الكتاب: المحكم في أصول الفقه
المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الجزء: ٦
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٤ م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة المنار
ردمك:
ملاحظات:

المحكم
في
أصول الفقه
1

المحكم
في
أصول الفقه
تأليف
السيد محمد الطباطبائي الحكيم
الجزء السادس
مؤسسة المنار
3

الطبعة الأولى
حقوق الطبع محفوظة
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد واله الطيبين الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل
عقدة من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي
ونعم الوكيل، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.
5

المقصد الثالث
في التعارض
7

المقصد الثالث
في التعارض
أشرنا في تمهيد الكلام في الوظائف العملية الظاهرية إلى أنه لاوجه
لجعل مبحث التعارض خاتمة لمباحث الأصول، أو لقسم الوظائف الظاهرية -
كما صنعه شيخنا الأعظم قدس سره - لعدم خروجه عن المقصد المهم بعد تضمنه
تنقيح الكبريات للوظائف الظاهرية التي تقع في طريق الاستنباط، الذي هو
معيار المسألة الأصولية.
ومثله إلحاقه بمباحث الطرق - كما صنعه بعض المعاصرين في أصوله -
لعدم اختصاص بعض مسائله بها، بل يجري في الأصول أيضا، كمسألة مقتضى
الأصل في المتعارضين.
ومن هنا كان الأنسب جعله مقصدا في قبال المقاصد السابقة، كما جرى
عليه المحقق الخراساني قدس سره.
كما أن ما جرى عليه من جعل عنوان البحث هو التعارض أنسب مما
جرى عليه شيخنا الأعظم قدس سره من جعل عنوانه التعادل والتراجيح، لأنه أخص.
ولا سيما مع عدم كون البحث في التراجيح عن أحكامها، بل عن
تشخيص مواردها التي هي من أحكام التعارض.
ومن ثم جرينا على ذلك، كما جرى عليه غير واحد ممن تأخر عنه.
وينبغي التمهيد لمحل الكلام بذكر أمور..
الأول: التعارض تفاعل من العرض. وقد ورد في استعمالات كثيرة
9

بأنحاء مختلفة، وذكر له معاني متعددة قد يرجع بعضها إلى بعض. ولعل الأصل
لغير واحد من تلك المعاني هو العرض المقابل للطول، حيث قد يرجع إليه
استعماله بمعنى السعة في مثل قوله تعالى: " وجنة عرضها كعرض السماء
والأرض " (1). وقوله سبحانه: " إذا مسه الشر فذو دعاء عريض " (2).
كما قد يرجع إليه استعماله بمعنى المنع، تشبيها للمانع بما يقف في
عرض الطريق ويصد عن النفوذ والمضي، كالخشبة المعترضة في النهر المانعة
من جريان الماء فيه، كما تضمنه حديث سراقة: أنه عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وأبي
بكر الفرس. قال ابن الأثير: " أي اعترض به الطريق يمنعهما من المسير ".
ولعله لذا سميت الخشبة التي تمسك عضادتي الباب عارضة، وسمي
الايراد على المطالب العلمية والاستشكال فيها اعتراضا.
وهذا هو المناسب لاطلاق التعارض في المقام، بلحاظ أن كلا من
المتعارضين يمنع من العمل بالآخر، فكأنه مانع له من تأثيره لمقتضاه، وهو
المطابق للمرتكزات العرفية في وجه إطلاق التعارض في أمثال المقام.
ولا وجه مع ذلك لما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من عدم المناسبة بين
المعنى المقصود في المقام والمعنى اللغوي، حيث فسر المعنى اللغوي للعرض
بالاظهار، ومثل له بعض الأعيان المحققين ب‍: عرض المتاع للبيع.
على أن تفسير العرض بالاظهار لا يخلو عن إشكال، بل الظاهر أن المراد
به نحو من الملابسة بين الشيئين ترجع إلى تهيئة أحدهما للاخر واعداده له، كما
في المثال وفى قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض " (3)،

(1) سورة الحديد: 21.
(2) سورة فصلت: 51.
(3) سورة الأحزاب: 72.
10

أو إلى نحو من الاتصال بينهما كما في قوله تعالى: (النار يعرضون عليها) (1)،
أو غير ذلك مما قد يستلزم الاظهار ولا يطابقه مفهوما.
ولا يبعد رجوع ذلك المعنى للمعنى المذكور انفا، لمناسبة ما يكون في
عرض الطريق له جدا. والامر سهل.
الامر الثاني: عرف شيخنا الأعظم قدس سره التعارض في الاصطلاح بأنه تنافي
مدلول الدليلين على وجه التناقض والتضاد، وظاهره وصريح بعض الأعيان
المحققين قدس سره أن ذلك هو المشهور في تعريفه.
وعرفه المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية بأنه: تنافي الدليلين أو الأدلة
بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا.
وعلى ضوء هذين التعريفين يقع الكلام في جهات.
الأولى: أنه حيث تقدم أن إطلاق العرف للتعارض في أمثال المقام مبني
على ملاحظة التمانع بين المتعارضين، فالتنافي بالتناقض أو التضاد لا يطابق
التعارض بما له من المفهوم العرفي، بل هو منشأ له بلحاظ امتناع حجية
المتنافيين والتعبد بهما وعدم صلوحها للعمل، حيث يكون كل منهما بسبب
ذلك مانعا من ترتب مضمون الاخر والعمل به.
والظاهر أن إطلاقه في كلام أهل الفن مبني على الجري على المعنى
العرفي المذكور، لا على اختراع معنى خاص له مباين لذلك المعنى مفهوما
مناسب له يكون هو المصطلح في المقام، لاحتياجه لعناية يبعد ارتكابها مع
الاستغناء عنها. غايته أن محل الكلام مختص بالطرق الظاهرية من أدلة أو
أصول، تبعا لاختصاص الغرض بذلك.
فالتعريفان المذكوران مبنيان على التسامح من هذه الجهة، وهما بضبط
موارد التعارض أنسب منهما بتحديد مفهومه.

(1) سورة غافر: 46.
11

الثانية: ذكر التناقض والتضاد في التعريفين إن كان لأجل التعميم للتضاد
بلحاظ ظهور التنافي بدوا في خصوص التناقض، لان النقيض نفي لنقيضه، دون
الضد وضده، فمن الظاهر أن العدم نفي الوجود دون العكس، فلابد أن يراد من
التنافي محض التعاند، وهو حاصل في الضدين.
وان كان لأجل تخصيص التنافي في محل الكلام بالقسمين المذكورين
دون غيرهما من أنحاء التنافي فلا وجه له.
وإرادة مطلق التعاند من التضاد - كما هو ظاهرهم - مستلزم للاكتفاء بذكر
التنافي. على أن جميع أنحاء التنافي مستلزمة للتناقض بلحاظ الدلالة الالتزامية
لكل من الدليلين التي هي حجة كالدلالة المطابقية.
وأما في الأصول التي هي غير حجة في لازم مؤداها فلا يكفي التضاد في
تحقق التعارض، لان العلم بكذب أحد الأصلين لا يخرجهما عن الحجية إلا
لمحذور خارج كلزوم الترخيص في المعصية ونحوه.
وبالجملة: ذكر التناقض يكفي في المقام، بل يكفي ذكر التنافي.
الثالثة: ذكر غير واحد أن اختلاف التعريفين في نسبة التنافي، حيث
نسب للمدلول في الأول وللدلالة في الثاني، يوجب كون وصف الدليلين
بالتعارض على الثاني حقيقيا، وعلى الأول مجازيا، من باب وصف الشئ بحال
متعلقه.
ويشكل: بأنه لا مانع من كون تنافي المدلولين منشأ لاتصاف الدليلين
اصطلاحا أو عرفا بالتعارض. بل ليس هو بأبعد من كون تنافي الدلالتين علة
لذلك، مع وضوح كونهما من شؤون الدليلين أيضا لا عينهما.
كما أنه ذكر غير واحد أيضا أن اختلافهما في ذلك يوجب الفرق بينهما
في دخول موارد الحكومة والجمع العرفي في التعارض على الأول، لاستقرار
ظهور كل منهما في مدلوله بنحو ينافي الاخر، وخروجها على الثاني، لعدم
12

حجية أحدهما إلا فيما لا ينافي الاخر.
وهو كما ترى، لوضوح أن الدلالة من سنخ العرض للمدلول، ولا يعقل
اختلاف العرض والمعروض سعة وضيقا فيمتنع تحقق التنافي بلحاظ المدلول
دون الدلالة.
وحمل الدلالة في الثاني على خصوص مورد الحجية ليس بأولى من
حمل المدلول في الأول عليه. ولذا كان ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره كصريح المحقق
الخراساني قدس سره خروج الموردين المذكورين عن التعارض، مع اختلافهما في
تعريفه. ويأتي الكلام في ذلك.
ثم إن نسبة التنافي للدلالتين في الثاني إنما هو بلحاظ تنافي المدلولين،
والا فلا تنافي بين الدلالات المختلفة على المدلولات المتنافية، لتعدد
الموضوع.
إلا أن يراد بالدلالة ما يساوق الحجية، فيتحقق التنافي بين الدلالتين،
لاستحالة التعبد بالمتنافيين.
لكن التنافي حينئذ ليس بالتناقض، لكون طرفيه وجوديين، كما نبه له غير
واحد.
الرابعة: عمم المحقق الخراساني قدس سره في تعريفه المتقدم التعارض لما
يكون بين أكثر من دليلين، كما لو دل دليل على وجوب القصر والاخر على
وجوب الصيام، وثالث على الملازمة بين الاتمام والصيام.
وهو المناسب للمعنى المتقدم للتعارض، ولعموم الغرض من البحث في
المقام، وإن اختصت بعض نصوص التعارض بالخبرين.
غايته أنه لابد من الكلام في عموم الاحكام التي تضمنتها تلك النصوص
لذلك وعدمه.
ثم إن فرض التعارض الذي هو محل الكلام والغرض بين أكثر من دليلين
13

إنما يتم لو لم يكن أحدها قطعيا، وإلا كان التعارض مختصا بغيره، لحجيته على
كل حال، ويدخل حينئذ في التعارض لأمر خارج الذي يأتي الكلام فيه،
كتعارض دليلي وجوب الظهر ووجوب الجمعة، بضميمة العلم بعدم وجوب
الجمع بينهما.
كما أنه لو كان مفاد كل من الدليلين في الفرض تعيين الصلاة الواجبة
المفروض وحدتها بكل من الظهر والجمعة، لا محض الامر بكل منهما، كانا
متعارضين ذاتا، لامتناع اتحاد الصلاة الواحدة مع كل منهما. غايته أن التنافي
بينهما بنحو التضاد الذي تقدم الكلام فيه.
الخامسة: تقدم في تعريف المحقق الخراساني تعميم التنافي الذي
يكون منشأ للتعارض للحقيقي والعرضي.
وقد حمل بعض شراح كلامه الأول على ما إذا كان التنافي عقليا، والثاني
على ما إذا كان بواسطة مقدمة شرعية خارجية، كتنافي دليلي وجوب الظهر
والجمعة بضميمة العلم بعدم وجوب الجمع بينهما.
أما سيدنا الأعظم قدس سره فقد جعل القسمين من التنافي الحقيقي، وخص
التنافي العرضي بما إذا علم بعدم ثبوت أحدهما مع إمكان ثبوتهما معا شرعا
وعقلا.
ويناسبه قول المحقق الخراساني مفرعا على ذلك: " بأن علم بكذب
أحدهما إجمالا، مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا "، كما يناسبه في الجملة ما في
حاشيته على الرسائل، من دخول ذلك في التعارض وان عبر عنه بالتعارض
العلمي، لا العرضي.
وربما يحمل العرضي على التنافي لأمر خارج من مقدمة شرعية، أو علم
إجمالي، ويخص الحقيقي بالتنافي الذاتي العقلي، وربما يناسبه ما في حاشيته
على الرسائل، على اضطراب في كلامه. فراجع. ويأتي الكلام في ذلك إن شاء
14

الله تعالى.
الامر الثالث: لابد في تحقق التعارض في محل الكلام من تمامية
موضوع الحجية في كل من المتعارضين، فلو فقد في أحدهما أو في كليهما فلا
تعارض.
وتوضيح ذلك: أنه حيث تقدم أن إطلاق التعارض مبني على فرض
التمانع بين الدليلين في ترتب مقتضاهما، ففرض التمانع مبني على المفروغية
عن تمامية المقتضى في الممنوع للعمل، ومع فرض قصوره وعدم تحقق
مقتضي العمل فيه لا تصل النوبة للمانع عرفا، لتصدق المعارضة بما لها من
المعنى المتقدم.
كما أن محل الكلام في المقام هو بيان حكم المتعارضين من حيثية
التعارض، بعد الفراغ عن صلوحهما للعمل في أنفسهما، كما هو ظاهر الأدلة
الخاصة الواردة في المقام.
نعم، لا يعتبر ذلك في تحقق التعارض من حيثية الكشف والبيان، لتمامية
المقتضي في الكاشف والحاكي لذلك، وإن لم يكن حجة صالحة للعمل، ولذا
يصدق التعارض بين مثل أخبار المؤرخين التي لا يراد منها إلا التعرف على
الواقع والوصول إليه ولو ظنا، فالتعارض أمر إضافي يختلف باختلاف الجهة
المقصودة من المتعارضين.
إلا أن ذلك خارج عن محل الكلام في المقام، لاختصاص غرض
الأصولي بتنقيح الأدلة وتشخيصها، فالمنظور له هو تعارضها من حيث هي أدلة
صالحة للعمل. ومن ثم اختص الكلام بتعارض الوظائف الظاهرية لا غير.
ودعوى: أن لازم ذلك عدم صدق التعارض في فرض علاجه بالتخيير أو
الترجيح، لفرض عدم التمانع بين الدليلين حينئذ وإن كان بينهما تمانع وتناف
في مقام الكشف والدلالة.
15

مدفوعة: بأن العلاج المذكور لما كان من أحكام التعارض، فلابد من كون
التعارض الذي هو محل الكلام هو التعارض في الرتبة السابقة عليه، لا اللاحقة
له، وهو التعارض بالإضافة لعموم دليل الحجية، لا بالنظر للأدلة الخاصة.
ثم إنه لا يفرق بين كون ما فقد شرط الحجية معلوما بالتفصيل وكونه
معلوما بالاجمال، وسقوط كل منهما عن الحجية في خصوص مؤداه في الثاني
ليس بملاك التعارض، بل لاشتباه الحجة باللاحجة، ولذا لا يسقط ما هو الحجة
منهما عن الحجية في خصوص في مؤداه الاجمالي لو كان لحجيته فيه أثر
عملي، كما لو كانا تكليفين، حيث يتنجز كل منهما بملاك العلم الاجمالي.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا يتحقق التعارض الذي هو محل الكلام لو كان أحد
الدليلين واردا على دليل حجية الآخر، بأن يكون رافعا لموضوع حجيته، وان لم
يكن رافعا لموضوع الحكم الذي تكفله، كما هو الحال في موارد الجمع العرفي
- كالجمع بين الظاهر والأظهر، ومنه بعض أقسام الحكومة، وهو ما لا يكون فيه
أحد الدليلين ناظرا للدليل الاخر، بل لحكمه، على ما يأتي توضيحه في محله إن
شاء الله تعالى - لان مرجع الجمع بين الدليلين وتقديم أحدهما على الاخر
حينئذ إلى أن حجية أحدهما في المورد مشروطة بعدم ورود الاخر، فمع وروده
يسقط الأول عن موضوع الحجية، وان انعقد ظهوره وبقي موضوع حكمه.
إذ التعارض بين الدليلين على هذا ليس في مرتبة حجيتهما، بل في مرتبة
كشفهما وبيانيتهما لا غير، وقد عرفت خروج ذلك عن التعارض الذي هو محل
الكلام.
ولا مجال لقياسه على ارتفاع التعارض بأدلة العلاج الذي تقدم أنه لا
يوجب خروج المورد عن التعارض الذي هو محل الكلام.
لان ارتفاع التعارض هنا بالنظر لعموم دليل الحجية، لانحصار دليل حجية
الظواهر ببناء العقلاء الذي يقصر في مورد الجمع العرفي، بخلافه هناك، حيث
16

يكون المنشأ فيه الأدلة الخاصة، مع بقاء التعارض بالنظر لعموم دليل الحجية،
كما سبق.
وعلى هذا جرى شيخنا الأعظم قدس سره وغير واحد ممن تأخر عنه، كما سبق.
ولازم ذلك كون البحث في شؤون الجمع العرفي وضوابطه وما يتعلق
بذلك من مبادئ مبحث التعارض، لرجوعه إلى تشخيص مورده وتنقيح
صغرياته، لا إلى بيان حكمه، فيناسب جعله مقدمة للبحث المذكور، لا من
مقاصده.
إلا أن أهمية البحث المذكور ومناسبته للمقام ووقوع نتائجه في طريق
الاستنباط ملزم بجعله من مقاصد هذا المبحث، لتبعية سعة البحث لسعة
الغرض، وليس ذلك الموضوع إلا لتحديد الغرض، فإذا كان الموضوع قاصرا
عن استيفائه لزم التخطي عنه محافظة على استيعاب الغرض.
ويأتي إن شاء الله تعالى في اخر الكلام في تمهيد البحث في المقام
التعرض لمنهج البحث وتعيين موضع الكلام في ذلك منه.
الامر الرابع: لا ريب في توقف التعارض على تنافي المؤديين، بحيث
يمتنع التعبد بهما ظاهرا، كما يمتنع جعلهما واقعا، ولا يكفي مجرد العلم بقصور
دليل الحجية عن أحدهما لا من جهة تنافي مضمونيهما، كما في الماء النجس
المتمم كرا بطاهر، بناء على أن مقتضى الاستصحاب في كل منهما نجاسة الأول
وطهارة الثاني وعدم اختلاف حكم أجزاء الماء الواحد ظاهرا، كما لا يختلف
واقعا، فإن مرجع ذلك إلى العلم بتخصيص عموم الاستصحاب بنحو لا
يشملهما معا، من دون أن يمتنع اجتماع مضمون كلا الاستصحابين، فإن أصالة
العموم في دليل الاستصحاب وان كانت تسقط في كل من الفردين، إلا أنه ليس
بملاك التعارض بينهما، لعدم دخل كل منهما في سقوط الاخر، بل للعلم بكذبها
الراجع للتخصيص وعدم تمامية موضوع الحجية الذي عرفت خروجه عن
17

محل الكلام.
نعم، قد يصدق التعارض في إعمال أصالة العموم بالإضافة لكل منهما،
بخلاف فرض التنافي بين المؤديين المانع من التعبد بهما ظاهرا، لان إثبات كل
من المتنافيين مستند لدليله، وحيث كان التنافي مانعا من التعبد بالمضمونين معا
كان سقوط كل منهما مستندا للاخر، فصح نسبة المعارضة له عرفا.
هذا، وعنوان التعارض إن لم يؤخذ في أكثر أدلة الاحكام الخاصة من
التخيير والترجيح، إلا أنه قد اخذت فيها عناوين مشابهة له كعنوان الاختلاف
ونحوه مما هو كالتعارض لا يصدق إلا مع التنافي.
كما أنه ربما يشارك التخصيص بالنحو المذكور التعارض في بعض الأحكام
كأصالة التساقط أو التخيير، على ما لعله يتضح في محله.
ثم إن كون التنافي بين المؤديين منشأ للتعارض حيث كان بسبب امتناع
التعبد بالمتنافيين للتنافي بينهما عملا، كان المعيار فيه تحقق التنافي العملي بين
المؤديين، وحيث كان موضوع العمل عقلا هو الأحكام التكليفية ثبوتا، والتعبد
بها - بقيام الحجة ونحوه - إثباتا، توقف التنافي - الذي هو منشأ للتعارض - على
تنافي المؤديين في الحكم التكليفي أو التعبد به أو التضاد في ذلك، إما لكون
المؤدى هو الحكم التكليفي أو التعبد رأسا، كما لو كان مفاد أحد التعبدين
وجوب شئ، ومفاد الاخر عدم وجوبه أو حرمته، أو كان مفاد أحدهما حجية
شئ ومفاد الاخر عدم حجيته، أو لكون المؤدى موضوعا لذلك، كما لو كان
مفاد أحد التعبدين الملكية، المقتضية لجواز التصرف، ومفاد الاخر عدمها أو
الوقفية، المقتضيين لحرمته، أو كان مفاد أحدهما عدالة الشاهد، المقتضية
لحجية شهادته، ومفاد الاخر فسقه المقتضي لعدمها. من دون فرق في ذلك بين
كون التعبدين مفاد طريق حاك عن الواقع وكونها مفاد أصل لا حكاية له.
أما إذا لم يكن بين المؤديين تناف في مقام العمل فلا يتحقق التعارض -
18

الذي هو محل الكلام - وإن علم بكذب أحدهما وعدم مطابقة مؤداه للواقع.
ومن ثم أمكن التفكيك بين المتلازمات في الأصول العملية - وان لم يسقطهما
عن الحجية - إلا لمحذور خارجي، كمخالفة تكليف معلوم بالاجمال أو
التفصيل، وإنما لم يمكن في الطرق كالبينات لأجل حجيتها في لازم المؤدى،
فيلزم التناقض بين المؤديين، ولذا لا يجري ذلك في ما لا يكون حجة في
اللازم، كاليد ونحوها.
وكأن هذا هو مراد المحقق الخراساني قدس سره من التنافي العرضي، فإن منشأ
التنافي أمر خارجي، وهو العلم بعدم اجتماع المؤديين، المستلزم لتعارض
الدليلين بلحاظ لازم المؤدى المفروض حجية الدليل فيه.
كما لعله هو المراد من التنافي الخارجي في كلام بعضهم، والتنافي
الشرعي في كلام آخرين، بلحاظ أن عدم اجتماع المؤديين لمقدمة خارجية
مستفادة من الشارع.
وإن كان قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل أن
المراد بالتنافي الشرعي أمر اخر في قبال ذلك داخل في التنافي الحقيقي.
ولعل المراد به ما إذا كان مقتضى الدليلين التفكيك بين الموضوع
وحكمه، حيث يكون التلازم بينهما شرعيا، كما لو قامت إحدى البينتين على
طهارة الثوب والأخرى على ملاقاته للنجاسة، فإن التنافي بين الطهارة والملاقاة
ليس إلا شرعيا تابعا لملازمة شرعية مجعولة للشارع، وليس ناشئا من مجرد
العلم الاجمالي بعدم ثبوت أحد الامرين.
لكنه راجع للتنافي العقلي، لان التعبد بالملاقاة يستتبع التعبد بالنجاسة،
لرجوع التعبد بالموضوع للتعبد بحكمه، وهي مضادة للطهارة، بلحاظ تضاد
أحكامهما التكليفية، فيمتنع اجتماعهما عقلا.
وكيف كان، ففي فرض حجية الدليل في لازم المؤدى يكفي العلم بعدم
19

ثبوت أحد المؤديين في تحقق التنافي الذي هو معيار التعارض في المقام، لما
تقدم.
ولا مجال لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من خروجه عن التعارض ودخوله
في اشتباه الحجة باللاحجة، لعدم تحقق التنافي.
بل هو لا يجتمع مع ما اعترف به من تحقق التعارض بين دليلي الظهر
والجمعة، لامتناع اجتماع مؤدييها لأمر خارج، وهو العلم بأن الواجب هو إحدى
الصلاتين، لعدم تعقل الفرق بينه وبين ما مثل به للأول، وهو ما إذا كان مؤدى
أحد الدليلين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، ومؤدى الاخر وجوب دية الحر
في قتل العبد المدبر، وعلم بكذب مضمون أحدهما.
إلا أن يكون مراده بدليلي الظهر والجمعة ليس مجرد ما تضمن الامر بكل
منهما، بل ما تضمن تعيين الصلاة الواحدة الواجبة بكل منهما. لكنه يدخل في
التنافي الذاتي، لاستحالة اتحاد الامر الواحد بالمتباينين، كما أشرنا إليه في الجهة
الرابعة من الامر الثاني.
نعم، مجرد العلم بعدم صدور أحد الخبرين لا يكفي في تنافي مدلوليهما
الموجب لتعارضهما، لان مضمون كل منهما هو الحكم غير المنافي لصدور
الاخر، ليكون بمدلوله الالتزامي مكذبا له.
إلا أن التعارض يكون بين دليلي صدور كل منهما، وهو إخبار الراوي عن
المعصوم (ع) بلحاظ الملازمة المذكورة، فلا يشملهما دليل الحجية، لما تقدم
من تحقق التنافي العملي مع الاختلاف فيها.
لكن هذا كله إنما يقتضي جريان أحكام التعارض العامة العقلية، أما
الاحكام الخاصة المستفادة من الأدلة اللفظية فالظاهر قصورها عن التعارض في
الصدور، لظهور أدلتها في التعارض في المضمون، لما هو المعلوم من أن
موضوعها التعارض في خصوص أخبار المعصومين (ع) المتضمنة للأحكام،
20

فتعارضها بتنافي مضامينها، وليس التعارض في الصدور تعارضا في أخبارهم
بل في الاخبار عنهم. من دون تناف بين الحكمين المنقولين عنهم في كل من
المتعارضين.
بل الظاهر انصراف عموم أدلة الأحكام المذكورة عن التعارض الناشئ
عن العلم بكذب أحد المضمونين اتفاقا لملازمة خفية، بل يختص بما يكون
ناشئا عن وضوح التنافي بين المضمونين، بأن يستفاد نفي أحدهما من دليل
الاخر عرفا، بسبب وضوح التلازم بينهما إما لكونه مسوقا لنفيه، لنظره للتلازم
بينهما، فيكون مدلولا التزاميا له، أو بدون ذلك.
وعليه يتجه الفرق بين المثالين اللذين ذكرهما بعض الأعاظم قدس سره.
ثم إنه مما ذكرنا من لزوم التنافي بين المؤديين في تحقق التعارض يظهر
عدم تحققه أصلا في موارد التخصص والورود وبعض أقسام الحكومة، وهي
المبتنية على نظر الحاكم للدليل المحكوم وتعرضه لبعض جهاته المتوقفة عليها
استفادة الحكم منه، لعدم التنافي بين الدليلين حينئذ حتى بحسب الظهور الأولي
لكل منهما، لعدم تعرض الدليل لتنقيح صغرياته ولا للجهات التي يبتني عليها
استفادة الحكم منه، ليكون معارضا للدليل الاخر المتكفل بذلك، ويحصل
التنافي بين مضمونيهما.
ومجرد اختلاف العمل المترتب على الدليل المورود أو المحكوم بسبب
الدليل الاخر لا يكفي في تحقق التعارض الذي هو محل الكلام.
وعلى هذا جرى شيخنا الأعظم قدس سره وغير واحد ممن تأخر عنه. ويناسبه
جعل البحث في ذلك من مبادئ مبحث التعارض، لولا أهمية البحث المذكور
ومناسبته للمقام، حيث يلزم جعله من مقاصده، نظير ما تقدم في اخر الامر
السابق. فراجع.
الامر الخامس: التعارض وان كان يشارك التزاحم في التنافي بين
21

الحكمين والمؤديين بنحو يمتنع الجمع بينهما في الفعلية، إلا أنه يفارقه في
أمور..
الأول: أن التعارض يبتني على فرض الدليل على كل من الحكمين،
بحيث يستلزم التنافي بين الحكمين ثبوتا التكاذب بين دليليهما إثباتا، أما
التزاحم فلا يبتني إلا على محض التنافي بين الحكمين ثبوتا وان لم يكن تكاذب
بين دليليهما، لعدم قيام الدليل على فعلية كل منهما في مورده، بل على محض
تمامية ملاكيهما.
الثاني: أن التزاحم يبتني على فرض تمامية ملاك كل من الحكمين، بنحو
يقتضي تشريع الحكم على طبق كل منهما، وفعليته في فرض القدرة عليه،
بحيث يكون مورد التزاحم واجدا للجهة المقتضية لجعل كل من الحكمين
الموجودة في غير مورده، المستلزم لفعلية كل من الحكمين لولا المزاحمة، ولا
يمنع عن وجوب امتثالهما معا إلا العجز عن الجمع بينهما، بخلاف التعارض،
فإنه يجتمع مع فرض العلم بعدم ثبوت أحد الملاكين ولو من دليل خارج، أو
الشك في ثبوت أحدهما أو كليهما، لفقد الدليل عليه بعد فرض تكاذب الدليلين
في الحكم الفعلي المسقط لهما عن الحجية فيه وفي الملاك - وان لم يتكاذبا
فيه - بناء على ما هو التحقيق من عدم حجية الدليل في لازم مؤداه بعد سقوطه
عن الحجية في نفس المؤدى.
نعم، لا يعتبر فيه التكاذب بينهما في ثبوت الملاك، بل يجتمع مع فرض
احتمال وجود الملاكين بل مع العلم بوجودهما - لدليل اخر - وان تكاذب
الدليلان في تعيين الحكم الفعلي الذي هو المعيار في تحقق التعارض.
وما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من اعتبار التكاذب في المتعارضين
حتى في مرحلة الملاك والمقتضي.
غير واضح الوجه، لتحقق التكاذب بينهما بمجرد التنافي بين الحكمين
22

وإن أمكن اجتماع الملاكين. إلا أن يريد من الملاك العلة التامة للحكم. لكنه
مستلزم لسد باب التزاحم، لاستلزام اجتماع الملاكين لقصور أحدهما عن تأثير
حكمه وخروجه عن كونه تمام العلة له.
الثالث: أنه لا بد في التزاحم من فرض اقتضاء كل من الحكمين صرف
القدرة لامتثاله بنحو ينافي مقتضى الاخر، ولذا يختص بالأحكام الاقتضائية في
فرض العجز عن الجمع بينهما في الامتثال على ما يتضح في محله.
أما التعارض فلا يعتبر فيه إلا التنافي بين الحكمين عملا بنحو يمنع من
جعلهما معا وإن لم يكن امتثال أحدهما منافيا لمقتضى الاخر، لعدم كونه
اقتضائيا، كالوجوب وعدمه، أو الوجوب والإباحة، أو لعدم تنافي مقتضيهما، كما
في الموسعين.
لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن التزاحم لا يتوقف على العجز عن امتثال
التكليفين، بل يتحقق في مورد العلم بعدم وجوب الجمع بينهما، وان تحقق
موضوعهما وأمكن امتثالهما، ومثل لذلك بما إذا ملك واجد النصاب في أثناء
الحول ما يكمل به نصاب اخر، كما لو ملك في أول محرم خمسا وعشرين من
الإبل، وملك في أول رجب السادسة والعشرين، وحيث كانت زكاة الخمس
والعشرين خمس شياه، وزكاة الست والعشرين بنت مخاض، فامتثالهما ممكن
بدفع الخمس شياه في أول محرم الثاني، ودفع بنت مخاض في أول رجب
الثاني، إلا أن العلم بعدم وجوبهما معا - لما دل على أن المال الواحد لا يزكى في
العام الواحد مرتين - مستلزم لتزاحم التكليفين.
وهو كما ترى، لان عدم وجوب الجمع بين التكليفين في فرض القدرة
عليهما، إن رجع إلى حكم العقل بعدم وجوب الامتثال، فهو - مع عدم مناسبته
للمثال الذي ذكره - غير متعقل، لان التكليف علة تامة لوجوب الامتثال، والا كان
لاغيا. وإدراك العقل ما يمنع من وجوب الامتثال راجع لادراكه وجود المانع من
23

جعل التكليف، كما في موارد العجز.
وان رجع إلى تنازل الشارع عن الجمع بين التكليفين - كما في المثال
الذي ذكره - خرج عن باب التزاحم ودخل في التعارض، لرجوعه إلى العلم
بعدم جعل أحد التكليفين الموجب لتكاذب دليليهما وان لم يكن بينهما تناف
ذاتي، نظير التكليف بالظهر والجمعة.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن المثال المذكور
إنما يكون من باب التعارض لو لم يحرز المقتضي لكل منهما، ولو أحرز يكون
المقام من باب التزاحم.
لوضوح أنه لا مجال لاحراز المقتضي لهما، والا امتنع تنازل الشارع عن
أحدهما بعد فرض القدرة عليهما، فتنازله مستلزم لعدم تمامية المقتضي بمعنى
الملاك الملزم بجعل الحكم في ظرف القدرة الذي هو المعتبر في التزاحم، وان
أحرز المقتضي بالمعنى المقابل لفرض المزاحم المانع من جعل الحكم، والذي
قد يقطع معه بعدم جعل كلا الحكمين، والذي يتحقق في موارد التزاحم
الملاكي الخارج عن محل الكلام، لان الكلام في تزاحم التكليفين. فلا حظ.
ومما ذكرنا يظهر أنه قد يجتمع التعارض والتزاحم، كما في فرض إحراز
الملاكين بالنحو الخاص والعجز عن الجمع بينهما، واستحكام ظهور دليل كل
منهما في فعلية حكمه في فرض العجز المذكور، حيث يتحقق التزاحم بلحاظ
ثبوت الملاكين والعجز عن الجمع بينهما، كما يتحقق التعارض بين دليليهما
بلحاظ تكاذبهما في فعلية الحكم في المورد المذكور للعلم بعدم فعلية أحدهما.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من عدم اجتماعهما في مورد، لان
التعارض إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين المدلولين للدليلين في مقام الجعل
والتشريع، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافيهما في مقام الامتثال بعد الفراغ عن
تشريعهما معا، فمع إحراز جعل كل منهما وتشريعه ينحصر الامر بالتزاحم،
24

وبدونه ينحصر الامر بالتعارض وان امتنع الجمع بينهما في مقام الامتثال. ورتب
على ذلك عدم الحاجة لتمييز موارد التعارض عن موارد التزاحم.
ففيه: أن المراد من إحراز تشريعهما معا إن كان هو تشريعهما على
عنوانيهما في الجملة، فهو يحرز حتى في مورد التعارض في مثل العام والخاص
والعامين من وجه، وان كان هو تشريعهما بنحو يشمل مورد التصادق وصورة
الاجتماع الموردي، فهو ممتنع حتى في مورد التزاحم، لاستحالة جعل
التكليفين معا في مورد العجز عن امتثالهما، وليس فيه الا اجتماع الملاكين
بالنحو الخاص.
ومن ثم كان تمييز إحراز الملاكين المقتضي للتزاحم مع فرض امتناع
الجمع بين إطلاقي الدليلين الظاهرين في فعلية الحكمين في غاية الأهمية.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره قدس سره من أنه يلزم في التزاحم كون التنافي
بين كبريي الحكمين اتفاقيا لا دائميا، والا دخل في التعارض، لامتناع تشريع
حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الاخر دائما.
لوضوح أنه لا أثر لكثرة الافراد وقلتها في امتناع التشريع.
نعم، قد يكون دوام التنافي مانعا من إحراز الملاك لكلا الحكمين، الذي
عرفت لزومه في التزاحم، لاستحكام التعارض بين دليليهما بسبب قوة ظهور
كل منهما في غلبة فعلية حكمه وترتب العمل عليه، وهو يقتضي لزوم غلبة عدم
التنافي، ولا يكفي فيه مجرد عدم دوام التنافي.
لكنه لا يمنع من فرض التزاحم لو أحرز الملاكان مع دوام التنافي بدليل
اخر، فيجري حكمه.
اللهم إلا أن يستفاد عدم صلوح أحد الملاكين حينئذ لجعل الحكم مما
تضمن أن الاحكام قد جعلت بنحو يلائم طاقة غالبية الناس. إلا أنه أمر خاص
بالأحكام الشرعية لا يرجع إلى امتناع الجعل.
25

ومثله تقريب عدم اجتماع التزاحم والتعارض في مورد بأن امتناع
اجتماع الحكمين في باب التعارض ذاتي، لرجوعه إلى اجتماع النقيضين أو
الضدين، لاتحاد الموضوع، وفي باب التزاحم عرضي بلحاظ قبح التكليف بما
لا يطاق، مع الامكان ذاتا، لتعدد الموضوع، كما في مسألة الضد.
إذ فيه.. أولا: أنه مع تعدد الموضوع ففي فرض ظهور كل من الدليلين في
فعلية مؤداه في مورد الاجتماع يتكاذب الدليلان بسبب امتناع فعلية كل منهما،
فيلزم اجتماع النقيضين بلحاظ لزوم مؤدى كل منهما لعدم الاخر، ويكون
المورد من موارد التعارض لأمر خارج.
فلابد من دليل اخر لاحراز الملاكين بنحو ينحصر سبب عدم الفعلية
لأحدهما بالتحذر والعجز عن الامتثال ليكون من باب التزاحم. ومعه يمكن
فرض ذلك مع وحدة الموضوع، إذ مع فرض إحراز ملاك كلا الحكمين يتعين
جريان حكم التزاحم في تقديم الأهم واجزاء الجمع في مقام الامتثال
ونحوهما.
ومن ثم كان المشهور صحة الصلاة في المغصوب جهلا مع بنائهم على
امتناع اجتماع الأمر والنهي لمحذور اجتماع الضدين.
وثانيا: أن منشأ تضاد الاحكام وامتناع اجتماعها في الموضوع الواحد لما
كان هو التنافي بينها في مقام العمل فهو جار مع تعدد الموضوع وتعذر الجمع
بين الحكمين في مقام الامتثال.
ولذا امتنع التكليف مع العجز ذاتا، لتقوم التكليف بالعمل، فلا ينتزع عقلا
مع تعذره، لعدم الموضوع له، وليس امتناعه لأجل القبح المشار إليه مع إمكانه
في نفسه، ولذا يمتنع انتزاع التكليف حتى مع جواز العقاب عقلا لتقصير
المكلف وتعجيزه لنفسه. فتأمل.
26

بقى في المقام أمران:
الأول: أنه قد يتوهم أن ما ذكرناه في معيار التزاحم من الاكتفاء بإحراز
الملاكين لا يناسب ما هو المعلوم من أن الملاك بنفسه لا يصلح للالزام عقلا ما
لم يترتب عليه جعل التكليف من قبل المولى، ولذا لا يجب عقلا إطاعة الأوامر
والنواهي الواردة بداعي الارشاد للمصالح والمفاسد الواقعية، وينحصر وجوب
الإطاعة بالأوامر والنواهي المولوية التي ينتزع منها التكليف. ومن ثم قيل
بوجوب اللطف منه تعالى بجعل التكاليف حفظا للملاكات الواقعية.
ولذا لا ينبغي التأمل في أن اجتماع مقتضيات الاحكام المختلفة في
الموضوع الواحد - المعبر عنه بالتزاحم الملاكي - لا يقتضي جريان أحكام
التزاحم الذي نحن بصدده، فليس للمكلف النظر في ترجيح أحدهما بالأهمية،
فضلا عن احتمالها، ولا التخيير مع عدمها، بل الامر موكول للمولى، فمع إحراز
جعله الحكم على طبق أحدهما لأهميته بنظره، أو جعله حكما اخر غيرهما
يتعين العمل عليه، ومع الجهل بذلك يتعين التوقف.
نعم، قد يكون العلم بأهمية أحدهما موجبا للعلم بجعل المولى للحكم
على طبقه، فيكون العمل تابعا للحكم الشرعي، لا للملاك. ومع ذلك لا وجه
للاكتفاء في التزاحم الحكمي - الذي هو محل الكلام ومورد ما أشير إليه من
الاحكام - بإحراز الملاكين وعدم اعتبار جعل نفس الحكمين اللذين هما
موضوع العمل. كيف، ويمكن فرض التزاحم بناء على عدم توقف الاحكام على
الملاكات كما هو مختار الأشاعرة. هذا حاصل ما يقال في المقام.
ولدفع هذا التوهم وتوضيح الفرق بين التزاحم الحكمي والملاكي نقول:
- بعد الاستعانة به تعالى والتوكل عليه - ليس المراد بالملاك المصالح والمفاسد
في متعلقات الاحكام، أو المصالح في نفس جعل الحكم التي لابد منها بناء على
التحسين والتقبيح العقليين - كما هو مختار العدلية - بل مطلق المقتضيات
27

الموجبة لجعل الاحكام والاغراض الداعية له، التي لابد منها فيه، كسائر الأفعال الاختيارية
، حيث لا تصدر عن فاعلها إلا لغرض يدعو إليها، ولا يظهر من
الأشاعرة إنكار ذلك، فلا يمنع ما ذكرنا من فرض التزاحم على مختارهم.
وحينئذ فعدم جعل الحكم إن كان لعدم المقتضي له خرج عن محل
الكلام، وان كان في ظرف وجود المقتضي له فهو يكون..
تارة: لقصور المقتضي عن التأثير في جعل الحكم لوجود المزاحم له في
مرتبة سابقة على جعله، ولو كان هو مصلحة التسهيل على المكلف.
وهو راجع في الحقيقة إلى عدم تمامية موضوع التكليف، لان موضوع
التكليف هو موضوع الغرض الداعي لجعله، فكل ما هو الدخيل في تعلق
الغرض يكون دخيلا في التكليف ومقوما لموضوعه.
وأخرى: لعجز المكلف عن الامتثال في مرتبة لا حقة لفرض الجعل، فإنه
وان كان مانعا من الجعل عقلا، لما تقدم من تقوم الأحكام التكليفية بالعمل، إلا
أن مانعيته لا ترجع لقصور في المقتضي عن الداعوية لجعل الحكم ولا في تعلق
الغرض به، بل لقصور المكلف في مقام الامتثال، مع تمامية موضوع التكليف
تبعا لتمامية ما هو الدخيل في تعلق الغرض، نظير قصور المولى لو فرض عجزه
عن الكلام أو الايصال، حيث قد لا يجعل التكليف حينئذ مع تعلق غرضه به.
ولذا يصدق الفوت في هذه الصورة بالإضافة لمتعلق التكاليف، ولا
يصدق في الصورة الأولى بالإضافة إليه، وإن كان قد يصدق بلحاظ الجهة
المقتضية له.
نعم، لو كان العجز موجبا لقصور المقتضي عن التأثير في الجعل ومانعا
من تعلق الغرض به، كان من النحو الأول وكان مانعا من تمامية موضوع
التكليف، كما هو الحال في جميع موارد تقييد التكليف بالقدرة شرعا، حيث
تكون كسائر القيود الدخيلة فيه وفي تمامية ملاكه وتعلق الغرض به.
28

ومنه يظهر حال ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن القدرة دخيلة في
موضوع التكليف.
فإنه إن أراد به دخلها في موضوع الغرض لتكون من قيود التكليف شرعا.
فهو ممنوع جدا في غير موارد التقييد الشرعي بها، كما يظهر بأدنى تأمل في
المرتكزات العرفية والشرعية، وكذا لو أراد به دخلها في معلق الغرض، بحيث
تكون قيدا في المكلف به لا في التكليف، كما يظهر منه في مسألة الضد. لما
ذكرناه هناك من دفع ما تشبث به.
وان أراد به توقف فعلية التكليف عليها، لامتناع جعله عقلا بدونها وان
كان الغرض فعليا لتمامية موضوعه، واطلاق متعلقه. فهو في محله، ورجع إلى
محض الاصطلاح في معنى الموضوع، ولا مشاحة فيه.
وإن كان التفصيل الذي ذكرناه هو الأنسب بلحاظ اختلاف الآثار العملية
بين القسمين - تبعا للاختلاف بينهما ارتكازا الموجب لصدق الفوت في الثاني
دون الأول، كما سبق - حيث يختلفان..
أولا: في عدم قابلية المقتضي في الصورة الأولى للتقرب، لعدم تعلق
الغرض به، بخلاف الملاك في الثاني " حيث يكون قابلا للتقرب به تبعا لفعلية
الغرض، كما يظهر مما ذكروه في مسألة الضد من إمكان التقرب بالمهم حتى
بناء على امتناع الترتب، لأنه نظير المقام.
وثانيا: في أنه يجوز للمكلف في الصورة الأولى إحداث ما يرفع
التكليف - بتحقيق المزاحم للمقتضي - كما يجوز له الاخلال بسائر ما هو
الدخيل في موضوع التكليف، لان التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه، أما في
الصورة الثانية فلا يجوز له ذلك، لان التكليف تبعا للغرض يقتضي حفظ
متعلقه، فيقتضي حفظ القدرة عليه، فلا يجوز للمكلف تعجيز نفسه عن الامتثال
قبل الوقت، فضلا عما بعده.
29

وثالثا: في أن الشك في فعلية التكليف من الجهة الأولى للشبهة الحكمية
- الراجعة لاحتمال صلوح شئ للمزاحمة - أو الموضوعية - الراجعة لاحتمال
وجود المزاحم - مجرى للبراءة، أما الشك في فعلية التكليف من الجهة الثانية
للشك في القدرة فلا بد معه من الاحتياط بمقتضى المرتكزات العقلائية المعول
عليها في أمثال المقام، على ما سبق التعرض له في مبحث البراءة.
ومن هنا كان الأنسب إطلاق موضوع الحكم على خصوص ما يكون
دخيلا في فعلية الغرض، دون القدرة غير الدخيلة فيه وان كانت دخيلة في فعلية
التكليف. ولا سيما مع كون بيان موضوع الغرض وظيفة للحاكم، بخلاف مثل
القدرة مما يكون دخله في فعلية التكليف عقليا لا يحتاج للبيان.
ولعله لذا أمكن إحراز عدم دخل القدرة في الغرض من إطلاق الخطاب،
ولا يخرج عنه إلا ببيان الحاكم بمثل تقييد موضوع التكليف بها في دليل
الخطاب به، كما في مثل الحج.
إن قلت: لا مجال لاحراز عموم الملاك والغرض لحال العجز وعدم دخل
القدرة فيهما من إطلاق الخطاب، إذ بعد ظهور الخطاب في فعلية التكليف
والعلم بعدم فعليته مع العجز يكون الاطلاق مقيدا بالقدرة لبا، كما لو قيد بها
لفظا، وكما لو استفيد التقييد لفظا أو لبا بدليل متصل أو منفصل بالإضافة إلى غير
القدرة من القيود التعبدية، حيث يكون سقوط الاطلاق عن الحجية في الفعلية
مانعا من استفادة عموم الملاك والغرض منه، بناء على سقوط الدلالة الالتزامية
عن الحجية تبعا لسقوط الدلالة المطابقية عنها، كما هو التحقيق.
بل حتى بناء على عدم سقوطها لا مجال لاستفادة عموم الغرض من
الاطلاق في المقام ونحوه مما كان وضوح التقييد فيه وارتكازيته بحد يلحق
بالقرائن المحيطة بالكلام، حيث يكون مانعا من انعقاد الاطلاق فلا يدل
بالمطابقة على الفعلية في مورده، ليدل بالالتزام على الغرض فيه، إذ لا ريب في
30

توقف الدلالة الالتزامية خارجا على الدلالة المطابقية، وان سلم التفكيك بينهما
في الحجية في فرض العلم بكذب المطابقية.
نعم، لو بين الغرض بطريق اخر غير الخطاب الظاهر في الفعلية أمكن
إحراز عمومه لمورد العجز.
قلت: رفع اليد عن الاطلاق بدليل التقييد إنما هو بلحاظ كونه قرينة عرفية
على بيان المراد من الاطلاق وفهمه منه، فهو تابع للنظر العرفي في فهم الأدلة
والجمع بينها.
ووضوح دخل القدرة في فعلية التكليف ارتكازا إنما يكون قرينة عرفا
على تقييد الاطلاق من حيثية الفعلية لا من حيثية الغرض والملاك، بل يكتفي
العرف بالاطلاق في إحراز عدم دخل القدرة في الملاك والغرض، فيرتبون
الآثار العملية الثلاثة المتقدمة، كما يظهر بأدنى ملاحظة لطريقتهم في فهم
خطابات بعضهم لبعض وبالرجوع لمرتكزاتهم في فهم الخطابات الشرعية.
ولا يبتني على حجية الدلالة الالتزامية مع سقوط المطابقية بسبب العلم
بكذبها، بل على تحكيم القرائن المحيطة بالكلام، حيث يلزم الرجوع للعرف
في كيفية التحكيم.
كما لا مجال مع ذلك لقياسه بالتقييد اللفظي المتصل أو المنفصل أو اللبي
في القيود التعبدية، لعدم خضوع المرتكزات العرفية للقياسات والمحاسبات،
وانما يتشبث بها لتقريب المرتكزات فيما لو طرأ عليها الالتباس، لا في مثل
المقام مما كانت فيه من الوضوح بحد يستغني عن ذلك.
على أنه قد يكون منشأ الفرق: أن ظاهر الخطاب وإن كان هو الفعلية، إلا
أن ظاهر حال الحاكم أيضا هو بيان موضوع غرضه بخطابه، فعدم تقييده بالقدرة
اتكالا على الارتكاز المذكور ظاهر في اعتماده على مفاده، وهو خصوص تقييد
الفعلية، والا كان مخلا ببيان غرضه.
31

أما مع التقييد بها فحيث كان تقييد الفعلية مستغنى عن بيانه فتصديه له
ظاهر في الحاجة إليه لبيان موضوع غرضه.
وكذا بقية القيود أما المتصلة فلأنها لو لم تكن لبيان الغرض لزم الاخلال
ببيان موضوع الغرض، لعدم انعقاد الاطلاق في بيانه معها. وأما المنفصلة فلأنها
تكشف عن كذب الاطلاق وعدم وفائه ببيان ما سبق له من موضوع الفعلية،
فيسقط عن الحجية في الفعلية والغرض معا.
بل يمتنع تقييد الفعلية بقيد غير القدرة لا دخل له في الغرض، لاستلزام
فعلية الغرض مع القدرة على تحصيله السعي له بجعل التكليف، ولا يكون
التوقف عن جعله إلا مع عدم فعلية تعلق الغرض به.
غايته أنه قد يكون لعدم الغرض أصلا، وقد يكون لعدم فعلية غرض
الالزام الذي سيق له الكلام، مع بقاء الرجحان، ولا معين للثاني إلا بقرينة من
ارتكاز أو نحوه.
إن قلت: لا ينعقد للكلام إطلاق في بيان موضوع الغرض، لان البيان
طريق لتحصيل الغرض، وهو إنما يكون ببيان الحكم الفعلي، لا ببيان موضوع
الغرض، فلا غرض في بيان عموم الغرض لمورد العجز، ليستكشف بالاطلاق.
قلت: عموم موضوع الغرض من حيثية القدرة وتقييده بها لما كانا
يختلفان عملا بلحاظ وجوب حفظ القدرة في الأول دون الثاني ونحوه، كان
بيان موضوع الغرض دخيلا في تحصيله على أن الظهورات العرفية لا تناط
بتعلق أغراض المتكلم ببيان مؤدياتها، بل هي تابعة للمرتكزات العرفية التي
عرفت حالها.
ثم إنه قد أطال بعض الأعاظم قدس سره في مسألة الضد في تقريب استفادة عدم
دخل القدرة في الملاك من الاطلاق مع التزامه بدخلها في الموضوع بوجه هو
أقرب للتدقيقات العقلية منه بالاستظهارات العرفية.
32

وهو - مع عدم وضوحه في نفسه - مستغنى عنه بما ذكرنا، فلا مجال
لإطالة الكلام فيه.
هذا، والانصاف أن غلبة عدم دخل القدرة في الغرض وكونها آلة
لتحصيله يوجب ضعف ظهور التقييد بها لفظا في دخلها فيه، وقرب حمله على
متابعة ما هو المرتكز من دخلها في الفعلية، بحيث قد يحتاج بيان دخلها في
الغرض إلى مؤنة في البيان، وليست كسائر القيود التعبدية التي يفهم من مجرد
التقييد بها دخلها في الغرض.
ولذا يكثر من العرف التسامح في التقييد بها مع عدم دخلها في الغرض،
نظير تسامحهم في التقييد بالعلم، حيث يكثر ابتناؤه على ارتكاز طريقيته
وتنجيز متعلقه الذي يتوقف عليه، من دون أن يكون دخيلا في موضوع الحكم
ثبوتا.
إذا عرفت هذا كله ظهر لك حقيقة التزاحم الحكمي الذي هو محل الكلام
والفرق بينه وبين التزاحم الملاكي، فإن التزاحم الملاكي يكون في مورد
الاجتماع والتزاحم بين المقتضيات المتنافية الآثار، التي لم يحرز في كل منها
بلوغه مرتبة يكون موردا للغرض الفعلي المقتضي لجعل الحكم على طبقة، فلا
تكون موضوعا للطاعة ولا المعصية، فلا يجب موافقة أحدها تخييرا، ولا
الترجيح بينها بالأهمية، لان المقتضي بنفسه لا يقتضي الموافقة عقلا ما لم يحرز
فعلية الغرض على طبقه، كما لا مجال لاستكشاف تعلق غرض المولى
بالمقتضيين تخييرا أو تعيينا، لامكان إدراكه المانع من جعل كلا الحكمين.
نعم، لو علم بعدم المانع من ذلك وبجعل الحكم على طبق أحدهما
كشفت أهمية أحدهما عن تعلق الغرض به تعيينا وجعل الحكم على طبقه، لقبح
ترجيح المرجوح على الراجح، فيكون ملاك عمل المكلف هو الحكم
المستكشف من فرض فعلية الغرض، لا نفس المقتضي في مرتبة اقتضائه.
33

وملاك التنافي بين المقتضيات في المرتبة المذكورة هو تنافيها في أثرها،
وهو الحكم الذي تقتضيه، لاقتضاء كل منها حكما مضادا للآخر غير قابل
للاجتماع معه، ولا يعتبر التنافي بين الحكمين المقتضين في مقام الامتثال، بأن
يكون كل منها اقتضائيا، فضلا عن أن يكون إلزاميا.
بل قد يكون الغرض الفعلي على طبق مقتضي الإباحة لاقوائيته، وان لم
تصلح الإباحة لمزاحمة غيرها في مقام الامتثال، لان التزاحم ليس بين الحكمين
ولا بين الملاكين، لمساوقة الملاك للغرض - كما سبق - بل بين المقتضيين، ولا
مانع من مزاحمة الإباحة لمقتضي الالزام وتأثيره دونه، لقوته، كما في موارد
الحرج.
أما التزاحم الحكمي فهو لا يكون إلا للاجتماع والتزاحم بين الملاكات
الفعلية المتنافية التي يكون كل منها موردا للغرض الفعلي البالغ مرتبة جعل
الحكم، وان لم يجعل الحكم على طبق كل منها، لتعذر استيفائها بسبب عجز
المكلف.
فعدم الجعل فيها ليس لقصور في الملاك ولا لعدم فعلية الغرض، بل
للعجز المانع عن استيفائه، نظير العجز المانع عن استيفاء الملاك الواحد المانع
من جعل الحكم على طبقه، كما سبق.
وملاك التنافي بين الملاكات هنا هو تنافيها في مقام الامتثال، حيث لابد
أن يكون كل منها مقتضيا صرف القدرة لامتثاله، أما ما لا اقتضاء فيه لذلك - وهو
ملاك الإباحة - فلا يصلح للتعجيز عن امتثال الاخر كي يزاحمه.
ومن ذلك يظهر أن إطلاق التزاحم الملاكي والحكمي ليس بلحاظ
التزاحم بين الملاكين في الأول وبين الحكمين في الثاني - كما يظهر من بعضهم
- لامتناع اجتماع الملاكين في الأول، لمساوقة الملاك للغرض الفعلي، الذي لا
يجتمع مع فرض المزاحم، وامتناع جعل الحكمين في الثاني، لما سبق من
34

امتناع الجعل مع العجز.
بل هو في الأول بلحاظ التزاحم بين المقتضيات في مقام تأثيرها في فعلية
الغرض، الذي هو الملاك في الحقيقة، وفي الثاني بلحاظ التزاحم بين الاغراض
والملاكات في مقام تأثيرها في فعلية الحكم وجعله، بسبب تعذر امتثالها.
ومما سبق يظهر الوجه في لزوم ترجيح الأهم والتخيير مع التساوي في
التزاحم الحكمي، فإنه حيث فرض فعلية الملاك والغرض على طبق كل منها،
وكان الغرض الفعلي لازم الحفظ - ولذا لا يجوز التعجيز عنه كما سبق - كان في
إهمالهما معا تفويت كلا الغرضين في ظرف القدرة على حفظ أحدهما، وهو
قبيح عقلا بملاك قبح تفويت الغرض الواحد مع القدرة على حفظه المسانخ
لقبح معصية التكليف، بل يلزم عقلا حفظ أحدهما مخيرا مع التساوي، لقبح
الترجيح بلا مرجح، ومعينا مع الأهمية، لان المرتبة الزائدة في مورد الأهم من
الغرض اللازم الحفظ، على ما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
هذا كله مع غفلة المولى عن العجز الموجب للتزاحم، أما مع التفاته لذلك
فلابد من جعله الحكم بالنحو المذكور، جريا منه على غرضه وحفظا منه له،
فيكون العمل بالنحو المذكور امتثالا للحكم المجعول تبعا للغرض، نظير امتثال
الحكم غير المزاحم.
إن قلت: علم المولى بتعذر استيفاء كلا الغرضين بالامتثال مع أهمية
أحدهما يستلزم عدم فعلية تعلق الغرض بالمهم تقديما لا قوى المقتضيين،
وليس الغرض الفعلي إلا بالأهم، نظير مزاحمة المقتضي بما يمنع من تعلق
الغرض على طبقه في التزاحم الملاكي، لوضوح أن المزاحمة بالأهم لا توجب
تعذر استيفاء المهم في حق المولى، بل العدول عنه. وكذا الحال مع التساوي،
حيث يمنع التزاحم من تعلق الغرض بكل منهما تعيينا، بل ليس في البين إلا
غرض واحد بأحدهما تخييرا.
35

نعم، مع جهل المولى بالمزاحمة لتخيل سعة القدرة يبقى كل منهما موردا
للغرض الفعلي، وينحصر التزاحم بمقام الامتثال.
قلت: عدم فعلية تعلق الغرض بكل منهما أو بأحدهما في المقام ليس
لقصور الموضوع بل لتعذر استيفاء كلا الغرضين الملزم للمولى بتحصيل ما
يمكن منهما، فالغرض الفعلي في المقام في طول الغرضين المتزاحمين، لا
مناف لهما.
وليس هو كالمزاحمة بين المقتضيات في الموضوع الواحد، التي تستلزم
قصور الموضوع عن تعلق الغرض على طبق المقتضي، إذ لا معنى لتعلق
الغرض بكل من وجود الشئ وعدمه، كما لا معنى لتعلق الغرض بالالزام
بالشئ مثلا وبعدم الالزام به أو الالزام بعدمه.
وبعبارة أخرى: موضوع الغرض والتكليف هو أفعال المكلف، لا
المقتضيات الموجودة فيها من المصالح والمفاسد، بل هي من سنخ العلة لتعلق
الغرض بها، فمع تعدد أفعال المكلفين يمكن تعدد الغرض، وإن تزاحمت
الاغراض المتعددة، أما مع وحدة الفعل فيمتنع تعدد الغرض وان تعددت
المقتضيات، بل تتزاحم المقتضيات في تأثيرها في كيفية تعلق الغرض به، فلا
يكون فيه إلا غرض واحد مسبب عنها في فرض تزاحمها.
ومن هنا كان تفويت كلا الغرضين في المقام أشد قبحا بمقتضى
المرتكزات العقلائية من تفويت الأهم وحده، كما يكون المهم صالحا للتقرب
حال ترك الأهم. ويتعين التخيير مع العلم بوجود الأهم والجهل بتعيينه، مع
احتمال كون ما يختاره المكلف هو المرجوح الذي لا يتعلق به الغرض
والتكليف الفعليان.
وما ذلك إلا لان سقوط الغرض الأولي بكل منهما أو بالمرجوح منهما
عن الفعلية ليس كسقوطه بسبب المزاحم للمقتضي في التزاحم الملاكي.
36

هذا بناء على امتناع الامر الترتبي بالمهم، أما بناء على ثبوته فلا أثر
للاشكال، إذ في ظرف ترك الأهم يكون المهم موردا للغرض الفعلي المستتبع
للامر الفعلي. وتمام الكلام في ذلك في مسألة الضد.
هذا، وحيث ظهر أنه يلزم في التزاحم الملاكي وحدة الموضوع وكونه
مجمعا للمقتضيات المتزاحمة في كيفية تعلق الغرض الواحد به، وفي التزاحم
الحكمي تعدد الموضوع تبعا لتعدد الغرض، فلكل من تعدد الموضوع واتحاده
صغريات واضحة وأخرى متشابهة يتضح الحال فيها مما يأتي عند الكلام في
الفرق بين التعارض والتزاحم، إذ لا أثر للتزاحم الملاكي ليهتم بتشخيص
موارده، وانما ذكرناه هنا تبعا لبيان حقيقة التزاحم الحكمي.
لكنه حيث كان راجعا إلى عدم قابلية المورد إلا لاحد الحكمين المستلزم
للتكاذب بين دليليهما كان من موارد التعارض، فما يأتي في الفرق بين التعارض
والتزاحم الحكمي ينفع في الفرق بينه وبين التزاحم الحكمي.
نعم، هو يمتاز عن بقية موارد التعارض بلزوم تحقق كلا المقتضيين
المتنافيين في تعلق الغرض بالمورد، ولا مجال للبحث في ذلك بعد عدم
الضابط له وعدم الأثر المهم في مقام العمل.
الامر الثاني: الكبريان المتنافيان اللتان تتضمنها الأدلة الشرعية إن اتحد
موضوعهما واختلف حكمهما فلا إشكال في كونهما موردا للتعارض دون
التزاحم الحكمي - الذي هو محل الكلام - لما سبق من توقف التزاحم على تعدد
الموضوع ليمكن تعدد الغرض والملاك بتبعه.
وإن تعدد موضوعهما فتنافيهما إن كان لمقدمة شرعية خارجية كانا موردا
للتعارض أيضا دون التزاحم، للتكاذب بينهما بضميمة المقدمة المذكورة، كما
في دليلي وجوب القصر ووجوب التمام، وكذا إن كان لتعذر الجمع بينهما في
مقام الامتثال دائما أو غالبا، لما سبق من ابتناء الأحكام الشرعية على ما يلائم
37

طاقة غالب الناس.
وكذا مع قلة موارد تعذر الجمع بينهما في مقام الامتثال لكن كان ظهور
كل من الدليلين في فعلية حكمه في مورد الاجتماع مستحكما، للتكاذب بينهما
المسقط لهما عن الحجية في ثبوت الحكم، وفي لازمه وهو الملاك. إلا أن يحرز
الملاك من الخارج، فيكون موردا للتعارض والتزاحم معا، كما سبق.
وإن لم يكن له ظهور في ذلك أو كان له ظهور بدوي فيه يمكن رفع اليد
عنه بمقتضى الجمع العرفي بين الدليلين كان المورد من موارد التزاحم دون
التعارض.
ومن هنا كان اللازم النظر في ضابط تعدد الموضوع، الذي يكون معيارا
في التزاحم والتعارض.
وتوضيح ذلك: أن موضوعي الكبريين في دليليهما..
تارة: يتحدان بحسب العنوان والمعنون، كما لو دل أحد الدليلين على
وجوب إكرام النحويين والاخر على حرمته.
وأخرى: يختلفان بحسبهما معا، كما في دليلي حرمة التصرف في
المغصوب، ووجوب إنقاذ الغريق.
وثالثه: يختلفان بحسب العنوان ويتحدان بحسب المعنون.
والأول من أوضح أفراد الاتحاد الموجب للتعارض، والثاني من أوضح
أفراد التعدد المعتبر في التزاحم، والاشتباه إنما هو في الثالث، لاختلاف أنحاء
العناوين.
فإن العناوين الحاكية عن فعل المكلف تكون..
تارة: عناوين أولية حاكية عنه بذاته، كعنوان المشي والنوم والتكلم
والاكل والسب والمدح وغيرها.
وأخرى: عناوين ثانوية منتزعة عنه بلحاظ أمر خارج عنه، كالعناوين
38

التسبيبية المنتزعة من ترتب بعض الأمور عليه، كعنوان الاحراق والايذاء
والتأديب والتكريم والانقاذ وغيرها، والعناوين الإضافية المنتزعة من نحو
إضافة بينه وبين غيره، كالمقابلة والمعاندة والإطاعة والمعصية والمتابعة
والمشابهة وغيرها.
والظاهر أن مرجع التكليف بالعناوين المذكورة إلى كون موضوع الغرض
والملاك هو منشأ انتزاعها الذي هو المعنى الاسمي الاستقلالي المفاد بمادة
العنوان.
وليس التكليف بالفعل إلا لكونه آلة لذلك ومقدمة له، لأنه الامر المستند
للمكلف في تحقيق منشأ الانتزاع، كما يناسبه استفادته من الهيئة التي تتكفل
بالمعاني الحرفية الالية التبعية.
وبعبارة أخرى: موطن الغرض والملاك هو المعنى الاسمي الاستقلالي
الذي يتضمنه العنوان ويكون منشأ لانتزاعه، سواء كان هو فعل المكلف بذاته،
كما في العناوين الأولية، أم الامر الخارج عنه، كما في العناوين الثانوية.
ومن هنا يظهر أن اختلاف العنوانين مع وحدة المعنون الذي هو فعل
المكلف إن كان لتعدد منشأ انتزاع العنوان في الخارج، بأن يكون أحدهما أوليا
منتزعا من الذات، والاخر ثانويا منتزعا من أمر خارج عنها، كعنواني المشي
والايذاء، أو كلاهما ثانويين مختلفين في منشأ الانتزاع، كعنواني الايذاء
والإطاعة، كان راجعا لتعدد الموضوع المعتبر في التزاحم، لان فعل المكلف وإن
كان واحدا، إلا أنه ليس متعلقا لاحد التكليفين أو كليهما إلا تبعا لتعلق الملاك
والغرض بمنشأ انتزاع عنوانه.
ولذا كان المرتكز أن عمومات استحباب إيناس المؤمن، أو قضاء
حاجته، أو وجوب إنقاذه لا تعارض مثل عموم حرمة الغناء، أو الغيبة، أو
الكذب، وان كان نسبة كل واحد من تلك العمومات مع كل واحد من هذه هي
39

العموم من وجه، حيث قد يجتمع العنوانان في فعل واحد. بل يكون مجمع
العنوانين موردا للتزاحم، بسبب تحقق الملاكين معا كل في موضوعه، فيرجح
الأقوى ملاكا، وان كان أضعف دليلا.
ومثله استحباب أو وجوب إطاعة الأب وإطاعة الام لو فرض كون فعل
واحد إطاعة لأحدهما ومعصية للاخر ونحو ذلك.
أما إذا كان منشأ اختلاف العنوانين اختلاف قيودهما التابعة
للخصوصيات الخارجة عن منشأ الانتزاع كخصوصيات الزمان والمكان
والمتعلق وغيرها، مع اتحاد منشأ الانتزاع في الخارج، ولو لكون منشأ انتزاع
أحدهما أخص من الاخر، كان المورد من موارد التعارض، سواء كان العنوانان
أوليين، كعنوان الذكر وعنوان الكلام حال التخلي، وكعنواني النوم في المسجد
والنوم بالليل، أم كانا ثانويين كعنواني إكرام العلماء واكرام الفساق.
لعدم سوق القيود والخصوصيات المذكورة إلا لتحديد موضوع الغرض
ومورد الملاك مع قيام الغرض والملاك بمنشأ الانتزاع في ظرف تحقق القيد من
دون أن تكون القيود موردا للغرض، فمع اجتماع القيود والخصوصيات ذات
الاحكام المتباينة في فرد واحد يمتنع شمول إطلاق حكم كلتا الخصوصيتين له،
لامتناع تعدد الغرض فيه، ليكون من موارد التزاحم، بل لا بد من تكاذبهما
المساوق لتعارضهما.
وهذا هو مورد ما اشتهر من تعارض العامين من وجه في مورد الاجتماع،
وأن مرجع تقديم أحدهما فيه إلى إخراجه عن الاخر تخصيصا بنحو لا يحرز
بقاء ملاكه فيه.
نعم، إذا كانت خصوصية كل من العنوانين دخيلة في ثبوت حكمه ولو
بمقتضى المناسبات العرفية بين الحكم والموضوع، كان مورد الاجتماع من
موارد التزاحم الملاكي الذي تقدم أنه من موارد التعارض، لتنافي المقتضيين
40

فيه، كما لعله يجري في مثل وجوب إكرام العلماء وحرمة إكرام الفساق.
ولذا يلتزم بالتأكد مع اتحاد سنخ الحكمين، كما لو وجب إكرام العلماء،
ووجب إكرام العدول، حيث يكون وجوب إكرام العالم العادل مؤكدا، لتعدد
المقتضى له. فتأمل.
هذا إذا كان مرجع التكليف بالعنوانين المتحدين في منشأ الانتزاع خارجا
المختلفين بالخصوصيات والقيود إلى التكليف بالذات الواجدة لاحد القيدين،
بمفاد كان التامة.
أما إذا كان مرجعهما أو مرجع أحدهما إلى التكليف بنفس القيد في ظرف
وجود الذات - الذي هو مفاد كان الناقصة - من دون أن تكون الذات بنفسها
موردا للتكليف، خرج عن محل الكلام ودخل في تعدد العنوان والمعنون معا
الذي هو من أوضح أفراد التزاحم، لفرض عدم الاتحاد خارجا بين العنوانين إلا
في الذات المفروض خروجها عن موضوع أحد التكليفين أو كليهما، وليس
الموضوع إلا تحقيق النسبة بين الذات والخصوصية، وهو أمر مباين مفهوما
وخارجا للذات، ولتحقيق النسبة بينها وبين الخصوصية الأخرى، كما لو فرض
ورود كراهة النوم في المسجد، واستحباب النوم على التراب، وكان مرجع الثاني
إلى استحباب جعل النوم على التراب، من دون أن يدعو إلى تحقيق النوم، بل
إلى تحقيق الخصوصية له في ظرف وجوده، ولا يقع التزاحم بينهما إلا في
فرض انحصار التراب في المسجد، مع اضطرار المكلف للنوم، واختياره في
الكون في المسجد.
ثم إن الظاهر أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي الذي فرض فيه تعدد
العنوان ووحدة المعنون هو القسم الأول دون الثاني.
وبهذا كان موضوعها وسطا بين التزاحم والتعارض، فهو بلحاظ تعدد
موضوع الغرض والملاك يجري مجرى التزاحم، وبلحاظ وحدة المعنون
41

خارجا - وهو فعل المكلف - قد يشتبه بسائر موارد العامين من وجه المفروغ
ظاهرا عن تحقق التعارض فيها.
ولذا كان ظاهر المشهور القائلين بالامتناع وتقديم جانب النهي المفروغية
عن تحقق ملاك الامر في مورد اجتماع العنوانين، حيث يصح عندهم ويتحقق
به الامتثال لو أتي به مع عدم تنجز النهي لغفلة ونحوها، مع ما هو المعلوم من أن
العامين من وجه متعارضان لا طريق مع تقديم أحدهما لاحراز ملاك الاخر.
بل مفروغيتهم عن تقديم جانب النهى لا وجه له إلا ما ذكرنا من إلحاق
المورد بالتزاحم ارتكازا. وان وقع من غير واحد الكلام في وجه ذلك وأطالوا
فيه بما لا مجال للتعرض له هنا، بل يوكل لمحله.
الامر السادس: تعرض شيخنا الأعظم قدس سره إلى الكلام في قاعدة: الجمع
مهما أمكن أولى من الطرح، المدعى عليها الاجماع من بعضهم.
وقد أطال الكلام فيها بما لا يسعنا متابعته فيه بعد إجمال المراد من
القاعدة المذكورة وعدم الدليل عليها غير الأدلة العامة المحكمة في العمل
بالأدلة.
والذي ينبغي أن يقال: إن الجمع إن كان راجعا إلى تحكيم أحد الدليلين
على الاخر وحمله عليه بالنحو الذي تقتضيه أدلة الحجية العامة، كما في موارد
الجمع العرفي، فهو المتعين أخذا بدليل الحجية المقتضي له، كما يؤخذ به في
العمل بالدليل الواحد الذي لا معارض له. وهو في الحقيقة خارج عن التعارض
بين الدليلين، كما تقدم في الامر الثالث.
وإن كان راجعا إلى محض تأويل أحدهما بما لا ينافي الاخر وان لم
تساعده أدلة الحجية. فإن أريد بذلك مجرد رفع التنافي بين الدليلين دفعا لتوهم
صدور المتنافيين عن المعصوم (ع). فهو مستغنى عنه في حق من يعتقد
عصمته، وانما يحتاج له لدفع النقض على عصمته ممن لا يعتقد بها. ولا أثر له
42

إلا الاقناع بوجه خطابي غير علمي، دفعا لشبهته بمثلها.
لان دليل العصمة إن لم يكن أقوى من مثل هذه الشبهة المستندة لظهور
الكلام لم يصلح التأويل غير المناسب لأدلة الحجية لدفع التنافي بعد استناده
لظاهر الكلام الذي هو حجة في كشف مراد المتكلم، وان كان دليل العصمة
قطعيا أقوى من الشبهة المذكورة كان مانعا من ورودها علميا، فإيرادها تهريج
بخطابيات مردودة بمثلها.
نعم، قد ينفع التأويل في منع استحكام الشبهة في حق ضعيف البصيرة
من المؤمنين، كما قد ينفع في استيضاح العمل بأحد المتعارضين إذا اقتضاه
دليل الحجية، لان طرح الاخر للجهل بحاله أثقل على النفس من تأويله بما
يلائم مقتضى الحجية، لان الناس أعداء ما جهلوا. وقد تعرض لأكثر ما ذكرنا
الشيخ في مقدمة التهذيب.
لكن اللازم حينئذ ذكر التأويل احتمالا تجنبا لمحذور القول بغير علم ولا
حجة، الذي هو مورد للخطر، بل للهلاك إذا كان في كلام المعصومين (ع) الذين
هم حجج الله تعالى على خلقه وبهم قوام دينه.
وأشكل من ذلك ما لو أريد بالتأويل العمل بمقتضاه، كما قد يناسبه
المقابلة بالطرح، فإنه قول وعمل بغير علم. ومن ثم ورد الامر بإرجاع ما اشتبه
أمره إليهم (ع) والنهي عن القول فيه بالرأي.
الامر السابع: ذكرنا في الامر الثالث أن التعارض لا يتحقق إلا مع تمامية
موضوع الحجية بحسب الأدلة العامة في كل من المتعارضين في ظرف
اجتماعهما، حيث يكون كل منهما مانعا عن العمل بالآخر في ظرف تمامية
المقتضي له فيه. كما ذكرنا في الامر الرابع أنه لابد فيه من التنافي بين المؤديين.
وأنه يترتب على الأول عدم تحقق في موارد الجمع العرفي بين الأدلة،
لارتفاع موضوع الحجية في أحدهما بسبب الاخر. كما يترتب على الثاني عدم
تحققه في موارد التخصص والورود وبعض أقسام الحكومة.
43

ومن ثم كان البحث في الامرين خارجا عن التعارض الذي هو محل
الكلام، إلا أن أهمية البحث فيهما وارتباطه بمحل الكلام ملزم بتعميم البحث
بنحو يشملهما، كما سبق.
ومن هنا كان المناسب جعل موضوع البحث الأدلة التي يكون لبعضها أثر
في العمل بالآخر بالنظر لعموم دليل الحجية، إما لكونه دخيلا في كيفية العمل به
من دون أن ينافيه في المؤدى - على ما سيأتي توضيحه - أو لكونه منافيا له
بحسب المؤدى رافعا لموضوع حجيته بالنظر لعموم أدلة الحجية، أو لكونه
مانعا من العمل به مع بقاء موضوع حجيته بالنظر للعموم المذكور، حيث يستند
قصوره عن الحجية حينئذ لاستحالة عمومها عقلا، لا لعدم الموضوع، وهو
ينحصر بالمتعارضين.
ولأجله يكون البحث في بابين، يبحث في الأول منهما عن الأدلة التي
يكون بعضها دخيلا في العمل بالآخر، من دون تمانع بينها في الحجية، إما لعدم
التنافي بينها في المؤدى، أو لعدم بقاء موضوع الحجية في أحدها بسبب الاخر،
وإنما جمعا في باب واحد لتداخل جهات البحث فيهما. ويكون البحث في
الباب الثاني عن الأدلة المتعارضة التي يكون بعضها مانعا من حجية الاخر مع
تمامية موضوع الحجية فيه.
كما أن المناسب إلحاق البحث في المقام بخاتمة يبحث فيها عن الوظيفة
في الحكمين المتزاحمين من حيثية التخيير والترجيح، وعلاج التزاحم من
الناحيتين الثبوتية والاثباتية.
لان خروج ذلك عن محل الكلام وعدم وضوح الجامع بينهما مانع من
جعله من مقاصد البحث. كما أن أهمية وشدة مناسبته للمقام وارتباطه به في
بعض الجهات - كما يظهر مما تقدم ويأتي - مانع من إهماله وملزم بالحاقه به
تتميما للفائدة. ونسأله سبحانه وتعالى العون والتوفيق والتأييد والتسديد إنه
حميد مجيد. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
44

الباب الأول
في الأدلة التي يكون لبعضها دخل في
العمل بالآخر بلا تمانع في الحجية
وقد أشرنا إلى شمول ذلك لما لو لم يكن بين الدليلين تناف في المؤدى،
ولما لو كان بينهما تناف في المؤدى مع ارتفاع موضوع الحجية في أحدهما
بالآخر.
إذ من الظاهر أن ترتب العمل على الدليل المفروض حجيته في نفسه
موقوف على أمور لا يتكفل هو بها، بل تحرز من جهات اخر، كتشخيص ظهوره
واحراز إرادة الظهور وصدور الكلام لبيان المراد الجدي واحراز موضوع
الحكم.
فإن كان الدليل الاخر الدخيل في العمل به غير متعرض لمضمونه، بل
كان متكفلا ببعض هذه الجهات ومتعرضا لها نفيا أو إثباتا لم يكن منافيا له في
المؤدى، وكان من القسم الأول.
أما لو تعرض لمضمونه فمع كونه منافيا له فيه إن كان وروده موجبا
لارتفاع موضوع الحجية فيه كان من القسم الثاني. والا خرج عن القسمين
ودخل في التعارض، الذي يأتي الكلام فيه في الباب الثاني.
وقد أشرنا إلى أن تداخل جهات البحث في القسمين المذكورين هو
الموجب لجمعهما في باب واحد. والكلام في كل من القسمين..
45

تارة: في أنحاء دخل بعض الأدلة في العمل بالآخر وأقسام النسب بين
الأدلة غير المتعارضة حسبما هو مصطلح عليه بين أهل الفن، حيث يقع الكلام
في تحديد تلك النسب وتوجيه تحكيم أحد الدليلين على الاخر في كل منها.
وأخرى: في توجيه تقديم بعض أنواع الأدلة التي بأيدينا على بعض
كالطرق على الأصول وبعض الأصول على بعض، وتحقيق نوع النسبة التي
يبتني عليها ذلك من بين النسب المذكورة. ومن هنا يقع الكلام في مقامين..
46

المقام الأول
في أقسام النسب بين الأدلة غير المتعارضة
حيث عرفت أن هذا النوع من الأدلة قد لا يكون بين أطرافه تناف في
المؤدى، لتعرض أحدها للجهات الدخيلة في العمل بالآخر، وقد تتنافى مع
ارتفاع موضوع الحجية في أحدها بسبب الاخر، فقد تكرر في كلماتهم بعض
العناوين مصطلحين بها على بعض أنواع النسب في الأول، وهي التخصص
والورود والحكومة.
ولعل الأخيرين من مصطلحات شيخنا الأعظم قدس سره التي جرى عليها من
بعده، وإن وقعا في كلام بعض من تقدمه - كصاحب الجواهر - غير مراد بهما
مصطلح خاص، بل مطلق تقديم أحد الدليلين على الاخر وتحكيمه عليه.
وأما الثاني فصغرياته كثيرة، كتقديم البينة على اليد، والاقرار على البينة،
إلا أن الذي وقع موردا للكلام بينهم من حيثية وجهه وصغرياته هو الجمع
العرفي الراجع لتقديم أقوى الظهورين على الاخر في استكشاف الحكم والمراد
الجدي.
ومن هنا يكون التعرض للنسب الأربع في ضمن فصول ثلاثة..
47

الفصل الا ول
في التخصص والورود
وإنما جمعناهما في فصل واحد لان معيار الفرق بينهما محتاج لبعض
الكلام، بل قد يكون الأول منهما خارجا عن محل الكلام وهو النسب بين الأدلة.
وقد سبق أن أشرنا إلى توقف العمل بالدليل على تحقق موضوع حكمه
وإحرازه.
وبيان ذلك: أن الأحكام الشرعية التي تتكفلها الأدلة لما كانت مجعولة
كبرويا بنحو القضايا الحقيقية الفرضية الموضوع ففعليتها في الخارج تدور ثبوتا
مدار فعلية موضوعاتها في الخارج وجودا وعدما.
كما أن إحرازها بنحو يصلح لاحداث الداعي العقلي للعمل - الذي هو
تابع للتنجز - يدور وجودا وعدما مدار إحراز موضوعاتها وعدمه، ومن الظاهر
عدم تكفل دليل الحكم بتحقيق موضوعه ثبوتا، ولا باحرازه إثباتا، بل هما تابعان
لأسبابهما التكوينية أو التشريعية.
وقد تنهض بعض الأدلة بتنقيح موضوعات بعض الأحكام..
تارة: لكون الدليل بنفسه محققا لموضوع الحكم ثبوتا - لا بلحاظ مدلوله
- كما في الاحكام التي يؤخذ في موضوعاتها قيام الحجة، كجواز القضاء
والفتوى، حيث يكون قيام الدليل على الحكم محققا لموضوعها بنفسه. وكما
في الأصول العقلية التي يكون موضوعها عدم البيان كالبراءة والاشتغال، حيث
يكون قيام الدليل على التكليف أو الامتثال رافعا لموضوعها.
48

وأخرى: لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجود خارجي
حقيقي تابع لأسبابه التكوينية، كالبينة القائمة على عدالة إمام الجماعة أو عدمها،
بالإضافة لجواز الائتمام.
وثالثة: لكشفه عن تحقق الموضوع أو عدمه بما له من وجود اعتباري،
تابع للجعل والتشريع، مثل ما دل على أسباب التملك أو الخروج عن الملك،
كالميراث والبيع والشراء، بالإضافة لاحكام الملك، كوجوب الزكاة، والحج.
إذا عرفت هذا فالمعروف أن التخصص عبارة عن قصور عموم الحكم
في مورد لعدم تحقق عنوانه فيه، كقصور عموم وجوب إكرام العلماء عن
الجاهل، في قبال التخصيص الذي هو عبارة عن قصوره في مورد لدليل مخرج
عنه مع تحقق عنوانه، كقصور العموم المذكور عن النحويين لقيام دليل على
حرمة إكرامهم.
أما الورود اصطلاحا فهو عبارة عن خروج المورد عن موضوع الحكم
بسبب التعبد، كقيام الدليل على التكليف الموجب لخروج المورد عن موضوع
البراءة العقلية، وهو عدم البيان، على ما تقدم في الصورة الأولى.
وقد تكرر في كلام غير واحد أنه من سنخ التخصص وأنه ليس الفارق
بينهما بعد اشتراكهما في خروج المورد حقيقة عن موضوع الحكم إلا في استناد
الخروج في الورود للتعبد، لكون الموضوع أمرا قابلا للجعل والاعتبار، وعدم
استناد الخروج في التخصص له، لكون الموضوع أمرا حقيقيا تابعا لسببه
التكويني.
بحيث قد يبدو أن التقابل بينهما للفرق المذكور ناشئ عن التنبه أخيرا
للورود وتحديده، لان التخصص كمصطلح سابق لم يؤخذ فيه عدم دخل التعبد
في الخروج عن الموضوع، وانما أخذ فيه ذلك متأخرا للفرق بينه وبين الورود.
فالمقابل للورود هو التخصص بالمعنى الأخص، وأما التخصص
49

كمصطلح سابق في قبال التخصيص فهو الجامع بين القسمين.
لكن الظاهر أن المقابلة بين الورود والتخصص والتفريق بينهما بذلك
ناشئان عن الخلط بين قصور الحكم كبرويا في مقام الجعل عما عدا موضوعه،
وقصور موضوع الحكم وعنوانه في الخارج صغرويا عن شمول الفرد.
توضيح ذلك: أنه إذا حكم الشارع بوجوب إكرام العالم، وكان زيد جاهلا،
فهناك أمران..
الأول: قصور الحكم في مقام الجعل عن شمول زيد لكونه جاهلا كما
يقصر عن سائر الجهال.
الثاني: قصور العالم في الخارج عن شمول زيد وصيرورته جاهلا.
والتخصص عبارة عن الأول، لأنه الذي يصح جعله مقابلا للتخصيص،
ولا معنى للترديد فيه بين أن يكون للتعبد ولغيره، بل ليس هو إلا عبارة عن عدم
شمول الحكم لغير موضوعه، وما يقبل الترديد بين الامرين هو الثاني، بلحاظ أن
موضوع الحكم إن كان حقيقيا له ما بإزاء في الخارج استند تحققه للأسباب
التكوينية، وان كان اعتباريا - كقيام الحجة - استند عدم تحققه للجعل والتعبد،
الذي هو مورد الورود، فقيام الدليل على التكليف في المثال المتقدم - إنما
يوجب خروج المورد صغرويا عن عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية
وبه يتحقق الورود، وأما التخصص فهو خروجه بذلك عن حكم البراءة، لقصور
الحكم كبرويا عن صورة وجود البيان.
فالتخصص يجتمع خارجا مع الورود، ويكون في طوله وإن باينه
موضوعا ومفهوما، وليس مقابلا له ولا أعم منه مفهوما.
وليس المقابل للورود إلا الخروج عن عنوان موضوع الحكم بالسبب
التكويني، كصيرورة زيد جاهلا في المثال المتقدم لتركه التعلم ونسيانه ما تعلم،
وهو أجنبي عن التخصص، وان كان مجتمعا معه كالورود.
50

إلا أن يخرج بالتخصص عن المصطلح المعهود المقابل للتخصيص،
فيراد منه المعنى المقابل للورود، ولا مشاحة في الاصطلاح. إلا أنه لا يظهر منهم
في المقام تبديل الاصطلاح فيه، بل الجريان على المعنى المعهود له، على أنه لا
موجب لتبديله ولا ثمرة فيه.
ثم إن التخصص بالمعنى الذي ذكرناه لا يصلح لان يكون نحو نسبة بين
الأدلة، لان قصور الحكم عن غير أفراد العنوان المأخوذ في دليله معنى قائم
بالحكم أو بدليله والافراد المذكورة، ونحو نسبة بينها، ولا يتوقف على فرض
دليل اخر، ليكون طرفا لتلك النسبة.
ولو فرض ورود دليل فيه متضمن لحكم مضاد له فالنسبة بين الدليلين
التباين، كما لو كان حكمه مماثلا له، لعدم دخل أحدهما في العمل بالآخر. فما
يظهر من بعضهم من كون ذلك من موارد التخصص بين الدليلين في غير محله.
وكذا لو أريد من التخصص المعنى المقابل للورود - الذي تقدم الكلام
فيه - لان خروج الفرد عن عنوان الموضوع نحو نسبة بينه وبين الموضوع قائمة
بهما وليس الدليل طرفا لها.
نعم، قد يكون سببا له، كسائر الأسباب التكوينية، حيث قد يوجب الدليل
تبدل حال المكلف من الشك لليقين، أو من القلق للاطمئنان، أو من الحب
للبغض.
لكن هذا لا يجعله طرفا للتخصص، ليكون التخصص من أقسام النسب
بين الأدلة، كالورود.
ومنه يظهر أنه حتى لو فرض تعميم التخصص لاحراز انسلاخ عنوان
الموضوع عن الفرد بتعبد ظاهري، نظير ما تقدم في الصورة الثانية ويأتي في
الورود لم يصلح لان يكون نسبة بين الدليلين، لان دليل التعبد سبب للتخصص
لا طرف له.
51

وبالجملة: التخصص (تفعل) وهو نحو نسبة بين نفس الحكم أو دليله أو
موضوعه، وبين الفرد، ولا يكون الدليل طرفا له، وان أمكن أن يكون سببا وعلة
له. ومن هنا لم يبعد كون ذكر غير واحد له في المقام لتوضيح الورود وتحديده،
للبناء على التقابل بينهما، لا لكونه من أقسام النسب بين الأدلة التي هي محل
الكلام في المقام.
وأما الورود فكونه من النسب بين الأدلة ظاهر، لان الدليل الوارد لما كان
رافعا لموضوع حكم الدليل المورود وكان الدليل مرتبطا بحكمه صح جعله
طرفا للنسبة الاصطلاحية، لان النسب متقومة باللحاظ ويكفي فيها أدنى مناسبة.
ومصحح الاصطلاح المذكور هو كون محل الكلام الأدلة التي يهتم بتعين
ما يتعارض منها عن غيره.
ولا ينبغي التأمل في تقديم الدليل الوارد، لعدم منافاته للمورود، لان
حكم المورود إنما جعل في ظرف تحقق الموضوع من دون أن يقتضي تحققه،
لينافي مضمون الوارد، بل يكون الوارد متقدما عليه رتبة تبعا لتقدم مضمونه،
ومقتضى عموم دليل الحجية العمل بكل منهما في مضمونه.
ومن هنا يتجه كون المراد بالموضوع الذي يكون رفعه محققا للورود هو
الموضوع الواقعي بما له من خصوصيات وقيود، سواء استفيدت من عموم دليل
الحكم أم من التخصيصات والتقييدات أن المنفصلة، وليس هو كالتخصص
الذي يكون المعيار فيه عدم تحقق عنوان العام، فإذا وجب إكرام العالم الذي لا
حجة على فسقه كانت الحجة على فسق عالم واردة على دليل الحكم المذكور،
سواء استفيد دخل القيد المذكور في الحكم من عموم دليله أم من تخصيص
منفصل، لعدم الفرق في الجهة المذكورة لوجه التقديم الملحوظة في اصطلاح
عنوان الورود بين الوجهين، ولا موجب لتخصيصه بأحدهما وان كان قد يناسبه
مقابلتهم الورود بالتخصص.
52

كما أن الجهة المذكورة بعينها تقتضي تقديم الدليل المحقق لموضوع
حكم الدليل الاخر، الذي هو أحد فرضي الصورة الأولى من الصورة المتقدمة،
لان الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه لا يقتضي عدمه، فكما لا يكون الدليل
الرافع للموضوع منافيا له لا يكون الدليل المحقق له منافيا له، بل يكونان معا
متقدمين عليه رتبة. ومن ثم قد يحسن تعميم اصطلاح الورود لذلك أيضا.
كما قد يحسن تعميمه للصورتين الأخيرتين من تلك الصور أيضا اللتين
فيهما كون أحد الدليلين محرزا لموضوع حكم الدليل الاخر أو لعدمه ظاهرا،
لنظير الوجه المذكور، فإن دليل جعل الحكم كما لا يقتضي تحقق موضوعه ولا
عدمه، كذلك لا يقتضي إحراز أحد الامرين، فلا ينافي الدليل المحرز لاحد
الامرين.
ولعل إلحاقهما بالورود أولى من إلحاقهما بالحكومة (1) - وإن كان لا مشاحة
في الاصطلاح - لان التعبد بالموضوع وإن كان مستلزما للتعبد بحكمه، إلا أنه لا
يبتني على النظر للحكم ولا لدليله الذي هو المعيار في الحكومة بقسميها
الآتيين.
ولا فرق في ذلك بين الصورتين، لان أثر الدليل هو إحراز الموضوع أو
عدمه ظاهرا المشترك بينهما، لا تحقيق الموضوع أو رفعه واقعا، ليقصر عن
الصورة الثانية، بلحاظ استناده فيها للسبب التكويني، ويتجه إلحاقها بالتخصص،
بناء على مقابلته للورود، على ما سبق، بخلاف الثالثة التي فرض فيها كون
موضوع الحكم خاضعا للجعل والاعتبار.
وعلى هذا يكون الورود عبارة عن كون أحد الدليلين رافعا لموضوع
حكم الاخر أو محققا له واقعا في عالم الجعل والاعتبار، أو محرزا ظاهرا لتحقق

(1) كما قد يظهر من بعضهم. بل صريح بعض الأعاظم قدس سره أن الأصل المحرز لموضوع الحكم
حاكم على دليله حكومة ظاهرية.
53

موضوع حكمه أو لعدمه في عالم التكوين أو الاعتبار.
ولنخص الثاني باسم الورود الظاهري، فرقا بينه وبين الأول، الذي هو
المتيقن في الجملة من مصطلحهم في الورود.
ثم إن ارتفاع الموضوع ظاهرا واحراز عدمه في الصورة الثالثة وإن استند
لدليل التعبد، إلا أنه لا بد أن يكون الرافع له واقعا نفس المجعول المتعبد به، وهو
الحكم الشرعي المحرز به، كالحكم بخروج المال عن الملك ببيعه الذي يكون
رافعا لوجوب الزكاة المأخوذ فيه الملكية. ومن هنا قد يتوسع وينسب الورود
لنفس الحكم، ويراد منه الورود الواقعي، وان كان الورود في مصطلحهم نسبته
بين الدليلين لا بين الحكمين.
وقد يكون ذلك بين حكمين من الطرفين، بأن يكون كل منهما مقيدا بقيد
يرفعه الاخر، ويعبر عنه بتوارد الحكمين، كما لو تعلق النذر ونهي الام بشئ
واحد، فإنه حيث يعتبر في انعقاد النذر رجحان المنذور يكون عموم مرجوحية
معصية الام محرزا لارتفاع موضوع وجوب الوفاء بالنذر، كما أنه حيث يعتبر في
مرجوحية معصية الام أن لا يكون متعلق أمرها محرما شرعا يكون عموم
وجوب الوفاء بالنذر محرزا لارتفاع موضوع مرجوحية معصية الام.
ولا مجال للترجيح بالأهمية وما يشبهها، ككون أحد الحكمين الزاميا دون
الاخر، لأنه مختص بتزاحم التكليفين في ظرف إحراز ملاك كل منهما تبعا
لتمامية موضوعه، ويتعذر ذلك في المقام، لان التوارد بين الحكمين مستلزم
لارتفاع موضوعيهما معا في المرتبة اللاحقة لتحقق عنوانيهما، فلا يحرز
ملاكاهما، ليقع التزاحم بينهما، وأهمية أحدهما ثبوتا لا تقتضي إحرازه إثباتا مع
عدم تحقق موضوعه.
إن قلت: عدم تمامية موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما
ومقتضييهما إنما يمنع من فعليتهما في هذه المرتبة، أما في المرتبة الثالثة
54

اللاحقة لها، فيتم موضوع كل منهما، لفرض تحقق قيده بسبب سقوط كل منهما
عن الفعلية في المرتبة السابقة عليها، فلا يكون رافعا لموضوع الاخر، ومع
تمامية موضوعيهما يتم ملاكاهما، ويتعين إجراء أحكام التزاحم عليهما.
قلت: بعد بطلان المقتضيين وامتناع تأثيرهما في المرتبة اللاحقة
لحدوثهما لعدم تمامية موضوعيهما فلا مجال للبناء على فعلية أثريهما في
المرتبة الثالثة، لظهور أدلتهما في اتصال أثريهما بهما، لا انفصالهما عنهما، بل
هو محتاج لدليل خاص، نظير العقد الفضولي الذي يكون أثره فعليا بالإجازة
المنفصلة عنه.
على أن تحقق قيد كل منهما في المرتبة المذكورة - نظير تحققه في
المرتبة السابقة على حدوث عنوانيهما ومقتضييهما - لا ينفع في تمامية
موضوعيهما بنحو يترتب عليه فعلية الغرض مع التوارد بينهما في جميع
الموارد، لان تمامية موضوعيهما في كل مرتبة تستلزم ارتفاعهما في المرتبة
اللاحقة لها، فلا يصلح كل منهما لان يكون موضوعا للغرض الفعلي الصالح
للداعوية، ليكون من صغريات التزاحم.
هذا، وقد تكرر من سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه الترجيح بالسبق
الزماني، مدعيا أنه مقتضى الجمع العرفي قال: " تنزيلا للعلل الشرعية منزلة العلل
العقلية، فكما أن العلل العقلية يكون السابق منها رافعا للاحق، كذلك العلل
الشرعية، فيلغى احتمال كون اللاحق رافعا لموضوع السابق، له ان كان احتمالا
معقولا في العلل الشرعية، لكنه لا يعتنى به في مقام الجمع بين الدليلين " (1).
أقول: احتمال كون اللاحق رافعا لموضوع السابق وإن كان معقولا - كما
ذكره قدس سره - إلا أنه مخالف لفرض التوارد بين الحكمين وتوقف تمامية موضوع

(1) مستمسك العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة الثانية والثلاثون من فصل شرائط وجوب
حجة الاسلام، ج: 10 ص: 119، الطبعة الثالثة.
55

كل منهما على عدم فعلية الاخر، لان مقتضاه اعتبار عدم كل منهما في مرتبة
سابقة على فعلية الاخر، كما هو الحال في سائر قيود الموضوع، بحيث لو كان
موجودا كان مانعا منه، فلا يكون اللاحق فعليا كي يرفع السابق في المرتبة
اللاحقة لحدوثه.
ولو فرض رفع اللاحق للسابق لزم كون موضوع اللاحق مطلقا بالإضافة
إلى السابق غير مقيد بعدمه، كي يمكن فعليته مع وجوده ليرفعه في المرتبة
اللاحقة، وهو خارج عن مفروض الكلام.
فالترجيح بالسبق الزماني لابد منه في مفروض الكلام من توارد
الحكمين، وليس مبنيا على الجمع العرفي. ولا يظن من أحد التشكيك فيه.
وما وقع من بعضهم من المنع منه في بعض الموارد مبني على إنكار
الصغرى بدعوى أن الورود فيه من أحد الطرفين، لا من كليهما.
وليس الكلام في المتواردين إلا في صورة التقارن التي يكون مقتضى
القاعدة فيها التساقط، لعدم تمامية موضوع كل من الحكمين في المرتبة اللاحقة
لتحقق مقتضييهما.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا تنافي بين الدليلين ليحتاج للجمع العرفي بينهما،
لان إطلاق كل منهما إنما يقتضي فعلية حكمه في المرتبة اللاحقة لتمامية
موضوعه، لا مطلقا، فعدم فعلية اللاحق لعدم تمامية موضوعه في المرتبة
السابقة لحدوث عنوانه ومقتضيه لا ينافي إطلاقه، كما أن عدم فعليتهما معا في
صورة التقارن لارتفاع موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لحدوث عنوانيهما
بسبب مانعية كل منهما من الاخر ورفعه لموضوعه لا ينافي إطلاقيهما معا.
ومن هنا يخرج المورد عن التعارض والتزاحم معا، لعدم تحقق شرطهما،
وهو التنافي بين الحكمين، لعدم تمامية موضوعيهما.
نعم، لو علم من الخارج بفعلية أحدهما إجمالا فحيث كان مرجع ذلك
56

إلى تقييد إطلاق شرطيته بالخصوصية المرتفعة بالآخر كان من صغريات
التعارض لأمر خارج، للعلم بكذب أحد الاطلاقين من دون تناف بينهما
لذاتيهما. كما أنه لو كان مرجع تقييد موضوع كل من الحكمين بالقيد المرتفع
بالآخر هو اعتبار وجوده في مرتبة المقتضي له وإن ارتفع بعد ذلك، بأن يكون
كل منهما مانعا من تمامية موضوع الاخر لا رافعا له بعد تماميته، لتم موضوع كل
منهما في فرض تقارنهما المستلزم لتمامية ملاكه، ودخل المورد في التزاحم إن
تحققت بقية شروطه، والا دخل في التعارض.
لكن الظاهر خروج ذلك عن محل الكلام في توارد الحكمين بل لعل لا
وجه له في الخارج.
بقي في المقام أمران:
الأول: أنه لو كان أحد المقتضيين مؤثرا بحدوثه فقط، والاخر مؤثرا
بحدوثه وبقائه تعين فعلية أثر الثاني مع تقارن حدوثهما، لان عدم تمامية
موضوعيهما في المرتبة اللاحقة لاجتماعهما إنما يمنع من فعلية تأثير
حدوثهما، فيؤثر الثاني ببقائه، لعدم الرافع لموضوعه بعد فرض سقوط تأثير
الأول بحدوثه وعدم تأثير بقائه.
أما مع سبق أحد المقتضيين فالاثر له مطلقا، لان فعلية أثره تبعا لحدوثه
كما تمنع من تأثير الاخر بحدوثه لعدم تمامية موضوعه تمنع من تأثيره ببقائه
لذلك أيضا.
والظاهر أن مثل النذر والإجارة من الأمور المتقومة بالجعل والانشاء من
الأول، بل لا بقاء في الحقيقة للمقتضي فيها، كما أن مثل ملكية الزاد والراحلة في
الاستطاعة للحج من الثاني، وكذا مثل أمر الوالدين ونهيهما، لان ملاك رجحان
المأمور به ومرجوحية المنهي عنه ارتكازا هو موافقة الإرادة والكراهة القابلين
للبقاء، وليس الأمر والنهي إلا كاشفين عنهما، ولذا لو حدثت ملكية الزاد
57

