الكتاب: محاضرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للفياض
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٥٨-٩
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

محاضرات
في أصول الفقه
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
تأليف
العلامة المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الجزء الثالث
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

شابك 9 - 058 - 470 - 964
9 - 058 - 470 - isbn 964
محاضرات في أصول الفقه
(ج 3)
تقرير أبحاث: آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره
المقرر: الفقيه المحقق والأصولي المدقق الشيخ محمد إسحاق الفياض
الموضوع: أصول الفقه
طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي
عدد الاجزاء: 5 أجزاء
الطبعة: الأولى
المطبوع: 1000 نسخة
التاريخ: 1419 ه‍. ق
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة الضد
هل الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده؟ يقع الكلام في هذه المسألة
من جهات:
الأولى: قد تقدم منا في بحث مقدمة الواجب: أن البحث عن ثبوت الملازمة
بين وجوب شئ ووجوب مقدمته لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولا لفظيا،
فإن ملاك البحث يعم مطلق الوجوب، سواء كان مستفادا من اللفظ أو الإجماع أو
العقل، ولذلك قلنا: إنها من المسائل الأصولية العقلية، لا من مباحث الألفاظ (1).
وهكذا الشأن في مسألتنا هذه، فإن جهة البحث فيها - في الحقيقة - ثبوت
الملازمة بين وجوب شئ وحرمة ضده.
ومن الواضح أن البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولا
لدليل لفظي، بل يعم الجميع، ضرورة أن ما هو المهم في المقام هو البحث عن ثبوت
تلك الملازمة وعدمه، ولا يفرق فيه بين أن يكون الوجوب مستفادا من اللفظ أو
من غيره، وإن كان عنوان البحث في المسألة - قديما وحديثا - يوهم اختصاص
محل النزاع بما إذا كان الوجوب مدلولا لفظيا إلا أن ذلك من جهة الغلبة، وأن
الوجوب في الغالب يستفاد من دليل لفظي، لا من جهة اختصاص محل النزاع
بذلك، كما هو واضح.

(1) راجع تفصيله في الجزء الثاني ص 300 - 301.
3

ولأجل ذلك تكون المسألة من المسائل الأصولية العقلية لا من مباحث
الألفاظ، لعدم صلتها بتلك المباحث أصلا، كما أنه لا صلة لغيرها من المسائل
العقلية بها.
الثانية: هل هذه المسألة من المسائل الأصولية أو الفقهية أو المبادئ
الأحكامية؟ قالوا في ذلك وجوه:
1 - إنها من المسائل الفقهية، بدعوى: أن البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضد
الواجب وعدم ثبوت الحرمة له، وهذا بحث فقهي لا أصولي.
ويدفعه: ما ذكرناه في أول بحث الأصول: من أن هذا التوهم قد ابتني على
كون البحث بحثا عن حرمة الضد ابتداء لتكون المسألة فقهية، إلا أن الأمر ليس
كذلك، فإن البحث فيها عن ثبوت الملازمة بين وجوب شئ وحرمة ضده وعدم
ثبوتها. ومن الواضح أن البحث عن هذه الناحية ليس بحثا فقهيا له صلة بأحوال
فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة (1).
2 - إنها من المبادئ الأحكامية.
ويدفعه أيضا: ما ذكرناه في بحث مقدمة الواجب: من أن المبادئ لا تخلو
من التصورية والتصديقية، ولا ثالث لهما، والمبادئ التصورية: هي لحاظ ذات
الموضوع أو المحمول وذاتياته. ومن الواضح أن البحث عن مسألة الضد لا يرجع
إلى ذلك.
والمبادئ التصديقية: هي المقدمة التي يتوقف عليها تشكيل القياس، ومنها:
المسائل الأصولية، فإنها مبادئ تصديقية بالإضافة إلى المسائل الفقهية، لوقوعها
في كبرى قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام، ولا نعقل المبادئ
الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية (2)!
3 - والصحيح: أنها من المسائل الأصولية العقلية.

(1) انظر الجزء الأول: ص 18.
(2) راجع الجزء الثاني ص 299 - 300.
4

أما كونها من المسائل الأصولية فلما قدمناه في أول بحث الأصول: من أن
المسائل الأصولية ترتكز على ركيزتين:
الأولى: أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة من باب الاستنباط
والتوسيط، لا من باب التطبيق، أي: تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها،
كتطبيق الطبيعي على أفراده والكلي على مصاديقه.
الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم
كبرى أصولية أخرى، فكل مسألة إذا ارتكزت على هاتين الركيزتين فهي من
المسائل الأصولية، وإلا فلا (1).
وعلى هذا الأساس نميز كل مسألة ترد علينا أنها: أصولية، أو فقهية،
أو غيرها، وحيث إن هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه فهي من المسائل
الأصولية لا محالة، إذ أنها واقعة في طريق استفادة الحكم الشرعي من باب
الاستنباط والتوسيط بنفسها، بلا توسط كبرى أصولية أخرى.
وتوهم خروج هذه المسألة عن علم الأصول لعدم توفر الركيزة الثانية فيها، إذ
لا يترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شئ وحرمة ضده
لتكون المسألة أصولية. وأما حرمة الضد فهي وإن ثبتت من ناحية ثبوت تلك
الملازمة إلا أنها حرمة غيرية فلا تصلح لأن تكون ثمرة للمسألة الأصولية.
نعم، هذا التوهم مندفع بما ذكرناه في أول علم الأصول: من أنه يكفي لكون
المسألة أصولية ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها وإن لم تترتب على طرفها
الآخر، بداهة أن ذلك لو لم يكن كافيا في اتصاف المسألة بكونها أصولية للزم
خروج كثير من المسائل الأصولية عن علم الأصول، حتى مسألة حجية خبر
الواحد، فإنه على القول بعدم حجيته لا يترتب عليها أثر شرعي أصلا (2)، ومسألتنا
هذه تكون كذلك، فإنه تترتب عليها نتيجة فقهية على القول بعدم ثبوت الملازمة،

(1) مر ذكره في ج 1 ص 11 - 16.
(2) انظر: ج 1 ص 18 - 19.
5

وهي صحة الضد العبادي. وأما الحكم بفساده على القول الآخر فهو يتوقف على
استلزام النهي الغيري، كما يستلزمه النهي النفسي، وسنتعرض إلى ذلك - إن شاء الله
تعالى - بشكل واضح.
فالنتيجة الكلية: هي أن الملاك في كون المسألة أصولية وقوعها في طريق
الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها في مقابل ما ليس له هذا الشأن، وهذه
الخاصة كمسائل سائر العلوم.
وأما كونها عقلية: فلأن الحاكم بالملازمة المزبورة إنما هو العقل، ولا صلة
لها بدلالة اللفظ أبدا.
الثالثة: أن المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره، بل
الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو الجزئية والعينية ليعم جميع الأقوال.
فإن منها: قولا بأن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده.
ومنها: قول بأن النهي عن الضد جزء من الأمر بشئ.
ومنها: قول بأن الأمر بالشئ يستلزم النهي عن ضده كما هو ظاهر لفظ
الاقتضاء، فالتعميم لأجل أن لا يتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخير.
الرابعة: أن المراد بالضد في محل البحث: مطلق ما يعاند الشئ وينافيه، سواء
أكان أمرا وجوديا كالأضداد الخاصة، أو الجامع بينها - وقد يعبر عن هذا الجامع
بالضد العام أيضا - أم كان أمرا عدميا، كالترك الذي هو المسمى عندهم بالضد
العام، فإن من الأقوال في المسألة: قول بأن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن ضده
العام وهو الترك.
وبعد بيان ذلك نقول: إن الكلام يقع في مقامين:
الأول: في الضد الخاص. والثاني: في الضد العام.
أما الكلام في المقام الأول: فقد استدل جماعة على اقتضاء الأمر بالشئ النهي
عن ضده - سواء كان المراد به أحد الأضداد الخاصة أو الجامع بينها - بوجهين:
6

الأول: أن ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر، ومقدمة الواجب واجبة، فإذا
كان الترك واجبا فالفعل لا محالة يكون محرما، وهذا معنى النهي عنه (1).
أقول: هذا الدليل مركب من مقدمتين: إحداهما: صغرى القياس. والثانية:
كبراه، فلابد من درس كل واحدة واحدة منهما.
أما المقدمة الأولى فبيانها: أن العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة:
1 - المقتضي: وهو الذي بذاته يقتضي التأثير في مقتضاه.
2 - الشرط: وهو الذي يصحح فاعلية المقتضي.
3 - عدم المانع: وهو الذي له دخل في فعلية تأثير المقتضي. ومن الواضح أن
العلة التامة لا تتحقق بدون شئ من هذه المواد الثلاث، فبانتفاء واحدة منها تنتفي
العلة التامة لا محالة.
ونتيجة ذلك: هي أن عدم المانع من المقدمات التي لها دخل في وجود
المعلول، ويستحيل تحققه بدون انتفائه. ويترتب على ذلك: أن ترك أحد الضدين
مقدمة لوجود الضد الآخر، لأن كلا منهما مانع عن الآخر، وإلا لم يكن بينهما تمانع
وتضاد، فإذا كان كل منهما مانعا عن الآخر فلا محالة يكون عدمه مقدمة له، إذ
كون عدم المانع من المقدمات مما لا يحتاج إلى مؤنة بيان وإقامة برهان.
وأما المقدمة الثانية: فهي أن مقدمة الواجب واجبة، وقد تقدم الكلام فيها.
فالنتيجة من ضم المقدمة الأولى إلى هذه المقدمة: هي أن ترك الضد بما أنه
مقدمة للضد الواجب - كما هو المفروض في المقام - يكون واجبا، وإذا كان تركه
واجبا ففعله حرام لا محالة، مثلا: ترك الصلاة بما أنه مقدمة للإزالة الواجبة فيكون
واجبا، وإذا كان واجبا ففعلها - الذي هو ضد الإزالة - يكون حراما. وهذا معنى:
أن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن الضد.
ولكن كلتا المقدمتين قابلة للمناقشة.

(1) منهم: صاحب هداية المسترشدين في هدايته: ص 230. والشيخ الكبير كاشف الغطاء في
كشفه: ص 27 بالنسبة إلى الوجه الأول. وصاحب الفصول في فصوله: ص 92.
7

أما المقدمة الأولى: فقد أنكرها جماعة من المحققين، منهم: شيخنا
الأستاذ (قدس سره)، وقال باستحالة المقدمية، وأفاد في وجهها أمرين:
الأول: أن المعلول وإن كان مترتبا على تمام أجزاء علته التامة إلا أن تأثير
كل واحد منها فيه يغاير تأثير الآخر فيه، فإن تأثير المقتضي فيه بمعنى ترشحه
منه، ويكون منه الأثر والوجود، كالنار بالإضافة إلى الإحراق، فإن الإحراق
يترشح من النار، وإنها فاعل ما منه الوجود والأثر، لا المحاذاة - مثلا - أو بقية
الشرائط.
وأما تأثير الشرط فيه بمعنى: أنه مصحح لفاعلية المقتضي وتأثيره أثره فإن
النار لا تؤثر في الإحراق بدون المماسة والمحاذاة وما شاكلهما، فتلك الشرائط
مصححة لفاعلية النار وتأثيرها فيه، لا أن الشرط بنفسه مؤثر فيه. ومن هنا إذا
انتفى الشرط لم يؤثر المقتضي.
أو فقل: إن الشرط في طرف القابل متمم قابليته، وفي طرف الفاعل مصحح
فاعليته، فلا شأن له ما عدا ذلك.
وأما عدم المانع فدخله باعتبار أن وجوده يزاحم المقتضي في تأثيره:
كالرطوبة الموجودة في الحطب، فإن دخل عدمها في الاحتراق باعتبار أن
وجودها مانع عن تأثير النار في الإحراق، وهذا معنى دخل عدم المانع في وجود
المعلول، وإلا فلا يعقل أن يكون العدم بما هو من أجزاء العلة التامة، بداهة استحالة
أن يكون العدم دخيلا في الوجود ومؤثرا فيه.
ومن ذلك البيان يظهر طولية أجزاء العلة التامة، فإن مانعية المانع متأخرة رتبة
عن وجود المقتضي، وعن وجود جميع الشرائط. كما أن شرطية الشرط متأخرة
رتبة عن وجود المقتضي، فإن دخل الشرط في المعلول إنما هو في مرتبة وجود
مقتضيه ليكون مصححا لفاعليته، لما عرفت آنفا من أن الشرط في نفسه لا يكون
مؤثرا فيه، ودخل عدم المانع إنما يكون في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط
ليكون وجوده مزاحما له في تأثيره ويمنعه عن ذلك.
8

وعلى ضوء ذلك قد اتضح استحالة اتصاف المانع بالمانعية، إلا في ظرف
وجود المقتضي مع سائر الشرائط، كما أنه يستحيل اتصاف الشرط بالشرطية إلا
فيما إذا كان المقتضي موجودا.
مثلا: الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعية إلا في ظرف
وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم ليكون عدم الاحتراق مستندا إلى وجود
المانع. وأما إذا لم تكن النار موجودة أو كانت ولم تكن مماسة مع ذلك الجسم فلا
يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود المانع.
ولنأخذ مثالا لتوضيح ذلك: إذا فرضنا أن النار موجودة والجسم القابل
للاحتراق مماس لها ومع ذلك لم يحترق إذا نفتش عن سبب ذلك وما هو؟ وبعد
الفحص يتبين لنا أن سببه الرطوبة الموجودة في ذلك الجسم، وهي التي توجب
عدم قابليته للاحتراق وتأثير النار فيه، فيكون عدمه مستندا إلى وجود المانع.
وكذا إذا فرض أن اليد الضاربة قوية والسيف حاد، ومع ذلك لا أثر للقطع في
الخارج، فلا محالة عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثر بالسيف من جهة المانع،
وهو صلابة ذلك الجسم لوجود المقتضي المقارن مع شرطه.
وأما إذا فرض أن النار موجودة ولكن الجسم القابل للاحتراق لم يكن مماسا
لها، أو أن اليد الضاربة كانت قوية ولكن السيف لم يكن حادا فعدم المعلول عندئذ
لا محالة يستند إلى عدم الشرط، لا إلى وجود المانع، فالمانع في هذه اللحظة
يستحيل أن يتصف بالمانعية فعلا، فإن أثره المنع عن فعلية تأثير المقتضي، ولا أثر
له في ظرف عدم تحقق الشرط.
وكذلك إذا لم تكن النار موجودة، أو كانت اليد الضاربة ضعيفة جدا أو مشلولة
فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم مقتضيه، لا إلى عدم المماسة، أو
الرطوبة، أو إلى عدم حدة السيف، أو صلابة الجسم، كل ذلك لم يكن.
وهذا من الواضحات، خصوصا عند المراجعة إلى الوجدان، فإن الإنسان إذا
لم يشته أكل طعام فعدم تحققه يستند إلى عدم المقتضي، وإذا اشتهاه ولكن لم يجد
9

الطعام فعدم الأكل يستند إلى عدم الشرط، وإذا كانت الشروط متوفرة ولكنه منع
عن الأكل مانع فعدمه يستند إلى وجود المانع، وهكذا...
وبعد بيان ذلك نقول: إنه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدين مانعا عن
وجود الضد الآخر، لما سبق من أن المانع إنما يتصف بالمانعية في لحظة تحقق
المقتضي مع بقية الشرائط.
ومن الواضح البين أن عند وجود أحد الضدين يستحيل ثبوت المقتضي للضد
الآخر ليكون عدمه مستندا إلى وجود ضده، لا إلى عدم مقتضيه.
والوجه في ذلك: هو أن المضادة والمنافرة بين الضدين والمعلولين تستلزم
المضادة والمنافرة بين مقتضييهما، فكما يستحيل اجتماع الضدين في الخارج
فكذلك يستحيل اجتماع مقتضييهما فيه، لأن اقتضاء المحال محال.
أو فقل: إن عدم الضد إنما يستند إلى وجود الضد الآخر في فرض ثبوت
المقتضي له، وهذا غير معقول، كيف؟ فإن لازم ذلك هو أن يمكن وجوده في
عرض وجود ذلك الضد، والمفروض أنه محال، فالمقتضي له أيضا محال، بداهة
أن استحالة اقتضاء المحال من الواضحات الأولية، وإلا فما فرض أنه محال لم
يكن محالا، وهذا خلف.
ولنأخذ مثالا لذلك: أن وجود السواد - مثلا - في موضوع لو كان مانعا عن
تحقق البياض فيه فلابد أن يكون ذلك في ظرف ثبوت المقتضي له ليكون عدمه
" البياض " مستندا إلى وجود المانع وهو وجود السواد، لا إلى عدم مقتضيه.
وثبوت المقتضي له محال، وإلا لكان وجوده " البياض " في عرض وجود الضد
الآخر " السواد " ممكنا، وحيث إنه محال فيستحيل ثبوت المقتضي له، لأن اقتضاء
المحال محال. وعليه فإذا كان المقتضي لأحدهما موجودا فلا محالة يكون
المقتضي للآخر معدوما، إذا يكون عدمه دائما مستندا إلى عدم مقتضيه، لا إلى
وجود المانع.
هذا، بالإضافة إلى إرادة شخص واحد في غاية الوضوح، بداهة استحالة تحقق
10

إرادة كل من الضدين في آن واحد من شخص واحد، فلا يمكن تحقق إرادة كل
من الصلاة والإزالة في نفس المكلف، فإن أراد الإزالة لم يمكن تحقق إرادة الصلاة،
وإن أراد الصلاة لم يمكن تحقق إرادة الإزالة، فترك كل واحدة منهما عند الاشتغال
بالأخرى مستند إلى عدم المقتضي له، لا إلى وجود المانع مع ثبوت المقتضي.
وأما بالإضافة إلى إرادة شخصين للضدين فالأمر أيضا كذلك، لأن إحدى
الإرادتين لا محالة تكون مغلوبة للإرادة الأخرى، لاستحالة تأثير كلتيهما معا،
وعندئذ تسقط الإرادة المغلوبة عن صفة الاقتضاء، لاستحالة اقتضاء المحال وغير
المقدور، لفرض أن متعلقها خارج عن القدرة فلا تكون متصفة بهذه الصفة، فيكون
وجودها وعدمها سيان.
وقد تحصل من ذلك: أن المانع بالمعنى الذي ذكرناه - وهو ما يتوقف على
عدمه وجود المعلول في الخارج - ما كان مزاحما للمقتضي في تأثيره أثره، ومانعا
عنه عند وجدانه الشرائط، وهذا المعنى مفقود في الضدين كما مر.
فالنتيجة إذا أنه لا وجه لدعوى توقف أحد الضدين على عدم الآخر إلا تخيل
أن المنافاة والمعاندة بينهما تقتضي التوقف المزبور. ولكنه خيال فاسد، ضرورة أن
ذلك لو تم لكان تحقق كل من النقيضين متوقفا على عدم الآخر أيضا لوجود
الملاك فيه وهو المعاندة والمنافاة، مع أن بطلان ذلك من الواضحات، فلا يحتاج
إلى مؤنة بيان وإقامة برهان (1).
ونلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: أن مانعية المانع في مرتبة متأخرة عن مرتبة وجود المقتضي ووجود
الشرط، فيكون استناد عدم المعلول إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي مع
بقية الشرائط، وإلا فالمانع لا يكون مانعا كما سبق.
الثانية: أن وجود كل من الضدين بما أنه يستحيل في عرض الآخر ويمتنع
تحققه في الخارج فثبوت المقتضي له في عرض ثبوت المقتضي للآخر أيضا

(1) انظر أجود التقريرات ج 1 ص 255 - 257.
11

محال، لأن اقتضاء المحال محال كما عرفت (1).
الثالثة: أن المعاندة والمنافاة بين الضدين لو كانت مقتضية للتوقف المذكور
لكانت مقتضية له بالإضافة إلى النقيضين أيضا، وبطلانه غني عن البيان.
ولنأخذ الآن بدراسة هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة على البيان المتقدم.
وأما النقطة الثانية: فللمناقشة فيها مجال واسع، وذلك لأنه لا مانع من ثبوت
المقتضي لكل من الضدين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، ولا استحالة فيه أصلا.
والوجه في ذلك: هو أن كلا من المقتضيين إنما يقتضي أثره في نفسه مع عدم
ملاحظة الآخر، فمقتضي البياض - مثلا - إنما يقتضيه في نفسه، سواء أكان هناك
مقتض للسواد أم لم يكن، كما أن مقتضي السواد إنما يقتضيه كذلك، وإمكان هذا
واضح، ولا نرى فيه استحالة، فإن المستحيل إنما هو ثبوت المقتضي لكل من
الضدين بقيد التقارن والاجتماع لا في نفسه، أو اقتضاء شئ واحد بذاته لأمرين
متنافيين في الوجود، وهذا مصداق قولنا: اقتضاء المحال محال، لا فيما إذا كان
هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي في نفسه شيئا مخصوصا وأثرا خاصا
مع قطع النظر عن ملاحظة الآخر.
والبرهان على ذلك: أنه لولا ما ذكرناه من إمكان ثبوت المقتضي لكل منهما
في نفسه لم يمكن استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه أصلا، لأن أثر المانع
كالرطوبة - مثلا - لا يخلو من أن يكون مضادا للمعلول وهو الإحراق، وأن لا
يكون مضادا له.
فعلى الفرض الأول يستحيل ثبوت المقتضي للمعلول والممنوع ليكون عدمه
مستندا إلى وجود مانعه، لفرض وجود ضده وهو أثر المانع، وقد سبق أن عند
وجود أحد الضدين يستحيل ثبوت المقتضي للآخر، فيكون عدمه من جهة عدم

(1) تقدم في ص 10.
12

المقتضي، لا من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضي له (1).
وعلى الفرض الثاني فلا مقتضى لكونه مانعا منه، بداهة أن مانعية المانع من
جهة مضادة أثره للممنوع، فإذا فرض عدم مضادته له فلا موجب لكونه مانعا أصلا.
وقد تبين لحد الآن: أنه لا مانع من أن يكون أحد الضدين مانعا عن الآخر
ليستند عدمه إليه، لا إلى عدم مقتضيه، لفرض إمكان ثبوته في نفسه، بحيث
لولا وجود الضد الآخر لكان يؤثر أثره، ولكن وجوده يزاحمه في تأثيره ويمنعه
عن ذلك.
مثلا: إذا فرض وجود مقتض لحركة شئ إلى طرف المشرق ووجد مقتض
لحركته إلى طرف المغرب فكل من المقتضيين إنما يقتضي الحركة في نفسه إلى كل
من الجانبين مع عدم ملاحظة الآخر، فعندئذ كان تأثير كل واحد منهما في الحركة
إلى الجانب الخاص متوقفا على عدم المانع منه، فإذا وجدت إحدى الحركتين
دون الأخرى فلا محالة يكون عدم هذه مستندا إلى وجود الحركة الأولى، لا إلى
عدم مقتضيها، فإن المقتضي لها موجود على الفرض، ولولا المانع لكان يؤثر أثره،
ولكن المانع - هو وجود تلك الحركة - يزاحمه في تأثيره.
على الجملة: فلا ريب في إمكان ثبوت المقتضيين في حد ذاتهما، حتى إذا
كانا في موضوع واحد أو محل واحد، كإرادتين من شخص واحد، أو سببين في
موضوع واحد، فضلا عما إذا كان في موضوعين أو محلين، كإرادتين من
شخصين، أو سببين في موضوعين، إذ لا مانع من أن يكون في شخص واحد
مقتض للقيام من جهة، ومقتض للجلوس من جهة أخرى، وكلا المقتضيين موجود
في حد ذاتهما مع الغض عن الآخر، فعندئذ إذا وجد أحد الفعلين دون الآخر فعدم
هذا لا محالة يكون مستندا إلى وجود ذاك، لا إلى عدم مقتضيه، لفرض أن
المقتضي له موجود، وهو يؤثر أثره لولا مزاحمة المانع له.

(1) راجع أيضا ص 13.
13

ونتيجة ما ذكرناه: هي أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن أحد الضدين إذا
كان موجودا يستحيل ثبوت المقتضي له (1) لا يتم، ومنشأ ذلك: غفلته (قدس سره) عن نقطة
واحدة هي: تخيل أن المقام من موارد الكبرى المتسالم عليها، وهي: أن اقتضاء
المحال محال، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن المقام أجنبي عنه، فإن اقتضاء المحال
إنما يتحقق في أحد موردين:
الأول: ما إذا كان هناك شئ واحد يقتضي بذاته أمرين متنافيين في الوجود.
الثاني: ما إذا فرض هناك ثبوت المقتضي لكل من الضدين بقيد الاجتماع
والتقارن، ومن الواضح أنه لا صلة لكلا الموردين بالمقام، وهو ما إذا كان هناك
مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي شيئا مخصوصا وأثرا خاصا في نفسه بلا
ربط له بالآخر. وهذا هو مراد القائلين ب‍ " أن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن
ضده " فإنهم بعد ما تسالموا على الكبرى - وهي: وجوب مقدمة الواجب - قد
نقحوا الصغرى - وهي: كون عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر - بالشكل الذي
بيناه، ثم أخذوا النتيجة بضم الصغرى إلى الكبرى، وهي حرمة الضد.
وأما النقطة الثالثة فيرد عليها: أن المعاندة والمنافرة بين الضدين لو سلم
اقتضاؤها للتوقف المزبور فلا يسلم اقتضاؤها له بين النقيضين، إذ لا يعقل التوقف
بين النقيض وعدم نقيضه، بداهة أن عدم الوجود عين العدم البديل له، فكيف يعقل
توقف ذلك العدم على عدم الوجود؟ لأنه من توقف الشئ على نفسه وهو
محال، مثلا: عدم الإنسان عين العدم البديل له، فلا يكاد يمكن توقف العدم البديل
له على عدمه، بداهة أن توقف شئ على شئ يقتضي المغايرة والاثنينية بينهما
في الوجود، فضلا عن المغايرة في المفهوم. ومن الظاهر أنه لا مغايرة بين عدم
الإنسان - مثلا - والعدم البديل له، لا خارجا ولا مفهوما.
نعم، المغايرة المفهومية بين عدم العدم والوجود ثابتة، لكنه لا تغاير بينهما في
الخارج، مثلا: الإنسان مغاير مفهوما مع عدم نقيضه وهو العدم البديل له، ولكنهما

(1) كذا، والظاهر " للضد الآخر " بدل " له ".
14

متحدان عينا وخارجا، فإن عدم عدم الإنسان عين الإنسان في الخارج، إذا
لا معنى لتوقف تحقق أحد النقيضين على عدم الآخر. وهذا بخلاف الضدين، فإنه
لمكان المغايرة بينهما مفهوما وخارجا لا يكون توقف أحدهما على عدم الآخر
من توقف الشئ على نفسه.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن المعاندة والمنافرة بين الضدين لو اقتضت
توقف أحدهما على عدم الآخر لثبت ذلك في النقيضين أيضا لا يرجع إلى معنى
محصل أصلا.
الوجه الثاني (1): أن عدم أحد الضدين لو فرض ثبوت المقتضي له أيضا يستند
عدمه إلى وجود مقتضي الآخر، لا إلى وجود نفسه.
بيان ذلك: أن الصور المتصورة في المقام ثلاث لا رابع لها.
الأولى: أن يكون المقتضي لكل من الضدين موجودا.
الثانية: أن لا يكون المقتضي لشئ منهما موجودا عكس الأولى.
الثالثة: أن يكون المقتضي لأحدهما موجودا دون المقتضي للآخر.
أما الصورتان الأخيرتان فالأمر فيهما واضح، فإن عدم مالا مقتضي له مستند
إلى عدم مقتضيه، لا إلى وجود الضد الآخر. وإنما الكلام في الصورة الأولى.
فنقول: إن المقتضيين الموجودين في عرض واحد لا يخلوان: من أن يكونا
متساويين في القوة، وأن يكون أحدهما أقوى من الآخر.
أما على الأول: فلا يوجد شئ من الضدين، لاستحالة تأثير كل منهما أثره
معا، وتأثير أحدهما المعين فيه دون الآخر ترجيح من دون مرجح، أو خلف إن
فرض له مرجح. ومن ذلك يعلم: أن المانع من وجود الضد مع فرض ثبوت مقتضيه
إنما هو وجود المقتضي للضد الآخر، لا نفس وجود الضد. وفي هذا الفرض بما أن
كلا من المقتضيين يزاحم الآخر في تأثيره ويمنعه عن ذلك، فإن تأثير كل منهما
منوط بعدم المانع عنه، ووجود مقتضي الضد الآخر مانع، فلا محالة يكون عدم كل

(1) من وجهي إنكار المقدمية بين ترك أحد الضدين وفعل الضد الآخر تقدم الأول منهما
في ص 10.
15

من الضدين مستندا إلى وجود المقتضي للآخر لا إلى نفسه.
وأما على الثاني: فيؤثر القوي في مقتضاه، ويكون مانعا عن تأثير المقتضي
الضعيف، والضعيف لا يمكن أن يكون مانعا من القوي.
بيان ذلك: أن القوي لمكان قوته يزاحم الضعيف ويمنعه من التأثير في
مقتضاه، فنفس وجوده موجب لفقد شرط من شرائطه، وهو عدم المزاحم، فإنه
شرط تأثيره ومصحح فاعليته، فيكون عدم القوي شرطا لتأثير الضعيف، ووجوده
مانعا منه.
وعلى هدى ذلك يعلم: أن عدم تمامية علية الضعيف مستند إلى تمامية علية
القوي ووجوده، وبما أن الضعيف لا يمكن أن يزاحم القوي في تأثيره يكون تام
الاقتضاء والفاعلية، فهو بصفته كذلك يزاحم الضعيف ويمنعه عن تأثيره في
معلوله، فعدم مزاحمة الضعيف بالتالي منته إلى ضعف في نفسه بالإضافة إلى
المقتضي الآخر، إذ لو كان قويا مثله لزاحمه في تأثيره لا محالة، فعدم قابليته لأن
يزاحم الآخر وقابلية الآخر لأن يزاحمه لأجل عدم قوته بالإضافة إليه وإن كان
قويا في نفسه وتام الفاعلية والاقتضاء مع قطع النظر عن مزاحمة الآخر له، ولذا لو
لم يكن القوي في البين لأثر الضعيف في مقتضاه، ففي هذا الفرض يستند عدم
الضد إلى وجود المقتضي القوي للضد الآخر، لا إلى نفس وجوده، ولا إلى عدم
مقتضي نفسه، فإنه موجود على الفرض ولكن المانع منعه عن تأثيره وهو وجود
المقتضي القوي.
وعلى الجملة: ففي ما إذا كان المقتضيان متفاوتين بالقوة والضعف فيستحيل
أن يؤثر الضعيف في مقتضاه، لأن تأثير كل مقتض مشروط بعدم المانع المزاحم له،
والقوي لمكان قوته مزاحم له، ومع ذلك لو أثر الضعيف دون القوي للزم انفكاك
المعلول عن علته التامة وصدوره عن علته الناقصة، فإن علية القوي - كما عرفت -
تامة فلا حالة منتظرة فيه أصلا، إذ الضعيف لمكان ضعفه لا يمكن أن يزاحمه،
وعلية الضعيف ناقصة، لوجود المانع المزاحم له، إذا يستند عدم الضد الذي يقتضيه
16

السبب الضعيف إلى وجود السبب القوي، فإنه مانع عن تأثير الضعيف ومزاحم له،
وإلا فالمقتضي له موجود. وقد سبق أن عدم المعلول إنما يستند إلى وجود المانع
في ظرف تحقق المقتضي وبقية الشرائط. ولنأخذ لذلك مثالين:
الأول: ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدين في محل واحد، كإرادة
الضدين من شخص واحد وكانت إرادته بالإضافة إلى أحدهما أقوى من إرادته
بالإضافة إلى الآخر، كما لو كان هناك غريقان وقد تعلقت إرادته بإنقاذ كل واحد
منهما في نفسه، ولكن إرادته بالإضافة إلى إنقاذ أحدهما أقوى من إرادته
بالإضافة إلى إنقاذ الآخر، من جهة أن أحدهما عالم والآخر جاهل، أو كان
أحدهما صديقه والآخر أجنبيا عنه، وغير ذلك من الخصوصيات والعناوين
الموجبة لكثرة الشفقة والمحبة بالإضافة إلى إنقاذ أحدهما دون الآخر، ففي مثل
ذلك لا محالة يكون المؤثر هو الإرادة القوية دون الإرادة الضعيفة، فإنها لمكان
ضعفها تزاحمها الإرادة القوية، وتمنعها عن تأثيرها في مقتضاها، وتلك لمكان
قوتها لا تزاحم بها.
إذا عدم تحقق مقتضي الإرادة الضعيفة غير مستند إلى وجود الضد الآخر، ولا
إلى عدم مقتضيه، فإن مقتضيه - وهو الإرادة الضعيفة - موجود على الفرض، بل هو
مستند إلى وجود المانع والمزاحم له، وهو الإرادة القوية.
الثاني: ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدين في محلين وموضوعين،
كما إذا كان كل منهما متعلقا لإرادة شخص ولكن كانت إرادة أحدهما أقوى من
إرادة الآخر، كما إذا أراد أحد الشخصين - مثلا - حركة جسم إلى جانب وأراد
الآخر حركة ذلك الجسم إلى جانب آخر وهكذا... ففي مثل ذلك أيضا يكون
المؤثر هو الإرادة الغالبة دون الإرادة المغلوبة، فعدم أثرها أيضا غير مستند إلى
وجود أثر تلك الإرادة، بل هو مستند إلى مزاحمتها بها، لمكان ضعفها، وعدم
مزاحمة تلك بها لمكان قوتها.
فالنتيجة إذا: لا يمكن فرض وجود صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة
17

إلى وجود الضد الآخر، لا إلى وجود سببه، أو عدم مقتضي نفسه.
أقول: هذا الوجه في غاية المتانة والاستقامة، ولا مناص من الالتزام به، ولا
سيما بذلك الشكل الذي بيناه.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وجها ثالثا لاستحالة مقدمية عدم الضد
للضد الآخر. وإليك نصه: (وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا
عدم اجتماعهما في التحقق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض
الآخر وبديله بل بينهما كمال الملاءمة كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو
بديله في مرتبة واحدة، من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على
الآخر كما لا يخفى، فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع
أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين) (1).
أقول: توضيح ما أفاده (قدس سره): أن المنافرة والمعاندة بين الضدين كما تقتضي
استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمن واحد كذلك تقتضي استحالة
اجتماعهما في مرتبة واحدة، فإذا استحال اجتماعهما في مرتبة واحدة كان عدم
أحدهما في تلك المرتبة ضروريا، وإلا فلابد أن يكون وجوده فيها كذلك،
لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة.
مثلا: البياض والسواد متضادان، وقضية مضادة أحدهما مع الآخر
ومعاندتهما استحالة اجتماعهما في الوجود في موضوع وفي آن واحد أو رتبة
واحدة، فكما أن استحالة اجتماعهما في زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما
في ذلك الزمان كذلك استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة تستلزم ضرورة عدم
واحد منهما في تلك الرتبة، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضا، بأن
لا يكون وجوده في تلك المرتبة ولا عدمه.
ومن ذلك يعلم: أن مراده (قدس سره): من أنه لا منافاة بين وجود أحد الضدين وعدم
الآخر، بل بينهما كمال الملاءمة ما ذكرناه: من أن المضادة بين شيئين لا تقتضي إلا

(1) كفاية الأصول: ص 161.
18

استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في آن واحد أو رتبة واحدة، وإذا
استحال تحققهما في مرتبة فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة واجبا.
مثلا: عدم البياض في مرتبة وجود السواد، وكذلك عدم السواد في مرتبة
وجود البياض ضروري، كيف؟ ولو لم يكن عدم البياض في تلك المرتبة يلزم
أحد محذورين: إما ارتفاع النقيضين عن تلك المرتبة لو لم يكن وجود البياض
أيضا في تلك المرتبة، أو اجتماع الضدين فيها إذا كان البياض موجودا فيها.
وليس غرضه من ذلك نفي المقدمية والتوقف بمجرد كمال الملاءمة بينهما ليرد
عليه ما أورده شيخنا المحقق (قدس سره): من أن كمال الملاءمة بينهما لا يدل عليه، فإن بين
العلة والمعلول كمال الملاءمة، ومع ذلك لا يكونان متحدين في الرتبة (1).
كما أن غرضه (قدس سره) من قوله: (كما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي
تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر كذلك في المتضادين) هو ما ذكرناه، وليس
غرضه من ذلك الاستدلال على نفي التوقف والمقدمية بقياس المساواة بدعوى:
أن عدم أحد الضدين في مرتبة وجوده، لأنهما نقيضان، والنقيضان في رتبة
واحدة، وبما أن وجود أحد الضدين في مرتبة وجود الآخر - لأن ذلك مقتضى
التضاد بينهما - كان عدم أحد الضدين في مرتبة وجود الآخر، وذلك لما ذكرناه
غير مرة: من أن التقدم والتأخر والتقارن بين شيئين تارة تلاحظ بالإضافة إلى
الزمان، ومعنى ذلك: أن الملاك في تقدم شئ على شئ آخر أو تأخره عنه أو
تقارنه معه هو نفس الزمان لا غيره. وتارة أخرى تلاحظ بالإضافة إلى الرتبة مع
تقارنهما بحسب الزمان، وحينئذ فالملاك فيه شئ آخر غير الزمان.
أما إذا كان التقدم والتأخر بين شيئين أو التقارن بينهما بالزمان فكل ما هو
متحد مع المتقدم في الزمان متقدم على المتأخر بعين الملاك الموجود في المتقدم،
وهو كونه في الزمان المتقدم، وكل ما هو متحد مع المتأخر في الزمان متأخر عن

(1) انظر نهاية الدراية: القسم الثاني من ج 1 ص 2 - 3.
19

المتقدم بعين الملاك الموجود في المتأخر، وهو كونه في الزمان المتأخر. وكل ما
هو متحد مع المقارن في الزمان مقارن لتحقق ملاك التقارن فيه، وهذا من
الواضحات فلا يحتاج إلى مؤنة بيان.
وأما إذا كان التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر ليس
كذلك، فإن ما هو متحد مع المتقدم في الرتبة لا يلزم أن يكون متقدما على
المتأخر. وكذا ما هو متحد مع المتأخر فيها أو المقارن لا يلزم أن يكون متأخرا، أو
مقارنا. مثلا: العلة متقدمة على المعلول رتبة، وما هو متحد معها في الرتبة - وهو
العدم البديل له - لا يكون متقدما عليه، والمعلول متأخر عن العلة رتبة وما هو
متحد معه - وهو عدمه البديل له - لا يكون متأخرا عنها.
والوجه في ذلك: هو أن التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع لا يكون جزافا، بل
لابد أن يكون ناشئا من ملاك مقتض له، فكل ما كان فيه الملاك الموجب لتقدمه أو
تأخره فهو، وإلا فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر أصلا. فهذا الملاك تارة يختص
بوجود الشئ فلا يمكن الالتزام بالتقدم أو التأخر في عدمه. وتارة أخرى يختص
بعدمه، فلا يعقل الالتزام به في وجوده، فإنه تابع لوجود الملاك، ففي كل مورد لا
يوجد فيه الملاك لا يمكن فيه التقدم أو التأخر، بل لابد فيه من الالتزام بالاتحاد
والمعية في الرتبة، فإن ملاك المعية انتفاء ملاك التقدم والتأخر، لا أنها ناشئة من
ملاك وجودي.
وعلى ضوء ذلك نقول: إن تقدم العلة على المعلول بملاك ترشح وجود
المعلول من وجود العلة، كما أن تقدم الشرط على المشروط بملاك توقف وجوده
على وجوده، وتقدم عدم المانع على الممنوع بملاك توقف وجوده عليه.
وأما عدم العلة فلا يكون متقدما على وجود المعلول، لعدم ملاك التقدم فيه.
كما أن عدم المعلول لا يكون متأخرا عن وجود العلة مع أنه في مرتبة وجود
المعلول، لعدم تحقق ملاك التأخر فيه، وكذا لا يكون عدم الشرط متقدما على
المشروط، ولا عدم المشروط متأخرا عن وجود الشرط، لاختصاص ملاك التقدم
20

والتأخر بوجود الشرط ووجود المشروط، دون وجود أحدهما وعدم الآخر.
وعلى الجملة: فما كان مع المتقدم في الرتبة كالعلة والشرط ليس له تقدم على
المعلول والمشروط، إذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيرها، والتقدم بالشرطية
شأن الشرط دون غيره، فإن التقدم بالعلية أو الشرطية أو نحوها الثابت لشئ لا
يسري إلى نقيضه المتحد معه في الرتبة.
ولذا قلنا: إنه لا تقدم لعدم العلة على المعلول، ولا للعلة على عدم المعلول، مع
أنه لا شبهة في تقدم العلة على المعلول. والسر فيه: ما عرفت من أن التقدم والتأخر
الرتبيين تابعان للملاك، فكل ما لا يكون فيه الملاك لا يعقل فيه التقدم والتأخر
أصلا، بل لا مناص فيه من الحكم بالمعية والاتحاد في الرتبة.
ومن ذلك يظهر الحال في الضدين، إذ يمكن أن يكون عدم أحدهما متقدما
على وجود الآخر بملاك موجب له، ولا يكون ما هو متحد معه في الرتبة متقدما
عليه، فمجرد اتحاد الضدين والنقيضين في الرتبة لا يأبى أن يكون عدم الضد
متقدما على الضد الآخر مع عدم تقدم ما هو في مرتبته عليه، لاختصاص ملاك
التقدم بعدم كل منهما بالإضافة إلى وجود الآخر، دون عدم كل منهما بالإضافة إلى
وجوده، ودون وجود كل منهما بالإضافة إلى وجود الآخر. ولأجل ذلك كان ما
هو متحد مع العلة في الرتبة - وهو عدمها - متحدا مع المعلول في الرتبة، وكان ما
هو متحد مع المعلول في الرتبة - وهو عدمه - متحدا مع العلة في الرتبة، مع أن العلة
متقدمة على المعلول رتبة.
ثم إن ما ذكره في النقيضين: من أن قضية المنافاة بينهما لا تقتضي تقدم (1)
أحدهما في ثبوت الآخر، لابد من فرضه في طرف واحد منهما، وهو طرف
الوجود دون كلا الطرفين، وذلك لأن وجود الشئ يغاير عدم نقيضه - أعني به:
عدم العدم - مفهوما. وأما عدم الشئ فهو بنفسه نقيض الشئ، ولا يغايره بوجه
كي يقال: إن ارتفاع الوجود يلائم نقيضه من دون أن يكون بينهما تأخر وتقدم.

(1) كذا، والظاهر: ارتفاع أحدهما.
21

مثلا: وجود الإنسان يغاير عدم نقيضه - عدم الإنسان - مفهوما، فإن مفهوم
عدم العدم غير مفهوم الوجود وإن كان في الخارج عينه.
فإذا يمكن أن يقال: إن الشئ كالإنسان متحد في الرتبة مع عدم نقيضه. وأما
عدم الإنسان فلا يغاير عدم نقيضه - وجود الإنسان - حتى مفهوما، فإن نقيضه هو
الإنسان، وعدم نقيضه هو عدم الإنسان. إذا فلا معنى لأن يقال: إن عدم الإنسان
متحد في الرتبة مع عدم الإنسان.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أن التمسك بقياس المساواة إنما يصح في
التقدم الزماني، فإن ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم - لا محالة - دون ما إذا كان
التقدم في الرتبة.
وقد عرفت أن غرض المحقق - صاحب الكفاية (قدس سره) - ليس التمسك بقياس
المساواة لإثبات نفي المقدمية والتقدم لعدم أحد الضدين للضد الآخر ليرد عليه
ما بيناه، بل غرضه ما ذكرناه سابقا (1). هذا غاية توجيه لما أفاده (قدس سره) في المقام.
وقد ظهر من ضوء بياننا هذا أمران:
الأول: بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التمسك لإثبات كون عدم أحد
الضدين في مرتبة الضد الآخر بقياس المساواة. وقد تقدم بيانه (2) مع جوابه مفصلا
فلا حاجة إلى الإعادة.
الثاني: بطلان ما أفاده شيخنا المحقق (قدس سره): من أن المعية في الرتبة - كالتقدم أو
التأخر الرتبي - لابد أن تكون ناشئة من ملاك وجودي، فلا يكفي فيها انتفاء ملاك
التقدم أو التأخر.
والوجه في ذلك ما عرفت: من أن التقدم أو التأخر لابد أن يكون ناشئا من
ملاك وجودي موجب له، وأما المعية في الرتبة فلا (3).
والسر في ذلك: أن كل شئ إذا قيس على غيره ولم يكن بينهما ملاك التقدم

(1) تقدم في ص 18.
(2) راجع تفصيله في ص 8 - 15.
(3) قد سبق ذكره في ص 20 - 21.
22

والتأخر فهو في رتبته لا محالة، إذ لا نعني بالمعية في الرتبة إلا عدم تحقق موجب
التقدم والتأخر بينهما، ضرورة أنها لا تحتاج إلى ملاك آخر غير عدم وجود ملاك
التقدم والتأخر، فكل ما لم يكن متقدما على شئ ولا متأخرا عنه في الرتبة كان
متحدا معه في الرتبة لا محالة.
وبعد بيان هذا نقول: إنه يمكن المناقشة فيما أفاده المحقق - صاحب
الكفاية (قدس سره) - أيضا.
والوجه في ذلك: هو أن ما أفاده (قدس سره) مبتن على أصل فاسد، وهو: أن استحالة
اجتماع الضدين أو النقيضين إنما تكون مع وحدة الرتبة، وأما مع تعددها فلا
استحالة أبدا.
أو فقل: إنه كما يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الزمان كذلك يعتبر فيه
وحدة الرتبة، ومع اختلافها فلا تناقض ولا تضاد.
ولكن هذا الأصل بمكان من الفساد، وذلك لأن التضاد من صفات الوجود
الخارجي، فالمضادة والمعاندة بين السواد والبياض، أو بين الحركة والسكون -
مثلا إنما هي في ظرف الخارج، بداهة أنه مع قطع النظر عن وجودهما في الخارج
لا مضادة ولا معاندة بينهما أبدا.
وعلى الجملة: فالمضادة والمماثلة والمناقضة جميعا من الصفات التي تعرض
الموجودات الخارجية، لا الرتب العقلية، ضرورة أن الوجود والعدم إنما يستحيل
اجتماعهما في الخارج، وكذا السواد والبياض، والحركة والسكون، وكل ما يكون
من هذا القبيل.
ولذا لو فرضنا أن الضدين كانا مختلفين في الرتبة عقلا كان اجتماعهما
خارجا في موضوع واحد محالا، فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما في الوجود
الخارجي في آن واحد وفي موضوع فارد، سواء أكانا مختلفين بحسب الرتبة أم
كانا متحدين فيها، إذ العبرة إنما هي بالمقارنة الزمانية. ومن المعلوم أن المختلفين
بحسب الرتبة قد يقترنان بحسب الزمان كالعلة والمعلول.
23

وعليه فلا يتم ما في الكفاية من أن المعاندة والمنافرة بين الضدين تقتضي
استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة أيضا، فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة
يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة ضروريا، وإلا لزم: إما ارتفاع الضدين، أو
اجتماعهما، وكلاهما محال (1).
والوجه فيه: ما عرفت من أن المعاندة والمنافرة بين الضدين إنما هي بلحاظ
وجوديهما في الخارج، وإلا فلا معاندة ولا مضادة بينهما أبدا، فإذا لا مانع من أن
يكون عدم أحدهما متقدما على الآخر بالرتبة، ولا يلزم عليه المحذور المذكور
أصلا. وأما عدم تقدم أحد الضدين على الآخر فليس من ناحية المضادة بينهما
ليقال: إن قضيتها اتحادهما في الرتبة، بل من ناحية انتفاء ملاك التقدم والتأخر.
ومن هنا لم يعدوا من الوحدات المعتبرة في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة،
وهذا منهم شاهد على عدم اعتبارها فيه.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) وجها رابعا لاستحالة كون عدم أحد
الضدين مقدمة للضد الآخر بأنه مستلزم للدور: فإن التمانع بينهما لو كان موجبا
لتوقف وجود كل منهما على عدم الآخر من باب توقف المعلول على عدم مانعه
لاقتضى ذلك توقف عدم كل منهما على وجود الضد الآخر من باب توقف عدم
الشئ على وجود مانعه، فيلزم حينئذ توقف وجود كل منهما على عدم الآخر،
وتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر، وهذا محال (2).
وقد أورد عليه كما في الكفاية: بأن توقف وجود أحد الضدين على عدم
الآخر فعلي، فإن وجود السواد في محل متوقف فعلا على عدم تحقق البياض فيه.
وأما توقف عدم الضد على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي، فلا دور (3).
والوجه في ذلك: هو أن وجود الضد في الخارج لا محالة يكون بوجود علته
التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع، ومن الواضح أن توقف وجود المعلول

(1) كفاية الأصول: ص 163.
(2) المصدر السابق: ص 161.
(3) المصدر نفسه.
24

على جميع أجزاء علته - ومنها: عدم المانع - فعلي، لأن للجميع دخلا فعلا في
تحققه ووجوده في الخارج، وهذا معنى: أن توقف وجود الضد على عدم الآخر
فعلي، فإنه من توقف وجود المعلول على عدم مانعه في ظرف تحقق المقتضي
والشرط.
وأما عدم الضد فلا يتوقف على وجود الضد الآخر فعلا، لأن عدمه يستند إلى
عدم المقتضي له، لا إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط
ليكون توقفه عليه فعليا، بل يحتمل استحالة تحقق المقتضي له أصلا، لأجل
احتمال أن يكون وقوع أحد الضدين في الخارج وعدم وقوع الآخر فيه منتهيا إلى
تعلق الإرادة الأزلية بالأول، وعدم تعلقها بالثاني، فإنها علة العلل، وجميع
الأسباب الممكنة لابد أن تنتهي إلى سبب واجب وهو الإرادة الأزلية، فيكون عدم
الضد - عندئذ - دائما مستندا إلى عدم المقتضي، لا إلى وجود المانع ليلزم الدور.
وما قيل: من أن هذا إنما يتم فيما إذا كان الضدان منتهيين إلى إرادة شخص
واحد فإن إرادة الضدين من شخص واحد محال، سواء أكانت الإرادتان منتهيتين
إلى الإرادة الأزلية أم لم تنتهيا إليها، فإذا أراد أحدهما فلا محالة يكون عدم الآخر
مستندا إلى عدم الإرادة والمقتضي، لا إلى وجود المانع. وأما إذا كان كل منهما
متعلقا لإرادة شخص فلا محالة يكون عدم أحدهما مستندا إلى وجود المانع، لا
إلى عدم ثبوت المقتضي له، لفرض أن المقتضي له موجود وهو الإرادة، فإن إرادة
الضدين من شخصين ليست بمحال مدفوع: بأن عدم الضد هنا أيضا مستند إلى
قصور في المقتضي، لا إلى وجود الضد الآخر مع تماميته، فإن الإرادة الضعيفة مع
مزاحمتها بالإرادة القوية لا تؤثر، لخروج متعلقها عن تحت القدرة، فلا يكون
المغلوب منهما في إرادته قادرا على إيجاد متعلقها.
وإن شئت فقل: إن الفعلين المتضادين: إما أن يلاحظا بالإضافة إلى شخص
واحد، أو بالإضافة إلى شخصين.
فعلى الأول: كان عدم ما لم يوجد منهما مستندا إلى عدم تعلق الإرادة به،
25

فعدمه لعدم مقتضيه، لا لوجود المانع.
وعلى الثاني: يستند عدمه إلى عدم الشرط، أعني به عدم القدرة على الإيجاد
مع تعلق الإرادة القوية بخلافه. وهذا التقريب ألخص وأمتن، فإنه لا يتوقف على
انتهاء أفعال العباد إلى الإرادة الأزلية حتى يرد عليه: أن أفعال العباد غير منتهية
إلى إرادة الله تعالى أولا، وليست إرادته سبحانه أزلية ثانيا، كما تقدم الكلام فيه
مفصلا في بحث الطلب والإرادة (1).
وحاصل الاعتراض على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره): من أن وجود
أحد الضدين إذا توقف على عدم الآخر لزم الدور، فإن عدم الآخر أيضا متوقف
على وجود الأول توقف عدم الشئ على وجود مانعه: هو أن عدم أحد الضدين
لا يستند إلى وجود الآخر أبدا، بل يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط،
فالتوقف من طرف الوجود فعلي، وأما من طرف العدم فلا توقف إلا على فرض
محال، وهو: أن يفرض وجود المقتضي للوجود مع جميع شرائطه. هذا غاية
ما يمكن أن يقال في دفع غائلة استلزام الدور.
ولكنه يرد عليه ما أفاده في الكفاية، وحاصله: أن المورد إذا سلم إمكان
استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر، وإن لم يتحقق ذلك خارجا فمحذور
الدور يبقى على حاله لا محالة، إذ كيف يمكن أن يكون ما هو من أجزاء العلة
لشئ معلولا له بعينه؟ وأما إذا لم يسلم ذلك وذهب إلى استحالة استناد عدم أحد
الضدين إلى وجود الآخر - كما هو مقتضى التقريب المتقدم - فمعناه: إنكار توقف
أحد الضدين على عدم الآخر، فإنه إذا استحال أن يكون شئ مانعا عن ضده
فكيف يمكن أن يقال: إن ضده يتوقف على عدمه توقف الشئ على عدم
مانعه؟ (2)
وبعبارة واضحة: أن المدعى إنما هو توقف أحد الضدين على عدم الآخر

(1) راجع التفصيل في ج 2 ص 71.
(2) انتهى ما اورده (قدس سره) من الكفاية، راجع الكفاية ص 161 - 162.
26

توقف الشئ على عدم مانعه، فإذا فرض أنه لا يمكن أن يكون مانعا فكيف يمكن
أن يكون عدمه موقوفا عليه؟
ثم إن المحقق الخوانساري (قدس سره) قد فصل بين الضد الموجود والضد المعدوم (1).
وربما نسب هذا التفصيل إلى شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) أيضا بدعوى: أن
وجود الضد إنما يتوقف على عدم الضد الآخر إذا كان موجودا، لا مطلقا، بمعنى:
أن المحل إذا كان مشغولا بأحد الضدين فوجود الضد الآخر في هذا المحل
يتوقف على ارتفاع ذلك الضد. وأما إذا لم يكن مشغولا به فلا يتوقف وجوده على
عدمه (2).
ونتيجة ذلك: هي أن عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضد الآخر، دون عدم
الضد المعدوم.
بيان ذلك: أن المحل: إما أن يكون خاليا من كل من الضدين، وإما أن يكون
مشغولا بأحدهما دون الآخر.
فعلى الأول: فالمحل قابل لكل منهما بما هو مع قطع النظر عن الآخر، وقابلية
المحل لذلك فعلية فلا تتوقف على شئ، فعندئذ إذا وجد المقتضي لأحدهما فلا
محالة يكون موجودا من دون توقفه على عدم وجود الآخر. مثلا: إذا كان الجسم
خاليا من كل من السواد والبياض فقابليته لعروض كل منهما عليه عندئذ فعلية،
فإذا وجد مقتضي السواد فيه فلا محالة يكون السواد موجودا، من دون أن يكون
لعدم البياض دخل في وجوده أصلا.
فالنتيجة: أن وجود الضد في هذا الفرض لا يتوقف على عدم الضد الآخر.
وعلى الثاني: فالمحل المشغول بالضد لا يقبل ضدا آخر في عرضه، بداهة أن

(1) نسبه إليه الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار: ص 107 أآلهتنا 14.
(2) النسبة إليه هي الظاهر من كلام المحقق الرشتي (قدس سره) في بدائع الأفكار: ص 377، حيث
قال: (وهذا التفصيل خير الأقوال التي عثرتها في مقدمة ترك الضد، حتى ركن إليه شيخنا
العلامة (قدس سره)).
27

المحل غير قابل بالذات لعروض كلا الضدين معا. نعم، يقبل الضد الآخر بدلا عنه،
وعليه فلا محالة يتوقف وجود الضد الآخر على ارتفاع الضد الموجود، ضرورة
أن الجسم الأسود لا يقبل البياض، كما أن الجسم الأبيض لا يقبل السواد، فوجود
البياض لا محالة يتوقف على خلو الجسم من السواد ليقبل البياض، وكذا وجود
السواد يتوقف على خلوه من البياض ليكون قابلا لعروض السواد، وهذا بخلاف
الضد الموجود، فإنه لا يتوقف على شئ عدا ثبوت مقتضيه.
أقول: إن مرد هذا التفصيل إلى أن الأشياء محتاجة إلى العلة والسبب في
حدوثها لا في بقائها، فهي في بقائها مستغنية.
بيان ذلك: أن الحادث إذا كان في بقائه غير محتاج إلى المؤثر كان وجود
الحادث المستغني عن العلة مانعا عن حدوث ضده، فلا محالة يتوقف حدوث
ضده على ارتفاعه.
وأما إذا كان الحادث محتاجا في بقائه إلى المؤثر: فإن لم يكن لضده مقتض
فعدمه يستند إلى عدم مقتضيه، وإن كان له مقتض ولم يكن شرطه متحققا فعدمه
يستند إلى عدم شرطه، وإن كان شرطه أيضا موجودا ومع ذلك كان معدوما فهو
مستند إلى وجود مقتضي البقاء المانع من تأثير مقتضي ضده.
إذا لا فرق بين الضد الموجود وغير الموجود في أن وجود الشئ لا يتوقف
على عدم ضده، بل يتوقف على عدم مقتضي ضده إذا كان مقتضي الشئ وشرطه
موجودا في الخارج.
إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدرس هذه النقطة - استغناء البقاء عن المؤثر - مرة في
الأفعال الاختيارية، ومرة أخرى في الموجودات التكوينية.
أما في الأفعال الاختيارية التي هي محل الخلاف في المسألة: فهي بديهية
البطلان ولو سلمنا أنها صحيحة في الموجودات التكوينية. والوجه في ذلك ما
ذكرناه في بحث الطلب والإرادة: من أن الفعل الاختياري مسبوق بإعمال القدرة
والاختيار، وهو فعل اختياري للنفس، وليس من مقولة الصفات، وواسطة بين
28

الإرادة والأفعال الخارجية، فالفعل في كل آن يحتاج إليه، ويستحيل بقاؤه بعد
انعدامه وانتفائه (1).
أو فقل: إن الفعل إذا كان تابعا لإعمال قدرة الفاعل فلا محالة كان الفاعل إذا
أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج، وإن لم يعملها فيه استحال تحققه. وكذا إن
استمر على إعمال القدرة فيه استمر وجوده، وإن لم يستمر عليه استحال
استمراره، وهذا واضح.
وعلى الجملة: لا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى
السبب والعلة، وهو إعمال القدرة، فإن سر الحاجة - وهو إمكانه الوجودي وفقره
الذاتي - كامن في صميم ذاته ووجوده، مع أن البقاء هو الحدوث، غاية الأمر أنه
حدوث ثان ووجود آخر في مقابل الوجود الأول، والحدوث هو الوجود الأول
غير مسبوق بمثله، وعليه فإذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار كالتكلم
- مثلا - الذي هو مضاد للسكوت، أو الحركة التي هي مضادة للسكون، أو الصلاة
التي هي منافية للإزالة فهذا الفعل كما أنه في الآن الأول بحاجة إلى إعمال القدرة
فيه والاختيار كذلك بحاجة إليه في الآن الثاني والثالث، وهكذا...، فلا يمكن أن
نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.
وعلى هذا الضوء لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم، إذ كما أن تحقق كل
منهما في الزمان الأول كان متوقفا على وجود مقتضيه - الاختيار وإعمال القدرة -
كذلك تحققه في الزمان الثاني كان متوقفا عليه.
وقد أشرنا آنفا: أن نسبة بقاء الضد الموجود في الآن الثاني كنسبة حدوث
الضد المعدوم فيه في الحاجة إلى المقتضي وفاعل ما منه الوجود، فكما أن الأول
لا يتوقف على عدم الثاني فكذلك الثاني لا يتوقف على عدم الأول.
أو فقل: إن كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان،
فيكون في كل آن فعل صادر بالإرادة والاختيار، فلو انتفى الاختيار في زمان

(1) قد تقدم في ج 2 من المحاضرات ص 59 وما بعدها فراجع.
29

يستحيل بقاء الفعل فيه، ولذلك لا فرق بين الدفع والرفع عقلا إلا بالاعتبار، هو:
أن الدفع مانع عن الوجود الأول، والرفع مانع عن الوجود الثاني، فكلاهما في
الحقيقة دفع.
ومثال ذلك: ما إذا أراد المكلف فعل الإزالة دون الصلاة، فكما أن تحقق كل
واحدة منهما في الزمن الأول كان منوطا باختياره وإعمال القدرة فيه فكذلك
تحقق كل منهما في الزمن الثاني كان منوطا باختياره وإعمال القدرة فيه، فهما من
هذه الناحية على نسبة واحدة.
فالنتيجة: أن احتياج الأفعال الاختيارية إلى الإرادة والاختيار من
الواضحات الأولية فلا يحتاج إلى مؤنة بيان وإقامة برهان.
وأما في الموجودات التكوينية فالأمر أيضا كذلك، إذ لا شبهة في حاجة
الأشياء إلى علل وأسباب، فيستحيل أن توجد بدونها.
وسر حاجة تلك الأشياء بصورة عامة إلى العلة وخضوعها لها: هو أن الحاجة
كامنة في ذوات تلك الأشياء، لا في أمر خارج عنها، فإن كل ممكن في ذاته مفتقر
إلى الغير ومتعلق به، سواء أكان موجودا في الخارج أم لم يكن، ضرورة أن فقرها
كامن في نفس وجوده، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في
الحاجة إلى العلة، فإن سر الحاجة - وهو إمكان الوجود - لا ينفك عنه، كيف؟ فإن
ذاته عين الفقر والإمكان، لا أنه ذات لها الفقر.
وعلى أساس ذلك، فكما أن الأشياء في حدوثها في أمس الحاجة إلى سبب
وعلة فكذلك في بقائها، فلا يمكن أن نتصور وجودا متحررا عن تلك الحاجة.
أو فقل: إن النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ الإيجاد ليست هي
حدوثها، لأن هذه النظرية تستلزم تحديد حاجة الممكن إلى العلة من ناحيتين:
المبدأ والمنتهى.
أما من ناحية المبدأ فلأنها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث، وهي
الأشياء الحادثة بعد العدم. وأما إذا فرض أن للممكن وجودا مستمرا بصورة أزلية
30

لم تكن فيه حاجة إلى المبدأ، وهذا لا يطابق مع الواقع، إذ الممكن يستحيل وجوده
من دون علة وسبب، وإلا انقلب الممكن واجبا، وهذا خلف.
وأما من ناحية المنتهى فلأن الأشياء على ضوء هذه النظرية تستغني في بقائها
عن المؤثر، ومن الواضح أنها نظرية خاطئة لا تطابق الواقع، كيف؟ فإن حاجة
الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم وجودها، كما عرفت.
تلخص: أن هذه النظرية بما أنها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ وتوجب
تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص فلا يمكن الالتزام بها.
والصحيح: أن منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعا ذاتيا هو
إمكانها الوجودي وفقرها الواقعي.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح: أنه لا فرق بين الضد الموجود والضد
المعدوم، فكما أن الضد المعدوم يحتاج في حدوثه إلى سبب وعلة كذلك الضد
الموجود يحتاج في وجوده في الآن الثاني والثالث... وهكذا إلى سبب وعلة ولا
يستغني عنه في لحظة من لحظات وجوده، ونسبة حاجة الضد الموجود في بقائه
إلى السبب والعلة والضد المعدوم في حدوثه إلى ذلك على حد سواء.
أو فقل: إن المحل كما أنه في نفسه قابل لكل من الضدين حدوثا فإن قابليته
لذلك ذاتية، كما أن عدم قابليته لقبول كليهما من ذاتياته، فوجود كل منهما
وعروضه لذلك المحل منوط بتحقق علته، فعلة أي منهما وجدت كان موجودا لا
محالة، كذلك حال المحل في الآن الثاني فإنه قابل لكل منهما بعين تلك النسبة،
فإن بقاء الضد الموجود أو حدوث الضد الثاني منوط بوجود علته، فكما أن وجود
الضد المعدوم في هذا الآن منوط بتحقق علته كذلك بقاء الضد الموجود، فنسبة
تحقق علة وجود ذلك الضد وتحقق علة وجود الضد الموجود في ذلك الآن على
حد سواء، وعليه فعلة وجود أي منهما وجدت في تلك الحال كان موجودا لا
محالة بلا فرق بين الضد الموجود والمعدوم.
31

وقد تبين مما مر: أن المعلول يرتبط بالعلة ارتباطا ذاتيا ويستحيل انفكاك
أحدهما عن الآخر، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة، كما لا يمكن أن تبقى
العلة والمعلول غير باق، وقد عبر عن ذلك بالتعاصر بين العلة والمعلول زمانا.
وقد يناقش في ذلك الارتباط: بأنه مخالف لظواهر عدة من الموجودات
الكونية التي هي باقية بعد انتفاء علتها، فهي تكشف عن عدم صحة قانون التعاصر،
وأنه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علته، وذلك كالعمارات
التي بناها البناؤون وآلاف من العمال، فإنها بعد انتهاء عملية العمارة والبناء تبقى
سنين متطاولة. وكالجسور والطرق ووسائل النقل المادية والمكائن والمصانع وما
شاكلها مما شاده المهندسون والفنانون في شتى ميادين العلم، فإنها بعد أن انتهت
عمليتها بيد هؤلاء الفنانين والعمال تبقى إلى أمد بعيد من دون علة مباشرة لها.
وكالجبال والأحجار والأشجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح
الأرض، فإنها باقية ولم تكن في بقائها بحاجة إلى علة مباشرة لها.
والخلاصة: أن المناقش قد عارض قانون التعاصر بظواهر تلك الأمثلة التي
تكشف بظاهرها عن أن المعلول لا يحتاج في استمرار وجوده وبقائه إلى علة، بل
هو باق مع انتفاء علته.
والجواب عن تلك المناقشة: أنها قد نشأت عن عدم فهم معنى العلية فهما
صحيحا كاملا. وقد تقدم بيان ذلك، وقلنا هناك: إن حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب
كامنة في صميم ذاتها، ولا يمكن أن تملك حريتها بعد حدوثها.
والوجه في ذلك: هو أن علة تلك الأشياء والظواهر حدوثا غير علتها بقاء.
وبما أن المناقش لم ينظر إلى علة تلك الظواهر لا حدوثا ولا بقاء نظرة عميقة
صحيحة وقع في هذا الخطأ، لأن ما هو معلول للمهندسين والبنائين وآلاف العمال
في بناء العمارات والدور وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الأخرى من
المكائن والسيارات وغيرها إنما هو نفس عملية صنعها وتصميمها نتيجة عدة من
الحركات والجهود التي يقوم بها العمال، ونتيجة تجميع المواد الخام من الحديد
32

والخشب والآجر، وغيرها من المواد لتصنيع السيارات وتعمير العمارات وتركيب
سائر الآلات، وهذه الحركات هي المعلولة للعمال والصادرة عنهم، ولذا تنقطع
تلك الحركات بمجرد إضراب العمال عن العمل وكف أيديهم عنها.
وأما بقاء تلك الظواهر والأشياء على وضعها الخاص فهو معلول لخصائص
تلك المواد الطبيعية وحيويتها، وقوة الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة
على وضعها. نظير: اتصال الحديد بما فيه القوة الكهربائية فإنها تجذب الحديد
بقوة جاذبية طبيعية تجره إليها آنا فآنا، بحيث لو سلبت منه تلك القوة لانقطع منه
الجذب لا محالة.
ومن ذلك تظهر حال بقية الأمثلة، فإن بقاء الجبال على وضعها الخاص
وموضعها المخصوص، وكذا الأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها لخصائص
طبيعية كامنة في صميم موادها، والقوة الجاذبية العامة التي تفرض على جميع
الأشياء الكونية. وقد صارت عمومية تلك القوة في يومنا هذا من الواضحات، وقد
أودعها الله سبحانه وتعالى في صميم هذه الكرة الأرضية للتحفظ على الكرة وما
عليها على وضعها ونظامها الخاص، في حين أنها تتحرك في هذا الفضاء الكوني
بسرعة هائلة.
وعلى الجملة: فبقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة واستمرار وجودها
في الخارج معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية المحافظة على هذه الظاهرة من
ناحية، والقوة الجاذبة من ناحية أخرى.
فبالنتيجة: المحافظ على الموجودات الطبيعية على وضعها الخاص وموضعها
المخصوص هي خصائصها والجاذبية التي تخضع تلك الظواهر لها، ولا تملك
حريتها حدوثا وبقاء، إذا فلا وجه لتوهم أن تلك الظواهر في بقائها واستمرار
وجودها مالكة لحريتها ولا تخضع لمبدأ وسبب.
ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان:
الأولى: بطلان نظرية " أن سر الحاجة إلى العلة هو الحدوث "، لأن تلك
33

النظرية مبنية على أساس على عدم فهم معنى العلية فهما صحيحا وتحديد حاجة
الأشياء إلى العلة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق مع الواقع.
الثانية: صحة نظرية " أن سر الحاجة إلى العلة هو إمكان الوجود "، فإن تلك
النظرية قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلية فهما صحيحا مطابقا للواقع، وأن
حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجودها، فلا يمكن أن نتصور وجودا
متحررا عن ذلك المبدأ.
وقد تلخص: أن الأشياء - بشتى ألوانها وأشكالها - خاضعة للمبدأ الأول
خضوعا ذاتيا، وهذا لا ينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى
وإعمال قدرته كما فصلنا الحديث - من هذه الناحية - في بحث الطلب والإرادة (1).
وقد وضعنا هناك الحجر الأساس للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية
المعاليل الطبيعية.
ثم إنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا صحة نظرية " أن منشأ الحاجة هو الحدوث
في الموجودات التكوينية "، وأنها تملك حريتها في البقاء ولا تخضع لمبدء إلا
أنها بديهية البطلان في الأفعال الاختيارية التي هي محل الكلام في المسألة،
ضرورة أن الفعل الاختياري يستحيل بقاؤه بعد ارتفاع الإرادة والاختيار، إذا لا
وجه للتفصيل بين الضد الموجود والمعدوم.
ويجدر بنا أن نختم الحديث عن مقدمية عدم الضد للضد الآخر وعدم
مقدميته، وقد عرفت استحالة مقدميته. هذا بحسب الصغرى.
وأما الكبرى - وهي وجوب مقدمة الواجب - فقد تقدم الكلام فيها، وقلنا
هناك: إنه لا دليل على ثبوت الملازمة بين إيجاب شئ وإيجاب مقدمته، وما
ذكروه من الأدلة على ذلك قد ناقشناها واحدا بعد واحد، بل ذكرنا هناك - مضافا
إلى أن الوجدان حاكم بعدم ثبوت الملازمة بينهما - أن إيجاب المقدمة شرعا لغو

(1) تقدم في ج 2 ص 79 - 82.
34

محض فلا يترتب عليه أثر أصلا (1).
الوجه الثاني (2): قد استدل بعضهم على أن الأمر بشئ يقتضي النهي عن
ضده، بأن وجود الضد ملازم لترك الضد الآخر، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما
في الحكم بأن يكون أحدهما واجبا والآخر محرما، وعليه فإذا كان أحد الضدين
واجبا فلا محالة يكون ترك الآخر أيضا واجبا، وإلا لكان المتلازمان مختلفين في
الحكم وهو غير جائز (3).
أقول: هذا الدليل أيضا مركب من مقدمتين:
الأولى: صغرى القياس، وهي ثبوت الملازمة بين وجود شئ وعدم ضده.
الثانية: كبراه، وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.
أما المقدمة الأولى: فلا إشكال فيها.
وأما المقدمة الثانية: فقد ذكروا: أن المتلازمين لابد أن يكونا متوافقين في
الحكم، فإذا كانت الإزالة - مثلا - واجبة فترك الصلاة الذي هو ملازم لفعل الإزالة
لا محالة يكون واجبا، لأنه يمتنع أن يكون محرما لاستلزامه التكليف بالمحال.
ولا فرق في ذلك بين الضدين اللذين لا ثالث لهما: كالحركة والسكون وما
شاكلهما، والضدين اللذين لهما ثالث: كالسواد والبياض والقيام والجلوس
ونحوهما، غاية الأمر أنه على الفرض الأول كان الاستلزام من الطرفين، فكما أن
وجود كل منهما يستلزم عدم الآخر كذلك عدم كل منهما يستلزم وجود الآخر.
وأما على الفرض الثاني فوجود كل واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون
العكس، إذ يمكن انتفاؤهما معا،
وذلك لأن ملاك دلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده هو استلزام وجود

(1) راجع ج 1 ص 448 - 451.
(2) هو الظاهر من صاحب المعالم: ص 62، ومن الفخر الرازي في المحصول: ج 2 ص 199.
(3) من وجهي الاستدلال على اقتضاء الامر بالشئ النهي عن ضده الخاص تقدم الوجه
الأول في بدء البحث عن الضد الخاص.
35

ذلك الشئ لعدم ضده، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد. وأما استلزام عدم
الشئ لوجود ضده فهو وإن كان مختصا بالضدين اللذين لا ثالث لهما إلا أنه
أجنبي عن ملاك الدلالة تماما.
وعلى ذلك يظهر: أنه لا وجه لما يراه شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفرقة بين ما إذا
لم يكن للضدين ثالث وما إذا كان لهما ثالث، فسلم الدلالة في الفرض الأول دون
الثاني (1)، فإن ملاك الدلالة - كما عرفت (2) - واحد، إذا فالتفصيل في غير موضعه
كما سنتعرض إلى ذلك إن شاء الله تعالى (3).
والجواب عن ذلك: أن الذي لا يمكن الالتزام به هو كون المتلازمين مختلفين
في الحكم، بأن يكون أحدهما متعلقا للأمر، والآخر متعلقا للنهي، لاستلزام ذلك
التكليف بما لا يطاق، فلا يمكن أن يأمر الشارع باستقبال القبلة - مثلا - في بلدنا
هذا أو ما يقربه من البلاد في الطول والعرض وينهى عن استدبار الجدي، لأن هذا
تكليف بغير المقدور، بل لا يمكن النهي التنزيهي عنه، لكونه لغوا فلا يترتب عليه
أي أثر بعد فرض وجوب الاستقبال.
وأما لزوم كونهما محكومين بحكم واحد ومتوافقين فيه فلا موجب له أصلا،
فإن المحذور المتقدم - وهو لزوم التكليف بما لا يطاق - كما يندفع بالالتزام
بكونهما متوافقين في الحكم كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من
الأحكام. وعليه فلا مقتضي لدفع المحذور بالفرض الأول دون الفرض الثاني، فإن
الالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه، ولا دليل في المقام، بل قام
الدليل على خلافه، وذلك لأن الشارع إذا أمر بأحد المتلازمين فالأمر بالملازم
الآخر لغو، فإذا أمر باستقبال القبلة - مثلا - فالأمر باستدبار الجدي، أو كون اليمين
على طرف المغرب واليسار على طرف المشرق بلا فائدة، فإن تلك الأمور من
ملازمات وجود المأمور به في الخارج، سواء أكانت متعلقة للأمر أم لم تكن، وما

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 304.
(2) مر ذكره آنفا.
(3) سيأتي تفصيله في ص 38.
36

كان كذلك فلا يمكن تعلق الأمر به.
نعم، لو توقف ترك الحرام خارجا على الإتيان بفعل ما للملازمة بين ترك هذا
الفعل والوقوع في الحرام وجب الإتيان به عقلا، وأما شرعا فلا، لعدم الدليل على
سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية.
ونظير ذلك ما تقدم في بحث مقدمة الواجب: من أن الإتيان بالمقدمة إذا كان
علة تامة للوقوع في الحرام من دون أن يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة واختيار
للفاعل وجب تركها عقلا لا شرعا، لعدم الدليل على حرمة تلك المقدمة، لا حرمة
نفسية ولا حرمة غيرية (1).
أما الحرمة النفسية: فلأن المتصف بها إنما هو المسبب، لأنه مقدور للمكلف
بواسطة القدرة على مقدمته، ومن الظاهر أنه لا فرق في المقدور بين كونه بلا
واسطة أو معها، ووجوب وجوده وضرورته من قبل الإتيان بمقدمته لا يضر بتعلق
التكليف به، لأنه وجوب بالاختيار فلا ينافي الاختيار.
إذا لا وجه لصرف النهي المتعلق بالمعلول إلى علته كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره)
بدعوى: أن العلة مقدورة دون المعلول (2)، ضرورة أن المقدور بالواسطة مقدور،
والمعلول وإن لم يكن مقدورا ابتداء إلا أنه مقدور بواسطة القدرة على علته، وهذا
يكفي في صحة تعلق النهي به.
وأما الحرمة الغيرية: فقد تقدم: أنه لا دليل عليها، لأن ثبوتها يبتنى على ثبوت
الملازمة، وقد سبق أن الملازمة لم تثبت (3).
وبتعبير آخر: لا شبهة في أن مراد القائل بأن المتلازمين لابد أن يكونا
متوافقين في الحكم: ليس توافقهما في الإرادة بمعنى الشوق المؤكد، ولا بمعنى
إعمال القدرة، فإن الإرادة بالمعنى الأول من الصفات النفسانية، وليست من سنخ
الأحكام في شئ. وبالمعنى الثاني - وهو إعمال القدرة في شئ - يستحيل أن

(1) تقدم في ج 2 من المحاضرات ص 452 فراجع.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 248.
(3) راجع ج 2 من المحاضرات ص 451.
37

يتعلق بفعل الغير، لأنه ليس واقعا تحت اختيار المولى وإرادته، بل مراده من ذلك:
أن اعتبار المولى أحد المتلازمين في ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز
يستلزم اعتبار الآخر في ذمته أيضا. ولكن من الواضح جدا أنه لا ملازمة بين
الاعتبارين أصلا، مضافا إلى ما عرفت من أن الاعتبار الثاني لغو.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر: أن الأمر كذلك في النقيضين، والمتقابلين
بتقابل العدم والملكة: كالتكلم والسكوت، فإن اعتبار الشارع الفعل على ذمة
المكلف لا يستلزم النهي عن نقيضه واعتبار عدمه. كما أن اعتبار الملكة في ذمة
المكلف لا يستلزم النهي عن عدمها، فالأمر بالإزالة - مثلا - كما لا يستلزم النهي
عن الصلاة المضادة لها كذلك لا يستلزم النهي عن نقيضها وهو العدم البديل لها،
ضرورة أن المتفاهم منه عرفا ليس إلا وجوب الإزالة في الخارج، لا حرمة تركها،
ولذلك قلنا: إن كل حكم شرعي متعلق بشئ لا ينحل إلى حكمين: أحدهما متعلق
به، والآخر بنقيضه.
أو فقل: إن النهي عن أحد النقيضين مع الأمر بالنقيض الآخر لغو فلا يترتب
عليه أثر.
وبذلك يظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الالتزام بأن الأمر بأحد
النقيضين يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البين بالمعنى الأخص. والأمر بأحد
المتقابلين بتقابل العدم والملكة: كالتكلم والسكوت - مثلا - يستلزم النهي عن
الآخر باللزوم البين بالمعنى الأخص أيضا، بل الأمر بأحد الضدين اللذين لا ثالث
لهما: كالحركة والسكون يستلزم النهي عن الضد الآخر، ولكن باللزوم البين
بالمعنى الأعم (1).
ووجه الظهور: هو ما قد سبق: من أنه لا دلالة على الملازمة في شئ من
تلك الموارد، حتى باللزوم البين بالمعنى الأعم، فضلا عن البين بالمعنى
الأخص، وأن الأمر لا يدل إلا على اعتبار متعلقه في ذمة المكلف، ولا يدل على

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 254.
38

النهي عن تركه، بل قد عرفت: أن النهي عنه لغو.
أضف إلى ذلك ما ذكرناه سابقا: من أن ملاك الدلالة في المقام هو استلزام فعل
الضد لترك الضد الآخر، وهو أمر مشترك فيه بين الجميع، فلا يختص بالنقيضين،
ولا بالمتقابلين بتقابل العدم والملكة، ولا بالضدين اللذين لا ثالث لهما، بل يعم
الضدين اللذين لهما ثالث أيضا، لأن فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر لا محالة.
وأما استلزام ترك الشئ لفعل ضده فهو أجنبي عن ملاك الدلالة تماما (1).
فالنتيجة: أن ما هو ملاك الدلالة على تقدير تسليمه يشترك فيه الجميع، ولا
يختص بغير الضدين اللذين لهما ثالث كما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفرقة لا
يرجع إلى معنى محصل.
شبهة الكعبي بانتفاء المباح
وهذه الشبهة ترتكز على ركيزتين:
الأولى: أن ترك الحرام في الخارج يتوقف على فعل من الأفعال الوجودية،
لاستحالة خلو المكلف من فعل ما وكون من الأكوان الاختيارية، وعليه فإذا لم
يشتغل بغير الحرام وقع في الحرام لا محالة إذا كان الاشتغال بغير الحرام واجبا
مقدمة لترك الحرام.
الثانية: أن الفعل الاختياري يحتاج في حدوثه وبقائه إلى المؤثر، فلا يستغني
الحادث في بقائه عن المؤثر، كما لا يستغني عنه في حدوثه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الركيزتين: هي أن ترك الحرام حدوثا وبقاء
متوقف على إيجاد غيره من الأفعال الاختيارية في الخارج، وبما أن إيجاده
مقدمة لترك الحرام فيكون واجبا بوجوب مقدمي، إذا لا يمكن فرض مباح في
الخارج، وهذا معنى القول بانتفاء المباح وانحصار الأفعال بالواجب والحرام.
39

ويرد عليه: أن الركيزة الثانية وإن كانت في غاية الصحة والمتانة - كما
سبق (1) - إلا أن الأولى منهما واضحة البطلان.
والوجه في ذلك: هو أن ما ذكره الكعبي في هذه الركيزة: إما مبتن على مانعية
وجود أحد الضدين عن الضد الآخر بدعوى: أن فعل الحرام بما أنه مضاد لغيره
من الأفعال الوجودية فلا محالة يتوقف تركه على فعل ما من تلك الأفعال من باب
توقف عدم الشئ على وجود مانعه. وإما مبتن على دعوى: الملازمة بين حرمة
شئ ووجوب ضده.
ولكن كلا الأمرين واضح الفساد.
أما الأمر الأول: فقد تقدمت استحالة مانعية وجود أحد الضدين عن الضد
الآخر بصورة مفصلة، فلا يكون عدم الضد مستندا إلى وجود ضده، بل هو: إما
مستند إلى عدم مقتضيه، أو إلى وجود المقتضي للضد الآخر. وعلى هذا فلا يكون
ترك الحرام متوقفا على فعل ما غير الحرام من الأفعال الوجودية، بل يكفي في
عدمه عدم إرادته، وعدم الداعي إليه، أو إرادة إيجاد فعل آخر (2).
وكيف كان فلا يتوقف ترك الحرام على أحد تلك الأفعال، على أن الكبرى
أيضا غير ثابتة، وهي: وجوب مقدمة الواجب كما سبق (3).
وأما الأمر الثاني: فلما عرفت من أنه لا دليل على سراية الحكم من أحد
المتلازمين إلى الملازم الآخر.
نعم، ربما يمكن أن يعلم المكلف بأنه لو لم يأت بفعل ما غير الحرام لوقع في
الحرام باختياره وإرادته، فحينئذ وإن وجب الإتيان به فرارا عن الوقوع في
الحرام إلا أن وجوبه عقلي لا شرعي كما تقدم.
إذا فما أفاده الكعبي من انحصار الأفعال الاختيارية بالواجب والحرام

(1) تقدم في ص 28 وما بعدها.
(2) راجع ص 10 وما بعدها.
(3) تقدم في ج 2 ص 449.
40

لا يرجع إلى معنى محصل. هذا تمام كلامنا في الضد الخاص.
ونتيجة جميع ما ذكرناه عدة نقاط:
الأولى: أن هذه المسألة من المسائل الأصولية العقلية، وليست من المسائل
الفقهية، ولا من المبادئ كما تقدم (1).
الثانية: أن العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة، وهذه الأجزاء تختلف من ناحية
استناد وجود المعلول إليها واستناد عدمه إلى تلك الأجزاء، فإن وجوده مستند إلى
الجميع في مرتبة واحدة، فلا يمكن أن يستند إلى بعضها دون بعضها الآخر،
وهذا بخلاف عدمه، فإنه عند عدم المقتضي أو الشرط لا يستند إلى وجود المانع
كما عرفت.
الثالثة: أن كبرى كون عدم المانع من المقدمات مسلمة، إلا أن عدم أحد
الضدين ليس مقدمة لوجود الضد الآخر، لما تقدم من استحالة مانعية وجود أحد
الضدين للضد الآخر بالوجهين السابقين: الدور والتفتيش عن حال المقتضيات،
وعدم إمكان فرض صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضد
الآخر.
الرابعة: أن المانع إنما يكون متصفا بالمانعية عند ثبوت المقتضي مع بقية
الشرائط ليزاحم المقتضي في تأثيره، وهذا معنى دخل عدمه في وجود المعلول.
الخامسة: إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه مع قطع النظر عن
الآخر، وقد عرفت أن هذا غير داخل في الكبرى المتسالم عليها، وهي: أن اقتضاء
المحال محال، خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره) حيث إنه قد أصر على استحالة ثبوت
المقتضي لكل منهما، وأن ذلك من مصاديق تلك الكبرى، ولكن قد سبق أن الأمر
ليس كذلك، فإن تلك الكبرى إنما تتحقق في أحد موردين:
1 - اقتضاء شئ واحد بذاته أمرين متنافيين في الوجود.

(1) راجع ص 4.
41

2 - فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدين بقيد الاجتماع والتقارن، والمقام
ليس منهما في شئ.
السادسة: أن التقدم أو التأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك وجودي كامن في
صميم ذات الشئ، لا في أمر خارج عنه دون المعية في الرتبة، فإنه يكفي في
تحققها عدم تحقق ملاك التقدم أو التأخر، خلافا لشيخنا المحقق (قدس سره) حيث قال: إن
المعية في الرتبة أيضا تحتاج إلى ملاك وجودي، وقد تقدم فساده، فلاحظ.
السابعة: أنه لا مقتضى لكون المتلازمين متوافقين في الحكم، بل قد سبق أن
ذلك لغو فلا يترتب عليه أثر شرعي أصلا. نعم، الذي لا يمكن هو اختلافهما في
الحكم كما مر.
الثامنة: أن قياس المساواة إنما ينتج في المتقدم والمتأخر بالزمان، فإن ما
كان متحدا مع المتقدم أو المتأخر زمانا متقدم أو متأخر لا محالة، لا في المتقدم
والمتأخر بالرتبة والطبع.
وسر ذلك: أن ملاك التقدم والتأخر في الأولين أمر خارج عن مقتضى ذاتهما،
وهو وقوعهما في الزمان المتقدم والمتأخر، ومع قطع النظر عن ذلك فلا يقتضي
أحدهما بذاته التقدم على شئ آخر، ولا الآخر التأخر، فإن المتقدم والمتأخر
بالذات نفس أجزاء الزمان وما يشبهها: كالحركة ونحوها، والحوادث الاخر إنما
تتصف بهما بالعرض لا بالذات.
ونتيجة ذلك: هي أن كل ما كان واقعا في الزمان المتقدم واجد لملاك التقدم،
وكل ما كان واقعا في الزمان المتأخر واجد لملاك التأخر، وكل ما كان واقعا في
الزمان المقارن واجد لملاك التقارن، من دون اختصاص بحادث دون آخر.
وملاك التقدم والتأخر في الأخيرين أمر راجع إلى مقتضى ذاتهما، فكل ما
كان في صميم ذاته من الوجود أو العدم اقتضاء التقدم على شئ أو التأخر متقدم
عليه أو متأخر لا محالة، وكل ما لم يكن فيه اقتضاء كذلك فلا يعقل فيه التقدم أو
التأخر ولو كان في رتبة ما فيه الاقتضاء.
42

التاسعة: بطلان التفصيل بين الضد المعدوم والضد الموجود بتوقف وجود
الأول على ارتفاع الثاني دون العكس. وقد عرفت أن منشأ هذا التفصيل توهم
استغناء الباقي عن المؤثر، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا، فراجع.
العاشرة: بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من تسليم الدلالة على الملازمة
بين الأمر بشئ والنهي عن ضده في النقيضين، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة،
بل في الضدين اللذين لا ثالث لهما. وقد عرفت عدم الدلالة في الجميع.
الحادية عشرة: قد تقدم أنه على تقدير تسليم الملازمة فيما إذا لم يكن
للضدين ثالث فلابد من تسليمها فيما إذا كان لهما ثالث أيضا، لأن ملاك الدلالة
- كما مر - هو " استلزام فعل الشئ لترك ضده " أمر يشترك فيه جميع الأضداد، فلا
وجه للتفصيل بينهما كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره).
الثانية عشرة: أن ما ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح لا يرجع إلى
معنى محصل كما سبق.
الضد العام
وأما الكلام في المقام الثاني - وهو الضد العام - فقد اختلفت كلماتهم في كيفية
دلالة الأمر بالشئ على النهي عنه بعد الفراغ عن أصل الدلالة إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده العام، فالأمر بالصلاة - مثلا -
عين النهي عن تركها، فقولنا: " صل " عين قولنا: " لا تترك الصلاة ".
الثاني: أن الأمر بالشئ يدل على النهي عنه بالتضمن، بدعوى: أنه مركب من
طلب الفعل والمنع من الترك، فالمنع من الترك مأخوذ في مفهوم الأمر، فيكون دالا
عليه بالتضمن.
الثالث: أن الأمر بالشئ يقتضي النهي عنه بالدلالة الالتزامية باللزوم البين
بالمعنى الأخص، أو البين بالمعنى الأعم.
أما القول الأول: فإن أريد من العينية في مقام الإثبات والدلالة - أعني بها: أن
43

الأمر بشئ والنهي عن تركه يدلان على معنى واحد، وإنما الاختلاف بينهما في
التعبير فقط - فهذا مما لا إشكال فيه، إذ من الواضح أنه لا مانع من إبراز معنى
واحد بعبارات متعددة وألفاظ مختلفة، فيبرزه تارة بلفظ، واخرى بلفظ آخر،
وهكذا...
مثلا: يمكن إبراز كون الصلاة على ذمة المكلف مرة بكلمة " صل "، ومرة
أخرى بكلمة " لا تترك الصلاة " بأن يكون المقصود من كلتا الكلمتين إبراز وجوبها
وثبوتها في ذمة المكلف، لا أن المقصود من الكلمة الأولى إبراز وجوب فعلها
ومن الكلمة الثانية إبراز حرمة تركها، لئلا تكون إحدى الكلمتين عين الأخرى في
الدلالة والكشف.
وهذا هو المقصود من الروايات الناهية عن ترك الصلاة. وليس المراد من
النهي فيها النهي الحقيقي الناشئ عن مفسدة إلزامية في متعلقه، ولذلك لم يتوهم
أحد حرمة ترك الصلاة، وأن تاركها يستحق عقابين: عقابا لتركه الواجب، وعقابا
لارتكابه الحرام.
وهذا التعبير - أعني به: التعبير عن طلب شئ بالنهي عن تركه - أمر متعارف
في الروايات في باب الواجبات والمستحبات، وفي كلمات الفقهاء رضوان الله
عليهم، فترى أنهم يعبرون عن الاحتياط الواجب بقولهم: لا يترك الاحتياط.
وعليه فمعنى أن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده: هو أنهما متحدان في جهة
الدلالة والحكاية عن المعنى، في مقابل ما إذا كانا متغايرين في تلك الجهة.
وعلى ضوء ذلك صح أن يقال: إن الأمر بالشئ عين النهي عن ضده العام
بحسب المعنى والدلالة عليه. فإن أريد من العينية: العينية بهذا المعنى فهي صحيحة
ولا بأس بها، ولكن الظاهر أن العينية بذلك المعنى ليست مرادا للقائل بها كما
لا يخفى.
وإن أريد بها العينية في مقام الثبوت والواقع - أعني بها: كون الأمر بشئ عين
النهي عن تركه في ذلك المقام وبالعكس - فيرد عليه: أنه إن أريد من النهي عن
44

الترك طلب تركه المنطبق على الفعل - إذ قد يراد من النهي عن الشئ طلب تركه
كما هو الحال في تروك الإحرام والصوم، حيث يراد من النهي عن الأكل والشرب
ومجامعة النساء، والارتماس في الماء، ولمس المرأة، ولبس المخيط للرجال،
والتكحل، والنظر إلى المرأة، والمجادلة وغيرها مما يعتبر عدمه في صحة الإحرام
طلب ترك هذه الأمور - فإن هذا النهي لم ينشأ عن مبغوضية تلك الأمور وقيام
مفسدة إلزامية بها، بل نشأ عن محبوبية تركها وقيام مصلحة إلزامية به. وعليه لم
يكن مثل هذا النهي نهيا حقيقيا ناشئا عن مفسدة ملزمة في متعلقه، بل هو في
الواقع أمر ولكن أبرز بصورة النهي في الخارج، إن أريد ذلك فلا معنى له أصلا،
وذلك لأن ترك الترك وإن كان مغايرا للفعل مفهوما إلا أنه عينه مصداقا وخارجا،
لأنه عنوان انتزاعي له، وليس له ما بإزاء في الخارج ما عداه.
أو فقل: إن في عالم التحقق والوجود أحد شيئين لا ثالث لهما، أحدهما:
الوجود، والثاني: العدم البديل له. وأما عدم العدم فهو لا يتجاوز حد الفرض
والتقدير، وليس له واقع في قبالهما، وإلا لأمكن أن يكون في الواقع أعدام غير
متناهية، فإن لكل شئ عدما، ولعدمه عدم، وهكذا... إلى أن يذهب إلى
مالا نهاية له.
نعم، إنه عنوان انتزاعي منطبق على الوجود، وعليه فالقول بأن الأمر بالشئ
يقتضي النهي عن ضده في قوة القول بأن الأمر بالشئ يقتضي الأمر بذلك الشئ،
وهو قول لا معنى له أصلا.
فالنتيجة: أنه لا يمكن أن يراد من النهي عن الترك طلب تركه، لاستلزام ذلك
النزاع في أن الأمر بالشئ يقتضي نفسه، وهذا النزاع لا محصل له أبدا.
وإن أريد بالنهي عن الترك النهي الحقيقي الناشئ عن مبغوضية متعلقه وقيام
مفسدة ملزمة به فالنهي بهذا المعنى وإن كان أمرا معقولا في نفسه إلا أنه لا يمكن
أن يراد فيما نحن فيه، وذلك لاستحالة أن يكون بغض الترك متحدا مع حب الفعل
أو جزئه، وذلك لاستحالة اتحاد الصفتين المتضادتين في الخارج.
45

وبعبارة واضحة: أنه لا شبهة في أن الأمر الحقيقي يباين النهي الحقيقي
تباينا ذاتيا، فلا اشتراك بينهما، لا في ناحية المبدأ، ولا في ناحية الاعتبار، ولا في
ناحية المنتهى.
أما من ناحية المبدأ: فلأن الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه، والنهي
تابع للمفسدة الإلزامية فيه.
وأما من ناحية الاعتبار: فلما ذكرناه غير مرة: من أن حقيقة الأمر ليست إلا
اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز: كصيغة الأمر
أو نحوها. وحقيقة النهي ليست إلا اعتبار المولى حرمة الفعل عليه، وجعله
محروما عنه، وإبرازه في الخارج بمبرز من صيغة النهي أو ما شاكلها. ومن الواضح
أن أحد الاعتبارين أجنبي عن الاعتبار الآخر بالكلية.
وأما من ناحية المنتهى: فلأن الأمر يمتثل بإتيان متعلقه، والنهي يمتثل
بترك متعلقه.
وعلى هذا الضوء فكيف يمكن القول بأن الأمر عين النهي؟ فهل هو عينه في
ناحية المبدأ، أو في ناحية المنتهى، أو في ناحية الاعتبار؟ كل ذلك غير معقول.
فالنتيجة إذا: هي أن القول بالعينية قول لا محصل له.
ومن ذلك يظهر بطلان القول الثاني أيضا، وهو القول بأن النهي جزء من الأمر،
فإن القول بالجزئية أيضا غير معقول، ضرورة أنه كما لا يمكن أن يكون النهي
متحدا مع الأمر في المراحل المتقدمة كذلك لا يمكن أن يكون جزؤه في تلك
المراحل.
وما قيل في تعريف الوجوب من: أنه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من
الترك (1) لا يخلو عن ضرب مسامحة، ولعل الغرض منه: الإشارة إلى مفهوم
الوجوب في مقام تقريبه إلى الأذهان، لا أنه تعريف له على التحقيق، وإلا فمن
الواضح جدا أن المنع من الترك لم يؤخذ في حقيقة الوجوب بأي معنى من المعاني

(1) هو صاحب المعالم في معالمه: في مسألة الضد العام ص 64.
46

الذي فرضناه، سواء أكان إرادة نفسانية، أم كان حكما عقليا، أو مجعولا شرعيا،
فإنه على الأول من الأعراض، وهي من البسائط الخارجية. وعلى الثاني فهو من
الأمور الانتزاعية العقلية، بمعنى: أن العقل يحكم باللزوم عند اعتبار المولى فعلا ما
على ذمة المكلف، مع عدم نصبه قرينة على الترخيص في تركه. ومن الظاهر أنه
أشد بساطة من الأعراض فلا يعقل له جنس ولا فصل. وعلى الثالث فهو من
المجعولات الشرعية. ومن الواضح أنها في غاية البساطة، ولا يعقل لها جنس
وفصل. نعم، المنع من الترك لازم للوجوب، لا أنه جزؤه.
وعلى تقدير كون الوجوب مركبا فلا يعقل أن يكون مركبا من المنع من الترك،
لما عرفت من أن بغض الترك كما لا يمكن أن يكون عين حب الفعل كذلك لا
يمكن أن يكون جزءه.
وقد تحصل من ذلك: أن النزاع في عينية أمر بشئ للنهي عن ضده أو جزئيته
له لا يرجع إلى النزاع في معنى معقول.
وأما القول الثالث - وهو: القول بأن الأمر بشئ يستلزم النهي عن ضده العام -
فقد ذهب إليه جماعة (1)، ولكنهم اختلفوا في أن الاقتضاء هل هو على نحو اللزوم
البين بالمعنى الأخص بأن يكون نفس تصور الوجوب كافيا في تصور المنع من
الترك من دون حاجة إلى أمر زائد، أو أنه على نحو اللزوم البين بالمعنى الأعم
على قولين؟
فقد قرب شيخنا الأستاذ (قدس سره) القول الأول وقال: إنه لا يبعد أن تكون دلالته
على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص، وعلى تقدير التنزل عن ذلك في الدلالة
الالتزامية بنحو اللزوم البين بالمعنى الأعم مما لا إشكال فيه ولا كلام (2).
والتحقيق: هو عدم الاقتضاء، والوجه في ذلك: هو أن دعوى استلزام الأمر
بشئ النهي عن تركه باللزوم البين بالمعنى الأخص واضحة الفساد، ضرورة أن

(1) منهم: نجل الشهيد الثاني في معالم الأصول: ص 56، والمحقق القمي في قوانين الأصول:
ج 1 ص 113.
(2) أجود التقريرات ج 1 ص 252.
47

الآمر ربما يأمر بشئ ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلا ليكون كارها له، فلو
كانت الدلالة على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص لم يتصور غفلة الآمر عن
الترك وعدم التفاته إليه في مورد من الموارد.
ومن هنا قد اعترف هو (قدس سره) أيضا ببداهة إمكان غفلة الآمر بشئ عن ترك
تركه فضلا عن أن يتعلق به طلبه، وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن
اللزوم البين بالمعنى الأخص.
وأما دعوى الدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم فهي أيضا لا يمكن
تصديقها، وذلك لعدم الدليل عليها لا من العقل ولا من الشرع.
أما من ناحية العقل فلأنه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شئ
واعتباره حرمة تركه، فإن كلا من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبار مستقل،
والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكان من الإمكان، وكذا لا يحكم العقل
بالملازمة بين إرادة شئ وكراهة نقيضه، إذ قد يريد الإنسان شيئا غافلا عن تركه
وغير ملتفت إليه، فكيف يكون كارها له؟
وإن شئت فقل: إن القائل باستلزام وجوب شئ لحرمة تركه: إما أن يدعي
الحرمة النفسية، أو يدعي الحرمة الغيرية، وكلتا الدعويين فاسدة:
أما الدعوى الأولى: فلأن الحرمة النفسية إنما تنشأ عن مفسدة إلزامية في
متعلقها. ومن الواضح أنه لا مفسدة في ترك الواجب، فتركه ترك ما فيه المصلحة،
لا فعل ما فيه المفسدة. فلو سلمنا وجود المفسدة في ترك الواجب أحيانا فلا كلية
لذلك بالبداهة. إذا لا مجال لدعوى الملازمة بين وجوب شئ وحرمة تركه، بل
الوجدان حاكم بعدم ثبوتها.
وأما الدعوى الثانية: فلعدم ملاك الحرمة الغيرية فيه أولا، لانتفاء المقدمية،
وكونها لغوا ثانيا، لعدم ترتب أثر عليها من العقاب أو نحوه. وعليه فلا موضوع
لدعوى الملازمة أصلا.
وأما من ناحية الشرع: فلأن ما دل على وجوب شئ لا يدل على حرمة تركه،
48

