الكتاب: الاستصحاب
المؤلف: مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شوال ١٤١٧ - ١٣٧٥ ش
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
ردمك:
ملاحظات:

الاستصحاب
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
شعبان 1417 ه‍. ق. - دي 1375 ه‍. ش.
مقدمة الكتاب 1

مقدمة التحقيق
مقدمة الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين
وبعد، فالاستصحاب أحد أوتاد وركائز البناء الفقهي الأصيل، ودعامة هامة
من دعائمه، جعله الشارع المقدس طريقا وبابا من طرق وأبواب العلم التي يحدد
العالم الفقيه وظيفته العملية بها.
وقد بدأ الاستصحاب - كسائر العلوم المختلفة - بسيطا في مستواه وحجمه
وكيفيته، ثم تطور وتوسع بفعل العوامل الزمانية ومتطلباتها المتكثرة والمتجددة،
حتى بلغ القمة والذروة بأيدي العلماء المبتكرين المجددين من ناحية الدقة والعمق
والاستيعاب.
والمعروف بين الأصوليين أن " الاستصحاب " يطلق على أمور:
الأول: استصحاب حال الشرع، أي استصحاب الحكم الشرعي الثابت بدليل
سمعي من كتاب أو سنة.
الثاني: استصحاب حال الاجماع، والمراد به استصحاب الحكم الثابت
مقدمة الكتاب 3

بالإجماع، وقد مثل له الشافعية: بالمتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة، فإنه يجب
عليه بالإجماع المضي فيها قبل وجدان الماء، فيستصحب هذا الحكم حال الوجدان
أيضا، إلى أن يدل على أن رؤية الماء قاطع للصلاة (1).
هذا وقد يطلق أيضا استصحاب الحال ويراد به الأعم من استصحاب حال
الاجماع (2).
الثالث: استصحاب حال العقل - وقد يسمى باستصحاب النفي الأصلي - وهو
استصحاب حكم العقل بالبراءة الأصلية، كاستصحاب البالغ لبراءته التي كانت
ثابتة له حال الصغر. على ما هو المعروف بين جمع من الأصوليين، خلافا لصاحب
" الفصول " رحمه الله تعالى فإنه عممه لكل حكم ثبت بالعقل، سواء كان حكما
تكليفيا أم وضعيا، حتى استصحاب عدم الملكية الثابت قبل تحقق
موضوعها (3).
الرابع: استصحاب حال اللغة فيما لو ثبت كون اللفظ حقيقة في معنى، وشك في
حصول النقل.
الخامس: الاستصحاب القهقري أو القهقرائي، أو المقلوب، وهو أصل عقلائي
خاص بباب اللغة، مثاله إثبات اتحاد المعنى الذي نفهمه من اللفظ في زماننا، مع ما
يفهمه المعاصرون لزمان صدور النص.
المناسب هنا والمعروف بين المتأخرين من " الاستصحاب "، هو المعنى المختلف
فيه الذي قد عرفه الأصوليون بتعاريف مختلفة وعبائر شتى، منها: " إبقاء ما كان "

1 - انظر عدة الأصول: 303.
2 - نفس المصدر.
3 - الفصول الغروية: 366.
مقدمة الكتاب 4

و " إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول " و " الشك
المسبوق باليقين " لكن الإمام (قدس سره) عدل عن طريقة القوم وصحح التعاريف بناء على
المباني المختلفة. فمن قال بأنه أصل عملي ويكون وظيفة عملية في مقام الشك، يجب
تعريفه ب‍ " إبقاء ما كان " ولا يصح له إطلاق الحجة عليه لعدم كونه ناظرا إلى الحكم
الواقعي ولا حجة عليه بل الاستصحاب هذا من المسائل الفقهية. ومن قال بأنه حجة على
الواقع واعتبره الشارع بجعل اليقين طريقا إلى متعلقه في زمان الشك، فيعرفه ب‍ " اليقين
السابق على الشك في البقاء الكاشف عن متعلقه في زمن الشك ". ولو قال إن اعتباره ليس
لأجل الطريقية عن الواقع بل لأجل التحفظ عليه، وجب تعريفه ب‍ " اليقين الملحوق
بالشك " أو " الشك في بقاء الشئ المسبوق باليقين به ".
فما في كلمات بعض من الخلط بين التعاريف والمباني غير وارد مورد التحقيق
والتدقيق. كما أن ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من كون التعريف واحدا على جميع
المباني غير قابل للتصديق.
وقد كتب في الاستصحاب وتطرق لهذا الموضوع كل من صنف في علم أصول
الفقه - على الأعم الأغلب - فأسهبوا فيه تدقيقا وتحقيقا، وحققوا تقدما في هذا السبيل
وبالخصوص على يد الرواد النوابغ، فخلفوا تراثا ضخما، ومنجزات عظيمة.
والذي نريد تقريره الآن هو إلقاء نظرة خاطفة سريعة حول أعيان الأعلام
ومشاهير العلماء وعلى أهم منجزاتهم في ذلك المضمار حسب التسلسل ألزمني فنقول:
إن أول من وصلنا قوله في حجية الاستصحاب هو رئيس الملة وفخرها وعمادها
الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد العكبري البغدادي
رضوان الله تعالى عليه المتوفى سنة 413 ه‍ حيث قال:
والحكم باستصحاب الحال واجب، لأن حكم الحال ثابت بيقين، وما ثبت
مقدمة الكتاب 5

فلن يجوز الانتقال عنه إلا بواضح الدليل (1).
وتطرق لموضوع الاستصحاب أيضا علم الهدى الشريف المرتضى السيد
أبو القاسم علي بن الشريف أبي أحمد الحسين نقيب الطالبيين الموسوي المتوفى سنة
436 ه‍ في كتابه " الذريعة إلى أصول الشريعة ".
وكذلك شيخ الطائفة الإمام الكبير الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي
الطوسي المتوفى سنة 460 ه‍ في كتابه الحافل الموسوم ب‍ " عدة الأصول ".
وأيضا السيد عز الدين أبو المكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي
المتوفى سنة 585 ه‍ في " غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع ".
والمحقق الحلي الشيخ نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد
الهذلي المتوفى سنة 676 ه‍ في " معارج الأصول ".
والعلامة الحلي الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن الشيخ سديد الدين
يوسف بن زين الدين علي بن المطهر الأسدي المتوفى سنة 726 ه‍ في كتبه الأصولية
كافة والتي منها " نهاية الوصول إلى علم الأصول ".
والشهيد الأول الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين
مكي ابن الشيخ شمس الدين محمد النبطي العاملي الجزيني المستشهد سنة 786 ه‍ في
" القواعد والفوائد ".
والشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي المستشهد
سنة 965 ه‍ في " تمهيد القواعد ".
والعلامة الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن ابن الشهيد الثاني الشيخ
زين الدين العاملي المتوفى سنة 1011 ه‍ في " معالم الدين وملاذ المجتهدين ".

1 - التذكرة بأصول الفقه " ضمن مصنفات الشيخ المفيد " 9: 45.
مقدمة الكتاب 6

وعلم الأئمة الأعلام الشيخ بهاء الدين محمد ابن الشيخ عز الدين الحسين
الحارثي الهمداني العاملي الجبعي المتوفى سنة 1030 ه‍ في " زبدة الأصول ".
والعلامة المولى الشيخ عبد الله بن محمد البشروي الخراساني المعروف
بالفاضل التوني المتوفى سنة 1071 ه‍ في " الوافية في أصول الفقه ".
والعلامة الكبير المحقق الميرزا أبو القاسم الگيلاني القمي المتوفى سنة 1231 ه‍
في كتابه الشهير " القوانين المحكمة ".
إلى أن جاء دور رائد المدرسة الأصولية والمؤسس لأرقى مرحلة من مراحلها
الفكرية العلمية أعني الشيخ الأعظم المرتضى ابن الشيخ محمد أمين الأنصاري
المتوفى سنة 1281 ه‍ فكتب " فرائد الأصول " الذي تمكن فيه من إحداث قفزة نوعية
فريدة في المسائل الأصولية التي تعرض لها وبحثها ومنها موضوع الاستصحاب.
وفي آخر هذا العرض لا بأس بتقديم فهرست مختصر يجمع أسماء أهم الكتب
والرسائل والتعليقات التي دونها المتأخرون حول موضوع الاستصحاب
بالخصوص، وإلا فإن كل من كتب - تقريبا - في علم الأصول لابد وأنه طرق ذلك
الباب وتعرض له بنحو وآخر. فنذكر من ذلك:
1 - (الاستصحاب وإثبات حجيته وما يتعلق به) للأستاذ الأكبر المحقق المجدد
الشيخ محمد باقر بن محمد أكمل البهبهاني (قدس سره) المتوفى سنة 1206 ه‍.
2 - (الاستصحاب وإثبات حجيته) للمحقق الكبير السيد المجاهد الأمير محمد
صاحب " مفاتيح الأصول " ابن الأمير السيد علي الطباطبائي صاحب " رياض
المسائل " المتوفى سنة 1242 ه‍.
3 - (حاشية على موضوع الاستصحاب من القوانين) للشيخ الأعظم
الأنصاري (قدس سره).
مقدمة الكتاب 7

4 - (الاستصحاب) للشيخ ميرزا أبو القاسم ابن ميرزا محمد علي النوري
الطهراني الشهير بكلانتري المتوفى سنة 1292 ه‍، وهذا الرجل من أبرز وأشهر
تلاميذ الشيخ الأعظم المرتضى الأنصاري قدس سرهما وهو جد الشيخ ميرزا محمد
الثقفي أبي زوجة الإمام الراحل (قدس سرهما).
5 - (الاستصحاب) لآية الله الفقيه الكبير السيد محمد كاظم بن عبد العظيم
الطباطبائي اليزدي النجفي المتوفى سنة 1337 ه‍.
6 - (رسالة في الاستصحاب) لآية الله الشهيد السعيد السيد حسن المدرس
المستشهد سنة 1350 ه‍.
حول الكتاب ومؤلفه سماحة الإمام رضوان الله عليه:
إن أول ما يستوقف الباحث في هذه الرسالة الشريفة هو جمع مصنفه العظيم
بين الدقتين العقلية والعرفية، وإعمال كل منهما في موضوعها المناسب لها، وهذه مزية
فريدة في نوعها لم يتصف بها إلا الأوحدي من المحققين، ذلك أن من طبيعة البحوث
العقلية أن تصهر ذهنية صاحبها في بوتقة الدق، فلا يعود يرى إلا زاويتها، وهو بهذا
يبتعد عن سليقته العرفية.
فعلى هذا فإننا نرى منهجية الإمام (قدس سره) في هذا الكتاب وهو يغوص في بحث عقلي
دقيق عند تحقيقه القضايا السالبة ومناط الصدق والكذب فيها، وما يكاد يفرغ منها حتى
يسبغ عليها من عقليته الفلسفية الجبارة قوالب محكمة من الحكمة المتعالية.
وبنفس هذه الروح والسليقة المترعة بالحكمة يرد على المحقق الإصفهاني (قدس سره)
القائل بأن مفهوم النصف المشاع موجود بالقوة، ولكنه مع ذلك يعود إلى سليقته
العرفية القويمة فيبني على أن الملكية المشاعة أمر اعتباري عقلائي غير قائم على
مقدمة الكتاب 8

المسائل الفلسفية، كما أن الأشياء إنما تتصف بالربع والنصف في محيط العقلاء.
ومن دقته في المسائل العقلية ما أفاده في جريان الاستصحاب في الأحكام
العقلية والأحكام الشرعية المستكشفة عن العقلية حيث منعهما الشيخ الأعظم
الأنصاري مستدلا بأن العقل مدرك لمناطات أحكامه ولا يطرأ الشك في موضوع حكمه
واستشكل عليه جل من تأخر عنه. لكن الإمام قدس سره بعد دفع الإشكالات
الواردة على كلام الشيخ، فصل بين حكم العقل وبين حكم الشرع المستكشف من
العقل، فمنع من جريان الاستصحاب في الأول وصحح في الثاني لأنه يمكن أن
يشك في صدق عنوان قبيح على الموضوع فيشك في بقاء الحكم الشرعي
فيستصحب الحكم مثل ما إذا غرق مؤمن فيحكم العقل وكذا الشرع بوجوب إنقاذه
وحسنه، فإذا شك في صدق عنوان الساب لله على الغريق فلا يجوز استصحاب
حكم العقل للشك في حسنه لكن حكم الشرع بوجوب إنقاذه باق بحكم الاستصحاب.
ومن هذه الموارد ما أفاده في انحصار أدلة الاستصحاب في الأخبار وكونه
حكما شرعيا تعبديا من قبل الشرع أما كون الاستصحاب إمضاء للسيرة العقلائية
مطابقا لما عند العقلاء، فأنكره قائلا: إن بنائهم من باب حصول الوثوق
والاطمئنان لهم ببقاء ما كان، لندرة وجود الرافع للشئ الثابت مع وجود مقتضيه،
لكن الاستصحاب المذكور في الأخبار المدعى ثبوته وحجيته - سواء قلنا بكونه
مختصا بالشك في المقتضي أم لا - غير ما عند العقلاء، لأن الأخبار واردة في بيان
حكم تعبدي وهو وجوب العمل على اليقين السابق وليس لسان أدلته الإحالة إلى
حكم معلوم مرتكز لدى العقلاء.
ومنها ما أفاده في توضيح الأحكام الوضعية وكيفية جعلها وجعل السببية
والعلل التكوينية والتشريعية والخلط الواقع في كلام بعض المتأخرين من تشبيه
مقدمة الكتاب 9

التشريع بالتكوين (وللإمام (قدس سره) في تفصيل الحق عن الباطل رسالة مستقلة أيضا
غير ما ذكره هنا، ردا لكلام العلامة الحائري غير مطبوع بعد).
وذكر أقسام الأحكام الوضعية باعتبار أنحاء جعله: فمنها ما يكون مجعولا
بتبع التكليف كالجزئية، ومنها ما يكون مجعولا بتبع اشتراط التكليف به مثل اشتراط
الاستطاعة للحج، ومنها المجعول أصالة وهو أيضا على أقسام: المجعول ابتداء
كالخلافة والقضاوة والسببية، والمجعول عقيب شئ اعتباري كحق السبق والتحجير،
والمجعول عقيب شئ تكويني مثل الحدود الشرعية والقصاص وضمان الإتلاف
والملكية عقيب الإحياء والحيازة، والمجعول عقيب أمر تشريعي قانوني نحو العهدة
عقيب عقد الضمان ومن ذلك العقود والإيقاعات.
ومن الموارد التي تظهر دقته العقلية واستظهاره العرفي ما ذكره في جريان
استصحاب الزمان والزماني في الثالث من التنبيهات.
أما جريان الاستصحاب في الزمان والحركة فلصدق البقاء عقلا وعرفا، أما
العقل فما هو المقرر عنده وجود الحركة القطعية ووجوده واحد متصرم متجدد فكل
من الحركة والزمان موجود واحد ذو هوية شخصية وأما عند العرف فظاهر لأنهم
يرون اليوم باقيا إلى الليل والحركة إلى السكون. وكذا يجري في الزمانيات مع أن من
الزمانيات ما تكون وحدته بنحو من الاعتبار مثل التكلم والدليل عليه أيضا صدق البقاء
عند العرف.
ثم إن الإمام (قدس سره) تبعا للمتقدمين عنون الشبهة العلامة النراقي ذيل التنبيه وهو
أن استصحاب وجوب الشئ بعد زمان معارض لاستصحاب عدم وجوب ذلك الشئ
المتقيد بذلك الزمان فلعل التقيد بالزمان جزء الموضوع. وبعد التعرض لكلام الشيخ
الأعظم والمحقق الخراساني والمحقق النائيني والعلامة الحائري رحمهم الله والجواب
مقدمة الكتاب 10

عن إشكالاتهم على النراقي، أورد إشكالا مستقلا عليه وهو أن الموضوع إن كان هو
الشئ فلا يجري استصحاب عدم وجوبه الأزلي لأن اليقين السابق قد زال قطعا
لوجوب الشئ قبل ذلك الزمان. وإن كان هو الشئ المتقيد بالزمان فلا يجري
استصحاب وجوب الشئ لعدم يقين سابق وحيث لا منافاة بين وجوب الشئ
وعدم وجوبه المتقيد بالزمان فيجتمع الأمران ولا تعارض.
وجرى (قدس سره) على هذه الوتيرة في الرد على الشيخين الأنصاري والحائري
رحمهما الله تعالى فأفاد أن التقدم الطبعي والرتبي خارجان عما يفهمه العرف من
قوله عليه السلام: (لا ينقض اليقين بالشك) لأنهم يفهمون منه التقدم الخارجي. ونظرا
لتأصل الحس العرفي في نفسه الشريفة لم يجد بدا من أن يقول بأن العرف الدقيق كما
يكون مرجعا في تحديد المفاهيم كذا فهو مرجع في تشخيص مصاديقها.
وانظر إلى تحقيقه في الجواب عما اشتهر من عدم جواز التمسك بعمومات أدلة
القرعة إلا في موارد عمل الأصحاب، بدعوى كثرة المخصصات المستهجنة الواردة
عليها، حيث أفاد أن مصب عمومات القرعة هو التنازع وتزاحم الحقوق، فيكون
الأصحاب عاملين بعمومها فأين التخصص الكثير المستهجن؟!
هذا بعض ما نستطيع تقديمه في هذا المختصر مما لاح لنا من نظرات
استجليناها، وإلا فالقارئ الفطن اللبيب يتمكن من أن يستشف ملامح الفكر المبدع
الدفاق بالثراء العلمي وما احتواه من إبداعات ومواهب غنية كل الغنى في كل ما
يرجع إلى الموضوع.
مقدمة الكتاب 11

منهج التحقيق:
1 - مقابلة النسخة المطبوعة مع الأصل الذي هو بخط السيد الإمام (قدس سره).
2 - تقطيع النص وضبطه، ووضع علامات الترقيم المتعارفة في هذا المجال.
3 - استفدنا من هذه العلامة [] وتسمى بالعضادتين في موارد:
أ - لإضافة يقتضيه سياق الجملة.
ب - لإضافة من المصدر.
ج - لتصحيح كلمة.
4 - الإشارة إلى موضع الآيات القرآنية الشريفة وذلك بذكر اسم السورة
ورقم الآية.
5 - تخريج الأحاديث الشريفة من مظانها الرئيسية.
6 - تخريج الأقوال وما يحوم حولها ويجري مجراها من دعاوى أو توهمات أو
إشكالات وغير ذلك، وعزوها إلى قائليها بذكر مصادرها ومنابعها الأصلية قدر
الإمكان.
7 - تعريف الأعلام والرواة المذكورين في أصل الكتاب بصورة مختصرة.
8 - إعداد فهارس فنية عامة توفر الوقت وتسهل من أمر الاستفادة من
مطالب الكتاب.
هذا ولا يفوتنا هنا أن نسجل شكرا جزيلا وثناء وافرا لسماحة آية الله الشيخ
مجتبى الطهراني حفظه الله تعالى لتصحيح الكتاب وتحقيقه في طبعته الأولى.
والحمد لله كثيرا، وصلاته وسلامه على محمد وآله بكرة وأصيلا.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة
شعبان 1417 ه‍. ق. - دي 1375 ه‍. ش.
مقدمة الكتاب 12

الاستصحاب
مقدمة الكتاب 17

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى
الله على محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
مقدمة الكتاب 19

فصل
في تعريف الاستصحاب
وقد عرف بتعاريف (1) لا يخلو شئ منها من الإشكال، بل لا يخلو كلام الأعلام
في هذا الباب من الاضطراب والمناقضة صدرا وذيلا، وبعد تحقيق حقيقة الاستصحاب
يظهر صدق ما ادعيناه.
فنقول: إن الاستصحاب إما أن يكون أصلا عمليا كأصالة الحل والطهارة،
ويكون وظيفة عملية في مقام الشك، ويكون موضوعه الشك في شئ متيقن سابقا، من
غير أن يكون اعتباره لأجل التحفظ على الواقع، فلا يكون حينئذ حجة على الواقع،
ولا طريقا مجعولا، فإطلاق الحجة عليه غير صحيح، كإطلاق الحجة على أصالتي
الطهارة والحلية.
فبناء عليه يكون تعريفه ب‍ " إبقاء ما كان " وأمثاله (2) مما لا مانع منه، سواء أريد منه

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 318 سطر 12، الوافية: 200، القوانين المحكمة 2: 53 سطر 10، الفصول الغروية: 366
سطر 13، كفاية الأصول: 435، حاشية الآخوند على الرسائل: 171، فوائد الأصول 4: 407، نهاية الدراية 3: 3
سطر 4.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 318 سطر 12، الفصول الغروية: 366 سطر 13، مناهج الأحكام والأصول: 224 سطر 31.
1

الإبقاء العملي الذي هو وظيفة المكلف (1)، أو الحكم بالإبقاء من قبل الشارع (2).
ولا يخفى: أنه حينئذ يكون مسألة فقهية ولو في الاستصحابات الحكمية، فإنه
على كلا التقديرين يكون وظيفة عملية غير ناظرة إلى الحكم الواقعي، ولا حجة عليه،
ولا طريقا إليه.
وإما أن يكون حجة على الواقع، سواء كان أصلا اعتبر لأجل التحفظ على الواقع،
كأصالة الاحتياط في الشبهة البدوية، أو طريقا كاشفا عنه كسائر الأمارات
الكاشفة عن الواقع، فحينئذ يكون مسألة أصولية، وإطلاق الحجة عليه صحيح، فإن
معنى الحجية هو كون الشئ منجزا للواقع، بحيث لو خالفه المكلف مع قيامه عليه
يكون مستحقا للعقوبة.
مثلا: لو قام الدليل على وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية، يصير الاحتمال
حجة على الواقع، بمعنى أنه لو احتمل المكلف وجوب شئ فتركه، وكان واجبا واقعا،
يصير مستحقا للعقوبة عليه، وهذا معنى تنجيز الواقع، والمنجز هو الحجة على الواقع،
وليس المراد بالحجة في الأصول القياس المنطقي، وإن اشتبه على بعض الأعاظم حتى
العلامة الأنصاري قدس سره (3).

1 - فوائد الأصول 4: 307، أجود التقريرات 2: 343، درر الفوائد: 509.
2 - حاشية الآخوند على الرسائل: 172 سطر 3، حاشية الكفاية (تقريرات السيد البروجردي) 2: 339.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 2 سطر 12، وقد اختاره المحقق الهمداني في حاشيته على الرسائل، وحكاه عن البعض
أيضا العلامة الأنصاري: هو الشيخ مرتضى ابن الشيخ محمد أمين بن شمس الدين بن أحمد بن نور الدين بن
محمد صادق الأنصاري، الإمام الفقيه المؤسس شيخ مشايخ الإمامية، وأحد جهابذة العلماء وأثبات المحققين، من
ذرية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ولد في الثامن عشر من ذي الحجة عام 1214
ه‍ في مدينة دزفول، تفقه على عمه الفقيه الكبير الشيخ حسين الأنصاري، ثم على الفقيه السيد محمد نجل السيد
علي الطباطبائي، والفقيه المتبحر شريف العلماء المازندراني، والمحقق المولى أحمد النراقي وآخرين، وتخرج من
معهد درسه جماعة من أعاظم العلماء، منهم: السيد ميرزا محمد حسن الحسيني الشيرازي، والشيخ ميرزا حبيب الله
الرشتي، والفقيه الشيخ جعفر التستري، والفقيه الكبير السيد حسين الكوهكمري التبريزي، والمحقق الشيخ محمد
كاظم الخراساني وغيرهم، توفي ليلة الثامن عشر من جمادى الثانية عام 1281 ه‍، ودفن في النجف الأشرف.
انظر: أعيان الشيعة 10: 117، ريحانة الأدب 1: 189، معارف الرجال 2: 399 / 410.
2

وبالجملة: إطلاق الحجة على الاستصحاب - بناء على كونه أصلا لحفظ الواقع
أو أمارة لإثباته - صحيح، ولكن تعريفه حينئذ ب‍ " إبقاء ما كان " ومثله ليس على ما
ينبغي، لأن الاستصحاب بناء عليه أمر يكون حكم الشارع أو بناء العقلاء أو حكم
العقل دليلا على اعتباره، ويجب على المكلف العمل على طبقه وجوبا طريقيا للتحفظ
على الواقع، ولا يكون نفس الحكم الشرعي أو نفس عمل المكلف.
فكما أن خبر الثقة الذي هو طريق إلى الواقع وحجة عليه شئ، وإيجاب العمل
على طبقه شئ آخر، والعمل عليه شئ ثالث، فلا يصح أن يقال: إن خبر الثقة هو
وجوب العمل على طبقه، أو العمل على طبقه، فكذلك الاستصحاب.
فلا بد من تعريفه - بناء عليه - إما ب‍ " الكون السابق للشئ الكاشف عن بقائه
في زمن الشك فيه "، أو " اليقين السابق الكاشف عن متعلقه في زمن الشك "، أو " الشك
المسبوق باليقين بالشئ ".
فلو قلنا: إن الاستصحاب أمارة على الواقع كسائر الأمارات، ووجه اعتباره عند
العقلاء أو الشارع أن الثابت يدوم، فيكون " الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن
الشك فيه " هو حقيقة الاستصحاب، فهذا التعريف صحيح ولو بناء على أخذه من
الأخبار.
وأما لو قلنا: بأن اعتباره الشرعي إنما يكون بجعل اليقين طريقا إلى متعلقه في
زمان الشك، فتكون حقيقته: " أنها اليقين السابق على الشك في البقاء، الكاشف عن
متعلقه في زمن الشك ".
ولو قلنا: بأن اعتباره ليس لأجل الطريقية إلى الواقع، بل لأجل التحفظ عليه، وأن
إيجاب العمل على طبق الحالة السابقة لأجل التحفظ عليها، فيكون أصلا وحجة على
الواقع، نظير أصالة الاحتياط في الشبهات البدوية في الأعراض والنفوس، فتكون
3

حقيقته: " أنها الشك في بقاء الشئ المسبوق باليقين به، أو اليقين الملحوق بالشك "
فيكون ما جعله الشارع حجة على الواقع هو اليقين السابق الغير الكاشف عن الكون
اللاحق أو الشك المسبوق به، كما أن ما جعله حجة عليه في باب الاحتياط في الأعراض
والنفوس - بناء على وجوبه (1) - هو الاحتمال.
وبما ذكرنا: يتضح النظر في كثير مما ذكره الأعلام في المقام، فإنك ترى أن من
جعل الاستصحاب أصلا عمليا ووظيفة عملية للشاك يبحث عن حجيته (2).
ومن جعله حجة على الواقع عرفه: " بأنه الحكم بإبقاء ما كان " (3).
ومن عرفه: " بأنه الإبقاء العملي، ويكون فعلا للمكلف " يجعله من المسائل
الأصولية، ويبحث عن حجيته (4).
وهذه مناقضات وقعت في كلامهم، وعليك بالتأمل التام في المقام.
وقد اتضح أيضا مما ذكرنا: أنه لا يمكن تعريفه بشئ يكون موردا للنقض
والإبرام على جميع المسالك، لعدم الجامع بينها، فإن من جعله أصلا عمليا لا بد وأن
يجعل الشك موضوعا، ويقول: إنه وظيفة للشاك عند قصور اليد عن الواقع، ومن جعله
أمارة على الواقع لا بد وأن لا يعتبر الشك على نحو الموضوعية، وهما مما لا يجتمعان.
وكذا لا جامع بين القول بالطريقية والأمارية على الواقع، وبين القول بأنه حجة
على الواقع وأصل كأصل الاحتياط، فمن أراد تعريفه بجامع تجتمع عليه الأقوال
المتقابلة فقد أخطأ الغرض، إلا أن يراد بالجامع الغرض منه على بعض الاعتبارات.
وينبغي التنبيه على أمرين:

1 - أوثق الوسائل: 268 السطر ما قبل الأخير، وانظر هداية الأبرار للكركي: 230، فوائد الأصول 3: 385.
2 - كفاية الأصول: 436.
3 - انظر معالم الدين: 227 و 228، بحر الفوائد: 2 سطر 22 مبحث الاستصحاب، رسائل الشيخ الأنصاري: 319
سطر 7.
4 - درر الفوائد: 509 - 511.
4

الأمر الأول: الاحتمالات التي في الباب
إنه يحتمل - بحسب التصور ومقام الثبوت - أن يكون الاستصحاب أصلا عمليا
كأصالة الحل والطهارة.
ويحتمل أن يكون أصلا شرعيا للتحفظ على الواقع، ويكون حجة عليه.
ويحتمل أن يكون أمارة شرعية، كخبر الثقة بناء على أن يكون اعتباره من قبل
الشرع.
ويحتمل أن يكون أمارة عقلائية، كخبر الثقة بناء على كون اعتباره من جهة بناء
العقلاء.
ويحتمل أن يكون أصلا عقلائيا يكون بناء العقلاء على العمل به لا لأجل طريقيته
إلى الواقع، بل لحكمة دفع الحرج، كأصالة الصحة بناء على كونها من الأصول العقلائية
التي شرعت عندهم لأجل حكمة دفع الحرج، لا لأجل الطريقية العقلائية.
ويحتمل أن يكون دليلا عقليا من العقليات الغير المستقلة، أي التي تنتهي إلى
الحكم الشرعي لا بالاستقلال، بل بضم مقدمة شرعية، كالحكم بالملازمة بين وجوب
الشئ ووجوب مقدمته.
وأما احتمال كونه من العقليات المستقلة فممنوع، لأنها هي القضايا العقلية
المنتهية إلى الحكم الشرعي بلا توسط شئ آخر وراء الحكم العقلي، كالحكم بأن الظلم
قبيح، وتجويزه على الشارع قبيح، والقبيح محال عليه، فينتج: أن الظلم حرام بحسب
حكم الشرع.
ولا يخفى: أن الاستصحاب - بناء على أخذه من العقل - لا يكون من العقليات
المستقلة، لاحتياجه إلى خطاب شرعي يجعل صغرى للكبرى العقلية.
ثم اعلم: أن القائل بأن الاستصحاب أصل عملي يمكن أن يأخذه من الأخبار وهو
واضح، ويمكن أن يأخذه من بناء العقلاء، لإمكان أن يكون أصلا عقلائيا بنى
5

العقلاء على العمل به لمصالح، كدفع الحرج ورغد العيش.
اللهم إلا أن ننكر الأصل العقلائي مطلقا ونقول: ما عند العقلاء لا يكون
إلا الطرق كما هو المعروف (1) ولكنه غير مسلم.
والقائل بأنه دليل اجتهادي يمكن أن يأخذه من بناء العقلاء أو حكم العقل،
ويمكن أن يأخذه من الأخبار، بادعاء أن مفادها هو اعتباره من حيث طريقيته
وكاشفيته عن الواقع.
ومن بعض ما ذكرنا يظهر النظر في بعض ما أفاده الشيخ الأنصاري في هذا المقام
فراجع (2).
الأمر الثاني: الاستصحاب ليس من الأدلة الأربعة
إن الاستصحاب - بناء على ما عرفناه - ليس من الأدلة الأربعة إذا اخذت حجيته
من الأخبار، لأن الأدلة الأربعة، أي الكتاب والسنة والإجماع والعقل، هي الأدلة التي
أقيمت منها على الحكم الفرعي، لا الأعم منها ومما أقيمت على الحكم الأصلي، أي
المسألة الأصولية.
مثلا: إذا قام خبر الثقة على حرمة العصير العنبي، ودل ظاهر الكتاب على اعتباره
يكون الدليل على حرمة العصير هو خبر الثقة، لا ظاهر الكتاب، وكذا لو دلت الأخبار
على اعتبار خبر الثقة، وقام خبر الثقة على حرمة العصير، يكون الخبر القائم على حرمته
من الأدلة الأربعة، لا الأخبار الدالة على اعتباره.
فالاستصحاب بناء على ما ذكرنا:
من أنه عبارة عن نفس الكون السابق الكاشف عن بقائه في اللاحق.

1 - انظر مثلا فوائد الأصول 4: 485.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 319 سطر 4.
6

أو اليقين السابق الملحوق بالشك في البقاء.
أو الشك المسبوق باليقين (1).
هو الدليل أو الحجة على الحكم الفرعي الكلي، وليس هو من الأدلة الأربعة:
أما الاجماع والكتاب فظاهر.
وأما العقل فلأن المفروض أنه اخذ من الأخبار.
وأما السنة فلأن قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) (2) دليل اعتبار الاستصحاب،
كدلالة آية النبأ (3) على اعتبار خبر الثقة، فكما أن الآية دليل على الدليل، ويكون الدليل
على الفرع الفقهي هو خبر الثقة لا آية النبأ، فكذلك الدليل في الفقه أو الحجة في الفقه
هو نفس الاستصحاب، و (لا تنقض اليقين بالشك) دليل على اعتباره، فليس
الاستصحاب - بناء على أخذه من الأخبار - من الأدلة الأربعة، بل هو دليل برأسه.
ولعل السر في ذهاب القدماء من أصحابنا إلى انحصار الأدلة في الأربعة (4):
أن العامة الذين هم الأصل في تدوين الأصول عدوا الاستصحاب من الأدلة العقلية
كالقياس والاستقراء (5)، وقدماء أصحابنا إلى زمان والد شيخنا البهائي لم يعهد تمسكهم
بالأدلة النقلية في حجية الاستصحاب على ما حكي (6).

1 - ذكر في صفحة 3.
2 - انظر التهذيب 1: 8 / 11، الوسائل 1: 174 / 1 - باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
3 - سورة الحجرات 49: 6.
4 - انظر الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 277 و 287 و 2: 511، عدة الأصول: 130 سطر 10.
5 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب 2: 453 و 454 بضميمة أن من تمسك بالأدلة العقلية على حجية
الاستصحاب يكون معدودا عنده من الأدلة العقلية، كما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره في رسائله: 318 سطر 5.
6 - الحاكي هو الشيخ حسين العاملي صاحب العقد الطهماسبي على ما في رسائل الشيخ الأنصاري: 319 سطر 10.
والد شيخنا البهائي: هو الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد بن شمس الدين محمد بن علي الحارثي اللويزاني العاملي،
من ذرية الحارث الهمداني الذي كان من خواص الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، المولود سنة 918 ه‍ من العلماء
المشاهير، وأعيان الحديث وأثباته، وكان أديبا مناظرا مليح الشعر والنثر، ذا تفنن في العلوم، يروي عن جملة من أعلام عصره،
منهم الشهيد الشيخ زين الدين الجبعي العاملي، والسيد حسن بن جعفر الحسيني الكركي، وله أيضا
7

وأما المتأخرون ممن قارب عصرنا فقد أنكروا كون موضوع علم الأصول هو
الأدلة بما هي أو ذاتها، وزعموا أنه لو جعل الموضوع هو الأدلة تصير مسألة حجية خبر
الواحد والاستصحاب ونحوهما من المبادئ التصديقية (1). وقد مر في مباحث الألفاظ
تحقيق الحال في موضوع الأصول والمسائل الأصولية فراجع (2).
وبما ذكرنا: تكون مسألة حجية الاستصحاب وخبر الثقة من المسائل الأصولية،
وإلى ما ذكرنا يرجع قول بعض السادة الفحول (3)، حيث جعل الاستصحاب دليلا على
تلامذة فضلاء، منهم: ولده الشيخ البهائي، والشيخ رشيد الدين ابن الشيخ إبراهيم الأصفهاني وغيرهم، ومن
تصانيفه: العقد الطهماسبي، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، شرح القواعد، حاشية الإرشاد، الأربعون حديثا،
تحقيق القبلة، ديوان شعره، توفي بالبحرين سنة 984 ه‍ بقرية المصلى من قرى هجر ودفن فيها. انظر أمل الآمل 1:
74 / 67، رياض العلماء 2: 108، تكملة أمل الآمل للسيد الصدر: 182 / 145.
والشيخ البهائي: هو المحقق الكبير الشيخ بهاء الدين محمد ابن الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي
العاملي الجبعي، علم الأئمة الأعلام، وسيد علماء الاسلام، كانت له اليد الطولى في معرفة المذهب، وجمع من العلوم
ما لم يجمعه أحد، فوقف على حقائقها ودقائقها، ومؤلفاته بأسرها محط أنظار العلماء والأدباء، مشحونة بالتحقيق،
طافحة بالفضل، نذكر منها: زبدة الأصول، الحبل المتين، مشرق الشمسين، الحديقة الهلالية، تشريح الأفلاك، حاشية
على شرح العضدي، خلاصة الحساب، حواشي الكشاف وغير ذلك، اشتغل على جملة من علماء عصره منهم: والده
المحقق الشيخ عز الدين الحسين، والعلامة عبد الله بن شهاب الدين اليزدي، ومحمد باقر اليزدي، وأفضل القايني،
واعتماد الدين محمود، وأحمد الكچائي وغيرهم، كان مولده في بعلبك سنة 953 ه‍، وتوفي في أصفهان سنة
1030 ه‍. انظر طبقات أعلام الشيعة 5: 85، لؤلؤة البحرين: 16 / 5، أعيان الشيعة 9: 234.
1 - كفاية الأصول: 22، فوائد الأصول 1: 27 و 28، نهاية الأفكار 1: 19.
2 - مر في مناهج الوصول 1: 51 - 54، وله قدس سره رأي آخر تجده في أنوار الهداية 1: 270.
3 - فوائد السيد بحر العلوم: 116 الفائدة 35.
والسيد بحر العلوم: هو الإمام المعظم، علامة العلماء الأعلام، فخر فقهاء الاسلام، محط رجال الأفاضل المتبحرين،
ومناخ ركاب الجهابذة المحققين الآية العظمى السيد محمد مهدي ابن السيد مرتضى ابن السيد محمد البروجردي
الطباطبائي، ولد في كربلاء المقدسة سنة 1155 ه‍، فنما من تلك الأصول الطاهرة غصنه المونق، وسما على الأنجم
الزاهرة بدره المشرق، فتلمذ على جماعة من أساطين العلم منهم: الأستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني، والسيد الأجل المير
عبد الباقي الخاتون آبادي، والعلامة الفيلسوف السيد ميرزا مهدي الأصفهاني، والعلامة المحقق الشيخ يوسف
البحراني وآخرون، وتلمذ عليه جماعة من أعيان الطائفة كالفاضل النراقي، وحجة الاسلام الشفتي، والعلامة المحقق
الشيخ أسد الله التستري، والسيد صدر الدين العاملي، والشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء، والسيد جواد العاملي
وغيرهم، أشهر مؤلفاته: كتاب المصابيح في الفقه، الدرة النجفية، الفوائد الرجالية، ديوان شعر كبير، الفوائد الأصولية
وغير ذلك، توفي في شهر رجب سنة 1212 ه‍، ودفن بجوار شيخ الطائفة الإمام الطوسي قدس سرهما العزيز. انظر
الفوائد الرضوية: 676، طرائف المقال 2: 377، الكنى والألقاب 2: 67، مستدرك الوسائل 3: 383.
8

الحكم في مورده، وجعل قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) دليلا على الدليل، نظير آية النبأ
بالنسبة إلى خبر الثقة، على ما نقل عنه العلامة الأنصاري (1)، واستشكل عليه بما هو غر
وارد عليه بعد التأمل فيما ذكرنا فراجع (2).
تنبيه
في ضابط المسألة الأصولية وأن الاستصحاب منها
يظهر من العلامة الأنصاري ها هنا أن المناط في كون المسألة أصولية أن يكون
إجراؤها في مواردها مختصا بالمجتهد، وأن لا يكون للمقلد حظ فيها، وبنى عليه كون
الاستصحاب في الشبهات الحكمية مسألة أصولية (3).
ولا يخفى ما فيه: فإن كثيرا من المسائل الفقهية والقواعد الفرعية لا تكون كذلك،
كقاعدة: " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " وعكسها، فإن الاطلاع على حدود
تلك القاعدة ومقدار سريانها لا يمكن إلا للمجتهد، ولا حظ للمقلد فيها، فالمستفاد من
قاعدة " ما لا يضمن " هو أن كل معاملة لا يضمن بصحيحها لا يضمن بفاسدها، وبعد
تتميم هذه القاعدة يحتاج في تشخيص أن أية معاملة لا يضمن بصحيحها وأيتها يضمن
إلى اجتهاد.
وبما ذكرنا من المناط في أصولية المسألة في مباحث الألفاظ (4) يظهر أن
الاستصحاب مسألة أصولية، سواء اخذ من الأخبار أم لا.

1 و 2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 320 سطر 14 و 18.
3 - نفس المصدر السابق: 320 سطر 5 - 8.
4 - انظر مناهج الوصول 1: 51 - 54.
9

فصل
حال جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية
قد فصل العلامة الأنصاري رحمه الله بين الأحكام الشرعية المستفادة من الدليل
الشرعي، والمستفادة من الدليل العقلي، فذهب إلى عدم الجريان في الثانية.
ومحصل كلامه تقريبا: أن موضوع الأحكام العقلية بجميع قيوده معلوم مفصل
لدى العقل، ولا يعقل طرو الشك في موضوع حكمه، وتكون تمام الحيثيات - حتى عدم
الرافع - من قيود الموضوع، وتكون مناطات أحكامه معلومة مفصلة، والأحكام الناشئة
من إدراك تلك المناطات مفصلة مبينة، لا يحوم حولها الشك إلا من حيث الشك في
عنوان الموضوع، فالشك وإن كان في الرافع يرجع إلى الشك في تبدل عنوان الموضوع.
وبالجملة: حكم العقل بحسن عنوان أو قبحه مما لا يتبدل مع حفظ ذاك
العنوان، ومع الشك في تبدل العنوان لا يكون للعقل حكم جزما، فاستصحاب حكم
العقل مع القطع بعدمه لا معنى له.
وكذا لا يجري استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه، لأن الحكم
المستكشف أيضا يكون للعنوان الذي أدرك العقل مناطه فيه، فيكون الحكم الشرعي
11

التابع للحكم العقلي متعلقا بعين العنوان الذي يكون الحكم العقلي متعلقا به، فلا
يمكن طرو الشك مع بقاء الموضوع، فلا بد فيه من الشك في تبدله، فلا يبقى موضوع
الاستصحاب.
هذا في الأحكام العقلية والشرعية المستفادة من حكم العقل.
وأما المستفادة من الأدلة الشرعية، فجريان الاستصحاب - بناء على كونه دليلا
ظنيا - ممتنع، لعين ما ذكرنا.
وأما بناء على أخذه من الأخبار فلا مانع منه، فإنه تابع لتحقق موضوعه ومعروضه
عرفا، فقد يحكم الشارع بحرمة شئ، ويشك في الآن الثاني في بقاء مناطه مع بقاء
الموضوع عرفا، فيستصحب الحكم الشرعي (1) انتهى.
الإشكالات الواردة على الشيخ الأنصاري وجوابها
وأورد عليه جل من تأخر عنه تارة: بأنا لا نسلم لزوم تبين موضوع حكم العقل
ومناطه، لإمكان أن يكون العقل قاطعا بوجود المناط في موضوع مركب من أمور، أو مقيد
بقيود على سبيل الاجمال والإهمال، ولم يكن ما تعلق به المناط مفصلا عنده، فإذا زال
قيد أو جزء غير مقوم له يشك في بقاء ما هو المناط، فلا يجري استصحاب نفس الحكم
العقلي، ولكن جريان الحكم المستكشف منه مما لا مانع منه مع بقاء الموضوع عرفا،
لاحتمال بقاء المناط في الناقص (2).
وأخرى: بأن الملازمة بين حكم الشرع والعقل - موضوعا ومناطا - إنما هي في

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 325 سطر 1 و 378 سطر 7.
2 - حاشية الآخوند على الرسائل: 176 سطر 23، فوائد الأصول: 4: 321 و 451، أجود التقريرات 2: 352 سطر 10، نهاية
الأفكار 4: 22 و 23، درر الفوائد: 516.
12

مقام الكشف والدلالة، لا بحسب الواقع، فيحتمل أن يكون هناك ملاك آخر بحسب
الثبوت قائم بالناقص، غير المناط القائم بالكامل (1).
وثالثة: بأن مناط الحكم الشرعي يمكن أن يكون قائما بالأعم مما قام به مناط
الحكم العقلي، فتكون دائرة حكمه أوسع، أي يكون مناط الحكم العقلي في الواجد
للخصوصية، ومناط الحكم الشرعي في الأعم من الواجد والفاقد، ومع فقد الخصوصية
الغير المقومة للموضوع عرفا يستصحب، لاحتمال بقاء الحكم الشرعي (2).
أقول: لا يخلو شئ من الإشكالات من نظر:
أما الأول: فلعدم تعقل كون العقل جازما بالمناط في موضوع مركب على سبيل
الاجمال والإهمال، لأن من شأن العقل أن يحلل المركب والمقيد إلى أجزاء وقيود
بسيطة، فيلاحظ كل جزء من غير انضمامه إلى الآخر، والمقيد والقيد من غير انضمام كل
إلى الآخر، فإذا لاحظ جزءا فإما أن يدرك فيه الملاك أو لا، فإن أدرك فيه فإما أن يدرك فيه
تمام الملاك أو بعضه:
فعلى الأول: يحكم بأن هذا الجزء تمام الموضوع، وسائر الأجزاء كالحجر إلى
جنب الانسان.
وعلى الثاني: يلاحظ الأجزاء واحدا بعد واحد حتى يطلع على ما هو تمام مناط
حكمه منضما إلى هذا الجزء.
وإن لم يدرك فيه الملاك: يقطع بأن حكمه بالحسن أو القبح غير ناش منه، فإن
الملاك المشكوك فيه لا ينتج الحكم المقطوع به بالبداهة، فالإجمال في حكم العقل مما
لا يعقل.

1 - حاشية الآخوند على الرسائل: 177 سطر 9، كفاية الأصول: 438 سطر 3، أجود التقريرات 2: 352 سطر 14، نهاية
الأفكار 4: 21 سطر 6 و 23 سطر 2.
2 - كفاية الأصول: 438 سطر 5، فوائد الأصول 4: 322 و 451، حاشية الكفاية (تقريرات السيد البروجردي) 2: 343.
13

وبعبارة أخرى: أن حكم العقل دائما إنما يتعلق بالعناوين الكلية المبينة
عنده، وعروض التركيب الخارجي لا يوجب الإهمال والإجمال في موضوعه
تأمل (1).
وأما الثاني: فلأن الناقص إذا كان له ملاك آخر تام، يكون موضوعا مستقلا لحكم
مستقل شرعي، كما أن التام مع وجود الملاك التام فيه يكون موضوعا لحكم آخر مستقل،
لأن موضوعات الأحكام تلاحظ مجردة عن اللواحق الغريبة في مقام تعلق الأحكام بها،
فالناقص - بما أنه شئ بحياله - قائم به الملاك، ملحوظ في مقام الموضوعية، ويتعلق به
حكم، والتام أيضا كذلك، فلا يجري الاستصحاب فيه، للعلم بزوال الحكم الأول،
والشك في وجود حكم آخر.
وجريان استصحاب الحكم الكلي في المقام (2) ممنوع، ولو على تسليم جريانه
في الجملة، لأن الجامع بين الحكمين غير مجعول، بل المجعول هو كل واحد منهما
مستقلا متعلقا بموضوعه، والجامع أمر انتزاعي عقلي غير متعلق للجعل، ولا موضوع لأثر
شرعي، وفي مثله لا يجري الاستصحاب.
ومما ذكرنا يتضح الإشكال في الثالث، فإن العقل إذا أدرك المناط التام لموضوع
يدرك أن حكم الشرع تعلق بهذا الموضوع بما هو هو، مع قطع النظر عن كلية اللواحق،
ومع التجريد عنها، وإذا كان بحسب الواقع مناط قائم بعنوان أعم منه، لا بد وأن يتعلق به
حكم آخر مستقل غير مرتبط بالحكم المتعلق بالعنوان الأخص، فالإشكال الوارد على
الثاني وارد عليه أيضا.

1 - وجهه: أن العقل لا يحيط بجميع وجوه الأشياء وجميع المناطات، فحينئذ يمكن الحكم بحسن موضوع مركب من عدة
أمور من باب القدر المتيقن، ومع ذهاب بعض الأجزاء أو الحيثيات يستصحب الحكم الشرعي المستنبط من العقلي،
كما أفاد المشايخ رحمهم الله [منه قدس سره].
2 - انظر نهاية الأفكار 4: 26 و 27.
14

في تحقيق الحال في المقام
هذا، والتحقيق في المقام أن يقال: إنه لو سلمنا أن العناوين المبينة المفصلة - التي
يدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها - إنما تكون في نظر العقل مع التجرد على كافة
اللواحق والعوارض الخارجية حسنة أو قبيحة ذاتا، فلا يمكن أن يشك العقل في حكمه
المتعلق بذلك العنوان المدرك مناطه.
ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تصدق على موضوع خارجي، لأن
الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة، فالعناوين المتكثرة الممتازة في
الوجود العقلي التحليلي قد تكون متحدة غير ممتازة في الوجود الخارجي، ويكون
الوجود الخارجي بوحدته مصداقا للعناوين الكثيرة، وتحمل عليه حملا شائعا، فإذا
صدقت عليه العناوين الحسنة والقبيحة يقع التزاحم بين مناطاتها، ويكون الحكم العقلي
في الوجود الخارجي تابعا لما هو الأقوى بحسب المناط.
مثال ذلك: أن الكذب بما أنه كذب - مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر عليه
في الوجود الخارجي - قبيح عقلا، وإنجاء المؤمن من الهلكة حسن، وكل من الحسن
والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما أنه عنوانه، ولكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود
الخارجي إذا صدقا عليه، فيرجح ما هو أقوى ملاكا وهو الإنجاء، فيحكم العقل بحسن
الكلام الخارجي المنجي مع كونه كذبا.
وكذا إيذاء الحيوان بما أنه حيوان قبيح عقلا، ودفع المؤذي حسن لازم عقلا، وفي
صورة صدقهما على الموجود الخارجي يكون الحسن أو القبح تابعا لما هو أقوى مناطا.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجي، من غير
أن يصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجي حسنا محضا حسنا ملزما،
15

فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي، ثم يشك في صدق عنوان قبيح عليه مما هو
راجح مناطا، فيقع الشك في الموضوع الخارجي بأنه حسن أو قبيح، وقد يكون بعكس
ذلك.
مثال الأول: أن إنقاذ الغريق حسن عقلا، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقل بلزوم
إنقاذه، ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه، ثم يشك في تطبيق عنوان الساب لله ورسوله
عليه في حال الغرق، وحيث يكون تطبيق هذا العنوان عليه مما يوجب قبح إنقاذه،
ويكون هذا المناط أقوى من الأول أو دافعا له، فيشك العقل في حسن الإنقاذ الخارجي
وقبحه، ويشك في حكمه الشرعي.
مثال الثاني: أنه قد يكون حيوان غير مؤذ في الخارج، فيحكم العقل بقبح قتله،
ثم يشك بعد بلوغه في صيرورته مؤذيا، فيشك في حكمه الشرعي، فاستصحاب الحكم
العقلي في مثل المقامات مما لا مجال له، لأن حكم العقل مقطوع العدم، فإن حكمه فرع
إدراك المناط، والمفروض أنه مشكوك فيه.
وأما الحكم الشرعي المستكشف منه - قبل الشك في عروض العنوان المزاحم
عليه - فلا مانع من استصحابه، إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجي
لا يضران ببقاء الموضوع عرفا، كالمثالين المتقدمين، فإن عنوان الساب والمؤذي من
الطوارئ التي لا يضر عروضها وسلبها ببقاء الموضوع عرفا.
فتلخص مما ذكرنا: جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة من
الحكم العقلي.
16

فصل
حول التفصيل بين الشك في الرافع والمقتضي
ما ذكرناه في الفصل السابق أحد تفصيلي العلامة الأنصاري في الاستصحاب،
وثانيهما: هو التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فاختار عدم الجريان في
الأول (1).
ولما كانت هذه المسألة مهمة بحسب الآثار الفقهية، ومن مطارح أنظار
المحققين المتأخرين عنه، فلا بد من بسط الكلام فيها حتى يتضح ما هو الحق:
فنقول: الظاهر من كلمات الشيخ أن مراده من المقتضي في مقابل الرافع هو
ما يكون معروفا بين الأعلام (2): من أن المستصحب إذا كان له استعداد بقاء واستمرار،
واقتضاء دوام وقرار، وشك في حدوث أمر رافع له، يكون من الشك في الرافع، وأما إذا
شك في مقدار استعداد بقائه وقابلية دوامه، وكان الشك في زواله من ناحية ذلك،
فيكون من الشك في المقتضي، وليس مراده من المقتضي هو مناطات الأحكام،

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 328 سطر 17.
2 - انظر مشارق الشموس: 76 سطر 11، ودرر الفوائد: 521، ونهاية الأفكار 4: 78 وغيرها.
17

ولا المقتضي في باب الأسباب والمسببات الشرعية، كالعقد المقتضي للملكية، والوضوء
المقتضي للطهارة.
وما ذكرنا هو الظاهر من كلامه في موارد (1)، والمعروف من مذهبه، وإن أوهم
خلافه ما صرح به في ذيل قول المحقق في " المعارج " في حجة القول التاسع: بأن كلام
المحقق يرجع إلى مختاره لو كان مراده من دليل الحكم في كلامه - بقرينة تمثيله بعقد
النكاح - هو المقتضي، ويكون حكم الشك في وجود الرافع حكم الشك في رافعية
الشئ (2).
فإن مراد المحقق من المقتضي هو الذي في باب الأسباب والمسببات الشرعية،
كعقد النكاح المقتضي للحلية، ومراده من الرافع هو رافع هذا الاقتضاء، كما هو صريح
ذيل كلامه (3)، وهذا الذيل يمكن أن يكون قرينة على أن مراده من دليل الحكم في
الصدر هو المقتضي كما أفاد الشيخ.
فحينئذ: لو رجع كلام المحقق إلى مختار الشيخ لكان مراده أيضا من المقتضي هو
الذي في باب الأسباب والمسببات.
ولكن الظاهر من كلامه في ذيل أخبار الاستصحاب ما هو المعروف

1 - كما في رسائل الشيخ الأنصاري: 326 سطر 5 و 336 سطر 10 و 340 سطر 4 وغيرها.
2 - نفس المصدر السابق: 361 سطر 7.
3 - معارج الأصول: 210.
والمحقق الحلي: هو الشيخ الإمام الفقيه أبو القاسم جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحيى بن سعيد الهذلي الحلي، ولد سنة
602 ه‍، ونشأ في بيت عريق في العلم باذخ بالمجد، أخذ الفقه عن والده الشيخ الحسن بن يحيى، والسيد
شمس الدين فخار بن معد الموسوي، والشيخ الفقيه نجيب الدين محمد بن جعفر بن نما الحلي الربعي، والسيد نجم
الدين محمد بن زهرة وآخرين، وتفقه به أعاظم منهم: الإمام العلامة الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي،
والشيخ الحسن بن داود الحلي، والعلامة الأديب صفي الدين الحلي، وجلال الدين محمد بن محمد الكوفي الهاشمي
الحارثي، توفي في شهر ربيع الآخر سنة 676 ه‍، وترك آثارا جليلة منها: المعارج في أصول الفقه، نهج الوصول إلى
علم الأصول، شرائع الاسلام، النافع في مختصر الشرائع، المسلك في أصول الدين وغير ذلك. انظر قاموس الرجال
2: 378، نقد الرجال: 69 / 20، رجال ابن داود: 62 / 304.
18

من مذهبه (1)، فبناء عليه لا يرجع كلام الشيخ إلى كلام المحقق فإن المحقق
ذهب:
إما إلى إنكار الاستصحاب مطلقا إن كان مراده من دليل الحكم هو
إطلاق الأدلة أو عمومها، ومن الشك في الرافعية هو الشك في التقييد أو
التخصيص.
أو كان مراده من المقتضي والرافع هو قاعدة المقتضي والمانع كما حمل الشيخ
كلامه عليه أولا (2).
أو إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقتضي - أي السبب الشرعي - قد اقتضى
المسبب مطلقا، كعقد النكاح الذي اقتضى الحلية مطلقا، وشك في ألفاظ أنها رافعة له
أم لا، فيستصحب حكم المقتضي إلى أن يعلم الرافع، ولا يرجع شئ مما ذكر إلى ظاهر
كلام الشيخ وما هو المعروف من مذهبه.
فما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله (3): من أن التأمل في كلام المحقق والشيخ
يعطي أن مرادهما من المقتضي هو مقدار استعداد المستصحب (4) ناش من عدم التأمل في
كلام المحقق، فراجع كلامه المنقول من " المعارج " اللهم إلا أن يكون مراده من

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 10.
2 - نفس المصدر: 329 سطر 6 و 7.
3 - بعض أعاظم العصر المقصود منه هو: الإمام الفقيه الشيخ محمد حسين ابن الشيخ عبد الرحيم النائيني النجفي، ولد في
سنة 1277 ه‍ في بلدة نائين من نواحي مدينة يزد، قرأ على الشيخ محمد باقر ابن الشيخ محمد تقي الأصفهاني والميرزا
محمد حسن النجفي، والميرزا أبي المعالي، والسيد إسماعيل الصدر، والإمام الشيخ محمد حسن الشيرازي، وأما تلاميذه
فكثيرون نذكر منهم: المغفور له آية الله العظمى السيد الخوئي، والفقيه الكبير الشيخ موسى الخوانساري، والمحقق
الفقيه الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، والسيد جمال الدين الگلپايگاني، والفقيه الكبير الشيخ حسين الحلي
وغيرهم. توفي بالنجف الأشرف 26 جمادى الأولى سنة 1355 ه‍، وترك مؤلفات جمة منها: تقريرات عنه في الأصول،
ورسالة في نفي الضرر، وتنبيه الأمة، ورسالة في أحكام الخلل في الصلاة وغيرها. انظر أعيان الشيعة 6: 54، معارف
الرجال 1: 284 / 140، نقباء البشر 2: 593 / 1021.
4 - انظر فوائد الأصول 4: 325.
19

المحقق هو الخوانساري (1)، لكنه خلاف ظاهر كلامه.
ثم إنه توهم أمرا آخر: وهو أنه لو كان المراد من المقتضي هو ملاك الأحكام
أو المقتضي في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء، للزم
- مع عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي - سد باب جريان الاستصحاب
مطلقا، وهو مساوق للقول بعدم الحجية مطلقا، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك
الحكم، أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات لمن لا يوحى
إليه إلا من طريق الأدلة الشرعية، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء المتعقب بالمذي،
والنكاح المتعقب بقول الزوج " أنت خلية " مقتضيين لبقاء الطهارة وعلقة الزوجية، فما
من مورد إلا ويشك في المقتضي بأحد الوجهين (2) انتهى.
وأنت خبير بما فيه: فإن الاقتضاء بالمعنى المعروف من الشيخ لا طريق إلى
إحرازه في الأحكام الشرعية أيضا إلا من قبل الدليل الشرعي، كما اعترف به فيما بعد، فلو
دل الدليل الشرعي على أن الحكم الفلاني مستمر ذاتا لولا الرافع إلى الأبد، أو إلى غاية
كذائية، يستكشف منه المقتضي بمعنى الملاك، فلا يكون الشك حينئذ في بقائه من قبيل
الشك في المقتضي، لا بالمعنى المعروف، ولا بمعنى الملاك.
وبالجملة: لما لا يكون حكم إلا عن ملاك، فأصل الحكم يكشف عن أصل

1 - يأتي تخريجه في صفحة 29.
والمحقق الخوانساري: هو الشيخ الحسين بن جمال الدين محمد بن الحسين الخوانساري الأصفهاني، فقيه متضلع، ومتكلم
محقق، وحكيم كبير، مشهور الاسم، بعيد الصيت، حسن الشعر والإنشاء بالعربية والفارسية، انتهت رئاسة الشيعة في زمانه
إليه، ولد سنة 1016 ه‍، وتوفي سنة 1098 ه‍، له تلامذة أجلاء منهم: ولده الشيخ جمال الدين محمد، وأخوه رضي الدين
محمد، والمدقق الشيرواني، والمولى محمد بن عبد الفتاح التنكابني وله مؤلفات كثيرة منها: مشارق الشموس في شرح
الدروس، الجواهر والأعراض، حاشية على شرح الإشارات، رسالة في التشكيك، تفسير سورة الفاتحة، وغير ذلك. انظر أعيان
الشيعة 6: 148، رياض العلماء 2 / 57، جامع الرواة 1: 235.
2 - فوائد الأصول 4: 325 و 326.
20

الملاك، واستمراره عن استمراره، وكذا الاقتضاء في باب الأسباب والمسببات إنما
يستكشف من الأدلة الشرعية، فكما أن إحراز المقتضي للبقاء ومقدار
استعداد المستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل، كذلك إحرازه بالمعنيين
الآخرين.
فتحصل مما ذكرنا: أن المقتضي بأي معنى كان لا يوجب سد باب الاستصحاب
- لو قيل بعدم جريانه - إلا في الشك في الرافع، كما اتضح أن المقتضي في كلام المحقق
غير ما هو المعروف من مذهب الشيخ.
في ذكر أخبار الاستصحاب
إذا عرفت ما ذكرنا: فالذي اعتمد عليه الشيخ في التفصيل المذكور هو دعوى
ظهور أخبار الباب فيه (1) فلا بد من ذكرها، وتذييل كل منها بما يناسبه، وما يمكن أن
يكون مستندا له:
فمنها: ما عن محمد بن الحسن (2) بإسناده عن الحسين بن

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 8 و 361 سطر 1 و 2.
2 - هو الإمام الكبير والفقيه الشهير الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة
على الإطلاق، كان إماما في التفسير والأصول والرجال والحديث، من أعيان الأئمة وأعلامها، الذي له المكانة السامية
الراسية عند الأمة، والمنزلة الكبرى في الرئاسة والسؤدد، صاحب التصانيف المفيدة الممتعة التي لا تزال في طليعة
المراجع الإسلامية، ومناقبه كثيرة، وفضائله مشهورة، وبركاته معروفة، كان مولده سنة 385 ه‍ في طوس، وتفقه على
علم الشيعة الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد، وعلم الهدى الإمام السيد أبي القاسم علي بن الحسين المرتضى،
والشيخ أبي عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز، والشيخ أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله بن الغضائري وخلائق، وتخرج
به جماعة منهم: الفقيه آدم بن يونس النسفي، والشيخ محمد بن علي الكراجكي، والشيخ محمد بن أبي القاسم الطبري،
والشيخ الفقيه سعد الدين بن البراج، والشيخ الفقيه سليمان بن الحسن الصهرشتي وآخرون، توفي في الثاني والعشرين
من المحرم سنة 460 ه‍. انظر تنقيح المقال 3: 104 / 10563، سفينة البحار 2: 97، الأعلام للزركلي 6: 84.
21

سعيد (1) عن حماد (2) عن حريز (3) عن زرارة (4) قال قلت له: الرجل ينام وهو على
وضوء، أتوجب الخفقة (5) والخفقتان عليه الوضوء؟
فقال: (يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن، وإذا نامت العين والاذن
والقلب وجب الوضوء).
قلت: فإن حرك إلى جنبه شئ ولم يعلم به؟
قال: (لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على
يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك، وإنما ينقضه بيقين آخر) (6).

1 - الحسين بن سعيد: ابن حماد بن سعيد بن مهران الأهوازي، من أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي
عليهم السلام، كان جليل القدر، عظيم المنزلة، أوسع أهل زمانه علما بالفقه والآثار والمناقب وغير ذلك من علوم
الشيعة، صاحب المصنفات المعتمدة المعول عليها عند الطائفة، أصله كوفي وانتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز ثم
تحول إلى قم وتوفي فيها، روى عن أبان بن عثمان، وإبراهيم بن أبي محمود، والحسن بن علي الوشاء، وعبد الله بن
مسكان، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع وخلق، وعنه إبراهيم بن هاشم، وبكر بن صالح، وسعد بن عبد الله، وعلي بن
مهزيار وآخرون. انظر رجال الشيخ الطوسي: 372 / 17 و 399 / 1 و 412 / 6، الفهرست للشيخ الطوسي: 58 /
220، الفهرست لابن النديم: 277، معالم العلماء: 40 / 257.
2 - حماد: هو أبو محمد بن عيسى الجهني البصري، أصله من الكوفة وسكن البصرة، وكان ثقة في حديثه صدوقا، وممن
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، وأقروا له بالفقه، عده الشيخ في أصحاب الإمامين الصادق والكاظم
عليهما السلام، مات غريقا بوادي قناة بالمدينة سنة 209 ه‍، وله نيف وتسعون سنة. انظر رجال النجاشي: 142 /
370، رجال الشيخ الطوسي: 174 / 152 و 346 / 1، التحرير الطاووسي: 150 / 114، رجال البرقي: 21 و 48 و 53.
3 - حريز: هو ابن عبد الله السجستاني أبو محمد الأزدي، من أهل الكوفة، عده الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الصادق
عليه السلام، روى عن إسحاق بن عمار، وبريد بن معاوية، وبكير بن أعين، وسدير الصيرفي، وآخرين، وروى عنه أيوب بن
نوح، وخلف بن حماد، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن سنان وغيرهم. انظر رجال الشيخ الطوسي: 181 /
275، رجال ابن داود: 71 / 393، مجمع الرجال 2: 92.
4 - زرارة: هو ابن أعين الشيباني أبو الحسن، شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدمهم، وكان قارئا فقيها متكلما شاعرا أديبا، قد
اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقا فيما يرويه، وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: (لولا زرارة لظننت
أن أحاديث أبي عليه السلام ستذهب) وفي قول آخر له عليه السلام: (فإذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس) وأومأ
إلى زرارة، مات رضوان الله تعالى عليه سنة 150 ه‍. انظر رجال النجاشي: 175 / 463، اختيار معرفة الرجال 1:
345، تنقيح المقال 1: 438 / 4213.
5 - الخفقة: يقال خفق برأسه خفقة أو خفقتين إذا أخذته سنة من النعاس، فمال برأسه دون سائر جسده. مجمع البحرين
5: 154 - خفق.
6 - التهذيب 1: 8 / 11، الوسائل 1: 174 / 1 باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
22

والظاهر أن لزرارة كانت أولا شبهة حكمية، ولم يعلم أن الخفقة والخفقتين
تنقضان الوضوء:
إما للشك في مفهوم النوم، وأنه هل يشمل الخفقة والخفقتين أم لا.
وإما للشك في كونهما ناقضتين مستقلتين مع علمه بعدم دخولهما تحت عنوان
النوم.
وإما للشك في أن النوم الناقض هل هو النوم الغالب على الحواس، أو الأعم منه
ومن الخفقة والخفقتين اللتين هما من المراتب الضعيفة للنوم، مع القطع بدخولهما تحت
عنوانه.
فعلى هذا يكون معنى قوله: " الرجل ينام " إما أنه تحقق منه النوم حقيقة، ولكن
لا يعلم أن النوم الناقض ما هو، وإما أنه دخل في فراش النوم واضطجع فيه وتهيأ له،
فإنه يقال: إنه ينام.
وبالجملة: تكون الشبهة في الفقرة الأولى حكمية وأجاب الإمام عليه السلام: بأن
النوم الغالب على العين والقلب والاذن موجب للوضوء.
ثم حدثت شبهة أخرى له: بأن النوم الغالب على تلك الحواس مما لا سبيل له إليه
إلا بالأمارات، فذكر بعض الأمارات الظنية، مثل حركة شئ إلى جنبه، وأنها أمارة
شرعية على النوم في صورة الشك في تحقق النوم أو لا؟
فأجاب: بأنه (لا، حتى يستيقن أنه قد نام، ويجئ من ذلك أمر بين).
وأما قوله: (وإلا فإنه على يقين من وضوئه...) إلى آخره، ففيه احتمالات:
الاحتمال الأول: أن الجزاء محذوف، أي إن لم يستيقن أنه قد نام فلا يجب عليه
الوضوء، وقوله: (فإنه على يقين...) إلى آخره صغرى وكبرى وتعليل للجزاء (1)، وهذا

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 329 سطر 22.
23

أظهر الاحتمالات، ويستفاد منها حينئذ قاعدة كلية، بدعوى أن الظاهر منه كونه بصدد
بيان قاعدة كلية، وذكر الوضوء إنما هو لكونه مورد السؤال، لا لدخله في موضوع
الحكم (1).
بل يمكن أن يقال: إنه مع الشك في قيديته لا ترفع اليد عن ظاهر قوله:
(ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) (2).
ويمكن الخدشة في الدعويين: بأن إلقاء القاعدة الكلية المستفادة من اختلاف
المعلول والعلة في المقام لا يقتضي السراية لغير باب الوضوء، ويصح التعليل والقياس
بعد كون المورد ناقضا واحدا هو النوم، فإلقاء القاعدة الكلية لإفادة تمام موارد باب
الوضوء.
وأما الدعوى الثانية: فغير وجيهة، لأن الكلام المحفوف بما يصلح للقرينية
لا يمكن فهم القاعدة الكلية منه، وإن شك في قرينية الموجود.
وبالجملة: لا يمكن الأخذ بالإطلاق مع الشك في قرينية ما يحف بالكلام، وأما
إلغاء الخصوصية بمناسبة الحكم والموضوع (3) فهو حق سيأتي بيانه على جميع التقادير.
ولكن هاهنا شبهة: وهي أن الظاهر على هذا الاحتمال أن قوله: (فإنه
على يقين من وضوئه) يكون صغرى لقوله: (ولا ينقض اليقين بالشك) فأراد الإمام
عليه السلام إجراء استصحاب الوضوء، مع أنه محكوم باستصحاب عدم النوم الناقض،
لأن الشك في الوضوء ناش من الشك في حصول الناقض، وأصالة عدم حصوله مقدمة
على استصحاب الوضوء (4).

1 - فوائد الأصول: 4: 335، نهاية الأفكار 4: 41 و 42.
2 - انظر كفاية الأصول: 442، فوائد الأصول 4: 337.
3 - فوائد الأصول 4: 339 و 340، نهاية الأفكار 4: 43.
4 - قد دفعنا تلك الشبهة بما هو الموافق للتحقيق في باب تقدم الأصل السببي على المسببي وبينا سر تقدمه فراجع [منه
قدس سره]. انظر نهاية الأفكار 4: 39، وسيأتي بيان ذلك في صفحة 251 و 252.
24

كما أن الظاهر من قوله: (حتى يستيقن أنه قد نام) أنه تمسك بأصالة عدم النوم،
مع أن جريان الأصل المحكوم - مقدما على الحاكم أو في عرضه - خلاف التحقيق.
ويمكن أن يجاب: بأنه عليه السلام كان بصدد بيان جواب المسألة، أي شبهة
نقض الوضوء وعدمه، لا بنحو الصناعة العلمية، وأن نكتة عدم وجوب الوضوء - بعد
كونه على يقين من وضوئه ويقين من عدم نومه - هي جريان الأصل الحاكم أو المحكوم.
نعم: أفاد زائدا على جواب الشبهة: بأن هذا ليس مختصا بباب الوضوء، بل
الميزان هو عدم نقض اليقين بالشك، وهذا كجواب المفتي للمستفتي في نظير المسألة،
مع إرادة المفتي إلقاء قاعدة كلية تفيده في جميع الموارد، لا بيان المسألة العلمية، وكيفية
جريان الأصول، وتمييز حاكمها من محكومها، فلا محيص حينئذ إلا من بيان نتيجة
المسألة، وأن الوضوء المتيقن لا ينقض بالشك في النوم، وأما كون عدم نقضه لجريان
أصالة بقاء الطهارة، أو أصالة عدم الناقض للوضوء، فهو أمر غير مرتبط بالمستفتي،
فإن منظوره بيان تكليفه من حيث لزوم الإعادة وعدمه، لا الدليل عليه موافقا للصناعة.
لا يقال: إن النوم والوضوء ضدان، وأصالة عدم الضد لا تثبت الضد الآخر،
فلا محيص إلا من إجراء استصحاب الوضوء.
فإنه يقال: إن النوم من النواقض الشرعية للوضوء، لا من الأضداد التكوينية،
فالتعبد بعدم تحقق الناقض للوضوء تعبد ببقاء الوضوء شرعا، ويرفع الشك ببقاء
الوضوء تأمل (1).
فتحصل من ذلك: أن معنى الرواية على هذا الاحتمال: " أنه إن لم يستيقن أنه قد
نام فلا يجب عليه الوضوء، لأنه على يقين منه، وكل من كان على يقين من شئ
لا ينقض يقينه بالشك أبدا ".

1 - وجهه ما يأتي في باب الاستصحاب في باب الأصل السببي والمسببي [منه قدس سره]. وذلك في صفحة 251 و 252.
25

الاحتمال الثاني: ولعله أقرب الاحتمالات، أن يكون الجزاء المقدر غير ما ذكره
الشيخ (1) ويكون قوله: (وإلا) راجعا إلى قوله: (لا حتى يستيقن) فيكون المقدر: " وإن
وجب قبل الاستيقان لزم نقض اليقين بالشك "، وقوله: (فإنه على يقين) قرينة على
المقدر، وبيان لفساد نقض اليقين بالشك ولزومه أيضا، وعليه تكون استفادة الكلية
أقرب وأوفق بفهم العرف.
الاحتمال الثالث: أن الجزاء هو قوله: (فإنه على يقين من وضوئه) فحينئذ لا بد
من تقدير، كقوله: " فيجب البناء على يقين من وضوئه " أو " يجري على يقينه " أو يكون
ذلك كناية عن لزوم البناء العملي على اليقين (2).
وأما القول بأن الجزاء هو نفس قوله: (فإنه على يقين من وضوئه) من غير تقدير
بتأويل الجملة الخبرية إلى الإنشائية (3)، فهو في غاية الضعف، فإن قوله: (فإنه على يقين
من وضوئه) لو صدر بداعي الانشاء يصير المعنى: فليحصل اليقين بالوضوء مع أن
البعث إلى تحصيله خلاف المقصود، أو يكون المراد إنشاء تحقق اليقين في زمان الشك
اعتبارا وتعبدا، فلا يتناسب مع قوله: (ولا ينقض اليقين بالشك)، لأن اعتبار إلغاء
الشك مع اعتبار بقائه متضادان.
وتأويل هذه الإخبارية إلى الإنشائية لا يوجب أن يكون المعنى: " أنه يجب البناء
العملي على طبق اليقين بالوضوء " (4) كما يظهر بالتأمل في أمثالها من الجمل الخبرية
الصادرة بداعي الانشاء.
فما ادعاه بعض أعاظم العصر قائلا: إنه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو

1 - تقدم تخريجه في صفحة 23.
2 - انظر نهاية الأفكار 4: 41.
3 - فوائد الأصول 4: 337، نهاية النهاية 2: 172.
4 - نهاية الأفكار 4: 41.
26

نفس قوله: (فإنه على يقين من وضوئه) بتأويل الجملة الإخبارية إلى الإنشائية - مع
جعل الاحتمال المتقدم ضعيفا غايته (1) - لا ينبغي أن يصغى إليه، فإنه مع كونه خلاف
الظاهر، يرد عليه الإشكال المتقدم.
وعلى أي حال: لو جعلنا الجزاء ما ذكر بنحو التقدير، أو بجعل الخبرية إنشائية،
لا يمكن استفادة الكبرى الكلية من الرواية، فإن قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) حينئذ
يصير عطفا على الجزاء، ولا يفيد إلا مفاده، أي يكون عبارة أخرى عن قوله: " فيجب
البناء على طبق اليقين بالوضوء "، ولا يصح جعله كبرى كلية، للخروج عن قانون
المحاورة وطرز الاستدلال، فإن قانون الاستدلال على نحوين:
أحدهما: ذكر المتقدمتين ثم الاستنتاج، فيقال: " الخمر مسكر، وكل مسكر حرام،
فالخمر حرام " أو يقال: " إنه على يقين من وضوئه فشك، وكل من كان على يقين من
شئ فشك يجب البناء على يقينه، فيجب عليه البناء على يقينه من وضوئه ".
وثانيهما: ذكر النتيجة أولا، ثم الاستدلال عليها، وحينئذ لا بد من تخلل كلمة
" لأن " وأمثالها فيقال: " الخمر حرام، لأنه مسكر "، ويقال: " يجب البناء على اليقين
بالوضوء، لأنه من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشك ".
فلو جعلنا قوله: (فإنه على يقين من وضوئه) جزاء، يكون المعنى: " أنه لا يجب
عليه الوضوء " أو " يجب عليه البناء العملي على يقينه السابق من وضوئه " وهذه نتيجة
البرهان، فقوله: (ولا ينقض اليقين بالشك) لو كان برهانا عليها لا بد وأن يصدر بما يفيد
العلية، فجعل قوله: (فإنه على يقين) صغرى للكبرى (2) لا يجتمع مع جعله جزاء للشرط
وجملة إنشائية (3)، فإنه على الإنشائية يصير نتيجة للبرهان، لا صغرى له.

1 - فوائد الأصول 4: 336 و 337. ومراد الإمام قدس سره من الاحتمال المتقدم هو الاحتمال الأول لا الثاني فتأمل.
2 - نفس المصدر 4: 335.
3 - نفس المصدر 4: 336 و 337.
27

والعجب من المحقق المتقدم، حيث جمع بين القولين غفلة عما يلزمه، وأعجب
منه أنه جعل ما قواه الشيخ ضعيفا، للزوم التكرار في الجواب من غير تكرر السؤال (1)،
مع أن هذا الإشكال إنما يلزم على احتماله، فإن مقتضى إنشائية الجملة أن يكون المعنى
" أنه لا يجب عليه الوضوء " وهذا تكرار بلا موجب، وأما على احتمال الشيخ فلم يذكر
الجواب، وذكر قوله: (وإلا) توطئة لإقامة البرهان وبيان القاعدة الكلية.
وكيف كان: فالاحتمال المذكور أسوء الاحتمالات وأضعفها.
الاحتمال الرابع: أن يكون الجزاء قوله: (ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) ويكون
قوله: (فإنه على يقين) توطئة للجواب (2).
وهذا الاحتمال أقوى من الثاني، وأسلم من الإشكالات، ولا يرد عليه ما تقدم:
من إجراء الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي (3)، لأن قوله: (لا ينقض اليقين أبدا
بالشك) لا يكون حينئذ كبرى لقوله: (فإنه على يقين من وضوئه)، بل لقوله " فإن لم
يستيقن أنه قد نام " المقدر، المفهوم منه أنه على يقين من عدم النوم، مع كونه مفروضا
تأمل.
هذا، ولكنه أيضا خلاف الظاهر، لخلو الجزاء عن الفاء، وتصدير قوله: (فإنه على
يقين) بها بلا وجه، وكون التوطئة خلاف الأسلوب الكلامي، واحتياج ارتباط الشرط
وهو قوله: (وإن لم يستيقن أنه قد نام) مع الجزاء إلى تأويل.
ثم إنه على هذين الاحتمالين وإن لم يحمل قوله: (ولا ينقض) على الكبرى الكلية
كما أشرنا إليه، لكن يمكن استفادة الكلية، بإلغاء الخصوصية عرفا، ومناسبة الحكم
والموضوع، ضرورة أن العرف يرى أن اليقين لكونه مبرما مستحكما لا ينقض بالشك

1 - نفس المصدر.
2 - انظر كفاية الأصول: 441 و 442.
3 - تقدم في صفحة 24 و 25.
28

الذي لا إبرام فيه ولا استحكام.
وأما ما قيل في مقام التأييد: من أن الظاهر من الكبرى ورودها لتقرير ما هو
المرتكز في أذهان العقلاء، واستقرت عليه طريقتهم (1) فسيأتي ما فيه (2).
تقريبات الأعلام في اختصاص حجية الاستصحاب
بالشك في الرافع
ثم اعلم: أنه يظهر من الشيخ ومن تبعه - في اختصاص حجية الاستصحاب
بالشك في الرافع - تقريبات في كيفية استفادته منها:
أحدها: ما هو ظاهر كلامه في موضعين من " الرسائل " - تبعا للمحقق
الخوانساري (3) - من أن حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل،
والأقرب إليه - على فرض المجازية - هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاء
والاستمرار، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشئ ولو لعدم المقتضي له، فالأرجح
هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المستمر، فعلى هذا يتقيد اليقين بما تعلق بالأمر
المستمر، والمراد من اليقين هو الطريقي لا وصفه.
فمحصل المعنى: " أنه لا ينقض المتيقن الثابت كالطهارة السابقة " أو " أحكام
اليقين الطريقي " أي أحكام المتيقن الكذائي المستمر شأنا كنفس المتيقن.
وكيف كان: فالمراد إما نقض المتيقن، وهو رفع اليد عن مقتضاه، وإما نقض
أحكام اليقين، أي الثابتة للمتيقن من جهة اليقين، والمراد حينئذ منه رفع اليد عنها (4).

1 - فوائد الأصول 4: 338، نهاية الأفكار 4: 43.
2 - يأتي في صفحة 37.
3 - مشارق الشموس: 76 سطر 11.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 9 و 361 سطر 2، وانظر 369 سطر 12.
29

وثانيها: ما أفاده بعض المحققين (1) في تعليقته على " الرسائل " وهو أن النقض
ضد الإبرام، ومتعلقه لا بد وأن يكون له اتصال حقيقة أو ادعاء، ومعنى إضافة النقض
إليه رفع الهيئة الاتصالية، فإضافته إلى اليقين والعهد باعتبار أن لهما نحو إبرام عقلي،
ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد، وبالترديد في ذلك الاعتقاد.
فحينئذ نقول: قد يراد من نقض اليقين بالشك رفع اليد عن آثار اليقين السابق
حقيقة في زمان الشك، وهذا المعنى إنما يتحقق في القاعدة، وأما في الاستصحاب،
فليست إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق، بل هي باعتبار تحققه في
زمان الشك بنحو من المسامحة والاعتبار، إذ لا ترفع اليد عن اليقين السابق في
الاستصحاب أصلا، وإنما ترفع اليد عن حكمه في زمان الشك.
وليس هذا نقضا لليقين، كما أن الأخذ بالحالة السابقة ليس عملا به، بل هو أخذ
بأحد طرفي الاحتمال، فلا بد من تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشك من
اعتبار وجود تقديري له، بحيث يصدق بهذه الملاحظة أن الأخذ بالحالة السابقة عمل
باليقين، ورفع اليد عنه نقض له.
ومعلوم أن تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هين عرفا، بل لوجوده التقديري حينئذ
وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيرا في العرف، ألا ترى أنهم يقولون: ما عملت
بيقيني، وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب، ورفعت اليد عن يقيني بقوله.

1 - بعض المحققين: المراد منه هنا هو الفقيه الكبير إمام عصره الشيخ آغا رضا ابن العالم الفقيه الشيخ محمد هادي الهمداني
النجفي، المولود في حدود سنة 1250 ه‍، كان على جانب عظيم من طهارة القلب وسلامة الذات والبعد عن
زخارف الدنيا، ذا اطلاع واسع في الفقه وأصوله وخبرة وتضلع فيهما، تلمذ على الإمام المجدد السيد محمد حسن
الشيرازي، والإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي، والعلامة الفقيه الميرزا حسن ابن ميرزا خليل الطهراني، تخرج به
جماعة كثيرون منهم: السيد محسن الأمين، والأخوان الشيخ أحمد والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ عبد
الحسين أسد الله التستري، والسيد حسن الصدر، والشيخ آغا بزرگ الطهراني، توفي بسامراء 28 صفر سنة 1322 ه‍.
انظر أعيان الشيعة 7: 19، نقباء البشر 2: 776 / 1260، معارف الرجال 1: 323 / 158.
30

وأما تقدير اليقين في موارد الشك في المقتضي فبعيد جدا، بل لا يساعد عليه
استعمال العرف أصلا، فتعميم اليقين في قوله: (اليقين لا ينقض بالشك) بحيث يعم
مثل الفرض بعيد في الغاية (1) انتهى كلامه.
وثالثها: ما ذكره بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه، وملخصه مع
طوله بعد الإشكال على الشيخ بأن المراد باليقين ليس هو المتيقن: هو أن المراد من
نقض اليقين نقضه بما أنه يستتبع الحركة على وفقه، فأخذ اليقين في الأخبار باعتبار كونه
كاشفا لا صفة، فعناية النقض إنما تلحق اليقين من ناحية المتيقن، ولهذا تكون إضافته
إلى اليقين شائعة، دون العلم والقطع، وليس ذلك إلا لأنهما يستعملان غالبا في مقابل
الظن والشك، بخلاف اليقين، فإن إطلاقه غالبا بلحاظ ما يستتبعه من الجري على
ما يقتضي المتيقن، فتختص أخبار الباب بما إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري العملي
على طبقه، بحيث لو خلي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن.
وهذا المعنى يتوقف على أن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء، فإنه في مثل ذلك يصح
ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن، ويصدق عليه نقض اليقين بالشك، بخلاف غيره،
فإن الجري العملي فيه بنفسه ينتقض، ولا تصح هذه العناية فيه.
وبتقريب آخر: يتوقف صدق نقض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك مما
تعلق به اليقين في زمان حدوثه، بمعنى أن الزمان الذي يشك في بقاء المتيقن فيه كان
متعلق اليقين عند حدوثه، وهذا إنما يتم إذا كان المتيقن مرسلا بحسب الزمان، لكي
يكون اليقين بوجوده من أول الأمر محدودا بزمان خاص، ومقيدا بوقت مخصوص،
وإلا ففيما بعد ذلك الحد يكون المتيقن مشكوك الوجود من أول الأمر، فلا يكون من
نقض اليقين بالشك (2) انتهى.

1 - انظر حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 16.
2 - فوائد الأصول 4: 374 - 376.
31

تحقيق الحق في الشك في الرافع والمقتضي
أقول: قبل بيان وجه النظر في كلام الأعلام نذكر ما هو التحقيق في المقام، فاعلم
أن اليقين قد يلاحظ بما أنه صفة قائمة بالنفس، كالعطش والجوع والخوف والحزن، ومن
الصفات القائمة بها، من غير لحاظ إضافته إلى الخارج، وقس عليه الشك والظن.
وقد يلاحظ بما أنه مضاف إلى الخارج، وأنه كاشف كشفا تاما عن متعلقه،
والظن [كشفا] ناقصا، والشك غير كاشف أصلا، بل يضاف إلى الخارج إضافة
ترديدية.
لا إشكال في أن اليقين بحسب الملاحظة الأولى لا يكون ممتازا عن الظن والشك
بالإبرام والاستحكام وعدمهما، بل الإبرام والاستحكام - بحسب هذه الملاحظة - إنما
يكون في كيفية قيامها بالنفس بحسب مبادئها المحصلة لها فيها، فقد تكون مبادئ
حصول الشك قوية، بحيث لا يزول بسهولة، وتكون مبادئ حصول القطع واليقين
ضعيفة، بحيث يزول بتشكيك ما، وقد يكون الحال بخلاف ذلك.
وبالجملة: سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس وعسر زوالها تابعان لمبادئ
حصولها، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشك، ولا الظن من الشك.
وأما بحسب الملاحظة الثانية - أي إضافتها إلى الخارج - فاليقين مبرم محكم ذاتا
دون الشك والظن، فكأن اليقين حبل مشدود أحد طرفيه على النفس، وطرفه الآخر على
المتيقن، ويكون حبلا مبرما مفتولا مستحكما، وإن كانت مبادئ حصوله ضعيفة غير
مستحكمة، بخلاف الظن والشك، فإنهما بحسب هذه الإضافة غير محكمين ولا مبرمين،
وإن كانت مبادئ حصولهما قوية مستحكمة.
وبالجملة: امتياز اليقين عن الشك - في كونه كالحبل المبرم دون الشك - إنما هو
32

بحسب تعلقهما بالخارج، وهذا واضح.
وأما الجري العملي على طبق اليقين فهو خارج عن حقيقته، بل يكون من آثاره
وأحكامه العقلية أو العقلائية، فلا يكون إبرامه واستحكامه متفرعين على الجري
العملي، بل هو تابع لهما، وكذا إبرامه واستحكامه وكونه كالحبل المشدود دون الشك لا
ارتباط لها بالمتيقن، بل هي من مقتضيات ذاته، سواء تعلق بأمر مبرم أو غيره، كما أن
الشك غير مبرم بأي شئ تعلق.
فتحصل مما ذكرنا: أن الإبرام والاستحكام من مقتضيات ذات اليقين، وأن
مقابلهما من مقتضيات ذات الشك في حال ملاحظتهما متعلقين بالخارج ومضافين إلى
المتعلق، ولا يكون الإبرام والاستحكام عارضين له من المتيقن، ولا من وجوب الجري
العملي على طبقه، كما أن اليمين المؤكدة يتوهم لها إحكام وإبرام باعتبار نفس ذاتها
المضافة إلى المتعلق، ففي قوله تعالى: * (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) * (1) إنما نسب
النقض إليها، لا باعتبار كونها من الكيفيات المسموعة القائمة بنفس المتكلم، ولا باعتبار
كون متعلقها أمرا مستمرا مبرما، ولا باعتبار الجري العملي على طبقها، بل باعتبار ذاتها
المضافة إلى متعلقاتها، فكأن اليمين بواسطة هذه الإضافة حبل مبرم مشدود أحد جانبيه
على عنق الحالف، والآخر على متعلقه، فبهذه الملاحظة نسب إليها النقض، كما أن اليقين
إنما نسب إليه النقض بهذه الملاحظة.
فما أفاده الشيخ العلامة: من أن نسبة النقض باعتبار كون متعلقه مبرما (2) - كما
أفاده ثاني العلمين المتقدمين من كون النسبة باعتبار الجري العملي (3) - ممنوع، خصوصا
ثانيهما.

1 - سورة النحل 16: 91.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 336 سطر 19 و 361 سطر 4 و 369 سطر 15.
3 - فوائد الأصول 4: 373 و 374.
33

وفي كلامه مواقع للنظر، كتفريقه بين العلم والقطع، وبين اليقين (1) مما هو واضح البطلان،
وسيأتي النظر في تقريبه الثاني (2).
بيان جواب تقريب المولى الهمداني رحمه الله
وأما ما أفاده أول العلمين: من أن نسبة النقض باعتبار اليقين التقديري في زمان
الشك، لا اليقين المتعلق بالحالة السابقة (3).
ففيه: - مضافا إلى عدم لزوم هذا التقدير في صحة نسبته إليه، فإن اليقين المحقق
في زمان الشك وإن تعلق بالحالة السابقة، لكن تصح نسبة النقض إليه، ويقال هذا اليقين
المتعلق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشك، ويبنى عليه في زمان الشك - أن الظاهر من
الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري، لأن قوله في الصحيحة
المتقدمة: (وإلا فإنه على يقين من وضوئه) مرتبط بالكبرى التي بعده، أي قوله: (ولا
ينقض اليقين أبدا بالشك) سواء جعل صغرى لها كما هو الظاهر أو توطئة لذكرها.
ولا شبهة في أن المراد باليقين في (فإنه على يقين من وضوئه) هو اليقين
المتعلق بالوضوء في الزمان السابق، لا اليقين المقدر المعتبر، فلا بد أن يراد من اليقين في
الكبرى هو هذا اليقين، لا التقديري، لعدم صحة التفرقة بينهما، ضرورة عدم صحة أن
يقال: إنه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمان السابق، ولا ينقض اليقين التقديري
بالشك.
هذا مضافا: إلى أن مناسبة الحكم والموضوع إنما تقتضي أن لا ينتقض اليقين
1 - نفس المصدر.
2 - يأتي في صفحة 36.
3 - انظر حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 22.
34

الواقعي الذي له إبرام واستحكام بالشك، لا اليقين التقديري الاعتباري.
وأيضا أن قوله: (أبدا) لتأبيد الحكم المتقدم، أي عدم نقض اليقين بالشك
مستمر ومؤبد، فلا بد أولا من جعل الحكم، ثم إفادة تأبيده بلفظ (أبدا) الذي هو قائم
مقام الإطلاق، فينحل عرفا هذا الحكم المتقيد بالتأبيد إلى أمرين: أصل الحكم القابل
للتأبيد وعدمه، وتأبيده واستمراره، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشك، أي من أول
وجوده إلى آخره يقدر اليقين وينسب إليه النقض، فلا مصحح للتأبيد، فإن الأمر
المستمر الوجود إذا اعتبر من أول وجوده إلى آخره لا يصح اعتبار الاستمرار فيه ثانيا،
فإن الشئ المستمر لا يقع فيه استمرار آخر.
هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشك، وإن اعتبر في أول زمان الشك، وأريد
بيان تأبيد حكمه بلفظ (أبدا) فلا مصحح لنسبة النقض إلى ما بعد ظرف التقدير بناء
على تحققه.
فتلخص مما ذكرنا: أن الظاهر من تأبيد الحكم، أن اليقين المتعلق بأمر سابق على
الشك لا ينقض في ظرف الشك من أول زمانه إلى آخره.
وأيضا قوله في ذيل الصحيحة: (وإنما ينقضه بيقين آخر) ليس حكما مجعولا،
ضرورة امتناع جعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنه بمنزلة جعل الحجية والكاشفية
له، فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدم، فتكون تأكيدا لاستمرار
الحكم إلى زمان يقين آخر، أو لإفادة استمراره حتى مع وجود الظن إن أريد بالشك
ما هو المصطلح، لا عدم العلم، فيفهم من هذه الغاية أن المتكلم اعتبر ثلاثة أمور:
اليقين السابق، والشك المستمر، واليقين المتأخر، فقال: " إن حكم اليقين بالأمر السابق
مستمر في زمان الشك، ولا ترفع اليد عنه إلى زمان اليقين بخلافه " فاعتبار اليقين في
ظرف الشك مما لا يساعد هذه الاعتبارات.
35

وبالجملة: إن التأمل في الصحيحة صدرا وذيلا مما يشرف بالفقيه على القطع بأن
اليقين في الكبرى هو اليقين المحقق الفعلي المتعلق بالشئ في الزمان السابق، لا المقدر
المفروض في زمان الشك.
وبما ذكرنا: يظهر النظر في كلام بعض أعاظم العصر في تقريبه الثاني: من أن
صدق نقض اليقين بالشك يتوقف على أن يكون زمان الشك مما تعلق به اليقين في زمان
حدوثه، وهو منحصر في الشك في الرافع (1).
لما عرفت: من أن الظاهر من الرواية، هو اليقين المتعلق بالحالة السابقة المتحقق
فعلا، لا اليقين الآخر.
مضافا: إلى أن ما ذكره غير تام في نفسه، لأن اليقين في الشك في الرافع قد
لا يتعلق في أول حدوثه بما تعلق به الشك، وفي الشك في المقتضي قد يكون كذلك.
تقريب آخر لشمول الأدلة للشك في المقتضي
هاهنا بيان آخر لشمول الأدلة للشك في المقتضي: وهو أن الكبرى الكلية
المجعولة في باب الاستصحاب ظاهرة في أن اليقين من حيث هو - بلا دخالة شئ آخر -
لا ينقض بالشك من حيث هو شك كذلك، ضرورة ظهور أخذ كل عنوان في حكم في
أنه تمام الموضوع له بنفسه، من غير دخالة شئ آخر وراءه، ورفع اليد عن هذا الظهور
لا يجوز إلا بصارف.
فحينئذ نقول: الأمر دائر بين أمور:
الأول: أن يكون عدم انتقاض اليقين بالشك باعتبار مبادئ حصولهما في النفس.

1 - فوائد الأصول 4: 376.
36

الثاني: أن يكون باعتبار المتيقن.
الثالث: أن يكون باعتبار الجري العملي على طبقه.
الرابع: أن يكون باعتبار نفس اليقين والشك من حيث ذاتيهما.
وفي غير الاحتمال الأخير يكون عدم نقض اليقين بالشك باعتبار غير ذاتيهما،
وقد عرفت أن الظاهر نفسيتهما في ذلك (1) تأمل.
تأييد اختصاصه بالشك في الرافع والجواب عنه
ثم إنه قد أيد القول باختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع بأن أدلة
الاستصحاب إنما وردت على طبق ارتكاز العقلاء وبنائهم على العمل على طبق الحالة
السابقة، ولا إشكال في اختصاص بنائهم على العمل على طبقها في الشك في الرافع
دون المقتضي (2).
فهاهنا مقامات من البحث:
أحدها: في أصل بناء العقلاء.
وثانيها: في وجه بنائهم.
وثالثها: في أن وجه بنائهم هل هو مطابق لوجه التعبد بالاستصحاب في الأخبار
أم لا؟
أما أصل بنائهم في الجملة فمما لا إشكال فيه.
وأما كون بنائهم على العمل من حيث نفس اليقين بالحالة السابقة والشك في
بقائها، أو من حيث إن نفس الكون السابق موجب للحكم بالبقاء عملا فممنوع، فإن

1 - تقدم في صفحة 33.
2 - فوائد الأصول 4: 338.
37

اليقين بالحالة السابقة بمجرده لا يكون منشأ لبنائهم، لعدم كاشفية اليقين بالحالة
السابقة عن الحالة الحاضرة التي تكون ظرف الشك، كما هو المفروض، كما أن نفس
الكون السابق بما هو لا يكشف عن بقائه، ولا يوجب عملهم على طبقه، بحيث لو
فرضنا موردا لا يكون في البين إلا اليقين بالكون السابق والشك في البقاء - بحيث
لا يحصل لهم وثوق واطمئنان، ولا يكون عملهم مطابقا للاحتياط - يكون بناؤهم على
العمل.
وبالجملة: لا أظن وجود بنائهم على طبق الحالة السابقة من حيث هي،
ودعوى ذلك لا تخلو من مجازفة.
والقول: بأن ذلك أمر ارتكازي وعادي لهم من غير حصول الوثوق والاطمئنان
لهم (1) ممنوع، بل رجوع الحيوانات إلى أوكارها لا يكون إلا من جهة حصول الوثوق
بالبقاء، ولا دليل على عدم حصول الوثوق للحيوانات لولا الدليل على خلافه، فإن
حصوله ليس من مختصات العقل، بل قد يحصل للنفس الحيوانية أيضا، لحصوله في
الأمور الجزئية المدركة للحيوان، فتلك الحالات النفسانية كما تحصل للإنسان أيضا،
تحصل لكثير من الحيوانات، أو لأجل العادة الجارية، ما قد تكون في الانسان أيضا،
ولا ريب في أنه لم يكن لأجل عدم نقض اليقين بالشك، ولا يكون عودهم إلى محالهم
غفلة كما قيل (2) فإنه واضح الفساد أيضا.
وبالجملة: الظاهر أن بناء العقلاء لا يكون إلا لحصول الوثوق والاطمئنان لهم،
وهو حاصل لهم من ندرة حصول الرافع للشئ الثابت المقتضي للبقاء، نظير أصالة
السلامة الناشئة من ندرة حصول العيب في الأشياء وغلبة سلامتها، بحيث يحصل
الوثوق على طبقها، فالاستصحاب العقلائي لا يكون إلا العمل على طبق الوثوق

1 - انظر نفس المصدر السابق 4: 332.
2 - كفاية الأصول: 439، نهاية الأفكار: 4: 33 و 34.
38

الحاصل مما ذكرنا، وليس هذا مطابقا للاستصحاب المدعى حجيته.
وأما كون الأخبار واردة على طبق الارتكاز العقلائي فممنوع غاية المنع، لأن
الظاهر من الكبرى المتلقاة منها أن ما هو موضوع لوجوب العمل هو اليقين بالحالة
السابقة والشك في بقائها، من غير دخالة شئ آخر فيه، وهذا أمر تعبدي غير ارتكازي
للعقلاء، كما عرفت أن العلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللاحقة.
والتعبير بأنه (ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) لا يدل على إرجاعه
إلى ارتكازه كما توهم (1)، ضرورة أن عدم نقض اليقين بالشك - في مثل الوضوء مع
حصول مقدمات النوم كالخفقة والخفقتين، وتحريك شئ إلى جنبه مع عدم التفاته إليه،
وفي مثل الظن بإصابة دم الرعاف في من حصل له الرعاف - ليس ارتكازيا للعقلاء،
لأنهم في مثل تلك الموارد التي تكون في مظان حصول منافيات الحالة السابقة
يتفحصون عنها، كما ترى أنه في الصحيحة الثانية يقول: (فإن ظننت أنه قد أصابه ولم
أتيقن، فنظرت فلم أر شيئا) (2) فلم يكتف بالحالة السابقة حتى نظر إليه فصلى.
مضافا: إلى أن هذا التعبير كثيرا ما وقع في الأخبار فيما لا يكون على طبقه ارتكاز،
كما يظهر بالتتبع فيها (3) مع أنك قد عرفت أن العمل على طبق اليقين المتعلق بحالة مع
انقلابه إلى الشك في حالة أخرى لا يكون ارتكازيا، والحال أن مفاد الروايات هو أن لا
ينقض اليقين بالشك من حيث ذاتيهما، من غير أن يحصل وثوق أو اطمئنان بالبقاء.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن دعوى أن نكتة اعتبار الاستصحاب هي مطابقته
لارتكاز العقلاء غير مسموعة، فمفادها أعم من الشك في الرافع والمقتضي ومخالف لما

1 - كفاية الأصول: 441، فوائد الأصول 4: 338، نهاية الأفكار 4: 35.
2 - تأتي الصحيحة كاملة في صفحة 40 و 41 من هذا الكتاب.
3 - كقول الإمام الرضا عليه السلام على ما في الفقه المنسوب إليه في صفحة 111: (وكل سهو بعد الخروج من الصلاة
فليس بشئ، ولا إعادة فيه، لأ نك قد خرجت على يقين، والشك لا ينقض اليقين).
39

هو سيرة العقلاء بحسب الكبرى المجعولة والموارد المنطبقة عليها تلك الكبرى في
الأخبار.
ومن هنا يعلم: أن التمسك بالسيرة العقلائية وبناء العقلاء على حجية
الاستصحاب في غير محله، كما اتضح مما ذكرنا عدم كون الاستصحاب أمارة مجعولة
شرعية.
ومنها: ما عن الشيخ بإسناده عن زرارة مضمرا، وعن الصدوق (1) في " العلل "
متصدرا بأبي جعفر عليه السلام قال قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ
من مني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أن
بثوبي شيئا وصليت، ثم إني ذكرت بعد ذلك؟
قال: (تعيد الصلاة وتغسله).
قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنه قد أصابه، فطلبته فلم أقدر عليه،
فلما صليت وجدته؟
قال: (تغسله وتعيد).
قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت
فيه فرأيت فيه؟
قال: (تغسله ولا تعيد الصلاة).

1 - الصدوق: هو الإمام رئيس المحدثين الشيخ أبو جعفر محمد ابن الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي،
المعروف بالصدوق، المولود بدعاء صاحب العصر الإمام المنتظر عجل الله فرجه، تطلع إليه أهل العلم وهو في مقتبل
العمر، فاقتبسوا منه معارفه وعلومه وآدابه، فكان مثار إعجاب الجميع، طاف كثيرا من البلدان، فسمع ما لا يحصى كثرة
من الكتب والأصول، ولقي كثيرا من أعلام الشيوخ، وتحمل عنهم الحديث في مختلف الفنون، ولم ينقطع طيلة حياته
عن الدراسة والسماع والتأليف، ومن أشهر تلاميذه والآخذين عنه الإمام الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد،
والشيخ الكبير الثقة علي بن محمد الخزاز، والشيخ الفاضل الفقيه الحسين بن عبيد الله الغضائري، والشيخ هارون بن
موسى التلعكبري وخلائق، وأما آثاره العلمية فكثيرة منها: من لا يحضره الفقيه، والأمالي، والتوحيد، وعلل الشرائع،
وإكمال الدين، والخصال وغيرها، توفي سنة 381 ه‍ في بلدة الري وقبره لا يزال هناك. انظر رجال السيد بحر العلوم
3: 292، تاريخ بغداد 3: 89 / 1078، مقابس الأنوار: 7.
40

قلت: لم ذلك؟
قال: (لأ نك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن
تنقض اليقين بالشك أبدا).
قلت: فإني قد علمت أنه قد اصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟
قال: (تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين
من طهارتك).
قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شئ أن انظر فيه؟
قال: (لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك).
قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟
قال: (تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم
رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأ نك لا تدري لعله شئ
أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك) (1)
مورد الاستدلال بالرواية واحتمالاته
ومورد الاستدلال بالرواية فقرتان:
إحداهما قوله: (فإن ظننت أنه قد أصابه...) إلى آخرها.
ثانيتهما قوله: (وإن لم تشك...) إلى آخرها.
أما الأولى منهما ففيها احتمالات:
أحدها: أنه بعد الظن بالإصابة والنظر وعدم الرؤية، صلى من غير حصول علم

1 - التهذيب 1: 421 / 1335، الاستبصار 1: 183 / 641، علل الشرائع: 361 / 1، الوسائل 2: 1006 / 2 - باب 7
و 1053 / 1 - باب 37 و 1063 / 2 - باب 42 و 1065 / 1 - باب 44.
41

أو اطمئنان له من النظر، فلما صلى رأى في ثوبه النجاسة، وعلم بأنها هي التي كانت
مظنونة، فعلم أن صلاته وقعت في النجس.
ثانيها: هذه الصورة، أي عدم حصول العلم له من النظر، لكن مع احتمال
حدوث النجاسة بعدها، واحتمال وقوع صلاته فيها.
ثالثها: أنه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة، فلما صلى تبدل علمه بالعلم
بالخلاف، أي بأن النجاسة كانت من أول الأمر.
رابعها: هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة حدوث النجاسة بعدها، واحتمال
وقوع الصلاة فيها.
هذا ولكن تعليل الجواب ينافي إرادة الثالث، والاحتمال الرابع المنطبق على
قاعدة اليقين بعيد، لأنه لو حصل له العلم كان عليه ذكره في السؤال، لوضوح احتمال
دخالته في الحكم، فعدم ذكره دليل على عدم حصوله، والغفلة في مقام السؤال عن
موضوعه خلاف الأصل.
مضافا: إلى ظهور قوله: (وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين) في فعلية الشك
واليقين، تأمل.
مع أن الظاهر أن الكبرى في هذا المورد وذيل الرواية واحدة، ولا إشكال في أن
الكبرى في ذيلها منطبقة على الاستصحاب لا القاعدة، ضرورة أن قوله: (وإن لم تشك)
معناه أنك إن كنت غافلا وغير متوجه إلى النجاسة، ثم رأيته رطبا، واحتملت كونها من
أول الأمر، وحدوثها فيما بعد، وليس معناه اليقين بعدم الطهارة، فالاحتمال الرابع
غير مقصود، فبقي الاحتمالان، وهما مشتركان في إفادة حجية الاستصحاب، فلو كانت
الرواية مجملة من هذه الجهة لا يضر بها، وأما الاحتمالان فلا يبعد دعوى ظهورها في
الأول منهما.
42

الإشكال على أقوى الاحتمالات والجواب عنه
فحينئذ يشكل بأن تعليل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد العلم بوقوعها في
النجس بقوله: (لأ نك كنت على يقين من طهارتك...) إلى آخره، كيف يصلح مع كون
الإعادة من النقض باليقين؟!
نعم إنما يصلح عدم نقض اليقين بالشك علة لجواز الدخول في الصلاة، لا لعدم
الإعادة (1).
وتوضيح الإشكال: أن الظاهر من الرواية أن تمام العلة لعدم وجوب الإعادة هو
عدم جواز نقض اليقين بالشك، من غير دخالة شئ آخر فيه، كاقتضاء الأمر الظاهري
للإجزاء، أو كون إحراز الطهارة شرطا للصلاة لا نفسها، أو كون إحراز النجاسة مانعا لها
لا نفسها، فالاستناد إلى شئ آخر غير التعليل المذكور في عدم وجوبها خروج عن
ظهورها.
ومما ذكرنا يظهر: أن الأجوبة التي تمسكوا بها في المقام لا تدفع الإشكال (2).
وغاية ما يمكن أن يقال في المقام: أن وجه تخصيص زرارة هذه الفقرة بالسؤال
عن العلة أن الإعادة في الفقرتين السابقتين - أي في صورة النسيان والعلم الاجمالي -
كانت موافقة للقاعدة، لأن مقتضاها أن النجاسة بوجودها الواقعي مانعة، وكذا
الطهارة شرط بوجودها الواقعي على فرض شرطيتها لها، فرأى جواب الإمام على وفق
القاعدة، فلم يسأل عن علتها، ولا ينافي ذلك سؤاله عن أصل المسألة، لاحتمال كون
حكم الله في الموردين مخالفا للقاعدة.

