الكتاب: منتهى الدراية
المؤلف: السيد محمد جعفر الشوشتري
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: السادسة
سنة الطبع: ١٤١٥
المطبعة: غدير
الناشر: مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات: مطبعة النجف - ١٣٨٨

منتهى الدراية
في
توضيح الكفاية
تأليف
السيد محمد جعفر الجزائري المروج
الجزء الثاني
1

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وآله
الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين. أما بعد فهذا هو الجزء
الثاني من كتابنا منتهى الدراية في توضيح الكفاية وقد أجريناه على منوال
الجزء الأول، فجعلنا المتن في أعلى الصفحة، وتوضيحه بفصل خط أفقي تحته
وأشرنا إليه بأرقام: 1 و 2 و 3 و... والتعليق عليه تحتها ورمزناه بعلامة (*)
وفي أسفل الصفحة تعليقات المصنف (قده) ورمزناها بعلامة (×) وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين
المؤلف
منتهى الدراية في توضيح الكفاية
آية الله السيد محمد جعفر الجزائري المروج
الجزء الثاني
الطبعة السادسة 1415 هجري
مطبعة غدير
العدد 1200 نسخة
الناشر: مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر
تليفون وفاكس 24568 شارع ارم - قم - ايران
2

الفصل الثالث
الاتيان [1] بالمأمور به على وجهه (1) يقتضي الاجزاء في الجملة (2) بلا

[1] لا يخفى متانة هذا العنوان المذكور في تقريرات شيخنا الأعظم
الأنصاري (قده) ودرر الفوائد أيضا، وأولويته مما في جملة من كتب
القوم من: (أن الامر هل يقتضي كون المأمور به مجزيا) كما في عدة
الشيخ (قده)، ومن: (أن الامر يقتضي الاجزاء) كما في القوانين، و
من: (أن الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء إذا أتى بالمأمور به على
وجهه أو لا؟) كما في الفصول. وجه الأولوية أولا: أن النزاع ليس في
مقام الدلالة والاثبات بل في مرحلة الواقع والثبوت، ولذا يجري هذا
النزاع في جميع الواجبات وإن لم يكن الدليل عليها لفظيا، بل لبيا،
فلا وجه لجعل الاجزاء مدلولا
3

شبهة (1). وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام
ينبغي تقديم أمور:
أحدها:
الظاهر أن المراد من وجهه [1] في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن
يؤتى به على ذاك النهج شرعا (2) وعقلا (3)، مثل أن يؤتى به بقصد
التقرب في العبادة (4)،

للامر. وثانيا: أن المقتضي للسقوط هو الامتثال المتحقق بإتيان متعلق
الامر بجميع ما اعتبر فيه، لا نفس الامر، لأنه لا يدل إلا على
مطلوبية المتعلق، ولا يدل على الاجزاء إلا بالتوجيه، وهو أن الامر
لكشفه عن مصلحة في متعلقه يدل التزاما على سقوطه إذا أتى
بمتعلقه
الذي تقوم به المصلحة، لتبعية الامر لها حدوثا وبقاء، لكن لما كانت
الدلالة على السقوط لأجل الاتيان بمتعلقه، فنسبة الاجزاء إليه بلا
واسطة أولى من نسبته إلى الامر معها كما لا يخفى. وقد ظهر مما
ذكرنا: أن هذا البحث ليس من الأبحاث اللغوية التي يطلب فيها
تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو غيره، بل من المباحث العقلية، كما
يظهر من أدلة الطرفين.
[1] هذه الكلمة بعينها مذكورة في بعض الكتب كالعدة، والفصول، و
تقريرات شيخنا الأعظم (قده)، وبما يدل عليها في بعضها الاخر
كالقوانين.
4

لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا (1)، فإنه (2) عليه
يكون - على وجهه - قيدا توضيحيا، وهو بعيد (3)،

[1] لا يخفى أن قيد - على وجهه - وإن كان احترازيا، إلا أن قوله: -
شرعا - مستدرك، لاغناء عنوان المأمور به عن كل ماله دخل شرعا
في متعلق الامر. إلا أن يدعى ظهور المأمور به في خصوص الأمور
الدخيلة فيه قيدا وتقيدا التي تسمى بالاجزاء، دون الأمور الدخيلة فيه
تقيدا فقط التي تسمى بالشرائط، فيكون - على وجهه - شاملا للقيود
العقلية والشرعية، ولا يلزم استدراك قوله: - شرعا -، فلاحظ.
5

مع (1) أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار
(2)، كما تقدم (3) من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا، لا من
قيود المأمور به شرعا (4).
ولا الوجه المعتبر (5) عند بعض
6

الأصحاب (1)، فإنه (2) - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم
اعتباره عند من اعتبره (3) إلا في خصوص العبادات لا مطلق
الواجبات - لا
وجه (4) لاختصاصه (5) بالذكر على تقدير الاعتبار، فلا بد (6) من
إرادة ما يندرج فيه من المعنى،
7

وهو (1) ما ذكرناه كما لا يخفى.
ثانيها:
الظاهر (2) أن المراد من الاقتضاء هاهنا (3) الاقتضاء بنحو العلية و
التأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا (4) نسب [1] إلى الاتيان لا إلى
الصيغة ان قلت (5):

[1] الأولي التعبير بالاسناد دون النسبة.
8

هذا (1) إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره، وأما بالنسبة إلى أمر آخر،
كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة
إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما (2) على
اعتباره (3) بنحو يفيد الاجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده. قلت: نعم (4)،
لكنه لا ينافي كون النزاع
9

فيهما (1) كان (2) في الاقتضاء بالمعنى المتقدم (3)، غايته أن العمدة
في سبب الاختلاف فيهما (4) إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما [1]
هل أنه (5) على نحو يستقل العقل بأن

[1] لا يخفى أنه على تقدير دلالته على تبدل الواقع في صورتي الشك
والاضطرار لا مجال للبحث عن إجزاء المأمور به الاضطراري و
الظاهري عن الامر الواقعي، إذ المفروض تبدل الواقع بالجهل و
الاضطرار، لكن التبدل في صورة الشك مساوق للتصويب
10

الاتيان به (1) موجب للاجزاء ويؤثر فيه، وعدم (2) دلالته، ويكون
(3) النزاع فيه (4) صغرويا أيضا (5)، بخلافه (6) في الاجزاء
بالإضافة إلى أمره (7)، فإنه (8)

الذي لا نقول به، ولذا بنينا في الامارات على الطريقية لا السببية،
فمقتضى القاعدة بقاء الواقع على حاله، وعدم كون الاتيان بالمأمور به
الظاهري مجزيا عنه. وأما في صورة الاضطرار فالمتبع هو الدليل، فإن
دل على كون الاضطرار موجبا لانقلاب الواقع كانقلابه بالسفر
مثلا، فلا أمر حينئذ واقعا حتى يبحث عن سقوطه بإتيان المأمور به
الاضطراري، وإن لم يدل على ذلك كان للبحث عنه مجال، فلا بد من
ملاحظة الأدلة في موارد الاضطرار.
11

لا يكون إلا كبرويا لو كان هناك (1) نزاع كما نقل عن بعض (2)، فافهم
(3)
ثالثها:
الظاهر أن الاجزاء هنا (4) بمعناه لغة وهو الكفاية، وإن كان يختلف ما
يكفي عنه (5)،
12

فان (1) الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفي، فيسقط به (2) التعبد
به (3) ثانيا، وبالأمر (4) الاضطراري أو الظاهري الجعلي (5)،
فيسقط به (6) القضاء، لا (7) أنه يكون هاهنا اصطلاحا بمعنى (8)
إسقاط التعبد أو القضاء، فإنه بعيد جدا (9).
رابعها (10):
الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى،
13

فإن البحث هاهنا (1) في أن الاتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا،
بخلافه (2) في تلك المسألة، فإنه (3) في تعيين ما هو المأمور به
شرعا
بحسب دلالة الصيغة بنفسها، أو بدلالة (4)
14

أخرى، نعم (1) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء، لكنه (2) لا
بملاكه.
وهكذا الفرق بينها (3) وبين مسألة تبعية القضاء للأداء، فإن (4)
البحث في تلك
15

المسألة (1) في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها (2)، بخلاف هذه
المسألة، فإنه (3) كما عرفت في أن الاتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن
إتيانه ثانيا أداء أو قضاء، أو لا يجزي، فلا علقة بين المسألة (4) و
المسألتين (5) أصلا. [1] إذا عرفت هذه الأمور،
فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين:
الأول (6): أن الاتيان بالمأمور به بالامر

[1] وتوهم عدم الفرق بين هذه المسألة وبين المسألتين إنما هو بلحاظ
إسقاط التعبد به ثانيا وعدمه بالنسبة إلى المرة والتكرار، و
بلحاظ إسقاط القضاء وعدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء، وإلا
فعدم الملامة بين هذه المسألة وبين المسألتين في غاية الوضوح.
[2] مضافا إلى إمكان اختلافهما موضوعا، حيث إن موضوع وجوب
القضاء هو الفوت في الوقت، وموضوع الاجزاء هو الاتيان بالمأمور
به في وقته، فتدبر.
16

الواقعي، بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزي عن التعبد به
ثانيا، لاستقلال العقل (1) بأنه لا مجال - مع موافقة الامر بإتيان (2)
المأمور به على وجهه - لاقتضائه (3) التعبد به (4) ثانيا. نعم (5) لا
يبعد أن يقال: بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا
عن التعبد به أولا، لا منضما إليه (6)،
17

كما أشرنا إليه (1) في المسألة السابقة (2)، وذلك (3) فيما علم أن
مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض (4) وإن [1] كان (5)
وافيا به لو اكتفي به، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه
بعد، فإن (6) الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا (7) لو
أهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا،

[1] الأولى تبديل الواو بكلمة - لكن - ولا يخفى وجهه.
18

كما (1) إذا لم يأت به أولا، ضرورة (2) بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه
الداعي إليه (3)، وإلا (4)

[1] قد عرفت في مسألة المرة والتكرار: أن الامتثال علة تامة لسقوط
الامر، لان الامتثال إن كان دائرا مدار انطباق الطبيعي المأمور به
على المأتي به، فالمفروض حصوله، فيسقط الامر، ولا يعقل عوده
برفع اليد عن المأتي به بمعنى تنزيله منزلة المعدوم، لعدم انقلاب
الشئ عن النحو الذي وقع عليه، نعم يعقل ذلك بمعنى إعدامه في
الموضوع كإراقة الماء في مثال الامر بإحضاره، لكنه مفقود في
الشرعيات، إذ لا معنى لاعدام المتعلق كالصلاة مثلا بعد تحققها على
وجهها. وإن كان دائرا مدار حصول الغرض وهو الفائدة المترتبة
على فعل العبد الباعثة على الامر به، كتمكن المولى من الشرب مثلا
المترتب على إحضار الماء، فلا ريب أيضا في تحققه، سواء لوحظ
حيثية تعليلية أم تقييدية كما هو واضح. ودعوى: كون المراد بالغرض
هو الفائدة المترتبة على فعل المولى كرفع العطش القائم بشربه،
والمفروض عدم حصوله بعد، ولذا يجوز تبديل الامتثال والآتيان
بفرد آخر من الماء غير مسموعة، لان الامر الحقيقي بشئ حاك عن
الإرادة المترتبة على العلم بما في ذلك الشئ من الفائدة التي يعبر
عنها تارة بالداعي، وأخرى
19

لما أوجب حدوثه (1)، فحينئذ (2) يكون له الاتيان بماء آخر موافق
للامر، كما

بالغرض، إذ الامر لا يدعو إلا إلى ما يتعلق به، فلا يحكي إلا عن
المصلحة القائمة به، دون المصالح والفوائد المترتبة على فعل آخر
غير
متعلقه، كرفع العطش القائم بشرب المولى، فلا يعقل أن يكون مثل
رفع العطش حيثية تعليلية للامر بإحضار الماء، بل لا ينبعث الامر به إلا
عن الفائدة القائمة بنفس الاحضار، وهو تمكن المولى من الشرب مثلا
المفروض حصوله. كما لا يعقل أن يكون حيثية تقييدية له أيضا
بحيث يتعلق به الطلب، لخروجه عن حيز قدرة العبد الموجب لامتناع
انبساط الطلب عليه، لإناطة التكليف بالقدرة على متعلقه بشراشره
من أجزائه وشرائطه. فالمتحصل: أن الامر يسقط بإتيان متعلقه قطعا
من غير فرق في ذلك بين دوران الامتثال مدار موافقة المأتي به
للمأمور به، وبين دورانه مدار حصول الغرض. وأما ما يقال: في توجيه
جواز تبديل الامتثال من جعل الفائدة المترتبة على فعل الغير
كرفع عطش المولى المترتب على شربه عنوانا مشيرا إلى حصة خاصة
من إحضار الماء ملازمة لشربه فرارا عن محذور التكليف بغير
المقدور الذي يلزم في صورة كونه جهة تقييدية، ففيه أولا: أن
تخصيص المتعلق - أعني الاحضار - بما يلازم شرب المولى مع عدم
دخله
في الحكم يكون تخصيصا بلا مخصص، وترجيحا بلا مرجح، لفرض
تساوى جميع حصص طبيعة إحضار الماء في الحكم، كما هو مقتضى
مشيرية العنوان، وإلا كان خصوص الاحضار المقيد بالشرب محط
الطلب، ومصب البعث، فيعود محذور الجهة التقييدية. وثانيا: أنه لو
سلمنا ذلك، فهو مجرد احتمال لا يساعده في مقام الاثبات دليل،
حيث إن كون شئ بهذا النحو مأمورا به محتاج إلى نهوض دليل
خاص
عليه، وهو مفقود بالفرض. وثالثا:
أنه أجنبي عن تبديل الامتثال، ضرورة توقف عنوان التبديل على
إيجاد متعلق الامر
20

كان له قبل إتيانه الأول بدلا (1) عنه. نعم (2) فيما كان الاتيان علة تامة
لحصول الغرض، فلا يبقى موقع للتبديل، كما إذا أمر بإهراق الماء
في فمه لرفع عطشه، فأهرقه، بل (3) لو لم يعلم أنه (4) من أي القبيل
فله التبديل، باحتمال ان لا يكون علة، فله (5) إليه سبيل. ويؤيد ذلك
(6)،

أولا المفروض عدمه، لأنه ليس مجرد إحضار الماء، بل خصوص
الملازم للشرب الذي لم يتحقق بعد، فالامر لم يمتثل أولا حتى يكون
الاتيان الثاني من باب تبديل الامتثال، كما لا يخفى.
21

بل يدل عليه (1) ما ورد من الروايات (2) في باب إعادة من صلى
فرادى جماعة، و

[1] في دلالة الروايات على ذلك بعد الغض عن أسناد بعضها تأمل،
لأنها على طوائف: إحداها: ما ورد في باب إعادة الصلاة مع
المخالفين، على اختلاف هذه
22

(أن الله تعالى يختار أحبهما إليه).

الطائفة مضمونا، إذ في بعضها، كصحيح عبد الله بن سنان عن أبي
عبد الله عليه السلام: (أما تحب - ترضى - أن تحسب لك بأربع و
عشرين صلاة)، وفي بعضها الاخر كصحيح عمر بن يزيد عن أبي عبد
الله عليه السلام (ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثم
يصلي معهم صلاة تقية وهو متوضئ إلا كتب الله له بها خمسا و
عشرين درجة، فارغبوا في ذلك)، وقريب منه صحيح آخر لعبد الله
بن
سنان أيضا، وفي بعضها: أنها لا تحسب صلاة، كرواية عبيد بن زرارة
عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قلت: إني أدخل المسجد وقد
صليت فأصلي معهم، فلا - ولا - أحتسب بتلك الصلاة، قال: لا بأس،
فأما أنا فأصلي معهم وأريهم أني أسجد وما أسجد)، وفي بعضها: أنها
تسبيح لا صلاة، كخبر إبراهيم بن علي المرافقي، وعمر بن ربيع عن
جعفر بن محمد عليه السلام في حديث (أنه سأل عن الامام، ان لم
أكن أثق به أصلي خلفه وأقرأ؟، قال: لا، صل قبله أو بعده، قيل له:
أ فأصلي خلفه وأجعلها تطوعا، قال عليه السلام: لو قبل التطوع لقبلت
الفريضة، ولكن اجعلها سبحة)، وفي بعضها كصحيح نشيط بن
صالح عن أبي الحسن الأول عليه السلام:
(والذي يصلي مع جيرته يكتب له أجر من صلى خلف رسول الله
صلى الله عليه وآله، ويدخل معهم في صلاتهم، فيخلف عليهم ذنوبه
ويخرج بحسناتهم)، وفي خبر ناصح المؤذن (اجعلها نافلة، ولا تكبر
معهم، فتدخل معهم في الصلاة، فإن مفتاح الصلاة التكبير) وغير
ذلك من روايات هذه الطائفة. (الوسائل ج 5 - الباب 6 - من أبواب صلوة الجماعة ص 383)
وأنت خبير بأجنبية مفادها عن أصل
مشروعية الإعادة - فضلا عن احتسابها فريضة - حتى يصح
الاستدلال بها على جواز تبديل الامتثال، لدلالة بعضها على مقدار
الأجر والثواب، كصحيحي ابن سنان، وصحيحي عمر بن يزيد ونشيط
بن صالح، وبيان الأجر والثواب لا يدل على مشروعية هذا العمل من
حيث هو، إذ لعل الاجر إنما هو لأجل المخالطة مع العامة الموجبة
لحسن ظنهم بالشيعة،
23



والامن من مكائدهم، ودلالة بعضها الاخر على عدم كون المأتي به
تقية بصلاة حتى نافلة، بل هو تسبيح، ومع نفي الصلاتية لا معنى
لجواز تبديل الامتثال، لان جوازه مبني على كون المأتي به ثانيا بعنوان
التبديل فردا للطبيعي الذي تعلق به الامر أولا، فالثواب إنما
يكون لأجل التقية والمداراة معهم، فهذه الطائفة بمضامينها أجنبية
عن أصل مشروعية الإعادة، فضلا عن جعلها من باب تبديل الامتثال.
ثانيتها: ما يوهم جواز تبديل الامتثال، كمرسلة الفقيه المتقدمة، حيث
إن دلالة قوله عليه السلام: (يحسب له أفضلهما وأتمهما) على كون
المأتي به جماعة فردا للطبيعي المأمور به واضحة، لأنه بمنزلة قوله: -
يحسب له أفضل الفردين -، فلو كان الأفضل الفرد الثاني احتمل أن
يكون احتسابه دون الفرد الأول من باب تبديل الامتثال، هذا. لكن فيه
- مضافا إلى الارسال - أن هذا الاحتمال في غاية الوهن و
السقوط، إذ لا تدل المرسلة إلا على أن الفضلى من هاتين الصلاتين
هي التي تحسب له، دون الأخرى، فان كانت الفضلى هي الأولى كتبت
له دون الثانية، وان كانت هي الثانية، كتبت له، دون الأولى، ولا تدل
بوجه على تحقق الامتثال المسقط للامر بالمعادة، حتى يكون ذلك
دليلا على جواز تبديل الامتثال الذي هو مورد البحث، فيحتمل قويا
أن يراد بقوله عليه السلام:
(يحسب له أفضلهما) أن المعادة تحسب أفضلهما باعتبار الغرض
المترتب على التقية، لا باعتبار المصلحة القائمة بالطبيعة المشتركة بين
الفردين، ضرورة وفاء الفرد الأول بها، فلا يمكن احتساب ما به
الاشتراك مرتين، بل الاحتساب لا بد أن يكون باعتبار مزية زائدة على
ما به الاشتراك موجودة في الفرد الثاني دون الأول. وقد ظهر من هذا
البيان: أن قوله عليه السلام: (أفضلهما وأتمهما) منصوب. و
دعوى: أن الحساب بمعنى العد لا يتعدى إلى مفعولين، وإنما
المتعدي إليهما هو الحسبان الذي يعد من أفعال القلوب غير
مسموعة، لقول
الشاعر: (ولا تعدد المولى شريكك في الغنى)، ويقال في
الاستعمالات المتداولة: عد زيدا عالما، أو شاعرا، أو نحو ذلك، مما يكون
24



تعدده معنويا، لا حسيا خارجيا. ولو سلمنا كون - أفضلهما - مرفوعا
على أن يكون نائبا عن الفاعل، والمحسوب هو أفضل الصلاتين
سواء أكانت هي الأولى أم الثانية، فلا دلالة فيه أيضا على جواز تبديل
الامتثال، للقطع بسقوط الامر الوجوبي بالاتيان الأول ولا معنى
لعوده، فالمحسوب هو أفضلهما من حيث الاشتمال على شرائط
القبول، ولا ربط له بباب تبديل الامتثال أصلا. والحاصل: أنه ليس في
المرسلة المزبورة ظهور في جواز تبديل الامتثال، ومع الاحتمال يبطل
الاستدلال. ثالثتها: ما ورد في إعادة الصلاة مطلقا من دون
الاختصاص بالمخالف، كصحيح هشام بن سالم: (الرجل يصلي
الصلاة وحده ثم يجد جماعة، قال: يصلي معهم، ويجعلها الفريضة ان
شاء)،
ونحوها حسنة حفص البختري المتقدمة بإسقاط كلمة - ان شاء -، و
بمضمونهما روايات أخرى. (الوسائل، جزء 5، الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة الحديث 1 و 11 وغيرهما)
ويمكن الجمع بين ما ورد في الإعادة مع المخالفين من عدم كون
المعادة معهم صلاة، وبين الحث على إعادة الصلاة جماعة بأن مورد
استحباب الإعادة هو الصلاة مع غير المخالفين، وأما معهم
فالمستحب هو إراءة كونه مصليا معهم، كما أنه قضية قوله عليه السلام
في
رواية عبيد بن زرارة المتقدمة: (وأريهم أني أسجد وما أسجد). لا
يقال:
إن قوله عليه السلام في صحيح هشام، وحسن البختري المتقدمين: (و
يجعلها الفريضة) يدل على جواز تبديل الامتثال، إذ لا معنى لجعل
المعادة تلك الفريضة إلا ذلك، فلو سقط الامر بالفريضة بالاتيان الأول
لما كان وجه لجعل الفرد الثاني فريضة، فإن جعله كذلك يكشف
عن بقاء الامر، وعدم كون الاتيان الأول علة تامة لسقوطه.
فإنه يقال: إن دلالته على جواز تبديل الامتثال منوطة بإرادة الفريضة
الفعلية ليكون الامر باقيا حتى تتصف المعادة بها، وقد عرفت
استحالة بقاء الامر على حاله
25



مع الاتيان بمتعلقه على وجهه، فيحتمل حينئذ وجوه: أحدها: ما عن
شيخ الطائفة في التهذيب من قوله: (والمعنى في هذا الحديث أن من
يصلي ولم يفرغ من صلاته، ووجد جماعة، فليجعلها نافلة، ثم يصلي
في جماعة، وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنية الفرض، لان من
صلى الفرض بنية الفرض، فلا يمكن أن يجعلها غير فرض) وعن
الوحيد (قده) تأييده (بأنه ظاهر صيغة المضارع)، ويدل على هذا
المعنى صحيحة سليمان بن خالد، قال: (سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجل دخل المسجد، فافتتح الصلاة، فبينما هو قائم يصلي
إذ
أذن المؤذن وأقام الصلاة، قال: فليصل ركعتين، ثم ليستأنف الصلاة مع
الامام، ولتكن الركعتان تطوعا) (1)، وقريب منه مضمر
سماعة (2) وعلى هذا الاحتمال تكون كلمة - ان شاء - في صحيحة
هشام قيدا للمجموع، يعني:
إن شاء يصلي معهم فريضة بعد جعل ما بيده نافلة، وإن شاء أتم ما
بيده فريضة كما افتتحت، وهذا أجنبي عما نحن فيه من تبديل
الامتثال، إذ المفروض عدم تحقق الامتثال بعد حتى يندرج في باب
التبديل، كما لا يخفى. (1 و 2) الوسائل ج 5 - كتاب الصلاة باب 56 من أبواب صلاة الجماعة الحديث 1 و 2
ثانيها: أن ينوي المعادة فريضة، بأن يبني على كونها فريضة، كالبناء
على ظهرية ما نواه عصرا في مورد العدول، فيكون المقام كموارد
العدول في كون العبرة بالمعدول إليه، هذا. وفيه: وضوح الفرق بين
المعادة، وبين موارد العدول، وذلك لكون العدول متقوما بالبناء،
حيث إن عنوان الظهرية مثلا من العناوين الاعتبارية المتقومة بالبناء،
فيتحقق عنوان الظهرية لما بيده بمجرد البناء عليها بعد تحقق
عنوان العصرية له بالبناء عليها أولا. وهذا بخلاف اتصاف الصلاة
بكونها فريضة أو نافلة، لان هذا الاتصاف ناش عن تعلق الامر
الوجوبي أو الندبي بها، والمفروض سقوط الامر الوجوبي بسبب
الامتثال، ويستحيل عوده، فلا معنى لتبديل الامتثال المتوقف على
بقاء
شخص الامر، كما لا يخفى ثالثها: أن يكون الفريضة عنوانا مشيرا إلى
العنوان الذي أتى
26



به من الظهرية ونحوها، فينوي الظهرية بالمعادة، فمع الاتيان بصلاة
الظهر فرادى يستحب إعادتها جماعة بعنوان الظهرية، هذا. وفيه:
أن نفس الإعادة تقتضي ذلك، وإلا لخرجت عن باب الإعادة، ولا
معنى لتعليقه على مشية المصلي، إذ ليس له قصد غير ذلك العنوان
المتحقق به الامتثال أولا، فما يمكن أن تتعلق به المشية هو جعل ما
بيده نافلة، وإعادته جماعة بنية الوجوب. ومن المعلوم أن هذا أجنبي
عن مسألة تبديل الامتثال، فأجود الاحتمالات هو الأول، وان لم يكن
بذلك الوضوح، وإلا فيصير مجملا، ويسقط به الاستدلال.
فالمتحصل: أنه لا ينبغي الاشكال في مشروعية إعادة ما صلاه منفردا
جماعة، سواء أقيمت الجماعة في أثنائها أم بعدها، غاية الامر أنه في
الأول ينوي الفرض، وفي الثاني ينوي الندب تداركا لما فات من
الخصوصية والمزية وهي الجماعة، قال في الجواهر: (ثم إن ظاهر
الفتاوى وبعض النصوص السابقة نية الندب في المعادة لو أراد
التعرض للوجه كما صرح به في السرائر والمنتهى والتذكرة، والبيان
والمدارك والذخيرة والكفاية، وعن المبسوط والنهاية ومجمع
البرهان، بل عن حاشية المدارك للأستاذ حكاية روايتين (1) عن عوالي
اللئالي صريحتين في الندب)، وقال في العروة في فصل مستحبات
الجماعة: (المسألة 21 في المعادة: إذا أراد نية الوجه ينوي الندب لا
الوجوب على الأقوى)، ولا وجه لقصد الوجوب وإن نسب إلى
جماعة استنادا إلى صحيح هشام، وحسن حفص السابقين، أو
غيرهما،
حتى مرسل الصدوق المتقدم، فلاحظ. فتخلص: أنه لا وجه للتشبث
بروايات المعادة على جواز تبديل الامتثال، لما عرفت من كونها
أجنبية عن مورد البحث، بل لو فرض دلالتها على ذلك فلا بد من
صرفها عن ظاهرها، لاستحالة بقاء الامر مع الاتيان بمتعلقه على وجهه
كما مر.
(1) المستدرك. الباب 43 من أبواب صلوة الجماعة الحديث 3 و 4.
وأما تكرار صلاة الآيات فإنما هو لاستحباب الإعادة إذا فرغ
عن الصلاة قبل الانجلاء، كما يدل عليه صحيح (2) معاوية
27

الموضع الثاني وفيه مقامان:
المقام الأول
في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزي عن الاتيان
بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا 1 [1] بعد رفع الاضطرار في
الوقت إعادة وفي خارجه قضاء، أو لا يجزي؟.

بن عمار قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: صلاة الكسوف إذا فرغت
قبل أن ينجلي فأعد) ومطلوبية الوجودات الطولية بالامر
الاستحبابي أجنبية عن تبديل الامتثال الذي مرجعه إلى بقاء نفس
الامر الأول، فلو لا الامر بالإعادة في هذه الصحيحة لم يكن وجه
للاتيان بالصلاة ثانيا، وثالثا، وهكذا.
(2) الوسائل ج - 5 - الباب - 8 - من أبواب صلوة الكسوف والآيات الحديث - 1 -.
[1] لا يخفى الاستغناء عنه، بل إخلاله، لان معناه حينئذ: أن الاتيان
بالمأمور به الاضطراري هل يجزي عن الاتيان بالمأمور به الواقعي
الأولي ثانيا أم لا، فالنزاع على هذا إنما هو في إجزائه عن الوجود الثاني
للمأمور به الواقعي، لا وجوده الأول، مع أن النزاع كله في
الوجود الأول، فينبغي أن تكون العبارة هكذا: - هل يجزي الاتيان
بالمأمور به بالامر الاضطراري عن الاتيان بالمأمور به الواقعي
الأولي إعادة في الوقت، وقضاء في خارجه أم لا؟ والحاصل: أن عبارة
المتن توهم كون مصب النزاع هو الاجزاء عن الوجود الثاني
للمأمور به الواقعي الأولي وعدمه، ومن المعلوم عدم كونه كذلك.
28

تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع
عليه الامر الاضطراري من الأنحاء، وبيان ما هو قضية كل منها من
الاجزاء وعدمه، وأخرى في تعيين ما وقع عليه، فاعلم:
أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف [1]

[1] الأولى تبديله هنا وكذا في قوله: - التكليف الاضطراري -
بالمكلف به -، لقيام الملاكات بالمتعلقات، لا الاحكام، فالتعبير
بالتكليف
مسامحة، أو من المصدر المبني للمفعول.
[2] لا يخفى أن الاحتمالات الثبوتية أزيد من الأربعة المذكورة في
المتن، إذ منها حرمة التفويت، حيث إن ما لا يمكن استيفاؤه قد يكون
محرم التفويت، وقد لا يكون كذلك، وحكمه جواز البدار مع عدم
الحرمة، وعدمه معها، وعدم الاجزاء مع الحرمة، إذ لا أمر مع حرمة
التفويت حتى يبقى مجال للبحث عن الاجزاء، ولا ينبغي إهمال هذا
الاحتمال الخامس.
29

الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة، وكافيا فيما هو
المهم والغرض [1] ويمكن أن لا يكون وافيا به (1) كذلك [2 [بل يبقى
منه شئ أمكن استيفاؤه، أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب
تداركه أو يكون بمقدار يستحب.
ولا يخفى (2) أنه ان كان وافيا به، فيجزي، فلا يبقى مجال أصلا
للتدارك (3)

[1] ولا يلزمه جواز تحصيل الاضطرار اختيارا كما توهم، وذلك
لامكان ترتب المصلحة التامة على المأمور به الاضطراري ان كان
الاضطرار بالطبع لا بالاختيار.
[2] لا حاجة إلى هذه اللفظة، لرجوع ضمير - به - إلى - تمام المصلحة
-، فيكون محصل ما يستفاد من كلامه (قده): أنه يمكن ان لا يكون
وافيا بتمام المصلحة بتمام المصلحة، لكون قوله: - كذلك - بمنزلة
التصريح بتمام المصلحة، واحتمال ان يكون قوله - كذلك - إشارة
إلى كلامه: - وكافيا فيما هو المهم والغرض - لا وجه له، لان قوله -:
- وكافيا. إلخ - تفسير للوفاء بتمام المصلحة، وليس مغايرا له
كما لا يخفى.
30

لا قضاء ولا إعادة، وكذا (1) لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه، و
لا يكاد يسوغ له البدار (2) في هذه الصورة (3) إلا لمصلحة كانت
فيه (4)، لما (5) فيه من نقض الغرض وتفويت (6) مقدار من
المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه (7) من الأهم [1] فافهم (8).

[1] الأهمية وإن كانت مناطا لتقديم أحد المتزاحمين أو المتزاحمات،
لكنها مناطه على وجه اللزوم، وفي المقام يكفي في جواز البدار
مساواة مصلحته للمقدار الفائت من مصلحة المأمور به الواقعي، نعم
الامر بالبدار يتوقف على أهمية مصلحته من المقدار الفائت، كما لا
يخفى.
31

لا يقال: عليه (1) فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار، لامكان (2)
استيفاء الغرض بالقضاء. فإنه يقال: هذا كذلك (3) لولا المزاحمة
بمصلحة الوقت [1] وأما تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة
الأولى (4) فيدور مدار كون العمل

[1] لا يخفى أنه في صورة مزاحمة المقدار الفائت بمصلحة أخرى
قائمة بالبدار يجب البدار، إذ بدونه يفوت هذا المقدار أيضا بلا تدارك.
32

بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار، أو مع اليأس عن طرو
الاختيار ذا مصلحة، ووافيا بالغرض.
وإن لم يكن وافيا (1) وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت (2)، أو
مطلقا ولو بالقضاء خارج الوقت، فان كان الباقي مما يجب تداركه،
فلا يجزي (3)، فلا بد من إيجاب الإعادة أو القضاء، وإلا (4) فيجزي،
ولا مانع عن البدار في الصورتين (5).
33

غاية الامر يتخير [1] في الصورة الأولى (1) بين البدار والآتيان بعملين:
العمل الاضطراري في هذا الحال (2)، والعمل الاختياري بعد رفع
الاضطرار، أو

[1] في هذا التخيير - مضافا إلى كونه من التخيير بين الأقل والأكثر
الذي هو في غاية الاشكال كما قرر في محله - أن المصلحة الوقتية
ان كانت لازمة الاستيفاء كالمصلحة القائمة بالجز المضطر إليه،
فمقتضى القاعدة وجوب الفعلين، حفظا لكلتا المصلحتين، لا
وجوبهما،
أو وجوب الفعل الواحد التام بعد ارتفاع الاضطرار تخييرا لأنه ليس
مشتملا على المصلحتين، بل علي مصلحة واحدة، فاستيفاء
المصلحتين منوط بإيجاب كل من الفعلين تعيينا.
وإن لم تكن لازمة الاستيفاء، فلا وجه لوجوب الفعل الناقص
الاضطراري في الوقت، بل الواجب تعيينا هو الفعل التام بعد ارتفاع
الاضطرار.
وبالجملة: ان كانت كلتا المصلحتين لازمتي الاستيفاء، فلا بد من
إيجاب كلا الفعلين تعيينا من دون حاجة إلى تشريع وجوب لفعل تام
تخييرا بعد ارتفاع الاضطرار، لما عرفت من عدم اشتماله على كلتا
المصلحتين. وان لم تكونا واجبتي الاستيفاء فلا بد من إيجاب فعل
واحد قائم بالمصلحة اللازم تداركها، فالتخيير المذكور في المتن لم
يظهر له وجه.
هذا إذا كان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت، وأما إذا كان ارتفاعه فيه سوأ
أ كانت كلتا المصلحتين لازمتي الاستيفاء أم لا، فلا ينبغي
الارتياب في وجوب فعل واحد تعيينا في الوقت بعد زوال العذر،
لقيام كلتا المصلحتين به بعد كون المطلوب صرف الوجود من الطبيعة
الواقع في صرف الوجود من الزمان الوافي به.
34

الانتظار (1) والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة
الثانية (2) يتعين عليه استحباب البدار، وإعادته (3) بعد طرو
الاختيار.
هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء (4)، وأما ما
وقع
35

عليه، فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا
صعيدا طيبا)،

[1] لكن الحق أن يقال: إن دليلي المبدل والبدل إما مطلقان، وإما
مهملان، وإما مختلفان، فالصور أربع.
فان كانا مطلقين، أو كان دليل المبدل مهملا ودليل البدل مطلقا،
فيرجع إلى إطلاق دليل البدل، لحكومته على إطلاق دليل المبدل في
الصورة الأولى، وعدم مانع من الرجوع إليه في الصورة الأخيرة، وهي
إهمال دليل المبدل وإطلاق دليل البدل، ضرورة أن الاهمال
يسقطه عن الحجية، فيرجع إلى إطلاق دليل البدل بلا مانع، فيجزي
في هاتين الصورتين.
وان كان دليل المبدل مطلقا ودليل البدل مهملا، فيرجع إلى إطلاق
دليل المبدل، لفقد المانع وهو حكومة إطلاق دليل البدل عليه،
فيحكم حينئذ بوجوب الإعادة أو القضاء.
وان كان كل من دليلي المبدل والبدل مهملا، فيرجع إلى الأصل، لفقد
الدليل حينئذ، فالرجوع إلى الأصل إنما هو في هذه الصورة فقط،
لا في صورة عدم الاطلاق لدليل البدل الاضطراري مطلقا كما في
المتن.
وأما كون الأصل هو البراءة، ففيه كلام، توضيحه: أن الاضطرار تارة
يرتفع في الوقت، وأخرى في خارجه.
ففي الأول تجري قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الإعادة، لكونه
من صغريات التعيين والتخيير، حيث إن الصلاة مع الطهارة المائية
مثلا مفرغة للذمة قطعا، بخلاف الصلاة مع الترابية، فإن مفرغيتها لها
مشكوكة، فلا يكتفي بها عقلا في مقام الامتثال.
36

وقوله عليه الصلاة والسلام: (التراب أحد الطهورين) و (يكفيك عشر
سنين) (1) هو الاجزاء، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.
ولا بد في إيجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (2).
وبالجملة: فالمتبع هو الاطلاق (3) لو كان، وإلا فالأصل وهو يقتضي
البراءة من إيجاب الإعادة، لكونه شكا في أصل التكليف (4)، وكذا
عن إيجاب القضاء بطريق أولى (5)، نعم لو دل دليله على أن سببه
فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة (6) كان

وفي الثاني تجري البراءة في وجوب القضاء، للشك في تحقق
موضوعه وهو فوت الفريضة في الوقت، حيث إن من المحتمل
انقلاب
الواقع إلى المأمور به الاضطراري، فلم يفت فريضة في الوقت حتى
يجب قضاؤها، ومن المحتمل عدم انقلابه إليه، فيصدق الفوت
الموجب
لقضائه، فيكون الشك حينئذ في التكليف وهو مجرى البراءة، هذا كله
فيما يجري فيه الأصل وهو إهمال الدليلين، وأما في غيره،
فالمرجع هو الاطلاق مطلقا كما عرفت آنفا.
37

القضاء واجبا عليه لتحقق سببه (1) وان أتى بالغرض (2) لكنه مجرد
الفرض [1] (3).

[1] يمكن أن يقال باجزاء المأمور به الاضطراري عن الإعادة والقضاء
في جميع الموارد إلا إذا قام نص خاص على وجوب أحدهما، و
توضيحه منوط بتقديم أمور:
الأول: أن الاضطرار لا يصدق إلا في الموقتات مع استيعابه للوقت، إذ
بدونه مع كون المطلوب صرف الوجود في تمام الوقت المضروب
له لا اضطرار حينئذ إلي صرف الوجود، للقدرة عليه في بعض الوقت،
وكذا الحال في غير الموقتات مع وجوب الفور فيها، فصدق
الاضطرار فيها منوط بذلك، إذ بدون وجوب الفور لا اضطرار كما لا
يخفى.
الثاني: أن تشريع الحكم الاضطراري دليل إني على اشتمال متعلقه
على مصلحة لازمة الاستيفاء في الوقت، وعدم الاهتمام بما يفوت
في
الوقت من مصلحة الجز أو الشرط المضطر إلى تركه، إذ مع الاهتمام
به لا وجه لتشريع الحكم الاضطراري المفوت له، فلا بد أن تكون
المصلحة القائمة بالجز أو الشرط المتروك اضطرارا ساقطة كخطابه،
أو غير لازمة الاستيفاء، فوجوب العمل ثانيا لتدارك مصلحة
المضطر إليه محتاج إلى تشريع ثانوي، ولا يفي به تشريع المبدل أولا،
لسقوط الامر بالجز أو الشرط المضطر إلى تركه، وعدم
كاشف عن بقاء مصلحته حتى يستكشف منه بقاء التشريع، لاحتمال
دخل القدرة في ملاكه كدخلها في خطابه.
38



واستصحاب المصلحة لا يجدي في بقاء الخطاب، لأن الشك في
حدوث التكليف بعد ارتفاع الاضطرار، لا في بقائه بعده، ضرورة
سقوط
التكليف الأولي بالجز أو الشرط، للاضطرار، فليس الشك في بقاء
التكليف حتى يثبت باستصحاب المصلحة بل الامر بالعكس، لان
مقتضى الاستصحاب عدم تشريع الحكم بعد ارتفاع الاضطرار.
الثالث: أن الاضطرار رافع للحكم المتعلق بالجز أو الشرط مطلقا سوأ
أ كانت القدرة شرطا للملاك والخطاب معا، أم شرطا للخطاب
فقط كما هو الغالب من قبح مطالبة العاجز، فإن دليل الاضطرار من
عمومه وخصوصه كدليلي الضرر والحرج من الأدلة النافية للحكم، و
بضمه إلى أدلة أجزأ المأمور به الواقعي وشرائطه يتحصل أن المأمور
به في حال العذر هو ما عدا الجز أو الشرط المضطر إلى تركه.
ولا يرد هنا إشكال المثبتية الوارد على أصل البراءة في الأقل والأكثر
الارتباطيين بناء على كون تقابل الاطلاق والتقييد تقابل التضاد،
لا العدم والملكة، وذلك لكون دليل الاضطرار من الأدلة الاجتهادية،
لا الأصول العملية، كما لا يخفى.
الرابع: أنه لا يجب استيفاء الملاكات غير المطالبة، فإن العقل الحاكم
بحسن الإطاعة إنما يحكم بحسن امتثال العبد لاحكام مولاه، و
الاغراض الداعية إلى التشريع ليست أحكاما، فلا يجب على العبد
موافقتها. نعم إذا أحرز العبد تمامية الملاك، ولكن المولى لا يقدر على
إنشاء الحكم لمانع خارجي حكم العقل حينئذ بلزوم موافقة الغرض.
وبالجملة: مجرد الغرض مع عدم مانع للمولى عن الانشاء لا يوجب
عقلا إطاعة أصلا.
الخامس: أن المبدل الموقت إن كانت مطلوبيته بنحو صرف الوجود
في الوقت
39



المضروب له، فاللازم الاتيان به على النهج المعتبر فيه، فلو كان في
أول الوقت مضطرا ثم ارتفع الاضطرار بحيث تمكن في الوقت من
الاتيان بالمبدل الاختياري، فليس له الاتيان بالبدل الاضطراري، إلا مع
قيام دليل خاص على الاجزاء والاكتفاء به.
إذا عرفت هذه الأمور تعرف أن مقتضى القاعدة إجزاء المأمور به
الاضطراري عن الواقعي في جميع الابدال الاضطرارية إذا كان العذر
مستوعبا لوقت المبدل، ومجرد العلم ببقاء مقدار من المصلحة -
فضلا عن احتماله - لا يقتضي وجوب القضاء، لما عرفت من عدم
الدليل
علي وجوب موافقة الغرض ما لم يطالب به المولى، ومجرد وجوده
ليس علة تامة للطلب حتى يكون برهانا لميا على وجوب القضاء، و
ذلك لاحتمال عدم إمكان استيفاء المصلحة الباقية إلا بصرف الوجود،
لا بغيره من وجودات الطبيعة، فأول وجوداتها تقوم به المصالح
كلها دون غيره.
ومما ذكرنا يظهر حكم الحج مع العامة مع اقتضاء التقية لذلك، وأنه
كسائر الابدال الاضطرارية، بل أولى منها، لما ثبت من سعة دائرة
التقية كما سيأتي.
ولا يخفى أن مورد النزاع في إجزاء المأمور به الاضطراري عن الواقعي
إنما هو فيما إذا لم يكن الاضطرار من الأوصاف المنوعة للمكلف
الموجبة لاختلاف الاحكام كالمسافر والحاضر، وإلا فلا معنى
للاجزاء عن الامر المتعلق بموضوع آخر.
والقول بكون المختار والمضطر كالمسافر والحاضر ضعيف،
لاستلزامه قضاء البدل الاضطراري إذا فات في وقته على ما فات،
فيجب
أن يقضي الصلاة مع الطهارة الترابية إذا فاتت كذلك مع التمكن من
قضائها مع المائية.
فتلخص من جميع ما ذكرناه أمور:
الأول: أن مقتضى القاعدة إجزاء البدل الاضطراري عن المبدل
الاختياري.
الثاني: أن مورد الاضطرار هو الموقت مع استيعاب الاضطرار للوقت،
أو
40



غير الموقت مع وجوب الفور فيه.
الثالث: أن مجرد بقاء شئ من الملاك لا يستلزم التشريع.
الرابع: أن الاضطرار ليس منوعا كالسفر.
الخامس: أن مورد الاجزاء هو الاضطرار المستوعب، إلا إذا قام دليل
خاص على الاجزاء في غيره، ومقتضاه حينئذ كفاية الاضطرار غير
المستوعب في التنزل عن المبدل الاختياري إلى البدل إلى البدل
الاضطراري.
السادس: عدم جواز البدار مع عدم العلم بارتفاع الاضطرار في الوقت،
وإناطة جوازه بالعلم بعدم ارتفاعه فيه، إلا في موارد التقية، فإن
مقتضى إطلاق أدلتها، وكذا ما دل على الحث عليها والمداراة معهم
هو جواز البدار، فلاحظ النصوص الواردة في التقية.
السابع: أن الاجزاء لا يحتاج إلى دليل، بل يكفي فيه كون المأمور به
الاضطراري تمام الوظيفة، وهذا يثبت بحكومة دليل الاضطراري
على دليل الاختياري فتدبر.
خاتمة لا يخفى أنه لما كانت مسألة الحج مع العامة تقية من صغريات
المأمور به الاضطراري مع كونها من المسائل الابتلائية أحببت أن
أتعرض لها تزيينا للكتاب بفرع من فروع علم الفقه الشريف سائلا منه
سبحانه وتعالى التوفيق لتنقيحها، وتحقيق ما هو الحق فيها،
فنقول وبه نستعين: ينبغي قبل الخوض في المقصود تقديم أمور:
الأول: أن كلا من الجز والشرط يتصور ثبوتا على نحوين:
أحدهما: أن يكونا مطلقين بمعنى دخلهما في جميع الحالات بحيث
يوجب
41



تعذره سقوط الامر بالمركب أو المشروط، لدخله في قوام ماهية
المركب أو المشروط كقصد القربة في العبادة، فلا تجري قاعدة
الميسور في العبادة التي تعذر فيها مقومها وهو قصد القربة، لإناطة
جريانها بصدق الميسور عرفا على الباقي، ولا يصدق عليه إذا كان
المعسور مقوما للماهية، كما هو واضح.
ثانيهما: أن يكونا مقيدين بحال التمكن، وهذا القسم ليس دخيلا في
قوام الماهية، فتجري فيه قاعدة الميسور، ولعل وجه عدم العمل
بعموم هذه القاعدة وإناطة جريانها في كل مورد بعمل المشهور هو: أن
عملهم بها في مورد كاشف عن عدم كون المعسور فيه مقوما
للماهية، كما أن عدم عملهم بها في بعض الموارد يكشف عن كون
المعسور فيه مقوما لها، فعملهم بها في مورد وعدم عملهم بها في آخر
كالدليل على أن المعسور غير مقوم للماهية في الأول، فتجري فيه
القاعدة، ومقوم لها في الثاني، فلا تجري فيه.
هذا بحسب مرحلة الثبوت، وأما مقام الاثبات فمقتضى إطلاق الدليل
هو الجزئية أو الشرطية المطلقة المعبر عنها بالركنية، فتعذره
يوجب خروج فاقده عن مصاديق الطبيعي المأمور به المستلزم لعدم
الاجزاء، إذ لا موجب له بعد فرض عدم انطباق المأمور به عليه. هذا
إذا كان للدليل إطلاق، وإلا كما إذا كان لبيا، فالمرجع الأصل العملي
المقتضي لعدم الجزئية أو الشرطية في حال التعذر، لكون الشك
حينئذ في ثبوت الحكم لا سقوطه حتى تجري فيه قاعدة الاشتغال،
كما لا يخفى.
الثاني: أن إطلاق دليل الحكم لكل من الوضعي والتكليفي محكم. أما
إذا كان أحدهما مسببا عن الاخر، كمانعية لبس الحرير للرجال في
الصلاة، حيث إنها مترتبة ظاهرا على حرمة لبسه لهم، ولذا ترتفع
بارتفاع حرمته لضرورة من برد، أو مرض، أو حرب، أو غير ذلك، إذ
لو كانا معلولين لعلة ثالثة لم يكن ارتفاع أحدهما موجبا لارتفاع الاخر،
كما هو واضح، قال في العروة في شرائط لباس المصلي:
42



(المسألة - 38 - إذا انحصر ثوبه في الحرير، فان كان مضطرا إلى لبسه
لبرد أو غيره فلا بأس بالصلاة فيه)، أو العكس وهو ترتب
التكليف كوجوب الوفاء بالعقد على الوضع كالملكية الحاصلة بالعقد
فواضح لكون دليل العلة دليل المعلول، وبالعكس وهو أقوى من
دلالة أحد المتلازمين على الاخر.
وأما إذا لم يكن أحدهما مترتبا على الاخر، فلعدم مانع من الاطلاق
بعد وجود جامع بين الحكمين، فإن المنع لو وجد لشمل كلا من
التكليفي والوضعي كشمول الجواز والحل لكليهما أيضا، فإن الحل
يتعلق بفعل المكلف سواء أكان تصرفا خارجيا كالأكل والشرب و
اللبس، أم اعتباريا كالبيع ونحوه، فمعنى حلية الفعل مطلقا هو عدم
المنع عنه، فكما لا مانع عن حله تكليفا فكذلك لا مانع عن حله
وضعا،
ولذا يصح التمسك بمثل قوله تعالى: (أحل الله البيع)، وقوله صلوات
الله وسلامه عليه:
(الصلح جائز بين المسلمين) لنفي ما شك في شرطيته شرعا مع كون
الشرطية حكما وضعيا، فلا ظهور في الحلية والجواز في خصوص
الحلية التكليفية.
وبالجملة: فإطلاق دليل الحكم لكل من التكليفي والوضعي محكم ما
لم تقم قرينة على الاختصاص بأحدهما، كما هو ظاهر.
الثالث: أن الاجزاء الموجب لسقوط الامر إما مترتب على كون المأتي
به مصداقا حقيقيا للطبيعي المأمور به وهو واضح، وإما مترتب على
كون المأتي به فردا ادعائيا له بجعل الشارع كالأبدال الاضطرارية من
الصلوات العذرية، والوضوءات الجبيرية وغيرهما، فينتفي
الاجزاء بانتفائهما، ومع الشك في جعل الشارع فرديته للمأمور به
يرجع إلى قاعدة الاشتغال، لكون الشك في وادي الفراغ، ومقتضى
الشغل اليقيني لزوم تحصيل الفراغ القطعي، كما لا يخفى.
الرابع: أن التقية في الجملة من العناوين الثانوية كالنذر، والشرط، و
الضرر
43



والحرج وغيرها الحاكمة على أدلة أحكام العناوين الأولية سواء
أكانت تلك الأحكام استقلالية كحرمة شرب الخمر، وحرمة التصرف
في مال الغير، أم ضمنية كالجزئية أم غيرية كالشرطية والمانعية، و
سواء أكان الجز أو الشرط مما له دخل مطلق وهو المسمى بالركن
أم لا، ولحكومتها على تلك الأدلة يحكم بصحة صلاة من يسجد تقية
على ما لا يصح السجود عليه عندنا، مع أن السجدتين من كل ركعة
ركن، ومقتضى الركنية بطلان الصلاة بتركه، أو بالاتيان به فاسدا، وكذا
يحكم بصحة صلاة من توضأ تقية بالنبيذ، أو مسح كذلك على
الخفين، مع أن الطهارة الحدثية من الخمسة التي تعاد الصلاة منها، إلى
غير ذلك من موارد ترك الركن فيها تقية، فلاحظ.
الخامس: أن التقية وإن كان لها إضافات عديدة بالنسبة إلى المتقي، و
المتقى منه، والمتقى به، لكنها تنقسم بحسب ذاتها إلى قسمين:
أحدهما: التقية الخوفية سواء أكان الخوف على النفس، أم العرض، أم
المال، وسواء أكان ذلك على نفس المتقي أم غيره من أهله، أو
إخوانه المؤمنين، وسواء أكان الضرر الذي يخاف منه عاجلا أم آجلا،
لاطلاق الضرورة والخوف الواردين في أخبار التقية.
ثانيهما: التقية المداراتية (هذا هو المنضبط في كلماتهم، لكن الأولى -
المدارية -، لسقوط التاء في النسبة كالمكي والجهيني ونظائرهما،
لكن قيل: غلط مشهور خير من صحيح مهجور، فتدبر) التي
شرعت لجلب المحبة وتأليف القلوب وتوحيد الكلمة، ومورد
البحث في
مسألة الحج مع العامة هو القسم الأول. إذا عرفت هذه المقدمات،
فاعلم: أن الكلام يقع في مقامين: الأول: في الدليل الاجتهادي، و
الثاني في
الأصل العملي.
أما المقام الأول ففيه مبحثان:
الأول: في الأدلة العامة، والثاني في الأدلة الخاصة.
44



أما المبحث الأول، فحاصله: أن ما استدل أو يمكن أن يستدل به على
صحة الحج مع العامة في التقية الخوفية وجوه: أحدها: قوله صلى الله
عليه وآله في حديث رفع التسعة عن الأمة: (وما اضطروا إليه)
(رواه الصدوق في باب التسعة من الخصال، الحديث - 9 -)
بتقريب: أن الاضطرار إلى ترك الشرط الذي هو يوم عرفة، وإيجاد
الوقوف في غيره كيوم التروية يرفع شرطية يوم عرفة للوقوف بالنسبة
إلى المتقي الذي هو من مصاديق المضطر، فيصير الوقوف
للمتقي مطلقا غير مشروط بيوم عرفة، ومقتضى سقوط الشرطية هو
الاجزاء، وعدم وجوب الإعادة، هذا.
وأورد عليه تارة بأن الاضطرار إلى فعل شئ أو تركه لا يقيد الواقع
حتى يكون المضطر إليه مأمورا به في قبال الواقع كالصلاة
السفرية التي هي مأمور بها كالحضرية، والمفروض أن الاجزاء مترتب
على التقييد الذي هو أجنبي عن الاضطرار، لان شأنه رفع
الخطاب بمناط قبح مطالبة العاجز مع بقاء المصلحة الواقعية على
حالها، فلا موجب للاجزاء.
وأخرى: بأنه بعد تسليم التقييد يختص ذلك بالاجزاء والشروط
المقيدة بحال التمكن، لان ما ثبت دخله المطلق حتى في حال العجز
عنه
يكون سقوطه موجبا لانتفاء الحكم عن المركب والمشروط، و
المفروض أن للوقت شرطية مطلقة للوقوف، لما دل من النص و
الاجماع
على فوات الحج بعدم إدراك الوقوفين في وقتهما، فلا مجال للتشبث
بحديث الرفع لأجزأ الحج مع العامة، بل عليه الإعادة في القابل إن
بقيت استطاعته إليه أو استطاع سابقا، وان كانت استطاعته في هذا
العام كشف ذلك عن عدم تشريع وجوب الحج عليه فيه.
وثالثة: بما عن المحقق النائيني (قده) من اختصاص الحديث
بالوجوديات، لان شأنه رفع الموجود اضطرارا أو إكراها، وتنزيله في
صقع
التشريع منزلة المعدوم، فالتكتف الواقع في الصلاة تقية، أو تناول
المفطر نسيانا، أو إكراها في الصوم معدوم
45



شرعا أي لا حكم له، فالمانعية الثابتة للتكتف ونحوه في الصلاة، وكذا
الافطار للصوم مرفوعة في حال الاضطرار، فالحديث ينزل
التكتف مثلا منزلة عدمه في عدم تأثيره في بطلان الصلاة، وليس شأن
الحديث تنزيل المعدوم منزلة الموجود كالمقام، إذ المفروض
كون المضطر إليه هو ترك الشرط لا فعله، فلا ينزل الحديث عدم
الوقوف في يوم عرفة منزلة وجوده فيه، لعدم شمول الرفع للعدميات
حتى يستدل به في المقام للاجزاء، ولذا لا يمكن تصحيح الصلاة
الفاقدة لجز أو شرط نسيانا أو اضطرارا بحديث الرفع بوجه، ضرورة
أن جريانه في نسيان السورة مثلا يكون من تنزيل المعدوم منزلة
الموجود وهو خلاف ما يقتضيه الحديث من الرفع الذي مرجعه
تنزيل
الموجود منزلة المعدوم.
وجريانه في المركب من السورة وغيرها أعني الصلاة الفاقدة للسورة
نسيانا يقتضي تنزيل الموجود وهو الصلاة منزلة المعدوم، و
لازمه الوضع وهو إعادة الصلاة، ومن المعلوم أن شأن الحديث الرفع،
لا الوضع، مع أنه لا خلاف الامتنان. وجريانه في نفس الجزئية أو
الشرطية في غير محله، لعدم تعلق النسيان بها كما هو واضح.
وأنت خبير بما في الجميع:
إذ في الأول: أن الرفع في الكل إلا فيما لا يعلمون، بل فيه أيضا على
وجه بوزان واحد، ومن المعلوم أن الرفع فيها واقعي، فالشرطية في
حال الاضطرار مرفوعة واقعا، ولازمه الاجزاء، لصيرورة الفاقد للشرط
اضطرارا مأمورا به واقعا، فيكون مجزيا. ولا يرد عليه: أن
لازمه جواز القضاء على حذو المضطر إليه، لأنه فات كذلك كما هو
شأن موضوعية العنوان كالمسافر والحاضر، وذلك لامكان انحصار
المصلحة الاضطرارية بالوقت الأدائي الكاشف عنه وجوب القضاء
على النحو الاختياري، فلا وجه لرفع اليد عن الظهور السياقي في الرفع
الواقعي كما لا يخفى.
وفي الثاني أن قضية حكومة حديث الرفع على أدلة الاجزاء والشرائط
هو
46



ارتفاع شرطية الوقت للوقوفين في حال الاضطرار، كارتفاع مانعية
المسح على الخفين بأدلة التقية، وما دل على فوت الحج بفوات
الوقوفين محكوم بحديث الرفع، لأنه من أدلة شرطية الوقت للوقوفين،
فالاضطرار يرفع هذه الشرطية، ومع الغض عن حكومة الحديث
والبناء على التعارض يرجع في المجمع إلى أصالة عدم الشرطية كما
لا يخفى.
وفي الثالث: أن للعناوين المذكورة في الحديث من الاكراه، و
الاضطرار، وغيرهما نحو تقرر وثبوت بحيث يصح إسناد الرفع
التشريعي إليها، بأن يقال: إن نفس عنوان الاضطرار مثلا مرفوع في
وعاء التشريع من دون نظر إلى المعنون من كونه وجوديا أو
عدميا، فالعدمي ان كان ذا أثر شرعي يرتفع بالاكراه، أو الاضطرار، كما
أن الوجودي كذلك، فكما يجري حديث الرفع في الوجودي
كالتكتف ونحوه من الموانع وينفى أثره وهو المانعية، فكذلك يجري
في العدمي كترك السورة ونحوها من الاجزاء والشرائط، و
يرفع أثر هذا الترك وهو البطلان، فوزان ترك السورة مثلا اضطرارا من
تقية أو غيرها وزان التكتف وقول آمين فيها، كذلك في
صحة إسناد الرفع إليهما، وفي المقام كذلك، فإن الاضطرار إلى ترك
الوقوف في يوم عرفة يرفع أثره أعني البطلان، فيقع الوقوف في
غير يومها صحيحا، فلا يعاد.
والحاصل: أن حديث الرفع إنما يرفع أثر المضطر إليه الثابت له لولا
الاضطرار سواء أكان نفس المضطر إليه وجوديا كالتكتف، و
قول آمين، ونحوهما من الموانع، أم عدميا كترك جز أو شرط، وأثره
المرفوع في الوجودي هو المانعية، وفي العدمي هو نفي
الجزئية أو الشرطية المقتضي للاجزاء، وعدم وجوب الإعادة،
فالاضطرار إلى ترك الوقوف في يوم عرفة يرفع البطلان، فلا يحتاج إلى
إعادته في يومها، فيثبت صحة الوقوف في غير يوم عرفة اضطرارا من
دون توقفه على إثبات
47



الشرط، وتنزيل المعدوم منزلة الموجود، حتى يرد عليه: أن هذا وضع
لا رفع، وهو خلاف ما يقتضيه الحديث من الرفع وتنزيل الموجود
منزلة المعدوم، كما لا يخفى.
وبالجملة: فالاشكال على جريان الحديث في ترك الجز أو الشرط
من هذه الناحية مندفع.
نعم يمكن الاشكال على جريانه في تركهما من ناحية أخرى، وهي: أن
الرفع لما كان تشريعيا، فلا بد من وروده على ما يكون وضعه و
رفعه بيد الشارع، ومن المعلوم عدم أثر شرعي لترك الجز أو الشرط
حتى يرفعه حديث الرفع، وإنما أثره البطلان وهو عدم انطباق
المأمور به على الفاقد للجز أو الشرط، وليس ذلك أثرا شرعيا، وكذا
وجوب الإعادة، لأنه حكم عقلي مترتب على بقاء الامر الأول الذي
لم يتحقق امتثاله بفاقد الجز أو الشرط.
كما يشكل أيضا جريان الحديث في الجزئية، أو الشرطية، أو منشئهما
الذي هو من الأحكام الشرعية التي تنالها يد التشريع.
تقريب الاشكال: أن المضطر إليه هو تركهما، لا حكمهما حتى يرفع
بالاضطرار، ولا أثر شرعيا للترك الذي هو المضطر إليه حتى
يرفعه الاضطرار، فلا يصح أن يقال في ترك القراءة نسيانا أو اضطرارا:
إن الجزئية مرفوعة، لما عرفت من عدم ترتب أثر شرعي على
نفس الترك الذي هو مورد الاضطرار.
وعليه فحديث الرفع يجري في وجود المانع ويرفع أثره الشرعي و
هو المانعية، ولا يجري في ترك الجز أو الشرط، لعدم أثر شرعي
للترك حتى يتعلق به الرفع، فالتمسك بحديث الرفع لصحة الوقوف و
إجزائه مع العامة في غير يوم عرفة غير سديد، لان المضطر إليه
هو ترك شرط الوقوف، وقد عرفت أنه ليس لترك الجز أو الشرط أثر
شرعي حتى يرفعه حديث الرفع، والله العالم.
48



ثانيها: حسنة الفضلاء، قالوا: (سمعنا أبا جعفر عليه السلام يقول: التقية
في كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له) (1) بتقريب: أن
الاضطرار رافع للمنع، وموجب للحلية التي هي أعم من التكليفية و
الوضعية، فكل تصرف ممنوع تكليفا ووضعا جائز وحلال عند
الضرورة سواء أكان ذلك التصرف خارجيا كالأكل، والشرب، و
اللبس، أم اعتباريا كالبيع، والهبة، وغيرهما، لشيوع استعمال الحل
في كل من التكليفي والوضعي، كقوله تعالى: (أحل الله البيع)، و
(أحلت لكم بهيمة الأنعام) (2)، فإنه لا إشكال في حلية البيع وبهيمة
الانعام
تكليفا ووضعا، وكقوله صلوات الله عليه في حديث: (الصلح جائز
بين المسلمين) (3) إذ لا ينبغي الاشكال في شمول الجواز لكل من
التكليفي والوضعي، بل هو المراد أيضا في مثل قولهم عليهم السلام:
(كل شئ لك حلال) ونحوه مما يدل على قاعدة الحل، فالمائع
المردد بين الخمر والخل ونحوه من الشبهات الموضوعية، أو شرب
التتن ونحوه من الشبهات الحكمية حلال أي لا منع عن التصرف فيه
بشربه، أو بيعه، أو غيرهما من أنحاء التصرفات الخارجية والاعتبارية.
(1) الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 25 من أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما الحديث - 2 -، رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن
أذينة عن إسماعيل الجعفي، ومعمر بن يحيى بن سالم ومحمد بن مسلم وزرارة، وغير خفي على من
راجع تراجم هؤلاء أنهم من الأجلة الذين يعتمد على رواياتهم، فلاحظ.
(2) سورة المائدة، الآية 1.
(3) الوسائل ج 13 كتاب الصلح الباب 3 الحديث 2 ص 164.
وبالجملة: فلا ينبغي الاشكال في شمول الحل لكل من التكليفي و
الوضعي وتخصيصه بالتكليفي موقوف على قرينة، وعليه (فشرب)
الخمر، والتكتف في
49



الصلاة، وقول: - آمين -، ولبس الحرير، والذهب، وغير المأكول
فيها، والافطار عند سقوط الشمس عن دائرة الأفق، والوقوف
بعرفات والمشعر في غير وقتهما لأجل التقية التي هي من الضرورات
(حلال) أي غير ممنوع شرعا، ومن المعلوم أن الحلية في بعضها
تكليفية كشرب الخمر، وفي الباقي وضعية، إذ حلية التكتف ونحوه
من الموانع يراد بها عدم المانعية التي هي من الأحكام الوضعية.
فحلية الوقوف في غير وقته المجعول له أولا عبارة عن جوازه أي عدم
المنع عنه شرعا، وهو لازم سقوط شرطية يوم عرفة للوقوف في
حال التقية، وتنزيله منزلة الوقوف الواقع في وقته الأولي في كونه
مصداقا للوقوف المأمور به، ومسقطا للتكليف.
وبهذا البيان يندفع ما قد يتوهم من أن الاجزاء عقلي، فكيف يثبت
بمثل قوله عليه السلام: (فقد أحله الله). توضيح الاندفاع: أن المراد
بالحلية هو الجواز المترتب على رفع الشرطية، وتنزيل فاقد الشرط
منزلة واجده في كونه مصداقا للطبيعي المأمور به، فلا مجال للتوهم
المزبور أصلا.
ثالثها: صحيحة أبي الصباح الكناني، قال: (والله لقد قال لي جعفر بن
محمد - عليهما السلام: ان الله علم نبيه التنزيل والتأويل، فعلمه
رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام. قال:
وعلمنا والله، ثم قال: ما صنعتم من شئ أو حلفتم عليه من يمين في
تقية فأنتم منه في سعة) (الوسائل ج 16 كتاب الايمان الباب 12 ص 134 الحديث - 2 -، رواه الكليني عن
محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي الصباح،
و هؤلاء كلهم ثقات، كما لا يخفى على من راجع تراجمهم.)، بتقريب: أن الاتيان بالمأمور به فاقدا
لجز، أو شرط، أو واجدا لمانع تقية كترك السورة في الصلاة، أو
الوقوف بعرفات في غير يوم عرفة، أو الاتيان بالصلاة مع التكتف، و
كذا الحلف تقية كل ذلك يكون المكلف منه في السعة المعلوم
شمولها
50



- خصوصا بقرينة الحلف - للتكليف والوضع، فإن السعة ترفع
الكفارة المترتبة على الحنث، ومن البديهي كون شغل الذمة بالكفارة
حكما وضعيا، لا تكليفيا.
وبالجملة: فوجوب إعادة المأتي به الفاقد لجز أو شرط أو الواجد
لمانع لأجل التقية ضيق على المكلف، فلا بد من رفعه عنه بإطلاق
السعة، فوجوب إعادة الوقوف الواقع في غير وقته تقية ضيق على
المكلف، فهو مرفوع عنه، ولازم رفعه عنه هو إجزاء ما أتى به من
الوقوف في غير يوم عرفة.
رابعها: حسنة بل صحيحة هشام بن سالم قال: (سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول ما عبد الله بشئ أحب إليه من الخباء، قلت وما
الخباء؟ قال: التقية). (الوسائل ج 11 كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر باب 24 من أبواب
الامر والنهي وما يناسبهما الحديث 14، رواه محمد بن علي بن الحسين في معاني الأخبار عن أبيه
عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن سالم، وهؤلاء
كلهم أجلاء، كما هو ظاهر لمن راجع كتب الرجال.)
تقريب الاستدلال بها: ان أحب العبادات هي
العبادة الواقعة على وجه التقية، ومن البديهي امتناع اجتماع الأحبية
مع البطلان، لكشف الفساد عن عدم المحبوبية، والمفروض كون
العبادة المتقى بها أحب العبادات، فلا بد أن تكون صحيحة حتى
تتصف بالأحبية، وإذا كانت صحيحة فهي مجزية لا محالة.
وبعبارة أخرى: المراد بالأحبية هي الأفضلية، ومن المعلوم أن العبادة
لا تتصف بالأفضلية إلا بعد الفراغ عن صحتها، إذ لا معنى
لاتصاف الفاسد بالأفضلية. وعليه فالوقوف الفاقد لشرطه وهو كونه
في يوم عرفة تقية يتصف بالأحبية، وهل يعقل عدم الاجزاء مع
هذا الوصف؟ وبالجملة: أفضلية العمل المتقى به تكشف عن سقوط
المتروك تقية من جز،
51



أو شرط عن الجزئية أو الشرطية، وسقوط ما وجد فيه من الموانع عن
المانعية، فهو حينئذ مأمور به على وجهه، وقد أتي به كذلك،
فيكون مجزيا عقلا.
فالمتحصل: أن المستفاد من أحبية العبادة المتقى بها من غيرها هو
صحتها، وأن المفقود ليس جزا، أو شرطا في حال التقية، وكذا
الموجود ليس مانعا كذلك، فالعمل حينئذ مجز لا محالة، لكونه مأمورا
به على وجهه.
وقد ظهر مما ذكرنا: أنه لا يصغى إلى دعوى كون المستفاد من أدلة
التقية مجرد الحكم التكليفي وهو وجوب الاتقاء، والحفظ عن
العدو، فيكون وجوب العمل المتقى به تكليفا محضا، وأن التقية لا
توجب صيرورة العمل مأمورا به شرعا حتى يجزي، نظير قبح التجري
عقلا، فإن قبحه لا يسري إلى الفعل، بل هو باق على ما كان عليه من
الحكم قبل التجري، فكما لا يكون التجري من العناوين الثانوية
المغيرة للأحكام الأولية، فكذلك التقية، فلا وجه للاجزاء أصلا، و
عدم الاجزاء كاشف عن فساد العمل.
وجه عدم السماع هو: أن الأحبية وهي الأفضلية لا تجتمع مع الفساد،
بل تكشف عن الصحة التي هي من قبيل الموضوع للأفضلية، كما
عرفت تفصيله.
والحاصل: أن أفضلية العبادة المأتي بها تقية تدل إنا على صحتها، و
أنها أفضل مصاديق العبادة الصحيحة، فكيف يمكن التفوه بعدم
الاجزاء.
خامسها: صحيحة معلى بن خنيس على الأقوى، قال: (قال لي أبو عبد
الله عليه السلام:
يا معلى: اكتم أمرنا، ولا تذعه، إلى أن قال عليه السلام: يا معلى: ان
التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، يا معلى: ان الله يحب
أن يعبد في السر كما يحب أن يعبد في العلانية، والمذيع لامرنا
كالجاحد له) (الوسائل ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 24 من أبواب
الأمر والنهي وما يناسبهما الحديث 23، رواه سعد بن عبد الله في بصائر الدرجات عن أحمد بن
محمد بن عيسى، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن حماد بن عيسى عن حريز بن
عبد الله المعلى بن خنيس، ورجال هذا السند كلهم ثقات كما في - جش - و - ست -
نعم اختلفوا في وثاقة المعلى، والذي ظهر لنا بعد الفحص والتأمل وفاقا لجماعة وثاقته
كما حررنا ذلك في رسالة التقية.)
، فإن الظاهر أن المراد بالعبادة سرا
52



هي العبادة الواقعة على نحو التقية، لأنها تسر العبادة الأولية الاختيارية
وتخفيها، فالعمل المتقى به عبادة محبوبة، ويمتنع أن يكون
كذلك إلا إذا كان صحيحا، لما مر آنفا من امتناع اجتماع العبادة
المحبوبة مع البطلان، إذ الباطل هو ما لا ينطبق عليه المأمور به، فيمتنع
أن يكون الباطل عبادة محبوبة للمولى، لاستلزامه التناقض وهو
الانطباق الذي يراد به الصحة، وعدم الانطباق الذي يراد به البطلان،
فوزان الاستدلال بهذه الصحيحة على الاجزاء وزان الاستدلال
بسابقتها عليه، كما لا يخفى.
ثم إن هنا وجوها أخر قد استدل بها على صحة الوقوف مع العامة،
كالروايات الدالة على الامر باستعمال التقية في الدين، (الوسائل، ج 11 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الباب 24 من أبواب
الأمر والنهي وما يناسبهما.) وكعمومات
نفي الحرج في الشريعة، وكرواية (الوسائل كتاب الطهارة الباب 39 من أبوبا الوضوء، الحديث الخامس) عبد الأعلى مولى آل سام الامرة
بالمسح على المرارة المتضمنة لقول أبي عبد الله عليه السلام:
(يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله) الذي يستفاد منه على ما قيل:
قاعدة كلية وهي عدم سقوط المشروط بسقوط شرطه، للحرج، فيدل
على بقاء المشروط على حاله، فيكون نفس الوقوف مأمورا به و
مجزيا، نظير قاعدة الميسور ونحوها من الأدلة الثانوية الدالة على عدم
ارتفاع الحكم عن المشروط بسقوط شرطه، لكون دخل القيد في
المقيد على نحو تعدد المطلوب، لكن لقصورها سندا، أو دلالة، أو
كليهما
53



كما قيل أعرضنا عنها، هذا تمام الكلام في المبحث الأول.
وأما المبحث الثاني، فيذكر فيه وجوه:
منها: رواية أبي الجارود زياد بن منذر، قال: (سألت أبا جعفر عليه
السلام: انا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما
دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحي،
فقال: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، والصوم
يوم يصوم الناس) (الوسائل ج 7 كتاب الصوم الباب 57 من ابواب ما يمسك عنه الصائم الحديث - 7 - ص 95
رواه الشيخ باسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن عبد الله بن المغيرة عن
أبي الجارود.) ولا بد في الاستدلال بها من البحث في جهتين:
الأولى في دلالتها والثانية في سندها.
أما الأولى، فقيل: إنها تحتمل وجوها ثلاثة:
أحدها: أن زمان الصوم والافطار والتضحية هو ما يجعله الناس لها، فلا
واقع له، نظير الاحكام على مذهبهم، لما اشتهر من أنه لا حكم
عندهم لواقعة إلا ما يؤدي إليه رأي المجتهد، وعليه فما جعلوه زمانا
للتضحية وأخويها هو زمانها حقيقة، ولازمه الاجزاء.
لكن هذا الاحتمال مما ينبغي القطع بفساده، لاعتراف العامة أيضا بأن
للصوم وأخويه زمانا معينا بحسب الجعل الشرعي، وإنما
الاختلاف في الامارات المحرزة له، فإنهم يحكمون بثبوت ذلك
بحكم قاضيهم بالهلال، أو بشهادة فاسق منهم برؤيته، ونحن لا نقول
به،
فالاختلاف إنما هو في مقام الاثبات، لا الثبوت، كما لا يخفى. فعلى
هذا الاحتمال لا تكون هذه الرواية دليلا على الاجزاء في مورد
البحث،
لفساد أصل هذا الاحتمال.
ثانيها: تنزيل الزمان الذي جعله المخالفون يوم التضحية وأخويها
منزلة
54



الزمان الواقعي المجعول لها شرعا في الآثار الشرعية مع الشك في
الموافقة، بقرينة السؤال، لوروده مورد الشك، فالتنزيل ظاهري،
كتنزيل المشكوك منزلة المتيقن في الاستصحاب، لا واقعي، كتنزيل
الطواف منزلة الصلاة، فلا تنزيل مع العلم بالخلاف أو الوفاق كما
هو شأن كل حكم ظاهري.
ثم إن مقتضى إطلاق التنزيل هو وجوب متابعتهم ولو لم تكن هناك
تقية، كما لعله ظاهر قوله: (وكان بعض أصحابنا يضحي) لظهوره
في عدم تضحية البعض الاخر من أصحابنا، فلو كان هناك تقية لضحى
الجميع، فليتأمل، فتدل هذه الرواية على حجية حكم القاضي
المخالف في الموضوعات بعد التعدي عن المورد إلى غيره، لالقاء
العرف خصوصية المورد، كحجية حكم القاضي المؤالف، فيكون
حكم
حاكمهم حكما ظاهريا، لاخذ الشك فيه بقوله: (إنا شككنا إلخ) و
حجة على الجميع حتى الشيعي، كما هو مورد الرواية المزبورة، كحكم
حاكمنا، ومن المقرر في محله عدم إجزاء الحكم الظاهري مع
انكشاف خلافه، كما لا يخفى.
نعم إذا كان التنزيل مختصا بحال التقية، وثبت أنهم قائلون بحجية
حكم القاضي حتى مع العلم بالخلاف، لكون حجيته عندهم على نحو
الموضوعية، كما نسب إلى جماعة منهم دعوى الاجماع على ذلك،
فلا محيص حينئذ عن كون العمل الموافق لهم تقية مجزيا، لان عدم
الاجزاء حينئذ مخالفة لهم في المذهب، وهو غير جائز. وعليه
فالوقوف مع المخالفين تقية مجز ولو مع العلم بالخلاف، وعدم كون
زمانه يوم عرفة.
ثالثها: اختصاص التنزيل المزبور بحال التقية، فلا يشمل حال الاختيار،
كما لا يتعدى عن مورد التنزيل وهو التضحية والفطر والصوم
إلى المقام أعني الوقوف الذي هو من أركان الحج، بخلاف التضحية
التي هي من مناسك منى، وليست من الأركان، فإنها مشمولة للرواية،
فعلى هذا الاحتمال لا تدل أيضا على إجزاء
55