والراحلة أو أمر الوالدين في حال فقد شرط تأثيرهما - كما في الصبي - ثم تحقق
الشرط أثرا ببقائهما، بخلاف مثل النذر والإجارة.
الثاني: أنه قد يتوهم أن توارد الحكمين مستلزم لتقدم كل منهما على
الاخر رتبة، بل للدور، حيث يكون وجود كل منهما رافعا للآخر ومن أجزاء علة
عدمه وعدمه شرطا له ومن أجزاء علة وجوده.
ويندفع بأن الحكم ليس معلولا للموضوع حقيقة، بل للجعل والاعتبار
الشرعي، واعتبار كل من الحكمين مباين لاعتبار الاخر، وليس الموضوع إلا
ظرفا لاعتبار كل من الحكمين، ولا مانع من عدم جمع الشارع للحكمين
بجعلهما في عرض واحد، لعدم فعلية غرضيهما وملاكيهما كذلك، المستلزم
لكون فعلية كل من الحكمين ظرفا لعدم الاخر وعدمها شرطا في تحقق الاخر،
وإذا لم يكن الحكم معلولا للموضوع أمكن كونه علة له في المقام دون أن يلزم
محذور الدور.
58

الفصل الثاني
في الحكومة
سبق أن موضوع الكلام هو الدليلان الدخيل أحدهما في ترتب العمل
على الاخر، وحيث تقدم في الفصل الأول الكلام فيما لو كان أحد الدليلين
متكفلا بتنقيح موضوع حكم الدليل الاخر ثبوتا أو إثباتا يبقى الكلام في بقية
الأقسام في المقام، وهي ثلاثة..
الأول: أن يتكفل أحد الدليلين ببيان بعض الجهات التي يبتني عليها
استفادة الحكم الذي يترتب عليه العمل من الاخر مما لا يتكفل هو به، بل يستند
لجهات اخر، كتعيين معاني المفردات وظهور الكلام ومراد المتكلم منه أو بيان
بعض القرائن المحيطة بالكلام الموجبة لتبدل ظهوره، أو جهة صدوره كالتقية،
مثل ما في صحيح عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع): " سألته عن رجل لم يدر
ركعتين صلى أم ثلاثا. قال: يعيد. قلت: أليس يقال: لا يعيد الصلاة فقيه؟ فقال:
إنما ذلك في الثلاث والأربع " (1).
وحديث علي بن المغيرة: " قلت لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك الميتة
ينتفع منها بشئ؟ فقال: لا. قلت: بلغنا أن رسول الله (ص) مر بشاة ميتة فقال: ما
كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها (بجلدها. خ. ل):
قال: تلك شاة لسودة بنت زمعة زوجة النبي (ص) وكانت شاة مهزولة لا ينتفع
بلحمها فتركوها حتى ماتت، فقال رسول الله (ص): ما كان على أهلها إذ لم

(1) الوسائل، ج: 5، باب: 9 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، حديث: 3.
59

ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها. أي: تذكى " (1)، وغيرهما.
ومن الظاهر أن هذا السنخ من الأدلة متفرع على الدليل المتعرض له تفرع
المفسر على المفسر.
كما أنه يكون ناظرا إليه من حيثية دليليته إما تفصيلا - كما في الخبرين
المتقدمين - أو إجمالا، كما في ما يتضمن بيان معاني المفردات، كما ورد في
تفسير المذي والوذي والودي (2)، لوضوح رجوعه إلى بيان ما هي ظاهرة فيه في
جميع موارد استعمالها، وان لم يرد لشرح دليل خاص.
ومن ثم لا يلزم تأخره عنه زمانا، بل يمكن تقدمه عليه مع نظره إليه
إجمالا وتفسيره له على فرض وجوده بنحو القضية التعليقية.
كما أنه حيث كان ناظرا للدليل من حيثية دليليته فلا يلزم نظره للحكم
المدلول له ولا تحديده وشرح حاله، بل غاية ما يقتضيه تحديد دلالة الدليل
على الحكم ومدى استفادته منه، وان كان الحكم في الواقع أوسع أو أضيق من
مدلول الدليل. فمثلا ما تضمنه الخبر المتقدم من شرح قصة الشاة الميتة إنما
يمنع من استفادة حلية الانتفاع بجلد الميتة من كلام النبي (ص) ولا ينافي جواز
الانتفاع بها لدليل اخر.
نعم، قد يقتضي ذلك لخصوصية فيه زائدة على النظر للدليل وشرحه،
كما هو الحال في الخبر المذكور، لوروده في مقام الردع عن جواز الانتفاع
بالجلد.
الثاني: أن يكون أحد الدليلين ناظرا للحكم الذي تضمنه الاخر ومبينا
لحاله بنحو خاص، كأدلة التنزيل الموسعة للموضوع، كالنبوي: (الطواف بالبيت

(1) الوسائل، ج: 2 باب: 61 من أبواب النجاسات حديث: 20.
(2) الوسائل، ج: 1 باب: 12 من أبواب نواقض الوضوء حديث: 6.
60

صلاة " (1) أو المضيقة له، مثل قوله (ع): " لا سهو في نافلة " (2) لوضوح ابتناء
التزيل بين المتباينين على ملاحظة أحكام المنزل عليه والتشريك فيها، وابتناء
نفي العنوان عن فرده على ملاحظة حكمه ونفيه عنه. وكذا أدلة الرفع الثانوية مع
الاحكام الأولية، كأدلة رفع الضرر والحرج والاكراه ونحوها، لوضوح ابتناء الرفع
على فرض ثبوت الحكم اقتضاء، فهو يبتني على النظر للحكم المذكور وبيان
حاله وأنه ليس فعليا في حال وجود العنوان الثانوي المذكور.
وهو كسابقه يكون نظره للحكم تفصيليا تارة، واجماليا أخرى، كما يمكن
تقدمه عليه زمانا لأجل ذلك، بأن يكون مبينا لحاله على تقدير تشريعه، كما هو
الحال في أدلة أحكام العناوين الثانوية الرافعة.
وانما يختلف عنه في أنه حيث كان النظر فيه لنفس الحكم الذي تضمنه
الدليل دون الدليل بما هو دليل فلا يكون متكفلا ببيان المراد من الدليل وشرح
مؤداه ولا يتصدى لذلك، وان كان قد يستفاد منه تبعا، بلحاظ أن كون الحكم
بوجه خاص ثبوتا مستلزم لعدم إرادته على خلاف ذلك الوجه من دليله بعد
فرض عدم النسخ.
نعم، الاستفادة المذكورة مختصة بالأدلة المضيقة إما للموضوع كدليل
نفي السهو في النافلة، أو للحكم كأدلة الرفع الثانوية، ولا تتم في أدلة التنزيل
الموسعة، لوضوح أن ثبوت أحكام المنزل عليه للمنزل لا تستلزم عموم أدلة
أحكام المنزل عليه له، فمشاركة الطواف للصلاة في وجوب الطهور مثلا لا
يستلزم كون المراد بالصلاة في قوله (ع): " لا صلاة إلا بطهور " ما يعم الطواف.
هذا، ولازم الفرق المذكور بين هذا القسم وما قبله في كيفية النظر رجوع

(1) حكي عن سنن البيهقي: ج 5 ص 87 وعن كنز العمال ج 3 ص 10 رقم 206 وذكره في الخلاف
والمسالك ومرسلا في مسألة مس المحدث للقران.
(2) الوسائل ج: 5 باب: 25 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 8
61

هذا القسم إلى بيان قضية تشريعية تستند للحاكم بالحكم المنظور إليه، كجريان
أحكام الصلاة على الطواف وعدم جريان أحكام السهو على السهو في النافلة
ورفع الاحكام الضررية، ولا أثر لها لو استندت لغيره، بخلاف القسم الأول، فإن
مرجعه إلى بيان أمر واقعي يمكن أن يكشف عنه كل أحد من دون خصوصية
للحاكم فيه.
الثالث: أن يستقل كل من الدليلين في بيان ما يتكفله من دون نظر من
أحدهما للاخر ولا للحكم الذي تضمنه، ويكون مدلول أحدهما منافيا لمدلول
الاخر بدوا، وان امتاز أحدهما بخصوصية تقتضي أقوائية دلالته بنحو يكون
قرينة عرفا على المراد من الاخر - وإن لم يسق لذلك - فيقدم عليه في مقام
العمل، فيخرج الاخر معه عن الحجية في مورد التنافي، ليخرج بذلك عن
التعارض على ما سيأتي توضيحه، كالعام والخاص وغيرهما من موارد تعارض
الظاهر والأظهر.
وتقديم الأقوى وان كان راجعا إلى تفسير الأضعف به وتعيين المراد
الجدي منه بسببه، إلا أنه ليس لسوقه لتفسيره - كما في القسم الأول - ولا لنظره
لمدلوله - كما في القسم الثاني - بل لمحض بناء العرف على ذلك، تبعا
لمرتكزاتهم المعول عليها في فهم مراد المتكلم من كلامه والعمل عليه.
إذا عرفت هذا، فلا إشكال في خروج القسم الثالث عن الحكومة، وانما
هي مرددة بين القسمين الأولين، لاضطراب كلماتهم في تحديدها ولا سيما
شيخنا الأعظم الذي هو الأصل لهذا المصطلح، فقد قال قدس سره في مبحث التعارض:
" وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل
الاخر، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الاخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون
مبنيا لمقدار مدلوله ومسوقا لبيان حاله متفرعا عليه ".
وقد يظهر من ذلك اختصاصها بالقسم الأول، بل ببعض أفراده، وهو
62

خصوص ما كان مسوقا لشرح الموضوع وتفسيره، إلا أن تمثيله بأدلة أحكام
الشكوك بالإضافة لما دل على أنه لا حكم للشك في النافلة، أو مع حفظ الامام،
أو المأموم، أو بعد الفراغ من العمل، وتعرضه لنظير ذلك في تقريب حكومة
أدلة نفي الحرج والضرر على أدلة الاحكام الأولية، وجعله تقديم الامارة على
الأصل بملاك الحكومة يأبى ذلك جدا، بل يناسب كون القسم الثاني منها، كما
هو الظاهر من كلام جمع ممن تأخر عنه بل صريح بعضهم.
وقد حاول بعض الأعاظم توجيه العبارة بما يناسب ذلك بحمل التفسير
فيها على نتيجة التفسير بلحاظ ما أشرنا إليه آنفا من أن كون الحكم الذي تضمنه
الدليل المحكوم بالوجه الخاص الذي بين في الحاكم يستلزم ارادته من الدليل
المحكوم على ذلك الوجه، فيكون شارحا له تبعا وان لم يسق لشرحه.
وربما استشهد لذلك بأنه قدس سره فرض التفسير بنحو يرجع إلى عدم ثبوت
الحكم لبعض أفراد الموضوع - كما هو الحال في القسم الثاني - لا بنحو يرجع
إلى بيان المراد بالموضوع، كما هو الحال في القسم الأول، وبأنه قدس سره ذكر بعد ذلك
أن مفاد الدليل الحاكم تخصيص بعبارة التفسير.
ومن هنا قد يدعى اختصاص الحكومة عنده بالقسم الثاني، كما يناسبه ما
صرح به بعضم وقد يظهر من آخرين من أن مبنى التقابل بين الورود والحكومة
على فرض ارتفاع الموضوع فيه حقيقة، وفرض بقائه فيها، وان كان مرتفعا
ادعاء أو تعبدا.
لكن كلامه قدس سره آب عن ذلك جدا، لان فرض كون الحاكم متعرضا لحال
المحكوم بمدلوله اللفظي ومسوقا لبيان حاله صريح في إرادة القسم الأول.
ومجرد فرضه رافعا لحكمه عن بعض أفراد موضوعه لا ينافيه، لان
التفسير قد يتضمن ذلك، حيث قد يتعرض المفسر صريحا لإرادة الخاص من
العام، على خلاف ظاهر الكلام.
63

ومن ثم ذكر بعض المحشين - في ما حكي عنه - أنه قدس سره ضرب في الدورة
الأخيرة على العبارة الدالة على إرادة القسم الأول.
ولعل منشأ ما ذكره قدس سره من كون الحاكم مفسرا للمحكوم بمدلوله اللفظي
ومسوقا لذلك هو اختلاط ورود أحد الدليلين لتفسير الاخر بما إذا استفيد
شرحه منه تبعا، والخلط بين نظره إليه ونظره لمدلوله، كما اختلط ذلك على
غيره، حيث يظهر منهم المفروغية عن لزوم نظر الحاكم للمحكوم، مع عدم
النظر في الموارد المذكورة ونحوها من موارد التنزيل - التي هي من أظهر موارد
الحكومة عندهم - إلا لحكم أحد الدليلين، دون الدليل نفسه.
هذا، وحيث لا مشاحة في الاصطلاح فالمناسب تعميم الحكومة
للقسمين معا، لاشتراكهما في لزوم العمل بالحاكم، ولأنه أنسب بالجمع بين
تحديد الحكومة وأمثلتها في كلام شيخنا الأعظم قدس سره الذي هو الأصل في
الاصطلاح.
وعليه فالمعيار في الحكومة على كون أحد الدليلين ناظرا للدليل الاخر
بنفسه أو بمدلوله، ومسوقا لبيان حال أحدهما.
ولتخص الأولى باسم الحكومة البيانية، لسوق الحاكم فيها لبيان حال
نفس الدليل المحكوم، والثانية باسم الحكومة العرفية، لان منشأ التحكيم فيها
هو العرف، على ما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.
وليس هذا بمهم بعد أن كان راجعا لمحض الاصطلاح. وانما المهم ما
رتب عليه من الأثر العملي، وهو لزوم تقديم الدليل الحاكم على المحكوم من
دون نظر للمرجحات، حيث ذكر ذلك شيخنا الأعظم قدس سره وتسالم عليه من بعده.
ولا ينبغي التأمل في ذلك في الحكومة البيانية، لعدم التنافي بين الحاكم
والمحكوم في المضمون أصلا، لغرض عدم تكفل المحكوم ببيان الجهة التي
يبتني عليها استفادة الحكم منه، والتي فرض تعرض الحاكم لها، بل المتكفل بها
64

طرق آخر من أصول عقلائية أو غيرها، فلا مانع من شمول إطلاق دليل الحجية
لهما معا، مع تقديم الحاكم، لتقدمه رتبة.
نعم، قد يكون مفاد الحاكم منافيا لمقتضى الطرق الأخرى التي يرجع إليها
في استفادة الحكم من المحكوم لولا الحاكم، كأصالة عدم القرينة، أو عدم النقل،
أو الجهة، أو نحوها.
فإن كان واردا عليها - كما هو الحال في الأصول المذكورة - فلا إشكال،
والا كان معارضا لها بدوا ولزم الرجوع للقواعد المرعية من الجمع بينها وبينه أو
ترجيح أحدهما أو التساقط، كما هو الحال لو تضمن أحد الخبرين تكذيب
الاخر وعدم صدوره عن المعصوم (ع) فإن الكلام وان لم يتضمن صدور نفسه،
فلا ينافي الدليل المكذب لصدوره، إلا أن سنده لما كان متكفلا باثبات صدوره
كان منافيا للدليل المكذب لذلك، ومن الظاهر أن الدليل المكذب لا ينهض برفع
موضوع السند، ولا برفع موضوع حجيته، فيتعارضان.
وتوهم عدم التعارض بينهما، لان التكذيب لما كان صادرا عن المعصوم
الذي يقطع بصدقه، فلا مجال معه لحجية السند الحاكي عن الصدور.
مدفوع بأن القطع بصدق المعصوم لا يوجب القطع بكذب ما ورد تكذيبه
عنه، لان صدور التكذيب وإرادة ظاهره ليسا قطعيين، فينهض سند الخبر الذي
ورد تكذيبه بمعارضتهما، ويتعين التساقط. فلاحظ.
وأما الحكومة العرفية التي هي موضوع تمثيلهم ومحل كلامهم فقد وقع
الكلام في وجه التقديم فيها في فرض اختلاف مقتضى الحاكم عن مقتضى
المحكوم.
وقد وجهه بعض الأعاظم قدس سره بعدم التنافي بين مفاد الحاكم ومفاد
المحكوم، لان المحكوم إنما يثبت الحكم على تقدير وجود موضوعه - كما هو
مفاد القضية الحقيقية - من دون أن يتكفل باثبات الموضوع، لينافيه الدليل
65

الحاكم النافي للموضوع.
لكنه - كما ترى - إنما يصلح أن يكون وجها للتقديم في الورود بقسميه
المتقدمين، وهما الواقعي والظاهري، ولا يجري في ما نحن فيه مما فرض فيه
رفع الموضوع ادعاء وتنزيلا مع بقائه حقيقة، فإن مقتضى إطلاق الدليل
المحكوم ثبوت الحكم حينئذ تبعا لثبوت موضوعه حقيقة، فيكون الدليل
الحاكم منافيا للاطلاق المذكور.
على أن ذلك مختص ببعض أفراد الحكومة، وهي المبنية على سلب
عنوان الموضوع، دون حكومة مثل أدلة الرفع الثانوية على أدلة الاحكام الأولية،
لوضوح عدم تكفل الحاكم برفع موضوع حكم الدليل المحكوم ادعاء فضلا
عن رفعه حقيقة.
ومن ثم أكمل بعض مشايخنا وجه تقديم الحاكم - بعد ذكره لما سبق من
بعض الأعاظم - بوجه التقديم في مثل ذلك، وهو أن الأدلة المذكورة لما كانت
ناظرة للأدلة الأولية وشارحة للمراد بها وأن الاحكام الضررية والحرجية غير
مجعولة في الشريعة المقدسة، فلا يقع التصادم بينهما أصلا.
ويظهر الاشكال فيه مما سبق، من أن الأدلة المذكورة غير ناظرة لأدلة
الاحكام الأولية، لتكون شارحة لها ورافعة لمقتضى أصالة الظهور فيها، بل هي
ناظرة لما تضمنته من الاحكام وحاكمة بقصورها عن حال طروء العناوين
المذكورة، فينافي إطلاق أدلة تلك الأحكام، ويقع التصادم بينها، وانما يتم ذلك
في الحكومة البيانية، كما لا يخفى.
ومنه يظهر حال ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في وجه الفرق بين التخصيص
والحكومة، بنحو يرجع لخصوصية الحكومة في التقديم. قال: " والفرق بينه
وبين التخصيص أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعد جواز
إرادة العموم مع العمل بالخاص، وهذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام، فهو
66

تخصيص في المعنى بعبارة التفسير ".
ولعله إليه يرجع ما قيل من أن تقديم الأظهر على الظاهر في موارد الجمع
العرفي يبتني على كون الأظهرية قرينة عرفية نوعية على تحديد المراد من
الظاهر، من دون إعداد من المتكلم نفسه، بخلاف تقديم الحاكم، فإنه ناشئ من
إعداد منه له للقرينية على المحكوم وبيان المراد الجدي منه، وللمتكلم تحديد
مراده من كلامه متى شاء.
فإنه يظهر بما تقدم أن ذلك يتم في الحكومة البيانية، دون العرفية التي هي
محل كلامهم.
هذا، وقد يدعى أن الملزم بتقديم الحاكم على المحكوم بعد اشتراكهما
في التعرض للحكم والتنافي فيه هو اشتمال الحاكم على الخصوصية الزائدة،
المقتضية لنظره للحكم الذي تضمنه المحكوم وتحديده وشرحه، ككونه بلسان
رفعه في فرض وجود مقتضيه أو بلسان رفع موضوعه أو نحوهما.
لكنه لم يتضح صلوح الخصوصية المذكورة بنفسها للتقديم مع قطع
النظر عن الأظهرية الملزمة بالتقديم في سائر موارد الجمع العرفي.
ودعوى: أن تقديم الحاكم لا يبتني على أظهريته، لان النسبة بينه وبين
المحكوم غالبا هي العموم من وجه الموجب للتعارض والتساقط.
مدفوعة بأن كون النسبة بين الدليلين هي العموم من وجه لا ينافي أظهرية
أحدهما بنحو ملزم بتقديمه عرفا. فالمناسب الكلام في وجه أظهرية الحاكم.
ولا يبعد أن يكون منشؤه أحد أمرين..
أولهما: كون ظهور الدليل الحاكم في خصوصية عنوانه أقوى من ظهور
الدليل المحكوم.
وتوضيح ذلك: أن الألسنة التي تتضمنها الأدلة الحاكمة واردة غالبا في
مورد خصوصية ارتكازية مناسبة لمقتضاها، فإن لساني التنزيل والنفي اللذين
67

هما من مورد الحكومة العرفية وان كانا متقومين بالمشاركة في الحكم
والمخالفة فيه، ولذا كانا مبنيين على النظر له - كما سبق - إلا أنهما كثيرا ما يردان
في الافراد المشتملة على خصوصية تناسب أحد الامرين، كتنزيل الطواف منزلة
الصلاة المناسب لمسانخته لها في نحو العبادية، وتنزيل المطلقة رجعيا منزلة
الزوجة، المناسب لبقاء العلقة فيها، ونفي العلم عن غير العامل بعلمه المناسب
لانتفاء الأثر المقصود من العلم عنه، ونفي السهو في النافلة المناسب لعدم
أهميتها، أو عن كثير الشك المناسب للزوم العسر من جريان أحكامه فيه، أو عن
الامام أو المأموم مع حفظ الاخر، المناسب لوجود الامارة المرجحة لاحد طرفي
الشك وغير ذلك مما يشتمل مورده على خصوصية مناسبة لعموم الحكم أو
قصوره.
وكذا الرفع في مثل الصبا والحرج والضرر والاكراه مما يكون مناسبا عرفا
للتخفيف، فإن الأدلة المذكورة حيث كانت منبهة للمناسبة المذكورة ولجري
الشارع على مقتضاها كان ظهورها في خصوصية موردها أقوى من ظهور الدليل
المحكوم في خصوصية عنوانه في فعلية الحكم، المستلزم لثبوته في مورد
الدليل الحاكم.
ولو فرض ورود الألسنة المذكورة في مورد خال عن المناسبة العرفية،
بحيث يكون مقتضاه تعبديا متمحضا في نفي الحكم أو ثبوته، فلا يبعد فقده
للخصوصية المقتضية للتقديم، بل يكون كسائر موارد التخصيص أو التقييد، كما
لعله في مثل قولهم (ع): " لا صلاة إلا بطهور " (1)، و: " من لم يقم صلبه في
الصلاة فلا صلاة له " (2). بل لعله غير منظور لهم في اصطلاح الحكومة، ويختص
نظرهم بالقسم السابق.
(1) الوسائل ج: 1 باب: 1 من أبواب الوضوء حديث: 1.
(2) الوسائل ج: 4 باب: 2 من أبواب القيام من كتاب الصلاة حديث: 1.
68

ثانيهما: أن الحاكم ليس طرفا للنسبة مع دليل حكم واحد، بل مع أدلة
أحكام متعددة، والنسبة بينه وبين كل منها وان كانت العموم من وجه، إلا أن
النسبة بينه وبين مجموعها هي العموم والخصوص المطلق، ولا مجال لتقديمه
على بعضها دون بعض، لأنه بلا مرجح عرفي، ولا لتقديمها بأجمعها عليه، لأنه
موجب لالغائه رأسا، فيتعين تقديمه عليها بأجمعها، وأعمالها في غير مورده من
دون أن يلزم إلغاؤها، كما هو الحال في أدلة الرفع الثانوية.
وربما تكون هناك بعض الجهات الاخر الموجبة لأقوائية ظهوره غير ما
ذكرنا تحتاج لاستقصاء الأدلة والنظر فيها بنحو لا يسعه المقام.
وبالجملة: الظاهر أن التقديم في مورد الحكومة العرفية مبني على الجمع
العرفي بين الحاكم والمحكوم بلحاظ خصوصية في الحاكم تقتضي أقوائية
دلالته وتقديمه، لا بلحاظ عدم التنافي بين الحاكم والمحكوم ولا بلحاظ تقدم
الحاكم رتبة، بخلاف الحكومة البيانية. ومن ثم أطلقنا على الحكومة المذكورة
اسم الحكومة العرفية، كما أشرنا إليه انفا.
بقي في المقام أمور..
الأول: أنه مما تقدم يتضح عدم توقف الحكومة البيانية على كون الحاكم
أقوى دلالة من المحكوم، لعدم التعارض بينهما في مقام البيان، بسبب عدم
التنافي بين مؤدييهما، كي يحتاج للمرجحات الدلالية، بخلاف الحكومة العرفية،
فإنها حيث كانت مبنية على قرينية الحاكم عرفا على المحكوم مع التنافي بينهما
بدوا، بملاك الجمع العرفي، فلا بد من فرض أقوائية دلالة الحاكم، ليتعين للقرينة
على المحكوم دون العكس.
الثاني: أنه قد أشير في كلماتهم إلى أن إجمال الحاكم هل يسري
للمحكوم، فلا يعمل به في مورد الاجمال، أو لا، بل يقتصر في الخروج عنه
على المتيقن الذي يكون الحاكم حجة فيه، كما هو الحال في إجمال الخاص
69

بالإضافة للعام؟
الظاهر اختلاف الحال باختلاف الموارد، من دون فرق بين قسمي
الحكومة.
فإن كان مقتضى الحاكم انقلاب ظهور المحكوم إلى مقتضاه، إما لتبدل
المفهوم أو لقرينة محتفة بالكلام، تعين سريان الاجمال للمحكوم، لعدم حجيته
بسبب الحاكم في ما هو ظاهر فيه بدوا، ليكون متبعا في مورد الاجمال، نظير
حمل الرطل الذي يفرض ظهوره في العراقي على الرطل المكي، أو حمل
الكلام الظاهر في الجنس على العهد.
وإن كان مقتضى الحاكم التفكيك بين مراتب الظهور في المراد الجدي،
نظير العام والخاص، تعين عدم سريان الاجمال للمحكوم، بل يكون حجة في
مورد الاجمال، ويقتصر في الخروج عنه على مورد اليقين الذي يكون الحاكم
حجة فيه.
وأولى بذلك ما لو كان مرجع إجمال الحاكم إلى الشك في مقدار الأدلة
التي يحكم عليها وينظر إليها، حيث لا إشكال حينئذ في حجية أدلة تلك الأحكام
، للشك في حكومته عليها.
نعم الظاهر عدم ارتفاع إجمال الحاكم في القسمين، بنحو ينفع في
الاحكام الأخرى، لان ترتب حكم المحكوم في مورد وإن كان مستلزما لقصور
الحاكم عنه ثبوتا، إلا أن ملاك ترتبه إثباتا في المقام خروج المورد عن المتيقن
من دليل الحاكم، لا عن المراد الواقعي به، فهو لا ينهض بإثبات الخروج عنه
واقعا.
هذا كله فيما إذا كان الدليل الحاكم منفصلا بعد انعقاد ظهور المحكوم، أما
لو كان متصلا به فهو يمنع من انعقاد ظهوره في مورد الاجمال، فلا يكون حجة
فيه بلا إشكال، كما هو الحال في إجمال الخاص المتصل.
70

وكذا لو كان منفصلا مع رجوع الاجمال للتردد بين المتباينين لا بين الأقل
والأكثر.
الثالث: لما كانت الحكومة بقسميها مبنية على نظر أحد الدليلين للاخر
أو للحكم الذي تضمنه، بنحو يقتضي تبدل مفاده، فهي تختص بالأدلة اللفظية
المتميزة بلسان خاص يبتني على النظر والشرح، والتي تكون ظنية الدلالة بنحو
تخضع للبيان والتفسير.
أما الأدلة اللبية فلا مجال لفرض الحاكم فيها، لان المنظور فيها واقع
الحكم، من دون أن تكون ذات لسان صالح للشرح والبيان بالإضافة للأدلة
الأخرى.
كما لا مجال لفرض المحكوم فيها، لأنها قطعية المضمون. ومثلها في
ذلك الأدلة اللفظية القطعية الدلالة.
نعم لو كان إحراز الموضوع ظاهرا من صغريات الحكومة - كما ذكره في
الجملة بعض الأعاظم - اتجه وقوعها في الأدلة اللبية، لان الدليل اللبي قد ينهض
بالتعبد بموضوع حكم غيره واحرازه ظاهرا. كما أن موضوعه قد يحرز ظاهرا
بدليل اخر.
لكن سبق منا إلحاقه بالورود وتخصيصه باسم الورود الظاهري. فراجع.
الرابع: حيث كانت الحكومة العرفية مبنية على تحكيم العرف الحاكم
على المحكوم، لأقوائية دلالته، فهي من صغريات الجمع العرفي، فيلحقها ما
يأتي في الفصل الثالث من الكلام في وجه العمل عليه وعدم لزوم التعارض
بالنظر لعموم أدلة الحجية معه، فليس الكلام فيها إلا صغرويا بعد الفراغ عن
حكمه كبرويا.
الخامس: أشرنا فيما سبق إلى تحقق النظر الذي هو المعيار في الحكومة
في موارد التزيل الشرعي الحاصل بحمل أحد المتباينين على الاخر، كالحكم
71

بأن المطلقة رجعيا زوجة، أو نفي العنوان عن بعض أفراده، كنفي الشك عن
النافلة لتقوم التنزيل بالأحكام المستلزم للنظر إليها واثباتها أو نفيها.
ويظهر مما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في مفاد الطرق والأصول الاحرازية
وفي وجه حكومتها على ما تأخر عنها من الأصول تحقق الحكومة أيضا في
مورد اعتبار الشارع للعنوان وجعله في مورد مباين له ذاتا أو نفيه والغائه عن
بعض أفراده تعبدا كجعل الامارة علما له والغاء الشك معها تعبدا بتتميم كشفها
وطريقيتها للواقع، فتترتب عليها أحكام العلم وترتفع عنها أحكام الشك.
لكنه إن رجع إلى جعل أحكام العنوان أو نفيها بلسان حمله أو نفيه رجع
إلى التنزيل الذي سبق الكلام فيه. وليس مورد الجعل والتعبد في الحقيقة حينئذ
هو العنوان بل أحكامه.
وإن رجع إلى جعله بنفسه أو نفيه اعتبارا، بحيث يكون المورد حقيقة من
أفراده أو مباينا له حقيقة بسبب الجعل والتعبد. فهو - مع اختصاصه بالماهيات
الجعلية غير المتأصلة، كالملكية، دون الحقيقية المتأصلة كالعلم والشك، كما
سبق عند الكلام في مفاد الطرق - يكون من صغريات الورود، ويخرج عن
الحكومة حيث لا يتوقف على النظر لاحكام العنوان الشرعية، بل لو فرض كون
العنوان مما يترتب عليه الأثر بنفسه وان لم يكن له أحكام شرعية - كالعلم
والشك - صح جعله أو نفيه تعبدا ولم يكن لاغيا. فلاحظ.
72

الفصل الثالث
في الجمع العرفي
تمهيد
من الظاهر أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن في
مقام بيان مراده، وان كانت على خلاف مقتضى الظهورات الأولية العامة
المستندة للأوضاع أو الانصرافات الناشئة من كثرة الاستعمال أو نحوها، فتمنع
من انعقاد الظهور الشخصي للكلام على طبقها، بل يكون على طبق القرائن التي
اشتمل عليها الكلام.
من دون فرق بين ما يعده المتكلم للقرينية كتوصيف المشترك بما يعين
معناه، وما يعده لغرض اخر ولو مع الغفلة عن قرينيته ودخله في بيان المراد،
كالحكم عليه بما يناسب أحد معانيه، كالاخبار عن العين بأنها تدمع، الملزم
بحملها على الباصرة.
فإذا فرغ المتكلم من كلامه انعقد ظهوره في بيان مراده الجدي على ما
يناسب الجمع بين الظهورات الأولية العامة ومقتضى القرائن الخاصة المقالية
والحالية التي يحتف بها الكلام، ويستقر الظهور المذكور ولا يرتفع بظهور
المعارض له في المدلول وان كان أقوى منه ظهورا، فلا بد من النظر في مقتضى
القاعدة عند تصادم الظهورات التي ينفصل بعضها عن بعض.
هذا، ولكن يظهر من بعض الأعاظم قدس سره في غير موضع من كلامه المنع من
ذلك في بيانات الشارع الأقدس، لدعوى: استقرار طريقته على إبراز مقاصده
73

بالقرائن المنفصلة، كما يظهر بملاحظة النصوص المروية عن الأئمة (ع)
لمصالح هم أعرف بها، فقبل الفحص عن القرائن المذكورة لا مجال للجزم
بظهور الكلام التصديقي، وهو الظهور في المراد الجدي، وإن علم بظهور الكلام
التصوري الذي هو مفاد حاق الكلام، والذي لا يكون موضوعا للحجية، كظهور
صدر الكلام قبل الفراغ منه. كما أنه بالعثور على القرائن المذكورة لا يلزم
التعارض بين الظهورين، بل منع القرينة المنفصلة عن الظهور الأولي للكلام،
كما هو الحال في القرائن المتصلة.
ويشكل.. أولا: بأن كثرة التخصيصات والقرائن المنفصلة لا تستلزم كون
طريقة الشارع الاعتماد عليها، بنحو لا يتم الظهور التصديقي بدون الفحص
عنها، لقرب رجوع ذلك إلى اختفاء القرائن المتصلة الكاشفة عن مراد المتكلم
بكلامه، أو عدم كون المتكلم في مقام البيان من بعض الجهات، أو نحو ذلك مما
يوجب مخالفة الظاهر للمراد، فالقرائن المنفصلة تكشف عن ذلك لا عن قصور
بيان المتكلم حين صدوره لاعتماده على القرائن المنفصلة.
والا فمن البعيد جدا خروج الشارع عن الطريقة العرفية واعتماده في بيان
مراده على القرائن المنفصلة مع عدم الضابط لها ثبوتا واثباتا، لتوقف حصولها
على تحقق الدواعي لبيانها، كسؤال السائل المتفرع على التفاته وحاجته لمعرفته
حكم المسألة، وتحقق المناسبة المقتضية للبدء بالبيان، وعدم حصول الشبه
الموجبة للخلاف في المسألة بنحو يستلزم وضوح المراد وانعقاد الاجماع
الصالح للخروج به عن مقتضى الظهور الأولي التصوري للكلام، ونحو ذلك مما
لا ضابط له، وتوقف وصولها على تقدير حصولها على تحقق دواعي النقل،
وضبط الناقل، وثبوت وثاقته ليكون نقله حجة صالحا للبيان، وعدم ضياع
الرواية بتلف الكتاب أو نحوه، وغير ذلك مما لا ضابط له أيضا.
ومع ذلك كيف يخرج الشارع عن الطريقة العرفية في بيان مراده ويتكل
74

على القرائن المنفصلة. ولا سيما مع انفصالها عن الكلام بعشرات السنين، إذ، قد
يرد العام عن النبي (ص)، أو الوصي (ع)، ويراد الخاص عن الأئمة
المتأخرين (ع) أو يستند للاجماع الحاصل من اتفاق العلماء بعد الغيبة.
وهل يمكن الالتزام بعدم البيان في تلك المدة الطويلة وأن الشارع قد
تعمد بيان الحكم على خلاف الواقع؟!
نعم، لا إشكال في كثرة بيان المراد لتقية أو نحوها، إلا أنه ليس للخروج
في البيان عن طريقة العرف والاعتماد على القرائن المنفصلة، بل لطروء
المحذور المانع من بيان الواقع والملزم ببيان خلافه حتى مع تعذر إقامة القرينة
المنفصلة، كما قد يتحقق ذلك في بيانات العرف من دون أن يمنع من انعقاد
الظهور أو يسقطه عن الحجية.
ومجرد كثرة ذلك ونحوه مما يرجع لعدم إرادة الظاهر في بيانات الشارع
الواصلة لنا.
لا يصلح للفرق بينها وبين بيانات العرف بنحو يمنع من انعقاد ظهورها،
لعدم تبعية الظهور والحجية لموافقة الواقع، بل لموافقة الطرق العقلائية في
البيان الحاصلة بمجاراة أهل اللسان، أو بيان الخروج عن طريقتهم من قبل
المتكلم نفسه، وحيث لم يثبت الثاني من الشارع، بل يعلم بعدم صدوره، والا
لظهر وبان لتكثر الدواعي لحفظه وتوافر الأسباب لانتشاره، تعين الأول. على أن
الكثرة بمجردها لو كانت مانعة من الظهور لزم توقفه على عدم المعارض
المستحكم المعارضة والذي لو اجتمع معه في كلام واحد كان مجملا، لأنه كثير
في كلام الشارع أيضا، فيلزم جريان حكم المجمل بالعثور عليه، لا حكم
التعارض، ولا يظن من أحد البناء على ذلك.
وثانيا: بأن لازم ذلك عدم حجية العموم ونحوه حتى بعد الفحص،
لاحتمال ضياع القرائن التي اعتمد المتكلم عليها، فلا يحرز الظهور التصديقي
75

للكلام إلا بعد القطع بعدم القرينة المنفصلة.
وقد أطال قدس سره في تقريب اندفاع هذا الاشكال، حيث ادعى أنه بعد
الفحص يصح للعبد أن يحتج على المولى بذلك الظهور، لأنه حجة ما لم يجد
قرينة على خلافه، فلو لم يطابق الظهور المراد الواقعي كان ذلك ناشئا من عدم
إلقاء المولى كلامه بنحو يفي ببيان المراد، لا من تقصير العبد في فحصه عن بيان
المولى لمراده.
لكنه كما ترى، لان لازم ما ذكره من خروج الشارع عن الطريق العرفي
احتمال استيفاء بيان الشارع لمراده، لضياع القرائن التي اعتمد عليها، ولا مجال
للرجوع لما وصل من كلامه، لعدم إحراز ظهوره التصديقي.
كما لا مجال للرجوع لأصالة عدم القرينة المنفصلة لاحراز الظهور
المذكور، لان أهل اللسان إنما بنوا على الأصل المذكور في بياناتهم التي يتم
ظهورها التصديقي، وتكون البيانات المنفصلة المنافية لها من سنخ
المعارضات، ولم يثبت بناؤهم عليه في بيانات الشارع المفروض عدم إحراز
ظهورها التصديقي، لكون البيان المنفصل المحتمل مقوما لظهورها لا معارضا
له، بل هو نظير ما لو شك في فراغ المتكلم عن كلامه، أو صرح باعتماده على
القرائن المنفصلة واحتمل عدم استيفائها بالفحص، حيث لا مجال للبناء على
أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول والمنفصلة في الثاني، لاحراز الظهور
التصديقي. فلاحظ.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أنه بعد فراغ المتكلم من كلامه ينعقد
ظهوره التصديقي ويستحكم، ولا يكون ورود البيان المنفصل مانعا من ظهوره
ولا رافعا له، إلا مع تصريح المتكلم باعتماده على القرائن المنفصلة وخروجه
في كلامه عن طريقة العرف في استيفاء البيان بالظهور، وهو خارج عن محل
الكلام.
76

ومن هنا يكون الكلامان المتنافيان بحسب ظهور كل منهما متعارضين
بحسب الدلالة والبيان.
إذا عرفت هذا، فالظاهر أن وإن كانا متنافيين بحسب المؤدى ومتعارضين
في مقام البيان، إلا أن العرف قد يجمع بينهما بحمل أحدهما على الاخر وتنزيله
عليه، لكونه بنظرهم قرينة صارفة له عن ظاهره، وكاشفا عن عدم مطابقة ظاهره
لمراد المتكلم الجدي، لا بمعنى أنه معد للقرينية من قبل المتكلم نفسه، حيث
قد يقطع بعدم إعداده له، لعدم نظره لذي القرينة، أو غفلته عنه، أو اعتقاده وفاءه
بالبيان. بل بمعنى تعويل العرف وأهل اللسان عليه في فهم المراد منه، كما
يعولون على القرائن المتصلة المسوقة لغرض اخر غير القرينية.
وحيث كان دليل العمل بالظهور واستكشاف المراد الجدي به منحصرا
بسيرة العرف الارتكازية - كما تقدم في مبحث حجية الظواهر - كان توقفهم عن
العمل به وتنزيله على ما يطابق الظهور الاخر في موارد الجمع العرفي مانعا من
حجيته وملزما بحجية مجموع الكلامين على مقتضى الجمع المذكور.
ولازم ذلك عدم التعارض بينهما في مقام الحجية بحسب عموم أدلتها.
ومن ثم ذكرنا آنفا خروج ذلك حقيقة عن التعارض، لان المهم من التعارض
ليس هو التعارض في مقام البيان، بل في مقام الحجية بالنظر لأدلتها العامة.
ومما ذكرنا يظهر أن القرينة الموجبة لرفع اليد عن الظاهر عرفا وتنزيله
على مقتضاها رافعة لموضوع حجية الظاهر حقيقة، لقصور دليل حجيته - وهو
السيرة الارتكازية - عن صورة وجود القرينة، فتكون واردة عليه، لكون ارتفاع
الموضوع بسبب التعبد بمؤداها.
نعم، لو كانت القرينة موجبة للقطع بعدم إرادة المتكلم للظاهر كان ارتفاع
موضوع حجيته تكوينيا لا تعبديا، فيكون من صغريات التخصص. كما أنه لو
فرض كون دليل صدور القرينة ظنيا لا قطعيا كان واردا على دليل حجية ظهور
77

ذي القرينة ورودا ظاهريا، لارتفاع موضوع الدليل به ظاهرا.
ولا مجال لتوهم حكومة دليل حجية القرينة على دليل حجية ذي القرينة،
لما سبق من أن الحكومة لا تكون بين الأدلة اللبية القطعية المتعرضة لواقع
الحكم، من دون أن تتميز بلسان خاص يتضمن النظر والشرح.
هذا، وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن تقديم القرينة في موارد
الجمع العرفي ليس لارتفاع موضوع حجية ذي القرينة، لعموم حجيته لحال
وجودها، بل من باب تقديم أقوى الحكمين ملاكا اللازم عند تزاحمهما في
فرض عموم دليليهما وتحقق ملاكيهما، وذلك لان ملاك حجية كل من القرينة
وذيها ليس إلا الكشف عن مراد المتكلم نوعا، وحيث كانت القرينة أقوى كشفا
لزم تقديمها عند التزاحم.
وفيه: أن امتناع التعبد بالحجتين المتنافيتين مضمونا ليس من جهة تعذر
الجمع بينهما في مقام الامتثال مع تمامية ملاك الحجية في كل منهما، ليكون من
صغريات التزاحم، ولذا يمتنع وان لم يكن أحدهما اقتضائيا، بل لاستحالة
الجمع بين المتعارضين في الحجية، لاستلزامه التعبد بالنقيضين - كما يأتي إن
شاء الله تعالى - ولازم ذلك قصور موضوع حجية أحدهما عن صورة فعلية
حجية الاخر، المستلزم لوروده عليه، كما هو الحال في القرينة مع ذيها.
غاية ما يدعى أن قصور موضوع حجية ذي القرينة في مورد ورود القرينة
ليس لعدم المقتضي رأسا، بل لوجود المانع، وهو لا ينافي الورود. ولعل ذلك
هو مراده، بأن يريد بالتزاحم التزاحم الملاكي. والامر سهل.
وحيث انتهى الكلام إلى هنا فالمناسب التعرض لأمور..
الامر الأول: الظاهر أن المعيار في الجمع العرفي على تقديم الأظهر على
الظاهر وتنزيله على ما يطابقه، فتعين أحد الدليلين للقرينية على الاخر عرفا
منوط بأظهريته منه دلالة، وما اشتهر من تقديم الخاص على العام والمقيد على
78

المطلق وغيرهما راجع إلى ذلك، فلو فرض أظهرية العام من الخاص لزم تنزيل
الخاص عليه، مثلا لو كان ظهور العام في عموم الرخصة أقوى من ظهور
الخاص في الالزام تعين تقديم العام وتنزيل الخاص عليه بحمله على
الاستحباب أو نحوه.
لكن صرح بعض الأعاظم قدس سره بلزوم تقديم الخاص مطلقا وان كان أضعف
ظهورا، لان الخاص بمنزلة القرينة على العام، كما يتضح بفرض وقوعهما في
مجلس واحد، وأصالة الظهور في القرينة حاكمة على أصالة الظهور في ذيها، فلا
يحتاج تقديمها لملاحظة الترجيح الدلالي، كما يظهر من قياس ظهور " يرمي "
في قولنا: " رأيت أسدا يرمي "، في رمي السهام على ظهور " أسد " في الحيوان
المفترس، حيث لا إشكال في أقوائية الثاني من الأول، لأنه بالوضع وذاك
بالاطلاق، مع أنه لا تأمل في حكومة أصالة الظهور في الأول على أصالة الظهور
في الثاني، ولا وجه له إلا كون الأول قرينة على الثاني.
ويشكل: بأن تعين أحد الكلامين للقرينية على الاخر إنما يتجه فيما لو
كان ناظرا إليه ومسوقا من قبل المتكلم لبيان المراد منه، فيكون حاكما عليه
حكومة بيانية، ولا يحتاج تقديمه عليه لأقوائية ظهوره، كما ذكرناه في الفصل
الثاني، وأما في سائر موارد تعارض الظاهرين في مقام البيان فلا يتعين أحدهما
للقرينية على الاخر إلا بقوة ظهوره، حيث يكون رفع اليد عن الظاهر لأجل
الأظهر متعينا عرفا.
بل ذلك هو المعيار في تعيين القرينة المتصلة أيضا من أجزاء الكلام
الواحد، حيث سبق في أول الفصل أن المراد بها ليس خصوص ما يعده المتكلم
للقرينية.
وخصوصية الخاص بدون ذلك في القرينة ممنوعة حتى مع ورودهما
في مجلس واحد.
79

وكذا ما ذكره من تعين " يرمي " للقرينة، وتحكيم ظهوره على ظهور
" أسد " مع أقوائية الثاني.
للمنع من عموم أقوائية الظهور الوضعي من الظهور الاطلاقي، بل يختلف
الحال باختلاف الموارد، حيث قد يضعف الظهور الوضعي بمألوفية الخروج
عن الوضع، كما يقوى الظهور الاطلاقي لو لم يرجع إلى إرادة الشياع والسريان من
الماهية، بل لإرادة خصوص بعض الافراد لكون الفرد الظاهر المتعين عند
حذف المتعلق، لوضوح أن إرادة الفرد الخفي الذي لا يشيع الاستعمال فيه
حينئذ بعيدة جدا، ومنه المقام.
على إن المثال المذكور ليس من الأمثلة العرفية، بل شاع بين أهل الفن
التمثيل به للمجاز من دون إن يهتموا بتحديد ظهوره العرفي.
وبالجملة: لا وجه لتعيين الخاص للقرينة، بل هي تابعة إما لتعيين
المتكلم، لخصوصية في كلامه - كما في موارد الحكومة البيانية - أو لأقوائية
الظهور، حيث يكون الأقوى ظهورا قرينة عرفية صالحة لرفع اليد عن الأضعف،
وإن من قبل المتكلم لذلك.
نعم، الظاهر عدم الاكتفاء بمجرد الأظهرية في الجمع العرفي، بل لا بد
معها من كون الأضعف ظهورا صالحا عرفا للتأويل والتنزيل على طبق الأظهر،
بحيث يكون مفاد الجمع بينهما ملائما لهما معا عرفا، ولو لم يصلح لذلك فليس
بينهما جمع عرفي، بل يتعين التوقف وإجراء حكم التعارض لو لم يكشف
الأظهر عرفا عن خلل في الظاهر، وإلا تعين العمل بالأظهر وإهمال الظاهر،
لصيرورته بحكم المجمل.
ويتوقف توضيح ذلك بالأمثلة على استيعاب الأدلة والنظر في
خصوصياتها، ولا تسعه هذه العجالة، بل يوكل للفقه عند الابتلاء بذلك. والله
سبحانه ولي التوفيق.
80

تتميم
ذكرنا أن الأظهرية هي المعيار في تعيين الكلام للقرينة حتى في
المتصلين.
أما مع تساوي الظهورين الأولين في الكلام الواحد وإمكان تنزيل كل
منهما على الاخر فهل هناك مرجع آخر في تعيين القرينة، أو يلزم الاجمال لعدم
المرجح؟
ربما يدعى تعيين ذيل الكلام وما يكون فضلة فيه للقرينة على صدره وما
هو العمدة فيه، دون العكس، لمناسبته لشأن القرينة، لابتنائها على النظر لذي
القرينة وبيان المراد منه، حيث يناسب تقرره قبل ورودها، لان النظر لما لم
يوجد بعد ولم يتجدد مخالف للطبع جدا.
وفيه - مع أن ذلك إنما ينهض ببيان وجه تعيين المتأخر للقرينة دون
الفضلة -: أن المناسبة المذكورة لو كانت من الظهور بحد تصلح لان تكون من
القرائن المحيطة بالكلام، فهي إنما تقتضي تعيين المتأخر للقرينة في القرينة
المبينة على النظر لذيها وشرحه - لو فرض التردد فيها - دونما يستعين به
المتكلم لبيان مراده مما لا يبتني على النظر والشرح، لان رفع مقتضى ظهور
الكلام السابق بالكلام اللاحق ليس بأولى من منع تحقق ظهور الكلام اللاحق
بالكلام السابق.
وأظهر من ذلك ما لا يعده المتكلم لبيان مراده من كلامه، بل لغرض آخر،
مع منافاة ظهوره الأولي لظهور كلامه الاخر، حيث تكون قرينته عرفية لمحض
الجمع بين أجراء الكلام الواحد، فإن العرف لا يدرك أولوية الاعتماد على
المتأخر في شرح المتقدم من العكس.
بل قد يدعى أن العكس هو الأولى، لان سبق الصدر يوجب انس الذهن
بظهوره، فيحتاج رفع اليد عنه لما هو الأقوى منه، وإلا كان مقتضى الطبع تنزيل
81

ما لحقه عليه واستحكم ظهوره. وهو لا ينافي ما اشتهر من عدم استحكام ظهور
الكلام إلا بعد الفراغ منه، فإن المراد منه توقف الظهور التصديقي النهائي للكلام
على الفراغ منه، وأن تنافي الظهورات الأولية لاجزاء الكلام لا يرجع إلى
تعارض الظهورين التصديقيين، بل إلى إجمال الكلام، أو حصول ظهور واحد
من الجمع بينها، من دون نظر لكيفية الجمع، وأنه يبتني على ترجيح الصدر أو
الذيل، أو انحصار المرجح بالأقوائية.
وإن كان اللازم التأمل في ذلك واستيعاب الأدلة.
الامر الثاني: التعارض بين الظهورين إنما يكون موضوعا للجمع العرفي
بينهما بلحاظ امتناع إرادة كل منهما، حيث يلزم تنزيل أحدهما على الاخر
والحكم بإرادة مقتضاه، لامتناع إرادة المتنافيين، ويتعين التصرف في الأضعف
ظهورا، لأنه أهون من التصرف في الأقوى منهما.
ومرجع ذلك إلى رفع اليد عن الظهور الأضعف لقيام دليل أقوى منه على
عدم إرادة مقتضاه. وعلى هذا الملاك تتحدد مصاديق الجمع العرفي سعة
وضيقا. فهو كما يجري في كلامي متكلم واحد يجري في كلامي متكلمين
يمتنع اختلافهما، كالمعصومين قدس سره، وكذا لو علم بعدم اختلافهما في القضية
الخاصة لسبب اتفاقي.
كما يتعين جريانه فيما لو لم تكن القرينة لفظية، بل لبية يعلم بعدم مخالفة
المتكلم لمضمونها حيث يتعين رفع اليد عن ظاهر كلامه وتنزيله على ما لا
ينافيها.
ومنه يظهر جريان الجمع العرفي في كلام علماء الرجال عند اختلاف
ظواهر كلامهم لو كان ما ينقله أحدهم بنحو لو كان ثابتا لم يخف على الاخر، ولا
ينقل خلافه، حيث يلزم العمل بمن كان كلامه أظهر بعد فرض وثاقته في نفسه،
عملا بأصالتي الصدور والظهور، وتنزيل كلام الاخر عليه جمعا، ولا يستحكم
82

التعارض.
كما ظهر أن احتمال عدول المتكلم الواحد في الحدسيات - بل أخباره
الحسية أيضا - في أحد كلاميه عما كان عليه في الاخر بحيث يمكن قصده
لظاهر كل منهما عند صدوره وان كانا متنافيين - مانع من الجمع العرفي بين
كلاميه، لان أصالة الظهور إنما تقتضي إرادته حين الكلام ولا تمنع من العدول
عنه.
وأصالة عدم عدول صاحب الرأي عن رأيه وان كانت من الأصول
المعول عليها عند العقلاء، إلا أنها لا تصلح لرفع اليد بها عن أصالة الظهور في
كل من الكلامين، بنحو تكشف عن عدم إرادة أحدهما الملزم بالجمع العرفي
بينهما، بل هي مورودة لهما، حيث يصلح الكلامان بضميمة أصالة الظهور فيهما
دليلا على عدول المتكلم رافعا لموضوع أصالة عدمه.
ومن هنا لا مجال للجمع العرفي في كلامي المجتهد الواحد اللذين
يتنافى ظهوراهما لو احتمل عدوله عن مفاد أحدهما ولو لغفلته عن مدركه من
دون ظهور خطأ له فيه.
وكذا لو احتمل النسخ في الحكم الذي تعرض له المتكلم بنحو البداء
الحقيقي، فإن أصالة عدم النسخ وإن كانت من الأصول العقلائية، إلا أنها لا
تنهض برفع اليد عن أصالة الظهور في كل من الكلامين، نظير أصالة عدم
العدول في الحدسيات، فلا تصل النوبة للجمع العرفي في الظهورات العرفية
الصادرة، لبيان أحكامهم، إلا أن يعلم بعدم النسخ فيها من الخارج.
بل قد يشكل الامر في الظهورات الشرعية، لورود احتمال النسخ فيها
أيضا وإن لم يكن بنحو البداء الحقيقي، لما تقدم في الفصل السادس من المقام
الثالث في الاستصحاب من أن نسخ الحكم الشرعي لا يستلزم صدور دليله لا
بداعي بيان المراد الجدي، ليكون مقتضى أصالة الجهة فيه نفيه الملزم بالجمع
83

العرفي بين الظهورين، ولا مخالفا لظهوره اللفظي، ليكون الظهور المذكور طرفا
للمعارضة مع الظهورين المفروض تعارضهما في المقام ويقع الكلام في تعيين
الأقوى من الظهورات المذكورة - كما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وغيره في
مسألة دوران الامر بين النسخ والتخصيص - بل لا دافع لاحتمال النسخ إلا
الأصل، الذي لا ينهض برفع اليد عن ظهور كل من الكلامين في إرادة مضمونه،
فلا تصل النوبة للجمع العرفي.
لكن البناء فيها على النسخ - مع بعده في نفسه، لاستلزامه كثرة النسخ،
ومن المعلوم قلته، خصوصا من الأئمة (ع) بناء على ما هو الظاهر من إمكانه
منهم (1) - مستلزم لاضطراب نظام الفقه القائم وتأسيس فقه جديد، إذ كثيرا ما
يكون الظهور الأقوى سابقا زمانا على الظهور الأضعف، فلو بني على النسخ لزم
البناء على مقتضى الظهور الأضعف لنسخ الأقوى به، ولو فرض الجهل بالتاريخ
لزم التوقف عنهما معا، للعلم الاجمالي بنسخ أحدهما بالآخر، ولا يظهر معهم
البناء على ذلك، بل دأبهم العمل بالأظهر مطلقا وتنزيل الأضعف عليه للجمع
العرفي بينهما، ولا يذكر النسخ إلا في نادر من كلماتهم احتمالا لتوجيه النصوص
التي يبنى على إهمالها.
وقد حاول بعض الأعاظم قدس سره توجيه سيرتهم المشار إليها في مسألة دوران
الامر بين النسخ والتخصيص بعدم جريان أصالة العموم في نفسها بسبب العثور
على الخاص، لصلوح الخاص لان يكون بيانا للعام وتخصيصا له، سواء كان
متقدما أم متأخرا، إذ تقديم البيان على وقت الحاجة ليس قبيحا ذاتا، ويرتفع قبح
تأخره عنه بوجود مصلحة مزاحمة للمصلحة الأولية المقتضية لتعجيله.
وفيه: أن المانع من جريان أصالة العموم مطلقا ليس هو مطلق البيان ولو

(1) بمعنى تحققه منه تعالى في عصرهم وانما ينسب لهم بلحاظ علمهم به وتبليغهم بالحكم
الناسخ، كما هو الحال في نسبته للنبي (ص).
84

كان منفصلا، بل خصوص البيان المتصل المانع من انعقاد الظهور، وأما البيان
المنفصل فحيث لا يمنع من انعقاد الظهور - كما تقدم في أول هذا الفصل - لا
مجال لرفع اليد به عن أصالة الظهور والعموم، إلا أن يتعذر البناء على العموم
معه للتنافي بينهما - كما سبق - ومع احتمال النسخ لا يحرز التنافي بينهما، كي
يتعين رفع اليد عن أصالة العموم.
نعم، يتجه بناء على ما سبق منه قدس سره في أول هذا الفصل من أن البيان
المنفصل مانع من انعقاد الظهور التصديقي لكلام الشارع، حيث يكثر اعتماده
على القرائن المنفصلة، مخالفا بذلك طريقة العرف من استيفاء بيان المراد
والغرض بالكلام من دون اعتماد إلا على القرائن المتصلة.
لكن سبق أن كثرة القرائن المنفصلة في كلام الشارع لا تستلزم اعتماده
عليها وخروجه عن طريقة العرف بنحو يمنع العثور عليها من انعقاد الظهور
لكلامه.
بل كثرة القرائن المنفصلة في كلام الشارع فرع المفروغية عن عدم
النسخ، الذي هو محل الكلام هنا، إذ لو كانت الخصوصات المنفصلة الكثيرة
ونحوها من الظهورات القوية ناسخة للظهورات الضعيفة أو منسوخة بها لم
تكن منافية لها ولا قرائن على التصرف فيها، ليتسنى البناء على اعتماده عليها
وخروجه عن طريقة العرف في ذلك.
ولعل الأولى في دفع إشكال احتمال النسخ أن العمدة في البيانات
الشرعية هي الاخبار الصادرة عن الأئمة المعصومين (ع)، وهي ظاهرة في كون
مضمونها الاحكام الثابتة من عصر النبي (ص)، فإن ذلك هو الذي يقع موردا
للسؤال من السائلين، فإن النسخ منهم (ع) وان كان ممكنا، إلا أنه مغفل في مقام
السؤال والجواب، ولذا تضمن كثير من النصوص الاستشهاد بكلام النبي (ص)
من الامام أو استفسار السائل عن وجه الجمع بين الجواب وما روي عنه (ع)
85

أو عن الأئمة المتقدمين، وتكذيب الامام روايات العامة المخالفة لأحكامهم، أو
التنبيه على عدم مخالفتها لها، حيث يظهر من ذلك ونحوه المفروغية عن كون
الحكم الصادر منهم (ع) مشرعا من عصر النبي (ص).
وقد يشير إليه ما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في توجيه اختلاف الناس في
الدين (1)، حيث لم يذكر فيه تحقق النسخ بعد النبي (ص)، فإن عدم بيانه لذلك
وإن أمكن أن يكون لعدم تقبل الناس له، إلا أنه ظاهر في المفروغية عن ثبوت
أحكامهم (ع) من عصر النبي (ص) وان اختفت لبعض الأسباب.
كما قد يشهد به أيضا نصوص العرض على الكتاب، وكذا النصوص
الواردة في تعارض الاخبار، لان فرض التعارض بينها والترجيح، من دون إشارة
للنسخ والترجيح بما يناسبه من تأخر الزمان ظاهر في وحدة الحكم في الواقعة
التي يرد فيها المتعارضان.
نعم، ورد في بعضها ترجيح الرواية عن الحي (2)، وترجيح المتأخر من
أحاديث الامام الواحد (3) المختلفة.
إلا أن ظاهر بعض هذه الأحاديث وصريح اخر عدم إحراز الحكم العام
الأولي به، بل الحكم الفعلي - وان كان ثانويا ثابتا بمقتضى التقية - لان إمام الزمان
أعرف بما يناسبه.
وأما ما تضمن تحليلهم الخمس ونحوه لشيعتهم وايكال صرف الزكاة
للمكلف نفسه من دون أن يدفعها للامام وتجويز المعاملة مع ولاة الجور على
أموال الخراج والمقاسمة ونحو ذلك فليس هو نسخا للتحريم الثابت بالأصل،
بل إعمال لسلطنتهم في ما لهم الولاية عليه، ولذا يختص بمن خصوه به، مع

(1) الوسائل ج: 18 باب: 14 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8
(3) الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 7 و 17.
86

وضوح اشتراك الاحكام بين الكل.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل بعد النظر في النصوص الواردة عنهم (ع) في
سوقها لبيان الحكم الثابت في عصر النبي (ص)، وإن وقع خلاف ذلك فهو مبني
على نحو من الخروج عن الظاهر المستند للقرينة العامة المعول عليها.
نعم يشكل الامر في الأحاديث النبوية، لعدم تمامية القرينة المذكورة
فيها. ومجرد كون الخروج عن الظاهر أكثر أو أشهر من النسخ - لو تم فيها - ليس
من القرائن العرفية المحيطة بالكلام الموجبة لاستفادة استمرار مضمونه.
ولعله لذا ورد من الأئمة (ع) التعريض بالعامة حيث أخذوا بأحاديث
النبي (ص) من دون تمييز للناسخ من المنسوخ (1) وتوجيه اختلافهم فيما بينهم
ولأحاديث الأئمة (ع) بأن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن (2).
لكن الاشكال المذكور مختص بما روي من غير طريق المعصومين (ع)
أو من طريقهم في غير مقام بيان الحكم الشرعي، أما ما ورد من طريقهم في مقام
بيان الحكم الشرعي فظاهر حكايتهم له استمراره وعدم نسخه، فيلحقه ما تقدم
في أحاديثهم.
ومن هنا يهون الامر في هذا الاشكال لندرة الأحاديث النبوية المعتبرة
السند المروية من غير طريقهم (ع) والتي يحتمل فيها النسخ، بنحو يكون له
الأثر في مقام العمل، بل لا يبعد عدم وجودها.
الامر الثالث: حيث ذكرنا أن ملاك الجمع العرفي الترجيح بقوة الظهور
فهو متجه في فرض المفروغية عن إحراز صدور الأظهر لبيان الحكم الحقيقي
والمراد الجدي بالقطع أو التعبد، من دون أن يتكفل ما تقدم ببيان وجه

(1) الوسائل ج: 18 باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث 23.
(2) راجع الوسائل ج: 18 باب: 14 من أبواب صفات القاضي والكافي في باب اختلاف الحديث:
ج 1 ص 12.
87

المفروغية عن ذلك.
وقد أشرنا آنفا إلى أن وجه تقديم أصالة الصدور هو ورود دليله على
أصالة الظهور في الظاهر ورودا ظاهريا، لرجوع بناء العرف على الجمع بين
الظاهر والأظهر - بتنزيل الأول على الثاني - إلى عدم حجية الظاهر في ظرف
ورود الأظهر، وارتفاع موضوعها به، فيكون دليل صدور الأظهر محرزا لارتفاع
موضوع حجية الظهور في الظاهر.
بل قد يدعى أن وروده عليه واقعي، لان الشرط في حجية أصالة الظهور
هو عدم وصول الأظهر، الذي يرتفع واقعا بدليل الصدور، لا عدم وجوده واقعا،
الذي يحرز ظاهرا بالدليل المذكور، والا فمن المعلوم حجية الظهور مع عدم
وصول الأظهر له إن كان موجودا واقعا.
لكن الظاهر أن الرافع لحجية الظهور هو وجود الأظهر واقعا، وأن البناء
على حجيته مع عدم وصوله لأصالة عدمه، نظير أصالة عدم المعارض وأصالة
عدم القرينة المعول عليها عند العقلاء، لا لتحقق موضوع الحجية واقعا، فقيام
الدليل على وجود الأظهر محرز لارتفاع موضوع حجية الظهور ظاهرا، كقيام
الدليل على فسق الشاهد، وليس وروده إلا ظاهريا. فتأمل.
وأما عدم التعويل على احتمال عدم صدور الأظهر لبيان المراد الجدي
فلان أصالة الجهة وان كانت من الأصول العقلائية كأصالة الظهور، إلا أنها متقدمة
عليها طبعا بمقتضى المرتكزات، لأقوائيتها. إلا أن تقوم بعض الامارات العرفية
على خلافها فيشكل البناء عليها حينئذ، وهو خارج عن محل الكلام.
ولعل هذا هو الوجه في قيام سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال على الاخذ
بمقتضى الجمع العرفي ولو مع عدم قطعية صدور الأظهر أو جهته، حيث لا
يظهر منهم الرجوع في ذلك لأدلة خاصة تعبدية، بل الجري على مقتضى
المرتكزات العقلائية في الجمع بين الأدلة وتقديم بعضها على بعض.
88

الامر الرابع: حيث سبق أن ملاك الجمع العرفي ترجيح أقوى الظهورين
وتنزيل أضعفهما عليه، فتشخيص ذلك موكول لنظر الفقيه عند الابتلاء بالأدلة،
لعدم انضباط القرائن الداخلية في ظهور الكلام بنحو يتيسر إعطاء الضوابط
العامة المستوعبة، وقد تكفلت بعض مباحث الأصول اللفظية بيان القاعدة في
خصوص بعض الظهورات كالعام والخاص، والمطلق والمقيد.
كما تعرض غير واحد في مباحث التعارض للكلام في بعض اخر وقواعد
خاصة لم تبوب هناك، لعدم اختصاصها ببعض تلك المباحث، بل هي ببحث
الجمع العرفي أنسب..
منها: تعارض العموم الوضعي والاطلاقي بنحو العموم من وجه، حيث
يدور الامر بين تقييد المطلق وتخصيص العموم.
فقد جزم شيخنا الأعظم قدس سره بترجيح التقييد، بناء على استلزامه المجاز في
المطلق، لعدم إفادة الاطلاق العموم بالوضع، بل بمقدمات الحكمة، كما هو
المعروف عند محققي المتأخرين.
ومرجع ما ذكره في توجيه ذلك إلى أن مقتضي البناء على العموم لما كان
هو الوضع فلا مجال لرفع اليد عنه بالاطلاق الذي يكون مقتضي البناء على
العموم فيه مقدمات الحكمة، لعدم تمامية المقدمات المذكورة مع العموم، لان
منها عدم البيان، والعموم - بعد تمامية مقتضيه وعدم ثبوت المانع منه - بيان، فلا
يبقى معه مقتضي الاطلاق.
وقد دفعه المحقق الخراساني قدس سره بأن عدم البيان الذي هو من مقدمات
الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب المفروض عدمه في المقام لا عدم
البيان مطلقا ولو منفصلا، بل البيان المنفصل من سنخ المانع من الاطلاق بعد
تمامية مقتضيه، كالتخصيص المنفصل للعام، فلا يكون العام في الفرض رافعا
لمقتضي الاطلاق، بل كل منهما مانع من تأثير مقتضي الاخر بعد تماميته، ولابد
89

في الترجيح بينهما من مرجح.
ثم إن بعض الأعاظم قدس سره أنكر ذلك مشيرا إلى مبناه في مبحث الاطلاق من
أن عدم البيان الذي هو من مقدمات الحكمة هو مطلق عدم البيان ولو كان
منفصلا، فيتم ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن البيان المنفصل بيان رافع لمقتضى
الاطلاق.
لكن ما ذكره قدس سره في مبحث المطلق والمقيد في وجه مانعية البيان
المنفصل من استكشاف مراد المتكلم من الاطلاق راجع إلى ما تقدم عنه في
أول هذا الفصل من عدم انعقاد ظهور الكلام التصديقي بالعثور على البيان
المنفصل، وهو - لو تم - لا يفرق فيه بين العموم والاطلاق، ولا سيما بناء على ما
ذكره قدس سره في مبحث العموم من أن استفادته موقوفة على تمامية مقدمات الحكمة
في مدخول أدوات العموم، إذ يرجع العموم للاطلاق حينئذ، ويحتاج الفرق
بينهما إلى وجه اخر غير ما تقدم.
وكيف كان، فلا مجال لما ذكره قدس سره في البيان المنفصل، بل هو من سنخ
المعارض للاطلاق.
أما بعض مشايخنا فهو مع اعترافه بعدم انقلاب ظهور المطلق بسبب
العام المنفصل ادعى رفع العام لموضوع حجية الاطلاق في الكشف عن المراد
الجدي، لدعوى: أن نسبة العام إلى المطلق نسبة الامارة إلى الأصل، فكما أن
الأصل حجة ما لم تقم أمارة على خلافه، كذلك المطلق إنما يكون ظهوره حجة
ما لم يرد العام على خلافه، لعدم جريان مقدمات الحكمة مع ورود العام، فإذا
ورد العام سقط عن الحجية.
لكن تقييد حجية المطلق بذلك غير ظاهر المأخذ بعد كونه كالعموم تام
الظهور، غاية الامر تقييد حجية الظهور بعدم ورود ظهور أقوى منه يتعين عرفا
للقرينية عليه، وهو مشترك بين العموم والاطلاق، ويحتاج تقديم العموم
90

وتعيينه للقرينية لفرض ترجحه بالأقوائية أو نحوها ولم يشر في كلامه لذلك.
هذا، وقد استدل في كلام شيخنا الأعظم قدس سره وغيره على ترجيح العموم
الوضعي على الاطلاقي بعد فرض تمامية مقتضي الحجية في كل منهما..
تارة: بأن التقييد أغلب من التخصيص.
وأخرى: بأن دلالة العموم أقوى من دلالة الاطلاق وان قلنا إنها بالوضع.
وثالثة: بأن ظهور العموم الوضعي لما كان مستندا لوجود ما يدل عليه في
الكلام فهو أقوى من ظهور العموم الاطلاقي المستند لسكوت المتكلم عن ذكر
القيد.
ويندفع الأول: بأن الغلبة بنفسها - بعد تسليمها في المقام - لا توجب
أقوائية الظهور ما لم يكن لها ظهور عرفي بحيث تكون من قرائن الأحوال
المحيطة بالكلام، ولم يتضح ذلك في المقام.
وأما الأخيران فهما وان كانا قريبين في الجملة، إلا أن في بلوغهما حدا
يصلح لضرب القاعدة العامة نحو خفاء، فلابد من الاستظهار لهما بالتأمل في
خصوصيات الموارد، واستحصال ما يمكن من القرائن المؤيدة للترجيح
المذكور.
بقي شئ، وهو أن ما سبق من احتمال كون ظهور الاطلاق أضعف من
ظهور العموم إنما يتجه في الاطلاق المبني على نحو من الشياع والسريان
المقابل للتقييد الراجع لتضييق الحكم أو الموضوع، حيث لا منشأ للظهور في
مقتضى الاطلاق إلا مجرد عدم البيان.
أما الاطلاق المقتضي للحمل على خصوص بعض الوجوه، إما لأنه
الوجه المناسب للموضوع، كحمل تحريم الأعيان على تحريم خصوص بعض
المتعلقات كالنكاح في النساء، واما لأنه الوجه الظاهر ولو لخصوصية في المورد
فلا مجال لجريان ما سبق فيه، لعدم استناد ظهوره لمجرد عدم البيان، بل
91

للمناسبة والظهور المفروضين اللذين هما من قرائن الأحوال، حيث لا مجال
لدعوى قصور القرائن الحالية عن مفاد العموم الوضعي في اقتضاء الظهور
الكلامي، بل يختلف الحال باختلاف المقامات، ولا ضابط لذلك.
ومنها: تعارض الاطلاق البدلي والشمولي، حيث يظهر من شيخنا
الأعظم قدس سره تقديم الشمولي على البدلي، لوجوه..
الأول: أن الاطلاق الشمولي لا يحتاج إلى أزيد من ورود الحكم على
الطبيعة غير المقيدة، حيث يسري الحكم إلى الافراد قهرا، أما الاطلاق البدلي
فهو يتوقف زائدا على ذلك إلى إحراز تساوي الافراد في الوفاء بالغرض حتى
يحكم العقل بالتخيير بينها، ومع الاطلاق الشمولي لا مجال لاحراز ذلك،
لصلوحه لبيان اختلافها، فيكون الاطلاق الشمولي حاكما على الاطلاق البدلي،
وإن كان ظهوره منعقدا في حد نفسه، لكون القرينة منفصلة.
وفيه: أن تساوي الافراد في الوفاء بالغرض المستتبع لحكم العقل
بالتخيير إن استفيد من نفس الاطلاق، لكونه مقتضى مقدمات الحكمة كان
الاطلاق - بعد فرض انعقاد ظهوره - معارضا للاطلاق الشمولي المفروض، لا
محكوما له، وإن لم ينهض به الاطلاق فلا محرز له، ولزم التوقف في سائر موارد
الاطلاق البدلي.
إلا أن يدعى إحراز العقل له بالأصل، ولو سلم ذلك كان الاطلاق الشمولي
واردا على الأصل المذكور، لا حاكما على الاطلاق البدلي، الذي هو فرع
التعارض البدوي بينهما.
والذي ينبغي أن يقال: حكم العقل بالتخيير بين الافراد في مورد الاطلاق
البدلي، إن أريد به التخيير بلحاظ امتثال التكليف الذي تضمنه الاطلاق، لوفاء
كل فرد بغرضه وملاكه، فهو لا يحتاج إلى أزيد من تعلق التكليف والغرض
بالطبيعة غير المقيدة، كالاطلاق الشمولي، لوضوح تحقق الطبيعة التي هي
92

موطن الغرض بكل فرد فرد، وهو مستلزم لتساوي الافراد في الوفاء بالغرض،
ولا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي عليه في فرض تعارضهما.
وإن أريد به التخيير بلحاظ الموانع الخارجية، حيث قد يمنع العقل من
الامتثال ببعض الافراد - مع وفائه بغرض التكليف - لابتلائه بتكليف اخر
مزاحم، فهو لا يتوقف على إحراز تساوي الافراد في الوفاء بالغرض - الذي هو
مقتضى الاطلاق - بل لا ينفع فيه ذلك، بل على إحراز عدم المانع الخارجي
المذكور - وهو التكليف المزاحم - في بعض الافراد، والاطلاق الشمولي إنما
يمنع من ذلك وينهض بإحراز المانع الخارجي المذكور في فرض حجيته، لعدم
التكاذب بينه وبين الاطلاق البدلي، مع تحقق التزاحم بين حكميهما، حيث
يتعين حينئذ متابعة حكم الاطلاق الشمولي لو كان الزاميا وامتثال حكم الاطلاق
البدلي بغير مورد المزاحمة.
لكنه خارج عن محل الكلام، لوضوح أن الكلام في تعارض الاطلاقين،
لا تزاحم الحكمين.
بل هو لا يناسب فرض كون الاطلاق الشمولي قرينة على البدلي،
لوضوح أنه لابد في القرينية من منافاة مفاد القرينة لمفاد ذي القرينة البدوي،
بحيث توجب صرفه عن ظاهره.
وكأن ما ذكره مبني على اختلاط التزاحم بالتعارض.
ولعله هو المنشأ لما ذكره من أن الاطلاق الشمولي حاكم على البدلي، مع
التسليم بانعقاد ظهوره في حد نفسه، لكون القرينة منفصلة بأن يكون ناظرا
للحكومة في مقام العمل والامتثال في فرض التزاحم، لا الحكومة بين الأدلة في
التعارض البدوي، والا فهو مناف لما سبق منه من أن القرائن المنفصلة تمنع من
تمامية مقتضي الاطلاق.
هذا، ولو أريد من تساوي الافراد في الغرض المستتبع للتخيير تساويها
93

في مرتبة منه، بحيث لا يتأكد الغرض في بعضها فلا ينهض كلا الاطلاقين
باحرازه لعدم توقف التخيير والسعة في مقام الامتثال عليه، بل يبقى مع اختلاف
الافراد في مراتب الفرض بلحاظ اشتراكها في أصله، ولا أثر للتأكيد في بعض
الافراد إلا أفضليتها.
لكن الظاهر عدم إرادته له، وإن أوهمه كلام بعض من تعرض لما ذكره.
الثاني: أن الاطلاق البدلي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلول الاطلاق
الشمولي، وهو حكمه الانحلالي الثابت في المجمع، أما الاطلاق الشمولي فهو
لا يقتضي رفع اليد عن شئ من مدلول الاطلاق البدلي، إذ مدلوله حكم واحد
ثابت في الافراد على البدل، وهو لا ينافيه فيه، بل غاية ما يقتضي تضييق دائرته
بعد سعتها.
وفيه أنه بعد فرض التنافي بين سعة دائرة حكم الاطلاق البدلي، وثبوت
حكم الاطلاق الشمولي في مورد الاجتماع يتحقق التعارض بينهما، والمدار في
تقديم أحد المتعارضين على قوة دلالته، لا سنخ - مدلوله.
نعم، لو فرض عدم استفادة سعة دائرة الحكم من نفس الاطلاق البدلي،
بل من أمر اخر، كان الاطلاق الشمولي مصادما لذلك الامر لا للاطلاق البدلي.
لكن لا مجال لذلك، لان فرض تعلق الحكم بالماهية غير المقيدة - الذي هو
مفاد - الاطلاق - يقتضي سعة دائرته لتمام أفرادها، كما سبق.
كما أنه لو فرض عدم التنافي بينهما كان المورد من صغريات التزاحم لا
التعارض، وقد سبق أنه خارج عن محل الكلام.
الثالث: أن حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض
الافراد عن التخيير العقلي، والاطلاق الشمولي صالح للمانعية، فلو توقف عدم
صلاحيته للمانعية على وجود الاطلاق البدلي لدار.
وفيه: أن التخيير العقلي إذا كان متفرعا على تساوي الافراد في الوفاء
94

بالغرض، لتعلقه بالماهية غير المقيدة، الذي هو مقتضى الاطلاق، فلا يرتفع إلا
بسقوط الاطلاق عن الحجية والاطلاق الشمولي إنما يصلح للمانعية من حجية
الاطلاق البدلي بلحاظ التعارض بينهما، وهو يقتضي صلوح كل منهما للمنع من
حجية الاخر.
نعم، لو كان التخيير العقلي مقتضى أصل اخر من دون أن يستند لمفاد
الاطلاق تعين مانعية الشمولي عنه، لوروده عليه، كما سبق. لكن سبق المنع من
ذلك.
كما أنه لو فرض عدم التعارض بين الاطلاقين، بل التزاحم بين حكميهما
كان حكم الاطلاق الشمولي الإلزامي مانعا من العمل على طبق حكم البدلي في
مورد الاجتماع. وقد سبق أنه خارج عن محل الكلام.
وبذلك ظهر تقارب الوجوه الثلاثة التي ذكرها وابتناؤها على مباني غير
تامة في أنفسها.
وعليه لا يتضح وجه تقديم الاطلاق الشمولي بخصوصيته، بل المدار في
التقديم على قوة الظهور والدلالة.
نعم، لا يبعد كون الاطلاق الشمولي أقوى من الاطلاق البدلي، لان
التسامح في نسبة الحكم البدلي للماهية بلحاظ ثبوته لها في الجملة أقرب من
التسامح في نسبة الحكم الشمولي لها بلحاظ ثبوته لبعض أفرادها، لما في الثاني
من بيان المقتضي في غير مورده، بخلاف الأول، حيث لا يتضمن إلا بيان حال
المقتضي على خلاف ما هو عليه من الضيق.
وبعبارة أخرى: ما سبق في الوجه الثاني من استلزام التصرف في الاطلاق
البدلي رفع اليد عن سعة الحكم، واستلزام التصرف في الاطلاق الشمولي رفع
اليد عن نفس الحكم في المجمع، وان لم ينهض بترجيح التصرف في الاطلاق
البدلي ذاتا، إلا أن من القريب اقتضاءه قوة ظهور الاطلاق الشمولي، لصعوبة
95

التصرف في مفاده جدا.
لكنه - لو تم - مختص بما إذا كان مفاد الشمولي اقتضائيا.
على أن إعطاء الضابط العام في باب الظهورات لا يخلو عن تكلف،
فاللازم التأمل في خصوصيات الموارد، والاستظهار فيها بالقرائن.
ثم إنه بعد أن كان ملاك ترجيح الشمولي - لو تم - قوة دلالته لا خصوصية
مدلوله فلا مجال للتعدي لتعارض العموم الشمولي والعموم البدلي، لعدم
وضوح أقوائية العموم الشمولي من العموم البدلي بعد أن كان كل منهما مستندا
للوضع ومبنيا على ملاحظة الافراد والتعميم لها رأسا، لا الاقتصار على الماهية
بنفسها، واستفادة التعميم للأفراد تبعا لذلك، كما في الاطلاق.
ومنها: انقلاب النسبة الذي كثر النقض والابرام فيه بينهم. وموضوعه
التعارض بين الدليلين لا بلحاظ أنفسهما، بل بلحاظ دليل ثالث. ومرجعه إلى أن
الجمع بين الدليلين هل يبتني على ملاحظة نسبة كل منهما للاخر في نفسه
وبملاحظة مدلوله الظاهر فيه، من دون أن تنقلب النسبة بينهما بملاحظة الثالث،
أو بعد ملاحظة النسبة بينه وبين الثالث، بأن تلحظ النسبة بين الدليلين بلحاظ ما
يكون كل منهما حجة فيه من مدلوله بسبب الجمع بينه وبين الثالث، لا في
مدلوله الظاهر فيه في نفسه، فتنقلب النسبة بينهما بسبب الثالث.
ويختلف الحال كثيرا بين الوجهين، كما يتضح في فرضين..
الأول: لو ورد عام وخاصان مخالفان له بينهما عموم من وجه، مثل أكرم
العلماء،: لا تكرم العالم الفاسق، و: لا تكرم العالم الذي لا ينفع بعلمه.
الثاني: لو ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للاخر،
مثل: ثمن العذرة سحت، و: لا بأس ببيع العذرة، و: لا يحل بيع عذرة ما لا يؤكل
لحمه.
فإن ملاحظة النسبة بين الدليلين في نفسيهما وبملاحظة مدلوليهما
96

يقتضي في الأول تخصيص العام بكلا الخاصين وان كان بينهما عموم من وجه،
فيخرج أفرادهما على تداخلها عن حكمه، ويبقى حجة في الباقي، فلا يجب الا
إكرام العالم غير الفاسق الذي ينفع بعلمه.
ويقتضي في الثاني العمل بالخاص في مورده، وفي بقية الموارد طرح
العامين معا والرجوع للأصل أو التخيير بينهما على الكلام في حكم التعارض.
أما ملاحظة النسبة بين الدليلين بلحاظ ما يكون كل منهما حجة فيه من
مدلوله، فهو يقتضي في الأول ملاحظة النسبة بين أحد الخاصين والعام بعد
تحكيم أحد الخاصين عليه، وقصره على غير مورده، حيث تكون النسبة العموم
من وجه، وان كانت النسبة بينهما العموم المطلق بالنظر لمدلول العام بنفسه،
وفي الثاني تخصيص العام المخالف للخاص به، ثم تخصيص العام الاخر بما
يبقى العام المخصص حجة فيه بعد التخصيص، لأنه يكون أخص بعد
التخصيص، وان كان مباينا له في نفسه.
هذا، وحيث كان مبنى الكلام في انقلاب النسبة على نحو من الجمع
العرفي بين الأدلة المتعارضة بدوا لاستكشاف مراد المتكلم منها، فهو لا يختص
بالعام والخاص، وان كانت أمثلتهم تدور عليهما، بل يجري في غيرهما من
الظهورات المتعارضة، كالمطلق والمقيد والمفاهيم وغيرها. مثلا إذا ورد: أكرم
زيدا إن حج، وورد: لا يجب إكرام الشخص لحجه، وفرض دوران الامر في
الجمع بينهما بين تخصيص الثاني بالأول، وحمل الأول على الاستحباب بقرينة
الثاني من دون ترجيح لاحد الوجهين، نظير العامين من وجه، حيث يتردد الامر
في حمل كل منهما على الاخر، فبالعثور على دليل مرخص في ترك إكرام زيد
عند حجه يرتفع التردد المذكور ويتعين الثاني على القول بانقلاب النسبة،
لصلوح الدليل المذكور للقرينية على حمل الأول على الاستحباب، فلا يكون
حجة في الوجوب، كي ينافي العموم المذكور، ويتردد في كيفية الجمع بينهما،
97

وعلى القول بعدم انقلاب النسبة لا أثر لدليل الترخيص المذكور في رفع التردد
المذكور، لفرض عدم المرجح لظهور كل منهما في نفسه.
إذا عرفت هذا، فمن الظاهر أن كيفية الجمع العرفي في النسب المختلفة
بين الدليلين، كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد وتنزيل الامر على
الاستحباب لأجل دليل الترخيص وغير ذلك، لا تبتني على خصوصية النسب
بأنفسها، بل على تحكيم أحد الظهورين على الاخر، لأقوائيته وصلوحه للقرينية
عليه عرفا.
كما أن توقف العرف عن الجمع بين الدليلين في بعض النسب مبني على
عدم إدراك العرف ذلك فيها، إما لعدم إمكان الجمع بينهما عرفا - كما في بعض
المتباينين - أو لصلوح كل منهما للقرينية على الاخر من دون مرجح، لعدم
أقوائية أحدهما الملزمة بتحكيمه، كما في العامين من وجه.
وجميع ذلك راجع إلى تحكيم العرف في فهم الأدلة بمجموعها، كما
يكون هو المحكم في فهم كل دليل بنفسه مع قطع النظر عن غيره.
وعلى ذلك فكما يكون للعرف الجمع بين الدليلين بالنظر لحالهما في
أنفسهما يكون له الجمع بينهما بملاحظة الدليل الثالث، حسب المناسبات
العرفية والخصوصيات الكلامية من دون تقيد بانقلاب النسبة ولا بعدمه، بل.
تارة: تبتني ملاحظة النسبة بين الدليلين والجمع بينهما على مفاد كل
منهما بحسب ظهوره من دون نظر للدليل الثالث، لعدم صلوحه بنظر العرف
للتحكم في نحو النسبة بينهما، فلا يكون دخيلا في قرينية كل منهما على الاخر.
وأخرى: تبتني ملاحظة النسبة بينهما والجمع بينهما على ملاحظة
الثالث، لدخله في قرينية أحدهما على الاخر عرفا، ولا ضابط لاحد الوجهين،
بسبب اختلاف النسب واختلاف خصوصيات الألسنة، وليس هناك جهة
ارتكازية ملزمة بأحد الامرين، ليكون المعول عليها بحسب الأصل في مقام
98

الجمع بين الأدلة.
ومما ذكرنا يظهر ضعف تقريب انقلاب النسبة بأن التعارض والجمع
العرفي بين الدليلين إنما يكون بعد فرض حجية كل منهما لولا المعارضة، فبعد
سقوط ظهور أحدهما عن الحجية بسبب الدليل الثالث وحجيته في خصوص ما
يقتضيه الجمع العرفي بينه وبين الدليل المذكور لا معنى لكون ظهوره طرفا
للنسبة مع الدليل الثاني، بل لابد من كون نسبته معه بلحاظ خصوص ما هو حجة
فيه.
وجه الضعف: أن مرجع عدم انقلاب النسبة في بعض الموارد على ما
ذكرنا ليس إلى ملاحظة الظهور طرفا للنسبة مع الدليل الثاني بعد فرض عدم
حجيته بسبب الدليل الثالث للجمع العرفي بينهما في مرتبة سابقة، بل إلى توقف
العرف عن الجمع بينهما وتحصيل المراد الجدي من الظهور بسبب المعارض،
وعدم الجمع إلا بملاحظة مجموع الأدلة، فإن أمكن الجمع عرفا كان المجموع
حجة في المتحصل منها بأجمعها، والا لزم التوقف.
كما ظهر أيضا اندفاع ما قد يقال في وجه عدم انقلاب النسبة من أن
النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات، لان معيار تقديم الدليل قوة ظهوره ومجرد
سقوط الظهور في بعض الافراد عن الحجية لا أثر له في قوته وضعفه، كما لا أثر
فيها للدليل الثالث بعد فرض كونه منفصلا.
وجه الاندفاع: أن انقلاب النسبة في بعض الموارد على ما ذكرنا راجع إلى
دخل الدليل الثالث في قرينية أحد الدليلين على الاخر عرفا، وان لم يكن له أثر
في مرتبة ظهور كل منهما، فهو يقتضي..
تارة: استحكام التعارض بينهما مع إمكان الجمع العرفي بدونه.
وأخرى: إمكان الجمع العرفي بينهما مع استحكام التعارض بدونه.
وثالثة: تبدل مقتضى الجمع العرفي بينهما، وكما يكون للعرف الجمع
99

بين الدليلين بالنظر لأنفسهما يكون له الجمع بينهما بعد حمل أحدهما على ما
يناسب الدليل الثالث إذا كان دخيلا بنظره في قرينية أحدهما على الاخر.
وحيث ظهر عدم الضابط لذلك فالمناسب التعرض لبعض الفروض
المذكورة في كلماتهم، لأهميتها وإن لم يسع المجال التعرض لجميع ما ذكروه.
الأول: ما إذا ورد عام وخاصان بينهما عموم من وجه، وهو أول الفرضين
المتقدمين في صدر المسألة.
ولا ينبغي التأمل في تخصيصه بهما معا، لان ظهوره في استيعاب أفراد
كل منهما أضعف من ظهور كل منهما في استيعاب أفراده، وهو ملاك التقديم
في سائر موارد التخصيص.
ولا يخل بذلك اجتماعهما في بعض الافراد، أما مع عدم تنافيهما فيه
لاتفاقهما في الحكم - كما في المثال المتقدم - فظاهر، وأما مع تنافيهما فيه
لاختلافهما في الحكم - كما لو ورد: يجب إكرام العلماء، ويستحب إكرام العالم
الذي لا ينتفع بعلمه، و: يحرم إكرام العالم الفاسق - فكذلك لو كان أحد الخاصين
أقوى ظهورا من الاخر ومقدما عليه في مورد الاجتماع، لاستلزام ذلك أقوائيته
من العام وتعينه لتخصيصه والحجية في مورده.
وأما لو تساويا وتساقطا في مورد الاجتماع فلان سقوط كل منهما عن
الحجية في مدلوله المطابقي لا ينافي حجيتهما معا في نفي حكم العام المخالف
لهما.
وما تكرر منا من عدم حجية المتعارضين في نفي الثالث مختص
بالمتعارضين المتصادمين عرفا، اللذين لا يصلح كل منهما عرفا لبيان المراد من
الآخر والقرينية عليه، ولا يجري في مثل العامين من وجه مما كان كل منهما
صالحا للقرينية على الاخر وحمله على ما يناسبه، والتوقف عنهما لعدم تعين
أحدهما للقرينية لعدم الأظهر في البين، إذ في مثل ذلك يصلحان عرفا لبيان نفي
100

الثالث، لأنه المتيقن من مدلولهما، كالكلام الواحد المجمل المردد بين وجهين
الذي هو بيان على نفي الثالث. ولعله يأتي التعرض له في محله.
نعم، إذا لزم من تقديم كلا الخاصين على العام كثرة التخصيص
المستهجن له كان التعارض بينه وبينهما مستحكما، كما هو الحال في سائر
موارد التخصيص ودخل في التعارض بين أكثر من دليلين، الذي يأتي الكلام
فيه في محله إن شاء الله تعالى.
ثم إنه لا مجال لدعوى انقلاب النسبة في المقام، بدعوى: أنه بعد
تخصيص العام بأحد الخاصين تكون النسبة بينه وبين الخاص الاخر العموم من
وجه.
وذلك لعدم دخل أحد الخاصين في قرينية الاخر على العام بعد عدم
صلوح كل منهما لتفسير الاخر، لفرض كون النسبة بينهما العموم من وجه.
على أن ما سبق من الوجه لانقلاب النسبة إنما يقتضيه في فرض سقوط
العام عن الحجية في مورد أحد الخاصين في رتبة سابقة على ملاحظة النسبة
بينه وبين الاخر، ولا مجال لذلك في المقام بعد عدم تقدم أحدهما على الاخر
رتبة، ليكون التخصيص به سابقا على التخصيص بالآخر، بل هما في رتبة
واحدة في مقابل العام.
ولا وجه لترجيح مقطوع المضمون أو الصدور منهما بعد مشاركة
المظنون له في الحجية، فإن القطعي إنما يقدم على الظني عند تعارضهما، لا في
مقام تأثيرهما في الدليل المعارض.
وكذا ترجيح الأسبق زمانا، لعدم الأثر لسبق الخاص زمانا في استكشاف
مراد المتكلم من العام.
ولا فرق في ذلك بين ما صدر عن الأئمة عليهم السلام وما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله
بعد فرض كونه مخصصا، خلافا لما يظهر من بعض مشايخنا من توجه انقلاب
101

النسبة في فرض اختلاف الزمان في ما صدر عنه (ص)، وأنه يتعين تخصيص
العام أولا بالخاص الأسبق فتنقلب النسبة بينه وبين الخاص المتأخر.
غاية الامر البناء على النسخ في ما صدر عنه (ص) بالوجه المتقدم في الامر
الثاني، فيتعين العمل بالمتأخر على كل حال. فلاحظ.
نعم، لا إشكال في انقلاب النسبة إذا كان أحد الخاصين متصلا، لمنعه من
انعقاد ظهور العام في العموم، بل ليس هو من انقلاب النسبة حقيقة، إذ النسبة
بين العام والخاص الاخر هي العموم من وجه من أول الامر، إلا أنه لا يبعد غلبة
أقوائية ظهور الخاص الاخر في شمول مورد الاجتماع من ظهور العام
المخصص حينئذ، فيقدم عليه، كما لو كان أخص منه مطلقا، ولا أثر لانقلاب
النسبة.
الثاني: ما إذا ورد عامان متباينان وخاص موافق لأحدهما مخالف للاخر،
وهو ثاني الفرضين المتقدمين في صدر المسألة.
والظاهر صلوح الخاص لان يكون شاهد جمع بين العامين وقرينة على
حمل الموافق له على مورده، والمخالف له على غير مورده، كما لو ورد دليل
مفصل بين أفراد العامين، لان الخاص وإن لم يوجب أقوائية ظهور العام
المخالف له في غير مورده من العام الموافق له فيه، إلا ان يكون قرينة عرفا على
حمل العام المخالف على غير مورده، فيصلح العام المذكور بضميمته لان يكون
قرينة على حمل العام الموافق على مورد الخاص، فيرتفع التعارض بينهما
بسببه ولا يستحكم.
وهو أولى عرفا من سقوط العامين في تمام أفرادهما والرجوع للخاص
في مورده، وللقواعد الاخر في بقية أفراد العامين، ولا سيما إذا كان الخاص
مشعرا بخصوصية عنوانه في الحكم بمناسبة ارتكازية ونحوها حيث يسهل
تنزيل كلا العامين عليه جدا.
102

وهذا من موارد انقلاب النسبة عندهم، لان العام المخالف للخاص بعد
أن كان في نفسه معارضا للعام الموافق يصلح بسبب الخاص لان يكون
مخصصا له. فتأمل.
نعم، إذا كان مقتضى الجمع المذكور كثرة التخصيص لاحد العامين بنحو
مستهجن، إما لقلة أفراد الخاص، بنحو يلزم من الجمع المذكور كثرة التخصيص
للعام الموافق، أو لكثرتها، بنحو يلزم كثرة التخصيص للعام المخالف، لم يصلح
الخاص لان يكون شاهد جمع بين العامين ويستحكم التعارض بينهما. بل في
الثاني يكون الخاص معارضا للعام المخالف له، كالعام الاخر، كما هو ظاهر.
هذا، ولو فرض مخالفة الخاص لكلا العامين في الفرض لم يصلح لان
يكون شاهد جمع بينهما، وتعين استحكام التعارض بينهما، فيرجح الأقوى أو
يخير أو يتساقطان ويكون الخاص في مورده حجة على كل حال، لكونه مرجعا
بعد تساقطهما أو مخصصا للحجة منهما، ويخرج عن محل الكلام في انقلاب
النسبة، لعدم الأثر للخاص في النسبة بين العامين، كما هو ظاهر.
الثالث: ما إذا وردت أدلة ثلاثة أحدها أخص من الاخر مطلقا.
والظاهر تخصيص الخاص منها لما فوقه مما خالفه في الحكم مطلقا،
سواء اختلفت كلها في أحكامها أم اتفق اثنان منها وخالفهما الثالث، كان
المخالف هو الأعم أو المتوسط أو الأخص، كل ذلك لملاك التخصيص في
سائر الموارد وعدم دخل تعدد الأدلة في ذلك. كما أن المتفقين لا تنافي بينهما
ملزم بالتخصيص بل يتعين العمل بالأعم منهما إذا لم يخص بمخالف.
وقد يتوهم انقلاب النسبة في بعض الصور المتقدمة، كما لو اتفق
المتوسط والأخص في الحكم على خلاف الأعم، بدعوى: تخصيص الأعم
بالأخص أولا، فتنقلب النسبة بينه وبين المتوسط للعموم من وجه.
ويندفع: بأن تخصيص الأخص للأعم لا أثر له عرفا في قرينية المتوسط
103

عليه بنحو لا يشمله ملاك التخصيص.
مضافا إلى عدم الوجه لتخصيص الأعم بالأخص أولا قبل تخصيصه
بالمتوسط، بل هو مخصص بهما معا في رتبة واحدة، نظير ما سبق في الفرض
الأول.
نعم، إذا كان الأخص متصلا بالأعم في الفرض تعين انقلاب النسبة بينه
وبين المتوسط، نظير ما سبق، ويتوقف تقديم أحدهما في مورد الاجتماع على
أقوائية ظهوره، ولا ضابط لذلك، بل هو موكول لخصوصيات الموارد حسبما
يدركه الفقيه عند النظر في الأدلة.
كما أنه لو كان الأخص ظاهرا في الحصر كان بمنطوقه مخصصا للأعم
وبمفهومه مخصصا للمتوسط أو معارضا له، فيقتصر في الخروج عن الأعم على
مورد الأخص، ولا يبقى للمتوسط أثر.
هذا كله إذا لم يلزم من التخصيص محذور مانع ككثرة التخصيص، والا
تعين التوقف أو الجمع بوجه آخر حسبما تقتضيه خصوصية المقام، وقد أطالوا
الكلام في ذلك بما لا يسعنا مجاراتهم فيه بعد ما عرفت من الضابط في المقام.
الرابع: ما إذا ورد عامان بينهما عموم من وجه، وخاص لهما معا في محل
الاجتماع.
ولا إشكال في تقديمه عليهما معا والعمل بكل منهما في ما ينفرد فيه.
وقد جعله غير واحد من موارد انقلاب النسبة، بدعوى انقلابها بينهما بسبب
الخاص المذكور إلى التباين ويرتفع التعارض بينهما، لتعدد الموضوع، كما لو
اختص كل منهما ابتداء بما ينفرد فيه.
لكن الظاهر عدم توقف تقديمه في مورد الاجتماع والعمل بهما في مورد
للزم العمل به، لكونه مخصصا للأقوى منهما لو كان، ومرجعا بعد تساقطهما لو
104

تساويا.
نعم، انقلاب النسبة هو الأقرب للمرتكزات العرفية في مقام الجمع بين
الأدلة، لان الخاص المذكور صالح للقرينية عرفا عليهما بملاك التخصيص
الجاري في كل عام وخاص ولا تصل النوبة للتعارض.
ومجرد كونه مخصصا للعمومين لا لعام واحد لا أثر له في ذلك، نظير ما
تقدم في الفرض الثاني.
ومنه يظهر الحال لو كان الخاص مخصصا لاحد العامين المذكورين في
مورد الافتراق، حيث يكون قرينة على حمل العام المذكور على مورد الاجتماع
وتقديمه على العام الثاني فيه، لئلا يبقى بلا مورد، وحمل العام الثاني على مورد
انفراده.
واليه يرجع ما قيل من أن الخاص المذكور سبب لانقلاب النسبة بين
العامين إلى العموم المطلق، وهو أولى من بقاء العامين على ما هما عليه من
التعارض في مورد الاجتماع والعمل بالخاص في مورده، وبالعام الاخر في
مورد انفراده، المستلزم لسقوط العام المخصص عن الحجية مطلقا في مورد
انفراده لتخصيصه، وفي مورد الاجتماع لمعارضته بالعام الثاني.
وأما لو ورد خاصان في الفرض، كل منهما مخصص لاحد العامين في
مورد الافتراق فمن الظاهر أنهما لا يصلحان للقرينية على العامين ورفع
التعارض بينهما، لان تخصيصهما بهما مستلزم لحملهما معا على مورد
الاجتماع، فيتعارضان فيه، كما هو الحال قبل ورود الخاصين، وانما الكلام في
أن التعارض يختص بالعامين مع حجية الخاصين في موردهما، أو يشاركهما
الخاصان أيضا، فتسقط الأدلة الأربعة؟
وجهان.. اختار أولهما بعض الأعاظم قدس سره في ما حكي عنه، لدعوى: أن
الخاصين غير متعارضين، لا بأنفسهما، لتعدد موضوعيهما، ولا بالنظر للعامين،
105

لفرض كونهما مخصصين لهما.
وفيه: أن كلا من الخاصين وان كان مخصصا لاحد العامين وحمله على
مورد الاجتماع بالنظر لنفسه، إلا أنه لا مجال للبناء على ذلك فيهما معا في
المقام، لاستلزامه حمل كلا العامين على خصوص المورد المذكور، وهو ممتنع،
فلا يكون تحكيم الخاصين عليهما جمعا عرفيا.
وبعبارة أخرى: تقديم الخاص على العام لما لم يكن تعبديا، بل بملاك
الجمع العرفي وبيان الخاص للمراد من العام فلا مجال له في المقام، للعلم
بكذب أحد الجمعين.
ودعوى: أن تعارض العامين في مورد الاجتماع لازم على كل حال عمل
بالخاصين أم لم يعمل بهما، فهما ساقطان عن الحجية في نفسيهما، فلا ينهضان
بمعارضة الخاصين.
مدفوعة: بأن مرجع تعارضهما في نفسيهما صلوح كل منهما للقرينية
على الاخر وحمله على مورد الانفراد مع حجية كل منهما في مورد الانفراد، ولا
مجال لذلك بالنظر للخاصين، لاقتضائهما إخراج موردي الانفراد عنهما
وحملهما معا على مورد الاجتماع، وهو ممتنع، كما ذكرنا.
فيتعين كون التعارض بين مجموع الأدلة، للعلم الاجمالي بكذب بعضها
- كما ذكره بعض مشايخنا - من دون مجال للجمع العرفي بينها، ولا مرجح
للخاصين.
اللهم إلا أن يقال: كل من الخاصين وان اقتضى صرف العام المخالف له
إلى مورد الاجتماع، الا أنه لا يقتضي استيعابه له، وانما هو مقتضى عموم العام،
وكما يمكن التنزل عن عموم العام بالإضافة لمورد الانفراد لأجل الخاص يمكن
التنزل عن ظهوره في استيعاب أفراد مورد الاجتماع بلحاظ مجموع الأدلة.
وعليه يمكن الجمع عرفا بين مجموع الأدلة بحمل كلا العامين على مورد
106

الاجتماع، مع التنزل عن ظهور كل منهما في استيعابه، وان تعين سقوطهما معا
فيه، لعدم القرينة على تعيين ما يراد بكل منهما من أفراده.
نعم، ذلك - مع توقفه على إمكان التفكيك بين أفراد مورد الاجتماع في
الحكم - مشروط بأن يكون مورد الاجتماع كثير الافراد بحيث لا يلزم من حمل
كل من العامين على خصوص بعض أفراده التخصيص المستهجن، بأن يكون
ظهور كل من الخاصين في مورده أقوى من ظهور كل من العامين في الاستيعاب
لمقدار أفراد مورد الاجتماع، بنحو يكون قرينة عرفا على صرفهما عن الظهور
المذكور.
هذه بعض الفروض المذكورة في كلماتهم لانقلاب النسبة، وهناك
فروض أخرى لا مجال للتعرض لها، كما لا مجال للتعرض لغيرها مما يمكن
فرضه في المقام، لتعذر استيعاب موارد انقلاب النسبة، ولا سيما بعد ما سبق من
عدم اختصاصه بالعام والخاص، وأنه يجري في سائر موارد الجمع العرفي. بل
يتعين الاكتفاء بما سبق من الضابط المتقدم له مع إيكال تشخيص صغرياته لنظر
الفقيه عند الابتلاء بالأدلة المتنافية.
والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتسديد.
107

المقام الثاني
في مراتب الأدلة
من الظاهر أن استنباط الحكم والوظيفة العملية عن الأدلة التفصيلية كما
يتوقف على معرفة الأدلة والوظائف الظاهرية يتوقف على معرفة النسب، بينها
وتعيين مراتبها في ما بينها كي لا يرجع للمتأخر مع وجود المتقدم، لرجوع ذلك
لتشخيص دليلة الدليل ومعرفة موردها.
ومن هنا كان البحث عن ذلك من مقدمات الاستنباط المهمة، كالبحث
عن نفس الأدلة.
وقد سبق تعيين الأدلة والوظائف الظاهرية في المباحث السابقة من دون
بحث عن النسب بينها وتشخيص مرتبة كل منها، عدا الاستصحاب، حيث تقدم
الكلام في مرتبته، لخصوصية في دليله لا تجري في أدلة غيره.
ولما كان البحث في المقام الأول عن أصول النسب الأربع - وهي
التخصص والورود والحكومة والجمع العرفي - وتعيين ضوابطها، وبيان وجه
العمل عليها كان المناسب إلحاق ذلك بالبحث عن تشخيص النسب بين الأدلة
والوظائف الظاهرية على ضوء ما تقدم، وقد عقدنا هذا المقام لذلك.
هذا، وحيث لا ريب في تقدم الأدلة القطعية رتبة، للغوية جعل الحجة
على طبق القطع، واستحالة جعلها على خلافه - على ما تقدم في مباحث القطع -
فيقع الكلام في غيرها مما لا يقطع معه بالحكم الشرعي الواقعي، إما لعدم
تعرضه له - كما في الأصول - أو لعدم إفادته القطع به وإن كان متعرضا له،
109

كالطرق والامارات.
إذا عرفت هذا، فالظاهر لزوم الرجوع للطرق والامارات في المرتبة
الأولى، ثم للأصول والقواعد الشرعية الاحرازية - كالاستصحاب - ثم للأصول
الشرعية غير الاحرازية تعبدية كانت كأصالة الطهارة أم غيرها كالبراءة
والاحتياط، ثم للأصول العقلية العملية.
كما أن الظاهر تقدم الأصول التعبدية الموضوعية، التي يحرز بها الحكم
بمضيمة الكبريات الشرعية وان لم تكن إحرازية، على الأصول الحكمية وإن
كانت إحرازية، وهو مرادهم بتقدم الأصل السببي على المسببي.
وعلى هذا جرى الأصحاب في مقام الاستدلال، بنحو يظهر منهم
المفروغية عنه، بل صرح بعضهم بذلك.
نعم، قد يظهر من بعضهم الخروج عن ذلك في بعض الموارد، حيث
يجمع في مقام الاستدلال بين المترتبين أو يعارض بينهما.
إلا أن الظاهر كون منشئه الغفلة عن الحال أو محض الاستظهار في مقام
الاستدلال، والا فمن البعيد جدا خلافهم في ذلك.
وكيف كان، فاللازم التعرض لوجه ما ذكرنا.
وحيث كانت الأصول الاحرازية الجارية في الشبهات الحكمية منحصرة
بالاستصحاب كان بيان نسبتها هنا مستغنى عنه بما تقدم في الاستصحاب في
توجيه تقديم الطرق عليه وتقديمه على بقية الأصول المأخوذ في موضوعها
محض الشك.
وأما بقية الأصول والقواعد الاحرازية - كقاعدة اليد والفراغ والفراش
وغيرها - فهي قواعد فقهية لا تجري إلا في الشبهات الموضوعية، الخارجة عن
محل الكلام، ولا يسعنا استقصاء حالها، وانما تقدم في خاتمة الاستصحاب
التعرض لبعضها، وتقدم أنها مقدمة على الاستصحاب، فتقدم على ما تأخر عنه
110

من الأصول بالأولوية.
كما لا مجال للتعرض لنسبتها مع الطرق والامارات والقواعد الاخر، بل
يوكل للفقه.
كما لا ينبغي التأمل في تأخر الأصول العقلية عن الطرق والقواعد
والأصول الشرعية، لورودها عليها، حيث لا يحكم العقل بالوظيفة الظاهرية إلا
عند التحير وعدم تصدي الشارع لبيانها، والا استغنى ببيانه، فيرتفع به
موضوع حكمه.
وعلى هذا لا يبقى في المقام إلا الكلام في وجه تقدم الطرق والامارات
على الأصول، وفي وجه تقدم الأصل السببي على المسببي، فيقع البحث في
أمرين..
الامر الأول: في تقدم الطرق والامارات على الأصول الشرعية.
من الظاهر أن إطلاق أدلة الأصول شامل لصورة قيام الطرق والامارات
بعد فرض عدم إفادتها العلم بالحكم الواقعي، فهي بنفسها مع قطع النظر عن
دليل حجيتها لا ترفع موضوع الأصول، والا لزم قصورها في فرض عدم حجية
الطرق والامارات أيضا، وهو خارج عن محل الكلام.
كما أنه لا إشكال في أن مفاد الطريق والامارة لا ينافي مفاد الأصل، لتعدد
الموضوع، بسبب حكايتهما عن الواقع، وعدم تعرض الأصل له، بل للوظيفة
الظاهرية في ظرف الجهل به لا غير، وانما التنافي بين دليل حجيتها ومفادها،
لتعرض كل منهما للوظيفة الظاهرية الفعلية.
ومن هنا كان محل الكلام في المقام هو النسبة بينهما، لا بين الأصل
ونفس الطريق والامارة، وان أوهمه عنوان المسألة.
إذا عرفت هذا، فربما يدعى ورود أدلة الطرق والامارات على أدلة
الأصول..
111

إما لدعوى: أن المراد من الشك والجهل في موضوعها هو عدم الحجة،
فيرتفع موضوعها بقيام الطرق أو الامارات بضميمة دليل حجيتها.
أو لدعوى: أن المراد به ما يقابل العلم ولو بالوظيفة الظاهرية، فيرتفع
موضوعها بقيامها بضميمة دليل حجيتها أيضا. وكلاهما مخالف للظاهر جدا، بل
ظاهر الجهل والشك في موضوع أدلة الأصول الشرعية هو الامر النفسي المقابل
للعلم بالواقع، الباقي حتى مع قيام الطرق والامارات وحجيتها، كما سبق نظيره
في الاستصحاب.
وانما يتجه الثاني في ما سيق من الأدلة مساق الأصول العقلية ومؤكدا
لمفادها وهو خارج عن محل الكلام وقد تقدم توضيح الفرق بين المفادين في
أول الكلام في أدلة البراءة.
هذا، والذي ادعاه شيخنا الأعظم قدس سره وجملة ممن تأخر عنه هو حكومة
أدلة الطرق والامارات على أدلة الأصول، لرفعها لموضعها تعبدا أو تنزيلا،
بسبب تقييد موضوع الأصول شرعا بالشك والجهل، واطلاق موضوع أدلة
حجية الطرق والامارات من هذه الجهة. وهي وان كانت قاصرة عن صورة العلم،
إلا أن قصورها لما كان عقليا بملاك استحالة جعل الحجية معه، ومختصا بالعلم
الوجداني، فلا مجال لفرض الحكومة فيه، لما سبق من عدم جريانها في الأدلة
اللبية لتحديد موضوعها بنحو لا يقبل البيان والتفسير، بخلاف تقييد أدلة
الأصول بالجهل، فإنه لما كان مستفادا من تقييدها به شرعا في الأدلة اللفظية
أمكنت حكومة أدلة الطرق والامارات عليها وبيانها لمفادها.
وقد أشير في كلامهم لتقريب حكومة الطرق والامارات، بدعوى: أنها
بضميمة دليل حجيتها تكون رافعة لموضوع الأصول - وهو الجهل - تعبدا أو
تنزيلا وان كان باقيا حقيقة، لفرض عدم إفادتها القطع.
وقد سبق أن ذلك موجب للحكومة عندهم، وذكرنا أنه لا يوجب
112

الحكومة البيانية بل العرفية، التي هي من صغريات الجمع العرفي.
لكن ما ذكروه من ارتفاع الجهل تعبدا أو تنزيلا مبني على مختارهم في
مفاد أدلة حجية الطرق والامارات من تنزيلها منزلة العلم، أو جعلها علما تعبدا،
وهو ممنوع، بل ليس مفادها إلا حجية الطرق والامارات اعتبارا بنحو تصلح لان
يعتمد عليها في البناء على ثبوت مؤداها عملا كالعلم، على ما سبق الكلام فيه
مفصلا في مباحث القطع. فراجع.
وأما مجرد حجية الطرق والامارات من دون أن تكون بلسان تنزيلها
منزلة العلم أو جعلها علما تعبدا فهو لا يكفي في الحكومة العرفية، فضلا عن
البيانية، لان الحجية وان اقتضت متابعة الحجة في مقام العمل بنحو تكون معذرة
أو منجزة على خلاف الأصل، إلا أن الأصل بإطلاق دليله يقتضي التعذير
والتنجيز المستتبعين للعمل على خلافها، ولا أولوية لأحدهما بعد فرض تحقق
موضوع كل منهما. وقد سبق نظير ذلك في مبحث الاستصحاب.
ومن هنا فالظاهر أن تقديم الطرق والامارات على الأصول مقتضى الجمع
العرفي بين أدلتها والمناسبات الارتكازية، مع التنافي بينها بدوا، الذي عرفت
رجوع الحكومة العرفية له، فإنه وان كان بين إطلاق كل منها عموم من وجه، إلا
أن المتعين تنزيل أدلة الأصول على ما لا ينافي أدلة الطرق والامارات.
وتقريب ذلك بوجوه..
الأول: ما سبق في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول غير الاحرازية،
حيث يجري هنا - كما أشرنا إليه انفا - بتقريب أن مقتضى إطلاق أدلة الأصول
هو فعلية مقتضاها والعمل عليه ولو مع قيام الطرق والامارات المستلزم لعدم
حجيتها، إلا أن مقتضى الجمع بينها وبين أدلة الحجية هو حملها على ثبوت
مقتضاها وهو الشك، وان لم يكن فعليا لطروء أمر زائد على ذلك مقتض لخلافه
وهو قيام الطرق والامارات، كما هو الحال في سائر موارد الجمع بين أدلة
113

الاحكام الأولية والثانوية.
وليس ذلك من مورد الحكومة البيانية ولا العرفية، لعدم نظر أدلة الحجية
لأدلة الأصول ولا لمؤدياتها، ولذا لا تلغو حتى مع فرض عدم جعل الأصول
شرعا والبقاء على الأصول العقلية، كما فصلنا الكلام في نظيره هناك.
إن قلت: هذا لا يناسب ما تضمنه غير واحد من نصوص الأصول من
إناطتها بعدم العلم وجعله رافعا لها، بعد ما سبق من ظهوره في العلم بالواقع لا
بما يعم الوظيفة الظاهرية، ولا في مطلق قيام الحجة، ولذا لم تكن الطرق
والامارات واردة عليها.
قلت: المتعين تنزيل ذلك بملاحظة الجمع المذكور على أن ذكر العلم
ليس بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق كاشف عن الواقع ودليل عليه، فيقوم
مقامه سائر الطرق والامارات المعتبرة، وهو راجع في الحقيقة إلى كون الرافع
لموضوع الأصول هو ثبوت الواقع ولو بغير العلم، وأن ذكر العلم بما أنه الفرد
الظاهر، كما سبق عند الكلام في قيام الطرق والامارات مقام القطع الموضوعي
من مباحث القطع.
ويناسبه ما في موثق مسعدة بن صدقة من الاقتصار على العلم في صدره
ثم قوله (ع) في الذيل: " والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو
تقوم به البينة " (1).
الثاني: أن تقديم أدلة حجية الطرق والامارات على الأصول لا يوجب
إلغاء دليل الأصول عرفا، لكثرة موارد فقد الحجة، بخلاف العكس، فإنه موجب
لالغاء أدلة الحجية عرفا، إذ لا يبقى تحتها الا الموارد التي تطابق فيها الأصل
فيستغنى به عنها، والموارد التي لا يجري فيها الأصل الترخيصي كالبراءة، أو
الإلزامي، كالاحتياط في الشبهة التحريمية عند الأخباريين، وهي نادرة.