1 - حكى هذا الإشكال الشيخ الأنصاري عن السيد صدر الدين شارح الوافية، لاحظ كتاب الرسائل: 331 سطر 3.
2 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 331 سطر 9، كفاية الأصول: 447، فوائد الأصول 4: 342 - 352، نهاية الأفكار
4: 47 و 52.
43

وأما الفقرة الثالثة: أي صورة الظن بالإصابة وإتيان الصلاة بعد النظر والفحص ثم
العلم بأنها وقعت في النجس، فلما كان الحكم فيها بعدم الإعادة مخالفا للقاعدة سأل
عن علته.
وحاصل إشكاله: أن المأتي به لما كان غير مطابق للمأمور به فلا بد من الإعادة،
فما وجه الحكم بعدمها؟
فأجاب: بأن حكم الشارع بعدم نقض اليقين بالشك عملا موجب لموافقة المأتي
به للمأمور به فلا تجب الإعادة.
ووجهه: أن استصحاب الطهارة موجب للتوسعة في الشرط، فيكون حاكما على
إطلاق الأدلة الأولية، فيكون الجواب موافقا للسؤال، وهذا الوجه وإن رجع إلى بعض
الوجوه المذكورة، لكن مع هذا التقريب ينطبق التعليل على المورد من غير تكلف.
وإن شئت قلت: إن وجه الإشكال هو أن التعليل لا يناسب عدم الإعادة.
والجواب: أن التعليل لا يرجع إليه، بل الحكم بعدم الإعادة إرشاد إلى موافقة
المأتي به للمأمور به، لعدم إمكان كون الإعادة وعدمها موردين للتعبد من غير تصرف في
المنشأ، فالتعليل راجع إلى المنشأ، فلا إشكال حينئذ هذا على الشرطية.
وأما بناء على مانعية النجس فقد يقال: إن التعليل أيضا صحيح سواء اخذ
العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقا مانعا، أو من حيث كونه منجزا، وسواء كان
التعليل مجموع المورد والاستصحاب، أو خصوص الثاني، لأن مرجع التعليل بهما إلى أن
النجاسة لم يكن لها منجز، فالصلاة تكون صحيحة ولا تجب الإعادة، لأن وجوبها ينافي
عدم جواز نقض اليقين بالشك (1).
وفيه: أنه بعد فرض كون المانع هو النجاسة المعلومة، فمع عدم العلم يحرز عدم

1 - فوائد الأصول 4: 346 و 347.
44

المانع، فلا يحتاج إلى إحراز عدمه بالأصل بعد إحرازه وجدانا، فإذا كان المنظور إفادة
عدم المتنجز لا يصح التعليل بما يحرز العدم، ويكفي في ذلك قوله: " إنك شاك "، فلا
وجه للتعليل بالاستصحاب.
واحتمال أن التشبث به لأجل إلغاء الشك، لاحتمال كون الشك منجزا، ولا بد
من دفعه (1)، غير وجيه، لأن الاستصحاب شأنه إحراز الموضوع، وهذا أمر زائد على إلغاء
الشك، فلا وجه للتعليل به، بل لا بد في إلغائه من التعبير بمثل " لا يعتد بالشك ".
وغاية ما يمكن أن يقال: أن المانع هو النجس المعلوم، ومع الشك يحرز عدم جزء
من الموضوع، ومع الاستصحاب يحرز جزؤه الآخر، فكأنه أراد أن يفيد أن النجاسة
المعلومة بكلا جزءيها مفقودة، مع إفادة أمر زائد هو جريان الأصل في جزء الموضوع
أيضا تأمل.
ثم لا يخفى أن الإشكال المتقدم وارد على الاحتمال الثاني من الاحتمالات
المتقدمة أيضا، ولا يختص بالأول.
إشكال آخر على الاحتمال المتصور
ثم إن هاهنا إشكالا ثانيا على هذا الاحتمال: وهو لزوم التفرقة بين وقوع تمام
الصلاة في الثوب النجس، وبين وقوع بعضها فيه، حيث حكم في الأول بعدم الإعادة
دون الثاني، كما هو ظاهر قوله بعد ذلك: (تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع
منه)، ولذا حمل بعضهم (2) هذه الفقرة على العلم الاجمالي، وهو خلاف الظاهر من وجوه.

1 - نفس المصدر 4: 346.
2 - وهو السيد صدر الدين الصدر في شرح الوافية على ما نقله عنه الشيخ الأنصاري في الرسائل: 331 سطر 12.
45

وأيضا: يرد إشكال آخر على ذيل الرواية، وهو عدم فرق واضح بين وقوع بعض
الصلاة في النجاسة مع الجهل بها، وبين احتمال حدوث النجاسة في الأثناء، حيث
تمسك الإمام عليه السلام في الثاني بالاستصحاب دون الأول.
توضيحه: أن للمصلي العالم بالنجاسة في الأثناء - سواء احتمل طروها في الحال،
أو علم الآن بوجودها من الأول - ثلاث حالات: حالة الجهل بالنجاسة، وحالة العلم بها
والاشتغال بتطهيرها، وحالة الصلاة مع الطهارة الواقعية، وهي بعد تطهيرها وإتمام
الصلاة، والاستصحاب إنما ينفع بالنسبة إلى حال الجهل، لا حال العلم بالنجاسة
والطهارة.
فبناء على حمل الفقرة المتقدمة من الرواية على الاحتمال الأول - أي حصول
العلم بعد الصلاة بوجود النجاسة من أولها، وإجراء الاستصحاب لتصحيح الصلاة بالبيان
المتقدم - لا يبقى فرق بين الفقرتين الأخيرتين، لجريان الاستصحاب فيهما، فكما يجري
مع احتمال حدوث النجاسة في الأثناء لتصحيح الأجزاء السابقة على العلم بها، كذلك
يجري مع العلم في الأثناء بوجودها من أول الأمر، فإن ظرف الجهل بالنجاسة مع الشك
في حدوثها في موضع من ثوبه ظرف جريان الاستصحاب، والعلم اللاحق لا يضره، كما
لم يكن مضرا في الفقرة الأولى، أي الاستصحاب بعد تمام الصلاة.
وأما حالة العلم بالنجاسة فلا يفيدها الاستصحاب، بل لا بد من دليل آخر في
تصحيحها، وهو الأدلة الدالة على أنه إذا رعف في الأثناء غسل أنفه ويبني على
صلاته (1)، حيث يستفاد منها أن التلبس بالنجاسة في الزمان الذي يشتغل فيه بتطهير
النجاسة لا يضر بالصلاة.
ومن هنا قد يرجح الاحتمال الثاني في الفقرة الأولى فيقال: إن تطبيق الاستصحاب

1 - انظر على سبيل المثال الفقيه 1: 239 / 1056، الكافي 3: 365 / 9، التهذيب 2: 318 / 1302 و 323 / 1323
الوسائل 4: 1244 / 1 و 4 - باب 2 من أبواب قواطع الصلاة.
46

في الفقرتين الأخيرتين على الثانية منهما دون الأولى يرفع الاجمال عن الفقرة الأولى
المتقدمة بحملها على احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، فيكون ذيل الرواية شاهدا
على صدرها.
مضافا: إلى أن التعبير بلفظ " فرأيت فيه " دون " فرأيته فيه " يكاد أن يستشم منه
ذلك، كما أن التعبير بقوله: (وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك) ظاهر في أن
الشك كان فعليا بعد الصلاة، وإلا كان ينبغي أن يقول: " وما كان ينبغي لك أن تنقض
اليقين بالشك " فترجيح الاحتمال الثاني مع تلك المؤيدات وإن [كان] لا يخلو من قرب
ولكن يمكن دفع أصل الإشكال على الاحتمال الأول.
دفع الإشكال
ودفع الإشكال بأن يقال: إن التمسك بالاستصحاب - فيما إذا صلى ثم رأى
النجاسة مع الشك والالتفات في حال الصلاة، والعلم بعدها بأنها كانت موجودة
حالها - مما لا مانع منه، كما عرفت تقريبه (1).
وأما إذا رأى في الأثناء - سواء علم بوجودها من أول الصلاة، أو احتمل حدوثها
في البين - فلا يمكن التمسك بالاستصحاب لتصحيح الصلاة، لأن ما يمكن التمسك
فيه به هو حالة الشك، وأما حال العلم فلا بد من تصحيح الصلاة بشئ آخر،
وإلا فأدلة إثبات المانعية للنجاسة (2)، أو اشتراط الطهارة (3) تدل على إثباتها في الصلاة
التي هي حقيقة واحدة، ولها هيئة اتصالية، والأكوان الغير المشغولة بالأذكار أيضا

1 - انظر صفحة 43 و 44.
2 - انظر مثلا الكافي 3: 53 / 2، التهذيب 1: 252 / 726، الوسائل 2: 1024 / 1 - باب 18 من أبواب النجاسات
وهي الآمرة بغسل البدن والثياب من النجاسات لأجل الصلاة.
3 - انظر مثلا التهذيب 1: 49 / 144، الاستبصار 1: 55 / 160، الوسائل 1: 256 / 1 - باب 6 من أبواب الوضوء.
47

أكوان صلاتية بحسب ارتكاز المتشرعة ودلالة ظواهر الأدلة (1)، فالصلاة مشروطة من
أولها إلى آخرها بالستر، والنجاسة مانعة لها كذلك، فلا بد من الخروج عن ظاهر أدلة
الاشتراط، أو الأدلة الدالة على المانعية من دليل مخرج.
وغاية ما يدل على عدم الاعتبار هو الأخبار الواردة في الرعاف، وهي واردة فيما
إذا حدث الرعاف في الأثناء.
ودعوى إلقاء الخصوصية، لعدم الفرق عرفا بين حدوث النجاسة في الأثناء،
وكونها من الأول مع الالتفات والعلم في الحال (2) ممنوعة، لاحتمال أن يكون لحدوثها
من باب الاتفاق دخل في رفع المانعية، ولهذا لا يمكن الالتزام بجواز التنجيس عمدا،
والاشتغال بتطهير الثوب فورا، ثم البناء على الصلاة.
فحينئذ نقول: إذا علم في الأثناء بأن النجاسة كانت من الأول لا يمكن تصحيح
صلاته، لأن الاستصحاب - كما عرفت - لا يفيد بالنسبة إلى حال العلم بالتلبس، والأدلة
الدالة على اشتراط الصلاة بالطهارة، أو مانعية النجاسة مما لا مخرج لها، فلا محيص عن
نقض الصلاة وإعادتها بعد تطهير الثوب.
وأما إذا احتمل عروضها في البين فيمكن التشبث بالاستصحاب لتصحيحها،
لا لأن أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن تثبت حدوثها، حتى يدخل المورد تحت أدلة
حدوث الرعاف لتصحيح حال العلم بالتلبس بالنجاسة لأجلها، ضرورة مثبتية هذا
الأصل، بل لأن أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن إنما هي لتصحيح حال الجهل
بها، وحال العلم بالتلبس يكون المصلي شاكا في كون هذه النجاسة الموجودة حادثة

1 - مثل قوله عليه السلام: (وأما القهقهة فهي تقطع الصلاة) انظر الكافي 3: 364 / 1، والتهذيب 2: 324 / 1325،
والوسائل 4: 1253 / 2 - باب 7 من أبواب قواطع الصلاة، وكتاب الخلل في الصلاة للإمام قدس سره صفحة 121
وما بعدها لبيان كيفية الاستدلال.
2 - كتاب الطهارة للمحقق الهمداني 1: 619 سطر 18.
48

حتى لا تكون مانعة، أو باقية من الأول حتى تكون مانعة، فيكون شاكا في مانعيتها،
فتجري أصالة البراءة العقلية والشرعية كما في اللباس المشكوك فيه، فإن الأظهر من
الأدلة على كثرتها هو مانعية النجاسة من الصلاة، لا شرطية الطهارة، كما يظهر لمن
تدبرها، وإن كان بعضها يوهم الشرطية مثل هذه الصحيحة، لكن المانعية هي الأقوى
بحسب مفاد الأدلة.
واستصحاب الطهارة في صدر هذه الصحيحة لعله من باب كون الطهارة
وعدم النجاسة أمرا واحدا بحسب نظر العرف، والمقصود كون اللباس خاليا عن
القذارة المانعة، وهو حاصل بإجراء أصل الطهارة، وإجراء أصالة عدم عروض
النجاسة.
هذا إذا كان المراد من الأصل في ذيل الصحيحة هو أصالة عدم عروض النجاسة
إلى الآن، كما أنه ربما يستأنس من قوله: (لا تدري لعله شئ أوقع عليك).
وإلا فيمكن أن يقال: إن المراد من الأصل أصالة عدم عروض المانع في
الصلاة، فإن النجاسة الواقعية لم تكن مانعة مع الجهل بها، والنجاسة المعلومة يمكن
أن تكون حادثة غير مانعة، فقبل العلم بها يكون عدم عروض المانع في الصلاة التي بيده
متيقنا، فيستصحب إلى زمان العلم، فيغسل الثوب ويبني على الصلاة.
ولو فرض عدم جريان أصالة عدم المانع فأصالة بقاء الهيئة الاتصالية أيضا
جارية، كما هو المقرر في محله.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن بين الصورتين فرقا بحسب الأصول والقواعد، كما
فرق بينهما الإمام عليه الصلاة والسلام.
ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام قال قلت له: من لم يدر
49

في أربع هو أو في ثنتين، وقد أحرز الثنتين؟
قال: (يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهد، ولا
شئ عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها
أخرى ولا شئ عليه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط
أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد
بالشك في حال من الحالات) (1).
يظهر من هذه الصحيحة آثار التقية، مع عناية الإمام عليه السلام ببيان المذهب
الحق في سترة وحجاب كما سنوضحه.
وما قيل: إن صدورها على وجه التقية ينافي صدرها، حيث حكم بتعين الفاتحة،
وهو ظاهر في انفصال الركعة (2) ممنوع، لأن الحكم بتعين الفاتحة لا يدل عليه، أي على
انفصال الركعة، وليس على خلاف التقية، لما حكي عن الشافعي (3) وأحمد (4)

1 - الكافي 3: 351 / 3، التهذيب 2: 186 / 740، الاستبصار 1: 373 / 1416، الوسائل 5: 321 / 3 - باب 10
و 323 / 3 - باب 11 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 331 سطر ما قبل الأخير و 332 سطر 13، درر الفوائد: 525.
3 - الشافعي: هو الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي الشافعي المكي الغزي،
ولد سنة 150 ه‍ وتلقى الفقه والحديث على شيوخ مكة والمدينة واليمن وبغداد منهم: مسلم بن خالد المخزومي
المكي، وسعيد بن سالم القداح، وإبراهيم بن محمد المدني، وسفيان بن عيينة، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعبد الوهاب
ابن عبد المجيد بن الصلت البصري وآخرون، وممن تتلمذ عليه: يوسف بن يعقوب البويطي، وإسماعيل بن يحيى
المزني، والربيع بن سليمان المرادي، وخالد اليماني الكلبي، والحسن بن علي الكرابيسي وغيرهم، توفي سنة 204 ه‍.
انظر حلية الأولياء 9: 63 / 415، توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2: 175،
طبقات الفقهاء للشيرازي: 71.
4 - أحمد: هو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس، إمام المذهب الحنبلي، ولد سنة 164 ه‍،
اتجه إلى طلب العلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ورحل إلى الأقطار وأخذ عن شيوخها أمثال: هشيم بن بشير
السلمي، وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن زياد، وجرير بن عبد الحميد، وعباد بن العوام الواسطي، ومحمد بن فضيل
الضبي الكوفي، وأبي يوسف القاضي، والإمام الشافعي، وتتلمذ عليه كثيرون منهم: ولداه صالح وعبد الله، وأحمد بن محمد
الأثرم، وأحمد بن محمد المروزي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي وآخرون، خلف آثارا عديدة منها: المسند والناسخ
والمنسوخ والمناسك الكبير والصغير وأشياء اخر، توفي ببغداد سنة 241 ه‍. انظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2:
439، سير أعلام النبلاء 11: 177 / 78، هدية الأحباب 64.
50

والأوزاعي (1) القول بتعين الفاتحة في الركعات كلها (2)، فالظاهر منها هو إتيان الركعتين
في الفرع الأول وإضافة الركعة في الفرع الثاني متصلة، كما هو قضية قوله: (يركع ركعتين
وأربع سجدات...) إلى آخره، وقوله: (قام فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه).
ثم إنه عليه السلام بعدما أفتى بما هو ظاهر في خلاف المذهب الحق تقية، أراد
بيانه في حجاب التقية، فأتى بالجمل الآتية لبيان عدم صحة خلط المشكوك فيه بالمتيقن
كما يأتي بيانه.
بيان احتمالات الرواية
ثم إن في الرواية احتمالات:
منها: أن قوله (لا ينقض اليقين بالشك) يعني به لا يبطل الركعات المحرزة بسبب
الشك في الزائدة، بأن يستأنف الصلاة، بل يعتد بالمتيقنة، ولا يدخل الشك في اليقين،
أي لا يعتد بالمشكوك فيها، بأن يضمها إلى المحرزة، ويتم بها الصلاة من غير تدارك.
(ولا يخلط أحدهما بالآخر) عطف تفسير للنهي عن الإدخال.
(ولكنه ينقض الشك باليقين) أي الشك في الركعة الزائدة، بأن لا يعتد بها، بل
يأتي بالزيادة على الإيقان.
(ويتم على اليقين) أي يبني على المتيقن فيها، وعلى هذا لم يتعرض لذكر فصل
1 - الأوزاعي: هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد كيكرم، إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، ولد ببعلبك سنة 80 ه‍،
وسكن بظاهر الفراديس بمحلة الأوزاع، ثم تحول إلى بيروت، روى عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام،
وقتادة، والزهري، ومكحول، وعطاء بن أبي رباح، ومحمد بن سيرين وخلق، وكانت وفاته في صفر سنة 157 ه‍. انظر
الوافي بالوفيات 18: 207 / 252، البداية والنهاية 10: 115، الكنى والألقاب 2: 59.
2 - تذكرة الفقهاء 3: 144، وانظر المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 1: 525، المجموع 3: 361، المبسوط للسرخسي
1: 18، فتح العزيز 3: 313 و 314.
51

الركعة ووصلها في الفرعين، وهذا الاحتمال مما أبداه المحدث الكاشاني (قدس سره) (1).
ومنها: أن قوله (لا ينقض اليقين بالشك) كما أفاده المحقق المحدث المتقدم،
ولكن قوله: (لا يدخل الشك في اليقين) وقوله: (لا يخلط أحدهما بالآخر) يعني بهما
فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط، بأن يراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في
المتيقنة، وعدم خلط إحداهما بالأخرى، فيكون المراد بالشك واليقين المشكوك فيها
والمتيقنة، أي أضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين، والركعة إلى الثلاث المحرزة،
لكن لا يدخل المشكوك فيها في المتيقنة، ولا يخلط إحداهما بالأخرى، بأن يأتي بالركعة
والركعتين منفصلة لا متصلة، لئلا يتحقق الاختلاط وإدخال المشكوك فيها في
المتيقنة (2).
ولا يخفى: أن هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأول، حيث إن الظاهر من النهي
عن الإدخال والخلط أنهما تحت اختيار المصلي، فيمكن له الإدخال والخلط وتركهما،
والركعة المشكوك فيها إما هي داخلة بحسب الواقع في المتيقنة أو لا، وليس إدخالها فيها
وخلطها بها باختياره، بخلاف الركعة التي يريد إضافتها إليها، فإن له الإدخال والخلط
بإتيانها متصلة، وعدمهما بإتيانها منفصلة.
كما أنه على هذا الاحتمال يكون ظهور قوله: (ولا يدخل الشك في اليقين، ولا
يخلط أحدهما بالآخر) محكما على ظهور الصدر في أن الركعة أو الركعتين لا بد أن يؤتى

1 - الوافي 2: 147 سطر 1 - باب الشك فيما زاد على الركعتين.
المحدث الكاشاني: هو الشيخ الفقيه والفيلسوف النبيه المولى محمد محسن بن الشاه مرتضى بن الشاه محمود، ولد سنة
1007 ه‍، وأخذ العلم عن السيد ماجد البحراني، والمولى صدر الدين الشيرازي، والشيخ البهائي، والمولى محمد
طاهر بن محمد حسين الشيرازي، والمولى محمد صالح المازندراني، وآخرين، وأخذ عنه طائفة من العلماء البارزين
أشهرهم ولده المعروف بعلم الهدى، والعلامة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي، والقاضي سعيد القمي وغيرهم. له
مصنفات كثيرة منها: تفسير الصافي، والوافي، والمحجة البيضاء، ومفاتيح الشرائع، وديوان شعره. توفي بمدينة كاشان
سنة 1091 ه‍. انظر جامع الرواة 2: 42، لؤلؤة البحرين: 121 / 46.
2 - كفاية الأصول: 450، فوائد الأصول 4: 362 و 363.
52

بها متصلة، فكأنه قال: " قام فأضاف إليها أخرى من غير خلط الركعة المضافة المشكوك
في كونها الرابعة أو الخامسة بالركعات المتيقنة " ولا يكون هذا من قبيل تقييد الإطلاق
كما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله (1)، وتبعه غيره (2)، بل من قبيل صرف الظهور
البدوي.
ومنها: أن قوله (لا ينقض اليقين بالشك) يعني به لا ينقض اليقين بعدم الركعة
المشكوك فيها بالشك (3)، ويأتي في الجملتين والمتأخرتين الاحتمالان المتقدمان،
فتكون الرواية دليلا على الاستصحاب في المورد، ومخالفة للمذهب تقية على احتمال،
وموافقة له على آخر.
ومنها: ما احتمله الشيخ الأنصاري (قدس سره) (4)، وهو أردأ الاحتمالات، لأن قوله:
(لا ينقض اليقين بالشك) لا ينطبق على تحصيل اليقين بالركعات بالاحتياط المقرر
في المذهب الحق، ولا يدور الأمر بين الاحتمالين المشار إليهما في كلامه، حتى إذا كان
أحدهما خلاف التقية يحمل على الآخر اضطرارا، ولو كان مخالفا للظاهر في نفسه، كما

1 - كفاية الأصول: 450.
وهو الإمام المجاهد الكبير الشيخ محمد كاظم ابن المولى حسين الهروي الخراساني، قدوة العلماء، وأسوة الفضلاء، تفرد
بصنوف الفضل فما من فن إلا وله القدح المعلى، إليه انتهت رئاسة المذهب والملة، ولد في عام 1255 ه‍ بمدينة
مشهد المقدسة في أسرة دينية معروفة بالصلاح والتقوى، واتجه في أوائل حياته إلى التحصيل، فتقدم على أئمة زمانه في
الآفاق بالاستحقاق، أخذ عن جملة وافرة من أعلام عصره، كالفيلسوف الكبير الشيخ هادي السبزواري، والحكيم
المتأله الميرزا أبو الحسن جلوه، والمولى حسين الخوئي، والإمام المرتضى الأنصاري، والسيد محمد حسن الشيرازي
وآخرين، وتخرج عليه جملة كبيرة من أعلام الطائفة، كالسيد حسين البروجردي، والشيخ محمد حسين الأصفهاني،
والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد عبد الحسين شرف الدين وآخرين، أشهر
مصنفاته: كفاية الأصول، درر الفوائد، حاشية على كتاب المكاسب، اللمعات النيرة، حاشية على كتاب الأسفار، لبى
نداء ربه عز وجل في 20 ذي الحجة سنة 1329 ه‍ في ظروف غامضة، وذلك بعد أن عزم على التوجه إلى ساحات
القتال للدفاع عن الوطن الإسلامي العزيز. انظر معارف الرجال 2: 323، المصلح المجاهد للأستاذ الشهيد
عبد الرحيم محمد علي، ريحانة الأدب 1: 41.
2 - فوائد الأصول 4: 362 و 363.
3 - نهاية الأفكار 4: 62.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 331 السطر ما قبل الأخير.
53

أفاده رحمه الله (1).
ولا يخفى: أنه على جميع هذه الاحتمالات لا بد من ارتكاب خلاف ظاهر، وهو
تفكيك الجمل المشتملة على الشك واليقين، بأن يراد في جملة من اليقين والشك
نفسهما، وفي جملة يراد من اليقين اليقين بالركعات المحرزة، أو عدم الركعة الرابعة، وفي
جملة يراد بالشك المشكوك فيها، أي الركعة المضافة، وفي الأخرى الركعة المشكوك في
إتيانها، كما يظهر بالتأمل في الجمل والاحتمالات.
بيان أظهر الاحتمالات في الرواية
وهاهنا احتمال آخر، لعله الأظهر منها، مع كونه سليما عن هذا التفكيك
المخالف للظاهر: وهو أن يراد من اليقين والشك في جميع الجمل نفس حقيقتهما الجامعة
بين الخصوصيات والأفراد كما هو ظاهرهما، ولا ينافي ذلك اختلاف حكمهما باختلاف
الموارد.
فيقال: إن طبيعة اليقين لا تنقض بالشك، ولعدم نقضها به فيما نحن فيه
مصداقان:
الأول: عدم نقض اليقين بالركعات المحرزة، وعدم إبطالها لأجل الشك في الركعة
الزائدة.
والثاني: عدم نقض اليقين بعدم الركعة الرابعة بالشك في إتيانها، وكلاهما
داخلان تحت حقيقة عدم نقض اليقين بالشك.
وعدم إدخال حقيقة الشك في اليقين، وعدم خلط أحدهما بالآخر، له أيضا

1 - نفس المصدر.
54

مصداقان:
أحدهما: عدم الاكتفاء بالركعة المشكوك فيها من غير تدارك.
وثانيهما: عدم إتيان الركعة المضافة المشكوك فيها متصلة بالركعات المحرزة.
هذا إذا لم نقل بظهور النهي عن الإدخال والخلط في الفصل الاختياري،
وإلا يكون له مصداق واحد.
(ولكنه ينقض الشك باليقين) بالإتيان بالركعة المتيقنة، وعدم الاعتداد
بالمشكوك فيها.
(ويتم على اليقين) بإتيان الركعة اليقينية، وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها.
(ولا يعتد بالشك في حال من الحالات) عدم الاعتداد به فيما نحن فيه هو بالبناء
على عدم الركعة المشكوك فيها، والإتيان بالركعة.
وعلى هذا تكون الرواية مع تعرضها للمذهب الحق - أي الإتيان بالركعة
منفصلة - متعرضة لعدم إبطال الركعات المحرزة، ولاستصحاب عدم الركعة المشكوك
فيها، وتكون على هذا من الأدلة العامة لحجية الاستصحاب.
وهذا الاحتمال أرجح من سائر الاحتمالات:
أما أولا: فلعدم التفكيك حينئذ بين الجمل، لحمل الرواية على بيان قواعد كلية،
هي عدم نقض اليقين بالشك، وعدم إدخال الشك في اليقين، ونقض الشك باليقين،
وعدم الاعتداد بالشك في حال من الأحوال، وهي قواعد كلية يفهم منها حكم المقام
لانطباقها عليه.
وأما ثانيا: فلحفظ ظهور اللام في الجنس، وعدم حملها على العهد، وحفظ ظهور
اليقين بإرادة نفس الحقيقة، لا الخصوصيات والأفراد.
وأما ثالثا: فلحفظ الظهور السياقي، فإن الظاهر أن قوله: (لا ينقض اليقين
55

بالشك) في جميع الروايات يكون بمعنى واحد، هو عدم رفع اليد عن اليقين بمجرد
الشك، والاستصحاب أحد مصاديق هذه الكلية تأمل.
نعم: لا يدخل الشك الساري فيها، لأن الظاهر فعلية الشك واليقين، كما في
الاستصحاب وفي الركعات الغير المنقوضة بالركعة المشكوك فيها، وأما في الشك
الساري فلا يكون اليقين فعليا.
ومنها: موثقة إسحاق بن عمار (1) عن أبي الحسن قال: (إذا شككت فابن على
اليقين).
قلت: هذا أصل؟
قال: (نعم) (2).
والظاهر: أن هذه الموثقة وردت في الشك في الركعات الذي كان محل الخلاف
بين المسلمين في أنه هل يجب فيه البناء على الأقل وإتيان المشكوك فيها متصلة (3) أو
الأكثر وإتيانها منفصلة، فتكون كسائر الروايات الواردة بهذا المضمون، من البناء على
النقصان، والبناء على اليقين والجزم (4) والتعبير بمثله لعله من باب التقية؟
ويمكن أن يقال: إنه لا منافاة - من جهة - بين البناء على اليقين أي الأقل والبناء
على الأكثر، وهي عدم جواز الاكتفاء بالأقل كما اتفقت عليه الروايات، وهذا معنى

1 - إسحاق بن عمار: ابن حيان مولى بني تغلب أبو يعقوب الصيرفي الساباطي الكوفي، شيخ من أصحابنا، ثقة، وهو من
بيت كبير من الشيعة، وله أصل معتمد عليه، عده الشيخ في رجاله في أصحاب الإمامين الصادق والكاظم
عليهما السلام، روى عن جابر بن عبد الله، وسعيد الأعرج، وعبد الأعلى مولى آل سام، وعبيد بن زرارة، والقاسم بن
سالم، وعبد الرحمن بن الحجاج، والمعلى بن خنيس وطائفة، وروى عنه أبان بن عثمان، ومنصور بن يونس، وسليمان بن
محمد الخثعمي، وحماد بن عثمان، ويونس بن عبد الرحمن وخلائق. انظر رجال النجاشي: 71 / 169، مجمع الرجال 1: 188،
معجم رجال الحديث 3: 52 / 1157 - 1160.
2 - الفقيه 1: 231 / 1025، الوسائل 5: 318 / 2 - باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3 - المغني لابن قدامة 1: 675 و 676.
4 - انظر على سبيل المثال التهذيب 2: 344 / 1427، قرب الإسناد: 16، الوسائل 5: 318 / 6 - باب 8 و 319 / 2 -
باب 9 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
56

البناء على اليقين، وعلى الجزم، وعلى النقصان، وإنما الاختلاف بينها في الإتيان بالسلام
وانفصال الركعة، أو عدمه واتصالها، فالرواية الدالة على البناء على الأكثر تدل على الفصل
بالسلام، والدالة على البناء على الأقل ظاهرة في الإتيان متصلة، فهما متحدتا المضمون
من جهة الإتيان بالركعة، وعدم الاكتفاء بالمشكوك فيها، ومختلفتاه في الاتصال
والانفصال، فالتعبد على الأكثر - من جهة وجوب الانفصال - لا ينافي الاستصحاب من
جهة عدم إتيان الركعة، فالبناء على اليقين يدل على استصحاب عدم الإتيان، وظاهره
الإتيان متصلة، ولكن ترفع اليد عنه بالأدلة الدالة على الإتيان منفصلة (1).
اللهم إلا أن يقال: إن الأخبار الدالة على البناء على الأكثر والإتيان بالركعة
المنفصلة تدل على أن الإتيان بها إنما يكون من باب الاحتياط، لا من باب
الاستصحاب، فتنافي الأخبار الدالة على البناء على اليقين، فلا محمل لها إلا التقية، وأما
الحمل على اليقين بالبراءة (2) فهو محمل بعيد، كما لا يخفى هذا إذا خصصنا الموثقة
بالشك في الركعات.
وأما لو قلنا بالتعميم، وأن مضمونها أصل كلي في جميع الأبواب خرج منه الشك
في الركعات، فدلالتها على الاستصحاب ظاهرة، لظهورها في فعلية الشك واليقين مع
وحدة المتعلق، فلا تنطبق إلا على الاستصحاب.
ومنها: ما عن " الخصال " بسنده عن محمد بن مسلم (3) عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: (قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: من كان على يقين فشك

1 - انظر مثلا الفقيه 1: 225 / 992، التهذيب 2: 349 / 1448، الوسائل 5: 317 / 1 و 318 / 3 - باب 8 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة.
2 - نهاية الأفكار 4: 62.
3 - محمد بن مسلم: ابن رياح أبو جعفر الأوقص الطحان الثقفي الطائفي، وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه، ورع، ومن أوثق
الناس، ومن حواري الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام، مات سنة 150 ه‍. انظر معجم رجال الحديث
17: 247 / 11779.
57

فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين) (1).
وفي رواية أخرى: (من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن
اليقين لا يدفع بالشك) (2).
والظاهر منهما: أن من كان على يقين بشئ في الزمن السابق كالطهارة مثلا،
فشك في اللاحق فيها، فليمض على يقينه في زمن الشك، فتدلان على الاستصحاب من
جهتين:
إحداهما: أن متعلق اليقين لا يكون متقيدا بالزمان، فمعنى قوله: (من كان على
يقين) أي يقين بشئ، لا بشئ متقيد بالزمان، فعلى هذا يكون الشك أيضا في الزمن
اللاحق متعلقا بهذا الشئ من غير تقيده بالزمان، فكأنه قال: " إذا كنت في الزمن
السابق متيقنا بعدالة زيد، ثم أصابك شك فيها في الزمن اللاحق، فامض على يقينك "
ولا إشكال في ظهور هذا الكلام في الاستصحاب، لا الشك الساري، واحتماله مخالف
للظاهر المتفاهم عرفا.
وثانيتهما: من جهة ظهور اليقين والشك المأخوذين في الرواية في الفعليين منهما،
أي لا يدفع بالشك الفعلي اليقين الفعلي، مع أن الظهور السياقي أيضا يقتضي الحمل عليه.
والإنصاف: أنهما ظاهرتان في الاستصحاب، ولا إشكال في دلالتهما على
القاعدة الكلية.
ومنها: مكاتبة علي بن محمد القاساني (3) قال: كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم
الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟

1 - الخصال: 619، الوسائل 1: 175 / 6 - باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
2 - الإرشاد للمفيد: 159، مستدرك الوسائل 1: 228 / 4 - باب 1 من أبواب الوضوء.
3 - علي بن محمد القاساني: أبو الحسن من ولد زياد مولى عبد الله بن العباس، من آل خالد بن الأزهر، كان فقيها مكثرا من
الحديث، فاضلا، من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام. انظر رجال الطوسي: 417 / 10، تنقيح المقال 2: 305 /
8481، معجم رجال الحديث 12: 148 و 149 / 8431 و 8432.
58

فكتب: (اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية وأفطر للرؤية) (1).
قال الشيخ قدس سره: والإنصاف أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من
أخبار الاستصحاب (2) وأنكر بعضهم دلالتها عليه، فضلا عن أظهريتها (3).
والحق: أن دعوى الأظهرية كدعوى عدم الدلالة ممنوعة، بل هي ظاهرة
في الاستصحاب، لكن بعض الروايات المتقدمة مثل صحيحة زرارة الأولى أظهر
منها.
أما أصل دلالتها عليه، فلأن الظاهر من قوله: (صم للرؤية وأفطر للرؤية) أنهما
تفريعان لقوله: (اليقين لا يدخله الشك) فحينئذ يحتمل أن يكون مقصود السائل من يوم
الشك مطلق يوم الشك، سواء كان من آخر شعبان، أو آخر رمضان، ويحتمل أن يكون
المراد يوم الشك بين شعبان ورمضان، أو بين رمضان وشوال، والظاهر بعد الاحتمال
الثالث، فبقي الاحتمالان، وعلى أيهما، يكون الجواب بملاحظة التفريعين المذكورين عن
مطلق يوم الشك في أول رمضان كان، أو في آخره، فحينئذ لا ينطبق قوله: (اليقين
لا يدخله الشك) إلا على الاستصحاب، فيتفرع عليه استصحاب عدم دخول رمضان،
وعدم دخول شوال إلى زمان الرؤية.
واحتمال كون المراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان - بمعنى أن اليقين
بدخوله الذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك في دخوله، أي لا يجوز صوم يوم
الشك من رمضان الذي تواترت الأخبار على اعتبار اليقين بدخوله في صحة الصوم (4) -
مع كمال بعده، لا يناسب تفريع كل من الصوم والإفطار للرؤية عليه.

1 - التهذيب 4: 159 / 445، الاستبصار 2: 64 / 210، الوسائل 7: 184 / 13 - باب 3 من أبواب أحكام شهر
رمضان.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 334 سطر 7.
3 - فوائد الأصول 4: 366، نهاية الأفكار 4: 65 و 66.
4 - فوائد الأصول 4: 366.
59

كما أن احتمال كون المراد من قوله: (اليقين لا يدخله الشك) أن اليقين بالتكليف
لا يدخله الشك، فيكون المراد أن الاشتغال اليقيني لا بد له من البراءة اليقينية (1) غير
صحيح، لأن لازمه لزوم صوم يوم الشك ولو كان من آخر شعبان، فلا يناسب
التفريعين.
كما لا يناسبهما احتمال كون المراد منه أن اليقين بأيام رمضان لا يدخله الشك: أي
لا بد أن تكون أيام رمضان محرزة باليقين، ولا يجوز الصوم مع الشك في كون اليوم من
رمضان (2)، لأن لازمه عدم جواز صوم يوم الشك بين رمضان وشوال، فالأظهر من بين
الاحتمالات هو الاحتمال الأول المنطبق على الاستصحاب.
هذه هي الأخبار الواردة في الباب مما يستفاد منها حجية الاستصحاب.
تذييل
حول الاستدلال بأدلة قاعدتي الحلية والطهارة
على الاستصحاب والجواب عنه
ربما يستدل على اعتبار الاستصحاب بقوله: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه
قذر) (3) وقوله: (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس) (4) وقوله: (كل شئ حلال حتى

1 - هذا الاحتمال ذكره الشيخ الأنصاري في مجلس بحثه على ما في بحر الفوائد: 38 سطر 5 من مبحث الاستصحاب.
2 - انظر كفاية الأصول: 452، ونهاية الأفكار 4: 66 - القسم الثاني - مع تقييد عدم جواز الصوم في الأخير بعنوان أنه من
شهر رمضان.
3 - المقنع للصدوق: 3، التهذيب 1: 285 / 832، الوسائل 2: 1054 / 4 - باب 37 من أبواب النجاسات، مستدرك
الوسائل 1: 164 / 4 - باب 29 من أبواب النجاسات والأواني، وفي بعضها كلمة " نظيف " بدل " طاهر ". لكن نظر
الإمام قدس سره إلى الموثقة كما يظهر من نقله لكلام الآخوند.
4 - الكافي 3: 1 / 3، التهذيب 1: 215 / 619 - 621، الوسائل 1: 100 / 5 - باب 1 من أبواب الماء المطلق، وفيها
كلمة " قذر " بدل " نجس ".
60

تعرف أنه حرام) (1).
فإن المحقق الخراساني رحمه الله ذهب في " الكفاية " إلى دلالة الصدر على الحكم
الواقعي، ودلالة الغاية على الاستصحاب، وفي " تعليقته " إلى دلالة الصدر على الحكم
الواقعي وقاعدة الطهارة والحلية، والغاية على الاستصحاب.
فقال في بيان الأول ما حاصله: إن الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياء بعناوينها
الأولية، لا بما هي مشكوكة الحكم، والغاية تدل على استمرار ما حكم على الموضوع
واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا، ما لم يعلم بطرو ضده أو نقيضه (2).
وفي الثاني: إن الصدر بعمومه يدل على الحكم الواقعي، وبإطلاقه على
المشكوك، بل يمكن أن يقال: بعمومه يدل على الحكم الواقعي وعلى المشكوك فيه، فإن
بعض الشكوك اللازمة للموضوع داخلة في العموم، ونحكم في البقية بعدم القول بالفصل،
والغاية تدل على الاستصحاب كما ذكر (3).
وفيما أفاده نظر:
أما أولا: فلأن الطهارة والحلية الواقعيتين ليستا من الأحكام المجعولة الشرعية،
للزوم إمكان كون شئ بحسب الواقع لا طاهرا ولا نجسا، ولا حلالا ولا حراما، لأن
النجاسة والحرمة مجعولتان بلا إشكال وكلام، فلو فرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء
خاصة، وجعل الطهارة والحلية لأشياء أخرى خاصة يلزم أن تكون الأشياء غير المتعلقة
للجعلين لا طاهرة ولا نجسة، ولا حلالا ولا حراما، وهذا واضح البطلان في ارتكاز
المتشرعة.

1 - الكافي 5: 313 / 40، التهذيب 7: 226 / 989، الوسائل 12: 60 / 4 - باب 4 من أبواب ما يكتسب به، باختلاف
يسير.
2 - كفاية الأصول: 452.
3 - انظر حاشية الآخوند على الرسائل: 185 سطر 25.
61

مضافا إلى أن الأعيان الخارجية على قسمين:
الأول: ما يستقذره العرف.
والثاني: ما لا يستقذره، وإنما يستقذر الثاني بملاقاته للأول وتلوثه به، والتطهير
عرفا عبارة عن إزالة التلوث بالغسل، وإرجاع الشئ إلى حالته الأصلية غير المستقذرة،
لا إيجاد شئ زائد على ذاته، به يكون طاهرا، والظاهر أن نظر الشرع كالعرف في ذلك،
إلا في إلحاق بعض الأمور غير المستقذرة عرفا بالنجاسات، وإخراج بعض المستقذرات
عنها.
وكذا الحلية لم تكن مجعولة، فإن الشئ إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدة
يكون حلالا وإن لم يشتمل على مصلحة، فلا تكون الطهارة والحلية من المجعولات
الواقعية. نعم، الطهارة والحلية الظاهريتان مجعولتان.
فحينئذ نقول: إن قوله (كل شئ حلال) أو (طاهر) لو حمل على الواقعيتين منهما
يكون إخبارا عن ذات الأشياء، لا إنشاء الطهارة والحلية، فالجمع بين القاعدة والحكم
الواقعي يلزم منه الجمع بين الإخبار والإنشاء في جملة واحدة، وهو غير ممكن، هذا أولا.
وأما ثانيا: فلأن معنى جعل الطهارة والحلية الظاهريتين هو الحكم بالبناء العملي
عليهما حتى يعلم خلافهما، ومعنى جعل الواقعيتين منهما هو إنشاء ذاتهما، لا البناء
عليهما، والجمع بين هذين الجعلين مما لا يمكن.
وأما ثالثا: فلأن الحكم الظاهري مجعول للمشكوك بما أنه مشكوك، والحكم
الواقعي مجعول للذات مع قطع النظر عن الحكم الواقعي، ولا يمكن الجمع بين هذين
اللحاظين المتنافيين.
وأما رابعا: فلأن الحكم في قاعدة الطهارة والحلية يكون للمشكوك فيه، فلا محالة
تكون غايتهما العلم بالقذارة والحرمة، فجعل الغاية للحكم المغيى بالغاية ذاتا مما
62

لا يمكن.
اللهم إلا أن يقال: إن الغاية إنما تكون للطهارة والحلية الواقعيتين، لأجل القرينة
العقلية، وهي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهري، فيكون المعنى: أن الطهارة
والحلية الواقعيتين مستمرتان إلى أن يعلم خلافهما، لكن جعل الغاية للطهارة والحلية
الواقعيتين لازمه استمرار الواقعيتين منهما في زمن الشك، لا الظاهريتين، ويرجع حينئذ
إلى تخصيص أدلة النجاسات والمحرمات الواقعية، فتكون النجاسات والمحرمات في
صورة الشك فيهما طاهرة وحلالا واقعا، وهو كما ترى باطل لو لم يكن ممتنعا.
فتحصل مما ذكرنا: أن الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب مما
لا يمكن، فلا بد من إرادة واحدة منها، ومعلوم أن الروايات ظاهرة في قاعدة الحل
والطهارة، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون ظهورها في
القاعدتين محكما، وليس كل ما يمكن يراد.
63

فصل
الأحكام الوضعية وتحقيق ماهيتها
لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حال الوضع تبعا للمحقق الخراساني (1)، وتحقيق
المقام يتم برسم أمور:
الأمر الأول
تقسيم الحكم إلى تكليفي ووضعي
إنه لا إشكال في تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي، والظاهر أنه ينقسم
إليهما بالاشتراك المعنوي، فلا بد من جامع بينهما، والظاهر أن الجامع هو كونهما
من المقررات الشرعية، لأن كل مقرر وقانون من مقنن نافذ في المجتمع يطلق عليه
الحكم، فيقال: حكم الله تعالى بحرمة شرب الخمر، ووجوب صلاة الجمعة، وحكم
بضمان اليد والإتلاف، وحكم بنجاسة الكلب والخنزير، وحكم بأن المواقيت خمسة

1 - كفاية الأصول: 454 وما بعدها.
65

أو ستة، وكذا يقال: حكم السلطان بأن جزاء السارق كذا، وسعر الأجناس كذا
وكذا.
وبالجملة: كل مقرر وقانون عرفي أو شرعي - ممن له أهلية التقرير والتقنين -
حكم، تكليفا كان أو وضعا، ولا تخرج المقررات الشرعية أو العرفية عن واحد منهما،
ولا ثالث لهما، فمثل الرسالة والخلافة والإمامة والحكومة والإمارة والقضاء من الأحكام
الوضعية.
قال تعالى: * (وكلا جعلنا نبيا) * (1).
وقال تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (2).
وقال تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي
الظالمين) * (3).
فقد نصب رسول الله صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام إماما وأميرا
على الناس يوم الغدير (4)، وجعل القضاة من ناحية السلطان - كجعل الأمير والحاكم -
معروف ومعلوم.
وبالجملة: لا إشكال في كون النبوة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهية التي
جعلها الله وقررها، فهي من الأحكام الوضعية أو من الوضعيات وإن لم يصدق عليها
الأحكام.
فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمه الله من كون أمثال ذلك من الأحكام
الوضعية (5) في غير محله، إلا أن يرجع إلى بحث لغوي وهو عدم صدق الحكم عليها،

1 - سورة مريم 19: 49.
2 - سورة البقرة 2: 30.
3 - سورة البقرة 2: 124.
4 - انظر كتاب الغدير للعلامة الأميني رحمه الله 1: 11.
5 - فوائد الأصول 4: 385.
66

وهو كما ترى، كاستيحاشه من كون الماهية المخترعة - كالصلاة والصوم - منها (1)، فإنها
قبل تعلق الأمر بها وإن لم تكن من الأحكام الوضعية، لكنها لم تكن قبله من الماهيات
المخترعة أيضا، لعدم كونها حينئذ من المقررات الشرعية، وإنما تصير مخترعات شرعية
بعدما قررها الشارع في شريعته بجعلها متعلقة للأوامر، وحينئذ تصير كالجزئية والشرطية
والمانعية للمأمور به من الأحكام الوضعية.
ولا فرق بين الجزئية والكلية في كونهما أمرين منتزعين عن تعلق الأمر بالطبيعة،
فيكون نحو تقررهما في الشريعة بكونهما منتزعين من الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة،
فمن جعل الجزئية للمأمور به من الأحكام الوضعية مع اعترافه بكونها انتزاعية فليجعل
الكلية أيضا كذلك.
وعلى هذا: فلا مانع من جعل الماهيات الاختراعية من الأحكام الوضعية، أي من
المقررات الشرعية والوضعيات الإلهية، ولكن إطلاق الحكم عليها كإطلاقه على كثير من
الوضعيات يحتاج إلى تأويل.
نعم: نفس الصلاة والصوم كنفس الفاتحة والركوع والسجود مع قطع النظر عن
تعلق الأمر بهما وصيرورتهما من المقررات الشرعية، لا تعدان من الأحكام الوضعية،
ولا من الماهيات المخترعة.
فالتحقيق: ان جميع المقررات الشرعية تنقسم إلى الوضع والتكليف ولا ثالث
لهما.
نعم: صدق الحكم على بعضها أوضح من صدقه على الآخر، بل في بعضها غير
صادق، لكن كلامنا ليس في صدق الحكم وعدمه، بل في مطلق الوضعيات، صدق
عليها أو لا.

1 - نفس المصدر 4: 385 و 386.
67

الأمر الثاني
بعض موارد الخلط بين التكوين والتشريع
إنه كثيرا ما يقع الخلط بين الأمور التكوينية والتشريعية، فيسري الغافل الحكم
من التكوين إلى التشريع، فمن ذلك: أنه لما قرع بعض الأسماع أن الأمور الانتزاعية
يكون جعلها ورفعها بمناشئ انتزاعها، فلا يمكن جعل الفوقية والتحتية للجسمين
إلا بجعلهما بوضع خاص، يكون أحدهما أقرب إلى المركز والآخر إلى المحيط، فبعد ذلك
تنتزع الفوقية والتحتية منهما قهرا، ولا يمكن جعلهما ورفعهما استقلالا، فجعل هذا الحكم
التكويني مقياسا للأمور التشريعية، فقايس الأمور التشريعية بالأمور التكوينية،
فذهب إلى امتناع جعل الجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به ورفعها عنه استقلالا،
وزعم أن جعلها بجعل منشأ انتزاعها كالأمور التكوينية (1)، مع أن القياس مع الفارق.
وتوضيح ذلك: أن الأمور الاعتبارية تابعة لكيفية اعتبارها وجعلها، فقد يتعلق
الأمر القانوني بطبيعة أولا على نحو الإطلاق لاقتضاء في ذلك، ثم تحدث مصلحة في أن
يجعل لها شرط، أو يجعل لها قاطع ومانع بلا رفع الأمر القانوني الأول، فلو قال المولى:
* (أقيموا الصلاة) * (2) ثم قال: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق) * (3) أو قال: " يشترط في الصلاة الوضوء أو القبلة " أو قال: " لا تصل في وبر
ما لا يؤكل لحمه " أو " لا تصل في الثوب النجس " ينتزع منها الشرطية والمانعية، فهل
ترى أنه يلزم أن يرفع الأمر الأول وينسخه، ثم يأمر بالصلاة مع التقيد بالشرط أو عدم
المانع؟! وأي مانع من جعل الوجوب للطبيعة المطلقة بحسب الجعل الأولي، ثم يجعلها

1 - كفاية الأصول: 456 و 457.
2 - سورة البقرة 2: 43.
3 - سورة المائدة 5: 6.
68

مشروطة بشئ بجعل مستقل، أو يجعل شيئا مانعا لها بنحو الاستقلال لاقتضاء حادث،
كما غير الله قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام؟! فهل كان قوله: * (قد نرى تقلب وجهك
في السماء) * إلى قوله: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * (1) من قبيل نسخ حكم
الصلاة رأسا وإبداء حكم آخر، أو كان الجعل متعلقا بالقبلة فقط؟! ومجرد كون
المنتزعات التكوينية تابعة لمناشئ انتزاعها لا يوجب أن تكون الشرائط والموانع
التشريعية كذلك، وكذا الكلام في اسقاط شرط أو مانع.
وبالجملة: تلك الأمور الاعتبارية والجعلية كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها،
يمكن جعلها مستقلا بلا إشكال وريب، كما يمكن اسقاطها كذلك.
نعم: إن الإرادة الواقعية إذا تعلقت بطبيعة لا يمكن أن تنقلب عما هي عليه من
زيادة جزء أو شرط أو مانع، أو اسقاطها مع بقائها على ما هي عليه، لأن تشخصها
بتشخص المراد، فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغير المراد، بخلاف الأمور القانونية فإنها
تابعة لكيفية تعلق الجعل بها هذا حال الشروط والموانع.
وكذا حال اسقاط الجزئية، فلو قال المولى: " أسقطت جزئية الحمد للصلاة "
تصير ساقطة مع بقاء الأمر القانوني.
وأما حال جعل الجزئية فتوضيحه: أن الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة إنما تتعلق
بها في حال لحاظ الوحدة، ولا يكون الأمر بها متعلقا بالأجزاء، بحيث ينحل الأمر إلى
الأوامر، ولا الأمر الذي هو بسيط مبسوطا على الأجزاء، بل لا يكون في البين إلا أمر
واحد متعلق بنفس الطبيعة في حال الوحدة، وهذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الأجزاء
في لحاظ التفصيل، فإذا أمر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلا نفس طبيعتها، وتكون الأجزاء
مغفولا عنها.

1 - سورة البقرة 2: 144.
69

فحينئذ نقول: إن الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات، وإلى الأجزاء
بعين دعوته إلى الطبيعة، فإذا جعل المولى جزءا للطبيعة فقال: (لا صلاة إلا بفاتحة
الكتاب) (1) أو " إقرأ في الصلاة " أو " جعلت الفاتحة جزءا لها " يدعو الأمر المتعلق
بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة، كما إذا أسقط جزءا منها تكون دعوة الأمر
إلى الطبيعة دعوة إلى بقية الأجزاء.
وبالجملة: لا أرى وجها لامتناع تعلق الجعل الاستقلالي - على ما ذكر - إلا توهم
كون التشريع كالتكوين، وإلا فلو لم يرد من المولى إلا الأمر بطبيعة، ثم صدر منه أمر
آخر يدل على اشتراطها بشئ، أو جعل شئ جزءا منها، فهل يجوز للعبد ترك الشرط
أو الجزء قائلا: بأنه لا بد من صدور أمر آخر متعلق بالطبيعة المتقيدة أو المركبة من هذا
الجزء، ولم يصدر منه على القطع إلا الأمر بالطبيعة والدليل الدال على الاشتراط
أو الجزئية، وذلك لا يكفي في الدعوة والبعث، وهل هذا إلا كلام شعري مخالف للحجة
القطعية؟!
توهم عدم قبول السببية للجعل ودفعه
ومن موارد الخلط بين التكوين والتشريع ما يقال: إن السببية مما لا تقبل الجعل
لا تكوينا ولا تشريعا، لا أصالة ولا تبعا، بل الذي يقبله هو ذات السبب ووجوده العيني،
وأما السببية فهي من لوازم ذاته كزوجية الأربعة، فإن السببية عبارة عن الرشح والإفاضة
القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم
الذات، لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني، فضلا عن التشريعي، بل هي كسائر

1 - عوالي اللآلي 1: 196 / 2، مستدرك الوسائل 1: 774 / 5 و 8 - باب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، تفسير أبي الفتوح
الرازي 1: 15.
70

لوازم الماهية تكوينها إنما يكون بتكوين الماهية، فعلية العلة وسببية السبب كوجوب
الواجب وإمكان الممكن إنما تكون من خارج المحمول، تنتزع عن مقام الذات، ليس لها
ما بحذاء، لا في وعاء العين، ولا في وعاء الاعتبار، فالعلية لا تقبل الإيجاد التكويني
فضلا عن الانشاء التشريعي (1)، هذا ما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله في وجه
عدم إمكان جعل السببية.
وفيه: مضافا إلى خلطه بين لوازم الماهية ولوازم الوجود، وخلطه بين المحمول
بالضميمة وخارج المحمول، وخلطه بين السببية، أي الخصوصية التي يصير المبدأ بها
مبدأ فعليا للمسبب، وبين الرشح والإفاضة أي المسبب بما أنه مسبب أنه خلط بين
الأسباب التكوينية والأسباب التشريعية، وقاس التشريع بالتكوين بلا وجه، فإن نحو
السببية التكوينية سواء كانت بمعنى مبدئية الإفاضة، أو نفس الرشح والإفاضة لا يكون
في التشريعيات مطلقا، فلا يكون العقد مترشحا منه الملكية أو الزوجية، والتحرير
مترشحا منه الحرية، كما لا تكون في العقود والإيقاعات خصوصيات بها تصير منشأ
لحقائق المسببات:
أما عدم المنشئية لأمر حقيقي تكويني فواضح.
وأما عدم صيرورتها منشأ حقيقيا للاعتبار، فلأن الاعتبارات القائمة بنفس
المنشئ أو العقلاء أو الشارع، لها مناشئ تكوينية، لا تكون العقود والإيقاعات أسبابا
لتكونها فيها، فالسببية للأمور التشريعية والاعتبارات العقلائية إنما هي بمعنى آخر غير
السببية التكوينية، بل هي عبارة عن جعل شئ موضوعا للاعتبار.
فالمقنن المشرع إذا جعل قول الزوج: " هي طالق " - مع الشرائط المقررة في قانونه -
سببا لرفع علقة الزوجية يرجع جعله وتشريعه إلى صيرورة هذا الكلام مع الشرائط

1 - فوائد الأصول 4: 394 و 395.
71

موضوعا لاعتبار فسخ العقد ورفع علقة الزوجية، ولأجل نفوذه في الأمة يصير نافذا،
فقبل جعل قول الزوج سببا لحل العقد لا يكون قوله: " أنت طالق " سببا له وموضوعا
لإنفاذ الشارع المقنن، وبعد جعل السببية له يصير سببا وموضوعا لاعتباره القانوني
المتبع في أمته وقومه، من غير تحقق رشح وإفاضة وخصوصية، فالسببية من المجعولات
التشريعية
نعم: للشارع والمقنن أن يجعل المسببات عقيب الأسباب، وأن يجعل نفس سببية
الأسباب للمسببات، والثاني أقرب إلى الاعتبار في المجعولات القانونية فتدبر.
الأمر الثالث
إن الملكية ليست من المقولات حقيقة
إن تلك الأمور التشريعية في القانون الشرعي أو القوانين العرفية لا يكون لها نحو
تحقق إلا في عالم الاعتبار، وليس لما يعتبر من الملكية والزوجية والحرية والرقية
وأمثالها إلا وجود اعتباري، فلا يندرج واحد منها تحت مقولة من المقولات اندراجا
حقيقيا، فلا تكون الملكية من مقولة الجدة، ولا من مقولة الإضافة.
نعم: نفس مفهوم الملكية مفهوم إضافي، لكن لا يوجب ذلك اندراج الملكية
الاعتبارية تحت مقولة الإضافة، كما هو المعلوم عند أهله (1)، فقول بعضهم: إن مقولة
الجدة لها مراتب: أحدها الملكية الاعتبارية، حتى عد مالكية الله تعالى أيضا من
مراتبها (2) لا ينبغي أن يصغى إليه.
نعم: الملكية تشبه بمقولة الإضافة من وجه، وبمقولة الجدة من وجه

1 - منظومة السبزواري - قسم الحكمة: 145، الأسفار 4: 6.
2 - فوائد الأصول 4: 383 و 384.
72

آخر (1)، لكن البحث في شباهتها بهما وعن وجهها مما لا يرجع إلى محصل.
أقسام الوضعيات
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أن الأحكام الوضعية عبارة عن كافة المقررات
الشرعية ما عدا الأحكام التكليفية، حتى أن الإباحة الواقعية لو كان لها جعل تكون من
الوضعيات والأحكام الوضعية، بعد اشتراكها كلها في إمكان جعلها استقلالا، وليس
حكم وضعي إلا ويمكن أن يتطرق إليه الجعل الاستقلالي.
[فمنها ما يكون مجعولا بالتبع، وهو] على أنحاء:
منها: ما يكون مجعولا بتبع التكليف، بمعنى انتزاعه منه، كالجزئية للمكلف به
غالبا، والشرطية والمانعية له.
ومنها: ما يكون مجعولا بتبع اشتراط التكليف به، أي ينتزع من اشتراطه به، كقوله
تعالى: * (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (2) فإن الاستطاعة لم تكن
قبل هذا الجعل شرطا للتكليف، وبعد تقييد التكليف بها انتزع منه الشرطية، ويمكن أن
يكون دلوك الشمس من هذا القبيل، كما يمكن أن يكون من قيود المكلف به كما هو
الأظهر، فإن الصلاة كما أنها مشروطة بالستر، مشروطة بوقوعها من دلوك الشمس إلى
غسق الليل.
ومنها: ما يكون مجعولا أصالة وهو على أنحاء:
منها: ما يكون متعلق الجعل ابتداء من غير تخلل واسطة تكوينية أو تشريعية،
كالخلافة والنبوة والإمامة والقضاوة، والسببية والشرطية والمانعية والقاطعية أحيانا، ومن

1 - انظر نهاية الدراية 3: 61 و 62.
2 - سورة آل عمران 3: 97.
73

ذلك جعل المواقيت والموقفين، وجعل الصفا والمروة والمسعى من شعائر الله، وأمثال
ذلك، وإن أمكن أن يقال بانتزاع بعضها من الحكم التكليفي.
ومنها: ما يكون مجعولا عقيب شئ اعتباري أو تكويني، كضمان اليد والإتلاف،
وكحق السبق والتحجير، وكحق الرهان في باب السبق والرماية، وكالملكية عقيب
الإحياء والحيازة، ومن قبيله جميع الحدود الشرعية، وأحكام القصاص والديات.
ومنها: ما يكون مجعولا عقيب أمر تشريعي قانوني، كالعهدة عقيب عقد الضمان،
ومن ذلك مفاد العقود والإيقاعات، فإن كل ذلك من التشريعيات والجعليات الشرعية
والعرفية التي أنفذها الشارع، والمراد من الأحكام التشريعية [ما هو] أعم من العرفيات
التي أنفذها الشارع، أو لم يردع عنها.
ثم اعلم: أن في العقود والايقاعات وسائر الوضعيات ذوات الأسباب يمكن أن
يلتزم بجعل السببية، فيقال: بأن الشارع جعل الحيازة سببا للملكية، واليد سببا
للضمان، وعقد البيع والنكاح سببين لمسببهما، ويمكن أن يلتزم بجعل المسبب عقيب
السبب، والأول هو الأقرب بالاعتبار والأسلم من الإشكال، لكن في كل مورد لا بد من
ملاحظة مقتضى دليله.
فقد اتضح مما ذكرنا: النظر في كثير مما أفاده المحقق الخراساني (1) وغيره (2) في
المقام، منه ما أفاده رحمه الله في النحو الأول من الوضع، فإنه مع تسليم عدم تطرق
الجعل التشريعي مطلقا إلى شئ لا وجه لعده من الأحكام الوضعية (3) فإن
الأحكام الوضعية هي الأحكام الجعلية والمقررات الشرعية، فلا معنى لعد ما لا يتطرق
إليه الجعل منها.

1 - كفاية الأصول: 454 وما بعدها.
2 - فوائد الأصول 3: 17، 105 و 4: 392.
3 - كفاية الأصول: 455.
74

مع أنك قد عرفت النظر (1) في عد السببية للتكليف مما لا يتطرق إليه الجعل، فإن
السببية كالمانعية والشرطية والرافعية لأصل التكليف أيضا من الوضعيات المتطرق إليها
الجعل، فإن نفس دلوك الشمس إلى غسق الليل أو سببيته للجعل وإن لم يكن مجعولا،
لكن سببيته للوجوب يمكن أن تكون مجعولة ومقررة شرعا، كما أن الاضطرار وإن لم
يكن مجعولا، لكن يمكن جعل السببية لرفع التكليف له، كما يمكن رفع التكليف عقيبه،
كما هو ظاهر قوله: (رفع... وما اضطروا إليه) (2) الرافع لحرمة الخمر في صورة الاضطرار
العرفي.
هذا، كما أن عد بعضهم الكاشفية والطريقية والحجية وأمثال ذلك من
الوضعيات (3) في غير محله، فإن الحجية سواء كانت بمعنى منجزية التكليف، أو بمعنى
قاطعية العذر ليست من المجعولات، كما أن الطريقية والكاشفية للكاشف والطريق
ليستا بمجعولتين، كما مر ذكره في محله (4).

1 - انظر صفحة 70 و 71.
2 - انظر التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، الوسائل 11: 295 / 1 - باب 56 من أبواب جهاد النفس.
3 - تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
4 - ذكر في أنوار الهداية 1: 206.
75

تنبيهات
التنبيه الأول
في اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب
وأخذهما في موضوعه على نعت الموضوعية
يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين بناء على أخذهما موضوعا وركنا
فيه، كما سيأتي التعرض لذلك (1)، وليس المراد من فعليتهما تحققهما في خزانة النفس
ولو كان الانسان ذاهلا عنهما، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكه
اللاحق، لأن الاستصحاب كالأمارات إنما اعتبر لأجل تنجيز الواقع، وإقامة
الحجة عليه، والتحفظ على الواقع في زمن الشك، أي يكون حجة من المولى على

1 - يأتي في صفحة 80.
77

العبد في بعض الاستصحابات، ومن العبد على المولى في بعضها، والحجة لا تصير
حجة إلا مع العلم والالتفات (1)، فقوله: (لا ينقض اليقين بالشك) (2) أو
" صدق العادل " وإن كان لهما وجود واقعي علم المكلف [به] أو لا، لكنهما
لا يصيران حجة على الواقعيات بوجودهما الواقعي، فلو دل دليل على حرمة الخمر
مطلقا، ودل دليل آخر على حلية قسم منها، ولم يصل المخصص إلى المكلف،
وارتكب هذا القسم، وكان بحسب الواقع محرما، أي كان المخصص مخالفا للواقع،
يكون المكلف معاقبا على الواقع، وليس له الاعتذار بأن لهذا العام مخصصا واقعا، لأن
وجوده الواقعي لا يكون حجة لا من العبد ولا عليه، فقوله: (لا ينقض اليقين
بالشك) إنما يصير حجة على الواقع أو عذرا منه إذا كان المكلف متوجها وملتفتا إلى
الموضوع والحكم، فلا معنى لجريان الاستصحاب مع عدم فعلية الشك
واليقين
هذا مضافا إلى ظهور أدلته في فعليتهما أيضا، فحينئذ لو كان المكلف قبل الصلاة
شاكا في الطهارة مع العلم بالحدث سابقا، وصار ذاهلا وصلى، ثم بعد صلاته التفت
إلى شكه ويقينه لا يكون مجرى للاستصحاب بالنسبة إلى ما قبل شروعه في الصلاة،
للذهول عن الشك واليقين.
وأما جريان قاعدة الفراغ بالنسبة إليه أيضا (3) فمشكل، لظهور أخبارها (4) في
حدوث الشك بعد العمل، وهذا الشك ليس حادثا بل كان باقيا في خزانة النفس،
ويكون من قبيل إعادة ما سبق، أو الالتفات إلى ما كان موجودا، فتجب إعادة الصلاة،

1 - فوائد الأصول 4: 317 و 318.
2 - التهذيب 1: 8 / 11، الوسائل 1: 174 / 1 - باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
3 - كفاية الأصول: 459، فوائد الأصول 4: 318.
4 - يأتي ذكرها في صفحة 306 - 311.
78

إما لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة بأن يقال: إن استصحاب الحدث في حال
الصلاة مما يوجب الإعادة، وهو وإن كان حكما عقليا، لكنه من الأحكام التي تكون
للأعم من الحكم الواقعي والظاهري، وإما لأجل قاعدة الاشتغال لو سلمت مثبتية
الاستصحاب.
ثم إن اشتراط فعلية الشك واليقين إنما هو فيما إذا قلنا: بأخذهما في الاستصحاب
على نحو الموضوعية، أي إذا كان الشك واليقين ركنين فيه، وأما إذا قلنا: بأن المعتبر فيه
هو الكون السابق والشك اللاحق، كما هو مختار الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1)،
أو قلنا: بأن الاستصحاب عبارة عن جعل الملازمة التعبدية بين الكون السابق وبقائه،
كما يظهر من المحقق الخراساني رحمه الله في التنبيه الثاني (2)، فلا يبقى مجال للبحث عن
فعلية اليقين على كلا المسلكين، وعن فعلية الشك أيضا على المسلك الثاني.
ومن هنا يرد إشكال على المحقق الخراساني: وهو وقوع التهافت بين ما اختاره
في التنبيه الأول: من اعتبار فعلية الشك واليقين في الاستصحاب (3)، وبين ما اختاره في
التنبيه الثاني: من الاكتفاء في صحة الاستصحاب بالشك في بقاء شئ على تقدير ثبوته
وإن لم يحرز ثبوته، بل الظاهر منه في أواخر التنبيه، أن الاستصحاب عبارة عن جعل
الملازمة التعبدية بين ثبوت الشئ وبقائه، وذلك لأن لازم القول باعتبار فعلية اليقين
والشك هو أخذهما في موضوعه، ولازم ما اختاره في التنبيه الثاني، هو عدم أخذهما فيه،
أو لا أقل من عدم أخذ اليقين فيه ليكون مطابقا لاختيار الشيخ، كما ربما يظهر من أوائل
التنبيه الثاني، فيقع التهافت بينهما ولا مهرب منه.
ثم إن في اعتبار الشك واليقين في الاستصحاب على نعت الموضوعية، أو عدم

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 318 و 321 سطر 16.
2 - كفاية الأصول: 461.
3 - نفس المصدر: 459.
79

اعتبارهما، أو اعتبار الشك دون اليقين، أو العكس، وجوها واحتمالات:
من أن الظاهر من أخذ العناوين في الأحكام هو الموضوعية والدخالة.
ومن أن العناوين المرآتية كاليقين والعلم وأمثالهما لو اخذت في موضوع حكم،
يكون الظاهر منها هو كون الموضوع هو المرئي بها لا المرآة، وأن الشك في قوله: (لا ينقض
اليقين بالشك) (1) لم يؤخذ موضوعا، بل الظاهر اسقاط الشك وعدم صلاحيته لنقض
اليقين.
ومن أن اليقين غير مأخوذ في الموضوع لما ذكر في الوجه الثاني، ولكن الظاهر من
الأدلة، هو التعبد بالبقاء في زمان الشك، ومن هنا يظهر وجه الاحتمال الآخر.
والأقوى هو الأول، فإن الظاهر من جميع أدلة الاستصحاب، هو أن اليقين المقابل
للشك لأجل كونه أمرا مبرما لا ينقض بالشك، وأن العناية في التعبد في زمان
الشك إنما تكون لأجل مسبوقيته باليقين.
وبالجملة: لا يجوز رفع اليد عن اليقين والشك بعد ظهور الأدلة في كون العناية
بهما، وأنه لا ينبغي رفع اليد عن اليقين الذي هو حجة مبرمة بالشك الذي هو غير حجة
وغير مبرم، ولا ينافي موضوعيتهما كون الاستصحاب ناظرا إلى ترتيب آثار الواقع
ومعتبرا لأجل التحفظ عليه، كما هو كذلك في باب أداء الشهادة (2)، فإن العلم مع كونه
تمام الموضوع له يعتبر لأجل التحفظ على الواقع، وذلك لأن أخذ اليقين موضوعا إنما هو
جهة تعليلية لحفظ الواقع، من غير تقيد بإصابته، أو تركيب بينها وبين الواقع في
الموضوعية، أو كون الواقع تمام الموضوع.

1 - تقدم تخريجه في صفحة 78.
2 - انظر الوسائل 18: 250 / 1 - 3 باب 20 من أبواب الشهادات.
80

إشكال جريان الاستصحاب
في مؤديات الأمارات وجوابه
فتحصل مما ذكرنا: أن اليقين والشك مأخوذان فيه على جهة الموضوعية، لكن
اخذ اليقين بما أنه طريق وكاشف، وأيضا قد عرفت (1) في ذيل الصحيحة الأولى أن
صحة نسبة عدم نقض اليقين بالشك إنما هي في اليقين بما أنه كاشف عن الواقع.
فحينئذ: يقع الإشكال الذي أورده المحقق الخراساني - في التنبيه الثاني في باب
مؤديات الطرق والأمارات، سواء في الأحكام أو في الموضوعات - وهو أن الاستصحاب
متقوم باليقين، والأمارات مطلقا لا تفيد اليقين، فينسد باب الاستصحاب في جل
الأحكام الوضعية والتكليفية وكثير من الموضوعات (2).
والشيخ العلامة الأنصاري والمحقق الخراساني رحمهما الله في فسحة من هذا
الإشكال، لعدم كون اليقين معتبرا عندهما في موضوع الاستصحاب، لكن قد عرفت (3)
الإشكال في مبناهما.
وأما على المبنى المنصور فيمكن أن يجاب عنه: بأن الظاهر من الأدلة بمناسبة
الحكم والموضوع هو أن الشك باعتبار عدم حجيته وإحرازه للواقع لا ينقض اليقين
الذي هو حجة ومحرز له، فإنه لا ينبغي أن ترفع اليد عن الحجة بغير الحجة.

1 - تقدم في صفحة 32 و 33.
2 - كفاية الأصول: 460.
3 - تقدم في صفحة 80.
81

وبعبارة أخرى: أن العرف لأجل مناسبة الحكم والموضوع يلغي الخصوصية،
ويحكم بأن الموضوع في الاستصحاب هو الحجة في مقابل اللا حجة، فيلحق الظن
المعتبر باليقين، والظن الغير المعتبر بالشك.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية: (لأ نك كنت على يقين
من طهارتك ثم شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) (1) الظاهر
منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، ولا بد أن تحمل الطهارة على الواقعية منها، لعدم
جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهرية لما ذكرنا سابقا (2).
ومعلوم: أن العلم الوجداني بالطهارة الواقعية مما لا يمكن عادة، بل العلم إنما
يحصل بالأمارات، كأصالة الصحة، وإخبار ذي اليد، وأمثالهما، فيرجع مفاده إلى أنه
لا ترفع اليد عن الحجة القائمة بالطهارة بالشك.
بل يمكن أن يؤيد بصحيحته الأولى أيضا، فإن اليقين الوجداني بالوضوء
الصحيح أيضا مما لا يمكن عادة، بل الغالب وقوع الشك في الصحة بعده، ويحكم
بصحته بقاعدة الفراغ، بل الشك في طهارة ماء الوضوء يوجب الشك فيه، فاليقين
بالوضوء أيضا لا يكون يقينا وجدانيا غالبا تأمل.
ويؤيده أيضا بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد
بعض الأمارات، كما دل على جواز الشهادة والحلف مع الاستصحاب في الغائب
المنقطع خبره إذا وصل [خبر] موته بعد ثلاثين سنة، وشك في إحداث الحدث في أمواله،
وحدوث وارث جديد له، وكلف القاضي الشهود ليشهدوا بأن أمواله له، ووراثه

1 - علل الشرائع: 361 / 1، التهذيب 1: 321 / 1335، الاستبصار 1: 183 / 641، الوسائل 2: 1053 / 1 - الباب
37 من أبواب النجاسات.
2 - وذلك في صفحة 61 - 63 من هذا الكتاب، حيث أفاد قدس سره بأن الجمع بين إرادة الطهارة الواقعية والظاهرية
مستحيل، للأدلة المذكورة فراجع، ويأتي تفصيل البحث في صفحة 221.
82

منحصرون في الموجودين (1)، فلولا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما جازت
الشهادة بأن أمواله له، لامتناع حصول اليقين الوجداني بأن المال ما له، فجريان
الاستصحاب في مفاد الأمارات وبعض الأصول - كأصالة الصحة - مما لا مانع منه.
وأما ما ادعاه بعض أعاظم العصر: من توسعة اليقين إلى الأعم من الوجداني
وما هو بمنزلته (2) - بناء على مسلكه من قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي،
لحكومة أدلتها على دليله (3) - فقد عرفت في مبحث القطع ما فيه، من أن الأمارات
المتداولة المعتبرة في الشريعة أمارات عقلائية أمضاها الشارع لا تأسيسية، وليس بناء
العقلاء في العمل على طبق الأمارات لأجل تنزيلها منزلة القطع، بل هي أمارات
مستقلة معمول بها، كان القطع أو لم يكن.
نعم: مع وجود القطع في مورد لا يبقى محل للعمل بالأمارة (4).
وبالجملة: لا دليل في باب حجية الأمارات يكون حاكما على دليل
الاستصحاب، ويجعل اليقين أعم من الوجداني وغيره، وهذا واضح جدا.
التنبيه الثاني
في أقسام استصحاب الكلي
المتيقن السابق إذا كان كليا في ضمن فرده وشك في بقائه: فإما أن يكون الشك
من جهة الشك في بقاء ذلك الفرد، وإما أن يكون من جهة الشك في تعيين الفرد وتردده
بين ما هو باق جزما وبين ما هو مرتفع كذلك، وإما من جهة الشك في تحقق فرد آخر
مع الجزم بارتفاع الفرد المتحقق.

1 - انظر الكافي 7: 387 / 4، التهذيب 6: 262 / 698، الوسائل 18: 246 / 2 - باب 18 من أبواب الشهادات.
2 - فوائد الأصول 4: 403 و 404.
3 - نفس المصدر 3: 24 و 25.
4 - انظر أنوار الهداية 1: 105 - 108.
83

القسم الأول من استصحاب الكلي
أما الأول: فلا إشكال في جريان استصحاب الكلي والفرد فيه وترتيب آثار كل
منهما عليه، كما أنه لا إشكال في أن جريان استصحاب الكلي لا يغني عن استصحاب
الفرد، لأن بقاء الكلي يستلزم عقلا كونه في ضمن هذا الفرد، لانحصاره به فرضا.
وهل يغني استصحاب الفرد عن الكلي (1) أم لا (2) أو يفصل بين ما إذا كان
الكلي بنحو صرف الوجود، وبين ما إذا كان بنحو الوجود الساري، لأن الكلي اعتبر في
النحو الثاني متحدا مع الأفراد، فجريانه في الفرد يغني عنه، لأنه متحد معه، لا مستلزم
إياه (3)!!
والتحقيق: عدم إغنائه عنه مطلقا، لأن حيثية الكلي غير حيثية الخصوصيات
الفردية في عالم الاعتبار ومقام تعلق الأحكام بالموضوعات، فاعتبار إيجاب إكرام كل
انسان غير اعتبار إيجاب إكرام زيد وعمرو، فإن الحكم قد تعلق في الأول بحيثية إنسانية
كل فرد، وهي غير الخصوصيات الفردية عرفا، فاسراء الحكم من أحد المتحدين في
الوجود والمختلفين في الحيثية بالاستصحاب لا يمكن إلا بالأصل المثبت.
القسم الثاني من استصحاب الكلي
وأما الثاني: فالأقوى جريان استصحاب الكلي فيه أيضا، لأن المعتبر فيه هو
وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا، وهو حاصل، لأنه مع العلم بوجود فرد من

1 - حاشية الآخوندي على الرسائل: 202 سطر 12.
2 - نهاية الأفكار 4: 122.
3 - انظر هامش درر الفوائد: 533.
84

الحيوان يعلم بوجود الحيوان، ومع الشك في كونه طويل العمر يشك في بقاء عين
الحيوان المتيقن، فما هو مشكوك البقاء عين ما هو متيقن الحدوث.
لا يقال: إن المتيقن السابق مردد بين الحيوانين، والكلي متكثر الوجود في
الخارج، فالبق غير الفيل وجودا وحيثية، حتى إن حيوانية البق أيضا غير حيوانية الفيل
على ما هو التحقيق في باب الكلي الطبيعي (1) وما هو مشكوك البقاء ليس هذا المتيقن
المردد بينهما، فلا تتحد القضيتان (2).
فإنه يقال: إنما يرد ذلك - بعد تسليم كون الطبيعي مع الأفراد كذلك عرفا -
لو أردنا استصحاب الفرد المردد، دون ما إذا أردنا استصحاب الكلي، فإن المعلوم هو
حيوان خارجي متشخص يكون الكلي موجودا بوجوده، ويشك في بقاء ذاك الحيوان
بعينه، فلا إشكال في جريان الأصل فيه.
لكن الانصاف: أنه لو اغمض النظر عن وحدتهما عرفا، فلا يمكن التخلص من
الإشكال، سواء أريد إجراء استصحاب الكلي المعرى واقعا عن الخصوصية،
أو استصحاب الكلي المتشخص بإحدى الخصوصيتين، أو الكلي الخارجي مع قطع
النظر عن الخصوصية، بدعوى أن الموجود الخارجي له جهتان: جهة مشتركة بينه وبين
غيره من نوعه أو جنسه في الخارج، وجهة مميزة، والعلم بوجود أحد الفردين موجب
لعلم تفصيلي بجهة مشتركة خارجية بينهما، وذلك لاختلال ركني الاستصحاب أو
أحدهما على جميع التقادير:
أما على التقدير الأول: فللعلم بعدم وجود الكلي المعرى واقعا عن الخصوصية،

1 - انظر رسائل ابن سينا 1: 466 و 467، الشفاء: 208 - قسم الإلهيات، الأسفار 1: 273، 274 و 2: 7 و 8،
درر الفوائد للآملي 1: 312، تهذيب الأصول 1: 278، مناهج الوصول 2: 72 و 77.
2 - انظر نهاية النهاية 2: 193.
85

لامتناع وجوده كذلك، فيختل ركناه.
وأما على الثاني: فلأن ذلك عين العلم الاجمالي بوجود أحدهما، لأن الكلي
المتشخص بكل خصوصية يغاير المتشخص بالخصوصية الأخرى، فتكون القضية
المتيقنة العلم الاجمالي بوجود أحدهما، وقضية اعتبار وحدتها مع المشكوك فيها أن
يشك في بقاء المعلوم بالإجمال، وفي المقام لا يكون الشك في بقاء المعلوم بالإجمال، بل
يعلم في الزمان الثاني إجمالا، إما ببقاء الطويل، أو ارتفاع القصير، وإنما يكون الشك في
البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم، طويل العمر كان أو قصيره، فاختل الركن الثاني منه.
وأما على التقدير الثالث: فلأن الجهة المشتركة بما هي مشتركة غير موجودة في
الخارج إلا على رأي الرجل الهمداني الذي يلزم منه مفاسد كما حقق في محله (1)، وعلى
المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين، فكما لا علم تفصيلي بإحدى
الخصوصيتين، لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين، لامتناع حصول العلم التفصيلي إلا مع
وحدة الطبيعة المعلومة، فحينئذ يأتي فيه الإشكال المتقدم (2). فالتخلص عن الإشكال
هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيتين عرفا، وهي المعتبرة في الاستصحاب، والدليل على
عرفية القضية ما ترى من عدم قبول النفوس خلافها إلا بالبرهان، وحكم أهل العرف
قاطبة ببقاء النوع الإنساني وسائر الأنواع من بدو الخلقة إلى انقراضها، واشتهار القول
بأن المهملة توجد بوجود ما، وتنعدم بعدم جميع الأفراد (3)، وغيرها مما هي من لوازم قول
الهمداني.
لا يقال: يرد على هذا الاستصحاب ما يرد على استصحاب بقاء النهار في الشبهة
المفهومية: من أن النهار ينتهي إلى سقوط قرص الشمس، أو يبقى إلى زوال الحمرة، لأن

1 - انظر صفحة 85.
2 - تقدم في صفحة 85.
3 - انظر شرح المطالع: 138 سطر 23، الجوهر النضيد: 55.
86

الاستصحاب غير جار فيه، لعدم الشك في الخارج، لأن سقوط القرص معلوم، وعدم
زوال الحمرة معلوم أيضا، فالأمر دائر بين المعلومين، وإنما الشك في انطباق مفهوم
النهار على احدى القطعتين (1)، وكذا الحال فيما نحن فيه لدوران الأمر بين المقطوعين،
لأن الحيوان الخارجي إما باق قطعا، أو مرتفع كذلك، فلا شك في الخارج، وإنما الشك
في انطباق عنوان الفيل أو البق عليه.
فإنه يقال: قياس ما نحن فيه على الشبهة المفهومية مع الفارق، لأن الشك في
الشبهة المفهومية ليس إلا في المعنى اللغوي أو العرفي، أي يشك في أن لفظ " النهار "
موضوع إلى هذا الحد أو ذلك، وهو ليس مجرى الاستصحاب، بخلاف ما نحن فيه، فإن
الشك إنما هو في بقاء الحيوان الخارجي، ومنشأ الشك إنما هو الشك في طول عمره
وقصره، ومثل ذلك لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه إلا من جهة الشك في
المقتضي، وقد فرغنا من جريانه فيه (2).
وأما الإشكال من جهة أن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث
الفرد الطويل المنفي بالأصل (3) فواضح الفساد.
الجواب عن الشبهة العبائية
ثم إنه لا إشكال في أنه لا يترتب على استصحاب الكلي أثر الفرد ولا أثر غيره
من لوازمه وملزوماته، ضرورة أن بقاء الكلي مستلزم عقلا لوجود الفرد الطويل، وهذا هو

1 - انظر نهاية الأفكار 4: 154، حقائق الأصول 2: 458.
2 - تقدم في صفحة 32 وما بعدها.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 371 سطر 14، وقد ذكره الشيخ بعنوان التوهم وأجاب عنه فراجع. نعم، قد بنى عليه
السيد اليزدي في حاشيته على المكاسب: 73 سطر 11.
87

الجواب عن الشبهة العبائية المعروفة (1)، فإنه مع تطهير أحد طرفي الثوب لا يجري
استصحاب الفرد المردد، ولكن جريان استصحاب النجاسة وإن كان مما لا مانع منه،
لأن وجود النجاسة في الثوب كان متيقنا، ومع تطهير أحد طرفيه يشك في بقائه فيه،
إلا أنه لا يترتب على ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس، فإن استصحاب بقاء الكلي
أو الشخص الواقعي، لا يثبت كون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلا بالأصل المثبت،
لأن ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلا.
وليس لأحد أن يقول: إنه بعد استصحاب نجاسة الثوب تكون الملاقاة معها
وجدانية، لأن ما هو وجداني هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس، واستصحاب بقاء
النجاسة بالنحو الكلي وكذا استصحاب النجس الذي كان في الثوب، أي الشخص
الواقعي لا يثبت أن الملاقاة مع الثوب بجميع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلا بالاستلزام
العقلي، وفرق واضح بين استصحاب نجاسة طرف معين من الثوب، وبين استصحاب
نجاسة فيه بنحو غير معين، فإن ملاقاة الطرف المعين المستصحب النجاسة ملاقاة
للنجس المستصحب وجدانا، فإذا حكم الشارع بأن هذا المعين نجس ينسلك في كبرى
شرعية هي: " أن ملاقي النجس نجس " وأما كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقاة للنجس
الكلي أو الواقعي فيكون بالاستلزام العقلي.
ألا ترى أنه لو وجب عليه إكرام عالم، وكان في البيت شخصان يعلم كون
أحدهما عالما، فخرج أحدهما من البيت، وبقي الآخر يجري استصحاب بقاء العالم في
البيت، ويترتب عليه أثره لو كان له أثر، لكن لا يثبت كون الشخص الموجود عالما ليكون
إكرامه عملا بالتكليف، بخلاف ما لو كان زيد عالما وشك في بقاء علمه، فإن
استصحاب كونه عالما يكفي في كون إكرامه مسقطا للتكليف، كما أنه لو شك في زوال

1 - وهي للمحقق السيد إسماعيل الصدر رحمه الله كما في نهاية الأفكار 4: 130.
88

النجاسة المعلومة بالإجمال، بأن يشك في أن الثوب الذي علم كون أحد طرفيه نجسا هل
غسل أم لا؟ يجري استصحاب الكلي، ولا يثبت كون ملاقي جميع أطرافه نجسا، لما
عرفت.
لكن هاهنا استصحاب آخر: هو استصحاب الفرد المردد، وأثره نجاسة ملاقي
جميع الأطراف، فإن التعبد بنجاسة هذا الطرف أو هذا الطرف بنحو الفرد المردد يكون
أثره نجاسة ملاقي الطرفين من غير شبهة المثبتية، فهو كاستصحاب نجاسة الطرف
المعين من حيث إن ملاقيه محكوم بالنجاسة، والفرق بينه وبين استصحاب الكلي
واضح، فإن استصحاب أصل النجاسة في الثوب لا يثبت أن هذا الطرف أو هذا الطرف
نجس، وكذا استصحاب الشخص الواقعي، وأما استصحاب الفرد المردد فهو
كالمعين، فلا إشكال في جريانه وترتيب أثر النجاسة على ملاقيه (1).
وما يقال: من أن الفرد المردد لا وجود له حتى يجري الاستصحاب فيه (2)، ليس
بشئ، ضرورة جواز التعبد به وترتيب الأثر عليه كالواجب التخييري، لكنه محل
إشكال، والقياس بالواجب التخييري مع الفارق، لأن الواجب التخييري نحو وجوب
على نعت التخيير، ولا يكون له واقع معين عند الله مجهول عندنا، بخلاف ما نحن فيه،
فإن النجس له واقع معين ومجهول عندنا، فالمعلوم هو النجس الواقعي المعين، فيجري
الاستصحاب فيه، لا في الفرد المردد، ولازمه عدم نجاسة ملاقي الأطراف، ولا بأس به.
اللهم إلا أن يقال في المثال: إني عالم بأن الشارع حكم بنجاسة هذا الطرف المعين
أو ذاك، والملاقي لهما ملاق لمستصحب النجاسة وجدانا، وهذا هو الفارق بينه وبين

1 - ويؤيد ما ذكرنا ما قاله المحققون في كتاب الوديعة: إنه لو قال عندي ثوب لفلان ومات، ولم يكن في تركته إلا ثوب
واحد، وشك الورثة في بقاء الوديعة عنده، لا يحكم بكون الثوب وديعة، فإن استصحاب بقاء الوديعة لا يثبت كون
الثوب وديعة [منه قدس سره] انظر مفتاح الكرامة 6: 22 سطر 22.
2 - نهاية الدراية 3: 71 سطر 5، حاشية المحقق الأصفهاني على المكاسب 1: 32 سطر 12.
89

الشبهة العبائية المدفوعة بما تقدم (1) فتدبر.
وأما ما ادعاه بعض أعاظم العصر رحمه الله في مقام الجواب عن الشبهة العبائية:
من منع جريان استصحاب الكلي فيما إذا كان الترديد في محل المتيقن لا في نفسه، كما لو
علم بوجود حيوان في الدار، وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو الغربي منها، ثم
انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان، أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة، وتردد
محلها بين الطرف الأسفل والأعلى، ثم طهر طرفها الأسفل، فلا يجري
الاستصحاب، ولا يكون من الاستصحاب الكلي، لأن المتيقن أمر جزئي حقيقي لا
ترديد فيه، وإنما الترديد في المحل، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد
فردي الترديد، وليس من الاستصحاب الكلي، ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية
المشهورة (2).
ففيه ما لا يخفى: فإن استصحاب الفرد المردد عبارة عن استصحابه على ما هو
عليه من الترديد، وهو غير جار في المقام، وليس المقام شبيها به، بل المراد بالاستصحاب
في المقام هو استصحاب بقاء الحيوان في الدار من غير تعيين محله، وكذا استصحاب
بقاء النجاسة في الثوب من غير تعيين كونها في هذا الطرف أو ذاك، ومن غير إرادة
الجريان في الفرد المردد، ضرورة أنه مع تطهير الطرف الأسفل من الثوب ينقطع الترديد،
ولا مجال لاستصحاب المردد، بل ما يراد استصحابه هو بقاء الحيوان في الدار والنجاسة
في العباء، وهذا استصحاب الكلي، وكون الحيوان الخاص فردا جزئيا حقيقيا لا ينافي
استصحاب الكلي كما لا يخفى، كما أن استصحاب الشخص الخاص والجزئي الحقيقي
- كاستصحاب بقاء زيد في الدار، وبقاء النجاسة المتحققة الخارجية الجزئية في الثوب -

1 - تقدم في صفحة 87 و 88.
2 - انظر فوائد الأصول 4: 421 و 422.
90

مما لا إشكال فيه، فإنه استصحاب الفرد المشكوك فيه، ولا شباهة له باستصحاب الفرد
المردد، فسبيل الجواب عن مثل الشبهة العبائية هو ما عرفت (1).
القسم الثالث من استصحاب الكلي
وأما الثالث: وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال قيام فرد آخر مقام
الفرد المعلوم ارتفاعه فيتصور على وجهين:
أحدهما: ما إذا كان منشأ الشك احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم، بحيث
احتمل اجتماعها في الوجود.
وثانيهما: ما إذا كان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارنا لزوال الفرد المعلوم، سواء
كان الفرد الآخر من الجواهر أو الاعراض، فإذا احتمل مقارنة فرد من السواد في جسم
مع الفرد الآخر في جسم آخر علم زواله، فهو من القسم الأول، وإذا احتمل حدوث فرد
منه مقارنا لزوال ذلك الفرد، فهو من القسم الثاني، كما أنه إذا احتمل تبدل الفرد الزائل
بفرد آخر مباين له في الوجود، فهو من القسم الثاني أيضا.
وأما احتمال تبدل مرتبة من العرض - الذي فيه عرض عريض ونقص وكمال -
بمرتبة أخرى، فهو ليس من القسم الثالث رأسا، لأن شخصية الفرد وهويته باقية في
جميع المراتب عقلا وعرفا، فالحمرة الشديدة إذا صارت ضعيفة ليس تبدلها من الكمال
إلى النقص تبدل فرد بفرد آخر، أما عقلا فواضح عند أهله (2).
وأما عرفا فلأن المراتب عندهم في أمثالها من قبيل الحالات والشؤون للشئ،
فشدة الحمرة وضعفها من حالات نفس الحمرة مع بقائها ذاتا وتشخصا، فالاستصحاب
في مثلها من القسم الأول لا الثالث.

1 - تقدم في صفحة 87 و 88.
2 - الأسفار 1: 427 وما بعدها.
91

نعم: فيما إذا علم بوجوب شئ وقطع بزواله، واحتمل تبدله بالاستحباب يكون
من القسم الثالث، لأنه من قبيل تبدل فرد من الطلب بفرد آخر مغاير له عرفا وعقلا.
ومما ذكرنا يتضح: أن استثناء الشيخ الأنصاري من عدم جريان الاستصحاب في
القسم الثاني من القسم الثالث ما يكون من قبيل السواد الضعيف والشديد (1) من
الاستثناء المنقطع، كما أن التفصيل بين القسمين المتقدمين الذي اختاره (2) مما لا وجه له،
لأن مقارنة الفرد لفرد آخر وعدمها لا دخل لهما في بقاء الكلي وعدمه، كما لا يخفى.
ثم إنه قد يقال: بعدم جريان الاستصحاب فيه، لأن العلم بوجود الفرد في الخارج
إنما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن الفرد الخاص، لا العلم بوجود الكلي،
والحصة الموجودة في ضمن الفرد الخاص تغاير الحصة الأخرى في ضمن فرد آخر، ولذا
قيل (3): نسبة الكلي إلى الأفراد نسبة الآباء المتعددين إلى الأبناء (4).
ولا يخفى: أن هذا ناش من عدم تعقل الكلي الطبيعي وكيفية وجوده، وعدم
الوصول إلى مغزى مراد القوم من أن نسبة الكلي إلى الأفراد نسبة الآباء، ضرورة أن الكلي
الطبيعي لدى المحققين موجود بتمام ذاته مع كل فرد من الأفراد، فكل فرد في الخارج
بتمام هويته عين الكلي، لا أنه حصة منه، ولا تعقل الحصص للكلي، فزيد انسان،
لا نصف انسان، أو جزء انسان، أو حصة منه، فلا معنى للحصة أصلا.
وبالجملة: هذا الإشكال بمكان من الضعف يغني تصور الكلي عن رده،
والعجب أن بعض أعاظم العصر ادعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلي (5)، مع كونه ضروري الفساد.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 17.
2 - نفس المصدر: 372 سطر 14.
3 - رسائل ابن سينا 1: 466، منظومة السبزواري: 99 - قسم الحكمة، وانظر صفحة 85.
4 - فوائد الأصول 4: 424 - 425.
5 - نفس المصدر 4: 424.
92

وأما ما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله: من تعدد الطبيعي بتعدد الفرد، وأن
الكلي في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر، ولذا اختار عدم الجريان مطلقا (1)، فهو حق
في باب الكلي الطبيعي عقلا كما حقق في محله (2)، لكن جريانه لا يتوقف على الوحدة
العقلية، بل الميزان وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا، ولا إشكال في اختلاف
الكليات بالنسبة إلى أفرادها لدى العرف.
وتوضيحه: أن الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته، كزيد وعمرو
بالنسبة إلى الانسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب، كزيد وحمار بالنسبة إلى
الحيوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسط أو البعيد، وقد تلاحظ بالنسبة
إلى الكلي العرضي، كأفراد الكيفيات والكميات التي هي مشتركة في العروض على
المحل.
ولا يخفى: أن الأفراد بالنسبة إلى الكليات مختلفة عرفا، فإذا شك في بقاء نوع
الانسان إلى ألف سنة يكون الشك في البقاء عرفا مع تبدل الأفراد، لكن العرف يرى بقاء
النوع مع تبدل أفراده، وقد يكون الجنس بالنسبة إلى أفراد الأنواع كذلك، وقد لا يساعد
[عليه نظر] العرف، كأفراد الانسان والحمار بالنسبة إلى الحيوان، فإن العرف لا يرى
الانسان من جنس الحيوان، وقد لا يساعد في أفراد الأجناس البعيدة، وقد يساعد.
وبالجملة: الميزان وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها عرفا، ولا ضابط
لذلك.
ولا يبعد أن يقال: إن الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد وعدم
الحكم في بعضها: أنه قد يكون المصداق المعلوم أمرا معلوما بالتفصيل أو بالإجمال، لكن
بحيث يتوجه ذهن العرف إلى الخصوصيات الشخصية، ولو بنحو الإشارة، ففي مثله

1 - انظر كفاية الأصول: 462 و 463، حاشية الآخوند على الرسائل: 203 سطر 8.
2 - انظر صفحة 85.
93

لا يجري الاستصحاب، لعدم كون المتيقن الكلي المشترك.
وقد يكون المعلوم على نحو يتوجه العرف إلى القدر الجامع، ولا يتوجه إلى
الخصوصيات، كما إذا علم أن في البيت حيوانات مختلفة، واحتمل وجود مصاديق اخر
من نوعها أو جنسها، ففي مثله يكون موضوع القضية هو الحيوان المشترك، وبعد العلم
بفقد المقدار المتيقن، واحتمال بقاء الحيوان بوجودات اخر يصدق البقاء، ففي مثل
الحيوان المردد بين الطويل والقصير في القسم الثاني لعله كذلك، لأجل توجه النفس
بواسطة التردد إلى نفس الطبيعة المشتركة بزعمه، فيصدق البقاء.
وأما ما في ظاهر كلام الشيخ الأعظم وصريح بعض الأعاظم: من أن الفرق بين
القسم الثاني والثالث أن في الثالث لا يحتمل بقاء عين ما كان، دون الثاني، لاحتمال
بقاء عين ما كان موجودا (1)، فخلط بين احتمال بقاء ما هو المتيقن بما أنه متيقن الذي
هو معتبر في الاستصحاب، وبين احتمال بقاء الحيوان المحتمل الحدوث، ففي الآن
الثاني وإن احتمل بقاء ما هو حادث، لكن هو احتمال بقاء ما هو محتمل الحدوث لا
معلومه.
نعم: لو أضيف الحدوث والبقاء إلى نفس الطبيعة بلا إضافة إلى الخصوصيات
يكون الشك في بقاء المتيقن في كلا المقامين، إلا أن يتشبث بحكم العرف بنحو ما
ذكرنا آنفا، والمسألة محتاجة إلى مزيد تأمل، لعدم الخلو من الخدشة والإشكال
والنقض.
وبما ذكرنا: يجمع بين ما قلناه مرارا من أن كثرة الانسان بكثرة الأفراد عرفية كما
هي عقلية (2)، وبين ما قلناه من جريان الاستصحاب في القسم الثاني وفي بعض موارد
القسم الثالث، وعليك بالتأمل التام في موارد الجريان وعدمه.

