الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الروحاني
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٢
المطبعة: أمير
الناشر: مدرسة الإمام الصادق (ع)
ردمك:
ملاحظات:

زبدة الأصول
تأليف
المحقق الفذ آية الله العظمى
السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
مد ظله
الجزء الثاني
1

الكتاب: زبدة الأصول ج 2
المؤلف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
نشر: مدرسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: أمير
الطبعة: الأولى، ربيع الأول 1412
الكمية: 1000 نسخه
السعر: 200 تومان
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وأفضل صلواته على أشرف
الخلائق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين لا سيما
بقية الله في الأرضين الامام المهدى أرواح من سواه فداه
واللعن على أعدائهم أجمعين وبعد فهذا هو الجزء الثاني من
كتابنا زبدة الأصول وفقنا لطبعه وأسئل الله تعالى التوفيق
لنشر بقية هذه الموسوعة والله ولى التوفيق.
3

الفصل الخامس
في اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده وعدمه
وقبل الدخول في البحث لابد من تقديم مقدمات، الأولى هل هذه المسألة
من المبادئ الأحكامية، أو من المبادئ التصديقية، أو من المسائل الأصولية، والفقهية فيه
وجوه:
1 - انها من المبادئ الأحكامية، وهي المسائل التي تكون محمولاتها من
عوارض الأحكام التكليفية أو الوضعية كتضاد الاحكام وملازمة بعضها لبعض، ومسألة
الضد من هذا القبيل فإنه يبحث فيها عن ملازمة الامر بشئ للنهي عن ضده.
وفيه انه لا مانع من كون المسألة فيها جهتان يوجب كل منهما تعنونها بعنوان
مستقل، وهذه المسألة كذلك لما ستعرف من وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط.
2 - انها من المبادئ التصديقية، فان موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة ومنها
حكم العقل، والمراد به اذعان العقل بشئ، فلا محالة تكون المسألة الأصولية هي ما
يبحث عن لواحق حكم العقل، واما ما يبحث فيه عن نفس حكم العقل فهو بحث عن
ذات الموضوع، لا عن عوارضه وحيث إن المبحوث عنه في هذه المسألة الملازمة العقلية
بين وجوب شئ وحرمة ضده، فهي من المبادئ التصديقية.
وفيه ما مر في أول الأصول من أن موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة
بل المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق الاستنباط كانت باحثة عن عوارض الأدلة
الأربعة أم لم يكن ومسألة الملازمة بين الامر بالشئ والنهى عن شده من هذا القبيل.
5

3 - انها من المسائل الفقهية لان المبحوث عنه في هذه المسألة حرمة ضد الواجب
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بان علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات
خاصة، كالصلاة، والصوم، وما شاكل. والبحث عن حرمة كلي ضد الواجب الذي لا ينحصر
صدقه بموضوع خاص لا يتكفله علم الفقه.
ويرده ان علم الفقه كما يكون متكفلا لبيان أحوال الموضوعات الخاصة بعناوينها
الأولية كذلك يكون متكفلا لبيان أحوال العناوين العامة التي تنطبق على كثير
من العناوين الخاصة لا حظ: النذر، والشرط، وإطاعة الوالد وما شاكل.
والحق في الجواب ان البحث ليس ابتداءا في حرمة الضد، بل البحث عن
ثبوت الملازمة بين وجوب شئ وحرمة ضده وعدم ثبوتها وبديهي ان البحث عن ذلك
ليس بحثا فقهيا.
والصحيح انها من المسائل الأصولية، لوقوع نتيجتها واسطة في استنباط
الحكم الشرعي بلا حاجة إلى ضم كبرى أصولية أخرى: إذ يترتب على ثبوت الملازمة
حرمة الضد وعلى عدم ثبوتها عدم حرمته.
ولو نوقش في ذلك وقيل إن حرمة الضد بما انها حرمة غيرية لا تصلح لان تكون
ثمرة للمسألة الأصولية، أجبنا عنه بأنه على فرض القول بعدم ثبوت الملازمة يترتب على
هذه المسألة صحة الضد العبادي، وعلى ثبوتها عدم صحته، كما سيمر عليك وهذا يكفي
في كون المسألة أصولية.
الثانية: الظاهر أن هذه المسألة من المسائل العقلية، لامن مباحث الألفاظ: إذ الحاكم
بالملازمة انما هو العقل، غاية الامر ان هذا الحكم العقلي انما هو من الاحكام العقلية
غير المستقلة، وهي مالا يستنبط منه الحكم الا بعد ضم مقدمة شرعية إليه، وليس
من الاحكام العقلية المستقلة، وهي التي يستنبط منها الاحكام بلا احتياج إلى ضم شئ
آخر إليها: وذلك لأنه لا يستنبط من حكم العقل بالملازمة حرمة شئ الا بعد ضم
وجوب ضده إليه، وتوهم انحصار الاحكام العقلية في القسم الثاني، أوجب جعل
هذه المسألة من مباحث الألفاظ والا فلا صلة لها بها.
6

الثالثة: ان المراد بالضد هو مطلق المنافى - توضيح ذلك - ان المنافى تارة يكون
وجوديا كالأضداد الخاصة - أو الجامع بينها - وأخرى يكون عدميا كالترك الذي
هو المسمى عندهم بالضد العام - وقد يعبر عن الجامع بين الأضداد الخاصة
بالضد العام - والضد الخاص، تارة يكون واحدا فيكون الضدان مما لا ثالث لهما كالحركة
والسكون، وأخرى يكون متعددا وهو الضدان اللذان لهما ثالث.
الرابعة: ان المراد بالاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره، بل الأعم منه و
من الاقتضاء بنحو العينية والجزئية ليعم جميع الأقوال، فإنه من الأقوال القول بان الامر
بالشئ عين النهى عن ضده، والقول بان النهى عن الضد جزء من الامر بالشئ، والقول
باستلزام الامر بالشئ للنهي عن ضده.
وبعد ذلك أقول ان الكلام يقع في مقامين: الأول: في الضد الخاص
الثاني: في الضد العام.
الاستدلال للاقتضاء من طريق الملازمة في الضد الخاص
اما الكلام في المقام الأول: فقد استدل لاقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده
الخاص بطريقين:
أحدهما من طريق الملازمة: بتقريب ان وجود كل شئ ملازم لترك ضده،
والمتلازمان متحدان حكما، ولا يعقل اختلافهما في الحكم فإذا كان أحد الضدين
مأمورا به وواجبا، لا محالة يكون عدم الاخر مأمورا به واجبا، فإذا وجب عدمه كان
وجوده منهيا عنه.
ويرد عليه ما تقدم في مبحث المقدمة، من أنه لا دليل على اتحاد المتلازمين
في الحكم، وانما اللازم عدم اختلافهما في الحكم، والالتزام بخلو الواقعة عن الحكم وان
كان أولا وبالذات، غير صحيح، الا انه بواسطة العوارض لا محذور فيه، كما إذا كان مانع
عن الترخيص في فعل، ولم يكن فيه مصلحة ولا مفسدة فمثل هذا الفعل لا يحكم عليه
7

بشئ.
لا يقال: انه كما في الإرادة التكوينية إرادة أحد المتلازمين أو الملزوم أو اللازم
مع الالتفات إلى الملازمة تلازم إرادة اللازم أو الملزوم أو الملازم. ولذا لو كان حراما،
يكون فاعله معاقبا لصدوره باختياره وارادته، يكون في الإرادة التشريعية أيضا كذلك
لأنهما توأمتان، فإنه يقال قد مر غير مرة عدم ترتب جميع آثار الإرادة التكوينية
على الإرادة التشريعية، وفى التكوينية بما انهما متلازمتان وجودا، يلازم إرادة
أحدهما إرادة الاخر، بخلاف الإرادة التشريعية المتعلقة بفعل الغير.
مع أن عدم الضد لو كان واجبا لما كان وجوده حراما إذ ترك الواجب ليس حراما
كما مر.
وقد يفصل بين الضدين الذين لا ثالث لهما، كالاجتماع، والافتراق، والحركة،
والسكون، وبين الضدين الذين لهما ثالث، بالذهاب إلى الاقتضاء بالدلالة الالتزامية
باللزوم البين بالمعنى الأعم في الأول، وعدم الاقتضاء في الثاني كما عن المحقق
النائيني (ره): بتقريب انه بعد البناء على اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده العام كما بنى
عليه، لابد من الالتزام به في المقام نظرا إلى وجود ملاك النقيضين في الضدين الذين لا
ثالث لهما وهو امتناع اجتماعهما، وامتناع ارتفاعهما، وهذا الملاك مفقود
في الضدين الذين لهما ثالث.
ثم أورد على نفسه بأنه لو سلمت الملازمة في الضدين الذين لا ثالث لهما، لابد
من الالتزام بها في الضدين مطلقا: إذ الجامع بين الأضداد الوجودية مضاد للواجب ولا
ثالث لهما، فإذا كان الجامع حراما فيكون كل فرد منه في الخارج متصفا بالحرمة.
وأجاب عنه بان الجامع بين الأضداد الوجودية، ليس الا عبارة عن عنوان انتزاعي
يشار به إلى نفس الأضداد، فكل فرد منه مضاد بنفسه وبخصوصيته لا باعتبار انطباق
عنوان الجامع عليه، مع أن الجامع لو كان متأصلا الا ان الموجود في الخارج هو الفرد
والمصداق، ولا ملازمة بين تركه ووجود الضد الاخر على الفرض، والجامع لا يوجد
في الخارج بنفسه.
8

أقول يرد عليه أولا ما سيأتي من عدم تسليم الاقتضاء في النقيضين.
وثانيا: انه لو سلم فيهما لا نسلم في الضدين، إذ الفرق بينهما مع المراجعة إلى العرف
ظاهر: إذ العرف يرون ان أحد النقيضين إذا كان محبوبا كان الاخر مبغوضا وليس الامر
كذلك في الشئ ولازمه ومقارنه.
وثالثا: انه لو سلمت الدلالة الالتزامية في الضدين الذين لا ثالث لهما، لابد
من التسليم في مطلق الضدين، إذ ملاك الدلالة استلزام وجود الشئ لعدم ضده وهو امر
مشترك بين جميع الأضداد، واما استلزام عدم الشئ لوجود ضده المختص بما إذا لم
يكن لهما ثالث، فهو أجنبي عن الملاك المشار إليه.
الاستدلال للاقتضاء بالمقدمية
الطريق الثاني هو المقدمية: وهذا الدليل مركب من مقدمتين: إحداهما: صغرى
القياس وهو كون عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الاخر. الثانية: كون مقدمة الواجب
واجبة، فيكون الامر بالضد مقتضيا لطلب ترك الضد الاخر، وهو معنى النهى عنه أو فقل
انه إذا وجب الترك حرم الفعل، والكلام في هذا الطريق يقع في كل من المقدمتين:
اما الأولى: فهي على ما في الكفاية المهم من البحث هنا، والأقوال فيها خمسة:
الأول: ان عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الاخر، ووجود الضد الاخر
مقدمة لعدم هذا الضد، فتكون المقدمية من الطرفين، ذهب إليه العضدي والحاجبي.
الثاني: مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر ولا عكس ذهب إليه جماعة
من المحققين منهم المحقق القمي وصاحب الحاشية السبزواري، وعلى هذا بنوا
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده.
الثالث: مقدمية وجود أحد الضدين لعدم الاخر، ولا عكس، وعليه يبتنى شبهة
الكعبي.
الرابع: نفى المقدمية من الطرفين، اختاره جماعة من المحققين والأساطين.
9

الخامس: التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم، والالتزام بمقدمية عدم الأول
لوجود الضد الاخر وعدم مقدمية عدم الثاني لوجوده - وبعبارة أخرى فرقوا بين الرفع
والدفع والتزموا بمقدمية العدم في الأول دون الثاني، وهو الذي اختاره المحقق
الخوانساري ونسب إلى الشيخ الأعظم (ره).
اما القول الأول: فهو دور واضح كما سيمر عليك، ولازمه مقدمية الشئ لنفسه، و
تقدمه على نفسه وفساده من الوضوح بمكان.
واما القول الثاني: فقد استدلوا له: بأنه لا ريب في أن العلة باجزائها مقدمة على العلة
والعلة مركبة من اجزاء ثلاثة، المقتضى، وهو الذي يترشح منه المقتضى والمعلول كالنار
بالإضافة إلى الاحراق - والشرط، وهو الذي يصحح فاعلية المقتضى كالمماسة - وعدم
المنافى، وهو الذي له دخل في فعلية تأثير المقتضى كعدم الرطوبة، وحيث إن
الضدين متمانعان فكل منهما مانع من الاخر، فعدمه من اجزاء علة الاخر
ومقدمة له.
وأجيب عن هذا الوجه لمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر بوجوه:
الجواب الأول: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو مبتن على مقدمتين:
الأولى: ان عدم المعلول انما يكون بعدم علته، وهو تارة يكون بعدم المقتضى.
وأخرى، يكون بعدم الشرط. وثالثة يكون بوجود المانع، وحيث إن دخل كل منها يغاير
الاخر: إذ المقتضى هو ما يترشح منه المعلول، والشرط هو ما يكون دخيلا في فعلية تأثير
المقتضى اثره، وعدم المانع انما يكون دخله في المعلول من جهة مزاحمة وجوده تأثير
المقتضى، فاستناد العدم أي عدم المعلول إلى المانع، انما يكون في ظرف تحقق المقتضى
والشرائط، إذ مع فرض عدم المقتضى لا يستند عدم المعلول إلى وجود المانع مثلا إذا لم
تكن النار موجودة في العالم، أو كانت موجودة ولم تكن مماسة للثوب، فهل يتوهم أحد
صحة ان يقال ان الثوب لا يحترق فعلا لرطوبته، كما أن استناد العدم إلى عدم الشرط انما
يكون في ظرف تحقق المقتضى مثلا في المثال: إذا لم تكن النار موجودة لا يستند
عدم الاحتراق إلى عدم المماسة، فالمانع انما يتصف بالمانعية عند وجود المقتضى مع
10

بقية الشرائط، والا فلا يتصف بالمانعية ليكون عدمه من مقدمات وجود المعلول.
وعلى هذه المقدمة رتب في مبحث لباس المشكوك فيه عدم معقولية جعل
الشرطية لاحد الضدين والمانعية للاخر، بدعوى انه لو كان الضد الذي هو شرط موجودا
فلا يعقل ان يوجد الضد الاخر، حتى يتصف بالمانعية وان لم يكن موجودا فعدم المعلول
يستند إلى عدمه لا إلى وجود الضد الاخر ففي هذا الظرف أيضا لا يتصف بالمانعية.
المقدمة الثانية: انه إذا فرض وجود أحد الضدين يستحيل تحقق المقتضى
للضد الاخر إذ تضاد الشيئين يستلزم تضاد مقتضيهما - وبعبارة أخرى - المحال لا يعقل
تحقق مقتضيه واجتماع الضدين محال فتحقق مقتضيهما معا محال.
إذا عرفت هاتين المقدمتين يظهر لك انه مع وجود أحد الضدين يستحيل وجود
المقتضى للضد الاخر، ومع استحالته عدم ذلك الضد يستند إلى عدم مقتضيه لا إلى
وجود الضد الاخر، فوجود الضد لا يكون مانعا كي يكون عدمه من المقدمات.
أقول ان ما ذكره من المقدمة الأولى في غاية المتانة.
واما المقدمة الثانية: فهي غير تامة: إذ كل واحد من الضدين من الممكنات وليس
محالا فيمكن تحقق المقتضى له وكذلك الضد الاخر، والممتنع انما هو تحقق مقتض
واحد لاجتماعهما وتحققهما معا، فإذا تحقق المقتضى مع الشرائط لكليهما، فوجود
أحدهما يتصف بكونه مانعا عن وجود الاخر - وبعبارة أخرى - ان الشئ إذا كان في نفسه
مما يمتنع وجوده لا يعقل تحقق المقتضى له، وأما إذا كان في نفسه ممكنا كما في المقام
حيث إن كلا من الضدين يمكن وجوده في الخارج فثبوت المقتضى له امر ممكن
- وبالجملة - انا لا ندعي وجود المقتضى لاجتماع الضدين ولكل من الضدين بوصف
اجتماعه مع الاخر حتى يقال انه ممتنع وتحقق المقتضى للمتنع محال، بل ندعي
وجود المقتضى لكل واحد من الضدين في نفسه الذي هو ممكن، ولولا ما ذكرناه لما كان
يستند عدم المعلول إلى وجود المانع ولو في مورد من الموارد: إذ وجود المعلول مع
وجود المانع ممتنع، فلا يمكن تحقق المقتضى له، ومعه يستند العدم إلى عدمه المقتضى
لا إلى وجود المانع.
11

الجواب الثاني: ما افاده المحقق الخراساني في الكفاية، قال: لان المعاندة
والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي الا عدم اجتماعهما في التحقق وحيث لا منافاة أصلا بين
أحدا لعينين، وما هو نقيض الاخر وبديله بل بينهما كمال الملائمة كان أحد العينين مع
نقيض الاخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون ان يكون في البين ما يقتضى تقدم
أحدهما على الاخر انتهى.
توضيح ما افاده يتوقف على بيان أمرين: أحدهما: انه وقع الخلاف في أن عدم
المانع هل هو من اجزاء العلة فيكون مقدما على المعلول بالتقدم العلى، أم لا؟ أم هناك
تفصيل ذهب إلى الثالث المحقق الخراساني على ما يصرح به في ذيل كلامه: والوجه في
ذلك أن المانع ربما يكون مانعا عن وجود المقتضى والمعلول، كما في كل من الضدين
بالإضافة إلى وجود الاخر. وربما يكون مانعا من تأثير المقتضى كالرطوبة المانعة من
تأثير النار في احراق الجسم الرطب، والثاني من اجزاء العلة، واما الأول فليس سوى كون
وجوده مزاحما لوجود المعلول ومنافيا له في التحقق بلا دخل له في التأثير والعلية وعلى
ذلك فلا يكون عدم أحد الضدين من اجزاء علة الاخر.
ثانيهما: انه ذهب جماعة إلى اعتبار وحدة المرتبة في الضدين والنقيضين زائدا
على الوحدات الثمانية المعروفة.
وبعد ذلك نقول ان مراده (قده) من هذا الجواب ان المنافرة بين الضدين كما تقتضي
استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمان واحد كذلك تقتضي استحالة
اجتماعهما في مرتبة واحدة وإذا استحال ذلك كان عدم أحدهما في تلك المرتبة
ضروريا، والا فلا بد وأن يكون وجوده فيها كذلك لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة
- مثلا - السواد والبياض متضادان، ومقتضى تضادهما كما يكون امتناع اجتماعها في
الوجود وفى آن واحد أو رتبة واحدة كذلك يكون ضرورة عدم واحد منهما في رتبة
وجود الاخر لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضا.
والجواب عن ذلك أن ما افاده يبتنى على أصل غير تام، وهو ان استحالة اجتماع
الضدين أو النقيضين انما تكون مع وحدة الرتبة، واما مع تعددها فلا استحالة ابدا، أو فقل
12

انه يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة، ومع اختلافهما فلا تضاد ولا تناقض ولكنه
فاسد إذ المضادة والمناقضة والممانعة من صفات الموجودات الخارجية لا المراتب
العقلية. والتضاد بين السواد والبياض مثلا انما هو في ظرف الخارج والا فمع قطع النظر
عن وجودهما في الخارج لا مضادة بينهما.
وعلى هذا فلا يتم ما افاده من أن المعاندة والمنافرة بين الضدين تقتضي استحالة
اجتماعهما في رتبة واحدة فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم أحدهما في
تلك المرتبة ضروريا والا لزم اما ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما وكلاهما محالان:
والوجه فيه ما عرفت من أن المنافرة بين الضدين انما هي بلحاظ الوجود الخارجي
فحسب، فإذا لا مانع من أن يكون عدم أحدهما متقدما على الاخر بالرتبة، ولا يلزم عليه
المحذور المذكور، واما عدم تقدم أحد الضدين على الاخر فليس لأجل التضاد، بل من
ناحية فقد ملاك التقدم أو التأخر، هذا ما يظهر لي من كلامه (قده).
وقد يقال ان مراده (قده) ان الضدين انما يكونان في مرتبة واحدة، لان كل واحد
منهما بديل للاخر، ووجود كل من الضدين مع عدم نفسه أيضا في مرتبة واحدة لأنهما
نقيضان وبديلان، فتكون النتيجة ان وجود أحد الضدين انما هو في مرتبة عدم الضد الآخر
ولا تقدم ولا تأخر بينهما.
ولا يرد عليه ما توهم وروده عليه، من أن بين أحد العينين وما هو نقيض الاخر وان
كان كمال الملائمة، الا ان ذلك لا يستلزم كون أحد المعنيين مع نقيض الاخر في مرتبة
واحدة، فان كل علة مع معلولها بينهما كمال الملائمة، وهما يوجدان في زمان واحد، و
مع ذلك يكون التقدم والتأخر بينهما ثابتين كما هو واضح.
ولكن يرد عليه ان قياس المساواة في الزمان تام - مثلا إذا كان قيام زيد في زمان
قيام عمرو - وقيام عمر في زمان مجيئ بكر لا محالة يكون قيام زيد في زمان مجئ
بكر، ولا يتم في السبق بالرتبة، ويمكن ان يكون شيئان في مرتبة واحدة ولم يكن بينهما
تقدم وتأخر، ومع ذلك يكون أحدهما متقدما رتبة على شئ ثالث لوجود ملاك السبق
فيه، ولا يكون الآخر متقدما عليه، لعدم وجود ملاكه فيه، مثلا وجود الشرط متقدم رتبة
13

على وجود المشروط، ولكن عدمه ليس متقدما عليه. وبالجملة التقدم بالعلية انما هو
شأن العلة لا ما مع العلة، فالتقدم بالعلية الثابت لعدم شئ لا يسرى إلى نقيضه وهو وجوده
كي يقال ان وجود الضدين في مرتبة واحدة.
الجواب الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني (ره) أيضا قال فكما ان قضية المنافاة بين
المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الاخر كذلك في المتضادين انتهى.
وفيه انه في النقيضين عدم كل منهما عين الآخر، وارتفاع الوجود عين العدم البديل
له وكذلك العكس فلا معنى لتوقف أحدهما على عدم الاخر، واما في الضدين فحيث
لا ريب في أن عدم كل منهما غير وجود الآخر فقد ادعى انه مقدمة له بالبرهان المتقدم
فلا بد من إقامة البرهان على عدم المقدمية.
الجواب الرابع: ما في الكفاية أيضا وحاصله ان التمانع بين شيئين بان يكون كل
واحد منهما مانعا عن الاخر ويكون من اجزاء علته، غير معقول: وذلك لان التمانع
بين الشيئين بان يكون عدم كل منهما مقدمة لوجود الاخر، أمران: أحدهما: تقدم عدم المانع
على وجود الممنوع لكونه من اجزاء علته. ثانيهما: تقدم وجود المانع على عدم المعلول، إذ
لو فرض وجود المقتضى له مع الشرائط واستند عدمه إلى وجود المانع، لا محالة يكون
وجوده مقدما رتبة على عدمه، فعلى هذا التمانع بين الضدين مستلزم للدور: إذ يلزم منه
تقدم وجود كل منهما على عدم الاخر وعدمه على وجوده، فيلزم تقدم وجود كل منهما
وتوقفه على وجوده.
توضيح ذلك، ان وجود الضد انما يستند إلى عدم ضده فعدمه مقدم رتبة عليه، و
عدم ذلك الضد إذا كان مقتضيه وشرائطه موجودة، يستند إلى وجود هذا الضد، فهو
مقدم رتبة على عدم ذلك الضد، فيلزم تقدم عدم الضد على ما فرضناه متأخرا عنه وهو
دور واضح.
وقد أجاب عن ذلك المحقق الخوانساري - ونسب إلى الشيخ الأعظم - ونقله
في الكفاية بان توقف وجود أحد الضدين على عدم الاخر فعلى، بخلاف توقف
عدم الاخر على وجوده فإنه شأني: إذ وجود أحد الضدين انما يكون بوجود علته
14

في الخارج ومن اجزائها عدم المانع، وبديهي ان توقف وجود المعلول على جميع اجزاء
علته ومنها عدم المانع فعلى لدخل جميعها في تحققه ووجوده في الخارج، واما عدم
الضد فهو قد يكون بعدم المقتضى، وآخر بفقد الشرط، وثالثا بوجود المانع، وانما يستند
إلى وجود الضد في فرض وجود المقتضى، مع شرائر شرائطه، ولعله ممتنع لاحتمال ان
يكون وقوع أحد الضدين في الخارج، وعدم وقوع الاخر فيه منتهيين إلى تعلق الإرادة الأزلية
بالأول وعدم تعلقها بالثاني: فإنها علة العلل وجميع الأسباب الممكنة لابد وان تنتهي إلى
سبب واجب وهو الإرادة الأزلية فيكون عدم الضد حينئذ مستندا إلى عدم وجود المقتضى
لا إلى وجود المانع ليلزم الدور.
فان قيل إن هذا لو تم فإنما هو في موردين: 1 - في الموجودات التكوينية 2 -
في الافعال الإرادية إذا كان الضدان منتهيين إلى إرادة شخص واحد، فان إرادة شخص
واحد للضدين محال كان الضدان منتهيين إلى الإرادة الأزلية أم لم ينتهيا إليها، فإذا أراد
أحدهما فلا محالة يكون عدم الاخر مستندا إلى عدم الإرادة والمقتضى لا إلى
وجود الاخر، واما في الافعال الإرادية التي كان كل منهما متعلقا لإرادة شخص غير ما
يكون الاخر متعلقا لإرادته - كما إذا أراد شخص حركة شئ وأراد الاخر سكونه - فلا
محالة يتصور وجود المقتضى وهو إرادة الاخر الذي لم يوجد فعدمه مستند إلى
وجود المانع لا إلى عدم المقتضى لفرض وجوده وهو الإرادة، إذا إرادة الضدين من
شخصين امر ممكن.
أجبنا عنه بان عدم الضد حينئذ مستند إلى قصور المقتضى، فان الإرادة الضعيفة مع
مزاحمتها بالإرادة القوية لا تؤثر: لخروج متعلقها عن تحت القدرة فعدم الاخر حينئذ يستند
إلى عدم قدرة الاخر على ما اراده.
وان شئت فقل ان عدمه حينئذ يستند إلى فقد الشرط أعني به القدرة على الايجاد مع
تعلق الإرادة القوية بخلافه فلا يستند إلى وجود المانع.
وأجاب عن ذلك المحقق الخراساني بما حاصله ان هذا وان كان موجبا
لرفع الدور ولكن ما هو ملاك استحالة الدور وهو توقف الشئ على ما يصلح ان يكون
15

متوقفا عليه باق - وبعبارة أخرى - كيف يمكن ان يكون ما هو من اجزاء العلة لشئ معلولا
له بعينه وكيف يمكن الالتزام بتقدم الشئ على ما يصلح ان يكون متقدما عليه فإنه في
قوة ان يقال انه من الممكن تقدم الشئ على نفسه.
ولكن يمكن ان يورد عليه بأمور: 1 - ما تقدم في مبحث الطلب والإرادة من عدم
انتهاء أفعال العباد إلى إرادة الله تعالى والا لزم الجبر، أضف إليه ان ارادته تعالى ليست أزلية
2 - ان وجود المقتضى لوجود الضد المعدوم امر ممكن حتى مع وجود الضد الاخر كما
فصلنا القول في ذلك في جواب المحقق النائيني (ره) 3 - انه لو كان ذلك أمرا ممتنعا لزم من
ذلك بطلان مقدمية عدم الضد لوجود الضد الاخر كما افاده المحقق النائيني (ره) 4 - ان عدم
تحقق أحد الضدين مع تحقق الاخر انما يكون من جهة المانع كما سيمر عليك عند بيان ما
هو الحق في المقام.
الجواب الخامس: ان عدم المانع ليس من اجزاء العلة لان العدم لا مناسبة له
مع الوجود كي يكون مؤثرا فيه. وفيه ان الاعدام والملكات كالحيثيات الاستعدادية أمور
انتزاعية من أمور وجودية، مثلا عدم المانع انما يؤثر في المعلول من جهة انه ينتزع من
خلو المحل عن المانع الذي هو امر وجودي فلا مانع من تأثيره في الوجود.
فالحق في تقريب منع المقدمية ان يقال انه لو فرضنا شيئا قابلا لوجود أحد الضدين
كالجسم المعلق في الفضاء القابل للحركة إلى طرف المشرق، والحركة إلى طرف المغرب،
فتارة لا يوجد المقتضى مع الشرائط لهما، وأخرى يوجد لأحدهما، وثالثة يوجد لهما معا.
اما في الصورة الأولى: فعدم كل منهما انما يستند إلى عدم المقتضى له، لا إلى
وجود المانع كما هو واضح.
وكذلك في الصورة الثانية عدم ما لا مقتضى له يستند إلى ذلك لا إلى
وجود الضد الاخر.
واما في الصورة الثالثة: فان كان المقتضيان متكافئين في القوة، فلا محالة لا يوجد
شئ منهما: إذ تحققهما معا مستلزم لاجتماع الضدين، وتحقق أحدهما دون الاخر،
مستلزم للترجح بلا مرجح، فيكون عدم كل منهما غير مستند إلى عدم المقتضى لفرض
16

وجوده، ولا إلى وجود الضد الاخر لفرض عدمه، فيستكشف من ذلك أن المانع هو
مقتضى الآخر وعدم كل منهما مستند إلى وجود مقتضى ضده، فالمانع هو المقتضى
بالكسر لوجود الضد، والممنوع هو المقتضى بالفتح، أي وجود الضد الاخر، فالمانع
متمحض في المانعية، والممنوع أيضا متمحض في الممنوعية، فالتمانع غير محقق، و
كذلك لو فرضنا أقوائية أحد المقتضيين فإنه يوجد مقتضاه خاصة، وعدم الاخر يستند إلى
وجود هذا المقتضى الأقوى لا إلى مقتضاه.
وبعبارة أوضح، ان الضدين قد يكون المقتضى لكل منهما موجودا، وقد لا يكون
المقتضى لشئ منهما موجودا، وقد يكون المقتضى لأحدهما موجودا دون الاخر.
اما الفرضان الأخيران، فخارجان عن محل الكلام، لان عدم مالا مقتضى له مستند
إلى عدم المقتضى، لا إلى وجود الاخر، ومحل الكلام هو الفرض الأول، وفى
ذلك الفرض قد يكون المقتضيان متساويين قوة وضعفا، وقد يكون أحدهما أقوى، اما
في المورد الأول، فلا يوجد شئ منهما لاستحالة تأثير كل منهما اثره معا لامتناع
اجتماع الضدين وتأثير أحدهما المعين، ترجح بلا مرجح، فلا محالة لا يوجد شئ منهما
وحينئذ يسئل ما الموجب لعدم التحقق بعد وجود المقتضى والشرائط، وليس الا
وجود المقتضى للاخر، فمقتضى كل منهما يكون مانعا عن الاخر وعن تأثير مقتضيه في
تحققه، واما في المورد الثاني فيوجد الضد الذي يكون مقتضيه أقوى، ولا يوجد الاخر و
عدمه حينئذ ليس لفقد المقتضى، إذ لو لم يكن المقتضى الا قوى موجودا لكان مؤثرا في
تحقق مقتضاه وانما المانع هو أقوائية المقتضى للضد الموجود.
وهذا كما يجرى في الموجودات التكوينية يكون في الأفعال الاختيارية.
اما بالنسبة إلى إرادة شخص واحد فإنه إذا كان الشوق المتعلق بانقاذ أحد الغريقين
الذين لا يتمكن من انقاذهما معا أقوى، لوجود مرجح لأعمال القدرة في انقاذه ككونه ابنه
مثلا، لا محالة يكون هو الموجب لعدم تحقق الاخر وعدم انقاذه، ولذا لو لم يكن هذا
لكان ينقذ من ترك انقاذه.
واما بالنسبة إلى إرادة شخصين كما لو فرضنا ان أحد الشخصين أراد
17

تحريك الجسم الساكن إلى طرف المشرق والاخر أراد تحريكه إلى طرف المغرب فان
تساويا في القوة لا يتحرك إلى شئ من الطرفين، والمانع انما هو مقتضى الحركة وان كان
أحدهما أقوى فيكون هو المانع عن تأثير إرادة الاخر في حركة الجسم إلى الطرف المقابل
وهذا من الوضوح بمكان.
فالمتحصل ان المانع في الضدين انما هو مقتضى كل منهما بالنسبة إلى الاخر فلا
يكون عدم أحد الضدين من اجزاء العلة لوجود الضد الاخر، فلا تمانع بين الضدين.
التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم
واما القول الخامس: وهو التفصيل بين الضد الموجود والمعدوم، والالتزام بان
عدم الثاني ليس من اجزاء العلة بمعنى عدم مانعية وجوده، وعدم الأول من اجزائها.
واستدل للشق الأول بما تقدم. وللشق الثاني، بأنه لا ريب في أن قابلية المحل
من الشرائط، ومع فرض وجود الضد لا يكون قابلا لعروض الضد الاخر،
فعدم الضد الموجود وارتفاعه انما يكون مما يتوقف عليه الضد الآخر.
وفيه: انه لا ريب في أنه يعتبر في الضدين ما يعتبر في النقيضين من الوحدات الثمانية،
لان عدم اجتماع الضدين من فروع عدم اجتماع النقيضين، فالبياض الثابت لجسم في
زمان، لا يكون ضدا للسواد الثابت له في زمان آخر، فحينئذ أقول ان الضد الموجود
وجوده الفعلي ليس ضد الوجود الضد الآخر في الآن المتأخر، بل التضاد انما يكون بين
وجود هذا الضد في الزمان المتأخر، مع وجود الآخر في ذلك الزمان، وحيث إن وجوده
في الزمان المتأخر غير متحقق بالفعل، فالمضادة دائما تكون بين الشيئين غير موجودين، و
عليه فيأتي فيه التفصيل المتقدم آنفا من أنه تارة لا يكون المقتضى لهما متحققا، وأخرى
يكون لأحدهما، وثالثة لهما على نحو تقدم.
لا يقال ان هذا لا يتم بناءا على ما قيل من أن البقاء لا يحتاج إلى المؤثر
وان العلة المحدثة بنفسها علة مبقية - وبعبارة أخرى - على تقدير القول باستغناء البقاء
18

عن المؤثر وكفاية العلة للحدوث كان وجود الضد المستغنى عن العلة مانعا عن حدوث
ضده، فلا محالة يتوقف حدوث ضده على ارتفاعه، نعم على القول الآخران لم يكن للضد
مقتض، أو لم يكن شرطه متحققا فعدمه يستند إلى عدم المقتضى أو عدم الشرط، وان كانا
موجودين ومع ذلك لم يوجد كان ذلك مستندا إلى مقتضى الضد الموجود أي
مقتضى البقاء المانع من تأثير مقتضى ضده.
فإنه يرد عليه ان المبنى فاسد، لان سر الحاجة في وجود الممكن إلى العلة انما هو
امكانه وفقره الحقيقي، وفى هذه العلة لا فرق بين الحدوث والبقاء، بل الحدوث والبقاء
شئ واحد، وهو الوجود والتحقق في عالم الكون، غاية الامر ان لم يكن الوجود مسبوقا
بالعدم كان هو الحدوث، وان كان مسبوقا بمثله يعبر عنه بالبقاء، وان لو حظ ذلك
في الموجودات يظهر بداهة ذلك، ولو فرضنا ان السراج أضئ فما دام يكون متصلا
بالقوة الكهربائية أو كان النفط في المنبع أوما شاكل يكون مضيئا، ومع انتفاء العلة
ينعدم الضوء وهكذا في ساير موارد العلة المعدومة، واما ما يرى من بقاء جسم موضوع
على الأرض ما لم يرفع برافع، وبقاء العمارات التي بناها البنائون سنين متطاولة، و
بقاء الجبال، والأحجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض، فهو ليس من
بقاء الموجود بلا علة، بل العلة للبقاء انما هي خصائص تلك المواد الطبيعية وقوة
الجاذبة العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها - وقد صارت عمومية تلك القاعدة
في هذه الأيام من الواضحات - وقد أودعها الله تعالى في هذه الكرة الأرضية للتحفظ
على الكرة وما عليها على وضعها ونظامها الخاص، فالمتحصل احتياج البقاء إلى المؤثر.
أضف إلى ذلك أنه لو تم ذلك فإنما هو في الموجودات العينية الخارجية لا في
أفعال العباد فإنه ليس لأحد التفوه بان من شرع في فعل يتم ذلك وان لم تبق ارادته المتعلقة
به مثلا من كبر يتم صلاته بنفسها وان انعدمت الإرادة: والوجه في ذلك ما تقدم في
مبحث الطلب والإرادة من أن الفعل الاختياري ما سبقه اعمال القدرة والاختيار وهو فعل
اختياري للنفس وليس من الصفات ويكون هو الواسطة بين الشوق والفعل الخارجي، و
عليه فالفعل الإرادي تابع لأعمال النفس قدرتها في الفعل فان لم يعملها استحال تحققه.
19

وأيضا هو من الضروريات ومن القضايا التي قياساتها معها بلا حاجة إلى تشكيل
قياس والاستدلال له.
بقى الكلام فيما ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح الذي عرفت ان مبناه
هو القول الثالث، وكيف كان فهو يتوقف على مقدمتين:
الأولى: ان ترك الحرام متوقف على فعل من الافعال الوجودية، بدعوى استحالة
خلو المكلف عن فعل من الأفعال الاختيارية.
الثانية: احتياج الحادث في بقائه إلى المؤثر وان العلة المحدثة لا تكفى في البقاء، و
عليه فبما ان ترك الحرام يتوقف حدوثا بقاءا على ايجاد فعل من الافعال فيكون واجبا
بالوجوب المقدمي ولا يمكن فرض مباح في الخارج.
وفيه ان المقدمة الأولى مخدوشة، إذ ترك الحرام انما يكون بعدم ارادته وحينئذ
وجوب فعل آخر، اما ان يكون من باب مقدمية وجوده لعدم ضده تقدم المانع على عدم
ممنوعه، أو من باب التلازم واتحاد حكم المتلازمين، وكلاهما فاسدان.
اما الأول: فلما مر مفصلا من أنه في الضدين لا تمانع بينهما بل المانع هو مقتضى
كل منهما.
واما الثاني: فلما مر من أن المتلازمين لا يمكن اختلافهما في الحكم ولا يجب
توافقهما فيه - وبعبارة أخرى - ان عدم تحقق الضد انما يكون بعدم ارادته لا
لوجود الضد الاخر، نعم، إذا علم المكلف في مورد انه لو لم يأت بفعل من الافعال يصدر
عنه الحرام بإرادته يحكم العقل بلزوم الاتيان به ولا يكون ذلك واجبا شرعيا.
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن الضد العام
واما المقام الثاني: وهو ان الامر بالشئ هل يقتضى النهى عن ضده العام وهو الترك
أم لا ففيه وجوده وأقوال أربعة:
1 - كون الامر بالشئ عين النهى عن ضده.
20