الوقوف معهم، لعدم الدليل على جواز التعدي عن موردها إلى محل
البحث وهو الوقوف.
إذا عرفت هذه الاحتمالات، فاعلم: أن الاستدلال بهذه الرواية مبني
علي مقدمتين:
إحداهما: كون الرواية واردة مورد التقية حتى تسقط لأجلها شرطية يوم
عرفة للوقوف، إذ لو لم تكن واردة موردها لسقطت عن
الاعتبار بالاعراض، لعدم التزام أحد بوجوب متابعتهم مع عدم التقية.
ثانيتهما: إلقاء خصوصية المورد وهي التضحية وأخواها، ليتعدى إلى
الوقوف الذي هو مورد البحث.
أما المقدمة الأولى، فثبوتها غير بعيد خصوصا بقرينة قول السائل: (من
تلك الأعوام)، فإن الظاهر أن مراده الأعوام التي كانت التقية فيها
شديدة، فتدبر.
وأما الثانية، فهي في غاية الاشكال، حيث إن التعدي منوط بأحد
أمرين:
الأول: القطع بوجود المناط في غير مورد الرواية أيضا.
الثاني: كون الكلام من العلة المنصوصة، وكلاهما مفقود كما هو
واضح، فلا وجه للاستدلال برواية أبي الجارود على صحة الوقوف مع
العامة تقية. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
وأما الجهة الثانية، وهي سند الرواية، فملخص الكلام فيها: أن إسناد
الشيخ (ره) إلى محمد بن محبوب وان كان صحيحا، كما (أن محمد
بن علي بن محبوب شيخ القميين في زمانه ثقة، عين، فقيه، صحيح
المذهب) على ما في جش، وكما (أن العباس بن معروف أبا الفضل
مولى جعفر بن عبد الله الأشعري قمي ثقة) على ما في جش، وكما
(أن عبد الله بن المغيرة البجلي كوفي، ثقة، ثقة، لا يعدل به أحد من
جلالته، ودينه، وورعه) علي ما في جش، لكن الاشكال يقع في
جهات ثلاث:
56



الأولى: اشتراك العباس بين الثقة والضعيف مع اتحاد الطبقة، ودعوى
انصراف الاطلاق إلى ابن معروف خالية عن البينة، وان قال في
محكي مشرق الشمسين:
(العباس الذي يروي عنه محمد بن علي بن محبوب فإنه كثيرا ما يقع
مطلقا غير مقرون بفصل مميز، ولكنه ابن معروف الثقة)، وربما
يظهر ذلك أيضا من التفرشي (ره).
الثانية: اشتراك عبد الله بن المغيرة بين البجلي الجليل الثقة، وبين
الخزاز المجهول مع اتحاد الطبقة، لكون كليهما من أصحاب الكاظم و
الرضا عليهما السلام، ولكن يندفع هذا بما في رجال المامقاني (قده)
من (أن أساطين الفن نصوا على أن المراد به عند الاطلاق هو الثقة
الجليل بلا تأمل ولا ريب) هذا، وعن المشتركاتين (تمييز الثقة الجليل
برواية أيوب بن نوح، والحسن بن علي بن عبد الله بن المغيرة عن
جده، والحسن بن علي بن فضال عنه).
الثالثة: كون أبي الجارود ضعيفا، قال جش: (كان من أصحاب أبي
جعفر، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام، وتغير لما خرج زيد
رضي الله عنه)، (زيدي المذهب وإليه تنسب الزيدية الجارودية)
ست، (زيدي أعمى، وإليه تنسب الجارودية منهم) جخ، ومجرد
التغير
عند خروج زيد (رض) لا يقدح في اعتبار روايته إذا كانت قبل التغير،
إلا أن لا يثبت كونها قبله، فحينئذ لا يشمله دليل حجية الخبر.
ودعوى: عدم قدح ضعف أبي الجارود في الوثوق بصدور الرواية و
الاعتماد عليها بعد كون الراوي عنه ثقة وهو ابن المغيرة البجلي،
فابن الجارود وان كان ضعيفا إلا أنه كان عند ابن المغيرة قرائن على
صحة هذه الرواية بالخصوص من روايات أبي الجارود، فأخذها
عنه، واعتمد عليها، ولم يعتمد على سائر رواياته، لعدم شاهد على
صدقها، فلا بأس بسند هذه الرواية، (غير مسموعة) لأنه إن أريد
إثبات وثاقة أبي الجارود بمجرد نقل ابن المغيرة عنه، ففيه: أنه مبني
على كون رواية
57



ثقة عن شخص توثيقا للمروي عنه، وهذا بمكان من الوهن والسقوط،
لما نشاهده كثيرا من رواية الثقات عن الضعاف، وإن أريد
اعتبار هذه الرواية بالخصوص، لقرائن تدل على صحتها، ففيه: أنه
مجرد احتمال لم يقم عليه برهان، فلم يثبت كون نقل ابن المغيرة عن
أبي الجارود على وجه الاعتماد حتى يدل إنا على وجود قرائن
الصدق، ولا أقل من الشك في ذلك، وهو كاف في عدم الحجية، كما
لا
يخفى.
فالمتحصل: قصور رواية أبي الجارود سندا ودلالة عن الاعتبار، فلا
مجال للاستدلال بها على صحة الوقوف مع العامة، والله العالم.
ومنها: النبويات الامرة بالحج في الزمان الذي يحج فيه الناس، تقريب
الاستدلال بها: أن ظاهرها تنزيل الوقت الذي يحج فيه الناس
منزلة الوقت المجعول للحج بحسب التشريع الأولي، ومقتضى إطلاق
التنزيل هو ترتيب جميع الآثار الشرعية الثابتة للمنزل عليه على
المنزل التي منها شرطية اليوم الذي يقفون فيه للوقوف، كشرطية يوم
عرفة له، فلا محيص حينئذ عن الاجزاء.
فدعوى: أن ظاهرها كون وقت الحج هو الزمان الذي تداول فيه الحج
أعني يوم عرفة، وذلك أجنبي عما نحن بصدده من كون الوقوف
في غير يوم عرفة مع العامة تقية مجزيا غير مسموعة:
أولا: بأنه لا يصح التعبير عن الواقع بما لا يكون مصيبا إليه غالبا، بداهة
مخالفتهم له كثيرا بعد بنائهم على اعتماد قاضيهم على شهادة
الفاقد لشرائط قبول الشهادة، وكون ثبوت الهلال عندهم على غير
الوجه المشروع عندنا، ولا أقل من مخالفته للاستصحاب.
وثانيا: بعدم الحاجة إلى هذا النحو من البيان بعد تعيين زمان الحج
بالنصوص البيانية القولية والفعلية.
58



وثالثا: بابتناء صحة هذه الدعوى على صرف لفظ (الناس) عن معناه
المصطلح أعني العامة إلى معناه اللغوي، وهو خلاف ظاهر سياق
تلك النبويات، بل نفس هذا التعبير قرينة على صحة التنزيل المذكور،
وأن المراد بالزمان ما يجعلونه زمانا لحجهم كما لا يخفى، فلا بد
من كون النبويات المشار إليها في مقام التنزيل، وجعل الحج مع
المخالفين ولو في غير وقته الحقيقي صحيحا.
وظاهر إطلاق التنزيل وإن كان صحة الحج معهم مطلقا ولو بدون
التقية، إلا أن مقتضى الأدلة الأولية بطلان العمل الفاقد لجز، أو
شرط، أو الواجد لمانع، كما لا خلاف ولا إشكال في ذلك أيضا إلا مع
التقية، فيقيد إطلاق التنزيل بذلك، ويختص الاجزاء بصورة التقية.
نعم قضية إطلاق التنزيل عموم الحكم لصورة العلم بالخلاف أيضا من
دون دليل على التقييد بصورة الشك، فيكون مؤداه حكما واقعيا
ثانويا مجزيا عن الحكم الواقعي الأولي المجعول للحج حتى مع
انكشاف الخلاف.
فدعوى: اختصاص التنزيل بحال الشك، ليكون مؤداه حكما ظاهريا
غير مجز مع انكشاف الخلاف مجازفة، إذ ليس في النبويات المشار
إليها من الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري عين ولا أثر، فكيف
يصح دعوى أن وجوب متابعة العامة في الحج من الاحكام
الظاهرية غير المجزية عن الواقع.
والحاصل: أنه لا ينبغي الارتياب في كون ظاهر النبويات تنزيل الزمان
الذي يحج فيه الناس منزلة الزمان الواقعي الأولي المجعول للحج
المستلزم للاجزاء.
فالانصاف أنه لا قصور في دلالة النبويات على إجزاء الوقوف مع
العامة في غير زمانه الواقعي تقية.
نعم الاشكال كله في سندها، وعدم انجباره حتى يصح الركون إليها، و
الشك
59



كاف في عدم الاعتبار كما هو واضح، فلا تصلح تلك النبويات حجة
على إجزاء الوقوف مع العامة في غير وقته تقية، ولكن فيما ذكرناه
من روايات المبحث الأول عدا حديث الرفع غنى وكفاية.
ويؤيد الاجزاء لو لم يدل عليه: أن الأئمة الأطهار عليهم صلوات الله
الملك الغفار، وأصحابهم الأخيار كانوا من بعد خلافة مولانا أمير
المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين إلي زمان الغيبة في شدة التقية
من العامة، وحجوا معهم في تلك المدة المديدة المتجاوزة عن مائتي
سنة مع كون أمر الحج وقوفا وإفاضة بأيدي أمراء الحج المنصوبين من
قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين، ومن المعلوم تحقق الشبهة في
ثبوت الهلال في بعض تلك السنين، بل القطع بالخلاف عادة في
بعضها، ومع ذلك لم ينبه إمام على وجوب الإعادة، أو تعدد الوقوف
مع
الامكان، ولم يتنبه أحد أيضا من الشيعة في تلك الأزمنة المتمادية
للسؤال عن صحة الحج مع العامة، إذ لو كان لبان، فعدم بيان المعصوم
عليه السلام لعدم الاجزاء دليل على الصحة، لان عدم الوجدان في
أمثال المقام يدل على عدم الوجود.
إيقاظ: لا يخفى أن الاجزاء مما ذهب إليه جماعة من الأجلة، كالعلامة
الطباطبائي على ما نسبه إليه في الجواهر، حيث قال قبل بيان أحكام
الوقوف بأسطر بعد نفي البعد عن القول بالاجزاء ما لفظه: (وقد عثرت
على الحكم بذلك منسوبا للعلامة الطباطبائي)، وكالعلامة
الكني (قده) قال في محكي قضائه: (إن قضاء المخالف تقية نافذ
يترتب عليه الآثار)، وكسيدنا الفقيه الأصفهاني صاحب الوسيلة (قده)
في أجوبة الاستفتاءات، وكثير من أجلة المعاصرين، فلاحظ.
وبالجملة: فالقول بالاجزاء ليس من الشواذ التي لا يعبأ بها، هذا تمام
الكلام في المقام الأول.
60



وأما المقام الثاني - وهو ما يقتضيه الأصل العملي - فملخصه: أن
المورد من موارد قاعدة الاشتغال، لكون الشك في الامتثال ان كانت
الاستطاعة من السنين السابقة ولم يكن فيها تقية، أو كان الهلال فيها
ثابتا عند جميع المسلمين ولم يكن فيه شبهة، لاستقرار الحج عليه
حينئذ، وتمحض الشك في فراغ ذمته عما اشتغلت به قطعا بالحج
الموافق لمذهب العامة. ومن موارد أصالة البراءة إن كانت الاستطاعة
في هذه السنة التي ابتلي فيها بالتقية، لكون الشك في أصل التكليف،
لا في سقوطه، إذ المفروض عدم إحراز كون الحج المأتي به تقية
مأمورا به كما هو واضح.
وينبغي التنبيه على أمور: الأول: قد ظهر مما تقدم في بعض
المقدمات من حكومة أدلة التقية على أدلة الاجزاء والشرائط عدم
اندراج
الحج مع العامة في فوات الحج بفوات الوقوفين، وتوقف التحلل عن
إحرامه بعمرة مفردة، وذلك لان ما دل على فوات الحج بعدم إدراك
الوقوفين إنما هو من أدلة الاجزاء، فيكون محكوما بأدلة التقية الدالة
على إدراك الحج بالوقوف معهم، لدلالتها على كونه مصداقا للحج
المأمور به، فلم يفت الوقوفان حتى يندرج المقام لأجله في فوات
الحج، فأدلة التقية تهدم الفوت الذي هو موضوع أدلة فوات الحج، و
من
هنا يظهر تقريب حكومة أدلة التقية عليها.
كما أن المقام لا يندرج في مسألة الضد أيضا، لان العدو ينادي بأعلى
صوته أن الحج الاسلامي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو ما
نأتي به، دون ما يأتي به غيرنا، فهو يبعث الناس على الحج، لا أنه
يمنعهم عنه حتى يتحقق عنوان الضد كما لا يخفى.
الثاني: أن ظاهر أدلة التقية المبدلة كون العمل المأتي به تقية مصداقا
للمأمور به، وأداء له، وامتثالا لامره، فالتقية تنزل الفاقد لجز، أو
شرط منزلة واجده، والمقترن بمانع منزلة فاقده، فالاجزاء يدور مدار
وجود عمل يؤتى به ناقصا، وعلى غير
61



وجهه لأجل التقية كالصلاة بدون السورة، أو الطمأنينة، أو مع التكتف،
أو الصوم إلى سقوط الشمس عن دائرة الأفق، أو الوقوف في غير
وقته المجعول له بحسب التشريع الأولي، فترك العمل رأسا كالافطار
في شهر رمضان تقية خارج عن موضوع الاجزاء إذ ليس التقية
في أداء الواجب، بل في تركه.
فمرسلة (1) داود بن الحصين عن الصادق عليه السلام (والله أفطر يوما
من شهر رمضان أحب إلي من أن يضرب عنقي) ونحوها غيرها (2)
مما يشتمل على وجوب قضاء الصوم أيضا تكون على طبق القاعدة،
فالتسوية بين القسمين كما عن بعض غير ظاهرة.
(1 و 2 - الوسائل، كتاب الصوم، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 4 وغيره)
الثالث: ان التقية تمتاز عن غيرها من أقسام الاضطرار بعدم اعتبار
استيعابها للوقت في الاجزاء، بخلاف غير التقية من سائر أنحاء
الاضطرار، فإن استيعابها للوقت شرط في الاجزاء على المشهور
المنصور.
والوجه في الفرق ظاهر، حيث إن ظاهر أدلة التقية خصوصا صحيحة
الكناني المتقدمة هو التوسعة، وتسهيل الامر على المكلفين، لأنه
قضية إطلاق الامر باستعمال التقية في الدين في بعض روايات الباب،
وكونها واسعة في بعضها الاخر. وأما سائر أنحاء الضرورة،
فالاجزاء فيها منوط بالاضطرار إلى صرف الوجود من الطبيعة المأمور
بها بالامر الأولي في تمام الوقت المضروب لها، ومن المعلوم
توقف صدقه على استيعاب الاضطرار للوقت.
فقد ظهر من هذا التقريب أمران:
أحدهما: انه لا يعتبر عدم المندوحة الطولية في التقية، فلو علم بارتفاع
التقية في أثناء الوقت جاز له المبادرة بالاتيان بالعمل الموافق
لها، كما لا يخفى.
62



ثانيهما: أن لازم الامر الأول افتراق التقية عن سائر أنحاء الاضطرار في
الاجزاء، حيث إنه نلتزم به في العمل الاضطراري ولو مع ارتفاع
الاضطرار في الوقت إذا كانت الضرورة تقية، ونلتزم بعدم الاجزاء مع
ارتفاع الاضطرار في الأثناء إذا كانت الضرورة غير التقية كما
هو المشهور المنصور.
وبالجملة: فلا ملازمة في الاجزاء بين التقية وبين سائر الاعذار.
الرابع: أن المنساق من روايات التقية، بل مورد جملة وافرة منها هو
اعتبار كون التقية في المذهب سواء أكانت في نفس الحكم بلا
واسطة كالمسح على الخفين والافطار عند سقوط الشمس عن دائرة
الأفق، ونحو ذلك، أم مع وساطة الموضوع، مثل كون اليوم الفلاني
أول الشهر، أو يوم عرفة، ونحو ذلك، حيث إن ثبوت الهلال بحكم
قضاتهم أيضا من مذهبهم، فالتقية في الدين تصدق على كلتا
الصورتين بوزان واحد.
ثم إن حجية حكم القاضي عندهم ان كانت مختصة بحال الشك
كحجية بحكم قضاتنا، لكون حجيته من باب الطريقية كما هو شأن
سائر
الامارات، لا من باب الموضوعية، فلا محاله تختص التقية المجزية
بصورة الشك في مطابقة حكم حاكمهم للواقع، لكون حكمه مع العلم
بالخلاف غير نافذ عندهم، ومخالفا لمذهبهم، فلا يصدق على
موافقتهم حينئذ التقية في دينهم. وإن لم تكن مختصة بحال الشك،
كما إذا
كان بناؤهم على موضوعية حكم القاضي بمعنى كونه حجة ونافذا في
مذهبهم حتى مع العلم بالخلاف، كما حكي أن جماعة منهم ادعوا
الاجماع على ذلك كانت التقية مجزية في كلتا صورتي العلم بمخالفة
حكم حاكمهم للواقع، والشك فيها، إذ المفروض نفوذ حكمه عندهم
في الصورتين، فموافقتهم فيهما تقية في الدين.
ومن هنا ظهر: أنه إذا ثبت الهلال على الوجه غير المشروع عندهم،
كما إذا ادعى
63



السلطان مثلا رؤية الهلال، ولم تكن رؤيته بانفراده حجة عندهم، و
لكن مع ذلك أجبر الناس على متابعتهم له كانت الموافقة معهم
خارجة عن مورد التقية المجزية، لفرض خروجها عن التقية في
المذهب، ومندرجة في موارد الضرر، فيجب دفع الضرر عن نفسه
بموافقة السلطان من دون دليل على صحة العمل، لقصور دليل الضرر
عن إثبات الصحة، إلا إذا نهض دليل على موضوعية مجرد الخوف
لتبدل الحكم وان كان ناشئا عن إجبار السلطان، فتدبر.
الخامس: إذا خالف التقية في مورد وجوبها، وأتى بالمأمور به الأولي،
كما إذا مسح على البشرة دون الخفين، أو أتى بالصلاة بلا تكتف،
أو وقف في يوم عرفة تاركا للوقوف يوم التروية الذي هو يوم عرفة
عندهم، ففي الصحة وعدمها قولان:
أحدهما: البطلان، والاخر الصحة.
أما الأول، فوجهه إما اقتضاء أوامر التقية لكون العمل الموافق لها
مأمورا به فعلا، فيصير المسح على الخفين جزا من الوضوء، و
التكتف
جزا من الصلاة، والوقوف في غير يوم عرفة تقية جزا من الحج،
فترك التقية في العمل ترك للمأمور به، فيبطل، لعدم انطباقه عليه. و
إما اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده كما عن الذخيرة، فالمأمور به
الأولي يبطل، للنهي عنه.
لكن في كليهما ما لا يخفى:
إذ في الأول: أنه مبني على تبدل الحكم بالتقية، وصيرورة المتقي و
المختار كالحاضر والمسافر موضوعين مستقلين عرضيين، ليكون
العمل الموافق للتقية والمأمور به الأولي وظيفتين متغايرتين
لموضوعين متضادين، كالقصر والاتمام للحاضر والمسافر، وليس
الامر
كذلك، لان غاية ما يستفاد من أدلة التقية هي بدلية الفعل الناقص عن
التام طوليا، كسائر الابدال الاضطرارية، لا عرضيا كالقصر و
الاتمام، حتى يخرج
64



المأمور به الأولي في حال التقية عن المصلحة رأسا، ليبطل حينئذ، كما
يبطل القصر في حال الحضر، فإن الالتزام بذلك في غاية البعد، بل
ينافي بعض ما تقدم من الروايات الدالة على أحبية العبادة المأتي بها
تقية، حيث إن الأحبية تقتضي محبوبية المفضل عليه وهي العبادة
الواقعة على غير وجه التقية، ومن المعلوم أن المحبوبية تستدعي بقاء
المصلحة الواقعية على حالها.
وبعبارة أخرى: التقية ليست مشرعة في قبال الواقع، بل هي موسعة
لدائرة المفرغ، ومرجع هذه التوسعة إلى جعل الفعل الناقص تقية
مصداقا ادعائيا للواقع الأولي وافيا بتمام مصلحته أو معظمها،
فمصلحة الطبيعي المأمور به قائمة بكل من مصداقيه الحقيقي و
الادعائي،
إلا أن ينطبق على الفرد الحقيقي ما يجعله مبغوضا غير صالح
للمقربية، كعنوان إذاعة السر، كما سيأتي تقريبه إن شاء الله تعالى.
وفي الثاني - وهو اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده - فساد
المبنى، كما ثبت في محله.
وأما الثاني - وهو الصحة - فقد ظهر وجهه مما ذكرنا في رد دليل
البطلان من عدم البدلية العرضية كالقصر والاتمام، وأن البدلية
طولية، ومن عدم اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده، فلاحظ.
وقد ظهر مما ذكرنا: غموض ما في رسالة شيخنا الأعظم الأنصاري
(قده) المعمولة في التقية من (صيرورة السجود على ما يصح
السجود عليه منهيا عنه، لأجل التقية، فيبطل، وتبطل به الصلاة)، و
ذلك لعدم صيرورة ما لا يصح السجود عليه اختيارا قيدا للسجود حتى
يكون وضع الجبهة على غيره مما يصح السجود عليه مبطلا للسجود و
الصلاة، بل وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه تقية واجب
نفسي، لا شرطي، فالاخلال به لا يوجب إلا استحقاق المؤاخذة على
ترك الواجب النفسي، ومن المعلوم
65



أنه لا يوجب البطلان، ولو شك في أنه واجب نفسي أو شرطي،
فالاطلاق كما قرر في محله يقتضي النفسية، كما لا يخفى.
الا أن يقال: إن التقية كما تقتضي وجوب الفعل كالمسح على الخفين،
والوقوف في غير يوم عرفة كذلك تقتضي حرمة الترك، لكون كل
من موافقة التقية ومخالفتها من الدين، فتجب الأولى وتحرم الثانية،
(لا) لاقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده ليرد عليه: أنه مخالف
للمبنى من عدم الاقتضاء، كما تقدمت الإشارة إليه، (بل) لان مخالفتها
إذاعة للسر، وهي منهي عنها في جملة من الروايات، فترك المسح
على الخفين، وترك الوقوف في غير يوم عرفة من مصاديق الإذاعة
المحرمة، فيحرم.
وبالجملة: كل ما ينطبق عليه عنوان الإذاعة وإفشاء السر حرام،
فالوقوف في يوم عرفة إذاعة للسر، فيحرم، والنهي في العبادة يوجب
البطلان.
و بتقريب آخر: خوف الضرر المأخوذ في لسان الدليل موضوعا
لوجوب التقية كقول أبي جعفر عليه السلام: (كل شئ خاف المؤمن
على
نفسه فيه الضرر فله فيه التقية) (المستدرك ج 3 - الباب 8 - الحديث - 7 - ص 51، رواه عن دعائم الإسلام)
وغير ذلك من النصوص يوجب
بطلان العمل المخالف للتقية سواء أكان الخوف موضوعا في قبال
الواقع، أم طريقا إلى الضرر الواقعي.
أما على الأول فواضح، لحرمة العبادة واقعا الموجبة لفسادها.
واما على الثاني، فلان مخالفة الخوف الملحوظ طريقا إلى الضرر
الواقعي تكون من التجري الذي يترتب عليه حكم العصيان في امتناع
التعبد بالعمل، وعدم صلاحيته للمقربية.
فالمتحصل: أن صحة العمل المخالف للتقية محل الاشكال.
لا يقال: إن محبوبية المأمور به الواقعي الأولي حال التقية المستفادة
من
66



أحبية المأمور به الاضطراري الثانوي منه، كما يدل عليه جملة من
النصوص، للزوم اشتراك المفضل والمفضل عليه في المبدأ، كما قرر
في محله تقتضي صحة المأمور به الأولي، إذ لا معنى للمحبوبية مع
البطلان إلا بناء على إناطة الصحة بالامر، وعدم كفاية المحبوبية فيها،
لكن هذا المبنى قد زيف في محله. وبالجملة: بطلان العمل الواقعي
الأولي ينافي محبوبيته التي تقتضيها أحبية العمل الصادر تقية.
فإنه يقال: المراد بالأحبية هو: أن المبادرة بالاتيان بالمأمور به على
وجه التقية، وعدم التأخير إلى زوال العذر حتى يتمكن من إتيانه
على الوجه المأمور به أولا أفضل وأحب من تأخيره، ليأتي به على غير
وجه التقية، فمحبوبية العمل الواقعي الأولي إنما تكون بعد ارتفاع
التقية، لا حين الابتلاء بها، حيث إن التقية زاحمت المحبوبية في
التأثير، فلا محبوبية ولا أمر للواقع الأولي.
والوجه في هذا التوجيه الراجع إلى كون محبوبية المأمور به الواقعي
الأولي في غير حال التقية هو: أن الإذاعة المنهي عنها تنطبق على
المأمور به الأولي، ومعه يمتنع اتصافه بالمحبوبية، فالمراد من الرواية
بهذه القرينة محبوبية في غير حال التقية، لأنه في هذا الحال منهي
عنه.
فمعنى الرواية - والله العالم - هو: أن العمل الناقص الصادر تقية
أحب من ترك التقية، والآتيان بالمأمور به في وقت لا ينطبق عليه
إذاعة
السر.
والحاصل: أن محبوبيته لا تكون في حال التقية، لانطباق العنوان
المنهي عنه عليه، فلا منافاة بين ما ذكرناه هنا، وبين ما تقدم في ذيل
الاشكال على وجه بطلان العبادة المخالفة للتقية من: أن الأحبية
تقتضي محبوبية المفضل عليه، وهي العبادة الواقعة على غير وجه
التقية.
تقريب عدم المنافاة: أن محبوبيته مقيدة بغير إذاعة السر،
67



فلو فرض عدم كون المأمور به الأولي إذاعة كان محبوبا وان كان العمل
الصادر تقية أحب، فالمفضل عليه نفس المأمور به الأولي مقيدا
بعدم صدق الإذاعة عليه.
السادس: أنه قد ظهر مما تقدم: أن التقية الخوفية عزيمة، لا رخصة،
لظهور الامر باستعمال التقية في جملة من النصوص، كقول مولانا
أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في رواية الاحتجاج: (وآمرك أن
تستعمل التقية في دينك) (1)، وقول مولانا أبي الحسن عليه السلام
لعلي بن يقطين في رواية محمد بن الفضل: (والذي آمرك به في ذلك
أن تتمضمض ثلاثا) (2)، وقول أبي عبد الله عليه السلام في رواية
عبد الله بن أبي يعفور: (اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا
إيمان لمن لا تقية له) (3)، وغير ذلك من النصوص الامرة بالتقية في
الوجوب.
(1 - الوسائل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 29 من أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما الحديث 11
2 - الوسائل ج 1 كتاب الطهارة الباب 32 من أبواب الوضوء الحديث 3 -
3 - الوسائل كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 24 من أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما، الحديث 7)
وأما التقية المدارية فليست بعزيمة، لاحتفاف الامر في نصوصها بما
يصلح لصرفه عن الوجوب - مضافا إلى التسالم على ذلك - وان
كانت مجزية كالتقية الخوفية، فلاحظ.
السابع: أن الاجزاء تابع لجريان التقية، فإذا جرت في تمام العمل
المركب سقط الامر المتعلق بجميع ذلك العمل، وإذا جرت في بعضه
كان الساقط خصوص الامر الضمني المتعلق بذلك البعض، ولا وجه
لسقوط سائر الأوامر الضمنية المتعلقة ببعضه الاخر، لان الضرورات
تتقدر بقدرها، فلو فرض جريان التقية في بعض أعمال الحج
كالوقوفين، وعدم جريانها في بعضها الاخر كمناسك منى، أجزأ
الوقوفان
68



دونها، لعدم الوجه في الاجزاء حينئذ، فلا موجب لرفع اليد عما
تقتضيه الأدلة الأولية من عدم الاجزاء كما هو ظاهر.
الثامن: أنه قد ظهر مما تقدم عدم الفرق في الحكم المرفوع بالتقية بين
كونه نفسيا كحرمة الافطار في شهر رمضان، والكذب، و
نحوهما من المحرمات النفسية وبين كونه غيريا كالجزئية، والشرطية،
والمانعية، فتسقط السورة مثلا عن الجزئية للصلاة، لأجل
التقية، وكذا شرطية المسح على البشرة للوضوء، ومانعية التكتف عن
الصلاة.
وبالجملة: مقتضي إطلاق أدلة التقية عدم الفرق في الحكم المرفوع بها
بين النفسي والغيري، وبين التكليفي والوضعي، كما لا يخفى.
التاسع: أن ظاهر أدلة التقية كون موضوعها هو الخوف من المخالف،
فإذا ارتفع أحدهما، فلا تقية حتى يترتب عليها حكمها من الاجزاء،
فلو كان هناك عدو ولم يكن خوف منه، كما إذا كان قاصر اليد، لكونه
في بلاد الشيعة، وملتجأ بهم، أو كان هناك خوف، ولكن لم يكن
من يخاف منه مخالفا، بل مؤمنا صالحا من عباد الله المخلصين، فلا
تقية حقيقة.
وعليه، فلو مسح على الخفين، أو تكتف في الصلاة باعتقاد أن من
يشاهده مخالف متعصب، ثم تبين أنه مؤمن مخلص، فلا يجزئ، لما
عرفت من تقوم التقية بركنين يكون أحدهما مفقودا، فالموجود تخيل
التقية، لا نفسها، ومن المقرر في محله وضع الألفاظ لمعانيها
الواقعية، لا الاعتقادية، فالتقية المترتبة عليها الأحكام الشرعية هي
الخوف من العد والواقعي، لا الاعتقادي وان لم يكن عدوا واقعا، كما
هو واضح.
العاشر: الظاهر عدم الفرق في جريان أحكام التقية بين كون الفعل
المتقى به
69



من العبادات، وبين كونه من المعاملات بالمعنى الأعم الشامل للعقود
والايقاعات، فلو باع داره، أو طلق زوجته بالصيغة الفارسية، أو
بصيغة المضارع تقية، فقضية إطلاق مثل:
(كل شئ يضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله)، و (كل شئ يعمل
المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فهو
جائز)
هي النفوذ، لما عرفت من كون الجواز أعم من الوضعي والتكليفي،
فالعقد والايقاع الصادران تقية جائزان أي نافذان بحيث يترتب
عليهما آثار الصحة.
كما أن الظاهر عدم الفرق في نفوذهما إذا صدرا تقية بين كون الدليل
على التقية عاما مثل ما مر آنفا من عمومات التقية، وبين كونه
خاصا كدليل غسل الرجلين في الوضوء، والتكتف في الصلاة.
فما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في رسالة التقية من (الاجزاء فيما إذا
كان الاذن في العمل المتقى به خاصا، وعدمه فيما إذا كان الاذن فيه
عاما) لا يخلو من غموض، إذ لا فرق في الاجزاء بين الاذن الخاص و
العام.
إلا أن تمنع دلالة عمومات التقية على الاذن، بتقريب: أنها في مقام
بيان الحكم التكليفي فقط وهو وجوب حفظ النفس من دون دلالتها
على الاذن المستلزم للوضع وهو صحة العمل، فيعمل فيه بما تقتضيه
أدلته الأولية من اعتبار الجز، أو الشرط، أو مانعية المانع مطلقا
حتى في حال التقية.
لكنه في حيز المنع، ضرورة أنه لا فرق بين عمومات التقية و
خصوصاتها إلا في سعة دائرة المورد وضيقها، وأما في دلالتهما على
الامر
بالعمل تقية، فلا فرق بينهما أصلا، لان الاذن في استعمال التقية
يستفاد من الامر المشترك بين عموماتها وخصوصاتها، فإن لم تصلح
العمومات للدلالة على الاذن، فلا بد من منعها في الخصوصات أيضا.
وبالجملة: فلم يظهر وجه وجيه للفرق بين الاذن العام والخاص من
حيث
70

المقام الثاني:
في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري وعدمه، والتحقيق: أن ما
كان منه (1) في تنقيح ما هو موضوع التكليف، وتحقيق (2)
متعلقه،

الاجزاء وعدمه.
ثم إن هنا أمورا أخر قد تعرضنا لها في رسالة التقية، والحمد لله أولا و
آخرا والصلاة على نبينا وآله ظاهرا وباطنا، واللعن الوبيل
على أعدائهم عاجلا وآجلا.
71

وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية، بل
واستصحابهما في وجه (1) قوي، ونحوها (2) بالنسبة إلى كل
ما اشترط (3) بالطهارة أو الحلية يجزئ [1 [4

[1] مشكل جدا، لان حكومة دليله ظاهرية، لا واقعية، وذلك لتأخر
موضوع الحكم الظاهري وهو الشك عن موضوع الحكم الواقعي،
بحيث لا يمس كرامة الواقع، ومع هذا التأخر لا يصلح أن يكون دليل
الحكم الظاهري مبينا
72

فإن (1) دليله يكون حاكما على دليل الاشتراط (2) ومبينا (3)

لدائرة الشرط، ومفسرا لموضوعه، فلا محيص عن كون الحكومة
ظاهرية، وهي لا تقتضي أزيد من ترتيب آثار الواقع ما دام الموضوع
- وهو الشك - موجودا، فإذا انكشف الخلاف وجب عليه الاتيان
بالواقع، لارتفاع المانع عن فعليته، وهذا من غير فرق (بين) كون لسان
الأصل التعبد بوجود ما هو الشرط واقعا المستلزم لجواز الدخول في
المشروط، كما هو قضية الأصل التنزيلي، (وبين) كون لسانه
التعبد بنفس الشرط، بمعنى جعل الطهارة مثلا وإنشائها المستلزم
لجعل آثارها التكليفية والوضعية التي منها الشرطية، والموجب
لحكومته على دليل الشرطية، وذلك لان موضوع الأصل هو الشك، و
مقتضى تبعية الحكم لموضوعه هو بقاؤه ما دام الموضوع باقيا،
فيرتفع بارتفاع الشك، فلا مانع حينئذ عن فعلية الحكم الواقعي،
فيجب موافقته.
نعم لازم جعل الأصل تدارك ما فات عن المكلف لأجل الاستناد إليه،
فإن انكشف الخلاف في الوقت، فالفائت مصلحة أول الوقت، وإن
انكشف بعده، فالفائت مصلحة نفس الوقت.
وأما عدم وجوب الاتيان بالواقع رأسا، فليس مقتضى الحكم الظاهري
أصلا، إذ لو كان كذلك لزم منه تقييد الواقع بصورة العلم، و
المفروض تأخره عنه كما مر،
73

لدائرة الشرط، وأنه (1) أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، فانكشاف
الخلاف فيه (2) لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه،
بل بالنسبة إليه (3) يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل، و
هذا بخلاف ما كان منها (4)

فلا يتصرف دليل الأصل في موضوع الحكم الواقعي أصلا.
وإجزاء الحكم الظاهري عن الواقعي منوط بأحد أمرين: إما تقييد
الواقع، وإما استيفاء ملاكه، بأن يكون ملاك الحكم الظاهري وافيا
بكله، أو جله، بحيث لا يبقى منه ما يجب تداركه ليسقط الامر
الواقعي، وهذا وإن كان ممكنا ثبوتا، لكنه لا دليل عليه إثباتا.
فما أفاده المصنف (قده) من التفصيل بين الاحكام الظاهرية بالاجزاء
في القسم الأول دون الثاني لم يظهر له وجه وجيه، فالأقوى ما عن
المشهور من عدم الاجزاء مطلقا، ووجوب الاتيان بالمأمور به الواقعي
إعادة ان كان انكشاف الخلاف في الوقت، وقضاء إن كان في
خارجه.
74

بلسان أنه ما هو الشرط واقعا كما هو لسان الامارات، فلا يجزئ، فإن
(1) دليل حجيته حيث كان بلسان أنه واجد لما هو الشرط الواقعي،
فبارتفاع الجهل ينكشف أنه لم يكن كذلك (2)، بل كان لشرطه فاقدا،
75

هذا (1) على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والامارات من أن
حجيتها ليست بنحو السببية (2)، وأما بناء عليها (3) وأن العمل
بسبب أداء
أمارة إلى وجدان شرطه (4) أو شطره يصير حقيقة صحيحا كأنه (5)
واجد له مع كونه فاقده، فيجزئ (6) لو كان الفاقد له (7) في هذا
الحال (8)
76

كالواجد في كونه وافيا بتمام الغرض، ولا يجزئ (1) لو لم يكن كذلك.
ويجب الاتيان بالواجد لاستيفاء الباقي (2) إن وجب، وإلا (3)
لاستحب، هذا (4) مع إمكان استيفائه، وإلا (5) فلا مجال لاتيانه (6)
كما
عرفت في الامر الاضطراري (7).
77

ولا يخفى (1) أن قضية إطلاق دليل الحجية على هذا (2) هو الاجتزاء
بموافقته (3) أيضا (4).

[1] لا يخفى أن السببية على وجوه:
الأول: ما نسب إلى الأشاعرة من نفي حكم واقعي في الشريعة، و
دورانه مدار رأي المجتهد، فمتى أدى نظره إلى شئ بسبب أمارة، أو
أصل كان ذلك هو الحكم الواقعي، فتبدل الرأي حينئذ يندرج في
تبدل الموضوع، وهذا النحو من
78

هذا (1) فيما إذا أحرز أن الحجية بنحو الكشف والطريقية، أو بنحو

السببية أجنبي عن الحكم الواقعي والظاهري، لعدم حكمين حتى
يكون أحدهما واقعيا والاخر ظاهريا، ويبحث عن إجزاء الثاني عن
الأول، بل الحكم واحد ومجز قطعا.
الثاني: ما نسب إلى المعتزلة من الاعتراف بوجود الحكم الواقعي قبل
تأدي نظر المجتهد إلى شئ، فإن أدى نظره إليه صار منجزا عليه،
وإن لم يؤد نظره إليه يتبدل الواقع، وينقلب إلى ما أدى إليه نظر
المجتهد، فليس في صورة المخالفة واقع حتى يبحث عن إجزاء الامر
الظاهري عنه، بل المقام حينئذ يكون من قبيل الامر الاضطراري، و
الحكم الواقعي الثانوي.
الثالث: ما عن بعض الامامية من الالتزام بالمصلحة السلوكية مع بقاء
الواقع على حاله في صورتي الإصابة والخطأ، غاية الامر: أنه في
صورة الخطأ يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع بسبب سلوك
الامارة بقدر ما فاته منها بسبب مخالفتها للواقع، ويجب عليه تدارك ما
بقي من مصلحة الواقع بعد انكشاف الخلاف إذا فرض بقاء شئ منها
بعده، فيكون العامل بالامارة مستوفيا لتمام المصلحة.
مثلا إذا أفتى المجتهد بوجوب القصر في مورد يجب فيه الاتمام واقعا
استنادا إلى رواية تدل على وجوب القصر، ثم انكشف الخلاف،
لانكشاف عدم حجيتها، لضعف السند، أو إعراض المشهور عنها، أو
غيرهما من موانع الحجية، فإن كان
79

الموضوعية والسببية. وأما إذا شك، ولم يحرز أنها على أي الوجهين،
فأصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف مقتضية للإعادة في
الوقت، واستصحاب (1) عدم

الانكشاف في الوقت، وجب الإعادة تداركا للمصلحة الوقتية وإن
كانت مصلحة أول الوقت متداركة بسلوك الامارة، فلا فرق في وجوب
الإعادة بين السببية بهذا المعنى وبين الطريقية، هذا في الإعادة.
وأما القضاء، فيمكن فيه القول بالاجزاء، وعدم وجوبه، لان سلوك
الامارة في مجموع الوقت إذا فرض وفاؤه بمصلحة الصلاة في الوقت،
كما هو مقتضى القول بالسببية كان ذلك موجبا للاجزاء لا محالة، كما
أنه لو لم ينكشف الخلاف أصلا كانت مصلحة أصل الصلاة الفائتة
متداركة بسبب سلوك الامارة، ولا شئ على المكلف، هذا.
ولكن لا وجه للمصير إلى القول بالسببية بهذا المعنى أيضا، لاستلزامها
التصويب، وانقلاب الوجوب التعييني الواقعي إلى التخييري،
ضرورة أن مصلحة صلاة الظهر في وقتها تقوم بأحد شيئين: صلاة
الظهر، وصلاة الجمعة التي دل علي وجوبها الامارة لمن لم ينكشف
عنده خطاؤها في الوقت، وانقلاب الوجوب التعييني إلى التخييري
نوع من التصويب، والتفصيل في محله.
[1] لا يخفى أن تقريب الأصل بما ذكرناه من قاعدة الاشتغال أولى من
جعله استصحاب عدم الاتيان بالمسقط كما في المتن، وذلك لان
المورد من موارد القاعدة،
80

كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت لا يجدي (1)، ولا يثبت كون ما
أتى به

لا من موارد الاستصحاب، حيث إن موردها هو الشك في فراغ الذمة
بحيث يكون الأثر مترتبا على نفس الشك، ومورد الاستصحاب هو
ما إذا كان الأثر مترتبا على الواقع.
ومن المعلوم: أن المقام من موارد القاعدة، لكون لزوم الاتيان ثانيا
مترتبا عقلا على نفس الشك في الفراغ، لا على عدم الاتيان بالواقع
حتى نحتاج إلى إحرازه
81

مسقطا إلا على القول بالأصل المثبت، وقد (1) علم باشتغال ذمته بما
يشك في فراغها عنه بذلك (2)

بالاستصحاب، فإحرازه به يكون من صغريات تحصيل ما هو حاصل
وجدانا بالتعبد وهو من أردأ وجوه تحصيل الحاصل المحال.
مضافا إلى ما يرد على أصالة عدم الاتيان بالمسقط من المناقشات:
إحداها: عدم كون ترك الاتيان بالمسقط أثرا شرعيا، ولا موضوعا له،
مع وضوح اعتبار أحدهما في جريان الاستصحاب.
ثانيتها: أنه مثبت، لان ترتب بقاء الطلب الموجب للاتيان ثانيا على
عدم الاتيان بالمسقط عقلي.
ثالثتها: عدم جريانه، لتردد المسقط بين ما هو معلوم البقاء، وما هو
معلوم الارتفاع، إذ المسقط لو كان هو الواقع، فذلك معلوم البقاء،
لعدم الاتيان به على الفرض، فيجب فعله، ولو كان هو مؤدى الامارة،
فذلك معلوم الارتفاع، فلا يجب الاتيان بالواقع، وفي مثله لا
يجري الاستصحاب، للعلم بالبقاء أو الارتفاع فلا شك في البقاء على
كل تقدير.
وهذه المناقشات وإن كانت ممكنة الدفع كما لا يخفى على المتأمل،
لكن العمدة ما عرفته من عدم كون المقام من موارد الاستصحاب،
بل من موارد القاعدة، فتأمل جيدا.
82

المأتي، وهذا (1) بخلاف ما إذا علم أنه مأمور به واقعا، وشك في أنه
يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأولي، كما في الأوامر
الاضطرارية أو الظاهرية بناء (2) على أن يكون الحجية على نحو
السببية، فقضية (3) الأصل فيها (4) كما أشرنا إليه (5)
83

عدم وجوب الإعادة، للاتيان (1) بما اشتغلت به الذمة يقينا (2) و
أصالة (3) عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار، وكشف
الخلاف.
وأما القضاء (4) فلا يجب بناء على أنه بفرض جديد، وكان [1] الفوت

[1] الأولى أن يقال: (وعدم ثبوت الفوت المعلق عليه وجوبه بأصالة
عدم الاتيان. إلخ) يعني: وبناء على عدم ثبوت الفوت. إلخ.
ثم إن الحق كون موضوع وجوب القضاء هو عدم الاتيان بالمأمور به
على وجهه في الوقت سواء أكان عمدا، أم عذرا كنسيان، أو نوم،
فإن المنساق من نصوص
84

المعلق عليه وجوبه (1) لا يثبت بأصالة عدم الاتيان إلا على القول
بالأصل المثبت، وإلا (2) فهو واجب كما لا يخفى على المتأمل،
فتأمل جيدا (3).

القضاء هو كون الموضوع ذلك، لا عنوان الفوت، فلا مانع حينئذ من
جريان أصالة عدم الاتيان، وإثبات وجوب القضاء بها من دون
لزوم محذور المثبتية، لكون عدم الاتيان بنفسه موضوعا لوجوب
القضاء.
ودعوى: كون الفوت عنوانا وجوديا ملازما للترك في تمام الوقت
المضروب للفعل، فلا يثبت بأصالة عدم الاتيان إلا على القول بالأصل
المثبت غير مسموعة، إذ لا شاهد عليها، بل الشاهد على خلافه، لان
قاعدة الحيلولة تنفي موضوع الاستصحاب وهو عدم الاتيان
بالمأمور به على وجهه في تمام الوقت، وتثبت وجوده في الوقت، فلو
لم تجر القاعدة جرى استصحاب عدم الاتيان المقتضي لوجوب
القضاء، فيظهر من هذا أن موضوع وجوب القضاء هو عدم الاتيان.
مضافا إلى: عدم تبادر الفوت إن كان عنوانا وجوديا، وإلى: أن سقوط
الامر والغرض بالامتثال مترتب على وجود المتعلق في الوقت،
فبقاؤهما منوط بعد المتعلق، فهو موضوع وجوب القضاء المقصود به
الفوت.
نعم لا يطلق الفوت على مطلق الترك، وعدم الاتيان، بل على الشئ
المستعد للوجود، لكونه ذا مصلحة، أو بعث فعلي، أو غيرهما من
الجهات المقربة له إلى الوجود، وذلك غير قادح في كون موضوع
وجوب القضاء عدم الاتيان، كما لا يخفى.
85

ثم إن هذا (1) كله فيما يجري في متعلق التكاليف من الامارات
الشرعية والأصول العملية.
وأما ما يجري في إثبات أصل التكليف، كما إذا قام الطريق أو الأصل
على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان الغيبة، فانكشف بعد
أدائها وجوب صلاة الظهر في زمانها، فلا وجه لاجزائها (2) مطلقا (3)،
غاية الامر أن تصير صلاة الجمعة
86

فيها (1) أيضا (2) ذات مصلحة لذلك (3)، ولا ينافي هذا (4) بقاء
صلاة الظهر على ما هي عليه من (5) المصلحة كما لا يخفى، إلا (6)
أن قوم دليل بالخصوص [1]

[1] غير خفي أن مجرد نهوض دليل على عدم وجوب صلاتين في يوم
واحد ليس مناطا للاجزاء، بل مناطه دلالته على عدم الوجوبين على
الاطلاق، أو على عدم وجوب ظاهري مع وجوب واقعي مع أهمية
مؤدى الامارة أو الأصل، فلو دل الدليل على عدم الوجوبين الواقعيين،
أو
الظاهريين لم يكن منافيا لوجوب الإعادة، لكون المأتي به واجبا
بوجوب ظاهري، والاخر واجبا بوجوب واقعي.
بل يمكن أن يقال: إن الاجزاء منوط بدلالة الدليل على أن مؤدى
الامارة أو الأصل هو الحكم الواقعي ليدل على بدلية مصلحته عن
مصلحة
الواقع، ووفائها بها، وقيامها مقامها، وإلا فلا وجه للاجزاء مع مغايرة
المصلحتين، وعدم السنخية بينهما.
وبالجملة: فمجرد القول بالسببية، ونهوض دليل على عدم وجوب
صلاتين في يوم واحد لا يقتضيان الاجزاء وعدم وجوب الإعادة، بعد
إمكان استقلال كل من المصلحتين، وإمكان اجتماعهما، وعدم بدلية
إحداهما عن الأخرى.
87

على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
تذنيبان:
الأول (1):
لا ينبغي توهم الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطأ، فإنه لا يكون
موافقة للامر فيها (2)، وبقي الامر بلا موافقة أصلا (3)، وهو
أوضح من أن يخفى.
نعم (4) ربما يكون ما قطع بكونه مأمورا به مشتملا على المصلحة في هذا
88

الحال (1)، أو على مقدار منها (2) ولو في غير الحال غير (3) ممكن مع

[1] يجري هذا الاشكال بعينه فيما إذا اختص اشتمال المأتي به على
المصلحة بحال القطع، لصيرورته حينئذ أيضا عدلا للواجب الواقعي.
إلا أن يقال: بامتناع دخل القطع في موضوع متعلقه كما قرر في مبحث
القطع، فالعلم بوجوب الاتمام على المسافر مع كون وظيفته
واقعا هي القصر ليس دخيلا في وجوب الاتمام عليه، بل الدخيل هو
الجهل بوجوب القصر عليه، ومن المعلوم حصوله في ظرف العلم
بوجوب التمام.
نعم يرد هنا إشكال آخر وهو: أن الجهل بعنوانه لا يمكن أن يقع
موضوعا للخطاب، للزوم الانقلاب، لكن يمكن دفعه بتوجيه الخطاب
إلى عنوان ملازم للجهل، كما ذكروا مثله في توجيه الخطاب إلى
الناسي، فتدبر.
وقد ظهر مما ذكرنا: أن الأولى سقوط قول المصنف (قد): - في هذا
الحال - عن العبارة، لظهوره في دخل القطع في اشتماله على
المصلحة، مع أن الدخيل فيها هو سترة الواقع والجهل به.
89

استيفاؤه استيفاء الباقي منه، ومعه (1) لا يبقى مجال لامتثال الامر
الواقعي، وهكذا الحال (2) في الطرق، فالاجزاء ليس لأجل اقتضاء
امتثال الامر القطعي، أو الطريقي (3) للاجزاء، بل إنما هو (4)
لخصوصية اتفاقية [1] في متعلقهما، كما

[1] قد يستشكل في الاجزاء ب: أنه في صورة انكشاف خطأ القطع
يكون المأتي به مضادا للمأمور به الواقعي، فيحرم، لكونه مقدمة لترك
الواجب، ومعه كيف يصير محبوبا ومقربا.
لكنه يندفع: أن وجود أحد الضدين ليس مقدمة لترك الاخر، كما أن
ترك أحدهما ليس مقدمة لوجود الاخر، فحرمة المأتي به لأجل
المقدمية ممنوعة، كمنع حرمته الناشئة من اقتضاء الامر بشئ للنهي
عن ضده من باب التلازم على ما سيأتي في مبحث الضد إن شاء الله.
وبالجملة: فكل من الضدين باق على حكمه الشرعي، فلا بد حينئذ
من مراعاة الأهمية بينهما.
90

في الاتمام والقصر، والاخفات والجهر (1).
الثاني (2):
لا يذهب عليك أن الاجزاء في بعض موارد الأصول والطرق و
الامارات (3) على ما عرفت تفصيله لا يوجب التصويب المجمع على
بطلانه في تلك الموارد، فإن (4)
91

الحكم الواقعي بمرتبة (1) محفوظ فيها، فإن الحكم المشترك بين
العالم والجاهل، والملتفت والغافل ليس إلا الحكم الانشائي (2)
المدلول عليه بالخطابات المشتملة
92

على بيان الاحكام للموضوعات بعناوينها الأولية بحسب (1) ما يكون
فيها من المقتضيات (2)، وهو (3) ثابت في تلك الموارد (4)،
كسائر موارد الامارات (5)، وإنما المنفي فيها (6) ليس إلا الحكم
الفعلي البعثي، وهو

[1] وهذا الحكم الانشائي يجدي في مقامين:
الأول: في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي على ما يأتي في محله
إن شاء الله تعالى.
والثاني: في نفي الملازمة بين إجزاء الامر الظاهري والتصويب، لكن
في وجود الحكم الانشائي تأملا سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
93

منفي [1] في غير موارد الإصابة وان (1) لم نقل بالاجزاء.
فلا فرق بين الاجزاء وعدمه إلا في سقوط التكليف بالواقع بموافقة
الامر الظاهري، وعدم سقوطه بعد انكشاف عدم الإصابة، وسقوط
(2) التكليف بحصول غرضه (3)، أو لعدم إمكان تحصيله (4) غير
التصويب المجمع على بطلانه، وهو

[1] لا وجه لنفي الحكم الفعلي في غير موارد الإصابة، إذ لو كان الداعي
إلى ذلك عدم صحة العقوبة على الواقع، ففيه: أنه لا ملازمة بين
مجرد الفعلية وبين صحة المؤاخذة، بل الملازمة إنما تكون بينها وبين
الفعلية المنجزة المعبر عنها بالحتمية.
وبالجملة: فلا مانع من الالتزام بالحكم الفعلي البعثي في غير موارد
الإصابة.
مضافا إلى: أن نفي الحكم الفعلي مخالف لما اختاره في إمكان التعبد
بالامارات غير العلمية من عدم منافاة الطريقية لفعلية الواقع.
94

خلو الواقعة عن الحكم غير ما أدت إليه الامارة، كيف (1) وكان الجهل
بخصوصيتها أو بحكمها مأخوذا في موضوعها (2)، فلا بد من أن
يكون الحكم الواقعي بمرتبة محفوظا فيها (3)، كما لا يخفى.
95

فصل في مقدمة الواجب
وقبل الخوض في المقصود ينبغي رسم أمور:
الأول:
الظاهر أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة (1) البحث عن

[1] أما تقريب كونها مسألة فقهية فهو: أن البحث عن حكم فعل المكلف
من حيث الاقتضاء والتخيير كوجوب الصلاة والزكاة ونحوهما،
وحرمة شرب الخمر، وأكل مال الغير ظلما ونحوهما، واستحباب
شئ، أو كراهته، أو إباحته يكون من المباحث الفقهية، ومن المعلوم:
أن المقدمة من أفعال المكلف، فالبحث عن وجوبها فقهي كالبحث عن
ساير الأحكام التي يبحث عنها في علم الفقه.
ولا يرد عليه: مناقشة شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) في ذلك
ب: أن الفقه إنما يبحث فيه عن أحكام موضوعات خاصة، كالصلاة، و
الصوم، والزكاة، والخمس، والحج ونحوها، ومن المعلوم عدم كون
المقدمة كذلك، لأنها عنوان عام ينطبق على موضوعات مختلفة،
فلا يندرج البحث عن وجوب المقدمة في مسائل الفقه.
وذلك لأنه لا دليل عقلا ولا نقلا على انحصار البحث الفقهي بما أفاده
(قده)
96

الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، فتكون المسألة
أصولية، لا عن نفس

فإن البحث عن وجوب الوفاء بالنذر وأخويه والإجارة من مسائل
الفقه مع اختلاف الموضوع فيها، لتعلق النذر تارة بالصلاة، وأخرى
بالصوم، وثالثة بالحج، ورابعة بالزيارة، وخامسة بالاطعام، وهكذا. و
كذا العهد، واليمين، والإجارة، وحرمة الضرر، وما يضمن
بصحيحة يضمن بفاسده، إلى غير ذلك مما لا يخفى.
نعم قد جرى اصطلاحهم فيما إذا كان الموضوع عنوانا خاصا على
تسميته بالمسألة الفقهية، وفيما إذا كان الموضوع عاما على تسميته
بالقاعدة الفقهية، لكن الاصطلاح غير قادح في الجهة المبحوث عنها و
هي كون البحث فقهيا، هذا.
والأولى في تقريب عدم كون هذه المسألة فقهية أن يقال: إن البحث
هنا في الملازمة التي هي من عوارض نفس الطلب، لا من عوارض
فعل المكلف، كما هو شأن البحث الفقهي وإن كان العلم بالملازمة
مستلزما للعلم بحكم فعل المكلف وهو وجوب الاتيان بالمقدمة.
وأما تقريب كون المسألة كلامية فهو: أن علم الكلام ان كان - هو ما
يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد، أو ما يرجع إليهما من الثواب و
العقاب والتحسين والتقبيح العقليين، فلا محالة تنتهي الملازمة إلى
ذلك. وان كان هو ما يبحث فيه
97



عن أحوال أعيان الموجودات بقدر الطاقة البشرية، فيكون البحث عن
الملازمة بحثا عن عوارض الإرادات والوجوبات المتعلقة بأفعال
العباد.
لكن يشكل اندراج هذه المسألة في المسائل الكلامية على كلا
التقديرين:
أما على الأول، فبأن الثواب انما يترتب على قصد إطاعة امر ذي
المقدمة مطلقا وان لم نقل بالملازمة، الا ان يقال: بترتب الثواب على
المقدمة ان كانت مأمورا بها، وأتى بها بقصد أمرها، لا أمر ذيها، وعدم
ترتبه عليها ان لم تكن مأمورا بها، فتدبر، واما استحقاق
العقوبة، فلا يترتب على وجوب المقدمة، وانما هو مترتب على
مخالفة امر ذيها.
وأما على الثاني، فبأن المراد بأعيان الموجودات هي الموجودات
العينية.
ومن المعلوم: ان الوجوب كغيره من الاحكام تكليفية كانت أم وضعية
من الموجودات الاعتبارية، إذ لا موطن لها إلا وعاء الاعتبار، فلا
يكون البحث عن الملازمة بين الوجوبين بحثا عن أحوال أعيان
الموجودات ليندرج في المسائل الكلامية.
وأما تقريب كون المسألة من المبادئ الأحكامية كما صنعها العضدي
تبعا للحاجبي وشيخنا البهائي (قده) فهو: ان تلك المبادئ عبارة
عن حالات الأحكام الشرعية من حيث تنويعها إلى التكليفية و
الوضعية، وكون التكليفية بأسرها متضادة، واستلزام بعضها لحكم
آخر،
كوجوب ذي المقدمة المستلزم لوجوب مقدمته، إلى غير ذلك من
الحالات العارضة للأحكام، وعلى هذا فتندرج هذه المسألة في
المبادئ
الأحكامية ولا وجه لانكاره، كما لا يخفى.
وأما تقريب كونها من المبادئ التصديقية فهو: ان موضوع علم الأصول
على ما اشتهر هي الأدلة الأربعة، والبحث في هذه المسألة يرجع
إلى وجود الموضوع أعني حكم العقل وعدمه، فتكون من المبادئ
التصديقية، هذا.
98

وجوبها (1) كما هو المتوهم من بعض العناوين (2)

لكن فيه: أنه مبني على كون موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة، وقد
تقدم في صدر الكتاب منعه.
ثم إن جهات المسألة الأصولية والكلامية على وجه، والمبادئ
التصديقية والأحكامية منطبقة على عنوان واحد وهو: أن الملازمة
هل هي
ثابتة أم لا؟ كما يظهر ذلك من تقريب تلك الجهات، نعم تختلف جهتا
أصوليتها وفقهيتها في العنوان، كما يظهر أيضا مما تقدم.
99

كي تكون فرعية، وذلك (1) لوضوح أن البحث كذلك (2) لا يناسب
الأصولي، والاستطراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على
وجه تكون من المسائل الأصولية.
ثم الظاهر أيضا (3) أن المسألة عقلية، والكلام (4) في استقلال العقل
100

بالملازمة وعدمه (1)، لا لفظية، كما ربما يظهر من صاحب المعالم،
حيث (2) استدل على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث، مضافا (3) إلى
ذكرها في مباحث الألفاظ، ضرورة (4) أنه إذا كان نفس الملازمة بين
وجوب الشئ ووجوب مقدمته ثبوتا محل

[1] لكن فيه مالا يخفى، إذ لا يدل مجرد ذكره في مباحث الألفاظ على
كونه لفظيا بعد العلم بتعرض جملة من الاستلزامات فيها.
101

الاشكال، فلا مجال لتحرير النزاع في الاثبات والدلالة عليها [1 [1
بإحدى الدلالات الثلاث (2) كما لا يخفى.
الامر الثاني: أنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات:
منها: تقسيمها إلى الداخلية
وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها (3)،

[1] هذا الوجه مأخوذ من تقريرات شيخنا الأعظم (قده)، وحاصله:
أن تعيين المعنى الذي وضع له اللفظ فرع وجود ذلك المعنى خارجا،
كالبحث عن كون هيئة - افعل - موضوعة للوجوب أو الندب اللذين
هما موجودان، وهذا بخلاف المقام، لان ثبوت الملازمة بين
الوجوبين محل الكلام.
102

والخارجية (1) وهي الأمور الخارجة عن ماهيته مما (2) لا يكاد
يوجد بدونه.
وربما يشكل (3) كون الاجزاء مقدمة له وسابقة [1] عليه (4) بأن (5)
المركب ليس إلا نفس الاجزاء بأسرها.

[1] فإن الاجزاء سابقة على المركب في الوجودين الذهني والعيني،
كما نص عليه المحقق الطوسي (قده) في تجريده، حيث قال: (و
المركب إنما يتركب عما يتقدمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن و
الخارج)، لكن سيأتي إن شاء الله تعالى أنه غير مجد في تصحيح
مقدمية الاجزاء وان كان مجديا في الفرق بين الاجزاء والكل، كما لا
يخفى.
103

والحل (1) أن المقدمة هي نفس الاجزاء بالأسر، وذو (2) المقدمة هو
الاجزاء بشرط الاجتماع، فيحصل المغايرة بينهما.
وبذلك (3) ظهر: أنه لا بد في اعتبار الجزئية من أخذ الشئ بلا شرط،
كما

[1] قد تقدم في التعليقة: أن هذا الحل يستفاد من كلام المحقق الطوسي
المتقدم، لكنه لا يجدي في دفع الاشكال، لان التغاير الاعتباري لا
يوجب تعدد الوجود المعتبر في الواجب ومقدمته، كاعتباره في العلة
والمعلول، فليس هنا وجودان حتى يجب أحدهما نفسيا والاخر
مقدميا، فالتغاير الاعتباري مع الاتحاد في الوجود الخارجي لا يكفي
في المقدمية، فلا يندفع به الاشكال، بل يبقى على حاله، كما نبه عليه
المصنف (قده) في حاشيته الآتية.
[2] فيكون منشأ اعتبار الكلية مضادا لمنشإ اعتبار الجزئية، وهو خلاف
التحقيق، لوضوح أن المتكثرات ما لم يطرأ عليها وحدة لا يتصف
مجموعها بالكلية، ولا كل واحد منها بالجزئية، فإن الركوع والسجود و
القراءة مثلا ما لم يعرض عليها ما
104

لا بد في اعتبار الكلية (1) من اعتبار اشتراط الاجتماع.
وكون (2) الاجزاء الخارجية كالهيولي والصورة (3) هي الماهية
المأخوذة بشرط لا لا ينافي (4)

يوجب وحدتها من مصلحة، أو أمر، أو غيرهما لا يتصف مجموعها
بالكلية، ولا كل واحد منها بالجزئية، فمنشأ اعتبار كل من الجزئية و
الكلية واحد وهي الوحدة العارضة للمتكثرات.
فقد ظهر مما ذكرنا: أن لحاظ أمور متكثرة لا بشرط لا يصحح اعتبار
الكلية لمجموعها، ولا الجزئية لبعضها ما لم يطرأ عليها الوحدة.
105

ذلك (1)، فإنه (2) إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الاجزاء
الخارجية (3)
106

والتحليلية من (1) الجنس والفصل، وأن [1] الماهية (2) إذا أخذت
بشرط لا تكون هيولى أو صورة (3)، وإذا أخذت لا بشرط تكون
جنسا أو فصلا، لا [2 [4 بالإضافة إلى المركب، فافهم (5).
ثم لا يخفى أنه ينبغي خروج الاجزاء عن محل النزاع (6) كما صرح به

[1] الأولى تبديل الواو العاطفة بالباء، ليكون بيانا للفرق المزبور، لا
مغايرا له كما هو ظاهر العطف عليه.
[2] الأنسب أن يقول: - لا في مقام الفرق بين الاجزاء الخارجية وبين
المركب - حتى يتحد موضوع البحث بين الأصولي والمعقولي، و
يتحقق التنافي بين كليهما المزبورين، كما عرفت مفصلا.
107

بعض (1)، وذلك (2) لما عرفت من كون الاجزاء بالأسر عين المأمور
به ذاتا، وإنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا (3)، فتكون (4) واجبة
بعين وجوبه، ومبعوثا إليها بنفس الامر الباعث إليه (5)، فلا تكاد
تكون واجبة بوجوب آخر (6)، لامتناع (7) اجتماع المثلين ولو قيل
(8) بكفاية تعدد الجهة، وجواز اجتماع الأمر والنهي معه (9)،
108

لعدم (1) تعددها هنا (2)، لان (3) الواجب
109

بالوجوب الغيري لو كان إنما هو نفس الاجزاء، لا عنوان مقدميتها، و
التوسل (1) بها إلى المركب المأمور به، ضرورة (2) أن الواجب
بهذا الوجوب (3) ما كان بالحمل الشائع مقدمة، لأنه (4) المتوقف
عليه، لا عنوانها.
نعم (5) يكون هذا العنوان (6) علة لترشح الوجوب على المعنون.
فانقدح بذلك (7)
110

فساد توهم (1) اتصاف كل جز من أجزأ الواجب بالوجوب النفسي
والغيري باعتبارين، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي، و
باعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري.
اللهم (2) الا ان يريد أن فيه ملاك الوجوبين وإن كان واجبا بوجوب
واحد (3) نفسي، لسبقه (4)، فتأمل (5) (×)، هذا كله في المقدمة
الداخلية. [1]

(×) وجهه: أنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري، حيث إنه لا
وجود له غير وجوده في ضمن الكل يتوقف على وجوده، وبدونه لا
وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلا كما لا يخفى.
وبالجملة: لا يكاد يجدي تعدد الاعتبار الموجب للمغايرة بين الاجزاء
والكل في هذا الباب، وحصول ملاك الوجوب الغيري المترشح من
وجوب ذي المقدمة عليها لو قيل بوجوبها، فافهم.
[1] لا يخفى أنه لما كان محل الكلام في المقدمات الداخلية هي
المركبات،
111



لأنها هي التي تشتمل على الاجزاء، دون البسائط المتعلقة للأحكام
كالوضوء والغسل - بناء على كون المتعلق فيهما ما يترتب عليهما من
الطهارة، وكون الغسلتين والمسحتين، وكذا غسل جميع البدن
محصلات للطهارة المأمور بها، ومن الواضح كون المحصل مقدمة
خارجية للواجب لا جزا له - فلا بأس بالإشارة إلى أقسام المركبات
حتى يتضح مورد البحث، فنقول:
إن الظاهر خروج المركبات العقلية عن حريم النزاع، إذ يعتبر في
الايجاب الغيري المقدمي صلاحيته لامتثال مستقل، وهذا مفقود في
المركبات العقلية، إذ لا وجود لاجزائها بوصف جزئيتها إلا في موطن
العقل ووعاء التحليل، ومن المعلوم:
أن إيجابها الغيري لا يستتبع امتثالا مستقلا، إذ ليس في الخارج إلا
وجود واحد.
وأما المركبات الخارجية، فإن كانت حقيقية كتركب الأجسام من
العناصر الموجب لانخلاع صورها الشخصية، وانقلاب شيئيتها بشيئية
أخرى، وحصول صورة مغايرة للمجموع بحيث لا يبقى للاجزاء
وجود في الخارج حتى يصح تعلق الايجاب الغيري بها المستتبع
لامتثال
مستقل في قبال وجوبها النفسي، فهي أيضا خارجة عن حريم النزاع.
وإن كانت اعتبارية بأن كان لكل جز منها وجود مستقل غير وجود
الاخر سواء أكانت وحدتها الاعتبارية ناشئة من هيئة خاصة
كالسرير، والمنبر، ونحوهما من الهيئات العارضة للأخشاب
المحفوظة وجوداتها الشخصية الثابتة لها قبل عروض الهيئة لها، أم
ناشئة
من أثر واحد يترتب على المتكثرات كتحريك أيد متعددة لحجر.
112



ونظير ذلك في الشرعيات: الصلاة المركبة من أشياء متكثرة محفوظة
بموادها وصورها ووجوداتها المستقلة، غايتها أنها لوحدة
عارضها من أمر، أو مصلحة صارت واحدة اعتبارا، لا حقيقة، إذ
المفروض بقاؤها على ما كانت عليه من الكثرة والتعدد، فهذا النحو
من
التركيب - بما أن الوحدة فيه اعتبارية صرفة - قابل لتوهم جريان نزاع
وجوب مقدمة الواجب فيه، إذ المفروض استقلال كل جز من
أجزأ المركب الاعتباري في الوجود الموجب لقابليته لامتثال الامر
المتعلق به مستقلا.
وقبل الخوض فيه لا بد من التنبيه على أمر قد أشرنا إليه سابقا:
وملخصه: أن المقدمة الداخلية كالخارجية على قسمين:
أحدهما: الداخلية بالمعنى الأخص، وهي أن يكون الشئ ذاتا و
تقيدا داخلا في المركب الذي هو متعلق الامر النفسي كالركوع، و
السجود
وغيرهما من أجزأ الصلاة.
ثانيهما: الداخلية بالمعنى الأعم، وهي أن يكون التقيد بالشئ دخيلا
في المركب سواء أكان ذاته داخلا فيه أيضا أم لا، والأول أخص
مطلقا من الثاني.
وأما الخارجية بالمعنى الأخص، فهي ما لا يكون التقيد بها داخلا في
المركب، فضلا عن دخول ذاتها فيه، بل يكون توقف المركب عليها
عقليا، لتوقف وجوده على وجودها توقف المعلول على علته، نظير
توقف الكون في الكعبة المعظمة وغيرها من المشاعر العظام على
قطع المسافة.
وأما الخارجية بالمعنى الأعم، فهي ما لا تكون ذاتا داخلة في المركب
وإن كانت داخلة فيه تقيدا كشرائط المأمور به وموانعه مثل
الوضوء، وطهارة البدن، واللباس ونحوها، ولبس ما لا يؤكل، و
الحدث، والاستدبار ونحوها، فإن التقيد بالشرائط الوجودية و
العدمية دخيل في المأمور به مع خروج ذواتها عنه.
إذا عرفت هذا الامر، فاعلم:
113



أن المراد بالمقدمة الداخلية في مورد البحث هي الداخلية بالمعنى
الأخص أعني أجزأ المركب الاعتباري التي تكون داخلة في المأمور
به
قيدا وتقيدا، وقد حكى في البدائع عن بعض كالمحقق سلطان
العلماء في بعض حواشيه على المعالم التصريح بخروج الاجزاء عن
حريم
نزاع وجوب المقدمة بقوله: (وجوب الكل يستلزم وجوب كل أجزائه،
إذ جز الواجب واجب اتفاقا)، فان كان نظره إلى لزوم اجتماع
المثلين المستحيل، حيث إن الاجزاء واجبة بالوجوبين النفسي و
الغيري على ما تقدم تفصيله عند شرح قول المصنف: (فلا تكاد تكون
واجبة بوجوب آخر، لامتناع اجتماع المثلين)، ففيه: أنه يمكن دفعه
بأن اجتماعهما لا يؤدي إلى اجتماع المثلين، بل إلى الاندكاك و
التأكد، فهو نظير صلاتي الظهر والمغرب، فإنهما واجبتان نفسيا كما هو
واضح، وغيريا، لكونهما شرطين لصحة ما يترتب عليهما من
صلاتي العصر والعشاء.
والاشكال على التأكد كما في مقالات شيخنا المحقق العراقي (قده)
بما هذا لفظه: (وتوهم التأكد في مثل المقام غلط، إذ الوجوب الغيري
معلول الوجوب النفسي، ومتأخر عنه بمقدار تخلل الفاء الحاصل بين
العلة والمعلول، وهذا الفاء مانع عن اتحاد وجودهما، ولو بالتأكد)
لا يخلو من الغموض، لان مناط التأكد هو اجتماع الحكمين زمانا على
مورد واحد سواء اتحدا رتبة، أم اختلفا فيها، فإذا نذر الاتيان بصلاة
الظهر مثلا جماعة، فلا ينبغي الاشكال في تأكد وجوبها الأصلي
بوجوبها النذري مع اختلاف رتبتهما، كما لا يخفى.
وإن كان نظر من يمنع عن وجوب الاجزاء مقدميا إلى: أن وجوبها
النفسي متفق عليه، وذلك يغني عن اتصافها بالوجوب الغيري، إذ لا
ثمرة له بعد وجوبها النفسي ففيه أولا: أن وجوب الاجزاء نفسيا غير
مسلم عند الكل، كما يظهر من تقريرات
114



بحث شيخنا الأعظم الأنصاري (قده)، حيث قال المقرر: (وربما
يتوهم: أن وجوب الكل مركب من وجوبات متعلقة بأجزائه، وهو
فاسد
جدا، ضرورة أن الوجوب المتعلق بالكل أمر بسيط وهي الحالة الطلبية
والإرادة الفعلية، ولا يعقل التركيب فيها، نعم المراد مركب تعلق
به الطلب من حيث إنه مركب وأمر وحداني) وان كان فيه منع كما
سيأتي في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين إن شاء الله تعالى.
وثانيا: ان الثمرة المترتبة على وجوب المقدمة تترتب على وجوب
الاجزاء أيضا كما سيجئ في بيان ثمرة وجوب المقدمة.
وإن كان نظره إلى: امتناع تركب الواجب، وكون متعلق الامر كلا ليكون
له أجزأ حتى يبحث عن وجوبها الغيري المترشح عليها من
الامر بالكل، فهو مما لا بأس به في الجملة، وتوضيحه منوط بتقديم
مقدمات:
الأولى: أن من المسلمات اتحاد الكل في الوجود الخارجي مع وجود
أجزائه، حتى قيل: إن الكل عين الاجزاء بالأسر، ولا ينافي هذه
الوحدة تقدم الاجزاء على الكل بالماهية والتجوهر، كما لا يخفى.
الثانية: أن الكلية والجزئية اعتباران متضايفان ناشئان من منشأ واحد و
هو الوحدة العارضة للمتكثرات، ضرورة أن اتصاف مجموعها
بكونها كلا، وكل واحد منها بكونه جزا منوط بوحدة المتكثرات
الحقيقية اعتبارا، فما لم يطرأ عليها الوحدة الاعتبارية لا يحدث لها
عنوان الكل والجز، فالصلاة مثلا التي هي أشياء متكثرة لا تتصف
بكونها كلا، ولا ركوعها وسجودها وغيرهما مما اعتبر فيها
بكونها جزا إلا بعد عروض الوحدة لها بسبب وحدة الامر المتعلق
بها، فإنه قبل تعلقه بها لا كل ولا جز، فالكلية والجزئية ناشئتان من
وحدة المتكثرات، ومن المعلوم: نشوء هذه الوحدة الاعتبارية من
وحدة الامر، فلا وحدة لتلك المتكثرات، ولا كلية ولا جزئية
115



لها قبل الامر، بل هي مترتبة على الامر، فهي ملحوظة بشرط شئ.
فلم يظهر وجه لما في التقريرات المنسوبة إلى شيخنا الأعظم (قده)
من كون الجز ملحوظا بشرط لا، فراجع وتأمل.
الثالثة: ان كل ما يترتب على الامر وينشأ منه يمتنع أن يكون دخيلا في
متعلقه، لوجود مناط استحالة الدور وهو اجتماع النقيضين فيه
كما هو واضح.
الرابعة: ان تعلق الامر بالمتكثرات الخارجية يتصور على وجوه ثلاثة:
أحدها: تعلقه بذواتها، لاشتمالها على المصلحة الداعية إلى الامر بها
مع الغض عن الهيئة العارضة لها، كما إذا أمر بإكرام أشخاص من
دون لحاظ الهيئة الاجتماعية لهم.
ثانيها: تعلقه بالهيئة العارضة لتلك المتكثرات من دون دخل للذوات
فيها، كما إذا أمر بإيجاد سرير، أو باب، أو منبر، أو دائرة، أو مثلث،
أو غيرها مثلا من الاشكال الهندسية من دون نظر إلى المواد من
الخشب والحديد وغيرهما، لكن عد هذا من تعلق الامر بالمتكثرات
لا
يخلو من مسامحة، كما هو واضح.
ثالثها: تعلقه بكل من الذوات والهيئة، لقيام المصلحة الموجبة للإرادة
والطلب بكلتيهما، كما قد يقال بكون الصلاة من هذا القبيل، استنادا
إلى إطلاق القواطع على بعض موانعها، كالحدث والاستدبار،
بدعوى: ظهور القاطع في وجود هيئة إتصالية للصلاة تنقطع ببعض
الموانع، فليتأمل.
إذا عرفت هذه المقدمات، فاعلم:
أنه لا موضوع للبحث عن وجوب المقدمة الداخلية وعدمه، وذلك
لما عرفت من أن المراد بها أجزأ المركب الذي تعلق به الامر بحيث
يكون التركب والكلية في الرتبة السابقة على الامر، ومعروضين له،
حتى يصح أن يقال: إن الامر النفسي المتعلق
116