بداهة أن الحكم الواحد - وهو الوجوب في المقام - لا ينحل إلى حكمين: أحدهما
يتعلق بالفعل والآخر بالترك ليكون تاركه مستحقا لعقابين من جهة تركه الواجب
وارتكابه الحرام، ومن هنا قلنا: إنه لا مفسدة في ترك الواجب ليكون تركه محرما،
كما أنه لا مصلحة في ترك الحرام ليكون واجبا.
وعلى الجملة: فمن الواضح جدا أن الأمر بشئ لا يدل إلا على اعتباره في
ذمة المكلف بلا دلالة له على اعتبار حرمة تركه. فالأمر بالصلاة - مثلا - لا يدل إلا
على اعتبار فعلها في ذمة المكلف دون حرمة تركها، وهكذا...
وأما إطلاق المبغوض على ترك الواجب فهو بضرب من العناية والمسامحة،
كما أن إطلاق المحبوب على ترك الحرام كذلك.
وقد تحصل من ذلك بشكل واضح: أنه لا ملازمة بين اعتبار شئ في ذمة
المكلف واعتبار حرمة نقيضه لا عقلا ولا شرعا.
ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان:
الأولى: أن الأمر بشئ لا يقتضي النهي عن ضده العام، لا بنحو العينية أو
الجزئية ولا بنحو اللزوم.
الثانية: أن القولين الأولين لا يرجعان إلى معنى معقول دون القول الأخير. هذا
تمام كلامنا في الضد العام.
الكلام في ثمرة المسألة
قد اشتهر بين الأصحاب: أن الثمرة تظهر فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب
موسع كالصلاة - مثلا - وواجب مضيق كالإزالة، أو بين واجبين مضيقين أحدهما
أهم من الآخر. فعلى القول بعدم اقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده يقع الواجب
الموسع أو غير الأهم صحيحا، إذ لا مقتضى لفساده أصلا، فإن المقتضي له إنما هو
تعلق النهي به، ولا نهي على الفرض، إذا يبقى الواجب على حاله من المحبوبية
والملاك. وأما على القول بالاقتضاء فيقع فاسدا إذا كان عبادة، بضم كبرى المسألة
49

الآتية، وهي: أن النهي في العبادات يوجب الفساد.
وقد اورد على هذه الثمرة بإيرادين متقابلين:
أحدهما: ما عن الشيخ البهائي (قدس سره) من بطلان العبادة مطلقا، حتى على القول
بعدم الاقتضاء، وذلك لما يراه (قدس سره) من اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا،
وعلى هذا فلا محالة تفسد عند المزاحمة بالواجب الأهم أو المضيق، سواء فيه
القول بالاقتضاء أو عدمه، ضرورة أن الأمر بشئ لو لم يقتض النهي عن ضده فلا
شبهة في أنه يقتضي عدم الأمر به، لاستحالة تعلق الأمر بالضدين معا، فإذا كانت
العبادة المضادة غير مأمور بها فعلا فلا محالة تقع فاسدة، لفرض أن صحة العبادة
مشروطة بكونها مأمورا بها، وبما أنه لا أمر في المقام على الفرض فلا صحة لها،
لانتفائها بانتفاء شرطها (1).
ثانيهما: ما عن جماعة منهم: شيخنا الأستاذ (قدس سره) من صحة العبادة مطلقا، حتى
على القول باقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده.
والوجه في ذلك: هو أن صحتها على القول بعدم الاقتضاء واضحة، لعدم
المقتضي للفساد أصلا، بناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة
بقصد الأمر، بل المعتبر فيها هو إضافتها إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة. وأما
على القول بالاقتضاء فالعبادة كالصلاة - مثلا - وإن كانت منهيا عنها إلا أن هذا
النهي بما أنه نهي غيري نشأ عن مقدمية تركها أو عن ملازمته لفعل المأمور به في
الخارج ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقه فلا يكون موجبا للفساد.
ومن هنا قالوا: إن مخالفة الأمر والنهي المقدميين لا توجب بعدا (2).
وسر ذلك: ما سبق من أن النهي الغيري المقدمي لا يكشف عن وجود مفسدة في
متعلقه، وكونه مبغوضا للمولى لئلا يمكن التقرب به، فإن المبعد لا يمكن التقرب به.
وعلى ضوء ذلك فالعبادة باقية على ما كانت عليه من المصلحة والمحبوبية

(1) انظر زبدة الأصول: ص 82 بحث الضد.
(2) فوائد الأصول ج 1 ص 315، وأجود التقريرات ج 1 ص 264.
50

الذاتية الصالحة للتقرب بها، والنهي المتعلق بها - بما أنه غيري - لا يمنع
عن التقرب بها.
وعلى الجملة: فبناء على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد
الأمر وكفاية قصد الملاك فصحتها عندئذ تدور مدار تحقق الملاك بلا فرق بين
القول بالاقتضاء والقول بعدمه، وبما أنها واجدة للملاك على كلا القولين فهي تقع
صحيحة، إذا فلا ثمرة.
أقول: أما الإيراد الأول فيرده ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي
مفصلا (1)، وسنتعرض لذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى - أيضا: من أن المعتبر في
صحة العبادة هو قصد القربة بأي وجه تحقق، لا خصوص قصد الأمر، لعدم دليل
خاص يدل عليه، إذا لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين وجود الأمر
وعدمه إذا كان الفعل واجدا للملاك وقصد التقرب به.
وأما الإيراد الثاني: فيظهر حاله مما سنبينه (2) إن شاء الله تعالى.
فنقول: تحقيق الحال في الثمرة المزبورة يستدعي الكلام في مقامين:
الأول: فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة - مثلا - وواجب
مضيق كالإزالة.
الثاني: فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر،
كما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة في آخر الوقت والإزالة بحيث لو اشتغل
بالإزالة فاتته الصلاة.
أما الكلام في المقام الأول: فقد اختار المحقق الثاني (قدس سره) (3) - وتبعه

(1) تقدم في ج 1 من المحاضرات ص 179 وما بعدها فراجع.
(2) سوف يأتي بيانه في البحث التالي فانتظر.
(3) انظر جامع المقاصد: ج 5 ص 12 كتاب الدين، المطلب الأول قال (قدس سره) في ذيل كلام
العلامة (قدس سره): (ولا تصح صلاته في أول وقتها... مع المطالبة): لأن الأمر بالأداء على الفور
يقتضي النهي عن ضده، والنهي في العبادة يقتضي الفساد، وكل من المقدمتين تبين في
الأصول، وفي الأولى كلام... إلى آخره.
51

جماعة (1) من المحققين - تحقق الثمرة فيه، فعلى القول بالاقتضاء تقع العبادة
فاسدة، وعلى القول بعدمه تقع صحيحة.
بيان ذلك: أنا قد ذكرنا في بحث تعلق الأوامر بالطبائع أو الأفراد: أن الصحيح
هو تعلقها بالطبائع الملغاة عنها جميع الخصوصيات والتشخصات دون الأفراد (2)،
وعلى هذا فالمأمور به هو الطبيعة المطلقة، ومقتضى إطلاق الأمر بها ترخيص
المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أي فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه من
الأفراد العرضية والطولية، ولكن هذا إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن
التطبيق، وأما إذا كان مانع عنه - كما إذا كان بعض أفرادها منهيا عنه - فلا محالة
يقيد إطلاق الأمر المتعلق بالطبيعة بغير هذا الفرد المنهي عنه، لاستحالة انطباق
الواجب على الحرام.
ويترتب على ذلك: أنه بناء على القول باقتضاء الأمر بشئ النهي عن ضده
كان الفرد المزاحم من الواجب المطلق منهيا عنه فيقيد به إطلاق الأمر به، كما هو
الحال في بقية موارد النهي عن العبادات، لاستحالة أن يكون الحرام مصداقا
للواجب، ونتيجة ذلك التقييد: هي وقوعه فاسدا بناء على عدم كفاية اشتماله على
الملاك في الصحة.
أو فقل: إن الأمر بالشئ لو كان مقتضيا للنهي عن ضده كان الفرد المزاحم
منهيا عنه لا محالة، وعليه فلا يجوز تطبيق الطبيعة المأمور بها عليه، وبضميمة
المسألة الآتية، وهي: أن النهي في العبادات يوجب الفساد يقع فاسدا.
وأما بناء على القول بعدم الاقتضاء فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب المضيق
هو عدم الأمر بالفرد المزاحم، لاستحالة الأمر بالضدين معا، وهذا لا يقتضي فساده.
والوجه في ذلك: ما عرفت من أن متعلق الوجوب صرف وجود الطبيعة،

(1) هو الظاهر من المحقق الخراساني في الكفاية: ص 165، والمحقق الإصفهاني في نهاية
الدراية: ج 1 ص 247 ط قديم.
(2) سوف يأتي في أوائل ج 4 من المحاضرات فانتظر.
52

وخصوصية الأفراد جميعا خارجة عن حيز الأمر، والمفروض أن القدرة على
صرف الوجود منها تحصل بالقدرة على بعض وجوداتها وأفرادها وإن لم يكن
بعضها الآخر مقدورا.
ومن الواضح أن التكليف غير مشروط بالقدرة على جميع أفرادها العرضية
والطولية، ضرورة أنه ليست طبيعة تكون مقدورة كذلك، وعليه فعدم القدرة على
فرد خاص من الطبيعة المأمور بها - وهو الفرد المزاحم بالأهم - لا ينافي تعلق
الأمر بها، فإن المطلوب هو صرف وجودها، وهو يتحقق بإيجاد فرد منها في
الخارج، فالقدرة على إيجاد فرد واحد منها كاف في تعلق الأمر بها.
وعلى هذا الضوء يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة المأمور
بها، لانطباق تلك الطبيعة عليه كانطباقها على بقية الأفراد، ضرورة أنه لا فرق بينه
وبين غيره من الأفراد من هذه الجهة أصلا.
وبتعبير آخر: أنه لا موجب لتقييد إطلاق المأمور به على هذا القول بغير الفرد
المزاحم للواجب المضيق، فإن الموجب لذلك إنما هو تعلق النهي به، وحيث لا
نهي على الفرض فلا موجب له أصلا، وعندئذ فغاية ما يقتضيه الأمر بالواجب
المضيق هو عدم الأمر به، ومن الواضح أنه غير مانع من انطباق الطبيعة المأمور بها
عليه، إذ الأفراد جميعا في عدم تعلق الأمر بها وعدم اتصافها بالواجب على نسبة
واحدة، ولا فرق في ذلك بين الفرد المزاحم للواجب المضيق وغيره، فإن متعلق
الأمر الطبيعة الجامعة بين الأفراد بلا دخل شئ من الخصوصيات والتشخصات
فيه، ولذا لا يسري الوجوب منها إلى تلك الأفراد. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن ضابط الامتثال انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد
المأتي به في الخارج.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي صحة الإتيان بالفرد المزاحم،
لاشتراكه مع بقية الأفراد في كلتا الناحيتين.
نعم، يمتاز عنها في ناحية ثالثة، وهي: أن الفرد المزاحم غير مقدور شرعا،
53

وهو في حكم غير المقدور عقلا، إلا أنها لا تمنع عن الصحة وحصول الامتثال به،
لأن الصحة تدور مدار الناحيتين الأوليين، وهذه الناحية أجنبية عما هو ملاك
الصحة، ضرورة أن المكلف لو عصى الأمر بالواجب المضيق وأتى بهذا الفرد
المزاحم لوقع صحيحا، لانطباق المأمور به عليه.
وإن شئت فقل: إن ما كان مزاحما للواجب المضيق وإن كان غير مقدور شرعا
إلا أنه ليس بمأمور به، وما كان مأمورا به ومقدورا للمكلف - وهو صرف وجود
الطبيعة بين المبدأ والمنتهى - غير مزاحم له. وعلى ذلك الأساس صح الإتيان
بالفرد المزاحم، فإن الانطباق قهري والإجزاء عقلي.
ونتيجة ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره): هي أن الفرد المزاحم بناء على القول
بالاقتضاء حيث إنه كان منهيا عنه فلا ينطبق عليه المأمور به، وعليه فلا إجزاء
لدورانه مدار الانطباق. وبناء على القول بعدم الاقتضاء حيث إنه ليس بمنهي عنه
ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزيا.
وقد أورد على هذا التفصيل شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن ذلك إنما يتم بناء على أن
يكون منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف: هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز،
إذ على هذا الأصل يمكن أن يقال: إن العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على
الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه، فإذا كان المكلف قادرا على
الواجب ولو بالقدرة على فرد واحد منه لا يكون التكليف به قبيحا، وبما أن
الواجب الموسع في مفروض الكلام مقدور من جهة القدرة على غير المزاحم
للواجب المضيق من الأفراد فلا يكون التكليف به قبيحا.
وعليه، فعلى القول بالاقتضاء بما أن الفرد المزاحم منهي عنه لا ينطبق عليه
المأمور به فلا يكون مجزيا. وعلى القول بعدم الاقتضاء حيث إنه ليس بمنهي
عنه ينطبق عليه المأمور به فيكون مجزيا. إذا ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من
التفصيل متين.
وأما إذا كان منشأ اعتبار القدرة شرطا للتكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك
54

- كما هو الصحيح - لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز فلا يتم ما ذكره، ولا يمكن
تصحيح الفرد المزاحم بقصد الأمر أصلا. فها هنا دعويان:
الأولى: أن منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف اقتضاء نفس التكليف ذلك
لا حكم العقل.
الثانية: أن التفصيل المزبور لا يتم على هذا الأصل.
أما الدعوى الأولى: فلأن الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو
الفعل. ومن الواضح أن هذا المعنى بنفسه يستلزم كون متعلقه مقدورا، لاستحالة
جعل الداعي نحو الممتنع عقلا أو شرعا. فإذا كان التكليف بنفسه مقتضيا لاعتبار
القدرة في متعلقه فلا تصل النوبة إلى حكم العقل بذلك، ضرورة أن الاستناد إلى
أمر ذاتي في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر عرضي.
وإن شئت فقل: إن الغرض من البعث انبعاث المكلف نحو الفعل. ومن الواضح
امتناع الانبعاث نحو الممتنع وحصول الداعي له إلى إيجاده، فإذا امتنع الانبعاث
والداعوية امتنع جعل التكليف لا محالة.
وأما الدعوى الثانية: فهي مترتبة على الدعوى الأولى، وذلك لأن التكليف إذا
كان بنفسه مقتضيا لاعتبار القدرة في متعلقه فلا محالة ينحصر متعلقه بخصوص
الأفراد المقدورة، فتخرج الأفراد غير المقدورة عن متعلقه.
وعلى الجملة: فنتيجة اقتضاء نفس التكليف ذلك - أي اعتبار القدرة - هي أن
متعلقه حصة خاصة من الطبيعة، وهي الحصة المقدورة. وأما الحصة غير المقدورة
خارجة عن متعلقه وإن كانت من حصة نفس الطبيعة إلا أنها ليست من حصتها بما
هي مأمور بها، ومتعلقة للتكليف. وعلى ذلك فالفرد المزاحم بما أنه غير مقدور
شرعا - وهو في حكم غير المقدور عقلا - خارج عن حيز الأمر، ولا يكون
مصداقا للطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها، فإن انطباق الطبيعة المأمور بها عليه
يتوقف على عدم تقييدها بالقدرة. وحيث إنها كانت مقيدة بها - على الفرض -
امتنع انطباقها على ذلك الفرد ليحصل به الامتثال.
55

أو فقل: إن الطبيعة إذا كانت مقيدة بالقدرة لا تنطبق على الفرد الفاقد لها،
بداهة عدم إمكان انطباق الحصة المقدورة على أفراد الحصة غير المقدورة، فإن
كل طبيعة تنطبق على أفرادها، ولا تنطبق على أفراد غيرها.
وعلى هذا الضوء فلو بنينا على اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا
ليكون الإتيان بها بداعي ذلك الأمر وعدم كفاية قصد الملاك فلا مناص من
الالتزام بفساد الفرد المزاحم على كلا القولين. أما على القول بالاقتضاء فلأنه
متعلق للنهي. وأما على القول بعدم الاقتضاء فلتقييد الطبيعة المأمور بها بالقدرة
المانع من انطباقها عليه (1).
وقد تحصل من مجموع ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) نقطتان:
الأولى: عدم تمامية ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القول
بالاقتضاء والقول بعدمه.
الثانية: أنه لابد من الالتزام بتفصيل آخر، وهو: أن منشأ اعتبار القدرة شرطا
للتكليف إن كان حكم العقل من باب قبح تكليف العاجز فما أفاده المحقق
الثاني (قدس سره) صحيح، ولا مناص من الالتزام به. وإن كان اقتضاء نفس التكليف ذلك
وأن البعث بذاته يقتضي أن يكون متعلقه مقدورا - أسواء كان للعقل حكم في هذا
الباب أم لم يكن - فلا يتم ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره)، إذ لا ثمرة عندئذ، فإن الفرد
المزاحم للواجب المضيق محكوم بالفساد مطلقا، حتى على القول بعدم الاقتضاء
كما عرفت (2).
هذا كله بناء على القول باشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلا، وعدم
كفاية قصد الملاك.
وأما إذا بنينا على كفاية الاشتمال على الملاك في الصحة فلابد من الالتزام
بصحة الفرد المزاحم على كلا القولين، لأنه تام الملاك حتى بناء على القول بكونه

(1) انظر فوائد الأصول ج 1 ص 314 وأجود التقريرات ج 1 ص 264.
(2) تقدم انفا.
56

منهيا عنه، وذلك لأن النهي المانع عن صحة العبادة والتقرب بها إنما هو النهي
النفسي، فإنه يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه موجبة لاضمحلال ما فيه من
المصلحة الصالحة للتقرب بفعل يكون مشتملا عليها، دون النهي الغيري فإنه لا
يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه ليكشف عن عدم تمامية ملاك الأمر.
أو فقل: إن النهي النفسي بما أنه ينشأ من مفسدة في متعلقه فيكون مانعا عن
التقرب به لا محالة، والنهي الغيري بما أنه لم ينشأ من مفسدة في متعلقه بل ينشأ
من أمر آخر فلا محالة لا يكون مانعا عن التقرب، لأن متعلقه باق على ما كان
عليه من الملاك الصالح للتقرب به، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في بحث التعبدي والتوصلي: أن قصد الملاك
كاف في صحة العبادة، وأن صحتها لا تتوقف على قصد الأمر بخصوصه، لعدم
دليل يدل على اعتبار أزيد من قصد التقرب بالعمل في وقوعه عبادة، وهو
إضافته إلى المولى بنحو من أنحاء الإضافة. وأما تطبيق ذلك على قصد الأمر أو
غيره من الدواعي القربية فإنما هو بحكم العقل (1). ومن الواضح أنه لا فرق بنظر
العقل في حصول التقرب بين قصد الأمر وقصد الملاك، فهما من هذه الناحية
على نسبة واحدة.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي صحة الفرد المزاحم مطلقا حتى
على القول بالاقتضاء.
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القولين
كما لا يتم على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر - كما عرفت (2) - كذلك
لا يتم على القول بكفاية قصد الملاك، فإن الصغرى - وهي: كون الفرد المزاحم تام
الملاك - ثابتة، والكبرى - وهي كفاية قصد الملاك - محرزة، فالنتيجة من ضم
الصغرى إلى الكبرى: هي صحة الفرد المزاحم حتى بناء على كونه منهيا عنه.

(1) راجع الجزء الثاني من المحاضرات ص 179 وما بعدها.
(2) تقدم آنفا فلاحظ.
57

ونلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: فساد ما اختاره المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين القولين مطلقا،
أي: سواء القول فيه باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر وعدم كفاية قصد الملاك، أو
القول بعدم اشتراط صحتها بذلك، وكفاية قصد الملاك كما مر (1).
الثانية: أن منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو اقتضاء نفس
التكليف ذلك الاعتبار، لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز، ضرورة أن الاستناد
إلى أمر ذاتي سابق على الاستناد إلى أمر عرضي.
الثالثة: ان الفرد المزاحم - هنا - تام الملاك، وأن قصد الملاك كاف في
صحة العبادة.
الرابعة: أن المانع من صحة العبادة والتقرب بها إنما هو النهي النفسي لا النهي
الغيري، لأن النهي الغيري لا ينشأ من مفسدة في متعلقه ليكون كاشفا عن عدم
تمامية ملاك الأمر.
ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط:
أما النقطة الأولى فيرد عليها: أن ما أفاده (قدس سره) من التفصيل بين القول: بأن منشأ
اعتبار القدرة شرطا للتكليف هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والقول: بأن منشأ
اعتباره اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار - فيسلم ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره)
على الأول دون الثاني - لا يرجع إلى معنى محصل، بناء على ما اختاره (قدس سره) من
استحالة الواجب المعلق، وتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه (2).
بيان ذلك: أن الأمر في الواجب الموسع وإن تعلق بالطبيعة وبصرف الوجود
منها إلا أنه أيضا مشروط بالقدرة عليها. ومن الواضح أن القدرة عليها لا يمكن،
إلا بأن يكون بعض وجوداتها وأفرادها - ولو كان واحدا منها - مقدورا للمكلف.
وأما لو كان جميع أفرادها ووجوداتها غير مقدور له ولو كان ذلك في زمان واحد
دون بقية الأزمنة فلا يمكن تعلق التكليف بنفس الطبيعة وبصرف وجودها في ذلك

(1) تقدم آنفا فلاحظ.
(2) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 186.
58

الزمان الذي فرضنا أن الطبيعة غير مقدورة فيه بجميع أفرادها، إلا على القول
بصحة الواجب المعلق، وحيث إن الواجب الموسع في ظرف مزاحمته مع الواجب
المضيق غير مقدور بجميع أفراده، فلا يعقل تعلق الطلب به عندئذ ليكون انطباقه
على الفرد المزاحم في الخارج قهريا وإجزاؤه عن المأمور به عقليا إلا بناء على
صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون
منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف حكم العقل بقبح تكليف العاجز، وأن يكون
منشؤه اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار.
وبتعبير ثان: أنه بناء على اشتراط صحة العبادة بوجود الأمر فعلا،
والإغماض عما سنتعرض له من صحة تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب (1)
فإن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) إنما يتم بناء على إمكان تعلق الوجوب بأمر متأخر
على نحو الواجب المعلق، إذ على ذلك لا مانع من تعلق الأمر بالعبادة الموسعة في
حال مزاحمتها بالواجب المضيق على نحو يكون الوجوب فعليا والواجب أمرا
استقباليا، لاستحالة تعلق الأمر بها على نحو يكون الواجب أيضا حاليا، لأنها في
تلك الحال غير مقدورة للمكلف بجميع أفرادها.
وأما بناء على وجهة نظره (قدس سره) من استحالة الواجب المعلق وعدم إمكان تعلق
الطلب بأمر استقبالي مقدور في ظرفه فلا مناص من القول بفساد الفرد المزاحم
مطلقا، حتى على القول بأن منشأ اعتبار القدرة هو الحكم العقلي المزبور، وذلك
لعدم إمكان طلب صرف وجود الطبيعة المأمور بها المزاحمة بالواجب المضيق
عندئذ ليكون انطباقه على ما أتى به المكلف في الخارج قهريا، والأجزاء عقليا.
فالنتيجة: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفصيل بين القول بأن منشأ اعتبار
القدرة في صحة التكليف هو حكم العقل والقول بأن منشأه اقتضاء نفس التكليف
ذلك الاعتبار فعلى الفرض الأول تظهر الثمرة في المسألة دون الفرض الثاني غير
تام على مسلكه (قدس سره)، وأما على مسلك من يرى صحة الواجب المعلق فلا بأس به.

(1) سيأتي بيانه في ص 90 وما بعدها.
59

نعم، إذا كان للواجب أفراد عرضية وكان بعض أفراده مزاحما بواجب مضيق
دون جميعها لتم ما أفاده (قدس سره)، إذ - حينئذ - يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي
امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة المقدورة بالقدرة على بعض أفرادها، بناء على القول
بأن منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل بقبح خطاب العاجز، كما إذا وقعت
المزاحمة بين بعض الأفراد العرضية للصلاة - مثلا - وإنقاذ الغريق كما في مواضع
التخيير بين القصر والإتمام، فإنه قد يفرض أن الصلاة تماما مزاحمة مع الإنقاذ،
لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال دون الصلاة قصرا فيما إذا
تمكن المكلف من الجمع بينها وبين الإنقاذ، ففي هذا الفرض وإن كان اللازم على
المكلف الإتيان بالصلاة قصرا، لئلا يفوت منه الواجب المضيق، ولا يجوز له
اختيار فرد آخر منها في مقام الامتثال وهو الصلاة تماما، لأن اختياره يوجب
تفويت الواجب الأهم، ولكن إذا عصى الواجب الأهم واختار ذلك الفرد فلا
مناص من الالتزام بصحته، لانطباق الطبيعة المأمور بها، وهي: طبيعي الصلاة
الجامع بين القصر والتمام عليه، لفرض كون تلك الطبيعة مقدورة بالقدرة على فرد
منها، فإذا كانت مقدورة فلا مانع من تعلق الأمر بها بناء على أن منشأ اعتبار القدرة
هو حكم العقل. إذا صح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة.
نعم، بناء على القول بأن منشأ اعتبار القدرة اقتضاء نفس التكليف ذلك
الاعتبار لم يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم، لعدم انطباق الطبيعة المأمور بها
عليه، إذ على هذا القول - كما عرفت - يكون المأمور به حصة خاصة من الطبيعة،
وهي الحصة المقدورة، ومن الواضح أنها لا تنطبق على الفرد المزاحم.
وقد تلخص: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفصيل وإن تم على هذا
الفرض إلا أن ذلك الفرض خارج عن مورد كلام المحقق الثاني (قدس سره) الذي كان محلا
للكلام في المقام، وهو: ما إذا كان الواجب ذا أفراد طولية وكان بعضها مزاحما
بواجب مضيق.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) من القائلين بالواجب
60

المعلق - ويرى جواز تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور في ظرفه - إلا أنه مع ذلك
لا يتم ما أفاده، بيان ذلك: أن المطلق المتعلق للطلب لا يخلو: من أن يكون
شموليا، وأن يكون بدليا، والمطلق الشمولي وإن كان خارجا عن محل الكلام
في المقام - حيث إن محل الكلام في المطلق البدلي - إلا أنا نتعرض له لشئ
من التوضيح للمقام فنقول: إن المطلق إذا كان شموليا فلا محالة ينحل الحكم
المتعلق به بانحلال أفراده، فيثبت لكل واحد منها حكم مستقل مغاير للحكم
الثابت لفرد آخر، وهذا واضح.
وعليه فإذا كان بعض أفراده مزاحما بواجب مضيق فلا محالة يسقط حكمه
من جهة المزاحمة، لكونه غير مقدور للمكلف شرعا، وما كان كذلك يستحيل تعلق
الطلب به، ولا يفرق في ذلك بين القول بأن منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل،
والقول بأن منشأه اقتضاء نفس التكليف ذلك، فإن الممنوع شرعا كالممتنع عقلا،
إذا لا يمكن الحكم بصحة ذلك الفرد المزاحم مع قطع النظر عما سيجئ من صحة
تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب.
وأما إذا كان بدليا - كما هو محل الكلام في المقام - فبناء على ما هو الصحيح
من أن الأوامر متعلقة بالطبائع دون الأفراد فمتعلق الأمر هو صرف وجود الطبيعة
الجامع بين الحدين، أو فقل: الجامع بين الأفراد العرضية والطولية بلا دخل شئ
من الخصوصيات والتشخصات الخارجية فيه.
ومن هنا قد ذكرنا غير مرة: أن معنى الإطلاق هو رفض القيود، وعدم دخل
شئ منها في متعلق الحكم واقعا، لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه (1). ومن
الواضح جدا أن وجوب شئ كذلك لا ينافي وجوب شئ آخر في عرضه،
ضرورة أنه لا منافاة بين وجوب الصلاة - مثلا - في مجموع وقتها - وهو ما بين
الزوال والمغرب - وبين وجوب الإزالة أو إنقاذ الغريق أو نحو ذلك في ذلك

(1) منها: ما تقدم في ج 2 ص 172 - 173.
61

الوقت، إذ المفروض أن المطلوب إنما هو صرف وجود الصلاة في مجموع هذه
الأزمنة لا في جميعها، ومن المعلوم أنه يكفي في كونه مقدورا للمكلف القدرة
على فرد واحد منها، وإذا كان مقدورا صح تعلق الطلب به، سواء أكان هناك
واجب آخر في تلك الأزمنة أم لم يكن، فإن وجوب واجب آخر إنما ينافي
وجوب الصلاة إذا كان وجوبها في جميع تلك الأزمنة لا في مجموعها،
والمفروض أنها ليست بواجبة في كل من تلك الأزمنة لينافي وجوبها وجوب
واجب آخر، بل هي واجبة في المجموع، وعليه فلا ينافيه وجوب شئ آخر
في زمان خاص.
نعم، وجوب واجب آخر ينافي ترخيص انطباق صرف وجود الطبيعة على
الفرد في ذلك الزمان، ولا يفرق في ذلك بين القول بأن منشأ اعتبار القدرة في
فعلية التكليف هو حكم العقل، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك، إذ على كلا القولين لو
عصى المكلف الأمر بالواجب المضيق وأتى بالفرد المزاحم به صح، لانطباق
المأمور به عليه.
والسر في ذلك: أن التكليف بنفسه لا يقتضي أزيد من أن يكون متعلقه
مقدورا ولو بالقدرة على فرد منه لئلا يكون البعث نحوه لغوا وممتنعا، لأن
الغرض منه جعل الداعي له ليحرك عضلاته نحو الفعل بالإرادة والاختيار. ومن
الواضح أن جعل الداعي إلى إيجاد الطبيعة المقدورة ولو بالقدرة على فرد منها
بمكان من الوضوح.
وبتعبير آخر: أن الشارع لم يأخذ القدرة في متعلق أمره على الفرض، بل هو
مطلق من هذه الجهة، غاية ما في الباب أن التكليف المتعلق به يقتضي أن يكون
مقدورا من جهة أن الغرض منه جعل الداعي إلى إيجاده، وجعل الداعي نحو
الممتنع عقلا أو شرعا ممتنع. ومن الواضح أن ذلك لا يقتضي أزيد من إمكان
حصول الداعي للمكلف، وهو يحصل من التكليف المتعلق بالطبيعة المقدورة
بالقدرة على فرد منها، لتمكنه من إيجادها في الخارج، ولا يكون ذلك التكليف
62

لغوا وممتنعا عندئذ. فإذا فرض أن الصلاة - مثلا - مقدورة في مجموع وقتها - وإن
لم تكن مقدورة في جميعها - فلا يكون البعث نحوها وطلب صرف وجودها في
مجموع هذا الوقت لغوا.
وعليه فلا مقتضي للالتزام بأن متعلقه حصة خاصة من الطبيعة، وهي الحصة
المقدورة، فإن المقتضي له ليس إلا توهم أن الغرض من التكليف حيث إنه جعل
الداعي فجعل الداعي نحو الممتنع غير معقول، ولكنه غفلة عن الفارق بين جعل
الداعي نحو الممتنع، وجعل الداعي نحو الجامع بين الممتنع والممكن، والذي لا
يمكن جعل الداعي نحوه هو الأول دون الثاني، فإن جعل الداعي نحوه من
الوضوح بمكان.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان: أنه يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال
الأمر بالطبيعة، من دون فرق بين القول بأن منشأ اعتبار القدرة هو حكم العقل، أو
اقتضاء نفس التكليف ذلك.
ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا الفرق بين القولين فمع هذا لا يتم ما أفاده
بناء على ما اختاره (قدس سره): من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم
والملكة، فكل ما لم يكن المورد قابلا للتقييد لم يكن قابلا للإطلاق، فإذا كان
التقييد مستحيلا في مورد كان الإطلاق أيضا مستحيلا فيه، لأن استحالة أحدهما
تستلزم استحالة الآخر.
وفيما نحن فيه بما أن تقييد الطبيعة المأمور بها بخصوص الفرد المزاحم
مستحيل فإطلاقها بالإضافة إليه أيضا مستحيل، حتى على القول بأن منشأ
اعتبار القدرة هو حكم العقل. وبالنتيجة: لا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم،
لعدم إطلاق للمأمور به ليكون الإتيان به بداعي أمره حتى على القول بصحة
الواجب المعلق.
نعم، بناء على ما حققناه في بحث التعبدي والتوصلي: من أن التقابل بينهما
ليس من تقابل العدم والملكة، بل من تقابل التضاد، ولذلك قلنا: إن استحالة تقييد
63

متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الإطلاق أو التقييد بخلاف ذلك
القيد ضروريا يصح الإتيان به بداعي الأمر بالطبيعة، بناء على جواز تعلق
الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه كما هو المفروض (1). وقد ذكرنا هناك: أن ما
أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم
والملكة لا يمكن تصديقه بوجه. وقد فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك
فلا نعيد في المقام.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من التفصيل
بين اعتبار القدرة عقلا واعتبارها باقتضاء نفس التكليف في المقام لا يرجع
إلى معنى صحيح.
فالصحيح: هو ما ذهب إليه المحقق الثاني (قدس سره) من تحقق الثمرة بين القولين في
المسألة، وهي: صحة العبادة بناء على القول بعدم الاقتضاء، وفسادها بناء على
القول بالاقتضاء، مع قطع النظر عما سيجئ - إن شاء الله تعالى - من صحة تعلق
الأمر بالضدين بناء على القول بالترتب (2).
ولكن الذي يرد هنا: هو أن مقامنا هذا - أي: التزاحم بين الإتيان بواجب
موسع وواجب مضيق - غير داخل في كبرى مسألة التزاحم بين الحكمين أصلا.
والوجه في ذلك: هو أن التنافي بين الحكمين: إما أن يكون في مقام الجعل
والإنشاء فلا يمكن جعل كليهما معا، وإما أن يكون في مقام الامتثال والفعلية مع
كمال الملاءمة بينهما بحسب مقام الجعل، ولا ثالث لهما.
ومنشأ الأول: إما العلم الإجمالي بكذب أحدهما في الواقع مع عدم التنافي
بينهما ذاتا، أو ثبوت التنافي بينهما بالذات والحقيقة على وجه التناقض أو التضاد.
ولذا قالوا: التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب مقام الإثبات والدلالة
على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.

(1) قد تقدم في ج 2 ص 172 وما بعدها.
(2) سيأتي تفصيله في 90 وما بعدها فانتظر.
64

ومنشأ الثاني: عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال والفعلية،
فإن صرف قدرته على امتثال أحدهما عجز عن الثاني، فينتفي بانتفاء موضوعه
وهو القدرة.
ولذا قالوا: التزاحم تنافي الحكمين بحسب مقام الفعلية والامتثال، مع عدم
المنافاة بينهما بحسب مقام الجعل والإنشاء.
وأما إذا لم يكن بين حكمين تناف لا بحسب مقام الجعل ولا بحسب مقام
الفعلية والامتثال لم يكونا داخلين، لا في باب التعارض، ولا في باب التزاحم،
لانتفاء ملاك كلا البابين فيهما. ومقامنا من هذا القبيل، ضرورة أنه لا تنافي بين
واجب موسع وواجب مضيق أبدا، لا في مقام الجعل كما هو واضح، ولا في مقام
الامتثال، لتمكن المكلف من امتثال كلا الواجبين معا من دون أية منافاة ومزاحمة
في البين، فيقدر على إتيان الصلاة والإزالة معا، أو الصلاة وإنقاذ الغريق من دون
مزاحمة بينهما أصلا.
وسر ذلك: أن ما هو مزاحم للواجب المضيق أو الأهم ليس بمأمور به، وما هو
مأمور به - وهو الطبيعي الجامع بين المبدأ والمنتهى - ليس بمزاحم له، وهذا ظاهر.
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكرناه: من أنه لا تزاحم بين الواجب الموسع والمضيق
لا ينافي ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من الثمرة بين القولين في المسألة، فإن دخول
المقام تحت كبرى التزاحم وعدم دخوله تحت تلك الكبرى أجنبيان عن ظهور
تلك الثمرة تماما كما لا يخفى.
وأما النقطة الثانية - وهي: اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه -
فهي مبنية على ما هو المشهور: من أن المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنما هو
الطلب والبعث نحو الفعل الإرادي، والطلب والبعث التشريعيين: عبارة عن
تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره، وجعل الداعي له لأن يفعل في
الخارج ويوجده، ومن الضروري أن جعل الداعي إنما يمكن في خصوص الفعل
الاختياري. إذا نفس التكليف مقتض لاعتبار القدرة في متعلقه بلا حاجة إلى
حكم العقل في ذلك.
65

أقول: قد ذكرنا في بحث صيغة الأمر (1)، وكذا في بحث الإنشاء والإخبار (2):
أن ما هو المشهور من أن الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ لا أساس له أصلا.
والوجه في ذلك: ما ذكرناه هناك، وملخصه: أن المراد بإيجاد المعنى باللفظ
ليس الإيجاد التكويني بالضرورة، فإن اللفظ غير واقع في سلسلة علل
الموجودات التكوينية، بداهة أنها توجد بأسبابها وعللها الخاصة، واللفظ ليس من
جملتها. وكذا ليس المراد منه الإيجاد الاعتباري، فإن الاعتبار خفيف المؤنة
فيوجد في نفس المعتبر بمجرد اعتباره، سواء أكان هناك لفظ تكلم به المعتبر أم لم
يكن، فلا يتوقف وجوده الاعتباري على اللفظ أبدا. إذا لا يرجع الإنشاء بهذا
المعنى إلى محصل.
فالتحقيق: هو ما ذكرناه سابقا من أن حقيقة التكليف: عبارة عن اعتبار المولى
كون الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز ما من صيغة الأمر أو ما
شاكلها، ولا نتصور للتكليف معنى غير ذلك، كما أنا لا نتصور للإنشاء معنى ما عدا
إبراز ذلك الأمر الاعتباري (3).
وعلى الجملة: فإذا حللنا الأمر بالصلاة - مثلا - أو غيرها نرى أنه ليس في
الواقع إلا اعتبار الشارع كون الصلاة على ذمة المكلف، وإبراز ذلك بمبرز في
الخارج: ككلمة " صل " أو نحوها، ولا نتصور شيئا آخر غير هذين الأمرين:
1 - اعتبار الفعل على ذمة المكلف.
2 - إبراز ذلك بمبرز في الخارج، نسميه بالطلب تارة، وبالبعث أخرى،
وبالوجوب ثالثة.
ومن هنا قلنا: إن الصيغة لا تدل على الوجوب، وإنما هي تدل على إبراز الأمر
الاعتباري القائم بالنفس، ولكن العقل ينتزع منه الوجوب، ولزوم الامتثال
بمقتضى قانون العبودية والمولوية ما لم تنصب قرينة على الترخيص في الترك،

(1) قد تقدم تفصيله في ج 2 ص 120.
(2) قد تقدم تفصيله في ج 2 ص 120.
(3) تقدم في ج 1 من المحاضرات ص 99.
66

فالوجوب إنما هو بحكم العقل، ومن لوازم إبراز شئ على ذمة المكلف إذا لم
تكن قرينة على الترخيص. وأما الطلب فقد ذكرنا: أنه عبارة عن التصدي لتحصيل
شئ في الخارج، فلا يقال طالب الضالة إلا لمن تصدى لتحصيلها في الخارج.
وعلى ضوء ذلك: فصيغة الأمر أو ما شاكلها من أحد مصاديق هذا الطلب، لا
أنه مدلول لها، فإن الآمر يتصدى بها لتحصيل مطلوبه في الخارج، فهي من أظهر
مصاديق الطلب.
وعلى هدي ذلك البيان قد ظهر: أنه لا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة
المقدورة، فإن اعتبار المولى الفعل على عهدة المكلف وذمته لا يقتضي ذلك
بوجه، ضرورة أنه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغير المقدور على
عهدته أصلا، وإبراز المولى ذلك الأمر الاعتباري النفساني بمبرز في الخارج أيضا
لا يقتضي ذلك، بداهة أنه ليس إلا مجرد إبراز وإظهار اعتبار كون المادة على ذمة
المكلف، وهو أجنبي تماما عن اشتراط التكليف بالقدرة وعدم اشتراطه بها.
فالنتيجة: أنه لا مقتضي من قبل نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أبدا،
وأما العقل فقد ذكرنا: أنه لا يقتضي اعتبار القدرة إلا في ظرف الامتثال، وعليه
فإذا لم يكن المكلف قادرا حين جعل التكليف وصار قادرا في ظرف الامتثال
صح التكليف ولم يكن قبيحا عنده، فإن ملاك حكم العقل - باعتبار القدرة في
ظرف الامتثال وفي موضوع حكمه، وهو لزوم إطاعة المولى وامتثال أمره ونهيه
بمقتضى قانون العبودية والمولوية - إنما هو قبح توجيه التكليف إلى العاجز عنه
في مرحلة الامتثال، فالعبرة إنما هي بالقدرة في تلك المرحلة، سواء أكان قبلها
قادرا أم لم يكن، فوجود القدرة قبل تلك المرحلة وعدمه على نسبة واحدة
بالقياس إلى حكم العقل، وهذا ظاهر.
ونتيجة مجموع ما ذكرناه أمران:
الأول: أن القدرة ليست شرطا للتكليف ومأخوذة في متعلقه، لا باقتضاء
نفسه ولا بحكم العقل.
67

الثاني: أنها شرط لحكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في
موضوع حكمه، إذا فلا مقتضي لاختصاص الفعل بالحصة الاختيارية أصلا.
قد يتوهم أن تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره وإن لم يكن مستحيلا
ولكنه لغو محض، إذ المكلف لا ينبعث إلا نحو المقدور، ولا يتمكن إلا من إيجاده،
إذا ما هي فائدة تعلقه بالجامع؟
ويرده ما ذكرناه هناك: من أن فائدته سقوط التكليف عن المكلف بتحقق
فرد منه في الخارج بغير اختياره وإرادته، لانطباق الجامع عليه، وحصول
الغرض القائم بمطلق وجوده به، ولا يفرق بينه وبين الفرد الصادر منه باختياره
وإرادته في حصول الغرض وسقوط التكليف، لأن مناط ذلك انطباق الطبيعي
المأمور به على الفرد الخارجي، وهو مشترك فيه بين الفرد الصادر منه بالاختيار
والصادر منه بغيره (1).
وقد تبين لحد الآن: أنه لا مانع من تعلق التكليف بالجامع بين الحصة
المقدورة وغيرها أصلا.
أضف إلى ذلك ما تقدم آنفا: من أنا لو سلمنا أن منشأ اعتبار القدرة اقتضاء
نفس التكليف ذلك الاعتبار لم يكن مقتض لاختصاص المتعلق بخصوص الحصة
الاختيارية كما سبق ذلك بصورة مفصلة، فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما النقطة الثالثة - وهي: أن الفرد المزاحم للواجب المضيق تام الملاك مطلقا
حتى على القول بالاقتضاء. وأن قصد الملاك يكفي في وقوع الشئ عبادة - فهي
تتوقف على إثبات هاتين المقدمتين: إحداهما: كبرى القياس، والاخرى: صغراه.
أما المقدمة الأولى - وهي كبرى القياس - فلا إشكال فيها، وذلك لما حققناه
في بحث التعبدي والتوصلي: من أن المعتبر في صحة العبادة هو قصد القربة بأي
وجه تحقق، سواء تحقق في ضمن قصد الأمر، أو قصد الملاك، أو غير ذلك من

(1) تقدم في ج 2 ص 144 - 148 من المحاضرات فراجع.
68

الدواعي القربية (1). ولا دليل على اعتبار قصد الأمر خاصة، بل قام الدليل على
خلافه، كما فصلنا الحديث من هذه الناحية هناك.
وأما المقدمة الثانية - وهي صغرى القياس - فقد استدل عليها بوجوه:
الأول: ما عن المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من دعوى القطع بأن الفرد المزاحم
تام الملاك، ولا قصور فيه أصلا. وقال في بيان ذلك ما ملخصه: إن الفرد المزاحم
للواجب المضيق أو الأهم وإن كان خارجا عن الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور
بها إلا أنه لما كان وافيا بغرضها - كالباقي من أفرادها - كان عقلا مثله في الإتيان
به بداعي الأمر بالطبيعة في مقام الامتثال، بلا تفاوت في نظر العقل بينه وبين بقية
الأفراد من هذه الجهة أصلا.
نعم، إنه يفترق عن البقية في أنه خارج عن الطبيعة المأمور بها بما هي كذلك،
والبقية داخلة فيها. وهذا ليس لقصور فيه ليكون خروجه عنها من باب التخصيص
وعدم الملاك، بل لعدم إمكان تعلق الأمر بما يعمه عقلا. وعلى كل حال فالعقل لا
يرى تفاوتا بينه وبين غيره من الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة أصلا، وأنه كالبقية
تام الملاك ولا قصور فيه أبدا (2).
وغير خفي أنا قد ذكرنا غير مرة: أنه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام
الواقعية وجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها مع قطع النظر عن ثبوت تلك
الأحكام. نعم، في لحظة ثبوتها نستكشف اشتمال متعلقاتها على الملاك بناء على
ما هو الصحيح من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد
الواقعيتين. وأما إذا سقطت تلك الأحكام فلا يمكننا إحراز أن متعلقاتها باقية على
ما كانت عليه من الاشتمال على الملاك، إذ كما نحتمل أن يكون سقوطها من جهة
المانع مع ثبوت المقتضي لها نحتمل أن يكون من جهة انتفاء المقتضي وعدم ثبوته،
فلا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر.

(1) راجع ج 2 ص 179 - 184.
(2) انظر كفاية الأصول: ص 168.
69

وعلى الجملة: فالعلم بوجود مصلحة في فعل أو مفسدة تابع لتعلق الأمر أو
النهي به، فمع قطع النظر عنه لا يمكن العلم بأن فيه مصلحة أو مفسدة.
ومن هنا قلنا: إن الملازمة بين إدراك العقل مصلحة ملزمة غير مزاحمة في
فعل أو مفسدة كذلك وحكم الشارع بوجوبه أو حرمته وإن كانت تامة بحسب
الكبرى بناء على وجهة مذهب العدلية كما هو الصحيح إلا أن الصغرى لها غير
متحققة في الخارج، لعدم وجود طريق للعقل إلى إدراك الملاكات الواقعية، فضلا
عن أنها غير مزاحمة (1)، وعليه فإذا سقط الأمر أو النهي عنه فلا يمكن الجزم ببقاء
الملاك فيه، وأن سقوط الأمر أو النهي من جهة وجود المانع لا لأجل انتفاء
المقتضي، بل كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون سقوطه من جهة انتفاء المقتضي.
وسر ذلك: هو أن العلم بالملاك معلول للعلم بوجود الأمر، فهو يتبعه في السعة
والضيق، إذ لا يمكن أن تكون دائرة المعلول أوسع من دائرة علته.
وعلى ذلك الأساس فلا يمكن إحراز أن الفرد المزاحم مشتمل على الملاك،
فإن الطريق إلى إحرازه هو انطباق الطبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها عليه، فإذا
لم تنطبق الطبيعة عليه كما هو المفروض لم يمكن إحراز وجود الملاك فيه ليكون
عدم الانطباق مستندا إلى عدم إمكان تعلق الأمر بها على نحو تعمه لا لقصور فيه،
إذ من الواضح جدا أنه كما يحتمل أن يكون عدم الانطباق من جهة وجود المانع
مع ثبوت المقتضي له يحتمل أن يكون من جهة عدم المقتضي وانتفائه، لاحتمال
اختصاص الملاك والمقتضي بالأفراد غير المزاحمة للواجب المضيق أو الأهم،
ولا دليل على ترجيح الاحتمال الأول على الثاني. إذا لا دليل على أن الفرد
المزاحم تام الملاك ولا قصور من ناحيته أصلا.
وإن شئت فقل: إن اشتمال الفرد المزاحم على الملاك ليس أمرا وجدانيا
وبديهيا لئلا يخفى على أحد ولا يكون قابلا للشك والترديد.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 55.
70

وعليه فدعوى: القطع باشتماله على الملاك بدعوى حكم العقل بعدم الفرق
بينه وبين غيره من الأفراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها في غير محلها،
ضرورة أن العقل حاكم بالفرق، وأن الفرد المزاحم ليس كغيره من الأفراد الباقية
تحت الطبيعة المأمور بها.
وعلى الجملة: حكم العقل بأن فعلا ما مشتمل على الملاك منوط بأحد أمرين
لا ثالث لهما:
الأول: ما إذا كان الشئ بنفسه متعلقا للأمر، فإن تعلق الأمر به يكشف عن
وجود ملاك فيه لا محالة.
الثاني: ما إذا كان مصداقا للمأمور به بما هو مأمور به، فإنه يكشف عن أنه
واف بغرض المأمور به وواجد لملاكه. وأما إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا ملاك
لحكمه أصلا. والفرد المزاحم في المقام كذلك - على الفرض - فإنه ليس متعلقا
للأمر ولا مصداقا للمأمور به بما هو مأمور به. إذا فلا يحكم العقل بأن فيه ملاكا
وأنه واف بغرض المأمور به كبقية الأفراد، بل هو حاكم بضرورة التفاوت بينهما
في مقام الامتثال والإطاعة كما هو واضح.
الثاني: ما عن جماعة من المتأخرين منهم شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن سقوط
اللفظ عن الحجية بالإضافة إلى مدلوله المطابقي لا يستلزم سقوطه عنها، بالإضافة
إلى مدلوله الالتزامي، إذ الضرورة تتقدر بقدرها، وهي تقتضي سقوط الدلالة
المطابقية فحسب. إذا فلا موجب لرفع اليد عن الدلالة الالتزامية (1).
وبعبارة واضحة: أن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية في
مقام الثبوت والإثبات إلا أنها ليست تابعة لها في الحجية.
والوجه في ذلك: هو أن ظهور اللفظ في معناه المطابقي غير ظهوره في معناه
الالتزامي، وكل واحد من الظهورين حجة في نفسه بمقتضى أدلة الحجية، ولا

(1) انظر فوائد الأصول: ج 4 ص 755 وأجود التقريرات ج 1 ص 262 - 269.
71

يجوز رفع اليد عن حجية كل واحد منهما بلا موجب ومقتض، وعليه فإذا سقط
ظهور اللفظ في معناه المطابقي عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى على خلافه
فلا وجه لرفع اليد عن ظهوره في معناه الالتزامي، لعدم المانع منه أصلا.
ونظير ذلك: ما ذكرناه: من أنه إذا ورد عام مجموعي كقولنا: " أكرم عشرة
من العلماء "، ثم ورد دليل خاص كقولنا: " لا تكرم أربعة منهم " فلا شبهة في
تخصيص الدليل الأول بالثاني بالإضافة إلى هؤلاء الأربعة، ورفع اليد عن ظهوره
بالإضافة إلى وجوب إكرام المجموع، ولكنه مع ذلك لا ترفع اليد عن وجوب
إكرام الباقي، مع أن الدلالة التضمنية كالدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية
في مقام الثبوت والإثبات.
والسر فيه: أن ظهور اللفظ في معناه المطابقي كما يغاير ظهوره في معناه
الالتزامي كذلك يغاير ظهوره في معناه التضمني، وكل واحد من هذه الظواهر قد
ثبت اعتبارها بمقتضى أدلة الحجية، وعندئذ فإذا سقط ظهور اللفظ في معناه
المطابقي عن الحجية من جهة وجود مانع يختص به لا يلزم منه سقوط ظهوره
عن الحجية بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي أو التضمني، لعدم مانع بالقياس إليه.
إذا كان رفع اليد عنه عند سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية بلا موجب، وهو
غير جائز.
وعلى الجملة: بعد ما فرضنا أن كلا من تلك الظواهر حجة في نفسه فرفع اليد
عن كل واحد منها منوط بقيام حجة أقوى على خلافه، ولذلك كان الساقط في
المثال المزبور خصوص الدلالة المطابقية من جهة قيام حجية أقوى على خلافها
دون الدلالة التضمنية.
وبعد ذلك نقول: بما أن الأمر في المقام قد تعلق بفعل غير مقيد بحصة خاصة
- وهي الحصة المقدورة - فهو كما يدل على وجوبه مطلقا كذلك يدل على كونه
ذا ملاك كذلك، بناء على تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد
الواقعيتين، غاية الأمر: أن دلالته على وجوبه دلالة بالمطابقة، وعلى كونه ذا ملاك
دلالة بالالتزام.
72

وهذه الدلالة بناء على مسلك العدلية لازمة لدلالة كل دليل دل على وجوب
شئ أو حرمته، أو كراهة شئ أو استحبابه، وعليه فإذا تعلق الأمر بفعل غير مقيد
بالقدرة في مقام الإثبات كشف ذلك عن وجوبه بالدلالة المطابقية، وعن كونه ذا
ملاك بالدلالة الالتزامية، فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لحكم العقل
باعتبار القدرة في فعلية التكليف لم تسقط الدلالة الالتزامية عن الحجية.
أو فقل: إن اللازم وإن كان تابعا للملزوم في مقام الثبوت والإثبات إلا أنه
ليس تابعا له في مقام الحجية.
والوجه فيه: هو أن الإخبار عن الملزوم ينحل إلى إخبارين: أحدهما: إخبار
عن الملزوم، والآخر: إخبار عن اللازم، ودليل الاعتبار يدل على اعتبار كليهما
معا، وعندئذ إذا سقط الإخبار عن الملزوم عن الحجية من جهة قيام دليل أقوى
على خلافه فلا وجه لرفع اليد عن الإخبار عن اللازم، لعدم المانع له أصلا.
وفيما نحن فيه وإن كان كشف الأمر عن وجود ملاك في فعل تابعا لكشفه عن
وجوبه في مقام الإثبات والدلالة إلا أنه ليس تابعا له في مقام الحجية، فإن حكم
العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار إنما
يصلح للتقييد بالقياس إلى الدلالة المطابقية فيوجب رفع اليد عنها دون الدلالة
الالتزامية، ولا موجب لرفع اليد عن إطلاقها أصلا، إذ المفروض أن كل واحد من
الظهورين حجة في نفسه، فرفع اليد عن أحدهما لمانع لا يوجب رفع اليد عن
الآخر، فإن رفع اليد عنه بلا مقتض وسبب.
ونتيجة ذلك عدة أمور:
الأول: أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا لا بقاء.
الثاني: أن الملاك قائم بالجامع بين الحصة المقدورة وغيرها، ولازم ذلك
صحة الفرد المزاحم، فإن الصغرى - وهي كونه تام الملاك - محرزة، والكبرى -
وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشئ عبادة - ثابتة، فالنتيجة من ضم إحداهما
إلى الأخرى هي ذلك.
73

الثالث: اختصاص الوجوب بخصوص الحصة المقدورة من جهة حكم العقل
باعتبار القدرة في متعلقه، أو من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك.
الرابع: أن الملاك تابع للإرادة الإنشائية المتعلقة بفعل دون الإرادة الجدية،
فإنها قد تخالف الأولى كما في المقام، فإن الإرادة الإنشائية تعلقت بالجامع،
والإرادة الجدية تعلقت بحصة خاصة منه، وهي الحصة المقدورة.
والجواب عن ذلك نقضا وحلا. أما نقضا فبعدة من الموارد:
الأول: ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول - مثلا - ثم علمنا من
الخارج بكذب البينة، أو عدم ملاقاة الثوب للبول، ولكن احتملنا نجاسته من جهة
أخرى: كملاقاته للدم - مثلا - أو نحوه فحينئذ هل يمكن الحكم بنجاسة الثوب من
جهة البينة المذكورة بدعوى: أن الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول إخبار عن
نجاسته بالدلالة الالتزامية، لأن نجاسته لازمة لملاقاته للبول، وبعد سقوط البينة
عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة مانع لا موجب لسقوطها
بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية، لعدم المانع عنها أصلا، ولا نظن أن يلتزم بذلك
أحد حتى من يدعي بأن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط
الدلالة الالتزامية عنها؟ وهذا واضح جدا.
الثاني: ما إذا كانت الدار - مثلا - تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر، وأخبرت
بينة على أنها لعمرو، واخرى على أنها لبكر فتساقطت البينتان من جهة المعارضة
بالإضافة إلى مدلولهما المطابقي، فلم يمكن الأخذ بهما ولا بإحداهما فهل يمكن
عندئذ الأخذ بالبينتين في مدلولهما الالتزامي - وهو عدم كون الدار لزيد -
بدعوى: أن التعارض بينهما إنما كان في مدلولهما المطابقي لا في مدلولهما
الالتزامي، وبعد سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي لم يكن موجب لرفع
اليد عنهما في مدلولهما الالتزامي - وهو: أن الدار ليست لزيد - فلابد أن يعامل
معها معاملة مجهول المالك، ولا نظن أن يلتزم به متفقه فضلا عن الفقيه؟
الثالث: ما إذا شهد واحد على أن الدار في المثال المزبور لعمرو، وشهد آخر
74

على أنها لبكر، والمفروض أن شهادة كل واحد منهما ليست بحجة في مدلولها
المطابقي، مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الأخرى، لتوقف حجية شهادة
الواحد على ضم اليمين، ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ بمدلولهما
الالتزامي، وهو عدم كون هذه الدار لزيد لكونهما متوافقين فيه فلا حاجة إلى ضم
اليمين في الحكم بأن الدار ليست لزيد؟ كلا.
الرابع: ما إذا قامت البينة على أن الدار التي في يد عمرو لزيد، ولكن زيدا قد
أقر بأنها ليست له فلا محالة تسقط البينة من جهة الإقرار فإنه مقدم عليها، وبعد
سقوط البينة عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة قيام الإقرار على
خلافها فهل يمكن الأخذ بها بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية، والحكم بعدم كون
الدار لعمرو؟ كلا.
وقد تلخص من ذلك: أنه لا يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية في شئ من تلك
الموارد وما شاكلها بعد سقوط الدلالة المطابقية فيها.
وأما حلا: فلأن الدلالة الالتزامية ترتكز على ركيزتين من ضم إحداهما إلى
الأخرى يتشكل القياس على نحو الشكل الأول: الأولى ثبوت الملزوم. الثانية
ثبوت الملازمة بينه وبين شئ، ومن ضم الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة،
وهي ثبوت اللازم.
وأما إذا لم تثبت الصغرى أو الكبرى أو كلتاهما فلا يمكن إثبات اللازم، وفي
المقام بما أن المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي فثبوته يتوقف على ثبوت
الملازمة وثبوت المدلول المطابقي، فإذا لم يثبت المدلول المطابقي أو ثبت ولكن
لم تثبت الملازمة فلا يثبت المدلول الالتزامي لا محالة، ولا يفرق في ذلك بين
حدوثه وبقائه أصلا.
وبعبارة أخرى: أن ظهور الكلام في مدلوله الالتزامي وإن كان مغايرا
لظهوره في مدلوله المطابقي إلا أن ظهوره في ثبوت المدلول الالتزامي ليس
على نحو الإطلاق، بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصة منه، وهي الحصة
الملازمة للمدلول المطابقي.
75

مثلا: الإخبار عن ملاقاة الثوب للبول وإن كان إخبارا عن نجاسته أيضا إلا
أنه ليس إخبارا عن نجاسته على الإطلاق بأي سبب كان، بل إخبار عن حصة
خاصة من النجاسة، وهي الحصة الملازمة لملاقاة البول، بمعنى: أنه إخبار عن
نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول في مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو
نحوه، فإذا قيل: إن هذا الثوب نجس يراد به: أنه نجس بالنجاسة البولية، وعندئذ
إذا ظهر كذب البينة في إخبارها بملاقاة الثوب للبول فلا محالة يعلم بكذبها في
إخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاته للبول. وأما نجاسته بسبب آخر وإن
كانت محتملة إلا أنها نجاسة أخرى أجنبية عن مفاد البينة تماما.
وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط الدلالة المطابقية؟
ومن ذلك يظهر حال بقية الأمثلة وسائر الموارد. ومنها ما نحن فيه، فإن ما دل
على وجوب فعل غير مقيد بالقدرة وإن كان دالا على كونه ذا ملاك ملزم كذلك إلا
أن دلالته على كونه ذا ملاك ليست على نحو الإطلاق، حتى مع قطع النظر عن
دلالته على وجوبه، بل هي بتبع دلالته على وجوب ذلك، فيكون دالا على حصة
خاصة من الملاك، وهي الحصة الملازمة لذلك الوجوب في مقام الإثبات
والكشف، ولا يدل على قيام الملاك فيه على الإطلاق.
وعليه فإذا سقطت دلالته على الوجوب من جهة مانع فلا تبقى دلالته على
الملاك المسببة عن دلالته على الوجوب. إذا لا علم لنا بوجود الملاك فيه، فإن
العلم بالملاك كان بتبع العلم بالوجوب، وإذا سقط الوجوب فقد سقط العلم
بالوجوب لا محالة فإنه مسبب عنه، ولا يعقل بقاء المسبب بلا سبب وعلة، ولا
يفرق في ذلك بين سقوط الوجوب رأسا وبين سقوط إطلاقه.
وسره: ما عرفت: من أن الإخبار عن وجوب شئ إخبار عن وجود حصة
خاصة من الملاك فيه، وهي الحصة الملازمة لوجوبه، لا عن مطلق وجوده فيه. ولا
يمكن أن يكون الإخبار عنه بصورة أوسع من الإخبار عن الوجوب، فإنه خلاف
المفروض، إذ المفروض أنه لازم له في مقام الإثبات، فيدور العلم به سعة وضيقا
76

مدار سعة العلم بالوجوب وضيقه، وعلى ذلك فإذا قيد الوجوب بحصة خاصة من
الفعل - وهي الحصة المقدورة مثلا - فلا يكشف عن الملاك إلا في خصوص تلك
الحصة، دون الأعم منها ومن غيرها، هذا واضح جدا.
لعل القائل بأن سقوط الدلالة المطابقية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية
تخيل أن ثبوت المدلول الالتزامي بعد ثبوت المدلول المطابقي يكون على نحو
السعة والإطلاق، ولازم ذلك هو أنه لا يسقط بسقوط المدلول المطابقي إلا أن
ذلك غفلة منه، فإن المفروض أن من أخبر بثبوت المدلول المطابقي فقد أخبر
بثبوت حصة خاصة منه، وهي الحصة الملازمة له، لا بثبوته على الإطلاق.
هذا مضافا إلى أن هذا الكلام - أي: عدم سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط
الدلالة المطابقية في المقام - مبتن على أن يكون إحراز الملاك في فعل تابعا
للإرادة الإنشائية المتعلقة به دون الإرادة الجدية، وفساد هذا بمكان من الوضوح،
ضرورة أن ثبوت الملاك على مذهب العدلية إنما هو في متعلق الإرادة الجدية،
فسعة الملاك في مقام الإثبات تدور مدار سعة الإرادة الجدية، ولا أثر للإرادة
الاستعمالية في ذلك أصلا.
وعلى الجملة: فالوجوب إنما يكشف عن الملاك كشف المعلول عن علته
بمقدار ما تعلق به واقعا، والمفروض أن ما تعلق به الوجوب هنا هو خصوص
الحصة المقدورة دون الأعم منها.
كما أنه لا وجه لقياس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية، لما ذكرناه في
بحث العام والخاص: من أن الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية،
ولذا قلنا بعدم الفرق في جواز التمسك بالعام بين كونه استغراقيا أو مجموعيا. فلو
قال المولى: " أكرم هذه العشرة " وكان الوجوب وجوبا واحدا ثم علمنا من
الخارج بخروج واحد من هذه العشرة وشككنا في خروج غيره فنرجع إلى العموم
ونحكم بعدم الخروج (1).

(1) سوف يأتي تفصيله في ج 5 من المحاضرات في أوائل البحث فانتظر.
77

والوجه في ذلك: أن الدلالة على وجوب إكرام هذا المجموع تنحل في الواقع
إلى دلالات ضمنية باعتبار كل جزء منه، فإذا سقط بعض تلك الدلالات الضمنية
فلا موجب لسقوط البقية.
أو فقل: إن الحكم في العموم المجموعي وإن كان واحدا إلا أن ذلك الحكم
الواحد إنما انقطع بالإضافة إلى جزء واحد، وخروج سائر الأجزاء يحتاج إلى
دليل، وهذا بخلاف الدلالة الالتزامية، فإن المدلول الالتزامي بما أنه لازم للمدلول
المطابقي فلا يعقل بقاؤه بعد سقوطه كما عرفت.
وأما بناء العقلاء وإن جرى في باب الظهورات على أن التعبد بالملزوم يقتضي
التعبد باللازم ولو مع عدم التفات المتكلم إلى الملازمة بينهما وعدم قصده الحكاية
عنه إلا أنه من الواضح أن هذا البناء - أي: البناء على ثبوت اللازم - إنما هو في
ظرف ثبوت الملزوم، وأما إذا سقط الملزوم من جهة مانع فلا بناء للعقلاء على
ثبوت اللازم، بداهة أن بناءهم على التعبد بثبوته متفرع على التعبد بثبوت الملزوم
لا على نحو الإطلاق والسعة.
وإن شئت فقل: إنه لا ريب في عدم سقوط بعض الدلالات الضمنية عن
الحجية بسقوط بعضها الآخر عنها. مثلا: إذا أخبرت بينة على أن زيدا مديون من
عمرو عشرة دراهم ولكن عمرا قد اعترف بأنه ليس مديونا بالعشرة، بل هو
مديون بخمسة فلا إشكال في حجية البينة بالإضافة إلى الخمسة. أو قامت بينة
على نجاسة الإناءين ولكن علمنا من الخارج بطهارة أحدهما من جهة إصابة
المطر أو نحوه فأيضا لا إشكال في حجيتها بالإضافة إلى نجاسة الإناء الآخر.
وسر ذلك: هو أنه لا ملازمة ولا تبعية بين المداليل الضمنية بعضها بالإضافة
إلى بعضها الآخر، ضرورة أن أحدها ليس معلولا للآخر، ولا علة له، ولا معلولان
لعلة ثالثة في الواقع، وعلى هذا الضوء لا محالة لا تستلزم إرادة أحدهما إرادة
الآخر. هذا من ناحية.
78

ومن ناحية أخرى: أن أدلة الحجية ليست قاصرة عن إثبات حجية البينة أو ما
شاكلها بالإضافة إلى الباقي.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هو: أن سقوط بعض الدلالات الضمنية
عن الحجية لا يوجب سقوط بعضها الآخر، لعدم الملازمة والتبعية بينها كما مر.
نعم، الملازمة بينها في مقام الإبراز، فإن الجميع - كما عرفت - يبرز بمبرز واحد.
وهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين الدلالة التضمنية والدلالة الالتزامية.
أو فقل: إن الدلالة الالتزامية في نقطة مقابلة للدلالة التضمنية من ناحية مقام
الثبوت والحجية.
أما من ناحية مقام الثبوت فلأن المدلول الالتزامي لا يخلو في الواقع: من أن
يكون لازما للمدلول المطابقي، أو ملازما له، أو ملزوما له، ولأجل ذلك تستلزم
إرادة أحدهما إرادة الآخر تبعا.
وأما من ناحية الحجية فلما سبق: من أن أدلة الحجية إنما تدل على حجية
الدلالة الالتزامية تبعا لدلالتها على حجية الدلالة المطابقية.
الثالث: ما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن الفرد المزاحم تام الملاك حتى على
القول بكونه منهيا عنه (1).
والوجه في ذلك: هو أن النهي المانع عن التقرب بالعبادة هو الذي ينشأ
من مفسدة في متعلقه، وهو النهي النفسي. وأما النهي الغيري فبما أنه لا ينشأ
من مفسدة في متعلقه لا يكشف عن عدم وجود الملاك في متعلقه، فبضم هذا
إلى كبرى كفاية قصد الملاك في صحة العبادة - كما تقدمت - تستنتج صحة
الفرد المزاحم.
ثم أورد (قدس سره) على نفسه: بأن الحكم بصحة الفرد المزاحم من جهة الملاك
لا يجتمع مع القول بأن منشأ اعتبار القدرة هو اقتضاء نفس التكليف ذلك

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 264.
79

كما هو الصحيح، إذ على هذا يكون اعتبار القدرة فيه شرعيا ودخيلا في ملاك
الحكم، فيرتفع الملاك بارتفاع القدرة لا محالة.
نعم، تم ذلك بناء على أن منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو حكم
العقل بقبح تكليف العاجز، إذ حينئذ يمكن أن يقال: إن إطلاق متعلقه شرعا كاشف
عن كونه ذا ملاك مطلقا حتى في حال عدم القدرة عليه.
توضيح ذلك: أن القدرة مرة تؤخذ في متعلق التكليف لفظا، واخرى تؤخذ
باقتضاء نفس التكليف ذلك. فعلى الأول: لا فرق بين أن تكون دلالة اللفظ على
اعتبار القدرة فيه بالمطابقة كما في آية الحج (1) فإنها تدل على اعتبار القدرة فيه
مطابقة أو بالالتزام كما في آية الوضوء (2)، فإنها تدل على تقييد وجوب الوضوء
بالتمكن من استعمال الماء عقلا وشرعا التزاما، من جهة أخذ عدم وجدان الماء
في موضوع وجوب التيمم مطابقة، والتفصيل قاطع للشركة لا محالة، فإنه على كلا
التقديرين كان تقييد الواجب بالقدرة مستفادا من الدليل اللفظي.
ونتيجة ذلك: أن القدرة دخيلة في ملاك الحكم واقعا، ضرورة أنه لا معنى
لأخذ قيد في متعلق الحكم في مقام الإثبات إذا لم يكن له دخل فيه في مقام الثبوت.
وعلى ذلك يبتنى: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو بالالتزام
بالترتب في موارد الأمر بالتيمم، لعدم الملاك للوضوء أو الغسل في تلك الموارد
ليمكن الحكم بصحته من جهة الملاك أو من جهة الالتزام بالترتب، وثبوت الأمر
بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم، فإذا كان هذا هو الحال فيما إذا كانت القدرة
مأخوذة في لسان الدليل بإحدى الدلالتين كان الأمر كذلك فيما إذا كان اعتبار
القدرة باقتضاء نفس التكليف ذلك، إذ من الواضح جدا أنه حينئذ يتعين المأمور به
في الحصة المقدورة بمقتضى دلالة نفس الدليل، فالقدرة تكون دخيلة في ملاك
الحكم فينتفي بانتفائها.

(1) آل عمران: 97، قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت...) *.
(2) المائدة: 6، قوله تعالى: * (... إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم...) *.
80

ثم قال (قدس سره): ولو سلمنا فيما نحن فيه عدم القطع بالتقييد شرعا الكاشف
عن دخل القدرة في الملاك إلا أنا نحتمل ذلك بالبداهة، ولا دافع لذلك
الاحتمال من جهة أنها لو كانت دخيلة فيه واقعا لجاز للمتكلم أن يكتفي في بيانه
بنفس إيقاع الطلب على ما كان فيه الملاك، فيكون المقام داخلا في كبرى احتفاف
الكلام بما يصلح للقرينية، ومعه لا ينعقد له ظهور في سعة الملاك.
ثم قال (قدس سره): ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا عدم صلاحيته لكونه قرينة على
التقييد إلا أن إطلاق المتعلق إنما يكشف عن عدم دخل قيد في الملاك إذا لزم
نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الإثبات مع دخل القيد فيه في مقام الثبوت،
وأما إذا لم يلزم منه نقض الغرض فلا يكون الإطلاق في مقام الإثبات كاشفا عن
عدم دخل القيد فيه ثبوتا. وعليه فبما أن ما يحتمل دخله في الملاك هو القدرة، ولا
يمكن المكلف من إيجاد غير المقدور في الخارج ليترتب عليه نقض الغرض على
تقدير دخل القدرة في الملاك واقعا لا يمكن التمسك بالإطلاق لدفع الاحتمال
المزبور. ومن الواضح أن ذلك الاحتمال مانع عن الحكم بصحة الفرد المزاحم
والتقرب به.
وأجاب (قدس سره) عن ذلك بما ملخصه: أن القدرة إذا كانت مأخوذة في متعلق
التكليف لفظا - كما في آيتي الحج والوضوء - فالأمر كما ذكر ولا مناص عنه. وأما
إذا لم تكن مأخوذة فيه لفظا وكان متعلق التكليف غير مقيد بالقدرة في مرتبة
سابقة على تعلق التكليف به، بل كان اعتبار القدرة فيه في مرتبة تعلق التكليف به
وعروضه عليه، سواء كان منشؤه حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو كان اقتضاء
نفس التكليف ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاق المتعلق لإثبات كونه واجدا
للملاك، فإن التقييد الناشئ من قبل حكم العقل أو من قبل اقتضاء نفس التكليف
بما أنه في مرتبة متأخرة - وهي مرتبة تعلق التكليف به وعروضه - فلا يعقل أن
يكون تقييدا في مرتبة سابقة، وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض التكليف عليه
81

التي هي عبارة أخرى عن مرتبة وجدانه للملاك، لاستحالة أخذ ما هو متأخر رتبة
في ما هو متقدم كذلك.
ومن هنا قلنا: إن كل ما يتأتى من قبل الأمر لا يمكن أخذه في متعلقه. وعليه
فحيث إن المتعلق في مرتبة سابقة على تعلق الطلب به مطلق فإطلاقه في تلك
المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك، وأنه قائم بمطلق وجوده، وإلا
لكان على المولى تقييده بها في تلك المرتبة، فمن الإطلاق في مقام الإثبات
يكشف الإطلاق في مقام الثبوت.
ومن ذلك يظهر: أن اقتضاء التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه يستحيل أن
يكون بيانا ومقيدا لإطلاقه في مرتبة سابقة عليه. إذا فلا يدخل المقام تحت كبرى
احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة ليدعى الإجمال.
وأما الإشكال الأخير - وهو: أن التمسك بالإطلاق لا يمكن لدفع احتمال
دخل القدرة في الملاك، لعدم لزوم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها
فيه واقعا - فيرده:
أولا: أن هذا لو تم فإنما يتم إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينية في
الملاك، فإن صدور غير المقدور حيث إنه مستحيل فلا يلزم نقض الغرض من عدم
البيان. وأما إذا كان الشك في اعتبار القدرة ولو كانت شرعية في متعلق الحكم -
كما هو المفروض - فيلزم نقض الغرض من عدم البيان على تقدير دخلها في الملاك
واقعا، فإن المكلف قادر تكوينا على أن يأتي بفرد الواجب الموسع عند مزاحمته
للواجب المضيق، فمن عدم التقييد في مقام الإثبات يستكشف عدمه في مقام
الثبوت. إذا لا مانع من التمسك بالإطلاق لإثبات أن الفرد المزاحم واجد للملاك.
وثانيا: أن نقض الغرض ليس من إحدى مقدمات التمسك بالإطلاق، فإن
من مقدماته أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام ماله دخل في مراده، ومع
هذا الفرض إذا لم ينصب قرينة على التقييد في مقام الإثبات يستكشف منه
الإطلاق في مقام الثبوت لا محالة، وإلا لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان،
ولا يفرق في ذلك بين أن يلزم من عدم البيان نقض الغرض أم لا، فلا يكون نقض
82

الغرض من إحدى مقدمات الحكمة (1).
ونلخص ما أفاده (قدس سره) في عدة خطوط:
الأول: أن متعلق التكليف إذا كان مقيدا بالقدرة لفظا فالتقييد يكشف عن
دخل القدرة في الملاك واقعا، ضرورة أنه لا معنى لأخذ قيد في متعلق التكليف
إثباتا إذا لم يكن دخيلا في ملاكه ثبوتا.
الثاني: أنه على هذا لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب في
موارد الأمر بالتيمم، لعدم الملاك له في تلك الموارد.
الثالث: أن التقييد الناشئ من قبل حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق
التكليف أو باقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار حيث إنه كان في مرتبة متأخرة
عن وجدان المتعلق للملاك فلا يوجب تقييد المتعلق في مرتبة وجدانه الملاك. إذا
من عدم تقييد المتعلق في تلك المرتبة إثباتا يستكشف منه إطلاقه ثبوتا، وعدم
دخل القدرة في الملاك واقعا.
الرابع: أن المتكلم لا يمكن أن يعتمد في تقييد متعلق حكمه بالقدرة باقتضاء
نفس التكليف ذلك، أو حكم العقل باعتبارها فيه فلا يكون المقام داخلا في كبرى
احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة على الخلاف.
الخامس: أن لزوم نقض الغرض من عدم البيان ليس من إحدى المقدمات
التي يتوقف التمسك بالإطلاق عليها.
ولنأخذ بدرس هذه الخطوط:
أما الخط الأول: فهو في غاية الصحة والمتانة.
وأما الخط الثاني: فالأمر وإن كان كما أفاده (قدس سره) بالإضافة إلى الملاك، إذ أنه
ينتفي بانتفاء القدرة على الفرض فلا يمكن تصحيح العبادة عندئذ بوجدانها
الملاك، إلا أن الأمر ليس كما أفاده بالإضافة إلى الترتب، إذ لا مانع من الالتزام به
في أمثال المقام. وسنتعرض فيما بعد - إن شاء الله تعالى - أنه لا فرق في صحة
الترتب بين كون القدرة مأخوذة في متعلق التكليف شرعا، وكونها معتبرة فيه عقلا،

(1) انتهى ما قاله المحقق النائيني (قدس سره) كما في أجود التقريرات: ج 1 ص 264 - 267.
83

إذ كما يجري الترتب على الثاني كذلك يجري على الأول، فلو كانت وظيفة
المكلف التيمم في مورد - كما في موارد ضيق الوقت أو نحوه - ولكن خالف أمر
التيمم وعصاه فتوضأ أو اغتسل فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من
جهة الترتب، وسيأتي الكلام في ذلك بصورة مفصلة.
وأما الخط الثالث: فإن كان غرضه (قدس سره) من إطلاق المتعلق استكشاف مراد
المتكلم من ظاهر كلامه فلا شبهة في أنه يتوقف على أن يكون المتكلم في مقام
البيان من هذه الجهة. ومن الواضح أن المتكلم ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك
حكمه، بل هو في مقام بيان ما تعلق به حكمه فحسب، بل الغالب في الموالي
العرفية غفلتهم عن ذلك، فضلا عن كونهم في مقام البيان بالقياس إلى تلك الجهة.
إذا لا يمكن التمسك بالإطلاق لإثبات كون الفرد المزاحم تام الملاك، لعدم تمامية
مقدمات الحكمة.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن المولى في مقام البيان من هذه الجهة - أي: ما
يقوم به ملاك حكمه - فأيضا لا يمكن التمسك بإطلاق كلامه، وذلك لأن في الكلام
إذا كان ما يصلح لكونه قرينة فلا ينعقد له ظهور، وفي المقام بما أن حكم العقل
باعتبار القدرة في متعلق التكليف أو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار صالح
للقرينية فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق، لاحتمال أن المتكلم قد اعتمد في
التقييد بذلك.
وعلى الجملة: فيحتمل أن يكون الملاك في الواقع قائما بخصوص الحصة
المقدورة، لا بالجامع بينها وبين غيرها، وعدم تقييد المتكلم متعلق حكمه بها في
مقام الإثبات، لاحتمال أنه قد اعتمد في بيان ذلك على اقتضاء نفس التكليف
ذلك، أو على الحكم العقلي المزبور.
وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) - من أن اقتضاء الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه
أو حكم العقل بذلك يستحيل أن يكون بيانا ومقيدا لإطلاق متعلقه في مرتبة سابقة
عليه، إذا لا معنى لدعوى الإجمال وأن المقام داخل في كبرى احتفاف الكلام بما
يصلح لكونه قرينة على التقييد - لا يمكن تصديقه بوجه.
84

والوجه في ذلك: هو أن انقسام الفعل إلى مقدور وغيره انقسام أولي فلا
يتوقف على وجود الأمر وتحققه في الخارج. وعلى هذا فلا يخلو الأمر: من أن
يكون متعلق التكليف خصوص الحصة المقدورة، أو الجامع بينها وبين غير
المقدورة، إذ الإهمال غير معقول في الواقع.
وعليه فإذا فرضنا أن الثابت على ذمة المكلف خصوص الحصة المقدورة
فإبراز ذلك في الخارج كما يمكن أن يكون بأخذ القدرة في متعلق التكليف لفظا،
أو بقيام قرينة من الخارج على ذلك يمكن أن يكون إبرازه باقتضاء نفس التكليف
ذلك أو الحكم العقلي المزبور، بداهة أنا لا نرى أي مانع من إبرازه بأحدهما، ولا
يلزم منه المحذور الذي توهم في المقام، فإنه لا شأن لاقتضاء نفس التكليف أو
حكم العقل عندئذ إلا مجرد إبراز وإظهار ما اعتبره المولى على ذمة المكلف. ومن
الواضح جدا أنه لا محذور في أن يكون الإبراز بمبرز متأخرا عن المبرز بالفتح،
بل إن الأمر كذلك دائما.
وبتعبير آخر: أنه بناء على وجهة نظره (قدس سره) من أن منشأ اعتبار القدرة في
متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك الاعتبار لا مانع من أن يعتمد
المتكلم في مقام بيان تقييد المأمور به بالقدرة على ذلك، بأن يجعل هذا بيانا لما
اعتبره في ذمة المكلف، وهو الحصة المقدورة وكاشفا عنه، فإذا كان اقتضاء نفس
التكليف أو حكم العقل صالحا لأن يكون قرينة على التقييد يدخل المقام حينئذ
في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح لكونه قرينة فلا ينعقد له ظهور في الإطلاق.
على أن الكاشف عن الملاك في فعل إنما هو تعلق إرادة المولى به واقعا
وجدا، والمفروض في المقام أن الإرادة الجدية متعلقة بالمقيد، لا بالمطلق، إذا
كيف يمكن القول باشتمال المطلق على الملاك كما تقدم (1)؟
وأما بناء على وجهة نظرنا: من أن القدرة لم تعتبر في متعلق التكليف، لا من
جهة حكم العقل، ولا من جهة اقتضاء نفس التكليف ذلك، فإنك قد عرفت أن
التكليف بنفسه لا يقتضي ذلك أصلا، وأما العقل فهو لا يحكم بأزيد من اعتبار

(1) راجع ص 77.
85

القدرة في موضوع حكمه، وهو لزوم الامتثال ووجوبه، لا في موضوع حكم
الشرع ومتعلقه، فلا مقتضي لاعتبار القدرة في متعلق الطلب أصلا.
وعلى هذا الضوء فالصحيح هو الجواب الأول: من أن المتكلم غالبا بل دائما
ليس في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه حتى يمكن التمسك بالإطلاق فيما إذا
شك في فرد أنه واجد للملاك أم لا؟ ومع قطع النظر عن ذلك وفرض أن المتكلم
في مقام البيان حتى من هذه الجهة فلا مانع من التمسك بالإطلاق، إذ قد عرفت أنه
لا حكم للعقل ولا اقتضاء للتكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ليكونا صالحين
للبيان ومانعين عن ظهور اللفظ في الإطلاق.
وعلى كل حال فما أفاده (قدس سره) لا يرجع إلى معنى محصل على وجهة مذهبه.
وأما إذا كان غرضه (قدس سره) من التمسك بالإطلاق كشف الملاك من باب كشف
المعلول عن علته - سواء أكان المولى في مقام البيان من هذه الجهة أم لا، كما هو
صريح كلامه (قدس سره) حيث قال: إن هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في
مقام البيان وعدمه (1) - فيرده: ما ذكرناه عند الجواب عن المحقق صاحب
الكفاية (قدس سره): من أن تعلق الحكم بشئ وإن كان كاشفا عن وجود الملاك فيه بناء
على مذهب العدلية من تبعية الأحكام لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد
الواقعيتين إلا أن ذلك في ظرف تحققه ووجوده. وأما إذا سقط ذلك الحكم فلا
يمكن استكشاف الملاك فيه على تفصيل تقدم هناك، فلا حاجة إلى الإعادة.
ونزيدك هنا إلى ذلك: أن متعلق الحكم على مسلكه (قدس سره) خصوص الحصة
المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها. وعليه فلا يعقل أن يكون الحكم كاشفا عن
وجود الملاك في الأعم منها، بداهة أن المعلول إنما يكشف عن وجود علته بمقدار
سعته دون الزائد. مثلا: الحرارة الناشئة من النار إنما تكشف عنها خاصة، لا عن
مطلق سببها. وقد تقدم أن الكاشف عن وجود ملاك في فعل هو كونه متعلقا لإرادة
المولى واقعا وجدا، ولا أثر لتعلق الإرادة الإنشائية به أصلا.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 269.
86

إذا ما أفاده (قدس سره): من أن هذا الكشف عقلي لا يدور مدار كون المولى في مقام
البيان لا يرجع إلى معنى صحيح، فإن كشف الحكم عن الملاك بمقدار ما تعلق به
دون الزائد، وهذا واضح.
فالنتيجة من جميع ما ذكرناه: أنه لا يتم شئ من هذه الوجوه، وعليه فلا
يمكن تصحيح الفرد المزاحم بالملاك.
وأما الخط الرابع: فقد ظهر فساده مما ذكرناه، فإنه على مسلك شيخنا
الأستاذ (قدس سره) صالح لأن يكون قرينة على التقييد، وعليه فيكون مانعا عن التمسك
بالإطلاق كما عرفت.
نعم، على مسلكنا لا يكون مانعا عنه، فلو كان المولى في مقام البيان من
تلك الناحية فلا مانع من التمسك بإطلاق كلامه لإثبات أن الفرد المشكوك
فيه واجد للملاك.
وأما الخط الخامس: فالأمر كما أفاده (قدس سره)، فإن لزوم نقض الغرض لا دخل له
في مقدمات الحكمة، فإنها تتألف من ثلاث مقدمات لا رابع لها:
إحداها: أن يرد الحكم على المقسم والجامع، لا على حصة خاصة منه.
وثانيتها: أن يكون المتكلم في مقام البيان.
وثالثتها: أن لا ينصب المتكلم قرينة على التقييد، فإذا تمت هذه المقدمات
جاز التمسك بالإطلاق، ولا يتوقف على شئ آخر زائدا عليها، فإنه لو كان مراد
المتكلم في الواقع هو المقيد ومع ذلك لم ينصب قرينة عليه مع فرض كونه في مقام
البيان لزم الخلف وعدم كونه في مقام البيان.
إذا لزوم نقض الغرض من عدم البيان أو عدم لزومه مما لا دخل له في
التمسك بالإطلاق وعدم التمسك به أصلا. هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة.
وأما النقطة الرابعة - وهي: أن النهي الغيري لا يكون مانعا عن صحة العبادة -
فهي في غاية الصحة والمتانة.
والوجه في ذلك: هو أن المانع عن التقرب بالعبادة وصحتها إنما هو النهي
النفسي باعتبار أنه ينشأ عن مفسدة في متعلقه ومبغوضية فيه. ومن الواضح أن
87

المبغوض لا يكون مقربا. وأما النهي الغيري فبما أنه ينشأ عن أمر خارج عن ذات
متعلقه - وهو: كون تركه في المقام مقدمة لواجب مضيق أو ملازما له في الخارج -
فلا يكون مانعا عن صحة العبادة والتقرب بها، لأن متعلقه باق على ما كان عليه من
المحبوبية، ولم تعرض عليه أية حزازة ومنقصة من قبل النهي المتعلق به.
فعلى ضوء ذلك لا مانع من صحة الإتيان بالفرد المزاحم والتقرب به بداعي
الأمر المتعلق بالواجب الموسع، فإن الواجب: هو صرف وجود الطبيعة بين المبدأ
والمنتهى، وهو غير مزاحم بواجب آخر، وما هو مزاحم به غير واجب، إذا يصح
الإتيان به بداعي أمره كما هو الحال على القول بعدم الاقتضاء.
ونتيجة ذلك: هي عدم ظهور الثمرة بين القولين في هذا المقام، أي: فيما إذا
كان التزاحم بين الإتيان بالواجب الموسع ووجوب الواجب المضيق.
ثم إنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن النهي الغيري كالنهي النفسي مانع عن صحة
العبادة والتقرب بها فمع هذا يمكن تصحيحها بما سيجئ من إمكان الأمر
بالضدين على نحو الترتب (1).
ونتائج الأبحاث المتقدمة لحد الآن عدة نقاط:
الأولى: أن ما ذكره شيخنا البهائي (قدس سره): من اشتراط صحة العبادة بتحقق الأمر
بها فعلا لا يمكن المساعدة عليه بوجه كما عرفت.
الثانية: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من التفصيل في منشأ اعتبار القدرة بين
حكم العقل بذلك من باب قبح تكليف العاجز، وبين اقتضاء نفس التكليف ذلك فقد
عرفت أنه لا يمكن تصديقه بوجه.
الثالثة: أنه بناء على القول بأن منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو
اقتضاء نفس التكليف ذلك فقد عرفت أنه لا يقتضي أزيد من كون متعلقه مقدورا
في الجملة في مقابل ما لا يكون مقدورا أصلا.
الرابعة: قد سبق أن التكليف بنفسه لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه، ولا
العقل يحكم بذلك، وإنما يحكم باعتبار القدرة في مقام الامتثال فحسب.

(1) سيأتي تفصيله في ص 102 فانتظر.
88

الخامسة: بطلان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من دعوى القطع
باشتمال الفرد المزاحم على الملاك.
السادسة: بطلان ما هو المشهور: من أن الدلالة الالتزامية لا تتبع الدلالة
المطابقية في الحجية، فلا تسقط بسقوطها.
السابعة: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) - من أن التقييد الناشئ من قبل
اقتضاء نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه أو حكم العقل بذلك بما أنه يكون
في مرتبة لاحقة، وهي: مرتبة تعلق التكليف به وعروضه عليه فلا يعقل أن يكون
مقيدا لإطلاق المتعلق في مرتبة سابقة، وهي: مرتبة اقتضائه للتكليف - فاسد
صغرى وكبرى.
أما الصغرى: فلأن التقييد غير ثابت، لما سبق من أن التكليف لا يقتضي
اعتبار القدرة في متعلقه، والعقل لا يحكم إلا باعتبارها في مقام الامتثال
والإطاعة دون مقام التكليف.
وأما الكبرى: فقد تقدم أنه لا مانع من اعتماد المتكلم في تقييد المتعلق على
اقتضاء نفس التكليف ذلك أو حكم العقل به.
الثامنة: أن الحاكم لا يكون في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه، وإنما يكون
في مقام بيان ما تعلق به حكمه.
التاسعة: أن تعلق الإرادة الإنشائية بشئ لا يكشف عن وجود الملاك فيه،
وإنما الكاشف عنه تعلق الإرادة الجدية به.
العاشرة: أن الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية كما سبق.
الحادية عشرة: أن النهي الغيري لا يكون مانعا عن صحة العبادة والتقرب بها.
الثانية عشرة: أن الثمرة لا تتحقق بين القولين في مزاحمة الواجب الموسع
بالواجب المضيق. هذا تمام كلامنا في المقام الأول.
وأما الكلام في المقام الثاني - وهو: ما إذا كان التزاحم بين واجبين
مضيقين أحدهما أهم من الآخر - فلا يمكن تصحيح الواجب المهم بالأمر،
لاستحالة تعلق الأمر به فعلا مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض، فإنه من التكليف
بالمحال، وهو محال.
89

وبذلك يمتاز هذا المقام عن المقام الأول، حيث إن في المقام الأول كان الأمر
المتعلق بالواجب الموسع والمضيق كلاهما فعليا، ولم يكن تناف بين الأمرين
أصلا، وإنما التنافي كان بين الإتيان بفرد من الواجب الموسع والواجب المضيق.
ومن هنا قلنا: إنه يصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة
الجامعة بين الأفراد العرضية والطولية، حتى على القول باشتراط صحة العبادة
بقصد الأمر المتعلق بها فعلا.
وقد تحصل من ذلك: أن النقطة الرئيسية للفرق بين المقامين هي ما ذكرناه:
من أن تعلق الأمر فعلا بكلا الواجبين في المقام الأول كان ممكنا، ولكنه لا يمكن
في هذا المقام.
وعلى ضوء تلك النقطة لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم
بالأمر الفعلي.
ومن هنا لا يتأتى في هذا المقام ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره) من التفصيل بين
القولين، فإنه مبتن على إمكان تعلق الأمر فعلا بالضد العبادي على القول بعدم
الاقتضاء، وقد عرفت عدم إمكان تعلقه في هذا المقام مطلقا.
وعلى الجملة: فالمقام الثاني يمتاز عن المقام الأول في نقطة، ويشترك معها
في نقطة أخرى. أما نقطة الامتياز فقد عرفت. وأما نقطة الاشتراك فهي أنهما
يشتركان في تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بوجهين آخرين، هما:
القول باشتمالها على الملاك، والقول بصحة الأمر بالضدين على نحو الترتب.
أما الوجه الأول: فقد تقدم الكلام فيه في المقام الأول مفصلا، وقلنا: إنه
لا يمكن إحراز أن الفرد المزاحم تام الملاك، وما ذكروه من الوجوه لإثبات
اشتماله على الملاك قد عرفت فساد جميعها بصورة مفصلة، فلا حاجة إلى الإعادة
مرة أخرى.
وأما الوجه الثاني الذي يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالواجب الأهم به:
هو الالتزام بجواز الأمر بالضدين على نحو الترتب، وتفصيله على الوجه التالي.
90

مسألة الترتب
قبل بيان المسألة نذكر أمورا:
الأول: أن البحث عن هذه المسألة إنما تترتب عليه ثمرة لو يمكن تصحيح
العبادة المضادة للواجب الأهم بالوجهين المتقدمين: 1 - الملاك. 2 - والأمر. وإلا
فلا تترتب على البحث عنها أية ثمرة. وقد ظهر مما تقدم أنه لا يمكن تصحيح
العبادة بالملاك، لا في المقام الأول - وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الإتيان
بالواجب الموسع، ووجوب المضيق - ولا في المقام الثاني وهو ما إذا وقعت
المزاحمة بين واجبين مضيقين، لأن الكبرى - وهي كفاية قصد الملاك في وقوع
الشئ عبادة - وإن كانت ثابتة إلا أن الصغرى - وهي اشتمال تلك العبادة على
الملاك - غير محرزة (1).
وأما تصحيحها بالأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان ممكنا في المقام الأول - كما
سبق، بل قد عرفت أنه غير داخل في كبرى باب التزاحم أصلا (2) - إلا أنه غير
ممكن في المقام الثاني، وذلك لما عرفت من امتناع تعلق الأمر بها فعلا مع فعلية
الأمر بالأهم على الفرض، إذا للبحث عن مسألة الترتب في المقام الثاني وإمكان
تعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم ثمرة مهمة جدا.

(1) سبق ذكره في ص 69 وما بعدها فراجع.
(2) تقدم في ص 64 فراجع.
91

الثاني: أن الواجبين المتزاحمين يتصوران على صور:
الأولى: أن الواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد قد يكونان موسعين
كالصلاة اليومية وصلاة الآيات في سعة وقتهما، أو الصلاة الأدائية مع القضاء على
القول بالمواسعة، ونحو ذلك.
الثانية: أن يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا، وذلك كصلاة الظهر - مثلا -
وإزالة النجاسة عن المسجد، أو ما شاكل ذلك.
الثالثة: أن يكون كلاهما مضيقين، وذلك كالإزالة والصلاة في آخر وقتها
بحيث لو اشتغل بالإزالة لفاتته الصلاة.
أما الصورة الأولى: فلا شبهة في أنها غير داخلة في كبرى باب التزاحم،
لتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون أية منافاة ومزاحمة،
ويكون الأمر في كل واحد منهما فعليا بلا تناف، ومن هنا لم يقع إشكال في ذلك
من أحد فيما نعلم.
وأما الصورة الثانية: فقد ذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى أنها داخلة في مسألة
التزاحم (1). وغير خفي أن هذا منه (قدس سره) مبني على ما حققه في بحث التعبدي
والتوصلي: من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فكل
مورد لا يكون قابلا للتقييد لا يكون قابلا للإطلاق، فإذا كان التقييد مستحيلا في
مورد كان الإطلاق أيضا مستحيلا فيه، لأن استحالة أحدهما تستلزم استحالة
الآخر (2). وبما أن فيما نحن فيه تقييد إطلاق الواجب الموسع بخصوص الفرد
المزاحم مستحيل فإطلاقه بالإضافة إليه أيضا مستحيل.
ويترتب على ذلك وقوع المزاحمة بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب
الواجب المضيق فلا يمكن الجمع بينهما، إذ على تقدير فعلية خطاب الواجب
المضيق يستحيل إطلاق الواجب الموسع بالإضافة إلى الفرد المزاحم.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 336 و 373.
(2) المصدر السابق: ص 146.
92

إذا لابد: إما أن ترفع اليد عن إطلاق الموسع والتحفظ على فعلية خطاب
المضيق، وإما أن ترفع اليد عن خطاب المضيق والتحفظ على إطلاق الموسع.
فالنتيجة: أن هذا القسم داخل في محل النزاع كالقسم الثالث، غاية الأمر أن
التزاحم في القسم الثالث بين نفس الخطابين والتكليفين، وفي هذا القسم بين
إطلاق أحدهما وخطاب الآخر. وعلى هذا فإن أثبتنا الأمر بالضدين على نحو
الترتب نحكم بصحة الفرد المزاحم، وإلا فلا. نعم، بناء على ما ذكره (قدس سره) من اشتماله
على الملاك (1) صح الإتيان به من هذه الناحية أيضا، من غير حاجة إلى الالتزام
بصحة الترتب.
وأما بناء على ما حققناه في ذلك البحث: من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد
ليس من تقابل العدم والملكة، بل هو من تقابل التضاد، ومن هنا قلنا: إن استحالة
تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الإطلاق أو التقييد
بخلاف ذلك القيد ضروريا (2)، فتلك الصورة خارجة عن محل النزاع وغير داخلة
في كبرى باب التزاحم.
والوجه في ذلك: ما ذكرناه غير مرة: من أن معنى الإطلاق هو رفض القيود،
وعدم دخل شئ منها في متعلق الحكم واقعا، لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه،
وعليه فمعنى إطلاق الواجب الموسع: هو أن الواجب صرف وجوده الجامع بين
المبدأ والمنتهى، وعدم دخل شئ من خصوصيات وتشخصات أفراده فيه، فالفرد
غير المزاحم كالفرد المزاحم في عدم دخله في متعلق الوجوب وملاكه أصلا، فهما
من هذه الجهة على نسبة واحدة (3).
أو فقل: إن متعلق الحكم في الواقع: إما مطلق، بمعنى عدم دخل شئ من
الخصوصيات فيه واقعا من الخصوصيات المنوعة أو المصنفة أو المشخصة،
أو مقيد بإحداها، فلا ثالث، لاستحالة الإهمال في الواقعيات، فالملتفت إلى هذه

(1) تقدم ما نقلناه عنه في ص 79.
(2) تقدم في ج 2 ص 176.
(3) منها: ما تقدم في ج 2 ص 173 وهنا في ص 61.
93

الخصوصيات والانقسامات: إما أن يلاحظه مطلقا بالإضافة إليها، أو مقيدا بها،
لأن الإهمال في الواقع غير معقول، فلا يعقل أن يكون في الواقع لا مطلقا ولا مقيدا.
وعلى هذا فمعنى إطلاق الواجب المزبور: هو عدم دخل شئ من تلك
الخصوصيات فيه، بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج عاريا عن
جميع الخصوصيات والمشخصات المزبورة لكان مجزيا، لأنه أتى بالمأمور به في
الخارج، وهذا معنى الإطلاق كما ذكرناه في بحث تعلق الأوامر بالطبائع (1).
ونتيجة ذلك: هي أن الواجب الموسع مطلق بالإضافة إلى الفرد المزاحم، كما
هو مطلق بالإضافة إلى غيره من الأفراد.
وعلى ذلك الأساس فلا تنافي بين إطلاق الموسع وفعلية خطاب المضيق.
ومن هنا ذكرنا سابقا: أنه لا منافاة بين وجوب الصلاة - مثلا - في مجموع وقتها،
وهو ما بين الزوال والمغرب وبين وجوب واجب آخر، كإنقاذ الغريق أو إزالة
النجاسة عن المسجد في بعض ذلك الوقت، إذ المفروض أن الوجوب تعلق بصرف
وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة، لا في كل زمان من تلك الأزمنة لينافي
وجوب واجب آخر في بعضها.
فالنتيجة: أنه لا مضادة ولا ممانعة بين إطلاق الموسع ووجوب المضيق أصلا،
ولذلك صح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الواجب،
فلا حاجة عندئذ إلى القول بالترتب أصلا، فإذا لا وجه لدخول هذا القسم في
محل الكلام والنزاع. وقد تقدم الحديث من هذه الناحية بصورة أوضح من ذلك،
فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما الصورة الثالثة - وهي ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين أحدهما
أهم من الآخر - فهي القدر المتيقن من مورد النزاع والكلام بين الأصحاب
كما هو ظاهر.