2 - كونه متضمنا للنهي عن ضده.
3 - كونه ملزوما للنهي عن ضده باللزوم البين بالمعنى الأخص ودلالة الامر عليه
بالالتزام.
4 - كونه ملزوما له باللزوم البين بالمعنى الأعم.
اما القول الأول: فقد استدل له: بان عدم العدم وان كان مغايرا للوجود مفهوما الا
انه عينه خارجا، لان نقيض العدم هو الوجود، وعدم العدم عنوان للوجود لا انه يلازمه،
فطلب ترك الترك عين طلب الفعل، والفرق بينهما انما بحسب المفهوم.
وفيه: أولا سيأتي ان النهى ليس طلبا للترك بل انما هو زجر عن المتعلق الناشئ
عن المفسدة وعليه فعدم الاقتضاء بمعنى العينية واضح إذ البعث، والزجر، وكذا، الكراهة،
والإرادة، والمصلحة، والمفسدة، من المتباينات فكيف يمكن ان يكون أحدهما
عين الاخر: وثانيا انه فرق بين ما هو محل الكلام، وهو ان الامر بالشئ هل هو عين النهى
عن ضده أم لا؟ وبين هذا الدليل، وحاصله انه إذا ورد امر بالفعل ونهى عن الترك فهما
متحدان لا تغاير بينهما وهذا لا يلازم الأول كيف ربما يغفل الامر عن ترك تركه فضلا
عن أن يأمر به.
ويمكن تصحيح قول من يدعى ان الامر بالشئ عين النهى عن ضده، بان يقال
ان المراد بالعينية انه إذا رأى المولى في فعل مصلحة وصار ذلك سببا لشوقه إلى تحقق
ذلك الفعل فله في الوصول إلى مقصودة طريقان وكل منهما عين الاخر في الوصول
إلى الغرض. أحدهما: ان يأمر بالفعل. ثانيهما: ان ينهى عن الترك كما ورد في المستحاضة
انها لا تدع الصلاة.
ثم إن المحقق الخراساني (ره) وجه المدعى بوجه لطيف، وحاصله ان الامر بالشئ
انما يكون طلبا واحدا وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا وتحريكا نحوه
كذلك يصح ان ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز: لان التحريك نحو الشئ والتقريب
إليه يلازم التحريك عن نقيضه والتبعيد عنه، كما يظهر من التحريك والتقريب
الخارجيين فان التحريك والتقريب إلى محل يكون تحريكا عن محل آخر وتبعيدا عنه.
21

فيكون الامر بالشئ ردعا عن نقيضه، أضف إلى ذلك أنه لو سلم ان حقيقة النهى عبارة
عن طلب الترك كما هو المنسوب إلى المشهور، فلا يرجع هذا البحث إلى البحث عن امر
معقول ذي اثر وذلك لان معنى اقتضائه للنهي عن الضد، اقتضائه لطلب ترك الترك الذي
هو الوجود والفعل، لما حقق في محله، من أن الوجود والعدم نقيضان لا واسطة بينهما،
والعناوين الاخر، كعدم العدم من العناوين الانتزاعية من أحدهما، وعليه: فمآل هذا البحث
إلى أن الامر بالشئ، هل يقتضى طلب ذلك الشئ أم لا؟ وهذا لا يرجع إلى محصل لان
ثبوت الشئ لنفسه ضروري.
واما الثاني: وهو ان الامر بالشئ متضمن للنهي عن ضده، فقد استدل له بما اشتهر
من أن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك.
ولكن قد تقدم في مبحث الأوامر انه لا أصل له وان الوجوب بسيط غير مركب، و
حاصله ان الوجوب اما ان يكون هو الشوق الأكيد أو يكون منتزعا عن اعتبار كون المادة
على عهدة المكلف، وعلى الأول فهو من الاعراض وهي بسائط، وعلى الثاني يكون هو
من سنخ الوجود وبساطته أظهر من أن تذكر.
واما ما اشتهر من أن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فالظاهر كما
افاده المحقق الخراساني (ره) انهم في مقام تحديد تلك المرتبة البسيطة من الطلب وتعينها،
فالمنع من الترك ليس من اجزاء الوجوب ومقوماته، بل من خواصه ولوازمه، بمعنى انه
لو التفت إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة وكان يبغضه البتة.
واما القول الثالث: وهو دلالة الامر على النهى عن ضده بالالتزام، بمعنى
ثبوت الملازمة بين الامر بالشئ والنهى عن ضده فدعواه وان كانت معقولة، وقد
اختاره المحقق النائيني (ره) ولكنها غير صحيحة: وذلك لان النهى يكون ناشئا
عن المفسدة، والامر عن المصلحة فالامر بالشئ يكشف عن المصلحة فيه، وهذا لا يلازم
ثبوت المفسدة في تركه كي يكون ذلك مقتضيا للنهي عنه، بل لا يكون الترك الا ترك ما
فيه المصلحة، وان أردت ان تطمئن نفسك فراجع الأوامر العرفية حيث ترى بالوجدان
ان الامر بالشئ لا يلازم المفسدة في تركه، فالالتزام باقتضاء الامر بالشئ للنهي عن
22

ضده، بارجاع كل امر إلى حكمين، أحدهما متعلق بالفعل، والاخر بتركه ويكون الترك
مخالفة لحكمين وموجبا لاستحقاق عقابين مما لا يمكننا المساعدة عليه وبما ذكرناه
يظهر ما في.
ما أفاد المحقق النائيني (ره) من أن دعوى الدلالة عليه بالالتزام بنحو اللزوم البين
بالمعنى الأخص بان يكون تصور الوجوب كافيا في تصور المنع من الترك فليست ببعيدة،
وعلى تقدير التنزل عنها فالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأعم، مما لا اشكال فيها
ولا كلام.
ويمكن توجيه دعوى الملازمة بان يقال ان المراد من النهى عدم الترخيص وعليه
فحيث ان الالزام بالفعل يضاد الترخيص في الترك، فالامر بالفعل يلازم عدم الترخيص
في الترك لكنه لا يناسب ان ينعقد له بحث في الأصول. فالمتحصل ان الامر بالشئ لا
يقتضى النهى عن ضده مطلقا.
ثمرة البحث في الاقتضاء وعدمه
المشهور بين الأصحاب انه تظهر الثمرة في موردين:
الأول: ما إذا وقعت المزاحمة، بين واجب موسع كالصلاة، وبين واجب مضيق كالإزالة،
وصلاة الآيات عند الزلزلة وما شاكل.
الثاني: ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الاخر كما
في الدوران بين الاتيان باليومية في آخر الوقت، وصلاة الآيات، مثلا، لأنه على القول
باقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده، يقع الواجب الموسع أو المهم فاسدا، إذا كان عبادة
بناءا على ما سيأتي من أن النهى عن العبادة يوجب الفساد، وعلى القول بعدم الاقتضاء يقع
صحيحا إذ المقتضى للفساد هو النهى ولا نهى على الفرض.
وقد أورد على هذه الثمرة بايرادين متقابلين:
الأول: ما عن الشيخ البهائي (قده) من بطلان العبادة مطلقا حتى على القول بعدم
23

اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ضده: مستندا إلى أن الفساد لا يحتاج إلى النهى بل يكفي فيه
عدم الامر، ولا شبهة في أن الامر بالشئ يقتضى عدم الامر بضده لاستحالة تعلق الامر
بالضدين معا فلو كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فلا محالة تقع فاسدة.
ثانيهما: ما عن جماعة منهم المحقق النائيني (ره) وهو صحة العبادة على القولين، بناءا
على ما هو الحق عندهم من كفاية الملاك والمحبوبية الذاتية في صحة العبادة، وان لم
يؤمر بها لأجل المزاحمة، اما على القول بعدم الاقتضاء، فواضح لوجود المقتضى للصحة
وعدم المانع، واما بناءا على القول بالاقتضاء، فلان العبادة حينئذ وان كانت منهيا عنها الا
ان هذا النهى غيري نشأ من مقدمية تركها أو ملازمته للمأمور به ولم ينشأ عن مفسدة في
متعلقه ليكون موجبا لاضمحلال ما فيه من الملاك الصالح للتقرب بما اشتمل عليه، وعليه
فالعبادة باقية على ما كانت عليه من الملاك والمصلحة والمحبوبية الذاتية الصالحة للتقرب
بها، والنهى المتعلق بها بما انه غيري لم ينشأ عن المفسدة وعن المبغوضية للمولى، و
لذلك قالوا انه لا يوجب البعد عن الله تعالى ولا العقاب على مخالفته فلا يكون صالحا
للمانعية فالمقتضى للصحة موجود، والمانع مفقود، فلابد من البناء عليها.
ثم إن المحقق الثاني أورد على انكار الثمرة في الصورة الأولى، وهي مزاحمة
الموسع بالمضيق بما أوضحه جماعة من المحققين منهم المحقق النائيني وحاصله يبتنى
على أمور:
1 - ان الامر بالعبادة انما يكون متعلقا بالطبيعة الملغاة عنها جميع الخصوصيات
والتشخصات، دون الافراد، وبعبارة أخرى ان التكليف انما تعلق بصرف وجود الطبيعة
دون خصوصيات افرادها كي يرجع التخيير بينها إلى التخيير الشرعي، ومقتضى
اطلاق الامر بها ترخيص المكلف في تطبيق تلك الطبيعة على أي فرد من افرادها شاء
تطبيقها عليه من الافراد العرضية والطولية، ولكن هذا انما يكون إذا لم يكن هناك مانع
عن التطبيق، والا كما إذا كان بعض افرادها منهيا عنه فلا محالة يقيد اطلاق الامر المتعلق
بتلك الطبيعة بغير هذا الفرد المنهى عنه لاستحالة انطباق الواجب على الحرام.
2 - انه يكفي القدرة على بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بصرف
24

وجود الطبيعة لان المأمور به حينئذ مقدور إذ القدرة على فرد قدرة على الطبيعة ولا دخل
لعدم القدرة على فرد آخر منها في ذلك، - وبعبارة أخرى - انه لا يعتبر في صحة
تعلق التكليف بالطبيعة إذا كان المطلوب هو صرف الوجود القدرة على جميع افرادها بل لا
يوجد طبيعة تكون مقدورة كذلك، وعليه فعدم القدرة على فرد منها لا يوجب تقييدا
في المتعلق.
3 - ان ملاك الامتثال انما هو انطباق المأمور به على الماتى به، لا كون الفرد
بشخصه مأمورا به.
4 - ان الواجب الموسع بما ان له افرادا غير مزاحمة، وصرف وجود الطبيعة منه
مقدور للمكلف وغير مزاحم بالواجب المضيق، فالامر بالمضيق لا يوجب سقوط الامر
بالموسع، إذ غير المقدور حينئذ هو الفرد وهو غير مأمور به، والمأمور به هو الطبيعة، وهو
غير مزاحم بالمضيق، فلا يكون التكليف بالموسع متقيدا بشئ.
وعلى هذا، فعلى القول بعدم كفاية الملاك، إذا كان الامر بالشئ مقتضيا للنهي عن
ضده كان الفرد المزاحم من الواجب الموسع منهيا عنه فيقيد به اطلاق الامر به: لامتناع ان
يكون الحرام مصداقا للواجب ونتيجة ذلك التقييد هي وقوعه فاسد العدم الامر حينئذ و
اما على القول بعدم الاقتضاء، فالامر بالمضيق لا يوجب تقييدا في الموسع لان غايته
عدم القدرة شرعا على الفرد المزاحم وهو كعدم القدرة عقلا، والفرض ان الفرد غير
مأمور به، فملاك الامتثال، وهو انطباق المأمور به على الماتى به فيه موجود كساير الافراد،
فإنها ليست مأمورا بها وانما يكتفى بها في مقام الامتثال لانطباق الطبيعة المأمور بها عليها،
وهذا الملاك بعينه موجود في الفرد المزاحم فلا مناص من البناء على القول بالاجزاء
والصحة، - وبعبارة أخرى - ان ما هو غير مقدور شرعا لا يكون مأمورا به، وما هو مأمور به
وهو الطبيعة مقدور، وعليه فيصح الاتيان بالفرد المزاحم إذ الانطباق قهري والاجزاء عقلي.
وأورد على هذا التفصيل المحقق النائيني (ره) بما حاصله ان ما افاده يتم على القول
بان اعتبار القدرة في المتعلق انما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز: إذ يمكن ان يقال
ان العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة على الواجب في الجملة ولو بالقدرة على فرد منه،
25

فإذا كان المكلف قادرا على الموسع للقدرة على غير الفرد المزاحم، فلا يكون التكليف به
قبيحا. وبما ان انطباقه على الفرد المزاحم قهري يكون اجزائه عقليا، وأما إذا بنينا على أن
اعتبار القدرة انما هو باقتضاء نفس التكليف ذلك، لا لحكم العقل بقبح تكليف العاجز،
ضرورة ان الاستناد إلى امر ذاتي سابق على الاستناد إلى امر عرضي، فلا يمكن تصحيح
الفرد المزاحم بذلك.
توضيح ذلك: ان المختار عنده (قده) ان منشأ اعتبار القدرة انما هو اقتضاء
نفس التكليف ذلك، فان الغرض من التكليف جعل الداعي للمكلف نحو الفعل ليحرك
عضلاته نحوه بالإرادة، وترجيح أحد طرفي الممكن، وهذا المعنى بنفسه يقتضى كون
متعلقة مقدور الامتناع جعل الداعي نحو الممتنع شرعا أو عقلا، فالبعث لا يكون الا
نحو المقدور، فيخرج الافراد غير المقدورة عن حيز الطلب، وعليه فإذا كان التكليف
مقتضيا لاعتبار القدرة، فلا محالة يكون المأمور به، هو الحصة الخاصة من الطبيعة، و
هي الحصة المقدورة، واما الحصة غير المقدورة فهي خارجة عن متعلقة فالفرد المزاحم
بما انه غير مقدور شرعا وهو كغير المقدور عقلا خارج عن حيز الامر، فلا يكون المأمور به
منطبقا على الماتى به فلا يكون مجزيا.
في البحث عن اعتبار القدرة في المتعلق
وتفصيل القول في المقام بالبحث في جهات: الأولى: في أنه، هل يعتبر القدرة في
متعلق التكليف، أم لا؟ وما هو الوجه في ذلك.
أقول: تارة يكون جميع الافراد للطبيعة المطلوب صرف وجودها غير مقدورة،
وأخرى يكون بعض الافراد كذلك، وعلى الثاني: قد يكون تمام الافراد العرضية في زمان
خاص غير مقدورة، وقد يكون بعض تلك الافراد العرضية كذلك، وعلى كل تقدير، قد
يكون عدم القدرة عقليا وقد يكون شرعيا.
وقد استدل لاعتبار القدرة في متعلق التكليف بوجوه، جملة منها واضحة الدفع، من
26

قبيل: انصراف المادة، أو الهيئة، إلى الحصة المقدورة، واعتبار الحسن الفاعلي في العبادة
زايدا على الحسن الفعلي. وقد تعرضنا لها في مبحث التعبدي والتوصلي، والمهم منها أربعة
أوجه:
أحدها: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وقد ذكرناه آنفا فيما افاده ردا
على المحقق الثاني.
ويتوجه عليه ان حقيقة الامر كما مر في أول مبحث الأوامر عبارة عن، اظهار
شوق الآمر إلى فعل المأمور، أو ابراز اعتبار كون المادة على عهدته، وشئ منهما لا ينافي
مع كونه غير مقدور، واما البعث والطلب وما شاكل فهي عناوين للامر لا انها مداليل له.
ثانيها: قبح تكليف العاجز الذي يستقل به العقل.
ويتوجه عليه ان امتثال التكليف الذي هو موكول إلى العقل مشروط بالقدرة، و
مع العجز لا يحكم العقل بلزوم الامتثال - وبعبارة أخرى - قد بينا في مبحث الأوامر
بان الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وانما هما
أمران انتزاعيان من حكم العقل بلزوم الامتثال لو امر المولى بشئ ولم يرخص في تركه و
عدمه لو امر به ورخص في تركه، وعليه فإذا كان الفعل المأمور به غير مقدور، لا
يحكم العقل بلزوم امتثاله، ولا يجوز العقاب على مخالفة امر المولى، وعلى ذلك فغاية
ما يستقل به العقل اعتبار القدرة في التنجيز دون أصل الامر.
ثالثها: الآيات والروايات المتضمنة لعدم التكليف بغير المقدور.
ويتوجه عليه ان التكليف انما يطلق على الأمر والنهي باعتبار ما يتبعهما من
الزام العقل بالفعل أو الترك وفى فرض عدم القدرة حيث لا حكم للعقل فلا يكون الامر -
تكليفا - وبعبارة أخرى - ان شئت قلت إنه لا يستفاد من الآيات والروايات أزيد مما يحكم
به العقل من اعتبار القدرة في التنجيز فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.
رابعها: ان الامر فعل اختياري للمولى فان لم يترتب عليه اثر عملي يكون لغوا، و
صدوره من الحكيم محال، فالامر بغير المقدور حيث يكون لغوا يكون محالا.
وهذا الوجه متين لكنه يختص بالقدرة العقلية ولا يجرى في موارد
27

عدم القدرة الشرعية كما هو واضح ونزيده وضوحا: انه لو كان التكليف الواقعي
هو الوجوب وقامت الامارة على حرمتها، فلا ريب في عدم قدرة المكلف شرعا على
امتثال التكليف الواقعي لكونه موظفا بالانزجار، ومعه لا يقدر على الانبعاث، وحينئذ ان
التزم بسقوط التكليف الواقعي لزم التصويب المجمع على بطلانه، وان التزم ببقائه
لزم الالتزام بعدم اعتبار القدرة في التكليف.
ويمكن ان يقال انه لو سلم دلالة الآيات والروايات على اعتبار القدرة فإنما هي
بالنسبة إلى القدرة العقلية دون الشرعية.
فان قيل، انه في ما هو محل البحث وهو تزاحم الواجبين لا يقدر عقلا على امتثال
كلا الحكمين فلا بد من سقوط أحدهما أو كليهما فإذا كان هناك مرجح لأحدهما يبقى
ذلك فيتعين سقوط الاخر.
توجه عليه: انه لو كان هناك امر واحد بهما كان ذلك أمرا بغير المقدور وحيث إن
المفروض انهما أمران والمكلف قادر على امتثال كل منهما في نفسه لا يبقى لذلك
مجال.
وأيضا ان مقتضى الوجه المختار، والآيات والروايات انه إذا كان بعض
افراد الطبيعة المأمور بها مقدورا كون التكليف صحيحا - وبعبارة أخرى - انهما يدلان على
اعتبار عدم عجز المكلف عن جميع الافراد ولا يدلان على عدم صحة التكليف بالجامع
بين المقدور وغير المقدور.
وبما ذكرناه يظهر انه في المقام بما ان الضدين لم يتعلق بهما تكليف واحد، بل كل
منهما متعلق لتكليف مستقل، والمفروض القدرة على امتثاله فلا مانع من ثبوت الامر
بالضد، وعليه فيأتي به بداعي الامر.
كما أنه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) ويتوجه عليه مضافا إلى ذلك كله.
انه لو سلم اعتبار القدرة الشرعية في المتعلق، لو فرضنا ان الافراد العرضية كانت غير
مقدورة كما في مزاحمة الواجب الموسع في أول الوقت، والمضيق.
فعلى القول باستحالة الواجب المعلق، وعدم صحة تعلق الطلب بأمر متأخر مقدور
28

في ظرفه، كما بنى عليه المحقق النائيني، تكون الطبيعة بجميع افرادها، غير مقدورة،
اما الافراد العرضية، فللمزاحمة، واما الافراد المتأخرة الطولية، فللتأخر، وامتناع
تعلق التكليف بالامر المتأخر.
وبذلك يظهران ما سلمه المحقق النائيني من صحة العبادة المزاحمة على فرض
كون مدرك اعتبار القدرة حكم العقل، نظرا إلى أنه لا يحكم العقل باعتبارها مع
فرض القدرة على بعض افراد الموسع، غير تام على مسلكه.
واما على القول بامكان الواجب المعلق كما هو الحق، فيصح تعلق التكليف بصرف
وجود الطبيعة من غير فرق بين المسلكين في اعتبار القدرة، اما على مسلك كون المدرك
هو حكم العقل، فواضح، واما على مسلك المحقق النائيني، فلانه وان سلم كون الغرض
من التكليف امكان صيرورته داعيا للمكلف في فعله، يكون هذا الغرض متحققا
في الفرض، لأن المفروض كون المتعلق هو صرف وجود الطبيعة، لا الافراد وهو انما يكون
مقدورا بالقدرة على بعض الافراد، فتفصيل المحقق النائيني (ره) بين المسلكين في
غير محله.
النهى الغيري يوجب الفساد
الجهة الثانية: في أن النهى الغيري عن العبادة، هل يوجب الفساد، أم لا؟
ذهب المحقق النائيني (ره) إلى الثاني، واختار المحقق الثاني وجماعة الأول.
واستدل المحقق النائيني (ره) له بان النهى الغيري لا ينشأ عن مفسدة في متعلقه
ليكشف عن عدم تمامية ملاك الامر وبما انه قد عرفت في مبحث التعبدي والتوصلي
كفاية قصد الملاك في صحة العبادة وعدم اشتراطها بقصد الامر تعرف ان الأقوى في
محل الكلام صحة الفرد المزاحم ولو بنينا على كونه منهيا عنه بالنهي الغيري.
أقول سيأتي الكلام في الجهة الثالثة في أنه، هل يصح اتيان العبادة بداعي المحبوبية
والملاك، وانه هل هناك كاشف عن الملاك مع عدم الامر أم لا؟
29

وانما الكلام في هذه الجهة متمحض في أنه بناءا على كفاية الملاك و
وجود الكاشف عنه غير الامر، هل النهى الغيري يصلح للمانعية أم لا؟ والأظهر هو صلاحيته
لذلك، وكونه مقتضيا للفساد: إذ النهى الغيري وان لم يكن ناشئا عن المفسدة
والمبغوضية، الا انه مانع عن التقرب بالملاك والمحبوبية إذ التقرب به انما يكون، لأجل
كونه مورد الاشتياق المولى والمولى يحب وجوده في الخارج، ومع فرض نهى المولى و
تسبيبه إلى اعدام الفعل لا محالة لا يمكن التقرب بذلك الملاك - وبعبارة أخرى -
الملاك الذي مع وجوده يسبب المولى إلى اعدامه لا يصلح للمقربية، مضافا، إلى ما تقدم
من أن مخالفة التكليف الغيري أيضا توجب العقاب فراجع ما ذكرناه.
واما ما قيل من أن النهى الغيري وان لم يوجب الفساد الا انه لأجل افضائه إلى ترك
محبوب أهم لا يمكن التقرب به - فغير سديد - إذ عدم استيفاء المصلحة المتحققة في
فعل لا يصلح ان يكون مانعا عن التقرب بما في فعل آخر من المصلحة.
الاتيان بالعبادة مع عدم الامر
الجهة الثالثة: في أنه على القول بعدم الامر بالواجب الموسع المزاحم بالواجب
المضيق أو المهم مع مزاحمته بالأهم ولو بنحو الترتب، هل هناك طريق إلى الحكم
بالصحة والاجزاء، أم لا؟ ونخبة القول فيها ان القول بالصحة والاكتفاء به يتوقف على
مقدمتين: إحداهما: كون الفرد المزاحم الساقط امره واجدا للملاك كساير الافراد ثانيتها:
الاكتفاء بذلك في صحة العبادة.
اما المقدمة الثانية: فقد مر الكلام فيها، في مبحث التعبدي والتوصلي، وعرفت عدم
كفاية قصد الملاك والمصلحة في صحة العبادة
وفى المقام ذكر المحقق الخراساني (ره) كلاما، صار ذلك عويصة لمن تأخر عنه
قال، نعم فيما إذا كانت موسعة، وكانت مزاحمة بالأهم في بعض الوقت لا في تمامه،
يمكن ان يقال انه حيث كان الامر بها على حاله، وان صارت مضيقة بخروج
30

ما زاحمه الأهم من افرادها عن تحتها، أمكن ان يؤتى بما زوحم منها، بداعي الملاك، وان
كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها، الا انه لما كان وافيا بغرضها، كالباقي تحتها،
كان عقلا مثله في الاتيان به في مقام الامتثال، والآتيان به بداعي ذلك الامر إلى أن يقول
هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبايع، واما بناءا على تعلقها بالافراد، فكذلك، و
ان كان جريانه عليه اخفى.
ويمكن توجيه ما افاده بأحد أنحاء:
1 - انه على القول بتعلق الأوامر بالطبايع يكون نظره إلى ما وجهنا به
كلام المحقق الثاني، وبه يظهر وجه قوله على القول بتعلق الأوامر بالافراد جريانه اخفى، و
لكن ذلك لا يتم على القول بتعلقها بالافراد.
2 - ان يكون نظره إلى أنه يمكن اتيانه بداعي اسقاط الامر بالفرد الاخر، نظرا إلى أنه
واجد للملاك والغرض الموجب للامر فباتيانه يستوفى الملاك والغرض، فيسقط الامر
والا بقى بلا ملاك وسقوطه ذلك ليس بالعصيان فلا محالة يكون بالامتثال فيصح الاتيان
بالفرد المزاحم امتثالا للامر المتعلق بالفرد غير المزاحم.
3 - ان يكون نظره الشريف إلى أن الامر انما يدعو إلى ما تعلق به، بملاك انه محصل
للغرض، لا بما انه متعلق للامر، وهذا الملاك موجود في غير ما تعلق به الامر فيصح اتيانه
بداعي الامر.
طريق استكشاف الملاك
واما المقدمة الأولى: فقد استدل لها ولوجود الملاك في الفرد الساقط امره بوجوه:
أحدها: ما عن المحقق الخراساني (ره) وهو دعوى القطع بان الفرد المزاحم
تام الملاك، وانه وان كان خارجا عن الطبيعة المأمور بها لكنه يكون وافيا بالغرض كباقي
الافراد، لفرض ان سقوط الامر ليس لعدم المقتضى، بل انما هو لأجل عدم قدرة العبد
على الامتثال ولوجود المانع، - وبعبارة أخرى - لا يكون خارجا عن تحت الطبيعة المأمور
31

بها بالتخصيص كي يقال بأنه قاصر عن الوفاء بالغرض، بل يكون من جهة عدم امكان
تعلق الامر به عقلا، فالعقل لا يرى تفاوتا بينه وبين ساير الافراد في الوفاء بالغرض.
ولكن يرد عليه ان طريق استكشاف الملاك انما يكون بأحد طرق: الأول:
إحاطة العقل بالواقعيات وكشفه الملاك. الثاني: اخبار الشارع ولو ببيان الملاك علة
للحكم. الثالث: كون الشئ بنفسه متعلق الامر بناءا على ما هو الصحيح من تبعية الاحكام
لما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد. الرابع: ما إذ كان الفرد مصداقا للمأمور به بما هو
مأمور به، فإنه يكشف عن وفائه بغرض المأمور به وكونه واجدا للملاك، وأما إذا لم يكن
شئ من ذلك كما في المقام كما هو واضح، فلا كاشف عن وجود الملاك، و
دعوى القطع بوجود الملاك بعد احتمال ان لا يكون في فرض سقوط الامر ملاك له
أصلا غير مسموعة، وبالجملة ان الكاشف عن الملاك بعد عدم الإحاطة بالواقعيات و
عدم التنصيص من الشارع هو الامر ومع سقوطه لا كاشف عنه.
ثانيها: ما عن جماعة منهم المحقق العراقي (ره) وحاصله انه إذا كان للكلام دلالات
متعددة وظهورات كذلك، كما إذا كان له دلالة مطابقية، ودلالة التزامية أو دلالة
مطابقية، ودلالة تضمنية كما في العام المجموعي كقولنا أكرم عشرة من العلماء، فإنه يدل
على وجوب اكرام المجموع بالدلالة المطابقية وعلى اكرام كل واحد بالدلالة التضمنية، و
سقط اللفظ عن الحجية بالإضافة إلى أحد مدلوليه وهو الدلالة المطابقية مثلا لم يستلزم
ذلك سقوطها عنها بالإضافة إلى مدلوله الاخر: إذا الضرورات تتقدر بقدرها - و
بعبارة أخرى - الدلالة الالتزامية، أو التضمنية وان كانت تابعة للمطابقية في مقام الثبوت
والاثبات الا انها ليست تابعة لها في الحجية، لان كل ظهور للكلام بنفسه متعلق للحجية
بمقتضى أدلة حجية الظهورات وسقوط اللفظ عن الحجية بالإضافة إلى أحد الظهورات من
جهة قيام حجة أقوى على خلافه لا يوجب رفع اليد عن الظهور الاخر الذي لا مانع من البناء
على حجيته.
وان شئت قلت إن الكلام الذي له مدلولان: مطابقي، والتزامي، أو تضمني، يكون
منحلا إلى اخبارين، ودليل الاعتبار يدل على حجية كل واحد مستقلا، فسقوط أحدهما
32

عن الحجية لحجة أقوى لا يوجب سقوط الاخر.
والمقام من هذا القبيل إذ مقتضى اطلاق الامر المتعلق بالعبادة كونها مأمورا بها حتى
في صورة المزاحمة، ودلالته هذه تكون بالدلالة المطابقية، وبالدلالة الالتزامية يدل على
ثبوت الملاك والمصلحة في كل فرد في جميع حالاته حتى في هذه الحال، وبالمزاحمة
سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية، بمعنى ان الاطلاق قيد بالقرينة العقلية، الا ان ظهوره
في كون الفعل ذا مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه - وبعبارة أخرى - الدال على
ثبوت الامر في كل فرد يدل على وجود الملاك فيه بالدلالة الالتزامية، فإذا قيد ذلك في
مدلوله المطابقي، يدخل في الكبرى الكلية من أنه إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية لا
يسقط الدلالة الالتزامية، إذ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا لا حجية.
وعلى هذا المبنى بنوا في التعادل والترجيح على أن الخبرين المتعارضين يسقطان
على القاعدة الا انه ينفى الثالث بهما.
وفيه: أولا النقض بموارد التخصيص فان دليل العام يدل على ثبوت الحكم في كل
فرد، وبالدلالة الالتزامية يدل على ثبوت الملاك فيها، فإذا وردا لتخصيص يقيد اطلاقه
بالنظر إلى الحكم فقط ولا مخصص له بالقياس إلى الملاك، لأنه لا يدل على عدم وجوده
في ذلك الفرد إذ عدم الحكم كما يمكن ان يكون لعدم الملاك يمكن ان يكون
لأجل المانع، فعلى هذا المسلك لابد وان يبنى على ثبوت الملاك في ذلك الفرد، وهذا
مما لم يلتزم به أحد.
وبأنه إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول فهي بالدلالة الالتزامية تدل على
نجاسته فإذا علمنا من الخارج عدم مطابقة مدلولها المطابقي للواقع، ولكن احتملنا
ثبوت النجاسة، فهل يتوهم أحد انه يبنى على النجاسة لهذه الكبرى الكلية.
وثانيا: بالحل، وهو ان من يخبر عن شئ مثلا، وبالدلالة الالتزامية عن لازمه، انما
يخبر عن لازمه لا مطلقا بل عن الحصة منه الملازمة لهذا الشئ، مثلا من يخبر عن
ملاقاة البول للثوب انما يخبر عن النجاسة الخاصة الحاصلة من ملاقاة البول، لا مطلقا
فحينئذ إذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية وعلم بكذبه مثلا لا محالة تسقط
33

الدلالة الالتزامية، فالدلالة الالتزامية كما تكون تابعة للدلالة المطابقية وجودا، كذلك
تكون تابعة لها بقاءا وحجية.
وعلى ذلك في المقام نقول ان ما دل على ثبوت الحكم، غير مقيد بالقدرة، وان
كان يدل على ثبوت الملاك الملزم، الا انه لا يدل على ثبوته على نحو الاطلاق حتى مع
قطع النظر عن ثبوت الحكم، بل انما يدل على ثبوت الملاك الملازم للوجوب والحكم،
فيكون دالا على ثبوت حصة خاصة من الملاك وهي الحصة الملازمة لذلك الحكم
والمنشأ له فإذا سقطت الدلالة على الحكم لمانع لا يبقى دلالته على الملاك الذي هو السبب
له فلا علم لنا بوجود الملاك، وبالجملة مع فرض سقوط الكاشف على الملاك، لا معنى
لادعاء العلم بوجود المنكشف.
ولا تقاس الدلالة الالتزامية بالدلالة التضمنية، فان دلالة الكلام على المدلول
الالتزامي انما تكون من جهة كونه لازما للمدلول المطابقي فلا بقاء له بعد سقوطه، واما
الدلالة التضمنية فليست من هذا القبيل بل الدلالة المطابقية تنحل في الواقع إلى دلالات
تضمنية باعتبار كل جزء منه فإذا سقط بعضها، لا موجب لسقوط البقية، وعلى الجملة لا
ملازمة ولا تبعية بين المداليل التضمنية بعضها بالإضافة إلى بعضها الاخر لعدم كون أحدها
معلولا للاخر ولا علة له ولا معلولان لعلة ثالثة في الواقع.
أضف إلى جميع ذلك أن احراز الملاك في فعل، انما يكون تابعا للإرادة الجدية
لا الانشائية لان ثبوت الملاك على مسلك العدلية انما يكون في متعلق الإرادة الجدية
فتبعية الملاك تدور مدار الإرادة الجدية، فمع فرض عدم كون فرد متعلقا للإرادة الجدية
لا كاشف عن وجود الملاك فتدبر.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) وحاصله انه تارة تؤخذ القدرة في
متعلق التكليف لفظا، كما في آيتي الحج والوضوء، فإنه يكون دلالة اللفظ على
اعتبار القدرة في الأولى بالمطابقة، وفى الثانية بالالتزام، فإنه يستفاد ذلك من جهة اخذ
عدم وجدان الماء في موضوع وجوب التيمم مطابقة، والتفصيل قاطع للشركة لا محالة، و
في مثل ذلك يستفاد ان القدرة دخيلة في الملاك، بداهة انه لا معنى لاخذ قيد في
34

متعلق الحكم في مقام الاثبات، إذا لم يكن له دخل في مقام الثبوت، وعلى ذلك بنوا على
عدم امكان تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك، وعلى الجملة التقييد يكشف عن أن ما فيه
الملاك مقيد بالقدرة، وغير المقدور لا ملاك فيه.
وأخرى لا يكون المتعلق مقيدا بها، بل هو مطلق، ولكن تعلق الطلب قيد بالقدرة،
اما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك،
اما من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك،
فمعروض الطلب في المرتبة السابقة على عروضه وهي مرتبة اقتضاء المتعلق لعروض الطلب
عليه التي هي عبارة أخرى عن مرتبة واجديته للملاك لا محالة يكون مطلقا، والتقييد
في المرتبة اللاحقة، وهي مرتبة عروض الطلب، لا يعقل ان يكون تقييدا للمرتبة السابقة، كما
في كل ما لا يتأتى، الا من قبل الامر كقصد القربة، ففي المرتبة السابقة بما انه مطلق
يستكشف عدم دخل القدرة في الملاك وعن كون ذات العمل الذي هو معروض الطلب
واجدا للملاك التام، والا لكان عليه البيان والتقييد فباطلاق المادة يتمسك لاثبات
وجود الملاك في مورد المزاحمة الموجبة لسقوط الامر بالمهم من جهة عدم القدرة على
امتثالهما معا.
فان قيل إنه فيما لم يؤخذ القدرة في المتعلق لو سلم عدم القطع بالتقييد شرعا
الكاشف عن دخل القدرة في الملاك، الا انا نحتمل ذلك بالبداهة، ولا دافع
لذلك الاحتمال، إذ لو كانت دخيلة فيه لجاز للمتكلم ان يكتفى في بيانه بنفس ايقاع الطلب
على ما كان فيه الملاك فيكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ومعه لا
ينعقد للكلام ظهور في الاطلاق.
توجه عليه انه بعد ما عرفت من استحالة اخذ ما لا يتأتى الا من قبل الامر في المتعلق
لسبقه على تعلق الطلب، لا يحتمل قرينية ايقاع الطلب، فلا يكون داخلا في
تلك الكبرى الكلية ليدعى الاجمال.
وان قيل إن اطلاق المتعلق انما يكشف عن عدم دخل القيد في الملاك إذا لزم
نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الاثبات مع دخل القيد في مقام الثبوت، وإذا لم يلزم
ذلك لا يكون الاطلاق كاشفا في مقام الثبوت، وعليه ففي المقام بما ان القدرة لعدم
35

تمكن المكلف من ايجاد غير المقدور في الخارج، لا يلزم من عدم بيان قيديتها
نقض الغرض ولو كانت القدرة دخيلة في الملاك واقعا.
أجبنا عنه أولا بعدم كون ذلك من مقدمات الاطلاق كما هو محرر في محله.
وثانيا، انه لا يلزم نقض الغرض في مورد القدرة التكوينية دون الشرعية، إذ المكلف قادر
تكوينا على اتيان الواجب المزاحم بما هو مقدم عليه.
وفيه: ان المراد من الاطلاق ان كان هو الاطلاق اللفظي، أي ما يتمسك به
لاستكشاف مراد المتكلم من ظهور كلامه، فيرد عليه ان التمسك بالاطلاق فرع
كون المتكلم في مقام البيان، وبديهي ان المولى في مقام الامر بشئ، انما هو بصدد
بيان المأمور به، لاما فيه الملاك، فلا يصح التمسك بالاطلاق، مع أنه لو سلم كونه في
مقام البيان حتى من هذه الجهة، لا يمكن التمسك بالاطلاق أيضا، لاحتفاف الكلام بما
يصلح للقرينية، إذ يمكن ان يكون المولى قد اتكل في تقييد ما فيه الملاك إلى حكم العقل
باعتبار القدرة في المتعلق، أو اقتضاء نفس التكليف ذلك. فلا ينعقد للكلام ظهور
في الاطلاق.
وما افاده (قده) من استحالة كون ذلك بيانا ومقيدا لاطلاق متعلقه في مرتبة سابقة.
غير تام لان انقسام الفعل إلى المقدور وغيره من الانقسامات الأولية وليست القدرة
من قبيل قصد الامر، أو العلم بالحكم الذي لا يتأتى الا بعد الامر، فإذا كانت
من الانقسامات الأولية، فلابد وأن يكون الحكم الوارد على الطبيعة المنقسمة إلى المقدورة
وغير المقدورة، اما مطلقا أو مقيدا بعد عدم تعقل الاهمال النفس الأمري، ولا يفرق في
ذلك بين بيان القيد وابراز دخله قبل الامر أو بعده، فان عدم وجود القيد قبل الامر غير كون
ابرازه بعده فتدبر فإنه دقيق.
وان كان مراده من الاطلاق كشف الملاك من باب كشف المعلول عن علته
سواء أكان المولى في مقام البيان أم لا؟ - وبعبارة أخرى - أراد من الاطلاق مالا يتوقف على
التفات المولى فضلا عن كونه في مقام البيان كما هو صريح كلامه. فغاية ما يمكن ان يقال
في توجيهه انه لا ريب بناءا على مذهب العدلية ان ما يرد عليه الطلب لابد وأن يكون ذا
36