بالكل هل يستلزم وجوب أجزائه مقدميا أم لا؟ وقد عرفت في بعض
المقدمات تأخر الكلية عن الامر، ونشأها عنه، وامتناع دخل ما لا
يتأتى إلا من قبل الامر في متعلقه.
نعم هذا النزاع يتمشى في المركبات الحقيقية، لان التركب والكلية و
الجزئية فيها معروضة للامر، لا متأخرة عنه، ولا يتأتى في
المركبات الاعتبارية التي يتوقف اعتبار التركب والوحدة فيها على
الامر المتعلق بها، والمفروض أن الامر بالمتكثرات إن تعلق
بالهيئة فقط، فالمواد خارجة عن متعلق الامر، وليست أجزأ له حتى
يجري فيها نزاع وجوب المقدمة الداخلية، بل تندرج في المقدمة
الخارجية الآتية.
وإن تعلق بالمواد فقط، أو مع الهيئة، فلا مركب، ولا كل قبل الامر حتى
يجري فيه نزاع وجوب أجزأ الواجب مقدميا، فالبحث عن
وجوب أجزأ الواجب المركب الاعتباري الشرعي مقدميا ساقط،
لعدم موضوع له، فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع، هذا.
اللهم إلا أن يقال: إن الامر لما كان ناشئا عن المصلحة القائمة
بالمتكثرات، فيعرضها لا محالة - لأجل تلك المصلحة - وحدة
اعتبارية،
فتتصف هي قبل تعلق الامر بها بالكلية والجزئية، فمعروض الامر هو
المركب الاعتباري الناشئ تركبه ووحدته عن الملاك.
ويمكن الاستشهاد لذلك باعتبار قصد الجزئية في أجزأ الصلاة و
نحوها من المركبات المتعلقة للوجوب، فيصح حينئذ البحث عن
وجوب أجزائه غيريا.
وليس الغرض جعل الملاك معروض الامر حتى يرد عليه: أن الملاك
من الجهات التعليلية، لا التقييدية، فمتعلق الامر ذوات المتكثرات، فلا
كلية ولا جزئية قبل الامر، بل الغرض أن وحدة المصلحة القائمة
بالمتكثرات توجد وحدة اعتبارية لها، وإنكاره مخالف للوجدان، فإن
الفتح المترتب على العسكر المؤلف من ألف شخص أو أزيد يوجب
وحدة اعتبارية لهم بلا إشكال، كما أن تعدد المصلحة القائمة
بالمتكثرات مانع عن اعتبار
117



وحدتها.
وبالجملة: فلا يندرج بحث وجوب الاجزاء مقدميا في القضايا السالبة
بانتفاء الموضوع، فلا بد أن يكون إخراج أجزأ الواجب عن حريم
نزاع وجوب المقدمة لجهة أخرى، وهي كون الاجزاء عين الكل في
الوجود الخارجي وإن كانت غيره اعتبارا، حيث إن الملحوظ لا
بشرط الانضمام جز، وبشرطه كل، إلا أن اللحاظ لا يوجب انثلام
اتحادهما في الوجود الخارجي، والمفروض أن المقدمية وهي توقف
شئ على آخر تقتضي مغايرة الموقوف والموقوف عليه في الوجود
الخارجي، والتغاير اللحاظي لا يقتضي تعدد الاجزاء والكل كذلك،
فضابط المقدمية لا ينطبق على الاجزاء، لان وجود الكل عين وجود
الاجزاء، فالامر المتعلق بالمركب يتعلق بالاجزاء حقيقة، وينبسط
عليها، فتكون الاجزاء واجبات نفسية ضمنية، ولولا هذا الانبساط لم
يكن مجال لجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين، إذ لا بد
في جريانها من كون مجراها شكا في التكليف، كما يأتي في محله إن
شاء الله تعالى.
فتلخص من جميع ما ذكرنا: أن ما عزي إلى السلطان وغيره من خروج
أجزأ المأمور به عن حريم نزاع وجوب المقدمة هو الحق، لكن لا
من جهة كونه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، بل من جهة كون
الاجزاء عين الكل في الوجود الخارجي وإن كانت مغايرة لها اعتبارا،
وذلك لما عرفت من انتفاء معنى المقدمية - وهو توقف وجود شئ
على وجود آخر - في الاجزاء. فما في القوانين من قوله: (الظاهر أن
الكلام في دلالة الواجب على وجوب جزئه كالكلام في ساير مقدماته)
إلى أن قال:
(وربما نفي الخلاف عن الوجوب في الجز، لدلالة الواجب عليه
تضمنا، وهو ممنوع) وكذا ما في الفصول من قوله: (إذا تركب الواجب
في الخارج من أجزأ كالصلاة، فكل جز من أجزائه واجب بالوجوب
النفسي والغيري باعتبارين)، وكذا ما في
118



حاشية المحقق التقى (قده) على المعالم في أول تنبيهات مقدمة
الواجب من قوله:
(أحدها أنه يجري الكلام المذكور في وجوب المقدمة وعدمه بالنسبة
إلى أجزأ الواجب أيضا، نظرا إلى توقف وجود الكل على وجودها،
فلا بد من الاتيان بها لأجل أداء الكل) إلى أن قال: (وقد حكم غير
واحد من المتأخرين بعدم الفرق بين أجزأ الواجب والأمور الخارجة
عنه في جريان البحث المذكور) مما لا يمكن المساعدة عليه، والله
العالم.
تنبيه: لا يخفى أن الوجوب النفسي يتصور ثبوتا على وجهين:
أحدهما: أن يكون لقيام مصلحة واحدة بجميع أجزأ المركب بحيث
لا تترتب تلك المصلحة إلا على وجود جميعها، كتحريك عدة
كالعشرة حجرة ثقيلة بحيث لا تتحرك إلا بتحريكهم، فحركة الحجر
التي هي أمر واحد موقوفة على ذلك، وكمعراجية الصلاة مثلا
المنوطة بإتيان جميع أجزائها.
ثانيهما: أن يكون لكل واحد من الاجزاء مصلحة مستقلة، غاية الامر:
أن شرط استيفائها هو الاتيان بغيره من الاجزاء، كما إذا فرض أن
مصلحة الركوع مثلا غرس شجرة كذائية في الجنة، ومصلحة السجود
بناء بيت كذائي فيها، وهكذا سائر الأجزاء، لكن ترتب هذه المصالح
خارجا على معروضاتها منوط بإتيان جميع الاجزاء، وهذا الشرط
أوجب اتصاف كل واحد من المتكثرات التي تقوم بها تلك المصالح
بالجزئية، ومجموعها بالكلية.
وأما إدراج ما إذا كانت المصالح مستقلة وغير مشروطة بعضها
بالأخرى بحيث يكون لكل واحد من الوجوبات المعلولة لها المتعلقة
بالمتكثرات المعروضة لتلك المصالح امتثال على حدة وعصيان
كذلك، كوجوب إكرام العلماء المنحل إلى وجوبات عديدة بنحو العام
الاستغراقي في الوجوه المتصورة في الوجوب النفسي للاجزاء كما في
بعض
119

وأما المقدمة الخارجية، فهي ما كان خارجا عن المأمور به (1) وكان له
دخل في تحققه لا يكاد يتحقق بدونه [1] وقد ذكر له (2) أقسام
(3)، وأطيل الكلام

الحواشي، فلا يمكن المساعدة عليه، لامتناع اعتبار الكلية والجزئية
في تلك المتكثرات بعد عدم اشتراكها في الطلب والملاك وإن
جمعها إنشاء واحد، إلا أنه ليس مناطا لوحدة الحكم، بل مناطها وحدة
الغرض حقيقة أو حكما وإن تعدد الانشاء، كما أن تعدده حقيقة
مناط تعدد الحكم وإن اتحد الانشاء، كما في القضايا الحقيقية، وقد
تقدم في بحث التعبدي والتوصلي ما ينفع المقام، فراجع.
وكيف كان فمسألة الارتباطية تصح على كل من الوجهين الأولين، ولا
تتوقف على الوجه الأول فقط، كما قد يتوهم، ضرورة أن
الارتباطية وهي تلازم الأوامر المتعلقة بالمتكثرات ثبوتا وسقوطا
تترتب على كلا الوجهين بلا إشكال كما هو ظاهر، وكذا نزاع
البراءة والاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين، فإنه يجري على كلا
الوجهين المزبورين.
[1] هذا معنى المقدمية، وهو يشمل جميع المقدمات الخارجية أعني
ما لا يكون من أجزأ الواجب وإن كان داخلا فيه تقيدا كالشرائط و
الموانع، وهذا هو المراد بالخارجية بالمعنى الأعم الصادق على ما
كان داخلا في الواجب تقيدا، وعلى ما لا دخل له فيه أصلا، فحق
التقسيم
أن يكون هكذا:
المقدمة إما داخلية وهي ما يكون داخلا في الواجب قيدا وتقيدا، و
إما خارجية
120



وهي ما لا يكون داخلا في الواجب ذاتا وإن كان داخلا فيه تقيدا.
والخارجية بهذا المعنى تنقسم باعتبارات عديدة على أقسام، فباعتبار
أنحاء الدخل إلى السبب، والشرط، والمعد، والمانع.
وباعتبار الحاكم بالمقدمية إلى العقلية، والشرعية، والعادية.
وباعتبار ما يضاف إليه المقدمة - أعني الواجب - إلى مقدمة الصحة،
ومقدمة الوجود، إلى غير ذلك من الاعتبارات الموجبة لتكثر
الأقسام.
والغرض من هذا التطويل: أنه كان على المصنف (قده) وغيره من
الأصوليين أن يقسموا المقدمة أولا إلى الداخلية والخارجية، ثم
يقسموا
الخارجية ثانيا إلى أقسام، لظهور تقسيم المتن وغيره في كون المقسم
في تلك الأقسام مطلق المقدمة الشامل للداخلية أيضا، حيث إن
قوله: - ومنها تقسيمها إلى العقلية والشرعية. إلخ - معطوفا على
قوله: - منها تقسيمها إلى الداخلية. إلخ - كالصريح في ذلك، مع أنه
ليس كذلك، ضرورة أن جميع الأقسام المذكورة بعد المقدمة الداخلية
مندرجة في خصوص المقدمة الخارجية، بحيث تكون أقساما لها
فقط، لا لمطلق المقدمة.
وهذا نظير أن يقال: (الشك إما يلاحظ فيه الحالة السابقة، وإما لا
تلاحظ فيه، وعلى الثاني إما يكون الشك في نفس التكليف، وإما في
المكلف به)، فإن من المعلوم: أن الأقسام الثلاثة من الشك في
التكليف أو المكلف به مع إمكان الاحتياط أو عدمه ليست أقساما
لمطلق
الشك، بل لخصوص الشك غير الملحوظ معه الحالة السابقة.
ونظير انقسام الكلمة إلى الاسم والفعل والحرف، ثم انقسامها إلى
المبتدأ، والخبر، والفاعل، وغير ذلك، فإن المنقسم إلى المبتدأ، و
الخبر، والفاعل وغيرها هو الكلمة المقيدة بكونها اسما، لا مطلق
الكلمة الذي هو المقسم بين الاسم، والفعل، والحرف، كما هو ظاهر.
121

في تحديدها (1) بالنقض (2) والابرام (3) إلا أنه غير مهم (4) في
المقام.
ومنها: تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية
(5)، فالعقلية هي ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه (6)،
122

والشرعية على ما قيل (1) ما استحيل وجوده بدونه (2) شرعا، و
لكنه لا يخفى رجوع الشرعية إلى العقلية [1 [3 ضرورة

[1] توضيح المقام: أن هذا التقسيم ان كان ناظرا إلى مقام الاثبات و
الدلالة بأن يكون الدال على التوقف، والحاكي عنه هو العقل أو
الشرع، نظير انقسام الدلالة إلى العقلية، والوضعية وغيرهما، فلا ترجع
المقدمة الشرعية إلى العقلية أصلا، كما لا يخفى، ولا يلائمه أيضا
مقابلة المقدمة العادية للشرعية والعقلية، إذ ليس المراد بها هنا العرف
- كما هو أحد إطلاقاتها في غير المقام - حتى
123



تكون كاشفة، بل المراد بها: عدم كون التوقف والمقدمية بحسب
الواقع، بل بحسب عادة الناس، كتوقف الكون على السطح على نصب
السلم.
نعم توقفه على قطع المسافة واقعي، لامتناع الطفرة، فوجه المقابلة
حينئذ هو مجرد تحقق المقدمية بكل منها ظاهرا وإن كان المناط
فيها مختلفا من حيث الكشف في بعضها، والقيدية في الاخر وهو
المقدمة العادية.
وان كان ناظرا إلى مقام الثبوت وهو التوقف الواقعي، فلا تقبل
المقدمة هذا الانقسام أصلا، لأنه راجع إلى التوقف التكويني من دون
دخل للعقل أو الشرع أو العادة فيه، فلا موضوع حينئذ للبحث عن
رجوع المقدمة الشرعية إلى العقلية.
وان كان ناظرا إلى مقام الجعل بأن يكون الجاعل للمقدمية الشرع، أو
العقل، أو العادة، فلا وجه له أيضا، إذ ليس شأن العقل الجعل و
التشريع، بل وظيفته إدراك الحسن والقبح وغيرهما، وهو المراد
بالأحكام العقلية. وكذا العادة، فإنها ليست جاعلة لحكم، بل والشرع
أيضا، بناء على ما قيل من (عدم قابلية الأحكام الوضعية للجعل، و
كونها أمورا واقعية كشف عنها الشارع، فتأمل.
والحق أن المقدمة الشرعية (ان كانت) بمعنى تقيد الواجب شرعا
بقيود وجودية كالطهارة، والستر، والاستقبال وغيرها مما يعتبر
شرطا في الصلاة، أو عدمية كعدم الاستدبار، ولبس ما لا يؤكل و
غيرهما مما يعد مانعا، فلا إشكال في مغايرتها للمقدمة العقلية، لان
اعتبار هذه الأمور وجودا أو عدما في الصلاة، والتقيد بها إنما هو
بجعل الشارع، ولا مسرح للعقل فيها أصلا، فلا ترجع المقدمة الشرعية
إلى العقلية قطعا. (وان كانت) بمعنى توقف المقيد بما هو مقيد على
وجود قيده بحيث ينتفي بانتفائه، فلا ينبغي الاشكال في رجوعها
إلى المقدمة العقلية، لكن الإضافة إلى الشرع قرينة على إرادة المعنى
الأول، هذا.
124

أنه لا يكاد يكون مستحيلا ذلك (1) شرعا إلا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا،
واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده يكون عقليا.
وأما العادية (فإن كانت) بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة
بحيث يمكن تحقق ذيها بدونها، إلا أن العادة جرت على الاتيان به
بواسطتها (2) فهي (3) وإن كانت غير راجعة إلى العقلية (4) إلا أنه
(5) لا ينبغي توهم دخولها في محل النزاع، (وان كانت) (6) بمعنى أن
التوقف عليها وان كان
125

فعلا (1) واقعيا كنصب السلم ونحوه (2) للصعود على السطح، إلا أنه
(3) لأجل (4) عدم التمكن عادة من الطيران الممكن عقلا، فهي (5)
أيضا (6) راجعة إلى العقلية،
126

ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلا لغير الطائر فعلا وان
كان طيرانه ممكنا ذاتا، فافهم (1).
ومنها: تقسيمها إلى مقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة
الوجوب [1] ومقدمة العلم (2)،
لا يخفى رجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود (3) ولو على

[1] لا يخفى ما في جعل مقدمة الوجوب من أقسام مقدمة الواجب من
المسامحة، إذ المقصود هو البحث عن الملازمة بين وجوب الواجب و
بين وجوب مقدمته، ومن المعلوم تأخر هذا البحث عن ثبوت
الوجوب للواجب، والفراغ عنه
127

القول بكون الأسامي موضوعة للأعم، ضرورة أن الكلام في مقدمة
الواجب، لا في مقدمة المسمى بأحدها، كما لا يخفى.
ولا إشكال في خروج مقدمة الوجوب عن محل النزاع، وبداهة (1)
عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها.

ليصح البحث عن ترشح وجوبه على المقدمة.
وبالجملة: نفس عنوان مقدمة الواجب كالصريح في كون المراد
بالمقدمة في مورد البحث هو مقدمة الواجب الذي وجوبه مفروغ
عنه،
فالمقدمة الوجوبية خارجة عن المقسم أعني مقدمة الواجب
موضوعا، لا حكما، كما هو ظاهر قول المصنف: (ولا إشكال في
خروج مقدمة
الوجوب عن محل النزاع) بل صريحه، لعده لها أولا من أقسام
المقدمة، وإخراجها ثانيا عن محل النزاع.
128

وكذلك المقدمة العلمية (1) وان استقل العقل بوجوبها (2)، إلا أنه
(3) من باب وجوب الإطاعة إرشادا (4) ليؤمن من العقوبة على
مخالفة
الواجب المنجز، لا مولويا [1] من باب الملازمة (5) وترشح (6)
الوجوب عليها (7) من قبل وجوب ذي المقدمة.

[1] ويترتب على عدم مولويته عدم أثر للعلم الاجمالي ببطلان بعض
ما أتى به من باب المقدمة العلمية، كما إذا علم إجمالا ببطلان إحدى
الصلوات الواقعة إلى الجهات عند اشتباه القبلة، أو بطلان إحدى
الصلاتين في الثوبين المشتبهين، فإنه لا أثر لهذا العلم، إذ لو كان الخلل
في غير الصلاة الواقعية المأمور بها لم يترتب عليه أثر، فلا مانع حينئذ
من جريان قاعدة الفراغ في المأمور به الواقعي، فتدبر.
129

ومنها (1): تقسيمها إلى المتقدم والمقارن والمتأخر (2) بحسب
الوجود (3)
بالإضافة إلى ذي المقدمة، وحيث إنها (4) كانت من أجزأ العلة، ولا
بد من تقدمها (5) بجميع أجزائها على المعلول أشكل الامر في
المقدمة المتأخرة كالأغسال
130

الليلية (1) المعتبرة في صحة صوم (2) المستحاضة عند بعض (3)، و
الإجازة في صحة العقد على الكشف كذلك (4)، بل (5) في الشرط أو
المقتضى المتقدم على
131

المشروط زمانا (1) المتصرم حينه (2) كالعقد في الوصية، والصرف،
والسلم (3) بل (4) في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه (5)،
لتصرمها (6) حين تأثيره (7) مع ضرورة اعتبار مقارنتها معه (8) زمانا،
132

فليس (1) إشكال انخرام القاعدة العقلية مختصا بالشرط المتأخر في
الشرعيات، كما اشتهر في الألسنة، بل يعم الشرط والمقتضي
المتقدمين المتصرمين حين الأثر. [1]
والتحقيق في رفع هذا الاشكال (2) أن يقال: إن الموارد التي توهم
انخرام

[1] الحق عدم تعميم الاشكال للمقدمة المتقدمة، واختصاصه
بالمقدمة المتأخرة، وذلك لان العلة إما مؤثرة بحيث يكون وجودها
مساوقا
لوجود المعلول، وموجبا لوجوبه، لتبعية المعلول وجودا ووجوبا
لوجود العلة ووجوبها وإما مقربة للمعلول إلى صدوره ووجوده.
والأول شأن العلة التامة، فإنها متحدة زمانا مع المعلول، ويمتنع
الانفكاك بينهما.
والثاني شأن المعد، لأنه يقرب المعلول إلى صدوره عن علته كقطع
الطريق إلى المقصد كالمشي إلى مسجد الكوفة مثلا، فإن نقل الاقدام
يوجب القرب إلى المسجد، وفي هذا القسم الثاني لا يعتبر التقارن
الزماني بين العلة والمعلول. والمقدمة المتقدمة من قبيل هذا القسم
الثاني، يعني أنها كالمعد لذيها، فلا يعتبر تقارنها له زمانا.
وبالجملة: ففي الشرط المتقدم لا تنخرم القاعدة العقلية، لعدم كونه
مؤثرا بل هو مقرب، فإشكال انفكاك المعلول عن العلة، وتأثير
المعدوم فعلا في الوجود كذلك يختص بالشرط المتأخر، ولا يسري
إلى غيره أعني المتقدم.
133

القاعدة فيها لا تخلو: إما أن يكون المتقدم والمتأخر شرطا للتكليف أو
الوضع، أو المأمور به.
أما الأول، فكون أحدهما (1) شرطا له ليس إلا أن للحاظه دخلا في
تكليف
134

الامر كالشرط المقارن بعينه، فكما أن اشتراطه (1) بما يقارنه ليس إلا
أن لتصوره (2) دخلا في أمره بحيث لولاه (3) لما كاد يحصل له
الداعي إلى الامر كذلك (4) المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة: حيث كان الامر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه بما هو
كذلك (5) تصور (6) الشئ بأطرافه ليرغب في طلبه والامر به
(7) بحيث لولاه (8) لما رغب فيه، ولما أراده واختاره، فيسمي كل
واحد من هذه الأطراف التي لتصورها (9) دخل في حصول الرغبة فيه
وإرادته (10) شرطا، لأجل (11) دخل لحاظه في
135

حصوله (1) كان (2) مقارنا له (3) أو لم يكن كذلك (4) متقدما أو
متأخرا، فكما في المقارن (5) يكون لحاظه في الحقيقة شرطا كان (6)
فيهما كذلك [1] فلا إشكال (7)،
136

وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقا ولو كان مقارنا (1)

وهذا بخلاف شرائط المجعول المعبر عنها بالموضوع، فإن فعلية
الحكم حينئذ منوطة بوجود موضوعه، بخلاف إنشائه، فإن فرض
وجود الموضوع كاف فيه، ومورد البحث في الشرط المتأخر هو
شرائط المجعول، لا شرائط الجعل.
فدفع إشكال الشرط المتأخر في الحكم بإرجاع الشرط إلى اللحاظ غير
سديد.
نعم يتجه ما أفاده من جعل الشرط اللحاظ في القضايا الخارجية،
كقوله: - يا زيد ادخل داري -، لان الموضوع فيها الأشخاص و
العناوين
كالصداقة، والقرابة، والعلم ونحو ذلك تؤخذ ملاكا، ومن المعلوم:
كفاية لحاظها في حصول الإرادة، ولا يتجه ذلك في الاحكام الكلية
التي هي من القضايا الحقيقية المنوطة فعلية الحكم فيها بفعلية
موضوعه كما لا يخفى.
كما لا يندفع إشكال الشرط المتأخر بما نسب إلى صاحب الجواهر
من: (أن استحالة تخلف المعلول عن علته وتقدمه عليها إنما تكون في
العلل والمعلولات التكوينية دون الأمور الاعتبارية التي منها الأحكام الشرعية
، لان كيفية اعتبارها كأصله تابعة لاعتبار معتبرها، فله
اعتبار الملكية مثلا في الصرف، والسلم والوصية مع شرطية القبض و
الموت المتأخرين عن العقد لها، واعتبار وجوب الحج مثلا قبل
الموسم مع كونه شرطا متأخرا. وبالجملة: فالأمور الاعتبارية ليست
كالمعلولات الحقيقية التابعة لعللها
137



وجودا، فلا مانع من الشرط المتأخر في الحكم الشرعي تكليفيا كان أم
وضعيا).
وجه عدم الاندفاع: أن هذا خلاف الفرض، إذ المفروض دخالة الامر
المتأخر في الحكم، ولذا سمي شرطا، ومع دخله يمتنع تخلف
المشروط عنه وتحققه قبل شرطه، ولا فرق في امتناع التخلف بين
المعلول الحقيقي، وبين المعلول الاعتباري.
كما لا يندفع إشكال الشرط المتأخر أيضا بما أفاده سيدنا الأستاذ مد
ظله في الدرس من: (أن امتناع تخلف المعلول عن العلة إنما
يكون في المؤثر والمتأثر الحقيقيين، دون الأحكام الشرعية التي
ليست إلا أحكاما مجعولة لموضوعاتها، وليست رشحات لها، لما
ثبت
في محله من امتناع جعل السببية، فكل من الدلوك والعقد ونحوهما
موضوع للوجوب، أو الملكية، أو الزوجية، لا سبب لها. ومن المعلوم
دوران الحكم مدار موضوعه، فلا يحكم الشارع بالوجوب أو الملكية
مثلا إلا بعد تمامية الموضوع من الدلوك في الأول، والقبض في
الثاني، وهكذا. وبالجملة: فالشرط المتأخر دخيل في الموضوع، فلا
تأخر في الشرط حقيقة).
وجه عدم الاندفاع: أن هذا الوجه وإن كان صحيحا، لكنه أجنبي عن
الشرط المتأخر الذي هو عبارة عن دخل المتأخر في المتقدم بحيث
يوجد الأثر الاعتباري قبل الشرط ويستند إليه، وليس هذا مقتضى ما
أفاده دام ظله، بل مقتضاه عدم ترتب الأثر من التكليف أو الوضع
إلا بعد حصول الشرط الذي هو جز الموضوع حقيقة، فلا أثر قبله، و
هذا خلاف الفرض.
كما لا يندفع إشكال الشرط المتأخر بما قيل من: (أن الممتنع هو تأخر
المقتضي الذي يترشح منه المقتضى - بالفتح - عن مقتضاه، وأما
الشرائط فلما لم يكن من شأنها ترشح المعلول منها، فلا مانع من
تأخرها عقلا).
138



وجه عدم الاندفاع: أن الشرط بعد فرض اعتباره ودخله في المعلول و
لولا بعنوان التأثير والرشح يرجع تأخره عن المشروط إلى
الخلف والمناقضة كتأخر المقتضي عن مقتضاه بلا تفاوت بينهما
أصلا.
وبالجملة: فامتناع تأخر الشرط عن المشروط كامتناع تأخر المقتضي
عن مقتضاه، ولا وجه للتفكيك بينهما.
كما لا يندفع بما عن المحقق شيخ مشايخنا الميرزا النائيني (قده) من:
(كون الشرط عنوان التعقب الذي هو مقارن للمشروط لا متأخر
عنه، فالعقد المتعقب بالإجازة كما في بيع الفضولي، أو طيب النفس
كما في بيع المكره يؤثر في الملكية) وجه عدم الاندفاع أولا: أنه
خلاف ظاهر أدلة اعتبار الإجازة، وطيب النفس، حيث إن ظاهرها
دخل نفسهما في حصول مقتضى العقد من الملكية، والزوجية و
نحوهما، لا دخل الامر الانتزاعي كالتعقب والتأخر.
وثانيا: أن الأمور الانتزاعية لا واقعية ولا وجود لها حقيقة، وإنما
الوجود لمنشأ انتزاعها، فلا تصلح للتأثير في الوجود.
وثالثا: أنه ليس دافعا للاشكال، بل هو التزام بامتناع الشرط المتأخر،
لرجوعه إلى كون الشرط من المقارن، فما أفاده قدس سره تبعا
لصاحب الفصول في دفع الاشكال المزبور مما لا يمكن المساعدة
عليه.
كما لا يندفع بما عن سيد الأساطين المحقق الميرزا الشيرازي على ما
في فوائد المصنف (قدهما) من: (أن الشرط ليس المتقدم أو المتأخر
بوجودهما الكوني الزماني كي يلزم المحذور، بل بوجودهما الدهري
المثالي، وهما بهذا الوجود لا يكونان إلا مقارنين للمشروط، فإن
المتفرقات في سلسلة الزمان مجتمعات في وعاء الدهر).
وجه عدم الاندفاع: أن الاجتماع في وعاء الدهر لا يدفع غائلة استحالة
تقدم
139



المعلول على العلة زمانا، وتأثير المعدوم في الوجود فعلا. مضافا إلى:
عدم السنخية بين الشرط والمشروط إن أريد تأثير الشرط
الدهري في المشروط الزماني، وإلى:
أن الحمل على الوجود الدهري تأويل في الدليل بلا موجب، فلا يصار
إليه.
كما لا يندفع بما عن النراقي (قده) من: (أن الشرط في أمثال هذه
الموارد هو الوجود في الجملة سبق أو لحق).
وجه عدم الاندفاع: أنه مع فرض تأثير الشرط كالإجازة في عقد
الفضولي يبقى المحذور - وهو تأثير المعدوم في الموجود، وتقدم
المعلول على علته الفاعلية - على حاله، بلا تفاوت بين التكوينيات
من الجواهر، والاعراض، والتشريعيات من التكليفيات، والوضعيات
فإن القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص، كما لا يخفى.
كما لا يندفع بالتصرف في الشرط بجعله في الشرع عبارة عن المعرف
الذي يجوز تأخره.
وذلك لأنه خلاف الفرض، إذ المفروض كونه شرطا كغيره من الشرائط
المقارنة للمشروط في التأثير، ومن المعلوم: أن المعرف أمارة
على تحقق الشرط، لا أنه شرط حقيقة، ولعل هذا الوجه يرجع إلى
بعض الوجوه المتقدمة، فلاحظ.
وكيف كان، فالحق أن يقال: إن الشرط سواء رجع إلى الموضوع
كالبلوغ، والاستطاعة، والفقر، والغني، وغير ذلك من الشرائط
العامة والخاصة، أم إلى المتعلق كالاستقبال، والستر، والطهارة و
غيرها مما يعتبر في متعلق الحكم كالصلاة، أم إلى ماله دخل علي في
ترتب الحكم على موضوعه يمتنع تأخره عن المشروط، ضرورة أن
الشرط إن كان دخيلا في موضوع الحكم، أو متعلقه، أو علته، فلا بد
من عدم تأخره عنه، لحكم العقل بلزوم تقدم العلة وما هو بمنزلتها
كالموضوع الشامل للمتعلق رتبة على المعلول ونحوه كالحكم، لأنه
ليس معلولا حقيقيا لموضوعه بعد امتناع
140



جعل السببية.
فدعوى: جواز تأخر الشرط في الشرعيات مساوقة لدعوى جواز
اجتماع النقيضين أو الضدين في الشرعيات، وهو كما ترى.
وبالجملة: فالشرط سواء أكان من الجهات التقييدية أم التعليلية يمتنع
تأخره عن المشروط، وحيث إن المحقق في محله رجوع كل شرط
إلى الموضوع، فيمتنع وجود الحكم تكليفيا كان أم وضعيا قبل شرطه،
لعدم تمامية الموضوع قبله، فثبوت الحكم يوجب التناقض، لكشفه
عن تمامية الموضوع، وكشف تأخر الشرط عن عدم تماميته، وليس
هذا إلا التناقض.
وعليه: فلا بد أن يكون الموت في الوصية التمليكية، والإجازة في
عقد الفضولي، وطيب النفس في عقد المكره ونحو ذلك متممة
لموضوع الملكية بحيث لا يحكم بها إلا بالموت، والإجازة، والطيب.
كما لا يحكم بوجوب الحج مثلا إلا بعد وجود ما أخذ شرطا له
كالاستطاعة بأنحائها، ووجوب الزكاة بعد وجود شرائطه.
والحاصل: أنه لا يحكم بشئ من التكليف أو الوضع إلا بعد وجود كل
شرط اعتبر فيه بحسب الدليل، فما في تقرير بعض أساطين العصر
مد ظله من: (أن الصحيح جواز الشرط المتأخر للحكم، ثم التمثيل له
في العرفيات بالحمامات المتعارفة في زماننا فعلا، فإن صاحب
الحمام بعد أن كان مالكا لشئون تصرفات حمامه يرضى في قرارة نفسه
فعلا بالاستحمام لكل فرد على شرط أن يدفع المستحمم مبلغ
الأجرة عند الخروج فالرضا من المالك فعلي، والشرط متأخر) لا يخلو
من غموض، لان المشروط هو خصوص الرضا المقارن للتصرف
المضمون بالدرهم، لا مطلق الرضا ولو كان متقدما على التصرف ولذا
لو لم يبق الرضا إلى زمان التصرف، فلا وجه لجواز ذلك سواء أ
كان من باب الإجارة، أم من الإباحة بالعوض، فالرضا المشروط
بالتصرف المضمون بالدرهم هو الحصة
141



المقارنة للاستحمام، دون الحصة غير المقارنة له، فإن وجودها
كعدمها.
وعليه: فالرضا السابق على الاستحمام ليس مشروطا به حتى يتأخر
الشرط عن المشروط، بل المشروط منه هو الرضا المقارن سوأ
أنشأ الرضا كأن يقول: - من استحم بدرهم فأنا راض به -، أم أخبر به
كأن يقول: - إني راض عمن استحم بدرهم -، فإن مرجع كليهما
إلى تحقق الرضا عند الاستحمام بدرهم.
بل يمكن أن يقال: إن إنشاء الرضا في مثل الحمامات يرجع إلى جعل
الملازمة بين الرضا، وبين التصرف في الحمام بدرهم، كجعل
الملازمة بين وجوب الحج وبين المستطيع في مثل قوله: (من استطاع
وجب عليه الحج) من القضايا الحقيقية، فيفرض وجود التصرف
المضمون بالدرهم وينشأ الرضا، فكل من الشرط والمشروط فعلي،
غاية الامر: ان مصداق الشرط في الخارج متأخر إلى زمان الخروج
من الحمام، لا أن الرضا فعلي والشرط متأخر، فتدبر.
فتلخص من جميع ما ذكرنا: استحالة الشرط المتأخر للحكم سواء أكان
تكليفيا أم وضعيا، وسواء أكان الشرط راجعا إلى الموضوع، أم
إلى علة ثبوت الحكم للموضوع لتقدم الموضوع والعلة على الحكم و
المعلول، وإلا يلزم الخلف والمناقضة في الأول، وانفكاك المعلول
عن العلة، وتأثير العدم في الوجود في الثاني.
وأما الشرط المتأخر بالنسبة إلى المأمور به، فلا محذور فيه، لعدم
جريان الامتناع المتقدم في الشرط المتأخر للحكم التكليفي و
الوضعي من الخلف والمناقضة، وتأثير المعدوم في الموجود في
الشرط المتأخر للمأمور به. توضيحه: أن المراد بشرط المأمور به هو
كون التقيد جزا له مع خروج القيد عنه، في قبال الجز الذي هو
داخل قيدا وتقيدا في المأمور به، ومن الواضح: صحة تقيد المأمور به
بشئ متقدم، أو متأخر، كصحة تقيده بمقارن، فالواقع تحت الامر هو
المأمور به المقيد بشئ مقارن
142

فإن دخل شئ في الحكم به (1)،

له، أو متقدم عليه، أو متأخر عنه من دون لزوم محذور الخلف و
المناقشة، وتأثير المعدوم في الموجود، وذلك لان الشرط المتأخر
للمأمور به ليس موضوعا للامر، ولا مؤثرا في ثبوت الحكم له حتى
يمتنع كونه شرطا، للزوم الخلف، أو تأثير المعدوم في الموجود، بل
الشرط المتأخر يضيق دائرة المأمور به، ويوجب تحصص الطبيعي
بحصة خاصة مؤثرة في الملاك الداعي للمولى إلى طلبها، والحث
عليها، فالضيق ناش من التقيد بذلك الشئ المتأخر، وهو مقارن
للمأمور به المشروط من دون أن يكون لنفسه تأثير في الملاك حتى
يلزم تحقق الأثر قبل المؤثر، فالغسل الليلي لصوم المستحاضة الكبرى
يكون التقيد به شرطا لصحة الصوم، ووجود الغسل يكشف عن
وجود الحصة الخاصة المأمور بها.
ويمكن أن تكون الولاية من هذا القبيل بناء على كونها من شرائط
صحة العبادات، فإن الشرط هو تقيدها بالولاية، وهو مقارن لها وإن
تأخرت عنها، ولذا نفت النصوص (1) كصحيحتي العجلي، وابن أذينة،
ومصحح الفضلاء وغيرها قضاء عبادات المخالف إذا استبصر إلا
الزكاة (لأنه وضعها في غير موضعها، وإنما موضعها أهل الولاية).
(1 - راجع الوسائل ج 1، الباب 31 من أبواب مقدمة العبادات)
وبالجملة: فما هو داخل تحت الامر بالمشروط مقارن له، وما هو
متقدم عليه أو متأخر عنه غير داخل تحت الامر، وخارج عن محل
الكلام.
وعلى هذا، فشرائط المأمور به أجنبية عن محل الكلام، وخارجة عن
المقام، لعدم دخلها في موضوع الحكم، ضرورة عدم دخلها في
الموضوع المراد به المكلف، وصفاته، وحالاته كالبلوغ، والعقل، و
غيرهما من الشرائط العامة والخاصة.
ولا في المتعلق كالصلاة، والصوم، وغيرهما من متعلقات الأوامر، إذ
المفروض كون الشرط تقيدها بالأمور المتأخرة عنها، ولذا لا يقع
تحت أمر المشروط
143

وصحة (1) انتزاعه لدى الحاكم به (2)

كالصوم إلا التقيد بها الذي هو مقارن للصوم، لا وجود تلك الأمور
خارجا كالغسل الليلي لصوم المستحاضة الكبرى حتى تقع في حيز
الامر المتعلق بالمشروط، وتصير كالاجزاء متعلقة للامر كي يلزم
تقدمها لأجل موضوعيتها على الحكم، ويكون تأخرها مع تعلق الامر
بها مساوقا لجواز تأخر شرط الموضوع - وهو المتعلق - عن الحكم
الذي ليس ذلك إلا انخراما للقاعدة العقلية.
ولا في علة الحكم حتى يلزم تأخر المؤثر عن الأثر، لعدم كونها من
علل الحكم بل من حدود المأمور به الموجبة لقيام الملاك بحصة
خاصة من حصص الطبيعة، فلا مانع حينئذ من تأخر شرائط المأمور
به، لعدم كونها شرائط حقيقة، بل الشرط هو التقيد بها، وهو مقارن
له، كما مر.
إيقاظ اعلم: أن بيان المصنف (قده) في الجواب عن إشكال الشرط
المتأخر للحكم والمأمور به ليس على وزان واحد، حيث إنه عبر في
الأول بالتصور واللحاظ، وان الشرط المتأخر في الحكم وضعيا كان أم
تكليفيا هو وجوده العلمي، وعبر في الثاني بكون الشرط
طرف الإضافة، ولم يعبر عنه بالتصور، مع أن مرجعه كشرائط الحكم
إلى اللحاظ والتصور كما يظهر من عبارة الفوائد. ووجه
الاختلاف في البيان: أن الشرط في الثاني قيد للمأمور به بخلاف
شرائط الحكم بكلا قسميه، لامتناع انبساط الحكم على شرائطه، و
استحالة تعلقه بها، لان الحكم بمنزلة معلولها، فهو متأخر عن مباديه
التي منها شرائطه، فكيف يتعلق بها وهو معدوم في رتبتها.
144

ليس (1) إلا ما كان بلحاظه (2) يصح انتزاعه، وبدونه لا يكاد يصح
اختراعه عنده، فيكون دخل كل من المقارن (3) وغيره بتصوره و
لحاظه وهو (4) مقارن، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن،
فتأمل تعرف.
وأما الثاني (5) فكون شئ شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات
145

المأمور به بالإضافة إليه (1) وجها وعنوانا (2) به (3) يكون حسنا
(4)، أو
146

متعلقا للغرض (1) بحيث لولاها (2) لما كان كذلك، واختلاف (3)
الحسن، والقبح، والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من
الإضافات مما لا شبهة فيه، ولا شك يعتريه.
والإضافة كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا
تفاوت أصلا، كما لا يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شئ إلى
مقارن له موجبا لكونه معنونا بعنوان يكون بذلك العنوان حسنا، و
متعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى متأخر، أو متقدم، بداهة أن
الإضافة إلى أحدهما (4) ربما توجب ذلك (5) أيضا (6)، فلو لا
حدوث المتأخر (7) في محله لما كانت للمتقدم (8) تلك (9)
الإضافة
147

الموجبة لحسنه الموجب لطلبه، والامر به، كما هو الحال في المقارن
أيضا (1)، ولذلك (2) أطلق عليه الشرط مثله (3) بلا انخرام للقاعدة
أصلا، لان (4) المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس إلا طرف الإضافة
الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حقق في محله (5) أنه
(6)
بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنها تكون بالإضافات (7) فمنشأ
توهم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، وقد عرفت (8)
148

أن إطلاقه (1) عليه فيه كإطلاقه (2) على المقارن إنما يكون لأجل
كونه (3) طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون بذلك الوجه
مرغوبا ومطلوبا، كما كان (4) في الحكم لأجل دخل تصوره (5) فيه،
كدخل تصور سائر الأطراف والحدود التي لولا لحاظها (6) لما
حصل له الرغبة في التكليف، أو لما صح عنده الوضع (7)، وهذه
خلاصة ما بسطناه من المقال في دفع هذا الاشكال في بعض فوائدنا [1] ولم يسبقني إليه أحد فيما أعلم،

[1] وهي التي طبعت مع حاشيته على فرائد شيخنا الأعظم الأنصاري
(قدهما) ولا بأس بنقل عبارته المذكورة في الفوائد تسهيلا على
إخواننا أيدهم الله تعالى، قال في الفائدة المعقودة لاعتبار تقدم الشرط
على المشروط بعد بيان إشكال الشرط
149

فافهم واغتنم.
ولا يخفى أنها (1) بجميع أقسامها داخلة في محل النزاع، وبناء على
الملازمة

المتأخر ما لفظه: (والتحقيق في التفصي عن الاشكال يحتاج إلى
تمهيد مقال وهو:
أن الأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ومنها الأحكام التكليفية أو
الوضعية كما لا يخفى إنما تتوقف على مبادئ علمية، وتصورية، و
تصديقية، مثل تصور الفعل بحدوده وقيوده، وتصور فائدته، و
التصديق بترتبها عليه ليريد الشخص أن يفعله أو يأمر به عبده. (و
بالجملة) إنما يكون قيود الفعل وحدوده على اختلافه حسب
اختلاف الأحوال، والاغراض، والأشخاص، وكذا فائدتها بوجودها
العلمي
موقوفا عليها، لا بوجودها الخارجي، لعدم السنخية بين الفعل
الاختياري بما هو اختياري وبينها بهذا الوجود، وإنما هي بينه وبينها
بوجودها العلمي، كما لا يخفى. والسنخية بين الشئ وعلته بتمام
أجزائها لازمة، وإلا لزم تأثير كل شئ في كل شئ. ثم إن خصوصية
الفعل الاختياري تارة تكون منتزعة عنه بحدوده وقيوده التي تكون
متحدة معه في الوجود، وأخرى تكون منتزعة بملاحظة أمر آخر
مباين معه في الوجود مقارن أو سابق، أو لا حق به، بداهة اختلاف
الافعال بذلك أيضا بحسب الاغراض والملامة والمنافرة للقوة
العاقلة وساير القوى كما لا يخفى الموجب للاقبال إليها تارة، و
الاعراض عنها أخرى. إذا حققت ذلك عرفت: أن كلما يتوقف عليه
الأحكام الشرعية مطلقا تكليفية أو وضعية مما يتداول إطلاق الشرط
عليه مطلقا مقارنا كان لها أو لا إنما يكون
150

يتصف اللاحق بالوجوب كالمقارن والسابق، إذ بدونه (1) لا يكاد
يحصل الموافقة،

دخله فيها بوجوده العلمي، لا بوجوده الخارجي، ويكون حال السابق
أو اللاحق بعينه حال المقارن في الدخل، مثلا إذا فرض أن الذي
يكون مؤثرا بنظر الشارع هو العقد الخاص الذي انتزعت خصوصيته
من ملاحظة رضاء مقارن أو لا حق، فكما لا دخل للرضي المقارن
حينئذ، إلا أنه بملاحظته جعل السلطان بالاستحقاق والمالك على
الاطلاق العقد سببا كذلك حال الرضاء اللاحق، فيكون دخل كل في
التأثير نحو دخل الاخر فيه، وهو ملاحظة خصوصية العقد المنتزعة
عن رضاء مقارن أو لا حق، وكذا الحال في صوم المستحاضة
بالكبرى بناء على الاشتراط بالأغسال الليلية، فإن دخلها في الواجب
إنما يكون بواسطة أنه بملاحظتها تحصل لصومها خصوصية بها
يصير ذا مصلحة مقتضية لايجابها عليها بهذه الخصوصية، فتؤمر بذلك
الخاص، فيجب عليها موافقته بالصوم في النهار والغسل في الليلة
اللاحقة. واختلاف الافعال في الخصوصيات الناشئة من سبق شئ أو
لحوقه الموجبة للتفاوت في الحسن والقبح مما لا يخفى، لما حقق
في محله من أنهما بالوجوه والاعتبارات، لا بالذات، فلو اغتسلت في
الليل صح صومها، بخلاف ما إذا لم تغتسل، فإنها لم تأت بما هو
المأمور به، وما أتت به لم يوافق، فيحكم بفساده وبطلانه. ان قلت:
هذا خلاف ظاهر لفظ الشرط الذي قد أطلق على مثل الإجازة، و
الغسل في الليل. قلت: لو سلم كان إطلاقه عليه من باب إطلاقه على
مثل الرضاء المقارن، لما عرفت أن دخلهما كدخله في التأثير بلا
تفاوت أصلا.
ان قلت: فما وجه إطلاقهم الشرط على مثل ذلك مما لا دخل له إلا
بوجوده العلمي.
قلت: الوجه صدق الشرط حقيقة بناء على إرادة الأعم من الذهني و
الخارجي من لفظ الوجود والعدم في تعريفه بما يلزم من عدمه العدم،
ولا يلزم من وجوده الوجود،
151

ويكون (1) سقوط الامر بإتيان المشروط به مراعى بإتيانه (2)، فلو لا
اغتسالها (3)

وصدقه مجازا من باب التشبيه والمسامحة بناء على إرادة خصوص
الخارجي، ومثل هذا الاطلاق ليس بعزيز. وبالجملة: قد انقدح مما
حققناه حال الشرط في أبواب العبادات والمعاملات، وأنه عبارة عما
بلحاظه تحصل للأفعال خصوصيات بها تناسب أحكامها المتعلقة
بها، وقد انحل به الاشكال والتفصي عن العويصة والأعضال، و
الحمد لله تعالى على كل حال، ولعمري أن هذا تحقيق رشيق و
مطلب
شامخ عميق لا يناله إلا ذو النظر الدقيق بالتأمل فيما ذكرناه بالتدقيق،
فعليك بالتأمل التام لعلك تعرف حقيقة المرام وعلى الله التوكل و
به الاعتصام) انتهى كلامه علا مقامه.
لكنك قد عرفت: أن ما أفاده في شرائط الحكم من كون الدخيل هو
الوجود العلمي، وأنه بهذا الوجود يؤثر في الحكم إنما يكون في
الجعل، لا المجعول الذي هو مورد البحث، فإن لحاظ الإجازة ليس
دخيلا في الملكية، بل الدخيل فيها هو وجود الإجازة خارجا، كما أن
التعقب بالإجازة ليس شرطا للملكية بأن يكون العقد المتعقب
بالإجازة سببا للنقل والانتقال ليحكم بالملكية من حين العقد ولو
حصلت
الإجازة بعد سنة، وهو المراد بالكشف الحقيقي، فلا دخل للإجازة
بوجودها الخارجي في أثر العقد المتحقق قبل وجود الإجازة، بل
الدخل إنما هو لصفة التعقب، وهي مقارنة للمشروط أعني العقد، فلا
يلزم المحذور، وهو تأخر
152

في الليل (1) على القول بالاشتراط لما صح الصوم في اليوم (2)

العلة عن المعلول، أو الموضوع عن الحكم.
وجه عدم كون التعقب شرطا هو: عدم مساعدة الأدلة عليه، حيث إن
ظاهرها دخل وجود الاذن والإجازة خارجا، لا تصورا ولحاظا في
ترتب الأثر على العقد.
وكذا ما أفاده في شرائط المأمور به من: أن الشرط حقيقة هي الإضافة،
لا نفس الامر المتأخر، فإنه لا يخلو أيضا عن غموض، لان إضافة
المتقدم إلى المتأخر من الاعتبارات الذهنية كالكلية، والجزئية، و
الجنسية، والنوعية وإن فرضت موجودة في الخارج، كما هو شأن
الإضافة المقولية على ما حققه أهل الفن لزم انتفاء تكافؤ المتضايفين
في القوة والفعلية، مع أن ذلك من خواصهما، فلا تتحقق الإضافة بين
شيئين: أحدهما موجود بالفعل، والاخر بالقوة، فيمتنع تحقق العنوان
الإضافي للصوم قبل تحقق الغسل في الليلة المستقبلة، كامتناع
وجود إضافة الأبوة فعلا لزيد قبل وجود الابن له ولو مع العلم بوجود
ابن له بعد ذلك.
لكن الظاهر من عبارة فوائده التي نقلناها آنفا: عدم إرادة الإضافة
المقولية وإن كانت عبارته في المتن موهمة لها، بل ظاهرة فيها، بل
مراده انتزاع خصوصية للمأمور به باعتبار تعقبه بشئ متأخر كما
ينادي بذلك قوله في الفوائد: - وكذا الحال في صوم المستحاضة
بالكبرى. إلخ - بعد قوله في شرائط الحكم: - مثلا إذا فرض أن الذي
يكون مؤثرا في نظر الشارع هو العقد الخاص الذي انتزعت
خصوصيته من ملاحظة رضاء مقارن أو لا حق. إلخ، فلاحظ عبارة
الفوائد متدبرا فيها.
153

الامر الثالث في تقسيمات الواجب:
منها: تقسيمه إلى المطلق والمشروط،
وقد ذكر لكل منهما تعريفات وحدود (1) تختلف بحسب ما أخذ
فيها من القيود، وربما أطيل الكلام بالنقض والابرام في النقض على
الطرد (2)
154

والعكس (1) مع أنها (2) كما لا يخفى [1] تعريفات لفظية (3) لشرح
الاسم [2]

[1] بل يخفى، لظهور النقوض وتكثير القيود في كون التعاريف حقيقية.
[2] ما أفاده المصنف قدس سره هنا وفي تعريف العام والخاص من
مرادفة التعريف اللفظي لما يقع في جواب - ما - الشارحة، و
مساوقته لشرح الاسم مخالف لاصطلاح أهل الفن، حيث إن التعريف
اللفظي يقع في جواب السؤال اللغوي، فإن السؤال حينئذ يكون عن
المفهوم الذي وضع له اللفظ، والسؤال ب - ما - الشارحة إنما يكون
عن شرح ماهية ذلك المعنى الموضوع له، فما يقع في الجواب عن
السؤال ب - ما - الشارحة متأخر رتبة عن التعريف اللفظي الذي يقع
جوابا عن السؤال اللغوي، فكيف يكون شرح الاسم والتعريف
اللفظي مترادفين؟ وبعد وجود المعنى يسأل ب - ما - الحقيقية، لأنه
يطلق الحقيقة والذات اصطلاحا على الماهية الموجودة، فالحدود
155

وليست بالحد ولا بالرسم (1).
والظاهر أنه ليس لهم اصطلاح (2) جديد في لفظ المطلق والمشروط،
بل يطلق كل منهما (3) بما له من معناه العرفي (4).

قبل الهليات البسيطة حدود اسمية، وهي بعد الهليات تنقلب حدودا
حقيقية، والتعريف اللفظي يغاير كلا منهما، وليس مرادفا لمطلب -
ما - الشارحة، كما هو صريح المصنف هنا وفي العام والخاص، بل و
في غيرهما.
قال الشيخ الرئيس في الإشارات: (ومنها مطلب ما هو الشئ، وقد
يطلب به ماهية ذات الشئ، وقد يطلب به ماهية مفهوم الاسم
المستعمل)، وقال المحقق الطوسي (قده) في شرحه ما لفظه: (ذات
الشئ حقيقته، ولا يطلق على غير الموجود، إلى أن قال: والطالب
بما
الثاني هو السائل عن ماهية مفهوم الاسم، كقولنا: ما الخلا، وإنما لم
نقل عن مفهوم الاسم، لان السؤال بذلك يصير لغويا، بل هو السائل
عن تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا، فإن أجيب بجميع ما له دخل
في ذلك المفهوم بالذات ودل عليه الاسم بالمطابقة والتضمن كان
الجواب حدا بحسب الاسم، وان أجيب بما يشتمل على شئ خارج
عن المفهوم دال عليه بحسب الالتزام على سبيل التجوز كان رسما
بحسب الاسم، انتهى كلامه رفع مقامه.
إيقاظ: لا يخفى أن الاطلاق والاشتراط قد يتصف بهما الواجب
كالصلاة، فإنها
156

كما أن الظاهر (1) أن وصفي الاطلاق والاشتراط وصفان إضافيان، لا
حقيقيان، وإلا (2) لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط
وجوب كل واجب ببعض الأمور لا أقل من الشرائط العامة كالبلوغ، و
العقل، فالحري (3) أن يقال: إن

مشروطة بالطهارة، ومطلقة بالنسبة إلى الاحرام مثلا، وقد يتصف بهما
الوجوب كوجوب الصلاة، فإنه مطلق بالنسبة إلى الاستطاعة، و
مشروط بالإضافة إلى البلوغ مثلا، ومحل النزاع هو الثاني، لا الأول،
فنسبة الاطلاق والاشتراط في عنوان المسألة إلى الواجب كما في
المتن وغيره مسامحة.
157

الواجب مع كل شئ يلاحظ معه ان كان وجوبه غير مشروط به فهو
مطلق بالإضافة إليه، وإلا (1) فمشروط كذلك (2) وان كانا (3)
بالقياس إلى شئ آخر كانا بالعكس (4).
ثم الظاهر (5) ان الواجب المشروط كما أشرنا إليه (6) نفس الوجوب
فيه مشروط بالشرط بحيث لا وجوب حقيقة، ولا طلب واقعا قبل
حصول الشرط كما هو (7) ظاهر الخطاب التعليقي، ضرورة أن ظاهر
خطاب: - ان جاءك زيد فأكرمه -
158

كون الشرط من قيود الهيئة (1) وأن (2) طلب الاكرام وإيجابه معلق
على المجئ، لا أن الواجب فيه يكون مقيدا به بحيث يكون الطلب و
الايجاب في الخطاب
159

فعليا ومطلقا، وإنما الواجب يكون خاصا ومقيدا وهو الاكرام على
تقدير المجئ، فيكون الشرط من قيود المادة، لا الهيئة كما نسب
ذلك إلى شيخنا العلامة (1) أعلى الله مقامه (مدعيا لامتناع كون
الشرط من قيود الهيئة واقعا (2)، ولزوم (3) كونه من قيود المادة لبا
(4)
160

مع الاعتراف (1) بأن قضية القواعد العربية [1] أنه (2) من قيود الهيئة
ظاهرا (3).
أما امتناع كونه من قيود الهيئة فلانه (4) لا إطلاق في الفرد الموجود من
الطلب المتعلق بالفعل المنشأ (5) بالهيئة حتى يصح القول بتقييده
بشرط ونحوه (6)، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه
الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة (7)، وأما لزوم كونه
(8) من قيود المادة لبا، فلان العاقل إذا توجه إلى شئ والتفت إليه
فإما أن يتعلق طلبه به، أو لا يتعلق به طلبه

[1] قد يستشكل في ذلك بالتنافي بين امتناع تقيد الهيئة، وبين كون
تقييدها مقتضى القواعد العربية. لكنه مندفع بتعدد الجهة، إذ امتناع
التقيد إنما يكون لمانع ثبوتي، وكون تقيد الهيئة مقتضى القواعد
العربية إنما يكون ناظرا إلى الظهور اللفظي المستند إلى وضع أدوات
الشرط، لإناطة الجزاء بالشرط، ولا منافاة بين هذه الإناطة، وبين امتناع
وجود الجزاء لجهة خارجية، إذ المانع الخارجي لا يمنع عن
ظهور اللفظ في الإناطة والتعليق، فتدبر.
161

أصلا، لا كلام على الثاني (1)، وعلى الأول (2) فإما أن يكون ذاك
الشئ موردا لطلبه وأمره مطلقا على اختلاف طوارئه، أو (3) على
تقدير خاص، وذلك التقدير تارة يكون من الأمور الاختيارية (4)، و
أخرى لا يكون كذلك (5)، وما كان من الأمور الاختيارية قد يكون
مأخوذا فيه على نحو يكون موردا للتكليف (6)، وقد لا يكون كذلك
(7) على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به (8) من غير
فرق في
162

ذلك (1) بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم
التبعية، كما لا يخفى) هذا موافق لما أفاده بعض الأفاضل (2)
المقرر لبحثه بأدنى تفاوت. [1]

[1] لكن ظاهر عبارة مكاسب الشيخ الأعظم (قده) في باب اعتبار
التنجيز في العقود هو: عدم امتناع تقييد الهيئة بالشرط، حيث قال بعد
نقل جملة من العبارات والمناقشة فيها ما لفظه: (وبالجملة فإثبات
هذا الشرط (أي التنجيز) في العقود مع عموم أدلتها ووقوع كثير
منها في العرف على وجه التعليق بغير الاجماع محققا أو منقولا
مشكل)، فإن الظاهر منه: أن المانع عن التعليق هو الاجماع على بطلان
العقد مع التعليق، لا الامتناع المنسوب إليه في التقريرات، فلو لا
الاجماع كان التعليق في البيع جائزا.
وبعبارة أخرى: المانع عن التعليق إثباتي، لا ثبوتي، وقد نقل سيدنا
الأستاذ مد ظله عن شيخه المحقق الميرزا النائيني: (أنه حكى عن
العلمين الميرزا الكبير الشيرازي والسيد حسين الكوه كمري قدس الله
تعالى أسرارهم: إنكار نسبة امتناع تقييد الهيئة إلى الشيخ (قده)،
وعدم كون مراده (ره) من تقييد المادة ما هو ظاهر التقريرات من
رجوع القيد إلى المادة مع فعلية الوجوب وإطلاقه حتى يرجع إلى
الواجب المعلق الذي اصطلح عليه صاحب الفصول، وذلك لبطلانه
بعد فرض كون القضية من القضايا الحقيقية التي يمتنع فيها فعلية
الحكم
من دون فعلية موضوعه.
163

ولا يخفى ما فيه، أما حديث عدم الاطلاق في مفاد الهيئة (1) فقد
حققناه سابقا

بل مراد الشيخ قدس سره: أن المنوط بالشرط هو المحمول المنتسب
الذي هو نتيجة الجملة الجزائية، فقولنا مثلا: - ان استطعت فحج -
يدل على أن المنوط بالشرط أعني الاستطاعة هو الحج المنسوب إلى
الفاعل. وبعبارة أخرى: الحج الواجب معلق على الاستطاعة، فالحج
الواجب معدوم عند عدم الاستطاعة، ونتيجة هذه الإناطة هي
الوجوب المشروط، مع عدم تقييد الهيئة حتى يرد عليه: عدم معقولية
تقييدها، لكون مفاد الهيئة مغفولا عنه وغير ملتفت إليه، حيث إن
المقيد هي المادة المنتسبة، لا نفس النسبة الطلبية التي هي مفاد الهيئة.
وبالجملة: النزاع في أن القيد هل يرجع إلى المادة قبل الانتساب أم
بعده؟ فإن كان قبله وجب تحصيله، فإن تقييد الحج مثلا بالاستطاعة
قبل الانتساب عبارة عن وقوع كل من المادة وقيدها في حيز
الوجوب، كالصلاة المقيدة بالطهارة.
وإن كان بعده، فلا يجب تحصيله، لان الحج الواجب منوط
بالاستطاعة، فإذا حصلت وجب الحج وإلا فلا، كما لا يخفى).
وكيف كان، فما استدل، أو يمكن أن يستدل به على امتناع رجوع القيد
إلى الهيئة وجوه أربعة:
164

ان كل واحد من الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف يكون عاما
كوضعها، وإنما الخصوصية من قبل الاستعمال كالأسماء (1)، و
إنما الفرق بينهما (2) أنها وضعت

الأول: ما أفاده الشيخ (قده) من كون الموضوع له في الحروف جزئيا
حقيقيا غير قابل للاطلاق والتقييد، وقد أجاب عنه المصنف بما
عرفته في الحاشية التوضيحية.
الثاني: ان معاني الهيئات التي هي معان حرفية وان كانت كلية إلا أنها
ملحوظة آليا، ومن الواضح: أن الاطلاق والتقييد من شؤون
المعاني الاستقلالية المختصة بالأسماء، فيمتنع رجوع القيد إلى
الهيئة، هذا.
وفيه: ما تقدم في محله من: أن الالية خارجة عن الموضوع له، وإنما
هي ملحوظة في مقام الاستعمال، فلا تمنع عن تقييد المعنى قبله.
الثالث: ان المعاني الحرفية التي منها معاني الهيئات إيجادية، ومن
المعلوم:
أن الاطلاق والتقييد من شؤون المعاني الاخطارية، فيمتنع رجوع القيد
إلى الهيئة.
وفيه: ما تقدم في المعاني الحرفية من ضعف الايجادية.
الرابع: أن رجوع القيد إلى الهيئة يستلزم التفكيك بين الايجاب و
الوجوب، إذ الايجاب فعلي، لتحققه بالانشاء، والوجوب مشروط بأمر
استقبالي، وليس هذا إلا التفكيك بين الايجاد والوجود، وهو ممتنع،
لان كل موجود خارجي إيجاد بملاحظة فاعله، ووجود بملاحظة
قابله، فكما أن تخلف الوجود عن الايجاد محال، فكذلك تخلف
الوجوب عن الايجاب، فالمتعين رجوع القيد إلى المادة.
وفيه: ما أفاده المصنف (قده) بقوله: قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب
على تقدير حصوله. إلخ -، وقد مر تقريبه في التوضيح.
هذا كله مضافا إلى: إمكان أن يقال: إن الطلب الجزئي لما كان تشخصه
بالطالب
165

لتستعمل ويقصد بها المعنى بما هو هو، والحروف وضعت لتستعمل
وتقصد بها معانيها بما هي آلة وحالة لمعاني المتعلقات، فلحاظ
الالية كلحاظ الاستقلالية ليس من طوارئ المعنى، بل من مشخصات
الاستعمال، كما لا يخفى على أولى الدراية والنهي.
والطلب [1] المفاد من الهيئة المستعملة فيه مطلق قابل لان يقيد، مع
(1) أنه لو سلم أنه (2) فرد، فإنما يمنع عن التقيد لو أنشأ أولا غير
مقيد،

والمطلوب، والمطلوب منه، وكانت الخصوصيات الزائدة من
حالات الطلب، وخارجة عما به تشخصه صح دعوى إطلاقه لحالاته،
كما هو
الحال في الاعلام الشخصية، فإن لفظ - زيد - مثلا وإن وضع لجزئي
حقيقي، لكنه مطلق بالنسبة إلى حالاته من العلم، والعدالة، و
غيرهما.
[1] الأولى: تبديل الواو بالفاء، لأنه نتيجة ما أفاده، كما لا يخفى.
166

لا ما إذا أنشأ من الأول مقيدا، غاية الامر قد دل عليه بدالين (1) وهو
غير إنشائه أولا ثم تقييده ثانيا، فافهم (2).
فان قلت: على ذلك (3) يلزم تفكيك الانشاء عن المنشأ، حيث لا
طلب قبل حصول الشرط.
قلت: المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله (4)، فلا بد أن لا
يكون
167

قبل حصوله (1) طلب وبعث، وإلا (2) لتخلف عن إنشائه، وإنشاء
أمر على تقدير كالاخبار به (3) بمكان من الامكان، كما يشهد به (4)
الوجدان [1] فتأمل جيدا.

[1] لعل الأولى تبديل - الوجدان - بالدليل، لان ترتب الأثر في موارد
تخلف المنشأ عن الانشاء زمانا إنما هو بالدليل الشرعي، لا
الوجدان. إلا أن يريد بالوجدان حكم العرف والعقل بذلك، غاية
الامر: أن الشرع أمضاه، لكن التعبير بالوجدان أيضا غير مناسب، كما
هو واضح.
[2] لا يخفى: أن قياس الانشاء بالاخبار مع الفارق، لان الاخبار حاك
محض عن المخبر به، وليس مؤثرا فيه، كالعلم الذي لا يؤثر في
المعلوم، بل كاشف صرف عنه، بخلاف الانشاء، فإنه يؤثر في وجود
المنشأ، فتعليقه يسري إلى الانشاء.
168

وأما (1) حديث لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبا، ففيه: أن الشئ إذا
توجه إليه، وكان موافقا للغرض بحسب ما فيه من المصلحة أو
غيرها (2) كما [1] يمكن أن يبعث فعلا إليه ويطلبه حالا، لعدم مانع
عن طلبه كذلك، يمكن أن يبعث إليه معلقا ويطلبه (3) استقبالا على
تقدير شرط متوقع الحصول، لأجل (4)

نعم بناء على كون الانشاء إخبارا عن الترجحات النفسانية كان القياس
في محله، بل ليس قياسا حقيقة، لكون الانشاء حينئذ عين الاخبار،
لكن قد زيف هذا المبنى في محله، فلا وجه للمقايسة المزبورة أصلا.
[1] الصواب أن يقال: - فكما - بالفاء، لأنه جواب الشرط، وهو قوله:
(إذا توجه) فإنه من موارد لزوم اقتران جواب الشرط بالفاء.
169

مانع عن الطلب والبعث فعلا قبل حصوله (1)، فلا يصح منه (2) إلا
الطلب والبعث معلقا بحصوله (3)، لا مطلقا (4) ولو (5) متعلقا بذاك
(6)
على التقدير (7) فيصح منه طلب الاكرام بعد (8) مجئ زيد، ولا
يصح منه الطلب المطلق الحالي للاكرام المقيد بالمجئ، هذا (9) بناء
على
تبعية الاحكام لمصالح فيها في غاية الوضوح.
170

وأما بناء على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي
عنها، فكذلك (1) ضرورة أن التبعية كذلك (2) إنما تكون في
الاحكام الواقعية بما هي واقعية لا بما هي فعلية، فإن المنع (3) عن
فعلية تلك الأحكام غير عزيز، كما في موارد
171

الأصول والامارات على خلافها، وفي بعض الأحكام في أول البعثة،
بل إلى يوم قيام القائم عجل الله فرجه مع أن: (حلال محمد صلى الله
عليه وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم

[1] الظاهر: أن مصب كلام الشيخ (قده) هو مفاد الهيئة أعني نفس
الحكم، ومن المعلوم: أنه بناء على تبعية الاحكام لما في متعلقاتها
يكون
الشرط قيدا للمادة، إذ المفروض قيام المصلحة بها، وللشرط نحو تأثير
في تلك المصلحة، فالمشروط هو المادة، والطلب الواقعي مطلق
غير معلق، ومع العلم به يصير فعليا، فكلام الشيخ (قده) بناء على
تبعية الاحكام لما في متعلقاتها متين، ولا يرجع الشرط إلى الهيئة
أصلا.
نعم يتوجه على الشيخ (ره): أن لازم ما أفاده من رجوع الشرائط طرا
إلى المادة عدم الفرق بين شرط الوجوب، وبين شرط الواجب في
صحة أخذ كل منهما قيدا للواجب مع عدم صحته، لوضوح الفرق
بينهما.
وتقريبه على ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) في الدرس وأشار
إليه في المقالات بتوضيح منا هو: أن الشرط تارة يكون علة
لاتصاف شئ بالمصلحة، وأخرى يكون علة لوجود هذه المصلحة
في الخارج، والأول شرط الوجوب، والثاني شرط الواجب.
وإن شئت توضيح الفرق بينهما، فلاحظ المرض مثلا، فإنه شرط
لاتصاف شرب المسهل بالمصلحة بحيث لولاه لم يكن لشربه صلاح،
بل
كان فيه فساد، فالمرض سبب للاحتياج إلى شرب المسهل، ولكن أثره
المحتاج إليه موقوف على استعمال المنضج قبله، فكم فرق بين
المرض الذي هو سبب الاحتياج إلى المسهل، وبين المنضج الذي هو
سبب وجود المحتاج إليه، فإن الأول الذي هو شرط الوجوب علة
للاحتياج
172

القيامة)، ومع ذلك ربما يكون المانع عن فعلية بعض الأحكام باقيا مر
الليالي والأيام إلى أن تطلع شمس الهداية ويرتفع الظلام، كما
يظهر من الاخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام.

الموجب لإرادة شرب المسهل، والثاني علة لوجود المراد الذي هو
الأثر المترتب على شربه، فشرط الوجوب علة للإرادة بحيث لا
تحصل
إلا بعد وجوده وشرط الواجب علة للمراد ومعلول للإرادة، لأنه
بالمرض المحوج إلى المسهل تحصل إرادة إيجاد استعمال المنضج
الدخيل في وجود الأثر المحتاج إليه المترتب على شرب المسهل،
فالإرادة علة لاستعمال المنضج، والمرض علة لهذه الإرادة.
وبعبارة أخرى: استعمال المنضج معلول لإرادة شرب المسهل، وهذه
الإرادة معلولة للمرض.
فالمتحصل: أن شرط الوجوب من مبادئ الإرادة وعللها، ولذا لا
يتعلق به الإرادة حتى يجب تحصيله، كالاستطاعة التي هي شرط
وجوب
الحج، بل في ظرف تحققه توجد الإرادة، بخلاف شرط الواجب، فإنه
معلول الإرادة. ولذا يجب تحصيله.
فقد ظهر مما ذكرنا: أن شرط الوجوب لا يمكن أخذه قيدا للمادة، لأنه
علة للإرادة، فلا يتعلق به الإرادة، وأخذه من قيود المادة أعني
الواجب يقتضي كونه معلولا للإرادة، فيلزم اجتماع النقيضين، وهما:
تعلق الإرادة به، حيث إنه من شرائط الواجب وقيوده، وعدم تعلقها
به، لكونه من شرائط الوجوب التي هي من مقدمات الإرادة.
ويرشد إلى الفرق الواضح بينهما: عقد الفقهاء رضوان الله عليهم
شرائط الوجوب ممتازة عن شرائط الواجب في العبادات من الصلاة،
و
الصوم، والزكاة، والحج فقالوا: (شرائط الوجوب: البلوغ، والعقل، و
الحرية مثلا في بعض الموارد، وشرائط الصحة: الايمان، و
الطهارة، والاستقبال، والحضر مثلا وغير ذلك)، ولو كان شرط
الوجوب راجعا إلى شرط الواجب لم يكن داع إلى عقد عنواني لهما.
173

فان قلت (1): فما فائدة الانشاء إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا وبعثا
حاليا.

ولا بأس بتوضيح كلام الشيخ (قده) حتى يظهر حقيقة الحال، فنقول:
ان كان مراده بالطلب الصفة النفسانية المعبر عنها بالشوق المؤكد، فهو
كسائر الأمور التكوينية لا تتصف بالإناطة والفعلية، بل
بالوجود والعدم، فالقيود لا بد وأن ترجع إلى المشتاق إليه، فالشوق
موجود فعلا وإن كان المشتاق إليه مقيدا بقية اختياري، أو غيره،
كاشتياقه إلى الحج مع توقفه على المال الذي يقدر على تحصيله، أو لا
يقدر عليه. فالإرادة موجودة بناء على أنها هي الشوق المؤكد، كما
يظهر من السبزواري في منظومته، حيث قال: (عقيب داع دركنا
الملائما، شوقا مؤكدا إرادة سما).
وإن كان مراده بالطلب ما يترتب على الشوق من التصدي لتحصيل
مراده بإعمال قدرته للوصول إليه، فكذلك، لأنه مترتب على ذلك
الشوق النفساني التكويني الذي هو بالحمل الشائع إما موجود وإما
معدوم، ضرورة أن اختيار الفعل من آثار ذلك الشوق، فبدونه لا
اختيار.
وإن كان مراده بالطلب اعتبار شئ، وجعله على عهدة المكلف
المعبر عنه بالوجوب تارة، وبالالزام أخرى، فلا محذور في إناطته
بشئ غير حاصل فعلا إن كان حسن الفعل المتعلق به الطلب منوطا
بشئ لم يحصل بعد، كما لا محذور في جعل الوجوب فعليا إن كان
الفعل حسنا فعلا.
والظاهر أن هذا الوجه هو مراد الشيخ (ره)، لان الكلام في الحكم
الشرعي، لا في مقدماته المستحيلة في حق الباري تعالى إن كان هو
الشارع، وقد عرفت إمكان تقييده، وعدم امتناعه.
174

قلت (1): كفى فائدة له أنه يصير بعثا فعليا بعد حصول الشرط بلا
حاجة إلى خطاب آخر بحيث لولاه (2) لما كان فعلا (3) متمكنا من
الخطاب (4)، هذا مع (5) شمول الخطاب كذلك (6) للايجاب فعلا
بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون (7) بعثا فعليا بالإضافة إليه، و
تقديريا (8) بالنسبة إلى الفاقد له، فافهم وتأمل جيدا.
ثم الظاهر (9) دخول المقدمات الوجودية للواجب المشروط في
محل النزاع
175

أيضا (1)، فلا وجه لتخصيصه (2) بمقدمات الواجب المطلق، غاية
الامر تكون (3) في الاطلاق [1] والاشتراط تابعة لذي المقدمة كأصل
الوجوب (4) بناء على

[1] الظاهر: استدراك هذا القيد، إذ مورد البحث هو مقدمات وجود
الواجب المشروط، ومن المعلوم: أنه لا إطلاق لوجوب ذي المقدمة
حتى يتبعه وجوب مقدمته، فالتبعية منحصرة في الاشتراط، كالتبعية
في أصل الوجود على ما هو قضية العلية.
[2] فيه أولا: أنه لا ظهور لاطلاق العنوان في عموم النزاع لمقدمات
الواجب المطلق والمشروط معا، بل الامر بالعكس، لظهور إطلاق
العنوان ولو انصرافا في خصوص الواجب المطلق.
176

وجوبها (1) من باب الملازمة.
وأما (2) الشرط المعلق عليه الايجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه
مما لا شبهة فيه، ولا ارتياب.
أما على ما هو ظاهر المشهور (3) والمنصور، فلكونه (4) مقدمة
وجوبية (5).