(1) سوف يأتي تفصيله في ج 4 أواخر بحث أمر الآمر.
94

الثالث: أن مسألة الترتب من المسائل العقلية فإن البحث فيها عن الإمكان
والاستحالة، بمعنى: أن الأمر بالضدين على نحو الترتب هل هو ممكن أم لا؟ ومن
الواضح جدا أن الحاكم بالاستحالة والإمكان هو العقل لا غيره، ولا دخل للفظ في
ذلك أبدا.
الرابع: أن إمكان تعلق الأمر بالضدين على طريق الترتب كاف لوقوعه في
الخارج فلا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر.
والوجه في ذلك: هو أن تعلق الأمر بالمتزاحمين فعلا على وجه الإطلاق غير
معقول، لأنه تكليف بما لا يطاق وهو محال، ضرورة استحالة الأمر بإزالة النجاسة
عن المسجد والصلاة معا في آخر الوقت، بحيث لا يقدر المكلف إلا على إتيان
إحداهما. ولكن هذا المحذور - أي لزوم التكليف بالمحال - كما يندفع برفع اليد
عن أصل الأمر بالواجب المهم سواء أأتى بالأهم أم لا كذلك يندفع برفع اليد عن
إطلاق الأمر به، إذا يدور الأمر بين أن ترفع اليد عن أصل الأمر بالمهم على تقدير
امتثال الأمر بالأهم، وعلى تقدير عصيانه، وأن ترفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله،
يعني على تقدير الامتثال، لا على تقدير العصيان.
ومن الواضح جدا أن المحذور في كل مورد إذا كان قابلا للدفع برفع اليد عن
إطلاق الأمر فلا موجب لرفع اليد عن أصله فإنه بلا مقتض، وهو غير جائز. وفي
المقام بما أن المحذور المزبور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم فلا مقتضى
لرفع اليد عن أصله أصلا، إذ الضرورة تتقدر بقدرها، وهي لا تقتضي أزيد من رفع
اليد عن إطلاقه، وعليه فالالتزام بسقوط الأمر عنه رأسا بلا مقتض وسبب، وهو
غير ممكن.
وبتعبير ثان: أن المكلف لا يخلو من أن يكون عاصيا للأمر بالأهم، أو مطيعا
له، ولا ثالث، وسقوط الأمر بالمهم على الفرض الثاني - وهو فرض إطاعة الأمر
بالأهم - واضح، وإلا لزم المحذور المتقدم. وأما سقوطه على الفرض الأول - وهو
فرض عصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه - فهو بلا سبب يقتضيه، فإن
95

محذور لزوم التكليف بما لا يطاق يندفع بالالتزام بالسقوط على فرض الإطاعة
والامتثال، فلا وجه للالتزام بسقوطه على الإطلاق.
وعلى الجملة: أن وقوع الترتب بعد الالتزام بإمكانه لا يحتاج إلى دليل، فإذا
بنينا على إمكانه فهو كاف في وقوعه، فمحط البحث في المسألة إنما هو عن جهة
إمكان الترتب واستحالته.
الخامس: ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن الترتب لا يجري فيما إذا كان أحد
التكليفين مشروطا بالقدرة عقلا والتكليف الآخر مشروطا بالقدرة شرعا.
وقال في وجه ذلك: إن التكليف المتعلق بالمهم المترتب على عصيان
التكليف بالأهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجدا للملاك. والطريق
إلى إحراز اشتماله على الملاك والكاشف عنه إنما هو إطلاق المتعلق، فإذا فرضنا
أن المتعلق مقيد بالقدرة شرعا، سواء كان التقييد مستفادا من قرينة متصلة
أو منفصلة أو كان مأخوذا في لسان الدليل لفظا لم يبق للتكليف بالمهم محل
ومجال أصلا.
ورتب (قدس سره) على ذلك: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم،
لا بالملاك ولا بالترتب، وذلك لأن الأمر بالوضوء في الآية المباركة مقيد
بالقدرة من استعمال الماء شرعا، وهذا التقييد قد استفيد من تقييد وجوب التيمم
فيها بعدم وجدان الماء فإن التفصيل في الآية المباركة (1) وتقييد وجوب التيمم
بعدم الوجدان يقطع الشركة، ويدل على أن وجوب الوضوء أو الغسل مقيد
بوجدان الماء.
ثم إن المراد من الوجدان من جهة القرينة الداخلية والخارجية: التمكن من
استعمال الماء عقلا وشرعا.
أما القرينة الداخلية: فهي ذكر المريض في الآية المباركة. ومن المعلوم أن
المرض ليس من الأسباب التي تقتضي عدم وجود الماء وفقدانه، وليس حاله

(1) أي: الآية: 6 من سورة المائدة.
96

كحال السفر، فإن السفر - ولا سيما إذا كان في البوادي، ولا سيما في الأزمنة
السابقة - من أسباب عدم الماء غالبا، وهذا بخلاف المرض، فإن الغالب أن الماء
يوجد عند المريض ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلا أو شرعا.
وأما القرينة الخارجية: فهي عدة من الروايات الدالة على جواز التيمم في
موارد الخوف من استعمال الماء أو من تحصيله (1). والمفروض في تلك الموارد
وجود الماء خارجا وتمكن المكلف من استعماله عقلا، إذا المراد من وجدان
الماء: وجوده الخاص، وهو الذي يقدر المكلف على صرفه في الوضوء أو الغسل
عقلا وشرعا.
فالنتيجة على ضوء ذلك: هي أن تقييد وجوب التيمم بعدم التمكن من
استعمال الماء عقلا وشرعا يقتضي التزاما تقييد وجوب الوضوء أو الغسل بالتمكن
من استعماله كذلك، ولأجل ذلك التزم (قدس سره) بأنه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء في
مواضع الأمر بالتيمم، كما إذا كان عند المكلف ماء ولكنه لا يكفي للوضوء ولرفع
عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معا ففي مثل ذلك يجب عليه التيمم
وصرف الماء في رفع عطش نفسه، أو من هو مشرف على الهلاك. أو إذا دار أمره
بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في تطهير الثوب أو البدن بأن
لا يكون عنده ثوب طاهر فيدور الأمر بين أن يصلي في الثوب أو البدن الطاهر
مع الطهارة الترابية، وأن يصلي في الثوب أو البدن المتنجس مع الطهارة المائية
وغير ذلك.
ففي هذه الفروع وما شاكلها لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو
الترتب.
أما بالملاك: فواضح، ضرورة أنه لا ملاك لوجوب الوضوء أو الغسل في شئ
من هذه الموارد، لفرض أن القدرة مأخوذة في متعلقه شرعا، ودخيلة في ملاكه
واقعا، ومع انتفاء القدرة ينتفي الملاك لا محالة.

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 346 ب 5 من أبواب التيمم و ب 2 ص 342.
97

وأما بالترتب: فلأن الوضوء إذا لم يكن فيه ملاك عند مزاحمته مع الواجب
المشروط بالقدرة عقلا فعصيان ذلك الواجب لا يحدث فيه مصلحة وملاكا، وعلى
هذا فيمتنع تعلق الأمر به، لاستحالة تعلق الأمر بشئ بلا ملاك ولو كان على نحو
الترتب، بداهة أنه لا فرق في استحالة تعلق الأمر بشئ بلا ملاك بين أن يكون
ابتداء وأن يكون على نحو الترتب.
ثم قال (قدس سره): ومن هنا أن شيخنا العلامة الأنصاري والسيد العلامة الميرزا
الكبير الشيرازي (قدس سرهما) لم يفتيا بصحة الوضوء في تلك الموارد، مع أنهما يريان
صحة الترتب (1).
نعم، قد أفتى السيد العلامة الطباطبائي في العروة بصحة هذا الوضوء في
مفروض الكلام، ولكن هذا غفلة منه (قدس سره) عن حقيقة الحال.
أقول: للنظر فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع. والوجه في ذلك: هو أنه لا بد من
التفصيل بين المثالين المذكورين، فما كان من قبيل المثال الأول فلا مانع من
الالتزام بالترتب فيه، وما كان من قبيل المثال الثاني فلا، وذلك لا من ناحية ما
ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)، بل من ناحية أخرى ستظهر لك إن شاء الله.
أما المثال الأول وما شاكله: فلأن المانع منه ليس إلا توهم أنه لا ملاك
للوضوء أو الغسل في هذه الموارد. وعليه فلا يمكن تعلق الأمر به ولو على نحو
الترتب، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك.
ولكنه يندفع: بأن القول بجواز تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب
لا يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلا بتعلق
الأمر به، فلو توقف تعلق الأمر به على إحرازه لدار، ولا يفرق في ذلك بين أن
يكون الواجب المهم مشروطا بالقدرة عقلا، وأن يكون مشروطا بها شرعا، وذلك

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 310. هذا نص كلامه في الأجود في المقام: مع أن الأول
منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة والثاني يرى جواز الخطاب الترتبي.
98

لما تقدم: من أنه لا يمكن إحراز الملاك إلا من ناحية الأمر (1)، فلو تم هذا التوهم
لكان مقتضاه عدم جريان الترتب مطلقا، حتى في الواجب المشروط بالقدرة عقلا.
إذا الصحيح: هو عدم الفرق في صحة الترتب وإمكانه بين أن يكون الواجب
مشروطا بالقدرة عقلا أو مشروطا بها شرعا.
والوجه في ذلك: هو أن مبدأ إمكان الترتب نقطة واحدة، وهي: أن تعلق الأمر
بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم لا يقتضي طلب الجمع بين الضدين ليكون
محالا، بل يقتضي الجمع بين الطلبين في زمان واحد، ولا مانع منه أصلا إذا كان
المطلوب في أحدهما مطلقا، وفي الآخر مقيدا بعدم الإتيان به، ومترتبا عليه على
نحو لو تمكن المكلف من الجمع بينهما في الخارج وإيجادهما معا فيه لم يقعا على
صفة المطلوبية، ولذا لو أتى بهما بقصد الأمر والمطلوبية لكان ذلك تشريعا
ومحرما. وسيجئ الكلام من هذه الجهة - إن شاء الله تعالى - بصورة مفصلة (2).
وعلى ضوء ذلك لا يفرق بين ما إذا كانت القدرة مأخوذة في المهم عقلا، وما
إذا كانت مأخوذة فيه شرعا، فإن ملاك صحة الترتب - وهو عدم التنافي بين الأمر
بالأهم والأمر بالمهم إذا كانا طوليين - مشترك فيه بين التقديرين، فإذا لم يكن
الأمر بالأهم مانعا عن الأمر بالمهم - لا عقلا ولا شرعا إذا كان في طوله - فلا مانع
من الالتزام بتعلق الأمر به على نحو الترتب ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية.
وعليه يترتب: أن المكلف إذا لم يصرف الماء في واجب أهم وعصى أمره فلا
مانع من تعلق الأمر بالوضوء أو الغسل لتحقق موضوعه في الخارج، وهو كونه
واجدا للماء ومتمكنا من استعماله عقلا وشرعا. أما عقلا فهو واضح. وأما شرعا
فلأن الأمر بالأهم على تقدير عصيانه لا يكون مانعا.
أو فقل: إن مقتضى إطلاق الآية المباركة أو نحوها: أن الوضوء أو الغسل
واجب، سواء أكان هناك واجب آخر أم لا، غاية الأمر أنه إذا كان هناك واجب
آخر يزاحمه يسقط إطلاق وجوبه لا أصله، إذ أن منشأ التزاحم هو إطلاقه،

(1) راجع ص 69.
(2) سيأتي تفصيله في ص 114 - 119.
99

فالساقط هو دون أصل وجوبه الذي هو مشروط بعدم الإتيان بالأهم ومترتب
عليه، لعدم التنافي بينه وبين وجوب الأهم كما عرفت، وعليه فلا موجب لسقوطه
أصلا.
وقد تحصل من ذلك: أن دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة
مأخوذة في الواجب المهم شرعا تبتنى على الالتزام بأمرين:
الأول: دعوى أن الترتب يتوقف على أن يكون المهم واجدا للملاك مطلقا،
حتى في حال المزاحمة، أعني بها: حال وجود الأمر بالأهم. ومن المعلوم أن هذا
إنما يحرز فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في المهم عقلية. وأما إذا كانت شرعية
فبانتفاء القدرة - كما في موارد الأمر بالأهم - ينتفي ملاك الأمر بالمهم لا محالة،
ومعه لا يجري الترتب.
الثاني: دعوى أن الأمر بالأهم مانع عن الأمر بالمهم ومعجز عنه شرعا، حتى
في حال عصيانه وعدم الإتيان بمتعلقه. ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين.
أما الدعوى الأولى: فلما سبق من أن الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في
المهم، فإنك قد عرفت أنه لا يمكن إحرازه فيه مع سقوط الأمر، حتى فيما إذا
كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية فضلا عما إذا كانت شرعية.
فبالنتيجة: أنه لا فرق في جريان الترتب بين ما كانت القدرة معتبرة فيه عقلا،
وما كانت معتبرة شرعا، فلو كان الترتب متوقفا على إحراز الملاك في المهم لم
يمكن الالتزام به على كلا التقديرين.
وأما الدعوى الثانية: فقد عرفت أنه لا تنافي بين الأمرين أصلا إذا كان الأمر
بالمهم مشروطا بعدم الإتيان بالأهم وعصيان أمره، بل بينهما كمال الملاءمة، فلو
كان بين الأمرين تناف في هذا الفرض - أعني فرض الترتب - فلا يمكن الالتزام
به مطلقا، حتى فيما إذا كان اعتبار القدرة فيه عقليا.
100

فقد تبين من مجموع ما ذكرناه: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) لا يمكن
المساعدة عليه. هذا تمام كلامنا في المثال الأول وما شاكله.
وأما المثال الثاني وما يشبهه - وهو: ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في
الوضوء أو الغسل وصرفه في تطهير الثوب أو البدن، كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجسا
ولم يكن عنده من الماء بمقدار يكفي لكلا الأمرين من رفع الحدث والخبث معا -
فلا يجري فيه الترتب، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن
التزاحم لا يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا والآخر
مشروطا بها عقلا، وبما أن وجوب الوضوء في المقام مشروط بالقدرة شرعا
ووجوب إزالة الخبث عن البدن أو الثوب مشروط بها عقلا فلا تزاحم بينهما، لعدم
ملاك للوضوء في أمثال هذه الموارد، وذلك لما تقدم من أن ما أفاده (قدس سره) غير تام،
بل من جهة أن هذا وغيره من الأمثلة غير داخل في كبرى التزاحم، ولا يجري
عليه شئ من أحكامه. وسنتعرض له فيما بعد - إن شاء الله تعالى - بشكل واضح.
وملخصه: أن التزاحم إنما يجري بين واجبين نفسيين: كالصلاة والإزالة
- مثلا - أو ما شاكلهما. وأما بين أجزاء واجب واحد فلا يعقل فيه التزاحم، لأن
الجميع واجب بوجوب واحد، وذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك
الأجزاء لا محالة، فإذا تعذر أحد جزءيه يسقط الوجوب عن الكل بمقتضى
القاعدة الأولية. إذا ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل، وقد دل الدليل في
باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الإتيان بالباقي، وعندئذ يعلم إجمالا
بجعل أحد هذين الجزءين أو الشرطين في الواقع. إذا يقع التعارض بين دليلي
الجزءين أو الشرطين، إذ لم يعلم أن أيهما مجعول في الواقع، فلا مجال لتوهم
جريان أحكام التزاحم حينئذ أصلا.
ثم إنه لا يخفى أن ما نسب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى السيد العلامة الطباطبائي (قدس سره)
في العروة: من أنه قد حكم بصحة الوضوء في هذا الفرع لا واقع له، فإن السيد
101

قد حكم ببطلان الوضوء في هذا الفرع، حيث قال: (والأولى أن يرفع الخبث أولا،
ثم يتيمم ليتحقق كونه فاقدا للماء حال التيمم، وإذا توضأ أو اغتسل والحال هذا
بطل، لأنه مأمور بالتيمم، ولا أمر بالوضوء أو الغسل) (1).
وقد تلخص: أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل من ناحية الأمر الضمني
في المثال، لعدم جريان قاعدة الترتب بالإضافة إليه. ولا من ناحية الملاك، لعدم
إمكان إحرازه.
نعم، يمكن تصحيحه بوجه آخر، وهو: أن الوضوء أو الغسل بما أنه عبادة في
نفسها ومتعلق لأمر نفسي استحبابي سواء أكان مقدمة لواجب كالصلاة أو نحوها أم
لم يكن، ولذلك قلنا: إنه يعتبر في صحته قصد القربة. وعلى ذلك فلا مانع من
الالتزام بتعلق أمره الاستحبابي النفسي به من جهة الترتب، وسيجئ فيما بعد - إن
شاء الله تعالى - أنه لا فرق في جريان الترتب على القول بإمكانه بين الأمر
الوجوبي والأمر الاستحبابي، فكما أن الترتب يجري في مزاحمة واجب مع
واجب أهم فكذلك يجري في مزاحمة مستحب مع واجب (2)، غاية الأمر أن
إطلاق الأمر الاستحبابي قد سقط حين المزاحمة، ولكن لا مانع من الالتزام بثبوت
أصله على تقدير عدم الإتيان بالواجب ومخالفة أمره، إذ لا تنافي بين الأمرين
حينئذ، فرفع اليد عن أصل الأمر الاستحبابي بلا موجب.
ونتيجة ذلك: هي أن ملاك صحة الترتب وإمكانه - وهو عدم التنافي بين
الأمرين، وأن الساقط هو إطلاق الخطاب دون أصله - مشترك فيه بين الأمر
الوجوبي والاستحبابي. ومن هنا ذكرنا في حاشية العروة: أن الأقوى صحة
الوضوء أو الغسل في هذا الفرع وما يشبهه (3).
وبعد بيان ذلك نقول: إن مسألة الترتب ليست من المسائل المعنونة في كلمات

(1) العروة الوثقى: ج 1 ص 478 فصل (1) من أحكام التيمم مسألة (22).
(2) سيأتي بيانه في ص 179 فانتظر.
(3) العروة الوثقى: ج 1 ص 478 فصل (1) من أحكام التيمم المسألة (22).
102

الأصحاب إلى زمان الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره)، وهو أول من تعرض لهذه
المسألة (1)، ولكن المسألة في زماننا هذا قد أصبحت معركة للآراء بين المحققين
من الأصحاب:
فمنهم من ذهب إلى صحة تلك المسألة وإمكانها، كالسيد الكبير العلامة
الميرزا الشيرازي (قدس سره) (2) وأكثر تلامذته.
ومنهم: من ذهب إلى استحالتها، كشيخنا العلامة الأنصاري (3)، والمحقق
صاحب الكفاية (4) (قدس سرهما).
فالمتحصل من ذلك: هو أن المسألة ذات قولين:
أحدهما: إمكان الترتب وتعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم.
وثانيهما: استحالة ذلك وعدم إمكان تعلق الأمر به على هذا التقدير.
والصحيح هو القول الأول.
أدلة إمكان الترتب
الوجدان:
إن كل من رجع إلى وجدانه وشهد صفحة نفسه مع الإغماض عن أية شبهة ترد
عليها لا يرى مانعا من تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب، فلو كان هذا محالا
- كاجتماع الضدين أو النقيضين وما شاكلهما - لم يصدق الوجدان ولا العقل إمكانه.
الدليل الإني:
لا إشكال في وقوع ترتب أحد الحكمين على عصيان الحكم الآخر في
موارد الخطابات العرفية، وفي جملة من المسائل الفقهية. ومن الواضح جدا أن

(1) كشف الغطاء: ص 27 البحث الثامن عشر من المقدمة في مباحث الأصول.
(2) نسب القول إليه المحقق الخراساني (قدس سره) في الكفاية: ص 168.
(3) انظر مطارح الأنظار: ص 57 و 123.
(4) كفاية الأصول: ص 166.
103

وقوع شئ أكبر برهان على إمكانه، وأدل دليل عليه، وليس شئ أدل من ذلك،
ضرورة أن المحال لا يقع في الخارج، فلو كان هذا محالا استحال وقوعه خارجا،
فمن وقوعه يكشف إمكانه وعدم استحالته بالضرورة.
أما في موارد الخطابات العرفية فهو في غاية الكثرة. منها: ما هو المتعارف
في الخارج من أن الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة، وعلى تقدير عصيانه
يأمره بالجلوس في الدار - مثلا - والكتابة فيها، أو بشئ آخر. فالأمر بالجلوس
مترتب على عصيان الأمر بالذهاب. وكذلك المولى يأمر عبده بشئ وعلى تقدير
عصيانه وعدم إتيانه به يأمره بأحد أضداده، وهكذا...
وعلى الجملة: فالأمر بالضدين على نحو الترتب من الموالي العرفية بالإضافة
إلى عبيدهم، ومن الآباء بالإضافة إلى أبنائهم مما لا شبهة في وقوعه خارجا، بل
وقوع ذلك في أنظارهم من الواضحات الأولية، فلا يحتاج إلى إقامة برهان
ومؤونة استدلال.
وأما في المسائل الفقهية ففروع كثيرة لا يمكن للفقيه إنكار شئ منها، نذكر
جملة منها في المقام:
الأول: ما إذا وجبت الإقامة على المسافر في بلد مخصوص، وعلى هذا
فإن قصد الإقامة في ذلك البلد وجب عليه الصوم لا محالة إذا كان قصد
الإقامة قبل الزوال ولم يأت بمفطر قبله. وأما إذا خالف ذلك وترك قصد الإقامة
فيه فلا إشكال في وجوب الإفطار وحرمة الصوم عليه. وهذا هو عين الترتب
الذي نحن بصدد إثباته، إذ لا نعني به إلا أن يكون هناك خطابان فعليان متعلقان
بالضدين على نحو الترتب، بأن يكون أحدهما مطلقا والآخر مشروطا بعصيانه،
وفيما نحن فيه كذلك، فإن وجوب الإفطار وحرمة الصوم مترتب على عصيان
الأمر بقصد الإقامة الذي هو مضاد له، أي: الإفطار، ولا يمكن لأحد أن يلتزم
في هذا الفرض بعدم جواز الإفطار ووجوب الصوم عليه، فإنه في المعنى إنكار
لضروري من الضروريات الفقهية.
104

الثاني: ترتب وجوب تقصير الصلاة على عصيان الأمر بقصد الإقامة وتركه
في الخارج، ولا يفرق في ترتب وجوبه عليه بين أن يكون ترك قصد الإقامة قبل
الزوال أو بعده، وبذلك تمتاز الصلاة عن الصوم كما عرفت.
الثالث: ما إذا حرمت الإقامة على المسافر في مكان مخصوص، فعندئذ كما
أنه مكلف بترك الإقامة في هذا المكان وهدم موضوع وجوب الصوم كذلك هو
مكلف بالصوم على تقدير قصد الإقامة وعصيان الخطاب التحريمي، فالخطاب
التحريمي المتعلق بقصد الإقامة خطاب مطلق وغير مشروط بشئ، والوجوب
المتعلق بالصوم وجوب مشروط بعصيان ذلك الخطاب، وعليه فلو عصى المكلف
ذلك الخطاب وقصد الإقامة فيه فلا مناص من الالتزام بوجوب الصوم عليه. ومن
الواضح جدا أن القول بوجوبه لا يمكن إلا بناء على صحة الترتب، فلو لم نقل
بترتب وجوب الصوم على عصيان الخطاب بترك الإقامة فلازمه الالتزام بعدم
وجوبه عليه، وهو خلاف الضرورة.
الرابع: ترتب وجوب إتمام الصلاة على عصيان حرمة قصد الإقامة، والكلام
فيه يظهر مما تقدم.
فالنتيجة: فعلية كلا الحكمين في هذه الفروعات وما شاكلها، غاية الأمر أن
أحدهما مطلق، والآخر مشروط بعصيانه وعدم الإتيان بمتعلقه، إذا الالتزام بتلك
الفروعات بعينه هو التزام بالترتب لا محالة.
نعم، فيما إذا حدث الأمر بشئ بعد سقوط الأمر بضده - كما في موارد الأمر
بالقضاء - فهو خارج عن محل الكلام، فإن محل الكلام فيما إذا كان كلا الحكمين
فعليا في زمان واحد، غاية ما في الباب كان أحدهما مطلقا، والآخر مشروطا.
وأما تعلق الأمر بشئ بعد سقوط الأمر بضده بحيث لا يجتمعان في زمان
واحد فلا كلام في صحته وجوازه، والأمر المتعلق بقضاء الصلاة ونحوها بالإضافة
إلى الأمر بأدائها من هذا القبيل فلا يجتمعان في زمان واحد.
أو فقل: إن ما هو محل الكلام هو تقارن الأمرين زمانا، وتقدم أحدهما على
105

الآخر رتبة، ففرض تعلق الخطاب بالمهم بعد سقوط الخطاب عن الأهم خارج
عن مورد النزاع تماما، فيكون نظير تعلق الأمر بالطهارة الترابية بعد سقوط الأمر
عن الطهارة المائية.
الدليل اللمي:
إن بيان إمكان الترتب وتعيين مورد البحث يتوقف على التكلم في جهات:
الجهة الأولى: في بيان أمور:
الأول: أن الواجب الأهم إذا كان آنيا غير قابل للدوام والبقاء - وذلك كإنقاذ
الغريق مثلا أو الحريق أو ما يشبهه - ففي مثل ذلك لا يتوقف تعلق التكليف بالمهم
على القول بجواز الترتب وإمكانه، ضرورة أنه بعد عصيان المكلف الأمر بالأهم
في الآن الأول القابل لإيجاد الأهم فيه وسقوط أمره في الآن الثاني بسقوط
موضوعه لا مانع من فعلية الأمر بالمهم على الفرض، إذ المفروض أن المانع منه
هو فعلية الأمر بالأهم، وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم
أصلا، فحينئذ يصح الإتيان بالمهم، ولو بنينا على استحالة الترتب لما عرفت من أن
جواز تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات.
ومن ذلك يعلم: أن هذا الفرض خارج عن محل الكلام ومورد النزاع، فإن
ما هو مورد النزاع والكلام بين الأعلام والمحققين هو ما لا يمكن إثبات
فعلية الأمر بالمهم إلا بناء على القول بالترتب، ومع قطع النظر عنه يستحيل فعلية
أمره والحكم بصحته.
نعم، في الآن الأول - وهو الآن القابل لتحقق الأهم فيه خارجا - لا يمكن
تعلق الأمر بالمهم فعلا، والحكم بصحته بناء على القول باستحالة الترتب.
وأما في الآن الثاني - وهو الآن الساقط فيه الأمر بالأهم - فلا مانع من تعلق
الأمر به ووقوعه صحيحا. وأما بناء على إمكانه فالالتزام بترتب الأمر بالمهم على
عصيان الأمر بالأهم إنما يجدي في خصوص الآن الأول دون بقية الآنات،
106

إذ لا تتوقف فعلية أمره فيها على القول بجواز الترتب كما عرفت.
نعم، إذا كان الواجب المهم أيضا آنيا فحينئذ يدخل ذلك في محل الكلام، إذ
فعلية الأمر بالمهم عندئذ والحكم بصحته تتوقف على القول بالترتب. وأما على
القول بعدمه فلا يمكن إثبات الأمر به: أما في الآن الأول فلمزاحمته بالأهم، وأما
في الآن الثاني فلانتفائه بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة من ذلك: أن الواجب الأهم إذا كان آنيا دون الواجب المهم - فحيث
إن إثبات الأمر بالمهم بمكان من الوضوح، مع قطع النظر عن صحة الترتب وعدم
صحته، ولا يتوقف إثبات الأمر به على القول بجوازه - فهو خارج عن محل
الكلام، فإن ما كان محلا للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر به مع قطع
النظر عنه.
الثاني: أن كلا من الواجب الأهم والمهم إذا كان آنيا - بمعنى: أن يكون في
الآن الأول قابلا للتحقق والوقوع في الخارج، ولكنه في الآن الثاني يسقط بسقوط
موضوعه - فهو داخل في محل الكلام، ولا يمكن إثبات الأمر بالمهم فيه إلا على
القول بصحة الترتب.
الثالث: أن الواجب الأهم والمهم إذا كان كلاهما تدريجيا: كالصلاة
والإزالة - مثلا - عندما تقع المزاحمة بينهما فلا إشكال في أنه داخل في محل
الكلام.
وعليه فإن قلنا بأن الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو معصية الأمر بالأهم آنا ما
- بمعنى: أن معصية الأهم في الآن الأول كافية لفعلية الأمر بالمهم في جميع أزمنة
امتثاله - فلا تتوقف فعليته في الآن الثاني على استمرار معصيته الأمر بالأهم إلى
ذلك الآن، بل لو تبدلت معصيته بالإطاعة في الزمن الثاني كان الأمر بالمهم باقيا
على فعليته لفرض تحقق شرطه، وهو معصية الأمر بالأهم في الآن الأول، فهو
مستلزم لطلب الجمع بين الضدين لا محالة، ولعل هذا هو مورد نظر المنكرين
107

للترتب، كما يظهر ذلك من بعض موارد الكفاية (1).
لكن ذلك ليس مراد القائلين بالترتب أصلا، فإن محذور طلب الجمع بين
الضدين على هذا الوجه باق بحاله، وذلك لأن المفروض أن الأمر بالأهم في الآن
الثاني باق على فعليته من جهة فعلية موضوعه، وهو قدرة المكلف على امتثاله بأن
يرفع اليد عن المهم ويمتثل الأمر بالأهم، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر بالمهم أيضا فعلي في ذلك الآن، وليست فعليته
مشروطة بعصيان الأمر بالأهم فيه، لفرض أن شرطها - وهو عصيانه في الآن
الأول - قد تحقق في الخارج، ولم تتوقف فعليته في الآن الثاني والثالث، وهكذا
على استمرار عصيانه كذلك.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن كلا من الأمر بالأهم والأمر
بالمهم فعلي في الآن الثاني، وفي عرض الآخر، وعليه فيلزم محذور طلب الجمع
بين الضدين.
وأما إذا قلنا: بأن شرط فعلية الأمر بالمهم عصيان الأمر بالأهم في جميع
أزمنة امتثاله، بمعنى: أن فعليته تدور مدار عصيانه حدوثا وبقاء فلا يكفي عصيانه
آنا ما، لبقاء أمره إلى الجزء الأخير منه، ففعلية الأمر بالصلاة - مثلا - عند مزاحمتها
بالإزالة مشروطة ببقاء عصيان أمر الإزالة واستمراره إلى آخر أزمنة امتثال الصلاة،
وبانتفائه في أي وقت كان ينتفي الأمر بالصلاة، ضرورة أن بقاء أمر المهم منوط
ببقاء موضوعه، والمفروض أن موضوعه هو عصيان الأمر بالأهم، ولابد من فرض
بقائه إلى آخر أزمنة امتثال المهم في تعلق الأمر به فعلا، فإن تعلق الأمر به كذلك
في أول أزمنة امتثاله منوط ببقاء عصيان الأمر بالأهم إلى الجزء الأخير من المهم،

(1) حيث إنه (قدس سره) ذكر في بيان مورد الترتب تصحيح الأمر بالضد بنحو الترتب: إما على العصيان
وعدم إطاعة الأمر بالشئ بنحو الشرط المتأخر، وإما على البناء على معصيته بنحو الشرط
المتقدم أو المقارن، ولازم القسم الثاني هو فعلية كلا الأمرين بنحو الإطلاق في الآن الثاني.
راجع كفاية الأصول: ص 166.
108

فإن هذا نتيجة تقييد إطلاق الأمر بالمهم بعصيان الأهم وكون المهم واجبا ارتباطيا،
وعلى هذا فليس هنا طلب للجمع بين الضدين أصلا كما سيأتي توضيحه (1).
وهذا بناء على وجهة نظرنا من إمكان الشرط المتأخر، وكذا إمكان تعلق
الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه على نحو الواجب المعلق - كما حققناهما
في محلهما - لا إشكال فيه، إذ لا مانع حينئذ من أن يكون العصيان المتأخر شرطا
للوجوب المتقدم، بمعنى: أن فعلية وجوب المهم في أول أزمنة امتثاله تكون
مشروطة ببقاء عصيان الأهم إلى آخر زمان الإتيان بالمهم، وبانتفائه يستكشف
عدم فعلية وجوب المهم من الأول.
ومن هنا قلنا: إنه لا مناص من الالتزام بالشرط المتأخر في الواجبات
التدريجية كالصلاة ونحوها، فإن وجوب أول جزء منها مشروط ببقاء القدرة على
الجزء الأخير منها في ظرفه، وإلا فلا يكون من الأول واجبا، وهذا ثمرة اشتراط
وجوب تلك الواجبات بالقدرة في ظرف الامتثال من ناحية، وارتباطيتها من
ناحية أخرى (2).
وأما بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) من استحالة الشرط المتأخر وكذا
الواجب المعلق فيشكل الأمر في المقام.
ومن هنا قد تفصى عن هذه المشكلة بما أجاب به عن الإشكال في اشتراط
القدرة في الواجبات التدريجية، وقال: إن المقام داخل في تلك الكبرى - أي
اشتراط التكليف بالقدرة - ومن إحدى صغرياتها، فإن اشتراط التكليف بالمهم
بعصيان تكليف الأهم إنما هو لأجل أنه غير مقدور إلا في هذا الفرض، ولذا
لا نحتاج في اشتراط تكليف المهم بعصيان تكليف الأهم إلى دليل خاص، فالدليل
عليه هو حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة، فإنه يوجب اشتراط خطاب المهم
بعصيان خطاب الأهم، لكون المهم غير مقدور شرعا - وهو في حكم غير المقدور

(1) سيأتي في ص 119 وما بعدها.
(2) راجع ج 2 ص 323.
109

عقلا - إلا عند تحقق هذا الشرط (1).
وحاصل ما أجاب به (قدس سره): أن الشرط هو القدرة على الجزء الأول من أجزاء
الواجب التدريجي المتعقبة بالقدرة على بقية الأجزاء، فشرط وجوب الصلاة
- مثلا - إنما هو القدرة على التكبيرة المتعقبة بالقدرة على بقية أجزائها.
ومن الواضح أن عنوان التعقب عنوان حاصل بالفعل، وبذلك يدفع محذور
الالتزام بالشرط المتأخر، وعليه يكون شرط فعلية وجوب المهم عصيان الأهم
في الآن الأول متعقبا بعصيانه في بقية الآنات. والمفروض أن عصيانه في آن أول
امتثال المهم المتعقب بعصيانه في بقية أزمنة امتثال المهم موجود بالفعل، فيكون
من الشرط المقارن لا من الشرط المتأخر. ومن المعلوم أن اشتراط المهم بعصيان
الأهم ليس إلا من ناحية عدم قدرة المكلف على امتثاله في غير هذه الصورة
" عصيان الأهم ".
ولكن قد ذكرنا في بحث الواجب المشروط: أن ما أفاده (قدس سره) لا يمكن
المساعدة عليه بوجه، وذكرنا هناك: أنه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر
أصلا (2)، وأنه لا محصل لجعل عنوان التعقب شرطا، لعدم الدليل عليه. وقد فصلنا
الحديث عن ذلك هناك فلا حاجة إلى الإعادة.
ومن ذلك يظهر أن الواجب المهم بعد حصول شرط وجوبه لا يصير مطلقا،
فإنه يبتنى على أن يكون شرطه هو عصيان الأهم في الآن الأول فحسب كما
عرفت. وأما على ما ذكرناه من أن شرطه هو عصيانه في جميع أزمنة امتثال المهم
فلا وجه لتوهم أنه بعد تحقق شرطه يصير مطلقا أصلا.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن الواجب الأهم إذا كان آنيا والمهم تدريجيا فهو خارج عن محل
الكلام والبحث كما مر آنفا.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 376 - 377.
(2) قد تقدم في ج 2 ص 318 فراجع.
110

الثاني: أن شرط فعلية الأمر بالمهم عصيان الأهم على نحو الاستمرار
والدوام، لا عصيانه آنا ما، لما عرفت من أنه لا يدفع محذور طلب الجمع بين
الضدين.
الجهة الثانية: أنه لا يفرق في القول بإمكان الترتب وجوازه، والقول
باستحالته وعدم جوازه بين أن يكون زمان فعلية الخطاب متحدا مع زمان
الامتثال والعصيان، وأن يكون سابقا عليه - بناء على ما هو الصحيح من إمكان
الواجب المعلق - وإن كان الغالب هو الأول، بل قد ذكرنا في محله: أن الثاني
وإن كان ممكنا إلا أن وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل وقيام قرينة عليه،
وإلا فهو خلاف الظهور العرفي، فإن مقتضى ظهور الخطاب هو أن زمان فعليته
متحد مع زمان الواجب وهو زمان امتثاله وعصيانه، ولكن الغرض من ذلك
الإشارة إلى أن القول بإمكان الترتب لا يتوقف على القول بإنكار الواجب المعلق،
فإن ملاك استحالة الواجب المعلق وإمكانه أجنبي عما هو ملاك استحالة الترتب
وإمكانه، فكما يجري على القول باستحالة الواجب المعلق فكذلك يجري على
القول بإمكانه (1).
وتوضيح ذلك: أنه لا إشكال في تقدم زمان الاعتبار والجعل على زمان
المعتبر والمجعول غالبا، لما ذكرناه غير مرة من أن جعل الأحكام جميعا على نحو
القضايا الحقيقية، فلا يتوقف على وجود موضوعها في الخارج، فيصح الجعل
والاعتبار، سواء أكان موضوعها موجودا في الخارج أم لم يكن.
وأما زمان المعتبر - وهو زمان فعلية تلك الأحكام بفعلية موضوعاتها في
الخارج - فبناء على استحالة الواجب المعلق فهو دائما متحد مع زمان الواجب
الذي هو ظرف تحقق الامتثال والعصيان، وعلى هذا فزمان فعلية التكليف بالمهم
وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: أن زمان

(1) راجع ج 2 ص 357 - 362.
111

فعلية التكليف بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد.
فالنتيجة على ضوء ذلك: أن زمان فعلية التكليف بالمهم وزمان فعلية التكليف
بالأهم واحد، إذ زمان فعلية التكليف بالمهم متحد مع زمان عصيان الأهم، لفرض
أن عصيانه شرط لفعليته وموضوع لها، فيستحيل أن يكون زمان فعليته متقدما
على زمان عصيانه، أو متأخرا عنه. والمفروض أن زمان عصيانه متحد مع زمان
فعلية خطابه، فينتج ذلك: أن زمان فعلية خطاب المهم متحد مع زمان فعلية خطاب
الأهم، لأن ما مع المقارن بالزمان مقارن أيضا لا محالة كما سبق.
وعلى هذا الضوء تترتب ضرورة تقارن فعلية خطاب المهم مع خطاب الأهم
واجتماعهما في زمان واحد.
نعم، تتقدم فعلية الخطاب على عصيانه أو امتثاله رتبة كتقدم عصيان الأهم
على فعلية خطاب المهم. وأما خطاب الأهم فليس بمتقدم على خطاب المهم
رتبة، كما أنه ليس بمتقدم زمانا.
والوجه في ذلك واضح، فإن تقدم الأمر على عصيانه أو امتثاله بملاك أنه علة
له، وتقدم عصيان الأهم على فعلية الأمر بالمهم بملاك أنه شرط له، ولا ملاك لتقدم
خطاب الأهم على خطاب المهم أصلا، فما هو المعروف من أن الأمر بالمهم في
طول الأمر بالأهم ليس المراد منه التقدم والتأخر بحسب الرتبة كما توهم، بل
المراد منه: مجرد ترتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم.
ودعوى: أن الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم وهو متأخر عن
الأمر به فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين مدفوعة بما ذكرناه سابقا:
من أن التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم
أو المتأخر، وليس أمرا خارجا عن ذاته، ولذا يختص هذا التقدم أو التأخر بما فيه
ملاكهما، فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلا عن غيره، ولذا قلنا
بتقدم العلة على المعلول، لوجود ملاك التقدم فيها. وأما عدمها فلا يتقدم عليه
112

مع أنه في مرتبتها، وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وإن كان الأمر بالأهم
مقدما على عصيانه - بملاك أنه علة له - إلا أنه لا يوجب تقدمه على الأمر
بالمهم لانتفاء ملاكه.
أو فقل: إن تأخر الأمر بالمهم عن عصيان الأمر بالأهم المتأخر عن نفس
الأمر به لا يوجب تأخره عن نفس الأمر بالأهم. وقد فصلنا الحديث من هذه
الناحية في أول بحث الضد فلاحظ. هذا بناء على القول باستحالة الواجب
المعلق.
وأما بناء على إمكان الواجب المعلق - كما هو الصحيح - فلا مانع من أن
يكون زمان الوجوب مقدما على زمان الواجب الذي هو ظرف امتثاله وعصيانه.
وقد حققنا ذلك في بحث الواجب المعلق والمشروط بصورة مفصلة، وقلنا هناك:
إنه لا يلزم أي محذور من الالتزام بتعلق الوجوب بأمر متأخر مقدور في ظرفه،
كما أنه لا يلزم من الالتزام بالشرط المتأخر أصلا.
ثم إنه لا يفرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب بين القول بإمكان الواجب
المعلق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما، ولا يتوقف القول بإمكان الترتب
على القول باستحالتهما بتخيل أنه لو قلنا بإمكان الواجب المعلق أو الشرط
المتأخر لكان لازم ذلك إمكان فعلية تكليف المهم قبل تحقق عصيان الأهم على
نحو الشرط المتأخر أو الواجب المعلق، وهذا غير معقول، لأن طلب الضدين في
آن واحد محال، فلا يكون ممكنا، ولكنه خيال فاسد.
والوجه في ذلك: هو أن ملاك استحالة الترتب ليس اجتماع الخطابين، أي
خطاب الأهم وخطاب المهم في زمان واحد، لأن اجتماعهما على كلا المذهبين
في زمان واحد ومقارنتهما فيه مما لابد منه، ضرورة أن حدوث التكليف بالمهم
بعد سقوط التكليف بالأهم خلاف مفروض الخطاب الترتبي، وخارج عن محل
الكلام، إذ لا إشكال في جواز ذلك وصحته، فإن محل الكلام هو ما إذا كان
113

الأمران متقارنين زمانا، ومع إثبات أن الجمع بين الأمرين في زمان واحد مع
ترتب أحدهما على عصيان الآخر لا يرجع إلى طلب الجمع بين الضدين فلا مانع
منه أصلا، وهذا هو ملاك القول بإمكان الترتب وصحته، كما أن ملاك القول
بامتناعه واستحالته تخيل أن الجمع بين الخطابين في زمان واحد يستلزم طلب
الجمع بين الضدين وهو محال.
وعلى هذا الأساس، فكل من ملاك إمكان الترتب واستحالته أجنبي عن
ملاك إمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر واستحالتهما تماما، إذ ملاك إمكان
الترتب وامتناعه يدوران مدار النقطة المزبورة، وهي أن الجمع بين الطلبين في
زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين الضدين أم لا؟ فالقائل باستحالة الترتب
يدعي الأول، والقائل بإمكانه يدعي الثاني، فتلك النقطة هي محط البحث
والأنظار بين الأصحاب في المقام. وملاك إمكان الواجب المعلق والشرط
المتأخر وملاك استحالتهما يدوران مدار ما ذكرناه من الأساس هناك، فلا حاجة
إلى الإعادة.
وقد تحصل من ذلك: أن القول بإمكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة
الواجب المعلق أو الشرط المتأخر. وعليه فلا فرق فيما ذكرناه من إمكان الترتب،
وأن الجمع بين الأمرين في زمان واحد لا يرجع إلى طلب الجمع بين الضدين بين
وجهة نظرنا في هاتين المسألتين " الواجب المعلق والشرط المتأخر " وبين وجهة
نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) فيهما أصلا.
فالغرض من هذه الجهة دفع ما توهم من ابتناء القول بإمكان الترتب على
القول باستحالة الواجب المعلق أو الشرط المتأخر.
الجهة الثالثة: لا إشكال في إطلاق الواجب بالإضافة إلى وجوده وعدمه،
بمعنى تعلق الطلب بالماهية المعراة عن الوجود والعدم، بداهة أن الطلب المتعلق
بالفعل لا يعقل تقييد متعلقه بالوجود أو العدم، إذ على الأول يلزم طلب الحاصل،
وعلى الثاني الخلف، أو طلب الجمع بين النقيضين، وكذا الحال في الطلب المتعلق
114

بالترك فإنه لا يمكن تقييده بالترك المفروض تحققه، لاستلزامه طلب الحاصل،
ولا تقييده بالوجود، لأنه خلف، أو طلب الجمع بين النقيضين.
فالنتيجة: ان تقييد متعلق الأمر بوجوده في الخارج أو بعدمه محال، فإذا
استحال تقييده بالحصة المفروضة الوجود أو المفروضة العدم فلا محالة يكون
متعلقه هو الجامع بينهما، ولازم ذلك هو ثبوت الأمر في حال وجوده وحال عدمه
وفي حال عصيانه وامتثاله. وهذا واضح لا كلام فيه، وإنما الكلام والاشكال في أن
ثبوت الأمر في هذه الأحوال هل هو بالإطلاق أم لا؟
فعلى مسلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) ليس بالإطلاق، لما يراه (قدس سره) من أن التقابل بين
الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة أحدهما تستلزم استحالة
الآخر، وحيث إن التقييد في المقام محال - كما عرفت - فالإطلاق أيضا محال. إذا
لا إطلاق لمتعلق الأمر بالإضافة إلى تقديري وجوده وعدمه، لا بالإطلاق والتقييد
اللحاظيين، ولا بنتيجة الإطلاق أو التقييد.
أما الأول: فكما مر. وأما الثاني: فلأن استحالة التقييد والإطلاق في المقام
ليست من ناحية استحالة لحاظيهما ليمكن التوصل إليهما بجعل آخر، ويسمى ذلك
ب‍ " نتيجة الإطلاق " و " نتيجة التقييد ". بل من ناحية أن التقييد هنا مستلزم
لتحصيل الحاصل، أو طلب الجمع بين النقيضين، والإطلاق مستلزم للجمع بين كلا
المحذورين المزبورين.
ومن الواضح البين أن كل هذه الأمور محال في حد ذاته، لا من ناحية عدم
إمكان الجعل بجعل واحد وعدم إمكان اللحاظ بلحاظ فارد، ولكن مع هذا كان
الحكم موجودا في كلتا الحالتين: الوجود والعدم (1).
والوجه فيه: هو أنه لا موجب لسقوط التكليف بالأهم في المقام ما عدا العجز
عن امتثاله، والمفروض أن المكلف غير عاجز عنه، ضرورة أن فعل الشئ
لا يصير ممتنعا حال تركه، وكذا تركه حال فعله، إذ ترجيح أحد طرفي الممكن

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 350.
115

على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف الآخر بالبداهة. وعلى هذا
فالأهم مقدور للمكلف حال تركه، كما أن تركه مقدور حال فعله، وكذا هو مقدور
حال فعل المهم.
والأصل في جميع ذلك هو أن ترجيح أحد الطرفين على الآخر أو ترجيح
فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته، فلا يعقل أن يكون
ذلك موجبا لامتناع الطرف الآخر! وإلا فلا يكون الشئ من الأول مقدورا،
وهذا خلف.
ونتيجة ذلك: هي أن الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الإتيان بالمهم،
وهذا معنى اجتماع الأمرين في زمان واحد. هذا على مسلك شيخنا الأستاذ (قدس سره).
وأما بناء على وجهة نظرنا من أن التقابل بينهما ليس من تقابل العدم والملكة
بل من تقابل التضاد، وأن استحالة أحدهما تستلزم ضرورة تحقق الآخر ووجوبه
لا استحالته فثبوته بالإطلاق.
والوجه فيه ما ذكرناه غير مرة من أن الإهمال في الواقع ومقام الثبوت غير
معقول، فمتعلق الحكم في الواقع إما هو ملحوظ على وجه الإطلاق بالإضافة إلى
جميع القيود حتى القيود الثانوية، ومعنى الإطلاق عدم دخل شئ من تلك القيود
فيه واقعا، لا أن جميعها داخلة فيه. وإما هو ملحوظ على وجه التقييد ولا ثالث
لهما، وعليه فإذا استحال أحدهما وجب الآخر، لانتفاء ثالث بينهما. وفي المقام
بما أن تقييد متعلق الأمر بتقديري الفعل في الخارج أو الترك محال فلا محالة كان
إطلاقه بالإضافة إليه واجبا.
وعلى هذا يترتب أن الأمر المتعلق بالأهم مطلق بالإضافة إلى حالتي وجوده
وعدمه، فعندئذ إذا كان الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأهم وتركه في الخارج فلا
محالة عند تركه يجتمع الأمران. أما الأمر بالأهم فمن جهة الإطلاق كما عرفت.
وأما الأمر بالمهم فلتحقق شرطه، وهو ترك الأهم وعصيان أمره، ولكن مع ذلك
116

فليس مقتضى الأمرين طلب الجمع بين الضدين في زمن واحد، لأن أحدهما في
طول الآخر لا في عرضه، وعليه فلا يمكن أن يقع متعلقهما على صفة المطلوبية
ولو تمكن المكلف من إيجادهما في الخارج.
أو فقل: إن طلب الجمع بين فعلين في الخارج يتصور على صور أربع، وما
نحن فيه ليس من شئ منها:
الأولى: ما إذا كان هناك أمر واحد تعلق بالجمع بين فعلين على نحو
يرتبط كل منهما بالآخر ثبوتا وسقوطا، كما إذا تعلق الأمر بالجمع بين الكتابة
والجلوس مثلا.
الثانية: ما إذا تعلق أمران بفعلين على نحو يكون متعلق كل من الأمرين مقيدا
بحال امتثال الأمر بالآخر، كما إذا أمر المولى بالصلاة المقارنة لامتثال الأمر
بالصوم، وبالعكس.
الثالثة: أن يكون متعلق أحد الخطابين مقيدا بحال امتثال الآخر دون العكس.
الرابعة: ما إذا تعلق أمران بفعلين على وجه الإطلاق بأن يكون كل منهما
مطلقا بالإضافة إلى حال امتثال الآخر، والإتيان بمتعلقه كما هو الحال في الأمر
المتعلق بالصوم والصلاة، فإن وجوب كل منهما مطلق بالإضافة إلى الإتيان بالآخر.
هذه هي الصور التي يكون المطلوب فيها الجمع، غاية الأمر أن الجمع في
الصورة الأولى بعنوانه متعلق للأمر والطلب. وأما في الصور الثلاثة الأخيرة
فالجمع بعنوانه ليس متعلقا للطلب، بل الأمر فيها يرجع إلى طلب واقع الجمع
وحقيقته بالذات كما في الصورتين الأوليين، وبالعرض كما في الصورة الأخيرة،
فإن الجمع في تلك الصورة - أعني بها الصورة الأخيرة - ليس بمطلوب، لا بعنوانه
ولا بواقعه حقيقة، وإنما هو مطلوب بالعرض، بمعنى أن عند تحقق امتثال أحدهما
كان الإتيان بالآخر أيضا مطلوبا، وهذا نتيجة إطلاق الخطابين.
وعلى كل حال فالقول بالترتب واجتماع الأمر بالمهم مع الأمر بالأهم في
زمان واحد لا يستلزم القول بطلب الجمع بينهما أصلا. أما الجمع بمعنى تعلق طلب
117

واحد به كما في الصورة الأولى فواضح. وأما الجمع بالمعنى الموجود في بقية
الصور فأيضا كذلك، لأن تعلق طلبين بفعلين في زمان واحد إنما يقتضيان الجمع
بينهما فيما إذا كان امتثال كل منهما مقيدا بتحقق امتثال الآخر، أو كان امتثال
أحدهما خاصة مقيدا بذلك دون الآخر، أو كان كل واحد منهما مطلقا من هذه
الجهة كما عرفت في الصور الثلاثة المتقدمة.
وأما إذا فرضنا أن أحد الأمرين مشروط بعدم الإتيان بمتعلق الآخر وعصيانه
كما فيما نحن فيه فيستحيل أن تكون نتيجة اجتماع الأمرين وفعليتهما في زمن
واحد طلب الجمع، بداهة أن فعلية الأمر بالمهم مشروطة بعدم الإتيان بالأهم وفي
ظرف تركه. وهذا في طرف النقيض مع طلب الجمع تماما ومعانده رأسا.
ومن هنا قلنا: إنه لا يمكن وقوع الفعلين معا " الأهم والمهم " على صفة
المطلوبية وإن فرضنا أن المكلف متمكن من الجمع بينهما في الخارج.
وسر ذلك: هو أن الأمر بالمهم إذا فرض اشتراطه بعصيان الأمر بالأهم وترك
متعلقه فلا يمكن فعلية أمره بدون تحقق شرطه وهو ترك الأهم، وفي ظرف
وجوده، وإلا لزم أحد محذورين: إما اجتماع النقيضين، أو الخلف، وكلاهما
مستحيل، وذلك لأن الأمر بالمهم تتوقف فعليته على فعلية موضوعه وهو ترك
الأهم وعدم الإتيان به. وعليه فإذا فرض فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود
الأهم فعندئذ لابد إما من فرض عدم الأهم عند وجوده فلزم اجتماع النقيضين،
وإما من فرض أن عدم الأهم ليس بشرط، وهذا خلف.
ونتيجة ذلك: هي استحالة فعلية الأمر بالمهم في ظرف وجود الأهم وتحققه
في الخارج، لاستلزامها أحد المحالين المزبورين.
وعلى هذا الضوء يستحيل استلزام فعلية الأمرين المترتب أحدهما على عدم
الإتيان بالآخر وعصيان أمره لطلب الجمع بين متعلقيهما.
وقد تحصل من ذلك: أن المقام في طرف النقيض مع الصور المتقدمة، إذ فعلية
الأمرين فيها تقتضي الجمع بين متعلقيهما كما عرفت، وفعلية الأمرين في المقام
118

تقتضي التفريق بين متعلقيهما، وعدم إمكان كون كليهما معا مطلوبا.
ثم إنه لا يخفى أن هذه الجهة وإن لم تكن كثيرة الدخل في إمكان القول
بالترتب وجوازه إلا أن الغرض من التعرض لها لدفع ما ربما يتخيل أن الأمر
بالأهم لو كان مطلقا بالإضافة إلى حالتي عصيانه وامتثاله وفعله وتركه في
الخارج لم يمكن القول بالترتب، إذ مقتضى إطلاقه هو أن أمره في حال عصيانه
باق، فإذا كان باقيا فلا محالة يدعو إلى إيجاد متعلقه في الخارج، والمفروض أن
هذا الحال هو حال فعلية الأمر بالمهم، لفرض تحقق شرطها وهو عصيان الأهم.
إذا يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدين، وهذا محال.
ولكن من بيان تلك الجهة قد ظهر فساد هذا الخيال، وذلك لأن محل الكلام
في إمكان الترتب واستحالته فيما إذا كان الأمر بالأهم ثابتا حال عصيانه وترك
متعلقه، وإلا فليس من محل الكلام في شئ كما تقدم. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن اجتماع أمرين متعلقين بالضدين في زمن واحد شئ،
وطلب الجمع بينهما شئ آخر، ولا ملازمة بين أحد الأمرين والآخر أصلا.
نعم، لو كان تعلق أمرين بهما في عرض واحد وعلى وجه الإطلاق لكان ذلك
مستلزما لطلب الجمع بينهما لا محالة. ولكن أين هذا من تعلق أمرين بهما على
نحو الترتب بأن يكون أحدهما مطلقا والآخر مشروطا بعصيان الأول وعدم
الإتيان بمتعلقه؟! لأنك عرفت أن اجتماع الأمرين كذلك لا يستلزم طلب الجمع
بين متعلقيهما، بل هو في طرف النقيض معه وينافيه ويعانده، لا أنه يقتضيه كما مر.
وعلى الجملة: فالغرض من بيان هذه الجهة الإشارة إلى هذين الأمرين،
أعني بهما: دفع الخيال المزبور وأنه لا مجال له أصلا، وامتياز المقام عن
الصور المتقدمة، وأن فعلية الأمرين في تلك الصور تستلزم طلب الجمع لا في
المقام كما عرفت.
الجهة الرابعة: وهي الجهة الرئيسية لأساس الترتب وتشييد كيانه، قد ذكرنا
119

غير مرة أن الخطابات الشرعية بشتى أشكالها لا تتعرض لحال موضوعاتها وضعا
ورفعا، وإنما هي تتعرض لحال متعلقاتها على تقدير وجود موضوعاتها، مثلا:
خطاب الحج كما في الآية المباركة (1) لا يكون متعرضا لحال الاستطاعة، ولا
يكون ناظرا إليها وجودا وعدما، وإنما يكون متعرضا لحال الحج باقتضاء وجوده
على تقدير وجود الاستطاعة وتحققها في الخارج بأسبابها المقتضية له، فلا نظر له
إلى إيجادها، ولا إلى عدم إيجادها أصلا، ولا إلى أنها موجودة أو غير موجودة.
وكذا خطاب الصلاة، وخطاب الزكاة وما شاكلهما، فإن كلا منها لا يكون متعرضا
لحال موضوعه، لا وضعا ولا رفعا، ولا يكون مقتضيا لوجوده ولا لعدمه، وإنما
هو متعرض لحال متعلقه باقتضاء إيجاده في الخارج على تقدير وجود موضوعه.
والسر في ذلك: هو أن جعل الأحكام الشرعية إنما هو على نحو القضايا
الحقيقية، ومعنى القضية الحقيقية: هو أن ثبوت المحمول فيها ووجوده على تقدير
وجود الموضوع وثبوته، ونسبة المحمول فيها إلى الموضوع وضعا ورفعا نسبة لا
اقتضائية، فلا يقتضي المحمول وجود موضوعه ولا يقتضي عدمه، فمتى تحقق
الموضوع تحقق المحمول، وإلا فلا.
ومن هنا قلنا: إن القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود
الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له. ومن الواضحات الأولية أن الجزاء لا يقتضي
وجود الشرط ولا عدمه، ولذلك لو كان أحد الدليلين ناظرا إلى موضوع الدليل
الآخر وضعا أو رفعا فلا ينافي ما هو مقتضى ذاك الدليل أبدا، لأنه بالإضافة إلى
موضوعه لا اقتضاء فلا يزاحم ما يقتضي وضعه أو رفعه، ولذا لا تنافي بين الدليل
الحاكم والمحكوم والوارد والمورود.
وعلى ذلك الأساس نقول: إن عصيان الأمر بالأهم - في محل الكلام - وترك
متعلقه بما أنه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم فهو لا يكون متعرضا لحاله وضعا

(1) آل عمران: 97.
120

ورفعا، لما عرفت من أن الحكم يستحيل أن يستدعي وجود موضوعه أو عدمه،
وإنما هو يستدعي إيجاد متعلقه على تقدير وجود موضوعه في الخارج. هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الأمر بالأهم محفوظ في ظرف عصيانه: إما من جهة
الإطلاق كما ذكرناه، أو من جهة أن الأمر يقتضي الإتيان بمتعلقه وإيجاده في
الخارج، وهذا عبارة أخرى عن اقتضاء هدم موضوع الأمر بالمهم ورفعه، وهو
عصيانه وعدم الإتيان بمتعلقه.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي عدم التنافي بين هذين الأمرين
أبدا.
أما بين ذاتيهما فواضح، ضرورة أنه لا تنافي بين ذات الأمر بالمهم مع قطع
النظر عن اقتضائه وذات الأمر بالأهم كذلك.
وقد ذكرنا في غير مورد أنه لا تضاد ولا تماثل بين نفس الأحكام بما هي
أحكام، إذ حقيقتها ليست إلا اعتبار المولى. ومن المعلوم: أنه لا مضادة بين اعتبار
واعتبار آخر، ولا مماثلة بينهما كما سيجئ ذلك بشكل واضح في الفرق بين
مسألة التزاحم والتعارض (1).
وأما بينهما باعتبار اقتضائهما فالأمر أيضا كذلك، لأن الأمر بالمهم إنما
يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج على تقدير عصيان الأمر بالأهم من دون تعرض
لحال عصيانه وضعا أو رفعا، وجودا أو عدما. والأمر بالأهم يقتضي هدم عصيانه
الذي هو موضوع للأمر بالمهم، ومن الضروري أنه لا تنافي بين مقتضى - بالفتح -
الأمرين كذلك، كيف؟ فإن ما كانت فعلية أصل اقتضائه " الأمر بالمهم " منوطة
بعدم تأثير الآخر " الأمر بالأهم " وعدم العمل بمقتضاه، فيستحيل أن يزاحمه في
تأثيره ويمنعه عنه، لأنه في ظرف تأثيره، والعمل بمقتضاه ليس بفعلي ليكون

(1) تقدم وسيجئ في ص 232 فراجع.
121

مزاحما له وفي ظرف عدم العمل به وإن كان فعليا إلا أنك قد عرفت أنه غير ناظر
إلى حال موضوعه " العصيان " أصلا ليزاحمه.
وإن شئت فقل: إن المقتضيين في محل الكلام - خطاب الأهم وخطاب
المهم - إنما يكونان متنافيين إذا كان اقتضاء كل واحد منهما لإيجاد متعلقه على
وجه الإطلاق، وفي عرض الآخر، بأن يكون الغرض من كل منهما فعلية مقتضاه
من دون ترتب في البين، إذ - عندئذ - يستحيل تأثيرهما معا وفعلية مقتضاهما،
لأنه طلب للجمع بين الضدين والمتنافيين، واستحالة ذلك من الواضحات. وأما إذا
كان اقتضاء أحدهما مترتبا على عدم اقتضاء الآخر ومنوطا بعدم تحقق مقتضاه
فلا تنافي بين اقتضائهما أبدا، بل بينهما كمال الملاءمة، فإن اقتضاء خطاب المهم
إنما هو في ظرف عدم تحقق مقتضى - بالفتح - خطاب الأهم، وعدم فعليته. وأما
في ظرف تحققه وفعليته فلا اقتضاء له، لعدم تحقق شرطه. إذا كيف يكونان
مقتضيين لأمرين متنافيين والجمع بين الضدين؟
ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالا، وهو: ما إذا وقعت المزاحمة بين الأمر بالإزالة
- مثلا - والصلاة في آخر الوقت، بحيث لو اشتغل المكلف بالإزالة لفاتته الصلاة،
فعندئذ الأمر بالإزالة إنما ينافي الأمر بالصلاة إذا كانت دعوته إلى إيجاد الإزالة
واقتضائه له على وجه الإطلاق، وفي عرض اقتضاء الأمر بالصلاة ودعوته بأن
يكون الغرض منه فعلية مقتضاه مطلقا، لا على تقدير دون آخر، وعليه فيلزم طلب
الجمع بين الضدين، لفرض اقتضاء كل منهما لإيجاد مقتضاه في عرض اقتضاء
الآخر له.
وأما إذا فرضنا أن اقتضاء الأمر بالإزالة كان مترتبا على ترك الصلاة وعصيان
أمرها - كما هو محل الكلام - فلا يعقل أن يكون مزاحما لمقتضي الأمر بالصلاة.
والسر في ذلك: هو أنه لا تنافي ولا تضاد بالذات بين نفس اقتضاء الأمر
بالمهم واقتضاء الأمر بالأهم، مع قطع النظر عن التضاد والتنافي بين مقتضاهما،
وعدم إمكان الجمع بينهما في الخارج، فالتنافي بين اقتضائهما إنما هو من جهة
122

التنافي والتضاد بين مقتضاهما، وعلى هذا فلا يمكن تعلق الطلبين بهما في عرض
واحد وعلى وجه الإطلاق، لاستلزام ذلك طلب الجمع بين الضدين، وهو تكليف
بالمحال.
وأما إذا كان طلب أحدهما مترتبا على عدم الإتيان بالآخر وفي ظرف عدمه
فلا يلزم التكليف بالمحال، فإن الإزالة عند الإتيان بالصلاة وامتثال أمرها ليست
بمطلوبة واقعا ليلزم من ذلك طلب الجمع، وعند تركها فهي وإن كانت مطلوبة إلا
أن مطلوبيتها لما كانت مقيدة بترك الصلاة في الخارج وعدم العمل بمقتضى أمرها
في كل آن فلا تنافي مطلوبية الصلاة، ولا يلزم من تعلق الأمرين بهما عندئذ طلب
الجمع، كيف؟ وأن الأمر بالإزالة حيث كان معلقا على تقدير عدم العمل بمقتضي
أمر الصلاة من دون تعرضه لحال هذا التقدير واقتضائه وضعه - لما عرفت من أن
الحكم لا يقتضي وجود موضوعه - فلا يكون مانعا عن فعلية مقتضى - بالفتح -
الأمر بالصلاة الذي هو ناظر إلى ذلك التقدير، ويقتضي هدمه.
إذا لا مانع من اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد، لعدم
التنافي بينهما، لا بالذات كما مر، ولا باعتبار اقتضائهما، لأن التنافي بينهما بهذا
الاعتبار إنما هو من جهة أن القدرة الواحدة لا تفي بهما معا، ومن الواضح أنها إنما
لا تفي فيما إذا كان كلاهما مطلوبا في عرض واحد لا على نحو الترتب، بمعنى أن
المهم مطلوب في ظرف ترك الأهم، إذ لا شبهة حينئذ في وفاء القدرة بهما على
هذا النحو كما عرفت.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن فعلية تعلق الأمرين بهما واجتماعهما في زمان
واحد إنما تستدعي طلب الجمع بينهما على أحد تقديرين لا ثالث لهما:
الأول: أن يكون الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم وعلى وجه الإطلاق،
فعندئذ لا محالة يلزم طلب الجمع بينهما.
الثاني: أن يكون الأمر بالمهم في فرض تقييده بترك الأهم ناظرا إلى حال
تركه ومقتضيا لوضعه وتحققه في الخارج، فحينئذ يلزم طلب الجمع، لفرض أن
123

الأمر بالأهم يقتضي هدمه ورفعه. ومن الواضح جدا أنا لا نعقل لزوم طلب الجمع
بينهما فيما عدا هاتين الصورتين. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن مفروض كلامنا - ها هنا - ليس من قبيل الصورة الأولى
كما هو ظاهر، ولا من قبيل الصورة الثانية، لما عرفت من أن ترك الأهم بما أنه
مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم فيستحيل أن يقتضي وجوده، ففرض اقتضائه
وجوده، وتحققه فرض عدم كونه مأخوذا في موضوعه، وهذا خلف.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي عدم لزوم طلب الجمع في مفروض
الكلام. وأما التنافي بين الأمرين باعتبار مبدئهما فهو أيضا غير متحقق، بداهة أنه
لا تنافي ولا تزاحم بين تحقق ملاك في الواجب المهم على تقدير ترك الواجب
الأهم وعصيانه، وتحقق ملاك في الواجب الأهم على وجه الإطلاق، بل لا تنافي
بين الملاكين فيما إذا كان ثبوته في المهم أيضا على وجه الإطلاق، مع قطع النظر
عن تأثيرهما في جعل الحكم فعلا.
ومن هنا يظهر: أنه لا تنافي بين إرادة المهم على تقدير عدم امتثال الأهم،
وإرادة الأهم على نحو الإطلاق.
والنكتة في جميع ذلك هي أن التزاحم بين هذه الأمور جميعا إنما نشأ من
مبدأ واحد، وهو: عدم قدرة المكلف على الجمع بين الضدين في مقام الامتثال.
ومن المعلوم أن التنافي إنما هو فيما إذا كان كل منهما مرادا للمولى ومطلوبا له في
عرض الآخر. وأما إذا كانت مطلوبية أحدهما مقيدة بعدم الإتيان بالآخر فلا
تنافي بين طلبيهما في زمان واحد، ولا بين إرادتيهما، لتمكن المكلف عندئذ من
الإتيان بالأهم والإتيان بالمهم على تقدير ترك الأهم عقلا وشرعا.
فالقائل باستحالة الترتب إنما قال بها من جهة غفلته عن هذه النكتة، وتخيله
أن فعلية طلب المهم وفعلية طلب الأهم في زمان واحد تستلزمان طلب الجمع
بينهما، إذ المفروض أن كل واحد منهما في هذا الزمان يقتضي إيجاد متعلقه في
الخارج، وهذا معنى طلب الجمع.
124

ولكنه غفل عن أن مجرد فعلية اقتضائهما لذلك لا يستلزم طلب الجمع، وإنما
يستلزم ذلك فيما إذا كان اقتضاء كل منهما على وجه الإطلاق وفي عرض الآخر.
وأما إذا كان اقتضاء طلب المهم مقيدا بترك الأهم من دون اقتضائه لتركه فلا
يستلزم طلب الجمع، بل مقتضاهما التفريق في مقام الامتثال كما عرفت.
وخلاصة ما ذكرناه في المقام بعد تحليل مسألة الترتب تحليلا علميا عميقا:
هو أن المانع من طلب الضدين معا ليس إلا عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما
في مقام الامتثال، ومن الواضح أن ذلك المانع إنما هو فيما إذا كان طلبهما في
عرض واحد وعلى وجه الإطلاق.
وأما إذا كان طلب أحدهما مقيدا بترك الآخر من دون تعرضه لحال تركه
أصلا - كما هو المفروض - فلا مانع عندئذ أصلا، لفرض أن المكلف قادر على
الإتيان بالأهم وعلى الإتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم، والجمع بينهما غير
مطلوب على الفرض. إذا لا مانع من تعلق الطلبين بهما على هذا النحو والتقدير،
ولا يلزم منه طلب المحال. والغفلة عن هذه النقطة الأساسية أوجبت تخيل أن
تعلق الأمرين بالضدين في زمان واحد مستحيل ولو كان على نحو الترتب.
أو فقل: إن منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدين هو أن القدرة الواحدة لا
تفي للجمع بينهما في زمان واحد. وأما إذا كان طلب أحدهما مشروطا بعدم
الإتيان بالآخر فالقدرة الواحدة تفي بهما، ضرورة أنه مع إعمال القدرة في فعل
الأهم وصرفها في امتثاله لا أمر بالمهم أصلا، لعدم تحقق شرطه. وأما مع عدم
إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم ولا مانع عندئذ من فعلية أمره مع
فعلية الأمر بالأهم، ولا يلزم من فعلية كلا الأمرين في زمان واحد طلب المحال
وغير المقدور أصلا.
ونظير ما ذكرناه من الترتب موجود في الأمور التكوينية أيضا، وهو ما إذا
كان هناك مقتضيان: أحدهما يقتضي تحريك جسم عن مكان، والآخر يقتضي
بياضه على تقدير حصوله في ذلك المكان، من دون نظر له إلى حال هذا التقدير
واقتضائه حصوله فيه أصلا.
125

أو كما إذا كان مقتض يقتضي وجود رمانة - مثلا - في يد أحد ولكنه على
تقدير وقوعه من يده في الخارج كان مقتض آخر يقتضي وجودها في يد شخص
آخر، فالمقتضي لأخذه موجود - على تقدير سقوطه من يد الأول - دون أن يكون
فيه اقتضاء لسقوطه، ونحو ذلك، فكما لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التكوينيين
في هذين المثالين وما شاكلهما فكذلك لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين
التشريعيين في محل البحث.
والسر في ذلك ليس إلا ما ذكرناه من النقطة الأساسية. هذا تمام الكلام في
الدليل اللمي.
نتائج الجهات المتقدمة:
نتيجة الجهة الأولى: هي أن عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه في الآن الأول
غير كاف لفعلية الأمر بالمهم على الإطلاق، والى آخر أزمنة امتثاله، بل فعليته
مشروطة في كل آن وزمن بعصيانه في ذلك الآن والزمن، فلو كان عصيانه في الآن
الأول كافيا لفعلية أمره مطلقا لزم محذور طلب الجمع بين الضدين في الآن الثاني
والثالث، وهكذا... كما سبق.
ونتيجة الجهة الثانية: هي أن القول بالترتب لا يتوقف على القول باستحالة
الواجب المعلق والشرط المتأخر، فإن ملاك إمكان الترتب واستحالته غير ملاك
إمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر واستحالتهما، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن زمان فعلية الأمر بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه
واحد، كما أن زمان فعليته وزمان فعلية الأمر بالمهم واحد، وليس الأمر بالأهم
ساقطا في زمان فعلية الأمر بالمهم بأن حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر
بالأهم، فإن ذلك خارج عن محل الكلام في المقام، ولا إشكال في جوازه. وما هو
محل الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعليا كما تقدم.
ونتيجة الجهة الثالثة: هي أن انحفاظ الأمر بالأهم في زمان الأمر بالمهم
126

- وهو زمان عصيان الأمر بالأهم - بالإطلاق على وجهة نظرنا، ومن جهة
اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدير على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وعلى كل منهما
لا يلزم من انحفاظه في ذلك الزمان طلب الجمع بين الضدين، فإن ملاك طلب
الجمع إنما هو إطلاق الخطابين وكون كل منهما في عرض الآخر، لا ترتب أحدهما
على عصيان الآخر، فإنه يناقض طلب الجمع وينافيه، كما تقدم بشكل واضح.
ونتيجة الجهة الرابعة هي: أن خطاب المهم بما أنه مشروط بعصيان خطاب
الأهم وترك متعلقه لا نظر له إلى عصيانه رفعا ووضعا، لما عرفت من أن
الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه، وخطاب الأهم بما أنه
محفوظ في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه باعتبار اقتضائه إيجاد
متعلقه في الخارج.
ومن الواضح أن الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب
الجمع، بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع، ولذا لو تمكن المكلف من الإتيان
بهما في الخارج فلا يقعان على صفة المطلوبية، بل الواقع على هذه الصفة
خصوص الأهم دون المهم، والمفروض أن المكلف قادر على الإتيان بالمهم
في ظرف ترك الأهم، فإذا كان قادرا فلا مانع من تعلق التكليف به على هذا
التقدير، فإن المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة، وحيث لم يكن المطلوب هو
الجمع فلا مانع أصلا.
وعلى ضوء هذه النتائج تترتب نتيجة حتمية، وهي: إمكان الترتب، وأنه لا
مناص من الالتزام به، بل نقول: إن من انضمام تلك النتائج بعضها مع بعضها الآخر
وملاحظة المجموع بصورة موضوعية يستنتج أن مسألة إمكان الترتب من
الواضحات الأولية، وأنها غير قابلة للإنكار، بحيث إن تصورها - بعد ملاحظة ما
ذكرناه - يلازم تصديقها كما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره).
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكرناه - من إمكان تعلق الأمر بالضدين على نحو
127

الترتب وعدم لزوم طلب الجمع بينهما فيما إذا كان خطاب المهم مشروطا
بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه - إنما هو من جهة أن هذا التقييد هادم
لموضوع طلب الجمع ومناقض له، لا من جهة أن العصيان أمر اختياري، وتعليق
طلب الجمع على أمر اختياري لا مانع منه، بداهة أن طلب الجمع محال مطلقا
ولو كان معلقا على أمر يمكن رفعه، وعدم إيجاده في الخارج، فلا فرق في
استحالة طلب ايجاد الضدين معا أو النقيضين بين أن يكون مطلقا، وأن يكون
معلقا على أمر اختياري، كأن يقول الآمر: إذا صعدت السطح - مثلا - فاجمع بين
الضدين أو النقيضين، أو إذا سافرت فاجمع بينهما، إلى غير ذلك، فإن استحالة
طلب المحال وقبحه - ولو مشروطا بشرط يكون وجوده وعدمه تحت اختيار
المكلف - من الضروريات الأولية.
وأما ما نسب إلى السيد العلامة الميرزا الكبير الشيرازي (قدس سره): من أنه اعترف
بأن الترتب وإن استلزم طلب الجمع إلا أنه لا محذور فيه بعد ما كان عصيان الأهم
الذي هو مأخوذ في موضوع المهم تحت اختيار المكلف، لتمكنه من الفرار عن
هذا المحذور بترك العصيان، والإتيان بالأهم فلا يخلو ما في هذه النسبة، ضرورة
أن صدور مثل هذا الكلام عنه (قدس سره) في غاية البعد، فإنه من عمدة مؤسسي الترتب
في الجملة، فكيف يعترف بهذا المحذور؟
ومن هنا قال شيخنا الأستاذ (قدس سره): إن هذه النسبة ليست مطابقة للواقع، بل
يستحيل صدور ذلك منه (قدس سره)، ولعله تعرض لمناسبة أن العصيان أمر اختياري
فتوهم المتوهم منه أنه أراد به تصحيح الترتب (1). والأمر كما أفاده (قدس سره).
هذا تمام كلامنا في أدلة الترتب.
بقي هنا شئ تعرض له شيخنا الأستاذ (قدس سره) لتوضيح محل البحث في المقام،
ولا بأس بعطف الكلام عليه.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 300.
128

فنقول: قد ذكر شيخنا الأستاذ (1) (قدس سره): أن الأمرين المتعلقين بفعلين إذا كان
أحدهما مطلقا والآخر مشروطا على قسمين:
الأول: أن لا يكون أحد الخطابين المجتمعين في الزمان ناظرا إلى رفع
موضوع الخطاب الآخر وهدمه.
الثاني: أن يكون أحدهما ناظرا إلى رفع موضوع الآخر.
أما القسم الأول: فالشرط الذي يترتب عليه الخطاب والأمر لا يخلو من أن
يكون اختياريا كالسفر والحضر وقصد الإقامة وما شاكل ذلك، وأن يكون غير
اختياري كزوال الشمس وغروبها وكسوفها، وخسوف القمر وما يشبهها، وعلى
كلا التقديرين فعند تحقق الشرط يصير كلا الخطابين فعليا، وحينئذ فإن كان كل
منهما مشروطا بعدم الإتيان بمتعلق الآخر أو كان أحدهما مشروطا بذلك دون
الآخر فلا شبهة في استحالة وقوع متعلقيهما في الخارج على صفة المطلوبية،
وتعلق الطلب بالجمع بينهما، وذلك على ضوء ما بيناه من أن اجتماع الأمرين
- كذلك - لا يرجع إلى طلب الجمع، بل يناقضه.
وأما إذا كانا مطلقين من هذه الناحية فعندئذ إن لم يكن بين متعلقيهما
تضاد في الوجود الخارجي وتمكن المكلف من إيقاعهما في الخارج وإيجادهما
فيه فلا إشكال في وجوبه. وأما إن كانت بينهما مضادة في عالم الوجود فيدخلان
في كبرى باب التزاحم وتجري عليهما أحكامه من تقييد إطلاق كل واحد منهما
بعدم الإتيان بالآخر إذا لم يكن في البين أهم، وإلا يتعين تقييد إطلاق خطاب
المهم بعدم الإتيان بالأهم دون العكس، ولا يلزم فيه محذور طلب الجمع ونحوه
كما سبق.
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط المزبور اختياريا، أو غير اختياري،
وذلك لما عرفت: من أن الحكم لا يقتضي وجود شرطه في الخارج (2). إذا كونه

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 298 - 303 المقدمة الخامسة.
(2) قد تقدم في ص 129 - 130.
129

اختياريا لا أثر له من هذه الناحية.
وأما القسم الثاني - وهو ما إذا كان أحد الخطابين ناظرا إلى رفع موضوع
الخطاب الآخر - فهو على نحوين:
أحدهما: ما إذا كان أحد الخطابين رافعا لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله
وإتيانه في الخارج.
ثانيهما: ما إذا كان رافعا له بصرف وجوده وتحققه في الخارج.
أما النحو الأول فهو من محل الكلام - هنا - جوازا وامتناعا، باعتبار أن توجه
خطابين كذلك إلى شخص واحد في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين
متعلقيهما في الخارج كما تخيله المنكرون للترتب، أو لا يستلزم ذلك كما هو
الصحيح؟ وقد تقدم الكلام في هذا النحو من الخطابين ضمن عدة من الفروعات
الفقهية بصورة مفصلة، فلا حاجة إلى الإعادة.
وأما النحو الثاني - وهو ما إذا كان الخطاب بصرف وجوده رافعا لموضوع
الآخر - فهو خارج عن محل البحث والكلام، وذلك لامتناع اجتماع الخطابين
حينئذ في زمان واحد، إذ المفروض أنه بمجرد تحقق أحد الخطابين يرتفع
الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه، فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد،
بداهة أن فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه، ومن الواضح أنها مستحيلة في
فرض وجود الرافع لموضوعه، فيكون المقام نظير الأمارات القائمة في موارد
الأصول، فإنها رافعة لموضوعها، ولا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها. وقد
عرفت أن محل البحث - هنا - هو ما إذا كان الخطابان مجتمعين في زمان واحد،
وأما إذا لم يكونا مجتمعين فيه فلا يكونان داخلين في محل البحث، وقد ذكر (قدس سره)
لذلك فروع كثيرة:
1 - مسألة الحج ببيان أن موضوعها - وهو الاستطاعة - يرتفع بصرف تحقق
خطاب آخر، وهو الخطاب بأداء الدين - مثلا - فإنه بمحض وجوده رافع لموضوع
الخطاب بالحج، ومعه لا يكون المكلف مستطيعا إذا لم يكن المال الموجود عنده
130

وافيا بأداء الدين ومصارف الحج معا. نعم، هو واف بالمصارف وحدها، فلو لم
يكن مديونا لكان مستطيعا وكان الحج واجبا عليه، ولكن دينه مانع عن وجوبه
ورافع لموضوعه، وعليه فلو لم يؤد دينه وعصى أمره وحج فلا يكون حجه من
حجة الإسلام، ولا يكون مجزئا، لعدم جريان الترتب في ذلك.
وعلى الجملة: فهذا خارج عن محل الكلام في المقام، لعدم إمكان اجتماع
الخطاب بأداء الدين والخطاب بالحج في زمان واحد، ففي زمان تحقق الخطاب
بأداء الدين يرتفع موضوع الخطاب بالحج. والمفروض أن الخطاب بأداء الدين
في زمان عصيانه وترك متعلقه أيضا موجود، لما سبق مفصلا من أن التكليف ثابت
في حال عصيانه أيضا. وعلى هذا فلا يمكن فرض وجود الخطاب بالحج مترتبا
على عصيان الأمر بأداء الدين. هذا بناء على ما هو المعروف من تفسير الاستطاعة
بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا.
وأما بناء على تفسيرها بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق - كما في
الرواية (1) وهو الصحيح - فالتكليفان متزاحمان، ولا مانع من اجتماعهما على نحو
الترتب، فإنه عند عصيان الأمر بأداء الدين متمكن من الزاد والراحلة، وعندئذ فلا
مانع من وجوب الحج عليه، بناء على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه.
2 - إن الخطاب بإخراج الخمس في بعض الموارد بصرف وجوده وتحققه
رافع لموضوع وجوب الزكاة ومانع عنه، وذلك كما إذا فرضنا أن شخصا ملك
عشرين شاة في أول المحرم - مثلا - ثم ملك عشرين شاة أخرى في آخره فإذا
مضى على الطائفة الأولى حول كامل تعلق الخطاب بإخراج الخمس منها وهو
أربعة من تلك الشياه. ومن المعلوم أن هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن
وجوب الزكاة، ورافع لموضوعه وهو بلوغها حد النصاب - أعني به أربعين شاة -
فإن هذه الأربعة عندئذ صارت ملكا للإمام (عليه السلام) والسادة، فلم يبق في ملك المالك

(1) انظر الوسائل: ج 11 ص 34 ب 8 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 4 - 7.
131

إلا ست وثلاثون شاة، وهي غير بالغة حد النصاب الذي هو موضوع لوجوب
إخراج الزكاة.
أو إذا فرضنا أنه ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح فعندئذ
لا محالة بمجرد إكمال سنة التجارة وقبل تمامية حول الزكاة تعلق الخطاب
بإخراج الخمس منها، الموجب لخروجها عن كونها ملكا طلقا له بمشاركة
الإمام (عليه السلام) والسادة إياه في ذلك المال، أعني به الشياة ومن الواضح أنها بذلك
تخرج عن موضوع وجوب الزكاة، إذ لم يبق في ملكه الطلق بعد خروج ثمان منها
إلا اثنتان وثلاثون شاة، وهي لا تبلغ حد النصاب، ففي هذا المثال وما شاكله لا
يمكن القول بالترتب، إذ الخطاب بإخراج الخمس بصرف تحققه وفعليته مانع عن
وجوب الزكاة ورافع لموضوعه، لا بامتثاله وإتيانه في الخارج ليمكن الالتزام
بوجوب الزكاة في ظرف عصيان الخطاب بالخمس وعدم امتثاله.
وعلى الجملة: ففعلية الخطاب بإخراج الزكاة إنما هي بفعلية موضوعه وهو
بلوغ المال النصاب، وهذا المال وإن كان في نفسه داخلا في النصاب مع قطع النظر
عن وجوب إخراج الخمس منه إلا أن وجوب ذلك مخرج له عن كونه ملكا تاما له
بمشاركة الإمام (عليه السلام) والسادة إياه في ذلك المال، فبذلك يخرج عن موضوع
وجوب الزكاة. وأما الباقي في ملكه فليس يبلغ حد النصاب. هذا بناء على ما
أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن الرافع لموضوع وجوب الزكاة في مثل هذا المورد
صرف تحقق الخطاب بإخراج الخمس وفعليته.
وأما بناء على ما حققناه في محله فالأمر ليس كما أفاده (قدس سره)، والوجه في ذلك:
هو أن الترتب وإن كان غير جار بين هذين الخطابين وما شاكلهما ولكن لا من
ناحية ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) بل لأجل ما ذكرناه من أن الرافع لموضوع
وجوب الزكاة إنما هو تعلق الخمس بالربح، وكون غير المالك شريكا معه في
خمس هذا المال، وبذلك يخرج عن كونه ملكا طلقا له بمشاركة غيره إياه في
ذلك، فعندئذ يخرج عن موضوع وجوب الزكاة، لفرض عدم بلوغ الباقي في ملكه
حد النصاب. هذا من جهة.
132

ومن جهة أخرى: أن المفروض - كما حقق في محله - أن الخمس إنما تعلق
بالربح من حين وجوده، ولا يتوقف تعلقه به على إكمال سنة التجارة، غاية الأمر
أن الشارع قد رخص المالك في التصرف في الأرباح إلى حين إكمال السنة، وهذا
مجرد ترخيص في التصرف من قبل الشارع في المال المشترك بينه وبين غيره،
فلا ينافي كون خمسها ملكا للغير (1).
فالنتيجة على ضوء هاتين الجهتين: هي أن موضوع وجوب الزكاة يرتفع من
حين تعلق الخمس بها، وهو أول زمان تحققها وحصولها في الخارج، سواء أتحقق
الخطاب بإخراج الخمس في ذلك الزمان أم لم يتحقق، فإنه لا دخل لتحقق
الخطاب وفعليته في ذلك أبدا، مثلا: في المثالين المتقدمين بمجرد أن المالك ملك
أربعين شاة أثناء سنة التجارة أو عشرين شاة تعلق بها الخمس الموجب لخروجها
عن كونها ملكا طلقا له بمشاركة غيره إياه فيها، فبذلك تخرج عن موضوع وجوب
الزكاة، ضرورة أنه بعد صيرورة أربع منها في المثال الأول وثمان منها في المثال
الثاني ملكا لغير المالك لم يبق في ملكه ما يبلغ حد النصاب، فيرتفع الموضوع من
زمان حصول ذلك الربح، وهو زمان ملك المالك أربعين أو عشرين شاة، ولا
يتوقف ارتفاعه على وجود الخطاب وتحققه أصلا، بداهة أن الموجب لارتفاعه
إنما هو صيرورة خمس تلك الأرباح ملكا لغير المالك، فإنه يمنع عن بلوغها حد
النصاب، لا وجود الخطاب، إذ الإلزام بالإخراج إنما يتحقق بعد مضي الحول
وتمام السنة. نعم، يستحب الإخراج من زمان الربح، لا أنه واجب.
3 - ما إذا تعلق الخطاب بإخراج شئ زكاة فإنه في بعض الموارد بنفسه
وبصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس ورافع لموضوعه، وذلك كثيرا ما يتفق
في الغلات الأربع، كما إذا ملك المكلف أثناء سنة التجارة من الغلات مقدارا يبلغ
حد النصاب فوجب عليه إخراج زكاته، وهي مقدار عشر هذا المال مثلا، فيخرج
بذلك هذا العشر عن فاضل المؤونة الذي هو موضوع وجوب الخمس.

(1) راجع مستند العروة الوثقى: ص 269 كتاب الخمس المسألة (72).
133

أو فقل: إن تعلق الخطاب بإخراج الزكاة عن ذلك المال يخرجه عن كونه
ملكا طلقا له بمشاركة الفقير إياه في عشر ذلك، وعليه فلا يكون عشره من فاضل
مؤونته ليتعلق به الخمس. ولا يفرق في عدم تعلق الخمس به بين أن يخرجه
ويعطي للفقير أم لا، فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين في زمان واحد ليمكن
تصحيح وجوب الخمس بالترتب. هذا بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره).
وأما بناء على وجهة نظرنا فقد ظهر مما تقدم أن الرافع للموضوع في أمثال
هذا المورد ليس الخطاب بصرف وجوده وتحققه، بل الرافع له هنا هو نفس تعلق
الزكاة بعين هذا المال الموجب لخروجه عن كونه ملكا تاما له بمشاركة الفقير إياه
في ذلك المال، فبذلك يخرج عشره عن فاضل المؤونة من جهة أنه صار ملكا
لغيره. ومن الواضح جدا أنه لا دخل في ذلك لوجود الخطاب بإخراج الزكاة
وعدم وجوده أصلا، وهذا بمكان من الوضوح.
4 - ما إذا كان المكلف مديونا بدين صرفه في مؤونة سنته فالخطاب بأدائه
بصرف تحققه وفي نفسه يخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المؤونة إن كان
دينه مستوعبا لتمام الربح، كما إذا كان مائة دينار وربحه أيضا كذلك، وإن لم يكن
مستوعبا لتمامه كما إذا كان دينه خمسين دينارا وربحه في تلك السنة مائة دينار
فيخرج عن الربح بمقدار الدين عن فاضل المؤونة فلا يتعلق به الخمس دون
الزائد. وعلى هذا لو عصى الأمر بأداء الدين ولم يؤد دينه فلا يجب عليه إخراج
الخمس عنه بمقدار دينه. هذا بناء على مسلك شيخنا الأستاذ (قدس سره).
والصحيح: أن الرافع لموضوع وجوب الخمس هنا إنما هو نفس وجوب
الدين، إذ معه لا يتحقق له (في هذه السنة) ربح ليتعلق به الخمس، لا الخطاب
بأدائه، فإنه لا دخل له في ذلك أصلا، ولذا لو فرض أنه لم يكن خطاب بأدائه
لمانع من الموانع لم يتعلق به الخمس أيضا، لعدم الموضوع له وهو الفاضل عن
مؤونة السنة.
هذا إذا كان دينه من جهة الصرف في المؤونة. وأما إذا كان دينه من غير تلك
134

الجهة كما إذا كان من ناحية الضمان أو نحوه فهل هو أيضا رافع لموضوع
وجوب الخمس أم لا؟ ففيه كلام وإشكال، وتمام الكلام في باب الخمس (1)
إن شاء الله تعالى.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن هذه الفروعات وما شاكلها جميعا خارجة عن
محل الكلام في المسألة، ولا يجري الترتب في شئ منها، ولكن لا من ناحية ما
ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن عدم جريانه من جهة أن أحد الخطابين رافع
لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده وتحققه، فلا يمكن اجتماعهما في زمان
واحد، بل لما ذكرناه من أن الرافع له شئ آخر، وهو المانع عن اجتماعهما في
زمان واحد، ولا دخل لوجود الخطاب وعدمه في ذلك أبدا.
نعم، ما ذكره (قدس سره) - بالإضافة إلى الأمارات وأنها رافعة لموضوع الأصول وأنه
لا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها - صحيح، بل لا يختص هذا بالأمارات
والأصول، فيعم جميع موارد الحكومة والورود، إذ لا يبقى موضوع لدليل
المحكوم والمورود بعد ورود دليل الحاكم والوارد. ولكن قياس هذه الفروعات
بتلك الموارد قياس مع الفارق.
ونتائج أبحاث الترتب إلى هنا عدة نقاط:
الأولى: أن البحث عن الترتب إنما يكون ذا ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة
المزاحمة لواجب أهم بالأمر، ولا بالملاك، وإلا فلا تترتب على البحث عنه ثمرة
كما عرفت.
الثانية: أن البحث عن هذه المسألة بحث عقلي لا يرتبط بعالم اللفظ أبدا.
الثالثة: أن ما كان محلا للبحث هو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان مضيقين
أحدهما أهم من الآخر. وأما إذا كانا موسعين أو كان أحدهما موسعا والآخر
مضيقا فقد سبق أن هاتين الصورتين خارجتان عن محل البحث والكلام.

(1) انظر مستند العروة الوثقى: ص 263 كتاب الخمس المسألة (71).
135

نعم، ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن الصورة الأخيرة داخلة في محل الكلام،
ولكن قد عرفت أن ما ذكره إنما يتم على مسلكه (قدس سره) لا مطلقا كما تقدم تفصيلا.
الرابعة: أن إمكان الترتب كاف لوقوعه، فلا يحتاج وقوعه إلى دليل، فالبحث
فيه متمحض في جهة إمكانه.
الخامسة: أن الترتب لا يجري في أجزاء واجب واحد وشرائطه، فإذا دار الأمر
بين القيام في الركعة الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية - مثلا - فلا يجري
الترتب فيه، لعدم كونهما من المتزاحمين ليترتب عليهما أحكامهما، ومنها الترتب.
نعم، ذكر جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن التزاحم يجري بينهما كما يجري
بين واجبين نفسيين، ولكن قد عرفت فساد ذلك (1).
السادسة: أنه لا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على نحو الترتب على إحراز
الملاك فيه، خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث قد أنكر جريانه فيما لم يحرز كونه
واجدا للملاك، وقلنا: إن الترتب لا يتوقف على ذلك، والأصل فيه ما تقدم (2): من
أنه لا يمكن إحراز الملاك في شئ مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، من دون فرق
في ذلك بين اعتبار القدرة في موضوع التكليف عقلا أو شرعا.
السابعة: أنه لا فرق في جريان الترتب بين ما إذا كانت القدرة معتبرة في
موضوع التكليف بالمهم عقلا وما إذا كانت معتبرة فيه شرعا كما في الوضوء،
خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره) حيث منع عن جريان الترتب في الثاني بدعوى أن نفس
التكليف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء، لا امتثاله.
ولكن قد عرفت فساده، وأن نفس التكليف بالأهم لا يكون رافعا لموضوعه،
لفرض أن التصرف في الماء الموجود عنده مباح وليس بحرام، غاية الأمر يجب
صرفه في واجب أهم كحفظ النفس المحترمة أو نحوه، ولكن المكلف عصى ولم
يصرفه فيه، إذا يكون المكلف واجدا للماء، ولا مانع من صرفه في الوضوء لا عقلا
- كما هو واضح - ولا شرعا، لأن التصرف في هذا الماء مباح له على الفرض،

(1) تقدم في ص 96 - 101.
(2) تقدم في ص 96 - 101.
136

والعصيان إنما هو من جهة ترك ذلك الواجب، لا من جهة التصرف فيه. وعليه فعلى
القول بإمكان الترتب لا مانع من الالتزام به في مثل المقام.
نعم، لو كان التصرف في الماء في نفسه حراما فلا يمكن تصحيح الوضوء
بالترتب، لأن نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه، لا امتثالها.
الثامنة: أن ما دل على إمكان الترتب أمور ثلاثة: الوجدان، الدليل الإني،
الدليل اللمي.
التاسعة: أن الترتب قد وقع في عدة من الفروعات الفقهية، ولا مناص من
الالتزام به في تلك الفروعات، كما تقدمت جملة منها فلاحظها (1).
العاشرة: أن الواجب الأهم إذا كان آنيا غير قابل للدوام والبقاء وكان الواجب
المهم تدريجيا قابلا لذلك فلا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على القول بإمكان
الترتب، ولذا قلنا: إن هذا الفرض خارج عن محل الكلام، فإن ما كان محلا للكلام
هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن القول بالترتب.
الحادية عشرة: أن محل الكلام هو ما إذا كان كل من الواجب الأهم والمهم
تدريجيا، أو كان كلاهما آنيا.
الثانية عشرة: أن شرط فعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم مستمرا
إلى آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم على نحو الشرط المتأخر، لا صرف وجود
عصيانه في الآن الأول، وإن تبدل بالإطاعة في الآن الثاني فإن هذا لا يدفع
محذور طلب الجمع بين الضدين في الآن الثاني والثالث كما تقدم.
الثالثة عشرة: أن زمان المعتبر والمجعول - وهو زمان فعلية الحكم بفعلية
موضوعه - دائما متحد مع زمان الواجب، وهو زمان عصيانه وامتثاله بناء على
القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر. وأما بناء على القول

(1) راجع ص 104 - 105.
137

بإمكانهما - كما هو الصحيح - فلا مانع من أن يكون زمان المعتبر مقدما على زمان
الواجب كما سبق (1).
الرابعة عشرة: أنه لا فرق في القول بإمكان الترتب واستحالته بين القول
بإمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما، فإن ملاك الإمكان
والاستحالة في الترتب شئ وهناك شئ آخر كما عرفت (2).
الخامسة عشرة: أن الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وامتثاله، كما أنه ثابت
حال الأمر بالمهم على ما تقدم (3).
السادسة عشرة: أن ثبوت الأمر بالأهم في حالي عصيانه وامتثاله إنما هو
بالإطلاق على وجهة نظرنا، ومن جهة ثبوت المؤثر حال تأثيره على وجهة نظر
شيخنا الأستاذ (قدس سره).
السابعة عشرة: أن اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لا
يستلزم طلب الجمع، بل هو يناقضه ويعانده بملاك تقييد مطلوبية المهم بترك
الأهم، وقد تقدم أن اقتضاء اجتماع الأمرين للجمع بين متعلقيهما في الخارج
يتصور في صور، وما نحن فيه ليس بشئ منها (4).
الثامنة عشرة: أن النقطة التي ينطلق منها إمكان الترتب بل ضرورته هي أنه لا
تنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم في ذاتهما، مع قطع النظر عن اقتضائهما
للاتيان بمتعلقيهما، فالمنافاة إنما هي بين متعلقيهما من ناحية عدم قدرة المكلف
على الجمع بينهما. ومن الواضح أن هذه المنافاة ترتفع بتقييد فعلية الأمر بالمهم
بترك الأهم وعصيان أمره، مع عدم اقتضائه لعصيانه وتركه، لما عرفت من استحالة
اقتضاء الحكم لوجود موضوعه في الخارج، وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين
الأمر بالأهم والأمر بالمهم أصلا لا بالذات، كما عرفت، ولا باعتبار اقتضائهما

(1) تقدم في ص 113.
(2) تقدم في ص 113.
(3) راجع ص 114 وما بعدها.
(4) راجع ص 114 وما بعدها.
138

لمتعلقيهما، فإن متعلق الأمر بالأهم مطلوب على الإطلاق، وليس في عرضه
مطلوب آخر ليزاحمه، وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به فالمهم حينئذ مطلوب،
والمفروض أنه في هذا الظرف مقدور للمكلف عقلا وشرعا، فإذا كان كذلك
فلا مانع من تعلق الأمر به، وليس فيه تكليف بالمحال والجمع أبدا، ومجرد ثبوت
الأمر بالأهم في هذا الحال لا ينافيه لا ذاتا ولا اقتضاء.
ولعل المنكرين للترتب لم ينظروا إلى هذه النقطة نظرة عميقة صحيحة، بل
نظروا إليها نظرة سطحية، وتخيلوا أن اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان
واحد غير معقول.
وكيف ما كان فإمكان الترتب على ضوء بياننا هذا قد أصبح أمرا ضروريا، فلا
مناص من الالتزام به أصلا.
التاسعة عشرة: أنه لا تنافي ولا تزاحم بين الملاك القائم بالمهم في ظرف
ترك الأهم وعصيان أمره، والملاك القائم بالأهم على وجه الإطلاق. كما أنه لا
تنافي بين إرادة المهم في هذا الظرف وإرادة الأهم على الإطلاق كما عرفت (1).
العشرون: أن الخطاب الناظر إلى موضوع خطاب آخر على قسمين:
أحدهما: ما كان رافعا لموضوعه بصرف وجوده وتحققه، وقد مثل شيخنا
الأستاذ (قدس سره) لذلك بفروع كثيرة، ولكن قد عرفت أن الرافع للموضوع في تلك
الفروعات ليس هو صرف وجود الخطاب، بل الرافع له شئ آخر كما عرفت.
وثانيهما: ما كان رافعا له بامتثاله والإتيان بمتعلقه، وقد تقدم أن القسم الأول
خارج عن محل الكلام ولا يمكن فيه فرض الترتب، والقسم الثاني داخل فيه.
أدلة استحالة الترتب ونقدها
الأول: ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك نصه: (قلت: ما هو ملاك
استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك، فإنه وإن لم يكن

(1) تقدم في ص 124 فراجع.
139

في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما إلا أنه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما،
بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما
بعد ما لم يعص، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضا، لتحقق ما هو شرط
فعليته فرضا.
لا يقال: نعم، ولكنه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعد بالاختيار،
فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالأهم، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا
كان بسوء الاختيار.
فإنه يقال: استحالة طلب الضدين ليست إلا لأجل استحالة طلب المحال،
واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال، وإلا
لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى
الترتب، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.
إن قلت: فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك فإن الطلب
في كل منهما في الأول يطارد الآخر، بخلافه في الثاني فإن الطلب بغير الأهم لا
يطارد طلب الأهم، فإنه يكون على تقدير عدم الإتيان بالأهم، فلا يكاد يريد
غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.
قلت: ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم؟! وهل يكون طرده له إلا
من جهة فعليته ومضادة متعلقه له؟ وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الإتيان به لا
يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الإتيان به وعصيان أمره، فيلزم
اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين
المتعلقين، مع أنه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم؟! فإنه على هذا الحال يكون
طاردا لطلب الضد - كما كان في غير هذا الحال - فلا يكون له معه أصلا بمجال) (1).
أقول: ملخص ما أفاده (قدس سره): هو أن اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في
زمان واحد - كما هو المفروض في محل الكلام - يقتضي الجمع بينهما في ذلك

(1) كفاية الأصول: ص 166 - 168، مع اختلاف يسير.
140

الزمان، لما عرفت من أن نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضي إلى مقتضاه في
الخارج (1)، وعلى هذا، فكما أن الأمر بالأهم يقتضي إيجاد متعلقه في الزمان
المزبور فكذلك الأمر بالمهم يقتضي إيجاده فيه، لفرض كونه فعليا في ذلك الزمان،
إذ لا معنى لفعلية الأمر في زمان إلا اقتضاءه إيجاد متعلقه فيه خارجا ودعوته إليه
فعلا، وعلى هذا فلا محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما
في ذلك الزمان من جهة مضادة متعلقيهما في الوجود، مع أن الأمر بالمهم
لو لم يقتض طرد الأهم فالأمر به لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهم، وهذا يكفي
في استحالة طلبه.
وغير خفي أن صدور هذا الكلام منه (قدس سره) غريب.
والوجه في ذلك: هو أنه لا يعقل أن يكون الأمر بالمهم طاردا للأمر بالأهم،
بداهة أن طرده له يبتنى على أحد تقديرين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن يكون الأمر بالمهم مطلقا وفي عرض الأمر بالأهم، فحينئذ لا
محالة تقع المطاردة بينهما من ناحية مضادة متعلقيهما، وعدم تمكن المكلف من
الجمع بينهما.
الثاني: أن يكون الأمر به على تقدير تقييده بعصيان الأهم مقتضيا لعصيانه
وتركه في الخارج، فعندئذ تقع المطاردة والمزاحمة بين الأمرين لا محالة، باعتبار
أن الأمر بالمهم يقتضي عصيان الأهم وترك متعلقه، والأمر بالأهم يقتضي هدم
عصيانه ورفعه.
ولكن كلا التقديرين خلاف مفروض الكلام.
أما الأول: فواضح، لما عرفت من أن محل الكلام فيما إذا كان الأمر بالمهم
مقيدا بحال ترك الأهم وعصيان أمره، فلا يكون مطلقا.
وأما الثاني: فلما تقدم من أن الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه في
الخارج وناظرا إليه رفعا ووضعا.