ملاك ومصلحة، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب في ظاهر كلام المولى هو الفعل المطلق
قبل تعلق الطلب به دون المقيد، فيكشف ذلك عن أن الواجد للملاك هو مطلق الفعل
دون المقيد منه.
ولكن يرد عليه ان لزوم كون متعلق الطلب ذا ملاك ومصلحة، مما لم تدل عليه
آية أو رواية معتبرة كي يتمسك باطلاقها ويحكم بثبوت الملاك، حتى مع عدم الامر، بل
انما هو لأجل ان الحكيم لا يفعل الجزاف ولا يأمر بما لا مصلحة فيه، وغاية ما يقتضيه
هذا البرهان هو ثبوت الملاك في خصوص الحصة التوأمة مع الامر والطلب. وفى المقام بما
ان الامر انما تعلق بالحصة من الطبيعة غير المزاحمة مع ما هو أهم منها، فلا محالة يكون
ما فيه الملاك تلك الحصة لا الطبيعة المطلقة - وبعبارة أخرى - ان المعلول انما يكشف عن
وجود علته بمقدار سعته دون الزائد، فإذا كان المعلول هو الحكم في خصوص الحصة
من الطبيعة المقدورة، لا محالة يكشف ذلك، عن وجود الملاك في خصوص تلك
الحصة دون غيرها.
فالمتحصل انه على فرض عدم الامر لا كاشف عن وجود الملاك كما افاده
صاحب الجواهر (ره)، أضف إليه ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي من أن قصد الملاك
والمصلحة لا يوجب اتصاف العمل بالعبادية كما افاده صاحب الجواهر (ره).
مسألة الترتب
ثم انه قصد تصدى جماعة من المحققين لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على
عصيان الامر بالأهم، أو البناء عليه، وقبل تنقيح القول في المقام نذكر أمورا.
الأول: ان البحث في هذه المسألة يترتب عليه ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة
المزاحمة بواجب مقدم عليها بالوجهين المتقدمين. وهما الملاك، والامر، وقد مر ان
تصحيحها بالامر نظرا إلى عدم اعتبار القدرة الشرعية أظهر، خصوصا في مورد تزاحم
الواجب الموسع والمضيق، بل ستعرف خروج هذا المورد من موضوع البحث واختصاصه
37

بتزاحم الواجبين المضيقين.
الثاني: ان للواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد صورا، فان كانا موسعين
كالصلاة اليومية، وصلاة الآيات في سعة وقتهما فلا شبهة في خروجها عن كبرى باب
التزاحم. لان المكلف متمكن من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون مزاحمة
فيكون الامر بكل منهما فعليا بلا تناف ولم يستشكل فيه أحد.
وان كانا مضيقين كما في الإزالة والصلاة في آخر وقتها بحيث لو اشتغل بالإزالة
فاتته الصلاة، فلا كلام في كونها داخلة في كبرى باب التزاحم، وكونها محل النزاع
في الترتب.
وان كان أحدهما موسعا والاخر مضيقا كما في صلاة الظهر في سعة وقتها، وإزالة
النجاسة عن المسجد، ففي هذه الصورة اختلفت كلمات المحققين.
فعن المحقق النائيني (قده) دخولها في كبرى باب التزاحم، نظرا إلى أن تقييد الحكم
بخصوص الفرد المزاحم ممتنع، فلا محاله يكون اطلاقه وشموله له محالا، لان التقابل
بين الاطلاق والتقييد، تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع أحدهما امتنع الاخر ويترتب على
ذلك وقوع المزاحمة بين، اطلاق الواجب الموسع، وخطاب الواجب المضيق فلا يمكن
الجمع بينهما إذ على تقدير فعلية خطاب المضيق يستحيل اطلاق الواجب الموسع بالإضافة
إلى الفرد المزاحم، فلا بد من رفع اليد عن اطلاق الموسع والتحفظ على فعلية
خطاب المضيق أو رفع اليد عن الخطاب المضيق والتحفظ على اطلاق الموسع، فتكون
هذه الصورة داخلة في محل النزاع كالصورة الثانية، غاية الامر التزاحم في تلك الصورة
بين الخطابين، وفى هذه الصورة بين اطلاق أحدهما وخطاب الاخر.
ولكن يتوجه عليه ما عرفت في مبحث التعبدي والتوصلي، من عدم تمامية ما
افاده من أنه إذا امتنع التقييد امتنع الاطلاق فراجع ما حققناه، ونزيده وضوحا ان الاطلاق
عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها، ودخالة كل قيد في الحكم، فمعنى اطلاق الواجب
الموسع كون الواجب صرف وجود الطبيعة، وعدم دخل شئ من خصوصيات الافراد
فيه، فالفرد المزاحم كغيره في عدم دخله في متعلق الوجوب، ونتيجة ذلك
38

ان الواجب الموسع مطلق بالنسبة إلى الفرد المزاحم ولا ينافي ذلك مع فعلية خطاب
الإزالة، فلا تكون هذه الصورة داخلة في كبرى التزاحم ولا يجرى نزاع الترتب فيه بل
يصح اتيان الفرد المزاحم بداعي امر الموسع بلا توقف على امكان الترتب.
امكان الترتب ملازم لوقوعه
الثالث: انه على فرض امكان الترتب، يلازم ذلك لوقوعه، وان شئت فعبر بأنه كفى
ذلك لوقوعه فلا بد من الالتزام بوقوعه: وذلك لان الامر بالأهم بوجوده لا يزاحم الامر
بالمهم على الفرض، ومزاحمته معه انما تكون في ظرف امتثاله فإنه موجب لعدم
قدرة العبد على امتثال الامر بالمهم، كما أن مزاحمة الامر بالمهم للامر بالأهم، انما تكون
في ظرف امتثاله لا مطلقا، فلا بد من سقوط اطلاق أحد الخطابين لا سقوط أصل خطاب
أحدهما - وبالجملة - التزاحم انما يكون بين الاطلاقين لابين الخطابين فان أبقيا على
اطلاقهما بقى التزاحم، وان ارتفع أحد الاطلاقين ارتفع التزاحم فلا موجب لرفع اليد عن
أصل خطاب أحدهما والحكم بسقوطه، إذ الضرورات تتقدر بقدرها، فإذا فرض أهمية
أحدهما يبقى اطلاقه على حاله ويحكم بسقوط اطلاق الاخر، فبالنسبة إلى أصل الخطاب
به يتمسك باطلاق دليله الافرادي ويحكم بثبوته.
وان شئت قلت إن سقوط الخطاب لابد وأن يكون لعجز تكويني أو شرعي.
اما العجز الشرعي، فمفقود، لفرض امكان الترتب وان الامر بالأهم بوجوده لا يزاحم الامر
بالمهم بنحو الترتب. واما العجز التكويني فهو مختص بصورة امتثال الامر بالأهم، ومع
عدم الامتثال يكون القدرة على امتثال الامر بالمهم موجودة، فلا موجب لسقوطه في
هذا الفرض فحينئذ في صورة عصيان الامر بالأهم يتمسك لاثبات الامر بالمهم باطلاق
دليله الافرادي، مثلا إذا تزاحم الامر بالصلاة، مع الامر بالإزالة، وقدم الثاني، ففي صورة
عصيان الامر بها يتمسك باطلاق أقيموا الصلاة ونحوه من المطلقات لشمول الامر لمثل
هذه الصلاة، وانما خرجنا عن اطلاقها الأحوالي وقيدناه في صورة امتثال الامر بالإزالة لا
39

مطلقا، فوقوع الترتب بعد اثبات امكانه لا يحتاج إلى دليل، بل دليله حينئذ نفس
اطلاق الأدلة.
ويتفرع على ذلك أنه لو وقع التزاحم بين المتساويين فبناءا على امكان الترتب
يكون كلا الامرين فعليين بنحو الترتب بمعنى ان الامر بكل منهما فعلى مشروط
بعدم الاتيان بالآخر: إذ التزاحم انما يكون بين اطلاقيهما، وحيث لا مرجح لأحدهما
على الاخر يسقطان معا، فكل منهما يقيد بعدم الاتيان بالآخر، ففي صورة عدم الاتيان،
بهما يكون الأمران فعليين ويكون التخيير عقليا، ولو اتى بأحدهما يسقطان معا أحدهما
بالامتثال والاخر بارتفاع موضوعه وعدم تحقق شرطه، ولو لم يأت بهما فقد خالف
أمرين.
واما بناءا على استحالة الترتب وكون التزاحم بين نفس الحكمين، فلا محالة يسقط
الأمران معا. وعليه، فبناءا على كشف الملاك مع عدم الامر بأحد الطريقين المتقدمين،
حيث إن الملاكين موجودان والمكلف يتمكن من تحصيل أحدهما، فيكشف العقل
ثبوت خطاب تخييري شرعي، فيكون التخيير شرعيا، وبناءا على ما أسلفناه من أنه مع
عدم الامر لا كاشف عن الملاك لا مجال لاستكشاف ذلك أيضا.
بقى في المقام فرع متفرع على ذلك أيضا، وهو انه لو وقع التزاحم بين حكمين،
واحتمل أهمية أحدهما دون الاخر، فبناءا على امكان الترتب، يكون سقوط اطلاق
خطاب ما لم يحتمل أهميته متيقنا، كان الاخر أهم أم كانا متساويين، واما ما يحتمل أهميته
فسقوط اطلاق خطابه مشكوك فيه لاحتمال أهميته فلا موجب للحكم بسقوطه: إذ لا
ريب في التمسك بالاطلاق لو شك في سقوطه فيكون خطاب محتمل الأهمية مطلقا
والخطاب الاخر مقيدا بعدم الاتيان بطرفه، واما بناءا على استحالة الترتب، فحيث
ان التزاحم انما يكون بين نفس الخطابين فيسقطان معا كان الاخر أهم أم لم يكن غاية الامر
بناءا على استكشاف الملاك يكشف وجود خطاب، وهو على فرض التساوي متعلق
بأحدهما على نحو التخيير، وعلى فرض الأهمية متعلق به تعيينا، فإذا احتمل الأهمية يكون
امر الخطاب دائرا بين التعيين والتخيير، فعلى القول بأصالة الاحتياط في تلك المسألة يبنى
40

على أن المتعين الاتيان بما يحتمل أهميته، وعلى القول بأصالة البراءة في تلك المسألة يحكم
بالتخيير في المقام، وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذه المسألة.
الرابع: ان الواجب الأهم إذا كان آنيا غير قابل للدوام والبقاء فالتكليف بالمهم لا
يتوقف على القول بجواز الترتب وامكانه لان عصيان الامر بالأهم في الان الأول القابل
لوجود الأهم فيه موجب لسقوط امره في الان الثاني بسقوط موضوعه ومعه لا مانع من
فعلية الامر بالمهم على الفرض، لان المانع هو فعلية الامر بالأهم، فحينئذ يصح الاتيان
بالمهم ولو على القول باستحالة الترتب فهذا الفرض خارج عن مورد النزاع فان ما هو
محل النزاع ما إذا كان الامر بالأهم فعليا ومع ذلك وقع الكلام في فعلية الامر بالمهم.
نعم، تعلق الامر بالمهم في الان الأول القابل لتحقق الأهم فيه خارجا يكون محل
الكلام، فالقائل بالترتب يلتزم بامكانه والقائل باستحالته يلتزم بعدم امكانه، فنزاع الترتب
في هذا القسم ينحصر في خصوص الامر بالمهم في الان الأول.
فالمتحصل انه إذا كان الواجب الأهم آنيا دون الواجب المهم، اثبات الامر بالمهم
في الان الثاني لا يتوقف على القول بالترتب، وان كانا آنيين فاثبات الامر بالمهم يكون
مبتنيا على القول بالترتب.
الخامس: انه إذا كان كل من الأهم والمهم تدريجيا كالصلاة والإزالة عند وقوع
المزاحمة بينهما فلا اشكال في أنه داخل في محل الكلام، فان قيل إن عصيان الامر بالأهم
آنا ما شرط لفعلية الامر بالمهم في جميع أزمنة امتثاله بلا توقف فعليته في الآنات المتأخرة
على استمرار معصية الامر بالأهم في تلك الآنات بل لو تبدلت المعصية بالإطاعة في
الان الثاني كان الامر بالمهم باقيا على فعليته لتحقق شرطه، وهو عصيان الامر بالأهم في
الان الأول فلا ريب في امتناع ذلك، فإنه يلزم من ذلك طلب الجمع بين الضدين، والظاهر
من المنكرين للترتب كالمحقق الخراساني كون نظره إلى هذا المورد، ولكن ليس ذلك
مراد القائلين بالترتب، بل محل بحثهم ومحط نظرهم ما لو فرض كون عصيان الامر
بالأهم في جميع أزمنة امتثاله شرطا لفعلية الامر بالمهم، بمعنى ان فعلية الامر بالمهم تدور
مدار عصيان الامر بالأهم حدوثا وبقاءا، فلا يكفي عصيانه آنا ما لبقاء امره إلى الجزء
41

الأخير منه، ففعلية الامر بالصلاة مثلا عند مزاحمته بالامر بالإزالة، مشروطة ببقاء
عصيان الامر بالإزالة، واستمراره إلى آخر أزمنة امتثال الامر بالصلاة.
الدليل الآني لامكان الترتب
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن تنقيح القول بالبحث في مقامين: الأول: في أدلة
امكان الترتب. الثاني: في بيان ما قيل في وجه الاستحالة.
اما المقام الأول: فأدلة الامكان نوعان: الدليل الآني: والدليل اللمي.
فالكلام أولا في الدليل الآني: وملخص القول فيه انه يشهد بامكانه، مضافا إلى
شهادة الوجدان وقوعه في العرفيات كثيرا من دون ان يتجاوز الآمر عن الامر بالأهم وطلبه
حقيقة ولا كون الامر بالمهم ارشادا إلى محبوبيته، ووقوعه في الشرعيات وهو
أقوى الدليل على امكانه فلا حظ.
1 - ما لو حرمت الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى زوال الشمس و
عصى المكلف هذا الخطاب وأقام، فلا اشكال في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به،
ولا ينطبق ذلك الا على الترتب إذ في الان الأول من الفجر توجه إليه كل من خطاب،
لا تقم، وصم على تقدير الإقامة، وعصيان الخطاب الأول مترتبا ففي حال الإقامة يجب
عليه الصوم مع حرمة الإقامة، وهذا المثال عين القول بالترتب الذي هو عنوان كلام القوم،
على القول بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه، فإنه يكون خطاب الصوم مترتبا
على عصيان خطاب الإقامة بلا توسط شئ كترتب خطاب المهم على عصيان
خطاب الأهم، نعم لو قلنا بان الإقامة قاطعة للسفر موضوعا، كان خطاب الصوم مترتبا على
عنوان غير المسافر والحاضر لا على عصيان خطاب الإقامة، ولكن يكون عصيان
حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم، لأنه بعصيان خطاب الإقامة يتحقق
عنوان الحاضر وبتحقق ذلك العنوان يتوجه خطاب الصوم فيتوسط بين عصيان
خطاب الإقامة وخطاب الصوم هذا العنوان، ولكن توسط العنوان لا يكون رافعا لما قيل
42

انه محذور في الترتب.
2. ما لو وجبت الإقامة توجه إليه خطاب القصر، فيكون خطاب القصر مترتبا على
عصيان الامر بقصد الإقامة وتركه في الخارج.
3 - ما لو حرمت الإقامة، فعصى وأقام، فإنه يتوجه إليه خطاب اتمام الصلاة، إلى
غير ذلك من الفروع التي لا تجتمع مع عدم الترتب.
الدليل اللمي لامكان الترتب
واما الدليل اللمي للامكان الذي هو المهم في المقام، فللقوم في تقريبه وجوه،
وحيث إن الموجب للوقوع في مضيقة المحال، هو استحالة طلب الضدين، و
وجوه الامكان ناظرة إلى ذلك، والا فبقية وجوه المنع واضحة الدفع. فلابد أولا من تقريب
وجه الاستحالة ثم تعقيبه بوجوه الامكان.
وحاصله ان ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد، آت في طلبهما
بنحو الترتب إذ لو كان التكليف بهما مترتبا وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما
الا انه كان في مرتبة الامر بالمهم اجتماعهما لفعلية الامر بالأهم في هذه المرتبة وعدم
سقوطه بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا لتحقق
ما هو شرط فعليته فرضا.
ودعوى الفرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك فان الطلب في كل
منهما في الأول يطارد الاخر بخلافه في الثاني إذ الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم
فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم.
مندفعة بأنه لا معنى للمطاردة سوى فعلية الامرين ومضادة متعلقيهما فان كل امر
انما يقتضى ايجاد متعلقه في فرض فعليته فمع فرض فعلية كل منهما لا محالة يكون
هناك اقتضائان مع عدم قدرة المكلف الا على الاتيان بواحد من المقتضيين بالفتح، فلا
محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان.
43

وقد ذكر المحققون في الجواب عن ذلك تصحيحا للترتب وجوها:
أحدها: ان التكليف بالمهم لما كان معلقا على امر اختياري للمكلف، وهو
معصية التكليف الأول أو على امر حصوله بيد المكلف واختياره، وهو كون المكلف
ممن يعصى للتكليف الأول جاز تنجزه عند حصول شرطه، ولزوم ايجاد المتنافيين في
زمان لا يسع لهما، لا يمنع عن صحة التكليف، لان التكليف بالمحال إذا كان ناشئا من
اختيار المكلف لا ضير فيه: إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وفيه أولا: ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا لا خطابا، والا فلا فرق في
قبح التكليف بالمحال وغير المقدور بين ما إذا كان سبب الخروج عن القدرة هو المكلف،
أم كان المكلف به خارجا عن القدرة بنفسه ومن جهة العوامل الخارجية.
وثانيا: انه لو سلم ذلك وانه لا ينافيه خطابا أيضا فإنما هو فيما إذا كان المتعلق
مقدورا والعبد بسوء اختياره صيره غير مقدور، لا فيما إذا كان غير مقدور من الأول،
وعلق الحكم على امر اختياري كما لو قال: يجب عليك الجمع بين النقيضين ان صعدت
على السطح، فإنه لم يتوهم أحد جواز هذا التكليف، والمقام من هذا القبيل فان الجمع
بين الضدين محال من الأول وتعليق طلبه على عصيان الامر بالأهم لا يصححه.
الوجه الثاني: ان التكليف المشروط أي التكليف بالمهم ليس في رتبة التكليف
المطلق المتعلق بالأهم ومعه لا مانع من تحققهما، توضيح ذلك أن التكليف بالأهم لا
يكون مشروطا بوجود متعلقه، ولا مشروطا بعدمه ولو بنتيجة التقييد والا لزم طلب
الحاصل أو طلب النقيضين كما هو واضح، وإذا لم يصح التقييد والاشتراط لم يكن فيه
اطلاق بالنسبة إليهما، إذ الاطلاق عبارة عن عدم الاشتراط في مورد يسوغ ذلك، لا مجرد
عدم الاشتراط، فالتكليف الأول، بالنسبة إلى هذا التقدير لا مطلق ولا مشروط،
واما التكليف بالمهم، فهو غير ثابت في المرتبة المتقدمة على العصيان أي عصيان الامر
بالأهم لاشتراطه به، بل هو ثابت في المرتبة المتأخرة، فليس شئ من التكليفين ثابتا في
مرتبة ثبوت الاخر، والتكليف بالمتنافيين لا يصح إذا كان ذلك في مرتبة واحدة.
وفيه: ان هذه الأحكام احكام للزمان لا للرتبة، فثبوت التكليف بأحد المتنافيين في
44

زمان ثبوت التكليف بالآخر ممتنع، وان كانا في مرتبتين، وحيث، انه في زمان
ثبوت التكليف بالمهم، لا يكون التكليف بالأهم ساقطا كما هو المفروض، بل هو أيضا باق
فيلزم ثبوتهما في زمان واحد، وهو مستلزم لطلب الجمع بين الضدين الممتنع، مع أن
التنافي بين الحكمين ليس تنافيا بالذات أو من حيث المبدأ والملاك بل انما يكون تنافيا
بالعرض من جهة تضاد المتعلقين فاختلاف الحكمين رتبة بل وزمانا مع فرض وحدة
زمان المتعلقين رتبة وزمانا لا يوجب ارتفاع ملاك التنافي كما هو واضح.
ما افاده المحقق النائيني في تصحيح الترتب
الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) وقد بنى جوابه على مقدمات خمس، و
بعضها وان لم يكن صحيحا، وبعضها غير دخيل في اثبات صحة الترتب، وبعضها مترتب
على صحة الترتب، الا انه لاشتمالها على فوائد جمة، نذكر كل مقدمة منها ثم نعقبها بما
يختلج بالبال.
المقدمة الأولى: انه لا كلام في أن الموجب لوقوع المكلف في مضيقة المحال هو
ايجاب الجمع بين الضدين، إذ مع عدمه لا يقع المكلف في المضيقة فالمحذور
كل المحذور انما ينشأ من ايجاب الجمع بين الضدين، ولا كلام أيضا في أنه لابد من
سقوط ما هو منشأ ايجاب الجمع ولا وجه لسقوط غير ذلك، وهذان الأمران لا كلام
فيهما.
فالكلام كله انما هو في أن الموجب للجمع بين الضدين، هل هو نفس الخطابين
وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما، أو ان الموجب للجمع هو اطلاق كل من الخطابين
لحالتي فعل متعلق الاخر وعدمه، والمنكرون للترتب يدعون الأول، والمصححون الثاني،
ونحن إذا راجعنا إلى غير باب الضدين كالصلاة والصوم، نرى انه إذا امر الشارع بهما مع
تقييد كل من الامرين بعدم الاتيان بمتعلق الاخر، أو كان أحدهما مشروطا بذلك، لما كانت
النتيجة ايجاب الجمع بين الصوم والصلاة فليكن كذلك في باب الضدين.
45

ثم قال وعلى ذلك يبتنى المسلكان في التخيير بين المتزاحمين المتساويين من
حيث كون التخيير عقليا أو شرعيا، فإنه إذا كان المقتضى للجمع، هو اطلاق الخطابين
فالساقط هو الاطلاق ليس الا مع بقاء أصل الخطاب، فيكون كل من الخطابين مشروطا
بعدم الاتيان بمتعلق الاخر لحصول القدرة عليه عند ترك الاخر، وينتج التقييد عقلا، وهذا
بخلاف ما إذا قلنا بان المقتضى لايجاب الجمع، هو أصل الخطابين فإنه يسقطان معا و
لمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف العقل خطابا شرعيا تخييرا بأحدهما و
يكون كساير التخييرات الشرعية كخصال الكفارات، غايته ان التخيير في الخصال، يكون
بجعل ابتدائي وفى المقام يكون بجعل طارئ.
ثم قال ومن الغريب ما صدر من الشيخ حيث إنه في الضدين الذين يكون أحدهما
أهم ينكر الترتب، غاية الانكار، ولكن في مبحث التعادل والترجيح التزم بالترتب
من الجانبين ويصرح بان التخيير في الواجبين المتزاحمين، انما هو من نتيجة اشتراط كل
منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال تركب الاخر، فيجب كل منهما عند
ترك الاخر، فيلزم الترتب من الجانبين، مع أنه أنكر الترتب من جانب واحد هكذا في
تقريرات المحقق الكاظميني، وفى تقريرات المحقق الأكبر الخوئي.
المقدمة الأولى
في بيان أمرين: الأول: ان الفعلين المتضادين، إذا كان التكليف بهما، أو بأحدهما
مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الآخر فلا محالة يكون التكليفان طوليين لا عرضيين، فلا يلزم
من الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدين ولذا لو فرضنا امكان الجمع بين متعلقي الطلبين
كذلك كدخول المسجد وقراءة القرآن ومع ذلك كان الطلبان بنحو الترتب امتنع وقوعهما
في الخارج على صفة المطلوبية، فيستكشف من ذلك أن نفس ترتب الخطابين يمنع تحقق
طلب الجمع بين متعلقيهما.
الثاني: ان التزاحم بين التكليفين لعدم القدرة على امتثالهما معا، وان كان يستلزم
46

سقوط ما به يرتفع التزاحم لاستحالة التكليف بغير المقدور، الا انه لابد من الاقتصار على
ما به يرتفع التزاحم، ولا وجه لسقوط الزايد عليه ولذلك وقع الكلام في أن الموجب
للتزاحم، هل هو اطلاق الخطابين، ليكون الساقط هو اطلاق خطاب المهم دون أصل
خطابه مشروطا بعدم الاتيان بالأهم، أو ان الموجب له نفس فعلية الخطابين ليسقط
خطاب المهم من أصله، ثم ينقل عن الشيخ الأعظم ما ذكره المحقق الكاظميني ويورد عليه
بما مر.
أقول ان الامر الأول الذي ذكره المحقق الخوئي وان كان متينا الا انه يحتاج
إلى الاثبات وهو (دام ظله) لم يقم برهانا على ذلك سوى التمثيل، وهو لا يكفي في اثبات
هذا الامر، فان قيل، ان برهانه ما سيأتي فيما بعد، قلت فذكر هذا في المقدمات بلا وجه.
واما الامر الثاني: فهو في نفسه أيضا تام وقد أشبعنا الكلام فيه الا ان ذلك من آثار
امكان الترتب واستحالته لامن مقدمات اثبات امكانه.
واما ما افاده المحقق الكاظمي فيرد عليه انه لا اشكال في أن تقييد الاطلاقين،
يوجب رفع التزاحم، وارتفاع المحذور والكلام في الترتب انما هو في أنه، هل يرتفع
المحذور بتقييد اطلاق خصوص الامر بالمهم وابقاء اطلاق الامر بالأهم أم لا؟ والمحقق
الخراساني والشيخ يدعيان انه لا يرتفع المحذور بذلك فان مقتضى اطلاق الخطاب
بالأهم لزوم الاتيان به حتى مع الاتيان بالمهم ففي ذلك التقدير يلزم طلب الجمع
بين الضدين، وبذلك يرتفع التهافت بين كلمات الشيخ الأعظم (ره).
المقدمة الثانية
ان شرائط التكليف كلها ترجع إلى قيود الموضوع، ولا بد من اخذها
مفروض الوجود في مقام الجعل والانشاء وفعلية الحكم تتوقف على فعليتها وتحققها
في الخارج فحالها حال الموضوع بعينه إذ كل موضوع شرط وكل شرط موضوع، وبديهي
47

ان الموضوع بعد وجوده خارجا لا ينسلخ عن الموضوعية ويكون الحكم بلا موضوع،
فالواجب المشروط بعد تحقق شرطه لا ينقلب مطلقا: إذ هو مساوق للقول بان الموضوع
بعد وجوده خارجا ينسلخ عن موضوعيته، ويترتب على ذلك فساد توهم ان الالتزام
بالترتب لا يدفع محذور التزاحم بين الخطابين، بتوهم ان الامر بالمهم بعد حصول
عصيان الامر بالأهم المفروض كونه شرطا له يكون في عرض الامر بالأهم فيقع
بينهما التزاحم لا محالة.
أقول ان الالتزام بعدم صيرورة الواجب المشروط واجبا مطلقا بوجود شرطه
لا يتوقف على ارجاع شرائط الحكم إلى قيود الموضوع، بل هو كذلك حتى على القول
بكونها وسائط في ثبوت الحكم للموضوع. فان الحكم حينئذ يدور مدار وجودها حدوثا
وبقاءا كما هو الشأن في جميع العلل باجزائها.
فالجواب عما أورد على الترتب بأنه بعد تحقق شرط التكليف بالمهم وهو
عصيان الامر بالأهم يكون كلا التكليفين مطلقين وكل منهما في عرض الآخر
فيقع التزاحم بينهما. لا يتوقف على هذه المقدمة، بل الجواب عنه ان الواجب المشروط لا
يصير واجبا مطلقا بحصول شرطه، بل بعد على مشروطيته، سواء رجعت الشروط إلى
قيود الموضوع، أم كانت من قبيل العلة لثبوت الحكم لموضوعه، فهذه المقدمة أيضا غير
دخيلة في اثبات الترتب.
المقدمة الثالثة
في بيان ان زمان شرط الامر بالأهم وزمان فعلية خطابه وزمان امتثاله أو عصيانه
الذي هو شرط للامر بالمهم كلها متحدة، كما أن الشأن هو ذلك بالقياس إلى الامر بالمهم و
شرط فعليته وامتثاله أو عصيانه، ولا تقدم ولا تأخر في جميع ما تقدم بالزمان، والوجه
في مقارنة زمان شرط الامر مع زمان فعلية الخطاب، ان ما فرض جزءا أخير الموضوع
الحكم اما ان يكون حكمه وخطابه فعليا عند تحققه بلا فصل زماني فهو المطلوب واما
48

ان تكون فعليته متوقفة على مضى آن ما فيلزم ان لا يكون ما فرضناه جزءا أخيرا
للموضوع جزءا أخيرا له وهو خلف.
وبذلك يظهر ان تأخر الامتثال عن الخطاب أيضا رتبي لا زماني فان نسبة الامتثال
إلى الخطاب كنسبة المعلول إلى علته، وأول زمان الخطاب هو أول زمان الامتثال نعم
في الموسعات لا يلزم مقارنة زمان الامتثال لزمان الخطاب، وبالجملة الامتثال بالإضافة
إلى الخطاب كالمعلول بالإضافة إلى علته فلا مانع من مقارنته إياه زمانا فلا موجب لفرض
وجود الخطاب قبله بآن ما، مع: ان وجود الخطاب قبل زمان الامتثال لغو محض:
إذ المكلف ان كان عالما بالحكم يكون محركه الخطاب المقارن لصدور متعلقه والا
فالخطاب لا اثر له رأسا، مضافا إلى أنه لا اشكال في صحة العبادات الموسعة كالصلاة إذا
وقعت في أول وقتها والقول بلزوم تقدم الخطاب على زمان الامتثال في المضيقات
يستلزم القول بلزوم تقدمه عليه في الموسعات، لعدم الفرق في ذلك بين لزوم
مقارنة الامتثال لأول الوقت وجوازها كما في الموسعات، مع أنهم لا يقولون بلزوم التقدم
فيها.
أضف إلى ذلك كله ان تقدم الخطاب على الامتثال يستلزم فعلية الخطاب قبل وجود
شرطه فلابد من الالتزام بالواجب المعلق.
ثم انه (قده) رتب على هذه المقدمة دفع جملة من الايرادات على الترتب.
منها: ان الشرط للامر بالمهم ان كان عصيان الامر بالأهم لزم تأخر الامر بالمهم عن
سقوط الامر بالأهم، وهذا مما لا كلام في جوازه، وان كان كون المكلف ممن يعصى
فيما بعد أعني وصف التعقب بالعصيان لزم طلب الجمع بين الضدين إذا المفروض ان
خطاب الأهم مطلق وفعلي، وقد تحقق وخطاب المهم فعلى بتحقق شرطه فيكون
كلا الضدين مأمورا بهما في آن واحد.
ومنها: ان عصيان الامر بالأهم متحد زمانا مع امتثال خطاب المهم فلا بد من فرض
تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله وهو يستلزم الالتزام بالشرط المتأخر، والواجب
المعلق وكلاهما باطلان.
49

أقول: اما الايراد الثاني فجوابه ما تقدم من عدم استحالة الشرط المتأخر،
ولا الواجب المعلق.
واما الايراد الأول فجوابه لا يتوقف على اثبات كون الشرط للامر بالمهم هو،
عصيان الامر بالأهم بنحو الشرط المقارن، بل لو كان الشرط هو عصيان الامر به
بنحو الشرط المتأخر، والتزمنا بفعلية الامر بالمهم، قبل زمان امتثال الامر بالأهم أو عصيانه،
لم يلزم طلب الجمع بين الضدين، كما أنه لو قيل بشرطية البناء لذلك لم يلزم هذا المحذور:
وذلك لأنه ان كان الشرط هو العصيان بنحو الشرط المتأخر، فيكون المأمور به هو المهم
الملازم لعدم الاتيان بالأهم في ظرفه، كالصلاة الملازمة لعدم الإزالة في ظرفها، فطبيعي
الصلاة لم يأمر بها وانما الحصة منها التوأمة مع عدم الإزالة هي التي تكون مأمورا بها
فمثل هذا الامر بالإزالة على جميع التقادير، لا يكون طلبا للجمع بين الضدين إذ
لو امتثل الامر بالإزالة فقد هدم موضوع الامر بالصلاة فلا تكون مأمورا بها، وبالجملة: لا
فرق في عدم لزوم طلب الجمع بين الضدين بين كون العصيان شرطا مقارنا، أم شرطا
متأخرا، وان كان الشرط هو البناء بنحو الاستمرار لا حدوثا فقط، فالامر بالمهم مع الامر
بالأهم لا يكونان من طلب الجمع بين الضدين أيضا، إذ لو أطاع الامر بالأهم، ورفع اليد
عن بنائه فقد هدم موضوع الامر بالمهم، فاثبات كون الشرط هو العصيان نفسه بنحو الشرط
المقارن مما لا دخل له في اثبات الترتب.
ثم انه يمكن الجواب عن شبهة كون فعلية الامر بالمهم بعد سقوط الامر بالأهم لو
كان العصيان شرطا مقارنا بوجه آخر غير ما افاده في المقدمة، - وان كان ما افاده متينا -
وان شئت فاجعل ما أذكره توجيها لما افاده، وهو ان منشأ هذه الشبهة توهم ان العصيان
متى تحقق ووجد في الخارج، فهو مسقط للامر، وهو فاسد إذ الموجب لسقوط الطلب
أمران:
الأول: امتثاله من جهة انه يوجب حصول الغرض منه، وبديهي ان الغرض إذا
تحقق فلا يمكن بقاء الامر المعلول له، فالامتثال يكون مسقطا لا لكونه امتثالا فإنه معلول
للامر، فكيف يعقل ان يكون معد ماله - وبعبارة أخرى - وجود المعلول خارجا يستحيل
50

ان يكون علة لعدم وجود علته، بل من جهة انه يوجب حصول الغرض فلا محالة يسقط
الامر حينئذ لانتهاء أمد اقتضائه وبعد تحققه لا اقتضاء له ابدا.
الثاني: امتناع الامتثال وعدم تمكن المكلف منه، فإنه يوجب سقوط التكليف
لقبح التكليف بغير المقدور كان عدم التمكن لضيق الوقت، أو من ناحية مانع آخر،
وعلى الجملة العصيان لا يعقل ان يكون مسقطا للامر لان ثبوت الامر في حالتي العصيان
والامتثال امر ضروري، والا لم يكن لهما معنى معقولا، وانما يسقط الامر لو استمر
العصيان إلى زمان لا يتمكن المكلف بعده من الامتثال.
وعليه فإذا كان المكلف متمكنا من الامتثال ولكنه عصى ولم يأت به في الان
الأول، فلا محالة لا يوجب سقوط الامر فالتكليف بالأهم لا يكون ساقطا بعصيانه
عن الان الأول مع تمكن المكلف من امتثاله في الان الثاني فإذا يجتمع الأمران في زمان
واحد، وهو زمان عصيان الأهم.
ثم إن ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن العصيان شرط مقارن وان لم يكن دخيلا
في اثبات الترتب الا انه في نفسه تام: إذ مقتضى الجمع بين اطلاق دليل الأهم، واطلاق
دليل المهم المقيدين بالقدرة مع فرض عدم القدرة على امتثالهما، هو تقييد دليل المهم
بمقدار يكون امتثاله غير مقدور، وفى غير ذلك يكون امره باقيا لاطلاق دليله، والمهم
انما لا يقدر عليه في حال الاشتغال بالأهم فيسقط امره في خصوص تلك الحالة.
المقدمة الرابعة
ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على
أحد أنحاء ثلاثة:
الأول: ما إذا كان الانحفاظ بالاطلاق أو التقييد اللحاظي وذلك بالنسبة إلى كل
انقسام يتصور في المتعلق سابق على الحكم ومع قطع النظر عن ورود الخطاب
الثاني: ان يكون الانحفاظ نتيجة الاطلاق أو التقييد، وذلك بالنسبة إلى كل انقسام
51