وثانيا: عدم حجية هذا الظهور بعد تسليمه، لفقدان شرائط الحجية
فيه، كما لا يخفى.
وأما المساواة المزبورة، فلا تقتضي أيضا جريان النزاع في المقدمات
الوجوبية، إذ ليست المقدمية بمجردها علة تامة لجريان النزاع،
لان مصب الملازمة هو وجوب المقدمة وذيها، فلا بد أولا من تحقق
وجوب ذي المقدمة حتى يبحث عن ترشحه على المقدمة، إذ
المفروض
علية وجوب ذي المقدمة لوجوبها.
177

وأما على المختار لشيخنا العلامة أعلى الله مقامه، فلانه (1) وإن كان
من المقدمات الوجودية للواجب إلا أنه أخذ على نحو لا يكاد يترشح
عليه الوجوب منه (2) فإنه (3) جعل الشئ واجبا على تقدير حصول
ذاك الشرط [1] فمعه (4)

[1] لا يقال: إنه بعد البناء على تقيد الواجب به يصير الشرط واجبا غيريا
فلا محيص عن الالتزام بتعلق الوجوب الغيري به، فيجب تحصيله.
فإنه يقال: إنه إنما يتم بناء على كون الشرط وجوده المطلق، وأما بناء
على كونه وجوده اتفاقا من دون نشؤه عن دعوة الامر، فيمتنع
تعلق الامر الغيري به، للزوم الخلف، إذ المفروض كون الشرط غير
الوجود الناشئ عن الامر، فالوجود الناشئ عنه ليس ما فرض شرطا.
178

كيف يترشح عليه الوجوب، ويتعلق به (1) الطلب، وهل هو (2) إلا
طلب الحاصل؟ نعم (3) على مختاره قدس سره لو كانت له مقدمات
وجودية غير معلق عليها وجوبه لتعلق بها الطلب في الحال (4) على
تقدير اتفاق وجود الشرط في الاستقبال، وذلك (5) لان إيجاب ذي
المقدمة على ذلك (6) حالي والواجب إنما هو استقبالي كما يأتي في
الواجب المعلق، فإن الواجب المشروط على مختاره (7) هو بعينه ما
179

اصطلاح عليه صاحب الفصول من المعلق، فلا تغفل. هذا (1) في غير
المعرفة والتعلم
180

من المقدمات.
وأما المعرفة، فلا يبعد القول بوجوبها حتى في الواجب المشروط
بالمعنى المختار (1) قبل حصول شرطه، لكنه (2) لا بالملازمة، بل من
باب استقلال العقل بتنجز الاحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها [1]
إلا (3) مع الفحص واليأس

[1] لا يخفى: أن مجرد احتمال الاحكام الواقعية لا يقتضي وجوب
التعلم، بل مقتضاه عدم الرجوع إلى ما يسوغ ترك الواقع من الأصل
النافي له، فيجب الاحتياط احترازا عن تركه.
والحاصل: أن هذا البرهان لا يقتضي لزوم التعلم بالنسبة إلى الواجب
المطلق فضلا عن المشروط قبل حصول شرطه كما هو مفروض
البحث، بل يقتضي لزوم الاحتراز عن مخالفة الواقع، فيجب الاتيان به
ولو بالاحتياط، فلم ينهض هذا البرهان على وجوب التعلم في
المقام.
ويستدل أيضا على وجوب تعلم الاحكام:
تارة بالروايات بناء على ظهورها في الوجوب النفسي، كما عن
المدارك.
وأخرى بحكم العقل بلزوم التعلم حفظا لغرض المولى.
وثالثة بكون وجوبه غيريا مولويا استقلاليا، لا من باب الملازمة، و
يأتي تفصيل هذه الوجوه مع ما لها أو عليها في مبحث شرائط
الأصول إن شاء الله تعالى.
181

عن الظفر بالدليل على التكليف، فيستقل بعده (1) بالبراءة، وأن (2)
العقوبة على المخالفة بلا حجة وبيان، والمؤاخذة عليها بلا برهان،
فافهم.
تذنيب (3):
لا يخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال
حصول الشرط على الحقيقة مطلقا (4)، وأما (5) بلحاظ حال قبل
حصوله
فكذلك على
182

الحقيقة [1] على مختاره (1) قدس سره في الواجب المشروط، لان
الواجب وإن كان أمرا استقباليا عليه (2) إلا أن تلبسه بالوجوب في
الحال (3). ومجاز (4) على المختار، حيث (5) لا تلبس بالوجوب
عليه قبله، كما عن البهائي (ره): تصريحه (6) بأن لفظ الواجب مجاز
في
المشروط بعلاقة الأول أو المشارفة (7).

[1] لا يخفى استدراك هذه اللفظة، ومنافاتها للايجاز الذي بنى عليه
المصنف، للاستغناء عنها بقوله: - فكذلك -.
183

وأما الصيغة مع الشرط، فهي حقيقة على كل حال (1)، لاستعمالها
على مختاره قدس سره في الطلب المطلق (2)، وعلى المختار في
الطلب
المقيد على نحو تعدد الدال والمدلول (3)، كما هو الحال فيما إذا
أريد منها (4) المطلق المقابل للمقيد، لا المبهم
184

المقسم (1)، فافهم (2).
ومنها: تقسيمه (3) إلى المعلق والمنجز، قال في الفصول: (إنه ينقسم باعتبار
185

آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على أمر غير
مقدور له كالمعرفة، وليسم منجزا، وإلى ما يتعلق وجوبه به (1)، و
يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له وليسم (2) معلقا كالحج، فإن
وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة، أو خروج الرفقة
(3)، ويتوقف فعله على مجئ وقته، وهو (4) غير مقدور له (5).
والفرق بين هذا النوع (6) وبين الواجب المشروط (7) هو: أن التوقف
هناك (8) للوجوب، وهنا (9) للفعل) انتهى كلامه رفع مقامه.
لا يخفى: أن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه حيث اختار في الواجب
المشروط ذاك المعنى (10)
186

وجعل الشرط لزوما من قيود المادة ثبوتا وإثباتا (1)، حيث (2) ادعى
امتناع كونه من قيود الهيئة كذلك أي إثباتا وثبوتا (3) على (4)
خلاف القواعد العربية [1] وظاهر (5) المشهور، كما يشهد به (6) ما
تقدم آنفا عن البهائي

[1] بل رجوع القيد إلى المادة مما ذهب إليه الجمهور من علماء
العربية، بل عن ظاهر التفتازاني في شرحه على التلخيص في مبحث
المسند: (اتفاق أهل العربية
187

أنكر [1 [1 على الفصول هذا التقسيم (2)، ضرورة (3) أن المعلق بما
فسره (4) يكون من المشروط بما اختار (5) له من المعنى على ذلك
(6) كما هو واضح

على كون الشرط من قيود الفعل)، ونسب إلى أكثر أهل العربية: أن
عامل - إذا - في قولك: - إذا جئتني أكرمك - هو الجزاء.
وبالجملة: فليس رجوع القيد إلى الفعل في مقابل الطلب قولا نادرا، و
لا بد من التتبع في كلماتهم، فلاحظ.
[1] لا سبيل إلى هذا الانكار بعد الاختلاف في المبنى، وهو: كون معنى
الهيئة صالحا للتقييد وعدمه، فتقسيم الفصول للواجب إلى المطلق
والمشروط صحيح، لأنه بالنظر إلى الوجوب، وإلى المعلق والمنجز
كذلك، لأنه بالنظر إلى الواجب.
[2] لعل وجه إنكاره على الفصول هو: جمعه بين الاطلاق والتقييد
المعبر عنه بالتعليق، فلا بد من إلغاء أحدهما، فتدبر.
188

حيث (1) لا يكون حينئذ هناك معنى آخر معقول كان هو المعلق
المقابل للمشروط.
ومن هنا (2) انقدح أنه (3) في الحقيقة إنما أنكر الواجب المشروط
بالمعنى الذي يكون هو ظاهر المشهور (4) والقواعد (5) العربية، لا
الواجب (6) المعلق بالتفسير المذكور (7)، وحيث (8) قد عرفت بما
لا مزيد عليه إمكان رجوع الشرط إلى
189

الهيئة كما هو ظاهر القواعد، وظاهر المشهور، فلا (1) يكون مجال
لانكاره عليه (2).
نعم (3) يمكن أن يقال: إنه لا وقع لهذا التقسيم [1 [4 لأنه (5)

[1] إن كان غرض الفصول من هذا التقسيم: جعل الواجب المقيد بأمر
غير مقدور من مصاديق الواجب المطلق، لا الواجب المشروط
المشهوري، فللتقسيم المزبور وجه، إذ به يتميز محل النزاع وهو
وجوب مقدمة الواجب المشروط المشهوري عن غيره، وتجب
مقدماته
بناء على كون المقيد بأمر غير اختياري من الواجب المطلق، ولا تجب
مقدماته
190

بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط (1)، وخصوصية كونه (2)
حاليا أو استقباليا لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم (3)، وإلا
(4) لكثرت تقسيماته، لكثرة الخصوصيات، ولا اختلاف فيه (5)

بناء على كونه من الواجب المشروط. ولو صح كلام الفصول لا ندفع به
إشكال وجوب جملة من المقدمات في موارد شتى من دون حاجة
لاثبات وجوبها إلى التشبث بوجوه غير خالية عن الضعف. مضافا إلى:
أنه يترتب على المعلق ثمرات أخرى صرح بجملة منها في الفصول،
فراجع.
191

فإن (1) ما رتبه عليه من وجوب المقدمة فعلا كما يأتي إنما هو من أثر
إطلاق وجوبه وحاليته، لا من استقبالية الواجب [1] فافهم (2).
ثم إنه ربما حكي عن بعض أهل النظر (3) من أهل العصر إشكال في
الواجب

[1] ليس الواجب استقباليا، إذ الواجب التعليقي عبارة عن تقيده بقيد
استقبالي، فالواجب فعلي، لكنه مقيد بقيد استقبالي.
192

المعلق وهو: أن الطلب والايجاب إنما يكون بإزاء الإرادة المحركة
للعضلات نحو المراد، فكما لا تكاد تكون الإرادة منفكة عن المراد
(1)، فليكن الايجاب غير منفك عما يتعلق به، فكيف يتعلق (2) بأمر
استقبالي، فلا يكاد يصح الطلب والبعث فعلا نحو أمر متأخر.
قلت (3) فيه: ان الإرادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلق بأمر
حالي، وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلا عن فاضل، ضرورة
(4) أن تحمل المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان المقصود (5) بعيد المسافة وكثير المئونة
193

ليس إلا لأجل تعلق إرادته به، وكونه (1) مريدا له قاصدا إياه (2) لا
يكاد يحمله على التحمل إلا ذلك (3). ولعل الذي أوقعه (4) في
الغلط
ما قرع سمعه من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات
نحو المراد، وتوهم (5): أن تحريكها
194

نحو المتأخر مما لا يكاد، وقد غفل عن أن كونه (1) محركا نحوه
يختلف حسب اختلافه في كونه مما لا مئونة له (2) كحركة نفس
العضلات (3)، أو مما له مئونة ومقدمات قليلة أو كثيرة، فحركة
العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة، أو مقدمة له (4)، و
الجامع أن يكون (5) نحو المقصود، بل (6) مرادهم من هذا الوصف
195

في تعريف الإرادة بيان مرتبة الشوق الذي يكون هو الإرادة وإن لم
يكن هناك فعلا تحريك، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال
الاشتياق أمرا استقباليا غير محتاج إلى تهيئة مئونة، أو تمهيد مقدمة
(1)، ضرورة (2) أن شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرك
فعلا نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك (3)، هذا.
مع (4) أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر متأخر عن زمان البعث، ضرورة
(5)
196

ان البعث إنما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بأن
يتصوره بما يترتب عليه (1) من المثوبة، وعلى تركه من العقوبة، ولا
يكاد يكون هذا (2) إلا بعد البعث بزمان، فلا محالة يكون البعث نحو
أمر متأخر عنه (3) بالزمان، ولا يتفاوت طوله وقصره (4) فيما
هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (5).
ولعمري ما ذكرناه واضح لا سترة عليه، والاطناب إنما هو لأجل رفع
المغالطة الواقعة في أذهان بعض الطلاب.
وربما أشكل (6) على المعلق أيضا بعدم القدرة على المكلف به في
حال البعث (7)، مع أنها من الشرائط العامة.
197

وفيه (1): أن الشرط إنما هو القدرة على الواجب في زمانه (2) لا في
زمان الايجاب والتكليف، غاية الامر يكون (3) من باب الشرط
المتأخر [1] وقد عرفت

[1] بل على مذهب الفصول من كون الشرط الامر الانتزاعي تكون
القدرة من الشرط المقارن، لان الشرط بناء عليه هو كون المكلف
بحيث يقدر على الفعل في زمانه.
ولا يخفى أن بين قوله: (ان الشرط إنما هو القدرة على الواجب في
زمانه لا في زمان الايجاب)، وقوله: (غاية الامر يكون من باب
الشرط المتأخر. إلخ) تهافتا، لان مقتضى العبارة الأولى: كون القدرة
شرطا للواجب، وعدم شرطيتها
198

بما لا مزيد عليه أنه (1) كالمقارن من غير انخرام للقاعدة العقلية (2)
أصلا، فراجع.
ثم لا وجه (3) لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على أمر غير
مقدور، بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخر أخذ على نحو لا (4)
يكون موردا للتكليف،

للوجوب. ومقتضى العبارة الثانية: كون القدرة شرطا لنفس الوجوب، و
لذا التجأ إلى جعلها من الشرط المتأخر، إذ لو كانت شرطا
للواجب في ظرفه لم يكن وجه لهذا التكلف الذي مرجعه إلى جعل
الشرط لحاظ القدرة ليكون مقارنا للتكليف، فتأمل
[1] لا يخفى أن الفصول وإن خصص المعلق في صدر كلامه بأمر غير
مقدور
199

ويترشح عليه الوجوب من الواجب [أولا]

لكنه في الأثناء عممه للمقدور، حيث قال في مقام الفرق بين الواجب
المشروط والمعلق ما لفظه:
(واعلم: أنه كما يصح أن يكون وجوب الواجب على تقدير حصول
أمر غير مقدور، وقد عرفت بيانه، كذلك يصح أن يكون وجوبه على
تقدير حصول أمر مقدور، فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم
حصوله، وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله، وذلك كما لو
توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة، فالتحقيق: أن
وجوب الواجب حينئذ ثابت على تقدير حصول تلك المقدمة، و
ليس
مشروطا بحصولها، كما سبق إلى كثير من الأنظار.
والفرق: أن الوجوب على التقدير الأول يثبت قبل حصولها، وعلى
الثاني إنما يثبت بعد تحققها، لامتناع المشروط بدون الشرط. و
بعبارة أخرى: حصول المقدمة على الأول كاشف عن سبق الوجوب، و
على الثاني مثبت له، كما مر)، فإن صدر كلامه وهو قوله: - واعلم أنه
كما يصح. إلخ - وإن كان ظاهرا بل صريحا في تعليق الوجوب
بأمر مقدور وغيره، لكن قوله: - وعلى تقدير حصوله يكون واجبا
قبل حصوله. إلخ - قرينة على إرادة الواجب المعلق، لا الوجوب
المشروط.
ولعل اعتراض المصنف بعدم الوجه في تخصيص المعلق بغير
المقدور ناش عن ظهور كلام الفصول من قوله: - واعلم أنه كما يصح.
إلخ
- في تقسيم شرط الوجوب إلى مقدور وغيره، وهو غير الواجب
المعلق، لا أنه ناش عن عدم ملاحظته لاخر عبارة الفصول - كما في
بعض الحواشي - فإنه بعيد جدا.
200

لعدم (1) تفاوت فيما يهمه من (2) وجوب تحصيل المقدمات التي لا
يكاد يقدر عليها في زمان الواجب على (3) المعلق دون المشروط،
لثبوت (4) الوجوب الحالي فيه، فيترشح منه (5) الوجوب على
المقدمة بناء على الملازمة (6) دونه (7)، لعدم (8) ثبوته فيه (9) إلا
بعد
الشرط. نعم (10) لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر، وفرض
وجوده كان الوجوب المشروط
201

به (1) حاليا أيضا (2)، فيكون وجوب سائر المقدمات الوجودية
للواجب أيضا حاليا، وليس الفرق بينه (3) وبين المعلق حينئذ (4) إلا
كونه (5) مرتبطا بالشرط، بخلافه (6) وإن ارتبط به الواجب. [1]

[1] لا يخفى: أن مقتضى ما أفاده المصنف (قده) في دفع إشكال عدم
القدرة على الواجب المعلق في حال البعث والطلب بجعل القدرة
شرطا متأخرا هو: كون المعلق دائما من الواجب المشروط بالشرط
المتأخر، فتكون فعلية وجوب ذي المقدمة
202

تنبيه
(1): قد انقدح من مطاوي ما ذكرناه: أن المناط في فعلية وجوب
المقدمة الوجودية وكونه (2) في الحال بحيث يجب على المكلف
تحصيلها
هو فعلية وجوب ذيها ولو كان (3) أمرا استقباليا كالصوم في الغد، و
المناسك في الموسم كان وجوبه (4)

الموجبة لفعلية وجوب مقدماته لأجل كونه مشروطا بشرط متأخر
مفروض الوجود، فينتفى الواجب المعلق رأسا، لاندراجه في
المشروط، فتدبر.
203

مشروطا بشرط موجود أخذ فيه (1) ولو متأخرا، أو مطلقا (2) منجزا
كان أو معلقا فيما إذا لم تكن مقدمة للوجوب [1] أيضا (3)، أو
مأخوذة (4)
204

في [1] الواجب على نحو يستحيل (1) أن يكون موردا للتكليف كما إذا
أخذ عنوانا للمكلف (2) كالمسافر، والحاضر، والمستطيع إلى
غير ذلك، أو جعل (3)، الفعل المقيد باتفاق حصوله، وتقدير وجوده
بلا اختيار، أو باختياره موردا للتكليف، ضرورة (4) أنه لو كان
مقدمة الوجوب أيضا لا يكاد يكون هناك وجوب إلا بعد حصوله، و
بعد الحصول يكون وجوبه طلب الحاصل. كما أنه إذا أخذ على أحد
النحوين (5)

[1] هذا القيد مستدرك، لاندراجه في مقدمة الوجوب، وكونه من
مصاديقها.
205

يكون كذلك (1)، فلو لم يحصل لما كان الفعل موردا للتكليف، ومع
حصوله لا يكاد يصح تعلقه به (2)، فافهم (3).
إذا عرفت ذلك، فقد عرفت (4): أنه لا إشكال أصلا في لزوم الاتيان
بالمقدمة

[1] تعليل عدم وجوب المقدمة فيما إذا كانت مقدمة للوجوب أو
عنوانا للمكلف بطلب الحاصل متين. وأما إذا أخذت في الواجب
بوجودها
الاتفاقي، فالأولى أن يعلل عدم وجوبها بالخلف، لأن المفروض كون
وجودها الاتفاقي دخيلا في الواجب، فدخل وجودها الناشئ عن
الوجوب في الواجب خلف، فتدبر.
206

قبل زمان الواجب إذا لم يقدر عليه بعد زمانه (1) فيما كان وجوبه (2)
حاليا مطلقا ولو (3) كان مشروطا بشرط متأخر كان معلوم
الوجود فيما بعد كما لا يخفى، ضرورة (4) فعلية وجوبه وتنجزه (5)
بالقدرة عليه (6) بتمهيد (7) مقدمته، فيترشح (8) منه الوجوب عليها
على الملازمة. ولا يلزم منه (9) محذور وجوب المقدمة قبل وجوب

[1] لا يخفى أن التنجز من آثار قيام الحجة على التكليف من علم، أو
علمي أو أصل، والقدرة من شرائط حسن الخطاب بملاك قبح مطالبة
العاجز، فالأولى إسقاط قوله: - وتنجزه بالقدرة عليه -.
207

ذيها، وإنما (1) اللازم الاتيان بها قبل الاتيان به (2)، بل (3) لزوم
الاتيان بها عقلا ولو لم نقل بالملازمة لا يحتاج (4) إلى مزيد بيان و
مئونة برهان، كالاتيان (5)
208

بسائر المقدمات في زمان الواجب قبل إتيانه.
فانقدح بذلك (1): أنه لا ينحصر التفصي عن هذا العويصة (2) بالتعلق
(3) بالتعليق، أو بما يرجع إليه من جعل الشرط من قيود المادة في
المشروط. [1]

[1] أو بالتشبث بوجوه اخر من: (الوجوب العقلي الارشادي لحكم
العقل بتنجز الواجب بعد وقته بالقدرة، لأجل التمكن من تحصيل
مقدماته قبل شرط الوجوب).
ومن: (الوجوب العقلي الارشادي لأجل حكمه بلزوم حفظ غرض
المولى).
ومن: (الوجوب النفسي التهيئي) المنسوب إلى المحقق التقي في
حاشيته والمصرح به في البدائع، حيث قال في عداد الوجوه الدافعة
للاشكال ما لفظه: (ومنها
209

فانقدح بذلك (1) أنه لا إشكال في الموارد التي يجب في الشريعة
الاتيان بالمقدمة قبل زمان الواجب كالغسل في الليل في شهر رمضان
وغيره مما وجب عليه الصوم [1]

ما هو مختارنا ومختار بعض المحققين من الالتزام بوجوب المقدمة
في موارد النقض وأشباهها قبل وقت وجوب ذيها، لكن لا
بالوجوب المعلولي المستتبع من وجوب ذيها، ولا بالوجوب النفسي
الثابت لمصلحة نفسها، ولا بالوجوب العقلي الارشادي، بل بوجوب
أصلي ثابت بدليل مستقل مراعاة لمصلحة ذيها، ويسمى هذا
بالوجوب التهيئي، لان فائدته التهيؤ والاستعداد لواجب آخر، فهو
قسم من
أقسام الوجوب يشبه الوجوب النفسي من حيث عدم تولده وثبوته
من وجوب ذيها، بل وبخطاب آخر، ويشبه الوجوب الغيري المقدمي
من حيث كونه ثابتا لمصلحة غيره، ولو فسرنا الغيري بما كان مصلحة
وجوبه ثابتا في غيره فهذا منه، لان الغيري بهذا التفسير يعم ما
ثبت وجوبه بخطاب مستقل لمصلحة الغير أيضا).
[1] الصواب كما في بعض النسخ المصححة: - للصوم -، لا - الصوم
-، فضمير - غيره - إما راجع إلى الغسل، فيكون الجار أعني قوله: -
مما - متعلقا به، وإما إلى - شهر رمضان -، فيكون الجار متعلقا بلفظ -
الغير - وبيانا له. وعلى كلا التقديرين، ففاعل - وجب - ضمير
راجع إلى الموصول، وضمير - عليه - إلى المكلف. وليس المقصود
بالموصول هو المكلف، وإنما هو على الأول عبارة عن أسباب
الغسل، وعلى الثاني عبارة عن غير الغسل أعني به التيمم.
وعلى هذا، فما في أغلب النسخ من كون عبارة المصنف (قده): -
الصوم - غير سديد، لعدم استقامة ذلك، لا معنى ولا تركيبا كما لا
يخفى على المتأمل، حتى مع الغض عما فسرنا به العبارة، وجعل
الموصول عبارة عن المكلف وإن كان خلاف الظاهر أيضا، لكونه لغير
من يعقل، وجعل الصوم فاعلا ل - وجب -.
210

في الغد (1)، إذ (2) يكشف به بطريق الان عن سبق وجوب الواجب،
وإنما المتأخر هو زمان إتيانه، ولا محذور فيه أصلا. ولو فرض
العلم بعدم سبقه (3)
211

لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغيري [1] فلو نهض دليل على
وجوبها فلا محالة يكون وجوبها نفسيا [2] ولو تهيئوا، ليتهيأ
بإتيانها (1)، ويستعد لايجاب ذي المقدمة عليه، فلا محذور [3] أيضا
(2).
إن قلت: (3) ولو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا عن سبق
وجوب ذي المقدمة

[1] ولذا لا يجب المسير إلى الحج قبل الاستطاعة ولو علم بوجودها
فيما بعد، كما لا يحرم إجناب نفسه قبل وقت الصلاة والصوم وإن
علم بعدم التمكن من الغسل، بل عن بعض نفي الاشكال عنه ظاهرا.
[2] كما حكي عن المحقق الأردبيلي، وسيد المدارك (قدهما) في
مسألة وجوب تعلم الاحكام.
[3] إلا أن يناقش فيه بأن إرادة التهيؤ إرادة غيرية، فيمتنع أن يكون
الوجوب الناشئ منها نفسيا، بل لا بد أن يكون غيريا، فيعود
المحذور أعني:
وجوب المقدمة غيريا قبل وجوب ذيها.
212

لزم وجوب جميع مقدماته ولو موسعا، وليس كذلك (1) بحيث
يجب عليه المبادرة لو فرض (2) عدم تمكنه منها (3) لو لم يبادر.
قلت (4):
213

لا محيص عنه (1) إلا إذا أخذ في الواجب من قبل سائر المقدمات
قدرة خاصة، وهي القدرة عليه بعد مجئ زمانه، لا القدرة عليه في
زمانه من (2) زمان وجوبه، فتدبر جدا.
تتمة: قد عرفت اختلاف القيود في وجوب التحصيل، وكونه (3) موردا للتكليف
214

وعدمه، فإن علم حال القيد، فلا إشكال، وإن دار أمره ثبوتا بين أن
يكون راجعا إلى الهيئة نحو الشرط المتأخر، أو المقارن، وأن يكون
راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله، أو لا يجب (1)، فإن كان في
مقام الاثبات ما يعين حاله، وأنه راجع إلى أيهما من القواعد العربية
(2) فهو، وإلا فالمرجع هو الأصول العملية.
215

وربما قيل (1) في الدوران بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة: (بترجيح
(2) الاطلاق [1] في طرف الهيئة، وتقييد المادة بوجهين:
أحدهما: (3) أن إطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام (4)
لافراده، فإن (5) وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق يشمل جميع
التقادير التي يمكن (6)

[1] لا يخفى: أنه على ما تقدم عن الشيخ (قده) من امتناع تقييد الهيئة
لامتناع إطلاقها لا يتصور الدوران بين تقييد الهيئة وتقييد المادة، و
يمكن أن يكون هذا الدوران شاهدا لما تقدم سابقا من إنكار بعض
أعاظم تلامذة الشيخ (قده) نسبة امتناع تقييد الهيئة إليه، فتأمل.
216

أن يكون تقديرا له، وإطلاق (1) المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة.

فيحتمل أن يكون هذا الدوران مبنيا على مذهب المشهور. ويحتمل
أن يراد به كونه قيدا للمادة على نحو لا يجب تحصيله، فيراد بالهيئة
المادة بعلاقة المشابهة في عدم لزوم تحصيل القيد.
وبالجملة: فالمراد بالدوران هو: كون القيد مأخوذا في المادة على نحو
لا يجب تحصيله كقيد الهيئة، أو على نحو يجب تحصيله، كغالب
القيود المعتبرة في المادة.
ولا يخفى: أنه بعد تحرير هذا ظفرت بحاشية من حواشي المتن تنقل
عن التقريرات الاحتمال الثاني، وهو: إرادة وجوب التحصيل من
قيد المادة، وعدم وجوبه من قيد الهيئة.
لكن يرد عليه: أن الاطلاق بدلي على كل تقدير، لان القيد يرد على
المادة، اما على نحو يسري الوجوب إليها، واما على نحو لا يسري
الوجوب إليها، فالمادة مقيدة بأحد النحوين ولا مرجح لأحدهما، لان
الاطلاق بدلي على كلا التقديرين، فأين الشمولي حتى يقدم على
البدلي؟
217

ثانيهما: أن تقييد الهيئة [1] يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة، و
يرتفع به مورده (1)، بخلاف العكس (2)، وكلما دار الامر بين
تقييدين

[1] لا يخفى: أنه على مبنى المحقق النائيني (قده) من: إيجادية المعاني
الحرفية يمتنع تقييد الهيئة، ولذا جعله قيدا للمادة مع دورانه بين
كونه قيدا للمادة قبل الانتساب، أو بعده، فعلى الأول يجب تحصيله،
لورود الوجوب عليه، لكون المادة المقيدة به كالصلاة المقيدة
بالطهارة واجبة. وعلى الثاني لا يجب تحصيله، لتقيد المادة به بعد
تحقق الوجوب لها، فلم يقع القيد في حيز الوجوب حتى يجب
تحصيله،
بل المادة واجبة على تقدير وجود القيد من باب الاتفاق.
218

كذلك (1) كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الاخر (2) أولى (3).
أما الصغرى (4)، فلأجل أنه لا يبقى مع تقييد الهيئة محل حاجة وبيان
لاطلاق المادة، لأنها (5) لا محالة لا تنفك عن وجود قيد الهيئة،
بخلاف تقييد المادة فإن محل الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله
(6)، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه.
وأما الكبرى (7)، فلان التقييد وإن لم يكن مجازا، إلا أنه خلاف
219

الأصل (1)، ولا فرق (2) في الحقيقة بين تقييد الاطلاق، وبين أن
يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر، وبطلان (3) العمل به). وما
ذكرناه من الوجهين (4) موافق لما أفاده بعض مقرري بحث الأستاذ
العلامة أعلى الله مقامه.
وأنت خبير بما فيهما:
أما في الأول (5)، فلان مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليا، بخلاف
220

المادة، إلا أنه (1) لا يوجب ترجيحه على إطلاقها، لأنه (2) أيضا كان
بالاطلاق ومقدمات الحكمة، غاية الامر: أنها (3) تارة تقتضي العموم
الشمولي، وأخرى
221

البدلي، كما ربما يقتضي التعيين أحيانا (1)، كما لا يخفى.
وترجيح (2) عموم العام على إطلاق المطلق إنما هو لأجل كون دلالته
بالوضع لا لكونه (3) شموليا. بخلاف المطلق، فإنه بالحكمة، فيكون
العام أظهر منه، فيقدم عليه (4)، فلو فرض أنهما في ذلك (5)
222

على العكس، فكان (1) عام بالوضع دل على العموم البدلي، ومطلق
بإطلاقه دل على الشمولي لكان العام يقدم بلا كلام. [1]

[1] بل لا يخلو من كلام، وهو: أن الحق في باب الظهورات تقديم
الأظهر مطلقا - وإن كان منشأ أظهريته غير الوضع - على غيره وإن
كان ظهوره بالوضع، إذ لا فرق في بناء العقلا على حجية الظواهر، و
تقديم الأظهر على الظاهر عند تعارضهما بين نشوء أصل الظهور
أو الأظهرية عن الوضع وغيره، لأنهما موضوعا الحجية عندهم مع
الغض عن منشئهما.
ودعوى: تقييد موضوع الحجية عندهم بنشوئهما عن الوضع غير
مسموعة، لما فيها أولا: من عدم طريق لاحراز الوضع حتى بالامارات
التي تقدمت في علائم الحقيقة، لما مر هناك من عدم محرزيتها
للوضع.
وثانيا: بعد تسليم إمكان إحراز الوضع، من عدم نهوض دليل على
تقييد موضوع الحجية عند العقلا بنشوء الظهور أو الأظهرية عن
الوضع.
وثالثا: من استلزام التقييد بالوضع تقديم المعنى الوضعي على المعنى
العرفي العامي عند تعارضهما. مع أن المسلم من بناء العقلا تقديم
الثاني على الأول، وليس هذا إلا لأجل كون المناط عندهم نفس
الظهور أو الأظهرية من دون نظر إلى نشئة عن الوضع، أو غيره، فتدبر.
ومن هنا يظهر: ضعف ما في التقريرات من: تقدم الشمولي مطلقا ولو
كان بالحكمة على البدلي مطلقا ولو كان بالوضع.
وضعف ما أفاده المصنف من: تقدم العموم الوضعي ولو كان بدليا
على الحكمي ولو كان شموليا، كالبيع في قوله تعالى: (أحل الله
البيع).
وذلك لان المناط في الترجيح كما مر هو الأظهرية من دون خصوصية
لمنشئها من الوضع أو غيره.
223

وأما في الثاني (1)، فلان التقييد (2) وإن كان خلاف الأصل، إلا أن
العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء (3) بعض
مقدماته لا يكون

وبالجملة: فالعموم سواء أكان شموليا أم بدليا، وسواء أكان وضعيا أم
حكميا يدور ترجيحه مدار أظهريته الناشئة من الوضع، أو غيره
المختلفة باختلاف المقامات، فرب مطلق بدلي يقدم على عام وضعي
شمولي، لكن هذا إذا كانا في كلامين.
وأما إذا كانا في كلام واحد، فدعوى: انعقاد الظهور للوضعي دون
الحكمي غير بعيدة وإن كانت غير خالية عن المناقشة أيضا، و
التفصيل موكول إلى محله.
224

على خلاف الأصل أصلا، إذ (1) معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون
بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف
الأصل.
وبالجملة: لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلا كونه (2) خلاف
الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة، ومع انتفاء المقدمات
(3) لا يكاد ينعقد له هناك (4) ظهور ليكون ذاك العمل المشارك مع
التقييد في الأثر وبطلان العمل بإطلاق المطلق مشاركا معه في
خلاف الأصل أيضا.
وكأنه (5) توهم: أن إطلاق المطلق كعموم العام (6) ثابت، ورفع اليد
225

عن العمل به (1) تارة لأجل التقييد، وأخرى بالعمل المبطل (2)
للعمل به.
و هو (3) فاسد، لأنه (4) لا يكون إطلاق إلا فيما جرت هناك
المقدمات.
نعم (5) إذا كان التقييد بمنفصل، ودار الامر بين الرجوع إلى المادة أو
الهيئة كان لهذا التوهم (6)
226

مجال، حيث (1) انعقد للمطلق إطلاق [1] وقد استقر له ظهور ولو
بقرينة

[1] التحقيق أن يقال: إن القيد إما متصل، وإما منفصل، فإن كان متصلا،
فلا ينعقد إطلاق لا للهيئة ولا للمادة، وذلك لاحتفافهما بما
يصلح للقرينية.
وقد قرر في محله - كما سيأتي إن شاء الله في مبحث المطلق و
المقيد -: أن البيان، وكذا ما يصلح للبيانية مانع عن جريان مقدمات
الحكمة.
وعليه: فيكون الاطلاق في كل من الهيئة والمادة مجرد فرض لا واقع
له.
وإن كان منفصلا، فانعقاد الظهور في كل منهما وإن كان مسلما، لكن
هذا الظهور ليس بحجة، للعلم الاجمالي بتقييد أحد الاطلاقين، و
معه لا يجري أصالة الاطلاق في شئ منهما، لأجل التعارض. نظير
العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين الموجب لعدم جريان الأصل
من
استصحاب الطهارة، وقاعدتها في واحد منهما، إذ لا فرق في مانعية
التعارض لجريان الأصول بين كون الأصول لفظية، وعملية، كما
ثبت في محله.
وبالجملة: ففي القيد المتصل لا ينعقد ظهور، وفي المنفصل ينعقد
ظهور، ولكن لا عبرة به، فوجوده كعدمه.
إلا أن يقال: بانحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي،
حيث إن تقيد المادة ثابت على كل تقدير وإن كان القيد راجعا إلى
الهيئة، لما مر من استلزام تقيد الهيئة لتقيد المادة، فالشك متمحض في
تقيد الهيئة، فيرجع فيه إلى أصالة الاطلاق بلا مانع، لما عرفت
سابقا من عدم استلزام تقيد المادة
227

الحكمة، فتأمل. (1)
ومنها: (2) تقسيمه إلى النفسي والغيري، وحيث (3) كان طلب شئ وإيجابه

لتقيد الهيئة.
لكن فيه: أنه بناء على امتناع تقييد الهيئة، وكون القيد راجعا إلى المادة
بأحد النحوين يصير المقام أجنبيا عن الدوران بين تقييد
إطلاقين حتى يدعى العلم التفصيلي بتقييد أحدهما، والشك البدوي
في تقييد الاخر، بداهة أنه لم يقيد إلا إطلاق واحد، وهو إطلاق
المادة.
غاية الامر: أنه مجهول الكيفية، من وجوب تحصيل القيد وعدمه، ولا
مسرح لدعوى الانحلال هنا، كما لا مرجح لأحدهما في مقام الاثبات،
فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى الأصول العملية، فتدبر.
228

لا يكاد يكون بلا داع، فان كان الداعي فيه التوصل به إلى واجب لا
يكاد [يمكن] التوصل بدونه إليه (1)، لتوقفه عليه، فالواجب غيري، و
إلا فهو نفسي سواء كان
229

الداعي محبوبية الواجب بنفسه، كالمعرفة بالله تعالى [1 [1 أو
محبوبيته (2) بماله من فائدة مترتبة عليه، كأكثر الواجبات (3) من
العبادات والتوصليات، هذا.
لكنه لا يخفى: أن الداعي لو كان هو محبوبيته كذلك - أي بما له من
الفائدة المرتبة عليه - كان الواجب (4) في الحقيقة واجبا غيريا،

[1] إن لم يكن حسن المعرفة لأجل كونها شكرا له تعالى، وإلا فهو كأكثر
الواجبات المحبوبة لأجل ما يترتب عليها من الفائدة، فتدبر.
230

فإنه (1) لو لم يكن وجود هذه الفائدة لازما لما دعا (2) إلى إيجاب
ذي الفائدة.
فان قلت (: [1 [3 نعم وإن كان وجودها محبوبا لزوما،

[1] هذا إشارة إلى أحد قسمي الواجب الغيري اللذين ذكرهما في
التقريرات، قال بعد تقسيم متعلق الطلب إلى: ما يكون مطلوبا في ذاته
كالمعرفة بالله تعالى، وإلى: ما يكون أمرا يترتب عليه فائدة خارجة
عن حقيقة المطلوب ما لفظه: (وهذا يتصور على وجهين: أحدهما:
أن يكون ما يترتب عليه أمرا لا يكون متعلقا لطلب
231

إلا أنه (1) حيث كانت من الخواص المرتبة على الافعال التي ليست
داخلة تحت قدرة المكلف لما كاد يتعلق [بها] بهذا (2) الايجاب.
قلت (3): بل هي داخلة تحت القدرة، لدخول أسبابها تحتها، والقدرة
على

في الظاهر، فيكون من قبيل الخواص المترتبة على الافعال التي ليست
داخلة تحت مقدرة المكلف حتى يتعلق الامر بها بنفسها. وثانيهما:
أن يكون الغاية الملحوظة فيه تمكن المكلف من فعل واجب آخر،
فالغاية فيه هو الوصول إلى واجب آخر بالآخرة وإن كانت الغاية
الأولية هو التمكن المذكور) انتهى موضع الحاجة من كلام المقرر (ره).
وحاصله: انقسام المطلوب للغير إلى قسمين:
أحدهما: أن لا يكون ذلك الغير متعلقا للطلب، لعدم القدرة عليه، نظير
الخواص المترتبة على الواجبات النفسية.
والاخر: أن يكون ذلك الغير متعلقا للطلب، لكونه مقدورا، كالصلاة مع
الوضوء، والمصنف (قده) أورد القسم الأول بقوله: - فإن قلت
نعم. إلخ -.
232

السبب قدرة على المسبب، وهو واضح، وإلا لما صح وقوع مثل
التطهير، والتمليك، والتزويج، والطلاق، والعتاق، إلى غير ذلك من
المسببات موردا لحكم من الأحكام التكليفية (1).
فالأولى [1] أن يقال: إن الأثر

[1] والفارق بينه، وبين التعريف المتقدم - أعني تحديد النفسي ب:
(ما وجب لا لأجل واجب آخر)، والغيري ب: (ما وجب لواجب آخر)
-
هو: اعتبار الحسن الذاتي في الواجب النفسي وإن اشتمل على
مصلحة وفائدة، وعدمه في الواجب الغيري، فالمناط في النفسية
عند
المصنف (قده) هو الحسن الذاتي.
وأورد عليه المحقق النائيني (قده) ب: أن الحسن إن كان ناشئا من
مقدميته لما فيه من المصلحة، فهو عين الالتزام بالوجوب الغيري. وإن
كان ناشئا من ذاته مع الغض عن المصلحة المترتبة عليه، فلازمه أن لا
يكون الوجوب المتعلق بها متمحضا في النفسية، ولا في الغيرية،
لثبوت ملاكهما حينئذ، كما في غالب مناسك الحج، فإن المتقدم منها
واجب لنفسه، ومقدمة للمتأخر، فلا يكون مجال للتقسيم أصلا، هذا.
لكن المصنف (قده) تفطن لهذا الاشكال وأجاب عنه بعدم منافاة بين
إيجابه
233



النفسي الناشئ عن حسنه الذاتي، وبين كونه مقدمة لواجب نفسي، إذ
لا دخل لحسنه الذاتي في إيجابه الغيري، فإن الملحوظ في أحد
الوجوبين غير الملحوظ في الاخر.
وكيف كان، فقد عدل المحققان النائيني والعراقي (قدس سرهما) عن
تعريف المصنف (قده)، فقال الأول على ما في بعض التقريرات
المنسوبة إليه: (فالأولى أن يقال: إن الوجوب النفسي ما كان وجوبه
ابتدائيا، وغير مترشح من وجوب آخر، بخلاف الوجوب الغيري،
فإنه المترشح من وجوب آخر)، وقال الثاني في مقالاته:
(ومرجع الوجوب النفسي إلى الايجاب الصادر عن المولى بدوا بلا
تبعيته لايجاب آخر، بخلاف الوجوب الغيري، فإنه إيجاب ناش عن
إيجاب آخر، فتخرج المقدمات المفوتة عن الواجب الغيري، لعدم
كون وجوبها مترشحا من وجوب آخر، بل من تمامية الملاك بناء على
امتناع الواجب المعلق).
ولا يخفى أن المستشكل يلتزم بصحة هذا التعريف، لكنه يدعي: أن
المصالح هي الواجبات حقيقة، ومتعلقات الخطابات في ظواهر الأدلة
كالصلاة والصوم مقدمات لايجاد تلك المصالح، فإيجابها غيري أي
مترشح من وجوب المصالح المترتبة عليها، فلا بد أولا من إبطال
تعلق الايجاب بالفوائد الناشئة عن الافعال من الصلاة، ونحوها حتى
يثبت أن إيجاب الافعال نفسي، لا غيري، ولذا لو قيل:
(إن الواجب النفسي ما وجب لمصلحة في نفسه، والغيري ما وجب
للتمكن من إيجاد واجب آخر سواء أكان مقدمة وجودية لذات
الواجب
كالسلم الذي هو مقدمة لوجود الكون على السطح، أم لوصفه
كالوضوء الذي هو مقدمة لوجود الصلاة عن طهارة) كان حسنا، ولعل
ما
أفاده الميرزا (قده) يرجع إلى هذا التعريف.
إلا أن يقال: إن هذا التعريف يوجب خروج الواجب التهيئي عن
النفسي
234

المترتب عليه (1) وان كان لازما،

واندراجه في الواجب الغيري، مع اتفاقهم ظاهرا على كونه من
الواجب النفسي، فالصواب حينئذ ما أفاده المحقق النائيني (قده) من
كون
الواجب النفسي هو: (ما يكون وجوبه ابتدائيا غير مترشح من وجوب
آخر)، وذلك لانطباق هذا الحد على الواجب التهيئي.
ولعل هذا التعريف مأخوذ مما في البدائع من تعريف الواجب النفسي
ب:
(ما لا يكون وجوبه مسببا عن وجوب الغير، والغيري بخلافه)،
فالواجب النفسي كما يستفاد من البدائع قسمان:
أحدهما: ما هو واجب بنفسه ولنفسه كالصلاة، والصوم، والحج، و
الزكاة.
ثانيهما: ما هو واجب بنفسه لغيره، كالواجب التهيئي، فإنه واجب
بنفسه بمعنى: عدم تسبب وجوبه عن وجوب الغير، فالواجب التهيئي
مندرج في النفسي، لصدق حده عليه، هذا.
وأما الاشكال على تعلق التكليف بالملاكات بأنه يستلزم انسداد باب
البراءة، لكون الشك حينئذ في المحصل الذي تجري فيه قاعدة
الاشتغال، لا البراءة، فليس بمهم، لعدم الحاجة إلى البراءة مع وجود
الاطلاقات المقامية، نعم نحتاج إلى البراءة في الشبهات الموضوعية،
كاللباس المشكوك فيه.
235

إلا أن ذا الأثر لما كان معنونا بعنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله،
بل وبذم تاركه صار متعلقا للايجاب بما هو كذلك (1)، ولا ينافيه
(2) كونه مقدمة لأمر
236

مطلوب واقعا. بخلاف الواجب الغيري، لتمحض وجوبه في أنه لكونه
(1) مقدمة لواجب نفسي، وهذا (2) أيضا لا ينافي أن يكون معنونا
بعنوان حسن في نفسه، إلا أنه لا دخل له في إيجابه (3) الغيري. [1]
ولعله (4) مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه، وما أمر به لأجل غيره،

[1] فتكون النفسية والغيرية كالاطلاق والاشتراط وصفين إضافيين،
كما أن النسبة بينهما على تحديد الميرزا (قده) لهما هي التباين،
لان الوجوب الابتدائي غير المترشح من وجوب غيره مباين للوجوب
المترشح من غيره، كما لا يخفى.
237

فلا يتوجه عليه الاعتراض بأن جل الواجبات لولا الكل يلزم أن يكون
من الواجبات الغيرية، فإن (1) المطلوب النفسي قل ما يوجد في
الأوامر، فإن جلها (2) مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن
حقيقتها، فتأمل (3).
238

ثم إنه (1) لا إشكال فيما إذا علم بأحد القسمين (2). وأما إذا شك في
واجب أنه نفسي أو غيري [1] فالتحقيق: أن الهيئة وإن كانت
موضوعة لما يعمهما، إلا أن إطلاقها يقتضي كونه (3) نفسيا، فإنه (4)
لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم.

[1] كصلاة الطواف، لدوران وجوبها بين النفسية، وبين الشرطية لصحة
الطواف. وكمتابعة الامام في الجماعة الواجبة، فإن وجوبها دائر
بين نفسيته وبين شرطيته لصحة الائتمام. وقد يعد من أمثلة الدوران:
وجوب غسل الميت، وغسل الجنابة، لكن الظاهر خلافه، فتدبر.
239

وأما ما قيل (1) من: (أنه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشك
المذكور بعد كون مفادها الافراد التي لا يعقل فيها (2) التقيد، نعم
(3) لو كان مفاد الامر هو مفهوم الطلب صح القول بالاطلاق، لكنه (4)
بمراحل عن الواقع، إذ (5) لا شك في اتصاف الفعل بالمطلوبية
بالطلب المستفاد من الامر، ولا يعقل (6) اتصاف
240

المطلوب بالمطلوبية بواسطة مفهوم الطلب، فإن الفعل يصير مرادا
بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقيقتها (1)، لا بواسطة مفهومها، وذلك
واضح لا يعتريه ريب).
ففيه (2): أن مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد، بل هو
مفهوم الطلب، كما عرفت تحقيقه في وضع الحروف، ولا يكاد (3)
يكون فرد [1]

[1] الأولى: إسقاط كلمة - فرد -، لان الطلب الحقيقي بنفسه فرد
لمفهوم الطلب، ولا معنى لكون شئ فردا لهذا الفرد، بعد كون أفراد
كل طبيعة متباينة. ولعل في العبارة سقطا، وكانت هكذا: - ولا يكاد
يكون فرده وهو الطلب الحقيقي -، أو سقط منها كلمة - أعني -،
أو - وهو - بأن كانت العبارة هكذا:
241

الطلب الحقيقي (1)، والذي (2) يكون بالحمل الشائع طلبا، وإلا (3)
لما صح إنشاؤه بها، ضرورة (4) أنه من الصفات الخارجية الناشئة من
الأسباب الخاصة.
نعم (5) ربما يكون هو السبب لانشائه، كما يكون غيره (6) أحيانا.

- ولا يكاد يكون فرد الطلب وهو الحقيقي، أو أعني الحقيقي -، و
يمكن توجيه العبارة بجعل الإضافة بيانية، فتدبر.
242

واتصاف (1) الفعل بالمطلوبية الواقعية، والإرادة الحقيقية الداعية
إلى إيقاع طلبه، وإنشاء إرادته (2) بعثا نحو مطلوبه الحقيقي، و
تحريكا (3) إلى مراده
243

الواقعي لا ينافي (1) اتصافه بالطلب الانشائي أيضا، والوجود
الانشائي لكل شئ ليس إلا قصد حصول مفهومه بلفظه، كان هناك
طلب
حقيقي أو لم يكن، بل كان إنشاؤه بسبب آخر (2).
ولعل (3) منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبير عن مفاد الصيغة
بالطلب المطلق (4)، فتوهم منه: أن مفاد الصيغة يكون طلبا حقيقيا
يصدق عليه الطلب بالحمل الشائع، ولعمري أنه (5) من قبيل اشتباه
المفهوم بالمصداق، فالطلب
244

الحقيقي (1) إذا لم يكن قابلا للتقييد لا يقتضي (2) أن يكون مفاد
الهيئة قابلا له وإن تعارف تسميته (3) بالطلب أيضا، وعدم (4) تقييده
بالانشائي، لوضوح [1] 5

[1] بل لامتناع اتصافه بالانشائية، لان هذا الوصف متأخر عن
الاستعمال، وقد قرر في محله: امتناع أخذ ما ينشأ عن الاستعمال في
المعنى الموضوع له.
فالأولى أن يقال: إن الهيئة إنما وضعت لانشاء النسبة الطلبية، ولم
توضع للطلب أصلا.
245

إرادة خصوصه، وأن (1) الطلب الحقيقي لا يكاد ينشأ بها، كما لا
يخفى (2).
فانقدح بذلك (3): صحة تقييد مفاد الصيغة بالشرط، كما مر هاهنا (4)
بعض الكلام، وقد تقدم في مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما يجدي
في المقام (5).
هذا (6) إذا كان هناك إطلاق. وأما إذا لم يكن، فلا بد من الاتيان به
فيما
246

إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له (1) فعليا، للعلم (2) بوجوبه
فعلا وإن
247

لم يعلم جهة وجوبه، وإلا (1) فلا [1] لصيرورة الشك فيه بدويا، كما لا
يخفى.

[1] قد يتوهم قصور العبارة عن تأدية المراد، لان قوله: - وإلا -
معطوف على قوله: - كان التكليف -، فإذا جمعنا بين المعطوف و
المعطوف عليه كانت العبارة هكذا: (وأما إذا لم يكن - أي إطلاق -
فلا بد من الاتيان به فيما إذا كان التكليف بما احتمل كونه شرطا له
فعليا، ولا بد من الاتيان به فيما إذا لم يكن التكليف به فعليا، فلا يجب
الاتيان به). وهذا لا معنى له، إذ العامل في المعطوف والمعطوف
عليه، وهو قوله: - فلا بد من الاتيان به - يقتضي خلو العبارة عن معنى
صحيح، فالأولى إبدال قوله: - وإلا فلا - بقوله: - ولا يجب
الاتيان به فيما إذا لم يكن كذلك -.
لكنه توهم فاسد، لان قوله: - فلا بد من الاتيان به - ليس مما يتعلق
بالمعطوف عليه حتى تقدح إعادته في العبارة، وحينئذ فإذا جمعنا
بين المعطوف والمعطوف عليه كانت العبارة هكذا: (وإن لم يكن
التكليف بما احتمل كونه شرطا له فعليا، فلا يجب الاتيان به، لوجود
البد منه)، فالمصنف إنما نفي بقوله:
248



- وإلا فلا - ما أفاده بقوله: - فلا بد من الاتيان به -، إذ معناه: أنه يجب
الاتيان به، فنفي معناه هو قولنا: - لا يجب الاتيان به -.
نعم كان الأولى بسلاسة العبارة أن يقول: - وإن لم يكن التكليف به
فعليا، فلا يجب الاتيان به -.
[1] لا يخفى: أن صور الشك في النفسية والغيرية وإن كانت كثيرة لكنه
لا بأس بالتعرض لواحدة منها، وهي: ما إذا علم تفصيلا بوجوب
كل واحد من فعلين، وشك في أن أحدهما مقيد بالآخر أولا، كما إذا
علم بوجوب الاحرام والطواف مثلا، وشك في تقيد الطواف به، قد
نسب إلى شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) ذهابه إلى جريان
البراءة في تقيد الطواف به، فتكون نتيجتها إطلاق الاحرام، فله الاتيان
به قبل الطواف، وبعده، هذا.
لكن أورد عليه ب: (معارضة البراءة في التقييد للبراءة في النفسية، إذ
المفروض كون المعلوم هو الوجوب الجامع بين خصوصيتي النفسية
والغيرية، فالخصوصية مشكوكة، والعلم الاجمالي بوجود إحدى
الخصوصيتين مانع عن جريان الأصل في كل منهما، فلا محيص
حينئذ
عن الاحتياط عقلا بالاحرام أولا، ثم الطواف بعده.
فالنتيجة معاملة الوجوب الغيري مع الاحرام، فالمقام نظير العلم
الاجمالي بين المتباينين في كونه مانعا عن جريان الأصل في كل
منهما).
والحق ما أفاده المحقق النائيني (قده)، وذلك لان النفسية ليست أمرا
وجوديا، وخصوصية زائدة على نفس الوجوب، كالغيرية، وإلا لما
صح التمسك بإطلاق الصيغة لاحرازها إذا شك فيها، لكون الاطلاق
نافيا لكلتا الخصوصيتين، مع أن بناءهم على التمسك بالاطلاق
المزبور النافي لخصوصية الغيرية، والمثبت
249

تذنيبان:
الأول:
لا ريب [1 [1 في استحقاق الثواب على امتثال الامر النفسي،

للنفسية من غير نكير. وعليه، فتجري البراءة في الغيرية، وهي قيديته
لغيره، ونتيجته إطلاق كل من الوجوبين، فيأتي بالاحرام قبل
الطواف أو بعده.
وبالجملة: تكون الغيرية كسائر القيود التي تجري فيها البراءة بلا كلام
عند من يرى جريانها في الاحكام غير المستقلة، كما هو واضح.
[1] في نفي الريب عن الاستحقاق المزبور ريب، وذلك لعدم تسالمهم
عليه، وإنما هو مذهب جمهور فقهاء العامة، وأكثر المتكلمين، و
قد خالفهم الأشاعرة وجماعة منا كالمفيد قدس سره ومن تبعه، حيث
إنهم ذهبوا إلى عدم كون الثواب بالاستحقاق، بل بالتفضل.
وتفصيل الكلام: أن محتملات الاستحقاق كثيرة:
منها: أن يراد به العلاقة اللزومية المعاوضية بين الفعل والثواب
الموجبة لصيرورة الاجر ملكا للعامل بإزاء عمله، نظير مالكية الأجير
لأجرة عمله، بحيث لو منع عن الاجر كان ظلما وتعديا عليه، لأنه منع
له عن حقه، وكف للفيض عن مستحقه. وعلى هذا، فالمراد
بالاستحقاق: ثبوت حق للعبد عقلا عليه سبحانه وتعالى، بأن يعطيه
الاجر بإزاء عمله كالأجير.
وأنت خبير بفساد هذا الاحتمال وإن كان يوهمه تعريف الواجب ب:
(أنه
250



ما يستحق فاعله المدح والثواب، وتاركه الذم والعقاب) وجه الفساد:
استقلال العقل بلزوم انقياد العبد لمولاه في أوامره ونواهيه جريا
على رسم العبودية، وقانونها، حيث إن كفران المنعم الحقيقي الذي
هو ولي النعم ومفيضها ظلم عليه، فيوجب استحقاق العقوبة.
فاستحقاق العقاب عقلا في طرف المخالفة، لكونها طغيانا وتجريا
على المولى، وهتكا لحرمته لا بأس به. بخلاف إطاعة الأوامر، فإن
استحقاق الثواب عليها بهذا المعنى في غاية الاشكال، لما عرفت من
حكم العقل بكون الإطاعة من وظائف العبودية ورسومها، ولا أجر
على أداء الوظيفة.
نعم يمدحه العقلا على الانقياد لأوامر المولى، لكنه غير الاجر
المستحق على مولاه بإزاء عمله.
ومنها: أن يراد به قابلية العبد بسبب صدور أعمال حسنة منه للفيض
إن لم تكن مقرونة بالمعاصي المانعة عن هذه القابلية، فالمراد
بالاستحقاق ما هو خلاف ظاهره من ثبوت حق للعبد على مولاه،
لأجل إطاعته. وهذا المعنى صحيح في نفسه، ضرورة أن قابلية
المحل
للألطاف الإلهية والفيوضات الربانية من المسلمات، ولا ينبغي
الارتياب فيها. لكن الاستحقاق بهذا المعنى ليس محل النزاع بين
المتكلمين.
ومنها: أن يراد به الاستحقاق الشرعي، بمعنى: وجوب إعطاء الاجر
على الباري جلت عظمته، لأجل وعده عز وجل لعباده الصالحين و
المطيعين بالجنة وغيرها من النعم التي لا زوال لها، ووعده صدق، و
لا خلف فيه، لقبحه، فيجب عليه الوفاء بالوعد، وهذا الوعد تأكيد
لدعوة العامة، وسبب لمزيد رغبتهم في التمكين من المولى، و
الانقياد له، هذا.
251

وموافقته، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا. وأما
استحقاقهما (1) على امتثال الامر الغيري ومخالفته،

وأنت خبير بما فيه، ضرورة أن الاستحقاق أجنبي عن لزوم الوفاء
بالوعد، لقبح خلفه، فإن الاستحقاق ناش عن الفعل الصادر عن العبد
الموجب له حقا على من ألزمه بإيجاده، وقد عرفت: أن هذا المعنى
الظاهر من الاستحقاق لا يثبت للعبد على مولاه أصلا، لان العبد يؤدي
وظائف العبودية، ولا معنى لاستحقاق الاجر على أداء الوظيفة.
فالمتحصل: أن الاستحقاق بالمعنى الأول مما لا يمكن الالتزام به،
حتى في الواجبات النفسية فضلا عن الغيرية. وبالمعنيين الأخيرين
أجنبي عن الاستحقاق المتنازع فيه عند المتكلمين وإن أمكن الالتزام
بهما، لكنهما خلاف ظاهر الاستحقاق المأخوذ في تعريف الواجب.
وبالجملة: فنفي المصنف الريب عن استحقاق الثواب على امتثال
الامر النفسي لم يظهر له وجه.
ثم إن جعل الامر الغيري موردا لهذا النزاع مبني على كونه أمرا حقيقيا،
بأن يكون صادرا بداعي البعث، ليكون البعث المترتب عليه عين
الانقياد الذي هو مناط الثواب، فلا محيص حينئذ عن الالتزام بترتب
الثواب تفضلا عليه.
وأما بناء على عدم كونه أمرا حقيقيا، كما هو كذلك، حيث إنه لا شأن
له في قبال الامر النفسي بعد أن كان ملاكه التوصل به إلى متعلق
الامر النفسي، فكأن الامر الغيري ملحوظ آلة للوصول إلى الامر
النفسي، كلحاظ المعنى الحرفي آليا، فيخرج عن موضوع كلام
المتكلمين،
ولا وجه حينئذ للبحث عن أن امتثال الامر الغيري هل يوجب
استحقاق الأجر والثواب أم لا؟
252

ففيه إشكال (1) وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق (2) على موافقته و
مخالفته بما هو موافقة ومخالفة [1 [1 ضرورة استقلال العقل
بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد،

[1] ومن الأقوال: ما نسب إلى السبزواري، وصريح الإشارات و
محتمل كلام المناهل من: (ثبوت استحقاق المثوبة والعقوبة على
الامر
الغيري)، ويظهر ذلك أيضا من القوانين، فراجع ما أفاده في المقدمة
السادسة والسابعة من مقدمات مبحث مقدمة الواجب. نعم اشترط
في ترتب الثواب والعقاب على الامر الغيري كون الوجوب توصليا،
هذا.
ومنها: التفصيل بين الثواب والعقاب بالالتزام بالأول، دون الثاني، و
هو المنسوب إلى الغزالي.
ومنها: عكس ذلك، وهو الالتزام بثبوت العقاب دون الثواب، لكن لم
يظهر قائله، كما اعترف بذلك في البدائع، حيث قال: (وهذا مجرد
احتمال لم نعثر بقائله).
253

أو لثواب كذلك (1) فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من
مقدماته على كثرتها، أو (2) وافقه وأتاه بماله (3) من المقدمات.
نعم (4) لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة، و
بزيادة [1]

[1] معطوف على قوله: - باستحقاق -، يعني: لا بأس بزيادة المثوبة،
لكن الأولى: إسقاط الحرف الجار، ليكون معطوفا على - العقوبة -،
ليصير المعنى هكذا: - لا بأس باستحقاق زيادة المثوبة -، إذ الكلام
في الاستحقاق بالنسبة إلى كل من العقوبة والمثوبة، والعطف على -
باستحقاق - لا يدل على الاستحقاق بالنسبة إلى زيادة المثوبة، كما لا
يخفى.
[2] ومنه يظهر: الجواب عما حكي عن السبزواري من: أن العقاب على
ترك المقدمة، لان كونه على ترك ذي المقدمة كالقصاص قبل
الجناية، فيتعين أن يكون العقاب على ترك المقدمة.
توضيح الجواب: أن استحقاق العقاب إنما هو على ترك الواجب عند
ترك المقدمة، حيث إن الواجب بترك مقدمته صار ممتنعا بسوء
اختياره، كامتناع الحج في الموسم بترك الخروج مع الرفقة اختيارا بلا
عذر.
والحاصل: أن نسبة استحقاق العقوبة إلى مخالفة الامر الغيري تكون
مجازا.
254

المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له من
باب أنه يصير (1) حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها (2)، و
عليه (3) ينزل ما ورد في الاخبار

(1) الوسائل، كتاب الحج، الباب 24 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 1
(2) الوسائل، كتاب الحج، الباب 41 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 6
255



[1] وكذا الآيات الشريفة، كقوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله و
يخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون)، وقوله تعالى: (إن الله لا
يضيع أجر المحسنين)، وقوله عز وجل: (لا ينفقون نفقة صغيرة ولا
كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم أحسن ما كانوا
يعملون) وقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده
يدخله نارا) إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي استدل بها
القائلون باستحقاق الثواب والعقاب على المقدمات.
لكن الانصاف: عدم ظهورها في كون الثواب على وجه الاستحقاق. و
دعوى ظهورها في ذلك مجازفة، فالوجوه المحتملة حينئذ كثيرة:
أحدها: التفضل.
(1) الوسائل، كتاب الحج، الباب 32 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، الحديث 9
(2) المصدر المتقدم، الحديث 3
256



ثانيها: كون الثواب على ذي المقدمة، لان أمره كما يدعو إلى متعلقه،
كذلك يدعو إلى مقدماته، ففعلها إذا كان بدعوة أمر ذيها كان
إطاعة للامر النفسي، فالثواب حينئذ مترتب عليه، لكون الاتيان
بالمقدمة بهذه الدعوة شروعا في امتثال الامر النفسي.
ثالثها: انطباق عنوان راجح على المقدمة يوجب الثواب عليها، كعنوان
تعظيم شعائر الله المحبوب في نفسه، فإذا انطبق هذا العنوان مثلا
على المشي إلى زيارة إمامنا المظلوم عليه السلام كان الثواب عليه، لا
على مقدميته للزيارة.
نظير انطباق عنوان مخالفة بني أمية لعنهم الله على ترك صوم
عاشوراء، أو التشبه بهم على صومها الذي هو عنوان مرجوح، كما أن
عنوان مخالفتهم راجح.
بل كل فعل مباح قصد به الطاعة يثاب فاعله عليه كما عن بعض
المتكلمين، لصيرورته بهذا القصد من المطلوبات النفسية التي يترتب
على امتثال أوامرها القرب والمثوبة.
وبالجملة: انطباق مطلوب نفسي على المقدمة - كانطباقه على مباح
- وإن كان موجبا لترتب المثوبة على فعله، لكنه أجنبي عن عنوان
المقدمية. فإثبات الثواب بذلك للمقدمة - كما عن بعض المحققين
على ما في تقريرات شيخنا الأعظم - في غير محله، لما عرفت من أن
الثواب حينئذ يكون على المطلوب النفسي، لا المقدمي كما هو
واضح.
257

من الثواب على المقدمات، أو على التفضل (1)، فتأمل جيدا، وذلك (2) لبداهة
258

أن موافقة الامر الغيري بما هو أمر (1) لا بما هو شروع في إطاعة الامر
النفسي لا يوجب قربا، ولا مخالفته بما هو كذلك (2) بعدا، و
المثوبة والعقوبة إنما تكونان من تبعات [1] القرب والبعد.

[1] الأولى إبدالها ب - التوابع -، أو - الآثار -، أو نحوهما، لان (التبعة)
- كما في المجمع - هي (المظلمة وكل ما فيه إثم، ومنه ما ورد في
الدعاء:
ولا تجعل لك عندي تبعة إلا وهبتها)، واستعمالها في هذا المعنى في
الأدعية شايع كقوله عليه السلام: (ولك عندي تبعة أو ذنب)،
فلاحظ.
نعم لا بأس بما في المتن تغليبا، أو اعتمادا على ما في المنجد: (التبعة
كل ما يترتب على الفعل من خير أو شر، إلا أن استعمالها في الشر
أكثر)، وفي المصباح: (التبعة وزان الكلمة ما تطلبه من ظلامة و
نحوها).
وعليه: بعد فرض اعتبار المنجد يكون تعبير المصنف (قده) بالتبعة
في محله، فلا داعي إلى ارتكاب عناية التغليب لجانب البعد والعقوبة
على جانب القرب والمثوبة كما هو ظاهر.
259

إشكال ودفع: أما الأول فهو: أنه (1) إذا كان الامر الغيري بما هو لا
إطاعة له، ولا قرب في موافقته، ولا مثوبة على امتثاله، فكيف حال
بعض المقدمات (2) كالطهارات، حيث لا شبهة في حصول الإطاعة و
القرب والمثوبة بموافقة أمرها (3)، هذا. مضافا (4) إلى: أن الامر
الغيري لا شبهة في كونه توصليا،
260

وقد (1) اعتبر في صحتها إتيانها بقصد القربة.
وأما الثاني (2)، فالتحقيق [1] أن يقال: إن المقدمة فيها بنفسها

[1] هذا الدفع مع الاشكال بكلتا جهتيه مما ذكر في التقريرات، و
البدائع، وغيرهما.
ثم إن هذا الجواب لا يفي بدفع الاشكال عن جميع الطهارات، لما
قيل:
من عدم ثبوت الاستحباب النفسي في التيمم وإن أمكن استفادته من
بعض الروايات، إلا أنه مما لم يعتمد عليه أحد ظاهرا، كما في
التقريرات. بل استشكل بعضهم في استحباب الوضوء نفسيا أيضا،
بمعنى: كون نفس الغسلتين والمسحتين - مع الغض عن قصد إحدى
غاياته حتى الكون على الطهارة - من المستحبات النفسية، فراجع.
لكن الحق كون التيمم من العبادات، ولا أظن صدور ما في التقريرات
من:
(أنه مما لم يعتمد عليه أحد ظاهرا) عن الشيخ (قده)، كيف؟ وقد قال
في الجواهر في مبحث اعتبار النية في التيمم ما لفظه: (فالواجب في
التيمم النية، كغيره من العبادات إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا حد
الاستفاضة إن لم يكن متواترا، منا، ومن جميع علماء الاسلام إلا
من شذ).
261

مستحبة وعبادة، وغاياتها (1) إنما تكون متوقفة على إحدى هذه العبادات،

ويدل عليه: - مضافا إلى ذلك - ما دل من الروايات على تنزيل
الطهارة الترابية منزلة المائية، وأن التيمم مصداق للطهور، وفرد له
كالوضوء، والغسل، كقوله عليه السلام في رواية الحلبي تعليلا للنهي
عن دخول الركية: (لان رب الماء هو رب الأرض فليتيمم)، وقوله
عليه السلام في رواية ابن أبي يعفور، وعنبسة بن مصعب: (فتيمم
بالصعيد، فإن رب الماء هو رب الصعيد)، ونحو هذا التعبير منتشر
في النصوص. وقوله صلى الله عليه وآله في ما رواه الصدوق رحمه
الله: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) فيندفع بذلك ما أورده
المحقق النائيني (قده) على المتن من: (أن هذا
262

فلا بد أن يؤتى بها عبادة، وإلا (1) فلم يؤت بما هو مقدمة لها، فقصد (2) القربة

الجواب لا يتم في التيمم، لعدم ما يدل على كونه مأمورا به بالامر
النفسي).
كما يندفع أيضا إشكاله الثاني على المتن من: (تضاد الامر النفسي
الاستحبابي مع الامر الغيري، إذ لا بد من اندكاك الامر النفسي في
الغيري، فلا يبقى أمر نفسي حتى يمكن تصحيح العبادية به)، وهذا
الاشكال يظهر من تقريرات شيخنا الأعظم.
ووجه اندفاعه: أن الزائل بعد عروض الامر الغيري الايجابي ليس
نفس المحبوبية، والطلب، بل الحد الذي هو أمر عدمي، فنفس الطلب
باق حتى بعد عروض الوجوب الغيري.
وبعبارة أخرى: لحوق المرتبة الشديدة ينافي المرتبة الضعيفة حدا، لا
ذاتا، وهذا المقدار من الطلب النفسي كاف في نشوء قصد القربة
عنه، هذا.
وأما إشكاله الثالث، وهو: (أن تصحيح الطهارات بالامر النفسي منوط
بالالتفات إليه حين الامتثال، لتكون عبادة من جهة، ولا ريب في
أن غالب المكلفين لا يلتفتون إلى هذه الجهة، بل يأتون بعنوان
المقدمية للصلاة، فلا بد حينئذ من الالتزام ببطلان وضوء غالب
المكلفين،
مع أن أحدا لا يلتزم بذلك)، فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
263

فيها إنما هو لأجل كونها في نفسها أمورا عبادية، ومستحبات نفسية، لا
لكونها مطلوبات غيرية.
والاكتفاء (1) بقصد أمرها الغيري فإنما [1 [2 هو لأجل أنه يدعو إلى
ما هو كذلك (3)

[1] الأولى إسقاط الفاء، لان قوله: - إنما - خبر - والاكتفاء -، والفاء لا
تدخل على الخبر، إلا أن يقدر كلمة - أما - قبل المبتدأ، لكنه
خلاف الأصل، ولا موجب لارتكابه.
264

في نفسه، حيث (1) إنه لا يدعو إلا إلى ما هو المقدمة، فافهم (2).
وقد تفصي عن الاشكال بوجهين آخرين (3):

[1] وبهذا يجاب عن ثالث إشكالات المحقق النائيني (قده) الذي
تقدم
265



آنفا بقولنا في التعليقة السابقة: - وأما إشكاله الثالث. إلخ -.
ولا يخفى أن أصل الاشكال من التقريرات، وقد عرفت جواب
المصنف عنه بقوله: - فإنما هو لأجل أنه يدعو. إلخ -.
لكن هذا الجواب لما لم يكن تاما عند الميرزا (قده)، لان لازمه الحكم
بصحة صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها
النفسي، وهو واضح البطلان، فعبادية الطهارات الثلاث إذا كانت
منحصرة في قصد أوامرها النفسية، فلا بد من الحكم ببطلانها مع
الجهل بتلك الأوامر، أو الغفلة عنها، فقد عدل الميرزا عنه، واختار في
دفع الاشكال مسلكا آخر، وهو: منع حصر عبادية الطهارات
بالامر الغيري والامر النفسي الاستحبابي ليرد الاشكال على كل
منهما. ودعوى: وجود صورة ثالثة يمكن تصحيح عبادية الطهارات
الثلاث بها من دون محذور في ذلك.
و محصل تلك الدعوى: انحلال الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة
إلى:
أوامر نفسية ضمنية متعلقة بالاجزاء والشرائط التي منها الطهارات
الثلاث. فكما أن الامر بمركب ينحل إلى الامر بكل جز منه، فكذلك
الامر بالمقيد ينحل إلى الامر بذات المقيد، وإلى الامر بقيده، فكل
قيد متعلق لأمر نفسي.
وعليه: فالطهارات الثلاث متعلقة للامر النفسي الضمني الموجب
لعباديتها، فالعبادية نشأت من الامر الضمني الانحلالي.
ولكن أورد عليه سيدنا الأستاذ مد ظله في الدرس ب: أن لازم هذه
المقالة كون القيد كالتقيد داخلا في المتعلق، فيصير وزان الطهارات
الثلاث وغيرها من الشرائط وزان الاجزاء، وهو كما ترى، بداهة
خروج الشرائط قيدا عن ماهية المركب، ودخولها فيها تقيدا، ووضوح
الفرق بين الاجزاء والشرائط، وعليه: فيكون أمر الطهارات غيريا
تولديا.
266



ويمكن أن يجاب عنه ب: أن ظاهر تعلق الامر النفسي بكل شئ وإن
كان ذلك، ولذا قيل: بظهور الامر بشئ في مركب في جزئية متعلقه
لذلك المركب، إلا أنه لا مانع من رفع اليد عنه بدليل يدل على شرطية
متعلقه، وأن الدخيل في المركب هو تقيده فقط، فمع هذا الدليل
نرفع اليد عن ذلك الظهور، وبدونه يبنى على حجيته.
وبالجملة: فلا مانع من تعلق الامر النفسي بالاجزاء والشرائط معا وإن
كانت المصلحة في الامر بالجز والشرط مختلفة جدا، فمتعلق
الامر النفسي بالجز لمصلحة لا يمنع عن تعلقه بالشرط لمصلحة
أخرى، كما لا يخفى.
وأورد على المحقق النائيني بعض أعاظم العصر مد ظله - على ما في
تقرير بحثه الشريف - بما حاصله: (أنه يلزم من تعلق الامر النفسي
الضمني الانحلالي بالطهارات الثلث اتصافها حينئذ بالوجوب النفسي
والغيري على القول باتصاف المقدمة بالوجوب الغيري، وهو غير
صحيح).
أقول: لا بأس بالاجتماع المزبور، لأنه يرجع إلى التأكد والاندكاك، بل
هنا أوامر ثلاثة:
أحدها: الامر النفسي الاستقلالي الندبي المتعلق بالطهارات الثلاث.
ثانيها: الامر النفسي الضمني الذي هو قطعة من الامر النفسي المتعلق
بالمركب كالصلاة.
ثالثها: الامر الغيري المتعلق بالطهارات، ويندك الامر الندبي في الامر
الضمني، لا بمعنى انعدام الندبي، بل بمعنى تبدل حده بالحد
الوجوبي، لأنه من قبيل اللبس فوق اللبس، لا اللبس بعد الخلع، وبعد
الاندكاك يتولد أمر نفسي وجوبي عبادي، فيصير الوضوء مثلا
واجبا نفسيا عباديا. وهذا نظير نذر المستحبات النفسية، كنذر صلاة
الليل وغيرها من النوافل، فإنه بعد النذر يتولد أمر وجوبي
267

أحدهما: ما ملخصه: أن الحركات الخاصة ربما لا تكون محصلة لما هو
المقصود منها من العنوان الذي يكون (1) بذاك العنوان مقدمة و
موقوفا (2) عليها، فلا بد في إتيانها بذاك العنوان من قصد أمرها،
لكونه (3) لا يدعو إلا إلى

نفسي عبادي متعلق بصلاة الليل.
وبالجملة: بعد التأكد وتولد أمر وجوبي نفسي متعلق بالطهارات يتعلق
بها أمر غيري، فيكون الامر الغيري في طول الامر النفسي
الضمني ومتأخرا عنه.
وهنا أبحاث شريفة علمية أعرضنا عنها، لمنافاتها للاختصار، هذا.
ثم إنه لا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع المرتبطة بالمقام.
الأول: إذا أتى بالطهارات الثلاث قبل الوقت بقصد أوامرها النفسية، فلا
ينبغي الاشكال في صحتها، وجواز إتيان الواجب النفسي بها بعد
دخول الوقت. نعم المنسوب إلى المشهور: (عدم صحة التيمم للصلاة
قبل الوقت)، والبحث فيه موكول إلى الفقه.
الثاني: أن يأتي بالطهارات قبل الوقت ليأتي معها الواجب النفسي في
وقته، فان كان الداعي إلى الاتيان بها أوامرها النفسية الاستحبابية
مع قصد الاتيان معها بالصلاة مثلا في وقتها، فالظاهر أيضا عدم
الاشكال في صحتها. وإن كان الداعي مجرد التوصل إلى الواجب،
فصحتها محل التأمل.
268

ما هو الموقوف عليه، فيكون (1) عنوانا إجماليا ومرآة لها، فإتيان
الطهارات عبادة وإطاعة لأمرها ليس لأجل أن أمرها المقدمي يقضي
بالاتيان كذلك (2)، بل إنما كان لأجل إحراز نفس العنوان الذي يكون
(3) بذاك العنوان موقوفا عليها.
وفيه: - مضافا (4) إلى أن ذلك (5) لا يقتضي الاتيان بها كذلك (6)،
لامكان (7) الإشارة إلى عناوينها التي تكون بتلك العناوين موقوفا
عليها بنحو
269

آخر (1) ولو بقصد أمرها وصفا (2)، لا غاية وداعيا (3)، بل كان
الداعي إلى هذه الحركات الموصوفة بكونها مأمورا بها شيئا آخر غير
أمرها (4) - أنه (5) غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها، كما لا
يخفى.
ثانيهما: ما محصله (6): أن لزوم وقوع الطهارات عبادة إنما يكون لأجل
270

أن الغرض من الامر النفسي بغاياتها (1) كما لا يكاد يحصل بدون قصد
التقرب بموافقته (2)، كذلك لا يحصل ما لم يؤت بها (3) كذلك،
لا (4) باقتضاء أمرها الغيري.
وبالجملة: وجه لزوم إتيانها عبادة إنما هو لأجل أن الغرض في الغايات
لا يحصل إلا بإتيان خصوص الطهارات من بين مقدماتها أيضا
(5) بقصد الإطاعة.
وفيه أيضا: أنه غير واف بدفع إشكال ترتب المثوبة عليها (. [1] 6

[1] لا يخفى: أن غرض الشيخ الأعظم (قده) متمحض في دفع إشكال
القربة، ولا نظر له إلى دفع إشكال المثوبة، هذا. مع أنه يمكن أن
يقال: إن القربة والثواب توأمان، فالمصحح لأحدهما مصحح للاخر،
فالغرض من الغايات إن كان مصححا للقربة لكان مصححا للمثوبة
أيضا، لان المثبت لاحد المتلازمين مثبت للاخر.
271

وأما ما ربما قيل (1) في تصحيح اعتبار قصد الإطاعة في العبادات: (من
272

الالتزام بأمرين: أحدهما كان متعلقا بذات العمل، والثاني بإتيانه بداعي امتثال
273

الأول) لا يكاد (1) يجدي [يجري] في تصحيح اعتبارها في
الطهارات، إذ (2) لو لم تكن بنفسها مقدمة لغاياتها لا يكاد يتعلق بها
(3) أمر
من قبل الامر بالغايات، فمن أين [1]

