الصلاة معها، لكن دليل الرفع بنفسه
لا يدل على الوضع، بل بضميمة ما دل على أن طهارة غير المتطهر بالماء إنما هي
بالتراب، كما يلاحظ أن دليل الاضطرار لا يرفع غير الاضطرار العرفي، ومورد
التيمم بموجباته أعم من ذلك.
{مناقشة في أن امتنانية الرفع، تناسب الأخفية}
وما افيد في توجيهه من أن الرفع امتناني والمناسب له ثبوت أخف الأمرين
المترتبين على الرفع - فيمكن أن يقال فيه: بأن الامتنان في الرفع لا يوجب الامتنان

(1) الوسائل 1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.
331

بغيره من أنحاء الوضع إذا كانت المنة في بعضها أزيد، مع إمكان منع أخفية المائية
بلا مباشرة ومماسة عن الترابية معها، بل الأمر بالعكس كما هو ظاهر; مع
أن الإحالة على المعرفة من الكتاب يقتضي كفايته، لا ملاحظة حكم آخر،
فتدبر.
تنبيه
{في القول بوفاء دليل الاضطراري بتمام مصلحة الاختياري}
قد يقال: إن إطلاق دليل الأمر الاضطراري يقتضي مصداقية العمل
الاضطراري للطبيعة بتمام مراتبها، ولازمها وفائه بتمام مصلحة عمل المختار.
أقول: يمكن أن يقال: إن الأمر الاضطراري لا يكشف إلا عن المصلحة
المصححة للأمر; وأنه في حال الاضطرار، من المراتب المأمور بها للطبيعة; وأما
الوفاء بتمام مصلحة المختار، فهو إما من جهة الإطلاق النافي للزوم الضميمة ولو
بعد التمكن، أو من جهة إحراز أن المأمور به للكل نفس الطبيعة; وأن الأمر
الاضطراري إرشاد إلى مصداقية العمل الاضطراري في حال الاضطرار للطبيعة
التي أمر بها الكل ولم يؤمر أحد بشيء معها.
وهذا التقريب قدمنا استفادته من كلام الشيخ (قدس سره) [1] حسبما في

(1) مقالات الاصول: ص 90، ط: النجف الأشرف.
332



(1) و (2) و (3) جواهر الكلام 5: 164 و 158 و 156.
(4) البرهان القاطع 2: 331 و 333.
333



(1) مستمسك العروة الوثقى 2: 109 ط: الحيدرية النجفية.
(2) العروة الوثقى الصفحة 498 ط: الإسلامية.
(3) جواهر الكلام 5: 162.
334



(1) جواهر الكلام 5: 154 و 165.
(2) مقالات الاصول: ص 90.
335



(1) و (2) الوسائل 2 الباب 22 من أبواب التيمم ح 3 - 5.
336



(1) الوسائل 2 الباب 21 من أبواب الحيض ح 1.
(2) الوسائل 2 الباب 1 من أبواب التيمم ح 1.
(3) الوسائل 2 الباب 14 من أبواب التيمم ح 3.
337



(1) الوسائل 2 الباب 1 من أبواب التيمم ح 1.
338



(1) الوسائل 2 الباب 23 من أبواب التيمم ح 6.
339



(1) مطارح الأنظار: ص 25.
342

التقريرات (1).
وقد ذكرنا أن التغاير بين الأمرين ثابت يكشف عن تخصص الجامع في كل
صنف من الموضوع بخصوصية; وأنه لا محل للإجزاء فيه إلا فهم المصلحة البدلية
الكاشفة عن وحدة الواجب التعييني فيما بين الحدين; وأن الإطلاق للأفراد
الطولية كالعرضية، وأن الإطلاق لكل قطعة من الزمان مفهوم من خصوصيات
الأمر بالصلاة، وإلا فاللازم إحراز العجز عن المتخصص فيما بين الحدين.
{الأمر بالفاقد للمنسي وإمكان إدراجه في المقام}
وأما الأمر بالفاقد للمنسي فيمكن إدراجه في المقام من جهة أنه اضطراري
واقعا وإن كان اختياريا لنسيان الموضوع اعتقادا; فهو أمر شرعي لا عقلي، وإلا
لكان عدم إجزاء غير المأمور به عنه عقليا غير قابل للتخصيص بالصلاة في غير
الخمسة.
ودعوى أنه في مثل الجهر والإخفات من باب رفع اليد عن الأمر الواقعي في
صورة الإتيان بالعمل المختل بتخيل الأمر، لاتفاقية اشتماله على المصلحة
أو شيء منها لا يمكن معها استيفاء الباقي; كما ترى لازمها الالتزام برفع اليد عن
الأمر بالصلاة عن بعض من لم يصل إلا خيالا.
ووجه تعلق الأمر بما عدا المنسي، ما أشرنا إليه فيما سبق: [من] أن مقتضى
الجمع بين دليل الأمر الغيري أو الضمني بالمنسي ودليل التقييد بغير صورة
النسيان أو التعذر; هو كون الأمر بالمنسي ذاتا مقيدا بغير حال التعذر أو النسيان،
فيكون ثبوت الأمر بما عداه في حال التعذر أو النسيان لذلك بلا مانع،

(1) مطارح الأنظار: ص 20.
343

لثبوت المقتضى ثبوتا وإثباتا، حتى على الوضع للصحيح بعد الملاحظة المذكورة
في التقييد، وعدم المانع، لأن المانع هو الأمر بالمنسي ضمنيا أو غيريا، وقد فرض
اختصاصه بغير الصورتين; ففيهما لا أمر بالمنسي بأحد النحوين حتى يوجب
عدم إمكان متعلقه خللا في الأمر بالمرتبط به; ففي الصورتين يكون حال الأمر بما
عداه، كما إذا لم يكن أمر بالمنسي رأسا وكان الأمر بخصوص ما عداه، لا بعنوان
أنه ما عداه.
وهذا هو المفهوم من دليل الأمر بذات ما عداه والأمر بالمنسي وبتقيده بغير
النسيان واقعا على النحو المبين في محله، من أن التقييد بعدم الاضطرار والنسيان
شرعي امتناني للانتهاء إلى الاختيار، أو لإمكان العوضية بإيجاب الإعادة في غير
المستوعب والقضاء في المستوعب.
مع إمكان أن يقال: بأنه مع العقلية أيضا لا أمر في غير المقدور وغير الملتفت
إليه كي يرتبط به الأمر بالمقدور والملتفت إليه، فالمنسي كالمعدوم تحققا وأمرا.
ويؤيده ما ورد من الاستدلال بقاعدة «نفي الحرج» لإثبات الأمر بالمسح
على المرارة مع التصريح بأنه يفهم من كتاب الله هذا وأشباهه (1)، ولولا ما بيناه لم
يكن وجه للمفهومية المصرح بها في الحديث الشريف.
ومما قدمناه يظهر: أن عموم «لا تعاد»، في غير الخمس (2)، على طبق قاعدة
إجزاء الأمر الاضطراري; كما ظهر: أن عدم الإجزاء في الخمس، لمكان عدم
التقييد الجعلي الشرعي في الخمس بالنسيان ونحوه، فيكون من ترك المأمور به
واقعا. والإتيان بالمأمور به خيالا، لمكان فعلية ارتباط الحاصل بغير الحاصل
المفروض عدم تقيد الأمر به بعدم النسيان له.

(1) الوسائل 1 الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.
(2) الوسائل 1 الباب 3 من أبواب الوضوء ح 8.
344

كما يظهر أن عموم «لا تعاد» لصورة الجهل بالحكم أو نسيانه لا بأس به فيما
لا إجماع على خلافه. وإدراج الأمر فيهما في الاضطراري، لمكان عدم التمكن
من الرعاية مع القربة وقصد الأمر بخصوص ما هو المأمور به واقعا لا اعتقادا
وتخيلا، ومع قطع النظر عن قصد الأمر، فالأمر بما عدا مورد الجهل أو النسيان،
اختياري لعدم العجز عن موردهما عملا.
345

إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري وعدمه
- 1 -
الإجزاء عند خطأ الأمارات
وأما إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري بالأمر الطريقي وعدمه، فيمكن أن
يقال فيه: إن القول بالموضوعية والسببية في جعل الحجية للأمارات، يستلزم
الإجزاء، لاستلزامه لحدوث مصلحة في مؤدى الطريق، تساوي مصلحة الواقع،
فالحكم الواقعي ثابت لمن علم به، ومشتمل في حقه على المصلحة، والظاهري
المخالف للواقعي ثابت لغير العالم بالواقعي إذا أدى إليه الطريق ومشتمل على
مصلحة بدلية [1] عن المصلحة الواقعية وكلاهما يقينيان في موضوعهما
346



(1) مطارح الأنظار: ص 23.
349

ولا يجتمعان في الفعلية حتى يعقل التخيير ويكون حال العمل بالواقع للعالم به
وبمؤدى الطريق لغيره كإتيان الحاضر بالأربع والمسافر بالاثنتين في الاشتمال
على تمام المصلحة اللزومية، الذي لا يعقل معه إيجاب الإعادة فضلا عن القضاء.
هذا، ولكن عدم اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل،
تصويب مجمع على بطلانه عندنا. ولا فرق في ثبوت المصلحة لمؤدى الطريق
بين القول بإناطة تأثير المصلحة الواقعية بعدم قيام الأمارة على الخلاف، أو
356

بمغلوبيتها في التأثير في الحكم لمصلحة مؤدى الطريق.
وكذا لا فرق بين القول باشتراط تأثير مصلحة الواقع بعدم قيام الطريق إلى
خلاف حكمها، أو بقيام الطريق على وفاق حكمها.
{عدم الفرق بين الموضوعية والطريقية بناء على اشتراك الأحكام الواقعية}
ويمكن أن يقال: بأن اشتراك الأحكام الواقعية لا فرق فيه بين القول بالطريقية
والموضوعية، فإنها بنفس عدم الوصول مورد العذر في المخالفة، لا بوصول
المخالف، فهي في الصورتين على السوية; ولذا يجب تعلم الأحكام الواقعية على
جميع الأقوال. ولا مانع بحسبه من اختصاص الجاهل بحكم في طرف عدم
وصول الواقع لاشتماله على مصلحة بدلية; فاختلاف القولين، في تحصيل
المصلحة باتباع الأمارة المخالفة وعدم تحصيلها.
لكن الشأن، في كون المصلحة لزومية، ومصلحة الانقياد أعم من اللزوم;
وفي كونها بدلية مجزية، وإنما يتم ذلك مع اختصاص المخالف بالاعتبار، لا بأن
يعم دليل الاعتبار موارد الموافقة الخالية عن مصلحة سوى مصلحة الواقع
والمخالفة المشتملة عليها; كل ذا مع المخالفة للعرض على الأحكام العرفية وعلى
أماراتهم المتبعة لديهم من عدم تحصيل المصلحة في شيء.
{عمل الشرع إرشاد إلى الطريقية العقلائية في الحجية وعدمها}
يمكن أن يقال: إن حجية الطرق العقلائية وعدم حجية الطرق الغير العقلائية،
ليسا من جعل الحجية وعدمها تعبدا شرعيا، بل إرشادا إلى الطريقة العقلائية
من معاملة الايصال مع بعض الطرق وعدم معاملته مع بعضها، فقهرا ينطبق
357

قاعدة التحسين والتقبيح بالوصول واللاوصول.
ويرشد إلى ما ذكرناه، نداء روايات الإمضاء بالإرشاد إلى ما عليه العقلاء في
الطرق الموثوق بها عند العقلاء، مثل قوله (عليه السلام): «لاعذر لأحد في التشكيك» فيما
يرويه عنا ثقاتها (1) وقوله تعالى:) أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين ((2)، فهل ترى العقلاء في أوامرهم وأحكامهم يتعبدون هذه الطريقة أو أن
الشارع مبتكر بهذه الطريقة، وكذا في الردع عن القياس إرشادا إلى الاعتماد عليه
في التعبديات الغير المعلوم ملاكاتها وأنها تقوم بأي واحد من الأشباه في الصورة،
فلا اختراع لهم في الردع عنها، بل غير الموثوق به مردوع عنه عند العقلاء أيضا.
وعليه، ففي مورد المصادفة الغالبة فمؤدى الطرق نفس الواقع، وفي مورد
المخالفة فالواقع غير منجز بنفس عدم الوصول، بلا حاجة إلى وصول الخلاف;
فحيث إنه غير واصل، فلا يتنجز هو في نفسه ولا يتنجز ارتباط الواصل به; فالقدر
الواصل له مصلحة الواقع، والفائت لا يضر فوته لعدم الوصول لما تقوم به نفسيا
ولا شرطيا، فحيث إن الأمر في تقدير عدم الوصول، بخصوص الواصل،
فانكشاف المخالفة في الوقت بعد العمل بالامارة، لا يوجب انكشاف عدم الأمر
في موضوع عدم الوصول، بل يكشف عن الأمر بعد الوصول لغير العامل.
وأما العامل فقد أتى بالمأمور به حال العمل، وزواله بعد حدوثه لايضر
بصحة ما وقع من العمل، لمطابقته للأمر وحصول مصلحة المعلوم وعدم إضرار
عدم حصول مصلحة غير المعلوم، ووصول المخالف في جهة الخلاف لا ينجزه
إلا من حينه.

(1) الوسائل 1، الباب 39 من أبواب الوضوء ح 5.
(2) الحجرات: 6.
358

نعم، لو أتى بمفاده قبل وصوله مع تمشي القربة في العبادة كان مجزيا
أيضا، لعدم إمكان إفادته للأمر بالإعادة وعدم وقوع أمره بها في صورة العمل على
طبق الأمارة. وأما لو أتى بخلافه الواصل حين الإتيان فلا مخالفة للعمل مع الأمر
الواصل في حد وصوله، والوصول المتأخر لا يجعل اللاوصول المتقدم وصولا
في زمان العمل; فلا وجه للإعادة لا ملاكا ولا أمرا، بلا حاجة إلى الالتزام بالسببية;
فوصول الأمر ثانيا - بخلاف الأول - يجامع قصر التنجيز في التكاليف الابتدائية
والعموم للإعادة ويتعين فيما قدمناه بمقتضى قاعدة التحسين الحاكمة بأن حكم
الواصل من حين الوصول فقط; فلا فرق في استفادة الإجزاء بين مسلك الإرشاد
المحض تصويبا عقلائيا أو تخطئة عقلائية في عمل الناس بدون تعبد رأسا، أو
الالتزام بجعل الحجية، المفيد لحكم طريقي أو نفسي.
ودعوى أنه مع الطريقية، لا شيء في المؤدى، غفلة عن أن الواقع بعدم
وصوله أيضا لا شيء ما دام غير واصل; اتفاقا، وإنما الاختلاف في مقدار تشيئه
بعد وصوله بعد العمل فيما وصل، وأن مورد المخالفة غير منجز بعدم وصوله في
جهات النفسية والغيرية، لا بوصول المخالف.
{المصلحة السلوكية لا تصحح الإجزاء}
وأما تقرير «المصلحة السلوكية» في جعل الحجية للأمارات المخالفة، فهو
- على تقدير تماميته - لا يثبت الإجزاء، لعدم تفويت الطريق إلا لما كان في زمان
الجهل وهو زمان جعل الحجية له، ولا مصلحة إلا فيما به التفويت فرضا; فالإعادة
بعد الكشف وكذلك القضاء بعده، لم يفت بالطريق مصلحتهما الموجبة لهما.
[و] الظاهر بعد التأمل، أن التكاليف المنشأة بداعي الإيصال لترتيب الأثر،
359

هو المشترك بين العالم والجاهل الغير القاصر; وأن موارد الخطاء في الطرق لا
يمكن فيها الإيصال من الشارع بما هو كذلك ولا الوصول إلى المكلف، ورفضها
رفض للمصالح الواقعية في موارد الإصابة; فكأن مصلحة موارد الخطاء، هي
مصلحة موارد الإصابة. والفوت فيها بعدم الإيصال والوصول لعدم الإمكان، وإنما
تفوت الأماره ما لو لم تقم، كان العموم مثبتا للتكليف أو كان الاستصحاب المقدم
عليه الأمارة مثبتا للتكليف، أو كان مقتضى الأصل العملي في تلك الموارد هو
الاحتياط.
وحيث لا يمكن التبعيض في إمضاء الطرق العقلانية ولا في موارد
الاستصحاب والاصول، فالتكليف في موارد الخطاء باق على شأنيته وكونها
بحيث لو وصل، أثر في آثاره الحقيقية، فربما يصل إلى بعض ولا يصل إلى بعض
المتفحصين من المجتهدين; فيكون بمنزلة القاصر عن الامتثال، لا المقصر
أو العاجز عن الفعل من القاصرين.
{تصحيح الإجزاء على الطريقية، في العبادات المركبة والمقيدة}
ولا يخفى: أن عدم الإجزاء وإن كان المعروف أنه على القاعدة على الطريقية،
إلا أنه قابل للمناقشة في العبادات المركبة أو المقيدة، فالمعلوم واصل مؤثر في
مصلحته الواقعية ولا يضر فوت غير المعلوم، لأنه فائت بعدم الوصول لا بوصول
المخالف.
ولا يضر فوته بجهة نفسيته ولا بجهة شرطيته للمعلوم، كما هو المفصل في
وجه البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين من الانحلال إلى أوامر نفسية انبساطية.
والتفويت بالدليل على الحكم الظاهري إنما يسلم فيما لو لم يكن الدليل
360

كان الحكم العام - مثلا - لاستصحاب أو لأصل عملي آخر من جهة العموم
والخصوص أو التقدم للدليل على أدلة الاصول، وفيه أيضا فلا طريق إلى الجاعل
إلى إيصال جعله إلا بترك إيصال الأهم الأكثر، فهو على شأنيته لا يتنجز ولا يؤثر
فوته في جهة أصلا، فلا ملزم للمصلحة السلوكية ولوازمها.
فهذا في مقام الثبوت فيما مر، وأما المعاملات والأسباب، مقتضى الأصل
عدم الشرطية والجزئية مع عدم الوصول; والحجة على الخلاف إنما أثر في الحكم
من حين قيامه، فهو بالنسبة إلى ما مضى كالعدم، وما بقي فيه محل الفتوى، فهو من
اللاحق وأما غيره فالحرج كالهرج والاختلال معين للإجزاء في الاثبات.
{الإجماع على الإجزاء، لا يكشف عن المصلحة في الطريق}
وأما حكاية الإجماع على الإجزاء مع تبدل الرأي، فلا تكشف عن وجود
مصلحة في الأخذ بالطريق، تساوي مصلحة الواقع، بل عن الأعم منه ومن عدم
حجيته اللاحقة في ضد ما سبق من العمل بالحجة السابقة، فهو - كقصر حجية
الحجة على ما كان بعد قيامها - تبعيض في لوازم الحجة الفعلية في الحجية،
والمفروض حجية السابق في هذه اللوازم مالم ينكشف الخلاف وعدم حجية
اللاحقة إلا فيما بعد القيام أو فيما يكون العمل بالحجة بعد قيام الأمارة، فحاله
حال عدم تبدل الرأي.
بل يمكن دعوى: أن الاحتمال الأخير هو الموافق للارتكاز الشرعي
الموافق للمرتكزات العرفية.
نعم، سيأتي بيان الوجه في كشف المصلحة البدلية المبني عليه الإجزاء في
361

الأمارات واستفادته من التعليل الواقع في بعض روايات الاستصحاب (1) بالتعميم
الآتي تقريبه إن شاء الله تعالى.
{مقتضى الاستصحاب والاشتغال، في المقام}
ثم إنه يمكن الاستدلال بمقتضى الطريقية من عدم الإجزاء في فرض
الشك، باستصحاب بقاء التكليف الواقعي وآثاره وعدم سقوطه بالعمل بمؤدى
الدليل على الظاهري، فيلزم وجوب الإعادة والقضاء.
وكذا [يمكن الاستدلال] بقاعدة الاشتغال، للعلم بالتكليف المطلق من
حيث الأزمنة والشك في المسقط، من دون فرق بين العلم بالتكليف الواقعي وقيام
الحجة عليه عند تبدل الرأي بسبب ما هو الأقوى من الدليل على الرأي السابق.
ويمكن المناقشة في قاعدة الاشتغال بحسب تقرير الدليل لا النتيجة، بأن
المتيقن، التكليف بالمقيد من دون تقييد بعلم المكلف، وهذا التكليف صار
معلوما بعد العمل ولم يأت بمتعلقه يقينا; فلا شك في حصول متعلقه وتحققه.
والتكليف بالمطلق لخصوص الجاهل بالحكم الواقعي بنحو مطلق ولو علم
به بعد العمل، مشكوك من الأول، مستصحب عدمه; وما أتى به، موافق للأمر
الظاهري المنكشف مخالفته للواقعي في حده; فلا مجرى لقاعدة الاشتغال وإن
يثبت نتيجته.
وأما استصحاب بقاء التكليف الواقعي، فهو يشبه الاستصحاب مع عدم
الإتيان بمتعلقه رأسا; فلا محل له مع عدم الإتيان بمتعلقه بحده وإنما المستصحب

(1) الوسائل 2، الباب 41 و 44 من أبواب النجاسات ح 1.
362

عدم التكليف بما أتى به، وهذا بعد تعقل الحكمين على النهج المذكور في الجهر
والإخفات ونحوهما، لكنه لا يخلو عن نظر.
{نفي الأمر الظاهري في المقام ودفعه}
لا يخفى أن الأمر المردد بين كونه طريقيا أو موضوعيا; إن اريد به الأمر بما
أتى به مما وصل قبلا، فهو أمر واقعي واصل، لأنه بعض الأمر الواقعي بالمشتمل
على المشكوك; وإن كان المراد الأمر بالمشتمل على المشكوك، فهو أيضا أمر
واقعي لم يصل بحده إلا بعد العمل; فما هو الأمر الظاهري الذي يمكن فيه
الطريقية والموضوعية؟
ويقال في الدفع: إن الأمر الواقعي الواصل بعضه، لا يكفي في الباعثية بمقدار
الوصول إلا بإطلاق دليله لصورة فقدان المشكوك اعتباره; فهو واقعي بالنسبة إلى
الدليل على الأصل، وغير منكشف خلافه على الفرض; فهو كالواصل في أحكامه;
وهو ظاهري بالنسبة إلى الإطلاق الظني الكاشف ظنا عن كفاية المأتي به عن الأمر
الواصل; وهذا الأمر الموافق للإطلاق، ظاهري يبحث عن كونه طريقيا أو
موضوعيا; لكنه قد أوردنا على ما ذكروا: «أنه مقتضى القاعدة في كلا الوجهين».
وقد مر آنفا طريق المناقشة في تحصيل الحكم الظاهري المكشوف مخالفته
للواقع، بأن المأتي به مما هو على طبق الحكم الواقعي الواصل بحيث لا يشذ عنه
شيء مما وصل، وغير المأتي به غير واصل الحكم نفسيا وشرطيا، فأين الحكم
الظاهري المكشوف خلافه؟
وقد وجهنا الدفع عنه، بأن لا بشرطية الواصل عن المشكوك اعتباره، هو
الباعث على الاقتصار على الواصل حكمه; فالواصل بالدليل، هو الأمر اللابشرط
363

المظنون بهذا الاعتبار; وقد يكون سائر الأوامر الضمنية الواصلة أيضا، واصلة
بالطريق الظني; وهذا الأمر المظنون، مكشوف خلافه، للأمر الواقعي بحده; فإن
الواقعي، بشرط شيء أو بشرط لا بالنسبة إلى المشكوك اعتباره وجودا أو عدما.
والبحث عن إجزائه - لكفاية ما حصل به من المصلحة، وعدمها، لعدم الكفاية مع
تحقق كلا القسمين - في محله.
وقد ذكرنا أن مقتضى القطع بعدم امتثال الأمر الواقعي بالمشتمل على
المشكوك والشك في أصل الأمر باللابشرط عنه لخصوص الجاهل بالواقع، هو
لزوم الإتيان بما انكشف أنه المأمور به; وأن المأتي به غير ذاك المأمور به; وأن
الظن بكونه بحده هو المأمور به انكشفت مخالفته للواقع; وأنه ليس تمسكا
بقاعدة الاشتغال ولا باستصحاب بقاء التكليف المعلوم، فتدبر تعرف.
{إقامة الاستدلال على إثبات الطريقية}
ويمكن الاستدلال للطريقية المنافية للموضوعية بوجهيها المتقدمين، أنه
ليس في الشرع طريق تعبدي تأسيسي; وجميع الحجج الشرعية، إمضائات للطرق
المعتبرة العقلائية، بل يكفي في إمضائها عدم الردع الخصوصي عن العمل بها،
كما وقع في القياس.
كما أن الردع عن القياس أيضا، إرشاد إلى مخالفة العمل به في الشرعيات
لطريقة العقلاء المستقرة على الاقتصار على العمل بغالب الإصابة، لانتفاء الغلبة
في القياس، بل الغالب فيه الخطاء وما يخطئه أكثر مما يصيبه، حيث إن ملاك
الحكم شيء غير مفهوم للعرف; فلا محل للظن القياسي إلا في الأحكام العرفية
وموضوعاتها المربوطة بخصوص هذه النشأة.
364