(1) تقدم في ص 120 وما بعدها.
(2) تقدم في ص 120 وما بعدها.
141

وعلى ضوء هذا فالأمر بالمهم بما أنه لا يكون مطلقا، ولا يكون متعرضا
لحال موضوعه - وهو عصيان الأهم، بل هو ثابت على تقدير تحقق موضوعه
ووجوده - فيستحيل أن يكون طاردا للأمر بالأهم ومنافيا له، فإنه لا اقتضاء له
بالإضافة إلى حالتي وجوده وعدمه. ومن الواضح جدا أن ما لا اقتضاء فيه لا
يزاحم ما فيه الاقتضاء.
أو فقل: إن اقتضاء الأمر بالمهم لإتيان متعلقه إنما هو على تقدير ترك الأهم
وعصيان أمره، واقتضاؤه على هذا التقدير لا ينافي اقتضاء الأمر بالأهم أصلا، ولا
يكون الإتيان بمتعلقه في هذا الحال مزاحما بأي شئ، غاية ما في الباب أن
المكلف من جهة سوء سريرته عصى الأمر بالأهم، ولم يعمل بمقتضاه، فلا يكون
عصيانه مستندا إلى مزاحمة الأمر بالمهم، كيف؟ فإن الأمر به قد تحقق في فرض
عصيانه وتقدير وجوده فلا يعقل أن يكون عصيانه مستندا إليه، بل هو مستند إلى
اختيار المكلف إياه، وعند ذلك - أي اختيار المكلف عصيانه وترك متعلقه -
يتحقق الأمر بالمهم. وعليه فلا يمكن أن يكون مثل هذا الأمر طاردا ومزاحما له،
فالطرد من جانب الأمر بالمهم غير معقول، فإذا المطاردة من الجانبين غير
متحققة.
وأما الطرد من جانب الأمر بالأهم - فحسب - فهو أيضا غير متحقق.
والوجه في ذلك: هو أن الأمر بالأهم إنما يطارد الأمر بالمهم فيما إذا فرض
كونه ناظرا إلى متعلقه ومستدعيا لهدمه، فحينئذ لا محالة يكون طاردا له باعتبار
أنه يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج، وذاك يقتضي هدمه، وبما أنه أهم فيطارده،
ولكن الفرض أنه غير ناظر إليه، وإنما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لرفعه.
وعلى هذا فلا تنافي بينهما أصلا ليكون الأمر بالأهم طاردا للأمر بالمهم، إذ
المفروض أن الأمر بالمهم لا يقتضي وجود موضوعه في الخارج وغير متعرض
لحاله أصلا، لا وجودا ولا عدما، ومعه كيف يكون الأمر بالأهم طاردا له، بداهة
أن الطرد لا يتصور إلا في مورد المزاحمة، ولا مزاحمة بين ما لا اقتضاء فيه
142

بالإضافة إلى شئ أصلا وما فيه اقتضاء بالإضافة إليه؟!
وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام
لا يرجع إلى معنى معقول.
نعم، ما أفاده (قدس سره) من أن استحالة طلب المحال لا تختص بحال دون حال متين
جدا كما تعرضنا له آنفا، إلا أنه أجنبي عن محل الكلام بالكلية.
الثاني: أيضا ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك لفظه: (ثم إنه لا أظن
أن يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين
لعقوبتين، ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد. ولذا كان سيدنا
الأستاذ (قدس سره) لا يلتزم به على ما هو ببالي، وكنا نورد به على الترتب وكان بصدد
تصحيحه) (1).
أقول: توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أن غرضه من ذلك بيان نفي القول بالترتب
بطريق الإن، بتقريب أنا لو سلمنا أنه لا يلزم من فعلية خطاب المهم وخطاب
الأهم في زمان واحد على نحو الترتب طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج، بل
قلنا: إن ترتب أحد الخطابين على عصيان الخطاب الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه
يناقض طلب الجمع ويعانده إلا أنه لا يمكن الالتزام بما هو لازم للقول بالترتب،
وهو تعدد العقاب عند ترك المكلف امتثال كلا الواجبين معا، أعني الواجب الأهم
والمهم، ضرورة أن العقاب على ما لا يقدر عليه المكلف قبيح بحكم العقل، وبما أن
المفروض في المقام استحالة الجمع بين متعلقيهما خارجا من جهة مضادتهما
فكيف يمكن العقاب على تركهما؟ أليس هذا من العقاب على ترك ما هو خارج
عن قدرة المكلف واختياره؟!
وعلى هذا فلا مناص من الالتزام بعدم تعدد العقاب، وأن تارك الأهم والمهم
معا يستحق عقابا واحدا، وهو العقاب على ترك الأهم دون ترك المهم، وهو يلازم
إنكار الترتب وعدم تعلق أمر مولوي إلزامي بالمهم، وإن كان في الخارج أمر

(1) كفاية الأصول: ص 168.
143

إنشائي فهو إرشاد إلى كونه واجدا للملاك والمحبوبية في هذا الحال، ضرورة أنه
لا معنى للالتزام بوجود الأمر المولوي الإلزامي، وعدم ترتب استحقاق العقاب
على مخالفته، لاستحالة تفكيك الأثر عن المؤثر.
أو فقل: إن القائل بالترتب لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يلتزم بتعدد العقاب،
وإما أن لا يلتزم به. فالأول يستلزم العقاب على أمر غير مقدور، وهو محال.
والثاني يستلزم إنكار الترتب.
فبالنتيجة: أنه لا يمكن القول بالترتب أصلا، بل لا مناص من الالتزام
باستحالته من جهة استحالة ما يترتب عليه.
وغير خفي ما فيه من الخلط بين أن يكون العقاب على ترك الجمع بين
الواجبين - أعني بهما الواجب الأهم والمهم - وأن يكون العقاب على الجمع في
الترك، بمعنى أنه يعاقب على ترك كل منهما في حال ترك الآخر، فإن المستحيل
إنما هو العقاب على الأول، حيث إن الجمع بينهما من جهة تضادهما في الخارج
غير ممكن وخارج عن قدرة المكلف واختياره، فالعقاب على تركه لا محالة
يكون عقابا على أمر غير مقدور، وهو محال.
إلا أن القائل بالترتب لا يقول باستحقاق العقاب على ذلك ليقال: إنه محال،
فإن القائل به إنما يقول باستحقاق العقاب على الفرض الثاني، وهو الجمع بين
تركي الأهم والمهم خارجا، وهو مقدور للمكلف، فلا يكون العقاب عليه عقابا
على غير مقدور.
والوجه في ذلك: هو أن الأمر في المقام لم يتعلق بالجمع بينهما ليقال
باستحالة العقاب على تركه من جهة استحالة طلب الجمع بينهما، بل الأمر تعلق
بذات كل واحد منهما مع قطع النظر عن الآخر، ولا يرتبط أحدهما بالآخر في
مقام الجعل والتعلق، غاية الأمر قد وقعت المزاحمة بينهما في مقام الامتثال
والفعلية، وبما أن المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في مقام الامتثال قيدنا فعلية
الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه.
144

ونتيجة ذلك: هي أن الأهم مطلوب على وجه الإطلاق، والمهم مطلوب في
ظرف ترك الأهم وعصيانه. وقد سبق أن ذلك يناقض طلب الجمع ويعانده، لا أنه
يستلزمه (1). وعلى هذا فكل منهما مقدور للمكلف على نحو الترتب، فإنه عند
إعمال قدرته في فعل الأهم وامتثاله، لا أمر بالمهم، والمفروض أنه في هذا الحال
قادر على فعل الأهم تكوينا وتشريعا، وعندئذ لا يكون العقاب على تركه
وعصيان أمره عقابا على ما لا يقدر.
وأما مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم، وحينئذ لو تركه
وعصى أمره فلا مانع من العقاب عليه، إذ المفروض أنه مقدور في هذا الحال،
وهذا معنى الجمع بين تركي الواجبين والعصيانين " ترك المهم عند ترك الأهم
وعصيانه عند عصيانه "، وحيث إنه باختيار المكلف فيستحق عقابين: عقابا على
ترك الواجب الأهم، وعقابا على ترك الواجب المهم.
ومن ذلك يستبين أن الالتزام بجواز الترتب يستلزم الالتزام بجواز تعدد
العقاب، ولا يلزم من الالتزام به (الترتب) كون العقاب عند مخالفة الأمرين من
العقاب على أمر مستحيل، ضرورة أن معنى إمكان الترتب: هو جواز تعلق الأمر
بالأهم على وجه الإطلاق، وبالمهم مقيدا بعصيان الأهم، لفرض أنهما على هذا
النحو مقدوران للمكلف، فإذا كانا مقدورين فلا محالة يستحق عقابين على تركهما
في الخارج وعصيان الأمرين المتعلقين بهما، ولا يكون ذلك من العقاب على
المحال، فإن المحال وما لا يقدر عليه المكلف إنما هو الجمع بين الضدين في
الخارج، لا الجمع بين تركيهما على نحو الترتب فإنه بمكان من الوضوح، بداهة أن
الإنسان قادر على ترك القيام - مثلا - عند تركه الجلوس، أو بالعكس، وقادر على
ترك إيجاد السواد - مثلا - عند تركه إيجاد البياض، وهكذا...، وما لا يتمكن منه
ولا يقدر عليه إنما هو الجمع بين فعليهما خارجا، فلا يقدر على إيجاد القيام عند
وجود الجلوس، أو إيجاد السواد عند وجود البياض، وهكذا.

(1) تقدم في ص 117 وما بعدها.
145

وسنبين - إن شاء الله تعالى - عند الفرق بين باب التزاحم والتعارض أن
التزاحم يختص بالضدين اللذين لهما ثالث. وأما الضدين اللذين لا ثالث لهما
فلا يمكن وقوع التزاحم بينهما، بل هما يدخلان في كبرى باب التعارض (1).
وعليه فمن الواضح جدا أن ترك كل من الضدين لهما ثالث عند ترك الآخر
مقدور، فلا مانع من العقاب عليه.
أو فقل: إن استحقاق العقاب على عصيان الأهم وتركه مورد تسالم من الكل،
وإنما الكلام في استحقاق العقاب على ترك المهم مضافا إلى استحقاق العقاب
على ترك الأهم. ومن الضروري أن المهم في ظرف عصيان الأهم مقدور عقلا
وشرعا، وإنما لا يكون مقدورا في صورة واحدة، وهي صورة الإتيان بالأهم
لا مطلقا، وعليه فلا يكون العقاب على تركه محالا.
والغفلة عن هذا أوجبت تخيل أنه على تقدير القول بإمكان الترتب لا يمكن
الالتزام بما هو لازمه من استحقاق عقوبتين في صورة مخالفة الأمرين، لأنه
عقاب على ما لا يقدر عليه المكلف، وهو الجمع بين الضدين، غافلا عن أن القول
بإمكان الترتب يرتكز على أساس يناقض طلب الجمع ويعانده.
وعليه فكيف يمكن أن يقال: إن القول بإمكانه يستلزم كون العقاب على تركه
الجمع ليقال: إنه محال فلا يمكن الالتزام به؟ بل القول به يستلزم كون العقاب على
عصيان الأهم على وجه الإطلاق، وعلى عصيان المهم في ظرف عصيان الأهم لا
مطلقا، والمفروض أن كلا العصيانين على هذا الشكل مقدور للمكلف فيستحق
عقابين عليهما، ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.
نعم، لو كان القول بالترتب مستلزما لطلب الجمع لكان العقاب على مخالفته
قبيحا، إلا أنه على هذا لا يمكن الالتزام بأصل الترتب لتصل النوبة إلى التكلم عن
إمكان الالتزام بما هو لازمه وعدم إمكانه به.

(1) سيأتي تفصيله في ص 160 - 170 و 366 - 367.
146

فالنتيجة قد أصبحت: أن القول بإمكان الترتب يستلزم ضرورة الالتزام بتعدد
العقاب في صورة مخالفة الأمرين، ولا يكون ذلك من العقاب على غير المقدور.
فما أفاده (قدس سره) من أن القائل بالترتب لا يمكن أن يلتزم بما هو لازم له - وهو
تعدد العقاب - لا يرجع إلى معنى معقول أصلا، ومنشؤه غفلته (قدس سره) عن تصور حقيقة
الترتب، وما هو أساس إمكانه وجوازه، وإلا لم يقع في هذا الاشتباه، فإن تعدد
العقاب فيما نحن فيه نظير تعدده في الواجبات الكفائية، فإن صدور واجب واحد
من جميع المكلفين وإن كان مستحيلا إلا أن تركه عند ترك الباقين مقدور له فلا
مانع من العقاب عليه.
بل يمكن أن يقال: إن تعدد العقاب في صورة مخالفة المكلف وتركه الواجب
الأهم والمهم معا من المرتكزات في الأذهان. مثلا: إذا فرض وقوع المزاحمة بين
صلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات بحيث لو اشتغل المكلف بصلاة
الآيات لفاتته فريضة الوقت فعندئذ لو عصى المكلف الأمر بالصلاة ولم يأت بها
فلا محالة يدور أمره بين أن يأتي بصلاة الآيات وأن يتركها. ومن الواضح جدا أنه
إذا تركها في هذا الحال فتشهد المرتكزات العرفية على أنه يستحق العقوبة عليه
أيضا، فإن المانع - بنظرهم - عن الإتيان بها هو الإتيان بفريضة الوقت. وأما إذا
ترك الفريضة فلا يجوز له أن يشتغل بفعل آخر ويترك الآيات. وبذلك نستكشف
إمكان الترتب، وإلا لم يكن هذا المعنى مرتكزا في أذهانهم.
الثالث: أن القول بالترتب بما أنه يبتنى على فعلية كلا الأمرين في زمان
واحد - أعني بهما: الأمر بالأهم والأمر بالمهم - فلا محالة يستلزم طلب الجمع
والمحال، ضرورة أنه لا معنى لكون الأمرين فعليين في زمان واحد إلا
اقتضاءهما إيجاد متعلقيهما في ذلك الزمان، وهذا معنى طلب الجمع والتكليف
بالمحال. ومن الظاهر أن مثل هذا التكليف لا يمكن جعله.
والوجه في ذلك: هو أن الغرض الداعي إلى جعل التكليف واعتباره على ذمة
المكلف - سواء كان التكليف وجوبيا أو تحريميا - جعل الداعي له ليحرك عضلاته
نحو الفعل وينبعث منه.
147

ومن الواضح البين: أن جعل الداعي له وإيجاده في نفسه لتحريك عضلاته
إنما يمكن فيما إذا كان الفعل في نفسه ممكنا، ولا يلزم من فرض وقوعه في
الخارج أولا وقوعه فيه محال، فإذا كان الفعل ممكنا بالإمكان الوقوعي أمكن
حصول الانبعاث له أو الانزجار من بعث المولى المتعلق به، أو زجره عنه. وأما إذا
كان الفعل ممتنعا وخارجا عن قدرة المكلف واختياره فلا يمكن حصول الانبعاث
أو الانزجار له من بعثه أو زجره، فإذا لم يمكن حصوله استحال البعث أو الزجر،
فإن الغرض منه - كما عرفت - إمكان داعويته، فإذا استحالت استحال جعله،
لكون جعله عندئذ لغوا صرفا فلا يصدر من الحكيم، لاستحالة تكليف العاجز.
وتترتب على هذا استحالة فعلية كلا الأمرين المزبورين في زمان واحد كما
هو مبنى الترتب، وذلك لأن معنى فعليتهما في زمان واحد هو أن كليهما يدعو فعلا
إلى إيجاد متعلقيهما في الخارج في ذلك الزمان، وإلا فلا معنى لكونهما فعليين.
والحال أنك قد عرفت استحالة جعل الداعي بجعل التكليف نحو المحال وما لا
يقدر عليه المكلف. وبما أن الجمع بين متعلقيهما في الخارج في زمان واحد محال
فلا يمكن أن يكون كلاهما داعيا في ذلك الزمان، لاستحالة حصول الداعي
للمكلف وانبعاثه عنهما في زمان واحد. إذا يستحيل جعل كليهما في هذا الحال،
لما مر من أن استحالة داعوية التكليف تستلزم استحالة جعله.
فالنتيجة: استحالة القول بالترتب، وأن المجعول في الواقع هو الأمر بالأهم
دون الأمر بالمهم.
والجواب عنه يظهر مما تقدم، وملخصه: هو أنه لا يلزم من اجتماع الأمرين
في زمان واحد طلب الجمع ليستحيل داعوية كل منهما لإيجاد متعلقه في هذا
الزمان (1).
والوجه فيه: هو أن الأمر بالمهم بما أنه كان مشروطا بعصيان الأمر بالأهم
وترك متعلقه خارجا فلا نظر له إلى عصيانه رفعا ووضعا، لما عرفت من أن الحكم

(1) سبق ذكره في ص 119 وما بعدها.
148

يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه (1)، والأمر بالأهم بما أنه كان محفوظا
في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه
في الخارج.
ومن الواضح أن الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب
الجمع، بل هو في طرف النقيض معه.
ومن هنا قلنا: إنه لو تمكن المكلف من الجمع بينهما خارجا فلا يقعان على
صفة المطلوبية، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الواجب الأهم دون المهم،
وبما أن المفروض قدرة المكلف على الإتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم فلا مانع
من تعلق التكليف به على هذا التقدير وحصول الانبعاث منه، ضرورة أن المانع
عن ذلك إنما هو عدم قدرة المكلف عليه، وحيث إن المطلوب لم يكن عند اجتماع
الطلبين هو الجمع بين متعلقيهما وحصول الانبعاث منهما معا فلا مانع منه أبدا.
وقد ذكرنا: أن طلب الجمع إنما يلزم على أحد تقادير [ثلاثة] (2) لا رابع لها:
الأول: أن يكون كلا الخطابين على وجه الإطلاق.
الثاني: أن خطاب المهم على تقدير اشتراطه بعصيان خطاب الأهم يكون
ناظرا إلى حال عصيانه وضعا ورفعا.
الثالث: أن الخطاب بالمهم مشروط بإتيان الأهم بأن يكونا مطلوبين على
نحو الاجتماع في آن واحد.
ومن المعلوم أن ما نحن فيه ليس من شئ منها.
أما أنه ليس من قبيل الأول فواضح، لفرض أن الأمر بالمهم مقيد بعصيان
الأمر بالأهم، وعدم الإتيان بمتعلقه خارجا.
وأما أنه ليس من قبيل الثاني فلما عرفت غير مرة من أن الحكم يستحيل أن
يقتضي وجود موضوعه في الخارج ويكون ناظرا إلى حاله وضعا أو رفعا.

(1) سبق ذكره في ص 119 وما بعدها.
(2) أضفناه ليستقيم السياق.
149

وأما أنه ليس من قبيل الثالث فظاهر، بل هو في طرف النقيض معه،
إذ المفروض في المقام أن الأمر بالمهم مقيد بعدم الإتيان بالأهم، على عكس
ذلك تماما.
فالنتيجة على ضوء ذلك: أن مقتضى - بالفتح - مثل هذين الخطابين يستحيل
أن يكون هو الجمع بين متعلقيهما، بداهة أن مقتضى - بالفتح - أحدهما رافع
لموضوع الآخر وهادم له. إذا لا يلزم من اجتماع الخطابين في زمان واحد طلب
الجمع ليقال باستحالة ذلك وعدم إمكان الانبعاث عنهما.
نعم، هو جمع بين الطلبين لا طلب للجمع بين الضدين، وبذلك ظهر أن انبعاث
المكلف عن كلا الأمرين في عرض واحد وإن كان لا يمكن إلا أن انبعاثه عنهما
على نحو الترتب لا مانع منه أصلا، فإنه عند انبعاثه عن الأمر بالأهم لا بعث
بالإضافة إلى المهم ليزاحمه في ذلك ويقتضي انبعاث المكلف نحوه، وعلى تقدير
عدم انبعاثه عنه باختياره وإرادته لا مانع من انبعاثه عن الأمر بالمهم، بداهة أن
المهم مقدور للمكلف في هذا الحال عقلا وشرعا، فإذا كان مقدورا فلا مانع من
تعلق الأمر به الموجب لانبعاث المكلف عنه نحو إيجاده. فهذا الوجه أيضا
لا يرجع إلى معنى محصل.
وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ (قدس سره) بما ملخصه: أن الأمر بالأهم والأمر بالمهم
وإن كانا فعليين حال العصيان معا إلا أن اختلافهما في الرتبة أوجب عدم لزوم
طلب الجمع من فعليتهما، لما عرفت من أن الأمر بالأهم في رتبة يقتضي هدم
موضوع الأمر بالمهم وعدمه، وأما هو فلا يقتضي وضع موضوعه، وإنما يقتضي
إيجاد متعلقه في الخارج على تقدير وجود موضوعه، وحيث إنه لم يكن بين
الأمرين اتحاد في الرتبة يستحيل أن تقتضي فعليتهما طلب الجمع بين
متعلقيهما (1).
ومن هنا قال: إن ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) من أن الأمر بالمهم

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 357.
150

مشروط بالعزم على عصيان الأمر بالأهم (1) غير صحيح، فإنه على هذا لا يكون
الأمر بالأهم رافعا لموضوع الأمر بالمهم وهادما له تشريعا، فإن الأمر بالأهم إنما
يقتضي عدم عصيانه، لا عدم العزم على عصيانه.
فالنتيجة: أن ما أفاده (قدس سره) هنا أمران:
الأول: أن ملاك عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في
زمان واحد إنما هو اختلافهما في الرتبة.
الثاني: أن ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) غير صحيح.
ولنأخذ بالمناقشة في كلا الأمرين:
أما الأمر الأول فيرده أولا: ما ذكرناه مرارا من أن الأحكام الشرعية ثابتة
للموجودات الزمانية ولا أثر لاختلافها في الرتبة، وعلى هذا فلا أثر لتقدم الأمر
بالأهم على الأمر بالمهم رتبة بعدما كانا متقارنين زمانا، بل القول بالاستحالة أو
الإمكان يبتنى على أن قضية اجتماع الأمرين في زمان هل هي طلب الجمع بين
متعلقيهما في الخارج أم لا؟ ولا يفرق في ذلك بين كونهما مختلفين في الرتبة أم
لا، ضرورة أن اختلافهما في الرتبة لا يوجب اختلافهما في الزمان، فإن من
الواضح أن المحال إنما هو طلب الجمع بين الضدين في الخارج لا في الرتبة، لما
عرفت من أن التضاد والتماثل والتناقض وما شاكلها جميعا من صفات
الموجودات الخارجية، فلا تتصف الأشياء بتلك الصفات، مع قطع النظر عن
وجوداتها في الخارج.
ومن هنا قلنا: إنه لا مضادة ولا مناقضة في المرتبة أصلا. ومن هنا جاز
اجتماع الضدين أو النقيضين في رتبة واحدة، كما جاز ارتفاعهما عنها.
أما الأول: فلما حققناه من أن النقيضين وكذا الضدين في مرتبة واحدة، وهذا
معنى اجتماعهما في المرتبة.

(1) راجع كشف الغطاء: ص 27 البحث الثامن عشر من المقدمة في مباحث الأصول.
151

وأما الثاني: فلأن النقيضين قد ارتفعا من الماهيات من حيث هي، فإنها بما
هي لا موجودة ولا معدومة.
فالنتيجة هي: أنه لا يمكن القول بأن ملاك عدم لزوم طلب الجمع من فعلية
الأمر بالأهم والأمر بالمهم معا هو اختلافهما في الرتبة.
فالصحيح في الجواب: هو ما تقدم من أن الملاك الرئيسي لعدم لزوم طلب
الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين هو تقييد الأمر بالمهم بعدم الإتيان بالأهم
وعصيانه وعدم تعرضه لحاله أصلا كما تقدم ذلك بشكل واضح (1).
وثانيا: ما سبق من أن الأمر بالأهم لا يتقدم على الأمر بالمهم رتبة، فإن تقدم
شئ على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك كامن في صميم ذات المتقدم، فلا يتعدى
منه إلى ما هو في مرتبته فضلا عن غيره. ومن الواضح أنه لا ملاك لتقدم الأمر
بالأهم على الأمر بالمهم (2).
ودعوى: أن الأمر بالأهم مقدم على عصيانه وعدم امتثاله الذي اخذ في
موضوع الأمر بالمهم - والمفروض أن الموضوع مقدم على الحكم رتبة، فلازم
ذلك تقدم الأمر بالأهم على الأمر بالمهم برتبتين - يدفعها: ما أشرنا إليه من أن
التقدم أو التأخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك راجع إلى ذات الشئ وطبعه، وتقدم
الأمر بالأهم على عصيانه بملاك لا يقتضي تقدمه على ما هو متأخر عن العصيان
رتبة، كما لا يقتضي تقدمه على ما هو في مرتبته بعدما كان الجميع متحد في
الزمان، وموجودات في زمان واحد. ومن هنا قلنا: إن العلة مقدمة على المعلول
دون عدمه، مع أنه في مرتبته (3).
وأما الأمر الثاني: فيظهر فساده مما ذكرناه من أن ملاك استحالة الترتب
وإمكانه هو لزوم طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الأمرين في زمان واحد
وعدم لزومه، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر

(1) سبق ذكره في ص 119 وما بعدها.
(2) تقدم في ص 112 - 113.
(3) تقدم في ص 112 - 113.
(3) تقدم في ص 124.
152

بالأهم أو بالعزم عليه، فإنه كما يقتضي هدم تقدير عصيانه يقتضي هدم تقدير العزم
عليه أيضا، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
وعلى الجملة: فملاك جواز الترتب على تقدير اشتراط الأمر بالمهم بعصيان
الأمر بالأهم موجود بعينه في صورة اشتراطه بالعزم على عصيانه.
نعم، الذي يرد عليه: هو أن العزم ليس بشرط. والوجه فيه: هو أن هذا
الاشتراط قد ثبت بحكم العقل، ومن الواضح أن العقل لا يحكم إلا بثبوت الأمر
بالمهم في ظرف عصيان الأمر بالأهم خارجا وعدم الإتيان بمتعلقه.
وإن شئت فقل: إن مقتضى المزاحمة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم هو
سقوط إطلاق الأمر بالمهم حال العجز وعدم القدرة على امتثاله، وبقاؤه في حال
القدرة على امتثاله، لعدم موجب لسقوطه حينئذ، ومقتضى ذلك هو اشتراط الأمر
بالمهم بنفس العصيان الخارجي، لا بالعزم على عصيانه.
الرابع: أن العصيان الذي هو شرط لفعلية الأمر بالمهم إن كان شرطا بوجوده
الخارجي على نحو الشرط المقارن فهو هادم لأساس الترتب، إذ الترتب عند
القائل به مبتن على وجود كلا الأمرين - أعني بهما: الأمر بالأهم والأمر بالمهم -
في زمان واحد، ولكن في الفرض المزبور يسقط الأمر بالأهم، فإن الأمر كما
يسقط بالامتثال والإتيان بمتعلقه خارجا كذلك يسقط بالعصيان وعدم الإتيان به
في الخارج.
وعلى هذا فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين في زمان واحد، فإن في زمان
فعلية الأمر بالمهم قد سقط الأمر بالأهم من جهة العصيان، وفي زمان ثبوت الأمر
بالأهم لا أمر بالمهم، لعدم تحقق شرطه.
وقد تقدم أن تعلق الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر عن الأهم خارج عن محل
الكلام، ولا إشكال في جوازه، فإن محل الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعليا
في زمان واحد، وهذا غير معقول مع فرض كون معصية الأمر بالأهم علة لسقوطه،
153

إذ عندئذ لا ثبوت له حال العصيان ليجتمع مع الأمر بالمهم في ذلك الحال.
وأما إذا كان العصيان شرطا على نحو الشرط المتأخر أو كان وجوده
الانتزاعي - وهو كون المكلف متصفا بأنه يعصي فيما بعد - شرطا في فعلية الأمر
بالمهم فلا محالة يلزم منه طلب الجمع بين الضدين، وذلك لأن الأمر بالمهم يصير
فعليا في زمان عدم سقوط الأمر بالأهم، إذ المفروض أن العصيان شرط متأخر، أو
أن الشرط في الحقيقة هو عنوان تعقبه بالعصيان المتأخر، وعلى كل حال فالأمر
المتعلق به فعلي، كما أن الأمر بالأهم فعلي وهو لم يسقط بعد، لأن مسقطه - وهو
العصيان على الفرض - لم يتحقق.
فإذا يتوجه إلى المكلف تكليفان فعليان في زمان واحد، ولا محالة يقتضي
كل منهما لإيجاد متعلقه في الخارج في ذلك الزمان، ضرورة أنه لا معنى لفعلية
تكليف إلا اقتضاءه إيجاد متعلقه خارجا ودعوته إليه فعلا.
وفي المقام بما أن كلا من الأمر بالأهم والأمر بالمهم فعلي في زمن واحد فلا
محالة يدعو كل منهما إلى إيجاد متعلقه في ذلك الزمن. وهذا معنى لزوم طلب
الجمع بين الضدين.
وصفوة هذا الوجه: هي أن العصيان إن كان شرطا لوجوده الخارجي على نحو
الشرط المقارن فلا يمكن عندئذ فرض اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في
زمان واحد، لأن بتحقق العصيان خارجا وإن صار الأمر بالمهم فعليا إلا أنه في
هذا الزمان يسقط الأمر بالأهم، فزمان ثبوت أحدهما هو زمان سقوط الآخر، فلا
يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد.
وقد تقدم أن هذا خارج عن محل الكلام في المسألة، ولا إشكال في جوازه،
فإن ما كان محلا للكلام هو ما إذا كان الأمران مجتمعين في زمان واحد. وأما إن
كان شرطا بنحو الشرط المتأخر، أو كان الشرط في الحقيقة هو عنوانه العصيان
الانتزاعي المنتزع منه باعتبار وجوده في زمان متأخر فحينئذ وإن كان الأمران
154

مجتمعين في زمان واحد إلا أن لازم اجتماعهما فيه هو طلب الجمع بين إيجاد
متعلقيهما في الخارج، بداهة أنه لا معنى لتعلق التكليف بشئ إلا اقتضاءه إيجاده
خارجا، وبما أنهما متضادان على الفرض فيلزم طلب الجمع بينهما، وهو محال.
فالنتيجة: عدم إمكان القول بالترتب. والجواب عن هذا الوجه على ضوء ما
بيناه واضح.
وتفصيل ذلك: أن ما ذكر من أن العصيان إذا كان شرطا متأخرا، أو كان
الشرط عنوانا انتزاعيا من العصيان المتأخر في ظرفه فهو يستلزم طلب الجمع بين
الضدين، لفرض اجتماع الأمرين في زمان واحد.
فيرده أولا: أن العصيان ليس بوجوده المتأخر، ولا بعنوانه الانتزاعي شرطا
بأن يكون الأمر بالمهم فعليا لمن يعصي في زمان متأخر، لما سنبين - إن شاء الله -
من أن العصيان شرط بوجوده الخارجي، وعليه فما لم يتحقق العصيان في الخارج
لم يصر الأمر بالمهم فعليا.
وثانيا: قد تقدم أن اجتماع الأمرين في زمان واحد على نحو الترتب لا
يستلزم طلب الجمع، بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع ومعانده رأسا (1).
والأصل في ذلك ما سبق من أن طلب الجمع بين الضدين إنما يلزم على أحد
التقادير المتقدمة، وقد مضى الكلام فيها بشكل واضح فلا حاجة إلى الإعادة،
وقلنا: إن ما نحن فيه ليس من شئ من تلك التقادير (2).
ومما يشهد على ما ذكرنا: أنه إذا فرض فعلان في حد ذاتهما ممكني الجمع
كقراءة القرآن والدخول في المسجد - مثلا - فمع ترتب الأمر بأحدهما على عدم
الإتيان بالآخر لا يقعان على صفة المطلوبية عند جمع المكلف بينهما خارجا،
بداهة أن مطلوبية أحدهما إذا كانت مقيدة بعدم الإتيان بالآخر فيستحيل وقوعهما
معا في الخارج على صفة المطلوبية. وهذا برهان قطعي على عدم مطلوبية الجمع.

(1) تقدم في ص 119 وما بعدها.
(2) تقدم في ص 119 وما بعدها.
155

ودعوى: أن عدم وقوعهما على صفة المطلوبية معا هنا إنما هو من جهة عدم
تمكن المكلف من الجمع بينهما، فلو تمكن من ذلك فلا محالة يقعان على صفة
المطلوبية مدفوعة: بأن وقوعهما على هذه الصفة مع فرض بقاء تقييد الأمر بالمهم
بعدم الإتيان بالأهم وعصيان أمره في هذا الحال غير معقول، بل الإتيان بالمهم
عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرم.
وأما مع فرض ارتفاع التقييد في هذا الحال - كما هو الصحيح - لأن التقييد
من جهة المزاحمة بين التكليفين وعدم تمكن المكلف من الجمع بين
متعلقيهما في مقام الامتثال - وأما مع فرض عدم المزاحمة وتمكن المكلف من
الجمع بينهما في تلك المرحلة فلا تقييد في البين، ولا حكم للعقل به، لأنه إنما
يحكم به في صورة المزاحمة لا مطلقا - فهو خارج عن محل الكلام، فإن محل
الكلام هو ما إذا لم يتمكن المكلف من الجمع بينهما، فإنه يوجب تقييد الواجب
المهم بعدم الإتيان بالأهم بحكم العقل، وفي هذا الفرض لا يمكن وقوعهما على
صفة المطلوبية كما سبق.
وأما ما ذكر من أن العصيان إذا كان شرطا بوجوده الخارجي على نحو
الشرط المقارن فلا يمكن فرض اجتماع الأمرين - الأمر بالأهم والأمر بالمهم -
في زمان واحد فهو يبتنى على نقطة فاسدة، وهي توهم أن العصيان مهما تحقق
ووجد في الخارج فهو مسقط للأمر، ولكن الشأن ليس كذلك.
والوجه فيه: هو أنا إذا حللنا مسألة سقوط الأمر تحليلا علميا نرى أن
الموجب لسقوطه أمران لا ثالث لهما:
الأول: امتثاله والإتيان بمتعلقه في الخارج، هذا باعتبار أن ذلك موجب
لحصول الغرض منه. وقد ذكرنا غير مرة أن الأمر معلول للغرض الداعي له حدوثا
وبقاء، فمع تحقق الغرض في الخارج لا يعقل بقاء الأمر، وإلا لزم بقاء الأمر بلا
غرض، وهو - كبقاء المعلول بلا علة - محال.
156

فالنتيجة: أن الامتثال والإتيان بمتعلقه خارجا إنما يوجب سقوط الأمر
باعتبار حصول الغرض بذلك وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه (المأمور به) في
الخارج، لا أن الامتثال في نفسه يقتضي سقوط الأمر وعدمه، بداهة أن الامتثال
معلول للأمر فلا يعقل أن يكون معدما له، لاستحالة أن يكون وجود المعلول
خارجا علة لعدم وجود علته، ووجود المقتضى - بالفتح - علة لعدم مقتضيه.
وعلى الجملة: فامتثال الأمر والإتيان بمتعلقه خارجا بما أنه يوجب حصول
الغرض يكون مسقطا له لا محالة، فإن أمد اقتضائه لإيجاد متعلقه خارجا ينتهي
بوجوده وتحققه في الخارج، وبعده لا اقتضاء له أبدا.
الثاني: امتناع الامتثال وعدم تمكن المكلف منه فإنه يوجب سقوط الأمر لا
محالة، لقبح توجيه التكليف نحو العاجز، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون عدم
تمكن المكلف من ناحية ضيق الوقت أو من ناحية مانع آخر.
فالنتيجة قد أصبحت: أن الأمر بما أنه تابع للغرض الداعي له حدوثا وبقاء
فمع تحقق هذا الغرض ووجوده لا يعقل بقاء الأمر، وإلا لزم بقاء المعلول بلا علة،
كما أنه مع امتناع حصول هذا الغرض في الخارج من جهة عدم تمكن المكلف من
تحصيله لعجزه عن الامتثال والإتيان بالمأمور به لا يعقل بقاء الأمر. وأما إذا لم
يكن هذا ولا ذاك فلا يعقل سقوط الأمر، بداهة أنه لا يسقط بلا سبب وموجب.
وأما العصيان بما هو عصيان فلا يعقل أن يكون مسقطا للأمر، وذلك لما تقدم
من أن ثبوت الأمر في حال العصيان والامتثال أمر ضروري لا مناص من الالتزام
به، وإلا فلا معنى للامتثال والعصيان، ضرورة أن الأمر لو سقط في حال الامتثال
أو العصيان فلا أمر عندئذ ليمتثله المكلف أو يعصيه (1).
نعم، لو استمر العصيان إلى زمان لا يتمكن المكلف بعده من الامتثال لسقط
الأمر لا محالة، ولكن لا من جهة العصيان بما هو، بل من جهة عدم قدرة المكلف

(1) مر ذكره في ص 114 وما بعدها فراجع.
157

عليه وعدم تمكنه منه. كما أن الامتثال إذا استمر إلى آخر جزء من الواجب لسقط
الأمر من جهة حصول الغرض به.
وسر ذلك: هو ما عرفت من أنه لا موجب لسقوط التكليف إلا أحد الأمرين
المزبورين، أعني بهما: عجز المكلف عن امتثاله، وحصول الغرض منه.
وأما إذا كان المكلف متمكنا من الامتثال ولكنه عصى ولم يأت به في الآن
الأول فمن الواضح أن مجرد تركه في ذلك الآن وعدم الإتيان به فيه لا يوجب
سقوطه مع تمكنه منه في الآن الثاني.
وعلى ضوء هذا يترتب أن التكليف بالأهم في محل الكلام لا يسقط بعصيانه
في الآن الأول مع تمكن المكلف من امتثاله في الآن الثاني.
والوجه في ذلك: هو أنه لا موجب لسقوط الأمر بالأهم في المقام ما عدا
عجز المكلف عن امتثاله والإتيان بمتعلقه، والمفروض أن المكلف غير عاجز عنه،
ضرورة أن فعل الشئ لا يصير ممتنعا حال تركه، وكذا تركه حال فعله، إذ ترجيح
أحد طرفي الممكن على الآخر لا يوجب العجز وسلب القدرة عن الطرف
بالبداهة. وعلى ذلك فالأهم مقدور للمكلف حال تركه، كما كان مقدورا حال
فعله، وكذا هو مقدور حال فعل المهم.
والأصل في هذا: هو أن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر أو ترجيح
فعل المهم في المقام على فعل الأهم باختيار المكلف وإرادته، فلا يعقل أن يكون
ذلك موجبا لامتناع الطرف الآخر، وإلا لم يكن الشئ من الأول مقدورا،
وهذا خلف.
ونتيجة ذلك: هي أن الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وحال الإتيان بالمهم،
غاية الأمر ثبوته في هذا الحال على وجهة نظرنا بالإطلاق، حيث قد ذكرنا غير
مرة أن الإهمال في الواقع غير معقول، فمتعلق الحكم في الواقع إما هو ملحوظ
على وجه الإطلاق بالإضافة إلى جميع الخصوصيات، حتى الخصوصيات
الثانوية. وإما هو ملحوظ على وجه التقييد بشئ منها، ولا ثالث لهما. وعليه فإذا
158

استحال أحدهما وجب الآخر، وحيث إن في المقام التقييد بالوجود والعدم محال
فالإطلاق واجب (1) وعلى وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) من جهة انحفاض المؤثر
في ظرف تأثيره واقتضائه هدم عصيانه.
وعلى هذا فالأمر بالأهم لا يسقط في ظرف عصيانه. فإذا يجتمع الأمران في
زمان واحد، وهو زمان عصيان الأهم. أما الأمر بالمهم فلتحقق شرطه، وأما الأمر
بالأهم فلعدم سقوطه بالعصيان.
نعم، لو كان الواجب الأهم آنيا لسقط الأمر به بالعصيان في الآن الأول، ولكن
لا من ناحية أن العصيان مسقط له، بل من ناحية عدم تمكن المكلف من امتثاله
والإتيان بمتعلقه خارجا في الآن الثاني، لانتفائه بانتفاء موضوعه في ذلك الآن،
وبعده لا يبقى مجال وموضوع للامتثال.
وقد تقدم ذلك سابقا بشكل واضح، وقلنا هناك: إن هذا الفرض خارج عن
محل الكلام، فإن ما كان محلا للكلام هنا هو ما لا يمكن إثبات الأمر بالمهم إلا
بناء على القول بالترتب، ومع الإغماض عنه يستحيل إثبات الأمر به (2)، وفي هذا
الفرض لا مانع من ذلك، فإن المانع منه هو فعلية الأمر بالأهم، وبعد سقوطه عن
الفعلية لا مانع من فعلية الأمر بالمهم أصلا، وحيث إن المفروض هنا سقوط الأمر
بالأهم في الآن الثاني بسقوط موضوعه - وهو القدرة - فلا محذور في تعلق الأمر
بالمهم في ذلك الآن أصلا.
نعم، إذا كان الواجب المهم أيضا آنيا فيدخل في محل النزاع، ولا يمكن
إثبات الأمر به عندئذ إلا بناء على القول بالترتب كما سبق (3).
ومن هذا القبيل ما إذا كان الواجب الأهم مضيقا على نحو لو عصاه المكلف
في جزء من وقته لفاته، ولا يتمكن بعده من الإتيان به وامتثاله لسقوطه بسقوط
موضوعه، ضرورة أنه بعد مضي مقدار من الزمان الذي لا يتمكن المكلف بعده من

(1) راجع ص 116.
(2) قد تقدم في ص 106 فراجع.
(3) قد تقدم في ص 106 فراجع.
159

الإتيان به يسقط أمره، لأجل امتناع تحصيل ملاكه وغرضه، لا لأجل مجرد عدم
الفعل في الآن الأول وعصيانه فيه.
ومثال ذلك: هو ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصوم - مثلا - ووجوب
واجب آخر، فإذا ترك الصوم في جزء من الزمان فهو لا يتمكن من امتثال أمره
بعد ذلك، فيسقط وجوبه لا محالة.
ولعل المنكر للترتب تخيل أولا: أن محل النزاع خصوص هذا الفرض.
وتخيل ثانيا: أن سقوط الأمر فيه مستند إلى العصيان في الآن الأول، لا إلى
شئ آخر.
وثالثا: أن الأمر غير ثابت في حال العصيان. فها هنا دعاوى ثلاث:
الأولى: أن محل البحث في مسألة الترتب إنما هو في أمثال هذا الفرض.
الثانية: أن سقوط الأمر فيه مستند إلى عدم الفعل في الآن الأول وعصيان
الأمر فيه، لا إلى شئ آخر.
الثالثة: أن الأمر ساقط في حال العصيان.
ولكن جميع هذه الدعاوى باطلة.
أما الدعوى الأولى فالأمر على عكسها، أعني به: أن هذا الفرض وما يشبهه
خارج عن محل الكلام في المقام.
والوجه في ذلك: هو ما عرفت من أن محل الكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات
الأمر بالمهم إلا بناء على القول بالترتب (1)، وفي هذا الفرض يمكن إثبات الأمر به مع
قطع النظر عنه، إذ المانع عن تعلق الأمر به هو فعلية الأمر بالأهم، وبعد سقوطه عن
الفعلية لا مانع من تعلقه به أصلا، وبما أن المفروض هنا سقوطه في الآن الثاني فلا
مانع من تعلق الأمر بالمهم فيه، لما تقدم من أن صحة تعلق الأمر به بعد سقوط
الأمر عن الأهم من الواضحات الأولية، وليس من محل النزاع في شئ (2).

(1) راجع ص 106 - 107.
(2) راجع ص 106 - 107.
160

وقد تحصل من ذلك: أن الواجب الأهم إذا كان موقتا على نحو يكون وقته
مساويا لفعله فهو خارج عن محل البحث، لسقوط وجوبه في الآن الثاني بمجرد
تركه خارجا، وعدم الإتيان به في الآن الأول.
وأما الدعوى الثانية لما عرفت من أن العصيان بنفسه لا يمكن أن يكون
مسقطا للأمر. وقد سبق أن المسقط له أحد الأمرين المزبورين لا ثالث لهما، هما:
1 - امتثاله الموجب لحصول الغرض والملاك الداعي له.
2 - وعجز المكلف عنه الموجب لامتناع حصوله. وأما مجرد ترك امتثاله في
الآن الأول وعصيانه فيه مع تمكنه منه في الآن الثاني فلا يوجب سقوطه، ضرورة
أن سقوطه عندئذ من دون موجب وعلة، وهو محال (1).
وأما الدعوى الثالثة فلما تقدم (2) من أن الأمر ثابت في حال العصيان،
ضرورة أنه لو لم يكن ثابتا في آن العصيان فلا معنى لمخالفة المكلف وعصيانه
إياه، فإنه لا أمر في هذا الآن ليعصيه. وقد سبق أن ثبوته بالإطلاق على وجهة
نظرنا، ومن جهة اقتضائه هدم عصيانه على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) (3).
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه هنا عدة أمور:
الأول: أن الواجب الأهم إذا كان آنيا أو كان على نحو يسقط أمره بمجرد عدم
إتيانه في الآن الأول وعصيانه فيه بسقوط موضوعه - وهو القدرة - وكان الواجب
المهم تدريجيا فهو خارج عن محل البحث، لعدم توقف إثبات الأمر بالمهم على
القول بالترتب كما مر (4).
الثاني: أن العصيان بأي نحو فرض لا يعقل أن يكون مسقطا للأمر. نعم، قد
يوجب سقوطه من جهة سقوط موضوعه وعدم تمكن المكلف من امتثاله بعده.
الثالث: أن المسقط للأمر بقانون أنه تابع للغرض والملاك الداعي له حدوثا
وبقاء إنما هو أحد الأمرين المتقدمين: حصول الملاك والغرض في الخارج

(1) تقدم في ص 156 - 157.
(2) تقدم في ص 156 - 157.
(3) تقدم في ص 156 - 157.
(4) راجع ص 106.
161

بالامتثال، وامتناع حصوله وتحققه فيه لعجز المكلف عنه.
الرابع: أن الامتثال لا يقتضي بذاته سقوط الأمر، بل اقتضاؤه ذلك باعتبار
حصول غرضه وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه في الخارج.
الخامس: أن الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم بوجوده
الخارجي على نحو الشرط المقارن، بمعنى أنه ما لم يتحقق في الخارج لم يصر
الأمر بالمهم فعليا.
السادس: أن الأمر بالأهم والأمر بالمهم وإن اجتمعا على هذا في زمان واحد
إلا أن مقتضاهما ليس هو طلب الجمع بين متعلقيهما، بل هو طلب التفريق بينهما
كما حققناه بصورة مفصلة (1).
فالنتيجة على ضوء هذه الأمور: هي بطلان الدليل المزبور وأنه لا مجال
له أبدا.
إلى هنا قد تبين بطلان جميع أدلة استحالة الترتب، وأنه لا يمكن تصديق
شئ منها.
هذا تمام كلامنا في بحث الترتب جوازا وامتناعا، إمكانا واستحالة.
بقي الكلام في أمور:
الأول: قد ذكرنا في آخر بحث البراءة والاشتغال: أن حديث " لا تعاد "
لا يختص بالناسي، بل يعم الجاهل القاصر أيضا، ولذلك قلنا بعدم وجوب
الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف، خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره) حيث قد
استظهر اختصاصه بالناسي فلا يعم الجاهل. وقد ذكرنا هناك: أن ما ذكره (قدس سره) في
وجه ذلك غير تام. وتمام الكلام في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.
وأما الجاهل المقصر فقد تسالم الأصحاب قديما وحديثا على عدم صحة
عباداته، واستحقاقه العقاب على ترك الواقع ومخالفته، ووجوب الإعادة والقضاء

(1) تقدم في ص 117 وما بعدها.
162

عليه عند انكشاف الخلاف وظهوره، ولكن استثني من ذلك مسألتان:
الأولى: مسألة الجهر والخفت.
الثانية: مسألة القصر والتمام، حيث ذهب المشهور إلى صحة الصلاة جهرا في
موضع الإخفات وبالعكس، وصحة الصلاة تماما في موضع القصر، وكذلك القصر
في موضع التمام للمقيم عشرة أيام - لا مطلقا - على المختار. كل ذلك في فرض
الجهل ولو عن تقصير. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المشهور قد التزموا في تلك الموارد باستحقاق العقاب
على مخالفة الواقع وتركه، فمن صلى جهرا في موضع الإخفات أو بالعكس، أو
صلى تماما في موضع القصر استحق العقاب على ترك الواقع، مع الحكم بصحة ما
أتى به.
ومن هنا وقع الإشكال في الجمع بين هاتين الناحيتين، وأنه كيف يمكن
الحكم بصحة المأتي به خارجا وأنه مجزئ عن الواقع، وعدم وجوب الإعادة مع
بقاء الوقت والحكم باستحقاق العقاب؟
ثم إنه لا يخفى أن المسألتين بحسب الفتاوى والنصوص مما لا إشكال
فيهما أصلا.
أما بحسب الفتاوى فقد تسالم الأصحاب عليهما.
وأما بحسب النصوص فقد وردت فيهما نصوص صحيحة قد دلت على
ذلك (1).
وإنما الكلام والإشكال في الجمع بين الناحيتين المزبورتين في مقام الثبوت
والواقع، وقد تفصي عن ذلك بوجهين:
الأول: ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) من الالتزام بالترتب في المقام،
بتقريب أن الواجب على المكلف ابتداء هو الصلاة جهرا مثلا، وعلى تقدير تركه

(1) راجع الوسائل ج 8 ص 505 ب 17 من أبواب صلاة المسافر، و ج 6 ص 86 ب 26 من
أبواب القراءة.
163

وعصيان أمره فالواجب هو الصلاة إخفاتا، أو بالعكس، أو أن الواجب عليه ابتداء
هو الصلاة قصرا، وعلى تقدير تركه فالواجب هو الصلاة تماما، وبذلك دفع
الإشكال المزبور، وأنه لا منافاة عندئذ بين الحكم بصحة العبادة المأتي بها جهرا
أو إخفاتا وأنها مجزئة عن الواقع، وصحة العقاب على ترك الآخر.
وقد أورد عليه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) بقوله: " إنا لا نعقل الترتب " (1)،
واكتفى بذلك ولم يبين وجهه.
وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره) بأن قوله هذا مناقض لما ذهب إليه في تعارض
الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب هناك (2).
واليك نص كلامه: (أن الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة
وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث
هذا المفهوم المنتزع، لأن ذلك غير ممكن كما تقدم وجهه في بيان الشبهة، لكن لما
كان امتثال التكليف بالعمل بكل واحد منهما - كسائر التكاليف الشرعية والعرفية -
مشروطا بالقدرة، والمفروض أن كل واحد منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير
مقدور مع ايجاد الآخر فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله،
ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة
وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة، وهذا مما
يحكم به بداهة العقل، كما في كل واجبين اجتمعا على المكلف، ولا مانع من تعيين
كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلا تعين الآخر عليه كذلك.
والسر في ذلك: أنا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل لم
يكن وجوب كل واحد منهما ثابتا بمجرد الإمكان، ولزم كون وجوب كل منهما
مشروطا بعدم وجود الآخر، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منهما في
مقام الامتثال بأزيد من الإمكان، سواء كان وجوب كل منهما بأمرين أو كان بأمر

(1) كشف الغطاء: ص 27 البحث الثامن عشر من مباحث المقدمة.
(2) فرائد الأصول ج 2 ص 524. وقد بين وجهه في مطارح الأنظار: ص 57 و 123.
164

واحد يشمل الواجبين، وليس التخيير في القسم الأول لاستعمال الأمر في التخيير.
والحاصل: أنه إذا أمر الشارع بشئ واحد استقل العقل بوجوب إطاعته في
ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي، وإذا أمر بشيئين واتفق امتناع
إيجادهما في الخارج استقل بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه، لأنها ممكنة
فيقبح تركها، لكن هذا كله على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية بأن
يكون قيام الخبر على وجوب شئ واقعا سببا شرعيا لوجوبه ظاهرا على
المكلف، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين، فيلغى أحدهما مع
وجود وصف السببية فيه لإعمال الآخر كما في كل واجبين متزاحمين) (1).
أقول: ما أورده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من المناقضة بين كلام الشيخ (رحمه الله) (في
المقام) وما ذكره في بحث التعادل والترجيح متين جدا، فإن كلامه (هناك) الذي
نقلناه بألفاظه (هنا) ظاهر، بل صريح في التزامه بالترتب، إذ لا معنى له إلا الالتزام
بوجوب أحد الواجبين المتزاحمين عند ترك الآخر، بأن يرفع اليد عن إطلاق كل
واحد منهما عند الإتيان بالآخر، لا عن أصله إذا كانا متساويين، وعن إطلاق
واحد منهما إذا كان أحدهما أهم من الآخر.
ومن الواضح جدا أنه لا فرق في القول بالترتب بين أن يكون من طرف واحد
كما تقدم الكلام فيه مفصلا (2)، وأن يكون من الطرفين كما إذا كان كلاهما
متساويين، فإنه عند ذلك بما أن المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في الخارج
فلا مانع من أن يكون الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الإتيان بالآخر فهما (الترتب
من طرف واحد، ومن الطرفين) يشتركان في ملاك إمكان الترتب واستحالته، فإن
ملاك الإمكان هو أن اجتماع الأمرين كذلك في زمان واحد لا يستلزم طلب
الجمع، وملاك الاستحالة هو أن اجتماعهما كذلك يستلزم طلبه، والمفروض أن
الأمرين مجتمعان في زمان واحد، لما عرفت من أن الأمر ثابت حالتي وجود

(1) انظر فرائد الأصول: ج 2 ص 761، المقام الأول في المتكافئين، باختلاف ونقصان.
(2) تقدم في ص 51 وما بعدها.
165

متعلقه وعدمه فلا يسقط بمجرد تركه، كما أنه لا يسقط بصرف الاشتغال
بالآخر (1). نعم، يسقط بعد الإتيان به، لفرض أن وجوب كل منهما مشروط بعدم
الإتيان بالآخر، فلا محالة لا وجوب بعد الإتيان به، وعلى كل حال فهو (قدس سره) قد
التزم بالترتب في تعارض الخبرين بناء على السببية، غافلا عن كون هذا ترتبا
مستحيلا في نظره.
ومن هنا قلنا: إن مسألة إمكان الترتب مسألة ارتكازية وجدانية، ولا مناص
من الالتزام بها، ولذا قد يلتزم بها المنكر لها بشكل آخر وببيان ثان، غافلا عن
كونه ترتبا، مع أنه هو في الواقع وبحسب التحليل.
وأما شيخنا الأستاذ (قدس سره) فقد أورد على ما أفاده الشيخ الكبير كاشف
الغطاء (قدس سره) في المسألة - صحة الجهر في موضع الإخفات وبالعكس جهلا - من
ناحية أخرى. ونحن وإن تعرضنا للمسألة في آخر بحث البراءة والاشتغال ودفعنا
الإشكال عنها من دون حاجة إلى الالتزام بالترتب فيها إلا أن الكلام هنا يقع في
الوجوه التي ذكرها شيخنا الأستاذ (قدس سره) في وجه عدم جريان الترتب فيها وأنها
ليست من صغريات كبرى مسألة الترتب، بيانها:
الأول: أن محل الكلام في جريان الترتب وعدم جريانه إنما هو فيما إذا كان
التضاد بين متعلقي الحكمين اتفاقيا.
والوجه في ذلك: هو أن التضاد بين المتعلقين إنما يوجب التزاحم بين
الحكمين فيما إذا كان من باب الاتفاق: كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد
وإنقاذ الغريقين وما شاكلهما، بالإضافة إلى من لا يقدر على الجمع بينهما في عالم
الوجود، ولذا لا تزاحم ولا تضاد بينهما بالإضافة إلى من يقدر على الجمع بينهما
فيه. وأما إذا كان التضاد بينهما دائميا بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في
مقام الوجود أصلا - كالقيام والجلوس والسواد والبياض وما شابههما - فلا يمكن
جعل الحكمين لهما معا، لأن ذلك لغو صرف فلا يصدر من الحكيم.

(1) تقدم في ص 114 وما بعدها.
166

نعم، يمكن جعلهما على نحو التخيير، إلا أنه خارج عن محل الكلام، وعليه
فلا محالة يدخلان في باب التعارض، لتنافيهما بحسب مقام الجعل.
وعلى هذا الأساس فحيث إن التضاد بين الجهر والإخفات دائمي فلا محالة
كان دليل وجوب كل منهما معارضا لدليل وجوب الآخر، فبذلك يخرجان عن
باب التزاحم الذي هو الموضوع لبحث الترتب (1).
ويمكن المناقشة فيما أفاده (قدس سره)، وذلك لأن ما ذكره - من أن التضاد بين
المتعلقين إذا كان دائميا فيدخلان في باب التعارض - وإن كان متينا جدا إلا أن
ذلك لا يمنع عن جريان بحث الترتب فيهما إمكانا واستحالة، فإن ملاك إمكانه هو
أن تعلق الأمرين بالضدين على نحو الترتب لا يرجع إلى طلب الجمع بينهما في
الخارج. وملاك استحالته هو أن ذلك يرجع إلى طلب الجمع بينهما فيه. ومن
الواضح جدا أنه لا يفرق في ذلك بين أن يكون التضاد بينهما اتفاقيا أو دائميا،
ضرورة أن مرجع ذلك إن كان إلى طلب الجمع فهو محال على كلا التقديرين من
دون فرق بينهما أصلا، وإن لم يكن إلى طلب الجمع فهو جائز كذلك، إذ على هذا
كما يجوز تعلق الأمر بالصلاة والإزالة - مثلا - على نحو الترتب كذلك يجوز تعلق
الأمر بالقيام والقعود - مثلا - على هذا النحو.
وعلى الجملة: فالمحال إنما هو طلب الجمع، فكما يستحيل طلب الجمع
بين القيام والقعود خارجا فكذلك يستحيل طلب الجمع بين الصلاة والإزالة، وأما
طلبهما على نحو الترتب الذي هو مناقض لطلب الجمع ومعاند له فلا مانع
منه أصلا.
فالنتيجة من ذلك: هي أن الترتب كما يجري بين الخطابين في مقام الفعلية
والمزاحمة بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه كذلك
يجري بينهما في مقام الجعل والمعارضة بتقييد جعل أحد الحكمين المتعارضين
بعصيان الحكم الآخر، وعدم الإتيان بمتعلقه على نحو القضية الحقيقية.

(1) راجع أجود التقريرات ج 1 ص 310.
167

وفي مسألتنا هذه لا مانع من جعل وجوب الجهر في موضع الخفت وبالعكس
على نحو الترتب، بأن يكون الواجب على المكلف ابتداء هو الإخفات - مثلا -
وعلى تقدير عصيانه وتركه جهلا يكون الواجب عليه هو الجهر أو بالعكس. وكذا
الحال في موضع القصر والتمام، فإن المجعول ابتداء على المسافر هو وجوب
القصر، وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به جهلا يكون المجعول عليه هو وجوب
التمام، ولا مانع من أن يؤخذ في موضوع أحد الخطابين عصيان الخطاب الآخر
وعدم الإتيان بمتعلقه في مقام الجعل أصلا.
نعم، الترتب في مقام الجعل في هاتين المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام
الفعلية والامتثال في نقطتين:
الأولى: أن المأخوذ في موضوع الخطابين فيهما عدم الإتيان بالآخر في حال
الجهل لا مطلقا، ولذا لو لم يأت المكلف بالصلاة جهرا في صورة العلم والعمد أو
الصلاة قصرا فلم تجب عليه الصلاة إخفاتا أو الصلاة تماما بالترتب، فيختص
القول بالترتب فيهما بحال الجهل.
الثانية: أن وقوع الترتب في مقام الجعل يحتاج إلى دليل فلا يكفي إمكانه
لوقوعه، وهذا بخلاف الترتب في مقام التزاحم والامتثال فإن إمكانه يستغني عن
إقامة الدليل على وقوعه فيكون الوقوع على طبق القاعدة، لما عرفت سابقا من
أنه بناء على إمكان الترتب - كما هو المفروض - فالساقط إنما هو إطلاق خطاب
المهم دون أصله، لأن سقوط أصله بلا موجب وسبب، إذ الموجب له إنما هو وقوع
التزاحم بينه وبين خطاب الأهم، والمفروض أن التزاحم يرتفع برفع اليد عن
إطلاق خطاب المهم. وعليه فلابد من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور.
وأما الزائد عليه فيستحيل سقوطه.
وعلى هذا يترتب بقاء خطاب المهم في ظرف عصيان خطاب الأهم وعدم
الإتيان بمتعلقه. وهذا معنى أن وقوعه لا يحتاج إلى دليل، بل نفس ما دل على
وجوب المهم كاف.
168

ولكن للشيخ الكبير (قدس سره) أن يدعي أن الدليل قد دل على وقوعه في المسألتين
المزبورتين، وهو الروايات الصحاح الدالة على صحة الجهر في موضع الإخفات
وبالعكس، وصحة التمام في موضع القصر.
وعليه فيتم ما أفاده (قدس سره) ثبوتا وإثباتا، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا
الأستاذ (قدس سره)، فإنه لم يدع الترتب في مقام التزاحم والفعلية ليرد عليه ما أورده، بل
هو يدعي الترتب في مقام الجعل، وقد عرفت أنه بمكان من الوضوح، غاية الأمر
أن وقوعه يحتاج إلى دليل وقد عرفت الدليل عليه، وهو الروايات المزبورة، فإذا
يتم ما أفاده.
الثاني: ما أفاده (قدس سره): من أن مورد بحث الترتب هو ما إذا كان خطاب المهم
مترتبا على عصيان الخطاب بالأهم وترك متعلقه. ومن الواضح أن هذا إنما يعقل
فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود في الخارج عند عصيان الأهم وعدم الإتيان
به، وإلا فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال، ضرورة استحالة تعلق الطلب بما هو
ضروري الوجود في الخارج، كما أنه يستحيل تعلقه بما هو ممتنع الوجود فيه.
وبذلك يظهر: أن مورد البحث في المسألة إنما هو في الضدين اللذين لهما
ثالث: كالصلاة والإزالة - مثلا - والقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما،
فإن وجود أحدهما لا يكون ضروريا عند عصيان الآخر وتركه. وأما الضدان
اللذان لا ثالث لهما - كالحركة والسكون وما شابههما - فلا يعقل جريان الترتب
فيهما، لأن وجود أحدهما عند عصيان الآخر وتركه ضروري فلا يكون قابلا لأن
يتعلق به الخطاب الترتبي، بداهة أن طلبه عندئذ يكون من قبيل طلب الحاصل.
وعلى الجملة: فإذا كان وجود الشئ ضروريا على تقدير ترك الآخر كوجود
الحركة - مثلا - على تقدير ترك السكون أو بالعكس لاستحال تعلق الأمر به على
هذا التقدير، لأن قبل تحقق ذلك التقدير يستحيل كون الأمر المتعلق به فعليا،
لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه وتحققه، وبعد تحققه يكون طلبه طلبا
لإيجاد الموجود وهو محال.
169

فقد تحصل: أن طلب أحد الضدين اللذين لا ثالث لهما على تقدير ترك الآخر
طلب لما هو مفروض الوجود في الخارج، وهو مستحيل. كما أنه يستحيل طلب
الشئ على فرض وجوده أو عدمه فيه على ما سبق.
وبعد ذلك نقول: إن الجهر والإخفات في القراءة بما أنهما من الضدين اللذين
لا ثالث لهما، وكذا القصر والتمام فإن المكلف في حال القراءة لا يخلو من الجهر
أو الإخفات، وكذا في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام ولا ثالث في البين
فلا يعقل جريان الترتب فيهما، لفرض أن وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر
ضروري. وعليه، فيستحيل تعلق الأمر بأحدهما في ظرف ترك الآخر، لأنه
طلب الحاصل.
فلا يمكن أن يقال: إن الإخفات مأمور به على تقدير ترك الجهر أو بالعكس،
أو التمام مأمور به على تقدير ترك القصر.
فالنتيجة من ذلك: هي أن هاتين المسألتين خارجتان عن موضوع الترتب
رأسا (1).
وغير خفي أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الكبرى - وهي اختصاص القول
بجواز الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث - في غاية المتانة والصحة.
والوجه فيه: ما عرفت في ضمن كلامه من أن وجود أحدهما إذا كان ضروريا
عند ترك الآخر فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال، إلا أن تلك الكبرى لا تنطبق
على المسألتين المزبورتين، وأنهما ليستا من صغرياتها ومصاديقها، وذلك
لأن جعل محل الكلام في المسألتين من الضدين اللذين لا ثالث لهما غير
مطابق للواقع، ومبني على تخيل أن المأمور به هو نفس الجهر والإخفات في
هذه المسألة، والقصر والتمام في تلك المسألة. وعليه فالمكلف في حال القراءة
لا محالة لا يخلو من الجهر أو الإخفات، كما أنه في حال الصلاة لا يخلو من
القصر أو التمام.

(1) أجود التقريرات ج 1 ص 311.
170

ولكنه غفلة عن الواقع، وذلك لأن المأمور به في المسألة الأولى إنما هو
القراءة الجهرية أو الإخفاتية، وفي المسألة الثانية إنما هو الصلاة قصرا أو الصلاة
تماما. ومن الواضح جدا أنهما من الضدين اللذين لهما ثالث، ضرورة أن القراءة
الجهرية ليست ضرورية الوجود عند ترك القراءة الإخفاتية أو بالعكس، كما أن
الصلاة تماما ليست ضرورية الوجود عند ترك الصلاة قصرا، إذ المكلف عند ترك
القراءة جهرا يمكن أن يأتي بها إخفاتا، ويمكن أن لا يأتي بها أصلا. كما أنه عند
ترك الصلاة قصرا يمكن أن يأتي بالصلاة تماما، ويمكن أن لا يأتي بها أبدا، وعلى
هذا فلا مانع من تعلق الأمر بهما على نحو الترتب بأن يكون الأمر بإحداهما
مشروطا بعصيان الأمر بالأخرى، وعدم الإتيان بمتعلقه.
نعم، لا واسطة بين الجهر والإخفات في ظرف وجود القراءة، كما أنه لا
واسطة بين القصر والتمام في فرض وجود الصلاة، فإن الصلاة إذا تحققت فلا
محالة لا تخلو من كونها قصرا أو تماما، ولا ثالث لهما. كما أن القراءة إذا تحققت
فلا تخلو من كونها جهرية أو إخفاتية. ولكن هذا ليس من محل الكلام في شئ،
ضرورة أن المأمور به - كما عرفت - ليس هو الجهر أو الإخفات بما هو، والقصر أو
التمام كذلك، بل المأمور به هو القراءة الجهرية والقراءة الإخفاتية، والصلاة قصرا
والصلاة تماما. وقد عرفت أن بينهما واسطة فلا يكون وجود إحداهما ضروريا
عند ترك الأخرى.
بل يمكن أن يقال: إن ما ذكره (قدس سره) لو تم فإنما يتم بالإضافة إلى مسألة الجهر
والإخفات. وأما بالنسبة إلى الإتمام والتقصير فالواسطة موجودة، فإن معنى
التقصير هو: الإتيان بالتسليمة في الركعة الثانية، ومعنى الإتمام هو: التسليم في
الركعة الرابعة، ويمكن للمكلف ترك كلا الأمرين كما هو واضح.
وقد تحصل من ذلك: أن المسألتين داخلتان في موضوع بحث الترتب. فما
أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أنهما من الضدين اللذين ليس لهما ثالث مبني على
غفلته عما ذكرناه، وتخيل أن المأمور به هو نفس الجهر والإخفات.
171

الثالث: ما ذكره (قدس سره) من أن الخطاب المترتب على عصيان خطاب آخر إنما
يكون فعليا عند تحقق أمرين:
الأول: تنجز الخطاب المترتب عليه من ناحية وصوله إلى المكلف صغرى
وكبرى. وقد ذكرنا في محله: أن التكليف ما لم يصل إلى المكلف بحسب الصغرى
والكبرى لا يكون محركا له وموجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته (1).
الثاني: عصيانه الذي هو الموضوع للخطاب المترتب. وقد ذكرنا غير مرة أن
فعلية الحكم بفعلية موضوعه، ويستحيل أن يكون الحكم فعليا بدون فعلية
موضوعه وتحققه في الخارج (2)، وحيث إن المفروض فيما نحن فيه توقف صحة
الصلاة مع القراءة الجهرية - مثلا - على الجهل بوجوب الإخفات فلا يمكن تحقق
العصيان للتكليف بالإخفات ووجوبه ليتحقق موضوع وجوب الجهر، لأن التكليف
الواقعي لا يتنجز مع الجهل به، وبدون التنجز لا يتحقق العصيان الذي اخذ في
موضوع وجوب الجهر.
وعلى هذا فلا يتحقق شئ من الأمرين المزبورين، وبدون ذلك يستحيل
فعلية الخطاب المترتب، فإذا استحالت فعليته استحال جعله أيضا، لما ذكرناه
من أن الغرض من جعل التكليف - سواء أكان وجوبيا أم تحريميا - إنما هو
إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك. ومن الواضح أنه إنما يكون داعيا
فيما إذا أمكن إحرازه صغرى وكبرى. وأما إذا لم يمكن إحرازه كذلك فيستحيل
أن يكون داعيا.
ومن هنا قد ذكرنا في بحث البراءة (3): أن التكليف إذا لم يصل إلى المكلف
صغرى فلا يكون محركا له بمجرد وصوله كبرى، كما إذا علم بحرمة شرب الخمر
- مثلا - في الشريعة المقدسة ولكن لم يعلم أن هذا المائع المعين خمر فلا يكون

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 70 و 110 و 283.
(2) منها: ما تقدم في ج 2 ص 317 - 318، وما سيأتي هنا في ص 224.
(3) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 252 - 254.
172

مثل هذا العلم داعيا إلى ترك شرب هذا المائع، وكذا الحال فيما إذا كان التكليف
واصلا صغرى، ولكنه لم يصل كبرى، كما إذا علم أن هذا المائع المعين خمر ولكن
لم يعلم حرمة شربه فلا يكون مجرد العلم بكونه خمرا مؤثرا في تركه.
ومن ذلك قلنا (1): إنه لا فرق في جريان البراءة بين الشبهات الحكمية
والموضوعية، فكما أنها تجري في الأولى فكذلك تجري في الثانية، لأن ملاك
الجريان فيهما واحد، وهو عدم العلم بالتكليف الفعلي، غاية الأمر أن جريانها في
الأولى مشروط بالفحص، فلا تجري قبله دون الثانية، وفي المقام بما أنه لا يمكن
إحراز موضوع الخطاب المترتب - وهو عصيان الخطاب المترتب عليه - فلا
يمكن جعله، لأنه لغو فلا يصدر من الحكيم.
ثم أورد على نفسه: بأن المفروض في محل الكلام هو أن الجهل بالخطاب
المترتب عليه ناشئ عن التقصير فلا يكون مانعا عن تنجز الخطاب المزبور
وحصول عصيانه الذي اخذ في موضوع الخطاب المترتب، فإن المانع عن ذلك
إنما هو الجهل عن قصور.
وأجاب عنه: بأن الخطاب الواقعي لا يكون منجزا وقابلا للدعوة في ظرف
الجهل من دون فرق فيه بين كون الجهل عن قصور أو عن تقصير. وأما استحقاق
العقاب فإنما هو على مخالفة الواقع في ظرف وجوب الاحتياط أو التعلم.
والوجه فيه: ما ذكرناه في محله من أن وجوب الاحتياط أو التعلم إنما هو من
باب تتميم الجعل الأول، فالعقاب على مخالفة الواقع هو بعينه العقاب على مخالفة
إيجاب الاحتياط أو التعلم، وبالعكس. وعلى هذا يترتب أن استحقاق العقاب
على تقدير مخالفة الحكم الواقعي في موارد وجوب الاحتياط أو التعلم لا يصحح
إحراز العصيان، فإن إحرازه يتوقف على وصول الحكم الواقعي بنفسه بالوجدان،
أو بطريق معتبر من أمارة أو أصل محرز. ومن الواضح أنه ما لم يحرز العصيان
لا وجدانا ولا تعبدا لا يكون الحكم المترتب عليه محرزا أيضا.

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 252 - 254.
173

وبتعبير آخر: أن تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب يبتنى على أخذ
عصيان الأمر المترتب عليه في موضوع الأمر المترتب، وهذا في محل الكلام غير
معقول، فلا يمكن أخذ عصيان الأمر بالإخفات - مثلا - في موضوع الأمر بالجهر.
والوجه في ذلك: هو أن المكلف بالقراءة الإخفاتية لا يخلو من أن يكون
عالما بوجوب الإخفات عليه، أو يكون جاهلا به، ولا ثالث لهما.
أما الفرض الأول فهو خارج عن محل الكلام، إذ المفروض فيه توقف صحة
الجهر على الجهل بوجوب الإخفات فلا يقع صحيحا في صورة العلم بوجوبه
بالضرورة.
وأما على الفرض الثاني فعصيان وجوب الإخفات وإن كان متحققا في الواقع
إلا أنه يستحيل جعله موضوعا لوجوب الجهر في ظرف الجهل، لاستحالة جعل
حكم على موضوع لا يمكن إحرازه أصلا، فإن المكلف إذا علم بعصيانه وجوب
الإخفات ينقلب الموضوع فيصير الواجب عليه عندئذ هو الجهر دون الإخفات،
وإذا كان جاهلا به فلا يصل. وعليه فكيف يمكن أخذه في موضوع وجوب الجهر؟
وإن شئت فقل: إن فعلية الخطاب المترتب تتوقف على توفر شروط:
الأول: أن يكون الخطاب المترتب عليه فعليا ومنجزا.
الثاني: كون المكلف عاصيا له وغير آت به في الخارج.
الثالث: كونه عالما بعصيانه.
فعند توفر هذه الشروط الثلاثة يمكن القول بالترتب وبفعلية الخطاب
المترتب، وإلا فلا يمكن القول به أبدا.
فالموارد التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول - كما في
الشبهات البدوية - تنتفي فيها الشروط الثلاثة معا، ضرورة أنه مع جريان البراءة
لا يتنجز التكليف الواقعي، ومع عدم تنجزه فلا عصيان، فضلا عن العلم به. وعليه
فلا يمكن القول بالخطاب الترتبي في تلك الموارد.
كما أنه في الموارد التي لا تجري فيها أصالة البراءة من جهة وصول التكليف
174

الواقعي بطريقة - وذلك كموارد الشبهات قبل الفحص، والموارد التي اهتم الشارع
بها - يمتنع جعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي في تلك الموارد،
فإن التكليف الواقعي فيها وإن كان فعليا ومنجزا إلا أن مجرد ذلك لا يجدي في
صحة الخطاب بنحو الترتب، لانتفاء الشرطين الأخيرين فيها، أعني بهما: تحقق
العصيان، والعلم به.
والوجه فيه: ما عرفت من أن العصيان في تلك الموارد حقيقة إنما هو بالنسبة
إلى الخطاب الطريقي - وهو وجوب الاحتياط أو التعلم - الواصل عند المصادفة
للواقع دون الخطاب الواقعي المجهول. وكما أن في موارد العلم الإجمالي التي
كان التكليف فيها معلوما إجمالا وواصلا به، وفعليته وعصيانه كانا متحققين
واقعا - على تقدير تحقق المخالفة ومصادفة الاحتمال للواقع - فمع ذلك لا يمكن
الالتزام بالترتب فيها وجعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي، وذلك
لأن الشرط الأخير الذي اعتبر في صحة الخطاب الترتبي - أعني به العلم بتحقق
العصيان الموجب لوصول الخطاب المترتب وتنجزه على المكلف - منتف في
هذا الفرض.
والحاصل: أن المكلف إن لم يكن محرزا للعصيان المترتب عليه خطاب آخر
لم يتنجز عليه ذلك الخطاب، لعدم إحراز موضوعه - وهو العصيان - وإن كان
محرزا له، فجعل الخطاب المترتب في مورده وإن كان صحيحا ولا مانع منه أصلا
إلا أنه خلاف مفروض الكلام في المقام، فإن مفروض الكلام هو جعل خطاب
آخر مترتبا على العصيان الواقعي للخطاب الأول في ظرف جهل المكلف به
لا مطلقا. ومن الواضح أن كل خطاب يستحيل وصوله إلى المكلف صغرى أو
كبرى يستحيل جعله من المولى الحكيم.
وعلى ذلك تتفرع استحالة أخذ النسيان في موضوع خطاب، فإن المكلف
إن التفت إلى نسيانه انقلب الموضوع وخرج عن عنوان الناسي، وإن لم يلتفت
إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه، فلا يمكن جعل مثل هذا التكليف الذي
175

لا يعقل وصوله إلى المكلف أبدا (1).
هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام مع شئ من التوضيح.
أقول: ما ذكره (قدس سره) ينحل إلى عدة نقاط:
الأولى: أن فعلية الخطاب المترتب على عصيان الخطاب الآخر ترتكز على
ركائز ثلاث:
1 - فعلية ذلك الخطاب وتنجزه.
2 - عصيانه.
3 - العلم بعصيانه، وإلا فتستحيل فعلية الخطاب المترتب على ذلك.
وعلى ضوء تلك النقطة تترتب أمور:
الأول: عدم إمكان جريان الترتب في محل الكلام، وفي مسألة القصر
والتمام، لعدم توفر الركيزة الثانية والثالثة فيهما، وهما: تحقق العصيان في الواقع،
والعلم به. والعصيان وإن كان متحققا في كلتا المسألتين إلا أنه حقيقة إنما هو
بالإضافة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع، وهو وجوب
التعلم، لا على مخالفة الخطاب الواقعي المجهول.
الثاني: عدم إمكان جريانه في الشبهات البدوية التي تجري فيها أصالة
البراءة عن التكليف المجهول، لعدم توفر شئ من الركائز المزبورة في تلك
الشبهات كما هو واضح.
الثالث: أنه لا يمكن جعل خطاب مترتب على عصيان خطاب آخر في موارد
الشبهات قبل الفحص، أو الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها، لانتفاء الركيزة
الثانية والثالثة فيهما، أعني بهما: تحقق العصيان، والعلم به، وذلك لما عرفت من
أن العصيان حقيقة إنما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند مطابقته
للواقع، دون الخطاب الواقعي المجهول.
الرابع: عدم إمكان جريانه في موارد العلم الإجمالي، لعدم توفر الركيزة

(1) أجود التقريرات ج 1 ص 311 - 313.
176

الثالثة في تلك الموارد، وإن كانت الركيزة الأولى والثانية متوفرتين فيها فإن
التكليف المعلوم بالإجمال واصل إلى المكلف بالعلم الإجمالي، وعصيانه متحقق
على تقدير تحقق المصادفة للواقع، وذلك لأن العلم بتحقق العصيان الموجب
لوصول التكليف المترتب وتنجزه على المكلف منتف في هذا الفرض.
الثانية: أن العقاب فيما نحن فيه وفي الشبهات قبل الفحص وفي الموارد
المهمة إنما يكون على مخالفة الوجوب الطريقي: كوجوب التعلم أو الاحتياط
المستلزمة لمخالفة الواقع. ومن هنا قلنا: إن العصيان حقيقة إنما هو بالنسبة
إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع، دون الخطاب الواقعي
المجهول.
الثالثة: أنه لا يمكن أخذ النسيان بشئ في موضوع حكم لاستحالة كونه
واصلا إلى المكلف، وذلك لأن المكلف إن التفت إلى نسيانه خرج عن موضوع
الناسي وصار ذاكرا، وإن لم يلتفت إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه، فلا يمكن
جعل مثل هذا الحكم الذي لا يمكن وصوله إلى المكلف صغرى وكبرى أبدا.
ولنأخذ بدراسة هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فبناء على ما أفاده (قدس سره) من أن المأخوذ في موضوع
الخطاب المترتب هو عصيان الخطاب المترتب عليه فهي في غاية الصحة
والمتانة، ضرورة أنه على أساس تلك النقطة لا يمكن القول بالترتب في شئ من
الموارد المزبورة كما عرفت. أما فيما نحن فيه وما شاكله فلانتفاء الركيزة الثالثة،
وهي: إحراز عصيان الخطاب المترتب عليه، لوضوح أن الأمر بالقراءة الجهرية إذا
كان مشروطا بعصيان الأمر بالقراءة الإخفاتية، وبالعكس - ومع ذلك كانت صحة
كل واحدة منهما مشروطة بحال الجهل بوجوب الأخرى - لم يمكن إحراز ذلك
العصيان بما هو مأخوذ في الموضوع، وإلا لانقلب الموضوع، وأما في الموارد
الثلاثة الأخيرة فأيضا الأمر كذلك من جهة انتفاء تلك الركيزة فيها بعينها.
نعم، ما أفاده (قدس سره) من انتفاء الركيزة الثانية في ما عدا المورد الأخير بدعوى: أن
177

استحقاق العقاب على عصيان الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة للواقع
لا على التكليف الواقعي المجهول لا يمكن المساعدة عليه، لما سنبين في النقطة
الآتية إن شاء الله تعالى. ولكن الالتزام بتلك النقطة - وهي لزوم تقييد فعلية
الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه - بلا ملزم وسبب، بل
الأمر على خلاف ذلك. فها هنا دعويان:
الأولى: أنه لا ملزم للتقييد بخصوص العصيان.
الثانية: أنه لابد من الالتزام بالتقييد بغيره.
أما الدعوى الأولى: فلأن صحة القول بجواز الترتب لا تتوقف على ذلك
أصلا، فإن الترتب كما يمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم
كذلك يمكن تقييده بعدم الإتيان بمتعلقه، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلا. إذا
الالتزام بكون الشرط هو خصوص الأول دون الثاني بلا موجب وسبب. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن صحة الترتب - أي تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب
- لم ترد في آية أو رواية ليقال: إن الموضوع المأخوذ فيها هو عصيان الأمر
بالأهم، لا ترك متعلقه في الخارج.
وعلى هذا فلا مانع من أن يكون الأمر بالقراءة الإخفاتية - مثلا - مترتبا على
ترك القراءة الجهرية، وبالعكس، والأمر بالصلاة تماما مترتبا على ترك الصلاة
قصرا، فإن الترك قابل للإحراز من دون لزوم محذور انقلاب الموضوع.
فالنتيجة: أنه لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين، فإن المانع منه
ليس إلا توهم أن الشرط خصوص العصيان، ولكن قد عرفت بطلانه، وأن إمكان
الترتب لا يتوقف على ذلك، فإن مناط إمكانه هو عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين
من اجتماع الأمرين في زمان واحد. ومن الواضح أنه لا يفرق في ذلك بين
أن يكون الأمر بالمهم مشروطا بعصيان الأمر بالأهم، أو بترك متعلقه في الخارج.
وأما الدعوى الثانية: فلأن الملاك الرئيسي لإمكان الترتب وجوازه هو أن
178

الواجب المهم في ظرف عدم الإتيان بالواجب الأهم وتركه في الخارج مقدور
للمكلف عقلا وشرعا، فإذا كان مقدورا في هذا الحال فلا يكون تعلق الأمر به على
هذا التقدير قبيحا، فإن القبيح إنما هو التكليف بالمحال وبغير المقدور، وهذا ليس
من التكليف بغير المقدور.
ونتيجة ذلك: هي أن شرط تعلق الأمر بالمهم هو عدم الإتيان بالأهم وتركه
خارجا، لا عصيانه، ضرورة أن إمكان الترتب ينبثق من هذا الاشتراط، سواء أكان
ترك الأهم معصية أم لم يكن، وسواء أعلم المكلف بانطباق عنوان العصيان عليه أم
لم يعلم، فإن كل ذلك لا دخل له في إمكان الأمر بالمهم مع فعلية الأمر بالأهم
أصلا، ولذا لو فرضنا في مورد لم يكن ترك الأهم معصية لعدم كون الأمر وجوبيا
لم يكن مانع من الالتزام بالترتب فيه.
ومن هنا قلنا بجريان الترتب في الأوامر الاستحبابية، وعدم اختصاصه
بالأوامر الإلزامية (1).
وعلى الجملة: فتعلق الأمر بالمهم على الإطلاق في مقابل الأمر بالأهم قبيح،
لاستلزام ذلك طلب الجمع. وكذا تعلقه به في حال الإتيان بالأهم قبيح، لعين
المحذور المزبور. وأما تعلقه به في حال عدم الإتيان به وترك امتثاله في الخارج
فلا قبح فيه، ولازم ذلك هو كون الشرط لتعلق الأمر بالمهم ترك الأهم واقعا وعدم
الإتيان به خارجا، كان تركه معصية أم لم يكن، كان المكلف محرزا لانطباق
عنوان المعصية عليه أم لم يحرز.
وأما العصيان بما هو مع قطع النظر عن تركه وعدم الإتيان به واقعا فلا
يصلح أن يكون شرطا له ومصححا لتعلقه به. وأما مع انضمامه به فهو كالحجر
في جنب الإنسان، فإن المصحح له واقعا إنما هو تركه خارجا، بداهة أنه أساس
إمكان الترتب ونقطة دائرة إمكانه، لما عرفت من استحالة تعلق الأمر به في
غير تلك الحال.

(1) تقدم في ص 102 فراجع.
179

وأما ما تكرر في كلماتنا من أن فعلية الأمر بالمهم مشروطة بعصيان الأمر
بالأهم فمن جهة أنه عنوان يمكن الإشارة به إلى ما هو شرط في الواقع، وهو ترك
الأهم غالبا، لا من ناحية أنه شرط واقعا وله موضوعية في المقام.
إذا فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) هنا لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى
صحيح أبدا.
وعلى هذا الأساس لا مانع من الالتزام بالترتب في هاتين المسألتين ودفع
الإشكال المتقدم به، غاية الأمر أن الترتب فيهما حيث إنه على خلاف القاعدة
فيحتاج وقوعه إلى دليل، والدليل موجود هنا، وهو الروايات الصحيحة (1) الواردة
فيهما، وذلك لا ينافي دفع الإشكال بشكل آخر كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وعلى ضوء ما حققناه قد تبين أنه لا أصل للركيزة الثانية والثالثة، وهما:
عصيان الأمر بالأهم، والعلم بعصيانه، ولا دخل لهما في صحة الترتب أصلا.
نعم، الذي ترتكز عليه صحة الترتب وجوازه هو ترك الإتيان بما تعلق
الخطاب المترتب عليه بما هو ترك، وإحراز ذلك الترك في الخارج.
وعلى هذا الأساس لابد من التفصيل بين الموارد الثلاثة المتقدمة - أعني بها
الشبهات البدوية والشبهات قبل الفحص والموارد المهمة - وموارد العلم الإجمالي
بالالتزام بجريان الترتب فيما عدا الأولى، وعدم جريانه فيها. فهاهنا دعويان:
الأولى: عدم جريان الترتب في موارد الشبهات البدوية.
الثانية: جريانه في ما عداها.
أما الدعوى الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة. والوجه في ذلك واضح،
وهو: أن التكليف الواقعي في الشبهات البدوية على تقدير ثبوته غير صالح لأن
يكون مزاحما لحكم من الأحكام، ومع هذا الحال لا موضوع للبحث عن الترتب.
وأما الدعوى الثانية: فلأن التكليف الواقعي في جميع تلك الموارد من جهة

(1) راجع الوسائل: ج 6 ص 86 ب 26 من أبواب القراءة ح 1، و ج 8 ص 505 ب 17 من
أبواب صلاة المسافر ح 4.
180

وصوله إلى المكلف بطريقه أو بعلم إجمالي صالح لأن يكون مزاحما لتكليف آخر
مضاد له. وعليه فلا مانع من الالتزام بالترتب فيها باعتبار أن التكليف الواقعي بعد
تنجزه لا محالة يقتضي لزوم الإتيان بتلك المشتبهات في موارد الشبهات
الوجوبية، ووجوب الاجتناب عنها في موارد الشبهات التحريمية، وعندئذ لو كان
هناك واجب آخر يزاحم لزوم الإتيان بها أو وجوب الاجتناب عنها فلا مانع من
الالتزام بوجوبه عند ترك ذلك، وهذا واضح.
وأما النقطة الثانية: فلا يمكن القول بها. والوجه في ذلك: هو أن العقاب ليس
على مخالفة الوجوب الطريقي الواصل المصادف للواقع، ضرورة أن مخالفة
الوجوب الطريقي بما هو لا توجب العقاب، وفي صورة المصادفة للواقع ليس
العقاب على مخالفته، بل إنما هو على مخالفة الواقع، فإنه بعد تنجزه بوجوب
الاحتياط أو التعلم فلا محالة توجب مخالفته استحقاق العقاب.
وعلى الجملة: فوجوب الاحتياط أو التعلم ليس وجوبا نفسيا على الفرض
لتستلزم مخالفته العقوبة، بل هو وجوب طريقي شأنه إحراز الواقع وتنجزه، وبعده
لا محالة يكون العقاب على مخالفة الواقع بما هو لا على مخالفته، وضم مخالفته
إلى مخالفة الواقع بالإضافة إلى استحقاق العقاب كالحجر في جنب الإنسان،
ضرورة أنه لا دخل له في العقاب أصلا.
نعم، ما أفاده (قدس سره) من أن العقاب لا يمكن أن يكون على الواقع المجهول بما هو
متين، إلا أن ذلك لا يوجب أن لا يمكن العقاب عليه بعد إحرازه وتنجزه من جهة
وجوب الاحتياط أو التعلم أيضا. فما أفاده (قدس سره) هنا لا يلائم مذهبه من أن وجوب
التعلم والاحتياط طريقي لا نفسي.
وأما النقطة الثالثة - وهي استحالة أخذ النسيان في موضوع الحكم - فهي
في غاية الجودة والاستقامة، وقد تعرضنا لها في الدورة السابقة في آخر
بحث البراءة والاشتغال بصورة مفصلة فلا حاجة إلى الإعادة هنا، ويأتي الكلام
181

فيها في محلها إن شاء الله تعالى (1).
الوجه الثاني (2): ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)، واليك نص كلامه:
(قلت: إنما حكم بالصحة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء
في نفسها مهمة في حد ذاتها وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنما لم يؤمر
بها لأجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم. وأما
الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فإنها بلا فائدة، إذ مع استيفاء تلك
المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، ولذا لو أتى
بها في موضع الآخر جهلا مع تمكنه من التعلم فقد قصر ولو علم بعده وقد وسع
الوقت، فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الإتمام، ولا
من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الإخفات وإن كان الوقت باقيا.
إن قلت: على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب
فعلا، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها
بلا كلام.
قلت: ليس سببا لذلك، غايته أنه يكون مضادا له. وقد حققنا في محله أن
الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.
لا يقال على هذا: فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا في موضع القصر والجهر مع
العلم بوجوبهما في موضعهما لكانت صلاته صحيحة، وإن عوقب على مخالفة
الأمر بالقصر أو الجهر.
فإنه يقال: لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة ولو مع العلم،
لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل، ولا بعد أصلا في اختلاف
الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شئ والجهل به كما لا يخفى) (3).

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 460.
(2) أي: الوجه الثاني من وجهي التفصي عن الإشكال المذكور أوله في ص 179.
(3) كفاية الأصول: ص 428 - 429.
182

أقول: ملخص ما أفاده (قدس سره): هو أن الحكم بصحة الصلاة جهرا في موضع
الإخفات وبالعكس وصحة الصلاة تماما في موضع القصر يبتنى على أساس
اشتمالهما على المصلحة الملزمة في نفسها، وبعد استيفائها لا يبقى مجال لاستيفاء
المصلحة الأخرى التي هي أهم من المصلحة الأولى، لتضاد المصلحتين، وعدم
إمكان الجمع بينهما في الخارج.
ثم إن اشتمالهما على تلك المصلحة الملزمة يختص بحالة الجهل بوجوب
الواجب الواقعي. وأما في صورة العلم به فلا مصلحة لهما أبدا، ولا بعد في ذلك،
ضرورة أن الأشياء تختلف من حيث وجدانها المصلحة أو عدم وجدانها لها
باختلاف الحالات والأزمان، وهذا واضح.
ويتفرع على ذلك عدم وجوب الإعادة ولو مع بقاء الوقت وتمكن المكلف
منها، لعدم مشروعيتها بعد استيفاء المصلحة المزبورة في ضمن الصلاة تماما
والصلاة جهرا مثلا، وقد حققنا في محله: أن عدم الضد ليس مقدمة للضد الآخر
ليكون فعله منهيا عنه فيكون فاسدا. وأما الحكم باستحقاقه العقوبة مع تمكنه من
الإعادة في الوقت فمن ناحية تقصيره، وعدم فائدة الإعادة.
وقد أجبنا عن ذلك في آخر بحث البراءة والاشتغال، وملخصه: أن المضادة
بين الأفعال الخارجية وإن كانت معقولة وواقعة في الخارج بالبداهة [فهي]
كالمضادة بين القيام والقعود والحركة والسكون وما شاكلهما. وأما المضادة بين
الملاكات الواقعية القائمة بالأفعال الخارجية بما هي مع قطع النظر عن التضاد بين
تلك الأفعال ففي غاية البعد، بل تكاد تلحق بالمحال، ضرورة أنه لا يعقل التضاد
بين المصلحتين مع إمكان الجمع بين الفعلين. فإذا فرضنا أن في كل من صلاتي
الجهر والإخفات مصلحة تامة، أو في كل من صلاتي التمام والقصر مصلحة كذلك
وكان المكلف متمكنا من الجمع بينهما خارجا فلا نعقل التضاد بين المصلحتين
بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما خارجا واستيفائهما معا. فما أفاده (قدس سره) من
التضاد بين المصلحتين وعدم إمكان استيفائهما معا لا نعقل له معنى محصلا أصلا.
183

أضف إلى ذلك: أن المصلحتين المفروضتين، القائمة إحداهما بطبيعي الصلاة
والاخرى بخصوص القصر أو الإخفات - مثلا - لا تخلوان من أن تكونا
ارتباطيتين أو تكونا استقلاليتين، ولا ثالث لهما.
فعلى الأول لا يمكن الحكم بصحة الصلاة تماما في موضع القصر والصلاة
جهرا في موضع الإخفات، وبالعكس، لفرض أن المصلحتين ارتباطيتان، ومع
عدم حصول المصلحة الثانية لا يكفي حصول الأولى.
وعلى الثاني يلزم تعدد الواجب بأن يكون القصر - مثلا أو الجهر أو الإخفات
واجبا في واجب، وهو طبيعي الصلاة مع قطع النظر عن أية خصوصية من هذه
الخصوصيات، باعتبار كونها مشتملة على مصلحة إلزامية في حال الجهل بتلك
الخصوصيات. ولازم ذلك هو تعدد العقاب عند ترك الصلاة على الإطلاق،
وعدم الإتيان بها أبدا، لا تماما ولا قصرا، لا جهرا ولا إخفاتا، وهو خلاف
الضرورة كما لا يخفى.
فالصحيح: هو ما ذكرناه في محله، وحاصله: أنه لا يمكن المساعدة على ما
هو المشهور بين الأصحاب من الجمع بين الحكم بصحة الجهر في موضع الإخفات
وبالعكس، وصحة التمام في موضع القصر، وبين الحكم باستحقاق العقاب على
ترك الواجب الواقعي.
والوجه في ذلك: هو أن الجاهل بوجوب القصر والإخفات - مثلا - لو صلى
قصرا أو إخفاتا وتحقق منه قصد القربة في حال الإتيان به فلا يخلو الأمر من أن
يحكم بفساد صلاته هذه ووجوب الإعادة عليه عند انكشاف الحال وارتفاع
الجهل، أو يحكم بصحتها وعدم وجوب الإعادة عليه، ولا ثالث في البين.
أما على الأول فلا شبهة في أن مقتضاه هو أن الصلاة تماما أو جهرا هو
الواجب على المكلف تعيينا في الواقع عند جهل المكلف بالحال، وعلى هذا
فلا معنى لاستحقاق العقاب على ترك القصر أو الإخفات، ضرورة أن القصر
أو الإخفات لا يكون واجبا في هذا الحال على الفرض ليستحق العقاب على
184

تركه. ودعوى الإجماع عليه في هذا الفرض من الغرائب كما لا يخفى، على أن
استحقاق العقاب ليس من الأحكام الشرعية ليمكن دعوى الإجماع عليه. هذا مع
أن كلمات كثير من الأصحاب خالية عن ذلك.
وأما على الثاني فلا شبهة في أن الحكم في الواقع حينئذ يكون هو التخيير بين
الجهر والإخفات والقصر والتمام، ولازم ذلك أن يكون الإتيان بالقصر أو
الإخفات مجزيا كما هو شأن كل واجب تخييري. وعلى هذا فلا موضوع
لاستحقاق العقاب بعد الإتيان بأحد طرفي التخيير وإن لم يكن المكلف حال
العمل ملتفتا إليه، ضرورة أن الالتفات إليه ليس من أحد شرائط صحة الإتيان
بأحد طرفيه (1).
وقد تحصل مما ذكرناه أمران:
الأول: أنه يمكن دفع الإشكال المزبور عن المسألتين المتقدمتين بوجهين:
أحدهما: الالتزام بالترتب في مقام الجعل، وقد عرفت أنه لا مانع منه أصلا،
غاية الأمر أن وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، وقد دل الدليل على وقوعه
فيهما.
ثانيهما: ما ذكرناه لحد الآن من أنه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا كما
عرفت.
الثاني: أن نقطة الامتياز بين هذين الجوابين هي أن الجواب الأول ناظر
إلى أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين المزبورين، أعني بهما: صحة التمام في
موضع القصر والجهر في موضع الإخفات أو بالعكس، واستحقاق العقاب على
مخالفة الواقع، فإنه بناء على القول بصحة الترتب فيهما لا إشكال في الالتزام
بالجمع بين هذين الأمرين، بل هو لازم ضروري للقول بالترتب، كما عرفت
الكلام فيه بصورة مفصلة (2).
والجواب الثاني ناظر إلى أنه مع الحكم بصحة التمام في موضع القصر والجهر

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 509.
(2) تقدم في ص 144 وما بعدها.
185

في موضع الإخفات وبالعكس - كما هو صريح صحيحة زرارة (1) - لا يمكن الحكم
باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع، لما عرفت من أنه مع قطع النظر عن
الترتب فالحكم بالصحة يبتنى على أحد التقديرين المتقدمين، هما: كون التمام أو
الجهر - مثلا - واجبا تعيينيا في ظرف الجهل، وكونه أحد فردي الواجب
التخييري. وعلى كلا التقديرين لا مجال لاستحقاق العقاب أصلا. هذا تمام الكلام
في الأمر الأول.
الثاني: أن الترتب كما يجري بين الواجبين المضيقين أحدهما أهم من الآخر
كما سبق فهل يجري بين الواجبين أحدهما موسع والآخر مضيق أم لا؟
قد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) جريانه فيهما، ببيان: أن الواجب المهم إذا كان
موسعا له أفراد كثيرة وكان بعض أفراده مزاحما للأهم دون بعضها الآخر فبناء
على ما ذكرناه من أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف من جهة اقتضاء نفس
التكليف ذلك فلا محالة يتقيد المأمور به بالحصة الخاصة، وهي الحصة المقدورة،
فيخرج غير المقدور من الأفراد عن إطلاقه. وعليه فلا محالة يتوقف شمول
الإطلاق للفرد المزاحم على القول بإمكان الترتب وجوازه، فإن قلنا به يدخل في
الإطلاق عند عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه، وإلا فهو خارج عنه مطلقا.
نعم، يمكن الحكم بصحته حينئذ من جهة اشتماله على الملاك.
وأما بناء على ما ذكره المحقق الثاني (قدس سره) من أن اعتبار القدرة في متعلق
التكليف إنما هو من ناحية حكم العقل بقبح تكليف العاجز فلا نحتاج في الحكم
بصحة الفرد المزاحم إلى القول بالترتب والالتزام به، بل يمكن القول بها ولو قلنا

(1) وهي: " عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما
لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال: أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل
ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شئ عليه وقد تمت صلاته ". الوسائل: ج 6 ص 86
ب 26 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1.
186

باستحالة الترتب.
والوجه في ذلك: هو أن الطبيعة المأمور بها بما أنها مقدورة للمكلف ولو
بالقدرة على بعض أفرادها - كما هو المفروض - فلا مانع من تعلق الأمر بها على
إطلاقها. وعليه فيصح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة،
إذ الانطباق قهري، والإجزاء عقلي.
أقول: الكلام في ذلك مرة يقع من ناحية أن منشأ اعتبار القدرة في متعلق
التكليف هل هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك؟
ومرة أخرى يقع من ناحية أن المهم إذا كان موسعا وكان بعض أفراده مزاحما
بالأهم أيمكن إثبات صحته بالترتب أم لا؟
أما الكلام في الناحية الأولى: فقد ذكرنا أن القدرة لم تؤخذ في متعلق
التكليف أصلا، لا من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، ولا من جهة
اقتضاء نفس التكليف ذلك، وإنما هي معتبرة في ظرف الامتثال والإطاعة،
ضرورة أن العقل لا يحكم بأزيد من اعتبارها في تلك المرحلة. وقد تقدم الكلام
في ذلك بصورة مفصلة، وقد أوضحنا هناك بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من
وجوه فلاحظ (1).
وأما الكلام في الناحية الثانية: فجريان الترتب فيه يبتنى على وجهة نظر
شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق، وبما أن تقييد
المهم في المقام بخصوص الفرد المزاحم محال فإطلاقه بالإضافة إليه أيضا محال.
وعليه فلا يمكن الحكم بصحته من جهة الإطلاق، فلا محالة تبتنى صحته على
القول بالترتب مع قطع النظر عن كفاية الملاك، غاية الأمر أن الترتب هنا إنما هو
في إطلاق الواجب المهم، بمعنى: أن إطلاقه مترتب على ترك الواجب الأهم،
وهذا بخلاف الترتب في غير المقام، فإن هناك أصل الخطاب بالمهم مترتب

(1) قد تقدم في ص 65 وما بعدها.
187

على ترك امتثال الخطاب بالأهم، لا إطلاقه، وعلى كل حال فالترتب في المقام
مبتن على مسلكه (قدس سره) (1).
ولكن قد ذكرنا غير مرة: أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل التضاد،
فاستحالة أحدهما في مورد لا يستلزم استحالة الآخر (2)، وعليه فلا يتوقف الحكم
بصحته على القول بجواز الترتب، ضرورة أنه عندئذ يمكن الإتيان به بداعي
امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة.
وعلى الجملة: فجريان الترتب فيما إذا كان الواجب المهم موسعا والأهم
مضيقا يرتكز على أحد أمرين:
الأول: دعوى اقتضاء نفس التكليف اعتبار القدرة في متعلقه، وأنه يوجب
تقييده بحصة خاصة وهي الحصة المقدورة.
الثاني: دعوى أن استحالة التقييد تستلزم استحالة الإطلاق.
ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين في غير موضع (3).
هذا مضافا إلى أن الدعوى الأولى - على تقدير تسليمها في نفسها - لا توجب
تقييد المتعلق بخصوص تلك الحصة، كما تقدم الكلام في ذلك بشكل واضح
فلا نعيد (4).