[1] لا يخفى أن الامر الغيري كالأمر النفسي في أنه إذا لم يمكن استيفاء
الغرض بأمر واحد، فلا بد من أمر آخر وهو المسمى بمتمم
الجعل، فالمقدمة - وهي: ما يلزم من عدمه العدم - تنطبق على
ذوات الطهارات الثلاث، فيترشح عليها
274

يجي طلب آخر من سنخ الطلب الغيري متعلق (1) بذاتها ليتمكن به
من المقدمة في الخارج، هذا. مع (2) أن في هذا الالتزام ما في
تصحيح
اعتبار قصد الطاعة في العبادة على ما عرفته مفصلا سابقا، فتذكر.
الثاني (3):
أنه قد انقدح مما هو التحقيق في وجه اعتبار قصد القربة في

أمر غيري، ولما لم يكن وافيا بالغرض، وهو اعتبار الدعوة في
الطهارات، فلا بد من أمر آخر يتعلق بإتيان متعلق الامر الأول بدعوة
أمره.
وبالجملة: الامر الثاني الغيري يترشح على ما هو جز المقدمة،
فالمحوج إلى الامر الثاني هو الدخل في المقدمية، وهذا مما لا ينبغي
الاشكال فيه.
فما أفاده المصنف (قده) بقوله: - فمن أين يجي طلب آخر. إلخ -
مما لا يمكن المساعدة عليه.
نعم الاشكال كله في كون تعدد الامر الغيري مجديا، وذلك لان الامر
الثاني الغيري توصلي، وهو لا يصلح للمقربية، فلا يوجب عبادية
متعلقه حتى يتمكن المكلف بسبب الامر الثاني من المقدمة.
فالمتحصل: أن تصحيح عبادية الطهارات بتعدد الامر - كما أفاده
الشيخ - مما لا يخلو من الغموض.
ثم إن ظاهر المصنف تسليم كون تعدد الامر مجديا في المقربية، لكنه
ينكر التعدد. وقد عرفت: أن التعدد ممكن، إلا أنه غير مجد.
275

الطهارات صحتها (1) ولو لم يؤت بها (2) بقصد التوصل بها إلى غاية
من غاياتها.
نعم لو كان المصحح لاعتبار قصد القربة فيها أمرها الغيري [1] لكان
قصد الغاية

[1] يعني: بما أنه مشير إلى الامر النفسي المتعلق بالغاية، وإلا فليس
الامر الغيري مصححا للعبادية، لكونه توصليا، كما تقدم سابقا. و
قوله: - لكان قصد الغاية. إلخ - قرينة على أن قصد الامر الغيري
للإشارة إلى قصد الغاية، لا لموضوعيته، لأنه لا يدعو إلا إلى موضوعه
وهو المقدمة، والمفروض أنها بنفسها ليست عبادة، فالمصحح
لعباديتها هو قصد نفس الغاية، أو أمرها.
276

مما لا بد منه في وقوعها صحيحة، فإن (1) الامر الغيري لا يكاد يمتثل
إلا إذا قصد التوصل إلى الغير، حيث لا يكاد يصير داعيا إلا مع هذا
القصد (2)، بل (3) في الحقيقة يكون هو الملاك لوقوع المقدمة عبادة
ولو لم يقصد أمرها، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها (4) أصلا.
وهذا (5) هو السر في اعتبار قصد التوصل في وقوع المقدمة عبادة.
277

لا (1) ما توهم من: (أن المقدمة إنما تكون مأمورا بها بعنوان المقدمية،
فلا بد (2) عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان (3)، و
قصدها كذلك لا يكاد يكون بدون قصد التوصل إلى ذي المقدمة بها)،
فإنه (4) فاسد جدا، ضرورة
278

أن عنوان المقدمية ليس بموقوف عليه الواجب (1)، ولا بالحمل
الشائع مقدمة له، وإنما كان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوينها
الأولية (2)، والمقدمية إنما تكون علة لوجوبها (3).
الامر الرابع (4)
279

لا شبهة في أن وجوب المقدمة بناء (1) على الملازمة يتبع (2) في
الاطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدمة، كما أشرنا إليه (3) في
مطاوي
كلماتنا، ولا يكون مشروطا بإرادته (4)، كما يوهمه (5) ظاهر عبارة
280

صاحب المعالم [1] رحمه الله في بحث الضد، [حيث] قال: (وأيضا
فحجة القول (1)

[1] لا يخفى: أن الوجوه المحتملة في عبارة المعالم كثيرة.
أحدها: ما استظهره المصنف تبعا للشيخ وغيره، واحتمله صاحب
البدائع:
من كون إرادة ذي المقدمة شرطا لوجوب مقدمته.
ثانيها: أن المراد كون إرادة ذي المقدمة شرطا لاتصاف المقدمة
بالوجوب لا شرطا لوجوبها، بمعنى: كون إرادة ذي المقدمة شرطا
للواجب، لا للوجوب، يعني: أن اتصاف المقدمة بالوجوب وكونها
مأمورا بها منوط بإرادة ذي المقدمة نظير اتصاف الصلاة مع الطهارة
بكونها مأمورا بها. وهذا الوجه اختاره في الفصول، حيث قال فيه -
بعد انقسام الواجب إلى نفسي وغيري - ما لفظه: (ثم هل يعتبر في
وقوع الواجب الغيري على صفة وجوبه أن يترتب عليه فعل الغير، أو
الامتثال به وإن لم يقصد به ذلك، أو يعتبر قصد التوصل إليه، أو
إلى الامتثال به وإن لم يترتب عليه، أو يعتبر الأمران، أو لا يعتبر شئ
منهما؟ وجوه، والتحقيق هو الأول، لان مطلوبية شئ للغير
تقتضي مطلوبية ما يترتب ذلك الغير عليه دون غيره، لما عرفت من أن
المطلوب فيه المقيد من حيث كونه مقيدا، وهذا لا يتحقق بدون
القيد الذي هو فعل الغير. وأما القصد، فلا يعقل له مدخل في حصول
الواجب وإن اعتبر في الامتثال به.
نعم إن كان عبادة وكان مطلوبيتها من حيث كونها للغير فقط اعتبر فيه
ذلك، كما في الوضوء، والغسل بناء على نفي رجحانهما
الذاتي) انتهى موضع الحاجة من كلامه (قده).
وقال في أول تنبيهات مقدمة الواجب: (ونقول هنا توضيحا لذلك و
تأكيدا له:
إن مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها
مقدمة إلا
281

بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما ينهض دليلا على الوجوب
في حال كون

إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة، لا بمعنى أن وجوبها مشروط
بوجوده، فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه،
فإن
ذلك متضح الفساد. كيف وإطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لاطلاق
وجوبه وعدمه، بل بمعنى: أن وقوعها على الوجه المطلوب منوط
بحصول الواجب، حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف
الوجوب والمطلوبية، لعدم وجوبها على الوجه المعتبر. فالتوصل
بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها، لا من قبيل شرط الوجوب،
وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه وإن لم أقف على من
يتفطن له، والذي يدل على ذلك:
أن وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل
عليه زائدا على القدر المذكور). واحتمله أخوه في حاشية المعالم، و
رده، فلاحظ هداية المسترشدين، وكأن صاحب الفصول (قده) لم
يطلع على كلام أخيه.
ثالثها: ما احتمله في البدائع من كون مراد المعالم: التفصيل بين ما علم
الامر أو احتمل ترتب ذي المقدمة، وعدمه، قال (قده) - بعد نقل
كلام المعالم - ما لفظه: (ويمكن أن يوجه ما ذكره (قده) بأنه إذا كان
للمكلف صارف عن إتيان الواجب كان الامر من الامر المطلع على
السرائر أمرا تسجيليا صادرا منه على سبيل التسجيل لكي يتم عليه
الحجة، ويقيم عليه البينة، فليس غرضه من التكليف حينئذ بعث
المكلف
على إيجاد المأمور به وإتيانه في الخارج، لعلمه بعدم حصوله، فإذا لم
يكن الغرض من التكليف بعث المكلف على إيجاد المكلف به، بل
محض التسجيل فلا يلزم منه وجوب مقدماته حينئذ، إذ اللازم بحكم
العقل إتيان ماله مدخلية في حصول غرض الامر، دون ما لا مدخلية له
فيه. وإذا لم يكن غرض الامر حصول الفعل المأمور به، فلا يلزم من
الامر به الامر بما لا مدخلية له فيه، لأنه أمر أجنبي عما تعلق به غرض
الامر، وهو التسجيل مثلا. والحاصل: أنه متى اجتمعت شرائط
282

المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها، كما لا يخفى على من أعطاها
حق النظر)،

التكليف من المصلحة والمحبوبية، وقدرة المكلف على الامتثال
صح من الامر التكليف سواء كان عالما بعصيانه أم لا، لكن في صورة
العلم بالعصيان يسمى هذا تسجيليا، حيث إن الغرض فيه التسجيل
لتصحيح العقاب، دون البعث على الفعل، ولذلك حكموا بأن الكفار
مكلفون بالفروع، ومعاقبون عليها، إلا أن مثل هذا الامر لا يتعلق
بالمقدمات التي لا مدخلية لها في حصول الغرض. وإن قلت إن
التكليف بالفعل إن كان تسجيليا، فالتكليف بالمقدمة أيضا كذلك، كما
في الارشاد، والامتحان، وغيرهما، فإن التكليف بالمقدمة إنما
هو على حسب التكليف بذيها، لا أنه لا وجوب لها أصلا. قلت:
للمقدمات مدخلية في الغرض في الارشاد، ونحوهما، وكل ما
يتوقف عليه
الغرض يجب أيضا مقدمته، وكلما لا يتوقف عليه لا يتعلق به الوجوب
المقدمي، والامر التسجيلي لما كان لأجل تصحيح العقاب و
المؤاخذة، فلا معنى لكون هذا الامر أمرا بالمقدمات أيضا، فافهم و
تدبر).
وأنت خبير بغرابة ما أفاده، إذ لا ينبغي الاشكال في فعلية البعث و
التكليف مطلقا ولو مع علم الامر بعصيان المكلف، وإلا يلزم عدم
العصيان الموجب لاستحقاق العقوبة، لان استحقاقها منوط بمخالفة
التكليف الحقيقي. ولعل منشأ ذلك تخيل كون البعث والانبعاث
كالكسر والانكسار، لكنه ليس كذلك، فإن البعث وظيفة المولى، و
الانبعاث وظيفة العبد، ومن المعلوم: أنه فعل اختياري له، وليس
رشحا للبعث، وإلا يلزم منه محاذير لا يمكن الالتزام بها، كما لا يخفى.
والحاصل: أن البعث ليس علة تامة للانبعاث.
ومن هنا يظهر: أن تكليف الكفار بالفروع أيضا تكليف حقيقي، و
عقابهم إنما هو لأجل مخالفتهم التكاليف الحقيقية، كمخالفة
المسلمين
لها، غاية الامر: أنهم إذا أسلموا يسقط عنهم - لشرف الاسلام - ما
فات عنهم.
283

وأنت خبير بأن نهوضها على تبعية (1) واضح لا يكاد يخفى وإن كان
نهوضها (2) على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة (3)، كما لا
يخفى.
وهل يعتبر في وقوعها على صفة الوجوب أن يكون الاتيان بها بداعي
التوصل بها إلى ذي المقدمة، كما يظهر مما نسبه إلى شيخنا
العلامة أعلى الله

فحمل كلام المعالم على ما إذا علم الامر أو احتمل ترتب ذي المقدمة
عليها مما لا يمكن المساعدة عليه.
284

مقامه بعض أفاضل مقرري بحثه (1). أو (2) ترتب ذي المقدمة عليها
بحيث لو لم
285

يترتب عليها (1) يكشف عن عدم وقوعها على صفة الوجوب، كما
زعمه صاحب الفصول قدس سره، أولا (2) يعتبر في وقوعها كذلك
(3) شئ منهما (4).
الظاهر: عدم الاعتبار (5)، أما (6) عدم اعتبار قصد التوصل، فلأجل أن
286

الوجوب لم يكن بحكم العقل إلا لأجل المقدمية والتوقف، وعدم
دخل قصد التوصل فيه واضح (1)، ولذا (2) اعترف (3) بالاجتزاء
بما لم يقصد به ذلك (4)
287

في غير المقدمات العبادية، لحصول (1) ذات الواجب، فيكون (2)
تخصيص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا
مخصص [1 [3 فافهم (4).

[1] بل ممتنع، لوجهين:
أحدهما: أن دخل القصد يوجب صيرورة المقدمة المقيدة به واجبة
الوجود بالعرض، وهو وجوب قصد التوصل، وبعد وجوبه يمتنع
تعلق
الوجوب الغيري به، للزوم طلب الحاصل، إذ الغرض من الامر إحداث
الداعي في العبد لايجاد متعلقه، وبعد وجود الداعي - وهو قصد
التوصل - لا معنى للبعث الموجب لحدوث الداعي.
ثانيهما: لزوم صيرورة الواجب النفسي مباحا، حيث إن دخل قصد
التوصل
288

نعم (1) إنما اعتبر ذلك في الامتثال، لما عرفت (2) من أنه لا يكاد
يكون الآتي بها بدونه ممتثلا لأمرها، وآخذا في امتثال الامر بذيها
(3)، فيثاب (4) بثواب أشق الأعمال، فيقع (5) الفعل المقدمي على
صفة الوجوب ولو (6) لم يقصد به التوصل كسائر الواجبات التوصلية
(7)، لا على (8) حكمه السابق الثابت له

بالمقدمة إلى ذيها مترتب على إرادة ذي المقدمة، لكون وجوبها
معلولا لوجوب ذيها، فيلزم أن يكون وجوب ذيها مترتبا على إرادته،
فبدون الإرادة لا وجوب له، وهو كما ترى.
289

لولا عروض صفة توقف الواجب الفعلي المنجز عليه [1 [1 فيقع
الدخول في ملك الغير واجبا إذا كان مقدمة لانقاذ غريق، أو إطفاء
حريق واجب (2) فعلي، لا حراما (3) وإن لم يلتفت (4) إلى التوقف
والمقدمية، غاية الامر يكون

[1] ينبغي ذكر كلمة - له - بعد قوله: - عليه -، ليكون متعلقا ب -
عروض -.
290

حينئذ (1) متجرئا فيه.
كما أنه مع الالتفات يتجرأ بالنسبة إلى ذي المقدمة فيما لم يقصد
التوصل إليه أصلا.
وأما إذا قصده، ولكنه لم يأت بها بهذا الداعي، بل بداع آخر أكده
291

بقصد التوصل، فلا يكون متجرئا أصلا.
وبالجملة: يكون التوصل بها (1) إلى ذي المقدمة من الفوائد المترتبة
على المقدمة الواجبة، لا أن يكون قصده قيدا وشرطا لوقوعها على
صفة الوجوب، لثبوت (2) ملاك الوجوب في نفسها بلا دخل له فيه
أصلا، وإلا (3) لما حصل ذات الواجب، ولما سقط الوجوب به، كما
لا يخفى.
292

ولا يقاس (1) على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها، حيث (2) يسقط به
الوجوب، مع أنه ليس بواجب، وذلك (3) لان الفرد المحرم إنما
يسقط به الوجوب، لكونه كغيره في حصول الغرض به (4)، بلا تفاوت
أصلا، إلا أنه (5)
293

لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا يكاد يقع على صفة الوجوب. وهذا
بخلاف [ما] هاهنا، فإنه (1) إن كان كغيره مما يقصد به التوصل في
حصول الغرض، فلا بد (2) أن يقع على صفة الوجوب مثله (3)،
لثبوت (4) المقتضي فيه بلا مانع، وإلا (5) لما كان يسقط به الوجوب
ضرورة، والتالي (6) باطل بداهة، فيكشف هذا (7) عن
294

عدم اعتبار قصده في الوقوع على صفة الوجوب قطعا، وانتظر لذلك (1) تتمة توضيح. [1]

[1] لا يخفى أنه قد يوجه ما عن الشيخ (قده) من: (اشتراط قصد
التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب) بأن المراد اعتباره في مقام
المزاحمة، لا مطلقا كما إذا كان واجب نفسي كإنقاذ غريق أو إطفاء
حريق متوقفا على ارتكاب حرام، كالسلوك في أرض الغير بدون
إذنه، فيقع المزاحمة بين الوجوب الغيري للمقدمة وبين الحرمة
النفسية، ولا ترتفع الحرمة عن التصرف في أرض الغير إلا بقصد
التوصل
به إلى الواجب النفسي، وهو الانقاذ أو الاطفاء الذي هو أهم من حرمة
التصرف، فإن لم يقصد المكلف التوصل بالسلوك في أرض الغير
إلى الواجب النفسي، بل قصد التنزه ونحوه لم يتصف السلوك
بالوجوب، بل كانت الحرمة باقية.
وبالجملة: فبناء على كون معروض الوجوب الغيري ذات المقدمة من
دون دخل لقصد التوصل فيه يلزم وجوب السلوك في الأرض
المغصوبة وإن لم يكن قاصدا للانقاذ أو الاطفاء الواجب، هذا.
وأنت خبير بأن المقام من صغريات الترتب، توضيحه: أن المزاحمة
إنما هي بين وجوب الانقاذ أو الاطفاء، وبين حمرة السلوك في
الأرض المغصوبة، بداهة عدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال
بأن ينقذ الغريق، أو يطفئ الحريق مع عدم السلوك في أرض الغير، و
حينئذ يقدم الانقاذ أو الاطفاء، لأهميته على التصرف في المغصوب،
فيكون تركه موضوعا لحرمة التصرف، فكأنه قال -: ان تركت
الانقاذ أو الاطفاء حرم عليك التصرف في أرض الغير -.
نظير ترتب وجوب الصلاة على ترك أداء الدين، وغير ذلك من موارد
مزاحمة الأهم للمهم، وهذا الترتب مما لا بد منه في المقدمة
المحرمة.
وبالجملة: فحرمة الدخول في أرض الغير بدون إذنه مترتب على ترك
295



الواجب النفسي كالانقاذ، فليس ارتفاع الحرمة منوطا بقصد التوصل
إلى الواجب، بل وجودها متوقف على ترك الواجب، وسيأتي زيادة
توضيح لذلك عند التعرض لكلام الفصول في المقدمة الموصلة إن
شاء الله تعالى.
ثم إنه يترتب على القول باعتبار قصد التوصل في اتصاف المقدمة
بالوجوب وعدمه فروع قد تعرض لبعضها في التقريرات، حيث قال:
(ومن فروعه: ما إذا كان على المكلف فائتة فتوضأ قبل الوقت غير
قاصد لأدائها، ولا قاصدا لإحدى غاياته المترتبة عليه، فيما إذا
جوزنا قصدها في وقت التكليف به واجبا، كما هو المفروض، فإنه
على المختار لا يجوز الدخول به في الصلاة الحاضرة، ولا الفائتة إذا
بدا له الدخول، بل يجب العود إليه. وعلى الثاني يصح).
وحاصله: أنه لو توضأ لغاية كصلاة الليل مثلا، فليس له الدخول إلى
الصلاة الواجبة الأدائية، ولا القضائية، إذ المفروض عدم قصد التوصل
بهذا الوضوء إلى هاتين الصلاتين، بل لا بد من إعادة الوضوء، هذا بناء
على اعتبار قصد التوصل في المقدمة.
وأما بناء على عدمه، فيصح، ولا حاجة إلى الإعادة.
وللمقرر إشكال في هذه الثمرة من أراد الوقوف عليه، فليراجع
التقريرات.
قال المقرر: (ومن فروعه أيضا: ما إذا اشتبهت القبلة في جهات، وقلنا
بوجوب الاحتياط، كما هو التحقيق، فلو صلى في جهة غير قاصد
للاتيان بها بالجهات الباقية على ما اخترناه يجب عليه العود إلى تلك
الجهة، وعلى الثاني يجزي في مقام الامتثال إذا لحقها الجهات
الاخر). ومثله: اشتباه الثوب الطاهر بالنجس الموجب لتكرير الصلاة
حتى يحصل العلم بوقوع الصلاة في الثوب الطاهر، هذا.
أما الفرع الثاني، فهو أجنبي عن المقدمات الوجودية التي هي مورد
البحث، ضرورة أن الصلاة إلى أربع جهات مثلا عند اشتباه القبلة
فيها إنما هي من باب
296



المقدمة العلمية، لا الوجودية، كما لا يخفى.
وأما الفرع الأول، فقد أورد المقرر نفسه على كونه ثمرة للقول بدخل
قصد التوصل في اتصاف المقدمة بالوجوب بقوله: (والتحقيق في
المقام أن يقال: أما حديث إجزاء المقدمة التي يراد بها غاية أخرى غير
الغاية المقصودة عنها، كما في الوضوء إذا قصد به الكون على
الطهارة، أو غيره عن الوضوء للصلاة، فمبني على اتحاد حقيقة تلك
المقدمة، وعدم اختلاف ماهيتها باختلاف ذويها، كما هو كذلك في
الوضوء على ما استظهرناه من الأخبار الواردة فيه، ولذلك قلنا بكفاية
الوضوء لأجل غاية واحدة عن الوضوء في جميعها، لان المقدمة
بعد ما كانت حاصلة لا وجه للامر بإيجادها ثانيا) إلى آخر ما أفاده،
فراجع التقريرات في الهداية المصدرة بقوله:
(ذهب صاحب المعالم على ما يوهمه ظاهر عبارته في بحث الضد
توقف وجوب الواجب الغيري على إرادة الغير. إلخ).
وحاصل ما أفاده المقرر في الاشكال على تحقق ثمرة النزاع في
الوضوء هو:
أن الوضوء ماهية واحدة لا تقبل التعدد، لأنها عبارة عن ذات الافعال
مع قصد التقرب، وهذه الماهية حقيقة واحدة وإن اختلف سببها،
فلو أتى بالوضوء لغاية خاصة كقراءة القرآن ترتبت عليه غاية أخرى،
فلا ثمرة لاعتبار قصد التوصل في الوضوء، لكونه ماهية واحدة. و
هذا بخلاف الغسل، لأنه ليس ماهية واحدة، بل ماهيات متعددة، كما
يشهد بذلك اختلاف الآثار، كغسلي الجمعة والجناية، لارتفاع
الحدث
بأحدهما، دون الاخر، كما عن جماعة، بل المشهور، فلو أتى بالغسل
لغاية مخصوصة لا تترتب عليه غاية أخرى، لاحتياج كل غاية إلى
ماهية تختلف حقيقتها عن الماهية الأخرى، فثمرة النزاع تظهر في
الغسل، لا الوضوء، هذا.
وقد اعترض عليه المحقق النائيني (قده) على ما حكي عنه ب: (أن
الغسل
297

والعجب أنه (1) شدد النكير على القول بالمقدمة الموصلة، واعتبار
(2) ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة الوجوب (3) على ما
حرره بعض مقرري بحثه قدس سره بما (4) يتوجه على اعتبار قصد
التوصل في وقوعها كذلك (5)،

وإن اختلفت ماهيته بحسب أسبابه كالجنابة، والحيض، لكنها لا
تختلف بحسب غاياته، فإنه لم يحتمل أحد أن غسل الجنابة لأجل
قراءة
القرآن غيره لأجل الدخول في الصلاة، أو الطواف، أو غيرهما من
الغايات، فالوضوء والغسل من هذه الجهة سيان، ولا فرق بينهما
أصلا،
فكما يترتب على الوضوء غاياته وإن لم يقصد إلا بعضها، فكذلك
غايات الغسل، وتفصيل الكلام في محله من الفقه).
298

فراجع تمام كلامه (1) زيد في علو مقامه، وتأمل في نقضه وإبرامه
(2).
وأما (3) عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة عليها في وقوعها على صفة
الوجوب،

[1] هذا الرد أول الاشكالات التي أوردها في التقريرات على الفصول
بقوله:
(فنقول يرد عليها أمور. أما أولا: فلانه قد مر فيما تقدم مرارا: أن الحاكم
بوجوب المقدمة على القول به هو العقل، وهو القاضي فيما وقع
من الاختلافات. إلخ) ومحصله: أن الاشكالات التي أوردها الشيخ
على الفصول القائل بالمقدمة الموصلة واردة على نفس الشيخ القائل
باعتبار قصد الايصال في اتصاف المقدمة بالوجوب إذ من تلك
الاشكالات: أن الحاكم بوجوب المقدمة هو العقل، ولا نرى للحكم
بوجوب المقدمة وجها إلا من حيث إن عدمها يوجب عدم المطلوب،
وهذا كما ترى مصرح بأن الملاك هو كون عدم المقدمة موجبا لعدم
ذيها، وهو عبارة أخرى عن كون وجودها موجبا للتمكن من ذي
المقدمة، وهذا الملاك مشترك بين ما قصد به التوصل
299



وما لم يقصد، كاشتراكه بين المقدمة الموصلة وبين غيرها.
ومنها: استلزام وجوب المقدمة الموصلة وجوب مطلقها، لان الامر
بالمقيد بقيد خارجي مستلزم للامر بذات المقيد. وهذا كما ترى أيضا،
فإنه جعل وجوب مطلق المقدمة معلولا لكون الامر بالمقيد بقيد
خارجي مستلزما للامر بذات المقيد، وهذه العلة بعينها جارية في قيد
قصد التوصل، إذ لا فرق في القيد المستلزم لذلك بين كونه ترتب ذي
المقدمة، وبين كونه التوصل إليه، وهذا واضح.
ومنها: شهادة الوجدان بسقوط الطلب بمجرد وجود المقدمة من غير
انتظار ترتب ذيها عليها في وجوبها، وهذا كاشف عن أن
المطلوب هو ذاتها بما هي بلا دخل لترتب ذيها عليها في وجوبها. و
هذا أيضا كما ترى، فإنه معترف بأن المناط في سقوط الطلب هو
وجود المقدمة بما هي، ومعنى ذلك: عدم دخل شئ آخر فيه على
نحو السالبة الكلية، فتشمل جميع ما يحتمل دخله فيه من القيود التي
منها قصد التوصل كما شملت قيد الترتب.
300

فلانه لا يكاد يعتبر في الواجب إلا (1) ما له دخل في غرضه الداعي
إلى إيجابه، والباعث على طلبه، وليس (2) الغرض من المقدمة إلا
حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، ضرورة (3) أنه لا يكاد
يكون الغرض إلا ما يترتب (4) عليه من فائدته وأثره، ولا يترتب
على المقدمة إلا ذلك (5)، ولا تفاوت

وبالجملة: فبعد البناء على عدم كون الترتب معلولا لتعلق الطلب
بذات (المقدمة، لكشف سقوطه بها عن ذلك، تكون القيود بأسرها
متساوية الاقدام بالنسبة إلى هذه العلة، فلا أولوية لها بالنسبة إلى
بعضها دون بعض، فالاشكال مشترك الورود بالنسبة إلى جميع
القيود.
301

فيه (1) بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب عليه أصلا، وأنه (2)
لا محالة يترتب عليهما، كما لا يخفى.
وأما (3) ترتب الواجب، فلا يعقل أن يكون الغرض (4) الداعي إلى
302

إيجابها، والباعث على طلبها، فإنه (1) ليس بأثر تمام المقدمات،
فضلا عن إحداها في غالب الواجبات، فإن (2) الواجب إلا ما قل في
الشرعيات والعرفيات فعل اختياري يختار المكلف تارة إتيانه بعد
وجود تمام مقدماته، وأخرى عدم إتيانه، فكيف يكون اختيار [1]
إتيانه غرضا من إيجاب كل واحدة من مقدماته،

[1] الأولى تبديله ب: - ترتب -، بأن يقال: - فكيف يكون ترتب ذي
المقدمة على المقدمة غرضا. إلخ -، لوجوه:
الأول: تعبير صاحب الفصول نفسه بالترتب - في عبارته التي نقلناها
عند التعرض لكلام المعالم - الظاهر في كون وجوب المقدمة
مشروطا بإرادة ذيها.
الثاني: قول المصنف: - مع عدم ترتبه على عامتها -، وعدم قوله: -
مع عدم اختيار إتيانه -.
الثالث: ما استدركه بقوله: - نعم فيما كان الواجب. إلخ -، وذلك
للزوم السنخية بين ما قبل الاستدراك وما بعده، ومن المعلوم: أن ما
قبله ترتب ذي المقدمة على المقدمة، فكذا ما بعده.
الرابع: كلام المصنف بعد ذلك: (ولأنه لو كان معتبرا فيه الترتب لما
303

مع عدم ترتبه على [تمامها] عامتها، فضلا عن كل واحدة منها (1).
نعم (2) فيما كان الواجب من الافعال التسبيبية والتوليدية كان (3)
مترتبا لا محالة على تمام مقدماته، لعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن هنا (4) قد انقدح: أن القول (5) بالمقدمة الموصلة يستلزم إنكار
وجوب المقدمة في غالب الواجبات، والقول (6) بوجوب خصوص
العلة التامة في

كان الطلب يسقط)، فإنه جعل العنوان: - الترتب -، لا - اختيار إتيان
الفعل -.
الخامس: أن الاختيار من مقولة الفعل، والترتب من مقولة الانفعال، و
هما ضدان، والذي هو مورد البحث ومراد صاحب الفصول هو
الثاني دون الأول، كما لا يخفى.
304

خصوص الواجبات التوليدية.
فان قلت (1): ما من واجب إلا وله علة تامة، ضرورة استحالة وجود
الممكن بدونها، فالتخصيص بالواجبات التوليدية بلا مخصص.
قلت: نعم (2) وإن استحال صدور الممكن بلا علة، إلا أن
305

مبادئ (1) اختيار الفعل الاختياري من أجزأ علته (2)، وهي لا يكاد
تتصف بالوجوب، لعدم كونها بالاختيار [1] وإلا (3) لتسلسل، كما
هو واضح لمن تأمل.
ولأنه (4) لو كان معتبرا فيه الترتب لما كان الطلب يسقط بمجرد
الاتيان بها

[1] لكنه عدل عن هذا المبنى في مسألة التجري الآتية في مباحث
القطع إن شاء الله تعالى، وقال هناك: (ان بعض مبادئ الاختيار غالبا
يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما
عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمة)، فالإرادة اختيارية، و
ليست اضطرارية، وتكون اختياريتها بنفسها من دون حاجة إلى إرادة
أخرى. وعلى تقدير كون الإرادة غير اختيارية عند المصنف،
لكنها اختيارية عند صاحب الفصول، حيث إنه جعل الإرادة كالأفعال
مما يكون تحت اختيار الانسان، فالنزاع يرجع إلى الاختلاف في
المبنى.
306

من دون انتظار لترتب الواجب عليها (1)، بحيث لا يبقى في البين إلا
طلبه وإيجابه (2) كما (3) إذا لم تكن هذه بمقدمة، أو كانت حاصلة
من الأول قبل إيجابه (4)،
307

مع (1) أن الطلب لا يكاد يسقط إلا بالموافقة، أو بالعصيان والمخالفة،
أو بارتفاع موضوع التكليف كما في سقوط الامر بالكفن، أو
الدفن بسبب غرق الميت أحيانا، أو حرقه، ولا يكون الاتيان بها (2)
بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.
إن قلت: (3) كما يسقط الامر بتلك الأمور، كذلك يسقط بما ليس
بالمأمور به فيما [1] يحصل به الغرض منه (4)، كسقوطه (5) في
التوصليات بفعل الغير،

[1] هكذا في النسخ الموجودة، لكن الصواب - مما - بدل - فيما -،
ليكون بيانا للموصول في قوله: - بما ليس -، فكأنه قيل: كذلك يسقط
الامر بما ليس مأمورا به من الافعال المحصلة للغرض القائم بالمأمور
به.
308

أو المحرمات (1).
قلت: نعم (2) لكن لا محيص عن أن يكون ما يحصل به الغرض من
الفعل الاختياري للمكلف متعلقا للطلب فيما لم يكن فيه مانع (3)، و
هو
كونه بالفعل محرما، ضرورة (4) أنه لا يكون بينهما (5) تفاوت أصلا،
309

فكيف (1) يكون أحدهما (2) متعلقا له فعلا، دون الاخر. [1]

[1] فما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من: (أن وجوب
مطلق المقدمة يستلزم اتصاف مقدمة واحدة يؤتى بها مرارا عديدة
بالوجوب، وكون الآتي بها آتيا بواجبات عديدة، كمن يمشي مرارا إلى
سور البلد مثلا للخروج مع الرفقة إلى مكة، وهو بعيد)، لا يخلو
من الغموض، وذلك لأنه لا مانع من اتصاف كل مشى بالوجوب وإن
سقط الوجوب المقدمي بالمشي الأول، لكنه بعد تعجيز نفسه
بالرجوع إلى البلد يصير عاجزا عن الاتيان بذي المقدمة، فيجب
تحصيل القدرة عليه بإتيان المقدمة ثانية، وهكذا كلما عجز نفسه عن
الاتيان بذيها وجب عليه تكرارها، فيسقط وجوبها حينئذ لتحقق
الغرض الداعي إليه، فالغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة - وهو
الاقتدار
على إيجاد ذيها في كل مشي - موجود، فلا بأس باتصاف كل مشي
بالوجوب.
وبالجملة: لا يصلح الاستبعاد المزبور لرفع اليد عن البرهان، ولاثبات
كون معروض الوجوب الغيري خصوص المقدمة الموصلة، هذا.
ومثله في الغموض: ما في تعليقة سيدنا الأستاذ مد ظله على المتن
من:
310

وقد استدل صاحب الفصول على ما ذهب إليه (1) بوجوه، حيث قال بعد

(أن الواجب الغيري ما يجب لغيره وهو الواجب النفسي، فالغرض من
الواجب الغيري هو نفس الواجب النفسي، ولا ريب في أن الغرض
من الوجوب النفسي وجود موضوعه فلا بد أن يكون الوجوب الغيري
مختصا بحال وجود موضوع الوجوب النفسي، لأنه مقتضى تلازم
الوجوبين، وكون أحدهما معلولا للاخر، هذا. مع أن لازم كون الغرض
من الوجوب الغيري مجرد التمكن من الواجب النفسي - كما هو
مقالة القائلين بوجوب المقدمة مطلقا - هو القول بوجوب فعل
المقدمة ولو مع تعذر بقية المقدمات، لترتب الغرض وهو التمكن من
الواجب على فعلها حينئذ وإن لم يترتب الواجب خارجا عليها. و
الوجوب منوط بغرضه الداعي إلى تشريعه، ولا يلتزم به أحد) انتهى
ملخصا.
وجه الغموض: أن الغرض من الوجوب النفسي هو إيجاد موضوعه، و
هو لا يترتب على جميع المقدمات - فضلا عن بعضها -، وإنما
المترتب على جميعها هو التمكن من إيجاد ذيها، وهو بمجرده ليس
علة تامة لايجاد ذيها، إذ الجز الأخير من العلة التامة لايجاده هو
الاختيار، فلا محالة يكون الغرض من وجوب المقدمة هو الاقتدار
على إيجاد ذيها.
والحاصل: أن الغرض من الوجوب النفسي وإن كان إيجاد موضوعه،
إلا أنه لا يقتضي تخصيص الوجوب الغيري بحال وجود الواجب
النفسي، لما عرفت: من عدم كون وجود ذي المقدمة أثرا للمقدمات
حتى يكون الغرض من وجوب المقدمة قائما بخصوص المقدمة
الموصلة، لأنها التي يترتب عليها الأثر.
فالحق ما عن المشهور المختار للمصنف: من القول بوجوب المقدمة
مطلقا.
وأما ما أفاده مد ظله بقوله: (مع أن لازم دعوى كون الغرض من
الوجوب الغيري. إلخ)، فيتوجه عليه: أن تعذر بقية المقدمات إن كان
موجبا لسقوط
311

بيان أن التوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل
شرط الوجوب (1) ما هذا لفظه (2): (والذي يدلك على هذا (3)
يعني الاشتراط بالتوصل: أن (4) وجوب المقدمة لما كان من باب
الملازمة العقلية، فالعقل لا يدل عليه زائدا على القدر المذكور (5).

الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة، فلا وجه لوجوب المقدمات
الميسورة، إذ المفروض سقوط علة وجوبها الغيري - وهي الوجوب
النفسي - كجامع الطهور، فإن فاقده في وقت الفريضة يسقط عنه
وجوب الصلاة في الوقت - على قول لعله المشهور -، فلا وجه
لوجوب
تحصيل الساتر وغيره من المقدمات الميسورة. وإن لم يكن موجبا
لسقوط الوجوب النفسي، كما في موارد مزاحمة الوقت لما عدا جامع
الطهور من الاجزاء والشرائط، فلا وجه لسقوط وجوب المقدمات
الميسورة، إذ المفروض بقاء الوجوب النفسي على حاله، فسقوط
الوجوب الغيري يكون مختصا بالمقدمات المتعذرة، كما لا يخفى.
312

وأيضا (1) لا يأبى العقل أن يقول الامر الحكيم: - أريد الحج، وأريد
المسير الذي يتوصل به إلى فعل الواجب، دون ما لم يتوصل به إليه
(2) -، بل (3) الضرورة قاضية بجواز تصريح الامر بمثل ذلك (4) كما
أنها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا (5)، أو على
تقدير
313

التوصل بها إليه (1)، وذلك (2) آية عدم الملازمة بين وجوبه و
وجوب مقدماته على تقدير عدم التوصل بها إليه (3). وأيضا (4)
حيث إن
المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل [1] بها إلى الواجب وحصوله (5)،
فلا جرم يكون التوصل بها إليه

[1] الأولى تبديله ب: - الوصول -، ليكون مقابلا لقوله: - وحصوله -،
وكذا ينبغي تبديل: - التوصل - الثاني ب: - الوصول -، وذلك لظهور
التوصل في دخل القصد في اتصاف المقدمة بالوجوب، كما هو
مذهب شيخنا الأعظم. وليس ذلك
314

وحصوله (1) معتبرا في مطلوبيتها، فلا (2) تكون مطلوبة إذا انفكت
عنه، وصريح الوجدان قاض بأن من يريد شيئا لمجرد حصول شئ
آخر، لا يريده إذا وقع مجردا عنه (3)، ويلزم منه (4) أن يكون وقوعه
على الوجه المطلوب منوطا بحصوله) انتهى موضع الحاجة من
كلامه زيد في علو مقامه.
وقد عرفت (5) بما لا مزيد عليه: أن العقل الحاكم بالملازمة دل على
وجوب

مذهب الفصول، لان مذهبه هو كون الترتب ووجود الواجب النفسي
شرطا لاتصاف المقدمة بالوجوب.
315

مطلق المقدمة، لا خصوص ما إذا ترتب عليها الواجب فيما (1) لم
يكن هناك مانع عن وجوبه، كما إذا كان بعض مصاديقه محكوما فعلا
بالحرمة، لثبوت (2) مناط الوجوب حينئذ (3) في مطلقها، وعدم (4)
اختصاصه بالمقيد بذلك (5) منها.
وقد انقدح منه (6): أنه ليس للامر الحكيم غير المجازف بالقول ذلك
316

التصريح (1). وأن (2) دعوى: أن الضرورة قاضية بجوازه مجازفة (3)،
كيف يكون ذا (4) مع ثبوت الملاك في الصورتين (5) بلا تفاوت
أصلا، كما عرفت (6).
نعم (7) إنما يكون التفاوت بينهما في حصول المطلوب النفسي في
إحداهما (8) وعدم (9) حصوله في الأخرى (10)
317

من دون دخل لها (1) في ذلك أصلا، بل كان (2) بحسن اختيار
المكلف وسوء اختياره، وجاز (3) للامر أن يصرح بحصول هذا
المطلوب
(4) في إحداهما، وعدم حصوله في الأخرى. وحيث [1] إن الملحوظ
بالذات

[1] سوق البيان يقتضي وجود كلمة - بل - قبل قوله: - وحيث -، لان
مراده ظاهرا: أن الملحوظ بالذات للامر لما كان هو المطلوب
النفسي من دون نظر إلى المطلوب الغيري جاز له أن يصرح بعدم
حصول المطلوب النفسي ولو مع تحقق المطلوب الغيري، كما جاز له
التصريح بحصول المطلوب الغيري مع عدم فائدة فيه، فإن جواز هذا
التصريح دليل على مقدميته ولو مع عدم ترتب المطلوب النفسي
عليه، فسوق البيان يقتضي الاتيان بكلمة - بل - الاضرابية، كما هي
موجودة في بعض النسخ.
318

هو هذا المطلوب، وإنما كان الواجب الغيري ملحوظا إجمالا بتبعه،
كما يأتي أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعي جاز (1) في صورة
عدم حصول المطلوب النفسي التصريح بعدم حصول المطلوب
أصلا، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة فضلا عن كونها
مطلوبة، كما
جاز التصريح بحصول الغيري مع عدم فائدته لو التفت إليها (2) كما لا
يخفى، فافهم (3).
إن قلت (4): لعل التفاوت بينهما في صحة اتصاف إحداهما بعنوان
الموصلية دون الأخرى أوجب التفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها
(5)، وجواز (6) التصريح بهما (7)
319

وإن لم يكن بينهما (1) تفاوت في الأثر (2) كما مر (3).
قلت (4): إنما يوجب ذلك (5) تفاوتا فيها لو كان ذلك (6) لأجل
تفاوت في ناحية المقدمة، لا فيما إذا لم يكن في ناحيتها أصلا، كما
هاهنا (7)، ضرورة (8)
320

أن الموصلية إنما تنتزع من وجود الواجب، وترتبه عليها من دون
اختلاف في ناحيتها، وكونها (1) في كلتا الصورتين على نحو واحد و
خصوصية واحدة، ضرورة (2) أن الاتيان بالواجب بعد الاتيان بها
بالاختيار تارة، وعدم الاتيان به كذلك (3) أخرى لا يوجب (4) تفاوتا
فيها، كما لا يخفى.
وأما ما أفاده (5) قدس سره: من أن مطلوبية المقدمة حيث كانت بمجرد
321

التوصل بها، فلا جرم (1) يكون التوصل بها (2) إلى الواجب معتبرا
فيها.
ففيه (3): أنه (4) إنما كانت مطلوبيتها لأجل عدم التمكن من التوصل
بدونها، لا لأجل التوصل بها، لما (5) عرفت من أنه (6) ليس من
آثارها، بل (7) مما يترتب عليها أحيانا بالاختيار بمقدمات أخرى، و
هي (8) مبادئ اختباره،
322

ولا يكاد يكون مثل ذا (1) غاية لمطلوبيتها وداعيا إلى إيجابها.
وصريح الوجدان (2) إنما يقضي بأن ما أريد لأجل غاية وتجرد عن
الغاية (3) بسبب (4) عدم حصول سائر ماله دخل في حصولها يقع
(5) على ما هو عليه من المطلوبية الغيرية.
كيف (6) وإلا يلزم
323

أن يكون وجودها من قيوده، ومقدمة (1) لوقوعه (2) على نحو (3)
تكون الملازمة بين وجوبه بذاك النحو (4) ووجوبها (5).
324

وهو (1) كما ترى، ضرورة (2) أن الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية
(3) بحيث كان تخلفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو
عليه من المطلوبية الغيرية، وإلا (4) يلزم أن تكون مطلوبة بطلبه،
كسائر قيوده،
325

فلا (1) يكون وقوعه على هذه الصفة (2) منوطا بحصولها، كما أفاده
(3).
ولعل (4) منشأ توهمه: خلطه بين الجهة التقييدية والتعليلية، هذا.
مع ما عرفت (5):
326

من عدم التخلف هاهنا (1)، وأن (2) الغاية إنما هو حصول ما لولاه
لما تمكن من التوصل إلى المطلوب النفسي، فافهم واغتنم.
ثم إنه (3) لا شهادة على الاعتبار (4) في (5) صحة منع المولى عن
مقدماته بأنحائها إلا فيما إذا ترتب [رتب] عليه الواجب (6)
327

لو سلم أصلا، ضرورة أنه (1) وإن لم يكن الواجب منها حينئذ (2) غير
الموصلة، إلا أنه (3) ليس لأجل اختصاص الوجوب بها في باب
المقدمة (4)، بل لأجل المنع عن غيرها المانع (5) عن الاتصاف
بالوجوب (6) هاهنا (7)، كما لا يخفى.
328

مع (1) أن في صحة المنع
329

عنه كذلك (1) نظرا، وجهه: أنه يلزم أن لا يكون ترك الواجب حينئذ
(2) مخالفة
330

وعصيانا، لعدم (1) التمكن شرعا منه (2)، لاختصاص (3) جواز
مقدمته بصورة الاتيان به (4).
وبالجملة [1] يلزم أن يكون الايجاب (5) مختصا بصورة الاتيان،

[1] ليس هذا نتيجة لما ذكره، لاختلافهما مناطا، حيث إن مناط ما أفاده
قبيل هذا هو: الخلف، وخروج الواجب عن الوجوب حتى لا يكون
تركه عصيانا.
ومناط قوله: - وبالجملة - هو لزوم طلب الحاصل المحال، فتدبر.
ثم إنه لا بأس بالتعرض لما يتعلق بكلام الفصول زائدا على ما تقدم،
فنقول وبه نستعين: إن المقدمة على ما يستفاد من عبارة الفصول
على نوعين: أحدهما:
الموصلة، والاخر: غيرها، ومعروض الوجوب الغيري هو النوع الأول،
بحيث يكون
331



الايصال قيدا لوجود المقدمة الواجبة، وجهة تقييدية لها، لا شرطا
لوجوبها، كما صرح به في عبارته التي نقلناها عنه سابقا، حيث قال:
(إن مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها
مقدمة، إلا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة، لا بمعنى: أن وجوبها
مشروط بوجوده، فيلزم أن لا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير
عدمه، فإن ذلك متضح الفساد).
ومع هذا التصريح: لا وجه لما في بعض الكلمات: (من أن الايصال إن
كان شرطا للوجوب لزم طلب الحاصل، وإن كان شرطا للواجب
لزم الدور).
والحاصل: أن الايراد على الفصول (بأن الايصال إن كان شرطا
للوجوب يرد عليه كذا وكذا) ليس في محله، إذ مقصوده كما صرح به
في عبارته المتقدمة هو:
كون الايصال قيدا للواجب، هذا.
وقد أورد على كون الايصال قيدا للواجب بوجوه عديدة:
الأول: أنه يلزم الدور، تقريبه: أن فعلية وجود ذي المقدمة متوقفة على
فعلية وجود المقدمة، لوضوح أن وجود المقدمة من علل وجوده. و
فعلية وجود المقدمة موقوفة على وجود ذيها، إذ المفروض كون ذي
المقدمة قيدا للمقدمة الموصوفة بالموصلية، فوجود المقدمة المقيدة
بالايصال موقوف على وجود ذيها.
وتقريب الدور بهذا البيان أولى من أن يقال: إن وجوب المقدمة
موقوف على وجوب ذيها، لانبعاثه عنه، وترشحه منه، فلو جعل ذو
المقدمة من قيود المقدمة لزم ترشح الوجوب من المقدمة على ذيها،
فيكون الدور بين الوجوبين، ولازمه اجتماع المثلين في الواجب
النفسي، وذلك لعدم محذور في اتصاف الواجب النفسي بالغيري
كالصلاتين المترتبتين، فإن الأولى منهما واجبة نفسيا وغيريا،
لشرطية تقدمها على الأخرى. فكل ما هو الجواب في غير المقام هو
الجواب هنا.
332



الثاني: أنه يلزم الخلف، لان إيجاب المقيد بما هو مقيد يقتضي إيجاب
ذات المقيد بما هي مقدمة لايجاد المقيد، فإيجاب المقدمة المقيدة
بالايصال إيجاب لذات المقدمة، وهو خلف، إذ المفروض كون
الواجب هو المقدمة الموصلة، فمعروض الوجوب الغيري بالفرض هو
المقدمة المقيدة بالايصال، لا ذاتها، فاتصاف ذاتها بالوجوب الغيري
خلاف الفرض، فتدبر.
الثالث: ما حكاه بعض أساتيذنا دام ظله عن سيدنا الفقيه الأصفهاني
قدس سره:
(من أنه يلزم - بناء على المقدمة الموصلة - كون وجوب ذي المقدمة
نفسيا علة لوجوبه غيريا، حيث إن وجوبه نفسيا علة لوجوب المقدمة
غيريا، فإن توقف وجود المقدمة على ذيها بلحاظ أنه من قيودها لزم
ترشح وجوبها الغيري على ذي المقدمة، فوجوبه النفسي يصير علة
لوجوبه الغيري، وهو محال).
ويتوجه عليه: أن المقصود إن كان اجتماع المثلين، ففيه: ما عرفت.
وإن كان امتناع تولد الوجوب الغيري من النفسي في شئ واحد
بحيث يكون مركبا لحكمين أحدهما علة للاخر، فلا بأس به، لامتناع
كون ملاك واحد مقتضيا لحكم نفسي وغيري حتى يكون ما فيه
الملاك واجبا بوجوب علي ومعلولي.
وليس مناط الامتناع: اجتماع المثلين حتى يدفع بالتأكد، فتأمل جيدا.
الرابع: أن الايصال لا يصلح أن يكون منوعا، لان التنويع إنما يكون
بالصفات المقارنة لوجود المنوع - بالفتح -، وليس الايصال منها،
لأنه كسائر الغايات المترتبة على الافعال المتأخرة عنها وجودا،
كالجلوس بالنسبة إلى السرير، فكما لا يصح جعل الجلوس الذي هو
غاية لايجاد السرير منوعا له، فكذلك الايصال، وكيف يعقل وجود
النوع مع تأخر محصله ومقوم وجوده عنه، وهل هذا إلا من تقديم
المعلول على علته؟
333



وبالجملة: فغاية الشئ لا يعقل أن تكون من قيوده ومشخصاته في
الخارج.
نعم إذا كانت الغاية عنوانا ثانويا متحدا مع ذي الغاية وجودا، فلا مانع
من كونها منوعة، كالضرب للتأديب، والقيام للتعظيم، فإن
التأديب والتعظيم غايتان منوعتان للضرب والقيام مقارنتان لهما في
الوجود.
اللهم إلا أن يقال: إن كلام الفصول ليس ناظرا إلى التنويع، بل هو ناظر
إلى التقسيم الذي لا يناط بما هو داخل في حقيقة المقسم، بل يصح
بما هو خارج عنها، نظير تقسيم القضية إلى المنتجة وغيرها، و
الايصال من هذا القبيل، فتدبر.
الخامس: أنه لو كان الايصال قيدا لمطلوبية المقدمة لزم عدم سقوط
طلبها إلا بالاتيان بذي المقدمة، مع أنه باطل جزما، لشهادة الوجدان
والعرف بسقوط طلب المقدمة، لحصول الامتثال، وعدم توقف
إطاعته على موافقة الامر النفسي.
وبالجملة: فسقوط الامر بالمقدمة مع عدم توقفه على امتثال أمر ذي
المقدمة دليل على عدم اعتبار قيد الايصال في المقدمة. إلا ان يمنع
عن سقوط أمر المقدمة حينئذ، لكنه كما ترى.
السادس: ما أفاده المصنف سابقا، وتبعه عليه المحقق النائيني قدس
سرهما:
من أن إيجاب خصوص المقدمة الموصلة يستلزم إيجاب خصوص
الأسباب التوليدية التي لا تتخلف المسببات عنها، دون سائر
المقدمات. مع أن كلام الفصول من وجوب المقدمة الموصلة لا
يختص بالأسباب التوليدية.
السابع: ما تقدم في كلام المصنف أيضا: من أن القول بوجوب
خصوص الموصلة يستلزم طلب الحاصل، أو عدم كون ترك الواجب
النفسي
مخالفة وعصيانا، بالتقريب المتقدم عند توضيح كلام المصنف (ره).
إلى غير ذلك من الاشكالات التي أوردوها على صاحب الفصول و
غيره ممن يقول باعتبار الوصول إلى ذي المقدمة في مطلوبية مقدمته.
334



ولأجل جميع هذه المحاذير، أو بعضها، اختار المحقق صاحب
الحاشية مسلكا آخر، وهو: أن المقدمة واجبة من حيث الايصال، لا
مقيدا به،
حيث قال (قده):
(والأظهر كما هو ظاهر الجمهور: وجوب المقدمة من حيث إيصالها
إلى أداء الواجب.) إلى أن قال: (فإذا وجب علينا شئ وجب الاتيان
بما يتوقف عليه لا من جهة ذاته، بل من حيث أدائه إلى الواجب، و
يجب علينا الاقدام على فعل الواجب بعد الاتيان بمقدمته، فعدم
الاقدام
على الواجب بعد الاتيان بالمقدمة لا يخرج ما أتى به من المقدمة عن
الوجوب، فإنها واجبة من حيث كونها مؤدية إلى الواجب وإن لم
يحصل التأدية إليه، لاهمال المكلف، فإن عدم حصول الأداء بها لا
ينافي اعتبارها من حيث كونها مؤديا - الظاهر مؤدية - ليحكم
بوجوبها من تلك الجهة. والحاصل: أنه لا يتنوع المقدمة من جهة
إيصالها إلى ذي المقدمة، وعدمه إلى نوعين ليقال بوجوب أحدهما
دون
الاخر، بل ليس هناك إلا فعل واحد يتصف بالوجوب من حيث كونها
موصلة إلى الواجب سواء أتى بها على تلك الجهة أو لا، وتلك الجهة
حاصلة فيها سواء تحقق بها الايصال إليه أو لا. نعم لو فرض انتفاء
الجهة المذكورة عن المقدمة لم تكن واجبة، وحينئذ يخرج عن عنوان
المقدمة، كما لا يخفى. فلا فرق في وجوبها بين وجود الصارف
الاختياري عن أداء الواجب وعدمه. ولو كان هناك صارف عن
الواجب
خارج عن اختيار المكلف خرجت به المقدمة عن الوجوب، لانتفاء
الحيثية المذكورة، وحينئذ يسقط التكليف بالواجب أيضا، والتأمل
في
الأدلة المتقدمة لوجوب المقدمة قاض بما قلناه، كما لا يخفى على من
أعطاها حق النظر) انتهى كلامه رفع مقامه.
ومحصل ما أفاده: أن الوجوب لما كان تابعا للملاك، ومن المعلوم: أن
الملاك الداعي إلى إيجاب المقدمة هو توقف وجود الواجب
النفسي عليها، فوجوب
335



المقدمة ليس لذاتها، بل لكونها من أجزأ علة وجود ذيها، فمعروض
الوجوب الغيري هو المقدمة الواقعة في سلسلة العلة التامة لوجود
ذيها، لكن لا يكون الوقوع في هذه السلسلة قيدا، بحيث يكون
الواجب المقدمة المقيدة بذلك، لما مر: من استحالة التقييد بالايصال،
كاستحالة الاطلاق، لما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق و
المقيد: من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد هو العدم والملكة،
فبرهان امتناع التقييد برهان امتناع الاطلاق أيضا، فكما لا تكون
المقدمة مقيدة بالايصال فكذلك لا تكون مطلقة بالنسبة إليه.
وبالجملة: فاعتبار الايصال في المقدمة حيثية تعليلية لها، لا تقييدية،
فتخلفه لا ينافي اعتبار هذه الحيثية فيها، فتأمل.
ولعل ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده): (من أن معروض
الوجوب الغيري هي الذات التوأمة مع الايصال، لا المقيدة به،
للمحاذير التي
عرفت جلها. ولا المطلقة، لما مر إجمالا من امتناع الاطلاق بعين
امتناع التقييد) يرجع إلى كلام المحقق صاحب الحاشية وإن كان في
التعبير عن (الحصة) مسامحة، لان الحصة هي الطبيعة المقيدة بقيد
بحيث يكون التقيد داخلا والقيد خارجا، والمفروض خروج الايصال
عن طبيعة المقدمة قيدا وتقيدا.
ولعل مراده (قده) بالحصة هو: العنوان المشير إلى الذات الواقعة في
سلسلة العلة التامة لوجود ذي المقدمة، لا معناها الحقيقي حتى
يستشكل عليه بما عرفت.
كما يرجع إليه: ما أفاده شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده): من أن
ترتب الواجب النفسي إن أخذ قيدا في اتصاف المقدمة بالوجوب لزم
منه الدور، أو التسلسل، وكلاهما محال. وإن أخذ قيدا لوجوب
المقدمة، لزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاطلاق
و
الاشتراط، وذلك خلاف مقتضى تبعية وجوبها
336



لوجوب ذيها، ومعلولية وجوبها لوجوبه، ومن المعلوم: امتناع تقيد
الوجوب النفسي العلي بوجود متعلقه، للزوم طلب الحاصل، وكذا
معلوله، وهو الوجوب الغيري. ولما كان التقييد ممتنعا كان الاطلاق
أيضا ممتنعا، لكون الاطلاق والتقييد متقابلين بالعدم والملكة.
وبالجملة: فالايصال لا يكون قيدا للوجوب، ولا للواجب - كما هو
مذهب الفصول -، فمعروض الوجوب الغيري بالنسبة إلى الايصال
ليس مقيدا، ولا مطلقا، بل هو مهمل من هذه الحيثية. وحيث إن
الداعي إلى إيجاب المقدمة هو التوصل بها إلى الواجب، وكان
تقييدها
بالايصال ممتنعا، فالمقدمة التي لا تقع في سلسلة علة وجود ذيها لا
تتصف بالوجوب، بل هي باقية على حكمها الذي كان ثابتا لها قبل
صيرورتها مقدمة. نظير الاجزاء، فإن كل واحد منها لا يقع على صفة
الوجوب النفسي المنبسط عليه إلا إذا وقع منضما إلى سائر الأجزاء،
فلا يتصف بالوجوب إذا وقع مجردا عن الانضمام المزبور. فوزان
اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري وزان اتصاف أجزأ المركب
بالوجوب النفسي في كون اتصاف المقدمة بالوجوب الغيري في حال
الايصال، لا مقيدا به، للمحاذير المتقدمة.
والحاصل: أن المقدمة إن لم توصل إلى ذيها، فلا تتصف بالوجوب.
وعلى هذا، فالمحققان صاحب الحاشية والنائيني (قدهما) متفقان
على بقاء المقدمة المحرمة على حرمتها إن لم تقع في سلسلة علة
وجود
ذي المقدمة، وأن اتصافها بالوجوب إنما يكون لحيثية إيصالها إلى
ذيها، فلا تكون المقدمة بالنسبة إلى الايصال مطلقة، ولا مقيدة، بل
مهملة. وإن كان المحقق صاحب الحاشية يقول باتصاف المقدمة
بالوجوب حتى في حال عدم إيصالها إلى ذيها، حيث قال في كلامه
المتقدم: (فعدم الاقدام على الواجب بعد الاتيان بالمقدمة لا يخرج ما
أتى به من المقدمة عن الوجوب.)، إلى أن قال: (وتلك الجهة حاصلة
فيها سواء تحقق
337

لاختصاص جواز المقدمة بها، وهو (1) محال، فإنه (2) يكون (×) من
طلب الحاصل المحال، فتدبر جيدا.

بها الايصال إليه أو لا. إلخ). ومقتضى هذه العبارة: إطلاق الوجوب، و
عدم تقيده بالايصال.
وكيف كان، فالحق أن يقال: إن الاهمال الثبوتي لا يتصور في موضوع
الحكم للحاكم العالم بجميع جهات المصالح، فإنه حين التشريع
يلاحظ كل زمان وزماني، فإن كان لوجودهما، أو لعدمهما دخل في
موضوع حكمه قيده به، وإلا أطلقه.
فالاطلاق والتقييد ملحوظان ثبوتا، لامتناع الاهمال الثبوتي وإن كانا
ممتنعين إثباتا، لتأخر القيد عن الحكم، كما في قصد الوجه و
التمييز. فالايصال مثلا في المقام وإن امتنع تقييد المقدمة به، لكنه
ممتنع لحاظا، لا نتيجة.
فالمتحصل: أن الممتنع في المقام هو الاطلاق والتقييد اللحاظيان، لا
نتيجتهما.
وبهذا الوجه يمكن التصالح بين القائلين بامتناع الاطلاق والتقييد
بالنسبة إلى قيد الايصال، وبين القائلين بإمكانهما. فيكون مراد من
قال بالامتناع هو اللحاظي، ومراد من قال بالامكان هو النتيجي، فراجع
كلماتهم متدبرا فيها.
وقد عرفت ما هو الحق من وجوب المقدمة - بعد فرض تسليم أصله
- بلا قيد من الايصال وغيره.
(×) قال المصنف: (حيث كان الايجاب فعلا متوقفا على جواز المقدمة
شرعا، وجوازها كذلك كان متوقفا على إيصالها المتوقف على
الاتيان بذي المقدمة بداهة، فلا محيص إلا عن كون إيجابه على تقدير
الاتيان به، وهو من طلب الحاصل الباطل).
وغرضه (قده): بيان لزوم طلب الحاصل الذي عرفته، وملخصه:
أنه على فرض حرمة جميع المقدمات إلا الموصلة، فإن لم يأت
المكلف
بالواجب، فيكون تركه لأجل حرمة مقدماته شرعا، فلا يعد ترك
الواجب حينئذ عصيانا، لامتناعه
338

بقي شئ،
وهو: أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة هو تصحيح العبادة التي يتوقف
على تركها (1)

بامتناع مقدماته شرعا. وإن أتى المكلف بالواجب، فالمقدمة حينئذ و
إن لم تكن حراما، إلا أنه لا يصح للمولى طلب ذي المقدمة ليترشح
منه الوجوب على المقدمة، بداهة أنه طلب الحاصل. فهذا نظير أن
يقول المولى: - على تقدير كونك على السطح ليصير نصب السلم
مقدورا
لك شرعا فكن على السطح -، ومن المعلوم: عدم جوازه، لكونه طلبا
للحاصل، هذا.
339

فعل الواجب بناء (1) على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل
ضده، فإن تركها (2) على هذا القول (3) لا يكون مطلقا واجبا ليكون
(4)
فعلها محرما، فتكون فاسدة (5)،
341

بل فيما (1) يترتب عليه الضد الواجب، ومع الاتيان بها (2) لا يكاد
يكون هناك ترتب، فلا يكون تركها مع ذلك (3) واجبا، فلا يكون
فعلها (4) منهيا عنه، فلا تكون فاسدة.
وربما أورد (5)
342

على تفريع هذه الثمرة بما حاصله: أن فعل الضد (1) وإن لم يكن
نقيضا للترك الواجب (2) مقدمة بناء (3) على المقدمة الموصلة، إلا
أنه
(4) لازم لما هو من أفراد [1] النقيض (5)،

[1] الأولى: إسقاط كلمة: - من أفراد -، وذلك لان الفعل من لوازم نفس
النقيض الذي هو رفع الترك الخاص، لا من لوازم أفراد النقيض،
كما أن ترك الصلاة مع ترك الإزالة أيضا من لوازم نفس النقيض أعني:
ترك الترك الموصل، لا من لوازم أفراد النقيض، فينبغي أن
تكون العبارة هكذا: - إلا أنه لازم لما هو النقيض -، فتدبر.
343

حيث (1) إن نقيض ذلك الترك الخاص رفعه، وهو (2) أعم من الفعل
والترك الاخر المجرد (3)، وهذا (4) يكفي في إثبات الحرمة، وإلا
(5) لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا، لان (6)
344

الفعل أيضا (1) ليس نقيضا للترك، لأنه (2) أمر وجودي، ونقيض
الترك إنما هو رفعه (3)، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا، و
ليس عينه، فكما أن هذه الملازمة (4) تكفي في إثبات الحرمة لمطلق
الفعل، فكذلك تكفي في المقام (5)، غاية الامر (6): أن ما هو النقيض
في مطلق الترك إنما ينحصر مصداقه في
345

الفعل فقط. وأما النقيض للترك الخاص فله فردان (1)، وذلك (2) لا
يوجب فرقا فيما نحن بصدده (3)، كما لا يخفى.
قلت: وأنت خبير بما بينهما (4) من الفرق، فإن الفعل في
346

الأول (1) لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه
(2) تارة، ومع الترك المجرد (3) أخرى، ولا يكاد يسري حرمة
الشئ إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا (4).
نعم (5) لا بد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا (6) بحكم آخر على
خلاف
347

حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه. وهذا بخلاف الفعل في الثاني
(1)، فإنه بنفسه يعاند الترك المطلق، وينافيه، لا ملازم لمعانده و
منافيه، فلو لم يكن (2) عين
348

ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه (1) متحد معه عينا و
خارجا، فإذا (2) كان الترك واجبا، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه
قطعا، فتدبر جيدا.

[1] يشكل ذلك، لعدم كون الفعل نقيضا للترك، حيث إن المفروض أن
نقيضه رفع الترك، فليس الفعل نقيضا اصطلاحيا للترك. ودعوى
كون الفعل متحدا مع النقيض عينا وإن كان يغايره مفهوما، ويسري
حكم النقيض إلى ما يتحد معه خارجا غير مسموعة، لان عدم
الترك أمر عدمي، فلا يعقل أن يكون عين الوجود لما بين الوجود و
العدم من التعاند والتنافي.
فالأولى ما ذكره جملة من المحققين كالسبزواري: من جعل الرفع
بمعناه الأعم من الرافعية والمرفوعية، فإنه لا إشكال عندهم في كون
الوجود والعدم متناقضين، لوجود أثر التناقض - وهو امتناع
اجتماعهما وارتفاعهما - فيهما، وكذا ما يساوقهما من الايجاب و
السلب،
والثبوت والنفي. مع أن نقيض العدم والسلب والنفي رفعها، ومن
المعلوم: أنه ليس عين الوجود والايجاب والثبوت، هذا.
مضافا إلى: أن نفس عنوان التناقض الذي هو من العناوين المتكررة
النسبة كالتضاد، والتمانع، والتماثل، ونحوها يقتضي كون الفعل
عين نقيض الترك خارجا
349



ومفهوما، ضرورة أن صدق النسبة في أحد الطرفين يستلزم صدقها في
الطرف الآخر فصدق النقيض على الترك يوجب صدقه على
الفعل، فكل من الترك والفعل نقيض الاخر، على: أن موضوعات
الأحكام الشرعية هي المفاهيم العرفية غالبا، والعرف هنا حاكم بأن
فعل الصلاة ترك لتركها، فيحرم بوجوب تركها مقدمة للإزالة الواجبة.
نعم يمكن عدم جريان حكمه في فعل الصلاة بالنسبة إلى الترك
الخاص، لأنه يرى أيضا أن حكم الأعم لا يثبت للأخص، لعدم
تساويهما لا
مفهوما، ولا خارجا.
فالمتحصل: أنه لا ينبغي الاشكال في كون الفعل بنفسه نقيضا للترك،
كالعكس، فبناء على كون الامر بالشئ مقتضيا للنهي عن ضده
الشامل للنقيض يكون الفعل الذي يجب تركه لأجل المقدمية منهيا
عنه، فيبطل إذا كان عبادة، هذا.
لكن الذي يسهل الامر: أن الثمرة المزبورة - وهي: صحة العبادة بناء
على كون المقدمة الواجبة هي خصوص الموصلة -، وفسادها بناء
على وجوب مطلق المقدمة - ساقطة من أصلها، لكونها مترتبة على
مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الاخر، وهي غير ثابتة، كما سيأتي
توضيحه في مبحث الضد إن شاء الله تعالى.
وهناك ثمرات أخرى:
الأولى: أن المقدمة إذا كانت محرمة كالتصرف في الأرض المغصوبة
لأداء واجب، كإنقاذ غريق مؤمن، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة
- وإن لم تكن موصلة - ترتفع الحرمة، وتتصف بالوجوب وإن لم
يترتب عليها الواجب. وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة، أو
عدم
وجوب المقدمة مطلقا تبقى الحرمة على حالها، إلا إذا توصل بها إلى
الواجب.
أما في صورة عدم وجوب المقدمة، فلان ارتفاع الحرمة بالضرورة
المبيحة للمحظورات إنما يكون بقدرها، وهو خصوص السلوك
الموصل إلى الواجب النفسي كالانقاذ في المثال، دون غيره.
350



وأما في صورة وجوب خصوص المقدمة الموصلة، فالامر أوضح، لان
الفرد الواجب مقدمة للواجب النفسي هو خصوص السلوك الموصل
إلى الواجب النفسي، وما عداه يبقى على حرمته.
وأما على مسلك شيخنا الأعظم الأنصاري (قده): من وجوب
خصوص ما قصد به التوصل إلى الواجب النفسي، فارتفاع الحرمة في
المقدمة
المحرمة منوط بقصد التوصل، فلو لم يقصد الداخل في الأرض
المغصوبة الانقاذ الواجب لا يتصف سلوكه بالوجوب، بل يبقى على
حرمته.
الثانية: بطلان التيمم في سعة الوقت لغاية غير الفريضة الموسعة - بناء
على اعتبار الضيق في مشروعيته وعدم رجحانه النفسي - إذا لم
يترتب عليه الغاية المسوغة له، فإن عدم ترتبها عليه يكشف عن
بطلانه - بناء على المقدمة الموصلة -، فلو صلى به الفريضة ولو في
آخر
وقتها بطلت، ووجب قضاؤها. وكذا لو تيمم للفريضة عند ضيق
وقتها، ففاتته، فإن التيمم حينئذ باطل، لعدم ترتب غايته عليه.
وأما بناء على وجوب مطلق المقدمة، فيصح تيممه في الموارد
المذكورة.
الثالثة: صحة أداء وضوء ونحوه بقصد الوجوب عند اشتغال الذمة
بالغاية الواجبة، كفريضة أدائية أو قضائية وإن لم يكن إتيانه
بالوضوء مثلا لأداء تلك الغاية، بل لغاية مندوبة، كما إذا توضأ - و
الحال هذه - بقصد قراءة قرآن، أو دخول مسجد، أو غيرهما من
الغايات المستحبة بناء على وجوب مطلق المقدمة.
وأما بناء على وجوب خصوص الموصلة، فلا يجوز حينئذ قصد
الوجوب إلا إذا أتى به لأداء الغاية الواجبة، إلى غير ذلك من الثمرات
التي
فرعوها على نزاع وجوب مطلق المقدمة، وخصوص الموصلة،
فراجع البدائع، وحاشية المحقق التقي، وغيرهما.
351

ومنها [1 [1 تقسيمه إلى الأصلي والتبعي،
والظاهر (2) أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع
ومقام الثبوت، حيث يكون الشئ

[1] لا يخفى: أن الأنسب ذكر هذا التقسيم في ذيل الامر الثالث
المتضمن لاقسام الواجب، لا الامر الرابع المعقود لبيان تبعية وجوب
المقدمة - بناء على
352

تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا (1)، للالتفات (2) إليه بما هو عليه
(3) مما (4) يوجب طلبه، كان طلبه نفسيا أو غيريا. وأخرى متعلقا
للإرادة تبعا (5) لإرادة

القول به - لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط، وبيان سعة وضيق
دائرة موضوع الوجوب المقدمي، فلاحظ.
[1] هكذا في النسخة الموجودة لدي، والصواب: (ولكن تفترق عن
الوجوب التبعي) أو: (تفارق الوجوب التبعي).
353

غيره، لأجل كون إرادته (1) لازمة لإرادته (2) من دون التفات إليه بما
(3) يوجب إرادته (4)، لا بلحاظ (5) الأصالة والتبعية في مقام
الدلالة والاثبات (6)
354

فإنه (1) يكون في هذا المقام أيضا تارة مقصودا بالإفادة، وأخرى غير
مقصود بها على حدة إلا أنه (2) لازم الخطاب، كما في دلالة
الإشارة (3) ونحوها (4).
355

وعلى ذلك (1)، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما، واتصافه
(2) بالأصالة والتبعية كلتيهما [كليهما] حيث (3) يكون متعلقا
للإرادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدمة (4). وأخرى [1] لا
يكون متعلقا لها

[1] حق العبارة أن تكون هكذا: (حيث يكون تارة متعلقا للإرادة، و
أخرى لا يكون متعلقا لها)، إذ لو لم تكن العبارة كذلك لا يبقى عدل
لقوله: - وأخرى -.
[2] لكن فيه إشكال، لان المفاهيم سواء أكانت مخالفة أم موافقة
مقصودة بالخطاب على حد قصد المناطيق، غاية الامر أن إحدى
الدلالتين - وهي الدلالة المفهومية - في طول الأخرى، وغير خفي
أن الطولية لا تنافي كون كل من المدلولين مقصودا بالإفادة، فجعل
المفاهيم من قبيل دلالة الإشارة غير سديد.
356

كذلك (1) عند عدم الالتفات إليه كذلك (2)، فإنه (3) يكون لا محالة
مرادا تبعا لإرادة ذي المقدمة على الملازمة (4).
كما (5) لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالأصالة، ولكنه (6) لا
يتصف بالتبعية،
357

ضرورة (1) أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم يكن فيه مصلحة
نفسية، ومعها (2) يتعلق الطلب بها [1 [3 مستقلا ولو لم يكن
هناك شئ آخر مطلوب أصلا كما لا يخفى.
نعم (4) لو كان الاتصاف

[1] الصواب: تذكير الضمير، ليرجع إلى - النفسي -، لا تأنيثه ليرجع
إلى - مصلحة -، لان مقتضاه تعلق الطلب بالملاكات، وهو كما ترى.
358

بهما (1) بلحاظ الدلالة اتصف النفسي بهما (2) أيضا (3)، ضرورة أنه
(4) قد يكون غير مقصود بالإفادة، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها
(5).
لكن الظاهر كما مر (6): أن الاتصاف (7) بهما انما هو في نفسه (8)
359

لا بلحاظ حال الدلالة عليه، وإلا (1) لما اتصف بواحدة منهما (2) إذا
لم يكن بعد مفاد دليل، وهو كما ترى (. [1 [3
ثم إنه (4) إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة، فإذا
شك في واجب أنه أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به
يثبت أنه (5)

[1] لا بأس بعدم اتصاف الواجب النفسي المزبور بهما، كما هو لازم
ذهاب المحقق القمي وصاحب الفصول إلى كون الأصالة والتبعية
بحسب مقام الاثبات، فلا تسالم بينهم على اتصاف الواجب النفسي
بالأصالة دائما، وعدم خلو الواجب عنهما أبدا.
360

تبعي [1] يترتب عليه آثاره إذا فرض له (1) أثر شرعي (2)، كسائر
الموضوعات

[1] خلافا لما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) من: عدم ثبوت
الوجوب التبعي بالأصل المزبور، قال في التقريرات: (ثم إنه لو شك
في
أن الواجب أصلي أو تبعي، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به لا
يمكن إثبات الوجوب لو أريد بذلك ترتيب الآثار المترتبة على
الوجوب
التبعي، فيما إذا فرض له آثار سوى ما يترتب على عدم الإرادة، لما قرر
في محله، فتدبر في المقام والله هو الهادي).
ولا يخفى: أن ما أفاده (قده) من تحديد معنى الوجوب التبعي بعدم
تعلق إرادة مستقلة به يقتضي صحة ما في المتن من ثبوت الوجوب
التبعي بأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به.
إلا أن يقال: بفساده، لتضاد الإرادة الاستقلالية والتبعية، فيمتنع إثبات
إحداهما بنفي الأخرى كسائر الأضداد. فبأصالة عدم تعلق إرادة
مستقلة به لا تثبت الإرادة التبعية القهرية المقومة للوجوب التبعي، لان
إثبات أحد الضدين بنفي الاخر من أقوى الأصول المثبتة، ولذا بني
على التفكيك في الآثار بين ما يترتب على نفس عدم إرادة مستقلة و
بين ما يترتب على الإرادة القهرية بالترتيب في الأول، لكون عدم
الإرادة المستقلة بنفسه موضوعا لتلك الآثار، فتترتب عليه. وعدم
الترتيب في الثاني، لعدم كون الإرادة التبعية بنفسها موردا للأصل،
بل هي من لوازم عدم الإرادة المستقلة عقلا بعد العلم بتعلق أصل
الإرادة إجمالا. وعليه: فيخرج الوجوب عن الموضوع المركب الذي
يمكن إحراز بعض أجزائه بالأصل.
361

المتقومة بأمور عدمية (1). نعم (2) لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا
غير متقوم بعدمي (3) وإن كان يلزمه (4)، لما (5)

ويرد على ما في التقريرات: (من عدم ترتيب آثار عدم تعلق الإرادة
المستقلة) أنه - بناء على كون التبعية أمرا وجوديا - يقع التعارض
بين أصالة عدم تعلق إرادة مستقلة، وبين أصالة عدم تعلق إرادة قهرية،
فلا يثبت شئ من آثار هاتين الإرادتين، ولا وجه للتفكيك بين
آثارهما.
وبالجملة: فما في التقريرات لا يخلو من تهافت، لان الوجوب التبعي
إن كان عدميا بأن يكون ذلك عدم الإرادة الاستقلالية، فلا بد من
ترتيب آثار الوجوب التبعي على مجرد عدم الإرادة المستقلة المحرز
بالأصل. وإن كان وجوديا، فلا يثبت شئ من آثار الوجوب
الأصلي والتبعي، فراجع عبارة التقريرات وتدبر فيها.
362

كان يثبت بها (1) إلا على القول بالأصل المثبت، كما هو واضح، فافهم
(2).
363

تذنيب (1) في بيان الثمرة،
وهي: [1] في المسألة الأصولية كما عرفت سابقا ليست إلا أن يكون
نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد واستنباط (2)

[1] الضمير راجع إلى الثمرة، فإذا رجع ضمير - نتيجتها - إلى الثمرة
أيضا صارت العبارة هكذا: (والثمرة في المسألة الأصولية ليست إلا
أن تكون نتيجة الثمرة صالحة للوقوع في طريق الاستنباط)، وهذا كما
ترى لا محصل له، لان ثمرة المسألة الأصولية هي الحكم الفرعي
المترتب عليها. والمسألة الأصولية - على ما قيل - هي: كبرى قياس
الاستنباط، ولا معنى لوقوع نتيجة الثمرة التي هي الحكم الفرعي في
طريق الاستنباط.
وإرجاع ضمير - نتيجتها - إلى المسألة الأصولية، ليكون المعنى: (أن
الثمرة في المسألة الأصولية أن تكون نتيجة تلك المسألة صالحة
للوقوع. إلخ) خلاف الظاهر جدا، لكون العبارة مسوقة لبيان الثمرة، و
لذا يرجع الضمير في - ليست - إلى الثمرة، وكذا ضمير -
نتيجتها -.
ويمكن توجيه العبارة بأن يقال: إن الملازمة بين وجوب المقدمة و
ذيها بحث أصولي، وثمرة هذا البحث إذا كانت ثبوت الملازمة،
فنتيجة هذه الثمرة هي الوقوع في طريق الاستنباط.
وقد تقدم نظير هذا التعبير من المصنف (قده) في الصحيح والأعم،
فلاحظ ما علقناه عليه في ص 136 من الجز، والأول، وتأمل.
364

حكم فرعي، كما (1) لو قيل بالملازمة في المسألة (2)، فإنه (3)
بضميمة مقدمة كون شئ مقدمة لواجب يستنتج: أنه واجب.