(1) الوسائل ج: 13، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4.
114

ولا مجال للتفكيك بين الموارد، فتقدم الحجج على الأصول في بعضها،
وتقدم الأصول في بعض، لعدم الفرق عرفا بين الموارد من هذه الجهة، وعدم
المرجح لبعضها بالإضافة للاطلاقات، بل لابد إما من تقديم الأصول في الجميع
أو تقديم الحجج كذلك.
ومثله التفكيك بين الأصول، فتقدم الحجج على البراءة دون الاحتياط
مثلا، لعدم الفرق بين أدلة الأصول في ذلك بعد كون موضوعها محض الشك.
الثالث: أن النظر في مجموع أدلة حجية الطرق والامارات وأدلة الأصول
شاهد بتقديم أدلة الحجية، إما للتصريح بذلك في أدلتها - كموثق مسعدة بن
صدقة المصرح باستثناء صورة قيام البينة من عموم قاعدة الحل وغيره - أو لأنه
المتيقن من بعض مواردها، لورودها في مورد الأصول الترخيصية أو الالزامية.
ولا مجال لاستقصاء ذلك في المقام بعد وضوحه وقضاء المرتكزات
العرفية به وجري الأصحاب عليه بمقتضى طبعهم من دون تكلف أو تعمل.
فلاحظ.
تنبيهات
الأول: بناء على ورود أدلة الحجية على أدلة الأصول ورفعها لموضوعها
حقيقة لا مجال لجريان الأصل في مورد قيام الحجة حتى لو كان موافقا لها، لعدم
الموضوع له معها.
وكذا بناء على الحكومة المبتنية على رفع الحجة لموضوع الأصل تعبدا
أو تنزيلا لرجوعها لبا إلى قصور موضوع الأصل عن صورة قيام الحجة وان كان
شاملا لها لفظا بمقتضى عموم دليله.
أما بناء على ما ذكرنا من وجوه الجمع العرفي فقيام الحجة إنما يمنع من
جريان الأصل المخالف لها دون الموافق. أما على الوجهين الأخيرين فظاهر،
115

وأما على الأول فلان العنوان الثانوي الاقتضائي إنما يمنع من تأثير العنوان
الأولي غير الاقتضائي مع تنافي أثريهما، لا مع اتفاقهما، وإن كان الاستناد في
البناء على الشئ إلى مقتضي إثباته أولى ارتكازا من الاستناد فيه إلى مجرد عدم
المقتضي لخلافه.
نعم، لو ابتلت الحجة الموافقة للأصل بمعارضة حجة أخرى مخالفة له لم
يكن الأصل طرفا للمعارضة بل يكون مرجعا بعد تساقط الحجتين، لما هو
المرتكز من أن اللامقتضي لا يكون طرفا للمصادمة مع المقتضي وان لم يكن
أثره فعليا معه، بل ينحصر التصادم بالمقتضيين، وبعد سقوطهما يكون الأثر على
طبق اللامقتضي لعدم المانع من فعليته.
وإن شئت قلت: اللامقتضي وان لم يكن متأخرا رتبة عن المقتضي
الموافق له، إلا أنه متأخر عن المقتضي المخالف له لمانعيته من تأثيره، ففي
مرتبة تعارض المقتضيين لا يكون اللامقتضي فعلي التأثير، لصلوح المقتضي
المخالف له لمنعه، لعدم سقوطه في المرتبة المذكورة، وانما يكون فعلي التأثير
بعد سقوط المقتضيين في المرتبة الثانية للتعارض، لعدم المانع منه حينئذ.
الثاني: ما سبق من وجوه التقديم إنما يتجه فيما إذا كان لدليل الحجية
عموم لفظي شامل لمورد الأصل، أما لو اخذ في موضوعها عدم الوظيفة الشرعية
كان الأصل واردا عليها.
كما أنه لو كان دليلها لفظيا لا عموم له أو لبيا، كحجية الظواهر ونحوها مما
كان حجة ببناء العقلاء أو الاجماع فلا يجري فيه ما تقدم على إطلاقه، بل ينبغي
التفصيل بين ما ثبتت حجيته بدليل تعبدي - كالاجماع والأدلة اللفظية التي لا
عموم فيها - وما ثبتت حجيته ببناء العقلاء الذي لابد من عدم الردع عنه.
أما الأول فإن قطع بشمول دليله لمورد الأصل وجب العمل به وتقديمه
إما بالورود - لو تم تقريبه المتقدم - أو بتنزيل عموم دليل الأصل عليه، نظير ما
116

سبق في الجمع العرفي، ولا مجال لفرض الحكومة فيه إذا كان لبيا، لما ذكرناه
عند الكلام فيها من أنه لابد في الحاكم من أن يكون دليلا لفظيا متميزا بلسان
الشرح والنظر، ولا يتجه في اللبي الذي لا يفيد إلا واقع الحكم. نعم، قد يتجه
فرضها في الأدلة اللفظية التي لا عموم فيها.
وإن لم يقطع بشموله لمورد الأصل لزم العمل بالأصل، لا لتقديمه عليه،
بل لانفراده بالحجية بعد فرض الشك في حجية الطريق أو الامارة، ولذا يعمل
بالأصل حينئذ حتى بناء على ورود الطرق والامارات - بلحاظ دليل حجيتها -
على الأصول، لان ورودها فرع الدليل على حجيتها.
وأما الثاني فإن قلنا بورود الطرق والامارات على الأصل لم ينهض دليل
الأصل للردع عن السيرة، لتأخره عن مفادها رتبة لرفعها لموضوعه.
وإلا كان دليل الأصل صالحا للردع عنها، على ما تقدم نظيره في مبحث
حجية خبر الواحد عند الكلام في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم
للردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر.
إلا أن يثبت إمضاء السيرة، فيكون دليل الامضاء هو المقدم على دليل
الأصل، ويلحقه ما سبق من التفصيل بين الدليل اللفظي واللبي، أو تكون السيرة
من الوضوح بحد يغفل العرف عن شمول عموم دليل الأصل لموردها، على ما
تقدم في مبحث حجية الظواهر وخبر الواحد. وقد تقدم نظير ذلك في
الاستصحاب.
الثالث: تقديم الطرق والامارات على الأصول مختص بما إذا اتحد
موضوعها، بحيث يكون الطريق أو الامارة بيانا شرعيا في مورد الأصل، أما مع
تعدد الموضوع وتباين الواقعتين مع العلم الاجمالي بمخالفة أحد الجعلين
عملا لمقتضى الواقع، فإن كان الطريق أو الامارة حجة في لازم المؤدى كان بيانا
في مورد الأصل.
117

والا فإن لزم من العمل بكل منهما محذور في مخالفة العلم الاجمالي
سقطا معا عن مقام العمل من دون مرجح للطريق أو الامارة، لاختصاص الوجوه
المتقدمة بما إذا كانا بيانا في مورد الأصل، والا لزم العمل بكل منهما في مورده،
نظير ما يذكر في الأصلين المعلوم كذب أحدهما إجمالا.
الرابع: الظاهر أنه لا فرق في الأصول غير الاحرازية بين التعبدية المبنية
على التعبد بالمضمون والمقتضية للبناء عليه عملا - كأصالة الطهارة والحل -
وغيرها مما لا يتضمن إلا محض التعذير أو التنجيز في مقام العمل - كالبراءة
والاحتياط - ولا تتقدم الأولى على الثانية، لعدم الموجب لذلك بعد عدم تضمن
الأولى إحراز المؤدى وبيانه، ليتوجه تقديمها بملاك تقديم الأصل الاحرازي
الذي أشير إليه في وجه تقديم الاستصحاب على غيره من الأصول، بل هي
مشتركة في أن موضوعها محض الشك.
الامر الثاني: في تقديم الأصل السببي على المسببي.
والمراد بالأصل المسببي هو الأصل الجاري رأسا في الأثر الذي يترتب
عليه العمل، أما السببي فهو الذي يقتضي التعبد بالأثر بتوسط التعبد بموضوعه
وسببه الشرعي، لما سبق عند الكلام في الأصل المثبت من أن التعبد بالموضوع
مستلزم للتعبد بأثره الشرعي عرفا، فيتفرع التعبد بالأثر في مورد الأصل المسببي
على ضم الصغرى المتعبد بها بمقتضى الأصل السببي للكبرى الشرعية
المتضمنة للتلازم بين الموضوع والأثر.
ومنه يظهر أنه لابد في الأصل السببي من كونه أصلا تعبديا مقتضيا للبناء
على مضمونه الذي هو موضوع الأثر، ليترتب عليه البناء على الأثر، أما الأصل
المتمحض في التعذير والتنجيز - كالبراءة والاحتياط - فهو لا يصلح للتعبد بالأثر
بعد عدم تضمنه التعبد بموضوعه، ليكون مقدما على الأصل المسببي الجاري
في الأثر رأسا.
118

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن جريان الاحتياط عند الشارع في التكليف قبل
الفحص لا يقتضي ترتب اثار ذلك التكليف المنافية للاحتياط، بنحو يكون
الاحتياط في التكليف منافيا للاحتياط في أثره، فلو وجب الاحتياط عند الشك
في وجوب الانفاق لم يسقط الاحتياط في التكليف المترتب على عدم وجوبه،
كوجوب الحج.
فما ذكره بعض مشايخنا من فرض مثل أصل البراءة سببيا غير ظاهر.
نعم، لو كان للسعة أو الحرج في مقام العمل اللذين هما مقتضى الأصل
التعذيري والتنجيزي لازم شرعي أو عقلي تعين ترتبه واقعا، لتحقق موضوعه
كذلك، كقابلية الفعل للتقرب مع جريان البراءة فيه وان كان محرما واقعا، وعدم
قابليته له مع جريان الاحتياط فيه وإن لم يكن محرما، وهو خارج عن محل
الكلام.
وأما الأصل المسببي فلا يعتبر فيه شئ من ذلك، كما لا يعتبر في السببي
أن يكون إحرازيا بل يقدم وان لم يكن إحرازيا على المسببي وان كان إحرازيا،
كأصالة الطهارة في الماء التي يرفع اليد بها عن استصحاب نجاسة الثوب
المغسول به، كما يرفع بها اليد عن أصالة البراءة من وجوب تطهير المسجد به لو
انحصر به الماء.
نعم، مفروض كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدس سرهما في السببي
والمسببي هو الاستصحاب، ونظرهما في استدلالهما على تقديم السببي لدليل
الاستصحاب.
لكن الظاهر أنه ناشئ من تحريرهما للمسألة في الاستصحاب، لا من
اختصاص ملاك التقديم عندهما به. ومن ثم صرح غير واحد ممن تأخر عنهما
بالتعميم.
إذا عرفت هذا، فما يستفاد من كلماتهم في تقريب تقديم السببي وجوه..
119

الأول: ما يظهر من شيخنا الأعظم والمحقق الخراساني قدس سرهما من أن تقديم
السببي لا يستلزم تخصيص دليل الاستصحاب، بخلاف العكس، حيث يظهر
من شيخنا الأعظم قدس سره أن السببي وارد على المسببي، لارتفاع موضوعه معه، دون
العكس.
فإن كان ذلك منه مبنيا على أن موضوع المسببي هو عدم الدليل على ما
يعم الوظيفة الظاهرية، والسببي صالح لبيان الوظيفة الظاهرية في مورد المسببي،
بخلاف العكس، لان التعبد بالأثر لا يقتضي التعبد بموضوعه إلا بناء على الأصل
المثبت.
فهو في غير محله، بل موضوع المسببي - بمقتضى ظاهر دليله - هو الشك
بالواقع، كما سبق في الامر الأول، وهو باق مع جريان السببي.
وإن كان مبنيا على أن نقض اليقين السابق في مورد المسببي بالسببي ليس
نقضا بمحض الشك " بل بتعبد زائد عليه في مورده، فلا يشمله النهي عن نقض
اليقين بالشك، الذي تضمنه دليل الاستصحاب. أما نقض اليقين في مورد
السببي فهو نقض بمحض الشك، لعدم صلوح التعبد بالمسببي لنقض اليقين في
مورد السببي، إلا بناء على الأصل المثبت.
فهو - مع عدم كونه ورودا بالمعنى المتقدم - مختص بما إذا كان المسببي
استصحابا، على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - توضيحه. على أن ما ذكره - لو تم -
جرى في الطرق والامارات، مع أنه قدس سره صرح ببقاء موضوع الأصل معها، وأن
وجه تقديمها منحصر بالحكومة، كما سبق.
نعم، لا مجال للنقض بذلك على المحقق الخراساني قدس سره فإنه وان ذكر أن
نقض اليقين في مورد المسببي بالسببي ليس من نقض اليقين بالشك، بل
باليقين، بخلاف العكس، إلا أنه التزم بذلك في الطرق والامارات أيضا، على ما
تقدم في الاستصحاب. لكن تقدم الاشكال عليه هناك أيضا. مضافا إلى ما أشرنا
120

إليه هنا من اختصاص الوجه المذكور بالاستصحاب.
الثاني: ما يظهر من غير واحد من تقريب حكومة الأصل السببي على
المسببي على اختلاف منهم في وجوه تقريبها..
أولها: ما يظهر من تقرير المرحوم الكاظمي لكلام بعض الأعاظم قدس سرهما من
دعوى: أن الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي - وهو الشك - في عالم
التشريع، لان التعبد بمؤدى السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك في
مورد المسببي، لان التعبد بالشئ يقتضي التعبد بأثره، ولا معنى له إلا ذلك،
بخلاف التعبد بمؤدى المسببي، فإنه لا يقتضي ذلك مطابقة، بل بضميمة
الملازمة بين الأثر وموضوعه، ولا أثر لها إلا بناء على حجية الأصل المثبت.
فارتفاع موضوع السببي بالمسببي - مع ابتنائه على حجية الأصل المثبت
المعلوم عدمها - موقوف على بقاء موضوعه معه، وقد فرض عدمه وأن ارتفاعه
به مقتضى مدلوله المطابقي، ولا يكفي فيه البناء على حجية الأصل المثبت،
لوضوح أن حجية الأصل في لازم مؤداه فرع جريانه في نفسه وتحقق موضوعه.
لكن لا يخفى أنه مبني..
أولا: على كفاية الالغاء والرفع الشرعي التعبدي في الحكومة.
وثانيا: على أن مفاد الأصول التعبدية والاحرازية ابقاء الشك شرعا
بمعنى رفعه تعبدا.
وقد تقدم في اخر الكلام في الحكومة الكلام في الأول.
كما تقدم في مبحث القطع الموضوعي إنكار الثاني، وأنه ليس مفادها إلا
عدم العمل بأحد طرفي الشك في ظرف وجوده، وهو لا يكفي في الحكومة،
لوضوح أن كلا التعبدين السببي والمسببي يقتضي العمل على خلاف ما يقتضيه
الاخر، من دون مرجح لأحدهما بعد تحقق موضوعهما، وهو الشك.
وبالجملة: بعد فرض بقاء موضوع كلا الأصلين - وهو الشك - كما ذكرنا
121

يدور الامر بين إلغاء السببي في بعض اثاره والغاء المسببي بالمرة، وتعيين الثاني
يحتاج إلى مرجح.
على أن ما ذكره من عدم جريان المسببي حتى بناء على حجية الأصل
المثبت في غاية المنع، إذ لو فرض حجية الأصل المثبت فكل من الأصلين
متحقق الموضوع مع قطع النظر عن الاخر، فيجري في نفسه ويرفع موضوع
الاخر، ويكون من موارد توارد الأصلين، ولا وجه لفرض جريان السببي أولا
ورفعه لموضوع المسببي، لعدم تعرضه لمرجح له.
وكون التعبد بالأثر مقتضى المدلول المطابقي للأصل السببي - مع عدم
وضوحه في نفسه - لا يصلح مرجحا بعد فرض حجية الأصل في المدلول
المطابقي والالتزامي معا.
كما أن مجرد الترتب شرعا بين موردي الشك في السببي والمسببي لا
يقتضي الترتب بينهما في الدخول تحت عموم دليل الأصل، لوضح أن الترتب
بين الشيئين لا يقتضي الترتب بين الشكين المتعلقين بهما اللذين هما
الموضوعان للأصلين الجاريين في كل منهما، بحيث يكون الشك في السبب
سابقا رتبة على الشك في المسبب ليكون سابقا عليه في الدخول تحت عموم
الأصل، بل هما متلازمان، كالعلم بكل منهما، بل قد يكون العلم بالمسبب علة
للعلم بالسبب وسابقا عليه رتبة. فلاحظ.
ثانيها: ما يظهر من تقرير بعض مشايخنا لكلامه، من دعوى: أن الأصل
السببي رافع حقيقة لا تعبدا لما هو الموضوع للأصل المسببي في لب الامر
والواقع.
بدعوى: أن موضوع الأصل ليس هو الشك بما هو صفة خاصة، بل من
حيثية كونه موجبا للتحير والتودد والوقفة، ومع التعبد بالمشكوك بمقتضى
الأصل السببي تتعين الوظيفة العملية ويرتفع التحير الذي هو الملاك في
122

موضوعية الشك، فالأصل السببي وإن لم يرفع الشك بذاته، إلا أنه يرفع قيده
وملاك موضوعيته للأصل حقيقة.
وفيه: أنه إن رجع ذلك إلى كون موضوع الأصل حقيقة هو التحير المسبب
عن الشك والمصاحب له طبعا، لا نفس الشك، فلا يبقى مع بيان الوظيفة العملية
وارتفاع التحير بمقتضى الأصل السببي، وإن بقي الشك.
فهو خروج عن ظهور الأدلة في كون الموضوع هو مجرد الشك وعدم
العلم، المستلزم لعدم حجية ما عداه، ولذا ذكرنا في محله أن مقتضى أدلة
الأصول عموم عدم حجية غير العلم، بل هو خلاف ما اعترف به في بعض
كلماته من أن ظاهر دليل الاستصحاب انحصار الناقض لليقين باليقين، وأن
المراد بالشك مطلق عدم اليقين.
وإن رجع إلى أن الموضوع هو الشك بنفسه، لكن لا بما هو صفة خاصة،
بل من حيثية عدم صلوحه لرفع التحير، نظير ما يذكر في القطع الموضوعي من
أنه قد يؤخذ بما هو طريق، لا بما هو صفة خاصة.
فمن الظاهر أن بيان الوظيفة العملية بالأصل السببي لا يوجب صلوح
الشك في مورد المسببي لرفع التحير، لوضوح أن ارتفاع التحير حينئذ بدليل
الأصل المذكور لا بمحض الشك المفروض بقاؤه.
على أن هذا خروج عن مصطلحهم في الحكومة، بل مخالف لضابط
الحكومة في الاحكام الواقعية عنده، حيث اعتبر فيها ارتفاع الموضوع تعبدا لا
حقيقة، بل هو من الورود، بناء على ما سبق من أن المعيار فيه ارتفاع الموضوعي
اللبي، لا ارتفاع عنوانه الذي تضمنته الأدلة اللفظية، وان حاول قدس سره الفرق بين ما
ذكره هنا وبين الورود بما لا يهم التعرض له لعدم المشاحة في الاصطلاح.
ثالثها: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الأصل السببي وان
لم يكن رافعا لموضوع الأصل المسببي وهو الشك - لا حقيقة، ولا تعبدا ولا
123

تنزيلا - إلا أنه حاكم عليه بملاك النظر، الذي هو المعيار في الحكومة مطلقا، لان
التعبد بالموضوع بمقتضى الأصل السببي ناظر لاثبات آثاره التي هي مؤدى
الأصل المسببي، بخلاف التعبد بالأثر بمقتضى الأصل المسببي، فإنه لا يتكفل
بالنظر للتعبد بالموضوع، ولا ينفي نظر الأصل السببي لمؤداه.
وكأنه إلى هذا يرجع ما ذكره بعض مشايخنا فيما إذا لم يكن الأصل
السببي إحرازيا - كأصالة الطهارة - حيث لا إشكال عنده في عدم تكفله بإلغاء
الشك تعبدا، له انما يختص ذلك عنده بما إذا كان إحرازيا، فيجري فيه ما تقدم
في الوجه الأول.
ويندفع: بأن ملاك الحكومة هو النظر للدليل أو لمؤداه، حيث يكون منشأ
لحكومة الناظر على ذلك الدليل في الأول حكومة بيانية، وفي الثاني حكومة
عرفية، كما سبق، والأصل السببي الجاري في الموضوع المقتضي للتعبد باثاره
لو كان ناظرا لتلك الآثار فهو حاكم على أدلتها الواقعية لا على دليل التعبد
الظاهري بها، الذي هو مفاد الأصل المسببي، لعدم نظره لنفس التعبد ولا لدليله،
وإنما يكون منافيا له، لامتناع التعبد بالمتنافيين، وهو لا يقتضي الحكومة، بل
محض المعارضة.
وبعبارة أخرى: التعبد بالموضوع لو اقتضى النظر فهو يقتضي النظر لآثاره
الواقعية - التي هي مفاد أدلتها الواقعية - والتعبد بها، لا النظر للتعبد الظاهري
بالآثار المذكورة، الذي هو مفاد الأصل المسببي.
ولعل الأولى في وجه تقديم السببي على المسببي الرجوع إلى ما سبق في
تقريب تقديم الطرق على الاستصحاب وغيره من الأصول.
توضيحه: أن المسببي إن كان استصحابا فقد سبق في وجه تقديم الطرق
والامارات على الاستصحاب أن دليل الاستصحاب المتضمن عدم نقض اليقين
بالشك إنما يقتضي عدم صلوح الشك بنفسه لرفع اليد عن مقتضى اليقين
124

السابق، لا عدم نقض اليقين بغير الشك مما قارنه، ورفع اليد في مورد المسببي
عن مقتضى اليقين السابق ليس بمحض الشك، بل بالأصل السببي المبتني على
خصوصية زائدة على الشك مقارنة له صالحة للعمل، وقد سبق هناك ما يتعلق
بذلك من النقض والابرام. فراجع.
ومن ذلك يظهر عدم الفرق في السببي بين الاستصحاب وغيره، كقاعدة
الطهارة، لان غير الاستصحاب - أيضا - يبتني في مورد المسببي على خصوصية
زائدة على الشك مقارنة له هي التي يكون بها نقض اليقين.
فهو وان لم يكن إحرازيا بالإضافة لمضمونه، للحكم به بمجرد الشك
الذي لا اقتضاء له في الاحراز إلا أنه إحرازي بالإضافة لاثره في مورد المسببي،
لابتنائه على خصوصية زائدة على الشك صالحة للاحراز، وهي القياس الناشئ
من ضم الصغرى المتعبد بها بالأصل السببي للكبرى الشرعية.
وإن لم يكن المسببي استصحابا فمقتضى دليله وان كان هو التعبد
بمضمونه بمجرد الشك الشامل لحال تحقق موضوع الأصل السببي، إلا أن
التعبد بمقتضى السببي في مورده لما كان مبنيا على خصوصية زائدة على الشك
مقتضية له كانت نسبته للمسببي نسبة الحكم الثابت بالعنوان الثانوي الاقتضائي
للحكم الثابت بالعنوان الأولي اللا اقتضائي، نظير ما سبق منا في الوجه الأول
للجمع العرفي في توجيه تقديم الطرق والامارات على الأصول غير الاحرازية.
ولعل ما ذكرنا هو الوجه في ارتكاز تقديم السببي عرفا في مقام إعمال
الأدلة الواردة في مقام التعبد، حيث لا يلتفت العرف إلى تطبيق الأدلة المذكورة
على نفس الأثر في مقابل تطبيقها على موضوعه، بل يكون تقدم الموضوع على
أثره طبعا في مقام الثبوت منشأ لتقدم التعبد به على التعبد به في مقام الاثبات
بحيث يستغني به عنه لو كان موافقا، ويقدم عليه لو كان مخالفا. ومن ثم كان
مفروغا عنه بينهم، بحيث لو خرج عنه لزم تأسيس فقه جديد.
125

ثم إنه لو كان ملاك تقدم السببي على المسببي وروده عليه أو حكومته
عليه بملاك رفع الموضوع حقيقة أو تعبدا أو تنزيلا فلا مجال لجريان المسببي
حتى لو كان موافقا للسببي، لعدم الموضوع له معه، نظير ما سبق في تقديم
الطرق والأصول غير الاحرازية.
أما بناء على ما ذكرنا فاللازم الاقتصار في التقديم على صورة الاختلاف
بينهما عملا أما مع الاتفاق بينهما فيجريان معا، لتحقق موضوعيها. وإن كان
الاعتماد على السببي أولى ارتكازا.
أما إذا كان المسببي استصحابا فلان الاعتماد في إحراز بقاء الشئ على ما
يحرز عدم ارتفاعه - وهو السببي - أولى من الاعتماد فيه على عدم إحراز
ارتفاعه في فرض أنه من شأنه البقاء - كما هو مفاد المسببي - لان نسبة الأول
للثاني نسبة المقتضي للامقتضي.
وأما إذا لم يكن استصحابا فلان الاستناد في البناء على الشئ إلى مقتضي
إثباته المحرز له - وهو السببي الذي عرفت أنه إحرازي في مورد المسببي
مطلقا - أولى من الاستناد فيه إلى عدم المقتضي لاحراز خلافه.
نعم، لو ابتلي الأصل السببي الموافق للمسببي بمعارض يمنع من جريانه
لم يكن المسببي طرفا للمعارضة معه، بل يكون مرجعا بعد تساقط السببين، لما
هو المرتكز من أن التصادم إنما يكون بين المقتضيين، ولا يكون اللامقتضي
الموافق لأحدهما عملا طرفا للمصادمة معهما، كما ذكرنا نظيره بتوضيح في
التنبيه الأول من تنبيهات مسألة تقديم الطرق والامارات على الأصول غير
الاحرازية. فراجع وتأمل.
126

تتميم
لا يخفى أن تعارض التعبدين الظاهريين الموجب لتساقطهما إنما
يقتضي الرجوع للثالث إذا كان متأخرا عنهما رتبة، كالأصلين عند تعارض
الامارتين، والأصل غير الاحرازي عند تعارض الاحرازيين.
أما إذا كان في رتبتهما فالمتعين كونه طرفا للمعارضة معهما، فإن كان
موافقا لأحدهما كان المورد من موارد معارضة الدليلين للدليل الواحد، وإن
خالفهما معا كان من موارد تعارض أكثر من دليلين، لمشاركته لهما في الدخول
تحت عموم دليل التعبد لولا المعارضة، وفي كونه طرفا لها بالنحو المانع من
شمول دليل الحجية له معهما، بل يقصر عن الكل، فلابد من جريان حكم
المعارضة من الترجيح أو التخيير أو التساقط، والرجوع للتعبد المتأخر عنها
رتبة. ولا وجه لانحصار التعارض بهما ويكون الثالث مرجعا في فرض
تساقطهما.
لكن لا إشكال ظاهرا بين أهل الاستدلال - تبعا للمرتكزات - في كون
العام مرجعا مع تعارض الخاصين وتساقطهما، مع مشاركته لهما في ملاك
الحجية وهي الظهور، وفي كونه من الطرق التي هي في مرتبة واحدة، كما تقدم.
وربما علل ذلك بأقوائية ظهورهما من ظهوره، بأن يكون المعيار في
خروج الثالث عن التعارض ومرجعيته بعد سقوط المتعارضين كونه أضعف
ظهورا منهما، فيكون متأخرا رتبة عنهما، حيث يلزم تنزيله على ما هو الأقوى
دلالة لو عارضه، فيكون ملاك الترتب في المقام أقوائية الظهور. فمثلا: لو
تعارض دليلان نصان في الوجوب وعدمه، وكان هناك دليل ظاهر فيه، كان هو
المرجع بعد تساقطهما، لا طرفا للمعارضة معهما.
ويشكل: بأن تأخر الأضعف دلالة على الأقوى رتبة ولزوم حمله عليه
إنما يكون عرفا من باب ترجيح أقوى الحجتين وقرينية الأظهر على الظاهر في
127

الكشف عن مراد المتكلم، وهو إنما يكون مع حجية الأقوى في نفسه، ومع
معارضته بمثله لا وجه للحكم بحجيته، بل هو كالأضعف داخل في عموم
حجية الظهور لولا المعارضة، وخارج عنه بملاحظتها. على أن المعيار المذكور
بعيد عن المرتكزات وعن سيرة أهل الاستدلال.
ولا يبعد أن يكون المنشأ في خصوصية العام ومرجعيته بعد تساقط
الخاصين أن تميزهما عنه ليس بمحض أقوائية الظهور، بل بدلالتهما على
خصوصية زائدة على مفاده، وهي خصوصية موردهما في ثبوت الحكم وعدمه،
لا من حيثية كونه فردا للعام، فمع تكاذبهما في ذلك وسقوطهما بالمعارضة لا
يبقى مخرج عن مفاده، وهو ثبوت الحكم في موردهما من حيثية كونه فردا
للعام، بل يبقى على حجيته في ذلك. فلاحظ.
ثم إن الكلام في مرجعية العام أو غيره من الأدلة مع تعارض الدليلين
المساويين لهما في الرتبة إنما هو في فرض اقتضاء التعارض التساقط - الذي
يأتي أنه الأصل في المتعارضين - أما في فرض عدم اقتضائه لذلك، إما للبناء
على التخيير، أو لكون الثالث مرجحا لاحد المتعارضين، كموافقة الكتاب
الشريف في تعارض الخبرين فلا موقع لما سبق، حيث يكون أحد المتعارضين
بنفسه مرجعا في المورد.
128

الباب الثاني
في الأدلة المتعارضة
وهي التي يكون تعارضها بلحاظ عموم دليل الحجية، لتنافي مفادي
الدليلين مع تمامية عموم دليل التعبد في كل منهما.
ولا يكفي فيه تنافي مضمونيهما إذا استلزم قصور عموم دليل الحجية عن
أحدهما بخصوصه، كما في موارد الجمع العرفي، بل يدخل ذلك في الباب
الأول، كما سبق.
وينبغي تقديم أمور تنفع في المقام..
الامر الأول: أن الكلام يجري في كل تعبدين متنافيين في مقام العمل -
كما سبق في الامر الرابع من التمهيد لبحث التعارض - من دون فرق بين الأدلة
الاجتهادية والأصول العملية، ولا يختص بالأولى، فضلا عن أن يختص
بالاخبار، وإن اختصت بها بعض الأحكام تبعا لاختصاص أدلتها بها.
نعم، لما كان منشأ استفادة التعبد الظاهري من الأصل منحصرا بتطبيق
عموم دليل التعبد به على المورد كان مرجع التعارض بين الأصلين إلى التعارض
في تطبيق عموم دليل التعبد، وينحصر علاجه برفع اليد عن أحد التطبيقين
الراجع إلى تخصيص عموم دليل التعبد.
أما الدليل الاجتهادي فحيث كانت استفادة التعبد الظاهري منه مبتنية على
كل من أصالة الصدور والظهور والجهة، كان مرجع التعارض بين الدليلين
129

الاجتهاديين إلى التعارض بين الأصول المذكورة بمجموعها في كل منهما،
ويمكن علاجه برفع اليد عن أحدها في أحد الدليلين.
ومن ثم اختلفت المرجحات المذكورة في النصوص سنخا.
ومنه يظهر أنه يمكن فرض التعارض في الدليل المقطوع صدورا أو دلالة
أو جهة، فإن القطع من بعض الجهات إنما يمنع من جريان الأصل الجاري في
تلك الجهة، فينحصر التعارض في الجهات الاخر.
نعم، يمتنع فرضه في الدليل القطعي المضمون، والذي يكون قطعيا من
جميع الجهات المذكورة، لاستحالة جعل الحجة في قبال القطع، كما يستحيل
القطع بالمتنافيين، ومن ثم لا تكون الأدلة اللبية معارضة بمثلها ولا بغيرها.
الامر الثاني: أنه لا يعتبر في دخول الأدلة اللفظية في محل الكلام تعذر
الجمع بينها لنصيتها، بل يكفي عدم وضوح كيفية الجمع وان كان ممكنا
بنظرهم، لامكان حمل كل منهما بنظرهم على ما لا ينافي الاخر.
وبعبارة أخرى: تعارض الدليلين يكون..
تارة: مع وضوح كيفية الجمع بينهما للعرف، كالعام والخاص.
وأخرى: مع تعذره بنظرهم، لنصية كل منهما في خلاف مفاد الاخر.
وثالثة: مع إمكانه بنظرهم، من دون أن يتضح وجهه عندهم، بل يتردد
بين وجهين أو أكثر، كالعامين من وجه.
ولا إشكال في خروج الأول عن محل الكلام ودخوله في الباب الأول،
كما سبق في بحث الجمع العرفي.
كما لا إشكال في دخول الثاني في محل الكلام. وهو الظاهر في الثالث
أيضا، لان توقف العرف عن الجمع راجع إلى عدم ارتفاع موضوع أصالة الظهور
في كل منهما بسبب الاخر، فيتعارض الظهوران.
وما قيل: من أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح، قد سبق
130

الكلام فيه في الامر السادس من التمهيد لبحث التعارض. فراجع.
نعم، قد يختلف هذا القسم عن القسم الثاني في بعض الخصوصيات،
على ما يأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.
الامر الثالث: الكلام في الأدلة المتعارضة لما كان من حيثية حجيتها بعد
فرض التعارض، فالمناسب الكلام..
أولا: في مقتضى الأصل في المتعارضين بلحاظ أدلة الحجية الأولية،
وأنها هل تقتضي التساقط أو التخيير أو الترجيح.
وثانيا: في مقتضى الأدلة الخاصة الدالة على حكم التعارض بين الأدلة
وفي تحقيق مفادها.
فيقع الكلام في مقامين..
131

المقام الأول
في مقتضى الأصل في المتعارضين
والظاهر أن مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين التساقط، لا التخيير ولا
الترجيح.
ووجهه ظاهر فيما إذا كان دليل حجيتهما لبيا أو لفظيا لا إطلاق له يشمل
صورة التعارض، حيث يكون المرجع فيها أصالة عدم الحجية في كل منهما،
سواء كان دليل الحجية تعبديا كالاجماع، أم ارتكازيا كسيرة العقلاء على حجية
الظواهر وأصالة الجهة، فإن الثاني وان أمكن أن يحرز به تحقيق مقتضي الحجية
في حال التعارض، إلا أن الغرض المهم في المقام لما كان هو إحراز الحجية
الفعلية لزم الرجوع لدليلها فمع فرض عدم وفائه بها في فرض التعارض يلزم
البناء على عدمها.
نعم، إذا كان مقتضى دليل الحجية في خصوص مورد التخيير أو الترجيح
لزم البناء على ذلك، وخرج عن محل الكلام من فرض الشك، نظير ما سبق في
موارد الجمع العرفي من ترجيح أقوى الظهورين.
وأما إذا كان دليل الحجية لفظيا له عموم أو إطلاق يشمل صورة التعارض
فلامتناع حجية كلا المتعارضين لاستلزامه التعبد الظاهري بالضدين، بل
بالنقيضين بلحاظ المدلول الالتزامي لكل منهما، وهو ممتنع بملاك امتناع
جعلهما واقعا، لتقوم الأحكام التكليفية بنحو اقتضائها للعمل، وتضادها إنما هو
بلحاظ اختلافها في ذلك، ومن الظاهر أن اقتضاء التعبد الظاهري بالحكم للعمل
133

مماثل لاقتضاء نفس الحكم له، وإن كان في طوله بلحاظ طريقيته له، فيستحيل
حجية كلا المتعارضين.
كما لا مجال لاختصاص الحجية بأحدهما، لعدم المرجح بالإضافة لعموم
دليلها بعد فرض اشتراكهما في الدخول تحته لتحقق عنوانه في كل منهما، وفي
الجهة المانعة من فعلية حكمه فيهما معا، وهو التعبد بالضدين أو النقيضين،
على ما يأتي توضيحه في التنبيه الثاني، فيتعين سقوطهما معا عن الحجية الراجع
لخروجهما عن عموم دليلها تخصيصا.
وليس منشأ ذلك العلم الاجمالي بكذب أحد التعبدين، إذ هو لا يوجب
ارتفاع موضوع التعبدين وهو الشك، ولا يمنع منهما إلا في ظرف لزوم مخالفة
تكليف معلوم بالاجمال كما ذكر في محله.
وبالجملة: كما يمتنع جعل النقيضين أو الضدين في مقام الثبوت يمتنع
التعبد بهما ظاهرا في مقام الاثبات.
إن قلت: هذا إنما يمنع من حجية كل منهما والتعبد بمضمونه تعيينا في
فرض التعارض دون حجيتهما والتعبد بكل منهما تخييرا، فيتعين البناء على
ذلك أخذا بعموم دليل الحجية والتعبد بالقدر الممكن، واقتصارا في الخروج
عنه على ما يتعذر البناء عليه وهو الحجية والتعبد التعيينيان.
قلت: لما كان مفاد أدلة الحجية والتعبد هو الحجية والتعبد تعيينا، فالبناء
على الحجية والتعبد التخييرين يبتني على أحد أمرين لا مجال للبناء عليهما..
الأول: كون التخيير في الحجية والتعبد شرعيا وفي مقام الجعل راجعا إما
إلى تقييد إطلاق الحجية في كل من المتعارضين بما إذا اختاره المكلف أو لم
يختر الاخر، بحيث لا يكون حجة مع عدم اختياره أو مع الاخذ بالآخر
المعارض له.
واما إلى جعل كل منهما حجة للمكلف في مقام التعذير ومجموعهما
134

حجة عليه في مقام التنجيز، فله العمل على كل منهما وليس له الخروج عنهما.
فإن التعبد والحجية وإن كانا نحو نسبة اعتبارية بين المولى والعبد تقتضي
التنجيز والتعذير معا بمقتضى إطلاقها، إلا أنه لا يمتنع التفكيك بينهما في مقام
الجعل، بأن تتمحض في التعذير فتكون حجة للعبد فقط، أو التنجيز فتكون
حجة للمولى كذلك.
كما لا يمتنع الاختلاف بين الامرين سعة وضيقا، كما هو المدعى في
المقام، بأن يكون التعذير منوطا بكل من المتعارضين استقلالا، فيجوز اعتماد
المكلف عليه، والتنجيز منوطا بمجموعهما فلا يجوز له الخروج عنهما معا، وان
جاز له الخروج عن كل منهما مع متابعة الاخر، مع كون الحجية على هذا النحو
من التفكيك فعلية غير منوطة باختيار المكلف للحجة ولا بعدم أخذه بغيرها.
ولعل هذا أقرب من الأول ارتكازا في معنى الحجية التخييرية لو دل
الدليل عليها، لعدم مناسبة الحجية التي هي من شؤون المولى للتقييد باختيار
المكلف ارتكازا. بل الظاهر فعليتها وان لم يختر لغفلته عن المتعارضين أو
جهله بثبوت الحجية التخييرية لهما.
وربما يأتي عند الكلام في دلالة الأدلة الخاصة على الحجية التخييرية
تمام الكلام في ذلك.
وكيف كان، فحيث كان عموم دليل الحجية ظاهرا في الحجية التعيينية
كانت استفادة الحجية التخييرية في المتعارضين بأحد وجهيها منه موقوفة على
كون امتناع حجيتهما تعيينا معا قرينة عرفية غلى تنزيله على الحجية التخييرية
فيهما، التي هي نحو من التقييد في الحجية.
لكنه غير ظاهر، بل الأقرب عرفا خروج كلا المتعارضين عن الحجية
الفعلية مع ثبوت الحجية الاقتضائية لكل منهما الراجعة إلى حجية كل منهما لولا
المانع، لان ذلك هو الأنسب بالقياس للحجج العرفية.
135

ومجرد كون الحجية التخييرية أقل تخصيصا منه لما فيها من إعمال عموم
الحجية الفعلية في المتعارضين في الجملة. لا يقتضي تعينها بعد أن لم يكن
التنزيل عليها عرفيا، والا أمكن إعماله فيهما بوجوه أخرى، كإناطة تعيين الحجة
منهما باختيار غير المكلف، أو بالقرعة، واخراج أحدهما عن الاطلاقات وابقاء
الاخر تحتها بنحو يكون هو الحجة تعيينا، واخراج أحدهما في بعض الأحوال
والاخر في أحوال اخر، إلى غير ذلك مما يرجع إلى إعمال العموم في
المتعارضين في الجملة وعدم خروجهما معا عنه رأسا، ولا معين للحمل على
الحجية التخييرية من بينها مع اشتراكها في كون الحمل عليها غير عرفي، بل
المتعين ما ذكرنا.
الثاني: كون التخيير في العمل بالحجة عقليا، بدعوى: أنه لما كان العمل
بالحجة واجبا وتعذر العمل بكلتا الحجتين المتعارضتين تعين عقلا التخيير بين
العمل بكل منهما ولم يجز إهمالهما معا، كما هو الحال في سائر موارد التزاحم
بين التكليفين.
وفيه: أن وجوب العمل بالحجة ليس شرعيا، بل هو عقلي طريقي تابع
لمنجزيتها، متفرع على حجيتها، ولا مجال لثبوته في المتعارضين بعد ما سبق
من امتناع حجيتهما معا.
ولولا ذلك لزم اختصاص التخيير بما إذا تعذرت موافقة كلا المتعارضين،
دون ما إذا أمكن الاحتياط بموافقتهما معا، لكون أحدهما ترخيصيا لا يقتضي
العمل، حيث لا يصلح الا اقتضائي لمزاحمة الاقتضائي، بل يتعين فعلية
الاقتضائي ومتابعة الحجة التي دلت عليه، وكذا لو كانا اقتضائيين وكان أحدهما
الزاميا دون الاخر - كما لو دل أحدهما على حرمة شئ والاخر على استحبابه -
حيث يقدم الإلزامي عند التزاحم.
هذا، ولا يفرق في ما ذكرنا بين القول بالطريقية المحضة، والقول بالسببية
136

بأنحائها من التصويب المنسوب للأشاعرة، والتصويب المنسوب للمعتزلة،
والمصلحة السلوكية الراجعة إلى أن في متابعة الطريق مصلحة يتدارك بها ما
يفوت من مصلحة الواقع في فرض الخطأ.
ومجرد كون قيام الطريق على السببية موجبا لحدوث ملاك مقتض للعمل
على طبقه. لا يقتضي التزاحم - الموجب للتخيير عقلا - عند تعارض الطريقين،
لان السببية بجميع وجوهها لا تقتضي لزوم متابعة الطريق بذاته، بل في فرض
حجيته والتعبد الشرعي بمضمونه، فمع فرض استحالة حجية المتعارضين
وقصور دليل الحجية عن شمولهما لا مجال لفرض السببية التي يبتني عليها
التزاحم المدعى.
ودعوى: أن الالتزام بالسببية إنما هو لتصحيح الامر بسلوك الطريق
والعمل على طبقه، إذ مع فرض حجية الطريق ووجوب العمل به في مرتبة
سابقة على السببية لا يبقى ملزم بالسببية وموجب للبناء عليها، فلابد من كون
موضوع السببية هو الطريق بذاته لا من حيثية حجيته، فامتناع حجية
المتعارضين واستحالة التعبد بمضمونهما لا ينافي السببية في كل منهما التي هي
المنشأ لفرض التزاحم.
مدفوعة: بأن الالتزام بالسببية وإن كان لتصحيح حجية الطريق والامر
بسلوكه ومتابعته، إلا أنه لدفع محذور تفويت الواقع من العمل به مع فرض
إمكان حجيته ثبوتا وقيام الدليل عليها إثباتا لولا ذلك، فمع فرض امتناع حجية
المتعارضين مع قطع النظر عن محذور تفويت الواقع لا مجال لاحراز السببية
ليحرز كون المورد من موارد التزاحم.
هذا، ولو غض النظر عن ذلك تعين كون المورد من موارد التزاحم
الملاكي، بناء على السببية الراجعة لتصويب الأشاعرة أو المعتزلة المبنية على
كون الملاكات والاحكام الواقعية على طبق الطرق. من دون فرق بين اتحاد
137

موضوع المتعارضين - كما لو دل أحدهما على حرمة شئ والاخر على وجوبه
أو عدم حرمته - وتعدده - كما لو دل أحدهما على وجوب القصر والاخر على
وجوب التمام - لرجوع الثاني للأول - بلحاظ الدلالة الالتزامية لكل منهما، وقد
سبق عند الكلام في التزاحم أنه مع اتحاد الموضوع يتعين كون التزاحم ملاكيا.
أما بناء على السببية بمعنى المصلحة السلوكية فيكون التزاحم حكميا
مطلقا، لان موضوع الملاك هو متابعة الطريق والتعبد الشرعي، لا الواقع المحكي
به، والمفروض تعدد الطريقين وإن اختلفا في حكم الموضوع الواحد.
ولازم ذلك تعين الطريق المؤدي للحكم الاقتضائي للعمل لو عورض بما
يؤدي للحكم غير الاقتضائي، وتعين الطريق المؤدي للحكم الإلزامي لو
عورض بما يؤدي للحكم غير الإلزامي، لان متابعة الاقتضائي والالزامي لا تنافي
متابعة اللاقتضائي وغير الإلزامي. وينحصر التخيير بما إذا اشتركا في الاقتضاء
والالزام أو عدمهما.
هذا بناء على عموم المصلحة السلوكية واقتضائها العمل على طبق
الطريق، أما بناء على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته، حيث يكون
بها تداركه دون غيره مما لا يفوت به الواقع، لموافقته له أو لعدم متابعته،
فالمتعين التخيير مطلقا، لكن لا بملاك التزاحم، بل لان متابعة كل من
المتعارضين وإن لم يكن مضمونه اقتضائيا إما موجبة لتحصيل الواقع أو
لتداركه، من دون أن تكون هناك مصلحة أخرى مزاحمة له.
ودعوى: أن ذلك لازم حتى على فرض عموم المصلحة السلوكية
واقتضائها العمل على طبق الطريق، فيتعين التخيير مطلقا.
مدفوعة: بأن تدارك فوت الواقع بالطريق إنما يقتضي التخيير بين
الطريقين من حيثية الواقع المفروض دوران الامر بين تحصيله وتداركه. أما من
حيثية مصلحة السلوك المفروض تحققها في كل من المتعارضين فالمتعين
138

البناء على التزاحم المستلزم لترجيح الإلزامي والاقتضائي، لما سبق.
ومن هنا لا يتجه البناء على التخيير العملي بين المتعارضين مطلقا إلا على
الوجه الذي ذكرناه، المبتني..
أولا: على السببية الراجعة للمصلحة السلوكية.
وثانيا: على أن موضوعها ذات الطريق مع قطع النظر عن حجيته.
وثالثا: على اختصاصها بالطريق إذا فات الواقع بمتابعته.
والأولان مخالفان للتحقيق، والثالث متفرع على الأول. ومن ثم لا ينبغي
إطالة الكلام في ذلك بتعقيب ما ذكروه في المقام.
وقد تحصل مما تقدم أن عموم الحجية يقصر عن المتعارضين، وأن
مقتضى المرتكزات العرفية البناء على ثبوت مقتضي الحجية فيهما، لتحقق
موضوعها بالنظر للعموم المذكور، وإن كان التعارض مانعا عن فعليتها في كل
منهما، لاشتراكهما في المانع المذكور من دون مرجح لأحدهما، وهو الحال فيما
إذا كان دليله لبيا ارتكازيا، وأما إذا كان لبيا تعبديا فلا طريق لاحراز المقتضي فيه،
إلا أنه ليس منه شئ من الحجج التي بأيدينا.
هذا، وقد أشار المحقق الخراساني قدس سره لتقريب أصالة التساقط في
المتعارضين بأنه حيث يمتنع حجية معلوم الكذب من الطرق، وكان تعارض
الطريقين مستلزما للعلم بكذب أحدهما إجمالا، لزم العلم بقصور عموم الحجية
عن أحدهما دون الاخر، وحيث كان معلوم الكذب مرددا بينهما كان المورد من
موارد اشتباه الحجة باللاحجة، الموجب لسقوط كل منهما عن الحجية في
خصوص مؤداه، وان وجب ترتيب الأثر المشترك لحجية كل منهما، لفرض
حجية أحدهما.
وبذلك يختلف عن الوجه الذي ذكرناه. كما يختلفان في أن عدم
حجيتهما معا على ما ذكرنا لوجود المانع مع تمامية المقتضي فيهما معا، كما
139

سبق، أما على ما ذكره فلعدم تمامية المقتضي في أحدهما، لخروجه موضوعا
عن عموم دليلها.
ويشكل: بأن مرجع العلم الاجمالي بكذب أحدهما إلى كون معلوم
الكذب هو أحدهما على ما هو عليه من ترديد وإبهام من دون أن ينطبق على كل
منهما بخصوصيته، بل كل منهما بخصوصيته محتمل الكذب لا غير.
وبعبارة أخرى: المتصف بالكذب وان كان هو مصداق أحدهما
بخصوصيته وواقعه، وهو قابل للجهل والاشتباه، إلا أن معلوم الكذب منهما
ليس كذلك، بل هو لا ينطبق على كل منهما بخصوصيته لتعلق العلم الاجمالي
بعنوان أحدهما على ما هو عليه من التردد والابهام بنحو لا يقبل الانطباق على
كل من الخصوصيتين، كما اعترف قدس سره به في الجملة في مبحث الواجب
التخييري، ومن الظاهر أن عموم الحجية إنما يقتضي حجية كل فرد من أفراد
الطريق بخصوصيته من دون إبهام وترديد، فلا ينطبق معلوم الكذب إجمالا على
شئ من أفراد العام ليمتنع شمول العموم له، وانما ينطبق عليه الكاذب واقعا.
ومجرد الكذب من دون أن يكون معلوما لا يمنع عن الحجية، ليلزم
تخصيص عموم الحجية وقصوره عن الفرد المذكور، ويكون المورد من موارد
اشتباه الحجة باللاحجة. والا لزم قصور موضوع الاستصحاب عن بعض أطراف
العلم الاجمالي وإن لم يكن منجزا - لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء - مع
أنه قدس سره اعترف بتحقق موضوعه فيها مطلقا وان كان منجزا.
ثم إن ما ذكره قدس سره لو تم مختص بما إذا احتمل كذب كلا المتعارضين، أما
إذا علم بصدق أحدهما وكذب الاخر فاللازم خروجهما معا عن عموم دليل
الحجية، إذ كما يمتنع حجية معلوم الكذب يمتنع حجية معلوم الصدق، فإذا
فرض انطباق معلوم الكذب على أحدهما كان معلوم الصدق منطبقا على الاخر،
فلا يشملهما العموم معا.
140

وربما يظهر الأثر لذلك في بعض التنبيهات الآتية، على ما نتعرض له إن
شاء الله تعالى.
وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: التعارض بين أكثر من دليلين ينشأ..
تارة: من منافاة مؤدى كل منها لمؤدى غيره، كأدلة وجوب الشئ
وحرمته وإباحته.
وأخرى من منافاة مؤدى كل منها لمجموع مؤدى الباقي، كأدلة وجوب
القصر ووجوب الصيام والتلازم بين القصر والافطار.
أما الأول فلا ينبغي التأمل في جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم،
بل هو راجع للتعارض بين دليلين، غايته أن عدم المرجح لاحدها بالنحو
الموجب لملاحظة التعارض بين اثنين منها وتساقطهما، ثم الرجوع للثالث،
موجب لسقوط الكل.
وأما، الثاني فالظاهر جريان أصالة التساقط فيه بالوجه المتقدم أيضا..
أما على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في تقريبها فظاهر، للعلم إجمالا
بكذب أحدها، المستلزم لخروجه عن الحجية، واشتباه الحجة باللاحجة في
المورد.
وأما على ما ذكرنا فلان المدلول الالتزامي لكل منها كذب أحد الأدلة
الباقية إجمالا، كما أن المدلول الالتزامي لمجموع الأدلة الباقية كذبه بعينه،
فالتعبد به معها تعبد بالنقيضين. وبهذا يفترق المقام عن جريان الأصول في
أطراف العلم الاجمالي، الذي تقدم في محله جوازه في الجملة، لعدم حجية
الأصول في لازم مجراها، فلا تناقض بين المعلوم بالاجمال ومفاد الأصول.
ولو فرض حجيتها في لازم مجراها فالتناقض بينه وبين المعلوم
بالاجمال وإن كان حاصلا، إلا ان المعلوم بالاجمال ليس موضوعا للتعبد
141

الشرعي، ليلزم التعبد بالنقيضين. غاية ما يلزم هو العلم بكذب أحد الأصلين
على ما هو عليه من الابهام والترديد، من دون أن ينطبق على كل منهما بعينه،
ليوجب خروجه عن موضوع الأصل.
نعم، بناء على حجية الأصل في لازم مجراه قد يلزم في مورد العلم
الاجمالي التكاذب بين الأصلين فيدخل في التعارض بين الدليلين.
هذا، ولو فرض ترجيح أحد الأدلة المتعارضة تمحض التعارض في
الباقي، فلو فرض في المثال السابق ترجيح دليل التلازم بين القصر والافطار كان
دليل القصر بمدلوله الالتزامي مكذبا لدليل الصيام وبالعكس، إذ بعد فرض
ثبوت الملازمة - بمقتضى فرض حجية الثالث - يكون الدليل على أحد
المتلازمين دليلا على الثاني ونافيا لضده.
ومن هنا يظهر أنه لا يعتبر في التعارض بين الأدلة كون مؤدى كل منها
موردا للتعبد الشرعي، فلو فرض عدم كون بعضها موردا للتعبد - إما لعدم وروده
في أمر عملي، بل في قضية تاريخية تستلزم حكما شرعيا، أو لخروج مورده عن
ابتلاء المكلف - كان طرفا للمعارضة بلحاظ مدلوله الالتزامي المناقض لباقيها.
نعم، لابد من كونه حجة في لازم مؤداه، وإلا لم يجر الوجه المتقدم، لعدم
التناقض ولا التضاد بين المؤديات، لوضوح أنهما إنما يقومان بطرفين لا أكثر،
بخلاف التعارض بين دليلين، حيث يمكن تناقض مؤدييهما وإن لم يكونا حجة
في اللازم.
الثاني: تنافي التعبدين الظاهريين ينشأ..
تارة: من تنافي مضمونيهما ثبوتا، كما لو كانا متناقضين أو متضادين، ولو
بلحاظ المدلول الالتزامي.
وأخرى: من مانع خارجي، كما في التعبد بالترخيص في تمام أطراف
العلم الاجمالي، لوضوح أنه لا محذور في الترخيص في تمام الأطراف واقعا،
142

وإنما يمتنع ظاهرا بلحاظ منجزية العلم الاجمالي.
أما الأول فهو المتيقن من محل الكلام.
وأما الثاني فقد سبق في الامر الرابع من التمهيد أنه لابد في صدق
التعارض من تنافي المضمونين، ولازم ذلك عدم صدقه فيه، إلا أنه تكرر في
كلماتهم إطلاقه. وكأنه بلحاظ تنافي الجعلين، لامتناع الجمع بينهما ولو بلحاظ
المانع الخارجي المذكور.
وكيف كان، فالظاهر جريان ما سبق في وجه أصالة التساقط فيه، أما بناء
على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فظاهر، للعلم بكذب أحدهما، كما أشرنا إليه
عند التعرض لكلامه، وذكرنا أن لازمه عدم تحقق موضوع أحد الأصلين مع
العلم بكذب أحدهما إجمالا مطلقا وان لم يكن منجزا. فراجع.
وأما بناء على ما ذكرنا فلانه وان لم يلزم من التعبد بهما معا التعبد
بالضدين أو النقيضين، إلا أن المفروض امتناع جعل كلا التعبدين، وحيث لا
مرجح لأحدهما، لاشتراكهما في شمول عموم التعبد لهما ذاتا، وفي الجهة
المانعة من فعلية التعبد، وهي مخالفة العلم الاجمالي، تعين سقوط التعبد عن
الفعلية فيهما معا.
وقد سبق في أول الكلام في مباحث العلم الاجمالي تفصيل الكلام في
قصور الأصول عن أطراف العلم الاجمالي. فراجع.
وهكذا الحال في سائر موارد عدم شمول العموم لكلا الفردين لجهة
قائمة بهما معا، فإن عدم المرجح لأحدهما يقتضي سقوط حكم العام عنهما معا
وإن كفى في رفع المحذور سقوطه عن أحدهما.
أما إذا كانت الجهة مانعة من شمول أحدهما بعينه وخصوصيته وترددت
بينهما، فإن مقتضى أصالة العموم بقاء أحدهما تحت العام، واقتصار التخصيص
على أحدهما، ويكون من اشتباه الحجة باللاحجة.
143

وكذا لو تردد حال الجهة الموجبة للتخصيص بين الوجهين، للزوم
الاقتصار في التخصيص على المتيقن.
ولا مجال لتخيل أن عدم المرجح لأحدهما يقتضي قصور العموم عنهما
معا. لفرض المرجح لأحدهما يقينا في الأول، وبمقتضى أصالة العموم في
الثاني.
غايته أنه لا طريق لتعيين الراجح، وهو لا يقتضي الحكم بالتخصيص في
كلا الفردين، بل عدم تعيين مورده منهما، الراجع لما ذكرنا. من اشتباه الحجة
باللاحجة.
بخلاف محل الكلام في المقام، لفرض العلم فيه بعدم المرجح لاحد
الفردين في الجهة الموجبة للتخصيص، كما سبق.
نعم، قد يحتمل وجود مرجح لأحدهما خارج عن تلك الجهة قابل
للاجتماع معها، بلحاظ أنها إنما تقتضي أولا وبالذات عدم الجمع بين الفردين
في الدخول في حكم العام، لا خروجهما معا عنه، وحيث كان المرجح المذكور
من سنخ المانع عن تأثير تلك الجهة، فلا مجال للتعويل عليه في الحكم بدخول
أحد الفردين إجمالا تحت العام، بل يحكم بخروجهما معا ما لم يثبت المرجح
المذكور.
وإن شئت قلت: حيث سبق أن المناسبات الارتكازية العرفية تقتضي
البناء على حجية كل من المتعارضين اقتضاء لا فعلا لمانعية الاخر له قياسا على
الحجج العرفية، فترجيح أحدهما وثبوت الحجية الفعلية له لما كان مخالفا
للارتكاز المذكور احتاج لدليل.
وقد ظهر من ذلك: أن نفي المرجح في المقام لاحد الفردين إنما هو
بلحاظ الجهة المانعة من العموم، لا مطلقا ومن جميع الجهات، والا فهو محتمل
لا محرز لعدمه. غاية الامر أنه لا يعول على احتماله في البناء على دخول أحد
144

الفردين إجمالا تحت العام بعد اشتراكهما في الجهة المانعة من العموم لهما معا.
فلا حظ.
الثالث: لا فرق في جريان أصالة التساقط في المتعارضين بين التساوي
في التخصيص اللازم من سقوط كل منهما عن الحجية والتفاضل فيه، لزيادة
أحد طرفي التعارض كمية أو دليلا، فكما يكون الأصل التساقط عند معارضة
صحيحة لأخرى، يكون هو الأصل عند معارضة صحيحتين لصحيحة ثالثة،
وعند معارضة صحيحة لموثقة، وإن كانت الصحيحة مشاركة للموثقة في أدلة
الحجية وتزيد عليها بدليل حجية خبر العادل أو المؤمن.
لعدم وضوح مرجحية الكمية في نفس المتعارضين أو في دليل
حجيتهما، وقد سبق في التنبيه الثاني أن احتمال الترجيح ما لم يثبت لا يعتد به.
وما اشتهر من لزوم الاقتصار على أقل التخصيص عند الدوران بينه وبين
الأكثر، إنما هو مع العلم بمورد التخصيص الأقل والشك في ما زاد عليه، حيث
تسقط أصالة العموم بالإضافة للأقل بالعلم، ويشك في الخروج عنها في الزائد،
لا مع الدوران بين تخصيصين أحدهما أكثر من الاخر، من دون مورد متيقن
للتخصيص الأقل، كما هو نظير المقام.
نعم، إذا أوجبت الكثرة في أحد الطرفين ارتفاع موضوع الحجية في
الاخر، للقطع بخطئه أو نحوه، تعين العمل بالأكثر. لكنه خارج عن فرض
التعارض بين الحجتين.
الرابع: لا فرق في جريان أصالة التساقط بالوجه المتقدم بين مقطوعي
الصدور دون الدلالة، ومقطوعي الدلالة دون الصدور، ومظنوني الصدور
والدلالة، والمختلفين.
غايته أن طرف المعارضة في المقطوع من إحدى الجهتين هو دليل
الحجية في الجهة الأخرى، وفي المظنون منهما معا هو دليل الحجية من
145

الجهتين، وقد عرفت في الامر السابق عدم الترجيح بكمية أدلة الحجية.
ولا مجال لترجيح مقطوعي الصدور أو الدلالة على غيرهما بلحاظ عدم
صلوح المظنون لمعارضة المقطوع، لان طرف التعارض في المقطوع لا يكون
هو الجهة المقطوعة، من الدلالة أو الصدور، بل الجهة الأخرى غير المقطوعة.
نعم، يخرج عن ذلك موارد الجمع العرفي بالملاك المتقدم.
كما لا مجال لما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من عدم التساقط في مقطوعي
الصدور، مظنوني الدلالة، بل يجب الاخذ بهما معا مع تأويلهما وصرفهما عن
ظاهرهما، بل ظاهره الاتفاق على ذلك.
لان صرفهما عن ظاهرهما إن كان بنحو الجمع العرفي خرج عن محل
الكلام من فرض استحكام التعارض، وان كان بنحو التأويل والجمع التبرعي،
فلا دليل عليه، بل الدليل على عدمه، لما سبق عند الكلام في قاعدة: إن الجمع
مهما أمكن أولى من الطرح.
والاتفاق إنما هو على عدم العمل بظاهرهما، لفرض تعارضهما، وعدم
الحكم بكذب أحدهما، لفرض القطع بصدورهما، لا على العمل بهما بعد
التأويل بنحو يستكشف منهما مراد المتكلم، بل يتعين تساقطهما وعدم
صلوحهما لبيان مراده، بل يرجع فيه لدليل اخر إن كان.
الخامس: أصالة التساقط في المتعارضين هل ترجع إلى سقوطهما عن
الحجية مطلقا أو في خصوص ما ينفرد به كل منهما مع حجيتهما في ما يشتركان
فيه، وهو نفي الثالث؟
لا ينبغي التأمل في الثاني بناء على ما سبق من المحقق الخراساني قدس سره في
تقريب أصالة التساقط من كون المورد من موارد اشتباه الحجة باللاحجة،
لوضوح أن اشتباه الحجة منهما لا يوجب سقوطه في القدر المشترك بينهما،
فيكون هو الحجة على نفي الثالث، كما صرح به قدس سره. بل عن بعضهم أن كلا منهما
146

يكون حجة عليه حينئذ بمقتضى مدلولهما الالتزامي، بناء على ما يأتي الكلام
فيه من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية. ويأتي
الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى في المبنى المذكور.
وأما بناء على ما ذكرنا من سقوطهما معا عن الحجية فلا ينبغي التأمل
أيضا في نفي الثالث لو علم إجمالا بصدق أحدهما. لكنه راجع للعلم بنفيه، لا
لحجيتهما في ذلك.
أما لو احتمل كذبهما معا فقد اختلفت كلماتهم في ذلك فقد ذهب جماعة
إلى حجيتهما في نفي الثالث، على اختلاف منهم في عموم ذلك والتفصيل فيه،
على ما سيظهر.
قال سيدنا الأعظم قدس سره: " لأنهما وإن سقطا عن الحجية معا، لكن في
خصوص ما يتكاذبان فيه... لا ما يتفقان عليه، لعدم تكاذبهما فيه فلا يسقطان
عن الحجية فيه " وقد سبقه إلى ذلك بعض الأعيان المحققين قدس سره.
وقد يستشكل في ذلك: بأن دلالتهما على ما يتفقان فيه وهو نفي الثالث
فرع دلالة كل منهما على ما ينفرد به، لكونه لازما له، فإذا فرض تكاذبهما في ما
ينفردان فيه وسقوطهما عن الحجية فيه لعين سقوطهما عن الحجية في نفي
الثالث تبعا لذلك. ومرجع ذلك إلى سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية تبعا
للدلالة المطابقية. وقد أشار قدس سره إلى المنع من ذلك، كما هو مبنى غير واحد.
فقد ذكروا أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في
الوجود، إلا أنها غير تابعة لها في الحجية، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية
بسبب التكاذب لا يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية بعد فرض عدم التكاذب
فيها، نعم، خصه قدس سره بما إذا ساعد عليه الجمع العرفي وجعل منه المقام. وحيث
كان المبنى المذكور من أهم مباني المسألة التي تبتني عليها الأقوال فيها، كما
يبتني عليه الكلام في غير مقام فالمناسب تحقيقه والنظر في المهم من كلماتهم
147

فيه.. فاعلم أن عدم التلازم بين الدلالتين في السقوط عن الحجية هو الذي
أصر عليه غير واحد، لدعوى: لزوم الاقتصار في الخروج عن عموم الحجية
على المورد الذي يقتضيه دليل التخصيص، فقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الدلالة
الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية، أي: دلالته على المؤدى، وأما
كون المؤدى مرادا فهو مما لا تتوقف عليه الدلالة الالتزامية، فسقوط
المتعارضين عن الحجية في نسبة المؤدى للمتكلم لا يقتضي سقوطهما عن
الحجية في الدلالة الالتزامية التي يبتني عليها نفي الغالب.
وقد استشكل في ذلك غير واحد من مشايخنا..
تارة: بالنقض.
وأخرى: بالحل.
أما الأول: فقد ذكر بعض مشايخنا جملة من النقوض التي لا مجال لإطالة
الكلام فيها وفي خصوصياتها، إلا أن شيخنا الأستاذ قدس سره ذكر أنهم لا يلتزمون
بذلك في الموضوعات.
ولعل الأولى التمثيل لذلك بما يناسب ما ذكره هو وبعض مشايخنا وهو
ما لو كان في يد زيد مال مدعيا ملكيته، وقامت بينة بأنه ملك عمرو، وأخرى بأنه
ملك بكر، حيث لا يظن منهم البناء على أنه بعد تساقط البينتين في إثبات ملكية
من شهدت له يبقيان حجة في ما يتفقان فيه من المدلول الالتزامي وهو عدم
ملكية زيد، فسقط يده عن الحجية، ولا يجوز ترتيب أثر ملكيته له من جواز
شرائه منه والتصرف فيه بإذنه. ويأتي في اخر الكلام في حجة القول الأول ما
يتعلق بذلك.
وأما الثاني فبدعوى: أن المدلول الالتزامي لكل منهما ليس متحدا مع
المدلول الالتزامي للاخر، إذ مدلول كل منهما ليس هو وجود اللازم مطلقا، بل
148

خصوص الحصة المقارنة للمدلول المطابقي، فهما يتكاذبان في المدلول
الالتزامي كما يتكاذبان في المدلول المطابقي، فالمدلول الالتزامي لدليل الحرمة
مثلا هو عدم الإباحة المقارن للحرمة، لا مطلقا، كما أن مدلول دليل الوجوب
الالتزامي هو عدم الإباحة المقارن للوجوب، فمع فرض تكاذبهما في الوجوب
والحرمة يتكاذبان في عدم الإباحة الملازم لكل منهما والمدلول لدليليهما. وكما
يكون التكاذب مسقطا لهما عن الحجية في الوجوب والحرمة يكون مسقطا
لهما عنها في الحصتين الخاصتين من عدم الإباحة.
هذا حاصل ما ذكره بعض مشايخنا وحكي عن شيخنا الأستاذ قدس سره.
وأما دعوى: أن علام الإباحة لا تحصص له في نفسه، وليس اللازم لكل
من الوجوب والحرمة إلا ذاته، فيتفق فيها الدليلان معا.
فهي ممنوعة، فإن عدم الإباحة متحصص في نفسه، ولذا لو صرح في كل
من الدليلين بفرد منه لم يتفقا في مدلول واحد.
والتلازم وان كان نسبة بين الملزوم واللازم بذاتيهما، إلا أن ما يحكي عنه
الدليل على الملزوم هو خصوص ما يقارنه من أفراد اللازم.
نعم، قد يقال: التكاذب بين المتعارضين في كل من خصوصيتي اللازم لا
أثر له، لعدم إناطة الآثار العملية بالخصوصيات، بل بذات اللازم - كعدم الإباحة -
على ما هو عليه من سعة. وترتب أثر الذات على دليل الخصوصية، إنما هو
لاستلزام الذات المطلقة للخصوصية.
وحينئذ إن بني على أن تكاذب الدليلين في الملزوم مانع من حجيتهما
في اللازم لم يحتج لتحصص اللازم واثبات تكاذبهما في حصصه. والا لم ينفع
تحصصه، لأنهما وان تكاذبا في خصوصية حصصه متفقان في الحكاية عن ذاته
التي هي موضوع الأثر على ما هي عليه من سعة.
ولذا لو صرح في دليل الحجية بحجية المتعارضين في نفي الثالث لم
149

يكن ذلك راجعا إلى حجيتهما في أمر خارج عن مؤداهما ولا في أمر يتكاذبان
فيه، بل إلى التفكيك بين مؤدياتهما في الحجية وقصر حجيتهما على ما يتفقان
فلعل الأولى أن يقال: المدلول الالتزامي..
تارة: يراد به ما يساق الكلام لبيانه ببيان الملزوم، بأن يكون المتكلم في
مقام الحكاية عنه، نظير الكنايات.
وأخرى: يراد به ما لا يستفاد من الكلام إلا لمحض الملازمة الواقعية بينه
وبين مؤداه، من دون أن يكون المتكلم في مقام بيانه ولا بصدد الحكاية عنه، إما
لاعتقاده عدم الملازمة، أو غفلته عنها أو عدم تعلق غرضه ببيان اللازم.
أما الأول فيصدق عليه عنوان الخبر والشهادة وظاهر الكلام ونحوها من
موضوعات الحجية، كما تصدق على المدلول المطابقي، ويشتركان معا في
الدخول تحت عموم الحجية.
فيتجه ما سبق، في توجيه التفكيك بينهما في السقوط عن الحجية من
لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي لاختصاص المانع عن الحجية به، ويبقى
المدلول الالتزامي حجة بمقتضى العموم بعد كونه فردا اخر له في قبال المدلول
المطابقي.
وأما الثاني فلا تصدق عليه عناوين موضوعات الحجج من الخبر
والشهادة ونحوهما، لتوقفها على قصد الحكاية وبيان المؤدى، وانما بني على
الحجية فيها توسعا في إعمال عمومها في المدلول المطابقي وتبعا له، بضميمة
المرتكزات العقلائية التي يبتني عليها عموم الحجية، من دون أن يكون فردا
اخر للعموم في قبال المدلول المطابقي، على ما سبق التعرض له في لواحق
مبحث الأصل المثبت في بيان الفرق بين الامارة والأصل.
ومن هنا لا يتجه ما سبق من لزوم الاقتصار على المدلول المطابقي في
150

السقوط عن الحجية، لاختصاص منشئه به، مع الرجوع في المدلول الالتزامي
لعموم الحجية. لما عرفت من عدم كون المدلول الالتزامي فردا اخر للعموم،
ليتعين الرجوع إليه فيه عند الشك في تخصيصه.
بل لابد من ملاحظة بناء العقلاء ومرتكزاتهم في عموم الحجية للازم أو
قصورها عما إذا لم يكن الدليل حجة في المدلول المطابقي. والظاهر أنه يختلف
باختلاف منشأ عدم الحجية فيه..
فإن كان ناشئا من قصور في طريقية الطريق كان مستتبعا لعدم حجيته في
اللازم، لتفرع طريقيته عليه عندهم على طريقيته على الملزوم، سواء كان ذلك
لعدم طريقيته رأسا، كما لو علم بكذبه فيه، وإن احتمل تحقق اللازم، أم لعدم
طريقيته شرعا، كما لو شهد كل من الشاهدين بأمر مباين لما شهد به الاخر،
واشترك كلا الامرين المشهود بهما في لازم واحد، أو شهدت البينة في
الحسيات عن حدس، كالشهادة اعتمادا على الحساب بهلال شهر إذا استلزم
تعيين هلال شهر اخر، وغير ذلك.
أما إذا كان عدم حجية الطريق في المدلول المطابقي ناشئا من خصوصية
فيه يمتاز بها عن اللازم تمنع من ثبوته بالطريق من دون قصور في طريقية
الطريق ولا في كاشفيته، فلا يكون مستتبعا لعدم حجية الطريق في اللازم بعد
فرض عدم اشتماله على الخصوصية المذكورة وصلوحه لان يثبت بالطريق
المذكور، كما لو اخذ في حجية الطريق عنوان لا ينطبق على المدلول المطابقي،
كالاقرار المتقوم بكون موضوعه حقا على المقر، حيث قد لا يتضمن الخبر حقا
على المخبر بمدلوله المطابقي، بل بلازمه.
أو فرق بين الموضوعات في حجية الطريق بنحو لا ينطبق على المدلول
المطابقي، كما في السرقة التي هي موضوع الحد، حيث لا تثبت بالشاهد
واليمين، لان الحد من حقوق الله تعالى، فإنه حيث لا يرجع إلى قصور في
151

طريقية الشاهد واليمين المتضمنين للسرقة، بل لخصوصية في السرقة تمنع من
ثبوتها بهما، تعين ثبوت لازمها بها إذا كان حقا للناس، كالضمان.
إذا عرفت هذا، فالظاهر أن التعارض من القسم الأول، فإنه وان كان
سقوط الحجية معه لامتناع التعبد بالنقيضين المفروض اختصاصه بالمدلول
المطابقي، إلا أنه موجب أيضا لقصور طريقية الطريق عرفا.
فهو من سنخ المانع من الطريقية وان تم معه مقتضيها، فيتعين عدم حجية
الطريق في اللازم تبعا لسقوط حجيته في الملزوم. من دون فرق في ذلك بين
اتفاقهما في لازم واحد - كما في محل الكلام - وانفراد أحدهما بلازم لا ينافيه
الاخر، كما لو قامت إحدى البينتين على مطر السماء المستلزم لوجود السحاب،
ونفت الأخرى المطر من دون أن تنفي السحاب، أو دل أحد الدليلين على
وجوب شئ المستلزم لثبوت الملاك الصالح للتقرب والذي هو المعيار في
الاجزاء، ودل الاخر على عدم وجوبه من دون أن ينفي الملاك المذكور.
وإن ذكر سيدنا الأعظم قدس سره في مبحث اجتماع الأمر والنهي لزوم البناء
حينئذ على ثبوت الملاك لحجية الدلالة الالتزامية.
وأما ما يظهر منه قدس سره هناك من أن التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية
في الحجية في ذلك وفي المقام مقتضى الجمع العرفي.
فهو كما ترى، لوضوح أن مرجع الجمع العرفي إلى صرف الكلام عن
ظاهره واستكشاف مراد المتكلم منه بالنحو المناسب للقرينة، لا إلى عدم حجية
الكلام رأسا تخصيصا لعموم الحجية، ومن الظاهر أنه لا مجال لحمل الكلام في
المقام ونحوه على إرادة بيان اللازم دون المدلول المطابقي، بل ليس المفروض
فيه إلا سقوطه عن الحجية رأسا في المدلول المطابقي، وقد ذكرنا أن ذلك
لسقوطه عنها في المدلول الالتزامي، وعليه يبتني عدم حجية المتعارضين في
نفي الثالث.
152

نعم، إذا كان منشأ التعارض خفاء وجه الجمع العرفي بين الدليلين مع
صلوح كل منهما عرفا للقرينية على الاخر، من دون أن يتعين أحدهما للقرينية،
بحيث لا يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا، بل عن تعيينه مع تردده
إجمالا بين وجهين، تعين حجيتهما في نفي الثالث، لخروجه عن طرفي الترديد،
كما هو الظاهر في مثل العامين من وجه في مورد الاجتماع، لان العرف وان كان
يتوقف عن تحصيل المراد منهما، إلا أنه لصلوح كل منهما بنظره لتخصيص
الاخر والانفراد بمورد الاجتماع من دون أن يتعين المخصص منهما، لتساويهما
في قوة الظهور، فمورد الاجتماع مردد بينهما، لا أنهما غير صالحين لبيان
المراد رأسا.
ومرجع هذا في الحقيقة إلى عدم استحكام التعارض بينهما من جميع
الجهات، بل إلى الجمع العرفي، الذي هو خارج عن محل الكلام، غايته أنه مردد
بين الوجهين.
بقي في المقام شئ، وهو أنه يظهر من المحقق الخراساني قدس سره تقريب
تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية بأن شمول دليل
الحجية للمدلول الالتزامي إنما هو بتبع شموله للمدلول المطابقي، فمع قصوره
عن المطابقي لا معنى لاعماله في الالتزامي.
بدعوى: أن دلالة وجوب تصديق العادل مثلا على نفي ما ينافي ما أخبر
به لأجل دلالته على تصديقه في ما أخبر به، لا أنه يدل عليها في عرض واحد.
ومن هنا ذهب إلى نفي الثالث بأحدهما فقط، بناء على ما سبق منه من أن
التعارض يقتضي سقوط أحدهما عن الحجية لا غير.
ويشكل: بأن التصديق إن كان بترتيب أثر المدلول المطابقي فقط، فلا
وجه لاستتباعه نفي ما ينافيه بعد عدم الاشكال في إمكان التفكيك بين
المتلازمين في التعبد، وان كان بترتيب أثر المدلولين معا، كانا في عرض واحد
153

بالإضافة لدليل الحجية. فالعمدة ما ذكرنا.
ثم إن ظاهره انه لولا الشبهة المذكورة لكان نفي الثالث بالدليلين معا حتى
بناء على ما سبق منه من أن الساقط عن الحجية أحد المتعارضين للعلم بكذبه.
وما عن بعضهم من أنه أنكر عليه دعوى استناد نفي الثالث إلى أحدهما
فقط، بل يستند إليهما معا، لعدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن
الحجية.
إن رجع إلى انكار التبعية التي سبق منه دعواها كان إشكالا مبنائيا. وإن
رجع إلى إنكار ذلك منه حتى بناء على عدم التبعية، فلا يظهر منه قدس سره دعوى
استناد نفي الثالث إلى خصوص أحدهما بناء على عدم التبعية، بل ظاهره
استناده إليهما معا بناء على ذلك.
وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه بناء على ما سبق منه
من سقوط أحد المتعارضين عن الحجية للعلم بكذبه يتعين البناء على استناد
نفي الثالث إلى أحدهما فقط حتى بناء على عدم تبعية الدلالة الالتزامية
للمطابقية في السقوط عن الحجية، إذ مع العلم بكذب أحدهما لا يدخل في
عموم دليل الحجية رأسا حتى يفكك بين مدلوله المطابقي والالتزامي.
ففيه: أن ذلك يتم لو كان المدعى كذب أصالة الصدور في أحدهما،
لوضوح أن ما لم يصدر ليس من السنة الحجة.
لكن لا مجال لدعوى ذلك، بل ليس المعلوم إجمالا إلا كذب أحدهما
مضمونا، بمعنى عدم تحقق مضمون أحدهما المانع من قيام الحجة عليه
والتعبد به، ومن الظاهر أن معلوم الكذب هو المضمون المطابقي دون الالتزامي،
فبناء على التفكيك بينهما في السقوط عن الحجية يتعين البناء على عدم حجية
أحدهما في خصوص مضمونه المطابقي، مع حجيتهما في المضمون الالتزامي
الذي يستند إليه نفي الثالث.
154

اللهم إلا أن يفرق بين السقوط عن الحجية للعلم بالكذب، والسقوط عنها
لمحذور اخر - كالتعبد بالنقيضين اللازم في المتعارضين - فيلتزم بتبعية الدلالة
الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية في الأول دون الثاني. فلابد من بيان
الفارق بينهما. فلاحظ.
وكيف كان، فالمتحصل من جميع ما سبق: أن المتعارضين إن تصدى
أحدهما أو كلاهما لنفي الثالث، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيانه، كان أحدهما
أو كلاهما حجة في نفيه، وان استفيد نفيه منهما بمحض ملازمته لمضمون كل
منهما، فإن كان تعارضهما بنحو يمكن الجمع بينهما عرفا، لصلوح كل منهما لان
يكون قرينة على الاخر وان لم يتعين أحدهما للقرينية، بل يكون المراد مرددا
بينهما عرفا، كانا حجة في نفيه أيضا.
وإن كان بنحو يتوقف العرف عن تحصيل المراد منهما رأسا، لتعذر
الجمع عرفا بينهما، تعين عدم حجيتهما في نفي الثالث.
إذا عرفت ما هو الحق في المقام، وما يبتني عليه الكلام من حديث تبعية
الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية، فلنشر لبقية الأقوال في
المسألة مما يبتني على الحديث المذكور وعلى غيره مما يظهر عند عرضها،
وهي جملة أقوال..
الأول: الحجية مطلقا، كما يظهر من بعض الأعيان المحققين وسيدنا
الأعظم قس سره أخذا بالمدلول الالتزامي، بناء منهما على عدم سقوط الدلالة
الالتزامية عن الحجية. بتبع الدلالة المطابقية.
ويظهر ضعفه مما سبق من ضعف المبنى المذكور على عمومه، بل
سقوط الدليل عن الحجية في المدلول المطابقي مستلزم لسقوطه عنها في
المدلول الالتزامي إذا لم يكن المتكلم بصدد بيانه، بل يستفاد بمحض ملازمته
لمضمونه.
155

أما شيخنا الأستاذ قدس سره فقد بنى على عموم حجيتهما في نفي الثالث مع
الاعتراف بما ذكرنا، فقد سبقنا إلى التنبيه على تقسيم المدلول الالتزامي إلى
القسمين، أعني: ما يكون عليه دلالة مقصوده للمتكلم، وما لا يكون كذلك، بل
يستفاد من الكلام بمحض ملازمته لمضمونه، وحكم بتبعية الدلالة الالتزامية
للمطابقية في السقوط عن الحجية في الثاني، وفي الأول أيضا إذا لم تكن الدلالة
الالتزامية حجة بنفسها، لكون اللازم أمرا حدسيا لا يرجع فيه للمتكلم، كما لو
شهدت البينة بالملاقاة التي هي سبب النجاسة، فإنه لو فرض قصد الشاهدين
الاخبار عن النجاسة لا تقبل شهادتهما بها، لعدم حجيتها في الأحكام الشرعية،
وإنما يبني عليها المشهود عنده - في فرض ثبوت الملازمة عنده باجتهاد أو
تقليد - بتبع البناء على موضوعها - وهو الملاقاة - للتلازم بين التعبد بالموضوع
والتعبد بالحكم، فمع معارضة البينة على الملاقاة بالبينة النافية لها وسقوطها عن
الحجية في إثبات الملاقاة لا مجال للبناء على النجاسة، لعدم إحراز موضوعها.
أما إذا كان قول المتكلم مقبولا في اللازم، وكان اللازم من القسم الأول -
وهو الذي تكون عليه دلالة التزامية مقصودة للمتكلم - فقد ذكر قدس سره أن المتعين
التفكيك بين الدلالة الالتزامية والمطابقية في السقوط عن الحجية، نظير ما سبق
منا، وجعل من ذلك دلالة النصين المتعارضين على نفي الثالث اللازم لثبوت كل
من الحكمين اللذين تعرضا لهما بمدلولهما المطابقي لا مكان قصد
الإمام عليه السلام من بيان الحكم نفي غيره، فيكون له دلالة التزامية مقصودة، وحيث
كانت الدلالة المذكورة حجة في نفسها لقبول قوله عليه السلام في اللازم، تعين عدم
سقوطها عن الحجية وإن سقطت الدلالة المطابقية بالمعارضة.
وهذا، بخلاف تعارض البينتين في الشبهات الموضوعية، لعدم قبول قول
الشاهدين في نفي الحكم الثالث، فلا يتوجه ما سبق من النقض بعدم بنائهم على
حجية الامارات المتعارضة في الموضوعات في نفي الثالث.
156

لكنه كما ترى، إذ مجرد إمكان قصد الإمام عليه السلام من بيان الحكم نفي غيره لا
يستلزم أن يكون لكلامه دلالة التزامية مقصودة، بل لابد في إحرازها من ثبوت
تصديه لذلك وسوق كلامه لبيانه، وهو أمر زائد على مفاد الكلام مبني على مزيد
مؤنة لابد في البناء عليها من ظهور الكلام فيها بضميمة قرينة مقالية أو حالية
محيطة به، والغالب عدمه، ولا وجه معه لاطلاق حجية المتعارضين في نفي
الثالث.
كما أن عدم حجية قول الشاهدين في نفي الحكم الثالث إنما يمنع من
الحجية فيه لا في نفي الثالث إذا كان موضوعا منافيا لما شهدا به، كما لو شهدت
كل من البينتين باصطياد شخص للحيوان، وكان في يد ثالث يدعي اصطياده،
لوضوح حجية البينة في نفي اصطياد شخص المذكور، لأنه من الموضوعات
الحسية، له ان ترتب عليه الحكم بعدم ملكيته، مع عدم بنائهم على حجية البينتين
في مثل ذلك بعد تساقطهما في ما شهدا به، على ما سبق، فيتجه النقض المذكور.
الثاني: عدم الحجية مطلقا، كما يظهر من بعض مشايخنا، لتبعية الدلالة
الالتزامية للمطابقية في السقوط عن الحجية.
لكن المتيقن من مساق كلامه واستدلاله ما إذا استفيد نفي الثالث من كل
من الدليلين بمحض ملازمته لكل من الحكمين اللذين تكفلا بهما، أما لو
تصدى المتكلم لبيانه بكلامه، من باب بيان اللازم بذكر الملزوم، فلا يبعد
انصراف كلامه عنه في المقام وفي حديث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في
السقوط عن الحجية.
الثالث: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أنهما إن كانا متعارضين في
أنفسهما بالنظر لمدلوليهما كانا حجة في نفي الثالث، أخذا بالمدلول الالتزامي
بناء منه على عدم سقوطهما عن الحجية فيه، على ما سبق الكلام فيه.
وإن كان تعارضهما لأمر خارج لم يكونا حجة في نفي الثالث فلو دل
157