(1) وفي تعليقه في الأجود على المقام مزيد فائدة، وإليك نصه:
لا يخفى أن كفاية القدرة على بعض أفراد الطبيعة في صحة الأمر بها لا أثر لها في محل
الكلام بناء على ما اختاره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من استحالة الواجب المعلق، لأن المفروض فيه
عدم قدرة المكلف على شئ من أفراد الواجب المهم عند مزاحمته الأهم ليصح الأمر به من
جهة القدرة على بعض أفراده، فينحصر ترتب الأثر على القول بالكفاية المزبورة بموارد
تزاحم الواجب الأهم مع بعض الأفراد العرضية للواجب دون جميعها. نعم، إذا بنينا على
جواز الواجب المعلق ترتب الأثر عليه في محل الكلام أيضا كما هو ظاهر. انتهى. أجود
التقريرات: ج 1 ص 314.
(2) منها: ما تقدم في ج 2 ص 176 من المحاضرات فراجع.
(3) منها: ما تقدم في ص 63 وفي ج 2 من المحاضرات ص 172 وما بعدها. فراجع.
(4) راجع ص 61.
188

فالصحيح في المقام أن يقال كما ذكرناه سابقا: إن هذه الصورة - أعني بها:
ما إذا كان المهم موسعا والأهم مضيقا - خارجة عن كبرى مسألة التزاحم
لتمكن المكلف فيها على الفرض من الجمع بين التكليفين في مقام الامتثال، ومعه
لا مزاحمة بينهما أصلا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن البحث عن إمكان ترتب أحد الحكمين على عدم
الإتيان بمتعلق الحكم الآخر واستحالة ذلك إنما هو في فرض التزاحم بينهما، وإلا
فلم يكن للبحث عنه موضوع أصلا، كما هو واضح.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الصورة المزبورة خارجة عن
موضوع بحث الترتب، فإن موضوع بحثه هو ما إذا لم يمكن إثبات صحة المهم إلا
بناء على القول بالترتب، وفي المقام يمكن إثبات صحته بدون الالتزام به، بل ولو
قلنا باستحالته كما عرفت غير مرة.
الثالث: ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن المكلف قد يكون عالما بخطاب الأهم قبل
الشروع في امتثال خطاب المهم، وقد يكون عالما به بعد الشروع فيه.
أما على الفرض الأول فيدور الحكم بصحة الإتيان بالمهم وامتثال خطابه
مدار القول بإمكان الترتب، كما أن الحكم بفساده يدور مدار القول بامتناعه
كما سبق.
وأما على الفرض الثاني - وهو ما إذا كان المكلف عالما بخطاب الأهم بعد
الشروع فيه - فإن كان الواجب المهم مما لا يحرم قطعه فحكمه حكم الفرض الأول
بلا كلام. وأما إن كان مما يحرم قطعه - كما إذا دخل في المسجد وشرع في الصلاة
ثم علم بتنجسه - فعندئذ لا يتوقف بقاء الأمر بالمهم - وهو الصلاة في مفروض
المثال - على القول بالترتب، فيمكن الحكم بصحتها من دون الالتزام به أصلا.
والوجه في ذلك: هو أن إزالة النجاسة عن المسجد وإن كانت أهم من الصلاة
باعتبار أنها فورية دون الصلاة إلا أن المكلف إذا شرع فيها وحرم عليه قطعها على
189

الفرض لم يكن عندئذ موجب لتقديم الأمر بالإزالة على الأمر بالصلاة. وعليه
فلا يتحقق عصيان لخطابها ليكون الأمر بإتمامها متوقفا على جواز الترتب.
وسر ذلك: هو أن الدليل على وجوب الإزالة إنما هو الإجماع، وليس دليلا
لفظيا ليكون له إطلاق أو عموم يشمل هذه الصورة أيضا. وعلى هذا فلابد من
الاقتصار على المقدار المتيقن منه، والمقدار المتيقن منه غير تلك الصورة فلا
يشملها. إذا يبقى الأمر بالإتمام بلا مزاحم.
وعلى الجملة: فالإجماع بما أنه دليل لبي فالقدر المتيقن منه غير هذا الفرض،
فلا يشمل ذلك.
نعم، إذا كان هناك واجب آخر أهم من إتمام الصلاة كحفظ النفس المحترمة
أو ما شاكله توقف الأمر بإتمام الصلاة عندئذ على القول بالترتب أيضا، ضرورة
أن الأمر بالإتمام من جهة مزاحمته بالأهم قد سقط يقينا، فثبوته له حينئذ لا محالة
يتوقف على عصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه خارجا.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم لو كان مدرك حرمة قطع الصلاة هو
الروايات الدالة على أن تحليلها هو التسليم (1)، فإن مقتضى إطلاق تلك الروايات
هو حرمة قطعها، والخروج عنها بغير التسليم مطلقا ولو كانت مزاحمة مع الإزالة.
ولكن قد ذكرنا في بحث الفقه: أن شيئا من هذه الروايات لا يدل على حرمة
قطع الصلاة، غاية ما في الباب أنها تدل على أن التسليم هو الجزء الأخير، وأن
الصلاة تختتم به كما تفتتح بالتكبيرة، وأما أن قطعها يجوز أو لا يجوز فهي أجنبية
عن هذا تماما (2).
ومن هنا قلنا: إنه لا دليل على حرمة قطع الصلاة أصلا، ما عدا دعوى
الإجماع على ذلك كما في كلمات غير واحد. ولكن قد ذكرنا: أن الإجماع
لم يتم، فإن المحصل منه غير ثابت، والمنقول منه غير معتبر، على أنه يحتمل أن

(1) راجع وسائل الشيعة: ج 6 ص 416 ب 1 من أبواب التسليم.
(2) انظر مستند العروة: ج 4 ص 554 - 557 كتاب الصلاة.
190

يكون مدركه تلك الروايات أو غيرها، ومع هذا كيف يمكن أن يكون كاشفا
عن قول المعصوم (عليه السلام)؟ (1)
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ثبوت الإجماع فالقدر المتيقن منه هو ما إذا لم
تكن الصلاة مزاحمة مع الإزالة. وأما في صورة المزاحمة فلا علم لنا بثبوته، وذلك
لعدم تعرض كثير من الفقهاء لتلك الصورة. وعليه فلا موجب لتقديم وجوب إتمام
الصلاة على وجوب الإزالة.
وعلى الجملة: بما أن الدليل على كل من الطرفين هو الإجماع فهو لا يشمل
الصورة المزبورة. فإذا لا دليل على وجوب الإزالة في تلك الصورة، ولا على
وجوب الإتمام، وحيث لا أهمية في البين فمقتضى القاعدة هو التخيير بين قطع
الصلاة والاشتغال بالإزالة وبين إتمامها. وتمام الكلام في محله (2).
الرابع: هل يمكن الحكم بصحة الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو
المغصوب أم لم يمكن؟
أقول: تحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعي البحث عنها في جهات:
الأولى: الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب.
الثانية، الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب.
الثالثة: الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة أو في الفضاء المغصوب.
أما الجهة الأولى فلا شبهة في فساد الوضوء أو الغسل. والوجه فيه ظاهر،
وهو: أن المنهي عنه يستحيل أن يكون مصداقا للمأمور به، وحيث إن الوضوء
أو الغسل في هذا الماء بنفسه تصرف في مال الغير ومصداق للغصب فيستحيل
أن ينطبق عليه المأمور به، ولا يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أبدا كما
هو ظاهر.
أما الجهة الثانية فلو قلنا: إنه يصدق على الوضوء أو الغسل من الإناء

(1) انظر مستند العروة: ج 4 ص 554 - 557 كتاب الصلاة.
(2) المصدر السابق: ص 552.
191

المغصوب أو الذهب أو الفضة أنه نحو تصرف فيه بناء على عدم جواز استعمال
الآنيتين مطلقا فلا إشكال في فساده أيضا، لما عرفت من أن المحرم يستحيل أن
يكون مصداقا للمأمور به، وبما أن الوضوء أو الغسل على هذا بنفسه محرم فيمتنع
أن ينطبق الواجب عليه، وهذا واضح. وأما بناء على ما هو الصحيح من أن المأمور
به في مثل هذه الموارد غير متحد مع المنهي عنه - فإن المأمور به هو صب الماء
على الرأس والبدن أو على الوجه واليدين، والمنهي عنه هو أخذ الماء من تلك
الأواني - فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل، وذلك لعدم سراية الحكم
من متعلقه إلى مقارناته ولوازمه الاتفاقية.
وإن شئت فقل: إن متعلق النهي هو أخذ الماء منها، فإنه نحو استعمال لها وهو
محرم على الفرض، وأما صبه على الوجه واليدين - مثلا - بعد أخذه منها فليس
باستعمال لها ليكون محرما. نعم، هو مترتب عليه.
وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب: أن حرمة المقدمة لا تمنع عن إيجاب
ذيها إذا لم تكن منحصرة، وأما إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بينهما. فإذا
المرجع هو قواعد باب التزاحم (1).
ولكن المشهور بين الأصحاب قديما وحديثا هو التفصيل بين ما إذا كان الماء
منحصرا فيها، وما إذا لم يكن، فذهبوا إلى فساد الوضوء أو الغسل في الصورة
الأولى، والى صحته في الصورة الثانية.
أما الصورة الأولى فقد ذكروا: أن أخذ الماء منها بما أنه كان محرما شرعا
فالمكلف وقتئذ فاقد للماء، لما ذكرناه غير مرة من أن المستفاد من الآية (2)
المباركة بقرينة داخلية وخارجية هو أن المراد من وجدان الماء فيها وجوده
الخاص، وهو ما إذا تمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعا. وفي المقام وإن

(1) تقدم في ج 2 ص 2 - 441.
(2) وهي آية التيمم، 6 من سورة المائدة.
192

تمكن من استعماله عقلا وتكوينا ولكنه لا يتمكن منه شرعا، والممنوع الشرعي
كالممتنع العقلي، فإذا وظيفته هي التيمم.
أما الصورة الثانية: فلأن الوضوء أو الغسل مشروع في حقه، لفرض أنه
واجد للماء، غاية الأمر أنه قد ارتكب مقدمة محرمة، وهي أخذ الماء من
الأواني، وهذا لا يمنع عن صحة وضوئه أو غسله بعد ما كان الماء الموجود في
يده مباحا، وهذا ظاهر.
أقول: التحقيق على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه
خارجا: صحة الوضوء أو الغسل على كلا التقديرين.
وبيان ذلك يقتضي دراسة نواح عديدة:
الأولى: صورة انحصار الماء بأحد الأواني المزبورة مع عدم تمكن المكلف
من تفريغ الماء منها في اناء آخر على نحو لا يصدق عليه الاستعمال.
الثانية: ما إذا تمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر من دون أن يصدق
عليه الاستعمال.
الثالثة: صورة عدم انحصار الماء فيها ووجود ماء آخر عنده يكفي لوضوئه
أو غسله.
أما الكلام في الناحية الأولى فيقع في موردين:
الأول: ما إذا أخذ المكلف الماء من هذه الأواني دفعة واحدة بمقدار يفي
لوضوئه أو غسله.
الثاني: ما إذا أخذ الماء منها غرفة غرفة.
أما الأول: فالظاهر أنه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به، ضرورة أن
المكلف بعد أخذ الماء منها صار واجدا للماء وجدانا، ومتمكنا من استعماله عقلا
وشرعا، ولا نرى في استعمال هذا الماء في الوضوء أو الغسل أي مانع. هذا نظير
ما إذا توقف التمكن من استعمال الماء على التصرف في أرض مغصوبة، ولكن
193

المكلف بسوء اختياره تصرف فيها ووصل إلى الماء وبعد وصوله إليه لا إشكال في
أنه واجد للماء، ووظيفته عندئذ هي الوضوء أو الغسل دون التيمم وإن كان قبل
التصرف فيها أو قبل الأخذ - هنا - هو فاقد للماء وكانت وظيفته التيمم دون غيره،
ولكن بعد التصرف فيها أو بعد الأخذ منها انقلب الموضوع وصار الفاقد واجدا
للماء، وهذا لعله من الواضحات.
وأما الثاني: فلأن بطلان الوضوء أو الغسل على هذا يبتنى على اعتبار القدرة
الفعلية على مجموع العمل المركب من أجزاء تدريجية: كالصلاة والصوم والوضوء
والغسل وما شاكلها من الابتداء وقبل الشروع فيه، ولم نكتف بالقدرة التدريجية
على شكل تدريجية أجزائه بأن تتجدد القدرة عند كل جزء منها، ويكون تجددها
عند الأجزاء اللاحقة شرطا لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.
وعلى هذا فلا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بأخذ الماء منها غرفة غرفة،
ضرورة أن المكلف قبل الشروع في التوضؤ أو الاغتسال لم يكن واجدا للماء
بمقدار يكفي لوضوئه أو غسله، فوقتئذ لو عصى وأخذ الماء منها غرفة غرفة
وتوضأ أو اغتسل به فيكون وضوؤه أو غسله باطلا، لعدم ثبوت مشروعيته.
وهذه النظرية وإن قويناها سابقا ولكنها نظرية خاطئة.
بيان ذلك: أنه لا مجال لتلك النظرية بناء على ما حققناه من إمكان الشرط
المتأخر، وأنه لا مناص من الالتزام به في الواجبات المركبة من الأجزاء الطولية.
هذا من ناحية (1).
ومن ناحية أخرى قد حققنا ضرورة إمكان الترتب وأنه لا مناص من
التصديق به (2).
ومن ناحية ثالثة قد ذكرنا غير مرة: أن القدرة التي هي شرط للتكليف إنما هي
القدرة في ظرف العمل والامتثال، ومن الواضح أن العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار

(1) تقدم في الجزء الثاني من المحاضرات ص 312 - 313.
(2) راجع ص 95.
194

القدرة عند الإتيان بكل جزء، ولا دليل على اعتبارها من الابتداء.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي صحة الوضوء أو الغسل بالماء المأخوذ
منها بالاغتراف، فإن القدرة تتجدد عند كل جزء من أجزائه بالعصيان وبارتكاب
المحرم، حيث إن المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة
أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء - مثلا - بمقدار غسل الوجه، وبما أنه
يعلم بارتكابه المحرم ثانيا وثالثا إلى أن يتم الوضوء أو الغسل يعلم بطرو التمكن
عليه من غسل سائر الأعضاء، فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتبا
على عصيانه، بناء على ما ذكرناه من صحة الترتب وجوازه، وأن وجود القدرة
في ظرف الإتيان بالأجزاء اللاحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو
الشرط المتأخر.
ومن المعلوم أنه لا فرق في ذلك بين أن القدرة تبقى من الابتداء أو تحدث
في ظرف الإتيان بها، وقد عرفت أنه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك.
وبتعبير واضح: أنه لا ينبغي الإشكال في كفاية القدرة بالتدريج على
الواجبات المركبة على شكل تدرج أجزائها بأن تحدث القدرة على كل جزء منها
في ظرفه.
مثلا: إذا فرض أن عند المكلف ماء قليلا لا يفي إلا بغسل وجهه فقط ولكنه
يعلم بنزول المطر من جهة إخبار معصوم (عليه السلام) - مثلا - أو قرينة قطعية أخرى فلا
إشكال في صحة غسله وجهه بقصد الوضوء، لتمكنه عندئذ من غسل بقية الأعضاء
بعد غسل وجهه، أو لو كان عنده ثلج يذوب شيئا فشيئا وليس عنده إناء ليجمعه
فيه ففي مثل ذلك يتمكن من الوضوء أو الغسل بأخذ الماء غرفة غرفة وعلى نحو
التدريج، فلا تكون وظيفته التيمم، لأنه واجد للماء وقادر على استعماله في الوضوء
أو الغسل عقلا وشرعا، بداهة أنه لا يعتبر في صحة الوضوء أو الغسل أن يكون
عنده ماء بمقدار يفي به من الابتداء وقبل الشروع فيه، إذ هو عمل تدريجي لا يعتبر
195

في صحته وتعلق الأمر به إلا القدرة عليه، سواء كانت موجودة من الأول أو وجدت
تدريجا، فإنه لا دخل لشئ من الخصوصيتين في فعلية التكليف بنظر العقل.
ونظير هذا: ما إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار غرفة واحدة دون
الزائد، ولكنه لو أخذ ذلك الماء فيخرج بذاك المقدار ثانيا وهكذا... فلا إشكال في
وجوب الوضوء عليه أو الغسل.
ومن هذا القبيل: ما إذا كان الماء لغير المكلف ولم يرض بالتصرف فيه إلا
بالأخذ منه بمقدار غرفة واحدة، ولكنه يعلم أنه يبدو له ويرضى بعد غسل وجهه
به - مثلا - بالأخذ منه غرفة ثانية وثالثة - وهكذا - إلى أن يتم وضوءه أو غسله
فإنه يجب عليه الوضوء أو الغسل حينئذ بلا إشكال.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل في أمثال تلك
الموارد، ولا يشرع في حقه التيمم، لكونه واجدا للماء ومتمكنا من استعماله عقلا
وشرعا، ضرورة أنه لا نعني بوجدان الماء إلا كونه متمكنا من استعماله من زمان
الشروع في الوضوء أو الغسل إلى زمان انتهائه، ولا أثر لوجدان الماء من الابتداء
بالإضافة إلى الأجزاء التالية، وإنما الأثر لوجدانه حين الإتيان بها وغسلها كما هو
واضح. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنك قد عرفت أن الترتب أمر ممكن، بل لا مناص من
الالتزام به.
وعلى ضوء هذين الجانبين فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل من الأواني
المغصوبة أو الذهب والفضة بقانون الترتب، وأن الأمر بالوضوء أو الغسل مترتب
على عصيان المكلف النهي عن التصرف فيها، إذ المانع من الأمر به إنما هو حرمة
التصرف في تلك الأواني، وأما بعد ارتكابه المحرم باغترافه منها يتمكن من
الوضوء أو الغسل بمقدار غسل الوجه أو الرأس فحسب، ولكنه علم بطرو العصيان
باغترافه ثانيا وثالثا إلى أن يتمكن من غسل بقية الأعضاء.
وإن فرض أنه لم يتوضأ أو لم يغتسل به خارجا فحينئذ لا مناص من الالتزام
196

بالأمر به مترتبا على عصيانه، لكونه واجدا للماء ومتمكنا من استعماله عقلا
وشرعا، وقد عرفت أنه لا فرق بين الوجدان الفعلي والوجدان التدريجي،
فكلاهما - بالإضافة إلى وجوب الغسل أو الوضوء - على نسبة واحدة. كما أنه لا
فرق في الالتزام بالترتب بين أن تطول مدة المعصية وارتكاب المحرم وأن تقصر،
وبين أن تكون المعاصي متعددة وأن تكون واحدة، ضرورة أن كل ذلك لا دخل له
فيما هو ملاك إمكان الترتب واستحالته، فإن ملاك إمكانه - كما سبق - هو أنه لا
يلزم من طلب المهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه طلب الجمع (1).
ومن الواضح جدا أنه لا يفرق في هذا بين العصيان الفعلي والعصيان التدريجي.
كما أن ملاك استحالته هو لزوم طلب الجمع من ذلك، ولا يفرق فيه بين معصية
واحدة فعلية ومعاص عديدة تدريجية كما هو واضح.
ومثل المقام: ما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة الفريضة في آخر الوقت
وصلاة الآيات، فإن الأمر بصلاة الآيات حينئذ مترتب على عصيان الفريضة
وتركها في مقدار من الزمان الذي يتمكن المكلف من الإتيان بصلاة الآيات، ولا
يكفي عصيانها في الآن الأول، لفرض وجوبها في جميع آنات صلاة الآيات،
فالمكلف بعد عصيانها في الآن الأول وإن تمكن من جزء منها إلا أنه لا يتمكن من
بقية أجزائها، ولكنه حيث علم بأنه يعصي الأمر بالفريضة في الآن الثاني والثالث..
وهكذا علم بطرو التمكن عليه من الإتيان بها بعد الإتيان بالجزء الأول.
ومثله أيضا: ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الإزالة عن المسجد ووجوب
الصلاة، فإن الأمر بالصلاة عندئذ منوط بعصيان الأمر بالإزالة في الآنات التي
يقدر المكلف فيها على الإتيان بالصلاة تماما، ولا يكفي عصيانها آنا ما، ولكن
المكلف حيث علم بعد عصيانه في الآن الأول بأنه يعصيه في الآن الثاني والثالث..
وهكذا علم بعروض التمكن من الإتيان بها تدريجا، وقد عرفت أن القدرة

(1) تقدم في ص 113 - 114.
197

التدريجية كافية في مقام الامتثال، ولا تعتبر القدرة الفعلية، وعليه فلا مانع من
الالتزام بوجوبها من ناحية الترتب، بل لا مناص من ذلك.
وقد تبين لحد الآن: أن تدريجية وجود القدرة مرة من ناحية تدريجية وجود
مقتضيه وتحققه في الخارج.
ومرة أخرى من ناحية تدريجية ارتفاع مانعه.
ومرة ثالثة من ناحية تدريجية عصيان الأمر بالأهم.
ومثال الأول ما مر من أنه إذا كان عند المكلف ثلج فيذوب شيئا فشيئا ولم
يكن عنده إناء ليجمع ماءه فيه ثم يتوضأ أو يغتسل به فلا يقدر على جمعه إلا
بمقدار يسع كفه. أو إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار يسعه كفه دون
الزائد، ولكنه إذا أخذ ذلك الماء يخرج منها بهذا المقدار ثانيا، وهكذا. أو إذا كان
عنده مقدار من الماء لا يفي لوضوئه أو غسله، ولكنه يعلم بنزول المطر بعد صرفه
في غسل الوجه أو الرأس من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) به، أو من طريق آخر ففي
هذه الموارد وما شاكلها جميعا لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل، بناء على
كفاية القدرة التدريجية كما هو الصحيح. وقد تقدم أن العقل مستقل بكفايتها،
وأن حكم العقل بذلك لم يدع مجالا لتوهم اعتبار القدرة الفعلية في مقام الامتثال
لتكون نتيجته سقوط وجوب الوضوء أو الغسل في تلك الموارد وانتقال الوظيفة
إلى التيمم.
ومثال الثاني: ما إذا كان الماء ملكا لغيره ولم يرض بالتصرف فيه إلا بالأخذ
منه بمقدار غرفة لا يفي إلا لغسل الوجه فحسب، ولكنه يعلم بأنه يرضى بعد غسل
وجهه بالأخذ منه ثانيا وثالثا، وهكذا... كما عرفت. أو إذا كان هناك مانع آخر
لا يتمكن معه من الوضوء أو الغسل إلا تدريجا، ففي كل ذلك لا مناص من
الالتزام بوجوب الوضوء أو الغسل كما تقدم بصورة واضحة.
ومثال الثالث: ما إذا كان الماء في الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة ولم
يتمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر، كما هو مفروض الكلام هنا، أو ما ذكرناه
198

من الأمثلة المتقدمة، فوقتئذ لو عصى المكلف وارتكب المحرم بالاغتراف من
تلك الأواني فلا محالة يتمكن من الوضوء بمقدار غسل الوجه أو من الغسل
بمقدار غسل الرأس مثلا، ولكنه لما علم بأنه يعصي ويغترف منها ثانيا وثالثا
وهكذا... علم بأنه قادر على الوضوء أو الغسل بالتدريج. وعليه فلا مناص من
الحكم بوجوبه بناء على الأساسين المتقدمين، هما: كفاية القدرة التدريجية في
مقام الامتثال، والالتزام بإمكان الترتب وجوازه.
ومن ذلك يظهر: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من بطلان الوضوء أو الغسل
في هذا الفرض لا يمكن المساعدة عليه (1).
والوجه في ذلك: هو أن ما ذكره (قدس سره) مبني على ما أسسه من ابنتاء جريان
الترتب على كون العمل واجدا للملاك حين الأمر به، وبما أن الوضوء أو الغسل في
ما نحن فيه غير واجد له فإن وجدانه يتوقف على كون المكلف واجدا للماء من
الأول، والمفروض عدمه هنا، إذ كونه واجدا له موقوف على جواز تصرفه في
الأواني، وبما أنه محرم وممنوع شرعا والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلم
يكن واجدا للماء ومتمكنا من استعماله عقلا وشرعا.
ولكن قد عرفت فساد ما أفاده (قدس سره) وأن جريان الترتب في مورد لا يتوقف
على ذلك، وقد أوضحناه بصورة مفصلة (2) فلا نعيد. هذا من ناحية الملاك. وأما من
ناحية عدم كون المكلف واجدا للماء فأيضا يظهر فساده مما ذكرناه الآن من أنه
لا فرق بين كون المكلف واجدا للماء بالفعل وكونه واجدا له بالتدريج، فالترتب
كما يجري في الأول كذلك يجري في الثاني، من دون فرق بينهما من هذه الجهة
أبدا كما عرفت بشكل واضح.
فالنتيجة قد أصبحت: أن النقطة الرئيسية لصحة الوضوء أو الغسل في
أمثال المقام هي كفاية القدرة على العمل في مقام الامتثال بالتدريج، وعدم

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 317.
(2) تقدم في ص 98 وما بعدها.
199

اعتبارها من الابتداء. وعلى ضوء هذه النقطة لا مناص من الالتزام بصحة الوضوء
أو الغسل من جهة الترتب.
وأما الكلام في الناحية الثانية - وهي صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء
في ظرف آخر - فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل حينئذ، وذلك لأنه واجد
للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعا. وعليه فالأمر بالطهارة المائية في حقه
فعلي، ضرورة أنه مع تمكنه من التفريغ بدون أن يصدق عليه الاستعمال بوجه
قادر عليها، وعندئذ تتعين وظيفته بمقتضى الآية المباركة وغيرها من روايات (1)
الباب في الوضوء أو الغسل، ولا يشرع في حقه التيمم.
ثم إنه لو عصى وأخذ الماء من الأواني بالاغتراف فهل يمكن الحكم بصحة
وضوئه أو غسله مع قطع النظر عن القول بالترتب وكفاية القدرة التدريجية أم لا؟
وجهان، والصحيح هو الأول، وذلك لأنه قادر عليه فعلا، والمفروض أن
مشروعيته لا تتوقف على القول بالترتب، غاية الأمر أنه بسوء اختياره قد ارتكب
مقدمة محرمة، ومن الواضح أن ارتكابها لا يضر بصحته أبدا.
فالنتيجة: هي صحة الوضوء أو الغسل في هذه الصورة مطلقا، قلنا بالترتب
أم لم نقل، قلنا بفساد الوضوء أو الغسل في الصورة الأولى أم لم نقل.
وأما الكلام في الناحية الثالثة - وهي صورة عدم انحصار الماء في الأواني
المزبورة - فأيضا لا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل بالاغتراف، سواء فيه القول
بالترتب وعدمه، وسواء فيه القول باعتبار القدرة الفعلية وعدم اعتبارها،
وذلك لفرض أن المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل، ولا يتوقف
مشروعيتها على القول بالترتب، غاية الأمر أنه بسوء اختياره قد ارتكب فعلا
محرما. وقد عرفت أنه لا يضر بصحة وضوئه أو غسله بعد ما كان الماء الموجود
في يده مباحا على الفرض.

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 342 ب 2 و 3 من أبواب التيمم.
200

فقد تحصل مما ذكرناه: أن الوضوء أو الغسل صحيح في جميع تلك
النواحي والصور.
وقد تبين مما قدمناه لحد الآن أمران:
الأول: أن الوضوء أو الغسل من الأواني إذا كان ارتماسيا فلا إشكال في
فساده، وذلك لأنه بنفسه تصرف فيها، وهو محرم على الفرض. ومن الواضح جدا
أن المحرم لا يقع مصداقا للواجب، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء
فيها وعدمه، وصورة التمكن من التفريغ في إناء آخر وعدم التمكن منه، فإن
التوضؤ أو الاغتسال إذا كان في نفسه محرما فلا يمكن التقرب به، ولا يقع مصداقا
للواجب، وهذا ظاهر.
الثاني: أنه قد ظهر فساد ما أفاده السيد العلامة الطباطبائي (قدس سره) في العروة في
بحث الأواني، وإليك نص كلامه: (لا يجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقا،
والوضوء والغسل منها مع العلم باطل مع الانحصار، بل مطلقا) (1).
وقال في مسألة أخرى ما لفظه هذا: (إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل في
إحدى الآنيتين: فإن أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب، وإلا سقط وجوب
الوضوء أو الغسل ووجب التيمم، وإن توضأ أو اغتسل منهما بطل، سواء أخذ الماء
منهما بيد، أو صب على محل الوضوء بهما، أو ارتمس فيهما. وإن كان له ماء آخر
أو أمكن التفريغ في ظرف آخر ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى أيضا
البطلان) (2).
فالنتيجة: أنه (قدس سره) قد حكم ببطلان الوضوء والغسل في جميع تلك الصور
والنواحي، من دون فرق بين صورتي الانحصار وعدمه، وإمكان التفريغ في إناء
آخر وعدم إمكانه.
أقول: ما أفاده (قدس سره) في المقام لا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لما عرفت

(1) العروة الوثقى: ج 1 ص 153 المسألة (1) من حكم الأواني.
(2) المصدر السابق: ص 160 المسألة (14).
201

من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في صورة انحصار الماء في تلك الأواني،
مع عدم التمكن من التفريغ في إناء آخر، فضلا عن صورة عدم الانحصار
أو التمكن من التفريغ (1).
وعلى ذلك فمن المحتمل قويا أن يكون نظر السيد (قدس سره) في هذا إلى أن المأمور
به في هذه الموارد متحد مع المنهي عنه، بمعنى أن الوضوء أو الغسل من الأواني
ولو بالاغتراف بنفسه تصرف فيها فيكون منهيا عنه. وعليه فلا يمكن أن يقع
مصداقا للمأمور به، ولأجل ذلك حكم بالبطلان مطلقا.
ولكن مما ذكرناه ظهر فساده، والوجه فيه: أن الوضوء أو الغسل بعد أخذ الماء
منها بالاغتراف ليس تصرفا فيها بشئ، ضرورة أن ما هو التصرف في الآنية إنما
هو تناول الماء منها وأخذه. وأما التصرفات الواقعة بعده فلا يصدق على شئ منها
عرفا أنه تصرف فيها، لوضوح أن صبه على الأرض أو استعماله في الطهارة
الخبثية أو سقيه للحيوان أو إعطاءه لشخص آخر أو غير ذلك جميعا تصرفات
خارجية، فليس شئ منها تصرفا في الآنية ليكون مشمولا للروايات الناهية
عن استعمالها، ومن المعلوم أن التوضؤ أو الاغتسال به أيضا من هذه التصرفات
فلا تشمله الروايات.
وعلى الجملة: فالذي هو استعمال للآنية إنما هو تناول الماء منها وأخذه.
وأما التصرف في الماء بعد أخذه واستعماله بنحو من أنحاء الاستعمال - سواء كان
في الوضوء أو الغسل أو كان في غيره - فلا شبهة في أنه ليس باستعمال للآنية
قطعا، بداهة أنه استعمال للماء حقيقة وليس باستعمال لها بوجه، وهذا واضح جدا.
ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى صحة الوضوء أو الغسل في صورة عدم
انحصار الماء فيها كما عرفت. ومن المعلوم أنه إذا كان بنفسه تصرفا فيها ومصداقا
للمحرم لم يكن وجه للقول بالصحة أبدا، بناء على حرمة التصرف فيها مطلقا كما
هو مختارهم، لاستحالة كون المحرم مصداقا للمأمور به.

(1) تقدم في ص 193 - 200.
202

فالنتيجة: أن ما أفاده السيد (قدس سره) في المقام لا يرجع إلى أساس صحيح.
بقي الكلام في أمر، وهو: أن ما ذكرناه حول أواني الذهب والفضة يبتنى على
وجهة نظر المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقا من دون اختصاصها بالأكل
والشرب، وعليه فحالهما حال الأواني المغصوبة.
وأما بناء على القول بعدم حرمة سائر الاستعمالات من الوضوء والغسل
وإزالة النجاسات وغيرها مما يعد عرفا استعمالا لهما فلا إشكال عندئذ في صحة
الوضوء أو الغسل من الآنيتين مطلقا ولو كان ارتماسيا.
وقد ذكرنا في بحث الفقه: أن القول بذلك لا يخلو عن وجه (1).
والوجه في ذلك ملخصا: أن جميع ما استدلوا به على حرمة غير الأكل
والشرب من الاستعمالات يرجع إلى وجوه ثلاثة، وكلها قابل للمناقشة:
الأول: الإجماع كما ادعاه غير واحد منهم.
ويرده - مضافا إلى أنه لم يثبت في نفسه، لاقتصار جماعة على خصوص
الأكل والشرب، وعدم تعرضهم لغيرهما (2) - أنه إجماع منقول لم يقم دليل على
اعتباره كما ذكرناه في محله (3). على أنه محتمل المدرك لو لم يكن معلوما، وعليه
فلا أثر له.
الثاني: رواية موسى بن بكر، عن أبي الحسن (عليه السلام) " آنية الذهب والفضة متاع
الذين لا يوقنون " (4)، بتقريب أن المتاع ما ينتفع به، فالرواية تدل على حرمة
الانتفاع من الآنيتين وأنه خاص لغير الموقنين. ومقتضى إطلاقها حرمة جميع
استعمالاتهما حيث إن استعمال الشئ انتفاع به.
وغير خفي أن الرواية ضعيفة سندا ودلالة.

(1) راجع التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 3 ص 315 كتاب الطهارة.
(2) قال في المستمسك (ج 2 ص 166): عن الصدوق وسلار والنهاية الاقتصار على الأكل
والشرب.
(3) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 134 - 141.
(4) راجع الوسائل: ج 3 ص 507 ب 65 من أبواب النجاسات ح 4.
203

أما سندا فلأنها ضعيفة بسهل بن زياد وموسى بن بكر على طريق الكافي،
وبموسى بن بكر على طريق آخر رواها عنه البرقي.
وأما دلالة فمع إمكان المناقشة في أصل دلالتها على الحرمة باعتبار أن
مجرد اختصاص الانتفاع بهما لغير الموقنين لا يدل على حرمة الانتفاع لهم أن
مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن الانتفاع من كل متاع بحسب ما يناسبه،
فالانتفاع بالكتاب إنما هو بمطالعته، والانتفاع بالفرش إنما هو بفرشه، وباللباس
بلبسه، وهكذا...، ومن الواضح جدا أن الانتفاع بالآنيتين ظاهر في استعمالهما في
الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما، لكون الأواني معدة لذلك. إذا فالرواية ظاهرة
في حرمة الأكل والشرب منهما فلا تشمل سائر الانتفاعات والاستعمالات.
الثالث: ما ورد من النهي عن أواني الذهب والفضة، وهي روايات كثيرة:
منها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه نهى عن آنية الذهب
والفضة (1).
ومنها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)
عن آنية الذهب والفضة فكرههما (2).
ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه كره آنية الذهب والفضة
والآنية المفضضة (3). بتقريب أنه لا معنى لتعلق النهي والكراهة بالأعيان والذوات.
نعم، الكراهة بمعنى الصفة النفسانية المعبر عنها بالكراهة التكوينية الحقيقية
وإن أمكن تعلقها بالذوات بما هي بأن يكون الشئ مبغوضا بذاته - كما أنه قد
يكون محبوبا كذلك - إلا أن الكراهة بالمعنى الشرعي لا معنى لتعلقها بها أبدا. ومن
المعلوم أنه لم يرد من الكراهة في هاتين الصحيحتين الكراهة التكوينية، ضرورة
أن الظاهر منهما هو أن الإمام (عليه السلام) في مقام بيان الحكم الشرعي، لا في مقام إظهار
كراهته الشخصية، وهذا واضح. وعليه فلابد من تقدير فعل من الأفعال فيها ليكون

(1) نفس الهامش السابق ح 3 و 1.
(2) نفس الهامش السابق ح 3 و 1.
(3) راجع الوسائل: ج 3 ب 65 من أبواب النجاسات ح 10.
204

هو المتعلق للنهي والكراهة، وبما أنه لا قرينة على التخصيص ببعض منها دون
بعضها الآخر فلا محالة يكون المقدر هو مطلق الانتفاعات والاستعمالات.
ولكن قد ظهر الجواب عنه بما تقدم: من أن المقدر في كل مورد بحسب ما
يناسب ذلك المورد. ومن هنا ذكروا: أن المقدر في مثل النهي عن الأمهات هو
النكاح فإنه المناسب للمقام والأثر الظاهر من النساء، كما أن المقدر في مثل النهي
عن الميتة والدم وما شاكلهما هو الأكل، وهكذا...
وفي ما نحن فيه بما أن الأثر الظاهر من الإناء هو استعماله في الأكل والشرب
فلا محالة ينصرف النهي عنه إلى النهي عن الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما.
وعلى الجملة: فالنهي في أمثال هذه الموارد بمناسبة الحكم والموضوع
منصرف إلى النهي عن الأثر الظاهر من الشئ، فلا يعم مطلق أثره.
ونتيجة ذلك: هي أن المقدر في تلك الصحاح بمقتضى الفهم العرفي هو
خصوص الأكل والشرب دون مطلق الاستعمال والانتفاع. فإذا لا دليل على
حرمة استعمال الآنيتين في غير الأكل والشرب. وعليه فلا مانع من الوضوء أو
الغسل بهما مطلقا ولو كان ارتماسيا، كما أنه لا مانع من غيره. وتمام الكلام في
ذلك في بحث الفقه (1).
وقد تحصل مما ذكرناه أمران:
الأول: الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة
صحيح مطلقا، سواء أكان الماء منحصرا فيها أم لم يكن، وسواء أتمكن المكلف من
التفريغ في إناء آخر أم لم يتمكن، وسواء أأخذ الماء منها دفعة واحدة أم بالتدريج.
الثاني: أن الوضوء أو الغسل الارتماسي باطل على جميع هذه التقادير
والفروض.
وأما الجهة الثالثة فيقع الكلام فيها في مقامين:
الأول: في الوضوء أو الغسل في الأرض المغصوبة.

(1) راجع التنقيح في شرح العروة: ج 3 ص 315 كتاب الطهارة.
205

الثاني: في الفضاء المغصوب.
أما المقام الأول: فالكلام فيه يقع في موردين:
الأول: ما إذا فرض انحصار الماء في مكان مغصوب بحيث إن المكلف
لا يتمكن من الوضوء أو الغسل إلا في ذلك المكان.
الثاني: ما إذا فرض عدم انحصار الماء فيه.
أما المورد الأول: فالظاهر أنه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل على
القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل المقام الذي لم يتحد فيه المأمور به
مع المنهي عنه خارجا، حيث إن المأمور به هو الغسلتان والمسحتان مثلا،
والمنهي عنه هو الكون في الدار - وهو من مقولة الأين - فيستحيل أن ينطبق
على المأمور به.
نعم، هما أمران متلازمان في الخارج. وقد ذكرنا غير مرة: أنه لا دليل على
سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الوجودية، بل قد عرفت الدليل على عدمها.
هذا من جانب (1).
ومن جانب آخر: أن وظيفته ابتداء وإن كانت هي التيمم فلو صلى معه فلا
إشكال في صحة صلاته، باعتبار أنه لم يتمكن من الوضوء أو الغسل شرعا وإن
تمكن تكوينا.
وقد ذكرنا غير مرة: أن مشروعية الوضوء أو الغسل منوطة بالتمكن من
استعمال الماء عقلا وشرعا، ولا يكفي مجرد التمكن منه عقلا إذا كان ممنوعا من
قبل الشرع، وفي المقام بما أن الوضوء أو الغسل يتوقف على ارتكاب محرم - وهو
التصرف في مال الغير - فلا يتمكن المكلف منه.
إذا فوظيفته التيمم لكونه فاقدا للماء، ولكنه لو عصى ودخل في الدار
المغصوبة فتوضأ أو اغتسل به فلا إشكال في صحته بناء على ما حققناه من
إمكان الترتب.

(1) راجع ص 36.
206

وأما المورد الثاني: فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل ولو قلنا بالفساد في
المورد الأول، ولا تتوقف صحته على القول بالترتب، لفرض أنه مأمور بالطهارة
المائية لتمكنه منها، غاية الأمر أن المكلف بسوء اختياره قد ارتكب المحرم
بدخوله في المكان المزبور وتوضأ أو اغتسل فيه، ومن الواضح أن ارتكاب محرم
مقدمة للوضوء أو الغسل أو في أثنائه إذا لم يكن متحدا معه لا يوجب فساده. هذا
كله فيما إذا لم يكن الفضاء مغصوبا، بل كان مباحا أو مملوكا للمتوضئ.
وأما المقام الثاني - وهو الوضوء أو الغسل في الفضاء المغصوب - فالظاهر
بطلان الوضوء فحسب دون الغسل. أما الوضوء فمن جهة المسح حيث يعتبر فيه
إمرار اليد وهو نحو تصرف في ملك الغير فيكون محرما. ومن الواضح جدا أن
المحرم لا يقع مصداقا للواجب، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء
وعدمه، كما هو ظاهر.
نعم، لو أوقع المسح في غير الفضاء المغصوب لصح وضوؤه على الأقوى وإن
كان الأحوط تركه.
ومن هنا استشكلنا في صحة التيمم في الفضاء المغصوب من جهة أن المعتبر
فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف فيه. ولا يفرق في هذا بين وجود المندوحة
وعدمها.
وأما الغسل فحيث إنه لا يعتبر فيه إمرار اليد فلا يكون تصرفا فيه وإن كان
الأحوط تركه أيضا.
ونلخص نتائج الأبحاث المقدمة في عدة نقاط:
1 - قد سبق أنه يمكن تصحيح الجهر في موضع الإخفات وبالعكس،
والإتمام في موضع القصر بالالتزام بالترتب في مقام الجعل، ولا يرد عليه شئ
مما أورده شيخنا الأستاذ (قدس سره) (1).
2 - قد تقدم أن التضاد الدائمي بين متعلقي الحكمين وإن كان يوجب

(1) تقدم في ص 168.
207

دخولهما في باب التعارض دون باب التزاحم كما هو واضح، إلا أنه لا يمنع من
الالتزام بالترتب بينهما في مقام الجعل، بأن يكون جعل أحدهما مترتبا على عدم
الإتيان بمتعلق الآخر، غاية الأمر أن وقوع الترتب في هذا المقام يحتاج إلى دليل،
والدليل موجود في المسألتين، كما عرفت (1).
3 - إن المأمور به ليس خصوص الجهر والإخفات في فرض وجود القراءة،
والقصر والتمام في فرض وجود الصلاة ليكونا من الضدين اللذين لا ثالث لهما،
بل المأمور به هو القراءة الجهرية والإخفاتية في المسألة الأولى، والصلاة قصرا
وتماما في المسألة الثانية. وعليه فيكونان من الضدين لهما ثالث، على أن القصر
والتمام لا يكونان من الضدين لا ثالث لهما حتى في فرض وجود الصلاة.
4 - إنه لا ملزم لكون الشرط لفعلية الخطاب المترتب عصيان الخطاب
المترتب عليه، بل قد عرفت أن الشرط في الحقيقة والواقع هو ترك امتثاله وعدم
الإتيان بمتعلقه، فإنه نقطة انطلاق إمكان الترتب لا غيره (2). وعلى هذا الأساس
فلا يلزم المحذور المتقدم.
5 - قد ظهر أن الترتب كما يجري في المقام يجري في موارد العلم الإجمالي
والشبهات قبل الفحص، والموارد المهمة بناء على وجوب الاحتياط فيها. نعم،
لا يجري في خصوص موارد الشبهات البدوية التي تجري أصالة البراءة فيها.
6 - إن جريان الترتب في مورد يرتكز على ركائز ثلاث:
1 - وصول الخطاب المترتب عليه إلى المكلف صغرى وكبرى.
2 - عدم الإتيان بمتعلقه في الخارج.
3 - إحراز ذلك.
7 - إن مخالفة الخطاب الطريقي بما هو لا توجب العقاب، والعقاب في صورة
مصادفته للواقع إنما هو على مخالفة الواقع، لا على مخالفته.
8 - قد ذكرنا وجها آخر أيضا لدفع الإشكال عن المسألتين، وهو: أنه

(1) راجع ص 168.
208

لا موجب لاستحقاق العقاب أصلا، فإن الواجب في الواقع إما هو خصوص الجهر
- مثلا - عند الجهل بوجوب الإخفات في المسألة الأولى، وخصوص التمام عند
الجهل بوجوب القصر في المسألة الثانية. وإما هو أحد فردي الواجب التخييري.
وعلى كلا التقديرين لا معنى للعقاب.
9 - إنا لا نعقل التضاد بين الملاكين مع عدم المضادة بين الفعلين.
10 - إن الترتب لا يجري بين الواجبين أحدهما موسع والآخر مضيق،
فإن البحث عن الترتب إمكانا وامتناعا يتفرع على تحقق التزاحم بين
الحكمين، فإذا فرض أنه لا مزاحمة بينهما وتمكن المكلف من الجمع بينهما في
مقام الامتثال فلا موضوع له، وما نحن فيه كذلك، فإن المكلف متمكن من الجمع
بينهما من دون أية منافاة.
11 - ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن المكلف إذا التفت إلى تنجس المسجد - مثلا -
أثناء الصلاة فلا يتوقف الحكم بصحتها على القول بالترتب، وهذا بخلاف ما إذا
علم بتنجسه قبل الشروع بها، أو كان الواجب مما لا يحرم قطعه.
ووجهه: هو أن دليل وجوب الإزالة لبي فلا يشمل هذه الصورة، ولكن قد
عرفت فساد ذلك. وأن دليل حرمة قطع الصلاة على تقدير تسليمها أيضا لبي،
والروايات لا تدل على ذلك.
12 - إنه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو أواني
الذهب والفضة فيما إذا اخذ الماء منها دفعة واحدة بمقدار يكفي له، لأن المكلف
بعد الأخذ واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلا وشرعا.
13 - إن المأمور به هنا غير متحد مع المنهي عنه، فإن المأمور به هو الغسلتان
والمسحتان مثلا، والمنهي عنه هو أخذ الماء من الآنية.
14 - قد تقدم أنه لا دليل على اعتبار القدرة الفعلية في ابتداء العمل وعند
الشروع في الامتثال، بل تكفي القدرة على نحو التدريج، ولا يحكم العقل بأزيد
من ذلك، ولا يفرق في هذا بين أن تكون تدريجية القدرة من ناحية تدريجية
209

مقتضيها، أو من ناحية تدريجية ارتفاع مانعها، أو من ناحية تدريجية ارتكاب
معصية المولى.
15 - صحة الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني مطلقا وعلى جميع الصور
المتقدمة: من صورة انحصار الماء وعدمه، وصورة إمكان التفريغ في إناء آخر،
وعدم إمكانه بناء على ما حققناه من صحة الترتب.
16 - إن ما ذكرناه من النزاع مبتن على ما هو المشهور من حرمة استعمال
الآنيتين مطلقا. وأما بناء على عدم حرمة استعمالهما في غير الأكل والشرب - كما
لا يخلو عن وجه - فلا موضوع لهذا النزاع أصلا.
17 - إن صحة الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة مبنية على ما هو الصحيح
من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجا، وعدم سراية الحكم من متعلقه
إلى ملازماته الاتفاقية. إذا لا مانع من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة
الترتب، ولا فرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء وعدمه كما هو واضح.
18 - فساد الوضوء في الفضاء الغصبي على الأقوى من جهة حرمة المسح،
بلا فرق بين صورتي الانحصار وعدمه.
بيان التزاحم والتعارض، ونقطة امتياز
أحدهما عن الآخر
ها هنا جهات من البحث:
الأولى: بيان حقيقة التزاحم وواقعه الموضوعي.
الثانية: بيان حقيقة التعارض وأساسه.
الثالثة: بيان النقطة الرئيسية للفرق بين البابين.
الرابعة: بيان مرجحات باب التعارض من جانب، وما تقتضيه القاعدة فيه
من جانب آخر.
210

الخامسة: بيان مرجحات باب التزاحم، وما تقتضيه القاعدة عند فقدانها.
أما الجهة الأولى: فالتزاحم على نوعين:
الأول: التزاحم بين الملاكات الواقعية بأن تكون - مثلا - في فعل جهة مصلحة
تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي تحريمه، أو كانت فيه جهة تقتضي استحبابه
وجهة أخرى تقتضي كراهته، وهكذا...، ففي هذه الموارد وما شاكلها لا محالة تقع
المزاحمة بين المصلحة والمفسدة، أو كانت مصلحة في فعل ومصلحة أخرى في
فعل آخر مضاد له، وهكذا...
ومن الواضح جدا أن الأمر في هذا النوع من التزاحم بيد المولى، حيث إن
عليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس الأمرية الكامنة في الأفعال
الاختيارية للعباد، ويقدم ما هو الأقوى والأهم من تلك الملاكات على غيره التي
لم تكن بهذه المرتبة من القوة والأهمية، ويجعل الحكم على طبق الأهم دون غيره.
ومن الضروري أن هذا ليس من وظيفة العبد بشئ، فإن وظيفته العبودية
وامتثال الأحكام التي جعلت من قبل المولى ووصلت إليه، والخروج عن عهدة
تلك الأحكام وتحصيل الأمن من ناحيتها من دون ملاحظته جهات المصالح
والمفاسد في متعلقاتها أصلا، بل إذا فرضنا أن العبد علم بأن المولى قد اشتبه عليه
الأمر - كما يتفق ذلك في الموالي العرفية - فجعل الوجوب - مثلا - بزعم أن في
الفعل مصلحة مع أنه لا مصلحة فيه، أو علم أن فيه مفسدة لم يكن له بمقتضى
وظيفة العبودية مخالفة ذلك التكليف المجعول وترك امتثاله معتذرا بأنه لا مقتضي
للوجوب، أو أن فيه مقتضي الحرمة، فإن كل ذلك لا يسمع منه ويستحق العقاب
على مخالفته. كما أن من وظيفة الرعايا الالتزام بالقوانين المجعولة في
الحكومات، فلو أن أحدا خالف قانونا من تلك القوانين اعتذارا بأنه لا مصلحة في
جعله أو أن فيه مفسدة فلا يسمع هذا الاعتذار منه ويعاقب على مخالفة ذلك.
فالنتيجة: هي أن وظيفة المولى جعل الأحكام على طبق جهات المصالح
والمفاسد الواقعيتين، وترجيح بعض تلك الجهات على بعضها الآخر في مقام
211

المزاحمة، غاية الأمر أنه إذا كان المولى مولى حقيقيا يجعل الحكم على وفق ما
هو الأقوى من تلك الجهات في الواقع ونفس الأمر، وإذا كان عرفيا يجعل الحكم
على طبق ما هو الأقوى بنظره، لعدم إحاطته بجهات الواقع تماما، ووظيفة العبد
الانقياد والإطاعة وامتثال الأحكام، سواء أعلم بوجود مصلحة في متعلقاتها أم لم
يعلم، ضرورة أن كل ذلك لا يكون عذرا له في ترك الامتثال، بل يعد هذا منه
تدخلا في وظيفة المولى، وهو قبيح.
على أنه ليس للعبد طريق إلى إحراز جهات المصالح والمفاسد في متعلقات
الأحكام الشرعية - مع قطع النظر عن ثبوتها - ليراعي ما هو الأقوى منها. نعم، قد
يستكشف من أهمية الحكم أهمية ملاكه فيرجح على غيره، ولكن هذا أجنبي عما
نحن فيه، وهو وقوع المزاحمة بين الملاكات والجهات الواقعية. فإذا ليست لتلك
الكبرى صغرى في الأحكام الشرعية أصلا.
وقد تحصل من ذلك أمران:
الأول: أن هذا النوع من التزاحم ليس في مقابل التعارض، فإن ما هو في
مقابله التزاحم في الأحكام الفعلية بعضها ببعض دون التزاحم في الملاكات، ولذا
لا تترتب على البحث عنه أية ثمرة.
الثاني: أن وقوع التزاحم بين الملاكات يرتكز على وجهة نظر مذهب العدلية
من تبعية الأحكام لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها، أو في نفسها. وأما على
وجهة مذهب الأشعري - المنكر للقول بالتبعية مطلقا - فلا موضوع له.
النوع الثاني: تزاحم الأحكام بعضها مع بعض في مقام الامتثال والفعلية،
ومنشؤه عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معا، ويكون امتثال كل واحد
منهما متوقفا على مخالفة الآخر، فإنه إذا صرف قدرته على امتثاله يعجز عن
امتثال الآخر، فيكون الآخر منتفيا بانتفاء موضوعه وهو القدرة.
مثلا: إذا فرضنا أن إنقاذ الغريق أو نحوه متوقف على التصرف في مال الغير،
أو كان هناك غريقان ولكن المكلف لا يقدر على إنقاذ كليهما معا فعندئذ لو اختار
امتثال أحدهما يعجز عن امتثال الثاني، فينتفي بانتفاء موضوعه.
212

وبعبارة واضحة: قد تعرضنا في غير موضع أن لكل حكم مرتبتين
ولا ثالث لهما.
الأولى: مرتبة الجعل والإنشاء، وهي جعله لموضوعه على نحو القضية
الحقيقية من دون تعرضه لحال موضوعه وجودا وعدما. ومن هنا قلنا: إن كل
قضية حقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت
المحمول له. ومن الواضح جدا أن التالي لا يكون ناظرا إلى حال الشرط وجودا
ولا عدما، بل هو ثابت على تقدير تحققه في الخارج، وكذا الحكم لا يكون ناظرا
إلى حال موضوعه أصلا، بل هو ثابت على فرض تحققه، وهذا معنى كون
الموضوع مأخوذا في القضية الحقيقية على نحو فرض وجوده.
الثانية: مرتبة فعلية الحكم، وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج
ووجوده، ضرورة أن فعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه وتحققه. ومن هنا
قلنا: إن نسبة الحكم إلى موضوعه نسبة المعلول إلى علته، فكما أن فعلية المعلول
تدور مدار فعلية علته فكذلك فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان: أن في موارد التزاحم لا تنافي بين الحكمين
بحسب مرتبة الجعل أصلا، بداهة أنه لا تنافي بين جعل وجوب انقاذ الغريق
للقادر على نحو القضية الحقيقية، وحرمة التصرف في مال الغير كذلك، كيف؟ فإن
عدم التنافي بين الدليل الدال على وجوب الإنقاذ والدليل الدال على حرمة
التصرف في مال الغير من الواضحات الأولية. وكذا لا تنافي بين جعل وجوب
الصلاة للقادر ووجوب الإزالة له. وهكذا...، فالتنافي في مورد التزاحم إنما هو في
مرتبة فعلية الأحكام وزمن امتثالها، ضرورة أن فعلية كل من حكمين متزاحمين
تأبى عن فعلية الآخر، لاستحالة فعلية كليهما معا.
وسره: أن القدرة الواحدة لا تفي إلا بإعمالها في أحدهما، فلا تكفي للجمع
بينهما في مقام الإتيان والامتثال. وعليه فلا محالة كان اختيار كل واحد منهما في
213

هذا المقام يوجب عجزه عن الآخر، فيكون الحكم الآخر منتفيا بانتفاء موضوعه
- وهو القدرة - من دون تصرف في دليله أصلا.
والوجه في ذلك: ما ذكرناه غير مرة: من أن الخطابات الشرعية يستحيل أن
تتعرض لحال موضوعاتها نفيا وإثباتا، وإنما هي متعرضة لبيان الأحكام على
تقدير ثبوت موضوعاتها في الخارج. ومن هنا قلنا: إن الخطابات الشرعية من
قبيل القضايا الحقيقية، ومفادها مفاد تلك القضايا.
مثلا: الأدلة الدالة على ثبوت الأحكام للحائض أو النفساء أو المستطيع أو ما
شاكل ذلك لا يتكفل شئ منها لبيان حالها وجودا أو عدما، وإنما هي متكفلة لبيان
الأحكام لها على تقدير تحققها في الخارج، ولذا ذكرنا: أن كل دليل إذا كان ناظرا
إلى موضوع دليل آخر نفيا أو إثباتا حقيقة أو حكما لا يكون أي تناف بينه وبين
ذلك الدليل، وذلك كما في موارد الورود والحكومة، ضرورة أن مفاده ثبوت
الحكم على تقدير تحقق موضوعه خارجا.
ومن الواضح أن نفي الحكم بانتفاء موضوعه لا يكون من رفع اليد عن دليله
الدال عليه فإنه إنما يكون في مورد التعارض، حيث إن فيه نفي الحكم عن
الموضوع الثابت كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى (1). ومقامنا من قبيل الأول، فإن
التكليف حيث إنه مشروط بالقدرة يستحيل أن يكون ناظرا إلى حالها وجودا أو
عدما، بل هو ناظر إلى حال متعلقه ومقتض لوجوده إن كان التكليف وجوبيا،
والبعد عنه إن كان تحريميا.
وعليه فكون المكلف قادرا في الخارج أو غير قادر أجنبي عن مفاد الدليل
الدال عليه، فلا يكون انتفاؤه بانتفاء القدرة من رفع اليد عن دليله ومنافيا له،
ضرورة أن ما لا اقتضاء له بالإضافة إلى وجود القدرة وعدمها لا يكون منافيا لما
هو مقتض لعدمها، كما هو واضح.

(1) سيأتي في ص 224.
214

نعم، لو كان هناك دليل دل على انتفائه مع ثبوت موضوعه لكان منافيا له
وموجبا لرفع اليد عما دل عليه، إذ هذا مقتض لثبوته، وذاك مقتض لعدمه فلا يمكن
أن يجتمعا في موضوع واحد، ولكنهما عندئذ صارا من المتعارضين فلا يكونان
من المتزاحمين، ومحل كلامنا فعلا في الثاني، لا في الأول.
وصفوة القول في ذلك: هي أنا قد ذكرنا غير مرة أنه لا مضادة ولا منافاة
بين الأحكام بأنفسها، لأنها أمور اعتبارية فلا شأن لها، ما عدا اعتبار من بيده
الاعتبار، ولا واقع موضوعي لها غير ذلك. ومن المعلوم أنه لا تعقل المضادة
والمنافاة بين الأمور الاعتبارية بعضها ببعض ذاتا وحقيقة. ومن هنا قلنا:
إن التنافي والتضاد بين الأحكام إما أن يكون من ناحية مبدئها، وإما أن يكون
من ناحية منتهاها، ولا ثالث لهما.
أما التنافي من ناحية المبدأ فيبتنى على وجهة نظر مذهب العدلية من تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في نفسها، وحيث إن المصلحة
والمفسدة متضادتان فلا يمكن اجتماعهما في شئ واحد.
وأما التنافي من ناحية المنتهى فلعدم تمكن المكلف من امتثال الوجوب
والحرمة معا - مثلا - في شئ واحد. وكذا عدم تمكنه من امتثال وجوبين
أو تحريمين متعلقين بالضدين اللذين لا ثالث لهما. وهكذا...، ولا يفرق في هذه
الناحية بين مذهب العدلية وغيره.
وعلى هذا الأساس فإذا كان بين حكمين تناف من ناحية المبدأ أو المنتهى
بالذات - كالوجوب والحرمة لشئ واحد - أو بالعرض - كما إذا علم إجمالا
بكذب أحدهما - فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما.
وأما إذا لم يكن بينهما تناف لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى
- كوجوب صلاة الفريضة ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد مثلا - فلا مانع من
جعل كليهما معا أصلا، بداهة أنه لا تنافي بين جعل وجوب الصلاة للقادر وجعل
وجوب إزالة النجاسة عن المسجد. غاية الأمر أنه قد يتفق لبعض أفراد المكلفين
215

أنه لا يتمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال، وعليه فلا محالة لا يكون أحدهما
فعليا، لما عرفت من أن فعلية الحكم تتبع فعلية موضوعه، وهو القدرة في مفروض
المقام، وحيث إن فعلية القدرة بالإضافة إلى كلا الحكمين ممتنعة على الفرض
امتنعت فعلية كليهما معا.
ومن البديهي أن هذا المقدار من التنافي لا يمنع من جعلهما على نحو القضية
الحقيقية، لوضوح أنه لو كان مانعا فإنما يكون من جهة أنه يوجب كون جعلهما
لغوا. ومن الواضح أنه لا يوجب ذلك باعتبار أنه تناف اتفاقي في مادة شخص ما،
والموجب له إنما هو التنافي الدائمي وبالإضافة إلى جميع المكلفين كما هو الحال
في الضدين اللذين ليس لهما ثالث، حيث لا يمكن للشارع إيجابهما معا فإنه لغو
محض، وصدوره من الحكيم محال، بل الحال كذلك في مطلق الضدين، ولو كان
بينهما ثالث كالقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما فإنه لا يمكن للشارع
إيجاب كليهما معا في زمان واحد، وذلك لعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في
مقام الامتثال أبدا، من جهة أن التنافي بينهما أبدي لا اتفاقي. وعليه فإيجابهما لغو
محض فلا يصدر من الحكيم.
ومن هنا قد ذكرنا سابقا: أن التضاد بين الفعلين إذا كان دائميا كان دليل
وجوب أحدهما معارضا لدليل وجوب الآخر لا محالة، فالملاك الرئيسي
للدخول في باب التزاحم: هو أن يكون التضاد بينهما اتفاقيا (1) بمعنى أنه كان في
مورد دون آخر، وبالإضافة إلى مكلف دون مكلف آخر. وقد مر أن مثل هذا
التنافي والتضاد لا يكون مانعا عن الجعل أبدا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المنشأ الأساسي لهذا التنافي والتضاد إنما هو عدم
قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال والإطاعة اتفاقا، بعد ما كان
قادرا على إتيان كل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر، ولكنه لم
يقدر على الجمع بينهما في الخارج صدفة، لا من ناحية المضادة بينهما دائما، بل

(1) تقدم في ص 166.
216

من ناحية أن القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معا، وعليه فلا محالة كان
إعمالها في امتثال هذا موجبا لانتفاء فعلية ذاك بانتفاء موضوعه وهو القدرة، لا أنه
يوجب انتفاءه مع بقاء موضوعه كما هو الحال في موارد المعارضة بين الدليلين،
وقد ذكرنا غير مرة: أن الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه، فلا هذا يقتضي
وجود القدرة ولا ذاك لتقع المصادمة بين اقتضائهما إيجاد القدرة، بل كل واحد
منهما بالإضافة إلى إيجادها وتحققها في الخارج لا اقتضاء.
وعليه فبما أن المكلف قادر على امتثال كل واحد منهما في نفسه مع قطع
النظر عن الآخر فلا محالة يقتضي كل منهما إعمال القدرة في امتثاله، وحيث إن
المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معا فتقع المزاحمة بين اقتضاء هذا لامتثاله
واقتضاء ذاك.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين تكليفين
نقطتان:
الأولى: جعل الشارع كلا التكليفين معا وفي عرض واحد، ولازم ذلك هو
اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الآخر له.
الثانية: عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال، فإذا تحققت
هاتان النقطتان تحققت المزاحمة بينهما لا محالة، وأما إذا انتفت إحداهما - كما إذا
لم يجعل الشارع إلا أحدهما دون الآخر، أو كان المكلف قادرا على امتثال كليهما
معا - فلا مزاحمة أصلا.
وعلى أساس هذا البيان قد ظهر أمور:
الأول: أن المزاحمة بين التكليفين إنما تكون بالإضافة إلى من لم يقدر على
الجمع بينهما في مقام الامتثال، وأما مع القدرة عليه فلا مزاحمة بينهما أبدا، بل
كلا التكليفين يكون فعليا من دون أية منافاة بينهما.
الثاني: أن التزاحم بين الحكمين إنما هو في مرتبة متأخرة عن مرتبة جعلهما،
وهي مرتبة الامتثال وحكم العقل بلزومه. ومن هنا قلنا: إن في باب التزاحم
لا تنافي في مقام الجعل أصلا.
217

الثالث: أن ارتفاع أحد الحكمين في باب التزاحم وعدم فعليته مستند إلى
ارتفاع موضوعه وعدم فعليته، لا إلى شئ آخر مع بقاء موضوعه ليقع التنافي بينه
وبين ذاك الشئ، ولأجل ذلك يجري التزاحم بين الحكمين المستفادين من آيتين
أو سنتين قطعيتين، وكذلك الحكم المستفاد من رواية والحكم المستفاد من آية من
الكتاب أو سنة قطعية، بل لا مناص من تقديم الرواية على الكتاب أو السنة القطعية
في مقام المزاحمة إذا كانت واجدة لإحدى مرجحات بابها.
لحد الآن قد تبين: أن النقطة الرئيسية التي ينبثق منها التزاحم بين الحكمين
بعد الفراغ من جعلهما إنما هي عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام
الامتثال والفعلية، وأما مع التمكن فلا مزاحمة أصلا.
ولكن لشيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام، وهو: أن التزاحم قد ينشأ من عدم
قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين في مقام الامتثال كما هو الغالب. وقد ينشأ
من جهة أخرى غير ذلك.
أما الأول فقد قسمه (قدس سره) على خمسة أقسام:
الأول: ما إذا كان عدم القدرة اتفاقيا كما هو الحال في التزاحم بين وجوب
إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يقدر المكلف على إنقاذ كليهما معا.
الثاني: ما إذا كان التزاحم من جهة وقوع التضاد بين الواجبين اتفاقا، لما
عرفت من أن التضاد بينهما إذا كان دائميا فيقع التعارض بين دليليهما فتكون
المصادمة عندئذ في مقام الجعل، لا في مقام الامتثال والفعلية (1).
الثالث: موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك ماهيتان اتحدتا في
الخارج بنحو من الاتحاد كالصلاة والغصب - مثلا - بناء على ما هو الصحيح من
عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها فوقتئذ تقع المزاحمة بينهما، وهذا
بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة كإكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام

(1) تقدم في ص 166.
218

العالم المحكوم بالوجوب وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة فإن مورد الاجتماع
على هذا يدخل في باب التعارض دون التزاحم. وكذا إذا كانت هناك ماهيتان
متعددتان بناء على سراية الحكم من إحداهما إلى الأخرى. وسيأتي بيان ذلك
تماما في بحث اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى (1).
الرابع: ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب، كما إذا توقف إنقاذ الغريق - مثلا - أو
نحوه على التصرف في مال الغير. هذا فيما إذا لم يكن التوقف دائميا، وإلا فيدخل
في باب التعارض، كما هو واضح.
الخامس: موارد التلازم الاتفاقي فيما إذا كان أحد المتلازمين محكوما
بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة.
ومثال ذلك: استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن في العراق وما شاكله
من البلاد، فإنه لا تلازم بينهما بالذات، فالتلازم إنما يتفق بينهما لخصوص أهل
العراق أو ما سامته من النقاط. وأما إذا كان التلازم دائميا فيدخل في باب
التعارض.
وأما الثاني - وهو ما إذا كان التزاحم ناشئا من شئ آخر لا من عدم قدرة
المكلف - فقد مثل بما إذا كان المكلف مالكا من الإبل بمقدار النصاب الخامس،
وهو خمس وعشرون ناقة الذي يجب فيه خمس شياه، ثم بعد مضي ستة أشهر
ملك ناقة أخرى فتحقق النصاب السادس الذي يجب فيه بنت مخاض، وعلى هذا
فمقتضى أدلة وجوب الزكاة هو وجوب خمس شياه بعد انقضاء سنة النصاب
الخامس، ووجوب بنت مخاض بعد تمامية حول النصاب السادس، والمكلف
قادر على دفع كليهما معا، ولم تنشأ المزاحمة من جهة عدم قدرة المكلف على
الجمع بينهما في مقام الامتثال، بل هي ناشئة من ناحية قيام الدليل من الخارج
على أن المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين.

(1) سيأتي في ج 4 في الجهة الرابعة من مبحث اجتماع الأمر والنهي فانتظر.
219

وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) هنا مجال:
أما ما ذكره من أن التزاحم الناشئ من ناحية عدم قدرة المكلف فينقسم إلى
خمسة أقسام فيرد عليه:
أولا: أنه لا أثر لهذا التقسيم أصلا، ولا تترتب عليه أية ثمرة، فيكون نظير
تقسيم: أن التزاحم قد يكون بين وجوبين، وقد يكون بين تحريمين، وقد يكون
بين وجوب وتحريم. وهكذا...، فلو كان مثل هذه الاعتبارات موجبا للقسمة
لازدادت الأقسام بكثير كما لا يخفى.
وثانيا: أن أصل تقسيمه إلى تلك الأقسام لا يخلو عن إشكال.
والوجه في ذلك: هو أن القسم الثاني - وهو ما إذا كان التزاحم ناشئا عن
التضاد بين الواجبين اتفاقا - داخل في القسم الأول، وهو ما إذا كان التزاحم فيه
ناشئا عن عدم القدرة اتفاقا، ضرورة أن المضادة بين فعلين من باب الاتفاق لا
يمكن تحققها إلا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الإتيان
والامتثال. وعليه فلا معنى لجعله قسما ثانيا من التزاحم في قبال القسم الأول،
بل هو هو بعينه.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة
بين دليلي حكميهما ففي غاية الصحة والمتانة في الضدين اللذين لا ثالث لهما،
كالحركة والسكون وما شاكلهما، ضرورة أنه لا يعقل تعلق الأمر بهما حتى على
نحو الترتب، كما تقدم (1).
وأما في الضدين اللذين لهما ثالث - كالقيام والقعود والسواد والبياض
ونحوهما - فالأمر ليس كما أفاده، وذلك لأن المعارضة في الحقيقة ليست بين
نفس دليليهما كما هو الحال في الضدين اللذين لا ثالث لهما، وإنما هي بين إطلاق
كل منهما وثبوت الآخر. وعليه فلا موجب إلا لرفع اليد عن إطلاق كل منهما
بتقييده عند الإتيان بمتعلق الآخر، لوضوح أنه لا معارضة بين أصل ثبوت

(1) تقدم في ص 166.
220

الخطاب بهذا في الجملة وثبوت الخطاب بذاك كذلك، وإنما تكون المعارضة بين
إطلاق هذا ووجود الآخر، وبالعكس، وهي لا توجب إلا رفع اليد عن إطلاق كل
منهما لا عن أصله، فيكون إطلاق كل واحد منهما مترتبا على عدم الإتيان بالآخر.
ونتيجة ذلك: هو الالتزام بالترتب من الجانبين، أو الالتزام بالوجوب
التخييري، إلا فيما إذا علم بكذب أحدهما وعدم صدوره في الواقع فعندئذ تقع
المعارضة بينهما، فيرجع إلى قواعد باب التعارض.
وأما موارد اجتماع الأمر والنهي فإن قلنا بالامتناع - إما لدعوى سراية النهي
من متعلقه إلى متعلق الأمر، وإما لدعوى أن التركيب بينهما اتحادي - فهي من
صغريات مسألة التعارض دون التزاحم. وعليه فلا معنى للقول بالترتب فيها أصلا.
وإن قلنا بالجواز وتعدد المجمع فإن كانت هناك مندوحة وتمكن المكلف من
الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا تزاحم بينهما أصلا كما تقدم. وإن لم تكن هناك
مندوحة فتقع المزاحمة بينهما لا محالة (1).
ولكن عندئذ يدخل هذا القسم في القسم الخامس، ولا يكون قسما آخر في
قباله، بل هو من أحد مصاديقه. وسيأتي بيان كل واحد من هذه الأقسام بصورة
مفصلة إن شاء الله تعالى.
والغرض من التعرض هنا الإشارة إلى عدم صحة هذا التقسيم، وأن منشأ
التزاحم في جميع تلك الأقسام نقطة واحدة، وهي عدم قدرة المكلف على الجمع
بين متعلقي الحكمين في ظرف الامتثال والإطاعة كما اعترف (قدس سره) بذلك. ومن
الواضح أنه لا يفرق في هذا بين أن يكون التزاحم بين واجبين متضادين من باب
الاتفاق، أو بين واجب وحرام، سواء كانا متلازمين أو كان أحدهما متوقفا على
الآخر، فإن الجميع - بالإضافة إلى تلك النقطة - على نسبة واحدة.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن التزاحم قد لا ينشأ من جهة عدم قدرة المكلف بل من

(1) سيأتي البحث عنه في ج 4 في الجهة الثامنة.
221

جهة أخرى - كالمثال المتقدم - فهو غريب منه (قدس سره) وذلك لأن المثال المذكور وما
شاكله داخل في باب التعارض، وليس من باب التزاحم في شئ.
والوجه فيه: هو أن ما دل على أن المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة
مرتين (1) يوجب العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين، أعني بهما: ما دل على
وجوب خمس شياه على من ملك النصاب الخامس ومضى عليه الحول، وما دل
على وجوب بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول (2)،
وإن كان لا تنافي بينهما بالذات، ومع قطع النظر عما دل على أن المال الواحد
لا يزكى مرتين في عام واحد فيكون نظير ما دل على وجوب صلاة الجمعة في
يوم الجمعة (3) وما دل على وجوب الظهر فيه (4)، فإنه لا تنافي بين دليليهما بالذات
أصلا، لتمكن المكلف من الجمع بينهما. ولكن العلم الخارجي بعدم وجوب ستة
صلوات في يوم واحد أوجب التنافي بينهما. إذا فلابد من الرجوع إلى قواعد باب
المعارضة، ولا مساس لأمثال هذا المثال بباب المزاحمة أبدا، ولذا لو لم يكن ذلك
الدليل الخارجي لقلنا بوجوب كليهما معا من دون أية منافاة ومزاحمة في البين.
ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قدس سره) كيف غفل عن ذلك وأدخل المقام في
باب المزاحمة؟!
ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن: هي أن التزاحم بين تكليفين في مقام الامتثال
لا يعقل إلا من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في ذلك المقام. وعليه
فالتزاحم منحصر في قسم واحد ولا ثاني له.
إلى هنا قد تم بصورة واضحة بيان كل من التزاحم في الملاكات بعضها
ببعض، والتزاحم في الأحكام. وعلى ضوء ذلك البيان قد ظهر أنه لا اشتراك بينهما
أصلا لنحتاج إلى بيان نقطة امتياز أحدهما عن الآخر.

(1) الوسائل: ج 9 ص 121 ب 9 من أبواب زكاة الأنعام.
(2) الوسائل: ج 9 ص 108 ب 2 من أبواب زكاة الأنعام.
(3) راجع التنقيح ج 1 ص 15 من الصلاة.
(4) راجع التنقيح ج 1 ص 15 من الصلاة.
222

وأما الجهة الثانية - وهي بيان حقيقة التعارض وأساسه الموضوعي - فقد
ذكرنا: أن التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الإثبات على وجه
التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض (1).
والأول: كما إذا دل دليل على وجوب شئ ودل دليل آخر على عدم وجوبه
أو على حرمته، أو دل دليل على طهارة شئ ودل دليل آخر على نجاسته،
وهكذا...، وأمثلة ذلك في الروايات والنصوص الواردة في أبواب الفقه بشتى
أنواعها كثيرة جدا (2)، بل هي خارجة عن حدود الإحصاء عادة.
والثاني: كما إذا دل دليل على وجوب شئ ودل دليل آخر على وجوب
شئ آخر، أو على حرمته من دون تناف ومضادة بينهما أبدا في مقام الجعل
والتشريع، لإمكان ثبوت كليهما معا في ذلك المقام، ولكن علمنا من الخارج
بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع من جهة قيام الإجماع أو الضرورة أو نحوها
على ذلك، وهذا العلم الخارجي أوجب التنافي والتعارض بينهما في مقام
الإثبات، وعدم إمكان الجمع بين ثبوت مدلوليهما في مقام الثبوت والواقع.
ومثال هذا: ما لو دل دليل على وجوب الجمعة في يوم الجمعة تعيينا ودل
دليل آخر على وجوب الظهر فيها كذلك فإنه لا تنافي ولا تضاد بين مدلولي هذين
الدليلين أصلا بالذات والحقيقة، لمكان وجوب (3) كلتا الصلاتين معا في يوم
الجمعة، ولا يلزم منه أي محذور من التضاد أو التناقض، ولكن بما أنا علمنا بعدم
وجوب ست صلوات في يوم واحد يقع التعارض بين الدليلين في مقام الإثبات،

(1) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 346.
(2) مثل ما ورد في المذي من الأمر بالغسل منه ومن عدم وجوبه. راجع الوسائل: ج 3
ص 426 ب 17 من أبواب النجاسات.
ومثل ما دل على نجاسة أهل الكتاب، وما دل على طهارته. راجع الوسائل: ج 1
ص 229 ب 3 من أبواب الأسئار. و ج 24 ص 208 ب 53 و 54 من أبواب الأطعمة المحرمة.
ومثل ما ورد في بول الحمير، راجع الوسائل: ج 3 ص 409 ب 9 من أبواب النجاسات
ح 13 و 14.
(3) كذا. والظاهر لإمكان وجوب.
223

فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.
ومن هذا القبيل: التنافي بين ما دل على أن الواجب على من سافر أربعة
فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماما، وما دل على أن الواجب
عليه الصلاة قصرا، حيث لا تنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة، ولا مانع من
الجمع بينهما في نفسه، والتنافي بينهما إنما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما
في الواقع، وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ست صلوات في يوم واحد،
ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.
وقد تحصل من ذلك: أن النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين
الدليلين بشتى أشكاله - أي سواء كان بالذات والحقيقة، أو كان بالعرض والمجاز،
وسواء كان على وجه التباين أو العموم من وجه - هي أن ثبوت مدلول كل منهما
في مقام الجعل يقتضي رفع اليد عن مدلول الآخر، وموجب لانتفائه في ذلك
المقام مع بقاء موضوعه بحاله، لا بانتفائه. ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض
إلى التناقض حقيقة وواقعا، بمعنى أن ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم
ثبوت مدلول الآخر إما بالمطابقة، وإما بالالتزام.
وعلى الجملة: فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرة
من أن كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو
القضية الحقيقية. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنك قد عرفت في غير موضع أن نسبة الحكم إلى الموضوع
في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلة التامة في عالم التكوين، فكما يستحيل
انفكاك المعلول عن علته التامة فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أنه إذا كان هناك دليل آخر يدل على
نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحاله لا بانتفائه فلا محالة يقع التعارض
والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الإثبات والدلالة، فإن دليله يقتضي ثبوته
لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج، وذاك يقتضي نفيه عن ذلك الموضوع
224

على هذا التقدير. ومن الواضح جدا أن الجمع بينهما غير ممكن، لاستحالة الجمع
بين الوجود والعدم في شئ واحد، والنفي والإثبات في موضوع فارد.
وصفوة القول: أن التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والواقع بالذات أو
بالعرض يوجب التنافي والتعارض بين دليليهما في مقام الإثبات والدلالة،
ولأجل ذلك كان كل منهما في هذا المقام يكذب الآخر، فلا يمكن تصديق كليهما
معا والأخذ بهما، فلا محالة يوجب الأخذ بأحدهما رفع اليد عن الآخر وبالعكس.
مثلا: الأخذ بالدليل الدال على وجوب القصر - مثلا - في المسألة المزبورة، أو
على وجوب الجمعة في يوم الجمعة لا محالة موجب لرفع اليد عن الدليل الدال
على وجوب التمام، أو على وجوب الظهر، والأخذ بالدليل الدال على جواز
الجمع بين فاطميتين كما هو المشهور يوجب لا محالة رفع اليد عن الدليل الدال
على عدم جواز الجمع بينهما، وهكذا...
ومن ذلك يظهر: أن التعارض بين الدليلين لا يتوقف على تحقق موضوعيهما
في الخارج، بل ثبوت كل منهما بنحو القضية الحقيقية يستلزم عدم ثبوت الآخر
كذلك وكذبه في الواقع ومقام الجعل، سواء أتحقق موضوعهما في الخارج أم لم
يتحقق، فإن ملاك التعارض وأساسه الموضوعي - كما عرفت - هو عدم إمكان
جعل كلا الحكمين معا، وثبوته في مرحلة الجعل والتشريع إما ذاتا أو من ناحية
العلم الخارجي، بل قد يحتمل عدم ثبوت كليهما معا كما لا يخفى. وكيف كان فعلى
هذا الأساس ثبوت كل منهما على نحو القضية الحقيقية يستلزم لا محالة عدم
ثبوت الآخر كذلك.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن منشأ التعارض أحد أمرين، ولا ثالث لهما:
الأول: المناقضة أو المضادة بين نفس مدلولي الدليلين، وهذا هو الكثير في
الأدلة والروايات الواردة في أبواب الفقه.
الثاني: العلم الخارجي بوحدة الحكم في الواقع ومقام الجعل وعدم مطابقة
أحدهما للواقع.
225

وأما الجهة الثالثة - وهي نقطة امتياز كبرى باب التزاحم عن كبرى باب
التعارض - فقد اتضح حالها من بيان حقيقة التزاحم والتعارض. وملخصه: أن
النقطة الأساسية في كل من البابين تخالف ما هو النقطة الأساسية في الآخر.
أما في باب التزاحم فهي عدم قدرة المكلف على الجمع بين الحكمين
المتزاحمين في مقام الامتثال بلا أية منافاة ومضادة بينهما في مقام الجعل أصلا،
فالتنافي بينهما إنما هو في مرحلة الفعلية والامتثال، فإن المكلف إن صرف قدرته
في امتثال هذا عجز عن امتثال ذاك، وإن عكس فبالعكس.
ويتفرع على تلك النقطة أمران:
الأول: اختصاص التزاحم بينهما بالإضافة إلى من كان عاجزا عن امتثالهما
معا، وأما من كان قادرا على امتثالهما فلا مزاحمة بينهما بالإضافة إليه أبدا،
فالمزاحمة في مادة العاجز دون مادة القادر، وهذا واضح.
الثاني: أن انتفاء الحكم في باب المزاحمة إنما هو بانتفاء موضوعه وهو
القدرة، لا انتفاؤه مع بقاء موضوعه بحاله.
وأما في باب التعارض فهي التنافي والتعاند بين الحكمين في مقام الجعل
والثبوت، وعدم إمكان جعل كليهما معا إما بالذات والحقيقة، وإما من ناحية العلم
الإجمالي بعدم جعل أحدهما في الواقع.
ونتيجة تلك النقطة أمران:
الأول: عدم اختصاص التعارض بمكلف دون آخر، وبزمان دون زمان،
بداهة أن استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين لا تختص بشخص دون آخر،
وبزمان دون زمان آخر، وبحالة دون حالة أخرى، والمفروض أن جعل كلا
الحكمين معا مستلزم للتناقض أو التضاد، وهو محال.
الثاني: أن انتفاء الحكم في باب التعارض ليس بانتفاء موضوعه، وإنما هو
بانتفاء نفسه مع ثبوت موضوعه بحاله.
فتحصل مما ذكرناه: أن المناط في كل من البابين أجنبي عما هو المناط في
226

الباب الآخر، فلا جامع بين البابين أبدا.
وعلى هذا الأساس فالقول بأن الأصل عند الشك هل هو التعارض أو
التزاحم؟ لا مجال له أصلا. ومن هنا ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن هذا القول يشبه
القول بأن الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي؟
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكرناه من افتراق التزاحم والتعارض لا يبتنى على
وجهة نظر مذهب دون آخر، بل يعم جميع المذاهب والآراء، سواء فيها القول
بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في أنفسها، والقول بعدم التبعية
مطلقا كما هو مذهب الأشعري.
والوجه في ذلك ما عرفت: من أن مسألة التزاحم ترتكز على ركيزة واحدة،
وهي عدم تمكن المكلف من الجمع بين التكليفين المتوجهين إليه في
ظرف الامتثال. ومن الواضح أنه لا يفرق فيه بين أن يكون لهما ملاك في مورد
المزاحمة أم لا، ضرورة أنه لا دخل لمسألة تبعية الأحكام للملاكات بمسألتنا
هذه، ولا صلة لإحداهما بالأخرى أبدا.
ومسألة التعارض أيضا ترتكز على ركيزة، وهي تنافي الحكمين في مقام
الجعل والواقع. ومن الواضح أنها أجنبية عن كون أحدهما ذا ملاك في مورد
المعارضة أو لم يكن، بداهة أنه لا دخل لوجود الملاك في أحدهما، لوقوع
التعارض بينهما، وهذا واضح جدا.
فما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من ابتناء مسألة التزاحم على أن يكون
المقتضي لكلا الحكمين موجودا في مورد المزاحمة ومسألة التعارض على أن
يكون المقتضي لأحدهما موجودا في مورد المعارضة (1) لا يرجع إلى أصل
صحيح. وسيأتي تفصيله بشكل واضح في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله
تعالى (2).

(1) كفاية الأصول: ص 189.
(2) سوف يأتي في ج 4.
227

وأما الجهة الرابعة فيقع الكلام فيها في موردين:
الأول: فيما تقتضيه القاعدة في المتعارضين.
الثاني: في مرجحاتهما.
أما المورد الأول فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح: أن مقتضى القاعدة
سقوط المتعارضين عن الحجية وفرضهما كأن لم يكونا.
والوجه في ذلك: هو أن دليل الاعتبار لا يشمل كليهما معا، لاستحالة التعبد
بالمتناقضين أو الضدين، فشموله لأحدهما المعين وإن لم يكن مانعا في نفسه إلا
أنه معارض لشموله للآخر، حيث إن نسبته إلى كليهما على حد سواء. وعليه
فالحكم بشموله لهذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح، وأحدهما لا بعينه ليس فردا
ثالثا، فإذا يسقطان معا، فيرجع إلى العموم أو الإطلاق إن كان، وإلا فإلى أصل
عملي. وتمام الكلام في ذلك بصورة مشروحة في بحث التعادل والترجيح
إن شاء الله تعالى (1).
وأما المورد الثاني فقد ذكرنا في بحث التعادل والترجيح: أن مرجحات باب
التعارض تنحصر بموافقة الكتاب أو السنة، وبمخالفة العامة، وليس غيرهما
بمرجح. هذا من ناحية (2).
ومن ناحية أخرى: أن الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين، فلا يعم
غيرهما من آيتين متعارضتين، أو ظاهرين متعارضين، أو إجماعين متعارضين،
بل لا يعم فيما إذا كان أحد المتعارضين خبرا والآخر إجماعا مثلا.
فالنتيجة: أن هاهنا دعاوى ثلاث:
الأولى: انحصار المرجح بخصوص موافقة الكتاب أو السنة، ومخالفة العامة.
الثانية: أن غيرهما من صفات الراوي ونحوها ليس بمرجح.
الثالثة: أن الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم غيرهما.

(1) مصباح الأصول ج 3 ص 368 - 369.
(2) راجع المصدر السابق ج 3 ص 413.
228

أما الدعوى الأولى فلأنهما قد وردتا في صحيحة القطب الراوندي، عن
الصادق (عليه السلام): " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله، فما
وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه، فإن لم تجدوها في كتاب الله
فأعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم
فخذوه (1) ".
وقد ذكرنا هناك: أن موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة من المرجحات،
وليستا في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة، كما تخيل المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)
بدعوى: أن ما ورد من الروايات (2) من أن الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل،
أو لم نقله، أو اضربوه على الجدار، ونحو ذلك من التعبيرات دال على أنه ليس
بحجة. وكذا الحال في الخبر الموافق للقوم، فإن الوثوق والاطمئنان بصدور
الخبر المخالف للقوم يوجب الاطمئنان بأن الخبر الموافق لهم إما غير صادر
أو صدر تقية (3).
ولكن قد ذكرنا هناك: أن المراد بالمخالفة في تلك الروايات ما كان على نحو
التباين أو العموم من وجه، فمثل هذا المخالف لم يمكن صدوره عن الأئمة (عليهم السلام).
وأما المخالف على نحو العموم المطلق فلا إشكال في صدوره عنهم (عليهم السلام).
كيف وقد خصص به في كثير من الموارد عمومات الكتاب والسنة؟ ومن الواضح
جدا أن المراد من المخالفة في روايات الترجيح ليس المخالفة على النحو الأول،
بل المراد منها المخالفة على النحو الثاني، وإلا لم يكن بيانها مناسبا لمقام الترجيح،
إذ المفروض أنه (عليه السلام) كان في مقام بيان المرجح لأحد الخبرين المتعارضين على
الآخر، لا في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة.

(1) راجع الوسائل: ج 27 ص 118 ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 29.
(2) راجع الوسائل: ج 27 ص 110 - 111 ب 9 من أبواب صفات القاضي ح 12 و 14 و 15،
والمحاسن للبرقي: ج 1 ص 347 ب 11 من أبواب مصابيح الظلم ح 127 - ح 130.
(3) كفاية الأصول: ص 505.
229

ومما يؤيد ذلك: أنه لو كان المراد من المخالفة في تلك الطائفة هو المخالفة
على النحو الأول لم يكن الخبر المشهور المخالف للكتاب أو السنة حجة في نفسه،
ومعه كيف يحكم (عليه السلام) بتقديمه على الخبر الشاذ الموافق للكتاب أو السنة كما هو
مقتضى إطلاق المقبولة؟! ومن ذلك يعلم: أن هذه الطائفة ليست في مقام تمييز
الحجة عن اللاحجة، وإلا لم يكن معنى لتقديم الخبر المشهور المخالف على الشاذ
الموافق، بل هي في مقام بيان المرجح لأحد المتعارضين على الآخر (1).
وأما ما ذكره من أن الخبر الموافق للقوم لا يكون حجة مع وجود الخبر
المخالف لهم فهو من الغرائب، ضرورة أن مجرد وجود الخبر المخالف لهم لا
يوجب كون الموافق غير حجة، لأن الأحكام الموافقة لهم في نفسها كثيرة جدا.
وعليه فيحتمل أن يكون الخبر الموافق لهم هو الحكم الواقعي دون المخالف،
وهذا واضح.
وأما الدعوى الثانية فلأن الترجيح بغيرهما لم يرد في دليل معتبر، وعلى
تقدير وروده في دليل معتبر ليس من جملة المرجحات هنا.
بيان ذلك: أما الشهرة لم تذكر فيما عدا المرفوعة (2) والمقبولة (3).
أما المرفوعة فهي ضعيفة سندا، بل غير موجودة في الكتب المعتبرة، ولذا
ناقش في سندها صاحب الحدائق (4) (قدس سره) الذي ادعى القطع بصدور الروايات
الموجودة في الكتب الأربعة، وغيرها من الكتب المعتبرة.
وأما المقبولة فهي وإن كان الأصحاب يتلقونها بالقبول إلا أنها أيضا ضعيفة
سندا بعمر بن حنظلة، حيث لم تثبت وثاقته، ومع الغض عن سندها فالمذكور فيها
هو الأخذ بالمجمع عليه. ومن المعلوم أن المراد منه هو الخبر الذي أجمع
الأصحاب على روايته عن المعصومين (عليهم السلام) وصدوره منهم، وعلى هذا فالمراد

(1) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 407.
(2) راجع عوالي اللئالي: ج 4 ص 133.
(3) الوسائل: ج 27 ص 136 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1.
(4) راجع الحدائق الناضرة: ج 1 ص 99 المقدمة السادسة.
230

منه هو الخبر القطعي الصدور. فإذا تقديمه على الشاذ ليس من باب الترجيح
كما هو ظاهر.
ومن هنا يظهر حال صفات الراوي: كالأعدلية والأفقهية والأوثقية ونحوها
أيضا، فإن الترجيح بها لم يذكر في غير المقبولة والمرفوعة من الأخبار العلاجية.
أما المرفوعة فقد عرفت حالها. وأما المقبولة فمع الغض عن سندها لم تجعل
الترجيح بالصفات من مرجحات الروايتين، وإنما جعلت الترجيح بها من
مرجحات الحكمين، حيث قال (عليه السلام): " الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما
وأصدقهما... إلى آخره (1) ".
وأما الدعوى الثالثة فلأن موضوع الترجيح في الأخبار العلاجية خصوص
الخبرين المتعارضين، فالتعدي منهما إلى غيرهما يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل
عليه فلابد من الاقتصار عليهما، فإن الدليل الخارجي مفقود على الفرض،
وروايات الترجيح لا إطلاق فيها ولا عموم. فإذا لا يمكن رفع اليد عن مقتضى
الأصل الأولي في غيرهما. ويأتي الكلام في جميع ذلك في بحث التعادل
والترجيح - إن شاء الله تعالى - بصورة مفصلة (2). والغرض من التعرض هنا بهذا
المقدار: الإشارة إلى أن مسألة التعارض كما تمتاز عن مسألة التزاحم بذاتها كذلك
تمتاز عنها بمرجحاتها.
وأما الجهة الخامسة فيقع الكلام فيها في نقطتين:
الأولى: ما هو مقتضى القاعدة في مسألة التزاحم؟
الثانية: ما هو مرجحاتها؟
أما النقطة الأولى فمقتضى القاعدة فيها التخيير مع قطع النظر عن مرجحات
تلك المسألة.
والوجه فيه واضح، وهو: أن المانع عن الإتيان بالمتزاحمين إنما هو عدم

(1) الوسائل: ج 27 ص 136 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 412.
231

قدرة المكلف على امتثالهما معا. وأما من ناحية أخرى فلا مانع أصلا. وعليه فبما
أن المكلف قادر على إتيان أحدهما عند ترك الآخر يتعين عليه بحكم العقل،
ضرورة أنه لم يعتبر في الامتثال ما عدا قدرة المكلف عليه في ظرفه، وحيث إنه
قادر على امتثال أحدهما فلا يكون معذورا في تركه.
أو فقل: إن فعلية كلا التكليفين في باب المزاحمة مستحيلة، وفعلية أحدهما
بفعلية موضوعه، وهو قدرة المكلف على امتثاله ضرورية، فإذا يجب بحكم العقل
امتثال هذا التكليف الفعلي، فإذا فرض عدم الترجيح لأحدهما على الآخر يحكم
العقل بالتخيير بينهما، وأنه مخير في إعمال قدرته في امتثال هذا وامتثال ذاك.
وأما النقطة الثانية فقد ذكروا لها مرجحات:
المرجح الأول: ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وهو كون أحد الواجبين مما لا
بدل له، والآخر مما له بدل، فيقدم الأول على الثاني في مقام المزاحمة، وهذا
يتحقق في أحد موضعين:
أحدهما: ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في عرضه دون الآخر، كما إذا كان
أحدهما واجبا تخييريا والآخر واجبا تعيينيا، ففي مثل ذلك: إذا وقعت المزاحمة
بين الواجب التعييني وبعض أفراد الواجب التخييري قدم الواجب التعييني على
التخييري.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن وجوب الواجب التخييري لا يقتضي لزوم
الإتيان بخصوص الفرد المزاحم، وإنما يقتضي لزوم الإتيان بالجامع بينه وبين
غيره، والمفروض أن وجوب الواجب التعييني يقتضي الإتيان بخصوص ذلك
الفرد المزاحم. ومن المعلوم أن مالا اقتضاء فيه لا يمكن أن يزاحم ما فيه
الاقتضاء.
فالنتيجة: أن في مقام المزاحمة بين التكليفين يقدم ما ليس له البدل على
ماله البدل.
ثانيهما: ما إذا كان لأحد الواجبين بدل في طوله دون الواجب الآخر، وقد
232

مثل لذلك بما إذا وقع التزاحم بين الأمر بالوضوء أو الغسل والأمر بتطهير البدن
للصلاة، وحيث إن للوضوء أو الغسل بدلا - وهو التيمم - فلا يمكن مزاحمة أمره
مع أمر تطهير البدن، فيقدم الأمر بالطهارة الخبثية على الأمر بالطهارة الحدثية وإن
كان الثاني أهم من الأول، وذلك لما عرفت من أن مالا اقتضاء فيه لا يمكن أن
يزاحم ما فيه الاقتضاء.
وذكر (قدس سره) فرعا آخر أيضا لهذه الكبرى، وهو: ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام
الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية،
كما إذا صار الوقت ضيقا بحيث لو توضأ أو اغتسل لم يدرك من الركعات إلا ركعة
واحدة. وأما إذا تيمم بدلا عن الوضوء أو الغسل فيدرك تمام الركعات في الوقت،
ففي مثل ذلك يقدم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية على إدراك
ركعة مع الطهارة المائية، لأن للصلاة مع الطهارة المائية بدلا وهو الصلاة مع
الطهارة الترابية. وأما الصلاة في الوقت فحيث إنه لا بدل لها فتقدم على الصلاة مع
الطهارة المائية في مقام المزاحمة، لأن ماله البدل لا يصلح أن يزاحم مالا بدل له.
وقد يشكل في المقام: بأن لإدراك تمام الركعات في الوقت أيضا بدلا، وهو
إدراك ركعة واحدة فيه بمقتضى الروايات الدالة على أن " من أدرك ركعة واحدة
في الوقت فقد أدرك تمام الصلاة " (1). فإذا يدور الأمر بين واجبين لكل منهما بدل،
فلا وجه لتقديم الأمر بالصلاة في الوقت على الأمر بالصلاة مع الطهارة المائية.
وأجاب (قدس سره) عن هذا الإشكال: بأن بدلية إدراك الركعة الواحدة عن تمام
الصلاة في الوقت إنما هي في فرض عجز المكلف عن إدراك تمام الصلاة فيه،
لا مطلقا، والمفروض أن المكلف قادر على إدراك تمامها فيه. وعليه فلا موجب
لسقوط الأمر بإتيان تمام الصلاة في وقتها، فإذا لم يسقط فلا محالة يسقط الأمر
بالصلاة مع الطهارة المائية، لعجز المكلف عنها تشريعا وإن لم يكن عاجزا تكوينا.
وهذا كاف في الانتقال إلى بدلها، وهو الصلاة مع الطهارة الترابية، لما ذكرناه غير

(1) راجع الرسائل: ج 4 ص 217 ب 30 من أبواب المواقيت.
233

مرة من أن الأمر بالطهارة المائية مشروط بالتمكن من استعمال الماء عقلا
وشرعا، ولا يكفي التمكن العقلي، فحسب.
وملخص ما ذكرناه: هو أنه (قدس سره) طبق الكبرى الكلية - وهي أن مالا بدل له يقدم
على ماله بدل - في مقام المزاحمة على فروع ثلاثة:
الأول: أن الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدم
التعييني عليه وإن كان الواجب التخييري أهم منه، كما إذا كان لشخص عشرة
دنانير ودار أمرها بين أن يصرفها في مؤونة من تجب عليه مؤونته، وبين أن
يصرفها في كفارة شهر رمضان، وحيث إن لكفارة شهر رمضان بدلا - وهو صوم
شهرين متتابعين أو عتق رقبة مؤمنة - فلا يمكن مزاحمة وجوبها لوجوب المؤونة،
فيقدم صرفها في المؤونة على صرفها في الكفارة، لأن وجوب الكفارة لا يقتضي
لزوم الإتيان بخصوص فردها المزاحم، وهذا بخلاف وجوب المؤونة، فإنه يقتضي
لزوم الإتيان بخصوص ذلك الفرد.
الثاني: ما إذا كان عند المكلف مقدار من الماء لا يكفي للوضوء وتطهير البدن
معا فعندئذ يدور أمره بين أن يصرفه في الوضوء ويصلي مع البدن المتنجس، وأن
يصرفه في تطهير البدن ويصلي مع التيمم. وبما أن للوضوء بدلا - وهو التيمم -
فيتعين صرفه في إزالة الخبث عن البدن، لأن ماله بدل لا يصلح لأن يزاحم
مالا بدل له.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية
وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية، وبما أن للطهارة المائية بدلا - وهو
الطهارة الترابية - ولا بدل للوقت فيتعين تقديم الوقت على الطهارة المائية، فيصلي
في الوقت مع الطهارة الترابية.
أقول: الكلام فيما ذكره (قدس سره) يقع في مقامين:
الأول: في أصل الكبرى التي ذكرها (قدس سره).
الثاني: في الفروع التي ذكرها، وأنها هل تكون من صغريات تلك الكبرى أم لا؟
234

أما المقام الأول فلا إشكال في أصل ثبوت الكبرى، وأن ما ليس له بدل يقدم
على ماله بدل فيما إذا دار الأمر بينهما. والوجه فيه: ما عرفت من أن مالا اقتضاء له
لا يمكن أن يزاحم ما فيه الاقتضاء، وكيف كان فالكبرى مسلمة.
وأما المقام الثاني فيقع الكلام فيه في موارد:
الأول: في الفرع الأول.
الثاني: في الفرع الثاني.
الثالث: في الفرع الثالث.
أما المورد الأول فقد تبين مما قدمناه: أن هذا الفرع وما شاكله ليس داخلا
تحت كبرى مسألة التزاحم لتجري عليه أحكامه، وذلك لما عرفت من أن التزاحم
بين التكليفين الفعليين لا يعقل إلا من جهة عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما
في مقام الامتثال، فلو كان المكلف قادرا عليه فلا مزاحمة بينهما أبدا، والمفروض
فيما نحن فيه قدرة المكلف على امتثال الواجب التعييني والتخييري معا من دون
أية مزاحمة.
نعم، خصوص الفرد المزاحم للواجب التعييني وإن كان غير مقدور للمكلف
إلا أنه ليس بواجب على الفرض، وما هو واجب - وهو الجامع بينه وبين غيره من
الأفراد - مقدور له ولو من جهة القدرة على بعض أفراده.
أو فقل: إن ما هو مزاحم للواجب التعييني ليس بواجب، وما هو واجب ليس
بمزاحم له. ومن هنا قلنا: إنه لا تزاحم بين الواجب الموسع والمضيق كالصلاة
والإزالة مثلا (1).
والأصل في جميع ذلك هو ما ذكرناه من أن التزاحم لا ينشأ إلا من ناحية
عدم تمكن المكلف من امتثال كلا التكليفين معا. وأما إذا كان متمكنا منه فلا
تزاحم ولا تنافي بينهما أبدا (2).