[1] لا يخفى: أن هذه النتيجة من صغريات النتيجة الكلية الأصولية، و
هي: كل مقدمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها، لا أن القياس المزبور
ينتج وجوب المقدمة لتكون هذه النتيجة حكما كليا فقهيا مترتبا على
قياس مؤلف من صغرى وجدانية، وكبرى برهانية أصولية. كما أنه
لا يصح تأليف قياس بهذه الصورة:
(الوضوء مقدمة الواجب، وكل مقدمة الواجب واجبة) لينتج: وجوب
الوضوء، وذلك لان هذه الكبرى قاعدة فقهية، نظير: (ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده) وليست نتيجة للبحث الأصولي لتقع كبرى
قياس الاستنباط، بل نتيجته ثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدمة،
وبين وجوب مقدمته، أو عدم الملازمة. فالقياس المنتج للحكم الكلي
الفرعي هو أن يقال: (كل مقدمة يستلزم وجوب ذيها وجوبها، وكل
ما كان كذلك فهو واجب)، فينتج: وجوب كل مقدمة، فتكون المسألة
الأصولية - وهي الملازمة بين وجوب الواجب ووجوب مقدمته -
صغرى لقياس الاستنباط، لا كبرى له، كما اشتهر تحديد المسألة
الأصولية بذلك.
365

ومنه (1) قد انقدح: أنه ليس منها مثل بر النذر بإتيان مقدمة واجب
عند نذر الواجب، وحصول الفسق بترك واجب واحد بمقدماته إذا
كانت له مقدمات كثيرة، لصدق (2) الاصرار على الحرام بذلك (3). و
عدم (4) جواز أخذ الأجرة
366

على المقدمة.
مع (1) أن البر وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر، فلا بر بإتيان المقدمة

[1] وقد ذكروا أيضا من ثمرات المسألة: جعل الثواب والعقاب على
وجوب المقدمة، وعدمه. لكنك خبير بفساده، لان استحقاقهما إنما
هو بحكم العقل، وليس حكما شرعيا أصوليا يستنبط منه حكم كلي
فقهي.
367

لو قصد الوجوب النفسي، كما هو المنصرف عند إطلاقه (1) ولو قيل
بالملازمة (2) وربما يحصل البر به (3) لو قصد ما يعم المقدمة و
لو قيل بعدمها (4)، كما لا يخفى. [1]
ولا يكاد (5) يحصل الاصرار على الحرام بترك واجب ولو كانت له مقدمات

[1] لكن إذا قصد الناذر الواجب الشرعي مطلقا ولو كان غيريا يبنى
ترتب البر وعدمه على الخلاف في وجوب المقدمة شرعا وعدمه،
فتدبر.
368

غير عديدة، لحصول (1) العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه (2)
من الواجب، ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا، لسقوط
التكليف حينئذ (3)، كما هو واضح لا يخفى. [1]

[1] بل لا يخلو من خفاء، إذ المفروض كون سقوط الامر بالواجب و
مقدماته مستندا إلى العصيان المسقط لكل وجوب من النفسي و
الغيري، والموجب لكون ترك كل واحد في ظرفه عصيانا لامره،
فيتحقق الاصرار على الحرام القادح في العدالة.
ومع الاغماض عن هذا، وتسليم اختصاص العصيان بأول مقدمة من
مقدماته يرد عليه: أنه غير مطرد، بل يختص بالمقدمات التدريجية،
دون الدفعية، مع وضوح صدق الاصرار على تركها أيضا.
إلا إذا أريد من الاصرار: صدور المعاصي تدريجا، فلا يصدق الاصرار
على
369

وأخذ الأجرة (1) على الواجب لا بأس به إذا لم يكن إيجابه على المكلف

صدورها دفعة. لكنه غير سديد، لصدق الاصرار على ارتكاب
محرمات في آن واحد، كقتل جماعة دفعة بالكهرباء مثلا بلا إشكال،
فإن
الزمان في المحرمات التدريجية ليس قيدا، بل هو ظرف لها، فلا يتقوم
الاصرار بالزمان.
فالمتحصل: أنه - بناء على وجوب المقدمة - يحصل الاصرار
الموجب للفسق بترك واجب نفسي له مقدمات كثيرة، من غير فرق
في ذلك
بين دفعيتها وتدريجيتها.
نعم يمكن الاشكال على هذه الثمرة بأن الاصرار القادح في العدالة -
على ما يستفاد من الاخبار - يختص بالمخالفات الموجبة للعقوبة،
فترك الواجب الغيري مع الاصرار لا يوجب الفسق، لما تقدم من
بنائهم على عدم ترتب ثواب ولا عقاب على وجوب المقدمة.
هذا إذا لم يكن ترك الواجب النفسي معصية كبيرة، وإلا فلا تصل
النوبة إلى البحث عن تحقق الاصرار بترك المقدمات، وعدمه، وذلك
لكفاية ترك الواجب النفسي في حصول الفسق، ومعه لا حاجة إلى
التكلف لاثبات الفسق بترك المقدمات، لأجل انطباق عنوان الاصرار
عليه.
إلا أن يقال: إن الاصرار يتحقق قبل عصيان الواجب النفسي، لتقدم
المقدمات رتبة على ذيها تقدم العلة على المعلول، فالفسق يحصل
بالاصرار، لا بترك الواجب النفسي.
370

مجانا وبلا عوض (1)، بل كان وجوده المطلق (2) مطلوبا كالصناعات
الواجبة كفائيا [كفائية] التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد، ويختل
لولاها (3) معاش العباد، بل ربما يجب أخذ الأجرة عليها لذلك - أي
لزوم الاختلال -، وعدم الانتظام لولا أخذها (4)، هذا (5) في
الواجبات التوصلية.
371

وأما الواجبات التعبدية، فيمكن (1) أن يقال: بجواز أخذ الأجرة على
إتيانها بداعي امتثالها، لا على نفس الاتيان كي ينافي عباديتها،
فيكون (2) من قبيل
372

الداعي إلى الداعي [1] غاية الامر (1): يعتبر فيها (2) كغيرها (3) أن
يكون

[1] يمكن الاشكال عليه تارة: بكون أخذ الأجرة داعيا إلى ذات الفعل،
لان الداعي إلى مركب أو مقيد لا محالة يكون داعيا إلى كل جز من
أجزأ المركب، وإلى القيد، وذات المقيد من المقيد، فيكون أخذ الأجرة
داعيا إلى ذات المقيد وهو نفس الفعل، وإلى قيده. فلذات
الفعل
داعيان: أخذ الأجرة، والامر، فلا يقع ذات الفعل بدون داعوية الأجرة،
ومن المعلوم: منافاته لدعوة الامر. وأخرى: بأنه يعتبر في عبادية
العبادة كون قصد القربة علة تامة لايجادها، حتى يكون العمل عبادة، و
الاتيان بها إطاعة، فإذا كانت سببية الامر للإطاعة منوطة
بالأجرة لما كان قصد الامر علة تامة للفعل، بل علة ناقصة له، وهذا
مناف للتقرب المعتبر في العبادة.
وإن شئت فقل: إنه يعتبر أن يكون الامر مطلقا داعيا إلى الفعل، لا
مقيدا بشئ كبذل الأجرة، لان الامر حينئذ ليس علة تامة للإطاعة، إذ
المفروض دخل الأجرة في الامتثال، وداعوية الامر المتعلق بالعبادة،
فلا يستحق به على الشارع الامر به جزأ، لأنه نظير ما لو أمر زيد
عمرا بإطاعة بكر، فإن إطاعته لا توجب استحقاق عمرو جزأ على
بكر، لأنه لم يطعه، بل أطاع زيدا.
373

فيها منفعة عائدة إلى المستأجر، كيلا يكون المعاملة سفهية، وأخذ

وبالجملة: فتوجيه جواز أخذ الأجرة على العبادات بالداعي إلى
الداعي غير وجيه.
ولا يقاس أخذ الأجرة بالغايات المترتبة على العبادات بجعل إلهي،
كسعة الرزق ونحوها، وذلك لان سلسلة العلل إذا انتهت إلى الله
سبحانه وتعالى، فلا يخرج المعلول عن كونه عباديا. بخلاف ما إذا
انتهت إلى غيره عز شأنه، فإنه يخرج عن العبادية، لتركب العلة من
الداعي الإلهي وغيره.
والحاصل: أنه فرق واضح بين الاتيان بالصلاة لامره تعالى شأنه حتى
ينال بسعة الرزق، أو الولد الصالح، أو نحوهما، وبين الاتيان لأمر
الله عز وجل حتى يأخذ الأجرة من المخلوق، فإن الأول عبادة وإن لم
تكن عبادة الأحرار. بخلاف الثاني، فإنه ليس عبادة، لعدم كون
محرك العامل أمره تعالى، بل محركه هي الأجرة المنافية لقصد القربة.
374

فيما إذا كانت المقدمة محرمة، فيبتني (1) على جواز اجتماع الامر و
النهي، وعدمه (2)، بخلاف ما لو قيل بعدمها (3).
وفيه (4) أولا:
375

أنه لا يكون من باب الاجتماع كي تكون (1) مبنية عليه، لما (2) أشرنا
إليه غير مرة: أن الواجب (3) ما هو بالحمل الشائع مقدمة، لا بعنوان
المقدمة (4)، فيكون [1] 5 على الملازمة من باب النهي في العبادة و
المعاملة.

[1] بل الحق - كما أفاده المحقق النائيني (قده) على ما في تقريراته -
هو:
376



كون المقام من صغريات مسألة الاجتماع، لا مسألة النهي عن العبادة،
أو المعاملة.
تقريبه: أن صغروية المقدمة المحرمة لمسألة الاجتماع - بناء على
وجوب المقدمة - لا تتوقف على تعلق الطلب الغيري بعنوان
المقدمة،
بداهة كفاية انضمام عنوان ذي حكم تحريمي إلى عنوان ما هو مقدمة
بالحمل الشائع في تحقق صغرى من صغريات مسألة الاجتماع،
لانطباق عنوانين عليه. مثلا: المسير إلى الحج في أرض مغصوبة ينطبق
عليه عنوانان: أحدهما: السير، وهو واجب، لمقدميته للحج، و
الاخر: التصرف في مال الغير بدون إذنه، وهو حرام، فيندرج هذا
السير باعتبار العنوانين المزبورين في باب اجتماع الأمر والنهي.
نعم إذا فرض تعلق النهي بنفس ما ينطبق عليه عنوان المقدمة، كما إذا
تعلق النهي بنفس عنوان الوضوء الذي هو مقدمة، كان ذلك من
صغريات مسألة النهي عن العبادة أو المعاملة، وأجنبيا عن مسألة
الاجتماع.
وبالجملة: فصغروية المقدمة المحرمة - بناء على وجوب المقدمة -
لكبرى مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تنافي كون عنوان المقدمة من
الجهات التعليلية، فتصح هذه الثمرة ولو بنحو الايجاب الجزئي.
والاشكال عليه: بما في حاشية العلامة الأراكي (قده): (من عدم تعدد
العنوان حتى يندرج المقدمة المحرمة في مسألة الاجتماع، بل متعلق
الوجوب والحرمة فيها واحد، فتكون من صغريات النهي عن العبادة،
أو المعاملة. توضيحه: أن من المعلوم كون المقدمة عنوانا مشيرا إلى
ما يكون بخصوصيته الوجودية كالوضوء للصلاة، والطواف الواجب،
والسير للحج مقدمة للواجب. وأما متعلق النهي، فهو وإن كان نفس
الطبيعة على ما هو شأن القضايا الحقيقية، لكن لا بما هي هي، بل بما
هي مرآة للخارج، فيكون متعلق النهي نفس السير، أو الوضوء مثلا
الذي
377



هو المقدمة أيضا، فمتعلق الأمر والنهي نفس السير، وهو واحد، و
ليس هذا إلا صغرى من صغريات النهي عن العبادة، أو المعاملة، فما
أفاده في الكفاية متين، دون ما في التقرير المنسوب إلى المحقق
النائيني قده) مما لا يمكن المساعدة عليه:
أما أولا: فلان حمل العناوين المأخوذة في حيز الخطابات على
المشيرية دون الموضوعية يوجب لغوية تلك العناوين، وعدم إناطة
الاحكام بها، وهو خلاف ظاهرها من الموضوعية.
وأما ثانيا: فلاستلزامه إنكار القضايا الحقيقية في الشرعيات،
لصيرورتها حينئذ من القضايا الخارجية.
وأما ثالثا: فلاستلزامه اعتبار قصد القربة بالنسبة إلى الخصوصيات و
اللوازم الوجودية التي يتوقف عليها وجود العبادة، حيث إن
الشئ ما لم يتشخص لم يوجد، فيجب نية القربة في كل خصوصية
من زمان ومكان، وغيرهما في الصلاة مثلا، إذ المفروض وقوع جميع
اللوازم الوجودية في حيز الخطاب، مع أنه تشريع محرم قطعا.
وتوهم: أن الموجب للالتزام بكون الطبائع مرائيا للأفراد الخارجية، و
أن متعلقات الاحكام حقيقة هي نفس الافراد هو: قيام المصالح و
المفاسد التي هي دواعي التشريع بالافراد الخارجية، لا بالطبائع من
حيث هي هي، فاسد، لان الملاكات الداعية إلى التشريع قائمة
بوجودات الطبائع مع الغض عن اللوازم الوجودية وإن كانت هي علة
لتلك الوجودات، لكنها غير ملحوظة في مقام التشريع. وسيأتي
مزيد توضيح له في مسألة تعلق الاحكام بالطبائع أو الافراد إن شاء الله
تعالى.
378

وثانيا (1): لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا، لاختصاص (2) الوجوب بغير
المحرم في غير صورة الانحصار به (3). وفيها (4) اما لا وجوب
للمقدمة، لعدم وجوب
379

ذي المقدمة، لأجل المزاحمة (1). وإما لا حرمة لها لذلك (2)، كما لا
يخفى.
وثالثا (: [1 [3 أن الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل بالمقدمة

[1] قد حكى عن بعض أعاظم تلامذة المصنف قدس سرهما: أن
الماتن قد ضرب في الدورة الأخيرة من البحث على الايراد الثاني، و
جعل
الايراد الثالث مكانه ولذا قال: (وثانيا ان الاجتماع وعدمه لا دخل له
في التوصل بالمقدمة المحرمة. إلخ) ولا بأس بما صنعه (قده)، إذ
لا وجه لاختصاص الوجوب بغير المحرم في صورة عدم الانحصار إلا
عدم جواز الاجتماع، فالأولى إسقاط الايراد الثاني، فتدبر.
380

المحرمة وعدمه أصلا، فإنه (1) يمكن التوصل بها إن كانت توصلية و
لو لم نقل بجواز الاجتماع، وعدم (2) جواز التوصل بها إن كانت
تعبدية على القول بالامتناع، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه، وجواز
(3) التوصل بها على القول بالجواز كذلك أي: قيل بالوجوب أو
بعدمه.
381

و بالجملة: لا يتفاوت الحال في جواز التوصل (1) بها، وعدم جوازه
أصلا بين أن يقال بالوجوب، أو يقال بعدمه [1] كما لا يخفى.

[1] لا يخفى أنه إن كان غرض الوحيد البهبهاني (قده) مجرد جعل
المقدمة المحرمة - بناء على وجوبها - من صغريات كبرى اجتماع
الأمر والنهي، فلا يرد عليه هذا الاشكال الثالث، بداهة إناطة صغروية
المورد لتلك الكبرى بوجوب المقدمة.
وإن كان غرضه (قده) من الثمرة المذكورة: تفريع الغرض من المقدمة
- وهو التوصل بها إلى ذيها - على القول بوجوبها، فإشكال
المصنف وارد عليه، لوضوح عدم توقف التوصل بالمقدمة المحرمة
على القول بوجوبها، كما عرفت.
ولم أظفر إلى الان بعبارة الوحيد، ولكن حكي عنه: أن غرضه من
الثمرة المذكورة هو الشق الثاني، فإن كان كذلك، فإشكال المصنف
عليه في محله.
إلا أن يقال: بمقالة جماعة - بل المشهور - من جعل مناط المقربية في
المقدمات العبادية كالطهارات الثلاث الوجوب الغيري، فإنه على
هذا التقدير تترتب الثمرة أيضا على القول بجواز الاجتماع، ضرورة أن
عبادية المقدمة منوطة بقصد الوجوب الغيري، فلو لم تكن
المقدمة واجبة امتنع الاتيان بها بقصد القربة، فظهرت الثمرة وهي: أن
المقدمة المحرمة يمتنع إيجادها عبادة إلا على القول بوجوبها -
بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي -، كما لا يخفى.
382

في تأسيس الأصل في المسألة
اعلم: أنه لا أصل (1) في محل البحث (2) في المسألة، فإن (3) الملازمة
383

بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة، بل تكون
384

الملازمة، أو عدمها أزلية (1). نعم (2): نفس وجوب المقدمة يكون
مسبوقا بالعدم (3)، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة،
فالأصل عدم وجوبها.
وتوهم (4) عدم جريانه، لكون وجوبها على الملازمة من قبيل لوازم
385

الماهية غير مجعولة (1)، ولا أثر آخر [1] مجعول مترتب عليه (2)، و
لو كان (3)
كالمقام، حيث إن وجوب المقدمة يكون من لوازم وجوب ذيها، ومن

[1] الأولى: إسقاط هذه الكلمة كما لا يخفى وكما أن حق العبارة أن
تكون هكذا: (ولا مما يترتب عليه أثر مجعول)، ليتحصل منها: أن
وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهية التي لا تكون مجعولة، ولا
موضوعا لمجعول شرعي، فلا يجري فيه الاستصحاب.
386

لم يكن بمهم هاهنا (1)، مدفوع (2) بأنه (3) وإن كان غير مجعول
بالذات (4)، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة، ولا بالجعل
التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة، إلا أنه (5) مجعول بالعرض [1] و
بتبع [ويتبع] جعل وجوب ذي

[1] لا يخفى: أن تسليم جعل وجوب المقدمة بالنسبة إلى وجوب ذيها
من قبيل لوازم الماهية ليكون وجوبها بالعرض والمجاز في حيز
المنع، وذلك لما عرفت من أن لازم الماهية لا وجود له غير وجودها،
ولذا لا جعل له أيضا غير جعلها.
بخلاف المقدمة، فإن إرادتها مغايرة وجودا لإرادة ذيها، وليست إرادة
المقدمة من قبيل لازم ماهية إرادة ذيها، لتعدد الإرادة المتعلقة
بهما بالضرورة، ومع تعدد الوجود الذي يشهد به علية إحدى
الإرادتين للأخرى لا بد من تعدد الجعل.
387



نعم جعل وجوب المقدمة تبعي، لأنه تابع لوجوب ذيها. نظير الملكية
للنتاج، فإن مالك الأصول يملك النتاج تبعا لملكية الأصول.
وبالجملة، فالحق: افتراق وجوب المقدمة عن لوازم الماهية كزوجية
الأربعة، وعدم ارتباطه بها، وعدم مجال للتوهم المزبور حتى
يحتاج إلى التكلف في دفعه.
ولو بني على كون وجوب المقدمة من قبيل لوازم الماهية، فلا يجدي
جواب المصنف (قده): (من كون وجوب المقدمة مجعولا بالجعل
العرضي) ضرورة أن الجعل العرضي الثابت للمقدمة ليس جعلا
حقيقة، لصحة سلبه عنه قطعا. والجعل الحقيقي لها منتف يقينا، ولا
شك
فيه حتى يجري فيه الأصل الذي موضوعه متقوم بالشك، إذ
المفروض عدم قابلية لوازم الماهية للجعل المستقل.
والحاصل: أن الجعل العرضي ليس جعلا، والحقيقي منه مقطوع
العدم، لعدم قابلية المورد له، فلا مجرى لأصالة العدم. هذا بناء على
كون
وجوب المقدمة لوجوب ذيها من قبيل لوازم الماهية.
وكذا الحال بناء على كونه من قبيل لوازم الوجود، لان وجوب المقدمة
على هذا تبعي، فنقطع بوجوبها التبعي.
فالمتحصل: أنه لا أصل يجري في الملازمة التي هي جهة أصولية، ولا
في وجوب المقدمة الذي هو جهة فقهية. هذا كله في أصالة العدم
المراد بها الاستصحاب.
وإن أريد بها: أصالة البراءة، فكذلك أيضا. أما البراءة العقلية، فلأنها
تجري لدفع العقاب المحتمل، ومن المعلوم: أنه في المقام معلوم
العدم، لاتفاقهم على عدم ترتب العقوبة على ترك المقدمة، كعدم
ترتب المثوبة على فعلها. وإنما العقاب على ترك الواجب النفسي
المؤدي إليه ترك المقدمة.
وأما البراءة النقلية، فلأنها تجري في مقام الامتنان المستلزم لرفع
استحقاق
388

المقدمة، وهو (1) كاف [1] في جريان الأصل ولزوم (2) التفكيك بين
الوجوبين مع الشك لا محالة (3)، لأصالة (4) عدم

العقوبة. وبعبارة أخرى: شأن البراءة النقلية المستفادة من حديث الرفع
ونحوه:
إثبات الترخيص والتوسعة ليكون المكلف في سعة وأمان من
العقاب، وقد عرفت:
القطع بعدم المؤاخذة على ترك المقدمة، فلا أثر عملا لأصالة البراءة
في مسألة المقدمة أصلا.
[1] بل غير كاف في جريانه، كما عرفت.
389

وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة لا ينافي (1) الملازمة بين
الواقعيين، وإنما ينافي (2) الملازمة بين الفعليين. نعم (3) لو كانت
الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في مرتبة الفعلية لما صح التمسك
بالأصل (4)، كما لا يخفى.
390

إذا عرفت ما ذكرنا، فقد تصدى غير واحد من الأفاضل لإقامة البرهان
على الملازمة، وما أتى منهم بواحد (1) خال عن الخلل، والأولى
إحالة ذلك إلى الوجدان (2) حيث إنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا
أراد شيئا له مقدمات أراد تلك المقدمات لو التفت إليها [1] بحيث
ربما يجعلها في قالب الطلب مثله (3)، ويقول مولويا:

[1] لا يخفى: أن وجوب المقدمة بمعنى اللابدية العقلية، وبمعنى
الوجوب العرضي الذي هو إسناد الوجوب النفسي إلى ذي المقدمة
حقيقيا
أوليا، وإلى المقدمة عرضيا ثانويا، نظير إضافة الجعل إلى نفس الماهية
حقيقة، وإلى لوازمها مجازا، ليس محل النزاع بين المحققين، إذ
الوجوب العقلي مقوم للمقدمية، فإنكاره مساوق لانكار المقدمية. و
كذا الوجوب العرضي - بناء على كون وجوب
391

- ادخل السوق واشتر اللحم - مثلا، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب
- ادخل - مثل المنشأ بخطاب - اشتر - في كونه (1) بعثا مولويا [1]
وأنه حيث تعلقت إرادته (2)

المقدمة من قبيل لوازم الماهية -، فإنه أيضا خارج عن مورد النزاع،
لان إنكاره يرجع إلى إنكار كونه من اللوازم.
فالوجوب المبحوث عنه دائر بين نحوين:
أحدهما: الوجوب الشرعي الأصلي - كما في القوانين - حيث قال
(قده):
(الوجوب المتنازع فيه هو الوجوب الشرعي) إلى أن قال: (والمراد من
الوجوب الشرعي هو الأصلي الذي حصل من اللفظ، وثبت من
الخطاب قصدا. وبالجملة:
النزاع في الخطاب بالكون على السطح هل هو تكليف واحد وخطاب
بشئ واحد، أو تكليفات وخطاب بأمور: أحدها: الكون، والثاني:
نصب السلم والتدرج بكل درجة درجة، وغيرهما) انتهى كلامه رفع
مقامه.
وظاهره: إرادة الوجوب الاستقلالي في مقابل الوجوب الضمني
الثابت لأجزأ المركب، كما لا يخفى، وإن كان ظاهر عبارة الفصول
خروجه أيضا عن محل النزاع، حيث قال: (كذلك لا نزاع في عدم تعلق
الخطاب الأصلي بها، بحيث يكون الخطاب بالشئ خطابا به و
بمقدمته، لظهور أن معنى - افعل - ليس إلا طلب الفعل فقط، دون
ذلك مع طلب مقدماته).
ثانيهما: الوجوب التبعي المترشح من وجوب ذي المقدمة. والفرق
بين هذا وما قبله هو: أن مختار المحقق القمي (قده) موقوف على
الالتفات إلى المقدمية، كما لا يخفى وجهه. بخلاف الوجوب التبعي،
فإنه لا يتوقف على ذلك، بل يجتمع مع القطع بعدم المقدمية أيضا.
[1] في كونه مولويا غموض، لان كل حكم عقلي يقع في سلسلة
392



معلولات الأحكام الشرعية فاقد لجهة المولوية، لما تقرر في محله: من
كون حسن الإطاعة عقليا محضا ليس فيه شائبة المولوية، لفقدان
ملاكها، ولو ورد أمر من الشارع في هذه السلسلة، فيحمل لا محالة
على الارشاد إلى حكم العقل. وفي المقام لا إشكال في أن المقدمة لا
مطلوبية لها بالذات، وإنما هي مطلوبة لتوقف امتثال أمر ذي المقدمة
على إيجادها، فلا حسن لها ذاتا حتى يعرضها أمر مولوي.
وبعبارة أخرى: إنما تتصف المقدمة بالحسن والمطلوبية بعد مطلوبية
ذيها، فحسنها معلول لحسن ذيها، وكذا إرادتها والامر بها،
فالمقدمة في جميع هذه المراحل تابعة لذيها، فوجوب المقدمة لا
محالة يكون من شؤون وجوب الإطاعة عقلا.
ولا يمكن أن يكون مولويا، لا مستقلا، ولا تبعا. ولو أمر به الشارع
أحيانا كان إرشادا إلى حكم العقل، كقوله تعالى: (أطيعوا الله و
أطيعوا الرسول وأولي الامر منكم).
فالمتحصل: أن المقدمة - لكون الغرض منها التوصل بها إلى الواجب
النفسي - يندرج طلبها والامر بها في سلسلة معلولات الاحكام التي
لا تقبل المولوية.
ومن هنا يظهر: ما في الوجدان المزبور من الاشكال، لان مجرد إرادة
المولى للمقدمات، بل والامر بها لا تدل على وجوب المقدمة
مولويا، بل الامر والإرادة تابعان لإرادة الواجب النفسي، ومترتبان
عليها. وكلما يقع في سلسلة معلولات الاحكام لا يكون فيه مجال
للمولوية، بل هو مسرح حكم العقل.
فعدم المولوية إنما هو لعدم قابلية المورد لها، لا لأجل اللغوية - كما
في بعض التقريرات - إذ يمكن دفع اللغوية بصحة التقرب به، و
بترتب الثواب والعقاب عليه، وبصيرورة تارك المقدمات فاسقا. و
بظهور الثمرة في النذر، ونحو ذلك، هذا.
وقد ظهر مما ذكرنا من عدم قابلية المقدمة للامر المولي: أن ما في
بعض تقريرات شيخنا المحقق العراقي (قده) من: (أن حكم العقل
بالاتيان من
393

بإيجاد عبده الاشتراء ترشحت منها (1) له إرادة أخرى بدخول السوق
بعد الالتفات إليه، وأنه (2) يكون مقدمة له (3) كما لا يخفى.
ويؤيد (4) الوجدان، بل يكون من أوضح البرهان: وجود الأوامر
الغيرية

باب اللابدية لا يوجب اضمحلال ذلك الوجوب الغيري المترشح من
ذي المقدمة، فإنه بذلك يزداد توسعة في كيفية التقرب، فلو أتى به
العبد بدعوة ذلك الامر يحصل له التقرب في مقام الإطاعة، فلم يكن
تعلقه بالمقدمة خاليا عن الفائدة) لا يخلو من الغموض، إذ ليس
الاشكال في وجوب المقدمة مولويا من ناحية اللغوية، وعدم الفائدة
حتى يدفع ذلك بما أفاده، بل الاشكال إنما هو من ناحية عدم قابلية
المورد للامر المولوي، كما عرفت.
394

في الشرعيات، والعرفيات (1)، لوضوح أنه (2) لا يكاد يتعلق بمقدمة
أمر غيري إلا إذا كان فيها (3) مناطه، وإذا كان فيها كان في مثلها،
فيصح (4) تعلقه به أيضا (5)
395

لتحقق (1) ملاكه، ومناطه. [1]

[1] لا يخفى: أن جعل هذا الوجه مؤيدا أولى من جعله برهانا فضلا عن
كونه من أوضح البرهان، وذلك لأنه مبني على مقدمات ظنية، مع
أن المسألة عقلية.
إحداها: كون الامر بالمقدمات الواقعة في حيزه مولويا، وهذا ظهور لا
يفيد القطع.
ثانيتها: كون تمام الملاك في المولوية هو المقدمية، دون غيرها.
ثالثتها: خلو المقدمات التي لم يتعلق بها أمر غيري عن موانع تعلق
الامر المولوي بها حتى يؤثر ملاك المقدمية في جعل الامر المولوي
لها.
ولا سبيل إلى القطع بعدم المانع. كما أنه لا طريق إلى العلم بمولوية
الامر المتعلق بالمقدمات، ضرورة أن الظهور لا يوجب القطع.
كما أن المقدمة الثانية غير قطعية أيضا، لاحتمال وجود ملاك آخر مع
مناط المقدمية أوجب ذلك الملاك مولويته. فالعلم بكون المقدمية و
التوقف علة تامة لمولوية الامر الغيري غير حاصل، لكون المقدمات
جلها بل كلها ظنية، هذا.
ولا يصغى إلى ما في حاشية العلامة الأراكي (قده) على المتن من: (أن
حصول القطع بهذه المقدمات الثلاث خفيف المئونة لمن مارس
مواقع الأوامر الصادرة عن الموالي العرفية، وراجع ما يصدر من نفسه
من الأوامر الغيرية، ولو حصل الشك في واحد ضم إليه واحدا بعد
واحد حتى يحصل له القطع بالمولوية وبملاكه، وباطراده في جميع
الموارد. وليس هذا من باب الاستقراء الناقص المفيد للظن، بل من
باب إحراز المناط التام الساري ولو كان حاصلا من الاستقراء، وليس
ذلك بعزيز، فإن إحراز الطبائع والغرائز في العلم الطبيعي
كالميل بالطبع، والميل بالقسر، ونحوهما إنما يكون طريقه مقصورا
على الاستقراء، كما لا يخفى على المتدرب).
396

والتفصيل بين السبب وغيره (1)، والشرط الشرعي وغيره (2) سيأتي

وذلك لان ظهور الأوامر في المولوية وإن كان مما لا ينكر، كما أن بناء
العقلا على حجية الظواهر أيضا مما لا يقبل الانكار، لكن لا
ينبغي الارتياب في عدم كون الظاهر كاشفا قطعيا عن الواقع حتى
يكون مجديا في المسألة العقلية.
هذا في المقدمة الأولى.
وكذا الحال في الثانية والثالثة، فإن دعوى القطع بالعلية التامة في
الأوامر المولوية الشرعية دون إثباتها خرط القتاد، لعدم إحاطتنا
بملاكات الاحكام التعبدية إلا ببيان العالم بها. ولو أدرك العقل أحيانا
شيئا من ملاكاتها كان مدركا لما له دخل في الحكم الشرعي. و
أما كون ذلك المدرك علة تامة له، فمما لا سبيل للعقل إلى إحرازه.
فدعوى ذلك ليست إلا تخرصا بالغيب وفرية بلا ريب.
ومن هنا يظهر: ضعف قياس المقام بالأوامر الغيرية الصادرة من
الموالي العرفية، وبمسائل سائر العلوم مما يمكن إحراز مناطه
بالبرهان المؤلف من اليقينيات، وذلك لان الأحكام الشرعية مبنية
على ملاكات خفية لا تنالها أيدي العقول، ولا تحرز إلا ببيان العالمين
بها من آل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين. فكيف يحصل من ضم
واحد بعد واحد القطع بالمولوية، وبملاكه، مع الاطراد في الموارد
المشكوكة وهل هذا إلا القياس المسدود بابه في مذهبنا؟ فالمقايسة
المزبورة كما ترى.
فقد اتضح من جميع ما ذكرنا: أن التعبير عما أفاده الميرزا الكبير
بالتأييد أولى من عده من أوضح البراهين.
397

بطلانه (1)، وأنه (2) لا تفاوت [لا يتفاوت] في باب الملازمة بين
مقدمة ومقدمة.
ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالأصل (3) لغيره (4) مما ذكره الأفاضل

[1] قال في الكنى والألقاب ص 50: (أبو الحسين البصري محمد بن
علي الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة، وهو أحد أئمتهم
الاعلام المشار إليه في هذا الفن، له تصانيف منها المعتمد في الفقه، و
هو كتاب كبير. أخذ منه فخر الدين الرازي كتاب المحصول. توفي
ببغداد سنة 436 (تلو). قال ابن خلكان: ولفظة (المتكلم) تطلق على
من يعرف علم الكلام، وهو أصول الدين، وإنما قيل له علم الكلام،
لان أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عز وجل أمخلوق هو،
أم غير مخلوق، فتكلم الناس فيه، فسمي هذا النوع من العلم كلاما).
398

من الاستدلالات، وهو ما ذكره أبو الحسن البصري [1 [1 وهو (2):
(أنه

[1] قال في الكنى والألقاب ص 45: (أبو الحسن الأشعري علي بن
إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن
موسى بن بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري، تقدم ذكر جده أبي
بردة. ويأتي ذكر أبي موسى بعد ذلك، كان مولده بالبصرة و
منشؤه ببغداد وهو إمام الأشاعرة، وإليه تنسب الطائفة الأشعرية توفي
سنة 334، ودفن بين الكرخ وباب البصرة. قال ابن شحنة في
روضة الناظر: في سنة 329 توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي
بشر الأشعري، ودفن ببغداد بشرعة الزوايا، ثم طمس قبره خوفا
أن تنبشه الحنابلة، فإنهم كانوا يعتقدون كفره، ويبيحون دمه، وذكر: أن
أبا علي الجبائي كان زوج أمه).
399

لو لم يجب المقدمة، لجاز تركها، وحينئذ (1) فإن بقي الواجب على
وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق (2)، وإلا (3) خرج الواجب المطلق
عن كونه واجبا).
وفيه: - بعد إصلاحه (4)
400

بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي (1) في الشرطية الأولى، لا (2)
الإباحة الشرعية، وإلا (3) كانت الملازمة واضحة البطلان، وإرادة
(4)
401

الترك [1] عما أضيف إليه الظرف (1)، لا نفس الجواز [2] وإلا فمجرد
الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهم معه صدق القضية الشرطية
الثانية - ما (2) لا يخفى،

[1] هذا ما احتمله المحقق السبزواري على ما نسب إليه في تقريرات
الشيخ.
[2] هذا ما احتمله صاحب المعالم (قده).
402

فإن [1 [1 الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى (2)
الشرطيتين، ولا يلزم [منه 3 (] أحد المحذورين، فإنه (4) وإن لم
يبق [2] له وجوب

[1] هذا مذكور في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) في مقام رد المحقق
السبزواري، قال المقرر: (والظاهر: أن مجرد الترك لا يلازم
اللازمين المذكورين، إذ الترك على تقدير الوجوب بمنزلة ترك نفس
الواجب، فيختار ارتفاع التكليف، ولا يلزم خروج الواجب عن
كونه واجبا، لان ارتفاعه إما بالامتثال، أو بتحقق المعصية، وهذا
الوجوب إنما يرتفع بواسطة تحقق العصيان).
وحاصله: أن ارتفاع التكليف بالعصيان كارتفاعه بالإطاعة أجنبي عن
انقلاب الوجوب المطلق إلى المشروط الذي هو مناط الخلف
المذكور في الدليل المعبر عنه بخروج الواجب المطلق عن كونه
واجبا، وذلك لاستحالة تقيد التكليف بامتثاله كامتناع تقيده بعصيانه،
إذ يلزم من التقييد بهما طلب الحاصل، واجتماع النقيضين على
التفصيل المتقدم في مبحث التعبدي والتوصلي.
[2] لا يخفى أن هذا التعبير خلاف ما يقتضيه سوق البيان، لان غرضه
من قوله: (فإنه وإن لم يبق له وجوب. إلخ) دفع توهم، وهو: أن
ارتفاع وجوب
403

معه (1)، إلا أنه كان ذلك (2) بالعصيان، لكونه (3) متمكنا (4) من
الإطاعة والآتيان، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره، مع
حكم العقل بلزوم إتيانها إرشادا [1] إلى ما في تركها من العصيان (5)
المستتبع للعقاب.

ذي المقدمة بالعصيان عين المحذور أعني: خروج الواجب المطلق
عن كونه واجبا، فهذا اعتراف بترتب هذا المحذور على ترك المقدمة
المفروض عدم المنع عنه شرعا، ولازم هذا المحذور الالتزام بوجوب
المقدمة.
هذا ملخص التوهم، ولم يذكره المصنف قبل ذلك حتى يدفعه بقوله:
(فإنه وإن لم يبق. إلخ)، فالصواب أن تكون العبارة هكذا: (ولا
يلزم منه أحد المحذورين لارتفاع التكليف بالعصيان، وليس هذا
خروج الواجب المطلق عن الوجوب، لوضوح الفرق بينه وبين سقوط
التكليف بالإطاعة، أو العصيان)، فتدبر.
[1] هذا اعتراف من المصنف (قده) بكون أمر المقدمة إرشاديا، إذ لا
مصلحة فيها إلا امتثال أمر ذي المقدمة، فلو تركها لا يترتب على
تركها غير عصيان أمر ذيها
404

نعم (1): لو كان المراد من الجواز (2) جواز الترك شرعا وعقلا يلزم
أحد المحذورين (3)، إلا أن الملازمة (4) على هذا (5) في الشرطية
الأولى (6) ممنوعة (7)، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون
جائزا شرعا وعقلا،

الموجب لاستحقاق العقوبة. وهذا الاعتراف ينافي ما أفاده سابقا من
قوله: (والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان. إلخ)، لان غرضه من
التمسك بالوجدان إثبات الوجوب المولوي للمقدمة، فلاحظ وتأمل.
405

لامكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا وإن كان واجبا [1] عقلا
إرشادا، وهذا واضح.
وأما التفصيل بين السبب وغيره (1)،
فقد استدل على وجوب السبب بأن (2)

[1] الأولى أن يقال: (واجبة) وكذا تأنيث الضمائر التي قبله، لرجوعها
إلى (المقدمة) وإن كان الامر في التذكير والتأنيث سهلا.
406

التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور، والمقدور لا يكون إلا هو السبب،
وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا، ولا يكون (1) من
أفعال المكلف وحركاته أو سكناته، فلا بد (2) من صرف الامر
المتوجه إليه عنه إلى سببه (3).
ولا يخفى ما فيه [1] من أنه (4) ليس بدليل على التفصيل، بل على

[1] هذا ثالث الأجوبة التي ذكرها في البدائع.
407

أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب، دون المسبب. مع [1 [1 وضوح

[1] هذا ما ذكره جماعة منهم صاحب المعالم، وجعله في البدائع أول
الأجوبة.
ولا يخفى أن الأنسب تقديم الجواب الثاني على الأول بأن يقال: (إن
في الاستدلال المزبور: أولا: عدم تماميته في نفسه، لابتنائه على
عدم مقدورية المسبب وهو فاسد، لكونه مقدورا مع الواسطة، فلا
وجه لصرف الامر المتعلق بالمسبب إلى السبب، بل المسبب واجب
نفسي، ويكون مقدمته التي هي سبب كسائر المقدمات من الشرط و
غيره داخلة في محل النزاع من دون خصوصية للمقدمة التي هي
سبب.
وثانيا: - بعد تسليم عدم مقدورية المسبب - أجنبيته عن المدعي،
لان مقتضى الدليل كون وجوب السبب نفسيا، وهو غير الوجوب
الترشحي التبعي المبحوث عنه.
وثالثا: أن الدليل المزبور لو تم لجرى أيضا في الجز الأخير من
الشروط، كما لا يخفى). وقد عد هذا الوجه في البدائع ثاني الأجوبة.
بل مقتضى الدليل المذكور: وجوب كل فعل مباشري سواء أكان سببا،
أم شرطا، أم معدا، لكون الجميع مقدورا بلا واسطة.
408

فساده، ضرورة أن المسبب مقدور للمكلف، وهو متمكن عنه بواسطة السبب،

ثم إن تحرير التفصيل بين السبب وغيره على ما في المتن، وسائر
الكتب الأصولية ليس تفصيلا في الوجوب الترشحي بين المقدمة التي
هي سبب، وغيرها، بوجوب الأولى دون غيرها، بل مرجعه إلى إنكار
وجوب المقدمة رأسا، أما السبب، فلكونه واجبا نفسيا، وأما غيره،
فلانكار الملازمة. فالمفصل بين السبب وغيره منكر حقيقة لوجوب
المقدمة مطلقا، لا مفصل بين السبب وغيره.
وتحرير التفصيل على ما أفاده الشيخ المحقق الأصفهاني (قده) في
حاشيته على المتن بقوله: (بل الصحيح في تحرير التفصيل إما بالقول
بوجوب غير المقدمة التي هي سبب، لعدم المحذور، وبعدم وجوب
السبب مقدميا، حيث لا وجوب لمسببه، ووجوبه نفسيا لا دخل له
بمورد التفصيل، وهو الوجوب المقدمي. وإما بأن يحرر النزاع في
وجوب المقدمة في خصوص غير المقدمة التي هي سبب، فإن
المقدمة
التي هي سبب لا يعقل وجوب مسببها حتى يتكلم في الملازمة بين
وجوبه ووجوبها).
وإن كان متينا في نفسه، لكنه أجنبي عن موضوع كلام المفصلين،
لتصريحهم بوجوب المقدمة التي هي سبب، دون غيرها من
المقدمات.
فحمل كلامهم على وجوب غير المقدمة التي هي سبب، لعدم
المحذور، وعدم وجوب السبب مقدميا، إذ لا وجوب لمسببه حتى
يترشح منه
وجوب مقدمي على سببه مناف لتصريحهم بعدم وجوب غير
المقدمة التي هي سبب، واختصاص الوجوب الغيري بالسبب.
وكذا حمل كلامهم على كون موضوع النزاع عندهم في وجوب
المقدمة خصوص غير المقدمة التي هي سبب، وأما هي، فلا يعقل
وجوب
مسببها حتى يتكلم في الملازمة بين وجوبه ووجوبها. فإن ذلك كله
خلاف تصريحاتهم بتعميم محل النزاع في وجوب المقدمة لجميع
المقدمات، وبيان مصب الأقوال.
409

ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة، كانت بلا واسطة (1) أو معها
(2)، كما لا يخفى.
وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره (3)،
فقد استدل على الوجوب في الأول: بأنه لولا وجوبه (4)

فإن أراد (قده) تحرير ما هو محل النزاع بين القوم، فذلك توجيه لا
يتحمله كلامهم. وإن أراد (ره) تحريره على وجه يصح في نظره وإن
لم يكن مرتبطا بكلامهم، فلا بأس به.
وكيف كان، فالحق أن يقال: إن تحرير التفصيل بين السبب وغيره
بالوجوب المقدمي في الأول، وعدمه في الثاني على النحو المذكور
في الكتب الأصولية صحيح غاية الامر: أن أدلتهم لا تفي بإثبات
مرامهم، إلا الاجماع إن تم.
والاشكال على الدليل لا يسري إلى عنوان المدعى، ولا يوجب عدم
صحته، بداهة أن غفلة المستدل عن ترتب اللوازم الباطلة على دليله لا
توجب بطلان عنوان مدعاه، لامكان أن يكون له برهان وثيق على
صحته وإن لم يتفطن هو له، فتأمل جيدا.
410

شرعا لما كان شرطا، حيث إنه (1) ليس مما لا بد منه عقلا، أو عادة.
وفيه (2): - مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي - أنه
411

لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة (1) الواجب، فلو كانت
مقدميته (2) متوقفة على تعلقه (3) بها لدار (4).
والشرطية (5) وإن كانت منتزعة عن التكليف، إلا أنه (6)
412

عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط [1] لا عن الغيري (1)
فافهم (2).

[1] لا يقال: إنه - بناء على تعلق الامر النفسي بالشرط - كيف يصح
تعلق الامر الغيري به. فإنه يقال: الامر النفسي تعلق بالمقيد بالشرط، و
لم يتعلق بنفس الشرط كالطهارة، حتى يصح أن يقال: إن الامر تعلق
بشيئين: الصلاة والطهارة.
والحاصل: أن متعلق الامر النفسي هو الصلاة عن طهارة، والمقيد بهذا
القيد يتوقف وجوده في الخارج على الطهارة، فيترشح من
وجوب الصلاة عن طهارة وجوب تبعي على الطهارة، فالوضوء مثلا
مقدمة وجودية لوصف الصلاة - وهو كونها عن طهارة -، فيصير
واجبا غيريا كسائر المقدمات الوجودية، فتأمل جيدا.
413

تتمة:
لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب (1)، فتكون
مستحبة لو قيل بالملازمة (2).
وأما مقدمة الحرام والمكروه، فلا تكاد تتصف بالحرمة، أو الكراهة، إذ
منها (3)
414

ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا كما كان (1) متمكنا
قبله، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام
أو المكروه، فلم يترشح من طلبه (2) طلب ترك مقدمتهما (3).
نعم (4)
416

ما (1) لم يتمكن معه من الترك المطلوب لا محالة يكون مطلوب
الترك (2)، ويترشح من طلب تركهما (3) طلب ترك خصوص هذه
المقدمة (4)، فلو لم يكن (5) للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار تركه
لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.
417

لا يقال (1): كيف ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها (2)
يوجد، ضرورة أن الشئ ما لم يجب لم يوجد.
فإنه يقال (3): نعم
418

لا محالة يكون من جملتها (1) ما يجب معه صدور الحرام، لكنه (2) لا
يلزم أن يكون ذلك (3) من المقدمات الاختيارية، بل من المقدمات
الغير الاختيارية، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار، وإلا
لتسلسل، فلا تغفل وتأمل. [1]

[1] تتمة: اعلم: أن المحقق النائيني (قده) قسم المقدمة المحرمة إلى
ثلاثة أقسام:
الأول: ترتب الحرام على المقدمة قهرا من دون إرادة واختيار للفاعل،
كالاحراق المترتب على الالقاء في النار، وغيره من العلل و
المعلولات. وحرمة المقدمة في هذا القسم نفسية لا غيرية، لان
المقدور المتعلق للحكم هو المقدمة دون ذيها.
الثاني: أن يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل، بحيث
يقدر على ارتكاب الحرام بعد فعل المقدمة، كقدرته عليه قبل فعلها،
لكن يأتي بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى الحرام. والحكم في هذه
الصورة هو: حرمة المقدمة مرددة
419



بين النفسية إن كان المورد من قبيل التجري، وبين الغيرية إن كان من
باب السراية.
الثالث: أن يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل، ولكن لم
يأت بالمقدمة بقصد التوصل إلى الحرام، بل له صارف عن إتيانه.
والحكم في هذه الصورة عدم حرمة المقدمة، واختصاص الحرمة
بذيها، إذ لا وجه لحرمة المقدمة مع فرض عدم كونها علة تامة للوقوع
في الحرام، وعدم قصد فاعلها للتوصل بها إلى الحرام.
وأنت خبير بما في عدا القسم الثالث من الاشكال.
إذ في الأول: أنه خلاف مبناه (قده): من كون المقدور مع الواسطة
مقدورا، ومن صحة التكليف بالمقدور التوليدي كالمقدور المباشري،
فالمحرم النفسي حقيقة هو ذو المقدمة، والمقدمة حرام غيري.
وفي الثاني: عدم حرمة المقدمة لا نفسية ولا غيرية. أما النفسية،
فلابتنائها على حرمة التجري، وهي غير ثابتة شرعا، والتفصيل في
محله. وأما الحرمة الغيرية فلفقدان ملاكها - وهو التوقف - ضرورة أن
المطلوب - وهو الاجتناب عن الحرام - لا يتوقف على ترك
المقدمة، إذ المفروض كونه قادرا على ترك الحرام بعد الاتيان
بالمقدمة أيضا.
وقياس المقام بمقدمة الواجب فاسد، حيث إن المحبوب يراد
وجوده، فتسري محبوبيته إلى جميع مقدمات وجوده، لتوقف وجوده
على
كل واحدة من مقدماته، فيتعذر وجوده عند عدم واحدة منها. وهذا
بخلاف الحرام المبغوض، فإن المطلوب هو تركه المعلوم تحققه
بترك إحدى مقدمات وجوده، فلا تسري المبغوضية إلى جميع
مقدماته، بل إلى واحدة منها تخييرا. ففرق واضح بين مقدمات
الواجب و
بين مقدمات الحرام.
ومن هنا يظهر: صحة ما أفاده: من عدم الحرمة في القسم الثالث، إذ
420

فصل الامر (1) بالشئ هل يقتضي [1] النهي عن ضده، أو لا
فيه أقوال (2)
، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور

لا موجب للحرمة الغيرية مع فقدان التوقف والمقدمية.
فالمتحصل من جميع ما ذكرنا: اختصاص الحرمة الغيرية بالمقدمة
التي يترتب عليها الحرام النفسي قهرا من دون توقفه على إرادة
للفاعل.
[1] لما كان مرجع البحث في هذا الفصل إلى ثبوت الملازمة بين
وجوب الشئ وبين حرمة ضده، فلا محالة يكون المراد بالاقتضاء ما
يعم
مقام الثبوت والاثبات، كما أنه يكون المراد بالامر ما يعم الوجوب
الثابت بدليل لفظي أو لبي من إجماع، أو ضرورة، كما لا يخفى.
ثم إن المناسب التعرض لجهتين:
إحداهما: نسبة هذه المسألة مع المسألة السابقة، فنقول: إن كان النزاع
في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده لأجل المقدمية، فتكون
هذه المسألة أخص من موضوع المسألة المتقدمة، لكونها من صغريات
تلك المسألة، فالنكتة في إفراد
421



هذه المسألة بالبحث - مع كونها من صغريات مقدمة الواجب - هي:
تحقيق حال عدم الضد من حيث مقدميته لوجود الاخر، وعدمها، لما
سيأتي إن شاء الله تعالى من الاشكال على مقدميته.
422



فمرجع البحث حينئذ إلى: صغروية عدم الضد لكبرى مقدمة
الواجب، وعدمها. وبعبارة أخرى: يكون مرجعه إلى: أن عدم الضد
هل هو
مصداق لمقدمة الواجب، أم لا؟ كما هو واضح.
وإن كان النزاع في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده بنحو العينية،
أو الاستلزام، كانت النسبة بين المسألتين هي التباين، لان
موضوع تلك المسألة - وهو المقدمة - مباين لموضوع هذه المسألة،
فإن العينية أو الاستلزام غير المقدمية عينا ومفهوما، كما لا يخفى.
ثانيتهما: كون هذه المسألة فقهية أو أصولية، وتختلف باختلاف كيفية
البحث فيها، فإن جعل العنوان: (أن ضد الواجب حرام أولا) كانت
المسألة فقهية، لان مسألة كل علم: ما يبحث فيه عن عوارض موضوعه
الذاتية، ومن المعلوم: أن الضد فعل المكلف، وأن فعله موضوع علم
الفقه، والحرمة من عوارضه الذاتية.
وعليه: فالبحث عن حرمة الضد، ووجوب مقدمة الواجب، و
نظائرهما من المسائل الفقهية. وإن جعل عنوان البحث: (أن وجوب
الشئ
هل يستلزم حرمة ضده أم لا؟) فالحق: أنه من المسائل الأصولية،
كالبحث عن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، فإنه يبحث
عن
الملازمة التي يصح وقوعها كبرى لقياس ينتج حكما كليا فرعيا، بأن
يقال: الصلاة ضد للواجب، وكل ضد للواجب حرام، فالصلاة حرام.
ومن هذا البيان يظهر: عدم كون هذه المسألة من المبادئ الأحكامية.
وإن جعل: (أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ فكونه
من المسائل الأصولية مبني على أمرين:
أحدهما: أن يكون موضوع علم الأصول ألفاظ الكتاب والسنة، فإن
423

الأول:
الاقتضاء في العنوان أعم (1) من أن يكون بنحو العينية (2)، أو الجزئية
(3)، أو اللزوم من جهة التلازم (4) بين طلب أحد الضدين، وطلب
ترك

اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده - بمعنى دلالته عليه - من
الصفات العارضة للألفاظ.
ثانيهما: أن يكون عارض الشئ لجزئه الأعم من العوارض الذاتية،
حيث إن الدلالة تكون من عوارض ألفاظ الكتاب والسنة باعتبار
مطلق اللفظ.
فإذا انتفى أحد الامرين اندرجت هذه المسألة في المبادئ، ولا تندرج
في المسائل الأصولية، من غير فرق بين هذه المسألة وبين المشتق،
والمشترك، والحقيقة والمجاز، وباب الأمر والنهي، والعام و
الخاص، وسائر مباحث الألفاظ.
424

الاخر، أو المقدمية (1) على ما سيظهر (2). كما أن المراد بالضد هاهنا
(3) هو مطلق المعاند [1] والمنافي وجوديا كان أو عدميا.

[1] قال في التقريرات: (المقدمة الرابعة في الضد. ومعناه لغة: المنافي
والمعاند مطلقا)، وفي المجمع: (ضاده: باينه).
ومن المعلوم: أن المباين أعم من كونه وجوديا وعدميا، فالمتناقضان
ضدان لغة، لان كلا من العدم والوجود يباين الاخر، لا اصطلاحا،
لما عرفت: من أن
425

الثاني (1):
أن الجهة المبحوث عنها في المسألة وإن كانت أنه هل يكون للامر
اقتضاء بنحو من الأنحاء المذكورة، إلا أنه (2) لما كان عمدة القائلين
بالاقتضاء

الضدين بحسبه أمران وجوديان، وإذا أطلق الضد فالمتبادر منه هو ما
اصطلح عليه أهل المعقول، ولا يراد غيره إلا بالقرينة. ويطلق
الضد في المقام على أمور ثلاثة.
أحدها: النقيض المعبر عنه تارة بالترك، وأخرى بالضد العام.
ثانيها: كل واحد واحد من الأضداد الوجودية على نحو العام
الاستغراقي كالأكل، والشرب، والنوم، ونحوها، فإن كل واحد منها
ضد
للمأمور به، كالصلاة مثلا.
ثالثها: واحد من الأضداد الوجودية على البدل، بأن يراد بالضد:
الجامع بينها، وهذان الأخيران هما المعبر عنهما بالضد الخاص. و
الضد
بجميع هذه المعاني داخل في محل النزاع. وللضد إطلاقات اخر
يكون التعرض لها منافيا لوضع التعليقة، من أراد الوقوف عليها
فليراجع
مظانها.
426

في الضد الخاص (1) إنما ذهبوا إليه (2) لأجل توهم مقدمية ترك
الضد (3) كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال، و
تحقيق المقال في المقدمية وعدمها، فنقول وعلى الله الاتكال:
ان توهم توقف الشئ على ترك ضده ليس إلا من جهة المضادة و
المعاندة بين الوجودين (4)، وقضيتهما [) 5 وقضيتهما] الممانعة [1]
بينهما،

[1] كما صرح به جمع من الأعيان، قال في البدائع: (ومنهم الشيخ
الرئيس حيث قال - فيما حكي عنه -: وجود الضد سبب لانتفاء الضد
الاخر، وتوقف فناء الضد على طريان الضد مشهور بين المتكلمين. و
قال المحقق الخوانساري: وبالجملة:
الحكم بتمانع الأضداد لا مجال لانكاره، وفي كلام الشيخ الرئيس أيضا
التصريح بتمانعها، كيف؟ وأي شئ أولى بالمانعية من الضد، و
لم أجد من تصدى لإقامة الدليل على المانعية، غير أنهم أرسلوها
إرسال المسلمات، ورأوا إقامة الدليل عليه إيضاح الواضحات. وأنت
خبير: بأن الامر ليس كذلك بعد ما اعترفوا بأن مجرد عدم الاجتماع
أعم من المانعية).
427

ومن الواضحات: أن عدم المانع (1) من المقدمات (2).
وهو (3) توهم فاسد، وذلك (4) لان [1] المعاندة والمنافرة بين
الشيئين،

[1] هذا أحد الايرادات الأربعة التي أوردها المحقق صاحب الحاشية
على توهم المقدمية.
428

لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث (1) لا منافاة أصلا
بين أحد العينين وما هو نقيض الاخر وبديله (2)، بل بينهما كمال
الملامة [1] كان (3) أحد العينين مع نقيض الاخر وما هو بديله في
مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على
الاخر (4)، كما لا يخفى. فكما (5) أن المنافاة بين المتناقضين

[1] لا يخفى: أن مجرد الملامة بين عدم أحد الضدين ووجود الاخر لا
يثبت اتحاد الرتبة، لكون الملامة لازما أعم من وحدة الرتبة، فإن
العلة والمعلول متلائمان مع اختلافهما رتبة، فلا بد في إثبات اتحاد
الرتبة من برهان آخر.
429

لا تقتضي (1) تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الاخر، كذلك في
المتضادين، كيف [1 [2

[1] هذا أيضا أحد الوجوه الأربعة التي أوردها في حاشية المعالم على
مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر، وحكاه في البدائع عن
سلطان العلماء.
والفرق بين الايرادين: أن مرجع أولهما إلى: إنكار المقدمية، لاتحاد
رتبة عدم أحد الضدين مع وجود الاخر. ومرجع ثانيهما إلى:
استحالة المقدمية، للزوم الدور.
430

ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشئ على عدم ضده توقف (1)
الشئ على عدم مانعه، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشئ
توقف (2) عدم الشئ على
431

مانعه، بداهة (1) ثبوت المانعية في الطرفين، وكون المطاردة من
الجانبين، وهو دور واضح (2).
وما قيل في التفصي (3) عن هذا الدور من: (أن التوقف من طرف
الوجود
432

فعلي، بخلاف التوقف من طرف العدم، فإنه (1) يتوقف على فرض
ثبوت المقتضي [1]

[1] بل يمكن أن يقال: إنه مع فرض ثبوت المقتضي وشرائطه لا يستند
عدم الضد إلى المانع - وهو وجود الضد أيضا - بل يستند إلى
عدم قابلية المحل بسبب انشغاله بالضد الموجود، ومن المعلوم: أن
قابلية المحل - وهي: خلوه عن الضد - من الشرائط، فيستند عدم
الضد إلى فقد شرط من شرائط الوجود.
فالمتحصل: أن عدم الضد لا يستند إلى وجود المانع في شئ من
الموارد.
433

له (1) مع شراشر (2) شرائطه غير عدم وجود ضده، ولعله (3) كان
محالا، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الاخر إلى عدم
تعلق الإرادة الأزلية به (4)، وتعلقها (5) بالآخر حسب ما اقتضته
الحكمة البالغة، فيكون (6) العدم دائما
434

مستندا إلى عدم المقتضي، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع
(1) كي يلزم الدور.
إن قلت: هذا (2) إذا لو حظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد.
وأما إذا كان كل منهما متعلقا لإرادة شخص، فأراد مثلا أحد الشخصين
435

حركة شئ، وأراد الاخر سكونه، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ
(1) موجودا، فالعدم (2) لا محالة يكون فعلا مستندا إلى وجود
المانع.
قلت: هاهنا (3)
436

أيضا يكون مستندا إلى عدم قدرة المغلوب منهما (1) في إرادته، و
هي (2) مما لا بد منه في وجود المراد، ولا يكاد (3) يكون بمجرد
الإرادة بدونها، لا إلى (4) وجود الضد، لكونه (5) مسبوقا بعدم قدرته،
كما لا يخفى)
437

غير (1) سديد، فإنه وإن كان قد ارتفع به (2) الدور، إلا أن غائلة لزوم
438

توقف الشئ (1) على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها، لاستحالة
(2) أن يكون الشئ الصالح لان يكون موقوفا عليه الشئ [1 [3
موقوفا (4) عليه (5)،

[1] الأولى: تنكيره، لئلا يتوهم كونه نفس الشئ في قوله: (الشئ
الصالح).
439

ضرورة أنه (1) لو كان في مرتبة (2) يصلح (3) لان يستند إليه (4)، لما
كاد يصح أن يستند فعلا إليه (5).
والمنع (6)
440

عن صلوحه لذلك (1)، بدعوى: أن قضية كون العدم مستندا إلى
وجود الضد لو كان (2) مجتمعا مع وجود المقتضي وإن كانت صادقة،
إلا
أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا (3) لذلك (4)، لعدم (5)
اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها (6).
مساوق (7)
442

لمنع (×) مانعية الضد، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين، ضرورة
أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الاخر إلا توهم
مانعية الضد، كما أشرنا

(×) مع أن حديث عدم اقتضاء صدق الشرطية لصدق طرفيها وإن كان
صحيحا، إلا أن الشرطية هاهنا غير صحيحة، فإن وجود المقتضي
للضد لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضده، ولا يكون الاستناد
مترتبا على وجوده، ضرورة أن المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما
يمنع عما يقتضيه أصلا كما لا يخفى، فليكن المقتضي لاستناد عدم
الضد إلى وجود ضده فعلا عند ثبوت مقتضي وجوده هو الخصوصية
التي فيه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضية، كما هو الحال في كل
مانع، وليست في الضد تلك الخصوصية، كيف؟ وقد عرفت: أنه لا
يكاد
يكون مانعا إلا على وجه دائر.
نعم إنما المانع عن الضد هو العلة التامة لضده، لاقتضائها ما يعانده و
ينافيه، فيكون عدمه كوجود ضده مستندا إليها، فافهم.
443

إليه (1)، وصلوحه (2) لها.
إن قلت (3): التمانع بين الضدين كالنار على المنار، بل كالشمس في
رابعة النهار. وكذا (4) كون عدم المانع مما يتوقف عليه مما لا يقبل
الانكار، فليس (5) ما ذكر إلا شبهة في مقابل البداهة.
444

قلت (1): التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع
مما
445

لا ريب فيه، ولا شبهة تعتريه، إلا أنه (1) لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع،
وعدم (2) وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر الذي (3) هو بديل (4)
وجوده المعاند (5) له (6)، فيكون (7) في مرتبته، لا مقدما عليه ولو
[1] طبعا (8).

[1] الظاهر: زيادة كلمة (ولو)، إذ التقدم على فرضه ليس في العلة
الناقصة إلا طبعيا، فتدبر.
446

والمانع الذي يكون موقوفا على عدم [1] الوجود هو ما كان ينافي و
يزاحم المقتضي في تأثيره، لا ما يعاند الشئ ويزاحمه في وجوده
(. [2] 1

[1] الظاهر: سقوط الضمير، فحق العبارة أن تكون هذا: (على عدمه
الوجود).
[2] ومما يشهد بعدم مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر: ما أفاده
في البدائع من: (أنه يجوز أن يكون عدم أحد الضدين ووجود
الاخر معلولي علة واحدة، كالحرارة، والبرودة، والموت، والحياة، و
النور، والظلمة، والحركة، والسكون، فإن علة وجود الحرارة
مثلا هو علة عدم البرودة، وهكذا.
فالضدية شئ، والمانعية شئ آخر لا ملازمة بينهما، فالحكم
بالمانعية بمجرد الضدية لا سبيل إليه، ولا دليل عليه، سوى أنهما لا
يجتمعان. وقد سبق غير مرة:
أن عدم الاجتماع أعم من التمانع).
وجه الشهادة: أن عدم الضد حينئذ يكون في رتبة وجود الضد الاخر،
إذ المفروض كونهما معلولين لعلة واحدة، ووحدة الرتبة بين
المعلولات المتعددة لعلة واحدة واضحة، لان تأثيرها في معلولها
المتعدد على نسق واحد. كوضوح تقدم رتبة أجزأ العلة الناقصة -
التي
منها عدم المانع - على المعلول.
وعليه: فيلزم في الصورة المذكورة عرضية أجزأ العلة للمعلول، ولا
يمكن
447



الالتزام بذلك، فبطلان اللازم يكشف عن بطلان القول بدخل عدم
الضد في وجود الضد الاخر من باب دخل عدم المانع.
فالمتحصل: أنه لا وجه لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر.
كما لا وجه لوجوب مقدمة الواجب، كي يقال: إن عدم الضد -
كالصلاة - واجب لكونه مقدمة للواجب - كالإزالة - فتحرم الصلاة،
لكونها
مانعة عن الواجب، هذا.
ثم إنه يترتب الثمرة على مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر، و
هي: مسألة الوضوء الارتماسي فيما إذا كان بعض أعضاء الوضوء
متنجسا، كاليد، ورمسها في الماء قاصدا به الوضوء.
فعلى القول بالمقدمية لا يصح الوضوء، إذ لا بد من تقدم عدم النجاسة
على الغسل الوضوئي، فلا يتحقق الوضوء، وطهارة العضو برمس
واحد، لكونهما - بعد وضوح معلوليتهما لهذا الرمس - في رتبة
واحدة.
وعلى القول بعدم المقدمية، وكون عدم أحد الضدين في رتبة وجود
الاخر يصح الوضوء، إذ لا يعتبر تقدم عدم نجاسة العضو على
الغسل الوضوئي، فلا مانع من تحقق طهارة العضو والغسل الوضوئي
برمس واحد.
وكذا الحال في الغسل الارتماسي في الماء المعتصم مع نجاسة جميع
البدن أو بعضه، فإن الغسل صحيح برمس واحد - بناء على عدم
المقدمية -، وباطل بناء عليها، فلاحظ وتأمل.
وكذا تظهر الثمرة في جعل الشرطية لاحد الضدين، كالاستقبال في
الصلاة والمانعية للاخر - كالاستدبار -، فإنه - بناء على مانعية أحد
الضدين للاخر ليكون عدمه دخيلا في وجود الاخر من باب دخل
عدم المانع - يلغو، بل يمتنع جعل كلتيهما، وإنما الممكن جعل
الشرطية
فقط، لأنه - بناء على ترتب أجزأ العلة - يكون الشرط مقدما على
المانع، فيستند الأثر إليه، لا إلى المانع.
448

نعم (1) العلة التامة لاحد الضدين ربما تكون مانعا عن الاخر، و مزاحما

فبطلان الصلاة مثلا يستند إلى فقدان الشرط - وهو الاستقبال - لا إلى
وجود المانع - وهو الاستدبار -، فلا أثر لجعل المانعية
للاستدبار أصلا. وبناء على عدم المانعية، وعدم كون عدم أحد
الضدين مقدمة لوجود الاخر، لكون الضدين في رتبة واحدة، لا مانع
من
جعل كل من الشرطية والمانعية، إذ ليس عدم أحدهما مقدمة لوجود
الاخر ليكون وجوده مانعا مصطلحا، وعدمه عدم المانع كذلك،
حتى يجري فيه حديث تقدم الشرط رتبة على المانع، ويلزم لغوية أو
امتناع جعل المانعية للضد الاخر، بل لما كانا في رتبة واحدة جاز
جعل الشرطية لأحدهما. والمانعية للاخر، فيستند الأثر إليهما معا،
كالطهارة والحدث ونحوهما مما اعتبر في أجزأ المركب والأكوان
المتخللة بينها.
أو إلى المانع فقط، كما إذا فرض كون الاستقبال شرطا في خصوص
الاجزاء، والاستدبار مانعا مطلقا حتى في حال السكوتات،
فالبطلان يستند إلى الاستدبار إذا وقع في غير الاجزاء، وإذا وقع فيها
يستند إلى فقدان الشرط ووجود المانع معا.
449

لمقتضيه في تأثيره، مثلا: يكون شدة الشفقة على الولد الغريق، وكثرة
المحبة له تمنع عن أن يؤثر ما في الأخ الغريق من المحبة والشفقة
لإرادة إنقاذه مع المزاحمة، فينقذ الولد دونه (1)، فتأمل جيدا.
ومما ذكرنا (2) ظهر: أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم في أن

أو إلى الشرط فقط، كما إذا فرض كون الطهارة شرطا مطلقا، والحدث
مانعا في حال الاجزاء، فالبطلان حين فقدان الطهارة في حال
السكوتات يستند إليه، لا إلى وجود الحدث، وفي حال الاجزاء يستند
إليهما معا.
والمعول في كيفية الشرطية والمانعية إطلاقا وتقييدا هي أدلة الشرائط
والموانع.
450

عدمه (1) الملائم للشئ المناقض لوجوده المعاند لذلك لا بد أن
يجامع معه من غير مقتض لسبقه (2)،
452

بل (1) قد عرفت (2) ما يقتضي عدم سبقه.
فانقدح بذلك (3): ما في تفصيل بعض الاعلام (4)، حيث قال:
(بالتوقف على رفع الضد الموجود (5)، وعدم التوقف (6) على عدم
الضد
المعدوم)، فتأمل
453

في أطراف ما ذكرناه، فإنه دقيق، وبذلك حقيق.
فقد (1) ظهر: عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.
وأما (2) من [1] جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في

[1] الفرق بين الاقتضاء المقدمي والتلازمي هو: أن مقتضى الأول
وجوب ترك الضد غيريا، لكون الوجوب ثابتا له لأجل المقدمية، و
مقتضى الثاني - على تقدير تماميته - هو: كون حكمي المتلازمين من
سنخ واحد، فإذا كان أحدهما واجبا نفسيا أو غيريا كان الاخر
مثله، لكونهما عرضيين، ومعلولين لعلة واحدة.
454

الحكم (1)، فغايته (2) أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم
به الاخر (3)، لا أن يكون محكوما بحكمه (4).
455

وعدم (1) خلو الواقعة عن الحكم [فهو] إنما (2) يكون بحسب
الحكم الواقعي، لا الفعلي [1] فلا حرمة (3) للضد من هذه الجهة (4)

[1] هذا مبني على ما يراه المصنف (قده): من تعدد مراتب الحكم.
ثم إن المحقق المشكيني (قده) قال في حاشيته ما لفظه: (ويشهد لما
ذكرنا من أن عدم الخلو إنما هو في الاحكام الواقعية، لا الفعلية: ما
نقل عن سيد الموحدين عليه السلام: ان الله تعالى سكت عن أشياء
لم يسكت عنها نسيانا، الخبر، فإن السكوت عنها كناية عن عدم
بلوغها إلى مرتبة الفعلية).
456



أقول: دلالة الحديث على ذلك منوطة بإرادة عدم البيان من السكوت،
لان المعنى حينئذ هو: (أن لله تعالى أحكاما واقعية قد أنشأها، لكنه
لم يبلغها ولم يبينها نسيانا). بخلاف ما إذا أريد من السكوت: عدم
التشريع مع اقتضاء المصالح والمفاسد له، كما هو الظاهر بقرينة
قوله عليه السلام: (ان الله حد حدودا، فلا تعتدوها، وفرض فرائض
فلا تنقصوها، وسكت عن أشياء) الحديث، فإن مقابلة السكوت
لتحديد الحدود، وفرض الفرائض تقتضي السكوت عن التشريع و
الانشاء، في قبال تشريع الحدود والفرائض.
فالمراد من الحديث - والله العالم - هو: أن جملة من الأشياء كانت
مشتملة على ملاكات مقتضية لتشريع أحكام إلزامية، لكنه تعالى شأنه
لم يشرع تلك الأحكام لا لأجل الغفلة والنسيان، بل للرحمة و
الامتنان، فمصلحة التسهيل صارت مانعة عن جعل تلك الأحكام
الالزامية، و
إنشائها.
ومن المعلوم: أن هذا المعنى أجنبي عما أرادوا إثباته بالحديث
المزبور، من جعل الاحكام وإنشائها، وعدم بلوغها إلى مرتبة الفعلية.
وبالجملة: فظاهر هذه الرواية عدم الانشاء، لا عدم الفعلية.
نعم لا بأس بالاستدلال على عدم الفعلية بما دل على تفويض بيان
جملة من الاحكام إلى الامام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه لأنه
صلوات الله عليه يبلغ الاحكام التي أنشأها الله عز وجل ولم تقتض
المصلحة تبليغها إلى العباد، فإن تلك الأحكام واقعية إنشائية، لا
فعلية.
أما كونها منشأة، فلان الإمام عليه السلام مبلغ للأحكام، لا مشرع لها.
وأما عدم فعليتها، فلان المفروض عدم بلوغها إلى العباد، كما لا
يخفى.
457

أيضا (1)، بل (2) على ما هو عليه لولا [1] الابتلاء بالمضادة للواجب
الفعلي من (3) الحكم الواقعي.