وتقدير لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به بحيث لا يكون لذلك التقدير وجود الا بعد
ورود الخطاب كتقديري العلم والجهل وقد تقدم تفصيل القسمين في التعبدي والتوصلي.
الثالث: ما إذا كان الانحفاظ من جهة اقتضاء الخطاب بنفسه وضع ذلك التقدير أو
رفعه يكون محفوظا في الصورتين، وهذا مختص بباب الطاعة والعصيان، فيكون انحفاظ
الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته، لا باطلاقه لحاظا أو نتيجة:
إذ لا يعقل الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه بل يؤخذ
المتعلق معرى عن حينية فعله وتركه ويلاحظ نفس ذاته، فيحمل عليه بالفعل، ان
كان الخطاب وجوبيا، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا فيكون الخطاب نحو الفعل، ان
كان الخطاب وجوبيا، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا فيكون الخطاب نحو الفعل،
أو الترك نظير حمل الوجود أو العدم على شئ حيث إنه يؤخذ ذلك الشئ معرى عن
الوجود والعدم إذ في حمل الوجود عليه لو قيد بالوجود لزم حمل الشئ على نفسه، ولو
قيد بالعدم لزم اجتماع النقيضين، ولو أطلق لزم كلا المحذورين.
وكذا في المقام لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه لاستلزامه طلب
الحاصل، ولا تقييده بالترك لاستلزامه طلب الجمع بين النقيضين، ولا اطلاقه بالنسبة إلى
تقديري الفعل والترك، للزوم كلا المحذورين فلابد من لحاظ المتعلق مهملا معرى عن
كلا تقديري الفعل والترك فيخاطب به بعثا أو زجرا وليس فيه تقييد ولا اطلاق، لا
لحاظا، ولا نتيجة، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك،
ما لم يتحقق الامتثال أو العصيان، وانحفاظ الخطاب انما يكون باقتضاء ذاته.
ويترتب على الفرق بين القسمين الأولين، والقسم الأخير من هذه الجهة أمران:
أحدهما: ان نسبته التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه في الأولين نسبة العلة
إلى المعلول، اما في مورد التقييد، فلما مر من أن مرجع كل تقدير كان الخطاب مشروطا
به، إلى كونه مأخوذا في موضوعه، وعرفت ان رتبة الموضوع من حكمه رتبة العلة من
معلولها، واما في مورد الاطلاق فلما مر من اتحاد مرتبتي الاطلاق والتقييد، لان الاطلاق
عبارة عن عدم التقييد في مورد قابل له، فإذا كانت مرتبة التقييد سابقة على مرتبة الحكم
المقيد به كانت مرتبة الاطلاق أيضا كذلك، واما في القسم الأخير فنسبة التقدير المحفوظ
52

فيه الخطاب بالإضافة إليه نسبة المعلول إلى علته لما مر من أن الخطاب له نحو علية
بالإضافة إلى الامتثال، لان الخطاب هو الذي يقتضى وضع أحد التقديرين وهدم الاخر،
فإذا كان نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى معلولها كان الحال ذلك بالإضافة
إلى العصيان أيضا، لان مرتبة العصيان هي بعينها مرتبة الامتثال.
الثاني: ان نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب في القسمين الأولين بما انه
نسبة الموضوع إلى حكمه، فلا محالة لا يكون الخطاب متعرضا لحاله أصلا وضعا ورفعا،
مثلا خطاب الحج لا يكون متعرضا لحال الاستطاعة ليكون مقتضيا لوجودها أو عدمها،
بخلاف التقدير المحفوظ فيه الخطاب في القسم الأخير، فإنه متعرض لحاله رفعا ووضعا، و
إذ المفروض انه هو المقتضى لوضع أحد التقديرين ورفع الاخر.
ومن ذلك يظهر ان خطاب المهم لكونه غير متعرض لحال عصيان الأهم لكونه
موضوعا له لا يعقل ان يترقى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاءا لموضوعه، كما أن
خطاب الأهم المتعرض لهذه الحال واقتضائه رفعها لا يعقل ان يتنزل ويقتضي شيئا
آخر غير رفع موضوع خطاب المهم، فكلا الخطابين وان كانا محفوظين في
ظرف العصيان ومتحدين زمانا الا انهما في مرتبتين طوليتين.
وبالجملة طلب الأهم يقتضى هدم موضوع طلب الأهم يقتضى هدم موضوع طلب المهم من دون ان يقتضى شيئا
آخر على تقدير عدم تحقق مقتضاه في الخارج، واما طلب المهم فهو لا يقتضى وجود
موضوعه ووضعه وانما يقتضى وجود المهم على تقدير تحقق موضوعه فليس الطلبان
في عرض واحد ليقع المزاحمة بينهما من جهة امتناع الجمع بين متعلقيهما في زمان
واحد.
أقول في كلامه مواقع للنظر: 1 - ما ذكره في الاطلاق والتقييد في القسمين، الأولين
من الالتزام بالاطلاق اللحاظي - والذاتي والملاكي - وقد مر تفصيله في التعبدي
والتوصلي.
2 - ما افاده من ترتب المحذورين في الاطلاق في القسم الأخير، وهو غير تام: لان
حقيقة الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها. فمعنى كون المتعلق مطلقا كونه غير
53

مقيد بالوجود والعدم، لا كونه مقيدا بهما، ومن الواضح ان المستحيل انما هو دخل
وجود المتعلق أو عدمه في الطلب، واما عدم دخلهما فيه، فهو ضروري لا مستحيل وقد
مر في مبحث التعبدي والتوصلي انه إذا استحال التقييد بكل من القيود المتصورة لا محالة
يكون الاطلاق ضروريا لا مستحيلا، وعلى ذلك فانحفاظ الخطاب في تقدير لا محالة
يستند إلى التقييد أو الاطلاق اللحاظي بالإضافة إلى ذلك التقدير وليس للقسم الثاني
والثالث من انحفاظ الخطاب في تقدير، موضوع أصلا.
3 - ما افاده (ره) من أن نسبة التقدير المحفوظ فيه الخطاب بالإضافة إليه
في القسمين الأولين نسبة العلة إلى معلولها، واما في مورد التقييد فلرجوعه إلى الموضوع و
اما في الاطلاق فلاتحاد مرتبة الاطلاق والتقييد، فإنه يرد عليه ان ما ذكر يتم في التقييد ولا
يتم في الاطلاق إذ معنى الاطلاق عدم دخل قيد ما في الحكم، وبديهي ان تأخر حكم عما
له دخل في فعليته لا يستلزم تأخره عما ليس له دخل فيها، وكون الاطلاق والتقييد في
مرتبة واحدة لا يوجب تقدمه على ما يكون القيد مقدما عليه لان التقدم والتأخر لابد وأن يكون
بملاك يقتضيهما. ولذلك قالوا ان وجود العلة متقدم على وجود المعلول ولكن
عدم العلة مع كونه في مرتبة وجود العلة لا موجب لتقدمه على وجود المعلول. وقياس
المساواة انما يتم في الزمان دون الرتبة.
4 - لا دخل لهذه المقدمة في اثبات الترتب بل قوامه انما هو بما رتبه عليها وهو ان
خطاب الأهم من جهة اقتضائه لرفع موضوع المهم، وهو العصيان وهدمه إلى آخر ما
افاده، فالمتحصل ان المقدمات الأربع غير دخيلة في اثبات الترتب.
بيان ما هو الحق في المقام
وتمام الدخل انما هو للمقدم الخامسة، ومحصلها بعد الغاء مالا ربط له باثبات
الترتب وتبديل بعض الخصوصيات ان القول بالترتب لا يترتب عليه طلب الجمع
بين الضدين، وانه انما يترتب على اطلاق الخطابين، لان الشرط الذي يترتب
54

عليه الخطاب، تارة يكون غير اختياري كما في دلوك الشمس بالنسبة إلى الامر بالصلاة،
وأخرى يكون اختياريا، وعلى الثاني قد لا يكون الخطاب الاخر المجامع معه متعرضا له،
كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج في عام الاستطاعة، وقد نذر زيارة الحسين
- عليه السلام - في ذلك العام فان الامر بزيارته (ع) ليس متعرضا للاستطاعة، وقد يكون
الخطاب الاخر المجامع معه متعرضا له، وعلى الثاني قد يكون الحكم بنفسه معدما لذلك
القيد، والشرط كما في الخطاب باخراج ناقة واحدة زكاة قبل تمام سنة الربح، فان
تعلق الخطاب بنفسه يوجب خروج العين عن عنوان فاضل المؤنة الذي اخذ قيدا و
موضوعا لوجب الخمس، وقد يكون بامتثاله معدما لذلك التقدير والموضوع كما فيما
نحن فيه فان خطاب المهم إذا قيد بعصيان الامر بالأهم الذي هو اختياري وقابل للتصرف
الشرعي، فالخطاب الاخر المجامع معه في الزمان وهو خطاب الأهم، متعرض لقيد
الخطاب بالمهم، ومعدم له بامتثاله لا بنفسه، ويكون المطلوب فيه في الحقيقة هو هدم
موضوع الخطاب بالمهم.
ومحل الكلام هو هذا القسم الأخير والمدعى ان توجه خطابين كذلك إلى مكلف
واحد في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع بين المتعلقين الضدين: إذ طلب الجمع انما
يكون فيما لو كان متعلق كل منهما مقيدا بحال الاتيان بالآخر - أو كان متعلق أحدهما
مقيدا بذلك دون العكس - أو كان كل منهما مطلقا بالإضافة إلى امتثال الاخر. وأما إذا
فرضنا ان متعلق أحدهما مقيد بعدم الاتيان بالآخر انشاءا وفعلية فهما لا يقتضيان الجمع
بين الضدين، لأنه يلزم منه حينئذ اجتماع النقيضين أو الخلف وذلك لان المهم مطلوب في
ظرف عدم الاتيان بالأهم، فلو فرض وجوده يلزم من فعلية الامر بالمهم اجتماع النقيضين
لو التزمنا بتحقق شرطه وهو عدم الاتيان بالأهم، أو الخلف لو التزمنا بفعليته مع عدم
شرطه، وكلاهما محالان، فلا محالة فعلية الخطابين بنحو الترتب لا تستلزم طلب الجمع
فتدبر فإنه دقيق.
55

وجه آخر لصحة الترتب
وان شئت قلت إن طلب الضدين لا يكون قبيحا بنفسه، وانما يتصف بالقبح، فيما
إذا لزم منه إرادة الجمع بينهما وإذا لم يلزم منه ذلك فلا مانع منه: إذ المانع من التكليف
بذلك بعد فرض عدم التنافي بين الحكمين أنفسهما، وعدم التنافي بين مبدأيهما
من المصلحة والحب والشوق، ليس الا التنافي بين الامتثالين، وبعبارة أخرى التكليف
بغير المقدور، والخارج عن قدرة المكلف، هو الجمع بينهما، والتكليف بأحد المتنافيين
حال التكليف بالآخر، انما يلزم منه إرادة الجمع إذا كان كلاهما مطلقين أو مقيدين
بحال الاتيان بالآخر، أو كان أحدهما مطلقا والاخر مقيدا بذلك.
واما لو كان أحدهما مطلقا، والاخر مقيدا بعدم ايجاد المكلف متعلق الاخر فلا
يلزم منه ذلك - بيانه - ان لازم مطلوبية الجمع وقوع كل منهما في الخارج على
صفة المطلوبية، وان كان في حال وقوع الاخر لو فرض امكان الجمع ووقوعه، واللازم
على تقدير تقييد أحد الامرين بعدم وقوع متعلق الاخر في الخارج منتف، ضرورة انه مع
وقوع ما يكون عدمه شرطا في تحقق التكليف بالآخر يكون وقوع الاخر على غير
صفة المطلوبية لفقد شرط مطلوبيته.
وان شئت التوضيح فافرض الترتب، في التكليفين المتعلقين بما يمكن الجمع
بينهما مثلا لو قال الامر صم يوم الخميس وكن في المسجد في ذلك اليوم من أوله إلى
آخره إذا تركت الصيام فيه، فإنه على تقدير الجمع بين الصيام، والدخول في المسجد لا
يقع الثاني منهما على صفة المطلوبية فان مطلوبيته مقيدة بعدم فعل الصيام.
فان قلت إن مانع التكليف بالمتنافيين وهي إرادة الجمع متحققة في هذا الفرض،
غاية الامر ان تحققه مبنى على امر محال وهو تحقق التناقض، وذلك لأنه مع فرض
تنجز التكليف المشروط بمعصية التكليف الاخر يكون ذلك التكليف أيضا ثابتا لأنه لم
يحدث بعد ما يوجب سقوطه من مضى زمانه أو امتثاله، ولازم بقائه حينئذ وجود متعلقه
56

على صفة المطلوبية في هذه الحال وهو الشئ حال عدمه، والمفروض ان متعلق التكليف
بالمهم إذا وجد في هذه الحال يوجد على صفة المطلوبية لان شرط مطلوبيته الذي هو عدم
وجود متعلق الأول حاصل.
قلت، لازم المحال محال وتوضيحه، ان مطلوبية المهم مع وجود متعلق الاخر
الذي هو أهم انما هي مترتبة على امر محال وهو عدم متعلق التكليف بالأهم في حال
وجوده والمترتب على المحال محال، ومعنى بقاء التكليف بالأهم في حال تحقق شرط
التكليف بالمهم، ليس مطلوبية الفعل في حال عدمه مقرونا بعدمه، بل معناه مطلوبية عدم
استمرار العدم، وبقاء هذا التكليف مع فرض عدم تحقق المتعلق، انما هو لكون متعلقه
باقيا على اختيار المكلف ومقدورا له في هذه الحال، فهذا المحال لو فرض امكانه أيضا لا
يكون وقوع الفعل معه على صفة المطلوبية، والحاصل انه في هذا الفرض يمكن منع
مطلوبية كل من متعلقي الامرين.
فان قلت هذا التوجيه لا يتم في مسألة الضد، لان محبوبية غير الأهم ليست مقيدة
بحال عدم فعل الأهم غاية الامر ان التكليف بالأهم يمنع عن التكليف به.
قلت: ان محبوبية غير الأهم وان كانت مطلقة الا ان تعلق التكليف به مقيد بذلك
كما تقدم والترتب المدعى انما هو في التكليف لا في المحبوبية.
أدلة استحالة الترتب ونقدها
المقام الثاني: في بيان ما قيل في وجه استحالة الترتب ونقده، وقد ذكروا في
وجهها أمورا:
الأول ما نقلناه في أول المقام الأول، وذكره المحقق الخراساني في الكفاية،
وحاصله ان ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد آت في طلبهما بنحو الترتب
فإنه وان لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع الطلبين الا انه كان في مرتبة الامر بغير
الأهم اجتماعهما، لفرض عدم سقوط الامر بالأهم بعصيانه، ولازم اجتماع الطلبين في
57

زمان واحد، مطاردة كل منهما للاخر، واقتضائهما الجمع بين الضدين في ذلك الزمان،
لان نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضى إلى مقتضاه في الخارج، فكما ان الامر بالأهم
يقتضى ايجاد متعلقه في ذلك الزمان كذلك الامر بالمهم يقتضى ايجاده فيه لفرض فعليته
فيه، ولا معنى للفعلية الا اقتضاء ايجاد متعلقه فيه خارجا ودعوته إليه، فيلزم من
اجتماع الطلبين في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان، أضف إليه انه لو سلم عدم
كون الامر بالمهم مقتضيا لطرد الأهم فالامر بالأهم لا محالة يقتضى طرد الامر بالمهم،
وهذا يكفي في استحالة طلبه.
ويرد عليه ان الامر بالمهم ان كان مطلقا أو كان مقيدا بالاتيان بمتعلق الأهم كان
لا محالة في عرض الامر بالأهم ووقعت المطاردة بينهما، وكذا لو كان الامر به على تقدير
تقييده بعصيان الأهم مقتضيا لعصيانه وتركه في الخارج بان يكون ترك الأهم من قبيل
قيد الواجب، فإنه يقع المطاردة بينهما، ولكن التقادير كلها خلاف مفروض الكلام، اما
الأولان فواضح واما الأخير، فلما تقدم من أن المدعى كون عصيان الامر بالأهم من قبيل
قيد الوجوب للمهم، وقد مر مستوفى من أن قيد الوجوب يرجع إلى الموضوع، وأيضا قد
عرفت انه يستحيل كون الحكم مقتضيا لوجود موضوعه وناظرا إليه رفعا ووضعا، وعليه
فالامر بالمهم لكونه مقيدا بعصيان الأهم لا يمكن كونه طاردا للامر بالأهم فإنه يكون لا
اقتضاء له بالإضافة إلى اتيان متعلق الأهم وتركه، وبديهي ان مالا اقتضاء له لا يمكن ان
يزاحم ما فيه الاقتضاء.
وعلى الجملة الامر بالمهم من جهة ثبوته على تقدير عصيان الامر بالأهم وترك
متعلقه لا يعقل استناد عصيان الأهم إليه بل هو مستند إلى سوء سريرته فإذا المطاردة
من الجانبين غير متحققه.
واما ما افاده من أن الامر بالأهم يطارد الامر بالمهم فحسب وهذا يكفي
في الاستحالة، فيدفعه ان الامر بالأهم لا نظر له إلى متعلق الامر بالمهم بل انما هو ناظر إلى
موضوعه ومقتضيا، لرفعه، والامر بالمهم يكون ناظرا إلى متعلقه دون موضوعه فكل
منهما يقتضى شيئا لا يكون الاخر مقتضيا له فلا تزاحم بينهما، ولا طرد لأحدهما للاخر،
58

إذ الطرد انما يتصور في صورة المزاحمة، ولا مزاحمة بين ما لا اقتضاء له، وما فيه الاقتضاء
فتدبر فإنه دقيق
الثاني: ما افاده المحقق الخراساني في صدر كلامه، وحاصله ان القول بالترتب بما
انه مبنى على فعلية كلا الامرين في زمان واحد، فلا محالة يستلزم طلب الجمع
بين الضدين، وهو محال.
وجوابه ما تقدم وملخصه ان الامر بالمهم لا يكون متعرضا لعصيان الامر بالأهم
ولا نظر له إليه رفعا ووضعا لكونه مأخوذا في موضوعه، والحكم ويستحيل ان يكون
مقتضيا لوجود موضوعه أو عدمه، والامر بالأهم انما يكون ناظرا إليه ومقتضيا لهدمه و
رفعه، ومن الواضح ان الجمع بين ما لا اقتضاء له وما فيه الاقتضاء لا يستلزم الجمع بل هو
في طرفي النقيض معه، ولذلك لو أمكن الجمع بينهما خارجا لم يقعا على صفة
المطلوبية، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الواجب الأهم دون المهم، وحيث إن
المكلف قادر على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم، فلا مانع من تعلق التكليف به
وعلى الجملة حيث إن الامر بالمهم، ليس مطلقا، ولا مشروطا باتيان الأهم، بل مشروط
بعصيانه ومع ذلك لا يكون ناظرا إليه، فلا يكون ذلك مع الامر بالأهم طلبا للجمع
بين الضدين، نعم يلزم منه الجمع بين الطلبين، ودعوى انه لا يمكن الانبعاث عن
كلا الامرين، مندفعة بان الانبعاث عنهما بنحو الترتب ممكن.
واما ما أجاب به عن هذا الوجه المحقق النائيني (ره) من أن الامرين وان كانا فعليين
حال العصيان، الا انه من جهة اختلافهما رتبة لا يلزم من فعليتهما معا طلب الجمع، إذ الامر
بالأهم في رتبة يقتضى هدم موضوع الامر بالمهم، واما هو فلا يقتضى وضع موضوعه،
وانما يقتضى ايجاد متعلقه على تقدير وجود الموضوع، وحاصله ان ملاك عدم لزوم
طلب الجمع بين الضدين من اجتماع الامرين في زمان واحد، انما هو اختلاف رتبتهما.
فيرد عليه ما تقدم مرارا من أن الأحكام الشرعية ثابتة للموجودات الزمانية ولا اثر
لاختلافهما في الرتبة بعد ما لم يلزم من اختلافهما في الرتبة الاختلاف زمانا، ولذلك جاز
اجتماع الضدين أو النقيضين في رتبة واحدة، كما جاز ارتفاعهما عنها.
59

أضف إليه ما تقدم في بعض المقدمات التي افاده (ره) لتصحيح الترتب، من أن
الامر بالأهم لا يكون متقدما على الامر بالمهم رتبة إذ التقدم الرتبي يحتاج إلى ملاك
غير موجود فيهما.
الثالث: ان المكلف غير قادر على امتثال الخطابين فحيث ان صحة الخطاب
مشروطة بالقدرة على متعلقه، فلا مناص عن الالتزام بوحدة الخطاب، فكيف
يعقل الالتزام بفعلية الخطابين معا.
وفيه: ان الخطابين المترتب أحدهما على عصيان الاخر كل منهما مما
يقدر المكلف على امتثاله حيث إنه يأمر المولى أولا بالأهم، وهو قادر على الاتيان به،
وعلى فرض امتثاله لا امر بالمهم، وعلى فرض عصيانه يأمر بالمهم وهو قادر على امتثاله.
الوجه الرابع: انه لا يمكن الخطاب المولوي، الا فيما يصح ان يعاقب على
مخالفته حتى يمكن ان يصير داعيا إلى المكلف نحو الفعل، لفرض ان داعوية الخطاب
بالنسبة إلى غالب الناس انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب، فإذا لم
يكن الخطاب مستتبعا للثواب على موافقته، ولا العقاب على مخالفته لم يكن خطابا
مولويا، وعلى ذلك فان ترك المكلف امتثال كلا الواجبين معا، فاما ان يلتزم بتعدد
العقاب، أو بوحدته، لا سبيل إلى الأول، إذ كما لا يمكن تعلق التكليف بغير المقدور
كذلك لا يمكن العقاب عليه وبما ان المفروض استحالة الجمع بين المتعلقين فيستحيل
العقاب على تركهما معا، والثاني، ملازم لانكار الترتب وانحصار الامر المولوي بالأهم،
وكون الامر بالمهم ارشادا محضا إلى كونه واجدا للملاك، لعدم معنى
لوجود الامر المولوي الإلزامي وعدم ترتب العقاب على مخالفته.
ويرد عليه، انه خلط بين ان يكون العقاب على ترك الجمع بين الأهم والمهم،
وأن يكون العقاب على الجمع في الترك، بمعنى انه يعاقب على ترك كل منهما في حال
ترك الاخر، والمستحيل هو الأول لأنه غير مقدور دون الثاني.
وان شئت قلت إن العقابين ليسا لعدم الجمع بين المتعلقين، كي يقال انه ممتنع و
كذلك ما يستتبعه، بل على الجمع بين العصيانين وهما مقدوران للمكلف كما تقدم
60

في الجواب عن الوجه المتقدم.
فان قلت إن الإطاعة والعصيان ترتضعان من ثدي واحد، وحيث إن المكلف غير
قادر على إطاعتين فهو لا قدر الا على عصيان واحد، فلا يستحق أكثر من عقاب واحد.
قلت، ان وحدة العصيان وتعدده تابعان لوحدة التكليف وتعدده، وربما لا يكون
هناك في صورة الموافقة الا إطاعة واحدة ولكن في صورة العصيان عصيانات عديدة، كما
في الواجب الكفائي فإنه في صورة الموافقة يطيع شخص واحد، ولا يمكن للجميع
الإطاعة والامتثال لكنه في صورة ترك الجميع هناك عصيانات عديدة بعدد المكلفين
- وبالجملة - بما ان كلا من التكليفين أجنبي عن الاخر، والمكلف قادر على امتثاله في
فرض توجهه، فيوجب مخالفته استحقاق العقوبة على ذلك.
الترتب في مقام الجعل
ثم انه ينبغي التنبيه على أمور: الأول: المشهور بين الأصحاب صحة الصلاة جهرا
في موضع الاخفات، وبالعكس، وصحة الصلاة تماما في موضع القصر، وذهب جماعة
إلى صحة الصلاة قصرا في موضع التمام للمقيم عشرة أيام كل ذلك في فرض الجهل عن
تقصير، وأيضا التزم المشهور، بان الجاهل المقصر في تلك الموارد يستحق العقاب على
مخالفة الواقع وتركه.
ومن هنا وقع الاشكال في الجمع بين هاتين الجهتين، وانه كيف يمكن الحكم
بصحة الماتى به خارجا واجزائه عن الواقع وعدم وجوب الإعادة مع بقاء الوقت،
والحكم باستحقاق العقاب.
وأجابوا عنه بأجوبة: منها: ما نسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء (ره) من الالتزام
بالترتب، بتقريب ان الواجب على المكلف ابتداءا هو الصلاة جهرا، مثلا، وعلى تقدير
تركه وعصيان امره فالواجب هو الاخفات، أو بالعكس فالصحة تكون لامتثال الامر
الثاني، والعقاب على ترك التكليف الأول وعصيانه.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) وغيره بايرادات: أحدها: ان محل الكلام
61

في المقام ما إذا كان التضاد بين المتعلقين اتفاقيا وأما إذا كان التضاد دائميا كمثال الجهر
والاخفات، لكان التنافي في مقام الجعل الذي هو الضابط للتعارض لا في مقام المجعول
الذي هو الملاك في كونه من باب التزاحم، وعلى ذلك فيخرج المثال بذلك عن موضوع
بحث الترتب لا محالة.
وفيه: انه فيما إذا كان التضاد دائميا بما ان التنافي في مقام الجعل ليس لعدم
الملاك، بل لكون التكليفين المتعلقين بالضدين كذلك موجبا للتكليف بالمحال، وهو
انما يلزم إذا كان كل منهما مطلقا، وأما إذا قيد كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الاخر، أو قيد
أحدهما بذلك فلا يلزم التنافي بينهما، فلا محذور في الالتزام بالترتب، غاية الامر الترتب
انما يكون في مقام الجعل بتقييد جعل أحد الحكمين المتعارضين بعصيان الاخر، والترتب
المعنون في كلمات الفقهاء هو الترتب في مقام الفعلية بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان
الأهم.
نعم الترتب في مقام الجعل، كما في المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام الفعلية
بأمرين: أحدهما: ان الترتب في مقام الفعلية لا يحتاج إلى دليل، بل على فرض امكانه لا بد
من البناء على وقوعه كما مر تقريبه، واما الترتب في مقام الجعل، فلا يكفي امكانه في
وقوعه، بل لابد من إقامة الدليل عليه، ولكن الشيخ الكبير يدعى ان الدليل قد دل على
وقوعه في المسألتين، وهو الروايات الصحيحة الدالة على الصحة بضميمة ما دل
على العقاب على مخالفة الواقع. الثاني: ان المأخوذ في موضوع خطاب المهم
في المسألتين هو عدم الاتيان بمتعلق الاخر في حال الجهل لا مطلقا.
الثاني: انه يختص الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث كما تقدم، ويأتي
ولا ثالث لهما في المقام: لان الجهر، والاخفات من الضدين الذين لا ثالث لهما.
وفيه: ان المأمور به هو القراءة الجهرية، أو الاخفاتية، لا الجهر والاخفات
في القراءة، ومن البديهي انهما من الضدين الذين لهما ثالث وهو ترك القراءة.
الثالث: ان مورد الخطاب الترتبي هو ما إذا كان خطاب المهم مترتبا على عصيان
خطاب الأهم كما في مسألة الصلاة والإزالة وهذا لا يمكن في المقام إذ المكلف ان
62

التفت إلى كونه عاصيا للتكليف بالأهم انقلب الموضوع، وان لم يلتفت إلى ذلك فكيف
يعقل ان يكون الحكم المجعول على هذا العنوان محركا للمكلف.
وفيه: انه لم يرد آية ولا رواية دالة على اختصاص الترتب بما إذا قيد الامر بالمهم
بعصيان الامر بالأهم، بل يصح الترتب مع كون المعلق عليه هو مطلق الترك، وهذا العنوان
مما يمكن ان يلتفت إليه الجاهل ولا ينقلب الموضوع.
لا يقال انه لا يمكن الالتزام بذلك في المقام إذ لازمه فعلية التكليف بالثاني، عند
ترك الأول حتى في حال العلم وهو مما لم يلتزم به فقيه.
فإنه يقال، انه بمقتضى الجمع بين النصوص والفتاوى نلتزم بان تركه في حال العلم
خارج عن الموضوع بل الموضوع غيره كما لا يخفى.
وبما ذكرناه يندفع ايراده الرابع على القول بالترتب في المقام بان العصيان لخطاب
يتوقف على فعلية ذلك الخطاب وتنجزه، وفى المسألتين لا يكون الخطاب الواقعي
منجز الفرض الجهل به، - وبعبارة أخرى - المكلف بالاخفات في الواقع إذا اجهر بالقراءة
فاما ان يكون عالما بوجوب الاخفات عليه، أولا، اما الأول، فهو خارج عن محل الكلام:
إذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الاخفات، واما على الثاني
فعصيان وجوب الاخفات وان كان متحققا في الواقع، الا انه من جهة كون التكليف
بالاخفات مجهولا، لا يكون متنجزا، فلا محالة يكون العصيان حقيقة بالنسبة إلى
الخطاب الطريقي الواصل، وهو وجوب التعلم، أو الاحتياط، عند المصادفة، دون الخطاب
الواقعي المجهول.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه، ان الوجه السابق كان مبناه على فقد العلم بالعصيان
وهذا الوجه انما هو لفقد العصيان نفسه.
والجواب عنه ما تقدم من عدم اختصاص الترتب بأخذ العصيان في موضوع
الخطاب بالمهم، بل اخذ المخالفة للتكليف بالأهم فيه.
أضف إليه ما حقق في محله من أن العقاب ليس على مخالفة الوجوب الطريقي
الواصل المصادف للواقع، بل انما هو على مخالفة الواقع، فإنه بعد تنجزه، بوجوب
63

التعلم، أو الاحتياط لا محالة يوجب مخالفته العقاب.
وأورد الأستاذ على كاشف الغطاء، بأنه وردت الروايات ان الواجب على المكلف
في كل يوم خمس صلوات وهي تكفى في ابطال القول بالترتب في المقام.
وفيه: ان الترتب المدعى في المقام انما هو بين وجود القراءة الجهرية، ووجوب
القراءة الاخفاتية، في صلاة واحدة، لا في الصلاتين المشتملة إحداهما على الأولى،
والأخرى على الثانية.
الايراد السادس ان وجوب الصلاة بما انه موسع فلا ينزع عنوان العصيان من تركها
في جزء من الوقت، بل من تركها في مجموع الوقت المضروب لها، وعليه فلا يعقل
تحقق العصيان في أثناء الوقت كي يصير الحكم الثاني فعليا.
والجواب عنه هو الجواب عن الوجه الثالث الذي افاده المحقق النائيني (ره).
ومحصله ان الملاك لامكان الترتب هو كون الواجب المهم في ظرف
عدم الاتيان بالأهم وتركه في الخارج مقدورا للمكلف وعليه فلا يكون تعلق الامر به على
هذا التقدير قبيحا. فالشرط لتعلق الامر بالمهم هو عدم الاتيان بالأهم لا عصيانه، وعلى
هذا بنينا على جريان الترتب في الأوامر الاستحبابية وعدم اختصاصه بالأوامر الالزامية
والتعبير عن ذلك في كلماتهم بالعصيان انما هو للإشارة إلى ما هو شرط في الواقع.
وعلى هذا فلا مانع من الالتزام بالترتب في المسألتين ودفع الاشكال المتقدم به
غاية الامر ان الترتب فيهما يحتاج وقوعه إلى الدليل والدليل موجود وهو الروايات - و
يمكن دفع الاشكال بوجه اخر سيأتي التعرض له.
وقد أجيب عن أصل الاشكال بأجوبة اخر، منها ما افاده الشيخ الأعظم (ره)
من الالتزام، تارة بعدم تعلق الامر بالصلاة الاخفاتية مثلا عند الجهل بالحكم، والعقاب
انما يكون على ترك التعلم، وأخرى بعدم تعلق الامر بالصلاة الجهرية الماتى بها في
حال الجهل بل هي مسقطة للواجب، والمأمور به هو الصلاة الاخفاتية والعقاب يكون
على ترك المأمور به.
ولكن يرد على ما افاده أولا: انه لو سلم كون العقاب على ترك التعلم في
64

موارد المصادفة للواقع وان مر عدم تماميته، لا نسلم ذلك عند عدم المصادفة للواقع
لفرض عدم الحكم الواقعي: ويرد على ما افاده ثانيا ان الظاهر من الروايات كون الماتى به
في حالة الجهل مأمورا به وقد اعترف هو (قده) بذلك.
ومنها: ما افاده المحقق الخراساني وقد نقلنا مع ما أورد عليه وما يمكن ان يورد
عليه في آخر مسألة البراءة والاشتغال.
ويمكن الجواب بوجه آخر وهو عدم تمامية ما هو المنسوب إلى المشهور
من الجمع بين الحكم بالصحة في المسألتين واستحقاق العقاب على ترك الواجب
الواقعي: لان الجاهل بوجوب الاخفات مثلا لو صلى اخفاتا وتحقق منه قصد القربة، فاما
ان يحكم بفساد صلاته عند انكشاف الحال أو يحكم بصحتها، وعلى الأول فمقتضاه
ان الواجب على المكلف تعيينا عند الجهل هو الجهر فلا معنى لاستحقاق العقاب على
ترك الاخفات، ودعوى استحقاقه على ترك التعلم، قد عرفت ما فيه، ودعوى الاجماع
عليه، غريبة لعدم كونه من الأحكام الشرعية، مع أنه غير ثابت لخلو كلمات كثير منهم عن
ذلك وعلى الثاني فلا بد وأن يكون الحكم الواقعي هو التخيير بين الجهر والاخفات،
وبديهي اجزاء الاتيان بأحد طرفي التخيير وعدم استحقاق العقاب على ترك الاخر.
فالمتحصل مما ذكرناه أمران: الأول: انه يمكن الجواب عن الاشكال بالالتزام
بالترتب في مقام الجعل. الثاني: انكار استحقاق العقاب فتدبر فإنه نافع.
التنبيه الثاني والثالث
التنبيه الثاني: لا فرق في امكان الترتب، ووقوعه بين كون شرط الامر بالمهم
عصيان الامر بالأهم، أو ما هو معلول له، فلو حرمت الإقامة في محل، فعصى المكلف
وأقام يتوجه إليه خطاب الصوم، والصلاة تماما، فعلى القول بان قصد الإقامة قاطع للسفر
موضوعا، يكون الامر بالصوم، والصلاة تماما معلقا على الحضر المعلول لعصيان النهى
65

عن الإقامة، وقد مر تفصيل القول فيه.
الثالث: انه كما يمكن الترتب بين الخطابين من طرف واحد، يمكن الترتب بينهما
من طرفين، كما في مثل اجلس في المسجد في الساعة الخاصة ان لم تقرأ القرآن، واقرأ
القرآن ان لم تجلس فيه في تلك الساعة، وما ذكرناه من البرهان لامكانه، وهو عدم لزوم
الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدين وعدم محذور آخر، يقتضى الامكان في الترتب
من الجانبين.
وبما ذكرناه يظهر التنافي بين كلمات الشيخ الأعظم (ره) حيث إنه في آخر مسألة
البراءة والاشتغال في جواب الشيخ الكبير المصحح لصحة عمل الجاهل المقصر في
مسألتي الجهر والاخفات والقصر والاتمام مع استحقاق العقاب على مخالفة الواقع
بالالتزام بالترتب - يصرح بعدم معقولية الترتب - وفى أول بحث التعادل والترجيح في
تعارض الخبرين على القول بالسببية يقول إن مقتضى القاعدة هو التخيير لا التساقط كما في
كل واجبين متزاحمين لم تثبت أهمية أحدهما فإنه يقرب وجه التخيير بالالتزام بوجوب
كل منهما مقيدا بعدم الاتيان بالآخر، وهذا هو حقيقة الترتب من الجانبين بعد فرض
ان الشرط ليس خصوص العصيان بل ترك متعلق الامر الاخر.
الرابع: يعتبر في امكان الترتب القدرة على المهم في ظرف عصيان الامر بالأهم،
أما إذا فرضنا عدم القدرة عليه في ذلك الفرض: لامتناع وجوده كما في المتلازمين
في الوجود، أو لكون وجوده ضروريا كما في الضدين الذين لا ثالث لهما كالحركة
والسكون، فلا يعقل الترتب إذ الامر بالمهم كساير التكاليف مشروط بالقدرة على متعلقه،
فمع عدمها لا سبيل إلى الامر به.
ومن هنا ينشأ اشكال في المثال المعروف للترتب، وهو الصلاة والإزالة، إذ
بعد الشروع في الصلاة الامر بالإزالة فعلى على الفرض، ومقتضى هذا الامر ابطال الصلاة،
ومقتضى الامر بها المضي فيها، والابطال والمضي في الصلاة ضدان لا ثالث لهما وعلى
فرض عدم الابطال المضي قهري لا اختياري فلا يجرى الترتب في هذا المثال.
وفيه أولا: ان المأمور به الأهم ليس هو ابطال الصلاة بل المتعلق هو ذات المبطل و
66

هي الإزالة وهي مع الصلاة من الضدين الذي لهما ثالث، وثانيا: انه لو سلم ان الأهم،
هو الابطال، لكن ليس هو مطلق الابطال، بل الحصة منه التوأمة مع الإزالة، وهي مع الإزالة
من الضدين الذين لهما ثالث كما لا يخفى.
الترتب في المشروط بالقدرة شرعا
الخامس: ان الترتب امكانا ووقوعا، يختص بما إذا كان الخطاب بالمهم غير
مشروط بالقدرة شرعا، والا كما في الامر بالوضوء إذا زاحمه واجب أهم، بان كان له
مقدار من الماء يكفي للوضوء أو حفظ نفس محترمة، فلا يمكن تصحيحه بالترتب إذ
نفس ذلك التكليف يكون معجزا شرعيا، ويوجب صيرورته غير قادر شرعا، لا امتثاله،
- وبعبارة أخرى - نفس خطاب الأهم موجب لاعدام موضوع المهم فإنه بنفسه يوجب
صيرورته غير واجد الذي هو موضوع لوجوب التيمم ويرفع الوجدان الذي جعل
موضوعا لوجوب الوضوء من غير فرق بين صورة الامتثال والعصيان، وعليه فبما ان فعلية
الحكم تتوقف على فعلية موضوعه فلا محالة يستحيل فعلية الحكم في فرض
وجود الرافع لموضوعه، فلا يعقل فعليته في ظرف العصيان ولا يكون الوضوء ذا ملاك
حينئذ لاختصاص الملاك بصورة الوجدان، فلا يصح اتيان الوضوء بداعي الامر و
لا بداعي الملاك في صورة المزاحمة، وان عصى المكلف ذلك التكليف.
وبالجملة بعد اخذ القدرة والوجدان في موضوع حكم، يكون نفس التكليف
الشرعي في مورد المزاحمة رافعا لموضوع ذلك الحكم لكونه معجزا شرعيا، فلا سبيل
إلى الالتزام بالترتب فيه، وهذا بخلاف ساير الموارد التي عرفت ان امتثال المزاحم رافع
للموضوع، لا التكليف نفسه.
وقد حكى عن صاحب الفصول (ره) انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون
في الآنية المغصوبة، أو الذهب، أو الفضة على نحو يحرم عليه الاغتراف منه للوضوء، ولم
يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما
67