(1) تقدم في ص 64.
(2) تقدم في ص 217.
235

وعلى هذا الأساس فالفرع المزبور أو ما شاكله ليس من صغريات باب
المزاحمة لتنطبق عليه الكبرى المتقدمة. فما أفاده (قدس سره) من تطبيق تلك الكبرى عليه
في غير محله، لعدم كونه صغرى لها.
وأما المورد الثاني فيمكن المناقشة فيه من وجهين:
الأول: أن التزاحم لا يعقل أن يكون بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو
الغسل بما هو، ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب كذلك، وذلك لما ذكرناه
غير مرة من أن الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط جميعا أوامر إرشادية فترشد
إلى جزئيتها وشرطيتها، وليست بأوامر نفسية (1). ومن الواضح جدا أن المزاحمة
لا تعقل بين الأوامر الإرشادية بما هي، لأن مخالفتها لا توجب العقاب، وموافقتها
لا توجب الثواب، بل لا تجب موافقتها بما هي لتقع المزاحمة بين موافقة هذا
وموافقة ذاك في مقام الامتثال، وإنما تعقل بين واجبين أو واجب وحرام نفسيين
بحيث كان المكلف متمكنا من امتثال كل منهما في نفسه مع قطع النظر عن الآخر،
إلا أنه لم يتمكن من الجمع بينهما في الامتثال.
وعلى هذا فالمزاحمة هنا لو سلمت فإنما هي في الحقيقة بين الصلاة مع
الطهارة الحدثية والصلاة مع الطهارة الخبثية، فالتعبير عن ذلك بوقوع المزاحمة
بين الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية لا يخلو عن مسامحة واضحة، ضرورة أنه
لا شأن لهما ما عدا كونهما من قيود الصلاة، فلا معنى لوقوع المزاحمة بينهما في
نفسهما مع قطع النظر عن وجوب الصلاة.
وعلى الجملة: فالمزاحمة بين أجزاء وشرائط الصلاة - مثلا - بعضها ببعض مع
قطع النظر عن وجوبها مما لا تعقل، ضرورة أنه لا وجوب لها مع قطع النظر عن
وجوب الصلاة. وعلى هذا فلا معنى لوقوع المزاحمة بين وجوب صرف الماء في
الوضوء أو الغسل - مثلا - ووجوب صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع الغض عن

(1) منها: ما سيأتي في ج 4 من المحاضرات في أواخر مبحث النواهي فانتظر.
236

وجوب الصلاة، لعدم كونهما في هذا الحال واجبين لتقع المزاحمة بينهما.
وأما مع ملاحظة وجوبها فالتزاحم بين وجوب الصلاة مع الطهارة المائية
ووجوب الصلاة مع طهارة البدن أو الثوب، فإذا كان الأمر كذلك فلا وجه لتقديم
الثانية على الأولى بدعوى أن ما ليس له بدل يقدم على ماله بدل، وذلك لفرض أن
لكل واحدة منهما بدلا، فكما أن للصلاة مع الطهارة المائية بدلا - وهو الصلاة مع
الطهارة الترابية - فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب بدل، وهو الصلاة مع
البدن أو الثوب النجس على المختار، وعاريا على المشهور. فإذا لا يكون هذا
الفرع أو ما شاكله من صغريات الكبرى المتقدمة، ولا تنطبق تلك الكبرى عليه.
نعم، لو كان التزاحم بين وجوب صرف الماء في الوضوء أو الغسل ووجوب
صرفه في تطهير البدن أو الثوب مع قطع النظر عن وجوب الصلاة لكان من
صغريات تلك الكبرى، ولكنك عرفت أن التزاحم بينهما غير معقول.
الثاني: أن التزاحم كما ذكرناه في غير موضع إنما يجري بين واجبين نفسيين
كالصلاة والإزالة مثلا، أو بين واجب وحرام، وأما بين أجزاء وشرائط واجب
واحد فلا يعقل جريان التزاحم فيه.
والوجه في ذلك: هو أن جميع تلك الأجزاء والشرائط واجب بوجوب واحد
على سبيل الارتباط ثبوتا وسقوطا، غاية الأمر أن الأجزاء بنفسها متعلقة لذلك
الوجوب والشرائط باعتبار تقيدها، بمعنى أن الوجوب تعلق بالأجزاء متقيدة
بتلك الشرائط. ومن الواضح جدا أن ذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من
تلك الأجزاء أو الشرائط بقانون " أن الأمر بالمركب يسقط لا محالة بتعذر واحد
من أجزائه أو شرائطه "، لاستحالة تعلق الوجوب به في ظرف تعذر أحد أجزائه أو
قيوده، لأنه تكليف بالمحال فلا يصدر من الحكيم.
وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الوجوب عن المركب، كالصلاة وما
شاكلها عند تعذر جزء أو شرط منه كما هو مقتضى كون أجزائه ارتباطية. فإذا
ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل، وقد دل الدليل في خصوص باب الصلاة
237

على عدم السقوط، ووجوب الإتيان بالباقي، فعندئذ بما أن فيما نحن فيه قد تعذر
أحد قيدي الصلاة - هما: الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية - فمقتضى القاعدة
الأولية سقوط وجوبها، فيحتاج وجوب الباقي إلى دليل، والدليل موجود هنا، وهو
ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال، بل يكفينا لإثبات عدم سقوطها في المقام
الروايات (1) الخاصة الدالة على وجوب الإتيان بها في الثوب أو البدن المتنجس
أو عاريا (2)، وما دل (3) على لزوم الإتيان بالطهارة الترابية مع تعذر الطهارة المائية.
وعليه فيعلم إجمالا بجعل أحد هذين الشرطين في الواقع دون الآخر. إذا لا
محالة يقع التعارض بين دليليهما، إذ لم يعلم أن أيهما مجعول في هذا الحال في
مقام الثبوت والواقع، فما دل على شرطية الطهارة الحدثية في هذا الحال لا محالة
معارض بما دل على شرطية الطهارة الخبثية.
وعليه فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض إن لم يكن التعارض
بينهما بالإطلاق، وإلا فيسقطان معا، فلا تصل النوبة إلى الترجيح. فإذا ما معنى
وقوع المزاحمة بينهما؟ بداهة أن المزاحمة بين تكليف وتكليف آخر فرع ثبوتهما
في الواقع ومقام الجعل من دون أي تناف في البين لتقع المزاحمة بين امتثال هذا
وامتثال ذاك.
وعلى الجملة: فالأمر المتعلق بالصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط قد
سقط لا محالة بتعذر واحد من شرطيها - هما: الطهارة الحدثية والطهارة الخبثية -
بمقتضى القاعدة الأولية. غاية ما في الباب قد دل دليل من الخارج على وجوب
الباقي من الأجزاء والشرائط. ومن الواضح جدا أن هذا الوجوب غير الوجوب
الأولي المتعلق بالواجد والتمام، فإنه قد سقط من ناحية تعذر المركب. ومن
المعلوم أن جزئية الأجزاء وشرطية الشرائط قد سقطتا بتبع سقوطه لا محالة،
ضرورة استحالة بقاء الأمر الانتزاعي في ظرف سقوط منشئه.

(1) راجع الوسائل: ج 3 ص 484 ب 45 و ب 46 من أبواب النجاسات.
(2) راجع الوسائل: ج 3 ص 484 ب 45 و ب 46 من أبواب النجاسات.
(3) المائدة: 6.
238

وعليه فالجزئية والشرطية للأجزاء والشرائط الباقيتين لا محالة مجعولتان
بجعل ثانوي وبدليل خارجي دال على وجوب الباقي وعدم سقوطه. ويعلم من
ذلك - طبعا - أن المجعول في المقام شرطية أحد الأمرين في الواقع: إما شرطية
الطهارة الحدثية، وإما شرطية الطهارة الخبثية، فشرطية كلتيهما غير معقولة، لفرض
عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، فلا يمكن أن يتعلق الأمر بالمركب منهما، فلا
محالة يكون المجعول شرطية إحداهما لا محالة. ونتيجة ذلك: أن المورد غير
داخل في كبرى التزاحم.
وخلاصة ما ذكرناه: هي أن الكبرى المتقدمة وإن كانت مسلمة إلا أنها لا
تنطبق على هذا الفرع وما يشبهه، بل قد عرفت: أنه غير داخل في كبرى مسألة
التزاحم فضلا عن تلك الكبرى.
وأما المورد الثالث - وهو ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت
مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية - فيرد عليه بعينه ما
أوردناه على المورد الثاني من الوجهين.
أما أولا: فلما عرفت من أنه كما أن للصلاة مع الطهارة المائية بدلا - وهو
الصلاة مع الطهارة الترابية - فكذلك لإدراك تمام الصلاة في الوقت بدل، وهو
إدراك ركعة واحدة منها في الوقت. فإذا لا تنطبق الكبرى المزبورة عليه.
وأما ثانيا: فلما عرفت من أن التزاحم لا يجري بين أجزاء واجب واحد
أو شرائطه، فإذا تعذر على المكلف الجمع بين الطهارة المائية والوقت
فمقتضى القاعدة الأولية سقوط الأمر بالصلاة، فلو كنا نحن والحال هذه لم نقل
بوجوب الباقي من الأجزاء والشرائط، ولكن الدليل الخارجي قد دلنا على
وجوب الباقي وعدم سقوط الصلاة بحال.
ومن ذلك يعلم إجمالا بجعل جزئية أحدهما في الواقع، وحيث إنه مردد بين
الطهارة المائية والوقت فتقع المعارضة بين دليليهما.
فالنتيجة: أن هذا الفرع أيضا ليس من صغريات الكبرى المتقدمة.
239

وقد تحصل مما ذكرناه: أن ما ذكره (قدس سره) من الفروع الثلاثة ليس شئ منها
صغرى للكبرى التي ذكرها، وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل، ولا تنطبق
تلك الكبرى على شئ منها.
نعم، النتيجة في الفرع الأخير بعينها هي النتيجة التي ذكرها (قدس سره)، وهي تقديم
مالا بدل له على ماله بدل، ولكن بملاك آخر، لا بالملاك الذي أفاده.
بيان ذلك: هو أن الله تعالى جعل في كتابه العزيز للصلوات الخمس أوقاتا
خاصة بحسب المبدأ والمنتهى بقوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق
الليل...) * (1).
وقد ورد في الروايات: أن " وقت صلاتي الظهرين من دلوك الشمس إلى
غروبها، ووقت العشاءين من الغروب إلى غسق الليل، ووقت صلاة الصبح من
أول الفجر إلى طلوع الشمس " (2)، فهذه هي أوقات الصلوات الخمس، ولا يرضى
الشارع بتأخيرها عنها آنا ما، بل هي غير مشروعة في ما عدا تلك الأوقات، إلا
فيما إذا قام دليل خاص على المشروعية كما في القضاء أو نحوه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أنه تعالى قد جعل الطهارة من الحدث شرطا مقوما لها
بقوله: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق... وإن كنتم
جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا...) * (3)، فجعل في هذه الآية
المباركة الطهارة من الحدث شرطا للصلاة، وقد ذكرنا: أنها من أركان الصلاة،
وبانتفائها تنتفي (4)، ولذا ورد: " أن الصلاة على ثلاثة أثلاث: ثلث منها الركوع،
وثلث منها السجود، وثلث منها الطهور " (5).

(1) الإسراء: 78.
(2) راجع الوسائل: ج 4 ص 156 ب 10 من أبواب المواقيت.
(3) المائدة: 6.
(4) راجع ج 1 من هذا الكتاب ص 184.
(5) راجع الوسائل: ج 6 ص 310 ب 9 من أبواب الركوع ح 1.
240

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أن الطهارة شرط لتلك الصلوات
التي عينت لها أوقات معينة، وأنه يجب على المكلف الإتيان بها في تلك الأوقات
مع الطهارة المائية إن كان واجدا للماء، ومع الطهارة الترابية إن كان فاقدا لها.
وقد ذكرنا غير مرة: أن المراد من وجدان الماء وجوده الخاص، وهو ما إذا تمكن
المكلف من استعماله عقلا وشرعا، وذلك بقرينة داخلية وخارجية.
أما القرينة الداخلية فهي ذكر المريض في الآية المباركة، فإن الماء غالبا
موجود عنده، ولكنه لا يتمكن من استعماله عقلا أو شرعا.
وأما القرينة الخارجية فهي عدة من الروايات الدالة على ذلك. وعلى هذا فإن
تمكن المكلف من استعمال الماء عقلا وشرعا فهو واجد له، ووظيفة الواجد
الوضوء أو الغسل، وإن لم يتمكن من استعماله عقلا أو شرعا فهو فاقد له، ووظيفة
الفاقد التيمم، فالآية المباركة في مقام بيان أن المكلف على نوعين: الواجد
والفاقد، ولا ثالث لهما. ومن الواضح أن التقسيم قاطع للشركة.
وعليه فإذا ضممنا ما يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة القرائن الداخلية
والخارجية إلى ما يستفاد من الآية الأولى بضميمة الروايات الواردة فيها من " أن
لكل صلاة وقتا خاصا " تجب في ذلك الوقت الخاص لا فيما عداه. فالنتيجة: هي
أن المكلف إذا تمكن في ذلك الوقت من استعمال الماء عقلا وشرعا فهو واجد له،
ووظيفته عندئذ الوضوء أو الغسل، وإن لم يتمكن فيه من استعماله عقلا أو شرعا
فهو فاقد له، ووظيفته - حينئذ - التيمم.
ومن هنا قلنا: إن المراد من عدم الوجدان في الآية المباركة: عدم الوجدان،
بالإضافة إلى الصلاة التي قام المكلف إلى إتيانها، لا مطلقا، فلو لم يتمكن المكلف
من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية فهو غير واجد بالإضافة إلى الصلاة
وإن كان واجدا بالإضافة إلى غيرها. وعلى هذا، بما أن فيما نحن فيه لا يتمكن
المكلف من إيقاع الصلاة في وقتها مع الطهارة المائية من جهة ضيق الوقت يتعين
عليه إيقاعها فيه مع الطهارة الترابية.
241

وهذه النتيجة [هي] نتيجة ضم هذه الآية - أعني بها: آية الوضوء - إلى الآية
الأولى، مع ملاحظة القرائن والنصوص الواردة في أطرافهما.
وعلى هذا الأساس تبين: أنه إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في
الوقت مع الطهارة الترابية وإدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية فيقدم الأول
على الثاني.
والوجه فيه: ما عرفت من أن المستفاد من الآيتين المباركتين بعد ضم
إحداهما إلى الأخرى مع ملاحظة القرائن والروايات الواردة في المقام هو أن
الواجب على المكلف إيقاع تمام الصلاة في الوقت مع الطهارة المائية في فرض
وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها
أصلا، فلو أخرها عنه ولو بمقدار ركعة واحدة لبطلت لا محالة، بل إتيانها عندئذ
بقصد الأمر تشريع ومحرم، ضرورة سقوط الأمر المتعلق بها في الوقت، فيحتاج
وجوبها في هذا الحال إلى أمر آخر.
وعلى هذا فإذا فرضنا أن الوضوء أو الغسل موجب لتفويت الوقت أو تفويت
مقدار منه بحيث لا يقدر على إدراك تمام الصلاة في مقدار آخر منه فلا يجوز، ولا
يكون مشروعا. وعليه فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم، لعدم تمكنه وقتئذ من
الوضوء أو الغسل شرعا وإن تمكن عقلا، هذا بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية.
وأما بحسب النصوص فإن جملة منها وإن دلت على أن إدراك ركعة واحدة
من الصلاة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات إلا أن الظاهر منها - بمقتضى
الفهم العرفي - اختصاص ذلك بمن لم يتمكن من إتيان تمامها في الوقت، واضطر
إلى التأخير إلى زمان لا يبقى من الوقت إلا بمقدار إدراك ركعة واحدة، فالشارع
جعل لمثله إدراك ركعة واحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات إرفاقا وتوسعة له.
وأما من تمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت ولكنه أخر باختياره
وإرادته إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلا بمقدار إتيان ركعة واحدة فيه
242

فلا يكون مشمولا لتلك الروايات، ضرورة أنها لم تكن في مقام بيان الترخيص
والتوسعة للمكلفين في تأخير صلواتهم إلى أن لا يسع الوقت إلا بمقدار ركعة
واحدة منها.
وعلى الجملة: فلا شبهة في ظهور الروايات في اختصاص هذا الحكم بغير
المتمكن من أداء تمام الصلاة في الوقت، وأن الشارع جعل هذا توسعة له، وأن
إدراكه ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك تمام الركعات فيه.
بل يمكن استظهار ذلك - أعني الاختصاص بالمضطر وبغير المتمكن - من
نفس التعبير بكلمة " أدرك "، حيث إنه يظهر من موارد استعمالات هذه الكلمة أنها
تستعمل فيما إذا لم يتمكن الإنسان منه ابتداء، ثم بعد الفحص والطلب تمكن منه،
كما إذا طالب أحد غريمه ثم وجده فيقال: إنه أدرك غريمه. وأما إذا لم يطالبه
ولكنه صادفه من باب الاتفاق فلا يقال: إنه أدركه، بل يقال: إنه صادف غريمه، أو
إذا نظر في مسألة علمية - مثلا - وبعد النظر والدقة وصل إلى ما هو المقصود منها
فيقال: إنه أدرك المقصود. وأما إذا خطر بباله صدفة ومن دون تفكر ونظر فلا يقال:
إنه أدركه... وهكذا.
وفي المقام قوله (عليه السلام): " من أدرك ركعة واحدة من الغداة في الوقت فقد أدرك
تمام الركعات " (1) ظاهر في اختصاص الحكم بغير المتمكن. وأما من تمكن من
إدراك تمام الركعات في الوقت ولكنه أخرها باختياره وإرادته إلى زمان لا يسع
الوقت إلا بمقدار ركعة واحدة فلا يصدق عليه أنه أدرك ركعة واحدة في الوقت
ليكون مشمولا للرواية، لما عرفت من أن كلمة " أدرك " بحسب موارد استعمالها
إنما تستعمل في وجدان شئ بالاجتهاد والطلب، فلا تصدق على وجدانه صدفة
ومن باب الاتفاق.
وكيف ما كان فلا إشكال في ظهور الروايات فيما ذكرناه، وهي وإن كانت

(1) وسائل الشيعة: ج 3 ص 217 باب 30 من أبواب المواقيت ح 2، باختلاف في اللفظ.
243

[اثنتان منها ضعيفة (1) إلا أن واحدة منها موثقة (2) وهي كافية لإثبات المسألة. وعلى أساس هذا البيان قد ظهر أن هذه الروايات أجنبية عن مقامنا تماما،
ولا يدل شئ منها على تقديم إدراك ركعة مع الطهارة المائية على إدراك تمام
الركعات مع الطهارة الترابية.
والوجه في ذلك: ما عرفت الآن من اختصاص موضوع تلك الروايات
بخصوص المضطر وغير المتمكن من إدراك تمام الركعات في الوقت. هذا
من جانب.
ومن جانب آخر قد تقدم: أن المستفاد من الآيتين المتقدمتين بضميمة
الروايات والنصوص الواردة في المسألة هو ان المكلف إن تمكن في الوقت من
الطهارة المائية فوظيفته الطهارة المائية وإن لم يتمكن منها فوظيفته الطهارة الترابية.
فالنتيجة على هدي هذين الجانبين: هي أن المكلف إن لم يتمكن من إدراك]

(1) وهما: رواية الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " من أدرك من الغداة ركعة قبل
طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامة " (1) ضعيفة بأبي جميلة المفضل بن صالح.
ورواية عمار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: " فإن صلى ركعة من الغداة
ثم طلعت الشمس فليتم الصلاة وقد جازت صلاته، وإن طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة
فليقطع الصلاة، ولا يصلي حتى تطلع الشمس ويذهب شعاعها " (2) ضعيفة بعلي بن خالد.
أقول: إن الموثقة وإن وردت في صلاة الغداة خاصة إلا أنه من الواضح جدا أنه لا
خصوصية لها في ذلك أصلا، وأن الحكم بالإدراك يعم جميع الصلوات اليومية والفرائض
الخمس، بلا خصوصية في البين، وذكر " الغداة " فحسب في الموثقة إنما كان من باب المثال،
ولا موضوعية له أبدا، ولعله لنكتة الإشارة إلى كثرة الابتلاء بتلك المسألة في الغداة خاصة
دون البقية كما هو كذلك. وعليه فلا وجه لتوهم اختصاص الحكم بالغداة وعدم شموله للبقية.
(2) وهي: رواية عمار بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: " فإن صلى ركعة من
الغداة ثم طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته " موثقة (3).
(1) وسائل الشيعة: ج 4 ص 217 ب 30 من أبواب المواقيت ح 2.
(2) المصدر السابق: ح 3.
(3) المصدر السابق: ح 1.
244

تمام الركعات في الوقت مع الطهارة المائية لضيقه وتمكن من إدراك تمامها مع
الطهارة الترابية كان المتعين هو الثاني، والروايات المزبورة - كما عرفت - مختصة
بالمضطر وغير المتمكن من إدراك التمام، والمفروض في المقام أنه متمكن من
إدراكه غاية الأمر مع الطهارة الترابية دون المائية.
ومن الواضح جدا أنه لا يفرق في التمكن من الصلاة في الوقت بين أن يكون
مع الطهارة المائية وأن يكون مع الطهارة الترابية، وعلى كلا التقديرين فلا يكون
مشمولا لتلك الروايات، لاختصاصها - كما مر - بغير المتمكن مطلقا ولو مع
الطهارة الترابية، كما هو مقتضى إطلاقها. فإذا لا دوران في المقام لنرجع إلى
المرجح ونقدم ما ليس له بدل على ماله بدل.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من دوران الأمر بين إدراك ركعة واحدة في
الوقت مع الطهارة المائية وإدراك تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية لا موضوع
له أصلا.
ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن: هي أن ما ذكره (قدس سره) من الفروع الثلاثة ليس شئ
منها صغرى للكبرى المتقدمة، وهي تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل.
ثم إن من الغريب ما عن بعض المحدثين في المقام من الحكم بسقوط الصلاة
في هذا الفرض، بدعوى أنه فاقد للطهورين. أما الطهارة المائية من الوضوء أو
الغسل فلا يتمكن منها، لأنها توجب تفويت الصلاة عن الوقت وهو غير جائز،
وأما الطهارة الترابية فغير مشروعة، لأن مشروعيتها منوطة بفقدان الماء وعدم
وجدانه، والمفروض - هنا - أن المكلف واجد للماء، إذا تسقط الصلاة عنه باعتبار
أنه فاقد الطهورين (1).
ووجه غرابته: ما ذكرناه في غير مورد من أن المراد من الوجدان ليس وجوده
الخارجي، بل المراد منه من جهة القرائن الداخلية والخارجية وجوده الخاص،
وهو ما تمكن المكلف من استعماله في الوضوء أو الغسل عقلا وشرعا، وفي المقام

(1) هو الشيخ حسين آل عصفور على ما صرح به في التنقيح: ج 9 ص 473 كتاب الطهارة.
245

بما أنه لا يتمكن من استعماله شرعا لأجل أنه يوجب تفويت الوقت - وهو غير
جائز - فلا محالة تنتقل وظيفته إلى التيمم.
وعلى الجملة: فقد تقدم أن المكلف مأمور بالصلاة في أوقاتها بمقتضى
الآيات والروايات، وأن تلك الصلاة مشروطة بالطهارة المائية في فرض التمكن
منها عقلا وشرعا، وبالطهارة الترابية في فرض فقدان الماء وعدم التمكن من
استعماله عقلا أو شرعا، وفيما نحن فيه بما أن المكلف لا يتمكن - من جهة
المحافظة على الصلاة في وقتها - من الطهارة المائية فتجب عليه الطهارة الترابية،
ضرورة أن مشروعية الطهارة الترابية إنما هي من جهة المحافظة على الوقت، وإلا
لتمكن المكلف من استعمال الماء في زمان لا محالة.
وعليه فلا معنى لما ذكر من كونه واجدا للماء فلا يكون مأمورا بالتيمم. هذا
تمام الكلام في دوران الأمر بين جزءين أو شرطين أو شرط وجزء لواجب واحد.
وأما إذا دار الأمر بين جزء أو شرط وواجب آخر - كما إذا كان عند المكلف
ماء لا يكفي للوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معا - ففي
مثل ذلك وإن وقعت المزاحمة بين وجوب صرف هذا الماء في الوضوء أو الغسل
ووجوب صرفه في واجب آخر إلا أن تقديم صرفه في واجب آخر - كرفع
العطش أو نحوه على صرفه في الوضوء أو الغسل - ليس من جهة ما ذكره شيخنا
الأستاذ (قدس سره) من تقديم ما ليس له بدل على ماله بدل، وبما أن الوضوء أو الغسل له
بدل - وهو التيمم - فيقدم عليه الواجب الآخر. بل من ناحية ما ذكرناه غير مرة من
أن المراد من الوجدان في الآية المباركة المأخوذ في موضوع وجوب الوضوء
أو الغسل ليس مطلق وجوده في الخارج، بل المراد منه بمعونة القرائن الخارجية
والداخلية وجوده الخاص، وهو ما تمكن المكلف من استعماله عقلا وشرعا،
ولا يكفي التمكن العقلي فحسب.
وعلى هذا فبما أن المكلف مأمور بصرف هذا الماء في واجب آخر لم يعتبر
فيه شئ ما عدا القدرة عليه تكوينا فلا محالة يكون عاجزا عن صرفه في الوضوء
246

أو الغسل، فإذا تنتقل وظيفته إلى التيمم.
فالنتيجة: أن وجه تقديم وجوب صرف الماء في واجب آخر على وجوب
صرفه في الوضوء أو الغسل ما ذكرناه من أن المكلف في هذا الحال غير واجد
للماء، ووظيفته حينئذ بمقتضى الآية المباركة هي التيمم لا غيره، لا ما أفاده شيخنا
الأستاذ (قدس سره).
وقد تلخص مما ذكرناه: أن هذا الفرع أيضا ليس من صغريات الكبرى
المتقدمة.
المرجح الثاني: ما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين مشروطا بالقدرة
شرعا والآخر عقلا فيقدم ما كان مشروطا بالقدرة عقلا على ما كان مشروطا
بالقدرة شرعا.
وبيان ذلك: أن الحكمين المتزاحمين لا يخلوان من أن يكون أحدهما
مشروطا بالقدرة شرعا دون الآخر، وأن يكون كلاهما مشروطا بالقدرة شرعا أو
عقلا، فهذه أقسام ثلاثة:
أما القسم الأول - وهو ما كانت القدرة مأخوذة في أحدهما شرعا دون
الآخر - فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن الواجب المشروط بالقدرة عقلا يقدم على
الواجب المشروط بها شرعا.
وأفاد في وجه ذلك: أن ملاك الواجب المشروط بالقدرة عقلا حيث إنه تام
لا قصور فيه أصلا فلا مانع من إيجابه بالفعل، فإذا كان وجوبه فعليا فلا محالة
يكون موجبا لعجز المكلف عن الإتيان بالواجب الآخر ومانعا عن ثبوت الملاك
له، لتوقفه على القدرة عليه عقلا وشرعا على الفرض، وهذا بخلاف الواجب
المشروط بالقدرة عقلا، فإن ثبوت الملاك له لا يتوقف على شئ ما عدا القدرة
عليه عقلا، والمفروض أنها موجودة فإذن ليس لوجوبه بالفعل أية حالة
منتظرة أصلا.
وعلى الجملة: فالواجب المشروط بالقدرة شرعا يتوقف وجوبه فعلا على
247

تمامية ملاكه، والمفروض أنها تتوقف على عدم فعلية الواجب الآخر، ومع فعلية
ذاك الواجب لا ملاك له، لعدم القدرة عليه عندئذ شرعا، والمفروض أن القدرة
الشرعية دخيلة في ملاكه، إذا لا وجوب له فعلا ليكون مزاحما مع الواجب
المشروط بالقدرة عقلا.
ومن ذلك يتقدم الواجب المشروط بالقدرة عقلا في مقام المزاحمة على
الواجب المشروط بالقدرة شرعا ولو كان أهم منه، لما عرفت من عدم تمامية
ملاكه، وعدم تحقق موضوعه - وهو القدرة شرعا - مع فعلية وجوب ذلك الواجب.
ومن الواضح أنه لا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعا أهم
منه أو لا، كما أنه لا فرق بين أن يكون متأخرا عنه زمانا أو مقارنا معه، أو متقدما
عليه، فإن ملاك التقدم في جميع هذه الصور واحد، وهو: أن وجوب الواجب
المشروط بالقدرة عقلا بصرف تحققه ووجوده رافع لموضوع وجوب الواجب
الآخر، ومعه لا ملاك له أصلا.
ومن هنا أنكر (قدس سره) جريان الترتب في أمثال هذه الموارد (1).
أقول: قد حققنا سابقا أنه لا مانع من جريان الترتب في أمثال هذه الموارد.
وما أفاده (قدس سره) من عدم الجريان فيها لا أصل له أبدا، ولذا قلنا هناك: إنه لا فرق في
جريانه بين أن تكون القدرة المأخوذة في الواجب عقلية أو شرعية، كما تقدم ذلك
بشكل واضح فلا حاجة إلى الإعادة (2).
وأما ما ذكره (قدس سره) هنا من أن الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلا يتقدم على
الواحب المأخوذ فيه القدرة شرعا في مقام المزاحمة وإن كان صحيحا ولا مناص
من الالتزام به إلا أن ما أفاده (قدس سره) في وجه ذلك غير تام، وهو: أن ملاك الواجب
المشروط بالقدرة عقلا تام ولا قصور فيه، فإذا لا مانع من إيجابه فعلا، وملاك
الواجب المشروط بالقدرة شرعا غير تام فلا يمكن إيجابه فعلا.

(1) فوائد الأصول: ج 1 ص 322 وص 367.
(2) تقدم في ص 98 وما بعدها.
248

ووجه عدم تماميته: هو ما ذكرناه غير مرة من أنه لا طريق لنا إلى إحراز
ملاكات الأحكام أصلا مع قطع النظر عن ثبوتها. وعليه فلا طريق لنا إلى
استكشاف أن الواجب المأخوذ فيه القدرة عقلا واجد للملاك في مقام المزاحمة،
والواجب المأخوذ فيه القدرة شرعا فاقد له، لينتج من ذلك أن وجوب الأول فعلي
دون الثاني (1).
أضف إلى هذا أن تقديم أحد المتزاحمين على الآخر بمرجح لا يرتكز بوجهة
نظر مذهب دون آخر، بل يعم جميع المذاهب والآراء، ضرورة عدم اختصاص
البحث في مسألة التزاحم بوجهة نظر مذهب العدلية من تبعية الأحكام للملاكات
الواقعية، بل يعم البحث عنها وجهة نظر جميع المذاهب، حتى مذهب الأشعري
المنكر لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعيتين. وعلى هذا فلا وجه لما أفاده
شيخنا الأستاذ (قدس سره) من جعل التقديم مبنيا على وجهة نظر مذهبنا.
أما أن أصل الحكم بالتقديم في هذه الموارد صحيح فلأجل أنه لا مانع من
فعلية وجوب ما هو المشروط بالقدرة عقلا في مقام المزاحمة مع الواجب
المشروط بالقدرة شرعا، لفرض أنه غير مشروط بشئ ما عدا القدرة التكوينية
عليه وهي موجودة، وهذا بخلاف وجوب ما هو المشروط بالقدرة شرعا فإن
المانع من فعلية وجوبه موجود، وهو فعلية وجوب ذاك الواجب، لفرض أنها
توجب عجز المكلف عن الإتيان به في الخارج. وعليه فلا يكون قادرا عليه، ومع
انتفاء القدرة ينتفي الوجوب لا محالة، لاستحالة بقاء الحكم مع انتفاء موضوعه.
هذا هو وجه التقديم في تلك الموارد، وترى أنه لا يبتنى على وجهة نظر
مذهب دون آخر. ولا يفرق فيه بين أن يكون الواجب المشروط بالقدرة شرعا
أهم منه، أو لا يكون أهم. كما أنه لا يفرق بين أن يكون متأخرا عنه زمانا،
أو مقارنا معه، أو متقدما عليه، فإن ملاك التقديم في الجميع واحد، وهو أن
وجوب الإتيان بالواجب الآخر فعلا - أو وجوب التحفظ عليه في ظرفه كذلك

(1) تقدم في ص 69.
249

لئلا يفوت - مانع عنه، وموجب لعجز المكلف عن امتثاله تشريعا.
وأما القسم الثاني - وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا -
فلا يخلو من أن يكون أحدهما أسبق من الآخر زمانا أم لا.
أما الأول فيقدم فيه ما كان الأسبق من الآخر زمانا في الفعلية وتحقق
موضوعه في الخارج، وذلك لأن ما كان متقدما بالزمان على غيره صار فعليا
بفعلية موضوعه خارجا، وهو القدرة عليه تكوينا وتشريعا. أما تكوينا فظاهر،
وأما تشريعا فلأجل أن الرافع للقدرة الشرعية في المقام ليس إلا وجود خطاب
إلزامي فعلي في عرضه يقتضي الإتيان بمتعلقه، فإنه يوجب عجز المكلف عن
امتثاله تشريعا فينتفي بانتفاء موضوعه، والمفروض عدم وجود خطاب كذلك،
فإذا لا مانع من فعليته أصلا.
ومثاله: ما إذا وقع التزاحم بين القيام في صلاة الصبح - مثلا - والقيام في صلاة
الظهر بأن لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في الخارج، فلو صلى صلاة الصبح
قائما فلا يقدر على القيام في صلاة الظهر، وإن ترك القيام في صلاة الصبح فيقدر
عليه في صلاة الظهر، ففي مثل ذلك لا إشكال في وجوب تقديم القيام في صلاة
الصبح على القيام في صلاة الظهر، ولا يجوز تركه فيها تحفظا على القدرة عليه
في صلاة الظهر.
والوجه فيه واضح، وهو أن وجوب صلاة الصبح مع القيام فعلي عليه بفعلية
موضوعه، وهو قدرته على إتيانها قائما عقلا وشرعا، وعدم مانع في البين، لأن
وجوب صلاة الظهر قائما في ظرفه ليس بفعلي في هذا الحين ليكون مانعا منه،
فإنه إنما يصير فعليا بعد دخول الوقت. ومن الواضح جدا أنه لا يجوز ترك
الواجب الفعلي مقدمة لحفظ القدرة على إتيان الواجب في ظرفه.
فالنتيجة: أنه كلما وقع التزاحم بين واجبين طوليين بأن يكون أحدهما
متقدما على الآخر زمانا فلا إشكال في تقديم السابق على اللاحق، ولا يفرق فيه
بين أن يكون الواجب اللاحق أهم من السابق أم لا، فإن الملاك في الجميع واحد،
250

وهو أن الواجب اللاحق حيث إنه لا يكون فعليا في هذا الحال فلا يكون مانعا عن
فعلية وجوب السابق. وعليه فلا يجوز ترك صلاة الصبح في وقتها قائما مقدمة
لحفظ القدرة على صلاة الظهر كذلك، وهذا واضح.
ولكن ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن هذا المرجح إنما يكون مرجحا فيما إذا لم
يكن هناك جهة أخرى توجب تقديم أحد الواجبين على الآخر ولو كان متأخرا
عنه زمانا. ومثل لذلك: بما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء
بالنذر أو ما شابهه، فإن النذر وإن كان سابقا بحسب الزمان على أشهر الحج - كمن
نذر في شهر رمضان - مثلا - المبيت ليلة عرفة عند مشهد الحسين (عليه السلام) وبعد ذلك
عرضت له الاستطاعة - فإنه مع ذلك يقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
وأفاد في وجه ذلك: أن وجوب الوفاء في أمثال هذه الموارد مع اشتراطه
بالقدرة شرعا مشروط بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضا، والوفاء بالنذر هنا
حيث إنه يستلزم ترك الواجب في نفسه - مع قطع النظر عن تعلق النذر به - فلا
تشمله أدلة وجوب الوفاء به. فإذا ينحل النذر بذلك ويصير وجوب الحج فعليا
رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر وملاكه.
ثم أورد على نفسه: بأن وجوب الوفاء بالنذر غير مشروط بالقدرة شرعا.
وعليه فلا وجه لتقديم وجوب الحج المشروط بالقدرة شرعا في لسان الدليل
عليه، ولو سلمنا أن وجوب الوفاء أيضا مشروط بها إلا أنه لا وجه لتقديم وجوب
الحج على وجوبه، لفرض أن كل واحد منهما صالح لأن يكون رافعا لموضوع
الآخر في حد نفسه، ولكن النذر من جهة تقدمه زمانا يكون رافعا للاستطاعة (1).
وأجاب عن الإشكال الأول: بأن وجوب الوفاء تابع لما تعلق به النذر سعة
وضيقا. ومن المعلوم أن النذر تعلق بالفعل المقدور، ضرورة أن حقيقته عبارة عن
الالتزام بشئ لله تعالى.
ومن الطبيعي أن العاقل الملتفت لا يلتزم بشئ خارج عن اختياره وقدرته،

(1) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 331، وأجود التقريرات: ص 274.
251

فنفس تعلق الالتزام بفعل يقتضي اعتبار القدرة فيه، نظير ما ذكرناه من اقتضاء نفس
الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه. ومن هنا قلنا: إن متعلقه خصوص الحصة
المقدورة دون الأعم. وعليه فلا محالة يكون متعلق النذر في ما نحن فيه حصة
خاصة وهي الحصة المقدورة دون الأعم منها ومن غيرها، وهذا عين اعتبار
القدرة في متعلق التكليف شرعا الكاشف عن اختصاص الملاك بخصوص الحصة
المقدورة، لا الجامع بينها وبين غير المقدورة (1).
وأجاب عن الإشكال الثاني - وهو دعوى كون النذر رافعا للاستطاعة -
بوجهين:
الأول: أن صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه راجحا في نفسه في
ظرف العمل، وإلا فلا ينعقد، وبما أن في المقام متعلقه ليس براجح في ظرف العمل
فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الثاني: أنا لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا عدم اعتبار رجحان متعلق النذر في
ظرف العمل في صحته وانعقاده وشمول أدلة وجوب الوفاء له، وقلنا بكفاية
رجحان متعلقه حين النذر وإن لم يكن راجحا حين العمل فمع ذلك لا يمكن
الحكم بصحته في المقام، لاشتراط صحته بعدم كون متعلقه مخالفا للكتاب أو
السنة وموجبا لترك الواجب أو فعل الحرام، وبما أن متعلقه في مفروض الكلام
يوجب في نفسه ترك الواجب باعتبار استلزامه ترك الحج فلا يمكن الحكم
بصحته ووجوب الوفاء به، وعليه فيقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر
أو ما شاكله.
وعلى الجملة: فلا مانع من فعلية وجوب الحج على الفرض غير وجوب
الوفاء بالنذر، وحيث إنه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه محللا للحرام فلا
يكون فعليا في مفروض المقام ليكون مانعا عن فعلية وجوب الحج ومزاحما له.

(1) المصدر السابق.
252

وعلى هذا فلا محالة يكون وجوب الحج فعليا ورافعا لموضوع وجوب الوفاء
بالنذر وملاكه. وأما وجوب الوفاء به فلا يعقل أن يكون رافعا لملاك الحج،
ضرورة أن فعليته تتوقف على عدم التكليف بالحج، لئلا يلزم منه تحليل الحرام،
فلو كان عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب النذر لزم الدور.
وهذا الذي ذكرناه يجري في كل ما كان وجوبه مشروطا بعدم كونه محللا
للحرام: كموارد الشرط، والحلف، واليمين، وما شابهها، فعند مزاحمته مع ما هو غير
مشروط به يقدم غير المشروط به ولو فرض أنه أيضا مشروط بالقدرة شرعا (1).
ثم قال (قدس سره): وأما ما عن السيد (قدس سره) في العروة (2) من أن المعتبر هو أن يكون
متعلق النذر راجحا في طرف العمل ولو بلحاظ تعلق النذر به، وبذلك صحح جواز
نذر الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات فيظهر فساده مما قدمناه من أن المعتبر
في صحة النذر وانعقاده هو كون متعلقه راجحا وغير موجب لتحليل الحرام في
نفسه، مع قطع النظر عن تعلق النذر به، وإلا لأمكن تحليل جميع المحرمات بالنذر،
وهذا ضروري البطلان (3).
نلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في عدة نقاط:
الأولى: تسليم أن التزاحم بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب فريضة الحج
إنما هو من صغريات التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا،
وليس من صغريات الكبرى المتقدمة، وهي المزاحمة بين واجبين يكون أحدهما
مشروطا بالقدرة عقلا والآخر مشروطا بها شرعا.
الثانية: تسليم أنه داخل في كبرى تزاحم واجبين يكون أحدهما أسبق زمانا
من الآخر.
الثالثة: أن الأسبق زمانا إنما يكون مرجحا وموجبا لتقديمه على الآخر فيما

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 274 - 275.
(2) المصدر السابق.
(3) راجع العروة الوثقى: ج 2 ص 558 كتاب الحج أحكام المواقيت المسألة (1).
253

إذا لم تكن هناك جهة أخرى تقتضي تقديم الآخر عليه، كما هو الحال فيما إذا
وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر، فإن النذر وإن كان
متقدما على الحج زمانا - كما إذا كان قبل أشهر الحج - إلا أن الوفاء به بما أنه
يستلزم ترك الواجب فلا ينعقد ليزاحم وجوب الحج.
الرابعة: أن وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مشروط بكون متعلقه راجحا في
ظرف العمل، وبما أن متعلق النذر في مفروض المقام ليس براجح في ظرف العمل،
لاستلزامه تحليل الحرام وهو ترك الحج فلا يكون مشمولا لأدلة وجوب الوفاء،
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كفاية الرجحان حين النذر وإن لم يكن راجحا حين
العمل فمع ذلك لا يمكن الحكم بصحته، لفرض اشتراط انعقاده بأن لا يكون متعلقه
في نفسه محللا للحرام، وبما أنه في المقام موجب له فلا ينعقد.
الخامسة: أن اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا إنما هو باقتضاء
نفس الالتزام النذري فإنه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة، نظير
ما ذكرناه من اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه، وهذا عين اعتبار
القدرة في متعلق التكليف شرعا.
السادسة: أن لازم ما ذكره السيد (قدس سره) في العروة هو جواز تحليل المحرمات
بالنذر، وهذا باطل قطعا.
ولنأخذ بالمناقشة في عدة من هذه النقاط:
أما النقطة الأولى فيرد عليها: أن المقام غير داخل في كبرى تزاحم الواجبين
يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا.
والوجه فيه: هو أن ذلك يبتنى على ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب
من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا، كما هو المناسب
لمعناها لغة، فعندئذ لا محالة يكون المقام داخلا في تلك الكبرى.
وأما بناء على ما هو الصحيح من تفسيرها بأن يكون عنده الزاد والراحلة
254

مع أمن الطريق - كما في الروايات (1) - فلا يكون داخلا فيها، ضرورة

(1 - 4) راجع الوسائل: ج 11 ص 33 - 35 ب 8 من أبواب وجوب الحج ح 7 و 6 و 1 و 3.
(5) الوسائل: ج 11 ص 63 ب 24 من أبواب وجوب الحج ح 2.
255

(6) الوسائل: ج 11 ص 37 ب 9 من أبواب وجوب الحج ح 1.
256

أن وجوب الحج على هذا ليس مشروطا بالقدرة شرعا، بل هو مشروط بوجدان
الزاد والراحلة وأمن الطريق، فعند وجود هذه الأمور واجتماعها يجب الحج، كان
هناك واجب آخر في عرضه أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا يكون وجوب الوفاء بالنذر أو ما يشبهه مانعا عن
وجوب الحج ورافعا لموضوعه، فإن موضوعه - وهو وجدان الزاد والراحلة مع
أمن الطريق - موجود بالوجدان، بل الأمر بالعكس، فإن وجوب الحج على هذا
مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه، حيث إن وجوب الوفاء به منوط
بكون متعلقه مقدورا للمكلف عقلا وشرعا. ومن الواضح أن وجوب الحج عليه
معجز مولوي عن الوفاء به فلا يكون معه قادرا عليه، فإذا ينتفي وجوب الوفاء به
بانتفاء موضوعه.
ونتيجة ذلك: هي أن التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر ليس
داخلا في الكبرى المزبورة (التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
شرعا)، بل هو داخل في الكبرى الأولى، وهي التزاحم بين واجبين يكون
أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا والآخر مشروطا بالقدرة عقلا، وذلك لما عرفت
الآن من أن وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا فحسب، ولا يعتبر في وجوبه
ما عدا تحقق الأمور المزبورة، ووجوب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة عقلا وشرعا.
وقد تقدم أنه في مقام وقوع المزاحمة بينهما يتقدم ما كانت القدرة المأخوذة
فيه عقلية على ما كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية، فإن الأول يوجب عجز
المكلف عن امتثال الثاني فيكون منتفيا بانتفاء موضوعه، ولا يوجب الثاني عجزه
عن امتثال الأول، لأن المانع من فعليته إنما هو عجزه التكويني، والمفروض أنه لا
يوجب ذلك.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن التزاحم بينهما من صغرى التزاحم بين
واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا لا يمكن المساعدة عليه.
وأما النقطة الثانية فيرد عليها: أن مسألة مزاحمة وجوب الحج مع وجوب
257

الوفاء بالنذر أو ما شابهه خارجة عن كبرى مسألة التزاحم بين واجبين يكون
أحدهما متقدما زمانا على الآخر، وليس خروجها عن تلك الكبرى خروجا
حكميا كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره)، بل خروجها عنها خروج موضوعي، بمعنى أنها
حقيقة ليست من صغريات تلك الكبرى، وهي لا تنطبق عليها أبدا.
والوجه في ذلك: هو أن النذر وإن فرض تقدمه على حصول الاستطاعة زمانا
إلا أن العبرة إنما هي بتقدم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر، كتقدم زمان
صلاة الفجر على زمان صلاتي الظهرين - مثلا - وهكذا...، ولا عبرة بتقدم زمان
أحد الوجوبين على زمان الآخر.
وعلى الجملة: أنا لو تنزلنا عما ذكرناه وسلمنا أن وجوب الحج مشروط
بالقدرة شرعا بناء على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا
وشرعا - كما هو المشهور - فمع ذلك ليست المزاحمة بينه وبين وجوب الوفاء
بالنذر وأشباهه داخلة في الكبرى المتقدمة، لما عرفت من عدم تقدم زمان الوفاء
بالنذر على زمان الحج وإن فرض تقدم سبب وجوبه على سبب وجوب الآخر
فإنه لا عبرة به، والعبرة إنما هي بتقدم أحد الواجبين على الآخر زمانا، والمفروض
أنهما في عرض واحد فلا تقدم لأحدهما على الآخر أصلا. وعليه فلا يبقى مجال
لتوهم تقدم وجوب الوفاء بالنذر على وجوب الحج بملاك تقدم الواجب السابق
على الواجب اللاحق.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن المقام داخل في الكبرى المزبورة فيما إذا
فرض تقدم النذر بحسب الزمان على أشهر الحج لا يرجع إلى أصل صحيح، لما
عرفت من أنه غير داخل في تلك الكبرى حتى على هذا الفرض والتقدير، من
جهة أن العبرة إنما هي بتقدم زمان أحد الواجبين على زمان الآخر، ولا عبرة
بتقدم سبب أحدهما على سبب الآخر أصلا كما مر.
ولا يفرق في ذلك بين القول باستحالة الواجب المعلق كما هو مختار شيخنا
258

الأستاذ (1) (قدس سره) والقول بإمكانه وصحته كما هو المختار عندنا (2)، فإنه على كلا
القولين لا تقدم لأحد الواجبين على الآخر بحسب الزمان، غاية ما في الباب على
القول بالاستحالة فكما لا وجوب فعلا للوفاء بالنذر قبل تحقق ليلة عرفة فكذلك
لا وجوب فعلا للحج قبل تحقق وقته ومجيئه. فإذا عدم تقدم أحدهما على الآخر
زمانا واضح. وعلى القول بالإمكان فكما أن وجوب الوفاء بالنذر فعلي قبل
مجئ وقت الواجب فكذلك وجوب الحج فعلي قبل وقته، فالوجوبان عرضيان
وكل منهما قابل لرفع موضوع الآخر.
ودعوى: أن وجوب الوفاء بالنذر على هذا سابق على وجوب الحج باعتبار
أن سببه مقدم على سببه مدفوعة بأنه لا أثر لمجرد حدوث وجوبه قبل حصول
الاستطاعة بعد فرض أنه مزاحم بوجوب الحج بقاء، بل قد عرفت أنه لا مزاحمة
بين الواجبين إلا في زمانهما، وهو زمان الامتثال والعمل، لا في زمان وجوبهما
كما هو ظاهر.
وبعد ذلك نقول: إنه لابد من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر
وأشباهه في مقام المزاحمة، وذلك لوجهين:
الأول: أن وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعا عن وجوب الحج ورافعا
لموضوعه لأمكن لكل مكلف رفع وجوبه عن نفسه بإيجاب شئ ما عليه بنذر
أو نحوه في ليلة عرفة المنافي للإتيان بالحج، كمن نذر أن يصلي ركعتين من
النافلة - مثلا - في ليلة عرفة في المسجد الفلاني، كمسجد الكوفة أو نحوه، أو نذر
أن يقرأ سورة - مثلا - في ليلة عرفة فيه أو في مكان آخر مثلا... وهكذا. ومن
الواضح جدا أن بطلان هذا من الضروريات فلا يحتاج إلى بيان وإقامة برهان،
كيف؟ فإن لازم ذلك هو أن لا يجب الحج على أحد من المسلمين، إذ لكل منهم أن
يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذر أو شبهه يكون منافيا ومضادا له، وهذا مما
قامت ضرورة الدين على خلافه كما هو ظاهر.

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 186.
(2) تقدم في المحاضرات: ج 2 ص 354 - 355.
259

الثاني: أنه قد ثبت في محله أن صحة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلقه
راجحا، فلو نذر ترك واجب أو فعل حرام لم يصح، بل لو نذر ترك مستحب أو فعل
مكروه كان كذلك، فضلا عن أن ينذر ترك واجب أو فعل محرم (1).
ومن هنا لو نذرت المرأة على أن تصوم غدا ثم رأت الدم فلا ينعقد نذرها ولا
يجب عليها الصوم في الغد بمقتضى وجوب الوفاء بالنذر، لعدم رجحانه في هذه
الحالة.
وعلى الجملة: فلا شبهة في اعتبار رجحان متعلقه في نفسه في انعقاده:
كزيارة الحسين (عليه السلام)، والصلاة في المسجد - مثلا - وما شاكلهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: يعتبر في صحته وانعقاده أيضا أن لا يكون محللا للحرام،
بمعنى أن الوفاء به لا يستلزم ترك واجب أو فعل محرم.
والحاصل: أنه لا إشكال في فساد النذر أو الشرط المخالف للكتاب أو السنة
وما يكون محللا للحرام، وقد دلت على ذلك عدة من الروايات (2)، ويترتب على
هذا أن النذر في مفروض المقام بما أن متعلقه في نفسه محلل للحرام، لاستلزامه
ترك الواجب وهو الحج فلا ينعقد، لما قد عرفت من اشتراط صحته بعدم كون
متعلقه كذلك. وعليه فلا مناص من تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر.
أو فقل: إنه لا مانع من فعلية وجوب الحج - هنا - على الفرض ما عدا وجوب
الوفاء بالنذر وأشباهه، وحيث إنه مشروط بعدم كون متعلقه في نفسه مستلزما
لترك واجب أو فعل حرام فلا محالة لا يكون فعليا في هذا الفرض، أي فرض
مزاحمته مع وجوب الحج ليكون مانعا عن فعلية وجوبه، لاستلزام الوفاء به ترك
الواجب وهو الحج. وعليه فلا محالة يكون وجوب الحج فعليا ورافعا لموضوع
وجوب الوفاء بالنذر كما هو واضح.
وعلى هذا الأساس نستنتج من ذلك كبرى كلية، وهي: أن كل واجب لم يكن

(1) راجع الجواهر: ج 35 ص 377 كتاب النذر.
(2) راجع الوسائل: ج 23 ص 317 ب 17 من كتاب النذر.
260

وجوبه مشروطا بعدم كون متعلقه في نفسه محللا للحرام يتقدم في مقام المزاحمة
على واجب كان وجوبه مشروطا بذلك: كالواجبات الإلهية التي ليست بمجعولة
في الشريعة المقدسة ابتداء، بل هي مجعولة بعناوين ثانوية: كالنذر والعهد والحلف
والشرط في ضمن عقد وما شاكل ذلك، فإن وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعا
مشروط بعدم كونها مخالفة للكتاب أو السنة ومحللة للحرام، فتؤخذ هذه القيود
العدمية في موضوع وجوب الوفاء بها.
وعلى ذلك يترتب أن تلك الواجبات لا تصلح أن تزاحم الواجبات التي هي
مجعولة في الشريعة المقدسة ابتداء: كالصلاة والصوم والحج وما شابه ذلك، لعدم
أخذ تلك القيود العدمية في موضوع وجوبها. وعليه ففي مقام المزاحمة لا موضوع
لتلك الواجبات، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة: أن عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلتها عن شمولها في
هذه الموارد - أعني بها موارد مخالفة الكتاب أو السنة وتحليل الحرام في نفسها -
لانتفاء موضوعها، لا لوجود مانع في البين.
ومن هنا قلنا: إن أدلة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأولية، ودالة
على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفة لشئ من
تلك الأحكام. وأما في صورة المخالفة فتسقط بسقوط موضوعها كما عرفت.
وتمام الكلام في ذلك في محله.
وأما النقطة الثالثة - وهي أن الأسبق زمانا إنما يكون مرجحا فيما إذا لم تكن
هناك جهة أخرى تقتضي تقديم الآخر عليه - فهي في غاية الوضوح، لأن كل
مرجح وإن كان يستدعي تقديم صاحبه على غيره إلا أن استدعاءه ليس على نحو
العلة التامة، بل هو على نحو الاقتضاء، فلو كان هناك مانع من تقديمه أو كانت
هناك جهة أخرى تقتضي تقديم غيره عليه فلا أثر له.
وعلى الجملة: فلا شبهة في أن أسبقية أحد الواجبين زمانا على الواجب
الآخر من المرجحات في مقام المزاحمة، ولكن من المعلوم أنها إنما تقتضي
261

التقديم فيما إذا لم يكن هناك مانع عن اقتضائها ذلك، أو لم تكن هناك جهة أخرى
أقوى منها تقتضي تقديم الواجب اللاحق على السابق، وهذا ظاهر.
وأما النقطة الرابعة - وهي أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه راجحا في
ظرف العمل ولا يكون محللا للحرام - فهي تامة بالإضافة إلى ناحية، وغير تامة
بالإضافة إلى ناحية أخرى.
أما بالإضافة إلى ناحية أن الوفاء بالنذر في ظرفه مستلزم لترك الواجب
- وهو الحج - فهي تامة، لما عرفت من أن صحة النذر وأشباهه مشروطة بعدم كون
الوفاء به محللا للحرام، وحيث إنه في مفروض الكلام موجب لذلك فلا يكون
منعقدا (1).
وأما بالإضافة إلى ناحية أن متعلقه ليس براجح في نفسه في ظرف العمل
لاستلزامه ترك الواجب فهي غير تامة، ضرورة أن المعتبر في صحته هو رجحان
متعلقه في نفسه، والمفروض أنه كذلك في المقام، ومجرد كونه مضادا لواجب
فعلي لا يوجب مرجوحيته، إلا بناء على القول بأن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن
ضده. وقد تقدم فساد هذا القول بشكل واضح، وقلنا هناك: إن الأمر بشئ
لا يقتضي النهي عن ضده بوجه على أنه نهي غيري لا ينافي الرجحان الذاتي، كما
هو واضح (2).
وأما النقطة الخامسة - وهي أن نفس الالتزام النذري يقتضي كون متعلقه
حصة خاصة، وهي الحصة المقدورة، نظير اقتضاء نفس التكاليف ذلك - فقد ظهر
فسادها مما تقدم.
وملخصه: أن ذلك لا يتم حتى على مسلك المشهور من أن حقيقة التكليف
عبارة عن البعث أو الزجر إلى الفعل أو عنه، فضلا عما حققناه من أن حقيقته عبارة
عن اعتبار فعل على ذمة المكلف، أو اعتبار تحريمه وبعد المكلف عنه وإبرازه في
الخارج بمبرز، ولا نعقل لغير ذلك معنى محصلا للتكليف.

(1) راجع مصباح الفقاهة: ج 7 ص 312.
(2) تقدم في ص 35 - 39.
262

ومن الطبيعي أن اعتبار شئ على الذمة لا يقتضي اشتراطه بالقدرة، لا عقلا
ولا شرعا. ومن هنا قلنا: إن القدرة لم تؤخذ في متعلق التكليف، لا من ناحية العقل
ولا من ناحية الشرع، فالقدرة إنما هي معتبرة في مقام الامتثال فحسب، ولا يحكم
العقل باعتبارها بأزيد من ذلك. وقد سبق الكلام في ذلك بصورة مفصلة فلا حاجة
إلى الإعادة.
ومن ذلك يظهر الكلام في ما نحن فيه، وذلك لأن حقيقة النذر أو ما شابهه
بالتحليل ليست إلا عبارة عن اعتبار الناذر الفعل على ذمته لله تعالى، وقد عرفت
أن اعتبار شئ على الذمة لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه لا عقلا ولا شرعا،
ضرورة أنه لا مانع من اعتبار الجامع بين المقدور وغيره على الذمة أصلا. فإذا لا
يقتضي تعلق النذر بشئ اعتبار القدرة فيه عقلا وشرعا، فما أفاده (قدس سره) من اشتراط
وجوب الوفاء بالنذر بالقدرة شرعا من هذه الناحية غير تام.
على أن ما أفاده (قدس سره) هنا من اختصاص الملاك بخصوص الفعل المقدور
مناقض لما أفاده سابقا (1).
وملخص ما أفاده هناك: هو أن القدرة مرة مأخوذة في متعلق الطلب لفظا
كما في آيتي: الحج والوضوء (2) وما شاكلهما، فالتقييد في مثل ذلك لا محالة
يكشف عن دخل القدرة في الملاك واقعا، ضرورة أنها لو لم تكن دخيلة فيه
في مقام الثبوت والواقع لم يكن معنى لأخذها في متعلقه في مقام الإثبات
والدلالة، وعلى ذلك يترتب أنه بانتفاء القدرة ينتفي الملاك، لاختصاصه بخصوص
الحصة المقدورة دون الأعم، وعليه فلا يمكن تصحيح الوضوء بالملاك في موارد
الأمر بالتيمم.
ومرة أخرى لم تؤخذ في متعلقه في مرتبة سابقة على الطلب، بل كان
اعتبارها فيه من ناحية تعلق الطلب به، سواء كان باقتضاء نفس الطلب ذلك

(1) فوائد الأصول: ج 1 ص 322 - 326.
(2) وهما في آل عمران: 97، والمائدة: 6.
263

أو من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فالتقييد في مثل ذلك بما أنه كان في
مرتبة لاحقة - وهي مرتبة عروض الطلب - فيستحيل أن يكون تقييدا في مرتبة
سابقة على تلك المرتبة، وهي مرتبة معروضه.
أو فقل: إن الطبيعة التي يتعلق بها الطلب وإن كانت مقيدة بالقدرة عليها حال
تعلقه بها إلا أنها مطلقة في مرتبة سابقة عليه. ومن الواضح أن إطلاقها في تلك
المرتبة يكشف عن عدم دخل القدرة في الملاك، وأنها بإطلاقها واجدة للملاك
التام، وإلا لكان على المولى تقييدها في تلك المرتبة، إذا فمن الإطلاق في مقام
الإثبات يستكشف الإطلاق في مقام الثبوت.
أقول: هذا البيان بعينه يجري فيما نحن فيه، فإن متعلق النذر في مرتبة سابقة
على عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به مطلق، والتقييد إنما هو في مرتبة
لاحقة، وهي مرتبة عروض النذر عليه ووجوب الوفاء به، وقد عرفت أن مثل هذا
التقييد لا يكشف عن دخل القدرة في المتعلق، ضرورة أنه لا يصلح أن يكون بيانا
ومقيدا للإطلاق في مرتبة سابقة عليه.
إذا ذات الفعل الذي هو معروض الالتزام النذري واجد للملاك على إطلاقه،
والمفروض عدم الدليل على تقييده في تلك المرتبة بخصوص الحصة الخاصة،
وهي الحصة المقدورة.
وعلى الجملة: فما أفاده (قدس سره) هنا من أن اعتبار القدرة في متعلق النذر باقتضاء
نفس الالتزام به يلازم اعتبار القدرة في متعلق الوجوب شرعا الكاشف عن
اختصاص الملاك بالفعل المقدور، وهو لا يلائم ما ذكره هناك من التفرقة بين
اعتبار القدرة في متعلق التكليف شرعا واعتبارها فيه باقتضاء نفس التكليف، أو
من جهة حكم العقل به من باب قبح تكليف العاجز كما عرفت.
فالصحيح في المقام أن يقال: إن الدليل على اشتراط وجوب الوفاء بالنذر
وأشباهه بالقدرة شرعا هو ما دل على تقييده بعدم كونه مخالفا للكتاب أو السنة
مرة، وبعدم كونه محللا للحرام مرة أخرى.
264

ونتيجة ذلك: أنها لا تنعقد إذا كان الوفاء بها مستلزما لترك واجب أو فعل
محرم، لانطباق عنوان محلل للحرام عليه. ومن الواضح أن هذا عين اعتبار القدرة
في متعلقه شرعا.
وقد تبين لحد الآن: أن الصحيح في وجه اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة
شرعا هو ما ذكرناه، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) كما مر.
وأما النقطة السادسة - وهي أن الاكتفاء في صحة النذر برجحان متعلقه في
مقام العمل ولو باعتبار تعلق النذر به يستلزم جواز تحليل المحرمات بالنذر -
فيردها: أن ما ذكره السيد (قدس سره) في العروة لا يستلزم ما أفاده، والوجه فيه: هو أنه لا
إشكال في اعتبار رجحان متعلق النذر في صحته، وأنه لابد أن يكون راجحا ولو
من جهة تعلق النذر به. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنه لا يمكن أن يقتضي وجوب الوفاء بالنذر رجحان متعلقه،
ضرورة استحالة اقتضاء الحكم لوجود شرطه وتحقق موضوعه في الخارج.
فالنتيجة على ذلك: هي أن رجحان متعلق النذر مرة يكون باقتضاء ذاته مع
قطع النظر عن عروض أي عنوان عليه. ومرة أخرى يكون بعروض عنوان
خارجي طارئ عليه، ولا يكون ذلك إلا باقتضاء دليل خارجي، ولا ثالث لهما،
بمعنى أن الشئ إذا لم يكن في نفسه راجحا فصحة تعلق النذر به تحتاج إلى دليل
من الخارج يدل على صحة النذر الكاشفة عن طروء الرجحان عليه، فإن دل دليل
على صحته، كما هو الحال في الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر، حيث قد
قام الدليل من الخارج على صحة نذرهما (1)، مع أنهما ليسا براجحين في نفسيهما
فنلتزم بها، وإلا فلا.
ومراد السيد (قدس سره) من الرجحان الجائي من قبل النذر هو ما ذكرناه من قيام
الدليل الخارجي على صحة النذر الكاشف عن رجحان متعلقه بعنوان ثانوي،

(1) راجع الوسائل: ج 11 ص 326 ب 1 من أبواب المواقيت، و ج 10 ص 379 ب 7 من بقية
الصوم الواجب.
265

وهو عنوان تعلق النذر به، وليس مراده منه الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء
بالنذر ليلزم منه جواز تحليل المحرمات، لما عرفت من استحالة اقتضاء وجوب
الوفاء بالنذر ذلك، أعني رجحان متعلقه.
فما أورده شيخنا الأستاذ (قدس سره) على السيد (رحمه الله) إنما يتم لو كان مراده من
الرجحان الناشئ من قبل النذر الرجحان بملاحظة وجوب الوفاء به.
وعلى هذا البيان قد ظهر: أن ما ذكره السيد (قدس سره) في العروة لا يستلزم جواز
تحليل المحرمات بالنذر، ضرورة أن ما أفاده (قدس سره) أجنبي عن ذلك تماما، وخاص
بما إذا قام دليل على صحة النذر.
وإن شئت فقل: إن إطلاق أدلة المحرمات كاف لإثبات عدم الرجحان،
والمفروض أن دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يقتضي رجحان متعلقه كما عرفت.
ومن الواضح جدا أنه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه أبدا.
نعم، إذا قام دليل على صحة تعلق النذر بفرد مامن أفراد المحرمات فلا مناص
من الالتزام بصحته وانعقاده وتقييد إطلاق دليل التحريم بغير هذا الفرد، ولا يفرق
فيه بين القول باعتبار رجحان متعلقه في نفسه، والقول بكفاية الرجحان الناشئ
من تعلق النذر به، ضرورة أنه على كلا القولين لا مناص من الالتزام بالصحة، غاية
الأمر على القول الأول يلزم أن يكون الدليل المزبور مخصصا لأدلة اشتراط صحة
النذر بكون متعلقه راجحا في نفسه دون القول الثاني، ولكن لا تترتب على ذلك
أية ثمرة عملية.
وقد تحصل مما ذكرناه عدة أمور:
الأول: أن وجوب الحج ليس مشروطا بالقدرة شرعا، فإنه يبتنى على تفسير
الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلا وشرعا، ولكنك عرفت أنه تفسير
خاطئ بالنظر إلى الروايات الواردة في تفسيرها وبيان المراد منها، حيث إنها قد
فسرت في تلك الروايات بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق، وفي بعضها
وإن زاد صحة البدن أيضا ولكن من المعلوم أنها ليست شرط الوجوب مطلقا،
266

بل هي شرط له على نحو المباشرة.
ونتيجة ذلك: هي أنه عند وجود الزاد والراحلة وأمن الطريق يجب الحج،
سواء أكان هناك واجب آخر أم لم يكن.
وعلى هذا الأساس فلا مجال لتوهم أن وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا،
فإن منشأ هذا التوهم ليس إلا التفسير المزبور، وقد عرفت أنه تفسير غير مطابق
للواقع (1). فإذا يتقدم وجوب الحج على وجوب الوفاء بالنذر في مقام المزاحمة
وإن فرض أن وجوب الوفاء بالنذر سابق عليه زمانا، لما مضى من أن الواجب
المشروط بالقدرة عقلا يتقدم في مقام المزاحمة على الواجب المشروط بالقدرة
شرعا مطلقا، أي سواء كان في عرضه، أو سابقا عليه بحسب الزمان، أو متأخرا
عنه.
أما وجه تقديمه في الصورتين الأوليين فواضح، لفرض أن التكليف به بما أنه
فعلي يكون معجزا مولويا بالإضافة إلى الآخر، وموجبا لانتفائه بانتفاء موضوعه،
دون العكس.
وأما في الصورة الأخيرة فلأن المفروض أن ملاكه حيث إنه تام في ظرفه فلا
يجوز تفويته، إذ لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك
الملزم في ظرفه، فكما أن الأول قبيح عنده فكذلك الثاني. وعليه فيجب التحفظ
على ملاكه وعدم تفويته، وبما أن الإتيان بالواجب الآخر موجب لتفويته فلا
يجوز، وهذا معنى عدم قدرة المكلف على إتيانه شرعا.
الثاني: أنه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن وجوب الحج مشروط بالقدرة شرعا
بناء على صحة التفسير المزبور فأيضا لا وجه لتقديم وجوب الوفاء بالنذر
وأشباهه عليه، وذلك لما عرفت من عدم دخول ذلك في كبرى تزاحم الواجبين
كان أحدهما أسبق زمانا من الآخر، فإن العبرة بذلك إنما هي بتقديم أحد الواجبين

(1) قد تقدمت الإشارة إليها في ص 254 - 255.
267

على الآخر زمانا كما مر، ولا عبرة بتقديم سبب وجوب أحدهما على سبب
وجوب الآخر، أو بتقديم حدوث وجوب أحدهما على حدوث وجوب الآخر بعد
كونه مزاحما به بقاء.
الثالث: أنه لو تنزلنا عن ذلك أيضا وسلمنا أن وجوب الوفاء بالنذر وما شاكله
مقدم على وجوب الحج زمانا فمع ذلك لا وجه لتقديمه عليه، وذلك لما عرفت من
الوجهين المتقدمين، ونتيجتهما: هي أن حصول الاستطاعة في زمن متأخر كاشف
عن بطلان النذر من الأول وعدم انعقاده.
ومن ذلك البيان قد ظهر فساد ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب
الجواهر (1) (قدس سره) من تقديم وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج بملاك
أن النذر مقدم عليه زمانا، فيكون رافعا للاستطاعة، ولا عكس.
أو فقل: إن وجوب الوفاء به مطلق، ووجوب الحج مشروط فلا يمكن أن
يزاحم الواجب المشروط الواجب المطلق. ووجه فساده: ما عرفت من منع ذلك
صغرى وكبرى، فلا حاجة إلى الإعادة.
ثم إنه من الغريب ما صدر عن السيد الطباطبائي (قدس سره) في العروة في المسألة
" 32 " من مسائل الحج، وإليك نص كلامه:
(إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين (عليه السلام) في كل عرفة ثم
حصلت لم يجب عليه الحج، بل وكذا لو نذر إن جاء مسافره أن يعطي الفقير كذا
مقدارا فحصل له ما يكفيه لأحدهما بعد حصول المعلق عليه، بل وكذا لو نذر قبل
حصول الاستطاعة أن يصرف مقدار مائة ليرة - مثلا - في الزيارة أو التعزية أو نحو
ذلك فإن هذا كله مانع عن تعلق وجوب الحج به. وكذا إذا كان عليه واجب مطلق
فوري قبل حصول الاستطاعة ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج ثم حصلت
الاستطاعة وإن لم يكن ذلك الواجب أهم من الحج، لأن العذر الشرعي كالعقلي

(1) حيث حكي أنه كان قد عمل صاحب الجواهر (قدس سره) على ذلك على ما في فوائد الأصول: ج 1
ص 331 فراجع.
268

في المنع من الوجوب. وأما لو حصلت الاستطاعة أولا ثم حصل واجب فوري
آخر لا يمكن الجمع بينه وبين الحج يكون من باب المزاحمة، فيقدم الأهم منهما،
فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدم على الحج، وحينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام
القابل وجب الحج فيه، وإلا فلا، إلا أن يكون الحج قد استقر عليه سابقا، فإنه يجب
عليه ولو متسكعا) (1).
ثم قال في مسألة أخرى ما لفظه: (النذر المعلق على أمر قسمان: تارة يكون
التعليق على وجه الشرطية، كما إذا قال: إن جاء مسافري فلله علي أن أزور
الحسين (عليه السلام) في عرفة. وتارة يكون على نحو الواجب المعلق، كأن يقول: " لله
علي أن أزور الحسين (عليه السلام) في عرفة عند مجئ مسافري " فعلى الأول يجب الحج
إذا حصلت الاستطاعة قبل مجئ مسافره، وعلى الثاني لا يجب، فيكون حكمه
حكم النذر المنجز في أنه لو حصلت الاستطاعة وكان العمل بالنذر منافيا لها لم
يجب الحج، سواء حصل المعلق عليه قبلها أو بعدها، وكذا لو حصلا معا لا يجب
الحج، من دون فرق بين الصورتين. والسر في ذلك: أن وجوب الحج مشروط،
والنذر مطلق، فوجوبه يمنع من تحقق الاستطاعة) (2).
أقول: نتيجة ما ذكره (قدس سره) أمور:
الأول: أن وجوب الوفاء بالنذر يتقدم على وجوب الحج مطلقا إذا كان النذر
قبل حصول الاستطاعة وكان منجزا ثم حصلت الاستطاعة، لأن وجوب الوفاء
بالنذر رافع لموضوع وجوب الحج وهو الاستطاعة، فلا يكون المكلف معه قادرا
على أداء فريضة الحج شرعا.
الثاني: أنه إذا كان هناك واجب مطلق فوري قبل تحقق الاستطاعة ثم تحققت
ولم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين الحج قدم ذلك الواجب على الحج وإن
لم يكن أهم منه.

(1) راجع العروة الوثقى: كتاب الحج فصل (2) في شرائط وجوب الحج ج 2 ص 442 - 444
المسألة (32) و (33).
(2) المصدر السابق.
269

الثالث: أن يكون وجوب الحج مزاحما بواجب فوري بعد حصول
الاستطاعة، ففي مثل ذلك يقدم الأهم، فلو كان مثل إنقاذ الغريق قدم على الحج.
الرابع: أن النذر المعلق إذا كان على نحو الواجب المشروط فلا يكون مانعا
عن وجوب الحج إذا حصلت الاستطاعة قبل تحقق الشرط، وإن كان على نحو
الواجب المعلق بأن يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا فيكون مانعا عن
وجوب الحج، ولو كان تحقق الاستطاعة قبل حصول المعلق عليه في الخارج.
ولكن للمناقشة في هذه الأمور مجالا:
أما الأمر الأول فقد ظهر فساده مما قدمناه بصورة مفصلة فلا حاجة إلى
الإعادة (1).
وأما الأمر الثاني فإن الواجب المطلق الفوري الثابت على ذمة المكلف
لا يخلو من أن يكون مشروطا بالقدرة عقلا، أو يكون مشروطا بها شرعا.
فعلى الفرض الأول فإن كان أهم من الواجب الآخر - وهو الحج في مفروض
المثال - فلا إشكال في تقديمه عليه مطلقا، أي سواء أكان سابقا عليه زمانا، أم
مقارنا معه، أم متأخرا عنه.
والوجه فيه: ما سيأتي بيانه - إن شاء الله - من أن الواجب الأهم يتقدم في
مقام المزاحمة على المهم مطلقا ولو كان متأخرا عنه (2).
وعلى هذا فلا أثر لفرض كون ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة أو بعده
كما عن السيد (قدس سره)، بل لا أثر لفرض كونه قبل زمان الواجب الآخر - وهو الحج هنا -
أو بعده، فإنه يتقدم عليه في مقام المزاحمة على جميع هذه التقادير والفروض.
وإن كان بالعكس بأن يكون وجوب الحج أهم من ذلك الواجب الآخر
فلا إشكال في تقديمه عليه، بلا فرق بين كونه متقدما عليه زمانا، أو مقارنا معه،
أو متأخرا عنه.
والوجه في ذلك: ما ذكرناه من أن وجوب الحج مشروط بالقدرة عقلا

(1) تقدم في ص 259 - 261.
(2) سيأتي في ص 278 وما بعدها.
270

لا شرعا، من جهة ما عرفت من أن الاستطاعة عبارة عن حصول الزاد والراحلة
مع أمن الطريق، وليست عبارة عما هو المشهور من التمكن من أداء فريضة الحج
عقلا وشرعا لتكون نتيجته اشتراط وجوبه بالقدرة الشرعية (1). وعلى هذا لا يفرق
بين فرض كون وجوب ذلك الواجب قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت أو بعده،
وسيجئ بيان ذلك من هذه الجهة بصورة مفصلة (2).
وأما إذا كان الواجبان متساويين بأن لا يكون أحدهما أهم من الآخر ولا
محتمل الأهمية فتخير المكلف بين صرف قدرته في امتثال هذا وصرفها في
امتثال ذاك على ما سنبين إن شاء الله تعالى (3).
وعلى الفرض الثاني - وهو ما إذا كان الواجب المطلق مشروطا بالقدرة
شرعا - لا إشكال في تقديم فريضة الحج عليه ولو كانت الاستطاعة متأخرة عنه
زمانا، وذلك لما عرفت من أن الواجب المشروط بالقدرة شرعا لا يصلح أن
يزاحم الواجب المشروط بالقدرة عقلا (4)، وبما أنا قد ذكرنا أن وجوب الحج
مشروط بالقدرة عقلا فيتقدم عليه مطلقا ولو كان متأخرا عنه.
ومن ذلك يظهر حال الأمر الثالث أيضا، فلا حاجة إلى البيان.
فما أفاده السيد (قدس سره) من التفرقة بين كون الواجب المطلق الفوري ثابتا في
الذمة قبل حصول الاستطاعة ثم حصلت، وكونه ثابتا فيها بعد حصولها - وأنه على
الأول يتقدم على الحج مطلقا، وعلى الثاني لابد من ملاحظة الأهمية في البين - لا
يرجع إلى معنى صحيح، لما عرفت من أنه لا عبرة بالتقدم أو التأخر الزماني أصلا.
وأما الأمر الرابع فيظهر فساده مما تقدم من أن النذر مطلقا - أي سواء أكان
على نحو الواجب المشروط أم على نحو الواجب المعلق - بأن يكون الوجوب
حاليا والواجب استقباليا فلا يكون مانعا عن وجوب الحج، بل قد عرفت أن
وجوب الحج مانع عن وجوب الوفاء بالنذر ورافع لموضوعه (5).

(1) سبق ذكره في ص 255 - 256.
(2) سيأتي في ص 278 و 279.
(3) سيأتي في ص 278 و 279.
(4) سبق ذكره في ص 249.
(5) راجع ص 257 - 259.
271

وقد تبين لحد الآن أن ما هو المشهور بين الأصحاب - من تقديم وجوب
الوفاء بالنذر وأشباهه على وجوب الحج إذا كان النذر قبل حصول الاستطاعة
باعتبار أن وجوبه مطلق ووجوب الحج مشروط فهو رافع لموضوعه ومانع عن
حصول شرطه - لا أصل له، ولا يرجع إلى معنى محصل أصلا.
وأما القسم الثاني - وهو ما إذا كان الواجبان المشروطان بالقدرة شرعا
عرضيين - فهل يلاحظ فيه الترجيح فيقدم الأهم على غيره أم لا؟ ثم على فرض
عدم ملاحظة الترجيح بينهما وعدم تقديم الأهم على غيره فهل التخيير الثابت
بينهما عقلي أو شرعي؟ فهنا مقامان:
الأول: أن كبرى مسألة تقديم الأهم على غيره هل تنطبق على المقام - وهو
ما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا - أم لا؟
الثاني: أن الحاكم بالتخيير بينهما في صورة تساويهما أو من جهة أنه لا وجه
لتقديم الأهم على غيره هل هو الشرع أو العقل؟
أما المقام الأول فقد ذهب شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلى أنه لا وجه لتقديم الأهم
على غيره. وقد أفاد في وجه ذلك: أن الأهمية إنما تكون سببا للتقديم فيما إذا كان
كل من الواجبين واجدا للملاك التام فعلا، وأما في مثل مقامنا هذا حيث يكون كل
من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا فيستحيل أن يكون كل منهما واجدا للملاك
بالفعل، لفرض أن القدرة دخيلة فيه، والمفروض - هنا - أنه لا قدرة للمكلف على
امتثال كليهما معا، والقدرة إنما هي على امتثال أحدهما دون الآخر. وعليه فيكون
الملاك في أحدهما لا في غيره.
ومن الظاهر أن أهمية طرف لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف
الآخر، ضرورة أنا كما نحتمل أن يكون الملاك فيه كذلك نحتمل أن يكون في
الطرف الآخر، ومجرد كونه أهم على فرض وجود الملاك فيه لا يكون دليلا على
تحققه ووجوده فيه واقعا وحقيقة دون ذلك الطرف.
وبتعبير ثان: حيث إن المفروض اشتراط كل من الواجبين بالقدرة شرعا وأن
272

لها دخلا في الملاك ولا ملاك بدونها فلا محالة يكون كل منهما صالحا لان يكون
رافعا لملاك الآخر من جهة عدم القدرة عليه بحكم الشارع، من دون فرق فيه بين
أن يكون الملاكان متساويين أو يكون أحدهما أهم من الآخر على فرض وجوده
وتحققه. وعلى هذا فأهمية طرف لا تكشف عن وجود الملاك فيه دون الطرف
الآخر في مقام المزاحمة، وذلك لصلاحية كل منهما لان يكون رافعا لملاك الآخر
ولو كان أحدهما أهم من الآخر، ومجرد كون الملاك في طرف أهم على تقدير
وجوده لا يوجب كونه واجدا له دون الآخر، فإذا لا وجه لتقديمه عليه في
مقام التزاحم (1).
وأما المقام الثاني فقد اختار (قدس سره) أن التخيير الثابت فيه تخيير شرعي لا عقلي،
غاية الأمر أنه قد كشف عنه العقل. والوجه في ذلك واضح، وهو: أن كلا من
الواجبين واجد للملاك في ظرف القدرة عليه عقلا وشرعا، وأما إذا وقع التزاحم
بينهما فيكون أحدهما لا بعينه واجدا للملاك دون الآخر.
أو فقل: إن في فرض التزاحم بما أن أحدهما لا بعينه مقدور للمكلف عقلا
وشرعا - لعدم المانع منه لا من قبل العقل ولا من قبل الشرع - فلا محالة يكون
واجدا للملاك الإلزامي، فإذا كان واجدا له فلا مناص من الالتزام بإيجابه، بداهة
أنه لا يجوز للمولى الحكيم أن يرفع اليد عن التكليف به مع فرض كونه واجدا
للملاك بمجرد عجز المكلف عن امتثال كليهما معا. وعليه فلا مناص من الالتزام
بوجوب واحد منهما لا معينا، لاستقلال العقل بقبح ترخيص المولى في تفويت
الملاك الملزم، ونتيجة إيجابه هي التخيير شرعا، أعني به وجوب هذا أو ذاك (2).
وخلاصة ما أفاده (قدس سره) نقطتان:
الأولى: أن أهمية أحد الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
شرعا ليست من المرجحات، فالوظيفة هي التخيير بينهما مطلقا.
الثانية: أن التخيير الثابت بينهما شرعي لا عقلي.

(1) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 276 - 277.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 276 - 277.
273

ولكن كلتا النقطتين خاطئة:
أما النقطة الأولى فيردها: أن مناط تقديم الأهم على المهم في محل الكلام
وترجيحه عليه في مقام المزاحمة لا يكون بملاك أنه واجد للملاك دون غيره
ليقال بعدم إحرازه فيه في هذا المقام، بل هو بمناط آخر.
بيانه: أن المانع عن تقديم الأهم على المهم في المقام لا يخلو من أن يكون
عقليا أو شرعيا، فلا ثالث لهما.
أما المانع العقلي - وهو عدم القدرة عليه تكوينا - فغير موجود بالضرورة، إذ
المفروض أنه مقدور تكوينا ووجدانا، وهذا واضح.
وأما المانع الشرعي - وهو أمر الشارع بصرف القدرة في غيره الموجب
للعجز عن صرفها فيه - فأيضا كذلك، ضرورة أنه لا نعني به إلا أمر الشارع بإتيان
شئ لا يقدر المكلف معه على الإتيان بالأهم في الخارج ومقام الامتثال، فمثل
هذا الأمر لا محالة يكون مانعا عن فعلية الأمر بالأهم، ولكن المفروض - هنا -
عدم أمر من قبل الشارع بصرف القدرة في غير الأهم ليكون مانعا عن فعلية أمره.
فإذا لا مانع من الأخذ بالأهم وتقديمه على المهم أصلا.
وعلى الجملة: فالمهم وإن كان مقدورا عقلا إلا أنه من ناحية مزاحمته مع
الأهم غير مقدور شرعا، وقد عرفت أن القدرة الشرعية دخيلة في متعلقه فلا
يكون الأمر به فعليا بدون تلك القدرة، فإذا لم يكن الأمر المتعلق به فعليا فلا مانع
من فعلية الأمر بالأهم.
ومما ذكرناه ظهر أنه يمكن إحراز الملاك في الأهم، وكونه واجدا له دون
المهم.
والوجه في ذلك: أن الأهم مقدور للمكلف عقلا وشرعا. أما عقلا فواضح.
وأما شرعا فأيضا كذلك، ضرورة أنه لا مانع منه ما عدا تخيل أن الأمر بالمهم مانع،
وقد عرفت أن هذا خيال لم يطابق الواقع، وذلك لاستحالة كون الأمر بالمهم في
حال مزاحمته مع الأمر بالأهم فعليا، ضرورة عدم قدرة المكلف في تلك الحال
274

على امتثاله بحكم الشرع، حيث إنه يوجب تفويت واجب أهم منه. ومن المعلوم
أنه لا يجوز امتثال ما يوجب تفويت ما هو أهم منه بنظر الشرع.
ونتيجة ذلك: هي أنه لا مانع من كون الواجب الأهم واجدا للملاك الملزم في
هذا الحال، لا عقلا ولا شرعا.
وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن وجود الملاك في كل منهما مشكوك
فيه، لصلاحية كل واحد منهما لأن يكون رافعا لملاك الآخر، من دون فرق بين
تساوي الملاكين، وكون أحدهما أهم من الآخر لا يمكن المساعدة عليه بوجه،
وذلك لما عرفت من الضابط لتقديم الأهم على المهم في المقام من ناحية، وكونه
واجدا للملاك من ناحية أخرى وإن كانت الناحية الأولى مترتبة على الناحية
الثانية كما هو واضح. هذا تمام الكلام فيما إذا كان أحدهما معلوم الأهمية.
وأما إذا كان محتمل الأهمية فهل يتقدم في مقام المزاحمة على الطرف الآخر
الذي لا تحتمل أهميته أصلا كما هو الحال فيما إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة
عقلا أم لا؟ وجهان، الظاهر أنه لا مانع من التقديم.
والوجه في ذلك: هو أن المكلف بعدما لا يتمكن من امتثال كلا الواجبين معا
ويتمكن من امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة يدور أمره بين امتثال أحدهما
تخييرا، وامتثال خصوص ما تحتمل أهميته.
وعليه فيدخل المقام في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام
الامتثال، وقد ذكرنا في غير مورد: أن في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في
غير مقام الامتثال والحجية وإن كان الصحيح هو جريان البراءة عن التعيين إلا أن
في هذين المقامين لا مناص من الاشتغال والالتزام بالتعيين، وذلك لأن حصول
البراءة بامتثال ما تحتمل أهميته معلوم: إما من جهة التعيين، أو التخيير. وأما
حصولها بامتثال مالا تحتمل أهميته فغير معلوم (1).

(1) منها: ما تقدم في ج 2 ص 249 فراجع.
275

ومن الواضح جدا أن العقل لا يكتفي في مقام الامتثال بالشك فيه بعد اليقين
بالتكليف، بل يلزم بتحصيل اليقين بالبراءة عنه بقاعدة " أن الاشتغال اليقيني
يقتضي الفراغ اليقيني "، وكذا الحال في مقام الحجية، فإن حجية ما يحتمل تعيينه
معلومة، ولا مناص من الالتزام به، وحجية مالا يحتمل تعيينه مشكوكة. وقد حققنا
أن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فعلا، وهذا هو السر في افتراق هذين
المقامين عن غيرهما.
ونتيجة ما ذكرناه لحد الآن: هي أن الأهم وكذا محتمل الأهمية من المرجحات
في المقام، كما أنهما من المرجحات في الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما
مشروطا بالقدرة عقلا فحسب.
وأما النقطة الثانية فيردها: أن المفروض قدرة المكلف على امتثال كل من
الواجبين المتزاحمين في نفسه، وفي ظرف ترك الآخر عقلا وشرعا. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الشارع لم يأمر بخصوص أحدهما المعين، لأنه
ترجيح من دون مرجح.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا مانع من أمر الشارع بكليهما
طولا وعلى نحو الترتب، بأن يكون تعلق الأمر بكل منهما مشروطا بعدم الإتيان
بالآخر ومترتبا عليه، بل لا مناص من الالتزام بذلك.
والوجه فيه: هو أن الأمر في المقام يدور بين أن يرفع اليد عن إطلاق كل من
دليليهما بتقييد الأمر في كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق الآخر، وأن يرفع اليد عن
أصل وجوب كل منهما رأسا. ومن المعلوم أن المتعين هو الأول دون الثاني،
ضرورة أن رفع اليد عن أصل الأمر بهما بلا سبب، إذ أنه لا يقتضي أزيد من رفع
اليد عن إطلاق كل منهما مع التحفظ على أصله.
ونتيجة ذلك: هي الالتزام بالترتب من الجانبين، بمعنى أن تعلق الأمر بكل من
الفعلين مشروط بعدم الإتيان بمتعلق الآخر، ولا مانع من ذلك أصلا، لا عقلا كما
276

هو واضح، إذ المفروض أن كلا منهما مقدور عقلا في ظرف ترك امتثال الآخر
والإتيان بمتعلقه. ولا شرعا، لفرض أنه ليس هناك أي مانع شرعي عن تعلق الأمر
بكل واحد منهما في نفسه وفي ظرف ترك الآخر، إذ المفروض أن كلا من الفعلين
في ذاته - ومع قطع النظر عن الآخر - سائغ، ومعه لا مانع من تعلق الأمر بهما
كذلك، وبه نستكشف وجود الملاك في كل منهما في نفسه، وعند ترك الآخر.
وعلى الجملة: فقد ذكرنا سابقا أنه لا فرق في جريان الترتب بين ما يكون كل
من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا، وما يكون مشروطا بها شرعا، فكما أنه
يجري في الأول فكذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة (1).
ودعوى: أن جريان الترتب في مورد يتوقف على إحراز الملاك فيه - وهو
في المقام لا يمكن، لفرض دخل القدرة الشرعية فيه - مدفوعة بما ذكرناه هناك
من أن جريان الترتب لا يتوقف عليه، ضرورة أن إحرازه لا يمكن إلا بعد إثبات
الأمر، فلو توقف إثبات الأمر على إحرازه لدار، كما قدمناه بشكل واضح (2).
فتحصل: أنه لا مانع من الالتزام بالترتب هنا. وقد تقدم أنه لا فرق في إمكان
الترتب واستحالته بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين (3).
وأما عدم التزام شيخنا الأستاذ (قدس سره) به في المقام مع أنه من القائلين به مطلقا
من دون فرق بين أن يكون من طرف أو من طرفين فمن جهة ما بنى (قدس سره) على أصل
فاسد، وهو: أن الترتب لا يجري فيما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية،
كما عرفت.
وعلى هذا الأساس يترتب أن التخيير بينهما تخيير عقلي، كالتخيير بين
الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا، فإن المكلف بعدما لا
يتمكن من امتثال كلا التكليفين معا فلا محالة يكون مخيرا بين امتثال هذا وامتثال
ذاك بحكم العقل، فلا موضوع عندئذ للتخيير الشرعي أصلا.

(1) تقدم في ص 98 - 99.
(2) تقدم في ص 98 - 99.
(3) سبق ذكره في ص 165.
277

وتظهر الثمرة في المقام بين كون التخيير شرعيا وكونه عقليا فيما إذا كان
المكلف تاركا لامتثال كلا الواجبين معا، فإنه على الأول يستحق عقابا واحدا،
لوحدة التكليف على الفرض. وعلى الثاني يستحق عقابين، لما عرفت من أن لازم
القول بالترتب هو تعدد العقاب من جهة تعدد التكليف (1).
وقد ذكرنا: أنه لا مانع من الالتزام بتعدد العقاب، بل لا مناص عنه، وأنه لا
يكون عقابا على ترك ما ليس بالاختيار، فإن تعدد العقاب من جهة الجمع بين
التركين، لا من جهة ترك الجمع بينهما، وقد مر بيان ذلك بصورة واضحة فلا حاجة
إلى الإعادة.
وأما القسم الثالث - وهو ما إذا كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا -
فيقع الكلام فيه في مقامين:
الأول: فيما إذا كان أحد التكليفين أهم من الآخر، أو محتمل الأهمية.
الثاني: فيما إذا كانا متساويين.
أما المقام الأول فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم، سواء كان الأهم
مقارنا مع المهم زمانا، أو سابقا عليه، أو متأخرا عنه.
أما في الأوليين فواضح، وذلك لأن التكليف بالأهم يصلح أن يكون معجزا
مولويا للمكلف، بالإضافة إلى الطرف الآخر وهو المهم. وأما التكليف بالمهم فلا
يصلح أن يكون كذلك، فتكون نسبته إلى الأهم كنسبة المستحب إلى الواجب،
فكما أن المستحب لا يصلح أن يزاحم الواجب في مقام الامتثال فكذلك المهم
لا يصلح أن يزاحم الأهم.
أو فقل: إن التزاحم سواء أكان بين التكليفين أم بين الإطلاقين فلا محالة
يوجب سقوط أحدهما دون الآخر، إذ سقوط كليهما غير محتمل، ضرورة أنه بلا
موجب. وعليه فيدور الأمر بين سقوط المهم دون الأهم، وبالعكس، ومن الواضح
جدا أن الثاني غير معقول، لأنه ترجيح المرجوح على الراجح، فإذا يتعين الأول،

(1) مر ذكره في ص 144 - 145.
278

وهذا معنى تقديم الأهم على المهم. وأمثلة ذلك في الشرع والعرف كثيرة:
منها: ما إذا دار الأمر بين حفظ بيضة الإسلام - مثلا - وواجب آخر، فلا
إشكال في تقديم الأول على الثاني في مقام الامتثال.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين حفظ نفس مؤمن - مثلا - وحفظ ماله أو نحوه فلا
ينبغي الشك في تقديم الأول على الثاني، لكونه أهم منه، وهكذا...
وأما في الصورة الأخيرة فالأمر أيضا كذلك. والوجه فيه: هو أن الأهم وإن
كان متأخرا عن المهم زمانا إلا أن ملاكه بما أنه تام في ظرفه وأهم من غيره فلا
محالة وجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلا يفوت، ضرورة أن العقل كما يستقل
بقبح تفويت الواجب الفعلي كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه.
وعلى هذا حيث إن الإتيان بالمهم فعلا يوجب تفويت ملاك الأهم في ظرفه
فلا يجوز، فيكون حكم العقل بوجوب حفظ القدرة عليه في زمانه معجزا للمكلف
بالإضافة إلى امتثال المهم بالفعل.
وبتعبير ثان: أن الحاكم بالترجيح في باب المزاحمة حيث إنه كان هو العقل لا
غيره فمن الواضح جدا أنه مستقل بتقديم الأهم على المهم في مقام الامتثال
مطلقا، ولو كان الأهم متأخرا عنه زمانا - كما في مفروض المقام - فإنه يحكم
بلزوم حفظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لئلا يلزم منه تفويت الملاك الملزم فيه،
ولا يحكم بلزوم الإتيان بالمهم فعلا، بل يحكم بعدم جواز الإتيان به، لاستلزامه
تفويت ما هو الأهم منه.
ومثاله: ما إذا دار الأمر بين حفظ مال الإنسان - مثلا - فعلا وحفظ نفسه في
زمان متأخر، بأن لا يقدر على حفظ كليهما معا، فلو صرف قدرته في حفظ ماله
فعلا فلا يقدر على حفظ نفسه، ولو عكس فبالعكس، كما إذا فرض أن الحاكم
حكم بمصادرة أمواله فعلا، وهو وإن كان قادرا على حفظ ماله بالشفاعة عنده إلا
أنه يعلم بأنه يحكم بعد بضع ساعات بقتل نفسه، فلو توسط عنده فعلا لحفظ ماله
فلا يقبل توسطه فيما بعد لحفظ نفسه، لفرض أنه لا يقبل توسطه في اليوم إلا مرة
279

واحدة، فإذا يدور أمره بين أن يحفظ نفسه في زمان متأخر ويرفع يده عن حفظ
ماله فعلا، وأن يحفظ ماله فعلا ويرفع يده عن حفظ نفسه فيما بعد، ففي مثل ذلك لا
إشكال في حكم العقل بترجيح الأول على الثاني وتقديمه عليه. وكذا إذا دار الأمر
بين امتثال واجب فعلي آخر وحفظ نفس محترمة في زمان متأخر بأن لا يقدر
المكلف على امتثال الأول وحفظ الثانية معا، فإنه لا إشكال في وجوب حفظ
القدرة على الواجب المتأخر، وهو حفظ النفس المحترمة ورفع اليد عن وجوب
الواجب الفعلي، وهكذا...
ثم إنه لا يخفى أن ما ذكرناه من تقديم الواجب الأهم على المهم فيما إذا كان
متأخرا عنه زمانا بناء على وجهة نظرنا من إمكان الواجب المعلق واضح، حيث
إن الوجوب فعلي على الفرض، والواجب أمر متأخر. ومن المعلوم أن فعلية
الوجوب تكشف عن كون الواجب في ظرفه واجدا للملاك الملزم. وقد عرفت أنه
لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الإلزامي، فكما
أنه يحكم بقبح الأول فكذلك يحكم بقبح الثاني.
وعلى ذلك فإن لم يكن ملاك الواجب المتأخر في ظرفه أهم من ملاك
الواجب الفعلي وكانا متساويين فيحكم العقل بالتخيير بينهما، وعدم ترجيح
الواجب الفعلي على المتأخر، لعدم العبرة بالسبق الزماني في المقام أصلا.
وما ذكرناه سابقا من أن ما هو أسبق زمانا يتقدم على غيره (1) إنما هو فيما إذا
كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا، لا فيما إذا كان
مشروطا بها عقلا. ونقطة الفرق بينهما: هي أنه على الأول بما أن كلا منهما مشروط
بالقدرة شرعا ففي فرض المزاحمة لا مناص من الأخذ بما هو سابق زمانا على
الآخر، حيث إن ملاكه تام بالفعل من ناحية أنه مقدور للمكلف عقلا وشرعا، ومعه
لا عذر له في تركه أصلا. هذا من ناحية.

(1) تقدم في ص 250.
280

ومن ناحية أخرى: أنه لا يجب احتفاظ القدرة على الواجب المتأخر، لفرض
أن القدرة دخيلة في ملاكه فيستحيل أن يقتضي احتفاظها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لابد من الإتيان بالمتقدم زمانا
دون المتأخر. ومن الواضح أن الإتيان به يوجب عجزه عنه، فيكون التكليف به
منتفيا بانتفاء موضوعه وهو القدرة.
وعلى الثاني بما أن كلا منهما مشروط بالقدرة عقلا فلا يكون سبق أحدهما
زمانا على الآخر في فرض المزاحمة من المرجحات، لما عرفت من أن ملاك
الواجب المتأخر حيث إنه تام في ظرفه - كما هو المفروض - فلا محالة يقتضي
الاحتفاظ عليه في ظرفه في مقابل اقتضاء الواجب الفعلي.
وأما بناء على وجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) من استحالة الواجب التعليقي
وعدم إمكانه فتقديم الأهم على المهم إذا كان متأخرا عنه زمانا يرتكز على إحراز
الملاك فيه في ظرفه من دليل خارجي، فإن علم من الخارج اشتماله على الملاك -
كما إذا دار الأمر بين امتثال واجب فعلي كحفظ مال المولى - مثلا - وواجب
متأخر كحفظ نفسه أو حفظ بيضة الإسلام، أو ما شاكل ذلك من الواجبات التي قد
اهتم الشارع بها غاية الاهتمام على نحو الإطلاق من دون اختصاص بوقت دون
آخر - فلا إشكال في تقديم الأهم على المهم وإن كان متأخرا عنه زمانا، لتمامية
ملاكه الإلزامي في وقته. وقد عرفت استقلال العقل باحتفاظ القدرة عليه في
ظرفه، وعدم جواز صرفها في الواجب الفعلي، ففي أمثال هذه الموارد لا فرق بين
نظريتنا ونظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره)، ضرورة أنه لا أثر لفعلية الوجوب ما عدا كشفه
عن اشتماله - أي الواجب المتأخر - على الملاك في ظرفه، وإذا علمنا بتحقق
الملاك فيه واشتماله عليه فلا أثر لفعلية الوجوب وعدمها.
وأما إذا لم يعلم من الخارج بوجود الملاك فيه - كما إذا لم تكن قرينة
خارجية تدل عليه، والمفروض أنه ليس هنا قرينة داخلية أيضا وهي ثبوت
الوجوب - فلا يمكن عندئذ استكشاف الملاك في شئ، لما ذكرناه غير مرة من
281

أنه لا طريق لنا إلى إحراز الملاك في فعل مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له (1)، فلا
وجه لتقديمه على الواجب الفعلي، ضرورة أنه مع عدم إحراز الملاك فيه في ظرفه
لا يحكم العقل باحتفاظ القدرة عليه، وبدون حكمه فلا مانع من امتثال الواجب
الفعلي أصلا، ففي مثل تلك الموارد تفترق نظريتنا عن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره).
فعلى نظريتنا بما أن الوجوب فعلي والواجب أمر متأخر فهو لا محالة يكشف
عن وجود الملاك فيه وكونه تاما، وإلا لم يعقل كون وجوبه فعليا.
وعلى نظريته (قدس سره) حيث إنه لا وجوب فعلا فلا كاشف عن كونه واجدا للملاك
في وقته، وعليه فلا وجه لتقديمه على المهم وهو الواجب الفعلي.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن تقديم الأهم على المهم إذا كان متأخرا عنه زمانا
منوط - على نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) - بإحراز الملاك فيه من الخارج، وإلا فلا
يمكن الحكم بالتقديم أصلا، بل يتعين العكس كما لا يخفى.
وكيف كان فعلى فرض كونه مشتملا على الملاك في ظرفه يتقدم على المهم لا
محالة ولو كان متأخرا عنه زمانا. وكلامنا في المقام على نحو الفرض والتقدير.
والكبرى الكلية من دون نظر إلى مصاديقها وأفرادها.
هذا، ولكن شيخنا الأستاذ (قدس سره) هنا قد مثل لذلك - أي لتزاحم الواجبين
الطوليين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا - بما إذا لم يكن المكلف متمكنا
من القيام في جزءين طوليين من الصلاة (2).
ولا يخفى ما في هذا المثال:
أما أولا فلما ذكرناه غير مرة من أن التزاحم لا يجري في أجزاء واجب واحد
أو شرائطه (3).
وأما ثانيا فلأنه مناف لما ذكره (قدس سره) من اشتراط أجزاء الصلاة بالقدرة شرعا (4).