فلا وجه لدعوى اشتمال جعل الحجية على المصلحة وأنه يلزم منه قبح
التفويت بلا بدل لولاها. وأي مصلحة أعظم من أغلبية الوصول إلى المصالح
الواقعية الموجبة عند العقلاء وعند الشرع للاعتبار في المخاصمات؟
وما يفوت على العبد فائت بنفسه ولو لم يكن طريق، وإنما الطرق توصل
إلى سائر المصالح التي يزيد واصلها على فائتها بكثير.
ولو فرضت مفوتية الطريق - كما في موارد الاحتياط اللازم الممكن لولا
الحجة، دون الاحتياط الكلي المنفي بالعسر - فملاحظة ما يفوت بالطريق وما
يفوت لولا الطريق، تعين جعل الحجية عقلا وترجيح الواصل على الفائت،
لا اشتمال جعل الطريق المخالف في موارد التفويت، على مصلحة بدلية مساوية
لمصلحة الواقع، كما لا يخفى.
وقد ذكرنا انحلال الأمر بالمركب، إلى الواصل بالعلم وغيره الفائت
بالجهل، ولا يضر فوته في جهتي النفسية والشرطية.
وعليه: فاحتمال السببية وآثارها ساقط، وإن كان الإجزاء على تقدير القول
بالسببية المعتزلية دون السببية الكاشفة عن محض المصلحة السلوكية، بمكان من
الوضوح.
{عدم الفرق بين الأمارات القائمة على الأحكام والموضوعات، فيما مر}
ولا فرق بين الأمارات القائمة على الأحكام والقائمة على الموضوعات،
للزوم المحافظة على الأحكام الواقعية بعد انكشاف الخلاف، كانت كلية
أو جزئية.
وكون حكاية الطرق ودليل اعتبارها في الجميع على نسق واحد، مبني على
365

اعتبارها طرقا إلى الواقعيات كما هو ظاهر.
وبمثل ما مر - فيما يفوت بالطريق - يقال في الأمارات المعتبرة في
الموضوعات التي لا يجب الفحص فيها; فإن ما يفوت باعتبار الطرق فيها ما لو
لا الطريق كان يعلم بالفحص، خلاف مؤدى الطرق.
وهذا في غاية الندرة حتى صار خلافه مظنونا; فعلى تقديره، فيلاحظ ما لو
لا الطرق، لم يحصل العلم فيه بأحد الطرفين; والواصل بالطرق حينئذ، أزيد
من الفائت بسبب الطرق التي لا يجب فيها الفحص في مواردها في اعتبارها.
وملاحظة الأغلب، تعين ترجيح جعل الطرق المصادفة للواقع في الأغلب
معتبرة.
نعم فيما يفوت من الواقع بسبب الأمارة أو الأصل الجاريين في الموضوعات
فيما أمكن تحصيل الواقع علما بالفحص الغير المستلزم للحرج، يلتزم بمصلحة
في العمل بمؤدى الدليل على الحكم الظاهري; فإن دل دليل على الإجزاء، التزم
بكونها بدلية وإلا فلا، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
366

- 2 -
الإجزاء عند خطأ الاصول العملية
وأما الحكم الظاهري الذي يؤدي إليه الاصول العملية، ك‍ «أصالة الطهارة»
و «أصالة الحلية»، فيمكن أن يقال فيه بأنه حيث كان مفاد الدليل فيها، جعل الحكم
في موضوع الجهل بالواقع من دون نظر إلى ثبوت الواقع الثابت للشيء بعنوانه
الواقعي أو لا ثبوته، فلا محالة يكون هذا الجعل ناشئا عن مصلحة غالبة في التأثير
في نفس الجاعل على المصلحة الباعثة على جعل الحكم الواقعي للشيء بعنوانه
الواقعي، وبعد انكشاف الواقع، ليس للحكم الظاهري كشف الخلاف، بل الانعدام
بقاء بارتفاع موضوعه بقاء.
{مفاد دليل حجية الأصل، إثبات الطهارة بنحو العموم}
وحيث إن لازم جعل الطهارة في الشبهة الحكمية أو الموضوعية، جعل
أحكام الطهارة التي كانت تترتب على الطهارة الواقعية لو كانت معلومة; فدليل
الأصل يتكفل جعل الطهارة للمشكوك وجواز الدخول معه في الصلاة وصحة
الصلاة الواقعية معه، إلى سائر أحكام الطهارة مالم يقم إجماع على الخلاف.
وذلك واضح بعد ملاحظة أن المجعول في المحمول نفس الطهارة،
لا الطهارة المتقيدة بموضوعها الخاص; كما أن أحكام الطهارة أحكام نفسها،
لا أحكام المقيدة بموضوعها الواقعي; فصحة الصلاة مع المشكوك - كعدم تنجس
الملاقي له وطهارة المغسول به - كلها حادثة في زمان الشك في الواقع وكلها
مرتفعة بزوال الشك في الواقع.
367

ومعنى ارتفاعها بارتفاع الشك، أن الصلاة الواقعة بعد العلم غير صحيحة
وأن الملاقاة الواقعة بعده منجسة والغسل الواقع بعده غير مطهر، لا أن الصلاة
الواقعة في زمان الشك لا حدوث لصحتها واقعا، بل خيالا، أو لا بقاء لصحتها
السابقة فتجب إعادتها، إذ لا يترقب من صحتها حدوثا وبقاء إلا موافقتها حين
وقوعها للأمر بها، لمكان وجدانها للشرط حينها; وكذا تأثير الملاقاة السابقة بعد
العلم أو الكشف عن عدم حدوث الطهارة حين الملاقاة لحدوث النجاسة
والتنجيس فيها وعدم بقاء الطهارة في زمان العلم أو الكشف عن عدم حدوثها
حين الغسل; وذلك، لوقوع التعبد بالطهارة، وكون الشرط نفس الطهارة المتعبدة
بها، لا مقيدة بثبوتها للشيء بعنوانه الواقعي.
ويؤيده ما في الاجتناب عن ملاقي المشكوك وعن المغسول بالمشكوك،
من العسر الواضح شدة، المنفي في الشريعة، وبه يوهن دعوى الإجماع على
الخلاف في المقام.
وكأن ارتكاز مطلوبية الاحتياط وحسنه، وعدم معلومية نفي العسر مع عدم
كونه شخصيا في كثير من الموارد، أوجب ضعفا في الأخذ بالعموم في دليل الأصل
لمثل هذه الأحكام. وسيجئ التفصيل في هذا المقام.
{القول بتقيد مفاد الأصل بما لا ينافي الواقع، وما فيه}
وأما الجواب عن هذا الإشكال بأن التعبد بالطهارة، تعبد بأحكامها الغير
المنافية للنجاسة الواقعية، لأنها ليست من الاعتبارات المتقوم فعليتها بالوصول،
كالبعث الاعتباري، بل كالملكية لا يمكن اعتبارها لشخصين في شيء واحد،
فلابد وأن يكون الاعتبار الثانوي متعلقا بما لا ينافي الأول من الأحكام.
368

فيمكن أن يقال فيه بأن التعبد بالشرطية للصلاة - أي بكون الشرط ما يعمه -
كالتعبد بالشرطية للتطهير في الغسل به وبالمانعية عن تأثير النجاسة في الملاقي،
لمكان كونه طاهرا في الجملة ولو بعنوان أنه مشكوك طهارته واقعا; فالمسوغ
لترتيب الأول، مسوغ لترتيب الأخيرين بعد كون الشرطية والمانعية بيد الشارع في
المقامات الثلاثة; فكما لا يحكم ببطلان الصلاة في المشكوك بعد وقوعها صحيحة
شرعا لموافقتها للأمر قبل كشف الخلاف، كذلك ينبغي أن لا يحكم ببقاء النجاسة
في المغسول أو بحدوثها حين الانكشاف وبحدوث النجاسة للملاقي حين
الانكشاف أو بقائها.
إلا أن يفرق بين الأخيرين بأنه لم يقع عمل فيه يحكم بصحته شرعا ولو
مثل الصلاة في الملاقي - بالكسر - فبعد الانكشاف يعلم بتساوي المتلاقيين في
واقع النجاسة، بخلاف التطهير المحكوم بالصحة شرعا لموافقته للأمر الغيري
بالغسل بالطاهر شرعا; فإن التطهير صحيح والغسل مؤثر في الطهارة للمغسول
شرعا، فيكون كالصلاة المحكوم بصحتها مع المشكوك شرعا; والغسل بالنسبة
إلى طهارة المغسول مما يتصف بالصحة تارة فيما كان، مع الشرائط وبالفساد
اخرى فيما لم يقترن بها أو ببعضها.
{جريان الإجزاء في المقام}
وبالجملة: ليس مرجع جواز الدخول في الصلاة طاهرا، إلا إلى أن التعبد
بالطهارة الشرعية ما دام موضوعها، مقتضاه التعبد بأحكامها التي منها صحة الصلاة
مع مورد الحكم ما دام الشك; ومعه لا يكشف ارتفاع الشك عن عدم الحكم
الشرعي في ظرف الشك; وحدوثه كاف بصحة ما وقع من المقترن بمورده
المشروط بنفس الطهارة، وإنما يمنع الارتفاع عن العمل بمثل العمل السابق; فلا
369

وجه معه لعدم الإجزاء، لأن كشف الخلاف رافع للموضوع بقاء، لا للحكم
حدوثا. وكفاية حدوثه في الحكم بصحة ما وقع مما هو مشروط بتحقق الطهارة
الشرعية، واضحة.
{عدم منافاة الطهارة التعبدية للنجاسة الواقعية}
والحاصل أن التعبد بطهارة المشكوك، تعبد بطهارة ملاقيه بتلك الطهارة
الحاصلة في الملاقى - بالفتح -; وحيث إن طهارة الملاقى - بالفتح - ثابتة له بعنوان
مشكوكية الحكم، فلا تنافي نجاسته الواقعية; فكذلك طهارة الملاقي - بالكسر -
لا تنافي نجاسته الواقعية، لأنه يصير أيضا مشكوك الحكم الواقعي بمجرد الملاقاة
للمشكوك.
وهذا بخلاف التعبد بطهارة المغسول، فإنه تعبد بطهارة المغسول شرعا،
لا بمساواته مع المغسول به في الطهارة. ولا يكون المغسول طاهرا إلا مع وجدان
الغسل لشرط تأثيره في الطهارة، ولا يكون واجدا إلا مع شرطية الأعم من الطهارة
الظاهرية الثابتة للشيء بعنوان المشكوكية في التطهير، كشرطية الأعم لصحة
الصلاة.
والتعبد بطهارة المشكوك كاشف عن عدم اقتضائها كذلك في نجاسة
الملاقي - بالكسر -، فلا ينافي اقتضاء الشيء بعنوان نجاسته بنفسه الغير المنافية
فرضا، لطهارته بعنوان أنه مشكوك الحكم في نجاسة الملاقي; فهما كالمقتضي مع
اللااقتضاء، لا كمقتضي الضدين، بخلاف الغسل بالمشكوك; فإنه تكون الطهارة
الظاهرية فيه مقتضية للتطهير، ونجاسته الواقعية غير مقتضية لضد التطهير بالعكس
مما سبق.
والتأثير في نجاسة الملاقي إنما هو مع عدم تحقق الغسل أو بعض شروطه،
370

وقد فرض تحققها، بل الملاقاة المنجسة هي التي لا يتحقق بها أو معها الغسل
المؤثر في الطهارة; فالفرق بين المسألتين - أعني نجاسة الملاقي - بالكسر -
وطهارة المغسول به - ظاهر.
والحاصل: أن انكشاف الخلاف يكشف عن عدم الطهارة المعتبرة للشيء
بعنوان نفسه، لا عن عدم الطهارة الشرعية. وعدم بقاء هذه الطهارة - لعدم بقاء
موضوعها وهو الشك - لا يكشف عن عدم حدوثها، أو عن عدم حدوث أحكامها
التي منها صحة الصلاة مع المشكوك، وصحة التطهير به.
ومنه يظهر: عدم كون أحكام الطهارة من قبل المتيقن والمشكوك، حتى
يقال: إن الكشف عن وجود الشرط فرع إحراز الإطلاق المتوقف على وجود
الشرط أو إحرازه، فيكون دوريا; بل التعبد بالطهارة مستلزم للتعبد بأحكامها التي
منها صحة المشروط بنفس الطهارة ومنها: مساواة الملاقي للمشكوك في الطهارة.
وسيأتي ما يرجع إلى الاستناد إلى هذا الفرق بحسب النتيجة في ذيل كلام صاحب
الفصول (قدس سره) (1) وما يرجع إليه.
ومما قدمناه ظهر الحال في الفرق المذكور بين البعث الاعتباري وغيره من
الملكية والطهارة بتقوم الفعلية في الأول بالوصول; فلا مانع من جعل الحكم في
مرحلة الظاهر على خلاف الواقع، بخلاف الملكية والطهارة; فإن محذور الجمع
بين الحكم الظاهري والواقعي مشترك في الجميع، ومحتاج إلى العلاج في
الجميع.
ومخالفة الأمارات والاصول المثبتة للملكية للواقع - كمخالفة الاصول
المثبتة للطهارة أو الطهارة للواقع - واقعة إلى ما لا يحصى، ولو بني على حصر

(1) الفصول: ص 409.
371

التعبد بالطهارة فيما لا تنافي النجاسة الواقعية من أحكام الطهارة، لم يبق لها حكم
كذلك; فإن جواز الدخول في الصلاة ليس إلا وضعيا، ولا يكون إلا مع وجود
الشرط ولو في الظاهر وما دام الجهل، والحكم الواقعي على الفرض عدم الشرط
وعدم الصحة ولو ما دام الجهل، فالجمع لازم في هذا الحكم أيضا، ولو لم نقل
بالإجزاء عند كشف الخلاف; وليس اختيار عدم الإجزاء علاجا لمحذور اجتماع
الحكمين المتخالفين، ولو كانا وضعيين وكان أحدهما ظاهريا.
فالصحيح في الحل، هو إمكان الاجتماع إذا لم ينتهيا إلى محذور عقلي، ولو
كان هو اللغوية في الاعتبار الواقعي; كما أن الأقرب هو الإجزاء في المستفاد من
الاصول من الأحكام الظاهرية دون الأمارات. وسيأتي وجه لحوق الاستصحاب
المتوسط بين الأمارات والاصول في هذا الحكم بالاصول العملية الغير التنزيلية.
{جريان الإجزاء في الاستصحاب متوقف على كونه من الاصول}
وأما الاستصحاب، فيمكن أن يقال: إن مقتضى القول بأن حجيته من باب إفادة
اليقين السابق، للظن بالبقاء المعتبر ببناء العقلاء المقرر في أخبار الاستصحاب،
كما يرشد إليه التعليل في تلك الأخبار، المنبىء عن ارتكازية الحكم عند العقلاء،
هو لحوقه بالأمارة في عدم الإجزاء، إلا أن تعليل عدم الإعادة في صحيحة «زرارة» (1)
بالاستصحاب، يقتضي كفايته في تحقيق ما هو المعتبر في صحة الصلاة إذا يثبت
به الطهارة; فيكشف عن عدم كون حجية الاستصحاب من باب إفادته للظن، أو
عن تنقيحه للشرط ولو كان الثابت به الطهارة المظنونة بالظن المعتبر، ولو في
صورة عدم الطريق الخارجي المعتبر شرعا; فيكون الاستصحاب من سائر
الاصول العملية موضوعا، على الأول، وإن تقدم عليها، وحكما، على الثاني، وإن

(1) الوسائل 2، أبواب النجاسات، الباب 41 و 44، ح 1.
372

تقدم سائر الأمارات عليه.
لا يقال: مقتضى التعليل المتقدم انتفاء الإجزاء في مثل أصالة الطهارة، وإلا لم
يحتج الإجزاء إلى ملاحظة اليقين السابق في علته المعلل بها الحكم بعدم الإعادة،
لكفاية محض الشك في ذلك، لأنه يقال: حيث لا يجتمعان في مقام، لتقدم
الاستصحاب عليها، بدون فرق بين التوافق والتخالف، فمقتضى التعليل بالعلة
الشأنية هو إضافة اليقين السابق في التعليل، وإن كان لو لم يكن اليقين السابق
مأخوذا في الحجة الفعلية على الحكم الظاهري، كنا نقول بالإجزاء أيضا على
حسب ما تقدم في مقتضى الاصول العملية.
{بيان لاثبات الإجزاء في الأمارات بمقتضى تعليل الاستصحاب}
ويمكن أن يقال: إن مقتضى التعليل كفاية صحة الاستناد إلى الحجة الشرعية
حال العمل، وهو محقق في الأمارات بطريق أولى من الاستصحاب. ومخالفة
الحجة للواقع بالانكشاف المتأخر عن العمل غير ضائرة، ولذا علل بعدم النقض
بالشك، مع أن الإعادة بعد الانكشاف نقض باليقين، فيعلم منه كفاية كونه نقضا
بالشك حال العمل في عدم الإعادة بعد الانكشاف.
واختصاص ذلك باليقين والشك حال العمل بحيث لا يشمل سائر الأمارات
- كما ترى - مرجعه إلى جعل المستصحب شرعا، بحيث لا يكون له كشف خلاف،
كما في سائر الاصول; مع أن التعليل كاشف عن عدم إعمال التعبد في جعل
المستصحب; وأن الجعل فيه على النحو المرتكز في أذهان العقلاء، ولا ارتكاز
في غير الطرق إلى الواقع وصحة العمل على وفقها، وان كانت كفاية ذلك عن
الإعادة، غير خالية عن التعبد على وجه، إلا أن التعليل بالاستناد إلى الحجة حال
العمل وكفايته عن العمل بعد كشف الخلاف، يعمم مورد هذا التعبد المحتمل،
373

وأنه آت في كل عمل بحجة شرعية، ولا يختص بالاستصحاب، لأن حاصل التعليل:
«أنك حيث كان لك طريق إلى الواقع، معتبر حال العمل، فلا إعادة عليك بعد
كشف الخلاف»، ولا ينافيه إمكان إحراز هذا الحكم بدليل آخر في الاصول أيضا،
وأن موضوع عدم الإعادة الاستناد إلى الحجة الشرعية ولو لم تكن أمارة، فتدبر.
كما لا ينافيه ثبوت الإعادة مع العمل بعذر، كالنسيان، كما في هذه
الصحيحة (1)، بل تمامية استدلال الإمام (عليه السلام) للحكم بعدم الإعادة بالاستصحاب،
مبتنية على ارتكاز ذلك في العمل بالظن المعتبر، فإنه لا ارتكاز إلا في العام لو لم
يكن أعم من ذلك، أعني العمل بحجة شرعية، كما قدمناه، وعلى أي، فلا
اختصاص له بغير الأمارات.
ومما ذكرنا يظهر وجه التعدي إلى صورة انكشاف مخالفة الحجة السابقة
للواقع بحجة معتبرة في اللاحق قائمة على خلاف الحجة السابقة بالنسبة إلى الآثار
المرتبطة بالحجة السابقة; فإن نفي الإعادة بعد القطع بالخلاف - لمكان موافقة
العمل السابق للطريق المعتبر حال العمل - يقتضي نفيها مع قيام الحجة في اللاحق
على الخلاف من دون قطع بالمخالفة للواقع، بطريق أولى. وسيأتي - إن شاء الله
تعالى - ما في ذلك من الإشكالات وأجوبتها.
تنبيه
{في شرح صحيحة «زرارة» وبيان عموم الإجزاء}
يمكن أن يقال في شرح الصحيحة الثانية في كتاب الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2): إن

(1) تقدم تخريجها ص 372.
(2) فرائد الاصول 2: 564 و 565.
374

الفرع الأول في الصلاة مع نسيان النجاسة والحكم فيه بالغسل والإعادة، وفيه
مخالفة للترتيب، ولعل ذلك لمكان إرادة الإعادة ولو بغير المغسول وقبل الغسل،
مع أن الصلاة مع نسيان النجاسة بخصوصها، مورد الخلاف، والمشهور فيها هو
لزوم الإعادة والقضاء، كما يستفاد من النص فيها أيضا.
وهذه الصحيحة مما فيه الأمر بالإعادة، فيكون من قبيل نسيان الخمس مما
يكون الأمر الاعتقادي مخالفا للواقعي، حيث لم يتقيد الاعتبار بصورة الالتفات،
لاطلاق الاعتبار لغير العمد في تلك الامور.
والفرع الثاني: أعني العلم بإصابة النجاسة وعدم القدرة على محله بعد
الطلب والصلاة المتعقبة بالوجدان الظاهر في وجدان المعلوم قبلا، ففيه الجواب
بالغسل والإعادة، لكن السؤال لا يتضح له وجه.
ولو فرض أنه شك بعد الفحص في اليقين السابق بنحو الشك الساري، فهو
من موارد الاستصحاب للطهارة قبل القطع بالإصابة; فيكون كالفرع اللاحق له مع
اختلاف الحكم في الصحيحة فيهما، مع أنه لم يذكر فيه الشك بعد عدم القدرة
بالفحص، ولابد من ذكر ما يتعلق به الحكم، وعليه فالسؤال ليس في غير
الواضح.
وأما الفرع الثالث: فهو الظن بالإصابة مع عدم الوجدان بعد النظر حتى صلى
ثم رأى فيه، وظاهره رؤية نفس المظنون إصابته، لا أنه شك بعد الرؤية واحتمل
إصابته بعد الصلاة، وإلا لذكر الشك بعد الرؤية، وظاهر تركه عدمه، كما يوافقه
الفرع السابق له واللاحق له في هذه الجهة المستظهرة من أن المرئي بعد الصلاة أو
في أثنائها، نفس المعلوم السابق أو المشكوك السابق; والحكم حينئذ بعدم الإعادة
مخالف لما في الفرعين المتقدمين المشتركين مع هذا الفرع في العلم اللاحق
375

للصلاة بالنجاسة السابقة على الصلاة والسؤال بعد الجواب عن هذه المخالفة في
الحكم مع الاشتراك في الموضوع والجواب بثبوت الطهارة التعبدية حال تمام
الصلاة في هذا الفرع دون الفرعين المتقدمين.
{مفاد التعليل}
وحاصل التعليل: أن ثبوت الطهارة الاستصحابية هو المسوغ للصلاة ولترك
الإعادة; وأن الإعادة كترك الصلاة بها من النقض حدوثا أو بقاء لليقين بغيره; وإنما
ينقض باليقين في المنع عن الصلاة المستأنفة معه بلا غسل.
وهذا شيء يوافقه الارتكاز المناسب للتعليل وليس فيه إلا التفصيل بين ما
ذكره هنا وما يذكره في الفرع اللاحق بعد فصل سؤالين من انكشاف الخلاف في
الأثناء، وأنه يعيد في الفرض بعينه بلا اختلاف إلا في الكون في الأثناء، ولا بعد
فيه، إذ لا يلزم إلا إناطة عدم الإعادة بالاستناد في تمام العمل إلى الاستصحاب،
لا في البعض.
ولعل وجهه: أن الأمر يدور بين الالحاق بما قبل العمل أو ما بعده; وحيث إن
عدم تحقق المصلحة التي يمكن أن تكون بدلية، محقق، لأنها لا تتحقق إلا بعد
العمل، فإذا شك في كفايتها عن مصلحة الواقع بحده مع تحقق مصلحة ما يوافق
الحجة، يبنى من عدم إيجاب الإعادة على الكفاية ولا يجري ذلك في أثناء العمل،
كما لا يجري ذلك في الشق الثاني، لعدم انكشاف الخلاف مع احتمال الوقوع في
الأثناء.
وبالجملة: فوجود المصلحة في الفرض، بالاقتضاء، لا بالفعلية، حتى يحكم
بالكفاية.
376

{علة جريان الإجزاء مطلوبية المصلحة في ظرفها}
فانقدح مما مر: أن الإجزاء في مورده، ليس لحمل أدلة الاعتبار على السببية
الغير المستلزمة للتصويب كما ذكرناه، بل للدليل على كون ما يقوم به المصلحة
الناقصة مطلوبا في ظرف الجهل بالواقع، أي بالمقيد أو المركب الآخر، وكون
مصلحته بدلية بحيث لا يستوفي البقية بعد تحققها; وأن الدليل هو عموم التعليل
في الصحيح المتقدم (1); وحيث إن اليقين له مداخلة في العلة والمعلول، فلا شك
في جريان ذلك في سائر الأمارات المفيدة لانكشاف الواقع في مرتبة; وضعف
الانكشاف في الاستصحاب المفيد للظن بالإضافة إلى خبر الثقة - كضعف حسنة
وموثقة عن صحيحة - لا يوجب الفرق بين المراتب في العلية للإجزاء بعد
انكشاف الخلاف إذا وقع العمل على طبق الإراءة الظنية في الموردين.
وأما على تقدير كون التعبد الاستصحابي كالتعبد في سائر الاصول،
فالاجزاء وإن كان حينئذ واضحا، إلا أنه لا ينفع في الأمارات.
وقد عرفت أن التعليل بالتمسك باليقين وعدم نقضه، مع أنه في الحقيقة
ظن متولد من اليقين، يجري في سائر الظنون العقلائية.
{المتحصل مما سبق: جريان الإجزاء في جميع موارد العمل بالحجة}
فتحصل مما قدمناه أن القول بالإجزاء في جميع موارد العمل بالحجة الشرعية
من أمارة معتبرة، أو استصحاب، أو أصل عملي، هو الموافق للوجه المستظهر
بعضه مما في صحيح «زرارة»، وبعضه من أدلة الاصول العملية، بل يمكن إسناد