دليل على وجوب صلاة الظهر واخر على وجوب صلاة الجمعة، وعلم من
الخارج بعدم وجوب أكثر من صلاة واحدة تعارضا وتساقطا وجاز الرجوع
لأصل البراءة والبناء على عدم وجوب كل من الصلاتين، إذ ليس لهما مدلول
التزامي قاض بوجوب فريضة في اليوم، ليمتنع الرجوع للبراءة، بل كل منهما
يقتضي وجوب كل من الفريضتين بخصوصها، ولا يدلان على وجوب القدر
المشترك، فمع سقوطهما عن الحجية في الخصوصية لا وجه لحجيتهما في
القدر المشترك، ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما
في الجنس، فإن التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من
الألفاظ.
نعم، لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها
امتنع الرجوع للأصل، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة.
وفيه: - مع أن ذلك إنما يمنع من حجيتهما في نفي الثالث المطابق لأصالة
البراءة، لا المخالف له، كوجوب فريضة ثالثة لو فرض كونه مقتضى عموم أو
استصحاب - أن المراد بالمدلول الالتزامي في محل الكلام ليس خصوص ما
يكون موضوعا لدلالة عرفية للكلام، بحيث يكون مرادا بالبيان بمقتضى ظاهر
الكلام، ليتجه ما ذكره من عدم العبرة بالتحليل العقلي في باب الظهورات، بل
مطلق لازم مؤدى الكلام ولو لم يكن المتكلم بصدد بيانه، ومن الظاهر أن لازم
وجوب إحدى الفريضتين بخصوصيتها وجوب فريضة في الجملة، كما لو
صرح به في أحد الدليلين أو كليهما وتصدى المتكلم لبيانه.
اللهم إلا أن يقال: وجوب إحدى الفريضتين ليس لازما واقعيا لمفاد
الدليلين المطابقي، ليجري فيه ما سبق في المدلول الالتزامي، بل هو متحد معه
حقيقة، وان باينه مفهوما مباينة المجمل للمبين، فمع فرض سقوط الدليل عن
الحجية في المدلول المطابقي لا مجال لحجيته فيه.
158

كما أن وجوب القدر المشترك بينهما الذي هو الجنس بحسب التحليل
العقلي ليس لازما له أيضا، بل هو وجوب ضمني متحد مع وجوب كل من
الخصوصيتين استقلالا، الذي هو المفاد المطابقي لكل من الدليلين، فخروج
المورد عن حديث بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية ليس لعدم العبرة بالتحليل
في باب الظهورات، كما ذكره قدس سره بل لرجوع التحليل للاتحاد، دون التلازم.
وأما التصريح في أحد الدليلين بوجوب فريضة في الجملة فليس هو
تصريحا باللازم، بل هو راجع إلى اشتمال الدليلين على مدلول إجمالي واخر
تفصيلي، وتكاذبهما في الثاني لا يوجب سقوطهما عن الحجية في الأول.
تذنيب
إذا تنجز أمر إجمالي إما بالعلم - كفريضة اليوم - أو بقيام دليل خاص - كما
في ما تقدم في تعقيب كلام بعض الأعاظم قدس سره - واختلف الدليلان في تعيينه
بوجهين مثلا، فحيث يسقطان عن الحجية في تعيينه، فهما لا ينهضان بنفي
طرف ثالث للاجمال لو فرض احتماله، بناء على ما سبق من عدم حجية
المتعارضين في نفي الثالث.
ومن هنا يشكل الحال في اختلاف النسخ، لوضوح أن الاخبار بكل نسخة
وإن كان مبنيا على المفروغية عن وجود مضمون الكتاب الذي تحكي عنه
النسخ، فهي تصلح لتنجيز الامر الاجمالي، إلا أن عدم صلوحها لتعيينه بسبب
التعارض موجب لعدم حجيتها في القدر المشترك بينها، وهو مخالف لسيرة
العلماء في مقام الاستدلال، حيث لا يخرجون عن مفاد كلتا النسختين.
ولا مجال لدعوى ابتناء ذلك منهم على الخروج عن أصالة التساقط
والعمل بأخبار العلاج المتضمنة للترجيح والتخيير.
لما يأتي في محله إن شاء الله تعالى من قصور أخبار العلاج عن اختلاف
159

النسخ ولزوم الرجوع فيه للأصل.
فلا يبعد أن يكون ذلك منهم للاطمئنان بصدق إحدى النسخ ولو بلحاظ
مساق الكلام ومناسباته.
أو يقال: لما كان منشأ اختلاف النسخ منحصرا بالخطأ في إثبات النسخة
أو قراءتها أو سماعها، فأصالة عدم الخطأ بنظر العقلاء تقتضي عدمه في إحدى
النسخ إجمالا، اقتصارا فيه على المتيقن.
وليس الخطأ كغيره من الأمور التي يبتني استحصال الواقع من الطرق
على عدمها - كمخالفة ظاهر الكلام، وصدوره لبيان غير المراد الجدي، وتعمد
الكذب من الناقل - مما يبتني الخروج عنه على العمد الذي لو جاز في أحد
الطريقين جاز في كليهما. ولولا ذلك لاشكل الحال.
نعم، لا إشكال مع عدم أداء اختلاف النسخ إلى اختلاف المعنى لو أمكن
عرفا حمل بعضها على بيان النقل بالمعنى وعدم تعمد الألفاظ، لثبوت جواز
ذلك.
وكذا لو كان الاختلاف بالزيادة بنحو لا يخل بالمعنى، بل يوجب زيادته
لو أمكن عرفا حمل الناقص على عدم التصدي والاهتمام بضبط تمام
المضمون، حيث يخرج عن التعارض حينئذ، لعدم التكاذب.
وأولى بعدم الاشكال ما لو كان مرجع النسخ إلى بيان محتملات نسخة
الأصل لاشتباهها وتشوشها، من دون جزم ببعضها، لرجوعها إلى الاخبار بعدم
خروج نسخة الأصل عن المحتملات المذكورة. فلاحظ.
الامر السادس: تقدم تقريب أصالة التساقط في المتعارضين بالإضافة
إلى ما لم يكن لدليل حجية إطلاق بقصور دليله عن شمول حال التعارض،
وبالإضافة إلى ما كان لدليل حجيته إطلاق بمانعية التعارض من حجية
المتعارضين المستلزم لتخصيص عموم الحجية فيهما.
160

ولازم ذلك أنه لو تعارض أحد أفراد القسم الأول مع أحد أفراد القسم
الثاني تعين الثاني للحجية عملا باطلاق دليله بعد فرض قصور دليل الأول عن
صورة التعارض.
فلو تعارض قطعي الصدور الذي هو ظني الدلالة أو الجهة، مع قطعي
الدلالة والجهة الذي هو ظني الصدور، كان الترجيح للثاني، لاستناد أصالة
الصدور فيه لعموم حجية خبر الثقة واستناد أصالة الظهور والجهة في الأول لبناء
العقلاء الذي لا عموم له يشمل حال التعارض.
اللهم إلا أن يقال: لم يتضح الدليل على عموم حجية خبر الثقة، وإنما
يستفاد مما كان واردا مورد الامضاء لسيرة العقلاء، فيشكل عمومه لصورة
معارضة أصالة الظهور له، بل الارتكازيات العرفية تقضي بتساقطهما لمانعية
التعارض من حجيتهما، على ما سبق في تقريب أصالة التساقط.
نعم، يتجه ذلك في موارد الجمع العرفي، بحمل ظني الدلالة على ما لا
ينافي قطعيها، حيث يكون قطعيها بضميمة أصالة الصدور قرينة على التصرف
في ظنيها، ويخرج عن باب التعارض على ما سبق توضيحه.
وأما توهم العكس ولزوم تقديم الدليل القطعي الصدور وان كان ظني
الدلالة على ظني الصدور وان كان قطعي الدلالة " لدعوى قصور بناء العقلاء على
حجية خبر الثقة عن صورة معارضته لمقطوع الصدور، بخلاف بنائهم على
حجية الظهور، لعدم رفعهم اليد عن الدليل القطعي معه إلا بيقين.
فلا مجال له، لعدم وضوح أقوائية أصالة الظهور عندهم من خبر الثقة، ولا
سيما مع ثبوت كثرة مخالفته وقوة احتمال ضياع القرائن الموجبة لتبدل ظهوره،
لعدم الإحاطة بظروف صدور الكلام وما يقارنه من قرائن حالية ومقالية.
هذا، ونظير ما سبق ما ذكره بعض مشايخنا من أنه لو تعارض مقطوع
الصدور - كالكتاب أو السنة المتواترة - مع مظنون الصدور، وهو خبر الواحد،
161

تعين الاخذ بمقطوع الصدور لا للترجيح بينهما في ظرف حجية كل منهما، بل
لخروج مظنون الصدور عن موضوع الحجية بسبب التعارض لما استفاضت به
الأخبار الكثيرة من عدم جواز الاخذ بالخبر المخالف للكتاب والسنة، وأنه
زخرف وباطل لم يصدر عنهم عليهم السلام.
لكن ما ذكره إنما يتم إذا كان التعارض بنحو التباين الذي يتعذر معه
الجمع، دون ما إذا كان بمجرد تصادم الظهورين، بنحو يمكن فيه تنزيل كل
منهما على الاخر، كالعامين من وجه، إذ يخرج ذلك عن مفاد النصوص المشار
إليها، كما سبق في أول الكلام في حجية خبر الواحد.
فلابد في توجيه تقديم قطعي الصدور بالترجيح المتأخر رتبة عن
التعارض.
أما لو كان المعارض هو السنة فلدخوله في ما تضمن ترجيح المشهور
رواية معللا بأن المشهور لا ريب فيه.
وأما لو كان هو الكتاب فلان نصوص الترجيح وان اختصت بتعارض
الاخبار إلا أن المستفاد عرفا من الترجيح بينها بموافقة الكتاب هو ترجيح
الكتاب عليها عند التعارض بينهما. بل قد يستفاد ذلك من التعليل المشار إليه
في الترجيح بالشهرة والرواية. فلاحظ.
162

المقام الثاني
في مقتضى الأدلة الخاصة في المتعارضين
حيث سبق أن الأصل في المتعارضين التساقط فلا مخرج عنه إلا
النصوص الواردة في تعارض الأخبار الواردة عن المعصومين بخفض، المتضمنة
للترجيح والتخيير أو التوقف. بل ربما ادعي الاجماع على عدم الرجوع فيها
لأصالة التساقط، على ما يأتي الكلام فيه.
ولا يخفى أن النصوص المذكورة - كالاجماع - مختصة بتعارض الاخبار،
ولا تشمل معارضة غيرها لها، كما لا تشمل تعارض غيرها من الأدلة بعضها مع
بعض، وإن أشرنا قريبا إلى إمكان استفادة ترجيح الكتاب على الاخبار في
بعض الصور.
ويأتي في اخر الكلام في هذا المقام بعض الكلام في ذلك إن شاء الله
تعالى.
والظاهر عموم تعارض الاخبار الذي هو مورد النصوص المذكورة
لتعارض الخبرين المظنوني الصدور والمقطوعي الصدور والمختلفين.
وما سبق من بعض مشايخنا من قصوره عن المختلفين قد عرفت
الاشكال فيه على عمومه.
كما أن ما يظهر منه من قصوره عن القطعيين أيضا وتعين الرجوع فيهما
لأصالة التساقط واختصاص نصوص المقام بالظنيين، غير ظاهر الوجه أيضا مع
إمكان تحقق التعارض بين القطعيين بلحاظ عدم قطعية الدلالة أو الجهة فيهما،
ومع إطلاق نصوص المقام، ولا سيما مقبولة ابن حنظلة، التي فرض فيها
163

التعارض بين الخبرين المشهورين مع ما تضمنته من أن المشهور لا ريب فيه،
فإن ذلك لو لم يختص بتعارض القطعيين فلا أقل من كونه من أظهر أفراده.
غاية الامر أنه لا مجال لجريان المرجحات السندية فيه، وهو غير مهم في
محل الكلام.
هذا، وأما عموم نصوص المقام وخصوصها من غير هذه الجهة فالأنسب
التعرض له بعد الكلام في مفاد نصوص المقام وتعيين ما عليه المعول منها.
إذا عرفت هذا، فالمعروف وجوب الترجيح في الجملة، عملا بنصوصه،
ثم التخيير أو التوقف أو الاحتياط على ما يأتي الكلام فيه.
لكن ذهب السيد الصدر - في ما حكي عنه - والمحقق الخراساني قدس سره إلى
عموم التخيير بين الاخبار المتعارضة، تقديما لنصوصه على نصوص التوقف
والاحتياط، وتحكيما لعمومه على نصوص الترجيح التي هي أخص، مع حمل
نصوص الترجيح على الاستحباب أو تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين
الحجتين الذي هو محل الكلام.
والنظر في ذلك يستدعي الكلام في ثلاثة فصول، يتضمن الأول منها
البحث في الترجيح دليلا وموردا، لتقدمه طبعا، ويتضمن الثاني البحث في حكم
صورة عدمه، إما لعدم ثبوته أو لعدم تحقق المرجحات المعتبرة، وهو المراد
بالتعادل في كلماتهم، ويتضمن الثالث البحث في مسائل تتعلق بمفاد الأدلة
الخاصة الواردة في علاج التعارض لا يستغنى عنها. ونسأله سبحانه العون على
ذلك والتسديد فيه.
164

الفصل الأول
في الترجيح
والكلام فيه في مباحث..
المبحث الأول
في أدلته
وحيث كان بعض الوجوه المستدل بها عليه ظاهر الوهن فلا ينبغي
التعرض له وإطالة الكلام فيه.
وما ينبغي التعرض له وجهان..
الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من الاجماع المحقق، والسيرة
القطعية.
وكأن المراد بالسيرة سيرة العلماء في مقام الاستدلال، في مقابل إجماعهم
القولي المستفاد من تصريحهم بالحكم عند التعرض للمسألة الأصولية ومن
إيداعهم نصوصه في كتبهم المبنية على حفظ الاخبار المعتمدة. والا فسيرة
المتشرعة في مقام العمل لا مجال لها في المسألة الأصولية التي ليس من شأنهم
الرجوع إليها.
وقد أنكر المحقق الخراساني قدس سره الاجماع المذكور، فذكر أنه لا مجال
لدعواه مع ذهاب مثل الكليني قدس سره للتخيير، حيث قال في ديباجة الكافي:
" ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من التخيير ".
لكن ما نقله عن الكليني لا يناسب كلامه في ديباجة الكافي، حيث قال:
165

" فاعلم يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شئ مما اختلفت الرواية فيه
عن العلماء عليهم السلام برأيه، إلا على ما أطلقه العالم بقوله عليه السلام: " اعرضوهما على
كتاب الله، فما وافى كتاب الله عز وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه "
وقوله عليه السلام: " دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم "، وقوله عليه السلام: " خذوا
بالمجمع عليه فإن المجمع عليه لا ريب فيه " ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا
أقله. ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه السلام وقبول ما
وسع من الامر فيه بقوله عليه السلام: " بأيهما أخذتم من باب التسليم وسعكم ". وقد
يسر الله وله الحمد تأليف ما سألت... ".
فإن ظاهره لزوم الترجيح مع الاطلاع على المرجحات وأن الرجوع
للتخيير عند الجهل بها توسعة منهم عليهم السلام. ومن هنا لا مجال لاثبات الخلاف
وانكار دعوى الاجماع من شيخنا الأعظم قدس سره المؤيدة بارتكازية الحكم
ومعروفيته عند الأصحاب، تبعا للنصوص الواردة به التي يبعد فهمهم منها لما
ذكره المحقق الخراساني.
ودعوى: أن موافقتهم للنصوص مانعة من الاحتجاج بإجماعهم لو تم،
لكونه مدركيا، بل يجب النظر في مدركه.
مدفوعة: بأن موافقتهم للنصوص التي هي في نفسها قابلة للتشكيك - لو
فرض - لا يمنع من حصول القطع من إجماعهم في الحكم الذي يكثر الابتلاء به
ويمتنع عادة الخطأ فيه، حيث يكشف عن أن ما فهموه من النصوص هو المراد
الواقعي للشارع، فتكون قرينة قطعية على مطابقة ما فهموه منها للواقع.
نعم، ثبوت الاجماع بالنحو الموجب للقطع بالحكم والصالح للاحتجاج
بهذا المقدار وإن كان قريبا، إلا أنه لا يخلو عن إشكال، لعدم شيوع التعرض
منهم للمسألة الأصولية وعدم تيسر الاستيعاب لكلماتهم في الفقه في مقام
الاستدلال بالنحو الكافي في معرفة اتفاقهم.
166

الثاني: النصوص المشتملة على المرجحات على اختلاف في تعدادها..
منها: مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام الواردة في الخصومة،
حيث قال السائل فيها بعد أن أمر الإمام عليه السلام بالرجوع لرواية أحاديثهم عليهم السلام:
" فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في
حقهما، واختلفا في ما حكما وكلاهما اختلف في حديثكم (حديثنا خ ل) فقال:
الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا
يلتفت إلى ما يحكم به الاخر. قال: فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا
يفضل (ليس يتفاضل) واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من
روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من
حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا
ريب فيه... قلت: فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك
ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك ان رأيت
إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا
للعامة والاخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه
الرشاد. فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا. قال: ينظر إلى ما هم
إليه أميل حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم
الخبرين جميعا؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند
الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " (1).
وقد استشكل فيها بعض مشايخنا بضعف السند، لعدم النص على توثيق
عمر بن حنظلة.
ولا مجال له بعد تلقي الأصحاب لها بالقبول، حتى عرفت بالمقبولة

(1) الوسائل ج: 18 كتاب القضاء باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 1
167

ورواها المشايخ الثلاثة معتمدين عليها، مع علو متنها واشتمالها على أحكام
متعددة في القضاء والتعارض اعتمد عليها الأصحاب فيها.
مع أن عمر بن حنظلة وإن لم ينص على توثيقه في كتب الرجال، إلا أن
القرائن تشهد بوثاقته وعلو مقامه..
منها: كثرة رواياته عنهم عليهم السلام مع تلقي الأصحاب لها بالقبول وروايتهم
لها في الأصول.
ومنها: رواية جماعة من الأعيان عنه فيهم غير واحد من أصحاب
الاجماع، بل فيهم صفوان بن يحيى الذي قيل أنه لا يروي إلا عن ثقة.
ومنها: بعض الروايات التي تشهد بوثاقته وعلو مقامه، وإن قيل: إنها
ضعيفة السند.
فإن ذلك بمجموعه موجب للركون إلى رواياته، بل بعضه حجة على
ذلك، خصوصا هذه الرواية المحتفة بما ذكرنا.
ومثله ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن موردها تعارض الحكمين في
القضاء الذي لا مجال فيه للتخيير، لعدم فصل الخصومة به، ولذا أرجأ عليه السلام الامر
مع عدم الترجيح إلى لقاء الامام، ولا وجه للتعدي عنه إلى الفتوى التي يمكن
فيها التخيير من أول الامر.
لاندفاعه: بأن لسان الترجيح فيها يأبى الجمود على مورد التخاصم،
لظهوره في عدم صلوح المرجوح لان يرجع إليه، كما هو المناسب لقوله عليه السلام:
" فإن المجمع عليه لا ريب فيه "، وقوله عليه السلام: " ما خالف العامة ففيه الرشاد "،
لوضوح أن لزوم ترك ما فيه الريب لما لا ريب فيه، وما لا رشاد فيه إلى ما فيه
الرشاد، من القضايا الارتكازية التي لا تختص بالقضاء.
ولذا كان المستفاد منها عرفا خطأ الحكم على طبق المرجوح، بحيث لا
ينبغي لصاحبه العود له في واقعة أخرى وان لم يكن له فيها مخالف في
168

التحكيم، لا صدور الحكم في محله لحجية مستنده وان لم يجب تنفيذه بسبب
الاختلاف.
على أنه لا مجال لذلك بناء على أن المرجع مع عدم الترجيح هو التوقف
أو التساقط، لان خصوصية القضاء لا تمنع منهما، بل من التخيير، والا فلا يحتمل
حجية الراجح في القضاء والتخاصم، دون الفتوى، بحيث لا يسوغ للمكلف
ترتيب الأثر عليه في حكم نفسه إلا في فرض وجود الخصم المنازع له
المستدعي للترافع والحكومة.
ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما استشكل به فيها أيضا من اختصاصها بزمان
الحضور، ولا تعم زمان الغيبة، بقرينة ما في ذيلها من الارجاء مع التعادل إلى لقاء
الإمام عليه السلام دون التخيير.
وجه الاندفاع: إباء لسان الترجيح عن الاختصاص بزمان الحضور، لما
سبق، بل لا مجال له لالغاء خصوصية المورد عرفا - مع قطع النظر عما سبق - كما
هو الحال في غيره من الاحكام التي تضمنتها، حيث كان بناء الأصحاب على
شمولها لزمان الغيبة.
ومنها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله المروي في رسالة القطب
الراوندي: " قال الصادق عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على
كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم
تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم
فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه " (1).
ومنها: صحيح الحسن بن الجهم المروي في الرسالة المذكورة: " قلت
للعبد الصالح: هل يسعنا فيما ورد منكم الا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم
إلا التسليم لنا. قلت: فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شئ ويروى عنه خلافه،

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 29.
169

فبأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه " (1).
هذا ما تيسر لي العثور عليه من النصوص المعتبرة السند. وهناك نصوص
أخرى لا تبلغ درجة الاعتبار تصلح للتأييد.
منها: خبر الحسين بن السري المروي في الرسالة المذكورة بسند فيه
إرسال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف
القوم " (2).
ومنها: الصحيح عن محمد بن عبد الله المروي في الرسالة المذكور:
" قلت للرضا عليه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ فقال إذا ورد عليكم خبران
مختلفان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق
أخبارهم فدعوه " (3).
ومنها: مرفوعة زرارة: " سألت الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم
الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما اخذ؟ فقال: يا زرارة خذ بما اشتهر بين
أصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت: يا سيدي إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران
عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنهما معا
عدلان مرضيان موثقان. فقال: انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ ما خالف،
فإن الحق فيما خالفهم. فقلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟
قال: إذن فخذ ما فيه الحائطة لدينك واترك الاخر. قلت: إنهما معا موافقان
للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع
الاخر (4).

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 31.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 30.
(3) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 34.
(4) الحدائق: ج 1 ص 13 في المقدمة السادسة، طبع النجف الأشرف.
170

وهناك نصوص اخر ذكرها شيخنا الأعظم في نصوص الترجيح، بعضها
ليس منها في الحقيقة، وبعضها مورد للكلام ربما يأتي التعرض له في محل
اخر. والمهم ما ذكرنا وفيه الكفاية في إثبات الترجيح في الجملة.
هذا، وقد استشكل المحقق الخراساني قدس سره في نصوص الترجيح..
تارة: بأن عمدتها المقبولة والمرفوعة وهما مختلفان في بيان
المرجحات. مع ضعف سند الثانية، واختصاص الأولى بالقضاء وبعصر
الحضور، فلا مجال للتعدي منهما للفتوى في عصر الغيبة.
وأخرى: بأنه لا مجال لتقييد إطلاقات التخيير الواردة من غير استفصال
عن تعادل الخبرين وتفاضلهما بصورة تساوي الخبرين من جميع الجهات،
لندرة ذلك بنحو يستلزم التخصيص المستهجن.
ويندفع الأول في مضافا إلى ما سبق من إباء لسان المقبولة عن الجمود على
المورد المذكور - بأن الامر لا ينحصر بالمقبولة والمرفوعة، لوفاء غيرهما مما
تقدم به مما هو تام دلالة وسندا.
وأما اختلاف المقبولة والمرفوعة فهو غير ضائر بعد ضعف المرفوعة.
على أنه يمكن الجمع عرفا بينهما، كما يمكن الجمع بينهما وبين غيرهما على
ما يأتي الكلام فيه عند الكلام في المرجحات.
كما يندفع الثاني: بأن المرجحات المنصوصة ليست من الكثرة بنحو
يمتنع حمل مطلقات التخيير - لو تمت - عليها، فغاية ما يلزم عدم التعدي عن
المرجحات المنصوصة وليس هو محذورا على ما يأتي.
على أن ذلك لا يقتضي تعين نصوص الترجيح للسقوط، بل تقتضي
التعارض بينها وبين نصوص التخيير، المقتضي للتساقط والبناء على الترجيح
لأنه المتيقن.
وتنزيل نصوص الترجيح على الاستحباب يأباه لسان بعضها، كالمقبولة،
171

فليس هو جمعا عرفيا.
ثم إنه قدس سره حاول تنزيل نصوص الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة
على تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين الحجتين الذي هو محل الكلام.
ويأتي الكلام في ذلك عند الكلام في المرجحين المذكورين إن شاء الله تعالى.
إلا أن الظاهر أنه لا أثر لذلك في دفع إشكال تقييد إطلاقات التخيير، لان
حملها على صورة عدم التفاضل بين الخبرين في ذلك إن أمكن أمكن حتى مع
تمامية موضوع الحجية في الخبرين المتعارضين، وإلا تعذر حتى مع فقد
أحدهما لموضوع الحجية.
هذا، وربما يستشكل في نصوص الترجيح بمخالفتها لبعض النصوص،
كصحيح ابن أبي يعفور أو موثقه: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث
يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به. قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له
شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله فالذي جاءكم به أولى به " (1).
وما عن مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمد: " أن
محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول عن ابائك
وأجدادك عليهم السلام قد اختلف علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه، أو الرد إليك
في ما اختلف فيه، فكتب عليه السلام: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردوه
إلينا " (2)، ونحوه مكاتبة داود بن فرقد الفارسي (3).
ومرسل الاحتجاج عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام: " قلت: يرد
علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والاخر ينهانا عنه. قال: لا تعمل بواحد

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 11.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديت: 36 والموجود في مستطرفات
السرائر يخالف ما أثبتناه عن الوسائل قليلا.
(3) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 10 وبصائر الدرجات ج: 15،
باب 2، حديث 26 في ص 534.
172

منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قلت: لابد أن نعمل بواحد منهما قال: خذ بما
في خلاف العامة " (1).
لظهور الأول في لزوم تحصيل الشاهد من الكتاب والسنة، والمكاتبتين
في التساقط وعدم حجية غير العلم، والمرسل في وجوب التوقف عن كلا
الخبرين، واختصاص الترجيح بمخالفة العامة بحال الضرورة.
ويندفع: بظهور الأول في إناطة أصل الحجية بوجود الشاهد من الكتاب
والسنة، لا الترجيح بذلك عند التعارض بين الخبرين الحجة، لأن المفروض فيه
التعارض بين خبر الثقة وغيره، فلو كان خبر الثقة حجة لم يصلح الثاني
لمعارضته، فهو كسائر النصوص المانعة من حجية خبر الواحد التي تقدم في
أول الكلام في حجية خبر الواحد عدم التعويل عليها.
وأما المكاتبتان فهما وان كانتا ظاهرتين في اختلاف الحجتين، لظهورهما
في أن موجب التوقف والسؤال هو الاختلاف، لا احتمال قصور موضوع
الحجية في أحدهما أو كليهما، إلا أنه لا مجال للتعويل عليهما - حتى لو تم
سندهما - لظهور إعراض الأصحاب عنهما والعمل بنصوص الترجيح، وربما
يحملان على صورة التحير لفقد المرجح، جمعا مع نصوص الترجيح.
وأما الثالث فهو - مع ضعفه في نفسه - محمول على تيسير الوصول
للإمام عليه السلام من دون حرج، أو على استحباب التوقف مع سهولته، جمعا مع
نصوص الترجيح التي يتعذر حملها على صورة الاضطرار للعمل، لندرتها،
ولإباء بعضها عن ذلك كمقبولة ابن حنظلة الآتية الامرة بالتوقف وارجاء الامر
إلى لقاء الامام عند فقد المرجحات. فلاحظ.

(1) الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 42.
173

المبحث الثاني
في المرجحات المنصوصة
النصوص المتقدمة مختلفة في تعيين المرجحات وتعدادها، كما أن هناك
نصوصا أخرى قد يستفاد منها مرجحات أخرى قد أهملت في هذه النصوص،
فينبغي التعرض لكل مرجح تضمنته النصوص المتقدمة أو غيرها أو ادعي
استفادته منها، والنظر في دليله وحدوده، وهي أمور..
الأول: صفات الراوي من الأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية
والأوثقية.
فإن ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره اعتبار الترجيح بها، بل معروفية الرجوع إليها
بين الأصحاب، حتى أنه بعد أن ذكر كلام الكليني قدس سره السابق الخالي عنها، قال:
" ولعله ترك الترجيح بالأعدلية والأوثقية لان الترجيح بذلك مركوز في أذهان
الناس غير محتاج إلى التوقيف ".
لكن وضوح المرجح لا يصحح إهماله.
وكذا ما احتمله في الحدائق حاكيا له عن بعض مشايخه من توجيه إهمال
الكليني لذلك بأن اخبار كتابه كلها صحيحة، فإن الصحة بمعنى القطع بالصدور
مما يبعد بناؤه قدس سره عليها، وبمعنى الوثوق المصحح للعمل - لو تم بناؤه عليها - لا
تنافي التفاضل بينها. بل ليس هو قدس سره بصدد بيان حكم تعارض أخبار كتابه فقط،
بل في مقام بيان حكم تعارض الاخبار مطلقا، كما يظهر بمراجعة تمام كلامه
كيف، ولو كان في غنى عن الترجيح بصفات الراوي التي هي من
المرجحات الصدورية لم يكن وجه لذكره الترجيح بشهرة الرواية.
174

كما أن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من معروفية الرجوع للمرجح المذكور
بين الأصحاب لم أتحققه فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كلماتهم في أبواب
الفقه عند الابتلاء بها.
مع أن الدليل على ذلك غير ظاهر، لعدم التعرض له في نصوص المقام
عدا قوله في مقبولة ابن حنظلة: " الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما
وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الاخر... "
وقوله عليه السلام في مرفوعة زرارة: " خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك
لكن المقبولة ظاهرة في ترجيح الحكمين قبل الانتقال إلى ترجيح
الروايتين المستندتين لهما، ولا وجه للتعدي من ذلك لترجيح نفس الروايتين.
ومثلها في ذلك موثق داوود بن الحصين، وخبر موسى بن أكيل (1)، الوارد
ان في الترجيح بين الحكمين من دون تعرض للترجيح بين الروايتين أصلا.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه لما كان منشأ اختلاف الحكمين هو
اختلاف الروايتين فيستفاد من ذلك أن المناط في ترجيح أحد الحكمين على
الاخر بالصفات لكون مثل هذه الصفات مرجحة لمنشأ الحكم، وهو الرواية.
ويؤيد ذلك أن الأصدقية إنما تناسب ترجيح الرواية لا نفس الحكم.
ففيه: أن ترجيح الحكمين بالصفات المذكورة قد يكون بلحاظ أنها
تقتضي حسن الظن بالحاكم الأفضل في اختياره لمدرك حكمه وجريه فيه على
أفضل الموازين التي يبتني الاستدلال عليها، فيستغنى بذلك عن تكلف النظر
في مدركه، من دون أن يرجع إلى تصديقه في روايته. كيف وأصدقية أحد
الحاكمين لا تستلزم أصدقية روايته، لامكان ضعفها بلحاظ وسائط السند
الأخرى أو القرائن المحيطة بها وبمعارضتها.

(1) الوسائل ج. 18، باب 9 من أبواب القضاء حديث: 20، 45.
175

وأما المرفوعة فهي ضعيفة جدا، حيث لم يذكرها إلا ابن أبي جمهور
الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي عن العلامة مرفوعة إلى زرارة، وقيل إنه لم
يعثر عليها في كتب العلامة قال في الحدائق: " لم نقف عليها في غير كتاب عوالي
اللآلي مع ما هي عليه من الرفع والارسال وما عليه الكتاب المذكور من نسبة
صاحبه إلى التساهل في نقل الاخبار والاهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها
بسقيمها، كما لا يخفى على من وقف على الكتاب المذكور ".
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى انجباره بعمل الأصحاب - بناء على ما
سبق من شيخنا الأعظم قدس سره - لتوقف ذلك على اشتهار الحديث عندهم وتداوله
بينهم، كي يرجعوا إليه في مقام العمل، ولا يكفي في انجباره موافقتهم له من
دون ذلك.
هذا، وقد قرب، شيخنا الأستاذ قدس سره الاعتبار بصفات الراوي بأنه لا يبتني
على الترجيح بين الحجتين، بل على اختصاص موضوع الحجية بالأرجح،
لارتفاع موضوع الحجية عن خبر الثقة بمعارضة خبر الأوثق له، حيت يرتفع
الوثوق به ويختص به خبر الأوثق.
ومن ثم كانت سيرة العقلاء - التي هي عمدة أدلة حجية خبر الثقة - على
العمل بخبر الأوثق عند التعارض، ولا يحتاج لأدلة الترجيح الخاصة.
وفيه.. أولا: أن هذا قد يتم فيما إذا كان مرجع الأوثقية إلى قوة ضبط
الشخص في مورد احتمال الخطأ والغفلة، حيث يبتني العمل بخبر الضابط على
أصالة عدمهما المعول عليها في من لم تقم أمارة على خطئه وعدم ضبطه، ولا
يبعد كون معارضة خبر الأضبط لخبر غيره أمارة على عدم ضبط غيره في ذلك
الخبر فيرتفع موضوع الأصل المذكور فيه، نظير معارضة الأعلم لغيره في
الاجتهاديات والحدسيات، ولا يجري في الأوثقية الراجعة إلى الأصدقية
المستلزمة لشدة التورع وقوة الدين، مع قطع النظر عن الضبط.
176

فإن تقديم أحد الخبرين المتعارضين في ذلك حيث يرجع إلى تكذيب
الاخر فلا مجال له مع فرض وثاقته وصدقه في نفسه، والا لم يعمل بسائر
أخباره حتى مع عدم المعارضة، إذ ليس بناء العقلاء على تصديق من ثبت كذبه،
فلا يكون الترجيح به عقلائيا عرفيا، بل يكون تعبديا محضا محتاجا إلى دليل
خاص.
ومن الظاهر أن رجوع التعارض بين الخبرين إلى عدم ضبط أحد
الراويين إنما يتجه في مثل اختلاف النسخ واختلاف رجال السند في الخبر
الواحد ونحوهما مما يرجع لاحتمال التصحيف والخطأ، دون غيرها من صور
التعارض مما لا يستند عرفا لخطأ أحد الراويين وغفلته.
وثانيا: أن هذا إنما يتم إذا كان التعارض مستلزما للعلم بكذب أحد
الخبرين المتعارضين وعدم صدوره، دون ما إذا احتمل صدور كل منهما
واستناد التعارض بينهما لأمر اخر من تقية أو نحوها، كما هو الشايع أو الغالب
في تعارض أخبار الثقات، حيث لا وجه لارتفاع الوثوق بخبر الثقة بمجرد
معارضته بخبر الأوثق.
كما لا يتعين حينئذ بنظر العقلاء اللجوء للمرجح الصدوري، من الأوثقية
ونحوها، بل هو أمر تعبدي محض محتاج إلى دليل خاص.
وقد ظهر مما ذكرنا قوة الرجوع للأضبطية في مثل اختلاف النسخ مما
كان منشأ الاختلاف فيه منحصرا بخطأ النقل وغفلة الناقل. وهو لا يختص
باختلاف الناقلين، بل يجري في اختلاف كتابي الشخص الواحد إذا ابتنى النقل
في أحدهما على مزيد الضبط والاتقان وشدة المحافظة على المتن
بخصوصياته.
نعم، المتيقن من ذلك ما إذا كان التفاوت في الضبط بنحو معتد به، ولا
يكفي أدنى التفاوت في ذلك. فلا حظ.
177

الثاني: الشهرة.
وقد انفردت بها من النصوص السابقة مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة
زرارة، كما تضمنها مرسل المفيد الآتي في الترجيح بموافقة الكتاب، وحيث
سبق عدم التعويل على المرفوعة، كما أن المرسل لا ينهض بالاستدلال ينحصر
الدليل على الترجيح بها بالمقبولة.
ولا ينبغي التأمل في أن المراد بها الشهرة في الرواية، كما هو مقتضى
إضافة الاجماع والشهرة إليها - لا إلى الحكم الذي تضمنته - في المقبولة
والمرفوعة، بل ظاهر المقبولة أن المراد بالشهرة ما يساوق الاجماع ومع فرضها
في كلا المتعارضين مع وضوح امتناعه في الفتويين المتعارضتين معا، وانما
يمكن في الروايتين، بأن يكون كل منهما مجمعا على روايته معروفا عند
الأصحاب مشهورا بينهم.
ومن هنا استشكل بعض مشايخنا في كون الارجاع إليها ترجيحا بين
الحجتين، بدعوى: أن شهرة الرواية توجب العلم بصدورها، فيكون المعارض
لها مخالفا للسنة القطعية ويسقط عن موضوع الحجية، لان المراد بمخالفة السنة
المسقطة للخبر عن الحجية مخالفة سنة المعصوم لا خصوص سنة
النبي عليه السلام فالمقام من تعيين الحجة عن اللاحجة الخارج عن محل الكلام.
وفيه.. أولا: أن حمل مخالفة السنة على مطلق سنة المعصوم لا يخلو عن
إشكال بعد اختصاص النص بسنة النبي صلى الله عليه وآله
وما تضمن أن كلامهم عليهم السلام مأخوذ من كلامه صلى الله عليه وآله وأنهم خلفاؤه
المعبرون عنه والناطقون بعلمه، إنما ورد لبيان حجية كلامهم عليهم السلام ووجوب
الرجوع له ككلامه صلى الله عليه وآله، ولا ينافي اختصاص العرض المقصود به جعل الضابط
لحجية الاخبار بسنته صلى الله عليه وآله التي لا يحتمل فيها التقية، والتي تمتاز بمكانة سامية
في نفوس المسلمين تجعلها سببا للتشهير بمخالفها والتنفير عنه، بخلاف
178

سنتهم عليهم السلام
وثانيا: أن اللازم حمل ما تضمن بطلان الخبر المخالف لسنة النبي صلى الله عليه وآله
على المخالفة بنحو التباين، لتصادم الكلامين عرفا، دون مثل العموم من وجه
مما يرجع لتصادم الظهورين، لما سبق في أول الكلام في حجية خبر الواحد،
وسبق نظيره في اخر المقام السابق، فيتعين كون الارجاع للشهرة حينئذ ترجيحا
بين الحجتين، الذي هو محل الكلام.
وثالثا: أن شهرة الخبر لا توجب القطع بصدوره، بل الاطمئنان به
والركون إليه وان كان خبر واحد في مقابل الشاذ النادر الذي أهمله الأصحاب،
ولم تعرف روايته بينهم، حيث يرتاب فيه وإن كان راويه ثقة في نفسه، لاحتمال
دسه في كتابه أو نحوه.
ولا ينافي ذلك التعليل في المقبولة بأن المجمع عليه لا ريب فيه، لان
الريب كما يطلق على الشك المقابل للعلم يطلق على الظنة والتهمة، المقابلة
للاطمئنان والركون، ولعل الثاني هو المعنى الأصلي له، وهو الأنسب بالمقابلة
بالشاذ النادر.
ويؤيد ذلك الترجيح بصفات الراوي في مرفوعة زرارة بعد فرض كون
الخبرين مشهورين، مع وضوح كون الصفات من المرجحات الصدورية التي لا
موقع لها في القطعيين.
وحمل الشهرة في المرفوعة على الشهرة الفتوائية لأجل ذلك بعيد جدا
عن ظاهرها.
نعم، لو كان شذوذ الخبر وندوره مساوقا لهجر الأصحاب له عملا خرج
عن موضوع الحجية، على ما ذكرناه في محله، إلا أنه خارج عما نحن فيه إذ
الكلام في شهرة الرواية بما هي مع قطع النظر عن العمل، ولذا لا يختص ذلك
بالشاذ النادر، بل يجري في غيره.
179

هذا، وقد استشكل بعض الأعيان المحققين قدس سره في الاستدلال على
الترجيح بالشهرة بالمقبولة بأنها بالإضافة للمرجح المذكور مهجورة عند
الأصحاب في موردها، وهو القضاء والخصومة، إذ ليس بناء الأصحاب على
النظر في مدرك الحكمين، بل مع تعاقبهما ينفذ الأسبق منهما، ومع تقارنهما
يتساقطان ويرجع إلى حاكم ثالث، ومع ذلك لا مجال للتعدي عن موردها في
الترجيح بالشهرة في تعارض الخبرين.
ويندفع: بعدم وضوح وهن نصوص الترجيح بين الحكمين بإعراض
الأصحاب المدعى. ولو تم الاجماع على عدم النظر في مدرك الحكمين أمكن
كشفه عن تبدل الجعل، لان ولاية الحاكم الشرعي على القضاء ليست حكما
شرعيا كليا، بل هي حكم جزئي مستند لنصب الامام له بجعل خاص، وهو قابل
للتبديل، وحينئذ لا يمنع ارتفاع الترجيح بين الحكمين من العمل بالمقبولة في
الترجيح بين الخبرين بعد ظهورها في عدم خصوصية موردها. فلا حظ.
ثم إن المعيار في هذا المرجح على ما تضمنته المقبولة والمرفوعة من
كون أحد الخبرين مشهورا معروفا بين الأصحاب والاخر شاذا نادرا.
وأما مجرد كون أحدهما أكثر رواة من الاخر من دون أن يبلغ ذلك، فلا
دليل على الترجيح به، وان كان هو الظاهر من الشيخ قدس سره في الاستبصار ومحكي
العدة، بل ظاهر كل من عبر بأشهرية أحد الخبرين.
ولعله يبتني على التعدي عن المرجحات المنصوصة، الذي يأتي الكلام
فيه في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.
الثالث: موافقة الكتاب.
وقد تضمنته مقبولة ابن حنظلة وصحيح عبد الرحمن المحكي عن رسالة
القطب الراوندي المتقدمان في نصوص الترجيح، والمرسل الذي تضمنه كلام
الكليني المتقدم عند الكلام في الاجماع على الترجيح ومرسل المفيد المحكي
180

عن رسالة العدد قال: " والمعروف قول أبي عبد الله عليه السلام: إذا أتاكم عنا حديثان
مختلفان فخذوا بما وافق منهما القران، فإن لم تجدوا لهما شاهدا من القران
فخذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، فإن كان فيه خلاف
وتساوت الأحاديث فيه فخذوا بأبعدهما من قول العامة " (1).
وأما ما تضمن عرض الحديث عن الكتاب والسنة وأنه لابد في العمل به
من موافقته لهما أو وجود شاهد أو شاهدين منهما عليه، وأنه يطرح ما خالفهما.
فهو يقتضي عدم حجية غير الموافق ذاتا لا بسبب المعارضة، وقد سبق
في مبحث حجية خبر الواحد عدم التعويل على هذه النصوص.
كما أن ما تضمن أن المخالف لهما زخرف وباطل لم يصدر عنهم عليهم السلام
بل مكذوب عليهم، محمول على المخالف بنحو التباين، بحيث لا يمكن
تنزيلهما عليه عرفا بل يكون مصادما لمضمون الكتاب والسنة لا لظهورهما،
والا فيعلم بصدور المخالف بمثل العموم والخصوص والاطلاق والتقييد
عنهم عليهم السلام بنحو لا يناسب الألسنة المذكورة، على ما تقدم في مبحث حجية
خبر الواحد، والمخالفة المذكورة موجبة لخروج المخالف عن موضوع الحجية
ذاتا، لا بسبب المعارضة.
ومن هنا يشكل الاستدلال بما في خبر العيون - الآتي عند الكلام في
التخيير إن شاء الله تعالى - من قوله عليه السلام: " فما ورد عليكم من خبرين مختلفين
فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما
فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب موجودا فاعرضوه على سنن
رسول الله صلى الله عليه وآله فما كان في السنة موجودا منهيا عنه نهي حرام ومأمورا به عن
رسول الله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وأمره، وما كان في السنة

(1) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث 11.
181

نهي إعافة... " (1).
وذلك لما تضمنه صدره من عدم مخالفتهم عليهم السلام لنهي الكتاب والسنة
التحريمي، حيث قال عليه السلام: " فما جاء في تحليل ما حرم الله أو في تحريم ما أحل
الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك مالا
يسع الاخذ به، لان رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن ليحرم ما أحل الله وليحلل ما حرم الله،
ولا ليغير فرائض الله وأحكامه... وما جاء في النهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله نهي
حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك في ما أمر به، لأنا لا نرخص
في ما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله إلا
لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله أو نحرم ما استحل
رسول الله صلى الله عليه وآله فلا يكون ذلك أبدا... ".
فإن ذلك قرينة على أن المراد بالمخالفة في الذيل المخالفة بنحو التباين
الراجعة إلى تحريم ما أحل الله ورسوله صلى الله عليه وآله أو تحليل ما حرما.
ومثله في ذلك مرسلة الاحتجاج عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام:
" قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة. فقال: ما جاءك عنا فقس على كتاب
الله عز وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منا وان لم يكن يشبههما فليس
منا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق.
قال: فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت " (2).
لظهور عدم المشابهة في إرادة كمال المنافاة وعدم الملائمة، ومثلها في
ذلك مرسلته الأخرى (3).
مضافا إلى أن مقتضى السؤال في ذيلها عن حكم اختلاف الحديثين عدم

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 21.
(2) الوسائل ج: 18. باب 9 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء حديث: 1.
(3) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 48.
182

ورود الصدر لبيانه، وذلك يوجب إجمال الصدر من هذه الجهة، أو يلزم بحمل
اختلاف الأحاديث فيه على اختلافها في الخصوصيات من دون أن يفرض أداء
ذلك للتعارض بينهما، كتباين مضامينها واختلاف خصوصيات رواتها
ونحوهما، ويكون مسوقا لبيان الضابط العام لأصل حجية الخبر مع قطع النظر
عن التعارض، فيخرج عما نحن فيه.
فالعمدة في الدليل على المرجح المذكور ما ذكرنا.
نعم، قد يستشكل في إطلاق المخالفة في النصوص المذكورة بنحو
يشمل المخالفة لا بنحو التباين، وهي المخالفة لظاهر الكتاب بنحو يمكن تنزيل
الظاهر عليه، التي لا تسقط الخبر عن موضوع الحجية، لبعد التفكيك بين
النصوص المذكورة ونصوص طرح ما خالف الكتاب في معنى المخالفة، بل من
القريب تفسير النصوص المذكورة بتلك النصوص، فترجع نصوص الترجيح
إلى تعيين الحجة عن اللاحجة، كما سبق من المحقق الخراساني قدس سره ووافقه
شيخنا الأستاذ قدس سره..
ولازم ذلك عدم الترجيح بموافقة عموم الكتاب، بل بناء على التخيير
يجوز اختيار المخالف المخصص له، وعلى التساقط يسقط الخبران معا ويكون
المرجع هو العموم، دون الخبر الموافق له، بل قد يشكل على ذلك ترجيح
عموم الكتاب لو عارضه عموم الخبر لا بنحو التباين، لان ما سبق في اخر المقام
الأول في وجه ترجيح عموم الكتاب يبتني على مرجحيته عند تعارض
الخبرين.
ويندفع: بأن الاستبعاد المذكور لا يكفي في الخروج عن إطلاق المخالفة
في نصوص الترجيح المتقدمة.
ولا سيما مع مقابلة المخالفة بالموافقة في المقبولة والصحيح ومرسل
الكليني، مع وضوح صدق الموافقة بموافقة العموم الكتابي، وعدم اختصاصها
183

بالمطابقة، بل لم يعبر في مرسل المفيد بالمخالفة، بل اكتفي فيه بوجود الشاهد
من الكتاب، ولا ريب في صدق الشاهد بموافقة العموم الكتابي.
على أن ذلك لا يناسب تأخير الترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح
بالشهرة في الرواية، مع وضوح أن شهره الرواية إنما تقتضي عدم الريب في
الخبر من جهة الصدور فقط في مقابل الشاذ الذي يرتاب في صدوره، أما
المخالفة للكتاب بنحو التباين فهي تقتضي القطع ببطلان مضمون الخبر وإن
كان مشهورا، بل مقتضى نصوص العرض أنه زخرف باطل مكذوب
عليهم عليهم السلام فالترجيح به أسبق.
بل ما فرض فيها أيضا من معرفة الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة لا
يناسب المخالفة بنحو التباين، لعدم التباين بين مضامين الكتاب المجيد في
أنفسهما، بل ولا بين مضامين السنة القطعية، ولا بين مضامين كل منهما على
الظاهر.
كما أن ظاهر صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله أن المرجح المذكور إنما
يرتفع موضوعه بعدم وجدان مضمون كل من الخبرين في الكتاب، وحمله على
خصوص عدم الوجدان بنحو التنصيص بحيث يكون أحد الخبرين مخالفا
بنحو التباين بعيد جدا.
فالبناء على عموم نصوص الترجيح للمخالفة بنحو العموم والخصوص
وأمثالها قريب جدا، بل هي كالمتيقن منها.
هذا، وفي المعارج: " إذا تعارض خبران وأحدهما موافق لعموم القران أو
السنة المتواترة أو لاجماع الطائفة وجب العمل بالموافقة لوجهين، أحدهما: ان
كل واحدة من هذه الأمور حجة في نفسه، فيكون دليلا على صدق الخبر
الموافق، الثاني: أن المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض، فما ظنك به
معه! ".
184

ويندفع الأول: بأن ما يوجب العلم بصدق مضمون الخبر من هذه الأمور
هو الاجماع الموجب للعلم برأي المعصوم عليه السلام وما عداه لما كان قابلا
للتخصيص فليست دليليته على صدق الموافق بلحاظ حجيته، وحيث كان
الدليل المخالف حجة أيضا بمقتضى عموم دليل الحجية كان تعيينه للسقوط
ومرجحية الموافقة للعموم محتاجا للدليل.
نعم، لو بني على تساقط المتعارضين تعين كون عموم الكتاب والسنة
مرجعا بعد تساقطهما، لا مرجحا لموافقه منهما.
وأما الثاني فهو إنما يتم في الاجماع المذكور، حيث يعلم معه بكذب
مضمون الخبر المخالف، وأما في عموم الكتاب والسنة فهو مبني على عدم
تخصيصها بخبر الواحد، وهو خلاف التحقيق.
ثم إن مقتضى الجمود على قوله عليه السلام في المقبولة: " ينظر فما وافق حكمه
حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به... " الاقتصار في مرجحية الكتاب
على كون الموافق مخالفا للعامة، دون ما إذا جهل حكمهم أو اختلف.
إلا أن المناسبات الارتكازية تقتضي كون الكتاب مرجحا مستقلا،
ولا سيما مع ما تضمنته بعد ذلك من مرجحية مخالفة العامة مستقلا في فرض
موافقتهما معا للكتاب، إذ لو لم تكن موافقة الكتاب مرجحا كذلك كان ضمها
لمخالفة العامة لغوا.
كما قد يناسبه أيضا اكتفاء الراوي وعدم سؤاله عن صورة موافقة أحد
الخبرين للكتاب دون الاخر مع موافقتهما للعامة التي هي صورة شايعة.
فكأن منشأ السؤال عن مرجحية مخالفة العامة مستقلا تخيل أن ضمها
لموافقة الكتاب لمحض التأكيد بلحاظ معروفية مخالفتهم للكتاب بين الشيعة
مع المفروغية عن مرجحية موافقة الكتاب مستقلا.
كما أن الظاهر أن ضم السنة للكتاب مبني على الترجيح بكل منهما
185

مستقلا أيضا، لما هو المرتكز من ابتناء الترجيح بهما على مرجعيتهما للأمة. كما
قد يناسبه فرض السائل بعد ذلك أخذ الفقيهين الحكم من الكتاب والسنة، مع
وضوح إرادة الرجوع إليهما في الجملة ولو بالأخذ من أحدهما للاستغناء به.
هذا كله مضافا إلى وفاص بقية نصوص المقام باستقلال مرجحية موافقة
الكتاب، وعمدتها صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله.
الرابع: موافقة السنة.
وينحصر الدليل عليه بمقبولة ابن حنظلة، بناء على ما ذكرناه قريبا من أن
ضم السنة للكتاب فيها مبني على استقلال مرجحية كل منهما.
والمنصرف منها وان كان هو خصوص سنة النبي صلى الله عليه وآله إلا أنه لا يبعد
تعميمه لسنة الأئمة عليهم السلام بعد ما تضمن رجوعها لسنة النبي صلى الله عليه وآله بلحاظ قرب
كون منشأ الترجيح بالكتاب والسنة هو مرجعيتهما للأمة.
كما أن الظاهر الاختصاص بالسنة المقطوع بها، التي هي نظير الكتاب،
لأنها هي الصالحة ارتكازا للفصل في مورد الاختلاف، دون غيرها مما يكون
كأحد المتعارضين ولا يزيد عليه. فلاحظ.
الخامس: مخالفة العامة.
ويدل عليه جميع نصوص الترجيح السابقة، ومنها مرسل الاحتجاج عن
سماعة بن مهران، ومرسل الكليني المتقدم عند الكلام في الاجماع على
الترجيح، ومرسل المفيد المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب.
مضافا إلى موثق عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله على السلام: " قال: ما سمعته مني
يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه " (1)
فإنه وان كان مطلقا شاملا لصورة عدم التعارض، فيستلزم خروج الموافق لهم
عن موضوع الحجية ذاتا، إلا أن عدم إمكان البناء على عمومه لذلك ملزم بحمله

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 46.
186

على حال التعارض، فينفع في ما نحن فيه.
ومن هنا قد يستشهد أيضا بمرفوع أبي إسحاق: " قال لي أبو عبد الله عليه السلام:
أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا أدري. فقال: إن
عليا عليه السلام لم يكن دين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إرادة لابطال أمره، وكانوا
يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشئ الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له
ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس " (1).
اللهم إلا أن يقال: المرفوع غير ظاهر في فرض وجود خبر مخالف لهم،
والا فمن الظاهر أن مخالفتهم بنفسها ليست شرطا في حجية الخبر، ولا دخل لها
فيها، بل الأصل في خبر الثقة الحجية، وغاية ما قد يدعى مانعية موافقتهم منها،
كما هو مقتضى إطلاق الموثق، ولا يقتضيه المرفوع، بل هو ظاهر في حجية
نفس المخالفة.
نظير ما في خبر علي بن أسباط: " قلت للرضا عليه السلام: يحدث الامر لا أجد
بدا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك. قال: فقال:
ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك، فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه، فإن الحق
فيه " (2).
فلابد من حمله - بعد فرض حجيته في نفسه - على حال الضرورة - كما
تضمنه الخبر - ولا سيما مع عدم الاطلاق له، لعدم وروده لبيان وجوب الاخذ
بخلافهم، بل لتعليله مع المفروغية عنه، أو تأويله بما يناسب ما هو المعلوم من
عدم وجوب مخالفتهم في كل شئ " كما هو الحال في معتبرة أبي بصير عن أبي
عبد الله عليه السلام: " قال: ما أنتم والله على شئ مما هم فيه، ولا هم على شئ مما أنتم

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 24.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.
187

فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شئ " (1)، حيث لا يبعد حمله على
الردع عن تهيب مخالفتهم بسبب كثرتهم وسيطرتهم ودعاواهم العريضة، إذ قد
يوجب ذلك قدسية لهم يستبعد معها اجتماعهم على الخطأ ويغفل عن ابتناء
مذهبهم على الأصول الفاسدة والضلال عن الحق.
وأما الموثق فيشكل الاستدلال به بعدم كون المشابهة واللا مشابهة عبارة
عن محض الموافقة والمخالفة لينفع فيما نحن فيه، بل الظاهر منهما معنى اخر
راجع إلى نحو من المناسبة والمشاكلة بين كلامه عليه السلام وقول العامة أو المباينة
بينهما، حيث قد يدرك المعاشر للعامة والمطلع على مذاهبهم والممارس
لكلامهم وطرق استدلالهم نحوا من المعالم والمباني المميزة لها مضمونا أو
استدلالا، كمتابعة ولاة الجور واحترامهم والتسامح معهم واعتماد الأقيسة
والاستحسانات في الاحكام ونحو ذلك، ويكون جري كلامه عليه السلام على ذلك
معيارا في المشابهة لقول الناس والبعد عنها معيارا في عدمها، ولا مانع من
الالتزام بمانعية ذلك من حجية الكلام مع قطع النظر عن التعارض.
ومجرد صعوبة إدراك ذلك لنا، لعدم ألفتنا لكلام العامة وبعدنا عنهم، لا
يمنع من حمل الموثق عليه مع قرب تيسره للمخاطب.
وبالجملة: الموثق بظاهره أجبني عما نحن فيه، وليس هو من سنخ
المطلق المنطبق عليه، ليمكن حمله وقصره عليه.
فالعمدة في المقام: نصوص الترجيح المشار إليها المعتضدة بمعروفية
الترجيح المذكور بين الأصحاب وجريهم عليه بنحو يقرب تحقق الاجماع
منهم، حيث يبعد جدا مخالفتهم لمفاد هذه النصوص مع كثرتها ومعروفيتها
بينهم وقرب مضامينها لأذواقهم ولظروف صدور الروايات، حتى لا يبعد كون
المرجح المذكور ارتكازيا عند الطائفة المحقة مستغنيا عن الاخبار.

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.
188

لكن قال المحقق قدس سره في المعارج: " قال الشيخ قدس سره: إذا تساوت الروايتان في
العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة. والظاهر أن احتجاجه في ذلك
برواية رويت عن الصادق عليه السلام وهو إثبات لمسألة علمية بخبر واحد، وما يخفى
عليك ما فيه. مع أنه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة، كالمفيد وغيره ".
وهو كما ترى، لاستفاضة النصوص بذلك بنحو يبعد احتمال عدم صدور
شئ منها، فهي أشبه بالمتواتر الاجمالي، مع اعتضادها بما ذكرنا.
وكون المسألة علمية لا تثبت بخبر الواحد، مبني على ما اشتهر من عدم
ثبوت المسألة الأصولية بالأدلة الظنية، وهو مختص بأصول الدين دون أصول
الفقه.
وأما طعن المفيد فإن أراد به طعنه في التمسك بخبر الواحد في المسائل
العلمية فقد عرفت حاله، وان أراد به طعنه في المرجح المذكور فلعله يشير إلى
ما حكي عن رسالة العدد، حيث قال بعد ذكر المرسل المتقدم في الترجيح
بموافقة الكتاب: " وانما المعنى في قولهم عليهم السلام: خذوا بأبعدهما من قول العامة
يختص ما روي عنهم في مدائح أعداء الله والترحم على خصماء الدين
ومخالفي الايمان، فقالوا عليهم السلام: إذا أتاكم عنا حديثان مختلفان أحدهما في قول
(تولي. ظ) المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والاخر في التبري منهم، فخذوا
بأبعدهما من قول العامة، لان التقية تدعوهم بالضرورة إلى مظاهرة العامة بما
يذهبون إليه من أئمتهم ".
وهو كما ترى تكلف لا مجال لحمل النصوص عليه، خصوصا المقبولة،
بل حتى المرسل، لوضوح الاستغناء بالترجيح بموافقة الكتاب عن الترجيح
بمخالفة العامة في المسألة المذكورة.
على أنه لو تم إرادة ذلك منها فإلغاء خصوصية موردها والتعدي إلى ما
نحن فيه هو الأنسب بالجهة الارتكازية التي أشار إليها. فلا ينبغي التأمل في
189

المرجح المذكور.
هذا، وقد حاول المحقق الخراساني قدس سره تخريج المرجح المذكور على
القاعدة بإرجاعه إلى تمييز الحجة عن اللاحجة، لا الترجيح بين الحجتين،
ليحتاج للنصوص الخاصة.
بتقريب: أن أصالة الجهة لا تجري في الخبر الموافق لهم بعد الوثوق
بصدور الخبر المخالف، للوثوق حينئذ بصدوره تقية. وأما ما ذكره
المحقق قدس سره في المعارج من احتمال أن يكون المخالف قد أريد به خلاف ظاهره
لحكمة مصححة لذلك.
ففيه: أن الاحتمال المذكور غير معتد به بالإضافة لاحتمال التقية في
الموافق. فما ذكره المحقق الخراساني قدس سره لا يخلو عن وجه - ولذا لم يبعد كون
المرجح المذكور ارتكازيا عند الطائفة، كما سبق - إلا أنه لا يبلغ من الوضوح
حدا يستغنى معه عن الأخبار الخاصة أو الاجماع القولي أو العملي، أو نحوهما
من الأدلة التعبدية. بل قد ينافيه في الجملة نصوص الترجيح، لظهورها في تأخر
المرجح المذكور عن الترجيح بموافقة الكتاب.
وإن كان الامر غير مهم بعد عدم ظهور أثر عملي: للنزاع المذكور،
لوجوب العمل بمخالف العامة وسقوط الموافق لهم عن الحجية على كل حال،
إما بمقتضى القاعدة، لعدم جريان أصالة الجهة فيه حال المعارضة، أو تعبدا
لأدلة الترجيح المذكورة.
وأشكل من ذلك ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من عدم حجية موافق العامة
ذاتا حتى مع عدم المعارض له، إلا إذا احتف بقرائن، كقبول الأصحاب له
وعملهم به، كما قد يستدل عليه برواية ابن أسباط المتقدمة.
لوضوح غرابة ما ذكره ومنافاته لأصالة الجهة المعول عليها بين العقلاء،
فإن مجرد ابتلاء المتكلم بمن قد يتقيه لا يقتضى سقوط كلامه عن الحجية ما لم
190

تقم أمارة على تقيته منه، ولولا ذلك لم تتأد التقية بالموافقة.
وأغرب من ذلك استدلاله برواية ابن أسباط، فإنها - مع ضعف سندها،
وعدم ظهور انجبارها بالعمل، واختصاصها بحال الضرورة في مقام العمل
وانسداد باب العلم - أجنبية عن مدعاه، إذ لا تدل على عدم حجية الخبر الموافق
لهم، بل على حجية مخالفتهم على إصابة الواقع، فغاية ما يلزم تعارض الحجتين
في مورد الخبر الموافق لهم، فيلزم حملها على حال فقد الخبر الموافق لهم، إما
لاختصاصها به - كما ذكرنا - أو لأنه المتيقن من موردها.
وأما بقية ما تضمن الامر بمخالفتهم، كمعتبرة أبي بصير المتقدمة، فهي
وإن كانت مطلقة، إلا أن اشتمالها على نفي كونهم من الحنيفية على شئ مع
العلم بإصابتهم لكثير من الاحكام الفرعية مانع من حملها على جعل طريقية
مخالفتهم في الفروع للواقع بل لابد من تنزيلها على ما سبق أو نحوه مما يلائم
ذلك.
وكان الأولى له الاستدلال بموثق عبيد بن زرارة المتقدم لولا ما عرفت من
الاشكال في دلالته.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في حجية الخبر الموافق لهم ذاتا، وتعينه
للسقوط عن الحجية بوجود المعارض المخالف، وانما الكلام في أن تعينه
للسقوط مقتضى القاعدة الأولية وقد جرت عليها النصوص - كما سبق من
المحقق الخراساني - أو تعبدي مستفاد من تلك النصوص - كما لعله الأظهر -
ولا أثر لذلك في مقام العمل.
بقي في المقام أمور..
أولها: أن مقتضى أكثر نصوص المقام أن المعيار في المرجح المذكور
على موافقة فتاوى العامة وآرائهم ومخالفتها، كما هو مقتضى إطلاق الموافقة
والمخالفة. ومقتضى صحيح عبد الرحمن أن المعيار على موافقة أخبارهم
191

ومخالفتها.
والظاهر رجوعه للأول، لقضاء المناسبات الارتكازية بأن ذكر الاخبار
بلحاظ كشفها عن رأيهم، لأنه المناسب للتقية التي يبتني عليها المرجح المذكور
ارتكازا، ولا تعم أخبارهم التي لا يعولون عليها ولا يعملون بها، كما يؤيده أن
كثيرا ما يوجد في رواياتهم ما يوافق مذهب الحق، وإن أهملوه.
وعلى هذا ينزل ما في خبر محمد بن عبد الله من قوله عليه السلام: " فانظروا إلى
ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه ".
ثانيها: أن موضوع النصوص لما كان هو موافقة العامة والقوم ومخالفتهم،
فلابد فيه من صحة نسبة الحكم لهم على عمومهم، والمتيقن منه صورة اتفاقهم
عليه.
وقد يلحق بذلك ما إذا كان الحكم شايعا بينهم مشهورا عندهم، بحيث
يعد المخالف فيه منهم لقلته وندوره شاذا ولا يخل بنسبة الحكم إليهم عرفا، إذ
لا يبعد شمول النصوص له ولو بقرينة عدم خلو المسائل غالبا من الأقوال
الشاذة النادرة، فلو حملت على الاجماع الحقيقي كان العمل بها نادرا، ولا سيما
مع عدم تيسر الاطلاع على الاجماع بالنحو المذكور، حيث لا طريق غالبا لنفي
الأقوال النادرة التي ليس من شأنها الظهور.
أما لو كان الخلاف بينهم ظاهرا، لتكافؤ الأقوال أو تقاربها أشكل تحقق
المرجح المذكور لو كان أحد الخبرين موافقا لاحد القولين أو الأقوال منهم في
المسألة والثاني مخالفا لاجماعهم.
اللهم إلا أن يستفاد عمومه له من فرض موافقة الخبرين للعامة في
المقبولة والمرفوعة، لظهوره في فهم السائل عموم الموافقة لموافقة بعضهم،
لامتناع موافقتهما معا لاجماعهم، وهو المناسب لارتكاز ابتناء المرجح المذكور
على تحكيم احتمال التقية في الموافق دون المخالف، فإنه جار في الفرض
192

المذكور، لعدم تأدي التقية مع اختلافهم إلا بموافقة بعض أقوالهم، فيتعين البناء
على الترجيح فيه.
نعم، لا يعتد بموافقة الشاذ النادر، كما لا يخل موافقته بترجيح الخبر
الموافق له المخالف للأقوال الشايعة على الموافق لها. فلاحظ.
ثالثها: حيث سبق أنه يكفي في الترجيح مخالفة الخبر لاجماع العامة
وموافقة الاخر لبعضهم فلا يفرق في البعض بين أن يكون معاصرا لصدور الخبر
وأن يكون سابقا عليه " ولا بين أن يكون منتسبا للسلطان بقضاء ونحو. وأن لا
ينتسب له.
لاطلاق النص، بل مقتض فرض موافقة الخبرين للعامة في المقبولة ثم
الامر فيها بترك ما حكامهم إليه أميل كون المراد من موافقة بعضهم ما يعم موافقة
غير الحكام والقضاة.
مضافا إلى عموم الجهة الارتكازية المشار إليها، لما هو المعلوم من أن
مذهبهم في العصور السابقة على فتح باب الاجتهاد والاختلاف بمصراعيه
فتتأدى التقية بموافقة أي منهم، وإنما يخشى من الفتوى المخالفة لاجماعهم،
حيث تكون سببا للتشهير والتشنيع بمخالفة المسلمين والشذوذ عنهم الذي
ابتليت به هذه الطائفة.
نعم، يقصر الاطلاق عن الأقوال الحادثة لهم بعد صدور الخبر، لعدم
تأدي التقية بها.
ومنه يظهر عدم الخصوصية للمذاهب الأربعة، لان الحصر بها قد فرض
عليهم في العصور المتأخرة عن عصور حضور الأئمة عليه السلام، بل بعضها قد
حدث في أواخر عصورهم عليهم السلام وربما كان في ما قبل ذلك ما هو أكثر شيوعا
وأجل قائلا عندهم.
رابعها: تضمنت مقبولة ابن حنظلة رجوع الترجيح المذكور إلى
193

ترجيحين طوليين: ترجيح مخالف العامة على موافقهم - الذي عرفت أن المراد
به ما يعم موافق البعض - ثم ترك ما حكامهم وقضاتهم إليه أميل لو وافقهم
الخبران جميعا.
وبه ترفع اليد عن إطلاق المرفوعة لو كانت حجة في نفسها. وحيث
يختلف ميل الحكام باختلاف العصور فالمناسبات الارتكازية تقتضي ملاحظة
عصر صدور الخبر، فلو وافق كل من الخبرين ما يميل إليه الحكام في عصر
صدوره يسقط المرجح المذكور. وكذا لو جهل الحال. فلا حظ.
خامسها: الظاهر أن المراد بالعامة المخالفون الذين يتولون الشيخين
ويرون شرعية خلافتهما على اختلاف فرقهم، لان ذلك هو المنصرف إليه
العناوين المذكورة في النصوص.
نعم، يشكل شمولهم للخوارج، لان تبرءهم من سلاطين الجور
المتأخرين وممن يدخل في جماعتهم ويمضي حكمهم على مر العصور
أوجب نبذهم عند العامة ونظرتهم إليهم نظرة الشذوذ والمروق عن الجماعة،
فينصرف عنهم الاطلاق، كما لا تتأدى التقية بموافقتهم. فمثلهم في ذلك الزيدية
البترية الذين يتولون الشيخين.
وكذا الفرق المخالفة للحق من الشيعة، لان انتسابهم للشيعة أوجب
عزلتهم عن جماعة المخالفين فلا يخشى جانبهم ولا يهتم بمجاملتهم، ولذا ورد
الحث على مقاطعتهم ومباينتهم، بخلاف العامة الذين لهم الحكم والسلطان.
على أنه لم تسجل لهم غالبا آراء في الفروع يمتازون بها تكون معيارا في
الموافقة والمخالفة في ما نحن فيه.
السادس: الاجماع.
ففي الاحتجاج: " وروي عنهم عليهم السلام أيضا أنهم قالوا: إذا اختلفت أحاديثنا
194

عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا، فإنه لا ريب فيه " (1).
وظاهر الاجتماع هنا هو الاجتماع على العمل بالخبر والتعويل عليه
الراجع إلى الاجماع في الفتوى، لا الاجماع على الرواية الذي قد يصاحب
هجره عندهم ومفارقتهم له.
ولعله لذا لم يشر لاحتمال الاجتماع على الخبرين معا، الذي هو ممكن
في الاجماع على الرواية.
وحيث كان الاجماع على الفتوى من القرائن القطعية على مطابقة
مضمون الخبر للواقع دون الاخر، فيخرج عن موضوع الحجية ذاتا مع قطع
النظر عن المعارضة فهو خارج عما نحن فيه من الترجيح بين الحجتين.
ولعله إنما نبه على ذلك في الخبر لعدم وضوح هذا المعنى في الصدر
الأول، وتخيل إمكان اجتماع الشيعة على الخطأ بسبب اختلاف الاخبار
وابتلائهم بالتقية ونحوهما مما يوجب خفاء الواقع عليهم، على أن ضعف الخبر
مانع من التعويل عليه لو كان مخالفا للقواعد.
السابع: الأحدثية.
فقد تضمنت جملة من النصوص لزوم الاخذ بالأحدث. كخبر المعلى بن
خنيس الذي لا يخلو عن اعتبار: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إذا جاء حديث عن
أو لكم وحديث عن اخركم بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن
الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا بقوله قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا والله
لا ندخلكم إلا في ما يسعكم " (2).
وخبر أبي عمرو الكناني: " قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا عمرو أرأيت

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث 43، والاحتجاج: ج: 2 ص 109. طبع
النجف الأشرف.
(2) الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8
195

لو حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك
بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيهما كنت تأخذ؟ قلت:
بأحدثهما وأدع الاخر. فقال: قد أصبت يا أبا عمرو أبى الله إلا أن يعبد سرا. أما
والله لئن فعلتم إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا في دينه إلا التقية " (1).
ومرسل الحسين بن المختار عنه عليه السلام: " قال: أرأيتك لو حدثتك بحديث
العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت اخذ
بالأخير. فقال لي: رحمك الله " (2).
ومرسل الكليني: " وفي حديث اخر: خذوا بالأحدث " (3).
ولم يتعرض شيخنا الأعظم قدس سره للمرجح المذكور مع تعرضه لنصوصه،
وكذا من بعده من مشايخنا.
بل في الحدائق: " ولم أقف على من عد ذلك في طرق الترجيحات، فضلا
عمن عمل عليه غير الصدوق طاب ثراه في الفقيه... ".
وقد أشار إلى ما ذكره في الفقيه في باب الرجلين يوصى إليهما، حيث ذكر
حديثا عن العسكري عليه السلام واخر معارضا له عن الصادق عليه السلام ثم قال: " لست أفتي
بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه السلام. ولو صح الخبران
جميعا لكان الواجب الاخذ بقول الأخير، كما أمر به الصادق عليه السلام وذلك
الاخبار لها وجوه ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس.
وبالله التوفيق ".
وفي الوسائل بعد أن ذكر مرسل الحسين بن المختار، " أقول: يظهر من
الصدوق أنه حمله على زمان الإمام خاصة، فإنه قال في توجيهه: ان كل إمام

(1) الوسائل ج: 18، 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 17.
(2) الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 7.
(3) الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.
196

أعلم بأحكام زمانه من غيره من الناس. انتهى. وهو موافق لظاهر الحديث.
وعلى هذا يضعف الترجيح به في زمان الغيبة وفي تطاول الأزمنة. ويأتي ما يدل
على ذلك. والله أعلم ".
لكن حمل كلام الصدوق على ذلك لا يلائم رجوعه للمرجح المذكور
في صدر كلامه.
كما أنه لا وجه لاستظهاره من الحديث المذكور، فإن مقتضى إطلاق
الخبر وجوب العمل على الا حدث حتى بعد وفاة الامام، بل هو كالصريح من
خبر المعلى، المتضمن وجوب العمل بقول الامام السابق حتى يبلغ خلافه عن
الحي.
فالذي ينبغي أن يقال: من الظاهر أن تأخر الزمان لا دخل له في أقربية
الدليل المتأخر للواقع وقوة كاشفيته. ومن هنا لم يكن المستفاد من هذه
النصوص الترجيح اثباتا بين الحجتين بلحاظ طريقيتهما للواقع، بل الترجيح
ثبوتا بين الحكمين المحكيين بهما من دون قصور في حجيتهما، بلحاظ جريان
الا حدث على طبق الوظيفة الفعلية التي يدركها إمام الوقت، سواء كانت هي
الحكم الواقعي الثانوي، لحدوث سبب التقية الرافع للحكم الأولي المبين
بالدليل الأسبق، أو لتبدل مقتضى التقية، أم كانت هي الحكم الأولي، لارتفاع
سبب التقية التي كان الحكم الأسبق جاريا على مقتضاها.
كما هو مقتضى قوله عليه السلام: " إنا والله لا ندخلكم إلا في ما يسعكم... "
وقوله عليه السلام: " أبى الله إلا أن يعبد سرا... "، لمناسبتهما لتوجيه اختلاف نفس
الحكمين المحكيين بالدليلين، لأنه هو الذي يسع الشيعة والذي يرجع إلى
عبادة السر والتقية في مقام العمل، لا لتوجيه اختلاف نفس الدليلين في بيان
الواقع، الراجع للتقية في الفتوى، التي هي من شؤون الامام المختصة به.
كما يناسبه أيضا ما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار من
197

رجوع الراوي بطبعه للمرجح المذكور من دون أن ينبهه الامام له، ومن الظاهر
أن الامر الارتكازي هو العمل على الحكم الا حدث الذي يدركه إمام الوقت، لا
ترجيح الحجة الا حدث بلحاظ كاشفيتها.
وبالجملة: الترجيح بالأحدثية راجع للترجيح بين الحكمين ثبوتا، لا بين
الحجتين إثباتا الذي هو محل الكلام، وعليه تجري المرجحات المتقدمة.
إذا عرفت هذا، فاختلاف الدليلين في الحكم إن كان مع وحدة الحكم
الذي يكونان حجة عليه، وهو الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع غير القابل
للتبدل في فرض عدم النسخ، فلا موضوع معه للترجيح بين الحكمين ثبوتا، بل
يتعين التكاذب بين الدليلين الذي هو منشأ للتعارض بين الدليلين وموضوع
للترجيح إثباتا بينهما، كما تضمنته أكثر نصوص المقام.
وإن كان مع تعدد الحكم الذي يكونان حجة عليه، للحكاية بهما عن
الحكم الفعلي الثابت حين صدور كل منهما، ولو كان ثانويا، فلا موضوع معه
للترجيح بينهما إثباتا، لعدم التكاذب ولا التعارض بينهما، بل يتعين معه الترجيح
بين الحكمين ثبوتا بالأخذ بالأحدث، كما تضمنته النصوص المتقدمة، فلا
يجري الترجيح بالأحدثية مجرى سائر المرجحات، بل هو مختلف معها سنخا
وموضوعا.
هذا، وحيث لا ريب في ظهور النصوص الواردة عن المعصومين عليهم السلام
في بيان الحكم الواقعي الثابت في أصل التشريع غير القابل للتغيير في فرض
عدم النسخ، دون الاحكام الفعلية الثابتة لأجل التقية ونحوها القابلة للتغير، كان
اختلافها في الموضوع الواحد موجبا لتعارضها في أنفسها وموردا للمرجحات
الاثباتية المتقدمة، ولا مجال فيها للترجيح بالأحدثية، نظير ما سبق في مباحث
الجمع العرفي من عدم التعويل على احتمال النسخ.
ويتعين حمل نصوص الترجيح بالأحدثية على ما إذا احتف الكلام بما
198

يناسب حمله على بيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية، كالقطع بعدم كون
مضمونه هو الحكم الأولي، مع ظهور الخطاب به في الجدية المستتبعة للعمل،
نظير ما ورد من أمر الكاظم عليه السلام علي بن يقطين بوضوء العامة، حيث أدرك على
أن الامر المذكور ثانوي لمخالفته لما عليه إجماع العصابة في كيفية الوضوء، كما
صرح به في الخبر (1).
وربما يشير إليه ما في خبر الخثعمي: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من
عرف أنا لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا، فإن سمع منا خلاف ما يعلم
فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه " (2)، فإن الفتوى التي تدفع عن المكلف هي الفتوى
بالحكم الثانوي المطابق لمقتضى التقية في حقه، لا الفتوى الصورية تقية غير
المستتبعة للعمل مع العلم بحالها، فإنها تدفع عن المفتي لا غير.
وذلك هو المناسب لما تضمنه خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار
من ترجيح الراوي الا حدث بطبعه من دون أن ينبهه الإمام عليه السلام، له لاختصاص
الجهة الارتكازية المقتضية لذلك بما إذا أحرز أن كلا من الخطابين متكفل
بالوظيفة الفعلية وان كانت ثانوية، دون ما إذا كانا واردين لبيان الحكم الأولي
غير القابل للتعدد، لعدم الفرق بين الا حدث وغيره في احتمال مخالفة الواقع.
بل ما تضمنه خبر الكناني من فرض تعدد الاستفتاء من الشخص الواحد
في الواقعة الواحدة مناسب لكون المسؤول عنه هو الحكم الفعلي القابل
للاختلاف في عامين، إذ لا داعي غالبا لتكرار السؤال عن الحكم الأولي الذي
لا يختلف.
وأما ما تضمنه هو ومرسل الحسين بن المختار من فرض اختلاف
الحديثين المسموعين من الامام، مع ظهور الحديث في ما يحكيه الامام عن

(1) الوسائل ج: 1، باب: 3 من أبواب الوضوء حديث: 3.
(2) الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 3.
199

النبي صلى اله عيه وآله أو الوصي مما هو ظاهر في الحكم الأولي الثابت بأصل التشريع.
فلابد من تنزيله لأجل ذلك على فرض قيام القرينة على كون نقل الامام
للحديث لبيان الوظيفة الفعلية وان كانت ثانوية على خلاف ظاهره، لعدم
المصلحة بالتصريح فيه بالتقية، فلا يمنع التعارض بين الحديثين من العمل بكل
منهما نقله من الامام.
نعم، ذلك لا يناسب إطلاق خبر المعلى، لظهوره في اختلاف الحديثين
المحكيين عن الامامين الشامل لما إذا كان كل منهما ظاهرا في بيان الحكم الأولي
الثابت بأصل التشريع، وقد سبق أن ذلك هو الظاهر في عموم الأحاديث، وهي
التي تكون موردا للابتلاء والعمل.
ولا سيما مع توقف الراوي وسؤاله عن الوظيفة فيه، مع أن العمل
بالأحدث في فرض ظهور الحديث في بيان الوظيفة الفعلية وان كانت ثانوية
أمرا ارتكازيا لا يحتاج إلى سؤال، فلابد أن يكون منشأ السؤال ظهور الأحاديث
المسؤول عنها في بيان الحكم الأولي الموجب للتعارض والتحير.
ويكون الجواب بوجوب العمل بالأحدث كاشفا عن ورود تلك
الأحاديث لبيان الوظيفة الفعلية ولو كانت ثانوية، وإن كان ذلك خلاف ظهورها
الأولي.
ولا مجال لحمله على الترجيح إثباتا بالأحدثية بين الحجتين في فرض
تعارضهما تعبدا، لعدم مناسبته لقوله عليه السلام: " إنا والله لا ندخلكم إلا في ما
يسعكم ".
فالخبر المذكور كاشف عن حال اختلاف الاخبار، وأنه ليس راجعا إلى
تعارض الحجتين إثباتا في الحكم الواحد، كما هو مقتضى ظهورها البدوي، بل
إلى تعدد الحكم ثبوتا بلحاظ العناوين الثانوية القابلة للتبدل، الذي يلزم معه
الاخذ بالأحدث والجري عليه حتى يصدر خلافه، لان إمام الوقت أعرف،
200

بحكمه.
لكن ذلك مخالف للنصوص الكثيرة الظاهرة في حجية الاخبار في معرفة
الحكم الشرعي الأولي ولزوم العمل عليها في ذلك، كما هو ظاهرها البدوي،
كنصوص الترجيح والتوقف الظاهرة في رجوع اختلاف الاخبار إلى تعارض
الحجتين، ونصوص العرض على الكتاب والسنة الملزمة بطرح ما خالفهما،
لوضوح أنه لو كان البناء على العمل بالخبر الا حدث لمطابقته للوظيفة الفعلية
وإن كانت ثانوية لكان حكم المخالف مقدما على حكم الكتاب والسنة.
مضافا إلى ما هو المعلوم من سيرة الأئمة عليهم السلام من عدم التصدي لبيان
الوظيفة الفعلية الثانوية في حق جميع الشيعة، بنحو تتجدد البيانات العامة
منهم عليهم السلام باختلاف المناسبات والظروف، بل البناء على العمل بالأحكام الأولية
بعد تشخيصها - كما هو مقتضى الوضع الطبيعي المناسب للامر بالأخذ بخلاف
العامة - وايكال تشخيص الوظيفة الثانوية من حيثية التقية في حق كل شخص
إليه - كما يشخصها من سائر الجهات، كالحرج والضرر - لاختلافها باختلاف
الأشخاص والظروف غير المنضبطة عادة، ولذا ورد الحث على التقية مع
وضوح الاستغناء عنه لو كان تشخيص مقتضاها من وظيفة الإمام عليه السلام.
وانما صدر منهم في مناسبات نادرة تشخيص الوظيفة الثانوية في حق
بعض الأشخاص وخطابهم على طبقها، كقصة علي بن يقطين ونحوها.
ولا مجال مع ذلك للتعويل على خبر المعلى، ولا سيما مع معارضته
لنصوص الترجيح والتخيير والتوقف التي يتعذر حملها على خصوص صورة
الجهل بالأحدث، لندرتها في عصر حضور الأئمة عليهم السلام.
بل اللازم بناء عليه التوقف عن الترجيح حتى مع الجهل بالأحدث، لعدم
صلوح المرجحات المذكورة فيها لتشخيص الوظيفة الثانوية المفروض اهتمام
الأئمة عليه السلام ببيانها.
201

مضافا إلى ظهور إعراض الأصحاب عنه في مقام العمل حتى في عصر
ظهور الأئمة عليهم السلام، لان الجري عليهم موجب لانقلاب مقياس الفقه بنحو لا
يخفى عادة.
فلابد من حمله على ظروف خاصة أو بيانات خاصة نظير ما سبق في
خبر الكناني ومرسل الحسين بن المختار، ولا يتخذ قاعدة عامة يعمل عليها، ولا
سيما في عصر الغيبة المتطاول الذي يعلم بعدم بقاء مقتضي التقية فيه على
النحو الذي بدأ.
ولعل هذا هو المنشأ الارتكازي لما تقدم من الوسائل من عدم الرجوع
للمرجح المذكور في عصر الغيبة، ومن الحدائق من عدم تعرض الأصحاب له،
فضلا عن عملهم عليه. حتى أن الكليني مع روايته للنصوص المذكورة لم يعمل
بها ولم يشر إليها في ما سبق من كلامه في ديباجة الكافي الذي يسجل رأيه في
الترجيح.
الثامن: موافقة الاحتياط.
وقد انفردت بها مرفوعة زرارة، التي تقدم عدم صلوحها للاستدلال. فلا
يهم مع ذلك تحقيق المعيار في الموافقة والمخالفة، وأنه كيف يمكن فرضهما
في الخبرين معا، كما تضمنته المرفوعة. فإنه وإن كان قد يصور موافقتهما معا له
فيما لو كان كل منهما مقتضيا للتكليف بشئ، كما لو دل أحدهما على وجوب
الجمعة والاخر على وجوب الظهر، بلحاظ أن متابعة احتمال الوجوب في كل
منهما أحوط عملا من البناء على عدمه.
كما قد تصور مخالفتهما معا له فيما لو كان نافيا للتكليف، كما لو دل
أحدهما على عدم وجوب الظهر والاخر على عدم وجوب الجمعة.
إلا أنه يشكل بأن دلالة كل منهما على التكليف أو عدمه إن لم تكن مع
202

دلالة التزامية مناقضة لدلالة الاخر، لامكان ثبوت التكليف على طبقهما معا أو
عدمه كذلك، لم يكونا متعارضين، والا كان كل منهما موافقا للاحتياط من جهة
ومخالفا له من جهة أخرى.
وتنزيل الموافقة للاحتياط والمخالفة له على ما يعم ذلك - مع مخالفته
لاطلاقهما - لا يناسب الترديد بينهما للتلازم بينهما حينئذ. إلا أن يكون الملحوظ
فيهما المدلول المطابقي فقط. والامر سهل بعد ما ذكرنا.
التاسع: ترجيح المحكم على المتشابه.
ففي الصحيح عن أبي حيون مولى الرضا عنه عليه السلام: " قال: من رد متشابه
القران إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال: إن في أخبارنا محكما
كمحكم القران ومتشابها كمتشابه القران، فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا
تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا (1) "، ولا يخفى أن المتشابه ليس حجة في
عرض المحكم، سواء أريد به المجمل بدوا الذي لا يكون اتباعه إلا بالتأويل
التحكمي الخالي عن القرينة، أم الظاهر الموهم خلاف الواقع، والذي يعلم بعدم
إرادة ظاهره بالنظر في القرائن العقلية أو النقلية، بحيث يكون النظر في القرائن
موجبا لاجماله عرضا بعد القطع بعدم إرادة ظاهره، أو لاستكشاف المراد
الحقيقي به، كالظاهر مع الأظهر أو النص، ويكون اتباعه بالعمل بظهوره البدوي
من دون تأمل في القرائن:
فليس العمل بالمحكم دون المتشابه من ترجيح إحدى الحجتين على
الأخرى الذي هو محل الكلام.
وإنما ذكرناه هنا - كما ذكرنا بعض ما سبق - لاستقصاء مفاد النصوص التي
عدت من نصوص الترجيح في كلام شيخنا الأعظم وغيره.