1 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 13، فوائد الأصول 4: 425، نهاية الأفكار 4: 135.
2 - انظر صفحة 91.
94

تذييل
حول أصالة عدم التذكية
إنا وإن استقصينا البحث في مبحث البراءة في أصالة عدم التذكية التي تمسك
بها الأعلام في نجاسة الحيوان الذي شك في تذكيته وحرمة لحمه (1)، لكن لما بقي بعض
الفوائد المهمة التي لا بد من تحقيقها، فلا محيص عن التعرض لها تبعا للشيخ قدس
سره (2).
فنقول: قد ذكرنا سابقا أن الشبهة إما حكمية أو موضوعية، والحكمية: إما أن
تكون لأجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية لأجل الشبهة المفهومية، كما لو شك في
صدق مفهوم الكلب على حيوان، أو لأمر آخر، كالشك في قابلية المتولد من الحيوانين،
وإما أن تكون للشك في شرطية شئ للتذكية، أو مانعية شئ عنها، كالجلل أو غير ذلك.
وللشبهة الموضوعية أقسام، كالشك في كون حيوان كلبا أو غنما لأجل الشبهة
الخارجية، أو الشك في تحقق التذكية، أو كون لحم مأخوذا مما هو معلوم التذكية،
أو معلوم عدمها، إلى غير ذلك (3).
وقلنا: إن التذكية بحسب التصور يمكن أن تكون أمرا بسيطا متحصلا من
الأمور الخمسة أو منتزعا منها، ويمكن أن تكون مركبا خارجيا، بمعنى كون نفس الأمور
الخمسة أو الستة هي التذكية، ويمكن أن تكون مركبا تقييديا أو غير ذلك (4).
فحينئذ: إذا شك في التذكية لأجل الشك في قابلية الحيوان لها، فهل تجري أصالة
عدم القابلية وتحرز الموضوع أم لا؟

1 - أنوار الهداية 2: 97 وما بعدها.
2 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 372 سطر 23.
3 - أنوار الهداية 2: 98.
4 - نفس المصدر 2: 99.
95

قد يقال: بجريانها، لأن القابلية من العوارض التي تعرض الحيوان في الوجود
الخارجي، وليست من عوارض الماهية أو لوازمها قبل تحققها، فيمكن أن يشار إلى
الحيوان الموجود بأن هذا الحيوان قبل وجوده لم يكن قابلا للتذكية، وبعد تلبسه بالوجود
شك في صيرورته قابلا لها، فيستصحب عدمها، وكذا الحال في المرأة التي يشك في
قرشيتها، وكذا سائر الأعدام الأزلية مما يكون الحكم لموضوع مفروض الوجود. هذا
محصل ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (1).
تحقيق القضايا السالبة
والتحقيق: عدم جريان الأصل المذكور، وتوضيحه يحتاج إلى تحقيق القضايا
السلبية من جهتين:
إحداهما: ما مر سالفا (2) في الفرق بين القضايا الموجبة والسالبة والمعدولة، من أن

1 - انظر درر الفوائد: 219 و 220 حاشية المؤلف قدس سره، والظاهر أن ما نقله الإمام قدس سره هنا من أستاذه إنما تلقاه
منه شفاها.
شيخنا العلامة: وهو الإمام الفقيه رئيس الطائفة الشيخ عبد الكريم ابن المولى محمد جعفر المهرجردي اليزدي
الحائري، الزعيم الديني الكبير مؤسس الحوزة العلمية والجامعة الإسلامية بمدينة قم المقدسة، ولد في مهرجرد من قرى
يزد سنة 1276 ه‍، تلقى علومه عن مشاهير علماء عصره كالإمام السيد محمد حسن الشيرازي، والميرزا محمد تقي
الشيرازي، والشيخ محمد كاظم الخراساني، والسيد محمد الفشاركي، والفقيه الشهيد الشيخ فضل الله النوري وغيرهم،
كما أخذ عنه جملة من أساطين المذهب ومراجع الدين وجهابذة الزمان، وفي طليعتهم آية الله العظمى الإمام السيد
روح الله الخميني، وآية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني، وآية الله العظمى السيد شهاب الدين النجفي
المرعشي، وآية الله العظمى الشيخ محمد علي الأراكي رحمة الله عليهم، خلف آثارا علمية قيمة منها: درر الفوائد، كتاب
الصلاة، تقريرات أستاذه الإمام الفشاركي، توفي ليلة السبت 17 ذي القعدة سنة 1355 ه‍. انظر نقباء البشر 3:
1158 / 1692، أعيان الشيعة 8: 42، ريحانة الأدب 1: 66.
2 - في مباحث أوضاع الحروف وفي العام والخاص، هذا وقد عدل الإمام قدس سره عما كان قد اختاره في أنوار الهداية 2:
101 وما بعدها من ثبوت النسبة في مطلق القضايا، ذاهبا إلى التفصيل بين الحملية المؤولة وغيرها، كما هو في المتن وفي
مناهج الوصول 1: 86 وما بعدها و 2: 259 وما بعدها ولا حظ تهذيب الأصول 1: 22 وما بعدها و 2: 24. وقد
أشار قدس سره إلى هذا العدول في هامش أنوار الهداية 2: 101 فلاحظ.
96

القضية الموجبة المركبة تكون حاكية عن موضوع ومحمول ونسبة منتزعة من حصول
المحمول للموضوع، ولها نحو تحقق ولو بتبع الطرفين، وكذا المعدولة المحمول حاكية عن
موضوع محقق، ومحمول له نحو تحقق، كالأعدام والملكات، ولنسبته إلى الموضوع نحو
تحقق في خصوص المركبات منها.
وفي حكم القضية المعدولة القضية الموجبة السالبة المحمول كقولنا: " زيد
هو الذي ليس له القيام " مما لوحظ فيها اتصاف الموضوع بالمحمول، الذي هو قضية
سالبة تحصيلية، وكذا السالبة المحصلة بسلب المحمول فقط، لا الأعم منه ومن سلب
الموضوع، ولا بسلب الموضوع.
هذا كله في القضايا الحملية المؤولة كقولنا: " زيد على السطح " أو " له القيام ".
وأما الحمليات الغير المؤولة الحاكيات عن الهوهوية فلا نسبة فيها، ولا كونا رابطا،
لا واقعا وفي نفس الأمر، لعدم إمكان النسبة والربط بين الشئ وما هو هو، ولا في القضية
المعقولة والملفوظة، لكونهما حاكيتين عن الواقع، منطبقتين عليه طابق النعل بالنعل، كما
حققنا ذلك في مباحث الألفاظ فراجع.
وأما القضية السالبة البسيطة المحصلة، سواء كانت بنحو الهلية البسيطة ك‍ " زيد
ليس بموجود " أو المركبة السالبة بسلب الموضوع ك‍ " العنقاء ليس بأبيض " فليس
لموضوعها ومحمولها ونسبتها تحقق أصلا، أي لا تحكي القضية عن موضوع ومحمول
ونسبة، بل يدرك العقل بطلان الموضوع ولا شيئيته بتبع صورة إدراكية موجودة في
الذهن، فيحكم ببطلانه أو ببطلان اتصافه بشئ بحسب الواقع، من غير أن يكون كشف
عن واقع محقق، وسيأتي بيان مناط الصدق والكذب في القضايا (1).
ثانيتهما: أن النسبة السلبية ليست نسبة برأسها مقابلة للنسبة الإيجابية، كما عليه

1 - يأتي في صفحة 100.
97

المتأخرون من أهل النظر (1)، لأن حرف السلب آلة لسلب المحمول عن الموضوع،
لا لنسبة إليه، فمفاد السوالب ليس إلا سلب المحمول عن الموضوع، وحرف السلب
ليس إلا آلة لسلبه عنه، فإذا لوحظ الواقع يرى أنه ليس بين المحمول والموضوع نسبة،
أي لا يكون المحمول حاصلا للموضوع، فلا نسبة بينهما، فإنها منتزعة من حصوله له.
والقضية المعقولة أيضا تتعقل على نعت الخارج، أي يكون مفادها سلب الربط
بينهما، لا ربط السلب، ولا ربط هو السلب، وكذا مفاد القضية الملفوظة، فالقضية
السلبية لا تشتمل على النسبة رأسا، كما أنه في الواقع ليس بين الموضوع والمحمول ربط
ونسبة، فالقضية السالبة مفادها سلب الربط، وإلا فإن كان مفادها ربط السلب تصير
معدولة، وإن كان مفادها الربط بينهما بالنسبة السلبية، أي يكون السلب هو الربط
يخرج حرف السلب عما هو عليه من كونه آلة لسلب المحمول عن الموضوع، مع أن لازم
ذلك، أي الانتساب السلبي اتصاف الموضوع والمحمول بالسلب، فيكون مفاد القضية
معنونية الموضوع بسلب المحمول عنه، ومعنونية المحمول بسلبه عنه، فتصير القضية
السالبة مشتملة على نسبة إيجابية، مع أنه خلاف الضرورة وخلاف الواقع الذي تكون
القضية كاشفة عنه.
مع أن القضية موجبة كانت أو سالبة لا بد وأن تكون حاكية عن نفس الأمر،
كاشفة عن الواقع، فإذا لم يكن في الواقع ونفس الأمر ربط ونسبة بين الموضوع
والمحمول فلا بد وأن تكون القضية حاكية عن سلب الربط والنسبة، ولا معنى لاشتمالها
على ربط حتى يقال: إن النسبة السلبية نسبة أيضا.
فإن قلت: لازم ما ذكرت عدم ورود الإيجاب والسلب على شئ واحد، لأن لازمه
ورود السلب على النسبة الإيجابية، فمفاد القضية الموجبة إثبات المحمول للموضوع،

1 - انظر الأسفار 1: 367، الجوهر النضيد: 40، شرح المقاصد للتفتازاني 1: 388.
98

ومفاد القضية السالبة قطع هذه النسبة، فالإثبات يرد على المحمول، والسلب على
النسبة، وهو كما ترى.
وأيضا لازم ذلك خلو القضية عن النسبة، مع أنها متقومة بها، ولا تكون القضية
قابلة للصدق والكذب إلا بالنسبة.
قلت: أما ما ذكرت من عدم ورود الإيجاب والسلب على شئ واحد، وورود
السلب على النسبة الإيجابية، فممنوع جدا، لما عرفت من أن مفاد القضية الموجبة
المؤولة إثبات المحمول للموضوع أولا وبالذات، ولازمه الإخبار بتحقق النسبة بينهما.
وإن شئت قلت: إثبات المحمول للموضوع ملحوظ باللحاظ الاسمي، وتحقق
النسبة بينهما ملحوظ باللحاظ الحرفي. وكذا في القضية السالبة يكون سلب المحمول
عن الموضوع أولا وبالذات، ولازمه قطع الربط، والإخبار عن سلب النسبة بينهما،
لا إثبات النسبة التي هي العدم، ولا نسبة الشئ العدمي، فإنهما خلاف الضرورة
والوجدان، مع أن العدم ليس بشئ حتى يقع به الربط بين الشيئين ويخبر المتكلم
به.
نعم: يمكن لحاظ العدم بتبع الوجود والإخبار عنه، لكن ليس مفاد القضية
السالبة كون العدم ربطا، أو الموضوع متصفا به، وهو عنوان له.
وبالجملة: ليس معنى وقوع السلب على الربط أن مفاد القضية أولا وبالذات هو
سلب النسبة، حتى تكون النسبة ملحوظة بالمعنى الاسمي، بل المراد منه أن حرف
السلب يسلب المحمول عن الموضوع، ولازمه سلب الانتساب وقطع الربط، كل ذلك
بحسب مقام الإخبار والإثبات، فلا يلزم أن يكون الربط موردا للسلب حتى يكون
الاعتبار في القضية السالبة مخالفا للقضية الموجبة، بل مفاد القضية السالبة
نفي المحمول عن الموضوع، كما أن مفاد القضية الموجبة ثبوته له.
99

ومما ذكرنا يتضح: أنه لا يلزم في القضية السالبة لحاظ ثبوت المحمول للموضوع،
ثم سلبه عنه.
نعم: لا بد من لحاظ المحمول والموضوع في سلبه عنه، كما في إثباته له.
وأما لزوم خلو القضية عن النسبة، فليس بتال فاسد، فإن القضية على التحقيق
لا تتقوم بالنسبة، وما يقال في مقام الفرق بين الإخبار والإنشاء: من أن الإخبار ما يكون
لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه (1) فكلام مسامحي معلوم البطلان، حتى في كثير من
القضايا الموجبة فضلا عن السوالب كالهليات البسيطة، فإنه في قولنا: " زيد موجود "
أو " الوجود موجود " أو " زيد زيد " لا يمكن أن يكون للنسبة خارج، للزوم تحقق الماهية
في قبال الوجود، ولزوم توسط النسبة بين الشئ ونفسه، وكذا في الحمليات الغير المؤولة
التي يكون مفادها الهوهوية، وفي القضايا السالبة مطلقا لا تكون نسبة، ولا للنسبة خارج
بالضرورة، لما عرفت من أن مفادها قطع النسبة وسلب الربط، فما اشتهر بينهم: من
أن القضية متقومة بالنسبة (2)، مما لا أصل له، وإن وقع في كلام أهل التحقيق والنظر
لا بد وأن يحمل على قسم من الهليات المركبة الموجبة، فالقضية قول مفاده إما الهوهوية،
أو ثبوت شئ لشئ، أو سلبه عنه، وذلك في بعض الهليات المركبة، أو ثبوت الشئ
وسلبه، وهو في البسائط، ومناط قابليتها للصدق والكذب هو هذا الإثبات والسلب،
فنفس تصور الموضوع أو المحمول أو النسبة أو سلبها لا يوجب صيرورة القضية
قضية، وأما التصديق بأن هذا هذا أو ليس بهذا [فهو] موجب لتحقق القضية المعقولة،
واللفظ الحاكي عنه الدال عليه هو القضية اللفظية، وقد عرفت كيفية حكايتها عن
الواقع (3).

1 - انظر شرح المنظومة: 54 - قسم الحكمة، المطول: 30 سطر 15، وقوانين الأصول 1: 419 سطر 13.
2 - نفس المصادر المتقدمة، وانظر شرح المطالع: 113 سطر 23، وشرح الشمسية: 68 و 69.
3 - انظر مناهج الوصول 1: 87 و 88.
100

بيان مناط الصدق والكذب في القضايا
إن قلت: فما المناط في صدق القضايا وكذبها إذا لم تكن للسالبة نسبة وواقعية؟
وهل الصدق إلا المطابقة للواقع، والكذب عدمها؟!
قلت: نعم الصدق هو المطابقة للواقع والكذب عدمها، لكن لا يلزم منه أن
تكون للكواذب واقعية، وللأعلام حقائق، ولا لقطع النسبة الواقعية حكاية عن واقع
محقق في الخارج.
وتوضيحه: أن الواقع عبارة عن نظام الوجود ذهنا وخارجا، بحيث لا تشذ عنه
حقيقة من الحقائق وموجود من الموجودات، فإذا أخبر ب‍ " أن زيدا قائم " فإما أن يكون
مطابقا لصفحة الكون ونظام الوجود فهو صدق، وإلا فلا، وإذا قيل: " شريك البارئ
ليس بموجود " يكون مطابقا للواقع، لأن صفحة الكون خالية عنه، والإخبار مطابق له،
وإذا قيل: " إنه موجود " يكون مخالفا للواقع، لأن صفحة الكون وصحيفة الوجود
خاليتان عنه، وقد أخبر بوجوده، فلا بد لتشخيص الصدق والكذب من مقايسة الخبر
لصفحة الوجود ونظام الكون، من مبدأ الوجود إلى منتهاه، ذهنا وخارجا، فكل إخبار
يكون مطابقا لصفحة الكون وصحيفة الوجود، بأن يكون الإخبار عن تحقق شئ موجود
فيها، أو عدم شئ معدوم فيها يكون صدقا مطابقا للواقع، وإلا فلا، حتى أن مثل
قولنا: " الانسان حيوان ناطق " الحاكي عن ذاتيات الماهية يكون مناط صدقه مطابقته
لنظام الوجود ذهنا أو خارجا، فإن الانسان في تقرره الذهني وتحققه الخارجي حيوان
ناطق، وما ليس بموجود مطلقا ليس بشئ حتى يثبت له لازم أو جزء، ولا يمكن أن يخبر
عنه مطلقا، وما أخبر عنه يكون له نحو تحقق ولو ذهنا.
فتحصل مما ذكرنا: أنه ليس مناط الصدق في القضايا السالبة مطابقتها للواقع،
101

بمعنى أن يكون في الواقع شئ مطابق لها، بل المناط هو ما ذكرنا، وقد تكون القضية
الموجبة في حكم القضية السالبة لخصوصية في محمولها، كقولنا: " زيد معدوم " و " شريك
البارئ ممتنع " أو " باطل " فإنها ترجع إلى السوالب، ويكون حكمها حكمها، فقولنا:
" شريك البارئ ممتنع " في قوة " شريك البارئ ليس بموجود بالضرورة ".
إذا عرفت ما ذكرنا: يتضح لك عدم جريان استصحاب عدم قابلية الحيوان فيما
إذا شك في قابليته للتذكية، واستصحاب عدم القرشية فيما إذا شك فيها، فإن الموضوع
لعدم ورود التذكية على الحيوان هو الحيوان الغير القابل [لها] بنحو الإيجاب العدولي،
أو الحيوان المسلوب عنه القابلية بنحو السالبة المحصلة مع فرض وجود الموضوع، وكون
السلب بسلب المحمول أو الموجبة السالبة المحمول.
وأما السلب التحصيلي الأعم من السلب بسلب الموضوع، فليس موضوعا
للحكم، فإن عدم كون الحيوان قابلا [لها] صادق في حال معدوميته، لكنه ليس
موضوعا لحكم بالضرورة، فموضوع الحكم لا يخلو من أحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة.
وكذا الحال في المرأة التي شك في قرشيتها، فإن من ليست بقرشية - بنحو السلب
التحصيلي الأعم من سلب الموضوع - ليست موضوعة للحكم بالحيضية.
فحينئذ نقول: إن الحيوان قبل تحققه لا يمكن أن يتصف بشئ، سواء كان معنى
عدميا أو وجوديا، لما عرفت (1) من أن القضية السالبة لا تكشف عن حيثية واقعية، وهي
سلب محض لا اتصاف بالسلب، ولا يمكن أن يكون السلب نعتا للمعدوم، لأن
المعدوم لا شيئية له حتى يتصف بشئ، فأصالة عدم القرشية والقابلية - كأصالة عدم كون
المرأة الموجودة قرشية، والحيوان الموجود قابلا للتذكية - مما لا أصل لها، لأن الشئ
قبل وجوده لا يتصف بشئ وجودي أو عدمي، ولا يسلب منه بنحو السالبة المحققة

1 - تقدمت الإشارة لذلك في مباحث الألفاظ، وفي صفحة 96 و 97 من هذا الكتاب أيضا.
102

الموضوع شئ، بل هذا الحيوان وهذه المراة قبل وجودهما ليسا بشئ وليس ذاتهما
ذاتهما إلا في عالم التخيل ووعاء الوهم، فالقضية المتيقنة والمشكوك فيها ليست بواحدة،
ومع فرض وحدتهما لا يكون الموضوع عدم الحيوان قابلا بالسلب التحصيلي الأعم من
سلب الموضوع كما عرفت (1).
وأصالة عدم الحيوان قابلا بالسلب التحصيلي الأعم لا تثبت كون هذا الحيوان
غير قابل، ولا هو الذي لا يكون قابلا بنحو الاتصاف بالسلب، وهذا واضح، بل
ولا هذا الحيوان ليس بقابل بنحو السلب التحصيلي مع فرض وجود الموضوع، لإن
السلب التحصيلي أعم، والموضوع للحكم أخص منه، والأعم في حال الوجود وإن كان
منحصرا مصداقه بالأخص، لكن إثبات الأخص من استصحاب الأعم مثبت.
لا يقال: يمكن أن يكون الموضوع مركبا من وجود الحيوان وعدم قابليته بنحو
العدم المحمولي لا الرابط، فيكون من الموضوعات المركبة المحرزة بالوجدان والأصل،
فيقال: هذا الحيوان موجود بالوجدان، وعدم قابليته - بنحو العدم المحمولي - محرزة
بالاستصحاب.
فإنه يقال: - مضافا إلى أنه مجرد فرض لا واقعية له - إن العدم بهذا المعنى لا يعقل
أن يكون جزءا للموضوع، فإنه بطلان صرف ولا شيئية محضة، ولا يمكن تعقله إلا بالحمل
الأولي، وما كان حاله كذلك لا يمكن أن يجعل موضوعا أو يؤخذ فيه، فموضوع رؤية الدم
إلى خمسين سنة لا يمكن أن يكون المراة الموجودة مع عدم محض يعبر عنه بعدم القرشية
عدما محموليا، فلا بد وأن يكون السالبة المحصلة المحققة الموضوع، لا نفس السلب بما
أنه سلب، ولا الأعم من سلب الموضوع، لأنه يؤدي إلى اعتبار المتناقضين في موضوع
الحكم، فإن اعتبار وجود المرأة وعدم قرشيتها - الأعم من سلب الموضوع -

1 - تقدم في صفحة 102 بقوله قدس سره: وأما السلب التحصيلي الأعم...
103

اعتبار النقيضين.
ثم إن ما ذكرنا من عدم جريان أصالة عدم القابلية إنما يصح فيما إذا قلنا: بأن
القابلية كالقرشية من الحيثيات الواقعية التكوينية، وأما إذا قلنا بأنها من الأحكام
الوضعية الجعلية، فيمكن إجراء أصالة عدم جعل القابلية للحيوان، فإذا شك في قابلية
الذئب للتذكية تجري أصالة عدم جعل الشارع القابلية لهذا العنوان بنحو القضية
الحقيقية، فيحرز عدم قابليته.
ثم إن أصل عدم القابلية على فرض جريانه يغني عن أصل عدم التذكية،
ويكون حاكما عليه وإن قلنا بأن التذكية أمر بسيط محصل من الأمور الستة، لأنه على
هذا الفرض تكون محصلية الأمور الستة ومسببيتها لها شرعية، فيكون الترتب شرعيا،
ولا إشكال في أن الآثار الشرعية تترتب على المحصلات بالتعبد بوجود محصلاتها،
ويحكم بعدم الترتب مع التعبد بعدم المحصلات من غير شائبة المثبتية فتأمل (1).
هذا كله حال أصالة عدم القابلية، ومع عدم جريانها لا بد من التمسك في حرمة
لحم الحيوان ونجاسته بأصالة عدم التذكية.
حال أصالة عدم التذكية
فنقول: ما ذكرنا من الاعتبارات في عدم القابلية تأتي في عدم التذكية مع شئ
زائد، فإن عنوان المذكى - المأخوذ في موضوع الحلية والطهارة، أو الطهارة فقط - إنما هو
أمر وجودي، هو إزهاق الروح بكيفية خاصة، أي فري الأوداج الأربعة، متوجها إلى
القبلة، ذاكرا عليه اسم الله، مع كون الذابح مسلما، وآلة الذبح حديدا.

1 - يأتي وجهه في باب الأصول المثبتة [منه قدس سره].
104

ومقابل هذا العنوان الذي هو موضوع الحرمة والنجاسة يمكن أن يكون عنوانا
وجوديا، هو زهوق الروح بكيفية أخرى غير الكيفية المأخوذة في التذكية، أية كيفية
كانت.
ويمكن أن يكون عنوانا إيجابيا بنحو الإيجاب العدولي، أو الموجبة السالبة
المحمول، أو سلبيا بنحو السالبة المحصلة الأعم من سلب الموضوع، أو السالبة بسلب
المحمول.
ويمكن أن يكون مركبا من زهوق الروح، وعدم تحقق الكيفية الخاصة بنحو
العدم المحمولي.
هذا بحسب التصور، لكن بعض الفروض باطلة، ككون الموضوع عدم التذكية،
أو عدم الزهوق بنحو السالبة المحصلة ولو بسلب الموضوع، ضرورة أن هذا الأمر
السلبي لا يمكن أن يكون موضوعا للحكم ولو في حال وجود الحيوان، فالموضوع
للحرمة والنجاسة هو الحيوان المتحقق الذي زهقت روحه بلا كيفية خاصة، لا سلب
زهوق الروح بكيفية خاصة ولو بسلب تحقق الحيوان، أو السلب الصادق على الحيوان
في حال حياته، فالمذكى ومقابله هو الحيوان الذي زهقت روحه إما بكيفية خاصة،
فيكون موضوعا للحكم بالطهارة والحلية، أو بغيرها فيحكم بالنجاسة وعدم الحلية،
فعدم تذكية الحيوان أو عدم كون الحيوان مذكى - أي هذا العنوان السلبي بما أنه عنوان
سلبي - ليس موضوعا لحكم، لا الحرمة والنجاسة، ولا عدم الحلية وعدم الطهارة.
نعم: ليست له الحلية والطهارة بنحو الليس الأزلي والقضية السالبة الموضوع،
ومعلوم أن هذا ليس بحكم، بل عدم حكم وتشريع، وقد عرفت حال العدم المحمولي
بنحو جزء الموضوع في احتمالات أصالة عدم القابلية، فلا محيص إلا أن يكون الموضوع
للحرمة والنجاسة هو الحيوان الذي زهقت روحه.
105

فحينئذ: إما أن يعتبر عدم الكيفية الخاصة بنحو الإيجاب العدولي، أي زهوق
بغير الكيفية الخاصة، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول، أي زهوق متصف بأنه لم يكن
بالكيفية الخاصة، أو السالبة المحصلة بسلب المحمول مع فرض وجود الموضوع، وهذه
الاحتمالات مع كونها معقولة معتبرة عند العقلاء - على إشكال في الأخير تعرضنا له في
العام والخاص (1) - يمكن تنزيل الآيات والأخبار على واحد منها.
فحينئذ نقول: إن أصالة عدم التذكية غير جارية مطلقا.
أما إذا كان الموضوع زهوق الروح بكيفية وجودية أخرى، أو بنحو الإيجاب
العدولي، أو الموجبة السالبة المحمول فواضح، ضرورة أن أصالة عدم زهوق الروح
بالكيفية الخاصة لا تثبت العنوان الثبوتي، ولا الاتصاف بأمر سلبي، أو بسلب المحمول
عنه، فإن كل ذلك عناوين يكون إثباتها للموضوع من اللوازم العقلية لأصالة عدم
التذكية.
وأما إذا كان عدم التذكية زهوق الروح مسلوبا عنه الكيفية الخاصة بنحو السالبة
المحصلة بسلب المحمول، فلأن نفس هذا العنوان - أي الزهوق مع سلب الكيفية
الخاصة بسلب المحمول، مع فرض وجود الموضوع - لم يكن له حالة سابقة، وعدم
الزهوق بكيفية خاصة بنحو السلب التحصيلي الأعم من سلب الموضوع، أو عنوان
السلب المحمولي ليس موضوعا للحكم، بل الموضوع هو الزهوق المفروض الوجود
بلا كيفية خاصة، واستصحاب عدم الزهوق بالكيفية الخاصة لا يثبت أن الزهوق
المتحقق ليس بالكيفية الخاصة.
وبالجملة: أن الحيوان في حال حياته ليس مذكى، وكذا ما يقابله، أي الموضوع
الذي تعلقت به النجاسة والحرمة، وإن صدق عليه أنه ليس بمذكى ولو بسلب

1 - انظر مناهج الوصول 2: 265.
106

الموضوع الذي هو زهوق الروح، ولكن هذا الأمر السلبي ليس موضوعا للحكم، لا في
حال حياته، ولا بعد زهوق روحه، بل الموضوع هو زهوق روحه بلا كيفية خاصة بنحو
سلب المحمول، وعدم زهوق الروح بالكيفية الخاصة وإن كان صادقا عليه حال الحياة
وبعد الموت، لكن لا يثبت به زهوق الروح بلا كيفية خاصة بنحو السلب عن الموضوع
المفروض الوجود إلا بالأصل المثبت.
ومما ذكرنا: يتضح النظر في كلمات كثير من الأعاظم، منهم الشيخ الأعظم (قدس سره)،
حيث يظهر منه التفصيل بين ما إذا رتبت الأحكام على مجرد عدم التذكية بنحو
السالبة المحصلة، وبين كونها بنحو الموجبة السالبة المحمول (1).
ومنهم: المحقق الخراساني رحمه الله، حيث يظهر منه في " تعليقته " الفرق بين
كون المذكى ومقابله من قبيل الضدين، أو من قبيل العدم والملكة، فذهب إلى أن أصالة
عدم التذكية جارية حينئذ، وموجبة للحكم بأن الحيوان غير مذكى، فيكون من قبيل
الموضوعات المركبة أو المقيدة المشكوك في جزئها أو قيدها، فيحرز بالأصل (2).
كلام المولى الهمداني وجوابه
ومنهم: المولى الهمداني في " مصباحه " و " تعليقته " حيث فصل بين الآثار التي
رتبت على عدم كون اللحم مذكى، كعدم الحلية، وعدم جواز الصلاة فيه، وعدم
طهارته من الأحكام العدمية المنتزعة من الوجوديات، التي تكون التذكية شرطا في
ثبوتها فيقال: الأصل عدم تعلق التذكية بهذا اللحم الذي زهقت روحه، فلا يحل أكله،
ولا الصلاة فيه، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة، وبين الآثار المترتبة على كونه غير

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 373 سطر 6.
2 - حاشية الآخوند على الرسائل: 203 و 204.
107

مذكى، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات، كحرمة أكله ونجاسته وتنجيس
ملاقيه وغيرها من الأحكام المعلقة على عنوان الميتة أو غير المذكى (1).
وقال في خلال كلامه في تقريب مدعاه: إن ما يظهر من الشيخ أيضا هو أن الحلية
وسائر الأحكام الوجودية - مما تكون مترتبة على سبب حادث - تصير منتفية بانتفاء
سببها، فالموت المقرون بالشرائط أمر مركب سبب للأحكام، وهو أمر حادث مسبوق
بالعدم، فأصالة عدمه مما يترتب عليها عدم الحلية والطهارة، فعدم حلية اللحم من الذي
زهقت روحه من آثار عدم حدوث ما يؤثر في حليته بعد الموت، لا من آثار كون الموت
فاقدا للشرائط، حتى لا يمكن إحرازه بالأصل (2)، انتهى بتوضيح وتلخيص منا.
وفيه مغالطة خفية، لأن سلب الموت المقرون بالشرائط، الأعم من سلب الحيوان
وسلب الموت وسلب الاقتران بالشرائط، لازمه سلب حلية اللحم وطهارته، الأعم من
سلب اللحم - كما في حال عدم الحيوان، بل في حال حياته، لأن اللحم غير الحيوان -
ومن سلب الحلية والطهارة عنه، وهذا سلب بنحو السلب المحمولي، ولازمه العقلي سلب
الرابط في حال تحقق اللحم، أي بعد زهوق روح الحيوان، فأصالة عدم سبب
حلية اللحم لا تثبت أن اللحم ليس بحلال إلا بالأصل المثبت، لأن لازم أصالة عدم
سبب الحلية، أي عدم الموت المقرون بالشرائط انتفاء حلية لحم الحيوان، الأعم من
انتفاء الحيوان واللحم، وإذا استمر هذا العدم الأزلي إلى زمان وجود اللحم يكون لازمه
صدق السالبة المحصلة بسلب المحمول، وهو لازم عقلي.
هذا مضافا إلى إمكان منع كون الطهارة والحلية وجواز الصلاة في شئ من
الأحكام المجعولة المسببة عن زهوق الروح بالكيفية الخاصة، بل المجعول المحتاج إلى
السبب هو النجاسة والحرمة ومانعية الميتة من الصلاة في أجزائها، على إشكال في حلية

1 - انظر مصباح الفقيه 1: 653 سطر 20، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 91 سطر 28.
2 - انظر مصباح الفقيه 1: 654 سطر 13، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 91 سطر 22.
108

الأكل.
ألا ترى أن الحيوان القابل للتذكية حين حياته يكون طاهرا بلا إشكال، وتجوز
الصلاة معه لو فرض حمله بل لبسه، ولا دليل على عدم حلية أكله من جهة كونه غير
مذكى، بل الحرمة لو كانت فهي من جهة كونه مما لا يؤكل ومن الخبائث، مع أن الموت
المقرون بالشرائط مسلوب منه.
ومن هنا قد يقوى في النظر أن التذكية ليست سببا للطهارة وحلية الأكل وجواز
الصلاة فيه، بل إنما هي دافعة لما هو سبب للنجاسة والحرمة وعدم جواز الصلاة فيه،
كما تشهد له الأدلة المتفرقة في أبواب النجاسات (1) وموانع الصلاة (2).
وبالجملة: ليست التذكية سببا للطهارة والحلية وجواز الصلاة، بل عدم التذكية
المساوق لكون الحيوان ميتة - أي زهوق الروح بخصوصية مغايرة للخصوصيات
المعهودة - سبب لمقابلاتها، فأصالة عدم سبب الطهارة والحلية وجواز الصلاة مما لا
أصل لها.
بل لنا أن نقول: إنه على فرض كون تلك الأحكام مجعولة مسببة عن سبب، يمكن
إجراء أصالة بقاء جامع السبب المؤثر في الطهارة وحلية الأكل وجواز الصلاة فيه تأمل.
ومنهم: بعض أعاظم العصر رحمه الله (3)، وقد مر في مباحث البراءة كلامه وما يرد
عليه (4).
هذا حال الشبهات الحكمية من جهة الشك في القابلية، ولا يهمنا التعرض
لسائر الشبهات الحكمية، لوضوح حكمها غالبا.

1 - انظر مثلا: الكافي 3: 398 / 6 و 407 / 16 و 6: 259 / 7، التهذيب 2: 358 / 1483، الوسائل 2: 1050 / 4 -
باب 34 و 1080 / 2 - باب 61 من أبواب النجاسات.
2 - انظر مثلا: الكافي 3: 397 / 1 و 3، التهذيب 2: 203 / 797 و 209 / 818، الوسائل 3: 250 / 1 و 251 / 2 -
باب 2 من أبواب لباس المصلي.
3 - فوائد الأصول 3: 382.
4 - مر في أنوار الهداية 2: 107 و 108 فلاحظ.
109

حكم الشبهات الموضوعية
وأما الشبهات الموضوعية فلها صورة كثيرة، يرد على جميعها الشبهة السيالة التي
مر ذكرها (1)، واختص بعضها بشبهة زائدة.
فمنها: الشك في تذكية حيوان من جهة الشك في حصول ما هو المعتبر في
التذكية، كفري الأوداج وغيره، وهذه هي الصورة التي جرت فيها أصالة عدم التذكية،
ولا شبهة فيها إلا الشبهة المتقدمة السيالة (2).
ومنها: أن يكون الشك في جزء من الحيوان بأنه من معلوم التذكية، أو معلوم
عدمها، فجريان أصالة الحل والطهارة في الجزء مما لا مانع منه - بناء على كون التذكية
وعدمها من صفات الحيوان، لا من صفات الأجزاء - وتكون طهارة الأجزاء وحليتها من
آثار تذكية الحيوان لا الجزء، لأن السبب إنما يرد على الحيوان، وكذا السبب المقابل،
فتذكية الحيوان موجبة لطهارة الأجزاء وحليتها بناء على سببيتها لهما، والموت بغير
تذكية سبب لحرمتها ونجاستها، وإن كانت التذكية واردة على الحيوان وكذا عدمها.
فحينئذ: يكون الأصل بالنسبة إلى الحيوانين مما لا مجرى له، لمعلومية حالهما،
وجريان أصالة عدم التذكية بالنسبة إلى الجزء لا معنى لها لما ذكرنا، ولا أصل يحرز كون
الجزء من أي الحيوانين، وأصالة عدم تذكية ما اخذ منه الجزء لا معنى لها، لأن هذا
العنوان الانتزاعي ليس موضوعا لحكم، والحيوان الخارجي غير مشكوك فيه، فلا إشكال
في جريان أصالتي الحل والطهارة.

1 و 2 - تقدم في صفحة 106.
110

هذا من غير فرق بين كون الحيوانين أو أحدهما في محل الابتلاء، أو لا كما في
الأجزاء التي علم أنها إما مأخوذة من الحيوان المعلوم التذكية في بلاد الاسلام، أو من
الحيوان المحكوم بعدمها في بلاد الكفر، فبناء عليه لا تجري أصالة عدم التذكية في
الجلود المصنوعة التي نقلت إلينا من بلاد الكفر، وتكون مشتبهة بين الجلود التي نقلت من
بلاد المسلمين إليهم وصنعوا بها ما صنعوا وردت بضاعتهم إليهم، وبين غيرها من جلود
ذبائح الكفار، لأن الأمر دائر بين أخذها من معلوم التذكية، ومعلوم عدمها، فلا مجرى
للأصل بالنسبة إلى الحيوانين، لكونهما معلومين، وإنما الشك في أخذها من أيهما، ولا
محرز لأخذها من غير المذكى، وقد عرفت عدم إجراء الأصل بالنسبة إلى الأجزاء بناء
على كون التذكية واللا تذكية من صفات الحيوان كما لا يبعد.
نعم: لو بنينا على جريان الأصل بالنسبة إلى كل جزء فلا إشكال فيه من هذه
الجهة.
ومنها: ما لو علم أخذ الجزء من أحد الحيوانين الذين علم إجمالا بتذكية أحدهما
وعدم تذكية الآخر، وكان الحيوانان في محل الابتلاء، فحينئذ: إن قلنا بجريان الأصل في
كلا الطرفين - حيث لم يلزم منه المخالفة العملية - فأصالة عدم التذكية فيهما تحرز حرمة
الجزء، ونجاسته وعدم حلية الصلاة فيه. وإن منعنا جريانهما مطلقا، أو قلنا بتعارضهما،
فهل يكون حال الجزء كحال ملاقي بعض أطراف العلم الاجمالي، فيجري فيه أصلا
الحل والطهارة أو لا فيكون الجزء والمأخوذ منه طرفا للعلم، وأصلهما يكون معارضا
للأصل الآخر، فيكون حاله نظير إناءين مشتبهين قسم أحدهما قسمين؟
الظاهر هو الثاني، لأن التذكية وإن كانت واردة على الحيوان، لكن أثرها حلية
الحيوان وطهارته بجميع أجزائه في عرض واحد، وكذا الحال في عدم التذكية، فلا يكون
الشك في حلية الجزء وطهارته مسببا عن الشك في حلية الكل وطهارته، بل يكون
111

شكهما مسببا عن التذكية وعدمها، فيكون العلم الاجمالي بحرمة الجزء وكله أو الطرف
الآخر منجزا.
ولو كان الحيوانان خارجين عن محل الابتلاء، وقلنا بتأثير الخروج عن محل
الابتلاء في عدم منجزية العلم، وأغمضنا عن الإشكال الذي مر في باب الاشتغال (1)،
فأصالة عدم التذكية في الحيوان المأخوذ منه الجزء لا معارض لها، لأن الطرف لخروجه
عن محل الابتلاء لا يجري فيه الأصل، وأما الحيوان المأخوذ منه الجزء فيجري فيه
الأصل بلحاظ الجزء الذي هو محل الابتلاء، كما مر في باب الملاقي (2).
ولو كان أحدهما محل الابتلاء دون الآخر: فإن كان الحيوان المأخوذ منه محل
الابتلاء، فأصالة عدم التذكية فيه تحرز حرمة الجزء ونجاسته، ولا معارض لها.
وإن كان الآخر فالأصلان متعارضان، لجريانه في الخارج عن محل الابتلاء
بلحاظ جزئه الذي هو محل الابتلاء. ولكن العلم الاجمالي بحرمة هذا الجزء ونجاسته، أو
حرمة الحيوان ونجاسته منجز.
ومما ذكرنا: يتضح حال الفروض الأخرى المتصورة. هذا مقتضى الأصول من
حيث الجريان وعدمه، فيؤخذ بها إلا أن يدل دليل على خلافها.
التنبيه الثالث
استصحاب المتصرمات
ربما يقال: إن مقتضى تعريف الاستصحاب وأخبار الباب - من اعتبار الشك في
البقاء فيه - عدم جريانه في الزمان والزمانيات المتصرمة المتقضية، لعدم تصور البقاء

1 - مر في أنوار الهداية 2: 214 - 218.
2 - مر نظيره في أنوار الهداية 2: 251.
112

فيها (1) فأنكر شيخنا العلامة رحمه الله اعتبار الشك في البقاء قائلا: إن الميزان فيه هو
مفاد الأخبار، والمعتبر فيها هو صدق نقض اليقين بالشك وهو صادق في التدريجيات
وغيرها، ضرورة أنها ما لم تنقطع وجود واحد حقيقي وإن كان متصرما، فلو شك في
تحقق الحركة أو الزمان بعد العلم بتحققهما فقد شك في تحقق عين ما كان متحققا سابقا،
فلا يحتاج في التمسك بالأخبار إلى المسامحة العرفية.
نعم: لو كان المعتبر في الاستصحاب الشك في البقاء أمكن أن يقال: مثل
الزمان والزمانيات المتصرمة خارج عن العنوان المذكور، لعدم تصور البقاء لها
إلا بالمسامحة العرفية، لكن ليس هذا العنوان في الأدلة (2)، انتهى.
ويظهر ذلك من الشيخ الأنصاري أيضا حيث تفصى عن الإشكال بأحد
وجهين:
أولهما: أن التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بلحاظ صدقه في الزمانيات
وإن لم يصدق في نفس الزمان (3).
وثانيهما: أن البقاء أعم من الحقيقي كما في الزمانيات، والمسامحي كما في
الزمان، وإلا فالعبرة بالشك في وجوده العلم بتحققه قبل زمان الشك، وإن كان تحققه
بنفس تحقق زمان الشك (4).
تحقيق المقام
هذا والتحقيق: أن الشك في البقاء معتبر في الاستصحاب ومستفاد من الأدلة،
ومع ذلك لا إشكال في جريانه في الزمان والزمانيات المتصرمة.

1 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 14، فوائد الأصول 4: 434، نهاية الأفكار 4: 145.
2 - انظر درر الفوائد: 538.
3 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 24.
4 - نفس المصدر: 374 سطر 22.
113

أما استفادة اعتباره منها، فلأن مقتضى الكبرى المجعولة وهي قوله: (لا ينقض
اليقين بالشك) أن اليقين الفعلي لا ينقض بالشك الفعلي، ولازمه أن يكون هنا شك
فعلي متعلق بعين ما تعلق به اليقين الفعلي، ولا يتصور ذلك إلا بأن يكون الشك في بقاء
ما علم وجوده سابقا، فقوله: (لأ نك كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا) (1) عبارة أخرى عن الشك في بقاء الطهارة،
فكيف يقال لا يستفاد ذلك من الأخبار (2)؟!
وأما مع اعتباره يكون الاستصحاب جاريا في الزمان والحركة، فلبقاء هويتهما
الشخصية، ووجودهما الخارجي البسيط:
أما عند العقل فلما هو المقرر في محله (3) من وجود الحركة القطعية، أي الوجود
المستمر المتدرج، وإن كان نحو وجودها متصرما متقضيا، فما دام المتحرك متحركا تكون
الحركة متحققة باقية بعين شخصيته المتدرجة، ولكل موجود نحو وجود خاص به، يكون
عدمه بعدم هذا الوجود، لا الوجود الغير اللائق به فالحركة والزمان يكون نحو وجودهما
اللائق بهما هو الوجود المتصرم المتجدد، لا الوجود الثابت، فالنافي لوجود الحركة
القطعية والزمان إن نفى عنهما الوجود الثابت فقد نفى عنهما ما لا يكون وجودا لهما، وإن
نفى الوجود المتصرم المتجدد عنهما فقد التزم بما هو خلاف الضرورة، فالحركة أمر ممتد
مستمر باق بالامتداد التصرمي والبقاء التجددي والاستمرار التغيري.
وليس لأحد أن يقول: ما هو الموجود هو الحركة التوسطية لا القطعية (4)، لأن

1 - علل الشرائع: 361 / 1، التهذيب 1: 421 / 1335، الاستبصار 1: 183 / 641، الوسائل 2: 1053 / 1 - باب 37.
من أبواب النجاسات.
2 - القائل هو الشيخ المحقق الحائري كما تقدم، والمحقق العراقي على ما في نهاية الأفكار 4: 146.
3 - الأسفار 3: 22 و 32 وما بعدهما، وانظر شرح المنظومة: 257 - قسم الحكمة.
4 - الشفاء 1: 83 و 84 - قسم الطبيعيات.
114

الحركة التوسطية لو كانت موجودة - بمعنى انقطاع كل حد وآن عن سابقه ولاحقه،
ووجود الحد الآخر والآن الآخر بعده منقطعا عن الحد والآن الآخر - فلازمه إنكار الحركة
أولا، فإن تبادل الآنات لا يوجب وجود الحركة، والجزء الذي لا يتجزأ وتتالي الآنات
ثانيا، ولهذا تكون الحركة بمعنى التوسط والآن السيال مما لا وجود لهما، بل ما هو
الموجود هو الحركة القطعية والزمان، لكن نحو وجودهما يكون بالامتداد التصرمي
والاستمرار التجددي.
وأما عند العرف: فلأنهم يرون أن اليوم إذا وجد يكون باقيا إلى الليل، والليل باقيا
إلى اليوم، ولا ينافي ذلك اعتبار الساعات والحدود لهما، فلعل ارتكاز العرف يساعد
العقل في البقاء التصرمي والاستمرار التجددي.
وكيف كان: لا إشكال في صدق البقاء عرفا على استمرار النهار والليل وكذا
الحركات، فإذا تحرك شئ تكون حركته موجودة باقية عرفا إلى انقطاعها بالسكون،
ولا تكون الحركة مجموع دقائق وساعات، منضم بعضها إلى بعض وهذا مما لا إشكال
فيه، إنما الإشكال في مقامين:
أحدهما: ما أفاده الشيخ الأنصاري وتبعه غيره، من أن استصحاب بقاء النهار أو
الليل، لا يثبت كون الجزء المشكوك فيه متصفا بكونه من النهار أو من الليل، حتى
يصدق على الفعل الواقع فيه أنه واقع في الليل أو النهار، إلا على القول بالأصل المثبت
مطلقا أو على بعض الوجوه الآتية (1).
ثانيهما: أنه يعتبر في الموقتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اخذ ظرفا لامتثالها،
فيعتبر في الصيام وقوعه في الظرف المعتبر وقوعه فيه وهو شهر رمضان، وكذا الصلاة
اليومية لا بد من إحراز وقوعها في الليل أو النهار، فاستصحاب بقاء النهار أو الليل

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 374 السطر الأخير، حاشية الآخوند على الرسائل: 205 سطر 10، درر الفوائد: 541، نهاية
النهاية 2: 197.
115

أو شهر رمضان - على فرض إثبات كون هذا الزمان من الليل أو النهار أو من شهر رمضان -
لا يثبت وقوع الفعل فيه، فإن كون الفعل متقيدا بوقوعه في هذا الزمان من
اللوازم العقلية لكون الزمان من الليل أو النهار (1).
هذا ولا يخفى وهن الإشكال الثاني، فإن وقوع الفعل في هذا الزمان وجداني،
فإذا حكم الشارع بالاستصحاب أن هذا الزمان نهار لا يحتاج إلى أمر آخر إلا إتيان
الصلاة أو الصيام فيه، كما إذا شك في عالمية زيد، فيستصحب كونه عالما لوجوب إكرامه،
فإنه إذا ثبت بالاستصحاب أن هذا الشخص الخارجي عالم لا يكون إثبات وجوب إكرامه
أصلا مثبتا.
هذا مضافا إلى إمكان أن يقال: إن قوله: " يجب صوم شهر رمضان " أو " الصلاة
من دلوك الشمس إلى غسق الليل " لما كان من القضايا الحقيقية يصير مفاده: أن
كل ما وجد في الخارج وكان شهر رمضان يجب الصوم فيه، وكل ما وجد في الخارج
وكان نهارا يجب الصلاة فيه، فإذا وجد زمان في الخارج، وحكم بالاستصحاب أنه
شهر رمضان، يكون حكمه أن الصوم فيه واجب، وكذا الصلاة، فوجوب الصوم في
شهر رمضان من أحكام كون هذا الزمان شهر رمضان المحرز بالاستصحاب،
ووجوب الصلاة فيه من أحكام بقاء النهار أو الليل، كما أن وجوب إكرام هذا الشخص
الموجود من أحكام كونه عالما، وطهارة ما غسل بالماء الخارجي من أحكام كونه كرا،
ولا إشكال في عدم كون أمثال ذلك من الأصل المثبت، فالعمدة هو الجواب عن الإشكال
الأول.
ويمكن أن يجاب عنه أولا: بأن الزمان عبارة عن الهوية الخارجية المستمرة
الباقية بالبقاء التصرمي كما عرفت، فإذا علم بوجود النهار فقد علم أن هذه الهوية المستمرة

1 - انظر فوائد الأصول 4: 436.
116

متصفة بكونها نهارا، وإذا شك في بقاء النهار يكون الشك في زوال تلك الصفة عنها،
فالمعلوم في الزمان السابق كون هذه الهوية المستمرة نهارا، والمشكوك فيه هو بقاؤها
على صفة النهارية.
ولا تسمع لما قيل: من أن الزمان الحاضر حدث إما من الليل أو من
النهار، فلا يقين بكونه منهما حتى تستصحب حالته السابقة (1)، لأن ذلك مساوق
لإنكار بقاء الزمان والليل والنهار، وقد عرفت أن ما هو باق من الحركة أو الزمان
نفس ما كان متحققا سابقا، لأن الزمان أو الحركة ليسا مركبين من القطعات،
والماضي والحال والاستقبال ليست اجزاء للزمان بحسب الهوية الخارجية لا عقلا
ولا عرفا، بل التقطيع إنما هو بالوهم، فتكون هوية الزمان والحركة أمرا بسيطا
باقيا.
وثانيا: أن التعبد ببقاء النهار في الحال عبارة أخرى عن كون هذا الحال نهارا، فإن
الزمان لا يكون في الزمان حتى بنظر العرف، فإذا قيل: " تعبد بكون النهار موجودا في
الحال عند الشك في بقائه " يفهم العرف منه أن هذا الزمان الحاضر هو النهار، لا أن
النهار شئ، والزمان الحاضر شئ آخر، وليس هذا من الأصل المثبت، وليس
كاستصحاب الكلي لإثبات الفرد، لأن الكلي ليس عبارة أخرى عن الفرد في نظر
العرف، وأما كون النهار موجودا في هذا الزمان فهو عبارة أخرى عن كون الزمان الحاضر
نهارا.
وثالثا: يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي على نحو التعليق في الموضوع، بأن
يقال: لو صليت في الزمان السابق المعلوم كونه نهارا لكانت صلاتي في النهار، فشككت
في بقاء هذا الأمر، فأستصحب أن صلاتي لو وجدت تكون في النهار، فإيجادها وجداني،

1 - فوائد الأصول 4: 435، وانظر رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 19.
117

وكونها واقعة في النهار - على فرض الوجود - إنما هو بحكم الأصل. لكن جريان الأصل
التعليقي بنحو التعليق في الموضوع محل إشكال (1).
هذا حال استصحاب نفس الزمان أو ما هو مثله كالحركة.
استصحاب الزمانيات
وأما غير الحركة من الزمانيات المتصرمة المتقضية فهي على أقسام:
منها: ما يكون تصرمه وتقضيه مما لا يراه العرف، بل يكون بنظرهم ثابتا كسائر
الثابتات، كشعلة السراج التي يراها العرف باقية من أول الليل إلى آخره من غير تصرم
وتغير، مع أن الواقع خلافه، وكشعاع الشمس الواقع على الجدار الذي يرونه ثابتا غير
متغير.
ومنها: ما يرى العرف تصرمه وتغيره، لكن يكون نحو بقائه كبقاء نفس الزمان
والحركة مما يكون واحدا عقلا وعرفا، وإن كانت وحدته وبقاؤه بعين تصرمه وتقضيه،
كصوت ممتد مثل الرعد وأمثاله.
ومنها: ما تكون وحدته وبقاؤه بنحو من الاعتبار، مثل ما فرضه الشيخ الأنصاري
رحمه الله بالنسبة إلى الزمان والزمانيات مطلقا (2)، ولعل هذا الاعتبار محتاج إليه في هذا
القسم، وهو مثل التكلم وقرعات النبض والساعة.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأول منها، سواء جرى في الزمان

1 - حاصله: انه يشترط في جريان الاستصحاب وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها فإذا كان التعليق راجعا للموضوع لم
يكن في البين يقين سابق بثبوت الموضوع المعلق وبالتالي لا يقين بنفس القضية، فإذا صلى المكلف في ثوب يشك في أنه
مما لا يؤكل لحمه لم يمكنه إجراء الاستصحاب، لعدم الجزم بتحقق الصلاة سابقا فيما لا يؤكل لحمه. انظر فوائد
الأصول 4: 472.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 374 سطر 20 و 375 سطر 8.
118

والحركة أم لا.
والقسم الثاني حاله حال نفس الزمان والحركة، وقد عرفت جريانه فيهما من غير
احتياج إلى الاعتبار الذي اعتبره الشيخ الأعظم.
والقسم الثالث أسوأ حالا من الزمان والحركة، وإن كان الأقوى جريانه فيه
أيضا، لمساعدة العرف في صدق البقاء، وأن رفع اليد عنه هو نقض اليقين بالشك، وهذا
مما لا شبهة فيه، لكن الظاهر أنه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلي،
لا القسم الأول أو الثالث من الثالث كما اختاره الشيخ الأعظم (1) وتبعه بعض
الأعاظم (2)، ضرورة أن العرف يرى كل كلمة وكلام - في خطابة واحدة، أو مجلس وعظ
واحد، من التحميد والتهليل والشعر والنثر وغيرها - موجودا غير ما يلحقه، والوحدة بينها
اعتبارية حتى في نظر العرف، فمع الاشتغال بأوله يرى وجود الموجود الاعتباري
بوجه من المسامحة، لا على سبيل الحقيقة، فلم يصدق نقض اليقين بالشك بالنسبة إلى
المجموع إلا بالمسامحة والتأول.
وقد ذكرنا في محله (3): أن موضوعات الأحكام تؤخذ من العرف، لكن لا على
وجه المسامحة، بل على نحو الحقيقة والدقة العرفية، وإن لم تكن على نحو الدقة العقلية،
فصدق عدم نقض اليقين بالشك ليس إلا بالنسبة إلى ماهية الكلام والخطابة، كصدق
البقاء بالنسبة إلى نوع الانسان، وعدم نقض اليقين بالشك فيه.
ثم إن اختلاف الدواعي لا يصير موجبا لاختلاف شخصية الكلام غالبا،
لأن المتكلم المتشاغل بالكلام - كالخطيب والواعظ - قد تعرض له الدواعي المختلفة
في كلامه، مع أنه ما دام متشاغلا به تكون وحدة كلامه محفوظة عرفا، فوحدة

1 - نفس المصدر: 375 سطر 13 و 17.
2 - فوائد الأصول 4: 440 و 441.
3 - ذكر في صفحة 218 و 219.
119

الكلام وعدمها لا تتقومان بوحدة الداعي وعدمها، لا طردا ولا عكسا، كما يظهر
بالتأمل في موارده.
فما أفاده بعض أعاظم العصر: من أنه إذا شك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام
مبدأ آخر يقتضي وجوده فالأقوى عدم الجريان، لرجوعه إلى الوجه الثاني من القسم
الثالث من أقسام استصحاب الكلي، فإن وحدة الكلام عرفا إنما تكون بوحدة
الداعي (1)، ليس على إطلاقه بصحيح، لأن الميزان في وحدة الكلام هو نفس
شخصيته ووجوده، لا الدواعي الموجبة لإيجاده.
وأما القسم الثالث: وهو ما يكون الزمان قيدا لأمر مستقر فجريان الاستصحاب
فيه كجريانه في نفس الزمان إشكالا وجوابا.
ولا يخفى: أن مناط الإشكال في الأقسام الثلاثة واحد، وهو أن التقضي والتصرم
في المستصحب هل يوجب عدم جريانه أم لا؟ فكما إذا شك في بقاء النهار يكون
استصحاب النهار موردا للبحث، كذلك إذا قيد الجلوس بالنهار يكون محل البحث
ما إذا شك في بقاء النهار، وأن الجلوس المتقيد بأمر متصرم هل يجري الاستصحاب فيه
أم لا؟
وأما استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضي النهار فليس موردا للبحث
ها هنا، ومناط الإشكال فيه ليس مناطه في الزمان والزمانيات حتى يقال: إن الزمان إذا
اخذ قيدا لا يجري الاستصحاب بعده، وإذا اخذ ظرفا يجري بعده، لأن ذلك خروج عن
محط البحث ومورد النقض والإبرام، وهذا خلط واقع من الشيخ الأعظم (2)، وتبعه
غيره (3).

1 - انظر فوائد الأصول 4: 441.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 337 سطر 1.
3 - كفاية الأصول: 465 و 466، فوائد الأصول 4: 442.
120

شبهة النراقي
ومما ذكرنا يعلم: أن ذكر كلام الفاضل النراقي رحمه الله في ذيل هذا المبحث غير
مناسب، لأن إشكاله إنما هو معارضة استصحاب الوجودي بالعدمي في الأحكام بعد
مضي الزمان الذي اخذ ظرفا للواجب أو الوجوب (1)، وليست شبهة مرتبطة بالشبهة
التي في الزمان والزمانيات.
وكيف كان فمحصل إشكاله: أن استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب
العدم الأزلي في الأحكام، تكليفية كانت أو وضعية، فاستصحاب وجوب الجلوس بعد
الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المتقيد بكونه بعد الزوال، فإن عنوان
الجلوس المتقيد بما بعد الزوال من العناوين التي يمكن أن تكون مستقلة في الحكم، فهو
غير محكوم بالوجوب في الأزل، فيستصحب عدم الوجوب الأزلي، ويعارض
باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.
واشكال عدم اتصال زمان الشك باليقين مدفوع: بأنه قبل مجئ يوم الجمعة
يكون الشك واليقين حاصلين، ومتصلا أحدهما بالآخر (2)، وهذا الجواب منه مجمل أو
مخدوش.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن زمان الشك متصل باليقين بالنسبة إلى هذا

1 - مناهج الأحكام والأصول للمحقق النراقي: 239 - الفائدة الأولى سطر 3، عوائد الأيام: 71 سطر 10
والمولى النراقي: هو الإمام الشيخ المولى أحمد ابن العلامة الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي، أحد أقطاب العلم
وجهابذة المحققين، وكفاه فخرا أنه أحد أساتذة الفقيه الأعظم الأمام المرتضى الأنصاري، ولد سنة 1185 ه‍ في نراق
من قرى مدينة كاشان، وأخذ أوليات العلوم فيها، ثم هاجر إلى العراق فأخذ عن السيد محمد مهدي بحر العلوم،
والشيخ جعفر الكبير صاحب كشف الغطاء، والأستاذ الأكبر الوحيد البهبهاني وغيرهم. له مؤلفات كثيرة منها:
مناهج الأحكام والأصول، عوائد الأيام، مشكلات العلوم، ديوان شعر، معراج السعادة، توفي بنراق في 23 ربيع الثاني
سنة 1245 ه‍، وحمل إلى النجف الأشرف. انظر أعيان الشيعة: 3: 183، هدية الأحباب: 200، مستدرك الوسائل
3: 383.
2 - انظر مناهج الأحكام والأصول للمحقق النراقي: 239 سطر 9.
121

الموضوع المقيد، فإنه قبل وجود الحكم من الشارع، أو قبل بلوغ المكلف معلوم عدم
وجوبه، وبعد ورود الحكم وبلوغه صار مشكوكا فيه، حتى قبل الزوال الذي هو ظرف
وجوب نفس الجلوس.
وبعبارة أخرى: المتخلل بين زمان الشك واليقين هو العلم بوجوب الجلوس،
لا بوجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال، والمضر هو الثاني دون الأول، فإنه غير مناف
للشك بوجوب الجلوس المتقيد.
وبعبارة ثالثة: أنه قبل ورود أمر الشارع كان وجوب الجلوس قبل الزوال،
ووجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال معلوم العدم، وبعد وروده صار وجوب الجلوس
قبل الزوال معلوم التحقق، ووجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال مشكوكا فيه حتى في
ظرف العلم بوجوب الجلوس قبل الزوال، لعدم التنافي بينهما، فيستصحب وجوب
الجلوس، وعدم وجوب المتقيد، وهما متعارضان.
ثم قرر الإشكال في الأحكام الوضعية بنحو آخر (1) مذكور في رسائل الشيخ (2)،
وأجاب عنه الأعاظم بأجوبة غالبها مخدوش فيه.
جواب الشيخ عن الشبهة وما فيه
منها: ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره)، ومحصل إشكاله الأول عليه: ان الزمان
إن اخذ ظرفا للجلوس فلا يجري استصحاب العدم، لأنه إذا انقلب العدم إلى الوجود
المردد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان، وكونه أزيد، والمفروض تسليم حكم الشارع
بأن المتيقن في زمان لا بد من إبقائه، فلا وجه لاعتبار استصحاب العدم السابق.

1 - نفس المصدر: 239 سطر 19.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 376 سطر 20.
122

والحاصل: أن العدم انتقض بالوجود المطلق، وقد حكم عليه بالاستمرار
بمقتضى أدلة الاستصحاب، فلا يجري استصحاب العدم، وإن اخذ قيدا للحكم
أو المتعلق فلا يجري إلا استصحاب العدم، لأن انتقاض عدم الوجود المقيد لا يستلزم
انتقاض المطلق، والأصل عدم الانتقاض (1).
والإنصاف عدم ورود هذا الإشكال عليه، لأ ن فرض قيدية الزمان للجلوس
أو الحكم غير مذكور في كلامه، ولا يكون دخيلا في مدعاه، لأن دعواه تعارض
استصحاب الوجود بالعدم دائما، لا جريان استصحاب الوجود دائما، حتى يرد عليه أنه
قد لا يجري استصحاب الوجود، وذلك فيما إذا اخذ الزمان قيدا، وهذا نظير ادعاء أن
استصحاب المسببي محكوم لاستصحاب السببي دائما، فإن المدعى ليس جريان
الاستصحابين دائما، بل المدعى أنه على فرض الجريان يكون أحدهما محكوما.
وبالجملة: منظوره عدم جواز التمسك بالاستصحاب لإثبات الأحكام، لأنه على
فرض جريانه معارض باستصحاب العدم الأزلي الثابت لعنوان مقيد بالزمان المتأخر
عن ظرف الحكم، ففرض عدم جريان استصحاب الوجودي غير مناف
لدعواه.
وأما على فرض ظرفية الزمان، فجريان استصحاب العدم الأزلي للعنوان المتقيد
مما لا مانع منه، لأن الموضوع المتقيد غير الموضوع الغير المتقيد، فلا يكون ثبوت
الوجوب للجلوس نقضا لعدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال، لإمكان أن يكون
نفس الجلوس واجبا، والجلوس المتقيد غير واجب.
وبالجملة: عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غير الجلوس المتقيد بالزمان، فلا يكون
الحكم المتعلق نقضا للمقيد بما أنه مقيد.

1 - نفس المصدر: 377 سطر 1.
123

وأما قوله: إن المفروض تسليم حكم الشارع بأن المتيقن في زمان لا بد من
إبقائه، وجعل هذا الحكم دافعا لاستصحاب العدم الأزلي (1) فهو غريب، لإن هذا بيان
الاستصحاب الوجودي المعارض باستصحاب العدم الأزلي، فالتسليم بجريان
استصحاب الوجودي لا يوجب الحكم بتقدمه على استصحاب العدم الأزلي.
اللهم إلا أن يكون منظوره حكومة الاستصحاب الوجودي على العدمي، لكنه
خلاف ظاهر كلامه، لأن الحكومة إنما هي بعد فرض جريان المحكوم في نفسه، وهو
يدعي عدم اتصال زمان الشك باليقين في استصحاب العدم الأزلي.
وهذا مع أنه على فرض انتقاض العدم لا يجري الاستصحاب ولو مع عدم تسليم
حكم الشارع بأن المتيقن في زمان لا بد من إبقائه، فكلامه لا يخلو من خلل، بل تناقض.
جواب المحقق الخراساني ورده
ومنها: ما ذكره المحقق الخراساني رحمه الله، وحاصله بتوضيح منا: أن أدلة
الاستصحاب لا يمكن أن تعم هذين الاستصحابين، لأن الجمع بين لحاظ الزمان
قيدا وظرفا مما لا يمكن، لكمال التنافي بينهما، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد،
وهو استصحاب الثبوت فيما إذا اخذ الزمان ظرفا، واستصحاب العدم فيما إذا اخذ
قيدا (2).
وفيه: إن إطلاق دليل الاستصحاب يشملهما من غير لزوم الجمع بين اللحاظين،
لإن معنى الإطلاق ليس لحاظ الحالات الطارئة والحيثيات العارضة، والحكم عليها،
وإلا يرجع إلى العموم، بل معناه جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير تقييده

1 - نفس المصدر: 377 سطر 5.
2 - كفاية الأصول: 466 و 467، حاشية الآخوند على الرسائل: 206 سطر 3.
124

بشئ، فينطبق قهرا على الكثرات من غير لحاظها بوجه، فقوله: * (أحل الله البيع) * (1)
مطلق، معناه أن البيع تمام الموضوع للحلية والنفوذ، ولا تكون حيثية أخرى وقيد آخر
دخيلين في حليته، فإذا كان البيع تمام الموضوع، فكلما تحقق مع أية حيثية أو قيد يكون
موضوعا للحل بما أنه بيع، ومن غير دخالة قيد ولا لحاظه.
فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) يكون مطلقا بهذا المعنى، أي يكون اليقين
والشك تمام الموضوع للحكم بعدم الانتقاض، من غير لحاظ خصوصية معهما، فهو
بوحدته يشمل جميع الاستصحابات بما أنها عدم نقض اليقين بالشك، وكذا إطلاق
المادة عبارة عن كون النقض - بما أنه نقض - ملحوظا من غير لحاظ أمر آخر معه.
هذا مضافا إلى أنه لو فرض لزوم الجمع بين اللحاظين في دليل الاستصحاب لا بد
وأن لا يشمل إلا واحدا منهما دائما، لا أنه على فرض النظر فيه يشمل أحدهما، وعلى
فرض القيدية يشمل الآخر، إلا أن يكون مراده ذلك بتأويل في ظاهر كلامه، بإرجاع
القيدية أو الظرفية إلى أدلة الاستصحاب، وهو كما ترى، والحق عدم ورود هذا الإشكال
عليه رأسا.
جواب المحقق النائيني والإشكال عليه
ومنها: ما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه الله، من عدم جريان
استصحاب العدم الأزلي مطلقا، ولو لم يجر استصحاب الوجود، لأن العدم الأزلي هو
العدم المطلق، وانتقاضه إنما يكون بحدوث الحادث، وإذا ارتفع بعد الحدوث
لم يكن العدم الثاني هو العدم الأزلي، والعدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني

1 - سورة البقرة 2: 275.
125

متقوم بوجود القيد، ولا يعقل تقدمه على قيده.
فإذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا، فإذا فرض
ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذه قيدا، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون [من] العدم
الأزلي، لكونه مقيدا بما بعد الزوال، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه ب‍ " العدم
الأزلي " فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق، بل هو العدم المقيد بما بعد
الزوال، وهو متقوم بما بعد الزوال، فلا يمكن استصحابه إلا إذا آن بعد الزوال، ولم يثبت
الوجود، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.
والمفروض غير ذلك، لأن آن بعد الزوال يكون العدم مشكوكا فيه، فالعدم الأزلي
المطلق قد انتقض بالوجوب قبل الزوال، والعدم المقيد لم يكن قبل الزوال متحققا
إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.
نعم: لا مانع من استصحاب عدم جعل الوجوب للموضوع المقيد، لأن الجعل
واللا جعل أزليان، فإذا جعل الزمان قيدا يختص كل من الجلوس قبل الزوال وبعده
بجعل خاص، فيستصحب عدم جعل الوجوب للجلوس بعد الزوال، لكن عدم الجعل
ليس له أثر إلا بلحاظ المجعول، وإثبات عدم المجعول بعدم الجعل مثبت.
هذا مضافا إلى أن استصحاب البراءة الأصلية المعبر عنه ب‍ " استصحاب حال
العقل " (1) لا يجري مطلقا، لأن العدم الأصلي عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية، وهذا
المعنى بعد وجود المكلف واجتماع الشروط فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة، لأن
اللا حرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير اللا حرجية قبل وجود المكلف،
إذ الأول مستند إلى الشارع دون الثاني (2)، انتهى ملخصا.

1 - انظر على سبيل المثال المعتبر: 6 سطر 33، قوانين الأصول 2: 14 سطر 10 و 11، شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب:
453 و 454.
2 - فوائد الأصول 4: 445 و 448.
126

ولا يخفى ما فيه:
أما أولا: فلأن العدم الأزلي وإن كان هو العدم المطلق الغير المسبوق بالوجود،
لكنه يلاحظ بالنسبة إلى كل عنوان مستقلا، فوجوب الجلوس المطلق عدمه الأزلي هو
عدم وجوب الجلوس المطلق، ووجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال عدمه الأزلي هو
عدم وجوب هذا المقيد، كما أن العدم الأزلي للإنسان، هو عدم الانسان من غير تقيد
بكونه في زمان كذا أو مكان كذا، والعدم الأزلي للإنسان العالم هو عدم هذا العنوان من
غير تقييد بالقيود المذكورة.
فوجوب الجلوس بعد الزوال عدمه الأزلي بعدم هذا الوجوب المتعلق بالموضوع
المقيد بما بعد الزوال، وهذا العدم عدم مطلق للوجوب المقيد إذا كان بعد الزوال قيدا
للهيئة، وللوجوب المتعلق بالموضوع المقيد إذا كان قيدا للمادة، ولا يكون هذا العدم
منتقضا، ضرورة ان انتقاضه إنما يكون بوجوب الجلوس بعد الزوال، لا بوجوب الجلوس
المطلق، بحيث يكون الجلوس تمام الموضوع للوجوب من غير تقيده بقيد، ولا بوجوب
الجلوس قبل الزوال، ومعلوم أن عدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال - سواء كان
القيد للوجوب أو الجلوس - غير معلوم الانتقاض، فلا مانع من جريان استصحابه.
وأما ما كرره: من أن العدم المتقيد بقيد كونه بعد الزوال ليس له تحقق قبل الزوال،
فغير مرتبط بكلام الفاضل النراقي، ضرورة أن العدم ليس متقيدا بكونه بعد الزوال، بل
العدم مطلق، والوجوب أو الجلوس مقيد، والفرق بينهما أظهر من أن يخفى، والظاهر أن
منشأ اشتباهه هو هذا الخلط، وبعد ذلك نسج على منواله ما نسج.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكره - من أن الجعل المتعلق بوجوب الجلوس قبل الزوال غير
الجعل المتعلق بالوجوب بعد الزوال، لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد
الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال، وحيث إنه يشك في جعله بعده
127

فالأصل عدمه - دليل على استقلال المجعول أيضا، لأنه تابع للجعل في الوحدة والكثرة
والاستقلال وعدمه، فحينئذ كما يستصحب عدم جعل الوجوب بعد الزوال، يستصحب
عدم وجوب الجلوس بعده، فلا وجه للتفكيك بين الجعل والمجعول.
وأما ثالثا: فلأن إنكاره استصحاب عدم الوجوب الأزلي قائلا: بأن البراءة
الأصلية عبارة عن اللا حكمية واللا حرجية، وهذا المعنى قد انتقض قطعا ولو إلى
الإباحة، ليس بشئ، لأنه - مضافا إلى جواز استصحاب عدم الوجوب قبل البلوغ،
ومضافا إلى عدم العلم بانتقاض اللا وجوب الأزلي إلى الوجوب، ولو سلم انتقاض عدم
الحكم إلى الحكم، لعدم المنافاة بين انتقاض عدم الحكم بالحكم، وبين عدم انتقاض
اللا وجوب إلى الوجوب - لنا أن نمنع انتقاض اللا حرجية واللا حكمية إلى الحكم في كل
موضوع من الموضوعات، لإن بعض الموضوعات التي لا اقتضاء فيها لشئ من الأحكام
لابد وأن يبقى على اللا حرجية واللا حكمية.
ولا يلزم أن يكون لكل موضوع اقتضاء ولو للإباحة، وعدم الاقتضاء للأحكام
الأربعة لا يستلزم اقتضاء الإباحة، فيمكن أن يكون موضوع خاليا من مطلق الاقتضاء،
فيبقى على اللا حكمية الأزلية.
فدعوى القطع بانتقاض اللا حكمية واللا حرجية إلى الحكم والحرج في غير
محلها، بل دعوى القطع بخلافها ليست ببعيدة.
جواب شيخنا العلامة وما فيه
ومنها: ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مجلس بحثه، من أن
الاستصحاب الوجودي حاكم على استصحاب العدم الأزلي، لأن الشك في المقيد ناش
128

عن بقاء الوجوب السابق، وأصالة بقائه ترفع شكه، وأما أصالة عدم الوجوب للموضوع
المقيد فمضادة لحكم الأصل الوجودي ورافعيته له، للتضاد الواقع بينهما، لا لرافعيته
لشكه (1).
وفيه إشكال:
أما أولا: فلأن الشك في وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال ليس منشؤه الشك
في بقاء وجوب الجلوس الثابت قبله، بل منشؤه إما الشك في أن الوجوب المجعول هل هو
ثابت لمطلق الجلوس، أو للجلوس قبل الزوال، فليس شكه ناشئا عن البقاء، بل عن كيفية
الجعل.
وإما الشك في جعل وجوب مستقل للموضوع المتقيد بما بعد الزوال، فلا يكون
استصحاب وجوب الجلوس رافعا لشكه تأمل.
وأما ثانيا: فلأن شرط حكومة الأصل السببي على المسببي، أن يكون جريان
الأصل الحاكم موجبا لرفع الشك عن المسبب تعبدا، بمعنى أن يكون المستصحب في
الأصل المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب في الأصل السببي،
كاستصحاب كرية الماء الحاكم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به، وأما لو كان
الشك مسببا ولم يكن كذلك، فلا يكون الأصل حاكما.
ألا ترى: أن الشك في نبات لحية زيد مسبب عن الشك في حياته، ولكن
استصحاب الحياة ليس حاكما على استصحاب عدم نباتها، وما نحن فيه من هذا
القبيل، فاستصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال لا يثبت كون الجلوس المتقيد بما
بعد الزوال واجبا إلا بالأصل المثبت، بل حاله أسوأ من الأصل المثبت كما يظهر
بالتأمل.

1 - انظر هامش درر الفوائد: 543 و 544.
129

الجواب عن الشبهة
هذا والتحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال: إن من فرض معارضة
الاستصحاب الوجودي والعدمي يلزمه عدم المعارضة بينهما، لأن المعارضة
بين الأصلين إنما تتحقق إذا كان موضوع حكمهما واحدا، ويكون أحد الأصلين يقتضي
حكما منافيا للآخر.
نعم: قد تكون المعارضة بالعرض كما في أطراف العلم الاجمالي، لكن منظورنا في
المقام هو المعارضة بالذات، ولا بد فيها من وحدة الموضوع، بل سائر الوحدات التي
تتوقف عليها المعارضة.
فحينئذ نقول: إن الاستصحاب الوجودي والعدمي إما أن يكون موضوعهما
واحدا أو لا.
فعلى الأول: تقع المعارضة بينهما لو فرض جريانهما، لكن فرض وحدة الموضوع
موجب لسقوط أحدهما، لأن الموضوع إما نفس الجلوس، فلا يجري الاستصحاب
العدمي، لأن عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، فلا يكون بين
الشك واليقين اتصال، وإما الجلوس المتقيد ببعد الزوال فلا يجري الاستصحاب
الوجودي، لعدم اليقين بوجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال.
وعلى الثاني: بأن يكون مفاد أحد الأصلين ثبوت الوجوب لنفس الجلوس،
ومفاد الآخر عدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال، فلا منافاة بينهما، لإمكان
حصول القطع بأن الجلوس بعد الزوال واجب بما أنه جلوس، أي يكون نفس الجلوس
تمام الموضوع للوجوب، والجلوس المتقيد بما بعد الزوال غير واجب، بحيث يكون
الجلوس بعض الموضوع، وبعضه الآخر تقيده بكونه بعد الزوال.
130

كما أن الانسان بما أنه انسان ناطق، لا بما أنه ماش مستقيم القامة، فيصح أن
يقال: إن الانسان ليس بناطق من حيث كونه ماشيا مستقيم القامة، بل بما أنه انسان،
وفيما نحن فيه يصح أن يقال: إن الجلوس بعد الزوال واجب بما أنه جلوس، وليس
بواجب بما أنه متقيد بما بعد الزوال، ويرجع ذلك إلى أن الجلوس تمام الموضوع لا بعضه.
لا يقال: إن المطلق إذا كان واجبا يقتضي إطلاقه وجوب الجلوس في جميع
الحالات، ومنها الجلوس بعد الزوال، فيصير معارضا لعدم وجوب الجلوس بعد الزوال.
فإنه يقال: ليس معنى إطلاقه أن الجلوس بعد الزوال بما أنه جلوس بعد الزوال
واجب، بل معناه أن الجلوس بعد الزوال واجب بما أنه جلوس، فلا منافاة بين وجوب
الجلوس بعد الزوال بما أنه جلوس، وعدم وجوبه بما أنه متقيد كما هو واضح، ولقد أشار
إلى بعض ما ذكرنا شيخنا العلامة في " درره " (1) فليكن ما ذكرنا تقريرا وتوضيحا لما أفاده.
التنبيه الرابع
الاستصحاب التعليقي
هل يجري الاستصحاب التعليقي مطلقا، أو لا يجري كذلك، أو يفصل بين
التعليق في الحكم والموضوع، أو بين ما كان التعليق شرعيا وغيره؟
وجوه، يتضح الحق ببيان أمور:
الأول: ان محط البحث والنقض والإبرام في الاستصحاب التعليقي هو أن
تعليقية الحكم أو الموضوع هل توجب خللا في أركان الاستصحاب وشرائط جريانه
أم لا؟

1 - انظر درر الفوائد: 542 و 543.
131

وعلى الثاني: هل يكون الاستصحاب التعليقي مفيدا ومنتهيا إلى العمل، أو لا،
لابتلائه بالمعارضة دائما؟ فلا بد من تمحض البحث في ذلك.
وأما قضية بقاء الموضوع وعدمه، أو إرجاعه القضية التعليقية إلى القضية التنجيزية
فهي خارجة عن محط البحث ومورد النقض والإبرام، فما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه
الله من استصحاب سببية الشرط للمشروط (1) وإن كان حقا على إشكال، ويدفع به
الإشكال بوجه، لكنه خروج عن موضوع البحث، ومع ذلك لا محيص عن التعرض له تبعا
لهم.
الثاني: ان التعليقات الواقعة في لسان الشرع والقضايا المشروطة كقوله: (إذا بلغ
الماء قدر كر لا ينجسه شئ) (2) وقوله: (إذا نش العصير أو غلى حرم) (3) تحتمل ثبوتا
لأمور:
منها: جعل الحكم متعلقا بموضوعاتها على تقدير شئ، فيكون المجعول في
قوله: (إذا غلى العصير حرم) هو حرمته على تقدير الغليان، وفي قوله: (إذا بلغ الماء قدر
كر لم ينجسه شئ) هو الاعتصام على تقدير الكرية.
ومنها: جعل الحكم متعلقا بموضوع متقيد: بعنوان، فيكون المجعول فيهما هو
الحرمة المتعلقة بالعصير المغلي، والاعتصام للماء البالغ حد الكر، فيكون قوله: (إذا بلغ
الماء قدر كر لم ينجسه شئ) عبارة أخرى عن أن الكر لا ينجسه شئ، فيكون التعبير
بذلك تفننا في البيان، أو تنبيها على أن السر في نجاسة المغلي هو غليانه، وفي اعتصام
الماء هو كريته، وعلى هذا يكون الموضوع مركبا من ذات وقيد.
ومنها: جعل سببية المعلق عليه للمعلق، فيكون مفاد القضيتين أن الغليان سبب

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 15 و 23.
2 - قد تكررت هذه العبارة في الكتب الفقهية وهي مضمون عدة من الروايات، لاحظ الوسائل 1: 117، باب 9 من
أبواب الماء المطلق.
3 - الكافي 6: 419 / 4، التهذيب 9: 120 / 515، الوسائل 17: 229 / 4 - باب 3 من أبواب الأشربة المحرمة.
132

للحرمة، والكرية للاعتصام.
ومنها: جعل الملازمة بين الكرية والاعتصام، والحرمة والغليان.
كل ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت، أما الأولان فلا كلام فيهما، وأما الأخيران
فقد مر التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعية، وقلنا: إن السببية والملازمة، وأمثالهما
قابلة للجعل، وإن المنكر لإمكانه فيها خلط بين التكوين والتشريع، وبين السببية الحقيقية
التكوينية، والاعتبارية القانونية فراجع (1).
وأما بحسب مقام الإثبات والاستظهار من الأدلة، فهو خارج عما نحن بصدده،
والأدلة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات.
الثالث: أن التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرنا، وقد لا يكون في
كلامه، لكن العقل يحكم به.
مثلا: لو ورد " أن الماء البالغ حد الكر لا ينجسه شئ، وأن العصير المغلي يحرم "
يحكم العقل بأن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شئ، وأن العصير إذا غلى يحرم، لكن
ليس هذا من التعليق الشرعي، بل هو تعليق عقلي يدركه العقل من القضية المنجزة.
وهذا التعليق العقلي قد يكون في الأحكام كما عرفت، وقد يكون في
الموضوعات، كما يحكم بأن الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبار ونصفا طولا وعرضا
وعمقا فهو كر، ويحكم على الماء الناقص عن الكر بمن بأنه إذا زيد عليه من يصير كرا،
وهذا تعليق عقلي في الموضوع، كما أن ما مر تعليق عقلي في الحكم، ويمكن أن يقع
التعليق في الموضوع في كلام الشارع، ويرجع إلى التعبد بوجود موضوع الحكم على
تقدير كذائي، وترتيب آثاره عليه على فرض تحققه.
الرابع: إذا اخذ عنوان في موضوع حكم يكون ظاهرا في الفعلية، فإذا قيل: " الكر

1 - تقدم في صفحة 70 و 71.
133

معتصم " و " المستطيع يجب عليه الحج " يكون ظاهرا في أن الكر الفعلي معتصم،
والمستطيع الفعلي يجب عليه الحج وهكذا، وهذا واضح.
لكن يقع الكلام في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) (1) أن الميزان فعلية اليقين
والشك، أو فعلية المتيقن؟ فعلى الأول لا ينظر إلى المتيقن هل هو متحقق فعلا أم لا،
بخلاف الثاني.
وقد مر الكلام فيه سابقا، وقلنا: إن الحق - بحسب النظر إلى أدلة الاستصحاب،
ومناسبة الحكم والموضوع، وأن اليقين لإبرامه لا ينقض بالشك، لعدم إبرامه - ان
الموضوع هو نفس اليقين والشك بما أن اليقين طريق وكاشف، فلا يعتبر فيه إلا فعلية
الشك واليقين (2).
نعم: لا بد وأن يكون المستصحب مما يترتب على التعبد به أثر عملي، فلو فرض
أن اليقين بأمر تعليقي يترتب عليه أثر عملي لو تعبد ببقائه لجرى الاستصحاب بلا
إشكال، لفعلية الشك واليقين، وعدم اعتبار أمر آخر، سواء كان المتيقن وجوديا أم لا،
وفعليا أم لا، لعدم الدليل على كونه كذلك، فإذا تعلق اليقين بقضية تعليقية، وفرضنا أن
بقاءها في زمن الشك يكون ذا أثر شرعي - كما لو فرض أن نفس القضية موضوعة لحكم
في زمان الشك - لجرى الاستصحاب فيها بلا إشكال وريب، لفعلية اليقين والشك، وكون
المتيقن ذا أثر شرعي في زمن الشك، أو منتهيا إليه، وأما لزوم كون المتيقن وجوديا فعليا
فلا يعتبر.
إذا عرفت ما ذكرنا نقول: إن التعليق إذا ورد في دليل شرعي كما لو ورد " أن
العصير العنبي إذا غلى يحرم " ثم صار العنب زبيبا، فشك في أن عصيره أيضا يحرم إذا
غلى أو لا، فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق، لما عرفت من أن المعتبر

1 - تقدم تخريجه في صفحة 50 وفيه " لا ينقض " وصفحه 22 وفيه زيادة " ابدا ".
2 - انظر صفحة 32.
134

في الاستصحاب ليس إلا اليقين والشك الفعليين، وكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي،
أو منتهيا إليه، وكلا الشرطين حاصلان، أما فعليتهما فواضحة، وأما الأثر الشرعي، فلأن
التعبد بهذه القضية التعليقية أثره فعلية الحكم لدى حصول المعلق عليه، من غير شبهة
المثبتية، لأن التعليق إذا كان شرعيا معناه التعبد بفعلية الحكم لدى تحقق المعلق عليه،
وإذا كان الترتب بين الحكم والمعلق عليه شرعيا لا ترد شبهة المثبتية، فتحقق الغليان
وجدانا بمنزلة تحقق موضوع الحكم الشرعي وجدانا.
كلام بعض الأعاظم وما فيه
والعجب من بعض أعاظم العصر، حيث فسر الاستصحاب التعليقي بما إذا
تعلق الحكم على موضوع مركب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئيه، وتبدلت
بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر، ثم ناقض كلامه هذا بقوله: بعبارة أوضح،
ثم نسج على هذا المنوال، وأورد على الاستصحاب التعليقي:
تارة: بأن الحكم المترتب على الموضوع المركب إنما يكون وجوده وتقرره
بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط، لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة
إلى المعلول، ولا يعقل تقدم الحكم على الموضوع، فلا معنى لاستصحاب ما لا يكون
موجودا ومقررا، لأن في الاستصحاب الوجودي لا بد من وجود المستصحب، إذ لا يعقل
التعبد ببقاء وجود ما لا وجود له.
وأخرى: بأنه ليس للجزء الموجود من المركب أثر إلا إذا انضم إليه الجزء الآخر،
فليس للعصير العنبي أثر إلا إذا انضم إليه الغليان، وهذا مما لا شك فيه، فلا معنى
لاستصحابه.
135

وثالثة: بأن هذه القضية التعليقية عقلية، لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع
المركب (1).
وأنت خبير بما فيه:
أما أولا: فلأن ما هو مورد النقض والإبرام بين الأعلام في الاستصحاب التعليقي
هو ما إذا وردت قضية شرعية تعليقية، كقوله: (العصير إذا نش وغلى حرم) أي العصير
العنبي، ثم شك في بقاء الحكم عند عروض حالة على الموضوع، كصيرورة العنب زبيبا،
لا فيما إذا كان الحكم متعلقا بموضوع مركب، وكان التعليق من حكم العقل، والفرق
بينهما أظهر من الشمس، لأن الترتب بين المعلق والمعلق عليه في الأولى شرعي دون
الثانية.
وبهذا تنحل الشبهة الثالثة، لأن الترتب بينهما إذا كان شرعيا لا يكون الأصل
مثبتا، وتوهم رجوع القضية التعليقية إلى التنجيزية لبا، ورجوع الشرط إلى قيدية
الموضوع (2) فاسد إن أريد الرجوع عرفا، ضرورة أن الموضوع والحكم في التعليقية
مخالف لهما في التنجيزية، فإن الموضوع في الأولى نفس الذات، والشرط واسطة في
ثبوت الحكم للموضوع، والحكم غير فعلي، فأين إحداهما من الأخرى؟
وإن أريد الرجوع عقلا فهو - على فرض تسليمه حتى في مثل المقام - لا يفيد بعد
كون الميزان في مثل المقام هو النظر العرفي.
وأما ثانيا: فلأن ما ذكره من أن الحكم المترتب على الموضوع المركب لا وجود
له إلا بوجود جميع أجزائه، ولا يعقل التعبد بوجود ما لا وجود له، فلا معنى
لاستصحابه.
فيه: - مضافا إلى أن المفروض في المقام هو ورود القضية التعليقية كما عرفت،

1 - انظر فوائد الأصول 4: 463 - 469.
2 - انظر مطارح الأنظار: 46 سطر 26، فوائد الأصول 4: 467.
136

والحكم المعلق على شئ لا يكون عدما محضا، ضرورة تعلق الجعل به، وانه متعلق
لليقين - أنه ليس المعتبر في الاستصحاب إلا فعلية الشك واليقين، وكون المتيقن في زمن
الشك ذا أثر شرعي أو منتهيا إليه، فلو فرض تعلق اليقين على أمر معدوم يكون ذا أثر
شرعي في زمان الشك يجري الاستصحاب فيه بلا إشكال، والمفروض فيما نحن فيه أن
اليقين متعلق بقضية تعليقية شرعية، موضوعها العنب، يشك في بقائها بعد صيرورته
زبيبا، والتعبد ببقاء هذه القضية الشرعية يكون أثره الشرعي هو حرمة عصيره إذا غلى،
بل في مثل المثال حكم شرعي تعليقي يصير فعليا بتحقق ما علق عليه.
وأما ثالثا: فلأن ما ذكره من أنه لا اثر للجزء الموجود من المركب، إلا أنه لو انضم
إليه الجزء الآخر لثبت له الحكم.
ففيه: أنه يكفي في الاستصحاب كون الشئ جزءا لموضوع مركب، فإذا فرض أن
العنب المغلي كان موضوعا لحكم، وكان العنب قبل غليانه جزءا للموضوع، ويترتب
عليه الأثر لو انضم إليه الغليان، فصار زبيبا فشك في بقاء حكمه، أي كونه جزءا
للموضوع فيستصحب، تأمل.
وأما قوله: وهذا مما لا شك فيه، فلا معنى لاستصحابه (1)، فلا يخفى ما فيه من
الخلط بين العنب والزبيب فراجع كلامه.
فتحصل مما ذكرنا: أن جريان الاستصحاب التعليقي مما لا إشكال فيه.
ثم إن ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره): من إجراء أصالة بقاء سببية الغليان
للحرمة، أو أصالة بقاء الملازمة بين الغليان والحرمة (2) وإن كان خروجا عن محل
البحث، لكنه متين في ذاته لو فرض استفادة جعل السببية الشرعية أو الملازمة الشرعية،
ليكون الترتب بين السبب والمسبب، وبين أحد المتلازمين مع الآخر شرعيا، وإلا يصير

1 - فوائد الأصول 4: 467 و 468.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 15 و 23.
137

الأصل مثبتا.
لكنه مع ذلك مشكل، لأن جعل الملازمة والسببية وإن كان شرعيا لكن وجود
اللازم والمسبب عند وجود صاحبهما عقلي، فيكون مثبتا، وإرجاعهما إلى جعل اللازم
والمسبب عقيب صاحبهما إنكار للمبنى.
وأما ما أورد عليه الفاضل المتقدم على ما في تقريرات بحثه: تارة بأن السببية
والملازمة لا يعقل أن تنالهما يد الجعل، وأخرى بأن الملازمة بين العنب المغلي وبين
نجاسته وحرمته ملازمة بين تمام الموضوع والحكم، والشك في بقاء الملازمة بين تمام
الموضوع والحكم لا يعقل إلا بالشك في نسخ الملازمة، فيرجع إلى استصحاب عدم
النسخ، وهو غير الاستصحاب التعليقي (1)، فغير واردين:
أما الأول منهما: فلما عرفت في مباحث الأحكام الوضعية من أنهما قابلتان
للجعل فراجع (2).
وأما الثاني منهما: فلأن الشك ليس في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم،
ضرورة عدم الشك في حرمة العصير العنبي المغلي، وإنما الشك في العصير الزبيبي،
وليس منشؤه الشك في نسخ الحكم الأول، بل في أن العنبية هل هي واسطة في الثبوت،
أو العروض؟
وبعبارة أخرى: أن سببية الغليان للحرمة هل هي مجعولة بنحو تدور مدار العنبية
أم لا؟ وفي مثله لا يكون الشك في النسخ، ولعمري إن هذا بمكان من الوضوح،
تدبر.

1 - فوائد الأصول 4: 471 و 472.
2 - أضف إلى ذلك: أنا لو فرضنا عدم تعلق الجعل بهما مستقلا، ولكن مجعوليتهما بمنشئهما غير قابلة للإنكار، وهذا المقدار
من الجعل يكفي في جريان الاستصحاب، فلا إشكال في جريانه فيهما، لكون وضعهما ورفعهما بيد الشارع ولو تبعا
[منه قدس سره]. وانظر صفحة 70 - 75.
138

تذنيب
حال معارضة الاستصحاب التعليقي مع التنجيزي
بناء على جريان الاستصحاب التعليقي قد يقال: إنه معارض دائما باستصحاب
تنجيزي، ففي المثال المتقدم بعد عروض الغليان على العصير الزبيبي يكون استصحاب
الحرمة المعلقة على الغليان أثره الحرمة الفعلية بعد الغليان، وهو معارض باستصحاب
الحلية الثابتة للعصير قبل الغليان، لأنه إذا غلى يشك في حليته وحرمته، فيتعارض
الأصلان (1).
وأجاب عنه الشيخ الأعظم (قدس سره): بحكومة الاستصحاب التعليقي على
الاستصحاب التنجيزي (2)، ولم يذكر وجهها، ولذا وقع الكلام فيها.
فقال المحقق الخراساني رحمه الله في " تعليقته " ما محصله: إن الشك في
الإباحة بعد الغليان مسبب عن الشك في حرمته المعلقة قبله، فاستصحاب حرمته كذلك
المستلزم لنفي إباحته بعد الغليان يكون حاكما على استصحاب الحلية، والترتب وإن كان
عقليا لكن الأثر العقلي المترتب على الأعم من الحكم الواقعي والظاهري يترتب على
المستصحب، فيكون استصحاب الحرمة حاكما عليه بهذه الملاحظة.
وبالجملة: أن استصحاب الحرمة التعليقية تترتب عليه الحرمة الفعلية بعد
الغليان، وينفي الإباحة بعده، لأن نفي الإباحة لازم عقلي للحكم بالحرمة الفعلية أعم
من أن تكون واقعية أو ظاهرية، فيرتفع الشك المسببي (3).
وقد فصل هذا الوجه بعض أعاظم العصر مع تطويل وتفصيل، وتناقض صدر

1 - ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره وبنى عليه المحقق الإيرواني في نهاية النهاية 2: 203.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 21.
3 - حاشية الآخوند على الرسائل: 208 و 209.
139

وذيل، ولم يأت بشئ زائد عليه (1).
وقريب منه ما في " الكفاية وحاصله بتوضيح منا: أن الغليان لما كان شرطا
للحرمة فلا بد وأن يكون غاية للحلية، فيكون العصير حراما بشرط الغليان، وحلالا إلى
أن يغلي، ولا منافاة بين الحرمة بعد الغليان والحلية المغياة به، ضرورة أن ثبوتهما كذلك
لو كان قطعيا لا يضر أحدهما بالآخر، فضلا عن كونهما مستصحبين، فإذا شك في حرمته
المعلقة بعد صيرورة العنب زبيبا شك في حليته المغياة أيضا، فيكون الشك في حليته
وحرمته فعلا بعده متحدا خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة
بنحو كانتا عليه، أي من كون الحرمة معلقة والحلية مغياة، فاستصحاب حرمته المعلقة
الملازم لاستصحاب الحلية المغياة يثبت حرمته الفعلية بعد الغليان وانتفاء حليته، لأن
هذا لازم أعم للحكم الواقعي والظاهري، فيترتب عليه (2)، والظاهر أنه يرجع إلى ما في
" التعليقة " مع تعبير مخل وتغيير مضر.
وحاصل الوجهين: أن الحكومة تتقوم بأمرين، أحدهما: كون الشك سببيا
ومسببيا، وثانيهما: نفي حكم المسبب لجريان الأصل في السبب، وكلا الأمرين حاصلان
في المقام، لأن الشك في الحلية بعد الغليان مسبب عن الشك في بقاء الحرمة المعلقة قبله
بعد عروض حالة موجبة للشك، وجريان الأصل فيه يثبت الحكم بوجود المعلق عليه،
ويرفع الحكم المضاد له، أي الحلية، لأن جعل الحرمة ظاهرية كانت أو واقعية لازمه
استحالة جعل حكم مضاد له.
وفيه: أنه لا بد في الحكومة من أن الأصل الجاري في السبب يرفع الشك تعبدا
عن المسبب، أي يكون التعبد ببقاء السبب أثره الشرعي هو التعبد بحكم المسبب، كالتعبد
ببقاء الكر، حيث إن أثره الشرعي طهارة الثوب المغسول به، كما سيأتي تفصيله مع سر

1 فوائد الأصول 4: 474 و 477.
2 - كفاية الأصول: 468 و 469.
140

تقدم الأصل السببي على المسببي في محله (1).
والتعارض أولا وبالذات واقع بين استصحاب نجاسة الثوب والتعبد بطهارته،
لا بين استصحاب النجاسة وبين كرية الماء، لعدم التضاد بينهما إلا بلحاظ هذا الأثر
الشرعي، فجريان استصحاب الكرية لو لم يكن اثره الشرعي هو التعبد بطهارة الثوب
المغسول به لما رفع الشك عن المسبب، كما أنه لو فرض حجية الأصل المثبت يتعارض
الأصل المسببي مع السببي، لأن كلا منهما يرفع موضوع الآخر بالتعبد بلازمه، فتقدم
الأصل السببي لرفعه الشك عن المسبب، دون العكس.
وأما لو فرض أن الأصل الجاري في السبب يكون لازمه العقلي - الأعم من
الواقعي والظاهري - نفي حكم المسبب للتدافع والتضاد بين الحكمين، فلا وجه لتقدم
أحدهما على الآخر، لأن استصحاب الحرمة والتعبد ببقائها كما أنه مضاد للحلية، كذلك
استصحاب الحلية والتعبد ببقائها مضاد للحرمة بالذات، وللاستصحاب التعليقي
لأجله، فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.
هذا مضافا: إلى أن ما أفاده في " الكفاية " من عدم المعارضة بين بقاء الحلية
المغياة، والحرمة المشروطة في صورة القطع فضلا عن استصحابهما (2).
ففيه أولا: أن القطع بالحلية المغياة يوجب القطع بانتفاء الحلية ما بعد الغاية، لأنه
لازم عقلي لثبوت الحكم المغيي، وأما استصحاب الحلية المغياة فلا يثبت الحرمة بعد
الغاية، فاستصحاب الحلية المغياة مما لا يجري، لأن إجراءه إن كان لإثبات الحلية قبل
الغليان فهي قطعية، وإن كان لإثبات الحرمة ونفي الحلية بعد الغليان، فلا يثبتهما
إلا بالأصل المثبت، لأن الحرمة بعد الغاية ليست من الآثار الشرعية للحلية المغياة، ولا
من اللوازم الأعم.

1 - يأتي في صفحة 245 - 250.
2 - كفاية الأصول: 468 و 469.
141

وثانيا: أن كلامنا إنما يكون في الحلية والحرمة بعد الغليان لا قبله، وفي
استصحاب الحلية إلى ما بعد الغليان، للشك في أن الغاية ثابتة للعصير الزبيبي كما هي
ثابتة للعنبي أو لا.
ثم إن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه سلك مسلكا آخر بعد الإشكال على
الحكومة: وهو أن الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي طبعا، وهذا وجه آخر
لتقدمه عليه غير الحكومة.
قال رحمه الله في وجه تقدمه: إن الشك الثاني معلول للأول، ففي رتبة وجود
الأول لم يكن الثاني موجودا، وإنما هو في رتبة الحكم المرتب على الأول، فالأول في
رتبة وجوده ليس له معارض، فيحرز الحكم من دون معارض، وإذا ثبت الحكم في الأول
لم يبق للثاني موضوع، وجعل هذا وجه تقدم الاستصحاب التعليقي على التنجيزي (1).
وفيه أولا: أن تقدم العلة على المعلول إنما هو تقدم عقلي يدركه العقل من صدور
المعلول عن العلة، فيحكم بأن العلة وجدت فوجد المعلول، وأما في الخارج فالعلة مع
المعلول لا يتقدم أحدهما على الآخر، ولا إشكال في أن مثل: (لا تنقض اليقين بالشك)
يكون موضوعه الشك بوجوده الخارجي، ولا تأثير للتقدم العقلي والرتبي في موضوعية
الموضوع، فلا يتقدم موضوع أحدهما على الآخر بحسب موضوعيته للحكم، وهو
الوجود الخارجي، مع أنه لو فرض تقدم أحدهما على الآخر في الخارج لا يتقدم في
جريان الأصل.
وثانيا: أن التعارض بالذات إنما هو بين التعبد بالأثر الشرعي للأصل الحاكم مع
مفاد الأصل المحكوم، وهما في رتبة واحدة.
مثلا: لو شك في نجاسة الثوب المغسول بماء لأجل الشك في كريته لا يكون بين

1 - انظر درر الفوائد: 546 و 632.
142

أصالة بقاء الكرية، وأصالة بقاء نجاسة الثوب تعارض بالذات، بل التعارض إنما هو
بين التعبد بطهارة الثوب المغسول بالكر، وبين التعبد بنجاسة الثوب، وهما في رتبة
واحدة، لأن الشك في نجاسته وطهارته موضوع لهما، فاستصحاب النجاسة والتعبد
بالطهارة - المتأخر عن التعبد بالكرية برتبة - متعارضان في رتبة واحدة.
ونتيجة ذلك: أن الماء كر، لكن لا يكون مطهرا للثوب المغسول به، فتترتب على
الكرية سائر آثارها كعدم الانفعال.
ولو قيل: بأن استصحاب الكرية يعارض استصحاب بقاء نجاسة الثوب بلحاظ
أثره وهو طهارة المغسول به، يصير التعارض في رتبة واحدة، فلا تكون أصالة الكرية
بلا معارض، ولو في رتبة ذاتها.
حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي
والتحقيق في المقام أن يقال: إن استصحاب الحرمة التعليقية حاكم على
استصحاب الإباحة كسائر الحكومات، لأن شرط حكومة أصل على آخر - كما أشرنا
إليه (1) - أمران:
أحدهما: كون أحد الشكين مسببا عن الآخر.
والثاني: أن يكون جريان الأصل في السبب رافعا للشك عن المسبب تعبدا
فاستصحاب كرية الماء يكون حكمه طهارة الثوب المغسول به بحسب الكبرى
الشرعية، من " أن الكر مطهر " (2) فيرفع الشك في أن الثوب طاهر أو لا، لأن الشك في

1 - تقدم في صفحة 140.
2 - لم ترد هذه الكبرى في الأخبار بلفظها، وإنما هي مستفادة من النصوص، لاحظ مثلا مرسلة العلامة المذكورة في مختلف
الشيعة: 3 سطر 2.
143

الطهارة والنجاسة متقوم بطرفي الترديد، فإذا وقع التعبد بالبناء على أحد طرفي الترديد
يرفع الشك قهرا.
فحكومة أصالة بقاء الكرية في الماء على أصالة بقاء نجاسة الثوب ليست لأجل
رافعية الحكم بالكرية لبقاء النجاسة، بواسطة أن التعبد بالطهارة ولو ظاهرا ينافي
التعبد بالنجاسة ولو ظاهرا، بل لأجل أن التعبد بطهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك
فيه يرفع الشك المتقوم بطرفي الترديد.
وإن شئت قلت: إن الشك في الطهارة والنجاسة شك واحد، وحالة ترديدية
واحدة، يكون أحد طرفيها الطهارة، والآخر النجاسة، فإن قيست هذه الحالة الترديدية
بالنسبة إلى وجود الطهارة وعدمها تكون شكا في الطهارة وعدمها، وبالنسبة إلى وجود
النجاسة وعدمها تكون شكا في النجاسة وعدمها.
وإن قيست بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة تكون شكا فيهما، فلا تكون في النفس
إلا حالة واحدة ترديدية، يكون أحد طرفيها الطهارة، والآخر النجاسة، فإذا كان مفاد
أصل هو الطهارة بلسان الأصل السببي يكون رافعا للشك المتقوم بطرفي الترديد، فيصير
حاكما على الأصل المسببي، وسيأتي قريبا (1) سر تقدم الأصل السببي بما لا مزيد عليه
فانتظر.
وما نحن فيه يكون الحال كذلك، لأن الشك في بقاء الإباحة الفعلية للعصير
الزبيبي المغلي مسبب عن بقاء القضية الشرعية التعليقية بالنسبة إلى الزبيب قبل غليانه،
ولما كان التعليق شرعيا تكون فعلية الحرمة مع فعلية الغليان بحكم الشرع كما أشرنا إليه
سابقا (2)، فترتب الحرمة على العصير المغلي ليس بعقلي، بل شرعي، فحينئذ يكون
استصحاب الحرمة التعليقية حاكما، لأن الحرمة متحققة بالفعل عند الغليان، ومترتبة

1 - سيأتي في صفحة 245 - 250.
2 - تقدم في صفحة 134 و 135.
144

على الغليان الفعلي، فيرفع الشك في الحرمة والإباحة الفعليتين، لأن الشك في الحرمة
والإباحة متقوم بطرفي الترديد، فإذا كان لسان جريان الأصل في السبب هو التعبد بحرمة
المغلي يرفع الترديد بين الحرمة والحلية، فيصير الأصل السببي حاكما على المسببي.
فالقائل بالفرق بين الأصل التعليقي السببي والتنجيزي المسببي، وبين الأصل
السببي والمسببي في موارد اخر (1)، إن كان من جهة تعليقية الأصل، وأن صيرورة
التعليق فعليا عقلي فقد عرفت بطلانه.
وإن كان من جهة أن الحلية والحرمة متضادتان، فإثبات أحد الضدين يرفع
الضد الآخر بحكم العقل، وهذا اللازم وإن كان مترتبا على المستصحب لكن
لا يصحح الحكومة، فقد عرفت بطلانه أيضا، لما ذكرنا من أن جريان الأصل في
التعليقي يرفع الشك المتقوم بطرفي الترديد لأجل التعبد بأحد طرفي الترديد معينا وهو
الحرمة.
ألا ترى أن أصالة بقاء الكرية أيضا لا ترفع نجاسة الثوب، بل ترفع الترديد
بالتعبد بطهارته.
وإن شئت قلت: إن استصحاب الحرمة على تقدير الغليان جار قبل حصوله،
فيتعبد لأجله ببقاء المستصحب، وهو الحرمة على تقدير غليان عصير الزبيب مثلا،
وهذا الحكم التعليقي - قبل الغليان - وإن كان ثابتا لعصير الزبيب الذي شك في حكمه،
لكن لسان المستصحب هو حرمة العصير على فرض الغليان، لا حرمة المغلي
المشكوك فيه، فإذا حصل الغليان يكون لسان الدليل الاجتهادي المستصحب بضميمة
الوجدان هو حرمة المغلي، لا المغلي المشكوك فيه، واستصحاب الحلية المنجزة متقوم
بالشك، فيكون لسانه إثبات الحلية للمغلي المشكوك فيه بما هو كذلك، ولا ريب في

1 - فوائد الأصول 4: 466، نهاية النهاية 2: 203.
145

تقديم الأول على الثاني وحكومته عليه، لأنه بإثبات الحرمة لذات المغلي يرفع الشك
الذي هو موضوع استصحاب الحلية.
وبهذا يدفع ما قد يمكن أن يتوهم: من أن المغلي المشكوك فيه موضوع لكلا
الاستصحابين، وكل منهما بنفس التعبد به يرفع الشك، وهما متعارضان قبل رفع موضوع
الآخر (1)، لما عرفت من أن استصحاب الأول يجري قبل الغليان، وبعد الغليان يكون
المستصحب - أي الحكم التعليقي الذي يصير فعليا - متعلقا بذات الموضوع ورافعا
للشك، فلا يبقى مجال لاستصحاب الحلية التنجيزية، والحلية التعليقية لا أصل لها، ولو
فرض يكون مثبتا، لأن التعليق عقلي لا شرعي، فتدبر فيه فإنه جدير به.
فالإنصاف: أنه لا فرق بين الحكومة في المقام وبينها في مقامات اخر، ولعل عدم
تعرض الشيخ الأعظم (قدس سره) لوجه الحكومة لذلك، ونحن لسنا الآن بصدد بيان
وجه تقدم الأصل السببي وما هو التحقيق عندنا، بل بصدد أن المقام كالمقامات
الأخرى بلا افتراق بينهما.
التنبيه الخامس
استصحاب أحكام سائر الشرائع
هل يجري استصحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة كما يجري في أحكام
شريعتنا إذا شككنا في نسخها أم لا؟ وهذه المسألة وإن لم تكن لها ثمرة ظاهرة لكن
نتعرض لها اقتفاء لأثر القوم.
فنقول: اختار الشيخ الأعظم ومن بعده الجريان قائلين إن المقتضي موجود، وهو

1 - انظر نهاية النهاية 2: 203، وانظر رسائل الشيخ الأنصاري: 380 سطر 19.
146

إطلاق أدلة الاستصحاب، وليس ما يصلح للمانعية إلا أمور يمكن دفعها:
منها: أن الحكم الثابت في حق جماعة لا يمكن إثباته في حق الآخرين لتغاير
الموضوع (1).
وأجابوا عنه أولا: بالنقض باستصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا (2).
وثانيا: بالحل، فإن الأحكام ثابتة للعناوين الكلية على نحو القضايا الحقيقية
لا للأشخاص على نحو الخارجية، فإذا ثبت حكم للمستطيع أو الغني أو الفقير فلا
مانع من استصحاب بقائه عند الشك في نسخه، فإن موضوع القضية المتيقنة والمشكوك
فيها هو هذه العناوين بنحو القضية الحقيقية، فتتحد القضية المتيقنة والمشكوك فيها (3).
وزاد الشيخ رحمه الله أمرا آخر (4) رد عليه من بعده (5)، والعمدة هو الجواب الحلي
الذي ارتضاه المحققون، وهو أن يدفع الإشكال المتقدم.
لكن هاهنا شبهة أخرى لا يدفعها هذا الجواب، وهي أنه من الممكن أن يكون
المأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحو القضية الحقيقية،
لا ينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا، كما لو اخذ عنوان اليهود والنصارى،
فإن القضية وإن كانت حقيقية لكن لا ينطبق عنوان موضوعها على غير مصاديقه.
ففي قوله تعالى: * (على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا
عليهم شحومهما) * (6) إلى آخره كانت القضية حقيقية، لكن إذا شك المسلمون في بقاء

1 - الفصول الغروية: 315 سطر 30.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 8، كفاية الأصول: 470، نهاية الأفكار 4: 174، درر الفوائد: 547 وغيرها.
3 - كفاية الأصول: 470، فوائد الأصول 4: 478 و 479، نهاية الأفكار 4: 174 و 175، وانظر رسائل الشيخ
الأنصاري: 381 سطر 9، درر الفوائد: 547.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 13.
5 - كفاية الأصول: 471، حاشية الآخوند على الرسائل: 209 سطر 10، فوائد الأصول 4: 479 و 480، نهاية الأفكار
4: 176، درر الفوائد: 547 و 548.
6 - سورة الأنعام 6: 146.
147

حكمها لهم لا يجري الاستصحاب، كما لو ثبت حكم للفقراء وشك الأغنياء في ثبوته لهم
لا يمكن إثباته لهم بالاستصحاب، وهذا واضح جدا (1).
إن قلت: فكيف يستصحب الحكم الثابت للعصير العنبي إذا شك في ثبوته
للعصير الزبيبي، وهل هذا إلا إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر؟!
قلت: فرق واضح بين ما ذكرنا وبين مورد النقض، لأن كل زبيب مسبوق
بالعنبية بحسب وجوده الخارجي، فإذا وجد العنب في الخارج، وثبت الحكم له، وصار
يابسا يجري استصحاب حكمه، لأن العنب الخارجي إذا يبس لا يرى العرف إلا بقاءه
مع تغيير حال، فالقضية المتيقنة والمشكوك فيها واحدة فيستصحب الحكم، وأما
المسلمون فلم يكن كل واحد منهم مسبوقا بالتهود أو التنصر خارجا ثم صار مسلما، ولو
كانوا كذلك لجرى في حقهم الاستصحاب، كاستصحاب حكم العنب للزبيب.
ومما ذكرنا: ظهر الفرق بين استصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة
وأحكام الشرائع السابقة.
ولا يخفى: أن مجرد احتمال أخذ عنوان غير منطبق على المسلمين كاف في المنع،
للزوم إحراز وحدة القضيتين، ولا دافع للاحتمال في حكم من الأحكام المشكوك في
نسخها، لأن ظواهر الكتب المنسوخة الرائجة بينهم ليست قابلة للتمسك بها، مع ورود
الدس والتغيير عليها، وأصلها الغير المتغير ليس عندهم ولا عندنا حتى يعلم أن الحكم
ثابت للعنوان الكذائي، والقرآن المجيد لم يحك العناوين المأخوذة في موضوعات
أحكامهم الكلية، كما يظهر بالتأمل فيما جعلوه ثمرة للنزاع تبعا للمحكي عن " تمهيد
القواعد " (2).
فتحصل مما ذكرنا: عدم جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة.