[1] ظاهره: بقاء الحكم الواقعي لولا الابتلاء بالضد الواجب، فمع
الابتلاء به يرتفع الحكم الواقعي، فيعود محذور خلو الواقعة عن
الحكم.
وهذا الظاهر خلاف مراده (قده)، لان الغرض ارتفاع الفعلية بسبب
الابتلاء بالضد الواجب، لا ارتفاع نفسه، وإلا عاد محذور خلو الواقعة
عن الحكم.
فلا تخلو العبارة عن القصور، فينبغي أن تكون هكذا: (بل على ما هو
عليه من فعلية الحكم الواقعي لولا الابتلاء بالضد الواجب، ومعه
ينقلب إلى الانشائية).
ثم إنه - بناء على تضاد الأحكام الخمسة في مقام الجعل - لا بد أن لا
يكون ملازم الضد الواجب محكوما بشئ من الأحكام الأربعة الباقية،
لان كلا منها يضاد الوجوب، فيمتنع أن يكون حكم أحد المتلازمين -
كالإزالة - الوجوب، وحكم الاخر - كترك الصلاة - الحرمة، أو
الكراهة، أو الندب، أو الإباحة.
بل لا بد حينئذ من الالتزام ببقاء الملازم - كالصلاة - على ما كانت
عليه قبل التشريع من الإباحة الأصلية، فتأمل جيدا.
458

الامر الثالث (1):
أنه قيل بدلالة الامر بالشئ بالتضمن على النهي عن الضد العام بمعنى
الترك (2)، حيث إنه (3) يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل
والمنع عن الترك.
والتحقيق (4):
459

أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا (1)، ومرتبة وحيدة أكيدة (2) من
الطلب، لا مركبا من طلبين (3).
نعم (4): في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ربما يقال: الوجوب يكون
460

عبارة عن طلب الفعل مع المنع عن الترك، ويتخيل منه: أنه يذكر له
حدا، فالمنع عن الترك ليس من أجزأ الوجوب ومقوماته، بل من
خواصه ولوازمه، بمعنى:
أنه لو التفت الامر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة، وكان [1] يبغضه
(1) البتة.
ومن هنا (2) انقدح: أنه لا وجه لدعوى العينية، ضرورة أن اللزوم

[1] الظاهر: أنه معطوف على المنفي، وهو (كان)، فيصير المعنى
حينئذ:
لما كان راضيا به، ولما كان يبغضه.
ومن المعلوم: أنه ضد المقصود، فالأولى أن يقال: (بل كان يبغضه
البتة) إلا أن يكون معطوفا على النفي، وهو: (لما كان).
يعني: لو التفت الامر إلى الترك لكان يبغضه.
[2] لكن العينية بهذا المعنى - وهو الاتحاد بحسب المصداق - لا
يلائمها جعلها في قبال الاقتضاء التضمني، لظهور هذه المقابلة في
إرادة
الدلالة المطابقية الظاهرة في الاتحاد بحسب المفهوم من العينية.
461

يقتضي الاثنينية [1 [1 لا الاتحاد والعينية.
نعم (2): لا بأس بها بأن يكون المراد بها (3): أنه يكون هناك طلب
واحد، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود، وبعثا إليه، كذلك
يصح أن ينسب إلى الترك [2] بالعرض والمجاز،

[1] اقتضاء اللزوم للاثنينية بحسب المفهوم مما لا إشكال فيه، وكذا
بحسب الصدق إذا كان اللازم من لوازم الوجود، لتخلل الجعل حينئذ
بينه وبين الملزوم.
وأما إذا كان اللازم لازما للماهية كالزوجية للأربعة، فلما لم يكن اللازم
قابلا للجعل، بل كان جعل الملزوم جعلا له، وكان اللازم
منتزعا عنه، فلا يقتضي اللزوم حينئذ التعدد والاثنينية، فليس التعدد
لازما مساويا للزوم، بل يمكن اللزوم مع الاتحاد والعينية أيضا.
[2] نسبة الطلب إلى الترك لا تخلو عن مسامحة، لان معناها: مطلوبية
462

ويكون (1) زجرا وردعا عنه (2)، فافهم (3).
الامر الرابع (4):
تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة، وهي: النهي عن الضد

الترك، وهي ضد المقصود. بل المراد: نسبة الطلب إلى المنع، والزجر
عن الترك، فمعنى قوله: (أزل النجاسة عن المسجد) طلب المنع عن
ترك الإزالة، فيضاف الطلب إلى المنع عن ترك الإزالة، فهو بمنزلة
قوله: (لا تترك الإزالة).
463

- بناء على الاقتضاء [1] بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد
- ينتج فساده إذا كان عبادة. وعن البهائي (ره) (1): أنه أنكر
الثمرة، بدعوى: (أنه

[1] لا يخفى: أن الاقتضاء إن كان بنحو التلازم، فلا إشكال في اقتضاء
النهي للفساد، لكون النهي حينئذ نفسيا كاشفا عن مفسدة موجبة
للمبغوضية المضادة للمحبوبية. وإن كان بنحو المقدمية، ففي كون
النهي مقتضيا للفساد إشكال، لما تقرر عندهم: من أن الأمر والنهي
المقدميين لا يوجبان شيئا من القرب والبعد، والمثوبة والعقوبة.
فالضد العبادي - كالصلاة - وإن تعلق به نهي غيري نشأ عن الامر
المقدمي المتعلق بتركه الذي هو مقدمة لفعل الضد الأهم - كالإزالة -،
لكن هذا النهي الغيري لا يوجب فساده، وإلا لزم نقض ما غزلوه من
عدم ترتب أثر على موافقة الأمر والنهي الغيريين المقدميين و
مخالفتهما.
464



فالمتحصل: أن جعل فساد الضد العبادي ثمرة لهذه المسألة - بناء
على الاقتضاء التلازمي - متين، لكون النهي عن الملازم نفسيا كاشفا
عن المبغوضية النفسية.
ومن المعلوم: أن هذا النهي يقتضي فساد العبادة.
وأما بناء على الاقتضاء المقدمي، فقد عرفت: أن فساد العبادة بالنهي
المقدمي والمبغوضية العرضية محل إشكال، فجعله ثمرة لمسألة
الضد - بناء على اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده مطلقا - مشكل
جدا، فتأمل جيدا.
ثم إنهم ذكروا للمسألة ثمرات أخرى:
إحداها: حصول العصيان بفعل الضد، لأنه - بناء على حرمته كالصلاة
- يكون الاتيان به إثما، وبناء على عدم حرمته لا يحصل العصيان.
ثانيتها: حصول الفسق، وعدمه.
ثالثتها: لزوم الاتمام في السفر المفوت للواجب.
رابعتها: نذر عدم المعصية، فإنه - بناء على الاقتضاء - يصير الضد
للنهي عنه حراما، فيحصل به الحنث. وأما بناء على عدم الاقتضاء،
فلا
حرمة، ولا حنث.
وأنت خبير بعدم ترتب شئ من هذه الثمرات على المسألة - بناء
على الاقتضاء بنحو المقدمية -، لما عرفت في طي البحث: من عدم
مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الاخر حتى يقال: إن وجوب الترك
يقتضي النهي عن الفعل، فيصير فعل الضد منهيا عنه.
مضافا إلى: عدم وجوب المقدمة مولويا، على ما تقدم في بحث
مقدمة الواجب.
وإلى: أن الامر المقدمي - بعد تسليم وجوبها - لا يوجب قربا، ولا
بعدا، ولا ثوابا، ولا عقابا، فينهدم أساس الثمرات المترتبة على
الاقتضاء المقدمي.
نعم لا بأس بها بناء على الاقتضاء التلازمي، لما عرفت من الفرق بين
الاقتضائين.
465

لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى (1) النهي عن الضد، بل يكفي عدم
الامر به، لاحتياج (2) العبادة إلى الامر).
وفيه (3): أنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى كي يصح أن
يتقرب به (4) منه، كما لا يخفى. والضد (5)
466

بناء على عدم حرمته (1) يكون كذلك (2)، فإن (3) المزاحمة على
هذا (4) لا توجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا (5) مع بقائه (6)
على ما
هو عليه من (7) ملاكه من المصلحة، كما هو مذهب
467

العدلية (1)، أو غيرها (2) أي شئ كان، كما هو مذهب الأشاعرة. و
عدم (3) حدوث ما يوجب مبغوضيته، وخروجه عن قابلية التقرب به
(4)، كما حدث (5) بناء على الاقتضاء.
ثم إنه تصدى جماعة من الأفاضل (6) لتصحيح الامر بالضد بنحو
الترتب
468

على العصيان، وعدم إطاعة الامر بالشئ (1) بنحو (2) الشرط
المتأخر [1 [3

[1] لا الشرط المتقدم، ولا المقارن، إذ على الأول يخرج عن مورد
البحث وهو: اجتماع الامر بالضدين في زمان واحد مع اختلافهما
رتبة.
توضيح وجه خروجه عن محل البحث هو: سقوط الامر بالأهم
بالعصيان المتحقق قبل زمان الامر بالمهم، وبعد سقوطه ليس في
البين إلا
أمر المهم، فلا يجتمع حينئذ أمران بضدين في زمان واحد، بل هنا أمر
واحد متعلق بالضد المهم. وهذا غير الترتب المبحوث عنه في
المقام، لأنه - كما عرفت آنفا - عبارة عن اجتماع أمرين بضدين في
زمان واحد مع تعددهما رتبة، هذا.
وعلى الثاني - وهو: كون العصيان شرطا مقارنا لأمر المهم - لا يلزم
أيضا اجتماع الامر بالضدين في زمان واحد، إذ المفروض سقوط
أمر الأهم بالعصيان المقارن للامر
469

أو البناء (1) على المعصية بنحو الشرط المتقدم،

بالمهم، فلا يجتمع الأمران بالضدين في زمان واحد، بل في زمان الامر
بالمهم يسقط الامر بالأهم، وهذا أيضا خارج عن الترتب
المبحوث عنه في المقام من اجتماع أمرين بضدين في زمان واحد مع
تعددهما رتبة.
470

أو المقارن (1)، بدعوى (2): (أنه لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين
كذلك، أي: بأن يكون الامر بالأهم مطلقا، والامر بغيره معلقا على
عصيان ذاك الامر (3)، أو البناء والعزم عليه، بل (4)
471

هو واقع كثيرا عرفا (1).
قلت (2): ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في
طلبهما (3) كذلك، فإنه (4) وإن لم يكن في مرتبة (5) طلب الأهم
اجتماع طلبهما،
472

إلا أنه (1) كان في مرتبة الامر بغيره (2) اجتماعهما، بداهة (3) فعلية
الامر بالأهم في هذه المرتبة (4)، وعدم (5) سقوطه بعد بمجرد
المعصية فيما بعد ما لم يعص (6)، أو العزم (7) عليها مع فعلية الامر
بغيره (8) أيضا (9)، لتحقق ما هو شرط فعليته (10) فرضا.
473

لا يقال (1): نعم (2)، ولكنه بسوء اختيار المكلف، حيث يعصي فيما
بعد بالاختيار [1] فلولاه (3) لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالأهم، و
لا برهان على امتناع الاجتماع (4) إذا كان بسوء الاختيار.
فإنه يقال (5): استحالة طلب الضدين ليس إلا لأجل استحالة طلب
المحال،

[1] هذا مستدرك، للاستغناء عنه بقوله: (يعصى)، حيث إن العصيان
مخالفة التكليف المنجز لا عن عذر، كما لا يخفى.
474

واستحالة طلبه (1) من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال
دون حال، وإلا (2) لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد
(3) بلا حاجة (4) في تصحيحه إلى الترتب، مع أنه (5) محال بلا ريب
ولا إشكال.
475

ان قلت (1): فرق بين الاجتماع في عرض واحد، والاجتماع كذلك
(2)، فإن (3) الطلب في كل منهما في الأول (4) يطارد الاخر، بخلافه
(5) في الثاني، فإن (6) الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم، فإنه
(7) يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم، فلا يكاد يريد غيره (8)
على
تقدير إتيانه، وعدم عصيان أمره.
476

قلت (1): ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الأهم؟ وهل يكون
(2) طرده (3) له إلا من جهة فعليته، ومضادة متعلقه للأهم؟ و
المفروض فعليته (4) ومضادة متعلقه له.
477

وعدم (1) إرادة غير الأهم على تقدير الاتيان به (2) لا يوجب (3)
عدم طرده لطلبه مع تحققه (4) على تقدير عدم الاتيان به، وعصيان
أمره، فيلزم اجتماعهما (5) على هذا التقدير (6) مع ما هما عليه من
(7) المطاردة من (8) جهة المضادة بين المتعلقين.
478

مع (1) أنه (2) يكفي الطرد من طرف الامر بالأهم، فإنه (3) على هذا
الحال يكون طاردا لطلب الضد، كما كان في غير هذا الحال، فلا
يكون (4) له معه أصلا بمجال.
إن قلت (5):
479

فما الحيلة فيما وقع كذلك (1) من (2) طلب الضدين في العرفيات.
قلت (3): لا يخلو إما أن يكون الامر بغير الأهم بعد التجاوز (4) عن
الامر به، وطلبه (5) حقيقة، وإما (6) أن يكون الامر به إرشادا إلى
محبوبيته،
480

وبقائه (1) على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة
(2)، وأن (3) الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة، فيذهب بها (4)
بعض ما
استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالأهم، لا أنه (5) أمر مولوي
فعلي كالأمر به (6)، فافهم وتأمل جيدا.
ثم إنه (7) لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق
481

في صورة مخالفة الامرين لعقوبتين (1)، ضرورة قبح العقاب على ما لا
يقدر عليه العبد، ولذا (2) كان سيدنا الأستاذ (3) قدس سره لا
يلتزم به على ما هو ببالي، وكنا نورد به (4) على الترتب، وكان بصدد
تصحيحه (5).
فقد (6) ظهر: أنه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها إلا
ملاك الامر. [1]

[1] هذا ثالث الوجوه المصحح بها الضد العبادي المهم عند ترك
الأهم.
وأولها: ما ينسب إلى المحقق الثاني (قده): من انطباق الطبيعي المهم
المضاد للأهم على الفرد المزاحم، فإن فرديته للطبيعي بما هو هو،
لا بما هو مأمور به مما
482



يكون قهريا، فلا بد من الاجزاء عقلا. ولعلنا نتعرض لتوضيحه فيما
بعد.
وثانيها: الترتب المتقدم شرحه. ولما كان تصحيح الضد العبادي المهم
بالملاك عند المزاحمة للأهم منوطا بوجود الملاك، ولا طريق
إلى إحرازه حال المزاحمة وسقوط الامر، فلا محيص عن إثبات
الملاك أولا حتى تصحح به العبادة ثانيا.
وتنقيح البحث فيه موقوف على التكلم في مقامين:
الأول: في استكشاف الملاك بعد سقوط الامر بالتزاحم.
والثاني: في إثبات الاكتفاء به في عبادية المهم.
أما المقام الأول، فحاصل الكلام فيه: أنه قد استشكل في وجود
الملاك في الضد المهم المزاحم للأهم بما حاصله: أن الامر لما كان
لاحداث
الداعي لايجاد متعلقه، فلا بد أن يكون متعلقه مقدورا للمكلف حتى
ينبعث عن الامر نحوه، ويحصل له الداعي إلى الاتيان به، فنفس الامر
يقتضي اعتبار مقدورية متعلقه، فإذا كانت القدرة معتبرة في المتعلق
كانت من قيوده الدخيلة في ملاكه، فينتفي بانتفائها، فتكون
القدرة كسائر المأخوذة في الموضوع، كالبلوغ والعقل من الشرائط
العامة، والاستطاعة ومالكية النصاب وغيرهما من الشرائط
الخاصة، فإن الشروط بأسرها دخيلة في الملاك، ومقومة له، بحيث
ينتفي بانتفائها.
وعلى هذا، ففي صورة مزاحمة الواجب المهم للأهم تنتفي القدرة
على إيجاد المهم، فينتفي الملاك أيضا، فيسقط الامر، ومع سقوطه لا
مجال لاستكشاف الملاك حتى يمكن تصحيح العبادة به، هذا.
وأنت خبير بأن انتفاء الملاك بالمزاحمة الرافعة للقدرة مبني على كون
القدرة من شرائط نفس الخطاب، كالبلوغ، والعقل، والحرية، و
غيرها من الشرائط
483



العامة والخاصة المأخوذة في موضوع الخطاب حتى تكون مثلها في
الدخل في الملاك أيضا كي ينتفي الملاك بانتفائها، كانتفاء
الخطاب به. والمفروض: أن وزان القدرة ليس وزان تلك الشرائط، و
إنما هي من شرائط حسن الخطاب فقط، فلا تكون دخيلة في
الملاك حتى ينتفي بانتفائها، كانتفاء نفس الخطاب به، سواء أكان
الحاكم بدخل القدرة في حسن الخطاب هو العقل بمناط قبح مطالبة
العاجز، أم الطلب.
بتقريب: أن الطلب بنفسه يقتضي اعتبار القدرة على متعلقه، لان
الغرض من الامر إحداث الداعي في نفس المكلف لايجاد متعلقه،
حيث
إن الملاك قائم به، فلا يستوفي إلا بالاتيان بمتعلق الطلب، فلو لم يكن
مقدورا لم يتعلق به الامر، فاعتبار القدرة على المتعلق مما يقتضيه
نفس الخطاب، فتضيق دائرة المتعلق، وتقيد بالمقدور، فلا مصحح
للخطاب في غيره، إذ لا إطلاق لمتعلقه حتى يتعلق به في غير حال
القدرة أيضا، وذلك لان حكم العقل بقبح مطالبة العاجز لا يقتضي إلا
سقوط الطلب عند العجز، حيث إن القبح ناش عن الطلب، لا عن
مجرد وجود الملاك ولو مع عدم مطالبته، ضرورة أن وجود الملاك
غير المطالب لا يوجب قبحا أصلا.
فإطلاق المتعلق لاطلاق وجود الملاك في كلتا صورتي القدرة على
المتعلق وعدمها محكم، إذ لا مقيد له، هذا.
وكذا الحال إذا كان الحاكم باعتبار القدرة نفس الطلب، وذلك لان
القيد الناشئ عن الطلب يمتنع أن يكون دخيلا في متعلقه، لتأخره
عن المتعلق برتبتين:
إحداهما: تأخره عن الطلب.
وثانيتهما: تأخر الطلب عن متعلقه تأخر المعلول عن علته، فيستحيل
دخله في المتعلق الذي يقوم به الملاك، فإطلاق المادة ثابت بلا
إشكال، فالملاك في الفرد المزاحم موجود، كوجوده في الافراد غير
المزاحمة.
484



وببيان آخر: القيود المأخوذة في الاحكام على أقسام:
منها: ما يكون دخيلا في كل من الملاك، والخطاب، كالبلوغ، والعقل،
والوقت، والاستطاعة، وغيرها مما أخذ في موضوع الخطاب،
لظهورها في توقف الحكم ومباديه - كالملاك - عليه، حيث إن
الحكم كالمعلول للملاك، فإذا توقف على شئ كان التوقف له و
لعلته،
فالملاك والخطاب معا معلقان عليه، وتكون هذه القيود منشأ ومولدة
للملاك، فينتفي بانتفائها - فضلا عن الخطاب - سواء أكانت
بلسان الشرط، مثل: (إذا زالت الشمس وجبت الصلاة والطهور)، أو:
(وجبت الصلاتان)، أم بلسان الاخبار، مثل: (المستطيع يحج).
ومنها: ما يكون دخيلا في الخطاب فقط من دون دخل له في الملاك
أصلا كالقدرة، فإنها دخيلة في حسن الخطاب، إذ لولا القدرة لم يكن
أثر للخطاب، لقصوره حينئذ عن التحريك، فالقدرة دخيلة في التحرك
والانبعاث عن تحريك المولى وبعثه، من دون دخل لها في
الملاك، لوضوح وجود الملاك في إنقاذ المؤمن مثلا حتى مع عدم
قدرة المكلف عليه.
ومنها: ما يكون دخيلا في تنجز الخطاب، وقطع العذر الجهلي، كالعلم
وغيره، كالامارات المعتبرة عقلا أو شرعا على الاحكام، فإن
العبد بعد قيام الحجة على التكليف لا يعذر في المخالفة. وهذا النحو
من القيود ليس دخيلا في الملاك، ولا في الخطاب، لان الخطاب
منوط بوجود موضوعه، وليس العلم ونحوه مما يناط به الخطاب، و
إلا لزم الدور، إذ الخطاب أيضا مما يناط به العلم.
فقد ظهر مما تقدم: عدم كون القدرة من القيود الدخيلة في الملاك.
هذا في القدرة التكوينية.
وأما القدرة التشريعية، وهي: ما أخذ في لسان الخطاب، كالاستطاعة
485



بالنسبة إلى وجوب الحج، فهي دخيلة في الملاك أيضا.
فالمتحصل: أن القدرة إن لم تؤخذ في الخطاب لم تكن دخيلة في
الملاك، فهو باق بعد انتفائها. وإن كانت تشريعية كانت دخيلة فيه،
فينتفي بانتفائها.
فإذا نهض دليل على دخل القدرة في الملاك بأن أخذت شرطا
للوجوب، فلا كلام، وإلا فمقتضى إطلاق المادة عدم تقيدها بها، فلا
تكون
دخيلة في الملاك، إذ لو كانت قيدا لوجب على المتكلم بيانه، وإلا
لأخل بغرضه.
لا يقال: إنه يمتنع التمسك بالاطلاق في المقام، لوجود المانع، وهو
القدر المتيقن في مقام التخاطب أعني به: حكم العقل باختصاص
التكليف بالمقدور، والفرد المزاحم للأهم غير مقدور، فلا يتوجه إليه
حتى يكشف عن وجود الملاك، فلا مجال للتمسك بالاطلاق
لاحرازه.
فإنه يقال: قد عرفت: أن القدرة ما لم تؤخذ في لسان الدليل من قيود
موضوع الخطاب لم يكن وجه لدخولها في موضوع الحكم حتى
تكون دخيلة في الملاك، والعقل إنما يحكم بعدم مطلوبية غير
المقدور، لقبح مطالبة العاجز. وقد عرفت:
أن القدرة التكوينية التي يحكم العقل باعتبارها في متعلق الحكم
ليست دخيلة في الملاك، لعدم كونها شرطا لموضوع الحكم، بل
دخيلة
في حسن الخطاب فقط مع تمامية الملاك بدونها، فليس هذا المتيقن
في مقام التخاطب الذي لا يكون القدرة فيه دخيلة في الملاك مانعا
عن الاطلاق، كما لا يكون اعتبار القدرة في المتعلق بنفس الطلب مانعا
عن الاطلاق، لما تقدم: من امتناع كونه قيدا للمتعلق، حيث إنه
متأخر عن المتعلق برتبتين، ويمتنع الاطلاق بعين امتناع التقييد، بناء
على ما أشرنا إليه مرارا من كون التقابل بين الاطلاق والتقييد
تقابل العدم والملكة.
فالمتحصل: أن ملاك الضد العبادي المهم موجود بعد سقوط أمره
بالمزاحمة
486

نعم (1) فيما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت،

للأهم، واستكشاف الملاك حدوثا وإن كان منوطا بالامر، لكنه بقاء
ليس منوطا به.
هذا بعض الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني وهو: جواز الاكتفاء في صحة العبادة بالملاك
فملخص الكلام فيه: أنه لم يقم دليل على انحصار القربة في الامر،
بحيث
يتوقف مقربية الفعل إليه سبحانه وتعالى على قصد الامر، فلا وجه
حينئذ لحصر القربة في قصد الامر، بل لا بد من التعميم والالتزام
بأن حقيقة القربة هي: إضافة العمل إليه تعالى شأنه بحيث يقال: إنه لم
يؤت به لغير الله عز وجل فكل عمل أتي به كذلك، فهو عبادة من
غير فرق في ذلك بين كون محقق هذه الإضافة قصد الامر المتعلق
بذلك العمل، وبين كونه قصد ملاك العمل الموجب لمحبوبيته له
جل و
علا.
فالمتحصل: أن مناط قربية العمل هو تلك الإضافة، وعليه: فلا ينبغي
الارتياب في حصول القربة المقومة للعبادة بقصد الملاك، كحصولها
بقصد الامر.
فقد اتضح مما تقدم: جواز الاكتفاء في صحة الضد العبادي المهم
بالملاك عند المزاحمة للأهم.
487

لا في تمامه (1) يمكن أن يقال: إنه حيث كان الامر بها (2) على حاله و
إن صارت مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من (3) أفرادها من تحتها
أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذلك الامر (4)، فإنه وإن كان
خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، إلا أنه (5) لما كان وافيا بغرضها
[1] كالباقي تحتها (6) كان عقلا مثله في الاتيان

[1] الأولى: تذكير الضمير، ليرجع إلى المولى.
488

به (1) في مقام الامتثال، والآتيان (2) به بداعي ذلك الامر (3) بلا
تفاوت في نظره (4) بينهما أصلا.
ودعوى (5): أن الامر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من أفراد الطبيعة
المأمور بها، وما زوحم منها بالأهم وإن كان من أفراد الطبيعة، لكنه
ليس من أفرادها بما هي مأمور بها (6) فاسدة (7)،
489

فإنه (1) إنما يوجب ذلك (2) إذا كان خروجه (3) عنها بما هي كذلك
تخصيصا (4)، لا مزاحمة، فإنه (5) معها وإن كان لا تعمه الطبيعة
المأمور بها، إلا أنه ليس لقصور فيه (6)، بل لعدم إمكان تعلق الامر بما
تعمه عقلا (7).
490

وعلى كل حال: فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال، وإطاعة الامر
بها (1) بين هذا الفرد وسائر الافراد أصلا (2).
هذا (3) على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع.
وأما بناء على تعلقها بالافراد، فكذلك (4)
491

وإن كان جريانه (1) عليه أخفى، كما لا يخفى، فتأمل (2).
ثم (3) لا يخفى أنه - بناء على إمكان الترتب وصحته - لا بد من الالتزام
492

بوقوعه من دون انتظار دليل آخر (1) عليه، وذلك لوضوح أن
المزاحمة على (2) صحة الترتب لا تقتضي عقلا إلا امتناع الاجتماع
في
عرض واحد، لا كذلك (3)، فلو قيل بلزوم الامر (4) في صحة العبادة
ولم يكن في الملاك كفاية كانت العبادة مع ترك الأهم صحيحة،
لثبوت الامر بها في هذا الحال (5)، كما إذا لم تكن هناك مضادة. [1]

[1] لا يخفى: أنه لما كان التحقيق صحة الترتب، فينبغي التعرض لشطر
من الكلام فيه، فنقول وبه تعالى نستعين وبوليه صلوات الله و
سلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين نتوسل ونستجير: إنه لا بد أولا من
تحرير محل النزاع في الترتب ثم التكلم في إمكانه أو عدمه،
فاعلم:
أن مورده الضدان الواجبان المطلقان الواجدان للملاك حتى مع
المزاحمة، وهو: فيما إذا لم يكن كلاهما أو أحدهما مشروطا بالقدرة
الشرعية، كالصلاة والإزالة، دون ما إذا كان كل منهما أو أحدهما
مشروطا بها، لانتفاء ملاك المشروط بها منهما حينئذ بالتزاحم الرافع
لها، كالصلاة والحج، فإن التزاحم بينهما يرفع
493



القدرة الشرعية عن الحج، فينتفي ملاكه، فيرتفع التزاحم، ولا تصل
النوبة إلى الترتب.
وبالجملة: فمورد الترتب الضدان غير المشروط شئ منهما شرعا
بالقدرة.
ثم إن الضدين المشروطين بالقدرة العقلية إن كانا متساويين في
الملاك، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما، وإلا فيقدم الأهم على المهم
بلا
كلام ولا إشكال. إنما الكلام في أن أمر المهم هل يسقط رأسا، أم يسقط
إطلاقه فقط ويبقى مقيدا؟ فيقيد وجوب المهم بترك متعلق الأهم،
ويصير إطلاق خطاب المهم مشروطا بترك متعلق الأهم مع بقاء
خطابه على إطلاقه. فيه خلاف عظيم، ذهب جمع من الأساطين
كالشيخ
الأعظم، والمصنف وغيرهما (قدس سرهم) إلى الأول، وجمع آخر
منهم كالمحقق الثاني، وسيد الأساطين الميرزا الكبير الشيرازي، و
السيد المدقق السيد محمد الأصفهاني (قدس سرهم) إلى الثاني.
وهذا هو الذي يقتضيه التحقيق، وتوضيحه منوط بالإشارة إلى
جهات:
الأولى: أن عمدة محذور الترتب لزوم طلب الجمع بين الضدين، و
الغرض من تمهيد هذا الامر هو دفع هذا المحذور، بتقريب: أن طلب
الجمع إنما يلزم فيما إذا كان الطلبان المتعلقان بالضدين عرضيين،
كقوله: (صل وأزل).
وأما إذا كانا طوليين، فلا يلزم أصلا، كما إذا قال: (أزل النجاسة، وإن
تركتها فصل)، فمطلوبية الصلاة حينئذ ليست في عرض مطلوبية
الإزالة، بل في ظرف تركها، فلو فرض محالا: قدرة العبد على الجمع
بين الإزالة والصلاة في آن واحد لا تتصف الصلاة بالمطلوبية، لعدم
حصول شرط طلبها وهو ترك الإزالة.
ومن هنا يظهر: مناط الطولية المانعة عن لزوم طلب الجمع أيضا، وأنه
ليس مطلق طولية أحد الطلبين للاخر، وترتبه عليه مانعا عن
لزوم طلب الجمع، وذلك لامكان الترتب المزبور مع لزوم طلب
الجمع، كما إذا قال: (إن أمرت بدخول المسجد فاقرأ القرآن)، فإن
طلب
القراءة مترتب على الامر بدخول المسجد، وفي طوله.
494



ولكن مع ذلك يقتضي هذا الترتب طلب الجمع بين دخول المسجد و
قراءة القرآن. فالطولية المانعة عن لزوم طلب الجمع عبارة عن
إناطة أحد الطلبين بترك متعلق الاخر، سواء أكان المتعلقان متضادين
كالصلاة والإزالة، أم لا كالقراءة ودخول المسجد، فإنه لا ريب
في عدم لزوم طلب الجمع بهذا النحو من الطولية. بل هذه الطولية
تقتضي امتناعه، لما عرفت آنفا: من أنه لو فرض محالا قدرة المكلف
على الاتيان بكلا الضدين اللذين تعلق بهما الطلب طولا سواء أكانا
ضدين كالإزالة والصلاة، أم لا كدخول المسجد والقرأة لما اتصف
بالمطلوبية إلا الأهم.
وأما المهم، فلا يتصف بها، لعدم تحقق شرط مطلوبيته، وهو ترك
الأهم.
نعم يلزم اجتماع الطلبين في آن واحد مع اختلافهما في الاقتضاء، و
هذا غير طلب الجمع المستلزم لمطلوبية متعلقي الطلبين في آن
واحد، كما هو ظاهر.
ثم إن الطولية المانعة عن لزوم طلب الجمع منوطة بكون الشروط
العامة والخاصة الاختيارية كالاستطاعة، وتملك النصاب الزكوي، و
نحوهما، وغير الاختيارية، كالبلوغ، والعقل، والوقت من الجهات
التقييدية الدخيلة في الموضوع حتى يكون موضوعا الطلبين طوليين،
وطلبهما أيضا طوليين، إذ لو لم ترجع إلى الموضوع، وكانت من
الجهات التعليلية الدخيلة في الملاك المؤثر بوجوده العلمي - لا
الخارجي - في التشريع، وفعليته، لزم من ذلك عرضية طلبي الأهم و
المهم، لكون موضوعيهما حينئذ عرضيين، حيث إن ذات الإزالة و
الصلاة في المثال المزبور موضوعان للحكم، إذ المفروض رجوع
الشروط - التي منها ترك متعلق الأهم، كالإزالة - إلى الملاك الذي هو
أجنبي عن الموضوع، فالموضوع نفس الصلاة والإزالة، ومن المعلوم:
أنه لا طولية بينهما حينئذ، فيلزم عرضية الطلبين المتعلقين بهما
أيضا.
وهذا خلاف ما فرضناه في الترتب من طولية الخطابين رتبة. وقد ثبت
في محله:
495



كون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية، لا الخارجية حتى تكون
الشروط من الجهات التعليلية، فلاحظ.
فقد اتضح من الجهة الأولى أمران:
الأول: ارتفاع لزوم طلب الجمع بطولية الطلبين رتبة.
الثاني: المراد بالطولية، وأنها تتوقف على رجوع الشرط إلى الموضوع،
لكون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية. وإلا امتنع الترتب،
لتوقفه على طولية الخطابين المنوطة بكون القضايا الشرعية من
القضايا الحقيقية، لا الخارجية.
الجهة الثانية: أن إطلاق الخطاب بالنسبة إلى شئ عبارة عن عدم
دخل وجود ذلك الشئ وعدمه في الخطاب، وكون وجوده وعدمه
على حد سواء. واشتراط الخطاب بشئ عبارة عن دخل ذلك الشئ
وجودا أو عدما في الخطاب، ومن المعلوم:
أن الاشتراط لا يقتضي إطلاق الخطاب بعد حصول الشرط، إذ مرجعه
إلى ارتفاع دخله في الخطاب، لما عرفت: من أن الاشتراط عبارة
عن دخل شئ فيه، والاطلاق عبارة عن عدم دخله فيه، وهما
متناقضان، فيمتنع رجوع المشروط بعد حصول شرطه إلى المطلق.
لا يقال: إن خطاب المهم بعد حصول شرطه - وهو عصيان خطاب
الأهم - ينقلب مطلقا، فيعود محذور لزوم طلب الجمع الناشئ عن
إطلاق الخطابين، مثلا: إذا ترك متعلق الأهم - كالإزالة - صار خطاب
المهم - كالصلاة المشروط بترك الإزالة - مطلقا كإطلاق خطاب
الإزالة، فاجتمع خطابان مطلقان، ومن المعلوم: أن طلب الجمع ينشأ
من إطلاق الخطابين، حيث إن طلب الإزالة يقتضي مطلوبيتها مطلقا،
سواء أوجبت الصلاة أم لا، وكذا طلب الصلاة، ومقتضى هذين
الاطلاقين: وجوب الإزالة والصلاة معا، وهذا معنى عرضية الخطابين
الموجبة لاستحالة الترتب.
496



فإنه يقال: إن خطاب المهم بعد حصول شرطه لا ينقلب عن الاشتراط
إلى الاطلاق، بل هو باق على ما كان عليه من الاشتراط، إذ لازم
الانقلاب لغوية الشرط وإطلاق الخطاب بالنسبة إليه، وهو خلاف
فرض الاشتراط، فوجوب المهم - كالصلاة - بعد حصول شرطه -
كترك الإزالة - لا يصير مطلقا، بل المولى يقول حينئذ أيضا: (إن تركت
الإزالة، فصل).
فاتضح مما ذكرنا: عدم لزوم عرضية الطلبين حين حصول شرط المهم،
وفساد توهم انقلاب الواجبات المشروطة بعد تحقق شرائطها
مطلقة، لاختلاف المطلق والمشروط سنخا، ولبرهان الخلف، حيث
إن المفروض كون الوجوب مشروطا، فصيرورته مطلقا خلاف
الفرض، كما لا يخفى.
الجهة الثالثة: أن المفروض في الترتب لما كان اجتماع خطابين فعليين
زمانا، وطوليين رتبة، فلا محيص عن جعل شرط خطاب المهم
ترك الاشتغال بالأهم لا عصيان خطابه، ولا العزم على تركه.
أما الأول، فلكون العصيان - كذهاب الموضوع - مسقطا لخطاب
الأهم رأسا، ومعه يمتنع الترتب المتقوم باجتماع طلبين فعليين زمانا
طوليين رتبة، إذ المفروض سقوط طلب الأهم بالعصيان، وبقاء طلب
المهم وحده، فلا اجتماع للطلبين.
نظير ترتب وجوب التيمم على سقوط وجوب الوضوء - على ما قيل
-، لكنه ليس من الترتب المبحوث عنه في شئ، كما لا يخفى.
وأما الثاني، فلاستلزامه عرضية الطلبين، وارتفاع الطولية الرتبية
المانعة عن لزوم طلب الجمع، لوضوح فعلية الخطابين في رتبة العزم
على ترك الأهم.
أما فعلية الأهم، فظاهر.
وأما فعلية المهم، فلتحقق شرطها وهو العزم على ترك الأهم.
497



وبالجملة: فشرط فعلية المهم هو ترك متعلق طلب الأهم، لا العصيان،
ولا العزم عليه، لكون الأول موجبا لسقوط خطاب الأهم، فلا يجتمع
طلبان فعليان زمانا، ولكون الثاني سببا لعرضية الطلبين الموجبة لطلب
الجمع.
وأما التعبير عن الترك بالعصيان في كلمات بعضهم - كالمصنف في
عباراته المتقدمة - فللتنبيه على: أن مورد الترتب هو العلم
بالخطابين، وتنجزهما، لكون الترتب من صغريات كبرى التزاحم
المنوط بتنجز الخطابين، ضرورة أن التزاحم الامتثالي المأموري
ليس إلا في مقام البعث الفعلي المتوقف على التنجز، لما تقرر في
محله:
من قصور الخطابات بوجوداتها الواقعية عن التحريك الفعلي، وبدون
هذا التحريك لا تدافع بين الحكمين في مقام الإطاعة.
والحاصل: أن الترتب المتقوم باجتماع طلبين فعليين زمانا وطوليين
رتبة متوقف على كون شرط فعلية خطاب المهم ترك متعلق
الأهم، لا عصيانه، ولا العزم على تركه.
الجهة الرابعة: أنه لا يلزم في الترتب الشرط المتأخر، ولا الوجوب
التعليقي.
أما تقريب لزومها، فهو: أنه قد توهم في الخطابات المضيقة: لزوم
تقدير الخطاب آنا ما قبل زمان المتعلق، إذ بدونه يلزم إما طلب
الحاصل، وإما امتناع الانبعاث عن البعث.
توضيحه: أن المكلف بالصوم في الان المقارن لطلوع الفجر إما متلبس
بالصوم، وإما غير متلبس به، فعلى الأول يلزم طلب الحاصل.
وعلى الثاني: يستحيل الانبعاث عن هذا البعث، لامتناع إعادة الان
الأول حتى ينبعث عن الخطاب بالامساك فيه.
وببيان أوضح: إن كان الخطاب مقارنا لان الطلوع، ولم يكن متقدما
498



عليه لزم أحد المحذورين: إما طلب الحاصل، وإما إعادة المعدوم.
وهذا البرهان يقتضي إما الالتزام بالواجب المعلق، لأن المفروض
تقدم الوجوب على موضوعه - وهو الوقت - فيكون الوجوب فعليا،
و
الواجب استقباليا.
أو الالتزام بالشرط المتأخر، لكون المشروط - وهو الوجوب - حاصلا
قبل شرطه - أعني الوقت - مع استحالة كل من الواجب المعلق و
الشرط المتأخر، على ما ثبت في محله.
والمفروض لزومهما في الترتب، حيث إن خطاب المهم - بعد فرض
اشتراطه بعصيان الأهم - يتقدم لا محالة على موضوعه - وهو ترك
الأهم -. نظير تقدم خطاب الصوم آنا ما على الطلوع، كما تقدم، وذلك
لان ترك الأهم يتوقف على امتثال المهم، وامتثال المهم يتوقف
على الخطاب به، فيكون الخطاب به متقدما على ترك الأهم وهو
الموضوع لخطاب المهم، فيجتمع حينئذ خطابان فعليان في رتبة
سابقة
على العصيان.
أما خطاب المهم، فللزوم فرض تقدمه على العصيان، كلزوم تقدم
خطاب الصوم على الطلوع من باب الوجوب التعليقي، أو الشرط
المتأخر.
وأما خطاب الأهم، فالمفروض فعليته على كل تقدير، فاجتمع خطابا
الأهم والمهم في الرتبة السابقة على العصيان مع فعليتهما، ولازمه
طلب الجمع المستحيل المستلزم لاستحالة الترتب.
وبالجملة: يلزم من تقدم طلب المهم على موضوعه تعليقا أو شرطا
متأخرا طلب الجمع الموجب لامتناع الترتب، هذا.
وأما تقريب دفع لزومهما، أعني: الوجوب التعليقي، أو الشرط المتأخر
فهو: أنه - بعد النقض بالواجبات الموسعة، وعدم اختصاص
الاشكال وهو طلب الحاصل، أو إعادة المعدوم الموجب للالتزام
بالتعليقي، أو الشرط المتأخر في الواجبات
499



المضيقة فيما إذا أريد امتثال الواجبات الموسعة في أول أوقاتها، إذ لا
محيص حينئذ عن تقدير الوجوب آنا ما قبل زمان الواجب حتى
يمكن الانبعاث عنه في أول أزمنته، مع عدم التزامهم بلزوم تقدم زمان
البعث على زمان الانبعاث في الواجبات الموسعة أصلا -، لا وجه
لتقدم زمان البعث على زمان الانبعاث أصلا، إذ لا محذور في اتحاد
زمان الخطاب والامتثال، بل لا محيص عنه، لأنهما كالعلة والمعلول
في الوحدة زمانا، والتعدد رتبة، غاية الامر: أنه لما كان الخطاب
بوجوده الواقعي قاصرا عن التحريك، فلا بد في تتميم هذا القصور من
العلم به قبل وقته، حتى يتمكن العبد من الانبعاث عنه في أول أزمنته،
ومن البديهي: أنه بعد العلم به يقدر على امتثاله في أول آنات
توجهه إليه بلا محذور أصلا، فإذا علم المكلف في الليل مثلا بوجوب
الصوم عليه مقارنا لطلوع الفجر الصادق امتثل ذلك الوجوب، من
دون توقفه على سبق الوجوب على الطلوع.
فالبرهان المتقدم - وهو: طلب الحاصل، أو: إعادة المعدوم - لا
يقتضي تقدير الطلب قبل زمان الواجب في المضيقات أصلا، بل حالها
حال الموسعات في عدم الحاجة إلى التقدير المزبور.
ومنه يظهر: ما في كلام المصنف (قده) في مبحث الواجب المعلق في
مقام دفع إشكاله من قوله: (مع أنه لا يكاد يتعلق البعث إلا بأمر
متأخر عن زمان البعث) من الغموض، حيث إن ظاهره: امتناع اتحاد
زمان الانبعاث والبعث، ولزوم تأخر الأول عن الثاني، وقد عرفت
ما فيه.
فالمتحصل: أنه لا موجب لتقديم زمان البعث على زمان الانبعاث، بل
وزانهما وزان العلة والمعلول في اتحادهما زمانا، واختلافهما
رتبة، فزمان الامر والامتثال واحد، كوحدة زماني الطلب والموضوع،
لما تقرر في محله: من كون الموضوع بمنزلة العلة، والحكم
بمنزلة المعلول، وإلا يلزم الخلف والمناقضة.
500



ففي المقام: يتحد زمان الموضوع - وهو عصيان الأهم -، وزمان
الحكم - وهو وجوب المهم -، وزمان الامتثال - وهو الاتيان بالمهم
-. والاختلاف بينها إنما هو في الرتبة، فإن الموضوع مقدم رتبة على
الحكم، وهو على الامتثال كذلك.
وأما الزمان، فهو في الكل واحد، كاتحاده في العلة والمعلول
الحقيقيين.
وكذا الحال في الأهم، فإن زمان موضوعه وخطابه وعصيانه واحد.
أما الأولان، فللزوم اتحاد الموضوع والحكم زمانا، كما تقدم في المهم.
وأما الأخير، فلكون الامتثال والعصيان في رتبة واحدة، لأنهما مترتبان
على الطلب، حيث إن الأول موافقة التكليف، والاخر مخالفته.
وبالجملة: فالزمان في الثلاثة - وهي: الموضوع، والحكم، والامتثال
- في كل من الأهم والمهم واحد، والاختلاف فيها إنما هو في
الرتبة فقط.
ومقتضى هذا البيان: فعلية الطلبين المتعلقين بالأهم والمهم في زمان
واحد مع اختلافهما في الرتبة، لكون طلب المهم مترتبا على ترك
الأهم، من دون عكس كما هو قضية إطلاق الأهم.
لا يقال: إن فعلية الطلبين توجب طلب الجمع الذي يمتنع معه الترتب،
وليس هذا إلا اعترافا باستحالته.
فإنه يقال: إن مقتضى ما تقدم وإن كان هو اجتماع الطلبين في الفعلية،
لكنه لا يستلزم الجمع في المطلوبية، بحيث تجتمع مطلوبية
الضدين في زمان واحد. بل قد تقدم: أنه لو فرض محالا اجتماعهما
زمانا، لا يتصف بالمطلوبية إلا الأهم، لما مر:
من إناطة مطلوبية المهم بترك الأهم، فمع وجوده يمتنع اتصاف المهم
بالمطلوبية.
لا يقال: سلمنا ذلك - أي: عدم لزوم طلب الضدين في آن واحد -
لكن يرد على الترتب إشكال آخر، وهو: أن وجود كل خطاب حدوثا و
بقاء منوط
501



بوجود موضوعه كذلك، وفي المقام لم يحرز بقاء موضوع خطاب
المهم - وهو ترك الأهم - إلى آخر أجزأ المهم، وبدون الاحراز
المزبور لا يتوجه خطاب المهم أصلا.
فإنه يقال: لا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي، لوضوح اعتبار
بقاء الموضوع في توجه التكليف في جميع الموارد، كبقاء
الاستطاعة إلى آخر مناسك الحج، وبقاء فاضل المئونة، والنصاب
إلى آخر العام بالنسبة إلى وجوب الحج، والخمس، والزكاة.
وحل الاشكال في الجميع: أن موضوع الخطاب موجود واقعي، لا
علمي، غايته: أن قضية موضوعيته توقف إحراز الخطاب على إحرازه
بأي محرز ولو تعبديا كالاستصحاب القاضي ببقاء الموضوع إلى آخر
زمان الامتثال.
لا يقال: إن لغوية طلب المهم توجب امتناع الترتب.
توضيحه: أن امتثال أمر المهم إذا كان عبادة غير مقدور للعبد، لعدم
القدرة على قصد القربة بعد كون فعل المهم مبغوضا للمولى، لكونه
عصيانا لطلب الأهم، والمبغوض لا يصير مقربا، فيستحيل امتثال أمر
المهم، ومع استحالته يمتنع تشريع الوجوب له، فلا وجوب إلا
للأهم، فأين الترتب المتوقف على وجوبين فعليين؟ وبالجملة: امتناع
الامتثال دليل على امتناع التشريع المؤدي إليه، فلا سبيل إلى
إمكان الترتب، لكونه كباب اجتماع الأمر والنهي - بناء على صغرويته
للتزاحم لا التعارض -، حيث إن المجمع - لملازمته للحرام -
يمتنع أن يكون مقربا، كامتناع مقربية المهم، لملازمته للحرام وهو
عصيان أمر الأهم.
فإنه يقال: بوضوح الفرق بين الترتب وبين مسألة اجتماع الامر و
النهي، كما أفاده سيدنا الأستاذ مد ظله في مجلس درسه الشريف.
ومحصل الفرق بينهما - على ما حررته عنه -: (أن الموجود في باب
الاجتماع على ما يقتضيه تركبه الانضمامي المقوم لصغرويته لكبرى
التزاحم وإن كان متعددا
502



متباينا، لتباين المقولات، وامتناع اتحادها. إلا أنهما يوجدان بإيجاد
واحد، كالصلاة في المغصوب، فإن الصلاة والغصب يوجدان بإيجاد
واحد، وإيجاد الغصب لما كان مبغوضا، فلا يتمشى قصد القربة
بموجود يوجد بذلك الايجاد مقارنا للغصب، فالصلاة حينئذ نظير
الماء
الصافي البارد الذي يصبه العبد في آنية قذرة تسقطه عن قابلية حصول
الامتثال به.
والحاصل: أن الموجود في باب الاجتماع وإن كان متعددا - كالصلاة
والغصب - إلا أن الايجاد واحد. وهذا بخلاف الترتب، فإن
الايجاد فيه كالموجود متعدد أيضا، فإن ترك الأهم إنما هو لأجل
الصارف، وفعل المهم لأجل الإرادة، فالايجاد كالموجود متعدد،
فيتمشى قصد القربة بأمر المهم بلا مانع).
هذا ملخص ما استفدناه من بحثه الشريف.
أقول: ما أفاده مد ظله وإن كان في نفسه متينا، لكنه لا يفي بدفع
الاشكال، بل لا بد من ضم ضميمة إليه، وهي: عدم اقتضاء الامر
بالشئ
للنهي عن ضده، إذ بدونها لا يندفع الاشكال، حيث إن لقائل أن يقول:
بكفاية عدم القدرة على امتثال أمر المهم، لأجل صيرورة متعلقه
منهيا عنه، من باب اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده، لا من جهة
وحدة الايجاد، حتى يدفع ذلك بتعدده.
لا يقال: إن قضية فعلية الخطابين مع ترك امتثالهما هي: تعدد العقوبة،
وهو قبيح عقلا، لان مناط حسن العقوبة على ترك شئ هو
القدرة على امتثاله، وهذا غير متحقق في المقام، لعدم القدرة على
امتثالهما حتى يستحق عقوبتين على تركهما، وهذا القبح دليل على
عدم تعلق الامر بالمهم، وهو كاشف عن بطلان الترتب، وامتناع تعلق
طلبين فعليين بضدين في آن واحد.
فإنه يقال: إن كان مناط استحقاق تعدد العقوبة مخالفة الامر بالجمع
بين
503



المتعلقين، فالامر كما ذكر من القبح العقلي، لعدم القدرة على الجمع
المزبور.
وإن كان مناطه: الجمع في ترك الضدين، كما هو المطلوب والمقدور
للعبد، فالمؤاخذة على الجمع في الترك حينئذ لا قبح فيها عقلا،
لأنها تكون على أمر مقدور.
مضافا إلى: النقض بالواجب الكفائي، حيث إن جميع المكلفين
يعاقبون على تركه مع عدم قدرتهم على الامتثال، لعدم قابلية المأمور
به
للتعدد، فلو كان مناط تعدد العقوبة تعدد ترك الامتثال لما استحق
العقوبة جميع المكلفين.
الجهة الخامسة: أن ترتب أحد الخطابين على الاخر يتصور على
وجوه:
الأول: ترتبه على عدم موضوع الخطاب الاخر، كترتب خطاب التيمم
على فقدان الماء، أو عدم التمكن من استعماله.
الثاني: ترتبه على عدم فعلية الاخر، كترتب وجوب الخمس في الربح
على عدم فعلية خطاب أداء الدين - خصوصا إذا كان للمؤونة -، فإن
خطابه إذا صار فعليا ارتفع به موضوع وجوب الخمس - وهو فاضل
المئونة -، فوجوب الخمس منوط بعدم فعلية خطاب أداء الدين، لان
فعليته بنفسها رافعة لفاضل المئونة.
الثالث: ترتبه على عدم امتثال الخطاب الاخر، لا على عدم فعليته، بأن
كان امتثال أحدهما رافعا لموضوع الخطاب الاخر، كالدين السابق
على عام الربح، فإن نفس الخطاب بأدائه لا يرفع فاضل المئونة الذي
هو موضوع وجوب الخمس، بل الرافع له هو: امتثاله بصرف الربح
في أدائه، فيتوقف موضوع وجوب الخمس على عصيان خطاب
الأداء، فيجتمع خطابان فعليان بأدائه وبإخراج خمس الربح.
وبالجملة: يجتمع مع ترك أداء الدين هذان الخطابان الفعليان، و
بامتثال خطاب أداء الدين في أثناء سنة الربح يرتفع موضوع وجوب
الخمس، وملاكه.
الرابع: ترتب أحد الخطابين على عصيان الخطاب الاخر - مع بقاء
موضوعه
504



وملاكه - إذا امتثل الخطاب الأول، كترتب وجوب الصلاة على
عصيان خطاب الإزالة مع بقاء موضوعها وملاكها إذا امتثل خطاب
الإزالة. فحينئذ: يكون كل من وجوبي الإزالة والصلاة فعليا وواجدا
للملاك.
ومن هنا ظهر: الفرق بين الوجه الثالث والرابع، بعد اشتراكهما في
ترتب أحد الخطابين على عصيان الاخر، فإن الامتثال في الثالث
رافع لموضوع الخطاب الاخر، فيرتفع معه الملاك أيضا. وهذا بخلاف
الرابع، فإن الامتثال لا يرفع موضوع الخطاب الاخر ولا ملاكه، بل
يبقيان على حالهما.
وهذا الوجه الرابع هو الترتب المبحوث عنه في المقام.
والثلاثة المتقدمة أجنبية عنه، لوضوح عدم اجتماع خطابين فعليين
في أولها، وهو: ترتب أحد الخطابين على عدم موضوع الخطاب
الاخر، كوجوب التيمم المترتب على انتفاء موضوع وجوب الطهارة
المائية.
كوضوح عدم اجتماعهما في ثانيها، وهو: ترتب أحد الخطابين على
عدم فعلية الاخر، كترتب وجوب تخميس فاضل المئونة على عدم
خطاب أداء دين سنة الربح، فهذا القسم من الترتب الذي لا يجتمع فيه
خطابان فعليان أجنبي أيضا عن الترتب المبحوث عنه.
كوضوح أجنبية ثالثها - وهو: ترتب أحد الخطابين على عصيان
الاخر، كترتب وجوب الخمس على عصيان خطاب أداء الدين السابق
على عام الربح - عن الترتب المبحوث عنه هنا، وذلك لأنه حال
عصيان هذا الخطاب وإن صار كل من خطابي أداء الدين وتخميس
الربح فعليا، لكنه مع ذلك غير الترتب المبحوث عنه أيضا، لما قد ظهر
من مطاوي البحث: من اعتبار بقاء ملاك الخطاب الثاني -
كموضوعه - إذا امتثل الخطاب الأول في الترتب الذي هو مورد
الكلام، كالصلاة والإزالة، فإن امتثال أمر الأهم
505



..
- وهو الإزالة - لا يرفع موضوع أمر الصلاة، ولا ملاكها، بل كل منهما
باق على حاله، غاية الامر: أن القدرة عليها مع صرفها في الإزالة
مفقودة، وقد ثبت في محله: عدم دخل القدرة في الملاك، وأنها
دخيلة في حسن الخطاب، بمناط قبح مطالبة العاجز.
وأن مورد الترتب هو: الطلبان الفعليان المجتمعان في آن واحد
المتعلقان بالضدين مع بقاء الملاك في كليهما، فتدبر.
الجهة السادسة: قد يتوهم: أن غاية ما يستفاد مما تقدم هي: إمكان
الترتب في قبال من أحاله، ومن المعلوم: أن مجرد الامكان لا يدل
على الوقوع.
لكنه فاسد، لقيام البرهان اللمي والاني عليه.
أما الأول، فبيانه: أن تمامية الملاك في كل من الضدين تقتضي جعل
الحكم لهما، والمفروض عدم دخل القدرة في الملاك، فلا بد حينئذ
من الجعل، وإلا يلزم خلاف الحكمة، وهو قبيح على الحكيم. نعم
إطلاق الجعل لكل منهما ينافي الحكمة، لعدم القدرة على الجمع
بينهما،
فلا بد من تقييد إطلاق أحد الجعلين أو كليهما ولو كان التقييد بمثل
(ترك الاخر) كما في المقام.
وأما الثاني، فتقريبه: أنه قد وقع في الشرعيات ما لا يمكن تصحيحه إلا
بالترتب، ونشير إلى جملة منها:
الأول: أنه إذا حرم قصد إقامة عشرة أيام على المسافر، كما إذا كانت
الإقامة علة للحرام، فخالف، ونوى الإقامة عاصيا، فإنه يجب عليه
الصوم والصلاة تماما حينئذ، لتحقق موضوعهما - وهو المسافر
الناوي للإقامة -، فاجتمع الحكمان الفعليان، أحدهما: حرمة الإقامة،
و
الاخر: وجوب الصوم وإتمام الصلاة المترتب على عصيان الحرمة
المزبورة، ومن المعلوم: أن اجتماع هذين الحكمين الفعليين مبنى
على
الترتب.
506



الثاني: ترتب وجوب القصر على تارك الإقامة، مع فرض وجوبها عليه
لجهة من الجهات، كحفظ نفس محترمة ونحوها، فإن وجوب
القصر مترتب على عصيان وجوب الإقامة. إلى غير ذلك من الفروع
الفقهية المبنية على الترتب التي هي برهان إني على وقوعه.
الثالث: ما عن الفصول، وغيره: من ترتب وجوب الوضوء من ماء مباح
ذاتا محرم استعماله عرضا - لكونه في آنية مغصوبة، أو مصوغة
من ذهب، أو فضة - على عصيان حرمة التصرف في المغصوب، أو
في آنية الذهب أو الفضة.
وبالجملة: فوجوب الوضوء حينئذ مترتب على العصيان، ومشروط
به، هذا.
لكن الحق: عدم تمامية هذا البرهان الآني وإن احتج به غير واحد من
المحققين، وذلك لخروج تلك الفروع عن الترتب المبحوث عنه،
حيث إن ارتفاع موضوع أحد الخطابين وملاكه بامتثال الخطاب الاخر
أجنبي عن الترتب الذي لا يرتفع فيه موضوع أحد الخطابين ولا
ملاكه بامتثال الاخر، كالإزالة والصلاة، فإن امتثال أحد خطابيهما لا
يرفع موضوع الاخر، بل هو باق على حاله.
وهذا بخلاف حرمة الإقامة في المثال الأول، فإن امتثالها باختيار السفر
يرفع موضوع الصوم وملاكه، إذ لا خطاب ولا ملاك للصوم
في السفر إلا في بعض الموارد.
وكذا في إتمام الصلاة، فإنه لا خطاب ولا ملاك فيه للمسافر غير
المقيم.
كما أن تقصير الصلاة في المثال الثالث لا موضوع ولا ملاك فيه أيضا
لقاصد الإقامة. فهذه الأمثلة الفقهية وإن كان فيها نحو ترتب، لكنه
غير الترتب الذي نحن فيه.
وأما فرع الوضوء، فملخص الكلام فيه: أنه إذا فرغ الماء في آنية مباحة،
507



وجب عليه الوضوء مطلقا، سواء أقلنا باعتبار القدرة الشرعية فيه أم لا،
وذلك لصيرورته واجدا للماء، وكذا يجب الوضوء إذا اغترف
غرفة وافية به، فإن وجوبه وإن كان مشروطا بعصيان الحرمة، لكنه بعد
العصيان لا يجتمع خطابان فعليان في آن واحد، لسقوط
الحرمة بالعصيان، فلا خطاب إلا بالوضوء، فلا ترتب في البين.
وإذا اغترف من الآنية تدريجا، غرفة لغسل الوجه، وثانية لغسل اليد
اليمنى، وثالثة لغسل اليسرى، فصحة الوضوء وفساده مبنيان على
القول باعتبار القدرة الشرعية في الوضوء، وعدمه.
فعلى الأول - كما عليه الميرزا (قده) - لا يصح، ولا يمكن تصحيحه
بالترتب، لان مورده تمامية الملاك في كل واحد من المتزاحمين، و
انحصار المانع عن فعلية الخطابين بعدم القدرة على امتثال كليهما.
وعلى هذا: فلو كان الملاك في أحدهما دون الاخر، فلا يجري فيه
الترتب أصلا.
والمقام من هذا القبيل، ضرورة أن الوضوء على هذا المبنى - وهو
اعتبار القدرة شرعا فيه - فاقد للملاك، إذ المفروض دخل القدرة
فيه، فانتفاؤها يوجب ارتفاع الملاك، فلا يقاس الوضوء بالصلاة، حيث
إنها غير مشروطة بالقدرة شرعا، فهي واجدة للملاك حتى حين
المزاحمة مع الإزالة. بخلاف الوضوء، فإنه - لحرمة الاغترافات - لا
قدرة له عليه شرعا، فهي واجدة للملاك حتى حين المزاحمة مع
الإزالة،
فإنه - لحرمة الاغترافات - لا قدرة له عليه شرعا، فلا ملاك له حتى
يجري فيه الترتب.
وعلى الثاني يصح وضوؤه، للترتب، إذ المفروض كونه واجدا
للملاك، حيث إن القدرة غير دخيلة شرعا فيه، فوجوب الوضوء
مشروط
بعصيان حرمة التصرف في المغصوب، أو في آنية الذهب، أو الفضة،
فإذا عصى الحرمة، واغترف الماء تدريجا صح الوضوء بالامر
الترتبي، لانحصار مانع عدم خطاب الوضوء بعدم القدرة عليه،
508



فمع التمكن منه - ولو بعصيان خطاب آخر - يصير خطاب الوضوء
فعليا، إذ القدرة المعتبرة في الوضوء ونحوه من المركبات تدريجية
تحصل بالاغتراف تدريجا، فكأنه قيل: (إن عصيت حرمة التصرف في
المغصوب وآنية الذهب أو الفضة، فتوضأ) وهكذا يقال له في كل
غرفة.
وبالجملة: ففرع الوضوء مترتب على الترتب في بعض الصور، لا
مطلقا.
وأما غيره من الفروع المتقدمة، فلا يترتب على الترتب أصلا. فلا يصح
جعلها برهانا إنيا على وقوع الترتب. لكن في البرهاني اللمي
المتقدم غنى وكفاية.
ثم إن هنا أمورا ينبغي التنبيه عليها.
الأول: أنه قد نسب إلى جماعة من المحققين كشيخنا الأعظم
الأنصاري وتلميذه المحقق السيد الشيرازي، وغيرهما قدس الله
تعالى
أسرارهم: عدم صحة الوضوء في موارد وجوب التيمم، بدعوى: أن
القدرة دخيلة في ملاك الوضوء استنادا إلى قوله تعالى: (فلم تجدوا
ماء
فتيمموا صعيدا طيبا) (النساء الآية 43 - المائدة الآية 6). بناء على
إرادة عدم التمكن من عدم الوجدان، ومع فقدان الملاك لا خطاب
بالوضوء أيضا، فلا مورد هنا للترتب حتى يصح به الوضوء، بأن يقال:
إن وجوبه مترتب على عصيان وجوب التيمم، فلا خطاب ولا ملاك
للوضوء حتى يمكن تصحيحه بهما، أو بأحدهما، هذا.
ولكن فيه ما لا يخفى، إذ جعل قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) بمعنى:
عدم التمكن تأويل بلا شاهد، بل الآية المباركة قد دلت على حكم
فقدان الماء، والروايات قد تضمنت ارتفاع وجوب الوضوء في موارد
الحرج، والخوف ونحوهما، وقد قرر في محله: أن الاحكام
الامتنانية لا ترفع إلا الالزام، وأما المصلحة، فهي باقية على حالها.
وعليه: فمن تحمل المشقة والحرج وتوضأ صح وضوؤه بلا إشكال،
لفرض وجود
509



الماء مع بقاء الملاك الكافي في صحة العبادة، كما عليه غير واحد،
كالشيخ الأعظم.
وبالجملة: فيصح الوضوء في هذه الموارد لأجل الملاك، ودعوى:
عدم بقائه، نظرا إلى أخذ القدرة شرعا في ملاكه غير مسموعة، لما مر.
وقد أفتى بصحة الوضوء الحرجي جمع من الفقهاء، منهم السيد (قده)
في الوسيلة، وسيدنا الأستاذ مد ظله في منهاجه.
نعم في موارد الضرر يشكل الصحة، للمبغوضية المنافية للمحبوبية.
الامر الثاني: قد ظهر من مطاوي الأبحاث المتقدمة: أنه يعتبر في
الترتب المبحوث عنه أمور.
الأول: أن لا يكون ترك الأهم مساوقا لوجود المهم، إذ يلزم حينئذ
لغوية خطاب المهم، لاستلزامه طلب تحصيل الحاصل المحال.
وعليه: فلا بد من فرض الترتب في الضدين اللذين لهما ثالث، كالإزالة
والصلاة، دون الضدين اللذين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون،
فإن عصيان الامر بأحدهما مساوق لوجود الاخر من دون حاجة إلى
تعلق طلب به.
الثاني: أن يكون الخطابان المترتبان منجزين، لان الترتب علاج لتزاحم
الخطابين المتقوم بتنجزهما، فبدونه لا تزاحم، ولا ترتب، فلا
يصح فرض الترتب في خطابين لم يتنجزا، للجهل، أو الغفلة، إذ لا
تحريك حينئذ لشئ منهما حتى يدعو كل منهما إلى صرف القدرة
في
امتثاله، كي يعجز المكلف عن إجابة دعوة كليهما.
كما لا يصح فرضه في خطابين تنجز أحدهما دون الاخر، للجهل و
نحوه أيضا، إذ لا بعث ولا تحريك حينئذ إلا لأحدهما - وهو المنجز
-
دون الاخر، فيبقى المنجز بلا مزاحم، لأنه الوحيد في دعوة المكلف
إلى صرف قدرته في امتثاله، فلا تزاحم
510



بينهما حينئذ حتى يعالج بالترتب.
الثالث: أنه لا بد في الترتب المبحوث عنه من اجتماع خطابين فعليين
في آن واحد مع اختلافهما في الرتبة، فيخرج عن الترتب ما إذا
كانت فعلية أحد الخطابين رافعة للاخر، لان قوام الترتب باجتماعهما،
كما مر مفصلا.
إذا عرفت هذه الأمور: اتضح عدم صحة الترتب في مسألة الجهر و
الاخفات كما عن كاشف الغطاء (قده)، بتقريب: أن الجهر في الصلوات
الجهرية واجب مطلقا، والاخفات واجب فيها على تقدير عصيان
خطاب الجهر. وكذا الحال في وجوب الاخفات في الصلوات
الاخفاتية.
ودفع هو (قده) إشكال الجمع بين صحة الصلاة مع الاخفات في
موضع الجهر، وبالعكس، وبين استحقاق العقوبة على ترك المأمور به
-
وهو الجهر بالقراءة أو إخفاتها - بالترتب، حيث إنه يوجب صيرورة
الصلاة الكذائية مأمورا بها، فتصح حينئذ. وكون استحقاق
المؤاخذة بسب عصيان الامر الأول.
توضيح وجه أجنبية الترتب عن هذه المسألة: لزوم اللغوية، ضرورة أن
ترك الجهر الواجب مساوق لوجود الضد - وهو الاخفات - فجعل
الوجوب له لغو.
وكذا الحال في ترك الاخفات الواجب، لكونه مساوقا لوجوب الجهر،
فجعل الوجوب له من قبيل طلب الحاصل المحال.
مضافا إلى: أن العلم بالواجب المطلق الأولي رافع لملاك الواجب
الثانوي، فإن العلم بوجوب الجهر مثلا رافع لملاك وجوب الاخفات، و
قد
عرفت: اعتبار وجود الملاك في كل من الواجبين المتزاحمين، فقوام
الترتب - وهو الملاك، وتنجز الخطابين - مفقود في مسألة الجهر
والاخفات.
والاشكال بالجمع بين الصحة، وبين استحقاق العقوبة يندفع بوجوه
اخر
511



مذكورة في محلها.
الامر الثالث: أنه لا يعقل الترتب بين المتزاحمين الطوليين، بمعنى:
تعاقبهما في الامتثال، كالقيام الواجب في الركعتين، فلا يصح أن يقال:
(إن عصيت وجوب القيام في الركعة الثانية، فقم في الركعة الأولى)، و
ذلك لأنه مع أهمية القيام في الركعة الثانية لا يعصى هذا الخطاب
إلا بعد مجئ زمان امتثاله، فصرف الزمان في الركعة الأولى ليس
عصيانا لخطاب الأهم، لأنه خطاب مستقل قد امتثل في زمان لا بد منه
في امتثاله. نعم هو عصيان لخطابه المتمم الحافظ له من باب المقدمة
المفوتة، وهو وجوب حفظ القدرة بعدم صرف الزمان في الركعة
الأولى، وهذا الوجوب موجود حين الشروع في الصلاة، وبعصيانه -
أعني به عدم حفظ القدرة - لا يمكن تصحيح الركعة الأولى
بالترتب، لأنه حين العصيان إما يصرف القدرة في قيام الركعة الأولى، و
إما يصرفها في غيره، كحمل ثقيل من مكان إلى آخر.
ومن المعلوم: أنه على الأول يلزم طلب تحصيل الحاصل، لأنه بمنزلة
قوله:
(إن عصيت خطاب احفظ القدرة بالقيام في الركعة الأولى، فقم فيها)،
فيصير متعلق خطاب المهم - وهو القيام في الركعة الأولى -
موضوعا لنفس هذا الخطاب. نظير أن يقال: (إن صليت، فصل).
والحاصل: أن وجه امتناع الترتب حينئذ هو لزوم طلب الحاصل، و
صيرورة وجود متعلق الخطاب شرطا لنفس الخطاب.
وعلى الثاني - وهو: صرف القدرة في غير الركعة الأولى، كحمل ثقيل
- يلزم سقوط كلا الخطابين، وهما: الأهم والمهم، لعدم القدرة
على شئ منهما.
فالترتب لا يعقل في الخطابين المتزاحمين اللذين يكون زمان امتثال
أحدهما
512



مقدما على الاخر. هذا مع فرض أهمية الثاني.
وأما مع عدم أهمية أحدهما من الاخر، فلا بد من صرف القدرة في
الأول، لان الخطاب بالنسبة إليه فعلي، فيجب عقلا امتثاله بصرف
القدرة فيه.
ومن المعلوم: أن امتثاله موجب لعجز المكلف عن امتثاله الخطاب
الثاني.
بخلاف الخطاب الثاني، لان فعليته منوطة بمجئ زمان امتثاله.
وبالجملة: فالعقل يحكم في صورة عدم أهمية أحدهما من الاخر
بلزوم صرف القدرة في الأول تعيينا، ولا يحكم بالتخيير أصلا.
الامر الرابع: أنه لا يكاد يتوهم جريان الترتب في باب اجتماع الامر و
النهي بناء على كون التركيب بين متعلقي الأمر والنهي انضماميا
ليندرج في باب التزاحم، لا اتحاديا ليندرج في باب التعارض، ويصير
صغرى لمسألة النهي في العبادة.
أما تقريب توهم جريان الترتب في باب الاجتماع - بناء على كونه من
صغريات التزاحم - فهو أن يقال: إن شرط وجوب الصلاة مثلا
عصيان حرمة الغصب، فكأنه قيل: (إن عصيت حرمة الغصب، فصل)
على حد قوله: (إن تركت الإزالة، فصل).
وأما وجه عدم جريان الترتب في باب الاجتماع، فهو: أن عصيان
حرمة الغصب إن كان بالتصرف الصلاتي لزم منه المحال، إذ لازمه
كون ما يقتضيه خطاب حرمة الغصب - أعني وجود متعلقه - شرطا
لخطاب الصلاة، لأنه بمنزلة أن يقال:
(إن عصيت حرمة التصرف في مال الغير، وتصرفت فيه بالصلاة،
فصل)، فوجود الصلاة يصير شرطا لوجوبها، ومن المعلوم: أنه من
طلب الحاصل المحال.
وإن كان بالتصرف غير الصلاتي، كالمشي، والنوم، وغيرهما من
التصرفات المضادة للصلاة لزم الامتناع أيضا، للزوم بقاء موضوع
حرمة الغصب إلى آخر جز
513



من متعلق النهي، ومن المعلوم: امتناع اجتماع الصلاة مع النوم، و
المشي، ونحوهما من التصرفات المضادة لها.
فتلخص مما ذكرنا: امتناع الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي.
الامر الخامس: قد ظهر من بعض المباحث المتقدمة: امتناع الترتب في
المتزاحمين المتلازمين وجودا اتفاقا، كاستقبال القبلة واستدبار
الجدي في بعض نقاط العراق، حيث إنهما متلازمان وجودا في تلك
النقاط، فإذا وجب الاستقبال وحرم استدبار الجدي كان عصيان
أحدهما ملازما لامتثال الاخر. نظير الجهر والاخفات المتقدمين.
وكل ما كان كذلك لا يتأتى فيه الترتب، لان وجود أحدهما بعصيان
الاخر قهري، فالامر به يكون طلبا للحاصل، كما هو واضح.
الامر السادس: في جريان الترتب في المقدمة المحرمة.
توضيحه: أنه إذا كان هناك واجب، وتوقف وجوده على ارتكاب
محرم، كما إذا توقف إنقاذ مؤمن على التصرف في أرض مغصوبة يقع
التزاحم بين وجوب الانقاذ وحرمة التصرف في مال الغير، لعدم إمكان
الجمع بينهما في الامتثال، فان كان وجوب ذي المقدمة - كإنقاذ
المؤمن - أهم من الحرمة جرى فيه الترتب بأن يقال: (إن عصيت
وجوب الانقاذ، فلا تغصب)، فيجتمع طلبان فعليان أحدهما:
وجوب الانقاذ مطلقا، والاخر: حرمة الغصب مشروطة بترك الانقاذ.
نظير ترتب التضاد، كترتب وجوب الصلاة على ترك الإزالة، فكما
يجتمع في ظرف عصيان خطاب الإزالة طلبان فعليان بالإزالة و
الصلاة، فكذلك في المقدمة المحرمة.
هذا ملخص الكلام في جريان الترتب في المقدمة المحرمة، وتفصيله
يطلب من المطولات.
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا: اعتبار أمور في الترتب المبحوث عنه:
514

فصل لا يجوز أمر الامر مع علمه بانتفاء شرطه (1)
خلافا لما نسب إلى أكثر مخالفينا (2)، ضرورة (3) أنه لا يكاد يكون

أحدهما: وجود خطابين نفسيين مع اشتمالهما على ملاك تام، فلو كان
الملاك في أحدهما دون الاخر، كاعتبار القدرة الشرعية في
أحدهما لخرجا عن الترتب المقصود.
ثانيها: أن لا يكون ترك الأهم مثلا عين وجود متعلق المهم، كما في
الجهر والاخفات، والحركة والسكون، ونحوهما من الضدين اللذين
لا ثالث لهما.
وإلى ذلك يرجع ما قيل: من اعتبار القدرة في متعلق المهم حين ترك
الأهم، حيث إن مقتضى القدرة إمكان ترك متعلقهما، وليس كذلك
الضدان اللذان لا ثالث لهما إذا ترك أحدهما - كالأهم في المقام -،
لامتناع ترك الاخر حينئذ، فهو غير مقدور له.
515

الشئ (1) مع عدم علته كما هو المفروض [1] هاهنا (2)، فإن (3)
الشرط من أجزائها (4)،

وبالجملة: يعتبر القدرة هنا، كاعتبارها في كل خطاب على ما قرر في
محله.
ثالثها: تنجز الخطابين، إذ بدونه لا تزاحم بينهما، حتى يكون كل منهما
معجز للاخر، بداهة توقف التعجيز على المحركية المتوقفة على
التنجز، كما لا يخفى.
إلى هنا انتهى ما أردنا إيراده من المباحث المتعلقة بالترتب، والحمد
لله كما هو أهله والصلاة والسلام على نبيه وآله الطاهرين، ولعنة
الله على أعدائهم إلى يوم الدين.
[1] لكنه لا ينبغي أن يكون موردا للنزاع المعقول، إذ لا يعقل النزاع في
أنه هل يجوز وجود المعلول بلا علة، أم لا؟ كما لا ينبغي أن يجعل
النزاع في جواز الامر الفعلي مع عدم فعلية موضوعه.
أو يجعل في أنه هل يجوز الامر الفعلي مع علم الامر بانتفاء فعلية
موضوعه؟ فإن النزاع على هذه الوجوه غير معقول، لرجوعها إلى
وجود
المعلول بدون العلة، وإلى الخلف.
فما في بعض الكلمات: (من إرجاع النزاع إلى: أنه هل يجوز أمر الامر
516



بشئ مع العلم بانتفاء شرط ذلك الشئ، بمعنى: أن المأمور به
مشتمل على شرط لا يمكن للمكلف تحصيله، على أن يكون مرجع
البحث
إلى: أنه هل يجوز تكليف العاجز، أم لا) لا يخلو من غموض، لأنه
يرجع إلى بعث فعلي نحو شئ غير مقدور للعبد. وقد عرفت امتناع
فعلية الحكم مع انتفاء فعلية موضوعه، فلاحظ وتدبر.
فالذي يمكن أن يكون موردا للنزاع المعقول هو: (أنه هل يجوز الامر -
أي أصل الانشاء - بداعي بعث العبد عن ذلك الامر مع علم الامر
بانتفاء شرط فعليته في الخارج، أم لا).
والحاصل: أنه هل يجوز الانشاء بالداعي الذي يترقب منه فعلية
الدعوة، مع علم الحاكم بانتفاء شرط فعليتها حين الامر، أم لا؟ وهذا
نزاع معقول، غايته: أن الامر بهذا الداعي لغو وإن لم يكن لغوا إذا كان
بداع آخر كالامتحان.
ومما ذكرنا ظهر: أن المراد بالجواز في عنوان البحث هو: عدم القبح
العقلي، لا الامكان الذاتي في مقابل الامتناع الذاتي - كاجتماع
النقيضين والضدين - ولا الامكان الوقوعي في مقابل الامتناع
الوقوعي - وهو: ما يلزم من وقوعه المحال - إذ لا يلزم من مجرد
الانشاء المزبور محال كاجتماع النقيضين، بل غاية ما يلزم منه القبح
العقلي.
والذي يشهد له: ما أخذ في عنوان البحث من العلم بانتفاء الشرط، لا
انتفائه واقعا الذي هو المعيار في عدم الجواز في الاحتمالين
الآخرين، هذا.
مضافا إلى: ان البحث عن الجواز بذينك المعنيين ليس من شأن
الأصولي، بل من شأن الحكيم.
وأما الشرط، فيطلق تارة على شرط الواجب، وأخرى على شرط
الوجوب الذي له معان ثلاثة:
517

وانحلال المركب بانحلال بعض أجزائه (1) مما (2) لا يخفى.
وكون (3) الجواز في العنوان بمعنى الامكان الذاتي بعيد (4) عن
محل

الأول: شرط تحقق الامر في نفس المولى. والشرط بهذا المعنى يكون
من أجزأ علة وجود الممكن.
الثاني: شرط حسن الامر، وعدم قبحه عقلا، وهي الشرائط العامة
للتكليف من العقل، والقدرة.
الثالث: الشرط الذي يعلق عليه الامر شرعا، كالاستطاعة في الحج، و
مضي الحول في الزكاة، ونحوهما. ولفظ (الشرط) ظاهر في الأعم
من شرط حسن التكليف عقلا، ومما علق عليه الخطاب شرعا، فمع
نشؤ الخطاب عن الملاك - كما عليه العدلية - يقبح الامر عقلا بما لا
غرض ولا مصلحة فيه عند انتفاء الشرط المعلق عليه الخطاب عقلا و
شرعا.
518

الخلاف بين الاعلام. نعم (1) لو كان المراد [1] من لفظ الامر (2) الامر
ببعض (3)

[1] وكذا لو أريد من (الامر) ما يعم الامر المشروط، لا ما يخص
المطلق، ومن (الشرط) شرط الوجوب، كأن يقول المولى مع علمه
بعدم
الاستطاعة: (حج إن استطعت) إذ لا ينبغي الاشكال في جواز هذا
الامر.
فالمتحصل: أنه يمكن تصوير النزاع على وجوه ثلاثة:
الأول: أنه هل يجوز التكليف بغير المقدور، أم لا؟ وهو الذي اختلف
فيه العدلية والأشاعرة، ولعل صدر عنوان البحث ناظر إلى هذا
الوجه، بقرينة التعليل بقوله: (ضرورة أنه. إلخ)، فيكون المراد: أن أمر
الامر مع علمه بانتفاء شرطه
519

مراتبه، ومن الضمير الراجع إليه (1) بعض مراتبه الاخر (2)، بأن يكون
النزاع في أن أمر الامر يجوز إنشاؤه [إنشاء] مع علمه بانتفاء
شرطه بمرتبة فعليته.
وبعبارة أخرى: كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى
المرتبة الفعلية، لعدم (3) شرطه لكان (4) جائزا.