(1) تقدم في الصفحة 372.
377

الجميع إلى المستفاد من التعليل في صحيح «زرارة».
فإن محصله - على ما مر -: أن العمل بالحجة على الواقع في زمان العمل
موجب لنفي الإعادة بعد كشف الخلاف; ولازمه ترتب آثار نفس الطهارة، على
مشكوكها التي منها الشرطية للمشروط بالطهارة.
والمورد وإن كان الطهارة المستصحبة والحجة على الواقع في خصوص
الاستصحاب، إلا أن الكبرى المستفاد ارتكازها في التعليل وصحته، إنما هو
العمل بالحجة حال العمل; ولو قدر أن الكبرى ما له طريقية إلى الواقع، فلا يضرنا
ذلك، لأنا نعلم أن الحجة الغير الناظرة إلى الواقع أولى بالإجزاء من الناظر،
للاشتراك في الأمر الظاهري الشرعي، واختصاص الطرق بكون الأمر طريقيا دون
موارد الاصول العملية، وكون المؤدي في الأول ثبوت الواقع، وفي الثاني ثبوت
الحكم الشرعي.
{تأمل وترديد في العموم المستفاد}
نعم، ينبغي التأمل في أن مورد هذه الاستفادة، نفي إعادة الصلاة بما أنها
نقض لليقين بالشك; فكل من ترك الدخول والإعادة، مشترك في النقض المذكور
والتعليل بهذه الجهة المشتركة، وقد علل به في غير كشف الخلاف في الصحيحة
الاولى في كتاب «الشيخ» (1)، ل‍ «زرارة»، فهل يمكن استفادة الإجزاء في جميع
موارد كشف مخالفة الحجة للواقع، كانت قائمة على الموضوع أو الحكم، في
العبادات والمعاملات، في الشروط والموانع والأسباب، مع بقاء محل التعبد
الأول وعدمه. وإنما يخرج العمل في اللاحق مما لا يرتبط بالآثار السابقة فلابد من

(1) فرائد الاصول 2: 563.
378

تطبيقه على العلم الطاري; أو يقتصر في هذه المقامات على المتيقن فلابد من
التجديد وجعل السابق كالعدم مع كونه عن عذر فيما مضى؟
نعم، حكي في التقريرات (1) عن «الشيخ» عن «كاشف الغطاء» رحمهما الله
تعالى، دعوى الإجماع على لزوم الإعادة مع كشف الخلاف، من دون تفصيل بين
وجوه الحكم الظاهري من حيث المدرك.
وما في الصحيح - مع كونه موردا أخص - معلل بما يفيد العموم، فهو أقوى
مما ينبئ عنه الإجماع المحكي المحتمل استناده إلى فهم حكم العقل الثابت لولا
الاستفادة، أو فيما يأتي من كشف الخلاف بالحجة اللاحقة. وسيأتي تحصيل
المستفاد من الصحيح في ذيل صورة قيام الحجة على خلاف الرأي السابق.
{كشف الخلاف يحقق الموضوع من حينه}
ويمكن أن يقال: إن التكليف الواقعي وإن كان موضوعه غير مقيد بالعلم، إلا
أنه ليس مطلقا بالنسبة إلى الغفلة والاحتمال والتمكن من الوصول إليه بالفحص
وعدمه; فهو مقيد بالاحتمال مع التمكن عن الوصول إليه بالفحص، وإلا كان من
القاصر الذي هو - كالعاجز - خارج عن موضوع الحكم عقلا.
وعليه: فكشف الخلاف - كالحجة على الخلاف - يستلزم تحقق الموضوع
بعد انعدامه بالفحص المنتهي إلى اليأس، لا كاشفا عن تحقق الموضوع وفعلية
الحكم واقعا من الأول، فإن كان الكشف والتبدل في الوقت، فعليه العمل بالوظيفة
الفعلية; وإن كان في خارجه، فعليه القضاء، لترك الفريضة الشأنية.

(1) مطارح الأنظار: ص 25.
379

{حكم الإجزاء عند تبدل رأي المجتهد ونحوه}
وأما الكلام في إجزاء الأمر الظاهري المكشوف خلافه بسبب قيام حجة
على خلاف الحجة السابقة، فهو أنه قيل فيه بالإجزاء، بل نسب إلى ظاهر المذهب
في كلام بعض المتأخرين، كما في التقريرات (1). وذهب إليه جماعة من
المتأخرين من مقاربي عصر «الشيخ الأنصاري» (قدس سره)، كما حكي عنه. وقيل بعدمه،
كما عن «النهاية» و «التهذيب» و «المختصر» وشروحه و «شرح المنهاج»، على
ما حكى عن «المفاتيح» (2) للسيد، بل عن «النهاية»، الإجماع عليه، وعن
العميدي، الاتفاق.
والظاهر: أن العدول إلى مجتهد الواجب بسبب انكشاف أعلمية الغير فيما
سبق، من المقلد، كتبدل الرأي وغيره من العدول الواجب، فالمرجع في النقض
وعدمه فتوى المعدول إليه. والتفصيل بما سيأتي هو المختار. وفي الجائز فرضا
- بمثل توافقهما في الجواز - يمكن اللحوق بما مر، وقد ذكرناه في بعض
المقامات، فليلاحظ.
ومحل الخلاف، الآثار اللاحقة المترتبة على الوقائع السابقة التي عمل فيها
بالحجة السابقة، وقد تقدم اقتضاء الطريقية لعدم الإجزاء، من دون فرق بين
الكشف للخلاف بالوجدان، أو بالحجة اللاحقة التي مدلولها عدم مصادفة السابقة
للواقع، وثبوت خلل في حجيته الفعلية، وعدم صحة الاستناد إليها فعلا فيما
يرتبط بالعمل بها بقاء، كما لا يجوز العمل بها في غير تلك الوقايع ابتداء،
بلا خلاف.

(1) مطارح الأنظار: ص 28.
(2) مفاتيح الاصول: 581 و 582، ومطارح الأنظار: ص 28.
380

والفرق، في المزال باحتمال موافقته للواقع فيما كان المزيل للحجة السابقة
غير العلم، بخلاف العلم إذا كان هو المزيل.
كما ظهر أن المستفاد من التعليل في صحيح «زرارة» كفاية صحة الاستناد
إلى الحجة الثابت حجيتها في حال العمل، في نفي الإعادة بكشف الخلاف، فهو
بالأولوية ينفي الإعادة بالحجة على الخلاف.
ويؤيده ثبوت الحرج الشديد، وعموم البلوى بالحكم، لكثرته المقتضي
لوضوحه لو كان; فما استدل به «كاشف الغطاء» (قدس سره) (1) من خلو الخطب والمواعظ
عنه، لعله مبتن على ذلك; وكذا منافاة النقض لكون الشريعة سهلة سمحة،
ولزوم عدم الوثوق بالاجتهاد والتقليد. والمناقشة في شيء من ذلك مصادمة
للوجدان.
{تفصيل صاحب الفصول (قدس سره) وما أفاد فيه العلامة الإصفهاني (قدس سره)}
أما التفصيل الذي أفاده في «الفصول» (2)، فقد وجهه الأستاذ (قدس سره) (3) ببقاء
مصب الفتوى، فلا يجزي، وعدم بقائه، فيجزي; فالثاني، كالصلاة في شعر
الأرانب والعقد بالفارسية; والأول، كالحيوان المشكوك حليته بالتذكية،
والمرتضعة بعشر رضعات المعقودة; فما يمر عليه زمانان، من الأول، وما لا يمر
عليه زمانان، من الثاني; ثم تأيد به، لما قرره من الإجماع على عدم الانتقاض فيما
لا يبقي موضوعه.

(1) كشف الغطاء: ص 36، ومطارح الأنظار: ص 31.
(2) الفصول: ص 409.
(3) نهاية الدراية 6: 393 و 394.
381

{ملاحظة في التفصيل}
ويمكن أن يقال: إنه حيث كانت الحجة على الملزوم حجة على اللازم،
فالحجة على صحة العقد بالفارسية، حجة على آثار العقد حدوثا وبقاء; فعدم بقاء
مصب الفتوى إنما يستلزم عدم بقاء الملزوم، لا عدم بقاء اللازم الذي يكفي في
بقائه حدوث الملزوم.
والحجة اللاحقة القائمة على بطلان الحجة السابقة وإن لم تؤثر في نفس
تلك الحجة، لانعدام موضوعها، إلا أنها تؤثر في بقاء آثارها، فتحكم بعدم صحة
العقد وعدم حدوث آثاره وعدم بقاء آثاره، كما إذا علم بعدم صحة العقد، وعدم
حدوث آثارها وعدم بقائها.
ولا فرق في ذلك بين العلم المتأخر والحجة المتأخرة على خلاف
المتقدمة; فإذا لم يلزم بقاء الحجة السابقة بوصف الحجية في بقاء آثارها وكان
تحقق الحجة ظاهرا في زمان حدوث العمل بها كافيا في لوازمها المرتبطة بالعمل
بها في السابق، فلا فرق بين العلم بالخلاف والحجة على الخلاف، فلابد من
الحكم بعدم النقض مع العلم بالخلاف.
وإذا اعتبر بقائها بوصف الحجية في بقاء آثارها وإن لم يعتبر في حدوث
السبب ظاهرا وحدوث أثره ظاهرا وبقائها ظاهرا إلى زمان الحجة المتأخرة،
فاللازم الحكم بالنقض في صورة قيام الحجة المتأخرة الكاشفة قطعا عن عدم
واقعية حجية الحجة السابقة; ولذا لا يجوز الاعتماد عليها في الامور المتأخرة
المبائنة عن السابقة قطعا، وإن لم تكشف عن عدم تحقق مضمونها واقعا، فلا فرق
بين بقاء حلية المعقود عليها بالفارسية، وبقاء حلية المذبوح المشكوك حليته،
وحلية المرتضعة بعشر رضعات، وإن افترقا ببقاء مصب الفتوى بالدلالة المطابقية
في الأخيرين دون الأول.
382

وكون الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين، بنحو يمنع عن تأثير الاجتهاد
المتأخر زوال آثار الأول بقاء وإن لم يناف العذر عنها حدوثا، لابد من الدليل عليه.
{الاستدلال على الإجزاء عند عدم بقاء مصب الفتوى}
نعم، يمكن الاستدلال على الإجزاء فيما لا يبقى نفس مصب الفتوى - فإنه مع
بقائه يرجع الأمر بالدقة إلى العمل باللاحقة في الامور المتأخرة التي لا فرق فيها
بين المبائنة الابتدائية والمرتبطة بالسابقة التي عمل فيها بخلاف الحجة المتأخرة، -
بما مر منا في الاستفادة، مما في التعليل الواقع في صحيح «زرارة»; فإن نفي الإعادة
معللا بالعمل بالحجة، لا يكون إلا لكفاية الحجة الفعلية في حال العمل في تحقق
الشرط للمشروط بما انكشف عدمه.
والفرق بين شرطية الطهارة للصلاة وسببية العقد لحل الوطي وإن كان
ممكنا واقعا، إلا أن التعليل بما لا يرتكز في الأذهان إلا بوجه عام بين الصورتين،
لعله ينافي الفرق المذكور; فالتحفظ على حسن التعليل والاستدلال، يعطي عدم
اختصاص الحكم بعدم الإعادة التي مرجعها إلى النقض الممكن فعلا في الآثار
السابقة بمورد الحكم.
وعليه: فإعادة العقد على المعقود عليها بالفارسية بعد العلم بعدم تحقق
العقد الصحيح، أو قيام الحجة على ذلك، نقض للعمل السابق; فهو كإعادة
الصلاة، بخلاف الاجتناب عن مشكوك الحل بعد الذبح والعلم، أو الاجتناب عن
ملاقي مستصحب الطهارة، أو نفسه بعد العلم بالنجاسة أو قيام الحجة عليها; فإن
شيئا منهما ليس نقضا لما كان، بل عمل بالحجة اللاحقة في موضوعه الفعلي ولو
عمل به بالخلاف فيما سبق وترك الاجتناب، كالصلاة - فعلا - في شعر الأرانب،
أو النجس المعلوم نجاسته بعد استصحاب سابق للطهارة، أو قيام البينة على شيء
383

منهما بمجرد العذر السابق بقيام الحجة على عدم البأس.
ودعوى أن الثابت في الصحيح، نفي الإعادة في العلم بعدم تحقق شرط
الصلاة خارجا، فلا يعم انتفاء السبب كالعقد أو عدم حجية الحجة على تحقق
السبب بعد الاستناد في العموم إلى التعليل المتقدم، كما ترى وسيأتي الكلام في
المستفاد من الصحيح.
إشارة
{إلى تفصيل من صاحب الفصول وبسط الكلام فيه}
إشارة منبهة إلى ما حكي عن «صاحب الفصول» (قدس سره) (1) من التفصيل بين
ما يتعين أخذه بمقتضى الفتوى وما لا يتعين; فيجزي الأمر الظاهري في الأول في
صورة تبدل الرأي; دون الثاني; ومثل بأمثلة وقع الإبهام في كلامه بها عند من
تأخر.
وقد تصدى الأستاذ (قدس سره) (2) في اصوله لشرح كلامه، وارتضاه وبناه على
الموضوعية، وتأيد له بالإجماع المدعى في العبادات، أو ما يعم الوضعيات التي لا
بقاء لها موضوعا، وجعل «المتعين» في كلامه ما لا يمر عليه زمانان، فلا يمكن فيه
الانقلاب إلى الفساد بعد وقوعه صحيحا بمقتضى الفتوى، بخلاف ما يمر عليه
زمانان، إلى آخر ما أفاده في شرح كلامه والاستدلال له وتصحيح الأمثلة في كلامه
وتطبيقها على ما في العنوان.
ومنه يظهر وجه الفرق بين مثل بقاء المعقود عليها بالفارسية وأحد

(1) الفصول: ص 409.
(2) نهاية الدراية 6: 394.
384

العوضين في المعاطاة وملاقي المحكوم بنجاسته قبل تبدل الرأي إلى ما بعده،
وبقاء المرتضعة بعشر رضعات المعقود عليها، وبقاء نفس المحكوم بنجاسته،
والحيوان المشتبه حليته وحرمته بعد الذبح; فإن الأخيرة من بقاء نفس مورد
الفتوى; فالبقاء فيها مخالفة للحجة الفعلية فيما قامت فيه، وما قبلها فالبقاء، مخالفة
للفتوى بالانتقاض، لا للحجة الفعلية في موردها.
فيمكن أن يكون التفصيل المذكور أخذا بمعقد الإجماع المحكي في غير
ما يتضح خروجه عنه من صورة بقاء نفس مورد الفتوى، إلا أن لازم هذا التفصيل
المستفاد من حكاية الإجماع ومما في ذيل الصحيح، عدم إعادة الغسل فيما غسل
الثوب بماء مستصحب الطهارة بعد كشف النجاسة بعلم أو علمي، للاشتراك في
الوجه المتقدم; مع بقاء المعقودة بالعقد الفارسي بعد انكشاف عدم تأثيره بعلم أو
علمي، ومثلهما صحة الوضوء بمستصحب الطهارة بعد كشف الخلاف بعلم أو
علمي.
ولم أجد في الأمثلة في كلامه ما ينافي توجيه الأستاد (قدس سره) (1)، إلا ما ذكره في
ملاقي عرق الجنب; فإن النقض فيه لا يتم على ما افيد، إلا مع البناء على أن نجاسة
الملاقي بالسراية، لا بمجرد الملاقاة، وإلا فحاله حال بقاء المعقود عليها والصلاة
فيما تطهر بما يراه طاهرا أو طهورا حيث لم ينقض فيهما بالرجوع إلى غير القطع
بالخلاف.
{ملاحظة في مستند التفصيل وتقريره بوجه آخر}
ويمكن أن يقال: إن ما ذكره مستندا للتفصيل قابل للمناقشة; فإن الانتقاض
لا يستلزم الانقلاب، بل انكشاف فساد ما اعتقد صحته، وإن بقاء مصب الفتوى

(1) نهاية الدراية 6: 394.
385

غير لازم، لأن المستند في الآثار الباقية، الفتوى الواقعة في المؤثر فيها، وهي على
خلاف الفتوى اللاحقة بمداركها.
نعم، يمكن أن يقال: - بعد البناء على الانتقاض مع بقاء مصب الفتوى، كلحم
حيوان يشك في حليته بالذبح فذكاه بالاجتهاد، ثم تبدل رأيه إلى حرمة أكله - إن
مقتضى صحيح «زرارة»، عدم الإعادة; ومقتضى إطلاقه وترك الاستفصال فيه،
جواز إتيان العصر بعد المحكوم بصحتها; فهذا يوجب ترتيب الآثار المرتبطة
بالسابق في العبادات، كانت الحجة استصحابا، أو أمارة، أو أصلا عمليا، كما
فصلناه.
ودعوى معارضة إطلاق مثله بإطلاق الحجة الأقوى لغير إحداث الآثار
المبائنة الغير المرتبطة، مدفوعة بأنه من قبيل إطلاق الخاص المقدم على إطلاق
المعارضة، لأن أصل عدم الإعادة، على خلاف الحجة المتأخرة، فهو بالتخصيص
أشبه; وإطلاقه لنفي الإعادة في المشتمل على ترتيب الآثار السابقة الوجودية مقدم
على إطلاق الحجة المتأخرة المقتضي لعدم ترتيبها.
{تعميم الإجزاء إلى المعاملات}
وأما في المعاملات، فيمكن تعميم الحكم فيها بالإجماع المحكي وما عن
بعض محشي «المعالم» من أنه ظاهر المذهب. ومعارضته بحكاية الخلاف عن
«النهاية» و «العميدي»، يمكن دفعها بشواهد الصدق في الأول، من جهة العسر
والحرج على ما هو أوضح من أن يخفى، ولزوم الهرج والمرج، ورفع الوثوق
بالفتاوى، وعموم البلوى بالحكم المقتضي لوضوحه بالذكر في الخطب
والمواعظ، كما عن «كاشف الغطاء» (قدس سره).
386

وينضاف إلى ما ذكر: لو ضم إليه حكم عمل الغير المحكوم بالصحة في نظر
العامل; ففي عدم ترتيب الصحة وترتيب الفساد، ما لا يخفى من العسر، بل العلم
بالعدم في الجملة، كجواز العقد على معقودة الغير بالفارسية; ودفع النقض، بما
دل على أن لكل قوم نكاح، يجامع الإجزاء المطلق، وتخصيص المقتضي العام
لعدم الإجزاء، ولا يتعين فيه الأخير، كما يجامع التفصيل في «الفصول» (1) على
ما مر; فتعميم عدم الانتقاض أقرب. والله الهادي إلى الصواب.
{مناقشة في عموم الإجزاء بالتفصيل بين اللازمين}
إلا أن يناقش في استفادة العموم بالوجه المذكور، بأن مدلول الصحيح، هو
نفي النقض بالإعادة فيما ينقض بمجردها، لا تسويغ البقاء على العمل السابق
المترتب على صحة ما وقع واقعا; فهناك لازمان واقعيان للصحة الواقعية. وترتيب
أحدهما للاكتفاء بالحجة على العمل في زمانه في وجود شرطه، لا يستلزم ترتيب
الآخر، لاحتمال الإناطة بالوجود الواقعي في ذلك اللازم، كما أنيط به إحداث مثل
ما كان قطعا.
والملازمة بين اللازمين في وجودهما الواقعي، لا تستلزم الملازمة في
الوجود التعبدي الجعلي، فعدم الإعادة دل عليه الدليل وتسويغ البقاء بلا إعادة
صحيحة على العمل بما كان لم يدل عليه الدليل، ومقتضى الطريقية هو النقض،
كان بالعلم بالخلاف أو الحجة على الخلاف; فإن الإعادة نقض الالتزام بحدوث
الصحة للعمل الموافق للأمر الظاهري على التفسير المتقدم منا، بخلاف ترك
الجري بعد الانكشاف، على ما سبق، وعدم إبقاء الآثار بعده; فإنه ليس نقضا

(1) تقدم في الصفحة 384.
387

لحدوث التأثير وحدوث آثار السبب الموافق للاجتهاد الأول، بل لبقاء التأثير،
وذلك نقض باليقين، لا بالشك.
ومنه يظهر عدم تمامية الاستدلال بالتعليل في صحيح «زرارة»، لكفاية
العمل بالحجة حال العمل إلا في عدم جواز النقض فيما سبق على العلم أو الحجة
اللاحقة، لا فيما لحقهما، فالبقاء على الزوجية للمعقود عليها بالفارسية من هذا
القبيل; فلو دل دليل آخر على الإجزاء مع الحجة، كالحرج والهرج والسيرة، كشف
عن سببية الأوسع للجاهل في مورده.
{تفصيل في مستند الحكم الظاهري بحسب البيان السابق}
فعلى هذا إن كان الحكم الظاهري مستفادا من الاستصحاب أو أمارة معتبرة
على الواقع، فلا إجزاء على القاعدة المتقدمة، إلا فيما يتمحض نقضه بخصوص
الإعادة وعدم نقضه بعدم الإعادة، من دون جري في البقاء على ما جرى عليه في
الحدوث من الآثار الشرعية. وذلك كإعادة الصلاة الواقعة في مستصحب الطهارة،
أو مثبتها بالبينة بعد العلم بالخلاف، أو بينة أقوى على الخلاف أو حجة أقوى على
مثل عدم جواز الصلاة في شعر الأرانب توجب عدم فعلية حجية الحجة السابقة
على الجواز، إلا أن يستلزم النقض عسرا شخصيا موجبا لارتفاع التكليف، أو يقوم
إجماع بالخصوص على عدم النقض في بعض الفروض من فروع المسألة.
وفي قباله جواز وطي المعقودة بالفارسية مثلا بعد العلم بالعدم، أو قيام
العلمي به وجواز معاملة الطهارة مع المغسول بمستصحبها بعد العلم بالنجاسة أو
بينة عليها; ففي مثل ذلك جري بقائي عملا على مثل الحدوث بلا إعادة.
وإن كان مستفادا من الأصل العملي غير الاستصحاب، فكذلك إن كان
388

المستند في الإجزاء في الاصول التعليل المستفاد من صحيح «زرارة».
وأما إن كان المستند المستفاد من نفس أدلة الاصول، فيمكن القول
بالإجزاء لوجدان العمل المشروط لشرطه، أو المسبب لسببه بحسب التعبد الثابت
الذي لم ينكشف خلافه، ولم تقم الحجة على الخلاف إلا في إحداث مثل ما
سبق.
ويمكن القول بعدمه، لأن الحجة على الملزوم حجة على اللازم في
الحدوث والبقاء والمفروض انكشاف عدم البقاء، أو قيام الحجة الأقوى على
عدم البقاء، فابقاء ما كان كإحداث ما لم يكن على خلاف العلم الطارئ، أو الحجة
المتأخرة. فالنقض عمل بالحجة اللاحقة أو العلم الطارئ فيما يقارنهما.
والمفروض عدم انحصار النقض في خصوص إعادة ما كان، وعدم النقض
في خصوص ترك الإعادة بدون جري عملي بقاء على ما جرى عليه حدوثا.
فمقتضى العلم الطارئ أو الحجة المتأخرة، عدم بقاء الحجة السابقة في
الملزوم واللوازم في مرحلة البقاء.
وعدم بقاء الملزوم أي عدم كونه مما يبقى لا ينافي بقائية اللوازم وكونها مما
تبقى، فبقاء حجيتها بصحة الاستناد إليها بقاء كصحته حدوثا; فمع عدم بقائها
بوصف الحجية لعلم أو حجة، فكفاية اتصافه بالحجية فيما سبق وحدوث الحكم
الظاهري إلى زمان العلم أو العلمي، في جواز البقاء على العمل به فيما بعد العلم أو
العلمي يحتاج إلى دليل، والمفروض عدمه وانحصار الدليل في غيره. وهذا أوفق
بالقواعد العامة وأحوط.
وأما خصوص حكاية الإجماع على الإجزاء فمع معارضته بحكايته على
العدم لا يعتمد عليه فيما لا يوافق غيره من المستفاد من الأدلة الواصلة إلينا على
389