يكفيه لغسل الوجه فقط، انه لا مانع من صحة وضوئه حينئذ بالامر الترتبي فإنه يكون
واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية، والثالثة التي يتم بها الغسلات الثلاث
للوضوء، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة، إذا كان مما يستمر عصيانه للإزالة إلى
آخر الصلاة إذ المصحح للامر بالصلاة انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء
منها حال وجوده لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك وتعقبه بالعصيان بالنسبة
إلى الاجزاء اللاحقة.
وفى الوضوء يأتي هذا البيان أيضا إذ القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء
تكون حاصلة عند حصول الغسلة لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة والعصيان
في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين فيجرى
في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) مبتنيا على ما ذكرناه في هذا التنبيه، بأنه فرق بين
باب الوضوء وباب الصلاة إذ الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها
المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة، فلا مانع من الامر الترتبي فيها، واما
في الوضوء فالقدرة المعتبرة فيه انما يكون شرعية ومما لها دخل في الملاك، ولا قدرة
شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المفروضة ولا ملاك له
حينئذ فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي.
أقول: ما افاده صاحب الفصول خلافا للمشهور بين الأصحاب، من بطلان
الوضوء في الفرض تام، وايراد المحقق النائيني (ره) عليه غير صحيح.
وذلك لأنه وان كان لا ريب في اعتبار القدرة شرعا في وجوب الوضوء، ولازمه
عدم الملاك له مع عدم القدرة بخلاف موارد دخل القدرة عقلا، الا ان المعتبر هو القدرة
في ظرف العمل والامتثال، ولذلك لا شبهة في أنه لو فرض تجدد القدرة التكوينية بعد كل
غسلة للغسلة اللاحقة لها، كما لو كان عنده من الماء ما يكفي لغسل وجهه وشرع
في الوضوء رجاءا لنزول المطر، ونزل بعد غسل الوجه وغسل يديه به، أو كان عنده ثلج
يذوب شيئا فشيئا ولم يكن عنده اناء ليجمعه فيه، يجب عليه الوضوء ولا ينتقل وظيفته
68

إلى التيمم.
وإذا انضم إلى ذلك أمران: أحدهما: ان الشرط المتأخر ممكن، فلا مانع من كون
القدرة حين الغسلة الأخيرة شرطا لوجوب الوضوء من أول غسل الوجه ثانيهما: امكان
الترتب، يستنتج من ذلك صحة الوضوء بالماء المأخوذ من تلك الاناء بالاغتراف لان
المكلف بعد اغترافه الماء يقدر على الوضوء بمقدار غسل الوجه، وبما انه بان على
ارتكاب المحرم ثانيا وثالثا إلى أن يتم الوضوء يعلم بطرو التمكن والقدرة عليه من غسل
ساير الأعضاء، وعليه فلا مانع من الالتزام بثبوت الامر به مترتبا على عصيانه.
وأولى من ذلك صورة عدم انحصار الماء في الأواني المزبورة إذ يصح الوضوء
بالاغتراف من الأواني حتى على القول باعتبار القدرة الفعلية على الغسلات الثلاث، وعدم
كفاية القدرة التدريجية لفرض ان المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل وحتى على
القول باستحالة الترتب إذ غاية ما هناك انه بسوء اختياره قد ارتكب فعلا محرما، ولا
يضر ذلك بصحة وضوئه بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحا.
وأيضا أولى من ذلك صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء في ظرف آخر إذ
يصح الوضوء حينئذ بالاغتراف على جميع هذه المباني، نعم، الوضوء من تلك الأواني
بنحو الارتماس إذا صدق عليه التصرف فيها، أو بصب الماء منها على الأعضاء بحيث كان
غسل الأعضاء متحدا وجودا مع التصرف فيها يكون فاسدا، لان المحرم لا يمكن ان
يكون مصداقا للمأمور به، وحيث إن الوضوء بنفسه محرم فيمتنع ان ينطبق الواجب عليه.
فقد انقدح حكم جميع صور الوضوء من تلك الأواني.
كما أنه ظهر بطلان ما عن المشهور من بطلان الوضوء في صورة انحصار الماء
فيها، ولم يفرغ الماء من الاناء دفعة وكان الوضوء بالاغتراف منها تدريجا، وان ما افاده
صاحب الفصول (ره) من الصحة هو الأظهر.
والغريب ما افاده السيد الفقيه الطباطبائي (قده) قال إذا انحصر ماء الوضوء
أو الغسل في إحدى الآنيتين، فان أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب، والأسقط
وجوب الوضوء أو الغسل ووجب التيمم وان توضأ أو اغتسل فيها بطل... سواء اخذ الماء
69

منهما بيده أو صب على محل الوضوء بهما أو ارتمس فيهما، وان كان له ماء آخر أو
أمكن التفريغ في ظرف آخر، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى أيضا البطلان.
فإنه لا يمكن الموافقة على ما افاده بوجه، ولا يمكن ان يذكر لما افاده وجه،
سوى دعوى صدق التصرف في الاناء على الوضوء منها ولو بالاغتراف، فيكون منهيا عنه
فلا يمكن ان يقع مصداقا للمأمور به، فلا مناص عن البناء على البطلان في جميع
الفروض.
وهو توهم غير صحيح إذ الوضوء منها بالاغتراف لا ينطبق عليه العنوان المنهى عنه
إذ المأمور به هو صب الماء على الوجه واليدين وهو ليس تصرفا فيها والمنهى عنه هو
اخذ الماء من تلك الأواني ومع تعدد الوجود والفرض عدم سراية الحكم من متعلقه إلى
مقارناته ولوازمه الاتفاقية لاوجه لأعمال قاعدة اجتماع الأمر والنهي، بل
المتعين الرجوع إلى قاعدة باب التزاحم.
التنبيه السادس
أفاد المحقق النائيني (ره) انه إذا كان خطاب الأهم استمراريا فقد يكون العلم به
قبل الشروع في امتثال خطاب المهم، وقد يكون بعد الشروع فيه، وان كان قبل الشروع
فتدور صحة خطاب المهم ابتداءا واستدامة مدار القول بالترتب، وان كان بعده وكان
الواجب مما لا يحرم قطعه فكذلك، واما ان كان مما يحرم قطعه كما إذا علم بتنجس
المسجد بعد الشروع في الصلاة الفريضة، فلا يتوقف بقاء خطاب المهم على القول
بالترتب إذ إزالة النجاسة انما كانت أهم من الصلاة لأجل فوريتها وسعة وقت الصلاة فإذا
شرع فيها وحرم قطعها على الفرض لم يبق موجب لتقدم خطاب الإزالة على خطابها فلا
يتحقق حينئذ عصيان خطاب الإزالة ليكون الامر باتمام الصلاة متوقفا على جواز الترتب
فالامر باتمامها يكون متقدما على الخطاب الإزالة لا محالة.
70

ولكن يرد عليه ما حققناه في محله من أنه لا دليل على حرمة قطع الصلاة
سوى الاجماع والمتيقن منه غير المقام. أضف إليه انه لو سلم لدليل حرمة القطع اطلاق
شامل للمقام وكان لدليل وجوب الإزالة أيضا اطلاق وقعت المزاحمة بينهما فيحكم
بالتخيير، ولا وجه لما في تقريرات المحقق الكاظمي من أن امتثال الامر بالإزالة انما
يكون على القول بالترتب، نعم إذا كان لدليل حرمة القطع اطلاق، ولم يكن دليل
وجوب الإزالة مطلقا. تم ما افاده.
بيان حقيقة التزاحم
ثم إن المحقق النائيني (ره) ذكر للتزاحم أقساما، وجعل كل قسم عنوانا لمسألة
وبحث فيها عن جريان الترتب فيه وعدمه، ونحن نتبعه في ذلك.
وتنقيح القول بالبحث في جهات: الأولى: في بيان حقيقة التزاحم. الثانية: في بيان
أقسامه. الثالثة فيما تقتضيه القاعدة في باب التزاحم وبيان مرجحات ذلك الباب. الرابعة:
في البحث عن جريان الترتب وعدمه.
واما بيان حقيقة التعارض، وما تقتضيه القاعدة فيه، ومرجحات باب التعارض
فموكول إلى باب التعادل والترجيح.
كما أن البحث في أنه في موارد عدم القدرة على اتيان جميع اجزاء المركب
الاعتباري المأمور به، ولزوم ترك بعضها غير المعين هل المحكم هو قواعد باب التزاحم
كما هو المشهور، أم يتعين اعمال قواعد باب التعارض، موكول إلى كتاب الصلاة، وقد
أشبعنا الكلام فيه في الجزء الرابع من كتابنا فقه الصادق، وكيف كان فالبحث في المقام في
جهات:
الأولى: في بيان حقيقة التزاحم، أقول: التزاحم على نوعين: الأول: التزاحم بين
الملاكات بان يكون في فعل مقدار من المصلحة يقتضى ايجابه، ومقدار من المفسدة
يقتضى تحريمه، أو مقدار من المصلحة يقتضى استحبابه ومقدار من المفسدة يقتضى
71

كراهته، أو كانت مصلحة في فعل، ومصلحة أخرى في فعل آخر مضاد له، أو كانت
المصلحتان في فعلين متضادين بحيث لم يمكن استيفائهما معا، وهكذا.
وبديهي ان الامر في هذه الموارد بيد المولى، وعليه ان يلاحظ الملاكات ويقدم ما
هو الأهم والأقوى ويجعل الحكم على طبقه، ولا ربط لذلك بالعبد بشئ فان وظيفته
امتثال أوامر المولى والخروج عن عهدة الاحكام من دون ملاحظة جهات المصالح
والمفاسد، بل لو زعم أن المولى قد اشتبه عليه الامر كما قد يتفق ذلك في الموالى العرفية
فجعل الوجوب مثلا مع أنه لا مصلحة فيه، لم يكن له بمقتضى العبودية مخالفة
ذلك الامر.
أضف إلى ذلك أنه ليس للعبد طريق إلى احراز جهات المصالح والمفاسد في
متعلقات الأحكام الشرعية مع قطع النظر عن ثبوتها، وهذا النوع من التزاحم غير مربوط
بنا ولا يكون في مقابل التعارض.
النوع الثاني: تزاحم الاحكام بعضها مع بعض، في مقام الامتثال والفعلية ومنشأه
عدم قدرة المكلف على امتثال كلا التكليفين معا، - وبعبارة أخرى - مورد هذا التزاحم ما
إذا لم يكن بين جعل الحكمين معا على موضوعيهما الذي يكون بنحو القضية الحقيقية
بلا تعرض لحال موضوعه وجودا وعدما، تمانع وتناف كما في جعل وجوب انقاذ
الغريق، وحرمة التصرف في مال الغير، في ما لو توقف الأول على الثاني، بل التنافي
والتمانع انما هو في مرتبة فعلية الاحكام وزمن امتثالهما.
توضيح ذلك: انه قد مر مرارا ان لكل حكم مرتبتين، الأولى مرتبة الجعل
والانشاء، وهي جعله لموضوعه على نحو القضية الحقيقية من دون تعرض له لحال
موضوعه. الثانية: مرتبة الفعلية وهي تتحقق بفعلية موضوعه في الخارج، وعلى هذا
فحيث انه من شرائط التكليف القدرة على امتثاله فيلزم من عدم القدرة عدم الفعلية، و
عليه فإذا ورد حكمان، فان لم يمكن اجتماع الملاكين كما في موارد اجتماع الأمر والنهي
على القول بالامتناع، أو علم من الخارج عدم أحد الحكمين، أو كان الحكمان مما لا
يتمكن المكلف من امتثالهما معا ابدا كما في الامر بالضدين خصوصا إذا كانا مما لا ثالث
72

لهما، لا محالة يقع التنافي بينهما في مقام الجعل، فهو داخل في باب التعارض.
وان كان بحيث لم يكن هناك تناف في مقام الجعل كما في وجوب انقاذ الغريق
وحرمة التصرف في مال الغير، وكما في الصلاة مع الإزالة، ضرورة ان هذا المقدار
من التنافي الاتفاقي بالنسبة إلى شخص ما لا يمنع من جعلهما على نحو القضية الحقيقية
إذ المانع المتوهم ليس الا عدم القدرة على امتثالهما معا فيكون جعلهما لغوا ومن الواضح
انه لا يوجب ذلك باعتبار كونه تنافيا اتفاقيا، والموجب له انما هو التنافي الدائمي بالنسبة
إلى جميع المكلفين كما هو الحال في الضدين حيث إنه لا يمكن للشارع ايجابهما
بنحو الاطلاق معا، فإنه لغو محض، وصدوره من الحكيم محال، بل التنافي انما يكون
في مرتبة الفعلية لان فعلية كل من الحكمين المتزاحمين تأبى عن فعلية الاخر لاستحالة
فعلية كليهما معا، إذ القدرة الواحدة لا تفي الا باعمالها في أحدهما ولا تكفى للجمع
بينهما في مقام الاتيان والامتثال فلا محالة كان اختيار كل منهما موجبا للعجز عن الاخر
فينتفى الحكم الاخر بانتفاء قيده وهو القدرة على القول باشتراطها من دون ان يوجب
ذلك تصرفا في دليله.
وعلى الجملة ان باب التعارض انما هو فيما لو كان تمانع وتناف بين جعل
الحكمين بنحو القضية الحقيقية.
اما من ناحية المبدأ حيث إن المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة أو الغالبة عليها
والمفسدة كذلك متضادتان لا يمكن اجتماعهما في شئ واحد، وكذلك الإرادة
والكراهة بالنسبة إلى متعلق واحد.
واما من ناحية المنتهى لعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين ولزوم
التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم كما إذا وجب القيام
دائما والقعود كذلك.
أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال
المشرق، وحرم استدبار المغرب، أو غير ذلك مما لا يمكن الجمع بين الحكمين ثبوتا.
وأما إذا لم يكن بينهما التنافي لامن ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى ولم يلزم
73

من جعلهما، اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة في متعلق واحد ولا يلزم
التكليف بما لا يطاق، كوجوب صلاة الفريضة، ووجوب إزالة النجاسة عن المسجد، فلا
يكون هناك مانع من جعلهما معا.
وبعبارة أخرى - إذا لم يكن بين الحكمين تناف في مقام الجعل والتشريع، بل
كان بينهما كمال الملائمة وانما نشأ التنافي في مقام فعلية كليهما وتحقق موضوعهما
خارجا اتفاقا فهو باب التزاحم، فالملاك للدخول في باب التزاحم هو ان يكون التضاد
بين المتعلقين اتفاقيا وكان منشأه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة
الامتثال اتفاقا بعد ما كان قادرا على الاتيان بكل واحد من الفعلين في نفسه مع قطع النظر
عن الاخر ولم يقدر على الجمع بينهما صدفة.
فالمتحصل، ان المنشأ الأساسي لوقوع التزاحم بين الحكمين جعل الشارع كلا
الحكمين في عرض واحد، ولازمه اقتضاء كل منهما لامتثاله في عرض اقتضاء الاخر له،
وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مرحلة الامتثال اتفاقا، فإذا تحقق
هذان الأمران تحققت المزاحمة بينهما، وإذا انتفى أحد الامرين لا مزاحمة أصلا.
ثم إن للمحقق النائيني (ره) كلا ما في المقام وهو ان التزاحم قد ينشأ من شئ
آخر لا من عدم قدرة المكلف، ومثل له بما إذا صار المكلف واجدا للنصاب الخامس
من الإبل الذي يجب فيه خمس شياه ثم بعد انقضاء ستة أشهر مثلا ملك ناقة أخرى،
فحصل النصاب السادس، الذي يجب فيه بنت مخاض. فان المكلف وان كان قادرا على
دفع خمس شياه بعد انقضاء ستة أشهر من ملكه للنصاب الخامس، وعلى دفع بنت
مخاض بعد مضى حول النصاب السادس، الا ان قيام الدليل على أن المال الواحد لا يزكى
في عام واحد مرتين، أوجب التزاحم بين الحكمين.
ولكن يرد عليه ان قيام الدليل المذكور، يوجب العلم بتقييد، ما دل على وجوب
خمس شياه على من ملك النصاب الخامس، ومضى عليه الحول، أو ما دل على وجوب
بنت مخاض على من ملك النصاب السادس ومضى عليه الحول فيقع التعارض بين
اطلاقي الدليلين ولا ربط لذلك بباب التزاحم، وكانه تخيل اختصاص باب التعارض
74

بتعارض الدليلين رأسا ولا يشمل تعارض اطلاقيهما.
اقسام التزاحم
الجهة الثانية: في بيان اقسام التزاحم، فقد ذكر المحقق النائيني (ره) أقساما خمسة
للتزاحم، وذكر ان منشأ التزاحم أمور خمسة:
الأول: تضاد المتعلقين بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد بحيث لا
يمكن للمكلف فعلهما، كما في الصلاة، والإزالة.
الثاني: عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين، مع اختلاف زمانهما، كما
إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى، والثانية معا، بل كان قادرا على القيام في
إحداهما فقط، والفرق بين هذا القسم، وسابقه، هو ان عدم القدرة في هذا القسم ناش عن
عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين، وفى سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان
المتعلقين، من دون ان يكون المكلف عاجزا لولا اتحاد الزمان.
الثالث: تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم كما إذا وجب استقبال القبلة و
حرم استدبار الجدي مع تلازمهما في بعض الأمكنة.
الرابع: ما إذا كان الحرام مقدمة للواجب فيما إذا لم يكن التوقف دائميا، كما إذا
توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه.
الخامس: موارد اجتماع الأمر والنهي، فيما إذا كان هناك ماهيتان اتحدتا
في الخارج نحو اتحاد كالصلاة والغصب بناءا على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم
من الطبيعة إلى مشخصاتها.
ولا يهمنا البحث في أنه ما ذا يكون اثر هذا التقسيم وانه لا يترتب على اية ثمرة، و
يكون نظير تقسيم ان التزاحم، قد يكون بين وجوبين، وقد يكون بين تحريمين وقد
يكون بين وجوب وتحريم وهكذا.
وأيضا لا يهمنا البحث في رجوع بعض هذه الأقسام إلى بعض، مثلا مورد جواز
75

اجتماع الأمر والنهي، الذي هو المورد الخامس للتزاحم، يرجع إلى الثالث.
بيان ما يقتضيه القاعدة في هذا الباب ومرجحاته
الجهة الثالثة: في بيان ما يقتضيه القاعدة في باب التزاحم، ومرجحات هذا الباب.
فالكلام في موردين: الأول: فيما تقتضيه القاعدة، وقد مر مفصلا انها تقتضي التخيير،
إذ المانع عن فعلية الحكمين المتزاحمين انما هو عدم القدرة على امتثالهما وعليه، فبما
ان المكلف قادر على اتيان كل منهما عند ترك الاخر يتعين عليه بحكم العقل البناء على
وجوب كل منهما مقيدا بعدم اتيان الاخر، وان شئت فقل، ان التزاحم ليس بين
أصل الخطابين، بل التزاحم بين اطلاق كل منهما بالنسبة إلى صورة الاتيان بمتعلق الاخر،
مع اطلاق الاخر كذلك، وحيث إن الضرورات تتقدر بقدرها فتعين حينئذ تقييد كل
من الاطلاقين، فتكون النتيجة هو التخيير وعليه فإذا اتى بأحدهما سقط التكليفان،
أحدهما بالامتثال، والاخر بارتفاع موضوعه وقد مر اعتراف الشيخ الأعظم (ره) بذلك
أيضا فراجع ما قدمناه.
المورد الثاني: في مرجحات باب التزاحم، وقد ذكر المحقق النائيني لهذا الباب
مرجحات.
ترجيح مالا بدل له على ماله بدل
الأول: كون أحد الواجبين مما ليس له بدل والاخر مما له بدل، وأفاد هذا يتحقق
في أحد موردين:
أحدهما: ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في عرضه، كما لو زاحم واجب موسع له
افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له كما في مزاحمة وجوب الإزالة الذي هو فوري مع
وجوب الصلاة في سعة وقتها، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب
76

تعييني، كما إذا كان لشخص عشرة دنانير، ودار أمرها بين ان يصرفها في مؤنة من تجب
عليه مؤنته، وبين ان يصرفها في كفارة شهر رمضان، حيث إن لكفارة شهر رمضان بدلا و
هو صوم شهرين متتابعين، فإنه لا اشكال في تقدم مالا بدل له على ماله البدل.
بل قد مر ان هذا في الحقيقة خارج عن التزاحم، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر
البدوي إذ مالا اقتضاء فيه لا يمكن ان يزاحم ماله اقتضاء، لان دليل الواجب التخييري أو
الموسع لا يقتضى لزوم الاتيان بخصوص الفرد المزاحم، بخلاف دليل الواجب المضيق
أو المعين.
المورد الثاني: لهذا المرجح، ما إذا كان لاحد الواجبين بدل في طوله دون الاخر
كما لو زاحم وجوب الوضوء مع وجوب انجاء النفس المحترمة من الهلاكة.
ومثل لذلك بمثالين، أحدهما ما إذا وقع التزاحم بين الامر بالوضوء والامر بتطهير
البدن أو اللباس للصلاة فبما ان الوضوء له بدل وهو التيمم فلا يمكن مزاحمة امره مع
امر التطهير فيقدم رفع الخبث ويكتفى بالصلاة مع الطهارة الترابية.
ثانيهما: ما إذا دار الامر بين ادراك تمام الركعات في الوقت مع الطهارة الترابية و
ادراك ركعة واحدة مع الطهارة المائية، ثم أورد على نفسه: بان ادراك ركعة واحدة
في الوقت بدل عن تمام الصلاة فيه فيكون الدوران بين واجبين لكل منهما بدل، وأجاب
عنه بان بدلية ادراك الركعة الواحدة عن تمام الصلاة في الوقت انما هي على تقدير العجز
عن ادراك تمام الصلاة فيه وقد فرضنا قدرة المكلف على ادراك تمامها فيه فلا موجب
لسقوط التكليف باتيان تمام الصلاة في وقتها فيجب الاتيان بتمام الصلاة في وقتها مع
الطهارة الترابية.
أقول: ما ذكره في المورد الثاني من الكبرى الكلية تام إذ كل مورد ثبت فيه البدل
شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة، لأنه لا معنى لجعل شئ بدلا
طوليا لشئ الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشئ وحيث إن التفصيل قاطع
للشركة فلازمه تقييد ذلك الواجب بالتمكن والقدرة، سواء صرح في لسان الدليل بذلك
كآية التيمم أو لم يقع التصريح به في لسان الدليل، فتكون كما صرح به.
77

واما المثالان الذان ذكرهما فلا تكون هذه الكبرى منطبقة عليهما لوجهين: الأول:
ما حققناه في كتابنا فقه الصادق في الجزء الرابع، من أن موارد دوران الامر بين الواجبين
الضمنيين من موارد التعارض، لا التزاحم، فان التنافي حينئذ بين الجعلين لا الفعليين فراجع
ما حققناه.
الثاني: انه في المثالين لكل من الواجبين بدل، اما في الأول فلان الصلاة مع اللباس
النجس أو عاريا بدل عن الصلاة مع الطهارة الخبثية واما في الثاني فلما أورده (قده) على
نفسه، وجوابه عنه غير تام، إذ التيمم أيضا يكون بدلا عن الوضوء في صورة العجز
عن الطهارة المائية - وبعبارة أخرى - انه ان لوحظ كل من الواجبين في نفسه وبالإضافة إلى
الصلاة التامة الاجزاء والشرائط، فهو عاجز عنه، فلا يصح ان يقال انه متمكن من الصلاة
أربع ركعات في الوقت مع الطهارة الترابية فلا يكون عاجزا، إذ يصح ان يعكس حينئذ
فيقال انه متمكن من الصلاة في الوقت بادراك ركعة منها فيه مع الطهارة المائية فلا ينتقل
الفرض إلى التيمم.
تقديم المشروط بالقدرة العقلية
المرجح الثاني: ما إذا كانت القدرة في أحد الواجبين شرطا شرعيا، وفى الاخر
شرطا عقليا. والمراد بكون القدرة شرطا شرعيا هي ما اخذت في لسان الدليل كما في
الحج والوضوء، فيقدم ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا على ما يكون مشروطا بالقدرة
شرعا.
وقد أفاد المحقق النائيني (ره) في وجه ذلك، ان غير المشروط بها يصلح لان
يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها، ولا عكس، حيث إن وجوبه لا يكون مشروطا
بشرط سوى القدرة العقلية والمفروض انها حاصلة فالمقتضى لوجوبه موجود و
هو اطلاق الدليل والمانع مفقود، فلا بد من البناء على وجود المقتضى بالفتح، ومعه
يخرج ما كان مشروطا بالقدرة شرعا عن تحت سلطانه وقدرته شرعا للزوم صرف قدرته
78

في ذلك، والممنوع شرعا كالممنوع عقلا، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب لانتفاء شرطه
وهو القدرة، والحاصل ان ما يكون مشروطا بالقدرة عقلا بنفسه معجز مولوي، فيكون
رافعا لموضوع ما يكون مشروطا بالقدرة شرعا ولا عكس.
وهو (قده) لم يستند في وجه التقديم إلى أن ملاك الواجب المشروط بالقدرة
عقلا تام، فلا مانع من ايجابه وهو يمنع عن ثبوت الملاك للواجب، بل ذكر ذلك من
آثار الوجه الذي قدمناه.
فلا يرد عليه ما أورده الأستاذ، من أنه لا طريق لنا إلى كشف الملاك، مع أن تقديم
أحد المتزاحمين على الاخر، بمرجح لا يرتكز بوجهة نظر مذهب دون اخر فلا بد من ذكر
وجه يعم حتى مذهب الأشعري المنكر لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
ثم انه أورد على نفسه بأنه ربما يختلج بالبال انه لا طريق لنا إلى كشف عدم تقييد
المتعلق بالقدرة شرعا، وانه لا يمكن التمسك بالاطلاق لنفيه وذكر في وجه ذلك أمورا،
وقد قدمناها مع نقدها عند التعرض لطريق كشف الملاك في أوائل مبحث الضد فراجع.
الترجيح بالمتقدم زمانا
ثم انه في موارد هذه المرجحات، لا يلاحظ الأهمية، ولا السبق واللحوق الزماني.
واما لو فرض تساوى المتزاحمين في هذه المرجحات، بان كان كل منهما
مشروطا بالقدرة عقلا أو مشروطا بالقدرة شرعا، وكان الواجبان مضيقين، وتعينيين،
فتصل النوبة إلى الترجيح بالسبق واللحوق، والأهمية والمهمية.
وتفصيل القول في ذلك أنه إذا تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات
المتقدمة، فاما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة شرعا، أو يكون كل منهما مشروطا
بالقدرة عقلا.
اما في المورد الأول وهو ما كانت القدرة في كل منهما شرطا شرعيا، فيقدم فيه ما
كان بحسب الزمان متقدما، بان تقدم زمان امتثاله، كما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب
79

صوم يوم الخميس ووجوب صوم يوم الجمعة، بان نذر صوم اليومين ولم يقدر الا على
اتيان أحدهما، أو كان زمان امتثالهما متحدا ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما، كما لو
وقعت المزاحمة بين وجوب الحج ووجوب الوفاء بالنذر، فيما لو نذر في شهر رمضان
المبيت ليلة عرفة في مشهد الحسين (ع)، وبعد ذلك عرض له الاستطاعة (وفى المثال
كلام سيأتي) وفى مثل ذلك لا يلاحظ أهمية المتأخر، بل يكون السابق متقدما مطلقا.
والوجه في التقديم واضح، فان زمان فعلية وجوب السابق يكون قادرا عليه عقلا
وشرعا لعدم فعلية الاخر ليكون مانعا ومعجزا شرعيا وهو حينئذ يكون معجزا بالنسبة
إلى متعلق الاخر ومانعا عن فعلية موضوعه، ومع عدمها لا يعقل فعلية الحكم، ولا
يلاحظ الأهمية فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين وتحقق الموضوعين ومع فرض
عدم القدرة الا على أحدهما لا يكون هناك الا ملاك واحد ولا يصير من الموضوعين
فعليا الا واحد فلا معنى للرجوع إلى الأهمية.
ثم إن المحقق النائيني (ره) ذكر ان هذا المرجح انما يكون مرجحا فيما إذا لم
يكن هناك جهة أخرى توجب تقديم أحد الواجبين ولو كان متأخرا عنه زمانا، ومثل
لذلك بالمثال المتقدم إذ النذر وان كان سابقا زمانا على أشهر الحج ولكن من جهة اشتراط
وجوب الوفاء بالنذر، بعدم استلزامه تحليل الحرام أيضا، والوفاء بالنذر في المثال يستلزم
ترك الواجب في نفسه مع قطع النظر عن تعلق النذر به، فلا يشمله أدلة وجوب الوفاء به،
فإذا ينحل النذر بذلك، ويصير وجوب الحج فعليا رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر
وملاكه.
وأورد عليه بايرادات: 1 - ان هذه المسألة غير مربوطة بما هو محل الكلام وهو
كون كل من الواجبين مشروطا بالقدرة شرعا، لعدم كون دليل وجوب الوفاء بالنذر
مشروطا بها.
وفيه: ان وجوب الوفاء تابع لما التزم به المكلف على نفسه وما التزم به المكلف
على نفسه هو المقدور فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة، وخطاب الوفاء متأخر عن
الالتزام، فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود
80

الخطاب، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا.
2 - عدم اخذ القدرة في دليل وجوب الحج، لان موضوعه وان كان
هو الاستطاعة، الا انها فسرت الاستطاعة في الاخبار بالزاد والراحلة، فلا يكون اعتبارها فيه
شرعيا.
وفيه أولا: انه في جملة من الاخبار اخذ عدم مزاحمة تكليف آخر معه من
قيود الاستطاعة، لا حظ صحيح الحلبي عن الإمام الصادق (ع) إذا قدر الرجل على ما يحج
به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام (1). فان
المستفاد منه ان كل عذر رافع للفرض، وبديهي ان الوفاء بالنذر عذر شرعي فيكون رافعا
له، وثانيا، ان النصوص المفسرة للاستطاعة في مقام بيان اعتبار قيود فيها، ولا نظر لها إلى
عدم اعتبار نفس الاستطاعة بما لها في المفهوم.
3 - ان دليل وجوب الوفاء بالنذر يصلح رافعا لملاك الحج وموضوعه، ومانعا
عن وجوبه: لان ملاك النذر تام لا مانع منه سوى وجوب الحج فيشمل دليله الفرض وبه
تنتفي الاستطاعة، وبتبعه يرتفع الوجوب.
وفيه: ان مانعية وجوب الوفاء بالنذر عن وجوب الحج دورية: فان فعلية وجوب
الوفاء، متوقفة على عدم التكليف بالحج، والا يلزم منه تحليل الحرام، فلو كان
عدم التكليف بالحج من ناحية فعلية وجوب الوفاء لزم الدور.
4 - ما استدل به لتقديم النذر في المثال على ما أفتى به المشهور، وهو ان النذر
حين انعقاده لم يكن مانع عنه فينعقد فيجب الاتيان بالمنذور، وهو يصلح مانعا عن
تحقق الاستطاعة لان المانع الشرعي كالمانع العقلي فلا يجب الحج.
وفيه: انه بعد اعتبار عدم كون النذر محللا للحرام في وجوب الوفاء لا مجال لما
أفيد فان المعتبر عدم كونه محللا في ظرف العمل لا حين النذر.
فالمتحصل، مما ذكرناه تمامية ما افاده المحقق النائيني (ره) فيقدم دليل وجوب

1 - وسائل باب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه حديث 3.
81

الحج في المثال، ويعضده ما افاده الأستاذ قال إن وجوب الوفاء بالنذر لو كان مانعا عن
تحقق الاستطاعة وسقوط وجوب الحج عن المكلف للزم امكان التخلص عن وجوب
الحج بكل نذر يضاد متعلقه للاتيان بمناسك الحج في ظرفها مع أن ذلك يقطع
ببطلانه انتهى.
حكم المتزاحمين لمشروط كل منهما بالقدرة
وإذا فرضنا ان الواجبين المتزاحمين، المشروط كل منهما بالقدرة شرعا،
غير الممتاز أحدهما عن الاخر بثبوت البدل له خاصة، لم يسبق أحدهما على الاخر زمانا،
واتحدا من حيث الزمان، فهل يقدم الأهم كما اختاره الأستاذ، أم لا يكون هناك مورد
للترجيح بالأهمية كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) وجهان:
استدل للثاني: بان الترجيح بالأهمية انما يكون فيما إذا كان كل من الواجبين،
واجدا للملاك التام فعلا كما سيمر عليك، وفى مثل المقام بما ان كلا من التكليفين
مشروط بالقدرة شرعا، والمفروض انه لا قدرة للمكلف على امتثال كلا الخطابين، فلا
محالة يكون أحد الخطابين واجدا للملاك دون الاخر، والأهمية على تقدير وجود
الملاك في طرف لا تكون كاشفة عن وجود الملاك في ذلك الطرف، دون الطرف الآخر
، فلعل الملاك عند المزاحمة فيه، لا في الطرف الذي لو فرض تحقق الملاك فيه
لكان أهم من غيره.
وبعبارة أخرى: بما ان كلا من الخطابين مشروط بالقدرة شرعا، ولها دخل فيه وفى
ملاكه، يمكن ان يكون كل منهما رافعا للملاك في الطرف الآخر، من دون فرق بين
تساوى الملاكين، وكون أحدهما أهم من الاخر على فرض تحققه، وكون أهمية الملاك
على تقدير وجوده كاشفة عن وجوده وفعليته، دون ملاك الطرف الآخر، دون اثباته
خرط القتاد.
وأورد عليه الأستاذ بان شرط فعلية ملاك الواجب المفروض كونه أهم من غيره، و
82

هي القدرة عليه متحقق وجدانا إذ المفروض كونه مقدورا عقلا، وعدم المنع من صرف
القدرة فيه شرعا، فلا وجه لتفويت المولى الملاك الأهم بعدم الامر به، وهذا بخلاف
الواجب الاخر، فإنه وان كان مقدورا عقلا، الا ان الزام المولى بصرف القدرة في غيره،
يوجب عجز المكلف عن ايجاده وسالبا لملاكه.
ويرد عليه، ان مفروض الكلام باب التزاحم، وهو عدم التنافي في مقام الجعل و
كون التمانع في مقام الفعلية، وأيضا المفروض ان فعلية كل منهما توجب ارتفاع ملاك
الاخر وعلى ذلك ففرض فعلية ما ملاكه على فرض وجوده أهم، دون الاخر مع أن
نسبة القدرة التي هي شرط في فعلية كل منهما على حد سواء غريب، ولا ربط لهذا الباب
بما افاده من أنه لا وجه لعدم الامر بما ملاكه أهم فالتحقيق هو التخيير مطلقا.
ثم انه اختار المحقق النائيني (ره) كون التخيير شرعيا كشف عنه العقل، فان
كلا من الواجبين إذا كان واجد الملاك الزامي في ظرف القدرة عليه كما هو المفروض
ففي فرض التزاحم يكون أحدهما لا بعينه ذا ملاك الزامي، فلابد للمولى من ايجابه،
ضرورة انه لا يجوز للحكيم ان يرفع يده عن تكليفه بالواحد لا بعينه، مع فرض وجدانه
للملاك الإلزامي، بمجرد عجز المكلف عن الاتيان بكلا الفعلين، فلا محالة يوجب
المولى أحد الفعلين لا بعينه.
وأورد عليه الأستاذ، بأنه إذا كان المفروض قدرة المكلف على كل من الواجبين
في نفسه وفى ظرف ترك الاخر، وان الشارع لم يلزمه بأحدهما المعين لأنه بلا مرجح،
فلابد ان يكون كل منهما واجدا للملاك في ظرف ترك الاخر، ولازم ذلك تعلق الامر
بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر، فالتخيير يكون عقليا لا شرعيا.
وفيه: ان هذا الوجه يتم فيما إذا كانت القدرة شرطا عقليا، واما على فرض كونها
شرطا شرعيا، فلا يتم إذ قوله كل منهما مقدور في ظرف ترك الاخر، غير تام، لأنه وان
كان مقدورا عقلا، الا انه غير مقدور شرعا وهو واضح، فالأظهر كون التخيير حينئذ
شرعيا بالتقريب الذي افاده المحقق النائيني (ره)
83

الترجيح بالأهمية
واما المورد الثاني: وهو ما كان كل من الواجبين مشروطا بالقدرة عقلا، فقد يكون
أحدهما أهم، وقد يحتمل أهميته، وقد يكونان متساويين - فهيهنا فروض الأول، ما إذا
كان أحدهما أهم من الاخر - فلا كلام ولا اشكال في أنه يقدم الأهم سواء كان الأهم
مقارنا زمانا مع المهم، أو سابقا عليه، أو متأخرا عنه، اما في الأولين فواضح: لان المهم
بالنسبة إلى الأهم يكون من قبيل المستحب بالنسبة إلى الواجب، فكما ان المستحب لا
يصلح ان يزاحم مع الواجب كذلك المهم لا يصلح لان يزاحم الأهم، وان شئت قلت إن
العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان مستقل بتقديم الأهم - وبعبارة أخرى -
ان التكليفين المتزاحمين لا يمكن ثبوتهما معا، ولا سقوطهما كذلك لكونه بلا موجب،
فيدور الامر بين سقوط المهم، دون الأهم وبالعكس، والثاني غير معقول لكونه ترجيحا
للمرجوح على الراجح، فيتعين الأول.
واما في الصورة الأخير: فلان الأهم وان كان متأخرا زمانا، الا ان ملاكه تام في
ظرفه على الفرض، اما من جهة ان الواجب المعلق ممكن فيستكشف من الوجوب الفعلي
تمامية الملاك أو من الاستفادة من الخارج، كما في حفظ النفس المحترمة وحفظ
بيضة الاسلام، وأمثال ذلك على القول باستحالة الواجب المعلق كما عليه المحقق
النائيني (ره) وعلى كل تقدير يجب حفظ القدرة عليه في وقته لئلا يفوت.
إذ العقل كما يستقل بقبح تفويت الواجب الفعلي كذلك يستقل بقبح تفويت
الملاك الملزم في ظرفه، وعليه فحيث ان اتيان المهم فعلا يوجب تفويت ملاك الأهم
في ظرفه، فلا يجوز فيكون وجوب حفظ القدرة عليه في زمانه الذي يحكم به العقل
معجزا للمكلف بالإضافة إلى امتثال المهم بالفعل.
وعلى الجملة العقل الحاكم بالتقديم لا يفرق بين الموردين، فلو فرضنا انه
دار الامر بين حفظ مال المؤمن في يوم الخميس، أو حفظ نفسه في يوم الجمعة
84