كقدرة العبد - التي هي شرط للامر والمأمور به - هل يجوز أم لا؟
الثاني: أنه هل يجوز الامر - أي: إنشاؤه مع علم الامر بعدم شرط
فعليته أم لا؟ وقد أشار إليه المصنف بقوله: (نعم لو كان المراد. إلخ).
الثالث: أنه هل يجوز إنشاء الامر وإن لم يكن الغرض منه إتيان المأمور
به، بل مصلحة أخرى من امتحان أو غيره، أم لا؟ وقد أشار إليه
المصنف بقوله: (وقد عرفت سابقا: أن داعي إنشاء الطلب. إلخ)،
لكن مرجعه إلى الوجه الثاني، ولذا لم يجعله المصنف وجها مستقلا.
إلا
أن الحق سقوط هذا البحث عن الاعتبار - بناء على ما هو الحق من
كون الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية -، لأنه بعد فرض رجوع
جميع الشرائط إلى الموضوع سواء أكانت شرعية كالبلوغ من الشرائط
العامة، والاستطاعة ونحوها من الشرائط الخاصة، أم عقلية،
كالقدرة لا يتوجه أمر إلى عاجز حتى ينازع في صحته وعدمها. نعم
لهذا البحث مجال - بناء على كون الأحكام الشرعية من القضايا
الخارجية -، لأنه حينئذ يصح أن يقال: هل يجوز أمر العاجز عن إيجاد
شئ بالاتيان به، أم لا؟
520

وفي وقوعه (1) في الشرعيات والعرفيات غني وكفاية، ولا تحتاج
معه (2) إلى مزيد بيان، أو مئونة برهان (3).
وقد عرفت (4) سابقا: أن داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث و
التحريك جدا حقيقة، بل قد يكون صوريا امتحانا، وربما يكون غير
ذلك (5).
ومنع (6) كونه أمرا إذا لم يكن بداعي البعث جدا واقعا وإن كان في
محله،
521

إلا أن إطلاق الامر عليه إذا كانت هناك قرينة على أنه بداع آخر غير
البعث توسعا مما لا بأس به أصلا، كما لا يخفى.
وقد ظهر بذلك (1) حال ما ذكره الاعلام في المقام من النقض و
الابرام، وربما يقع به التصالح بين الجانبين (2)، ويرتفع النزاع من
البين، فتأمل جيدا (3).
فصل الحق أن الأوامر والنواهي تكون متعلقة بالطبائع دون الافراد (4) [1]
ولا يخفى (5) أن المراد: أن متعلق الطلب في الأوامر هو صرف
الايجاد، كما

[1] ينبغي قبل التعرض لشرح كلام المصنف (قده) تقديم أمور:
522



الأول: أنه قد يتوهم التنافي بين النزاع في تعلق الأوامر والنواهي
بالطبائع أو الافراد، وبين ما ثبت في محله: من كون المصادر
المجردة عن اللام والتنوين موضوعة للطبيعة اللا بشرطية.
وجه المنافاة: أن التسالم على وضع تلك المصادر للطبيعة يستلزم كون
متعلق الأوامر والنواهي نفس الطبائع، حيث إن ذلك مقتضى
وضع موادها - وهي المصادر - للطبائع، فلا وجه للترديد بين تعلقها
بالطبائع أو الافراد، هذا.
لكن يمكن دفع التنافي ب: أن إرادة الافراد - على القول بتعلق
الاحكام بها - إنما هي بالقرينة، وهي: كون الامر طلب إيجاد الطبيعة،
و
من المعلوم: امتناع إيجاد شئ بدون لوازم الوجود التي لا تنفك عن
الفرد، فإن الشئ ما لم يتشخص لم يوجد، فإرادة الفرد إنما تكون
بهذه القرينة، فتدبر.
الثاني: أن المراد بالطبيعة في هذا البحث ليس نفسها بما هي هي، لأنها
لا تصلح لان يتعلق بها أمر ولا نهي، ضرورة أن الملاكات الداعية
إلى التشريع لا تقوم بها حتى يتعلق بها الاحكام التابعة للملاكات، بل
تقوم بوجود الطبائع، فالمطلوب هو نفس الوجود السعي للطبيعة
بما هو وجود، لا بما هو فرد، فلوازم الوجود المقومة لفردية الفرد
خارجة عن حيز الطلب، ولذا لا تصح نية القربة بها، لعدم تعلق الامر
بها وإن كانت من لوازم المطلوب.
ومن هنا يظهر: المراد بالفرد أيضا، لأنه لوازم الوجود التي تقع في حيز
الطلب، ويصح قصد التقرب بها، لوقوعها في حيزه، ولا يلزم
من نية التقرب بها تشريع، كما يلزم ذلك - بناء على القول بتعلق
الحكم بالطبيعة -، كما لا يخفى.
الثالث: أن ثمرة هذه المسألة هي: صغرويتها لكبرى التزاحم - بناء
على القول بتعلق الاحكام بالطبائع -، ولكبرى التعارض بناء على
التعلق بالافراد.
إذ على الأول: يكون متعلق الأمر والنهي متعددا، كالصلاة في مكان
مغصوب،
523



فإن متعلق الامر طبيعة الصلاة المتوقف وجودها على لوازمه من
المكان والزمان وغيرهما من اللوازم التي يتوقف وجود الصلاة عليها
من دون سراية الامر إليها، ولذا يكون إيجادها بقصد الامر تشريعا
محرما. ومتعلق النهي أيضا طبيعة التصرف في مال الغير المتوقف
وجودها على لوازمه من القيام، والقعود، والركوع، والسجود، و
نحوها من اللوازم التي يتوقف وجود التصرف في مال الغير عليها من
دون سراية النهي إليها.
وعلى هذا، فالصلاة تكون من لوازم وجود التصرف المحرم من دون
سراية حرمته إليها، لما عرفت: من خروج لوازم الوجود عن حيز
الطلب. كما أن الغصب يكون من لوازم وجود الصلاة الواجبة من دون
سراية وجوبها إليه، لما قلناه.
فمتعلق الأمر والنهي متعدد، ولا ربط لأحدهما بالآخر.
وعلى هذا، فمسألة اجتماع الأمر والنهي تندرج في كبرى التزاحم، و
لازمه صحة الصلاة في المغصوب نسيانا وجهلا بكل من الحكم و
الموضوع، لترتب المانعية على التزاحم المنوط بالتنجز الذي يتوقف
على قيام الحجة على الحكم، فبدونها - كما هو المفروض - لا
تزاحم، فلا مانعية للغصب.
بل مقتضى التزاحم صحة الصلاة في المغصوب في صورة العلم أيضا،
إلا أن يقوم دليل على الفساد، وذلك لتعدد الصلاة والغصب، وكون
تركبهما انضماميا من طبيعتين متغايرتين، فيكون باب اجتماع الامر و
النهي من صغريات التزاحم كالصلاة والإزالة.
وبالجملة: مقتضى قاعدة التزاحم صحة الصلاة في المغصوب مطلقا
حتى مع العلم بالغصب وحكمه، فتدبر.
وعلى الثاني - وهو: تعلق الطلب بالافراد، بمعنى: وقوع لوازم الفرد
تحت الطلب، بحيث يصح قصد التقرب بها، ويخرج عن التشريع
المحرم - يكون باب
524



اجتماع الأمر والنهي من صغريات التعارض، لاتحاد متعلقهما، ومن
صغريات النهي في العبادة، ويترتب عليه مانعية الغصب للصلاة
واقعا، إذ المفروض وقوع فرد الصلاة في حيز النهي عن العبادة
الموجب لبطلانها، ولازم المانعية الواقعية بطلان الصلاة مطلقا حتى
في
حال الجهل بالموضوع، إلا إذا نهض دليل على صحتها تعبدا.
وسيأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي مزيد بيان لذلك إن شاء الله
تعالى.
الرابع: لا يخفى أن النزاع على النحو المحرر في المتن وغيره مما
ظاهره تسالمهم على جواز تعلق الطلب بكل من الطبائع والافراد بعيد
عن علو مقام المحققين، إذ بعد وضوح عدم دخل لوازم الوجود في
الملاكات الداعية إلى الاحكام لا وجه للنزاع في أن تلك اللوازم هل
يتعلق بها الطلب أم لا؟ مع أن دائرة الطلب سعة وضيقا تتبع دائرة
الغرض الداعي إلى الطلب، فلا معنى لتعلقه بما ليس فيه الملاك،
لكونه
لغوا لا يصدر من الحكيم، فلا ينبغي تحرير محل النزاع على هذا
النحو.
فلعل مرادهم بتعلق الامر بالطبيعة أو الفرد هو: ابتناء هذا البحث على
مسألة إمكان وجود الطبيعي في الخارج وامتناعه، فالقائل
بالامتناع يرى تعلق التكليف بالفرد، فرارا عن محذور تعلق التكليف
بغير المقدور. فالتعبير بالفرد لأجل التنبيه على أن الموجود
الخارجي هو الفرد، لا الطبيعة، لامتناع وجودها في الخارج، لا لأجل
دخل لوازم الوجود والتشخص في متعلق التكليف، كما لا يخفى.
والقائل بالامكان يرى تعلق التكليف بالطبيعة، حيث إنها كلية في
الذهن وشخصية في الخارج، لان الشئ ما لم يتشخص لم يوجد،
فالطبيعي متشخص بالوجود فيصح تعلق الطلب به.
وبالجملة: فلوازم الوجود المقومة للفرد خارجة عن حيز التكليف، من
غير فرق في ذلك بين تعلق الطلب بالطبيعة، وتعلقه بالفرد.
525

أن متعلقه في النواهي هو محض الترك، ومتعلقيهما (1) هو نفس
الطبيعة المحدودة بحدود، والمقيدة بقيود تكون بها موافقة للغرض و
المقصود، من دون تعلق غرض

أما على الأول: فواضح، لكون المطلوب نفس الطبيعة الموجودة في
الخارج من غير نظر إلى لوازمها.
وأما على الثاني: فلان المراد بالفرد هي ذات الماهية الموجودة
بوجود فرد كالانسانية الموجودة بوجود زيد، في قبال الانسانية
الموجودة بوجود عمرو، ولوازم الوجود ليست دخيلة في مطلوبيتها.
والحاصل: أن نزاع تعلق الاحكام بالطبائع أو الافراد على هذا الوجه
معقول. وعلى الوجه المذكور الظاهر من عنوان المتن وغيره غير
معقول، كما مر.
526

بإحدى الخصوصيات اللازمة للوجودات، بحيث لو كان الانفكاك
عنها (1) بأسرها ممكنا لما كان ذلك مما يضر بالمقصود أصلا، كما هو
الحال في القضية الطبيعية في غير الاحكام (2)، بل في المحصورة
(3) على ما حقق في غير المقام (4).
وفي مراجعة الوجدان (5) للانسان غني وكفاية عن إقامة البرهان على
527

ذلك (1)، حيث يرى إذا راجعه أنه لا غرض له في مطلوباته إلا نفس
الطبائع، ولا نظر له إلا إليها من دون نظر إلى خصوصياتها
الخارجية، وعوارضها العينية (2) وأن (3) نفس وجودها السعي (4)
بما هو وجودها تمام (5) المطلوب وإن كان ذاك الوجود لا يكاد
ينفك في الخارج عن الخصوصية (6).
فانقدح بذلك (7): أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الافراد: أنها
بوجودها السعي (8) بما هو وجودها قبالا لخصوص الوجود (9)
متعلقة (10) للطلب، لا أنها (11) بما هي هي كانت متعلقة له كما ربما
يتوهم، فإنها (12)
528

كذلك (1) ليست إلا هي. نعم (2) هي (3) كذلك تكون متعلقة للامر،
فإنه (4) طلب الوجود، فافهم (5).
دفع وهم (6):
لا يخفى أن كون وجود الطبيعة أو الفرد متعلقا للطلب إنما
529

يكون (1) بمعنى: أن الطالب يريد صدور الوجود من العبد، وجعله
بسيطا الذي هو مفاد كان التامة، وإفاضته (2). لا أنه يريد ما هو
صادر وثابت [1] في الخارج كي يلزم طلب الحاصل كما توهم (3).

[1] حتى يكون الوجود نعتا للماهية، لا محمولا لها كي يلزم طلب
الحاصل.
لكن فيه: أن الصدور، والوجود، والفيض، والاصدار، والايجاد، و
الإفاضة متحددة ذاتا متعددة اعتبارا، فمن حيث قيامها بالقابل -
أعني الماهية - تسمى وجودا وصدورا وفيضا، ومن حيث قيامها
بالجاعل قيام الفعل بالفاعل تسمى إيجابا وجعلا وإفاضة. فكما تصح
نسبة الشوق إلى الجعل والايجاد، فكذا إلى المجعول والوجود، فلا
يندفع شئ من جهتي الاشكال - وهما: طلب الحاصل، ووجود
العرض بلا معروض - بما أفاده في المتن.
فالذي يحسم مادة الاشكال هو: ما أفاده شيخنا المحقق العراقي
(قده): من عدم كون موضوع الطلب الوجود الحقيقي الخارجي حتى
يلزم
تقدم العرض على المعروض، وطلب الحاصل. بل موضوعه هو
الوجود الذهني اللحاظي الذي لا يلتفت
530



إلى ذهنيته، فيرى خارجيا.
وإن شئت، فقل: إن المقوم للطلب حال تعلقه هو الوجود الحقيقي
بوجوده الفرضي، لا التحقيقي، فليس قيام الطلب به كقيام البياض و
السواد بالجسم كي يتوقف على وجود متعلقه حال تعلقه به.
وطلب الحاصل إنما يلزم لو قيل بحدوث الشوق أو بقائه بعد وجود
متعلقه خارجا.
كما أنه لا يلزم وجود العرض - وهو الطلب - بلا معروض، إذ
المفروض قيام الطلب بالموجود الذهني اللحاظي الذي هو عنوان
الوجود
الحقيقي.
فاندفع الاشكال من كلتا الناحيتين.
ثم إنه قد ظهر مما تقدم: ما يترتب على هذا البحث من الثمرات.
الأولى: كونه موجبا لاندراج مسألة اجتماع الأمر والنهي في كبرى
التزاحم - بناء على تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع -، وفي كبرى
التعارض - بناء على تعلقهما بالافراد - كما لا يخفى.
الثانية: صحة قصد التقرب بلوازم الوجود، لوقوعها في حيز الامر - بناء
على تعلق الاحكام بالافراد -، وعدمها، لعدم وقوعها في حيزه -
بناء على تعلقها بالطبائع -، لكونه تشريعا محرما حينئذ.
الثالثة: لزوم قصد القربة بلوازم الوجود إذا كان الامر عباديا، وعدم
سقوطه بدون قصد القربة - بناء على تعلق الأوامر بالافراد، و
على كون قصد القربة عبارة عن قصد الامر كما عن الجواهر -، و
سقوط الامر بدون قصد القربة بلوازم الوجود بناء على تعلقها
بالطبائع.
الرابعة: جريان الأصل في بعض لوازم الوجود إذا شك في وجوبه،
لكونه شكا في التكليف - بناء على تعلق الاحكام بالافراد -، فإن أصل
البراءة يجري فيه حينئذ، ولا يجري فيه - بناء على تعلقها بالطبائع -،
لكون الشك حينئذ في المحصل الذي تجري
531

ولا جعل (1) الطلب متعلقا بنفس الطبيعة، وقد (2) جعل وجودها
غاية لطلبها.
وقد عرفت (3) أن الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا يعقل أن يتعلق

فيه قاعدة الاشتغال، حيث إن الفرد مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها،
وليس بنفسه مأمورا به.
الخامسة: حصول الفسق بترك واجب - بناء على تعلق الأوامر بالافراد
- وتحقق الاصرار بترك واجبات ضمنية، وعدم اختصاصه بترك
واجبات استقلالية، حيث إنه يصدق الاصرار حينئذ على ترك واجب،
لكون المفروض وجوب لوازم الوجود، فتركها ترك لواجبات
ضمنية.
السادسة: حصول البر بإتيان واجب - كالصلاة - فيما إذا نذر الاتيان
بواجبات مطلقا وإن كانت ضمنية، فإنه يحصل الوفاء بالنذر
بالاتيان بواجب، ضرورة حصول واجبات - بناء على تعلق الأوامر
بالافراد -. بخلاف البناء على تعلقها بالطبائع، فإن الواجب واحد، و
هو نفس الطبيعة بوجودها السعي، فلا يحصل بها البر.
532

بها الطلب لتوجد (1)، أو تترك (2)، وأنه (3) لا بد في تعلق الطلب من
لحاظ الوجود أو العدم (4) معها، فيلاحظ وجودها (5)، فيطلبه، و
يبعث إليه (6) كي يكون (7) ويصدر منه.
هذا (8) بناء على أصالة الوجود. وأما بناء على أصالة الماهية، فمتعلق
533

الطلب ليس هو الطبيعة بما هي (1) أيضا (2)، بل بما هي بنفسها في
الخارج، فيطلبها كذلك (3) لكي يجعلها (4) بنفسها من الخارجيات،
والأعيان الثابتات.
لا (5) بوجودها، كما كان الامر بالعكس (6) على أصالة الوجود.
وكيف كان (7) فيلحظ الامر ما هو المقصود من الماهية الخارجية (8)،
534

أو الوجود (1)، فيطلبه، ويبعث نحوه (2)، ليصدر منه، ويكون ما لم
يكن، فافهم (3) وتأمل جيدا.
فصل إذا نسخ الوجوب، فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ على
بقاء الجواز
بالمعنى الأعم، ولا بالمعنى الأخص (4)، كما لا دلالة لهما (5) على
ثبوت غيره من
535

الاحكام، ضرورة (1) أن ثبوت كل واحد من الأحكام الأربعة الباقية
بعد ارتفاع الوجوب واقعا (2) ممكن، ولا دلالة لواحد من دليلي
الناسخ أو المنسوخ بإحدى الدلالات على تعيين واحد منها (3) كما
هو أوضح من أن يخفى (4)، فلا بد للتعيين من دليل آخر (5). ولا
مجال
(6) لاستصحاب الجواز إلا بناء على جريانه في القسم
536

الثالث [1] من أقسام استصحاب الكلي، وهو: ما (1) إذا شك في
حدوث فرد كلي مقارنا لارتفاع فرده الاخر، وقد حققنا في محله (2):
أنه
لا يجري الاستصحاب فيه ما (3)

[1] حق العبارة أن تكون هكذا: (في بعض صور القسم الثالث من
استصحاب الكلي)، لوضوح عدم انحصار القسم الثالث فيما أفاده
المصنف من الشك في حدوث فرد مقارنا لارتفاع فرد آخر، كما سيأتي
في الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
537

لم يكن الحادث المشكوك من المراتب القوية (1) أو الضعيفة (2)
المتصلة بالمرتفع بحيث عد عرفا [[1] لو كان] أنه باق، لا أنه أمر
حادث غيره.
ومن المعلوم (3) أن كل

[1] بل حقيقة أيضا، لعدم مباينة الضعيف للقوي وجودا، حيث إن
الضعيف من مراتبه. نعم يباينه حدا، لكنه لا يقدح في صدق الشك
في
البقاء حقيقة، فلا ينبغي عد هذا من القسم الثالث، كما صنعه كثير من
الأكابر.
[2] وربما يقال: ببقاء الجواز، لاستصحاب الرضا بالفعل الثابت حال
وجوبه، ولا يكون الرضا المستصحب مغايرا وجودا للرضا الثابت
حال الوجوب، وإذا ثبت الرضا - ولو بالاستصحاب - كان جائزا
عقلا.
لكنه مشكل، لتبدل الحال فيه، إذ الرضا كان مقيدا بعدم الترخيص في
الترك، وانتفاء القيد يوجب انتفاء المقيد، كما أن ارتفاع الفصل
يستلزم ارتفاع الجنس.
538

واحد من الاحكام مع الاخر عقلا وعرفا من المباينات والمتضادات
غير الوجوب والاستحباب، فإنه (1) وإن كان بينهما التفاوت
بالمرتبة، والشدة والضعف عقلا، إلا أنهما متباينان عرفا، فلا مجال
للاستصحاب إذا شك في تبدل أحدهما بالآخر، فإن حكم العرف و
نظره يكون متبعا في هذا الباب (2).
فصل
إذا تعلق الامر بأحد الشيئين أو الأشياء، ففي وجوب كل واحد على
التخيير، بمعنى (3): عدم جواز تركه إلا إلى بدل، أو وجوب الواحد لا
بعينه (4)،
539

أو وجوب كل منهما [1] مع السقوط (1) بفعل أحدهما (2)، أو وجوب
المعين عند الله (3)، أقوال. [2]

[1] الأولى: إضافة (منها) إلى قوله: (منهما) ليرجع إلى الأشياء.
[2] مصب هذه الأقوال مرحلة الثبوت، إذ لا إشكال في الوجوب
التخييري في مقام الاثبات، ضرورة وقوعه في الشرعيات والعرفيات،
فالاشكال إنما هو في تصوره.
وملخص الاشكال: أن الإرادة التي هي من الصفات النفسانية لا بد و
أن تتعلق بأمر معين، ولا يمكن أن تتعلق بأمر مردد بين أمرين.
وقد تفصي عنه بوجوه:
الأول: ما أفاده شيخ مشايخنا المحق النائيني قدس سره: (من أنه لا
مانع من تعلق الإرادة التشريعية بالمردد بين أمرين، أو أمور، نظير
تطليق إحدى الزوجات مع عدم إرادة واحدة معينة منهن، فإن الطلاق
صحيح، وتعين المطلقة بالقرعة.
والسر في ذلك: أن التشريع من الاعتباريات، فأمره بيد معتبره، فقد
يعتبره بين فعل مبهم وفاعل معين كالواجب التخييري، وقد
يعتبره بين فاعل مبهم وفعل معين كالواجب الكفائي، وكاعتبار
الملكية لمالك مبهم كملكية الزكاة للفقراء، والخمس للسادة.
والحاصل: أنه لا فرق في صحة تعلق الحكم الشرعي بالمبهم بين
التكليفي،
540



والوضعي، وبين كون الابهام في ناحية الفعل، أو الفاعل. وعليه:
فيصح إنشاء النسبة الطلبية بين فعل مبهم - كالصوم أو العتق أو
الاطعام - وفاعل معين.
فحقيقة الوجوب التخييري: إنشاء النسبة الطلبية بين فاعل معين، وبين
فعل مبهم) هذا توضيح كلام المحقق المذكور على ما أفاده سيدنا
الأستاذ مد ظله في الدرس.
ثم فرق شيخه الميرزا (قده) بين الإرادة التشريعية التي هي مورد
البحث، وبين الإرادة التكوينية بما حاصله: أن الإرادة التكوينية
محركة لعضلات المريد نحو الفعل، ولا يعقل تحركها نحو المردد، لان
الإرادة التكوينية علة لوجود المراد في الخارج، ومن البديهي: أن
الموجود الخارجي فرد معين، ولا يعقل فيه الابهام أصلا، فلا تتعلق
الإرادة التكوينية بالكلي، ولا بالفرد المردد، بل بخصوص الفرد
المعين.
وهذا بخلاف الإرادة التشريعية الموجبة لحدوث الداعي للمكلف
نحو الفعل، فإنها كما يصح أن تتعلق بشئ معين - كالصلاة مثلا -
كذلك يصح أن تتعلق بأمر مردد بين أمرين أو أمور، كالصوم أو العتق أو
الاطعام.
والحاصل: أنه لا مانع من تعلق الإرادة التشريعية تارة بكلي بحذف
جميع خصوصياته الشخصية - كما هو الغالب - بأن يكون المراد
حقيقة نفس الطبيعة وغيرها من لوازم الوجود مرادا تبعا.
وأخرى بجزئي حقيقي بحيث تكون لوازم الوجود أيضا مرادة.
وثالثة بأحد أمرين أو أمور، وهذا معنى الوجوب التخييري.
فقياس الإرادة التشريعية بالتكوينية حتى يترتب عليه امتناع تعلق
الإرادة التشريعية بالامر المبهم في غير محله.
541



وعليه: فلا مانع من تعلق الإرادة التشريعية بالمبهم. وهذا هو الوجوب
التخييري، هذا.
وفيه ما لا يخفى: لان وزان الإرادة التشريعية وزان الإرادة التكوينية في
امتناع التعلق بالمبهم.
توضيحه: أن الخطابات الشرعية إن كانت مبرزة لما في نفس المولى
من الحب أو الكراهة، ولم يكن هناك إنشاء أصلا - كما هو أحد
المباني -، فلا يمكن تعلق الحب أو الكراهة بشئ غير معين. وان
كانت إنشاء، فلما كان الانشاء مترتبا على تصور ما فيه المصلحة أو
المفسدة، فلا يعقل تعلق التصور والتصديق اللذين يستتبعان الانشاء
بأمر مبهم.
فما في صقع نفس المولى من مركب المصلحة أو المفسدة الموجبتين
للحب أو البغض لا بد أن يكون معينا، لا مرددا، إذ لا يعقل أن يكون
شئ مبهم محبوبا أو مبغوضا للمولى، فيمتنع تعلق الإرادة التشريعية
بأمر مردد بين أمرين أو أمور، من غير فرق بين كون مفاد صيغة
الامر إنشاء النسبة - كما عليه المحقق النائيني ومن تبعه -، وبين كونه
إنشاء الطلب - كما عليه الجل، وبين كونه إبرازا للحب والبغض
القائمين بنفس الامر، كما ذهب إليه بعض المحققين.
فالمتحصل: أنه لا فرق بين الإرادة التكوينية والتشريعية في امتناع
تعلقهما بالمردد بين أمرين أو أمور. فما أفاده المحقق المذكور في
الوجوب التخييري من إمكان تعلق الإرادة التشريعية بالامر المردد لا
يخلو من غموض.
الثاني: ما أفاده سيدنا الأستاذ مد ظله في الدرس من: (أن الواجب
التخييري هو الذي أنشأ وجوبه عدليا، بحيث يكون إنشاء النسبة
متعلقا
بكل واحد من الابدال - كالصوم والاطعام والعتق -، لكن بنحو
العدلية المدلول عليها بكلمة:
542



(أو)، ولو لم تكن هذه الكلمة كان كل واحد من الابدال واجبا تعيينيا،
وليس الانشاء في شئ منها مشروطا بعدم الاخر حتى يلزم
الواجب المشروط، كما هو أحد الوجوه الآتية التي تفصي بها عن
الاشكال). هذا ملخص ما حررناه عنه دام ظله في مجلس درسه
الشريف.
أقول: ما أفاده مد ظله راجع إلى مقام الاثبات، بمعنى: أن الخطاب
التخييري عبارة عن تعلق إنشاء النسبة بكل واحد من الابدال مع
اشتماله على كلمة (أو)، إذ بدونها يكون ظاهر الخطاب وجوب كل
منها تعيينا، وهذا وإن كان متينا لكنه أجنبي عن الاشكال الراجع
إلى مقام الثبوت، وتعقل حقيقة الوجوب التخييري.
وإن كان مرامه مد ظله إمكان تعلق الإرادة التشريعية بالمبهم، فهو
مناف لما أفاده في رد كلام شيخه الميرزا النائيني (قده) من مساواة
الإرادتين: التكوينية والتشريعية في امتناع التعلق بالمبهم، وعدم
إمكان التفكيك بينهما في جواز تعلق التشريعية بالمبهم، وعدم جواز
تعلق التكوينية به، فلاحظ.
ولعله - لما ذكرناه من الاشكال - قال دام ظله بعد ذلك: (ولو لم
يمكن تسليم هذا الوجه، فلا محيص عن الالتزام بما أفاده صاحب
الكفاية في دفع إشكال الوجوب التخييري).
الثالث: ما عن شيخنا المحقق العراقي (قده): (من تعلق الإرادة بكل
واحد من الطرفين أو الأطراف، غاية الامر: أنها في كل واحد منهما أو
منها ناقصة، بمعنى: أن الإرادة في كل واحد لا تسد جميع أبواب عدم
متعلقها، بل تسد أبواب عدمه إلا باب عدمه المقارن لوجود الاخر،
فلا تحريك لهذه الإرادة في ظرف وجود الطرف الآخر، كما إذا أراد
المولى الصوم مثلا في كل حال إلا في حال وجود العتق.
543



والحاصل: أن الإرادة تتعلق بكل واحد من الأطراف على الوجه
الناقص ولازم هذه الإرادة الناقصة جواز ترك بعض الأطراف في ظرف
وجود الاخر، وحصول العصيان بترك جميع الأطراف.
وأنت خبير بعدم تصور نقصان في الإرادة، لأنها هي الشوق المؤكد
المحرك للعضلات نحو المراد، فإن لم يصل الشوق إلى هذه المرتبة
فليس بإرادة.
وعليه: فلا بد من توجيه كلامه (قده) بأن يقال: إن إرادة كل من
الأطراف مقيدة بعدم الاخر، ففي ظرف وجوده لا إرادة أصلا بالنسبة
إلى غيره، فيرجع ما أفاده (قده) إلى وجه آخر سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
هذا كله مضافا إلى: أن لازم تعدد الإرادة تعدد العقاب، لتمامية الإرادة
عند ترك الجميع، كما لا يخفى.
الرابع: أن يكون وجوب كل واحد من الأطراف مشروطا بعدم وجود
الاخر.
وفيه أولا: أن لازمه وجوب كل من الأطراف تعيينا، وهو غير الوجوب
التخييري.
وثانيا: أن ترك الجميع مستلزم لتعدد العقاب، لفعلية الوجوب حينئذ
بالنسبة إلى جميع الأطراف، حيث إن شرط وجوب الجميع - وهو
ترك الكل - حاصل، وهذا كما ترى.
وثالثا: أن صحة هذا الوجه منوطة بأمرين: أحدهما: تعدد الملاك بأن
يكون لكل واحد من الأطراف ملاك يخصه. ثانيهما: تضاد تلك
الملاكات في الوجود بحيث لا يمكن الجمع بينها كذلك، وإلا لكان
كل واحد منها واجبا تعيينيا، فلو كان الملاك واحدا لم يصح هذا
الوجه،
لخلو ما عدا واجده عن ملاك التشريع، وهو خلاف ما عليه مشهور
العدلية: من تبعية الاحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد.
544



وبالجملة: هذا الوجه من قبيل الترتب المعلوم توقفه على وجود
الملاك في الطرفين.
ورابعا: بعد تسليم تعدد الملاكات وتزاحمها في الوجود لا يمكن
أيضا الالتزام بإناطة وجوب كل من الأطراف بعدم الاخر، وذلك لان
هذه الإناطة إنما تصح في التزاحم الاتفاقي، كإنقاذ الغريقين مع عدم
أهمية أحدهما. وأما في التزاحم الدائمي - كالمقام - حيث إن تزاحم
ملاكات الابدال من الصوم والاطعام والعتق دائمي مع عدم عجز
المكلف عن الجمع بينها، فلا محالة يكون أحد الملاكات مؤثرا في
تشريع حكم واحد لاحد الأطراف، لا أن جميعها تؤثر في تمام
الأطراف. فهذا الوجه الرابع غير سديد.
الخامس: إرجاع التخيير الشرعي إلى العقلي، ببيان: أن الغرض من أحد
الامرين أو الأمور واحد، والمفروض حصوله بأحدهما أو أحدها،
وحيث إن المتباينات بما هي متباينات لا تؤثر في واحد، فلا بد أن
يكون هناك جامع يؤثر في الغرض الواحد، لئلا يلزم صدور الواحد
عن المتعدد، فمتعلق الوجوب حقيقة هو ذلك الجامع، ولازمه كون
التخيير بين الأطراف عقليا، لان مطلوبية كل منها إنما هي لمصداقيته
لذلك الجامع، لا لوقوع كل منها بخصوصيته الشخصية موردا للطلب.
وإنما تكون الخصوصية الفردية من لوازم الوجود، من دون دخلها
في متعلق الوجوب.
وليس هذا التخيير إلا عقليا، إذ الواجب التخييري الشرعي عبارة عن
دخل الخصوصيات الفردية في المطلوب، وهذا هو الفارق بين
التخيير الشرعي والعقلي.
وفيه أولا: أن برهان امتناع صدور الواحد عن الكثير غير تام في الوحدة
النوعية، كالاقتدار على الاستنباط الذي هو الغرض في علم
الأصول، وإنما يتم
545



ذلك في الواحد الشخصي، فاستكشاف الجامع بين الأطراف مما لا
سبيل إليه.
وثانيا: - بعد تسليم صحة استكشاف الجامع بالبرهان المزبور - أنه لا
بد أن يكون الجامع الذي يتعلق به الإرادة، ويقع موردا للطلب
قريبا عرفيا يعرفه المكلف، ويميزه حتى يصح إلقاؤه إليه، كسائر
الطبائع الملقاة إليه في كونه فعلا اختياريا من أفعاله، كالصلاة، و
الصوم، والحج، وغيرها، بداهة أن متعلق التكليف فعل المكلف، فلا
بد من تمييزه، ومعرفته، حتى ينبعث عن أمره، ولا يندرج في
التكليف بالمجهول. ولا يصلح البرهان المذكور - بعد فرض تماميته -
حتى في الواحد النوعي لاثبات وجود مثل هذا الجامع.
وثالثا: أن إرجاع التخيير الشرعي إلى العقلي يستلزم عدم دخل
الخصوصيات الفردية في المطلوب، وكون متعلق الطلب نفس
الطبيعة.
وهذا خلاف ظاهر أدلة الواجب التخييري، لان مثل قوله: (صم، أو
أطعم، أو أعتق) ظاهر في دخل خصوصيات هذه الأطراف في
المطلوبية.
فالمتحصل: أن الالتزام بكون هذا الوجه الراجع إلى فرض الجامع
الملاكي متعلقا للوجوب مما لا موجب له.
السادس: كون متعلق الوجوب الجامع الأصيل بحيث يكون الغرض
قائما به كسائر الكليات الواقعة في حيز الطلب، فالتخيير بين
الأطراف لا محالة يكون عقليا.
وفيه: أنه إرجاع إلى التخيير العقلي، وإنكار للتخيير الشرعي.
مضافا إلى ما عرفت: من أنه يعتبر أن يكون الجامع عرفيا يميزه
المكلف وقابلا للالقاء إليه، لكونه فعلا اختياريا له، فلا بد من معرفته
حتى ينبعث عن أمره.
السابع: كون متعلق الوجوب عنوانا انتزاعيا، وهو مفهوم (أحدهما) أو
546



(أحدها)، فمتعلق الوجوب هو هذا العنوان الانتزاعي الصادق على كل
واحد منهما أو منها.
وفيه أولا: أنه مع وجود الجامع الأصيل لا تصل النوبة إلى الجامع
الانتزاعي.
وثانيا: عدم صلاحية العنوان الانتزاعي لتعلق الطلب به، لان متعلق
الإرادة هو ما يقوم به الملاك، ومن المعلوم: أن العناوين الانتزاعية
التي لا وجود لها في الخارج أصلا لا تقوم بها الملاكات، فلا تتعلق بها
الإرادة والطلب أيضا.
وثالثا: أن شيئا من الطرفين أو الأطراف ليس مصداقا للمفهوم المزبور،
لان كل واحد معين في الخارج، وليس فردا مرددا، ومن
المعلوم: عدم قابلية المفهوم من حيث هو لتعلق الطلب به.
وملاك هذا الاشكال: امتناع تعلق الطلب بمفهوم لا مطابق له في
الخارج وإن لم يكن من العناوين الانتزاعية.
الثامن: كون كل واحد من الأطراف واجبا تعيينيا، غاية الامر: أن الاتيان
بأحدها مسقط للباقي.
وفيه أولا: أنه خلاف ظاهر أدلة الواجب التخييري، حيث إن كلمة: (أو)
فيها ظاهرة في وجوب كل واحد من الأطراف تخييرا.
وثانيا: لزوم تعدد العقاب عند ترك الجميع، والظاهر عدم التزام أحد
به.
وثالثا: أنه يرجع إلى الوجه الرابع، أعني: كون وجوب كل من الأطراف
مشروطا بعدم الاخر، إذ لا معنى للسقوط بفعل أحدها إلا تقييد
إرادة كل منها بعدم الاخر، وقد تقدم الكلام فيه.
التاسع: كون الواجب هو المعين عند الله تعالى، والمجهول عندنا.
وفيه أولا: أنه خلاف ظاهر الأدلة، لظهورها في وجوب كل منها، لا
أحدها.
547



وثانيا: أن سائر الأطراف إن كان ملاكها تاما، فلا بد من إيجابها أيضا، و
إلا يلزم كف الفيض عن مستحقه. وإن لم يكن تاما، فلا وجه
لسقوط الواجب به، للزوم تفويت الملاك التام بلا موجب، بل لا بد
حينئذ من بيان ما هو الواجب عنده سبحانه وتعالى حتى يؤتى به، و
يستوفي ملاكه.
والحاصل: أن تفويت الغرض اللازم تحصيله قبيح عقلا، فكيف يصح
للحكيم إبراز الامر بصورة التخيير المستلزم لفوات الملاك أحيانا.
وثالثا: أن مقتضى العلم الاجمالي لزوم الجمع بين الأطراف، تحصيلا
للعلم بوجود الواجب الواقعي المعين عنده عز وجل. إلا أن يقال:
بسقوط الواجب بغيره القائم بملاكه.
العاشر: أن الواجب هو المجموع من حيث المجموع مع السقوط
بإتيان البعض.
وفيه أولا: أنه خلاف التخيير المستفاد من ظاهر الأدلة.
وثانيا: عدم تحقق الامتثال بإتيان البعض.
وثالثا: أن لحاظ الاجتماع ثبوتا وإثباتا مما يحتاج إلى مئونة زائدة،
لكونه قيدا للمتعلق، والاطلاق يدفعه.
ورابعا: أن دخل الاجتماع في موضوع الخطاب يوجب ارتباطيته،
فيصير كل واحد من الأطراف جزا للمأمور به، فكيف يمكن الاكتفاء
ببعضها؟ وبالجملة: ففي جميع الوجوه المذكورة لتعقل الوجوب
التخييري مناقشات قد تعرضنا لبعضها، وأو كلنا بعضها الاخر إلى
الناظرين.
ولعل الأولى في تصويره أن يقال: إنه لا نقصان في الإرادة حتى يرد
عليه:
أن الإرادة هي الشوق المؤكد المستتبع لحركة العضلات، ولا يتصور
فيها النقصان،
548

والتحقيق (1) أن يقال: إنه إن كان الامر بأحد الشيئين بملاك أنه هناك

بل الإرادة التامة تتعلق بغرض يحصل بأحد أمور من دون نقصان في
شئ من الإرادة والمراد. مثلا: إذا أراد المولى رفع عطشه، وكان
هناك أسباب عديدة لرفعه من الماء، والرقي، والبطيخ، وماء الرمان،
وغيرها، فيصح حينئذ أن يأمر عبده برفع عطشه، فإن علم العبد
بما يوجب رفع العطش لا يجب على المولى بيان ذلك، وإلا وجب
عليه.
وهذا نظير أمر المولى بطم حفرة حصلت في الأرض من قطع شجر أو
غيره، فمراده الجدي - وهو الطم - يحصل بالتراب، والاجر، و
الحجر، وغيرها، فلو لم يصرح بأسباب الطم فالعقل يخير العبد بينها.
وإن صرح بالتخيير بين اثنين، أو أزيد منهما كان التخيير
شرعيا، لكشفه عن دخل خصوصيات الأطراف في الحكم، كما إذا
كان مراده في المثال طم الحفر بما لا يوجب صلابة الأرض.
فالتخيير الشرعي تخيير بين محصلات المراد من دون نقص في نفس
الإرادة أو المراد، ولا يلزم محذور في التخيير بين محصلات
المراد.
وإن نوقش في هذا الوجه أيضا، فلا يقدح في وقوع الوجوب التخييري
الذي وقع في الشرعيات والعرفيات بلا ارتياب، فإن عدم تعقل
كنه الوجوب لنا لا يضر بوقوعه المسلم لأنه إشكال علمي أمكن لنا
دفعه أم لا، والله الهادي إلى الصواب.
[1] ولكن حكي: أن كل واحد من المعتزلة والأشاعرة تبرأ من القول
549

غرض واحد يقوم به كل واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل به
تمام الغرض، ولذا (1) يسقط به الامر كان الواجب في الحقيقة هو
الجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا، لا شرعيا، و
ذلك (2) لوضوح أن الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان
ما لم يكن بينهما جامع في البين، لاعتبار (3) نحو من السنخية بين
العلة والمعلول. وعليه: فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان أن
الواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.

الأخير، وهو: (وجوب المعين عند الله تعالى)، لان المكلفين إذا
اختلفوا، فاختار بعضهم في الكفارة: الصوم، والاخر: الاطعام، و
الثالث:
العتق، أو أتى بعضهم بالجميع فلا يتميز الواجب حينئذ عن غيره.
مضافا إلى: أن مقتضى العلم الاجمالي باشتغال الذمة بخصوص
المعين عنده تعالى: لزوم الاتيان بجميع الابدال، إلا أن يقول قائله
بسقوط
الواجب بغيره.
550

وإن (1) كان بملاك أنه يكون في كل واحد منهما غرض لا يكاد
يحصل مع حصول الغرض في الاخر بإتيانه، كان كل واحد واجبا بنحو
(2) من الوجوب يستكشف عنه (3) تبعاته (4) من عدم جواز تركه إلا
إلى الاخر، وترتب (5)
551

الثواب على فعل الواحد منهما، والعقاب على تركهما (1)، فلا وجه
في مثله (2) للقول بكون الواجب هو (×) أحدهما لا بعينه مصداقا ولا
مفهوما، كما هو

(×) فإنه وإن كان مما يصح أن يتعلق به بعض الصفات الحقيقية ذات
الإضافة - كالعلم - فضلا عن الصفات الاعتبارية المحضة،
كالوجوب، والحرمة، وغيرهما مما كان من خارج المحمول الذي
ليس بحذائه في الخارج شئ غير ما هو منشأ انتزاعه، إلا أنه لا يكاد
يصح البعث حقيقة إليه، والتحريك نحوه، كما لا يكاد يتحقق الداعي
لإرادته، والعزم عليه ما لم يكن مائلا إلى إرادة الجامع، والتحرك
نحوه، فتأمل جيدا.
552

واضح (1). إلا أن يرجع إلى ما ذكرنا (2) فيما إذا كان الامر بأحدهما
بالملاك الأول من (3) أن الواجب هو الواحد الجامع بينهما. ولا
أحدهما معينا (4) مع كون كل منهما مثل الاخر (5) في أنه واف
بالغرض، ولا (6) كل واحد منهما
553

تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة (1) عدم السقوط مع إمكان
استيفاء ما في كل منهما من الغرض، وعدم (2) جواز الايجاب كذلك
(3) مع عدم إمكانه (4)، فتدبر (5).
بقي الكلام في أنه هل يمكن التخيير عقلا (6) أو شرعا (7) بين الأقل والأكثر، أو
لا؟ ربما يقال: (بأنه محال، فإن (8) الأقل إذا وجد كان هو الواجب
لا محالة ولو كان في ضمن الأكثر، لحصول (9) الغرض به، وكان الزائد
عليه (10)
554

من أجزاء الأكثر زائدا على الواجب (1)، لكنه ليس كذلك، فإنه (2) إذا
فرض أن المحصل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر، لا الأقل
الذي في ضمنه (3) بمعنى (4) أن يكون لجميع أجزائه حينئذ (5)
دخل في حصوله (6) وإن كان الأقل لو لم يكن في ضمنه (7) كان
وافيا به
(8) أيضا (9)، فلا محيص (10) عن التخيير
555

بينهما [1] إذ تخصيص الأقل بالوجوب حينئذ كان بلا مخصص (1)،
فإن

[1] نعم هذا التخيير وإن كان صحيحا، لكنه أجنبي عن التخيير
المبحوث عنه، وهو الأقل والأكثر، ومندرج في التخيير بين
المتباينين،
لمباينة الماهية بشرط شئ للماهية بشرط لا.
ولازم هذا الكلام من المصنف (قده) الاعتراف بما ذكره بقوله: (ربما
يقال:
بأنه محال. إلخ) من الاستحالة، وعدم معقولية التخيير بين الأقل و
الأكثر، ضرورة أن الأقل بشرط لا يباين الأكثر الذي هو الأقل
بشرط شئ، فيخرجان عن الأقل والأكثر، ويندرجان في المتباينين،
فأخرج التخيير بينهما عن التخيير بين الأقل والأكثر، وأدرجه
في التخيير بين المتباينين.
وهذا إخراج موضوعي خارج عن محل البحث. ومع ذلك لا يجدي،
لان التباين الناشئ عن جعل شئ بشرط لا وبشرط شئ عقلي، لا
خارجي، ولا يرتفع الاشكال إلا بالتباين الخارجي.
ومع الغض عن ذلك لم يثبت أولوية التصرف في الأدلة التي ظاهرها
التخيير كذلك بتقييد الأقل (بشرط لا) من التصرف في الهيئة في
جانب الأكثر بحمل أمره على الاستحباب.
لكن التصرف في الهيئة لا يلائم جميع الموارد، فإنه لا يظن من أحد أن
يلتزم باستحباب الركعتين الأخيرتين في الصلوات الرباعية في
مواطن التخيير، لأنه بعد التسليم على الأوليين يسقط الامر، ضرورة أن
الأقل فرد للطبيعة المأمور بها، والمفروض وفاؤه بالغرض
كوفاء الأكثر به، فلو فرض حينئذ استحباب الركعتين الأخيرتين
556



كانتا صلاة مستقلة مندوبة بأمر على حدة، إذ المفروض سقوط الامر
الوجوبي المتعلق بالطبيعة، فلا يصدق الأكثر على الأخيرتين. وقبل
التسليم لا يسقط الامر، لعدم فردية ذات الأقل للطبيعي المأمور به،
بداهة توقف فرديته له على التسليم، فيكون الأكثر بتمامه متصفا
بالوجوب.
فحمل الامر بالأكثر على الندب لا يطرد في جميع الموارد، بل فيما إذا
كان ذات الأقل فردا للطبيعي المأمور به، كالتسبيحة الواحدة،
فإنها بنفسها مصداق لطبيعة التسبيحة، فالامر بالأكثر حينئذ لا بد من أن
يحمل على الندب، لدلالة الاقتضاء على ذلك، ضرورة أنه بعد
فردية الأقل للطبيعة يسقط الامر الوجوبي لا محالة، وعليه: فلو لم
يحمل الامر بالأكثر على الندب يلزم لغويته.
فالمتحصل: أن مورد حمل الامر بالأكثر على الاستحباب إنما هو فيما
إذا كان الأقل بنفسه فردا للطبيعة، حيث إن الامر بالأكثر لو لم
يحمل على الندب لزم أن يكون لغوا، لان التسبيحة الواحدة بنفسها
فرد لطبيعة التسبيحة، ووافية بالغرض المترتب على صرف الوجود
من الطبيعة الذي هو المطلوب، فيسقط أمرها الوجوبي، فلا محيص
حينئذ عن حمل الامر بالزائد عليها على الاستحباب.
وأما إذا لم يكن الأقل بذاته مصداقا للطبيعة، بأن كانت فرديته لها
منوطة بمؤونة زائدة، كتوقف فردية الركعتين الأوليين لطبيعة
الصلاة المأمور بها على التسليم في الثانية، فيصح حينئذ أن يقال
بالتخيير بين الأقل والأكثر، فإن أتى بالتسليم سقط الامر الوجوبي،
لوجود الأقل المنطبق عليه الواجب، ولا مجال لاستحباب الأكثر
حينئذ إلا مع نهوض دليل خاص عليه، وإن لم يأت به، فالواجب
تعيينا هو
الأكثر.
557

الأكثر بحده يكون مثله (1) على الفرض (2)، مثل (3) أن يكون
الغرض الحاصل من رسم الخط مترتبا على الطويل إذا رسم بما له من
الحد، لا على القصير في ضمنه، ومعه (4) كيف يجوز تخصيصه بما لا
يعمه. ومن الواضح: كون هذا الفرض (5) بمكان من الامكان.
إن قلت (6): هبه في مثل ما إذا كان للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل
في
558

ضمنه (1) وجود على حدة، كالخط الطويل الذي رسم دفعة بلا تخلل
سكون في البين، لكنه ممنوع فيما كان له في ضمنه وجود، كتسبيحة
في ضمن تسبيحات ثلاث، أو خط طويل رسم مع تخلل العدم في
رسمه، فإن الأقل قد وجد بحده (2)، وبه يحصل الغرض على الفرض
(3)،
ومعه (4) لا محالة يكون الزائد عليه مما لا دخل له في حصوله،
فيكون زائدا على الواجب، لا من أجزائه (5).
قلت (6):
559

لا يكاد يختلف الحال بذلك (1)، فإنه (2) مع الفرض (3) لا يكاد
يترتب الغرض على الأقل في ضمن الأكثر، وإنما يترتب عليه بشرط
عدم الانضمام (4)، ومعه كان مترتبا على الأكثر بالتمام (5).
وبالجملة: إذا كان كل واحد من الأقل والأكثر بحده (6) مما يترتب
عليه الغرض، فلا محالة يكون الواجب هو الجامع بينهما، وكان
التخيير بينهما عقليا إن كان هناك غرض واحد، وتخييرا شرعيا فيما
كان هناك غرضان، على ما عرفت (7).
نعم (8) لو كان الغرض مترتبا على الأقل من دون دخل للزائد، لما كان
560

الأكثر مثل الأقل، وعدلا له، بل كان فيه اجتماع الواجب وغيره
مستحبا كان أو غيره (1) حسب اختلاف الموارد، فتدبر جيدا.
فصل في وجوب الواجب الكفائي
والتحقيق: أنه سنخ (2) من الوجوب، وله تعلق بكل واحد (3)،
بحيث
561

لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا وإن سقط عنهم لو
أتى به بعضهم [1] وذلك (1) لأنه قضية ما إذا كان هناك غرض
واحد حصل بفعل واحد

[1] لا يخفى: أنه لا خلاف ولا إشكال في وقوع الوجوب الكفائي في
الشريعة المقدسة، إلا أن الكلام وقع في تصويره بنحو ينطبق على
المقصود: من وجوبه على كل واحد من المكلفين بحيث لو امتثل
الجميع استحقوا المثوبة، ولو خالفوا كذلك استحقوا العقوبة، ولو أتى
به
بعضهم سقط عن الكل. وقد ذكروا في تصويره وجوها:
الأول: تعلق الوجوب بالجميع، كتعلق الوجوب العيني به، بمعنى:
تعلقه بكل واحد على نحو العام الاستغراقي، وسقوطه عن الباقين
بفعل
البعض. وعليه
562

صادر عن الكل، أو البعض.

جميع الامامية، وأكثر العامة على ما قيل.
الثاني: ما نسب إلى الرازي، والبيضاوي، والشافعية: من تعلق
الوجوب بالبعض ممن يكتفي به في أداء الفعل. نظير ما ذكر في
الواجب
التخييري: من تعلقه بواحد لا بعينه، غاية الامر: أن الابهام هناك في
المكلف به، وهنا في المكلف.
وفيه: أنه لا وجه لتعلق الوجوب بالبعض، لأنه ترجيح بلا مرجح.
مضافا إلى: أنه مخالف لظواهر أدلة الواجبات الكفائية، فإن قول أبي
عبد الله عليه السلام في خبر سماعة: (وغسل الميت واجب)
بقرينة حذف من يجب عليه ظاهر في العموم. وكذا قول النبي صلى
الله عليه وآله في خبر السكوني: (لا تدعوا أحدا من أمتي بلا صلاة)
ظاهر في العموم، ونحوهما سائر أدلة الواجبات الكفائية، فراجع.
الثالث: ما نسب إلى قطب الدين الشيرازي: من تعلق الوجوب
بالمجموع من حيث هو مجموع، فإذا تركوه كان العصيان ثابتا بالذات
للمجموع، ولكل واحد بالعرض، وإذا أتى به البعض سقط عن الباقين.
وفيه أولا: أن أخذ قيد المجموع في ناحية المكلف لا مأخذ له بعد
كون الوجوب الكفائي كالعيني من حيث التوجه إلى المكلفين، فإنه
قيد
زائد يحتاج ثبوتا وإثباتا إلى مئونة زائدة، وينفي عند الشك فيه
بإطلاق الدليل.
وثانيا: أنه لا وجه للسقوط بفعل البعض، إذ المفروض عدم صدوره
عن المكلف أعني: المجموع الذي هو مناط السقوط.
إلا أن يقال: إن السقوط حينئذ إنما هو لأجل انتفاء الموضوع، حيث إن
الموضوع لوجوب الغسل وغيره كفاية هو الميت الذي لم يغسل،
أو لم يصل
563



عليه، أو لم يكفن، أو لم يدفن، فإذا تحققت هذه الأمور على وجه
صحيح سقط وجوبها وإن لم تصدر من مكلف، كما إذا صدرت من
صبي
مميز بناء على شرعية عباداته.
الرابع: أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كل أحد مشروطا بترك الاخر، فلا
يجب على مكلف إلا مع ترك صاحبه، فإذا ترك الكل عوقبوا
جميعا، لحصول شرط الوجوب - وهو الترك - لجميعهم. وإذا فعله
واحد منهم لا يجب على غيره، لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة
إليه، لا أنه يسقط عنه، لان السقوط فرع الثبوت وإذا أتى به كلهم لا
يتصف الفعل بالوجوب أصلا، لعدم تحقق شرط الوجوب وهو ترك
البعض.
والحاصل: أن مفاد هذا الوجه هو الوجوب العيني عند ترك البعض.
وفيه ما لا يخفى: ضرورة أن عدم اتصاف الفعل بالوجوب عند إتيان
الجميع في آن واحد خلاف البداهة.
مضافا إلى: أن إتيان البعض به مانع عن ثبوت الوجوب على غيره، لا
مسقط عنه.
وإلى: أنه مع الشك في قيام الغير به تجري البراءة في حق الشاك، وهو
كما ترى.
وإلى: أن لسان أدلة الوجوب الكفائي والعيني واحد، فجعل الترك في
الأول شرطا للوجوب في حق الغير تصرف في الأدلة بلا موجب.
وإلى: أن إرجاع الوجوب الكفائي إلى العيني المشروط إنكار للوجوب
الكفائي، لا توجيه له.
وإلى: أن اشتراط خطاب كل بترك الاخر، أو البناء على الترك أجنبي
عن المقام، لان مورده تعدد الملاك وامتناع استيفاء الجميع،
للتزاحم في مقام الفعلية كإنقاذ الغريقين، فلا محيص حينئذ عن تقييد
إطلاق وجوب إنقاذ كل منهما
564



بترك الاخر. فيصير الوجوب في كل منهما مشروطا.
وليس الواجب الكفائي كذلك، لوحدة الملاك فيه، فجميع الخطابات
الكفائية لا تحكي عن ملاكات عديدة، بل عن ملاك واحد، فلا يتمشى
فيها الاشتراط المزبور.
الخامس: أن يكون الوجوب بالنسبة إلى كل واحد مشروطا بعدم بناء
الاخر على الاتيان بالفعل، فإذا علم واحد من المكلفين ببناء غيره
على الترك وجب، فمع العلم بالبناء على الفعل لا يجب على الغير، و
كذا مع الشك في العزم على الاتيان به لأنه شك في التكليف، فتجري
فيه البراءة.
والحاصل: أن الوجوب منوط بإحراز بناء الغير على الترك، فما لم
يحرز هذا البناء الذي هو شرط الوجوب لا يحكم به، هذا.
وفيه أولا: ما تقدم من: أنه إنكار للوجوب الكفائي، لرجوعه إلى
الوجوب العيني المشروط.
ومن: أنه لا يتصف الفعل من أحد منهم بالوجوب إذا بنى الجميع على
الاتيان به، لعدم تحقق شرط وجوبه، وهو البناء على الترك.
وثانيا: أن لازمه سقوط الوجوب عن الباقين بمجرد بناء بعض على
الاتيان به، بل عدم ثبوته في حق الباقين بمجرد بناء غيرهم على
الفعل ولو لم يشرع بعد فيه فضلا عن إتمامه. وهذا خلاف ما ذكروه
في الواجبات الكفائية: من أن سقوطها منوط بالاتيان بتمام
الواجب، أو الشروع فيه.
وأما مجرد البناء على الفعل، فلم يدل دليل على مسقطيته عن الغير.
فالحق هو الوجه الأول، أعني: تعلق الوجوب الكفائي بكل واحد من
المكلفين على سبيل العموم الاستغراقي، كتعلق الوجوب العيني بهم،
بأن يقال: إن الوجوب سنخ واحد سواء أكان عينيا، أم كفائيا، أم
تخييريا أم تعيينيا، فإن تعلقه بواحد مبهم غير معقول، لامتناع
التحريك
والبحث نحوه، وتعلقه بمعين
565



ترجيح بلا مرجح، فلا بد من أن يتعلق بالجميع كالوجوب العيني، ولا
فرق بينهما من هذه الحيثية. فالتكليف كالمكلف به متعدد في كل
من الوجوب العيني والكفائي، فكما يتعلق الوجوب العيني المتوجه
إلى كل واحد من المكلفين بفعل نفسه لا بفعل غيره، فكذلك
الوجوب
الكفائي، فإذا امتثل الكل استحقوا الثواب، وإذا عصوا استحقوا
العقاب، بمعنى: استحقاق كل واحد منهم عقابا مستقلا، كما في
الواجبات
العينية.
فالفرق بين العيني والكفائي هو: أنه إذا بادر أحدهم إلى الامتثال سقط
عن الباقين في الكفائي، دون العيني. ومنشأ هذا الفرق هو:
ارتفاع موضوع التكليف بهذه المبادرة في الواجب الكفائي، حيث إن
موضوع وجوب التجهيز مثلا: الميت الذي لم يجهز، فتجهيزه مرة
واحدة يخرجه عن هذا الموضوع، وإلا فليس اختلاف في حقيقة
الوجوب حتى يفرق فيه بين العيني والكفائي، بل الاختلاف إنما هو
في
متعلق الوجوب، لخصوصية أخذت فيه، لما عرفت: من أن متعلق
الوجوب الكفائي متخصص بخصوصية ترتفع بمبادرة واحد منهم إلى
الامتثال، وليس متعلق الوجوب العيني كذلك، هذا.
ويمكن أن يفرق بينهما أيضا من جهة أخرى، وهي: أن الغرض من
الواجب الكفائي واحد، ولذا يسقط بفعل واحد منهم. بخلاف
العيني،
فإن الغرض منه متعدد، ولذا لا يسقط بذلك، ومن المقرر: أن وحدة
الملاك لا تقتضي تعدد الخطاب، بل وحدته، إذ يلزم من تعدده
اللغوية، للزوم خلو بعض الخطابات حينئذ عن المصلحة، ولما كان
الملاك في الواجب العيني متعددا بحيث يكون لكل فعل من كل
مكلف
ملاك يخصه، فلا محالة يتعدد الخطاب، ويكون لكل مكلف خطاب
يختص به.
بخلاف الواجب الكفائي، فإن وحدة ملاكه توجب وحدة خطابه، فلا
وجه لان يقال:
إن الوجوب الكفائي يتعلق بكل واحد من المكلفين على حذو تعلق
العيني به.
566

كما أن الظاهر (1) هو: امتثال الجميع لو أتوا به دفعة، واستحقاقهم
للمثوبة، وسقوط (2) الغرض بفعل الكل، كما هو (3) قضية توارد
العلل المتعددة على معلول واحد.
فصل
لا يخفى: أنه وإن كان الزمان مما لا بد منه عقلا (4) في الواجب،

فالأولى أن يقال: إن الوجوب الكفائي ما يتعلق بصرف وجود المكلف
المنطبق على كل واحد من المكلفين على البدل، كما هو المتداول
عند العرف، فإذا أمر المولى أحد عبيده، أو الوالد أحد أولاده بشئ،
كشراء لحم، أو خبز، أو غير ذلك، فليس المأمور واحدا معينا، بل
صرف الوجود منهم الصادق على كل واحد منهم، ولذا لو تركوا عصى
الجميع، واستحق كل واحد منهم عقابا مستقلا، لانطباق صرف
الوجود عليه، ولو امتثلوا استحق الجميع ثوابا كذلك.
567

إلا أنه (1) تارة مما له دخل فيه شرعا (2)، فيكون موقتا، وأخرى لا
دخل له فيه أصلا [1] فهو غير موقت. والموقت إما أن يكون الزمان
المأخوذ فيه بقدره (3) فمضيق [2] وإما أن يكون أوسع منه (4)
فموسع.

[1] الأولى: تبديله بقوله: (شرعا)، لان (أصلا) ظاهر في عدم الدخل و
لو بنحو الظرفية، وهو كما ترى.
مضافا إلى: أن المقابلة تقتضي عدم الدخل شرعا، لا أصلا حتى ظرفا،
فلو أبدل قوله: (أصلا) ب: (كذلك) أو (شرعا) كان أليق.
[2] قد يستشكل في الواجب المضيق كالصوم بما حاصله: أنه يلزم فيه
أحد المحذورين: تقدم المعلول على العلة، أو تأخره عن العلة زمانا.
توضيحه: أن الانبعاث لا بد وأن يتأخر عن البعث، لترتبه عليه، ففي
568

ولا يذهب عليك (1): أن الموسع كلي كما كان له أفراد دفعية (2)

الصوم الذي يكون وجوبه مشروطا ب آن طلوع الفجر إذا فرض تقدم
الوجوب عليه لزم تقدم المعلول والمشروط على العلة والشرط -
أعني آن الطلوع -، وهو محال، إذ المفروض توقف الوجوب على
الطلوع، وهذا التقدم بديهي البطلان.
وإذا فرض تأخر الوجوب عن الطلوع لزم خلو آن من آنات النهار عن
الصوم، وهو خلف. ولزم تأخر المعلول عن العلة زمانا.
وإن شئت فقل: إنه يلزم تأخر الحكم عن موضوعه زمانا، وقد قيل: إن
الحكم بالنسبة إلى موضوعه كالمعلول بالنسبة إلى علته في
اتحادهما زمانا واختلافهما رتبة، فإذا تم الموضوع ترتب عليه الحكم
بلا مهلة، وإن لم يترتب عليه لم يكن ذلك بموضوع، وهذا خلف.
ويندفع هذا الاشكال ب: عدم لزوم شئ من هذين المحذورين، و
ذلك لاتحاد زمان الوجوب والواجب والانبعاث، ف آن الطلوع زمان
البعث والانبعاث والواجب وهو واحد، وتأخر الانبعاث عن البعث
رتبي، لا زماني. نعم يتوقف الانبعاث على العلم بالبعث قبل الطلوع،
وهو غير تأخر الانبعاث زمانا عن صدور البعث من المولى.
والحاصل: أنه لا بد في انبعاث المكلف عن بعث المولى من علمه
قبل الطلوع بوجوب الصوم حين الطلوع حتى يتمكن من الانبعاث فيه.
569

كان له أفراد تدريجية (1) يكون التخيير بينها كالتخيير بين أفرادها
الدفعية عقليا.
ولا وجه (2) لتوهم (3) أن يكون التخيير بينها شرعيا، ضرورة أن
نسبتها (4) إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إليها [1] كما لا يخفى.

ولعل المستشكل خلط بين تقدم العلم على الانبعاث، وبين تقدم
البعث عليه، فتخيل لزوم تقدم البعث زمانا عن الانبعاث. وليس الامر
كذلك، بل العبرة بتقدم زمان العلم بالبعث على زمان الانبعاث،
ضرورة موضوعية العلم بالبعث عقلا للانبعاث، وعدم موضوعية
نفس
البعث بوجوده الواقعي له، كما ثبت في محله.
[1] لا يخفى أن كون التخيير بين أفراد الموسع عقليا منوط بأن يكون
الواقع في حيز التكليف عنوانا مقيدا بالوقوع بين حدي الزمان
الموسع، كالصلاة بين الزوال والغروب، كأن يقول الشارع: (صل صلاة
واقعة بينهما) حيث إن
570

ووقوع (1) الموسع فضلا عن إمكانه مما لا ريب فيه، ولا شبهة
تعتريه، ولا اعتناء ببعض التسويلات (2) كما يظهر من المطولات.
ثم إنه (3) لا دلالة للامر بالموقت بوجه على الامر به في خارج

هذا العنوان كلي يصدق على جميع ما يقع بين الحدين من أفراد
الصلاة.
وأما إذا كان مفاد دليل التوقيت: إيجاب الصلاة من الزوال إلى الغروب،
فدعوى ظهوره في تعلق الامر بذوات الجزئيات المتصورة بين
الحدين - لا بنفس الجامع - غير بعيدة. وحينئذ يكون التخيير بين
الافراد الواقعة بين الحدين شرعيا، إلا إذا قامت قرينة على عدم
وجوب الجميع تعيينا، فيكون التخيير حينئذ عقليا.
571

الوقت (1) بعد فوته في الوقت لو لم نقل بدلالته (2) على عدم الامر
به.
572

نعم [1] لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد

[1] ربما يكون ما أفاده هنا - من أن إهمال الدليل المنفصل يوجب
صحة التمسك بإطلاق دليل الواجب لاثبات الوجوب بعد انقضاء
الوقت
- منافيا لما أفاده (قده) في النسخ: من عدم دلالة دليل المنسوخ على
الاستحباب - بعد رفع اليد عن ظهوره في الوجوب بدليل الناسخ -
مع أن نسبة الاستحباب إلى الوجوب كنسبة أصل الوجوب إلى
الوجوب الأكيد، ولا وجه للتفكيك بين المقامين، فإن الالتزام ببقاء
مرتبة
من الوجوب بعد خروج الوقت، وذهاب المرتبة الأكيدة منه الثابتة في
الوقت ينافي عدم الالتزام ببقاء مرتبة الاستحباب بعد النسخ و
ارتفاع الوجوب، فكما لا يصح هناك التمسك بدليل المنسوخ على
بقاء مقدار من الرجحان المساوق للاستحباب، فكذلك هنا لا يصح
التمسك بدليل الواجب، وإثبات مرتبة من الوجوب بعد الوقت به.
ويمكن أن يتمسك بإطلاق دليل الواجب - كما في بعض حواشي
المتن - بوجه آخر، وهو: (أن دليل التقييد إذا كان بلسان التكليف و
الامر بإتيان الواجب في الوقت، اختص وجوبه بالتمكن من الاتيان به
في الوقت. أما العاجز عن ذلك، فإطلاق دليل الواجب بالنسبة إليه
يكون سالما عن التقييد، فيتمسك بإطلاقه في خارج الوقت، ويحكم
بوجوبه، ثم يلحق به المتمكن العاصي في الوقت بعدم الفصل).
لكن فيه: أن المقرر في محله: كون الأوامر والنواهي المتعلقة
بالمركبات ظاهرة في الارشاد إلى الجزئية، أو الشرطية، أو المانعية، فلا
فرق بين أن يقول:
(اقرأ في الصلاة فاتحة الكتاب)، أو (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) و
هكذا، فظهورها الأولي في الوجوب والحرمة ينقلب إلى ظهور ثانوي
إرشادي، فينهدم أساس ما أفاده من التفصيل المزبور، لان أساسه
انحفاظ الظهور الأولي للأوامر والنواهي، وقد عرفت سقوطه في
بيان المركبات، فلاحظ وتدبر.
573

بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق لكان قضية إطلاقه ثبوت
الوجوب بعد انقضاء الوقت (1)، وكون (2) التقييد به بحسب تمام
المطلوب، لا أصله (3). [1]

[1] لا يخفى أن المصنف (قده) لم يتعرض لمقام الثبوت، ولا بأس
بالتعرض له، فنقول وبه نستعين: إن الزمان المأخوذ قيدا في لسان
الدليل الشرعي قد يكون دخيلا في جميع مراتب المصلحة، بحيث
يفوت تمامها بخروج الوقت، ولا يبقى منها شئ بعد الوقت، ويعبر
عن
هذا ب: (وحدة المطلوب)، وقد يكون دخيلا في بعض مراتب
المصلحة، بحيث يبقى منها بعضها الاخر، فيستوفى بإتيان الواجب
بعد الوقت،
ويعبر عنه ب (تعدد المطلوب).
ففي الأول لا يجب القضاء بعد الوقت، لعدم مصلحة تقتضي
الوجوب، ولو نهض حينئذ دليل على الوجوب كان من قبيل الجبران و
التدارك لما فات، كوجوب بعض الكفارات المترتبة على ترك بعض
الواجبات خطأ.
وفي الثاني يجب الفعل بعد الوقت إن كان ما بقي من المصلحة لازم
التدارك، ويستحب إن لم يلزم تداركه.
574

وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك
ربما يكون بنحو تعدد المطلوب، بحيث كان أصل الفعل ولو في
خارج الوقت مطلوبا في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب (1)، إلا
أنه لا بد في إثبات أنه (2) بهذا النحو (3) من دلالة (4)، ولا يكفي
الدليل على الوقت إلا [1] فيما عرفت (5).

[1] ظاهره: الاستثناء من نفس دليل التوقيت، يعني: أنه لا يدل على
تعدد المطلوب المستلزم لوجوب القضاء بعد الوقت إلا فيما عرفت.
مع
أنه (قده) لم يذكر قبل ذلك دلالة التوقيت على وجوب القضاء حتى
يشير إليه بقوله: (إلا فيما عرفت)، لان دليل التوقيت إما مطلق ينفي
وجوب القضاء، وإما مهمل لا يدل على شئ من الوجوب وعدمه،
فقوله: (إلا فيما عرفت) مستدرك.
وحق العبارة أن تكون هكذا: (إلا أنه لا بد في إثبات أن التوقيت بنحو
تعدد المطلوب من دلالة ولو كانت إطلاق دليل الواجب، كما
عرفت. ولا يكفي نفس الدليل على الوقت)، ولو قال: (ولا يكفي
دليل الواجب في إثبات تعدد المطلوب إلا فيما عرفت من إطلاقه، و
إهمال دليل التوقيت) كان سليما عن الاشكال.
575

ومع عدم [1] الدلالة، فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها (1) في خارج
الوقت.
ولا مجال (2) لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت [2]
فتدبر جيدا.

[1] مجرد عدم الدلالة على تعدد المطلوب لا يكفي في الرجوع إلى
الأصل، بل لا بد من عدم الدلالة على وحدة المطلوب أيضا، لأنه مع
الدلالة عليها لا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة أيضا، إذ مع الدليل لا
تصل النوبة إلى الأصل وإن كان موافقا له، كما لا يخفى.
فإذا كان دليل الواجب مهملا ودليل التوقيت مطلقا - بمعنى: دلالته
على دخل الوقت في تمام مراتب المصلحة - فلا وجه للرجوع إلى
أصل
البراءة، لدلالة دليل التقييد على وحدة المطلوب المستلزمة لعدم
وجوب القضاء بعد الوقت.
[2] وقد يقال: بجريان استصحاب الكلي من قبيل القسم الثالث هنا،
بتقريب: أنه عند زوال الفرد المعلوم حدوثه - وهو الصلاة المقيدة
بالوقت -
576

فصل
الامر بالامر بشئ أمر به لو كان الغرض حصوله ولم يكن له غرض في
توسيط أمر الغير به إلا تبليغ أمره (1) به، كما هو المتعارف في
أمر الرسل بالامر أو النهي.

يشك في حدوث فرد آخر للوجوب متعلق بالصلاة في خارج الوقت،
فاستصحاب الكلي - وهو الوجوب - باعتبار تعلقه بطبيعي الصلاة
يجري، ومقتضاه وجوب الصلاة بعد خروج الوقت.
لكن فيه ما لا يخفى:
أما أولا: فلما قرر في محله: من عدم جريان الاستصحاب مع تبدل
حال من حالات الموضوع، وزوال وصف من أوصافه، لكونه موجبا
للشك في بقاء
577

وأما (1) لو كان الغرض من ذلك يحصل بأمره بذلك الشئ من دون
تعلق غرضه به، أو مع تعلق غرضه به (2) لا مطلقا، بل بعد تعلق أمره
به (3)، فلا (4) يكون أمرا بذلك الشئ، كما لا يخفى. [1]

الموضوع.
وأما ثانيا: فلعدم جريان الاستصحاب في الكلي مطلقا، لعدم وجود
للجامع بين الفرد الزائل قطعا والمشكوك حدوثه بدوا حتى
يستصحب، فلو وجد كان وجودا مباينا لوجود الفرد الزائل، ومع
المباينة كيف يصح الاستصحاب، إذ لا اتحاد بين المتباينين.
فالحق: عدم جريان الاستصحاب في الموقتات بعد خروج أوقاتها،
فالشك في وجوب الفعل بعد خروج الوقت يكون مجرى أصالة
البراءة.
[1] لا يخفى: أن الثمرة المترتبة على هذا البحث - على ما قيل - هي:
شرعية عبادات الصبي، بمثل قول أبي عبد الله عليه السلام في
حسنة الحلبي أو صحيحته (فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني
سبع
سنين) ونحوه مما ورد في أمر الولي
578

وقد انقدح بذلك (1): أنه لا دلالة بمجرد الامر بالامر على كونه أمرا
به، ولا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه. [1]

للصبي.
لكنك خبير بأنه إذا لم يدل دليل على تعين كون أمر الشارع للأولياء
بأمرهم للصبيان أمرا بنفس ذلك الشئ لم يترتب عليه هذه الثمرة،
لان ترتبها عليه منوط بدلالة الامر بالامر في مقام الاثبات على كون
الواسطة مبلغا، لا آمرا، إذ مع الاجمال وعدم الدلالة لا تترتب
الثمرة المزبورة على هذا البحث، فتكون عبادات الصبي حينئذ
تمرينية.
فالأولى: إثبات مشروعية عبادات الصبي بعموم أدلة التشريع، كقوله
تعالى:
(كتب عليكم الصيام) و (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، ونحوها مما يعم
البالغ وغيره.
وحديث: (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم) لا ينافي عموم الأدلة
حتى يخصصه بالبالغ، لأنه بقرينة وروده مورد الامتنان يرفع الالزام
الموجب للثقل مع بقاء المصلحة على حالها.
وعلى هذا: فلو أتى بالصلاة في الوقت، ثم بلغ أجزأت، ولا تجب
الإعادة.
[1] لا يبعد أن يقال: إن غلبة ورود الامر بالامر في التبليغ، وكون الغرض
متعلقا بنفس الفعل توجب ظهوره فيه، فتكون الغلبة المزبورة
قرينة نوعية على المبلغية، والطريقية، وكون الثالث مأمورا من الامر
الأول، لا الثاني.
وهذه القرينة متبعة ما لم يقم صارف عنها. وعليه: فلا بأس بترتيب
الثمرة المزبورة - وهي: شرعية عبادات الصبي - على هذا البحث،
لعدم قرينة فيها على خلاف الغلبة المزبورة.
579

فصل
إذا ورد أمر بشئ بعد الامر به قبل [1] امتثاله (1)، فهل يوجب تكرار
ذاك الشئ، أو تأكيد الامر الأول، والبعث (2) الحاصل به؟ قضية
إطلاق المادة (3) هو التأكيد، فإن (4) الطلب تأسيسا لا يكاد يتعلق
بطبيعة واحدة مرتين من دون أن يجي تقييد لها في البين ولو (5)
كان بمثل (مرة أخرى) كي يكون متعلق

وقد بسطنا الكلام في شرعية عبادات الصبي في رسالة مستقلة.
[1] وأما إذا ورد بعد امتثال الأول، فيكون الامر الثاني تأسيسا، إذ لا
معنى للتأكيد بعد السقوط، فيتعين كونه تأسيسا، وإلا يلزم اللغوية.
580

كل منهما غير متعلق الاخر، كما لا يخفى. والمنساق (1) من إطلاق
الهيئة وإن كان هو تأسيس الطلب لا تأكيده، إلا (2) أن الظاهر هو
انسباق التأكيد عنها فيما كانت مسبوقة بمثلها ولم يذكر هناك سبب،
أو ذكر سبب واحد (. [1 [3

[1] وأما إن ذكر سبب لأحدهما دون الاخر، حمل على التأسيس، و
وجب التكرار، كأن يقول: (أعتق رقبة) ثم يقول: (إذا أفطرت فأعتق
رقبة).
581