ما مر; مع أن الشك في الملزوم شك في اللازم حدوثا وبقاء، فضلا عن الحجة
والعلم بالخلاف.
والمستند في بقاء الأثر هو الحجة الفعلية على حدوث المؤثر، لا الحجة
عليه حال حدوثه; فإن كفاية الحجية في حال الحدوث عن مورده ولوازمه ولو
بقاء، تحتاج إلى دليل آخر; فما دل على بقاء الأثر تبطل دلالته واقتضائه بمجرد
الشك في الدلالة الفعلية. ولذا لا يجوز إحداث المثل المبائن وجودا، والدليل
الطارئ - علما كان أو علميا - تام الدلالة على عدم السببية بلا تقييد بوقت; ولازمه
عدم البقاء، لأنه لازم عدم الحدوث، ولا مجال في قباله للاستصحاب، لاختلال
ركنيه معا.
{المناقشة في القول بارتفاع الآثار من حين العلم بالخلاف}
وأما حديث أن التعبد بالطهارة ولو في تقدير الشك فيها، تعبد بأحكامها التي
منها الشرطية للمشروط بها، فليس لها كشف الخلاف، بل الارتفاع من حين العلم
بالخلاف بانعدام الموضوع، كما قدمناه عن «الكفاية» (1) فيمكن أن يقال فيه: بأنه
حيث كان الحكم في موضوع الشك في الواقع، فالتعبد بالحكم الوضعي وبآثاره
الشرعية - حدوثا وبقاء - دائر مدار حدوث الموضوع وبقائه; بمعنى أن بقاء
الموضوع - كما هو معتبر في بقاء الحكم - كذلك معتبر في بقاء آثاره الشرعية، فما
دام الشيء مشكوك حكمه الواقعي مورد التعبد بالطهارة وبأحكامها التي منها
طهارة الملاقى وطهارة المغسول به، وشرطيته لحصول الطهارة للمغسول
وللصلاة فيه; فإذا زال الموضوع بقاء زال الحكم بقاء وأحكام الحكم بقاء; فكما
لا يجوز التطهير بذلك الماء الذي كان مشكوكا بعد العلمي أو الحجة على النجاسة

(1) كفاية الاصول: ص 86، ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
390

حدوثا، لعدم الطهارة لنفسه فعلا، كذلك لا تبقى طهارة المغسول به فيما مضى،
لعدم بقاء طهارة نفسه، لعدم بقاء موضوعها وهو الشك.
وهذا هو الفرق بين حكم نفس الشيء وحكمه بما أنه مشكوك الحكم في
عدم لزوم بقاء ما عدا الذات وحدوثه في الأول، فلذا يكون الحجة الفعلية حجة
على ثبوته لموضوعه المتحقق قبلا حال الشك، ويترتب عليه آثاره التي منها عدم
البقاء فعلا لآثار حدوثه، ولزوم بقاء الشك في بقاء الحكم وبقاء آثاره في الثاني.
ومنه ظهر وجه الجمع بين ترتيب الأثر بمثل دليل التعبد بالحلية أو الطهارة
في ظرف الشك فيهما، وبين عدم الالتزام بلوازم البقاء التي منها طهارة المغسول
بالمشكوك بعد كشف الخلاف; وأن الفرق ليس في ناحية الحكم ولوازمه، بل في
ناحية الموضوع المعتبر بقائه في بقاء الحكم ولوازمه، فليس المتعبد به في
«الأصل» الأحكام الغير المنافية للحكم الواقعي، مع أن نفس الحكم المستفاد
مناف بوجوده للواقع المخالف، ولا أن المحكوم ترتيب الأثر عملا مع عدم
الاقتضاء لصحة العمل واقعا عند كشف الخلاف المستلزمة للإجزاء، كما سطر في
الإفادات.
وأما محذور الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فهو وارد في مطلق
الحكم الشرعي في الطرفين، قيل بالإجزاء أو لم يقل به ولابد من رفع الإشكال فيه
على أي تقدير.
{تفصيل بين ما يكفي في بقائه حدوثه وغيره}
نعم، يمكن أن يفصل بما مر بين الأحكام التي يكفي في بقائها حدوثها،
كعدم إعادة المشروط بالطهارة إذا وقع مع المشكوك وإعادتها، فالنقض بالإعادة
كاشف عن عدم حدوثها; وحدوثها وحصول الامتثال الذي لا ينقلب إلى النقيض
391

مفروض، ولا يراد من عدم الإعادة فيه سوى حصول الامتثال بحدوثه. وليس كما
يراد من عدم الإعادة فيه إبقاء الآثار في غير زمان الشك المعتبر في موضوع تلك
الآثار المستلزم الاعتبار في بقاء تلك الآثار; وبين ما له بقاء ببقاء الآثار بغير عدم
الإعادة، فيعتبر في بقائها بقاء الشك المعتبر في بقاء أسبابها، فتزول بقاء مع العلم
أو الحجة على الخلاف. وهذا مفقود في الأمارات، لعدم الحكم الشرعي مع
التخلف، إلا ما يستفاد من الصحيح من كفاية الثابت من الشروط بالحجة عليه في
حال العمل في عدم الإعادة.
ثم انه يشترك مع كشف الخلاف بالحجة على الخلاف بالنسبة إلى الآثار
المرتبطة بالواقعة السابقة الحادثة بالرأي الآخر في الإجزاء الذي مبناه الموضوعية،
وعدم الإجزاء الذي مبناه الطريقية، إلا فيما قام الدليل على خلافه بمقدار قيامه
عليه، المعاملة مع المخالف للمكلف اجتهادا أو تقليدا، معاملة الطهارة في نفسه أو
ما يتعلق به، وترتيب الأثر على طهارته بلوازمها مع هذا الاختلاف المذكور،
وترتيب الأثر في عمله على صحة صلاته الواقعة بالرأي المخالف لنفسه أو
لمقلده بالاقتداء به أو جعله واسطة في الجماعة.
فإنه يمكن أن يقال: إن إلحاق مثل هذه الامور بالامور الحادثة المبائنة للماضية
لا ينقص عن الإلحاق بالامور الماضية الواقعة على طبق الرأي المخالف، فكما
لا تجوز الصلاة بلا سورة لمن لا يرى ذلك، لا يجوز له الاقتداء بمن يرى جواز
ذلك، إلا أن العسر والحرج لو كان دليلا على عدم النقض في السابق اتجه دلالته
في المقام.
ودعوى اندفاعهما بعدم لزوم الفحص، لأن الأصل الصحة إلا مع العلم،
يمكن منعها بالعلم الإجمالي بوقوع المخالفة، واستعمال مورد الخلاف في الصلاة
التي هي مع مقدماتها كثيرة الفروع جدا. والاختلاف فيها - أي في مجموعها -
392

واستعمال مورد الخلاف، مما لا يمكن دعوى احتمال عدمهما في مثلها.
والاستناد إلى مطهرية الغيبة حتى مع المخالفة في الاعتقاد في مسألة الطهارة
والنجاسة - كما عن «الجواهر» (1) و «السيد الشيرازي» (قدس سرهما) (2) - لا يخلو من الاحتجاج
بالظن أو الاحتمال في موارد العلم بالخلاف.
نعم، يمكن أن تكون السيرة الجارية على ترك الفحص أو على ترك الالتزام
بترك ترتيب الأثر للصحة مع العلم العادي، حتى يعلم عدم المخالفة شخصا
كاشفة عن الإجزاء، للكشف عن مصلحة بدلية، كمصلحة التسهيل على المكلفين
المختلفين غاية الاختلاف، كما كشفنا عن الإجزاء عن الإعادة في آثار الأعمال
السابقة ببعض الأدلة المتقدمة، والله العالم. ويؤيده ما في الالتزام بعدم الإجزاء في
مثل ذلك من العسر الواضح.
تنبيه
{في ابتناء القول بالإجزاء على المصلحة البدلية وعدمه}
هل يتعين الالتزام بالمصلحة البدلية في مؤدى الطريق والعمل بالأصل
المثبت للحكم الظاهري فيما يثبت فيه الإجزاء، كما تقدم استظهاره مما في
صحيح «زرارة»، ومن أدلة الاصول أو لا؟
يمكن أن يقال: إن مقتضى الطريقية في أدلة الأمارات عدم الإجزاء رأسا، وقد
خرجنا عن ذلك بمقتضى الدليل في بعض الآثار المتقدمة; فالمتيقن من ذلك هو
توسعة الشرط فيما لا يجب النقض فيه بالإعادة إلى الأعم من الظاهري.

(1) جواهر الكلام 6: 302.
(2) أجود التقريرات 1: 208.
393

وأما سائر الآثار كالبقاء على الآثار الوجودية المترتبة على المؤثر ظاهرا
المنكشف عدم تأثيره بالحجة على العدم، فهي مورد تعارض الحجج والعمل فيها
على طبق الحجة الفعلية، لزوال حجية الحجة السابقة إلا فيما تثبت بمعونة دليل
الإجزاء أن المؤدى فيه، ليس له انكشاف الخلاف.
{المصلحة البدلية لو كان عليها دليل، توجب الإجزاء المطلق}
وأما الالتزام بالمصلحة البدلية على نحو يجامع السببية وعدم التصويب
- كما قدمناه - فهو على نحو يفيد الإجزاء وعدم النقض بقول مطلق، لا دليل عليه.
وإن كان لو كان عليه دليل، أمكن الالتزام بالإجزاء المطلق، ولو اختص
الدليل ببعض، الموارد إذ لا يمكن التبعيض في دليل الاعتبار، بأن يكون المؤدي
في بعض الموارد ذا مصلحة وفي بعضها غير ذي مصلحة وتكون تبعية الأمر
الظاهري موجبة لحدوث المصلحة في الجملة، وغير موجبة له على الإطلاق;
فثبوت المصلحة في الجملة يكشف عن تأثير التبعية فيها دائما وعلى الإطلاق،
لاجتماع جميع الأمارات والاصول تحت دليل واحد دل على اعتبارها في إثبات
مؤدياتها، فالتفكيك بين لوازم المؤديات غير ممكن.
والكشف عن المصلحة، على خلاف المرتكزات من الطريقية المحضة،
يشترك مع التعبد بشرطية الأعم من الظاهري في كونهما حاصلين بالتعبد الزائد
على التعبد بمفاد الأمارة والأصل، فإنما يحكم بعدم النقض بالنسبة إلى جميع
الآثار لو كان طريق ما دل على الإجزاء; وملاكه الثبوتي، هو ثبوت المصلحة في
المؤدى بسبب اقتضاء الأصل أو قيام الأمارة; وأما لو كان طريقه القطعي
أو الاحتمالي هو التوسعة لدائرة الشرط إلى الظاهري في خصوص ما يكون نقضه
394

بمجرد الإعادة، وعدم نقضه بترك الإعادة فقط، فلا طريق إلى الالتزام بالإجزاء
المطلق بالنسبة إلى سائر الآثار غير الإعادة المحضة، وكذلك القضاء.
وأما حسن التعليل وارتكازيته، فهو يجامع كون المصحح أحد الأمرين
المذكورين بلا تعين لأحدهما، إلا أن يكون أقربية مساسه بمحض عدم الإعادة،
مرجحة لكون المصحح ثبوت ملاك التعبد بتوسعة الشرط للأعم من الظاهري، لا
كونه ثبوت المصلحة في تبعية الأمارة، أو مؤدى الأصل المعتبر بدليلهما; فإن
المرتكز في الأذهان يقتضي كون اللازم على المكلف في تحصيل شرائط المأمور
به - الوجودية والعدمية - واجديته للحجة على ما هو اللازم حال العمل، لا مطلقا.
واستفادة جواز العمل ظاهرا دون الواجدية مخالفة للوجدان; فإن العامل
يتعبد بالأمر الواقعي، لا باحتماله. وتجويز هذا العمل مساوق لواقعية الأمر،
المستلزمة لتوسعة دائرة الشرط إلى الأعم من الظاهري.
هذا، ولكن الإنصاف أن هذا الذي هو ملاك الإجزاء لا يستفاد من الأمارة أو
الأصل اللذين قد يؤديان إلى وجوب شيء أو حرمته، ولا وجوب في الواقع
ولا حرمة، ولا في دليل اعتبارهما، كما هو واضح على الطريقية، بل مما دل على
الإجزاء في خصوص مورده، فيكشف عن واحد من المصلحة البدلية في تلك
الموارد، أو توسعة الشرط للأعم، وعلى أي، لا يتعدى إلى غير ما يماثل مورده،
وما يزيد عليه، كموارد الاصول القائمة على الشروط.
بل الظاهر أن الكاشف عن المصلحة البدلية إنما هو الدليل على الإجزاء،
فنتبع مورده ولا نتعدى عنه، ولا يكشف عن كشف دليل الاعتبار عن المصلحة
ولو كانا - يعني الدليل على الإجزاء والدليل على اعتبار الطرق - متوافقين.
والنتيجة، عدم الكاشف عن المصلحة البدلية، بقول مطلق حتى يكشف عن
السببية في الأمارات بالنحو الذي لا يستلزم التصويب، والله العالم.
395

وقد ذكرنا وجه التعميم في الحكم بعد الانتقاض عند الكلام فيما يرجع إلى
التفصيل الذي ذكره «صاحب الفصول» (قدس سره) (1)، وأما مغايرة الواجبين مثلا، فلا تضر
بكشف المصلحة البدلية التي يكشف عنها دليل الإجزاء.
تذنيب:
{في ذكر الإجماعات المدعاة في المقام}
قد ظهرت تبعية الحكم بالإجزاء والعدم للدليل، وأن لمعرفة الاجماعات
المحكية هنا، دخلا في معرفة الدليل على الحكم; فلنذكر بعض دعاوي الإجماع
في المسألة، أعني في مسألتي كشف الخلاف وتبدل الرأي وما بمثابة الأخير من
العدول إلى مجتهد آخر.
فمن الحكايات ما تقدم عن «كاشف الغطاء» (قدس سره) (2) من الإجماع على الإعادة
في كشف الخلاف مع ما في الفرق بين القطع والحجة من التأمل، لولا نقل
الإجماع على العكس في الفرعين، ولولا التأيد بالحرج، بل الهرج; فإن كون
المتيقن من حجية الثانية غير المربوط بالحجة الاولى، معارض بالمثل; فإن
المتيقن من حجية الأولى غير اللوازم المقارنة للحجة على خلاف الملزوم، بل
بعد قيام الحجة الثانية يجب النقض، لعدم بقاء الحجة الثانية على الحجية في شيء
من الملزوم واللازم، فليس في الكشف الظني إلا ما مر من الإجماعين
والمؤيدين.
نعم، لا خصوصية لكشف أن الواقع على خلاف الظاهر، بل يعم بكون

(1) الفصول: ص 409.
(2) تقدم في الصفحة 381.
396

الأول اشتباها وخيالا للدليل; فإنه أمر نادر جدا، لا يجري فيه العسر النوعي،
ولا يلزم من النقض فيه الهرج والاختلال.
واستظهر عدم الخلاف فيه في «المفاتيح» (1) - بعد استظهار لزوم الحكم
بالفساد; ونسبه المحقق «القمي» (قدس سره) (2) إلى المشهور، وحكى الاتفاق عن السيد
عميد الدين; ثم استشكل في النقض الذي استثنوا منه صورة لحوق حكم من
الحاكم - في مسألتي بيع المعاطاة، ونكاح البكر بغير إذن الولي، فباع ونكح كذا، ثم
علم بالخلاف.
ومع عدم العلم; فإن كان حكم من الحاكم على طبق الاجتهاد الأول، قوى
عدم النقض بالاجتهاد الثاني، ونقل عن جماعة الاتفاق عليه، كما في «الاحكام»،
وعن «الحاجبي» و «العضدي».
وإن لم يكن حكم، لزم الحكم بالبطلان، ويدل عليه الإجماع في
«النهاية» (3) و «المنية» (4); واعتمد عليه في «المفاتيح» (5).
ورجح للمقلد صحة الاستمرار على ما فعله بالتقليد الأول قبل تبدل رأي
مقلده في العبادات والمعاملات، كما في نكاحه بفتوى مقلده في أن الخلع فسخ،
والصلاة بلا سورة بفتوى مقلده قبل تبدل رأيه، واستند إلى استصحاب الصحة
والحرج العظيم والمشقة الشديدة.
ولابد من السؤال من الفارق بين حكم الحاكم وعدمه بين الكشف بالقطع
أو بالحجة، لأن الغالب العلم بالخلاف في الحكم من أحد الطرفين. والغالب

(1) مفاتيح الاصول: ص 581، ط مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
(2) قوانين الاصول: 2: 254.
(3) و (4) و (5) - مفاتيح الاصول: ص 582.
397

تحقق الحكم في الشبهات الموضوعية التي لا يؤثر فيها تبدل الرأي في الأحكام
الكلية والمسلم من تحريم نقض حكم الحاكم ما لم يكن بسبب تبدل الرأي في
مدرك الحكم حتى من نفس الحاكم، فإنه كعلمه بالخلاف; ولا يلزم الاختلال في
النقض بالتبدل; فموضوعية الحكم فيه قابلة للمنع. نعم، هو مشتمل على نقض
الحكم والحكومة معا بالفتوى.
نعم ادعى الاتفاق على عدم النقض للحكم بشيء من الحكم والفتوى ما لم
يظهر بطلانه رأسا ويحتمل استناده إلى لزوم الهرج من نقض الحكم من الحاكم
بتبدل رأيه أو غيره، وأما نقض الفتوى بالحكم فقد جوزه في قسم، ولعله متعين
مع التنازع الناشئ عن اختلاف أهل الفتوى.
وصرح صاحب «النتائج» (قدس سره) (1): بأن مقتضى الأدلة، النقض للحكم مطلقا،
إلا أن الإجماع المنقول ولزوم الهرج، أخرجا صورة الظن بمخالفة الحكم للواقع،
فتبقى صورة العلم بالخلاف تحت قاعدة التخطئة وأصالة الفساد وإطلاق أدلة
المسألة الفرعية. ولا فرق بين حاكم آخر ومن تجدد رأيه بعد حكمه.
وبمثله صرح في «الضوابط» (2)، إلا أنه فيه صرح بالإجماع المحقق أيضا
على عدم جواز النقض في غير صورة القطع بالخلاف، وبأنه إن عمل على طبق
الاجتهاد الأول هو ومقلده، ثم تبدل رأيه، فإن كان أثر العمل باقيا، لم يجز له البناء
في الأعمال الآتية على العمل السابق، كالوضوء الباقي بعد تجدد الرأي مع كون
الوضوء في حدوثه بماء قليل ملاق للنجاسة، فلا يصلي بذلك الوضوء بعد
التجدد، واستند إلى الإجماع، وقاعدة التخطئة، وإطلاق أدلة الانفعال.
وأما الأعمال الغير الباقية، كالصلاة بلا سورة والصلاة المحققة بذلك

(1) و (2) - نتائج الاصول وضوابط الاصول في مجلد واحد، ط: الحجرية.
398

الوضوء، فلا إعادة لها، حذرا من هتك الشريعة، وللسيرة وقاعدة الإجزاء
في الأدلة الشرعية وأدلة العسر، إلا إذا قطع بفساد رأيه السابق فيعيد
ويقضي.
وأما في المعاملات، كنكاح المرتضعة بالعشر، فمقتضى الإجماع المنقول
والتخطئة وأصل الفساد وبناء العقلاء وإطلاق الأدلة وظاهر الشهرة، نقض
المجتهد; لكن الحق عدمه في حقه وحق مقلديه حذرا من الهتك والهرج، مؤيدا
بأن فائدة الحكومة هي ذلك وعدم الاختلال; ثم استثني في نقض المجتهد الآخر
الذي هو نظير نقضه صورة القطع ببطلان الرأي السابق، انتهى. ففرض الحكم في
غير العبادات في عدم النقض، واختار هنا في «الضوابط» ما ذكره في
«النتائج».
ونقل عن الشيخ العلامة الأنصاري (قدس سره) في «التقريرات» (1): أنه نقل عن
جماعة من متأخري المتأخرين من المعاصرين له أو المقاربين لعصره، الإجزاء
وعدم لزوم الإعادة فيما قدمه من الأمثلة في العبادات والمعاملات المندرجة
تحت الوقايع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة. وعن بعض الأفاضل (2) في
تعليقاته على «المعالم»: أنه نسبه إلى ظاهر المذهب، ونسب الإجماع إلى محكي
«النهاية» (3)، وعن «العميدي» (4) على عدم الإجزاء، ونقل عدم الإجزاء عن
«المفاتيح» (5) عن جماعة.
فالمتحصل من كلمات هؤلاء: أن عدم الإجزاء مع العلم بالخلاف
لا خلاف، فيه ولا استثناء.
وأما مع الظن بالخلاف، فمع الحكم يحكم بالإجزاء المتفق عليه عند

(1 - 5) مطارح الأنظار: ص 28، ومفاتيح الاصول: ص 581.
399

جماعة، ومع عدم الحكم، يحكم بعدم الإجزاء استنادا إلى الإجماع المحكي عن
«النهاية». وإنما ذهب من هؤلاء المعتمدين على نقل الإجماع المذكور إلى
استثناء الإجزاء في صورة لزوم الهرج في بعض الصور مما لم يبق فيه أثر العمل
الماضي أو كان المتجدد رأي مقلد العامل.
وقد نقل في «أجود التقريرات» (1) دعوى الإجماع على الإجزاء في
العبادات مع عدم كون كشف الخلاف بالقطع، واحتمل شموله للمعاملات مع
عدم بقاء الموضوع بمعنى عدم بقاء الأثر، كتلف مورد البيع الواقع معاطاة صحيحة
بالرأي السابق; فيحتمل عدم الضمان بعد تجدد الرأي، ونفى الإشكال عن عدم
الشمول مع بقاء الموضوع، كبقاء المعقود عليها بالفارسية تحت الابتلاء. والظاهر
أنه يستثنى منه صورة تحقق الحكم; ووافقه شيخنا (قدس سره) (2) في اصوله في نفي البعد
عن دعوى الإجماع على عدم الانتقاض في العبادات وغيرها مع عدم بقاء
الموضوع; ويمكن إرادته من بقاء الموضوع بقاء مصب الفتوى، لا ما يعم بقاء
الأثر.
وقد مر من كلمات من تقدم: أن المستند للإجزاء في غير صورة تحقق
الحكم في المعاملات إنما هو غير الإجماع، إلا ما تقدم نقله عن «الضوابط»
و «النتائج»، وأن الإجماع مستند لعدم الإجزاء مع كشف الخلاف، كما هو المسلم
عندهم، ومع الظن الأقوى بالخلاف، كما حكي عن «النهاية» (3)، ولم أظفر بنقله
في كلمات من تقدم ك‍ «المفاتيح» و «الفصول» و «النتائج» و «القوانين»، إلا ما حكاه
الشيخ العلامة الأنصاري (قدس سره) عن بعض محشي «المعالم»; وهو غير ظاهر في

(1) أجود التقريرات 1: 206.
(2) نهاية الدراية 3: 393 - 394.
(3) تقدم آنفا.
400

الإجماع، ولم يفهم الشيخ، منه ذلك، وإنما نسب الإجماع إلى بعض من لا تحقيق
له، وأن المتتبع يظهر له بطلان هذه الدعوى.
لكن رفع الوثوق والهرج مما لا يخفى; فالظاهر أنه المراد من كونه ظاهر
المذهب، والمراد مما عن «كاشف الغطاء» (قدس سره) من خلو الخطب والمواعظ عنه، أنه
بمكان لو كان لبان، وفي إناطته بتحقق الحكم ما لا يخفى، بل لا يبعد دعوى السيرة
على عدم التقيد به في العمل بالفتاوى في المعاملات، وعلى عدم النقض، ولم
يخص عدم النقض في «الفصول» فيما يتعين أخذه بالفتوى بالحكم، بل طرد
الحكم في الجميع. وقال: «ومن هذا الباب حكم الحاكم. والظاهر: أن عدم
انتقاضه بالرجوع موضع وفاق»، انتهى.
وقد فصل المحقق القمي (قدس سره) الكلام في المناقشة فيما اشتهر من جواز نقض
الفتوى بالفتوى، وفي دعوى الإجماع عليه مدعيا عموم الأدلة الجارية في عدم
جواز نقض الحكم بالفتوى من الهرج، ورفع الوثوق بالفتاوى الغير الواقعة
بمحضر الحاكم، وبحكمه العمل بها مع تسلمه النقض مع القطع بالخلاف، وعدمه
مع الحكم واستشكاله فيما اشتهر في غير الصورتين.
نعم، يمكن الاستدلال للإجزاء في العبادات بمثل ما دل عليه ذيل صحيح
«زرارة»، بل في خصوص الصلاة صحيح «لا تعاد»، بناء على شموله للجاهل
بالحكم المعذور ولو بسبب قيام الحجة على الخلاف، كالجاهل بالموضوع
كذلك، لكنه يعم كشف الخلاف بالقطع. ويؤيد هذا العموم بعد استقصاء المصلي
أحكام الصلاة جميعها ملتفتا إليها غير معتقد لخلافها حال الصلاة.
فتلخص مما قدمناه: أن غير صورة كشف الخلاف المسلم عندهم عدم
الإجزاء فيها، وصورة الحكم المسلم عندهم فيها الإجزاء، وعدم النقض مظنة
الإجماع على النقض دون الإجزاء، عدا ما مر من «النتائج» و «الضوابط»، إلا أن
401