1 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 381 سطر 10.
2 - الحاكي هو الشيخ الأعظم قدس سره، انظر رسائله: 382 سطر 6، تمهيد القواعد: 33 سطر 2.
148

هذا مضافا: إلى أن الشك فيها من قبيل الشك في المقتضي، لعدم الدليل على
إحرازه، ونحن وإن ذهبنا إلى جريانه فيه (1)، ولكن يرد هذا الإشكال على الشيخ
رحمه الله، ومن تبعه في عدم الجريان مع الشك في المقتضي (2).
التنبيه السادس
في الأصول المثبتة
قد اختلفت كلمة أهل التحقيق في وجه اعتبار مثبتات الأمارات دون الأصول،
أي اللوازم والملزومات والملازمات العادية والعقلية إذا انتهت إلى الأثر العملي الشرعي،
بل في الملزومات والملازمات الشرعية، سواء كان ترتب الأثر مع الواسطة أو بلا
واسطة.
فذهب المحقق الخراساني إلى أن وجهه إطلاق أدلة الأمارات دون الأصول،
لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب فيها، وهو آثار نفس المستصحب بلا توسط
شئ (3).
وذهب شيخنا العلامة رحمه الله إلى أن وجهه انصراف أدلة الأصول عن الآثار مع
الواسطة (4).
وقال بعض أعاظم العصر: إن وجهه اختلاف المجعول في باب الأمارات
والأصول، فإن المجعول في الأول هو الطريقية والكاشفية، ولازمه حجية المثبتات،

1 - تقدم في صفحة 32 وما بعدها.
2 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 328 سطر 17، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 81 سطر 16، فوائد الأصول
4: 373.
3 - كفاية الأصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 211 سطر 9.
4 - درر الفوائد: 554 و 555 وكلامه ناظر لخصوص الاستصحاب، لا لمطلق الأصول العملية.
149

وفي الثاني هو مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل، وهو لا يقتضي
حجيتها (1).
وقال الشيخ الأعظم: إن الوجه في عدم اعتبار مثبتات الأصول أن اللوازم العقلية
والعادية ليست تحت جعل الشارع، ووجوب ترتيب الآثار المستفاد من دليل
الاستصحاب لا يعقل إلا في الآثار القابلة للجعل الشرعي، فالمعقول من حكم
الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو الحكم بحرمة تزويج
زوجته والتصرف في ماله، لا حكمه بنموه ونبات لحيته، لأن هذه غير قابلة لجعل
الشارع (2).
وما أفاده الشيخ وإن كان أسد ما قيل في الباب، لكنه لا يحسم به مادة
الإشكال، خصوصا في الآثار الشرعية مع الوسائط العديدة، وستعرف الإشكال
فيها (3).
والتحقيق في المقام أن يقال: أما وجه حجية مثبتات الأمارات فهو أن جميع
الأمارات الشرعية إنما هي أمارات عقلائية أمضاها الشارع، وليس فيها ما تكون
حجيتها بتأسيس من الشرع، كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجيته، وخبر
الثقة واليد وقول ذي اليد على القول بحجيته، وأصالة الصحة على القول بأماريتها،
فإنها كلها أمارات عقلائية لم يردع عنها الشارع، فراجع أدلة حجية خبر الثقة ترى أنها
ليست بصدد التأسيس، بل جميعها بصدد الإمضاء لبناء العقلاء، فآية النبأ (4) ظاهرها
الردع عن العمل بقول الفاسق، فيظهر منها أن بناءهم هو العمل بقول الثقة مطلقا

1 - انظر فوائد الأصول 4: 484 و 486 و 487.
2 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 7.
3 - يأتي في صفحة 153 - 155.
4 - سورة الحجرات 49: 6.
150

أو خصوص غير الفاسق، إلا أنهم لا يعلمون فسق الوليد (1)، فأخبر الله تعالى به.
وبالجملة: يظهر منها أن العمل بخبر الثقة كان مورد بنائهم وارتكازهم، وكذا
الحال في غيرها من الأخبار التي بلغت حد الاستفاضة أو التواتر (2)، وهذا حال خبر
الواحد الوارد فيه الآيات والأخبار، فكيف بغيره مما هو خال غالبا عن الدليل اللفظي،
وما ورد فيه بعض الروايات تكون إمضائية أيضا كاليد (3)؟!
فلا إشكال في أن الأمارات مطلقا عقلائية أمضاها الشارع، ومعلوم أن بناء
العقلاء على العمل بها إنما هو لأجل إثباتها الواقع، لا للتعبد بالعمل بها، فإذا ثبت
الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه، فكما أن العلم
بالشئ موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقا، فكذلك الوثوق به موجب
للوثوق بها.
وكذا الحال بالنسبة إلى احتجاج الموالي على العبيد وبالعكس، فكما يحتج العقلاء
بقيام الأمارة على الشئ، كذلك يحتجون على لوازمه وملزوماته وملازماته مع الواسطة
أو بلا واسطة شئ، ولو حاولنا إثبات حجية الأمارات بالأدلة النقلية لما أمكن لنا إثبات
حجية مثبتاتها، بل ولا لوازمها الشرعية إذا كانت مع الواسطة الشرعية، كما سيأتي
التعرض له إن شاء الله (4)، هذا حال الأمارات.

1 - الوليد: هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، واسمه أبان بن أبي عمرو بن أمية، له صحبة، وهو أخو عثمان بن عفان لامه،
قال ابن عبد البر: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: * (إن جاءكم فاسق بنبأ) * نزلت
في الوليد بن عقبة إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقونه فرحا به وكانت بينهم
عداوة في الجاهلية فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إنهم منعوا صدقاتهم فكان الأمر
بخلافه، فغضب النبي صلى الله عليه وآله، وهم أن يغزوهم، فنزلت الآية. انظر تهذيب الكمال 31: 53 / 6723،
أسد الغابة 5: 90، مجمع البيان 9: 198.
2 - انظر الوسائل 18: 52 - باب 8 و 75 - باب 9 و 98 - باب 11 من أبواب صفات القاضي
3 - انظر التهذيب 9: 302 / 1079، الوسائل 17: 525 / 3 - باب 8 من أبواب ميراث الأزواج. وسيأتي في صفحة
265 وما بعدها.
4 - يأتي في صفحة 154.
151

حال مثبتات الأصول
وأما الأصول: وعمدتها الاستصحاب، فالسر في عدم حجية مثبتاتها، وحجية
لوازمها الشرعية، ولو مع الوسائط إذا كان الترتب بين الوسائط كلها شرعيا يتضح بعد
التنبيه على أمرين:
أحدهما: أن اليقين إذا تعلق بشئ له لازم وملازم وملزوم، وكان لكل منها أثر
شرعي، يصير تعلق اليقين به موجبا لتعلق يقين آخر على لازمه، ويقين آخر على ملازمه،
ويقين آخر على ملزومه، فتكون متعلقات أربعة، كل واحد منها متعلق ليقين مستقل وإن
كان ثلاثة منها معلولة لليقين المتعلق بالملزوم.
لكن يكون لزوم ترتيب الآثر على كل متعلق لأجل استكشافه باليقين المتعلق به،
لا اليقين المتعلق بغيره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه، فإذا تيقنت بطلوع الفجر، وعلمت
منه خروج الليل ودخول يوم رمضان، وكان لطلوع الفجر أثر، ولخروج الليل أثر،
ولدخول يوم رمضان أثر، لا يكون لزوم ترتيب الأثر على كل موضوع إلا لأجل تعلق
العلم به، لا لأجل تعلقه بغيره من لازمه أو ملزومه أو ملازمه.
وكذا إذا تيقنت بحياة زيد، وحصل منه يقين بنبات لحيته، ويقين آخر ببياضها،
وكان لكل منها أثر شرعي، يجب ترتيب أثر حياته للعلم بها، ونبات لحيته للعلم به،
لا للعلم بحياته، وترتيب أثر بياضها للعلم به، لا بنبات اللحية أو الحياة، فالعلم بكل
متعلق موضوع مستقل لوجوب ترتيب أثره، وإن كان بعض العلوم معلولا لبعض آخر.
ثانيهما: أن الكبرى الكلية في الاستصحاب وهي قوله: (لا ينقض اليقين بالشك):
إما أن يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيها مقام المتيقن في ترتيب الآثار،
152

فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن على المشكوك فيه، كما هو الظاهر من الشيخ
ومن بعده من الأعلام (1).
وإما أن يكون المراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع وإطالة عمره، وعدم
نقضه بالشك، لكونه أمرا مبرما لا ينقض بما ليس كذلك، فيكون معنى عدم نقض
اليقين بالشك هو التعبد ببقاء اليقين الطريقي في مقام العمل (2)، ولا يلزم منه صيرورة
الاستصحاب طريقا وأمارة كما ذهبنا إليه سالفا (3)، لما عرفت في محله من أن اليقين
السابق لا يمكن أن يكون طريقا وأمارة على الشئ المشكوك في زمان الشك (4)،
فلا يمكن أن يكون اعتبار بقاء اليقين إلا إيجاب العمل على طبق اليقين الطريقي، أي
التعبد ببقاء المتيقن، فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة، وهي وجوب ترتيب الآثار في
زمان الشك، وإن كان الاعتباران مختلفين، وطريق التعبد بوجوب ترتيب الأثر مختلفا،
كما ستأتي الإشارة إليه (5).
إذا عرفت ذلك فنقول: إن قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) إن كان بمعنى تنزيل
المشكوك فيه منزلة المتيقن في الآثار فلا يترتب عليه بهذا الدليل إلا آثار نفس المتيقن
دون آثار الآثار، أي لوازم اللوازم الشرعية، وإن كان الترتب شرعيا، فضلا عن آثار
اللوازم والملزومات والملازمات العقلية والعادية، وذلك لوجهين:
الأول: أن آثار المتيقن ليست إلا ما يترتب عليه ويكون هو موضوعا لها، وأما أثر
الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المتيقن، كما أن أثر اللازم أو الملزوم أو الملازم مطلقا يكون

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 12، كفاية الأصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 191 سطر
14.
2 - انظر نهاية الدراية 3: 97 سطر 17.
3 - أنوار الهداية 1: 110.
4 - تقدم في صفحة 37 و 38 من هذا الكتاب، وانظر هامش أنوار الهداية 1: 110.
5 - يأتي في صفحة 155 - 157.
153

موضوعه تلك الأمور لا المتيقن، ومعنى (لا ينقض اليقين بالشك) بناء عليه أن رتب
آثار المتيقن على المشكوك فيه، والفرض أنه لم يتعلق اليقين إلا بنفس المتيقن، فإذا
تعلق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيته، وشك في بقائها، يكون التعبد بلزوم ترتيب الأثر
بلحاظ أثر المتيقن، وهو ما يترتب على الحياة المتيقنة، لا ما ليس بمتيقن كنبات اللحية،
فإن التنزيل لم يقع إلا بلحاظ المتيقن والمشكوك فيه. وذلك من غير فرق بين الآثار
المترتبة على الوسائط الشرعية والعادية والعقلية.
وليس ذلك من جهة انصراف الأدلة عن الآثار الغير الشرعية (1)، أو عدم
إطلاقها (2)، أو عدم تعقل جعل ما ليس تحت يد الشارع (3)، كما ذهب إلى كل ذاهب،
بل لقصور الأدلة، وخروج تلك الآثار موضوعا وتخصصا، وهذا الوجه يظهر من كلام
الشيخ أيضا.
والثاني: أن دليل الأصل لا يمكن أن يتكفل بآثار الآثار، وآثار الوسائط ولو كانت
شرعية، لأن الأثر إنما يكون تحققه بنفس التعبد، ولا يمكن أن يكون الدليل المتكفل
للتعبد بالأثر متكفلا للتعبد بأثر الأثر، لأن أثر المتيقن متقدم ذاتا واعتبارا على أثره، أي
أثر الأثر، لكونه موضوعا له، فلا بد من جعل الأثر والتعبد به أولا، وجعل أثر ذلك الأثر
والتعبد به في الرتبة المتأخرة عن الجعل الأول، ولا يمكن أن يكون الجعل الواحد والدليل
الفارد متكفلا لهما، للزوم تقدم الشئ على نفسه، وإثبات الموضوع بالحكم.
وبالجملة: يرد في المقام الإشكال الذي ورد على أدلة حجية خبر الثقة بالنسبة إلى
الأخبار مع الواسطة (4).

1 - درر الفوائد: 554 و 555.
2 - كفاية الأصول: 472 و 473، حاشية الآخوند على الرسائل: 211 سطر 9.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 383 سطر 7، نهاية الأفكار 4: 178.
4 - انظر أنوار الهداية 1: 297.
154

ولا يمكن دفعه بما دفع به الإشكال هناك، لإمكان أن يقال هناك: إن قوله
" صدق العادل " قضية حقيقية تنطبق على كل مصداق وجد منها ولو كان مصداقا
تعبديا (1)، أو أن يقال: إن العرف يحكم بإلغاء الخصوصية (2)، أو يدعى العلم بالمناط،
وأن المصداق المتحقق بنفس دليل التعبد لا بد وأن يترتب عليه الأثر (3).
ولا يأتي واحد منها في المقام، لأن التعبد بعدم نقض اليقين بالشك لا يوجب
حصول مصداق تعبدي من الشك واليقين حتى ينطبق عليه عدم نقضه به، فإذا علم
بعدالة زيد، وشك فيها، يجب ترتيب آثار العدالة عليه لقوله: (لا ينقض اليقين بالشك)
فيحكم بجواز الاقتداء به، وجواز شهادته في الطلاق، فإذا كان جواز الاقتداء والشهادة
فيه موضوعا لأثر شرعي فلا يمكن أن يكون دليل (لا ينقض) حاكما بوجوب ترتبه
عليهما، لعدم تكفل هذا التعبد لإيجاد مصداق تعبدي لقوله: (لا ينقض اليقين) حتى
يقال: إنه قضية حقيقية تشمل ما وجد بنفس التعبد.
كما لا يمكن دعوى إلغاء الخصوصية عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم كونه مصداقا
للكبرى ولو تعبدا، وبعد كون ترتب الأثر على الموضوع لأجل تعلق اليقين وهو مفقود،
فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصية مجازفة محضة.
ومما ذكرنا يعلم أنه لو كان معنى: (لا ينقض اليقين بالشك) هو التعبد بإبقاء
اليقين وإطالة عمره لما نفع في ترتب آثار الوسائط الشرعية فضلا عن غيرها، لعين
ما ذكرنا من الوجهين.
ومما ذكرنا يتضح أيضا: أنه لو كان دليل حجية الأمارات هو الأدلة التعبدية
من الكتاب والسنة لكانت مثبتاتها أيضا غير حجة، لأن جعل الكاشفية والطريقية

1 - نفس المصدر 1: 298 و 300.
2 - نفس المصدر 1: 201.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 76 سطر 1، كفاية الأصول: 341.
155

- أو ما شئت فسمه - للأمارات تعبدا ليس إلا ترتيب أثرها، مع أن أثر كشف كل
موضوع هو لزوم ترتيب أثره لا غير، وأما أثر موضوع آخر لازم له أو ملزوم له أو ملازم
إنما هو لأجل كشفه الخاص به، لا أثر كشف ملزومه أو لازمه أو ملازمه، فلا يشمله دليل
التعبد.
فالتحقيق: في الفرق بين الأمارات والأصول في حجية مثبتات الأولى دون الثانية
هو ما عرفت.
بيان الفرق بين الآثار الشرعية وغيرها
إن قلت: بناء على ما ذكرت لم يبق فرق بين الآثار المترتبة على الوسائط الشرعية
وغيرها.
قلت: نعم لا فرق بينهما من حيث الاستفادة من دليل الأصل كقوله: (لا ينقض
اليقين بالشك) لكن هاهنا أمر آخر موجب للزوم الأخذ بآثار اللوازم الشرعية، وإن
كانت مع ألف واسطة شرعية دون غيرها، وهو أنا لو فرضنا سلسلة مترتبة من اللوازم
والملزومات الشرعية، فصار مبدأ السلسلة، أي الملزوم الأول مشمولا لدليل الأصل
كقوله: (لا ينقض اليقين بالشك) فينسلك المستصحب في صغرى كبرى كلية مجعولة
شرعية لأجل تحقق مصداقها بالأصل، فإذا انطبقت عليه الكبرى المجعولة يتحقق
لأجله موضوع لكبرى كلية مجعولة أخرى، وبعد انطباقها عليه يتحقق موضوع لكبرى
مجعولة ثالثة، وهكذا إلى آخر السلسلة.
مثلا: لو فرضنا أن عدالة زيد كانت معلومة، فشك في بقائها، فدليل (لا ينقض)
يحكم بأنه عادل تعبدا، فهذا الدليل يحرز مصداقا تعبديا لقوله: " تجوز شهادة
156

العادل " (1) فإذا شهد برؤية هلال شوال لدى الحاكم، وضم إليه شاهد آخر يصير
موضوعا لقوله " إذا شهد عدلان برؤية الهلال لدى الحاكم يحكم بأن الغد عيد " (2).
فبحكم الحاكم تثبت عيدية الغد، فيحرز مصداق قوله: " يجب أو تستحب صلاة
العيد " (3) وهكذا، فدليل (لا ينقض) لا يتكفل إلا التعبد بتحقق مبدأ السلسلة دون غيره،
فإذا ترتبت السلسلة من اللوازم والملزومات الشرعية تترتب أحكام جميع السلسلة لا
لدليل الأصل، بل للكبريات المترتبة المحرزة المصاديق بما ذكرنا.
ومن ذلك يعلم: أن التعبد بالملزوم الشرعي ينفع بالنسبة إلى ترتيب آثار اللازم
ولازم اللازم إذا كانت شرعية إلى آخر السلسلة.
وأما التعبد باللازم فلا ينفع بالنسبة إلى ملزومه، ولا الملازم بالنسبة إلى ملازمه،
لعدم إيجاب التعبد باللازم أو الملازم اندراج ملزومه أو ملازمه تحت كبرى مجعولة.
وكذا يعلم: أن اللوازم العادية أو العقلية إذا كانت لها آثار شرعية لا يمكن
ترتيب آثارها لأجل جريان الأصل في ملزومها، لا للانصراف، أو عدم الإطلاق، أو
عدم تعقل التعبد لكونها تكوينية، أو كون المجعول فيها على نحو لا يمكن ترتب
الآثار، فإن كل ذلك خلاف التحقيق، بل لأن ترتيب الأثر موقوف على كبرى شرعية
يندرج الموضوع فيها كما عرفت، وليس بالنسبة إلى الأمور العادية أو العقلية كبرى
شرعية.
فإذا حكم الاستصحاب بحياة زيد، يترتب عليه ما هو آثار الحياة بحسب
الكبريات الشرعية، وأما أنه إذا كان حيا نبتت لحيته، فلم يقع في دليل شرعي حتى

1 - انظر الوسائل 18: 288 - باب 41 من أبواب الشهادات، مستدرك الوسائل 3: 213 - باب 35 من أبواب
الشهادات.
2 - انظر الوسائل 7: 207 - باب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، مستدرك الوسائل 1: 573 - باب 8 - من أبواب أحكام
شهر رمضان.
3 - انظر الوسائل 5: 94 - باب 1 من أبواب صلاة العيد.
157

يترتب عليه أثره، لأجل تحقق مصداق الكبرى المجعولة، فلو فرض وجود دليل شرعي
يكون مفاده التعبد بنبات اللحية على فرض الحياة لقلنا بترتيب آثار نباتها باستصحاب
الحياة من دون شبهة الامتناع أو المثبتية، فتأمل في أطراف ما ذكرنا، فإنه يليق بذلك.
تتميم
حول الوسائط الخفية
إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفية يجري الاستصحاب
ويترتب عليه الأثر، ولا يكون من الأصول المثبتة، والمراد من خفاء الواسطة أن العرف
- ولو بالنظر الدقيق - لا يرى وساطة الواسطة في ترتب الحكم على الموضوع، ويكون
لدى العرف ثبوت الحكم للمستصحب من غير واسطة، وإنما يرى العقل بضرب من
البرهان كون الأثر مترتبا على الواسطة لبا، وإن كان مترتبا على ذي الواسطة عرفا.
مثاله: أن الشارع إذا قال: " حرمت عليكم الخمر " يكون الموضوع للحرمة هو
الخمر عرفا، لكن العقل يحكم بأن ترتب الحرمة على الخمر لا يمكن إلا لأجل مفسدة
قائمة بها، تكون تلك المفسدة علة واقعية للحرمة.
ثم لو فرض أن العقل اطلع على جميع الخصوصيات الواقعية للخمر، وحكم
بالدوران والترديد أن العلة الواقعية للحرمة هي كونها مسكرة مثلا، فيحكم بأن إسكار
الخمر عله لثبوت الحكم بالحرمة، ثم يحكم بأن موضوع الحرمة ليس هو الخمر بحسب
الملاكات الواقعية، بل الموضوع هو المسكر بما أنه مسكر، ولما كان هو متحدا في الخارج
مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر، ولكن الموضوع الواقعي ليس إلا حيثية
المسكرية، لأن الجهات التعليلية هي الموضوعات الواقعية لدى العقل، فإذا علم أن
158

مائعا كان خمرا سابقا وشك في بقاء خمريته، فلا إشكال في جريان استصحاب الخمرية
وثبوت الحرمة له.
ولا يصح أن يقال: إن استصحاب الخمرية لا يثبت المسكرية التي هي موضوع
الحكم لدى العقل إلا بالأصل المثبت، لأن ترتب الحرمة إنما يكون على المسكر أولا
وبالذات، وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة.
وذلك لأن الواسطة عقلية خفية، لا يراها العرف واسطة.
وليس المراد بخفاء الواسطة ان العرف يتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون
الواسطة مع رؤيتها، لأن الموضوع للأحكام الشرعية ليس ما يتسامح فيه العرف، بل
الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح، فالدم الحقيقي بنظر
العرف موضوع للنجاسة، فإذا تسامح وحكم على ما ليس بدم عنده أنه دم لا يكون
موضوعا لها، كما أنه لو حكم العقل بالبرهان بكون شئ دما أو ليس بدم لا يكون متبعا،
لأن الموضوع للحكم الشرعي ما يكون موضوعا لدى العرف.
والسر في ذلك: أن الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الأمة إلا كسائر الناس،
ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض الناس بعضا، فكما أن المقنن العرفي إذا
حكم بنجاسة الدم لا يكون موضوعها إلا ما يفهمه العرف مفهوما ومصداقا، فلا يكون
اللون دما عنده، وليس موضوعا لها، كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف،
فالمفهومات عرفية، وتشخيص مصاديقها أيضا كذلك.
فما وقع في كلام المحقق الخراساني رحمه الله وتبعه بعضهم: من أن تشخيص
المفاهيم موكول إلى العرف، لا تشخيص مصاديقها، فإنه موكول إلى العقل (1).

1 - كفاية الأصول: 77، حاشية الآخوند على الرسائل: 212 سطر 21، ناقلا فيها ذهاب بعض السادة - وهو الميرزا
الشيرازي قدس سره ظاهرا - إلى هذا القول أيضا، فوائد الأصول 4: 494 و 574، نهاية الأفكار 4: 189، نهاية
الدراية 1: 101 سطر 7.
159

منظور فيه، ضرورة أن الشارع لا يكون في خطاباته إلا كواحد من العرف،
ولا يمكن أن يلتزم بأن العرف في فهم موضوع أحكامه ومصاديقه لا يكون متبعا بل
المتبع هو العقل.
وبالجملة: الشرع عرف في خطاباته، لا أن الموضوعات متقيدة بكونها
عرفية، فإنه ضروري البطلان، فحينئذ يكون قوله: (لا ينقض اليقين بالشك)
قضية عرفية، فإذا رأى العرف أن القضية المتيقنة عين المشكوك فيها، وأن عدم
ترتب الحكم على المشكوك فيه من نقض اليقين بالشك يجري الاستصحاب، ولو لم
يكن بنظر العقل من نقضه به، لعدم وحدة القضيتين لديه هذا كله
واضح.
حال الأمثلة التي ذكرها الشيخ
وإنما الكلام في الأمثلة التي ذكرها الشيخ الأعظم (قدس سره)، ولا يخفى أن جميعها
من قبيل الوسائط الغير الخفية، ويكون الأصل فيها مثبتا:
أما قضية استصحاب رطوبة النجس لإثبات تنجس ملاقيه (1)، فلأن العرف هو
الذي يستفيد من الأدلة الشرعية الواردة في النجاسات أن التنجس لا يكون إلا لأجل
سراية النجاسة إلى الملاقي، فملاقاة الثوب للرطب لا تكون موضوعا للحكم بالغسل
عند العرف، بل الموضوع هو الثوب المتأثر بالنجاسة الرطبة، فاستصحاب الرطوبة
لا يثبت هذا العنوان، وقد عرفت أن الوسائط الخفية ما تكون الواسطة عقلية لا يراها
العرف واسطة.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 386 سطر 19.
160

كما أن استصحاب عدم الحاجب للحكم بتحقق الغسل (1) مثبت، لأن الواسطة عرفية
لا عقلية.
وكذا استصحاب عدم هلال شوال أو بقاء شهر رمضان لإثبات كون الغد
عيدا (2) مثبت بلا إشكال وريب، لأن العيد هو اليوم الأول من شوال، والأولية عبارة عن
مبدئية سلسلة أيام الشهر، وهو أمر بسيط لا يثبت باستصحاب عدم حدوث شوال
أو بقاء شهر رمضان.
نعم: لو كان الأول مركبا من وجود يوم وعدم يوم مثله أو ضده قبله فيمكن إثباته
بالوجدان والأصل، لكن على فرض تسليمه لا يفيد ذلك بالنسبة إلى إثبات عنوان سائر
الأيام، فإثبات ثامن ذي الحجة وتاسعه وعاشره باستصحاب عدم هلال ذي الحجة
أو بقاء ذي القعدة مثبت، فإن كون اليوم الثامن - بعد مضي سبعة أيام من اليوم الأول -
عقلي لا شرعي.
فما ادعاه بعض أعاظم العصر: من ثبوت جميع أيام الشهر بالأصل إذا قلنا بأن
الأول مركب (3) فيه ما فيه، تأمل (4).
هذا مضافا إلى أن كون الأول مركبا مما ذكر واضح الفساد.
فحينئذ: يبقى الإشكال في الأحكام - المترتبة على اليوم الأول، أو العيد، أو اليوم
الثامن والتاسع والعاشر في أعمال الحج، وكذا سائر الأحكام المتعلقة بعناوين الأيام - في
قالبه.
ولقد تصدى لدفع الإشكال المحقق المتقدم ذكره بما لا يخلو عن غرابة، وهو

1 و 2 - نفس المصدر: 387 سطر 1 و 7.
3 - فوائد الأصول 4: 498.
4 - وجهه أنه يمكن ان يقال: إن الثاني مركب من وجود يوم وكونه مسبوقا بالأول، فإذا ثبت الأول بالأصل والوجدان، يثبت
الثاني بهما أيضا وهكذا [منه قدس سره].
161

الالتزام بأن اليوم الأول في موضوع الأحكام غير اليوم الأول الواقعي، فإنه عبارة عن يوم
رؤية الهلال، أو اليوم الواحد والثلاثين من الشهر الماضي، فالمراد من ثامن ذي الحجة
هو الثامن من رؤية الهلال، أو ما بعد انقضاء ثلاثين يوما من ذي القعدة، سواء كان
مطابقا للواقع أو لا (1).
ولا يخفى ما فيه، فإنه مخالف للضرورة عند جميع المسلمين، فما من مسلم إلا
ويعلم بالضرورة أن يوم عيد الفطر هو اليوم الأول من شوال ويوم عيد الأضحى هو
اليوم العاشر من ذي الحجة وهكذا، مع مخالفة ما ذكر للأدلة الشرعية كما يظهر بالتتبع
ومراجعة الأخبار (2).
لكن الذي يسهل الخطب أن بناء المسلمين من صدر الاسلام إلى الآن على
ترتيب آثار العيدية على يوم رؤية الهلال، ويجعلون يوم الرؤية أو اليوم الذي بعد يوم
الشك أو الذي بعد انقضاء ثلاثين يوما من الشهر السابق اليوم الأول، وثانيه الثاني
وهكذا، لا من جهة أن موضوع الحكم الشرعي غير الموضوع الواقعي، فإنه ضروري
البطلان، بل لأن هذا حكم ظاهري ثابت من الصدر الأول إلى الآن من غير إشكال في
جميع الطبقات.
بل يظهر ذلك من الأدلة اللفظية أيضا بعد التتبع، فما نقل عن رسول الله صلى الله
عليه وآله أنه قال: (إذا خفي الشهر فأتموا العدة شعبان ثلاثين يوما، وصوموا الواحد
وثلاثين) (3).
وعن أبي جعفر أو أبي عبد الله عليهما السلام قال: (شهر رمضان يصيبه ما يصيب

1 - انظر فوائد الأصول 4: 499 و 500، وانظر (تقرير بحث المحقق النائيني): 335.
2 - كما دل على عدم توفيق مثل قتلة الإمام الحسين عليه السلام لعيدي الفطر والأضحى فإنه ظاهر في أن المدار على واقع
العيدين، وإلا لأدركوهما بشهادة العدلين ونحوها. فانظر الكافي 4: 170 / 3، الفقيه 2: 114 / 488، الوسائل 7:
213 / 2، 3 - باب 13 من أبواب أحكام شهر رمضان.
3 - التهذيب 4: 161 / 454، الوسائل 7: 192 / 16 - باب 5 من أبواب أحكام شهر رمضان.
162

الشهور من النقصان، فإذا صمت تسعة وعشرين يوما ثم تغيمت السماء فأتم العدة
ثلاثين يوما) (1) لا يراد منها إلا أن الحكم الظاهري هو تكميل العدة، فأمره بتكميل
العدة بعد قوله: (شهر رمضان يصيبه النقصان كسائر الشهور) كالنص على أن تكميل
العدة عند احتمال الزيادة والنقصان حكم ظاهري، وجعل الواحد والثلاثين يوم الصوم
أو يوم الفطر أيضا حكم ظاهري.
وبالجملة: لا إشكال في أن المراد بالشهر والعيد ويوم النحر وغير ذلك من الأيام
في موضوع الأحكام ليس إلا الأيام الواقعية، كما لا إشكال في أن بناء المسلمين والأئمة
عليهم السلام على العمل بالظاهر، وترتيب آثار الواقع على اليوم الواحد والثلاثين من
رؤية هلال شهر شعبان أو شهر رمضان، وترتيب آثار الأول عليه، والثاني على ما بعده
وهكذا.
تذييل
ويذكر فيه أمور
الأمر الأول
إن استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت
أنه قد عرفت سابقا (2) أن استصحاب الفرد لا يغني عن الكلي وبالعكس، فإذا
تعلق حكم بالإنسان، فاستصحاب بقاء زيد لا يثبت آثار الانسان، لا لأن الفرد مقدمة

1 - التهذيب 4: 155 / 429، الاستبصار 2: 62 / 199، الوسائل 7: 189 / 1 - باب 5 من أبواب أحكام شهر
رمضان.
2 - تقدم في صفحة 84.
163

للكلي (1)، فإنه خلاف التحقيق، بل لأن حيثية الانسانية - في عالم الاعتبار وتقدير
موضوعية الموضوع للأحكام - غير حيثية الفردية وإن كان الفرد متحدا مع الطبيعي
خارجا، لكن لما كانت العناوين الطبيعية موجودة بوجود الفرد لدى العرف، فإذا تعلق
حكم بعنوان يسري إلى مصداقه الخارجي، فإذا شك في بقاء العنوان للمتشخص
الخارجي يمكن استصحابه وترتيب الأثر عليه، فإذا شك في بقاء عنوان الخمر المنطبق
على الموجود الخارجي يستصحب بقاء الخمر، ويترتب عليه أثرها.
وبالجملة: فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلي، وبين استصحاب
العنوان المنطبق على الخارج لترتيب أثره عليه، فإن ذلك استصحاب نفس العنوان
المتحقق في الخارج، فهو كاستصحاب نفس الكلي لترتيب آثاره.
والحاصل: أن هاهنا أمورا ثلاثة:
أحدها: عنوان الكلي بما أنه كلي.
والثاني: عنوان الفرد الذي هو متحد معه خارجا، ومختلف اعتبارا وحيثية.
والثالث: عنوان الكلي المتحقق في الخارج المتشخص في العين، ويجري
الاستصحاب في الأول والثالث لترتيب آثار العنوان دون الثاني:
أما في الأول فلا كلام فيه، وأما في الثالث فلا ينبغي الإشكال فيه، لأن الفرق بين
العنوان الكلي والخارجي بالتشخص واللا تشخص، وإلا فنفس العنوان محفوظ، فإذا
تعلق حكم بعنوان الكر يكون هذا الحكم متعلقا بكل ما هو كر في الخارج بعنوان أنه
كر فترتيب آثار الكرية باستصحاب كرية الماء الخارجي مما لا مانع منه، وأما استصحاب
وجود المائع الخارجي أو الوجود الخارجي - المتحد مع الكر لترتيب آثار الكرية -
فلا يجري إلا على القول بالأصل المثبت.

1 - قوانين الأصول 1: 141 سطر 8.
164

ومما ذكرنا: يتضح حال العناوين المتحدة مع المستصحب في الخارج مما هي من
قبيل الخارج المحمول، كاستصحاب الوجود لترتيب الوحدة أو التشخص، فإن ذلك
مثبت أيضا، فضلا عما هو من قبيل المحمول بالضميمة كالملكية والغصبية والسواد
والبياض، فإن كل ذلك من قبيل المحمول بالضميمة، إلا أن الضميمة في الأولين من
الاعتبارات العقلائية، بخلاف الأخيرين فإنهما من الأعراض الخارجية.
فما ادعاه المحقق الخراساني رحمه الله: من الفرق بين المحمول بالضميمة
والخارج المحمول (1)، ففيه ما لا يخفى.
كما أن في تمثيله للخارج المحمول بالملكية والغصبية (2) مناقشة، بل قد يكون في
بعض المحمولات بالضميمة مما لا يكون بنظر العرف كذلك فيجري الاستصحاب
لكونه من الوسائط الخفية.
الأمر الثاني
استصحاب الأحكام الوضعية
لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية كجريانه في الأحكام
التكليفية، لما تقدم (3) من أن الوضعيات بأقسامها مما يتعلق بها الجعل مستقلا، ولو فرض
عدم تعلقه بها إلا بمنشئها (4) فلا إشكال أيضا في جريانه فيها، لكون وضعها ورفعها
بيد الشارع.
إنما الإشكال في أن استصحاب وجود الشرط، أو عدم المانع، أو عدم الشرط،

1 و 2 - كفاية الأصول: 474.
3 - تقدم في صفحة 68.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 350 سطر 11.
165

أو وجود المانع هل يجري لإحراز وجود قيد المكلف به أو عدمه؟ فاستصحاب الوضوء
يحرز كون الصلاة متقيدة بالطهارة، واستصحاب عدم لابسية غير المأكول يحرز كون
الصلاة بلا مانع، واستصحاب عدم الشرط أو وجود المانع يحرز أن الصلاة وجدت غير
مقيدة بوجود الشرط أو وجدت مع المانع أو لا، أو يفصل بين استصحاب الشرط وعدم
المانع، فيحرز الأول دون الثاني؟
وما النكتة في أن جريان استصحاب الوضوء (1) وطهارة الثوب مما لم يقع فيهما
إشكال، وأما استصحاب عدم لا بسية غير المأكول صار موردا للنقض والإبرام (2)، مع
أن الطهارة الحدثية من قيود الصلاة!، كما أن الطهارة الخبثية من قيودها، أو النجاسة من
موانعها؟!
ولا يمكن أن يقال: إن الطهارة من شرائط المصلي لا الصلاة، وعدم المأكولية من
موانع الصلاة بحسب الأدلة (3) فإحراز طهارة المصلي بالاستصحاب يكفي لصحة
صلاته، لكن استصحاب عدم لابسية المصلي لغير المأكول لا يثبت تقيد الصلاة بعدم
كونها مع المانع إلا بالأصل المثبت (4).
وذلك لأن الصلاة لو لم تتقيد بالطهارة يلزم أن تصح مع عدم الطهارة ولو عمدا،
ولم يلتزم به أحد، ولو كانت الطهارة عنوانا للمصلي كالاستطاعة للزم عدم وجوب
الصلاة مع عدم التطهير.
هذا مضافا إلى أن ظاهر الأدلة أيضا يقتضي اشتراط الصلاة بها كقوله: (لا صلاة

1 - مفتاح الكرامة 1: 288 سطر 19، جواهر الكلام 2: 359.
2 - انظر الرسائل الفشاركية: 394، رسالة اللباس المشكوك للمحقق النائيني 2: 293 المطبوعة ضمن منية الطالب،
نهاية التقرير (تقرير بحث آية الله السيد البروجردي) 1: 184 و 185، مستمسك العروة الوثقى 5: 344 و 346.
3 - كموثقة ابن بكير المروية في الكافي 3: 397 / 1، التهذيب 2: 209 / 818، الوسائل 3: 250 / 1 - باب 2 من أبواب
لباس المصلي.
4 - انظر نهاية التقرير 1: 185.
166

إلا بطهور) (1) وظاهر الأدلة الواردة في النهي عن الصلاة في النجس (2)، كالأدلة الواردة
في عدم جوازها في غير المأكول من غير فرق بينهما.
والذي يمكن أن يقال: إن الميزان في التخلص من الأصل المثبت كما ذكرنا أن
يصير المستصحب مندرجا تحت كبرى شرعية، فإذا استصحبت الطهارة الخبثية
أو الحدثية يصير الموضوع مندرجا تحت الكبرى المستفادة من قوله: (لا صلاة إلا
بطهور)، فإن المستفاد منه أن الصلاة متحققة بالطهور بعد حفظ سائر الجهات، فإذا
قال الشارع: " إن الصلاة تتحقق بالطهور "، وقال في دليل آخر: " إن الطهور متحقق "
يحكم بصحة الصلاة المتحققة مع الطهور الاستصحابي، ويجوز الاكتفاء بالصلاة معه،
وكذا فيما إذا كان لابسا لغير المأكول يحرز فساد صلاته، فإن استصحاب لابسية وبر
غير المأكول مما يندرج الموضوع به في قوله: " الصلاة في وبر غير المأكول فاسدة ".
وأما استصحاب عدم لابسية غير المأكول فمما لا يندرج به الموضوع تحت كبرى
شرعية، لعدم ورود دليل شرعي ب‍ " أن الصلاة متحققة إذا لم تكن في غير المأكول " وإنما
هو أمر عقلي ينتزع من قوله: " الصلاة في كل شئ من غير المأكول فاسدة "، فيحكم
العقل بأن الصلاة إذا وجدت في غير ذلك لا تكون فاسدة.
هذا غاية ما يمكن أن يفرق بينهما.
ولكن مع ذلك لا يخلو من نظر، لإمكان أن يقال: إن مثل قوله: (لا صلاة
إلا بطهور) إنما هو بصدد جعل شرطية الطهور للصلاة، أو الإرشاد إليها، ومثل قوله:
" الصلاة في وبر ما لا يؤكل فاسدة "، أو " لا تصل فيه " (3) إنما هو بصدد جعل المانعية

1 - التهذيب 1: 49 / 144، الاستبصار 1: 55 / 160، الوسائل 1: 222 / 1 - باب 9 من أبواب أحكام الخلوة.
2 - انظر الكافي 3: 405 / 5، التهذيب 1: 263 / 766 و 279 / 819 و 2: 358 / 1485، الاستبصار 1: 189 /
662، الوسائل 2: 1017 / 2 - باب 13 و 1020 / 10 - باب 14 من أبواب النجاسات.
3 - انظر علل الشرائع: 342 / 2، التهذيب 2: 209 / 820، الوسائل 3: 251 / 5 - باب 2 من أبواب لباس المصلي،
مستدرك الوسائل 1: 201 / 2 - باب 2 من أبواب لباس المصلي.
167

أو الإرشاد إليها، وأما صحة الصلاة أو تحققها مع وجود الشرط أو فسادها وعدم تحققها
مع وجود المانع فعقلي لا شرعي.
اللهم إلا أن يقال: إن قوله: (لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه) وإن يستفاد منه
الوضع، لكن ليس مفاده إلا النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل، ولا شك في أنه كبرى
شرعية متلقاة من الشارع ينتزع العقل منها الشرطية، فإذا ضم إليها " أن هذا الملبوس مما
لا يؤكل " يستنتج منهما " أن لا تصل فيه، وأن الصلاة فيه فاسدة ".
وكذا قوله: (لا صلاة إلا بطهور) الظاهر في أن الصلاة مع الطهور صلاة وإن ينتزع
منه الشرطية، لكن لا تكون هذه الكبرى ساقطة، وليست الشرطية فيها ولا المانعية
في السابقة مفاد الأولى منهما، بل مفاد ذلك أن الصلاة مع الطهور صلاة، فإذا ضم إليه
قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) المستفاد منه أن الطهور متحقق يستنتج منهما " أن
الصلاة مع هذا الطهور صلاة " فيستفاد من الدليلين توسعة نطاق الشرط، وكذا في
جانب المانع.
وبالجملة: لا معنى لرفع اليد عن قول الشارع: " إن الصلاة في هذا الوبر
الاستصحابي فاسدة " أو " الصلاة مع الطهور الاستصحابي صلاة " بمجرد أن الدليلين
يستفاد منهما الشرطية أو المانعية.
الأمر الثالث
جريان الأصل بلحاظ الأثر العدمي
قد مر في مطاوي المباحث السالفة (1) أن الظاهر من الكبرى المجعولة في باب
الاستصحاب، أي قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) هو اعتبار بقاء اليقين، وأنه لما كان

1 - تقدم في صفحة 32 و 33.
168

أمرا مبرما كأنه حبل مشدود بين المتيقن والمتعلق لا ينقض بالشك الذي لا استحكام
فيه، لكونه حالة ترديدية، فلا ينبغي أن ينقض الأمر المستحكم المبرم بالأمر الغير المبرم،
ولعل هذا سر التعبير بقوله في صحيحة زرارة: (ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين
بالشك).
وبالجملة: الظاهر من الدليل هو اعتبار بقاء اليقين في عالم التشريع، ويحكم
العقل تخلصا عن اللغوية بأن الجعل الشرعي لا بد له من اثر يكون تحت يد الشارع،
ويترتب على هذا الاعتبار، لكن لا يلزم أن يكون الأثر أمرا وجوديا ولا أثرا عمليا، بل لو
ترتب عليه عدم لزوم العمل أو جواز ترك الإتيان فلا مانع منه، وليس في أدلة
الاستصحاب لفظ " العمل " ومثله حتى يقال: إنه ظاهر في الأثر الوجودي، وترك العمل
ليس عملا، وعدم ترتيب الأثر ليس أثرا.
وما قد يقال: من أن المراد بالنقض هو النقض العملي (1)، إن كان المراد منه أن
مفهوم العمل مأخوذ في الدليل فهو ظاهر الفساد، وإن كان المراد أنه لا بد في الجعل من
أثر يكون تحت يد الشارع لئلا تلزم اللغوية فهو حق، لكن رفع الكلفة عن المكلف
وعدم إلزامه بالعمل وأمثال ذلك مما تخرج الجعل عن اللغوية، فاستصحاب عدم التكليف
والوضع - وكذا استصحاب عدم الموضوعات لرفع الآثار المجعولة عليها - مما
لا مانع منه، تأمل.
الأمر الرابع
أثر الحكم الأعم من الواقعي والظاهري
قد اشتهر بين الأعلام أن الأثر الغير الشرعي والشرعي بواسطة أمر غير شرعي
لا يترتب على المستصحب إذا كان له واقعا، وأما إذا كان للحكم الأعم من الواقعي

1 - انظر على سبيل المثال كفاية الأصول: 444، درر الفوائد: 552.
169

والظاهري فيترتب عليه، لتحقق موضوعه الحقيقي وجدانا، فوجوب الموافقة وحرمة
المخالفة واستحقاق العقوبة من الآثار العقلية التي تترتب على الحكم الاستصحابي،
لكونها من آثار الحكم سواء كان بخطاب استصحابي أو خطاب واقعي (1).
ولا يخفى ما فيه من التسامح، لأن حرمة المخالفة ووجوب الموافقة واستحقاق
العقوبة كلها من آثار الحكم الواقعي عقلا، وأما الأحكام الظاهرية فليست في موافقتها
ولا مخالفتها من حيث هي شئ، لأنها أحكام طريقية للتحفظ على الواقع، فخطاب
(لا تنقض) كخطاب " صدق العادل " مثلا ليس من الخطابات النفسية التي يحكم العقل
بوجوب موافقتها وحرمة مخالفتها من حيث هي، ولا يكون في موافقتها ثواب،
ولا في مخالفتها عقاب إلا انقيادا أو تجريا، وإنما يحكم العقل بلزوم الإتيان بمؤدياتها
لكونها حجة على الواقع، فيحكم العقل من باب الاحتياط بلزوم موافقتها، لا لكونها
أحكاما ظاهرية، بل لاحتمال انطباقها على الواقع، فاستحقاق العقوبة إنما هو على
مخالفة الواقع لا الحكم الظاهري.
التنبيه السابع
في مجهولي التاريخ
لا إشكال في جريان الاستصحاب مع الشك في أصل تحقق شئ، ولا في جريانه
مع الشك في تقدمه وتأخره بالنسبة إلى أجزاء الزمان، فإذا شك في تحققه يوم الخميس
أو الجمعة يحكم بعدم وجوده إلى يوم الجمعة إذا كان الأثر مترتبا على عدمه كذلك،

1 - كفاية الأصول: 475 و 476، نهاية الأفكار 4: 187، الحاشية على كفاية الأصول (تقرير بحث آية الله السيد
البروجردي) 2: 421 - 422.
170

لا على حدوثه فيه أو تأخره عن يوم الخميس، وهذا واضح.
إنما الإشكال والكلام فيما إذا لوحظ بالنسبة إلى حادث آخر، كما إذا علم حدوث
الكرية والملاقاة وشك في المتقدم منهما.
ومجمل الكلام فيه: أن الحادثين إما أن يكونا مجهولي التاريخ أو أحدهما كذلك.
فعلى الأول: لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتبا على عدم تقدم أحدهما
على الآخر أو مقارنته له بنحو كان التامة، فاستصحاب عدم تحقق عنوان تقدم دخول زيد
على عمرو في البيت جار كاستصحاب سائر العناوين المتضايفة معه كذلك.
وكذا لا إشكال في جريانه إذا كان الأثر مترتبا على سلب اتصاف أحدهما بأحد
العناوين على نحو كان الناقصة، فاستصحاب أن زيدا لم يكن مقدما على عمرو في
دخول البيت مما لا مانع منه، لتمامية أركانه، فإنه قبل دخولهما يصدق أن زيدا لم يكن
مقدما على عمرو في الدخول بنحو السلب المحصل الصادق مع نفي الموضوع.
وكذا إذا كان الأثر مترتبا على تقدم دخول زيد على عمرو بنحو كان الناقصة،
فيستصحب عدم كون زيد مقدما على عمرو لسلب الأثر.
نعم: لا يجري الأصل إذا كان الأثر مترتبا على الثبوت المتصف بالعدم في زمان
حدوث الآخر، فإذا كان الأثر مترتبا على الكرية المتصفة بعدم حدوثها في زمان الملاقاة،
فلا يمكن إثبات هذا العنوان بأصالة عدم حدوثها إلى زمان الملاقاة إلا بالأصل المثبت،
لأن الكرية الكذائية ليست لها حالة سابقة.
وإذا كان الأثر مترتبا على نفس عدم كل منهما في زمان حدوث الآخر فالظاهر
جريانه، فاستصحاب عدم عقد الجد للصغيرة في زمان عقد الأب جار ومعارض
لاستصحاب عدم عقد الأب لها في زمان عقد الجد.
واختار المحقق الخراساني رحمه الله عدم الجريان في هذه الصورة، لعدم إحراز
171

اتصال زمان الشك باليقين (1)، وقبل تقرير كلامه لا بد من بيان ضابط عدم اتصال
زمان الشك باليقين المانع من جريان الاستصحاب.
ضابط اتصال زمان الشك باليقين
فنقول: إن المناط في اتصال زمانه به أن لا يتخلل بين اليقين المتعلق بشئ وبين
الشك في بقائه يقين آخر مضاد له، فإنه مع تخلل اليقين المضاد لا يعقل الشك في البقاء،
فعدم جريان الاستصحاب، لعدم اتصال زمان الشك باليقين، ولعدم صدق نقض
اليقين بالشك بالنسبة إلى اليقين الأول، بل يصدق نقض اليقين باليقين.
ثم إنه لا يعقل الشك في عدم اتصالهما، بحيث يصير الانسان شاكا في تخلل يقين
بالضد بين اليقين السابق والشك اللاحق فعلا، لأن الملاك أن يكون حين الجريان شاكا
ومتيقنا ومتصلا زمان شكه بيقينه بحسب حاله فعلا، ولا يمكن أن يكون الانسان شاكا في
أن له يقينا بأمر كذائي أو لا، اللهم إلا بعض أهل الوسوسة الشاكين في وجدانياتهم،
وهو خارج عن محل الكلام.
فإن قلت: لو علم المكلف بأنه كان مجنبا في أول النهار، وصار متطهرا منها جزما،
ثم رأى في ثوبه منيا، وعلم إجمالا بأنه إما من جنابته التي قطع بارتفاعها بالغسل، أو من
جنابة جديدة يكون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلويث الثوب ممنوعا،
لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين، لأن الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها
وبين التي قطع ببقائها، فيحتمل الفصل - بين زمان الشك، واليقين بحصول الجنابة -
بيقين بزوالها، فهذا من قبيل عدم إحراز الاتصال.

1 - كفاية الأصول: 478.
172

وكذا لو علم تفصيلا بكون شاة معينة موطوءة، وأخرى غير موطوءة، وعرض له
الشك بواسطة ظلمة وشبهها، فاستصحاب عدم الموطوئية المعلوم سابقا قبل عروض
الوطي لا يجري، لعدم إحراز اتصال زمان الشك باليقين، لاحتمال تخلل اليقين بالضد في
كل منهما.
وإن شئت قلت: تكون أمثاله من قبيل الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب،
للشك في أنها من نقض اليقين بالشك أو باليقين.
قلت: لا يكون شئ مما ذكر من قبيل ذلك:
أما الأول: فلأن عدم إجراء الاستصحاب فيه ليس لعدم إحراز الاتصال، بل
لعدم اليقين السابق لا تفصيلا ولا إجمالا، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلأن كون هذا
المني في الثوب من جنابة معلومة بالتفصيل أو الاجمال مما لا أثر له، بل الأثر مترتب على
العلم بكون المكلف كان جنبا تفصيلا أو إجمالا فشك في بقائها، والمفروض أنه يعلم
تفصيلا بحصول جنابة له أول النهار وزوالها بالغسل بعده، ويشك بدوا في حصول
جنابة جديدة له، فأين العلم الاجمالي حتى يستصحب؟! فعلمه الاجمالي مما لا أثر له،
وما له أثر لا يعلم به.
إن قلت: إنه يعلم بكونه جنبا بعد خروج الأثر المردد ولم يعلم بارتفاعها.
قلت: لا يجري الاستصحاب الشخصي فيه، لدوران الشخص بين جنابة أول
النهار وجنابة بعد الزوال، والأولى مقطوعة الزوال، والثانية محتملة الحدوث، فعدم
الجريان لعدم تمامية أركانه في شئ منهما، ولا الكلي، للعلم بعدم الاتصال في المثال.
نعم: لو احتمل حدوث جنابة عند ارتفاع الأولى يكون من القسم الثالث، ولو
اشتهى أحد أن يمثل لعدم إحراز الاتصال فله أن يقول في المثال: لو احتمل حدوث
جنابة، واحتمل كون المحتمل حادثا عند زوال الأولى بلا فصل، واحتمل الفصل فإن
173

عدم جريان الكلي في الفرض لعدم إحراز الاتصال بمعنى لا بالمعنى المتقدم، فتدبر
وتأمل.
وعلى ذلك يعتبر في الاستصحاب - مضافا إلى ما مر من الاتصال - إحراز كون
الشك في البقاء، وقد سبق منا اعتبار ذلك واستفادته من أدلته (1).
لكن يرد عليه: أن ما هو المعتبر فيه هو إحراز كون الشك في البقاء، لا إحراز
البقاء، فإنه مناف للاستصحاب، ومع احتمال حدوث مصداق آخر مقارنا يحرز الشك
في البقاء، وإن احتمل الانفصال أيضا، كما لا يخفى.
وأما المثال الثاني: فلأن كل واحدة من الشاتين ما دام بقاء الظلمة يكون الشك
في وطئها متصلا باليقين بعدم وطئها، ولا يحتمل المكلف في الحال وجود يقين فعلي
فاصل بين اليقين السابق والشك اللاحق.
وإن شئت قلت: إن يقينه التفصيلي ارتفع بواسطة عروض الجهل، وحدث علم
إجمالي يكون كل من طرفيه شكا محضا لا يحتمل فيه اليقين.
ومما ذكرنا: يتضح النظر فيما أتعب بعض أعاظم العصر نفسه في ضابط عدم
اتصال زمان الشك باليقين، وتمثيله بإناء شرقي وغربي علم تفصيلا بنجاستهما، وأصاب
أحدهما المطر، وتفصيله بين ما إذا علم إجمالا بإصابة المطر أحدهما، فاختار جريان
الاستصحاب، وبين ما علم تفصيلا بإصابته خصوص ما كان في الطرف الشرقي، ثم
عرض له الاشتباه، فاختار عدم الجريان لعدم الاتصال قائلا: إنه لا يعقل اتصال زمان
الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما، لأن المفروض أنه قد انقضى على أحد
الإناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة، ولا زمان الشك فيها، فكيف يعقل اتصال
زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين؟ فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كل

1 - تقدم في صفحة 113.
174

منهما، لأنه في كل إناء منهما يحتمل أن يكون هو الإناء الذي تعلق العلم بطهارته، ففي
كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين (1) انتهى.
وذلك لأن العلم التفصيلي الحاصل في زمان مع تبدله بالشك في زمان آخر
لا يضر بالاستصحاب، فإن الميزان أن يكون زمان الشك متصلا باليقين في حال جريانه
لا قبله، وفي حاله لا يكون للمكلف بالنسبة إلى الإناء المشتبه إلا العلم بالنجاسة سابقا،
والشك في إصابته المطر، ولا يحتمل في حاله تخلل اليقين بإصابته المطر بين العلم
والشك.
وليس معنى اتصال زمان الشك باليقين أن لا يمر على المشكوك فيه زمان يكون
متعلقا للعلم ولو انقلب إلى الجهل، ضرورة أن المناط بحال إجراء الأصل، فلو حصل
للمكلف ألف علم بضد الحالة السابقة، ولم يكن في حال الجريان إلا العلم والشك،
من غير تخلل علم بالضد أو احتماله - مع أن الاحتمال في المقام لا يمكن كما عرفت -
يكون جريانه بلا مانع، ويكون من عدم نقض اليقين بالشك، وهذا واضح جدا.
فتحصل مما ذكرنا: أن الضابط في اتصال زمان الشك باليقين هو أن المكلف في
حال إجراء الأصل يكون على يقين متعلق بشئ وشك في بقائه، ولا يكون في هذا
الحال له يقين آخر مضاد ليقينه، فاصل بينه وبين شكه ولا احتماله، واعتباره في
الاستصحاب وأوضح من أن يخفى، لأنه إذا كان له يقينان كذلك ينتقض يقينه السابق
باليقين اللاحق، فلا يكون شاكا في بقاء ما تعلق به اليقين الأول.
إذا عرفت ذلك: يتضح أن جريان الأصل في مجهولي التأريخ لا مانع منه إذا كان
الأثر مترتبا على عدم كل منهما في زمان وجود الآخر، ولا يكون زمان اليقين منفصلا عن
زمان الشك بيقين مضاد لليقين السابق، ولا يحتمل ذلك أيضا، كما عرفت.

1 - انظر فوائد الأصول 4: 510 - 515.
175

إشكال المحقق الخراساني في مجهولي التأريخ وجوابه
وما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله في بيان عدم اتصال زمان الشك باليقين:
من فرض زمانين بعد زمان العلم بعدم حدوثهما، أحدهما زمان حدوث واحد منهما،
والثاني زمان حدوث الآخر، والشك في الآن الأول منهما وإن كان شكا في وجود كل
منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان، ولكن لا يكون شكا فيه بالإضافة إلى الآخر إلا في الآن
الثاني، لأن الشك في المتقدم والمتأخر منهما لا يمكن إلا بعد العلم بوجودهما، فزمان
الثالث زمان الشك في المتقدم والمتأخر، أو الشك في وجود أحدهما بالإضافة إلى زمان
وجود الآخر، وهو ظرف العلم الاجمالي بوجود كل منهما إما في الزمان المتقدم، أو في
الزمان المتأخر، ولما شك في أن أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال زمان الشك
باليقين (1)، انتهى ملخصا.
فيه: أنه إن أراد بعدم الاتصال أن الزمان الثاني لا يكون ظرفا للشك ولا لليقين،
بل الزمان الأول ظرف لليقين بعدمهما، وزمان الثاني ظرف للشك في وجود كل منهما
بالنسبة إلى أجزاء الزمان، لا بالنسبة إلى الآخر الذي هو مضايفه، فلا يكون ظرفا للشك
بالنسبة إليه كذلك إلا الزمان الثالث، فانفصل الزمان الثالث عن الأول بزمان لا يكون
ظرفا للشك ولا لليقين، فلا يكون زمان اليقين متصلا بزمان الشك.
فيرد عليه: - مضافا إلى أن المفروض في هذا القسم عدم أخذ الإضافة إلى الآخر
قيدا له، فيكون الزمان الثاني ظرفا للشك أيضا، وإن كان الأثر لا يترتب إلا على عدمه في
زمان وجود الآخر، لا على عدمه في الزمان الثاني - أنه لا دليل على اعتبار هذا النحو من
الاتصال، فلا مانع من فصل زمان اليقين عن زمان الشك بزمان لا يكون ظرفا للشك

1 - كفاية الأصول: 478 و 479.
176

ولا لليقين، وإنما المانع فصل يقين متعلق بضد ما يتعلق به اليقين الأول، أو احتمال
فصله، وهذا الاحتمال وإن كان بعيدا عن مساق كلامه، لكن ذكرناه تتميما للفائدة.
وإن أراد من عدم الاتصال بينهما ما هو ظاهر كلامه، من أن العلم الاجمالي
بحدوثه مقدما أو مؤخرا موجب لعدم إحراز الاتصال، لاحتمال انفصال زمان الشك
عن اليقين بحدوث ما يستصحب عدمه.
فيرد عليه: أن احتمال انفصال ذات المعلوم بالإجمال بين زمان اليقين والشك مما
لا يضر بالاستصحاب، لأن ذلك محقق لنفس الشك، واحتمال انفصال العلم بالحدوث
بينهما مقطوع البطلان، لأن ذلك مساوق لاحتمال كون المشكوك فيه متيقنا، وكون الشك
يقينا، وكون المعلوم بالإجمال معلوما تفصيليا، وكل ذلك ضروري البطلان.
ولعل منشأ هذا الاشتباه شدة اتصال اليقين بالمتيقن، فيكون احتمال انفصال
المتيقن بين زمان اليقين والشك موجبا لزعم احتمال انفصال اليقين، مع أن الأول غير
مضر، والثاني غير واقع، بل غير معقول.
فتحصل مما ذكر: أن جريان الأصل في مجهولي التأريخ مما لا مانع منه.
تقرير إشكال شيخنا العلامة في مجهولي التأريخ وجوابه
إن قلت: إن الاستصحاب في مجهولي التأريخ غير جار، لا لعدم إحراز الاتصال،
بل لعدم إحراز كونه من نقض اليقين بالشك، واحتمال كونه من نقض اليقين باليقين.
وبعبارة أخرى: ان جريانه فيهما من التمسك بعموم دليل الاستصحاب في
الشبهة المصداقية.
بيانه: أنه لو فرض اليقين بعدم الكرية والملاقاة في أول النهار، وعلمنا بتحقق
177

إحداهما في وسطه، وتحقق الأخرى في الجزء الأول من الليل، فالجزء الأول من الليل
ظرف اليقين بتحقق كلتيهما، وظرف احتمال حدوث كل منهما، للعلم الاجمالي بحدوث
كل منهما، إما في وسط النهار، أو في أول الليل، فاستصحاب عدم كل منهما إلى زمان
الوجود الواقعي للأخرى يحتمل أن يكون من نقض اليقين باليقين، لاحتمال حدوثه في
الجزء الأول من الليل، وهو ظرف العلم بتحقق كلتيهما: إما سابقا، وإما في هذا الجزء.
فاستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرية يحتمل أن يجري إلى
الجزء الأول من الليل الذي هو ظرف احتمال حدوث الكرية، لأنها تحتمل أن تكون
حادثة في وسط النهار، أو أول الليل، والجريان إلى الليل من نقض اليقين باليقين، لأن
ذلك الجزء ظرف اليقين بحصول الملاقاة، إما فيه، وإما قبله، وكذا الحال بالنسبة إلى
الحادث الآخر، ومن شرائط جريان الأصل إحراز أن يكون المورد من نقض اليقين
بالشك (1).
قلت: هذا الإشكال مما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مجلس بحثه،
واختار عدم جريان الأصل في مجهولي التأريخ لأجله، ولعله أحد محتملات الكفاية (2)،
وإن كان بعيدا عن سوق عبارتها.
وجوابه: أنه فرق واضح بين استصحاب عدم الملاقاة إلى الجزء الأول من الليل،
وبين استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الوجود الواقعي للكرية، فإن مفاد الأول عدم
حصول الملاقاة في أجزاء الزمان إلى الجزء الأول من الليل الذي هو ظرف اليقين بتحقق
الملاقاة.
وأما الثاني فمفاده أو لازمه تأخر الملاقاة عن الكرية، ولهذا لو أخبرت البينة بأن
الملاقاة لم تحصل إلى الجزء الأول من الليل، بحيث كانت الغاية داخلة في المغيى

1 - انظر هامش درر الفوائد: 566.
2 - كفاية الأصول: 478 - 479، وقد تقدم في صفحة 176 و 177.
178

نكذبها، للعلم بخلافها، وأما لو أخبرت بأن الملاقاة لم تحصل إلى زمان الكرية نصدقها،
ونحكم بأن الكرية المرددة بين كونها حادثة في وسط النهار أو الجزء الأول من الليل
حدثت في وسط النهار، والملاقاة حدثت متأخرة عنها في الجزء الأول من الليل، وكذا لو
كانت لوازم الاستصحاب حجة.
فاستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى الجزء الأول من الليل بحيث تكون الغاية
داخلة في المغيى غير جار للعلم بخلافه، بخلاف استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان
حصول الكرية، فإن استصحابه مساوق لتقدم حصول الكرية على الملاقاة، وحدوث
الكرية في وسط النهار، وحدوث الملاقاة في الجزء الأول من الليل.
وهذا دليل على أن مفاد هذا الاستصحاب ليس جر المستصحب إلى الجزء الأول
من الليل حتى يكون من نقض اليقين باليقين، بل مفاده عدم حصول المستصحب في
زمان تحقق الآخر، ولازمه تأخره عن صاحبه.
وبعبارة أخرى: أن احتمالي حدوث الحادثين متبادلان، بمعنى أن احتمال
حدوث الكرية في الجزء الأول من الليل بدليل لاحتمال حدوث الملاقاة في وسط النهار
وبالعكس، واحتمال عدم حدوث الكرية إلى زمان الملاقاة مساوق لاحتمال حدوث
الملاقاة في وسط النهار، فأصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة ترجيح لهذا الاحتمال،
ولازمه تأخر الكرية عن زمان الملاقاة، لا عدم تحقق الكرية إلى الجزء الأول من الليل.
وإن شئت قلت: لازم عدم الكرية في زمن الملاقاة تحققها في الجزء الأول من
الليل، لا عدم تحققها إليه، فلو كان الأصل المثبت حجة نحكم بتأخرها عنه، وحصولها في
الجزء الأول من الليل، وحصول الملاقاة في وسط النهار، لكن مقتضى عدم حجية الأصل
المثبت أن لا يترتب الأثر إلا على نفس عنوان عدم وجود الملاقاة في زمن الكرية، أو
عدم الكرية في زمن الملاقاة، وليس ذلك إلا من نقض اليقين بالشك، ولا يلزم منه جر
179

عدم الملاقاة إلى زمان العلم به، فتدبر جيدا، هذا حال مجهولي التأريخ.
وأما لو كان تأريخ أحدهما معلوما، فاستصحاب مجهول التأريخ منهما جار،
واختار المحقق الخراساني الجريان فيه قائلا: إن زمان اليقين فيه متصل بالشك (1).
وفيه: أنه لو كان المراد من عدم الاتصال في مجهولي التأريخ أحد الوجهين
الأولين فلا فرق بين مجهولي التأريخ وبين ما نحن فيه، لأن المانع لو كان العلم الاجمالي
أو كون الزمان الأول من الزمانين غير ظرف الشك يكون ما نحن فيه أيضا كذلك.
نعم: بناء على كون مراده من عدم الاتصال هو الذي أفاده شيخنا العلامة كان
بينهما فرق، فإن استصحاب عدم مجهول التأريخ إلى زمان وجود معلوم التأريخ ليس
إلا عدم نقض اليقين بالشك، ولا تأتي فيه الشبهة التي عرفتها وعرفت دفعها.
فتحصل من جميع ما تقدم: أن الاستصحاب في مجهول التأريخ مطلقا لا إشكال
فيه، وأما في معلوم التأريخ فلا يجري إلا على بعض الوجوه المتقدمة.
تكميل
فروض ترتب الأثر على وجود الحادثين
ربما يكون الأثر مترتبا على وجود الحادثين في زمان الشك، ويشك في المتقدم
منهما، كما لو تيقن الحدث والطهارة، وشك في المتقدم، أو تيقن إصابة النجس لثوبه
وغسله، وشك في المتقدم.
فحينئذ: تارة يكون كل منهما مجهول التأريخ، وتارة يكون أحدهما معلوم التأريخ،
وعلى التقديرين، تارة تكون الحالة السابقة على عروض الحالتين معلومة، وأخرى تكون

1 - نفس المصدر: 480.
180

غير معلومة، فإن كانت معلومة، فتارة تكون الحالة السابقة على الحالتين مساوية في
الأثر مع إحدى الحالتين العارضتين، وأخرى تكون زائدة في الأثر، وثالثة تكون ناقصة.
فإن لم تكن الحالة السابقة معلومة فاستصحاب بقاء كل من الحادثين جار
ومعارض بمثله من غير فرق بين معلوم التأريخ ومجهوله.
وما عن بعض متأخري المتأخرين: من التفصيل بينهما، فذهب إلى التعارض في
مجهولي التأريخ، وحكم في معلوم التأريخ بأصالة تأخر الحادث (1)، ففيه ما لا يخفى.
وإن كانت الحالة السابقة على عروض الحادثين معلومة، وكانت مساوية لإحدى
الحالتين العارضتين، كما لو تيقن الحدث والطهارة، وكانت الحالة السابقة عليهما الحدث
أو الطهارة، فعن المشهور في خصوص الفرع هو الحكم بلزوم التطهير، لمعارضة
استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة، وحكم العقل بتحصيل الطهارة للصلاة،
لقاعدة الاشتغال (2).
وعن المحقق في " المعتبر " لزوم الأخذ بضد الحالة السابقة، لأنها ارتفعت يقينا
وانقلبت إلى ضدها، وارتفاع الضد غير معلوم.
قال على ما حكي عنه: يمكن أن يقال ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين، فإن
كان حدثا بنى على الطهارة، لأنه تيقن انتقاله عن تلك الحالة إلى الطهارة، ولم يعلم
تجدد الانتقاض، فصار متيقنا للطهارة، وشاكا في الحدث فيبني على الطهارة، وإن كان
قبل تصادم الاحتمالين متطهرا بنى على الحدث، لعين ما ذكرنا من التنزيل (3) انتهى.

1 - الدرة النجفية (منظومة السيد بحر العلوم): 23.
2 - ما حكي عن المشهور لا يختص بالفرع المذكور، فانظر منتهى المطلب 1: 74 سطر 24، مفتاح الكرامة 1: 289، جواهر
الكلام 2: 350 و 351، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 158 سطر 9، مصباح الفقيه 1: 202 سطر 16،
مستمسك العروة الوثقى 2: 495.
3 - المعتبر: 45 سطر 17، وقد حكى قول المحقق جماعة منهم المقداد السيوري في التنقيح الرائع 1: 89 وأصحاب
الذخيرة والجواهر ومصباح الفقيه وغيرهم.
181

ونسب هذا التفصيل إلى مشهور المتأخرين (1).
ولقد تصدى لرده جمع من المحققين كالشيخ الأعظم (2)، وصاحب " مصباح
الفقيه (3)، وبعض أعاظم العصر (4) بما لا داعي لنقل كلامهم.
تحقيق الحال في المقام
والتحقيق عندي: هو قول المحقق في مجهولي التأريخ، والتفصيل في معلومه بأنه
إن كان معلوم التأريخ هو ضد الحالة السابقة فكالمحقق، وإلا فكالمشهور، وإن انطبق
المسلكان نتيجة أحيانا.
أما في مجهولي التأريخ: فلأن الحدث أمر واحد له أسباب كثيرة، وتكون سببية
الأسباب الكثيرة للشئ الواحد سببية اقتضائية، بمعنى أن كل سبب يتقدم في الوجود
الخارجي يصير سببا فعليا مؤثرا في حصول المسبب، وإذا وجدت سائر الأسباب بعده لم
تتصف بالسببية الفعلية، ضرورة أن الحدث إذا وجد بالنوم لا يكون نوم آخر بعده أو بول
أو غيرهما موجبا لحدوثه، ولا يكون شئ منهما سببا فعليا، بل سببيتها الفعلية موقوفة
على حدوثها لدى كون المكلف متطهرا لم تسبقه سائر الموجبات، فإذا كان المكلف متيقنا
بكونه محدثا في أول النهار، فعلم بحدوث طهارة وحدث أثناء النهار، وشك في المتقدم
والمتأخر يكون استصحاب الطهارة المتيقنة مما لا إشكال فيه.
ولا يجري استصحاب الحدث، لعدم تيقن الحالة السابقة، لا تفصيلا ولا إجمالا،
فإن الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحققا أول النهار قد زال يقينا، وليس له علم

1 - الناسب هو شارح الجعفرية كما في كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 159 سطر 9.
2 - نفس المصدر: 159 سطر 15.
3 - مصباح الفقيه 1: 204 سطر 13.
4 - أجود التقريرات 2: 435، فوائد الأصول 4: 524 و 525.
182

إجمالي بوجود الحدث، إما قبل الوضوء أو بعده، لأن الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي،
وبعده مشكوك فيه بالشك البدوي.
وما يقال: من أن وجود الحدث بعد تحقق السبب الثاني معلوم، وإن لم يعلم أنه
من السبب الثاني أو الأول، ورفع اليد عنه نقض اليقين بالشك (1).
مدفوع: بأن هذا خلط بين العلم التفصيلي والشك البدوي، وبين العلم الاجمالي،
فإن وجود الحدث قبل الوضوء معلوم بالتفصيل، ولا إجمال فيه أصلا، ووجوده بعده
احتمال بدوي، فدعوى العلم الاجمالي في غير محلها.
والقول: بأنا نعلم أن الحدث بعد السبب الثاني موجود إما بهذا السبب أو بسبب
أخر عبارة أخرى عن القول: بأنا نعلم أن الحدث بعد السبب الثاني موجود إما قبل
الوضوء أو بعده، وقد عرفت أنه ليس علما إجماليا.
وإن شئت قلت: إن المعلوم بالإجمال هو السبب الثاني، لا بوصف السببية
الفعلية، بل الأعم من ذلك، فإنا نعلم إجمالا وجود النوم إما قبل الوضوء أو بعده، وهو ليس
مجرى الاستصحاب، وأما الحدث فليس معلوما بالإجمال، بل معلوم بالتفصيل قبل
الوضوء، ومحتمل بدوي بعده.
وهذا نظير العلم الاجمالي بأن الأثر الحاصل في ثوبه إما من الجنابة التي اغتسل
منها، أو من جنابة جديدة، حيث إن العلم الاجمالي بأن هذا إما من تلك الجنابة، أو من
هذه حاصل، ولكنه ليس منشأ للأثر، وأما نفس الجنابة فليست معلومة بالإجمال، بل
الجنابة قبل الغسل معلومة تفصيلا، ورفعها معلوم أيضا، وبعده مشكوك فيها بالشك
البدوي، وليست طرفا للعلم الاجمالي.
والفرق بين هذا المثال وما نحن فيه: أن العلم الاجمالي فيما نحن فيه يكون في تحقق

1 - انظر جواهر الكلام 2: 352، مصباح الفقيه 1: 204 سطر 13 و 19.
183

السبب الأعم من الاقتضائي والفعلي، وهو مما لا أثر له، ولا يجري فيه الاستصحاب، وفي
المثال يكون في أن الأثر من تلك الجنابة أو من هذه، وهذا أيضا لا أثر له، وأما نفس
الجنابة والحدث فليستا معلومتين بالإجمال، بل كل منهما معلوم بالتفصيل قبل التطهر،
ومشكوك فيه بعده.
وإن شئت توضيح ما ذكرنا نقول: إن العلم الاجمالي بالنوم إما قبل الوضوء
أو بعده فيما نحن فيه، كالعلم الاجمالي بوجود الخفقة والخفقتين قبل الوضوء أو النوم،
لأن النوم قبل الوضوء، أي في زمان الحدث ليس سببا له، كما أن الخفقة والخفقتين ليستا
كذلك، فكما أن العلم الاجمالي في المثال لا يؤثر شيئا، كذلك فيما نحن فيه.
وإن صح أن يقال في المثال: علم إجمالا بتحقق الحدث بعد هذا الأمر الحادث
إما من جهة السبب الأول، وإما من جهة السبب الحادث، فإن هذا الحدث إن وجد
قبل الوضوء كان الحدث موجودا بعده بالسبب الأول، وإن وجد بعده كان موجودا
بسببه.
مع أنه لا أظن بأحد أن يستصحب هذا الحدث، وليس ذلك إلا لأجل وضوح
عدم العلم الاجمالي، وأن الحدث المعلوم بالتفصيل ليس طرفا للترديد ومصححا
للإجمال المعتبر في العلم الاجمالي، ولا فرق بالضرورة بين النوم بعد الحدث، والخفقة
والخفقتين في عدم سببيتهما فعلا للحدث. وكون النوم سببا - لولا سبقه بالحدث - لا
يوجب فرقا كما هو واضح.
وبتقريب آخر: أن الحدث في المثال مردد بين فردين، أحدهما مقطوع الزوال،
والآخر محتمل الحدوث، فإنه إن وجد السبب قبل الوضوء يكون محدثا بالسبب الأول،
وهو مصداق من الحدث، وإن وجد بعده يكون الحدث مصداقا حادثا من السبب
الثاني.
184

فحينئذ: إن أريد استصحاب الفرد فلا يجري لاختلال أركانه، فإن المصداق
الأول مقطوع الزوال، والمصداق الثاني محتمل الحدوث، وإن أريد استصحاب الكلي
فلا يجري، لعدم الاتصال بين زوال الفرد الأول واحتمال حدوث الفرد الآخر، وفي مثله
لا يكون شك في البقاء، ولا أظنك بعد التأمل فيما ذكرنا أن تشك فيه. هذا حال مجهولي
التأريخ.
فيما إذا كان أحدهما معلوم التأريخ
وأما إذا جهل تأريخ الحدث وعلم تأريخ الطهارة، مع كون الحالة السابقة هي
الحدث، فاستصحاب الحدث لا يجري، لعين ما ذكرنا في مجهولي التأريخ، من عدم العلم
الاجمالي بالحدث، فلا تكون حالة سابقة متيقنة للحدث، ولكن استصحاب الطهارة
لا مانع منه.
فإذا علم كونه محدثا في أول النهار، وعلم أنه صار في أول الظهر متطهرا، وعلم
بحدوث حدث اما بعد الطهارة، وإما قبلها لا يجري استصحاب الحدث، للعلم بزوال
الحدث المعلوم تفصيلا، وعدم العلم بتحقق حدث غيره، وأما استصحاب الطهارة
المتحققة في أول الظهر فجار، للعلم بوجودها، والشك في زوالها، ففي هذه الصورة
نحكم بكونه متطهرا.
وإذا جهل تأريخ الطهارة مع العلم بالحدث سابقا، وعلم تأريخ الحدث،
فاستصحاب الحدث المعلوم التأريخ يعارض استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال،
ونحكم بلزوم التطهر عقلا، لقاعدة الاشتغال.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى القاعدة هو الأخذ بضد الحالة السابقة في
185

مجهولي التأريخ لأجل استصحاب الحالة المضادة من غير معارض له، وكذا فيما إذا علم
تأريخ ما هو ضد للحالة السابقة، لعين ما ذكر.
وأما فيما إذا علم تأريخ ما هو مثل للحالة السابقة، كما إذا تيقن الحدث في أول
النهار، وتيقن بحدث آخر في الظهر، وتيقن بطهارة إما قبل الظهر أو بعده، فيجب
تحصيل الطهارة، لتعارض استصحاب الحدث المعلوم في الظهر - للعلم به والشك في
زواله - مع استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال، للعلم بوجودها إما قبل الظهر
أو بعده، والشك في زوالها.
وما قيل: من ترددها بين ما هو مقطوع الزوال وما هو مشكوك الحدوث، فلا
يجري فيها الاستصحاب (1) مردود بأن ذلك محقق الشك، ورفع اليد عن العلم الاجمالي
باحتمال الزوال نقض لليقين بالشك، ضرورة أنا نعلم بتحقق طهارة عقيب الغسل أو
الوضوء، وشككنا في زوالها، واحتملنا بقاء المتيقن، فلا يكون رفع اليد عنه إلا نقض
اليقين بالشك.
إن قلت: لا فرق بين معلوم التأريخ في الفرض ومجهوله، فإن الحدث المعلوم في
أول الزوال مردد بين ما هو باق من أول النهار، أو حادث في الحال، والأول متيقن
الزوال، والآخر مشكوك الحدوث.
قلت: نعم لكن استصحاب الكلي لا مانع منه، لأن الكلي في أول الزوال معلوم
التحقق ومحتمل البقاء، من غير ورود إشكال مجهول التأريخ عليه، لأن الفرد المعلوم
منفصل بالطهور جزما عن الفرد المحتمل في مجهوله دون معلومه، وهذا هو المائز بينهما،
فتدبر لئلا يختلط الأمر عليك.
ومما ذكرنا: يعلم حال جميع الصور المتصورة في الباب، وكذا حال عروض

1 - انظر كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 109 سطر 24، مصباح الفقيه 1: 204 سطر 22.
186

النجاسة والطهور على الثوب فيما كانت الحالة السابقة على عروض الحالتين مساوية
للحالة العارضة في الأثر أو زائدة عليها، كما إذا علم بتنجس ثوبه أول النهار بالدم،
وعلم بعروض دم آخر، وعروض طهارة على الثوب، أو علم بعروض نجاسة بوليه عليه
أول النهار، وعلم بعروض نجاسة دموية وطهارة عليه، مع الجهل بتأريخهما أو بتأريخ
أحدهما، فإن حكم هذه الصور حكم ما ذكرنا في الحدث والطهارة.
وأما إذا كانت الحالة السابقة دونها في الأثر، فاستصحاب النجاسة المعلومة
بالإجمال يجري، ويعارض استصحاب الطهارة، سواء جهل تأريخهما، أو تأريخ
أحدهما، وبعد التعارض يرجع إلى أصل الطهارة، وعليك بالتأمل التام في أطراف ما
ذكرنا، فإنه حقيق بذلك.
حول كلام بعض العلماء وما فيه
ثم إن بعض أعاظم العصر ذهب إلى عدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان
الكرية حتى فيما إذا علم تأريخ الكرية، فحكم فيما إذا كان الماء مسبوقا بعد م الكرية
والملاقاة فتيقنهما بنجاسة الماء مطلقا، سواء جهل تأريخهما، أو علم تاريخ أحدهما،
لعدم جريان أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية، لأن الظاهر من قوله: (إذا بلغ الماء قدر
كر لا ينجسه شئ) (1) هو أنه يعتبر في العاصمية، وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرية ولو آنا
ما، وكل موضوع لابد وأن يكون مقدما على الحكم، فيعتبر في الحكم بعدم التأثير من
سبق الكرية.
وأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا تثبت سبق الكرية على الملاقاة إلى أن

1 - تقدم تخريجه في صفحة 132.
187

قال: فظهر أنه لا بد من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقا.
نعم: لولا كون التعليق على الأمر الوجودي يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال
الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتأريخ الكرية (1)، إنتهى.
وفيه: أن موضوع الانفعال هو الماء الذي لم يبلغ كرا بحسب الواقع، فأصالة عدم
الملاقاة إلى زمان الكرية يترتب عليها عدم الانفعال، فإنها تنفي الملاقاة إلى زمان الكرية،
وعدم ملاقاة الماء المفروض للنجس إلى زمان الكرية يكفي في الحكم بطهارته، ولا يلزم
إحراز سبق كريته.
نعم: لابد في إثبات أحكام سبق الكر من إحرازه ولا نحتاج في الحكم
بالطهارة إلى إحرازه، بل يكفي فيه التعبد بعدم الملاقاة إلى زمانها، وما ذكره من أن
تعليق حكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه فهو أيضا مما لا دليل عليه سوى الدعوى.
التنبيه الثامن
في موارد التمسك بالعموم، واستصحاب حكم المخصص
إذا ورد عموم أفرادي يتعقبه دليل مخرج لبعض أفراده عن حكمه في زمان، بحيث
لا يكون للدليل المخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلى غير ذلك الزمان، فهل يتمسك
باستصحاب حكم دليل المخرج (2) أو بعموم العام أو إطلاقه (3) أو يفصل بين
المقامات (4)؟

1 - انظر فوائد الأصول 4: 528 - 530.
2 - اختاره السيد بحر العلوم، وقد لخص كلامه صاحب الفصول الغروية: 214 سطر 31.
3 - جامع المقاصد 4: 38.
4 - صور التفصيل مختلفة، فمنها تفصيل لصاحب رياض المسائل وآخر للشيخ وثالث للآخوند.
188

الأقوى هو الأوسط (1)، ويتضح المرام بعد التنبيه على أمور:
الأول: أنه يتصور ورود العام على أنحاء:
فتارة: يلاحظ المتكلم الأزمنة مستقلة على نحو العام الأصولي مثل: " أكرم
العلماء في كل يوم ".
وحينئذ: قد يكون الظرف متعلقا بالهيئة، أي يجب في كل يوم إكرام العلماء، وقد
يكون متعلقا بالمادة، أي الإكرام في كل يوم واجب، وقد يكون متعلقا بالموضوع بنحو
من التأويل، أي يجب إكرام العلماء الكائنين في كل يوم، وقد يكون متعلقا بالنسبة
الحكمية، أي ثبوت وجوب إكرام العلماء في كل يوم.
وهذه التراكيب وإن كانت متصورة لكنها مجرد تصور، وإلا فالظاهر من القضايا
- لو خليت عن القرائن - هو كون الظرف متعلقا للنسبة الحكمية، فقوله: " أكرم العلماء
في يوم الجمعة " كقوله: " جاءني العلماء في يوم الجمعة " الظاهر منه أن يوم الجمعة ظرف
إكرامهم ومجيئهم، أعني الإكرام والمجئ المنتسبين إليهم بما أنهما منتسبان إليهم.
وتارة: يلاحظها بنحو العام المجموعي.
وثالثة: يلاحظ الزمان مستمرا على نحو تحققه الاستمراري كقوله: " أوفوا بالعقود
مستمرا أو دائما " لا بمعنى وجوب الوفاء في كل يوم مستقلا، ولا بنحو العام المجموعي،
حتى لو فرض عدم الوفاء في زمان سقط التكليف بعده.
بل بنحو يكون المطلوب وجوبه مستمرا، بحيث لو وفى المكلف إلى آخر الأبد
يكون مطيعا إطاعة واحدة، ولو تخلف في بعض الأوقات تكون البقية مطلوبة لا بطلب
مستقل أو مطلوبية مستقلة، بل بالطلب الأول الذي جعل الحكم كلازم الماهية
للموضوع، فلو قال المولى: " لا تهن زيدا " فترك العبد إهانته مطلقا كان مطيعا له إطاعة

1 - انظر تحقيق الإمام قدس سره في فورية خيار الغبن من كتاب البيع 4: 364 وما بعدها.
189

واحدة، ولو أهانه يوما عصاه، ولكن تكون إهانته محرمة عليه بعده أيضا، لا بنحو
المطلوبية المتكثرة المستقلة، بل بنحو استمرار المطلوبية.
وتأتي فيه وفيما قبله التصورات المتقدمة، أي كون القيد للهيئة أو المادة أو
الموضوع أو النسبة.
ورابعة: يستفاد الاستمرار والدوام بنحو الاستمرار المتقدم من مقدمات الحكمة
وصون كلام الحكيم عن اللغوية، كقوله: * (أوفوا بالعقود) * (1) بناء على استفادة هذا
النحو من الاستمرار منه، كما أشار إليه المحقق الكركي (2) وتبعه غيره (3).
الثاني: أن العموم الزماني أو الاستمرار الزماني المستفادين من قوله: " في كل يوم "
أو " مستمرا " متفرع على العموم الأفرادي كان القيد للحكم أو للنسبة الحكمية، وكذا إذا
كان مستفادا من مقدمات الحكمة، فقوله: " أكرم العلماء في كل يوم " يكون كقوله " أكرم
العلماء " ويقول بدليل منفصل: " فليكن وجوب إكرامهم في كل يوم " وكذا قوله: " أكرمهم
مستمرا " بمنزلة قوله: " فليكن وجوب إكرامهم مستمرا " وأولى بذلك ما إذا
كان الاستمرار مستفادا من دليل الحكمة.
ومعنى تفرع ما ذكر على العموم الأفرادي أن الحكم المتعلق بالعموم الأفرادي
موضوع للعموم والاستمرار الزمانيين، وكذا للإطلاق المستفاد من دليل الحكمة.
الثالث: لازم تفرع ما ذكرنا على العموم الأفرادي هو أن التخصيص الوارد على

1 - سورة المائدة 5: 1.
2 - جامع المقاصد 4: 38.
المحقق الكركي: وهو المحقق الثاني الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين الكركي، ولد في لبنان في قرية
من قرى بعلبك تسمى كرك نوح سنة ثمانمائة وثمان وستين هجرية، ودرس حتى أحاط بعلوم أهل القبلة، ثم هاجر إلى
إيران في زمان الشاه إسماعيل الصفوي فجعله في أصفهان شيخا للإسلام وعين له سنويا سبعين ألف دينار ليصرفها
في المدارس، وزاد شأنه في زمان طهماسب، توفي سنه 937 ه‍، وترك آثارا جليلة منها: جامع المقاصد، الرسالة
الجعفرية، حواشي إرشاد الأذهان، رسالة الجمعة وغيرها. انظر لؤلؤة البحرين: 151 / 62، أعيان الشيعة 8: 208،
رياض العلماء 3: 441.
3 - فوائد الأصول 4: 535، حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 48 سطر 18.
190

العموم الأفرادي رافع لموضوع العموم والاستمرار الزمانيين، وكذا لموضوع الإطلاق،
فلا يكون مخالفا لظهورهما، فقوله: " لا تكرم الفساق من العلماء " مخصص لقوله: " أكرم
العلماء " ورافع لموضوع العموم الزماني والاستمرار المستفادين من الدليل اللفظي،
أو مقدمات الإطلاق، وليس تخصيصا لعمومه، أو تقييدا لإطلاقه، كما لو ورد " أكرم
العلماء " وكانت طائفة منهم خارجة من العلماء موضوعا.
وبالجملة: رفع موضوع العموم أو الإطلاق ليس مخالفا لظهورهما، وليست أصالة
الإطلاق والعموم حافظة لموضوعهما.
وكذا لو ورد تخصيص على العموم الزماني أو تقييد على إطلاق دليل العام
لا يكون مخالفا لظهور العام، لأن مفاد العام ليس إلا دخول كل فرد تحت الحكم، وأما
كونه دائما أو في كل زمان أو مستمرا بدليل الإطلاق، فليس شئ منها بمفاد للعقد
العمومي الأفرادي.
وإن شئت قلت: إن هاهنا عموما فوقانيا وعموما تحتانيا، لكل منهما ظهور،
والتخصيص في كل منهما غير التخصيص في الآخر، وكذا حال العموم والإطلاق، فإن
التخصيص في العموم غير التقييد في إطلاقه، فإذا ورد " أكرم العلماء " واقتضت
مقدمات الحكمة وجوب إكرامهم دائما.
فتارة: يرد " لا تكرم الفساق منهم " فيكون مخصصا للعموم، ومفنيا لموضوع
الإطلاق، فيكون مخالفا لأصالة العموم، لا أصالة الإطلاق.
وتارة: يرد " لا تكرم الفساق منهم يوم الجمعة " فيكون مقيدا لإطلاقه، لا مخصصا
لعمومه، فلا يكون مخالفا لأصالة العموم، بل لأصالة الإطلاق.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إذا ورد عام أفرادي يتضمن العموم أو الاستمرار
الزماني - بدلالة لغوية أو بمقدمات الحكمة - وورد دليل مخرج لبعض أفراده عن حكم
191

العموم في زمان معين، كقوله: " أكرم العلماء في كل يوم " أو " مستمرا " وانعقد الاجماع
على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة، أو قوله: * (أوفوا بالعقود) * (1) وانعقد الاجماع
على عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة، وشك بعد يوم الجمعة وبعد الساعة في
حكم الفرد لمخرج لا يجوز التمسك بالاستصحاب مطلقا، سواء لوحظ الزمان أفرادا
وعلى نحو العام الأصولي، أو ذكر القيد لبيان استمرار الحكم أو المتعلق، أو دلت
مقدمات الحكمة على ذلك.
أما إذا لوحظ الزمان مستقلا فواضح، لأن خروج الفرد في يوم تصرف في العموم
الأفرادي التحتاني، فأصالة العموم محكمة بالنسبة إلى التخصيص الزائد.
وأما إذا جعل مستمرا أو دائما أو أبدا ظرفا للحكم، فلأن خروج بعض الأفراد في
بعض الأيام ليس تخصيصا في العموم الأفرادي، بل تقييدا وتقطيعا للاستمرار الذي
قامت الحجة عليه، وتردد أمره بين الأقل والأكثر، ولا بد من الاكتفاء بالأقل، فيكون
ظهور الاستمرار في البقية حجة.
وإن شئت زيادة توضيح: فاعلم أنه إذا ورد " أكرم العلماء " ولا يكون له إطلاق
بالنسبة إلى الزمان، وورد دليل منفصل ب‍ " أن وجوب إكرام العلماء مستمر " فحينئذ قد
يدل دليل على عدم وجوب إكرام زيد، فيكون مخصصا لقوله: " أكرم العلماء " ولا يكون
تصرفا في قوله: " وجوب إكرام العلماء مستمر " لما عرفت في المقدمات أن اخراج
الموضوع عن الموضوعية ليس تصرفا في العموم أو الإطلاق.
وقد يدل على عدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة، فيكون تصرفا في قوله:
" وجوب إكرامهم مستمر " لا في قوله: " أكرم العلماء "، لأن المفروض أن قوله: " أكرم
العلماء " متعرض للعموم الأفرادي، لا الاستمرار الزماني، فتقطيع زمان من وجوب

1 - سورة المائدة 5: 1.
192

إكرامهم تصرف فيما يتعرض للاستمرار الزماني، فإذا كان ذلك في كلام واحد ودليل
متصل كقوله " أكرم العلماء مستمرا " ينحل إلى عموم أفرادي يدل عليه الجمع المحلى
باللام، وإلى استمرار الحكم الذي يدل عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدمات
الحكمة في بعض المقامات، فيكون قوله: " لا تكرم زيدا " تخصيصا للعموم الأفرادي،
و " لا تكرمه يوم الجمعة " تقطيعا لاستمرار الحكم، وكما يكون العموم حجة في البقية
لدى العقلاء، يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجة فيما عدا مورد التقطيع القطعي
لديهم.
ومما ذكرنا: يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة، فلو فرض أن قوله:
* (أوفوا بالعقود) * كما يدل بالعموم اللغوي على الشمول الأفرادي يدل على الاستمرار
الزماني بمقدمات الحكمة أو مناسبة الحكم والموضوع، بمعنى أن لزوم الوفاء بكل عقد
مستمر، لا من قبيل العام المجموعي، بل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان
لا توجب سقوط المطلوبية بالنسبة إلى البقية، ثم دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد
كالعقد الربوي يكون مخصصا للعموم الأفرادي، ولا يكون مقيدا للإطلاق، بل رافعا
لموضوعه.
وأما لو دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان، كما لو انعقد الاجماع على
عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة مثلا يكون هذا تقييدا لإطلاقه،
لا تخصيصا لعمومه، لأن التخصيص عبارة عن اخراج ما يشمله العموم إخراجا
حكميا، والعموم اللغوي يدل على دخول تمام أفراد العقود في وجوب الوفاء من غير
تعرض لحالات الأفراد وأزمانها، ودليل المخرج لا يدل على خروج فرد من العام رأسا
حتى يكون تخصيصا، بل يدل على خروجه في زمان، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في
الاستمرار، فإذا شك فيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشك في زيادة التقييد
193

لا التخصيص، فالمرجع هو أصالة الإطلاق.
فقول الشيخ الأعظم (قدس سره): إنه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرج
الفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرا (1) خلط بين التخصيص والتقييد، لأن خروج
الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص، وخروجه في الزائد عن الساعة تقييد زائد يدفع
بالأصل.
فإن قلت: فرق بين المطلق في سائر المقامات وهاهنا، فإن الأول يشمل ما تحته
من الجزئيات في عرض واحد، والحكم إنما تعلق به بلحاظ الخارج، فاستقر ظهور
القضية في الحكم على كل ما يدخل تحته بدلا أو استغراقا، فإذا خرج منفصلا شئ بقي
الباقي بنفس ظهور الأول المستقر، وفي المقام أن الزمان في حد ذاته أمر واحد مستمر
ليس جامعا لأفراد كثيرة، إلا أن يقطع بالملاحظة، وتجعل كل قطعة ملحوظة في القضية،
وأما إذا لم يلحظ كذلك كما إذا كان الاستمرار بمقدمات الحكمة، فلازمه الاستمرار من
أول وجود الفرد إلى آخره، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة مثلا، فليس لهذا
العام دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت، إذ لو كان داخلا لم يكن هذا الحكم
استمرارا للحكم السابق (2).
قلت: نعم هذا ما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.
وفيه أولا: أن المطلق في سائر المقامات أيضا لا يفيد الحكم للأفراد، ولا يكون
الحكم بلحاظ الأفراد الخارجية استغراقا أو بدلا، ولم يكن المطلق بعد تمامية مقدمات
الإطلاق كالعام مفادا، بل ليس مقتضى الإطلاق بعد تمامية المقدمات، إلا أن ما اخذ في
الموضوع تمام الموضوع للحكم، كما هو المقرر في محله (3).

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 395 سطر 17، مكاسب الشيخ الأنصاري: 242 سطر 31.
2 - درر الفوائد: 571.
3 - انظر مناهج الوصول 2: 231 و 232.
194

وثانيا: أن كون الزمان أمرا مستمرا واحدا لا يلازم كون مقتضى الإطلاق وحدة
الحكم، بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقا، فإن لازم ذلك أن يكون موضوع الحكم
كالعام المجموعي، ولازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه في زمان، مع أن الواقع في أشباه
* (أوفوا بالعقود) * خلاف ذلك، بل فرض مثل العموم المجموعي المقتضي لانتفاء الحكم
بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محط البحث، فحينئذ لو خرج جزء من الزمان لا مانع
من التمسك بالاطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة.
بل لنا أن نقول: إن الزمان وإن كان واحدا مستمرا تتقدم أجزاؤه الفرضية بعضها
على بعض، لكن الحكم المستفاد من الإطلاق بالنسبة إلى أجزائه عرضي، لكن لا بمعنى
كون مقتضى الإطلاق شمول المطلق للأجزاء، بل بمعنى لزوم الوفاء بالعقد مثلا من
غير تقييد بزمان، فيجب الوفاء عليه بالنسبة إلى الأجزاء الغير الآتية في الحال أيضا.
فإن قلت: إن استمرار الحكم ودوامه فرع وجود الحكم، لأن الحكم بمنزلة
الموضوع بالنسبة إليه، فإذا قيل " الحكم مستمر " أو يستفاد ذلك من مقدمات الحكمة
لا يمكن التمسك بظهور القيد أو أصالة الإطلاق لكشف حال الحكم، فإنه من قبيل
إثبات الموضوع بالحكم وهو محال، فالعموم الزماني إذا كان مصبه نفس الحكم يكون
دائما مشروطا بوجود الحكم، ولا يمكن أن يدل قوله: " الحكم مستمر في كل زمان " على
وجود الحكم مع الشك فيه، وكذا لو كان استمراره مقتضى مقدمات الحكمة، فإن
الإطلاق أيضا فرع الحكم، ومع الشك فيه لا يمكن أن يرجع إليه لكشف حاله، لأنه من
قبيل إثبات الموضوع بالحكم.
ألا ترى: أنه إذا قال: " أكرم العلماء " وشك في وجود العالم لا يمكن إثباته
بعمومه، لأن إثبات الموضوع بالحكم كتحققه به محال، كذلك إذا قال المولى: " الحكم
مستمر " أو كان ذلك مقتضى مقدمات الحكمة.
195

وهذا بخلاف ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم كقوله: " أكرم
العلماء في كل زمان " إذا كان ظرفا للمتعلق، فإن التمسك بالعموم فيه في مورد الشك
لا مانع منه، لأن العموم الزماني فيه تحت دائرة الحكم، كما أنه في الأول يكون فوق دائرة
الحكم، وهذا هو المناط لجواز التمسك ولا جوازه.
قلت: نعم هذا ملخص ما فصله بعض أعاظم العصر رحمه الله (1).
وفيه: أن عدم جواز كشف الموضوع بالحكم وإثباته به إنما هو فيما إذا تعلق
الحكم بموضوع مفروض الوجود، كالقضايا الحقيقية، مثل " أكرم العلماء " الذي كان
حاصل مفاده " كل ما وجد في الخارج وكان عالما يجب إكرامه "، فلا يمكن في مثل تلك
القضايا إثبات الموضوع بالحكم.
وأما إذا كان المحمول بدلالة لغوية يدل على وجود الحكم في جميع الأزمان
استقلالا، أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله، فلو قال المولى: " إن وجوب إكرام
العلماء مستمر إلى الأبد " فقد يشك في أصل تعلق وجوب الإكرام بالفساق مثلا، أي
يشك في التخصيص، فلا يكون قوله: " مستمر " رافعا لهذا الشك، بل الرافع له قوله:
" أكرم العلماء " وأما إذا شك في وجوب إكرامه في يوم كذائي بعد العلم بأصل وجوب
الإكرام، أي يشك في استمرار الحكم، فيكون قوله: " حكمي مستمر " كاشفا عن
استمراره وتحققه في اليوم المشكوك فيه.
والسر فيه: أن أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول، أي قوله: " مستمر " اخذ
مفروض الوجود، كما في القضايا الحقيقية، وأما بالنسبة إلى استمراره فلا يمكن أن يؤخذ
كذلك لأنه يلزم أن ترجع قضية " حكمي مستمر " إلى قضية ضرورية بشرط المحمول،
أي حكمي المفروض استمراره مستمر، وهو كما ترى.

1 - فوائد الأصول 4: 536 - 540.
196

وإن شئت قلت: إن موضوع قوله: " الحكم مستمر " هو طبيعة الحكم بنحو
الإهمال، ويكون المحمول دالا على استمراره وبقائه، فإذا شك في مهملة الحكم الذي
هو موضوع للقضية فلا يمكن إثباته بالمحمول، لأن الحكم بنحو الاهمال اخذ مفروض
الوجود، وأما إذا علم أصل وجود الحكم، وشك في بقائه واستمراره، فلا يكون ذلك
شكا في الحكم، بل في استمراره، ولا يكون استمرار الحكم موضوعا لاستمراره
بالضرورة، فما كشف عن حاله هو استمرار الحكم وهو ليس بموضوع، وما هو موضوع
وهو نفس الحكم ليس هو كاشفا عنه ومثبتا له.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن الحق هو التمسك بإطلاق دليل العام أو عمومه
كلما شك في خروج ما زاد على القدر المتيقن عن حكم العام في الزمان المتأخر.
تقرير التفصيل بين الخروج من الأول والأثناء
نعم قد يقال: إن مقتضى ما ذكرت من أن العموم والإطلاق الزمانيين سواء كانا
مستفادين من مثل قوله: " أكرم العلماء في كل زمان " أو " أوفوا بالعقود مستمرا " أو من
مقدمات الحكمة متفرعان على العموم الأفرادي، وأن محط التخصيص الأفرادي غير
محط التخصيص والتقييد الزمانيين هو التفصيل بين ما إذا خرج في أول الزمان وشك في
خروجه مطلقا أو في زمان، وبين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل زمان
الخروج، فيتمسك بالاستصحاب في الأول، وبعموم الدليل أو إطلاقه في الثاني، لأن
الأمر في الأول دائر بين التخصيص الفردي، وبين التخصيص الزماني أو تقييد
الإطلاق، فيكون من قبيل العلم الاجمالي بورود تخصيص، إما في العام الفوقاني فلا يكون
مخالفة للعام التحتاني، وإما في العام التحتاني فلا يكون مخالفة للعام الفوقاني، أو يكون
197

من قبيل العلم الاجمالي بورود تخصيص في العام، مع بقاء الإطلاق على ظاهره، لأن
الإخراج الموضوعي ليس مخالفة للإطلاق أو تقييدا في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم،
لأن تقييد إطلاق دليل العام ليس تخصيصا حتى يخالف أصالة العموم، فبعد تعارض
الأصلين يتمسك بالاستصحاب.
ويلحق به: ما إذا علم خروجه من الأثناء في الجملة، ولا يعلم أنه خارج مطلقا
أو من الأثناء فقط، فيدور الأمر بين التخصيص الفردي والزماني، أو التخصيص
والتقييد.
وأما الخارج من الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العام قبل زمان القطع
بخروجه كخيار التأخير وخيار الغبن - بناء على كون ظهور الغبن شرطا شرعيا له -
فيتمسك بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصيص الفردي، بل الأمر دائر بين قلة
التخصيص وكثرته، أو قلة التقييد وكثرته، فيؤخذ بالقدر المتيقن، ويتمسك في المشكوك
فيه بأصالة العموم أو الإطلاق.
وهذا التفصيل تقريبا عكس التفصيل الذي اختاره المحقق الخراساني وشيخنا
العلامة في مجلس بحثه (1).
ويمكن أن يقال: إن أصالة العموم جارية في العموم الأفرادي الفوقاني،
ولا تعارضها أصالة العموم في العام التحتاني الزماني، ولا أصالة الإطلاق، لأن التعارض
فرع كون المتعارضين في رتبة واحدة، والعموم الأفرادي في رتبة موضوع العموم
والإطلاق الزمانيين، ففي الرتبة المتقدمة تجري أصالة العموم من غير معارض، فيرجع
التخصيص أو التقييد إلى الرتبة المتأخرة.
اللهم إلا أن يقال: إن العقلاء في إجراء الأصول لا ينظرون إلى أمثال هذه

1 - كفاية الأصول: 483 و 484، حاشية الآخوند على المكاسب: 108، درر الفوائد: هامش 572.
198

التقدمات والتأخرات الرتبية.
مضافا إلى إمكان أن يقال: إن لزوم كون المتعارضين في رتبة واحدة في
التعارض بالعرض في حيز المنع، فإن العلم الاجمالي بوقوع خلاف ظاهر إما في العام
الفوقاني أو في العام التحتاني موجب لسقوط الأصلين العقلائيين لدى العقلاء.
ويمكن أن يقال: إنه بعد ورود قوله: " أكرم العلماء في كل يوم " الذي هو الحجة
على مفاده، إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد، وكان المتيقن منه هو عدمه يوم
الجمعة مثلا، فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق في غير يوم الجمعة رفع اليد عن الحجة
من غير حجة لدى العقلاء، فالمورد من قبيل دوران التخصيص أو التقييد بين الأقل
والأكثر، فلا بد من الاكتفاء بالأقل في رفع اليد عن الحجة الفعلية، والعلم الاجمالي
المدعى كالعلم الاجمالي بين الأقل والأكثر المنحل عند العقلاء، وبالرجوع إلى الوجدان
وبناء العقلاء يظهر صدق ما ادعيناه.
لكنه أيضا محل إشكال بل منع، لأن مورد الأقل والأكثر إنما هو فيما علم ورود
التخصيص على أحد العامين، وشك في الأقل والأكثر في أفراده، وأما مع العلم بورود
التخصيص آنا في الفوقاني أو التحتاني فلا، لأن أفراد كل منهما تباين الأفراد الأخرى،
فلا معنى للأقل والأكثر.
والتحقيق: عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في التحتاني، لما حققناه في العام
والخاص من أن مورد جريانهما فيهما إذا شك في المراد، لا فيما علم المراد ودار الأمر بين
التخصيص والتخصص (1)، مضافا إلى أن هذه الأصول إنما جرت في مورد يترتب عليها
أثر عملي لا مطلقا.
فحينئذ نقول: إن جريانهما في التحتاني غير ذي أثر، للعلم بخروج اليوم الأول

1 - انظر مناهج الوصول 2: 270 و 271.
199

مثلا، فلا يعقل جريانهما لإدخال ما علم خروجه.
ولو أجري الأصل لاثبات لازمه وهو ورود التخصيص على الفوقاني، فمع بطلانه
في نفسه - لأن إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم الممتنع في المقام - يلزم من إثبات اللازم
عدم الملزوم، لأنه موضوعه، ومع رفعه يرفع الحكم، فيلزم من وجوده عدم الوجود (1)،
وأيضا إنا نعلم بعدم جريان الأصل في التحتاني إما لورود التخصيص به، أو بالفوقاني
الرافع لموضوعه، فتدبر جيدا
فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن الحق في جميع الموارد مما هو محط البحث، هو
الرجوع لدليل العام أو المطلق، ولو فرض عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في المقام
فالتمسك باستصحاب حكم المخصص أو المقيد فرع وحدة القضية المتيقنة والمشكوك
فيها، وتحقق سائر شرائط جريانه، ولا تأثير لدليل العام في جريانه ولا جريانه، فما ظهر
من الشيخ الأعظم مما هو خلاف ذلك (2) وتبعه بعض أعاظم العصر (2) منظور فيه.
التنبيه التاسع
المراد من الشك في الأدلة
المراد بالشك المقابل لليقين في أدلة الاستصحاب، ليس الاحتمال المساوي
بالنسبة إلى البقاء واللا بقاء، بل هو خلاف اليقين.
أما أولا: فلأنه موافق للعرف العام واللغة (4)، وأما كونه الاحتمال المساوي مقابل

1 - انظر كتاب البيع للإمام قدس سره 4: 371.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 395 سطر 17
3 - فوائد الأصول 4: 543.
4 - انظر لسان العرب 7: 174 - شكك.
200

الظن وغيره فهو اصطلاح خاص بين المنطقيين (1)، وتبعهم غيرهم من أرباب
الاصطلاح (2).
وأما ثانيا: فلأن ذلك مقتضى مقابلته باليقين في الأخبار ومناسبة الحكم
والموضوع، وقد عرفت سابقا (3) أن المراد باليقين فيها - ببعض المناسبات المغروسة في
أذهان العرف - هو الحجة، فمقابله اللا حجة، فكأنه قال: " لا ينبغي رفع اليد عن الحجة
بغير الحجة "، ولقد ذكرنا في باب جواز استصحاب مؤدى الأمارات بعض المؤيدات
والشواهد لذلك فراجع (4).
هذا بناء على ما ذكرنا (5) من أن المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو اليقين
والشك.
وأما بناء على ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره): من أن الموضوع هو الكون
السابق والشك اللاحق (6)، وما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله: من أن مفاد الأدلة
جعل الملازمة بين الكون السابق والكون اللاحق (7) فلا مجال للاستدلال للمدعى بما
ذكرناه، لعدم المقابلة بين الشك واليقين تأمل.
وكيف كان: فلا إشكال في أصل المسألة، وتدل عليه صحيحتا زرارة (8) كما أفاد
الشيخ (9).