يكون الثاني مقدما.
الثاني: ما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية، فيكون هو المقدم وقد مر في الامر
الثالث الذي قدمناه على مسألة الترتب ما هو الوجه في ذلك، فراجع.
الثالث: ما إذا لم يكن أحدهما أهم ولا محتمل الأهمية فهل يكون السبق زمانا
موجبا للترجيح أم لا؟ فلو فرضنا ان ظالما حكم بقتل انسان في يوم الخميس وانسان آخر،
في يوم الجمعة ويقبل شفاعة المكلف اما في يوم الخميس أو يوم الجمعة، فهل يكون
ذلك من المرجحات أم لا؟ فقد بنى المحقق النائيني (ره) ذلك على القول بان التخيير
بين المتزاحمين المتساويين، هل يكون عقليا، أم يكون شرعيا؟ إذ على الأول حيث إن
مبناه القول بالترتب وتقييد اطلاق كل من الخطابين، بعدم الاتيان بالآخر، لابد من البناء
على الترجيح به، لان التكليف بالمتقدم هو الذي يكون فعليا، دون المتأخر، لان سقوط كل
من التكليفين المتزاحمين بناءا عليه، لا يكون الا بامتثال الاخر، وبما ان امتثال التكليف
بالمتأخر متأخر خارجا لتأخر متعلقه فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه،
فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل، واما على القول بالتخيير الشرعي ومبناه سقوط
الخطابين، واستكشاف خطاب آخر من الملاكين وحيث انه (قده) يختار الأول، فيرى
ذلك من المرجحات.
أقول الظاهر عدم كون ذلك من المرجحات، اما على القول بامكان الشرط المتأخر
فلانه لا مانع من تقييد اطلاق خطاب السابق بترك الاخر في ظرفه، واما على ما اختاره
من امتناعه فحيث انه (قده) يرى عدم الفرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي، و
تفويت الملاك الملزم في ظرفه فكما يحكم بقبح الأول، يحكم بقبح الثاني، فلا محالة
لابد له من البناء على التخيير بالتقريب المتقدم، فلا يكون السبق زمانا من المرجحات،
فمع تساوى المتزاحمين من حيث الأهمية يحكم بالتخيير مطلقا، اللهم الا ان يقال انه
على فرض احتمال مرجحية السبق الزماني فحيث ان تقييد اطلاق خطاب المتأخر متيقن
وتقييد السابق مشكوك فيه، فالأصل يقتضى بقاء اطلاقه فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.
واما على فرض التساوي فالحكم هو التخيير، واما الكلام في كون التخيير شرعيا
85

كما ذهب إليه المحقق صاحب الحاشية، والمحقق الرشتي، أم يكون عقليا كما ذهب إليه
المحقق النائيني، فقد تقدم في الامر الثالث من الأمور التي قدمناها على مسألة الترتب، و
قد عرفت ان الثاني أقوى نظرا إلى أن التنافي ليس بين الخطابين بل بين اطلاقهما، فلا بد من
التقييد ولا وجه لرفع اليد عن أصل الخطاب لان الضرورات تتقدر بقدرها ولازم ذلك
هو التخيير العقلي فراجع.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الترجيح بالسبق انما هو في صورة كون التكليفين
مشروطين بالقدرة شرعا، والترجيح بالأهمية فيما لو كانا مشروطين بها عقلا، دون شرعا،
كما أن التخيير في الصورة الأولى شرعي، وفى الصورة الثانية عقلي، هذا تمام الكلام في
تزاحم الحكمين المستقلين.
واما الكلام في التمانع بين التكليفين الضمنيين فموكول إلى محل آخر وقد
تعرضنا له في كتاب فقه الصادق الجزء الرابع في مبحث القبلة.
الترتب في الحكمين الطوليين
الجهة الرابعة: في جريان الترتب في ساير اقسام التزاحم غير ما إذا كان التضاد
بين الواجبين اتفاقيا، وقد عرفت انها أربعة، فالكلام في مسائل أربع:
الأولى: ما إذا كان منشأ التزاحم قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون
ان يكون بين المتعلقين تضاد ولو اتفاقيا لاختلاف زمانهما - وبعبارة أخرى - إذا وقعت
المزاحمة بين واجبين طوليين يكون كل منهما مشروطا بالقدرة عقلا وكان المتأخر أهم
وقدمناه.
فقد وقع الكلام بين القائلين بامكان الترتب في أنه، هل يمكن الالتزام بالترتب و
تعلق الامر بالمتقدم مترتبا على عصيان الامر المتعلق بالواجب المتأخر، أم لا؟ اختار
المحقق النائيني (ره) الثاني.
ومحصل ما افاده في وجه ذلك: ان الخطاب الترتبي، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى
86

نفس الخطاب المتأخر، أو يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه وهو وجوب التحفظ
لقدرته للواجب المتأخر المستكشف من حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم ولزوم
تحصيله.
فان كان الأول فاما ان يكون الشرط هو عصيان الخطاب، أو يكون هو عنوان
التعقب بالعصيان، أو العزم على العصيان. والأول: أي كون الشرط هو عصيان الخطاب
المتأخر، يستلزم محذورين، أحدهما: الالتزام بالشرط المتأخر وقد مر انه غير معقول.
ثانيهما: انه لا يجدى في رفع المزاحمة فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر،
ولو كان أهم، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه وهو لزوم حفظ القدرة له، ومعلوم
انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة لعدم
سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا
يوجب سقوط خطاب - احفظ قدرتك - فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها
وخطاب احفظ قدرتك موجب للتعجيز عن المتقدم، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة
وجوب حفظ القدرة للمتأخر.
واما الثاني: وهو كون الشرط عنوان التعقب - فيرد عليه أولا - ان ذلك يدور مدار
قيام الدليل عليه ولم يقم من غير جهة اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية
دليل على ذلك، فيكون الالتزام بالترتب في المقام على خلاف القاعدة من غير دليل
يقتضى ذلك. وثانيا: ان ذلك لا يوجب رفع محذور طلب الجمع وصيرورة المهم مقدورا
بواسطة هذا التقييد مع فرض الخطاب الفعلي بحفظ القدرة للواجب المتأخر المفروض
كونه الأهم ومعجزا عن الواجب المتقدم.
واما الثالث: وهو كون الشرط العزم على العصيان فهو مستلزم لطلب الجمع
بين الضدين.
واما الرابع: وهو لحاظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب احفظ قدرتك، فان
كان الشرط هو العزم والبناء على عصيان خطاب الحفظ لزم طلب الجمع بين الضدين، و
ان كان الشرط نفس العصيان المتحقق بصرف القدرة فيرد عليه ان عدم حفظ القدرة لا
87

يكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة عليه وذلك الفعل الوجودي اما نفس
الواجب المتقدم أو فعل آخر أو الجامع بينهما. وان كان الأول يلزم طلب الحاصل وان
كان الثاني يلزم تعلق التكليف بالممتنع: فإنه مع صرف قدرته في المتقدم باتيانه يكون
طلبه طلب الحاصل، ومع صرفه في فعل آخر يتعذر عليه الواجب المتقدم، وان
كان الثالث يلزم كلا المحذورين.
ولا يقاس المقام بالصلاة والإزالة فان ترك الإزالة ممكن بدون الصلاة وفعل
آخر - واما عدم حفظ القدرة فلا يمكن بدون فعل ما فتدبر.
أقول في كلماته (قده) مواقع للنظر: الأول: ما افاده من أن كون الشرط هو عصيان
خطاب الأهم، يلزم منه الالتزام بالشرط المتأخر، وهو محال. فإنه يرد عليه: ما تقدم منا
من امكانه غاية الامر وقوعه في الخارج، يحتاج إلى دليل، وهو في المقام موجود، وهو
عدم جواز رفع اليد عن أصل التكليف، إذا أمكن التحفظ عليه بنحو من الأنحاء،
وفى المقام يمكن التحفظ عليه على نحو الالتزام بالشرط المتأخر.
الثاني: ما افاده من أن شرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل، وهو مفقود
في المقام، وانما التزمنا به في اشتراط التكليف بالقدرة في الواجبات التدريجية كالصلاة و
نحوها، من جهة ان استمرار العصيان عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا
يمكن الا بكون الشرط عنوان التعقب لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية.
فإنه يرد عليه انه على القول باستحالة الشرط المتأخر، نفس الدليل الدال
على الترتب، وهو انه إذا أمكن الترتب واشتراط أحدهما بعدم الاتيان بمتعلق الاخر كان
مقتضى الدليل الالتزام بذلك ولا موجب لرفع اليد عن أصل الخطاب، يدل على شرطية
عنوان التعقب في التدريجيات، ضرورة انه إذا أمكن طلب المهم مشروطا بتعقبه بترك
الواجب المتأخر الأهم، فلا موجب لرفع اليد عن أصل الخطاب وانما اللازم هو رفع اليد
عن اطلاقه بمقدار يرتفع به التزاحم، أعني به اطلاقه بالإضافة إلى حال امتثال الواجب
المتأخر في ظرفه.
وبعبارة أخرى: ان كون أحد الخطابين مشروطا بترك امتثال الاخر لم يرد في لسان
88

دليل من الأدلة كي نقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره، بل انما هو من ناحية
حكم العقل بعدم امكان تعلق الخطاب بفعلين متضادين الا على هذا التقدير، وعليه فإذا
لم يمكن في مورد تقييد اطلاق الخطاب بالمهم بترك امتثال خطاب الأهم من جهة
استلزامه القول بالشرط المتأخر يستقل العقل بتقييده بالعزم عليه، أو بعنوان التعقب بعين
هذا الملاك.
الثالث: ما افاده من أن شرطية العزم تستلزم طلب الجمع بين الضدين.
فإنه يرد عليه انه لو كان العزم بحدوثه خاصة شرطا لفعلية الامر بالمهم، فلا محالة
يلزم ذلك، إذ بعد حدوثه يصير الامر بالمهم فعليا ومطلقا كالأمر بالأهم، لكنه غير
صحيح، بل كما يلتزم بان الشرط في مورد كونه العصيان هو العصيان المستمر نلتزم،
بان الشرط هو الاستمرار على العزم لا حدوث العزم آنا ما.
الرابع: ما افاده من أن عصيان وجوب حفظ القدرة اما ان يتحقق بصرف القدرة
في المهم أو بصرفها في فعل آخر إلى آخر ما أفاد.
فإنه يرد عليه ان ترك التحفظ على القدرة للواجب المتأخر، ان كان عين صرفها
في الواجب المتقدم المهم، أو صرفها في شئ آخر كان لما افاده وجه، ولكن الامر ليس
كذلك لان التحفظ عبارة عن ابقاء القدرة على حالها، وعدم أعمالها في شئ وهو ملازم
هنا لترك المهم، وعدم الاتيان به في الخارج، ومعنى ترك التحفظ عدم ابقائها على
حالها، وهو ملازم في المقام لفعل المهم أو لفعل آخر، لا انه عينه فيكون نظير الإزالة
والصلاة.
الخامس: ما افاده من أنه لو كان الشرط هو عصيان خطاب الأهم أو عنوان التعقب
أو العزم على العصيان لما كان يجدى في رفع المحذور لان وجوب حفظ القدرة له
معجز عن الاتيان بالمهم، فلا يكون معه قادرا عليه شرعا.
فإنه يرد عليه أولا النقض بوجوب الأهم إذا كان مقارنا مع المهم زمانا بعد فرض
عدم سقوط الوجوب بعصيانه، وثانيا بالحل وهو ان نفس وجود الخطاب لا يكون مانعا
إذ ليس المحذور الجمع بين الطلبين بل المحذور كله، في طلب الجمع بين الضدين، وهو
89

انما يكون إذا كان في عرضه لا في طوله، وعلى نحو الترتب لما مر مفصلا من
عدم التنافي بين مقتضى الامرين كذلك. أضف إلى ذلك كله ان وجوب حفظ القدرة ليس
وجوبا شرعيا مولويا، بل وجوبه عقلي، وحيث انه واقع في سلسلة معلول الحكم فلا
يكون مستتبعا لحكم شرعي، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه وبين وجوب المهم
إذ لا شان للوجوب العقلي سوى ادراكه حفظ القدرة للواجب الأهم فالمزاحمة انما هي
بين وجوب المهم ووجوب الأهم وهي ترتفع بالالتزام بأحد الأمور المتقدمة.
فالمتحصل مما ذكرناه امكان الترتب هنا أيضا، بالالتزام باشتراط وجوب السابق
بعصيان خطاب المتأخر، وعلى فرض عدم امكان الشرط المتأخر بتقييده بالعزم على
عصيانه المستمر، أو عنوان التعقب به فتدبر فإنه حقيق به.
جريان الترتب في المقدمة المحرمة
الثانية: إذا وقعت المزاحمة بين المقدمة وذيها، فهل يجرى الترتب فيها، أم لا؟ و
ملخص القول فيها ان المقدمة تارة تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض
الغير لانقاذ الغريق، وأخرى تكون مقارنة في الوجود لذيها كتوقف أحد الضدين على
ترك الاخر بناءا على كونه مقدمة له، فالكلام في مقامين:
اما الأول: فإذا فرضنا ان الواجب المتوقف على الحرام أهم منه وقدمناه فلا اشكال
في سقوط حرمة المقدمة في فرض الاتيان بالواجب، انما الكلام في أنه على فرض
العصيان هل تكون المقدمة حراما من باب الترتب أم لا؟
والمحذور المتوهم للترتب في خصوص المقام أمران: أحدهما: ان الامر الترتبي
في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة والوجوب والحرمة
متضادان لا يمكن اجتماعهما. الثاني: ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول
90

بالشرط المتأخر، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في خصوص
المقام حتى نرجعه إلى وصف التعقب.
ولكن يندفع الأول، أولا: بما تقدم مستوفى من اختصاص الوجوب المقدمي
بالمقدمة الموصلة. وثانيا: ان الوجوب الغيري التبعي غير الناشئ عن ملاك مستقل لا
يصلح لمعارضة الحكم النفسي الذي صححناه معلقا على عصيان الواجب النفسي الأهم،
وان شئت قلت إن وجوب المقدمة وجوب عقلي، وعليه فلا معنى لوقوع المزاحمة بينه و
بين الحرمة إذ لا شأن للوجوب العقلي الا ادراكه انه لابد للاتيان به تحفظا على الواجب
النفسي الأهم فعلى فرض عصيانه وعدم الاتيان به لا محالة لا يصلح لمعارضة الحرمة
النفسية.
ويندفع الثاني بما مر من امكان الشرط المتأخر أولا، وانه لا مانع من الالتزام بكون
الشرط هو عنوان التعقب بعصيان الأهم في ظرفه، أو العزم على عصيانه ثانيا: إذ لا موجب
لرفع اليد عن اطلاق دليل الحرمة بالإضافة إلى حال التعقب أو العزم عليه وحيث إن
الضرورات تتقدر بقدرها، فاللازم هو رفع اليد عن اطلاق الدليل بمقدار يقتضيه
الضرورة وهو في غير تلك الحالة.
واما في المقدمة المقارنة فالكلام فيها قد تقدم في أول مبحث الضد مستوفى فلا
نعيد.
جريان الترتب في موارد اجتماع الأمر والنهي
الثالثة: إذا وقعت المزاحمة بين الأمر والنهي كما في موارد اجتماعهما بناءا
على القول بالجواز وكون التركيب بينهما انضماميا، ووقوع المزاحم بينهما فهل يجرى
الترتب هناك أم لا؟ قولان:
ذهب المحقق النائيني (ره) إلى الثاني. نظرا إلى أن عصيان النهى في مورد
الاجتماع كالنهي عن الغصب اما ان يكون باتيان فعل مضاد للصلاة المأمور بها مثلا كأن
91

يشتغل بالاكل، واما ان يكون بنفس الاتيان بالصلاة، وعلى التقديرين، لا يمكن جريان
الامر الترتبي، لان الأول مستلزم لطلب الجمع بين الضدين والثاني مستلزم لطلب الحاصل
وان التزم بكون الشرط هو الأعم، لزم كلا المحذورين، وان التزم بان الشرط هو العزم
على الغصب لا نفسه، لزم الامر بالضدين على الوجه المحال.
ولكن يرد عليه انه لا يلزم من الالتزام بكون الامر بالصلاة مشروطا بعصيان النهى
عن الغصب على القول بكون التركيب انضماميا لا اتحاديا، المحذور الأول: إذ الشرط هو
الكون في الأرض المغصوبة، وهو غير الصلاة وغيرها من الافعال الوجودية الاخر، ولذا
لو فرض خلو المكلف عن جميع تلك الأفعال الخاصة، ومع ذلك كان تصرفا في مال
الغير وغصبا.
وان شئت قلت إن المكلف قادر على الصلاة عند كونه في الأرض المغصوبة وان
فرض كونه في ضمن أحد الافعال المزبورة لفرض كونه قادرا على تركه والاشتغال
بالصلاة، نعم لو كان الكون في الأرض المغصوبة، عين أحد الافعال المزبورة، وكان
التركيب اتحاديا تم ما أفيد، الا انه خارج عن مورد التزاحم، ويدخل في باب التعارض، و
تمام الكلام في مبحث اجتماع الأمر والنهي.
عدم جريان الترتب في المتلازمين
الرابعة: إذا كان التزاحم ناشئا من ملازمة وجود الواجب، لوجود الحرام اتفاقا، كما
إذا فرضنا حرمة استدبار الجدي المستلزمة ذلك لوقوع التزاحم بينها وبين وجوب
استقبال القبلة بالنسبة إلى أهل العراق وما سامته من النقاط، فلا ريب في كون ذلك من
باب التزاحم، فيرجع فيه إلى قواعد ومرجحات ذلك الباب، فان كان لأحدهما مرجح
يقدم، والا فيحكم بالتخيير.
وهل يمكن جريان الترتب في هذا المورد، أم لا؟ الظاهر هو الثاني كما ذهب إليه
المحقق النائيني (ره) إذ لا يعقل ان يكون حرمة استدبار الجدي مثلا مشروطا بعدم
92

استقبال القبلة وعصيان الامر به، لان ترك استدبار الجدي حينئذ قهري، فالنهي عنه لغو
محض وطلب للحاصل فلا يصدر من الحكيم، وكذلك لا يعقل ان يكون وجوب
استقبال القبلة مشروطا بعصيان النهى عن استدبار الجدي والآتيان بمتعلقه، فان استقبال
القبلة حينئذ ضروري الوجود فلا يعقل الامر به من الحكيم، فالمتحصل عدم امكان
الترتب بين المتلازمين لا من جانب واحد ولا من جانبين.
وقد ظهر من مجموع ما ذكرناه جريان الترتب في الأقسام الأربعة من اقسام
التزاحم بين الحكمين، وعدم جريانه في خصوص القسم الأخير.
واما موارد التزاحم بين الملاكين، فقد عرفت انه داخل في باب التعارض ولا
معنى للنزاع في جريان الترتب فيها، وعليك بالتأمل التام فيما حققناه.
امر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
الفصل السادس: في جواز امر الآمر بشئ مع علمه بانتفاء شرطه وعدمه، وذكر
المحقق الخراساني (ره) في الكفاية انه لا يجوز لان الشرط من اجزاء العلة فيستحيل ان
يوجد الشئ بدونه، الا ان يكون المراد من لفظ الامر، الامر ببعض مراتبه وهو مرتبة
الانشاء، ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخر وهو الفعلية، فيكون النزاع في أن
امر الآمر يجوز انشائه مع علمه بانتفاء شرط فعليته، وعدم بلوغه تلك المرتبة فاذن لا
اشكال في جوازه بل وقوع ذلك في الشرعيات والعرفيات: لان الامر الصوري إذا كان
الداعي له الامتحان أو نحوه لا البعث والتحريك حقيقة واقع في العرف والشرع.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) بأنه لا يجوز الامر بشئ مع العلم بانتفاء
شرط الفعلية، إذ الانشاء بداع البعث مع العلم بانتفاء شرط الفعلية غير معقول للغوية
وبداع آخر لا يترقب منه البلوغ إلى مرتبة البعث الجدي، فلا مورد لدعوى العلم بانتفاء
شرطها، ولا يدخل في العنوان، وبلا داع محال.
وأفاد المحقق النائيني (ره) ان هذه المسألة باطلة من أصلها لا في القضية الحقيقية
93

ولا في القضية الخارجية، اما في الأولى فلان فعلية الحكم فيها منوطة بالموجود
الخارجي ويستحيل تخلفها عنه وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجبني عن ذلك، واما
في الثانية فلان الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم وهو تمام العلة له، والوجود الخارجي و
عدمه أجنبيان عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور.
وملخص القول في المقام انه حيث يكون لكل حكم مرتبتان، مرتبة الجعل، و
مرتبة المجعول فيقع الكلام، تارة في شرائط الجعل وأخرى في شرائط المجعول.
اما الكلام في الأولى: فبما ان الجعل فعل اختياري للمولى وكل فعل اختياري
مسبوق بالإرادة بما لها من المقدمات فانتفاء الجعل بانتفاء شرطه من الواضحات، ولم
ينقل النزاع فيه عن أحد، إذ بديهي ان جعل الحكم معلول للإرادة ومباديها ومشروط
بها، واستحالة وجود المعلول بدون وجود علته التامة ظاهرة.
فجعل المحقق الخراساني ذلك محل الكلام غير سديد، كما أن ما ذكره من
الجواز إذا لم يكن الامر بداعي البعث والتحريك بل كان بداعي الامتحان ونحوه، غير
مربوط بما هو محل الكلام، لان محل البحث في الجواز وعدمه هو الأوامر الحقيقية،
والا ففي الأوامر الصورية التي ليس الداعي فيها البعث فلا اشكال ولا كلام في جوازه.
واما في الثانية: أي شرائط المجعول ففي خصوص القدرة من تلك الشرائط
على القول بدخلها في الفعلية لا في التنجز، يكون المخالف هو الأشاعرة فإنهم التزموا
بجواز الامر بغير المقدور، واما في غيرها فحيث عرفت في بحث الواجب المطلق
والمشروط ان كل قيد اخذ مفروض الوجود في مقام الجعل يستحيل فعلية الحكم بدون
فعليته ووجوده في الخارج.
فان أريد من الامر هو الحكم الفعلي، فامتناعه واضح لأنه يرجع إلى فعلية الحكم
مع عدم فعلية موضوعه.
وان كان المراد منه هو الانشاء والجعل كما هو الظاهر، فالظاهر هو التفصيل بين
القضية الخارجية والقضية الحقيقية، والالتزام بعدم الامكان في الأولى والامكان في الثانية.
اما عدم الامكان في الأولى فلانه في القضايا الخارجية انما يجعل الحكم على
94

الموضوع الموجود الخارجي، فمع فرض العلم بانتفاء الموضوع، لا يعقل الحكم عليه
بنحو القضية الخارجية.
واما الامكان في الثانية فلان القضية الحقيقية عبارة عن جعل الحكم
على الموضوع المقدر وجوده، وهذا لا ينافي عدم تحقق الموضوع خارجا إلى الأبد، فإنه
حكم على تقدير وجود الموضوع. نعم، يعتبر في صحته ان يترتب على مثل هذا الجعل
اثر، والا يلزم اللغوية، ويكفي في الخروج عن ذلك ما إذا فرضنا ان الجعل بنفسه يمنع عن
تحقق الموضوع، ويتصور ذلك في الاحكام المجعولة قصاصا، ونحوها: مثلا إذا فرضنا
ان جعل القصاص المترتب على القتل العمدي أوجب عدم تحقق القتل في الخارج، أو
وجوب الحد للزاني، أوجب، عدم تحقق الزنا في الخارج، وما شاكل ذلك ومن المعلوم انه
مضافا إلى أنه لا مانع من مثل هذا الجعل تقتضيه المصلحة العامة.
نعم، إذا فرضنا ان امتناع الشرط لم يكن مستندا إلى الجعل بل كان من ناحية
أخرى، كما إذا امر بشئ على تقدير الصعود إلى السماء يكون ذلك لغوا وصدوره من
الحكيم محال، وحيث إن محل الكلام هي القضايا الحقيقية، فصح ان يقال انه يجوز
امر الآمر بشئ مع علمه بانتفاء شرطه، والحكم بعدم الجواز نشأ من الخلط بين القضايا
الخارجية والحقيقية.
وبذلك يندفع ايراد المحقق الأصفهاني (ره) بان الانشاء بداعي البعث مع العلم
بانتفاء شرطه غير معقول للغوية: لما عرفت من عدم لزوم اللغوية لو كان انتفاء الشرط
مستندا إلى الجعل وهو الذي أوجب عدم تحققه في الخارج.
كما أنه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) إذ النزاع في المسألة ليس في دخل
علم الآمر بوجود الموضوع، أو بعدم وجوده في فعلية الحكم ليتم ما افاده، بل النزاع في أن
جعل الحكم في القضية الحقيقية للموضوع المقدر وجوده مع علم الجاعل بعدم
تحقق الموضوع في الخارج هل يجوز أم لا؟ وقد عرفت ان هذا النزاع معقول، نعم، في
بعض موارده يكون الجعل لغوا، - وبعبارة أخرى - ان النزاع ليس في فعلية الحكم مع علم
الحاكم بانتفاء موضوعه خارجا بل انما هو في جواز أصل جعل الحكم
95

وقد يقال بترتب ثمرة على هذه المسألة، وهي انه على القول بجواز الامر بشئ
مع العلم بانتفاء شرطه، تجب الكفارة على من أفطر في نهار شهر رمضان مع عدم تمامية
شرائط وجوب الصوم له إلى الليل، كما إذا أفطر أولا ثم سافر، أو وجد مانع آخر
من الصوم كالمرض أو نحوه، فإنه مأمور حينئذ بالصوم فيشمله ما دل على وجوب
الكفارة على الصائم إذا أفطر ولا تجب الكفارة بناءا على عدم جواز الامر مع انتفاء
شرطه عليه حينئذ.
وفيه: ان المعنى المعقول لما هو محل الكلام غير مرتبط بما ذكر، بل وجوب
الكفارة في المثال وعدمه مبنيان على أن الموضوع له، هل هو الافطار في زمان يجب عليه
الامساك ولو لم يكن صوما، فيجب الكفارة لو أفطر، أم يكون هو الافطار في حال كونه
صائما حقيقة فلا تجب.
والظاهر أنه إلى ذلك نظر الأستاذ حيث قال إن وجوب الكفارة مترتب على الافطار
العمدي في نهار شهر رمضان بلا عذر مسوغ له سواء أطرأ عليه مانع من الصوم بعد ذلك
أم لم يطرأ، ولكن لم افهم مراده من قوله وذلك لاطلاق الروايات الدالة عليه، فان كان
نظره إلى روايات الكفارة فهي مختصة بالافطار حال كونه صائما، وان كان إلى غيرها فلم
يصل إلينا رواية فضلا عن الروايات.
واما ما افاده المحقق النائيني (ره) من ابتناء وجوب الكفارة في هذا الفرض على أن
وجوب الصوم، هل ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الآنات، أو هو تكليف واحد
مشروط بشرط متأخر وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب، وعلى الثاني فهل لنا
تكليف آخر بامساك بعض اليوم في خصوص ما إذا ارتفع شرط الوجوب بالاختيار أو
مطلقا، أم لا؟ فهو ليس مبنى هذه المسألة بل هو مبنى وجوب الامساك قبل طرو المانع و
عدمه.
هل الأوامر متعلقة بالطبايع أو الافراد
الفصل السابع: في أن الأوامر هل هي متعلقة بالطبايع أو الافراد، وحيث إن
96

هذا النزاع بظاهره لا معنى له إذ لا يتوهم أحد تعلق الامر بالموجود الخارجي لأنه مسقط
للامر فلا يعقل تعلقه به، ولا تعلق الامر بالطبيعة الصرفة ومن حيث هي مع قطع النظر عن
حيثية انطباقها على الموجود الخارجي، فلا بد لنا من تحرير محل النزاع في المقام أولا ثم
بيان ما هو الحق فيه ثانيا.
فأقول: ان محل النزاع يمكن ان يكون أحد أمور:
أحدها: ان المتعلق هو وجود الطبيعي أو الفرد، ويكون هذا النزاع مبتنيا على مسألة
امكان وجود الطبيعي في الخارج، وامتناعه، فمن يقول بتعلق التكليف بالفرد، انما يكون
قائلا بامتناع وجود الطبيعي في الخارج ففرارا عن تعلق التكليف بغير المقدور، يلتزم
بتعلقه بالفرد، ولا يكون لازم قوله دخول لوازم التشخص في المكلف به.
ولازم القول بتعلق التكليف بالفرد كون التخيير شرعيا دائما بخلاف تعلقه
بالطبيعة فإنه يستلزم كون التخيير عقليا.
فما ينقله المحقق النائيني (ره) عن بعض الأساطين من تفسير تعلق الامر بالافراد
بانكار التخيير العقلي بين الافراد الطولية والعرضية، وان التخيير بينها يكون شرعيا دائما
بخلاف تعلقه بالطبيعة فإنه يكون عقليا يكون نظره إلى ذلك.
ولا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني (ره) من استبعاد احتياج تعلق الطلب بشئ
إلى تقدير كلمة أو بمقدار افراده العرضية والطولية، مع عدم تناهيها غالبا، مضافا إلى أن
وجود التخيير العقلي في الجملة مما تسالم عليه الجميع ظاهرا: فإنه يندفع بأنه انما يدعى ان
متعلق التكليف في الواقع هو الافراد، والا ففي ظاهر الدليل اخذت الطبيعة في المتعلق
مشيرا إلى الافراد فالتخيير العقلي بلحاظ ظاهر الدليل في قبال ما صرح به في لسان الدليل
فتدبر.
ثانيها: ان المتعلق هو الوجود، أو الماهية ويكون النزاع حينئذ مبنيا على مسألة
فلسفية أخرى من أن الأصل في التحقق هو الوجود أو الماهية، فمن جعله الوجود قال بتعلق
التكليف به، وهو المراد بتعلقه بالفرد، ومن جعله الماهية قال بتعلق التكليف بالماهية
والطبيعة، والمحقق الأصفهاني (ره) يقول إن ظني ان المراد بتعلق الامر بالطبيعة أو الفرد
97

يكون أحد هذين الوجهين، وأيضا يقول ولعل ذهاب المشهور إلى تعلق الامر بالطبيعة
لذهاب المشهور من الحكماء والمتكلمين إلى أصالة الماهية وتعلق الجعل بها.
ثالثها: ان متعلق الطلب هل هو صرف وجود الطبيعة العاري عن جميع الأمور التي
لا تنفك عن الوجود خارجا كالاعراض الملازمة مع الوجود الجوهري التي يطلق عليها
المشخصات بضرب من المسامحة والعناية، والا فالتشخص انما يكون بالوجود، ولذا
قالوا الشئ ما لم يوجد لم يتشخص، أم يكون المتعلق تلك المشخصات أيضا، ولا
يكون الامر واقفا على نفس الوجود السعي - وبعبارة أخرى - يكون النزاع في أن الامر
بالشئ، هل يكون أمرا بما لا ينفك في الوجود عنه، أم لا؟ وقد اختار المحققان
الخراساني والنائيني ان محل النزاع ذلك.
وقد أورد على كون المتعلق هو الوجود، سواء أكان هو وجود الطبيعة أو الفرد،
بان الوجود الخارجي مسقط للامر وعلة لعدمه، فلا يعقل ان يكون معروضا له، فان
المعروض مقتض لعارضه، لا انه علة لعدمه، مع أنه يلزم طلب الحاصل، أضف إليه ان
كثيرا ما يكون الطلب والتكليف موجودا، ولا يوجد ذلك الشئ في الخارج فكيف
يكون متعلقا به، وبعبارة أخرى - يلزم بقاء العارض بلا معروض، بل الامر والتكليف
يكون موجودا قبل وجود متعلقه، وهو معلول له فكيف يكون معروضه.
وأجاب عنه المحقق الخراساني في الكفاية، بان معنى تعلقه بالوجود، ان الطالب
يريد صدور الوجود من العبد وجعله بسيطا الذي هو مفاد كان التامة وإفاضته.
ويرد عليه ان المحقق في محله، ان الايجاد والوجود متحدان ذاتا، والتغاير بينهما
اعتباري، فإذا امتنع تعلقه بالوجود امتنع تعلقه بالايجاد.
وأجاب عنه بعض المحققين بان المراد ان الطلب يتعلق بالطبيعة وقد جعل
وجودها غاية لطلبها.
وأورد عليه في الكفاية بان الطبيعة بما هي هي ليست الا هي لا يعقل ان يتعلق
بها الطلب لتوجد أو تترك، وانه لابد في تعلق الطلب من لحاظ الوجود، أو العدم معها.
ولكن يرد على ما في الكفاية ان كون الطبيعة من حيث هي خالية عن جميع
98

الأوصاف، كما لا ينافي حمل موجودة، أو معدومة عليها بالحمل الشايع، كذلك لا ينافي
عروض وصف المطلوبية لها، فلا منافاة بين كون الصلاة في حد ذاتها لا مطلوبة ولا غير
مطلوبة، وبلحاظ تعلق الطلب بها مطلوبة.
وحق القول في الجواب عن ذلك وعن أصل الايراد ان متعلق الغرض و
ما فيه المصلحة بما انه هو الوجود، لا الطبيعة من حيث هي، فليست هي متعلقة الامر
والشوق، وحيث إن الامر والشوق لا يتعلقان، بما هو الموجود من جميع الجهات كمالا
يخفى فلا يتعلقان به، فلا محالة يتعلقان بالطبيعة الملحوظة بما انها خارجية بمعنى انها
تلاحظ فانية في الخارج ومرآة وآلة له، بحيث لا يلتفت إلى مغايرتها للخارج، ولا يرى
في هذا اللحاظ سوى الموجود الخارجي الذي هو منشأ انتزاعها.
وان شئت قلت إن الشوق كالعلم لا يتشخص الا بمتعلقه، ولكن طبيعة الشوق من
الطبايع التي لا تتعلق الا بما له جهة فقدان وجهة وجدان، إذ لو كان موجودا من كل جهة
كان طلبه تحصيلا للحاصل، ولو كان مفقودا من كل جهة لم يكن طرف يتقوم به، فلو كان
متعلقه موجودا من حيث حضوره للنفس، ومفقودا من حيث الوجود الخارجي، يرتفع
جميع المحاذير، فان العقل لقوته يلاحظ الموجود الخارجي فيشتاق إليه، فالموجود
بالفرض والتقدير، مقوم للشوق، لا بما هو هو، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود
الخارجي، والشوق يوجب خروجه من حد الفرض إلى الفعلية والتحقق، وهذا هو المراد
من تعلق الشوق، والامر، بوجود الطبيعة، فلا يرد عليه شئ مما ذكر.
وحيث إن النزاع على الوجهين الأولين، لا يترتب عليه ثمرة فالصفح عنه أولى.
واما على الوجه الأخير: فان كان مدعى تعلق الطلب بالافراد، يدعى تعلق طلب
مستقل بالخصوصيات غير ما تعلق بصرف وجود الطبيعة، فهو بديهي البطلان، وان كان
يدعى تعلق طلب قهري ناش عن تعلقه بما فيه المصلحة.
فالقول: بتعلقه بالافراد يبتنى على أحد المسلكين: 1 - القول بوجوب مقدمة
الواجب، وكون الخصوصيات الفردية من مقدمات وجود الطبيعة، فإنه حينئذ يصح تعلق
الطلب القهري المقدمي بالافراد. 2 - اتحاد المتلازمين في الوجود، في الحكم، فان الطبيعة
99

لا يمكن ان يوجد الا في ضمن الافراد فالامر بالطبيعة امر بها على هذا.
وحيث عرفت في مبحث الضد، ان الخصوصيات ليست من مقدمات
وجود الطبيعة المطلوبة بل من ملازمات وجوده، وأيضا عرفت انه لا ملزم لاتحاد
المتلازمين في الحكم، بل يمكن ان يكون أحدهما محكوما بحكم، ولا يكون الاخر
محكوما به، كما في استدبار الجدي، واستقبال القبلة في العراق مثلا، فالامر بصرف
وجود الطبيعة، لا يستلزم الامر بالافراد، ولا بالحصص المقارنة لها، فمتعلق الامر
هو الطبيعة على ما هو ظاهر الدليل، دون الافراد.
وهذا النزاع يترتب عليه ثمرة في مبحث اجتماع الأمر والنهي، كما سيمر عليك.
هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب
الفصل الثامن: إذا نسخ الوجوب ففيه أقوال: أحدها: انه يثبت الجواز
بالمعنى الأعم. ثانيها: انه يثبت الاستحباب. ثالثها: انه لا يثبت شئ منهما.
والكلام تارة فيما تقتضيه الأدلة الاجتهادية وأخرى في مقتضى الأصول العملية
اما الأول، فالأظهر انه لا دليل على شئ من القولين الأولين، لان ما يتوهم دلالته
لا يخلو من أن يكون دليل الناسخ أو دليل المنسوخ وشئ منهما لا يدل عليه، أي لا يدل
على الجواز، ولا على الاستحباب، اما دليل الناسخ فلانه انما يكون متضمنا لرفع الوجوب،
وعدم الوجوب يلائم مع كل واحد من الأحكام الأربعة الاخر، ولازم أعم للجواز و
دليل اللازم الأعم لا يثبت الملزوم الأخص، واما دليل المنسوخ فإنه دل على ثبوت
الوجوب وقد نسخ ولم يدل على شئ آخر.
وقد استدل للأول بأنه يثبت بدليل المنسوخ أمران: أحدهما: جنس الوجوب و
هو الجواز، والاخر فصله وهو المنع من الترك، والقدر المتيقن مما يرفعه دليل الناسخ
هو الفصل وبقاء الجنس متفصلا بفصل آخر حيث يكون ممكنا في تبدل الصور في
الموجودات الجوهرية، وفى مقام الاثبات دلالة دليل المنسوخ على بقائه تامة، والمتيقن
100