سائر الأدلة يعم الجميع ما لم يكن قطع بالخلاف.
وصحيح «زرارة» يثبت الإجزاء في العبادات مع كشف الخلاف أيضا;
ويمكن استفادة الحكم في الأمارات وسائر الاصول العملية منه أيضا. وكذا غير
العبادات إذا انتهى إليها، كالصلاة بعد التطهير بمستصحب الطهارة، ثم علم
بالخلاف، أو قامت حجة على الخلاف ونفى الخلاف على خلاف العمل
بالصحيح في مورده; فلو لم يكن إجماع، كان لنا العمل في العبادات بالمستفاد من
الصحيح مطلقا، وفي غيرها بسائر أدلة الإجزاء في خصوص عدم القطع من موارد
عدم الحكم، فيبقى الإجماع المحكي في «النهاية» صورة القطع بالخلاف في غير
العبادات، وما بقي فيه نفس مورد الفتوى لا أثره على ما مر. ويخرج عنه العبادات
مطلقا والمعاملات مع الحكم مطلقا، وبدونه مع عدم القطع بالخلاف.
فتحصل مما قدمناه: أن الحكم في إجزاء الأمر الظاهري بعد أن كان هو عدم
الإجزاء على الطريقية وقاعدة التخطئة وأصالة الفساد في كثير من الموارد من
العبادات والمعاملات، وما ينتج نتيجة الأصل المذكور من قاعدة الاشتغال في
بعضها، يدور مدار تحقق الحكم في المعاملات المسلم عندهم عدم النقض مع
حكم الحاكم، أو القطع بالخلاف الذي نقل فيه عدم الخلاف في عدم الإجزاء،
ففيه يقع التطابق بين أصل العنوان وخصوص المعنون على تقدير الأخذ بهذا
النقل في مورد الأخذ.
وكذلك إجماع «النهاية» على عدم الإجزاء الذي يمكن رفع اليد عن
عمومه بما دل عليه صحيح «زرارة» في العبادات وما يستفاد منه وما يدل عليه
الهرج والسيرة والحرج ورفع الوثوق بالفتاوى المقتضي للإجزاء في العبادات
والمعاملات، فيبقى له صورة كشف الخلاف بالقطع.
وأما الإجماع المنقول في كلمات من تأخر ممن تقدم عنهم النقل، فإن تم،
402

كان مؤيدا فيما صرنا إليه بسائر الأدلة من الإجزاء، كما تأيدنا بما تقدم من بعضهم
من أن الإجزاء ظاهر المذهب.
{أقربية الإجزاء في غير صورة كشف الخلاف بالقطع}
وبالجملة: فالإجزاء في غير صورة كشف الخلاف بالقطع، في الأمر الظاهري
في العبادات وغيرها، والحكم الظاهري في المعاملات والعقود، هو الأقرب ولو لم
يكن حكم.
والمستند، هو السيرة على ترك الفحص اللازم للواجبات المهمة من
العرض ونحوه، وترك التغييرات الفاحشة، ولزوم الحرج بل الهرج وعدم الوثوق
بالفتاوى; ومنعها خلاف الوجدان.
ومقتضاه: تقييد الحجية بالوقايع الحادثة بعد قيامها مع عموم المضمون.
والظاهر: تمامية ما ذكر في جميع موارد عدم الدليل على أحد الطرفين،
من دون فرق بين الموضوع والحكم; فإن صحيحة «زرارة» تنفي الإعادة
باستصحاب الطهارة من الخبث مع العلم بالخلاف، فلا إعادة مع الظن المعتبر
بالأولوية; كما أن الظاهر الإعادة مع الحجة على الخلاف في الطهارة من الحدث،
لا أن الحجة على موضوع الحكم ينقض بها ما سبق وأن الحجة على الحكم محل
الخلاف.
والمتحصل: أن الفقيه لابد له من ملاحظة مقام الثبوت في الموارد وقد بينا
اختلافها وبعد ذلك يلاحظ مقام الإثبات من بقاء مصب الفتوى وعدمه من تحقق
الحرج، بل الهرج ومن إثبات السيرة القطعية على عدم النقض ومن لزوم الاختلال
والهتك ثم الحكم بمقتضى الملاحظتين.
403

{كشف الخلاف القطعي ينحصر في القطع بمخالفة الواقع أو أعم منه؟}
بقي شيء وهو أن المراد من كشف الخلاف في قبال الحجة على الخلاف،
هل يعم صورة القطع ببطلان الدليل مع احتمال مطابقة المدلول للواقع، أو يختص
بالقطع بمخالفة الحكم للواقع؟
ظاهر تعليلاتهم بعدم الرجحان للظن الثاني على الأول، وعنوانهم لتبدل
الرأي عدم تقوم الحكم بأزيد من كون الأول ظنا اجتهاديا، وعدم كون الثاني قطعا
بالحكم المناقض للحكم الأول أو المضاد له; فالقطع ببطلان الدليلية مع الظن
الاجتهادي بعدم المدلول، ليس كشفا للخلاف، لأن استقرار الرأي على خلاف
الأول لا يكون إلا لخلل في الأول مقارن للعذر في الاستنباط. ولا يختص بالظفر
بالمعارض الأقوى بعد الفحص الكامل، مضافا إلى شمول دليل الإجزاء للفرض،
وعدم شمول دليل عدم الإجزاء سوى الأدلة العامة المبنية على الطريقية والتخطئة،
فليتدبر.
فائدة
لا يخفى أن انكشاف خلاف الظن بالحكم عندهم محكوم بالنقض به،
وادعي عليه الاتفاق، لكن إمكان الإجزاء فيما أتى بالمأمور به لا بحده، بل بما
يقطع بالأمر به ويمكن اشتماله على مصلحة بدلية لا يمكن إنكاره.
وأما مع عدم العلم ففرض الحكم أيضا محكوم عندهم بعدم النقض.
ويمكن المناقشة في عمومه لما إذا كان مدرك الحكم اجتهادا علم بخلافه.
وأما مع عدم العلم والحكم فالاجماعات المدعاة متقابلة، والرجحان
لدعوى الإجزاء الموافق للعسر والحرج بل الهرج; نعم ذلك مع عدم الدليل على
404

أحد الطرفين في المسألة الفقهية.
وأما الاجتهاد المستند إلى الأصل العملي في الشبهات الموضوعية،
فالإجزاء فيها عن الإعادة واضح; ولا يصرف عنه إلا الدليل كما لعله الموجود في
الفرق بين الطهارة من الحدث والخبث في الغسل - بالفتح - بمشكوك الطهارة أو
الوضوء بمشكوك الطهارة والصلاة بعدهما من جهة صحيح «لا تعاد»، على عدم
تأثير الأعذار في الخمس، بناء على العموم للجهل بالحكم جزئيا كان أو كليا، أو
الإلحاق بغيره من الأعذار بالغاء الخصوصية أو بمثل الإجماع لو كان بلا حاكم
عليه في الخمس، فتدبر.
405

الملحقات
= الإجزاء
= تعارض الأحوال
407

الإجزاء
{إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي وعدمه}
وأما الكلام في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقعي فقد يقع
البحث في الأمارات المعتبرة المكشوف خلافها بالقطع، وقد يقع في كشف
خلافها بالظن المعتبر، وقد يقع في الاصول.
{الإجزاء في الأمارات، على مسلك الطريقية}
ومحصل ما ذكر في الأمارات: أن حجيتها إن كان على الطريقية اللازمة
للتخطئة المجمع عليها عندنا، فلابد من عدم الإجزاء، لكشف عدم المصلحة في
غير الواقع حتى تكون قابلة للبدلية عن المصلحة الواقعية; فهي بحالها إلا أنها لم
تكن بمعلولها من التكليف متنجزة، فصارت بعد القطع كذلك، فيجب العمل على
طبقه كان بالإعادة أو القضاء.
ولازم هذا المسلك: عدم إمكان الإجزاء وإن كان بدليل آخر غير دليل الأمر
الظاهري فيما لم يوجب تغييرا في الحكم الواقعي، وإلا لكان أمرا واقعيا آخر.
وأما مسلك الطريقية، فهو الموافق لكون أدلة الاعتبار إمضاء للطريقة
العقلائية، ومن الواضح أنه ليس لاعتبار الطريق الظني عند العقلاء وجه إلا أغلبية
المصادفة للواقع المتمحض في المصالح المفقودة في موارد الخطأ، وملاحظتهم
أنه مع العمل على طبق الأمارة، فما يصيبونه من المصالح، أغلب من الفائت منها،
409

ومع ترك العمل عليها فما يفوتهم من المصالح أغلب مما يصيبونه بخصوص
العلم، فكان الفائت حينئذ الجميع.
والشرع إنما أمضى هذه الطريقة، ولم يخترع شيئا في قبال العرف، ولأجل
رعاية هذا الملاك الثابت لديهم ردع عن القياس، لغلبة الخطأ فيه في الأحكام
التعبدية التي لا علم لنا بالملاكات.
فما يفوت [عن] أهل القياس أكثر مما يصيبهم من المصالح، بعكس خبر
الثقة، ولا طريقة عرفية في الأمور التعبدية على العمل بالقياس، بل لو تم
العمل منهم، لكان في الموضوعات الصرفة التي لا كاشف عنها غير الظن
القياسي.
وعليه: فدعوى اشتمال الأمارة على المصلحة حذرا من التفويت بلا بدل من
الحكيم - كما ترى - لا يناسبه كون الحجية إمضاء لا تأسيسا، ولا أمرا خاصا بموارد
الخطأ; فليس على الشارع رعاية المصلحة في الطريق; كما ليس على العقلاء إلا
رفع اليد عن الفائت بالطريق إذا كان غيره الغالب، والمفروض أنه لولا حجية
الطريق لكان الفائت جميع المصالح إلا ما اصيب بالعلم، وهو النادر جدا.
{بيان لتصوير الإجزاء}
ويمكن أن يقال: إن اشتراك العالم والجاهل ومن قام عنده أمارة على الخلاف
ومن لم تقم عنده، لا يقتضي عدم الإجزاء، لإمكان تقييد موضوع الحكم الواقعي،
بغير من استوفى مصلحة الانقياد المقتضية لجعل الحجية لمطلق الأمارات،
ما كانت مصيبة وما لم تكن في الواقع كذلك، فيكون العمل على طبق الأمارة
واجبا بوجوب ظاهري; لكنه بعد الاستيفاء يكون واقعيا ثانويا تكون مصلحته
410

بدلا عن المصلحة الواقعية.
وأما محض الجهل بالواقع فلا يوجب الإجزاء، بل مع استيفاء المصلحة
في الجعل بالانقياد في ظرف عدم انكشاف الواقع; كما أنه لا ينتهي إلى
وجوب الإعادة مع الانكشاف في الوقت، والقضاء مع الانكشاف في
خارجه.
بل مع قيام الأمارة ما دام غير عامل بها، فالواقع غير واصل، ويكون ذلك
عذرا في مخالفته; وبعد العمل، فالواقع وإن وصل إلا أنه وصل بعد استيفاء
المصلحة البدلية على نحو لا يعقل الجمع بينهما في الحكم الواقعي بالتخيير،
لتقييد أحدهما بالجهل بالواقع ومراعاة استقراره بنحو لا يوجب الإعادة والقضاء
باستيفاء مصلحة المتعلق بالعمل.
ولا ينافي هذا المسلك إلا الإجماع على عدم الإجزاء، لو كان، ولم يكن
مستنده الإجماع على التخطئة الغير المنافية للإجزاء على هذا الوجه، لابتنائها
على الاشتراك في الحكم الواقعي بين العالم والجاهل وهو محفوظ في هذا
المسلك أيضا كما لا يخفى.
واستناد الإجماع إلى التخطئة، هو المفهوم مما حكي (1) عن «المنتهى» (2)
في صلاة الجاهل بحكم الغصب.
والفرق بين المستوفى وغيره، كالفرق في المضطر الذي أخر إلى التمكن
في الوقت مع من بادر وحصل المصلحة البدلية، ولابد من الجمع بين الظاهري
والواقعي بنحو ينتهي إلى الإجزاء مع الاستيفاء بما ذكرناه.

(1) مفتاح الكرامة 2: 199 ط: دار إحياء التراث العربي.
(2) منتهى المطلب ص 241 ط: الحجرية.
411

{دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري}
والحاصل: أن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري مع الالتزام بحكم
مجعول ظاهري شرعا، مما لابد منه على أي تقدير، وهو يحصل بأنه مع
المخالفة، فحيث لا يكونان فعليين معا، فلا منافاة بين الحكمين المجعولين،
وحيث إن الحكم الواقعي المشترك محفوظ على أي حال فلا تصويب، لأنه حيث
لا مطاردة فلا ينتفي أحدهما في موضوعه بثبوت الآخر والفعلية التنجزية دائما
لواحد منهما فقط، والأمر الظاهري في موضوعه الذي هو الشك في الحكم
الواقعي غير زائل.
وانقلاب الموضوع إنما يوجب عدم بقاء هذا الحكم كسائر الأحكام
الواقعية، لا عدم حدوثه، وعدم تأثيره الحدوثي الذي منه تحصل مصلحته البدلية
لو كانت لمن عمل بمقتضاه.
{طرق نفي التصويب}
ونفي التصويب حاصل باشتراك الحكم الواقعي بين العالم والجاهل،
ولا يستلزم ذلك عدم اختصاص الجاهل بحكم، وإلا لبطلت الاصول كلا. وإما
ثبوت الحكم التعبدي الظاهري المولوي، أو أنه ليس فيه إلا الإرشاد إلى أن الواقع
على طبق الحكم المؤدى للطريق، أو أنه طريقي محض، وهو الراجع إلى الثاني
تقريبا، أو أنه كالواقعي في النفسية ولوازمها إلا أن الفرق بما ينتهي إلى عدم الفعلية
معا كما مر، أو أن الأمر حسب عمومه ينحل إلى أوامر عديدة في أخبارات عديدة،
فهو في المصيبة طريقي وفي غيرها نفسي، ولا مانع من استظهار النفسية ولوازمها
فيما يمكن، أعني في غير موارد الإصابة، ولازم ذلك ثبوت المصلحة البدلية التي
إذا استوفيت لزم الإجزاء; فمع الدليل على الإجزاء يحمل الأمر الانحلالي على
412

النفسية، لا مجرد ترجيح الغالب والطريقية القصدية، بل مع عدم الدليل يمكن أن
يدعى فهم العرف للنفسية، أي لما يعمها والطريقية; والوجه هو الحمل على
ظهور الأوامر مطلقا في الانبعاث عن مصلحة في المتعلق، من دون فرق عند
العرف بين اشتمال المتعلق بنفسه على المصلحة، أو بما أنه مرآة للواقع عليها إنما
يعم القسمين كما لا يخفى على ذوي الأفهام العرفية العقلائية، وإن كانت متصفه
في القسم الأول إذا اجتمع مع الآخر وصف البدلية، وهي المصلحة الملازمة
للانقياد في الإيجاب.
والتقرير لطريقة العرف، في قبال الردع أو الاختراع، لا عدم جعل حكم
ناش عن مصلحة غير مصلحة الواقع تكون بدلا عنها عند عدم الإصابة; والجمع
بين اللحاظين أو الحكمين المتغايرين بنحو، لازم - على أي - في استعمال واحد،
وحيث لا ينتهي إلى الجمع في الواحد الحقيقي الشخصي بل النوعي، أمكن دفع
هذا المحذور أيضا.
ونقل الإجماع على عدم الإجزاء في انكشاف الخلاف بالقطع، كما نسب (1)
إلى «كاشف الغطاء» (قدس سره)، لعل منشأ الإجماع المحصل على نفي التصويب.
وقد نقل (2) عن «المنتهى» (3) الاستدلال لما ذكر الإجماع عليه من عدم
صحة صلاة الجاهل بالحكم، أي بحرمة الغصب وبطلانها في المغصوب باستلزام
تقييد الحكم بالعلم للدور وهو المستند في بطلان التصويب المجمع عليه،
فلا يكشف الإجماع عن التعبد المنصوص عليه.
وقد فهم مما مر: أن الردع عن العمل بالقياس، ليس ردعا للطريقة العقلائية،

(1) مطارح الأنظار ص 35.
(2) مفتاح الكرامة 2: 160.
(3) منتهى المطلب ص 229.
413

لعدم استقرارها في الأحكام التعبدية وعدم استقرار عملهم بمطلق الظن في
الموضوعات; وأن ردع طريق العقلاء في شيء من الأمارات المعتبرة لديهم، غير
ثابت; فإن ردع الشارع - كإمضائه - أمر عقلائي غير خارج عن الحكمة قطعا.
{الإجزاء بالنسبة إلى الاصول}
وأما ما يرجع إلى الأمر الظاهري المستفاد من أدلة الاصول، كأصالة الطهارة،
فقد عرفت جريان مقتضى القاعدة في ذلك أيضا، كجريان نقل الإجماع على
عدم الإجزاء مع الكشف القطعي لكنه قد يقال: بأن مقتضى حكومة أدلتها على
أدلة الأحكام الواقعية، هو محكومية موردها بالطهارة شرعا وآثارها التي
منها الشرطية لما يشترط بالطهارة، فلابد من اختيار الإجزاء وإن قلنا بعدمه
في أدلة الامارات، لأن البينة مثلا تخبر عن وجود الطاهر الشرعي، وكذا الخبر
الحاكي عن طهارة شيء بضميمة دليل الأمر بتصديقه في هذه الحكاية; فمع
انكشاف الخلاف قطعا، ينكشف عدم الطهارة التي أخبرها عنها; فيكون العمل
الواقع، فاقدا للشرط واقعا بخلاف دليل الأصل; فإنه يدل على طهارة المشكوك
طهارته الواقعية وعلى أحكام الطهارة; فانكشاف الخلاف يزيل بقاء هذا الحكم
لا انتفائه حدوثا; ففي الحدوث كان العمل واجدا لشرطه الذي هو - بضميمة دليل
اعتبار الدليل على الأصل - أعم من الطهارة الشرطية الثابتة لمشكوك الطهارة
الواقعية; فإنه يترتب على قوله: «المشكوك طاهر» ما يترتب على قوله:
«الحديد طاهر» وإن اختلف الموضوعان بالتقييد بالجهل وعدم التقييد، بل
لا انكشاف للخلاف; فإن عالمية الجاهل ليس فيها كشف الخلاف، بل تبدل
الموضوع.
414

ومحكومية الجاهل بحكم خاص، ليس فيها انكشاف عدم المحكومية به،
بل علم ما لم يعمل من النجاسة الواقعية، لا أنه علم ما علم خلافه، ومقتضى التعبد
بالطهارة ترتب أحكامها التي منها الشرطية، لأن موضوعها الطهارة التعبدية، لا
الواقعية المطلق موضوعها، ولعدم معقولية التعبد إلا مع التعبد بآثاره كما لا يخفى.
ونفس العموم الأصلي ليس في كشف الخلاف، لذا يتمسك به في سائر موارد
الجهل مع هذا العلم الحادث.
{نقل إيراد على ما ذكر والجواب عنه}
وقد يورد على مقتضى الحكومة المذكورة، بأن لازمه ترتب جميع أحكام
الطهارة الواقعية غير الشرطية، كطهارة المغسول به وعدم نجاسة الملاقي له;
فلابد من الالتزام بعدم الانتقاض وعدم وجوب الغسل بعد كشف الخلاف
بالطاهر المعلوم طهارته وعدم وجوب غسل ملاقيه، كما لا تجب إعادة الصلاة
التي صلاها بعد الكشف على ما مر.
ويجاب عنه تارة، بأن الطهارة من الواقعيات التي كشف عنها الشرع،
فلا يترتب على الطهارة المكشوفة بإرشاد الشارع إلا أحكامها، وبعد العلم ينتفي
أحكامها بقاء; فالثابت حدوثا والمنتفي بقاء إنما هو الحكم بجواز الشرب
والاستعمال مثلا، لكن لازم ذلك كون شرطية الطهارة للصلاة في الثوب والبدن
وماء الوضوء كشرطية طهارة المغسول به في طهارة المغسول، والمفروض أن
الشرطية من الأحكام المتعبد بها في مشكوك الطهارة، فإما يلتزم بالنقض على
القاعدة فيهما، أو عدمه فيهما.
واخرى بأن الطهارة، كالملكية لا يمكن اعتبارها واقعا لشخص أو لشيء،
415

واعتبارها أو ضدها لشخص آخر أو لنفس ذلك الشيء، بأن يكون الماء طاهرا
بطهارة اعتبارية ونجسا بنجاسة اعتبارية واقعية، والشيء ملكا «لزيد» اعتبارا واقعا
و «لعمرو» اعتبارا ظاهرا.
ويمكن دفعه بأن مخالفة الحكم الظاهري في هذه الاعتبارات في مثل حكم
الحاكم بعد المنازعة والمرافعة والحكم لمخالف الواقع إذا كان له الحجة، غير
عزيزة.
{دفع الإيراد المذكور ببيان آخر}
ويمكن الدفع بأن المدار في الإجزاء، على تحصيل المصلحة الثابتة في
متعلق الحكم الظاهري الغير اللازم بقائها، كمصلحة الصلاة مع الطاهر ظاهرا،
بخلاف المصلحة اللازم بقاءها في الآثار المتأخرة عن كشف الخلاف، فلا تجب
إعادة الصلاة لحصول مصلحتها وعدم الدليل على لزوم بقائها، ولا يصلى
بالوضوء السابق بالماء الطاهر ظاهرا وإن صحت الصلاة السابقة على كشف
الخلاف، للزوم بقاء اعتبار الطاهرة بما لها من المصلحة في الوضوء، وما يحصل
منه من طهارة النفس فيما يشترط بالطهارة إذا اريد إيجادها بعد الكشف، ولابد
من تطهير الملاقي وإعادة الغسل للآثار المتأخرة عن الكشف، للزوم بقاء مصلحة
الطهارة، لا لما سبق مما وقع من المشروط بها، لعدم الدليل على لزوم بقاءها بعد
حصول غايتها.
وأما مثل الوضوء والغسل فله جهتان ومصلحتان: المصلحة النفسية وهي
حاصلة بالحدوث على طبق الأمارة، ومصلحة الغيرية وهو جواز الدخول بها في
المشروط بها، فإن أتى بالمشروط قبل الكشف فقط، حصلها، وإلا فلابد من
بقائها للدخول في المستقبل، بتمامها; فمع انتقاضها في غير المقام ولو بالحدث
416

الأصغر، لا يجوز الدخول بمجرد الحدوث، وكذا كشف عدم موافقتها للواقع
حين حدوثها.
هذا، ولكن لازم ذلك إعادة الظهر مع صحتها في شيء من شروطها ظاهرا،
لترتب العصر عليها ولزوم بقاء مصلحتها الغيرية على الفرض، وبالانكشاف تنتفي
إلا مع تحليل ذلك إلى ما للغير وما للنفس، فيعيد الأول، للزوم بقاء المصلحة
بإيجاد الشرط واقعا للعصر دون الثاني، لحصول المصلحة النفسية بفعل الظهر
صحيحا في ظرفه، فيكون على نحو تطهير المغسول للعمل المستقبل وتطهير
النجس واقعا، وإن كان حين الصلاة ظاهرا محكوما بالطاهرة.
لكن الأظهر: إتباع الأدلة الخاصة; فإن صحة الظهر في نفسها كافية للعصر في
الجملة، وغير كافية في الجملة، للفرق المنصوص بين الطهارتين، فقد لا ينقض
مع القطع بالخلاف، وقد ينقض في الظاهر مع ظن الخلاف على النحو
المعتبر.
وأما الاستصحاب، فظاهر دليله الحكم ببقاء المتيقن، أي بوجوده في زمان
الشك، لا اليقين المعدوم فيه يقينا، وإنما عبر به للتعليل بالارتكاز، للزوم الإبقاء.
وتعليل الإجزاء في الصحيحة بعدم جواز النقض، يفيد الإجزاء فيما لو عمل
بالوظيفة العقلائية، فيجري في الأمارة المخالفة بالأولوية، لو لم يكن الاستصحاب
منها، فلابد في الخروج عن هذه الكلية من دليل خاص، لا أن الإجزاء يحتاج إلى
دليل، بل وضع التعليل في الصحيحة يرشد إلى أنه الأصل في مخالفة الوظيفة
الظاهرية للواقع فيما كان هناك أمر شرعي ظاهري، لا اعتقادي، كالنسيان للشرط.
فتدبر جيدا.
لكن الإجماع على عدم الإجزاء، أو عدمه فيما علم فيه عدم الإجزاء، لابد
من التأمل فيهما، مع ملاحظة الإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد،
417

أو في وقتين مع الاختلاف بالأداء والقضاء، مع النظر في مخالفة الإجماعين لما
سيأتي.
وقد ظهر: أن مقتضى القاعدة هو الإجزاء وذلك أظهر في مفاد الاصول الذي
هو تعبد ابتدائي بالطهارة مثلا، فليس فيه كشف الخلاف فإعادة الصلاة مع كشف
بطلان الطهور ونحوه، للدليل، لا أن عدمها في الطهارة مع الخبث له في
الاستصحاب، وقد مر بعض الكلام فيه.
{إشارة إلى التفاصيل المربوطة بالمقام}
ثم أنه قد سبق وقوع التفصيل في الإجزاء بين الأمارات والاصول، وقد مر
احتمال لحوق الاستصحاب منها بالأمارات وبالاصول الغير التنزيلية، وأن الإجزاء
في الاصول الغير التنزيلية، هو المتعين، بناء على استفادة التعبد بالطهارة مثلا في
موضوع الشك المستلزم للتعبد بأحكامها التي منها: الشرطية حيث ليس فيها
حينئذ كشف الخلاف، فالطهارة التعبدية مشتركة بين المحمول في دليل الاشتراط
والمحمول في دليل الأصل، ولا اختلاف بينهما إلا في الموضوع من حيث التقييد
بالجهل وعدمه وإنما تلحق بالأمارة لو استفيد منها جعل احتمال الطهارة موجبا
للبناء على واقعيتها، كما أن احتمال تلف النفس أو العرض موجب للبناء على
الواقعية، وإن كان الملاك لهذا الإيجاب اهتمام الشرع للنفس والعرض وتسهيله
على المكلفين أمر الطهارة من الخبث.
وكذا التفصيل بين الأمارة والأصل الدالين على التكليف ومتعلقه، حيث إن
التفصيل المتقدم في المتعلق بحسب الشرط والجزء لا يجري في نفس التكليف،
فليس مع كشف الخلاف أو مع التعبد بالأصل شيء يمكن اشتماله على المصلحة
البدلية، إلا إذا كان المستفاد إيجاب البدل، كالجمعة مع الظهر، لا إيجاب ما يمكن
418

شرعا اجتماعه مع إيجاب واقعي متعلق بغيره.
وكذا التفصيل بين الكشف القطعي والظني، والفارق امور غير مقبولة،
ومنها: احتمال المصادفة للواقع في الثاني، دون الأول، ولزوم الحرج من النقض،
بل الهرج في العبادات والمعاملات، والمؤيد بالإجماع على الإجزاء على ما مر
نقله في الكتاب، وكذا التفصيل بين ما يتعين وقوعه بالفتوى وما لا يتعين كما مر
عن الفصول (1) وتوجيهه وما فيه.
وأما الأمر المكشوف بالقطع، فلا محل للإجزاء فيه، إذ لا محل للمصلحة
البدلية فيه إذا كان في المتعلق، واستفادة ذلك من عموم التعليل في صحيح زارة
في الاستصحاب قابلة للمناقشة، لاتصال التعليل بنفي الحكم فيه في صورة نسيان
النجاسة، فاستفادة العموم لسائر الأعذار لا تخلو عن ضعف.
نعم، في خصوص الصلاة يحكم بالدليل على نفي الإعادة في غير الخمس
بالإجزاء، لا بمقتضى القواعد العامة.