1 - شرح الإشارات والتنبيهات 1: 12 - قسم المنطق، شرح المطالع: 8.
2 - كشف المراد: 236 و 237، شوارق الإلهام: 426 السطر ما قبل الأخير، شرح المواقف 1: 86 و 87.
3 - تقدم في صفحة 82.
4 - تقدم في صفحة 82 و 83.
5 - تقدم في صفحة 79 و 80.
6 - رسائل الشيخ الأنصاري: 321 سطر 16.
7 - كفاية الأصول: 460 و 461.
8 - تقدم تخريجه في صفحة 21 - 22 و 40 - 41.
9 - رسائل الشيخ الأنصاري: 398 سطر 17.
201

وأما الاستدلال بالإجماع التقديري (1) فلا يرجع إلى محصل، لأن المناط في
حجية الاجماع هو الكشف عن دليل معتبر، ولا معنى للكشف التقديري أو الدليل المعتبر
التقديري.
ولقد تعرضنا لعاشر التنبيهات في مبحث البراءة وهو استصحاب صحة العبادة
عند الشك في طرو مفسد (2)، وكذا حاله فيما إذا تعذر بعض أجزاء المركب (3)، فلا داعي
للتكرار.

1 - نفس المصدر: 398 سطر 14.
2 - انظر أنوار الهداية 2: 351 - 359.
3 - نفس المصدر 2: 380 - 385.
202

خاتمة
يعتبر في جريان الاستصحاب أمور:
الأمر الأول
وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها
وتوضيحه أنه لا إشكال في أن اليقين والشك وكذا الظن لا تتعلق بالأمور
التصورية، بل لا يمكن أن تتعلق بها، فلا معنى لتعلق اليقين بزيد والقيام والنسبة
بمعانيها التصورية، بل المتعلق لها ليس إلا مفاد القضايا، فمعنى اليقين بالطهارة ليس
إلا اليقين بأن الطهارة موجودة على نعت الكون المحمولي، أو أني متطهر على نعت
الكون الرابط، كما أن معنى اليقين بوجود زيد أو بزيد اليقين بأن زيدا موجود.
203

وبالجملة: لا يتعلق اليقين والشك إلا بمفاد القضايا والأمور التصديقية.
فحينئذ: لا بد في الاستصحاب من قضية متعلقة لليقين والشك، ولا بد وأن يتعلق
الشك بعين ما تعلق به اليقين، فلا بد من وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها موضوعا
ومحمولا، فإذا تعلق اليقين بوجود زيد تكون القضية المتيقنة " زيد موجود " فإذا شك في
أن زيدا موجود في الزمان اللاحق تستصحب نفس القضية المتيقنة، لوحدة الموضوع
والمحمول، وإذا تعلق اليقين بقيامه يمكن أن يكون الموضوع للأثر هو كون زيد قائما،
فتكون القضية المتيقنة " كونه قائما " بنحو الهلية المركبة، فإذا شك فيها تستصحب،
لوحدة الموضوع والمحمول، ويمكن أن يكون الموضوع للأثر كون قيامه موجودا على
نعت الكون المحمولي، فتكون القضية المتيقنة " ان قيامه كان موجودا " فإذا شك فيها
تستصحب.
الإشكال على الشيخ الأعظم
في مسألة بقاء الموضوع
فتلخص مما ذكرنا: أن المستصحب هو نفس القضية لا موضوعها أو محمولها،
واتضح النظر في ظاهر كلام الشيخ الأعظم (قدس سره):
أما أولا: فلأن ما أفاده من أن المستصحب هو عارض الموضوع والموضوع
معروضه، ولا بد من إحراز بقائه (1)، فيه مسامحة ظاهرة، لأن المستصحب هو متعلق
اليقين، وليس ذلك إلا مفاد القضية، لا محمولها الذي هو عارض، فإذا تعلق اليقين
ب‍ " أن زيدا قائم " ليس المستصحب قيام زيد، لأن قيام زيد في تلك القضية ليس

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 399 سطر 21.
204

متعلق اليقين، فإن قيام زيد الذي هو عارض له أمر تصوري غير متعلق لليقين، فما هو
المتعلق لليقين هو قضية " أن زيدا قائم " على نحو الكون الرابط والهلية المركبة، ففي مثل
صحة الائتمام وشهادة الطلاق يكون موضوع الأثر كون الإمام أو الشاهد عادلا على
نحو الوجود الرابط والهلية المركبة لا عدالتهما، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) معناه
لا تنقض اليقين المتعلق بقضية بالشك فيها، فالمستصحب نفس القضية لا المحمول
العارض للموضوع.
وأما ثانيا: فلأن إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب ليس لازما، بل ليس ممكنا
في بعض القضايا، فإن معنى إحراز بقاء الشئ أن العلم تعلق بأن هذا الشئ باق، لما
ذكرنا من أن العلم إنما يتعلق بمفاد القضية لا بالمعاني التصورية، ففي مثل قولنا: " زيد
موجود " أو " وجود زيد محقق سابقا " إذا أريد استصحابه في زمان الشك في وجوده
لا يمكن إحراز بقاء موضوعه في زمان الشك، لأن معناه أن زيدا باق في حال الشك
يقينا وهو كما ترى.
ولا يمكن أن يقال: إن المحرز هو بقاؤه في التقرر الذهني (1)، لأن الموضوع ليس
زيدا المقرر في الذهن، لأنه لا يمكن أن يوجد في الخارج، فالموضوع في مثل تلك
القضايا هو نفس زيد عاريا عن لحاظ شئ معه، وغير متقيد بالتقرر الخارجي أو الذهني،
وهو لا يتصف بالبقاء والمحرزية إلا بتبع الوجود الذهني أو الخارجي.
فالإنصاف: أن ما أفاده رحمه الله في المستصحب والموضوع وبقائه تبعيد
للمسافة، وإخلال بما هو شرط في الاستصحاب، إذ ليس شرطه - على ما ذكرنا من حقيقة
المستصحب - إحراز بقاء الموضوع، ولا نحتاج إليه فيه، بل الشرط وحدة القضية المتيقنة
والمشكوك فيها، فلا فرق فيه بين بسائط القضايا ومركباتها، فلا ملزم لاشتراطه بشرط

1 - نفس المصدر السابق: 399 سطر 22.
205

غير لازم، بل مخل حتى نقع في حيص بيص في مثل القضايا البسيطة.
ومما ذكرنا: يتضح الدليل على الشرط المتقدم، أي وحدة القضية المتيقنة
والمشكوك فيها، لأن صدق نقض اليقين بالشك يتوقف عليها.
تمسك الشيخ الأعظم بالدليل العقلي لمدعاه وما فيه
وأما ما أفاده الشيخ: من الاستدلال على ما ادعاه بالدليل العقلي، وهو أنه مع
عدم العلم بتحقق الموضوع لاحقا إذا أريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوم به، فإما
أن يبقى من غير محل وموضوع، وهو محال، وإما أن ينتقل إلى موضوع آخر وهو أيضا
محال، لاستحالة انتقال العرض، وإما أن يحدث مثله في موضوع آخر، وهذا ليس إبقاء،
فيخرج عن الاستصحاب (1).
ففيه ما عرفت: من أن المستصحب ليس العرض القائم بالموضوع، بل هو القضية
المتيقنة، فإذا كان الأثر مترتبا على القضية التي مفادها الهلية المركبة مثل " كون زيد
عادلا " ليس المتيقن المترتب عليه الأثر عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة والوجود
المحمولي، وإن كانت عدالة زيد بنحو الهلية البسيطة أيضا متيقنة ومشكوكا فيها، لكن
استصحابها لا يثبت كون زيد عادلا بنحو كان الناقصة إلا بالأصل المثبت، فإذا كان
الأثر مترتبا على عدالة زيد بنحو الكون الرابط تكون القضية المستصحبة المترتب عليها
الأثر " أن زيدا عادل " لا " عدالة زيد موجودة " واستصحاب القضية الثانية لإثبات " أن
زيدا عادل " من الأصل المثبت.
فلو فرض جواز قيام العرض بذاته، وجواز انتقال العرض، وقامت العدالة في

1 - نفس المصدر: 400 سطر 3.
206

زمان الشك بذاتها، أو انتقلت إلى موضوع آخر لا يوجب ذلك جواز ترتيب أثر عدالة
زيد، أي " أن زيدا عادل " بنحو الكون الرابط، ضرورة أن الأثر المترتب على كون زيد
عادلا لا يترتب على العدالة القائمة بالذات، أو القائمة بوجود عمرو.
نعم: لو فرض جواز قيام العرض بلا موضوع، وجواز انتقال العرض، وكانت
نفس العدالة بوجودها المحمولي موضوعا للأثر يكون منشأ الشك في بقائها - زائدا على
الشك في زوالها بالشك في سلب الموضوع أو المحمول - الشك في انتقالها أو بقاياها بذاتها
مع القطع بعدم موضوعها، وهذا أمر آخر.
وبالجملة: ما استدل به الشيخ من الدليل العقلي - مضافا إلى عدم وقعه في المقام
الذي كان نظر العرف متبعا، ومحط التعبد الشرعي الذي يرجع إلى لزوم ترتيب الأثر -
غير تام في نفسه.
والظاهر أن منشأ هذا الخلط إنما هو الخلط في المستصحب، والذهاب إلى أن
المستصحب نفس العرض القائم بالموضوع، وموضوعه هو معروضه، مع أن
المستصحب على ما عرفت هو نفس القضية من غير فرق بين الهليات البسيطة والمركبة.
وبالتدبر فيما ذكرنا: يتضح المقام منقحا، وينحل الإشكال من أساسه في الهليات
البسيطة، ويتضح لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها من غير احتياج إلى
التشبث بالدليل العقلي، حتى يرد عليه ما أورده المحقق الخراساني رحمه الله: من أن
الاستصحاب عبارة عن وجوب ترتيب آثار العرض لا وجود العرض بلا موضوع،
والمحال هو الثاني لا الأول (1).
وهذا الجواب وإن كان منظورا فيه، لأجل ابتنائه على أن المستصحب هو العرض،
لكنه متين في ذاته، فلو فرض أن الأثر كان لنفس العدالة أو البياض بوجودهما

1 - حاشية الآخوند على الرسائل: 230 سطر 9، كفاية الأصول: 486.
207

المحمولي، وكان وجودهما متيقنا لأجل تحققهما في موضوعهما، وشك في الزمان
اللاحق في بقائهما لأجل الشك في بقاء موضوعهما يجري الاستصحاب، ويترتب عليهما
آثار بقائهما في زمان الشك، وموضوع العدالة والبياض تكوينا غير موضوع القضية
المستصحبة، فإن موضوع الثانية نفس العدالة والبياض، كما هو ظاهر بعد التدبر فيما
أسلفناه، بل للشارع أن يحكم بوجود العرض، وعدم المعروض في عام التشريع والتعبد،
لأن معناه إيجاب ترتيب آثار وجود هذا وعدم ذاك وهو بلا محذور.
توجيه شيخنا العلامة كلام الشيخ وما يرد عليه
هذا: ولكن تصدى شيخنا العلامة أعلى الله مقامه لدفع الإشكال عن الشيخ
الأعظم فقال ما محصله: أن القضايا الصادرة من المتكلم إنشاء كانت أو إخبارا
مشتملة على نسب ربطية متقومة بالموضوعات الخاصة فقولنا: " أكرم زيدا " مشتمل على
إرادة ايقاعية مرتبطة بإكرام زيد، وكذا " زيد قائم " مشتمل على نسبة تصديقية قائمة
بالموضوع والمحمول الخاص، وحال هذه النسب في الذهن حال الأعراض الخارجية في
الاحتياج إلى المحل، وامتناع الانتقال.
فلو فرض أن المتيقن هو وجوب الصلاة، فالجاعل للحكم في الزمان الثاني إما أن
يجعل الوجوب للصلاة، وهو المطلوب من لزوم اتحاد الموضوع، وإما أن ينشئ هذه
الإرادة الربطية من غير موضوع وهو محال، وإما أن ينشئها لغير الصلاة وهو محال،
لامتناع انتقالها، وإما أن ينشئ إرادة جديدة، وهذا ممكن لكن ليس إبقاء لما سبق.
وكذا الحال في الشبهة الموضوعية، فإن المتيقن إذا كان خمرية مائع فإما أن ينشئ
النسبة التصديقية بلا محل، أو في محل غير المائع وهما محالان، أو ينشئ إرادة جديدة
208

فليس بإبقاء، أو ينشئ في نفس المائع وهو المطلوب (1) انتهى.
وفيه: - مضافا إلى كونه مخالفا لظاهر كلام الشيخ أو صريحه - أن الاستصحاب
عبارة عن حكم ظاهري مجعول بقوله (لا تنقض اليقين بالشك) لترتيب آثار المتيقن في
زمان الشك، فقد يوافق الواقع فيكون منجزا له، وقد يتخلف عنه، فإذا وافقه فلا تكون في
البين إلا إرادة حتمية متعلقة بالصلاة وليس في زمان الشك إرادة أخرى متعلقة
بالصلاة.
نعم: تكون هاهنا إرادة أخرى متعلقة بعنوان عدم نقض اليقين بالشك، وإذا
تخلف الاستصحاب عن الواقع فليست إرادة متعلقة بالصلاة بحسب الواقع، فلا مجال
لهذه التشقيقات.
وإن شئت قلت: إن الصلاة التي علم وجوبها سابقا، وشك في بقائه إن كانت واجبة
بحسب الواقع في زمان الشك فلا يمكن أن تتعلق بها إرادة أخرى غير الإرادة
المتعلقة بها، وإن لم تكن واجبة فإما أن تنتقل الإرادة المتعلقة بها في زمان اليقين إلى
زمان الشك فهو محال، وإما أن يحدث فيها إرادة أخرى فهو ليس بإبقاء، وإما أن تبقى
الإرادة بلا موضوع فهو مع كونه محالا ليس بابقاء أيضا.
فتحصل مما ذكرنا: أن الإرادة الواقعية المتعلقة بالموضوعات الواقعية لا تتخلف
عنها، والاستصحاب لا يوجب بقاء تلك الإرادات،، فإنها إن كانت باقية لا يوجب
الاستصحاب إلا تنجيزها في زمان الشك، كما كانت منجزة في زمان اليقين لأجل تعلق
اليقين بها، وإلا فلا يمكن بقاؤها.
وبعبارة أخرى: أن الجاعل في الزمان الثاني لا يجعل الوجوب للصلاة، فإن
الصلاة إما واجبة في زمان الشك بحسب الواقع، فلا معنى لجعله ثانيا، فيكون

1 - درر الفوائد: 577 - 578.
209

الاستصحاب كسائر المنجزات منجزا له، بمعنى أن المكلف إذا تركها مع الاستصحاب
تصح عقوبته على ترك الوجوب الواقعي، وإن لم تكن واجبة فلا تصير واجبة
بالاستصحاب، ولو فرض صيروتها واجبة بالاستصحاب ليس الوجوب الاستصحابي
إبقاء للوجوب المتعلق بها في الزمن السابق بالضرورة.
إن الاستصحاب لا يجدي
في إحراز موضوع القضية المستصحبة
ثم إنه بعدما علم لزوم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها موضوعا ومحمولا
فلا بد من إحرازه وجدانا، كما في الهليات البسيطة، فإذا كان زيد مسبوقا بالوجود
أو العدم فشك فيه يستصحب وجوده أو عدمه لإحراز الاتحاد وجدانا، وكالهليات
المركبة التي كانت موضوعاتها عرفا نفس الماهية ويكون الوجود أو الحياة مثلا فيها من
الوسائط التعليلية لعروض العوارض عليها مثل " زيد متنفس " أو " متحرك ".
أو من قبيل القضايا الحينية، كقولنا: " زيد عادل " أو " عالم " حيث تكون العادلية
والعالمية من أوصاف زيد عرفا، ويكون الموضوع للقضية نفس زيد في حال الحياة
والوجود، فإذا علمنا أن زيدا كان عالما أو عادلا أو قائما، وشككنا في بقائها يجري
الاستصحاب، لوحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها.
وتوهم أن الموضوع " زيد الموجود " أو " زيد الحي "، فلا يكون محرزا (1)، مردود
بأن الموضوع لدى العرف في مثل تلك القضايا لا يكون إلا ماهية زيد والحياة والوجود
من الجهات التعليلية، أو اخذا على نحو القضية الحينية لدى العرف.

1 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 400 سطر 13.
210

نعم: لو فرض في الهليات المركبة أخذ بعض الأوصاف في موضوعها قيدا، وتكون
القضية وصفية مأخوذة فيها الأوصاف على نحو العنوانية والقيدية كأن يقال: " إذا كان
زيد الحي بما أنه حي عادلا يجب إكرامه " أو " إذا كان زيد العادل بما أنه عادل أعلم
يجوز أو يجب تقليده ".
فحينئذ: تارة تكون تلك الأوصاف المأخوذة في الموضوع محرزة بالوجدان
فلا إشكال في جريان الاستصحاب، فإذا أحرزت حياة زيد وجدانا، وشك في كونه عادلا
- مع اليقين بعدالته السابقة - لا إشكال في جريانه، بأن يقال: " كان زيد الحي
عادلا، وشككت في بقاء عدالته " لاتحاد القضيتين.
وتارة تكون تلك الأوصاف مشكوكا فيها، كما لو شككنا في المثال في حياة زيد
وعدالته، ففي هذه الصورة هل يمكن إحراز موضوع القضية الوصفية بالاستصحاب
أو لا؟ فموضوع البحث ومحل النقض والإبرام ما إذا كانت قضيتان متيقنتان يكون
محمول إحداهما موضوعا للأخرى، فتستصحب القضية الأولى لإحراز موضوع القضية
الأخرى لتستصحب القضية الثانية.
وبعبارة أخرى: محل الكلام فيما كانت وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها غير
محرزة، وأردنا إحرازها باستصحاب قضية أخرى يكون محمولها موضوعا لتلك القضية،
كما إذا ورد " أن زيدا العالم بما أنه عالم إذا كان عادلا يجب إكرامه " فشككنا في علمه
وفي عدالته، فأردنا إحراز علمه بالاستصحاب لإحراز موضوع القضية الثانية أي كونه
عادلا.
فنقول: تارة يكون الشك في القضية الثانية مسببا عن الشك في الأولى، وتارة
لا يكون كذلك، وعلى الأول تارة يكون التسبب شرعيا، وتارة يكون عقليا، ففي جميع
الفروض لا يمكن إحراز موضوع القضية المستصحبة بإجراء استصحاب القضية الأولى
إذا فرض أن الوصف اخذ في موضوع القضية الثانية مفروض الوجود، كما هو محل
211

الكلام، لأن الاستصحاب لا يحرز الموضوع وجدانا، ولا تكون وحدة القضيتين من
الآثار الشرعية حتى تترتب عليه، فاستصحاب كون زيد حيا لا تترتب عليه إلا الآثار
الشرعية المترتبة على كونه حيا، كنفقة زوجته، وأما صيرورة الشك في عدالة زيد شكا
في أن زيدا الحي عادل حتى تتحد القضية المتيقنة والمشكوك فيها، فليست أثرا شرعيا.
وكذا لو شككنا في تغير الماء، فلا يحرز استصحاب بقاء التغير موضوع
استصحاب نجاسة المتغير بما أنه متغير، ولو فرض أن المتغير بما أنه متغير موضوع
للنجاسة، ويكون التسبب شرعيا لأن إحراز وحدة القضيتين ليس من الآثار الشرعية.
نعم: باستصحاب التغير يترتب على الماء أثره الشرعي أي النجاسة وهو غير
استصحاب نجاسة المتغير الذي كلامنا فيه.
فتحصل مما ذكر: أن إحراز وحدة القضيتين مما لا يمكن بالاستصحاب مطلقا
ولو في الآثار الشرعية والتسببات التعبدية.
الخلط الواقع في كلام بعض الأعاظم
وإذ قد عرفت محل الكلام في المقام يتضح لك الخلط الواقع في كلام بعض
أعاظم العصر رحمه الله، حيث تفصى عن الإشكال بأن الموضوع لجواز التقليد مركب
من الحياة والعدالة، وهما عرضان لمحل واحد، فيجوز إحرازهما بالاستصحابين كما
يجوز إحراز أحد جزئي الموضوع المركب بالاستصحاب، والآخر بالوجدان، فإذا كان
زيد العالم الحي موضوعا لجواز التقليد، وشككنا في الوصفين فنستصحب كلا الوصفين
للموضوع الذي هو زيد، ونرتب الأثر على الموضوع المحرز كلا جزءيه بالأصل (1) انتهى.

1 - انظر فوائد الأصول 4: 569 - 570.
212

وهذا كما ترى خروج عن محل البحث، لأن الكلام ليس في أن الأوصاف المتعددة
لموضوع واحد إذا كانت موضوعة لحكم شرعي هل يمكن إثباتها بالأصل أم لا؟ بل
الكلام في أنه هل يمكن إثبات موضوع القضية المستصحبة ووحدة القضية المتيقنة
والمشكوك فيها بالأصل أم لا؟ لأن الشيخ الأعظم وبعد ما قال: إن المعتبر في
الاستصحاب هو العلم ببقاء الموضوع ولا يكفي احتمال البقاء (1) أشكل عليه إحرازه
بالاستصحاب إذا كان محتمل البقاء، ففصل في الجواب بما فصل (2)، فموضوع البحث
ما إذا كان عنوان موضوعا للقضية المستصحبة، وشك فيه، وأريد إثباته بالاستصحاب،
فما أفاده المحقق المعاصر خارج عن موضوع البحث، كما أن كلام الشيخ أيضا لا يخلو
من خلط فراجع وتدبر.
هل يؤخذ الموضوع من العرف أولا؟
ثم بعد ما علم لزوم وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها، فهل الموضوع فيها
يؤخذ من العقل، أو من الدليل، أو من العرف؟
وبعبارة أخرى: أن الميزان في وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها أن يكون
موضوعهما واحدا بحكم العقل وتشخيصه، أو بحكم العرف وتشخيصه، أو أن الموضوع
في القضية المشكوك فيها لا بد وأن يكون هو الذي اخذ في الدليل الدال على الحكم في
القضية المتيقنة؟
والفرق بين الأخذ من العقل وغيره واضح، لأن العقل قلما يتفق أو لا يتفق أن

1 و 2 رسائل الشيخ الأنصاري: 400 سطر 8 و 11.
213

لا يشك في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام، حتى في باب النسخ، لأن الشك في
الحكم لا يكون إلا من جهة الشك في تغيير خصوصية من خصوصيات الموضوع.
وجميع الجهات التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية لدى العقل، وتكون دخيلة
في موضوعية الموضوع، فإذا ورد حكم على موضوع لا يكون تعلقه عليه جزافا بحكم
العقل، فلا بد من خصوصية في الموضوع لأجلها يكون متعلقا للحكم، ومع بقاء تلك
الخصوصية الموجبة أو الدخيلة في المتعلق مع سائر الخصوصيات لا يمكن رفع الحكم
عن الموضوع، فإذا علم تعلق حكم على موضوع، وشك في نسخه فلا يمكن أن يشك فيه
مع العلم ببقاء جميع خصوصيات الموضوع الدخيلة في تعلق الحكم عليه: من القيود
الزمانية والمكانية وغيرها، لأن ذلك يرجع إلى الجزاف المستحيل.
وكثيرا ما يقع الإشكال في الاستصحابات الموضوعية أيضا، كاستصحاب
الكرية (1).
وأما الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل، فهو أن الحكم في الدليل قد
يثبت العنوان أو الموضوع المتقيد بقيد، بحيث يكون الدليل قاصرا عن إثبات الحكم
لغير العنوان أو غير مورد التقيد، فإذا ارتفع العنوان أو القيد يرتفع موضوع الدليل، كما
إذا قال: (التراب أحد الطهورين) (2)، و " وعصير العنب إذا غلى يحرم " (2) فانطبق الحكم
على الموضوع الخارجي، فيشار إلى تراب خارجي، أنه أحد الطهورين، وإلى رطل من
العنب أن عصيره إذا غلى يحرم، فإذا صار التراب الخارجي اجرا أو خزفا، والعنب زبيبا،
وشككنا في طهورية الأول وحرمة عصير الثاني إذا غلى، فلا إشكال في قصور الأدلة
الواقعية عن شمول غير العناوين المأخوذة في موضوعها، لتغير موضوعها، فلا يمكن

1 - نفس المصدر السابق: 397 سطر 10.
2 - انظر التهذيب 1: 200 / 580، الوسائل 2: 991 / 1 - باب 21 من أبواب التيمم.
3 - انظر الوسائل 17: 223 / باب 2 من أبواب الأشربة المحرمة.
214

التمسك بدليل طهورية التراب، وحرمة مغلي عصير العنب لإثبات الحكم لهما، ولو بنينا
على أخذ موضوع القضية المتيقنة والمشكوك فيها من الدليل لا يجري الاستصحاب أيضا
لتغير الموضوع، وعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك فيها.
وأما لو كان الاتحاد بنظر العرف، فجريانه مما لا مانع منه، لإن هذا الآجر والخزف
الخارجيين كانا معلومي الحكم قبل طبخهما، وبواسطة طبخهما لم يتغيرا إلا تغيرا عرضيا،
وكذا العنب الخارجي إذا يبس وصار زبيبا يكون عين الموضوع المتيقن، وليست اليبوسة
مغيرة له إلا في حاله وعرضه.
وهذه التغيرات العرضية لا تنافي وحدة الموضوع الخارجي، وإن لم تصدق معها
على الموضوع العناوين الكلية، فالتراب غير الآجر بحسب العنوان الكلي المأخوذ في
الدليل، والعنب غير الزبيب كذلك، لكن التراب والعنب الخارجيين إذا طبخا ويبسا
لا يتغيران إلا في الحالات الغير المضرة ببقاء موضوع القضية المتيقنة في زمان الشك.
فإذا قال المولى: " أكرم العلماء والشعراء " واحتملنا كون العنوانين واسطة في
الثبوت، ومن كان عالما وشاعرا في زمان يجب إكرامه مطلقا، فلا إشكال في أن الدليل
قاصر عن إيجاب الإكرام إذا صار العالم جاهلا، والشاعر غير شاعر، كما أنه لا إشكال
في أن موضوع الدليل غير باق، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيما إذا اخذ موضوع
القضية المستصحبة من الدليل.
وأما لدى العرف فيكون زيد وعمرو واجبي الإكرام، لكون الأول مصداق العالم،
والثاني مصداق الشاعر، وعنوان " العالم " و " الشاعر " وإن كانا مختلفي المصاديق مع
العنوان المقابل لهما، ولكنهما من الحالات العارضة للأفراد الخارجية، والموضوعات
المتحققة، فإذا زال عنوان العالمية من زيد، والشاعرية من عمرو، وشك في إكرامهما،
للشك في أن العنوانين من الوسائط الثبوتية أو العروضية يجري الاستصحاب فيهما،
215

لوحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها، لأ نك كنت على يقين من إكرام زيد وعمرو،
لكون الأول مصداق العالم، والثاني مصداق الشاعر، ومع زوال العنوانين نشك في بقاء
وجوب إكرامهما (ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك)، بخلاف ما لو اخذ موضوع
القضية من الدليل، لعدم صدق عنوان " العالم " و " الشاعر " على غيرهما.
وقد اتضح مما ذكرنا: أن كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) (1) ومن بعده من
المحققين (2) لا تخلو من خلط وخلل، حتى كلمات شيخنا العلامة رحمه الله، مع أن
ما ذكرناه من إفادات مجلس بحثه.
كلام المحقق الخراساني وما يرد عليه
فما أفاده المحقق الخراساني رحمه الله في المقام الأول: من أن موضوع الدليل قد
يكون بحسب المتفاهم العرفي عنوانا، ولكن أهل العرف يتخيلون - بحسب ارتكازهم
ومناسبات الحكم والموضوع - أن الموضوع أعم من ذلك، لكن لا بحيث يصير ذلك
الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عما هو ظاهره المفهوم عرفا، كما إذا دل
الدليل: على أن العنب إذا غلى يحرم، وفهم العرف منه أن الموضوع هو العنب بحسب
الدليل، لكن يتخيل بحسب ارتكازه تخيلا غير صارف للدليل أن الموضوع أعم من
الزبيب، وأن العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما
حكم به العنب يكون عنده من ارتفاع الحكم عن موضوعه.
فالفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من الدليل بحسب ما ذكر: أن
موضوع الدليل هو العنوان حقيقة، ولكن العرف تخيل موضوعا آخر غير موضوع

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 401 سطر 9.
2 - كفاية الأصول: 487 و 488، فوائد الأصول 4: 571 - 586، درر الفوائد: 579 و 580.
216

الدليل، بل أعم منه، ويكون الموضوع الحقيقي غير باق، والموضوع التخيلي باق (1)
انتهى محصله بتوضيح منا.
وهو كما ترى، لأن بقاء الموضوع التخيلي لا يفيد في الاستصحاب، ولا يجوز أن
يكون موضوع القضية المتيقنة ما يتخيل العرف خلاف ما يدل عليه الدليل، فإذا دل
الدليل على أن العنب بخصوصه موضوع الحكم تكون القضية المتيقنة " أن العنب إذا
غلى يحرم " ويمكن تعلق اليقين بأمر أعم من غير دلالة دليل، فضلا عن دلالته على
خلافه.
ولقد عدل بعض أعاظم العصر رحمه الله عما ذكر، والتزم: بأن موضوع الدليل عين
الموضوع العرفي، وأنه لا وجه للمقابلة بينهما، فإن مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى
ما يقتضيه نظر العرف، لأن المرتكز العرفي يكون قرينة صارفة عما يكون الدليل ظاهرا
فيه ابتداء، ولو كان الدليل ظاهرا بدوا في قيدية العنوان، وكانت مناسبة الحكم والموضوع
تقتضي عدمه، فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، لأنها بمنزلة
القرينة المتصلة، فلم يستقر للدليل ظهور على الخلاف.
فالمقابلة بين العرف والدليل إنما هي باعتبار ما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء،
مع قطع النظر عن المرتكز العرفي، وإلا فبالآخرة يتحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع
ما يقتضيه المرتكز العرفي (2)، انتهى.
ولعله إليه يرجع كلام الشيخ الأعظم في ذيل الأمر الأول (3).
وهذا الكلام كما ترى خلاف مفروض كلام المحقق الخراساني، لأن مفروضه
ما إذا لم تصر المناسبة موجبة لصرف الكلام عن ظاهره.

1 - حاشية الآخوند على الرسائل: 232 سطر 9، كفاية الأصول: 487 و 488.
2 - انظر فوائد الأصول 4: 585 و 586.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 403 السطر الأخير.
217

والحق في الجواب عنه أن يقال: إن المناسبة إن لم تصر موجبة لصرف ظاهر
الكلام فلا يعقل أن تكون القضية المتيقن موضوعها ما هو مرتكز العرف تخيلا وإن صارت
موجبة لذلك، فلا يرجع الفرق إلى محصل.
هذا مضافا إلى أن ما أفاده المحقق المعاصر رحمه الله يرجع بالآخرة إلى العجز
عن تصور الفرق بين الأخذ من العرف والدليل، وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا من أخذ
الموضوع من العرف أو الدليل لا تضح لك النظر في كلام هؤلاء الأعلام، وأن ما
أفاده هذا المحقق - من أن المقابلة بينهما في غير محلها - منظور فيه، وأن المقابلة بينهما
في محلها.
المراد من العرف ليس العرف المسامح
ثم إن المراد بالعرف في مقابل العقل ليس هو العرف المسامح، حتى يكون المراد
بالعقل العرف الغير المسامح الدقيق، ضرورة أن الألفاظ كما أنها وضعت للمعاني النفس
الأمرية تكون مستعملة فيها أيضا عند إلقاء الأحكام، فالكر والميل والفرسخ
والدم والكلب وسائر الألفاظ المتداولة في إلقاء الأحكام الشرعية لا تكون مستعملة
إلا في المعاني الواقعية الحقيقية، فالكر بحسب الوزن ألف ومائتا رطل عراقي من غير
زيادة ونقيصة، لا الأعم منه وما يسامح العرف، وكذا الدم ليس إلا المادة السيالة في
العروق التي تكون بها الحياة الحيوانية، لا الأعم منها وما يطلق عليه اسم الدم مسامحة،
وليس التسامح العرفي في شئ من الموارد ميزانا لا في تعيين المفاهيم، ولا في تشخيص
المصاديق.
بل المراد من الأخذ من العرف هو العرف مع دقته في تشخيص المفاهيم
218

والمصاديق، وأن تشخيصه هو الميزان، مقابل تشخيص العقل الدقيق البرهاني.
مثلا: لا شبهة في أن الدم عبارة عن المائع المعهود - الجاري في القلب والعروق،
والمسفوح منه - موضوع للحكم بالنجاسة، وليس ما يتسامح فيه العرف ويطلق عليه
الدم تسامحا موضوعا لها، لكن العرف مع كمال دقته في تشخيص مصاديقه يحكم بأن
اللون الباقي بعد غسل الثوب ليس بدم، بل هو لون الدم، لكن البرهان العقلي قام على
امتناع انتقال العرض، فيحكم العقل لأجل ذلك بأن اللون هو الأجزاء الصغار من
جوهر الدم.
والكلب ليس عند العرف إلا الجثة الخارجية، والحياة من حالاتها، وميتة
الكلب كلب عندهم حقيقة، وعند العقل البرهاني لما كانت شيئية الشئ بصورته،
وصورة الكلب نفسه الحيوانية الخاصة به، فإذا فارقت جثته سلب منها اسم الكلب،
وتكون الجثة جمادا واقعة تحت نوع آخر غير النوع الكلبي، بل يسلب عنها اسم جثة
الكلب وبدنه أيضا، ويكون إطلاق بدن الكلب على الجثة المفارقة لها الروح مسامحة
لدى العقل، كما هو المقرر في محله من العلوم العالية (1)، مع أنها كلب لدى العرف
حقيقة.
وبالجملة: ليس المراد من كون تشخيص المفاهيم ومصاديقها موكولا إلى العرف
هو التسامح العرفي، فالتسامح العرفي في مقابل الدقة العقلية البرهانية، لا في مقابل دقة
العرف.
نعم: قد يكون بين المتكلم والمخاطب في عرف التخاطب وتعارف التكلم بعض
المسامحات التي تكون مغفولا عنها لديهم حال التكلم، ويحتاج التوجه إليها إلى زيادة
نظر ودقة، ومع الدقة والنظرة الثانية يتوجه المتكلم والمخاطب إلى التسامح، ففي مثل

1 - انظر الأسفار 2: 25 وما بعدها و 8: 12 و 9: 47 و 56 و 186، الشواهد الربوبية: 261 - 267.
219

ذلك يكون المعنى المتفاهم ابتداء موضوعا للحكم، فإذا قال المولى: " إذا قمت إلى
الصلاة فول وجهك شطر المسجد الحرام " لا يفهم المخاطب من هذا الكلام إلا استقبال
المسجد بالنحو المتعارف، وإن كانت الدقة العرفية أيضا تقتضي كونه أضيق مما هو
المتفاهم عرفا، فالمناط في أمثاله هو التفاهم العرفي، لا الدقة العقلية إن قلنا: بأن الميزان
هو العرف.
ثم إنه لا إشكال: في أن الميزان في تشخيص جميع المفاهيم ومصاديقها وكيفية
صدقها عليها هو العرف، لأن الشارع كواحد من العرف في المخاطبات والمحاورات،
وليس له اصطلاح خاص، ولا طريقة خاصة في إلقاء الكلام إلى المخاطب، فكما
يفهم أهل المحاورات من قول بعضهم: " اجتنب عن الدم " أو " اغسل ثوبك من
البول " يفهم من قول الشارع أيضا، وليس مخاطبة الشارع مع الناس إلا كمخاطبة
بعضهم بعضا، فإذا قال: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * (1) لا يكون
المراد منه إلا الغسل بالنحو المتعارف، لا الغسل من الأعلى فالأعلى بنحو الدقة
العقلية، فكما أن العرف محكم في تشخيص المفاهيم محكم في صدقها على المصاديق
وتشخيص مصاديقها، فما ليس بمصداق عرفا ليس بمصداق للموضوع المحكوم
بالحكم الشرعي.
فما أفاده المحقق الخراساني: من أن تشخيص المصاديق ليس موكولا إلى
العرف (2) وتبعه غيره (3) ليس على ما ينبغي، فالحق ما ذكرنا تبعا لشيخنا العلامة أعلى الله
مقامه (4).

1 - المائدة 5: 6.
2 - كفاية الأصول: 77، حاشية الآخوند على الرسائل: 212، وصريح الآخوند قدس سره ذهاب بعض السادة - وهو الميرزا
الشيرازي قدس سره ظاهرا - إلى هذا القول أيضا.
3 - فوائد الأصول 4: 494 و 574 نهاية الأفكار 4: 189، نهاية الدراية 1: 101 سطر 7.
4 - درر الفوائد: 579 و 580.
220

الأمر الثاني
أن أخبار الباب هل تختص بالاستصحاب أو تعم غيره؟
مما يعتبر في جريان الاستصحاب هو أن يكون اليقين بالقضية المستصحبة فعليا،
بأن يكون حال إجراء الأصل متيقنا لوجود المستصحب في السابق، حتى يكون شكه في
البقاء، وهذا مما لا إشكال فيه ولا كلام.
إنما الإشكال في أن الأخبار الواردة في الباب هل يكون مفادها مختصا
بالاستصحاب أو يعم قاعدة اليقين، أو يعم مع ذلك أمرا ثالثا، وهو ترتيب آثار البقاء
مع الشك في الحدوث بمجرد تعلق اليقين بحدوثه وزواله؟
وبعبارة أخرى: أن الكبرى الكلية الواردة في الأخبار كما تشمل عدم نقض
اليقين المتحقق فعلا المتعلق بالأمر السابق مع الشك في بقائه - وهو المعبر عنه
بالاستصحاب - تشمل قاعدة اليقين، وهي ما إذا تعلق اليقين بأمر في زمان، ثم زال
اليقين، وشك في كونه في ذلك الزمان متحققا أو لا، فتترتب عليه آثار المتيقن في ذلك
الزمان، وتشمل أيضا أمرا ثالثا، وهو ما إذا تعلق اليقين بأمر سابق، وشك في بقائه مع زوال
اليقين، فيحكم بترتب آثار البقاء مع سراية الشك إلى اليقين.
والكلام يقع في مقامين:
أحدهما: في إمكان الجمع بين القاعدتين أو القواعد الثلاث في مثل قوله (لا ينقض
اليقين بالشك) أو قوله: (من كان على يقين فشك فليمض على يقينه) (1).
وثانيهما: في أن الظاهر من أخبار الباب ماذا؟

1 - الخصال: 619، الوسائل 1: 175 / 6 - باب 1 من أبواب نواقض الوضوء.
221

أما الكلام في أول المقامين: فهو أن الحق إمكان الجمع بين القواعد الثلاث،
فضلا عن الجمع بين القاعدتين، وما جعل محذورا فيه ممكن الدفع.
إشكال الشيخ الأعظم على إمكان الجمع بين القاعدتين
أما ما أفاده الشيخ الأعظم فمحصله: أن المناط في القاعدتين مختلف غير ممكن
الجمع في لحاظ واحد، لأن مناط الاستصحاب اتحاد متعلق اليقين والشك مع قطع
النظر عن الزمان، ومناط القاعدة اتحاد متعلقهما من جهة الزمان، ولا يمكن الجمع
بينهما في مثل قوله: (فليمض على يقينه)، لأن المضي في الاستصحاب بمعنى ترتيب آثار
البقاء من غير نظر إلى الحدوث، وفي القاعدة بمعنى ترتيب آثار الحدوث من غير نظر
إلى البقاء، وهما نظران متخالفان، ومعنيان غير مجتمعين في الإرادة واللحاظ.
ولو قيل: بأن المضي معنى واحد، وهو فرض الشك كعدمه، ويختلف باختلاف
المتعلق، فالمضي مع الشك في الحدوث بمعنى الحكم بالحدوث، ومع الشك في البقاء
بمعنى الحكم به.
يقال: هذا يصح إذا كان هنا فردان من اليقين، يكون أحدهما متعلقا بالحدوث،
والآخر بالبقاء، وليس كذلك، لأن اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ليس فردين من اليقين،
بل هو يقين واحد، ويكون تعدده بالاعتبار، ويكون عموم أفراد اليقين حقيقة باعتبار
الأمور الواقعية، كعدالة زيد وفسق عمرو، لا باعتبار ملاحظة اليقين بشئ واحد حتى
ينحل اليقين بعدالة زيد إلى فردين يتعلق بكل منهما شك.
فحينئذ: إن اعتبر المتكلم في كلامه الشك في هذا المتيقن من دون تقييده بيوم
الجمعة فالمضي على اليقين حكم باستمراره، وإن اعتبره مقيدا فالمضي هو الحكم
222

بالحدوث، من غير تعرض للبقاء، وهذان لا يجتمعان في الإرادة (1)، انتهى ملخصا.
أقول: يرجع محصل كلامه إلى أن اليقين إذا كان بالنسبة إلى عدالة زيد في قاعدة
اليقين والاستصحاب من قبيل العموم بالنسبة إلى أفراده يمكن أن يشملهما، وإن كان
المضي بالنسبة إلى كل فرد ينتج أمرا مغايرا للفرد الآخر، لكن ليس الأمر كذلك، لأن
عدالة زيد أمر واحد في القاعدتين، وإنما اختلافهما بالاعتبار، وليست الكثرة الاعتبارية
من أفراد العام حتى يشملهما، بل لا بد من اعتبارهما، ولا يجتمع الاعتباران في لحاظ
واحد.
تقرير بعض الأجلة كلام الشيخ وإقامة البرهان عليه
ونسج على هذا المنوال بعض أعاظم العصر رحمه الله، وأقام برهانا على عدم تغاير
اليقين في الاستصحاب والقاعدة بحسب الأفراد، فقال:
إن تغاير أفراد اليقين إنما يكون بتغاير متعلقاته، كاليقين بعدالة زيد وقيام
بكر، وإلا فاليقين من حيث نفسه لا يتعدد ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب غير
متعدد، لأن متعلقه في كل منهما هو عدالة زيد، وعدم انحفاظ
اليقين في القاعدة دون الاستصحاب لا يوجب التغاير الفردي، فإن الانحفاظ
وعدمه من الطوارئ اللاحقه لليقين بعد وجوده، وذلك لا يقتضي تعدد أفراد اليقين مع
وحدة المتعلق، بداهة أن تعدد أفراد الطبيعة الواحدة إنما يكون لأجل اختلاف
المشخصات الفردية حال وجود الأفراد، والخصوصيات اللاحقة بعد الوجود لا تكون
مفردة (2) انتهى.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 404 و 405.
2 - انظر فوائد الأصول 4: 588.
223

الجواب عنهما
وأنت خبير بما في كلامهما، لأن اليقين المتعلق بشئ واحد من شخص واحد في
زمان واحد وإن كان أمرا واحدا، كيقين زيد وقت ظهر يوم السبت بعدالة عمرو في ظهر
يوم الجمعة وليس اختلافه من حيث التقيد واللا تقيد، ومن حيث الانحفاظ
واللا انحفاظ من المشخصات والمكثرات الفردية.
ولكن ليس خطاب (لا تنقض اليقين بالشك) متوجها إلى شخص واحد مع تلك
القيود، بل هو خطاب مطلق شامل لكل يقين من كل متيقن، تعلق بكل متعلق وشك
فيما تيقن، سواء كان شكه ساريا كقاعدة اليقين، أولا كالاستصحاب.
فلو فرضنا عدة أفراد تيقن بعضهم بعدالة زيد، وبعضهم بفسق عمرو، وبعضهم
بقيام بكر، ثم شكت الطائفة الأولى في عدالة زيد بنحو الشك الساري، والطائفة الثانية في
فسق عمرو بنحو الشك في البقاء، والثالثة في قيام بكر بنحو الشك الساري، مع
الشك في قيامه في الزمان المتأخر، فلا إشكال في كون يقين كل من هذه الأفراد فردا من
عنوان اليقين، سواء في ذلك الطائفة التي تعلق يقينها بشئ واحد كعدالة زيد مثلا،
أو الطائفة التي تعلق يقينها بأشياء مختلفة، أما الثانية فواضح، وأما الأولى، فلتعدد
المحل القائم به اليقين، فاليقين القائم بنفس كل انسان فرد من اليقين غير الفرد الآخر
القائم بنفس شخص آخر، وإن كان متعلقهما شيئا واحدا.
وليت شعري: أنه ما الداعي إلى فرض يقين واحد من شخص واحد بالنسبة إلى
متعلق واحد، حتى لا يكون التعدد إلا اعتباريا؟! بل لا معنى لاعتبار ذلك،
بل لا يعقل، لأن مورد قاعدة اليقين لا يعقل أن يكون متداخلا مع مورد
الاستصحاب، فلكل منهما أفراد خاصة بهما، فإن المعتبر في الاستصحاب بقاء اليقين،
224

وفي القاعدة زواله.
فحينئذ نقول: إن المأخوذ في الكبرى في أخبار الباب هو عنوان اليقين والشك،
والنهي عن نقض الأول بالثاني، وهذه الكبرى الكلية لها مصاديق كثيرة، جملة منها تكون
من قبيل الشك الساري، وجملة منها لا من قبيله، فمن تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم
شك في عدالته في ذاك اليوم يمكن أن يكون مخاطبا بقوله: (لا تنقض اليقين بالشك)
ومن شك في بقاء عدالته يوم السبت مع اليقين بعدالته يوم الجمعة يمكن أن يخاطب
بهذا الخطاب من غير استعمال لفظ اليقين أو الشك أو النقض أو النهي في معنيين،
ومن دون لحاظ أمرين مختلفين.
بل المتكلم بقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) لا يعقل أن يلاحظ في إلقاء هذه
الكبرى غير عنوان الشك واليقين المأخوذين في موضوع حكمه، وغير متعلق نهيه،
فلا تكون متعلقات اليقين والشك مطلقا منظورا إليها، فتشمل جميع مصاديق اليقين
والشك، كانت من قبيل قاعدة اليقين، أو الاستصحاب، أو القاعدة الثالثة التي تكون
من جهة كقاعدة اليقين، ومن جهة كالاستصحاب، لأن عنوان اليقين والشك شامل
لكل شك ويقين، لا بجهات الكثرة، بل بجهة اليقين والشك، ومعنى المضي وعدم
النقض ليس إلا ترتيب الآثار تعبدا، وفرض الشك كلا شك، أو فرض تحقق اليقين في
عالم التشريع، ولا يلزم منه محذور.
هذا لو فرضت الكبرى في الاستصحاب كلية ذات مصاديق، فإن الكلي أيضا
يشمل كثرة الأفراد لا بخصوصياتها الممتازة، وأما لو كانت الكبرى من قبيل المطلقات
- كما هو كذلك - فالإشكال أو هن، لأن الحكم فيها على نفس العناوين من غير نظر إلى
الخصوصيات، كما هو المقرر في محله (1).

1 - انظر مناهج الوصول 2: 231 و 232.
225

كلام العلامة الحائري قدس سره وجوابه
ومما ذكرنا يتضح النظر فيما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه: من أن المتكلم
بقضية " إذا تيقنت بشئ ثم شككت فيه " إما لا حظ الشئ المتيقن مقيدا بالزمان، وإما
لاحظ الزمان ظرفا للمتيقن، وإما أهمل ملاحظة الزمان رأسا، ولا تخلو القضية عن تلك
الحالات الثلاث، وينطبق بعضها على قاعدة اليقين، وبعضها على الاستصحاب،
ولا يمكن الجمع بين تلك الحالات، أي ملاحظة الزمان قيدا وظرفا، أو ملاحظته وعدم
ملاحظته (1)، انتهى ملخصا.
وذلك لأن المتعلق مطلقا لم يؤخذ في الكبرى الكلية، ولم يلاحظ مطلقا حتى
يقال: إن يوم الجمعة أخذ قيدا أو ظرفا، ومعنى كون اليقين طريقا في موضوع الكبرى
ليس لحاظ المتيقنات باليقين، فإن اليقين المأخوذ في الكبرى عنوان لليقين الطريقي
الذي للمكلفين، لا طريق إلى المتعلقات، ففي مثل قوله: (لا تنقض اليقين بالشك)
لا ينقدح في ذهن المتكلم غير نفس تلك العناوين المأخوذة فيه، ولا عين ولا أثر لمتعلق
اليقين والشك، حتى يطالب متعلق هذا المتعلق - مثل يوم الجمعة - بأنه اخذ قيدا
أو ظرفا.
فقوله: (لا تنقض) كقوله: * (أوفوا بالعقود) * (2) يشمل كل عقد ولو كانت
متخالفة الاعتبار، وغير ممكنة الجمع في اللحاظ، لكنها مجتمعة في عنوان العقد،
ف‍ (لا تنقض) نهي عن نقض كل يقين بالشك، وإن كانت مصاديقها باعتبار المتعلقات
ممتنعة اللحاظ في لحاظ واحد.
ومما ذكرنا: يظهر الإشكال في ما جعل محذورا آخر للجمع بين القاعدتين في هذه

1 - درر الفوائد: 584.
2 - سورة المائدة 5: 1.
226

الكبرى: وهو أن اليقين في الاستصحاب اخذ طريقا، ويراد منه المتيقن، ومعنى عدم
نقض اليقين في الاستصحاب أن ما ثبت يدوم، ويكون اليقين طريقا لإحرازه، فذكر
اليقين في القضية على هذا التقدير ليس إلا لكونه طريقا لإحراز متعلقه، من دون أن
تكون له مدخلية في الحكم، فيكون مفاد القضية على هذا التقدير: أنه إذا كان شئ
موجودا في السابق واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال، وأما اليقين في القاعدة اخذ
موضوعا لوجوب المضي، وملحوظا بذاته، فالموضوع في الاستصحاب هو المتعلق، وفي
القاعدة نفس اليقين، ولا يمكن الجمع بين هذين اللحاظين (1).
وقد يقرر ذلك: بأن طريقية اليقين في القاعدة لا يمكن بعد تبدله بالشك، وأما في
الاستصحاب فيكون طريقا، لكونه موجودا (2).
أقول: قد ذكرنا سابقا (3) في باب لزوم فعلية الشك واليقين في الاستصحاب أن
اليقين الطريقي اخذ موضوعا، وأن الظاهر من الأدلة أن العناية فيها بأن اليقين لكونه
أمرا مبرما مستحكما لا ينبغي أن ينقض بالشك، فالموضوع في الاستصحاب هو اليقين
الطريقي، وكذا في القاعدة، فعنوان اليقين المأخوذ في القاعدتين مرآة لليقين الطريقي
لكل مكلف كان على يقين فشك.
وقد ذكرنا سالفا (4): أن النقض لا يتناسب إلا مع اليقين الطريقي الذي يكون في
اعتبار العقلاء كأنه حبل مشدود أحد جانبيه على المتيقن، والآخر على المتعلق،
فلا إشكال في أن اليقين في الاستصحاب هو اليقين الطريقي، لكن هذا اليقين الطريقي
اخذ موضوعا.

1 - انظر فوائد الأصول 4: 589.
2 - نفس المصدر.
3 - تقدم في صفحة 79.
4 - تقدم في صفحة 32 و 33.
227

فالقول: بأن معنى (لا تنقض) أنه إذا كان شئ موجودا واحتمل زواله لا يعتنى
بهذا الاحتمال بعيد عن الصواب، وأجنبي عن أخبار الباب، وكذا اليقين في القاعدة بما
أنه طريق إلى الواقع اخذ موضوعا، لا بما أنه صفة قائمة بالنفس.
وقوله (1): أن اليقين في القاعدة ملحوظ من حيث نفسه لبطلان كاشفيته بعد
تبديله إلى الشك.
فيه: أن اليقين في ظرف وجوده كان كاشفا عن متعلقه، والمطابقة للواقع وكون
الكشف كشفا صادقا لا دخل لهما في ذلك.
فلا إشكال في أن قوله: " من كان على يقين في عدالة زيد يوم الجمعة فشك
بعده في عدالته يوم الجمعة " لا يريد باليقين فيه إلا ما يريد بقوله: " من كان على يقين
في عدالة زيد يوم الجمعة فشك في بقائها يوم السبت " من غير تفاوت في النظر
والاعتبار.
فتحصل مما ذكرنا: أن الجمع بين القاعدتين بل القواعد الثلاث في قوله:
(لا تنقض اليقين بالشك) مما لا مانع منه.
فما قد يقال: من عدم إمكان الجمع بينهما في اللحاظ من جميع الجهات - لا من
من جهة اليقين، ولا من جهة المتيقن، ولا من جهة النقض، ولا من جهة الحكم (2) - مما
لا يرجع إلى محذور بعد التأمل فيما ذكرنا.
وقد يقال في وجه الامتناع: إن إرجاع الضمير في الاستصحاب إلى ما تعلق به
اليقين يكون بنحو من المسامحة، لعدم وحدة متعلقيهما دقة، بخلاف الإرجاع في
القاعدة، فهما نظران مختلفان لا جامع بينهما (3).

1 - أي المحقق النائيني قدس سره في فوائد الأصول 4: 589.
2 - نفس المصدر.
3 - مقالات الأصول 2: 172 سطر 19، نهاية الأفكار 4: 242.
228

وفيه: - مضافا إلى أن الكبرى هي عدم نقض اليقين بالشك من غير نظر إلى
المتعلقات، واختلاف الخصوصيات فيها غير منظور، والعناوين قابلة للانطباق على كل
من الخصوصيتين ولو لم يكن اجتماعهما في اللحاظ - أن الجمع بين المصداق الحقيقي
والمسامحي التأولي بمكان من الإمكان، لما حقق في محله: من أن الادعاء في المجازات
إنما هو في تطبيق العناوين الحقيقية على الأفراد، لا في الاستعمال (1)، مع أن المقام أجنبي
عن ذاك المضمار.
وأما المقام الثاني: أي مقام الاستظهار من الأدلة، فلا ينبغي الإشكال في أن أخبار
الباب كلها تحوم حول كبرى كلية هي (لا ينقض اليقين بالشك) فالمجعول هي هذه
الكبرى مع اختلاف التعبيرات، ولا إشكال في أن الظاهر منها كون اليقين متحققا فعلا،
فمعنى قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) أن اليقين المتحقق بالفعل لا ينقض ولا يشمل
اليقين الزائل، وهذا مما لا ريب فيه.
نعم يمكن أن يتوهم: أن الظاهر من رواية " الخصال " هو القاعدة لأن قوله: (من
كان على يقين فشك فليمض على يقينه) ظاهر في أن اليقين كان متحققا، فزال وقام
مقامه الشك (2)، لكنه فاسد، فإن هذا التعبير عين التعبير الوارد في صحيحة زرارة
الثانية وهو قوله: (لأ نك كنت على يقين من طهارتك فشككت) مع أنها واردة في مورد
الاستصحاب.
والسر في هذا التعبير: هو أن الغالب أن يكون حصول الشك في البقاء متأخرا
عن اليقين بالحدوث، وقد مر في ذيلها عند ذكر أخبار الباب ما يؤيد ذلك (3)، مع أن في

1 - انظر مناهج الوصول 1: 104 - 107.
2 - هذا التوهم مستفاد من رسائل الشيخ قدس سره: 333 سطر 10 فإن دعوى اختلاف زمان الوصفين مع اتحاد متعلقهما
مساوق لزوال اليقين وقيام الشك مقامه.
3 - تقدم في صفحة 57 و 58.
229

ذيلها شهادة بأن المجعول فيها عين المجعول في صحيحتي زرارة.
وبالجملة: لا تكون أخبار الاستصحاب دالة على القاعدة فضلا عن القاعدتين،
بل ليس عليها دليل رأسا.
وتوهم: كون أخبار التجاوز والفراغ دالة عليها (1) في غير محله، لأن مفادها غير
القاعدة موضوعا وملاكا، كما سيجئ (2).
الأمر الثالث
تقدم الأمارات على الاستصحاب
مما يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب مشكوك البقاء، فلا يجري مع
إحراز بقائه أو ارتفاعه، وهذا مع الإحراز الوجداني واضح.
وإنما الكلام فيما إذا قامت أمارة معتبرة شرعية أو عقلائية ممضاة شرعا على طبق
الحالة السابقة، أو على خلافها، حيث إن الشك الوجداني لا يزول معه، ولكن لا إشكال
في تقدمها عليه، وإنما الإشكال في وجه التقدم، وأنه هل هو لأجل الحكومة أو الورود
أو غيرهما؟
فلا بد قبل الورود في المقصود من بيان الفرق بين تلك العناوين التي يمكن أن
تكون وجه التقدم، وبيان الضابط فيها، وقد مر شطر من الكلام فيها في مباحث
البراءة (3) ونزيدك هاهنا إيضاحا.
فنقول: لم ترد تلك العناوين ولا شئ منها في لسان دليل أو معقد إجماع، حتى

1 - انظر درر الفوائد: 588.
2 - يأتي في صفحة 312 وما بعدها.
3 - انظر أنوار الهداية 1: 370 وما بعدها و 2: 14 و 15.
230

نبحث فيها وفي حدودها، وإنما هي اصطلاحات في لسان الأصوليين (1)، وبعضها في
ألسنة متأخري المتأخرين (2)، وقد جعلها الشيخ الأعظم تحت الضابط، وتعرض لها في
شتات إفاداته، خصوصا في أول باب التعادل والتراجيح (3).
والذي يمكن أن يقال: إنه قد نرى أن العقلاء وأرباب المحاورات قد يقدمون
دليلا على دليل من غير ملاحظة النسبة بينهما، ومن غير ملاحظة أظهرية أحدهما من
الآخر، وقد يتوقفون في تقديم أحد الدليلين، مع كون النسبة بينهما كالسابقة.
مثلا: لو ورد " يجب إكرام العلماء " وورد في دليل منفصل " يحرم إكرام الفساق "
وعرض الدليلان على أهل المحاورات والعرف لرأيتهم يتوقفون في الحكم، ولا يحاولون
ترجيح أحدهما على الآخر، ولو بدل قوله: " يحرم إكرام الفساق " بقوله: " ما أردت إكرام
الفساق " أو " ما حكمت بإكرامهم " أو " ما جعلت إكرامهم " أو " لا خير في إكرامهم "
أو " لا صلاح في إكرامهم " أو " لا أرى إكرامهم " أو " ليس منظوري إكرامهم " أو " ليس
الفساق أهلا للإكرام " أو " إكرامهم خطأ " أو " لا أقول بإكرامهم " أو أمثالها تصير تلك
الألسنة قرينة على صرف قوله: " يجب إكرام العلماء " عن وجوب إكرام الفساق منهم،
مع أن النسبة بينه وبينها عموم من وجه، ولا فرق بين ما ذكر وبين ما تقدم إلا في كيفية
التأدية والتعبير.
وكذا الحال في قوله: (لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو) (4) بالنسبة
إلى أدلة الشكوك، وقوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (5) أو

1 - انظر الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 197 و 275، عدة الأصول: 103 و 137، الغنية: 468 - ضمن الجوامع الفقهية.
2 - انظر بحر الفوائد: 6 - 8 " مبحث التعادل والتراجيح "، فوائد الأصول 4: 591 - 595 و 710 - 715 وغيرها.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 315 سطر 10 و 407 سطر 13 و 432 سطر 6.
4 - انظر مستطرفات السرائر: 110 / 66، الوسائل 5: 330 / 8 - باب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5 - سورة الحج 22: 78.
231

(لا ضرر ولا ضرار) (1) أو * (ولا يريد بكم العسر) * (2) بالنسبة إلى أدلة الأحكام، مع أن
النسبة بينهما عموم من وجه، وليس هذا النحو من التقديم بلحاظ مقام الظهور،
وترجيح الأظهر على الظاهر، أو النص على الظاهر.
ومن ذلك يعلم: أن غير التقديم الظهوري الذي يكون معولا عليه عند العقلاء
يكون ترجيح وتقديم آخر، وهو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله متعرضا لحيثية من
حيثيات الدليل الآخر التي لم يتعرضها ذلك الدليل.
وتوضيح ذلك: أن الدليلين إما أن يكون كل منهما متعرضا بمدلوله لما يتعرضه
الدليل الآخر، ويكون الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك في جهات اخر، كالإيجاب
والسلب، مثل " أكرم العلماء " و " لا تكرم العلماء " أو مع أخصية أحدهما من الآخر
مثل: " أكرم العلماء " و " لا تكرم فساقهم " أو مع كون النسبة عموما من وجه مثل " أكرم
العلماء " و " لا تكرم الفساق " وكاختلافهما في زيادة قيد مع الاتفاق في الكيف مثل: " إن
ظاهرت فأعتق رقبة " و " إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة ".
ففي جميع تلك الموارد ترى أن كلا من الدليلين يتعرض لما يتعرضه الآخر، فكما
أن أحدهما تعرض لوجوب إكرام العلماء، تعرض الآخر لعدم وجوب إكرامهم، وكما أن
أحدهما تعرض لعتق رقبة، تعرض الآخر لعدم عتق كافرتها، أو لعتق مؤمنتها، فالمدلول
اللفظي لأحدهما هو المدلول للآخر، مع اختلاف في الكيف أو في زيادة فيه أو مثلهما.
وإن شئت قلت في الأدلة اللفظية: إن التصادم بينهما في مرحلة الظهور، مع
اتحادهما في جميع المراحل من الأصول العقلائية، فإذا كان الدليلان كذلك يكون تقديم
أحدهما على الآخر تقديما ظهوريا، ومناطه أظهرية أحدهما من الآخر، فتقديم " لا تكرم

1 - الكافي 5: 292 / 2 و 293 / 6 و 294 / 8، الفقيه 3: 147 / 648، التهذيب 7: 146 / 651، الوسائل 17: 341 / 3
و 4 - باب 12 من أبواب إحياء الموات.
2 - سورة البقرة 2: 185.
232

الفساق من العلماء " على " أكرم العلماء " ليس إلا من جهة تقديم الأظهر على الظاهر.
وجميع الأصول اللفظية كأصالة العموم وأصالة الإطلاق وأصالة الحقيقة ترجع (1).
إلى أصالة الظهور عند العقلاء، فما هو المعتبر عندهم والحجة لديهم هو الظهور
اللفظي، " فأكرم العلماء " حجة، لظهوره في العموم بعد تحقق المقدمات الأخرى من
الأصول العقلائية، وليس ظهوره معلقا على عدم مجئ المخصص، بل ظهوره منجز،
وبناء العقلاء على العمل به من غير تعليقه على شئ، ولكن مع ورود دليل أخص منه
يقدم مقتضاه عليه، لقوة ظهوره وأظهريته من ظهور العام في مضمونه.
وكذا الحال في المطلق والمقيد، فإن مناط تقديمه على المطلق ليس إلا أقوائية
ظهور القيد في القيدية من المطلق في الإطلاق.
فما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره): من أن مناط تقديم الخاص على العام هو
الحكومة أو الورود، فإن أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم تعلم هناك قرينة على
المجاز، والمخصص القطعي وارد على أصالة العموم، والمخصص الظني حاكم عليها،
لإن معنى حجية الظن جعل احتمال مخالفة مؤداه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتب
ما كان يترتب عليه من الأمور لولا حجية هذه الأمارة، وهو وجوب العمل بالعموم عند
احتمال وجود المخصص وعدمه.
ويحتمل أن يكون الخاص الظني واردا بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا
معلقا على عدم التعبد بالتخصيص (2)، انتهى.

1 - في رجوع أصالة الإطلاق إلى أصالة الظهور، وفي وجه تقدم المقيد على المطلق، كلام يأتي في بعض المباحث الآتية (أ).
والتحقيق أن الإطلاق ليس ظهورا لفظيا، ولا تقدم المقيد على المطلق من قيل تقدم الأظهر على الظاهر، كما
سيأتي (ب)، وكذا مناط تقدم الخاص على العام ليست الأظهرية، بل شئ آخر سنشير إليه في بعض المباحث
الآتية (ج‍) [منه قدس سره]
أ و ب - يأتي في رسالة التعادل والترجيح 22 و 23.
ج‍ - نفس المصدر: 5 و 6.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 432 سطر 22.
233

منظور فيه، لأن مناط العمل بالظواهر والاحتجاج عند العقلاء هو نفس الظهور،
فأصالة الإطلاق والعموم والحقيقة ليست أصولا متكثرة بمناطات مختلفة، بل المناط
هو الظهور، فإذا كان الظهور ظنيا يلغى احتمال خلافه عند العقلاء، من غير فرق بين
العام والخاص، فالعام الظني كالخاص الظني يلغى احتمال خلافه، وليس ظهور العام
أو البناء على العمل به معلقا على شئ، بل يكون تقديم الخاص على العام من قبيل
تقديم أقوى الدليلين وأظهر الظاهرين.
وكذا الحال في تقديم المقيد على المطلق، وقرينة المجاز على ذيها، وليس مناط
الحكومة في شئ من ذلك، كما سيتضح لك (1).
فتلخص مما ذكرنا: أن تصادم الدليلين في الظهور مع تعرض كل منهما لما يتعرضه
الآخر مقسم للتخصيص والتقييد وتقديم قرينة المجاز، وكذا لتقديم أحد المتباينين
والعامين من وجه على شقيقه لو فرض أظهريته منه. هذا حال التصادم والتقديم
الظهوريين.
بيان ضابط الحكومة
وأما ضابط الحكومة: فهو أن يتعرض أحد الدليلين بنحو من التعرض ولو
بالملازمة العرفية أو العقلية لحيثية من حيثيات الآخر مما لا يتعرض لها ذلك كان التعرض
لموضوعه أو محموله أو متعلقه، أو المراحل السابقة على الحكم أو اللاحقة له.
مثلا: لو قال المولى: " أكرم العلماء " فلا يكون ذلك متعرضا إلا لوجوب إكرام كل
عالم، ولا يتعرض لشئ آخر سواه، فلم يتعرض لتحقق موضوعه، أو دخول فرد فيه،

1 - يأتي في البحث الآتي.
234

أو عدم دخوله فيه، ولا لحدود متعلقه وحكمه، ولا لكونه مرادا أو مجعولا أو صادرا على
نحو الجد أو التقية.
وبالجملة: لم يتعرض للجهات المتقدمة على الحكم والمتأخرة عنه.
فلو تعرض دليل لشئ من تلك الحيثيات يكون مقدما لدى العقلاء من غير
ملاحظة النسبة بينهما، ولا لحاظ أظهرية أحدهما من الآخر، فلو تعرض أحد الدليلين
لتوسعة دائرة موضوع الآخر أو تضييقه أو لحدود محموله أو متعلقه أو حكمه يكون
مقدما وحاكما عليه، مثل قوله (لا سهو لمن أقر على نفسه بالسهو) (1) بالنسبة إلى أدلة
الشكوك (2)، فقوله: " زيد عالم " أو " ليس بعالم " أو " الضيافة إكرام " أو " ليست بإكرام "
وأمثاله حاكم على قوله: " أكرم العلماء " لتعرضه لما لا يتعرض له الآخر.
وكذا قوله: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (3) حاكم على أدلة الأحكام،
لتعرضه بمدلوله للجعل الذي لا تتعرض له الأدلة، وإن كانت مجعولة بالضرورة، لأنها لما
لم تتعرض لمجعوليتها فإذا تعرض له الأدلة، وإن كانت مجعولة بالضرورة، لأنها
لما لم تتعرض لمجعوليتها فإذا تعرض دليل بأن الجعل لم يتعلق بأمر حرجي يقدم عرفا
على تلك الأدلة، لا لأقوائية ظهوره، بل هذا نحو آخر من التقدم في مقابل التقدم
الظهوري، ولهذا لا تلاحظ النسبة بين الدليلين، فيقدم العام من وجه على معارضه، فأدنى
الظواهر يقدم على أقواها.
فلو قال: " أكرم العلماء " ودل دليل على أنه " ما أريد إكرام الفساق " أو " ما
حكمت بإكرامهم " أو " ما جعلت ذلك " يكون مقدما عليه من غير لحاظ النسبة
والظهور.

1 - تقدم تخريجه في صفحة 231.
2 - كقوله عليه السلام: (كلما دخل عليك من الشك في صلاتك فاعمل على الأكثر) قال: (فإذا انصرفت فأتم ما ظننت
أ نك نقصت) وغيره. انظر التهذيب 2: 193 / 762، الاستبصار 1: 376 / 1426، الوسائل 5: 318 / 4 - باب 8.
من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3 - سورة الحج 22: 78.
235

وليس هذا إلا لتعرض الحاكم لما لا يتعرض له الآخر، فإن الدليل المحكوم ليس
بمدلوله متعرضا لكون إكرامهم مرادا أو مجعولا أو محكوما به، فإنها معلومة من الخارج،
أو لأجل الأصل العقلائي.
من هذا القبيل تقديم (لا تعاد..) (1) على أدلة الأجزاء والشرائط، لأنها
لا تتعرض للحيثيات اللاحقة، أي الإعادة واللا إعادة، وإنما يحكم العقل بأن التارك
للجزء أو الشرط يعيد.
ثم ليعلم: أن نتيجة حكومة دليل على دليل قد تكون تخصيصا، مثل: " ليس
الفساق من العلماء " بالنسبة إلى " أكرم العلماء " فإنه خروج حكمي بلسان الحكومة.
وقد تكون تقييدا، كتقدم دليل رفع الحرج على إطلاق أدلة الأحكام.
وقد تكون توسعة في الحكم بلسان توسعة الموضوع كقوله: (الطواف بالبيت
صلاة) (2).
وقد تكون ورودا، كتقدم أدلة الاستصحاب على أدلة الأصول الشرعية، بناء على
كون المراد من العلم الذي اخذ غاية في أدلتها هو الحجة في مقابل اللا حجة، فإن قوله:
(لا تنقض اليقين بالشك) حاكم على أدلتها، لأن لسانه بقاء اليقين وإطالة عمره،
فيكون متعرضا لتحقق العلم الذي جعل غاية للأصول، وأدلة الأصول ليست متعرضة
لذلك، فيكون حاكما عليها، ونتيجة حكومته الورود.
وإن كان المراد من العلم هو العلم الوجداني يكون دليل الاستصحاب حاكما
عليها، ونتيجته إعدام الموضوع تعبدا وحكما.
فالورود والتخصيص والتقييد وغيرها كثيرا ما تكون من نتائج الحكومة وثمراتها،

1 - الخصال: 284 / 35، الوسائل 4: 683 / 14 - باب 1 من أبواب أفعال الصلاة.
2 - سنن البيهقي 5: 87، سنن النسائي 5: 222، سنن الدارمي 2: 44، تفسير الطبري 11: 34، التمهيد لابن عبد البر
8: 215.
236

وليس الورود في عرضها، فإن حيثية تقدم دليل على دليل آخر ليست إلا على نحوين،
أحدهما: التقدم الظهوري، والثاني: التقدم على وجه الحكومة سواء كانت نتيجتها رفع
الموضوع حكما، أو رفعه حقيقة، فالورود ليس من أنحاء تقديم دليل لفظي على دليل
آخر في مقابل التخصيص والحكومة.
وإن شئت قلت: تقسيم تقدم دليل على آخر بين التقدم الظهوري وعلى
نحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات، فلا يعقل قسم آخر في الأدلة اللفظية
يسمى " ورودا " فإن أحد الدليلين إما أن يتعرض لما يتعرض له الدليل الآخر، أو يتعرض
لما لا يتعرض له، ولا ثالث لهما.
نعم: يتصور ثالث، هو عدم التعرض رأسا، وهو خارج عن المقسم.
فأدلة الأمارات بناء على أخذها من الأدلة اللفظية حاكمة على أدلة الأصول
والاستصحاب، لأن مفادها التصرف في موضوعها إعداما، وهي حيثية لا تتعرض لها
تلك الأدلة، فنتائج الحكومة أمور كثيرة: كالتخصيص، والتقييد، والورود، وإعدام
الموضوع تعبدا، أو إيجاده كذلك، وتوسعة دائرة الموضوع حكما، أو الحكم على عكس
التخصيص والتقييد، فالورود ليس من أنحاء التقديم في الأدلة اللفظية، ولا مشاحة في
الاصطلاح.
نعم: لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلة اللبية على بعض - كتقدم بناء العقلاء
على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان - بالورود، كما أنه لا بأس بتسمية تقدم
بعض الأدلة اللفظية كأدلة الأمارات والاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان بالورود.
فتحصل مما ذكرنا: الفرق بين التخصيص والحكومة.
وأما تقسيم الحكومة إلى الظاهرية والواقعية كما صنعه بعض أعاظم العصر (1)

1 - فوائد الأصول 4: 595 و 713.
237

فمما لا ملاك له كما لا يخفى، لأن تقديم دليل على دليل آخر إذا كان على نحو الحكومة
وتحت الضابط المتقدم فلا يكون مختلفا حتى يكون التقسيم صحيحا، واختلاف النتيجة
لا يصحح التقسيم، فتقدم (لا شك لكثير الشك) على أدلة الشكوك كتقدم
(لا تنقض...) على أدلة الأصول، وتقدم مفهوم آية النبأ (1) عليها من حيث تعرض الأدلة
الحاكمة لما لا تتعرض له الأدلة المقابلة لها.
وبالجملة: لا يكون نحو تقدم الأدلة الحاكمة في الأحكام الواقعية مخالفا لنحو
تقدم الأدلة الحاكمة في الأحكام الظاهرية حتى يصح التقسيم.
إذا عرفت ما ذكرنا: فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى حال أدلة الاستصحاب مع
سائر الأدلة، والأدلة بعضها مع بعض.

1 - سورة الحجرات 49: 6.
238

حال أدلة الاستصحاب مع سائر الأدلة
والأدلة بعضها مع بعض
ويقع الكلام فيها في مقامات:
المقام الأول
في حال أدلة الاستصحاب مع أدلة الأمارات
وملخص الكلام فيها: أنا قد ذكرنا في مبحث استصحاب مؤدى الأمارات (1) أن
المستفاد من الأدلة - ولو بمناسبة الحكم والموضوع وبعض المؤيدات الخارجية
والداخلية - أنه لا خصوصية لليقين، ويكون المراد منها أنه لا تنتقض الحجة بغير
الحجة.

1 - تقدم في صفحة 81 - 83.
239

لا بمعنى أن عنوان " اليقين " و " الشك " استعملا في الحجة وغير الحجة، فإنه
واضح البطلان، بل هما مستعملان في معناهما، لكن العرف لا يرى لخصوصية العنوان
دخالة في الحكم، كما أن في قوله: " رجل شك بين الثلاث والأربع " لا يكون الرجل
مستعملا في مطلق المكلف، بل العرف يلغي خصوصية الرجل، ويرى أن ذكره من باب
المثال.
فحينئذ: يكون تقدم أدلة حجية خبر الثقة على أدلة الاستصحاب - بناء
على أخذها من الأدلة اللفظية مثل مفهوم آية النبأ، ومثل قوله: (ما يؤدي عني
فعني يؤدي) (1) - على نحو الحكومة على إشكال، ونتيجتها الورود، لأن مفاد أدلة
حجية الخبر ولو التزاما إلغاء الشك، فإن مفهوم الآية بناء على المفهوم أن نبأ
العادل لا يتبين لكونه متبينا، وليس العمل به إصابة للقوم بجهالة، وهو رافع
للشك.
وأما لو قلنا: بأن دليل حجية خبر الثقة ليس إلا بناء العقلاء وسيرتهم على العمل
به، والأدلة اللفظية كلها إرشادات إليها - كما هو التحقيق - فتقدمها على الاستصحاب
يكون بالتخصص أو الورود.
بل هذا في الحقيقة ليس تقدما، لأن الخروج الموضوعي ليس من التقدم، لأن
العقلاء لا يرون العمل بخبر الثقة عملا بغير الحجة، فلا يكون العمل على طبق الأمارة
نقضا لليقين بالشك لديهم.
وإن اشتهيت أن تسمي هذا النحو من التقدم ورودا ببعض المناسبات
فلا مشاحة فيه، ومما ذكرنا يظهر حال سائر الأمارات.

1 - انظر الكافي 1: 265 / 1، الوسائل 18: 100 / 4 - باب 11 من أبواب صفات القاضي.
240

المقام الثاني
وجه تقدم الأمارات على أدلة البراءة الشرعية
وهو الحكومة إن كان التمسك في الأمارات بالأدلة اللفظية، لأن قوله: (رفع... ما
لا يعلمون) (1) أو (الناس في سعة ما لا يعلمون) (2) محكوم بمفهوم آية النبأ وسائر الأدلة،
لأن مفادها إلغاء الشك، فتعرض لموضوع أدلة البراءة، وهي لا تتعرض له.
فإن قلنا: بأن المراد مما لا يعلم هو عدم الحجة - كما هو التحقيق - تكون نتيجة
الحكومة هي الورود، وإلا تكون النتيجة إعدام الموضوع تشريعا وتعبدا، والتخصيص
لبا، وهو من أقسام الحكومة، كما عرفت (3).
المقام الثالث
وجه تقدم أدلة الاستصحاب على أدلة الحل والبراءة الشرعيتين
هو الحكومة ونتيجتها الورود، لأن مفاد (لا تنقض..) كما عرفت إطالة عمر
اليقين تعبدا، وأن الشك لا أهلية له لنقضه، فيكون اليقين غير منقوض وباقيا تعبدا،
وهذا من أظهر أنحاء الحكومة، وأما كون النتيجة هي الورود فلما عرفت: من أن المراد
من (ما لا يعلمون) عدم الحجة، لا عدم العلم وجدانا، وإن كان مفاد الأدلة إلغاء
الشك حكما والتعبد بعدم الاعتناء به، فتكون حاكمة أيضا على ما جعل الحكم على
عنوان الشك وعدم العلم وإن كان مفادها عدم نقض الحجة بلا حجة فتكون حاكمة

1 - الخصال: 417 / 9، الوسائل 5: 345 / 2 - باب 30 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2 - انظر الحدائق الناضرة 1: 43، عوالي اللآلي 1: 424 / 109.
3 - تقدم في صفحة 236 من هذا الكتاب، عند قوله قدس سره: وقد تكون ورودا... تعبدا وحكما.
241

أيضا، لأن المراد بعدم الحجة في مقابل الحجة هو عدم الحجة على الواقع، وقد مر أن
المراد ب‍ (ما لا يعلمون) في أدلة البراءة هو ما لم تقم حجة على الواقع، فغاية الأصول عدم
قيام الحجة على الواقع، ومفاد أدلة الاستصحاب بقاء الحجة قبل قيام حجة على
الواقع، فإن معنى عدم نقض الحجة بغير الحجة عرفا هو بقاء حجيته إلى قيام حجة على
الواقع، فأدلة الاستصحاب بلسانها حاكمة على حصول غاية أدلة الأصول، وأما أدلة
الأصول فلم يكن مفادها إلا تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحجة لا جعل الحجة على
الواقع.
وأما ما أفاده الشيخ الأعظم في وجه التقدم: من أن دليل الاستصحاب بمنزلة
معمم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فمجموع قوله: (كل شئ مطلق حتى
يرد فيه نهي) (1) ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: " كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي،
وكل نهي ورد في شئ فلا بد من تعميمه لجميع أزمنة احتماله " فيكون الإطلاق مغيى
بورود النهي المحكوم عليه بالدوام، فأدلة الاستصحاب حاكمة عليه (2).
ففيه: أن الحكومة خصوصا على مسلكه متقدمة بلسان الدليل، فحينئذ لا يتم
ما ذكره إلا بدعوى أن مفاد أدلة الاستصحاب عدم نقض المتيقن، بل لا يكفي ذلك
حتى يكون المراد من المتيقن هو العناوين الذاتية الواقعية كالنهي والأمر والوجوب
والحرمة، وقد مر سابقا (3) الإشكال في كون المراد من اليقين المتيقن، ولو سلم ذلك لكن
لا يمكن المساعدة معه في كون المراد هو العناوين الأولية تأمل.
ثم ذلك لا يتم بالنسبة إلى سائر أدلة البراءة وهو (قدس سره) كان متنبها لذلك
لكن قال: ما كان من الأدلة النقلية مساوقا لحكم العقل فقد اتضح أمره،

1 - الفقيه 1: 208 / 937، الوسائل 18: 127 / 60 - باب 12 من أبواب صفات القاضي.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 13.
3 - تقدم في صفحة 80.
242

والاستصحاب وارد عليه (1)، ولعل مراده ما ذكرنا من بيان حكومة أدلة الاستصحاب
عليها، وإن كانت النتيجة الورود.
المقام الرابع
في تعارض الاستصحابين
القسم الأول
في وجه تقدم الاستصحاب السببي على المسببي
ولا بأس بالتعرض لمطلق تعارض الاستصحابين.
فنقول: إن الشك في أحد المستصحبين إما أن يكون مسببا عن الشك في الآخر،
وإما أن يكون الشك في كليهما ناشئا من ثالث.
فعلى الأول: إما أن تكون السببية والمسببية لأجل للزوم العقلي أو العادي،
كالشك في وجود المعلول للشك في وجود علته، وكالشك في نبات لحية زيد لأجل
الشك في بقائه. وإما أن تكون لأجل الجعل الشرعي، كالشك في طهارة الثوب المغسول
بالماء المشكوك الكرية، فإنه لولا حكم الشارع بأن الغسل بالكر موجب للطهارة
لما صار أحد الشكين سببا للشك الآخر.
ثم إن السببية قد تكون بلا واسطة، كالشك في صحة الطلاق عند رجلين شك
في عدالتهما، وقد تكون مع الواسطة، كالشك في عدالتهما بالنسبة إلى الشك في لزوم
تربص ثلاثة قروء، فإن الشك في عدالتهما سبب للشك في صحة الطلاق، وهو سبب
للشك في لزوم التربص، وقد تكون الوسائط كثيرة، وستأتي (2) أقسام ما إذا كان الشك في
كليهما ناشئا من أمر ثالث.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 4.
2 - تأتي في صفحة 253.
243

ولا إشكال في عدم تقدم الأصل السببي على المسببي إذا كانت السببية عقلية
أو عادية وسيأتي بيان وجهه (1).
وأما إذا كانت السببية شرعية، سواء كانت مع الواسطة أم لا، فسر تقدم الأصل
السببي يظهر من التنبيه على أمر قد أشرنا إليه سابقا في باب الأصول المثبتة (2)، وهو أن
قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) لا يمكن أن يكون متكفلا للآثار مع الواسطة حتى
الشرعية منها، لأن الآثار مع الواسطة لا تكون آثار نفس المستصحب بالضرورة، بل
تكون أثر الأثر، وأثر أثر الأثر وهكذا، فأثر عدالة الشاهدين صحة الطلاق عندهما،
ولزوم تربص ثلاثة قروء أثر صحة الطلاق، لا أثر عدالة الشاهدين، فصحة الطلاق إذا
ثبتت بقوله: (لا ينقض اليقين بالشك) لا يمكن أن يترتب عليها أثرها ب‍ (لا ينقض..)
أيضا، لأن الحكم لا يمكن أن يوجد الموضوع ويترتب عليه ولا يكون أثر الأثر مصداق
نقض اليقين بالشك تعبدا حتى يقال: إن لا تنقض قضية حقيقية تشملها، كما يجاب
عن الشبهة في الأخبار (3) مع الواسطة، فاستصحاب عدالة زيد لا يمكن أن يترتب عليه
إلا آثار نفس العدالة، وأما آثار الآثار فتحتاج إلى دليل آخر.
فالتحقيق: أن ترتب الآثار على الاستصحابات الموضوعية ليس لأجل قوله:
(لا ينقض اليقين بالشك) بل الاستصحاب منقح لموضوع كبرى شرعية مجعولة تعبدا،
فإذا ورد من الشارع " يصح الطلاق عند شاهدين عدلين "، فاستصحاب عدالتهما ينقح
موضوع تلك الكبرى، فيحكم بصحته من ضم صغرى تعبدية إلى كبرى شرعية وإذا
ورد: * (المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (4) يحرز موضوعه من ضم صغرى إلى

1 - انظر الصفحة الآتية.
2 - تقدم في صفحة 154.
3 - انظر أنوار الهداية 1: 298، فوائد الأصول 3: 179، نهاية الأفكار 3: 123.
4 - سورة البقرة 2: 228.
244

كبرى شرعية، فيحكم بأن هذه مطلقة، والمطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيجب على هذه
التربص، فإذا ورد جواز التزويج بعد التربص يحرز موضوعه كذلك، فإذا ورد " أن
المزوجة يجب عليها إطاعة الزوج، وعلى الزوج النفقة عليها " يحرز الموضوع كما ذكر
وهكذا فلا يكون الاستصحاب إلا منقح موضوع الكبرى الشرعية الأولية، بل ليس مفاد
الاستصحاب لزوم ترتيب الآثار حتى أن ترتب الأثر الأول أيضا يكون بضم
الاستصحاب إلى الكبرى الشرعية المجعولة، فقوله: (لا ينقض...) ليس مفاده رتب
الأثر، بل مفاده إطالة عمر اليقين تعبدا، وإحراز الموضوع الذي هو صاحب الأثر.
ويؤيد ذلك بل يدل عليه: أن الاستصحاب في الأحكام والموضوعات إنما هو
بلسان واحد، مع أن استصحاب الأحكام ليس معناه ترتيب الآثار، بل يكون
الاستصحاب منقحا للحكم ومثبتا له تعبدا، وكذلك استصحاب الموضوعات معناه
تحققها تعبدا، وبعد تحققها يترتب عليها أثرها لأجل الكبرى المجعولة، فاستصحاب
الكرية ليس إلا التعبد باليقين بها أو بنفسها، والكر موضوع للأثر الشرعي، فيترتب عليه
أثره بدليله لا بالاستصحاب، فإذا عرفت ذلك تتضح لك أمور:
الأول: وجه عدم حجية الأصول المثبتة لعدم الكبرى الكلية المنطبقة على
الموضوع المستصحب، فاستصحاب حياة زيد يترتب عليه لزوم نفقة زوجته، لأجل
الكبرى المجعولة دون أثر طول لحيته، لعدم كبرى دلت على " أن من كان حيا طالت
لحيته ".
الثاني: وجه ترتب الآثار الشرعية ولو مع ألف واسطة لما عرفت من أن
الاستصحاب ينقح موضوع الكبرى التي في مبدأ السلسلة، ثم يحرز موضوع الكبرى
الثانية لأجل الكبرى الأولى وهكذا.
الثالث: وجه تقدم الأصل السببي على المسببي، وهو أن الأصل السببي يكون
245

حاكما على الكبرى المجعولة التي تتكفل الحكم الواقعي، بتنقيح موضوعه أو إعدامه
بحسب اختلاف الاستصحابات.
ثم إن الدليل الاجتهادي المنطبق على الصغرى المستصحبة يقدم على الأصل
المسببي بالحكومة التي نتيجتها الورود على وجه كما عرفت، فإذا ورد من الشرع: " أن
الثوب المغسول بالكر طاهر " أو " أن الكر مطهر " فاستصحاب الكرية يكون منقحا
لموضوعه وحاكما عليه، لكونه متعرضا لموضوع الدليل الاجتهادي توسعة وتنقيحا، وهو
من أنحاء الحكومة كما عرفت (1)، فينطبق عليه الدليل الاجتهادي وهو " أن الثوب
المغسول به طاهر "، أو " أنه مطهر للثوب المغسول به " فإذا شك في طهارة ثوب مغسول
به يكون الدليل الاجتهادي حاكما بطهارته، ولا يعارضه استصحاب النجاسة، لكونه
حاكما عليه.
فلو فرض ماءان يكون أحدهما كرا بالوجدان، والآخر بالاستصحاب يكون
كلاهما مشمولين لقوله: " الكر مطهر " أو " الثوب المغسول بالكر طاهر " وإن كان
أحدهما مصداقا وجدانيا والآخر مصداقا تعبديا، فكما لا يجري استصحاب النجاسة مع
الغسل بالكر وجدانا، لتقدم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب، كذلك لا يجري مع
الغسل بما حكم بكريته بالأصل، لعين ما ذكر.
فتحصل مما ذكرنا: أن تقدم الأصل السببي على المسببي ليس لحكومته عليه، بل
لحكومته على الدليل الاجتهادي بتنقيح موضوعه، وحكومة الدليل الاجتهادي على
الأصل المسببي بتنقيح موضوعه أو رفعه، فتأمل فإنه دقيق.
ولعل ما ذكرناه هو مراد الشيخ الأعظم من قوله في جواب الإشكال الأول.
وثانيا: أن نقض يقين النجاسة بالدليل الدال على " أن كل نجس غسل بماء

1 - تقدم في صفحة 236.
246

طاهر فقد طهر " وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به (1) انتهى.
لكنه (قدس سره) لم يستقر على هذا المبنى، وكأنه لم ينضجه ولم يتأمل في أطرافه،
ولذا تراه يجيب عن الإشكال الثاني الذي هو قريب من الأول أو عينه بما هو خلاف
التحقيق، وها أنا اذكر ملخص الإشكال والجواب:
نقل كلام الشيخ الأعظم ونقده
قال رحمه الله: قد يشكل بأن اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول
به كلا منهما يقين سابق شك في بقائه وارتفاعه، وعموم (لا تنقض) نسبته إليهما على حد
سواء، فلا وجه لإجرائه في السبب دون المسبب.
ويدفع: بأن نسبة العموم إليهما ليست على حد سواء، لأن شموله للسبب
بلا محذور، ولكن شموله للمسبب مستلزم للدور، لأن تخصيص الدليل بالنسبة إلى
السبب يتوقف على شمول العام للمسبب، وشموله له يتوقف على تخصيصه، لأنه مع
عدم التخصيص يخرج الشك في الأصل المسببي عن قابلية شمول العام له.
أو يقال: أن فردية الشك المسببي للعام تتوقف على رفع اليد عنه بالنسبة إلى
الشك السببي، ورفع اليد عنه يتوقف على فردية المسببي له.
وإن شئت قلت: إن حكم العام والشك المسببي من قبيل لازم الوجود للشك
السببي فهما في رتبة واحدة، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر.
أو يقال: إن الشك السببي في المرتبة المتقدمة لا محذور لشمول العام له، فإنه
بلا مزاحم، فإن الشك المسببي ليس في هذه الرتبة، وفي الرتبة المتأخرة يزول الشك

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 425 سطر 16.
247

بدليل (لا تنقض...) في الأصل السببي فيخرج عن قابلية شمول العام (1) انتهى
بتوضيح منا.
وفيه أولا: أن ما أفاده من لزوم الدور غير وارد، لأن فردية الشك السببي للعام
وجدانية لا تتوقف على شئ، فالشك السببي والمسببي كلاهما مشمولان للعام، ولو
فرض أن مفاد الأصل السببي وجوب ترتيب آثار الكرية ومن آثارها طهارة الثوب
المغسول به، فكأنه قال: " إذا شككت في طهارة الثوب المغسول بالكر فابن على
طهارته " ومفاد الأصل المسببي الذي يكون مصداقا للعام وجدانا " أنه إذا شككت في
طهارة الثوب الكذائي ونجاسته فابن على نجاسته " وهما حكمان واردان على موضوع
واحد في الشك في طهارة الثوب المغسول بالكر ونجاسته.
وليس مفاد الأصل السببي منافيا للشك المسببي بالذات، لأن الأصل السببي
يحكم بكرية الماء، والأصل المسببي لا ينافيها، بل المنافاة إنما تكون بين الحكم بطهارة
الثوب المشكوك فيه - التي هي من احكام استصحاب الكرية - وبين الحكم بنجاسته
التي هي مفاد الأصل المسببي، وهما واردان على موضوع واحد، فالثوب المشكوك فيه
يكون موردا لاستصحاب النجاسة وللحكم المترتب على استصحاب الكرية، فكأنه
قال: " كن على يقين من طهارة الثوب المغسول بالكر إذا شككت في طهارته ونجاسته "
و " كن على يقين من نجاسته " وهما متنافيان.
وليس المقصود من استصحاب النجاسة للثوب الحكم بعدم كرية الماء حتى
يقال: إنه مثبت، بل المراد به هو الحكم بنجاسة الثوب ليس إلا، فاستصحاب الكرية
مفاده: " رتب آثار الكرية مطلقا، ومنها طهارة الثوب المغسول به " واستصحاب
النجاسة مفاده: " رتب آثار النجاسة " ولا وجه لتقدم أحد التعبدين على الآخر

1 - نفس المصدر: 425 سطر 21.
248

ولا حكومة لأحدهما على الآخر.
بل لنا أن نقول بناء على هذا المبنى: إن كثيرا ما يكون الأمر دائرا بين التخصيص
في أدلة الاستصحاب إذا رفعت اليد عن الأصل المسببي، وبين التقييد فيها إذا رفعت
اليد عن مقتضى الأصل السببي، كما في المثال المتقدم، فإن رفع اليد عن استصحاب
النجاسة تخصيص في أدلة الاستصحاب، ورفع اليد عن طهارة الثوب المغسول به تقييد
فيها، لأن استصحاب الكرية بعض آثاره طهارة الثوب المغسول به، وترتيب جميع الآثار
إنما هو بالإطلاق لا العموم، فدار الأمر بين التقييد والتخصيص، ولعل التقييد أولى من
التخصيص.
وثانيا: أن ما أفاده من تقدم الشك السببي طبعا ورتبة على الشك المسببي.
فيه ما تقدم (1) في جواب شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مبحث الاستصحاب
التعليقي: من أن التقدم العلي والمعلولي - مما يكون منشؤه صدور أحدهما من الآخر -
لا يكون منشأ لتقدم ترتب الحكم عليه، لأنه أمر عقلي خارج عن المحاورات العرفية،
فقضية: (لا تنقض...) قضية عرفية ملقاة إلى العرف، والشك السببي يكون مع الشك
المسببي في الوجود الخارجي معية زمانية خارجية لا يتقدم أحدهما على الآخر،
والترتب العلي العقلي الذي منشؤه صدور هذا من هذا أو نحوه لا يصير مناطا لتقدم
انطباق الكبرى على العلة وتأخره عن المعلول، فكل من العلة والمعلول في عرض واحد
بالنسبة إلى عدم نقض اليقين وبالشك.
هذا مضافا: إلى أن الشك السببي في الرتبة المتقدمة على الشك المسببي وعلى
الحكم بالكرية، والحكم بطهارة الثوب المغسول به متأخر عن الحكم بالكرية تأخر
الحكم عن موضوعه، والحكم بالنجاسة متأخر عن الشك في النجاسة والطهارة الذي

1 - تقدم في صفحة 142 و 143.
249

هو في رتبة الحكم بالكرية وفي عرض الحكم بالطهارة، فالحكم بطهارة الثوب في رتبة
الحكم بالنجاسة، فما هو المتقدم ليس معارضا لاستصحاب النجاسة، وما هو المعارض
وهو التعبد بالطهارة في رتبته.
فتحصل مما ذكرنا: أن تقدم الأصل السببي على المسببي ليس لأجل التقدم
الرتبي والطبعي، ولا لأجل دوران الأمر بين التخصص والتخصيص بلا وجه، أو على
وجه دائر، بل الوجه في تقدمه عليه هو حكومة الأصل السببي على الكبرى الكلية
الاجتهادية بتنقيح موضوعها وتقدم الدليل الاجتهادي المحرز بالتعبد على الأصل
المسببي.
فالميزان في كون الأصل السببي مقدما على المسببي على ما ذكرنا هو أن يندرج
بالأصل السببي شئ في موضوع كبرى كلية متضمنة للحكم على أحد طرفي الشك
المسببي، إثباتا أو نفيا، فاستصحاب كرية الماء مقدم على استصحاب نجاسة الثوب،
واستصحاب قلة الماء مقدم على استصحاب طهارته إذا وردت عليه نجاسة، فإنه
باستصحاب القلة يندرج الماء المشكوك فيه في موضوع أدلة انفعال الماء القليل،
فيقدم الدليل الاجتهادي على الاستصحاب.
الأشكال على ما قالوا
في وجه طهارة الملاقي لبعض أطراف العلم
ومما ذكرنا: يرد إشكال على ما أفادوا في وجه طهارة ملاقي أحد أطراف المعلوم
بالإجمال، حيث قالوا: إن الشك في طهارة الملاقي (بالكسر) مسبب عن الشك
في طهارة الملاقي، وأصالة الطهارة فيه حاكمة على أصالة الطهارة في الملاقي،
250

فلا تجري هي إلا بعد سقوط الأصل الحاكم بالمعارضة، وبعده تجري بلا
معارض (1).
وهو أن طهارة الملاقي (بالكسر) ليست من الآثار الشرعية لطهارة الملاقي
(بالفتح) فأصالة طهارة الملاقي لا ترفع الشك عن الملاقي، فلا تكون حاكمة على
أصلها.
وإن شئت قلت: إن الميزان في تقدم الأصل السببي هو إحرازه موضوع دليل
اجتهادي يحكم بثبوت حكم في ورود الأصل المسببي أو نفيه عنه، ولم يرد دليل
اجتهادي بأنه " كل مالا قى طاهرا فهو طاهر " بل المستفاد من شتات الأدلة " أن كل ما
لاقى نجسا فهو نجس "، فاستصحاب نجاسة الملاقي في مورده مقدم على استصحاب
طهارة الملاقي أو أصالة طهارته، لثبوت الكبرى المتقدمة، وأما استصحاب طهارته فلا
يقدم على استصحاب طهارة ملاقيه، وكذا أصالة الطهارة في الملاقي والملاقى تجريان
في عرض واحد، لا تقدم لإحداهما على الأخرى، ولقد ذكرنا وجه جريان أصل الطهارة
في الملاقي (بالكسر) من غير معارض في محلة فراجع (2).
دفع إشكال أوردناه على صحيحة زرارة
كما أنه مما ذكرنا يتضح الجواب عن الإشكال الذي أوردناه سابقا في ذيل
صحيحة زرارة الأولى: من أن الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء لدى الشك في
تحقق النوم، مع أن الشك في بقاء الوضوء مسبب عن الشك في تحقق النوم، فكان ينبغي

1 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 253، فوائد الأصول 4: 82 - 84
2 - أنوار الهداية 2: 244.
251

عليه إجراء استصحاب عدم النوم، وأجبنا عنه بوجه مبني على تسليم حكومة أصالة
عدم النوم على أصالة بقاء الوضوء (1).
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء
إلا على القول بالأصل المثبت، لما عرفت (2) من أن الميزان في تقدم الأصل السببي على
المسببي هو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلية الشرعية حتى
يترتب عليه الحكم المترتب على ذاك العنوان، كاستصحاب العدالة لادراج الموضوع
تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء والقضاء ونحوها.
وأنت خبير: بأنه لم ترد كبرى شرعية ب‍ " أن الوضوء باق مع عدم النوم " وإنما هو
حاكم عقلي مستفاد من أدلة ناقضية النوم، كقول أبي عبد الله عليه السلام: (لا ينقض
الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم) (3) فيحكم العقل بأن الوضوء إذا تحقق وكانت
نواقضه محصورة في أمور غير متحققة وجدانا - إلا النوم المنفي بالأصل - هو باق،
فالشك في بقاء الوضوء وإن كان مسببا عن الشك في تحقق النوم، لكن أصالة النوم
لا ترفع ذلك الشك إلا بالأصل المثبت.
وبما ذكرنا في فقه الحديث يمكن الاستدلال به على عدم حجية مثبتات
الاستصحاب، فتدبر.
ثم اعلم: أن الميزان الذي ذكرنا في تقدم الأصل السببي ميزان نوعي غالبي،
وإلا فقد يتقدم الأصل السببي على المسببي، لأجل إحرازه موضوع التكليف، فينقح
المكلف به، فيقدم على أصالة الاشتغال عقلية ونقلية، أي استصحاب الاشتغال بناء على
جريانه. هذا تمام الكلام في القسم الأول من تعارض الاستصحابين.