من دليل الناسخ رفع غيره كما عرفت، فلا مناص عن الالتزام به.
وفيه أولا: انه لو تم هذا الوجه لزم الحكم ببقاء الرجحان الجامع بين الوجوب
والاستحباب، إذ هو الجنس القريب، والجواز جنس بعيد فتأمل فإنه يرده ما سيأتي: وثانيا:
ان ما ذكر من بقاء الجنس والمادة المشتركة بعد انعدام صورة الشئ كالكلب الذي يصير
ملحا، يتم في الجواهر التي لها اجزاء خارجية، ولا يتم في الاعراض التي ليس لها إلا أجزاء
تحليلية عقلية، فضلا عن مثل الاحكام التي هي بسائط من جميع الجهات، وليس لها
اجزاء خارجية ولا عقلية كما لا يخفى.
واستدل للقول الثاني وهو ثبوت الاستحباب بأنه حيث يكون للوجوب مراتب
عديدة، وهي: الجواز، والرجحان، والالزام، ورفعه كما يمكن ان يكون برفع الجواز،
يمكن ان يكون برفع الرجحان مع بقاء الجواز، ورفع الالزام مع بقاء الرجحان وفى مقام
الاثبات لا دليل على رفع مرتبة خاصة منها فلا بد من الاخذ بالمتيقن، وهو رفع الالزام
خاصة، وفيما عداه يؤخذ بدليل المنسوخ ويحكم باستحباب الفعل، وان شئت قلت إن
المقام نظير ما إذا ورد امر بشئ ورد دليل آخر صريح في عدم الوجوب، فكما انه في
ذلك المورد بناء الفقهاء على حمل الظاهر على النص، والجمع بينهما بالحمل على
الاستحباب، فكذلك في المقام إذ لا فرق بينهما الا ان في ذلك المورد دليل نفى الوجوب
ينفيه من الأول، وفى المقام ينفيه بعد مضى زمان ومجرد ذلك لا يوجب الفرق في
هذا الجمع العرفي كما لا يخفى، وعلى ذلك فيتعين البناء على الاستحباب.
وفيه: ان الفرق بين البابين واضح حيث إنه في ذلك الباب انما يجمع بين الدليلين إذا
لم يتعرض دليل نفى الوجوب أي الصريح في جواز الترك لحال الطلب، ولا ينفيه، بل
انما يرخص في ترك المطلوب، ولذلك يبنى على الاستحباب الذي لا حقيقة له سوى
ذلك، أي ينتزع من الامر بشئ مع الترخيص في تركه، واما في المقام فالمفروض ان دليل
الناسخ متعرض لحال دليل المنسوخ، ويدل على ارتفاع ما تضمنه ذلك الدليل وهو
الطلب، فلا وجه لقياس أحد البابين بالآخر، واما القول بان المتيقن منه رفع خصوص
الالزام فالجواب عنه ما تقدم في الجواب عن القول الأول، مضافا إلى أن خصوصية
101

الالزام ليست مدلولة للامر كي يمكن القول بان المتيقن من رفع الوجوب رفع تلك
الخصوصية وبقاء الجامع كما حققناه في مبحث الانشاء والاخبار.
واما المقام الثاني: وهو ما تقتضيه الأصول العملية فقد يقال ان الثابت بدليل
المنسوخ الوجوب، والرجحان لان الواجب راجع، والجواز، والمتيقن ارتفاعه
هو الوجوب واما الجواز، والرجحان فيشك في ارتفاعه فيستصحب بقائه.
وفيه: ان هذا الاستصحاب يكون من قبيل استصحاب الكلى القسم الثالث من
أقسامه وهو ما لو شك في بقاء الكلى للشك في حدوث فرد مقارنا لزوال ما حدث يقينا،
وقد حقق في محله عدم جريانه.
ودعوى، ان الوجوب والاستحباب مرتبتان من الوجود الواحد متفاوتتان بالشدة
والضعف، كالبياض الشديد والضعيف وفى مثل ذلك يجرى استصحاب الكلى.
مندفعة بان ذلك يتم فيما إذا لم يكن المتفاوتان بالرتبة متباينين بنظر العرف،
والوجوب والاستحباب كذلك فلا يجرى الاستصحاب في شئ منهما، فيتعين الرجوع
إلى أصالة البراءة وهي تقتضي الجواز.
الواجب التخييري
الفصل التاسع: في الواجب التخييري، وقد اختلف العلماء فيما إذا تعلق الامر
بأحد الشيئين أو الأشياء إلى عدة آراء ومذاهب:
الأول: ان الواجب هو واقع أحدهما أو أحد الأشياء على وجه الابهام والترديد
الذي لا تعين له في الواقع وهو الذي اختاره المحقق النائيني (ره).
المذهب الثاني: ان الواجب هو الجامع الحقيقي بين الفعلين أو الافعال، ويكون
التخيير قد صدر من الشارع بنحو الارشاد إلى افراد الواجب التعييني الذي تعلق به غرضه
وخفيت على المكلفين افراده، فيكون انشاء التكليف به بصورة التخيير بين أمور متباينة
كي يستفاد منه حدود الواجب اجمالا اختاره المحقق الخراساني (ره) فيما إذا كان
102

الغرض واحدا.
المذهب الثالث: كون جميع الابدال واجبا والالتزام بان للوجوب سنخا آخر
غير التعييني يتعلق بما زاد عن الفعل الواحد ويكون امتثاله باتيان بعض الابدال أو جميعها
وعصيانه بترك الجميع وهو الوجوب التخييري، والظاهر أن المحقق الخراساني اختار
ذلك فيما علم كون الغرض متعددا لا يكاد يحصل الغرض مع حصول الغرض في الاخر
باتيانه - وبعبارة أخرى - كون الاغراض متزاحمة لا يمكن جمعها في الوجود الخارجي و
لأجله تقع المزاحمة بين الأمور.
المذهب الرابع: كون كل واحد من الفعلين واجبا بالوجوب التعييني ولكن
المتعلق في كل منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر، ويتصور ذلك فيما كان الغرضان
متزاحمين كما في الوجه السابق، أو ان المولى ارفاقا وتسهيلا على المكلفين لم يوجب
الجمع بين الغرضين.
المذهب الخامس: ان يكون الواجب هو الواحد من الفعلين أو الافعال معينا و
هو الذي يعلم الله تعالى ان العبد يختاره.
المذهب السادس: كون الواجب هو الواحد المعين عند الله ويكون اتيان الاخر من
باب اسقاط المباح للواجب.
المذهب السابع: ان الواجب هو الجامع الانتزاعي وهو مفهوم أحدهما أو أحدها
الصادق على كل منهما أو من الافعال.
وقد استدل المحقق الخراساني لما ذهب إليه فيما كان الغرض واحدا، بوضوح ان
الواحد لا يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن جامع بينهما لاعتبار نحو من السنخية
بين العلة والمعلول وعليه فجعلهما متعلقين للخطاب الشرعي لبيان ان الواجب هو الجامع
بين هذين الاثنين فيكون التخيير بينهما بحسب الواقع عقليا لا شرعيا.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان متعلق التكليف لا بد وأن يكون مما يفهمه
العرف كي يمتثله فالجامع الملاكي المستكشف تحققه بالبرهان لا يكفي في جواز تعلق
التكليف به.
103

ولكن يمكن الجواب عنه بان ذلك يتم إذا لم ينبه الشارع على مصاديقه، وتعلق
الامر في ظاهر الدليل بافراد ذلك الجامع انما هو ليستفاد منه حدود ذلك الواجب اجمالا،
ولذا التزم بان التخيير وان كان بحسب ظاهر الدليل شرعيا الا انه بحسب اللب والواقع
عقلي، وعلى الجملة إذا تم البرهان المذكور كان اللازم هو تعلق الإرادة بنفس النوع
الجامع بين تلك الافراد لأنه المشتمل على الملاك وكانت الخصوصيات خارجة عن
مركز الإرادة ولكن حيث إن العرف لا يفهم ذلك الجامع امر المولى بالافراد ارشادا إلى
كونها افرادا للنوع الذي تعلق به الإرادة.
والمهم في الايراد على المحقق الخراساني (ره) انه لا طريق لنا إلى استكشاف
كون الملاك واحدا وظاهر الدليل خلافه لتعلق الامر على الفرض بالخصوصيات.
أضف إلى ذلك عدم تمامية البرهان المذكور في الواحد النوعي الا ترى انه ربما
يحصل الحرارة من الحركة وآخر تحصل من النار، والأول من قسم العرض، والثاني من
الجواهر، ولا يعقل تصور الجامع بين الجوهر والعرض، وتمام الكلام في محله.
واما المذهب الثالث: فهو بظاهره بين الفساد، إذ حقيقة الوجوب لا تجتمع مع
جواز الترك ولو جوازا في الجملة والى بدل، الا ان يرفع اليد عن الوجوب في تلك الحالة
فلا يكون وجوب كل من الافراد مطلقا، بل يكون مشروطا بعدم الاتيان بالآخر، فلا بد من
اصلاحه بان المراد انه بعد تزاحم الملاكين في الامر بأحد الشيئين، أو عدم وجوب الجمع
بينهما تقع المزاحمة بين الامرين فيكون كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الاخر.
فيرجع هذا القول إلى القول الرابع، ويرد عليه حينئذ ان ذلك مناف لظاهر أدلة
الواجب التخييري حيث إن الظاهر منها كون الواجب واحدا لا متعددا.
مع أن الغرضين غير الممكن استيفائهما ان كانا بحيث لا يمكن استيفائهما حتى مع
تقارن الفعلين، فلازمه عدم تحقق الامتثال لو اتى بهما معا، إذ الغرضان لا يستوفيان
على الفرض واحد هما دون الاخر لا يستوفى والا لزم الترجيح بلا مرجح، فلا محالة لا
يستوفى شئ منهما، فلا يسقط التكليف، وان كانا بحيث يمكن استيفائهما معا مع
التقارن، فلازمه كون كل منهما واجبا تعيينييا ولزوم ايجادهما معا إذا كان الجمع بينهما
104

ممكنا للمكلف كما هو واضح.
أضف إليه ان فرض وجود غرضين كذلك لعله ملحق بأنياب الأغوال.
هذا كله مضافا إلى أن مثل المحقق الخراساني ليس له الالتزام بهذا القول، لأنه ممن
يرى استحالة الترتب، وصحة التكليفين المشروط كل منهما بعدم الاتيان بالآخر تبتنى على
امكان الترتب فإنه من قبيل الترتب من الطرفين الذي مر امكانه عندنا.
ثم انه لو فرضنا وجود غرضين كذلك لكان المتعين هو الالتزام بكون كل
من الفعلين متعلقا لتكليف مشروط بعدم الاتيان بالآخر بناءا على امكان الترتب لتبعية
الحكم للملاك والغرض.
ودعوى ان الملاكين على الفرض يتزاحمان في الملاكية ومعلوم ان الملاك
المزاحم بملاك آخر لا يصلح ان يكون داعيا إلى التكليف، فلا مناص من كون
أحد الملاكين على البدل ملاكا فعليا وقابلا للدعوة فتكون النتيجة خطابا واحدا
بأحد الشيئين لا خطابين مشروطين.
مندفعة بأنه في المقام لا تزاحم بين الملاكين في الملاكية لعدم المانع من الجعلين
سوى عدم امكان استيفائهما في الخارج.
واما المذهب الخامس: فيرد عليه مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الأدلة الدالة
على الوجوب التخييري، ومنا فإنه للاشتراك في التكليف، انه في فرض عدم الاتيان بشئ
من الفعلين ان لم يكن التكليف متحققا فلا عصيان ولا عقاب، والالتزام بوجود تكليف
الزامي لا عقاب على مخالفته ولا تحقق له في فرض عصيانه كما ترى، وان كان متحققا
فيسئل انه متعلق بأي شئ فلا مناص من الالتزام بأحد المسالك الاخر.
واما المسلك السادس: ففساده غنى عن البيان.
فيدور الامر بين القول الأول، وهو كون الواجب واقع أحدهما، أو أحد الأشياء
على وجه الابهام والترديد، والأخير، وهو كون الواجب هو الجامع الانتزاعي.
اما الأول: فقد أفاد المحقق النائيني (ره) في توجيهه انه حيث يكون ظاهر العطف
بكلمة أو كون الغرض المترتب على كل من الفعلين أو الافعال المأخوذة في متعلق
105

التكليف في التخييري أمرا واحدا مترتبا على واحد من الفعلين أو الافعال على البدل،
فلا بد وان يتعلق طلب المولى بأحدها على البدل أيضا لعدم الترجيح وليس هنا ما يتوهم
كونه مانعا عن تعلق الطلب بشيئين أو الأشياء كذلك لا ثبوتا ولا اثباتا، الا امتناع تعلق
الإرادة بالمبهم، والمردد، وهو لا يصلح مانعا: فان عدم تعلق الإرادة التكوينية غير
المنفكة عن المراد الموجود بها، لا يعقل تعلقها بالمردد، لأنها علة لايجاد المراد، ولا
يعقل تعلقها الا بالشخص، لمساوقة الوجود للتشخص والتعين، الا ان ذلك من لوازم
تكوينية الإرادة، لا الإرادة نفسها، ومعلوم ان كل قيد اعتبر في الإرادة التكوينية بما انها
إرادة، لا بد وأن يكون قيدا للتشريعية أيضا، واما ما يعتبر فيها بما انها تكوينية فلا يعتبر
في التشريعية، وكذلك العكس، مثلا تنقسم الإرادة التشريعية إلى تعبدية، وتوصلية باعتبار
سقوطها باتيان المتعلق وان لم يقصد به التقرب، وعدمه الا مع الاتيان بقصد التقرب، و
هذا من خواص الإرادة التشريعية التي تتعلق بفعل الغير، ولا يعم الإرادة التكوينية
بالضرورة، وكذلك يمكن تعلق الإرادة التشريعية بالكلي الملغى عنه الخصوصيات
الفردية، والصنفية، بل هي كذلك دائما، وهذا بخلاف الإرادة التكوينية، فإنها لأجل
كونها علة لايجاد المراد لا تتعلق الا بالشخص، وعليه فالظاهر أن امتناع تعلق الإرادة
التكوينية بالمردد وماله بدل من لوازمها خاصة، ولا يعم الإرادة التشريعية.
ويرد على ما افاده أمور:
1 - ان الإرادة تكوينية كانت أو تشريعية لا يعقل تعلقها بالامر المتشخص
بالوجود، فان من مبادئ الإرادة تصور الفعل المراد، وشخص الفعل الخارجي لا يعقل
تصوره قبل تشخصه، بل النفس تأخذ صور الأشياء من الخارج ثم توجد في الخارج على
منوالها، وتلك الصورة وان كانت من جهة كثرة القيود المأخوذة فيها لا مصداق فعلى لها،
سوى الشخص الموجود الخارجي، الا انها ليست بشخصية، بل كلية، وعلى الجملة ان
النفس انما ترغب في الشئ وتريده وتشتاق إليه حيث لا تكون موجودا في الخارج، فإذا
وجد امتنع تعلق الإرادة به، فإذا ثبت ان متعلق الإرادة لابد وأن يكون غير موجود، فيلزم
كونه أمرا كليا، وان انحصر مصداقه في الخارج في الواحد.
106

2 - ان الإرادة لا تتعلق بفعل من الافعال الا بلحاظ اشتماله على المصلحة، فلا
محالة يكون موضوع تلك المصلحة شيئا متعينا في نفسه قابلا لان يتشخص في الخارج
بوجوده، ومفهوم أحدهما المردد، لا ذات له ولا وجود، ولا تحقق، وكل ما وجد لا
محالة يكون معينا، فيمتنع ان يكون موضوعا لتلك المصلحة.
3 - ان الإرادة التشريعية انما تكون محركة نحو الفعل، وموجبة للإرادة
التكوينية، وللعضلات، فإذا فرض المحقق النائيني وسلم ان الإرادة التكوينية لا تتعلق
بالمردد، فلا يعقل تعلق الإرادة التشريعية به، وهل هو الا التكليف بغير المقدور.
فالأظهر هو القول الأخير، وهو كون المتعلق الكلى الانتزاعي وهو عنوان أحدها،
ولا مانع من تعلق التكليف بالأمور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف، ومن
المعلوم ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل فرد من افراد الواجب التخييري،
وان شئت توضيح ذلك، فهو يظهر ببيان مقدمتين:
الأولى: انه يمكن تعلق صفة حقيقية كالعلم بأحد الامرين أو الأمور، ويكون
هذا العنوان معلوما، مثلا إذا علمنا اجمالا بنجاسة أحد الشيئين، واحتملنا نجاسة الاخر، و
كانا في الواقع نجسين، فحيث ان نسبة العلم الاجمالي إلى كل منهما على حد سواء فلا
يكون المعلوم بالاجمال أحدهما المعين، وليست النجاستين الواقعيتين متعلقتين للعلم
على الفرض ولا يكون المعلوم النجاسة الكلية الجامعة لفرض العلم بإحدى
الخصوصيتين فلا محالة يكون المتعلق إحدى النجاستين على نحو الاهمال والتردد، فإذا
أمكن تعلق الصفات الحقيقية بعنوان أحدهما، فتعلق الأمور الاعتبارية به لا يحتاج إلى
بيان.
الثانية: ان التكليف لا بد وان يتعلق بما فيه المصلحة، بالتقريب المتقدم في
تعلق الامر بالافراد لا بالطبيعة.
فعلى هذا في المقام بما ان كلا من الفعلين يفي بالغرض الباعث إلى الامر
وجعل الوجوب، فلا محالة يلاحظ المولى عنوان أحد الفعلين ويأمر به فانيا في الخارج
ولا ادعى ان الواجب هو أحدهما المردد الذي لا ذات له ولا وجود، بل عنوان أحدهما
107

الذي هو كلي انتزاعي قابل للانطباق على كل واحد من الوجودين المنطبق على أول
الوجودين.
فعلى هذا الفرق بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي، اعتباري محض إذ لو كان
متعلق التكليف هو الجامع الحقيقي يسمى ذلك بالتخيير العقلي ولو كان هو الجامع
الانتزاعي يسمى بالتخيير الشرعي. وبما ذكرناه ظهر انه لا يقاس الإرادة التشريعية
بالإرادة التكوينية إذ في الثانية الإرادة علة للوجود الخارجي وهو معين ولا يعقل ان
يكون هو عنوان أحدهما، وفى الأولى الإرادة تكون علة للبعث الذي يمكن تعلقه بعنوان
أحدهما.
فتحصل مما ذكرناه ان في الواجب التخييري الواجب انما هو عنوان أحدهما
أو أحدها فانيا في الخارج القابل للانطباق على كل واحد من الفعلين أو الافعال ولا يرد عليه
شئ من المحاذير المذكورة.
التخيير بين الأقل والأكثر
بقى الكلام في أنه، هل يمكن التخيير بين الأقل والأكثر، أم لا؟ وجهان.
محل الاشكال هو ما إذا كان نفس الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر
وكان للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل، كما لو امر تخييرا بين التسبيحة الواحدة
والتسبيحات الثلاث، أو امر تخييرا بين المشي فرسخا، أو فرسخين، أو رسم خط تدريجا
مخيرا بين القصير والطويل.
وأما إذا لم يكن الفعل المتعلق للتكليف مرددا بين الأقل والأكثر، بل كان متعلقه
كذلك كما إذا امر تخييرا بالاتيان بعصا طولها عشرة أذرع أو بعصا طولها خمسة أذرع، أو
امر باكرام عشرة دفعة أو خمسة كذلك، أو لم يكن للأقل في ضمن الأكثر وجود مستقل
كما إذا امر بالمسح بالكف أو بإصبع واحدة، فلا اشكال أصلا بل الموردين من قبيل
دوران الامر بين المتباينين.
108

وكيف كان فقد أفاد المحقق الخراساني (ره) انه يمكن تصوير ذلك فيما إذا كان
الأقل بحده محصلا للغرض الذي يحصله الاتيان بالأكثر - وبعبارة أخرى - يكون هناك
غرض واحد وذلك الغرض يحصله الأكثر، والأقل بشرط عدم الانضمام لا الأقل مطلقا
بل حصة خاصة منه ولا يفرق في ذلك بين ان يكون للأقل وجود مستقل في ضمن الأكثر
كتسبيحة واحدة في ضمن ثلاث تسبيحات وان لا يكون له وجود مستقل كالخط القصير
في ضمن الخط الطويل، وبكلمة أخرى ان التخيير انما يكون بين الأقل بشرط لا، والأقل
بشرط شئ، أي بين الأقل بحده والأكثر كذلك، ووافقه المحقق النائيني (ره).
وفيه أولا: ان التقييد بشرط لا لا يدفع المحذور الذي أورد على التخيير بينهما، و
هو ان الأقل يوجد دائما قبل الأكثر فيسقط الواجب فلا يتصف الزايد بالواجب ابدا:
إذ المحذور انما يرتفع إذا كان التباين خارجيا لا عقليا والتقييد به يوجب التباين العقلي
لا الخارجي، - وبعبارة أخرى - بعد الاتيان بالأقل وتحققه ان كان الاتيان بالزايد واجبا
كان الأكثر واجبا تعينيا، والا خرج عن كونه واجبا، ولا محصل للقول بأنه ان اتى به يتصف
بالوجوب واما قبله فلا وجوب فتدبر، نعم، لو قيد الأقل بقيد آخر، صح التخيير كما
في القصر والاتمام لكنه خارج عن التخيير بين الأقل والأكثر بالبداهة.
وثانيا: ان الالتزام بتقييد الأقل بذلك لا ريب في كونه خلاف ظاهر الأدلة، و
رجوعه، إلى التخيير بين المتباينين لان الأقل بشرط لا يباين الأقل بشرط شئ والتصرف
فيما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر بذلك، وحمله على خلاف ظاهره، ليس بأولى من
رفع اليد عن ظهور الامر بالأكثر وحمله على الاستحباب بل الثاني أولى كما لا يخفى.
ثم انه قد انقدح مما قدمناه انه لا يمكن حل الاشكال بلحاظ فردية الأكثر كالأقل
للطبيعة التي يترتب الغرض على صرف وجودها، لأنه ان قيل الأقل الذي يتحقق قبل
الأكثر (وان كان الأكثر بعد تحققه فردا واحدا لأنه إذا لم يتخلل العدم بين نحو وجود
الطبيعة يكون الشخص الموجود باقيا على تشخصه لا انه يتبدل تشخصاته) بشرط لا من
انضمام الزايد إليه فهو يرجع إلى الوجه المتقدم، وان اخذ لا بشرط من الانضمام، كان
الغرض مترتبا عليه كذلك، فهو بتحققه يحصل الغرض فيسقط الوجوب فلا امر بالزايد
109

فهذا الوجه الذي أساسه لحاظ فردية الأكثر للطبيعة كالأقل لا يفيد ما لم يقيد الأقل بعدم
انضمامه إلى ما يتقوم به الأكثر، ومعه يرجع إلى الوجه الأول، الذي أساسه لحاظ ترتب
الغرض على الأقل بشرط لا وعلى الأكثر، فالأظهر عدم معقولية التخيير بين الأقل والأكثر
ولا يساعد الدليل على ذلك في مثل اذكار الركوع والسجود، والتسبيحة في الأخيرتين التي
توهم انه في تلك الموارد يكون التخيير بين الأقل والأكثر، بل الظاهر منها ان الأقل واجب
والزائد مطلوب استحبابا.
الواجب الكفائي
الفصل العاشر: في الواجب الكفائي، وللأصحاب في بيان حقيقته مسالك:
الأول: كون الاختلاف بين الكفائي والعيني من ناحية الوجوب وهو الظاهر من
الكفاية قال المحقق الخراساني (ره) والتحقيق انه سنخ من الوجوب وله تعلق بكل واحد
بحيث لو أخل بامتثاله الكل لعوقبوا على مخالفته جميعا وان سقط عنهم لو أتى به بعضهم
وذلك لأنه قضية ما إذا كان هناك غرض واحد حصل بفعل واحد صادر عن الكل أو
البعض انتهى.
ويرد عليه انه ليس للوجوب حقائق مختلفة بل سنخ الكفائي هو سنخ العيني.
الثاني: كون الاختلاف بينهما من ناحية المكلف وهو الذي اختاره جمع من
المحققين. منهم المحقق النائيني (ره) ومحصله انه كما أن الغرض من المأمور به، تارة
يترتب على صرف وجود الطبيعة، وأخرى على مطلق وجودها، والأول منهما يستتبع
حكما واحدا متعلقا بصرف وجود الطبيعة ويكفي في امتثاله الاتيان بفرد واحد، وهذا
بخلاف الثاني فان المجعول في المورد الثاني احكام عديدة حسب ما للطبيعة من الافراد،
ولا يكتفى في مقام الامتثال بايجاد فرد منها، كذلك يختلف الغرض بالإضافة
إلى المكلف، إذ تارة يترتب على صدور الفعل من صرف وجود المكلف، وأخرى يترتب
على صدوره من مطلق وجوده، وعلى الثاني يكون الوجوب عينيا، لا يسقط بفعل واحد
110

منهم على الآخرين، وعلى الأول يكون الوجوب متوجها إلى صرف وجود المكلف
فبامتثال أحد المكلفين يتحقق الفعل من صرف وجود الطبيعة، فيسقط الغرض، فلا يبقى
مجال لامتثال. الباقين.
ولكن يرد على ذلك أن تعلق التكليف بصرف وجود طبيعي الفعل والناقض
للعدم، المنطبق على أول الوجودات، امر ممكن، واما كون المكلف هو صرف وجوده
فمما لا أتعقله، إذ أول وجود المكلف هو أسن المكلفين، وأول من قام بالفعل، لا يكون
منطبق عنوان صرف وجود المكلف، إذ المكلف لابد وأن يكون مفروض الثبوت
قبل الفعل، ولا يتعلق التكليف بتحصيله.
ودعوى كون المكلف هو الطبيعي الملحوظ بحيث لا يكون دخل لشئ من
الخصوصيات فيه وهو المعبر عنه باللا بشرط القسمي، مندفعة بان الطبيعي مع قطع النظر
عن وجوده غير مكلف، وبلحاظه بما انه موجود بوجودات متعددة، يقع الكلام في أنه
أي وجود من تلكم الوجودات يكون مكلفا.
وقد يقال في بيان حقيقة الوجوب الكفائي انه عبارة عن الوجوب المتعلق بكلي
المكلف بما هو، بدعوى ان الايجاب كالملكية من الأمور الاعتبارية، فكما ان الملكية
تقوم بالكلي، كما في تعلق ملكية الزكاة والخمس بطبيعي الفقير، والسيد، كذلك يتعلق
الايجاب بالكلي، فمن قام بالفعل يتعين فيه الكلى الذي وجب عليه الفعل.
وفيه: ان الايجاب بنفسه وان كان أمرا اعتباريا قابلا لان يتعلق بالكلي، ولكن بما
انه جعل للداعي ومحرك لإرادة المكلف نحو الفعل، فلا محالة لا يعقل تعلقه بالكلي بما
هو كلي بل بالمكلف بالحمل الشايع.
الثالث: ان الاختلاف بينهما من ناحية المكلف به، وهو الذي اختاره المشهور،
وهو الحق: بيانه ان الوجوب الكفائي متوجه إلى جميع آحاد المكلفين، ومتعلق بالفعل،
غاية الامر مع خصوصية يمتاز بها عن ما هو متعلق الوجوب التعييني، وهي اشتراطه بعدم
الفعل من الآخرين فهناك خطابات عديدة بحسب ما للمكلفين من الافراد، وكل واحد
منها مشروط بعدم اتيان الآخرين بالفعل، وأورد عليه بايرادات:
111

الأول: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان الغرض حيث إنه واحد ومترتب على
صرف الوجود فيلزم ان يكون الخطاب واحد لأنه يتبعه ويستحيل تخلفه عنه، والا لكان
بلا داع وغرض وهو محال.
وفيه: ان مثل هذا التعدد الذي لا يأمر المولى باتيان الجميع ولا يريد الا صدور
فعل واحد من أحدهم، لا ينافي مع وحدة الغرض، - وبعبارة أخرى - ان الغرض وان كان
واحدا الا انه لما كان يحصل بفعل كل واحد منهم، فليس للمولى الا الامر بالجميع بنحو
يكون مطلوبه صدور الفعل من واحد منهم لا من الجميع وليس هو الا بهذا النحو.
الثاني: ما افاده الأستاذ الأعظم، وهو ان الترك المفروض كونه شرطا، ان كان هو
مطلق الترك ولو كان ذلك في برهة من الزمان قابلة للاتيان به فيها، فاللازم عند تحقق
ذلك أن يجب على كل مكلف ان يأتي به ولو مع فرض اتيان غيره به، وان كان الشرط
هو الترك في جميع الأزمنة القابلة لتحقق الواجب فيها، فاللازم عند صدور الفعل من
الجميع في عرض واحد ان لا يتحقق الامتثال منهم أصلا إذ المفروض عدم تحقق الشرط
على هذا التقدير.
وفيه: ان هناك شقا ثالثا، وهو ان يكون الشرط عدم اتيان غيره بالفعل قبل
شروعه في ذلك، ولا يرد على هذا شئ من المحذورين كما لا يخفى.
الثالث: انه مع عدم اتيان الجميع يلزم فعلية جميع الخطابات مع عدم امكان
امتثال الجميع.
وفيه: انه حيث يكون كل خطاب مشروطا بعدم اتيان الآخرين فلا يكون نتيجة
فعلية جميع الخطابات طلب الجمع كما حقق في الترتب، مع أن المحذور لو كان في المقام
فليس هو عدم امكان الامتثال إذ كل فرد قادر على الاتيان، بل المحذور ما افاده المحقق
النائيني (ره) الذي عرفت ما فيه.
ثم إن في المقام وجهين آخرين لوضوح فسادهما لا نطيل الكلام بذكرهما مع
نقدهما مفصلا ونشير إليهما:
أحدهما: ان المكلف واحد معين عند الله ولكنه يسقط عنه بفعل غيره.
112

ويرده أولا انه لو كان كذلك لما كان الثواب على فعل غيره، وثانيا ان سقوط
الواجب بفعل المباح يحتاج إلى دليل ولا مجال لتوهم دلالة ما دل على أنه يسقط باتيان
بعض افراد المكلفين لأنه انما يكون من ناحية شمول التكليف له ولذا يثاب عليه، وثالثا
انه غير معقول لأن المفروض حينئذ انه كل واحدا من المكلفين يشك في كون التكليف
متوجها إليه فيجرى البراءة فالمولى لا يصل إلى غرضه بمثل هذا التكليف.
ثانيهما: ان المكلف مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع.
ويرده ان لازمه عدم الامتثال بفعل البعض، مع أنه لو تم لاقتضى كون التكليف
متوجها إلى صرف وجود مجموع المكلفين لان بعض الواجبات الكفائية بل كلها غير
قابل لان يصدر عن المجموع.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الواجب الكفائي، عبارة عن الفعل الواجب على عموم
المكلفين على نحو العموم الاستغراقي، فيكون واجبا على كل واحد منهم على نحو
السريان، غاية الامر وجوبه على كل فرد مشروط بعدم اتيان الآخرين به:
ثم إن المحقق النائيني ذكر في المقام فرعا وهو انه إذا كان شخصان، متيممين، و
وجدا ماءا يكفي لوضوء أحدهما، فهل يبطل تيمم كل واحد منهما، أم لا يبطل شئ
منهما، أو يبطل واحد منهما على البدل، لكل وجه، الا انه قوى الوجه الأول، وأفاد ان
في المقام أمور ثلاثة: 1 - الامر بالوضوء 2 - الامر بالحيازة، أي حيازة الماء 3 - القدرة
على الحيازة، قال لا اشكال في أن الامر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية، و
كون الماء في تصرفه، واما الامر بالحيازة فهو مشروط بعدم سبق الاخر إلى حيازته، واما
القدرة على الحيازة، فهي بالقياس إلى كل منهما فعلية، لتمكن كل منهما لحيازة الماء، و
عدم كفاية الماء الا لوضوء واحد، انما يكون منشئا لتحقق التزاحم في مقام فعلية الحيازة
خارجا، واما فعلية قدرة كل منهما على الحيازة فلا تزاحم فيها أصلا، وبما ان بطلان
التيمم، لم يترتب في لسان الدليل، على الامر بالوضوء، بل هو مترتب على وجدان الماء
المتحقق في ظرف القدرة على الحيازة، فيبطل التيممان معا، ومن الضروري ان تزاحم
الخطابين في ناحية الوضوء لا يستلزم التزاحم في ناحية الحكم ببطلان التيممين.
113

أقول يرد على ما افاده أمور:
الأول: ما افاده من أن الامر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية، غير تام،
بل هو مترتب على الوجدان المتحقق بالقدرة على الحيازة.
الثاني: ما ذكره من أنه لا تزاحم بين قدرة كل منهما على الحيازة مع قدرة الاخر
عليها، وانما التزاحم في مقام فعلية الحيازة منهما خارجا، مردود بان المفروض ان
المورد غير قابل لحيازتين، بل هو صالح لإحداهما ومعه كيف يكون كل منهما قادرا
عليها بلا تزاحم بين القدرتين.
الثالث: ما افاده من أن تزاحم الخطابين في ناحية الوضوء لا يستلزم التزاحم في
ناحية الحكم ببطلان التيممين، فإنه يرد عليه ان بطلان التيمم وان لم يترتب على الامر
بالوضوء الا انهما معا مترتبان على وجدان الماء وعليه فالتزاحم في ناحية الوضوء يلازم
التزاحم في ناحية الحكم ببطلان التيمم.
والحق ان يقال انه بناءا على المختار في الواجب الكفائي من توجه التكليف إلى
جميع آحاد المكلفين يكون الامر بالوضوء متوجها إلى كل منهما مقيدا بعدم سبق الاخر،
فلا محالة يبطل تيممهما.
واما ما افاده الأستاذ من أن ذلك في فرض عدم سبق أحدهما إلى الحيازة، فان
كان نظره الشريف إلى صورة سبق أحدهما إليها قبل توجه الاخر إليه، فهو متين ولكنه
خارج عن الفرض، وان كان نظره إلى صورة توجه الخطاب إليهما ثم استباق أحدهما إليه،
فلا يتم إذا لان قبل الاستباق يبطل التيممان كما مر.
الواجب الموسع والمضيق
الفصل الحادي عشر: في الموسع والمضيق، ينقسم الواجب باعتبار تحديد الامر به
بزمان مخصوص، وعدم تحديده به، إلى موقت، وغير موقت، وينقسم الموقت باعتبار
أوسعية الوقت المحدد له على ما يفي من الزمان باتيان الواجب فيه، وكونه بمقدار زمان
114

الواجب، إلى مضيق، وموسع، كما أن غير الموقت ينقسم باعتبار تقيد الامر به باتيانه فورا،
وعلى فرض العصيان، ففورا، أو إلى الأبد، وعدم تقيده به إلى فوري باقسامه، وغير
فوري، ومحل الكلام في هذا الفصل، هو الموسع والمضيق.
وربما يستشكل في وجود الواجب الموسع تارة، وفى الواجب المضيق أخرى.
اما في الأول: فبأنه يستلزم جواز ترك الواجب في أول الوقت والوجوب غير
ملائم لجواز الترك.
والجواب عنه: ان المأمور به هو طبيعي الفعل الواقع في طبيعي الوقت المحدود
بحدين، وقد نظره بعض مشايخنا بالحركة التوسطية وهو الكون بين المبدأ والمنتهى قال
فكما ان الكون المتوسط بالنسبة إلى الأكوان المتعاقبة الموافية المحدود كالطبيعي بالنسبة
إلى افراده كذلك الفعل المتقيد بالوقت المحدود بالأول والاخر بالإضافة إلى كل فرد من
الفعل المتقيد بقطعة من الزمان المحدود بحدين انتهى، فالواجب لا يجوز تركه، وما
يجوز تركه ليس بواجب.
وبالجملة الوجوب متعلق بالجامع بين الافراد الطولية فيكون المكلف مخيرا
بينها، كما في التخيير بين الافراد العرضية.
واما في الثاني: فبان الانبعاث لابد وان يتأخر عن البعث ولو آنا ما، فلا بد من فرض
زمان يسع البعث والانبعاث معا، ولازم ذلك أوسعية زمان الوجوب عن زمان الواجب
وعدم وجود المضيق.
والجواب عنه: ان تأخر الانبعاث عن البعث رتبي لا زماني وعليه فللعالم بالبعث
ان ينبعث في أول زمان تحققه، ولا يلزم التأخير عنه، وهذا كله واضح لا يهمنا البحث
فيها.
تبعية القضاء للأداء
انما المهم هو البحث في أنه هل يجب الاتيان بالموقت في خارج وقته إذا فات
115

في الوقت اختيارا أو لعذر، أو انه يسقط بخروج الوقت، ولو وجب فهو بأمر جديد،
والكلام فيه يقع في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت. الثاني: في مقام الاثبات.
اما المقام الأول: فالصور المعقولة أربع:
إحداها: ان يكون هناك مصلحتان، إحداهما: مترتبة على الفعل، والثانية: مترتبة
على ايقاعه في الوقت، ويتبع ذلك يكون هناك أمران، أحدهما: متعلق بالفعل، والاخر:
بايقاعه في الوقت.
ثانيتها: ان تكون المصلحة المترتبة على الفعل في الوقت واحدة، والامر المتعلق به
واحدا ولكن بعد مضى الوقت توجد مصلحة أخرى في الفعل موجبة للامر به في خارج
الوقت.
ثالثتها: عين هذه الصورة مع كون المصلحة المترتبة عليه في خارج الوقت مرتبة
ضعيفة من المترتبة على الفعل في الوقت.
رابعتها: كون المصلحة واحدة، مع عدم المصلحة في الفعل في خارج الوقت
أصلا.
وفى الصورة الأولى يكون القضاء واجبا بالامر الأول، وفى الصورة الثانية والثالثة
واجبا بأمر جديد، وفى الصورة الرابعة لا يجب.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه يقع، تارة فيما يقتضيه الأصول العملية، وأخرى في
مقتضى الأدلة الاجتهادية.
اما الأصول، فان علم أن الواجب بنحو وحدة المطلوب، لا تعدده، ولكن شك في أنه
هل يجب القضاء لأجل حدوث مصلحة أخرى أم لا؟ لا سبيل إلى جريان
الاستصحاب، لأنه ان أريد استصحاب شخص الوجوب الثابت له في الوقت فهو متيقن
الارتفاع بتبع ارتفاع المصلحة، وان أريد استصحاب بقاء الكلى فهو من قبيل القسم
الثالث من اقسام الكلى والمختار عدم جريان الاستصحاب فيه كما حقق في محله.
وأما إذا شك في أنه بنحو تعدد المطلوب، أو وحدته، فقد يقال انه يجرى
116