(1) منها: ما تقدم في ص 69.
(2) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 333.
(3) منها: ما تقدم في ص 111.
(4) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 327، حيث قال: كل ما له البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية.
282

وعليه فلا مناص من تقديم ما هو أسبق زمانا على غيره ولو كان ذلك الغير أهم
منه، كما عرفت (1).
فالنتيجة قد أصبحت لحد الآن: أن الواجب الأهم يتقدم في مقام المزاحمة
على المهم مطلقا ولو كان متأخرا عنه زمانا فيما إذا كان مشروطا بالقدرة عقلا،
سواء أكان المهم أيضا كذلك أم لا. نعم، إذا كان الأهم مشروطا بالقدرة شرعا فلا
يتقدم على المهم في فرض تأخره عنه زمانا، بل يتقدم المهم عليه ولو كان
مشروطا بها شرعا.
وأما إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين محتمل الأهمية دون الآخر فهل
يكون مرجحا لتقديمه عليه أم لا؟
فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أنه بناء على القول بالتخيير الشرعي في
المتساويين يكون المقام داخلا في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير
الشرعيين التي ذكرناها في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
فإن قلنا في تلك المسألة بالاشتغال والتعيين فلابد أن نقول به في هذه
المسألة أيضا.
وإن قلنا هناك بالبراءة والتخيير فلابد أن نقول به في المقام أيضا.
وعلى الجملة: فمسألتنا هذه من صغريات كبرى تلك المسألة، فيبتنى الحكم
فيها على الحكم في تلك من البراءة أو الاشتغال.
وأما بناء على القول بالتخيير العقلي في المتساويين فقد ذكر (قدس سره): أنه
لا إشكال في تقديم ما تحتمل أهميته على غيره (2).
والوجه في ذلك: هو أن التكليفين المتزاحمين إذا كانا متساويين فلا إشكال
في سقوط إطلاقيهما وحكم العقل بالتخيير بينهما، بمعنى حكمه بثبوت كل واحد
منهما مترتبا على ترك الآخر، وعدم الإتيان بمتعلقه بناء على ما حققناه من إمكان
الترتب وجوازه، من دون فرق بين أن يكون من جانب واحد أو من جانبين

(1) تقدم في ص 250.
(2) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 279 - 280.
283

كما في مثل المقام، ضرورة أن العقل لا يجوز رفع اليد عن أصل التكليفين معا،
فإنه بلا موجب ومقتض. ومن الواضح أنه لا يجوز رفع اليد عن التكليف بلا سبب
يقتضي رفعه، فالمقتضي - وهو المزاحمة - في المقام لا يقتضي إلا رفع اليد عن
ثبوت كل منهما على تقدير الإتيان بالآخر، لا مطلقا، وهذا عبارة أخرى عن
ثبوت كل منهما على تقدير ترك الآخر، ويرتب على ذلك أن المكلف مخير بين
امتثال هذا وامتثال ذاك.
وأما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر ففي مثل ذلك لا شبهة في أن
الإتيان بالطرف المحتمل أهميته يوجب القطع بسقوط التكليف عن الطرف الآخر،
وذلك لأن ما أتى به على تقدير كونه أهم في الواقع ونفس الأمر فهو الواجب دون
غيره، وعلى تقدير كونه مساويا له فهو مصداق للواجب لا محالة.
وإن شئت قلت: إنه بناء على التخيير العقلي عند تزاحم الواجبين المتساويين
والالتزام بالترتب من الجانبين إذا علم أهمية أحدهما دون الآخر فقد علمنا
بسقوط الإطلاق عن الآخر، وباشتراطه بعدم الإتيان بمتعلق الأول. وأما ما يحتمل
أهميته فلم يحرز سقوط إطلاقه فلابد من الأخذ به.
وهذا هو أساس تقديم محتمل الأهمية على غيره في مقام المزاحمة.
إلى هنا قد تم بيان ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منا.
ونناقش ما أفاده (قدس سره) من ناحيتين:
الأولى: أنه لا تظهر الثمرة فيما نحن فيه بين القول بالتخيير الشرعي في
المتساويين، والقول بالتخيير العقلي فيهما على وجهة نظره (قدس سره) في مسألة دوران
الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين، حيث إنه (قدس سره) قد التزم في تلك المسألة
بالاحتياط، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة على ما نطق به كلامه في مسألة الأقل
والأكثر الارتباطيين (1). وبما أن مسألتنا هذه على الفرض الأول داخلة في كبرى

(1) راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 426، و ج 4 ص 205، وأجود التقريرات: ج 2 ص 297.
284

تلك المسألة فلا مناص له من الالتزام بالاحتياط فيها، ولزوم الأخذ بالطرف
المحتمل أهميته.
وعليه فالنتيجة على هذا القول بعينها هي النتيجة على القول بالتخيير العقلي،
وهي: تعين الأخذ بالطرف المحتمل أهميته دون الطرف الآخر. فإذا لا فرق بين
القولين من هذه الناحية أصلا.
الثانية: أن المقام على القول المزبور - أعني القول بالتخيير الشرعي في
المتساويين - وإن كان داخلا في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير
الشرعيين إلا أن التعيين والتخيير في خصوص المقام حيث إنهما كانا في مقام
التزاحم والامتثال فلا مناص من الإلتزام بعدم جريان البراءة عن التعيين ووجوب
الأخذ به وإن قلنا بجريان البراءة في تلك الكبرى، كما فصلنا الكلام من هذه
الناحية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين (1).
وتوضيح ذلك: هو أن مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير تنقسم إلى
ثلاثة أقسام:
الأول: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام جعل الحجية وإنشائها
في مرحلة التشريع والاعتبار، كما لو شككنا في أن حجية فتوى الأعلم هل هي
تعيينية أو أن المكلف مخير بين الأخذ به والأخذ بفتوى غير الأعلم؟
الثاني: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال والفعلية من
جهة التزاحم.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع
فلا يعلم أن التكليف مجعول للجامع بلا أخذ خصوصية فيه أو مجعول لحصة
خاصة منه، كما لو شككنا في أن وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة هل هو
تعييني أو تخييري؟
وبعد ذلك نقول: إنا قد ذكرنا في غير مورد أن البراءة لا تجري في القسمين

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 448.
285

الأولين، ولابد فيهما من الالتزام بوجوب الاحتياط. وأما في القسم الأخير
فالصحيح هو جريان البراءة فيه (1)، فهاهنا دعويان:
الأولى: عدم جريان أصالة البراءة في القسمين الأولين.
الثانية: جريان البراءة في القسم الأخير.
أما الدعوى الأولى فقد ذكرنا غير مرة: أن الشك في حجية شئ في مقام
الجعل والتشريع مساوق للقطع بعدم حجيته فعلا، ضرورة أنه مع هذا الشك لا
يمكن ترتيب آثار الحجة عليه، وهي إسناد مؤداه إلى الشارع والاستناد إليه في
مقام الجعل، للقطع بعدم جواز ذلك، لأنه تشريع محرم. ومن المعلوم أنا لا نعني
بالحجية الفعلية إلا ترتيب تلك الآثار عليها (2)، وعليه فإذا دار الأمر بين حجية
شئ - كفتوى الأعلم مثلا - تعيينا وحجيته تخييرا فلا مناص من الأخذ به، وطرح
الطرف الآخر للقطع بحجيته واعتباره فعلا إما تعيينا أو تخييرا، والشك في حجية
الآخر - كفتوى غير الأعلم - واعتباره. وقد عرفت أن الشك في الحجية مساوق
للقطع بعدمها، وهذا واضح.
وكذا الحال في مقام الامتثال، فإنه إذا دار الأمر بين امتثال شئ تعيينا
أو تخييرا فلا مناص من التعيين والأخذ بالطرف المحتمل تعيينه، ضرورة أن
الإتيان به يوجب القطع بالأمن من العقاب واليقين بالبراءة، وذلك لأنه على تقدير
كونه أهم من الآخر فهو الواجب، وعلى تقدير كونه مساويا له فهو مصداق
للواجب وأحد فرديه. ومن المعلوم أن الإتيان به كاف في مقام الامتثال، وهذا
بخلاف الطرف الذي لا تحتمل أهميته أصلا، فإن الإتيان به لا يوجب القطع
بالبراءة والأمن من العقاب، لاحتمال أن لا يكون واجبا في الواقع - أصلا -
وانحصار الوجوب بالطرف الأول.

(1) منها: ما تقدم في ص 275، وراجع مصباح الأصول: ج 2 ص 449.
(2) منها: ما في مصباح الأصول: ج 2 ص 111.
286

ومن الواضح جدا أن العقل يستقل في مرحلة الامتثال بلزوم تحصيل اليقين
بالبراءة والأمن من العقوبة بقانون " أن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية "،
وبما أن المفروض في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال
اشتغال ذمة المكلف بالواجب فيجب عليه بحكم العقل تحصيل البراءة عنه والأمن
من العقوبة، وحيث إنه لا يمكن إلا بإتيان الطرف المحتمل أهميته فلا محالة ألزمه
العقل بالأخذ به وإتيانه. وهذا معنى حكم العقل بالتعيين، وعدم جواز الرجوع إلى
البراءة في مسألة التعيين والتخيير في مرحلة الامتثال والفعلية.
وبتعبير واضح: أن دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال
والفعلية منحصر بباب التزاحم بين التكليفين لا غير، ومن الواضح أن المزاحمة
- بناء على ما حققناه من إمكان الترتب - لا تقتضي إلا سقوط إطلاق أحدهما إذا
كان في البين ترجيح، وسقوط إطلاق كليهما إذا لم يكن ترجيح في البين.
وعلى هذا الأساس أنه إذا كان أحد التكليفين المتزاحمين معلوم الأهمية فلا
إشكال في تقديمه على الآخر كما سبق. وأما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية دون
الآخر فيدور أمر المكلف بين الإتيان به والإتيان بالطرف الآخر، ولكنه إذا أتى به
مأمون من العقاب، ومعذور في ترك الآخر، وذلك لأن جواز الإتيان بهذا الطرف
معلوم على كل تقدير، أي سواء أكان أهم في الواقع أم كان مساويا له، وبالطرف
الآخر غير معلوم. ومن الواضح جدا أن العقل يلزم بامتثال هذا الطرف وإتيانه،
لأنه يوجب الأمن من العقاب على تقدير مخالفة الواقع، وحصول القطع بالبراءة
دون الإتيان بذاك الطرف، لاحتمال أنه غير واجب في الواقع، وانحصار الوجوب
بالطرف المزبور، ومعه لا يكون الإتيان به موجبا لحصول القطع بالبراءة. وقد
عرفت أن هم العقل في مقام الامتثال تحصيل الأمن من العقوبة والقطع بالفراغ.
ونظير المقام: ما إذا شك في البراءة من جهة الشك في القدرة على الامتثال،
كما إذا شك في وجوب النفقة من جهة الشك في وجود المال عنده وأنه قادر على
287

دفعها أم لا؟ فلا يمكن له أن يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوبها، وذلك لأن
المفروض أن ذمته قد اشتغلت بوجوب النفقة. ومن الواضح أن " الاشتغال اليقيني
يقتضي الفراغ اليقيني ". فإذا لا يمكن حصول البراءة إلا بالفحص والاستعلام عن
وجود المال عنده.
والوجه فيه: هو أن مجرد احتمال كونه عاجزا عن امتثال التكليف الثابت
على ذمته لا يكون عذرا له في تركه وعدم امتثاله عند العقل ما لم يحرز عجزه عنه
وعدم قدرته عليه، ضرورة أن ترك امتثال التكليف لابد أن يستند إلى مؤمن، ومن
المعلوم أن مجرد احتمال العجز لا يكون مؤمنا، فإذا لا مناص من الأخذ
بالاحتياط.
فقد تحصل مما ذكرناه: أنه بناء على وجهة نظرنا أيضا لا تظهر الثمرة بين
القول بالتخيير الشرعي في المتساويين، والقول بالتخيير العقلي فيهما، فعلى كلا
القولين لا مناص من الاحتياط والأخذ بالطرف المحتمل أهميته.
غاية الأمر: بناء على التخيير العقلي سقوط أحد الإطلاقين معلوم، وسقوط
الآخر مشكوك فيه، ومع الشك لابد من الأخذ به. وبناء على التخيير الشرعي
سقوط أحد التكليفين معلوم، وسقوط الآخر مشكوك فيه، وما لم يثبت سقوطه
لا يعذر من مخالفته، ولكن النتيجة واحدة.
وأما الدعوى الثانية - وهي جريان البراءة في القسم الأخير من الأقسام
المتقدمة - فلأن الشك فيه يرجع إلى الشك في كيفية جعل التكليف، وأنه تعلق
بالجامع أو بخصوص فرد خاص، كما لو شككنا في أن وجوب كفارة الإفطار
العمدي في شهر رمضان متعلق بالجامع بين صوم شهرين متتابعين وإطعام ستين
مسكينا، أو متعلق بخصوص صوم شهرين، وحيث إن مرجع ذلك إلى الشك في
إطلاق التكليف، وعدم أخذ خصوصية في متعلقه، وتقييده بأخذ خصوصية فيه،
والإطلاق والتقييد على ما ذكرناه وإن كانا متقابلين بتقابل التضاد إلا أن التقييد
288

بما أن فيه كلفة زائدة فهي مدفوعة بأصالة البراءة عقلا ونقلا. وهذا بخلاف
الإطلاق، حيث إنه ليس فيه أية كلفة لتدفع بأصالة البراءة، فإذا ينحل العلم
الإجمالي بجريان الأصل في أحد طرفيه دون الآخر. وتفصيل الكلام في ذلك
في بحث البراءة والاشتغال (1).
والغرض من التعرض هنا: الإشارة إلى عدم صحة ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره)
من الأخذ بالاحتياط في دوران الأمر بين التعيين والتخيير مطلقا.
وأما المقام الثاني (2) - وهو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين ولم
تحتمل أهمية أحدهما على الآخر أصلا، أو احتملت أهمية كل منهما بالإضافة إلى
الآخر - فلا مناص من الالتزام بالتخيير فيه، ضرورة أنه لا يجوز رفع اليد عن
كليهما معا، فهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في أن هذا التخيير عقلي أو شرعي.
وقد اختار شيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام أن التخيير عقلي على عكس ما
اختاره في المسألة المتقدمة (3)، وهي: ما إذا كان كل من الواجبين المتزاحمين
مشروطا بالقدرة شرعا.
وغير خفي أن كون التخيير في المقام عقليا أو شرعيا يرتكز على القول
بإمكان الترتب واستحالته.
فعلى الفرض الأول لابد من القول بكون التخيير عقليا.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن لازم هذا الفرض ثبوت كل من التكليفين
المتزاحمين على نحو الترتب والاشتراط، بمعنى أن فعلية كل منهما مشروطة بترك
امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه خارجا، فإن معنى الترتب من الجانبين يرجع
إلى تقييد إطلاق كل من التكليفين بعدم امتثال الآخر.
ومن المعلوم أن هذا التقييد ليس أمرا حادثا بحكم العقل فعلا، بل هو نتيجة
اشتراط التكاليف بالقدرة عقلا من الأول، فإن ذلك الاشتراط يقتضي هذا التقييد

(1) انظر مصباح الأصول: ج 2 ص 449.
(2) قد مر المقام الأول في ص 278.
(3) انظر أجود التقريرات: ج 1 ص 279.
289

من الجانبين إذا كانا متساويين، ومن جانب واحد إذا كان أحدهما واجدا
للترجيح، وليس معنى التخيير - هنا - تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ليقال إنه
غير معقول، ضرورة أنه باق على حاله. غاية الأمر أن المزاحمة تقتضي رفع اليد
عن إطلاقه لا عن أصله، فإن الضرورة تتقدر بقدرها، بل معناه هو تخيير المكلف
في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك، وهذا نتيجة عدم قدرته على امتثال كليهما
معا من جانب، وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر من جانب ثان، وعدم جواز
رفع اليد عنهما معا من جانب ثالث.
وعلى الفرض الثاني لا مناص من الحكم بكون التخيير شرعيا.
والوجه فيه: هو أن لازم هذا الفرض سقوط كلا التكليفين المتزاحمين معا، فلا
هذا ثابت ولا ذاك، ولكن حيث إنا نعلم من الخارج أن الشارع لم يرفع اليد عن
كليهما معا، لأن الموجب لذلك ليس إلا عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في
مقام الامتثال. ومن الواضح جدا أن هذا لا يوجب ذلك، فإن الضرورة تتقدر
بقدرها، وهي لا تقتضي إلا رفع اليد عن أحدهما دون الآخر، لكونه مقدورا له
عقلا وشرعا، وبذلك نستكشف أن الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة، وإلا لزم
أن يفوت غرضه وهو قبيح من الحكيم، وهذا معنى كون التخيير شرعيا.
إلى هنا قد تبين أن التكليفين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
عقلا، فإن كانا عرضيين وكان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية فلا
إشكال في تقديمه عليه. وأما إذا كانا متساويين من جميع الجهات فلا إشكال في
التخيير، كما مر.
وأما إن كانا طوليين: فإن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية
فأيضا يتقدم عليه على تفصيل قد تقدم، فلاحظ.
هذا كله فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر قدرة مطلقة كما هو
المفروض، لا قدرة خاصة.
290

وأما إذا كانت القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل لا
مطلقا - كما لو نذر أحد صوم يومي الخميس والجمعة، ثم علم بأنه لا يقدر على
صوم كلا اليومين معا - ففي مثل ذلك لا إشكال في لزوم تقديم ما هو أسبق زمانا
على الآخر، فيقدم في المثال صوم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة، لكونه
مقدما عليه زمانا، وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر
وتركه في صلاة العصر، أو بين ترك القيام في صلاة المغرب وتركه في صلاة
العشاء بأن لا يقدر المكلف على الإتيان بكلتا الصلاتين مع القيام فيقدم ما هو
أسبق زمانا على الآخر.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن المكلف حيث إنه كان قادرا على الصوم يوم
الخميس والقيام في صلاة الظهر أو المغرب فلا عذر له في تركه أصلا، لفرض أن
وجوبهما فعلي، ولا مانع من فعليته أصلا، ضرورة أن المانع - هنا - ليس إلا
التكليف بالصوم أو القيام في ظرف متأخر. ومن المعلوم أنه لا يصلح أن يكون
مانعا، لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لما عرفت من أن
القدرة المعتبرة فيه إنما هي القدرة في ظرف العمل، لا مطلقا. فإذا كما لا يجب
حفظ القدرة قبل مجئ وقته كذلك لا يجب تحصيلها.
فعلى هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقديم المتقدم زمانا على الآخر، ولا
عذر له في ترك امتثاله باحتفاظ القدرة على امتثال الواجب المتأخر أبدا، لعدم
المقتضي له لذلك أصلا. ففي الأمثلة المزبورة لابد من الإتيان بالصوم يوم
الخميس، وبالقيام في صلاة الظهر أو المغرب، ولا يجوز الاحتفاظ بالقدرة بتركهما
على الصوم يوم الجمعة والقيام في صلاة العصر أو العشاء. ومن المعلوم أنه بعد
الإتيان بالواجب المتقدم يعجز المكلف عن امتثال الواجب المتأخر، فينتفي عندئذ
بانتفاء موضوعه وهو القدرة في ظرفه.
ومن هذا القبيل: ما إذا دار الأمر بين ترك الصوم في العشرة الأولى من شهر
رمضان وتركه في العشرة الثانية - كما إذا فرضنا أن شخصا لا يتمكن من الصوم
291

في كلتا العشرتين معا ولكنه قادر عليه في إحداهما دون الأخرى - فإنه لابد من
تقديم الصوم في العشرة الأولى على الصوم في العشرة الثانية، فإن وجوب الصوم
في العشرة الأولى فعلي بفعلية موضوعه، ولا حالة منتظرة له أبدا، وهذا بخلاف
وجوبه في العشرة الثانية فإنه غير فعلي من جهة عدم فعلية موضوعه، وعليه فلا
عذر له في تركه في الأولى باحتفاظ القدرة عليه في الثانية، ضرورة أن القدرة
المعتبرة على الصوم في كل يوم في ظرفه، فإن كان المكلف قادرا على الصوم في
اليوم الأول أو الثاني فهو مكلف به، وإلا فلا تكليف به أصلا، ولا يجوز له
الاحتفاظ بالقدرة بترك الصوم في اليوم الأول على الصوم في اليوم الثاني، بل لابد
له من الإتيان به في اليوم الأول، فإن تمكن منه بعده في اليوم الثاني أيضا فهو،
وإلا فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة.
وكذا الحال في المثال المزبور، فإنه لابد من الإتيان بالصوم في العشرة
الأولى، فإن تمكن بعده من الإتيان به في العشرة الثانية أيضا فهو، وإلا فينتفي
التكليف به بانتفاء موضوعه وهو القدرة في ظرفه، ولا يجوز له حفظ القدرة على
الصوم في الثانية بتركه في الأولى، ولو فعل ذلك كان معاقبا عليه، لأنه ترك
التكليف الفعلي من دون عذر، وحينئذ - أي حين تركه في الأولى - وجب عليه في
الثانية لا محالة، لقدرته عليه فعلا، ولا عذر له في تركه أصلا، فلو تركه كان معاقبا
عليه أيضا.
فالنتيجة: أنه لو ترك الصوم في العشرة الأولى والثانية معا يستحق عقابين،
وهذا ليس عقابا على ما هو خارج عن الاختيار والقدرة ليكون قبيحا من الحكيم،
فإن استحقاقهما إنما هو على الجمع بين تركه في الأولى وتركه في الثانية، وهو
مقدور له بالوجدان، ولا يكون العقاب عليه من العقاب على ما ليس بالاختيار.
نظير ما ذكرناه في بحث الترتب من أن المكلف عند ترك الأهم والمهم معا يستحق
عقابين، وقلنا هناك: إن هذا لا يكون عقابا على ما ليس بالاختيار، لأنه على
الجمع بين التركين، وهو مقدور له بالبداهة، لا على ترك الجمع بينهما ليكون غير
292

مقدور كما تقدم. وفيما نحن فيه تعدد العقاب عند ترك كلا الواجبين من جهة
الجمع بين التركين، لا من جهة ترك الجمع بينهما ليكون عقابا على غير مقدور،
وهذا واضح.
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا مسوغ للمكلف في أن يترك الصوم في العشرة
الأولى ويحفظ قدرته عليه في العشرة الثانية أو الأخيرة، بل لابد له من الإتيان به
في الأولى، ومعه يعجز عن الإتيان به في الثانية.
ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك الطهارة المائية في الظهرين
وتركها في العشاءين، كما إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي بكلتيهما معا، فلو
صرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين فلا يبقى للعشاءين، وإن احتفظ به للعشاءين
فلا يتمكن من الإتيان بالظهرين مع الوضوء أو الغسل.
والوجه فيه واضح، وهو: أن المكلف واجد للماء فعلا بالإضافة إلى صلاتي
الظهرين. وقد ذكرنا: أن المراد من وجدان الماء في الآية المباركة هو الوجدان
بالإضافة إلى الصلاة المكلف بها فعلا، لا مطلقا. كما أن المراد من عدم الوجدان
فيها ذلك (1)، والمفروض - هنا - أن المكلف واجد للماء بالإضافة إلى صلاتي
الظهرين المكلف بهما فعلا، فيكون مشمولا لقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم...) * (2) إلى آخر الآية. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن الوجدان المعتبر في توجه التكليف بالصلاة هو الوجدان
في وقتها، فلا أثر للوجدان قبله، ولا يكون الوجدان قبل الوقت موجبا لتوجه
التكليف بالصلاة إليه فعلا، ضرورة أنه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أنه مكلف بصلاتي الظهرين مع
الطهارة المائية لكونه واجدا للماء، ووظيفة الواجد هي الطهارة المائية، لا غيرها،
ولا يكون مكلفا بالعشاءين فعلا، لعدم دخول وقتهما، فإنه لا أثر لوجدانه الماء
بالإضافة إليهما، والمفروض: أنه بعد الإتيان بالظهرين يصير فاقدا للماء، ووظيفة

(1) تقدم في ص 241.
(2) المائدة: 6.
293

الفاقد هي الطهارة الترابية دون غيرها. وعلى هذا فلا مسوغ لترك صلاتي الظهرين
مع الطهارة المائية والإتيان بهما مع الطهارة الترابية ليحتفظ بالماء لصلاتي
العشاءين، لما عرفت من عدم المقتضي للحفظ أصلا، بل المقتضي لصرفه في
الوضوء أو الغسل للظهرين موجود، وهو فعلية التكليف بهما مع الطهارة المائية.
وكذا الحال في بقية الأجزاء والشرائط، فلو دار الأمر بين ترك جزء أو شرط
كالقيام أو نحوه في صلاة الظهر - مثلا - وتركه في صلاة المغرب فالأمر كما تقدم،
بمعنى أن وظيفته الفعلية تقتضي الإتيان بصلاة الظهر قائما، ولا يجوز له ترك القيام
فيها بحفظ القدرة عليه لصلاة المغرب، بل - في الحقيقة - لا مزاحمة في البين،
ضرورة أن المزاحمة إنما تعقل بين التكليفين الفعليين ليكون لكل منهما اقتضاء
للإتيان بمتعلقه في الخارج.
وأما إذا كان أحدهما فعليا دون الآخر فلا اقتضاء لما لا يكون فعليا. ومن
المعلوم أن مالا اقتضاء فيه لا يعقل أن يزاحم ما فيه الاقتضاء. هذا كله فيما إذا كان
أحد الواجبين المزبورين فعليا دون الواجب الآخر.
وأما إذا كان وجوب كليهما فعليا كصلاتي الظهرين - مثلا - أو العشاءين بعد
دخول وقتهما فهل الأمر أيضا كذلك أم لا؟ وجهان، الصحيح هو الوجه الأول.
بيان ذلك: هو أنا إذا فرضنا أن الأمر يدور بين الطهارة المائية - مثلا - في
صلاة الظهر والطهارة المائية في صلاة العصر، أو بين الطهارة المائية في صلاة
المغرب والطهارة المائية في صلاة العشاء بأن لا يتمكن المكلف من الجمع بين
هاتين الصلاتين مع الطهارة المائية ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بتقديم
صلاة الظهر مع الطهارة المائية على صلاة العصر، أو المغرب على العشاء، ولا
تجوز المحافظة عليها لصلاة العصر أو العشاء بتركها في صلاة الظهر أو المغرب.
والوجه فيه: هو أن وظيفة المكلف فعلا هي الإتيان بصلاة الظهر فحسب،
لفرض أنه ليس مأمورا بإتيان صلاة العصر قبل الإتيان بالظهر لاعتبار الترتيب
بينهما. هذا من ناحية.
294

ومن ناحية أخرى: المفروض أنه في هذا الحال واجد للماء ومتمكن من
استعماله عقلا وشرعا. ومن الواضح أن وظيفته عندئذ بمقتضى الآية المباركة هي
الوضوء أو الغسل، ولا يشرع في حقه التيمم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا أثر لكون المكلف واجدا
للماء فعلا بالإضافة إلى صلاة العصر، لما ذكرناه من أن المستفاد من الآية المباركة
بضميمة الروايات أن المراد من وجدان الماء: هو وجدانه بالإضافة إلى الصلاة
المأمور بها فعلا، والمفروض أن فيما نحن فيه المأمور به فعلا هو صلاة الظهر دون
العصر، ضرورة أنه لا يجب الإتيان به قبل الظهر، فإذا هو واجد للماء بالإضافة
إلى الظهر، ومن المعلوم أن وظيفة الواجد هي الوضوء أو الغسل، دون التيمم.
وقد ذكرنا أن تقسيم المكلف إلى الواجد والفاقد في الآية المباركة قاطع
للشركة، فلا يكون الواجد شريكا مع الفاقد في شئ، وبالعكس (1). وعليه فيجب
صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر، ومعه لا محالة يكون فاقدا له
بالإضافة إلى العصر. ومن الواضح أن وظيفة الفاقد هي التيمم لا غيره.
بل لا مزاحمة - في الحقيقة - بين الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائية والأمر
بصلاة العصر معها، ضرورة أنه لا مقتضي من قبل الأمر بصلاة العصر حتى
يستدعي احتفاظ الماء لها في ظرفها ليزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف
هذا الماء فعلا في الوضوء أو الغسل. ومن الواضح جدا أنه لا مزاحمة بين ما فيه
الاقتضاء ومالا اقتضاء فيه.
وعلى الجملة: فلا يخلو الأمر من أن المكلف: إما أن يصلي الظهر مع الطهارة
المائية، أو يصلي مع الطهارة الترابية، أو لا يصلي أصلا، ولا رابع لها.
فعلى الأول لا محالة يكون المكلف فاقدا للماء بالإضافة إلى صلاة العصر،
فوظيفته التيمم.
وعلى الثاني بما أن صلاته باطلة - لأن وظيفته كانت الطهارة المائية، لكونه

(1) تقدم في ص 96 - 97.
295

واجدا للماء على الفرض - فلا تكون الطهارة الترابية مشروعة له، فلا يجوز له
الإتيان بالعصر مع الطهارة المائية، لعدم جواز الإتيان به قبل الإتيان بالظهر.
والمفروض أن الأمر بالظهر باق على حاله. وعليه بما أنه لا يكون مكلفا فعلا
بالعصر فلا يكون مانع من قبله من صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر.
ومن هنا يظهر حال الصورة الأخيرة كما هو واضح. وكذا حال بقية الأجزاء
والشرائط.
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا مزاحمة - حقيقة - في أمثال هذه الموارد أصلا.
هذا كله فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المتأخر القدرة الخاصة، وهي
القدرة في ظرف العمل.
وأما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه القدرة المطلقة بأن استكشفنا من القرائن
الداخلية أو الخارجية أنه واجد للملاك الملزم في ظرفه بمجرد القدرة عليه ولو آنا
ما ففي مثل ذلك قد عرفت أنه لا وجه لتقديم ما هو أسبق زمانا على الآخر، بل
لابد من ملاحظة الأهمية في البين (1).
والوجه في ذلك: هو أن العقل كما يحكم بصرف القدرة في امتثال الواجب
المتقدم كذلك يحكم باحتفاظها للواجب المتأخر، ضرورة أنه لا فرق في نظر
العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه، فكما أنه يحكم
بقبح الأول فكذلك يحكم بقبح الثاني، وعليه فلا أثر لسبق الزماني - هنا - أصلا.
فإذا إن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمية فيقدم عليه، بلا فرق
بين كونه متقدما عليه زمانا أو متأخرا عنه، وبلا فرق بين القول بإمكان الترتب
والقول باستحالته، وإلا فيحكم العقل بالتخيير بينهما كما تقدم بشكل واضح.
ولكن لشيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام كلام، وهو: أن التزاحم إذا كان بين
واجبين طوليين متساويين في الملاك، كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة
الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية، أو بين ترك واجب متوقف على

(1) سبق ذكره في ص 278 - 290.
296

ارتكاب محرم مساو معه في الملاك فلا مناص من الالتزام بتقديم ما هو أسبق
زمانا على الآخر.
وقد أفاد في وجه ذلك ما توضيحه: هو أن الواجبين المتزاحمين إذا كانا
عرضيين ففي صورة التساوي وعدم كون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من
الالتزام بالتخيير، ضرورة أنه لا وجه في هذا الفرض لتقديم أحدهما على الآخر
أصلا. وأما إذا كانا طوليين فإن كانا متساويين فلابد من تقديم الواجب المتقدم
على المتأخر زمانا، وذلك لأن التكليف بالمتقدم فعلي، ولا موجب لسقوطه أصلا،
لأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين إنما هو بصرف القدرة في امتثال الآخر،
كما أن ثبوت كل منهما إنما هو عند ترك امتثال الآخر وعدم صرف القدرة فيه، بناء
على ما هو الصحيح من إمكان الترتب وجوازه، وعدم الفرق فيه بين أن يكون من
طرف أو من طرفين. وبما أن التكليف بالواجب المتأخر متأخر خارجا لفرض أن
متعلقه متأخر عن متعلق التكليف بالمتقدم فلا يكون له مسقط في عرضه، ضرورة
أن امتثاله في ظرفه لا يكوم مسقطا له. كما أن ترك امتثاله فيه لا يعقل أن يكون
شرطا لثبوته له، إلا بناء على إمكان الشرط المتأخر، والمفروض أنه (قدس سره) يرى
استحالته وعدم إمكانه (1).
وعلى الجملة: ففي زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة في امتثاله
أصلا، لفرض عدم إمكان صرف القدرة في امتثال الواجب المتأخر فعلا،
والمفروض أن المسقط لوجوبه ليس إلا امتثاله خارجا كما عرفت، وحيث إنه
لا يمكن بالفعل فلا مسقط له أصلا، إلا أن يكون امتثاله في ظرفه شرطا لسقوطه
على نحو الشرط المتأخر، ولكنك عرفت أنه يرى استحالة ذلك، فإذا يتعين امتثال
المتقدم بحكم العقل.
ومن هنا يظهر: أنه لا يمكن الالتزام بالترتب من الطرفين في مثل الفرض،
وذلك لأن معنى الترتب من الطرفين هو أن ثبوت التكليف بكل منهما مشروط

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 333.
297

بترك امتثال الآخر خارجا، وعدم الإتيان بمتعلقه، وهذا لا يعقل في مثل المقام،
ضرورة أن ثبوت التكليف بالمتقدم لا يعقل أن يكون مشروطا بترك امتثال
التكليف بالمتأخر في ظرفه إلا على نحو الشرط المتأخر، وهو محال على
وجهة نظره (قدس سره).
نعم، إذا كان المتأخر أقوى ملاكا من المتقدم فلابد من تقديمه عليه.
والوجه في ذلك: هو أن التزاحم - في الحقيقة عندئذ - إنما هو بين التكليف
بالمتقدم ووجوب حفظ القدرة فعلا على امتثال التكليف بالمتأخر، وبما أن ملاك
المتأخر أهم من ملاك الواجب الفعلي فلا محالة يكون وجوب حفظ القدرة عليه
أهم من وجوب الواجب الفعلي، فيتقدم عليه في مقام المزاحمة.
فالنتيجة المستفادة من مجموع ما أفاده (قدس سره) (هنا): هي أن التزاحم لا يعقل بين
تكليفين طوليين، إلا إذا كان المتأخر أهم من المتقدم لتقع المزاحمة بين وجوب
حفظ القدرة عليه فعلا ووجوب الواجب المتقدم. وأما إذا كانا متساويين أو كان
المتقدم أهم من المتأخر فلا تزاحم بينهما أبدا، بل يتعين امتثال الواجب المتقدم
بحكم العقل دون الواجب المتأخر، ولأجل ذلك لا يجري الترتب بينهما كما
عرفت.
ولنأخذ بالمناقشة في ما أفاده (قدس سره)، وهي: أنا قد حققنا سابقا: أن كون أحد
الخطابين مشروطا بترك امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه لم يرد في لسان دليل
من الأدلة لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره، بل هو من ناحية حكم العقل
بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين إلا على هذا الفرض والتقدير،
ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما فعلا وفي عرض الآخر.
والوجه في ذلك: هو أن العقل مستقل بلزوم تحفظ خطاب المولى بالمقدار
الممكن، وعدم جواز رفع اليد لا عن أصله، ولا عن إطلاقه ما لم تقتضه الضرورة،
وهذا ظاهر.
وعلى أساس ذلك بما أن في مقام المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف
298

من التحفظ على كليهما معا فلا مناص من الالتزام برفع اليد عن أحدهما والأخذ
بالآخر إذا كان ذلك الآخر واجدا للترجيح، فإن هذا غاية ما يمكنه. وأما إذا لم
يكن واجدا له فلا مناص عن الالتزام بالتخيير، بناء على ما حققناه من إمكان
الترتب وجوازه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: قد تقدم منا غير مرة: أنه لا فرق في نظر العقل بين تفويت
الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه، فكما أنه يحكم بقبح الأول
فكذلك يحكم بقبح الثاني.
ومن ناحية ثالثة: قد حققنا في بحث الواجب المطلق والمشروط: أنه لا مانع
من الالتزام بالشرط المتأخر، بل لا مناص عنه في المركبات التدريجية: كالصلاة
وما شاكلها، كما تقدم هناك.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي أن في صورة كون التكليفين
المتزاحمين متساويين لا مناص عن القول بالتخيير مطلقا، من دون فرق بين أن
يكونا عرضيين أو طوليين.
والسر في ذلك: ما عرفت من أن القول بالتخيير - هنا - عقلا يرتكز على القول
بالترتب. وقد ذكرنا: أنه لا فرق فيه بين أن يكون من طرف واحد كما إذا كان
أحدهما أهم من الآخر، وأن يكون من طرفين كما إذا كانا متساويين.
وقد سبق أن معنى الترتب - عند التحليل - عبارة عن تقييد إطلاق التكليف
بأحدهما بترك امتثال التكليف بالآخر، وعدم الإتيان بمتعلقه خارجا في فرض
كون أحدهما أهم من الآخر، وتقييد إطلاق التكليف بكل منهما بترك امتثال
الآخر، وعدم الإتيان بمتعلقه في فرض كونهما متساويين. ومن المعلوم أن هذا
التقييد والاشتراط ليس ناشئا فعلا بحكم الشرع أو العقل، بل هو نتيجة اشتراط
التكاليف من الأول بالقدرة.
ومن هنا قلنا: إن هذا التخيير ليس معناه تبديل الوجوب التعييني بالتخييري،
بل كل منهما باق على وجوبه التعييني، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق وجوب كل
299

منهما بتقييده بعدم الإتيان بمتعلق الآخر، بل معناه: اختيار المكلف في إعمال
قدرته في امتثال هذا أو ذاك، باعتبار أن القدرة الواحدة لا تفي بامتثال كليهما معا،
ولا يفرق في ذلك في كونهما عرضيين أو طوليين.
غاية الأمر: على الثاني لابد من الالتزام بجواز الشرط المتأخر، حيث إن
شرطية عدم الإتيان بالواجب المتأخر في ظرفه لفعلية وجوب المتقدم لا تعقل إلا
على هذا القول، ولكن قد تقدم أن الصحيح هو جوازه، وأنه لا مانع منه أصلا، بل لا
مناص من الالتزام به في بعض الموارد كما مر بشكل واضح. وعليه فلا فرق بين
كونهما عرضيين أو طوليين، فعلى كلا التقديرين لابد من الالتزام بالترتب،
وبثبوت كلا التكليفين على شكل اشتراط ثبوت كل منهما بعدم الإتيان بمتعلق
الآخر في ظرفه.
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه لا مانع من الالتزام بالترتب في المتزاحمين
الطوليين، لا من ناحية الالتزام بالترتب من الطرفين، ولا من ناحية ابتنائه على
جواز الشرط المتأخر، ولا من ناحية حكم العقل.
أما الأول فقد ذكرنا: أنه لا فرق في إمكان الترتب بين أن يكون من طرف
واحد كما في الأهم والمهم، أو من طرفين كما في المتساويين.
وأما الثاني فقد حققنا جواز الشرط المتأخر وإمكانه.
وأما الثالث فقد عرفت أنه لا فرق - عند العقل - بين تفويت الملاك الملزم في
ظرفه، وتفويت الواجب الفعلي.
فما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره) من عدم جريان الترتب بينهما لا يرجع إلى معنى
صحيح أصلا.
كما أن ما أفاده (قدس سره) من المانع، وهو: أن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين
حيث إنه كان بامتثال الآخر فلا يعقل أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر - من جهة
تأخره خارجا - مسقطا للتكليف بالمتقدم، فأيضا لا يرجع إلى معنى محصل.
والوجه فيه: أما أولا فلأنه لا مانع من أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر في
300

ظرفه شرطا لسقوطه على نحو الشرط المتأخر، بناء على ما حققناه (1) من إمكانه
وجوازه.
وأما ثانيا فلأن المسقط له ليس هو امتثال الآخر بما هو، لما قدمناه سابقا (2)
من أن المسقط للتكليف أحد أمرين لا ثالث لهما.
الأول: امتثاله في الخارج الموجب لحصول غرضه، فإنه بعد حصول الغرض
الداعي له خارجا لا يعقل بقاؤه، ولذا قلنا: إن المسقط في الحقيقة إنما هو حصول
الغرض وتحققه في الخارج، لا الامتثال نفسه كما تقدم.
الثاني: انتفاء القدرة وعجز المكلف عن امتثاله، ومعه - لا محالة - يسقط
التكليف، بداهة استحالة توجيهه نحو العاجز. ومن المعلوم أن المسقط في ما نحن
فيه ليس هو الأول على الفرض، بل المسقط له إنما هو الثاني كما هو المفروض،
باعتبار أن المكلف إن أعمل قدرته في امتثال الواجب الفعلي عجز عن امتثال
الواجب المتأخر في ظرفه، فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة. وإن حفظ قدرته
على امتثال المتأخر عجز عن امتثال المتقدم لا محالة، ضرورة أن القدرة الواحدة
لا تفي لامتثال كليهما معا.
ومثال ذلك: ما إذا توقف امتثال واجب على ارتكاب محرم: كالتصرف في
مال الغير - مثلا - فإنه إن صرف قدرته في ترك الحرام عجز عن امتثال الواجب
في ظرفه: كإنقاذ الغريق - مثلا - أو نحوه، وإن حفظ قدرته لامتثاله في ظرفه
بارتكاب الحرام عجز عن تركه. ومن الواضح أن مع العجز عنه تسقط حرمته
لا محالة، ولا يفرق في سقوط حرمته بين أن يمتثل المكلف الواجب المتأخر
خارجا أم لا، ضرورة أن المسقط للتكليف بالمتقدم ليس هو امتثال المتأخر في
الخارج، بل المسقط له - في الحقيقة كما عرفت - عدم تمكن المكلف من امتثاله.
وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) - من أن سقوط كل من التكليفين
المتزاحمين لا يكون إلا بامتثال الآخر، وحيث إن امتثال التكليف بالمتأخر

(1) راجع ج 2 ص 318.
(2) تقدم في ص 161.
301

متأخر خارجا فلا يعقل أن يكون مسقطا للتكليف بالمتقدم - لا يرجع إلى معنى
صحيح، لما عرفت من أن المسقط له ليس هو امتثال التكليف بالمتأخر ليقال: إنه
حيث لا يكون في عرضه فلا يكون مسقطا له، بل المسقط له ما مر، وهو عدم
تمكن المكلف من امتثاله.
فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت: أنه لا فرق في نظر العقل بين أن يكون
المتزاحمان المتساويان عرضيين أو طوليين، إذ أنه على كلا التقديرين يستقل
العقل بالتخيير بينهما على بيان تقدم بصورة واضحة.
ثم إن ما مثل لذلك شيخنا الأستاذ (قدس سره) بما إذا دار الأمر بين ترك القيام في
الركعة الأولى من الصلاة وتركه في الركعة الثانية فقد ظهرت المناقشة فيه مما تقدم
من أنه لا تعقل المزاحمة بين جزءين أو شرطين، أو جزء أو شرط لواجب
واحد (1)، وسيجئ الكلام في ذلك بصورة مفصلة.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد طبق كبرى مسألة التزاحم على جملة من الفروع،
وقد تقدم الكلام في بعضها (2):
الأول: ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهور في الصلاة وسقوط قيد من قيودها
الاخر فيسقط ذلك القيد وإن كان وقتا، لكون الطهور ركنا لها وأهم من بقية القيود،
ولذا ورد: أنه " لا صلاة إلا بطهور " (3).
الثاني: ما إذا دار الأمر بين خصوص الطهارة المائية وغيرها من القيود فيقدم
غيرها عليها. وقد ذكر في وجه ذلك: أن أجزاء الصلاة وشرائطها وإن كانت
مشروطة بالقدرة شرعا بمقتضى ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال (4) إلا أن
الطهارة المائية خاصة ممتازة عن بقية القيود من الأجزاء والشرائط، من جهة
جعل الشارع البدل لها وهو الطهارة الترابية، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع،

(1) تقدم في ص 101.
(2) راجع ص 234 وما بعدها.
(3) راجع الوسائل: ج 1 ص 365 ب 1 من أبواب الوضوء ح 1.
(4) الوسائل: ج 2 ص 373 ب 1 من أبواب الاستحاضة ح 1.
302

فيقدم عليها كل قيد من قيود الصلاة في مقام المزاحمة.
الثالث: ما إذا دار الأمر بين وقوع ركعة من الصلاة في خارج الوقت وسقوط
أي قيد من قيودها الاخر غير الطهور يسقط ذلك القيد، لكون إدراك الوقت أهم.
الرابع: ما إذا دار الأمر بين إدراك تمام الركعات في الوقت وإدراك قيد آخر
ولا يتمكن من الجمع بينهما فيقدم إدراك ذلك القيد على إدراك تمام الركعات فيه،
واستثنى من ذلك خصوص السورة، وقال: إنها تسقط عند الدوران المزبور، لقيام
الدليل على سقوطها بالاستعجال (1).
الخامس: ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط الشرائط فتسقط
الشرائط، وعلل ذلك بأنها متأخرة رتبة عن الأجزاء، لأنها إنما أخذت قيودا فيها.
ومن الواضح أن القيد متأخر رتبة عن المقيد.
السادس: ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط قيده، كما لو دار
الأمر بين سقوط أصل الساتر عن الصلاة وسقوط قيده - وهو كونه طاهرا - يسقط
قيده، لتأخره عنه رتبة.
السابع: ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد مأخوذ في الركن وسقوط قيد مأخوذ
في غيره من الأجزاء أو الشرائط، كما لو دار الأمر بين ترك الطمأنينة - مثلا - في
الركن وتركها في غيره من الذكر أو القراءة أو نحو ذلك يتعين سقوط الثاني.
الثامن: ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع وسقوط القيام حال
القراءة يتعين سقوط القيام فيها، باعتبار أن القيام قبل الركوع بنفسه ركن ومقوم له
فلا محالة يتقدم على القيام في حال القراءة. ومن هنا يتقدم القيام قبل الركوع على
القيام حال التكبيرة أيضا، فإن القيام حالها شرط، وفي الركوع مقوم.
التاسع: ما إذا دار الأمر بين سقوط أحد الواجبين الطوليين سقط المتأخر
وإن لم يكن الملاك فيه أهم. ومن ثم يتقدم القيام في التكبيرة على القيام في
القراءة. هذا مضافا إلى كونه شرطا في الركن دون القيام في القراءة. وقد عرفت

(1) راجع الوسائل: ج 6 ص 37 ب 1 من أبواب القراءة ح 1.
303

أنه في مقام دوران الأمر بين سقوط شرط الركن وسقوط شرط غيره يتعين
سقوط شرط غيره.
العاشر: ما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة وترك الركوع والسجود
فيها (1)، وتعرض لهذا الفرع السيد (قدس سره) في العروة في موضعين: الأول: في
مبحث المكان (2). والثاني: في مبحث القيام (3)، وحكم (قدس سره) في كلا الموضعين
بالتخيير بينهما.
ولكن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد حكم في حاشيته على العروة في أحد الموضعين
بتقديم القيام على الركوع والسجود، وفي الآخر بتقديم الركوع والسجود على
القيام، على عكس الأول (4). ونظره (قدس سره) في الأول إلى تقديم ما هو أسبق زمانا على
غيره. وفي الثاني إلى تقديم الأهم على غيره. وعلى كل حال فبين كلاميه في
الموضعين تناقض واضح.
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من الترجيح في هذه الفروعات جميعا يرتكز على
أساس إجراء قواعد التزاحم فيها من الترجيح بالأسبقية في بعضها، وبالأهمية
في بعضها الآخر، وبالتقدم الرتبي في ثالث.
ولنا أن نأخذ بالمناقشة فيما ذكره (قدس سره) من ناحيتين:
الأولى: أن هذه الفروعات وما شاكلها أجنبية عن مسألة التزاحم تماما،
ولا يجري فيها شئ من أحكامها وقواعدها.
الثانية: أنه على تقدير تسليم جريان قواعد التزاحم في تلك الفروعات فإن
ما أفاده (قدس سره) فيها من الترجيح لا يتم على إطلاقه.

(1) راجع أجود التقريرات ج 1 ص 282 - 283.
(2) راجع العروة الوثقى: ج 1 ص 585 الشرط السادس من شرائط مكان المصلي،
وص 638 المسألة (17) من القيام.
(3) راجع العروة الوثقى: ج 1 ص 585 الشرط السادس من شرائط مكان المصلي،
وص 638 المسألة (17) من القيام.
(4) انظر حاشية العروة للمحقق النائيني (قدس سره): ص 23 وص 36.
304

أما الناحية الأولى فقد أشرنا إليها إجمالا فيما سبق، ونقدم لكم هنا
بصورة مفصلة.
بيان ذلك: أنه قد تقدم أن التزاحم هو تنافي الحكمين في مقام الامتثال
والفعلية بعد الفراغ عن جعل كليهما معا على نحو القضية الحقيقية. ومن هنا قلنا: إنه
لا تنافي بينهما أبدا في مقام الجعل والتشريع، ضرورة أنه لا تنافي بين جعل
وجوب إنقاذ الغريق - مثلا - للقادر وجعل حرمة التصرف في مال الغير له،
وهكذا...، بل بينهما كمال الملاءمة في هذا المقام. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أن التعارض هو تنافي الحكمين في مقام الجعل والتشريع
بحيث لا يمكن جعل كليهما معا على نحو القضية الحقيقية، فثبوت كل منهما على
هذا النحو يكذب الآخر بالمطابقة أو بالالتزام على بيان قد سبق بشكل واضح.
ومن جانب ثالث: أن الأمر المتعلق بالمركب كالصلاة وما شاكلها - بصفة أنه
أمر واحد شخصي لا محالة - ينبسط على أجزاء ذلك المركب وتقيداته بقيود
خارجية، فيأخذ كل جزء منه حصة من ذلك الأمر الواحد الشخصي، فيكون
مأمورا به بالأمر الضمني النفسي. ومن المعلوم أن الأمر الضمني المتعلق بجزء
مربوط بالذات بالأمر الضمني المتعلق بجزء آخر، وهكذا...، ضرورة أن الأوامر
الضمنية المتعلقة بالأجزاء هي عين ذلك الأمر النفسي الاستقلالي المتعلق
بالمجموع المركب من تلك الأجزاء بالتحليل العقلي.
وعلى هذا فلا يعقل سقوط بعض تلك الأوامر عن بعض تلك الأجزاء
وبقاء بعضها الآخر، لفرض أن هذه الأوامر عين الأمر النفسي، غاية الأمر
العقل يحلله إلى أوامر متعددة ضمنية ويجعله حصة حصة، فتتعلق بكل جزء
من أجزاء متعلقه حصة منه. ومن الواضح جدا أنه لا يعقل بقاء تلك الحصة
بدون بقاء الأمر النفسي، ولا سقوطها بدون سقوطه، وهذا معنى ارتباطية تلك
الأجزاء بعضها ببعضها الآخر ثبوتا وسقوطا في الواقع ونفس الأمر.
305

فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الثلاث: هي أن في الفروعات المزبورة
أو ما شاكلها لا يعقل أن يكون التزاحم بين أمرين نفسيين، ضرورة أنه ليس فيها
إلا أمر نفسي واحد متعلق بالمجموع المركب. وكذا لا يعقل أن يكون التزاحم بين
أمرين إرشاديين، لما عرفت: من أنه لا شأن للأمر الإرشادي ما عدا الإرشاد إلى
الجزئية أو الشرطية، ولذا لا تجب موافقته، ولا تحرم مخالفته بحكم العقل (1).
ومن المعلوم أن المزاحمة إنما تعقل بين أمرين يقتضي كل منهما امتثاله
والإتيان بمتعلقه خارجا لتقع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال والإطاعة،
والمفروض أنه لا اقتضاء للأمر الإرشادي بالإضافة إلى ذلك أصلا لتعقل
المزاحمة بينهما.
والذي يمكن أن يتوهم في أمثال هذه المقامات: هو وقوع المزاحمة بين
أمرين ضمنيين، ببيان: أن كلا منهما يقتضي الإتيان بمتعلقه، فعندئذ لو كان المكلف
قادرا على امتثال كليهما والإتيان بمتعلقيهما خارجا فلا مزاحمة في البين أصلا.
وأما إذا فرضنا أنه لا يقدر إلا على امتثال أحدهما دون الآخر فلا محالة تقع
المزاحمة بينهما، كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الصلاة - مثلا - وترك الركوع
فيها، أو بين ترك القيام في حال التكبيرة وتركه في حال القراءة، أو بين ترك
الطهارة الحدثية وترك الطهارة الخبثية، وما شابه ذلك ففي أمثال هذه الموارد التي
لا يكون المكلف قادرا على الجمع بينهما في الخارج لا محالة تقع المزاحمة بين
الأمر الضمني المتعلق بالقيام والأمر الضمني المتعلق بالركوع، أو الأمر الضمني
المتعلق بتقييد الصلاة بالطهارة الحدثية، والأمر الضمني المتعلق بتقييدها بالطهارة
الخبثية، وهكذا...
والوجه في ذلك: هو أن ملاك التزاحم بين أمرين نفسيين كالأمر بالصلاة

(1) راجع ص 236.
306

- مثلا - في ضيق الوقت والأمر بالإزالة - وهو عدم قدرة المكلف على امتثال
كليهما معا، فلو صرف قدرته في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الثاني،
فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة، ولو انعكس فبالعكس - بعينه موجود بين
أمرين ضمنيين، كالأمر بالقيام - مثلا - والأمر بالركوع، أو ما شاكلهما، فإن
المفروض - هنا - هو أن المكلف لا يقدر على امتثال كليهما معا، فلا يتمكن
من الجمع بين القيام والركوع في الصلاة، فلو صرف قدرته في امتثال الأول
عجز عن امتثال الآخر، فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه وهو القدرة، وإن صرف فيه
عجز عن الأول، وهكذا...
وعليه فيرجع إلى قواعد باب التزاحم، فإن كان أحدهما أهم من الآخر قدم
عليه، وكذا إذا كان أحدهما مشروطا بالقدرة عقلا والآخر مشروطا بها شرعا، فإن
ما كان مشروطا بالقدرة عقلا يتقدم على غيره، أو إذا كان كلاهما مشروطا بالقدرة
شرعا ولكن كان أحدهما أسبق من الآخر زمانا تقدم الأسبق على غيره. وأما إذا
كانا متساويين من تمام الجهات ولم يكن ترجيح في البين ولا احتماله فالعقل
يحكم بالتخيير بينهما، بمعنى تقييد إطلاق الأمر بكل منهما بعدم الإتيان بالآخر،
كما عرفت في التزاحم بين الواجبين النفسيين إذا كانا متساويين من جميع
الجهات.
وعلى الجملة: فجميع ما ذكرناه في التزاحم بين الأمرين النفسيين يجري في
المقام من دون تفاوت أصلا إلا في نقطة واحدة، وهي: أن التزاحم هناك بين
أمرين نفسيين، وهنا بين أمرين ضمنيين. ومن المعلوم أن الاختلاف في هذه
النقطة لا يوجب التفاوت بينهما في جريان أحكام التزاحم ومرجحاته وقواعد
بابه أصلا.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه القول بجريان التزاحم في أجزاء
وشرائط واجب واحد كما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره) وغيره.
307

وغير خفي أن هذا البيان وإن كان في غاية الصحة والاستقامة بالإضافة إلى
حكمين نفسيين - وجوبيين كانا أو تحريميين، أو كان أحدهما وجوبيا والآخر
تحريميا كما تقدم الكلام في التزاحم بينهما بصورة مفصلة فلا نعيد - إلا أنه لا يتم
بالإضافة إلى حكمين ضمنيين، وذلك لأن تماميته بالإضافة إليهما تبتنى على نقطة
واحدة، وهي: أن الأمر المتعلق بالمركب لا يسقط بتعذر بعض أجزائه أو شرائطه،
فحينئذ لو دار الأمر بين ترك جزء كالقيام في الصلاة - مثلا - وترك جزء آخر
كالركوع فيها أو نحوهما فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، لفرض أن الأمر بالصلاة
باق ولم يسقط بتعذر أحد هذين الجزءين، والمفروض: أن كلا منهما مقدور في
نفسه وفي ظرف عدم الإتيان بالآخر.
فإذا لا مانع - بناء على ما حققناه (1) من صحة الترتب - الالتزام بثبوت [من]
الأمر الضمني النفسي لكل منهما في نفسه وعند عدم الإتيان بالآخر. وهذا التقييد
نتيجة أمرين:
الأول: وقوع المزاحمة بين هذا الأمر الضمني وذاك في مقام الامتثال.
الثاني: الالتزام بالترتب بينهما من الجانبين.
ولكن عرفت أن هذه النقطة خاطئة جدا وغير مطابقة للواقع قطعا، ضرورة أنه
لا يعقل بقاء الأمر المتعلق بالمركب مع تعذر بعض أجزائه أو شرائطه كما سبق
بشكل واضح (2). وعلى هذا الأساس فإذا تعذر أحد أجزائه أو شرائطه معينا كان
أو غير معين - أعني به: ما إذا دار الأمر بين ترك هذا وذاك - فلا محالة يسقط الأمر
المتعلق به، بداهة استحالة بقائه لاستلزامه التكليف بالمحال، وهو غير معقول.
وبتعبير آخر: أن فرض بقاء الأمر الأول بحاله يستلزم التكليف بالمحال.
وفرض بقاء الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء والشرائط الباقيتين وأن الساقط
إنما هو الأمر الضمني المتعلق بخصوص المتعذر منهما خلف، وذلك لفرض أن
تلك الأوامر أوامر ضمنية كل منها مرتبط مع الآخر ارتباطا ذاتيا، فلا يعقل

(1) راجع ص 103 - 139.
(2) تقدم في ص 305.
308

بقاء بعض منها وسقوط بعضها الآخر، وإلا لكانت أوامر استقلالية، لا ضمنية،
وهذا خلف كما عرفت.
فإذا مقتضى القاعدة: سقوط الأمر عن المركب بتعذر أحد أجزائه أو قيوده.
وعليه فلا أمر، لا بالمركب، ولا بأجزائه، فلا موضوع للتزاحم ولا التعارض،
فانتفاؤهما بانتفاء موضوعهما، ولذا لو كنا نحن والقاعدة الأولية لم نقل بوجوب
الباقي، فإن الأمر المتعلق بالمجموع المركب منه قد سقط يقينا، وإثبات أمر آخر
متعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل، ففي كل مورد ثبت دليل على وجوبه فنأخذ به،
وإلا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه.
ولكن قد يتوهم في المقام: أنه وإن لم يمكن الالتزام بالتزاحم بين واجبين
ضمنيين كجزئين أو شرطين أو جزء وشرط فيما إذا تعلق الأمر بالمركب من
الأجزاء بعناوينها الأولية - كما عرفت - إلا أنه لا مانع من الالتزام به فيما إذا تعلق
الأمر بالمركب من الأجزاء بعناوينها المقدورة، ببيان: أنه إذا تعذر أحد أجزائه لا
يسقط الأمر عن الأجزاء الباقية، لفرض أن جزئيته تختص بحال القدرة، وفي
حال التعذر لا يكون جزء واقعا، وإذا لم يكن جزء كذلك في هذا الحال فلا محالة
لا يكون تعذره موجبا لسقوط الأمر عن الباقي.
وعلى هذا فإن كان المتعذر أحد أجزاء ذلك المركب معينا سقط الأمر عنه
خاصة دون الباقي، لفرض اختصاص جزئيته بحال القدرة، وفي هذا الحال لا
يكون جزء واقعا. وإن كان المتعذر مرددا بين اثنين منها ففي مثله لا محالة تقع
المزاحمة بين الأمر الضمني المتعلق بهذا والأمر الضمني المتعلق بذاك، بتقريب: أن
ملاك التزاحم - وهو تنافي الحكمين في مقام الامتثال والفعلية بعد الفراغ عن
ثبوتهما بحسب مقام الجعل بلا منافاة - موجود بعينه هنا، لفرض أنه لا تنافي بين
الأمر الضمني المتعلق بهذا الجزء والأمر الضمني المتعلق بالآخر بحسب مقام
الجعل، فهذا مجعول له بعنوان كونه مقدورا، وذاك مجعول له بهذا العنوان من دون
أية منافاة في البين، غاية الأمر من جهة عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما معا
309

وقع التنافي والتزاحم بينهما، فلو صرف قدرته في امتثال هذا عجز عن الآخر،
فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة، وإن عكس فبالعكس.
وعلى الجملة: فيجري فيه جميع ما يجري في التزاحم بين الواجبين النفسيين
على القول بإمكان الترتب واستحالته حرفا بحرف، من دون فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا.
ولكنه توهم خاطئ ولم يطابق الواقع. والوجه في ذلك: هو أنه لا شبهة في
أن الأمر المتعلق بالمجموع المركب من الجزء المتعذر يسقط بتعذره لا محالة،
ضرورة أنه لا يعقل بقاؤه، كما إذا فرضنا أن للمركب عشرة أجزاء - مثلا - وتعلق
الأمر بها بعنوان كونها مقدورة، فعندئذ إذا فرض سقوط أحد أجزائه وتعذره فلا
إشكال في سقوط الأمر المتعلق بمجموع العشرة، بداهة استحالة بقائه، لاستلزامه
التكليف بالمحال وبغير المقدور. وأما الأمر المتعلق بالتسعة الباقية فهو أمر آخر لا
الأمر الأول، لفرض أنه متعلق بالمركب من عشرة أجزاء، لا بالمركب من التسعة،
وهذا واضح.
وأما إذا تعذر أحد جزءين منها لا بعينه بأن تردد الأمر بين كون المتعذر هذا
أو ذاك فأيضا لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع، لفرض عدم قدرة
المكلف عليه، ومعه يستحيل بقاء أمره، لاستلزامه التكليف بغير المقدور.
وعليه فلا محالة نشك في أن المجعول الأولي في هذا الحال أي شئ؟ هل
هو جزئية هذا أو جزئية ذاك، أو أنه جزئية الجامع بينهما بلا خصوصية لهذا
ولا لذاك؟ فإذا لا محالة يدخل المقام في باب التعارض، فيرجع إلى أحكامه
وقواعده.
وبتعبير واضح: أنه لا شبهة في سقوط الأمر المتعلق بالمجموع المركب من
عشرة أجزاء - مثلا - بتعذر جزئه وسقوطه واستحالة بقائه كما عرفت، ولا فرق في
ذلك بين أن يكون المتعذر معينا أو غير معين، كما هو واضح. ومن المعلوم أن
بسقوطه - الأمر - تسقط جميع الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه، لفرض أن تلك
310

الأوامر عين ذلك الأمر المتعلق بالمجموع، فلا يعقل بقاؤها مع سقوطه.
وتخيل أن الساقط في هذا الفرض إنما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق
بالجزء المتعذر دون البقية خيال فاسد جدا، ضرورة أن الأمر المتعلق بالمجموع لا
يخلو: من أن يكون باقيا في هذا الحال، أو ساقطا.
فعلى الفرض الأول: لا يعقل سقوطه، لفرض أنه حصة منه، فمع بقائه - لا
محالة - هو باق.
وعلى الفرض الثاني: سقط الأمر الضمني عن الجميع، لا عن خصوص
المتعذر، لما عرفت من حديث العينية، وهذا معنى ارتباطية الأوامر الضمنية بعضها
مع البعض الآخر ارتباطية ذاتية.
ولكن حيث قد عرفت استحالة الفرض الأول في هذا الحال فلا محالة يتعين
الالتزام بالفرض الثاني. نعم، ثبت الأمر للباقي بعد سقوطه عن المجموع بمقتضى
اختصاص جزئية المتعذر بحال القدرة، فإن قضية ذلك سقوط جزئيته في حال
التعذر واقعا، ولازمه ثبوت الأمر للباقي، وبما أن الباقي في هذا الفرض مردد بين
المركب من هذا أو ذاك فلا محالة لا نعلم أن المجعول جزئية هذا له أو ذاك، أو
جزئية الجامع بينهما، بعد عدم إمكان كون المجعول جزئية كليهما معا.
فإذا لا محالة تقع المعارضة بين دليليهما، فيرجع إلى قواعد بابها: فإن كان
أحدهما عاما والآخر مطلقا فيقدم العام على المطلق. وإن كان كلاهما عاما فيرجع
إلى مرجحات باب التعارض. وإن كان كلاهما مطلقا فيسقطان معا، فيرجع إلى
الأصل العملي، ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وذاك، فتكون النتيجة
جزئية الجامع.
وبهذا البيان قد ظهر: أنه لا فرق بين المقام وبين ما إذا تعلق الأمر بالمركب من
الأجزاء بعناوينها الأولية، إلا في نقطة واحدة، وهي: أن في مثل المقام لا يحتاج
ثبوت الأمر للباقي إلى دليل خارجي يدل عليه، ك‍ " لا تسقط الصلاة بحال " أو
نحوه، بل الأمر به ثابت من الابتداء، بمعنى: أن الشارع قد أوجب كل مرتبة من
311

مراتب هذا المركب عند تعذر مرتبة أخرى منه.
ويدل على هذا في المقام تقييد جزئية كل من أجزائه بحال القدرة، ولازم
ذلك: هو عدم جزئيته في حال العجز واقعا، وثبوت الأمر للباقي.
وأما في غير المقام ومحل الفرض يحتاج ثبوت الأمر للباقي إلى دليل من
الخارج، وإلا فمقتضى القاعدة عدم وجوبه بعد سقوط الأمر عن المجموع
بتعذر جزئه.
ولكن بعد ما دل الدليل من الخارج على وجوبه فلا فرق بينه وبين ما نحن فيه،
فكما أن فيه: إذا دار الأمر بين سقوط جزء وجزء آخر فيدخل في باب التعارض،
لفرض أن المجعول في هذا الحال ليس إلا وجوب أحدهما، ولا يعقل أن يكون
وجوب كليهما معا، لاستلزامه التكليف بالمحال. ومن المعلوم أنه لا موضوع
للتزاحم في مثله كما هو واضح. فكذلك فيما نحن فيه: إذا دار الأمر بين سقوط
جزء وجزء آخر فيدخل في هذا الباب، وذلك لأنا نعلم إجمالا في هذا الحال
بوجوب أحدهما، لفرض تعلق الأمر الآخر بالباقي وسقوط الأمر الأول عن
المجموع كما عرفت، ومعه - لا محالة - نشك في أن المجعول وجوب خصوص
هذا أو ذاك، أو وجوب الجامع بينهما بعد عدم إمكان وجوب كليهما معا، فعندئذ
- لا محالة - تقع المعارضة بين دليليهما، ومعه لا موضوع للتزاحم أصلا.
ولعل منشأ تخيل أن هذا من باب التزاحم الغفلة عن تحليل نقطة واحدة،
وهي: تعلق الأمر بالباقي من الابتداء، من دون حاجة إلى التماس دليل خارجي
عليه، فإن عدم تحليلها أوجب تخيل أن الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزاء مثل هذا
المركب لم تسقط بسقوط جزء منه، غاية الأمر: ان تعذره أوجب سقوط خصوص
الأمر الضمني المتعلق به لا بغيره. وعليه، فإن كان الجزء المتعذر معينا سقط الأمر
عنه خاصة، وإن كان مرددا بين هذا وذاك سقط أمر أحدهما بسقوط موضوعه -
وهو القدرة - دون الآخر بعد ثبوت كليهما معا في مقام الجعل، من دون أي تناف
بينهما فيه. ومن المعلوم أنا لا نعني بالتزاحم إلا هذا، غاية الأمر على القول
بالترتب الساقط هو إطلاق الخطاب، وعلى القول بعدمه الساقط أصله.
312

ووجه الغفلة عن ذلك: هو ما عرفت: من أن الأمر وإن تعلق بالباقي من الأول
إلا أنه أمر آخر بالتحليل، ضرورة أن الأمر الأول المتعلق بالمجموع المركب قد
سقط يقينا من جهة تعذر جزء منه، ولا يعقل بقاؤه في هذا الحال كما مر، ومع
سقوطه - لا محالة - تسقط الأوامر الضمنية المتعلقة بأجزائه.
وعليه، فلا محالة نشك في هذا الفرض وما شاكله في أن الأمر المجعول ثانيا
للباقي هل هو مجعول للمركب من هذا أو ذاك - يعني: أن الشارع في هذا الحال
جعل هذا جزءا أو ذاك - فيكون الشك في أصل المجعول في هذا الحال؟ ومن
المعلوم أنه لا يعقل فيه التزاحم، ولا موضوع له، ضرورة أنه إنما يعقل فيما إذا كان
أصل المجعول لكل منهما معلوما، وكان التنافي بينهما في مقام الامتثال، لا في
مثل المقام، كما لا يخفى.
فقد أصبحت النتيجة بوضوح: أنه لا فرق في عدم جريان التزاحم بين
جزءين أو شرطين، أو جزء وشرط من واجب واحد، بين أن يكون الأمر متعلقا به
بعنوان كون أجزائه مقدورة، وأن يكون متعلقا به على نحو الإطلاق بلا تقييد بحالة
خاصة دون أخرى.
نعم، فرق بينهما في نقطة أجنبية عما هو ملاك التزاحم والتعارض بالكلية،
وهي: أن ثبوت الأمر بالباقي هنا مقتضى نفس تخصيص جزئية أجزائه بحال
القدرة كما عرفت، وهناك يحتاج إلى دليل خارجي يدل عليه، وإلا فلا وجوب له.
نعم، قد ثبت في خصوص باب الصلاة وجوب الباقي بدليل، وهو: ما دل على
أن الصلاة لا تسقط بحال، بل الضرورة قاضية بعدم جواز ترك الصلاة في حال،
إلا لفاقد الطهورين على ما قويناه (1).
ومع قطع النظر عن ذلك تكفينا الروايات (2) الخاصة الدالة على وجوب

(1) راجع التنقيح: ج 10 ص 66 كتاب الطهارة.
(2) راجع الوسائل: ج 5 ص 481 ب 1 من أبواب القيام، و ج 4 ص 320 ب 13 من أبواب
القبلة، و ج 3 ص 484 ب 45 من أبواب النجاسات، وص 386 ب 46 منها.
313

الإتيان بالصلاة جالسا إذا لم يتمكن من القيام، وعلى وجوب الإتيان بها بغير
الاستقبال إلى القبلة إذا لم يتمكن منه، وعلى وجوب الإتيان في الثوب النجس
أو عاريا على الخلاف في المسألة، وغير ذلك. فهذه الروايات قد دلت على
وجوب الإتيان بالباقي وأنه لا يسقط، والساقط إنما هو الأمر المتعلق بالمجموع
المركب من الجزء أو القيد المتعذر، فلو لم يتمكن المصلي من القيام - مثلا - وجبت
عليه الصلاة جالسا بمقتضى النص الخاص، وكذا لو لم يتمكن من الجلوس وجبت
عليه الصلاة مضطجعا. وهكذا.
وعلى الجملة: فمع قطع النظر عما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال تكفينا
في المقام هذه الروايات الخاصة الدالة على وجوب الباقي وعدم سقوطه بتعذر
جزء أو شرط، ولكن عرفت: أن هذه القاعدة - أي: قاعدة عدم سقوط الباقي
بالتعذر - تختص بخصوص باب الصلاة، فلا تعم غيرها، ولذا لو لم يتمكن المكلف
من الصوم في تمام آنات اليوم لم يجب عليه الإمساك في الآنات الباقية من هذا
اليوم، كما لو اضطر الصائم إلى الإفطار في بعض اليوم فلا يجب عليه الإمساك
في الباقي.
وعلى ضوء هذا الأصل فإذا تعذر أحد أجزاء الصلاة أو شرائطه وكان المتعذر
متعينا - كما إذا لم يتمكن المصلي من القيام - مثلا - أو القراءة أو ما شاكل ذلك - فلا
إشكال في وجوب الإتيان بالباقي. وأما إذا كان المتعذر مرددا بين جزءين أو
شرطين أو جزء وشرط فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما، للعلم الإجمالي
بجعل أحدهما في الواقع دون الآخر، لفرض انتفاء القدرة إلا على أحدهما. فإذا
لابد من النظر إلى أدلتهما وإعمال قواعد التعارض بينهما.
فنقول: إن الدليلين الدالين عليهما لا يخلوان: من أن يكون أحدهما لبيا
والآخر لفظيا، وأن يكون كلاهما لبيا أو كلاهما لفظيا. وعلى الثالث: فأيضا لا
يخلوان: من أن تكون دلالة أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم، وأن تكون دلالة
كليهما بالعموم أو بالإطلاق.
314

أما القسم الأول - وهو: ما إذا كان الدليل على أحدهما لبيا وعلى الآخر
لفظيا - فلا إشكال في مقام المعارضة بينهما في تقديم الدليل اللفظي على اللبي.
والوجه في ذلك واضح، وهو: أن الدليل اللبي كالإجماع أو نحوه، حيث إنه لا
عموم ولا إطلاق له، فلابد فيه من الاقتصار على القدر المتيقن، وهو غير مورد
المعارضة مع الدليل اللفظي، فلا نعلم بتحققه في هذا المورد، وذلك كما إذا دار
الأمر بين القيام - مثلا - في الصلاة والاستقرار فيها، فإن الدليل على اعتبار
الاستقرار لبي وهو الإجماع، فيجب الاقتصار فيه على المقدار المتيقن.
ونتيجته: هي أنه لا إجماع على اعتبار الاستقرار في الصلاة في هذا الحال،
والدليل على اعتبار القيام بما أنه لفظي - وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة أبي حمزة:
" الصحيح يصلي قائما وقعودا، والمريض يصلي جالسا... إلى آخره " (1)،
وقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة في حديث: " وقم منتصبا، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: من لم يقم صلبه فلا صلاة له " (2)، ونحوهما من الروايات الدالة على ذلك -
فيجب الأخذ بإطلاقه.
ونتيجته: هي وجوب الإتيان بالصلاة قائما في هذا الحال بدون الاستقرار
والطمأنينة، لما عرفت من عدم الدليل على اعتباره في هذه الحالة.
وعلى الجملة: فإذا دار الأمر بين أن يصلي قائما بدون الطمأنينة والاستقرار
وأن يصلي جالسا معها، فيما أن الدليل الدال على اعتبار الطمأنينة لبي فلا إشكال
في تقديم القيام عليها، فيحكم بوجوب الصلاة قائما بدون الطمأنينة. ومن هنا
حكم السيد (قدس سره) في العروة (3) بتقديم القيام عليها إذا دار الأمر بينهما، ولعل نظره (قدس سره)
إلى ما ذكرناه.
وأما القسم الثاني - وهو: ما إذا كان كلا الدليلين لبيا - فلا يشمل مورد

(1) راجع الوسائل: ج 5 ص 481 ب 1 من أبواب القيام ح 1.
(2) الوسائل: ج 5 ص 488 ب 2 من أبواب القيام ح 1.
(3) راجع العروة الوثقى: ج 1 ص 636 مبحث القيام المسألة (14).
315

المعارضة، وذلك لما مر: من أن الدليل إذا كان لبيا فلابد من الاقتصار في مورده
على المقدار المتيقن منه. ومن المعلوم أن المقدار المتيقن منه غير هذا المورد،
ضرورة أنا لم نحرز تحققه فيه لو لم نحرز عدمه. وعليه، فمورد المعارضة لا يكون
مشمولا لهذا ولا لذاك، فوقتئذ لو كنا نحن وهذا الحال ولم يكن دليل من الخارج
على عدم سقوط كليهما معا فنرجع إلى البراءة عن وجوب كل منهما، فلا يكون
هذا واجبا ولا ذاك.
وأما إذا كان دليل من الخارج على ذلك كما هو كذلك - حيث إنا نعلم بوجوب
أحدهما في الواقع - فعندئذ: مرة يدور الأمر بين الأقل والأكثر، بمعنى: أن الجزء
هو الجامع بينهما، أو مع خصوصية هذا أو ذاك. ومرة أخرى يدور الأمر بين
المتباينين، بمعنى: أنا نعلم أن الجزء أحدهما بالخصوص في الواقع ونفس الأمر لا
الجامع، ولكن دار الأمر بين كون الجزء هذا وذاك.
فعلى الأول ندفع اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك بالبراءة، فنحكم بأن
الجزء هو الجامع بينهما، فتكون النتيجة: هي التخيير شرعا، يعني: أن الشارع في
هذا الحال جعل أحدهما جزءا مع إلغاء خصوصية كل منهما.
وعلى الثاني فمقتضى القاعدة: هو الاحتياط للعلم الإجمالي بجزئية أحدهما
بخصوصه في الواقع، وأصالة عدم جزئية هذا معارضة بأصالة عدم جزئية ذاك
فيتساقطان. فإذا يكون العلم الإجمالي موجبا للاحتياط على تقدير إمكانه، وإلا
فالوظيفة هي التخيير بين إتيان هذا أو ذاك.
وأما القسم الثالث - وهو: ما إذا كانت دلالة أحدهما على ذلك بالإطلاق
والآخر بالعموم - فيقدم ما كانت دلالته بالعموم على ما كانت دلالته بالإطلاق،
وذلك لأن دلالة العام تنجيزية فلا تتوقف على أية مقدمة خارجية، ودلالة المطلق
تعليقية فتتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، منها: عدم البيان له. ومن الواضح -
جدا - أن العام يصلح أن يكون بيانا للمطلق، ومعه لا تتم مقدمات الحكمة
ليؤخذ بإطلاقه.
316

وعلى الجملة: فقد ذكرنا: أن مسألة دوران الأمر بين العام والمطلق خارجة
عن كبرى مسألة التعارض، لعدم التنافي بين مدلوليهما في مقام الإثبات على
الفرض، ضرورة أن العرف لا يرى التنافي بينهما أصلا، ويرى العام صالحا
للقرينية على تقييد المطلق، ولا يفرق في ذلك بين كون العام متصلا بالكلام أو
منفصلا عنه، غاية الأمر: أنه على الأول مانع عن ظهور المطلق في الإطلاق،
وعلى الثاني مانع عن حجية ظهوره (1).
وأما القسم الرابع - وهو: ما إذا كانت دلالة كل منهما بالعموم - فلابد فيه من
الرجوع إلى المرجحات السندية من موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما ذكرنا
من انحصار الترجيح بهما، لوقوع المعارضة بينهما، فلا يمكن الجمع الدلالي بتقديم
أحدهما على الآخر، وهذا واضح.
وأما القسم الخامس - وهو: ما إذا كانت دلالة كل منهما بالإطلاق، كما هو
الغالب في أدلة الأجزاء والشرائط - فيسقط كلا الإطلاقين معا، إلا إذا كان أحدهما
من الكتاب والآخر من غيره فيقدم إطلاق الكتاب عليه فيما إذا كانت النسبة بينهما
عموم من وجه كما لا يخفى. وأما إذا لم يكن أحدهما من الكتاب أو كان كلاهما
منه فيسقطان، وذلك لما ذكرناه: من أن التعارض بين الدليلين إذا كان بالإطلاق
فمقتضى القاعدة: سقوط إطلاق كليهما والرجوع إلى الأصل العملي إذا لم يكن
هناك أصل لفظي من عموم أو إطلاق، وليس المرجع في مثله المرجحات السندية،
وذلك لعدم تمامية جريان مقدمات الحكمة في كل منهما في هذا الحال، فلا
موجب لترجيح أحدهما على الآخر إذا كان واجدا للترجيح (2)، ومقتضى الأصل
العملي في المقام هو التخيير، حيث إنا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما من الخارج،
فيكون المرجع أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك.
ونتيجة ذلك: هي جزئية الجامع بينهما من دون اعتبار أية خصوصية.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن الرجوع إلى مرجحات باب التعارض منحصر

(1) انظر مصباح الأصول: ج 3 ص 376.
(2) راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 427.
317

في خصوص القسم الرابع فحسب، أما في الأقسام الباقية فلا يرجع في شئ منها
إلى تلك المرجحات أبدا. هذا كله إذا كان الأمر دائرا بين جزءين أو شرطين
مختلفين في النوع.
وأما إذا كان الأمر دائرا بين فردين من نوع واحد - كما إذا دار الأمر بين ترك
القيام في الركعة الأولى وتركه في الركعة الثانية، أو دار الأمر بين ترك القراءة في
الركعة الأولى وتركها في الثانية، وهكذا... - ففي أمثال هذه الموارد الدليل على
وجوب ذلك وإن كان واحدا في مقام الإثبات والإبراز، إلا أنه - في الواقع - ينحل
بانحلال أفراد هذا النوع، فيثبت لكل منها وجوب. وعليه، فلا محالة تقع المعارضة
بين وجوب هذا الفرد ووجوب ذاك الفرد، بمعنى: استحالة جعل وجوب كليهما
معا في هذا الحال، ففي هذين المثالين تقع المعارضة بين وجوب القيام في الركعة
الأولى ووجوبه في الثانية: وبين وجوب القراءة في الأولى ووجوبها في الثانية.
وهكذا...، للعلم الإجمالي بجعل أحدهما في الواقع واستحالة جعل كليهما معا.
ومن الواضح أنا لا نعني بالتعارض إلا التنافي بين الحكمين بحسب مقام الجعل،
وهو موجود في أمثال تلك الموارد.
وعلى هذا، فمقتضى القاعدة هنا التخيير بمعنى: جعل الشارع أحدهما جزءا،
إذ احتمال اعتبار خصوصية كل منهما مدفوع بأصالة البراءة، فإن اعتبارها يحتاج
إلى مؤونة زائدة، ومقتضى الأصل عدمها.
فإذا النتيجة: هي جزئية الجامع بينهما، لا خصوص هذا ولا ذاك، هذا كله
حسب ما تقتضيه القاعدة في دوران الأمر بين فردين طوليين من نوع واحد.
وأما بحسب الأدلة الخاصة فقد ظهر من بعض أدلة وجوب القيام تعينه في
الركعة الأولى، وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة جميل بن دراج " إذا قوي فليقم " (1)
فإنه ظاهر في وجوب القيام مع القدرة عليه فعلا، وأن المسقط له ليس إلا العجز

(1) راجع الوسائل: ج 5 ص 495 ب 6 من أبواب القيام ح 3.
318

الفعلي، والمفروض: أن المكلف قادر عليه فعلا في الركعة الأولى، فإذا كان
قادرا عليه كذلك يتعين بمقتضى قوله (عليه السلام): " إذا قوي فليقم ". ومن المعلوم أنه
إذا قام في الأولى عجز عنه في الثانية فيسقط بسقوط موضوعه وهو القدرة.
وأما غير القيام: كالقراءة والركوع والسجود ونحوها فلا يظهر من أدلتها
وجوب الإتيان بها في الركعة الأولى في مثل هذه الموارد، أعني: موارد دوران
الأمر بين ترك هذه الأجزاء في الأولى وتركها في الثانية، لعدم ظهورها في
وجوب تلك الأمور مع القدرة عليها فعلا، بل هي ظاهرة في وجوبها مع القدرة
عليها في تمام الصلاة. وعليه، فلا فرق بين القدرة عليها في الركعة الأولى والقدرة
عليها في الركعة الثانية أصلا، ولا يجب صرف القدرة فيها في الأولى، بل له
التحفظ بها عليها في الثانية. فإذا المرجع فيها: هو ما ذكرناه من التخيير باعتبار أن
الدليل - كما عرفت - لا يمكن أن يشمل كليهما معا، لفرض عدم القدرة عليهما
كذلك. هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنا نعلم إجمالا بوجوب أحدهما ونرفع اعتبار خصوصية
كل منهما بالبراءة.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي التخيير لا محالة، ووجوب الجامع
بينهما، لا خصوص هذا ولا ذاك.
وعلى ما ذكرناه من الضابط في باب الأجزاء والشرائط يظهر حال جميع
الفروع المتقدمة التي ذكرها شيخنا الأستاذ (قدس سره)، وكذا حال عدة من الفروع التي
تعرضها السيد (قدس سره) في العروة (1).
وعلى أساس ذلك تمتاز نظريتنا عن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) في هذه
الفروع.
والنقطة الرئيسية للامتياز بين النظريتين: هي أنا لو قلنا بانطباق كبرى

(1) راجع العروة الوثقى: ج 1 ص 436 مبحث القيام المسألة (14).
319

باب التزاحم على تلك الفروع فلابد - عندئذ - من الالتزام بمرجحاتها ومراعاة
قوانينها: كتقديم الأهم أو محتمل الأهمية على غيره، وتقديم ما هو أسبق زمانا
على المتأخر، وما هو مشروط بالقدرة عقلا على ما كان مشروطا بها شرعا،
وهكذا...، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بانطباق كبرى باب التعارض عليها، فإنه على
هذا لا أثر لشئ من تلك المرجحات أصلا، ضرورة أن الأهمية أو الأسبقية لا
تكون من المرجحات في باب التعارض.
ووجهه واضح، وهو: أن الأهمية أو الأسبقية إنما تكون مرجحة على تقدير
ثبوتها، وفي فرض تحقق موضوعها. ومن المعلوم أن في باب التعارض أصل
الثبوت غير محرز، فإن أهمية أحد المتعارضين على فرض ثبوته في الواقع وكونه
مجعولا فيه. ومن الواضح - جدا - أنها لا تقتضي ثبوته.
ومن هنا قد ذكرنا: أن كبرى مسألة التعارض كما تمتاز عن كبرى مسألة
التزاحم بذاتها كذلك تمتاز عنها بمرجحاتها، فلا تشتركان في شئ أصلا. وعليه،
فالمرجع في باب الأجزاء والشرائط هو ما ذكرناه، ولا أثر للسبق الزماني
والأهمية فيها أبدا.
وعلى هدي تلك النقطة تظهر الثمرة بين القول بالتزاحم والقول بالتعارض في
عدة موارد وفروع.
منها: ما إذا دار الأمر بين ترك الركوع في الركعة الأولى وتركه في الثانية.
فعلى القول الأول يتعين تقديم الركوع - مثلا - في الركعة الأولى على الركوع
في الثانية من جهة انطباق كبرى تقديم ما هو أسبق زمانا على غيره هنا، فلو ترك
الركوع في الأولى وأتى به في الثانية بطلت صلاته.
وعلى القول الثاني فالأمر فيه التخيير كما عرفت. وعليه، فيجوز للمكلف أن
يأتي بالركوع في الأولى ويترك في الثانية وبالعكس، فتكون صلاته على كلا
320

التقديرين صحيحة. وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القراءة في الركعة
الأولى وتركها في الثانية. وهكذا...
ومنها: ما إذا دار الأمر في الصلاة بين ترك القيام وترك الركوع.
فعلى الأول يمكن الحكم بتقديم القيام نظرا إلى سبقه زمانا، ويمكن الحكم
بالعكس نظرا إلى كون الركوع أهم منه. وقد فعل شيخنا الأستاذ (قدس سره) ذلك في هذا
الفرع كما تقدم.
وعلى الثاني فالأمر فيه التخيير باعتبار أن التعارض بين دليليهما بالإطلاق،
فيسقط كلا الإطلاقين، فيرجع إلى أصالة عدم اعتبار خصوص هذا وذاك، فتكون
نتيجة ذلك التخيير، أعني: وجوب أحدهما لا بعينه.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين ترك الطمأنينة في الركن كالركوع والسجود وما
شاكلهما، وتركها في غيره: كالأذكار والقراءة ونحوهما.
فعلى الأول يتعين سقوط قيد غير الركن، لكون قيده أهم منه، فيتقدم الأهم
في باب المزاحمة.
وعلى الثاني فلا وجه للتقديم أصلا، لما عرفت: من أن الدليل على اعتبار
الطمأنينة هو الإجماع، ومن المعلوم أنه لا إجماع في هذا الحال. وعليه فترجع إلى
أصالة البراءة عن اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك، فتكون النتيجة
هي التخيير.
ومنها: ما إذا دار الأمر بين القيام المتصل بالركوع والقيام في حال القراءة.
فبناء على الأول لابد من تقديم القيام المتصل بالركوع على القيام في حال
القراءة، لكونه أهم منه. أما من جهة أنه بنفسه ركن أو هو مقوم للركن كالركوع،
ولذا حكم شيخنا الأستاذ (قدس سره) بتقديمه عليه في الفروع المتقدمة.
وبناء على الثاني فلا وجه للتقديم أصلا، بل الأمر في مثله العكس، وذلك لما
أشرنا إليه: من أن المستفاد من صحيحة جميل بن دراج المتقدمة وجوب القيام
321

فعند تمكن المكلف منه فعلا، والمفروض أن المكلف في مثل المقام قادر فعلا على
القيام في حال القراءة، فإذا كان الأمر كذلك يتعين عليه، ولا يجوز له تركه
باختياره وإرادته.
فما ذكره (قدس سره) من الكبريات التي بنى فيها على إعمال قواعد باب التزاحم
ومرجحاته لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، وقد عرفت أن تلك الكبريات جميعا
داخلة في باب التعارض، فالمرجع فيها هو قواعد ذلك الباب، ولأجل ذلك
تختلف نظريتنا فيها عن نظرية شيخنا الأستاذ (قدس سره) تماما وإن كانت النتيجة في
بعضها واحدة على كلتا النظريتين، وذلك كما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في
الصلاة وترك جزء أو قيد آخر فلا إشكال في تقديم الطهور على غيره على
كلا المسلكين.
أما على مسلك من بنى ذلك على باب التزاحم فواضح، لكون الطهور أهم من
غيره، ومن هنا قلنا بسقوط الصلاة لفاقده، وهذا واضح.
وأما على مسلك من بنى ذلك على باب التعارض فأيضا كذلك. والوجه فيه ما
ذكرناه غير مرة: من أن الطهور مقوم للصلاة فلا تصدق الصلاة بدونه (1)، ولذا ورد
في الرواية: أن " الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث منها الركوع، وثلث منها السجود، وثلث
منها الطهور " (2). وقد ذكرنا في محله: أن الركوع والسجود بعرضهما العريض ركنا
الصلاة وثلثاها لا بخصوص مرتبتهما العالية (3). كما أنا ذكرنا: أن المراد من الطهور
الذي هو ركن للصلاة: الجامع بين الطهارة المائية والترابية (4). هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الصلاة لا تسقط بحال، فلو سقطت مرتبة منها لم تسقط
مرتبة أخرى منها، وهكذا...، للنصوص الدالة على ذلك كما عرفت.