(1) الوسائل ج: 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 22.
203

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن المرجحات المنصوصة تنحصر
بالشهرة في الرواية، وموافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة، وهي التي اقتصر
عليها الكليني قدس سره تقريبا في ما سبق من كلامه. وأن ما عداها مما تعرضت له
النصوص إما لا تنهض نصوصه باثباته، لضعفها سندا أو دلالة، أو لا يرجع
للترجيح بين الحجتين المتعارضتين، بل إلى وجوب العمل بالحجة منهما.
فلاحظ.
204

المبحث الثالث
في التعدي عن المرجحات المنصوصة
أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات المقام الأول في أصالة التساقط في
المتعارضين إلى أن احتمال ترجيح أحد المتعارضين تعبدا لا يكفي في البناء
على حجيته والخروج عن أصالة التساقط، بل لابد من إحراز ترجيحه وحجيته.
وأما بالنظر إلى الأدلة الخاصة فإن كان البناء على التساقط مع فقد المرجح
ولو من جهة الأصل المذكور، فالامر كذلك، للشك في حجية محتمل الرجحان.
وإن كان البناء على التخيير، فإن كان مبنيا على إطلاق يقتضي التخيير بين
المتعارضين يصلح دليلا على نفي الترجيح بينهما لزم الاقتصار في الخروج عنه
على ما ثبت ترجيحه، والبناء على عدمه مع الشك وحجية محتمل المرجوحية
أخذا بالاطلاق المذكور.
وإن لم يكن لدليل التخيير إطلاق، بل كان المتيقن عدم سقوط كلا
المتعارضين، تعين الاقتصار في التخيير على صورة العلم بعدم المرجح لاحد
الدليلين، لأنه المتيقن من مورد التخيير، ومع احتمال الترجيح يلزم العمل عليه،
للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية الاخر الملزم بالبناء على عدم
حجيته.
هذا، وحيث لا دليل على التخيير - لو تم - إلا النصوص التي يأتي الكلام
فيها، والتي لها إطلاق في نفسها، فلا فرق بين القول بالتساقط والقول بالتخيير
في عدم التعويل على احتمال الترجيح.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في اخر تنبيهات دليل الانسداد من سقوط
205

إطلاقات التخيير عن الحجية، للعلم بوجوب الترجيح إجمالا وعدم وفاء
المرجحات المنصوصة بالمقدار المعلوم بالاجمال فيتعين الاكتفاء بالظن
بالترجيح.
فهو كما ترى، إذ لو سلم العلم بوجوب الترجيح إجمالا فالمرجحات
المنصوصة وافية بالمعلوم بالاجمال، ولا يعلم بوجود غيرها، لتسقط إطلاقات
التخيير عن الحجية.
ولو سلم ما ذكره لزم الاقتصار في التخيير على المتيقن ووجب الترجيح
بمجرد احتماله للعلم بحجية محتمل الرجحان والشك في حجية محتمل
المرجوحية، ولا وجه للاكتفاء بالترجيح.
وقد أطال قدس سره في النقض والابرام بما لا مجال لمتابعته فيه، بل نكتفي بما
علقناه على كلامه. ولا مخرج عما ذكرنا من لزوم الاقتصار في الترجيح على
المتيقن من دون فرق بين القول بالتساقط والتخيير.
إذا عرفت هذا، فالمعروف من جماعة من الأصحاب التعدي عن
المرجحات المنصوصة لكل مزية، بل نسب شيخنا الأعظم قدس سره إلى جمهور
المجتهدين عدم الاقتصار على المرجحات الخاصة، وقد أشار في اخر تنبيهات
الانسداد لبعض الكلمات الشاهدة منهم بذلك، بل نسب لبعض مشايخه
استظهار الاتفاق على الترجيح بكل ظن، كما قال في مبحث الترجيح: " ادعى
بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من
الدليلين بعد أن حكى الاجماع عليه عن جماعة ".
وربما يستدل بذلك في المقام، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره في اخر
تنبيهات الانسداد: أن تتبع كلماتهم يوجب الظن القوي بل القطع بأن بناءهم
على الاخذ بكل مزية، بنحو يظهر منه قول التعويل على ذلك من جهة الاجماع.
لكن لا مجال لدعوى الاجماع بعد ظهور كلام الكليني المتقدم في
206

الاقتصار على المرجحات المنصوصة، بل لا يبعد استظهاره من جميع القدماء
الذين لا طريق لمعرفة آرائهم إلا النصوص التي يروونها ويثبتونها في كتبهم، ولا
أقل من عدم إمكان نسبة العموم إليهم.
على أن بعض ما نقل عمن صرح بذلك منهم راجع إلى بعض الوجوه
الاعتبارية التي لا تصلح للاستدلال، ولا يظهر منهم ابتناء ذلك على التعبد
الشرعي الذي قد يخفى علينا ويستكشف من إجماعهم، حتى ظن بعض
المتأخرين - في ما حكي عنه - ابتناء ذلك منهم على متابعة طريقة العامة.
وإن كان الأنسب حمل ذلك منهم على الاحتياط في تحري أقرب
الدليلين للواقع بعد بنائهم على التخيير وعدم تساقط المتعارضين، مع الغفلة -
بسبب الانس بارتكازية ذلك - عن ورود إطلاقات التخيير وعدم وجوب
الاحتياط معها.
ولعله لبعض ما ذكرنا أنكر ذلك غير واحد من المتأخرين، خصوصا
المحدثين، قال في الحدائق: " وقد ذكر علماء الأصول من وجوه الترجيحات في
هذا المقام بما لا يرجع أكثره إلى محصول، والمعتمد عندنا على ما ورد عن أهل
بيت الرسول من الاخبار المشتملة على وجوه الترجيحات... ".
وبالجملة: لا مجال لدعوى الاجماع على التعدي عن المرجحات
المنصوصة، فضلا عن الاستدلال به للخروج عن مقتضى الأصل المتقدم مع
الشك في مرجحية بعض الأمور.
هذا، وقد حاول شيخنا الأعظم قدس سره إثبات ذلك من نصوص الترجيح
بدعوى ظهور بعض الفقرات فيها في التعدي بالنحو المذكور.
منها: الترجيح بالأصدقية في المقبولة، وبالأوثقية في المرفوعة، لقضاء
المناسبات الارتكازية بأن اعتبارهما ليس تعبديا محضا، كاعتبار الأعدلية
والأفقهية، بل لان الخبر الواجد لهما أقرب للواقع في نظر الناظر من دون
207

خصوصية سبب فيتعدى منه لكل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين من الاخر.
وفيه في مع أن الترجيح بالصفات لم يثبت في نفسه، كما سبق - أن
المناسبات الارتكازية إنما تقتضي كون الملحوظ للشارع هو الأقربية النوعية
بنظره علة لمرجحيتها، لا أن موضوع الترجيح هو الأقربية الشخصية أو النوعية
بنظر المكلف ليتعدى عن موردها.
نظير ما تضمن حجية خبر الثقة والصادق، حيث تقتضي المناسبات
الارتكازية كون القرب للواقع نوعا بنظر الشارع علة لحجيته، لا أن موضوع
الحجية هو القرب الشخصي أو النوعي بنظر المكلف، ولذا لا يتعدى عن مورده
لكل ما يقتضي ذلك ولو لم يكن خبرا.
ومنها: تعليل الترجيح بالشهرة في المقبولة بقوله عليه السلام: (فإن المجمع عليه
لا ريب فيه " بدعوى: أن نفي الريب في المشهور ليس حقيقيا، إذ ليس المشهور
قطعيا من جميع الجهات الصدور والدلالة والجهة، بل إضافي، بمعنى أن
المشهور لا ريب فيه بالإضافة للشاذ، لان الريب في الشاذ من حيثية الشذوذ غير
وارد فيه، فيفيد الترجيح بكل مزية في أحد الخبرين، لان في فاقد المزية منشأ
لاحتمال مخالفة الواقع غير موجود في واجدها.
وفيه: أن مناسبة الحكم والموضوع تقتضي حمل نفي الريب على نفيه
من حيثية الصدور فقط، فلا يمتنع البناء على كون نفيه حقيقيا الراجع إلى
الاطمئنان بالصدور والركون إليه على ما سبق في مقابل ما يكون موردا للريب
لشذوذه، فيدل على مرجحية عدم الريب في الصدور ولو بسبب غير الشهرة من
القرائن المحيطة بالخبر، ولا يتعدى منه لكل احتمال ولو من غير جهة الصدور.
والا فإطلاق تقديم المشهور لذلك لا يحسن مع أنه كثيرا ما يكون الشاذ
واجدا لمزية يفقدها المشهور، حيث يتعين حينئذ التوقف لتعارض المرجحين.
ومنها: تعليل ترجيح الخبر المخالف للعامة بان الحق والرشد في
208

خلافهم وأن ما وافقهم فيه التقية، فإن هذه كلها قضايا غالبية لا دائمية، فيدل
بحكم التعليل على وجوب ترجيح كل ما كان معه أمارة الحق والرشد وترك ما
فيه مظنة خلاف الحق والصواب.
وفيه: أن المقبولة لم تتضمن التعليل بذلك، بل الحكم به، وظاهره أنه
دائمي واقعي في فرض التعارض الذي هو مورد التعليل، فإنه ثبت خلافه تعين
حمله على كونه دائميا ظاهريا، لأنه الصالح لان يترتب عليه العمل، دون الغالبي
الواقعي. وانما استفيد التعليل بذلك من المرفوعة التي سبق عدم صلوحها
للاستدلال.
مع أن التعليل المذكور لو لم يكن دائميا في مورده وكان غالبيا فحيث لم
يصرح بالغلبة في التعليل، بل كان لسانه قضية دائمية، فلا طريق للتعدي بمعيار
الغلبة أو الظن، بل غاية الامر كشف ذلك عن اكتفاء الشارع بالغلبة المذكورة علة
للترجيح وكونها مصححة بنظره لاطلاق القضية الظاهرة في الدوام، ولا طريق
للتعدي عنها للجهل بخصوصياتها المنظورة له. وهو راجع إلى كون التعليل
حكمة، لا موضوعا للحكم يطرد تبعا له.
وأما ما تضمن أن ما وافقهم فيه التقية فقد سبق أنه ليس من نصوص
المرجح المذكور، كما هو الحال في غير واحد من الألسنة التي تضمنتها بعض
النصوص. فراجع
ومنها: قوله عليه السلام: " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " (1)، قال قدس سره: " دل على أنه
إذا دار الامر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الاخر ذلك الريب يجب
الاخذ به، وليس المراد نفي مطلق الريب، كما لا يخفى ".
وفيه: أن ذلك ليس من نصوص الترجيح بين الخبرين، ليتعين كون
موضوع الريب فيه ونفيه هو الخبر، كما قد يتعين حمل نفي الريب فيه على

(1) الوسائل ج: 18 باب: 12 عن أبواب صفات القاضي حديث: 56.
209

الإضافي، بل هو عبارة عن مرسل مستقل ظاهر في وجوب الاحتياط في مقام
العمل باجتناب ما فيه الريب، ولا مانع من إبقائه على ظاهره وحمل نفي الريب
فيه على الحقيقي بنحو السالبة الكلية في مقابل ما فيه ريب ولو من جهة واحدة
بنحو الموجبة الجزئية.
ولذا سبق منه قدس سره عده من أدلة الاحتياط التي يحتج بها للأخباريين، كما
هو ظاهر الوسائل أيضا.
وقد تعرض قدس سره في التنبيه السادس من تنبيهات دليل الانسداد لبعض
الوجوه الأخرى التي هي أوهن مما سبق لا مجال لإطالة الكلام فيها.
هذا كله مضافا إلى إباء نصوص الترجيح الحمل على ذلك بعد ما تضمنته
من الترتيب بين المرجحات والاقتصار على قليل منها، واشتمالها على ما لا
يوجب الأقربية للواقع، كموافقة الاحتياط التي تضمنتها المرفوعة وإن لم تكن
معولا عليها عملا.
كما قد تأباه نصوص التخيير والتوقف، لندرة التساوي بين الخبرين من
جميع الجهات، وليس هو كتقييدها بالمرجحات المنصوصة، لكثرة تساوي
المرجحات فيها وقرب الاعتماد في الاطلاق على وضوح بعضها، لارتكازيته
في الجملة.
وأشكل من ذلك ما استقربه شيخنا الأعظم قدس سره من اعتماد من ذهب إلى
التعدي عن المرجحات المنصوصة على الوجوه المتقدمة، مع ما هي عليه من
الخفاء وعدم الإشارة في كلماتهم إليها، بل ظهور بعضها في الاعتماد على بعض
الوجوه الاستحسانية التي لا دخل لها بمفاد النصوص، كما سبق.
وأما ما ذكره قدس سره من أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقضي
باختصاصها بصورة تكافؤ المتعارضين من جميع الوجوه.
فلم يتضح المنشأ له بعد إطلاقها وعدم الاستفصال فيها، بل عدم الإشارة
210

في بعضها أصلا والاقتصار في بعضها على صورة التكافؤ في خصوص
المرجحات المنصوصة، كمرفوعة زرارة المتقدمة.
ومثله الاستدلال على ذلك بما في كلام بعضهم في وجه لزوم الترجيح
من لزوم الاخذ بأقوى الدليلين.
فإنه إنما يتم لو أريد به ما هو الأقوى منهما بنظر الشارع، الراجع للزوم
ثبوت الترجيح من قبله.
وأما لو أريد به ما هو الأقوى بنظرنا، لمرزية فيه توجب أقربية للواقع
والظن بمطابقته له.
فهو نظير حجية الظن لا دليل عليه، بل الدليل على عدمه بعد فرض
تساوي الدليلين بالنظر لأدلة الحجية الشرعية، وأدلة التخيير والتوقف.
فلا معدل عما يظهر من النصوص من لزوم الاقتصار على المرجحات
المنصوصة وعدم التعدي عنها، الذي سبق في صدر المبحث أنه المطابق
للأصل والقاعدة المعول عليهما في المقام.
بقي في المقام أمران..
الأول: أن المعيار في التعدي عن المرجحات غير المنصوصة على ما
يوجب أقربية مضمون أحد الخبرين للواقع وأبعدية الاخر عنه، سواء كان
داخليا قائما بالخبر - كالنقل باللفظ وقرب السند - أم خارجيا حجة بنفسه -
كالعموم - أو لا - كالشهرة - لان ذلك هو الذي تقتضيه الوجوه المتقدمة لو تمت.
أما ما لا دخل له بالأقربية للواقع، كموافقة الأصل، وأولوية الحرمة من
الوجوب فالوجوه المذكورة تقصر عنه، بل لابد في الترجيح به من دليل اخر،
وهو غير ظاهر، فإن دليل الأصل إنما يقتضي كونه مرجعا بعد تساقط
المتعارضين، لا مرجحا لأحدهما، كما أن أولوية الحرمة من الوجوب لو تمت
مختصة بما إذا علم بثبوت أحدهما من دون حجة على كل منهما، على ما سبق
الكلام فيه في مبحث الدوران بين الوجوب والحرمة، وهو إنما يتم مع العلم
211

بصدق أحد الخبرين مع البناء على تساقطها، فتكون القاعدة مرجعا كالأصل، لا
مرجحا، أما مع احتمال كذبهما معا فلا دوران بين الحكمين، كما أنه بناء على
التخيير يكون دليل الوجوب حجة تخييرا مؤمنا من احتمال الحرمة، فلا يتنجز
معه احتمالها ليتعين العمل عليه.
ولا مجال لإطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من عدم تمامية قاعدة
الأولوية المذكورة.
كما لا مجال للكلام في ما أطال فيه شيخنا الأعظم قدس سره من تعداد
المرجحات وأقسامها، لابتنائه على التعدي عن المرجحات المنصوصة، الذي
عرفت أنه خلاف التحقيق.
الثاني: أنه بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة فلو كان كل من
المتعارضين واجدا لمزية أو أكثر، وكانت المزايا في مرتبة واحدة، فلا إشكال
في عدم الترجيح مع تساويهما في عدد المرجحات وعدم حصول الظن على
طبق أحدهما، بل يكونان متكافئين.
والا ففي الترجيح بحصول الظن بأحد المتعارضين، أو بزيادة المزايا في
أحدهما، أو عدم الترجيح وجوه..
لا يبعد الأول - كما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره في التنبيه السادس من
تنبيهات دليل الانسداد - لان ذلك هو المناسب للوجوه المتقدمة للتعدي عن
المرجحات المنصوصة، فإن الظن هو الملاك في الأقوائية العرفية التي تنزل
عليها التعليلات المتقدمة عليها، وليست مرجحية المزايا عرفا إلا بلحاظ سببيتها
له فلا أهمية لعددها.
نعم، لازم ذلك عدم الترجيح مع عدم حصول الظن من المرجحات حتى
المنصوصة منها ولو انفرد بها أحد المتعارضين، وهو مما لا يناسب إطلاق
الترجيح بها جدا. ومن ثم كان هذا موهنا اخر للقول بالتعدي عن المرجحات
المنصوصة. فلاحظ.
212

المبحث الرابع
في الترتيب بين المرجحات
لا يخفى أن مقتضى القاعدة الأولية بناء على الاقتصار على المرجحات
المنصوصة هو الرجوع في الترتيب بينها لظاهر أدلتها، فلو اقتضاه لزم العمل
عليه تعبدا به، فمع اشتمال كل من المتعارضين على فرد من تلك المرجحات
فإن كان ما اشتملا عليه فردين لمرجح واحد، أو لمرجحين في مرتبة واحدة كانا
متكافئين، وإن كان فردين لمرجحين في مرتبتين كان الواجد للمرجح المتقدم
رتبة هو الراجح المتعين للعمل ولا يعتني بالآخر.
أما بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة فحيث كان مبنى التعدي
إلغاء خصوصية المرجحات وأن المعيار على الظن بمضمون أحد المتعارضين
وأقربيته للواقع عرفا كان لازمه إلغاء خصوصية الترتيب بين المرجحات لو
فرض ظهور النصوص فيه بدوا، فلا ترتيب بين المرجحات المنصوصة في
أنفسها، ولا بينها وبين غيرها.
إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بين الأصحاب في الترتيب بين
المرجحات طبعا بنحو يخرج به عن مقتضى القاعدة المتقدمة وعدمه.
وقد ذكروا أن المرجحات المنصوصة وغيرها على أقسام..
الأول: المرجح الصدوري، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الخبر،
كالأوثقية والشهرة في الرواية وقلة الوسائط.
الثاني: المرجح الجهتي، وهو ما يوجب قوة الظن بصدور الكلام لبيان
الحكم الواقعي والمراد الجدي، في مقابل صدوره لغرض اخر من تقية أو
213

نحوها، كمخالفة العامة على بعض الوجوه.
الثالث: المرجح المضموني، وهو ما يوجب قوة الظن بتحقق مضمون
الخبر مما هو خارج عنه، سواء كان معتبرا في نفسه كعموم الكتاب، أم لا
كالشهرة في الفتوى.
وقد وقع الكلام في الترتيب بين الأقسام المذكورة.
وأما المرجح الدلالي الراجع إلى قوة دلالة أحد الخبرين فهو خارج عن
محل الكلام، إذ لا إشكال في تقدمه طبعا على سائر المرجحات في مورد الجمع
العرفي، لخروج الدليلين عن التعارض بسببه. وأما في غير مورد الجمع العرفي
فالظاهر أنه مرجح مستقل. لكنه خارج عن محل كلامهم، وليس الكلام إلا في
الأقسام الثلاثة المتقدمة. ولعل الحال يتضح من الكلام فيها.
وقد ادعى المحقق الخراساني قدس سره أن المرجحات المتقدمة وإن اختلف
موضوعها في بدو النظر، إلا أن الظاهر رجوع الترجيح بها لبا إلى الترجيح
الصدوري، فليس مقتضاها إلا التعبد بصدور الراجح دون المرجوح.
ولا مجال لتخيل رجوع المرجح الجهتي لترجيح جهة أحد المتعارضين
دون الآخر مع حجية سندهما معا والتعبد بصدورهما، لامتناع التعبد بصدور ما
لا يتعبد بجهته، بل يبنى على صدوره تقية، لعدم الأثر له.
ويظهر منه أنه رتب على ذلك عدم الترتب الطبعي بين أقسام المرجحات
المتقدمة، لأنه فرع ترتب موضوعها، فمع رجوعها لموضوع واحد وهو الصدور
تكون في رتبة واحدة، وان اختلف منشأ الشك الذي تكون موضوعا له.
لكن لا يخفى أن ترتب الأثر والعمل على الخبر لما كان موقوفا على
التعبد بصدوره ودلالته وجهته بنحو الارتباطية، وكان المصحح للتعبد الظاهري
هو الأثر العملي، فلابد في جريان كل منها من جريان الباقي، فكما يمتنع التعبد
بصدور ما لا يتعبد بجهته لعدم الأثر، كذلك يمتنع التعبد بجهة ما لا يتعبد
214

بصدوره، فلا وجه لارجاع جميع المرجحات للمرجحات السندية، بل هي
بلحاظ ذلك راجعة للمرجحات من جميع الجهات.
ومعنى رجوع المرجح لإحدى الجهات ليس إلى سقوط التعبد
بالمرجوح من تلك الجهة مع بقاء التعبد به من بقية الجهات، بل إلى عدم التعبد
به من تلك الجهة بالأصالة لأنها موضوع الترجيح ثم سقوط التعبد من بقية
الجهات بالتبع، لعدم الأثر له بسبب الارتباطية المذكورة.
فالفرق بين المرجح الجهتي والصدوري - مثلا - أن سقوط جهة
المرجوح في المرجح الجهتي بالأصل وسقوط الصدور بالتبع، وفي المرجح
الصدوري بالعكس.
ومن هنا أمكن فرض الترتب بين المرجحات طبعا تبعا للترتب بين
موضوعاتها، فلابد من النظر في وجه ما ذكره القائلون بذلك.
وقد ادعى شيخنا الأعظم قدس سره تقدم المرجح المضموني غير المعتبر في
نفسه - كالشهرة في الفتوى - على المرجح الصدوري والجهتي.
بدعوى: أن ترجيح السند والجهة إنما اعتبر لأجل الأقربية للواقع، فإذا
فرض اعتضاد المرجوح بحسب السند أو الجهة بالمرجح المضموني الموجب
لأقربيته للواقع تعين تقديمه على الراجح بحسبهما لفعلية ملاك الترجيح فيه،
وهو الأقربية.
وفيه: أنه كما يكون الاعتضاد بالمرجح المضموني موجبا للأقربية للواقع
كذلك يكون اشتمال الدليل على المرجح السندي أو الجهتي موجبا لأقربيته
للواقع، ومع تصادم الجهتين يلزم تقديم ما يكون مناط الترجيح فيه أقوى
ويكون تأثيره فعليا، لا تقديم المرجح المضموني رتبة. وكأن مبنى كلامه على
كون المرجحات المضمونية أقوى ملاكا في الأقربية بحيث تكون فعلية التأثير
لها.
215

بل قد يدعى تأخر المرجح المضموني طبعا، بلحاظ أن الأقربية للواقع
لما لم تكن هي المناط في الحجية إذ لا إشكال في عدم حجية الظن بنفسه فلا
يناسب كونها هي المعيار في الترجيح، بل لما كان مناط الحجية هو دليلية الدليل
كان المناسب كون معيار الترجيح مع تعارض الدليلين هو أقوائية الدليلية في
أحدهما بلحاظ المرجحات الداخلية التي هي من شؤون دليلية الدليل من
صدوره وظهوره وجهته، ولا أثر للمرجحات المضمونية الخارجية التي لا دخل
لها بدليليته.
نظير موافقة رأي المفضول للشهرة، فإنها وان كانت موجبة لأقربيته
للواقع إلا أنها لما لم توجب أقوائيته في الدليلية من رأي الأفضل، بل كان رأي
الأفضل هو الأقوى فيها كان الترجيح له.
نعم، لو تساويا في الدليلية مع دوران الامر بينهما يتجه الرجوع
للمرجحات المضمونية الخارجية، لانسداد طريق الترجيح بلحاظ الطريقية،
نظير الرجوع للظن عند فقد الأدلة وانسداد باب العلم.
لكن هذا التأخر الطبعي ليس بنحو يمنع جري الشارع على خلافه، بل
يمكن الخروج عنه لو اقتضته أدلة الترجيح.
وأما المرجح المضموني المعتبر في نفسه كموافقة عموم الكتاب فقد
فضل فيه قدس سره تفصيلا طويلا لعله يبتني على ما هو خارج عن محل الكلام ولا
مجال للإطالة فيه.
كما أنه قدس سره ادعى أيضا تقدم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي،
لدعوى: أن موضوع الترجيح الجهتي الخبران اللذان لا يمكن رفع اليد عن
صدور أحدهما بعينه لكونهما قطعيين أو متكافئين، وأما في فرض التعبد
بصدور أحدهما دون الاخر لترجيحه سندا فلا وجه لأعمال المرجح الجهتي
فيه، لان الجهة فرع الصدور، فمع عدم التعبد بصدور المرجوح لا معنى للتعبد
216

بجهته وإن كان راجحا بحسبها.
لكنه أيضا لا يرجع إلى محصل، إذ لا وجه لاختصاص الترجيح الجهتي
بصورة امتناع إلغاء التعبد بصدور أحد الخبرين دون الاخر، فإنه عبارة أخرى
عن تقدم المرجح الصدوري رتبة الذي هو المدعى في المقام، بل ليس ذلك
بأولى من العكس، وهو اختصاص الترجيح السندي بصورة امتناع إلغاء الجهة
في أحد الخبرين بعينه، لقطعيتهما أو تكافؤهما فيها.
وما ذكره قدس سره من أن مع عدم التعبد بصدور المرجوح سندا لا معنى للتعبد
بجهته، لتفرعها على الصدور، مبني على تسليم تقدم الترجيح الصدوري، حيث
يكون أثره إلغاء التعبد بصدور المرجوح فيرتفع فيه موضوع التعبد بالجهة، والا
فلو فرض تقديم الترجيح الجهتي فمع عدم التعبد بالجهة في المرجوح لا مجال
للتعبد بصدوره أيضا، لعدم الأثر له، كما سبق.
ونظير ذلك ما عن الوحيد قدس سره وبعض المتأخرين عنه من تقدم المرجح
الجهتي على المرجح الصدوري. إذ ربما يستدل له بوجوه..
الأول: أن الصدور لما كان متقدما رتبة على الجهة، لان الجهة من شؤون
الكلام الصادر، وكان التعارض بين الخبرين مترتبا على جريان كل من أصالة
الصدور وأصالة الجهة فيهما، فهو لا يستند لأصالة الصدور بالمباشرة، بل
لأصالة الجهة، فيكون الترجيح في الجهة متقدما طبعا، ولا موجب للنظر في
الترجيح الصدوري إلا بعد تعذره.
وفيه: أن استناد التعارض بالمباشرة لأصالة الجهة بالمعنى المتقدم لا
يقتضي تقدم المرجح الجهتي طبعا، لان موضوع الترجيح هو موضوع
التعارض، وحيث كان تكاذب المتعارضين موقوفا على كل من صدورهما
وظهورهما وجهتهما كان التعارض بين مجموع الأصول الجارية فيهما من دون
ترتب بينها مستتبع لترتب الترجيح.
217

الثاني: أن إعمال المرجح الجهتي لا يستلزم إلغاء أصالة الصدور في
المرجوح، بل الغاء أصالة الجهة فيه لا غير، أما إعمال المرجح الصدوري فهو
كما يستلزم إلغاء أصالة الصدور في أحدهما يستلزم إلغاء أصالة الجهة فيه أيضا،
لعدم الموضوع لها معه، ورفع اليد عن أصالة الجهة وحدها أولى من رفع اليد
عن الأصالتين معا.
وفيه: أن سقوط أصالة الصدور بسبب إعمال المرجح الصدوري وان
استلزم سقوط أصالة الجهة، إلا أنه ليس لعدم الموضوع لها، لان الترجيح
الصدوري لا يقتضي التعبد بعدم صدور المرجوح، وانما يقتضي عدم التعبد
بصدوره - كخبر الفاسق - من دون إلغاء لاحتمال صدوره الذي هو موضوع
أصالة الجهة، بل لأجل عدم الأثر للتعبد بجهة ما لا يتعبد بصدوره، وهو جار في
أصالة الجهة أيضا، لعدم الأثر للتعبد بصدور ما لا يتعبد بجهته.
على أن رفع اليد عن أصالة الجهة لعدم الموضوع لها مع إلغاء أصالة
الصدور - لو تم - ليس مخالفا للأصل، ليلزم تقديم المرجح الجهتي، لعدم
منافاته لعموم دليلها، وإنما المخالف للأصل هو رفع اليد عنها مع تحقق
موضوعها، كما لا يخفى.
الثالث: أنه يجب المحافظة على أصالة الصدور مهما أمكن أخذا بعموم
دليلها، وان لزم رفع اليد عن الجهة، نظير رفع اليد عن ظهور الظاهر مع معارضته
بالأظهر، حيث يقدم على الترجيح الصدوري بينهما.
ويندفع: بأن المحافظة على أصالة الصدور ليست بأولى من المحافظة
على أصالة الجهة مع عموم دليلهما وتحقق موضوعهما.
ولا مجال لقياسه بحمل الظاهر على الأظهر، لان ذلك لما كان بمقتضى
الجمع العرفي، لكون الأظهر قرينة على المراد من الظاهر، فرفع اليد عن ظهور
الظاهر لا يبتني على طرح عموم حجية الظهور، بل على قصور دليله عن المورد
218

المذكور، فهو خارج عن عموم حجية الظهور تخصصا، بل لا يصدق معه
التعارض عرفا، كما سبق بخلاف المرجح الجهتي، فإنه لا يقتضي سقوط أصالة
الجهة في المرجوح تخصصا، بل سقوطهما تخصيصا، كسقوط أصالة الصدور
بالمرجح الصدوري، فلا وجه لتقديمه عليه.
ولذا لو لم يمكن الجمع العرفي بين الظاهر والأظهر استحكم التعارض
بينهما، وكانت قوة الظهور في الأظهر مرجحا ولا دلاليا كالمرجح الجهتي، كما
أشرنا إليه عند تقسيم المرجحات.
وحينئذ يجري فيه ما يجري فيه من عدم الدليل على تقدمه على المرجح
الصدوري.
نعم، لو كان أحد الدليلين قرينة عرفية على حمل الاخر على التقية مثلا أو
قام دليل اخر على حمله عليها سقطت أصالة الجهة فيه تخصصا، فلا يصلح
لمعارضة الاخر، ليحتاج للمرجحات الصدورية أو غيرها.
لكنه خارج عن محل الكلام من فرض التعارض - لتمامية موضوع
الحجية في كل منهما - ووصول النوبة للترجيح. فلاحظ.
وقد ذكر بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين قدس سرهما وجوها للترتيب قد
يرجع بعضها لما ذكرنا، ولا مجال لإطالة الكلام فيها.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لم يتضح الترتيب بين المرجحات،
وانما يحتمل تأخر المرجح المضموني عن المرجحات الداخلية بوجه قابل
لخروج الشارع عنه. ومن هنا لا يهم إثباته، بل المهم النظر في مفاد أدلة الترجيح،
وحيث سبق أن البناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة يستلزم إلغاء
خصوصية الترتيب بينها.
فلو تم تأخر المرجح المضموني طبعا لما سبق كان رفع اليد عنه موقوفا
على فهم إلغاء ترتبه وأن المعيار في الترجيح الأقربية - كما يظهر من شيخنا
219

الأعظم قدس سره - لا الأقوائية في الدليلية.
والظاهر أن استفادة الترجيح بالمرجح المضموني من النصوص تستلزم
ذلك، إذ هو لا يجتمع مع ظهورها في كون المعيار في الترجيح على الأقوائية في
الدليلية.
وكيف كان، فلا ينبغي إطالة الكلام في ذلك بعد ما سبق من لزوم الاقتصار
على المرجحات المنصوصة تعبدا بظاهر أدلتها، حيث يلزمه التعبد به أيضا في
الترتيب وكيفيته.
ومن الظاهر أن أخص النصوص هي مقبولة ابن حنظلة، لاستيفائها جميع
المرجحات، وهي تقتضي الترجيح أولا بالشهرة، ثم بموافقة الكتاب والسنة -
من دون ترتيب بينهما - ثم بمخالفة العامة، ثم بمخالفة ما حكامهم وقضاتهم إليه
أميل. فيلزم العمل عليها وتقييد إطلاق النصوص المقتصرة على بعض
المرجحات بها.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الظاهر كون المقبولة كسائر
أخبار الترجيح بصدد بيان مرجحية المرجحات المذكورة فيها من دون نظر
للترتيب بينها، لبعد تقييد جميع نصوص الترجيح على كثرتها بما فيها.
فهو كما ترى، لعدم كثرة نصوص الترجيح المعتبرة السند المقتصر فيها
على بعض المرجحات.
مع أن ذلك لا يصحح الخروج عن ظاهر الترتيب في المقبولة، وليس
تقييد نصوص الترجيح بها بالترتيب بأصعب من رفع اليد عن ظهور تلك
النصوص في انحصار الترجيح بما تضمنته من المرجح " بحيث لا تزاحمه
المرجحات الأخرى التي تضمنتها المقبولة وغيرها، بل ما ذكره قدس سره أصعب
لاستلزامه إهمال كلا المرجحين المترتبين عند التعارض، وهو أكثر تخصيصا
لأدلة الترجيح من إهمال أحدهما فقط.
220

ولا سيما مع اعتضاد المقبولة - في الجملة - بصحيح عبد الرحمن
المتضمن تقديم موافقة الكتاب على مخالفة العامة، وتأيدها بمرفوعة زرارة
المتضمنة تقديم الشهرة على مخالفة العامة، مع قرب كون إهمال بعض
المرجحات في بعض النصوص لوضوح حالها، بنحو يكون كالقرينة على
فرض التكافؤ فيها، واحتمال كون الاقتصار في بعضها على مخالفة العامة ناشئا
عن كونه المرجح المهم الذي يكثر الابتلاء به، ويغلب كونه منشأ الاختلاف بين
النصوص.
وأما ما تضمنه مرسل المفيد - المتقدم في الترجيح بموافقة الكتاب - من
تقديم موافقة الكتاب على الشهرة في الرواية، فلا مجال للتعويل عليه في قبال
ما سبق.
221

المبحث الخامس
في الجهل بوجود المرجح.
سبق من الكليني قدس سره أنه بعد أن ذكر المرجحات قال: " ونحن لا نعرف من
جميع ذلك إلا أقله، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى
العالم عليه السلام وقبول ما وسع من الامر فيه بقوله عليه السلام: بأيهما أخذتم من باب التسليم
وسعكم... ".
وظاهره اختصاص فعلية الترجيح بصورة العلم بالراجح. وهو مخالف
لاطلاق أدلة الترجيح، كما هو الحال في سائر أدلة الاحكام في دورانها مدار
تحقق موضوعاتها واقعا، فيكون التخيير معه مخالفا للاحتياط، لاحتمال عدم
حجية ما يختاره المكلف، لكونه المرجوح واقعا، ويكون التمسك بعموم أدلة
التخيير فيه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية من طرف الخاص أو العام.
اللهم إلا أن يستفاد ذلك في المقام بضميمة كثرة موارد الجهل بوجود
المرجح، خصوصا مخالفة العامة، لعدم تيسر الاطلاع على أقوالهم والجهل بما
هو الشايع منها عند صدور الروايات، أو بضميمة ارتكاز ابتناء التخيير على
وجود مقتضي الحجية في كلا المتعارضين، وأن المرجح من سنخ المانع عن
حجية المرجوح، ومع الشك في وجود المانع لا يرفع اليد عن مقتضي الحجية.
وكلاهما لا يخلو من إشكال.
فلعل الأولى ابتناء ذلك على الرجوع لأصالة عدم وجود المرجح بعنوانه
المأخوذ شرعا، لأنه حادث مسبوق بالعدم ولو كان أزليا.
222

نعم، قد يشكل الحال بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة لعدم
وضوح كون موضوع التخيير حينئذ هو عدم وجود المرجح بعنوانه، بل قد
يكون موضوعه المستحصل من مجموع الأدلة هو تكافؤ الدليلين الذي لا يحرز
بالأصل.
وأشكل من ذلك ما لو علم بوجود المرجح إجمالا وتعذر تعيين الراجح،
لاشتباه الحجة باللاحجة المقتضي لتساقطهما وعدم حجية كل منهما في إثبات
خصوصية مؤداه، وان كانا حجة في القدر المشترك كنفي الثالث.
هذا كله بناء على التخيير مع التكافؤ، وأما بناء على التساقط فالامر سهل،
لوضوح عدم جواز البناء على حجية محتمل الرجحان، كما لو علم بعدمه
وتكافؤ المتعارضين.
نعم، لو علم إجمالا برجحان أحدهما كانا حجة في القدر المشترك بينهما
- كنفي الثالث - بخلاف ما لو لم يثبت الترجيح بينهما، حيث سبق أن الأصل عدم
حجيتهما في ذلك. والحمد لله رب العالمين.
223

الفصل الثاني
في تعادل الدليلين
وهو إنما يكون لعدم الترجيح أو لعدم المرجح لاحد الخبرين، وحيث
سبق أن الأصل في المتعارضين التساقط والرجوع لما يقتضيه العموم أو
الاطلاق أو الأصل الجاري في المسألة فقد وقع الكلام في وجود المخرج عن
ذلك عند التعادل من الأدلة الخاصة.
وقد صرح غير واحد من الأصحاب - كالكليني في كلامه المتقدم والشيخ
في الاستبصار والعلامة. في المبادئ وغيرهم - بالتخيير، ولعله المشهور بين
الأصحاب، كما ادعاه شيخنا الأعظم قدس سره وغيره، ونسبه لجمهور المجتهدين، بل
في المعالم وعن غيره: " لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا ". وقد يظهر من
المرتضى في الذريعة.
ولا يخفى أن المراد بالتخيير..
تارة: هو ثبوت الحجية التخييرية لكل منهما، التي هي عبارة عن حجيته
المعلقة على اختياره - كما قد يظهر من العلامة في المبادئ - أو الحجية الفعلية
لهما، بنحو يكون كل منهما حجة للمكلف معذرا له، ومجموعهما عليه، على ما
سبق الكلام فيه في أول مبحث تقريب الأصل في المتعارضين.
وأخرى: هو السعة في مقام العمل، فيجوز موافقة أحدهما وان لم يكن
حجة، بأن يكون ورودهما سببا للخروج عن مقتضى العموم أو الاطلاق أو
الأصل الجاري في المورد مع قطع النظر عنهما.
225

وكلماتهم قد تظهر في الأول، وبعض الأدلة قد يناسب الثاني، ولا يهم
تحقيق أحد الوجهين بعد عدم الفرق العملي بينهما، وانما المهم إقامة الدليل
على التخيير بأحد المعنين.
وقد يظهر من المرتضى في الذريعة ابتناؤه على العمل بإطلاقات أدلة
الحجية، ولعله لذا يظهر منه عدم الاختصاص بالاخبار، بل يجري في كل دليلين
متعادلين.
ويظهر ضعفه مما تقدم في تقرب الأصل في المتعارضين.
وأشكل منه ما في الاستبصار، قال: " ولأنه إذا ورد الخبران المتعارضان
وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ولا على إبطال الخبر الاخر
فكأنه إجماع على صحة الخبرين، وإذا كان (الاجماع. خ) على صحتهما كان
العمل بهما جائزا سائغا ".
لوضوح أن عدم الاجماع على إبطال أحد الخبرين بعينه لا ينافي
الاجماع على بطلان أحدهما إجمالا، فضلا عن أن يرجع إلى الاجماع على
صحتهما معا، بل تمتنع صحتهما معا مع تناقضهما ولو بلحاظ مدلولها الالتزامي،
غاية الامر إمكان حجيتهما معا تخييرا، وهي تحتاج إلى دليل.
فالعمدة في المقام ما صرح به الكليني في كلامه المتقدم وذكره في
الاستبصار وكذا جملة من المتأخرين من التمسك بالنصوص في ذلك، وقد
ادعى شيخنا الأعظم قدس سره استفاضتها، بل تواترها، فينبغي النظر فيها، وما يمكن
الاستدلال به على ذلك جملة منها..
الأول: موثق سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام: " سألته عن رجل اختلف عليه
رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والاخر ينهاه عنه
كيف يصنع؟، قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه " (1)،

(1) الوسائل ج: 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 5.
226

بدعوى ظهور السعة في السعة في العمل بكل من الروايتين الراجعة لحجيتهما
تخييرا، أو السعة في العمل على طبقهما وان لم يكونا حجة، على ما سبق في
معنى التخيير.
وفيه.. أولا: أنه لو سلم عدم كون المراد بالسعة السعة في البقاء على
الجهل - كما لعله المناسب لتعليل الامر بالارجاء - بل السعة في العمل لدعوى
كون منشأ السؤال ارتكازا هو التحير في العمل وأن طلب العلم لأجله، إلا أن
مقتضى إطلاقها السعة في العمل من حيثية الخبرين، بمعنى أنهما لا يصلحان
للتنجيز، لعدم الأثر لهما، وهو لا يقتضى التخيير المستلزم لعدم جواز الخروج
عنهما بل التساقط.
وثانيا: أن ظاهر الحديث كون المسؤول عنه اختلاف المجتهدين في
حق العامي، لا اختلاف الروايتين في حق المجتهد، والتخيير في الأول لا يستلزم
التخيير في الثاني.
ومجرد استناد كل من المجتهدين لروايته لا يستلزم تحقق موضوع
التخيير بين الروايتين في حق العامي، لامكان عجزه عن تنقيح موضوع الحجية
فيهما أو عدم المرجح لإحداهما.
هذا، وأما اضطراب متن الحديث، لعدم وضوح مرجع الضمير في
" بأخذه " لان الاعتقاديات تبين بأنفسها، ولا يبين وجوب أخذها، والعمليات
تقع بنفسها موضوعا للامر والنهي، ولا يقع أخذها موضوعا لهما.
فهو لا يخل ظاهرا بالاستدلال به، لوضوح المقصود منه وهو التعارض
المسبب عن الاختلاف. فتأمل.
وهناك بعض الوجوه الأخرى من الاشكال في الاستدلال تعرض لها غير
واحد لا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق.
الثاني: صحيح علي بن مهزيار: " قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى
227

أبي الحسن عليه السلام: اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام في ركعتي
الفجر في السفر، فروى بعضهم أن صلهما في المحمل، وروى بعضهم:
لا تصلهما إلا على الأرض، فاعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟
فوقع عليه السلام: موسع عليك بأية عملت " (1).
بدعوى ظهورها في الحجية التخييرية لكل من الروايتين، لأنها الظاهر من
جواز العمل بكل منهما.
وفيه: أنه لما كان واردا في مورد خاص فلا مجال للتعدي عنه لغيره،
لامكان خصوصية الروايتين المذكورتين في عدم ابتناء اختلافهما على التكاذب
والتعارض - كما يظهر من السائل توهمه - بل على الاختلاف في الفضل،
المقتضي للسعة في العمل بكل منهما واقعا، لا السعة الظاهرية الراجعة للحجية
التخييرية. بل ذلك هو الظاهر من الحديث، لصراحة كلام السائل في السؤال عن
الحكم الواقعي الذي عليه عمل الإمام عليه السلام، كما أنه المناسب لوظيفته عليه السلام
بيان حكم الواقعة الخاصة العالم بحكمها الواقعي.
الثالث: مكاتبة الحميري التي رواها الشيخ قدس سره في كتاب الغيبة عن جماعة
فيهم غير واحد من الثقات عن محمد بن أحمد بن داوود الثقة قال: " وجدت
بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي واملاء أبي القاسم الحسين بن نوح
[روح. ظ] رضي الله عنه - إلى أن قال -: تسأل لي بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من
التشهد الأول للركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبر؟ فإن بعض أصحابنا قال: لا
يجب عليه التكبير ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد.
الجواب: قال: إن فيه حديثين أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة
أخرى فعليه تكبير، وأما الاخر فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية

(1) الوسائل ج: 3 باب: 15 من أبواب القبلة ورواه أيضا في باب 9 من أبواب صفات القاضي
حديث: 44 ولكن السقط منه قوله في السؤال " فاعلمني.... ".
228

فكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه للقيام بعد القعود تكبير، وكذلك التشهد الأول
يجري هذا المجرى، وبأيهما أخذت من جهة التسليم كان صوابا " (1).
وجهالة أحمد بن إبراهيم النوبختي كاتب التوقيع لا توجب التوقف في
حجية الخبر بعد إخبار ابن داوود بأن التوقيع بخطه واملاء الحسين بن
روح رضي الله عنه الذي يحتمل بل يقرب استناده للحس أو إلى مقدمات تقرب منه.
وأما الدلالة فتقريبها بعين ما سبق في صحيح ابن مهزيار.
كما يظهر الجواب عنه بملاحظة ما سبق فيه، حيث يتضح به ظهور
التخيير في المقام في السعة الواقعية، لعدم كون الحديث الثاني مخصصا للأول،
بنحو يقتضي عدم مشروعية التكبير، بل هي باقية مع ضعف ملاكه المستلزم
لضعف مطلوبيته عما هي عليه في سائر موارده.
الرابع: مرسل الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال: إذا سمعت
من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه " (2)
بدعوى: ظهور التوسعة في التوسعة في العمل بكل من الأحاديث
المتعارضة، أو على طبقها، على ما سبق الكلام فيه في معنى التخيير.
واستشكل فيه بعض مشايخنا: بأن مفاده حجية أخبار الثقات، من دون
نظر إلى فرض تعارضها الذي هو محل الكلام.
وفيه: مع أنه لا يحسن التعبير بالسعة عن أصل الحجية في غير فرض
التعارض، لان الحجية كما تقتضي التعذير تقتضي التنجيز المستتبع للضيق،
بخلاف التخيير بين الخبرين في فرض حجيتهما ذاتا، فإنه نحو من التوسعة - أن
ذلك لا يناسب قوله عليه السلام: " وكلهم ثقة " الظاهر في دخل وثاقة الكل بنحو

(1) الوسائل ج: 4، باب 1 من أبواب السجود حديث 8 وكتاب الغيبة ص 232 طبع النجف
الأشرف.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 41.
229

المجموع في الحكم بالسعة، لان حجية كل خبر منوطة بوثاقة راوية فقط، والذي
يناط بوثاقة الكل هو السعة مع التعارض، إذ مع وثاقة البعض فقط يجب
الاقتصار على روايته.
ومثله الاشكال بأن إطلاق السعة ظاهر في السعة من حيثية تلك الأخبار،
وذلك يقتضي التساقط، لا التخيير المستلزم للضيق في الجملة بعدم جواز
الخروج عنها عمل، نظير ما سبق في موثق سماعة.
لاندفاعه: بأن التنبيه فيه على وثاقة الرواة لا يناسب عرفا التساقط واهمال
الرواية، وإن لم ينافه عقلا، بل هو قرينة على تقييد إطلاق السعة وحمله على
السعة في العمل بالرواية، لصلوحها لذلك بسبب وثاقة راويها، بخلاف موثق
سماعة، حيث لم يتضمن إلا فرض التعارض والتكاذب بين الروايتين المناسب
لتساقطهما. فدلالة المرسل على التخيير قريبة جدا، ولا أقل من إشعاره به بنحو
يصلح للتأييد.
الخامس: مرسل الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام: " قلت: يجيئنا
الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق. قال: إذا لم تعلم
فموسع عليك بأيهما أخذت " (1).
ولعله أظهر نصوص التخيير دلالة، ولا سيما بلحاظ التقييد فيه بعدم العلم
بالحق من الخبرين، حيث لا يكون بذلك منافيا لنصوص الترجيح الصالحة
للتعبد بتعيين ما هو الحق منهما، بل يكون محكوما لها حكومة عرفية.
السادس: ما أرسله الكليني في كلامه المتقدم، وفي ذيل موثق سماعة
السابق، حيث قال: " وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم
وسعك " (2). ودلالته ظاهرة.

(1) الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 40.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.
230

السابع: مرفوعة زرارة المتقدمة في نصوص الترجيح، حيث تضمنت
التخيير بعد فرض عدم الترجيح حتى بالاحتياط.
الثامن: الرضوي: " والنفساء تدع الصلاة أكثره مثل أيام حيضها، وهي
عشرة أيام، ثم تغتسل، فإذا رأت الدم عملت كما تعمل المستحاضة. وقد روي
ثمانية عشر يوما. وروي ثلاثة وعشرين يوما. وبأي هذه الأحاديث أخذه من
جهة التسليم جاز " (1).
وهو وان كان واردا في مورد خاص، إلا أن إلغاء خصوصية مورده قريب
جدا، لاشتمال المورد على أحكام الزامية مهمة، وكونه موردا للعمومات
والأصول المتأخرة عن الروايات المذكورة رتبة.
فالعمدة في وهن الاستدلال به عدم ثبوت نسبته للإمام عليه السلام، بل
الاطمئنان بعدم كونه له. كما أن ما دل من النصوص السابقة ضعيف أيضا لا
يصلح للاستدلال حتى بلحاظ التعاضد، لعدم كثرة النصوص المذكورة بنحو
يمنع من احتمال عدم صدور مضامينها، أو احتفافها بما يمنع من استفادة
التخيير منها من القرائن الحالية والمقالية.
ولو فرض صلوحها للاستدلال فهي معارضة بنصوص أخر ظاهرة في
التوقف والتساقط، فينبغي النظر فيها أولا، ثم النظر في كيفية الجمع بينها وبين
نصوص التخيير، وهي جملة من النصوص.
الأول: مقبولة ابن حنظلة، حيث قال عليه السلام بعد استقصاء المرجحات
وفرض السائل التعادل فيها: " إذا كان ذلك فارجئه حتى تلقى إمامك، فإن
الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات " (2).
وقد يشكل الاستدلال بها..
(1) مستدرك الوسائل باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 12 وقد حذف منه شيئا.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
231

تارة: بظهورها في زمان الحضور والتمكن من لقاء الامام ولا تشمل عصر
الغيبة.
وأخرى: بأن موردها وهو الخصومة والقضاء لا يناسب التخيير، لان كلا
من الخصمين يختار ما ينفعه فلا تفصل الخصومة، بل لابد فيه من الترجيح ومع
تعذره يتعين التوقف، ولا ينافي التخيير في موارد إمكانه.
ويندفع الأول: بأن احتمال خصوصية زمن الحضور في وجوب التوقف
عرفا إنما هو بلحاظ قرب أمده الموجب لسهولته، وهو يختص بتمكن المكلف
من لقاء الامام، ولا تشعر به المقبولة، لان مجرد جعل غاية التوقف لقاء الامام
يستلزم تمكن السائل منه، وإنما يستلزم صحة فرض وقوعه عرفا المختص
بزمان الحضور.
وبعبارة أخرى: المقبولة مختصة بزمان الحضور الذي لا دخل له عرفا في
الحكم بالتوقف، لا بحال التمكن من لقاء الامام الذي يحتمل خصوصيته فيه
عرفا.
ولو فرض التشكيك عرفا في ما ذكرنا وعدم استيضاح إلغاء خصوصية
المورد المذكور لأجله أمكنت استفادة العموم لحال الغيبة من عموم التعليل
فيها، لظهوره في عدم صلوح كل من الخبرين بسبب التعارض وعدم المرجح
للحجية.
على أن الاختصاص بزمان الحضور إنما ينفع في ما إذا أمكن حمل
نصوص التخيير على خصوص زمان الغيبة، ليتعين الجمع بينهما بذلك ويرتفع
التعارض، ولا مجال له في النصوص المتقدمة، خصوصا ما روي منهما عن
الصادق والرضا عليهم السلام لوضوح استلزام حملها على ذلك تخصيص المورد
الممتنع.
ومما ذكرنا من عموم التعليل يظهر اندفاع الثاني، لان خصوصية
232

الخصومة والقضاء إنما تناسب التعليل بتعذر التخيير، لا بأن الوقوف عند الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة، الحاصلة ارتكازا من العمل بغير حجة الراجع لعدم
صلوح كل من المتعارضين ارتكازا للحجية بسبب التعارض حتى في عصر
الغيبة.
نعم، لو كان مصب السؤال والجواب هو الترجيح مع المفروغية عن
حجية الروايتين في الجملة كان التعليل منصرفا إليه، وكان المراد من الاقتحام في
الهلكة الترجيح بلا دليل، فلا تدل إلا على تعذر الترجيح، ولا تنافي التخيير مع
إمكانه، كما في غير مورد الخصومة.
لكن لا إشعار في السؤال ولا في الجواب بذلك، بل الظاهر السؤال عن
الوظيفة العملية في فرض التعارض، ولو كانت هي التساقط. فلاحظ.
الثاني والثالث: مكاتبتا محمد بن علي بن عيسى وداوود بن فرقد اللتان
تقدم الكلام فيهما في أخر نصوص الترجيح المسؤول فيهما عن العلم المنقول
عنهم عليهم السلام وأنه قد اختلف فيه فكيف العمل به على اختلافه، وقد تضمنتا أنه
كتب عليه السلام: " ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردوه إلينا " (1).
فإن مقتضى إطلاقهما وإن كان هو التوقف حتى عن الترجيح، إلا أنه لا
يبعد تقييدهما بنصوص الترجيح، وحملهما على التعادل، كما أشرنا إليه هناك.
ومما سبق في مقبولة ابن حنظلة يتضح أن اختصاصهما بزمن الحضور -
لو تم - لا ينفع في رفع التعارض بينهما وبين نصوص التخيير.
الرابع: موثق سماعة المتقدم في نصوص التخيير، حيث سبق تقريب
دلالته على التساقط.
لكن سبق تقريب وروده في وظيفة العامي عند اختلاف المجتهدين لا
في وظيفة المجتهد عند اختلاف الاخبار.

(1) تقدم تخريجهما في اخر الكلام في نصوص الترجيح.
233

الخامس: مرسلة عوالي اللآلي، حيث قال بعد ذكر المرفوعة: " وفي رواية
أنه عليه السلام قال: إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله " (1).
هذا، وقد وقع الكلام - بينهم في الجمع بين هذه النصوص ونصوص
التخيير.
وقد تعرض في الحدائق لجملة من الوجوه المذكورة في كلماتهم، والتي
ينبغي التعرض لها استقصاء للأقوال..
أولها: حمل أخبار الارجاء على الفتوى والحكم وأخبار التخيير على
العمل. قال في الحدائق: " وبه صرح جملة من مشايخنا المعاصرين ". وحكى
عن بعضهم الاستدلال عليه بالخبر الثاني والثالث المتقدمين في نصوص
التخيير. وقد سبق خروجهما عما نحن فيه.
على أن المراد بالحكم والافتاء إن كان هو تعيين الحكم الواقعي والافتاء
به فلا مجال له حتى مع عدم التعارض إذا احتمل الخطأ، وان كان هو البناء على
الحكم الظاهري الذي هو مؤدى الحجة والافتاء به فالخبران المذكوران - بناء
على حملهما على التخيير الظاهري - صريحان فيه، كما أن أكثر نصوص الارجاء
والتوقف ظاهرة في التوقف حتى في مقام العمل، كما هو مقتضى التعليل في
المقبولة والسؤال عن العمل في المكاتبتين.
نعم، المتيقن منها النهي عن العمل بالخبرين المتعارضين والتعويل
عليهما ولزوم التوقف من حيثيتهما، لعدم حجيتهما لأنه هو المنصرف من
التعليل بالاقتحام في الهلكة في المقبولة ولأن موضوع السؤال في المكاتبتين
العمل بالخبرين المتعارضين لا العمل في المسألة مع قطع النظر عنهما، فلا
مجال للبناء على لزوم التوقف مطلقا، لينافي العمل بالأدلة والأصول المتأخرة
عنهما رتبة، بل يجوز الرجوع إليها، لتمامية موضوع حجيتها بعد فرض سقوط

(1) مستدرك الوسائل ج:، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.
234

المتعارضين عن الحجية واليأس عن معرفة الواقع لتعذر الرجوع للإمام عليه السلام.
ومنه يظهر أن مرجع التوقف والارجاء إلى تساقط المتعارضين، لا
انقلاب الأصل في موردهما إلى الاحتياط - كما قد يحكى في الجملة عن
الأخباريين - بنحو لا يجوز الرجوع للبراءة أو عموم الرخصة لو كان، وانما يتم
ذلك بناء على ترجيح الموافق منهما للاحتياط، وقد سبق في مباحث الترجيح
المنع من ذلك، كما سبق تحديده.
ثانيها: حمل خبر الارجاء على زمن حضور الامام وحمل التخيير على
زمن الغيبة وعدم تعذر الوصول له عليه السلام، كما صرح به الطبرسي في الاحتجاج،
وعن المجلسي في البحار استظهاره، وجرى عليه غير واحد من المتأخرين.
فإن رجع إلى خصوصية زمن الحضور والغيبة - كما يقتضيه الجمود على
ما حكي عن بعض الأعاظم - فيظهر ضعفه مما سبق في المقبولة من امتناع حمل
نصوص التخيير على خصوص زمان الغيبة.
ومن الغريب ما يظهر من بعضهم من استيضاح عدم العمل بها في عصر
الحضور ولزوم حملها على عصر الغيبة، فتكون أخص من نصوص التوقف لو
كان لها عموم.
لان عدم العمل بها في عصر الحضور موجب لاجمالها، لا لحجيتها في
عصر الغيبة.
وإن رجع إلى أن المعيار على التمكن من لقاء الامام والاطلاع على الحكم
الواقعي منه، وتعذر ذلك أو تعسره الذي قد يكون في عصر الحضور أيضا - كما
جرى عليه شيخنا الأعظم وقد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سرهما - فهو جمع
بلا شاهد، لان اشتمال بعض نصوص التوقف على جعل الغاية لقاء الامام لا
يقتضي القدرة على لقائه، كما سبق في المقبولة، بل اشتملت بعض نصوص
التخيير على ذلك أيضا، كمرسل الحارث بن المغيرة المتقدم.
235

ثالثها: حمل خبر الارجاء على عدم الضرورة للعمل بأحد الخبرين
والتخيير على حال الاضطرار للعمل بأحدهما وقد حكاه في الحدائق عن ابن
أبي جمهور الأحسائي في كتاب عوالي اللآلي.
وهو جمع تبرعي بلا شاهد، بل يبعد حمل نصوص التخيير على ذلك
لندرته.
نعم، قد يستدل له بمرسل سماعة بن مهران المتقدم في اخر الكلام في
نصوص الترجيح، الظاهر في اختصاص الترجيح فضلا عن التخيير بصورة
الاضطرار للعمل بأحد الخبرين.
لكن تقدم الاشكال في التعويل عليه ولزوم حمله على الاستحباب.
رابعها: حمل أخبار التخيير على العبادات المحضة، وأخبار الارجاء على
غيرها من حقوق الآدميين من دين، أو ميراث، أو فرج، أو زكاة، أو خمس،
فيجب التوقف عن الافعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. كذا
ذكره في الحدائق، وحكاه عن الاسترآبادي في الفوائد المدنية، وهو الذي
احتمله في الوسائل.
ولا يخفى أنه جمع تبرعي لا شاهد له.
نعم، مقبولة ابن حنظلة التي هي عمدة نصوص التوقف مختصة
بالتخاصم والقضاء، وقد سبق أنه لابد من إلغاء خصوصية موردها.
خامسها: حمل نصوص الارجاء على الاستحباب ونصوص التخيير
على الرخصة، وقد حكى في الحدائق عن المجلسي في البحار احتماله، وهو
المناسب للجمع العرفي بين الامر أو النهي والترخيص.
لكنه لا يناسب التعليل في مقبولة ابن حنظلة، بل لسانه آب عن ذلك. مع
أن مرجع الارجاء إلى التساقط وهو قد يكون أوسع عملا من التخيير.
سادسها: حمل نصوص الارجاء على النهي عن الترجيح والعمل بالرأي
236

وحمل نصوص التخيير على الاخذ من باب التسليم، حكى في الحدائق عن
بعض مشايخه نقله احتمالا.
لكن لا قرينة على صرف نصوص الارجاء على الترجيح مع المفروغية
عن الحجية، بل الظاهر منها بيان الوظيفة في المتعارضين مطلقا، كنصوص
التخيير، كما ذكرناه عند الكلام في المقبولة.
سابعها: حمل خبر الارجاء على غير المتناقضين، وحمل خبر التخيير
على المتناقضين. كذا ذكره في الحدائق، وقال: " نقله بعض شراح الأصول عن
بعض الأفاضل ".
وكأن مراده بالمتناقضين ما لا يمكن الجمع بينهما عملا، كما لو تضمن
أحدهما الامر والاخر النهي، والا فالتعارض لابد فيه من التناقض ولو بلحاظ
المدلول الالتزامي.
وكأن الوجه فيه: اختصاص موثق سماعة المتقدم في نصوص التخيير
والامر بالارجاء بما إذا كان أحدهما أمرا والاخر ناهيا.
وفيه: - مضافا إلى ما سبق من الاشكال في الاستدلال بالموثق على
التخيير - أن حمل نصوص التخيير على خصوص ذلك متعذر عرفا لندرته.
ثامنها: حمل أخبار التخيير على أحاديث المندوبات والمكروهات
وأخبار الارجاء على غيرها. احتمله في الوسائل، واستدل عليه بخبر الميثمي
الآتي. لكن الظاهر أن الخبر المذكور لا يدل على ذلك بل على الوجه التاسع.
نعم، قد يستدل عليه باختصاص الخبر الثاني والثالث من الاخبار
المستدل بها على التخيير، بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بركعتي الفجر
نافلته لا فريضته.
لكن سبق أنهما أجنبيان عما نحن فيه من التخيير الظاهري، بل هما
متضمنان للسعة الواقعية، التي لا مجال لحمل نصوص التخيير عليها، لظهورها
237

في السعة الواقعية، بسبب اشتمال بعضها على أخذ الجهل في موضوعها، واخر
على الرد للامام، وثالث على المرجحات المعلوم ورودها للترجيح الظاهري.
مضافا إلى إباء عموم التعليل في المقبولة عن التخصيص.
تاسعها: حمل نصوص التخيير على ما إذا كان النهي في أحد الخبرين
المتعارضين نهي إعافة، فيحمل الاذن في الاخر على الرخصة ويتخير في العمل
بينهما، وحمل نصوص التوقف على غير ذلك. وهو أحد الوجوه المذكورة في
الحدائق.
ولا يخفى رجوعه إلى إهمال نصوص التخيير وعدم صلوحها للعمل، إذ
مع إحراز كون النهي نهى إعافة لا يحتاج إلى خبر معارض مرخص، فضلا عن
أن يحتاج لنصوص التخيير الموسعة في العمل بأيهما، ومع الشك فيه لا يحرز
موضوع نصوص التخيير ليعمل بها، بل حيث كان ظاهر النهي الالزام كان الظاهر
عدم تحقق موضوعها.
مضافا إلى أن التخيير يكون حينئذ واقعيا بين المؤديين لا ظاهريا بين
الحجتين، وقد سبق ظهور نصوص التخيير في التخيير الظاهري.
نعم، يتجه ما في الحدائق من الاستدلال على الوجه المذكور بما في خبر
الميثمي عن الرضا عليه السلام الوارد في اختلاف الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام
المتضمن في صدره تقسيم الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة إلى أمر
إلزام وفرض ونهي تحريم، وأمر فضل وندب ونهي إعافة وكراهة، وأن في
الأولين لا يمكن الخروج عنه ولا يقبل الحديث المخالف له، لأنهم عليهم السلام لا
يستحلون ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله ولا يحرمون ما استحل، بل هم تابعون له، كما
كان هو صلى الله عليه وآله تابعا لله تعالى، وأن الذي يسع استعمال الرخصة فيه هو الأخيران،
ثم قال (ع) فيهما: " إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي
ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما يجب الاخذ
238

بأحدهما أو بهما جميعا أو بأيهما شئت وأحببت موسع ذلك لك من باب
التسليم لرسول الله صلى الله عليه وآله والرد إليه والينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والانكار
وترك التسليم لرسول الله صلى الله عليه وآله مشركا بالله العظيم.
فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان
في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في
الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى الله عليه وآله فما كان في السنة موجودا منهيا عنه
نهي حرام ومأمورا به عن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهي رسول
الله صلى الله عليه وآله وأمره، وما كان في السنة نهي إعافة، أو كراهة ثم كان الخبر الأخير خلافه
فذلك رخصة في ما عافه رسول الله صلى الله عليه وآله وكرهه ولم يحرمه. فذلك الذي يسع
الاخذ بهما جميعا، وبأيهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتباع
والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وما لم تجدوه في شئ من هذه الوجوه فردوا إلينا
علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف والتثبت
والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا " (1).
وسنده لا يخلو عن اعتبار، لان رجاله بين صحيح وموثق عدا محمد بن
عبد الله المسمعي، الذي قال في حقه الصدوق بعد رواية هذا الخبر: " كان شيخنا
محمد بن الحسين بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه سئ الرأي في محمد بن
عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب
لأنه كان في كتاب الرحمة وقد قرأته عليه فلم ينكره ورواه لي ".
وحيث كان سوء الرأي لا يخلو عن إجمال، لامكان رجوعه لجهات لا
تنافي الوثاقة كالغلو واعتماد المراسيل، فلا يخرج به عن ظاهر حال ابن الوليد
في الاعتماد على حديثه، حيث لم يستثنه في ما حكي عنه من رجال كتاب نوادر
الحكمة، ولا سيما مع ما صرح به الصدوق في كلامه المتقدم من رواية ابن

(1) الوسائل ج: 18، باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 31، عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
239

الوليد للحديث المذكور الظاهر في اعتماده عليه، وأنه قد رواه من كتاب الرحمة
الذي صرح في الفقيه بأنه من الكتب المشهورة التي عليها المعول وإليها
المرجع.
وأما دلالته فهو ظاهر في حصر المراد من أخبار التخيير في التخيير
الواقعي في موارد الأمر والنهي غير الالزاميين في مقابل الرخصة ولزوم التوقف
في غير الموارد المذكورة. وهو راجع إلى تفسير حال التعارض وبيان منشئه
فيها، لا إلى ضرب القاعدة العملية فيها، لما ذكرنا من عدم ترتب العمل على
القاعدة المذكورة، للاستغناء عنها مع العلم بحال الأمر والنهي، وعدم إحراز
موضوعها مع الشك فيه، بل لابد من الرجوع للامام في تشخيص حالهما،
فيكون تطبيق كبرى التخيير في مورد الشك من وظيفته، كما سبق في صحيح ابن
مهزيار ومكاتبة الحميري، لا من وظيفة المكلف الشاك.
وحيث كان هذا الحديث متعرضا لألسنة نصوص التخيير كان حاكما
عليها حكومة تفسيرية، فيتقدم عليها طبعا ويكون كاشفا عن خلل في ظهورها.
ومن ثم جعله شيخنا الأستاذ قدس سره مانعا من البناء على التخيير والعمل
بنصوصه.
اللهم إلا أن يقال: الحكومة المذكورة إنما تتم في مثل مرسل الكليني
القابل للحمل على السعة الواقعية، دون مثل مرسل الحسن بن الجهم الذي هو
كالصريح في التخيير الظاهري، حيث فرض فيه سؤالا وجوابا الجهل بالحق من
الخبرين الظاهر في المفروغية عن مخالفة أحدهما له، ومرفوعة زرارة
المفروض فيها لزوم الترجيح الذي لا مجال له في المورد المذكور.
فلا مجال لدعوى حكومة خبر الميثمي على الخبرين المذكورين
ونحوهما حكومة تفسيرية، ليتقدم عليها، بل هو معارض لها، كسائر أخبار
التوقف.
240

على أنه ظاهر في أن الخبرين المشتمل أحدهما على الامر أو النهي
والاخر على الرخصة متعارضان يكونان موردا للتخيير أو الرد مع العلم بحال
الامر أو النهي، وللتوقف مع الجهل بحالهما، مع وضوح بناء الأصحاب على
الجمع بينهما مع الجهل بالحال بالحمل على الاستحباب أو الكراهة،
وخروجهما بذلك عن المتعارضين عرفا، فهو من هذه الجهة مهجور عند
الأصحاب.
بل هو مناف لنصوص الترجيح، لقوة ظهوره في استيفاء حكم صور
التعارض وفي عدم الوظيفة الظاهرية فيها، بل مع العلم بحال الأمر والنهي يتعين
الرد أو السعة واقعا، ومع الشك يتعين التوقف من دون إشارة للترجيح. وذلك
موجب لوهن الخبر في نفسه ولزوم رد علمه لقائله عليه السلام. ويبقى التعارض بين
نصوص التخيير والتوقف مستحكما.
ومن هنا فقد يدعى لزوم تقديم نصوص التخيير في المقام، لأنها وإن
كانت ضعيفة السند مجبورة بعمل الأصحاب، ونصوص التوقف وإن كانت
معتبرة السند مهجورة عندهم، حيث كان التخيير هو المذكور في كلمات قدماء
الأصحاب ومتأخريهم، بل ادعي عدم الخلاف فيه، كما سبق، ولم يعرف
التصريح بخلافه أو التفصيل فيه إلا من بعض المتأخرين.
لكن الانصاف: أن الاكتفاء بذلك في البناء على حجية نصوص التخيير
ولزوم البناء عليه في غاية الاشكال، لعدم وضوح عمل الأصحاب بالنحو الكافي
في الجبر والوهن، لقلة تحرير المسائل الأصولية في كلامهم واضطراب عملهم
فيها، ومنها هذه المسألة.
بل لا طريق لمعرفة رأي من دأبه الاقتصار على تدوين الاخبار من
القدماء لأنهم دونوا نصوص التخيير والتوقف معا، بل لعل نصوص التوقف
أظهر تدوينا، لان أظهر نصوص التخيير دلالة مرسل ابن الجهم ومرفوعة زرارة،
241

ولم يدونا إلا في كتب المتأخرين.
بل يبعد بناء الأصحاب على التخيير في عصور الأئمة عليهم السلام ومن القريب
بناؤهم على الرجوع لهم عليهم السلام في كشف الحال، لأنه مقتضى الطبع الأولي، وقد
وردت به النصوص في كثير من الموارد، وقد سبق أن ذلك يوجب إجمال
نصوص التخيير، لا حجيتها في عصر الغيبة.
بل لم يشر الشيخ قدس سره في التهذيب للتخيير، وانما ذكر في اخر المرجحات
ترجيح الخبر الموافق للأصل، وكأنه يرجع للعمل بالأصل بعد تساقط الخبرين،
لما هو الظاهر من عدم صلوح الأصل للترجيح حتى بناء على التعدي عن
المرجحات المنصوصة.
بل لعل بعض من صرح به قد اعتمد على بعض الوجوه الاعتبارية - نظير
ما سبق من الشيخ في الاستبصار - أو على إطلاقات الحجية - كما سبق من
المرتضى في الذريعة - أو على ما تضمن أنهم عليهم السلام لا يدخلون شيعتهم في في ما لا
يسعهم، بتخيل دلالتها على ذلك، مع الغفلة عن أن المراد انه يسعهم واقعا
لعناوين ثانوية من تقية أو نحوها.
وما أبعد ما بين دعوى: انجبار نصوص التخيير بعمل الأصحاب وما ذكره
شيخنا الأستاذ قدس سره من وهنه بإعراضهم، فإنهم وإن ذكروا ذلك في الأصول إلا أنهم
لم يجروا عليه في الفقه، بل مبناهم على الجمع بين النصوص أو ترجيح بعضها
من دون إشارة للتخيير.
وإن لم يبعد كون منشأ ذلك منهم التعدي عن المرجحات المنصوصة،
ولو احتياطا كما سبق، لا الاعراض عن التخيير بالنحو المانع من البناء عليه لو
تمت نصوصه.
وكيف كان فلا مجال لاحراز اعتمادهم على نصوص التخيير المتقدمة

(1) الوسائل ج: 18 باب: 9 من أبواب صفات القاضي حديث: 8، 13.
242

وهجر نصوص التوقف بالنحو الموجب لانجبار الأولى ووهن الثانية.
ولذا لا مجال للبناء على التخيير، لضعف نصوصه دلالة أو سندا
ومعارضتها بما هو أقوى منها.
هذا، وربما ينسب لبعضهم وجوب الاحتياط، لا بمعنى الاخذ بأحوط
الخبرين، فإنه راجع لترجيح الخبر الموافق للاحتياط، الذي سبق الكلام فيه في
بيان المرجحات، بل بمعنى التوقف المطلق في الفتوى المستلزم للاحتياط في
مقام العمل، لعدم المؤمن، الراجع لتنجز احتمال التكليف على طبق كل من
المتعارضين، بنحو يمنع من الرجوع للعموم والأصل المؤمن ونحوهما مما
يكون متأخرا رتبة عن كلا المتعارضين.
وكأن الوجه فيه: العمل بنصوص الارجاء والتوقف بعد حملها على
التوقف المطلق.
وفيه: أن ظاهر النصوص المذكورة أو المتيقن منها هو التوقف من حيثية
المتعارضين، بمعنى عدم التعويل عليهما لعدم حجيتهما، بل يرجأ معرفة الحق
منهما إلى لقاء الامام، ولا ينافي العمل في المسألة بما يكون متأخرا رتبة عن
المتعارضين بعد اليأس عن معرفة الحق منهما، كما أشرنا إلى ذلك في الوجه
الأول من وجوه الجمع بين نصوص التخيير والتوقف.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أنه لا مجال للخروج عما تقتضيه القاعدة
في المتعارضين من التساقط. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد
العون والتوفيق، والحمد لله رب العالمين.
وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: أنه. بناء على القول بالتخيير لا يراد به التخيير في المسألة الفرعية،
بمعنى البناء على أن الحكم الشرعي الفرعي هو المطابق للسعة بين المؤديين،
نظير التخيير بين القصر والتمام في المواطن الأربعة.
243

لان التخيير في المسألة الفرعية إن كان واقعيا لزم انقلاب الحكم الواقعي
بسبب التعارض، وهو خلاف ما تسالموا عليه من وحدة الحكم الواقعي في حق
العالم والجاهل وإن كان ظاهريا، فهو مخالف لكلا المتعارضين، بل يعلم
بمخالفته للواقع فيما لو علم إجمالا بصدق أحدهما، ولابد في الحكم الظاهري
من احتمال مطابقته للواقع.
مع أن الحكم التخييري إنما يتجه مع تعدد المتعلق ووحدة الحكم، كما لو
تعارض الدليلان في القصر والتمام أو الجهر والاخفات، ولا معنى له مع وحدة
المتعلق وتعدد الحكم، كما لو تعارضا في الوجوب والحرمة أو غيرهما من
الأحكام التكليفية أو الوضعية، إذ لا معنى للحكم بالتخيير بين الاحكام.
فلابد من كون المراد التخيير في المسألة الأصولية الراجع إما إلى محض
السعة في مطابقة العمل لمفاد كل من الدليلين، نظير أصالة البراءة من كل من
الوجوب والحرمة عند الدوران بينهما، أو إلى الحجية التخييرية لكل من
الدليلين، على ما سبق في أول الفصل.
وإن كان ظاهر النصوص إرادة الثاني، لظهورها في السعة في العمل بكل
من الدليلين والاخذ به، بحيث يكون طريقا للواقع وحجة عليه في الجملة، وهو
الذي يظهر من جماعة.
الثاني: هل التخيير وظيفة للمفتي الناظر في الأدلة، فإذا اختار أحد
الخبرين المتعارضين لزمه الفتوى بمضمونه معينا، وتعين على المستفتي العمل
عليها، ولا موضوع للتخيير في حقه. أو للمستفتي أيضا، فليس للمفتي إلا أن
يخبر بوجود المتعارضين ويخير في العمل بأحدهما ويختار المستفتي في مقام
العمل؟
وجهان.. صرح بالأول بعض الأعاظم قدس سره مدعيا ابتناء ذلك على ما تقدم
من كون التخيير في المسألة الأصولية.
244

لكنه غير ظاهر، لوضوح أنه لو كان المراد بالتخيير محض السعة في مقام
العمل من دون حجية لاحد الخبرين فلا وجه لفتوى المجتهد بمضمون أحد
الخبرين تعيينا، بل يلزمه الفتوى بالسعة الظاهرية نظير فتواه بها عند الدوران بين
الوجوب والحرمة.
وكذا لو كان المراد به الحجية التخييرية، بناء على ما سبق من تفسيرها
بكون كل من الخبرين حجة فعلا للمكلف ومجموعهما حجة عليه، حيث لا
وجه لالزامه في مقام الفتوى بمضمون أحدهما مع عدم حجيته بعينه على
المكلف، بل هو حجة له لا غير، وليس الحجة عليه إلا مجموعهما.
وأما لو كان المراد به حجية كل منهما تعيينا على تقدير اختياره، دون
الاخر - كما هو الظاهر منهم - فما ذكره إنما يتم على أحد أمرين..
أولهما: كون وظيفة المجتهد الفتوى على طبق ما هو الحجة عليه، لا على
المقلد، حيث لا إشكال في أن اختيار المجتهد لاحد المتعارضين موجب
لحجيته عليه، فله الفتوى بمضمونه للعامي، وإن لم يكن حجة عليه، لعدم
اختياره له.
ثانيهما: كون اختيار المجتهد لاحد المتعارضين موجبا لحجية ما يختاره
حتى على المقلد، ففتواه على طبقه فتوى له بما هو الحجة في حقه أيضا لا في
حق نفسه فقط.
ويشكل الأول: بأنه لا وجه لعمل العامي بمقتضى الحجة الثابتة في حق
المجتهد غير الثابتة في حقه، بل اللازم عليه العمل بمقتضى الحجة الثابتة عليه،
غايته أن تعذر تشخيص مؤدى حجته عليه موجب لرجوعه للمجتهد فيه،
ففتوى المجتهد بمقتضى سائر الحجج ليس لحجيتها عليه، بل لحجيتها على
العامي أيضا، بمقتضى إطلاق دليل الحجية الشامل لجميع المكلفين.
ولذا لو فرض اختلاف حجة المجتهد عن حجة العامي لم يجز للمجتهد
245

الفتوى بمقتضى حجته، بل وجب عليه الفتوى بمقتضى حجة العامي. مثلا لو
كانت رواية المرأة حجة في حق النساء دون الرجال، وورد عموم في رواية
الرجل مخصص برواية المرأة، وجب على المجتهد الرجل العمل في حق نفسه
والفتوى للرجال بمقتضى العموم، والفتوى للنساء بمقتضى الخاص.
ومجرد تعذر الرجوع للحجة على العامي لا يمنع من حجيتها عليه، لان
المتعذر الرجوع لها بالمباشرة والنظر فيها تفصيلا دون الرجوع لها بتوسط
المجتهد وأخذ مفادها منه إجمالا، وهو كاف في صحة جعلها عليه.
ومنه يظهر أن انفراد المجتهد بتعيين الحجج وتشخيصها ليس
لاختصاصه بحجيتها، بل لاختصاصه بالقدرة على معرفتها، مع عموم الحجية
التي يدركها للعامي، ولذا يفتي له بمؤداها.
وأما الثاني فهو مخالف لظاهر أدلة التخيير، لظهورها في كون الاختيار
وظيفة للمكلف في مقام العمل بالمتعارضين، لا في مقام الفتوى على طبق
أحدهما، فكما يكون للمجتهد الاختيار في مقام العمل يكون للمقلد. وقيام
المجتهد مقام المقلد في الاختيار محتاج إلى دليل مفقود.
وليس هو كقيامه مقامه في الفحص عن الأدلة وتعيينها، لان الفحص عن
الأدلة لا دخل له بحجيتها، بل هي حجة في حق الفاحص عنها وغيره، ولا أثر
للفحص إلا إثبات موضوع الحجية، وتعذر الاثبات على العامي يقضي باتكاله
على المجتهد فيه، بخلاف التخيير في المقام، حيث هو دخيل في حجية الخبر
المختار ثبوتا.
ودعوى: أن التقليد مختص بالأحكام الفرعية، لا بمقدمات استنباطها من
المسائل الأصولية واللغوية وغيرها، والتخيير حكم أصولي فلا تقليد فيه، ولا في
تنقيح موضوعه وهو التعارض.
ممنوعة، لعموم أدلة التقليد من السيرة العقلائية الارتكازية وغيرها.
246

ولذا لو فرض ظهور خطأ المقلد الأعلم لمقلده في بعض مقدمات
الاستنباط، فحيث لا مجال لاعتماده على فتواه بالحكم الفرعي المبتنية على
المقدمة المذكورة، لقصور أدلة التقليد عن صورة العلم بخطأ المستند، ولا على
فتوى غيره ممن يخطئه هو في مقدمات اجتهاده ولم يظهر للمقلد إصابته فيها،
لقصور الأدلة المذكورة أيضا عن فتوى المفضول مع تخطئة الأفضل له، تعين
للمقلد الاعتماد على ما توصل إليه من مقدمات الاجتهاد التي خطأ فيها الأعلم
والرجوع له في بقيتها مما لم يظهر له خطؤه فيه من مسألة أصولية أو غيرها، ثم
العمل على الحكم الفرعي المستنبط من المجموع وإن خالف ما استنبطه مقلده،
كما استقربه بعض الأعيان المحققين قدس سره في اخر الكلام التجري.
وليس الرجوع للمجتهد في بعض مقدمات الاستنباط إلا كرجوع
المجتهد لعلماء الرجال أو اللغة، بناء على أنه من الرجوع لأهل الخبرة. وإنما
يعمل بفتوى المجتهد بالحكم الفرعي المستنبط من مجموع المقدمات الثابتة
بنظره غالب العوام ممن لا يتيسر له الاجتهاد في شئ من المقدمات.
ففي المقام حيث يتعذر على المجتهد الفتوى للعامي بالحكم الفرعي
لتوقف حجية الدليل الذي يعتمد عليه في الفتوى في حق العامي على اختياره
تعين له بيان مقدمات الاستنباط المتيسرة له وإيكال الاستنباط للعامي بعد أن
يستقل بالاختيار المتمم لمقدماته، كما تقدم في الوجه الثاني، وهو الذي اختاره
شيخنا الأعظم قدس سره وذكر أنه المحكي عن جماعة، بل قيل إنه مما لا خلاف فيه
هذا كله في الفتوى.
وأما الحكومة والقضاء فقد استظهر شيخنا الأعظم قدس سره أن التخيير فيها
وظيفة للحاكم.
وما ذكره في محله، لا لما قيل من أن تخيير المتخاصمين لا ترتفع معه
الخصومة، لعدم وضوح الخروج بذلك عما تقتضيه القواعد.
247

بل لما ذكره قدس سره من أن القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخير. اما
بالإضافة لكيفية الحكم وأحكام الدعوى فظاهر، إذ لا أثر لها بالإضافة لغيره من
المتخاصمين أو غيرهما.
وأما بالإضافة للحق المتخاصم فيه فهو وإن كان موردا لعمل المتخاصمين
وغيرهما، إلا أن ذلك إنما يقتضي رجوع العامل لما هو الحجة في حقه في مقام
العمل، فيتخير في المقام المذكور، لا في فصل الخصومة، الذي هو وظيفة
للحاكم، بل اللازم فيه على الحاكم الرجوع لما هو الحجة في حقه، ولذا يجب
عليه العمل بمقتضى الحجة الظاهرية في حقه من الطرق والامارات والأصول
الجارية في الشبهات الموضوعية والحكمية وإن علم بعدم حجيتهما في حق
أحد المتخاصمين أو كليهما، لانكشاف الواقع لهما بالعلم الذي لا مجال معه
للحكم الظاهري.
نعم، قد يستشكل فيه بالنظر لما ذكروه فيما لو لزم من حكمه في واقعتين
مخالفة إجمالية، كما في من أقر بعين لشخص، ثم أقر بها لاخر، حيث يحكم
عليه بها للأول وبقيمتها للثاني اعتمادا على الاقرارين المعلوم كذب أحدهما،
فإن العلم الاجمالي المذكور يسقط حجية الاقرارين في حقه، كما يسقطهما في
مقام العمل لو ابتلي الحاكم أو غيره بالعين والقيمة معا بميراث أو غيره.
لكن ذلك لا يكشف عن كون المعيار في الحكم على الحجة في حق
المتخاصمين، لما أشرنا إليه من عدم العبرة بعلمهما التفصيلي، فضلا عن
الاجمالي.
وربما يدفع الاشكال المذكور بأحد وجهين..
الأول: أن ابتلاء الحاكم بكل من الطرفين، لا يكون بمجرد الاقرار
بالتخاصم فيهما إليه وإرادة الحكم فيهما، وحيث كان الحكم فيهما تدريجيا فلا
ابتلاء حين الحكم في كل طرف إلا به، فلا يصلح العلم الاجمالي للتنجيز حينئذ
248

ليسقط الاقرار عن الحجية فيه.
الثاني: أن موضوع الولاية على الحكم والقضاء ليس هو الحق الواقعي،
بنحو يكون العلم والحجج طرقا محضة، كما هو الحال في أحكام الحق
الأخرى، ليمتنع الحكم على خلاف العلم التفصيلي أو الاجمالي الذي هو حجة
ذاتية، كما يمتنع العمل في أحكامه الأخرى على خلافه، بل موضوعه شرعا
العلم أو قيام الحجة بنحو لا يكون الحكم بدونهما مشروعا واقعا ولا نافذا وإن
أصاب الواقع، وحينئذ للشارع الحكم بعدم مانعية العلم الاجمالي من القضاء
على طبق الحجة في كل مورد بنفسه من إقرار أو غيره مع قطع النظر عن المورد
الاخر. بل يمكن منه الحكم بعدم مانعية علمه التفصيلي بخطأ الحجة. فلاحظ.
هذا، وقد يستشكل في الرجوع للتخيير في خصوص القضاء لمقبولة ابن
حنظلة الواردة فيه والحاكمة بالارجاء والتوقف، فتصلح لتخصيص إطلاقات
التخيير.
ويندفع: - مضافا إلى ما سبق من أن مقتضى عموم التعليل في المقبولة
عدم اختصاصها بالقضاء، فتكون معارضة لنصوص التخيير، لا أخص منها - بأن
مورد المقبولة اختلاف الحكمين الصادرين من حاكمين تبعا لاختلاف
روايتيهما، لا اختلاف الروايتين في حق حاكم واحد، الذي هو محل الكلام، فلا
مخرج فيه عن إطلاقات التخيير لو تمت.
الثالث: هل التخيير لو قيل به في المقام ابتدائي، فيجب الجري في جميع
الوقائع على طبق ما يختار في الواقعة الأولى، كما يظهر من
شيخنا الأعظم قدس سره وصرح به بعض الأعاظم قدس سره جاعلا ذلك من ثمرات كون
التخيير في المسألة الأصولية، أو استمراري، فيجوز الاختلاف بين الوقائع في ما
يختار، كما صرح به المحقق الخراساني قدس سره ووافقه سيدنا الأعظم قدس سره، وقيل إنه
المحكي عن العلامة، وأنه المحكي نسبته للمحققين.
249

والأول له وإن كان هو مقتضى الاقتصار على المتيقن، للشك في حجية ما
يختار في الوقائع اللاحقة على خلاف ما اختير في الوقائع السابقة، إلا أنه قد
استدل للثاني..
تارة: بإطلاقات نصوص التخيير.
وأخرى: بالاستصحاب.
والاشكال في الاطلاقات بأنها واردة لبيان حكم المتحير في الواقعة
الأولى الذي لم يختر أحد الخبرين ولم يكن حجة رافعة لتحيره.
مدفوع: بأن التحير بالنحو المذكور لم يؤخذ في موضوع التخيير وانما
استفيد من فرض السؤال عن الوظيفة العملية فيهما، وحيث كانت الوظيفة قابلة
للتخيير الابتدائي والاستمراري، فالتحير من هذه الجهة لا يرتفع بالاختيار في
الواقعة الأولى، ولابد من الرجوع في تعيين الوظيفة العملية من هذه الجهة إلى
اطلاق السؤال والجواب، وهو تابع للعنوان المأخوذ في النصوص، وحيث كان
هو تعارض الخبرين الباقي في جميع الوقائع من دون أن يرفعه الاختيار في
الواقعة الأولى كان مقتضى الاطلاق هو التخيير الاستمراري.
ولا سيما مع مناسبته للتعبير في بعض النصوص بالأخذ من باب التسليم،
لوضوح أن اختيار أحد الخبرين لا يخرج الاخر عن قابلية الاخذ من باب
التسليم. بل قوله عليه السلام في مرسل الحارث ابن المغيرة: " فموسع عليك حتى ترى
القائم " صريح في استمرارية التخيير.
هذا كله بناء على رجوع التخيير للحجة المعلقة على الاختيار، أما بناء
على رجوعه إلى كون كل منهما حجة فعلية للمكلف ومجموعهما حجة عليه -
كما تقدم انه الظاهر - أو إلى محض السعة في مقام العمل، فالامر أظهر لوضوح
أن اختيار العمل على طبق أحدهما في الواقعة الأولى لا يوجب تعين مضمونه
فيها، فضلا عن بقية الوقائع، فارتفاع التحير بنفس البيان القاضي بالسعة لا
250

بالاختيار.
ومما سبق يظهر أنه لا مجال للاشكال في الاستصحاب بتبدل الموضوع،
لارتفاع التحير بعد الاختيار. نعم، لما كان التمسك بالاستصحاب في فرض عدم
الاطلاق فاحتمال اختصاص التخيير بالواقعة الأولى مساوق لاحتمال تبدل
الموضوع الذي هو مانع من التمسك بالاستصحاب كاليقين بتبدله.
ودعوى لا التسامح العرفي في ذلك، قد سبق الاشكال فيها في مبحث
الاستصحاب. مضافا إلى أنه بناء على رجوع الحجية التخييرية لحجية كل منهما
معينا على تقدير اختياره تكون الحجية التخييرية تعليقية لا محال لاستصحابها،
لعدم جريان الاستصحاب التعليقي، بل الجاري الاستصحاب التخييري، وهو
في المقام استصحاب حجية ما اختاره أولا دون الاخر، بناء على جريان
استصحاب الحجية كما هو غير بعيد. وهو يوافق التخيير الابتدائي عملا.
نعم، بناء على ما سبق منافي معنى الحجية التخييرية. تكون تنجيزية
لا بأس باستصحابها لولا ما ذكرنا من احتمال تبدل الموضوع.
وقد تحصل من جميع ما سبق: أن التخيير استمراري عملا باطلاق
النصوص.
نعم، قد ينشأ عنه علم إجمالي منجز، كما في الموارد التي يلزم من فوت
الواقع فيها تكليف بالتدارك قضاء أو إعادة، أو بمثل الفدية والكفارة، كما في
القصر والاتمام، فإن اختلاف العمل فيهما في واقعتين مستلزم للعلم الاجمالي
ببطلان أحد الفعلين المستلزم لتداركهما معا.
إلا أن يبنى على عدم وجوب تدارك ما وقع عن اجتهاد أو تقليد مشروع
مطلقا، أو في خصوص المقام، لاستفادته من نصوص التخيير، كما هو غير بعيد.
ثم إن لازم كون التخيير ابتدائيا أن المكلف لو نسي ما اختاره أولا يلزمه
التوقف، لاشتباه الحجة باللاحجة عليه المانع من العمل بكل منهما في
251

خصوص مفاده، بل يعمل على القدر المشترك بينهما.
ودعوى: تحقق موضوع التخيير الابتدائي في حقه حينئذ، لرجوع التحير
له وفقده للحجة.
مدفوعة: بأن موضوع التخيير الابتدائي - بناء على ما سبق - هو التحير
الناشئ من التعارض الموجب لعدم حجية كل منهما رأسا لولا الحكم بالتخيير،
وهو لم يعد بسبب النسيان، لان التحير فيه مسبب عن نسيان الحجة منهما المانع
من العمل به في خصوص مؤداه، لا من حجيته رأسا، بل يعمل به في القدر
المشترك.
252

الفصل الثالث
في لواحق الكلام في مفاد أدلة
المتعارضين الخاصة
تعرض الأصحاب لجملة من المباحث لا تخض أحد الفصلين السابقين
لنلحقها به، بل هي تجري في كليهما، ولأجله جعلنا الكلام فيها في فصل
يخصها.
وفيه مسائل..
المسألة الأولى: سبق في أوائل الكلام في التعارض أن الكلامين
المتنافيين بظاهرهما مع الجمع العرفي بينهما، لكون أحدهما قرينة على الاخر
عرفا، وإن كانا متعارضين في مقام البيان والدلالة إلا أنهما غير متعارضين في
مقام الحجية، لان مرجع الجمع العرفي بينهما إلى ارتفاع موضوع حجية
أحدهما بسبب الآخر، وتعين العمل على القرينة وإهمال ظهور ذي القرينة
البدوي، ولا يشملهما حكم التعارض.
وهو ظاهر في أحكام التعارض الأولية مع قطع النظر عن الأدلة الخاصة،
وأما بالنظر إليها فهو موقوف على ظهورها في أن موضوعها التعارض في مقام
الحجية المستتبعة للعمل.
أما لو كان هو التعارض في مقام البيان والدلالة تعين شمول أحكام
التعارض التي تضمنتها - من الترجيح والتخيير أو التساقط - لموارد الجمع
العرفي، وتكون الأدلة المذكورة رادعة عن الجمع العرفي، وكاشفة عن
253

خصوصية في الاخبار مانعة منه.
إذا عرفت هذا، فأكثر النصوص الخاصة قد اشتمل على عنوان الاختلاف
بين الاخبار، والظاهر صدقه بمجرد الاختلاف في مقام البيان والدلالة.
إلا أن ورودها مورد التحير في الوظيفة - كما يناسبه حال السائل في
أكثرها - موجب لانصرافها عن موارد الجمع العرفي، لعدم التحير فيه بحسب
الطبع الأولى، والاحتياج للسؤال فيها يتوقف على المفروغية مسبقا عن ردع
الشارع عن الجمع العرفي، ولا إشعار في النصوص المذكورة بالمفروغية عن
ذلك. ومن ثم كانت منصرفة إلى ما يتوقف العرف معه عن العمل بطبعهم لعدم
وضوح وجه الجمع فيه لهم.
وأولى بالاختصاص بذلك مرفوعة زرارة المتضمنة لعنوان التعارض، لما
سبق في تعريفه من أن المناسبة المصححة لاطلاقه كون كل من المتعارضين
مانعا من العمل بالآخر.
وكذا ما استفيد منه فرض التعارض من دون تصريح بلفظه - كمرسل
الحارث بن المغيرة المتقدم في نصوص التخيير - لان المتيقن منه إرادة ذلك.
ولعل هذا هو الوجه في سيرة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في مقام
الاستدلال على متابعة الجمع العرفي، كما يظهر بأدنى نظر في كلماتهم في
أبواب الفقه. بل الظاهر الاجماع منهم في الفقه والأصول على بعض أنحاء
الجمع العرفي، كحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ونحوهما.
كما لا يظهر منهم الفرق في الجمع العرفي بين الاخبار التي هي موضوع
نصوص التعارض، وبين غيرها، كالبيانين الكاتبيين، أو البيان الكتابي والخبر.
وما ذلك إلا لعدم استظهارهم من نصوص التعارض الردع عن الجمع العرفي
بين الاخبار، بل يجري فيها كما يجري في غيرها مما لم تتعرض له نصوص
التعارض.
254

وكفى بهذه السيرة والاجماع دليلا في المقام على جريان الجمع العرفي
في الاخبار، وقرينة على عدم نهوض أخبار التعارض بالردع عنه لو فرض
التشكيك في ما سبق في مفادها.
هذا، وقد يستظهر من بعض الاخبار عموم التعارض لموارد الجمع
العرفي، كصحيح علي بن مهزيار المتقدم في نصوص التخيير، لان مقتضى
الجمع العرفي حمل الامر بصلاة ركعتي الفجر على الأرض على الأفضلية، ولم
يستغن السائل به عن السؤال عن تعارضهما، ونحوه صحيحه الاخر: " قرأت في
كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك روى زرارة عن أبي
جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا: لا بأس بأن
تصلي فيه إنما حرم شربها. وروى عن (غير) زرارة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه
قال: إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ - يعني المسكر - فاغسله إن عرفت موضعه،
وإن لم تعرف موضعه فاغسله كله، وان صليت فيه فأعد صلاتك فأعلمني ما
اخذ به. فوقع عليه السلام بخطه وقرأته: خذ بقول أبي عبد الله عليه السلام " (2)، فإن مقتضى
الجمع بين الخبرين حمل الثاني على الاستحباب.
ويندفع: بأن الصحيحين ونحوهما لما كانت واردة في موارد خاصة فربما
كان السائل فيها قد خفي عليه وجه الجمع بين الخبرين، إذ لا يجب في الجمع
العرفي أن يفهمه كل أحد، بل قد يكونان محفوفين عنده بقرائن داخلية أو
خارجية تمنع من الجمع المذكور، كما هو القريب في مورد الخبر الثاني، لعدم
مناسبة الكراهة للاحتياط بغسل الثوب كله، ولا لإعادة الصلاة الواقعة به.
على أن مقتضى الجمع العرفي لما لم يكن واقعيا قطعيا، بل كان ظاهريا
ظنيا فهو لا يمنع من السؤال الموصل للحكم الواقعي، وليس هو كالسؤال في

(1) كذا في الوسائل وفي الكافي والتهذيب والاستبصار: " وروى غير زرارة ".
(2) الوسائل باب: 38 من أبواب النجاسات حديث 2.
255

أخبار التعارض العامة، لان الغرض منه لما كان هو معرفة الوظيفة الظاهرية كان
منصرفا عما إذا كانت معلومة بطريق الجمع العرفي.
ثم إنه قد يظهر الخروج عما ذكرنا من كلام غير واحد من الأصحاب، مثل
ما ذكره الشيخ قدس سره في مقدمة الاستبصار من تقديم الترجيح بصفات الراوي من
العدالة والعدد على الترجيح بقوة الدلالة بتقديم ما لا يمكن تأويله على ما
يمكن تأويله، وما ذكره في (العدة) (1) من تأخر الترجيح بقوة الدلالة عن جميع
المرجحات من موافقة الكتاب والسنة والاجماع وصفات الراوي وكثرة الرواة
والمخالفة للعامة، وما ذكره في بعض الفروع الفقهية من حمل الخاص على
التقية واهمال الجمع العرفي بينهما بتخصيص العام. وما في الحدائق من إنكار
الجمع بين الامر أو النهي مع الرخصة بالحمل على الاستحباب أو الكراهة،
لدعوى خلو أخبار العلاج عنه. وما عن المحقق القمي من أن اللازم تقديم
الخاص على العام من حيثيتهما مع قطع النظر عن المرجحات الخارجية التي قد
تقتضي تقديم العام لموافقته للكتاب أو مخالفة للعامة، إلى غير ذلك مما قد يعثر
عليه الناظر في كلماتهم وإن لم يسعنا استقصاؤها في هذه العجالة.
لكن من القريب حمل ما في الاستبصار والعدة على التأويل الخارج عن
الجمع العرفي وان كان مع قوة دلالة أحد الدليلين، لان مجرد قوة الدلالة لا تكفي
في الجمع العرفي ما لم تستلزم قرينية الأقوى عرفا على المراد من الاخر، على
ما تقدم في محله.
والا فتحكيم نصوص العلاج في موارد الجمع العرفي قاض بإلغائه رأسا
وعدم كون قوة الدلالة مرجحا لو بني على الاقتصار على المرجحات
المنصوصة، وإن بني على التعدي عنها فلا وجه لتأخره عن بقية المرجحات، بل
يكون في عرضها أو مقدما عليها لتقدمه طبعا بنظر العرف. فلاحظ.

(1) العدة ج 1 ص: 55.
256

كما أن ما سلكه في بعض المسائل الفقهية من حمل الخاص على التقية
وتقديم العام قد يكون مبنيا على استفادة التقية في الخاص من قرائن خارجية -
كفتوى الأصحاب ونحوها - مسقطة للخاص على الحجية رأسا مع قطع النظر
عن العام.
والا فقد خص في العدة (1) التعارض بالعامين وصرح بوجوب حمل
العام على الخاص جمعا، وأنه لا يجري عليهما حكم المتعارضين، وهو
المطابق لسيرته في فقهه.
وأما ما ذكره في الحدائق وقد يستفاد من غيره من المحدثين فهو راجع
إلى انكار الجمع المذكور، لا إلى إنكار جميع أنحاء الجمع العرفي، كيف وكتابه
مملوء بالجري على مقتضى الجمع العرفي بوجوهه المختلفة، كحمل العام على
الخاص والمطلق على المقيد وغيرهما.
بل قد جرى في كثير من الموارد على استفادة الكراهة والاستحباب من
الجمع بين النصوص، ككراهة الأكل والشرب والخضاب للجنب، واستحباب
المضمضة والاستنشاق قبل الغسل، والاغتسال بصاع وغيرها. فكأن مراده مما
تقدم ما إذا لم يكن الجمع بما تقدم عرفيا، لخصوصية في المورد.
كما أن ما ذكره المحقق القمي قد يتجه على مبناه من أن الرجوع للاخبار
ليس لحجيتها بالخصوص، بل لإفادتها الظن بمقتضى دليل الانسداد، حيث قد
يحصل الظن من العام الموافق للكتاب أو المخالف للعامة دون الخاص أو
المخالف له أو الموافق لهم. على أن التزامه بذلك في فقهه بعيد جدا.
وكيف كان، فلا مجال للخروج بهذه الكلمات ونحوها عما هو المعلوم
من رأيهم في الأصول وسيرتهم في الفقه على متابعة الجمع العرفي وخروج
المورد به عن التعارض موضوعا وحكما.