(1) الفصول الغروية ص 409 ط: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام).
419

تعارض الأحوال
{ماهية البحث}
ويمكن جعل مباحث تعارض الأحوال من المبادئ التصديقية للظاهر
بالفعل الذي يترتب على حمل اللفظ عليه النتائج الفقهية; فهي، كالبحث عن
الحقيقة الشرعية; والاختلاف، في البحث عن الظهور الوضعي والظهور الفعلي،
أعني أظهر الأمرين وأقربهما من اللفظ.
كما يمكن جعلها من المسائل الاصولية، فيكون تعارض الظهورين،
كتعارض الخبرين في المدلول الظاهر منهما، ومبنى الجعلين على أن الموضوع
في مسألة حجية الظهور هو الظهور الفعلي للفظ الواحد، أو الظهور الوضعي له،
فيكون من المبادئ على الأول، ومن المسائل على الثاني; والتعارض في مسألة
تعارض الأدلة، بين ظاهر وآخر، لا ظهور لفظ وظهور آخر له، فتدبر.
{ترجيح الاشتراك في دوران الأمر بينه وبين النقل}
[وعلى أي] إذا دار الأمر بين الاشتراك والنقل، أمكن ترجيح الاشتراك، لأنه
مقتضى العمل في الأوضاع على ما كان سابقا، والبناء على عدم زوال العلقة
الحاصلة بالوضع، كما إذا شك في وضع آخر، فالعلم بالوضع الآخر، لا يؤثر ظنا
بالهجر.
ومقتضى الاشتراك وبقاء الوضع الأول: الحمل على الموضوع له بذلك
420

الوضع إذا علم عدم إرادة المعنى الثاني، بخلاف ترجيح النقل أو التوقف. ومن
الواضح عدم احتمال دفعية الأوضاع المتعددة في المشتركات إلا نادرا جدا،
فتعددها على التدريج، خصوصا فيما كان بالتعين لا التعيين، من دون فرق بين
العلم بزمان الاستعمال وعدمه.
{الوضع للمعنى الثاني وأغلبية النقل، لا يمنعان من الاشتراك}
نعم، مع تحقق الهجر والشك في زمانه وزمان الاستعمال، أمكن تعارض
الأصلين فيه وتكافؤ الظنين والاحتمالين، لكن الوضع للمعنى الثاني، سواء كان مع
ملاحظة المناسبة المبتنية على سبق التجوز فيما كان بالتعين، أو بلا ملاحظة
المناسبة مع المعنى الأول، أو بلحاظ عدم المناسبة له حتى يكون من المرتجل،
لا يلازم النقل المتوقف على الهجر; فرفع اليد عن المعنى الأول بمجرد ثبوت
الوضع للثاني، أمر لا يصار إليه فيما لا يعلم بالهجر.
وأغلبية النقل من الاشتراك - لو سلمت - لا تعارض الظن الحاصل منها على
الحاصل من بقاء الأوضاع على ما كانت، مع إمكان دعوى غلبة الاشتراك بالنسبة
إلى النقل المتوقف على الهجر.
{مقتضى الأصل في المقام والجواب به عن إيراد}
إن قلت: التوقف عن الحمل على المعنى الثاني، عدول أو توقف عن
المعلوم بسبب أمر غير معلوم.
قلت: لا محل للحمل على الثاني، للعلم بعدم إرادته بالفرض; وإنما التوقف،
في مقتضى النقل، وهو عدم الحمل على المعنى الأول; فإن حيثية الوضع الثاني
421

غير حيثية النقل المتوقف على الهجر، حتى أن الناقل وضعه غير نقله، والمعلوم
هو الأول; وأما الثاني، فمقتضى الأصل في الحوادث المحتملة المعمول به في
الأوضاع المبقاة على الحالة السابقة، عدمه، لأنه يحتاج إلى أمر وجودي، أو عدم
بقاء أمر وجودي، ومقتضى الأصل فيهما العمل على السابق.
إن قلت: لا مدرك لهذا الأصل من استصحاب أو غيره، لعدم إمكان إثبات
الظهور بالاستصحاب، مع أن الحمل على المعين أو المردد موقوف على الظهور،
والعمل بأصالة عدم القرينة ليس من العمل بالاستصحاب، بل من العمل بأصالة
الحقيقة، ولو كان منشأها الشك في وجود القرينة.
قلت: هذا يجري في الشك في الوضع للثاني، كان هناك شك في الهجر
للأول أو لا; وعلى أي، يتوقف عن الحمل على الأول، مع أنه لا ينبغي التردد في
عملهم على الحالة السابقة; ولعله، من جهة أنه من الظنون التي لا ترفع اليد عنها إلا
بأقوى منها، لا من جهة التعبد ببقاء الحالة السابقة شرعا.
وأما احتمال التعبد من العقلاء في العمل بأصالة الحقيقة فهو وإن كان معه
يثبت الفارق بين الموردين، للعلم بالحقيقة في أحدهما والشك في بقائها في
الآخر، إلا أن المحتمل خلاف الصواب، كما لعله يأتي بيانه في محله.
{وضوح العمل على الوضع السابق إلا مع أمارة أقوى}
وكيف كان، فلا ارتياب في العمل على الوضع السابق بما له من الأثر
المترتب على الاشتراك في المقام، ولا فرق في عملهم بين الشك في الهجر مع
القطع بالوضع للثاني، كما هنا، وبين احتمال عدم إرادة الأول مع عدم القطع
بالوضع الثاني، والجامع بقاء الأوضاع السابقة على ما كانت عليه إلا مع أمارة أقوى
422

من الظن الاستصحابي الضعيف بالإضافة إلى الظنون الخارجية في الجملة; فكما
لا يؤثر وضع لفظ آخر لهذا المعنى في هجر الأول عنه، فكذا وضع هذا اللفظ
لمعنى آخر على اليقين أو الاحتمال، لا يؤثر فيه; فليس فيه إلا احتمال النقل
والهجر، و [في] مثله قد عرفت العمل من العقلاء على الوضع السابق.
{دعويان ودفعهما}
ودعوى غلبة النقل وأنها ترجحه، مدفوعة بأن الغالب فيما تعدد فيه الوضع
هو الاشتراك التدريجي الملازم لعدم النقل، لا النقل الملازم للهجر; مع أن العمل
المستمر في اللغات لا يرفع اليد عنها بسبب الغلبة الثابتة مع ثبوت هذا العمل.
ودعوى عدم إحراز العمل في خصوص الشك في النقل، مدفوعة بعدم لزوم
إحراز العمل في كل فرد فرد من موارد الشك، وإنما العبرة بالمرتكز في الأذهان
من عدم تأثير الشك في العمل على طبق الوضع السابق ولو كان مؤثرا في التوقف
كما هنا.
وأما المعهود من حمل ألفاظ العبادات في لسان الشارع وتابعيه، على
المعاني الشرعية الثابتة على المختار من ثبوت الحقيقة الشرعية، فليس لترجيح
النقل على الاشتراك، بل لقيام القرينة على إرادتها، كعدم مناسبة الأحكام في تلك
الخطابات للمعاني اللغوية، وكون المتخاطبين من المتشرعة إن سلمت قرينية
الأخير، ولذا وقع التردد فيما لا قرينة فيه، كما في إطلاق الصلاة على الصلاة على
الميت المستلزم لاعتبار ما يعتبر في الصلاة فيها شرطا ومانعا على تقدير الحمل
وعدمه على تقدير العدم.
فتلخص: أن الراجح هو الاشتراك وترتيب آثاره على النقل، وأما تمثيل
423

العنوان بمثل «الطواف في البيت صلاة» فيمكن المناقشة فيه بظهور أن المراد منه
هو الصلاة بمعناه الشرعي لعدم مناسبتها باللغوي كما لا يخفى.
ولا يخفى: أن المدار في هذه المسألة، على احتمال الهجر، وأنه يحكم معه
بعدم الهجر، وإن كان لازم عدمه مختلفا بحسب الصور، كما أن لازم الهجر
مختلف بحسبها، وقد يعلم بالوضع الثاني، وقد يعلم بعدم إرادة المعنى الثاني،
ولا أثر لاحتمال النقل بما هو.
فصل
{في تقدم أصالة الحقيقة على جميع الاحتمالات في فرض الدوران}
لا إشكال في تقدم أصالة الحقيقة على سائر الاحتمالات من التجوز
والاستخدام والإضمار والنقل والاشتراك والتخصيص والتقييد مع الدوران بين
الحقيقة الثانية، وغيرها من هذه الاحتمالات; كما لا إشكال في أن مقتضى الأصل
العقلائي عدم الوضع الثاني بعد الأول أو معه، فيحمل اللفظ على المعلوم دون
غيره، كما لا يحمل على الغير لو لم يكن معلوم، حتى لو كان مدرك أصالة الحقيقة
أصالة الظهور; فإنه معلوم والصارف مجهول محكوم بالعدم، كان قرينة المجاز أو
قرينة تعيين الغير اللازمة في تقدير الغير، بل يحكم بعدم الغير، فلا محل للقرينة
عليه; فإن غير المعلوم لا ترفع اليد به عن المعلوم.
كما لا إشكال ولا خلاف في العمل على أصالة الحقيقة مع عدم نصب
القرينة، لأن احتمال الخلاف يتردد أمره بين طرق احتمالية، كلها مدفوعة - فيما لم
يحصل العلم العادي بإرادة الحقيقة، ولو بملاحظة ما يقابل إرادة الحقيقة - باصول
عقلائية متخذة من عمل العقلاء في محاوراتهم، فلا يعدل عن الظن المعلول
للوضع باحتمال السهو والغفلة وعدم البيان وعدم الحكمة ونحوها; ومع الشك
424

في القرينة لا يعتنون باحتمالها، سواء احتمل وجودها متصلة أو منفصلة، ظن
بالخلاف بأمارة غير معتبرة، أو لم يظن.
{جهة الأخذ بأصالة الحقيقة في فرض احتمال القرينة}
وهل هو من باب كون القرينة كاشفة عن الخلاف أقوى من
الكاشف عن الموضوع له، فمع الشك لا وصول للكاشف الأقوى بحيث يحتج
به من له الاحتجاج به من العبد أو المولى، فلا مانع عن الاحتجاج بغير
الأقوى الواصل يقينا، كسائر موارد احتمال المعارض; أو من باب تعبد
العقلاء بعدم الحادث عند الشك، أو خصوص هذا الشك، أو بالظن
الاستصحابي؟
يمكن ترجيح الأول; ومرجعه إلى أن الكاشف المعتبر في نفسه، لا يعدل
عنه إلى الاحتمال وبسببه وإلى ظن غير معتبر وبسببه، وإنما يعدل عنه إلى الأقوى;
واحتمال الأقوى لا يكون كاشفا عن الأقوى يقينا ولا يوجب خللا في كشف غير
الأقوى ولا في اعتباره، كما يشهد به عمل العقلاء، بل احتمال نصب القرينة الغير
الواصلة كاحتمال موجبات السهو عن نصب القرينة، لا موصلية لنفس الاحتمال
فيهما، ولا مانعية له عن الواصل موضوعا ولا حكما.
وبالجملة: عدم نصب القرينة على الخلاف كثبوت قصد المعنى
والإفادة والبيان وعدم السهو والغفلة وعدم الانحراف عن الحكمة ونقض
الغرض، من الامور الوجودية أو العدمية الملازمة للجري على قانون الوضع
الأولي للحقيقة، ومما يتوقف عليها الحمل على الحقيقة المستقر عليه
العقلاء.
425

{الشك في القرينة، لا يوجب الشك في الكاشف}
واحتمال أن الكاشف هو المقرون بعدم القرينة، فمع الشك في القرينة يشك
في الكاشف، غير سديد; فإن الكشف، لمكان الوضع; ومن المعلوم عدم دخالة
عدم القرينة في الكشف الحاصل بنفس الوضع، وإنما يمنع عن الجري على
الوضع كشف القرينة عن الخلاف مع كونها أولى بالكشف وصالحة للقرينية، كما
هو المفروض; فاحتمالها احتمال المعارض لا احتمال عدم الكاشف.
وأما احتمال عدم الكشف الفعلي وإن علم الشأني، فيجري في جميع موارد
المعارضة، ومع الشك في الفعلية من جهة الشك في وجود المانع عنها المحكوم
بعدمه، يتم الحكم بفعلية المعلوم من الشأني.
{جريان أصالة الحقيقة في الشك في قرينية الموجود}
ومنه يظهر جريان أصالة الحقيقة في الشك في قرينية الموجود، لأنه مع
تحير العرف في المراد، فلا كاشفية عن المجاز قطعا; ومع عدم الكاشفية عند
العرف، فلا اعتماد للمتكلم عليه قطعا; ومع إرادة المجاز، فالاعتماد على غير
الكاشف مخالف للحكمة; فان أراد الحقيقة فهو المطلوب، وإن أراد التوقف
والتحير، فليس في مقام البيان والأصل ينفيه; ومع انتفاء المجاز بلا اعتماد أو مع
الاعتماد على غير المعتمد عند العقلاء وانتفاء الاجمال، يتعين إرادة الحقيقة،
فتدبر.
{النسبة بين أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة}
وهل يرجع أصالة الحقيقة إلى أصالة عدم القرينة المشكوكة، كما عليه
426

«الشيخ» (قدس سره)، أو أن الأمر بالعكس، كما في «حاشية الرسائل» «للمحقق
الخراساني» (قدس سره)، أو يختلف الأمر بحسب مواقع الاحتجاج، كما في حاشية
شيخنا (قدس سره) على «الكفاية»؟ وجوه مذكورة بأدلتها في المواضع المشار إليها، وحيث
إن كلام «الشيخ» (قدس سره)، في ما إذا قطع بإرادة الحقيقة لولا القرينة، لا مطلقا، فالوجه
الثالث بحسب النتيجة متحد مع ما ذكره «الشيخ» (قدس سره).
{تفصيل بين الاحتمال الصرف والمستظهر من اللفظ}
ويمكن أن يقال: إن احتمال القرينة، إن كان احتمالا للتكليف، أو بالحيثية التي
هي متكفلة لاحتماله، فلا حاجة إلى أصالة عدم القرينة، بل يكفي عدم تنجز
التكليف المحتمل بعد الفحص، والأصل عملي عقلي ونقلي، لا لفظي ظني أو
تعبدي من العقلاء.
وأما إن كان احتمالها احتمال الانصراف عن التكليف المستظهر من اللفظ
فالاحتجاج بأصالة عدم القرينة، من المولى، لا العبد.
ومرجعه، إلى أنه ليس للعبد العدول عن الظاهر استنادا إلى احتمال القرينة
على خلاف الظاهر; ومرجع ذلك، إلى أن العمل، على أصالة الحقيقة ويحتج بها
المولى على العبد، كما يحتج بها العبد المطيع.
واحتجاج المولى، لمكان أنه لا تنحصر حجية أصالة الحقيقة على موارد
العلم، ولو جاز الاعتذار باحتمال القرينة لزم إلغاء الأصل المذكور وانحصار
الجريان بصورة العلم بإرادة الظاهر، وهو مقطوع بخلافه; ففيما كان نصب للقرينة
واقعا، لا احتجاج من المولى، لأنه ليس من العبد إلا التجري; وفيما لم يكن نصب
واقعي صح الاحتجاج بالأصل المذكور وأنه لا معدل عنه إلا بالظفر بالقرينة بما
427

هي قرينة; فالواصل إليه الظاهر، لا يجوز له العدول عنه عند العقلاء إلا إذا تفحص
وظفر بالقرينة، وإلا فهو غير آمن من العقوبة، لاحتمال عدم نصب القرينة واقعا
بحيث لو تفحص لم يظفر بشيء; ومع العدم واقعا، تتعين إرادة الحقيقة واقعا
واللفظ كاشف معتبر عنها، والأقوى منها غير واصل، واحتماله أو احتمال وصوله
لا أثر له، لانتهائه إلى إلغاء الأصل المذكور وحصره بصورة العلم.
{تفصيل آخر}
ويمكن أن يقال: مع الشك في وجود القرينة المنضمة للتكليف، فالتكليف
منفي ظاهرا بنفس عدم وصوله; والأصل حينئذ عملي لا لفظي، ولا حاجة فيه إلى
المرخص إلا لدفع المعارض مع أقوائية المرخص، أو لدفع التساقط مع عدم
القوة.
وأصالة عدم القرينة، من باب عدم تأثير الاحتمال في الإخلال بما هو
الواصل، وإلا لأثر في إثبات نفس المحتمل; فلو سلم أصالة عدم القرينة ولم
يحتمل الخلاف في المرخص إلا من طريق احتمال القرينة، فلا مجرى لأصالة
الحقيقة، وإذا احتمل خلافه من جهة اخرى فتجري أصالة الحقيقة لدفع احتمال
السهو أو غيره مع القطع بعدم نصب القرينة، مع إمكان إجراء أصالة عدم القرينة
هنا أيضا، لأعميتها من صورة القطع بعدم النصب واحتمال النصب الغير الواصل
وأن عدم الوصول يعم الصورتين، فيستغنى بها عن أصالة الحقيقة، لكنه ضعيف،
كما لا مجرى لأصالة الحقيقة مع القطع بعدم الصوارف الاخر.
وأما مع ترخيصية القرينة المحتملة فيمكن إجراء أصالة الحقيقة، لأن العمل
عليها لا يصرف عنه; فالاحتمال غير مؤثر في إثبات المحتمل ولا في إسقاط
428

الظهور، وتكون أصالة عدم القرينة حينئذ، راجعة إلى عدم ثبوت المجهول بمجرد
الاحتمال; فلا يترتب أثر الوجود من إثبات أو نفي للمقابل، فيمكن الاستغناء بكل
عن الآخر.
وبالجملة: فلابد من النظر في مجرى كل منهما في نفسه، فإن كان هناك
إشكال لا ينشأ أحدهما من الآخر أو ينشأ منه ولا إمارة مثبتة للوازم، جرى كل من
الأصلين، وإلا فالجاري الأصل في الشك السببي خاصة.
ومما قدمناه ظهر: أن مراد «الشيخ» (قدس سره) مرجعية أصالة عدم القرينة فيما لولاها
لقطع بإرادة الحقيقة، لا مطلقا حتى مع بقاء الشك والاحتياج إلى أصالة الحقيقة;
فيمكن في صورة القطع بعدم القرينة مع الشك في إرادة الحقيقة لأجل احتمال
مصلحة في إخفائها كما كان في صدر الإسلام على ما قيل، أن يستند إلى خصوص
أصالة الحقيقة، إذ لا محل لأصالة عدم القرينة.
{تتميم المقال بتبيين بناء العقلاء على الأخذ بالظهور}
وتتميم المقال في المقام: أن بناء العقلاء على العمل بالظواهر، من باب
عملهم بالكاشف عن المراد; وأن اتباعهم للقرينة، من باب عملهم عند اختلاف
الكشفين على أقواهما، لما في الأقوى من الجهة المختصة والكشف الخاص،
بخلاف غيره الكاشف بالجهة المشتركة; فعليه، عملهم بالظهور الذاتي بالوضع أو
الفعلي بالقرينة عند احتمال القرينة، لمكان عملهم بالمكشوف في قبال غير
المكشوف.
وعملهم بالظهور عند القطع بعدم القرينة واحتمالهم لدواعي اخر، كالسهو
وعدم القصد، وحكمة اخرى للإخفاء، من باب عملهم بالمنكشف بالظهور الذي
429

ليس الانكشاف فيه تاما، بل ناقصا مقرونا باحتمال إرادة الخلاف، بأي منشأ كان
هذا الاحتمال; فإن اتباع كشف الظن الحاصل من الظهور مرجعه إلى إلغاء احتمال
الخلاف مطلقا إذا لم يصل إلى حد الكشف; فاحتمال إرادة الخلاف - كان باحتمال
الكاشف عنها أو باحتمالها مع عدم الكاشف عنها - ملغى عندهم عملا، يعني أن
عملهم على طبق الكشف الظني الخاص دائما، لا يصرف عنه إلا الكشف الواصل
المماثل عن إرادة الخلاف، لا مجرد احتمال الخلاف ولو مع احتمال القرينة أو مع
القطع بعدمها وواقعية مقتضاها احتمالا.
وهذا الذي ذكرناه يجري فيما كان الظهور تكليفيا والقرينة مرخصة، أو كان
الظهور ترخيصا والقرينة تكليفية.
والإسناد إلى عدم وصول التكليف بالاحتمال وعدم ثبوت المحتمل بمجرد
الاحتمال، إسناد إلى الأصل العملي العقلي، لا إلى الدليل اللفظي المثبت لضد مفاد
القرينة المحتملة أو الواقعية، ولو مع عدم النصب يقينا مع عدم العلم بها، وهذا
الدليل يعارض الدليل الأضعف منه ويتقدم عليه، بخلاف الأصل الغير الجاري مع
الدليل الاجتهادي.
فتلخص: أن المرجع، أصالة الظهور مطلقا من باب عمل العقلاء بالكشف
الناقص الخاص الذي لا يكون إلا مع عدم الاعتناء عملا بسائر الاحتمالات
المتقدم إليها الإشارة، فتدبر في مغايرة هذا الطريق لما تقدم نقله عن الأعلام (قدس سرهم)
دليلا، وإن كان بحسب النتيجة موافقا لما في «حاشية الرسائل».
{الشك في القرينية}
وأما صورة الشك في القرينية، فإن كان بحيث يعلم تحير العرف في المراد
بما يحتمل قرينيته، فلا يصح الاعتماد عليه في إرادة المجاز، ولا يزيد ذلك
430