1 - تقدم في صفحة 24 - 26.
2 - تقدم في صفحة 243 - 245.
3 - التهذيب 1: 6 / 2، الوسائل 1: 177 / 1 - باب 2 من أبواب نواقض الوضوء.
252

القسم الثاني
من تعارض الاستصحابين
وأما القسم الثاني منه، أي ما كان الشك فيهما ناشئا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم
ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه، وهو على أقسام، لأنه:
إما أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية لتكليف أو لا.
وعلى الثاني: إما أن يقوم دليل على عدم الجمع بين المستصحبين أو لا.
وعلى الثاني: إما أن يكون لكل منهما أثر شرعي في زمان الشك، أو يكون الأثر
مترتبا على واحد منهما.
هذه جملة ما تعرض لها الشيخ الأعظم (قدس سره) (1)، والصورتان الأخيرتان غير
داخلتين في تعارض الاستصحابين، فبقيت الصورتان الأولتان.
والأولى تمحيض البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهما، وأن
مقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما، أو العمل بأحدهما مخيرا
مطلقا، أو بعد فقدان المرجح، وإلا فيؤخذ بالأرجح؟
وأما بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي: إما
للمحذور منه ثبوتا، أو لقصور أدلته إثباتا، فلا يبقى مجال لهذا البحث.
وبالجملة: أن البحث ها هنا إنما هو في تعارض الاستصحابين، لا في جريانهما
وعدمه في أطراف العلم.
فنقول: بناء على جريان الاستصحاب في أطراف العلم ذاتا وكون المحذور هو
المخالفة العملية، أو قيام الدليل على عدم الجمع بين المستصحبين هل القاعدة تقتضي
ترجيح أحد الأصلين أو سقوطهما أو التخيير بينهما؟

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 428 سطر 14.
253

أما الترجيح فلا مجال له، وذلك يتضح بعد التنبيه على أمر، وهو أن ترجيح أحد
الدليلين أو الأصلين على الآخر إنما هو بعد الفراغ عن تحققهما أولا، وذلك واضح.
وبعد الفراغ عن تحقق المرجح مع ذي المزية ومقابله ثانيا، فمع عدم تحقق المزية
مع ذيها ومقابله لا يمكن الترجيح بها.
وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحدا ثالثا، ضرورة عدم تقوية شئ بما يخالفه
أو لا يوافقه.
فحينئذ: إما أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهادي معتبر،
أو بدليل ظني غير معتبر، أو بأصل من الأصول الشرعية أو العقلائية المعتبرة، أو غير
المعتبرة.
عدم جواز ترجيح ذي المزية بشئ من المرجحات
لا سبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر، لحكومته على الاستصحاب،
فلا يبقى ذو المزية معه، وكذا بالأصول العقلائية المعتبرة، لعين ما ذكر، ولا بالأصول
الشرعية كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة، ولا العقلية كأصالة البراءة والاشتغال، لأن
الاستصحاب مقدم على كل منها، فلا تتحقق المزية، مع ذيها، فلا مجال للترجيح بالشئ
المفقود مع ما يراد الترجيح به.
ومن ذلك يعلم: أنه لا مجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس،
فاستصحاب الطهارة لا يرجح بأصلها وبالعكس.
وأما الترجيح بدليل ظني غير معتبر - كترجيح الاستصحاب بالعدل الواحد بناء
على عدم اعتباره - فلا يمكن أيضا، لتخالف موضوعيهما ومضمونيهما، فمفاد
استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمان الشك، أو ترتيب آثار الطهارة
254

الواقعية في زمان الشك، ومفاد الدليل الظني كخبر الواحد هو الطهارة الواقعية،
فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما.
نعم: من ذهب إلى أن الاستصحاب من الأصول المحرزة، وأن مفاده هو الحكم
بوجود المستصحب، أو العمل به على أنه هو الواقع (1) لابد له من الذهاب إلى ترجيحه
بالدليل الظني غير المعتبر، لوحدة مضمونيهما، بل رتبتيهما أيضا.
ولذا ذهب صاحب هذا القول إلى عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم
الاجمالي - ولو لم يلزم منه مخالفة عملية - قائلا: إنه كيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا
في كل واحد من الإناءين مع العلم بطهارة أحدهما؟! ومجرد أنه لا تلزم من
الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما، فإن
الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف (2)
انتهى.
فإن المناقضة بين العلم الوجداني ومؤدى الاستصحابين لا تمكن إلا أن يكون
متعلقهما واحدا، ومع وحدة المتعلق والمناقضة بين المفادين يتقوى أحدهما بالآخر إذا
كانا متوافقي المضمون، ولا يكون محذورا آخر، ومتعلق العلم الوجداني عين متعلق
الظن الغير المعتبر، فإذا كان مؤدى الاستصحابين مناقضا للعلم يكون مناقضا للظن في
صورة التخالف، وموافقا في غيرها، ومع توافق مضمونهما ومتعلقهما لا وجه لعدم تقوي
أحدهما بالآخر، وعدم ترجيحه به.
وبالجملة: إن كان مفاد الاستصحاب هو البناء العملي ولزوم ترتيب أثر الواقع
على المؤدى لا يكون مناقضا للعلم الوجداني المتعلق بالواقع، فلا وجه لعدم جريانه في

1 - المراد به المحقق النائيني قدس سره انظر قوائد الأصول: 3: 15 و 16 و 110 و 4: 692، وقد اختاره المحقق العراقي
قدس سره أيضا، انظر نهاية الأفكار 3: 26 و 4: 123 - القسم الثاني.
2 - فوائد الأصول 4: 693.
255

أطراف العلم الاجمالي إذا لم تلزم منه مخالفة عملية.
وإن كان مؤداهما الواقع فيكون مناقضا للعلم الوجداني، ويجب أن يتقوى بالظن
الغير المعتبر، ويكون الظن مرجحا عند التعارض.
فالجمع بين عدم جريان الاستصحابين في أطراف العلم مطلقا، لمكان التناقض،
وبين عدم ترجيح الاستصحاب بالأمارة الغير المعتبرة بين النقيضين.
إن قلت: إن هذا الإشكال وارد عليك أيضا حيث تقول: إن مفاد أدلة
الاستصحاب إطالة عمر اليقين، وهي تقتضي الكشف عن الواقع، فلا بد وأن يتقوى
بالظن.
قلت: قد ذكرنا سابقا (1) أن اليقين لا يعقل أن يكون كاشفا عن الواقع في زمان
الشك، ضرورة عدم كاشفيته إلا عن متعلقه في ظرف تحققه لا مطلقا، فمعنى إطالة
عمر اليقين في عالم التشريع ليس إلا لزوم ترتيب آثار اليقين الطريقي، أي ترتيب آثار
الواقع في زمان الشك، وهو لا يناقض الواقع، وأي تناقض بين كون الشئ نجسا واقعا،
ولزوم ترتيب آثار الطهارة في ظرف الشك؟! وإطالة عمر اليقين تعبدا ليست إلا التعبد
ببقائه بحسب الآثار، فتدبر.
فتحصل مما ذكرنا: عدم جواز ترجيحه بالمرجحات.
بيان وجه تساقطهما
وأما وجه التساقط - بعد فرض جريانهما في أطرافه ذاتا، وقلنا المانع منه المخالفة
العملية، أو قيام الدليل على عدم الجريان كالمتمم والمتمم - أن الكبرى المجعولة في باب

1 - تقدم في صفحة 37 - 38 و 152 من هذا الكتاب، وانظر هامش أنوار الهداية 1: 110.
256

الاستصحاب تكون نسبتها إلى جميع الأفراد على السواء، وشمولها لها شمولا واحدا
تعينا، أي تكون شاملة لجميع الأفراد على سبيل التعيين، لا الأعم من التخيير حتى
يكون شمولها لكل فرد - مرتين أو مرات غير محصورة - مرة معينا، ومرة مخيرا بين اثنين
اثنين، ومرة بين ثلاثة ثلاثة وهكذا، أو في حال معينا، وفي حال مخيرا ومعينا، وهذا
واضح.
وحينئذ: لا يمكن الأخذ بكل واحد من أطراف العلم، للزوم المخالفة العملية، ولا
ببعض الأطراف معينا، لعدم التراجيح، ولا مخيرا، لعدم شمول الكبرى للأفراد مخيرا
رأسا، فيلزم سقوطهما.
حول وجهي التخيير والجواب عنهما
وما يمكن أن يكون وجها للتخيير أمران ذكرناهما في باب الاشتغال (1)، ونشير
إليهما إجمالا:
أحدهما: أنه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطابا تخييريا، لوجود
الملاك التام في الأطراف، كما في باب التزاحم، فقوله: " أنقذ الغريق إذا سقط " بعد
التزاحم يستكشف العقل خطابا تخييريا، لوجود الملاك في كل منهما، فما هو الملاك
لتعلق الخطاب التعييني لكل غريق يكون ملاكا للخطاب التخييري، فبعد سقوط الهيئة
نتمسك بإطلاق المادة، ونستكشف الخطاب التخييري (2).
ودعوى: أن استكشاف الملاك لا طريق له مع سقوط الهيئة مردودة: بأن السقوط
إذا كان بحكم العقل لا يوجب تقييد المادة، ولا سقوط الملاك.

1 - أنوار الهداية 2: 197 - 200.
2 - درر الفوائد: 458 و 459.
257

هذا ويرد عليه: أن استكشاف الخطاب التخييري لا يمكن فيما نحن فيه،
لاحتمال ترجح اقتضاء التكليف الواقعي في الاحتياط على اقتضاء اليقين والشك لحرمة
النقض، ومع هذا الاحتمال لا يمكن كشف الخطاب، لعدم إحراز الملاك التام، كذا
قيل (1).
والتحقيق أن يقال: إن كشف الخطاب في مثل " أنقذ الغريق " مما لا مانع منه
لوجود الملاك في كل من الطرفين، دون مثل: (لا تنقض..) لعدم الملاك في الطرفين،
ولا في واحد منهما، لأنه ليس تكليفا نفسيا مشتملا على الملاك، بل هو تكليف لأجل
التحفظ على الواقع، لا بمعنى كونه طريقا إليه، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع
بملاك درك الواقع.
مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدوية، فاستصحاب الوجوب
والحرمة لا يوجب حدوث ملاك في المستصحب، بل يكون حجة على الواقع لو أصاب
الواقع، وإلا يكون التخلف تجريا لا غير.
وأوضح منه الاستصحابات الموضوعية، فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في
بعض الأطراف وسقط الأصلان لا يمكن كشف الحكم التخييري، لعدم الملاك في
الطرفين.
ثانيهما: أن إطلاق أدلة الاستصحاب يقتضي عدم نقض اليقين بالشك في حال
نقض الآخر وعدمه، كما أن إطلاق أدلة الترخيص يقتضيه في حال الإتيان بالآخر
وعدمه، وإطلاق مثل " أنقذ الغريق " يقتضي إنقاذ كل غريق، أنقذ الآخر أو لا، ولا يجوز
رفع اليد عنه إلا بما يحكم العقل، وهو ما تلزم منه المخالفة العملية، والترخيص في
المعصية، والتكليف بما لا يطاق.

1 - انظر نفس المصدر: 459 قوله قدس سره وفيه: أن هذا الحكم من العقل....
258

ونتيجة ما ذكر: هو الأخذ بمقتضى (لا تنقض..) تخييرا، وبالأدلة المرخصة
كذلك، وبمثل " أنقذ الغريق ".
وبالجملة: أن المحذور فيها إنما هو من إطلاق تلك الأدلة، فلا بد من رفع اليد
منه، لا من أصلها (1).
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر بوجه ضعيف (2)، ولقد تعرضنا لجوابه وبعض
موارد الإشكال عليه في ذلك المبحث فراجع (3).
وأورد عليه شيخنا الأستاذ (قدس سره): بأن لازم رفع اليد عن الإطلاق كل طرف هو
الترخيص في كل طرف بشرط ترك الآخر، ووجوب إنقاذ كل واحد من الغريقين بشرط
ترك الآخر، وهو مستلزم للترخيص في المعصية إذا تركهما، وللتكليف بما لا يطاق إذا
ترك إنقاذ الغريقين، لتحقق شرط كل من الطرفين.
وأجاب عنه: بأنه الأحكام لا تشمل حال وجود متعلقاتها، ولا حال عدمها، لأن
الشئ المفروض الوجود ليس قابلا لأن يتعلق به حكم، وكذا المفروض العدم، لأنه بعد
هذا الفرض يكون خارجا عن قدرة العبد (4).
وهذا الجواب لا يخلو عن إشكال.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنه ليس في المقام قضيتان شرطيتان، حتى يقال:
مع تحقق شرطهما يلزم المحذور المتقدم، بل رفع اليد عن الإطلاق إنما هو بحكم العقل،
فيما يلزم منه محذور التكليف بالمحال، أو الترخيص في المعصية.
فنقول: أما في المتزاحمين، فيحكم العقل بأن العبد إذا اشتغل بإنقاذ كل غريق
يكون معذورا في ترك الآخر، أو غير مكلف به - على اختلاف المسلكين - لكونه في حال

1 - نفس المصدر.
2 - فوائد الأصول 4: 28 - 32.
3 - انظر أنوار الهداية 2: 200 - 205.
4 - انظر درر الفوائد: 459 و 460.
259

صرف قدرته لإنقاذه عاجزا عن إنقاذ الآخر، فيحكم العقل برفع فعلية التكليف،
أو كونه معذورا حال صرف قدرته في أحدهما عن الآخر، لا أن التكليف بكل واحد
منهما مشروط بعدم الآخر.
ولازم ما ذكرنا: أنه مع الإتيان بكل واحد منهما يكون معذورا في ترك الآخر، أو
غير مكلف به، وإذا تركهما لا يكون معذورا في واحد منهما، ويكون مكلفا بكل واحد
منهما.
وليس هذا تكليفا بالمحال، لأنه غير مكلف بالمجموع، لعدم تعلق التكليف
إلا بالمعينات، والمجموع ليس موردا للتكليف، فالمكلف التارك لإنقاذ الابن - من غير
صرف القدرة في إنقاذ الأخ - غير معذور في ترك إنقاذه، بل مكلف به، لكونه قادرا عليه،
وكذا التارك لإنقاذ الأخ من غير صرف القدرة في إنقاذ الابن، ولا يتعلق التلكيف
بمجموعهما حتى يقال: إنه غير قادر عليهما.
وبالجملة: أن العجز عن كل واحد منهما إنما يتحقق بالاشتغال بالآخر، والعجز
عن المجموع وإن كان محققا لكنه غير مكلف به، ولا معاقب عليه، بل مكلف بكل
واحد، ومعاقب عليه إذا تركهما، وهو قادر على كل واحد منهما.
وأما الترخيص في الترك في الشبهات الوجوبية، فالذي يحكم به العقل أن
ترخيص تركهما غير جائز، وأما الآتي بكل واحد فيجوز أن يرخص في ترك الآخر،
فيحكم العقل بأن التارك لكل واحد غير مرخص في الآخر، ولازمه أن التارك لهما لا
يكون مرخصا في واحد منهما، وإن فرض أنه لو أتى بواحد منهما يكون غير الواجب
الواقعي.
وفي الشبهات التحريمية يحكم العقل بأن ترخيص إتيان كل منهما مطلقا غير
جائز، دون إتيان كل مع ترك الآخر، ولازمه أنه مع الإتيان بهما لا يكون مرخصا في شئ
260

منهما، لكن مع تركهما لا ينقلب حكم العقل عما هو عليه من أنه مع فرض ترك كل
مرخص في الآخر، وأما ترك المجموع فليس موضوعا واحدا ومحكوما بحكم، حتى
يقال: مع تركهما يكون مرخصا فيهما.
ويمكن أن يقال: إنه بعد فرض إطلاق أدلة الترخيص يحكم العقل برفعه في كل
واحد مع الإتيان بالآخر، فمع فرض الإتيان بهما لا يكون مرخصا في واحد منهما، وإن
فرض أنه لو ترك واحد منهما يكون غير الحرام، فالترخيص في كل واحد على فرض ترك
الآخر لا ينتهي إلى الإذن في المعصية، كما هو واضح.
هذا ولكن الشأن في إطلاق أدلة الاستصحاب.
ويمكن دعوى الفرق بين أدلة الترخيص وبين أدلة الاستصحاب: بأن الأولى
مطلقة دون الثانية، لأن الاستصحاب بما أنه مجعول بملاحظة الواقع والتحفظ عليه
- كالاحتياط في الشبهات البدوية لو فرض جعله - يمكن منع إطلاق أدلته بالنسبة إلى
أطراف العلم الاجمالي بالانتقاض، هذا كله حال الاستصحاب مع الأمارات
والأصول.
261

حال الاستصحاب مع سائر القواعد
وأما حاله مع سائر القواعد مما وقع الكلام في أماريتها وأصليتها، فلا بد من بيان
أدلتها وحدود دلالتها حتى يتضح الحال فيها، فلا بأس بصرف الكلام إليها بنحو
البسط تبعا للشيخ الأعظم (1).
فنقول: يقع الكلام فيها في مباحث:
المبحث الأول
في قاعدة اليد
ولها جهات من البحث:

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 409 - 422.
263

الجهة الأولى
في تحقيق ماهية اليد
ماهية اليد فيما نحن فيه أي ما هو موضوع بناء العقلاء والأدلة الشرعية
هي الاستيلاء العرفي والسلطنة الفعلية على الشئ أي نحو من الاستيلاء كان، وعلى
أي شئ تعلق، وهو يختلف بحسب الموارد، وبحسب المستولي والمستولى عليه،
فالاستيلاء على متاع البيت بنحو، وعلى البيت بنحو، وعلى القرية بنحو، وعلى
توابعها بنحو، وعلى مراتعها بنحو، وعلى التلال والجبال التي هي من التوابع البعيدة
بنحو.
كما أن استيلاء السلاطين أو الدول على المملكة بنحو، وعلى الحدود والثغور
بنحو، وعلى البحار التابعة لها بنحو، وعلى الجو والمحيط بنحو، وهو يختلف حسب
اختلاف الأزمنة، ففي سالف الزمان لم يكن الجو البعيد - نحو ميل أو أكثر، وقعر البحار
العميقة - تحت الاستيلاء والسلطنة الفعلية، والآن يكون كل ذلك إلى حدود
تحتهما، وإذا حدثت آلات أرقى مما هي الآن يتسع نطاق الاستيلاء والسلطنة حسبها،
فالاستيلاء أمر اعتباري لا مقولي، ومنشأ اعتباره مختلف حسب اختلاف الموارد
المذكورة.
264

الجهة الثانية
الدليل على اعتبارها
لا إشكال ولا كلام في اعتبار اليد في الجملة واقتضائها الملكية، ويدل عليه بناء
العقلاء وسيرتهم في جميع الأعصار والأمصار، بل هو من الضروريات، لا يشك فيه
عاقل، ولا يكون في طريقتهم وسيرتهم ما هو أوضح منه، لو لم نقل بأنه ليس فيهما ما هو
بتلك المثابة من الوضوح.
كما أنه لا ينبغي الإشكال في أنها لدى العقلاء أمارة على الملكية، وكاشفة عنها،
لا أصل عملي يعمل العقلاء على طبقة، حفظا للنظام ورغد العيش، ومبنى أماريتها هل
هي الغلبة، أو الظن النوعي أو غير ذلك؟ احتمالات، فمن رجع إلى ارتكازات العرف وبناء
العقلاء لا يشك في ذلك.
ويدل على اعتبارها بل أماريتها مضافا إلى ذلك أخبار كثيرة في أبواب متفرقة،
نذكر ما عثرنا عليه فعلا، وفيها الكفاية، ولعل المتتبع يعثر على أكثر منها، وهي طوائف:
منها: ما تدل على اعتبارها وأماريتها.
ومنها: ما تدل على اعتبارها من غير دلالة على الأصلية أو الأمارية.
ومنها: ما توهم الأصلية.
فمن الأولى: رواية يونس بن يعقوب (1)، ذكرها صاحب الوسائل في ميراث

1 - يونس بن يعقوب: ابن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني، كانت أمه أخت معاوية بن عمار، وكان من الفقهاء
الأعلام، والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام، كان موردا لعناية الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام،
روى عن أبيه، وحمران بن أعين، وعبد الأعلى بن أعين، ومعاوية بن عمار، ومنصور بن حازم، وآخرين، وروى عنه
أحمد بن محمد بن أبي نصر، والحسن بن علي بن يقطين، وصفوان بن يحيى، وخلائق، مات بالمدينة فبعث إليه الإمام
الرضا عليه السلام بحنوطه وكفنه وجميع ما يحتاج إليه، وأمر مواليه وموالي أبيه وجده أن يحضروا جنازته، ودفن في
البقيع. انظر رجال النجاشي: 446 / 1207، رجال الطوسي: 335 / 44 و 363 / 4 و 394 / 1 ومعجم رجال الحديث 20:
228 / 13845.
265

الزوجين: محمد بن الحسن، بإسناده (1) عن علي بن الحسن (2) عن محمد بن الوليد (3) عن
يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام: في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل
المرأة؟
قال: (ما كان من متاع النساء فهو للمراة، وما كان من متاع الرجال والنساء فهو
بينهما، ومن استولى على شئ منه فهو له) (4).
والظاهر منها: أنه في مقام النزاع ورفع الخصومة، وتشخيص المدعي والمنكر
- إذا رفع الأمر إلى الحاكم - إن أحرز استيلاء أحد الزوجين على شئ من متاع البيت فهو
له بيمينه، وعلى المدعي إقامة البينة، وإن لم يحرز فما كان من متاع كل من الزوجين
ومختصاته فهو له، وما كان من متاعهما ومشتركا بينهما، أي لا يكون من مختصات واحد
منهما فهو لهما، ويعمل على طبق ميزان القضاء فيه.

1 - فيه علي بن محمد بن الزبير، واستفاد المحقق الداماد وثاقته (أ) من قول النجاشي في حقه: هو علو في الوقت (ب)، وهي
بعيدة، لأن الظاهر من العلو هو علو السند وقلة الواسطة، ولا يبعد رجوع الضمير في قول النجاشي إلى أحمد بن
عبد الواحد لا الزبيري فراجع، لكن لا تبعد وثاقة الزبيري لكثرة رواياته (ج‍)، وعمل الأصحاب بها [منه قدس سره].
أ - انظر تنقيح المقال 2: 304 / 8472.
ب - رجال النجاشي: 87 / 211.
ج‍ - انظر معجم رجال الحديث 12: 333 و 334.
2 - علي بن الحسن: هو أبو الحسن علي بن الحسن بن علي بن فضال بن عمر بن أيمن مولى عكرمة بن ربعي الفياض، كان
فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم، ثقة، عارفا بالحديث، جيد التصانيف، وله كتب كثيرة في الفقه، عده الشيخ في أصحاب
الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، روى عن أبيه وأخويه أحمد ومحمد، وأيوب بن نوح، وعلي بن
أسباط، ومعاوية بن حكيم، ومحمد بن أبي عمير وخلق، وروى عنه أمد بن محمد بن سعيد الكوفي، ومحمد بن يحيى،
وعلي بن محمد بن الزبير وخلق، توفي سنة 224 ه‍. انظر رجال النجاشي: 257 / 676، الفهرست للطوسي:
92 / 381، مجمع الرجال 4: 180.
3 - الخزاز: ثقة [منه قدس سره].
وهو أبو جعفر الكوفي البجلي الخزاز، كان ثقة عينا نقي الحديث، روى عن يونس بن يعقوب، وحماد بن عثمان، ومحمد بن
سماعة، والوليد بن عقبة، وروى عنه سعد بن عبد الله، وعمران بن موسى، وجعفر بن القاسم، وسهل بن زياد. انظر
رجال النجاشي: 345 / 931، معجم رجال الحديث 17: 311 و 313 / 11930 و 11934، رجال ابن داود:
276 / 490، معلم العلماء: 104 / 698.
4 - التهذيب 9: 302 / 1079، الوسائل 17: 525 / 3 - باب 8 من أبواب ميراث الأزواج.
266

ولا يبعد أن يكون اختصاص المتاع - في البيت الذي هو تحت استيلاء الشريكين -
بكل واحد منهما أمارة عقلائية على يده عليه، فيكون الاختصاص أمارة على كونه
مستوليا عليه زائدا على الاستيلاء البيتي، فلو فرض عالم ونجار في دار، واختلفا في
متاعها، وكان فيها كتب علمية، وآلات صناعة النجارة، يكون ذلك الاختصاص أمارة
عقلائية على كون الكتب تحت يد العالم، والآلات تحت يد النجار، فيحكم بملكية كل
منهما لما يختص به، لأجل اليد والاستيلاء المنكشفة من الاختصاص، وتطالب البينة من
صاحبه المدعي في مقام الخصومة، فيكون الحكم على طبق القاعدة، ولو فرض أن الحكم
تعبدي على خلاف القواعد لا يضر بما نحن بصدده، وهو استفادة اعتبار اليد من قوله:
(ومن استولى على شئ منه فهو له).
ولا إشكال: في أن العرف لا يرى لخصوصية الزوج والزوجة، ولا لمتاع البيت،
ولا للنزاع مدخلية في ذلك، بل ما يفهم العرف من ذلك هو أن الاستيلاء على أي نحو
كان، وعلى أي شئ كان يكون تمام الموضوع للحكم بأنه له، فيستفاد منه قاعدة
كلية.
ولا يخفى: أن الظاهر من قوله: (هو له) كونه أمارة على الملكية، فلسانه
لسان إلغاء احتمال الخلاف، فهو في دلالته على الأمارية أقوى من قوله في باب
اعتبار خبر الثقة: (ما يؤدي عني فعني يؤدي) (1) فلا إشكال في ذلك لا من
حيث الدلالة على القاعدة الكلية، ولا من حيث كون اليد أمارة على
الملكية.
ومنها: صحيحتا محمد بن مسلم، ذكرهما في " الوسائل " في كتاب
اللقطة.

1 - انظر الكافي 1: 265 / 1، الوسائل 18: 100 / 4 - باب 11 من أبواب صفات القاضي.
267

أولاهما: محمد بن يعقوب (1) عن علي عن أبيه (2) عن ابن محبوب (3) عن العلاء بن
رزين (4) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الدار يوجد
فيها الورق (5).
فقال: (إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا (6) عنها
أهلها فالذي وجد المال أحق به) (7).
ثانيتهما: محمد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن

1 - محمد بن يعقوب: هو الإمام المحدث الفقيه الكبير الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي السلسلي
البغدادي، ينتسب إلى بيت عريق الأصل في كلين أخرج عدة من أعلام الفضيلة والأدب، إليه انتهت رئاسة الإمامية
في أيام الخليفة العباسي المقتدر، وقد أدرك زمان سفراء الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه، وكان مجلسه يضم أكابر
العلماء الراحلين في طلب العلم، فكانوا يحضرون حلقته لمذاكرته والتفقه عليه، ألف كتبا عديدة أشهرها وأهمها كتاب
الكافي الحافل بأطائب الأخبار ونفيس الأعلاق، وقد ظل حجة الفقهاء إلى عصرنا هذا وهو أكمل وأفضل من سائر
أصول الحديث الأخرى، مات ببغداد سنة 329 ه‍ وقبره لا يزال شاخصا فيها تزوره الخاصة والعامة. انظر مستدرك الوسائل
3: 526، رجال بحر العلوم 3: 326، نوابغ الرواة: 314.
2 - علي: هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، من أجل رواة أصحابنا، ثقة في الحديث، ثبت،
معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنف كتبا كثيرة، وأضر في وسط عمره، كان في عصر الإمام العسكري عليه
السلام، وعاش إلى سنة 307 ه‍، وأما والده الشيخ أبو إسحاق إبراهيم فكان شيخا من مشايخ الإجازة، فقهيا، محدثا
من أعيان الطائفة وكبرائهم وأعاظمهم، أصله من الكوفة، وانتقل إلى قم، وهو أول من نشر حديث الكوفيين بقم،
وروى عن مشايخ كثيرة يبلغ عددهم زهاء مائة وستين شخصا. انظر معجم رجال الحديث 1: 316 / 332 و 11:
193 / 7816، رجال النجاشي: 16 / 18 و 260 / 680، الفهرست للطوسي: 4 / 6 و 89 / 370، تنقيح المقال 2:
260 / 8102.
3 - ابن محبوب: هو أبو علي الحسن بن محبوب السراد، ويقال له الزراد، مولى بجيلة، كوفي ثقة، وكان جليل القدر، وممن
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه والإقرار له بالفقه، عده الشيخ في أصحاب الإمامين الكاظم والرضا
عليهما السلام، وروى عن ستين رجلا من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، توفي سنة 224 ه‍. انظر الفهرست
للطوسي: 46 / 151، رجال الكشي 1: 851، جامع الرواة 1: 221.
4 - العلاء بن رزين: القلاء الكوفي، مولى ثقيف، كان ثقة وجها جليل القدر، وعده الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام الصادق
عليه السلام، روى عن وروى عنه أحمد بن محمد بن أبي نصر، وجعفر بن بشير، ويونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى
وخلائق. انظر رجال
الطوسي: 245 / 355، معجم رجال الحديث 11: 167 / 7763، بلغة المحدثين: 379 / 29.
5 - الدراهم المضروبة [منه قدس سره].
6 - جلا: أي خرجوا منها إلى غيرها. لسان العرب 2: 343.
7 - الكافي 5: 138 / 5، التهذيب 6: 390 / 1169، الوسائل 17: 354 / 1 - باب 5 من أبواب اللقطة.
268

أيوب (1) عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما في حديث قال: وسألته عن
الورق يوجد في دار.
فقال: (إن كانت معمورة فهي لأهلها، فإن كانت خربة فأنت أحق بما
وجدت) (2).
ونحوهما ما عن " دعائم الاسلام " (3).
والظاهر اتحادهما، ولا تقصر دلالتها عن الموثقة لو لم تكن أدل منها، ويستفاد
منها قانون كلي وقاعدة سيارة، ضرورة عدم دخالة الورق ولا الدار في ذلك عرفا، بل
المتفاهم منها أن تمام الموضوع للحكم هو الاستيلاء، وكون الورق في الدار تحت يد
صاحبها، فما هو الموضوع كون الشئ تحت اليد، وتستفاد منها الأمارية، كما ذكرنا في
الموثقة.
ومنها: ذيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المنقولة في كتاب
الميراث، باب ميراث الزوجين: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم،
عن أبيه، وعن محمد بن إسماعيل (4) عن الفضل بن شاذان (5) جميعا عن

1 - فضالة بن أيوب: الأزدي، عربي صميم، سكن الأهواز، وكان ثقة في حديثه، مستقيما في دينه، عده الشيخ في أصحاب
الإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام، روى عن عبد الله بن بكير، والفضيل بن عثمان، ومعاوية بن عمار، وداود بن
فرقد وآخرين، وروى عنه علي بن إسماعيل الميثمي، وداود بن عيسى، ومحمد بن عيسى وغيرهم. انظر معجم رجال
الحديث 13: 271 / 9328، مجمع الرجال 5: 17، رجال الطوسي: 357 / 1 و 385 / 1.
2 - التهذيب 6: 390 / 1165، الوسائل 17: 354 / 2 - باب 5 من أبواب اللقطة.
3 - دعائم الاسلام 2: 497 / 1774، مستدرك الوسائل 3: 152 / 1 - باب 4 من أبواب اللقطة.
4 - محمد بن إسماعيل: أبو الحسن البندقي النيسابوري: انظر رجال الكشي 2: 817، معجم رجال الحديث 15:
89 / 238.
5 - الفضل بن شاذان: الخليل ابن أبو محمد الأزدي النيشابوري، كان من أصحابنا الثقات الأجلاء والفقهاء المتكلمين، عدة
الشيخ في أصحاب الهادي والعسكري عليهما السلام، وروي أن الإمام أبا محمد العسكري عليه السلام قال: (أغبط
أهل خراسان لمكان الفضل وكونه بين أظهرهم)، له كتب كثيرة ذكر بعضها الشيخ في الفهرست، والنجاشي في رجاله،
توفي سنة 260 ه‍. انظر الفهرست للطوسي: 124 / 552، رجال النجاشي: 306 / 840، رجال ابن داود:
151 / 1200، التحرير الطاووسي: 453 / 334.
269

ابن أبي عمير (1) عن عبد الرحمن بن الحجاج (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألني
هل يقضي ابن أبي ليلى (3) بالقضاء ثم يرجع عنه. إلى أن قال: ثم قضى بعد ذلك
بقضاء لولا أني شهدته لم أروه عليه، ماتت امرأة منا ولها زوج، وتركت متاعا فرفعته إليه
فقال: اكتبوا المتاع، فلما قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلا
الميزان فإنه من متاع الرجل، فهو لك.
فقال لي: (فعلى أي شئ هو اليوم)؟
فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي (4)، أن جعل البيت للرجل، ثم
سألته عن ذلك فقلت له: ما تقول أنت فيه؟
فقال: (القول الذي أخبرتني أنك شهدته، وإن كان قد رجع عنه).
فقلت: يكون المتاع للمرأة؟

1 - ابن أبي عمير: محمد بن أبي عمير الأزدي، من أصحاب الأئمة الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، كان جليل القدر
عظيم المنزلة عند أصحابنا وغيرهم حتى عدت مراسيله مسانيد، وأجمع على تصحيح ما يصح عنه، روى عن أبي
بصير، والحسين بن أبي العلاء، وحماد بن عثمان وغيرهم، وروى عنه إبراهيم بن هاشم، وأيوب بن نوح، والفضل بن
شاذان وخلق. انظر تنقيح المقال: 2: 61 / 10272، معجم رجال الحديث 14: 279 / 10018.
2 - عبد الرحمن بن الحجاج: البجلي، كوفي، بياع السابري، أستاذ صفوان، عده الشيخ في أصحاب الإمامين الصادق
والكاظم عليهما السلام، روى عن منصور بن حازم، وعبيد بن زرارة، وعلي بن يطين، وبكير بن أعين وطائفة، وروى
عنه يونس بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن أبي نجران، وجميل بن دراج، ومحمد بن أبي عمير وخلائق، توفي في
عصر الإمام الرضا عليه السلام. انظر رجال النجاشي: 237 / 630، رجال الطوسي 230 / 126 و 353 / 2، معجم
رجال الحديث 9: 315 / 6359.
3 - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، قاضي الكوفة ومقرؤها، كان صدوقا فيك حديثه، مات سنة
148 ه‍، روى عن بقية بن الوليد، وعبد الله بن المبارك، وعيسى بن يونس وغيرهم، وروى عنه إبراهيم بن أسباط
الزيات، وإبراهيم بن عبد الله بن الجنيد وغيرهم. انظر تهذيب الكمال 25: 622 / 5406، الوافي بالوفيات 3:
221 / 1215، الكنى والألقاب 1: 202 - 204.
4 - إبراهيم النخعي: هو إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي، الفقيه الكوفي التابعي وأمة مليكة بنت يزيد، أخت
الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد، عده الشيخ في أصحاب الإمام علي والإمام السجاد عليهما السلام، روى عن
خاليه الأسود وعبد الرحمن والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة ومسروق وأبان بن تغلب وشريح بن الحارث القاضي،
وروى عنه سليمان الأعمش وسماك بن حرب وعبد الله بن شبرمة والحر بن مسكين ومحمد بن سوقة وعبيدة بن معتب
الضبي وآخرون، مات سنة 96 ه‍. انظر تهذيب الكمال 2: 233 / 265، حلية الأولياء 4: 219 / 280، الكنى
والألقاب 3: 244.
270

فقال: (أرأيت إن أقامت بينة إلى كم كانت تحتاج)؟
فقلت: شاهدين.
فقال: (لو سألت من بين لا بتيها - يعني الجبلين ونحن يومئذ بمكة - لأخبروك
أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به،
فإن زعم أنه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البينة) (1).
حيث إن إخبار من بين لابتيها بأن الجهاز للمرأة مستندا إلى أنه يهدى من بيتها
ليس إلا من قبل اليد والاستيلاء، وقوله: (ان متاع البيت للمرأة) مستند إليها وإلى
استصحابها، والظاهر منها كونها أمارة، لقوله: (المتاع للمرأة) ولإرجاعه إلى شهادة من
بين لابيتها، ولا يكون إخبارهم إلا عن الواقع، لقيام الأمارة العقلائية عليه.
ومنها: صحيحة جميل بن صالح المنقولة في كتاب اللقطة: محمد بن يعقوب، عن
عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد (2) وأحمد بن محمد (3) جمعيا عن ابن محبوب، عن
جميل بن صالح (4) قال قلت لأبي عبد الله: رجل وجد في منزله دينارا.

1 - الكافي 7: 130 / 1، التهذيب 6: 298 / 831، الاستبصار 3: 45 / 151، الوسائل 17: 523 / 1 - باب 8 من أبواب
ميراث الأزواج.
2 - سهل بن زياد: الآدمي الرازي أبو سعيد، كان من أصحاب الأئمة الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام، روى عن الحسن
بن محبوب، وأحمد بن محمد البرقي، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وجعفر بن محمد الأشعري وغيرهم.
وروى عنه محمد بن الحسن الصفار، ومحمد بن يحيى، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، وعلي بن محمد وغيرهم. انظر
رجال النجاشي: 185 / 490، رجال بحر العلوم 3: 21، معجم رجال الحديث 8: 337 / 5629.
3 - أحمد بن محمد: ابن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري من بني ذفران ابن عوف
ابن الجماهر بن الأشعر، شيخ القميين في زمانه ووجههم وفقيههم لقى من الأئمة الأطهار الرضا والجواد والعسكري
عليهم السلام، روى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، الحسن بن محبوب، والحسين بن سعيد وغيرهم، وروى عنه أحمد بن
إدريس، وسعيد بن عبد الله الأشعري، وسهل بن زياد وغيرهم، انظر رجال النجاشي: 81 / 198، الفهرست للطوسي:
25 / 65، معجم رجال الحديث 2: 296 / 898.
4 - جميل بن صالح: الأسدي من وجوه الطائفة المحقة، تشرف بلقاء الإمامين الهامين الصادق والكاظم عليهما السلام،
روى عن أبي بصير، وأبي خالد الكابلي، وزرارة بن أعين وغيرهم، وروى عنه سماعة بن مهران، والحسن بن محبوب،
ومحمد بن أبي عمير، وعلي بن حديد وغيرهم، انظر رجال النجاشي: 127 / 329، الفهرست للطوسي: 4 / 144،
معجم رجال الحديث 4: 158 / 2365.
271

قال: (يدخل منزله غيره)؟
قلت: نعم كثير.
قال: (هذا لقطة).
قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا؟
قال: (يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا)؟
قلت: لا.
قال: (فهو له) (1).
فإن الظاهر منها أنه سأل عمن وجد في منزله أو صندوقه دينارا، ولم يعلم
صاحبه، وكانت شبهته في أن مجرد وجدانه في منزله أو صندوقه مع جهل صاحب اليد
يكفي للحكم بأنه له أو لا فحكم بأن ما في الصندوق له، وفيما إذا دخل في بيته غيره
أشخاص كثيرون بأنه لقطه.
وهو موافق للقاعدة، لأن المنازل التي هي معرض المراودة كثيرا لا تكون يد
صاحبها بالنسبة إلى مثل الدينار الملقى أمارة عقلائية، بل الظاهر أن مثله لم يكن تحت
يده عرفا.
نعم: لو كان الدخول قليلا، أو كان الشئ مثل متاع البيت تكون اليد أمارة، ولم
يتضح من استفساره بأن يدخل في داره غيره، لو أجاب: بأنه يدخل فيها غيره هل
يفصل بين القليل والكثير أولا؟ فلم يتعرض لحكم ما إذا دخل في المنزل غيره نادرا،
فهو على طبق القاعدة.
نعم يمكن أن يقال: إن حكم الصندوق غير الدار، فإن أدخل أحد يده فيه ووضع
فيه شيئا يخرج عن الاختصاص، ويصير مشتركا في الاستيلاء، فلا يحكم بأن الدينار

1 - الكافي 5: 137 / 3، الفقيه 3: 187 / 841، التهذيب 6: 390 / 1168، الوسائل 17: 353 / 1 - باب 3 من أبواب
اللقطة.
272

لصاحب الصندوق بمجرد كونه صندوقه.
وكيف كان: فالصحيحة دالة على اعتبار اليد وأماريتها بالتقريب المتقدم،
وسيأتي التعرض لحكم المسألة.
ومن الثانية، أي ما تدل على اعتبار اليد دون الدلالة على أماريتها: صحيحة
العيص بن القاسم (1) المنقولة في بيع الحيوان: محمد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن
سعيد، عن صفوان بن يحيى (2) عن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله
عليه الصلاة والسلام قال: سألته عن مملوك ادعى أنه حر، ولم يأت ببينة على ذلك،
أشتريه؟
قال: (نعم) (3).
ومثلها: حسنة حمزة بن حمران (4) قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أدخل
السوق وأريد أشتري جارية فتقول: إني حرة.
فقال: (اشترها إلا أن تكون لها بينة) (5).

1 - العيص بن القاسم،: البجلي أبو القاسم، عده الشيخ في أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، كان أكثر
ما روى عن الإمام الصادق عليه السلام، وعن يوسف بن إبراهيم، وروى عنه صفوان بن يحيى. انظر رجال النجاشي:
302 / 824، الفهرست للطوسي: 121 / 536، معجم رجال الحديث 13: 215 / 9246.
2 - صفوان بن يحيى: البجلي أبو محمد عده الشيخ في أصحاب الأئمة الأطهار الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، وكان
وكيلا للإمام الرضا عليه السلام، ومن أوثق أهل زمانه وأعبدهم، وكانت له عند الإمام منزلة شريفة، روى عن عبد الله
ابن مسكان، وإسحاق بن عمار، والعلاء بن رزين وغيرهم، وروى عنه البزنطي، وأيوب بن نوح، وإبراهيم بن هاشم
وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 197 / 524، الفهرست للطوسي: 83 / 346، معجم رجال الحديث 9:
123 / 5922.
3 - التهذيب 7: 74 / 317، الوسائل 13: 30 / 1 - باب 5 من أبواب بيع الحيوان.
4 - حمزة بن حمران: ابن أعين الشيباني، كوفي، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، روى عن أبيه حمران،
ومحمد بن مسلم، وعمر بن حنظلة، وزارة وغيرهم، وروى عنه عبيد بن زرارة، وجميل بن دراج، وعبد الله بن بكير، ومنصور
بن يونس وطائفة. انظر رجال النجاشي: 140 / 365، رجال الطوسي: 118 / 46 و 177 / 207، معجم
رجال الحديث 6: 266 / 54027.
5 - الكافي 5: 211 / 13، الفقيه 3: 140 / 613، التهذيب 7: 74 / 318، الوسائل 13: 31 / 2 - باب 5 من أبواب بيع الحيوان.
273

ومنها: المكاتبة المنقولة في كتاب إحياء الموات: محمد بن يعقوب، عن محمد بن
يحيى (1) عن محمد بن الحسين (بن أبي الخطاب) (2) قال: كتبت إلى أبي محمد: رجل
كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته
الماء في غير هذا النهر، ويعطل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟
فوقع: (يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف، ولا يضر أخاه المؤمن) (3).
والظاهر أن شبهته إنما هي في أن مثل هذه اليد على نهر القرية - أي يد استفادة
دوران الرحى مع العلم بأن الماء لصاحب القرية - تكون معتبرة ومثبتة لحق عليه أولا؟
والجواب وإن كان بنحو الوعظ، لكن يستفاد منه عدم الجواز، ولا يجوز رفع اليد عن هذا
الظاهر بمجرد كون البيان مشفوعا بالوعظ، مع أن الأمر بالتقوى والنهي عن الإضرار
يؤكدان ذلك، تأمل.
مع إمكان أن يقال: إن قوله (ويعمل بالمعروف) أي بما هو حكم العقلاء، من كون
اليد أمارة على ثبوت الحق، فيمكن أن يدعى أنها من القسم الأول، لكن للتأمل فيه
مجال.
ومنها: ما عن " تفسير علي بن إبراهيم " بطريق صحيح، عن أبي عبد الله
عليه السلام، المنقول في كتاب القضاء أبواب كيفية الحكم: علي بن إبراهيم، عن أبيه،

1 - محمد بن يحيى: العطار القمي أبو جعفر شيخ أصحابنا في زمانه كثير الحديث، روى عن أحمد بن محمد بن خالد، وأحمد بن
محمد بن عيسى، وسلمة بن الخطاب، وعبد الله بن محمد بن عيسى وغيرهم، وروى عنه ابنه أحمد، والكليني، وعلي بن
الحسين بن بابويه، ومحمد بن الحسن بن الوليد وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 353 / 946، تنقيح المقال / 3:
199 / 11501، معجم رجال الحديث 18: 30 / 11982.
2 - محمد بن الحسين بن أبي الخطاب: أبو جعفر من أصحاب الأئمة الأطهار الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام، ومن
العدول والثقات من أهل العلم، ومن أجلاء الطائفة، كثير الرواية، عظيم القدر، حسن التصانيف، روى عن أحمد بن
محمد بن أبي نصر، وجعفر بن بشير، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع وغيرهم، وروى عنه محمد بن الحسن الصفار، ومحمد بن
علي بن محبوب، وعبد الله بن جعفر الحميري وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 334 / 897، الفهرست للطوسي:
140 / 597، معجم رجال الحديث 15، 291 / 10554.
3 - الكافي 5: 293 / 5، الوسائل 17: 343 / 1 - باب 15 من أبواب إحياء الموات.
274

عن ابن أبي عمير، عن عثمان بن عيسى (1)، وحماد بن عثمان (2) جميعا عن أبي عبد الله
عليه السلام في حديث فدك: (ان أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبى بكر: أتحكم فينا
بخلاف حكم الله في المسلمين؟
قال: لا.
قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟
قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين.
قال: فإذا كان في يدي شئ، فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة على ما في
يدي، وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل البينة على ما ادعوا علي كما
سألتني البينة على ما ادعيت عليهم)؟ إلى أن قال: (وقد قال رسول الله: البينة على من
ادعى، واليمين على من أنكر) (3).
فإن ظهوره في اعتبار اليد واضح، لكن في دلالته على الأمارية إشكال، وإن
لا يبعد دعواها، بأن يقال: إن قوله: (فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه) أي
يملكونه واقعا بدلالة اليد على الملكية، أي إذا كان شئ تحت يد المسلمين، وكانوا
مالكين له، لأجل دلالة اليد، وادعيت أنا من تسأل البينة؟
فالإنصاف: أنه لا يخلو عن إشعار بل دلالة ما على المقصود.

1 - عثمان بن عيسى: الرواسي أبو عمرو، كان من وكلاء الإمام الكاظم عليه السلام وبقي إلى زمان الإمام الرضا والجواد
عليهما السلام، روى عن سماعة بن مهران، وأبي بصير، وعلي بن أبي حمزة وغيرهم، وروى عنه إبراهيم بن هاشم،
وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمد بن عيسى وغيرهم. انظر الفهرست للطوسي: 61 / 231، رجال
النجاشي 142 / 370، معجم رجال الحديث 6: 224 / 3961.
2 - حماد بن عثمان: الجهني عده الشيخ من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، وهو ممن أجمع
الأصحاب على تصحيح ما يصح عنه، روى عن أبي بصير، وإسحاق بن عمار، وجميل بن دراج وغيرهم، وروى عنه محمد بن
أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وإسماعيل بن مهران وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 143 / 371، رجال الشيخ: 60
/ 230، معجم رجال الحديث 6: 212 / 3957.
3 - تفسير القمي 2: 156، علل الشرائع: 190 / 1، الوسائل 18: 215 / 3 - باب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
275

276 الاستصحاب
ومن الثالثة: أي ما توهم الأصلية، رواية حفص المنقولة في الباب المتقدم:
محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعلي بن محمد القاساني (1) جميعا عن
القاسم بن يحيى (2) عن سليمان بن داود (3) عن حفص بن غياث (4) عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟
قال: (نعم).
قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، فلعله لغيره؟!
فقال أبو عبد الله: (أفيحل الشراء منه)؟
قال: نعم.
فقال أبو عبد الله: (فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم
تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله
إليك)؟
ثم قال أبو عبد الله: (لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (5).
حيث يتوهم من قوله: (لو لم يجز...) إلى آخره أن اعتبار اليد إنما هو من أجل
قيام سوق المسلمين، وحفظ النظام، وإدارة رحى الحياة، لا لكشفها عن الملكية

1 - وهو ابن شيرة [منه قدس سره].
2 - القاسم بن يحيى: عده الشيخ من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، روى عن جده الحسن بن راشد البغدادي مولى
المنصور الدوانيقي، وروى عنه إبراهيم بن هاشم، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن
عيسى، انظر رجال الطوسي، 385، رجال النجاشي: 316 / 866، الفهرست للطوسي: 127 / 564، معجم رجال
الحديث 14: 64 / 9566.
3 - المنقري وفيه حسن، وضعفه ابن الغضائري [منه قدس سره]. انظر مجمع الرجال 3: 165.
4 - عده الشيخ في العدة ممن عمل الأصحاب برواياته [منه قدس سره]. عدة الأصول: 61 سطر 5. وهو القاضي أبو عمرو من
أصحاب الأئمة الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام، كان قاضيا لهارون الرشيد ببغداد
الشرقية، ثم ولاه قضاء الكوفة، وقد عملت الطائفة بأخباره، روى عن الزهري والحجاج وليث، وروى عنه ولداه محمد
وعمرو، والحسن بن محبوب، وجميل بن دراج وغيرهم. توفي بالكوفة سنة 194 ه‍. انظر رجال النجاشي: 321 / 876،
الفهرست للطوسي: 61 / 232، معجم رجال الحديث 6: 148 / 3808.
5 - الكافي 7: 387 / 1، الوسائل 18: 215 / 2 - باب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
276

الواقعية (1)، لكنه فاسد يتضح فساده بعد بيان فقه الحديث.
فنقول: إن قوله: (يجوز لي أن أشهد أنه له؟) مراده أنه تجوز لي الشهادة بالنسبة
إليه كما تجوز لي في سائر الأمور؟ أي كما أني أشهد أن الشمس طالعة، والفجر طالع،
وزيد، عالم، وعمرا شجاع، إلى غير ذلك مما تتعلق به الشهادة، هل يجوز لي أن أشهد
بذلك أيضا؟
وبالجملة: تجوز لي الشهادة بذلك كالشهادة بسائر الموضوعات؟
ولا شك أن الشهادة فيها إنما تتعلق بالواقع، فالسؤال إنما هو عن جواز الشهادة
بالملكية الواقعية بمحض كون الشئ في يدي رجل، فأجاب عليه السلام بقوله: (نعم)
فقال الرجل: إن ما أشهد به إنما هو كونه في يده، لا أنه ملكه، فكيف تجوز لي الشهادة
بالملكية الواقعية له مع الشك فيه، فأرجعه إلى ارتكازه بطريق النقض، وأنه كما يجوز
الشراء منه والحلف على الملكية بعد الشراء مع أن ملكيته إنما جاءت من قبله، ولا يجوز
الحلف إلا مع الجزم بالملكية، كذلك تجوز الشهادة بكونه له، فاستدلاله عليه السلام لم
يكن استدلالا بحكم شرعي، بل بارتكاز عرفي، وبناء عقلائي، كما هو واضح.
فحينئذ قوله: (لو لم يجز هذا) معناه أنه لو منع الشارع من هذا الأمر الذي مدار
سوق المسلمين عليه يختل النظام، لا أن تجويز الشارع ذلك إنما هو لقيام السوق، حتى
تتوهم منه الأصلية (2)، فدلالتها حينئذ على الأمارية لا تقصر عن غيرها بعد التأمل فيما
ذكرنا.
ثم الظاهر من الرواية أنه لو لم تجز الشهادة لم يقم للمسلمين سوق، فربما
يستشكل عليها: بأن عدم جواز الشهادة لا يوجب الاختلال، كما لا يخفى.
وجوابه: أن ترك الشهادة أو عدم جوازها - لأجل احتمال كونه لغيره - لازمه

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 409 سطر 7، نهاية الدراية 3: 328 سطر 4.
2 - انظر الهامش السابق.
277

الاعتناء بهذا الاحتمال، وعدم اعتبار اليد، وهو مساوق لعدم جواز الشراء وسائر
ما يترتب على اليد، وهو موجب لاختلال سوق المسلمين.
فتحصل مما ذكرنا: أن الرواية كما تدل على اعتبار اليد تدل على أماريتها.
ومنها: رواية مسعدة بن صدقة المنقولة في أبواب ما يكتسب به: محمد بن
يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم (1) عن مسعدة بن صدقة (2) عن أبي
عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: (كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه،
فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك
عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك وهي أختك أو
رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا، أو تقوم به البينة) (3).
وهذه الرواية هي عمدة ما يمكن أن يستدل بها لأصلية اليد، حيث إن الظاهر من
صدرها وذيلها هو ترتيب آثار الحلية على المشكوك فيه إلى أن يعلم خلافه، ولقد مثل
لذلك بمثل الثوب والمملوك اللذين تحت اليد، فيجب ترتيب آثار الملكية عليهما إلى أن
يعلم الخلاف، وهذا معنى الأصل.
هذا: ولكن الظاهر بل المتعين كون هذه الأمثلة من قبيل التنظير، لا بيان
المصداق، ضرورة أن قوله: (كل شئ هو لك حلال) معناه أن تمام الموضوع للحلية إنما
هو كون الشئ مشكوكا فيه، أي إذا لم يدل دليل على حلية الشئ ولا على حرمته،

1 - هارون بن مسلم: أبو القاسم، وهو من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام، روى عن مسعدة بن
صدقة، وعلي بن الحكم، ومحمد بن أبي عمير، والقاسم بن عروة وغيرهم، وروى عنه الحسن بن علي بن فضال،
وسعيد بن عبد الله الأشعري، وسهل بن زياد وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 438 / 1180، الفهرست للطوسي:
176 / 763، معجم رجال الحديث 19: 229 / 13241.
2 - قالوا: إن رواياته سديدة متينة، يحصل منها الوثوق بوثاقته [منه قدس سره]. انظر تنقيح المقال 3: 212 سطر 13.
وهو أبو محمد العبدي من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، روى عنه هارون بن مسلم، وجعفر بن
عبد الله. انظر رجال النجاشي: 415 / 1108، معجم رجال الحديث 18: 137 / 12276.
3 - الكافي 5: 313 / 40، التهذيب: 226 / 989، الوسائل 12: 60 / 4 - باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
278

ويكون مشكوكا فيه فهو حلال، فموضوع الحلية هو كون الشئ مشكوكا فيه ليس إلا.
مع أنه ليس موضوع الحلية في تلك الأمثلة هو الشك وفقدان الدليل على أحد
طرفي الشك، ضرورة أن اليد في قاعدتها دخيلة في الحكم، بل هي تمام الموضوع له من
غير دخالة الشك فيه، والشك إنما هو في مورده.
وبالجملة: ليس الشك في نفسه موضوعا للحكم بحلية ما في اليد، سواء قلنا
بأمارية اليد أو أصليتها، وكذا في الشك في كون المرأة رضيعة أو أختا ليس الشك - بما
أنه شك - موضوعا للحكم بالحلية، بل الحكم لاستصحاب عدم حصول الرضاع،
واستصحاب عدم تحقق نسبة الأختية لو قيل بجريانه، وإلا فمن أصالة الصحة في فعل
الغير وقاعدة التجاوز والفراغ.
وعلى أي حال: ليست الأمثلة المذكورة في الرواية مثالا ومصداقا منطبقا عليها
قوله: (كل شئ لك حلال) فلا محيص إلا أن يحمل على التنظير بأن يقال: إن كل شئ
مشكوك فيه فهو حلال، مثل ما لو دل الدليل على الحلية، فكما أن الحلية ثابتة للشئ
مع قيام الدليل عليها، كذلك للشئ المشكوك فيه بما أنه مشكوك فيه.
ولعله عليه السلام كان بصدد رفع وسوسة بعض أصحاب الوسوسة، حتى
لا يأخذهم الوسواس في المشكوك فيه، فذكر أولا قاعدة كلية هي: (كل شئ هو لك
حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه) ولم يكتف بذلك حتى أكده بأنه لا فرق في الحلية بين
أن يقوم الدليل على الحلية، أو يكون الموضوع مشكوكا فيه، فمثل بأمثلة بعضها ارتكازية
عقلائية، وبعضها شرعية، ثم لم يكتف به حتى أكده بقوله: (والأشياء كلها على ذلك..)
إلى آخره.
فتحصل مما ذكرنا: أن قاعدة اليد أمارة سواء كان مأخذها الأخبار، أو بناء
العقلاء، فاتضح وجه تقدمها على الاستصحاب، فإنه بالحكومة إن كان المستند
هو الأخبار، وبالتخصص إن كان بناء العقلاء.
279

الجهة الثالثة
حكم اليد على المنفعة (1)
أن الاستيلاء على الأعيان معلوم، وهل الاستيلاء على المنافع يكون بالاستيلاء
على الأعيان؟ أو يكون الاستيلاء عليها في عرض الاستيلاء على الأعيان (2)، أو يكون
الاستيلاء على الأعيان فقط، لكن مقتضاه ملكية العين ومنافعها؟ أو يكون مقتضاه
ملكية العين فقط، وتكون ملكية المنافع تبعا لملكية العين، أي يكون مقتضى اليد ملكية
العين، ومقتضى ملكية العين ملكية المنافع إلى أن يعلم خلافها (3) أو ليست اليد على
المنافع، وليست ظاهرة في ملكية المنافع أيضا مطلقا (4)؟ وجوه.
يمكن أن يقال: إن الأقوى هو الوجه الأول، فإن الاستيلاء على العين أولا
وبالذات، وعلى المنافع بتبع العين، فتكون اليد على المنافع باليد على العين، كما
أن تسليم المنافع بتسليم العين في باب الإجارة عند العقلاء، لو قلنا بأن حقيقة الإجارة
عبارة عن تمليك المنافع (5)، لا التسليط على العين للانتفاع (6)، ولا إضافة بين العين
والمستأجر، مستتبعة لمالكية المنافع (7).

1 - الكلام في المنافع المقابلة للأعيان، وهي التي يقال بأنها معدومة وأنها تدريجية الوجود غير قار لا المنافع المنفصلة
كالثمار، فانظر نهاية الدراية 3: 331 سطر 23.
2 - العروة الوثقى 3: 121 - كتاب القضاء.
3 - نهاية الدراية 3: 331 سطر 17، وذلك في الاستيلاء المقولي لا الاعتباري.
4 - مستند الشيعة 2: 578 سطر 15، عوائد الأيام: 257.
5 - العروة الوثقى 2: 397.
6 - نفس المصدر.
7 - اختاره الإمام قدس سره في حاشيته على العروة الوثقى 2: 397، وانظر رسالة الإجارة المحقق الأصفهاني: 3 و 4 -
(ضمن بحوث في الفقه).
280

والقول: بأن المنافع معدومة، لا يعقل وقوعها تحت اليد، لأن الإضافة بين
الموجود والمعدوم غير معقولة، فالاستيلاء نحو إضافة بين المستولي والمستولى عليه،
والإضافة الفعلية لابد فيها من مضاف ومضاف إليه فعليين، فلا تتحقق بين المعدومين،
ولا بين موجود ومعدوم (1).
مما لا يصغى إليه في الأمور الاعتبارية والإضافات الحكمية، فالميزان فيها
هو الاعتبار العقلائي، وليست تلك الأمور من الإضافات المقولية، حتى يأتي فيها
ما ذكر، بل هي من الاعتبارات العقلائية، ولا شك في أن مليكة المنافع قبل تحققها مما
يعتبرها العقلاء باعتبار تحقق منشئها، وكونها في أهبة الوجود، فكما أن الملكية معتبرة
عند العقلاء في المنافع، فكذلك الاستيلاء عليها عقلائي، لكنه يتبع الاستيلاء على العين.
ويمكن أن يقال: إن الاستيلاء على العين، لكن كما أن مقتضى اليد ملكيتها،
كذلك مقتضاها ملكية منافعها، فتكون كاشفة عن ملكية العين والمنافع في عرض
واحد، فإذا علم من الخارج أن العين ملك لغير ذي اليد، وشك في أن منافعها له
أو لذي اليد، يحكم بأنها لذي اليد.
نعم: إذا كان النزاع بين ذي اليد وصاحب العين في المنافع يكون ميزان القضاء
- بحسب طرح النزاع - مختلفا، فإذا ادعى ذو اليد أن المنافع له: لأجل الاستيجار من
صاحب العين يكون مدعيا، وصاحب العين منكرا، ولو ادعى المنافع من غير استناد
إليه يكون القول قوله بيمينه.
ويمكن أن يقال: إن اليد كاشفة عن مليكة العين، وملكية المنافع إنما هي بتبع
ملكية العين، لا لكشف اليد عنها عرضا أو طولا إلا بذلك المعنى، ولكن الأقوى مع
ذلك هو الوجه الأول بحسب الارتكازات العرفية، والاعتبارات العقلائية.

1 - انظر نفس المصدر.
281

الجهة الرابعة
هل اليد معتبرة مع عدم علم ذي اليد واعترافه به؟
لا إشكال في اعتبار اليد وكاشفيتها عن الملكية مع دعوى ذي اليد الملكية بل
مع عدم انضمامها لدعواها، كما لا إشكال في عدم اعتبارها مع اعترافه بعدم الملكية،
فهل هي معتبرة مع عدم العلم بالنسبة إلى نفسه، ومع اعترافه بعدم العلم بالنسبة إلى
غيره أم لا؟
اختار ثانيهما المولى النراقي رحمه الله في " مستنده " و " عوائده " قائلا: إن الأدلة
المثبتة لاعتبار اليد قاصرة عن المورد، مضافا إلى رواية جميل بن صالح عن السراد:
(رجل وجد في منزله دينارا..) الحديث (1)، فإنه حكم فيما هو في داره - الذي لا يعلم أنه
له، مع كونه مستوليا عليه - أنه ليس له، وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد
العلم بأنه ليس لغيره.
وإلى موثقه إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل
في بعض بيوت مكة، فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها
حتى قدم الكوفة، كيف يصنع؟
قال: (يسأل عنها أهل المنزل، لعلهم يعرفونها).
قلت: فإن لم يعرفوها؟
قال: (يتصدق بها) (2).
فإنه لا شك أن الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل، ولو أنهم قالوا: لا نعلم أنها

1 - الكافي 5: 137 / 3، الفقيه 187 / 841، التهذيب 6: 390 / 1168، الوسائل 17: 353 / 1 - باب 3 من أبواب
اللقطة.
2 - التهذيب 6: 391 / 1171، الوسائل 17: 355 / 3 - باب 5 من أبواب اللقطة.
282

لنا أو لغيرنا يصدق أنهم لا يعرفونها، فلا يحكم بملكيتها لهم.
ومن ذلك يعلم: أن اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه، إن لم يعلم
ملكيته (1) انتهى ملخصا.
وفيه أولا: أن دعوى قصور الأدلة يمكن منعها، بدعوى إطلاق بعض الأدلة،
كموثقة يونس، وصحيحتي محمد بن مسلم (2) ودعوى منع صدق الاستيلاء في مثل
المورد من عجيب الدعاوى.
وثانيا: أن ما ادعى من دلالة صحيحة جميل على مطلوبه، ففيه: أن الحكم
باللقطة إنما هو في مورد يدخل في المنزل جماعة كثيرون ولا إشكال في أن مثل تلك
المنازل المعدة للمراودة لا يكون مثل الدراهم والدينار الملقى فيها تحت يد صاحبه.
مضافا إلى أن الدرهم والدينار لهما خصوصية، فإن لهما محلا خاصا، كالكيس
والصندوق، فإذا وجد في الدار فإن لم تكن معدة لدخول الغير فيها، أو يكون الدخول
نادرا يكشف ذلك عن كون الشئ الملقى ولو مثل الدينار تحت يد صاحبها، بخلاف
ما لو كان البيت محل المراودة، خصوصا إذا كانت كثيرة، كما هو مفروض السائل.
وأما الصندوق فإن أدخل غيره يده فيه، ووضع فيه شيئا فلا إشكال في عدم كونه
تحت يد صاحبه مستقلا، بل يكون في يدهما، وإلا فيحكم بملكية صاحب الصندوق،
ولا ريب في أن مفروض السائل إنما هو صوره جهل الرجل بأن الدرهم له، ولا معنى
لفرض العلم بذلك، فالرواية دالة على خلاف مطلوبه.
ثم إن ما ذكره في سند الرواية من أنها رواية جميل عن السراد سهو من قلمه،
لأن السراد هو ابن محبوب (3)، وهو رواها عن جميل بن صالح، كما تقدم الحديث

1 - مستند الشيعة 2: 577 سطر 29، عوائد الأيام: 256 سطر 5.
2 - تقدم تخريجهما في صفحة 265 - 269.
3 - انظر مجمع الرجال 2: 144، 145 و 7: 130.
283

بسنده (1).
وأما موثقة ابن عمار فلا دلالة لها على دعواه، لأن بيوت مكة التي ينزل فيها النزال
ليس ما فيها من قبيل الدراهم التي هي تحت يد صاحبها، خصوصا المدفونة منها.
وبالجملة: في البيوت التي تكون معدة لنزول الزوار والخلق الكثير، وفي الدراهم
المدفونة فيها خصوصية ليست لغيرها، فليس الحكم بالتصدق أو الاستفسار عن
صاحب اليد لأجل عدم اعتبار اليد فيما إذا لم يعلم صاحبها، كما لا يخفى.
الجهة الخامسة
حال اليدين على شئ واحد
إذا كان شئ في يد اثنين، فهل تكون يد كل منهما على تمامه مستقلة تامة (2)،
أو يد كل منهما على تمامه ناقصة، فيكون كل منهما مستوليا على تمامه استيلاء ناقصا
غير تام (3)، أو تكون يد كل منهما على نصفه المشاع مستقلة، ويكون مستوليا على
النصف استيلاء تاما (4)؟
وعلى الأول: فهل تكشف اليدان عم ملكيتهما له، فيكون تمامه ملكا مستقلا
لهما، من غير تعارض في مقتضى اليدين، أو تكون اليدان متعارضتين، وتكون يد كل
منهما في ذاتها كاشفة عن الملكية المستقلة لصاحبها، ومع اجتماعهما تصيران
متعارضتين، كاجتماع البينتين المتخالفتين على عين واحدة؟

1 - تقدم في صفحه 271.
2 - العروة الوثقى 3: 123 - كتاب القضاء.
3 - حكاه عن البعض في منية الطالب 1: 398.
4 - كتاب القضاء للمحقق الأشتياني قدس سره: 295، وقد نسبه إلى المشهور في القواعد الفقهية للسيد البجنوردي
1: 109.
284

وعلى الثاني: أي بناء على كون اليدين على تمام الشئ ناقصتين، فهل تكون يد
كل كاشفة عن ملكية تمامه على نحو النقص أو ملكية نصفه على نحو التمام والاستقلال؟
والفرق بينهما: أنه على الأول يكون المالك للعين كليهما مجتمعين، كملك الخيار
للورثة، بناء على كونه واحدا لمجموعهم تأمل، وعلى الثاني يكون لكل منهما نصفه
المشاع، وجوه بل أقوال.
وحيث يكون مبنى الاحتمالين الأولين جواز استقلال اليدين على شئ واحد،
كما أن مبنى أولهما جواز اجتماع المالكين المستقلين على ملك واحد، فالواجب أولا
تحقيقهما حتى يتضح الأمر:
أما جواز استقلال المالكين لمال واحد، فلا إشكال في أنه خلاف اعتبار العقلاء،
بل غير معقول عندهم، فإن الملكية نحو إضافة بين المالك والمملوك يلازمها
الاختصاص، ولا يعقل أن يكون شئ بتمامه مختصا بشخصين، ولا أظن أحدا يشك في
ذلك بعد التدبر في اعتبارات العقلاء ونحو إضافة الملكية عندهم.
حول كلام المحقق السيد الطباطبائي قدس سره وما يرد عليه
ولكن السيد المحقق الطباطبائي (1) ذهب في كتاب القضاء من ملحقات
" العروة " إلى جواز اجتماع المالكين المستقلين لمال واحد، وتشبث في إثبات إمكانه

1 - المحقق الطباطبائي: هو الإمام الفقيه السيد محمد كاظم ابن السيد عبد العظيم الطباطبائي اليزدي، ينتهي نسبه إلى
إبراهيم الغمر بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أحد مراجع الدين الكبار، وإليه انتهت
الرئاسة العلمية، وكان لغويا متقنا فصيحا قيما بالعربية والفارسية، ينظم وينثر فيهما، جيد النقد قوي التمييز، ولد في
قرية كسنو من قرى يزد حدود سنة 1247 ه‍، تتلمذ على الإمام الفقيه الكبير الشيخ مهدي أين الشيخ علي نجل
كاشف الغطاء والإمام السيد محمد حسن الشيرازي والفقيه المحقق الشيخ راضي ابن الشيخ محمد النجفي والمحقق
الشيخ محمد باقر الأصفهاني وآخرين، أشهر مؤلفاته: العروة الوثقى، وحاشية على مكاسب الشيخ الأنصاري، ورسالة
في اجتماع الأمر والنهي، ورسالة في الظن وغيرها. توفي في النجف الأشرف ليلة الثلاثاء 28 رجب سنة 1337 ه‍.
انظر أعيان الشيعة 10: 43، معارف الرجال 2: 326، ريحانة الأدب 6: 391.
285

بالوقوع في بعض الموارد، مثل كون الشئ ملكا للنوع، كالزكاة والخمس والوقف على
العلماء والفقراء، على نحو بيان المصرف، فإن كل فرد من النوع مالك لذلك المال.
قال: بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصيين أيضا، كما إذا وقف على زيد
وعمرو، أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف، فإنه يجوز صرفه على كل واحد منهما،
فدعوى عدم معقولية اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه لها.
مع أنه لا إشكال في جواز كون حق واحد لكل من الشخصين مستقلا، كحق
الخيار، وكولاية الأب والجد على مال القاصر، ومن المعلوم عدم الفرق بين الحق والملك.
إلى أن قال: ودعوى أن مقتضى الملكية المستقلة أن يكون للمالك منع الغير، وإذا
لم يكن له منعه فلا يكون مستقلا ممنوعة، فإن هذا أيضا نحو من الملكية المستقلة، ونظيره
الوجوب الكفائي والتخييري في كونهما نحوا من الوجوب، مع كونه جائز الترك (1) انتهى.
وأنت خبير بما فيه: أما نقضه بمثل الزكاة والخمس والوقف العام فهو غريب، لأن
المالك في أمثالها هو الجهات لا الأفراد، ومالكية الجهات عقلائية.
وأما مثل الوقف على زيد وعمرو فهو أيضا كذلك في مفروض كلامه، لأن الوقف
لهما - بوجه يكون كل منهما مصرفا - لا يمكن إلا بالوقف على جهة قابلة للانطباق على
كل منهما لا غيرهما.
وإلا فإن رجع إلى الوقف على كل منهما وأعقابهما يكون كل منهما موقوفا عليه
بالنسبة إلى نصفه، وإن رجع ألى الوقف على كل منهما بنحو الترديد فهو باطل، فلا بد
وأن يكون على نحو الأول.
ومن ذلك يعلم: حال الوصية لهما، فإنها إن كانت تمليكية فحالها حال الوقف،

1 - العروة الوثقى 3: 123 - كتاب القضاء.
286

وإن كانت عهدية - بمعنى الوصية بإعطاء مال لزيد أو عمرو، أو بزيد وعمرو على نحو
بيان المصرف - فيكون المالك قبل الإعطاء هو الميت، وبالإعطاء يصير ملكا للمعطى له،
فيخرج عما نحن فيه.
وأما النقض ببعض الحقوق كحق الخيار وكولاية الأب والجد فغير وارد، للفرق
الواضح بين الملك ومثل حق الخيار، لأن حق عند العقلاء يرجع إلى إضافة لازمها
السلطنة على فسخ العقد، من غير اختصاص للعقد أو العين بذي الحق حتى يقال:
لا يمكن اختصاصان قائمان بشئ واحد، ولهذا لا يجوز اجتماع بعض الحقوق التي
يكون اعتباره كذلك، كحق التحجير وحق الرهن.
بل التحقيق: أن الخيار عبارة عن ملك فسخ العقد، أو ملك إقرار العقد
وإزالته (1)، فلا يتعلق حق على العقد أو على العين إلا بالعرض، فإذا قيل: إن لفلان
حقا على العقد ليفسخه، أو على العين ليسترجعها معناه أن له حق الفسخ والاسترجاع،
فالخيار مأخوذ من الاختيار، ولا ينسب حقيقة إلا إلى الأفعال، فلا يطلق على ملك
الأعيان والمنافع، كما اعترف به السيد رحمه الله في تعليقاته على " المكاسب " (2)، فكل
من الشخصين يكون له حق الفسخ مستقلا، ولكل واحد منهما اختيار وخيار مستقل،
ولا يكون متعلق حقهما شيئا واحدا.
وأما النقض بولاية الأب والجد أيضا فغير وارد، لأن اعتبار الولاية ليس ملازما
وملزوما لاعتبار الاختصاص، الذي هو معتبر في الملكية، حتى لا يمكن استقلالهما على
شئ واحدة، بل الولاية هي السلطنة على تدبير الأمور، أو إضافة بين الولي والمولى عليه
تستتبعها السلطنة على أموره، ولا إشكال في جواز استقلال الوليين على تدبير أمور
شخص واحد، فهي نظير الوكالة في الأمور، حيث لا مانع من تعدد الوكلاء على أمر واحد.

1 - قد عدل عنه سماحة الإمام قدس سره في كتاب البيع 4: 5 ذاهبا إلى أن حقيقة الخيار حق اصطفاه الفسخ.
2 - حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 2 سطر 5 - مبحث الخيارات.
287

فالإنصاف: أن استقلال المالكين على ملك واحد مما لا يمكن عند العقلاء، ولا
ترد النقوض المذكورة.
وأما ما ذكره أخيرا - بعد إيراد الإشكال بأن مقتضى استقلال الملكية جواز منع
الغير، وهو مفقود في المقام أن هذا نحو من الملكية المستقلة، كالواجب التخييري
والكفائي، حيث إنهما نحوان من الوجوب (1)، فهو من غريب الكلام، لأن لازم ذلك
أن الملكية الغير المستقلة نحو من الملكية المستقلة، ضرورة أن معنى الاستقلال في
الملكية هو الاستبداد والانفراد بها، والواجب التخييري نحو من الواجب، كما أن الملكية
الغير المستقلة نحو من الملكية، لا نحو من الملكية المستقلة، فما ذكره نظير أن يقال: إن
الواجب التخييري والكفائي نحوان من الواجب العيني والتعييني، وهو كما ترى، هذا حال
الملكيتين المستقلتين على شئ واحد.
وأما اجتماع اليدين المستقلتين على شئ واحد فهو أيضا لا يجوز، ضرورة أن
مقتضى استقلال الاستيلاء على شئ جواز منع الغير عن التصرف والد خالة فيه،
واستبداد اليد المستقلة في تدبيره وتصرفه.
ألا ترى: أنه فرق واضح بين كون شئ تحت يد شخص واحد، يتصرف فيه بما
يشاء، ويمنع تصرف غيره، أو يجيزه بأي نحو يشاء من إتلاف وإفساد وغيرهما، وبين
كونه تحت يد شخصين يكون كل منهما متصرفا فيه، فإن تصرف كل واحد ليس كالأول،
لعدم جواز منع تصرف الغير مطلقا، ولا إجازة غيره كذلك، وهل هذا إلا أثر استقلال
الأولى، وعدمه في الثانية.
وقياس ذلك بجارين لشخص واحد وصاحبين له، ومؤانسين وأخوين مع
الفارق، لأن تلك الإضافات لا تتصف بالاستقلال واللا استقلال، فإنها تتحقق بنفس

1 - العروة الوثقى 3: 123.
288

مناشئها، من غير مزاحمة بينها وبين الإضافة المشابهة لها، إلا أن يرجع الاستقلال فيها إلى
أنه لا شريك لها، ولا مشابه لها في تلك الإضافة، فتصير مثل ما نحن فيه في عدم إمكان
استقلالها مع الشركة.
فإذا بطل اجتماع المالكين المستقلين، وكذا اجتماع اليدين المستقلتين على
شئ واحد بطل الاحتمالان الأولان.
وأما الاحتمالان الآخران، أي كون اليدين على تمام الشئ ناقصتين، أو يدين
مستقلتين على نصفه المشاع، فلا بد قبل تحقيق الحق فيهما من بيان إمكان الملكية
المشاعة، واليد المستقلة على النصف المشاع:
أما الملكية المشاعة فهي أمر عقلائي، ومن الاعتبارات الصحيحة العرفية، يعرفها
كل أحد، من غير ابتنائها على بطلان الجزء الذي لا يتجزأ، فإن ابتناء قضية عرفية
واعتبار سوقي على مسألة دقيقة حكمية مما لا معنى له.
فما يظهر من بعض من ابتناء هذه المسألة على تلك المسألة العقلية (1) ناش من
الغفلة عن اعتبارات العقلاء، ضرورة أن جميع أهل البلدان من السوقي وغيره يفهم
الملك المشاع ويعتبره، مع أن مسألة إمكان الجزء وامتناعه مما لا تقرع إلا سمع بعض
أهل العلم، وتحقيقها وإثبات امتناعه من شأن الأوحدي من أهل الفن، فأين ابتناء مثل
هذه المسألة السوقية الضرورية الاعتبارية على تلك المسألة النظرية الدقيقة التي لا اسم
لها ولا رسم عند العقلاء وأصحاب اعتبارات تلك الأمور؟!
وبالجملة: إن اعتبار الملك المشاع أوضح من أن يحتاج إلى بيان، ضرورة أنه
لو مات أحد عن ولدين، يصير كل منهما عند كافة العقلاء مالكا للنصف المشاع،
ويكون اعتبار الإشاعة معلوما عندهم وجدانا، ولو لم يمكن لهم بيان مفهومها

1 - منية الطالب 1: 397، وانظر كتاب البيع لسماحة الإمام قدس سره 3: 280 تجد المزيد من البيان.
289

وتحديدها، كأكثر الحقائق الضرورية، فإن تحديدها في غاية الإشكال، وإن كانت
معلومة مصداقا، فالماء والنار والنور مع كونها في غاية الظهور عند كل أحد لا يمكن
للغالب تحديدها وتعريفها، وهذا لا يضر بوضوح الحقيقة وجدانا وعيانا.
وإن شئت قلت: إن الكسور أمور اعتبارية بنحو اللا تعين، في مقابل المفروز
والمعين، وظرف الاعتبار وإن كان الذهن، لكن المعتبر خارجي، بمعنى أن العقلاء
يعتبرون بعض الأمور في الخارج، فيتصف الخارج به اتصافا في نظرهم، لا في التكوين،
فالملكية وسائر الأمور الاعتبارية العقلائية ظرف اعتبارها الذهن، وظرف اتصاف
الأشياء بها الخارج، فالعين متصفة في الخارج بالمملوكية، والشخص بالمالكية، من غير
أن تكون تلك الأوصاف عارضة لها في الخارج تكوينا.
فالكسر المشاع ليس من الأمور العينية التكوينية، ولا من الأمور الانتزاعية،
ضرورة أن منشأ انتزاعه إن كان العين المعينة الخارجية، فلا يعقل أن يكون المنتزع من
المعين مشاعا بما هو مشاع، وتوهم انتزاع الكلي من الجزئيات (1) فاسد، كما هو المقرر
في محله (2)، وإن كان أمرا مبهما فلا يعقل الإبهام في الخارج.
فالتحقيق: أن الأعيان مع قطع النظر عن الاعتبار ليس لها الكسور خارجا، وهو
واضح، ولا تكون منشأ لانتزاعها، وقابليتها للقسمة ليست منشأ انتزاعها، لأنها قابلة
للأقسام المعينة، والكسر مشاع لا معين.
بل هي من الاعتبارات الصحيحة العقلائية في الموجود الخارجي، تتصف بها
الأعيان اتصافا في محيط العقلاء، فتكون العين ذات نصف وثلث وربع هكذا بحسب
الخارج، كما هي مملوكة خارجا، وهذا بوجه نظير بعض الأعراض التي يقال: إن عروضها
في الذهن، واتصاف الأشياء بها في الخارج (3).

1 و 2 - انظر شوارق الإلهام: 156 سطر 13.
3 - شرح المنظومة: 40 - قسم الحكمة.
290

وبما ذكرنا: لا يرد الإشكال العقلي المتوهم في الإشاعة، من أن الإشاعة تنافي
الوجود الخارجي والجزئية (1).
أما عدم التنافي بينها وبين الوجود الخارجي فظاهر، لأن المنافاة بين الوجود
التكويني وبين الإشاعة واللا تعين مسلم، لا بينها وبين الوجود الاعتباري.
وأما بينها وبين الجزئية، فلأن الابهام بذاتها لا يلازم الكلية، ما لم تقبل الصدق
على الكثيرين، والجزء المشاع الخارجي غير قابل لذلك، لعدم تعقل صدق الكسر
المشاع المعتبر في الخارج على الكثيرين، فإن العين الخارجية يعتبر فيها نصفان، وكل
نصف مشاع غير الآخر، وثلاثة أثلاث كل غير الآخر.
نعم: مفهوم النصف المشاع والثلث المشاع كلي كسائر الكليات، وليس الكلام
فيه، بل الكلام في المشاع الخارجي الذي تقع عليه المعاملات، ويكون ملكا
للأشخاص، وهو ليس بكلي، وغير صادق على الكثير، وما ذكرناه هو الموافق لاعتبار
العقلاء، من غير لزوم إشكال عليه.
وقد يقال: في بيان تصوير الإشاعة ودفع الإشكال عنها: إن الموجود الخارجي
على قسمين: موجود بوجود ما بحذائه، وموجود بوجود منشأ انتزاعه، فمفهوم النصف
مثلا ربما يكون موجودا بوجود ما بحذائه، وهو النصف المعين في العين، وربما يكون
عنوانا لموجود بالقوة، لتساوي نسبته إلى جميع الأنصاف المتصورة في العين، فهذا
الموجود بالقوة المتساوي النسبة جزئي بجزئية منشأ انتزاعه، وله شيوع وسريان باعتبار
قبوله لكل تعين من التعينات الخارجية المفروضة، ولأجله تكون القسمة معينة للا متعين،
من دون لزوم معاوضة بين أجزاء العين.
وعليه: فالمملوك لكل من الشريكين أولا بالذات هو النصف المشاع، والعين

1 - انظر حاشية المحقق الأصفهاني على المكاسب 1: 202 سطر 23، نهاية الدراية 3: 335 سطر 14.
291

الخارجية مورد لمملوكين بالذات، فتكون مملوكة بالعرض، على عكس من يملك عينا
واحدة بالذات، فإنه يملك كسوره المشاعة بالعرض (1) انتهى.
وفيه مواقع للنظر:
منها: دعواه أن مفهوم النصف في المعين موجود بوجود ما بحذائه، فإنه إن أراد
موجوديته قبل تحقق التقسيم الخارجي أو الوهمي، فهو مستلزم للجزء الذي لا يتجزأ إن
كان النصف ونصف النصف وهكذا متناهيا، أو كون غير المتناهي الفعلي محصورا بين
الحاصرين.
وإن أراد أنه بالتقسيم يوجد شئ في الخارج هو النصف المعين، ففيه ما لا يخفى،
فإن التقسيم إن كان وهميا، فلا يعقل بتوهم التقسيم حصول شئ موجود في الخارج.
وإن كان خارجيا فكذلك، فإنه بعد التقسيم يكون القسمان موجودين مستقلين،
وليس النصف وصفا ذاتيا لهما، ضرورة أن النصف نصف المجموع، فلا يتصور نصف
بلا مجموع، ومعلوم أن مجموع شيئين منفصلين ليس موجود في العين، لأن الوجود
مساوق للوحدة، ومالا وحدة له لا وجود له، وما هو متقوم بأمر اعتباري لا يمكن أن
يكون من الموجودات الحقيقية.
مضافا: إلى أن كل حبة في الخارج نصف لحبات غير متناهية، أو كغير متناهية،
وثلث وربع وخمس وهكذا، وتكون الكسور فيها غير متناهية، فلزم وجود أوصاف
خارجية غير متناهية في حبة خشخاش، وهو كما ترى.
والتحقيق: أن الكسور المعينة أمور اعتبارية وانتزاعية من منشأ اعتباري، ولولا

1 - انظر نهاية الدراية 3: 335 سطر 15، حاشية المحقق الأصفهاني 1: 202 سطر 27.
292

المعتبر لا يكون المجموع ولا نصفه محققا.
ومنها قوله في المشاع: إنه أمر انتزاعي وموجود بالقوة، متساوي النسبة إلى
التقسيمات، جزئي بجزئية منشأ انتزاعه، وشائع وسار باعتبار قبوله لكل تعين.
وفيه ما عرفت: من أن المنتزع لا يعقل أن يكون مباينا للمنتزع منه، والمتعين
واللا متعين متباينان، لا تعقل منشئية أحدهما للآخر، وقد أشرنا (1) إلى أن الكلي لا يعقل
انتزاعه من الجزئي بما أنه جزئي، بل ليس الكلي والجزئي من قبيل المنتزع والمنتزع منه،
كما هو المقرر في محله (2).
وأيضا أن القوة التي في الأجسام وبها تقبل التقسيمات المتعينة هي الهيولى على
مسلك طائفة (3)، وهي لا تكون جزء مشاعا بالضرورة، ولا أمرا انتزاعيا.
وأيضا أن التقسيمات الخارجية لا تخرج المشاع عن إشاعته، ضرورة أن
الشريكين ما لم يتفقا على التقسيم لا يصير المشاع مفروزا ولو قسم المملوك خارجا، مع
أنه اعترف بأن ليس في الجسم إلا نصفان وبالتقسيم يصير مفروزا.
وأيضا: أن التقسيم الاعتباري موجب للإفراز والتعيين، وليس حامله القوة
الموجودة في الجسم.
وأيضا: يجري التقسيم في المنفصلات - ككر من الحنطة المشاعة - مع أن تنصيفه
ليس واقعا على القوة.
فظهر من ذلك فساد توهم أن النصف المشاع عبارة عن قوة متساوية النسبة
إلى التقسيمات، إلا أن يكون مراده من القوة أمرا اعتباريا، ومن التقسيم الإفراز
بتراضي المالكين، لا التقسيم الخارجي، وهو كما ترى مخالف لظاهر كلامه، خصوصا

1 - تقدم في صفحة 290.
2 - شوارق الإلهام: 156 سطر 22.
3 - انظر الأسفار 5: 66، شرح المنظومة: 214 - قسم الحكمة.
293

كون القوة اعتبارية.
ومنها: قوله القسمة معينة للا متعين، من دون لزوم تبادل بين أجزاء العين، فإن
القسمة وإن كانت عنوانا مستقلا مقابل البيع والصلح وغيرهما، لكن لا إشكال في أن
لازمها التبادل بين مال الشريكين، ضرورة أن كل جانب من العين الخارجية كان لهما
قبل التقسيم، وصار مختصا بعده، ولا يمكن ذلك إلا بالتبادل، لا خروج غير المتعين إلى
المتعين، بحيث يملك كل منهما حصته الخاصة به في نفس الأمر بلا تبادل، فإنه غير
معقول في المشاع، ومخالف لارتكاز العقلاء.
ومنها: التزامه بمملوكية الأمر الانتزاعي، وعدم مملوكية العين الخارجية لأحد،
وانتساب المملوكية إليها، لكونها موردا لما هو مملوك، فإنه من غريب الالتزامات، بل لو
لم يكن لما التزمه من الإشاعة إلا هذا التالي لكفى في فساده، لأن الضرورة قائمة
عند العقلاء بأن المملوك للشركاء هو نفس الأعيان، لا الأمر الانتزاعي، وتكون العين
غير مملوكة لأحد، كما نص عليه في جملة من كلامه (1).
مضافا: إلى أنه إذا كانت عين مملوكة لأحد، فلا إشكال كما اعترف به في أنها
مملوكة بالذات له، والكسور مملوكة بالعرض، فإذا باع نصفها لزم بناء على قوله أن يبيع
مالا يملكه إلا بالعرض، أي الأمر الانتزاعي، ولا يبيع مملوكه، وأن ملكه صار مسلوبا
عن العين بلا سبب، ومتعلقا بأمر انتزاعي بلا سبب.
ولعمري إن ما توهمه في المقام تحقيقا وتدقيقا من فلتاته التي لا تغفر لمثله، وهو
من خلط العقليات بالعرفيات، والفلسفة بالفقه ومن اللازم على المشتغلين الاحتراز
عنه.
فإذا اتضح اعتبار الإشاعة في الأعيان تكون اليد على المشاع أيضا ممكنة، ضرورة

1 - نهاية الدراية 3: 337 سطر 21 و 25.
294

ان الشريكين تكون يد كل منهما على ملكه مستقلة، ولا تكون له يد على ملك الغير
أصلا، فإن اليد هي الاستيلاء والسلطنة الفعلية على الشئ، وكل منهما يكوم مستوليا
على نصف العين، يجوز له النقل وجميع التصرفات التي لا يستلزم منها التصرف في مال
الغير، وعدم جواز التصرف الخارجي لكل منهما في العين ليس لأجل نقصان يده لملكه،
بل لاستلزام التصرف في ملك الغير.
وبالجملة: أن الشريكين تكون لكل منهما يد مستقلة على ماله، دون مال الآخر،
وليس لواحد منهما يد ناقصة على التمام، ولا معنى لذلك، لأن لازمه أن يكون كل منهما
مسلطا على مال صاحبه، وناقص السلطنة على ملك نفسه، وهما باطلان.
هذا بحسب مقام الثبوت والواقع، فإذا كانت يد شخصين على عين - كما لو
رأينا شخصين يتصرفان في أمتعة بيت أو دكة، أو يدبران أمر ضيعة - يحكم العقلاء
لأجل يدهما بأنهما شريكان في الأمتعة والضيعة، ويكون لكل منهما النصف المشاع، وأن
تصرفهما في الجميع يكون بإذن صاحبه.
وبالجملة: تكون اليد كاشفة عن الملكية المشاعة، وقد عرفت أن، يد كل منهما في
الملكية المشاعة تكون مستقلة على ملكه فقط، وليس له اليد على ملك غيره رأسا.
وإن شئت قلت: إن يد كل منهما على ماله استقلالية أصلية، وعلى ملك غيره غير
أصلية تحتاج إلى الإذن، فاستيلاء كل منهما على جميع المال لا يمكن أن يكون بالأصالة
والاستقلال، فمن قال: بأن الاستيلاء الناقص يكون على تمام المال (1). فإن ذهب إلى أن
الاستيلاء الناقص على التمام يكشف عن ملكية النصف المشاع، فلا وجه لكشف
الاستيلاء على التمام ناقصا عن ملكية نصفه تاما.
وإن ذهب إلى أنه يكشف عن الملكية الناقصة للتمام - بمعنى أن كل واحد منهما

1 - حكاه عن البعض في منية الطالب 1: 398.
295

ليس بما لك، بل مجموعهما مالك واحد - فهو كما ترى.
وإن ذهب إلى ما قلنا: من أن ذلك الاستيلاء على التمام إنما يكون استيلاء على
البعض المشاع تاما واستقلالا، ويكشف عن ملكية كذلك، وعلى البعض الآخر بتبع
استيلاء الآخر فلا نزاع. هذا حال المتصرفين اللذين لا نزاع بينهما.
ومنه يعلم: حال مقام التنازع، فإنه إذا كانت عين في يد شخصين، وكل منهما
يدعي أنها له وصاحبه غاصب، يكون كل منهما بالنسبة إلى نصفه المشاع مدعيا،
وبالنسبة إلى نصفه الآخر منكرا، وتحقيق الحال موكول إلى كتاب القضاء.
الجهة السادسة
في إقامة الدعوى على ذي اليد وفروعها
إذا كان في مقابل ذي اليد من يدعي الملكية، ورفع الأمر إلى الحاكم، فلا أثر
لعلم الحاكم بملكيته السابقة للمدعي، ولا لقيام البينة عليها في انقلاب الدعوى،
وجعل المدعي منكرا، والمنكر مدعيا، فإن ثبوت الملكية السابقة لا أثر له، واستصحاب
الملكية لا يعارض اليد، لحكومتها عليه.
وأما إذا اعترف ذو اليد بأنه كان ملكا له سابقا، فتارة تنضم إلى ذلك دعوى
الانتقال منه إليه، وأخرى تنضم إليه دعوى انتقاله إلى ثالث، ومنه إليه، وثالثة: يعترف
- مع اعترافه بأنه كان ملكا له - بأنه لم ينتقل إلى ثالث، لكن مع ذلك ملك له الآن،
ورابعة: لا يضم إلى اعترافه شيئا، فيدعي الملكية، ويعترف بأنه كان ملكا للمدعي
سابقا.
لا إشكال في انقلاب الدعوى في الصورة الأولى إن أنكر ذو اليد دعواه، وأما مع
296

عدم إنكاره، ودعوى عدم علمه، فلا تنقلب الدعوى، فيكون ذو اليد منكرا، لأن مصب
الدعوى هو ملكيته في الحال، لا انتقاله وعدم انتقاله.
ولا نتقلب في الصورة الثانية، أنكر المدعى انتقاله إلى ثالث أو لا، أما مع عدم
الانكار فواضح، وأما مع إنكاره فلأن دعوى الانتقال إلى الثالث وإنكارها لا أثر لهما،
فلا تكون ميزان فصل الخصومة، لأن قيام البينة على انتقاله إلى ثالث، والحلف على
عدمه لا يفصلان الخصومة، إذا لا ربط لتلك الدعوى والإنكار بهما.
وفي الصورة الثالثة تنقلب على الظاهر، لأن دعوى الملكية الحالية، والاعتراف
بكونه للطرف سابقا، وعدم الانتقال منه إلى ثالث يلازم عرفا لدعوى الانتقال، وإن
لا يخلو عن مناقشة.
وفي الصورة الرابعة لا تنقلب، لعدم الدعوى صريحا ولا بملازمة عقلية
أو عرفية.
تنبيه
الاحتجاج في أمر فدك
قد يقال: إن احتجاج أمير المؤمنين والصديقة الطاهرة عليهما السلام على أبي بكر
في أمر فدك، بأن مطالبة البينة من ذي اليد مخالفة لحكم الله ورسوله، مع أن فاطمة
ادعت انتقالها إليها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحلة، يخالف ما ذكر من
انقلاب الدعوى مع دعوى الانتقال (1).
والجواب على ما أفاده بعض المحققين: أن مجرد دعوى الانتقال لا توجب
1 - ذكره في فوائد الأصول 4: 613 و 614 بقوله: ربما يتوهم المنافاة.
297

الانقلاب ما لم يقابلها الانكار، والقوم لم ينكروا على فاطمة سلام الله عليها دعواها، بل
كانوا يقولون: إن فدكا فئ المسلمين، ولا بد من إقامة البينة على الانتقال، مع أنها ذو
اليد، ولم يكن في مقابل يدها إلا دعوى أنها فئ المسلمين، لا إنكار دعواها حتى تنقلب
الدعوى (1).
وأما ما أفاده بعض أعاظم العصر رحمه الله في مقام الجواب: بأن إقرارها لا يوجب
انقلاب الدعوى، وليس إقرارها كإقرار ذي اليد بأن المال كان لمن يرثه المدعي، لأن
انتقال الملك من النبي صلى الله عليه وآله إلى المسلمين على فرض صحة ما نسب إليه
من أنه قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. " (2) إلى آخره ليس كانتقال الملك إلى
الوارث، لأن انتقاله إلى الوارث إنما هو بتبدل المالك وقيامه مقام المورث، وانتقاله منه
إلى المسلمين كانتقال المال من الموصي إلى الموصى له، ومن الواهب إلى المتهب بإعدام
إضافة، وإيجاد إضافة أخرى، لأن تبدل الإضافة قد يكون من طرف المملوك، كعقود
المعاوضات، وقد يكون من طرف المالك كالإرث، فإن التبدل من قبل المالك، مع بقاء
المملوك على ما هو عليه، فيقوم الوارث مقام المورث في الإضافة، وقد يكون بتبدل
نفسها، بمعنى أنه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك، وتحدث إضافة أخرى
لمالك آخر، كما في الهبة والوصية.
وانتقال المال من النبي صلى الله عليه وآله إلى المسلمين - بناء على الخبر
الموضوع - ليس كانتقاله إلى الوارث، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى
له، فإن المال بعد موته يصرف في مصالحهم، ومن المعلوم أن إقرار ذي اليد بأن المال كان
ملكا لمورث المدعي إنما يوجب الانقلاب من حيث إن الإقرار للمورث إقرار للوارث،
لقيامه مقامه في طرف الإضافة.

1 - درر الفوائد: 617.
2 - اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 235.
298

وأما الإقرار للأجنبي فلا يوجب الانقلاب، وإقرار الصديقة سلام الله عليها
يكون سبيله سبيل الإقرار للأجنبي والموصى له - الذي هو أيضا كالأجنبي - لا يوجب
الانقلاب.
نعم: لو كان المسلمون وراثا لرسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك كان الانقلاب
حقا، لكنه خلاف الواقع (1) إنتهى ملخصا.
فيرد عليه أولا: أن كون الإرث كذلك ممنوع، لا دليل عليه نقلا ولا في اعتبارات
العقلاء، أما نقلا فيظهر بالتتبع في الآيات والأخبار الواردة في الإرث، وأما اعتبارا فلأن
المال ينتقل إلى الوارث في اعتباراتهم، لا أنه يقوم مقامه.
مثلا: لو مات أحد عن ابن وبنت وأم وأب وزوجة، فهل تجد من نفسك في
اعتبارات العقلاء أن تقوم الورثة مقامه بمقدار إرثهم، فتقوم الزوجة مقامه في الثمن
أو مقام ثمنه، والابن مقام ثلثيه من البقية أو مقامه في الثلثين، وهكذا؟! وهل هذا إلا
أمر مستنكر عقلا ولدى العقلاء؟! ولذا لا يفهم العقلاء من آيات الإرث وأخباره
إلا الانتقال، ولو دل ظاهر دليل على ما ادعي يجب صرفه، مع أنه لا دليل عليه، وإن
مارت به بعض الألسن مورا.
وثانيا: أن كون الهبة والوصية من قبيل ما ذكره محل منع، ضرورة أن اعتبار الهبة
والوصية التمليكية هو إعطاء المال ونقله، لا إعدام إضافة، وإيجاد إضافة أخرى.
مضافا: إلى أن إيجاد الإضافة بين المال وغيره لابد وأن يتأخر عن إعدامها بينه
وبين نفسه، مع أنه بإعدامها يصير المال أجنبيا عنه وتنقطع سلطنته عنه، فلا يمكن له
إيجاد إضافة بينه وبين غيره.
وتوهم: أن إيجاد الإضافة في عرض إعدامها، أو أن الإيجاد مقدم على الإعدام كما

1 - فوائد الأصول 4: 615 - 617.
299

ترى، ولعمري إن ما ذكره واضح البطلان في أمثال تلك العقود في اعتبارات
العقلاء.
وثالثا: أن مناط انقلاب الدعوى في باب دعوى الانتقال من مورث المدعي ليس
ما ذكره من قيام الورثة مقامه، بل المناط فيه هو كون هذه الدعوى والإنكار ذات أثر
شرعي، ويكون قيام البينة والحلف موجبين لفصل الخصومة، وتكون حال هذه الدعوى
بالنسبة إلى الدعوى الأولى كالأصل السببي والمسببي في وجه.
فإذا ادعى ذو اليد: أن المال انتقل إليه من مورث المدعي، وأنكره المدعي، فإن
أقام البينة على ذلك فهو، وإن حلف المنكر على أنه لم ينتقل من مورثه إليه يؤخذ المال
ويرد إليه، لكونه وارثا له، وينتقل ماله منه إليه، فيثبت الحلف كونه مالا لمورثه، وأدلة
الإرث انتقاله إليه.
وهذا المناط موجود في الوصية، فإذا أوصى أحد بما له لزيد، وادعى زيد أن المال
الذي في يد عمرو له، وادعى عمرو انتقاله من الموصي إليه، فتنقلب الدعوى، لعين
ما ذكرنا.
وكذا الحال فيما نحن فيه بناء على الخبر الموضوع، فإن دعوى الصديقة
عليها السلام، انتقال فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله إليها لو قوبلت بإنكار
المسلمين أو ولي أمرهم على زعمهم صارت الدعوى منقلبة، ولم تكن هذه الدعوى
كدعوى الانتقال من الأجنبي، لأن الحلف على عدم الانتقال من الأجنبي إليها لا أثر
له، بخلاف ما نحن فيه، فإنه لو ثبت عدم الانتقال منه إليها صار ملكا للمسلمين،
فالحق في الجواب ما ذكرنا أولا: من عدم تقابل دعواها بإنكار، كما يظهر من التواريخ
الناقلة للقضية، فراجع (1).