(1) العدة ج 1 ص: 153.
257

وما أكثر ما خرجوا عن مبانيهم العامة في طرق الاستدلال بالأدلة أو
الأصول العملية في خصوص بعض الموارد غفلة عن كبريات تلك المباني أو
عن صغرياتها، أو للاقتناع بالحكم بنحو يكون الاستدلال عليه للاستظهار على
الدعوى، لا لتوقف معرفته عليه، حيث قد يوجب ذلك الغفلة أو التسامح في
الاستدلال، من دون أن يخل ذلك بمعرفة مبانيهم العامة وقواعدهم المسلمة
بينهم المعول عليها عندهم. ونسأله سبحانه وتعالى العصمة من الزلل في القول
والعمل.
المسألة الثانية: الدليلان المعارضان بظاهرهما إذا كان كل منهما صالحا
للقرينية على الاخر عرفا من دون يتعين أحدهما لها - كالعامين من وجه
والدليلين اللذين يكون أحدهما ظاهرا في الوجوب قابلا للحمل على
الاستحباب والاخر بالعكس - فقد سبق أنهما حجة في نفي الثالث، لأنهما
بحكم المجمل المردد بين وجهين الذي له متيقن في البين، حيث لا يمنع
إجماله من حجيته في المتيقن.
وأما بالإضافة إلى مورد التعارض فهو يبتني على شمول أخبار العلاج
لمثل هذا التعارض، حيث قد يدعى قصورها عنه، لعدم التصادم عرفا بين
الخبرين، بل بين ظهوريهما، فلا مخرج عن أصالة الصدور في كل منهما،
المقتضية للتساقط، حيث يكونان كالكلام الواحد الذي تصادم فيه ظاهران في
البناء على الاجمال، غايته أن الاجمال في الكلام الواحد بدوي، وفي الكلامين
من المذكورين عرضي.
لكنه يندفع بما سبق من أن أكثر نصوص العلاج قد تضمن عنوان
الاختلاف الصادق في موارد الجمع العرفي، فضلا عن محل الكلام، وانما
انصرفت عن موارد الجمع العرفي بقرينة ظهور السؤال فيها في التحير وعدم
معرفة الوظيفة العملية من المتعارضين، وهذا لا يجري في محل الكلام، فيلزم
258

شمول الاطلاق له، خصوصا مقبولة ابن حنظلة، لما يأتي.
وكون التصادم في المقام بين الظهورين لا يمنع من ذلك، لان اختلاف
النصوص وتعارضها حتى في المتباينين إنما هو بلحاظ ظهوراتها.
وظاهر بعض الأعيان المحققين قدس سره خصوصية العامين من وجه ونحوهما
مما لا يمنع التعارض فيه من العمل به في الجملة ولو في غير مورد المعارضة.
لدعوى: انصراف نصوص العلاج إلى ما إذا أوجب التعارض التوقف عن
المتعارضين رأسا، دون ما إذا بقي التعبد بسنديهما لانفراد كل منهما بمورد
يعمل به فيه.
وذكر أن ذلك هو الوجه في تسالم الأصحاب على البناء فيهما على
التساقط في مورد الاجتماع، كما نقله غيره أيضا عنهم، مع بنائهم في
المتعارضين على التخيير.
لكن لا يتضح من منشأ الانصراف المذكور بنحو يخرج به عما عرفت من
الاطلاق، خصوصا في مقبولة ابن حنظلة الواردة في اختلاف الروايتين الموجب
لاختلاف الحكمين، لوضوح أن الحاكم كما يعتمد في مورد الخصومة على
دليل يخصه يعتمد على دليل يعمه وغيره، فلا يبعد عن مورد السؤال اختلاف
الروايتين بالعموم من وجه.
وبعبارة أخرى: ليس فرض اختلاف الروايتين في المقبولة ابتداء، ليدعى
انصرافه عن مثل العامين من وجه، بل بتبع فرض اختلاف الحكمين، ومن
الظاهر أن اختلافهما قد يستند لاختلاف دليليهما بالعموم من وجه.
وأما تسالم الأصحاب على التساقط في العامين من وجه فليس هو إلا في
الفقه في مقام الاستدلال، وقد سبق عدم رجوعهم فيه للتخيير حتى في
المتباينين وإن ذكره بعضهم في الأصول، وأما في الأصول فيقل تحريرهم لهذه
المسألة، وقد صرح الشيخ في العدة ومقدمة الاستبصار بالرجوع للتخيير فيما لو
259

أمكن تأويل كل من المتعارضين على ما يطابق الاخر من دون مرجح لاحد
التأويلين، وهو شامل لما نحن فيه، ولعله لذا كان ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره البناء
فيه على التخيير.
وكيف كان، فلا مجال للبناء على قصور الاخبار العلاجية عن شمول مثل
العامين من وجه.
نعم، قد يستشكل في جريان المرجحات السندية - كالشهرة في الرواية
وصفات الراوي - فيهما، لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنه لا وجه لاعمالها على
الاطلاق، لأنه يوجب طرح الخبر المرجوح في غير مورد التعارض، ولا لاعمالها
في خصوص مورد التعارض مع العمل بالمرجوح في غيره، لأنه بعيد عن ظاهر
الاخبار العلاجية، بل صرح بعض الأعاظم قدس سره بامتناعه، لان الخبر الواحد لا يقبل
التبعيض في المدلول من حيثية الصدور، بأن يكون صادرا في بعض مدلوله
دون بعض.
وانحلال العموم الذي تضمنه إلى أحكام متعددة لا يوجب تعدده.
وأما ما يظهر من بعض مشايخنا وأشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من عدم
رجوع المرجح الصدوري إلى ترجيح صدور أحد الخبرين على الاخر، بل إلى
ترجيح مضمون أحدهما، ولا مانع من التعبد ببعض مضمون الخبر دون بعض،
لرجوعه إلى إلغاء عموم الخبر دون صدوره.
ففيه: أن المنساق من الترجيح بحسب الصدور ليس هو التعبد بالمضمون
ابتداء، بل تبعا لترجيح صدور نفس الخبر الذي تضمنه، لقيام المرجحات من
الأوثقية والشهرة ونحوهما به، لا بالمضمون.
فالأولى أن يقال: ليس مرجع الترجيح الصدوري إلى تكذيب المرجوح
والحكم بعدم صدوره، ليمتنع التفكيك في الصدور بين أجزاء مضمون الخبر
الواحد، بل إلى التعبد بمضمون الراجح لأقوائية احتمال صدوره دون مضمون
260

المرجوح لضعف احتمال صدوره، تقديما للأقوى في مقام التعارض، لان ذلك
هو المنسبق منه عرفا في فرض بلوغ كل من المتعارضين مرتبة الحجية وعدم
تكاذبهما في مقام الصدور، وهو المناسب لتعليل مرجحية الشهرة بأن المشهور
لا ريب فيه، لان المنساق من ذلك أن الاخر مورد للريب، واللازم ترك ما فيه
الريب إلى ما لا ريب فيه عند التعارض والدوران بينهما، لا أن الاخر محكوم
بعدم الصدور، وذلك لا يقتضي ترك المرجوح في غير مورد المعارضة، لان
ضعف الدليل إنما يناسب عدم حجيته في مورد معارضته بالأقوى، لا سقوطه
عن الحجية رأسا.
نعم، لو كان مفاد الترجيح الصدوري الحكم بعدم صدور المرجوح أو
كان الخبران متكاذبين في الصدور كان ما ذكره من امتناع التفكيك فيه بين أجزاء
المضمون متينا.
لكنه يقتضي جريان الترجيح الصدوري في العامين من وجه - بعد فرض
شمول أخبار العلاج لهما - المستلزم لعدم حجية المرجوح حتى في غير مورد
المعارضة، لان دليل المرجح المذكور يكون مخصصا لعموم الحجية، ولا وجه
لعدم جريان المرجح المذكور بعد عموم دليله.
ولا مجال لقياسه على القطعيين، حيث يجري فيهما سائر المرجحات
دون المرجح الصدوري، لعدم الموضوع للمرجح المذكور في القطعيين
وتحقق الموضوع له في العامين من وجه.
واستلزامه عدم حجية المرجوح في غير مورد المعارضة ليس محذورا إذا
اقتضاه الجمع بين أدلة الحجية وأدلة الترجيح، لان عدم المانع من حجيته في
غير مورد المعارضة إنما يستلزم حجيته إذا بقي مشمولا لعموم دليل الحجية،
دون ما إذا كان خارجا عنه تخصيصا بأدلة تخصيصا بأدلة الترجيح.
كما أن ما ذكرناه من الجمع العرفي بينهما إنما هو بعد الفراغ عن عموم
261

دليل الحجية لهما معا.
وبالجملة: البناء على عموم الاخبار العلاجية للعامين من وجه وجريان
المرجحات الصدورية بينهما كغيرها من المرجحات هو الأنسب بإطلاقها.
هذا كله لو كان عموم العامين مستفادا من الوضع، أما لو كان أحدهما أو
كلاهما مستفادا من الاطلاق بمقدمات الحكمة فقد قرب بعض مشايخنا تعينه
للسقوط، لعدم جريان مقدمات الحكمة مع معارضة الاطلاق للعموم، لصلوحه
للبيان، كما لا تجري في المطلقين المتعارضين لاستلزامها اجتماع المتنافيين
ومع عدم جريانها لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين، بل يقصر كل منهما عن
مورد الاجتماع.
ويشكل: بأن البيان المعتبر في مقدمات الحكمة هو البيان المتصل
بالكلام، فمع عدمه ينعقد الظهور في الاطلاق، ولذا اعترف بأن ورود البيان
المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الاطلاق، كما لا يخل بظهور العام في
العموم، فليس تعارض الاطلاقين وتعارض الاطلاق والعموم إلا كتعارض
العمومين في تنافي الكلامين بحسب ظهورهما المانع من حجيتهما معا،
ويجري فيه ما سبق. وقد سبق في ترجيح العموم على الاطلاق من مباحث
الجمع العرفي ما يتعلق بالمقام.
وأما ما قد يلوح من كلامه أو ينسب إليه من أن الاطلاق والسريان لما لم
يكن مستفادا من اللفظ، بل من مقدمات الحكمة فهو خارج عن مدلول الخبر
الذي هو موضوع الاخبار العلاجية، وليس مدلول كل من الخبرين بنفسه إلا
ثبوت الحكم بنحو القضية المهملة، ولا تعارض بينهما مع ذلك.
ففيه أنه بعد تمامية مقدمات الحكمة فهي من سنخ القرائن المحتفة
بالكلام الموجبة لظهوره في الاطلاق والسريان، والمصححة لنسبته للخبر،
وبلحاظ ذلك يصدق التعارض بين الخبرين الذي هو موضوع الاخبار العلاجية.
262

ثم إن لازم ما ذكره جريان التفصيل المذكور في المتباينين أيضا. فإذا كان
أحدهما عموما والاخر إطلاقا لا تجري مقدمات الحكمة في الاطلاق، فينقلب
إلى قضية مهملة قابلة لتخصيص العموم عرفا، من دون أن تجري عليهما أحكام
التعارض، وحيث يكون مورد التخصيص مجملا يكون العام بحكم المجمل.
وإذا كانا معا إطلاقين لا تجري مقدمات الحجة فيهما معا وينقلبان إلى قضيتين
مهملتين مجملتين لا تنافي بينهما ليكونا متعارضين.
مع أنه لم يذكر التفصيل المذكور في المتباينين. فلاحظ.
المسألة الثالثة: سبق في مقدمات مبحث التعارض أن التعارض قد
يتحقق بين أكثر من دليلين، فيشملها أحكام التعارض العامة.
أما أحكامه الخاصة التي تضمنتها نصوص العلاج فلا يبعد شمولها أيضا،
لان جملة من تلك النصوص وإن اختصت بتعارض الخبرين، إلا أن بعضها
مطلق من هذه الجهة، كمقبولة ابن حنظلة المفروض فيها اختلاف الحكمين،
لاختلافهما في الحديث، لوضوح أن كلا من الحكمين قد يستند في حكمه
للجمع بين مضموني حديثين أو أكثر.
كما أن اختلاف الحديث كما يصدق مع تنافي مضموني حديثين يصدق
مع تنافي مضامين أكثر من حديثين. وكذا مرسل الحارث بن المغيرة المتقدم في
نصوص التخيير.
على أن إلغاء خصوصية الحديثين في أكثر النصوص قريب عرفا.
ولا سيما مع مناسبته لنوع المرجحات ارتكازا، ولما في بعض نصوص التخيير
من كون الاخذ بكل منهما من باب التسليم.
هذا، ولو كان أحد النصوص المختلفة قطعي المضمون كان التعارض بين
الباقي منها، فقد يرجع للتعارض بين الحديثين.
لكنه يكون من التعارض العرضي لأمر خارج، كما تقدم التنبيه عليه هناك.
263

فيلحقه ما سبق في التعارض العرضي - في الامر الرابع من التمهيد عند الكلام
في توقف التعارض على تنافي المؤديين - من توقف شمول الاخبار العلاجية له
على وضوح التنافي بين المؤديين بحيث يصلح دليل كل منهما لنفي مفاد الاخر
عرفا، دون ما إذا استند إلى ملازمة اتفاقية خفية.
كما سبق هناك قصورها عما إذا علم بعدم صدور أحد الخبرين - وإن
شملته أحكام التعارض العامة - لرجوعه إلى التعارض في الاخبار عنهم عليهم السلام،
من دون تناف في الحكم لا إلى التعارض بين أخبارهم، لتنافي الاحكام التي
تضمنتها فراجع.
المسألة الرابعة: صرح بعض مشايخنا: بأن اختلاف النسخ في الأحاديث
داخل في تعارض الاخبار. وظاهره جريان أحكامه الخاصة التي تضمنتها
الاخبار العلاجية من التخيير وغيره.
لكن الظاهر قصور الاخبار العلاجية عن ذلك، لأنه وان كان راجعا إلى
تعارض المخبرين عن واقع واحد، إلا أنه ليس من اختلاف أخبارهم بخفض الذي
هو موضوع نصوص العلاج، بل من الاختلاف في الخبر المنقول عنهم عليهم السلام،
فإن الحديث والخبر والرواية في عرف المتشرعة الذي جرت عليه النصوص
هي الامر المنقول عن المعصوم عليه السلام، واختلافه إنما يكون بتنافي المضامين
المنقولة، وبذلك يتحقق موضوع نصوص العلاج، وهو لا يصدق مع فرض
اتحاد الامر المنقول عنه من قبل الراوي الواحد مع الاختلاف في بيان ما ينقله
من قبل الوسائط المتأخرة، كما هو الحال في اختلاف النسخ.
ومن هنا كان نسبة الاختلاف للاخبار ذات الأسانيد ليس باعتبار اختلاف
الوسائط المتأخرة، لعدم التكاذب بينهم وعدم التنافي بين مضامين أخبارهم، بل
باعتبار اختلاف المضامين التي يحكيها الرواة عن المعصومين عليهم السلام مباشرة
وتنافيها مع كونها موردا للأثر والعمل.
264

وليس السند في كل من الروايات المتعارضة إلا حجة في إثبات نقل
الرواة المذكورين، ونسبة الاختلاف والتعارض لرواية رجال السند المتأخرين -
لو وقعت - لمحض الطريقية والحكاية عما هو موضوع الاختلاف والآثار.
ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض مشايخنا من قياس ذلك على ما إذا
اختلف السامعان لكلام الإمام عليه السلام في مجلس واحد في حكايته، لوضوح صدق
الحديث على ما ينقله السامع لكلام الامام، فاختلافهما فيه اختلاف في
حديثهم عليهم السلام، بخلاف المقام، فإنه من الاختلاف في ما رواه الراوي من
حديثهم.
على أنه لا يبعد انصراف النصوص العلاجية عنه أيضا، وظهورها في
فرض احتمال اختلاف الواقعتين، بنحو يمكن صدورهما معا، ويرجع إلى
الاختلاف بين أحاديثهم لا في حديثهم.
خصوصا ما تضمن الترجيح بمخالفة العامة، لظهور أن مخالفتهم مرجح
جهتي لاحد المضمونين المختلفين الصادرين عن الإمام عليه السلام لظهور الحال في
أن الموافق منهما صادر للتقية، لا مرجح صدوري، ليمكن فرضه في ما لو علم
بعدم صدور أحد الكلامين، لعدم غلبة مخالفتهم بخفض للعامة. بل لعل ما صدر
عنهم عليهم السلام موافقا لهم أكثر. فتأمل.
وكيف كان، فلا مجال لاجراء الاحكام التي تضمنتها الاخبار العلاجية في
اختلاف النسخ في متن الحديث، فضلا عن سنده. إلا أن يتعدى عن مورد
النصوص لغيرها من الطرق الخاصة، على ما يأتي الكلام فيه في المسألة
الخامسة.
هذا، وعن الفقيه الهمداني أن اختلاف النسخ من اشتباه الحجة باللاحجة،
وهو غير ظاهر، لأنه وإن علم بعدم صدور أحد الكلامين وعدم كونه من أفراد
الحجة واقعا، إلا أن رواية كل منهما في فرض اعتبار سنده موجب لدخوله في
265

قسم الحجة ظاهر، ولتحقق التعارض بين السندين بلحاظ تنافي المضمونين
المحكيين بهما عملا، وإن لم يكن تعارض في كلام الامام واقعا، لفرض
وحدته.
والعلم الاجمالي بكذب أحد السندين في المضمون المحكي به لا
يخرجهما عن التعارض، كالعلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين المتعارضين في
الحكاية عن الحكم الشرعي الواحد.
ومن هنا كان اللازم جريان حكم التعارض العام عليهما، وهو التساقط في
فرض تكاذبهما. نعم لا يبعد حجيتهما في نفي الثالث، على ما سبق في اخر
الكلام في المسألة المذكورة.
وأما الترجيح بالأوثقية فهو موقوف..
إما على كونه من المرجحات المنصوصة في الاخبار العلاجية، مع
التعدي عن موردها، وهو تعارض أخبارهم عليهم السلام، لالغاء خصوصيته عرفا.
أو على كونه من المرجحات العقلانية العامة في تعارض المخبرين.
ويظهر ضعف الأول مما سبق في الترجيح بصفات الراوي من عدم كونها
من المرجحات المنصوصة.
وأما الثاني فقد سبق هناك تقريبه فيما إذا رجعت الأوثقية إلى الأضبطية
دون الأعدلية والأصدقية، وذكرنا توجيه الرجوع إليه في اختلاف النسخ بما
يغني عن الإعادة.
كما أنه يأتي في المسألة الآتية تقريب الترجيح بالشهرة.
وأما ما يتردد في بعض الكلمات من ترجيح النسخة المتضمنة للزيادة،
لاحتياج الزيادة إلى عناية، بنحو يبعد الخطأ في إثباتها، بخلاف النقيصة.
فلم يتضح بناء العقلاء عليه بنحو يخرج به عما تقتضيه القاعدة، خصوصا
مع قلة الزيادة.
266

نعم، يشكل الترجيح بالأضبطية مع كون راوي الزيادة غير الأضبط، لان
احتياجها للعناية يبعد الخطأ فيها حتى من غير الأضبط، ولا سيما مع أهميتها
وكثرتها.
هذا، ولو فرض عدم تكاذب النسختين خرج اختلافهما عن التعارض
وكان الجميع حجة في فرض تمامية سنده. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في
اخر الكلام في حجية المتعارضين في نفي الثالث.
المسألة الخامسة: حيث سبق اختصاص النصوص العلاجية بتعارض
أخبار الأئمة عليهم السلام فلا مجال لاجراء الاحكام التي تضمنتها في تعارض غيرها
من الطرق المعتبرة بخصوصها، بل يلزم الرجوع فيها لأصالة التساقط، كما سبق
في أول الكلام في هذا المقام، أو يثبت الترجيح بينها بالخصوص.
لكن شيخنا الأعظم قدس سره لم مع اعترافه بقصور النصوص المذكورة عنها صرح
بجريان جميع الترجيحات التي تضمنتها فيها، بلحاظ عموم التعليل المستفاد
من قوله عليه السلام: " فإن المجمع عليه لا ريب فيه "، وقوله عليه السلام: " لان الرشد في
خلافهم " بدعوى: أن خصوص المورد لا يخصص الوارد.
وفيه.. أولا: أن ذلك لا يقتضي عموم جميع المرجحات التي تضمنتها
النصوص العلاجية، بل خصوص الترجيحين المعللين بالفقرتين المذكورتين.
إلا أن يبنى على التعدي عن المرجحات المنصوصة لأجل التعليلين
المذكورين، حيث يتعين التعدي في جميع الترجيحات لذلك بعد فرض
التعدي عن مورد التعليلين، وهو تعارض الاخبار. لكن سبق ضعفه.
وثانيا: أن المراد بالتعليل الأول لما كان هو خصوص الاجماع على
الرواية فهو مختص بالاخبار ولا موضوع له في غيرها.
نعم، قد يجري في اختلاف النسخ، لأنها من سنخ الخبر، إلا أنه ليس
بملاك الترجيح بين الحجتين، لان وحدة الواقع فيه بنحو يعلم بكذب إحدى
267

النسختين موجب للقطع أو الاطمئنان بصحة النسخة المشهورة دون الشاذة،
فتخرج الشاذة عن موضوع الحجية، وان كان راويها ثقة، لقيام الامارة على
خطئه، فلا يكون من باب تعارض الحجتين، بل من باب معارضة غير الحجة
لها.
ودعوى: أن المستفاد من التعليل المذكور ترجيح ما لا ريب فيه بالإضافة
لبعض الجهات على ما فيه ريب بالإضافة إليها، من دون خصوصية للشهرة في
الرواية، فيجري في غير الاخبار.
ممنوعة: لما تقدم في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة من أن
المراد من نفي الريب عدم الريب في الصدور، دون غيره من الجهات، ولا
موضوع له إلا في الخبر المبني على الحكاية.
وأما التعليل الثاني فهو إنما يستفاد من المرفوعة التي تكرر عدم صلوحها
للاستدلال. على أنه سبق في مبحث التعدي عن المرجحات المنصوصة أنه
حكمة لا علة يدور الحكم مدارها.
هذا، وأما التخيير لو قيل به في تعادل الاخبار المتعارضة فلا ريب في
عدم التعدي به عنها لغيرها من الحجج، لعدم الوجه له.
ولا سيما مع ما في بعضها من كون الاخذ بأحد الخبرين من باب التسليم
لهم عليهم السلام، إذ لا موضوع للتسليم لهم في غير الاخبار المنقولة عنهم عليهم. السلام
نعم، قد يدعى صدق أخبارهم عليهم السلام على الاجماع المنقول بناء على
تضمنه نقل رأي المعصوم عليه السلام مع المجمعين، فتشمله الاخبار العلاجية ويجري
على التعارض بين الاجماعين أو بين الاجماع والخبر ما تضمنته من الترجيح أو
التخيير.
لكنه إنما يتم في نقل الاجماع المبتني على نقل رأي المعصوم عن حس،
الذي يبعد وقوعه، وإلا فنقله عن حدس مما ينصرف عنه عنوان الخبر الذي هو
268

موضوع الحجية ومورد النصوص العلاجية.
ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره جزم بجريان الترجيح الدلالي الراجع للجمع
العرفي في الاجماع المنقول لو قيل بحجيته. وما ذكره يبتني على جريان الجمع
العرفي في الكلام الصادر عن أكثر من متكلم واحد، أو الكلامين الصادرين عن
متكلم واحد يمكن في حقه العدول عما يحكيه عن حس أو حدس، وقد سبق
في الامر الثاني من ملحقات الكلام في الجمع العرفي التعرض لمعيار ذلك.
فراجع.
والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد
لله رب العالمين.
269

خاتمة
في مرجحات باب التزاحم
سبق في الامر الخامس من الأمور التي ذكرناها تمهيدا للكلام في
التعارض الفرق بين التعارض والتزاحم ثبوتا وإثباتا.
وذكرنا أن المعيار في التزاحم تمامية موضوع كل من التكليفين المستلزم
لتمامية ملاكه - الذي هو بمعنى الغرض الداعي لجعله - بنحو يقتضي صرف
القدرة إليه مع العجز عن الجمع بينهما في مقام الامتثال وانحصار القدرة
بأحدهما.
وحيث لابد من حفظ الغرض والملاك من قبل المولى بجعل التكليف
فلابد من عدم رفع اليد عن كلا التكليفين، لما فيه من فوت أحد الملاكين في
ظرف إمكان حصوله.
كما أنه حيث يمتنع التكليف مع العجز يمتنع عموم كلا التكليفين لحال
التزاحم، بل لابد من قصور أحدهما بعينه، أو قصور كل منهما عن حال امتثال
الاخر، كما سبق تفصيل الكلام في ذلك.
غايته أنه مع التفات المولى للتزاحم يكون مرجع القصور المذكور إلى
رفعه اليد عن التكليف وتقييده بنحو لا يكون فعليا وإن تم ملاكه، ومع غفلته
يكون مرجعه إلى قصوره عن الفعلية عقلا، بنحو لا يكون موضوعا لوجوب
الإطاعة وقبح المعصية، كما هو الحال لو عجز المكلف عن امتثال تكليف واحد
معين.
إذا عرفت هذا، فلا ريب في التخيير في الامتثال بين التكليفين مع عدم
المرجح لأحدهما، لامتناع الترجيح من غير مرجح في فرض تساوي الغرضين،
بملاك امتناع تحقق التكليف الذي هو فعل اختياري للمولى من دون غرض.
270

ومرجعه إلى التخيير من قبل المولى مع التفاته للتزاحم، فيجعل كلا
التكليفين بنحو لا يمنع من امتثال الاخر، وحكم العقل به في فرض غفلة المولى
عن التزاحم، فلا يلزم إلا باستيفاء أحد الفرضين تخييرا. كما لا ريب في لزوم
حفظ الراجح منهما واستيفاء ملاكه، لاختصاص الفعلية به.
ومن هنا كان المناسب النظر في المرجحات الملزمة باختيار أحدهما
والمعينة لفعليته على نحو الاطلاق. والمذكور في كلماتهم أمور..
الأول: الأهمية ولا إشكال في كونها من المرجحات في المقام، لما في
المحافظة على الأهم من تحصيل المرتبة الزائدة من الغرض. والترجيح بها
عقلي بمعنى أن العقل يستكشف ترجيح المولى للأهم مع التفاته للتزاحم،
ويحكم هو بوجوب امتثال الأهم مع غفلة المولى عنه.
ودعوى: أن ذلك إنما يتم مع حكمة المولى، إذ بدونها قد يعين غير
الأهم، أو يخير بينهما.
مبنية على أن المراد من الملاك والغرض هو المصالح والمفاسد التي
يكون مقتضى الحكمة جريان الاحكام عليها، وقد سبق في مبحث الفرق بين
التعارض والتزاحم أنه لا يراد به ذلك، بل الجهة الداعية للحكم ولو لم تكن على
طبق الحكمة، ومن الظاهر امتناع ترجيح غير الأهم بلحاظها حتى من غير
الحكيم كامتناع التخيير بينهما، لان التكليف فعل اختياري للمولى، فكما لا يعقل
صدوره منه مع عدم الداعي له وعدم صدوره مع فعلية الداعي له، لا يعقل عدم
تعيينه ما يقتضي الداعي فعلية تعيينه، فضلا عن تعيينه لغيره. إلا أن يفرض
عدول المولى وتبدل الحال عنده، فيتجدد اهتمامه بما لم يهتم به سابقا ويقوى
الداعي لما ضعف داعيه له سابقا، فيكون الترجيح للأهم الفعلي، ولا ينافي ما
ذكرنا من الترجيح بالأهمية.
نعم، لابد من كون الأهمية بمرتبة ملزمة، لكون المرتبة الزائدة من الغرض
271

مقتضية للالزام، والا كان الترجيح أولى ولم يكن لازما.
هذا، ولو كان أحد التكليفين محتمل الأهمية دون غيره، بحيث يدور الامر
بين تساويهما أو أهمية أحدهما المعين فهل يجب اختياره في مقام الامتثال أو
لا؟ صرح بالأول غير واحد.
ولا يخفى أن وجوب اختياره - لو تم - ظاهري طريقي في طول ترجيح
الأهم واقعا، لا لعموم الجهة المقتضية لترجيح الأهم، لان مرجع ترجيح الأهم
إلى فعليته وعدم فعلية التكليف المهم واقعا في حال التزاحم بينهما، فلو كان
ترجيح محتمل الأهمية واقعيا بملاك ترجيح الأهم لزم اختلاف التكليف
الواقعي باختلاف حالي العلم والجهل بالأهمية، بحيث يكون التكليف الواحد
فعليا واقعا دون الاخر في حق من يعتقد بأهميته أو يحتملها، وغير فعلي كذلك
في حق من يعتقد بأهمية الاخر منه أو يحتملها، مع التخيير بينهما في حق من لا
يحتمل أهمية أحدهما أو يحتمل في كل منهما الأهمية، ولا مجال للالتزام
بذلك، مع ما هو المعلوم من عدم دخل العلم والجهل في الاحكام الواقعية.
ومن هنا لابد في ترجيح محتمل الأهمية إما من إحراز أهميته ظاهرا، أو
البناء على وجوب اختياره في مقام الامتثال ظاهرا - له ان لم تحرز أهميته -
بمقتضى الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.
أما إحراز أهميته ظاهرا فربما يوجه فيما لو كان لأحدهما إطلاق دون
الاخر بأن مقتضى إطلاق الأول فعليته في حال المزاحمة للاخر، فيكشف عن
أهميته منه، ولا معارض لذلك في الاخر بعد فرض عدم الاطلاق له ولزوم
الاقتصار فيه على المتيقن، وهو غير حال المزاحمة. ومثله ما لو كان إطلاق
أحدهما أقوى من إطلاق الاخر، بأن يكون أظهر منه في شمول مورد المزاحمة.
نعم، لا مجال لذلك فيما لو كانا متساويين من هذه الجهة، أو لم يكن لكل
منهما إطلاق.
272

وفيه: أن عدم الاطلاق في الاخر إن كان مع الشك في ثبوت ملاكه
وتمامية موضوعه في ظرف المزاحمة للأول، خرج عن باب التزاحم، لما سبق
من توقفه على تمامية ملاك الحكمين.
وإن لم يكن شك في ذلك، بل قطع بتمامية موضوع كلام التكليفين
وفعلية ملاكهما، لم ينهض الاطلاق في أحدهما لاثبات فعليته من هذه الجهة،
ليدل على أهميته، لانصراف الاطلاق إلى بيان فعلية الحكم من حيثية الموضوع
والغرض، لان ذلك هو الذي يناط بالمولى ويحتاج إلى بيانه فيه.
وأما الفعلية من حيثية عدم المزاحمة الراجعة إلى حيثية القدرة فلا
ينصرف الاطلاق غالبا إليها، ولا يتكفل ببيانها، ليدل على عدم صلوح التكليف
الاخر للمزاحمة، لعدم أهميته، بل هي مما يستفاد من العقل في فرض إحراز
القدرة وعدم المزاحمة.
نعم، لما كانت فائدة بيان الغرض عرفا جعل المكلف مسؤولا به ليسعى
في تحصيله بامتثال التكليف، بحيث يلغو الخطاب مع تعذره، كان ظاهر
الخطاب عرفا بضميمة حكمة المخاطب فعلية التكليف من حيثية القدرة أيضا.
إلا أنه لا يستلزم ظهور الاطلاق في عموم القدرة، إذ يكفي في رفع
اللغوية وترتب الغرض المصحح للخطاب بالمطلق غلبة القدرة عليه أو توقعها.
إلا أن يفرض تصدي المتكلم لبيان الفعلية من جميع الجهات. وهو
محتاج إلى قرينة خاصة ومؤنة زائدة لا يقتضيها طبع الكلام، كما سبق نظيره عند
الكلام في الشك في الابتلاء من مباحث العلم الاجمالي.
ولذا لو كان لكل من التكليفين إطلاق لم يكن اجتماعهما في مورد
التزاحم موجبا لتكاذبهما ودخولهما في باب التعارض، المانع من إحراز ملاك
كل منهما بل يبقى كل منهما ظاهرا في الفعلية من حيثية الغرض وتحقق موضوع
التكليفين، فلا يتكاذبان، بل يدخلان في باب التزاحم، كما هو المطابق
273

للمرتكزات العرفية في فهم الكلام. وقد سبق عند الكلام في الفرق بين
التعارض والتزاحم ما ينفع في المقام.
ومنه يظهر أن قوة إطلاق أحد الحكمين لا تقتضي رجحانه، لعدم تصديه
لهذه الجهة.
كما ظهر أنه لا مجال للبناء على وجوب اختيار محتمل الأهمية في مقام
الامتثال ظاهرا وإن لم تحرز أهميته، بدعوى: أنه مقتضى إطلاق التكليف به،
حيث لم يعلم بتقييده في حال التزاحم، بخلاف الاخر، للعلم بعدم اختياره،
لتقييده في الجملة، إما لكونه مرجوحا أو مساويا له.
لوضوح أنه لا مجال للدعوى المذكورة مع عدم تكفل الاطلاق ببيان هذه
الجهة، مضافا إلى أن غير محتمل الأهمية وإن علم بتقييده إلا أنه إن كان مساويا
لمحتمل الأهمية يلزم تقييد إطلاقه بالإضافة لحال التزاحم في خصوص حال
امتثال محتمل الأهمية، وان كان مرجوحا بالإضافة إليه يلزم تقييده بالإضافة
لحال التزاحم، بنحو يستلزم خروج الحال المذكور عنه مطلقا، فلا خطاب به فيه
أصلا، وحيث كان الثاني أكثر تقييدا كان مخالفا للأصل كاحتمال التقييد في
محتمل الأهمية، فلا مجال للرجوع لأصالة الاطلاق في محتمل الأهمية،
لمعارضتها بأصالة عدم زيادة التقييد في الاخر.
نعم، قد يتجه ذلك بناء على ثبوت الامر الترتبي بالمهم عند عصيان
الأهم، أو بكل من الضدين مع تساويهما، كما قد يظهر بالتأمل، ولا مجال لإطالة
الكلام فيه.
والأولى صرف النظر إلى مقتضى الأصل العملي في المقام.
وقد يقرب وجوب الاحتياط باختيار محتمل الأهمية بأنه مقتضى أصالة
الاشتغال به، للعلم بالتكليف به تبعا لتحقق موضوعه وتمامية غرضه، والشك
في تحقق المسقط له، لتوقفه على مساواته للاخر، وهي غير محرزة في المقام،
274

وهذا بخلاف الاخر، للعلم بجواز تركه والآتيان بمحتمل الأهمية على كل تقدير.
وبذلك يفترق المقام عن مسألة الدوران في مقام الجعل بين التعيين
والتخيير، حيث قد يبنى على الرجوع فيه للبراءة، لان التعيين كلفة زائدة
في جعلها، أما في المقام فجعل محتمل الأهمية تعيينا محرز، وانما الشك في
المسقط.
لكنه يشكل: بأن مرجع التخيير في المقام لما كان إلى تقييد التكليف
ثبوتا، لاستحالة إطلاق كل منهما مع العجز عن الجمع بينهما، فالشك فيه
بالإضافة لمحتمل الأهمية شك في شمول التكليف به لحال الاتيان بالآخر،
والمرجع فيه البراءة، والاقتصار على مورده المتيقن، وهو حال عدم الاتيان
بالآخر.
وبذلك يفترق عن مسألة الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل
التي قد يقال بوجوب الاحتياط فيها لعدم رجوع الشك هناك إلى الشك في
شمول التكليف، بل إلى كيفية جعل التكليف الواحد، من دون متيقن في البين،
ليقتصر عليه في تنجز التكليف المعلوم.
ومن الغريب ما في تقرير درس بعض مشايخنا (1) من أن تفويت محتمل
الأهمية لم يثبت جوازه، لتوقفه على عجز المكلف عن تحصيله تكوينا أو
تشريعا، والمفروض قدرته عليه تكوينا، كما هو قادر عليه تشريعا، لعدم أمر
المولى باتيان خصوص الطرف الآخر، ليوجب عجزه عن تحصيل الملاك الذي
احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته.
إذ فيه: مع أن مقتضى ذلك ثبوت عدم جواز تفويت محتمل الأهمية، لا
عدم ثبوت جوازه - أن جواز تفويت محتمل الأهمية لا يتوقف على العجز عنه
بخصوصه تكوينا أو تشريعا، بل يكفي فيه العجز عن الجمع بينه وبين الاخر

(1) مصباح الأصول ج 2: ص 408.
275

تكوينا مع تساويهما في الأهمية، حيث يجوز حينئذ تفويت كل منهما في ظرف
الاتيان بالآخر ولو مع القدرة عليه بخصوصه، وهو محتمل في المقام، واحتماله
مساوق للشك في التكليف، الذي يكون المرجع فيه عندهم البراءة، لا الاشتغال.
فالعمدة في وجه وجوب الاحتياط في المقام: أن سقوط التكليف في
باب التزاحم وان كان راجعا إلى تقييده لبا، وعدم فعليته، إلا أن مرجع تقييده
وعدم فعليته لما لم يكن إلى قصور موضوعه المستلزم لعدم فعلية غرضه
وملاكه، بل إلى وجود العذر عنه عقلا بملاك التعذر والعجز، فبناء العقلاء في
مثل ذلك على الاحتياط حتى يثبت العذر المسوغ للتفويت، ولذا كان بناؤهم
على الاحتياط مع الشك في القدرة، كما تقدم في التنبيه الخامس من تنبيهات
مبحث الشك في التكليف.
وحيث يشك في مسوغية التزاحم لتفويت محتمل الأهمية وجب
الاحتياط بتحصيله، وتعين تفويت الاخر الذي يعلم بمسوغية التزاحم لتفويته
تعيينا أو تخييرا وكونه عذرا فيه. وقد سبق بعض الكلام في ذلك في اخر الكلام
في الأقل والأكثر الارتباطيين. فراجع.
هذا كله من انحصار احتمال الأهمية بأحد الطرفين المعين، أما مع
احتمالها في كل منهما فلا موضوع للترجيح به، بل يتعين التخيير عقلا بينهما،
بملاك التخيير مع التساوي في الأهمية المبني على تكافؤ الغرضين، بل لتعذر
الاحتياط بتحصيل ما يحتمل أهميته المانع من إلزام العقل به، مع عدم جواز
إهمالهما معا، لامكان تحصيل أحد الغرضين مع فعليته، فلا عذر في تركه عقلا
بل يجب تحصيله شرعا بناء على ثبوت الامر الترتبي.
ولا ينبغي التأمل في ذلك مع تساوي الاحتمالين، أما مع أقوائية أحدهما
فهل يجب ترجيحه واختياره في مقام الامتثال أو لا؟
من الظاهر أنه لا مجال للبناء على وجوبه بملاك ترجيح محتمل الأهمية
276

المتقدم، وهو اليقين بالامتثال عند الدوران بين التعيين والتخيير، لفرض احتمال
أهمية الاخر أيضا - وان كان ضعيفا - المستلزم لاحتمال كون تفويته مخالفة
للتكليف الفعلي، فالمقام من الدوران بين التعيينين لا بين التعيين والتخيير.
بل غاية ما يدعى توقف العقل عن الحكم بالتخيير - الراجع إلى معذريته
في تفويت الأهم احتمالا - وحكمه بالترجيح لمنجزية الاحتمال الأقوى بنظره.
ولا أقل من الشك في ذلك - حيث قد يضطرب العقل ويشتبه عليه الحال -
فيجب الاحتياط، لما سبق من لزومه في فرض العلم بتمامية موضوع التكليف
وفعلية غرضه ما لم يعلم بتحقق العذر في تفويته، وهو غير محرز في المقام.
ومرجع ذلك إلى أن عدم وضوح التخيير عند العقل موجب لالزامه
بالترجيح مع تمامية الموضوع وفعلية الغرض.
وهذا بخلاف الترجيح بقوة الاحتمال عند الدوران بين الوجوب
والحرمة، لان عدم ثبوت منجزية الاحتمال الأقوى فيه موجب للرجوع للبراءة
مع الشك في أصل التكليف من دون إحراز موضوعه ولا غرضه وملاكه. فتأمل
جيدا.
تنبيهان
أولهما: ترجيح الأهم إنما هو مع اقتضائه صرف القدرة إليه، بنحو ينافي
تحصيل المهم، لكونه تعيينيا مضيقا بالذات أو بالعرض، أما لو كان تخييريا أو
موسعا بنحو يمكن الجمع بين الامتثالين وجب الجمع بينهما، عملا بإطلاق
دليليهما من غير مانع، وخرج عن باب التزاحم، وهو واضح.
ومثله ما لو أمكن رفع موضوع التكليف الأهم من دون محذور شرعي،
كطلاق الزوجة الذي يرتفع به وجوب الانفاق عليها، لان إمكان رفع موضوع
التكليف المانع من تعلق الغرض على طبقه مستلزم لعدم التزاحم بين الغرضين،
277

لامكان تجنب تفويتهما، وان تعذر تحصيلهما، فيلزم عقلا، دفعا لتفويت
الغرض الاخر المفروض فعليته.
نعم، مع عدم إطلاق التكليف الاخر بنحو يقتضي حفظ القدرة عليه من
هذه الجهة يتجه جواز تفويته، ويخرج عن باب التزاحم، لان مرجعه إلى عدم
تمامية موضوع أحد التكليفين. وهو مما يشخصه الفقيه في كل مورد مورد.
ثانيهما: لما كان ترجيح الأهم غير موجب لسقوط غرض الاخر ولا
لرفع موضوعه فلا يجوز للمكلف إيقاع التزاحم بينهما بمثل تضييق وقت
الأهم، لأنه وإن أوجب رفع المولى اليد عن الاخر مع قدرة المكلف عليه
بخصوصه، إلا أنه لما كان من جهة العجز عن استيفاء الغرضين مع فعليتهما لم
يكن عذرا للمكلف عقلا، كتعجيزه نفسه عن امتثال التكليف الواحد مع بقاء
وقته وبقاء موضوعه وفعلية غرضه، الذي هو موجب لرفع المولى اليد عنه.
ومثله الحال في التخيير بينهما مع التساوي.
الثاني: من المرجحات المذكورة في كلماتهم ما إذا كان لاحد التكليفين
بدل اضطراري في طوله، دون الاخر، فيقدم ما لا بدل له على ما له البدل وينتقل
إلى بدله، كما لو دار الامر بين صرف الماء في الوضوء للصلاة وصرفه في تطهير
المسجد، فيجب الثاني ويتعين التيمم للصلاة، وقد ذكره بعض الأعاظم قدس سره من
جملة مرجحات باب التزاحم.
لكن لا يخفى أن تشريع البدل الاضطراري إن كان بنحو يقتضي جواز
إيقاع المكلف نفسه في الاضطرار بأن لا يقتضي التكليف بالمبدل حفظ القدرة
عليه، فيجوز في بدلية التيمم عن استعمال الماء إراقة الماء، اتجه ما ذكره قدس سره
ودخل في ما سبق في التنبيه الأول من المرجح السابق من أنه مع إمكان رفع
موضوع أحد التكليفين يجب وان كان أهم، ويخرج عن باب التزاحم.
وان لم يكن كذلك، بأن كان المبدل مقتضيا لحفظ القدرة عليه كان من
278

موارد التزاحم، ولا وجه حينئذ لتعجيز المكلف نفسه عن المبدل والانتقال إلى
بدله بامتثال التكليف الاخر الذي لا بدل له مع عدم المرجح له من جهة أخرى.
إلا أن لا يراد بالاضطرار الرافع للتكليف بالمبدل خصوص الاضطرار
الحقيقي، بل ما يعم الاضطرار الشرعي الناشئ من المنافاة للتكليف الفعلي،
فيدخل في بعض صور المرجح الآتي، ويخرج عن باب التزاحم، حيث يكون
التكليف الذي لا بدل له واردا على التكليف الذي له بدل ورافعا لموضوعه فلا
يكون غرضه فعليا، وقد سبق اعتبار فعلية كلا الغرضين تبعا لتمامية موضوع كلا
التكليفين في باب التزاحم.
وبالجملة: لا وجه لعد هذا من مرجحات باب التزاحم، لعدم العمل عليه
في مورد التزاحم، وعدم تحقق التزاحم في مورد العمل عليه.
الثالث: ترجيح ما تعتبر فيه القدرة عقلا على ما تعتبر فيه شرعا، كما ذكره
بعض الأعاظم قدس سره. فإن فعلية التكليف وان كانت مشروطة بالقدرة إلا أن القدرة..
تارة: تكون دخيلة في موضوعه شرعا، بنحو لا يكون غرضه وملاكه
فعليا بدونها.
وأخرى: تكون خارجة عن موضوعه، فيتم ملاكه وغرضه بدونها، وان
تعذر استيفاؤه بالامتثال بنحو تمتنع فعليته عقلا. ومرجع هذا المرجح إلى لزوم
امتثال الثاني دون الأول مع التزاحم بينهما.
لكن المراد بالقدرة الدخيلة في موضوع التكليف والغرض شرعا إن كان
هو القدرة الخارجية والشرعية الراجعة إلى عدم لزوم محذور شرعي من تحقيق
متعلقه، كان التكليف الاخر الذي تعتبر فيه القدرة عقلا رافعا لموضوعه ومانعا
من فعلية غرضه، لعدم القدرة عليه شرعا معه، حيث يلزم من الاتيان بمتعلقه
مخالفة التكليف المذكور، فيتجه تقديم التكليف المذكور التام الموضوع عليه
وان كان دونه في الأهمية. إلا أنه يخرج عن باب التزاحم، لما تكرر من لزوم
279

تمامية موضوع كلا التكليفين فيه نظير ما أشرنا إليه في المرجح السابق.
وإن كان المراد بها القدرة الخارجية التكوينية فلا وجه لترجيح الاخر عليه
بعد فرض تحقق موضوعه أيضا، للقدرة عليه بخصوصه تكوينا، وليس المتعذر
إلا الجمع بين التكليفين.
نعم، قد يمكن رفع القدرة المعتبرة في موضوع التكليف بتعجيز المكلف
نفسه بنحو لا ينافي مقتضاه بلحاظ أن التكليف لا يقتضي حفظ موضوعه، كما
سبق عند الكلام في حقيقة التزاحم، وحينئذ يجب محافظة على امتثال التكليف
الاخر الذي لا تعتبر فيه القدرة شرعا، لما سبق في التنبيه الأول من المرجح
الأول من أنه مع إمكان رفع موضوع أحد التكليفين يتعين ويرتفع به التزاحم.
وبذلك ظهر أن المرجح المذكور - كسابقه - ليس من مرجحات باب
التزاحم.
ثم إنه تقدم في مبحث الفرق بين التعارض والتزاحم أن مقتضى إطلاق
التكليف عدم دخل القدرة في موضوعه، وان كانت دخيلة في فعليته على كل
حال. فلاحظ.
الرابع: سبق زمان الامتثال، فقد التزم بعض الأعاظم قدس سره بترجيح السابق
زمانا، إلا أن يكون الاخر أهم منه، بدعوى: أن سقوط كل من التكليفين
المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الاخر الموجب للعجز عنه، فلا مسقط للتكليف
المتقدم، لعدم امتثال المتأخر بعد فهو مقدور عليه، أما المتأخر فيسقط بامتثال
المتقدم للعجز عنه به.
نعم، لو كان المتأخر أهم فوجوب حفظ القدرة عليه يكون مسقطا
للتكليف المتقدم. وقد تابعه على ذلك غير واحد من تلامذته.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم في ترجيح محتمل الأهمية من أن المسقط
لاحد التكليفين المتزاحمين ليس هو خصوص العجز عن امتثاله المسبب عن
280

امتثال الاخر، ولذا يتخير بين التكليفين العرضيين المتساويين في الأهمية، مع
القدرة على كل منهما بخصوصه، فيسقط كل منهما بنحو يجوز تفويته لأجل
امتثال الاخر وإن كان مقدورا حين تفويته، لتكافؤ الغرضين، وهو جار في المقام
في فرض مساواة المتقدم للمتأخر في الأهمية.
نعم، لو بني على عدم وجوب حفظ القدرة على امتثال التكليف قبل وقته
لم يصلح المتأخر لمزاحمة المتقدم، لعدم داعويته حينه بنحو يقتضي صرف
القدرة منه إليه.
لكن ذلك - مع أنه خلاف التحقيق، ولذا يلزم الاتيان بالمقدمات المفوتة -
مستلزم لترجيح المتقدم، وان كان دون المتأخر في الأهمية، لان الأهمية إنما
تقتضي قوة الداعوية بعد الفراغ عن أصل تحققها، ولم يلتزم بذلك.
ومن هنا أنكر سيدنا الأعظم قدس سره في المسألة السابعة عشرة من فصل القيام
في الصلاة من مستمسكه الترجيح بالتقدم الزماني.
وأما الاشكال على ذلك باستلزامه لمن لا يطيق إلا صوم نصف شهر
رمضان أن يفطر النصف الأول منه لادراك النصف الثاني، ولا يظن الالتزام به من
أحد.
فهو - لو تم - نقض كاشف عن مرجحية التقدم الزماني، لا عن صحة
الوجه المتقدم في الاستدلال عليه.
على أنه لا يبعد ظهور أدلة وجوب الصوم في دخل القدرة والطاقة في
موضوعه شرعا، بنحو يكون التعذر رافعا لملاك وجوبه ومانعا من فعلية غرضه
وإن كان مقتضيه باقيا، فيتعين ترجيح السابق لتمامية موضوعه ويكون امتثاله
مانعا من فعلية غرض اللاحق.
والذي ينبغي أن يقال: لا ريب في عدم دخل التقدم الزماني في الترجيح
بين الاغراض المتزاحمة المستتبعة للإرادة التكوينية فيما إذا لم يحتمل احتمالا
281

معتدا به تجدد القدرة على المتأخر مع حفظ المتقدم، أو تجدد العجز عن
المتأخر مع تفويت المتقدم، ولذا قد يختار صاحب الغرض المتأخر لأدنى داع
للتأخير أما مع أحد الاحتمالين فلا إشكال في وجوب الاحتياط بالمحافظة على
المتقدم لاحتمال تحصيل كلا الغرضين في الأول، وللحذر من فوتهما معا في
الثاني، لان مرجع ذلك إلى الشك في مزاحمة المتأخر للمتقدم. إلا أن يكون
اللاحق من الأهمية بمكان، بحيث يقتضي الاحتياط له بتفويت الغرض بمجرد
احتمال مزاحمته له، ويختلف ذلك باختلاف مراتب الأهمية ومراتب قوة
الاحتمال.
ومقتضى الوضع الطبعي الجري على ذلك في الاغراض المستتبعة
للإرادة التشريعية، لولا ما أشرنا إليه عند الكلام في ترجيح محتمل الأهمية من
أن الشك في المقام في المسقط المعذر عن امتثال التكليف مع تنجز احتماله،
بنحو يجب الاحتياط ما لم يعلم بالمعذرية.
وربما يكون التقدم منشأ للترجيح بنظر المولى تحفظا على تحصيل ما
يمكن تحصيله بالفعل، لان احتمال تحصيل كلا الغرضين مع فعل الأول، أو
فوتهما مع تفويته وان فرض عدم حصوله أو كان غير معتد به عند العقلاء، ولذا
لا يجرون عليه في الترجيح في إراداتهم التكوينية - كما سبق - إلا أن المولى قد
يلزم بالترجيح تحفظا من الطوارئ غير المحتسبة لهم، أو التي لا يعتدون
باحتمالها، لان عدم احتمالهم لذلك أو عدم اعتنائهم باحتماله لا ينافي تحفظ
المولى منه، كما قد يتحفظ المولى من خطأ قطع المكلف، ولا يتحفظ منه
المكلف نفسه.
نعم، مع إحراز أهمية المتأخر بنحو معتد به فلا إشكال في لزوم ترجيحه.
وأما مع احتمال أهميته فالامر لا يخلو عن إشكال، لتزاحم الاحتياطين المقتضي
للتخيير. ولابد من التأمل التام في المقام، لان الأمور الوجدانية لما لم تكن
282

خاضعة للبرهان فقد يلتبس الامر فيها بأدنى شبهة. ومنه سبحانه وتعالى نستمد
العون والتوفيق والتأييد والتسديد.
تنبيه
التزاحم في مقام الامتثال إنما يتصور في التكاليف الاستقلالية، دون
التكاليف الضمنية بالاجزاء والشرائط في المكلف به الارتباطي، كما لو تعذر
الجمع بين السورة والطمأنينة في الصلاة، لوحدة الغرض الفعلي التي لا موضوع
معها للتزاحم.
ولذا كان مقتضى القاعدة سقوط التكليف بالمركب بتعذر بعض ما يعتبر
فيه من الاجزاء أو الشرائط لو كان لدليل اعتباره إطلاق يشمل حال التعذر، سواء
كان المتعذر أمرا بعينه أم الجمع بين أمرين مع القدرة على كل منهما بعينه،
لرجوعهما معا إلى تعذر المكلف به وهو الامر الارتباطي. وانما يكتفى بالناقص
لدليل خاص من إجماع أو غيره، كما هو الحال في كثير مما يعتبر في الصلاة.
وحينئذ لو تعذر الجمع بين أمرين وعلم اكتفاء الشارع بالميسور ودار
الامر بين ترك أحدهما كان الاكتفاء بترك كل منهما منافيا لاطلاق دليله، لو كان
لكل منهما إطلاق يخصه، فيتكاذب الاطلاقان، ويكون من موارد التعارض
العرضي لأمر خارج عن مفاد كل من الدليلين الموجب لسقوط كل منها عن
الحجية في خصوص مؤداه، مع عدم المرجح لأحدهما. ولو كانا مستفادين من
دليل واحد علم بكذبه، فيسقط عن الحجية في إثباتهما معا في الحال المذكور.
نعم، لو استفيد من الاجماع أو غيره ثبوت المقتضي لكل منهما بحيث
يعلم بوجوب أحدهما كان المورد من صغريات التزاحم الملاكي، الذي سبق
الكلام فيه في بحث الفرق بين التعارض والتزاحم.
وحينئذ لا إشكال في التخيير بينهما مع العلم بالتساوي في الأهمية،
283

ومرجعه إلى التخيير في مقام الجعل لغرض وحدة الغرض المستلزم للتخيير في
فرض تكافؤ المقتضيين.
كما لا إشكال في ترجيح الأهم منهما لفعلية الغرض - على طبق أقوى
المقتضيين عند تزاحمهما، كما سبق عند الكلام في التزاحم الملاكي.
ولو احتمل أهمية أحدهما بخصوصيته فالمورد من صغريات الدوران
بين التعيين والتخيير في مقام الجعل، الذي سبق في الدوران بين الأقل والأكثر
الارتباطيين الكلام في أن المرجع فيه البراءة أو الاشتغال. وكذا مع احتمالها في
كل منهما مع احتمال التساوي أيضا.
وأما لو علم بأهمية أحدهما إجمالا فالمورد من صغريات الدوران بين
المتباينين في مقام الجعل فيلزم فيه الاحتياط بتكرار المركب مع كل من الامرين
مع تيسره، ومع تعذره يتعين البناء على التخيير الظاهري، بناء على ما سبق في
مباحث العلم الاجمالي من وجوب الموافقة الاحتمالية عند الاضطرار لمخالفة
أحد أطرافه غير المعين.
وأما الترجيح بتقدم المحل، كترجيح الركوع الاختياري على السجود
الاختياري، فلا مجال له، ولا يجري فيه ما سبق، لان امتثال التكليف الضمني لا
يكون إلا بتمامية المركب الذي يحصل به غرضه، فتقدم المحل لا يوجب سبق
الامتثال، كما يوجبه في التكاليف الاستقلالية.
نعم، لو كان موضوع الاكتفاء بالميسور تعذر الجزء أو الشرط حين تركه
تعين ترجيح السابق والمحافظة عليه، لعدم تعذره، ومع الاتيان به يتعذر اللاحق
فيتحقق موضوع جواز تركه.
ومرجعه إلى رفع الاتيان بأحدهما لموضوع وجوب الاخر، الخارج عن
مفروض الكلام وهو تمامية موضوع كل منهما وشمول إطلاقه. فتأمل جيدا.
هذا، ولو لم يحرز المقتضي لأحدهما فلا موضوع للترجيح بالأهمية. بل
284

يكون المقام من صغريات الدوران بين التعيين والتخيير في مقام الجعل أو بين
المتباينين، ويجري فيه ما سبق.
نعم، لو كان التكليف بأحدهما رافعا لموضوع الاخر، لاخذ القدرة
الشرعية فيه التي هي بمعنى عدم لزوم محذور منه تعين ترجيح الأول، وخرج
عن مفروض الكلام من تمامية إطلاق دليل اعتبار كل من الامرين.
هذا ما تقتضيه القواعد العامة، وتنقيح الصغريات موكول للفقه، ولا يسع
المقام التعرض لها. فلاحظ. والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، وله الحمد
وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله الطاهرين.
إلى هنا انتهى الكلام في مبحث التعارض " ليلة السبت، الثالث من شهر
ذي الحجة الحرام، سنة ألف وثلاثمائة وثمانية وتسعين للهجرة النبوية، على
صاحبها وآله أفضل الصلوات، وأزكى التحيات.
في النجف الأشرف بيمن الحرم المطهر المشرف على مشرفه أفضل
الصلاة والسلام.
بقلم العبد الفقير محمد سعيد عفي عنه، نجل العلامة الجليل حجة
الاسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (دامت بركاته).
ونشكره تعالى على تسهيله وتيسره، ونسأله أن يشفع أوائل مننه
بأواخرها، وسوابقها بلواحقها، ويتم علينا نعمه بالتوفيق والتسديد، وقبول
الأعمال، وصلاح الأحوال، إنه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا
ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا به عليه توكلت واليه
أنيب.
وقد انتهى تبييضه بعد تدريسه ليلة الأحد الرابع من الشهر المذكور بقلم
مؤلفه حامدا، مصليا، مسلما.
285

خاتمة في الاجتهاد والتقليد
287

خاتمة علم الأصل
في الاجتهاد والتقليد
وقد وعدنا في تمهيد مباحث الحجج بالتعرض لذلك، وذكرنا أن
المناسب جعله خاتمة للمباحث الأصولية، لخروجه عنها، ومناسبته لها، لان
البحث فيه عن أقسام الاستنباط وأحكامه، لا عن مقدمات الاستنباط، التي هي
مورد الكلام للمباحث الأصولية.
وكيف كان، فالكلام يقع في مقامين، وخاتمة، يبحث في أول المقامين
عن الاجتهاد، وفي ثانيهما عن التقليد، وفي الخاتمة عن وجوب الفحص الذي
يشترك بين المجتهد والمقلد.
289

المقام الأول
في الاجتهاد
وهو لغة بذل الوسع، كما في الصحاح ومختاره والقاموس والنهاية ولسان
العرب، وفي الأخيرين: " وهو افتعال من الجهد الطاقة ".
وكأن ما في المعالم والفصول والكفاية وغيرها من أنه تحمل المشقة
مبني على أنه افتعال من الجهد - بالفتح أو به وبالضم - بمعنى المشقة كما صرح
به في المعالم.
لكنه خلاف المتبادر منه عرفا. وكأنه بلحاظ ملازمة بذل الوسع للمشقة
غالبا قال في مفردات الراغب: " والاجتهاد أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل
المشقة ". والامر سهل.
وأما في الاصطلاح فقد اختلفت كلماتهم في تعريفه وتحديده ففي
المعالم وعن العلامة والحاجبي وجماعة: أنه استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل
الظن بالحكم الشرعي، وعن البهائي قدس سره: أنه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم
الفرعي، وقيل غير ذلك.
قال في تقرير درس بعض الأعيان المحققين قدس سره: " ولكن الظاهر أن
اختلاف عباراتهم في شرح معناه المصطلح ليس لأجل اختلافهم في حقيقته،
بل هو عند الجميع عبارة عن استفراغ الوسع في إعمال القواعد لتحصيل
المعرفة بالوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية، وأن المقصود من تلك
العبارات هو مجرد الإشارة إليه بوجه ما ". وسبقه إليه في الجملة المحقق
291

الخراساني قدس سره في الكفاية.
أقول: التأمل في موارد اطلاق الاجتهاد في الصدر الأول في النصوص
الواردة عن الأئمة عليهم السلام وغيرها مما ورد عن العامة في كلماتهم ورواياتهم شاهد
بأن الأصل له العامة، وأن مرادهم منه خصوص إعمال الرأي بالقياس
والاستحسان ونحوهما للوصول للحكم الواقعي، في مقابل أخذه من الكتاب
والسنة ونحوهما من الأدلة التعبدية، فضلا عن معرفة الوظيفة الظاهرية،
خصوصا العقلية.
وهو المناسب للتعريف الأول، وللمعنى اللغوي أيضا، للزوم استفراغ
الوسع في طلب الحكم والوصول إليه عند من يعتمد عليه.
كما قد يناسبه أيضا ما هو المعلوم من طريقة كثير من العامة من الاعتماد
على ذلك، بل قد يصدر من بعض أصحابنا كالفاضلين وغيرهما.
ولعله لذا شنع الأخباريون على الاجتهاد ووقفوا منه الموقف المعلوم،
حتى عقد في الوسائل بابا (1) ضمنها ما يزيد على خمسين حديثا في الردع عنه
وعن الرأي والقياس ونحوها من الاستنباطات الظنية في الأحكام الشرعية.
ولذا ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره أن الأولى تغيير هذا العنوان الذي سبب الفتنة
بين الطائفة المحقة وشق صفوفها ووقوع الفرقة بين علمائها فضلا عن عوامها.
لكن ذلك ناشئ عن الجمود على ظاهر لفظ الاجتهاد من دون نظر إلى
سيرة الأصحاب وتصريحاتهم في مباحثهم الكلامية والأصولية والفقهية، حيث
لا إشكال في عدم بنائهم على التعويل على الاستنباطات الظنية، بل على الحجج
المعتبرة شرعية كانت أو عقلية، وأن مرادهم من الاجتهاد هو تشخيص الوظيفة
التي يترتب عليها العمل اعتمادا عليها.
وذكرهم لبعض الوجوه الاستحسانية في الاستدلال على الاحكام

(1) هو الباب السادس من أبواب صفات القاضي، ج: 18.
292

الشرعية إما أن يكون مجاراة للعامة أخذا بما يلتزمون بنظيره - كما لعله الغالب -
أو لحصول القطع بسببه من باب تنقيح المناط أو نحوه، ولو للغفلة عن الحال،
حيث لابد من تأويل ما يقبل التأويل في مقابل المقطوع به من مذهبهم.
بل لا يبعد كون ذلك هو المراد لكثير من الأصوليين من العامة، وان
اختلفوا معنا في تعيين الحجج، وأن ذكر الظن في التعريف لأنه أقل ما يكتفي به
المجتهد.
وربما كان ذلك هو الاجتهاد بالمعنى الأعم عندهم، وما قبله هو الاجتهاد
بالمعنى الأخص، كما يظهر من بعضهم.
بل في نهاية ابن الأثير بعد الكلام المتقدم قال: " والمراد به رد القضية التي
تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب والسنة، ولم يرد الرأي الذي رآه
من قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنة "، ونحوه في لسان العرب.
ومقتضاه مباينة الاجتهاد للمعنى المتقدم، لا أنه أعم منه. وإن كان ذلك لا يناسب
طريقتهم في الاستنباط.
إلا أن ينزل على الرد للكتاب والسنة ولو بلحاظ دلالتهما بنظرهم على
حجية بعض أقسام الرأي، فيرجع إلى ما ذكرنا من كون المراد بالاجتهاد
تشخيص الوظيفة اعتمادا على الحجة.
نعم، ذلك لا يناسب التعريف الأول، ويحتاج تنزيله عليه إلى تكلف. كما
لا يناسب المعنى اللغوي، لوضوح أن مجرد بذل الوسع من دون وصول
للوظيفة الفعلية ليس اجتهادا بالمعنى المذكور، بخلاف المعنى الأول، لان بذل
الوسع عندهم كاف في تحقق الوظيفة، لحجية الظن الحاصل منه عندهم.
كما أن بذل الوسع مع تشخيص الوظيفة ليس دخيلا في مفهوم الاجتهاد،
بل في تحققه، لتوقف تشخيص الوظيفة على اليأس من الظفر بدليل اخر ولو
كان معارضا.
293

وليس الامر بمهم بعد عدم الأثر لتحديد مفهوم الاجتهاد، لعدم أخذ
عنوانه في الأدلة الشرعية موضوعا لشئ من الاحكام، وانما هو محض
اصطلاح لا مشاحة فيه.
غاية الامر أن المناسب مطابقته لموضوع الغرض.
وحيث لا يفرق في وظيفة المجتهد - التي يترتب عليها عمله وعمل
غيره، والتي هي موضوع البحوث الآتية - بين تشخيص الحكم الواقعي
وتشخيص الوظيفة الظاهرية شرعية كانت أو عقلية، كان المناسب تعميمه
لمطلق تشخيص الوظيفة العملية الفعلية في الشبهة الحكمية، إما بتشخيص
الحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، اعتمادا على الحجج ولو كانت ظنية أو
على الأصول أو بتشخيص الوظيفة العقلية.
ومن هنا لا مجال لذكر استفراغ الوسعي في تعريفه، لما فيه من الاشعار
بكون موضوعه ذا واقع محفوظ قد لا يصل إليه الوسع، وهو إنما يتجه بالإضافة
إلى الاحكام الواقعية، وأما الوظيفة الفعلية التي يترتب عليها العمل فلا يتصور
فيها ذلك، لقطع المجتهد بها.
ثم إن تشخيص الوظيفة المذكورة حيث كان موقوفا على الفراغ من
مقدمات كثيرة، كالمسائل الأصولية واللغوية، وعلى أنس الذهن بالظهورات
الشرعية والعرفية، كان مسبوقا بملكة مكتسبة نتيجة لذلك.
ومن هنا قد يجعل الاجتهاد نفس الملكة المذكورة كما تقدم عن البهائي،
وقد يجعل نفس الاستنباط والتشخيص للوظيفة، كما يظهر من بعض الأعيان
المحققين - في كلامه السابق - وغيره.
وحيث كان كل منهما موردا للأثر من بعض الجهات، كان الأنسب تعريفه
بالملكة، ليطابق موضوع الغرض.
ودعوى: عدم صدقه على ذي الملكة من دون أن يمارس عملية
294

الاستنباط.
غير ظاهرة، لان المفهوم المذكور غير عرفي، ليتضح حاله بعرضه على
العرف، وانما هو مصطلح خاص لم يتضح حدوده بعد عند أهله، بل لا مانع من
توسيعه تبعا لسعة الغرض.
وقد تلخص من جميع ما تقدم: أن الاجتهاد الذي هو محل الكلام. ملكة
يقتدر بها على تشخيص الوظيفة الفعلية في الشبهات الحكمية.
إذا عرفت هذا فالكلام في الاجتهاد يقع في مسائل..
المسألة الأولى: وقع الكلام بين الأصوليين من العامة والخاصة في
تجزي الاجتهاد وعدمه على أقوال.
ومحل الكلام إنما هو الملكة، أما العلم الفعلي المبتني على إعمال الملكة
فلا ريب ظاهرا في إمكان التجزي فيه، بل وقوعه بالنظر في بعض المسائل
الفقهية دون بعض، بل يمتنع عادة العلم بجميع المسائل دفعة، بل لابد من النظر
فيها تدريجا، الراجع إلى التجزي في بعض الأزمنة، بل حيث كانت بعض
المسائل مغفولا عنها، لعدم الابتلاء بها أصلا، وعدم المنبه لموضوعاتها، كان
اللازم التجزي دائما.
ومن هنا ينحصر الكلام في التجزي بالملكة، ومرجعه إلى الكلام في أنه
هل يكون الشخص قادرا على تشخيص الوظيفة في خصوص بعض المسائل،
أو لابد إما قدرته على تشخيصها في كل مسألة يفرض ابتلاؤه بها، أو عجزه عنه
في الكل؟
والمعروف - كما قيل ويظهر بالنظر في كلماتهم - هو إمكان التجزي.
وربما نسب القول بامتناعه للشذوذ، وان كان هو الظاهر من
شيخنا الأستاذ قدس سره وبعض تلامذته.
وكيف كان، فقد يستدل على امتناعه بوجوه..
295

أولها: عدم انضباط مدارك الأحكام وأدلتها، حيث قد يكون في مدارك
بعض الأحكام ما ينفع في معرفة أحكام أخرى، فما لم يطلع الشخص على
مدارك تمام الاحكام، ويكون ذا خبرة بها، لا يستطيع تشخيص شئ منها،
لاحتمال عدم استكمال الفحص عنه.
وفيه: أنه قد يقطع الناظر في كلمات الأصحاب في المسألة وبعد التأمل
في خصوصياتها بعدم وجود دليل فيها قد خفي عليه يتوقف اطلاعه عليه على
النظر في بقية المسائل، ولا أقل من اليأس عن ذلك بالنحو الكافي الذي يقطع
معه بعدم وجوب الفحص. وإلا أمكن ورود ذلك في الناظر في تمام المسائل،
لامكان نسيانه لمفاد بعض الأدلة أو غفلته عن إفادته في بعض المسائل.
على أن النظر في جميع أدلة المسائل لا يستلزم القدرة على تشخيص
الوظيفة فيها - الراجعة للاجتهاد المطلق - لامكان ابتناء معرفة بعضها على
مقدمات لم يفرغ منها، بخلاف بعضها الاخر الذي استكمل مقدمات المعرفة
فيه
ثانيها: أن ملكة الاجتهاد كسائر الملكات أمر بسيط غير قابل للتجزي.
وفيه: أن مرجع التجزي ليس إلى تجزي الملكة، بل إلى ضعفها وقصورها
عن بعض الأحكام، لما أشرنا إليه انفا من أن الملكة متقومة بمعرفة المقدمات
التي يبتني عليها تشخيص الوظيفة، وقد يكون الشخص عارفا ببعض تلك
المقدمات دون بعض، فلا يتسنى له إلا تشخيص الوظيفة في المسائل التي
يكفي فيها تلك المقدمات، دون غيرها مما يحتاج للمقدمات الأخرى التي
يجهلها.
ثالثها: أن مدارك الأحكام في الوقائع المختلفة ومقدمات الاستنباط
متداخلة مترابطة، فليس تشخيص الوظيفة في الواقعة الواحدة موقوفا على
مقدمة أو مقدمتين، كي يمكن للعارف بهما تشخيصها فيها ولو مع العجز عن
296

تشخيصها في غيرها للجهل بمقدماته.
مثلا المسألة التي يكون المرجع فيها الأدلة اللفظية لا يكفي فيها البناء
على أصالة حجية الظهور، بل لابد فيها من تشخيص الظهور، وتشخيص
مقتضى الجمع العرفي بين الظهورات، ومقتضى القاعدة في المتعارضين بعد
الفراغ عن حجية الخبر ذي الظهور الخاص الوارد فيها.
كما أن المسألة التي يكون المرجع فيها الأصل العملي مثلا لا يكفي فيها
ثبوت كبرى الأصل المذكور، بل لابد معها من الفراغ عن عدم الدليل في
المسألة، لعدم وجود الخبر فيها، أو عدم تمامية ظهور ما ورد فيها، أو معارضته
بما يسقطه عن الحجية، وكل ذلك قد يبتني على قواعد أصولية متعددة.
بل الفراغ عن بعض مقدمات الاستنباط يتوقف على غيرها أيضا، فالفراغ
عن كبرى الاستصحاب مثلا موقوف على الفراغ عن أصالة الظهور، وعن حجية
خبر الواحد، ليمكن التمسك بأخباره، وعن قواعد الجمع بين الأدلة لمعارضة
ظهور أخباره بما ينافيها بدوا، كعمومات البراءة أو الاحتياط، وعن حجية
الاجماع المستدل به عليه، والسيرة التي وقع الكلام في حجيتها ذاتا، وفي
صلوح عمومات عدم حجية غير العلم للردع عنها. وهكذا الحال في جعل
القواعد الأصولية أو جميعها.
ومن هنا لا يتسنى النظر في بعض المسائل الفقهية لمن لم يفرغ عن تمام
مقدمات الاستنباط، التي يستلزم الفراغ عنها الاجتهاد المطلق.
وكأن هذا هو الوجه الذي اعتمده شيخنا الأستاذ قدس سره في المقام.
وفيه: أن عدم الاكتفاء في المسألة الواحدة بمقدمة واحدة أو مقدمتين،
وابتناء بعض المقدمات على بعض وان كان مسلما في الجملة، إلا أنه ليس
بالنحو الراجع إلى توقف تشخيص الوظيفة في المسألة الواحدة على الفراغ عن
جميع المقدمات، حيث يلزم الاجتهاد المطلق، لوضوح أن كثيرا من الكبريات
297

الأصولية يسهل اثباتها في الجملة، ولا يحتاج لقوة النظر إلا بعض خصوصياتها،
ولا يتوقف على تلك الخصوصيات إلا قليل من الفروع الفقهية، فالجهل بها لا
يوجب الا العجز عن تشخيص الوظيفة في تلك الفروع، مع القدرة على
تشخيصها في الفروع الاخر غير المبتنية على تلك الخصوصيات، كبعض
خصوصيات مسألة اجتماعي الأمر والنهي، والجمع العرفي، وحجية العام في
عكس نقيضه، وفي الشبهة المصداقية، وحجية بعض مراتب الاجماع، والخبر
الصحيح المهجور بين الأصحاب والضعيف المعمول به عندهم، وانقلاب
الأصل في الدماء والفروج والأموال، وجريان الاستصحاب التعليقي، أو
استصحاب القسم الثالث من الكلي أو حكم المخصص أو العدم الأزلي،
ومقتضى القاعدة في المتكافئين، وغير ذلك مما يلزم من عدم الفراغ عنه إلا
التوقف في خصوص بعض الفروع.
كما لا ريب في اختلاف الفروع الفقهية في الاحتياج إلى دقة النظر
واعمال الذوق الفقهي، لابتناء بعضها على بعض الاستظهارات الخفية والالتفات
للنكات الدقيقة أو بعض وجوه الجمع العرفي المحتاجة لحسن السليقة، أو
ملاحظة بعض القرائن ككلمات الأصحاب ومقدار الابتلاء بالحكم، ونحو ذلك
مما لا يتسنى إلا للممارس الماهر، ويعجز عنه كثير ممن تمت مبانيه الأصولية
وسهل عليه كثير من المسالك الفقهية بسببها، فإن المباني الأصولية وحدها لا
تكفي في القدرة على الاستنباط ما لم يتيسر لصاحبها تشخيص موضوعاتها
بنحو تطمئن به النفس ويركن إليه في مقام العمل، وهو لا يتسنى لكل أحد،
خصوصا في بعض الفروع.
وبذلك يظهر أن البناء على إمكان التجزي بل وقوعه هو المتعين.
بل ذكر المحقق الخراساني قدس سره أنه يستحيل عادة حصول اجتهاد مطلق
غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة.
298

وما ذكره متين بلحاظ الوضع المتعارف من تدرج الباحث في
المعلومات، وفي المهارة فيها وقوة النظر والذوق الفقهي باستمرار الممارسة،
فلا يتسنى له في أول مراحله إلا تشخيص الوظيفة في الفروع الفقهية غير
المعقدة، التي يسهل إثبات كبرياتها الأصولية واحراز موضوع تلك الكبريات
فيها، ثم يقوى على الأصعب فالأصعب بطول الزمن واستمرار الممارسة،
واعمال النظر والملاحقة.
وربما يبقى عاجزا عن تشخيص الوظيفة في بعض الفروع، لشدة تعقدها
واضطراب الوجدان عليه فيها، لتصادم جهات الكشف عن الوظيفة الفعلية، كما
يبتلى به أعاظم المجتهدين في كثير من الموارد، فيتوقف عن الفتوى فيها،
ويقتصر على بيان مقتضى الاحتياط، وهو الذي اصطلح عليه في عصورنا
بالاحتياط الوجوبي ومن هنا لا يكون مجتهدا مطلقا بالمعنى المتقدم. ولعله لذا
اكتفى في الفصول في الاجتهاد المطلق بالقدرة على استنباط جملة معتد بها
من الاحكام.
وأما ما ذكره غير واحد من أن تردد المجتهد في بعض المسائل إنما يكون
بالإضافة للحكم الواقعي، لعدم الظفر بالدليل عليه مع استكمال الفحص، لا
لقصور الباع أو قلة الاطلاق، من دون تردد في الوظيفة الفعلية.
فهو كما ترى، لوضوح عدم انحصار وظيفة المجتهد ببيان الحكم
الواقعي، بل يكفي تعيينه للوظيفة الفعلية مع وضوحها عنده، ويجب اتباعه فيها
ولا يجب الاحتياط معها، كما لا يجوز للعامي الرجوع لغيره ممن هو دونه في
الفضيلة، وإن أفتى بالحكم الواقعي اعتمادا على ما يراه حجة عليه.
نعم، يحسن الاحتياط لإصابة الواقع، أو لتجنب بعض الاحتمالات غير
المعتد بها بعد معرفة الوظيفة الفعلية، وهو احتياط استحبابي بمصطلح العصر.
ودعوى: أنه بعد فراغ المجتهد عن وجوب العمل بالحجة الفعلية،
299

والرجوع للأصل الشرعي أو العقلي مع فقدها ولو للشك فيها، بمقتضى مبانيه
الأصولية، لا مجال لتردده في الوظيفة الفعلية في المسألة، إذ مع القطع بقيام
الحجة يتعين العمل بها، ومع عدمه يتعين الرجوع للأصل، ويمتنع الشك في
ذلك، لأنه لا يدخل الأمور الوجدانية.
مدفوعة: بأنه قد لا يتضح للمجتهد وجود الحجة بالنحو المصحح
للرجوع للأصل، لتصادم جهات الكشف عنده واضطراب الوجدان عليه، فلا
يطمئن لشئ من الوجوه، ويكون كغير المجتهد من أهل العلم ممن قد يطلع
على كلمات الأصحاب ووجوههم في المسألة ويفهمها، لكن يعجز عن تمييز
الصحيح منها بنحو يركن إليه ويجري على مقتضاه، ولو لعدم قوة مبناه
الأصولي.
وإن شئت قلت: إن مجرد علم الباحث ببعض الكبريات ويتحقق
موضوعاتها والاذعان بذلك لا يستلزم العمل عليها ما لم يحصل له القناعة
الكافية بما حصله من معلومات والركون النفسي إليها، بنحو يتحمل لأجلها
مسؤولية العمل، وبهذا يكون مجتهدا.
فتوقف المجتهد عن العمل ببعض القواعد التي أذعن بها في بعض
الموارد كاشف عن ضعف ملكته وقصورها عن ذلك المورد.
نعم، ذلك لا يطرد، بل قد يكون التوقف عن الفتوى لمحض التورع
والاحتياط للواقع مع القدرة على تشخيص الوظيفة، ولذا قد يشخصها لو اضطر
لذلك أو ترجح لديه لزوم الفتوى، لحاجة الناس أو نحوها.
ثم إنه لا ينبغي التأمل في وجوب عمل المتجزي برأيه في ما وصل إليه -
وإن قيل: إنه محل خلاف - لعموم أدلة الحجج له - بل تقدم في التنبيه الثاني من
تنبيهات الكلام في المتكافئين عمومها للعامي - فيقطع بمقتضاها بالوظيفة
الفعلية، كما يقطع بها في موارد الأصول العقلية، ولا مجال لتخلف القاطع عن
300

قطعه، فضلا عن حجية رأي غيره عليه ممن يخالفه ويكون جاهلا بنظره.
وأما في ما يعجز عن تشخيص الوظيفة فيه فلا مانع من البناء على جواز
تقليده لغيره فيه، لدخوله في كبرى رجوع الجاهل للعالم. إلا أن يخطئ الغير في
مستنده، لقصور الكبرى المذكورة عن صورة ثبوت خطأ المستند.
بل لا يبعد ذلك فيما لو كان قادرا على تشخيص حال المستند لنضوجه
العلمي وعدم لزوم الحرج منه، وان لم ينظر فيه فعلا.
هذا، وأما الرجوع للمتجزي وتقليده في ما وصل إليه فالكلام فيه موكول
لمبحث التقليد.
تنبيه
أشرنا في التنبيه الثاني من تنبيهات الكلام في المتكافئين إلى أن المكلف
لو كان قادرا على بعض مقدمات الاستنباط دون بعض كان عليه الاستقلال في ما
علم والرجوع للغير في ما جهل ويكون تشخيص الوظيفة تابعا للمجموع وإن
خالف فيها المجتهد الذي يرجع إليه، وهو نحو من تجزي الاجتهاد، مرجعه
للتجزي في المسألة الواحدة بلحاظ أدلتها لا بلحاظ مجموع المسائل الذي هو
محل كلامهم في المقام.
المسألة الثانية: اتفقت كلمتهم - كما قيل - على التخطئة في العقليات، من
دون فرق بين العقليات المحضة التي لا دخل لها بالأحكام الشرعية، ككون الكل
أعظم من الجزء، والمرتبطة بالأحكام الشرعية، كاستلزام الامر بالشئ النهي عن
ضده.
لان وظيفة العقل ليس إلا إدراك الواقع، ولا مجال لتبعية الواقع للادراك،
لتفرع مقام الاثبات عن مقام الثبوت وتأخره عنه رتبة، فكيف يكون مقام الثبوت
تابعا لمقام الاثبات، بل ليس الواقع الذي يتناوله الادراك إلا أمرا واحدا يصيبه من
301

يصيبه ويخطئه من يخطئه.
نعم، خص بعض الأعيان المحققين قدس سره ذلك بالعقل النظري المتمحض
في الادراك، دون العقل العملي الذي يكون في باب التحسين والتقبيح، لتقوم
التحسين والتقبيح بملائمة الشئ للقوة العاقلة ومنافرتها له، ويمتنع تطرف
التخطئة في مثل هذه الادراكيات الوجدانية، إذ ليس لها واقع محفوظ وراء
حصول الانبساط والاشمئزاز.
وهو مبني على أن التحسين والتقبيح نفس الملائمة والمنافرة
المستلزمين للمدح والذم، حيث يكونان من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف
الأشخاص كالالتذاذ والتألم، أما لو كانا عبارة عن إدراك واقع في الفصل مقوم
لحسنه أو قبحه، كان للحسن والقبح واقع محفوظ، وكان التحسين والتقبيح
متمحضين في الادراك القابل للخطأ والصواب. والظاهر الثاني وتمام الكلام في
محله.
وأما الشرعيات فقد تكرر نقل إجماع أصحابنا على التخطئة فيها، وأن لله
تعالى في كل واقعة حكما واحدا تابعا لموضوعه الواقعي يصيبه من يصيبه
ويخطئه من يخطئه.
بل الظاهر المفروغية عنه بينهم. وما قد ينافيه مما يظهر من بعض
عباراتهم في حكم مفاد الاخبار وفي حقيقة الحكم الظاهري والجمع بينه وبين
الحكم الواقعي ونحوها، ناشئ عن الغفلة عن منافاة ذلك للتخطئة، ولذا تكرر
منهم النقض على بعض الوجوه المذكورة باستلزامها التصويب، حيث يناسب
ذلك المفروغية عن بطلانه.
وكيف كان، فالتصويب يتردد في كلمات القائلين به والناقلين له بين
وجوه ثلاثة..
الأول: أن الحكم في حق كل مجتهد تابع لاجتهاده، بحيث لا حكم لله
302

تعالى في الواقعة قبل تحقق اجتهاده.
الثاني: أن له تعالى أحكاما متعددة بعدد ما يعلم حصوله من آراء
للمجتهدين، فكل مجتهد قد جعل في حقه الحكم الذي سوف يؤدي إليه
اجتهاده.
وبأحد هذين الوجهين قد يفسر التصويب المنسوب للأشاعرة، وان كان
الأظهر من بعض الكلمات المنقولة عنهم الأول.
الثالث: أن له تعالى حكما واحدا أوليا يشترك بين العالم والجاهل يصيبه
من يصيبه ويخطئه من يخطئه، إلا أن من أدى اجتهاده لخلافه ينقلب الحكم في
حقه وحق من يقلده على طبق اجتهاده، فالاجتهاد من سنخ العنوان الثانوي
الموجب لتبدل الحكم الأولي.
ولعل أهون الوجوه المذكورة وأبعدها عن الخطأ هو الوجه الثالث، لان
تبدل الاحكام الأولية بالعناوين الثانوية غير عزيز.
إلا أنه لا مجال للبناء عليه مع منافاته لاطلاقات أدلة الاحكام الواقعية
القاضية بفعليتها تبعا لفعلية موضوعاتها.
مضافا إلى النصوص الكثيرة الظاهرة في فعلية الحكم الواقعي في صورة
عدم إصابته.
منها: ما تضمن أن الحكم حكمان حكم الله عز وجل وحكم الجاهلية
وأن من أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم الجاهلية (1).
ومنها: ما تضمن تفسير ما ورد في أن اختلاف الأمة رحمة بالاختلاف
في طلب العلم، وأن الدين واحد (2).
ومنها: ما تضمن من النصوص الكثيرة الاهتمام بحفظ الأحاديث ومدح

(1) الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 7، 8 وباب 5 منها حديث 6.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 10.
303

رواتها الامناء عليها (1)، حيث يظهر منه أن ضياعها المستلزم لضياع الواقع
محذور لا يتدارك بتشخيص المجتهد للوظيفة الفعلية خطأ.. إلى غير ذلك من
النصوص الظاهرة أو المشعرة بأن الاحكام الواقعية باقية على ما هي عليه من
الفعلية، ولا تختلف باختلاف الاجتهادات والانظار.
ولا ملزم بالخروج عن ذلك الا توهم أنه مقتضى الجمع بين الاحكام
الواقعية والظاهرية، التي يختلف مفادها باختلاف الأنظار والاجتهادات.
لكن ذلك إن رجع إلى دعوى: ظهور أدلة الحجج والأصول الظاهرية في
تبعية الحكم الفعلي لها، بحيث تكون موضوعاتها عناوين ثانوية رافعة للحكم
الأولي.
ففيه.. أولا: أن ظاهر أدلتها محض الطريقية الظاهرية، التي هي في طول
الاحكام الواقعية من دون أن تكون دخيلة فيها.
وثانيا: أن ذلك إنما يستلزم التصويب في مؤدى الامارة الشرعية كفتوى
المجتهد في حق العامي، وأدلة الاحكام في حق المجتهد، لا في تشخيص
مؤدى الامارة لو فرض الخطأ في تشخيصه، كما لو أخطأ العامي في تشخيص
فتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده، أو أخطأ المجتهد في تشخيص مؤدى
أدلة الاحكام، لاستناد الخطأ في ذلك إلى القطع الذي هو طريق محض بحكم
العقل، من دون أن يكون حجه شرعية كي يكون ظاهر دليل حجيته تبدل الحكم
الواقعي تبعا له.
وإن رجع إلى دعوى: أن بقاء الاحكام الواقعية على ما هي عليه من الفعلية
في حال خطأ الاجتهاد مستلزم لكون فتح باب الاجتهاد وترخيص الشارع فيه
وتهيئة مقدماته ببيان الاحكام بالطرق الظنية القابلة للخطأ في نفسها وفي
تشخيص مفادها، مفوتا للواقع الذي هو قبيح منه تعالى، فلابد من البناء على

(1) راجع الوسائل ج: 18 باب: 118 من أبواب صفات القاضي.
304

تبدل الحكم الواقعي فرارا عن المحذور المذكور، وإن كان مخالفا لظاهر أدلة
الاحكام الواقعية والظاهرية وغيرها من الأخبار المذكورة.
فيظهر اندفاعه مما تقدم في أول مباحث الحجج في حقيقة الاحكام
الظاهرية، ووجه عدم منافاتها للأحكام الواقعية، حيث يستغنى به عن التصويب
بل مقتضى ما سبق هناك عن ابن قبة من استحالة التعبد بغير العلم لاستلزامه
تحليل الحرام وتحريم الحلال، كون بطلان التصويب أظهر من نصب الطرق
الظنية، لوضوح ابتناء المحذور المذكور على عدم التصويب.
على أن منافاة الحكم الظاهري لو كانت ملزمة بالتصويب للزم البناء عليه
في التعبد الظاهري بموضوعات الاحكام، مع أن المحكي عن الفصول نفي
الخلاف في عدمه فيها. فتأمل.
ومما ذكرنا يظهر ضعف الوجه الثاني للتصويب، لصلوح ما سبق لرده،
لان مقتضى إطلاق أدلة الاحكام الواقعية اشتراكها بين جميع المكلفين وعدم
اختصاصها بمن يؤدي اجتهاده إليها.
كما أن ذلك هو مقتضى النصوص الأخرى المشار إليها انفا. كما يظهر
بأدنى تأمل.
بل هو مقتض نصوص كثيرة أخرى..
منها: ما تضمن أن من يقضي بالحق وهو لا يعلم فهو في النار (1)، وأن من
قال برأيه فأصاب لم يؤجر (2)، وأن من أخذ بالقياس كان ما يفسده أكثر مما
يصلحه (3)، حيث فرض فيها إصابة الحق مع عدم اجتهاد معذر.

(1) الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 6.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 6، 35.
(3) لم أعثر على هذا المضمون عاجلا في الوسائل، وإنما ذكره شيخنا الأعظم في أواخر التنبيه
الثاني من شبهات دليل الانسداد عند الكلام في حكم القياس من الوجه السابع من وجوه
الاستدلال عليه.
305

ومنها: ما تضمن أن الدين كله مبين في الكتاب والسنة وأن عملهما عند
الأئمة عليهم السلام (1)، لوضوح أن مدعى القائل بالتصويب اختصاص أحكام الكتاب
والسنة بمن يصل إلى مضامينهما، دون من أخطأها، بل له أحكام أخرى غير
حكمهما، هي الدين المطلوب منه.
ومنها: ما تضمن أن العلم مخزون عند أهله وكل ما لم يخرج من أهل
البيت فهو باطل وأنه يجب سؤالهم عنه وطلبه منهم (2)، لظهورها بمجموعها في
وحدة التكليف الواقعي وعمومه لكل أحد، ولذا يجب طلبه من مظانه.
إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في وحدة التكليف الواقعي.
بل هو المطابق لارتكازيات المتشرعة القطعية، والملحقة لذلك
بالبديهيات غير القابلة للاخذ والرد والنقض والابرام، بحيث يقطع لأجلها بأن
البناء على التصويب لشبهة ضاق حلها.
وأما ما استشكل به غير واحد في الوجه المذكور من استلزامه اجتماع
الظن واليقين بالحكم في زمان واحد، لأنه باعتبار ظنه بالواقع يكون مظنونا،
وباعتبار أن مؤدى ظنه هو حكم الله تعالى المجعول في حقه يكون متيقنا.
فيمكن دفعه بأن حصول الظن مع قطع النظر عن كبرى التصويب لا ينافي
انقلابه لليقين بعد الالتفات للكبرى المذكورة. فالعمدة ما سبق.
وأضعف وجوه التصويب هو الوجه الأول، لمنافاته لجميع ما تقدم، ولما
هو المعلوم من الكتاب والسنة وضرورات المتشرعة من جعل الأحكام الشرعية
، بل إكمال الدين مع قطع النظر عن الاجتهاد فيها، ولذا يجب الفحص

(1) تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام
ضبطها تفصيلا.
(2) تراجع هذه النصوص في أبواب صفات القاضي من الوسائل وهي كثيرة متفرقة لا يسع المقام
ضبطها تفصيلا.
306

عن الاحكام بالاجتهاد أو التقليد، مع وضوح عدم وجوب شرط التكليف.
كما يمكن حصول العلم الاجمالي بالتكليف، قبل تناول الاجتهاد له
بخصوصيته، مع أن ثبوت أحد الأطراف بخصوصيته راجع إلى سبق التكليف
للاجتهاد وامكان خطأ الاجتهاد في تعيينه، إذ لا مجال للالتزام بثبوت أحدهما
المردد لاستحالة جعل المردد، ولا التخييري للقطع بعدمه، بل قد يستحيل
جعله، كالتخيير بين الوجوب والحرمة أو بين الاستحباب والوجوب.
هذا مضافا إلى استحالة الوجه المذكور من التصويب في نفسه، لان
الاجتهاد لما كان راجعا إلى مقام إثبات الاحكام كان متأخرا عنها رتبة ومترفعا
عليها تفرع مقام الاثبات على مقام الاثبات، فلا يتحقق موضوع الاجتهاد إلا في
فرض احتمال جعل أحكام يجتهد فيها، لا مع العلم بعدم جعل حكم في
الواقعة.
والرجوع إلى بعض ما ينقل من كلماتهم في وجه البناء على ذلك شاهد
باختلاط مقام الاثبات عليهم بمقام الثبوت ومقام التنجيز بمقام الجعل، فحيث
كان إثبات التكليف وتنجيزه متفرعا على الاجتهاد في الجملة تخيلوا إناطة
الجعل به. ووهنه ظاهر.
تنبيه
ربما يدعى اختصاص التخطئة بالأحكام الواقعية، مع لزوم التصويب في
الاحكام الظاهرية، للعلم معها بالوظيفة الفعلية.
والذي ينبغي أن يقال: إن كان المراد بالوظيفة الفعلية ما يترتب عليه
العمل بلا واسطة، وهو القطع بالحكم الواقعي أو الوظيفة الظاهرية العقلية أو
الشرعية فلا ريب في عدم الخطأ فيه، لأنه أمر وجداني غير قابل للخطأ، وإن كان
المراد بها الوظيفة الظاهرية المجعولة شرعا كأصالة البراءة والاستصحاب
307

ونحوهما مما يترتب عليه العمل بواسطة وصوله أمكن الخطأ فيها، لتبعية
الوظيفة الشرعية لجعلها كبرويا ولتحقق موضوعها، وكلاهما أمر واقعي قابل
للخطأ وجودا وعدما، كما لو اعتقد المجتهد جريان الاستصحاب التعليقي، وكان
غير جار واقعا، أو عدم جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي وكان جاريا
واقعا، أو اعتقد بتحقق موضوع الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث المستند لما
يراه دليلا، والشك في البقاء، وكان مخطئا في اعتقاد دليلية دليل الحدوث، أو
بعدم تحقق موضوع الاستصحاب، لخطئه في اعتقاد دليلية دليل الارتفاع، حيث
يكون مع ذلك مخطئا في تشخيص الوظيفة الظاهرية، وإن كان معذورا في عمله
عليها، لاعتقاد بتماميتها.
نعم، لا يبعد البناء على عدم الخطأ في تشخيص الوظائف العقلية، لان
موضوعها واقعا عدم وصول الدليل، لا عدم الدليل المجعول واقعا، وأن كبرياتها
وجدانية غير قابلة للخطأ.
اللهم إلا أن يلتبس الامر على الوجدان، ولذا يقع الاختلاف فيها. فلاحظ.
المسألة الثالثة: لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد بالحكم الشرعي
الواقعي مع العلم الحقيقي به، لضرورة أو إجماع أو غيرهما.
وكذا مع قيام الحجة عليه بناء على جواز الاخبار بالواقع اعتمادا على
الحجة.
لكن الظاهر عدم جوازه وأنه لابد معه من ابتناء الخبر على بيان مفاد
الحجة، لا على التعهد بالمخبر به مطلقا ومع قطع النظر عنها، وهو الظاهر من
حال أهل الفتوى، لعدم تعلق غرض المستفتي ببيان الحكم الواقعي، بل ببيان ما
ينبغي العمل عليه، ولو كان هو مفاد الأصل الشرعي أو العقلي.
نعم، لما كان الغرض من الفتوى ترتب عمل المستفتي لزم تحقق
موضوع الوظيفة العملية في حقه، ولا يكفي، بل لا يعتبر تحققها في حق المفتي،
308

بخلاف ما لو كان المصحح للفتوى قيام الحجة على الحكم الواقعي، حيث يلزم
تحقق موضوع الحجية في حق المفتي، لأن جواز الافتاء أثر عملي متعلق به،
فيتبع قيام الحجة عنده، وإن كان ترتب عمل المستفتي على الفتوى مشروطا
بتحقق موضوع الحجية في حقه أيضا.
وتمام الكلام في ذلك في مباحث التقليد إن شاء الله تعالى.
309

المقام الثاني
في التقليد
المستفاد من بعض كلمات اللغويين واستعمالات أهل اللغة أن التقليد
عبارة عن جعل الشئ في عنق الغير، وبلحاظ ذلك يستعمل في إلزام الشخص
بشئ وتحميله مسؤوليته، لان العنق مورد لتحمل المسؤولية عرفا.
ومنه قول الصديقة عليها السلام: " لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها ". قال في لسان
العرب: " والقلد إدارتك قلبا على قلب من الحلي، وكذلك لي الحديدة الدقيقة
على مثلها... وكل ما لوي على شئ فقد قلد. والقلادة ما جعل في العنق يكون
للانسان والفرس والكلب والبدنة التي تهدى ونحوها... ومنه التقليد في الدين،
وتقليد الولاة الأعمال... وقلده الامر ألزمه إياه... وتقلد الامر احتمله، وكذلك
تقلد السيف... ".
وأطلق في العرف على متابعة الغير في العمل. ولعله بلحاظ أن التابع قد
حمل المتبوع مسؤولية عمله، كأنه جعله في عنقه، لتحمل المفتي مسؤولية
الفتوى ارتكازا، كما يناسبه ما في صحيح ابن الحجاج: " كان أبو عبد الله عليه السلام قاعدا
في حلقة ربيعة الرأي فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه فلما
سكت قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يرد عليه شيئا...
فقال أبو عبد الله عليه السلام هو في عنقه قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن " (1) وخبر أبي
بصير: " دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله عليه السلام وأنا عنده فقالت؟ جعلت

(1) الوسائل ج: 18 باب: 7 من أبواب آداب القاضي حديث: 2.
311

فداك إنه يعتريني قراقر في بطني وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق.
فقال: ما يمنعك من شربه؟ فقالت: قد قلدتك ديني، فألقى الله عز وجل حين
ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد عليه السلام أمرني ونهاني. فقال: يا أبا محمد ألا تسمع
إلى هذه المرأة وهذه المسائل. لا والله لا اذن لك في قطرة منه... " (1) وغيرهما.
لكن الظاهر أن الجهة المذكورة وإن كانت هي المنشأ في إطلاق التقليد
على ذلك، إلا أن الاستعمال بعد ذلك قد جرد عنه ولحظ فيه محض التابعة
والمحاكاة مع قطع النظر عنها، ولذا صح إطلاقه في ما لا مسؤولية فيه من
الأعمال، وعدي ب‍ " في " فيقال: قلده في عمله، لا: قلده عمله.
وعليه جرى ظاهرا استعمال التقليد في غير واحد من الروايات، كخبر
البزنطي: " قلت للرضا عليه السلام: إن بعض أصحابنا يقولون: نسمع الامر يحكى عنك
وعن ابائك فنقيس عليه ونعمل به. فقال: سبحان الله ما هذا من دين جعفر...
فأين التقليد الذي كانوا يقلدون جعفرا وأبا جعفر عليهما السلام قال جعفر: لا تحملوا
على القياس... " (2) وخبر محمد بن عبيدة قال: " قال لي أبو الحسن عليه السلام: يا
محمد أنتم أشد تقليدا أم المرجئة؟ قال: قلت: قلدنا وقلدوا... فقال أبو
الحسن عليه السلام: إن المرجئة نصبت رجلا لم تفرض طاعته وقلدوه، وإنكم نصبتم
رجلا وفرضتم طاعته ثم لم تقلدوه، فهم أشد منكم تقليدا " (3) وغيرهما.
ولا يبعد جريان اصطلاحهم على ذلك في التقليد وعدم خروجهم عنه
لمعنى اخر، فإنهم وان عرفوه..
تارة: بالعمل بقول الغير.
وأخرى: بالأخذ به.

(1) الوسائل باب: 2 من أبواب الأشربة المحرمة حديث: 2 مع ملحقه في الهامش.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
(3) الوسائل ج: 18 باب: 6 من أبواب صفات القاضي حديث: 2.
312

وثالثة: بقبوله، إلا أن من القريب رجوع الجميع لمعنى واحد لعدم
تعرضهم للخلاف من هذه الجهة، كما نبه له سيدنا الأعظم قدس سره وذلك المعنى هو
المتابعة في العمل، لمطابقته لما عرفت من المعنى العرفي المطابق لبعض
الاستعمالات الشرعية، فهو في الأمور الشرعية كالتقليد في غيرها من الأعمال
والافعال، لاحتياج خروجهم عنه إلى عناية يبعد وقوعها.
وعليه يكون من العناوين المنتزعة من صدور العمل تبعا لفتوى الغير
وطبقا لها.
لكن يظهر من غير واحد من المتأخرين أنه سابق على العمل، فهو..
أما الاخذ بقول الغير والالتزام به على أنه الحكم الظاهري اللازم المتابعة،
كما قد يظهر من الفصول والمحقق الخراساني قدس سرهم.
أو البناء على متابعته في مقام العمل، كما يظهر من العروة الوثقى.
وقد يناسب ذلك قولهم: عمل عن تقليد، لظهوره في سبق التقليد على
العمل
إلا أنه لا مجال للخروج به عما ذكرنا.
وكيف كان، فلا ثمرة في تحقيق مفهوم التقليد الاصطلاحي، إذ لا مشاحة
في الاصطلاح.
كما لا ثمرة مهمة في تحقيق مفهومه العرفي واللغوي، لعدم أخذ عنوانه
في أدلة أحكامه، وإنما اخذ في مرسل الاحتجاج (1)، المتضمن لاعتبار العدالة
في مرجع التقليد التي كان وضوح اعتبارها مغنيا عن النظر في المرسل المذكور.
ومن هنا يتعين تحديد موضوع تلك الأحكام تبعا لأدلتها، بلا حاجة إلى
تحديد مفهوم التقليد.
فالمهم هو النظر في أحكام التقليد واستحصال الدليل عليها، وهو ما

(1) الوسائل ج: 18 باب: 10 من أبواب صفات القاضي حديث: 20.
313

يتكفله البحث في المقام.
وقد تعارف في عصرنا وما قاربه تعرض الفقهاء لجملة من مسائل التقليد
في مقدمة رسائلهم العملية وكتبهم الفتوائية، واستيفاء جملة وافية من فروعه
الدقيقة التي هي مورد الابتلاء. وممن تعرض لذلك سيدنا الأعظم قدس سره في كتابه
(منهاج الصالحين)، وقد سبق منا تحرير الاستدلال على الفروع التي ذكرها عند
الشروع في تدريس الكتاب المذكور، حيث أفضنا في شرح كلامه واستدلال له
مع ما يناسبه من القواعد والفروع. وقد استغرق ذلك زمنا طويلا.
ومن هنا لا نرى التعرض هنا لتلك الفروع، بل الأولى الانشغال بما لم
يسبق منا التعرض له، لان الوقت لا يسع الإعادة والصدر يضيق عنها.
فنحاول الاقتصار على تنقيح مقتضى القواعد الأولية في التقليد والإشارة
لأدلتها العامة، لأنه الأنسب بمباحث الأصول، والاكتفاء في الفروع
والخصوصيات بما حرر في الفقه. ونسأله تعالى أن يعيننا في ذلك ويسددنا فيه،
حتى يكون البحث متناسقا منتظما مفيدا مثمرا.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن المعروف من مذهب الأصحاب اجتزاء العامي
بالتقليد. بل الظاهر أنه مما أطبق عليه المسلمون في الجملة، كما تشهد به
سيرتهم على اختلاف مذاهبهم.
والظاهر أن خلاف بعض الأخباريين فيه معنا لفظي، لان المحكي عنهم
الذي تشهد به في الجملة بعض كلماتهم دعوى أن ما صدر من معاصري
الأئمة عليهم السلام وجرت به سيرة الامامية خلفا عن سلف ليس من التقليد، بل هو
نظير قبول الرواية المنقولة بالمعنى، الذي لا إشكال في جوازه، وأنه لا يجوز
تقليد من يجتهد في استنباط الحكم برأيه، بل يجب أخذ أحكام الدين من
المعصومين عليهم السلام
ونحن متفقون معهم في حرمة أخذ الحكم من غير المعصومين عليهم السلام
314

ممن يستنبطه بإعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مع الاعراض عنهم عليهم السلام
كما هو دأب العامة الذين استفاضت النصوص بالانكار عليهم والردع عن
طريقتهم، وأن مرجع التقليد الجائز هو الرجوع للعلماء في معرفة الحكم الصادر
من أهل البيت عليهم السلام الذي جعلوه نظير قبول الرواية بالمعنى الذي اعترفوا
بجوازه.
نعم، مع تعذر معرفة حكمهم عليهم السلام الواقعي والظاهري يجوز للعالم بيان
الوظيفة العقلية الظاهرية القطعية. فإن أنكروا ذلك كنا مخالفين لهم.
إلا أن إنكارهم إن رجع إلى دعوى تعذر حصول القطع، خرج عما نحن
فيه، ورجع للخلاف في الصغرى، كالخلاف في كثير من المباني الأصولية.
وإن رجع إلى دعوى عدم حجية القطع المذكور، فقد سبق ضعفها في
مباحث القطع.
وإن رجع إلى دعوى عدم جواز التقليد فيها وإن جاز للمجتهد العمل بها،
فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى بعد الفراغ عن أصل جواز التقليد في
الجملة.
هذا، وقد حكي عن الحلبيين وجوب الاجتهاد عينا. وهو غريب.
وكيف كان، فقد أطالوا الكلام في دليل جواز التقليد من الكتاب والسنة
والاجماع وسيرة المتشرعة والعقلاء وكثر منهم النقض والابرام في ذلك.
وينبغي قبل ذلك تقديم أمر، وهو أن التقليد لما كان مورد عمل العامي
فلابد من انتهاء العامي فيه إلى حجة يدركها، ولا يكفي قيام الدليل عليه عند
المجتهد. وحينئذ إن غفل العامي عن الخلاف في جوازه وقطع به فلا اشكال،
حيث يستغني بقطعه عن الرجوع للمجتهد فيه. وكذا إن التفت للخلاف وقطع
بخطأ أحد الطرفين. وإن شك فيه لم ينفع التقليد فيه، لعدم انتهاء جواز التقليد
فيه للعلم.
315

ومن هنا قد يقال: إنه لا ينفع قيام الدليل على جوازه أو عدم جوازه عند
المجتهد، بل لا أثر له، لعدم كونه موردا لعلمه وعدم رجوع العامي له فيه.
بل هو المتعين بناء على ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن مشروعية
التقليد للعامي من البديهيات الجبلية الفطرية المستغنية عن الدليل، ولوا ذلك
لا نسد باب الامتثال في حقه، لتعذر الرجوع عليه للأدلة الشرعية التفصيلية من
الكتاب والسنة، وتعذر تقليده فيه، لما سبق.
إلا أنه كما ترى لا مجال للبناء عليه، لوضوح أن التقليد كسائر الأمور التي
جرت عليها سيرة العقلاء الارتكازية القابلة للامضاء والردع.
ولذا جرت سيرة الأصحاب على الاستدلال بالأدلة الشرعية الظاهرة في
الامضاء، وكثر النقض والابرام منهم في ذلك، ولم يعهد منهم دعوى امتناع الردع
عنه، ولا الانكار على المخالف فيه بأنه خارج عن البداهة.
بل لا ريب في شيوع الخلاف في بعض خصوصياته، كتقليد الميت
والأعلم، مع أنها مشاركة لأصل التقليد في طبيعة الحكم وملاكه، فلولا كونه أمرا
محتاجا للدليل غير مستغن عنه بالبداهة لما وقع ذلك.
وأما انسداد طريق الامتثال على العامي بدونه، فهو ممنوع، لامكان جعل
الشارع ما يخلفه على تقدير ردعه عنه، يصل إليه العامي بنفسه.
إلا أن يريد به انسداده في الواقع القائم، حيث يعلم بعدم جعل شئ اخر
يقوم مقامه، فيرجع إلى بيان أثر منع التقليد الخارجي لا محذوره العقلي فهو أشبه
بالاشكال النقضي، الذي لا تنحل به الشبهة.
ومن ثم ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره أن ما هو البديهي الفطري هو مسألة
وجوب التقليد، وهو الذي يدركه العامي بنفسه من غير حاجة للدليل التفصيلي
والتقليد، وأما التقليد في الاحكام الفرعية - الذي هو محل للكلام - فهو نظري
محتاج للاستدلال، ويختص بمعرفته المجتهد بعد النظر في الأدلة من الكتاب
316

والسنة وغيرهما، ويرجع العامي إليه فيه.
لكنه يشكل: بأن المسألتين من باب واحد، لاتحاد الملاك فيهما واتحاد
أدلتهما، وعمدة الدليل فيهما الذي يدركه كل أحد هو المرتكزات العقلائية
وسيرتهم على رجوع الجاهل للعالم، التي هي كسائر سيرهم قابلة للامضاء
والردع.
فالعمدة في حل الاشكال: أنه سبق في الاستدلال بسيرة العقلاء على
حجية خبر الواحد أن سيرة العقلاء إذا كانت من سيرهم الارتكازية التابعة
لمرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وفطرهم عليها لا لمؤثرات خارجية،
فهي تقتضي العمل على طبقها بنحو يكون الأصل بنظر العقل متابعة الشارع
وسائر الموالي لها وجريهم عليها ما لم يثبت ردعهم عنها من دون حاجة لاحراز
عدم الردع، فضلا عن إحراز الامضاء.
وحيث كان التقليد مقتضى سيرة العقلاء، وكانت السيرة المذكورة
ارتكازية، لابتناء نظام المعاد والمعاش على رجوع الجاهل العالم في كل شئ،
كانت السيرة المذكورة حجة في إثبات مشروعية التقليد ما لم يثبت الردع عنها،
وحيث لا يتيسر للعامي الاطلاع على الردع بنفسه كانت حجة له وعليه في إثبات
مشروعيته، بالنظر الأول ولذا كان تقليده مقتضى طبعه الأولي.
ولو فرض تشكيكه في مشروعيته بعد التفاته للخلاف فيه، المثير
لاحتمال الردع عنه، تعين عليه تقليده في جواز التقليد، لمشروعية التقليد
المذكور له، لتعذر اطلاعه على الردع عليه، فإن أفتاه المجتهد بالجواز قلد في
الاحكام الفرعية، وإن أفتاه بعدمه لم يجز له التقليد فيها، لوصول الردع له عنه
بتقليده المذكور.
وكذا لو غفل عن حرمة التقليد، فقلد في الاحكام الفرعية رأسا بمقتضى
طبعه، وكان رأي المجتهد الذي قلده، والذي هو حجة عليه بالنظر الأولي، عدم
317

جواز التقليد، حيث يجب عليه تنبيهه لذلك بمقتضى وجوب تعليم الاحكام،
فتسقط فتاواه عن الحجية في حقه بعد ذلك.
إن قلت: إذا كان المجتهد يرى عدم جواز التقليد، لنهوض الأدلة بنظره
للردع عنه فلا فرق بين التقليد في جواز التقليد والتقليد في الاحكام الفرعية،
فكما لا يجوز الثاني لا يجوز الأول.
ولازم ذلك عدم حجية فتواه بعدم جواز التقليد أيضا، فلا تصلح لاحراز
الردع عن السيرة على جوازه. بل يعلم تفصيلا بعدم حجيتها إما لخطأ المجتهد
فيها أو لإصابته في عدم جواز التقليد.
قلت: لا وجه لعدم الفرق بين التقليدين لامكان الفرق بينهما في نظر
الشارع، بل هو المتعين بعد انحصار وصول الردع عن التقليد الثاني بالتقليد
الأول، حيث يستحيل معه اشتراكهما في ملاك الحجية أو عدمها، بل يتعين
اختلافهما في ذلك، وحيث كان مقتضى الحجية حاصلا في الأول بمقتضى
السيرة، ولم يصل الردع عنه، لعدم صلوحه للرد عن حجية نفسه - حيث يلزم من
حجيته وصلوحه للردع عدمهما - تعين حجيته وصلوحه للردع عن التقليد في
الاحكام الفرعية.
وقد ظهر مما ذكرنا ترتب الثمرة على نظر المجتهد في أدلة التقليد، حيث
يتسنى له تشخيص الوظيفة للعامي الذي يرجع إليه في ذلك بمقتضى السيرة
التي هي حجة في حقه، لعدم الردع عنها.
نعم، لو قلنا بتوقف حجية السيرة على ثبوت الامضاء تعذر رجوع العامي
للمجتهد في ذلك ولم يكن نظر المجتهد في الأدلة المذكورة مثمرا، كما قرر في
الاشكال، إلا أن يوجب قدرته على إقناع العامي على خلاف ما يكون عليه بدوا،
بحيث يوجب تشكيكه أو قطعه، كما قد يوجب قدرته على اقناع المجتهد
المخالف له من دون أن يكون رأيه حجة على أحدهما. ولا ضابط لذلك.
318

إذا عرفت هذا، فالظاهر أنه لا طريق لاحراز الردع عن مقتضى السيرة
المذكورة، لعدم الأدلة الخاصة على الردع عن التقليد، لاختصاص ما ورد بتقليد
أهل الخلات ونحوهم ممن لا يرجع في أحكامه لأهل البيت عليهم السلام بل يعتمد فيها
على غيرهم أو على إعمال الرأي والاستحسان ونحوهما مما لم ينزل الله
سبحانه وتعالى به من سلطان أو بتقليد الجهال ممن لا داعي لتقليدهم الا
العصبية العمياء والحمية الجاهلية، كما أشير إليه في مثل قوله تعالى: " وإذا قيل
لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو
كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون " (1).
وعدم صلوح ما دل على عدم حجية غير العلم له، لعدم ثبوت عموم له
ينهض ببيان عدم الحجية لكل ما لا يفيد العلم، فضلا عن أن ينهض بالردع عن
مثل التقليد مما كان موردا للسيرة العقلائية، ولا سيما مثل هذه السيرة الارتكازية
المستحكمة التي ابتنى عليها نظام معاش العباد ومصادرهم لاحتياج الردع عنها
إلى بيان خاص ملفت للنظر، ولا يكتفى بمثل العموم الذي ينصرف عن موردها
بسبب استحكامها.
وقد سبق في أول الكلام في مباحث الحجج عند الكلام في أصالة عدم
الحجية، وعند الاستدلال على حجية خبر الواحد بسيرة العقلاء ما ينفع في
المقام. فراجع.
بل الظاهر استفادة إمضاء السيرة المذكورة من أمور..
الأول: سيرة المتشرعة خلفا عن سلف واجماعهم العملي على الاجتزاء
بأخذ الاحكام من المجتهدين، لما هو المعلوم من عدم تيسر الاجتهاد لغالب
المسلمين، فلو لم يشرع لهم ذلك ولم يجر عملهم عليه لزم الهرج والمرج
واختل نظام معاشهم ومعادهم.