والظفر به على احتمال إرادة الخلاف واقعا، ولا يسوغ العدول عن الظاهر بهذا
الكاشف الذي لا يعتبر في متعلقه في نفسه فضلا عن أن يكون أقوى مما هو
المعتبر في نفسه.
وأما مع احتمال ترجيح العرف لأحد الاحتمالين بحيث يحتمل الوصول
إلى ترجيحهم، فهو من احتمال القرينة الواصلة، ولا يسوغ قبل الفحص واليأس
العمل بما يخالف الاحتياط; فلابد من العمل بأصالة الحقيقة إن كانت مع التكليف
أو الفحص المنتهي إلى ترجيح احتمال عدم إرادة التكليف، لترجيح احتمال عدم
التكليف في المشكوك قرينيته على عدم التكليف.
وأما بالنسبة إلى احتمال التكليف غير التكليف الظاهر فيه اللفظ، فلا يمكن
مخالفته إلا بعد الفحص، والمفروض كون الاحتمال بنحو يرجع إلى احتمال
ترجيح العرف لاحتمال التكليف أيضا; ففي هذا الفرض لابد من الفحص إلى
اليأس عن الظفر بالتكليف، أو إلى ترجيح العرف لاحتمال القرينة على عدم إرادة
التكليف من الظاهر فيه فينتفي الاحتمال الآخر المتعلق أحيانا بالتكليف، أو يختار
الاحتياط قبل الفحص بالنسبة إلى احتمال التكليف الآخر الذي له نحو مغايرة مع
التكليف الظاهر من اللفظ، فقبل الفحص المنتهي إلى استعلام ما عليه العرف، لابد من الاحتياط بالعمل بالتكليف الظاهر فيه اللفظ، والتكليف المحتمل من
المشكوك قرينيته إذا احتمل فيه تكليف آخر أو بآخر غير ما هو الظاهر من اللفظ
الآخر، فتدبر.
{تفرقة بين الاحتمال البدوي وغيره}
ويمكن أن يقال: بأنه إذا علم قرينية شيء لأحد الظاهرين بنحو الاتصال أو
الانفصال، يعامل مع كل منهما معاملة المحتمل للعلم بالحجة على استعلام الوضع
431

في أحدهما، فليس كالاحتمال البدوي الذي لا يكشف الاحتمال عن محتمله،
ولا يصح الاعتماد على ما نتيجته مجرد الاحتمال في الصرف عن الوضع; ففي
الحقيقة لا يحتمل فيه القرينية من الملتفت إلى الخصوصيات العرفية. والظن
الشخصي - فضلا عن الاحتمال - لا عبرة به في الظهورات.
واحتمال فقد شيء كان دخيلا في القرينية أو فقد موجود كان عدمه دخيلا
في القرينية، مرجعهما إلى احتمال وجود القرينة بما هي كافية في الصرف عن
الظهور الوضعي، وعليه فمجرد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ينتهي إلى
الفعلية تارة، وإلى فعلية عدم القرينة اخرى، لا إلى التردد في الحكم والعمل على
طبق الظهور الوضعي أو العرفي الحاصل للكلام في أجزائه المعلومة، وهذا فيما
لم يمكن تعيين القرينية أو عدمها بخصوصيات في الموارد بضميمة مقدمات
الحكمة وصون الكلام عن اللغوية. ومنه يظهر خروج المقام عن موارد سريان
الاحتمال من مثل القيد إلى المقيد.
ثم إنك تعرف - مما قدمناه على حسب ما ذكرناه في العنوان - عدم الفرق
بين كون المحتمل قرينة منفصلة أو متصلة; ومجرد فعلية الظهور في الأول
لا يفرق بعد توقف الفعلية من جميع الجهات - أي بالنسبة إلى نوع الكاشف
لا شخصه - على عدم المنفصل فيما يقع الاعتماد كثيرا على المنفصل أيضا، وعلى
هذا جرى الشارع المقدس في بياناته عن الواقعيات.
{طريق الشارع المقدس في بياناته لا يفترق عن الاصول العقلائية}
وقد عرفت أن اعتماد المتكلم الحكيم في إرادة المجاز على ما لا يبين
المراد - لعدم وصوله - كإرادته له مع عدم نصبه رأسا، أو عدم كونه في مقام البيان;
بل الإجمال والإهمال والإيقاع في التحير أو الاحتياط العملي أو عدم إرادته
432

للموضوع له ولا غيره، كلها مخالفة لقانون الحكمة، مدفوعة بالاصول العقلائية.
فاحتمال القرينة المتصلة مع الفحص عنها واليأس، مدفوع بأصالة الحقيقة
المستقر عليها العمل مع احتمال الخلاف الذي لا حجية عليه في نفسه، فضلا عن
أقوائيته عن الحجة الواصلة على المراد; فلا يبقى إلا ما هو الراجح من إرادة
الموضوع له، الكافي في تبيينه اللفظ الموضوع.
وقد مر أنه بذلك يرتفع الإجمال العرضي الحاصل بسبب الاحتفاف بما
يحتمل قرينيته أحيانا على التفصيل المتقدم.
{المتحصل مما سبق}
فتحصل: أن حجية أصالة الحقيقة مع الفحص، عامة للصورتين; ومرجعه
إلى أن احتمال عدم التكليف باحتمال وجود القرينة على عدم إرادته، مما لا يصح
الاعتذار به من العبد المخالف للتكليف الموضوع له اللفظ; فالأصل حجة من
المولى عليه، كما أن العبد، له الحجة مع عدم وصول قرينة التكليف بالدليل على
الترخص; وأن المنفصل كالمتصل في صورتي القطع والاحتمال في الإضرار
بالأصل وعدمه، والله العالم; وأنه ليس من ترجيح أحد الاحتمالين من العقلاء
على الآخر جزافا، بل لمرجح ذاتي وضعي وكاشفية نوعية، فالأصل أمارة معتبرة،
لا تعبد من العقلاء، فلاحظ.
فصل
{في دوران الأمر بين الإضمار والمجاز}
إذا دار الأمر بين الإضمار والمجاز، فالتوقف - لتساوي الاحتمالين بلا
ترجيح - هو الأقرب المحكي عن «التهذيب».
433

وغلبة المجاز بالنسبة إلى إضمار ما يعلم تقديره، ممنوعة ولو سلم الترجيح
بالغلبة; كما أن أصالة الحقيقة لا تجري مع العلم بالمراد وأنه نفس الحقيقة، أو
مجاز مع القرينة الموجودة، بل في صورة العلم بعدم القرينة أو الشك في وجودها
وعدم العلم العادي بالمراد، بل مع الشك في قرينية الموجود في قسم منه، يرجع
إلى عدم صلاحية القرينة للاعتماد عليه، لعدم تبينها عند العرف مع مخالفة
مقتضاها للحقيقة على أحد وجهيها كما مر، لا مثل المقام مما لا مخالفة، أو
المخالفة معلومة مرددة بين الحقيقة وبين الاستناد إلى قرينة صالحة موجودة
معلوم القرينية لولا الطرف الآخر، فتدبر.
{ترجيح الإضمار في الدوران بينه وبين النقل والاشتراك}
وإذا دار الأمر بين الإضمار والنقل، أمكن تقديم الأول لأصالة عدم النقل
وبقاء الوضع السابق، فيثبت الإضمار.
والظاهر غلبة الإضمار بالنسبة المرجحة له على أحد الوجهين، وأما مع
العلم بالنقل ودوران الأمر بين إرادة المنقول إليه والإضمار المستلزم للتجوز،
فالتقديم واضح.
وإذا دار الأمر بين الإضمار والاشتراك أمكن أيضا، ترجيح الإضمار بأصالة
عدم تعدد الوضع وبقاء الوضع السابق المعين لأثره، وهو الإضمار للأمارية،
فتثبت إرادة الحقيقة السابقة عدم الحقيقة المشكوكة، ويترتب عليه لازمه من
الإضمار، كما في الاصول الجارية في الألفاظ من الكشف عن المراد، وكون المراد
من اللفظ ذلك المعنى السابق لا غيره وإن احتمل الوضع لذلك الغير من دون تعبد
عملي من العقلاء بلا ملاك على شيء أو بملاك غير الكشفية.
هذا كله مع عدم أمارة أقوى من الأصل المذكور تثبت أحد الطرفين
434

أو تنفيه، وإلا فتجري ويترتب عليه لازمه، كما إذا ثبت الوضع المشكوك بأمارة، أو
عدمه بأمارة على العدم، والله العالم.
فصل
{في دوران الأمر بين التخصيص والتجوز}
إذا دار الأمر بين التخصيص والتجوز، فالمنسوب إلى جماعة تقديم الأول،
بل قد يستظهر اتفاق أصحابنا عليه قبل «المعالم».
ويمكن تقريبه: بأن أصالة الحقيقة تصلح للبيانية الرافعة لأصالة العموم
بمقدماتها بلا عكس، لأن حجية أصالة العموم تعليقية، بخلاف أصالة الحقيقة;
فإنها حجة وإنما يرجع عنها بكاشف وأصل أقوى منها; واحتمال القرينية لا
يوجب انكشاف القرينية، فضلا عن أقوائيتها عن الحجة على إرادة الحقيقة.
ويمكن تقريبه: بأن مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان، محققة للظهور في
العموم; فتكون أصالة الحقيقة دافعة للظهور في العموم، بخلاف القرينة; فإنها
رافعة للظهور المحقق أو لحكمه، حتى أن المتصل منها رافعة للظهور الوضعي
وإن كانت فعلية الظهور على طبقها; فإذا تعارض الدفع والرفع قدم الأول، لأن
الشك في أحدهما في الانعقاد، وفي الآخر في الحجية لأجل احتمال المعارض
الأقوى، ولا يرفع اليد بالاحتمال عن البيان، كما لا يثبت الظهور بالاحتمال; فإن
التام في نفسه لا يزاحمه غير التام في نفسه إلا بعدمه، أي بعدم الحجة في نفسه،
لا الحجة، حتى بملاحظة العام، لأن كل صالح للبيانية في نفسه، يدفع الظهور
العمومي، ولا يناط بالأقوائية من العام، وليس موردا لملاحظة الأقوائية، كما
لا يعارضه بتمامية أحدهما في نفسه بلا مانع، وتمامية الآخر في نفسه غير تامة;
435

فإذا لم يكن تاما في نفسه، لم يصلح للمانعية عن التام في نفسه; فأحدهما حجة
في نفسه بلا معارض يكون حجة في نفسه وذاك غير حجة في نفسه، لا أنه ساقط
بالمعارضة.
ويؤيد ذلك ما اشتهر من أنه ما من عام إلا وقد خص; فإنه يكشف عن
رجحان التخصيص بالغلبة على المجاز مع كثرته أيضا.
ثم إنه إذا بلغ التخصيص حد الاستهجان بالكثرة أو غيرها، قدم عليه المجاز
للزوم إلغاء العموم بالتخصيص ولا كذلك التجوز الموجب لاستحسان الكلام،
وإذا كان أحد التصرفين ملغيا للدليل دون الآخر قدم ما لا يلزم منه إلغاء دليل بل
عدم لغويته رأسا عقلا دليل على التصرف الغير الملغى له.
فصل
{في تعارض التخصيص والإضمار}
إذا تعارض التخصيص والإضمار - كما في «أكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا
العالم» - فإنه يخرج من التخصيص إلى التخصص لو قدر والد «زيد»
أمكن ترجيح التخصيص، لأن أصالة العموم متوقفة على عدم البيان المتوقف
على الإضمار المتوقف حيث لا قرينة عليه إلا أصالة العموم عليها،
فيدور.
وبالجملة: فهو صالح للبيانية ولا يخرج عنها إلا بالإضمار الذي لا قرينة
عليه ولا شاهد له إلا أصالة العموم، فيتوقف ثبوتها على نفسها.
ويمكن الترجيح بتقدم التخصيص على المجاز المساوي على ما اخترناه
للإضمار، ويزيد وضوحا لو قيل بتقدم المجاز على الإضمار أيضا.
436

والاستدلال بأغلبية التخصيص من الإضمار ممنوع - كما قدمنا - فيما كان
الإضمار مع القرينة. ولو بلغ التخصيص حد الاستهجان قدم عليه الإضمار لما
قدمناه في دليلين يلزم من التصرف إلغاء أحدهما بخلاف التصرف الغير الملغى،
فإنه المتعين.
فصل
{في دوران الأمر بين التخصيص والاشتراك}
إذا دار الأمر بين التخصيص والاشتراك - كما في ألفاظ العموم الدائر فيها
الأمر بين الوضع لكل من العموم والخصوص، فلا تخصيص; وبين الوضع
لخصوص العموم فاللازم التخصيص - ترجح التخصيص، كما عن «التهذيب»، لأن
الاشتراك منفي بالأصل ويكفي فيه عدم العلم بالوضع وعلائمه، كان هناك
تخصيص أو لم يكن، والتخصيص يدور أمر دليله بين القرينية على التعيين لأحد
المعنيين أو التخصيص، ومجرد ذلك لا يثبت الاشتراك، كما لا يوجب التوقف
باحتماله; ولا فرق في ثبوت التخصيص بين العلم بوحدة المعنى أو عدم ثبوت
التعدد; وقد يحتمل إثبات أصالة عدم تعدد الوضع للتخصيص، ولا يخلو عن
تأمل.
وقد يستدل بأولوية التخصيص من المجاز الذي خير من الاشتراك أو مساو
له على القولين، لا على الثالث الذي هو أولوية الاشتراك من المجاز; فإنه حينئذ
يحتمل مساواة الاشتراك للتخصيص وسيأتي - إن شاء الله - ما في الاستدلال، في
محله.
وإذا بلغ التخصيص حد الاستهجان، فالظاهر وقوع المعارضة بين الدليلين
437

لا ثبوت الاشتراك، إلا إذا ثبتت كثرة الاستعمالات المخصصة إلى ذلك الحد
المنافية للوضع لخصوص العموم، وإلا فمجرد إمكان الجمع بين الدليلين
بارتكاب الاشتراك لا يصار إليه مع عدم الشاهد، بل الأصل ينفي الاشتراك
المحتمل; فتقع المعارضة بين دليلين لا شاهد للجمع بينهما عرفا إلا كثرة
الاستعمالات الكذائية وقد استثنينا صورتها من المعارضة.
فصل
{في دوران الأمر بين التخصيص والنقل}
إذا دار الأمر بين التخصيص والنقل - كما إذا دار أمر أدلة شروط البيع وموانعه
الشرعية بين النقل له إلى معنى شرعي - فاللازم التخصص فيما خرج وعدمه لبقائه
على المعنى العرفي فاللازم التخصيص - ترجح التخصيص، كما حكى عن
«التهذيب». ولعله لشيوعه وأغلبيته من المجاز الذي هو أولى بالغلبة من النقل.
مع أنه يمكن أن يقال: إن أصالة العموم لا تجري مع العلم بحكم شيء والشك
في الفردية للعام.
ووجهه: أنها لا تدل على أن ما ليس محكوما بالحكم العمومي ليس من
افراده، بعكس النقيض; وذلك، لأن هذا الأصل ثابت بمقدمات الحكمة التي منها
عدم البيان، ويكفي في البيان على تقدير الفردية ما دل على عدم الحكم للشيء،
فبعد ثبوت عدم الحكم كما يصح الكلام من الحكيم مع الفردية، يصح مع عدم
الفردية، ولا يجزم من صحته بأحدهما; فليست أصالة العموم، كالأمارات المثبتة
للوازم الغير المنوطة بشيء من المقدمات في أماريتها أو اعتبارها، بخلاف أصالة
عدم النقل; فإنها تنفي الوضع الثاني وإذا بلغ التخصيص حد الاستهجان ترجح
438

النقل لتعين الجائز في نفسه غير دوران الأمر بينه وبين ما لا يجوز في نفسه،
والظاهر: أن التقييد، في حكم التخصيص في المقام والله العالم.
فصل
{في دوران الأمر بين المجاز والاشتراك}
إذا دار الأمر بين المجاز والاشتراك - كصيغة الأمر حيث إنه على الاشتراك
وعدم القرينة على غير الوجوب، يتوقف فيه على الاشتراك، بخلاف ما إذا كان
مجازا في الندب، فيحمل على الحقيقة مع عدم القرينة على المجاز، فالمنسوب
إلى الأكثر تقديم المجاز.
ولعله، من جهة أغلبية المجاز، لأن كل مشترك فله مجاز، لعموم العلائق ولا
عكس; ولأن الأصل ينفي الوضع المشكوك الذي لا دليل عليه، والعلاقة الحاصلة
المعلومة كافية في صحة التجوز; فما يتوقف عليه المجاز، حاصل معلوم، وما
يتوقف عليه الاشتراك، مشكوك منفي بالأصل.
واشتراك المضارع، بين الأزمنة، والحروف، بين المعاني التي تستعمل هي
فيها، غير ثابت; وعلى تقديره، فيرد عليه ما قدمناه في الغلبة، وعلى تقدير عدم
الغلبة أو غلبة العكس فيها، فالكلام في مواقع الشك في غير هذه المذكورات.
{بيان لمنع الاشتراك في الكلمات}
وأما اشتراك الأسماء، بل الحروف والأفعال أيضا، بين اللفظ والمعنى،
فقابل للمنع، بأن استعمال اللفظ في نفسه - شخصا أو نوعا - ليس من المجاز
ولا من الاشتراك; فإن انتفاء الوضع معلوم فيها، ولا يلزم من عدم المجاز ثبوت
439

الوضع، لعدم انحصار صحة الاستعمال فيهما.
وأما نفي المجاز، فليس لانتفاء العلاقة، لأنها ثابتة، لحصول أقوى الارتباط
والعلاقة بين اللفظ والمعنى، إلا أن لازم التجوز المتوقف على سبق الوضع عدم
صحة مثل «ديز مهمل»، لعدم الوضع لغير اللفظ مع صحته قطعا; فالمصحح هو
حسن الاستعمال الذي يشهد به الذوق السليم; بل لا يبعد أن يكون المصحح
للتجوز كلا هو صحة الاستعمال مع وجود العلائق المعهودة وأمثالها وما فوقها من
الارتباطات والمتعلقات، وإن سموها بالوضع النوعي، لبداهة عدم الوضع التعييني
من شخص لنوع ما يشابه المعنى، وإنما جرت عادة العقلاء في محاوراتهم - بأي
لغة - على التجوزات مع العلاقات المصححة بالوجدان; وإن اريد الوضع
التخصصي، فذلك بسبب الملاك العقلائي، تنبه له العقلاء في جميع اللغات،
لا بأس به.
هذا، والإنصاف أن اشتراك الحروف بين المعاني المتعددة وكذا الفعل
المضارع، غير منكر، لكن الأخير يحتمل فيه الاشتراك المعنوي بين الزمانين، لكن
المفيد هو غلبة الاشتراك مع العلاقة بين المعنيين، وهو غير مسلم، وإنما المسلم
كثرة الاشتراك بين المعاني المتباينة; فاللفظ بالنسبة إلى ما يتعلق بالموضوع له
بعلاقة مصححة للتجوز، لا نسلم كثرة الاشتراك وغلبته على عدم الوضع المستلزم
للمجازية، بل يمكن دعوى غلبة عدم الاشتراك للفظ بين المعاني المتناسبة
بالعلائق، بل لا مقتضى للوضع مع وجود العلاقة المصححة للاستعمال فيما إذا
كان الوضع الأول المعلوم معلوم السابقية على المحتمل.
{الغلبة لا تصحح الوضع الأول}
والغلبة الخاصة بالمبحوث عنه - أعني المعاني المتناسبة - مقدمة في
440

الترجيح على الغلبة العامة في مطلق الكلمات.
وأما أنه لا مقتضى ثبوتا للوضع، فلمكان أنه لا بحث مع القرينة على
أحدهما، ولا مع القرينة على عدم إرادة الموضوع له يقينا على أي تقدير، فلا
فائدة لهذا الوضع إلا التوقف مع عدم القرينة رأسا، والوضع لهذه الفائدة كما ترى،
والوضع المحتمل سبقه على المتيقن كذلك بقاء، وإن لم يكن كذلك حدوثا،
فتدبر.
مع أنه لو سلمت غلبة مرجحة، فاللازم، الالتزام بالوضع الثاني بمجرد
الاحتمال، لكونه مع عدم الوضع ملحقا بالنادر بالإضافة، فلا يلزم علائم الحقيقة،
ولا يمنع علائم المجازية، وهو كما ترى.
ومع عدم انكشاف الوضع بعلائمه التي منها عدم صحة السلب
ولا المجازية بمثل صحة السلب، فاللازم التوقف ونفي الوضع بالأصل، لا الحكم
به لمكان هذه الغلبة، مع أنه يستلزم التوقف فيما للفظ معنى حقيقي،
وآخر متعلق بالأول، يدور الأمر فيه بين المجازية والحقيقية، ولم تقم قرينة
على أحدهما، فيعدل عن الجزم في الحمل على الحقيقة بمجرد عدم القرينة
عليه ولا على المجاز، لمجرد احتمال الاشتراك الذي هو أغلب من المجاز الذي
لا قرينة عليه بعنوان قرينة المجاز أو قرينة المشترك، كما لا قرينة على
المعنى الحقيقي; مع أن المعلوم هو الحمل على الحقيقة مع عدم القرينة
على الخلاف فيما لم يثبت فيه الاشتراك بالأمارات، لأنه يلزم من التوقف فيه
سد باب أصالة الحقيقة، لاحتمال الوضع بلا أمارة، غير هذه الغلبة المدعاة
في المعنى المناسب للحقيقة، فينحصر مجرى الأصل المذكور فيما لم
يحتمل الوضع للمعنى المناسب لأمارة على عدم الحقيقة، كصحة السلب
ونحوها.
441

فصل
{في دوران الأمر بين النسخ وغيره}
إذا دار الأمر بين النسخ وواحد من الإضمار والمجاز والنقل، قيل بتقدم غير
النسخ عليه، لندرة النسخ وكثرة غيره بالإضافة، فيرجح بالكثرة التي استظهر
اجماع الاصوليين على الترجيح بها، في «المفاتيح».
ويمكن أن يقال: إن عدم النسخ ثابت بالعموم الزماني، فيثبت بأصالة الإطلاق
لازمه من الإضمار أو المجاز أو النقل.
نعم، لو كان مدرك عدم النسخ استصحاب الحكم لم يكن مثبتا لشيء، بل
كان معارضا بأصالة عدم النقل في الصورة الأخيرة.
إلا أن يقال: إن الظاهر موافقة الإثبات للثبوت، ولازمه عدم الحذف فيما لو
حذف لكان المحذوف معلوما بالقرينة، وإلا لكان الحذف غير محتمل، فيحتج
بهذا الظهور على عدم الإضمار، والفرض ثبوت الثمرة له وهو تعين النسخ هنا،
فيثبت بالظهور في عدم الحذف ثبوت النسخ المعلوم بالإجمال لا العكس.
كما يمكن إثبات عدم المجاز بأصالة الحقيقة المحتملة لاحتمال النسخ،
فيثبت بها عدم المجاز، ولازمه - بحسب العلم الإجمالي - تحقق النسخ، وكذا
يثبت بأصالة الحقيقة في الوضع المعلوم عدم الهجر والنقل; فيثبت به النسخ
اللازم لعدم النقل بالعلم الإجمالي; فاللوازم تثبت في ذلك كله بما في الاصول
المذكورة من الأمارية.
ويمكن أن يقال: إن الاصول المذكورة المثبتة بالالتزام للنسخ، لا تكافئ أصالة
العموم الزماني في الحكم المحتمل نسخه حتى يخرج بها عنها، واللازم أقوائية
442

الناسخ عن ما دل على المنسوخ حتى يكون محكما عليه، وليس ما ذكرنا من
الاصول المستلزمة للنسخ - بحسب لازم المدلول - بهذه القوة اللازمة.
ويؤيده بعد النسخ في أذهان المتشرعة بالإضافة إلى رفع اليد عن هذه
الاصول ولوازمها، ولعل فيه بنفسه كفاية.
فصل
{في دوران الأمر بين التخصيص والمجاز الراجح}
إذا دار الأمر بين التخصيص والمجاز الراجح، يمكن أن يقال: بأنه إذا قيل
بالتوقف في دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز الراجح، فهنا يمكن الترجيح بأصالة
العموم، بناء على اشتراطها بعدم العلم بالمخصص; ولو اشترط العلم بعدم
المخصص، لم يترجح، فيقع الإجمال ويرجع إلى الاصول الاخر العملية.
وإن قيل في تلك المسألة بتقديم المجاز عمل بالعموم، لعدم الدوران، إذ
لا معارض لأصالة العموم; وإن قيل بتقديم الحقيقة المرجوحة، أمكن تقوية
المجازية هنا بأصالة العموم. وهذا الوجه يمكن أن يكون إليه نظر صاحب
«المفاتيح» (قدس سره).
ويمكن أن يقال: إن المجاز الراجح إن بلغ حد الوضع التخصصي حتى صار
مستغنيا عن القرينة، فهو مساو للحقيقة الأصلية الأولية والتوقف مع عدم القرينة
على التعيين متعين فيه.
ولازم التوقف، العمل بالعموم هنا، لعدم الحجة على التخصيص بإرادة
الحقيقة الأصلية الأولية، فتكون أصالة العموم كالقرينة على تعيين الحقيقة
الثانوية، وإن لم يبلغ تلك المرتبة فهو مرجوح، ومقتضى أصالة الحقيقة تعين
443