1 - انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 214.
300

الجهة السابعة
في فروع العلم بسابقة اليد
إذا علم حال اليد، وأنها حدثت على المال على وجه الغصب، أو الأمانة،
أو العارية، أو نحو ذلك، فتارة: لا يكون في مقابل ذي اليد مدع، وتارة: يكون في مقابله
ذلك ولم يرفع الأمر إلى الحاكم، وثالثة: رفع الأمر إليه.
أما في الصورة الأولى: فتارة يدعي ذو اليد الملكية والانتقال من مالكه إليه،
وتارة لا يدعي، فإن ادعاها فلا يبعد أن يترتب على ما في يده آثار الملكية في غير
الغاصب، وأما فيه فالظاهر عدمه.
وهل ترتيب الآثار في غيره من جهة أنه مدع بلا معارض، أو من جهة قبول
دعوى ذي اليد، أو من جهة اليد المقارنة للدعوى؟
الظاهر أنه من جهة إحدى الأخيرتين، ولهذا لو عارضه غير المالك الأول يعد
مدعيا، وتطالب منه البينة، وأما مع عدم دعوى الملكية أو عمل منه يظهر دعواها،
فلا يحكم بالملكية، كل ذلك من جهة بناء العقلاء وسيرتهم.
وقد يقال: بسقوط اليد فيما علم حالها، فإن اليد أمارة إذا كانت مجهولة الحال،
غير معنونة بعنوان الإجازة مثلا، واستصحاب حالها يوجب رفع موضوعها، وتنقيح
عنوانها، فتسقط عن الحجية برفع الموضوع (1).
وفيه: أن تحكيم الاستصحاب على بعض الأدلة بتنقيح ورفع إنما هو في الأدلة
اللفظية، لا في مثل بناء العقلاء، فإنه إن كان غير ثابت أو غير محقق في مورد مسبوقية
اليد بالإجارة أو العارية فمعها ساقط عن الحجية، كان استصحاب شرعي أولا، أو ثابت

1 - فوائد الأصول 4: 604 و 605.
301

معها، فلا تأثير للاستصحاب، إلا أن يدعى رادعيته عن بنائهم، وهو أيضا غير صالح
لذلك، كما قلنا في نظائره (1).
وتعليق بنائهم على عدم قيام حجة شرعية كما ترى، وبناؤهم وإن كان في ظرف
الشك، لكن الاستصحاب لا ينقح الموضوع عند العقلاء بما هم عقلاء، فما أفيد في المقام
ساقط رأسا.
وأما في الصورة الثانية: فإن كان المعارض غير المالك، فلا تسقط يده عن
الاعتبار في غير الغاضب، وإن كان المالك يسقط اعتبارها لدى العقلاء، لعدم بنائهم على
ترتيب آثارها على ما في يده.
وأما في الصورة الثالثة: أي صورة رفع الأمر إلى الحاكم، ومقام تشخيص
المدعي من المنكر فإن كان في مقابله المالك الأول تسقط يده عن الاعتبار، ويقدم
استصحاب حال اليد على قاعدة اليد، لأنه أصل موضوعي حاكم عليها، سواء كان حال
اليد معلوما عند الحاكم وجدانا، أو بالبينة، أو بإقرار ذي اليد.
الجهة الثامنة
في كون ما في اليد وقفا سابقا
إذا كان المال وقفا سابقا، فتارة يعلم حال اليد، وأنها حدثت على الملك في حال
وقفيته، واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف وشرائه من وليه، وتارة لا يعلم
سابقتها، واحتمل حدوث اليد بعد طرو مسوغ البيع.
وعلى أي حال: تسقط اليد عن الاعتبار سواء دفع الأمر إلى الحاكم أم لا،

1 - انظر صفحة 373 و 381 - 382 من هذا الكتاب، أنوار الهداية 1: 279.
302

لانصراف أدلة اليد عن مثله، وعدم بناء العقلاء على ترتيب آثار الملكية في مثله، ولعل
سره أن اعتبار اليد عندهم من أجل الغلبة النوعية، وطرو مسوغ بيع الوقف نادر.
وإذا رفع الأمر إلى الحاكم فإما أن يكون في مقابله أرباب الوقف، أو يكون
غيرهم.
فعلى الأول: يكون ذو اليد مدعيا يطالب بالبينة، وينتزع منه الملك، لأن
اعتبار اليد إما يكون معلقا على إحراز قابلية الملك للنقل والانتقال، وإما أن يكون
معلقا على عدم إحراز عدم القابلية، فعلى الأول تسقط اليد عن الاعتبار ولو لم يكن في
مقابلها الاستصحاب، وعلى الثاني يقدم استصحاب الوقفية على اليد، لإحراز عدم
القابلية به.
وعلى أي حال: يكون ذو اليد مدعيا، وأرباب الوقف منكرين.
وعلى الثاني: أي إذا كان في مقابله غير أرباب الوقف، وادعى كل من ذي اليد
والمدعي الملكية، فلا يبعد أن يكون مثل الدعوى في ملك لا تكون يد عليه، لأن اليد
الغير المعتبرة كلا يد، وللمسألة مقام آخر.
303

المبحث الثاني
حال الاستصحاب مع قاعدة التجاوز والفراغ
ولا إشكال في تقديمها عليه، وإنما الكلام في وجه التقدم، وهو يظهر بعد ذكر
مدركها، ولما كانت القاعدة مما تعم بها البلوى، فلا بأس بصرف عنان القلم إلى تفصيل
مهمات مباحثها، ويتضح في خلالها ما هو المقصود بالأصالة في المقام، ويتم ذلك في
ضمن أمور:
305

الأمر الأول
في ذكر الأخبار التي تستفاد منها القاعدة الكلية
وهي كثيرة:
منها: الموثقة المنقولة في خلل الصلاة، عن محمد بن الحسن، بإسناده عن
الحسين ابن سعيد، عن صفوان، عن ابن بكير (1) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر
عليه السلام قال: (كل ما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو) (2).
ومنها: الصحيحة المنقولة فيه، عن محمد بن الحسن، بإسناده عن أحمد بن
محمد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله،
عن زرارة، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في الأذان وقد دخل في
الإقامة؟
قال: (يمضي).
قلت: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟
قال: (يمضي).
قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ؟

1 - ابن بكير: هو عبد الله بن بكير، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، ومن الفقهاء الأعلام والرؤساء
المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم، روى عن أبي
بصير، وزرارة، وعبيد بن زرارة، وروى عنه محمد بن أبي عمير، وجعفر بن بشير، والحسن بن علي بن فضال،
وغيرهم. انظر الرد على أهل العدد والرؤية: 25 و 37، رجال الطوسي: 224 / 27، معجم رجال الحديث 10:
122 / 6734.
2 - التهذيب 2: 344 / 1426، الوسائل 5: 336 / 3 - باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3 - أحمد بن محمد بن أبي نصر: البزنطي أبو جعفر من أصحاب الأئمة الأطهار الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، وكان
عظيم المنزلة عندهم، روى عن أبان بن عثمان، والحسن بن علي بن أبي حمزة، وهشام بن سالم، وروى عنه أحمد بن محمد
ابن خالد البرقي، ومحمد بن عيسى، والهيثم بن أبي مسروق النهدي وغيرهم. انظر الفهرست للطوسي: 19 / 53، رجال
النجاشي: 75 / 180، معجم رجال الحديث 2: 231 / 800.
306

قال: (يمضي).
قلت: شك في القراءة وقد ركع؟
قال: (يمضي).
قلت: شك في الركوع وقد سجد؟
قال: (يمضي على صلاته) ثم قال: (يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت في
غيره فشككت فليس بشئ) وفي نسخة " الوافي " (فشكك ليس بشئ) (1).
وقريب منها: صحيحة إسماعيل (2) المنقولة في أبواب الركوع، عن محمد بن
الحسن، بإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن
إسماعيل بن جابر قال قال أبو جعفر عليه السلام (3): (إن شك في الركوع بعد ما سجد
فليمض، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض، كل شئ شك فيه مما قد جاوزه
ودخل في غيره فليمض عليه) (4).
ولا ينبغي الإشكال في استفادة الكلية منهما بالنسبة إلى جميع الأبواب، ولا وجه
لرفع اليد عن ظهور الكلية في ذيلهما بمجرد كون صدرهما مرتبطا بباب الصلاة (5)،
ولا يقصر ظهورهما في إعطاء الكلية عن صحيحة زرارة في باب الاستصحاب، بل

1 - التهذيب 2: 352 / 1459، الوسائل 5: 336 / 1 - باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الوافي 2:
141.
2 - إسماعيل بن جابر: الجعفي من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، روى عن أبي بصير، ويونس بن
ظبيان، وأبي عبيدة الحذاء وغيرهم، وروى عنه صفوان بن يحيى، وعبد الله بن سنان، والحسين بن عثمان وغيرهم. انظر:
رجال النجاشي: 32 / 71، الفهرست للطوسي: 15 / 49، معجم رجال الحديث 3: 115 / 1302.
3 - قد روى في الوسائل صحيحة إسماعيل هذه عن أبي جعفر عليه السلام في هذا الباب، وقد رواها عن أبي عبد الله
عليه السلام في باب نسيان السجدة، والسهو في السجود (أ)، ورواها في الوافي عن أبي عبد الله عليه السلام (ب)،
والظاهر أن الرواية عن أبي جعفر سهو من الناسخ أو من قلمه [منه قدس سره].
أ - الوسائل 4: 968 / 1 - باب 14 و 971 / 4 - باب 15 من أبواب السجود.
ب - الوافي 2: 142.
4 - التهذيب 2: 153 / 602، الاستبصار 1: 358 / 1359، الوسائل 4: 937 / 4 - باب 13 من أبواب الركوع.
5 - انظر حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 109.
307

دلالتهما أقوى منها.
أما الثانية فواضح.
وأما الأولى فلأن قوله: (يا زرارة إذا خرجت من شئ ودخلت في غيره
فشكك ليس بشئ) بعد أسئلة زرارة التي تحيط بجميع أجزاء الصلاة تقريبا
كالنص في العموم، وأنه قانون كلي لجميع الأبواب، فرفع اليد عن إطلاق قوله:
(من شئ) لا وجه له بمجرد المسبوقية بباب الصلاة، وهل هذا إلا مثل أن يقال:
إن (لا تنقض اليقين بالشك) مخصوص بباب الوضوء، لكونه مسبوقا بالسؤال
منه؟!
والإنصاف: أن التفرقة بينهما مما لا وجه لها، مع أن صحيحة ابن جابر أعطت
الكلية بلفظ العموم، والتخصيص بباب دون باب بلا مخصص.
ومنها: موثقة ابن أبي يعفور المنقولة في أبواب الوضوء، عن محمد بن الحسن، عن
المفيد (1) عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله (2) عن أحمد بن محمد بن
عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو (3) عن عبد الله بن أبي

1 - المفيد: هو محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن نعمان بن سعيد بن جبير، أبو عبد الله رئيس الطائفة المحقة،
وعلم من أعلام الأمة، وهو أعرف من أن يعرف، وفضله أشهر من أن يوصف، دافع بقلمه ولسانه عن حريم أهل
البيت عليهم السلام، وكتبه ورسائله معروفة متداولة، ولد رحمه الله سنة 336 في عكبرى وتوفي سنة 413 ه‍. انظر
رجال النجاشي: 399 / 1067، الفهرست للطوسي: 157 / 696، تنقيح المقال 3: 180 / 1336.
2 - سعد بن عبد الله: أبو القاسم الأشعري، من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها،
سمع من حديث العامة شيئا كثيرا، توفي سنة إحدى وثلاثمائة، وقيل سنة مائتين وتسع وتسعين، روى عن أيوب بن
نوح، وجميل بن صالح، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب، وروى عنه علي بن الحسين بن بابويه، ومحمد بن الحسن بن
الوليد، ومحمد بن الوليد، ومحمد بن قولويه. انظر رجال النجاشي: 177 / 467، رجال الطوسي: 75 / 306، معجم
رجال الحديث 8: 74 / 5048.
3 - عبد الكريم بن عمرو: الخثعمي لقبه كرام كان من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، وأضاف الكشي
صحبته للإمام الرضا عليه السلام، وهو من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام الذين لا يطعن
عليهم، ولا طريق لذم واحد منهم، روى عن أبي بصير، وأبي بكر الحضرمي، ومحمد بن مسلم وغيرهم، وروى عنه
أحمد بن محمد بن أبي نصر، وجعفر بن بشير، ومحمد بن سنان، انظر الفهرست للطوسي: 109 / 469، تنقيح المقال 2:
160 / 6685، معجم رجال الحديث 10: 65 / 6618.
308

يعفور (1) عن أبي عبد الله قال: (إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره
فليس شكك بشئ، إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) (2) حيث حصر الشك المعتبر
في الشك في الشئ حين الاشتغال به، وأن الشك إذا لم يكن حادثا حين الاشتغال ليس
بشئ، وهذه في إعطاء الكلية كصحيحة زرارة المتقدمة، وكصحيحته في باب
الاستصحاب، وسيأتي التعرض لحال الوضوء وفقه الحديث.
ومنها: موثقة بكير بن أعين المنقولة في هذا الباب: عن محمد بن الحسن، بإسناده
عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان (3) عن بكير بن أعين (4) قال قلت له:
الرجل يشك بعدما يتوضأ؟
قال: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) (5).
دلت على أن الميزان لعدم الاعتناء بالشك هو الأذكرية حين الوضوء، ومعلوم أن
العرف يلغي خصوصية الوضوء، إذ لا دخالة له في الأذكرية، فيفهم منه أن الحيثية التي
هي تامة الدخالة وتمام الموضوع للحكم هي نفس الأذكرية حين العمل، وأن كل عامل
حين اشتغاله بعمله أذكر منه بعد التجاوز منه، حيث يكون تمام همه إتيان العمل على

1 - عبد الله بن أبي يعفور: أبو محمد كان من حواري الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، عظيم المنزلة عندهم، يقرئ
القرآن في مسجد الكوفة، وقد توفي في حياة الإمام الصادق عليه السلام سنة الطاعون، روى عن أخيه عبد الكريم، وأبي
الصامت، وروى عنه أبان بن عثمان، وإسحاق بن عمار، والحسين بن المختار وغيرهم. انظر تنقيح المقال 2:
165 / 6730، معجم رجال الحديث 10: 96 / 6680.
2 - التهذيب 1: 101 / 262، مستطرفات السرائر: 25 / 3، الوسائل 1: 330 / 2 - باب 42 من أبواب الوضوء.
3 - أبان بن عثمان: الأحمر البجلي، أبو عبد الله، من أصحاب الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام كوفي، كان يسكنها تارة
والبصرة تارة، وقد أخذ عن أهلها. روى عنه إسحاق بن عمار، والحسن الصيقل، وعبيد بن زرارة وخلائق، وروى عنه
محمد بن أبي عمير، ويونس بن عبد الرحمن، وعلي بن الحكم، وطائفة. انظر معجم رجال الحديث 1: 157 / 37، رجال
النجاشي: 813، رجال الطوسي: 152 / 191.
4 - بكير بن أعين: أبو عبد الله، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، ترحم عليه الصادق عليه السلام في
زمان حياته، وقال عنه بعد موته: (أما والله لقد أنزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)، روى عنهما
عليهما السلام، وروى عنه عمر بن أذينة، وجميل بن دراج، وزرارة، وحريز وغيرهم. انظر رجال الكشي 2: 419،
معجم رجال الحديث 3: 359 / 1870، تنقيح المقال 1: 180 / 1381.
5 - التهذيب 1: 101 / 265، الوسائل 1: 331 / 7 - باب 42 من أبواب الوضوء.
309

ما هو عليه.
ومنها: رواية محمد بن مسلم المنقولة في أبواب الخلل: عن محمد بن علي
بن الحسين، بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:
(إذا شك الرجل بعد ما صلى، فلم يدر ثلاثا صلى أم أربعا، وكان يقينه حين
انصرف أنه كان قد أتم لم يعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد
ذلك) (1).
والمراد بحين الانصراف حين السلام، لأن السلام هو الانصراف في لسان
الروايات، ويستفاد منها الضابط الكلي وسر التشريع، ومعلوم أنه حين اشتغاله بكل
عمل أقرب إلى الحق منه حين يشك، تأمل.
ومنها: صحيحة زرارة والفضيل المنقولة في أبواب المواقيت: عن محمد بن
يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن حريز، عن
زرارة والفضيل (2) عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: (متى استيقنت
أو شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها، أو في وقت فوتها أنك لم تصلها صليتها،
وإن شككت بعدما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شك حتى
تستيقن..) (3) الحديث.
فإنها تؤيد الكلية المستفادة من الروايات لو قلنا بأن الشك بعد الوقت من

1 - الفقيه 1: 231 / 1027، مستطرفات السرائر: 110 / 67، الوسائل 5: 343 / 3 - باب 27 من أبواب الخلل الواقع في
الصلاة.
2 - الفضيل: ابن يسار النهدي أبو القاسم، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، وممن أجمع الأصحاب
على تصديقه والإقرار بالفقه له، وكان الصادق عليه السلام إذا رآه يقول: (بشر المخبتين، من أحب أن ينظر رجلا من
أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، روى عن زكريا النقاض، وعبد الواحد بن المختار الأنصاري، وروى عنه عمر بن أذينة،
وجميل بن دراج، وعبد الكريم بن عمرو الخثعمي. انظر رجال العلامة الحلي: 132 / 1، تنقيح المقال 2: 14 / 9521،
معجم رجال الحديث 13: 335 / 9436.
3 - الكافي 3: 294 / 10، الوسائل 3: 205 / 1 - باب 60 من أبواب مواقيت الصلاة.
310

مصاديق قاعدة التجاوز، وليس قاعدة برأسها، كما لا يبعد، فإن المستفاد منها أن سر
عدم الاعتناء هو دخول الحائل والخروج عن المحل المقرر الشرعي، لكن فيها تأمل
واشكال، وإن لم تخل من تأييد وإشعار.
وهاهنا روايات اخر تستفاد منها الكلية في باب الصلاة والطهور (1) أو الصلاة
فقط (2)، وتدل على الكلية في جميع الأبواب مرسلة الصدوق في " الهداية " قال قال
الصادق عليه السلام: (إنك إن شككت أن لم تؤذن وقد أقمت فامض، وإن شككت في
الإقامة بعد ما كبرت فامض، وإن شككت في القراءة بعد ما ركعت فامض، وإن
شككت في الركوع بعدما سجدت فامض، وكل شئ شككت فيه وقد دخلت في حالة
أخرى فامض، ولا تلتفت إلى الشك إلا أن تستيقن) (3).
وإرسال مثل الصدوق بنحو الجزم، وأنه قال الصادق عليه السلام كذا (4) يسلك
الرواية عندي في سلك الموثقات، فإنه بمنزلة توثيق رواتها.
نعم: يبقى احتمال كون هذه الرواية المرسلة عين صحيحة إسماعيل وزرارة
نقلهما بالمعنى، أو كونها رواية " الفقه الرضوي " كما لا يبعد، لكن رفع اليد عن ظهورها
الخاص بها - لو كان كما سيأتي - لا ينبغي بمجرد الاحتمال.
وقريب منها عبارة " الفقه الرضوي " (5) وفي " المقنع ": (ومتى شككت في شئ
وأنت في حال أخرى فامض، ولا تلتفت إلى الشك إلا أن تستيقن) (6).
وكيف كان: لا إشكال في استفادة الكلية من الروايات.

1 - التهذيب 1: 364 / 1104، الوسائل 1: 331 / 6 - باب 42 من أبواب الوضوء.
2 - التهذيب 2: 352 / 1460، الوسائل 5: 342 / 2 - باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
3 - الهداية للصدوق: 32.
4 - انظر مستدرك الوسائل 1: 483 / 4 - باب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5 - فقه الرضا عليه السلام: 116، مستدرك الوسائل 1: 483 / 2 - باب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
6 - المقنع للصدوق: 7، مستدرك الوسائل 1: 50 / 2 - باب 37 من أبواب الوضوء.
311

الأمر الثاني
أن المراد من الشك في الشئ هو الشك في الوجود
هل المراد من الشك في الشئ في قوله في موثقة ابن مسلم: (كل ما شككت فيه)
وفي صحيحتي زرارة وإسماعيل: (شك في الأذان أو في القراءة) هو الشك في الوجود،
والمراد من المضي مضي محله، ومن الخروج هو الخروج عن محله المقرر؟
أو المراد الشك في صحة الشئ، ومن المضي مضي نفسه، ومن الخروج من الشئ
الخروج من نفسه؟
أو المراد من الشك فيه الشك في الشئ من جهة الشك في تحقق جزء أو شرط
معتبر فيه، ومن المضي والخروج ما ذكر آنفا؟ وجوه:
ظاهر صدر الروايات، أي قوله: (شككت فيه) أو (رجل شك في الأذان)
هو الشك في الوجود، وظاهر ذيلها، أي قوله: (قد مضى فأمضه) في الموثقة، وقوله: (إذا
خرجت من شئ) وقوله: (جاوزه) في الصحيحتين هو الخروج والتجاوز عن نفسه.
ولا يبعد (1) رفع اليد عن ظهور ذيلها بظهور صدرها، فيكون المراد منها المضي
والخروج عن المحل المقرر لها، فيقال: إن الظاهر من ذيل صحيحة زرارة مثلا وكذا
صحيحة إسماعيل - بعد ظهور صدرها في الشك في الوجود - هو إعطاء الكبرى الكلية
التي تكون تلك الأمثلة مصاديقها، فلا يفهم العرف بعد ذلك إلا المضي والخروج عن
المحل.

1 - بل هو متعين بعدما يأتي من عدم تعقل جعل قاعدة الصحة في الأمر الثالث، لأن السؤال إما عن الشك في وجود
المذكورات، كما هو الظاهر، أو الأعم منه ومن الشك في الشئ باعتبار الشك فيما يعتبر فيه، أو محتمل للأمرين.
ولا يحتمل اختصاص السؤال بالثاني لبعده جدا، فحينئذ لا محيص عن رفع اليد عن ظاهر الذيل، بحمله إما على
الخروج عن المحل أو الأعم، بناء على أن السؤال أعم منهما، أو محتمل للأمرين، لترك الاستفصال في الجواب [منه
قدس سره].
312

وهذا وإن لا يخلو عن مناقشة، لكن ربما يشهد له بعض الروايات التي ورد فيها
الشك في الشئ بمعنى الشك في الوجود (1) أو حمل الإمام عليه السلام كلام السائل من
الشك في الشئ على الشك في الوجود، فيظهر منه أن الشك في الشئ هو الشك في
الوجود بحسب المتفاهم العرفي، ويضعف الاحتمال الآخر، فيقدم ظهور الصدر على
ظهور الذيل، كرواية الصدوق المتقدمة حيث قال: قال الصادق عليه السلام: (إنك إن
شككت أن لم تؤذن وقد أقمت فامض).
وهذا صريح في الشك في الوجود، فيكون المراد من سائر الفقرات هو الشك في
الوجود، فترفع الاجمال على فرضه عن صحيحتي زرارة وإسماعيل اللتين يكون التعبير
فيهما مشابها لما في المرسلة من الفقرات اللاحقة لهذه الفقرة الصريحة في الشك في
الوجود.
وقد عرفت: أن إرسال الصدوق في مثل الرواية ونسبة القول إلى الإمام
عليه السلام جزما لا يقصر عن توثيق أمثال الكشي (2) والنجاشي (3) والشيخ، فلا يجوز
رفع اليد عن مثل هذا الظهور، باحتمال أن تكون المرسلة عين الصحيحتين نقلت
بالمعنى، أو عين عبارة " الفقه الرضوي " تقريبا، وعلى فرض صحة الاحتمال يكون فهم
الصدوق مؤيدا لما ادعيناه، ونعم التأييد.

1 - انظر الكافي 3: 354 / 1، الوسائل 5: 326 / 2 - باب 14 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2 - الكشي: هو أبو عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، ثقة، بصير بالأخبار وبالرجال، حسن الاعتقاد، مستقيم
المذهب، صحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه، له كتاب معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين، الذي عمد إليه شيخ
الطائفة قدس سره فلخصه وسماه باختيار معرفة الرجال، توفي سنة 369 ه‍. انظر تنقيح المقال 3: 165 / 11185،
معجم رجال الحديث 17: 63 / 11432، رجال النجاشي: 372 / 1018.
3 - النجاشي: هو الشيخ الجليل أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس الأسدي الكوفي، أحد المشايخ الثقات، والعدول
الأثبات، من أعظم أركان الجرح والتعديل، مسلم عند الكل، غير مخدوش فيه وفي كتابه الرجال بوجه من الوجوه، وقد
وثقه وأثنى عليه كل من ترجم له من أرباب المعاجم ومصنفي التراجم، ولد في شهر صفر سنة 372 ه‍ وتوفي بمطر
آباد في جمادى الأولى سنة 450 ه‍. انظر مقابس الأنوار: 5 - 6، لؤلؤة البحرين: 404 / 127، رجال العلامة الحلي:
20 / 53.
313

ويؤيده أيضا ذيل عبارة " الفقه الرضوي "، فإنه بعد بيان حكم الشك في الأذان
والإقامة وغيرهما على نحو سائر الروايات قال: (ولا تلتفت إلى الشك إلا أن تستيقن،
فإنك إذا استيقنت أنك تركت الأذان..).
وهذه الفقرة تجعل صدرها كالنص في أن المراد من الشك في الأذان وغيره
هو الشك في الوجود.
وتؤيده أيضا: رواية محمد بن منصور (1) المنقولة في أبواب السجود قال: سألته
عن الذي ينسى السجدة الثانية من الركعة الثانية أو شك فيها؟
فقال: (إذا خفت أن لا تكون وضعت وجهك إلا مرة واحدة، فإذا سلمت
سجدت سجدة واحدة، وتضع وجهك مرة واحدة، وليس عليك سهو) (2).
حيث فهم المسؤول من قوله: " أو شك فيها ". الشك في أصل السجدة، فأجاب
بما أجاب.
وتؤيده أيضا: الروايات الواردة في الشكوك كقوله: سألت أبا جعفر عليه السلام
عن رجل شك في الركعة الأولى؟
قال: (ليستأنف) (3).
فإنه عليه السلام فهم من قوله الشك في وجود الركعة، إلى غير ذلك من الروايات
التي يطلع عليها المتتبع، فإن مجموع ذلك مما يشرف بالفقيه على القطع بأن المراد من
الشك في الأذان - بعد الدخول في الإقامة وغيرها - هو الشك في الوجود، فيكون المراد من
الخروج من الشئ الخروج من محله المقرر له، وسيأتي في الأمر التالي ما يشهد لما ذكرنا.

1 - محمد بن منصور: ابن يونس بزرج، كوفي، ثقة، عده الشيخ في رجاله ممن لم يرو عنهم عليهم السلام. انظر معجم رجال
الحديث 17: 276 / 11833، رجال الطوسي: 513 / 120، الفهرست للطوسي: 151 / 650.
2 - التهذيب 2: 155 / 607، الاستبصار 1: 360 / 1365، الوسائل 4: 970 / 6 - باب 14 من أبواب السجود.
3 - التهذيب 2: 176 / 700، الاستبصار 1: 363 / 1377، الوسائل 5: 301 / 11 - باب 1 من أبواب الخلل الواقع في
الصلاة.
314

الأمر الثالث
أن المستفاد من الروايات قاعدة واحدة وهي التجاوز
هل المستفاد من أدلة الباب أن الشارع أسس قاعدتين مستقلتين، كل واحدة
منهما بملاك خاص بها:
إحداهما: قاعدة الشك بعد تجاوز المحل، أي الشك في وجود الشئ بعد التجاوز
عن محله المقرر له.
وثانيتهما: قاعدة أصالة الصحة بعد الفراغ من العمل (1)، أم لا يستفاد منها
إلا قاعدة واحدة (2)؟
التحقيق أن يقال: إنه قد يراد من القاعدة الثانية أن المجعول هو صحة العمل
بعد الفراغ منه، أو وجوب البناء على الصحة بعده، إذا شك في صحته وفساده من جهة
الشك في الإخلال بشئ معتبر فيه (3).
فيرد عليه أولا: أن الصحة والفساد أمران منتزعان من عمل المكلف إذا طابق
المأمور به، وليستا من الأحكام الوضعية الجعلية التي يمكن أن تنالهما يد الجعل،
فلا يمكن أن يجعل الشارع الصحة للعمل.
نعم: له أن يرفع اليد عن الجزء أو الشرط المشكوك فيهما، أو يجعل أمارة على
تحققهما، أو أصلا على وجوب البناء على وجودهما لدى الشك، ومع إعمال التعبد بأحد
الوجوه تنتزع الصحة من فعل المكلف المنطبق عليه العناوين عقلا، ولا يعقل عدم

1 - حاشية الآخوند على الرسائل: 237، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 108، نهاية الأفكار 4: 43 - 45 - القسم
الثاني.
2 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 6، درر الفوائد: 591، فوائد الأصول 4: 623 - 626، نهاية الدراية 3:
299.
3 - انظر نهاية الأفكار 4: 39 - القسم الثاني.
315

الانتزاع منه، ومع عدم التصرف كذلك لا يعقل انتزاعها منه، فجعل الصحة مما
لا معنى له.
ومن ذلك يعلم: أن إيجاب البناء على الصحة ابتداء أيضا مما لا يعقل إلا بنحو
من أنحاء التصرف في منشأ الانتزاع، بل ولا يعقل أن تكون أصالة الصحة أمارة عقلائية
أيضا، لأن الأمارة على أمر انتزاعي لا تعقل إلا بقيام الأمارة على منشئه، ومع قيام
الأمارة عليه لا يحتاج إلى قيام أمارة على المنتزع، بل لا يعقل، فأصالة الصحة - بمعنى
جعل الصحة للشئ المشكوك فيه، أو البناء على الصحة ابتداء، أو إقامة الأمارة عليها
كذلك - مما لا تعقل.
وثانيا: أن قاعدة أصالة الصحة دائما محكومة بقاعدة التجاوز عن المحل، لأن
الشك في الصحة دائما مسبب عن الشك في الإخلال بشئ مما يعتبر في المأمور به، وبعد
الفراغ من العمل كما يكون موردا لقاعدة الفراغ، يكون موردا لقاعدة التجاوز أيضا،
والقاعدة الثانية ترفع الشك في الصحة، وترفع موضوع القاعدة الأولى، فلا يبقى مجال
لجريانها.
وإن شئت قلت: إذا جرت قاعدة التجاوز يحكم العقل بصحة العمل، وتنتزع
منه الصحة، لكونها من اللوازم الأعم من الحكم الظاهري، فتغني عن قاعدة أصالة
الصحة، وإجراء أصالة الصحة لا يغني عن الثانية إلا بالأصل المثبت، ولو منعت
الحكومة لما ذكرنا في الأصل السببي والمسببي من ميزان الحكومة (1)، فلا أقل من أن
جعل القاعدة الأولى، أي قاعدة الفراغ يكون لغوا مع جعل قاعدة التجاوز، لأن قاعدة
الفراغ أخص منها مطلقا.
لا يقال: بين القاعدتين عموم من وجه موردا، لتصادقهما بعد الفراغ من عمل

1 - انظر صفحة 234 - 238.
316

مركب شك في وجود بعض أجزائه، مما تجاوز محله، كما عدا الجزء الأخير، وتفترق
قاعدة التجاوز عن الفراغ فيما إذا شك في وجود جزء بعد تجاوز محله قبل الفراغ من
العمل، وتفترق هي عنها فيما لو شك بعد الفراغ عن العمل في كون المأتي به واجدا
للوصف المعتبر في صحته، أو شك في الجزء الأخير الغير المقوم للصدق العرفي، حتى
يكون منافيا لتحقق الفراغ من العمل، فإنه ربما تجري بالنسبة إليه أصالة الصحة دون
الشك بعد تجاوز المحل (1).
فإنه يقال: بل قاعدة التجاوز أعم مطلقا، وما ذكر من موردي الافتراق ممنوع:
أما الشك في كون المأتي به واجدا للوصف أو الشرط، فلا وجه لإخراجه عن
قاعدة التجاوز، لأن الوصف أو الشرط شئ شك في وجوده بعد تجاوز محله، فيشمله
قوله: (كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه) (2) فإذا شك في
تحقق الجهر بعد الدخول في الركوع يكون منطبقا للقاعدة المجعولة، فلا وجه لقصرها
على الشك في الأجزاء.
وأما الشك في الجزء الأخير الغير المقوم للصدق العرفي:
فإن كان المراد منه صدق الفراغ عرفا فممنوع، لأن السلام مثلا إذا جعل آخر
الصلاة فلا يحكم العرف بأن المصلي فارغ عن الصلاة قبل السلام، ومع الشك فيه يكون
الفراغ مشكوكا فيه، فلا تنطبق عليه قاعدة الفراغ.
وإن كان المراد منه صدق الصلاة على الناقص بجزء - كما لو نسي السلام ودخل
في حائل - فهو مسلم، لكن لا يلزم منه صدق الفراغ من صلاته قبل السلام، فإن
المصلي قبل السلام داخل فيها غير خارج عنها، لكن لو تركها وذهب في شغله يصدق
على ما فعل أنه صلاة ناقصة بجزء.

1 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 108 سطر 22.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 307.
317

وبالجملة: لو شك في الجزء الأخير من المركب مع بقاء محله لا يكون موردا
لقاعدة الفراغ، للشك في حصول الفراغ، ولا لقاعدة التجاوز، لبقاء محله، ومع مضي
محله يكون موردا لقاعدة التجاوز، كما يكون موردا لقاعدة الفراغ.
ولو قيل: إن الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز لا الفراغ، فتفترق قاعدة
التجاوز عن الفراغ فيما إذا فرغ من العمل، وشك في وصف جزئه الأخير أو شرطه،
أو شك في شرط المركب قبل الدخول في غيره، فتشمله قاعدة الفراغ لا التجاوز (1).
يقال له: إن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز دون الفراغ مما لا وجه له،
فإن وجه اعتباره في قاعدة التجاوز إنما هو ظهور قوله في مثل صحيحتي زرارة
وإسماعيل بن جابر: (ودخلت في غيره) في ذلك، وهذا التعبير بعينه، بل أصرح وآكد منه
موجود في صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام التي تكون مستند قاعدة الفراغ،
وكذا في موثقة ابن أبي يعفور المنقولتين في أبواب الوضوء.
ففي أولاهما: (فإذا قمت من الوضوء، وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى
في الصلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك وضوءه لا
شئ عليك فيه) (2).
وفي ثانيتهما: (إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس
شكك بشئ، إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) (3).
بناء على رجوع ضمير (غيره) إلى الوضوء، ولا وجه لفهم القيدية في إحدى
الطائفتين دون الأخرى (4)، وسيأتي التعرض لذلك إن شاء الله (5).

1 - انظر نهاية الأفكار 4: 45 - القسم الثاني.
2 - الكافي 3: 33 / 2، التهذيب 1: 100 / 261، الوسائل 1: 330 / 1 - باب 42 من أبواب الوضوء.
3 - تقدم تخريجه في صفحة 309.
4 - نهاية الأفكار 4: 44 - القسم الثاني.
5 - يأتي في صفحة 329 - 334.
318

لا يقال: إن قاعدة الفراغ عامة سيالة في جميع أبواب الفقه، دون قاعدة التجاوز،
فإنها مختصة بباب الصلاة (1).
فإنه يقال: قصر قاعدة التجاوز بباب الصلاة ممنوع، لعموم الدليل وعدم
المخصص:
أما عمومه فلما عرفت.
وأما عدم المخصص اللفظي فظاهر.
وأما عدم المخصص اللبي من إجماع أو شهرة، فلعدم ثبوتهما، فما ادعاه بعض
المحققين من اختصاصها بباب الصلاة لم يظهر له وجه.
ولقد أجاد في " الجوهر " حيث قال: ربما احتمل اختصاص مورد هذه الأخبار في
الصلاة، لاقتضاء سياقها ذلك، وهو ضعيف جدا، بل هي قاعدة محكمة في الصلاة
وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما.
نعم: هي مخصوصة بالوضوء خاصة، لما سمعته من أدلتها فمن هنا وجب
الاقتصار عليه، ولا يتعدى منه في هذا الحكم للغسل مثلا، بل هو باق على القاعدة من
عدم الالتفات إلى الشك في شئ من أجزائه مع الدخول في غيره من الأجزاء، نعم
لا يبعد إلحاق التيمم به (2) انتهى.
وهو جيد إلا ما ذكره أخيرا من نفي البعد عن إلحاق التيمم بالوضوء، فإن مجرد
بدليته من الوضوء لا يقتضي إلحاقه به في هذا الحكم، فإن رفع اليد عن العموم يحتاج إلى
مخصص مفقود في المقام.
هذا كله إن أريد من القاعدة أصالة الصحة، وأما إن أريد منها عدم الاعتناء

1 - مصباح الفقيه 1: 206 و 207 سطر 23، حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 109، وانظر حاشية الآخوند على
الرسائل: 238 سطر 9، فوائد الأصول 4: 626.
2 - جواهر الكلام 2: 355.
319

بالشك في الجزء أو الشرط بعد الفراغ من العمل فيقال: الفرق بين قاعدة الفراغ
والتجاوز أن مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك في الجزء أو الشرط بعد التجاوز
عن محله، ومفاد قاعدة الفراغ عدم الاعتناء بالشك فيهما بعد الفراغ من العمل.
فلا يرد عليه الإشكالان المتقدمان (1) من عدم إمكان تطرق الجعل وحكومة
قاعدة التجاوز على الفراغ، لكن مع عموم قاعدة التجاوز لجميع الأبواب، وكونها أعم
مطلقا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ يكون جعل الثانية لغوا لما عرفت (2).
ثم لو قلنا: بأن قاعدة التجاوز مخصوصة بباب الصلاة يقع الكلام في أن المجعول
قاعدتان:
الأولى: قاعدة الفراغ بالمعنى المتقدم آنفا، وهي سيالة في جميع أبواب الفقه.
والثانية: قاعدة التجاوز، وهي مخصوصة بباب الصلاة.
أو أن المجعول قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز، لكن قام الدليل اللفظي في
باب الوضوء، وغير اللفظي في سائر الأبواب - غير باب الصلاة - على تقييد التجاوز
بكونه عن تمام العمل المركب، بدعوى أن هذا التقييد ليس مستهجنا كالتخصيص
الأكثري، والبحث عن ذلك بعد بطلان أصل المبنى، ومع فرض عدم بطلانه وعدم
ترتب ثمرة مهمة عليه مما لا جدوى له.
فتحصل مما ذكرنا: أن التحقيق هو استفادة قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز
بعد المحل، وهي سيالة في جميع الأبواب، ولا وجه لتخصيصها بباب الصلاة، بعد
عموم الأدلة، وعدم المقيد والمخصص.
وبما ذكرناه وفصلناه: علم أن مثل قوله في موثقة ابن مسلم: (كل ما شككت فيه
مما قد مضى فأمضه كما هو) ليس معناه كل ما شككت في صحته بعد الفراغ منه،

1 و 2 - تقدم في صفحة 315 و 316.
320

لما عرفت (1) من فساد ذلك، بل معناه أنه كل ما شككت في وجوده جزءا كان أو شرطا،
أو نفس العمل مما قد مضى محله المقرر الشرعي، فأمضه كما هو، فيكون مفاده إعطاء
قاعدة التجاوز.
كما أن المراد من قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة محمد بن مسلم المنقولة
في أبواب الخلل: (كل ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد) (2) هو
بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز، فيكون ملاك الحكم هو التجاوز عن المحل.
لا الفراغ من العمل، ولا محيص عن حملها على ذلك، ضرورة أنه مع جريان قاعدة
التجاوز في باب الصلاة من غير إشكال - لدلالة النصوص الكثيرة عليه - لا معنى
لجعل قاعدة الفراغ فيه مستقلا.
ومما ذكرنا: يقرب احتمال آخر في قوله: (كل ما شككت فيه مما قد مضى
فأمضه كما هو) وهو أنه بصدد بيان مورد من موارد قاعدة التجاوز - أي الشك الحادث
بعد مضي العمل المتعلق بكل ما اعتبر فيه - لا اعتبار به، لا لدخالة الفراغ في ذلك، بل
بملاك التجاوز عن المحل.
فالشك الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مضي المحل لا اعتبار به،
لا بملاكين، بل بملاك واحد هو التجاوز عن المحل، فحينئذ تكون جميع روايات الباب
المتقاربة المضمون والتعبير لإعطاء قاعدة كلية هي عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز
المحل.
ومما ذكرنا: يمكن أن يدعى أن الوضوء باق تحت قاعدة الشك بعد التجاوز، لكن
الشارع تصرف في التجاوز فيه، وقيده - في خصوص باب الوضوء - بالتجاوز عن تمام

1 - في صفحة 312.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 306.
321

العمل، وهذا من قبيل تقييد المورد، لا تخصيصه (1) حتى يستشكل فيه بالاستهجان (2)،
نظير آية النبأ (3) إشكالا وجوابا في هذه الحيثية (4).
بل المقام خال عن الإشكال ولو قلنا باستهجان تقييد المورد، فإنه من قبيل تقييد
إطلاق المورد باخراج بعض الفروض النادرة نسبة، فإن عروض الشك بين الوضوء نادر،
خصوصا بالنسبة إلى أصل الغسل والمسح، لا الشرائط والموانع.
والظاهر من الدليل المخصص أو المقيد لقاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء وهو
صحيحة زرارة الآتية (5) هو اختصاص الخارج بالشك فيما سمى الله تعالى وأوجبه على
العباد في ظاهر الكتاب، لا غيره مما فهم اعتباره بالسنة، وهذا بوجه نظير الشك في
الركعتين الأولتين من الصلاة، حيث لا يدخل فيهما الشك، لكونهما فرض الله.
وبالجملة: لا دليل على التقييد فيما عدا ما سمى الله من الغسل والمسح، أو مع
بعض الخصوصيات المستفادة من ظاهر الكتاب، فلو شك في إطلاق الماء وإضافته،
أو الغسل منكوسا وأمثال ذلك يكون مشمولا للقاعدة، بين الوضوء أو بعده.
فتحصل من ذلك: أن هذا النحو من التقييد لا استهجان فيه رأسا.
وحينئذ تبقى موثقة ابن أبي يعفور المتقدمة (6) على ظاهرها، من رجوع ضمير
غيره إلى الجزء المشكوك فيه، لا إلى الوضوء.
وأما ما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره): من أن الوضوء اعتبر أمرا بسيطا
للتخلص عن الإشكال (7) ففيه ما لا يخفى، فإن صحيحة زرارة الواردة في باب الوضوء

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 15، نهاية الأفكار 4: 47 - القسم الثاني.
2 - انظر بحر الفوائد: 197 سطر 3 - مبحث الاستصحاب، نهاية الأفكار 4: 47 - القسم الثاني.
3 - سورة الحجرات 49: 6.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 76، أنوار الهداية 1: 292 و 293.
5 - انظر الكافي 3: 487 / 2، الوسائل 5: 300 / 9 - باب 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
6 - تقدم تخريجها في صفحة 308.
7 - رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 23، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 161 سطر 25.
322

آبية عن ذلك.
وهاهي الصحيحة المنقولة في أبواب الوضوء: محمد بن الحسن، عن المفيد، عن
أحمد بن محمد (1) عن أبيه (2) عن أحمد بن إدريس (3) وسعد بن عبد الله، عن أحمد بن
محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر
عليه السلام قال: (إذا كنت قاعدا على وضوئك، فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعد
عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله، ما دمت في
حال الوضوء، فإذا قمت من الوضوء، وفرغت منه، وقد صرت في حال أخرى في
الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا
شئ عليك، فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللا فامسح بها عليه
وعلى ظهر قدمك، فإن لم تصب بللا فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك،
وإن تيقنت أنك لم تتم وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي بالوضوء).
قال حماد وقال حريز قال زرارة قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده
في غسل الجنابة؟
فقال: (إذا شك ثم كانت به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه، وإن كان
استيقن رجع وأعاد عليه الماء ما لم يصب بلة، فإن دخله الشك وقد دخل في حال

1 - أحمد بن محمد بن الوليد: ثقة من وجوه أصحابنا، روى عن أبيه، وروى عنه الشيخ المفيد، والحسين بن عبيد الله
الغضائري، وأحمد بن عبدون. انظر تنقيح المقال 1: 81 / 489، معجم رجال الحديث 2: 256 / 844.
2 - محمد بن الحسن: ابن أحمد بن الوليد شيخ القميين وفقيههم ومتقدمهم ووجههم، العارف بالرجال والأخبار، روى
عن محمد بن الحسن الصفار، وسعد بن عبد الله الأشعري، وروى عنه ابنه، والشيخ الصدوق، وابن أبي جيد وغيرهم.
انظر رجال النجاشي: 383 / 1042، تنقيح المقال 3: 100 / 10534، معجم رجال الحديث 15:
206 / 10463.
3 - أحمد بن إدريس: الأشعري الفقيه من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام، كثير الحديث صحيحه، روى عن أحمد بن
محمد بن عيسى، وسلمة بن الخطاب، ومحمد بن علي بن محبوب، وروى عنه جعفر بن قولويه، ومحمد بن الحسين بن
سفيان البزوفري، والشيخ الكليني. انظر رجال الطوسي: 428 / 16، الفهرست للطوسي: 26 / 71، معجم رجال
الحديث 2: 38 / 425 و 41 / 426.
323

أخرى (1) فليمض في صلاته ولا شئ عليه، وإن استبان رجع وأعاد الماء عليه، وإن
رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان، وإن كان شاكا فليس عليه في شكه
شئ، فليمض في صلاته) (2).
فإن فيها وجوها من الدلالة على شدة العناية بالأجزاء، ولا يمكن أن يقال: - بعد
هذا التأكيد والمبالغة، والتعبير بما سمى الله، وأوجب الله عليك فيه وضوءه - إنه فرض
أمرا بسيطا، بل في موثقة ابن أبي يعفور أيضا دلالة على عنايته بالأجزاء، وكون الوضوء
أمرا مركبا، بل الظاهر من آية الوضوء (3) أيضا هو العناية بأجزاء الوضوء، كما أشارت
إليها صحيحة زرارة، فلا يمكن الالتزام بما أفاده، ولا محيص عما ذكرنا.
ولا إشكال فيه، لأن دلالة صدر موثقة ابن أبي يعفور على عدم الاعتناء بالشك
إذا حدث في الأثناء ليس إلا بالإطلاق، كمفهوم ذيلها، بل تقييد التجاوز بما بعد الوضوء
من أسهل التصرفات، لأن حدوث الشك في الأثناء نادر، لأنه يحدث نوعا بعده،
فإخراج الفرد النادر سهل.
ثم إنه وقع الإشكال في إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء وعدمه (4)، ولا دليل على
الإلحاق إلا أن يقال - في توجيه اخراج الوضوء - بمقالة الشيخ الأنصاري: من كونه على
القاعدة، لأنه اعتبر أمرا بسيطا لوحدة مسببه (5) وأن الغسل والتيمم أيضا كذلك، مع

1 - هكذا في الوافي (أ) ومرآة العقول (ب)، لكن في الوسائل بدل (حال أخرى) (في صلاته) والظاهر صحة الأولين [منه
قدس سره].
أ - الوافي 1: 53 - باب ترتيب الوضوء وموالاته والنسيان فيه سطر 24.
ب - مرآة العقول 13: 111.
2 - تقدم تخريجها في صفحة 318 هامش 2.
3 - سورة المائدة 5: 6.
4 - بحر الفوائد: 196 سطر 19 - مبحث الاستصحاب، مصباح الفقيه 1: 207، نهاية الأفكار 4: 46 - 50.
5 - رسائل الشيخ الأنصاري: 412 سطر 23، كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري: 161 سطر 25.
324

أن بدلية التيمم عن الوضوء تقتضي ذلك، وهو كما ترى، وقد عرفت أن اعتبار البساطة
خلاف الأدلة.
أو يقال: إن أدلة التجاوز قاصرة عن إثبات الحكم لغير الصلاة (1)، وقد عرفت
ضعفه (2).
هذا مضافا: إلى دلالة ذيل صحيحة زرارة المتقدمة آنفا بإطلاقه على عدم
الاعتناء بالشك في غسل الجنابة ولو حدث في الأثناء، فإن الظاهر من الفقرة
الأولى أن الشك إذا حدث في أثناء الصلاة وكانت به بلة مسح بها عليه، وهذا
حكم استحبابي، ومن الفقرة الثانية وهي قوله: (فإن دخله الشك وقد دخل في
حال أخرى فليمض في صلاته) أن الشك إذا حدث قبل الصلاة بعد انتقاله إلى
حال أخرى فليمض في صلاته، أي المصلي إذا كان دخله الشك في غسل ذراعه
أو بعض جسده في غسل الجنابة بعد الانتقال إلى حال أخرى فليمض في
صلاته.
ولا إشكال في أن المشتغل بغسل الجانب الأيسر - إذا دخله الشك - في غسل
رأسه، أو ذراعه اليمنى، أو بعض جسده - يصدق أنه دخله الشك وقد دخل في حال
أخرى.
ولا وجه لحمل الحال الأخرى على حال غير غسل الجنابة، فإنه تقييد بلا وجه،
وقد عرفت أن مقتضى مقابلة الفقرة الثانية للأولى أن المفروض فيها حدوث الشك قبل
الصلاة.
وبالجملة: أن إلحاق الغسل بل التيمم بالوضوء ضعيف.

1 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 109، مصباح الفقيه 1: 207 سطر 23، فوائد الأصول 4: 626، وانظر حاشية
الآخوند على الرسائل: 238 سطر 10.
2 - تقدم في صفحة 319.
325

الأمر الرابع
أن المراد من المحل هو المحل الشرعي
قد عرفت أن الأخبار كلها منزلة على قاعدة التجاوز، فحينئذ يكون المراد من
المضي هو مضي محل المشكوك فيه، وإنما نسب المضي إلى الشئ بنحو من التوسعة
والتنزيل، كما في مطلق المجازات، لا بتقدير لفظ المحل، فإن التحقيق أن المجاز مطلقا
حتى مثل قوله: (واسأل القرية) (1) من قبيل الحقيقة الادعائية (2).
وكيف كان: يكون المراد من المضي مضي محله، والظاهر من المحل هو المحل
المقرر الشرعي ولو إنفاذا، لا تقيد المحل الشرعي (3) حتى يقال: إنه تقييد بلا مقيد (4)،
بل لأن الشارع المقنن إذا قرر للأشياء محلا، فجعل محل القراءة بعد التكبير، ومحل
الركوع بعد القراءة وهكذا، ثم جعل قانونا آخر بأن كل ما مضى محله فأمضه، لا يفهم
العرف والعقلاء منه إلا ما هو المحل المقرر الجعلي، لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع،
فإن العادة إنما تحصل بالعمل، وهي لا توجب أن يصير المحل العادي محلا للشئ، بل
المحل بقول مطلق هو ما يكون محلا مقررا قانونيا، لا ما صار عادة حتى يختلف
باختلاف الأزمنة والأحوال.
وبالجملة: إسراء الحكم إلى المحل العادي - بدعوى إطلاق الأدلة - في غاية
الإشكال، بل لا يمكن التزامه.
نعم يمكن أن يقال: إنه يستفاد اعتبار المحل العادي من صحيحة زرارة المتقدمة
الواردة في باب الوضوء والغسل، بدعوى أن الموضوع لعدم الاعتناء بالشك ليس عنوان

1 - سورة يوسف 12: 82.
2 - انظر مناهج الوصول 1: 104 - 107.
3 - فوائد الأصول 4: 627، نهاية الأفكار 4: 54 - القسم الثاني.
4 - بحر الفوائد: 194 سطر 21 - مبحث الاستصحاب، درر الفوائد: 594.
326

القيام من الوضوء أو الفراغ منه، بل هو عدم الكون في حال الوضوء، لا بالمعنى
العدمي، بل بمعنى المضي عنه، فإن الظاهر أن قوله: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه
وقد صرت في حال أخرى) بيان مفهوم الصدر، أي قوله: (ما دمت في حال الوضوء)
ودعوى أن الحال الأخرى كالصلاة وغيرها المحققة لعنوان التجاوز أعم من الأمر المرتب
شرعا على الوضوء وغيره، لإطلاق قوله: (وغيرها).
ودعوى أن قوله: (مما أوجب الله عليك وضوءه) أعم من الغسل والمسح، كما في
الحديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة من يرى وضوءه على جلد غيره) (1) فإنه
باعتبار المسح على الخفين.
أو بدعوى إلقاء الخصوصية، فإذا شك في مسح الرجل اليسرى وقد دخل في
حال أخرى عادية كالتمندل أو غيره فلا يعتني بشكه بحسب المفهوم منها، ولو مع عدم
مضي زمان يخل بالموالاة العرفية.
وكذا يمكن أن يقال: إن قوله في ذيلها: (فإن دخله الشك وقد دخل في حال
أخرى) يدل بإطلاقه على أن من شك في غسل ذراعه أو بعض جسده من الطرف
الأيسر وقد دخل في حال أخرى - أية حال كانت - لا يعتني بشكه، مع أن الموالاة غير
معتبرة في الغسل، ولا في أجزاء أجزائه.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقرير دعوى الأعمية من المحل الشرعي.
ولكن مع ذلك لا يخلو عن الإشكال، لأن قوله: (ما دمت في حال الوضوء)
ظاهر في كونه في حال الوضوء واقعا لا اعتقادا، كما هو قضية كل عنوان اخذ في موضوع
حكم، وإذا لم يمسح الرجل اليسرى وبقيت الموالاة المعتبرة تكون حال الوضوء باقية.
ومقابل هذا العنوان هو الانتقال إلى حال أخرى، أي ما إذا لم تكن الموالاة المعتبرة

1 - الفقيه 1: 30 / 96، الوسائل 1: 324 / 14 - باب 38 من أبواب الوضوء.
327

باقية، فإذا شك في مسح الرجل اليسرى، وأحرز عدم بقاء الموالاة المعتبرة صدق أنه
شك ولم يكن في حال الوضوء وصار في حال أخرى.
وأما مع بقائها أو الشك في بقائها فلا بد من الرجوع ومسح الرجل، أما مع بقاء
الموالاة، فلصدق كونه في حال الوضوء، وأما مع الشك فلإحرازه بالأصل، مضافا إلى
قاعدة الشغل، وهي وإن تقتضي الإعادة لكن مقتضى الأدلة عدمها.
ومنه يظهر الجواب عن ذيل الصحيحة، فإن الحالة الأخرى إن كانت من
الحالات المترتبة على الغسل فلا إشكال فيه، وأما مع عدم الترتب فلا يصدق أنه في
حال أخرى، لعدم الانتقال عن الجزء المشكوك فيه، لأن الموالاة غير معتبرة في أجزاء
الغسل، ولا في أجزاء أجزائه، فحال الغسل باقية مع عدم غسل الجزء أو جزء الجزء،
ومع الشك فيه يكون الانتقال إلى حال أخرى مشكوكا فيه.
وليس لأحد أن يقول: إنه مع الشك في الجزء الأخير - إذا لم يكن من الأجزاء
المعظمة، كمسح الرجل أو بعضها، وكغسل البعض اليسير من الطرف الأيسر - يصدق
أنه فرغ من العمل، وقام عن الوضوء، ودخل في حال أخرى، ولم يكن في حال الوضوء
ولو مع بقاء الموالاة العرفية، فمن اشتغل بالتمندل وشك في مسح رجله اليسرى صدقت
عليه تلك العناوين، كمن خرج من الحمام وشك في غسل بعض جسده من الطرف
الأيسر، وذلك لأن صدق الفراغ مع الشك في مسح الرجل وكذا مع الشك في غسل
الطرف الأيسر أو بعضه ممنوع، ضرورة أنه مع العلم بعدم المسح والغسل لا يصدق
الفراغ إلا بالمسامحة، فكيف يصدق مع الشك فيهما؟! لامتناع أن يكون الشك مؤثرا فيه.
هذا مضافا: إلى أن ما ذكر تقرير لقاعدة الفراغ التي لا أصل لها، لما عرفت (1) من
أن المجعول بحسب الأخبار هو قاعدة التجاوز، وأن الوضوء أيضا مشمول لقاعدة

1 - تقدم في صفحة 315 و 320.
328

التجاوز، لكنها مقيدة بالنسبة إليه بتجاوز محل جميع الأجزاء، فلا عبرة بصدق عنوان
الفراغ، بل المعتبر صدق عنوان تجاوز محل أجزاء الوضوء.
وكونه في حال الوضوء - المقابل لعدم كونه في حال - عبارة أخرى عن بقاء المحل
وعدمه، وهو بيان للقيد المعتبر في قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الوضوء خاصة، فحينئذ
لا مجال للدعوى المذكورة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا دليل على اعتبار المحل العادي، عادة
شخصية كانت أو نوعية، فتدبر جيدا.
الأمر الخامس
هل الدخول في الغير معتبر في القاعدة أم لا؟
هل الدخول في الغير معتبر في قاعدة التجاوز ولو لم يكن محققا له أم لا (1)؟ وعلى
فرض اعتباره هل المعتبر هو الدخول في الركن (2) أو في الأفعال الواجبة (3) أو في
الأفعال مطلقا، واجبة كانت أو مستحبة (4)، أو مطلق الغير المترتب على الجزء المشكوك
فيه ولو كان من مقدمات الأفعال، كالنهوض إلى القيام والهوي إلى السجود (5)؟ وجوه
بل أقوال:
أوجهها عدم الاعتبار مطلقا إلا إذا كان محققا للتجاوز، لكن اعتباره حينئذ ليس

1 - درر الفوائد: 595.
2 - انظر النهاية للشيخ الطوسي: 92 - 93.
3 - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 1: 137 سطر 8، وانظر مستمسك العروة الوثقى 7: 439.
4 - فوائد الأصول 4: 638.
5 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 110 سطر 21، العروة الوثقى 2: 14 - المسألة العاشرة، نهاية الأفكار 4: 55
و 56 - القسم الثاني.
329

لأجل دخالته في موضوع الحكم، بل لأجل ملازمته مع الموضوع، وإلا فالموضوع هو
نفس التجاوز.
والدليل على عدم اعتباره يتضح بعد مقدمة: وهي أن المستفاد من أخبار الباب
أن السر في جعل قاعدة التجاوز ليس هو مجرد التسهيل على العباد، لكثرة وقوع الشك
بعد العمل، بل نكتة الجعل أن الانسان لما كان حين العمل أقرب إلى الحق، وأذكر في
إتيان العمل على وجهه تعبد الشارع بالبناء على إتيان العمل المشكوك فيه في محله، وأن
الفاعل لم يتجاوز عن المحل إلا وقد أتى بما هي وظيفته.
ويدل عليه قوله في موثقة بكير بن أعين: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين
يشك) (1) حيث يظهر منها أن وجه عدم الاعتناء بالشك أن الآتي بالعمل حين اشتغاله
به أذكر منه بعده، ومع كونه ذاكرا أتى به على وجهه.
وقوله في رواية محمد بن مسلم المتقدمة: (وكان حين انصرف أقرب إلى الحق
منه بعد ذلك) (2) والمراد من حين الانصراف حين الاشتعال بالسلام، لكون الانصراف
هو السلام في لسان الروايات، ويظهر منه أن عدم الاعتناء بالشك بعد العمل إنما
هو لأجل أقربيته إلى الحق حين العمل، فلا محالة أتى به على وجهه.
وقوله في صحيحة حماد بن عثمان المنقولة في أبواب الركوع قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: أشك وأنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا؟
فقال: (قد ركعت، أمضه) (3) تدل على أن الآتي بالمأمور به قد أتى بوظيفته في
محلها، ويكون هذا نكتة التعبد بعدم الاعتناء بالشك، إلى غير ذلك من الروايات.
وبالجملة: يستفاد منها أن قاعدة التجاوز ليست مجعولة لمحض التسهيل، بل

1 - تقدم تخريجه في صفحة 309.
2 - تقدمت في صفحة 310.
3 - التهذيب 2: 151 / 594، الاستبصار 1: 358 / 1356، الوسائل 4: 936 / 2 - باب 13 من أبواب الركوع.
330

لكون المكلف يأتي بالعمل على طبق وظيفته، ويكون حين العمل أذكر منه حين يشك.
فحينئذ نقول: يتضح مما ذكر أن الدخول في الغير غير دخيل في موضوع الحكم،
وأن تمام الموضوع للحكم بعدم الاعتناء بالشك هو أن المكلف الذاكر يأتي بوظيفته حين
اشتغاله بالعمل، فإذا تجاوز عن المحل يتحقق موضوع القاعدة، دخل في الغير أولا،
ولا يكون الدخول في الغير دخيلا في الحكم حتى فيما كان محققا للتجاوز.
وبعد التنبيه بما ذكرنا تفهم القيدية من قوله في صحيحتي زرارة وإسماعيل بن
جابر: (دخلت) أو (دخل في غيره) فيكون ذكر الدخول في الغير لتحقق التجاوز نوعا به،
لا لدخالته في موضوع الحكم.
ويؤيد ما ذكرنا: بل يدل عليه قوله في ذيل موثقة ابن أبي يعفور في مقام إعطاء
القاعدة: (إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) (1) مع ذكر الدخول في الغير في صدرها،
فإن الظاهر من ذيلها أنه بصدد إعطاء كبرى كلية، ويكون الصدر مصداقا لها، فحصر
لزوم الاعتناء بالشك - فيما إذا كان متشاغلا بالشئ ولم يجزه - دليل على أن الموضوع
للحكم نفس الخروج عن المحل والتجاوز عنه، ولا دخالة لشئ آخر فيه.
وأما ما أفاده الشيخ الأعظم: من أن الظاهر من الغير في صحيحة إسماعيل
- بملاحظة كون صدرها في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة المقررة في ذيلها - أن
السجود والقيام حدا للغير الذي يعتبر الدخول فيه، وأنه لا غير أقرب من السجود
والقيام بالنسبة إلى الركوع والسجود، إذ لو كان الهوي والنهوض كافيين قبح في مقام
التوطئة للقاعدة التحديد بالسجود والقيام، ولم يكن وجه لجزم المشهور بوجوب
الالتفات إذا شك قبل الاستواء قائما (2) انتهى.
ففيه: أن دعوى كون الصدر في مقام التحديد، وأنه لا غير أقرب مما ذكر ممنوعة،

1 - تقدم تخريجه في صفحة 309.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 411.
331

لعدم الدليل عليها، ويكفي في نكتة ترك ذكر الهوي والنهوض، أن الشك لا يعرض غالبا
عندهما، لقربهما إلى المحل.
هذا مضافا: إلى منافاة ما ذكره لموثقة عبد الرحمن المنقولة في أبواب الركوع:
محمد بن الحسن، بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن
أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (1)، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام
رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟
قال: (قدر ركع) (2).
فإنها تدل على أن الدخول في السجود ليس دخيلا في الحكم.
وأما جزم المشهور بوجوب الالتفات إذا شك في السجود قبل الاستواء قائما على
فرض ثبوته فلعله لموثقة عبد الرحمن الأخرى المنقولة في أبواب السجود بالسند المتقدم
عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رفع رأسه من
السجود فشك قبل أن يستوي جالسا، فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟
قال: (يسجد).
قلت: فرجل نهض من سجوده، فشك قبل أن يستوي قائما، فلم يدر أسجد أم
لم يسجد؟
قال: (يسجد) (3).
فالقاعدة مخصصة بالنسبة إلى هذه الصورة، ولا إشكال فيه بعد قيام الدليل.

1 - عبد الرحمن: بن أبي عبد الله ميمون البصري مولى بني شيبان، وأصله كوفي عده الشيخ في رجاله في أصحاب الإمام
الصادق عليه السلام، روى عن حمران بن أعين، ومحمد بن مسلم، وروى عنه الحسن بن محبوب، وحماد بن عيسى،
وفضالة بن أيوب، وعبد الله بن مسكان وآخرون. انظر معجم رجال الحديث 9: 296 / 6326، نقد الرجال:
183 / 6، رجال الطوسي: 230 / 127.
2 - التهذيب 2: 151 / 596، الاستبصار 1: 358 / 1358، الوسائل 4: 937 / 6 - باب 13 من أبواب الركوع.
3 - التهذيب 2: 153 / 603، الاستبصار 1: 361 / 1371، الوسائل 4: 972 / 6 - باب 15 من أبواب السجود.
332

فتحصل مما ذكرنا: أن الدخول في الغير غير معتبر في القاعدة.
ثم على فرض اعتباره فلا وجه معتد به للاختصاص بأمر خاص كالركن مثلا (1)،
بدعوى أن المراد بالمحل هو محل تدارك الأجزاء المنسية، وهو كما ترى.
وكالأجزاء الواجبة (2)، بدعوى الانصراف إليها، بعد عد الواجبات في صحيحة
زرارة، فإنه أيضا ضعيف، ضرورة عدم صيرورة ذلك موجبا للانصراف.
ولا مطلق الأجزاء مستحبة كانت أو غير مستحبة، لما أشار إليه الشيخ (3)، وقد
عرفت ما فيه، أو لدعوى الانصراف أيضا.
بل المراد من الغير على فرض اعتباره مطلق الغير الذي يكون مرتبا وجودا على
الفعل المشكوك فيه، حتى مثل النهوض والهوي، والدليل عليه - مضافا إلى إطلاق
الأدلة - خصوص موثقة عبد الرحمن المتقدمة (4)، فإن الظاهر - بل المقطوع - أن الحكم
بعدم الاعتناء والمضي لكون المورد مندرجا في الكبرى المعهودة، لا كونه لقاعدة أخرى
مستقلة، وأما تقييد القاعدة فلا مانع منه، فإنه ليس بعزيز.
ويدل على المطلوب أيضا إطلاق رواية علي بن جعفر المنقولة في أبواب الخلل:
عبد الله بن جعفر في " قرب الإسناد " عن عبد الله بن الحسن، عن جده علي بن جعفر (5)،
عن أخيه موسى عليه السلام قال: سألته عن رجل ركع وسجد، ولم يدر هل كبر أو قال
شيئا في ركوعه وسجوده، هل يعتد بتلك الركعة والسجدة؟

1 - انظر تذكرة الفقهاء 1: 136.
2 - العروة الوثقى 2: 15 حاشية 1 و 2.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 411.
4 - تقدم في صفحة 331.
5 - علي بن جعفر العريضي: أبو الحسن، من الله عليه بصحبة أربعة من الأئمة عليهم السلام، فقد صحب الأئمة الأطهار
الكاظم والرضا والجواد والهادي صلوات الله عليهم، وكان عظيم الطاعة والتسليم لهم عليهم السلام. روى عن
محمد بن مسلم، وعبد الملك بن قدامة، والحكم بن بهلول، وروى عنه علي بن أسباط، وسليمان بن حفص، والعمركي
البوفكي. انظر الكافي 1: 258 / 12، معجم رجال الحديث 11: 284 / 7959 و 288 / 7965.
333

قال: (إذا شك فليمض في صلاته) (1).
فإن الظاهر منها عدم الاعتناء بالشك في الذكر بعد الركوع والسجود، وأن عدم
الاعتناء إنما هو لأجل الشك، فإن الظاهر من قوله: (إذا شك فليمض) أن
الإمضاء لقاعدة التجاوز، وإن كان العدول إلى السجود والركوع غير جائز، على فرض
العلم بعدم الإتيان بذكرهما.
لكن لا ينافي ذلك جريان القاعدة فيهما في موردهما، وأثره عدم وجوب سجدة
السهو أو استحبابها على فرض ثبوتها لكل زيادة ونقيصة ولو استحبابا، لأن مقتضى
استصحاب عدم الإتيان بذكرهما ثبوت سجدة السهو.
الأمر الساس
هل المضي وعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز
على نحو الرخصة أو العزيمة؟
قيل ظاهر الأوامر يقتضي وجوب المضي وعدم الالتفات، فيكون على وجه
العزيمة (2).
ورد: بأن الأوامر واردة مورد توهم الحظر، فلا يفهم منها أزيد من الجواز (3).
وقد يقال: بعد تسليم أصل الدعوى بأن كونه عزيمة لا يتوقف على كون الأمر
بالمضي للوجوب، بل يكفي في ذلك كونه متفرعا على حكم الشارع بأن شكه
ليس بشئ، فإن مقتضى ذلك كون التلافي بقصد المشروعية تشريعا ومحلقا بالزيادة
العمدية (4).

1 - قرب الإسناد: 91، الوسائل 5: 337 / 9 - باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2 - جواهر الكلام 12: 322.
3 - انظر مصباح الفقيه 2: 558.
4 - انظر نفس المصدر: السطر الأخير.
334

وفيه: أن غاية ما يستفاد من مثل قوله: (شكك ليس بشئ) (1) أنه لا يعتنى به،
فيأتي الكلام في أن عدم الاعتناء هل هو على وجه العزيمة أو الرخصة؟ فلو سلم أنه
لا يستفاد من الأوامر أزيد من الجواز لا وجه لدعوى أن الإتيان بقصد المشروعية تشريع،
لأن مقتضى عدم الاعتناء على وجه الرخصة أن المكلف مرخص في ترك هذا الجزء من
المركب، ومجاز في عدم الاعتناء بشكه، كما أنه مرخص في إتيانه.
فحينئذ: لا تكون أدلة التجاوز حاكمة على استصحاب عدم الإتيان بالجزء
المشكوك فيه، فمقتضى الاستصحاب وأدلة التجاوز أنه لو أتى به يكون جزءا للمركب،
ولا بأس بتركه.
ولو قلنا: بمحكومية الاستصحاب - على فرض دلالة أدلة التجاوز على كون عدم
الاعتناء على وجه الرخصة - يجوز الإتيان بالجزء أيضا بعنوان الجزئية، لا لقاعدة
الاشتغال حتى يقال: يدور الأمر بين المحذورين (2)، بل للاستفادة من الأدلة الخاصة
الواردة في الشك في المحل، فإنها بكثرتها تدل على أن الإتيان بعنوان الجزئية لا مانع منه.
والتحقيق أن يقال: إن المستفاد من الأدلة كما عرفت (3) أن المكلف الذي هو أذكر
حين العمل وأقرب إلى الحق قد أتى بما هو وظيفته لا محالة، كما يفصح عن ذلك قوله في
صحيحة حماد: (قد ركعت أمضه) (4) وقوله في موثقة عبد الرحمن: (قد ركع) (5) فيستفاد
من تلك الأدلة التعبد بوجود الجزء: إما لقيام الأمارة عليه، أو لكون الأصل محرزا له،
فمع التعبد بوجوده يكون الإتيان به زيادة عمدية، لا من باب التشريع، بل كسائر
الزيادات العمدية.

1 - تقدمت كاملة في صفحة 307.
2 - جواهر الكلام 12: 323.
3 - تقدم في صفحة 330 و 331.
4 - تقدم تخريجه في صفحة 330.
5 - تقدم تخريجه في صفحة 332.
335

والفرق أن الزيادة هناك وجدانية، وهاهنا من ضم الوجدان إلى الأصل أو الأمارة،
وليس الأصل مثبتا، لأن مفاد الأصل ليس إلا وجود الجزء، فإذا أتى المكلف بجزء آخر
يندرج الموضوع في عنوان: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة) (1) فلو شك في إتيان
السورة - بعد الدخول في القنوت - فأتى بسورة أخرى يكون من القران، فإنه ليس إلا
إتيان سورة بعد إتيان سورة، والفرض أن الشارع قد حكم بإتيان سورة، فبإتيان الأخرى
يندرج تحت قوله: (لا قران بين السورتين في ركعة) (2).
نعم: لو كان القران عنوانا بسيطا انتزاعيا لا يثبت بالأصل، لكن لا بأس
بالاحتياط في مثل الحمد والأدعية والأذكار، فإنه لا مانع منه حتى مع تحقق الأمارة على
تحقق الجزء، ولا تصدق عليه الزيادة العمدية إذا كان بقصد رجاء المطلوبية والاحتياط،
وإن لا يخلو هاهنا من شوب إشكال، فالأحوط المضي وعدم الاعتناء مطلقا.
الأمر السابع
أن القاعدة من الأمارات أو الأصول؟
هل المستفاد من الأدلة أن اعتبار القاعدة من باب الطريقية، بمعنى أن الشارع
جعل الظن الحاصل نوعا من غلبة عمل الفاعل المختار، المريد لفراغ ذمته بما هو وظيفته
في المحل أمارة على إتيانه، وألغى احتمال خلافه، وعلى هذا تكون القاعدة أمارة
تأسيسية؟
أو أنها أمارة عقلائية، وتكون الروايات بصدد إمضاء ما لدى العقلاء؟

1 - الكافي 3: 355 / 5، التهذيب 2: 194 / 764، الاستبصار 1: 376 / 1429، الوسائل 5: 332 / 2 - باب 19 من
أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
2 - مستطرفات السرائر: 73 / 12، الوسائل 4: 742 / 12 - باب 8 من أبواب القراءة في الصلاة.
336

أو أن المستفاد منها أن هاهنا قاعدتين إحداهما قاعدة التجاوز، وهي أمارة
تأسيسية، والأخرى قاعدة الفراغ، وهي أمارة إمضائية لما في يد العقلاء؟
أو أن قاعدة التجاوز أصل عملي تأسيسي، وقاعدة الفراغ أمارة عقلائية؟
والروايات على طائفتين: إحداهما بصدد تأسيس أصل عملي هو قاعدة التجاوز،
والأخرى بصدد إمضاء ما لدى العقلاء، وهو قاعدة الفراغ، وهي أمارة عقلائية.
أو أن قاعدة الفراغ أصل عقلائي، وقاعدة التجاوز أصل شرعي تأسيسي؟
أو أنهما أصلان تأسيسيان شرعيان؟
أو أن المستفاد منها: أن هاهنا قاعدة واحدة، هي قاعدة التجاوز، وهي أصل
عملي تأسيسي؟
وبناء على أصليتها هل هي أصل عملي محض بلا نظر إلى التعبد بوجود المشكوك
فيه، بل لسان التعبد فيها هو المضي وعدم الاعتناء بالشك عملا؟
أو أصل محرز الإطلاق، فمفادها هو البناء على وجود المشكوك فيه مطلقا،
كالاستصحاب بناء على كونه أصلا محرزا؟
أو أصل محرز بنحو إضافي في موضوع خاص، أي بالنسبة إلى ما تجاوز محله،
فيكون مفادها فيمن شك في الطهارة بعد الصلاة أن الطهارة موجودة بالنسبة إلى الصلاة
المأتي بها لا مطلقا؟
هذا: ولقد مر منا بعض الكلام في الأمور السالفة مما هو راجع إلى المقام، وأثبتنا
أن المستفاد من الأدلة هو جعل قاعدة واحدة هي قاعدة التجاوز، وأن قاعدة الفراغ
لا أصل لها.
والآن نقول: أما كون القاعدة أو القاعدتين أمارة عقلائية أو أصلا عقلائيا،
أو إحداهما أمارة عقلائية، والأخرى أصلا عقلائيا، فمما لا وجه له، لعدم ثبوت بناء
337

العقلاء على ذلك مطلقا.
وما يقال: من أن قاعدة الفراغ قاعدة عقلائية دون قاعدة التجاوز (1) ففي غاية
السقوط، لأن المناط لدى العقلاء ليس عنوان الفراغ قطعا، بل لو كان مناط لديهم
فليس إلا الغلبة المشار إليها في صدر المبحث، وهذه الغلبة محققة في التجاوز والفراغ
بعنوان التجاوز عن المحل، لا الفراغ عن جميع العمل.
فمن شك في الركعة الأخيرة في ركوع الركعة السابقة - لو بنى العقلاء على
إتيانه - أو كانت أمارة عقلائية عليه، فإنما هو لأجل أن الفاعل المريد لفراغ ذمته إنما
يأتي بما هو وظيفته في محله، فإذا تجاوز عن المحل وشك فيه يكون ما هو المناط
محققا، وليس إتيان سائر الأجزاء دخيلا فيه، ولا إتيان جميع المركب، ولا الفراغ منه.
ولو قيل: إن المناط في عدم الاعتناء هو تحقق الفصل الطويل بين محل المشكوك
فيه، ومحل حدوث الشك، وهو محقق في قاعدة الفراغ دون التجاوز (2).
يقال له: مع كونه ممنوعا، منقوض طردا وعكسا.
وعلى أي حال: لم يثبت بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ
أو التجاوز، ولم يثبت إلغاء الاحتمال، وترتيب الأثر على هذه الغلبة عند العقلاء، فلا بد من
عطف النظر إلى مفاد الأدلة:
فنقول: إنها على طوائف:
منها: ما يكون مفادها هو مجرد الأمر بالمضي، كموثقة محمد بن
مسلم (3)، وصحيحته المنقولة في الخلل (4)، وصحيحة إسماعيل بن جابر (5)،

1 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 108 و 109، مصباح الفقيه 1: 207 سطر 2.
2 - انظر المصدر السابق.
3 - التهذيب 2: 344 / 1426، الوسائل 5: 336 / 3 - باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4 - التهذيب 2: 352 / 1460، الوسائل 5: 342 / 3 - باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
5 - التهذيب 2: 153 / 602، الاستبصار 1: 358 / 1359، الوسائل 4: 937 / 4 - باب 13 من أبواب الركوع.
338

ومثلها غيرها (1).
ومنها: ما يكون مفادها نفي الشك تعبدا، والتعبد بعدم الاعتناء به، كموثقة ابن
أبي يعفور (2).
ومنها: ما جمع بينهما، كصحيحة زرارة صدرا وذيلا (3)، وأمثال هذه الروايات
ليس مفادها إلا الأصل التعبدي، وليس معنى: (شكك ليس بشئ) إلا التعبد بعدم
الاعتناء به والمضي، ولذا جمع بينهما في صحيحة زرارة بنحو الكبرى والصغرى، حيث
إن الظاهر من ذيلها أنه بصدد بيان الكبرى الكلية المندرجة تحتها الأمثلة المذكورة في
صدرها.
ومنها: ما يتوهم منه الأمارية، كموثقة بكير بن أعين قال قلت له: الرجل يشك
بعد ما يتوضأ؟
قال: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) (4).
حيث علل عدم الاعتناء بالشك بالأذكرية حين العمل، وهي تناسب الطريقية.
وقريب منها رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله عليه السلام وفيها: (وكان
حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك) (5).
لكن استفادة الأمارية منها مشكلة، لأن مفادها ليس إلا تحقق المشكوك فيه، لأن
قوله: (هو حين يتوضأ أذكر) قام مقام الجواب، وجعل كناية عن إتيان المشكوك فيه،
فيكون مفادها التعبد بتحققه، فتوافق مفاد صحيحة حماد: (قد ركعت أمضه) (6) وموثقة

1 - كمرسلة الصدوق في الهداية: 32، المتقدمة في صفحة 312 من هذا الكتاب.
2 - التهذيب 1: 101 / 262، مستطرفات السرائر: 25 / 3، الوسائل 1: 330 / 2 - باب 42 من أبواب الوضوء.
3 - التهذيب 2: 352 / 1459، الوسائل 5: 336 / 1 - باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
4 - التهذيب 1: 101 / 265، الوسائل 1: 331 / 7 - باب 42 من أبواب الوضوء.
5 - الفقيه 1: 231 / 1027، مستطرفات السرائر: 110 / 67، الوسائل 5: 343 / 3 - باب 27 من أبواب الخلل الواقع في
الصلاة.
6 - التهذيب 2: 151 / 594، الاستبصار 1: 358 / 1356، الوسائل 4: 936 / 2 - باب 13 من أبواب الركوع.
339

عبد الرحمن قال: (قد ركع) (1).
وبالجملة: لا يستفاد من الموثقة وكذا رواية محمد بن مسلم إلا التعبد بوجود
المشكوك، لا أمارية الظن، وجعل الغلبة طريقا إلى الواقع ولعل مثل قوله: (هو حين
يتوضأ أذكر)، أو (كان حين انصرف أقرب إلى الحق) إشارة إلى نكتة التشريع، لا تأسيس
الطريقية.
وبالجملة: لا يمكن الالتزام به بمثل هذه الإشعارات، بعد تظافر الروايات
بخلافها.
وإن شئت قلت: إن الظاهر منهما إلقاء احتمال الغفلة، وهو على فرض تسليمه
غير إلقاء احتمال الخلاف، أي الاحتمال المقابل للظن، والثاني مستلزم لجعل الطريقية
دون الأول، تدبر.
وقد يقال: إن الظاهر من قوله بعد السؤال عن الشك في الركوع بعد ما سجد:
(بلى قد ركعت فأمضه) هو الطريقية (2)، وله وجه لو لم يكن مسبوقا بهذا السؤال، وأما
معه فلا مجال لاستفادتها، لتوجه الخطاب إلى الشاك، فكأنه قال: إذا شككت في الركوع
بعد السجود فقد ركعت، وهو مناف للطريقية وإلقاء الشك، بل تعبد بالوجود في ظرف
الشك، وهو عين الأصلية.
وأضعف منه دعوى استفادتها من قوله: (ليس بشئ) للفرق بين ترتيب الحكم
على الشك، والحكم بعدم الاعتناء (3).
وفيها: أن لسان عدم الاعتناء بالشك غير لسان الأمارة، التي لم يفرض فيها
الشك أصلا، لأن الحكم بعدم فرض تحققه، لكن لضعفه لا يعتنى به، كما أن الشك في

1 - التهذيب 2: 151 / 596، الاستبصار 1: 358 / 1358، الوسائل 4: 937 / 6 - باب 13 من أبواب الركوع.
2 - نهاية الدراية 3: 304.
3 - نفس المصدر.
340

الاستصحاب مفروض التحقق، لكن لا يعتنى به، ولا ينقض اليقين.
ولا يخفى: أنه لا تنافي بين التعبد بالمضي، وعدم الاعتناء بالشك - كما هو مفاد
الأدلة المتقدمة - وبين التعبد بوجود المشكوك فيه، كما هو مفاد هذه الروايات، ولذا جمع
بينهما في صحيحة حماد حيث قال: (قد ركعت أمضه).
وتوهم الفرق بين باب إفعال المضي ومجرده (1) بعيد في المقام، وإن يظهر من اللغة
أن الإمضاء بمعنى الإنفاذ، والمضي بمعنى الذهاب (2).
وبالجملة: لا تنافي بين الأدلة، والمستفاد من جميعها أن قاعدة التجاوز أصل
شرعي تأسيسي تعبدي، مفادها التعبد بوجود المشكوك فيه.
وإن شئت قلت: إنه أصل محرز تعبدي.
بقي الكلام في أنه بعد كون القاعدة أصلا محرزا هل تكون أصلا محرزا مطلقا،
كالاستصحاب بناء على كونه أصلا محرزا، فيكون مفادها تحقق المشكوك فيه مطلقا،
أو أصلا محرزا في موضوع خاص، وبعبارة أخرى تكون أصلا محرزا حيثيا؟
والفرق بين كونها أصلا تعبديا محضا من غير نظر إلى التعبد بالوجود، وبين كونها
أصلا محرزا واضح، فإنه على المحرزية يترتب عليها أثر الوجود، فلو شك في حال
القنوت في إتيان السورة يتحقق القران بإتيان سورة أخرى، بناء على عدم كون القران
أمرا بسيطا انتزاعيا، وبناء على المحرزية دون غيرها.
وأما الفرق بين المحرزية المطلقة وغيرها: أنه بناء على الأول يترتب عليها آثار
الوجود مطلقا، فلو شك بعد صلاة العصر في إتيان الظهر بنى على تحققه، ولا يجب
إتيانه، وكذا لو شك في الوضوء بعد صلاة الظهر بنى على تحققه مطلقا، فيحكم بوجوده
لسائر الأمور المشروطة بالوضوء.

1 - انظر شرح الشافية للرضي 1: 83.
2 - انظر الصحاح 6: 2493 و 2494، لسان العرب 13: 130.
341

وأما بناء على المحرزية الحيثية فلا يترتب على المشكوك فيه إلا أثر التحقق في
الموضوع الخاص، ومن الحيثية الخاصة، فلا بد من ترتيب آثار وجود الظهر في المثال
المتقدم من حيث اشتراط العصر بتقدمه عليه، وترتيب آثار وجود الوضوء من حيث
اشتراط الصلاة التي شك بعدها فيه لا مطلقا، فيجب إتيان الظهر، وتحصيل الوضوء
لسائر الأمور المشروطة به.
أن القاعدة أصل محرز حيثي
إذا عرفت ذلك: فالذي يستفاد من مجموع الأدلة أن قاعدة الفراغ أصل تعبدي
محرز، لكن في موضوع خاص، وبالنسبة إلى الأمر المتجاوز عنه لا مطلقا، أما كونها
أصلا، فلقصور الأدلة عن إثبات الأمارية كما عرفت، وأما كونه محرزا، فلدلالة كثير منها
على التعبد بثبوت المشكوك فيه، وأما عدم كونه محرزا مطلقا، فلقصورها عن إثباته.
ولقد أجاد الشيخ الأعظم في المقام حيث قال: لا إشكال في أن معناه البناء على
حصول المشكوك فيه، لكن بعنوانه الذي يتحقق معه تجاوز المحل لا مطلقا (1)، انتهى.
فإذا علم حال القاعدة، وأنها أصل محرز حيثي تعبدي يعلم حال الشك في
الشروط بالنسبة إلى الفراغ من المشروط، وقد اختلفت كلمات الأعلام فيه (2).
والتحقيق أن يقال: إن الأدلة شاملة بإطلاقها وعمومها للشروط بلا إشكال
ولا ريب، لكن بالنسبة إلى المشروط الذي تجاوز عنه، لا مطلقا.
ثم لا إشكال في عدم الاعتناء بالشك في الشرط بعد الفراغ من المشروط، وإنما

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 413.
2 - كشف الغطاء: 278، رسائل الشيخ الأنصاري: 413، فوائد الأصول 4: 639، نهاية الأفكار 4: 63 - 71 - القسم
الثاني.
342

الكلام في الشك الحادث بين العمل بالنسبة إلى الأجزاء الآتية.
والتحقيق: أن كل شرط يكون له محل شرعي، ويكون محله الشرعي قبل العمل
فلا يعتنى بالشك فيه بين العمل، لصدق التجاوز والمضي، دون مالا يكون كذلك،
فمثل الوضوء إذا قلنا بأن محله الشرعي قبل العمل إما لدلالة الآية الشريفة (1)،
أو لدلالة بعض الأخبار كقوله: (افتتاح الصلاة الوضوء) (2) فعليه إذا عرض الشك فيه
بعد الدخول في الصلاة يلغى الشك، لتجاوز محله بالنسبة إلى الصلاة التي اشتغل بها
لا غيرها (3).
لكن في كون المحل الشرعي للوضوء ما ذكر إشكال ومنع، لمنع دلالة الآية إلا
على الإرشاد لاشتراط الصلاة بالوضوء، وكذا الرواية.
ومثل الاستقبال والستر وأمثالهما مما ليس لها محل شرعي، بل تكون شروطا
معتبرة فيها، ولكن العقل يحكم بلزوم إحرازها قبل الصلاة، وليس للشارع حكم من هذه
الجهة يكون الشك فيها غير مشمول لأدلة التجاوز، لعدم تجاوز محلها بالنسبة إلى الأجزاء
الآتية.
تنبيه
قد أفرد الشيخ الأعظم (قدس سره) الشك في صحة المأتي به عن الشك في الشرط
قائلا: إن محل الكلام في الشك في الصحة ما لا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك
ما يعتبر في الصحة، ومثل له بالشك في الموالاة في حروف الكلمة أو كلمات الآية (4).

1 - سورة المائدة 5: 6.
2 - الكافي 3: 69 / 2، الفقيه 1: 23 / 68، الوسائل 1: 256 و 257 / 4 - باب 1 من أبواب الوضوء.
3 - انظر درر الفوائد: 603.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 7.
343

والظاهر أن الفرق بين الموضع الخامس والسادس اللذين جعلهما عنوانين ليس
باختصاص الكلام في الأول بالشروط الشرعية، وفي الثاني بالشروط العقلية كما قيل،
لمخالفته للتمثيل بالموالاة لكلمات الآية، فإنه بإطلاقه يشمل الموالاة العرفية المعتبرة
شرعا، بل الموالاة الماحي تركها للصورة.
والموالاة في كلمات الآية أيضا لا يبعد أن تكون مما اعتبره الشارع، لأن الأمر
بالقراءة يدعو إلى إيجاد ما هو قراءة عرفا، وهي لا تتحقق إلا بإتيانها على النحو
المتعارف، وهذا ليس من الأمر العقلي المحض، كإحراز الستر قبل الصلاة مقدمة
لتحقق أول الجزء مع الستر، فإن هذه المقدمة لم يتعلق بها غرض وأمر، بخلاف الأمر إلى
القراءة وذكر الركوع والسجود.
بل الفرق الذي يمكن أن يكون مراده: أن الشرائط على قسمين.
أحدهما: ما يكون لها نحو وجود مستقل، كالطهارة والستر والقبلة.
وثانيهما: ما لا تكون كذلك، كالموالاة في حروف الكلمة وكلمات الآية، فإنها
لا تكون موجودة إلا بنفس الكلمة والآية، وليس لها وجود استقلالي، فلا يشملها قوله:
(كل ما شككت فيه مما قد مضى) ولا سائر العناوين المأخوذة في الأدلة، بخلاف
الشروط التي من قبيل الأول.
هذا ما وجه به كلامه بعض المحققين، وقد جعل من قبيل ما ذكره في المقام
الشك في إطلاق الماء وإضافته (1).
وفيه: أن ما اعتبره الشارع في الصلاة ويكون تحت تصرفه وجعله هو كون الصلاة
متقيدة بالطهارة أو الستر أو القبلة، أو كون المصلي حال صلاته طاهرا متسترا مستقبل
القبلة، وهذه الأمور من الانتزاعيات أيضا، ويكون وجودها بعين منشأ انتزاعها

1 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 112، وانظر أوثق الوسائل: 555.
344

كالموالاة.
ومع تسليم ما ذكره من الفرق أن دعوى عدم شمول الأدلة لمثل الأمور الانتزاعية
ممنوعة جدا، مع كونها معتبرة في الصلاة، مأخوذة موضوعا للحكم تكون متعلقة للشك،
فهل مثل الموالاة ليس بشئ عرفا أو عقلا، أم أن الشئ أو " ما " الموصولة في الأدلة جعلا
مرآة للأشياء خاصة، مع أنه خلاف التحقيق والواقع في باب الإطلاقات، أم أنهما
منصرفان عن مثل الموالاة، مع أنه لا منشأ له؟!
فلا إشكال في شمول الأدلة وإطلاقها لمطلق الشرائط، وكذا الكلام في مثل
الشك في إطلاق الماء وإضافته بعد الوضوء، لشمول مثل قوله: الرجل يشك بعد ما
يتوضأ؟ قال: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) لكل شك يعرض المكلف
بعد الوضوء.
الأمر الثامن
أنحاء الشكوك العارضة للمكلف
يتصور الشك بعد التجاوز على أنحاء كثيرة، نتعرض لمهماتها، ويتضح حال
غيرها في ضمن ما ذكرنا:
الأول: الشك الطارئ بواسطة الغفلة عن صورة العمل، وهو تارة يكون مع
العلم بالحكم والموضوع، بحيث يكون الترك على فرضه مستند للسهو والغفلة، كمن
شك في السجود أو الركوع أو غيرهما لاحتمال تركهما سهوا مع العلم بهما، وتارة يكون
مع الجهل بالحكم أو الموضوع أو كليهما، وهذا على قسمين:
أحدهما: ما إذا اعتقد المكلف ضد الحكم أو الموضوع، بحيث لو فرض مصادفة
345

المأتي به للواقع كان عن سهو وغفلة، كما لو اعتقد المسافر وجوب الإتمام عليه، فصلى
واحتمل الإتيان قصرا سهوا أو نسيانا فصادف الواقع، أو اعتقد المسافة دون المسافة،
واحتمل الإتيان قصرا سهوا أو نسيانا.
ثانيهما: ما لا يكون كذلك، كما لو اعتقد المسافر كونه مخيرا بين القصر والإتمام،
فصلى واحتمل الإتيان قصرا من باب الصدفة، أو كان بين يديه مائعان يعتقد كونهما ماء
مطلقا، وكان أحدهما المعين مضافا، ثم بعد الوضوء شك في صحته، لأجل الشك في
وضوئه بالماء صدفة.
إذا عرفت ذلك: فهل الروايات كموثقة ابن مسلم: (كل ما شككت فيه
مما قد مضى فأمضه كما هو) (1) وغيرها بإطلاقها شاملة لجميع الصور
المتقدمة؟
أو منصرفة إلى القسم الأول فقط، أي ما يكون الترك مستندا إلى السهو أو الغفلة
مع العلم بالحكم والموضوع؟
أو منصرفة عن القسم الأول من قسمي الجهل بالحكم أو الموضوع، أي ما كان
الإتيان بالواقع مستندا إلى السهو والنسيان.
ثم على فرض إطلاق الأدلة، هل يكون مثل قوله: (هو حين يتوضأ أذكر) (2)
وقوله: (كان حين انصرافه أقرب إلى الحق) (3) مقيدا لها أو لا؟
أقول: دعوى الانصراف إلى القسم الأول ليست ببعيدة، وذلك لأن ارتكاز العقلاء
بأن الفاعل المريد لفراغ ذمته إذا أراد إتيان شئ يأتي بما هو وظيفته في محله، وإن
لم يصل إلى حد تطمئن النفس بأن بناءهم على عدم الاعتناء بالشك، كما ذكرنا في بعض

1 - تقدم تخريجه في صفحة 306.
2 - تقدم في صفحة 309.
3 - تقدم في صفحة 310.
346

المباحث السالفة (1)، لكن يمكن أن يدعى أن هذا الارتكاز صار موجبا لانصراف الأدلة
إلى ما يكون مرتكزا لديهم.
وبعبارة أخرى: أن الأحكام الصادرة من الشارع قد تكون تعبدية محضة، لا
طريق للعقلاء لفهم سرها، ككثير من التعبديات، وقد تكون إرشادا إلى طريقة العقلاء،
كأدلة أخبار الثقة أو اليد، وقد تكون معنى متوسطا بينهما، أي لا تكون تعبدية محضة لا
يعلم العقلاء سرها أصلا، ولا تكون إرشادية إلى ما لديهم، لعدم الحكم الجزمي بينهم، لكن
تكون من التعبديات التي يكون للعقل إليها سبيل، ويكون في ارتكاز العقلاء
ما يناسبها، وهذا الارتكاز والمناسبات المعلومة عند العقلاء قد توجب الانصراف إلى
ما ارتكز بينهم.
وما نحن فيه من هذا القبيل، فإذا سمع العقلاء قوله: (كل ما شككت فيه مما قد
مضى فأمضه كما هو) (2) يصير الأمر الارتكازي موجبا لانصرافه إلى ذلك، ويمنع عن
فهم الإطلاق، فيكون كالقرينة الحافة بالكلام أو ما يصلح للقرينية.
هذا مضافا: إلى أن الناظر في الروايات يرى أن السؤال والجواب بين الرواة
والأئمة عليهم السلام كانا ممحضين في هذا القسم، ولا يكون الجهل بالحكم أو الموضوع
في ذهنهم، فارجع إلى الروايات حتى يتضح صدق ما ذكرنا.
أضف إلى ذلك كله الشواهد الموجودة في الروايات كقوله: (هو حين يتوضأ أذكر
منه حين يشك) وقوله: (وكان حين إنصرف أقرب إلى الحق) بل وقوله: (قد ركعت
أمضه).
وبالجملة: مدعي الانصراف غير مجازف، وعوى الإطلاق بالنسبة إلى جميع
الصور في غاية الإشكال.

1 - تقدم في صفحة 338.
2 - تقدم في صفحة 306.
347

ثم على فرض إطلاق الأدلة يشكل رفع اليد عنه لقوله: (هو حين يتوضأ أذكر)
لعدم استفادة العلية للمجعول، ولا الانحصار منه، لإمكان كونه علة للتشريع
فلا يجوز رفع اليد عنه لأجله، فتدبر.
كلام بعض المحققين وما يرد عليه
ثم إن بعض المحققين ادعى الإطلاق لجميع صور الشك، وقال في تقريبه: إن
العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلف على الصحيح هي السيرة القطعية،
وإنه لولا ذلك لاختل نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوق، فضلا عن لزوم
العسر والحرج المنفيين في الشريعة، إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصادرة منه في
الأعصار المتقدمة من عباداته ومعاملاته إلا ويشك في كثير منها، لأجل الجهل بأحكامها،
واقترانها بأمور لو كان ملتفتا إليها لكان شاكا، فلو لم يحمل عملهم على الصحيح، وبني
على الاعتناء بالشك الناشئ من الجهل بالحكم ونظائره لضاق عليهم العيش.
وهذا الدليل وإن كان لبيا يشكل استفادة عموم المدعى منه، إلا أنه يعلم منه
عدم انحصار الحمل على الصحيح بظاهر الحال، فلا يجوز رفع اليد عن الأخبار المطلقة
بسبب التعليل المستفاد من قوله: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك) لأن جعله قرينة
على التصرف في سائر الأخبار فرع استفادة العلية المنحصرة منه، والمفروض عدم
الانحصار.
هذا: مع أن دلالته عليه في حد ذاته لا تخلو عن تأمل، فلا ينبغي الاستشكال في
جريان القاعدة في جميع موارد الشك (1) انتهى.

1 - حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 112 سطر 22.
348

وقد اتضح مما ذكرنا النظر فيما أفاد، لكن لا بد من رفع شبهته وحسم مادتها.
فنقول: إن المكلف قد يعلم حاله حين العمل، أي يعلم في زمان الشك أنه كان
عالما بالحكم والموضوع، ويكون شكه متمحضا في أنه هل ترك الجزء نسيانا أو سهوا
أم لا؟
أو يعلم أنه كان جاهلا بهما على النحو الأول من النحوين المتقدمين في صدر
المبحث، بحيث كان الإتيان بالمأمور به على وجهه من باب السهو والنسيان.
أو على النحو الثاني منهما، بحيث كان الإتيان به على وجهه من باب الصدفة.
وقد لا يعلم حاله أصلا، بحيث يحتمل أن يكون تركه مستندا إلى السهو والنسيان،
مع العلم بالموضوع والحكم.
ويحتمل أن يكون الإتيان من باب السهو.
ويحتمل أن يكون من باب الصدفة، ويعلم حال الصور الأخرى من ذكر تلك
الصور.
فإن بنينا على انصراف أدلة التجاوز إلى الشك في أنه ترك سهوا ونسيانا، مع
العلم بالموضوع والحكم، كما هو الحق، فحينئذ لو علم المكلف حاله فإن كان شكه من
قبيل ذلك لا يعتني به، وإن كان من غيره يعتني به.
لكن علم المكلف بالنسبة إلى الأعمال السابقة في غاية الندرة - لو لم نقل أنه
لا يوجد مكلف يعلم حاله تفصيلا وبجميع خصوصيتها - فنوع المكلفين لا يعلمون أن
تركهم على فرضه كان مستندا إلى السهو أو الجهل بأحد قسميه، فالشك في الأعمال
السابقة كثير واقع من نوع المكلفين.
لكن تشخيص الحال السابقة، وأنه كان عالما أو لا، وعلى الثاني كان جهله
بالحكم أو الموضوع، وعلى أي نحو من أنحاء الجهل في غاية الندرة، فيحتمل نوع
349

المكلفين أن يكون تركهم مستندا إلى السهو، حتى يكون شكهم مشمولا لقاعدة التجاوز
أو لا حتى لا يكون مشمولا لها، فلو حكمنا بلزوم إعادة الأعمال السابقة من العبادات
والمعاملات يلزم اختلال النظام معاشا ومعادا، ولم يقم للمسلمين سوق، كما قرره
المحقق المتقدم، لكن مقتضى القواعد خلاف ذلك.
حال الشك في العبادات
توضيحه: أن الأعمال السالفة إما أن تكون من قبيل العبادات، أو من قبيل
المعاملات، والعبادات إما موقتات، كالصلاة والصوم، أو لا.
لا إشكال في أن غير الموقتات كالزكاة والخمس وأمثالهما يكون الشك فيها نادرا
جدا، فلا يلزم من الاعتناء بالشك فيها اختلال النظام، ولا العسر والحرج، ولا غيرهما.
وإنما الإشكال في الموقتات من قبيل الصلاة - وهي العمدة - الصوم، لكن
الصوم أيضا يكون الشك فيه نادرا، فالعمدة هي الشكوك الصلاتية، والشك فيها
لا يوجب القضاء، لأن القضاء يكون بأمر جديد، فلو شك المكلف في صحة صلاته
السابقة، ولا يعلم حاله، واحتمل أن يكون الترك مستندا إلى السهو حتى تشمله قاعدة
التجاوز، أو لا حتى لا تشمله، يكون التمسك بكل من دليل القاعدة والاستصحاب
غير جائز، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، والأصل البراءة من
القضاء.
هذا مضافا: إلى أن الجهل بالحكم بالنسبة إلى الأركان نادر جدا أو غير متحقق،
وفي غير الأركان وإن كان كثيرا، لكن المكلف لا يعلم حاله، وأن تركه على فرضه يكون
عن جهل أو نسيان كما عرفت.
350

فحينئذ: إن قلنا بشمول (لا تعاد الصلاة...) (1) للترك عن جهل، كما لا يبعد (2)،
فمع كون الترك محققا لا تجب الإعادة، فضلا عن صورة عدم معلوميته، وإن قلنا بعدم
شموله للترك عن جهل لما كان حال المكلف مجهولا يحتمل أن يكون مشمولا
ل‍ (لا تعاد..) لاحتمال أن يكون تركه عن سهو، فمع العلم بالترك حينئذ أيضا يشك في
وجوب القضاء عليه، والأصل البراءة منه.
مع إمكان أن يقال: إن الاستصحاب لا يثبت الفوت (3)، فلا يجب القضاء.
هذا كله مع أن الشاك في جميع أعماله السابقة أو كثير منها يكون من كثير الشك،
ولا يجب عليه الاعتناء بشكه، تأمل، ولا يلزم منه عدم الاعتناء بالشك في الأعمال
الحاضرة إذا لم يكن بالنسبة إليها كثير الشك.
هذا حال العبادات.
حل الشك في المعاملات
وأما في المعاملات السابقة المشكوك فيها كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها، فإما
أن تكون الأعيان المتعلقة للمعاملة موجودة، أو تالفة بتلف سماوي، أو بإتلاف من
المتعاملين، وعلى أي حال لا يجري استصحاب عدم تحقق العقد الجامع للشرائط بنحو
الكون الناقص، لعدم الحالة السابقة، ولا بنحو الكون التام، لعدم ترتب الأثر عليه
إلا بالأصل المثبت، تأمل.
ولو فرض جريانه يكون حاله حال أصالة عدم النقل، أو أصالة بقاء العين على

1 - الفقيه 1: 225 / 991، الوسائل 4: 770 / 5 - باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة.
2 - انظر كتاب الخلل في الصلاة للإمام قد سره: 10 و 11.
3 - فوائد الأصول 1: 240، كتاب الخلل في الصلاة للإمام قدس سره: 247.
351

ملك صاحبها، حيث إنه مع جريانهما في حد ذاتهما غير جاريين فيما نحن فيه، لأن
المتعاملين كما عرفت في العبادات غير عالمين حين الشك بحالهما حال العقد، ويحتمل
كل منهما أن يكون تركه الشرائط المقررة على فرضه عن سهو مع العلم بالحكم
والموضوع، حتى يكون شكه مجرى القاعدة، ولا يجري الاستصحاب أولا، فالمورد من
الشبهة المصداقية للدليلين.
فحينئذ: إن كانت العين المتعلقة للمعاملة موجودة، مرددة بين كونها لنفسه
أو لصاحبه، لا يبعد جريان أصالة الحل، وما قيل: من أن الأصل في الأموال
الاحتياط (1) لا دليل عليه يمكن التمسك به في مثل المورد، وإن كانت تالفة فالأصل
العقلي والشرعي هو البراءة عن الضمان بعد عدم جريان (من أتلف..) (2) و (على
اليد..) (3) لكون الشبهة مصداقية.
وأما باب النكاح والطلاق فالذي يسهل الخطب فيهما أن مجراهما غالبا بحيث
يشذ تخلفه هو التعبير بالوكالة، وأصالة الصحة في فعل الغير جارية في مثلها، كما سيأتي
إن شاء الله (4).
فتحصل مما ذكرنا: أن انحصار جريان القاعدة بما كان الترك مستندا إلى السهو
أو النسيان لا يلزم منه اختلال النظام، ولا العسر والحرج، كما ادعى المحقق المتقدم،
وأما دعواه أن بناء العقلاء على عدم الاعتناء بمثل هذا الشك مطلقا فممنوعة كما ذكرنا
سابقا (5).

1 - انظر هداية الأبرار للكركي: 230، فوائد الأصول 3: 385.
2 - وهي قاعدة متصيدة من الروايات.
3 - مسند أحمد بن حنبل 5: 8، سنن البيهقي 6: 90، 95، و 8: 276، سنن أبي داود 2: 318 / 3561، سنن ابن ماجة 2:
802 / 2400.
4 - يأتي في صفحة 374 - 378.
5 - تقدم في صفحة 388 - 340.
352

وأما الشك الحاصل من احتمال الترك عمدا فقد ظهر حكمه مما مر: من أن
مساق الروايات هو اختصاص القاعدة بصورة الشك مع احتمال الترك السهوي،
لا العمدي، وقوله: (هو حين يتوضأ أذكر) وإن كان ظاهره أنه لما كان أذكر يأتي به، لكنه
ليس في مقام التعبد بوجود المشكوك فيه، ولو مع احتمال الترك العمدي، ولا إطلاق فيه
من هذه الجهة، بل عدم الترك عمدا مفروض بين السائل والمسؤول عنه، فلا يستفاد من
الروايات إلا الشك مع كون الترك، على فرضه مستندا إلى السهو والخطأ وأمثالهما.
نعم: احتمال الترك التعمدي مما لا يعتني به العقلاء، فإن العاقل المريد لإبراء
الذمة لا يترك ما يعتبر في المأمور به عمدا، مع العلم بأن تركه موجب للبطلان، بل الترك
عمدا منه - مع التوجه لكل الخصوصيات حكما وموضوعا - ممتنع عادة.
وهذا مراد الشيخ الأنصاري من قوله: إن الترك سهوا خلاف فرض الذكر، وعمدا
خلاف إرادة الإبراء (1)، فنفى الترك السهوي بالقاعدة، والعمدي بقاعدة عقلائية، هي
أنه خلاف إرادة الإبراء.
وأما الشك الطارئ من احتمال وجود الحائل فلا يعتني به العقلاء مطلقا،
لا حال العمل، ولا قبله، ولا بعده، وبعض صوره مشمول للقاعدة أيضا.
وأما الشك في حائلية الموجود فلا شبهة في اعتناء العقلاء به، وأما شمول القاعدة
له - فيما إذا كان احتمال الترك مستندا إلى الغفلة عن رفع الحائل وإيصال الماء إلى
البشرة - فلا إشكال فيه، كما أنه لا إشكال في عدم الشمول فيما إذا احتمل وصول الماء
قهرا مع العلم بالغفلة عن رفعه حين العمل، وهي الصورة الثانية التي لم يكن غافلا عن
صورة العمل، ويظهر حال صورة تردده بين الأمرين مما ذكرنا في صورة الجهل (2)،
وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر حال سائر صور الشك.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 414 سطر 13.
2 - تقدم في صفحة 345 - 347.
353

الأمر التاسع
اختصاص القاعدة بالشك الحادث
الظاهر من أدلة التجاوز أن الشك الذي لا يعتنى به هو الشك الحادث
بعد التجاوز، فلو كان باقيا من قبل لا يكون مشمولا للأدلة (1)، ويتفرع عليه أنه لو شك
قبل العمل في الطهارة مع كونه مسبوقا بالحدث، فغفل ودخل في العمل، ثم تنبه،
فإن احتمل بعد العمل حصول الطهارة بعد الشك والغفلة قبل العمل، فلا إشكال في
جريان القاعدة، لأنه شك حادث بعد العمل، وإن لم يحتمل فلا تجري، لأنه شك
موجود في النفس، حاصل قبل العمل، وإن كان مغفولا عنه، ومقتضى قاعدة الاشتغال
إعادة الصلاة.
ولا يجري الاستصحاب في حال الغفلة عن الشك (2)، لأن حجية الاستصحاب
متوقفة على الشك الفعلي الذي يكون ملتفتا إليه، ليكون الاستصحاب مستندا للفاعل
في عمله، كما هو الشأن في كلية الحجج عقلا، فلا يكون الاستصحاب حجة وجاريا في
حال الغفلة عن الشك أو اليقين.
ولو شك في الطهارة مع كونه عالما بسبقها فصلى، فزال العلم، يأتي فيه الوجهان
المتقدمان: من جريان القاعدة مع احتماله بعد العمل إيجاد الطهارة قبل العمل في حال
الشك في الحدث، وعدمه مع عدمه.
ويمكن أن يفصل في المقامين بين ما إذا صار الشك مذهلا رأسا، بحيث
يقال في الشك الحاصل بعده: إنه شك حادث، فيقال بجريان القاعدة،
وعدم جريان الاستصحاب، وبين ما إذا غفل عن شكه مع كونه موجودا في

1 - انظر درر الفوائد: 604.
2 - انظر فوائد الأصول 4: 649 و 650.
354

خزانة النفس، نظير عدم العلم بالعلم، فيقال بعدم جريان القاعدة، وجريان
الاستصحاب.
ومما ذكرنا: يظهر النظر في كثير مما ذكره بعض أعاظم العصر رحمه الله (1).
الأمر العاشر
وجه تقدمها على الاستصحاب
بناء على استفادة الأمارية من أدلة التجاوز، أو كون القاعدة أمارة
عقلائية يكون وجه تقدمها على الاستصحاب هو الحكومة، وتنتج الورود على
وجه.
وبناء على استفادة الأصلية منها:
فإن قلنا: بأن المستفاد من أدلة الاستصحاب هو جعل الحكم للشاك، وأن الشك
موضوع في الاستصحاب، ومفاد (لا تنقض..) أنه إذا شككت رتب آثار اليقين
أو المتيقن، أو إذا شككت ابن علي وجود المشكوك فيه، وجه تقدمها أيضا الحكومة،
وتنتج الورود على وجه، لأن الظاهر من قوله: (إنما الشك إذا كنت في شئ لم تجزه) أنه
مع التجاوز لا يكون الشك محققا، فيكون مفاده رفع موضوع الاستصحاب، وتعرض
دليل القاعدة لما لا يتعرضه دليل الاستصحاب.
بل الظاهر من قوله في صحيحة حماد بن عثمان: (قد ركعت أمضه) هو إلغاء
الشك ورفعه، بل لا يبعد أو يكون قوله في صحيحة زرارة: (فشكك ليس بشئ) وفي
موثقة ابن أبي يعفور: (فليس شكك بشئ) حاكما على أدلة الاستصحاب، بناء على أخذ

1 - انظر فوائد الأصول 4: 649 و 650.
355

الشك في موضوعه، كما هو المفروض.
وإن قلنا: بأن مفاد أدلته هو إبقاء اليقين، وإطالة عمره في عالم التشريع - كما
احتملناه واستظهرناه سالفا (1) - فليس وجهه الحكومة، بل التخصيص، لأخصية دليلها
من دليله.
وإن قلنا: بأن مفاد أدلة الاستصحاب هو لحاظ الشك واليقين، وأن الشك لأجل
كونه أمرا غير مبرم لا ينقض اليقين الذي هو أمر مبرم، كما هو ظاهر الأدلة (2)، وليس
مفادها مجرد إطالة عمر اليقين، وإلغاء الشك رأسا.
فحينئذ: يكون التقدم بالحكومة أيضا، لأن أحد الدليلين يكون مفاده أن الشك
المتحقق لا ينقض اليقين، ومفاد الآخر أن الشك غير متحقق (وإنما الشك إذا كنت في
شئ لم تجزه).
وإن قلنا: بأن الشك موضوع في القاعدة، وأن قوله: (فشكك ليس بشئ)
ليس معناه عدم تحققه، بل كناية عن عدم لزوم الاعتناء به، أو عدم جوازه،
وقوله: (إنما الشك إذا كنت..) إلى آخره بعد كون المفروض في صدره وقوع الشك
ليس إلا عدم لزوم الاعتناء به، وأن قوله: (قد ركعت) بعد مسبوقيته بالسؤال عن
حال الشك لا يفيد إلا البناء على الوجود في حال الشك، كان تقدمها عليه بما
ذكره الأعلام من حصول اللغوية أو الاستهجان (3)، ولعل هذا الوجه أقوى
الوجوه.
وكيف كان: لا إشكال في تقدمها عليه، كما لا ثمرة مهمة في تحقيق
وجهه.

1 - تقدم في صفحة 153.
2 - انظر صفحة 32 وما بعدها.
3 - كفاية الأصول: 493، فوائد الأصول 4: 619، نهاية الأفكار 4: 37 - القسم الثاني، درر الفوائد: 612.
356

المبحث الثالث
في حال الاستصحاب مع أصالة الصحة في فعل الغير
ولا إشكال في تقدمها عليه في الجملة، ولا بد من بسط الكلام فيها، ثم بيان
النسبة بينهما، ووجه تقدمها عليه في ضمن أمور:
357

الأمر الأول
في أصالة الصحة ودليل اعتبارها
قد استدل على اعتبار القاعدة بأمور من الكتاب (1) والسنة (2) والإجماع (3)
والعقل (4) مما يمكن الخدشة في جلها لولا كلها، والدليل عليها هو بناء العقلاء والسيرة
العقلائية القطعية من غير اختصاصها بطائفة خاصة كالمسلمين، ولا اختصاص
جريانها بفعل المسلم، وليس للمسلمين في ذلك طريقة خاصة تكشف عن كون أصالة
الصحة ثابتة من قبل شارع الاسلام.
بل الضرورة قائمة بأنها كانت ثابتة قبل الاسلام من لدن صيرورة الانسان متمدنا
مجتمعا على قوانين إلهية أو عرفية، وصارت أنواع المعاملات رائجة بينهم، والإسلام بدأ
في زمان كانت تلك القاعدة كقاعدة اليد وكالعمل بخبر الثقة معمولا بها بين الناس،
منتحليهم بالديانات وغيرهم، والمسلمون كانوا يعملون بها كسائر طبقات الناس، من
غير انتظار ورود شئ من الشرع.