(1) المائدة: 104.
319

قال في التقريرات: " وبالجملة: فجواز تقليد العامي في الجملة معلوم
بالضرورة للعامي وغيره، وليس علم العامي بوجوب الصلاة عليه في الجملة
أوضح من علمه بوجوب التقليد مع اتحاد طريقهما في حصول العلم من
مسيس الحاجة وتوفر الدواعي عليه واستقرار سيرة المعاصرين
للأئمة عليهم السلام والخلف التابعين لهم إلى يومنا هذا... ".
والظاهر تفرع السيرة المذكورة على سيرة العقلاء المشار إليها، فتكشف
عن إمضائها.
ولو فرض اشتباه الحال على بعض العوام لبعض الشبه والتشكيكات التي
لا يحسنون دفعها فهو لا يشتبه على أهل العلم ممن يلتفت للسيرتين
المذكورتين ويحسن دفع الشبه بالأدلة الضرورية.
الثاني: قوله تعالى: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يرجعون، (1)، فإن التفقه عبارة عن تعلم الاحكام وأخذها عن أدلتها، وظاهر
الانذار هو الانذار بما تفقهوا فيه، فيدخل فيه بيان الاحكام الالزامية المستتبعة
للعقاب والفتوى بها، وحيث كان ظاهر جعل الحذر غاية للانذار مطلوبيته تبعا له
كان ظاهرا في حجية الفتوى بالأحكام الالزامية، ويتم في غيرها بعدم الفصل، بل
يفهم عدم الخصوصية بسبب ظهور في كون ترتب الحذر على الانذار طبيعيا، لا
تعبديا محضا، حيث لا يكون ذلك إلا بلحاظ سيرة العقلاء التي ارتكز مضمونها
في الأذهان، حيث يكون ظاهرا في إمضاء السيرة المذكورة التي لا يفرق فيها
بين الاحكام الالزامية وغيرها.
بل ربما يدعى شمول الانذار لبيان الاحكام الاقتضائية غير الالزامية، لما
يتضمنه من بيان فوت الثواب بالتخلف عن متابعتها. فتأمل.

(1) سورة التوبة: 122.
320

وقد تقدم في الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد الكلام في بعض
الجهات الراجعة للاستدلال بها مما ينفع في المقام.
كما تقدم الاشكال في الاستدلال بآيات أخر قد استدل بها على حجية
الفتوى أيضا كآيتي الذكر والكتمان - حيث يظهر بمراجعة ذلك ضعف
الاستدلال بها على حجية الفتوى.
الثالث: النصوص الكثيرة الواردة في فضل العلم وتعليمه وتعلمه
والانتفاع به والرجوع للعلماء في القضاء وأخذ الاحكام منهم ونحو ذلك (1)،
حيث يظهر من مجموعها المفروغية عن جواز الاعتماد على العلماء في معرفة
الاحكام والعمل عليها، لكن لا عموم للنصوص المذكورة، لعدم التصدي فيها
لبيان الحجية، وإنما استفيد منها المفروغية عنها تبعا لسيرة العقلاء المشار إليها،
فتدل على إمضائها، ويستفاد العموم من السيرة لا منها.
نعم، يستفاد العموم من قوله عليه السلام في التوقيع الشريف: " وأما الحوادث
الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله (2)،
وقوله عليه السلام في ما كتبه لأحمد بن حاتم وأخيه " فاصمدا في دينكما على كل مسن
في حبنا، وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى " (3) وقول
الصادق عليه السلام في مرسل الاحتجاج: " فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا
لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه " (4).
اللهم إلا أن يستشكل في الأول باحتمال الرجوع لاخذ الرواية، لا الفتوى،
فتدل على حجية خبر الواحد. فتأمل.

(1) راجع الوسائل ج: 18 باب: 4، 5، 8، 9، 10، 11، 12، 13، من أبواب صفات القاضي.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 1.
(3) الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 4.
(4) الوسائل ج: 18 باب: 10 من أبواب صفات القاضي حديث: 20.
321

وفي الثاني بوروده لبيان اشتراط الايمان في المرجع، من دون تعرض
لمن يرجع إليه، ليؤخذ بعمومه، فهو نظير ما في كتاب أبي الحسن عليه السلام لعلي بن
سويد من قوله: " لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم
أخذت دينك من الخائنين... " (1).
مضافا إلى الاشكال في الكل بضعف السند، وعدم وضوح انجبارها بعمل
الأصحاب ومفروغيتهم عن الحكم، لقرب احتمال اعتمادهم على الأدلة
الأخرى.
الرابع: ما تضمن حث أبان بن تغلب على الجلوس للفتوى (2) وتقرير
معاذ بن مسلم على ذلك (3) لوضوح أن مبنى استفتاء الناس لهما على العمل بما
يفتيان لهم، كما هو مقتضى السيرة.
ولا يقدح في ذلك احتمال خصوصيتهما في نظرهم عليهم السلام.
لوضوح أن خصوصيتهما إنما تكون دخيلة في الامر بالفتوى والتقرير
عليها، لا في عمل المستفتي بفتواهما، لعدم ابتناء استفتائهم لهما على الاطلاع
عليها رأسا ولا بتوسط اطلاعهم على أمر الامام وتقريره، بل على الرجوع لهما
لمحض ثقتهم بهما - كسائر أهل العلم بمقتضى السيرة، فيدل على إمضائها.
فتأمل جيدا.
وأما الاستدلال بالنصوص الكثيرة المتضمنة إرجاع الأئمة عليهم السلام إلى آحاد
أصحابهم كأبي بصير ومحمد بن مسلم والحارث بن المغيرة والمفضل بن عمر
ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم والعمري وابنه (4).

(1) الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 42.
(2) ذكر في ترجمة ابان من كتاب النجاشي ص: 18 الطبعة الثانية والفهرست ص: 41 طبع النجف
الأشرف، والخلاصة ص 21 طبع النجف الأشرف.
(3) الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 36.
(4) راجع الوسائل ج: 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي ولم يذكر فيه الارجاع للمفضل،
وإنما ذكر في ترجمته من كتاب الكشي ص: 277 طبع النجف الأشرف.
322

بدعوى: أنها وان وردت في موارد خاصة، إلا أنه يقرب فهم عدم
الخصوصية لمواردها والتعدي لجميع موارد السيرة الارتكازية. ولا سيما مع
تضمن جملة منها التنبيه إلى أن ملاك الارجاع الوثاقة والأمانة.
فيشكل: بأن ملاك الارجاع الذي تضمنته هو وثوقهم عليهم السلام بدين الشخص
وعلمه، وهو لا يستلزم جواز التقليد لكل من يثق به المكلف حسبما يسعه
ويتوصل إليه، مع قطع النظر عن شهادتهم عليهم السلام الذي هو محل الكلام ومورد
السيرة، فليست تلك النصوص في مقام إمضاء سيرة العقلاء على الرجوع لأهل
الخبرة، ولا يستفاد منها تبعا، بل هي متكفلة ببيان موارد ثقتهم عليهم السلام التي يرتفع
صاحبها إلى أسمى المراتب، لكشفها عن كماله بمرتبة عالية لا تحرز في غيره.
ولذا يمكن الارجاع بالنحو المذكور مع الردع عن السيرة، لسد الخلل
والتعويض عن النقص الحاصل بالردع عنها.
هذا، وقد استدل بعض مشايخنا بما دل على حرمة الفتوى بغير علم من
النصوص الكثيرة (1)، حيث يقتضي مفهومها - ولو بقرينة الحكمة - جواز الفتوى
عن علم الملازم عرفا لجواز العمل به.
لكن لا يخفى أن المفهوم المذكور لما كان من سنخ مفهوم القيد فالأولى
الاستدلال بالنصوص الدالة بالمنطوق على جواز الفتوى عن علم (2).
نعم، الاستدلال بكلتا الطائفتين على جواز التقليد إنما يتم في ما كان منها
ظاهرا في الفتوى لأجل العمل، كما هو حال بعضها ولا يتم في كثير منها، لامكان

(1) راجع الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حيث يوجد فيها كثير من النصوص
المذكورة ويوجد في غيره من الأبواب بعض النصوص المتفرقة في ذلك.
(2) الوسائل ج: 18 باب: 4 من أبواب صفات القاضي حديث: 5، 6، 9، 10، 28، وباب 8 من
الأبواب المذكورة حديث 18، 52، 82 وباب: 10 في الأبواب المذكورة حديث: 11، 15 وباب:
11 من الأبواب المذكورة حديث: 11 وغيره.
323

تحريم الفتوى بغير علم وجوازها عن علم بلحاظ حرمة القول في الدين بغير
علم وإن لم يستتبع العمل، كما لو صدر ممن ليس أهلا للتقليد بنظر السامع.
وقد ظهر من جميع ما تقدم: أن النصوص الظاهرة في جواز العمل
اعتمادا على فتوى أهل العلم كثيرة جدا على اختلاف ألسنتها وتباين مضامينها.
وهي وافية بإحراز إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على ذلك كسيرة
المتشرعة وآية النفر. ومن هنا كان جواز التقليد من الواضحات الملحقة
بالضرورات الفقهية لو لم يكن من الضرورات الدينية.
وانما أطلنا الكلام فيه واستقصينا أدلته للتنبيه على أن عموم الحجية تابع
لعموم السيرة الارتكازية المذكورة. بمعنى أنه لا مجال للبناء عليه في غير
موردها، لعدم نهوض الأدلة الشرعية بذلك، لان المعتبر منها غير متكفل ببيان
الحكم بوجه عام، ليؤخذ به وان قصرت السيرة عنه، بل هو إما ظاهر في
المفروغية عنه بسبب السيرة المذكورة أو غيرها من دون أن يتصدى لحدوده،
أو مجمل من حيثية سعة الحكم، أو وارد في موارد خاصة لا مجال للتعدي عنها
بفهم عدم الخصوصية في غير موارد السيرة.
كما أن الأصل عموم الحكم تبعا للسيرة بعد ما سبق من الاكتفاء في
حجيتها بعدم ثبوت الردع. وبعد ظهور الأدلة في إمضائها، حيث يفهم منها
بسبب ارتكازية مورد السيرة إمضاء الامر الارتكازي على سعته للغفلة عن
خصوصية الموارد والتفريق بينها، بل هو محتاج للتنبيه.
نعم لو دل الدليل على عدم الحجية في بعض الموارد كان صالحا للردع
عن السيرة فيها ومخصصا لعموم الحجية لو كان.
وحيث اتضح ذلك فلا مجال لتحقيق موارد الردع الخاصة في المقام، بل
يتعين إيكاله للفقه، كما سبق عند بيان منهج البحث، وانما المناسب للبحث هنا
تحديد موارد السيرة وما يتعلق بذلك ويناسبه، وهو يكون في ضمن مسائل..
324

المسألة الأولى: لا ريب في اعتبار الوثوق بأهل الخبرة في جواز الرجوع
إليهم بمقتضى السيرة، بأن يوثق بكونهم في مقام إعمال خبرتهم واجتهادهم
وبيان ما انتهى إليه نظرهم من دون تسامح.
إلا أن المعروف من مذهب الأصحاب اعتبار الايمان والعدالة في مرجع
التقليد، وادعي عليه إجماعهم، بل الظاهر من حالهم ومن بعض كلماتهم
المفروغية عنه، على خلاف ما هو المعروف منهم في الخبر الحسي، حيث
يكتفي كثير منهم بالوثوق بالمخبر على مقتضى السيرة.
وتحقيق صلوح الاجماع المذكور للاستدلال كبعض الوجوه الخاصة
الأخرى لا يناسب نهج البحث الذي التزمناه على أنفسنا، بل يوكل للفقه،
لخروجه عن تحديد مورد السيرة، فالعمدة توجيهه على ما يطابق السيرة
ويناسبها.
أما الايمان فلما سبق من أن الرجوع للمجتهد لمعرفة مؤدى الحجج
الثابتة في حق العامي مما هو مقتضى دينه الحق، وذلك لا يصدق في حق غير
المؤمن إذا اعتمد الطرق والحجج التي يقتضيها مذهبه دون مذهبنا كأخبار العامة
وقياساتهم واستحساناتهم، أو أهل الطرق التي هي حجة عندنا، لأنه ليس من
أهل الخبرة في ما يهم المكلف معرفته، بل في أمر اخر لا يترتب عليه عمله.
وأما لو أحرز كونه في مقام اعتماد الطرق التي يعتمدها أهل الحق
والجري على ما يقتضيه مذهبهم في الاستنباط فهو وإن كان من أهل الخبرة بنظر
في ما يهم المكلف معرفته ويترتب عليه عمله، إلا أنه يشكل اعتماده عليه
بلحاظ عدم انضباط الطرق المذكورة، لان كثيرا من القرائن لا تتهيأ لغير المؤمن؟
كإجماعات الخاصة وشهرة الحكم بينهم، وهجرهم للاخبار وعملهم بها،
وتوثيقهم للرواة وجرحهم لهم، وسيرة المتشرعة ومرتكزاتهم، ونحو ذلك مما
يكون دخيلا في استنباط المجتهد المؤمن بسبب حسن ظنه بالمؤمنين واعتقاده
325

بعلمائهم وعوامهم، وبأنهم في مقام تلقي الاحكام وأخذها من أئمتهم عليهم السلام
والاحتياط لها وعدم التساهل فيها، ولا التعصب والعناد في قبال أدلتها الذي هو
ديدن أهل الباطل، ولا يتهيأ ذلك للمخالف، لعدم قدسيتهم في نفسه ولا يحسن
الظن بهم.
كما أنه لا ضابط لذلك ليمكن فرض جريه على قواعده وإن لم يحسن
الظن فعلا.
ومرجع ذلك إلى نقص خبرته، لعدم إحاطته بمقدمات الاستنباط
المتيسرة للمؤمن، فلا يعتمد على استنباطه. وهذا بخلاف الرواية المستندة
للطرق الحسية المنضبطة التي لا دخل للايمان بها.
ونظير ذلك يجري في العدالة، إذ بسبب عدم انضباط مقدمات الاستنباط
يكون تمييز موارد الحجة عن غيرها محتاجا إلى مرتبة عالية من الدين والورع،
ولا سيما في الاحكام المرتبطة ببعض العواطف والاعتبارات، حيث يكون
للتدين والورع وشدة الخوف من الله تعالى والحذر من أليم عقابه أعظم الأثر في
مراقبة النفس ومحاسبتها في أداء الوظيفة، كي يميز المجتهد الحجج عن غيرها،
فلا يركن للشبه ويسوق ما ليس دليلا مساق الدليل، ولا يؤمن الفاسق على ذلك،
وإن كان ثقة في نقله، بل لابد من العدالة بمرتبة عالية، نظير ما تضمنه مرسل
الاحتجاج المتقدم، وارتكز في أذهان متشرعة الفرقة الناجية والطائفة المحقة،
حتى امتازت بذلك بين فرق المسلمين كما امتاز أئمتها وأولياؤها عليهم السلام
بواقعيتهم وطهارتهم، فكان ذلك من شواهد حقيتها وواقعيتها ومتابعتها
لأئمتها عليهم السلام وتأثرها بهم.
ونسأله تعالى أن يثبتها على ذلك ويعينها عليه ويعيذها من مضلات
الفتن، لتبقى علما للحق، ومنارا للهدى، ومثالا حيا للدين القويم، وحجة على
الأمم. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله، وله الشكر
326

على توفيقه.
نعم، هذا إنما يقتضي اعتبار الايمان والعدالة حين الاستنباط والفتوى، لا
بقاءهما حين التقليد بعد ذلك، بل يحتاج المنع من تقليد من عرضت له فتنة
أزالته عن الايمان أو العدالة بعد صدور الفتوى منه إلى دليل آخر لا مجال لإطالة
الكلام فيه هنا، ويوكل للفقه.
ثم إن هذا الوجه لو تم كان صالحا لاثبات اعتبار البلوغ في المفتي لو
فرض توقف الورع عليه، وإن كان الفرض المذكور غير خال عن الاشكال، إذ لا
يبعد عن بعض الأطفال من أهل التمييز والادراك والتربية الدينية والرياضة
النفسية التهيؤ للمراتب العالية من الورع والالتزام باللوازم الدينية والبعد عن
مخالفتها، ولو مع الامن من العقاب على المعصية، فيحتاج المنع من تقليدهم
إلى دليل اخر مخرج عن مقتضى السيرة، من إجماع أو نحوه مما لا مجال لإطالة
الكلام فيه هنا.
المسألة الثانية: لا إشكال في اعتبار العقل في مرجع التقليد بالمقدار
الذي يتوقف عليه حصول الرأي الذي هو موضوع الحجية، كما لا يعتد بالرأي
الحاصل للمجنون، لخروجه عن مورد السيرة الارتكازية في سائر موارد
الرجوع إلى أهل الخبرة، ولو فرض حصول الظن بإصابته للواقع، فهو ظن مجرد
لا يدخل في موضوع الحجية عندهم.
وأما مانعية الجنون من التقليد حدوثا أو بقاء مع طروئه بعد حصول الرأي
والفتوى فلا تقتضيه السيرة المذكورة في المجنون المطبق، فضلا عن الأدواري،
لما هو المرتكز عندهم من أن الاعتماد على الفتوى بملاك كاشفيتها نوعا، ولا
دخل لطروء الجنون في ذلك، كما هو الحال في الرواية.
وذهاب الرأي لا أثر له في بقاء حجيته كنسيان الرواية غير المانع من
حجيتها، وإنما المنع من حجيته عندهم عدول صاحبه عنه، نظير عدول الراوي
327

عن روايته. وهو غير لازم في الجنون، ولو فرض تحققه فحيث لا يعتد برأيه
الأخير - كما سبق - لا يصلح للمنع من حجية رأيه الأول، نظير عدول المجنون
عن روايته التي رواها حال عقله.
هذا، وربما يستدل على مانعية الجنون من التقليد حدوثا، بل بقاء ببعض
الوجوه الأخرى التي لا مجال لإطالة الكلام فيها، لضعفها، وقد تعرضنا لها في
الفقه، كما يأتي التعرض عند الكلام في مانعية الموت لما ينفع في المقام.
نعم، الظاهر أن الجنون المطبق عندهم ليس أخف من الموت، فلو فرض
الاجماع منهم على اعتبار الحياة في المفتي فليس المراد منها إلا الحياة الملازمة
لفعلية الرأي عرفا غير الحاصلة معه، فيلحقه ما يأتي في تقليد الميت. بخلاف
الجنون الأدواري، لأنه من سنخ المرض الذي لا ينافي نسبة الرأي لصاحبه
عرفا، بل لا يبعد شمول أدلة التقليد الشرعية له، لصدق عنوان العالم والفقيه
ونحوهما مما أخذ فيها عرفا عليه.
فالبناء على جواز تقليده هو الأنسب بالأدلة. ولعله لذا حكي القول به عن
بعض متأخري المتأخرين، كصاحبي المفاتيح والإشارات.
المسألة الثالثة: قد ذكروا جملة من الشرائط في المفتي، كالرجولة
وطهارة المولد والحرية والحياة والبلوغ وغيرها.
ولا مجال لإطالة الكلام فيها بعد ما سبق من أنا هنا بصدد تحديد موارد
سيرة العقلاء، التي لا ينبغي التأمل في عدم مانعية الأمور المذكورة بحسبها، وأنه
لابد في البناء على مانعيتها من أدلة خاصة صالحة للردع عن السيرة، ولا يسعنا
استقصاؤها، بل توكل للفقه.
إلا أنه لابد من الكلام في وجه ما هو المعروف بين الأصحاب من اعتبار
الحياة في المفتي، لشيوع الابتداء بذلك وشدة الحاجة إليه، فلا ينبغي الاتكال فيه
على ما ذكرناه في الفقه، ولو لملاحظة حال حضار درسنا، حيث لم يطلع جملة
328

منهم على تلك المباحث.
فنقول: - بعد الاتكال على الله تعالى والاستعانة به - لا ينبغي التأمل في
عدم مانعية الموت من التقليد بمقتضى سيرة العقلاء الارتكازية على رجوع
الجاهل للعالم في سائر الأمور النظرية، لعدم دخل الحياة في ما هو المناط في
حجيته، وهو كاشفيته نوعا.
ودعوى: أن موضوع الحجية هو الرأي، ولا رأي للميت.
مدفوعة: - بعد تسليم عدم الرأي للميت - بما تقدم في اعتبار العقل من أن
بقاء الرأي لا دخل له بحجيته، بل لابد من عدم العدول عنه.
ومنه يظهر اندفاع ما ذكره المحقق الخراساني من أنه لا شبهة في اعتبار
بقائه في جواز التقليد شرعا، إذ لا إشكال في عدم جوازه لو زال الرأي بجنون أو
هرم أو مرض أو تبدل رأي.
إذ لا مجال لقياس ما نحن فيه بتبدل الرأي بعد ما سبق. وعدم جواز
التقليد مع الجنون والهرم ونحوهما - لو تم - مستند للاجماع ونحوه مما يختص
بمورده، ولو تم نظيره في المقام كان الاستدلال به لا بالوجه المذكور.
إلا أن يريد قيام الاجماع على اعتبار القدر المشترك بين الجميع، نظير ما
ذكرناه انفا، ويتضح حاله عند الاستدلال بالاجماع.
وبالجملة: لابد في عدم جواز تقليد الميت من دليل مخرج عن مقتضى
السيرة المذكورة.
والمذكور في كلماتهم أمور..
الأول: أن أدلة التقليد الشرعية مختصة بصورة فعلية الرأي، ولا تشمل
صورة زواله بالموت ونحوه، فإن العناوين التي تضمنتها - كالانذار والفقاهة
والعلم والنظر في الحلال والحرام - لا تشمل مثل الميت، ولا تصدق عليه.
وفيه.. أولا: أنه إن أريد بذلك أن الأدلة المذكورة رادعة عن السيرة في
329

الميت ونحوه - كما قد يظهر من بعض مشايخنا - فمن الظاهر عدم ظهورها في
حصر الحجية بمواردها ونفيها عن غيرها، لتنافي السيرة فيها وتصلح للردع
عنها.
وإن أريد به أن اختصاصها بذلك ملزم بالاقتصار عليه، لعدم إحراز إمضاء
السيرة في غيره.
فيظهر اندفاعه مما سبق من عدم توقف حجية السيرة في المقام على
احراز الامضاء بل يكفي عدم إحراز الردع.
بل تقدم أن المستفاد عرفا من مجموع الأدلة الشرعية إمضاء السيرة
الارتكازية على سعتها، وان قصرت عن بعض مواردها لفظا. فراجع.
وثانيا: أن ظهور الأدلة في الجري على مقتضى السيرة والمفروغية عن
ذلك موجب لانصرافها إلى بيان حجية الرأي الصادر عن العالم وإن زال علمه
بعد ذلك، على ما هو مقتضى السيرة، حيث لا مجال مع ذلك للجمود على أخذ
العناوين المذكورة الظاهر في لزوم بقائها حين العمل، كما هو الحال في نظائر
المقام، كالرواية والشهادة والاقرار وغيرها، مما اعتبر فيه عناوين خاصة،
كالوثاقة والعدالة والعقل وغيرها، حيث يكفي تحقق العناوين المذكورة حين
صدورها، لا حين العمل بها، بقرينة ظهور أدلتها في الإشارة إلى موضوع السيرة.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من الفرق بين أدلة الفتوى والرواية بظهور
الأولى في كون المرجع هو الفقيه لا رأيه، فيلزم صدق العنوان عليه حين
الرجوع إليه، لا حين انعقاد الرأي له، وظهور الثانية في حجية رواية الثقة، فيكفي
وثاقته حين صدور الرواية.
فهو غير ظاهر، لظهور بعض أدلة التقليد في ترتب العمل على فتوى
الفقيه، كآية النفر المتضمنة مطلوبية الحذر بعد إنذاره.
على أنه لافرق بينهما بعد ملاحظة ظهورهما معا في إمضاء مؤدى السيرة
330

الارتكازية التي يكون موضوع الحجية فيها هو الرأي والرواية الصادرين من
الفقيه والثقة وان خرجا عن ذلك وقت العمل.
ولولا ذلك أشكل الامر في الرواية - وان تم ما ذكره في لسان أدلتها - لان
مقتضى الجمود على اللسان المذكور لزوم صدق النسبة بين الرواية والثقة حين
العمل بالرواية، لا حين صدورها، نظير ما لو قيل: أطع أمر جارك وأجب التماس
صديقك، فإنه ظاهر في لزوم بقاء نسبة الامر والالتماس للجار والصديق حين
إطاعة الأول وإجابة الثاني. فلاحظ.
الثاني: أنه لو جاز تقليد الميت لوجب لو كان أعلم - لما هو الظاهر من
مرجحية الأعلمية - فيمتنع تقليد أعلم أهل العصر لو كان في الأموات من هو
أعلم منه، وهو إلتزام شنيع، كما عن الشهيد في رسالته في المسألة.
وفيه: أنه لا موجب لشناعته مع إحراز أعلميته، بل هو عين الدعوى.
ومثل ما عن المحقق الثاني من تعسر الاطلاع على الأعلم في جميع
العصور.
إذ هو كتعسر الاطلاع على الأعلم في العصر الواحد في كثير من الأزمنة،
يلزم الرجوع فيه إلى ما تقتضيه القواعد والأدلة في مثل ذلك مما هو محرر في
محله.
ويقرب منهما ما ذكره بعض مشايخنا من أن لازم ذلك الفحص عن
الأعلم من بين علماء جميع العصور، وهو ضروري البطلان في مذهب الإمامية.
لاندفاعه.. أولا: بأنه إن أريد أنه ضروري المذهب، فهو كما ترى، لعدم
الالتفات إليه.
وان أريد أنه من الضرورات الفقهية بعد النظر في الأدلة ولو بلحاظ سيرة
المتشرعة فلعل سيرتهم في العصور المتأخرة والمتوسطة مبنية على شيوع
القول بعدم جواز تقليد الميت وشهرته بين الأصحاب، وفي العصور الأولى
331

المقاربة لعصور المعصومين قدس سره مبنية على غفلة العوام عن الاختلاف بين
العلماء، خصوصا مع عدم تعارف تدوين الفتاوى، كما قد يغفلون عنه في
العصور المتأخرة، والفحص عن الأعلم إنما يحتاج إليه مع العلم بالاختلاف.
كما قد تكون مبنية على عدم وجوب ترجيح الأعلم، لعدم كونه اتفاقيا.
ولعل ما ذكرنا هو الوجه في عدم اهتمام كثير بالفحص عن الأعلم من
العلماء المعاصرين لهم، بل يسألون كل من يبتلون به ويتيسر لهم سؤاله.
وثانيا: بأن عدم وجوب الفحص عن الأعلم من الأموات لا ينافي حجية
فتوى الميت ووجوب تقليده مع العلم بأعلميته، إذ لعل عدم الفحص ناشئ من
تعسر الاطلاع على الأعلم من الأموات ولو نوعا، نظير تعسر الاطلاع على حال
بعض الاحياء ممن لم يتصد للتقليد، ولم يظهر ما يكشف عن مرتبته العلمية، أو
سكن البلاد النائية، حيث قد يدعى سقوط الفحص عنه حينئذ، ولو بضميمة
السيرة الكاشفة عن عدم تكليف الشارع بذلك.
والذي ينبغي أن يقال: من كان من الأموات غير معلوم الفتوى لا أثر
لأعلميته، لان ترجيح الأعلم فرع الاختلاف، وهو غير معلوم، وما كان منهم
معلوم الفتوى يتعسر بل يتعذر غالبا الاطلاع على حالهم حين صدور الفتوى
منهم، لعدم الإحاطة بطريقتهم في الاستدلال وكيفية فهمهم الأدلة وجمعهم
بينها، ليعلم بذلك مدى خبرتهم، فينبغي الرجوع فيه للقاعدة المذكورة فيما إذا
تعذرت معرفة الأعلم، فإن بني على التخيير، فحيث يحتمل مانعية الموت من
أصل التقليد يدور الامر بين التعيين والتخيير في الحجية، فلا يجوز اختياره
اقتصارا على المتيقن فيها، وان بني على الاحتياط كان طرفا له.
إلا أن يعلم أو يطمئن بأنهم دون المتأخرين نوعا كما قد يشهد به التأمل
في حال من تيسر الاطلاع على طريقتهم في الاستدلال، حيث تظهر متانة
المتأخرين وضبطهم لقواعد الاستدلال وسيطرتهم على إعمالها، تبعا لتطور
332

العلم
غاية الامر أنه يعلم في الجملة تيسر بعض الأدلة والقرائن للقدماء، لقرب
عصرهم من عصور المعصومين عليهم السلام كمعرفة حال الرواة وصحة الكتب ونحو
ذلك مما خفي بعضه على المتأخرين.
الا أن عدم انضباط ذلك أوجب عدم تيسر إدراك حالهم فيه.
نعم، لو دار الأعلم بين أشخاص محصورين من الاحياء والأموات يتيسر
الاطلاع على حالهم وعلى فتاواهم فوجوب الفحص عنه بينهم هو المتعين لو
قيل بجواز تقليد الميت ووجوب تقليد الأعلم، وقيام السيرة على ذلك بالنحو
الكاشف عن رأي المعصومين عليهم السلام في حيز المنع.
الثالث: ما أشار إليه العلامة في المبادي من انعقاد الاجماع بموت
المخالف المستلزم لعدم الاعتداد برأي الميت.
وهو مبني على حجية إجماع أهل العصر الواحد، لقاعدة اللطف أو
نحوها، وقد تحقق في محله عدم تمامية ذلك.
الرابع: الاجماع، فإن المنع هو المعروف من مذهب الأصحاب، وفي
الجواهر أنه مفروغ منه وادعى الاجماع عليه غير واحد.
وقد تعرض في التقريرات لنقل كلمات غير واحد الظاهرة أو الصريحة
في دعوى الاجماع، كابن أبي جمهور الأحسائي والمحقق الثاني في شرح
الألفية والشهيد الثاني في المسالك وفي رسالته في المسألة والوحيد البهبهاني.
وفي المعالم: " العمل بفتوى الموتى... بعيد عن الاعتبار غالبا مخالف لما
يظهر من اتفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميت مع وجود
المجتهد الحي، بل قد حكى الاجماع فيه صريحا بعض الأصحاب ".
وقال سيدنا الأعظم قدس سره: " فإن الحاكين للاجماع وان كانوا جماعة خاصة
لكن تلقي الأصحاب لنقلهم له بالقبول من دون تشكيك أو توقف من أحد
333

وتسالمهم على العمل به يوجب صحة الاعتماد عليه. ولا سيما مع كون نقلة
الاجماع المذكور من أعاظم علمائنا وأكابر فقهائنا ولهم المقام الرفيع في الضبط
والاتقان والتثبت. قدس الله تعالى أرواحهم ورفع منازل كرامتهم وجزاهم عنا
أفضل الجزاء ".
لكن لا مجال للاعتماد على دعوى الاجماع في ذلك بنحو تنهض
بالحجية، لصدورها من المتأخرين مع عدم تحرير المسألة في العصور الأولى
المقاربة لعصور المعصومين عليهم السلام، ليكشف عن أخذها خلفا عن سلف منهم
وعدم وضوح نحو الابتلاء بها في تلك العصور، لتستند دعوى الاجماع لوضوح
الحكم بين الطائفة بسبب سيرتهم العملية، بل يحتمل عملهم بآراء الموتى، كما
يأتي تقريبه في الجملة.
ولو فرض عدم عملهم بها فلعله لغلبة عدم اطلاعهم عليها، لعدم تعارف
تحرير الفتاوى وضبطها، بل تصدر الفتاوى مشافهة، فلا يتيسر الاطلاع عليها
بعد موت المفتي لغير من شافهه بها من نقلها له إذا لم يطرأ عليهم النسيان
والتضييع، إلى غير ذلك مما يمنع من الاطمئنان، بل من الظن، باستناد دعوى
الاجماع من المتأخرين إلى تسالم العلماء على الحكم، أو سيرة المتشرعة بنحو
يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام.
ولا سيما مع ظهور بعض كلماتهم في وجود الخلاف في المسألة أو عدم
تحقق الاجماع بوجه قاطع، فعن الشهيد الأول في الذكرى نسبة الخلاف
للبعض.
وحمله على العامة - كما عن الشهيد الثاني - بعيد جدا، ولا سيما مع كونه
المعروف بينهم، فلا يناسبه التعبير بالبعض.
ومثله قول المحقق الثاني في الجعفرية في بيان ما يجب على المكلف:
" والرجوع إلى المجتهد - ولو بواسطة، وان تعددت - إن كان مقلدا. واشترط
334

الأكثر كونه حيا... " وعن الشهيد الثاني في المسالك دعوى عدم تحقق الخلاف
له ممن يعتد بقوله، وفي رسالته في المسألة عدم العلم بمخالف ممن يعتبر قوله
ويعتمد على فتواه.
وأما تلقي الأصحاب لدعواهم بالقبول فهو قد يتم في جملة من متأخري
المتأخرين الذين لا يكشف قبولهم عن ثبوت الاجماع، لامكان استنادهم
لحسن ظنهم بالناقلين له، أو لبنائهم على حجية الاجماع المنقول، لا لاطلاعهم
على قرائن تشهد بثبوته.
بل لعل استناد جملة منهم في المنع عن تقليد الميت لوجوه أخرى غير
الاجماع المدعى.
على أن ظاهر كلام السلطان في حاشيته على المعالم التردد في ثبوت
الاجماع. كما هو المناسب لخروج المحقق القمي عليه مدعيا أنه لا يوجب الظن
فضلا عن اليقين، لعدم تداول المسألة بين أصحاب الأئمة عليهم السلام بل هي مسألة
حادثة.
كما خرج الأخباريون عليه، فإن خروجهم وإن كان مبنيا على دعوى أن
الفتوى من سنخ الرواية المنقولة التي تقبل وإن كان ميتا، إلا أن موضوع كلامهم
لما كان هو التقليد بواقعه الخارجي - وإن خالفوا في توجيهه - فلو كان عدم
حجية قول الميت واضحا عند الشيعة متسالما عليه بينهم لما وسعهم البناء على
حجيته.
والمظنون أن الحكم قد ذكر في كلام بعض قدماء أصحابنا الأصوليين
مستندين فيه إلى بعض الوجوه الاعتبارية التي تقدم بعضها حتى اشتهر بينهم
من دون أن يبلغ مرتبة الاجماع، كما قد يشير إليه قول المحقق الثاني في شرح
الشرايع: " وقد صرح جمع من الأصوليين والفقهاء باشتراط كون المجتهد حيا
ليجوز العمل بفتواه، فلا يجوز العمل بقول المجتهد بعد موته. وهو متجه. ويدل
335

عليه وجوه.... " ثم جاء بعدهم من حسب أن ذلك إجماع صالح للاحتجاج لقول
المشهور، على ما هو المعلوم من طريقة جماعة في الاستدلال بالاجماع
وتسامحهم فيه.
ولعل مما أوجب وضوح انعقاد الاجماع عندهم مخالفته لطريقة العامة
التي التزموا بها، حيث قد يتخيل بسببه كونه من مميزات الطائفة المحققة التي
عرفت بها في قبالهم.
ولا سيما مع خروج الأخباريين عليه الذين عرفوا بالخروج عما عليه
الأصحاب في بعض الموارد والتجاهل لأعاظمهم والاستهوان بأكابرهم، بنحو
أوجب النفرة عما يتميزون به في قبال المشهور بين الأصحاب.
وكان نتيجة ذلك الركون لدعاوى الاجماع المذكورة، والغفلة عن تحقيق
حالها والنظر في ما ينافيها.
وكيف كان، فلا مجال لدعوى الاجماع المتقدمة، ولا سيما مع قرب
مخالفته لسيرة المتشرعة في العصور الأولى يوم لم يكن للتقليد عنوان يقتضى
العناية به والاهتمام بأحكامه، بل تجري الناس فيه على مقتضى طبايعهم.
إذ يبعد جدا أن يكون أخذ المكلف الحكم من العالم والراوي ليعلم به
هو وأهله ما دام حيا، فإذا مات رجع إلى غيره وسأله عن نفس الحكم الذي
علمه، لما في ذلك من الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية، ولو كان لظهور
بان ولم يخف على انسان.
ومثله احتمال أنه يعمل به بعد موته هو وأهله ومن يتبعه ممن عملوا به
في حياة المفتي، دون من تجدد تكليفه منهم أو اتصل بهم بعد موته، بل يرجع
هؤلاء إلى مفت اخر حي، لئلا يكون عملهم بفتوى الأول تقليدا ابتدائيا منهم
للميت، بحيث يعمل أهل البيت الواحد على وجهين، بعضهم على رأي الميت
وبعضهم على رأي الحي، لما في ذلك من الكلفة الظاهرة والخروج عن الوضع
336

المتعارض بالنحو الذي لو كان لظهر وبان.
بل يبعد جدا تحقق ذلك من ورود أدلة تعبدية نقلية خاصة صالحة
عندهم للردع عن مقتضى السيرة، ولو ورد شئ منها لم يخف عادة لتوفر
الدواعي لنقله وحفظه عن الضياع.
ثم إنه ينبغي الكلام في مقتضى الأصل في المسألة ليرجع إليه لو فرض
قصور الأدلة الاجتهادية عن إثبات الجواز أو المنع.
والكلام فيه في مقامين..
المقام الأول: في الأصل العقلي.
ولا إشكال في أن مقتضاه عدم جواز تقليد الميت وعدم حجية فتواه،
لأصالة عدم الحجية في كل ما شك في حجيته.
لكن هذا إنما يقتضي تعين الحي للتقليد وإن كان مفضولا لو كان لدليل
تقليده إطلاق يشمل حال الاختلاف بينه وبين الميت، كما هو الحال بناء على
اختصاص العناوين المأخوذة في أدلة التقليد الشرعية المطلقة بالحي.
وأما لو لم يكن كذلك، بل كان الدليل عليه الاجماع، أو كونه المتيقن من
الأدلة اللفظية التي لا إطلاق لها، فإنما يتعين للتقليد لو كان أعلم من الميت،
للقطع بحجيته.
وكذا لو كان مساويا له، بناء على ما هو المعروف بينهم من التخيير مع
تساوي المجتهدين، للقطع بحجيته تعيينا أو تخييرا.
أما بناء على سقوط قولهما معا بالاختلاف ووجوب الاحتياط، فلا مجال
لتقليده، لعدم إحراز حجيته بعد احتمال جواز تقليد الميت المستلزم لاحتمال
صلوحه لمعارضة قول الحي واسقاطه عن الحجية.
وكذا لو كان الميت أعلم، لان احتمل جواز تقليده مستلزم لاحتمال
وجوبه - بناء على ما هو الظاهر من مرجحية الأعلمية مع الاختلاف - فتتردد
337

الحجية بين الحي والميت ولا متيقن في البين، فيتعين التخيير أو الاحتياط، على
الكلام في الوظيفة عند عدم المرجح لاحد المجتهدين.
لكن أصر غير واحد على تعيين الحي المفضول حينئذ لوجوه..
أولها: ما في التقريرات من أن تعيين الحي مع التساوي - لما تقدم -
مستلزم لتعيينه مع كونه مفضولا، لعدم القول بالفصل.
وفيه: أن مجرد عدم القول بالفصل لا ينفع ما لم يرجع إلى الاجماع على
عدم الفصل وعلى التلازم بين الامرين، وهو غير ثابت في المقام. فتأمل.
مع أنه إنما ينفع لو كان الدليل على الملزوم اجتهاديا لفظيا أو نحوه مما
يكون حجة في لازم مؤداه، ولا ينفع مع انحصار الدليل عليه بالأصل،
لاختصاص موضوع الأصل بمورده، والتعدي منه للازم مبني على الأصل
المثبت الذي هو غير حجة. ولا سيما مع كون الأصل عقليا لا يبتني على التعبد
بالملزوم، كما في المقام.
والا أمكن العكس، بأن يستدل بالأصل المقتضي - كما تقدم - لعدم جواز
تقليد الحي المفضول على عدم وجوب تقليد الحي المساوي للميت.
ثانيها: ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الاقتصار على الحي ليس
لأقربيته للواقع، ليتخيل أن الميت الأفضل أقرب، بل لعدم اليقين بالبراءة بتقليد
الميت ولو كان أعلم.
لكنه إنما يمنع من ترجيح الميت الأعلم، ولا يقتضي تعيين الحي
المفضول، لعدم اليقين بالبراءة معه أيضا، لما سبق، فلا وجه لترجيحه على
الميت الأعلم.
ثالثها: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أن احتمال اعتبار الحياة حاكم على
اعتبار الأعلمية ومضيق لموضوعه عن شمول الميت، لأن الشك في حجية قول
الميت يوجب اليقين بعدم حجيته، كما هو الحال في سائر موارد الشك في
338

الحجية، فتنحصر مرجحية الأعلمية بالاحياء.
وفيه: أنه لا معنى لكون الشك في الحجية موجبا لليقين بعدمها، غاية ما
يدعى أنه بحكم اليقين بعدمها في عدم جواز ترتيب الأثر على محتمل الحجية،
وهو قول الميت الأعلم في المقام، مع بقاء احتمال الحجية فيه المستلزم
لاحتمال ترجيحه وعدم حجية قول الحي المفضول، فلا يكون الحي متيقن
الحجية أيضا، ليتعين العمل على قوله.
نعم، لو كان دليل اعتبار الحياة لفظيا كان حاكما على دليل الترجيح
بالأعلمية، لتوقف الترجيح بها على وجود مقتضي الحجية في أطراف الترجيح،
وظاهر دليل اعتبار الحياة عدم وجود مقتضي الحجية في قول الميت، فيخرج
عن موضوع الترجيح بالأعلمية، وينحصر الترجيح بها في غيره ممن هو واجد
لمقتضي الحجية. وهذا لا يجري إذا استند عدم تقليد الميت للأصل مع احتمال
وجود مقتضي الحجية فيه من دون إحراز لعدمه.
وبالجملة: لم يتحصل من كلماتهم ما يمكن الخروج به عما عرفت من
تردد الحجة بين الميت الأفضل والحي المفضول، فاللازم البناء إما على التساقط
والرجوع للأصول العملية من الاحتياط أو غيره في مورد الخلاف، أو على
التخيير بينهما، لما هو المشهور من أنه المرجع عند الدوران بين مجتهدين لا
مرجح لأحدهما.
المقام الثاني: في الأصل الشرعي.
ومن الظاهر أنه لا مجال له بالإضافة للأحكام. التي أفتى بها الميت، لعدم
تحقق ركني الاستصحاب فيها.
أما اليقين فظاهر، لعدم الحقيقي منه مع احتمال خطأ المفتي، ولا التعبدي،
لعدم الحجة عليها، لانحصار الطريق إليه بفتوى الميت المفروض عدم ثبوت
حجيتها.
339

وأما الشك فللعلم ببقائها على تقدير ثبوتها وعدم احتمال ارتفاعها
بموت المفتي. فلابد من النظر في جريان الاستصحاب إما في الحكم الظاهري
المترتب على الفتوى حين المفتي والمشكوك في بقائه بعد وفاته، أو في الحكم
الوضعي، وهو الحجية الثابتة لرأي المفتي قبل موته.
أما استصحاب الحكم الظاهري فيبتني على جعل الاحكام الظاهرية
المماثلة لمؤديات الطرق، والتحقيق عدمه وأنه ليس مفاد الطرق إلا جعل
حجيتها، وليس الحكم الظاهري إلا منتزعا من ذلك من دون أن يكون مجعولا،
ليمكن استصحابه، كما أوضحنا ذلك عند الكلام في مؤديات الطرق في مبحث
قيامها مقام القطع الموضوعي من مباحث القطع فراجع.
مضافا إلى أنه لا مجال له في الاحكام الكلية التي لم يتم موضوعها في
حياة المفتي، وانما يفتي بها بنحو القضية الحقيقية الراجعة للقضية التعليقية،
حيث تحقق في محله عدم جريان الاستصحاب التعليقي ذاتا لا بالمعارضة
بالاستصحاب التخييري، ليختص المنع بالأحكام الاقتضائية، كما ذكره سيدنا
الأعظم قدس سره.
نعم، قد يتم في الاحكام التنجيزية الثابتة في حياته، سواء كان موضوعها
جزئيا خارجيا، كنفوذ العقود الواقعة في حياته ونجاسة الفقاع الموجود قبل
وفاته، أم كليا كالأحكام التكليفية الفعلية، كحرمة شرب الفقاع ووجوب الفريضة
التي دخل وقتها قبل وفاته، فإن موضوعها وهو فعل المكلف كلي يتعلق الحكم
به على شيوعه وعمومه " لا بافراده بعد وجودها، كي لا تكون فعلية قبل
وجودها، بل يكون وجودها مسقطا للحكم مع فعليته قبله، فيمكن استصحابه.
ودعوى: أنه لا مجال لاستصحاب الأحكام التكليفية، لان متعلقها
وموضوعها كلي قابل للتقييد بحياة المفتي، ومع احتمال تقييده به لا يحرز بقاء
الموضوع بعد موته ليستصحب، فمتيقن الحرمة هو شرب الفقاع حال حياة
340

المفتي، لا مطلق شربه المنطبق على ما بعد وفاته، ليمكن استصحاب حرمته
بعدها.
مدفوعة: بأن الحكم الظاهري لما كان هو المماثل لمؤدى الحجة كان تابعا
له في إطلاق الموضوع وتقييده، وحيث لم يؤخذ في موضوع الحكم الواقعي
حياة المفتي لم يكن موضوع الحكم الظاهري مقيدا بها.
واحتمال ارتفاعه بعد موت المفتي ليس لارتفاع موضوعه، بل لانتهاء
أمده لإناطة جعله بحياته، ومثله لا يمنع من الاستصحاب.
فالعمدة ما سبق من توقفه أولا على جعل الحكم الظاهري، الذي سبق
المنع منه، وثانيا على فعلية الحكم، حيث يترتب على ذلك عدم جريانه في حق
فاقد شرائط التكليف حال حياة المفتي، كالصبي والمجنون، فضلا عن المعدوم.
وأما استصحاب الحجية فلا مانع منه ذاتا، لان الحجية من الاحكام
المجولة بمقتضى الارتكازيات العقلائية المطابقة لظاهر النصوص، كقوله عليه السلام:
" فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله " (1).
نعم،، قد يستشكل في استصحاب الحجية بوجهين..
أولهما: ما ذكره المحقق الخراساني من عدم بقاء الموضوع، لان موضوع
الحجية فو الرأي، ولا رأي للميت عرفا، وان فرض بقاؤه له حقيقة.
وفيه: أن موضوع الحجية المستصحبة هو الرأي بحدوثه لا ببقائه، كما
يظهر مما تقدم في أول الكلام في المسألة.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أنه بناء على أن
الحجة على المكلف قطع المجتهد بالحكم الظاهري لا مجال للاستصحاب،
للعلم بانكشاف الواقع له نفيا واثباتا، ولا موضوع معه للحكم الظاهري، ليتحقق
له القطع به، الذي هو موضوع الحجية في حق العامي.

(1) الوسائل ج 18 باب: 11 من أبواب صفات القاضي حديث: 9.
341

نعم، لو كان موضوع الحجية هو ظنونه وادراكاته للحكم الواقعي أمكن
الاستصحاب، لامكان بقائها بعد الموت ولو بمرتبة أقوى.
إذ فيه: - مع ابتنائه على أمر في الميت مجهول لنا، وعدم وروده فيما إذا
أفتى المجتهد بالحكم الواقعي قاطعا به بسبب نظره في الأدلة - أن ذلك إنما يتم
لو كان موضوع الحجية هو الرأي ببقائه، أما لو كان هو الرأي بحدوثه فتبدله
بالعلم بالحكم الواقعي لا يمنع من استصحاب الحجية له، لوحدة الموضوع
وعدم ارتفاعه.
مع أن ذلك مبني على أن وظيفته المفتي تشخيص الوظيفة الظاهرية
الثابتة في حقه، أما بناء على ما سبق في اخر مباحث الاجتهاد وغيرها من أن
وظيفة تشخيص الوظيفة الظاهرية الثابتة في حق العامي بمقتضى الأدلة،
فانكشاف الحكم الواقعي للمجتهد لا ينافي حصول القطع له بالحكم الظاهري
الثابت في حق العامي بسبب عدم تيسر العلم بالحكم الواقعي له.
ثانيهما: أن القدر المتيقن من حجية رأي المفتى في حق العامي حين
حدوثه هو حجيته في الوقائع الحاصلة حين حياته، لا مطلقا بنحو يعم الوقائع
المتأخرة عنها، لعدم صحة انتزاع الحجية إلا بلحاظ مقام العمل، فمع عدم
الابتلاء بالواقعة، لعدم تحقق موضوع الحكم فيها بعد لا يصح انتزاع الحجية
بالإضافة إليها.
وليست حجيته بنحو الاطلاق إلا بنحو القضية الحقيقية التعليقية الراجعة
إلى إناطة الحجية الفعلية في كل واقعة بفعليتها، فلا تكون حجيته في الوقائع
المتأخرة إلا تعليقية، فيقال: كان رأي المفتي حجة في هذه الواقعة لو تحققت
وتم موضوع الحكم فيها، وقد سبق عدم جريان الاستصحاب في القضايا
التعليقية.
ويندفع: بأن المرتكز عرفا كون الحجية من الأمور البسيطة العارضة للرأي
342

والمقتضية للعمل في جميع الوقائع وأن مصحح انتزاعها معرضية المكلف
للابتلاء بمؤداها وصلوحه لان يخاطب به، وليست من الأمور الانحلالية ذات
الافراد المتعددة على حسب الوقائع الفعلية الطولية والعرضية، بحيث تكون
لكل واقعة حجية قائمة بها مباينة للحجية في الوقائع الأخرى، ليكون المشكوك
مباينا للمتيقن، فلا يمكن استصحابه إلا بنحو التعليق.
فهي نظير الولاية التي لا يصح انتزاعها إلا بلحاظ التصرف المتعلق
بالمولى عليه، لكن بنحو يكفي في صحة انتزاعها معرضية التصرف لا فعليته،
ولذا يصح استصحابها.
وأما تقييدها فليس هو إلا كتقييد الولاية إنما يوجب ضيقها في مقابل
سعتها، لا قلة أفرادها في مقابل كثرتها. وان كان الامر محتاجا إلى شئ من
التأمل.
نعم، لا يبعد اختصاص الاستصحاب المذكور - لو تم - بمن تمت في
حقه شرائط التكليف في حياة المفتي، دون غيره ممن لم يوضع عليه القلم في
حياته كالصبي والمجنون، فضلا عمن كان معدوما، لتوقف فعلية الحجية ارتكازا
على تمامية شروط التكليف وقابلية المكلف له، وليست الحجية في حق غيره
إلا تعليقية لا يصح استصحابها.
تتميم
المعروف من مذهب الأصحاب وان كان هو عدم جواز تقليد الميت، كما
سبق، إلا أن ذلك مختص بالتقليد الابتدائي، أما البقاء على تقليد الميت فقد وقع
الخلاف فيه بين متأخري المتأخرين، وقد ذهب جمع منهم إلى جوازه، كما
قرب به السيد الصدر في محكي كلامه، وحكاه عن بعض معاصريه، بل يظهر
من الجواهر شيوع الخلاف فيه، فقد ذكر في فرض أعلمية الميت أن الأصحاب
343

بين قائل بحرمة البقاء وقائل بجوازه وقائل بالتخيير، وهو الذي اختاره، ومن ثم
ذكر غير واحد أن المتيقن من الاجماع هو التقليد الابتدائي.
لكن استظهر شيخنا الأعظم قدس سره عدم الفرق بين التقليد الابتدائي
والاستمراري في أكثر الأدلة المتقدمة، ومنها الاجماع المدعى الذي هو عمدتها.
وما ذكره متين جدا، كما يظهر بملاحظتها وملاحظة كلام نقلة الاجماع،
حيث يبعد جدا قصوره بنظرهم مع إطلاقهم لمعقده وشيوع الابتلاء بالتقليد
الاستمراري بل هو مما يأباه كلام بعضهم جدا. فالبناء على خروج من جوز
البقاء على الاجماع المذكور - ولو لغفلتهم عن ذلك - أولى من البناء على قصور
دعاوى الاجماع عنه.
وأولى منه البناء على عدم بلوغ الاجماع بنظرهم مرتبة الحجية في مقابل
الأدلة والأصول، بل يلزم الخروج عنه بها لو خالفته، كما تقدم منا تقريبه في
التقليد الابتدائي، وهو في الاستمراري أولى مع شيوع الخلاف، وليست
موافقتهم له في التقليد الابتدائي إلا للوجوه الأخرى التي استوضحوها.
ومن ثم يتعين البناء على جواز التقليد الاستمراري، لما سبق من سيرة
العقلاء، واستصحاب الحجية، الذي سبق الكلام فيه.
بل سبق تقريب سيرة المتشرعة على كل من التقليد الابتدائي
والاستمراري، كما اعترف بها سيدنا الأعظم قدس سره في الثاني وان أنكرها في الأول.
هذا، وقد سبق من بعض مشايخنا الاستدلال على عدم جواز تقليد الميت
ابتداء بقصور الأدلة الشرعية عنه، لأنها تضمنت عناوين خاصة في المرجع،
كالفقيه والعالم وأهل الذكر، وهي لا تصدق على الميت، ومع ذلك التزم بجواز
البقاء على تقليده في الجملة، بدعوى: أن إطلاق الأدلة المذكورة إنما يقتضي
اعتبار تلك العناوين حين الرجوع للمجتهد لا حين العمل بقوله، بل مقتضى
إطلاقها حجية قوله بعد الرجوع له ولو في ما يتجدد من الوقائع بعد موته.
344

نعم، فصل في جواز البقاء بين تذكر المسألة ونسيانها. قال: " يكفي في
جواز البقاء على التقليد أو وجوبه تعلم الفتوى للعمل وكونه ذاكرا لها.
وكأنه لان الرجوع عنده عبارة عن تعلم الفتوى للعمل، فمع النسيان
يكون تعلمه لها رجوعا جديدا، فلا يجوز مع موت المجتهد، لعدم صدق
العناوين المذكورة عليه.
ويشكل بوجوه..
الأول: أنه لا إشكال في عدم أخذ عنوان الرجوع شرطا في حجية فتوى
المفتي، بل تكون فتواه حجة وإن لم يرجع إليه، ولذا يكون المكلف مقصرا لو
لم يرجع لواجد الشرائط، وليس الرجوع إلا عنوانا منتزعا من متابعة المجتهد في
العمل التي هي من اثار حجية فتواه المتفرعة عليها، ومثلها وجوب سؤاله
والاخذ منه والعمل بقوله وتقليده وغير ذلك مما اشتملت عليه الأدلة الشرعية،
فهي بأجمعها من اثار الحجية لا من شروطها.
وحينئذ إن استفيد من الأدلة اعتبار العناوين المذكورة - من العالم والفقيه
ونحوهما - في الأحكام المذكورة حين صدور الفتوى - كما سبق تقريبه - تعين
جواز الرجوع للميت ابتداء.
والا كان اللازم الجمود على مفادها المطابقي، وحيث كان مقتضى تعليق
الحكم على عنوان عدم تحققه مع فقده يتعين عدم وجوب تقليد المجتهد ولا
الرجوع إليه ولا العمل بقوله بعد موته، لفرض انسلاخ العناوين المذكورة عنه،
بل يختص ذلك بحياته.
غاية ما يدعى أن مقتضى إطلاق تلك الأدلة أن الواجب حين حياة
المجتهد ليس خصوص الرجوع له في الوقائع المقارنة لحياته والعمل بقوله
فيها، بل الرجوع والعمل في جميع الوقائع حتى المقارنة لموته، فيكشف عن
عموم الحجية لها.
345

ولازم ذلك عدم اختصاص جواز تقليد الميت بمن رجع إليه وسأله في
حياته، بل يعم كل من وجب عليه الرجوع إليه والعمل بقوله في حياته، سواء
رجع إليه وعمل بقوله فعلا أم لم يرجع إليه ولم يعمل بقوله قصورا أو تقصيرا.
الثاني: أن وجوب الرجوع للمفتي وسؤاله وتقليده والعمل بقوله وغيرها
مما تضمنته الأدلة لما كان طريقيا للفراغ عن التكليف الواقعي، ولذا كان كناية
عن حجية الفتوى فلا إطلاق له يشمل الوقائع اللاحقة، بل المراد به الرجوع في
الوقائع التي هي مورد ابتلاء المكلف والتي يحتاج لمعرفة حكمها، لان حذف
المتعلق إنما يقتضي العموم مع عدم القرينة على التخصيص.
وتعميم الحجية لغيرها من الوقائع التي يتجدد الابتلاء بها موقوف على
أن يكون للأدلة إطلاق أحوالي، وهو إنما يتجه قبل فقد المرجع للعنوان المعتبر
في الحجية، لا بعده للموت ونحوه.
ودعوى: أنه لا معنى للاطلاق الأحوالي في فرض العلم برأي المفتي
بالسؤال منه في الواقعة الأولى، لعدم الموضوع معه للسؤال والرجوع والتعلم
التي تضمنتها الأدلة، فلابد من كون منشأ حجية الفتوى في الوقائع اللاحقة هو
شمول إطلاق الرجوع من أول الامر لها.
وحينئذ لا يفرق بين الوقائع المتجددة حال حفظ المفتي للعنوان وحال
فقده له.
مدفوعة: بأن عدم الموضوع للسؤال والرجوع والتعلم مع العلم بالمسألة
لا ينافي في ثبوت الاطلاق الأحوالي للأدلة وشموله للوقائع المتجددة، لان
الأدلة وإن اشتملت على العناوين المذكورة التي لا موضوع لها مع العلم
بالمسألة، إلا أنها كناية عن حجية الفتوى القابلة للبقاء في الوقائع اللاحقة،
لتحقق موضوعها فيها، وهو الجهل بالواقع.
ولذا يجب على المكلف تقليد من تمت فيه الشرائط وإن سبق منه العلم
346

برأيه لا لأجل العمل، أو مع عدم كونه أهلا للتقليد حين حصول العلم برأيه، وما
ذلك إلا لشمول أدلة الحجية له حين تمامية شروط التقليد فيه بلحاظ تحقق
موضوع الحجية فيه حينئذ وإن ارتفع موضوع الرجوع له والسؤال منه بسبب
سبق العلم برأيه.
ودعوى: أن وجوب الرجوع له ونحوه لما كان كناية عن الحجية فقد
تقدم أن إطلاق الحجية يقتضي سعتها بنحو يشمل جميع الوقائع وان كان العمل
عليها تدريجيا تبعا لتدرج الوقائع.
مدفوعة: بأن إطلاق الحجية وسعتها بالنحو المذكور لا يكفي في جواز
العمل في الوقائع اللاحقة، إذ لابد من إحراز الحجية حين العمل، ولا يكفي
ثبوت الحجية المطلقة قبله، ويتوقف إحراز الحجية في الوقائع اللاحقة على
الاطلاق الأحوالي الذي عرفت امتناعه مع انسلاخ المجتهد بالموت عن العنوان
المعتبر في الحجية.
ولولا ذلك لزم حجية فتوى الميت في جميع الوقائع المتأخرة حتى
المقارنة لنسيانها، لسعة الحجية لها بمقتضى الاطلاق.
الثالث: أن ما سبق في تحديد الرجوع - الذي جعله المعيار في المقام -
غير ظاهر، فإن ما اشتمل على عنوان الرجوع - كقوله عليه السلام: " وأما الحوادث
الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا " لو سلم كونه من أدلة المسألة - ظاهر
إرادة الرجوع بمعنى الاعتماد على الفتوى في مقام العمل، لا تعلم المسائل
بالنحو المتقدم في كلامه.
مع أنه ظاهر في كون الرجوع أمرا انحلاليا بحسب الوقائع، فلكل واقعة
رجوع مستقل، فلو فرض اعتبار الحياة في المرجع امتنع البقاء على تقليد
الميت.
نعم، قد يطلق الرجوع في عرف المتشرعة على الالتزام والبناء على
347

متابعة المفتي - كما قد يطلق التقليد على ذلك كما سبق - فيكون الرجوع في
جميع المسائل والوقائع واحدا مستمرا بتعاقبها.
لكنه - مع عدم ظهور الأدلة فيه - لا يتوقف على تعلم المسائل ابتداء أو
بعد نسيانها.
وأما آية الذكر المتضمنة عنوان السؤال فهي - مع عدم كونها من أدلة
المسألة، كما سبق ويظهر من بعض مقرري درسه الاعتراف بذلك - لا تقتضي ما
ذكره، لان الامر بالسؤال لما كان طريقيا لأجل العمل كان مختصا بصورة الابتلاء
بالمسألة والاحتياج لمعرفة حكمها، ولا تكليف قبله بالسؤال.
والاجتزاء حين العمل بتعلم الفتوى قبل ذلك إنما هو للاستغناء به عن
السؤال حين الابتلاء، لا لأجل وجوب السؤال قبله. ولذا يستغنى بالتعلم لا
لأجل العمل، وبالعلم صدفة ولو مع عدم أهلية المفتي حينه، مع أنه لم يكتف به
في صدق الرجوع المصحح للبقاء.
ولازم ذلك التفصيل فالمسائل التي ابتلي بها وسأل عن حكمها لأجل
العمل يجب البقاء فيها دون غيرها مما سأل عنه لتوقع الابتلاء به، أو لم يسأل
عنه بل علمه صدفة وبنى بعد تقليده على العمل به لو ابتلي به، لكن الأول داخل
في إطلاق جواز البقاء في كلامه، والثاني وإن خرج عنه إلا أنه يبعد بناؤه على
عدم جواز البقاء فيه.
وأما اية النفر فهي تقتضي حجية الفتوى والانذار من الفقيه من دون
تعرض للرجوع أو لتعلم المسائل أو غيرهما، فلو فرض كون صدق عنوان انذار
الفقيه كافيا في الحكم بالحجية ولو بالإضافة للوقائع اللاحقة لزم حجية فتوى
الفقيه في حق من كانت فتواه حجة عليه حين حياته، بحيث كان يجب الحذر
بانذاره وإن لم يرجع إليه ولا تعلم فتاواه.
نعم، لابد من تخصيص ذلك بالمسائل التي ابتلي بها، لان وجوب الحذر
348

طريقي كوجوب السؤال، فلا يكون فعليا مع عدم الابتلاء بالمسألة، كما تقدم في
اية الذكر.
الرابع: أن التفصيل بالوجه المذكور مما يعلم بعدم مطابقته لسيرة
المتشرعة، لما هو المعلوم من أنه لو كان بناؤهم على البقاء على تقليد الميت فلا
يقدح فيه نسيان فتواه، بل للناسي أن يسأل من أهل بيته أو غيرهم ممن يتذكرها،
لما هو الظاهر من مخالفة التفصيل المذكور للمرتكزات وخلوه عن الدليل
الخاص المنبه له والموجب لجري المتشرعة عليه. وعليه إذا كان مقتضى
الاطلاقات جواز البقاء في المسائل التي يتذكرها المكلف أمكن التعدي لغيرها
بالملازمة التي هي مقتضى السيرة المشار إليها. ومن هنا لا مجال للتفصيل
المذكور، ويتعين ما ذكرنا من عموم جواز البقاء على تقليد الميت.
تنبيهان
الأول: لا إشكال بناء على جواز البقاء على تقليد الميت في وجوبه مع
أعلميته، بناء على ما يأتي من مرجحية الأعلمية.
كما لا إشكال في وجوب العدول منه للحي مع أعلميته، لصيرورته أعلم
أو تمامية بقية شرائط التقليد فيه بعد موت الأول، لان ما دل على وجوب تقليد الأعلم
صالح للحكومة على استصحاب حجية فتوى الميت لو كان جاريا في
نفسه.
وأما مع التساوي بينهما فحيث يأتي قصور إطلاقات الحجية عن شمول
المجتهدين المتساويين وأن الأصل يقتضي تساقطهما ما لم يثبت التخيير
بإجماع أو نحوه، وأنه بناء على التخيير فهو ابتدائي ولا يجوز العدول من أحد
المتساويين للاخر، يدور الامر بين وجوب البقاء على تقليد الميت، لمشروعيته
ذاتا وعدم جواز العدول عن أحد المتساويين للاخر، ووجوب العدول للحي،
349

لعدم جواز تقليد الميت مع التساوي لخروجه عن المتيقن من جواز التخيير،
فإن قلنا بجريان استصحاب الحجية تعين البقاء على تقليد الميت، وإن قلنا بعدم
جريانه تعين البناء على التساقط ووجوب الاخذ بأحوط القولين. إلا أن يقوم
الاجماع على عدم تكليف العامي بالاحتياط، فيتعين التخيير بين البقاء والعدول،
لعدم المتيقن في البين.
وكذا الحال لو علم إجمالا بأعلمية أحدهما. فلاحظ.
الثاني: إذا قلد مجتهدا يجوز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك
المجتهد فقد صرح في العروة الوثقى بعدم جواز الاعتماد عليه في البقاء على
تقليده، بل لابد من الرجوع للحي في ذلك، وأمضاه جماعة من شراحها
ومحشيها.
وكأنه لعدم يقين العامي بحجية رأي الميت، فلا مجال للرجوع إليه، بل
لابد من الرجوع للحي المتيقن الحجية في ذلك، للزوم انتهاء الحجة للعلم.
لكن هذا قد يتم مع أعلمية الحي من الميت، حيث يعلم بحجية فتواه
دون فتوى الميت، بناء على مرجحية الأعلمية.
أما مع أعلمية الميت فلا وجه له، لعدم يقين العامي أيضا بحجية فتوى
الحي، لاحتمال وجوب البقاء على تقليد الميت لكونه أعلم مع عدم مانعية
الموت.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره عند مذاكرته في المسألة وحكي عن سيدنا
الأعظم قدس سره من السيرة على سؤال الحي في ذلك.
فهو - لو تم - ناشئ عن الغفلة عن رأي الميت والجهل به، لما هو المعلوم
من غلبة عدم اطلاع العوام على آراء الأموات قبل تحرير الفتاوى في الرسائل
العملية. خصوصا مسائل الاجتهاد والتقليد، أما بعد تحريرها في العصور
المتأخرة فرجوعهم للحي لشيوع الفتوى بعدم التعويل على رأي الميت في
350

ذلك
وليس ذلك ناشئا من ارتكاز مانعية الموت من التعويل على الفتوى
المذكورة، لما سبق من عدم دخل الحياة بحسب المرتكزات العقلائية الأولية
وعموم مرجحية الأعلمية، فيحتاج الخروج عن ذلك لأدلة تعبدية شرعية لا
يدركها العامي بنفسها.
ودعوى: امتناع حجية رأي الميت في البقاء على تقليده، لأنه دوري،
لرجوعه إلى توقف حجية رأيه على حجيتها.
ممنوعة، لتعدد الموضوع، فإن حجيته في مسألة البقاء غير حجيته في
المسائل الفرعية العملية الأخرى، فلا مانع من ابتناء الثانية على الأولى، نظير
وجوب التقليد على العامي في مسألة وجوب التقليد، حيث ذكرنا في أول
الكلام في جواز التقليد أن جوازه لما كان مقتضى السيرة العقلائية التي هي حجة
ما لم يثبت الردع عنها فتعذر وصول الردع عنه للعامي من غير طريق التقليد
مستلزم لجواز التقليد في مسألة جواز التقليد في المسائل الفرعية، فإذا قلد فيها
تيسر له الاطلاع على الردع أو عدمه عن التقليد في المسائل المذكورة.
وفي المقام حيث كان مقتضى السيرة لزوم تقليد الأعلم وان كان ميتا
وعدم صلوح فتوى الحي المفضول لمعارضته، فلا طريق لاحراز الردع عن
ذلك أو عدمه إلا بالتقليد في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت، فإذا فرض
كون الميت أعلم كان هو المتعين للتقليد فيها بمقتضى السيرة التي لا طريق
لاحراز الردع عنها ولم تصلح فتوى الحي المفضول لمعارضتها.
فإن أفتى بوجوب العدول للحي كان ذلك صالحا للردع عن مقتضى
السيرة ووجب تقليد الحي في المسائل الفرعية.
إن قلت: إنما يجب الرجوع للحي في المسائل الفرعية إذا كان يرى عدم
جواز البقاء على تقليد الميت الأعلم، والا لزم تقليده في ذلك والرجوع للميت
351

الأعلم في المسائل الفرعية وان كان الميت هو يفتي بعدم جواز البقاء على
تقليده، لسقوط فتواه المذكورة في المرتبة الثانية عن الحجية بسبب صلوحها
في المرتبة الأولى للردع عن السيرة.
قلت: لا وجه لسقوط فتواه المذكورة عن الحجية بعد انحصار طريق
الردع عن حجية فتاواه في المسائل الفرعية بها، ولا تكون رادعة عن حجية
نفسها، لئلا يلزم من حجيتها عدمها، نظير ما تقدم في التقليد في أصل جواز
التقليد، حيث ذكرنا أن فتوى المجتهد بعدم جوازه تمنع من تقليده في المسائل
الفرعية.
وحينئذ ينحصر التقليد للحي بالمسائل الفرعية التي يكون مقتضى فتوى
الميت الأعلم بعدم جواز البقاء حجيتها. وان أفتى الميت الأعلم بوجوب البقاء
كشف عن إمضاء السيرة وعدم الردع عنها، فيجب البقاء على تقليده في المسائل
الفرعية أيضا.
هذا كله إذا اقتصر الميت على الفتوى بوجوب العدول أو بوجوب البقاء.
أما لو أضاف إلى ذلك الفتوى بعدم جواز الاعتماد في البقاء أو العدول على
فتوى الميت بأحدهما - كما سبق من العروة الوثقى وشراحها ومحشيها - وجب
على العامي - بمقتضى السيرة التي لا طريق لاثبات الردع عنها في هذه المسألة -
تقليده في الفتوى المذكورة، فيحرز بها الردع عن تقليده في وجوب العدول أو
وجوب البقاء - وإن كان هو مقتضى السيرة، كما سبق - ويتعين تقليد الحي
المفضول فيها، فإن أفتى بوجوب البقاء وجب البقاء على تقليد الميت في
المسائل الفرعية وإن كان الميت يرى وجوب العدول عنه، وان أفتى بوجوب
العدول وجب العدول عن تقليد الميت في المسائل الفرعية، وإن كان الميت
يرى وجوب البقاء على تقليده.
المسألة الرابعة: حيث تقدم أن جواز التقليد يبتني على ما ارتكز عند
352

العقلاء من الرجوع لأهل الخبرة في الحدسيات فلابد في جواز تقليد المجتهد
من سلوكه الطرق العقلائية المتعارفة، أما لو سلك غيرها، كالرمل والجفر
والرياضات التي قد توجب انكشاف الواقع لصاحبها ونحوها مما قد يوجب
العلم وإن لم يعتمد عليه العقلاء بما هم عقلاء ولا دلت الأدلة على حجيته، فهو
وإن كان عالما بنظره، فيجب عليه العمل بقطعه، إلا أنه لا يجوز تقليده، لعدم
كونه من أهل الخبرة بنظر العقلاء.
وهذا هو العمدة في المقام، لا ما ذكره بعض مشايخنا من لزوم الرجوع
إلى من استنبط الاحكام من الطرق المقررة شرعا، لاختصاص أدلة التقليد
الشرعية بأهل الذكر والناظر في الحلال والحرام ونحوهما مما يختص بذلك.
إذ فيه مع عدم انضباط الأدلة المقررة شرعا، للاختلاف فيها - أن المراد
بأهل الذكر والناظر في الحلال والحرام إن كان هو الباحث عن الأحكام الشرعية
المحصل لها واقعا فلا طريق لاحراز انطباقه على المجتهد مع احتمال خطئه،
وإن كان هو المحصل لها بنظره شمل من قطع بها من الطرق غير المتعارفة، وان
كان هو المحصل لها بعد النظر في الكتاب المجيد والأحاديث الشريفة - كما قد
يناسبه اية الذكر، وما تضمن الرجوع للرواة - قصر عمن أخذها من الاجماع
والسيرة والمستقلات العقلية ونحوها.
فينحصر الوجه بما أشرنا إليه غير مرة من ورود أدلة التقليد الشرعية مورد
الامضاء للقضية الارتكازية المزبورة، فيكون المعيار عليها لا على خصوص
العناوين المذكورة في تلك الأدلة، وهي تقتضي ما ذكرنا.
ومنه يظهر عدم جواز تقليد من خرج في قطعه أو استظهاره أو نحوهما
عن المتعارف، لاعوجاج السليقة أو نحوه.
المسألة الخامسة: حيث كان هم المكلف الخروج من تبعة التكاليف
الشرعية والأمان من العقاب فلا فرق في حقه بين معرفة الحكم الشرعي الواقعي
353

ومعرفة مؤدى الحجة أو الأصل الشرعي أو العقلي.
ومن هنا كان مبنى سؤال العامي وجواب المجتهد على ما يعم الأمور
المذكورة، ولا يختص ببيان الحكم الواقعي الذي يدركه المجتهد من الأدلة
القطعية، كما تقدم التعرض له في اخر أحكام الاجتهاد، كما تقدم في التنبيه
الثاني من تنبيهات فصل صورة عدم الترجيح بين الخبرين المتعارضين أن مبنى
فتوى المجتهد بمؤديات الطرق على عموم أدلة حجيتها للعامي، وأن عجز
العامي عن تشخيص مؤدياتها بنفسه لا يمنع من حجيتها في حقه بعد تيسر
رجوعه للمجتهد في ذلك.
نعم، قد تشكل الفتوى بمضمون الأصل الشرعي بأن كبرى الأصل وان
كانت مجعولة بنحو تشمل العامي كسائر الكبريات الشرعية، إلا أن فعلية
مضمونها في حق العامي موقوف على فعلية موضوعاتها - كالشك ونحوه - في
حقه، فمع غفلة العامي عنها لا وجه لفتوى المجتهد له بها.
وأشكل من ذلك الفتوى بمضمون الأصل العقلي، حيث يزيد عليه بأن
كبراه علمية وجدانية لا تكون فعلية في حق المكلف ما لم يقطع بها، وليست
واقعية يدرك المجتهد ثبوتها في حق العامي ليصح منه الفتوى له بمضمونها مع
غفلته عنها.
ومن ثم قد يدعى أن وظيفة المجتهد تنبيه العامي إلى موضوع الأصل
الشرعي ثم بيان كبراه التي حصلها بنظره، ويكون استنتاج الحكم في المسألة
الفرعية وظيفة للعامي. أما في الأصل العقلي فليس له إلا التنبيه لموضوعه مع
إيكال كبراه للعامي نفسه، فيرجع إلى ما يحكم به عقله ولو كان على خلاف ما
ذهب إليه المجتهد.
لكنه مخالف لطريقة الفقهاء في مقام الفتوى، حيث جروا على بيان
الوظيفة الفعلية في المسألة الفرعية في موارد الأصول الشرعية والعقلية، كما
354

جروا عليه في موارد الأدلة الاجتهادية المفيدة للقطع أو الظن بالحكم الواقعي.
فلعل الأولى أن يقال: إن موضوع الأصل ان كان هو الشك فهو فعلي في
حق العامي الملتفت لحكم للمسألة الفرعية الفاحص عن حكمها. ولا ضرر في
إطلاق المجتهد الفتوى بها بنحو يشمل الغافل عنها، لعدم ترتب العمل عليه إلا
في حق الملتفت المعتمد على الفتوى.
وإن كان هو عدم الدليل - كما هو الظاهر الذي يقتضيه التأمل في أدلة
الأصول - فهو من الأمور الواقعية التي يدركها المجتهد في حقه وحق العامي،
كما أنه سبق في الاستصحاب أن المراد باليقين بالحدوث المأخوذ في موضوعه
ما يعم قيام الحجة عليه، وهو حاصل في حق العامي بسبب رجوعه للمجتهد في
حدوث الحكم، كما أشرنا إليه في الامر الثاني من تمهيد الكلام في
الاستصحاب.
بل لا يبعد ثبوته بمجرد قيام الدليل الشرعي عليه الذي يعثر عليه
المجتهد ويدرك عمومه للعامي وان لم يرجع إليه أو غفل عن فتواه على طبقه.
وحينئذ يصح للمجتهد الفتوى بما يناسب كبرى الأصل الشرعي.
وأما الأصل العقلي فالظاهر أن كبراه واقعية، ولذا يقع الاختلاف والتخطئة
فيها بين المجتهدين كما أنه يغلب عجز العامي عنها وإن كانت وجدانية، لأنها
مورد للشبه والنقض بالطرد والعكس التي يعجز العامي عن دفعها، فلابد من
رجوعه للمجتهد فيها.
نعم، لو قدر على تشخيصها وخالف المجتهد فيها امتنع عليه الرجوع
لفتواه في المسألة الفرعية المبتنية عليها، كما هو الحال في سائر موارد مخالفته
للمجتهد في بعض مقدمات الاستنباط، على ما تقدم التنبيه عليه في اخر الكلام
في تجزي الاجتهاد. فراجع.
وأما دعوى: أن تمامية موضوع الأصل في حق المجتهد، لعدم عثوره على
355

الدليل في المسألة لا يستلزم تماميته في حق العامي بعد إمكان رجوعه لمجتهد
اخر يرى وجود الدليل الرافع لموضوع الأصل.
فهي مدفوعة بأن اختلاف المجتهدين في تحقق موضوع الأصل لا يمنع
من عموم ما وصل إليه كل منهم بنظره لنفسه وغيره فمن يرى تحقق موضوع
الأصل في حقه يراه في حق العامي الذي قد يرجع للمجتهد الاخر، بل في حق
ذلك المجتهد أيضا لخطئه بنظره في دعوى وجود الدليل الرافع لموضوع
الأصل، فله إطلاق الفتوى المطابقة لمضمون الأصل. وأما العامي فلا مجال له
للرجوع للمجتهد الذي يرى وجود الدليل إلا إذا كان أعلم، أما لو كان مفضولا
فتصلح فتوى الأفضل لاثبات خطئه في حق العامي بمقتضى ما دل على ترجيح
الأعلمية، فيكون فاقدا للدليل ويتم في حقه موضوع الأصل.
وأما مع التساوي بينهما فليس رجوعه للثاني بأولى من رجوعه للأول، بل
لابد إما من تساقطهما أو التخيير بينهما الراجع إلى جواز رجوعه للأول
وتصديقه في عدم الدليل، فلا يكون الدليل الذي اعتقده الثاني ولا اعتقاده منجزا
في حق العامي، ليرتفع موضوع الأصل في حقه.
ومثلها دعوى: قصور أدلة التقليد الشرعية عن شمول التقليد في مورد
الأصول العقلية، لقصور العناوين المأخوذة فيها عنه، كعنوان العالم والفقيه وأهل
الذكر والراوي والناظر في الحلال والحرام ونحوها، بل هي مختصة أو منصرفة
لخصوص التقليد في الأحكام الشرعية الواقعية أو الظاهرية الراجعة إلى الاحكام
الطريقية بالحجية أو بمفاد الأصل العملي.
لاندفاعها: بما سبق من أن قصور أدلة التقليد الشرعية لا يهم بعد عموم
القضية الارتكازية العقلائية، وهي قضية رجوع الجاهل للعالم، فيكفي علمه
بالوظيفة العقلية في الرجوع إليه بعد ما سبق من أن هم المكلف الخروج من
تبعة التكليف والأمان من العقاب.
356

هذا، وقد يمنع من تقليد من يرى لزوم العمل بمطلق الظن، لتمامية
مقدمات الانسداد بنظره، لدعوى اختصاص بعض مقدماته - وهو عدم جواز
تقليد القائل بالانفتاح وعدم وجوب الاحتياط للزوم اختلال النظام أو العسر
والحرج - بالمجتهد، دون العامي لامكان تقليده القائل بالانفتاح، وعدم لزوم
اختلال النظام - البديهي البطلان في الأحكام الشرعية - من احتياطه بنفسه، كي
يقطع بعدم وجوبه، لان الاختلال إنما يلزم من عمل الكل بالاحتياط، لا من
احتياط شخص أو أشخاص معدودين، كما لا طريق له لاثبات عدم وجوبه من
جهة الحرج، لان قاعدة نفي الحرج ليست بديهية يدركها العامي، بل نظرية
محتاجة لمؤنة استدلال لا يقوى عليه بنفسه.
ويزيد الاشكال لو كان يرى العمل بالظن من باب الحكومة الراجعة
لحكم العقل بحجية الظن، أو بتبعيض الاحتياط على طبقه لأنه لا يكون عارفا
بالأحكام الشرعية الواقعية ولا الظاهرية، فتقصر عنه أدلة التقليد الشرعية.
لكن يظهر اندفاع ذلك مما تقدم في التقليد في موارد الأصول، لوضوح
أن المجتهد الانسدادي يرى خطأ القائل بالانفتاح، وعموم الانسداد في حق
جميع المكلفين، فيجب الرجوع إليه مع أعلميته، كما يجوز الرجوع له مع
مساواته للقائل بالانفتاح - بناء على التخيير مع تساوي المجتهدين - فلا يصلح
قول من يرى الانفتاح للتخيير في حق العامي، ليمنع من تمامية مقدمة الانسداد.
كما أن المجتهد حيث يرى انسداد باب العلم في حق الجميع وكان تشريع
الاحتياط في حقهم مستلزما لاختلال النظام فهو يستكشف عدم تشريعه في
حق الجميع أيضا، ولا يمنع من ذلك انفتاح باب العلم للآخرين بنظرهم أو نظر
مقلديهم مع فرض خطئهم في ذلك بنظره.
وعجز العامي عن إثبات قاعدة نفي الحرج بنفسه لا يقدح بعد ثبوتها في
حقه بنظر المجتهد الذي يجب أو يجوز له الرجوع إليه.
357

وبالجملة: مقدمات الانسداد تامة في حق العامي بنظر المجتهد الذي
يرجع إليه، فله الفتوى له بمقتضاها في المسائل الفرعية، وللعامي العمل بقوله
حتى بناء على الحكومة، لأنه وإن خرج حينئذ عن موضوع أدلة التقليد الشرعية،
إلا أنه داخل في كبراه العقلائية الارتكازية التي عرفت كفايتها في المقام بعد كون
هم المكلف الخلاص من تبعة التكليف والأمان من العقاب، لا خصوص معرفة
الحكم الشرعي.
نعم، قد يشكل ذلك بأن مقدمات الانسداد وان تمت في حق العامي إلا
أن نتيجتها لما كانت هي عمل المكلف بظنه فلا يصح للعامي الاعتماد على ظن
المجتهد بالأحكام الفرعية، بل غاية الامر اعتماده على ظنه الحاصل له، ومع
تعذر تحصيل الظن عليه يتعين عليه تقليد القائل بالانفتاح وإن كان مفضولا
لجواز تقليد المفضول مع تعذر تقليد الأفضل.
إلا أنه يندفع أيضا بأن جواز تقليد المفضول إنما يصح مع تعذر الاطلاع
على رأي الأفضل، أما مع الاطلاع على رأيه وعلى تخطئته للمفضول في
مقدمات الاستنباط فلا مجال للرجوع له.
بل بعد فرض عدم وجوب الاحتياط على العامي يتجه وجوب تحصيل
الظن عليه بالأحكام بالنظر في طرقها كالمجتهد، لولا لزوم العسر والحرج
النوعي واختلال النظام منه، لاحتياجه إلى مؤنة شديدة كالتكليف بالاجتهاد عينا
على تقدير الانفتاح لوضوح أن اللازم على تقدير الانسداد الاجتهاد في تحصيل
الظن باستفراغ الوسع في مقدماته لا الاكتفاء بما يحصل منه بلا كلفة.
ومن هنا يتعين عدم وجوب ذلك على العامي، بل يكتفي بأقرب الطرق،
وهو ظن المجتهد الأعلم.
وعليه تكون نتيجة مقدمات الانسداد عمل المجتهد بظنه رأسا، وعمل
العامي به بضميمة امتناع تكليفه بتحصيل الظن بنفسه. وهو معنى تقليده.
358

نعم، لو فرض حصول الظن للعامي بعد استفراغ الوسع على خلاف ظن
المجتهد لم يبعد لزوم العمل عليه بظنه بضميمة تقليده للمجتهد في تمامية
مقدمات الانسداد في حقه.
نظير ما سبق في اخر الكلام في التجزي من أن المكلف لو حصل بعض
مقدمات الاستنباط بنفسه كان له الاستقلال فيها وضمها لبقية المقدمات التي
يرجع فيها للمجتهد لعجزه عن تشخيصها، فيعمل في المسألة الفرعية على ما
يستنتج من المجموع، وان كان على خلاف ما يؤدي إليه نظر المجتهد في
المسألة الفرعية، لاختلافهما في بعض المقدمات. فراجع.
غاية الامر أن عموم الأسباب الموجبة للظن وخصوصها في حقه تابعان
لنتيجة دليل الانسداد، فإن قلنا بعمومها من حيثية الأسباب كان كالمجتهد له
الاتكال على الأسباب غير المتعارفة التي يكثر حصول الظن له منها، وان قلنا
باختصاصها بالأسباب المتعارفة كان عليه الاقتصار عليها كالمجتهد. والامر في
ذلك موكول لمباحث الانسداد.
المسألة السادسة: إذا تعدد المجتهدون..
فتارة: يتفقون في الفتوى.
وأخرى: يختلفون فيها.
وثالثة: يجهل الحال.
وحيث كانت الصورة الثالثة متفرعة على الصورتين الأوليين، لتفرع مقام
الاثبات على مقام الثبوت، كما كان الكلام فيهما من مباني الكلام فيها، كان
المناسب البحث فيها في تنبيه يعقد بعد الفراغ عن الكلام فيهما.
فالمهم فعلا الكلام في الصورتين الأوليين.
ولا ينبغي الكلام في جواز تقليد كل من المجتهدين في الصورة الأولى،
بمعنى قصد الاعتماد عليه ومتابعته، كما يجوز تقليد جميعهم، من دون فرق بين
359

اختلافهم في الفضيلة وتساويهم، بل يجوز موافقتهم احتياطا من دون تقليد،
لان مقتضى إطلاق أدلة التقليد من الآيات والروايات وسيرة العقلاء حجية
الكل، ولا يجب عقلا إلا موافقة الحجة في الخروج عن تبعة العقاب.
وأما إطلاق قولهم: لا يجوز تقليد المفضول فليس هو معقدا لاجماع
واجب العمل، والمتيقن من الترجيح بالأفضلية - على تقدير البناء عليه - صورة
الاختلاف، لصلوح رأي الأفضل لتخطئة المفضول، على ما يأتي الكلام فيه إن
شاء الله تعالى.
فالعمدة الكلام في الصورة الثانية، لشيوع الابتلاء بها وظهور الخلاف
فيها. ومن الظاهر أنه لا مجال لتخيل كون تقليد كل منهم مقتضى الاطلاقات، لما
سبق في مباحث التعارض من قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين،
وأنها لا تقتضي حجية أحدهما تعيينا ولا تخييرا.
فلابد في إثبات جواز تقليد أحد المجتهدين في المقام تعيينا أو تخييرا
من دليل خاص مخرج عن ذلك.
والكلام يقع..
تارة: في صورة تساوي المجتهدين في الفضيلة.
وأخرى: في صورة اختلافهم فيها.
المقام الأول: في صورة التساوي في الفضيلة.
والمعروف بين الأصحاب التخيير بينهم فيها، ولا يظهر الاشكال فيه
بينهم، بل مقتضى ما يأتي في صورة التفاضل المفروغية عنه.
وهو مبتن على ما أشرنا إليه غير مرة وادعاه شيخنا الأعظم قدس سره وغيره من
الاجماع على جواز التقليد مطلقا للعامي وعدم تكليفه بالاحتياط. وبه يخرج
عن أصالة التساقط في المتعارضين بعد قصور الاطلاقات عن شمولهما - كما
عرفت - وعدم نهوض سيرة العقلاء - التي هي عمدة أدلة المسألة - بالتخيير، بل
360

بناؤهم في سائر موارد الرجوع إلى أهل الخبرة على التوقف والتساقط مع
الاختلاف.
نعم، ناقش بعض مشايخنا في الاجماع بعدم كونه إجماعا تعبديا،
ليكشف عن رأي المعصومين عليهم السلام.
وقد يؤيده ظهور بعض كلماتهم في عدم الاعتماد عليه، بل على بعض
الوجوه الاجتهادية التي لا تعويل عليها.
وكذا ظهور بعض النصوص في الرجوع للإمام عليه السلام لمعرفة الحكم عند
اختلاف الأصحاب فيه، حيث يدل على عدم وضوح البناء في الصدر الأول
على التخيير.
وهو وإن اختص بصورة تيسر الاطلاع على الحق بالرجوع له عليه السلام إلا أنه
يمنع من الوثوق بالاجماع المدعى، بنحو لا يستكشف منه وضوح التخيير في
صورة عدم تيسر الرجوع له التي لم يعلم مقدار الابتلاء بها في عصورهم عليهم السلام بكل
ولا طريق لمعرفة حكمهم عليهم السلام فيها، ولا سيما مع مخالفة التخيير للسيرة
الارتكازية. ومن ثم جزم (دامت بركاته) بوجوب الاخذ بأحوط القولين حينئذ،
لأنه مقتضى الأصل الذي ادعاه هو وغيره في صورة التساقط.
لكن الظاهر اختصاصه بما إذا كان أحوط القولين موافقا للأصل الشرعي
أو العقلي الجاري في المسألة، كما في مورد استصحاب التكليف وموارد الشك
في المحصل وتعيين المكلف به ونحوها، لحجية الأصول المذكورة في حق
العامي بعد فرض سقوط الفتوى المخرجة عنه بالمعارضة، أما لو كان القول
الاخر هو الموافق للأصل - كما في موارد الاستصحاب النافي للتكليف والشك
في أصل التكليف والنجاسة - جاز موافقته عملا بالأصل المذكور بعد فرض
سقوط أحوط القولين بالمعارضة.
وليس المانع من رجوع العامي للأصل المذكور بنحو يستغني به عن
361

التقليد والنظر في أقوال المجتهدين إلا تنجز احتمال التكليف في مورده بالعلم
الاجمالي الكبير بوجود تكاليف شرعية مسبب عن العلم بوجود الشريعة، وبما
دل على وجوب تعلم الاحكام، بنحو يمنع من الرجوع قبل الفحص عن
الرجوع للأصول الترخيصية.
والظاهر انحلال العلم الاجمالي الكبير بموارد الأصول الالزامية في مورد
الاختلاف، وموارد اتفاق المجتهدين على ثبوت التكليف، لوفائها بالمقدار
المعلوم بالاجمال، فلا يصلح العلم المذكور للتنجيز في غيرها.
كما أن ما دل على وجوب تعلم الاحكام إنما ينجز احتمال التكليف قبل
الفحص والسؤال، أما بعد الفحص عن التكليف وعدم العثور على حجة عليه،
لفرض سقوط الفتوى به بالمعارضة، فلا يصلح للمنجزية، نظير المجتهد، حيث
يجوز له الرجوع للأصول الترخيصية بعد الفحص عن الأدلة وظهور تعارضها
في حقه، وان لم يجز له الرجوع قبل الفحص.
وبالجملة: لا مجال لاطلاق الفتوى بوجوب الاحتياط على العامي في
فرض تساقط فتاوى المجتهدين في حقه، بل يتعين التفصيل له بين الموارد
على حسب ما ذكرناه.
نعم، لو عجز عن تشخيص الموارد المذكورة وتعذر عليه التمييز بينها،
فحيث كان ذلك ناشئا من جهله بالحكم الظاهري للشبهة الحكمية لا
الموضوعية لزمه الرجوع للمجتهدين في تعيينه، وبدونه يلزمه الاحتياط بمتابعة
أحوط القولين.
والانصاف أن التمييز بين الموردين يعسر على العامي غالبا، بل يتعذر
خصوصا مع اختلاف المجتهدين في تحديد كبريات الأصول.
كما أن الاحتياط عسر عليه غالبا، فإن تعلم مسائل الخلاف وكيفية
الاحتياط والترجيح بين جهاته عند التزاحم مما لا يتهيأ لعامة الناس، ولا سيما
362

مع كثرة المجتهدين.
وخصوصا مع أن البناء على التساقط مع التساوي للأصل يقتضي البناء
عليه مع احتماله، لعدم إحراز المرجح، كما يقتضي البناء عليه مع العلم بالتفاضل
وعدم تعيين الأفضل، ومع ما يأتي إن شاء الله تعالى من اختصاص مورد السيرة
على ترجيح، الأعلم بما إذا كان التفاضل بوجه معتد به. فإن ملاحظة جميع ذلك
توضح كثرة موارد الاحتياط ولزوم الحرج منه.
وحينئذ يكون مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم لزومه واكتفاء الشارع
بالموافقة الاحتمالية، بناء على ما سبق في تنبيهات البراءة من إمكان اكتفائه بها.
ولازم ذلك متابعة أحد المجتهدين تخييرا لتحقق مقتضى الحجية فيه،
ولأنه المتيقن من صور الموافقة الاحتمالية.
بل الالتفات لجميع ما ذكرنا ولكثرة اختلاف العلماء بالوجه المذكور في
جميع العصور وغلبة عدم سهولة تشخيص الأعلم يوجب الاطمئنان بعدم
تشريع التقليد بالوجه المقتضي للتساقط غالبا، ويكشف عن تسامح الشارع في
ذلك باكتفائه في جواز التقليد بالعلم والاقتصار في لزوم الترجيح بالأعلمية على
صورة وجودها وتيسر تشخيص الأعلم، كما هو مفاد الاجماع المدعى.
وبعبارة أخرى: الالتفات للاختلاف بين المجتهدين في العصور السابقة
وإن كان نادرا، لعدم تحرير الفتاوى، ولذا منعنا من السيرة على التخيير، إلا أنه لما
كان كثيرا في نفسه، خصوصا في عصور الأئمة عليهم السلام بسبب الابتلاء بما يوجب
خفاء الواقع، فلو كان مبنى تشريع التقليد على التساقط بالتعارض لزم عدم وفاء
تشريع التقليد واقعا بمقدار الحاجة في مقام العمل، وان تخيل وفاؤه به بسبب
الاختلاف.
فالانصاف أن الاجماع في المقام بعد الالتفات إلى لزوم الحرج نوعا من
مخالفته بل الهرج والمرج يشرف بالمتأمل على القطع بالتخيير، وأن التضييق
363

بايجاب الاحتياط بعيد عن سليقة الشارع الأقدس.
وان كان ينبغي الاقتصار على لزوم الحرج الفعلي بالوجه المعتد به، لأنه
المتيقن. والله سبحانه ولي التوفيق.
المقام الثاني: في صورة التفاضل، ولا ريب في جواز الرجوع للأعلم،
وانما الاشكال في تعيينه أو التخيير بينه وبين المفضول.
فقد صرح غير واحد من الأعاظم بلزوم الرجوع للأعلم، وفي التقريرات
أنه المعروف بين أصحابنا، وعن النهاية أنه قول من وصل إلينا كلامه من
الأصوليين، وفي المعالم: أن تعيين الأرجح في العلم والعدالة هو قول من وصل
إلينا كلامهم من الأصحاب، وعن المحقق الثاني دعوى الاجماع عليه، وقد
يستظهر من كلام البهائي، وعن ظاهر السيد في الذريعة أنه من مسلمات الشيعة.
ومع ذلك فقد ذكر السيد في الذريعة أن بعضهم ذهب إلى التخيير، ولعل
مراده بهم بعض العامة، وفي التقريرات: أنه حدث لجماعة ممن تأخر عن
الشهيد الثاني قول بالتخيير بين الأعلم وغيره. ثم قال: " وصار إليه جملة من
متأخري أصحابنا حتى صار في هذا الزمان قولا معتدا به "، وهو الذي أصر عليه
في كتاب القضاء من الجواهر، وجعله في الفصول أوضح، واختاره بعض
المحققين.
هذا، وحيث سبق قصور إطلاقات الحجية عن شمول المتعارضين معا،
وكان الحمل على التخيير مع التساوي لأجل الاجماع ونحوه، فلا يبعد حملها
مع التفاضل على حجية خصوص الأعلم، بقرينة ورودها مورد الامضاء لسيرة
العقلاء والمفروغية عنها، وحيث لا إشكال عندهم في تعيين الأعلم عند
الاختلاف، لصلوح قوله للقرينية على خطأ المفضول وخروجه عن موضوع
الحجية، لزم تنزيل الاطلاقات عليه.
ولو غض النظر عن ذلك أمكن الرجوع إليه بمقتضى السيرة العقلائية التي
364

لم يثبت الردع عنها، وان سلم صلوح الاطلاقات لامضائها في ذلك، لقصورها
عن المتعارضين.
وأما دعوى: استفادة امضائها من الاجماع على حجية قوله، لعدم الاشكال
بينهم في ذلك، وانما الاشكال في أن حجيته تعيينية أو تخييرية.
فيشكل: بأن صلوح الاجماع للكشف عن إمضاء السيرة موقوف على
مطابقته لها في إثبات الحجية التعيينية التي هي محل الكلام. بل يتعين التشبث
بكفاية عدم الردع، كما سبق.
اللهم إلا أن يدعى الاجماع على الحجية التعيينية، لدعوى انعقاده إلى
عصر الشهيد الثاني، ولا يعتد بالخلاف بعده. فتأمل.
هذا، وقد يستدل على تعيين الأعلم بأنه مقتضى الأصل، بعد فرض
الدوران في حجيته بين التعيين والتخيير، لأصالة عدم حجية فتوى المفضول،
فلا يجتزأ بمتابعة قوله في الفراغ عن عهدة التكليف، بل بمتابعة الأفضل للقطع
بحجيته.
لكن الأصل وإن اقتضى عدم حجية فتوى المفضول ولو تخييرا إلا أنه لا
يقتضي كون حجية فتوى الأفضل تعيينية مع فرض الشك واحتمال كونها
تخييرية غير مقتضية وجوب المتابعة.
ولازم ذلك عدم وجوب متابعته مع مطابقة فتوى المفضول للأصل، بل
يجوز موافقة المفضول عملا بالأصل بعد فرض عدم وجوب الخروج عنه
بفتوى الأفضل، لاحتمال كون حجيته تخييرية، وقد سبق في المقام الأول عدم
المانع من رجوع العامي للأصل الترخيصي في مورد اختلاف المجتهدين بعد
الفحص.
وإنما يجب متابعة الأفضل مع مخالفة فتوى المفضول للأصل، لان عدم
إحراز حجيته مانع من الاعتماد عليه في الخروج عن الأصل، كما لا يجوز العمل
365

بالأصل لو كان مخالفا لهما، للعلم بقيام الحجة على خلافه، بل يتعين موافقة
الأفضل، للعلم بحجيته.
نعم، يختص التفصيل المذكور بما إذا تمكن العامي من تمييز موارد
الأصول، وتعيين مفادها، وقد سبق ندرة ذلك، وانه يلزم مع عدمه الاحتياط،
الذي يقتضي في المقام متابعة الأفضل.
ثم إنه قد استدل لوجوب ترجيح الأعلم بوجوه أخرى لا تخلو عن
إشكال..
الأول: الاجماع المتقدمة دعواه صريحا عن غير واحد.
ويشكل: بعدم وضوح قيام إجماع تعبدي صالح للاستدلال مع عدم
شيوع تحرير المسألة، وقرب استناد مدعيه للسيرة الموجبة لوضوح الحكم
عنده بنحو يعتقد استيضاح الكل له.
ولا سيما مع أن عمدة من حكي عنه دعوى الاجماع السيد المرتضى
والمحقق الثاني، وفي الجواهر: " لم نتحقق الاجماع على المحقق الثاني.
واجماع المرتضى مبني على مسألة تقليد المفضول في الإمامة العظمى مع
وجود الأفضل، وهو غير ما نحن فيه. وظني - والله أعلم - اشتباه كثير من الناس
في هذه المسألة بذلك ".
الثاني: ما تضمن ترجيح قضاء الأفضل عند الاختلاف، كمقبولة ابن
حنظلة وغيرها، حيث يتعدى به للمقام - كما في التقريرات - إما بالاجماع
المركب، إذا لا قائل بالفصل بين تعيين الأعلم للقضاء وتعيينه للتقليد، أو بأن
ظاهر المقبولة الترجيح في مورد الاختلاف بينهما في الحكم الشرعي الكلي
الذي يرجع فيه للشارع، كما يشهد به بقية المرجحات المذكورة فيها، التي هي
من مرجحات الروايات المتعارضة في الاحكام الكلية.
لكن عرفت الاشكال في الاعتماد على الاجماع البسيط فضلا عن
366

المركب في أمثال المقام.
مع أن عدم الفصل - لو تم - إنما هو بين تعيين الأعلم للقضاء بنحو لا
يجوز نصب غيره أو الرجوع له وتعيينه للتقليد، ولا تدل المقبولة ولا غيرها على
تعيينه للقضاء لو لم تدل على عدمه، والذي هو مدلولها هو ترجيح قضاء الأعلم
عند تحكيم شخصين في واقعة واحدة واختلافهما في الحكم، وعدم الفصل
بينه وبين تعيين الأعلم للتقليد غير معلوم.
كما أن ظهورها في الترجيح في الحكم الكلي لا يجدي بعد اختصاصها
بالقضاء الذي يمتنع فيه الحكم بالتخيير، ولا وجه للتعدي منه للتقليد الذي لا
يخلو تعيين الأعلم له من صعوبة.
مضافا إلى أنها إنما تقتضي ترجيح الأعلم من الحكمين، لا الأعلم من
جميع الناس، الذي هو المدعى في المقام، كما نبه له بعض مشايخنا.
إلا أن يتمم بعدم الفصل بين عدم جواز تقليد المفضول من الحكمين
ولزوم تقليد الأعلم من جميع الناس، وأن إعمال الترجيح بالأعلمية في التقليد
في الجملة يستلزم الترجيح بها مطلقا، فيكون مرجع إلغاء خصوصية القضاء - لو
تمت - إلى استفادة إعمال الترجيح بالأعلمية في التقليد في من هو أهل له من
إعماله في القضاء في من صدر الحكم منه. فتأمل جيدا.
الثالث: أن فتوى الأعلم أقرب، فيجب اختيارها عند التعارض.
وأورد عليه..
تارة: بمنع وجوب الترجيح بالأقربية عند التعارض.
وأخرى: بمنع الأقربية، لا مكان اعتضاد فتوى المفضول بالشهرة أو
بفتوى الميت الأعلم أو غيرهما.
وأجاب في التقريرات عن الأول: بأنه ثابت بحكم العقل بعد كون اعتبار
التقليد من باب الطريقية، لا من باب التعبد المحض في عرض الواقع.
367