(1) منها: ما تقدم في ج 1 ص 184.
(2) راجع الوسائل: ج 6 ص 310 ب 9 من أبواب الركوع ح 1 مع تقديم وتأخير.
(3) راجع: ج 1 ص 183 - 184.
(4) راجع: ج 1 ص 183 - 184.
322

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لابد في مقام دوران الأمر بين
الطهور وغيره من تقديم الطهور، ضرورة أنه في فرض العكس - أي: تقديم غيره
عليه - لا صلاة لتجب مع ذلك القيد، إذا لا تعارض ولا دوران في البين أصلا،
ضرورة أن التعارض بين دليلي الجزءين أو الشرطين أو الشرط والجزء إنما
يتصور مع فرض وجود الموضوع - وهو حقيقة الصلاة - ليكون وجوبها ثانيا
بدليل خاص موجبا للتعارض بينهما.
وأما إذا فرض دوران الأمر بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وغيره فيتعين
تقديم الأول وصرف القدرة فيه، ولا يمكن العكس، بداهة أنه يلزم من وجوب
هذا القيد عدمه، إذ معنى تقديمه: هو أنه واجب في ضمن الصلاة، والمفروض أن
تقديمه عليه مستلزم لانتفاء الصلاة. ومن المعلوم أن كل ما يلزم من وجوده عدمه
فهو محال، وهذا لا من ناحية أهمية الطهور ليقال: إنه لا عبرة بها في باب التعارض
أصلا، بل هو من ناحية أن تقديم غيره عليه يوجب انتفاء حقيقة الصلاة، فلا صلاة
- عندئذ - لتجب.
وبتعبير آخر: أن دوران الأمر بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط على كلا
القولين أي: القول بالتعارض والقول بالتزاحم - إنما هو في فرض تحقق حقيقة
الصلاة وصدقها بأن لا يكون انتفاء شئ منهما موجبا لانتفاء الصلاة، فعندئذ يقع
الكلام في تقديم أحدهما على الآخر، فبناء على القول بالتزاحم يرجع إلى قواعده
وأحكامه، وبناء على القول بالتعارض يرجع إلى مرجحاته وقواعده.
وأما إذا فرضنا دوران الأمر بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وغيره فلا إشكال
في تقديم الأول على الثاني وعدم الاعتناء به، ضرورة أن مرجع هذا إلى دوران
الأمر بين سقوط أصل الصلاة وسقوط جزئها أو قيدها. ومن المعلوم أنه لا معنى
لهذا الدوران أصلا، حيث إنه لا يعقل سقوط أصل الصلاة وبقاء القيد على وجوبه،
لفرض أن وجوبه ضمني لا استقلالي.
وقد تحصل من ذلك: كبرى كلية، وهي: أنه لا معنى لوقوع التزاحم
323

أو التعارض بين ما هو مقوم لحقيقة الصلاة وبين غيره من الأجزاء أو الشرائط.
هذا بناء على ما قويناه من سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وغيرهما
من الأركان (1).
وأما بناء على عدم سقوطها عنه فوقتئذ تفترق نظرية التزاحم في أمثال هذه
الموارد عن نظرية التعارض، إذ على الأول لابد من تقديم الطهور على غيره في
مقام وقوع المزاحمة بينهما لأهميته. وأما على الثاني - وهو نظرية التعارض - فلا
وجه لتقديمه على غيره من هذه الناحية أصلا، لما عرفت: من أنه لا عبرة بالأهمية
في باب التعارض أبدا. فإذا لابد من الرجوع إلى أدلتهما:
فإن كان الدليل الدال على أحدهما عاما والآخر مطلقا فيقدم العام على
المطلق كما عرفت (2).
وإن كان كلاهما عاما فيقع التعارض بينهما فيرجع إلى مرجحاته.
وإن كان كلاهما مطلقا فيسقط كلا الإطلاقين ويرجع إلى الأصل العملي،
وهو: أصالة عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك، ونتيجته: التخيير
كما سبق.
وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى وتركه في
الثانية، فإن النتيجة في هذا الفرع أيضا واحدة على كلا القولين، وهي: تقديم القيام
في الركعة الأولى على القيام في الثانية، ولكن على القول بالتزاحم بملاك أنه أسبق
زمانا من الآخر، وقد عرفت: أن ما هو أسبق زمانا يتقدم على غيره، فيما إذا كان
كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا (3)، كما هو كذلك في المقام، وعلى القول
بالتعارض فمن ناحية النص المتقدم. هذا تمام كلامنا في الناحية الأولى.
وأما الناحية الثانية - وهي: ما ذكره (قدس سره) من الترجيح للتقديم في هذه الفروع -

(1) راجع التنقيح في شرح العروة: ج 10 ص 66 كتاب الطهارة.
(2) تقدم في ص 316 - 317.
(3) راجع ص 250.
324

فأيضا لا تتم على إطلاقها على فرض تسليم أن تلك الفروع من صغريات
باب التزاحم.
وبيان ذلك يحتاج إلى درس كل واحد من هذه الفروع على حده.
أما الفرع الأول - وهو: ما إذا دار الأمر بين ترك الطهور في الصلاة وترك قيد
آخر من قيودها - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط قيد آخر ولو كان وقتا.
وغير خفي أنه لابد من فرض هذا الفرع في غير الأركان من الأجزاء أو
الشرائط، ضرورة أنه في فرض دوران الأمر بين سقوط الطهور وسقوط ركن آخر
بعرضه العريض: كالركوع أو السجود أو التكبيرة لا صلاة لتصل النوبة إلى أنها
واجبة مع هذا أو ذاك، لفرض أنها تنتفي بانتفاء ركن منها. فإذا لا موضوع للتزاحم
ولا التعارض.
نعم، يمكن دوران الأمر بين سقوطه وسقوط مرتبة منها، فإن حاله حال
دوران الأمر بينه وبين سقوط بقية الأجزاء والشرائط، كما هو واضح.
ومن هنا يظهر: أنه لا يعقل التزاحم بين الطهور والوقت أيضا، ضرورة انتفاء
الصلاة بانتفاء كل منهما، فلا موضوع - عندئذ - للتزاحم ليرجح أحدهما على
الآخر.
فما أفاده (قدس سره): من أنه يسقط ذلك القيد وإن كان وقتا لا يرجع إلى معنى
محصل، لفرض أن الصلاة تسقط بسقوط الوقت فلا صلاة - عندئذ - لتجب مع
الطهور.
وبعد ذلك نقول: إنه لا إشكال في تقديم الطهور على غيره من الأجزاء
والشرائط، وليس وجهه مجرد كونه أهم، بل وجهه ما ذكرناه: من أن الطهور بما أنه
مقوم لحقيقة الصلاة فلا تعقل المزاحمة بينه وبين غيره، ضرورة أن مرجع ذلك إلى
دوران الأمر بين ترك نفس الصلاة وترك قيدها. ومن الواضح - جدا - أنه لا معنى
لهذا الدوران أصلا. ومن هنا قلنا: إن التزاحم بين جزءين أو شرطين أو جزء
وشرط إنما يعقل فيما إذا لم يكن أحدهما مقوما لحقيقة الصلاة، وإلا فلا موضوع له
325

لتصل النوبة إلى ملاحظة المرجح لتقديم أحدهما على الآخر، ولا يشمله ما دل
على أن الصلاة لا تسقط بحال من رواية أو إجماع قطعي، ضرورة أن هذا العمل
ليس بصلاة.
وأما الفرع الثاني - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط
قيد آخر - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط الطهارة المائية، وأفاد في وجه ذلك: أن أجزاء
الصلاة وشرائطها وإن كانت مشروطة بالقدرة شرعا - لما دل على أن الصلاة لا
تسقط بحال - إلا أن الطهارة المائية خاصة تمتاز عن بقية الأجزاء والشرائط من
ناحية جعل الشارع لها بدلا دون غيرها، فبذلك تتأخر رتبتها عن الجميع.
ونأخذ بالمناقشة عليه، وملخصها: هو أن ثبوت البدل شرعا لا يختص
بخصوص الطهارة المائية، فكما أن لها بدلا - وهو: الطهارة الترابية - فكذلك لبقية
الأجزاء والشرائط.
والوجه في ذلك: هو أن الصلاة إنما هي مأمور بها بعرضها العريض،
لا بمرتبتها الخاصة، وهي المرتبة العليا المعبر عنها ب‍ " صلاة المختار ". وعلى هذا،
فكما أن المكلف لو لم يتمكن من الصلاة مع الطهارة المائية تنتقل وظيفته إلى
الصلاة مع الطهارة الترابية فكذلك لو لم يتمكن من الصلاة في الثوب أو البدن
الطاهر، أو مع الركوع والسجود، أو في تمام الوقت، أو مع قراءة فاتحة الكتاب،
أو غير ذلك فتنتقل وظيفته إلى الصلاة في بدل هذه الأمور، وهو في المثال الأول:
الصلاة عاريا على المشهور، وفي الثوب النجس على المختار. وفي الثاني: الصلاة
مع الإيماء والإشارة. وفي الثالث: إدراك ركعة واحدة من الصلاة في الوقت، فإنه
بدل لإدراك تمام الركعات فيه. وفي الرابع: الصلاة مع التكبيرة والتسبيح، وهكذا...
وعلى الجملة: فبما أن الصلاة واجبة بتمام مراتبها بمقتضى الروايات العامة
والخاصة فلا محالة لو سقطت مرتبة منها تجب مرتبة أخرى، وهكذا...
326

ونتيجة هذا - لا محالة -: عدم الفرق بين الطهارة المائية وغيرها من الأجزاء
والشرائط، لفرض أنه قد ثبت لكل منها بدل بدليل خاص، ك‍: ما دل على وجوب
الصلاة مع الإيماء عند تعذر الركوع والسجود، أو مع الركوع قاعدا عند تعذر
الركوع قائما. وما دل على وجوبها قاعدا عند تعذر القيام، وما دل على وجوبها مع
التكبيرة والتسبيح عند تعذر القراءة، وما دل على وجوبها مع إدراك ركعة منها في
الوقت عند تعذر إدراك تمام ركعاتها فيه، وهكذا. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: المفروض: أن أجزاء الصلاة وشرائطها مشروطة بالقدرة
شرعا، لما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا وجه لتقديم غير الطهارة
المائية من الأجزاء والشرائط عليها في مقام المزاحمة، لا من ناحية أن لها بدلا،
ولا من ناحية اشتراطها بالقدرة شرعا، لما عرفت: من أن البقية جميعا تشترك معها
في هاتين الناحيتين على نسبة واحدة.
وقد تحصل مما ذكرناه: أن ما أفاده (قدس سره) من الكبرى الكلية - وهي: تقديم
ما ليس له بدل على ماله بدل - وإن كان تاما إلا أنه لا ينطبق على المقام.
ويجب علينا أن ندرس هذا الفرع من جهات:
الأولى: فيما إذا دار الأمر بين سقوط الطهارة المائية وسقوط خصوص
السورة في الصلاة.
الثانية: فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط الأركان.
الثالثة: فيما إذا دار الأمر بين سقوطها وسقوط بقية الأجزاء أو الشرائط.
أما الجهة الأولى: فالظاهر أنه لا شبهة في تقديم الطهارة المائية على السورة،
وذلك لما دل على أنها تسقط بالاستعجال والخوف، وهو صحيحة محمد بن
مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته؟
قال: " لا صلاة إلا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات " قلت: أيما أحب إليك إذا كان
327

خائفا أو مستعجلا يقرأ سورة أو فاتحة الكتاب؟ قال: " فاتحة الكتاب " (1)، فإنها
تدل على سقوطها بالاستعجال والخوف من ناحية فوت جزء أو شرط آخر، فإن
موردها وإن كان خصوص دوران الأمر بينها وبين فاتحة الكتاب إلا أنه من
الواضح - جدا - عدم خصوصية لها. فإذا لا يفرق بينها وبين غيرها من الأجزاء
والشرائط منها: الطهارة المائية، ضرورة أن العبرة إنما هي بتحقق الخوف
والاستعجال.
وقد تحصل من ذلك: أن هذا التقديم لا يستند إلى إعمال قواعد باب التزاحم
أو التعارض، بل هو مستند إلى النص المتقدم.
وأما الجهة الثانية: فلا شبهة في تقديم الأركان على الطهارة المائية، بلا فرق
بين وجهة نظرنا ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قدس سره) في أمثال المقام، وذلك لأن ملاك
التقديم هنا أمر آخر، لا إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض ليختلف
باختلاف النظرين.
بيان ذلك على وجه الإجمال: هو أن الصلاة - كما حققناه في محله (2) - اسم
للأركان خاصة، وأما بقية الأجزاء والشرائط فهي خارجة عن حقيقتها، فلذا لا
تنتفي بانتفائها كما تنتفي بانتفاء الأركان. وعليه، فإذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى:
* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...) * (3) بضميمة أن الصلاة لا تسقط بحال.
فالنتيجة: هي أن الصلاة المفروغ عنها في الخارج التي: هي عبارة عن
الأركان قد أمر الشارع في هذه الآية الكريمة بإتيانها مع الطهارة المائية في فرض
وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى الجملة: فالصلاة حيث إنها كانت اسما للأركان والبقية قيود خارجية
قد اعتبرت فيها في ظرف متأخر، وإن قلنا: إنها عند وجودها داخلة في

(1) راجع الوسائل: ج 6 ص 37 ب 1 من أبواب القراءة ح 1.
(2) تقدم في المحاضرات: ج 1 ص 181 فراجع.
(3) المائدة: 6.
328

المسمى إلا أن دخولها فيه ليس بمعنى دخلها فيه بحيث ينتفي بانتفائها، بل بمعنى:
أن المسمى قد اخذ لا بشرط بالإضافة إلى الزيادة فلا محالة لا تنتفي بانتفائها.
وعلى ذلك، فإذا ضممنا هذا إلى ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال والى
أدلة الأجزاء والشرائط منها هذه الآية المباركة فالنتيجة: هي أن الإتيان بالأركان
واجب على كل تقدير، وأنها لا تسقط مطلقا، أي: سواء أكان المكلف متمكنا من
البقية أم لم يكن متمكنا، ضرورة أن في صورة العكس - أي: تقديم الأجزاء أو
الشرائط على الأركان - فلا يصدق على العمل المأتي به صلاة ليتمسك بما دل
على أن الصلاة لا تسقط بحال. فإذا لا موضوع للتعارض ولا التزاحم هنا كما هو
واضح. هذا كله فيما إذا دار الأمر بين ترك ركن بعرضه العريض وترك الطهارة
المائية أو غيرها من القيود.
وأما إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من الركن وسقوط الطهارة المائية فهل
الأمر كما تقدم أم لا؟ وجهان، الظاهر هو الوجه الثاني، وذلك لأن ما ذكرناه في
وجه تقديم الركن عليها لا يجري في هذا الفرض. والوجه فيه: ما حققناه في بحث
الصحيح والأعم: من أن لفظة " الصلاة " موضوعة للأركان بعرضها العريض، لا
لخصوص المرتبة العليا منها (1). وعلى، هذا يترتب أن الصلاة لا تنتفي بانتفاء تلك
المرتبة، وإنما تنتفي بانتفاء جميع مراتبها.
فإذا يكون المراد من الصلاة في الآية المباركة - وهي: قوله تعالى: " إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم... " - هو الأركان بعرضها العريض، لا
خصوص مرتبة منها، غاية الأمر يجب الإتيان بالمرتبة العليا في فرض التمكن
منها عقلا وشرعا، والمرتبة الأخرى دونها في فرض عدم التمكن من الأولى،
وهكذا...، وكذا الحال في الطهور، حيث إنه يجب على المكلف الطهارة المائية في
فرض وجدان الماء، والطهارة الترابية في فرض فقدانه.
وعلى ضوء هذا، فالآية الكريمة تدل على أن الصلاة المفروغ عنها في

(1) تقدم في المحاضرات: ج 1 ص 182 فراجع.
329

الخارج - وهي الجامع بين مراتبها - واجبة على المكلف مع الوضوء أو الغسل في
فرض كونه واجدا للماء، ومع التيمم في فرض كونه فاقدا له، ولا تدل على وجوب
كل مرتبة من مراتبها كذلك، فإذا دار الأمر بين الإتيان بالمرتبة العالية منها مع
الطهارة الترابية، والمرتبة الدانية منها مع الطهارة المائية فالآية لا تدل على وجوب
الإتيان بالأولى دون الثانية أصلا، بل ولا إشعار في الآية بذلك، لفرض أن الصلاة
لا تنتفي بانتفاء تلك المرتبة. وقد عرفت أن الآية تدل على وجوب الصلاة، وهي
الجامع بين هذه المراتب بالكيفية المزبورة، فعندئذ الحكم بوجوب تلك المرتبة
ومشروعيتها في هذا الحال وسقوط الطهارة المائية يحتاج إلى دليل آخر، ولا
يمكن إثبات مشروعيتها بالآية المباركة، لاستلزامه الدور، فإن مشروعيتها في
هذا الحال تتوقف على دلالة الآية، وهي تتوقف على مشروعيتها في هذا الحال.
وعلى الجملة: فلو دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر فلا
إشكال في سقوط المرتبة، بل لا دوران - في الحقيقة - بمقتضى الآية الكريمة،
لفرض أن اعتبار الأركان بعرضها العريض مفروغ عنه دون اعتبار كل مرتبة من
مراتبها، ولذا قلنا: إن الأركان مشروطة بالقدرة عقلا دون كل مرتبة منها، فإنها
مشروطة بالقدرة شرعا، وهذا واضح.
وأما إذا دار الأمر بين سقوط مرتبة من ركن وسقوط مرتبة من ركن آخر -
كما في مفروض الكلام - فلا دلالة للآية على تقديم بعضها على بعضها الآخر أبدا،
ضرورة أن دلالتها في محل الكلام تبتنى على نقطة واحدة، وهي: أن يكون
الداخل في مسمى الصلاة المرتبة العليا من الأركان مع الطهور الجامع بين المائية
والترابية فحسب، وعلى هذا، فإذا دار الأمر بين سقوط تلك المرتبة وسقوط
الطهارة المائية تسقط الطهارة المائية، لفرض أن اعتبارها - عندئذ - متفرع على
ثبوتها، لا في عرضها، لدلالة الآية الكريمة - وقتئذ - على وجوب الإتيان بها مع
الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، ومع الطهارة الترابية في فرض فقدانه، إلا
أنك عرفت أن تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع، وأن الصلاة موضوعة
للجامع بين مراتبها لا غير.
330

وعليه، ففي مسألتنا هذه وما شاكلها على وجهة نظر من يرى أنها داخلة في
كبرى باب التعارض فلابد من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب على ما تقدم بصورة
مفصلة. وعلى وجهة نظر من يرى أنها داخلة في كبرى باب التزاحم فلابد من
الرجوع إلى مرجحات وقواعد ذلك الباب: كالسبق الزماني والأهمية ونحوهما.
أما الأول - وهو: السبق الزماني - فإن كان موجودا بأن يكون أحدهما سابقا
على الآخر زمانا فلا مانع من الترجيح به، وذلك لما ذكرناه: من أن السبق الزماني
مرجح في الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا (1)،
والمفروض: أن كل مرتبة من مراتب الأركان مشروطة بالقدرة شرعا وإن كانت
الأركان بتمام مراتبها مشروطة بها عقلا، فإذا يتقدم ما هو الأسبق زمانا على
الأخرى.
وأما الثاني - وهو الأهمية - فالظاهر أنه مفقود في المقام، وذلك لأنا لم نحرز
أن المرتبة العالية من الركوع - مثلا - أهم من المرتبة العالية من الطهور، وبالعكس،
كما هو واضح.
نعم، احتمال كون المرتبة العالية منه أهم منها موجود، ولا مناص عنه، ولا
سيما بالإضافة إلى المرتبة العالية من الركوع والسجود، وذلك لأنا نستكشف من
جعل الشارع التراب أحد الطهورين أن المصلحة القائمة بالطهارة الترابية ليست
أدون بكثير من المصلحة القائمة بالطهارة المائية، وهذا بخلاف المرتبة الدانية من
الركوع والسجود وهي الإيماء، فإن المصلحة الموجودة فيه أدون بكثير من
المصلحة الموجودة فيهما، كما لا يخفى. وعليه فلابد من تقديمها على الطهارة
المائية، لما تقدم مفصلا: من أن محتمل الأهمية من المرجحات (2)، فلا مناص من
تقديمه على الآخر في مقام المزاحمة.
وأما الثالث - وهو: أن المشروط بالقدرة عقلا يتقدم على المشروط بها شرعا -
فهو مفقود في المقام، لما عرفت: من أن كلتيهما مشروطة بالقدرة شرعا.

(1) راجع ص 250.
(2) سبق ذكره في ص 284.
331

ونتيجة ما ذكرناه عدة نقاط:
الأولى: أنه لا يعقل دوران الأمر بين سقوط ركن وسقوط ركن آخر، لانتفاء
الصلاة - عندئذ - على كل تقدير.
الثانية: أنه إذا دار الأمر بين ترك ركن وترك مرتبة من ركن آخر فلا إشكال
في تعين ترك المرتبة، بل قد عرفت: أنه لا دوران في مثله، ولا موضوع للتعارض
ولا التزاحم، فيقدم الركن على مرتبة من الركن الآخر بمقتضى " لا تسقط الصلاة
بحال " وبمقتضى الآية الكريمة كما سبق.
الثالثة: أن في فرض دوران الأمر بين سقوط مرتبة من ركن: كالركوع أو
السجود وسقوط مرتبة من آخر: كالطهور لا تدل الآية، ولا تسقط الصلاة بحال
على سقوط الثانية دون الأولى، بل لابد فيه من الرجوع إلى قواعد باب التعارض
أو التزاحم على ما عرفت.
وأما الجهة الثالثة - وهي: ما إذا دار الأمر بين الطهارة المائية وبقية الأجزاء أو
الشرائط - فالصحيح: أنه لا وجه لتقديم سائر الأجزاء أو الشرائط على الطهارة
المائية، وذلك لأن ما ذكرناه في وجه تقديم الأركان عليها لا يجري هنا. والوجه
فيه: ما تقدم: من أن الصلاة اسم للأركان خاصة، ووجوب تلك الأركان مفروغ عنه
في الخارج مطلقا، أي: سواء كان المكلف متمكنا من بقية الأجزاء أو الشرائط أم
لم يتمكن من ذلك، لفرض أن اعتبار البقية متفرع على ثبوتها وفي ظرف متأخر
عنها، لا مطلقا كما هو الحال فيها.
ومن هنا قلنا: إن المراد من الصلاة في الآية الكريمة: هو الأركان، فإنها حقيقة
الصلاة ومسماها، كانت معها بقية الأجزاء أو الشرائط أم لم تكن. وكذا المراد من
الصلاة في قوله (عليه السلام): " لا تسقط الصلاة بحال " (1)، ولذلك ذكرنا: أن الآية تدل على

(1) الوسائل: ج 2 ص 373 ب 1 من أبواب الاستحاضة ح 5.
332

وجوب الإتيان بها مطلقا، سواء أكانت معها البقية أم لم تكن.
وعلى هذا الأصل فلا تدل الآية على تقديم سائر الأجزاء أو الشرائط
على الطهارة المائية أصلا، لفرض أنها غير دخيلة في المسمى من ناحية،
وعدم تفرع اعتبار الطهارة المائية على اعتبارها من ناحية أخرى، بل هو في
عرض اعتبار تلك.
ودعوى: أن المراد من الصلاة في الآية المباركة بضميمة ما استفدنا من أدلة
اعتبار الأجزاء والشرائط هو الواجدة للجميع، لا خصوص الأركان. هذا من
جانب، ومن جانب آخر أنا قد ذكرنا في بحث الصحيح والأعم: أن البقية عند
وجودها داخلة في المسمى، وعدمها لا يضر به على تفصيل هناك (1). فالنتيجة
على ضوء هذين الجانبين: هي أن الآية تدل على وجوب الإتيان بالصلاة الواجدة
لجميع الأجزاء والشرائط مع الطهارة المائية في فرض وجدان الماء، ومع الطهارة
الترابية في فرض فقدانه، وهذا معنى دلالتها على تقديم البقية عليها.
مدفوعة: بأن اعتبارها في هذا الحال ودخولها في المسمى أول الكلام،
ضرورة أن اعتبارها يتوقف على دخولها فيه، والمفروض: أن دخولها فيه يتوقف
على اعتبارها في هذا الحال.
فإذا لا دلالة للآية - بضميمة قوله (عليه السلام): " لا تسقط الصلاة بحال " - على تقديم
بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة المائية. وعليه فلابد من الرجوع إلى قواعد
باب التعارض في المقام بناء على دخوله في هذا الباب، وإلى قواعد باب التزاحم
بناء على دخوله فيه، والثاني هو مختاره (قدس سره) هنا.
أما الأول فقد تقدم ضابطه فلا نعيد.
وأما الثاني - وهو بناء على دخوله في باب التزاحم - فتقديم سائر الأجزاء
أو الشرائط عليها يبتنى على أحد أمور:
الأول: دعوى أن للطهارة المائية بدلا دون غيرها، فيقدم ما ليس له بدل

(1) تقدم في المحاضرات: ج 1 ص 179 - 181.
333

على ماله بدل، ولكن قد عرفت فساد تلك الدعوى بشكل واضح (1).
الثاني: دعوى أن الطهارة المائية مشروطة بالقدرة شرعا بمقتضى الآية
الكريمة دون البقية، وقد تقدم أن ما هو مشروط بالقدرة عقلا يتقدم على ما هو
مشروط بها شرعا.
ويردها: ما ذكرناه: من أن أجزاء الصلاة وشرائطها جميعا مشروطة بالقدرة
شرعا، لما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال، فلا فرق من هذه الناحية بين الطهارة
المائية وغيرها أصلا.
الثالث: دعوى أن بقية الأجزاء والشرائط أهم من الطهارة المائية. وفيه: أنه لا
طريق لنا إلى إحراز كونها أهم منها أصلا.
وقد تحصل من ذلك: أنه لا وجه لتقديم بقية الأجزاء أو الشرائط على الطهارة
المائية أبدا في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، بل يمكن القول بتقديم
الطهارة المائية على غيرها من الأجزاء، أو باعتبار أنها سابقة عليها زمانا، كما إذا
فرض دوران الأمر بين ترك الوضوء أو الغسل فعلا، وسقوط جزء في ظرفه بأن لا
يتمكن المكلف من الجمع بينهما، فلا مانع من الحكم بتقديم الوضوء أو الغسل
عليه، لفرض أن التكليف بالإضافة إليه فعلي ولا مانع منه أصلا. وقد تقدم: أن
الأسبق زمانا يتقدم على غيره فيما إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا (2)،
وما نحن فيه كذلك. فما أفاده (قدس سره): من أنه يقدم على الطهارة المائية كل قيد من
قيود الصلاة لا يمكن المساعدة عليه.
وأما الفرع الثالث - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة من الوقت
وسقوط قيد آخر غير الطهور - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط ذلك القيد.
أقول: أما استثناء الطهور من ذلك وإن كان صحيحا ولا مناص عنه إلا أنه
لا معنى للاقتصار عليه، بل لابد من استثناء جميع الأركان من ذلك، لما تقدم: من
أنه في فرض دوران الأمر بين سقوط ركن رأسا وسقوط ركن آخر كذلك تسقط

(1) مر ذكره في ص 326 - 327.
(2) تقدم في ص 250.
334

الصلاة يقينا، لفرض أنها تنتفي بانتفاء كل منهما.
فإذا لا موضوع للتمسك ب‍ " لا تسقط الصلاة بحال "، والإجماع القطعي على
ذلك، ضرورة أنه لا صلاة في هذا الحال ليقال: إنها لا تسقط. وعليه، فإذا دار الأمر
بين سقوط إدراك ركعة من الوقت وسقوط الطهور رأسا تسقط الصلاة - عندئذ - لا
محالة، لفرض انها كما تسقط بسقوط الطهور، كذلك تسقط بعدم إدراك ركعة في
الوقت. هذا إذا كان غرضه من الاستثناء ذلك.
وأما إذا كان غرضه منه هو أن الطهور يقدم على الوقت في هذا الحال - أعني:
ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك ركعة في الوقت وسقوط الطهور رأسا - فقد
عرفت فساده الآن، وهو ما مر: من أنه لا صلاة في هذا الحال ليقال بتقديمه عليه،
لفرض أنها تنتفي بانتفاء كل منهما. وأما وجوبها في خارج الوقت فهو بدليل آخر
أجنبي عن الأمر في الوقت.
وأما تقديم إدراك ركعة من الوقت على غيره من الأجزاء أو الشرائط فواضح،
لما عرفت: من أنه إذا دار الأمر بين سقوط ركن وسقوط قيد آخر يسقط ذلك
القيد، وحيث إن الوقت من الأركان فإذا دار الأمر بين سقوطه وسقوط غيره يسقط
غيره لا محالة.
وبتعبير أوضح: هو أنا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: * (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (1) بضميمة الروايات الواردة في تفسيرها، وما
يستفاد من الروايات الدالة على أن الصلاة لا تسقط بحال إلى قوله تعالى:
* (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا... إلى آخره) * (2) فالنتيجة: هي وجوب الإتيان
بالأركان - التي هي حقيقة الصلاة - في الوقت مطلقا، أي: سواء أكان المكلف
متمكنا من الإتيان بالبقية فيه أم لم يتمكن من ذلك، فلا يمكن أن تزاحم بقية
الأجزاء والشرائط الأركان في الوقت، لا في تمامه ولا في جزئه، ضرورة أن في

(1) الإسراء: 78.
(2) المائدة: 6.
335

صورة العكس - أعني: تقديم البقية على الوقت - لا صلاة لنتمسك بدليل
" لا تسقط الصلاة بحال " أو نحوه.
ومن هنا قلنا: إنه لا موضوع للتعارض أو التزاحم في مثل هذا الفرض، وإن
التقديم فيه لا يكون مبتنيا على كون هذه الموارد من موارد التزاحم أو التعارض،
بل هو بملاك آخر، لا بملاك إعمال قواعد باب التزاحم أو التعارض، ولذا لابد من
الالتزام بهذا التقديم على كل من القولين.
وبذلك يظهر: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) في المقام من جعل التقديم فيه
مبتنيا على إعمال قواعد التزاحم غير صحيح.
وأما الفرع الرابع - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط إدراك تمام الركعات في
الوقت وسقوط قيد آخر - فقد ذكر (قدس سره) أنه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت،
إلا السورة فإنها تسقط بالاستعجال والخوف.
أقول: الأمر بالإضافة إلى السورة كذلك، لما عرفت: من أن دليلها من الأول
مقيد بغير صورة الاستعجال والخوف، فلا تكون واجبة في هذه الصورة. هذا لو
قلنا بوجوبها، وإلا فهي خارجة عن محل الكلام رأسا. وأما بالإضافة إلى غيرها
من الأجزاء أو الشرائط فلا يمكن المساعدة عليه.
والوجه في ذلك: ما أشرنا إليه: من أن الركن هو الوقت الذي يسع لفعل
الأركان خاصة، وأنه مقوم لحقيقة الصلاة فتنتفي الصلاة بانتفائه. وأما الزائد عليه
الذي يسع لبقية الأجزاء والشرائط فليس بركن. وقد استفدنا ذلك من ضم هذه
الآية - أعني: قوله تعالى: * (أقم الصلاة... إلى آخره) * إلى قوله تعالى: * (إذا قمتم
إلى الصلاة... إلى آخره) * - بضميمة ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال.
وعلى ذلك، فإذا دار الأمر بين سقوط تمام الوقت الذي يسع للأركان وسقوط
جزء أو شرط آخر فالحال فيه كما تقدم، يعني: أنه يسقط ذلك الجزء أو الشرط
لا محالة، سواء قلنا بالتعارض في أمثال المورد أم بالتزاحم.
وأما إذا دار الأمر بين سقوط بعض ذلك الوقت وسقوط قيد آخر فأيضا
يسقط ذلك القيد.
336

والوجه في ذلك: هو أنا إذا ضممنا ما يستفاد من قوله تعالى: * (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * إلى قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا...
إلى آخره) * والى أدلة بقية الأجزاء والشرائط مع أدلة بدليتها بضميمة ما دل على
أن الصلاة لا تسقط بحال فالنتيجة: هي وجوب الإتيان بالصلاة في الوقت المحدد
لها، وأنها لا تسقط، سواء أكان المكلف متمكنا من الإتيان ببقية الأجزاء والشرائط
فيه أم لم يتمكن من ذلك، غاية الأمر مع التمكن منها يجب الإتيان بها فيه أيضا،
وإلا فتسقط.
مثلا: مع التمكن من الطهارة المائية يجب الإتيان بالصلاة في الوقت المزبور
معها، ومع عدم التمكن منها ولو من جهة ضيق الوقت يجب الإتيان بها فيه مع
الطهارة الترابية. وكذا مع التمكن من طهارة الثوب أو البدن يجب الإتيان بالصلاة
في وقتها معها، ومع عدم التمكن منها ولو من ناحية ضيق الوقت يجب الإتيان بها
فيه عاريا أو في الثوب المتنجس على الخلاف في المسألة.
وعلى الجملة: فقد استفدنا من ضم بعض تلك الأدلة إلى بعضها الآخر على
الشكل المتقدم: أن وجوب الإتيان بالصلاة - التي هي عبارة عن الأركان في
الوقت المعين لها - أمر مفروغ عنه وأنه لا يسقط، كان المكلف متمكنا من الإتيان
بالبقية فيه أم لم يتمكن، فلا يمكن أن تزاحم البقية وقت الأركان، لاتمامه - كما
عرفت - ولا بعضه.
وأما ما ورد في موثقة عمار: من أن " من صلى ركعة في الوقت فليتم وقد
جازت صلاته " (1)، فلا يدل إلا على بدلية إدراك ركعة في الوقت عن إدراك تمام
الركعات فيه، فيما إذا لم يتمكن المكلف من إدراك التمام فيه أصلا، بمعنى: أنه
لا يتمكن منه، لا مع الطهارة المائية، ولا مع الطهارة الترابية، ولا مع طهارة البدن
أو الثوب، ولا مع نجاسته أو عاريا. وأما من تمكن من إدراك التمام فيه في الثوب

(1) الوسائل: ج 4 ص 217 ب 3 من أبواب المواقيت ح 1، ومتن الرواية هكذا: " فإن صلى
ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته ".
337

النجس أو عاريا، أو مع الطهارة الترابية فلا يكون مشمولا للحديث.
ومن هنا قلنا: إن الحديث يختص بالمضطر وبمن لم يتمكن من إدراك تمامها
في الوقت أصلا، فالشارع جعل له إدراك ركعة واحدة في الوقت بمنزلة إدراك
تمام الركعات فيه إرفاقا وتوسعة له، فلا يشمل المختار والمتمكن من إدراك تمام
الركعات فيه كما فيما نحن فيه (1).
نعم، لو أخر الصلاة باختياره إلى أن ضاق الوقت بحيث لم يبق منه إلا بمقدار
إتيان ركعة واحدة فيه فيشمله الحديث بإطلاقه، وإن كان عاص من جهة تأخير
مقدار الصلاة عن الوقت، ضرورة أنه لم يكن في مقام بيان التوسعة والترخيص
للمكلفين في تأخير صلواتهم اختيارا إلى أن لا يبقى من الوقت إلا بمقدار إدراك
ركعة واحدة فيه، وجعل إدراك تلك الركعة الواحدة بمنزلة إدراك تمام الركعات.
وقد ذكرنا: أن الحديث ظاهر في هذا المعنى بمقتضى الفهم العرفي.
فالنتيجة من ذلك: هي أن الموثقة لا تدل على بدلية إدراك ركعة واحدة في
الوقت عن إدراك تمام الركعات فيه على الإطلاق، بل تدل على بدلية ذلك عنه
لخصوص المضطر وغير المتمكن مطلقا، وبما أن في المقام يتمكن المكلف من
إدراك التمام فيه فلا يكون مشمولا لها. فإذا يتعين ما ذكرناه، وهو: تقديم إدراك
تمام الركعات في الوقت على بقية الأجزاء أو الشرائط في موارد عدم تمكن
المكلف من الجمع بينهما ولا يفرق في ذلك بين القول بالتعارض في هذه الموارد
والقول بالتزاحم فيها، لفرض أن هذا التقديم غير مستند إلى إعمال قواعد هذا
الباب أو ذاك، بل هو بملاك آخر كما عرفت، ولا يفرق فيه بين القولين أصلا. فما
أفاده (قدس سره): من أنه يسقط إدراك تمام الركعات في الوقت دون القيد الآخر لا يمكن
المساعدة عليه.
ثم إنه لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن الأدلة المتقدمة لا تدل على ما ذكرناه،
وأنه لا يستفاد من مجموعها ذلك فإذا على القول بالتعارض في تلك الموارد تقع

(1) راجع ص 242 - 243.
338

المعارضة بين الدليل الدال على وجوب إدراك تمام الركعات في الوقت والدليل
الدال على وجوب ذلك القيد المزاحم له، فيرجع إلى قواعد بابها.
ولكن قد ذكرنا في محله: أن التعارض إذا كان بين إطلاق الكتاب وإطلاق
غيره فيقدم إطلاق الكتاب عليه، وذلك لما استظهرناه من شمول الروايات الدالة
على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنة ما إذا كانت المخالفة بين إطلاقه
وإطلاق غيره على نحو العموم والخصوص من وجه فلا تختص الروايات
بالمخالفة بينهما على وجه التباين، أو المخالفة بين العامين منهما على نحو العموم
والخصوص من وجه، بل تعم المخالفة بينهما على نحو الإطلاق بأن يكون إطلاق
أحدهما مخالفا لإطلاق الآخر. وبما أن فيما نحن فيه تقع المعارضة بين إطلاق
الكتاب وهو قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (1) وإطلاق
غيره، وهو أدلة سائر الأجزاء أو الشرائط، فيقدم إطلاق الكتاب عليه (2).
فالنتيجة: هي تقديم إدراك تمام الركعات في الوقت على إدراك جزء
أو شرط آخر.
وعلى القول بالتزاحم فيها تقع المزاحمة بينهما، أي: بين وجوب هذا
ووجوب ذاك، فيرجع إلى مرجحاته من الأهمية والأسبقية ونحوهما.
أما الأهمية فالظاهر أنه لا طريق لنا إلى إحراز أن وجوب إدراك تمام
الركعات في الوقت أهم من إدراك هذا القيد، لما عرفت: من أنه إذا دار الأمر بين
سقوط جزء أو شرط وسقوط المرتبة الاختيارية من الركن فلا يمكن الحكم
بتقديم تلك المرتبة عليه، بدعوى كونها أهم منه، ضرورة أنه لا طريق لنا إلى
إحراز ذلك، ولا دليل على كونها أهم منه، والأهم إنما هو طبيعي الركن الجامع بين
جميع المراتب، لا كل مرتبة منه، وفي المقام الركن هو طبيعي الوقت الجامع بين

(1) الإسراء: 78.
(2) كذا ما أفاده هنا، وقد صرح في آخر مبحث التعادل والترجيح سقوط الاطلاقين في نفس
الفرض، راجع مصباح الأصول: ج 3 ص 439.
339

البعض والتمام، وأما تمامه فهو مرتبته الاختيارية، فلا دليل على كون تلك
المرتبة أهم من الجزء أو الشرط الآخر، والأهم إنما هو الجامع بينها وبين غيرها
من المراتب.
وأما الأسبقية فلا مانع من الترجيح بها في أمثال المقام، وذلك لما تقدم من
الأسبق زمانا يتقدم على غيره فيما إذا كان التزاحم بين واجبين يكون كل منهما
مشروطا بالقدرة شرعا (1)، والمفروض: أن ما نحن فيه كذلك.
فإذا لو دار الأمر بين إدراك جزء سابق كفاتحة الكتاب - مثلا - وإدراك الركعة
الأخيرة في الوقت بأن لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما، فلو أتى بفاتحة الكتاب
فلا يتمكن من إدراك تلك الركعة في الوقت، ففي مثله لا مانع من تقديم فاتحة
الكتاب عليه من جهة سبقها زمانا. وقد عرفت أن الأسبق زمانا يتقدم على غيره
في مقام المزاحمة في أمثال المقام أيضا. وكذا إذا دار الأمر بين تطهير البدن أو
الثوب - مثلا - وإدراك الركعة الأخيرة في الوقت، أو بين الطهارة المائية وإدراك
تلك الركعة فيه، بحيث لو غسل ثوبه أو بدنه أو لو توضأ أو اغتسل فلا يتمكن من
إدراكها في الوقت، فيقدم الصلاة في البدن أو الثوب الطاهر عليه، لما عرفت: من
أن الأسبق زمانا يتقدم على غيره، وكذا الصلاة مع الطهارة المائية.
نعم، إذا لم يكن القيد المزاحم له سابقا عليه زمانا - كما لو دار الأمر بين
التسبيحات الأربع والأذكار الواجبة في الركعة الأخيرة، وبين إدراك تلك الركعة
في الوقت، بحيث لو أتى بالأولى فقد فات عنه وقتها، ولا يتمكن من إدراكها فيه -
ففي مثله لا وجه لتقديمها عليه، كما هو واضح. فإذا ما أفاده (قدس سره) من سقوط إدراك
تمام الركعات في الوقت دون القيد المزاحم له لا يتم على إطلاقه كما عرفت.
وأما الفرع الخامس - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط الأجزاء وسقوط
الشرائط - فقد ذكر (قدس سره): أنه تسقط الشرائط، لتأخر رتبتها عن الأجزاء.
أقول: إن الشرط بمعنى: ما تقيد الواجب به وإن كان متأخرا عنه رتبة، ضرورة

(1) تقدم في ص 250.
340

أن تقيد شئ بشئ فرع ثبوته إلا أنا قد ذكرنا غير مرة: أنه لا أثر للتقدم أو التأخر
الرتبي في باب الأحكام الشرعية أصلا، فإنها تتعلق بالموجودات الزمانية لا
بالرتب العقلية (1)، بل لو تعلقت بها فأيضا لا يكون الأسبق رتبة كالأسبق زمانا
مقدما على غيره في مقام المزاحمة، لأن ملاك تقديم الأسبق على غيره - وهو كون
التكليف المتعلق به فعليا دون التكليف المتعلق بغيره - غير موجود هنا، لفرض أن
التكليف المتعلق بالمتقدم والمتأخر الرتبيين كليهما فعلي في زمان واحد، فلا
موجب - عندئذ - لتقديم أحدهما على الآخر كما هو واضح. وأما اعتبار شئ
شرطا فلا يكون متأخرا عن اعتبار شئ جزءا ومتفرعا على ثبوته.
نعم، اعتبار الجميع متأخر عن اعتبار الأركان ومتفرع على ثبوته كما سبق.
وأما اعتبار الشرطية بالإضافة إلى اعتبار الجزئية فلا تقدم ولا تأخر منهما، بل
هما في عرض واحد.
والسر فيه: ما تقدم: من أن الصلاة اسم للأركان، والبقية من الأجزاء والشرائط
قد اعتبرت فيها بأدلتها الخاصة في ظرف متأخر عنها، ولذا لا تسقط الأركان
بسقوطها، وليست حال الشرائط بالإضافة إلى الأجزاء كحالها بالإضافة إلى
الأركان، ومن هنا تسقط الشرائط بسقوط الأركان، ولا تسقط بسقوط سائر
الأجزاء.
فما ذكره (قدس سره) من كون الشرائط متأخرة عن الأجزاء يبتنى على نقطة واحدة،
وهي: كون الصلاة اسما لجميع الأجزاء فقط، والشرائط جميعا خارجة عنها وقد
اعتبرت فيها فعندئذ - لا محالة - يكون اعتبارها في ظرف متأخر عن اعتبار تلك
ومتفرعا عليه، إلا أنك عرفت: أن تلك النقطة خاطئة وغير مطابقة للواقع، وأن
الصلاة موضوعة للأركان فقط، والبقية جميعا خارجة عن حقيقتها ومعتبرة فيها
بدليل خارجي، من دون فرق في ذلك بين الأجزاء والشرائط أصلا، فلا يكون

(1) منها: ما تقدم في ص 151، وراجع أيضا الجزء الأول ص 155 - 156.
341

اعتبارها متفرعا على اعتبار الأجزاء، بل هو في عرض اعتبارها، غاية الأمر
اعتبار الأجزاء في الأركان بنحو الجزئية واعتبارها فيها بنحو القيدية.
فإذا لا وجه لما أفاده (قدس سره): من تقديم الأجزاء على الشرائط أصلا، بل لابد
على هذا القول - أي: القول بالتزاحم - من الرجوع إلى مرجحاته من الأهمية
والأسبقية، فما كان أهم يتقدم على غيره، فلا فرق بين كونه جزءا أو شرطا، وكذا
ما كان سابقا زمانا يتقدم على غيره ولو كان شرطا. مثلا: الطهارة المائية من جهة
السبق الزماني تتقدم على فاتحة الكتاب - مثلا - أو على الركوع الاختياري،
أو نحو ذلك في موارد عدم تمكن المكلف من الجمع بينهما، وكذا طهارة البدن
أو الثوب تتقدم عليها بعين ذلك المرجح والملاك.
وأما على القول بالتعارض فيها: فإن كان التعارض بين دليلي الجزء والشرط
بالعموم فيرجع إلى مرجحات الباب من موافقة الكتاب أو السنة ومخالفة العامة،
إلا إذا كان أحدهما من الكتاب أو السنة فيقدم على الآخر، وأما إذا كان التعارض
بينهما بالإطلاق كما هو الغالب: فإن كان أحدهما من الكتاب أو السنة والآخر من
غيره فيقدم الأول على الثاني على بيان تقدم، وإلا فيسقط كلا الإطلاقين معا
فيرجع إلى الأصل العملي، ومقتضاه عدم اعتبار خصوصية هذا وخصوصية ذاك،
فالنتيجة: هي اعتبار أحدهما. وقد سبق الكلام من هذه الناحية بشكل واضح
فلاحظ (1).
وأما الفرع السادس - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الشرط وسقوط
قيده، كما إذا دار الأمر بين سقوط أصل الساتر في الصلاة وسقوط قيده وهو
الطهارة - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط قيده، لتأخر رتبته.
أقول: ينبغي لنا أن نستعرض هذا المورد وما شاكله على نحو ضابط كلي.
بيان ذلك: هو أن القيد سواء كان قيدا للشرط أو للجزء أو للمرتبة الاختيارية
من الركن أوله بتمام مراتبه لا يخلو: من أن يكون مقوما للمقيد بحيث ينتفي

(1) تقدم في ص 339.
342

بانتفائه، وأن يكون غير مقوم له. مثال الأول: القيام المتصل بالركوع، فإنه مقوم
للمرتبة الاختيارية منه، مثال الثاني: اعتبار الطهارة في الستر والطمأنينة في
الركوع والسجود والأذكار والقراءة وما شاكل ذلك، فإن شيئا منها لا ينتفي بانتفاء
هذا القيد، فلا ينتفي الستر بانتفاء الطهارة، ولا الركوع والسجود بانتفاء الطمأنينة،
وهكذا...
وبعد ذلك نقول:
أما القسم الأول فلا شبهة في أن انتفاءه يوجب انتفاء المقيد، فلا وجه لدعوى
كون الساقط هو خصوص القيد، ضرورة أنه مقوم له، فكيف يعقل بقاءه مع انتفائه،
كما هو واضح؟ وعليه، فإذا كان المتعذر هو خصوص هذا القيد: كالقيام المتصل
بالركوع - مثلا - فلا محالة يسقط المقيد به.
وأما إذا كان الأمر دائرا بين سقوطه وسقوط جزء أو شرط آخر أو قيد مقوم
له فتجري فيه الأقسام المتقدمة بعينها، لفرض أن الأمر في هذه الصور - في
الحقيقة - دائر بين سقوط جزء وجزء آخر أو شرط كذلك، وهكذا...، فلا حاجة
إلى الإعادة.
وأما القسم الثاني: - وهو: ما إذا كان القيد غير مقوم - فلا وجه لسقوط المقيد
أصلا. والوجه في ذلك واضح، وهو: أن معنى " لا تسقط الصلاة بحال ": هو أن
الأجزاء والشرائط المقدورة للمكلف لا تسقط عنه بسقوط ما هو المتعذر فيجب
عليه الإتيان بهما، والمفروض أن المقيد في محل الكلام مقدور له، فلا يسقط
بمقتضى ما ذكرناه، والساقط إنما هو قيده، لتعذره.
وعلى الجملة: فمقتضى القاعدة وإن كان السقوط إلا أنه بعد ما دل الدليل على
أن الصلاة لا تسقط بحال فلا وجه لسقوطه أصلا، ضرورة أن المستفاد منه: هو أن
الأجزاء والشرائط الباقية المقدورة لا تسقط بتعذر قيد من قيودهما. وعليه، ففي
الفرع المزبور لا وجه لسقوط أصل الساتر أصلا، والساقط إنما هو قيده وهو كونه
طاهرا. وهذا هو وجه عدم سقوط أصل الساتر، لا ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من
343

التعليل بكون قيده متأخرا عنه رتبة، وذلك لما عرفت: من أنه لا أثر للتأخر الرتبي
ولا لتقدمه أصلا، ولا سيما في المقام كما سبق بشكل واضح فلا نعيد.
وكيف كان، فلا إشكال في عدم السقوط. ومن هنا قوينا في هذا الفرع وجوب
الصلاة في الثوب المتنجس لا عاريا، على خلاف المشهور، هذا مضافا إلى أنه
مقتضى النصوص الواردة في المقام. وتمام الكلام في محله (1).
وأما الفرع السابع - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط قيد اعتبر في الركن
وسقوط قيد اعتبر في غيره، كما إذا دار الأمر بين سقوط الطمأنينة في المرتبة
الاختيارية من الركن وسقوطها في الأذكار أو القراءة، أو دار الأمر بين سقوط
القيام حال التكبيرة وسقوطه حال القراءة، وهكذا... - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط قيد
غير الركن.
أقول: قد ظهر فساده مما تقدم. وبيان وجه الظهور: هو أنه على القول
بالتعارض في أمثال هذه الموارد يرجع إلى قواعده، وبما أنه لا ترجيح في البين
فالمتعين هو التخيير في المقام وقيدية الجامع، لدفع اعتبار خصوصية كل منهما
بأصالة البراءة.
وعلى القول بالتزاحم فيها المرجع هو مرجحاته من الأهمية والأسبقية،
والأهمية مفقودة في المقام، ضرورة أن وجوب الطمأنينة في المرتبة الاختيارية
من الركن ليس أهم من وجوبها في الأذكار أو القراءة وما شاكل ذلك، لما عرفت
من أن نفس تلك المرتبة ليست أهم من تلك الأجزاء، فضلا عن قيدها غير المقوم
لها، فإن الأهم إنما هو الركن بعرضه العريض، لا بكل مرتبته، مع أنه لو سلمنا أن
تلك المرتبة أهم منها، إلا أن ذلك لا يلازم أن يكون قيدها المزبور أهم من قيد
تلك الأجزاء كما هو واضح.
وأما الأسبقية فإن كانت موجودة فلا بأس بالترجيح بها في هذه الموارد.
وعليه فتتقدم الطمأنينة في حال القراءة على الطمأنينة في حال الركوع من جهة

(1) التنقيح في شرح العروة: ج 2 ص 283 - 386 المسألة (4).
344

سبقها عليها زمانا، وكذا يتقدم القيام حال التكبيرة على القيام حال القراءة،
بل قد ذكرنا: أن تقديم القيام في الجزء السابق على القيام في الجزء اللاحق
مقتضي النص الخاص - كما سبق (1) - فلا يحتاج إلى إعمال قواعد باب التزاحم
ومرجحاته.
وأما الفرع الثامن - وهو: ما إذا دار الأمر بين سقوط القيام المتصل بالركوع
وسقوط القيام حال القراءة - فقد ذكر (قدس سره): أنه يسقط القيام حال القراءة، وعلل ذلك
بكون القيام قبل الركوع بنفسه ركنا ومقوما للركوع، فيتقدم على القيام فيها
لا محالة، ولذا ذكر: أنه يقدم القيام قبل الركوع على القيام في حال التكبيرة، فإنه
فيها شرط، وفي الركوع مقوم.
أقول: ما أفاده (قدس سره) بناء على وجهة نظره: من أن القيام المتصل بالركوع ركن
بنفسه متين جدا، بمعنى: أنه لابد من تقديمه على غيره، لفرض أنه ليس له مرتبة
أخرى لينتقل الأمر من مرتبته الاختيارية إلى تلك المرتبة، بل هو بعنوانه ركن.
وقد ذكرنا: أنه إذا دار الأمر بين سقوط ركن رأسا وسقوط قيد آخر مهما كان
يسقط ذلك القيد لا محالة، ضرورة أن في صورة العكس لا صلاة ليدل على عدم
سقوطها رواية أو إجماع (2).
ولكن هذا المبنى فاسد جدا، وقد حققنا في محله: أن القيام المتصل بالركوع
ليس بركن، وأن الأركان منحصرة بالركوع والسجود والطهور والتكبيرة والوقت (3)
وعليه، فمجرد كونه مقوما للمرتبة الاختيارية من الركن لا يكون موجبا لتقديمه
على غيره أصلا.
أما على القول بالتعارض بين دليله ودليل غيره فواضح، ضرورة أنه على هذا
لابد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض وأحكامه على الشكل الذي تقدم (4).

(1) راجع ص 318.
(2) سبق ذكره في ص 321.
(3) راجع المحاضرات: ج 1 ص 183، ومستند العروة: ج 3 ص 184 كتاب الصلاة.
(4) تقدم في ص 320.
345

وأما على القول بالتزاحم فلا نحرز أن القيام المتصل بالركوع أهم من القيام
حال القراءة أو القيام حال التكبيرة ليحكم بتقديمه عليه، بل الأمر على هذا القول
بالعكس، لما ذكرناه: من أن الأسبق زمانا في أمثال هذه الموارد مرجح (1)، وبما أن
القيام حال التكبيرة أو القيام حال القراءة أسبق زمانا من القيام المتصل بالركوع
فيتقدم عليه لا محالة، بل قد عرفت أن ذلك مقتضى النص الخاص، فلا يحتاج إلى
اعمال مرجح أصلا.
نلخص نتائج بحث التزاحم والتعارض في عدة نقاط:
الأولى: أن الفرق بين التزاحم في الملاكات والتزاحم في الأحكام من
وجهين:
الأول: أن الترجيح في التزاحم بين الملاكات بيد المولى، وليس من وظيفة
العبد في شئ، ولو علم بأهمية الملاك في أحد فعلين دون آخر فإن وظيفته امتثال
الحكم المجعول من قبل المولى، هذا مضافا إلى أنه لا طريق له إلى الملاك. وأما
الترجيح في التزاحم بين الأحكام فهو من وظيفة العبد لا غير.
الثاني: أن مقتضى القاعدة في التزاحم بين الأحكام التخيير. وأما في التزاحم
بين الملاكات فلا يعقل فيه التخيير، ضرورة أنه لا معنى لتخيير المولى بين جعل
الحكم على طبق هذا وجعل الحكم على طبق ذاك، لفرض أن الملاكين متزاحمان،
فلا يصلح شئ منهما لأن يكون منشأ لجعل حكم شرعي، فإن الملاك المزاحم
لا يصلح لذلك.
الثانية: أن التنافي بين الحكمين المتزاحمين إنما هو في مقام الامتثال
الناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الخارج اتفاقا، ولا تنافي
بينهما بالذات أبدا، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى، وهذا بخلاف باب
التعارض، فإن التنافي بين الحكمين في هذا الباب بالذات، وقد ذكرنا: أن ملاك
أحد البابين أجنبي عن ملاك الباب الآخر بالكلية (2).

(1) راجع ص 250.
(2) تقدم في ص 226.
346

الثالثة: أن ملاك التعارض والتزاحم لا يختص بوجهة نظر مذهب العدلية بل
يعم جميع المذاهب والآراء كما تقدم (1).
الرابعة: أن منشأ التزاحم بين الحكمين بجميع أشكاله إنما هو عدم قدرة
المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال. وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من أن
التزاحم بين الحكمين قد ينشأ من جهة أخرى لا من ناحية عدم قدرة المكلف
على الجمع بينهما فقد تقدم: أنه غير داخل في باب التزاحم أصلا، بل هو داخل في
باب التعارض (2).
الخامسة: أن مقتضى القاعدة في مسألة التعارض: هو تساقط الدليلين
المتعارضين عن الحجية والاعتبار.
السادسة: أن مرجحات هذه المسألة تنحصر بموافقة الكتاب أو السنة
وبمخالفة العامة، وليس غيرهما بمرجح. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن الترجيح بهما يختص بالخبرين المتعارضين فلا يعم
غيرهما.
ومن ناحية ثالثة: أن المراد بالمخالفة للكتاب أو السنة في روايات الترجيح
ليس المخالفة على وجه التباين أو العموم من وجه، ضرورة أن المخالفة على هذا
الشكل لم تصدر عنهم (عليهم السلام) أبدا، بل المراد منها: المخالفة على نحو العموم
والخصوص المطلق.
السابعة: أن مقتضى القاعدة في التزاحم بين الحكمين هو التخيير، غاية الأمر:
على القول بجواز الترتب التخيير عقلي، فإنه نتيجة اشتراط التكليف من الأول
بالقدرة وليس أمرا حادثا، وعلى القول بعدم جوازه التخيير شرعي، بمعنى: أن
الشارع قد حكم بوجوب أحدهما في هذا الحال كما سبق.
الثامنة: قد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن مالا بدل له يتقدم على ماله بدل في
مقام المزاحمة، وطبق هذه الكبرى على فروع ثلاثة:

(1) سبق ذكره في ص 227.
(2) راجع ص 220.
347

1 - أن الواجب التخييري إذا زاحم ببعض أفراده الواجب التعييني فيقدم
التعييني عليه وإن كان الواجب التخييري أهم منه.
2 - ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في تطهير البدن أو في الوضوء أو الغسل،
وبما أن للثاني بدلا فيقدم الأول عليه.
3 - ما إذا دار الأمر بين إدراك ركعة في الوقت مع الطهارة المائية وإدراك
تمام الركعات فيه مع الطهارة الترابية فيقدم الثاني على الأول باعتبار أن له بدلا.
ولكن ناقشنا في جميع هذه الفروع، وأنه ليس شئ منها داخلا في تلك
الكبرى.
أما الأول: فهو ليس من باب التزاحم في شئ، لقدرة المكلف على امتثال كلا
التكليفين معا، ومعه لا مزاحمة بينهما أصلا.
وأما الثاني: فلفرض أن لكل منهما بدلا، فكما أن للصلاة مع الطهارة المائية
بدلا فكذلك للصلاة مع طهارة البدن أو الثوب. هذا مضافا إلى ما ذكرناه: من أنه لا
يعقل التزاحم بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط لواجب واحد كما تقدم (1).
وأما الثالث: فيرد عليه بعينه ما أوردناه من الإيرادين على الفرع الثاني، ولكن
مع ذلك يمكن الحكم بتقديم إدراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية
على إدراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية بملاك آخر، وهو: أنا إذا ضممنا
ما يستفاد من قوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) * (2)
بضميمة الروايات الواردة في تفسيره إلى قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم... إلى آخره) * (3).
فالنتيجة: هي أن المكلف إذا تمكن في الوقت من استعمال الماء فوظيفته
الوضوء أو الغسل، وإن لم يتمكن من استعماله فوظيفته التيمم وإتيان الصلاة به
كما سبق (4).

(1) سبق ذكره في ص 236 فراجع.
(2) الإسراء: 78.
(3) المائدة: 6.
(4) تقدم في ص 239.
348

وقد تحصل من ذلك: أن ما أفاده (قدس سره) من الكبرى - وهي: تقديم ما ليس له بدل
على ماله بدل - متين جدا، إلا أنها لا تنطبق على شئ من تلك الفروع.
التاسعة: أن الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا
والآخر مشروطا بها عقلا فيتقدم ما هو المشروط بالقدرة عقلا على ما هو
المشروط بها شرعا، من دون فرق بين أن يكون متقدما عليه زمانا أو متقارنا معه
أو متأخرا عنه.
العاشرة: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد أنكر جريان الترتب فيما إذا كان أحد
المتزاحمين مشروطا بالقدرة عقلا والآخر مشروطا بها شرعا، بعد ما سلم تقديم
الأول على الثاني. وقد ذكرنا: أن ما أفاده (قدس سره) يرتكز على أصل خاطئ، وهو: توهم
أن الترتب إنما يجري فيما إذا أحرز أن في كل من المتزاحمين ملاكا في هذا
الحال، وفي مثل المقام بما أنه لا يمكن إحراز أن ما هو مشروط بالقدرة شرعا
واجد للملاك فلا يمكن إثبات الأمر له بالترتب.
ولكنه توهم فاسد. والوجه فيه: هو أن جريان الترتب في مورد لا يتوقف
على إحراز الملاك فيه، لعدم الطريق إليه أصلا، مع قطع النظر عن تعلق الأمر به، بل
ملاك جريانه: هو أنه لا يلزم من اجتماع الأمرين على نحو الترتب في زمان
واحد طلب الضدين. وعليه، فالمتعين هو رفع اليد عن إطلاق كليهما في فرض
التساوي، وعن إطلاق أحدهما في فرض كون الآخر أهم.
الحادية عشرة: أن الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
شرعا يتقدم ما هو أسبق زمانا على غيره. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن السبق الزماني إنما يكون من المرجحات فيهما خاصة،
لا فيما إذا كان مشروطا بالقدرة عقلا، فإنه لا أثر للسبق الزماني فيه أصلا.
الثانية عشرة، أن التزاحم بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر لا يكون
من صغريات التزاحم بين الواجبين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا، فإن
كونه من صغريات تلك الكبرى يبتنى على تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء
349

فريضة الحج عقلا وشرعا كما هو المشهور. ولكن قد ذكرنا: أن هذا التفسير
خاطئ بحسب الروايات، فإن الاستطاعة قد فسرت فيها بالزاد الكافي لحجه
لقوت عياله إلى زمان الرجوع، والراحلة مع أمن الطريق.
الثالثة عشرة: أن وجوب النذر لا يكون مقدما على وجوب الحج زمانا،
سواء قلنا بإمكان الوجوب التعليقي أو استحالته، والمقدم إنما هو سببه ولا
عبرة به. فإذا لا وجه لتقديم وجوب النذر على وجوب الحج وإن قلنا بكونه
مشروطا بالقدرة شرعا.
الرابعة عشرة: أن اشتراط وجوب النذر وما شاكله بالقدرة شرعا مستفاد من
نفس الروايات الدالة على عدم نفوذ ذلك فيما إذا كان مخالفا للكتاب أو السنة.
الخامسة عشرة: أن الواجبات المجعولة في الشريعة المقدسة بالعناوين
الثانوية: كالنذر والشرط في ضمن عقد، والعهد واليمين وما شابه ذلك لا تصلح أن
تزاحم الواجبات المجعولة فيها بالعناوين الأولية: كالصلاة والصوم والحج
وما شاكل ذلك.
السادسة عشرة: أن الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
شرعا إذا كانا عرضيين، فيجري فيهما ما يجري في المتزاحمين العرضيين يكون
كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا من جريان الترتب فيهما والترجيح بالأهمية
أو محتملها، وكون التخيير بينهما عقليا لا شرعيا.
السابعة عشرة: أن الواجبين المتزاحمين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة
عقلا، فإن كان أحدهما أهم من الآخر فلا إشكال في تقديمه على غيره وإن كان
متأخرا عنه زمانا. وكذا إذا كان محتمل الأهمية من جهة أن إطلاق الطرف الآخر
ساقط يقينا، وأما إطلاق هذا الطرف فسقوطه مشكوك فيه، فنأخذ به. وإن كانا
متساويين فالحكم فيهما التخيير، بمعنى: تقييد وجوب كل منهما بعدم الإتيان
بمتعلق الآخر.
350

وأما بناء على عدم إمكان الترتب فيدخل المقام في دوران الأمر بين التخيير
والتعيين في مقام الامتثال. وقد ذكرنا: أن المرجع فيه التعيين (1). نعم، إذا كان الشك
فيهما في مقام الجعل بأن كان المجعول غير معلوم فتجري أصالة البراءة عن
احتمال التعيين.
الثامنة عشرة: أن إحراز كون الواجب المتأخر ذو ملاك ملزم في ظرفه بناء
على وجهة نظرنا من إمكان الواجب التعليقي واضح، فإن ثبوت الوجوب فعلا
كاشف عنه لا محالة. وأما بناء على عدم إمكانه: فإن علم من الخارج أنه واجد
للملاك الملزم في ظرفه فهو، وإلا فلا نحكم بتقديمه على الواجب الفعلي، لعدم
إحراز أنه ذو ملاك ملزم في زمانه.
التاسعة عشرة: أن القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر إن كانت قدرة خاصة
- وهي القدرة في ظرف العمل - فلا وجه لتقديمه على الواجب الفعلي وإن كان أهم
منه، بل الأمر بالعكس، لفرض عدم وجوب حفظ القدرة له في ظرفه. وقد رتبنا
على تلك الكبرى عدة من الفروع التي تقدمت (2).
العشرون: أنه لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين العرضيين والواجبين
الطوليين، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة، خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث
قد أنكر جريانه في الواجبين الطوليين.
الحادية والعشرون: أن موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بين جزءين
أو شرطين أو جزء وشرط داخلة في كبرى باب التعارض، فيرجع إلى قواعد
ذلك الباب.
الثانية والعشرون: أن إطلاق الكتاب يتقدم على إطلاق غيره في مقام
المعارضة إذا لم يكن إطلاق غيره قطعيا، كما إذا كان الدليل الدال على أحد
الجزءين أو الشرطين إطلاقا من الكتاب، والدليل الدال على الآخر إطلاقا من

(1) تقدم في ص 286.
(2) تقدم في ص 391.
351

غيره فيتقدم الأول على الثاني في هذه الموارد، أعني: موارد عدم تمكن المكلف
من الجمع بينهما بناء على القول بالتعارض فيها دون القول بالتزاحم.
الثالثة والعشرون: أن موارد عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما تتصور
على صور:
1 - عدم تمكنه من الجمع بين ركنين، فيدور الأمر بين سقوط هذا الركن
وسقوط الركن الآخر. وقد عرفت: أن المتعين في هذه الصورة سقوط الصلاة،
ولا موضوع لما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال (1).
2 - عدم تمكنه من الجمع بين ركن بتمام مراتبه وبين مرتبة اختيارية لآخر.
وقد سبق أن المتعين في هذه الصورة سقوط تلك المرتبة (2).
3 - عدم تمكنه من الجمع بين مرتبة اختيارية لركن ومرتبة اختيارية لآخر.
وقد تقدم: أنه تقع المعارضة بين دليليهما، فالمرجع هو قواعد بابها (3).
4 - عدم تمكنه من الجمع بين المرتبة الاختيارية من الركن وبين سائر
الأجزاء أو الشرائط. وقد عرفت أن في هذه الصورة - أيضا - تقع المعارضة بين
دليليهما، فلابد من الرجوع إلى مرجحاتها على تفصيل قد تقدم.
5 - عدم تمكنه من الجمع بين ركن بعرضه العريض وبين بقية الأجزاء أو
الشرائط. وقد سبق: أن في هذه الصورة لابد من تقديم الركن عليها من جهة ما دل
على أن الصلاة لا تسقط بحال.
6 - عدم تمكنه من الجمع بين الجزء والشرط، وقد عرفت: أن الصحيح في
هذه الصورة - أيضا - وقوع المعارضة بين دليليهما، لا تقدم الجزء على الشرط.
الرابعة والعشرون: أنه إذا تعذر قيد شرط أو جزء: فإن كان مقوما له فسقوطه
- لا محالة - يوجب سقوط ذلك الشرط أو الجزء. وإن لم يكن مقوما له فسقوطه

(1) راجع ص 325.
(2) تقدم في ص 329.
(3) مر ذكره في ص 330 فراجع.
352

لا يوجب سقوط ذلك أصلا. فإذا الساقط هو خصوص القيد دون المقيد.
الخامسة والعشرون: أن ما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره): من تطبيق كبرى باب
التزاحم على تلك الفروع غير تام، وعلى تقدير التنزل وتسليمه فما أفاده (قدس سره) من
المرجحات لتقديم بعض الأجزاء أو الشرائط على بعضها الآخر لا يتم على
إطلاقه، كما سبق بصورة مفصلة.
تذييل: وهو: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد قسم التزاحم إلى سبعة أقسام:
الأول: التزاحم بين الحكمين من غير ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع
بينهما في مقام الامتثال. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا، وقلنا هناك: إنه ليس من
التزاحم في شئ، بل هو من التعارض، فلاحظ.
الثاني: التزاحم في الملاكات بعضها مع بعضها الآخر، كأن يكون في الفعل
جهة مصلحة تقتضي إيجابه، وجهة مفسدة تقتضي حرمته، وهكذا. وقد سبق الكلام
فيه أيضا، وذكرنا هناك: إن هذا النوع من التزاحم خارج عن محل الكلام بالكلية،
وإن الأمر فيه بيد المولى. وعليه أن يلاحظ الجهات الواقعية والملاكات النفس
الأمرية الكامنة في الأفعال الاختيارية للعباد، فيجعل الحكم على طبق ما هو
الأقوى والأهم منها دون غيره (1).
وأما إذا لم يكن أحدهما أقوى من الآخر بل كانا متساويين فليس الحكم في
هذه الصورة التخيير، كما هو الحال في التزاحم بين الأحكام بعضها مع بعضها
الآخر، ضرورة أن التخيير فيها غير معقول، فلا معنى لتخيير المولى بين جعل
الحكم على طبق هذا وجعله على طبق ذاك، فإن جعله على طبق كليهما غير
معقول، وعلى وفق أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، مع أنه بلا مقتض، فإذا
يسقطان معا، لأن الملاك المزاحم بالملاك الآخر لا أثر له أصلا، فعندئذ يمكن
للمولى أن يجعل له الإباحة.

(1) تقدم في ص 211.
353

وكيف كان، فهذا التزاحم خارج عما نحن فيه، ولذا لا يمكن البحث عن
جريان الترتب فيه وعدم جريانه، كما أن في فرض التساوي بينهما ليس الحكم
فيه التخيير، مع أنه مقتضى القاعدة في التزاحم بين حكمين مجعولين، وفي فرض
عدم التساوي الترجيح يكون بيد المولى دون العبد، وهذا بخلاف التزاحم
المبحوث عنه هنا.
الثالث: التزاحم الناشئ من عدم قدرة المكلف اتفاقا، كما هو الحال في
التزاحم بين وجوب إنقاذ غريق وإنقاذ غريق آخر فيما إذا لم يكن المكلف
قادرا على امتثال كليهما معا.
الرابع: التزاحم الناشئ من جهة وقوع المضادة بين الواجبين اتفاقا، فإن
المضادة بينهما إذا كانت دائمية فتقع المعارضة بين دليليهما، لوقوع المصادمة
- عندئذ - في مرحلة الجعل، لا في مرحلة الامتثال والفعلية.
الخامس: التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك
ماهيتان متعددتان ولم نقل بسراية الحكم من إحداهما إلى الأخرى، بناء على
ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخصاتها الخارجية فتقع
المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كانت هناك ماهية واحدة أو كانت ماهيتان
متعددتان ولكن قلنا بالسراية فعندئذ تقع المعارضة بين دليليهما.
السادس: التزاحم في موارد التلازم الاتفاقي بين الفعلين، كما إذا كان
أحدهما محكوما بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة: كاستقبال القبلة واستدبار
الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقا، فإذا كان أحدهما محكوما
بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة تقع المزاحمة بينهما، وهذا بخلاف ما إذا كان
التلازم بينهما دائميا، فإنه - عندئذ - يدخل في باب التعارض.
السابع: التزاحم بين الحرام والواجب فيما إذا كان الحرام مقدمة له، كما إذا
توقف إنقاذ الغريق - مثلا - على التصرف في مال الغير، هذا فيما إذا لم يكن
التوقف دائميا، وإلا فيدخل في باب التعارض.
354

ولكن قد أشرنا فيما تقدم: أن تقسيمه (قدس سره) التزاحم في موارد عدم قدرة
المكلف على الجمع بين المتزاحمين إلى هذه الأقسام غير صحيح.
أما أولا: فلأنه لا أثر لهذا التقسيم أصلا، ولا تترتب عليه أية ثمرة، وإلا
لأمكن تقسيمه إلى أزيد من ذلك كما سبق.
وأما ثانيا: فلأن أصل هذا التقسيم غير صحيح، وذلك لأن القسم الثاني - وهو
ما إذا كان التزاحم ناشئا عن المضادة بين الواجبين اتفاقا - داخل في القسم الأول،
وهو: ما إذا كان التزاحم فيه ناشئا عن عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما اتفاقا،
بداهة أن التضاد بين فعلين من باب الاتفاق غير معقول إلا من ناحية عدم قدرة
المكلف عليهما معا، ولذا لا مضادة بينهما بالإضافة إلى من كان قادرا عليهما
كذلك. فإذا لا معنى لجعله قسما آخر في مقابل القسم الأول.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن المضادة بين الفعلين إذا كانت دائمية فتقع المعارضة
بين دليل حكميهما فهو إنما يتم في الضدين اللذين لا ثالث لهما، وأما الضدين
اللذين لهما ثالث فلا يتم. وقد تقدم ذلك بشكل واضح فلا نعيد (1).
وأما القسم الثالث - وهو: التزاحم في موارد اجتماع الأمر والنهي على القول
بالجواز مع فرض عدم المندوحة في البين - فهو داخل في القسم الرابع، وهو:
ما إذا كان التزاحم من جهة التلازم الاتفاقي بين الفعلين في الخارج، ضرورة أن
التزاحم في موارد الاجتماع على هذا القول - أيضا - من ناحية التلازم بين متعلق
الأمر ومتعلق النهي في الوجود الخارجي. فإذا لا معنى لجعله قسما على حدة.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أن الصحيح: تقسيم التزاحم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما إذا كان التزاحم ناشئا من عدم قدرة المكلف اتفاقا.
الثاني: ما إذا كان الحرام مقدمة لواجب.
الثالث: ما إذا كان ناشئا من التلازم الاتفاقي بين فعلين في الخارج.

(1) تقدم في ص 220.
355

أما القسم الأول: فقد تقدم الكلام فيه بصورة مفصلة (1).
بقي شئ قد تعرض له شيخنا الأستاذ (قدس سره): أن التزاحم إذا كان بين واجبين
طوليين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا، فإن لم يكن الواجب المتأخر أهم
من الواجب المتقدم فقد ذكر (قدس سره): أنه يتقدم الواجب المتقدم على المتأخر، فلا وجه
للتخيير أصلا (2). ولكن قد ذكرنا سابقا: أنه لا وجه لما أفاده (قدس سره) هنا، بل المتعين فيه
التخيير، فإن المتقدم زمانا إنما يكون مرجحا إذا كان كل منهما مشروطا بالقدرة
شرعا، لا فيما إذا كان مشروطا بها عقلا، فإنه لا فرق فيه بين أن يكون التزاحم بين
واجبين عرضيين أو طوليين أصلا.
وأما إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب المتقدم فقد ذكر (قدس سره): أن في
هذه الصورة تقع المزاحمة بين وجوب الواجب المتقدم ووجوب حفظ القدرة
للواجب المتأخر في ظرفه، وبما أن الثاني أهم من الأول فيتقدم عليه، وهذا
ظاهر (3).
وإنما الكلام والإشكال في أنه هل يمكن الالتزام بالترتب في هذا الفرض -
أعني: جواز تعلق الأمر بالواجب المتقدم مترتبا على عصيان الأمر بالمتعلق
بالواجب المتأخر - أم لا؟ وجهان، بل قولان:
فقد اختار (قدس سره) القول الثاني، وأفاد في وجه ذلك:
هو أن القول بإمكان الترتب هنا يبتنى على جواز الشرط المتأخر،
بأن يكون العصيان المتأخر شرطا لتعلق الأمر بالمتقدم. وقد ذكرنا استحالته وأنه
غير معقول.
ودعوى: أنه لا مانع من الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب - كما
التزمنا بذلك في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة
وما شاكلها. وعليه، فلا يلزم الالتزام بالشرط المتأخر - يدفعها: بأن جعل عنوان

(1) راجع ص 212 وما بعدها.
(2) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 333.
(3) راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 380.
356

التعقب شرطا يحتاج إلى قيام دليل عليه، ولا دليل في المقام. وأما في الواجبات
التدريجية فقد دل الدليل على ذلك.
الثاني: أن العمدة في جواز تعلق الأمر بالضدين على نحو الترتب: هي أن
الواجب المهم مقدور للمكلف في ظرف عصيان الأمر بالواجب الأهم، وقابل
لتعلق التكليف به عندئذ، من دون أن يستلزم ذلك محذور طلب الجمع كما عرفت.
نعم، المهم إنما لا يكون مقدورا في ظرف امتثال الأمر بالأهم، وهذا لا يضر
بعد ما كان مقدورا في ظرف عصيانه. وهذا الوجه غير جار فيما نحن فيه، ضرورة
أن عصيان الواجب المتأخر في ظرفه لا يوجب قدرة المكلف على الواجب
المتقدم وجواز صرفها في امتثاله، والمفروض أن الخطاب بحفظ القدرة على
الواجب المتأخر فعلي من ناحية، وأهم من ناحية أخرى. ومن المعلوم أنه مع هذا
الحال مانع من صرف القدرة في الواجب المتقدم، ولا يكون المكلف في هذا
الحال قادرا عليه، لأنه معجز عنه، فلا يعقل تعلق الأمر به عندئذ، لاستلزامه طلب
المحال، لفرض أنه مأمور فعلا بحفظ القدرة في هذا الحال، فلو كان مع ذلك
مأمورا بإتيان الواجب المتقدم للزم المحذور المزبور.
وعلى الجملة: فملاك إمكان الترتب - وهو كون المهم مقدورا في ظرف
عصيان الأهم - غير موجود هنا، وذلك لأنه في ظرف تحقق عصيان الواجب
المتأخر ووجوده ينتفي الواجب المتقدم بانتفاء موضوعه، فلا يعقل كونه مقدورا
عندئذ، ضرورة أن القدرة لا تتعلق بأمر متقدم منصرم زمانه، وأما في ظرف
الواجب المتقدم وقبل مجئ زمان عصيان الواجب المتأخر فهو مأمور بحفظ
القدرة له فعلا، ومعه - أي: مع حفظ القدرة - لا يكون الواجب المتقدم مقدورا
ليكون قابلا لتعلق الأمر به.
وتخيل: أن الشرط إنما هو العزم والبناء على عصيان المتأخر في ظرفه،
لا نفس العصيان، وعليه فلا يلزم المحذور المزبور فاسد، وذلك لأن الشرط
لو كان هو العزم والبناء على العصيان لا نفسه للزم طلب الجمع بين الضدين،
357

لفرض أن كلا الأمرين في هذا الآن فعلي. أما الأمر بالأهم فلفرض عدم تحقق
عصيانه بعد، فلا موجب لسقوطه. وأما الأمر بالمهم فلفرض تحقق شرطه، وهو
العزم والبناء على العصيان.
فقد تحصل مما ذكرناه: أنه كما لا يمكن أن يكون عصيان الواجب المتأخر
في ظرفه شرطا كذلك لا يمكن أن يكون العزم عليه شرطا.
الثالث: أن توهم كون الشرط لتعلق الأمر بالمتقدم إنما هو عصيان الأمر بحفظ
القدرة للمتأخر، أو العزم على عصيانه، وعلى هذا فلا محذور في البين، وأن
المحذور إنما هو على أساس كون الشرط له عصيان الأمر بالمتأخر لا أصل له أبدا.
والوجه فيه: إما كون العزم على عصيانه فقد عرفت أن شرطيته تستلزم طلب
الجمع بين الضدين، ولا يعقل أن يكون شرطا، لأنه خلاف مفروض القول بالترتب.
وإما عصيانه المتحقق بإعمال القدرة في غير الأهم فشرطيته غير معقولة،
وذلك لأن المكلف في ظرف ترك التحفظ بقدرته للواجب المتأخر لا يخلو أمره:
من أن يصرفها في المهم، أو أن يصرفها في فعل آخر، ضرورة أن عصيان الأمر به
لا يتحقق إلا بصرفها في أحدهما. وعليه، فيستحيل اشتراط الأمر بالمهم به على
كلا التقديرين.
أما على الأول - وهو: اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل المهم - فلأنه يستلزم
اشتراط الأمر بالشئ بوجوده وتحققه في الخارج، وهو محال، لأنه طلب
الحاصل.
وأما على الثاني - وهو: اشتراطه بالعصيان المتحقق بفعل آخر - فلأنه يستلزم
تعلق الأمر بالمحال، لأن في فرض صرف المكلف قدرته في فعل آخر يستحيل له
الإتيان بالمهم، لفرض أنه ليس له إلا قدرة واحدة، فلو صرف تلك القدرة في غيره
فلا محالة لا يقدر عليه، مع أنه لا معنى لاشتراط الأمر بالمهم بصرف القدرة فيما
هو أجنبي عن الأهم والمهم معا.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنه لا يمكن الترتب في أمثال هذا المورد، بل يتعين
358

حفظ القدرة للواجب المتأخر.
وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع.
أما ما أفاده أولا: من أن القول بالترتب هنا يرتكز على القول بجواز الشرط
المتأخر - وهو محال - فيرده: ما حققناه في بحث الواجب المطلق والمشروط: من
أنه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر، وأنه بمكان من الإمكان، غاية الأمر أن
وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل (1)، والمفروض أن الدليل عليه في المقام
موجود، وهو: أن العقل مستقل بلزوم التحفظ بخطاب المولى بالمقدار الممكن، ولا
يجوز رفع اليد عنه بوجه من الوجوه، أي: لا عن أصله ولا عن إطلاقه ما لم تقتضه
الضرورة. وعليه، فإذا وقعت المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف من الجمع
بينهما في مقام الامتثال لا مناص له من الالتزام بالأخذ بأحدهما معينا إذا كان
واجدا للترجيح، كما إذا كان أهم ورفع اليد عن الآخر، ولكن - حينئذ - يدور الأمر
بين أن يرفع اليد عن أصله أو عن إطلاقه.
وبما أنا قد حققنا إمكان الترتب وقد ذكرنا: أن معناه عند التحليل: عبارة عن
تقييد إطلاق الأمر بالمهم بترك امتثال الأمر بالأهم، وعدم الإتيان بمتعلقه في
الخارج، وقد قلنا: إن هذا التقييد ليس تقييدا حادثا بحكم العقل، بل هو نتيجة
اشتراط التكليف بالقدرة فلا محالة يكون المرفوع هو إطلاقه لا أصله، ضرورة أن
رفع اليد عنه - عندئذ - بلا موجب ومقتض، وهو غير جائز، وهذا معنى الدليل على
وقوع هذا الشرط.
أو فقل: إن اشتراط التكليف بالمتقدم بعصيان الواجب المتأخر وعدم الإتيان
بمتعلقه على نحو الشرط المتأخر أمر ممكن في نفسه، ولكن وقوعه في الخارج
يحتاج إلى دليل، والدليل على وقوعه في المقام هو نفس البناء على إمكان الترتب

(1) تقدم في: ج 2 ص 318 - 322.
359

وجوازه، لما عرفت: من أن حقيقة الترتب ذلك الاشتراط والتقييد، ولا نعني به
غير ذلك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا: أن إمكان الترتب يكفي
لوقوعه، فلا يحتاج وقوعه في الخارج إلى دليل خاص. وعليه، فيلتزم بوقوع ذلك
الاشتراط لا محالة، وهذا واضح.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا استحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام
بكون الشرط هو عنوان التعقب، وذلك لأنه إذا بنينا على إمكان الترتب وأن
الساقط إنما هو إطلاق الخطاب دون أصله فلابد من التحفظ عليه بحكم العقل
بشكل من الأشكال، فإذا فرض أنه لم يمكن تقييد إطلاقه بعصيان التكليف
بالمتأخر فلا مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب أو بالعزم على عصيانه. فما
ذكره (قدس سره) من أن اشتراط التكليف به يحتاج إلى دليل خاص لا يرجع إلى معنى
محصل، ضرورة أنه بعد البناء على أن الساقط هو إطلاق الخطاب لا أصله من
ناحية وعدم إمكان اشتراطه وتقييده بعصيان التكليف بالمتأخر من ناحية أخرى
لم يكن مناص من الالتزام بتقييده بعنوان التعقب أو العزم على عصيانه، لأنه
المقدار الممكن. ومن المعلوم أن هذا لا يحتاج إلى دليل خاص في المقام.
وبكلمة أخرى: أنا قد ذكرنا سابقا: أن كون أحد الخطابين مشروطا بترك
امتثال الآخر وعدم الإتيان بمتعلقه في الخارج لم يرد في لسان دليل من الأدلة
لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره، بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان
تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين، إلا على هذا الفرض والتقدير، ضرورة
استحالة تعلقه بكل منهما مطلقا وفي عرض الآخر.
وعليه، فإذا لم يمكن تقييد إطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الأهم
وعصيانه من جهة استلزامه جواز الشرط المتأخر - وهو ممتنع على الفرض -
يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه، أو بعنوان التعقب بعين هذا الملاك، وهو: أن
360

الساقط إطلاقه دون أصله، ضرورة أن هذا يقتضي تقييده بشئ ما، ولا فرق
بين أن يكون التقييد بهذا أو بذاك بنظر العقل أبدا.
فإذا لا موجب لرفع اليد عن أصل الأمر بالمهم، ضرورة أنه بلا مقتض، بل
لابد من تقييده بشئ كالعزم على المعصية، أو عنوان التعقب بها، أو نحو ذلك.
وأما ما ذكره (قدس سره): من أن شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدين فلا
يمكن المساعدة عليه.
والوجه فيه: هو أن ذلك يبتنى على نقطة واحدة، وهي: أن يكون العزم
بحدوثه شرطا لفعلية الأمر بالمهم، فوقتئذ - لا محالة - يلزم طلب الجمع بينهما،
ضرورة أن بعد حدوثه يصير الأمر بالمهم فعليا ومطلقا: كالأمر بالأهم، فيقتضي
كل منهما إيجاد متعلقه في الخارج في عرض الآخر وعلى نحو الإطلاق، وهو
معنى طلب الجمع.
إلا أن تلك النقطة خاطئة جدا، وغير مطابقة للواقع، وذلك لأن الشرط ليس
هو حدوث العزم آنا ما، بل الشرط: هو العزم على المعصية على نحو الدوام
والاستمرار، بمعنى: أن حدوثه شرط لحدوث الأمر بالمهم، وبقاءه شرط لبقائه.
وبكلمة أخرى: أنه لا فرق بين كون الأمر بالمهم مشروطا بالعزم على
العصيان أو بنفس العصيان من هذه الناحية أصلا، لما ذكرناه سابقا: من أن الشرط
لفعلية الأمر بالمهم ليس حدوث العصيان آنا ما، وإلا لزم المحذور المزبور، وهو:
طلب الجمع بين الضدين في الآن الثاني والثالث، وهكذا...، لفرض أن الأمر بالمهم
في هذا الآن - ولو مع ارتفاع العصيان فيه - باق على حاله، والمفروض أن الأمر
بالأهم أيضا موجود في هذا الآن. فإذا يجتمع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في
زمان واحد على نحو الإطلاق، وهو غير معقول.
فإذا لا فرق بين كون الشرط هو العزم على عصيان الأمر بالأهم، أو نفس
361

عصيانه في النقطة المزبورة، فإن الالتزام بتلك النقطة في شرطية كلا الأمرين
يستلزم محذور طلب الجمع من دون فرق بينهما من هذه الناحية أبدا.
ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قدس سره) أنه كيف التزم بتلك النقطة في شرطية
العزم، ولأجلها قال بعدم إمكان كونه شرطا لاستلزامه المحذور المذكور، غافلا
عن أن الالتزام بهذه النقطة في شرطية نفس العصيان أيضا يستلزم ذلك، فلا فرق
بينهما من هذه الجهة أصلا؟!
ولكن بما أن تلك النقطة خاطئة - كما عرفت - فلا مانع من الالتزام بكون
العزم شرطا على الشكل المتقدم، ولا يلزم معه طلب الجمع، وذلك لما تقدم بصورة
مفصلة: من أن الأمر بالمهم بما أنه مشروط بعصيان الأمر بالأهم أو بالعزم على
عصيانه فلا يلزم من اجتماعهما في زمان واحد طلب الجمع، بل هو مناف ومضاد
له كما سبق.
وأما ما أفاده (قدس سره) ثانيا: من أن الترتب إنما يجري فيما إذا كان المهم مقدورا في
ظرف عصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه - وفي المقام بما أن الأمر ليس
كذلك - فلا يمكن الالتزام بالترتب فيه فقد ظهر فساده مما ذكرناه: من أنه لا مانع
من الالتزام بكون عصيان الواجب المتأخر في ظرفه شرطا لوجوب الواجب
المتقدم على نحو الشرط المتأخر، بناء على ما حققناه من إمكانه (1)، غاية الأمر:
وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل، وفي المقام الدليل على وقوعه موجود، وهو:
عدم جواز رفع اليد عن أصل التكليف ما دام يمكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء،
وهنا يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.
ودعوى: أن المعتبر في جريان الترتب أن يكون المهم مقدورا في ظرف
عصيان الواجب الأهم - وفي المقام بما أنه لا يكون مقدورا في ظرف عصيانه
فلا يجري فيه الترتب - مدفوعة: بأن المهم وإن لم يكن مقدورا في ظرف عصيان
الأهم - ضرورة استحالة تعلق القدرة بأمر متقدم منصرم زمانه - إلا أنه مقدور

(1) راجع: ج 2 ص 318 - 321.
362

في ظرفه عقلا وشرعا. أما عقلا فواضح، وأما شرعا فلفرض أنه في نفسه أمر
سائغ ومشروع. وعليه، فلا مانع من تعلق الأمر به على تقدير عصيان الأمر بالأهم
في ظرفه.
وتخيل: أن وجوب حفظ القدرة له معجز عن الإتيان بالمهم فلا يكون معه
قادرا عليه شرعا فاسد جدا، وذلك لأن وجوب حفظ القدرة له لو كان مانعا عن
تعلق الأمر بالمهم وموجبا لخروجه عن القدرة لكان وجوب الأهم فيما إذا كان
في عرض المهم أيضا كذلك، ضرورة أن الأمر بالأهم لا يسقط بمجرد عصيانه.
ولذا قلنا: إن لازم القول بالترتب: هو اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في
زمان واحد. وعليه، فإذا فرض أن وجوب حفظ القدرة للواجب الأهم فيما إذا
كان متأخرا عن المهم زمانا مانع عن تعلق الأمر بالمهم ومعجز عنه شرعا لكان
وجوب الأهم فيما إذا كان مقارنا معه زمانا أولى بالمنع والتعجيز عنه، مع أنه (قدس سره)
قد التزم بالترتب في هذا الفرض (1)، أعني: ما إذا كان الواجب الأهم مقارنا مع
المهم زمانا، وبذلك نعلم أن الأمر بالأهم في ظرف عصيانه لا يكون مانعا عن
تعلق الأمر بالمهم، ولا يوجب عجز المكلف عنه شرعا.
والسر في ذلك واضح، وهو: أن الأمر بالأهم إنما يمنع عن تعلق الأمر بالمهم
إذا كان في عرضه وعلى الإطلاق، لا فيما إذا كان في طوله وعلى نحو الترتب،
لما عرفت من عدم التنافي بين مقتضي الأمرين كذلك. وعليه، فلا يكون الأمر
بالأهم معجزا مولويا عن الإتيان بالمهم على الشكل المزبور ليكون مانعا عن
تعلق الأمر به.
فما أفاده (قدس سره) من أن العمدة في القول بجواز الترتب: هو كون المهم مقدورا
في ظرف عصيان الأمر بالأهم: إن أراد بذلك: أن الأمر بالأهم قد سقط في هذا
الظرف - وعليه فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم - فهو خلاف فرض القول
بالترتب، فإن لازم هذا القول - كما عرفت -: هو اجتماع كلا الأمرين في زمان

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 333 - 334 المسألة الأولى.
363

واحد، وعدم سقوط الأمر بالأهم بالعصيان، لما تقدم: من أن الأمر به مطلق
بالإضافة إلى حالتي امتثاله وعصيانه وحالتي الإتيان بالمهم وعدم إتيانه،
فالالتزام بسقوط الأمر بالأهم في ظرف عصيانه والإتيان بالمهم مناف للالتزام
بالقول بالترتب، ضرورة أن تعلق الأمر بالمهم في ظرف سقوط الأمر عن الأهم
خارج عن محل الكلام في جواز الترتب وعدم جوازه، كما تقدم ذلك بصورة
مفصلة، فلاحظ.
وإن أراد: أن الأمر بالأهم باق في هذا الحال كما هو المفروض ومع ذلك لا
مانع من تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب، وأن الأمر بالأهم لا يكون مانعا منه
ولا يوجب عجز المكلف عنه فنقول: إن وجوب حفظ القدرة أيضا كذلك، بمعنى:
أنه لا يكون مانعا منه، لفرض أنه لا تنافي بين الأمر بالمهم ووجوب حفظ القدرة
للواجب المتأخر الأهم في ظرفه على هذا التقدير، أي: على تقدير عصيانه وعدم
الإتيان بمتعلقه في زمانه. نعم، لو كان الأمر به في عرضه وعلى نحو الإطلاق لكان
مانعا منه وغير جائز قطعا.
فالنتيجة على ضوء ما ذكرناه قد أصبحت: أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره) لا
يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل أصلا.
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن الشرط المتأخر غير جائز إلا أنه لا مانع
من الالتزام بكون الشرط لتعلق الأمر بالمهم هو عنوان تعقبه بعصيان الأهم في
ظرفه، أو بالعزم على عصيانه، ضرورة أنه لا موجب لرفع اليد عن إطلاق دليله
" دليل وجوب المهم " بالإضافة إلى هذا الحال - أعني: حال تعقبه بعصيان الأهم
أو بالعزم عليه - فاللازم إنما هو رفع اليد عن إطلاقه بمقدار تقتضيه الضرورة، ومن
المعلوم أنها لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال
الواجب الأهم في ظرفه لا مطلقا.
364

فالنتيجة: هي لزوم التحفظ على أصل الدليل والخطاب ورفع اليد عن إطلاقه،
فإن إطلاقه منشأ التزاحم دون أصله، فرفع اليد عنه بلا موجب، وهو غير جائز.
وأما ما ذكره ثالثا: من أن الأمر بالمهم لا يمكن أن يكون مشروطا بعصيان
الأمر بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم، لأن ترك التحفظ على القدرة له: إما
بصرفها في الواجب المهم، أو بصرفها في شئ آخر. فعلى الأول: يلزم اشتراط
وجوب الشئ بوجوده في الخارج، وهو محال. وعلى الثاني: يلزم التكليف
بالمحال، ضرورة أن مع صرف القدرة في غير المهم يستحيل المهم.
فيرد عليه: أن ما أفاده (قدس سره) إنما يتم بناء على الالتزام بنقطة واحدة، وهي: أن
يكون ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر عين صرفها في الواجب المتقدم
المهم، أو صرفها في شئ آخر، فعندئذ يلزم المحذور الذي أفاده (قدس سره). إلا أن تلك
النقطة خاطئة جدا وبعيدة عن الواقع بمراحل، وذلك ضرورة أن ترك التحفظ على
القدرة ليس عين فعل المهم أو فعل آخر، فإن معنى التحفظ هو إبقاء القدرة على
حالها وعدم إعمالها في شئ، وهو ملازم هنا لترك المهم وعدم الإتيان به في
الخارج، ومعنى ترك التحفظ بها: عدم إبقائها على حالها، وهو ملازم في المقام
لفعل المهم أو لفعل آخر، لا أنه عينه، كما هو واضح.
وعليه، فلا يلزم من اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ اشتراط وجوب
الشئ بوجوده وتحققه ليقال: إنه محال، بل الحال هنا - عندئذ - كالحال في بقية
موارد التزاحم.
مثلا: إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصلاة في آخر الوقت ووجوب
الإزالة، فكما أن ترك الصلاة في الخارج ملازم: إما لفعل الإزالة فيه أو لفعل غيرها
فكذلك ترك التحفظ على القدرة ملازم في الخارج: إما لفعل المهم أو لفعل غيره،
فكما أنه لا مانع من اشتراط وجوب الإزالة بترك الصلاة فكذلك لا مانع من
اشتراط وجوب المهم بترك التحفظ.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قدس سره): من أن عصيان وجوب حفظ القدرة: إما أن
365

يتحقق بصرف القدرة في المهم أو بصرفها في فعل آخر - وعلى كلا التقديرين
لا يعقل اشتراط الأمر بالمهم به - لا يرجع إلى معنى صحيح، وذلك لأن عصيانه
يتحقق بتركه، أي: بترك التحفظ، غاية الأمر أنه في الخارج ملازم: إما لفعل المهم
أو لفعل غيره، كما هو الحال في بقية موارد التزاحم من دون فرق بينهما من هذه
الناحية أصلا، لا أن عصيانه عين فعل المهم في الخارج أو عين فعل آخر، لئلا
يمكن اشتراط وجوبه به، وهذا لعله من الواضحات الأولية. فإذا لا مانع من
الاشتراط المزبور من ناحية ما أفاده (قدس سره).
ولكن يمكن منعه من ناحية أخرى، وهي: أن وجوب حفظ القدرة ليس
وجوبا شرعيا مولويا، بل وجوبه وجوب عقلي. وعليه، فلا معنى لوقوع المزاحمة
بينه وبين وجوب المهم، ضرورة أنه لا شأن للوجوب العقلي إلا إدراكه حفظ
القدرة للواجب المتأخر الأهم.
فإذا لا محالة تكون المزاحمة بين وجوب المهم ووجوب الأهم في ظرفه،
ومعه يكون وجوب المهم مشروطا بعصيان الأمر بالأهم وعدم الإتيان بمتعلقه في
الخارج، ولا معنى لاشتراط وجوبه بعصيان وجوب حفظ القدرة، لما عرفت:
من أن وجوبه عقلي، ولا واقع موضوعي له ما عدا إدراك العقل، ولا يكون في
مخالفته عصيان.
نعم، لو قلنا باستحالة الشرط المتأخر فلا مانع من الالتزام بكون وجوبه
مشروطا بترك حفظ القدرة خارجا، كما أنه لا مانع من الالتزام بكونه مشروطا
بعنوان التعقب أو العزم على العصيان.
وأما القسم الثاني - وهو: ما إذا وقعت المزاحمة بين حرمة المقدمة ووجوب
ذيها - فقد تقدم الكلام فيه في بحث مقدمة الواجب بصورة مفصلة (1)، فلا حاجة
إلى الإعادة فلاحظ.
وأما القسم الثالث - وهو: ما إذا وقعت المزاحمة بين فعلين متلازمين في

(1) راجع المحاضرات: ج 2 ص 434 - 436.
366

الخارج اتفاقا، كما إذا كان أحدهما محكوما بالوجوب والآخر محكوما بالحرمة،
كاستقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق وما والاه من البلاد لا مطلقا -
فلابد فيه أيضا من الرجوع إلى قواعد ومرجحات بابها، فإن كان أحدهما أهم
من الآخر فيقدم عليه وإن كانا متساويين فيحكم بالتخيير بينهما، ولا إشكال فيه
من هذه الناحية أصلا، وإنما الكلام فيه من ناحية أخرى، وهي: أنه هل يمكن
الالتزام بالترتب فيه أم لا؟
فنقول: إنه لا يمكن الالتزام به أصلا. والوجه في ذلك واضح، وهو: أنه
لا يعقل أن تكون حرمة استدبار الجدي مشروطة بعصيان الأمر باستقبال القبلة
وعدم الإتيان بمتعلقه، ضرورة أن ترك استدبار الجدي في هذا الحال قهري، ومعه
لا معنى للنهي عنه، فإنه لغو محض وطلب للحاصل فلا يصدر من الحكيم، وكذا
لا يعقل أن يكون وجوب استقبال القبلة مشروطا بعصيان النهي عن استدبار
الجدي والإتيان بمتعلقه، بداهة أنه ضروري الوجود عند عصيان النهي عن
الاستدبار، ومعه لا يمكن تعلق الأمر به، لأنه لغو وطلب للحاصل.
فالنتيجة: هي أنه لا يمكن الالتزام بالترتب في خصوص هذا الصنف من
المتلازمين، لا من جانب واحد ولا من جانبين، وهذا واضح.
بقي هنا شئ، وهو: أن شيخنا الأستاذ (قدس سره) قد أنكر جريان الترتب في موارد
اجتماع الأمر والنهي بناء على القول بالجواز ووقوع المزاحمة بينهما (1).
وبيان ذلك: هو أنه لو قلنا بأن التركيب بينها اتحادي كما اختاره المحقق
صاحب الكفاية (قدس سره)، بدعوى: أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون (2)، فتدخل
المسألة في كبرى باب التعارض، فلابد من الرجوع إلى قواعد ذلك الباب.
وأما لو قلنا بأن التركيب بينهما انضمامي بأن تكون هناك ماهيتان
متعددتان ذاتا وحقيقة، ولكن بنينا على سراية الحكم من إحداهما إلى الأخرى

(1) انظر فوائد الأصول: ج 1 ص 383 و 392، وأجود التقريرات: ج 1 ص 326.
(2) كفاية الأصول: ص 193.
367

فأيضا تدخل في ذلك الباب، وتقع المعارضة بين دليليهما، فلابد من الرجوع
إلى قواعدها.
وأما إذا بنينا على عدم السراية - كما هو الصحيح - فعندئذ إن كانت هناك
مندوحة فلا تزاحم أيضا، لفرض قدرة المكلف على امتثال كلا الحكمين معا، وأما
إذا لم تكن مندوحة في البين فتقع المزاحمة بينهما.
فإذا لابد من الرجوع إلى مرجحات وقواعد بابها، وهذا لا كلام فيه، وإنما
الكلام في ناحية أخرى، وهي: أنه هل يمكن الالتزام بالترتب فيه أم لا؟
فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قدس سره): أنه لا يمكن الالتزام بالترتب فيه ببيان: أن
عصيان النهي في مورد الاجتماع: إما أن يكون بإتيان فعل مضاد للمأمور به في
الخارج وهو الصلاة - مثلا - كأن يشتغل بالأكل أو الشرب أو ما شاكل ذلك، وإما
أن يكون بنفس الإتيان بالصلاة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الأمر
بالصلاة مشروطا به.
أما على التقدير الأول: فلأنه يلزم أن يكون الأمر بأحد الضدين مشروطا
بوجود الضد الآخر، وهذا غير معقول، لأن مرده إلى طلب الجمع بين الضدين في
الخارج، لفرض أنه أمر بإيجاد ضد على تقدير وجود ضد آخر.
وأما على التقدير الثاني فلأنه يلزم أن يكون الأمر بالشئ مشروطا بوجوده
في الخارج، وهو غير معقول، لأنه طلب للحاصل كما لا يخفى.
ولكن للمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع، وهي: أن المنهي عنه في المقام إنما
هو الكون في الأرض المغصوبة، لأنه تصرف في مال الغير - حقيقة - ومصداق
للغصب. ومن الواضح - جدا - أنه لا مانع من اشتراط الأمر بالصلاة على عصيان
النهي عنه، كأن يقول المولى: لا تكن في أرض الغير وإن كنت فيها فتجب عليك
الصلاة، فيكون الأمر بالصلاة معلقا على عصيان النهي عن الكون فيها، ولا يلزم
من اشتراط أمرها بعصيانه أحد المحذورين المذكورين، أعني بهما: لزوم طلب
الجمع بين الضدين، واشتراط الأمر بالشئ بوجوده وتحققه في الخارج.
368

والوجه في ذلك: هو أن لزوم المحذور الأول يبتنى على ركيزة واحدة،
وهي: أن يكون الأمر بالصلاة مشروطا بتحقق أحد الأفعال الخاصة فيها: كالأكل
والنوم والشرب وما شاكل ذلك، فإن اشتراط أمرها به - لا محالة - يستلزم
المحذور المزبور، وهو طلب الجمع بين الضدين، ضرورة أن مرد هذا الاشتراط
إلى تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق أحد تلك الأفعال الخاصة المضادة لها،
إلا أن تلك الركيزة خاطئة جدا، وليس لها واقع موضوعي، وذلك لما عرفت: من
أن الأمر بالصلاة مشروط بالكون في الأرض المغصوبة، لا بأحد تلك الأفعال
الخاصة الوجودية. ولذا، لو فرض خلو المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة
فمع ذلك كونه فيها تصرف في مال الغير ومصداق للغصب.
وعلى ضوء هذا الأصل فلا مانع من تعلق الأمر بالصلاة على تقدير تحقق
عصيان النهي عن الكون فيها، فإذا تحقق تحقق الأمر بها لا محالة.
وبعبارة أخرى: المفروض: أن المكلف قادر على الصلاة عند كونه في
الأرض المغصوبة وإن فرض كونه في ضمن أحد الأفعال المزبورة، لفرض أنه
قادر على تركه والاشتغال بالصلاة، ومع القدرة عليها لا مانع من الأمر بها.
ومن ذلك يظهر الفرق بين اشتراط الأمر بالصلاة بالكون في الأرض
المغصوبة واشتراطه بأحد الأفعال الخاصة الوجودية فيها: كالأكل والشرب وما
شاكلهما، وهو: أن الأمر بالصلاة لو كان مشروطا بأحد تلك الأفعال الخاصة
المضادة لها فلا محالة يلزم محذور طلب الجمع بين الضدين، وذلك لفرض أن
الأمر بالصلاة - عندئذ - تابع لتحقق ذلك الفعل المضاد لها في الخارج حدوثا
وبقاء، بمعنى: أن حدوثه موجب لحدوث الأمر بها، وبقاءه موجب لبقاء الأمر بها.
وعليه، فلا محالة يلزم طلب الجمع بين الضدين، وهذا بخلاف ما إذا كان مشروطا
بالكون فيها لفرض أنه ليس مضادا لها، فإنه كما يتحقق في ضمنها كذلك يتحقق
في ضمن غيرها من الأفعال الوجودية. فإذن لا يلزم من اشتراط الأمر بالصلاة به
المحذور المتقدم.
369

وسره: ما أشرنا إليه: من أنه إذا تحقق الكون في الأرض المغصوبة تحقق
الأمر بها، ومع تحقق الأمر بها - لا محالة - يجب إتيانها وترك غيرها من الأفعال
الخاصة، وذلك لفرض أن فعلية أمرها تدور مدار تحقق الكون فيها حدوثا وبقاء.
ولكن العجب من شيخنا الأستاذ (قدس سره)، فإنه كيف غفل عن هذه النقطة وقال: إن
اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عن الكون في الأرض المغصوبة المتحقق في
ضمن أحد الأفعال الخاصة يرجع إلى طلب الجمع بين الضدين، مع أنه فرق واضح
بين اشتراط الأمر بها بعصيان النهي عن الكون فيها، واشتراط الأمر بها بعصيان
النهي عن أحد تلك الأفعال الوجودية؟! فإن الأول لا يستلزم طلب الجمع دون
الثاني، كما هو واضح.
وأما لزوم المحذور الثاني فهو يبتنى على أن يكون الكون في الأرض
المغصوبة عين الصلاة خارجا ومتحدا معها، وهذا خلاف مفروض الكلام، فإنه
فيما إذا كان لكل منهما وجود مستقل، غاية الأمر: أن وجود أحدهما - وهو الصلاة
في الخارج - ملازم لوجود الآخر فيه وهو الغصب، ولأجل ذلك تقع المزاحمة
بينهما.
وقد تقدم: أن مورد الاجتماع على القول بالاتحاد داخل في كبرى باب
التعارض دون التزاحم.
وأما على القول بالجواز وتعدد المجمع فحيث إن الكون والصلاة في مورد
الاجتماع من المتلازمين اللذين لهما ثالث فلا مانع من أن يكون الأمر بالصلاة
مشروطا بعصيان النهي عن الكون فيها، ضرورة أن المكلف عند الكون فيها قادر
على إتيان الصلاة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: المفروض أن الصلاة سائغة في نفسها، وليس مبغوضة
ومصداقا للمحرم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنه لا مانع من تعلق الأمر بالصلاة
370

مترتبا على عصيان النهي عن الكون فيها بناء على ما حققناه من إمكان الترتب،
وأنه لا مناص من الالتزام به (1). وأما محذور اشتراط الأمر بالشئ بتحققه
ووجوده في الخارج إنما يلزم في المقام بناء على أن يكون الأمر بالصلاة فيها
مشروطا بالصلاة فيها وهو من الفساد بمكان من الوضوح.
نعم، لو فرض أن الكون في الأرض المغصوبة ملازم للصلاة خارجا بحيث لا
يمكن تحققه فيها بدونها أصلا لكان مرد اشتراط الأمر بالصلاة بعصيان النهي عنه
إلى ذلك لا محالة، إلا أنه فرض خاطئ جدا، وغير مطابق للواقع قطعا.
ثم إنه لو تنزلنا عن ذلك وفرضنا عدم إمكان الترتب من هذا الطرف - أعني:
ترتب الأمر بالصلاة على عصيان النهي عن الكون في الأرض المغصوبة - إلا أنه
لا مانع من الالتزام به من الطرف الآخر، وهو ترتب حرمة الكون فيها على عصيان
الأمر بالصلاة، وعدم الإتيان بمتعلقه في الخارج فيما إذا كان أهم منها أو مساويا
لها، ضرورة أنه لا يلزم من الالتزام بالترتب في هذا الطرف أي محذور توهم
لزومه من الالتزام به في ذاك الطرف، وهذا واضح.
فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه: أنه لا مانع من الالتزام بالترتب في موارد
الاجتماع على القول بالجواز بناء على وقوع التزاحم بين الحكمين. ولكن قد
ذكرنا: أن هذا ليس قسما آخر للتزاحم، بل هو داخل في التزاحم بين الفعلين
المتلازمين اتفاقا (2).
نلخص نتيجة ما ذكرناه في عدة نقاط:
الأولى: أن تقسيم التزاحم إلى سبعة أقسام كما عن شيخنا الأستاذ غير
صحيح.
الثانية: أن الصحيح تقسيمه إلى ثلاثة أقسام كما تقدم منا (3).
الثالثة: لا فرق في جريان الترتب بين الواجبين يكون كل منهما مشروطا

(1) تقدم في ص 103 وما بعدها.
(2) تقدم في ص 355.
(3) تقدم في ص 355.
371

بالقدرة عقلا أن يكونا عرضيين أو طوليين، وعلى التقدير الثاني: لا يفرق بين أن
يكون الواجب المتأخر أهم من المتقدم أو يكون مساويا له، خلافا لشيخنا
الأستاذ (قدس سره)، حيث قد منع عن جريان الترتب فيهما مطلقا، وقد استدل على ذلك
بوجوه، وقد تقدمت المناقشة في جميع تلك الوجوه، فلاحظ (1).
الرابعة: أن الترتب لا يجري في المتلازمين يكون أحدهما محكوما بالحرمة
والآخر محكوما بالوجوب وكانا مما لا ثالث لهما: كاستقبال القبلة واستدبار
الجدي لمن سكن العراق وما سامته من البلاد.
الخامسة: أن الترتب يجري في المتلازمين يكون بينهما ثالث كما في موارد
اجتماع الأمر والنهي على القول بالجواز، مع فرض عدم وجود مندوحة في البين،
خلافا لشيخنا الأستاذ (قدس سره)، حيث قد أنكر جريان الترتب فيهما كما سبق. هذا آخر
ما أوردناه في بحث الضد.
إلى هنا قد تم بعون الله تعالى وتوفيقه الجزء الثالث من كتاب
" محاضرات في أصول الفقه " وسيتلوه الجزء الرابع
- إن شاء الله تعالى - وأوله:
هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه؟

(1) راجع ص 356 وما بعدها.
372