1 - جامع المقاصد 5: 162، رسائل الشيخ الأنصاري: 415.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 416، نهاية الأفكار 4: 78 - القسم الثاني.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 414 و 416، وفوائد الأصول 4: 654، نهاية الأفكار 4: 78 - القسم الثاني.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 416.
358

والآن يحمل المسلمون أعمال سائر الملل في نكاحهم وطلاقهم وعقودهم
وإيقاعاتهم على الصحة، وهم يحملون أعمال المسلمين عليها، من غير كون ذلك في
إرتكازهم أمرا دينيا.
ومن ذلك يعلم: أن سيرة المسلمين والإجماع القولي والعملي ليس شئ منها
دليلا برأسه، بل كلها ترجع إلى هذا الأمر العقلائي الثابت لدى جميع العقلاء، وهذا واضح
جدا.
وإن شئت الاستدلال عليها بدليل لفظي، فيمكن أن يستدل عليها بطوائف من
الأخبار المتفرقة في أبواب الفقه:
منها: الروايات الواردة في باب تجهيز الموتى، حيث تدل على اكتفاء المسلمين
في الصدر الأول على فعل الغير في غسل الموتى وكفنهم وسائر التجهيزات، وكانوا
يصلون عليهم من غير تفتيش عن صحة الغسل والكفن (1)، مع وجوب الغسل وسائر
التجهيزات على جميعهم، ولم يكن اكتفاؤهم بفعل الغير إلا لأجل البناء على الصحة،
ودعوى حصول العلم بصحة الغسل وسائر التجهيزات الصادرة عن غيرهم كما ترى.
ومنها: الروايات الواردة في باب الحث على الجماعة والجمعة، والأمر بالائتمام
خلف من يوثق بدينه وأمانته (2)، وفي هذا الباب روايات كثيرة دالة على أن أصالة
الصحة كانت أصلا معتبرا عند رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام،
إذ لا إشكال في أن إحراز صحة صلاة الإمام ولو بالأصل شرط في جواز الائتمام به، ولو
لم تكن أصالة الصحة معتبرة لم يكن إحرازها ممكنا، مع أن الإمام كثيرا ما يكون
مستصحب الحدث لدى المأموم.
ومنها: ما دلت على البيع والشراء لرسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة

1 - انظر على سبيل المثال قرب الإسناد: 43 و 63، الوسائل: 2: 780 / 13 - باب 6 من أبواب صلاة الجنازة.
2 - الكافي 3: 374 / 5، الوسائل 5: 388 / 2 - باب 10 من أبواب صلاة الجماعة.
359

عليهم السلام، كرواية عروة البارقي في الفضولي (1)، وهذه الطائفة كثيرة يطلع عليها
المتتبع (2).
ومنها: ما دلت على توكيل بعض الأئمة عليهم السلام غيرهم للزواج والطلاق،
كتوكيل أمير المؤمنين عليه السلام العباس في أمر أم كلثوم (3)، توكيل أبي الحسن
عليه السلام محمد بن عيسى اليقطيني (4) في طلاق زوجته (5).
ومنها: روايات التوكيل (6).
ومنها: الروايات الدالة على تصحيح نكاح الأب والجد، بل مطلق روايات جعل
الولاية لهما (7).
ومنها: روايات تصحيح التجارة بمال اليتيم (8).
ومنها: ما دلت على جعل القاضي والحاكم والإمام (9).

1 - مسند أحمد بن حنبل 4: 376، سنن أبي داود 2: 276 / 3384، مستدرك الوسائل 2: 462 / 1 - باب 18 من أبواب
عقد البيع وشروطه.
عروة البارقي: هو عروة بن الجعد وقيل ابن أبي الجعد البارقي، وبارق من الأزد، ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله. انظر رجال الطوسي: 24 / 30، أسد الغابة 3: 403، الإصابة 2: 476 / 5518.
2 - كحديث حكيم بن حزام في سنن أبي داود 2: 276 / 3386، بحار الأنوار 100: 136 / 4.
3 - الكافي 5: 346 / 2، الوسائل 14: 217 / 3 - باب 10 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.
4 - اليقطيني: هو محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين مولى بني أسد ابن خزيمة، أبو جعفر العبيدي اليقطيني الأسدي
الخزيمي البغدادي اليونسي، جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصنيف. عده الشيخ في أصحاب
الرضا والهادي والعسكري وفي من لم يرو عنهم عليهم السلام. انظر رجال النجاشي: 333 / 896، رجال ابن داود:
275 / 474، تنقيح المقال 3: 167 / 11211.
5 - التهذيب 8: 40 / 121، الاستبصار 3: 279 / 992، الوسائل 15: 334 / 6 - باب 39 من أبواب مقدمات الطلاق
وشرائطه.
6 - انظر وسائل الشيعة 13: 285.
7 - انظر الكافي 5: 394 / 9 و 395 / 2، الوسائل 14: 207 / 1 - باب 6 و 217 / 1 - باب 11 من أبواب عقد النكاح
وأولياء العقد.
8 - الكافي 5: 208 / 1 و 7: 67 / 2، الفقيه 4: 161 / 564، التهذيب 7: 68 / 294، الوسائل 12: 269 / 1 - باب 15
من أبواب عقد البيع وشروطه.
9 - الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1، التهذيب 6: 219 / 516، الوسائل 18: 4 / 5 - باب 1 من أبواب صفات
القاضي.
360

إلى غير ذلك مما يعلم بها علما ضروريا أن مسألة الحمل على الصحة كان معمولا
بها من عصر رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، وكان عملهم كسائر
العقلاء، ولم يكن للشارع تصرف ودخالة فيها.
والإنصاف: أن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إتعاب النفس فيه.
ثم إن الظاهر أن موضوع بناء العقلاء ليس منحصرا بالعمل الصادر من الفاعل،
كما يكون موضوع قاعدة الفراغ على القول بها (1)، بل هو أعم منه، فإن بناءهم على
معاملة الصحة مع الفعل الذي سيصدر من الفاعل، أو يشتغل به إذا كان منشأ للأثر،
فيأتمون بالإمام مع الشك في صحة عمله، ويوكلون الغير في النكاح والبيع وسائر
أمورهم مما له صحة وفساد مع الشك في صدوره منه صحيحا، وبعض الأخبار المتقدمة
أيضا يدل على ذلك، فدائرة أصالة الصحة في فعل الغير أوسع منها في فعل النفس.
الأمر الثاني
هل أن الصحة في الواقعية أم لا؟
هل المحمول عليه فعل الفاعل هو الصحة باعتقاد الفاعل، أو الصحة الواقعية؟
وقبل تحقيق ذلك لا بد من بيان أمر، وهو أنه قد عرفت أن مبنى أصالة الصحة
هو بناء العقلاء، ومبنى ذلك البناء يمكن أن يكون أحد أمرين:
أحدهما: أن ذلك من جهة إلقاء احتمال الخلاف، لأجل غلبة صدور الفعل
الصحيح من الفاعل المريد لإيجاد فعل لتوقع ترتب الأثر عليه، فإن الفاعل الكذائي
لا يخل بشئ مما هو معتبر في المأتي به عمدا، والترك السهوي خلاف الأصل العقلائي.

1 - وقد تقدم البحث سابقا في صفحة 315.
361

وبالجملة: إيجاد الفعل فاسدا عمدا أو سهوا أو غفلة نادر لا يعتني به العقلاء،
بل احتماله مغفول عنه نوعا لدى العقلاء، فالحمل على الصحة لأجل الغلبة، وندرة
التخلف في فعل الفاعل.
ثانيهما: أن مبنى بناء العقلاء في الحمل على الصحة أن سائسي الأقوام والنافذين
فيهم - من السلاطين والرؤساء في الأزمنة القديمة التي كانت أوان حدوث التمدن
والاجتماع البشري وحدوث الاختلاط بين الطوائف، وتدوين القوانين بينهم - وضعوا
القوانين المفيدة السهلة، لرغد العيش وسهولة الأمر بينهم، ومنها: إجراء أصالة الصحة،
فكانت في أول الأمر قانونا مدنيا بينهم، حتى صارت مرتكزة معمولا بها، فصارت
كالطبيعة الثانية لهم، ولعل كثيرا من المرتكزات الآن كان كذلك في أوان تمدن البشر،
فأخذ اللاحق من السابق، وورث الأبناء من الآباء، فصارت مرتكزة بينهم.
إذا عرفت ذلك: فاعلم أنه إذا كان مبنى أصالة الصحة هو الأمر الأول يكون
المحمول عليه هو الصحة في اعتقاده، وإن كان الثاني يكون هو الصحة الواقعية.
ثم على الأول لو فرض الحمل على الصحة الواقعية لابد وأن يدعى أمر آخر: هو
أنه عند الشك في اعتقاد الفاعل يحمل اعتقاده على كونه موافقا لاعتقاد الحامل، بدعوى
أن الحامل لما رأى اعتقاده موافقا للواقع يحمل رأي الفاعل على الصحة، فيجري أصالة
الصحة في اعتقاده، كما يجري في عمله، فيحمل عمله على الصحة الواقعية باعتبارهما.
أقول: لا إشكال في تعامل العقلاء مع الفعل المشكوك فيه في الجملة عمل
الصحة الواقعية، ضرورة ترتيبهم آثار الواقع على المعاملات والعبادات الصادرة من
الناس، كما أنه لا إشكال في عدم جريان أصالة تطابق اعتقاد الفاعل لاعتقاد
الحامل (1)، ضرورة أنه مع كثرة مخالفة الاعتقادات والاجتهادات في الأحكام لا يبقى

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 417 سطر 10.
362

مجال لذلك الأصل، ودعوى ارتكازية هذا الأصل كما ترى.
فمن ذلك تصير دعوى كون مبنى أصالة الصحة هو الغلبة المتقدمة مشكلة، لأن
ما كانت دعوى الغلبة فيه صحيحة هو غلبة إتيان الفاعل العمل على طبق اعتقاده،
لا على طبق الواقع ولو لم يكن موافقا لاعتقاده (1).
فمن ذلك لا يبعد أن يقال: إن مبنى أصالة الصحة ليس الغلبة، بل هو الأمر
الثاني.
اللهم إلا أن يدعى أن الاعتقادات والآراء الاجتهادية وإن كانت مختلفة، لكن
الغالب في مقام العمل مراعاة الاحتياط، وتطبيق العمل على الواقع، فجريان أصالة
الصحة من هذا الباب.
ولا يخلو هو أيضا من إشكال، كما أن كون مبنى أصالة الصحة هو الأمر الثاني
أيضا في غاية الإشكال.
والذي يسهل الخطب أن بناء العقلاء على جريان أصالة الصحة، والحمل على
الصحة الواقعية معلوم في موردين:
أحدهما: فيما إذا علم مطابقة رأي العامل للحامل.
وثانيهما: فيما إذا جهل حال العامل.
وغالب الموارد يكون من هذا القبيل، وغيره نادر.
وفيما إذا علم مخالفتهما: فقد يكون التخالف بينهما بالتباين، كما لو اعتقد أحدهما
وجوب القصر في أربعة فراسخ وإن لم يرجع ليومه، والآخر وجوب الإتمام، ففي هذه
الصورة لا تجري أصالة الصحة، لأن جريانها مساوق لحمل فعله على السهو والغفلة،
وهو مخالف للأصل.

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 416، فوائد الأصول 654، نهاية الأفكار 4: 79 - القسم الثاني، نهاية الدراية 3: 312.
363

وقد يكون التخالف بغيره، كما لو اعتقد الفاعل التخيير بين الجهر والإخفات في
ظهر يوم الجمعة، واعتقد الحامل تعين الإخفات فيه، وهذه الصورة، مورد الشك في بناء
العقلاء، فلا بد من العمل في هاتين الصورتين على سائر الأصول.
ولا يلزم من ترك العمل عليها فيهما محذور اختلال النظام والعسر والحرج، لأن
غالب موارد الابتلاء بحيث يشذ ما عداه هو صورة الجهل بحال الفاعل، وهو المتيقن
من جريان الأصل فيه، والعمل فيه على الصحة الواقعية.
الأمر الثالث
حول أقسام الشك في العمل وأحكامها
الشك في العمل تارة يكون في تحقق ركن مقوم منه، لولاه لم يصدق عليه
عنوانه عرفا، كالشك في وقوع العقد بلا ثمن، أو الشك في مالية العوضين، أو في تميز
المتعاملين، فإن الإخلال بكل واحد مما ذكر مخل بتحقق العقد عرفا ولو على القول
بالأعم (1).
وأخرى يكون في جهة أخرى بعد استكماله للأركان بالمعنى المتقدم.
فحينئذ: قد يكون الشك في شرائط المتعاملين، كالشك في بلوغهما، أو كونهما
مختارين.
وقد يكون في شرائط العوضين، ككونهما خمرا أو خنزيرا أو مجهولا.
وقد يكون في شرائط نفس العقد، كالشك في تقدم الإيجاب، وعربية العقد.
وقد يكون في تحقق شرط مفسد بناء على مفسدية الشرط الفاسد، هذه جملة

1 - انظر هداية المسترشدين: 100 سطر 9.
364

الشكوك الحاصلة في العمل.
لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الأصل في الصورة الأولى، لأن الشك يرجع
إلى تحقق العقد، وفي مثله لا تجري أصالة الصحة.
وإن شئت قلت: إن أصالة الصحة لا تجري عند العقلاء إلا بعد إحراز عنوان
العمل، ومع الشك فيه لا مجرى لها.
وبعبارة أخرى: الصحة واللا صحة في الرتبة المتأخرة عن وجود العمل، ومع
الشك في تحققه لا معنى لإجراء أصالة الصحة، سواء كانت الصحة بمعنى التمامية،
أو معنى انتزاعيا.
وأما الصور الاخر ما عدا الصورة الأخيرة التي يأتي الكلام فيها فالظاهر جريانها
فيها، من غير فرق بين الشك في قابلية العوضين للنقل والانتقال شرعا، أو قابلية
المتعاملين لإجراء العمل كذلك، أو غيرهما، لاستقرار بناء العقلاء على ذلك.
بل لا معنى لاستقرار طريقة العقلاء بما أنهم عقلاء على موضوع مع القيود
الشرعية، وقد عرفت (1) أن أصالة الصحة من الأصول العقلائية السابقة على شريعة
الاسلام، فجريانها فيها مما لا مانع منها.
وأما ما ادعاه بعض أعاظم العصر رحمه الله - بعد دعواه إجماعا بنحو الكبرى
الكلية على أصالة الصحة في مطلق العمل، وإجماعا آخر على خصوص العقود - أنه
لا دليل على أصالة الصحة في العقود سوى الاجماع، وليس لمعقده إطلاق يعم جميع
الصور، والقدر المتقين منه ما إذا كان الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال، بعد الفراغ
عن سلطنة العاقد لإيجاد المعاملة من حيث نفسه، ومن حيث المال المعقود عليه.
وبعبارة أوضح: أهلية العاقد لإيجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه للنقل والانتقال

1 - تقدم في صفحة 358.
365

إنما تكون مأخوذة في عقد وضع أصالة الصحة، فلا تجري إلا بعد إحرازهما (1) انتهى.
ففيه أولا: أن الدليل عليها هو بناء العقلاء، مع عدم ورود ردع من الشارع،
لا الاجماع.
وثانيا: بعد فرض الاجماع عليها في مطلق العمل بنحو الكبرى الكلية اللازم منه
الأخذ بعموم معقده في جميع الموارد المشكوك فيها لا معنى لإجماع مستقل آخر على
خصوص البيع، بحيث يكون في مقابل الاجماع المتقدم، وعلى فرضه لا يضر عدم إطلاق
معقده بعموم معقد الاجماع الأول، فيجب الأخذ به في جميع صور الشك في العقود.
والإنصاف: أن دعوى الاجماع أولا بنحو الكبرى الكلية، وثانيا في خصوص
العقود بنحو الاجمال، ثم دعوى كون أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه للنقل اخذا في
عقد وضع أصالة الصحة، كلها في غير محلها.
والتحقيق: ما عرفت من جريانها في جميع الصور المشار إليها.
ثم إنه يظهر من المحقق الثاني أن أصالة الصحة في العقود شئ، والظاهر - أي
ظهور حال المسلم أو الفاعل في إيجاد العقد صحيحا - شئ آخر مستقل في قبال أصل
الصحة، حيث قال في جواب " إن قلت ": قلنا إن الأصل في العقود الصحة بعد
استكمال أركانها إلى أن قال: وكذا الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور، لا مطلقا (2)
انتهى.
وكذا يظهر من الشيخ الأعظم ارتضاؤه بذلك، حيث أجاب عن أصالة الصحة
مستقلا (3)، وعن الظاهر المدعى مستقلا، من غير تعرض لعدم كونهما عنوانين
مستقلين.

1 - فوائد الأصول 4: 654 و 657 و 658.
2 - جامع المقاصد 5: 315.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 418 سطر 12.
366

والتحقيق: أنه ليست أصالة الصحة أصلا مستقلا عقلائيا أو شرعيا،
وظهور حال المسلم أو الفاعل أمرا مستقلا (1) يدل على اعتباره دليل عقلائي أو
شرعي، بل الذي يكون مورد بناء العقلاء هو المعاملة بالصحة مع الفعل المشكوك
فيه، وأما ظهور حال الفاعل فيحتمل أن يكون مبنى هذا العمل، كما أنه يمكن أن
يكون مبناه ما أشرنا إليه في الأمر المتقدم، فكونهما أمرين مستقلين مما لا وجه له، ولا
دليل عليه.
هذا كله حال ما عدا الصورة الأخيرة المتقدمة، وأما هي، أي ما يكون الشك من
ناحية جعل الشرط المفسد فيها أنه قد يكون الاختلاف بين المتعاملين في جعل
الشرط المفسد وعدمه، فيدعي أحدهما اشتراط أمر مجهول، وينكر الآخر أصل
الاشتراط، وقد يكون في جعله وجعل غيره، بعد اتفاقهما على أصل الإشتراط، فيدعي
أحدهما اشتراط خياطة ثوب، والآخر اشتراط خياطة ثوب معلوم.
ثم إنه قد يرجع اختلافهما إلى الأقل والأكثر، وقد يرجع إلى المتباينين:
فعلى الأول قد يقال: إنه يكون القول قول منكر أصل الاشتراط، لأصالة عدم
الإشتراط (2)، والشك في صحة العقد وفساده مسبب عن الشك في جعل الشرط المفسد،
لكن ذلك لو لم نقل بأن أصالة الصحة أمارة عقلائية، وإلا فلو جرت في المسبب ترفع
موضوع السبب.
ومنه يظهر الحال في الاشتراط الراجع إلى الأقل والأكثر.
وأما مع التباين: كما إذا ادعى أحدهما اشتراط خياطة الثوب المعلوم، والآخر
اشتراط شرب الخمر، وقلنا بمفسدية الشرط الفاسد مطلقا (3) فالمرجع - بعد تساقط

1 - نفس المصدر: 418 سطر 15.
2 - نفس المصدر.
3 - انظر كتاب البيع للإمام قدس سره 243 - 250.
367

الأصلين أو مطلقا - أصالة الصحة.
لا يقال: إن أصالة عدم جعل الشرط من قبيل الأعدام الأزلية، كأصالة عدم
القرشية (1).
لأنا نقول: إنشاء الشرط إنما يوجد تدريجا بعد تحقق الإيجاب، لكونه في
ضمنه، فقول البائع: " بعتك هذا بهذا، وشرطت عليك كذا " لما وجد تدريجا يمكن
أن يقال إن الإيجاب معلوم وإنشاء الشرط في ضمنه مشكوك فيه، فيدفع بالأصل،
كاستصحاب عدم عروض المفسد للصلاة، لكن في الاستصحاب في المقام - ولا
سيما أصالة عدم الشرط في ضمن الإيجاب - شبهة المثبتية، وليس المقام مناسبا
للتفصيل، والغرض في المقام جريان أصالة الصحة مطلقا، لا جريان أصل آخر.
ثم إنه يظهر من عبارة المحقق الثاني المنقولة من كتاب الإجارة أن
مورد أصالة الصحة إنما يكون فيما شك في الشرط المفسد بعد إحراز سائر
شرائط العقد، وأما إذا شك في شئ مما هو معتبر في العقد أو المتعاقدين أو
العوضين فلا مجال لأصالة الصحة، لأن الأصل عدم السبب الناقل (2)، وهو
كما ترى.
ولعل ذلك مراده من استكمال الأركان، لا الذي ذكرنا سابقا،
ثم إن تمسكه بأصالة عدم المفسد في عرض أصالة الصحة خلاف
الصناعة، كما أن إنكار الشيخ الأعظم جريان أصالة الصحة مطلقا (3) محل
منع.

1 - انظر منية الطالب 2: 106 سطر 1.
2 - جامع المقاصد 7: 307 و 308.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 419 سطر 15.
368

الأمر الرابع
اختصاص القاعدة بما إذا شك في تحقق الشئ صحيحا
لا إشكال في أن مورد جريان أصالة الصحة إنما هو فيما إذا شك في أن العمل
الكذائي هل وجد صحيحا أم فاسدا، وأما إذا شك في ترتب الأثر على فعل - من جهة
أحرى سوى الفساد - فلا تجري أصالة الصحة لرفع هذا الشك.
كما أنه لو شككنا في عروض البطلان على عمل بعد حدوثه صحيحا لا تنفع
أصالة الصحة في بقاء صحته وعدم عروض البطلان عليه، فإذا شككنا في عقد محقق
أنه وجد صحيحا أو فاسدا تجري أصالة الصحة فيه، سواء شك في شرائط العقد،
أو المتعاملين، أو العوضين، كما عرفت.
وأما إذا علم تحقق الإيجاب صحيحا، وشك في تعقبه بالقبول، أو علم
بوجود عقد فضولي، وشك في تعقبه بالإجازة، فلا معنى لجريان أصالة الصحة،
لأن الشك لا يكون في فساد العقد أو فساد الإيجاب، بل في تحقق الجزء المتمم له،
وليس القبول من شرائط صحة الإيجاب، حتى يكون الشك في صحته، بل الشك
إنما هو في أصل وجود العقد، وقد عرفت أن مجرى أصالة الصحة إنما هو العقد بعد
تحققه.
وكذا الحال في الشك في تعقب العقد الفضولي بالإجازة، لأن تعقبه بها ليس من
شرائط صحته حتى يكون مورد جريانها، فالعقد بلا إجازة صحيح، بمعنى أنه إذا
تعقبته إجازة تترتب عليه الآثار، فصحته بهذا المعنى معلومة، فالإجازة ليست من
شرائط صحته، بل من متممات أسباب النقل، وكذا التقابض في بيع الصرف والسلم
369

ليس من شرائط صحة العقد، بل من متممات أسباب النقل.
نعم: لو تفرق المتعاملان قبله يعرضه البطلان، وقد عرفت أن أصالة الصحة لا
تتكفل عدم عروض البطلان على العمل، فلو صلى صحيحا وشككنا في تعقب صلاته
بالرياء - بناء على إبطال الرياء المتأخر - لا تجري أصالة الصحة لإحراز عدم الرياء، أو
لصحة الصلاة، بل لا بد من التشبث بسائر القواعد والأصول.
فأصالة الصحة لا تجري في الشك في عروض المبطل بعد وجود العمل صحيحا،
نعم تجري في الشك في عروض المبطل في الأثناء.
فتحصل مما ذكرنا: أن جريان أصالة الصحة في كل شئ بحسبه، كما أن صحة
كل شئ بحسبه، فإذا شك في صحة الإيجاب من حيث كونه عربيا أو كونه بصيغة
الماضي مثلا جرت أصالة الصحة فيه، بمعنى أنه يترتب الأثر عليه إذا تعقبه القبول
الصحيح ولو بالأصل، وكذا بالنسبة إلى القبول، وأما إذا شك في تعقبه بالقبول، أو شك
في تحقق الإيجاب مع إحراز القبول فلا.
وكذا الحال فيما إذا شك في صحة العقد من جهة الشك في بلوغ أحد الطرفين،
وقلنا بعدم جريانها في فعل المشكوك في بلوغه، وأردنا إجراءها بالنسبة إلى فعل البالغ،
وترتيب آثار العقد الصحيح، بأن يقال: إن صحة فعل البالغ تستلزم صحة فعل
الطرف، كما صرح به الشيخ، وفرق بين ما إذا شك في صحة المعاملة من جهة كون أحد
الطرفين بالغا، وبين ما إذا شك في وجود الإيجاب أو القبول مع إحراز الآخر، فأجري
الأصل في الأول دو الثاني (1).
وذلك: لأن كون الظاهر من حال المسلم أو الفاعل العاقل البالغ عدم التصرف
الباطل واللغو، لو ينفع في ترتيب الأثر العقلي كما أفاد في الأمر الثاني يكون بعينه جاريا

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 418 سطر 15 - 20.
370

فيما إذا شك في أصل الإيجاب مع إحراز القبول (1)، فإن القبول بلا إيجاب أيضا لغو.
فإذا لم ينفع جريانها في صدور فعل من فاعل آخر، لا ينفع في إثبات صحة فعل
فاعل آخر، فإن صحة كل شئ بحسبه كما أفاد (2)، فصحة الإيجاب لا تتوقف على تعقبه
بقبول من شخص بالغ، كما لا تتوقف على صدور أصله منه، فالفرق بين الأمرين
لا وجه معتد به له، والتفرقة بين ظهور الحال وأصالة الصحة قد عرفت حالها (3)، مع أن
ظهور الحال في المقامين على السواء.
والتحقيق: أنه على فرض عدم جريان الأصل مع الشك في البلوغ لا يفيد الأصل
في المقامين.
ثم إنه (قدس سره) جعل من مصاديق ما عنون في الأمر الثالث ما لو ادعى بائع
الوقف وجود المصحح له، بل جعله أولى بعدم الجريان فيه وقال: وأولى بعدم الجريان
ما لو كان العقد في نفسه لو خلي وطبعه مبنيا على الفساد، بحيث يكون المصحح طارئا
عليه، كما لو ادعى بائع الوقف وجود المصحح له، وكذا الراهن أو المشتري من الفضولي
إجازة المرتهن والمالك (4) انتهى.
وأنت خبير: بأن بيع الوقف مع الشك في عروض المصحح له ليس من قبيل
ما نحن فيه، لأن الشك فيه إنما هو في الصحة والفساد، أي في أن البيع هل وقع
صحيحا حين حدوثه أو فاسدا، ومنشأ الشك هو الشك في عروض المصحح له وعدمه،
فإن بيع الوقف مع عدم عروض المسوغ له يقع باطلا، لا صحيحا تأهليا كبيع الفضولي
والراهن، فمسألة بيع الوقف داخلة في الأمر السابق، مما يكون الشك في قابلية العوض

1 - نفس المصدر: 419.
2 - نفس المصدر: 418.
3 - تقدم في صفحة 367.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 419 سطر 4.
371

للنقل، وقد عرفت أن أصالة الصحة جارية في مثله.
واختار السيد الطباطبائي في " ملحقات عروته " عدم جريان الأصل فيما إذا شك
في صحة بيع الناظر أو الموقوف عليه، من جهة الشك في عروض المسوغ له، قال: فلو لم
يثبت المسوغ يجوز للبطون اللاحقة الانتزاع من يد المشتري، فهو كما لو باع شخص مال
غيره مع عدم كونه في يده، ولم يعلم كونه وكيلا منه.
ودعوى الموقوف عليه أو الناظر وجود المسوغ لا تكفي في الحكم بالصحة،
ولا يجوز مع عدم العلم به الشراء منهما، لأن يدهما ليست كيد الدلال المدعي للوكالة،
فإن يده مستقلة، ويدهما غير مستقلة، لأنها في الحقيقة يد الوقف المفروض عدم جواز
بيعه، فيدهما إنما تنفع في كيفية التصرفات التي هي مقتضى الوقف، لا في مثل البيع
الذي هو مناف ومبطل له، فهي نظير يد الودعي التي لا تنفع إلا في الحفظ، لا في البيع،
فإذا ادعى الوكالة احتاج إلى الإثبات، وأن يد الأمانة صارت يد الوكالة، وإلا فالأصل
بقاؤها على ما كانت عليه (1) انتهى ملخصا.
وفيه: أن كون بيعه كبيع مال الغير مع عدم اليد ممنوع، لأن يد الناظر والموقوف
عليه - إذا كان وليا للأمر - يد معتبرة عند العقلاء، ودعواهما مسموعة، فكيف تكون
كلا يد؟
ودعوى كونها غير مستقلة ممنوعة، بل يدهما مستقلة، وما دام كون الوقف بحاله
يجب عليهما حفظه، وأنحاء التصرفات المرتبطة به، وبالانتفاع منه على الوجه المشروع،
وإذا احتاج إلى التغيير والتبديل مع عروض المسوغ له تكون لهما الولاية على ذلك.
وما ذكره: من أن يدهما في الحقيقة يد الوقف.. إلى آخره مما لا محصل له، لعدم
اعتبار اليد للوقف على الملك الموقوف عرفا، ولو فرض كون يدهما يد الوقف ولا تكون

1 - العروة الوثقى 3: 270.
372

إلا لحفظه، لا لإبطاله، فمع عروض المسوغ لا يجوز لهما البيع، لصيرورتهما أجنبيين وهو
كما ترى.
ولو كان المراد من كون اليد يد الوقف أنها يد على المال الموقوف، فهو من قبيل
المصادرة، ومن ذلك يعلم أن تنظير يدهما بيد الودعي في غير محله.
لا يقال: إن الشك في الصحة والفساد في بيع الوقف مسبب عن الشك في
عروض المسوغ، فأصالة عدمه حاكمة على أصالة الصحة.
فإنه يقال: قد عرفت (1) أن مبنى أصالة الصحة هو بناء العقلاء فحينئذ لو قلنا
بأنها أمارة عقلائية مبناها ترجيح الغلبة، وإلقاء احتمال الخلاف، فالأمارة القائمة على
المسبب تكون رافعة لموضوع الأصل السببي، لأن الأمارة على اللازم أمارة على
الملزوم، وهل يكون تقدمها عليه على نحو الحكومة، أو الورود، أو الخروج موضوعا؟ قد
سبق الكلام في أمثاله في بابه (2).
ولو قلنا بأنها أصل عقلائي مبناها تقنين أرباب النفوذ في أوائل تمدن البشر لرغد
العيش، ثم صارت ارتكازية، فلازم ذلك أن يكون الاستصحاب رادعا لأصالة الصحة
الجارية في المسبب، فلو كان رادعا في مورد يكون رادعا مطلقا، وهو كما ترى.
وقد عرفت في بعض المباحث السالفة (3) أن الأدلة العامة غير صالحة لردع
العقلاء عن ارتكازاتهم، خصوصا في مثل هذا الأمر الذي يكون قطب رحى التمدن،
ولولاه لم يقم للمسلمين سوق (4)، وستأتي (5) تتمة لذلك عند تعرض الشيخ له إن شاء الله.

1 - تقدم في صفحة 358.
2 - تقدم في صفحة 230 وما بعدها.
3 - تقدم في صفحة 301 و 302.
4 - الكافي 7: 387 / 1، الفقيه 3: 31 / 92، التهذيب 6: 261 / 695، الوسائل 18: 215 / 2 - باب 25 من أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
5 - يأتي في صفحة 381.
373

الأمر الخامس
إن جريان أصالة الصحة بعد إحراز نفس العمل
قد أشرنا سابقا إلى أن جريان أصالة الصحة إنما هو بعد إحراز نفس العمل، لأن
الشك في صحة الشئ وفساده فرع وجوده.
لا أقول: إن جريانها موقوف على الفراغ من العمل، لأنها جارية في أثنائه، بل
وقبله لو كان منشأ للأثر، إذا علم أنه سيوجد وشك في إيجاده في موطنه صحيحا
أو فاسدا.
بل أقول: أن جريانها متأخر عن إحراز نفس العمل في موطنه، فلو شك في وجود
العمل في موطنه لا يكون مجرى الأصل، فإذا شك في أن الآتي بصورة الصلاة يأتي بها
أو يأتي بصورتها لغرض آخر، لا تجري أصالة الصحة لإحراز كونها صلاة.
وكذا الحال في باب العقود والإيقاعات مع الشك في قصد عناوينها، فلو قال:
بعت، وشك في استعماله في المعنى الانشائي أو الإخباري لا تحرز أصالة الصحة نحو
استعماله.
نعم: قد تكون في بعض الموارد أصول عقلائية تحرز موضوع أصالة الصحة، فلو
اختلف المتعاقدان فادعى أحدهما عدم قصده للإنشاء، أو عدم الجد فيه لا يكون مبنى
إحراز قصده وجده هو أصل الصحة، لأن الشك ليس في الصحة والفساد، ولو كانت
الأصول العقلائية الاخر محرزة لأمثالهما لا ربط لها بأصالة الصحة.
نعم: بعد إحراز عنوان العمل لو شك في صحته تكون أصالة الصحة محرزة لها.
ومما ذكرنا: يتضح حال فعل النائب، فإن الشك فيه قد يكون من جهة الشك في
إتيانه، وقد يكون من جهة الشك في قصده النيابة، وقد يكون من جهة الإخلال بشئ
374

معتبر فيه.
فإن كان من الجهتين الأولتين فلا إشكال في عدم إحرازهما بأصالة الصحة،
لعدم الشك في الصحة والفساد، فلا بد من إحرازهما بأمر آخر، فهل يقبل قول النائب
أم لا؟ فيه وجهان.
وأما بعد إحراز إيجاد النائب العمل النيابي إذا شك في صحته، فلا إشكال في
جريان أصالة الصحة، من غير فرق بينه وبين سائر الأعمال، لأنه فعل صادر من عاقل
شك في صحته وفساده، وهو موضوع بناء العقلاء.
وأما ما أفاده الشيخ الأنصاري: من أن لفعل النائب عنوانين، أحدهما: من حيث
إنه فعل من أفعاله، وثانيهما: من حيث إنه فعل المنوب عنه، ولا جريان لأصالة الصحة
من هذه الحيثية، لأن سقوط التكليف عن المنوب عنه بفعل النائب باعتبار أنه فعله،
لا فعل النائب، فلا بد من إحراز الفعل الصحيح عنه (1).
ففيه إشكال: ولا بد من بيان كيفية اعتبار النيابة لدى العقلاء حتى يتضح الأمر،
ولا بأس بالإشارة إجمالا إلى اعتبار الوكالة والولاية أيضا.
فنقول: الوكالة لدى العقلاء عبارة عن تفويض الأمر إلى شخص وإيكاله إليه،
فالفعل باعتبار أنه فعل صادر من الوكيل نافذ في حق الموكل، لأنه جعله سلطانا عليه،
فنفوذه عليه باعتبار إذنه، وإيكاله الأمر إليه لا باعتبار أنه فعل صادر من الموكل، لعدم
صدوره منه، ونسبة الفعل إليه تكون بالتجوز والتوسع.
والولاية عبارة عن نحو سلطنة تكون دائرتها بالنسبة إلى مواردها مختلفة سعة
وضيقا، أو أمر وضعي لازمه تلك السلطنة، فالولي على الصغير هو السلطان عليه،
يتصرف في أموره بما هو صلاحه، والولي على البلد هو المتصرف فيه بما هو صلاحه

1 - رسائل الشيخ الأنصاري: 420 سطر 7.
375

ومقتضى سياسته، والولي من قبل الله على الناس هو السلطان عليهم يتصرف فيهم بما
هو صلاحهم، وبما هو مقتضى السياسة الدينية والدنيوية.
فالولاية عبارة عن أمر وضعي اعتباري لدى العقلاء، يتبعها جواز التصرف في
حيطتها، فالفعل الصادر من الولي والوالي باعتبار أنه فعل صادر من السلطان نافذ على
المسلط عليه والمولى عليه، لا باعتبار أنه فعله أو بإذنه.
والنيابة عبارة عن قيام شخص مقام شخص آخر في نوع من الأفعال، يكون
حقها مباشرة المنوب عنه لدى الاختيار، كما لو قام مجلس سلام عام للسلطان، وتكون
وظيفة أركان دولته وشرفاء مملكته الحضور فيه لمراسم السلام، واتفق عذر لبعضهم،
فأرسل شخصا مناسبا لمقام السلطنة قائما مقامه ونائبا منابه في تشريفات السلام، فإنه
يعد لدى العقلاء مرتبة من حضوره بوجوده التنزيلي، ويصير لدى السلطان مقربا،
ويكون ذاك العمل عند العذر مقبولا منه.
فالوكالة تكون في العقود والإيقاعات مما لا يكون لخصوص المباشر دخالة في
تحققها، ولا تكون في العبادات، كما لا يقبل مجلس السلام الوكالة، والنيابة تكون في مثل
العبادات التي بمنزلة الحضور في مجلس السلطان، فلا تجوز الوكالة في الحج والصلاة،
لأن الإتيان بالعبادات ليس من شؤون سلطنة الشخص ونفوذه، بل من قبيل الحضور في
مجلس السلطان.
فالنيابة ليست من قبيل تفويض الأمر، بل من قبيل الإطاعة بالوجود التنزيلي،
فالفعل الصادر من النائب - باعتبار كونه وجودا تنزيليا للمنوب عنه ولو بالتوسع -
موجب لحصول القرب لدى المولى لا بما أن الفعل فعله، بل بما أنه صادر ممن كان نازلا
منزلته.
فاتضح مما ذكرنا: أنه لا إشكال في جريان أصالة الصحة فيما إذا شك في الصحة
376

والفساد بعد إحراز نفس العمل بعنوانه في فعل الوكيل والولي، لأنه فعلهما، ونفوذه في
الموكل باعتبار إذنه وإيكال الأمر إليه، وفي المولى عليه باعتبار نحو سلطنة عليه، وكذا
الحال في النائب، لأن النيابة وإن كان اعتبارها غيرهما، لكن لا إشكال في أن الفعل
صادر من النائب حقيقة، وباعتبار صدوره منه وقيامه مقام المنوب عنه يسقط عنه.
فما ادعاه الشيخ: من أن فعله لما كان فعلا له يسقط عنه (1)، فكأنه قال: لا تجري
أصالة الصحة إلا في فعل الغير، وفعل النائب ليس كذلك.
ففيه: أن كون الفعل فعل الغير واضح، ومجرد أنه يعد مرتبة من فعل المنوب عنه
بالتوسع لا يوجب عدم جريان الأصل فيه.
مع أن التفكيك بين الحيثيتين كما أفاده رحمه الله كما ترى، فإن النيابة إن اقتضت
أن يكون الفعل الصادر من النائب فعل المنوب عنه، ويكون النائب بما أنه نائب غير
مستقل في الفاعلية، فلا تكون له جهة فاعلية، ولا لفعله جهة صدور منه.
وإن اقتضت أن يكون الفعل الصادر من النائب موجبا لسقوطه منه، لكونه
وجودا تنزيليا له توسعا، ويكون فعله بوجه من التوسع فعله، فلا وجه لعدم جريان
الأصل في فعله.
وبالجملة: لا يمكن أن يقال: إن الواقف بعرفات والمشعر، والمطوف بالبيت
العتيق والمصلي خلف مقام إبراهيم عليه السلام ليس النائب، بل هذه الأفعال أفعال
المريض المزمن في بلده، فلا تجري فيها أصالة الصحة باعتبار أنها فعله لا فعل الغير.
فتفكيك الجهتين مما لا يساعد عليه الاعتبار، بل يكون اعتبار النيابة بما ذكره من
صيرورة الفعل بعد قصد النيابة والبدلية قائما بالمنوب عنه، لكون الفاعل آلة له، مع
كونه فعلا من أفعال النائب نفسه، لا المنوب عنه متنافيين، كما لا يخفى.

1 - نفس المصدر: 420 سطر 10.
377

وأما لزوم مراعاة النائب تكليف نفسه في بعض الجهات، كالجهر والإخفات
والستر، ومراعاة تكليف المنوب عنه في نوع التكليف مثل القصر والإتمام، والقران
والتمتع، فليس من أجل أنه روعيت في الفعل جهتان، جهة النيابة، وجهة اللا نيابة،
فإنه لا وجه لاعتبار اللا نيابة في الفعل الصادر من النائب بما أنه نائب.
بل لأجل أنه استنيب لقيامه مقام المنوب عنه فيما يجب عليه، فإذا كان عليه حج
التمتع وصلاة التمام لا معنى للإتيان بغيرهما مما لا يكون نائبا فيه، ومراعاة تكليف نفسه
في الشرائط والموانع لأجل أن الفعل فعله، لا فعل المنوب عنه كما تقدم، فلا بد من
مراعاة ما اشترط عليه.
فتحصل مما ذكرنا: أن جريان أصالة الصحة في فعل النائب فيما يكون الشك في
الصحة مما لا مانع منه، ولا يعتبر فيه عدالة النائب من هذه الحيثية، واعتبارها من حيثية
أخرى على فرضه غير مرتبط بما نحن بصدده.
الأمر السادس
عدم حجية مثبتات أصالة الصحة
لا إشكال في عدم حجية مثبتات أصالة الصحة، لعدم الدليل عليها، لأن بناء
العقلاء - الذي هو العمدة في الباب - غير ثابت بالنسبة إليها، فالثابت من بنائهم ليس
إلا ترتيب آثار صحة الفعل، فإذا شك في صحة صلاة من جهة الشك في الطهارة
تترتب عليها آثار الصحة، فيقتدى بها، لكن لا يثبت بها كون المصلي على وضوء
أو غسل، فلا مانع من إجراء استصحاب الحدث لو كان له أثر.
وكذا لو شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك، أو بعين من أعيان
378

ماله يحكم بصحة الشراء، وتملك المشتري المبيع، ولا يثبت بذلك تعلق البيع على شئ
من أعيان ماله، ويجري استصحاب بقاء الأعيان على ملكه، ولا إشكال فيه من جهة
التفكيك في الآثار ظاهرا، وهو ليس بعزيز، خصوصا في كتاب القضاء وكيفية تشخيص
المدعي والمنكر، فراجع (1).
فالإشكال على الشيخ الأعظم: من أن جريان أصالة الصحة مستلزم للحكم
بدخول المبيع في ملك المشتري، من دون أن يدخل في ملك البائع ما يقابله (2) كما ترى
ليس بشئ إذا اقتضت الأصول في مقام الظاهر، كما التزم المستشكل في قاعدة التجاوز
مع كونها من الأصول المحرزة عنده (3).
وبالجملة: لا إشكال من هذه الجهة، نعم قد يحصل علم إجمالي في بعض
المقامات، وهو غير مرتبط بما نحن فيه.
فتحصل مما ذكرنا: أن مثبتات أصل الصحة ليست بحجة، لعدم بناء العقلاء
إلا على المعاملة بالصحة مع العمل الصادر في الفاعل، وأما ترتيب آثار اللوازم فلا،
ولا فرق في بناء العقلاء بين اللوازم والآثار الشرعية، وغيرها من العقلية والعادية.
لكن ترتيب الآثار الشرعية ولو مع الواسطة ليس لأجل بناء العقلاء، ولا لإطلاق
دليل الأصل، أو قيام الاجماع عليه دون غيرها، لعدم الفرق لدى العقلاء بين لازم ولازم،
وليس دليل لفظي يؤخذ بإطلاقه، ولا إجماع في الباب.
بل لأجل ما ذكرنا في مبحث مثبتات الاستصحاب (4): من أن دليله لا يتكفل
إلا لإحراز موضوع كبرى شرعية، فتنطبق عليه الكبرى، وإذا كانت الآثار الشرعية

1 - انظر جواهر الكلام 40: 384.
2 - فوائد الأصول 4: 666.
3 - نفس المصدر 4: 642.
4 - تقدم في صفحة 157.
379

مترتبة تكون كل كبرى محرزة لموضوع كبرى لاحقة.
ففي ما نحن فيه أيضا لا تتكفل أصالة الصحة إلا صحة نفس العمل، فإذا
انسلك تحت كبرى شرعية يترتب عليه الأثر، فأصالة الصحة في الطلاق مثلا لا تثبت
بها إلا صحة الطلاق، لكن إذا صح الطلاق تنسلك المرأة في قوله: * (والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (1) فإذا خرجت من العدة تنطبق عليها كبرى شرعية
أخرى وهكذا.
وهذا التفكيك بين اللوازم الشرعية وغيرها في باب أصالة الصحة - مما لا إطلاق
لدليل فيه، ويكون الدليل عليه هو البناء العقلائي - مما يؤيد ويؤكد ما ذكرنا في
الاستصحاب (2) في وجه ترتيب الآثار الشرعية ولو بألف واسطة، دون غيرها، فتدبر
جيدا.
الأمر السابع
موارد تقدم أصالة الصحة على الاستصحاب ووجهه
لا إشكال في تقدم أصالة الصحة على استصحاب عدم الانتقال وأمثاله إذ لم
يكن في البين أصل موضوعي، وأما معه فقد وقع الكلام فيه (3)، وكذا وقع الكلام في وجه
تقدمها عليه هل هو الحكومة، أو التخصيص، أو غيرهما (4)؟

1 - سورة البقرة 2: 228.
2 - تقدم في صفحة 153 و 154.
3 - رسائل الشيخ الأنصاري: 421 سطر 9، فوائد الأصول 4: 657 - 661 و 670 - 678، نهاية الأفكار 4: 99 - 101،
حاشية المحقق الهمداني على الرسائل: 115 سطر 13.
4 - رسائل الشيخ الأنصاري: 410 سطر 10، فوائد الأصول 4: 653 و 670، درر الفوائد: 611 و 612، نهاية الأفكار
4: 99 - 101.
380

والتحقيق: أنك قد عرفت أن مبنى حجيتها كان بناء العقلاء، كما مر مرارا،
ولا تكون مما انفردت بحجيتها شريعة الاسلام، بل ولا سائر الشرائع.
وما يتوهم: من أن الصحة والفساد لا تكونان بين العقلاء، بل هما من الوضعيات
الشرعية ففي غاية السقوط، لأن الصحة ليست إلا اعتبارا من الاعتبارات الوضعية
العقلائية، فتتداول الصحة والفساد بينهم، كانوا منتحلين بشريعة أو لا.
ألا ترى: أن أحدا لو سرق مال غيره وباعه، فاطلع عليه الحاكم العرفي الغير
المنتحل بدين يأخذ العين من المشتري، ويردها إلى مالكها، ويأخذ الثمن من السارق،
ويرده إلى مالكه، وليس ذلك إلا لحكمه بفساد المعاملة، بخلاف ما لو وقعت المعاملة
بين المالكين، وليست الصحة والفساد إلا ذلك.
وكذا ترى: أن لكل قوم نكاحا بقواعد مرسومة بينهم - ولو في الطوائف الوحشية -
ويكون الزنا والنكاح بين جميع الطوائف مختلفين، ونكاح امرأة الغير باطل لدى غير
المنتحلين بديانة أيضا، نعم يكون قانون الزواج مختلفا بين الطوائف المختلفة.
لكن مع اختلافه يكون النكاح الصحيح ما طابق القانون، والباطل ما خالفه،
فتكون الصحة والفساد من الأحكام العقلائية، كأصالة الصحة، وشريعة الاسلام على
صادعها السلام قد بدأت في زمان كانت الصحة والفساد وأصالة الصحة رائجة بينهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن اللائق بالبحث هاهنا أن دليل الاستصحاب وهو
قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) هل يصلح أن يكون رادعا لبناء العقلاء عن العمل
بأصالة الصحة أم لا؟ وقد أشرنا سابقا (1) إلى عدم صلوح مثله للرادعية، فالعمدة هو
ملاحظة نطاق دائرة بناء العقلاء، فقد عرفته في بعض الأمور السالفة (2).
فتقدم أصالة الصحة ليس من أجل التعارض بينها وبينه بدوا، والتقدم بحكومة

1 - تقدم في صفحة 301 - 302 و 373.
2 - تقدم في صفحة 361 - 364.
381

أو تخصيص أو غيرهما، بل تكون أدلة الاستصحاب غير صالحة للردع عن بناء العقلاء
فيما تحقق بناؤهم، لأنهم في العمل على أصالة الصحة، وترتيب آثار الصحة على
المعاملات والعبادات ارتكازا لا يرون أنفسهم شاكين.
لا أقول: إنهم قاطعون، فإنه خلاف الضرورة، بل أقول: إنهم يكونون غافلي
الذهن عن أن ترتيب آثار الصحة عمل بالشك، فلا بد في صرفهم عن بنائهم من دليل
صريح يردعهم عنه، ولا يصلح مجرد إطلاق قوله: (لا ينقض اليقين بالشك) للردع عن
طريقتهم المألوفة.
ولهذا لم تكن هذه الكبريات الملقاة من الأئمة إلى أصحابهم موجبة
لانقداح مثل ذلك في أذهانهم، وإلا كانوا يسألون عنه، مع أنهم كانوا يعملون
على أصالة الصحة ليلا ونهارا، مع ورود مثل هذه الكبريات، وهذا واضح جدا لدى
التأمل.
فإذا تكون أصالة الصحة خارجة عن نقض اليقين بالشك موضوعا لدى
العقلاء، فما أفادوه في المقام من حكومتها على الاستصحاب، أو تخصيص دليل الأصل
بها (1) لعله في غير محله، والحمد لله أولا وآخرا.

1 - تقدم تخريجه في صفحة 380.
382

المبحث الرابع
حال الاستصحاب مع قاعدة القرعة
ولا بأس بعرض بعض الجهات فيها، حتى يتضح حالها وحاله معها، ويتم ذلك
في ضمن أمور:
383

الأمر الأول
في ذكر نبذة من الأخبار الواردة فيها
وعد بعض موارد ورد فيها النص بالخصوص
فمن الأخبار العامة ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن حكيم (1) قال: سألت أبا
الحسن عن شئ.
فقال لي: (كل مجهول ففيه القرعة).
قلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب!
قال: (كل ما حكم الله به فليس بمخطئ) (2).
ورواه الصدوق بطريقين صحيحين عنه (3)، والظاهر أنه الخثعمي الذي لا يخلو
عن الحسن، بل لا تبعد وثاقته، لكونه صاحب الأصل، ولكثرة نقل المشايخ بل
أصحاب الاجماع عنه (4)، ولو كان فيها ضعف فهو منجبر باعتماد الأصحاب عليها.
قال الشيخ في " النهاية ": وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن
تستعمل فيه القرعة، لما روي عن أبي الحسن موسى، وعن غيره من آبائه وأبنائه من
قولهم: (كل مجهول ففيه القرعة).
وقلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب!
فقال: (كل ما حكم الله به فليس بمخطئ) (5).
وهو كما ترى عين عبارة الحديث، والظاهر منه أنه عثر على روايات اخر من

1 - محمد بن حكيم: الخثعمي أبو جعفر، من متكلمي الإمامية، ومن أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام،
روى عن شهاب بن عبد ربه، ومحمد بن مسلم وغيرهم، وروى عنه محمد بن أبي عمير، وعمر بن أذينة، وصفوان بن يحيى
وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 357 / 957، رجال الكشي 2: 746، معجم رجال الحديث 16: 31 / 10620.
2 - التهذيب 6: 240 / 593، الوسائل 18: 189 / 11 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
3 - الفقيه 3: 52 / 174 و 4: 88.
4 - تنقيح المقال 3: 109، معجم رجال الحديث 16: 37 - 40 و 394 - 396.
5 - النهاية للطوسي: 345 و 346.
384

سائر الأئمة عليهم السلام بهذا المضمون، ولم نعثر عليها، ويمكن أن يكون نظره إلى
سائر الروايات الواردة في الأبواب المختلفة، فاستفاد منها بإلغاء الخصوصية أن كل
مجهول يشتبه فيه الحكم ففيه القرعة.
وعن " الخلاف ": أن القرعة مذهبنا في كل أمر مجهول (1)، وادعى في كتاب
تعارض البينات إجماع الفرقة على أن القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه (2).
وعن الشهيد (3) في " القواعد ": ثبت عندنا قولهم: (كل مجهول فيه القرعة) (4).
يستفاد من كلام الشيخ في " الخلاف " أن الحكم بهذا العنوان مذهب الخاصة،
ومن كلام الشهيد أن هذا الكلام ثابت عند الطائفة من أئمتهم، مع عدم رواية بهذه
العبارة عند الشهيد قطعا غير رواية محمد بن حكيم.
وبالجملة: الرواية موثوق بها، وليس في طرقنا ما يستفاد منه العموم غيرها،
وسيأتي حالها (5).
ومما يستفاد منه العموم ما روي من طرق العامة: (إن القرعة لكل أمر مشتبه) (6).
وفي رواية: (لكل أمر مشكل).
وعن الحلي دعوى الاجماع على أن كل مشكل فيه القرعة (7) ونقل عنه أيضا أنه قال

1 - الخلاف 2: 599 المسألة الثانية والثلاثون.
2 - نفس المصدر 2: 638 المسألة العاشرة.
3 - الشهيد الأول: هو إمام المحققين وقدوة المدافعين عن حريم أهل البيت عليهم السلام، الشيخ محمد بن مكي بن
محمد بن حامد بن أحمد النبطي العاملي، ولد سنة 734 ه‍ وتلقى العلم على يد والده الذي كان عالما فاضلا، ثم على يد
آخرين من أعلام المذهب، وقد ترك آثارا رائعة من المؤلفات كاللمعة والدروس والبيان والذكرى وغاية المراد وغيرها،
أجازه عدة من الأعلام منهم: فخر المحققين، والسيد العميدي، وقطب الدين الرازي وغيرهم، وممن تخرج عليه
الفاضل السيوري، وابن نجدة، ومحمد بن علي الضحاك الشامي وغيرهم. استشهد قدس الله روحه سنة 786 ه‍ انظر
أمل الآمل 1: 183، أعيان الشيعة 10: 59 - 64، مستدرك الوسائل 3: 447 و 459.
4 - القواعد والفوائد 2: 22.
5 - يأتي في صفحة 396.
6 - انظر بحار الأنوار 88: 234.
7 - السرائر 2: 170 وستأتي ترجمة الحلي قريبا.
385

في باب سماع البينات: وكل أمر مشكل يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تستعمل فيه
القرعة، لما روي عن الأئمة عليهم السلام، وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة
الإمامية (1).
ولعله عثر على روايات بهذا المضمون، وإن كان المظنون اصطياده الكلية من
الموارد المختلفة.
وعن " دعائم الاسلام " عن أمير المؤمنين، وأبي جعفر، وأبي عبد الله عليهم السلام:
أنهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل، قال أبو عبد الله عليه السلام: (وأي حكم في
الملتبس أثبت من القرعة، أليس هو التفويض إلى الله جل ذكره) ثم ذكر قصة يونس،
ومريم، وعبد المطلب (2).
ويمكن استفادة الكلية في باب القضاء مما في " المستدرك " عن الشيخ المفيد
في " الاختصاص " بإسناده عن عبد الرحيم (3) قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام
يقول (إن عليا عليه السلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه كتاب، ولم تجر فيه سنة
رجم فيه) يعني ساهم (فأصاب) ثم قال: (يا عبد الرحيم وتلك من
المعضلات) (4).
ويمكن استفادة العموم في الجملة مما ورد في ذيل صحيحة أبي بصير برواية
الصدوق من قول النبي صلى الله عليه وآله: (ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى

1 - نفس المصدر 2: 173.
2 - دعائم الاسلام 2: 522 / 1864، مستدرك الوسائل 3: 200 / 1 و 2 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
3 - عبد الرحيم: ابن روح القصير الأسدي، من أصحاب الأئمة الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام والراوين عنهم،
روى عنه عبد الله بن مسكان، والعباس بن عامر القصباني، وحماد بن عثمان، وغيرهم. انظر تنقيح المقال 2:
150 / 6569 و 6575، معجم رجال الحديث 10: 7 / 6479 و 10 / 6489.
4 - الاختصاص: 310، بصائر الدرجات: 409، مستدرك الوسائل 3: 201 / 14 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
386

الله عز وجل إلا خرج سهم المحق) (1).
وقريب منه ما عن أمير المؤمنين عليه صلوات الله في ذيل رواية العباس بن
هلال (2) ومرسلة الصدوق عن الصادق عليه السلام (3) ومرسلة " فقه الرضا "
عنه عليه السلام قال: (أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله، أليس
الله تعالى يقول * (فساهم فكان من المدحضين) *) (4) وكذا رواية أحمد
البرقي (5).
وأما الموارد التي ورد فيها النص فهي كثيرة:
منها: فيما إذا تعارضت البينتان عند فقد المرجح، ففي صحيحة داود بن
سرحان (6) برواية الصدوق، عن أبي عبد الله في شاهدين شهدا على أمر واحد، فجاء
آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه واختلفوا؟
قال: (يقرع بينهم، فأيهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء) (7).

1 - الفقيه 3: 54 / 183، الوسائل 18: 188 / 6 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
2 - التهذيب 9: 363 / 1298، الوسائل 17: 593 / 4 - باب 4 من أبواب ميراث الغرقى.
العباس من هلال: وهو الشامي عده الشيخ في أصحاب الرضا عليه السلام والرواة عنه، وكان مولى للإمام الكاظم
عليه السلام، روى عنه إبراهيم بن هاشم، ومحمد بن الوليد، ويعقوب بن يزيد وغيرهم. انظر رجال النجاشي:
282 / 749، رجال الطوسي: 382 / 39، معجم رجال الحديث 9: 250 / 6209.
3 - الفقيه 3: 52 / 175، الوسائل 18: 190 / 13 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
4 - الآية من سورة الصافات 37: 141، وانظر فقه الرضا عليه السلام: 262، ومستدرك الوسائل 3: 200 / 4 - باب 13
من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
5 - المحاسن: 603 / 30، الوسائل 18: 191 / 17 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
احمد البرقي: وهو أحمد بن محمد بن خالد البرقي أبو جعفر، عده الشيخ في أصحاب الإمامين الجواد والهادي عليهما
السلام، خلف كتبا كثيرة، روى عن أبيه، وعثمان بن عيسى، ومحمد بن علي وغيرهم، وروى عنه سعد بن عبد الله
الأشعري، وعلي ابن إبراهيم، وسهل بن زياد وغيرهم. انظر رجال النجاشي: 76 / 182، رجال الطوسي: 398 / 8 و
410 / 16، معجم رجال الحديث 2: 261 / 858.
6 - داود بن سرحان: العطار، كوفي، ثقة، عده الشيخ في رجاله في أصحاب الصادق عليه السلام، روى عن زرارة، وعبد الله ابن
فرقد، وروى عنه أحمد بن محمد بن أبي نصر، وعبد الرحمن بن أبي نجران، والحسن بن علي بن فضال، وآخرون. انظر
رجال الطوسي: 190 / 13، جامع الرواة: 1: 304، مجمع الرجال 2: 283.
7 - الفقيه 3: 52 / 178، الوسائل 18: 183 / 6 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
387

وفي صحيحة الحلبي (1) قريب منها، إلا أن في آخرها: (فهو أولى بالحق) (2)
بدل: (أولى بالقضاء).
وفي صحيحة البصري (3) روايته أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كان
علي عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود، عدلهم سواء وعددهم، أقرع بينهم على أيهما
تصير اليمين..) (4) الحديث.
وهذه الطائفة عامة لكل قضية في باب القضايا المشكلة الواردة على القاضي إذا
تعارضت البينات ولا ترجيح فيها، أو لم يتهيأ فيه الإشهاد، كما يدل عليه " الفقه الرضوي ".
ومن الموارد الخاصة:
1 - قضية الإشهاد على الدابة كموثقة سماعة (5) عن أبي عبد الله عليه سلام الله قال:
(إن رجلين اختصما إلى علي عليه السلام في دابة، فزعم كل واحد منهما أنها أنتجت على
مذوده (6) وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين) (7) الحديث.

1 - الحلبي: هو محمد بن علي بن أبي شعبة الحلبي، أبو جعفر، وجه أصحابنا وفقيههم، والثقة الذي لا يطعن عليه، عده
الشيخ في رجاله في أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام روى عن عبد الله بن مسكان، ومنصور بن حازم،
وأبان بن عثمان، وعلي بن النعمان، وروى عنه عبد الرحمن بن الحجاج، والمفضل بن صالح، ومنصور بن يونس. انظر
رجال النجاشي: 325 / 885، معجم رجال الحديث 16: 302 / 11265 و 17: 45 / 11374 و 18:
73 / 12069.
2 - التهذيب 6: 235 / 577، الاستبصار 3: 40 / 137، الوسائل 18: 185 / 11 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
3 - البصري: وهو عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري مولى بني شيبان تقدم ترجمته في صفحة 332 من هذا الكتاب.
4 - الكافي 7: 419 / 3، الفقيه 3: 53 / 181، التهذيب 6: 233 / 571، الاستبصار 3: 39 / 131، الوسائل 18:
183 / 5 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
5 - سماعة: بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي الكوفي، مولى عبد بن وائل بن حجر الحضرمي، يكنى أبا محمد، من أصحاب
الإمام الصادق عليه السلام روى عن محمد بن عمران، والكلبي النسابة، ومضمرة وغيرهم، وروى عنه صفوان بن
يحيى، ويونس بن عبد الرحمن، والحسن بن محبوب، والقاسم بن سليمان وآخرون، مات بالمدينة سنة 145 ه‍. انظر
رجال النجاشي: 193 / 517، معجم رجال الحديث 8: 297 / 5546، مجمع الرجال 3: 170.
6 - المذودة: معتلف الدابة. لسان العرب 5: 70.
7 - الفقيه 3: 52 / 177، التهذيب 6: 234 / 576، الاستبصار 3: 40 / 136، الوسائل 18: 185 / 12 - باب 12 من
أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
388

ومثلها غيرها (1).
2 - ومنها: الإشهاد بالإيداع على الظاهر، وهي رواية زرارة، عن أبي جعفر
عليه السلام قال قلت له: رجل شهد له رجلان بأن له عند رجل خمسين درهما، وجاء
آخران فشهدا بأن له عنده مائة درهم، كلهم شهدوا في موقف؟
قال: (اقرع بينهم، ثم استحلف الذين أصابهم القرع...) (2) الحديث.
3 - ومنها: مورد اشتباه الولد بين العبد والحر والمشرك، ففي صحيحة الحلبي عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا وقع الحر والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد
وادعوا الولد اقرع بينهم، وكان الولد للذي يقرع) (3).
4 - ومنها: الإشهاد على الزوجية (4).
5 - ومنها: قضية الشاب الذي خرج أبوه مع جماعة، ثم جاؤوا وشهدوا بموته (5).
6 - ومنها: قضية الوصية بعتق ثلث العبيد (6).
7 - ومنها: عتق ثلثهم (7).
8 - ومنها: مورد الاشتباه بين الولد والعبد المحرر (8).

1 - انظر التهذيب 6: 236 / 582، الاستبصار 3: 41 / 141، الوسائل 18: 186 / 15 - باب 12 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2 - الكافي 7: 420 / 1، التهذيب 6: 235 / 578، الاستبصار 3: 41 / 138، الوسائل 18: 183 / 7 - باب 12 من
أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
3 - التهذيب 6: 240 / 595، الوسائل 18: 187 / 1 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
4 - الكافي 7: 420 / 2، التهذيب 6: 235 / 579، الاستبصار 3: 41 / 139، الوسائل 18: 184 / 8 - باب 12 من
أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
5 - الكافي 7: 371 / 8، الفقيه 3: 15 / 40، التهذيب 6: 316 / 875.
6 - التهذيب 8: 234 / 842، الوسائل 16: 77 / 1 - باب 65 من أبواب العتق.
7 - الكافي 7: 18 / 11 و 55 / 12، الفقيه 4: 159 / 555، التهذيب 9: 220 / 864، الوسائل 13: 464 / 1 - باب 75
من أبواب أحكام الوصايا.
8 - التهذيب 9: 171 / 700، الوسائل 13: 427 / 1 - باب 43 من أبواب أحكام الوصايا.
389

9 - ومنها: مورد الاشتباه بين صبيين، أحدهما حر، والآخر مملوك (1).
10 - ومنها: مورد الخنثى المشكل (2).
11 - ومنها: مورد عتق أول مملوك (3).
12 - ومنها: مورد اشتباه المعتق بغيره (4).
13 - ومنها: مورد عتق عبيد في مرض الموت، ولا مال له (5).
14 - ومنها: مورد اشتباه الغنم الموطوءة (6).
15 - ومنها: مورد قسمة أمير المؤمنين عليه السلام المال الذي أتى من أصفهان،
المذكور في كتاب الجهاد (7).
16 - ومنها: قضية مساهمة رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا في بناء البيت (8).
17 - ومنها: استعلام موسى عليه السلام النمام بالقرعة بتعليم الله تعالى (9).
18 - ومنها: مساهمة رسول الله صلى الله عليه وآله بين أزواجه إذا أراد سفرا (10).
19 - ومنها: اقتراعه صلى الله عليه وآله بين أهل الصفة للبعث إلى غزوة ذات

1 - الفقيه 4: 226 / 717، التهذيب 6: 239 / 586، الوسائل 18: 188 / 7 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
2 - الكافي 7: 158 / 2، المحاسن: 603 / 29، الفقيه 4: 239 / 763، التهذيب 6: 239 / 588، الوسائل 17: 580 / 2
- باب 4 من أبواب ميراث الخنثى.
3 - التهذيب 6: 239 / 589، الوسائل 18: 187 / 2 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
4 - الكافي 6: 197 / 14، التهذيب 8: 230 / 830، الوسائل 16: 44 / 1 - باب 34 من أبواب العتق.
5 - صحيح مسلم 3: 490 / 56، سنن النسائي 4: 64 - كتاب الجنائز، سنن أبي داود 2: 422 / 3958، جامع الأصول
8: 71 - 73.
6 - التهذيب 9: 43 / 182، الوسائل 16: 436 / 1 - باب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة.
7 - الغارات 1: 51، الوسائل 11: 87 / 13 - باب 41 من أبواب جهاد العدو.
8 - الكافي 4: 218 / 5، مستدرك الوسائل 3: 200 / 10 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
9 - كتاب الزهد للأهوازي: 5 / 9، مستدرك الوسائل 3: 200 / 5 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
10 - الاختصاص: 116 - 118، مستدرك الوسائل 3: 201 / 14 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
390

السلاسل (1).
20 - ومنها: اقتراعه في غنائم حنين (2).
21 - ومنها: اقتراع بني يعقوب ليخرج على واحد فيحسبه يوسف عنده (3).
إلى غير ذلك مما يطلع عليه المتتبع (4).
الأمر الثاني
القول في التخصيص المستهجن لعمومات القرعة
وهو أهم الأمور في هذا الباب، ولا بد من بسط الكلام في تحقيقه، لترتب الثمرات
الكثيرة العملية عليه، وهو أنه قد اشتهر في ألسنة المتأخرين أن عمومات القرعة قد
وردت عليها تخصيصات كثيرة، بالغة حد الاستهجان، فيستكشف منه أنها كانت
محفوفة بقرائن وقيود لم تصل إلينا، فلا يجوز التمسك بها إلا في موارد عمل الأصحاب
على طبقها، وهذا مساوق لسقوط العمومات عن الحجية تقريبا (5).
وقد ظهر لي بعد الفحص الأكيد عن أقوال الفقهاء، والتأمل التام في الأخبار
الواردة في الموارد المتقدمة غير ذلك.
ومحصل الكلام: أنه لا إشكال في بناء العقلاء على العمل بالقرعة في موارد
تزاحم الحقوق مع عدم الترجيح عندهم، سواء كان لها واقع معلوم عند الله أو لا.

1 - الإرشاد للمفيد: 84 - 86، بحار الأنوار 21: 77 / 5.
2 - إعلام الورى: 119 - 128، بحار الأنوار 21: 173.
3 - مجمع البيان 5: 375.
4 - انظر مثلا الدر المنثور للسيوطي 4: 97، المغني لابن قدامة 12: 276 و 277.
5 - انظر رسائل الشيخ الأنصاري: 423 سطر 1، كفاية الأصول: 493، فوائد الأصول 4: 680، نهاية الأفكار 4: 107 -
القسم الثاني، درر الفوائد: 613 و 614.
391

وبالجملة: القرعة لدى العقلاء أحد طرق فصل الخصومة، لكن في مورد لا يكون
ترجيح في البين، ولا طريق لإحراز الواقع.
ويشهد لما ذكرنا: مضافا إلى وضوحه قضية مساهمة أصحاب السفينة التي فيها
يونس، فعلى نقل كانت المقارعة من قبيل الأول، والعثور على العبد الآبق (1)، وعلى نقل
كانت من قبيل الثاني، لأنهم أشرفوا على الغرق، فرأوا طرح واحد منهم لنجاة الباقين (2)،
وهذا أقرب إلى الاعتبار، ومعلوم أن مساهمتهم لم تكن لدليل شرعي، بل لبناء عملي
عقلائي، بعد عدم الترجيح بينهم بنظرهم.
وقضية مساهمة أحبار بيت المقدس لتكفل مريم عليها السلام، كما أخبر بها الله
تعالى إذ قال: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم
إذ يختصمون) * (3) تدل على أن العقلاء بحسب ارتكازهم يتشبثون بالقرعة عند
الاختصام وعدم الترجيح، وهذه من قبيل الثاني، كما أن غالب المقارعات العقلائية لعلها
من هذا القبيل، كالمقارعات المتداولة في هذا العصر.
وكذا يشهد لتعارفها قضية مقارعة بني يعقوب (4)، ومقارعة رسول الله صلى الله
عليه وآله قريشا في بناء البيت (5)، بل مقارعته بين نسائه (6)، فإن الظاهر أنها كانت من
جهة الأمر العقلائي، لا الحكم الشرعي.
وبالجملة: لا إشكال في معروفية القرعة لدى العقلاء من زمن قديم، كما أنه
لا إشكال في أنها لا تكون عندهم في كل مشتبه ومجهول، بل تتداول لدى التنازع أو
تزاحم الحقوق فقط.

1 - مجمع البيان 7: 716.
2 - مجمع البيان 7: 716، تفسير البرهان 4: 36 / 3.
3 - سورة آل عمران 3: 44.
4 - تقدم تخريجها في صفحة 391.
5 و 6 - تقدم تخريجهما في صفحة 390.
392

كما أنه لا إشكال في أنها ليست طريقا عقلائيا إلى الواقع، ولا كاشفا عن
المجهول، بل يستعملها العقلاء لمحض رفع النزاع والخصام، وحصول الأولوية بنفس
القرعة، ضرورة أنها ليست لها جهة كاشفية وطريقية إلى الواقع، كاليد وخبر الثقة، فكما
أنها في الموارد التي ليس لها واقع كتقسيم الإرث والأموال المشتركة إنما هي لتمييز
الحقوق بنفس القرعة لدى العقلاء، كذا في الموارد التي لها واقع مجهول لديهم ليست
المقارعة لتحصيل الواقع وكشف الحقيقة، بل لرفع الخصام والتنازع، وهذا واضح.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن المتتبع في الموارد المتقدمة التي وردت فيها الأخبار
الخاصة، وكذا المتأمل في كلمات الأصحاب في الموارد التي حكموا بالقرعة (1) يحصل له
القطع بأن مصب القرعة في الشريعة ليس إلا ما لدى العقلاء طابق النعل بالنعل، فإن
الروايات على كثرتها بل تواترها - باستثناء مورد واحد سيأتي الكلام فيه - إنما وردت
في موارد تزاحم الحقوق، سواء أكان لها واقع معلوم عند الله مجهول لدى الخصمين أو لا.
أما مورد تعارض البينات والدعاوى كالإشهاد على الدابة (2)، والإيداع
والاختلاف في الولد (3) والزوجة (4) فمعلوم، وأما موارد الوصية بعتق ثلث العبيد (5)
أو عتق أول مملوك (6) وأمثالهما فهو أيضا واضح، لأن العبيد كلهم سواء في التمتع
بالحرية، فتتزاحم حقوقهم، وحيث لا ترجيح في البين يقرع بينهم، وكذا الحال في الخنثى
المشكل (7) وغيرها من الموارد.
وبالجملة: ليس في جميع الموارد المنصوصة إلا ما هو الأمر العقلائي.
نعم: يبقى مورد واحد هو قضية اشتباه الشاة الموطوءة (8) مما لا يمكن الالتزام بها

1 - انظر جواهر الكلام 31: 158 و 178 و 181، مفتاح الكرامة 9: 436 و 468، عوائد الأيام: 226.
2 - تقدم تخريجها في صفحة 388.
3 و 4 و 5 - تقدم تخريجها في صفحة 389.
6 و 7 - تقدم تخريجهما في صفحة 390.
8 - تقدم تخريجه في صفحة 390 الرقم 14 من المتن.
393

في أشباهها، فلا بد من الالتزام فيه بالتعبد في المورد الخاص، لا يتجاوز منه إلى غيره،
ولذا ترى الفقهاء كما سيأتي نقل فتاويهم (1) - يفتون في أشباه الموارد المتقدمة في جميع
أبواب الفقه إلا ما ورد فيه نص خاص، ولا يفتون بل ولا أفتى فقيه معتبر كلامه في الفقه
في الموارد المجهولة والمشتبهة بكثرتها في غيرها إلا في قضية الشاة الموطوءة لورود
النص فيها.
ويمكن أن يقال: إن التعبد في هذا المورد أيضا إنما يكون لأجل تزاحم حقوق
الشياه لنجاة البقية، كما أشار إليه في النص بقوله: (فإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا
حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، وقد نجت سائرها) (2).
وفي رواية " تحف العقول ": (فأيهما وقع السهم بها ذبحت وأحرقت ونجا سائر
الغنم) (3).
والتعبير بنجاة سائره لعله إشارة إلى أن هذا المورد أيضا من قبيل تزاحم حقوق
الشياه في بقاء حياتها، وربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم،
فإن قطيع الأغنام يكون من أرباب متفرقين غالبا، فتتزاحم حقوقهم.
وبالجملة: من تتبع موارد النصوص والفتاوى يظهر له أن مصب القرعة ليس إلا ما
أشرنا إليه.
مضافا: إلى إمكان استفادة ذلك ما إشارت الأخبار وكلمات الأصحاب، ففي
مرسلة " الفقيه ": (ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق) (4) وقريب
منها بعض آخر (5).

1 - يأتي في صفحة 397.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 390 الرقم 14 من المتن.
3 - تحف العقول: 359، الوسائل 16: 436 / 4 - باب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة.
4 - الفقيه 3: 54 / 183، الوسائل 18: 183 / 6 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
5 - تقدم في الصفحة 386 و 387.
394

ويستفاد منها أن مصبها ليس مطلق المجهول والمشتبه، بل في باب التنازع
وإخراج سهم المحق.
وعن " الفقه " أيضا: (أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله أليس الله
تعالى يقول: * (فساهم فكان من المدحضين) *) (1) وفيها أيضا إشارة إليه.
وفي مرسلة ثعلبة بن ميمون (2) في قضية المولود الذي ليس بذكر ولا أنثى قال:
(وأي قضية أعدل من قضية يجال عليها السهام؟! يقول الله تعالى: * (فساهم فكان من
المدحضين) *) (3) وقال: (ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله، ولكن
لا تبلغه عقول الرجال) (4).
تدل على أن أصل قضية القرعة ما هو في كتاب الله، ومعلوم أنها فيه في باب
التنازع ومزاحمة الحقوق لا غير، فكذا ما ينشعب من هذا الأصل.
وفي مرسلة حماد المروية عن " التهذيب " عن أحدهما قال: (القرعة لا تكون
إلا للإمام) (5).
وفي صحيحة معاوية بن عمار (6) في باب النزاع في الولد قال: (أقرع الوالي

1 - تقدم تخريجها في صفحة 387.
2 - ثعلبة بن ميمون: الأسدي أبو إسحاق، كان فقيها من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام، ومن قراء
القرآن واللغويين الأجلاء، روى عن زرارة بن أعين، وعمار الساباطي، ومحمد بن مسلم، وروى عنه الحسن بن علي
بن فضال، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وعبد الله بن محمد الحجال. انظر رجال النجاشي: 117 / 302، رجال الكشي 2:
711، معجم رجال الحديث 3: 408 / 1993.
3 - سورة الصافات 37: 141.
4 - الكافي 7: 158 / 3، التهذيب 9: 357 / 1275، الوسائل 17: 580 / 3 - باب 4 من أبواب ميراث الخنثى.
5 - التهذيب 6: 240 / 592، الوسائل 18: 189 / 9 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
6 - معاوية بن عمار: ابن أبي معاوية خباب بن عبد الله أبو القاسم الدهني، من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم
عليهما السلام، كان من خواص الإمام الصادق عليه السلام ووجها من وجوه الأصحاب، كبير الشأن عظيم المحل
روى عن أبي بصير، وأبي حمزة الثمالي، وعمر بن يزيد، وروى عنه محمد بن أبي عمير، وأحمد بن محمد بن أبي نصر
البزنطي، والحسن بن محبوب، مات سنة 175 ه‍ انظر رجال النجاشي: 411 / 1096، مناقب ابن شهرآشوب 4: 281،
معجم رجال الحديث 18: 214 / 12458.
395

بينهم) (1).
وفي رواية يونس في قضية تحرير من علمه آية من كتاب الله قال: (ولا يجوز أن
يستخرجه أحد إلا الإمام) (2).
فحصر القرعة بالإمام ليس إلا لاختصاصها بموارد الخصومة وتزاحم الحقوق،
التي يرفع الأمر فيها إلى الإمام والوالي، ولو كانت في كل قضية مجهولة - كاشتباه القبلة
ومثله من الموضوعات المشتبهة - لم يكن وجه للحصر المذكور.
مع أن موارد الاشتباه في غير باب التنازع أكثر بكثير، فلا يمكن أن يحمل على
الحصر الإضافي، لاستهجان الحصر فيما إذا كان الخارج كثيرا، بل أكثر من الداخل،
فيعلم أن القرعة إنما تكون في موارد يكون الأمر راجعا إلى الإمام والوالي.
نعم: لو فرض خروج بعض الموارد النادرة منه لا يكون الحصر مستهجنا،
بخلاف ما لو كانت لمطلق المجهولات والمشتبهات.
بقي الكلام في رواية محمد بن حكيم المتقدمة (3) قال: سألت أبا الحسن موسى
عن شئ فقال: (كل مجهول ففيه القرعة).
حيث يتوهم منها العموم (4).
وفيه أولا: أن صدرها غير مذكور، ضرورة أن السؤال لم يكن بهذا العنوان العام
المجهول، بل لم يذكر المسؤول منه في النقل، فلعل السؤال كان على نحو كان قرينة على
صرف الجواب إلى مجهول خاص.
وثانيا: أن كون القرعة عقلائية مرتكزة في ذهن العرف موجب لصرف كل مجهول

1 - الفقيه 3: 52 / 176، الوسائل 18: 190 / 14 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 390 الرقم 12 من المتن.
3 - تقدم تخريجه في صفحة 384.
4 - عوائد الأيام: 228، رسائل الشيخ الأنصاري: 422.
396

إلى المجهول في باب القضاء، وتزاحم الحقوق، لا مطلقا، وفي كشف كل مجهول،
خصوصا مع ورود تلك الروايات الكثيرة في ذلك بخصوصه.
كما أن الفقهاء على ذلك أيضا. فهذا شيخ الطائفة شيخنا أبو جعفر الطوسي
رضي الله عنه قال في كتاب القضاء من " النهاية " في باب سماع البينات وكيفية الحكم بها
وأحكام القرعة في ذيل بعض القضايا المشكلة: وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم
فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة، لما روي عن أبي الحسن موسى وعن غيره من آبائه
وأبنائه، ثم ذكر رواية محمد بن حكيم (1).
ومعلوم: وأن مراده من كل أمر مشكل مجهول يشتبه فيه الحكم هو الحكم في
موارد القضاء ورفع الأمر إلى القاضي في التنازع وتزاحم الحقوق، لا مطلق الحكم
الشرعي، كما هو واضح بأدنى تأمل.
وفي " الخلاف " في تعارض البينات بعد اختياره القرعة قال: دليلنا إجماع الفرقة
على أن القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه (2).
وفيه أيضا دعوى الاجماع ظاهرا على أن القرعة في كل أمر مجهول، حيث قال في
مسألة ما إذا حضر أثنان عند الحاكم معا في حالة واحدة: إن القرعة مذهبنا في كل أمر
مجهول (3).
ومراده من كل أمر مجهول هو ما ذكرنا لا مطلقا، لقضاء الاجماع، بل الضرورة بأن
القرعة ليست في مطلق المجهولات، كالجهل بالأحكام الشرعية في مقام الفتوى،
وكاشتباه الموضوعات كالإناءين المشتبهين، واشتباه القبلة وأشباهها، فدعوى كون
القرعة مذهبنا في كل أمر مجهول تدل بالضرورة على ما ادعيناه.

1 - النهاية للطوسي: 345 و 346.
2 - الخلاف 2: 638.
3 - نفس المصدر 2: 599.
397

وعن " قواعد الشهيد " رحمه الله: ثبت عندنا قولهم: (كل أمر مجهول فيه القرعة).
وذلك لأن فيها عند تساوي الحقوق والمصالح ووقوع التنازع دفعا للضغائن والأحقاد،
والرضا بما جرت به الأقدار، وقضاء الملك الجبار (1).
وهذا التعليل ظاهر في أن الشهيد فهم من قوله: (كل مجهول ففيه القرعة) (2)
اختصاصه بباب تساوي الحقوق وتزاحمها ووقوع النزاع، وعليه يحمل ما نقل عن طريق
العامة: (القرعة لكل أمر مشتبه) أو (مشكل).
كما نقل عن ابن إدريس (3) في باب سماع البينات أنه قال: وكل أمر مشكل
يشتبه فيه الحكم فينبغي أن تستعمل فيه القرعة، لما روي عن الأئمة عليهم السلام،
وتواترت به الآثار، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية (4)، ضرورة أن الروايات المتواترة إنما
هي في الموارد المتقدمة، وكذا إجماع الشيعة في مثلها، لا في مطلق المشتبه، وهذا واضح
جدا.
وبالجملة: المتتبع لكلمات الأصحاب يرى إسراءهم الحكم من الموارد
المنصوصة التي عددناها في الأمر الأول إلى غيرها مما هو من قبيلها، أي في موارد تزاحم
الحقوق والتداعي والتنازع، والحال أن فقيها منهم ممن تعتبر فتواه لا يرى الإفتاء في
سائر المشتبهات والمجهولات بالقرعة، وليس ذلك إلا من جهة ما ذكرنا.

1 - القواعد والفوائد 2: 22.
2 - الفقيه 3: 52 / 174، التهذيب 6: 240 / 593، الوسائل 18: 189 / 11 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
3 - ابن إدريس: الفقيه الكبير الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إدريس العجلي الربعي الحلي، كان شيخ الفقهاء بالحلة، متقنا
للعلوم، كثير التصانيف، أطراه كثير من أصحاب المعاجم، كانت ولادته سنة 543 ه‍، وتوفي سنة 598 ه‍،
يروي عن جماعة من الأعلام، منهم الشريف أبو الحسن علي بن إبراهيم العلوي العريضي، والشيخ عربي بن مسافر
العبادي، والسيد أبو المكارم حمزة بن زهرة، والشيخ الحسين بن رطبة السوراوي وغيرهم، ويروي عنه السيد فخار بن
معد الموسوي، والشيخ نجيب الدين محمد بن جعفر بن نما الحلي. انظر الكنى والألقاب 1: 210، لؤلؤة البحرين:
276 / 97، رجال ابن داود: 269 / 426.
4 - السرائر 2: 173.
398

لا لاحتفاف الأخبار بقرائن وقيود لم تنقل إلينا فإنه بعيد جدا، بل مقطوع
البطلان، فإن الرواية العامة التي تكون أعم من سائر الروايات من طرقنا هي رواية
محمد بن حكيم، وهي كانت عند الصدوق والشيخ من متقدمي أصحابنا بهذه الألفاظ من
غير زيادة ونقيصة، وأنهم لم يفهموا منها إلا ما ذكرنا كما أشرنا إليه.
وما ذكر من قضية التخصيص الكثير إنما هو أمر أحدثه بعض متأخري
المتأخرين (1)، وتبعه غيره (2)، وما رأينا في كلام القدماء من أصحابنا له عينا ولا أثرا،
والمظنون أنه حصل من الاغترار بظاهر رواية محمد بن حكيم والروايتين من طرق
العامة، فأخذ اللاحق من السابق حتى انجر الأمر إلى ذلك واشتهر بين المتأخرين.
ولولا مخافة التطويل الممل لسردت عبارات القوم في الموارد المفتى بها من غير
نص خاص حتى يتضح لك الأمر، فراجع أبواب التنازع في الكتب، وموارد فرض
الاشتباه والتشاح في كتاب النكاح، والطلاق، والتجارة، واللقطة، والقضاء، والإجارة،
والصلح، والوصية، والميراث، والعتق، والصيد، والذباحة، والإقرار، والغصب، وإحياء
الموات، والشفعة، وغيرها مما لا نص فيها، ترى أن الفقهاء عملوا فيها بالقرعة.
فتحصل مما ذكرنا: أن مصب أخبار القرعة العامة والخاصة ليس إلا المشتبهات
والمجهولات في باب التنازع وتزاحم الحقوق، وليس التخصيص فيها كثيرا، بل هي
بعمومها معول عليها، معمول بها.
بل يمكن أن يقال: إن التخصيص في أخبارها أقل من تخصيص نحو * (أوفوا
بالعقود) * (3) و (المؤمنون عند شروطهم) (4) فالمسألة بحمد الله خالية عن الإشكال.

1 - هو المحدث الحر العاملي في الفصول المهمة على ما نقل عنه المحقق النراقي في عوائد الأيام: 228.
2 - كفاية الأصول: 493 و 494، درر الفوائد: 613 و 614.
3 - سورة المائدة 5: 1.
4 - الكافي 5: 404 / 8، التهذيب 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 385، الوسائل 15: 30 / 4 - باب 20 من
أبواب المهور.
399

الأمر الثالث
هل القرعة أمارة على الواقع أم لا؟
الظاهر أن القرعة ليست أمارة على الواقع، لا لدى العقلاء وذلك واضح،
ولا لدى الشرع:
أما أولا: فلأن الظاهر أن الشارع لم يتخذ في باب القرعة طريقا غير طريق العقلاء،
كما لعله يظهر من ذيل مرسلة ثعلبة (1)، حيث جعل الأصل فيها قوله تعالى:
* (فساهم فكان من المدحضين) * (2).
ومعلوم: أن مساهمة أصحاب السفينة قضية عقلائية، قررها الكتاب الكريم،
واستشهد بها الأئمة عليهم السلام، بل الناظر في الأخبار المتكثرة الواردة في القرعة يرى
أن مواردها هي الموارد التي يتداول أشباهها لدى العقلاء، إلا المورد الذي مر الكلام
فيه.
وأما ثانيا: فلأن جعل الطريقية لما ليس له كشف عن الواقع ولو ضعيفا مما
لا يمكن، بل قد قرر في محله (3) بطلان جعل الطريقية والكاشفية مطلقا، والقرعة ليست
كاشفة عن الواقع، بل تكون مطابقتها للواقع من باب الاتفاق، لا بمعناه المحال، كما
قرر في محله (4)، وما كان حاله كذلك لا معنى لطريقيته وكاشفيته، والتصادف الدائمي
أو الأكثري - بإرادة الله تعالى والأسباب الغيبية - وإن كان ممكنا، لكنه بعيد غايته، بل
لا يمكن الالتزام به.
وأما ثالثا: فلأن لسان عمومات باب القرعة مثل قوله: (كل مجهول ففيه

1 - تقدم تخريجها في صفحة 395.
2 - سورة الصافات 37: 141.
3 - أنوار الهداية 1: 105 - 108 و 204 - 207.
4 - منظومة السبزواري: 127 - قسم الحكمة، الأسفار 2: 253 - 259.
400

القرعة) (1) وقوله: (القرعة لكل أمر مشتبه) أو (مشكل)، أو (فيما أشكل) (2) لسان
الأصل والوظيفة لدى الجهل والاشتباه، لا الأمارة، فهي نظير قوله: (كل شئ نظيف حتى
تعلم أنه قذر) (3) وقوله: (كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) (4).
وأما قوله: (ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم المحق) (5) فلعل
المراد منه ما في روايات اخر، كصحيحة الحلبي: (فأيهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى
بالحق) (6) وصحيحة داود بن سرحان: (فهو أولى بالقضاء) (7) أي خرج سهم من هو
أولى بالحق والقضاء، أي يكون الحق معه، فعليه اليمين، وعلى صحابه الإثبات، ومثل
هذا التعبير متداول في باب القضاء (8).
أو المراد منه: خرج سهم المحق إذا حلف، وهو عبارة أخرى عما في صحيح
البصري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهود
عدلهم سواء وعددهم أقرع بينهم على أيهما تصير اليمين، وكان يقول: اللهم رب
السماوات السبع ورب الأرضين السبع، أيهم كان له الحق فأده إليه، ثم يجعل الحق
للذي يصير عليه اليمين إذا حلف) (9).

1 - الفقيه 3: 52 / 174، التهذيب 6: 240 / 593، الوسائل 18: 189 / 11 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
2 - دعائم الاسلام 2: 522 / 1864، مستدرك الوسائل 3: 200 / 1، 2 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
3 - التهذيب 1: 284 / 832، الوسائل 2: 1054 / 4 - باب 37 من أبواب النجاسات.
4 - الكافي 5: 313 / 40، التهذيب 7: 226 / 989، الوسائل 12: 60 / 4 - باب 4 من أبواب ما يكتسب به.
5 - الفقيه 3: 54 / 183، الوسائل 18: 183 / 6 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
6 - التهذيب 6: 235 / 577، الاستبصار 3: 40 / 137، الوسائل 18: 185 / 11 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
7 - الفقيه 3: 52 / 178، الوسائل 18: 183 / 6 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
8 - الخلاف: 635 و 640، النهاية: 344، السرائر 2: 168 و 169، شرائع الاسلام 4: 103، إرشاد الأذهان 2: 150.
9 - الكافي 7: 419 / 3، الفقيه 3: 53 / 181، التهذيب 6: 233 / 571، الاستبصار 3: 39 / 131، الوسائل 18:
183 / 5 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
401

وعليه أو على الأول يحمل ما في مرسلة داود (1) في الاختلاف في الزوجة قال:
(يقرع بين الشهود، فمن خرج سهمه فهو المحق، وهو أولى بها) (2) فمن تدبر في
الروايات حقة، وفي تعبيرات كتاب القضاء عن الذي عليه اليمين، وعن صاحبه لا
يستبعد هذا الحمل، كما تشهد عليه روايات باب القرعة فراجع وتدبر.
وأما قضية بحث الطيار (3) وزرارة كما في صحيحة جميل قال قال الطيار لزرارة:
ما تقول في المساهمة أليس حقا؟
فقال زرارة: بلى هي حق.
فقال الطيار: أليس قد ورد أنه يخرج سهم المحق؟
قال: بلى.
قال: فتعال حتى أدعي أنا وأنت شيئا ثم نساهم عليه، وننظر هكذا هو؟
فقال زرارة: إنما جاء الحديث بأنه (ليس من قوم فوضوا أمرهم إلى الله ثم
اقترعوا إلا خرج سهم المحق) (4) فأما على التجارب فلم يوضع على التجارب.
فقال الطيار: أرأيت إن كانا جميعا مدعين ادعيا ما ليس لهما، من أين يخرج سهم
أحدهما؟
فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح (5) فإن كانا ادعيا ما ليس لهما

1 - داود: هو داود بن أبي يزيد: ثقة صادق اللهجة من أهل الدين وكان من أصحاب الهادي والعسكري عليهما السلام.
انظر معجم رجال الحديث 7: 89.
2 - الكافي 7: 420 / 2، التهذيب 6: 235 / 579، الاستبصار 3: 41 / 139، الوسائل 18: 184 / 8 - باب 12 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
3 - الطيار: هو محمد بن عبد الله الطيار من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام والراوي عنهما، وقد روي أن الإمام
الباقر عليه السلام كان يباهي بالطيار، روى عنه أبان، وعبد الله بن بكير، وثعلبة بن ميمون. انظر: تنقيح المقال 3: 134 /
10895 و 144 / 10976، معجم رجال الحديث 16: 194 / 11000 و 256 / 11148
4 - يشبه هذا الحديث ما مضى عن الصدوق في صفحة 386 و 387.
5 - يحتمل أن يكون " منيح " بالنون وهو أحد سهام الميسر العشرة مما لا نصيب له [منه قدس سره].
402

خرج سهم المبيح (1)
فليس فهمهما حجة، ولهذا ترى أن زرارة أجاب أخيرا عن إشكال الطيار جوابا
إقناعيا غير صحيح في نفسه، ولا معمولا به لدى الأصحاب، مع أنه من أين يعلم القاضي
بطلان دعوييهما حتى يجعل سهم المبيح؟! ولو علم لا معنى لجعل ذلك
وبالجملة: هذا الجواب فرار عن الإشكال.
مع أن جواب الطيار - على فرض صحة ما فهم من أخبار القرعة - أن خروج سهم
المحق إنما هو فيما كان محق ومبطل، وإلا فالقرعة لا تجعل غير المحق محقا، والحق
عدم ورود الإشكال رأسا لما ذكرنا في معنى الحديث.
ثم إن الظاهر من قوله: (ما يقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله إلا خرج سهم
المحق) (2) أن القرعة ليست أمارة على الواقع، بل الله تعالى إذا فوض الأمر إليه يخرج
سهم المحق بإرادته وأسباب غيبية، وهذا غير أماريتها كما لا يخفى، لكن القول الفصل
ما تقدم (3).
ثم إن مثل قوله: (ما يقارع قوم..) إلى آخرة لا يكون بصدد بيان موضوع القرعة
وموردها، فموضوعها وموردها الأمر المجهول والمشتبه والمشكل في باب تزاحم
الحقوق والتنازع.
ومما ذكرنا: يتضح تقدم أدلة الاستصحاب على أدلتها، فيكون تقدمها عليها
كتقدمها على أدلة أصالة الحل والطهارة، فتكون أدلته حاكمة عليها، كحكومتها
عليهما، وقد مرت (4) كيفية الحكومة فيما تقدم.

1 - التهذيب 6: 238 / 584، الوسائل 18: 188 / 4 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
2 - الفقيه 3: 54 / 183، الوسائل 18: 183 / 6 - باب 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
3 - تقدم في صفحة 400.
4 - تقدم في صفحة 234 وما بعدها.
403

فبين الدليلين وإن كان عموم من وجه، لاختصاص أدلة القرعة بباب تزاحم
الحقوق والمنازعات كما عرفت (1)، لكن تتقدم أدلة الاستصحاب عليها بالحكومة، فما
أفاده المحقق الأنصاري وتبعه المحقق الخراساني: من أعمية أدلة القرعة من أدلة
الاستصحاب، فيجب تخصيصها بها (2) كما ترى.
هذا كله بناء على أن المراد من " المجهول " و " المشتبه " و " المشكل " الواردة في
أدلة القرعة هو ذلك بحسب الواقع، ويكون معنى قوله: (كل مجهول ففيه
القرعة) (3). أن كل ما تعلق الجهل بواقعه ففيه القرعة، فإذا دار الأمر بين كون مال لزيد
أو عمرو ولم يعلم أنه من أيهما ففيه القرعة، وكذا الحال في المشتبه والمشكل.
وها هنا احتمال آخر قريب بعد الدقة في مجموع الأدلة والتتبع في كلمات
الأصحاب، وإن كان مخالفا لظاهر بعض الروايات الخاصة: وهو أن المراد منها أن كل
أمر مشكل في مقام القضاء، ومشتبه على القاضي، ومجهول فيه ميزان القضاء ففيه
القرعة.
فيرجع محصل المراد: إلى أن الأمور المرفوعة إلى القاضي إذا علم فيها ميزان
القضاء - أي كان لديه ما يشخص المدعي والمنكر، ككون أحدهما ذا اليد، أو قوله مطابقا
لأصل عقلائي أو شرعي - فليس الأمر مجهولا عنده، ولا القضاء مشتبها ومشكلا، لأن
البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه.
وأما إذا كان الأمر الوارد عليه مجهولا بحسب ميزان القضاء فلا بد من التشبث
بالقرعة لتشخيص من عليه اليمين، وتمييز ميزان القضاء، لا لتشخيص الواقع، أما

1 - تقدم في صفحة 389 وما بعدها.
2 - رسائل الشيخ الأنصاري: 422، كفاية الأصول: 493.
3 - تقدم تخريجه في صفحة 384.
404

قوله: (القرعة لكل أمر مشكل) (1) فيمكن دعوى ظهوره في ذلك، لأن الظاهر
من المشكل أن الحكم فيه مشكل، لا أنه مجهول واقعه، فلا يقال للأمر المجهول إنه
مشكل.
وتدل عليه رواية " الدعائم ": أن الأئمة أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل، وقال
أبو عبد الله (أي حكم في الملتبس أثبت من القرعة؟ أليس هو التفويض إلى الله جل
ذكره) ثم ذكر قصة يونس ومريم وعبد المطلب (2)، فإن الظاهر منه أنهم أوجبوا أن
يحكم القاضي إذا أشكل عليه الأمر، أي في القضايا المشكلة بالقرعة، ويؤيده بل يدل
عليه تمسكه بقصة مريم ويونس، فإن الأمر فيهما مشكل بحسب الحكم والقضاء لا
مجهول، لعدم واقع فيهما.
ويشهد له ما عن الإختصاص بإسناده عن عبد الرحيم قال: سمعت أبا جعفر
عليه السلام يقول: (إن عليا عليه الصلاة والسلام كان إذا ورد عليه أمر لم يجئ فيه
كتاب، ولم تجر فيه سنة رجم فيه) يعني ساهم (فأصاب) ثم قال: (يا عبد الرحيم وتلك
من المعضلات) (3).
فإن الظاهر من ورود الأمر عليه رفع الأمر إليه للحكومة، ومعنى عدم مجئ
كتاب وإجراء سنة فيه عدم ورود ميزان القضاء والحكم فيه، وإلا فليس من موضوع
إلا وله حكم من الكتاب أو السنة، فالمساهمة ميزان القضاء حيث لا ميزان من الكتاب
والسنة.
ولعل المراد من عدم إجراء السنة فيه - مع أن القرعة أيضا سنة كما نص عليه في

1 - انظر بحار الأنوار 88: 234.
2 - تقدم تخريجها في صفحة 386.
3 - الإختصاص: 310، بصائر الدرجات: 409، مستدرك الوسائل 3: 201 / 14 - باب 11 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
405

رواية سيابة وإبراهيم (1) - هو أنه لم تجر عليه السنة الابتدائية، لأن القرعة عقلائية قد
أمضاها الشارع، وقوله في ذيلها: (وتلك من المعضلات) بمنزلة التفسير لما ورد من أن
(القرعة لكل أمر مشكل) وقوله: " أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل " (2).
فالحاصل: أن المشكل والمعضل الذي هو موضوع القرعة إنما هو من قبيل الأمر
الوارد على الحاكم ولم يأت فيه كتاب، ولم تجر فيه سنة للقضاء والحكم، تأمل.
ويدل عليه معقد إجماع الحلي المتقدم حيث قال: وكل أمر مشكل يشتبه فيه
الحكم فينبغي أن يستعمل فيه القرعة (3) فإن الظاهر منه أن المشكل والمشتبه ما يكون
الحكم فيه مشتبها ومشكلا.
وأما قوله: (كل مجهول ففيه القرعة) (4) فلم ينقل لنا صدرها، ولعل فيه قرينة على
ما ذكرنا، وعبارة الشيخ في " النهاية " تدل على أنه فهم منها ما ذكرنا حيث قال: وكل أمر
مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة، لما روي عن أبي الحسن
موسى عليه السلام وروى الرواية المتقدمة (5).
فإن الظاهر من جمعه بين المشكل والمجهول والمشتبه في عبارة واحدة،
والتمسك بالرواية التي ليس فيها إلا عنوان المجهول دليل على أن المشكل والمجهول
والمشتبه عنده موضوع واحد.
فعلى هذا الاحتمال: يكون تقدم الاستصحاب على القرعة أوضح، لأن
الاستصحاب يرفع الإشكال في مقام القضاء، لأنه إذا كان قول أحد المدعيين مطابقا

1 - التهذيب 6: 239 / 589، الوسائل 18: 187 / 2 - باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
إبراهيم: ابن عمر اليماني الصنعاني، شيخ من أصحابنا، ثقة، روى عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
انظر رجال النجاشي: 20 / 26، رجال الطوسي: 103 / 7 و 145 / 58، الفهرست للطوسي: 9 / 20.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 385.
3 - السرائر 2: 173.
4 - تقدم تخريجه في صفحة 384.
5 - النهاية: 345 و 346.
406

للاستصحاب يقضي له وتصير اليمين إليه، لكن هذا الاحتمال وإن كا قريبا بالنسبة
إلى جمع من الروايات لكن لا ينطبق على جميعها فراجع.
والمدعى هو تطبيق الأدلة العامة على ذاك الاحتمال، وهو قريب جدا، ولك أن
تقول بأوسعية نطاقها من رفع الأمر إلى القاضي، ومن رفع الأمر إلى الوالي، بل ومن موارد
التشاح بين الرعية، مع حفظ أن يكون المراد من الأمر المشكل الإشكال في حل العقدة،
سواء كان الإشكال لأجل قضاء القاضي، أو الحاكم السياسي أو قضاء المتخاصمين في
حل القضية لعدم الترجيح، وعدم طريق إلى الحل، وعلى ذلك تنطبق عليه جميع الأدلة،
فتدبر جيدا.
وعلى أي حال: لا إشكال في تقدم دليل الاستصحاب على أدلة القرعة.
ومما ذكرنا: من اختصاص مصب القرعة وأخبارها العامة بباب مشكلات القضاء
أو الأعم منها ومن موارد تزاحم الحقوق يتضح عدم تماسها مع أدلة البراءة والاحتياط،
والتخيير، والحل، والطهارة.
ثم إن بعض الأعاظم ذكر في المقام شيئا لا يخلو من غرابة: وهو أنه لا يمكن
اجتماع الاستصحاب والقرعة في مورد حتى تلاحظ النسبة بينهما، لأنها مختصة بموارد
اشتباه موضوع التكليف وتردده بين الأمور المتباينة.
ولا محل لها في الشبهات البدوية، فإنه ليس فيها إلا الاحتمالان في موضوع
واحد، والقرعة إنما تكون في الشيئين أو الأشياء، فموارد الاستصحاب كالبراءة والحل
خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصص، لا بالتخصيص (1) انتهى ملخصا.
وفيه نظر واضح، ضرورة أن أدلة الاستصحاب لا تختص بالشبهات البدوية،
وموارد اجتماع الاستصحاب والقرعة كثيرة إلى ما شاء الله، خصوصا في موارد الجهل

1 - فوائد الأصول 4: 678 و 679.
407

بتأريخ أحد الحادثين، كما لو عقد الوكيل أن المرأة لرجلين، وجهل تأريخ أحدهما، فبناء
على تقدم الاستصحاب على القرعة يحكم بصحة عقد معلوم التأريخ، كما أفتى به
وبنظائره هذا المحقق في حواشيه على العروة (1)، وأما لو قيل بعدم تقدمه عليها فيكون
من موارد القرعة، وله أمثال كثيرة في باب التنازع والقضاء، تدبر.
الأمر الرابع
هل للأدلة العامة للقرعة إطلاق من جميع الجهات أم لا؟
لا إشكال في أن الأحكام التي ثبتت بالقرعة للموضوعات مخالفة للأصول
والقواعد، فيجعل بها ما شك في ولديته ولدا يرث أباه، وتترتب عليه سائر أحكام
الولدية، وما شك في حريته حرا أو عبدا يترتب عليه جميع آثارهما.
فإذا شك في جهة من جهات القرعة واعتبار شئ فيها من مقرع خاص أو كلام
أو دعاء مخصوص، ولم يدل إطلاق دليل أو دليل خاص من إجماع وغيره على عدمه
فلا بد من الأخذ بالمتيقن.
فهل للأدلة العامة إطلاق من جميع الجهات حتى يتمسك به لدفع الشكوك أولا؟
فيه إشكال، لأن رواية محمد بن حكيم: (كل مجهول ففيه القرعة) (2) تدل
بعمومها على أن القرعة ثابتة لكل مورد مجهول، مع قطع النظر عن صدرها، ولكن ليس لها
إطلاق من جهات اخر، فلو شككنا في اعتبار مقرع خاص كالوالي والقاضي لا يرفع
الشك بإطلاقها.
مضافا: إلى أن عدم ذكر صدرها موهن لإطلاقها، لاحتمال كون الكلام محفوفا بما

1 - حاشية المحقق النائيني على العروة الوثقى 2: 399 - المسألة 35.
2 - تقدم تخريجه في صفحة 384.
408

يضر بالإطلاق والعموم، وهذا الاحتمال الناشئ من تقطيع الرواية غير الاحتمال البدوي
الذي لا يعتني به.
هذا كله مضافا إلى ما رجحناه من أن (كل مجهول ففيه القرعة) كقوله: (القرعة
لكل أمر مشكل) راجع [إلى] باب القضاء والحكومة، أعم من حكومة القاضي في باب
الدعاوى أو حكومة الوالي في المنازعات السياسية، فحينئذ كانت القرعة من شأن
القاضي كسائر شؤون فصل الخصومات، وإذا رفع النزاع في الثاني إلى الوالي فالظاهر أن
القرعة أيضا من شؤونه.
وتدل عليه في الجملة: جملة من روايات الباب، كالتي وردت في المولود الذي
ليس له ما للرجال ولا ما للنساء (1)، وكمرسلة حماد (2)، ورواية يونس (3)، بل وصحيحة
محمد بن مسلم، عن أبي جعفر في الرجل يكون له المملوكون فيوصي بعتق ثلثهم.
قال: (كان علي عليه السلام يسهم بينهم) (4).
حيث يظهر منها أنه كان المتعارف في مثله الرجوع إليه في زمان حكومته.
نعم: الظاهر جواز التراضي بالقرعة في بعض الموارد، كباب القسمة والتزاحم في
المشتركات، كما يجوز التصالح بغيرها، والتفصيل كسائر مباحث القرعة وفروعها موكول
إلى محله.
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
قد فرغ من تسويده مؤلفه الفقير روح الله بن مصطفى الموسوي
الخميني، تاسع شهر رمضان المبارك، سنة ألف وثلاث مائة وسبعين في
بلدة محلات، حامدا مصليا على النبي وآله الطاهرين.

1 و 2 و 3 - تقدمت في صفحة 395 و 396.
4 - التهذيب 8: 234 / 842، الفقيه 3: 53 / 180، الوسائل 16: 77 / 1 - باب 65 من أبواب العتق.
409