وعن الثاني: بأن الأعلمية من المرجحات المنضبطة التي يمكن رجوع
العامي لها، بخلاف المرجحات المذكورة، فإنها مرجحات خارجية لا مجال
لرجوع العامي لها بالاجماع والضرورة، لعدم انضباطها.
وكلاهما كما ترى، للاشكال في الأول: بأن اعتبار الامارة من باب الطريقية
لا يستلزم كون الأقربية بنظر المكلف أو العقلاء علة تامة يدور الحكم مدارها
وجودا وعدما، بل كما يمكن أخذ قيود تعبدية، كالحياة، يمكن إهمال ما يقتضي
الأقربية بنظرهم من دون أن يستلزم كون اعتبار الامارة من باب الموضوعية،
الراجعة إلى كون مؤداها في قبال الواقع، كون حجيتها بنحو الصفتية التي لم ينظر
فيها الكشف أصلا.
وفي الثاني: بأن المدار في عموم الترجيح وخصوصه على حال دليله، ولا
يظهر الفرق بين المرجحات الداخلية والخارجية، ولا بين الانضباط وعدمه في
حكم العقل المدعى، ولا مسرح معه للاجماع والضرورة الفقهية، إلا أن يكشفا
عن بطلان دعوى حكم العقل.
هذا، وقد يستدل ببعض النصوص، إلا أنه لا مجال لا طالة الكلام فيها بعد
ضعف سندها، وقصور دلالتها.
ولنكتف بما ذكرناه حولها في مباحث التقليد في الفقه.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن عمدة الدليل على تعيين الأعلم سيرة
العقلاء الارتكازية التي يكفي عدم ثبوت الردع عنها، بل يمكن استفادة إمضائها
من الاطلاقات بعد تنزيلها عليها. على أنه مقتضى. الأصل الذي يلزم التعويل
عليه غالبا، على ما سبق توضيحه.
هذا، ومما تقدم يظهر الاشكال في الاستدلال على التخيير بين الأعلم
وغيره بالاطلاقات، فقد وقع الاستدلال في كلامهم بإطلاقات أدلة التقليد كتابا
وسنة.
368

بل قال سيدنا الأعظم قدس سره في عرض استدلالهم بها: " بل حمل مثل آيتي
النفر والسؤال على صورة تساوي النافرين والمسؤولين في الفضيلة حمل على
فرد نادر ".
وجه الاشكال: أن الاستدلال بها موقوف على شمولها لصورة الاختلاف،
ليتعين حملها على الحجية التخييرية، كي يكون مقتضى الاطلاق ثبوتها مع
التفاضل، خصوصا مع فرض ندرة التساوي، وقد عرفت عدم نهوضها بإثبات
الحجية للمتعارضين، لظهورها في الحجية التعيينية الممتنعة فيهما.
نعم، لو فرض مع ذلك ندرة الاتفاق في الفتوى كان حمل الاطلاقات على
خصوص الحجية التعيينية حملا على الفرد النادر، إذ لا تصح إلا مع الاتفاق في
الفتوى النادرة فرضا، أو لخصوص فتوى الأعلم مع الاختلاف، وهو نادر أيضا
بالإضافة لبقية أفراد العناوين المأخوذة في الأدلة.
فيتعين لأجل ذلك حملها على الحجية التخييرية، لتكون دليلا على
التخيير مع التفاضل أيضا، ولا سيما بعد فرض ندرة التساوي.
لكن من الظاهر عدم ندرة الاتفاق في الفتوى، بل كثرته، خصوصا في
عصر صدور الآيتين، لمعاصرة العلماء لمصدر التشريع وسهولة مقدمات
الاستنباط، وعدم ابتنائه على مقدمات حسية خفية يكثر الاختلاف فيها، فلا مانع
من حمل الاطلاقات على الحجية التعيينية، إذ لا محذور في إخراج فتوى غير
الأعلم مع مخالفتها لفتوى الأعلم من الاطلاقات رأسا، وكذا فتاوى المتساوين
في الفضيلة مع اختلافهم بالبناء فيها على الحجية التخيرية أو التساقط، على ما
سبق الكلام فيه.
وما سبق من كثرة الاختلاف بنحو يلزم من التساقط والاحتياط العسر
والحرج، بل اختلال النظام إنما يكشف عن تشريع التقليد بنحو يقتضي التخيير
مع عدم المرجح ثبوتا أو إثباتا، لا عن حمل الاطلاقات على الحجية التخييرية،
369

لامكان استفادة التخيير معه لبا للمحذور المذكور أو غيره، لا من الاطلاقات.
ومن هنا كان اللازم في البناء على التخيير بين الأعلم وغيره الاعتماد على
أدلة خاصة غير الاطلاقات.
وقد استدل عليه بوجوه..
أولها: سيرة المتشرعة في عصر المعصومين عليهم السلام على الاخذ بفتاوى
العلماء المعاصرين لهم، من دون تقيد بالأعلم ولا فحص عنه، مع العلم
بتفاضلهم.
وفيه - كما ذكره غير واحد - أن المتيقن من ذلك صورة عدم العلم
بالاختلاف في الفتاوى المأخوذة منهم أو الغفلة عنه، ومحل الكلام صورة العلم
بالاختلاف، وثبوت السيرة فيها غير معلوم.
بل يظهر من الاخبار المتضمنة للسؤال عن الحكم الذي اختلف فيه
الأصحاب البناء على التوقف مع الاختلاف.
وهي وإن اختصت بصورة إمكان استعلام الحكم بالرجوع للإمام عليه السلام ولم
يتضح ورودها في مورد العلم بالتفاضل، إلا أنها كافية في منع السيرة المتصلة
بعصر المعصومين عليهم السلام على الاخذ بفتوى المفضول مع مخالفتها لفتوى
الأفضل.
وأضعف منه الاستدلال بما دل على الرجوع لمعاصري الأئمة عليه السلام من
علماء الشيعة مع كونهم عليهم السلام أعلم منهم.
لوضوح أن الرجوع لهم لم يكن مع العلم بمخالفة فتاواهم لاحكام
أئمتهم، بل مبنى الرجوع لهم على أخذ أحكامهم عليهم السلام منهم، فهو في طول
الرجوع للأئمة عليهم السلام، ومقتضى كونهم من أهل الخبرة حجية فتاواهم واحراز
أحكام الأئمة عليهم السلام بها، نظير أخذ فتاوى الأعلم من ناقليها.
فهو خارج عما نحن فيه من الرجوع لغير الأعلم في مقابل الأعلم، بل مع
370

إحراز مخالفته له.
ثانيها: إرجاع الأئمة عليهم السلام لبعض أصحابهم، كأبي بصير ومحمد بن مسلم
ويونس بن عبد الرحمن وزكريا بن ادم والعمري وابنه وغيرهم، بدعوى: ان
إطلاق الارجاع إليهم يشمل ما لو وجد من هو أعلم منهم.
ويظهر الجواب عنه مما سبق في أدلة التقليد من احتمال الخصوصية
للأشخاص المذكورين، وعدم وضوح كون الارجاع لهم بملاك كبرى التقليد.
على أن الارجاع لهم لما كان قضية خارجية فلا إطلاق لها، لا مكان كونهم
أعلم من يمكن رجوع المخاطبين لهم.
ولو تم الاطلاق له كان كسائر الاطلاقات قاصرا عن شمول صورة
الاختلاف في الفتوى، لاستحالة حجية المتعارضين تعيينا، كما سبق. إلا أن
يقدم عليها لأنه أخص، فيتعين تقديم الأشخاص المذكورين على غيرهم عند
الاختلاف.
ثالثها: ما في الجواهر من أنه لما كان مقتضى إطلاق أدلة القضاء نفوذ
قضاء المفضول في الواقعة الشخصية يلزمه حجية رأيه في الحكم الكلي، وأنه
من الحق والقسط والعدل وما أنزل الله تعالى، فيجوز الرجوع إليه فيه تقليدا
أيضا.
ويندفع: بعدم الملازمة بين نفوذ قضاء المفضول وحجية رأيه، لعدم
تكفل أدلة النفوذ بالتعبد بأن الكبريات التي يبتني عليها قضاء المجتهد حق في
حق العامي.
غاية الامر أن المجتهد يجب عليه أن يقضي بالحق والقسط والعدل وما
أنزل الله تعالى، ولا يراد بذلك تحقق هذه العناوين واقعا، بل بنظر الحاكم،
وحصولها بنظره لا يستلزم حجيته في حق غيره.
ولذا لا إشكال عندهم في نفوذ حكم الحاكم في حق غيره من المجتهدين
371

مع عدم حجية رأيه عليهم. على أن نفوذ القضاء لو كان مستلزما للحجية فهو غير
مستلزم للحجية التخييرية، بل التعيينية التي يمتنع ثبوتها للمتعارضين معا، كما
تقدم في الاطلاقات.
رابعها: لزوم العسر والحرج من الاقتصار على تقليد الأعلم، لصعوبة
تشخيصه وصعوبة رجوع جميع المسلمين له مع اختلاف أماكنهم وتباعد
أوطانهم، فلا يتيسر لهم استفتاؤه ولا يتيسر له إفتاء جميعهم.
وكأن المراد بالحرج في المقام الحرج النوعي، حيث يظهر من جملة من
النصوص أن الأحكام الشرعية ليست بنحو يلزم منها الحرج نوعا، ومن هنا
يمكن تمامية الاستدلال في حق من لا يلزم الحرج من رجوعه للأعلم.
وفيه: أن الترجيح بالأعلمية لما كان فرع الابتلاء بفتوى الفقيه والالتفات
للاختلاف فهو لا يقتضي رجوع جميع المسلمين لشخص واحد، بل اكتفاء كل
مكلف بالترجيح بها بين من يتيسر له معرفة رأيه كل في مكانه.
نعم، قد يلزم ذلك في عهودنا التي شاع فيها تسجيل الآراء وانتشار
الرسائل العملية وكثرت فيها وسائط النقل والاتصال.
لكن في لزوم الحرج من رجوع الكل - للشخص الواحد إشكال، بل منع،
لان انتشار الرسائل العملية وتكثر نسخها بالطبع يسهل معرفة آراء الشخص في
جميع الأقطار ولو بمعونة أهل العلم المنتشرين فيها الذين يتعارف منهم
التصدي لبيان فتاوى المرجع.
غاية الامر أنه قد يصعب تشخيص الأعلم، لكون المعلوم حدسيا ليس له
أثر محسوس، وليس كالطب - مثلا - الذي يظهر أثر الإصابة فيه بشفاء المريض.
إلا أنه لا يكشف عن عموم الحجية لغير الأعلم تخييرا، ولا سيما في حق
من لا يلزم الحرج عليه.
لوضوح أن قاعدة نفي الحرج - مع أن المعيار فيها الحرج الشخصي لا
372

النوعي - إنما تنهض بنفي الاحكام الحرجية، لا بتشريع أحكام يتدارك بها
الحرج، ولا يكفي في رفع الحرج في المقام نفي حجية فتوى الأعلم تعيينا، بل
لابد فيه من إثبات الحجية لغير الأعلم تخييرا.
وكذا الحال في ما تضمن أن الأحكام الشرعية ليست بنحو يلزم منه
الحرج نوعا لو فرض كون الحرج في المقام نوعيا غالبيا.
نعم، قد يقطع بعدم جعل الشارع للتقليد بنحو لا يفي بحاجة المكلفين
ويحتاج معه للاحتياط الموجب الحرج، نظير ما تقدم في وجه التخيير مع
التساوي، وذلك لا يقتضي عدم لزوم الترجيح بالأعلمية تبعا للسيرة مع عدم
لزوم الحرج من معرفة الأعلم، حيث لا يلزم الاحتياط حينئذ. وربما يأتي ما
يتعلق بالمقام عند الكلام في حكم الشك في الأعلمية.
وينبغي التنبيه على أمور..
الأول: لما كان المعيار في العلمية في كبرى التقليد هو قوة الحدس
المستند لمقدمات الاستنباط بمعرفة المباني الأصولية ونحوها مما يرجع إليه
الفقيه، والقدرة على تشخيص صغرياتها، وفهم الأدلة، والاستظهار منها، ومعرفة
الجمع بينها، كان المعيار في الأعلمية التفاضل في ذلك، فالأعلم هو الذي تكون
مبانيه الأصولية أقوى وكبريات استدلاله أنسق، ويكون أقدر على تشخيص
صغرياتها، وأقوى على فهم الأدلة، والاستظهار منها، والجمع بينها، فيكون أقوى
استدلالا.
واليه يرجع ما قيل من رجوعها لقوة الملكة، قال سيدنا الأعظم قدس سره:
" المراد به الأعرف في تحصيل الوظيفة الفعلية عقلية كانت أم شرعية، فلا بد أن
يكون أعرف في أخذ كل فرع من أصله ".
أما تشخيص ذلك فهو مما قد يقدر عليه بعض أهل العلم ممن يكون
جيد النظر في نفسه خبيرا بآراء العلماء الذين يبحث عن التفاضل بينهم محيطا
373

بطرقهم في الاستدلال عارفا بأساليبهم، بعيدا عن المؤثرات الخارجية من عاطفة
غالبة أو انصهار بالشخص يقتضيان خضوعه لآرائه والغفلة عن جهات الضعف
فيه، واعراضه عن غيره. إلا أن وجود هذا الشخص وتمييز العامي له في غاية
الندرة.
واللازم على العامي - مع إدراكه - بذل الجهد في ذلك احتياطا لدينه، كما
يلزم ذلك على المسؤول عن تعيين الأعلم احتياطا في شهادته وأداء لأمانته. ولا
يهم مع ذلك الخطأ والصواب، لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ومنه سبحانه
نستمد العون والتسديد.
ومما ذكرنا في معيار الأعلمية يظهر أنها قائمة بكل مسألة مسألة، فيمكن
اختلاف الأشخاص في الأعلمية باختلاف آحاد المسائل أو أنواعها، لاختلاف
المسائل في سنخ الأدلة، فربما يكون الشخص أعلم في بعض المسائل مفضولا
في بعضها، نظير ما سبق في التجزي.
ويلزم حينئذ تبعيض التقليد، كما صرح به غير واحد، لعموم سيرة العقلاء
على تعيين الأعلم عند الاختلاف، وعدم ثبوت ما يمنع من العمل بمقتضاها.
نعم، لو وصلت النوبة للتخيير، للتساوي بين المجتهدين، أو العجز عن
تشخيص الأعلم منهم، فحيث لم يكن هو مقتضى السيرة، ولم يكن لدليله
إطلاق، وكان التبعيض في التقليد خارجا عن المتيقن لزم الاقتصار على التقليد
في تمام المسائل.
الثاني: الظاهر أن سيرة العقلاء على تقديم الأعلم عند الاختلاف مختصة
في موارد إمكان الاحتياط بما إذا كان الفرق معتدا به، ولا يكفي فيه الأفضلية
بمرتبة ضعيفة، حيث يكون احتمال خطأ الأفضل معتدا به عند العقلاء.
نعم، مع تعذر الاحتياط لا يبعد عندهم الترجيح بذلك في فرض الاهتمام
بتحصيل الواقع، لأنه الأقرب في الجملة، لا لحجيته في مقام التعذير والتنجيز.
374

فالبناء على تعيين الأعلم مع قلة الفارق في المقام مبني على الاجماع
المدعى على جواز التقليد للعامي وعدم لزوم الاحتياط عليه، الذي تقدم
التعرض له في وجه التخيير مع التساوي، حيث يكون الأعلم ولو بمرتبة ضعيفة
هو المتيقن من ذلك.
أما بناء على التساقط ولزوم الاحتياط مع عدم المرجح فاللازم البناء عليه
في الفرض بعد ما ذكرنا من قصور السيرة عن الترجيح. وكما ذكرنا ذلك في
تقريب مقتضى الاجماع المذكور. فلاحظ.
الثالث: إن علم تساوي المجتهدين أو تفاضلهم مع تعيين الأفضل
فالعمل على ما سبق.
أما لو احتمل كون بعضهم أفضل فإن كان معينا وجب تقليده بناء على
تمامية التخيير مع التساوي، للعلم بحجيته تعيينا أو تخييرا أو الشك في حجية
غيره، نظير ما سبق في تقريب الأصل مع العلم بالأعلمية. أما بناء على التساقط
مع التساوي فاللازم التوقف في المقام، لعدم ثبوت الأعلمية المرجحة، فلا
يكون الشخص المذكور معلوم الحجية.
وإن كان محتمل الأعلمية مرددا لم يصلح للترجيح، كما هو الحال لو علم
بالتفاضل وتردد الأفضل بين شخصين، بل يجب الفحص لتعيين الحجية
والعمل عليها، لما دل على وجوب تعلم الاحكام.
واللازم الاحتياط في مدة الفحص، لعدم ثبوت التخيير فيه بعد ما سبق من
عدم الدليل عليه الا الاجماع المعتضد بأن الاقتصار في التقليد على موارد
الاتفاق في الفتوى واحراز الأعلمية في المعين مع الاختلاف مستلزم لقصور
التقليد وعدم وفائه بحاجة المكلفين الرافعة للعسر والحرج واختلال النظام،
لكثرة موارد وجوب الاحتياط حينئذ.
إذ من الظاهر أن ذلك لا ينهض باثبات التخيير في مدة الفحص، لقصرها
375

غالبا.
نعم، لو طالت المدة ولزم المحذور المذكور لم يبعد جواز تقليد أحدهم
تخييرا مع البقاء على الفحص بالمقدار الممكن.
وأما ما تقدم في فرض التساوي بين المجتهدين من أنه لو لم نقل
بالتخيير فيختص وجوب الاحتياط مع الاختلاف بمن يتعذر عليه تمييز مقتضى
الأصل في الواقعة التي يبتلى بها، وأنه مع القدرة على تمييزه يجوز العمل
بالأصل الترخيصي، فهو مختص بفرض عدم حجية ما وصل إليه من فتاوى
المجتهدين لسقوطها بالمعارضة، ولا يجري في المقام، حيث يعلم أو يحتمل
أعلمية أحدهما المستلزم لحجيته وان لم يعلم بعينه، لان ما دل على وجوب
التعلم مانع من الرجوع للأصل الترخيصي في زمان الفحص، وانما يجوز
الرجوع إليه بعد اليأس عن الظفر بالدليل، ومعرفة مؤداه، حيث يسقط وجوب
التعلم، لعدم الموضوع له.
ثم إنه مع اليأس عن معرفة الاجماع مع احتمال التفاضل أو العلم به فقد
يدعى عدم جواز تقليد أحد المجتهدين تخييرا، بل يلزم التوقف والاخذ
بأحوط القولين حتى بناء على التخيير مع التساوي. وأما مع احتمال التفاضل
فلعدم إحراز موضوع التخيير وهو التساوي.
وأما دعوى: أن موضوع التخيير هو عدم التفاضل، فمع إحرازه بالأصل
يتوجه البناء عليه.
فهي ليست بأولى من دعوى: أن موضوعه المتساوي الذي لا مجال
لاحرازه بالأصل، إذ لا طريق لتحديد مفهوم موضوع الحكم، ولا ينهض بذلك
دليل التخيير بعد كونه لبيا، وهو الاجماع المدعى ونحوه مما لا تصدي فيه
لذلك، وليس كالأدلة اللفظية التي يؤخذ فيها عناوين محددة المفهوم كثيرا.
وأما مع العلم بالتفاضل فللعلم بعدم التخيير وانحصار الحجة بالأعلم،
376

فيكون المقام من موارد اشتباه الحجة باللاحجة، الذي يلزم معه الاحتياط
بمتابعة جميعها فيما لو كان لكل من الأطراف فتاوى مطابقة للاحتياط يمتاز بها
عن الباقين، للعلم الاجمالي بقيام الحجة على بعض ما يطابق الاحتياط من
موارد الاختلاف.
نعم، لو انفرد بعضهم ببعض الفتاوى المطابقة للاحتياط دون غيره
بحيث كان بين فتاواه الاحتياطية وفتاواهم الاحتياطية عموم مطلق اتجه عدم
وجوب متابعته فيها لو كانت مخالفة للأصل، لعدم صلوحه لتنجيزها - لفرض
عدم ثبوت حجيته - وعدم كونها طرفا للعلم الاجمالي، بل يجوز الرجوع في
مواردها للأصول الترخيصية لو أدركها العامي.
ولعله لذا توقف سيدنا الأعظم قدس سره في منهاجه عن البناء على التخيير عند
تعذر تعيين معلوم الأعلمية أو محتملها مع بنائه على التخيير مع التساوي.
لكن توقفه عن التخيير مبني على عدم استيضاح عموم دليله، وهو
الاجماع على جواز التقليد للعامي وعدم تكليفه بالاحتياط.
وهو خلاف ظاهر معقده في كلماتهم، بل خلاف ما صرح قدس سره به في
مستمسكه في المسألة الواحدة والعشرين، والثامنة والثلاثين من مباحث التقليد.
بل قال في المسألة الثامنة، والثلاثين: " ولا تبعد دعوى السيرة أيضا على
ذلك، لندرة تساوى المجتهدين وغلبة حصول التفاوت بينهم ولو يسيرا،
وشيوع الجهل بالأفضل، وفقد أهل الخبرة في أكثر البلاد. وكون بنائهم على
الاحتياط في مثل ذلك بعيد جدا ".
وأنكر ذلك بعض مشايخنا مدعيا أن المورد من الموارد النادرة التي لا
يمكن تحصيل السيرة فيها، لغلبة التمكن من تعيين الأعلم ولو بالامارات
الشرعية، كما عليه عمل الناس في عصرنا وما سبقه من الاعصار.
لكن الانصاف صعوبة الاطلاع على الأعلمية بوجه معتبر شرعا، خصوصا
377

مع كثرة المجتهدين وتباعد أماكنهم وعدم ظهور أثر علمي لكثير منهم ليتسنى
تمييز حاله، ولا سيما مع عدم الداعي لكثير ممن يمتلك قابلية التمييز للتصدي
لذلك، لما فيه من الكلفة الزائدة وتحمل المسؤولية العظيمة.
وأما من هو متصل به من تلامذته ونحوهم فهم - بعد فرض حسن الظن
بهم والثقة بورعهم - كثيرا ما ينصهرون به، أو بمدرسته العلمية، بنحو لا تبتني
شهاداتهم له على اختياره مع غيره بوجه كاف، بل على الاعجاب به حتى
يعتقدون تفوقه وإن لم يختبروا غيره، أو على إلفة مطالبه العلمية والتنفر من
مطالب غيره، لبعدها عن أذواقهم المكتسبة منه أو من غيره. ومن هنا نرى
تضارب الشهادات كثيرا.
وليس عمل عامة الناس في عصورنا مبنيا على الالتفات لهذه النكات
والتحفظ على الميزان الشرعي، بل على الغفلة أو التسامح، فكثيرا ما يعتمدون
في تعيين المرجع على غير أهل الخبرة ممن لهم اتصال به من أهل العلم أو
ممن يتزيى بزيهم، كما تتدخل أمور جانبية كالشهرة والعواطف وغيرها في
تصرفهم كثيرا.
لكن ليس مرجع ذلك إلى قيام السيرة من عامة الناس على التخيير مع
العجز عن تعيين الأعلم، كما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره، بل إلى الغفلة أو التسامح
في تعيين المرجع مع عدم الخروج عن مقتضى السيرة الارتكازية على أهمية
الأعلمية ومرجحيتها.
ولا يخلو عن ذلك إلا الخاصة الذين لا تنعقد بعملهم سيرة صالحة
للاستدلال، لتبعية عملهم لفتاوى العلماء على اختلافها، فلا تكون دليلا عليها.
بل لا تصلح سيرة العامة لذلك أيضا - لو غض النظر عما مضى من ابتنائها
على الغفلة أو التسامح - لعدم إحراز اتصالها بحضور المعصومين عليهم السلام، للفرق
بين عصرنا وتلك العصور، حيث لا يبعد قلة الالتفات فيها للاختلاف وبناؤهم
378

معه على التوقف لتيسر معرفة الحكم بالرجوع للإمام عليه السلام
كما أنه سبق عند الكلام في التساوي الاشكال في الاستدلال بالاجماع
المتقدم هناك فضلا عنه هنا.
فالعمدة في وجه تعميم التخيير للمقام ما سبق ذكره عاضدا للاجماع في
فرض التساوي من أن البناء على مقتضى القواعد في التقليد من التساقط مع
الاختلاف مستلزم لكثرة موارد الاحتياط بسبب ظهور آراء المجتهدين وكثرة
اختلافهم وعدم تحقق المرجح ثبوتا أو إثباتا، وهو مستلزم للحرج، بل اختلال
النظام.
بل لازمه قصور تشريع التقليد عن الوفاء بحاجة المكلفين، وهو بعيد عن
مذاق الشارع الأقدس في التسهيل عليهم والرفق بهم، بنحو يقطع معه باكتفائه
بالتخيير.
وإن كان المتيقن من ذلك ما إذا لزم من الاحتياط العسر بمقدار معتد به،
كما ذكرناه هناك أيضا.
ومنه يظهر أن الفحص اللازم عن الأعلم هو الفحص بالمقدار الذي لا
يلزم منه الحرج أو اختلال النظام.
ثم إنه لا يبعد بناء على التخيير مع تعذر معرفة الأعلم ترجيح مظنون
الأعلمية - كما جزم السيد الطباطبائي قدس سره في العروة الوثقى - لعدم القطع بالتخيير
بينه وبين غيره، فيتعين اختياره، للدوران فيه بين التعيين والتخيير. فلاحظ. والله
سبحانه وتعالى العالم العاصم، ومنه نستمد العون والتوفيق.
الرابع: سبق أنه مع إحراز اتفاق المجتهدين في الفتوى يجوز الرجوع
لكل منهم وان كان مفضولا، ومع إحراز اختلافهم يلزم اختيار الأعلم مع معرفته
والفحص عنه مع الجهل به، مع الكلام في التخيير مع التساوي أو تعذر معرفة
الأعلم.
379

أما مع الجهل بالاختلاف فقد صرح غير واحد بجواز الرجوع للمفضول
وعدم وجوب الفحص عن الاختلاف. وقد استدل عليه بوجوه..
أولها: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من إطلاق أدلة الحجية. قال: " واحتمال
الاختلاف بين الفتويين الموجب لسقوط الاطلاق عن الحجية لا يعتنى به في
رفع اليد عن الاطلاق، كما في سائر موارد التخصيص اللبي ".
وقد أشار بذلك إلى ما بنى عليه قدس سره من جواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية من طرف الخاص، إذا كان المخصص لبيا، كما في المقام، إذ لا دليل
على قصور الاطلاق عن شمول الفتويين المتعارضتين إلا حكم العقل بامتناع
حجيتهما معا.
لكن المبنى المذكور - مع أنه غير تام في نفسه، على ما ذكرناه في مباحث
العموم والخصوص - مختص عندهم بما إذا كان المخصص خفيا غير مانع من
انعقاد ظهور العام في العموم، ولا يشمل ما لو كان جليا مانعا من انعقاده، كما في
المقام، حيث يرجع للتمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام،
الممتنع بلا كلام، كما نبه له شيخنا الأستاذ قدس سره.
مضافا إلى لزوم الاقتصار في ذلك على الشبهات الموضوعية التي لا
يجب الفحص فيها، دون مثل المقام مما كان مرجع الشك فيه إلى الشك في
الحكم الشرعي الكلي، لان ما دل على وجوب الفحص صالح لتنجيز احتمال
التخصيص، ومع تنجيزه تمتنع حجية العام، على ما سيأتي توضيحه.
ثانيها: ما في التقريرات من أصالة عدم المعارض. حيث يحرز بذلك
بقاء الفتوى تحت دليل الحجية وعدم المانع منها.
وهو راجع في الحقيقة إلى التمسك بإطلاق دليل الحجية، بضميمة
الأصالة المذكورة.
لكن ذلك قد يتم مع عدم تنجز احتمال وجود المعارض في نفسه، دون
380

مثل المقام مما كان مرجع الشك فيه إلى الشك في الحكم الشرعي الكلي، حيث
يكون دليل وجوب الفحص منجزا لاحتمال وجود المعارض ومانعا من
الرجوع للأصالة المذكورة.
على أن المراد بأصالة عدم المعارض إن كان هو الاستصحاب الشرعي -
كما لعله الظاهر من التقريرات - كان راجعا لما ذكره غير واحد من استصحاب
عدم المعارض الأزلي، بلحاظ حال ما قبل وجود الفتوى.
وأشكل: بأن التعارض لم يؤخذ بعنوانه في الأدلة مانعا من الحجية، لينفع
استصحاب عدمه في البناء عليها، لوضوح أن دليل عدم حجية المتعارضين
ليس لفظيا عنوانيا، بل لبي راجع إلى استحالة حجية المتعارضين بواقعهما، بنحو
تقصر عمومات الحجية في مورد التعارض بنتيجة التقييد، لا بالتقييد العنواني،
ليكون موضوع الحجية مركبا من أمر وجودي محرز بالوجدان، وهو وجود
الدليل أو الفتوى، وأمر. عدمي محرز بالأصل، وهو عدم المعارض له.
وإن أريد بها الأصل العقلائي بدعوى: أن بناء العقلاء على العمل بالدليل
الواصل، وعدم الاعتناء باحتمال وجود المعارض له، لتحقق مقتضي الحجية
فيه، ولا يعتنى باحتمال المانع فالظاهر تماميته في نفسه.
وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من عدم إحراز مقتضي الحجية في
الفتوى الواصلة قبل الفحص، لان بناء العقلاء على الرجوع للأفضل من غير
فحص، ولغيره بعد الفحص وعدم العثور على معارضته بفتوى الأفضل.
فهو ممنوع، بل مقتضي الحجية تام في فتوى المفضول قبل الفحص عن
المعارض، لكونه من أهل الخبرة، فتكشف فتواه نوعا عن الواقع، ولا أثر لوجود
الأفضل في ذلك.
وتقديم فتوى الأفضل عليه إنما هو بملاك كونه أقوى الحجتين، فيمنع
من فعلية حجية أضعفهما. فلا يكون الفحص في المقام متمما لمقتضي الحجية
381

في فتوى المفضول، بل هو فحص عما يمنع منها، فلا يجب بمقتضى سيرة
العقلاء المشار إليها.
وهو لا ينافي ما سبق منا من صلوح فتوى الأفضل بنظر العقلاء للكشف
عن خطأ المفضول وعدم كونه من أهل الخبرة. إذ انكشاف خطئه بفتوى
الأفضل لا ينافي دخوله في أهل الخبرة قبل ثبوت خطئه، بنحو يتم فيه مقتضي
الحجية.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في عدم اعتناء العقلاء باحتمال وجود
المعارض، وإن كان الواصل هو فتوى المفضول.
نعم، قد يدعى اختصاصه بما إذا لم يكن وجود المعارض متوقعا، لعدم
ظهور الخلاف بين أهل الخبرة أو ندرته بسبب قرب مقدمات الاجتهاد من
الحس أو قلتها أو قلة الخطأ فيها.
وأما مع ظهوره في كثير من الموارد بسبب ابتناء الاجتهاد عن مقدمات
نظرية يكثر فيها الخطأ والاختلاف - كما في المقام - فلا يتضح بناؤهم على
إهمال احتمال المعارض مع امكان الفحص عنه، بل لعل بناءهم على الفحص
عنه، وعدم العمل بالدليل الواصل إلا بعد اليأس عن العثور على المعارض نظير.
ما قد يذكر في مبحث العموم والخصوص من أن معرضية العام للتخصيص
مانعة من العمل به قبل الفحص عن المخصص.
وإن كان الامر محتاجا للتأمل.
ثالثها: سيرة المتشرعة من أصحاب الأئمة عليهم السلام ومعاصريهم من الشيعة
على أخذ الفتوى من دون فحص عن المعارض.
والتشكيك فيها من بعض المحققين قدس سره في غير محله، إذ لو كان مبناهم
على الفحص لبان وظهر بعد كونه على خلاف سيرة العقلاء العامة في جميع
موارد الرجوع لأهل الخبرة، بل في جميع موارد الطرق المعتبرة، فإن مبناهم
382

على عدم الفحص عن المعارض لها، لما سبق من بنائهم على أصالة عدمه.
ويشهد بعدم فحص المتشرعة عن المعارض ما سبق من عدم تقيدهم
بالرجوع للأفضل، بل يرجعون لكل من يتهيأ لهم الرجوع إليه، حيث سبق ابتناء
ذلك منهم على عدم ثبوت الاختلاف عندهم.
ويشكل: بأن سيرتهم لما كانت متفرعة على سيرة العقلاء فقد عرفت أن
المتيقن من سيرة العقلاء صورة عدم توقع المعارض، لعدم ظهور الاختلاف
بين أهل الخبرة أو ندرته بسبب قرب مقدمات المعرفة من الحس أو قلتها،
وذلك جار في سيرة المتشرعة في العصور السابقة، حيث لم يتضح شيوع
الخلاف بين العلماء لعامة الشيعة ليلتفتوا له، ولم يتضح إهمالهم الفحص عنه مع
توقعه واحتماله بوجه معتد به كما هو الحال في هذه العصور التي اتضحت فيها
كثرة الخلاف بسبب انتشار آراء العلماء في رسائلهم العملية وغيرها.
نعم، قد يتجه ذلك في عصورنا في حق جملة من العوام ممن لا يختلط
بأهل العلم، حيث قد يغفل عن الاختلاف، لتخيل وضوح الاحكام تبعا لأدلتها،
وفي مثله لا مانع من الالتزام بحجية الفتوى الواصلة في حقه مع عدم الفحص
عن المعارض.
والذي ينبغي أن يقال: فحص العامي عن الفتوى المعارضة للفتوى
الواصلة كفحص المجتهد عن الدليل المعارض أو المخصص أو المقيد للدليل
الواصل، حيث يشتركان في دليل الوجوب، لان الدليل على وجوب الفحص
على المجتهد أحد أمور..
الأول: معرضية الأدلة الواصلة للمعارضة والتخصيص والتقييد ونحوها.
وهو حاصل في عصورنا بالإضافة لفتاوى المجتهدين في حق كثير من العوام
ممن يخالط أهل العلم ويلتفت لاختلاف العلماء، كما ذكرنا.
الثاني: العلم الاجمالي بوجود المعارض والمخصص والمقيد ونحوها
383

للأدلة الواصلة في المسائل التي هي محل ابتلاء المكلف. وهو حاصل أيضا
بالإضافة لفتاوى المجتهدين في حق كثير من العوام ممن ذكرنا.
نعم، يختص وجوب الفحص لأجله بما يكون طرفا للعلم الاجمالي
المذكور من فتاوى المجتهد، دون ما هو خارج عن أطرافه، لعدم عموم البلوى
بالمسألة، أو لكونها من المسائل المستحدثة التي لم يحرز نظر المجتهدين
الآخرين فيها، أو لتجدد اجتهاد المجتهد أو احتمال أعلميته بعد تنجز احتمال
الخلاف بين غيره، بحيث لا يعلم إجمالا بحدوث الخلاف منه في غير الموارد
التي هي محل الخلاف بين غيره.
ولعل ما عن بعض الأعاظم قدس سره من اختصاص وجوب الفحص عن رأي
الأعلم بالمسائل التي تعم بها البلوى، مبني على هذا الوجه.
الثالث: ما دل على وجوب الفحص عن الاحكام وتعلم الحلال والحرام
مما يأتي التعرض له في الخاتمة إن شاء الله تعالى، بناء على أنه كما يقتضى
وجوب الفحص عن الأدلة في حق المجتهد يقتضي وجوب الفحص عن
المعارض في حقه فيجري ذلك في حق العامي، فكما يجب عليه الفحص عن
فتوى المجتهد يجب عليه الفحص عن الفتوى المعارضة لها.
وأما ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من العلم بانتفاء الخطر من قبل الفتوى غير
الواصلة، إما لموافقتها للفتوى الواصلة، أو لكونها معارضة لها، فتسقط عن
الحجية لامتناع حجية المتعارضين، فلا يجب الفحص عنها عقلا
فيندفع: بأنه لا يتم مع أعلمية المفتي بها ومخالفتها للفتوى الواصلة،
حيث تكون هي الحجة الفعلية، دون الفتوى الواصلة، فلا يجوز إهمالها. وكذا
مع التساوي لو قلنا بالتساقط ولزوم الاحتياط، إذ الفتوى غير الواصلة وان لم
تكن موردا للخطر، إلا أنها إذا كانت مخالفة للفتوى الواصلة كان الموجب
للاحتياط بعد تساقط الفتويين هو المنجز الذي يجب الفحص عن شموله
384

للمورد، نظير فحص المجتهد عن المعارض لدليل الإباحة في مورد يكون
مقتضى تساقط الدليلين عدم البناء عليها.
هذا كله بناء على شمول أدلة وجوب التعلم للفحص عن المعارض، لكن
يأتي في الخاتمة المنع من ذلك. فلا مجال للتعويل على هذا الوجه، كما لا مجال
هنا للتعويل على الاجماع الذي يأتي الاستدلال به هناك، لعدم وضوح ثبوته في
حق العامي فالعمدة ما سبق. ثم إنه مع العلم بحجية الفتوى الواصلة تعيينا أو
تخييرا لا يجب الفحص عن الاختلاف.
ولعله خارج عن محل كلامهم، كما لو كانت الفتوى الواصلة للأعلم أو
بني على التخيير مع التساوي. وكذا لو كانت موافقة للأصل الجاري بعد التساقط.
تتميم
لو علم بعدم الفتوى للمجتهدين في المسألة، لعدم نظرهم فيها، للغفلة
عنها أو لفقد الداعي للنظر فالظاهر وجوب سؤال العامي من أحدهم لينظر فيها
ويعرفه حكمها، لعموم ما دل على وجوب الفحص عن الاحكام، ولا يجوز له
العمل بالأصول الترخيصية، لاحتمال عدم تحقق موضوعها بسبب وجود الدليل
المخرج عنها وامكان وصوله إليه بالسؤال من المجتهد المذكور.
ودعوى: عدم صدق العناوين المأخوذة في أدلة التقليد الشرعية من
العالم والفقيه ونحوهما على المجتهد المذكور بالإضافة إلى المسألة المذكورة،
لعدم علمه بحكمها.
مدفوعة: بأن قصور أدلة التقليد الشرعية - لو سلم، لحمل العناوين
المذكورة على الفعلية لا الملكة - لا يهم بعد عموم سيرة العقلاء له.
على أنها إنما تقصر عنه حين سؤاله الذي لا يجب بأدلة التقليد، بل بأدلة
وجوب الفحص عن الاحكام، أما بعد سؤاله وصدور الفتوى منه فهي تعمه
385

وتقتضي حجية فتواه، وبالجملة: لا ينبغي الاشكال في وجوب السؤال من أحد
المجتهدين المذكورين لو لم يصل للعامي فتوى تكون حجة له.
وإنما الاشكال في أنه لو أفتى المجتهد في مسألة وأمكن السؤال من غيره
ممن لم ينظر فيها فهل يجب السؤال منه لاحتمال مخالفته للمفتي الأول لو
كانت تمنع من حجية فتواه، أو لا، بل يجوز الاكتفاء بالفتوى الأولى، والعمل
عليها، لانحصار الحجة بها فعلا؟
ربما يقال بالثاني، لعدم المعارض الفعلي للفتوى الواصلة فيعلم بحجيتها
فعلا وإن كان صاحبها مفضولا، ووجوب الفحص عنها مع عدم وجود غيرها
لأدلة وجوب تعلم الاحكام لا تقتضي وجوبه مع وجود فتوى فعلية حجة في
نفسها بعد ما أشرنا إليه من قصور أدلة وجوب التمام عن الفحص عن
المعارض، وبقية الوجوه المتقدمة من العلم الاجمالي وغيره غير شاملة للمقام،
فالبناء على الاكتفاء وبالفتوى الواصلة هو المتعين.
المسألة السابعة: ظاهر بعض الأصحاب وصريح آخرين منهم عدم
جواز التقليد لواجد ملكة الاجتهاد، وأن عليه أن يستقل بالنظر، بل عن رسالة
شيخنا الأعظم قدس سره في الاجتهاد والتقليد دعوى الاجماع على ذلك.
ويقتضيه الأصل بعد قصور أدلة التقليد عن شموله، لان عمدتها سيرة
العقلاء على رجوع الجاهل للعالم، وهي تقصر عن رجوع واجد الملكة القادر
على الاستقلال بالنظر للغير في مورد احتمال الخطأ، بل الظاهر بناؤهم على
استقلاله بالنظر.
وأما الأدلة الشرعية فهي بين ما هو قاصر عنه، كمرسل الاحتجاج المتقدم
المتضمن جواز التقليد للعامي، الذي لا يصدق عرفا على واجد الملكة، وما هو
منصرف عنه، لوروده جريا على السيرة العقلائية التي عرفت قصورها عنه، ولا
يتضح هناك إطلاق شامل له.
386

وما قد يظهر من بعض مشايخنا من التشكيك في ذلك في غير محله.
نعم، لا يبعد بناء العقلاء على رجوع واجد الملكة لغيره في الاجتهاديات
التي لا يتوقع الخطأ فيها، لقرب مقدمات الاجتهاد فيها من الحس، فتكون موردا
لأصالة عدم الخطأ كالحسيات، دون الاجتهاد آيات الدقيقة التي هي معترك الآراء
ومورد النقض والابرام والاخذ والرد، والتي هي معرض للخطأ، كالاجتهاد في
عصورنا في الأحكام الشرعية، حيث لا مجال للبناء على قيام سيرة العقلاء على
تقليد واجد الملكة لغيره فيها.
ومنه يظهر أنه لا مجال للاستدلال على جواز تقييد واجد الملكة بسيرة
المتشرعة في الصدر الأول عليه. بدعوى قابلية كثير منهم في تلك العصور لتلقي
الاحكام من المعصومين عليهم السلام مع اكتفائهم بأخذ الحكم من الرواة ونحوهم من
المتفقهين، لوضوح عدم اقتصار الاخذ من هؤلاء على من لا قابلية له لفهم
الحكم من خطابهم عليهم السلام، بل يعم من هو قابل لذلك، مع عدم الفرق بينه وبين
من يأخذ عنه الا في السماع منهم عليهم السلام كالفرق بين واجد الملكة الذي لم ينظر
في الأدلة وواجدها الناظر فيها والمستنبط منها.
لاندفاعها: بعدم توقع الخطأ في الاجتهاد سابقا، لابتنائه غالبا أو دائما على
مقدمات قليلة قريبة من الحس، وقد عرفت أن رجوع واجد الملكة فيه للغير
مقتضى السيرة العقلائية، ولم يتضح ابتلاؤهم بالاجتهادات الخفية النظرية
المعرضة للخطأ كما صار إليه الاجتهاد في عصورنا، ولو فرض ابتلاؤهم بها
والتفاتهم إليها فلم يتضح بناؤهم على رجوع واجد الملكة للغير فيها لينفع دليلا
في محل الكلام، وما هو النظير للمتيقن من سيرتهم في عصورنا هو الرجوع
للمتفقهين في آراء المجتهدين المطلعين عليها بمخالطة أهل العلم والنظر في
الرسائل العملية ونحوها حتى ممن له قابلية معرفتها بالمباشرة، وهو خارج عن
محل الكلام.
387

المسألة الثامنة: إذا عمل المكلف على فتوى المجتهد، ثم سقطت تلك
الفتوى عن الحجية في حقه، ووجب العمل على وجه اخر، فهل ينتقض التقليد
السابق في الوقائع التي عمل فيها على طبقه، فيجب تدارك الأعمال الواقعة على
طبقه - لو كانت قابلة للتدارك - على النحو الذي تقتضيه الحجة الجديدة، كما
يجب ترتيب سائر اثار بطلانها، كالتطهير في النجاسات، والضمان في الماليات
ونحوهما، أو لا ينتقض بل يجتزئ المكلف بما وقع؟
لا ينبغي التأمل في عدم الانتقاض بناء على إجزاء الامر الظاهري عن
الواقع، حيث لا يشك حينئذ في صحة الأعمال السابقة وترتب العمل عليها،
ليجب الرجوع فيها للحجة الجديدة، إلا أن ينكشف عدم كون التقليد الأولى
مقتضى الوظيفة الظاهرية وان أخطأ المكلف في تشخيصها للتقصير في
مقدماته. والظاهر خروجه عن محل كلامهم.
كما أنه يقصر عن إثبات عدم وجوب ترتيب آثار البطلان مما لا يرجع
للتدارك، على ما يذكر في محله في تحقيق المبنى المذكور من مبحث الاجزاء.
ولا مجال لا طالة الكلام فيه بعد ضعف المبنى، حيث لا مجال للتعويل
عليه في هذه المسألة، بل يلزم الرجوع فيها للقواعد العامة أو الأدلة الخاصة بها،
فالمهم تحقيق مفادها.
فاعلم: أن سقوط الفتوى السابقة عن الحجية يكون..
تارة: لثبوت خطئها للمقلد نفسه بالعلم أو باجتهاده لتأهله لذلك.
وأخرى: لظهور الخطأ للمفتي نفسه، لتبدل اجتهاده.
وثالثة: يكون العدول المقلد عن تقليد المفتي بأحد أسباب العدول
التخييرية أو الالزامية، كالموت، والجنون، والفسق، على الكلام السابق.
ولا إشكال في أن مقتضى القاعدة انتقاض التقليد السابق في الصورة
الأولى، أما مع العلم فظاهر، وأما مع الاجتهاد فلوضوح عموم حجية الأدلة التي
388

استند إليها للوقائع السابقة، فكما تمنع من التقليد في الوقائع اللاحقة تمنع منه
في الوقائع السابقة.
ومنه يظهر عدم الاجزاء في الصورة الثانية، لوضوح أن مستند الاجتهاد
اللاحق لما كان هو الأدلة التي تعم الوقائع السابقة كان مقتضاها عاما لها فيلزم
رفع اليد به عن مقتضى الاجتهاد السابق فيها، لظهور خطئه، ومع ظهور الخطأ
للمفتي نفسه لا يرى العقلاء جواز التعويل على فتواه، على ما سبق في المسألة
الثانية.
بل لا يبعد ذلك فيما لو كان عدوله لنسيان المستند من دون أن ينكشف
له الخطأ، بناء على ما هو الظاهر من عدم التعويل على الفتوى السابقة حينئذ، بل
يتعين التعويل على الاجتهاد اللاحق، الذي يعم - تبعا لأدلته - الوقائع السابقة.
ودعوى: قصور أدلة حجية الاجتهاد اللاحق في حق العامي عن الوقائع
السابقة التي عمل فيها. على طبق الفتوى الأولى، لان وجوب الرجوع للمجتهد
لما كان طريقيا كان مختصا بالوقائع التي هي محل الابتلاء والتي يحتاج فيها
للحجة، دون الوقائع السابقة التي عمل فيها على طبق الحجة وانتهى منها.
مدفوعة: بأن ترتب الأثر بالإضافة إلى الوقائع السابقة بمثل وجوب
التدارك ونحوه كاف في الابتلاء الملزم بالرجوع للحجة الفعلية المطابقة
للاجتهاد اللاحق، فكما يعمل عليه في وجوب التدارك مع عدم العمل بالاجتهاد
السابق، في الوقائع السابقة - عمدا أو خطأ - وفي كيفية التدارك يعمل به مع العمل
بالاجتهاد السابق.
ومما تقدم يظهر الوجه في عدم الاجزاء في حق المجتهد نفسه.
كما يظهر الاشكال: في ما في الفصول من دعوى عدم تحمل الواقعة
لاجتهادين ولو في زمانين، لعدم الدليل عليه.
إذ يكفي في الدليل عليه إطلاق أدلة الاجتهاد الثاني الشاملة للوقائع
389

السابقة، كما تشمل الواقعة الحاضرة لو كان العدول قبل العمل فيها أو بعده مع
بقاء الوقت.
وأما في الصورة الثالثة فلا يبعد البناء على عدم الاجزاء إذا كان العدول
لأعلمية المعدول إليه، لعدم الفرق في بناء العقلاء على ترجيح الأعلم بين سبق
الرجوع لغيره في الواقعة وعدمه، فيجب تدارك العمل في الوقائع السابقة على
طبق رأي الأعلم ولا يجتزأ برأي الأول فيها وان كان تقليده فيها حين الابتلاء بها
في محله، لانحصار الامر به في وقته.
ولا جله يخرج عن استصحاب حجية رأي الأول فيها الذي لولا ما سبق
لجرى في نفسه من دون شبهة التعليقية التي تقدمت الإشارة إليها عند الكلام في
تقليد الميت، لفعلية الابتلاء بالواقعة سابقا.
لكن ذكر بعض المحققين قدس سره في تقريب الاجزاء أن حجية - الفتوى بعنوان
تنزيل نظر المفتي منزلة نظر المستفتي ونيابته عنه في استفادة ما يرجع إليه، لا
بعنوان الطريقية للواقع، والا لزم تخصيص انتقاض التقليد بصورة كون المعدول
إليه هو الأعلم، لاضمحلال الحجة السابقة بسبب أقوائية اللاحقة، مع أن القائل
بانتقاض التقليد السابق لا يفرق بين العدول للأعلم والعدول لغيره - لموت أو
نحوه - فلابد من كون حجية فتوى المعدول إليه لانتهاء أمد حجية الأولى مثلا،
لا لاضمحلالها بقيام الثانية بسبب أقوائيتها منها.
فتكون الفتويان المتعاقبتان بمنزلة الفتويين المتعادلين الذين يؤخذ
بأحدهما تارة وبالاخر أخرى، حيث لا مجال لتوهم الانتقاض عند الاخذ
بالمتأخرة.
وكأن الفرق بين اضمحلال الحجية وانتهاء أمدها أنه على الأول تسقط
الفتوى عن الحجية رأسا، لخروجها عن قابلية الكشف، فلا يصح الاعتماد عليها
في الوقائع السابقة، أما على الثاني فلا تسقط عنها إلا في الوقائع اللاحقة مع
390

بقائها على الحجية في الوقائع السابقة فيصح الاعتماد عليها في عدم التدارك،
ولا ينتقض التقليد السابق.
نعم، يشكل ما ذكره قدس سره: بأن كون حجية الفتوى بعنوان تنزيل نظر المفتي
منزلة نظر المستفتي - لو تم - لا ينافي ابتناء العدول على اضمحلال حجية
الفتوى الأولى، بأن يعم التنزيل النظر في حكم الوقائع السابقة بنحو يقتضي
تداركها.
كما أن الطريقية لا تنافي ابتناء العدول على انتهاء أمد حجية الفتوى
الأولى، مع بقاء حجيتها بالإضافة إلى الوقائع السابقة.
بل لا مجال لجعل حجية الفتوى بعنوان التنزيل في قبال حجيتها من باب
الطريقية، لان التنزيل من وجوه الطريقية، لوضوح أن نظر المكلف لنفسه ليس
إلا لتحصيل الطريق للواقع، فتنزيل نظر الغير له منزلة نظره لا بد أن يكون لذلك
أيضا، لأنه في طوله.
غاية الامر أن طريقية نظر المفتي لتكليف المستفتي تارة لكونه طريقا
ابتدائيا - كالبينة - وأخرى يكون بعناية تنزيله منزلة نظر المستفتي.
فالمدار في كون العدول لانتهاء أمد الحجية وكونه لاضمحلالها على مفاد
دليله، فإن اختص بالوقائع اللاحقة رجع للأول - نظير التخيير الاستمراري بين
الخبرين المتعادلين لو تم - وان كان يعم الوقائع السابقة رجع للثاني، وقد عرفت
أن دليل العدول للأعلمية يقتضي الثاني.
وأما ما أورده عليه من لزوم تخصيص الانتقاض بصورة أعلمية المعدول
إليه.
فهو - مع عدم كونه محذورا - غير لازم، لا مكان استفادة عموم وجوب
العدول للوقائع السابقة في غير مورد الأعلمية من أدلته اللفظية أو اللبية، ومع
عدمه يكون انتقاض التقليد في المورد المذكور خاليا عن الدليل، لا أنه
391

يستكشف بذلك كون جميع موارد العدول تبتني على انتهاء أمد الحجية دون
اضمحلالها حتى العدول الناشئ من الأعلمية، ليخرج بذلك عما عرفت من
ابتناء العدول للأعلمية على الاضمحلال. فلاحظ.
وأما إذا لم يكن العدول لأعلمية المعدول إليه، بل لأمر تعبدي من موت
أو نحوه - على ما سبق الكلام فيه - فإن كان لدليله إطلاق يعم الوقائع السابقة
بنحو ينافي بقاء حجية الأول فيها يتجه البناء على عدم الاجزاء أيضا.
بخلاف ما إذا لم يكن لدليله إطلاق يعمها. إما لكونه لبيا من إجماع أو
نحوه - كما قيل أنه العمدة في وجوب العدول مع الموت - حيث كان المتيقن
منه الوقائع اللاحقة أو السابقة التي عمل فيها برأيه، إذ لا إجماع على حجيته،
كيف وقد اشتهر القول بالاجزاء فيها، بل ادعي عليه الاجماع.
أو لكونه لفظيا يختص بالوقائع اللاحقة، كما هو الحال بناء على ما ذكره
بعض مشايخنا في وجه وجوب العدول مع الموت من لزوم تحقق العناوين
المأخوذة في الأدلة الشرعية من الفقيه والعالم ونحوهما حين الرجوع للمفتي
الذي هو وقت سؤاله، فلا يجوز تقليد الميت لو احتيج لسؤاله للجهل بفتواه وإن
جاز العمل بفتواه مع العلم بها، لوضوح أن الجهل بفتواه إنما يقتضي السؤال
بالإضافة إلى الوقائع اللاحقة التي يراد العمل فيها وكذا السابقة التي لم يعمل
فيها ويراد تدارك العمل فيها، دون السابقة التي عمل فيها على طبق فتوى
الميت، حيث يعلم بمطابقة فتواه للعمل الواقع بنحو لا يحتاج للتدارك لو كانت
حجة بلا حاجة إلى السؤال منه.
وحينئذ يتعين الاجزاء أما مع أعلمية المعدول عنه فظاهر، لعموم بناء
العقلاء على حجية رأي الأعلم فيقتصر في الخروج عنه على المتيقن. وأما مع
عدم أعلميته أو عدم ثبوتها فلا طلاق الأدلة المصححة لتقليده سابقا ولو
بضميمة استصحاب حجية فتواه بالإضافة إلى الوقائع السابقة الذي سبق جريانه
392

في نفسه من دون شبهة التعليقية.
من دون فرق في الصحة والاجزاء بين العبادات والمعاملات وغيرهما،
وإن قيل إن العبادات هي المتيقن من الاجماع المدعى، إذ ليس الدليل على
الاجزاء الاجماع، بل القاعدة التي لا مخرج عنها من إجماع أو نحوه.
لكن لازم ذلك سقوط حجية كل من المعدول إليه والمعدول عنه لو كانا
متبايني المضمون، بحيث يلزم من العلم بكذب أحدهما علم إجمالي
بالتكليف، كما لو عمل على فتوى القائل بالقصر مدة، ثم عدل منه إلى القائل
بالتمام، حيث يعلم إجمالا إما بوجوب تدارك ما مضى وقضائه تماما، أو
بوجوب القصر عليه في ما يأتي، ولا يخرج عن العلم المذكور إلا بالجمع بين
الامرين بقضاء ما سبق تماما والجمع بين القصر والتمام في ما يأتي.
مع أن الظاهر عدم الاشكال بينهم في الاجتزاء بمقتضى التقليد اللاحق
مطلقا. فإن تم كشف إما عن سقوط حجية فتوى المعدول عنه حتى بالإضافة
للوقائع السابقة وعموم حجية فتوى المعدول له لها، أو عن اكتفاء الشارع
بالموافقة الاحتمالية للعلم الاجمالي المذكور بنحو يكفي موافقة فتوى المعدول
إليه في الوقائع السابقة واللاحقة، أو عن الاجزاء الواقعي، بموافقة التقليد السابق
على خلاف مقتضى الأصل في الحكم الظاهري، على ما سيأتي الكلام فيه.
هذا كله بحسب القواعد العامة، وأما بحسب الأدلة الخاصة فقد يستدل
للاجزاء..
تارة: بلزوم العسر والحرج، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد،
كما في الفصول.
وأخرى: بما فيه أيضا من أن حكمة تشريع الاجتهاد الوثوق في العمل
على طبقه، ومع عدم الاجزاء ترتفع الحكمة المذكورة.
وثالثة: بالاجماع المدعى في كلام بعض، ففي التقريرات عن بعض
393

الأفاضل في تعليقاته على المعالم أنه ظاهر المذهب، وعن المناهج نفي القول
من أحد بعدم الاجزاء. وقال سيدنا الأعظم قدس سره: " بل نسب إلى بعض دعوى
صريح الاجماع بل الضرورة عليه ".
نعم، عن بعض الأعاظم قدس سره أن المتيقن منه العبادات، وربما قيل: ان
المتيقن منه الصلاة.
ورابعة: بسيرة المتشرعة، لابتلائهم بذلك كثيرا، خصوصا بناء على
المشهور من عدم جواز البقاء على تقليد الميت، فلو كان بناؤهم على عدم
الاجزاء لزم الهرج والمرج.
وهذه الوجوه - كما ترى - لا تختص بالعدول للأعلمية، بل الظاهر
عمومها لعدول الفقيه عن فتواه - الذي تقدم في الصورة الثانية - بل هو صريح
الأول.
لكن يندفع الأول: - مع عدم اطراده - بأنه لا يقتضي الاجزاء والحكم
بصحة العمل واقعا أو ظاهرا، بل عدم وجوب التدارك ولو مع بطلان العمل، كما
لو كان قضاء الحج حرجيا. مضافا إلى عدم جريانه في حقوق الناس، لمنافاته
للامتنان في حقهم الذي هو مبنى في قاعدة نفي الحرج.
نعم، قد يكون لزوم الحرج نوعا كاشفا أو مؤيدا لجعل التقليد بنحو
يقتضي الاجزاء، كما سيأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.
لكنه لا يرجع إلى قاعدة نفي الحرج التي ذكرنا وجوه الاشكال في
الاستدلال بها.
كما يندفع الثاني بالنقض بغير واحد من موارد عدم الاجزاء في خطأ
الطرق الظاهرية أو تبدل مفادها تبعا لتبدل موضوعاتها، كما في كثير من
الامارات والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية، وفيما لو قطع المجتهد
بخطأ اجتهاده الأول، حيث اعترف في الفصول بعدم الاجزاء معه.
394

ودعوى: عدم صحة النقض به لندرته وشذوذه.
مدفوعة: بأن الندرة لا تصحح نقض الغرض. مع أنه لو تمت الندرة في
عصورنا فمن الظاهر كثرة حصول القطع بالخطأ في عصور الأئمة عليهم السلام لكثرة
موارد تيسر العلم. على أنه لا دليل على أن حكمة الاجتهاد وغيره من الطرق
الظاهرية هو الوثوق بعدم الاحتياج للتدارك، بل لعل حكمتها مجرد تشخيص
الوظيفة عند الابتلاء بالواقعة. فهذا الوجه استحساني لا ينهض دليلا كما
اعترف به قدس سره.
وأما الثالث فلا مجال له في مثل هذه المسألة المستحدثة التحرير، ولا
سيما مع إنكار مثل شيخنا الأعظم قدس سره. قال في التقريرات في بيان القول بعدم
الاجزاء: " وفاقا للنهاية، والتهذيب، والمختصر، وشروحه، وشرح المنهاج، على
ما حكاه سيد المفاتيح عنهم، بل وفي محكي النهاية الاجماع عليه، بل وادعى
العميدي قدس سره الاتفاق على ذلك... "، ومع إطلاق جماعة عدم الاجزاء في الامارات
والطرق الظاهرية.
وأما الرابع فقد استشكل فيه غير واحد بمنع السيرة، وذكر بعض مشايخنا
أنها - لو تمت - مستندة في أمثال عصرنا إلى فتوى المجتهدين ولا يحرز اتصالها
بعصر المعصومين عليهم السلام.
أقول: لا ريب في ابتناء معرفة الاحكام في عصور الأئمة عليهم السلام على الخطأ
كثيرا، لعدم وضوح فتاواهم عليهم السلام لشيعهم بسبب انتشار فقهاء العامة وتعارف
الاخذ منهم للغفلة قبل عصر الصادقين عليهم السلام عن امتياز الفرقتين واختلافهما في
الفروع، كما يشهد به قلة روايات الشيعة عن من قبلهما من الأئمة عليهم السلام وكثرة
رواياتهم منهما وممن بعدهما منهم عليهم السلام خصوصا في الفروع المهمة التي يكثر
الابتلاء بها، كالطهارة الحدثية والخبثية والصلاة وغيرهما بنحو يظهر منه خفاء ما
هو من الضروريات الفقهية اليوم عليهم، وبعد تميز الفرقتين والالتفات
395

لاختلافهما في الفروغ وتنبه الشيعة لوجوب الاخذ منهم وعدم الركون لغيرهم
كان وصول أحكامهم عليهم السلام لشيعتهم تدريجيا مشفوعا بأسباب الضياع والاشتباه
من التقية والخطأ والكذب وضياع كثير من القرائن، ولذا اختلفت الاخبار كثيرا،
مع عدم تيسر انتشار الروايات وعدم وصولها للكل في أول الامر، بل كان
وصولها وانتشارها بين الشيعة تدريجيا.
ولازم ذلك تعرض أصحاب الأئمة عليهم السلام وشيعتهم للاطلاع على خطأ ما
وصل إليهم كثيرا، إما بالسؤال منهم عليهم السلام أو بوصول أحاديث أخر مخالفة لما
وصل لهم، فلو كان البناء مع ذلك على عدم الاجزاء بعد انكشاف الخطأ ولزوم
التدارك لوقع الهرج والمرج واضطرب نظامهم، ولكثر منهم السؤال عن حكم
الأعمال الماضية ولزوم تداركها وما يتعلق بذلك من فروع، مع عدم الأثر لذلك
فيما عثرت عليه من النصوص، حيث يظهر من ذلك المفروغية عن الاجزاء.
وهو المناسب لما ارتكز من سهولة الشريعة وعدم ابتنائها على الحرج
والضيق وعدم إيقاعهم عليهم السلام لأوليائهم وشيعتهم إلا في ما يسعهم رأفة بهم
ورحمة لهم وتداركا لما ابتلوا به نتيجة ظلم الظالمين من مشاكل أوجبت صعوبة
القيام عليهم بالوظائف الشرعية الواقعية الأولية، ولذا أحلوا لهم الخمس ونحوه
مما يكون لهم عليهم السلام واكتفوا منهم في بعض الأحكام بما يلزمهم به حكام الجور،
وأمضوا أحكامهم في الخراج والمقاسمة ونحو ذلك.
كما قد يعتضد أو يتأيد بالنصوص المتضمنة تعمد الأئمة عليهم السلام بيان
خلاف الواقع للتقية، حيث قد يكون مقتضى إطلاقها المقامي الاجزاء. فتأمل.
والعمدة السيرة في المقام التي يقرب نهوضها بإثبات الاجزاء.
ودعوى: أن المتيقن منها ما لو لم يكن الخطأ موجبا لبطلان العمل، كما
في موارد حديث: " لا تعاد الصلاة... ". ونحوها، ولم يعلم ابتلاؤهم بغير ذلك.
ممنوعة جدا، لكثرة اختلاف الفقهاء والاخبار في غير الموارد المذكورة،
396

كتحديد الكر، والوضوء، والنجاسات، والقصر والاتمام، والتذكية وغيرها
مما يكون الاخلال فيه مبطلا له، وموجبا لترتب القضاء والضمان ونحوهما،
فعدم اهتمام المتشرعة بتمييز الموارد المذكورة شاهد بالمفروغية عن عموم
الاجزاء.
نعم، لا يبعد اختصاص السيرة بالعبادات ونحوها مما يقتضي البطلان فيه
بعض الآثار التي هي من سنخ التدارك والتبعة، كالقضاء، والضمان، والكفارات
ونحوها، أما ما لا يكون من سنخ التدارك، بل من سنخ الجري على مقتضى
العمل السابق وترتيب اثار صحته فلا يتضح قيام السيرة عليه بعد انكشاف
البطلان.
فمن ذكى بغير الحديد - مثلا - لم يبعد توقفه عن أكل اللحم بعد انكشاف
الخطأ له، وكذا من تزوج امرأة بوجه قام الدليل عنده على مشروعيته لم يبعد
توقفه عن مباشرتها وترتيب آثار الزوجية بعد انكشاف البطلان ونحو ذلك، ولا
أقل من خروجه عن المتيقن من السيرة.
ولعله إليه يرجع ما قيل من اختصاص الاجماع بالعبادات، والا فلم يتضح
وجه خصوصيتها، ولا سيما بعد ملاحظة السيرة..
بل لا يبعد قصور السيرة عن إثبات عدم وجوب الإعادة في الوقت، لعدم
كونها بنظر المتشرعة من سنخ التدارك ولا أقل من خروجه عن المتيقن من
السيرة أيضا، لعدم وضوح ابتلائهم بانكشاف الحال في الوقت وعدم وضوح
عملهم لو فرض ابتلاؤهم به بعد عدم أهميته وعدم لزوم الحرج من الإعادة
ليحاول التخلص منه بالسؤال عن الاحراز، فلا يكشف عدم السؤال عن
المفروغية عنه.
كما أن المتيقن من السيرة أيضا ما إذا كان خفاء الحكم لعدم وصول
الدليل عليه، لا الخطأ المكلف في فهم الدليل الواصل، أو لنسيانه للدليل مع
397

وصوله ونحو ذلك مما يعود للمكلف نفسه وإن كان معذورا، لعدم شيوع
الابتلاء بذلك في تلك العصور وعدم وضوح بنائهم على الاجزاء معه، لاحتمال
ابتناء الاجزاء على الرفق بأهل الحق وعدم إلزامهم بتدارك ما ضاع عليهم بسبب
أئمة الجور، دون ما يستند ضياعه للمكلف نفسه.
ومنه يظهر عدم الاجزاء في المقام في حق المجتهد في أمثال عصورنا،
لاستناد تبدل رأيه إلى انكشاف الخطأ له في فهم الأدلة أو غفلته عن بعضها، لا
لعدم تيسر الوصول إليها، بخلاف العامي، لعدم استناد الخطأ له، بل للطريق
الشرعي، وهو فتوى المجتهد مع عدم تيسر الوصول للواقع له.
نعم، لو كان ناشئا من خطئه في فهم كلام المجتهد أو في تشخيص
المجتهد الذي قامت الحجة على تعيينه اتجه عدم الاجزاء حينئذ في حقه. وهو
خارج عن محل الكلام.
كما لا فرق في الاجزاء في حقه بين عدوله من أحد المجتهدين للاخر،
وعدول المجتهد الذي قلده عن فتواه، وانكشاف خطأ الفتوى له بنفسه بحسب
اجتهاده الظني أو القطعي، لعموم السيرة لجميع الصورة المذكورة بسبب شيوع
الابتلاء بها، في العصور السابقة وعدم الفرق بينها في منشأ السيرة الارتكازي
وعدم استناد ضياع الواقع للمكلف. ومنه يظهر أن الاجزاء في المقام واقعي لا
ظاهري، فلا مجال معه لفرض العلم الاجمالي الذي سبق تقريب لزومه من
مقتضى القاعدة مع عدم أعلمية المعدول إليه. فتأمل جيدا. والله سبحانه وتعالى
العالم العاصم.
398

خاتمة
لابد للمجتهد في مقام الاستنباط وتشخيص وظيفته ووظيفة العامي
العملية من استفراغ الوسع في الفحص عن الأدلة، وليس له الاكتفاء بما وصل
إليه منها، فضلا عن الرجوع للأصل من دون فحص عن الدليل لو لم يصل له،
فكما يجب عليه الفحص عن الدليل يجب عليه الفحص عما يعارضه أو يتقدم
عليه من الأدلة الأخرى، وعما يتحكم عليه من القرائن الصالحة لمعرفة المراد
منه، كالمخصص والمقيد وقرينة المجاز وغير ذلك مما يكون دخيلا في
تشخيص الوظيفة، والظاهر عدم الاشكال بينهم في ذلك، كما يناسبه أخذ كثير
منهم استفراغ الوسع في تعريف الاجتهاد وعدم صدقه بغير ذلك عليه، بل لعل
إطلاق الاجتهاد من الكل في المقام بلحاظ ذلك، كما يظهر مما سبق في تعريفه.
وكيف كان، فمرجع لزوم استفراغ الوسع إلى عدم جريان الأصول قبل
الفحص عن الأدلة الحاكمة عليها وعدم حجية الطرق الواصلة قبل الفحص عما
يعارضها أو يتقدم عليها من الأدلة وما يتحكم عليها من القرائن، واختصاص
فعلية جريان الأصول وحجية الطرق بصورة الفحص المذكور.
وهو ظاهر فيما إذا لم يكن لدليل الأصل أو الطريق إطلاق يشمل حال ما
قبل الفحص، كما قد يدعى في الظاهر الذي يحتمل وجود الصارف عنه من
مخصص أو نحوه، بتقريب أن بناء العقلاء على العمل بالظهور من دون فحص
عن الصارف فيما إذا لم يكن وجود الصارف متوقعا، لقلة الابتلاء بالقرائن
المنفصلة بحيث يغفل عن احتمال وجودها أو لا يعتد به، كما في الظهورات
العرفية، دون ما إذا كان متوقعا متعارفا لكثرته كما في الظهورات الشرعية، بل لا
يتضح بناؤهم على العمل بالظهور من دون فحص.
ومثله الفحص عن الدليل المعارض، على ما سبق عند الكلام في صورة
399

الشك في اختلاف الفقهاء من المسألة السادسة من مباحث التقليد.
وكذا الحال في البراءة العقلية بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من عدم
حكم العقل بالمعذرية مع التقصير في الفحص إذا كان المولى قد أوصل
التكليف بالطريق المتعارف.
أما إذا كان لدليل الأصل أو الطريق إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص، كما
هو الحال في كثير من الأصول الشرعية، وهي التي أخذ في موضوعها الشك
المعلوم حصوله قبل الفحص فلا بد من إقامة الدليل المخرج عن مقتضى عموم
أو إطلاق تلك الأدلة والمانع من الرجوع إليها قبل الفحص، فإن تم الدليل فيها
تم في القسم الأول.
ومن هنا لا يهم تحقيق كل من القسمين والتمييز بينهما، بل المهم النظر
في دليل وجوب الفحص، وهو أمور..
الأول: الاجماع، فإنه وإن لم أعثر على من ادعاه على عموم الدعوى
المذكورة، إلا أنه قد يستفاد من مجموع كلماتهم، فقد ادعى شيخنا الأعظم قدس سره
الاجماع القطعي على عدم جواز الرجوع للبراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة،
وذكر بعض أعاظم تلامذته أنه لا ريب فيه، كما يظهر بأدنى فحص في كلماتهم،
بل الحق إجماع علماء الاسلام عليه، كما حكى في المعالم عن جمع من
المحققين أن العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص ممتنع إجماعا.
ويقتضيه ما أشرنا إليه من أخذهم استفراغ الوسع في تعريف الاجتهاد،
حيث يظهر منه المفروغية عن توقف استنباط الحكم العملي عليه، كما تظهر
المفروغية عنه أيضا مما استدل به في المعالم على وجوب الفحص عن
المخصص من أن المجتهد يجب عليه البحث عن الأدلة وكيفية دلالتها.
وهو المناسب لسيرة الفقهاء في مقام الاستنباط والفتوى، لاهتمامهم
بضبط الأدلة واستيعابها بنحو يظهر من حالهم ولو بمعونة الارتكازيات
400

وجوب ذلك.
ولذا كان المرتكز خطورة التصدي للاستنباط والفتوى ولزوم الحذر على
من يزاولهما من التقصير.
وأما ما قد يظهر من صاحب المعالم من عدم وجوب الفحص عن قرينة
المجاز وما نسب للعلامة من جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص
ونحوهما، فاما أن تؤول بما لا ينافي ذلك بأن تحمل على الخطابات العرفية
دون الشرعية، أو تكون مستندة لشبهة مخرجة عما سبق، فلا تنافي عموم لزوم
الفحص في غير مواردها، للاجماع الارتكازي المتقدم. فتأمل.
الثاني: العلم الاجمالي بقيام الأدلة التي يمكن الاطلاع عليها بالفحص
على التكاليف، حيث يكون العلم الاجمالي المذكور منجزا لاحتمال التكليف
في مورد احتمال العثور على الدليل بالفحص، ومع تنجز التكليف في الموارد
المذكورة لا مجال للرجوع للطرق والأصول الترخيصية المعذرة، لما تقرر من
مانعية العلم الاجمالي من فعلية مؤداها.
وقد أشرنا للعلم الاجمالي المذكور في الاحتجاج لوجوب الاحتياط في
الشبهة البدوية الحكمية، وقد ذكرنا أنه موجب لانحلال العلم الاجمالي باشتمال
الشريعة على تكاليف كثيرة، فراجع.
ثم إن هذا الوجه إنما ينفع مع عدم انحلال العلم الاجمالي بالعثور على
مقدار المعلوم بالاجمال، دون ما إذا عثر على المقدار المذكور واحتمل وجود
غيره، كما يظهر وجهه مما سبق في مبحث انحلال العلم الاجمالي.
كما أنه يمنع من الرجوع للطرق والأصول الترخيصية دون الالزامية. بل لا
إشكال في جواز العمل بالطرق والأصول الالزامية قبل الفحص احتياطا.
نعم، لا مجال للفتوى بمضمونها لو علم إجمالا بوجود الأدلة الترخيصية
المانعة من الرجوع إليها، للعلم حينئذ بعدم فعلية مضامين بعضها وحرمة الفتوى
401

بمضمونه، بل ولو لم يعلم إجمالا بذلك لبقية الوجوه الآتية، على ما يتضح إن
شاء الله تعالى.
الثالث: ما تضمن من النصوص الانكار على بعض العامة في استنباط
الحكم والتصدي للفتوى من دون معرفة تامة بالكتاب المجيد ولا تمييز للناسخ
والمنسوخ. والخاص والعام منه، مثل ما عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: " قال
لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال: نعم. قال: فبم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وآله قال: يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ من
المنسوخ؟ قال: نعم. قال يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل الله ذلك إلا
عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم... " (1).
وموثق مسعدة بن صدقة عنه عليه السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لما
احتجوا عليه بآيات من القرآن: " قال: ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه
ومحكمه ومتشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه
الأمة؟... إلى أن قال: فبئس ما ذهبتم إليه وحملته الناس عليه من الجهل بكتاب
الله... وترككم النظر في غريب القران من التفسير والناسخ والمنسوخ،... إلى أن
قال: وكونوا في طلب ناسخ القران من منسوخه ومحكمه من متشابهه... " (2)
ورواية إسماعيل ابن جابر عنه عليه السلام في ذم الناس قال: " وذلك أنهم ضربوا
القران بعضه ببعض واحتجوا بالمنسوخ وهم يظنون أنه الناسخ، واحتجوا
بالخاص وهم يقدرون أنه العام واحتجوا بأول الآية وتركوا السنة في
تأويلها... " (3).
ومرسل العياشي عن عبد الرحمن السلمي: " أن عليا عليه السلام مر على قاض

(1) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 27
(2) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 13.
(3) الوسائل ج 18، باب: 13 من أبواب صفات القاضي حديث: 23.
402

فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت... " (1).
ومرسله الاخر عنه عليه السلام في الانكار على عمر حين أفتى بالمسح على
الخفين لدعوى أن النبي صلى الله عليه وآله مسح، حيث قال عليه السلام: " قبل المائدة أو بعدها؟ قال:
" لا أدري. قال: فلم تفتي وأنت لا تدري؟! سبق الكتاب الخفين " (2).
لوضوح أن أصالة الظهور وعدم النسخ والتخصيص من الأصول
العقلائية، فإنكار العمل بالكتاب من دون معرفة تامة به ولا معرفة المنسوخ
والخاص ظاهر في لزوم استفراغ الوسع في مقام الاستنباط وعدم الجري بدونه
على مقتضى الدليل الواصل.
نعم، هذه النصوص مختصة بالكتاب فاستفادة حكم غيره مبني على إلغاء
خصوصية موردها. فلتكن مؤيدة للمدعى. فلاحظ.
الرابع: ما تضمن الامر بطلب العلم، كقوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة
منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون) (3).
ودعوى: أنه وارد لوجوب الاجتهاد كفائيا، لا لوجوب تعلم الاحكام عينا
الذي هو محل الكلام.
مدفوعة: بأن وجوب الاجتهاد كفائيا لأجل الانذار راجع إلى تكليف الكل
بتحصيل من يعلم الجاهل منهم، وهو راجع إلى وجوب التعلم على الكل عينا
إما اجتهادا أو تقليدا. فلاحظ.
ومثله في الدلالة على وجوب التعلم قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن

(1) الوسائل ج 18، باب: 12 من أبواب صفات القاضي حديث: 5.
(2) تفسير العياشي تفسير سورة المائدة حديث: 46 ج 1 ص 297.
(3) سورة التوبة: 122.
403

كنتم لا تعلمون) (1) والنصوص الكثيرة الواردة في تفسير الآيتين وغيرها مما
تضمن وجوب طلب العلم، والحث على السؤال، والذم بتركه، والامر بمذاكرة
الروايات على اختلاف ألسنتها (2).
ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) من أنه يقال
للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل فلا عملت، وإن قال: لا، قيل له:
هلا تعلمت حتى تعمل (3).
وما ورد في المجدور والجريح يجنب فيغسل فيموت، من استنكار عدم
السؤال، وفي بعضها: " قتلوه قتلهم الله إنما كان دواء العي السؤال " (4)
وما ورد في من أطال الجلوس في الخلاء لاستماع الغناء مستحلا له لأنه
لم يأته، وإنما سمعه، حيث أنكر عليه السلام محتجا بقوله تعالى: إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " (5)، ثم قال: " قم فاغتسل وصل ما
بدا لك، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك لو مت على
ذلك " (6).
فإن الظاهر من جميع ذلك وجوب التفقه في الدين، ومقتضى المناسبات
الارتكازية وسياق جملة من النصوص بل صريح بعضها كون وجوبه طريقيا في
طول التكاليف الواقعية، لأجل حفظها والقيام بمقتضاها، ولذا لا يجب في غير
الاحكام الالزامية ولا فيها مع عدم فوت الواقع، لعدم الابتلاء بها أو للاحتياط

(1) سورة الأنبياء: 7.
(2) راجع الوسائل ج: 18، باب: 4، 7، 8، 11 من أبواب صفات القاضي وأصول الكافي ج 1 كتاب
العلم.
(3)
(4) الوسائل ج: 2 باب: 5 من أبواب التيمم حديث: 6 وفي الباب نصوص أخر تتضمن له ذلك.
(5) سورة الإسراء: 26.
(6) الوسائل ج: 2 باب: 18 من أبواب الأغسال المستحبة المسنونة حديث: 1.
404

فيها، ومرجع الوجوب الطريقي إلى أن الواقع مورد للمسؤولية ولا يكون الجهل
به عذرا إذا استند للتقصير في الفحص.
وحيث كان مفادها وجوب الفحص المتعلق بعمل المكلف الدخيل في
حفظ تكاليفه كان مقتضى إطلاقها وجوبه حتى في مورد الدليل المعتبر في نفسه
إذا احتمل تبدل مقتضى الوظيفة بالفحص، ولا يختص بصورة فقد الدليل.
لصدق السؤال والتعلم والتفقه قي الدين ونحوها من العناوين المأخوذة في
الأدلة عليه، بل هو صريح ما ورد في المجدور، لوضوح كون التغسيل
مقتضى عموم وجوب غسل الجنابة، ومشروعية التيمم مع المرض من سنخ
المخصص له.
ولازم ذلك قصور إطلاقات أدلة الحجج والأصول عن صورة عدم
الفحص.
نعم، يشكل شمولها للفحص عن المعارض المعادل للدليل الواصل، أما
بناء على التخيير بين المتعارضين فظاهر، للعلم بجواز العمل بالدليل الواصل،
وأما بناء على تساقطهما والرجوع لما يترتب عليهما من الأدلة أو الأصول فلعدم
صدق التعلم والتفقه عليه بعد عدم صلوحه لتشخيص الوظيفة وان كان العثور
عليه موجبا لانقلابها.
كما أن ما تضمن الامر بالسؤال ظاهر في إرادة السؤال الموجب للمعرفة،
فلا موضوع له مع عدم صلوح ما يحصل بالسؤال لتحقيقها.
ومثله ما تضمن الامر بمذاكرة الروايات وأخذها.
ومن هنا يتعين الاستدلال على وجوب الفحص عن الدليل المعارض
بناء على التساقط بالاجماع المتقدم، وبما تقدم في المسألة السادسة من أن
التمسك بعموم حجية الدليل الواصل مع احتمال المعارض تمسك بالعام في
الشبهة المصداقية.
405

هذا، إذا كان الفحص لعمل المكلف الفاحص، أما إذا كان للفتوى
بمضمون الدليل الواصل أمكن الاستدلال عليه - مضافا إلى ذلك - بالنصوص
المتقدمة في الوجه الثالث، بل يمكن الاستدلال عليه أيضا بذلك حتى بناء على
التخيير مع التعادل، كما يظهر بالتأمل.
هذا، وقد يدعى امتناع حمل أدلة وجوب التعلم على الوجوب الطريقي
الراجع إلى عدم معذرية الجهل، لشمولها لما إذا وقع العمل غفلة عن احتمال
الحرمة، بل قد يكون هو المتيقن من مواردها، فتنافي حكم العقل بقبح
عقاب الغافل، كما أنها تشمل التكاليف الموقتة التي لا تكون فعلية قبل الوقت،
ليجب تعلمها طريقيا، ولا يمكن تعلمها بعد الوقت، لضيقه عنه.
ومن هنا يتعين حملها على الوجوب النفسي المطلق غير الموقت، فيكون
العقاب على ترك التعلم بنفسه، لفعلية التكليف به والقدرة عليه قبل الوقت، كما
حكي عن الأردبيلي وصاحب المدارك.
فلا ينافي معذرية الجهل من التكاليف الواقعية ولا تنهض أدلة وجوب
التعلم بتقييد أدلة الطرق والأصول.
لكنه يندفع: بالمنع من حكم العقل بقبح العقاب مع الغفلة أو التعذر إذا
كانا مستندين لاختيار المكلف وتقصيره ولو لعدم حفظه القدرة قبل دخول
الوقت، نظير ما يذكر في موارد المقدمات المفوتة.
على أن حمل الأدلة المتقدمة على وجوب التعلم نفسيا - مع إباء سياقها
عنه - مستلزم إما لحملها على الاكتفاء بمسمى التعلم ولو لحكم واحد، وهو
خلاف المقطوع به منها، أو على تعلم جميع الأحكام الالزامية ولو مع عدم
توقف حفظ الواقع عليه للاحتياط في العمل، أو لعدم الابتلاء بالحكم، بل
الاحكام غير الالزامية أيضا، لصدق التفقه في الدين بذلك.
كما أن لازمه كون اختلاف التكاليف الفائتة - سبب ترك التعلم - في
406

الأهمية غير دخيل في قدر العقاب، لفرض عدم كون العقاب عليها، ولا يظن من
أحد البناء على جميع ذلك.
ودعوى: أن عدم البناء عليه للاجماع لا لورود الأدلة للوجوب الطريقي.
مدفوعة: بأنه لا منشأ للاجماع - لو تم - إلا الارتكازات الصالحة للقرينية
على حمل الأدلة على الوجوب الطريقي.
ومن هنا لا ينبغي التأمل في ما ذكرنا من كون وجوب التعلم طريقيا مانعا
من الرجوع للأصول والأدلة الواصلة، كما هو ظاهر الأصحاب.
بقي في المقام أمور:
الأول: الظاهر عدم وجوب الفحص عن الدليل الموافق للدليل الواصل،
سواء كان في رتبته أم لا، كالأصل مع الدليل، لقصور جميع الوجوه المتقدمة عنه
بعد عدم الأثر له في مقام العمل، فلا دخل له في حفظ الواقع، ليجب وجوبا
طريقيا في طوله.
الثاني: الظاهر أن الفحص اللازم هو الفحص بالمقدار الموجب لليأس
من كون استمرار الفحص موجبا للظفر بالدليل، وإن أمكن حصوله صدفة بوجه
غير محتسب، قد يحصل مع الفحص وبدونه.
أما فيما إذا لم يكن لدليل حجية الطريق الواصل إطلاق يشمل حال ما قبل
الفحص، كبعض الطرق العقلائية، فللاكتفاء العقلاء بالفحص بالمقدار المذكور
بلا إشكال.
وأما فيما إذا كان له إطلاق يشمل حال ما قبل الفحص فلقصور الوجوه
السابقة عن إثبات وجوب ما زاد على ذلك. أما الاجماع فظاهر. وأما العلم
الاجمالي فلما عرفت من أن المتيقن إجمالا هو وجود الأدلة التي يتوقف العثور
عليها على الفحص، وأما ما زاد على ذلك مما لا يتوقف على الفحص فالعلم
بوجوده في موارد الأدلة التي يعثر عليها بالفحص لو تم لا أثر له في المنجزية،
407

والعلم بوجوده في غيرها غير حاصل، ليكون منجزا في المقام ومانعا من
الرجوع للطرق والأصول الواصلة.
وأما النصوص فلورود جملة منها مورد الانكار على ترك الفحص،
والمنصرف منه مورد التقصير العرفي في تركه للاعتداد باحتمال الاطلاع بسببه
على الواقع، ولا يشمل فرض اليأس من ذلك.
وكذا الحال في ما أطلق فيه وجوب التعلم والتفقه والسؤال، لما هو
المرتكز في أذهان العرف من عدم فعل هذه الأمور إلا برجاء تحصيل العلم، لا
مع اليأس من حصوله بسببها، وإن احتمل حصوله بوجه غير محتسب.
والظاهر أن سيرة الفقهاء في مقام الاستدلال والاستنباط على ذلك لا على
حصول العلم أو الاطمئنان بعدم الدليل، إذ قد لا يتيسر ذلك. مع أنه لا دليل
عليه.
نعم، لو أريد الاطمئنان بعدم العثور على الدليل بالفحص كان راجعا لما
ذكرنا. فلاحظ.
الثالث: لو تعذر الفحص لفقد المكلف لمقدماته فالظاهر عدم جواز
الرجوع للطرق والأصول الترخيصية، للأدلة المتقدمة.
أما الاجماع فظاهر. وأما العلم الاجمالي فلعدم دخل القدرة في أطرافه.
وأما النصوص وغيرها مما دل على - وجوب طلب العلم فهي ظاهرة في
توقف العمل على الفحص مع تحقق موضوعه، ولا يرتفع موضوعه بفقد
مقدماته، بل باليأس من ترتب العثور على الدليل بسببه.
الرابع: أشرنا آنفا. إلى أن وجوب الفحص لما كان طريقيا لحفظ التكاليف
الواقعية فلا مجال مع عدم فوتها، لعدم الابتلاء بالتكليف أو للاحتياط فيه عند
الابتلاء به.
كما لا إشكال في وجوبه مع العلم بالابتلاء به، فإن علم بالقدرة عليه بعد
408

الوقت جاز تأخيره، والا وجب تقديمه على الوقت لحفظ التكليف في وقته،
نظير المقدمات المفوتة، كما سبق.
أما مع احتمال الابتلاء فالظاهر وجوب الفحص، لا للعلم الاجمالي، لعدم
صلوحه لتنجيز احتمال المخالفة مع عدم إحراز الابتلاء بالتكليف، بل لأدلة
وجوب التعلم والتفقه، لشمول العناوين المأخوذة فيها من التعلم والتفقه
والسؤال للتكليف المذكور مع عدم محذور من شموله، لان وجوب التعلم لما
كان طريقيا كفى في تحقق موضوعه وإمكانه الخوف من فوت الواقع بسبب
الجهل، سواء أحرز الابتلاء أم لم يحرز.
وأما استصحاب عدم الابتلاء فالظاهر عدم جريانه في نفسه، لعدم أخذ
الابتلاء في موضوع وجوب الفحص شرعا، وإنما يقصر إطلاقه عن شمول
صورة العلم بعدم الابتلاء لبا بنتيجة التقييد، لعدم الموضوع له معه، كما يقصر
عن شمول العلم بعدم فوت الواقع بدونه، للاحتياط أو لمصادفة الموافقة،
والمفروض عدم العلم به ودخوله في إطلاق الأدلة.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا (دامت بركاته) من أنه لا مانع من جريان
استصحاب عدم الابتلاء، بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.
فهو غير ظاهر، لان المبنى المذكور إنما يقتضي جريان استصحاب عدم
الابتلاء إذا كان العلم بعدم الابتلاء مأخوذا بعنوانه وبما هو أمر وجودي في
موضوع وجوب الفحص، لا ما إذا كان شرطا فيه بنتيجة التقييد، نظير ما سبق عند
الشك في الاختلاف من المسألة السادسة.
والا لجرى - مع العلم بالابتلاء - استصحاب عدم مخالفة التكاليف
الواقعية، لما أشرنا إليه من عدم وجوب الفحص مع العلم بعدم مخالفتها.
ومثله ما ذكره من أن المانع من جريان الاستصحاب إطلاق أدلة وجوب
التعلم. وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء مستهجن، لندرتها، فإن
409

الغالب في مسائل الشكوك ونحوها احتمال الابتلاء.
للاشكال فيه: بأن مانعية الاطلاق من الاستصحاب إن كانت باعتبار
حكومة الاطلاق على الأصل فلا مجال بعد التسليم بجريان الاستصحاب، لقيامه
مقام القطع الموضوعي، لوضوح أن القطع بعدم الابتلاء رافع لموضوع وجوب
الفحص، كما سبق، فيكون الاستصحاب مثله.
وإن كان باعتبار تعذر تنزيل الاطلاق على صورة العلم بالابتلاء، لندرته -
كما لعله الظاهر من كلامه - فيكون الاطلاق نصا في صورة الشك ومخصصا
لعموم دليل الاستصحاب، فهو في غاية المنع، لكثرة التكاليف التي يعلم
بالابتلاء بها، والتي يجب الفحص عنها، وليس الاطلاق واردا في خصوص
الشكوك ونحوها مما ادعى ندرة العلم بالابتلاء بها.
ودعوى: أنه لا مجال للعلم بالابتلاء غالبا، لاحتمال الموت والمرض
المانع من فعلية التكاليف ونحوهما.
مدفوعة: بعدم التعويل على احتمال ذلك، بل مقتضى أصالة السلامة
المعول عليها عند العقلاء إحراز الابتلاء.
ولو غض النظر عن ذلك فالمتيقن شمول الاطلاق للشك في الابتلاء من
هذه الجهة، لا من جميع الجهات، ولو للشك في تحقق الموضوع، الذي هو
محل الكلام ظاهرا.
الخامس: أن أكثر الأدلة المتقدمة كما تجري في حق المجتهد في مقام
الاستنباط لعمله وللفتوى، تجري في حق العامي، فليس له العمل بمقتضى
الأصول أو غيرها إذا احتمل قيام الأدلة على خلافها، بل يجب عليه الفحص عن
مفاد الأدلة بالسؤال من المجتهد، لثبوت الاجماع في حقه، ولتحقق العلم
الاجمالي بالإضافة إليه بوجود الأدلة التي يمكن الاطلاع على مفادها ولو
بالرجوع للمجتهد. وإطلاق النصوص السابقة في الوجه الرابع، لوضوح صدق
410

التفقه والتعلم والسؤال في حقه.
السادس: لما كان مقتضى وجوب الفحص هو عدم جواز الرجوع للطرق
والأصول الترخيصة مع عدمه، بل يلزم الاحتياط، كان ترك الاحتياط والاكتفاء
بموافقتها من أفراد التجري، على ما سبق في التنبيه الثاني من مبحث التجري.
فيبطل العمل واقعا لو كان عباديا واحتمل تحريمه تكليفا، لامتناع التقرب
في مورد التجري.
وأما في غير ذلك فلا مجال للبناء على بطلانه واقعا إلا في العبادات بناء
على اعتبار الجزم بالنية فيها، الذي هو خلاف التحقيق. كما لا مجال للبناء على
صحته ظاهرا، فضلا عن صحته واقعا، بل يلزم البناء على عدم إجزائه ظاهرا،
لعدم إحراز صحته. فلو أحرز بعد ذلك مطابقته للواقع تعين البناء على صحته.
وكذا لو انكشف مطابقته لمقتضى الحجة القائمة حين إرادة التدارك، كما لو كان
مقلدا لمن يقول بصحته.
وأما مطابقته للحجة القائمة حين صدوره دون الحجة القائمة حين إرادة
التدارك - كما لو قلد حين العمل من يقول بصحته من دون أن يعلم بفتواه وعدل
بعد ذلك لمن يقول ببطلانه - فهل يجب التدارك أو لا؟
الظاهر ابتناؤه على ما تقدم في المسألة الثامنة من عموم حجية الحجة
المتأخرة للوقائع السابقة بنحو يستلزم سقوط حجية الحجة المتأخرة عنها
وعدمه، فيتعين الاجزاء على الثاني، أما على الأول فاللازم التدارك.
ولا مجال لما تقدم من الاجتزاء بمتابعة فتوى من يجب الرجوع إليه
مطلقا وصحته معها واقعا. لاختصاص الدليل عليه بالسيرة، والمتيقن منها صورة
اعتماد المكلف على الحجة حين العمل، ولا يحرز ثبوتها فيما لو لم يعتمد
عليها وإن طابقها.
ثم إنه لو دل الدليل على الاجتزاء بالعمل المخالف للواقع في حال الجهل
411

ولو كان تقصيريا تعين البناء على ذلك، وإن كان على خلاف الأصل، كما في
الاتمام في موضع القصر والاخفات في موضع الجهر وعكسه بل جميع موارد
حديث: " لا تعاد الصلاة... " (1)، بناء على عمومه للجهل بالحكم، وغيرها.
نعم، وقع الاشكال بينهم في الجمع بين ذلك وبين وجوب الفحص عن
الواقع في الأحكام المذكورة، الراجع لاستحقاق العقاب بفوته مع التقصير
في الفحص.
بدعوى: أن المأتي به في حال الجهل إن كان وافيا بغرض الواقع الأولي
كان مثله طرفا للتكليف، ولا مجال لتعيين الواقع، لتبعية التكليف للغرض، فلا
يفوت معه المكلف به، فضلا عن ملاكه، ليستحق العقاب بفوته بسبب الجهل،
ويجب الفحص فرارا عن ذلك وإن لم يكن المأتي به وافيا بغرض التكليف
، امتنع إجزاؤه.
وقد أطال شيخنا الأعظم قدس سره ومن تأخر عنه في حل الاشكال بما لا يسع
المجال إطالة الكلام فيه بعد عدم التنافي بين الامرين وإمكان الجمع بينهما
ظاهرا، لان الاجزاء كما يمكن أن يكون لوفاء المأتي به حال الجهل بملاك
الواقع الأولي، أو لتبدل الملاك، المستلزم لعدم العقاب، كذلك يمكن أن يكون
لمانعية المأتي به من استيفاء ملاك الواقع من دون أن يستوفى به، كما لو تعلق
الغرض باطعام اللحم، فأطعمه التمر حتى أشبعه، ولم يكن التمر مفيدا فائدة
اللحم إلا أنه لما أوجب الامتلاء يتعذر إطعام اللحم واستيفاء فائدته.
وقد ذكرنا نظير ذلك في التنبيه الرابع من تنبيهات مبحث الأقل والأكثر
الارتباطيين. فراجع.
السابع: لا يخفى أن الأدلة المتقدمة على وجوب الفحص وعدم جواز
الرجوع بدونه للطرق والأصول الترخيصية مختصة بالشبهات الحكمية.

(1) الوسائل ج: 1 باب: 2 من أبواب الوضوء حديث: 8
412

ولازم ذلك جواز الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية من دون فحص
لو اقتضاه عموم أدلتها كما هو الظاهر فيها كلها أو جلها، بل بعضها صريح في
ذلك، كصحيحة زرارة الثانية المذكورة في أدلة الاستصحاب المتضمنة عدم
وجوب النظر في الثوب الذي يحتمل إصابة النجاسة له (1)، وما دل على أن من
تزوج امرأة ليس عليه الفحص عن أن لها زوج حتى بالسؤال منها (2)، وعدم
وجوب السؤال عن ذكاة الجلود المأخوذة من المسلمين (3)، بل تضمن بعض
النصوص إثارة الاحتمالات البعيدة ليتمسك بالأصل ظاهر في الاكتفاء
بالاحتمال وعدم وجوب التروي لدفعه الذي هو أخف من الفحص الخارجي.
والظاهر عدم الخلاف فيه في الجملة، بل ربما ادعي الاجماع عليه. وانما
أوجب الفحص في بعض الموارد بعض القدماء والمتأخرين لدعوى توقف
العلم بالحكم فيها على الفحص غالبا، كالشك في المسافة المقتضية للقصر
والافطار، والاستطاعة المقتضية للحج، والنصاب الزكوي والربح الذي يجب
فيه الخمس.
إلا أنه يشكل: بأن الكاشف عن وجوب الفحص كون المورد مما يندر
العلم بالحكم فيه من دون فحص عن الموضوع حيث يستفاد عرفا من تشريع
الحكم وجوب الفحص عن موضوعه تبعا، وهو غير لازم في الموارد المذكورة،
وإنما اللازم فيها كثرة توقف العلم بالأحكام على الفحص، وهو غير كاشف عن
وجوبه، لعدم لغوية جعل الحكم بدونه بعد كثرة الموارد غير المحتاجة له أيضا.
والا لوجب الفحص في كثير من موارد الطرق والأصول، كاليد التي هي
أمارة على الملكية والسلطنة ويد المسلم التي هي أمارة على التذكية وأصالة

(1) الوسائل ج: 2 باب: 37 من أبواب النجاسات حديث: ب 1.
(2) راجع الوسائل ج: 14 باب 25 من أبواب عقد النكاح وآدابه، وباب: 10 من أبواب المتعة.
(3) راجع الوسائل ج: 2 باب: 50 من أبواب النجاسات.
413

الطهارة واستصحابها، ولا يمكن الالتزام بذلك بالنظر لأدلتها.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى اهتمام الشارع بالحكم عدم
رضاه بكثرة مخالفته واقعا ولو خطأ، وهو مستلزم لايجابه الفحص في الاحكام
التي تكثر مخالفتها بدونه.
هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره في: أنه إذا تمت مقدمات العلم بالواقع
للمكلف ولم يحتج حصوله إلا لمثل النظر والسؤال ممن هو إلى جنبه فلابد منه
ولا يجوز الرجوع للأصل الترخيصي بدونه، لعدم صدق الفحص عليه، واستثنى
من ذلك باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيه، ووافقه على ذلك
شيخنا الأستاذ قدس سره من دون أن يشير للاستثناء المذكور.
وهو كما ترى، لعدم أخذ عنوان الفحص في أدلة الأصول، ليهتم بصدقه
على مثل النظر، بل ليس موضوعها إلا الشك وعدم العلم، وهو حاصل مع عدم
النظر أو نحوه. بل عرفت صراحة بعض النصوص في عدم وجوب النظر
والسؤال.
وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من مناسبة ذلك للارتكاز، ممنوع، بل المرتكز
كونه احتياطا غير لازم.
فلا مخرج عما ذكرنا. فلا حظ. والله سبحانه وتعالى العالم، ومنه نستمد
العون، والتوفيق، والعصمة، والتسديد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد واله الطيبين الطاهرين.
إلى هنا انتهى الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد، خاتمة لمباحث
الأصول، عصر الجمعة، التاسع من شهر جمادي الأولى، سنة ألف وثلاثمائة
وتسع وتسعين لهجرة سيد المرسلين، عليه واله أفضل الصلوات، وأزكى
التحيات.
414

في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف، على مشرفه أفضل الصلاة
والسلام.
بقلم العبد الفقير إلى الله تعالى محمد سعيد عفي عنه، نجل العلامة
الجليل، حجة الاسلام والمسلمين السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم
(دامت بركاته).
ونسأله سبحانه أن يوفقنا جميعا لشكر نعمه، ويتمها بالتوفيق للجد
والاجتهاد في العلم والعمل، مع القبول وخلوص النية، وترتب نفع المؤمنين، إنه
أرحم الراحمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير.
كما انتهى تبييضه بعد إعادة النظر فيه، وتدريسه بقلم مؤلفه الفقير ليلة
الأربعاء الرابع عشر من الشهر المذكور حامدا مصليا مسلما.
415