التخصيص، فيكون من موارد دوران الأمر بينه وبين المجاز، وقد تقدم تقدم
التخصيص فيه.
وأما مع المساواة المتقدمة، فيكون من إجمال الدليل مفهوما بين ما يوجب
التخصيص وما لا يوجبه، وحيث لا يكون المجمل حجة على أحد المتباينين
بالخصوص، وأصالة العموم حجة فيما لا حجة فيه على الخلاف، تعين العمل
بالعام، فيحكم فيما ورد «لا يجب إكرام العلماء» و «أكرم زيدا العالم» - في تقدير
المساواة المفروضة - بعدم وجوب إكرام زيد، وإن لم يترتب حكم مختص
بالندب لو كان. وهذا الوجه المقتضي للتفصيل أظهر.
فصل
{في دوران الأمر بين النقل والمجاز أو الإضمار}
إذا دار الأمر بين النقل وواحد من المجاز والإضمار، يمكن تقديم غير النقل
عليه، لندرة النقل بالإضافة. وقد مر وجه الترجيح بالغلبة; ولعلها ملاك أقوائية
أصالة عدم النقل على الأصل في الأمرين بحسب الارتكاز.
ويؤيده تقدم المجاز والإضمار على الاشتراك الراجح على النقل، على ما
تقدم في الدوران بينهما.
فصل
{في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص}
إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص - كما إذا سبق «أكرم زيدا العالم»، وبعد
وقت العمل به، قال المولى: «لا يجب إكرام العلماء»، فهل يرجح واحد من عموم
444

الخاص أزمانا، أو عموم العام أفرادا على الأخر أو لا؟
وجه ترجيح الأول غلبة التخصيص على النسخ، ويمكن منعها فيما يقدم
الخاص وقتا وعملا، حتى أنا لا نذكر موردا قطع فيه بالتخصيص بالمتقدم
الكذائي، كما لا يقطع بتسلم النسخ في الصورة; ومما يشهد بعدم الرجحان عدم
أحوجية ما لو أراد من العام «حتى زيد» إلى البيان مما لو أراد منه «إلا زيد».
إلا أن يقال: إن تساوي احتمالي الأمرين في الصورة الخاصة وكذلك تساويهما
في الاحتياج إلى البيان لولا تأثير الغلبة العامة في الترجيح، لا يمنع من الرجوع إلى
غلبة مطلق التخصيص بالنسبة إلى مطلق النسخ والترجيح بها، ويؤيده بعد النسخ
رأسا عن أذهان المتشرعة في كل واقعة بعدا لا يبلغه الظهور للعموم في عدم
التخصيص، فكان في طرف عدم النسخ ظهور مترجح بالبعد الخارجي، بخلاف
الظهور في عدم التخصيص.
ثم إنه على فرض التوقف هنا لعدم الترجيح، فالمعارضة هنا كالمعارضة في
العامين من وجه، لتكافؤ الظهورين، فيكونان كالنصين المتباينين، فإن قيل فيها
بالرجوع إلى المرجحات الصدورية إن كانت [فهو]، وإلا فالتخيير، فكذا يلتزم به
في المقام ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي، أعني استصحاب حكم الخاص،
فإنه في ظرف عدم الحجة على الحكم تعيينا ولا تخييرا.
ثم إن الظاهر أن التقييد كالتخصيص عند الدوران بينه وبين النسخ
والتخصيص بالمستهجن كالتقييد به مما يستلزم إلغاء الدليل، فالظاهر أن النسخ
يتقدم عليهما عند الدوران.
ولو دار الأمر - بسبب، كالعلم إجمالا بحجية أحد الدليلين وعدم حجية الآخر
أحدهما ناسخ للعام، والآخر ناسخ له، فالنتيجة مع دليل التخصيص - بين نسخ
445

دليل أو تخصيصه وما في حكمه من التقييد غير المستهجن منهما، تقدم الأصل في
النسخ، لمعلومية حكم الخاص، فلا يحتاج إلى أصالة العموم فيه، لمخالفته لحكم
العام على أي تقدير; فلا معارض لأصالة عدم النسخ، لانحلال العلم الإجمالي
بسبب العلم بحكم الخاص، فيجري الاستصحاب في الطرف الآخر، بل الإطلاق
الزماني المقتضي لعدم النسخ أيضا، لعدم المعارض.
فصل
{في دوران الأمر بين التخصيص وأبعد المجازات}
إذا دار الأمر بين ارتكاب التخصيص وأبعد المجازات، أمكن أن يقال: إنه
كالدوران بينه وبين المجاز.
وذلك، لأن تقدم الأقرب على الأبعد، يقتضي أن يكون نسبته إليه كنسبة
المجاز إلى الحقيقة; فلذا إذا علم عدم إرادة الحقيقة تعين الحمل على الأقرب،
وتكون أقربيته بمنزلة القرينة على تعيينه من بين المجازات، بخلاف المجازات
المتساوية العرضية بالنسبة إلى الحقيقة; وإذا كان نسبته إلى الأقرب نسبة المجاز
إلى الحقيقة، جرى فيه ما تقدم في الدوران بينهما من كون أغلبية التخصيص
موجبة لترجيحه على التجوز.
بل يمكن أن يقال: بجريان الوجه المتقدم في ترجيح التخصيص على المجاز
هنا، وإن كان متقوما بأصالة الحقيقة الغير الجارية هنا، للعلم بالمجازية على أي
تقدير ووقوع الشك بين الأقرب والأبعد.
وذلك، لأنه بعد قيام القرينة على عدم إرادة الحقيقة، كان التحفظ على
حقيقة القرينة بلا بيان بالحمل على الأقرب، كما أن نفس عدم بيان المجاز يوجب
446

الحمل على الحقيقة، فالحمل على غير الأقرب يتوقف على الصارف عن
الأقرب، كما أن الحمل على المجاز يتوقف على الصارف عن الحقيقة; فالأصل
العقلائي في الأقرب موجود، كما في الحقيقة، والصارف عنه بيان الأبعد، كبيان
المجاز في قبال الحقيقة.
وهذا الأصل العقلائي - كأصالة الحقيقة - صالح للبيانية الرافعة لمقدمات
الحكمة في العام، فيتقدم التخصيص على ما يخالف هذا الأصل من الحمل على
أبعد المجازات.
هذا فيما لم يكن المجاز الأبعد من قبيل سبك المجاز من المجاز، وإلا
فنفس أصالة الحقيقة بالمعنى إلى المعنى الحقيقي للقرينة اللفظية لو كانت، أو
للفظ منضما إليها، جارية وبها تنحل المقدمات المحققة للعموم، فتدبر.
فصل
{في إمكان الترجيح بالغلبة وأمثالها وعدمه}
هل يجوز الترجيح بين الأحوال المتعارضة في الألفاظ بالغلبة وغيرها من
الظنون التي لم يقم على اعتبارها دليل خاص في الترجيح بها أو لا؟
يمكن أن يقال: إنه إذا رجع الظن الحاصل من الغلبة أو غيرها إلى أقوائية أحد
الكاشفين الظنيين عن المراد في جهة الكشف عنه، فالترجيح بها ثابت عند العقلاء
مقرر في الترجيح في سائر الأمارات المتعارضة شرعا، كما يستفاد من قوله (عليه السلام):
«المجمع عليه لا ريب فيه» المستفاد منه: أن الأقل ريبا، يقدم على الأكثر ريبا.
مع أن الأصل في المتعارضين لو كان هو التخيير، فأنما هو مع عدم المرجح
في جهة الحجية وملاكها وهي الكشف عن الواقع، وإلا فالراجح من المتخالفين
447

أولى بشمول دليل الحجية ويمنعه عن التناول للضعيف أولوية تعيينية; وعلى
ذلك، عمل العقلاء فيما كان مدرك الحجية عملهم، بل هو الأصل، لأن الحجية
الشرعية تقريرية إمضائية.
وإن كان هو التوقف، فالظاهر أنه في الحكم بالتعيين، لا في تعين الأخذ
بأحدهما. والتعارض بحسب دليل الحجية في التعيين، لا يقتضي إلغائها غير
متعين; فإن التعيين مستفاد من الإطلاق المفقود في صورة المعارضة، لتكافؤ
المقدمات في المتعارضين، ولازم انتفاء المقدمات، عدم شيء من الإطلاقين،
لا ثبوتهما المقتضي لتساقط الأمارتين عن الحجية، ولازم ثبوت الحجية
وعدم ثبوت التعيين هو الثبوت بلا تعين وهو التخيير العقلي، فتدبر; فإنه
كما يجري في المتعارضين من أمارتين مختلفتين سنخا، يجري في فردين
متخالفين من أمارة واحدة. ولازمه التخيير، ولذا لا شبهة في نفي الثالث مع أن
التساقط بالمرة لازمه، الرجوع إلى ثالث لو كان، أو إلى الأصل المطابق أو
المخالف.
والتخيير إنما هو مع عدم المرجح في جهة الحجية وإلا فهو صالح للمنع
عن الشمول لفردية بحسب بناء العقلاء والمتلقي من الشرع; وعليه فالترجيح مع
وجود المرجح، والتخيير مع عدمه، متيقن على التقادير.
ومما ذكرنا ظهر: أن الترجيح بالغلبة، ترجيح بالمرجح الداخلي الموجب
لأقوائية أحد المتعارضين، لا الخارجي الموجب لقوة المضمون، ومطابقته ظنا مع
الواقع حيث لا يعول عليه في الترجيح بناء على الاقتصار في الترجيح على
المرجحات الداخلية، وإن كان قابلا للمنع بحسب بناء العقلاء المقرر بمثل
الكلية المنبه عليها في مثل قوله (عليه السلام): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» أي أقل ريبا من
غيره.
448

{ليس لازم الترجيح بالغلبة، إسقاط أصالة العموم}
إن قلت: لازم الترجيح بالغلبة صحة أماريتها وتمامية ما قيل من أنها مدرك
الاصول العدمية، ولازمه، سقوط أصالة العموم بغلبة التخصيص; قلت: لا ملازمة
بين المرجحية والمرجعية بحسب ملاك الاعتبار، واستناد مطلق الاصول العدمية
إلى الغلبة يمكن منعه; وأما غلبة التخصيص، فلا تسقط أصالة العموم، لعدم
الحجية الصالحة للبيانية بسببها إلا في تخصيص واحد يلزم من عدمه لحوق العام
بالنادر، وذلك لا يفيد في الأغلب، والذي ينتفع به بسبب غلبة التخصيص هو أنه
مع الدوران بين التخصيص وشئ آخر، فغلبة التخصيص بالإضافة إلى ذلك الأمر
الآخر، توجب رجحان التخصيص عليه، وأين هذا من سقوط أصالة العموم
بالمرة؟ وإلا فغلبة التخصيص يكفي في المحافظة عليها تخصيص ما، ولا تثبت
كل تخصيص مشكوك، بل يدفعه المقدمات المتقومة بعدم بيانه، ولا تكفي الغلبة
بيانا مع تردده بين أطراف غير محصورة في الأغلب، كما هو ظاهر.
{المناط في الأخذ، الأظهرية وأقوائية الظن}
وأما ادعاء تنقيح الظهور العرفي في مثل المجاز المشهور أو الغالب إذا
لم يمكن الحمل على الحقيقة بسبب الغلبة، كما يشهد به عمل العقلاء; فإن رجع
إلى الأظهرية - موضوعا وحكما - بسبب الغلبة، فهو مقبول، ومورده المعارضة;
وإن اريد كفاية الغلبة في تحقق الظهور الذي هو حجة شأنية فقابل للمنع; فإن
لازمه أمارية الغلبة للواقع وحجيتها في إثباته، ولازمها حجية كل ظن بتلك
المرتبة، ولازمها حجية الشهرة القائمة على أحد الاحتمالين، لأن الظن الحاصل
منها أقوى من الحاصل من الغلبة، والمفروض في الترجيح عدم كون المرجح
449

حجة في نفسه; بل الشهرة على الترجيح لو لم يكن موجبا لأقوائية أحد الظنين
المتعارضين المعتبرين من الآخر وأقوائية الظن بمطابقة أحدهما للواقع، فهي من
المرجحات الخارجية الغير المعتبرة في الترجيح، لكن الأول كاف للمطلوب في
المقام من الترجيح بالغلبة، كما لا يخفى.
ومما قدمناه ظهر: عدم الفرق بين الدوران في مثل أصالة عدم التخصيص
وأصالة عدم الإضمار ومثل أصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل بعد فرض
حجية هذه الاصول وفرض أماريتها في المؤدى للواقع; فإن الغلبة - كانت
للتخصيص في الأول، أو الاشتراك في الثاني بالنسبة إلى الطرف الآخر - توجب
الأقوائية الكافية في الترجيح، كانت بالأظهرية أو برجحان كونه مرآتا لمعنيين على
كونه مرآة لمعنى واحد منقول إليه; فالتفصيل - كما في «البدائع» - لا يناسبه ما بنينا
عليه في مدرك الترجيح بالغلبة، والله العالم.
تكميل
{مقتضى الأخذ ببناء العقلاء، اعتبار الظن الشخصي أو النوعي؟}
تقدم: أنه يمكن الاستدلال على مرجحية الظن بأحد المتعارضين، بعمل
العقلاء على ترجيح أقوى الظنين، كانا في الألفاظ أو غيرها مما يستند إليه في
العمل; وأن هذا العمل مقرر شرعا بما يستفاد من مثل قوله (عليه السلام): «إن المجمع عليه
لا ريب فيه»، وهو أن الأقل ريبا مقدم على الأكثر ريبا واحتمالا; فهل يعتبر في الظن
الذي يرجح به أن يكون نوعيا لا شخصيا، فإن الظن الشخصي لا يعتبر في مقام
الحجية ولا يعتنى بالظن الفعلي بالخلاف مع وجود الظن النوعي المعتبر، فكذا لا
يرفع اليد به عن مقتضى الظن النوعي في الطرف المقابل وإن كان مقتضاه التوقف،
كما في صورة التكافؤ المحقق، بل لابد وأن يكون النوعي متعلقا بنفس اللفظ وفي
450

داخل ما يظن بسببه بالمراد، لا خارجيا مسببا عن قيام أمارة غير معتبرة، كالشهرة
المفيدة للظن بمطابقة أحد الظنين المتعارضين للواقع.
ويمكن أن يقال: إن الترجيح إذا كان مأخوذا من عمل العقلاء وتقرير الشارع،
فلابد من رعاية مورد عملهم; فلو كان الظن المتقوي بالمرجح مما لو عرض على
العقلاء لرجحوه على المعارض وكان عموم دليل التقرير والإمضاء يشمله، فلابد
من اتباعه في الترجيح ولو كان المرجح ظنا بمطابقة أحد الدليلين للواقع حاصلا
من مثل الشهرة والاستقراء أو الجهات الاعتبارية الراجعة إلى المصالح والمفاسد
المقررة في نظر الشرع في أمثال مورد المعارضة إذا لم ترجع إلى القياس، بناء
على استفادة المنع عن إعماله مطلقا في الدين ولو في الترجيح; فإن عمل العقلاء
في الترجيح مع عدم الردع، كاف في المرجحية; وإذا كان بحيث لو عرض عليهم
لم يعتنوا في الترجيح، فلا يعول عليه، ولعل ذلك ينحصر في الأسباب الخاصة
الموجبة لتخيل الرجحان بسبب خصوصيات بين المتكلم والمخاطب أو غيرهما
مما لا يؤمن فيه [عن] الغلط والانحراف عن الصواب.
وعلى هذا: فالظن الشخصي - كالظن النوعي المستفاد من الخارج بصحة
المضمون - بحكم الظن النوعي المستفاد من داخل الدليل بسبب الغلبة ونحوها
مما يرتبط بالمقام.
وأما عدم اعتبار الظن الشخصي بالوفاق وعدم إضرار الظن بالخلاف في
سائر الأمارات، فلعله لمكان كونه مما لا يؤثر في عمل العقلاء فعلا وتركا، فلو كان
مما يؤثر أمكن الالتزام فيه بالتأثير، ولذا يجبر ويكسر بالشهرة مع كونها غير حجة
في نفسها، لمكان تأثيرها في عمل العقلاء فعلا وتركا، فليتدبر. وقد تقدم عدم
الملازمة بين مقام المرجعية والمرجحية، فيمكن أن يلتزم في إحداهما بما لا يلتزم
بمثله في الاخرى.
451

فصل
{في تعارض اللغة والعرف العام}
إذا تعارض اللغة والعرف العام، فإن علم بتأخر الثاني عن الاستعمال، فلا
مجال للتوقف بسبب المعنى العرفي، بل يحمل على اللغوي; وإن علم بالنقل إلى
العرفي حين الاستعمال، حمل عليه.
والوجه فيهما، لزوم الحمل على المعنى الثابت حين الاستعمال وحيث
يتحد في ذلك الزمان تعين كونه هو المراد; وإن شك في التقدم والتأخر، فمقتضى
الأصل، بقاء اللغوي وعدم النقل حين الاستعمال; وإثبات الأصل حينئذ كإثباته في
الشك في أصل النقل دون تأخره، بخلاف أصالة عدم الاستعمال إلى حين تحقق
النقل; فإن ترتب إرادة العرفي بالاستعمال أو التوقف بسببه عقلي محض، مع أن
الغالب معلومية زمان الاستعمال في الجملة.
وقد قربنا: جريان الأصل في مجهول التاريخ مع الاختلاف دون معلوم
التاريخ، فيستصحب عدم النقل إلى زمان العلم بالاستعمال، لا عدم الاستعمال إلى
زمان النقل واقعا.
نعم، قد يقال بأقوائية الظن بثبوت العرف حين الاستعمالات الشرعية ولو
من ناحية بعد التأخر عنها واشتهار تقديم العرف في صورة الشك بين العلماء
وكون الظن معولا عليه في الألفاظ، فإن تم، كان مقدما على الأصل المتقدم ولو
وضع في العرف لمعنى وكان مقتضى الوضع النوعي معنى آخر لم يعلم استعماله
فيه، كالضارب إذا وضع في العرف لمعنى آخر، فالظاهر عدم اشتراط الاستعمال
في أحكام الوضع والحقيقة، كان الوضع شخصيا أو نوعيا، فيجري فيه الأقسام
الثلاثة في الوضع الشخصي والحكم كما مر فيها.
452

{تعارض العرف واللغة مع عدم العلم بالنقل}
وإذا تعارض العرف واللغة ولم يعلم النقل ولا عدمه، فإن علم الحال في زمان
استعمال الشارع من عدم ثبوت العرفي أو ثبوته حينئذ، عمل عليه; وإن لم يعلم،
أمكن ترجيح اللغة، لتأخر أكثر الكتب اللغوية تدوينا عن استعمالات الشارع، فهم
يحكون عن عرف ثابت حين تلك الاستعمالات، فلو كان معنى آخر من العرف
بلا نقل أو معه في عصرهم وما تقدم على عصرهم كان عليهم بيانه، مع أنه لا أثر
فيما ذكر للمعنى العرفي السابق المهجور حين استعمال الشارع.
ويؤيده ما افيد مما يرجع إلى أن مخالفة عصر الحكاية عن عصر
الاستعمالات الشرعية، تستلزم النقل المشكوك المخالف للأصل، إلا أن الأصل
يرفع حكم النقل من الحمل على خصوص العرفي المنقول منه فرضا ولا يرفع
حكم الاشتراك مع معارضته بأصالة عدم النقل إلى اللغوي، فلا يحمل على
خصوص اللغوي، ولا أصل ينفي التعدد حين الاستعمال; ولو جرى، ينفي حكم
التعدد وهو التوقف، لا تعين أحدهما، وإنما ينتفي بعدم الطريق ظاهرا إلى
التعيين، فليتأمل.
كما أن الإلحاق بالأغلب من عدم هجر اللغة، يجامع التوقف بسبب
الاشتراك وإنما ينفي حكم النقل وهجر اللغوي.
نعم، احتمال مقارنة الاستعمال للعرفي المهجور قبل تدوين اللغة لا يدفعه
تأخر التدوين غالبا وإنما يدفعه أصالة عدم النقل مع فرض عدم احتمال الاشتراك
حين الاستعمال، كما يدفعه قرب زمان اللغويين وأساتيدهم لزمان الاستعمالات
الشرعية وبعد عدم إطلاعهم على المعاني المتداولة في تلك الأعصار جدا.
وثبوت المعنى في عصر آخر عند العرف لا يثبت النقل ولا الثبوت حين
453

الاستعمالات، فلا يعين الحمل على العرفي، كما لا يوجب التوقف في صورة
الاشتراك، وإن كتب اللغة ناظرة إلى الاستعمالات الشرعية وبيان مرادات الشارع;
فترك البيان يكشف عن انتفاء العرفي حين تلك الاستعمالات، بل فيما تقدم على
عصر تدوينهم; فالظاهر أن ما عن «الشهيد» (قدس سره) في بعض كتبه من تقديم العرف،
في الفرض، غير سليم عن الوجه القريب الذي قدمناه وفاقا في النتيجة لما عن
«السيد بحر العلوم» (قدس سره).
وإذا كان للفظ حقيقة عرفية عامة وعرفية خاصة، حمل على عرف المتكلم;
فإن لم يعلم عرفه، فالظاهر أنه كالمشترك بلا قرينة التعيين، ومثله الكلام في
العرفيتين الخاصتين أو العامتين.
فصل
{في اختلاف عرف المتكلم والمخاطب}
إذا اختلف في معنى اللفظ عرف المتكلم والمخاطب، فإن علما بالتغاير
ويعلم كل منهما للتغاير ولم تكن قرينة خارجية من حال أو مقال، تعين إرادة أحد
الأمرين.
فهل يكون كون المتكلم يعبر عما في ضميره في مفهوم اللفظ وناطقا بلغته،
قرينة على إرادة المعنى المعروف لدى المتكلم، أولى من كون قيامه مقام الإفهام
الغير الحاصل إلا بالتكلم بلغة المخاطب على إرادة ما عند المخاطب في مفهوم
اللفظ أو العكس، أو يتوقف فيه، لعدم فهم الأولوية بناء على اشتراك اللفظ حينئذ
بين المعنيين والقرينة المذكورة للتعيين لا للتجوز، وإلا فلا يصار إلى المجاز مع
احتمال الحقيقة; وعدم العلم بالقرينية، لعدم الأولوية، بل عدمها عقلا حينئذ؟
454

احتمالات: حكي الأول عن «السيد المرتضى» (قدس سره)، والثاني عن «العلامة» و «الشهيد
الثاني» (قدس سرهما) وإلى الثالث ذهب صاحب «المدارك» و «المفاتيح» (قدس سرهما).
ويمكن ترجيح الثاني بأن المتكلم أولى بعلاج المغايرة المعلومة لديهما،
وأما جعل المخاطب صدور اللفظ عن المتكلم قرينة على إرادة عرف المتكلم،
فإنما يسلم صحته في المتكلم العادي الغير العالم بالمغايرة، ومع علمه بها فعليه
علاجها بنصب القرينة، أو ما يغني المخاطب عن التأمل في القرينة.
إلا أن يقال: علم المتكلم بعلم المخاطب بالمغايرة، يجعله كالمتكلم العادي
الذي ينطق بلغته، أي يحمل ما صدر منه على لغته، فليتأمل; فإن لم تثبت أولوية
القرينية في أحد الأمرين، لزم التوقف في الحمل، كما عليه صاحبا «المدارك»
و «المفاتيح».
وإن شك في المغايرة أو في علمهما بها أو بعلمهما بها، فيمكن التوقف،
لعدم العلم بالاتحاد الموجب على الحمل على الواحد المتفق فيه العرفان بناء على
التوقف في المغايرة المعلومة.
{ترجيح الحمل على عرف المتكلم}
والأظهر هو الحمل على عرف المتكلم إلا مع العلم بالمغايرة وعلمهما بها
وبالعلم بها، وأن احتمال المغايرة الموجبة للتوقف لا يوجب التوقف وإلا لسقط
التمسك بالخطابات مع الجهل بعرف المخاطب.
ودعوى غلبة الموافقة لكون التخاطب مع أهل الشرع ممنوعة، بل الغالب
اختلاف طبقات السائلين وبلادهم وعرفهم في الألفاظ التي لها عرفان مختلفان،
بل يكفي عدم غلبة الاتحاد كما يشهد به ملاحظة تعدد تلاميذ الإمام الصادق (عليه السلام)
455

إلى حيث تنتهي إلى أربعة آلاف أو أزيد، وندرة الموافقين فيهم له عرفا في تلك
الألفاظ بالنسبة إلى غيرهم.
ولو جهل المخاطبان بالتغاير، فاللازم الحمل على عرف المتكلم; ولو كان
أحدهما جاهلا بالتغاير، فإن كان الجاهل، المتكلم; فكذلك يحمل على عرفه;
وان كان الجاهل، المخاطب، حمل على عرف المخاطب فيما علم المتكلم بجهل
المخاطب وإلا لكان مهملا أو موقعا في خلاف الواقع.
456