الاستصحاب فيه لأنه من قبيل القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلى، إذا لو كان بنحو
تعدد المطلوب يكون الوجوب المتعلق بالفعل باقيا بعد الوقت ولو كان بنحو وحدة
المطلوب كان أمده آخر الوقت فيكون الحادث مرددا بين الطويل والقصير وعليه
فيجرى الاستصحاب فيه.
وبذلك يظهر ان ما افاده المحقق الخراساني من أنه لا مجال لاستصحاب وجوب
الموقت بعد انقضاء الوقت وقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت، غير تام.
ولكن بما ان الحق عدم جريان الاستصحاب في الاحكام مطلقا لكونه محكوما
لاستصحاب عدم الجعل فلا يجرى هذا الأصل فيتعين الرجوع في جميع الموارد إلى
أصالة البراءة.
واما المقام الثالث: وهو ما يقتضيه الأدلة الاجتهادية، فان ورد امر بالمقيد، فلا ظهور له ولا اطلاق في ثبوت الوجوب بعد الوقت، بل ظاهره عدم بقائه، وان كان
التوقيت بدليل منفصل، فان كان لدليل التوقيت اطلاق فلا محالة يقيد اطلاق الدليل
الأول وتكون النتيجة ثبوت الوجوب للمؤقت مطلقا، ولازم ذلك ارتفاعه بمضي الوقت.
وان لم يكن له اطلاق، وكان لدليل الواجب اطلاق فقد قال المحقق الخراساني
ان قضية اطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب
لا أصله.
أقول: ليس مراده ان المتيقن من القيد الثابت بدليل منفصل مجمل، تقييد مرتبة
من الطلب وهي مرتبة تأكده لا تقييد الطلب بجميع مراتبه، وفى المراتب الاخر يؤخذ
باطلاق دليل الواجب كما قيل: فإنه يرد عليه ان مدلول دليل الواجب ثبوت وجوب
واحد بسيط وليس هو ذا مراتب، وقد صرح بذلك المحقق الخراساني (ره) في مسألة ما
إذا نسخ الوجوب وشك في الاستحباب وغيره فراجع.
بل مراده ان المتيقن من دليل التوقيت هو تقييد الاطلاق في صورة التمكن من
اتيان العمل في الوقت، اما العاجز فاطلاق الدليل بالنسبة إليه بلا مقيد فيؤخذ به ويثبت
وجوب القضاء في حقه بالاطلاق ثم يلحق به المتمكن العاصي، بضميمة عدم الفصل،
117

وهو حسن.
وربما يفصل بين كون القرينة على التقييد متصلة وبين ما إذا كانت منفصلة،
فعلى الأول ان كانت القرينة بصورة القضية الشرطية، فهي تدل على عدم وجوب اتيانه
خارج الوقت بناءا على ثبوت المفهوم للقضية الشرطية، وكذلك على القول بثبوت
المفهوم للوصف وكانت القضية وصفية، واما على ما هو الحق من عدم ثبوت المفهوم
لها فهي لا تدل على عدم الوجوب، ولا تدل على الوجوب أيضا، إذ لا ينعقد للكلام
ظهور الا في الوجوب في الوقت، وأما إذا كانت القرينة منفصلة فحيث انها لا توجب
انقلاب ظهور الدليل الأول في الاطلاق إلى التقييد، بل غاية ما هناك دلالته على أنه
مطلوب في الوقت أيضا، فاطلاق الدليل الأول يدل على وجوبه في خارج الوقت أيضا.
وفيه: ان القرينة المنفصلة وان لم توجب انقلاب ظهور الدليل الأول في الاطلاق و
ليس من مقدمات الحكمة عدم البيان ولو منفصلا كما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) الا
انها مانعة عن حجية ظهوره في الاطلاق وتوجب تقييد مراد المولى، وعليه فحيث ان
ظاهر الامر بقيد في المأمور به كونه ارشادا إلى جزئيته أو شرطيته كما في بقية القيود
غير الوقت فلا محالة تكون النتيجة ان الواجب هو الحصة الخاصة من الطبيعة وهي
الواقعة في الوقت.
وهذا هو مراد المحقق النائيني (ره) حيث قال في جواب هذا الوجه انه ان ادعى
ان ذلك هو مقتضى القاعدة في تمام التقييدات فهو سد لباب حمل المطلق على المقيد و
ان ادعى اختصاص ذلك بخصوص الزمان دون الزماني فهي دعوى بلا بينة ولا برهان مع
وحدة الملاك في كلا المقامين وهو ظهور القيد في الركنية وتضييق دائرة المطلوب
الأول.
ثم انه بقى الكلام في أمور لا بد من التعرض لها.
الأول: ان ما افاده المحقق الخراساني وأوضحناه لا يختص بالتقييد بالوقت، بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل، فإنه ان كان لدليل القيد اطلاق كما
في الطهارة بالإضافة إلى الصلاة كان مقتضى القاعدة اختصاص وجوب الصلاة بصورة
118

التمكن من الطهارة، وان لم يكن له اطلاق كما في الطمأنينة في حال القيام فان مدركه
الاجماع، والمتيقن منه صورة التمكن ففي فرض عدم التمكن لابد من اتيان الصلاة قائما
مع فقد هذا القيد.
الثاني: انه في موارد ثبوت وجوب القضاء كما في الصلوات اليومية والصوم
والنذر المعين، وقع الكلام في أنه بعد قيام الدليل، هل يكون التقييد بالوقت من قبيل
تعدد المطلوب، وكونه واجبا في واجب، أو يكون من باب التقييد ولكن قيديته منه
مقصورة بحال التمكن، أو انه لا يكون هذا ولا ذاك بل يكون القضاء واجبا آخر مغايرا
للواجب في الوقت، ولهذا البحث اثران:
أحدهما: يظهر في التقييد بساير القيود غير الزمان، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، فإنه
لو كان من قبيل الأول كان اللازم هو حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب لو ترك
القيد عمدا أو بغير اختيار، ولو كان من قبيل الثاني كان اللازم هو عدم حصول الامتثال لو
تركه عمدا، ولو كان من قبيل الثالث كان اللازم هو عدم حصول الامتثال لو تركه مطلقا.
ثانيهما: ما لو مضى الوقت وشك في اتيان المأمور به ولم يكن موردا لقاعدة الشك
بعد الوقت كما في الصوم، أو شك في صحة الماتى به وفساده مع محفوظية صورة العمل
الشك في مطابقة العمل للواقع، وعدم مطابقته له، كما لو صلى إلى جهة معينة وشك في أن
القبلة هي تلك الجهة أو غيرها، أو توضأ بمايع شك في كونه ماءا فإنه لا يجرى قاعدة
الفراغ في هذا المورد فإنه ان كان من قبيل تعدد المطلوب لا بد من البناء على وجوب
الاتيان لاستصحاب بقاء الامر.
وبعبارة أخرى: ان التكليف المتعلق بها معلوم والشك انما هو في الامتثال وسقوط
التكليف وفراغ الذمة عنه، ومعلوم ان المعتمد حينئذ قاعدة الاشتغال، وان كان القضاء
بأمر جديد لا محالة يكون ذلك التكليف المعلوم ساقطا قطعا بالعصيان أو الامتثال والشك
انما هو في حدوث تكليف آخر فالمرجع هو أصالة البراءة.
ثم إن الظاهر كون القضاء بأمر جديد، ولو لم يدل عنوان القضاء والفوت على أن
الواجب في خارج الوقت مغاير لما وجب أولا وان ما وجب أولا قد فات وان
119

هذا الواجب هو قضاء ذلك، لما دل على بقاء الامر وكون التقييد بنحو تعدد المطلوب و
عليه ففي موارد الشك المؤمى إليها يرجع إلى أصالة البراءة.
الثالث: انه بناءا على أن القضاء بأمر جديد لو خرج الوقت وشك المكلف
في الاتيان بالمأمور به في وقته فهل يمكن اثبات وجوب الاتيان به باستصحاب عدم
الاتيان به أم لا؟ وجهان مبنيان.
على أن الفوت الذي علق عليه وجوب القضاء، هل هو امر وجودي وهو خلو الوقت
عن الواجب، أو هو امر عدمي وعبارة عن عدم الاتيان به في الوقت فعلى الأول لا يجرى
الاستصحاب الا على القول بحجيته في مثبتاته، وعلى الثاني يجرى كما هو واضح.
والأظهر، هو ان الفوت امر وجودي كما يظهر بالمراجعة إلى المتفاهم العرفي،
مثلا، المتفاهم العرفي من قولنا فات شئ من زيد هو ذهاب شئ من كيسه لا الامر
العدمي، وعليه فلا يمكن اثبات وجوب القضاء بالاستصحاب.
وعلى فرض التنزل وتسليم الشك في أن الفوت امر وجودي، ملازم لعدم الفعل
في الوقت أو امر عدمي، لا يجرى الاستصحاب، لأنه لا يحرز ان رفع اليد عن المتيقن
السابق من نقض اليقين بالشك ومعه يكون التمسك باطلاق دليله، تمسكا بالعام في الشبهة
المصداقية، هذا كله ما يقتضيه القاعدة.
ولكن المستفاد من الأخبار الخاصة في الصلاة هو كون الموضوع هو ترك
الصلاة. لا حظ صحيح زرارة وفضيل عن الإمام الباقر (ع) في حديث متى استيقنت أو
شككت في وقتها انك لم تصلها أو في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها وان شككت بعد
ما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن فان استيقنت
فعليك ان تصليها في أي حالة كنت. (1)
فان متعلق اليقين في قوله وان استيقنت بقرينة ما تقدم، ترك الصلاة، وعدم الاتيان
بها كان ذلك لعذر شرعي أم عقلي أولا عن عذر فمقتضى الصحيح ان الموضوع هو الترك

1 - الوسائل باب 60 من أبواب المواقيت حديث 1.
120

وعليه فلا مانع من اثبات وجوب القضاء بالاستصحاب.
الامر بالامر بفعل امر به
الثاني عشر: إذا امر بالامر بشئ كما في امر الشارع بأمر الأولياء الصبيان بالصلاة،
فهل هو امر بذلك الفعل مطلقا، أو مع توسيط الامر الثاني، أم لا يكون أمرا به وجوه و
تنقيح القول في المقام انه بحسب الواقع ومقام الثبوت يتصور على وجوه.
الأول: ان يكون الغرض مترتبا على نفس الامر الثاني بدون ان يكون غرض
للمولى في الفعل.
الثاني: ان يكون الغرض مترتبا على الفعل من دون دخل لتوسيط الامر الثاني فيه
الثالث: ان يكون الغرض مترتبا على الفعل في صورة توسيط الامر.
فعلى الأول، لا يكون الامر بالامر بشئ أمرا بذلك الشئ وعلى الأخيرين يكون
أمرا به، غاية الامر على الأول منهما لا موضوعية للامر، وعلى الثاني منهما له موضوعية
في ذلك هذا بحسب مقام الثبوت.
اما ما يقتضيه ظواهر الأدلة - فهو الوجه الأخير - وذلك: لأنه يدفع الاحتمال
الثاني، وهو كون الامر الذي تعلق به الامر مأخوذا على نحو الطريقية المحضة بحيث لا
دخل له في المصلحة والغرض أصلا ظهور الامر بالامر: إذ لو كان كذلك كان يأمر بالتبليغ
لا بالامر، فمقتضى مدلوله المطابقي نفى هذا الاحتمال، فما استظهره المحقق النائيني (ره)
من الأدلة، من اخذه طريقيا، غير صحيح.
وما أيد به الأستاذ الأعظم (دام ظله) ذلك، من أن هذا العرف ببابك فراجع الا ترى
انه لو امر المولى أحد عبيده ان يأمر الاخر باشتراء اللحم لا يشك أحد في كونه أمرا
باشتراء اللحم ويجب على المأمور الثاني الاشتراء وان لم يتوسط الامر.
يرد عليه، انه في أمثال هذا المورد انما يحرز من الخارج كون الغرض مترتبا
على الفعل فقط، فهي غير مربوطة بالمقام.
121

ويدفع الاحتمال الأول: ان الظاهر من الامر الذي امر به كما في ساير موارد
استعماله إرادة البعث الجدي منه لا الامر الصوري فقط، وعلى ذلك فمقتضى الظهور
تعين الاحتمال الثاني، فالظاهر من الأدلة كون الامر بالامر بشئ أمرا به مشروطا بما إذا
امر المأمور الأول، اللهم الا، ان يثبت عدم ترتب غرض على توسيط الامر الأول، فحينئذ
يكون أمرا به مطلقا هذا ما يقتضيه الأدلة الاجتهادية.
ولو لم يظهر من الأدلة شئ من هذه الاحتمالات فلابد من الرجوع إلى الأصل
العملي وهو يقتضى الاحتمال الأخير، لو دار الامر بين الاحتمالين الأخيرين. واما مع
الاحتمال الأول، فهو مقتضى الأصل، كل ذلك مما يقتضيه أصالة البراءة.
ويظهر ثمرة هذا البحث في شرعية عبادات الصبي وعدمها، وقد أشبعنا الكلام في
ذلك في الجزء الثامن من فقه الصادق في كتاب الحج.
الامر بشئ بعد الامر به.
الثالث عشر: إذا ورد امر بشئ بعد الامر به قبل امتثاله، فهل يوجب تكرار ذلك
الشئ، أو تأكيد الامر الأول، وجهان، والا ظهر هو حمل الامر على التأكيد وذلك
لوجهين:
الأول: ان ظاهر المادة هو ذلك إذ الطبيعة الواحدة لا يتعلق بها الامر تأسيسا مرتين،
ولا يعارض ذلك ظاهر الهيئة، فان ما قيل من ظهورها في التأسيس في نفسه - ممنوع - بناءا
على المختار في الانشاء من أنه ابراز للامر النفساني لا ايجاد لشئ كما تقدم. نعم، إرادة
التأكيد خلاف مقتضى البلاغة إذا لم يكن لنكتة مقتضية لذلك.
الثاني: ان حمل الامر على التأسيس يستلزم تقييد اطلاق المادة الواقعة في
حيز الخطاب الأول بفرد وتقييد المادة الواقعة في حيز الخطاب الثاني بفرد آخر، إذ كما أن
الطلب مرتين لا يتعلق بصرف وجود الطبيعة كذلك لا يتعلق أحدهما بصرف الوجود
والآخر بالفرد بل لا بد من تقييد كلا المتعلقين، وعليه فو سلم كون حمل الامر على التأكيد
خلاف الظاهر فليس بحد يصلح للمقاومة مع هذين الظهورين.
122

المقصد الثاني
النواهي
123

[...]
124

المقصد الثاني في النواهي
وفيه فصول، وقبل تنقيح القول في تلكم الفصول، لا بد من البحث في جهات:
الأولى: المشهور بين الأصحاب ان النهى بمادته وصيغته كالأمر بمادته وصيغته،
في الدلالة على الطلب غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود وفى الاخر العدم، - وبعبارة
أخرى - انهما مشتركان في المعنى الموضوع له وهو الدلالة على الطلب.
ولذلك قال المحقق الخراساني (ره) انه يعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا
تفاوت أصلا، نعم يختص النهى بخلاف وهو ان متعلق الطلب فيه، هل هو الكف؟ أو
مجرد الترك وان لا يفعل والظاهر هو الثاني، وتوهم ان الترك ومجرد ان لا يفعل خارج
عن تحت الاختيار، فلا يصح ان يتعلق به البعث والطلب فاسد، فان الترك أيضا مقدور والا
لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار، انتهى.
وأورد على ذلك جماعة من المحققين، بان النهى لا ينشأ من مصلحة لزومية
في الترك، ليقال ان مفاده طلبه، بل هو ناش من مفسدة لزومية في الفعل، وعليه فلا محالة
يكون مفاده الزجر والمنع عنه، ولذلك ذهبوا إلى أن النهى بما له من المعنى مادة وهيئة،
يباين الامر كذلك، فلا اشتراك بينهما في شئ أصلا، ولا فرق بينهما من حيث المتعلق، و
في الموردين المتعلق هو ايجاد الطبيعة، وانما الفرق من ناحية الموضوع له.
أقول، ما أفيد الايراد من أن الفرق بين الأمر والنهي انما هو من ناحية الموضوع
له ومن ناحية المنشأ وانه لا فرق بينهما من حيث المتعلق تام، ولكن ما ذكر من أن معنى
125

النهى هو الزجر والمنع عن الفعل فهو غير تام.
اما الدعوى الأولى فهي تتضح ببيان امر، وهو انه ربما يكون مصلحة في الترك
فيأمر المولى به ويصير الترك واجبا كالصوم، والايراد عليه بان الترك غير مقدور وخارج
عن تحت القدرة فلا يصح تعلق الطلب به، يندفع بما في الكفاية من أنه بقاءا مقدور
وذلك لا بمعنى تأثير القدرة في العدم، فان ذلك غير تام، إذ العدم ليس مستندا إلى القدرة
واثرا لها لتحققه قبلها، لا يعقل تأثير القدرة التي هي امر وجودي في العدم لعدم
السنخية بينهما، بل بمعنى انه لقدرة العبد على تبديل العدم بالوجود يصح التكليف بهما، و
كيف كان لا يصح النهى عن الفعل في هذا المورد، بل الترك يصير من الواجبات.
ثم إن الصور المتصورة لتعلق الامر بالترك أربع.
الأولى: ان يتعلق الامر بصرف ترك الطبيعة.
الثانية: ان يتعلق الامر بجميع تروك افراد الطبيعة بان تكون المصلحة قائمة بكل
واحد من التروك ويأمر المولى بترك الطبيعة ينحل ذلك إلى احكام عديدة، تعلق كل
واحد منها بترك فرد من افراد الطبيعة.
الثالثة: ان يتعلق الامر بمجموع التروك بحيث لو لم يترك فردا لما امتثل أصلا.
الرابعة: ان يتعلق الامر بأمر بسيط حاصل من مجموع التروك.
ولكن الصورة الأولى غير معقولة: إذ ترك فرد من الطبيعة من الافراد العرضية
والطولية متحقق لا محالة، لان المكلف لا يقدر على ايجاد جميع الافراد فالتكليف بترك
فرد منها لغو وصدوره من الحكيم محال.
لا يقال انه على هذا لابد من الالتزام بعدم معقولية الصورتين الأخيرتين بل الثانية
أيضا، إذ لو لم يكن المكلف قادرا على ايجاد جميع افراد الطبيعة لم يكن قادرا على ترك
جميعها إذ القدرة على أحد النقيضين عين القدرة على الاخر، فكيف يتعلق الامر بجميع
التروك أو مجموعها أو ما يحصل من المجموع.
فإنه يقال ان نقيض جميع التروك عبارة عن عدم الجميع ولو بفعل واحد فكما
ان الفعل الواحد مقدور كذلك جميع التروك، وغير المقدور انما هو الجمع في الوجود،
126

لا الجمع في الترك، فالصور الثلاث الأخيرة معقولة ولابد في كل مورد من ملاحظة
الدليل.
ويترتب على هذا ثمرة في ما إذا شك في صدق الطبيعة التي امر بتركها على فعل
خارجي لشبهة موضوعية، إذ في الصورة الأولى من الصور المعقولة، تجرى البراءة عن
وجوب ترك ذلك الفعل، عقلا وشرعا لرجوع الشك فيه، إلى الشك في جعل حكم
مستقل، وفى الصورة الثانية، جريان البراءة يبتنى على جريانها في الأقل والأكثر
الارتباطيين، وفى الصورة الثالثة لا يجرى، لأنه شك في المحصل، اللهم الا ان يلتزم
بجريانها فيما إذا كان بيان المحصل وظيفة الشارع، وتمام الكلام في ذلك محرر في
مسألة اللباس المشكوك فيه.
وربما تكون المفسدة في الفعل لا المصلحة في الترك، وفى هذا المورد لا معنى
للامر بالترك، بل لا مناص عن النهى عن الفعل، فما أفيد في الايراد من أن الامر بالفعل
والنهى عنه يشتركان في المتعلق والاختلاف بينهما انما هو في الموضوع له وانه في كل
منهما شئ يباين الاخر تام.
واما الدعوى الثانية وهي ان الفرق بينهما ليس ما ذكر من أن الامر موضوع للطلب
والنهى موضوع للزجر والمنع عن الفعل، بل الفرق بينهما من ناحية أخرى. اما في الامر فقد
مر في مبحث الأوامر، ان الطلب الذي بمعنى التصدي نحو المطلوب يكون من العناوين
التي تنطبق على الامر بعد تحققه ويكون الامر مصداقا له لا انه المعنى الموضوع له
والمستعمل فيه، وان الطلب الانشائي مما لا نتعقله.
بل حقيقة الامر اما عبارة عما افاده الأستاذ من أنه عبارة عن اعتبار كون المأمور به
في ذمة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة وابراز ذلك الاعتبار في الخارج
بمبرز كصيغة الامر أو ما يشبهها فالصيغة أو ما شابهها وضعت للدلالة على ابراز
ذلك الامر الاعتباري النفساني، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف، أو ما اختاره
المشهور وهو انه عبارة عن ابراز الشوق النفساني بالفعل، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت
للدلالة على ابراز شوق المتكلم بصدور الفعل عن المأمور.
127

واما في النهى فإذا حللنا النهى المتعلق بشئ، لا نرى شيئا غير شيئين. أحدهما:
اعتبار كون المكلف محروما عن ذلك الشئ باعتبار اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده
عنه، أو كراهة الناهي للفعل. ثانيهما: ابراز ذلك الامر النفساني في الخارج بمبرز كصيغة
النهى أو ما شاكلها، فالصيغة أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على ابراز ذلك الامر النفساني
لا للزجر والمنع، نعم هي مصداق لهما.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأمر والنهي، مختلفان بحسب المعنى، ومتحدان
بحسب المتعلق، فما اخترناه هو عكس ما ذهب إليه المشهور، من أنهما متحدان بحسب
المعنى، مختلفان بحسب المتعلق.
اقتضاء النهى ترك جميع الافراد
الجهة الثانية: انه بعد مالا كلام في أن النهى كالأمر، لا يدل على الدوام والتكرار، و
أيضا لا كلام في أن الامر المتعلق بالطبيعة انما يكون امتثاله باتيان فرد منها، واما النهى
المتعلق فلا يمتثل الا بترك جميع الافراد، وقع الكلام في وجه ذلك.
وقد ذكر القوم في وجه ذلك، ان الامر انما يكون متعلقا بصرف ايجاد الطبيعة
في الخارج، فهو لا يقتضى الا ايجادها في ضمن فرد ما ضرورة ان صرف الوجود يتحقق
بأول وجودها وبه يتحقق الامتثال ويحصل الغرض، ومعه لا مجال لايجادها في ضمن
فرد آخر، واما في طرف النهى فبما انه صرف ترك الطبيعة، فلا محالة لا يمكن تركها الا
بترك جميع افرادها في الخارج العرضية والطولية ولا تنعدم الا بانعدام جميع الافراد.
وقد أورد على ذلك بعض أساتيذنا المحققين (ره) بان الطبيعة توجد بوجودات
عديدة، ولكل وجود عدم، وهو بديله ونقيضه، ولا يكون نقيض الوجود الخاص الا
العدم الخاص، لا عدم الافراد الاخر. وحينئذ إذا لوحظت الطبيعة في مقام الحكم أمرا أو
نهيا بنحو تسرى إلى جميع الافراد، فكما ان النهى عنها يقتضى طلب ترك جميع الافراد
ولا يتحقق الامتثال، الا بترك الجميع، كذلك الامر لا يمتثل الا بايجاد جميع الافراد، و
128

أما إذا لوحظت في مقام الحكم بنحو صرف الوجود، فكما ان الامر لا يقتضى الا وجودا
واحدا، كذلك النهى لا يقتضى الا ترك فرد ما، فالمغالطة انما تكون من جهة انه يؤخذ
الطبيعة في مقام تعلق الامر بنحو صرف الوجود وفى مقام تعلق النهى بنحو مطلق الوجود.
أقول، انه بناءا على أن يكون النهى عبارة عن طلب ترك الطبيعة، يتم ما ذكره
القوم، ولا يرد عليهم هذا الايراد، وهو يتضح بعد بيان مقدمتين. الأولى: ان الوجود
الخارجي كما أنه وجود لماهية شخصية، وجود للطبيعة أيضا، - وبعبارة أخرى - كلي
الطبيعي موجود في الخارج. الثانية: ان الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شئ
منها في الحكم لا الجمع بين القيود ودخل جميع الخصوصيات، فعلى هذا يتم ما ذكره
القوم وايراده (قده مبنى على اخذ الخصوصيات في الحكم - والا - فإذا لوحظت الطبيعة
وطلب ايجادها فهي توجد بوجود فرد واحد، لما عرفت في المقدمة الأولى، وإذا طلب
تركها فهو لا يكون الا بعدم وجود فرد منها، ومن هنا قالوا، ان نقيض السالبة الكلية
الموجبة الجزئية.
ولكن الصحيح ان يورد عليهم بضعف المبنى كما تقدم، وان النهى عبارة عن ابراز
الكراهة عن الفعل لا طلب للترك وان متعلق الأمر والنهي شئ واحد، وعليه، فيقع الكلام
في بيان الفارق.
وتنقيح القول في المقام يقتضى البحث في موارد، الأول: في الافراد العرضية.
الثاني: في الافراد الطولية. الثالث: انه إذا عصى النهى في زمان وتحقق الفعل فبأي شئ
يحكم بوجوب ترك الباقي بعد ذلك.
اما المورد الأول: وهو انه لماذا يقتضى النهى ترك جميع الافراد العرضية، فالحق
فيه ان يقال، انه لا يخلو الامر من أن تكون المفسدة في جميع الافراد، ويكون في كل
وجود مفسدة خاصة، أو تكون في مجموع الوجودات مفسدة واحدة، أو تكون المفسدة
في قسم خاص من الطبيعة كالكذب لغير الاصلاح، أو تكون في أول الوجودات مفسدة،
فباطلاق الدليل ينفى الاحتمال الثالث، واما الاحتمال الثاني فمضافا إلى أنه، يدفع
بالاطلاق إذ لو كان كذلك وكان نهى واحد متعلقا بالمجموع لزم تقييد متعلقه بانضمام
129

بعض الوجودات إلى بعض: ان مثل هذا التكليف لغو: إذا لا يوجد مكلف يوجد جميع
الافراد فلا محالة يترك بعضها، فيبقى الاحتمال الأول والأخير، وعلى كل تقدير يجب
ترك جميع الوجودات اما على الأول فواضح، واما على الأخير، فلان كل فرد وجد فهو
أول الوجودات
واما المورد الثاني: وهو انه لماذا يقال باقتضاء النهى لترك جميع الافراد الطولية،
فقد ظهر حكمه مما ذكرناه، بضميمة ان مقتضى اطلاق النهى عدم اختصاصه بزمان
خاص، بل لا يكون للزمان دخل في هذا الحكم: إذ على ذلك بعد فرض عدم كون
المفسدة في مجموع الوجودات ولا في قسم خاص من الطبيعة، كانت المفسدة في جميع
الوجودات، أم في أول ما يوجد، كان اللازم ترك جميع الافراد كما لا يخفى
واما المورد الثالث: وهو انه إذا خولف النهى وتحقق أول الوجودات لماذا يجب
الترك في الأزمنة المتأخرة.
أقول ان الحكم في هذا المورد، يدور مدار كون المفسدة في جميع الوجودات، و
كونها في أول الوجودات، إذ على الأول يجب الترك وعلى الثاني لا يجب، والمدعى
ان الظاهر من دليل النواهي كون المفسدة من قبيل الأول، خلاف ما هو ظاهر دليل الامر:
فان ظاهره كون المصلحة في صرف الوجود لا في جميع الوجودات ولنا في اثبات الفرق
وكون النهى من قبيل الأول طريقان:
الأول: الغلبة الموافقة للارتكاز والفهم العرفي، فان الغالب ترتب المصلحة على
صرف الوجود، والمفسدة القائمة بالطبيعة التي لم يؤخذ فيها قيد من القيود بجميع
الوجودات، وان شئت فاختبر ذلك من حال نفسك فيما إذا رأيت مصلحة في فعل من
عبدك ومفسدة فيه بالنسبة إلى الاخر وهذه الغلبة قرينة عامة على أن النهى متعلق بكل فرد
بحيث لو كان متعلقا بصرف الوجود كان محتاجا إلى نصب قرينة عليه، والامر بعكس
ذلك، وهذا الفرق انما نشأ من قبل المصلحة والمفسدة لا من قبل الأمر والنهي، ولا من
قبل متعلقهما.
الثاني: ان التقييد بأول الوجودات مخالف للاطلاق في كلا الموردين، بل
130

مقتضى الاطلاق ثبوت الحكم ايجابيا كان أم تحريميا في جميع الافراد ولكن في الامر
قامت قرينة عامة على أن المتعلق صرف الوجود لملاحظة المصالح القائمة بالطبايع،
- وبعبارة أخرى - حيث إن ايجاد جميع الافراد الطولية والعرضية غير مطلوب، اما لعدم
القدرة، أو لغيره فلا محالة يكون المتعلق صرف الوجود.
واما ما ذكره الأستاذ الأعظم في مقام الفرق بين الأمر والنهي: بأنه بما ان الانزجار
عن بعض الافراد حاصل فيستحيل الزجر عنه فلا بد من تعلقه بكل واحد مستقلا ليترتب
عليه انزجار المكلف عن ارتكابه، وهذا بعكس الامر، حيث إن العبد لا يتمكن من اتيان
جميع الافراد، فلا محالة يكون الطلب متعلقا ببعض افراده، وبما انه غير مقيد بحصة
خاصة، يكون مقتضى الاطلاق جواز الامتثال بكل فرد أراد المكلف ايجاده.
فيرد عليه ان ما ذكر من البرهان في النهى انما يقتضى نفى احتمال كون المتعلق فردا
واحدا من الافراد مرددا بينها، واما احتمال كون المتعلق خصوص أول الوجودات فلا ينفى
بذلك.
العموم المستفاد من النهى استغراقي
الجهة الثالثة: قد مر سابقا ان مقتضى اطلاق دليل النهى هو العموم بالإضافة إلى
الافراد الطولية كاقتضائه العموم بالنسبة إلى الافراد العرضية، والبحث في هذه الجهة
ان اطلاق دليل الامر المستفاد منه العموم انما يكون مقتضيا لكون العموم في متعلق الامر
بدليا، وقد يكون مجموعيا، كما أنه في طرف الحكم الوضعي يكون مجموعيا، والأول
كما في أوفوا بالعقود، فان المستفاد عرفا من اطلاق الآية الكريمة وان كان هو العموم
الاستغراقي بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية للعقد، ولكن المستفاد منه بالإضافة
إلى الوفاء الذي تعلق به الامر هو العموم المجموعي لوضوح ان الوجوب الثابت للوفاء
بكل فرد من العقد في جميع الآنات والأزمنة، وجوب واحد مستمر وليس الثابت في كل
آن وزمان وجوبا غير الوجوب الثابت له في زمان آخر، والثاني، كما في أحل الله البيع
131

فان المستفاد منه بالإضافة إلى الافراد العرضية والطولية للبيع هو العموم الاستغراقي الا ان
الحلية الثابتة لكل فرد من افراد البيع في جميع الأزمنة حلية واحدة مستمرة.
واما في طرف النهى فلا يلتزمون بذلك بل بنائهم على أن العموم المستفاد من
اطلاق دليله انما يكون استغراقيا ويكون ثبوت الحرمة له في كل زمان غير الحرمة الثابتة
في زمان آخر.
ولذلك تصدى المحقق النائيني (ره) لبيان الفرق، ما إليك نصه واما انحلال
النهى بالنسبة إلى الافراد الطولية وبقائه في الان الثاني بعد امتثاله في الان الأول بأحد
وجهين الأول ان يؤخذ الزمان في ناحية المتعلق بان يكون شرب الخمر في كل زمان مثلا
محكوما بالحرمة فيكون الشرب في الان الثاني حراما وان امتثل النهى في الان الأول
بترك تمام افراد الطبيعة الثاني ان يؤخذ الزمان في ناحية الحكم بان يكون الحكم المتعلق
بترك الطبيعة باقيا في الأزمنة اللاحقة وبما انه لا دليل على اخذ الزمان في ناحية المتعلق
ولا معنى لتحريم شئ يسقط بامتثاله آنا ما كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم
في الأزمنة اللاحقة أيضا انتهى.
ويرد عليه أولا ما عرفت من أن استفادة العموم بالإضافة إلى الافراد الطولية أيضا
بالاطلاق، فما افاده من أن انحلال النهى بالإضافة إلى الافراد الطولية يتوقف على أحد
أمرين، اما اخذ الزمان في ناحية المتعلق، أو اخذه في ناحية الحكم، غير سديد: لما مر من
عدم توقفه على شئ منهما وثانيا انه لو سلم انه لابد من اخذ الزمان في ناحية المتعلق
أو الحكم: ان دليل الحكمة يعين اخذه في المتعلق لان اطلاق المتعلق وعدم تقييده بزمان
مخصوص يقتضى ثبوت الحكم له في كل زمان على نحو العموم الاستغراقي.
والحق ان الفارق هو الفهم العرفي كما تقدم، وكيف كان فتنقيح القول في
هذا المقصد بالبحث في فصول:
132

اجتماع الأمر والنهي
الفصل الأول: في اجتماع الأمر والنهي وقبل الشروع في البحث في المقصود يقدم
أمور:
الأول: انه حيث يعنون المسألة هكذا، هل يجوز اجتماع الأمر والنهي أم لا؟
فلذلك توهم ان النزاع في المقام كبروي بمعنى ان موضوع المسألة اجتماع الأمر والنهي
في واحد ومحمولها الجواز أو الامتناع.
والتحقيق ان النزاع ليس في ذلك فان اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد محال
حتى عند من يجوز التكليف بالمحال كالأشعري، فان اجتماعهما في نفسه محال لأنه
مستلزم لاجتماع المحبوبية والمبغوضية في واحد وهو ممتنع، لا انه تكليف بالمحال.
بل النزاع انما يكون صغرويا، وانه لو تعلق الامر بطبيعة كالصلاة مثلا وتعلق النهى
بطبيعة أخرى كالغصب واتفق انطباق الطبيعتين على شئ واحد، وهو الصلاة في الدار
المغصوبة، فيقع الكلام في أنه، هل يسرى النهى من متعلقه إلى ما ينطبق عليه الطبيعة
المأمور بها، نظرا إلى كون المجمع موجودا بوجود واحد، أم لا يسرى لتعدد المجمع و
كونه موجودا بوجودين، - وبعبارة أخرى - محل الكلام ان التركيب بين الطبيعتين في
محل الاجتماع، هل هو اتحادي فيتعين القول بالامتناع، أو انضمامي فيتعين القول
بالجواز.
المراد بالواحد
الثاني: قال المحقق الخراساني المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجا
تحت عنوانين بأحدهما كان موردا للامر وبالاخر للنهي وان كان كليا مقولا على كثيرين
كالصلاة في المغصوب وانما ذكر لاخراج ما تعدد متعلق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجودا
وان جمعهما واحد مفهوما كالسجود لله والسجود للصنم لا لاخراج الواحد الجنسي
أو النوعي كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية انتهى.
133

أقول ان صاحب الفصول لما رأى أنه لو عمم محل النزاع إلى الواحد النوعي
والجنسي، لزم دخول مثل السجود لله المأمور به، والسجود للصنم المنهى عنه في محل
البحث، مع أنه خارج عن محل البحث قطعا، خص الواحد بالواحد الشخصي.
والمحقق الخراساني لما رأى أن التخصيص يترتب عليه محذور آخر، وهو لزوم
خروج الكلى المنطبق عليه عنوانان أحدهما مأمور به والاخر منهي عنه كالحركة المعنونة
بالصلوتية والغصبية التي هي تصدق على كثيرين مع أنه لا وجه له، التزم بالتعميم مقيدا
يكون الواحد مندرجا تحت عنوانين ليخرج مثل السجود لله والصنم الذي هو واحد
نوعي، الا انه ليس مندرجا تحت عنوانين بل يكون منقسما إليهما وتحته عنوانين،
- وبعبارة أخرى - التزم بان المراد بالواحد هو الواحد في الوجود ليشمل الواحد النوعي
المنطبق عليه عنوانان، الذي لازم ذلك، تصادقهما على فرد واحد في الخارج ويخرج
السجود لله وللصنم، حيث إنهما لا ينطبقان في الخارج على وجود واحد وفرد شخصي
خارجي فتدبر فإنه دقيق.
ولكن يرد على المحقق الخراساني ان المراد بالواحد هو الواحد الشخصي لا
للمحذور المتقدم المترتب على التعميم كي يدفع بما ذكر، بل لان للقائلين بعدم الاجتماع
مسلكين، أحدهما: ان متعلق الامر طبيعة ومتعلق النهى طبيعة أخرى، ويكون الخارج
مقدمة لايجادهما، لا مصداقا لهما، وعلى هذا لا يسرى الأمر والنهي إلى الخارج حتى
يكون النزاع في خصوص الواحد الشخصي، أم يعم الواحد النوعي. ثانيهما: انهما يسريان
إلى الخارج ولكنه في الخارج وجودان منضمان لا وجود واحد، وعلى هذا فيسري كل
منهما إلى الخارج أولا بلا واسطة شئ حتى تكون الواسطة هو الواحد، النوعي: لان متعلق
الأوامر والنواهي حقيقة هو الوجود الخارجي، واما القائلون بالاجتماع، فهم يقولون انه
يسرى كل منهما إلى الخارج، وفى الخارج وجود واحد، وعلى هذا القول يسريان
إلى الخارج أولا وبلا واسطة شئ وبديهي ان الوجود الخارجي، ليس واحدا نوعيا، إذ
الوجود مساوق للفردية، فيكون النزاع في الواحد الشخصي لاغير.
134

بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهى في العبادات
الثالث: في بيان الفرق بين هذه المسألة، ومسألة النهى في العبادات، وملخص
القول فيه، ان هيهنا نزاعين. أحدهما: في سراية كل من الأمر والنهي إلى متعلق الاخر
وعدمه. ثانيهما: بعد الفراغ عن عدم السراية، هل يقع التزاحم بين الحكمين أم لا؟
اما في النزاع الأول: لو اخترنا عدم السراية وحكمنا بالجواز وبنينا على أن متعلق
الامر غير متعلق النهى، فأجنبية المسألة عن تلك المسألة واضحة، ولو اخترنا السراية،
فيقع التعارض والتكاذب بين الدليلين، فان قدمنا جانب الامر وحكمنا بسقوط النهى فلا
نهى كي يشتبه هذه المسألة بتلك المسألة، وان قدمنا جانب النهى، فيدخل في تلك
المسألة بمعنى انه بهذه المسألة يثبت صغرى من صغريات تلك المسألة.
واما في النزاع الثاني: فان لم يكن هناك مندوحة يقع التزاحم بين الحكمين، و
حينئذ لو بنينا على اشتراط القدرة في متعلق التكليف لابد من سقوط أحدهما اما الامر
أو النهى، واما على القول بعدم الاشتراط يكون التكليفان باقيين، غاية الامر لا يجب امتثالهما
إذ لا ريب في اعتبارها في حكم العقل بلزوم الامتثال.
وان كان هناك مندوحة فعلى القول باشتراط القدرة يقع التزاحم بين اطلاق دليل
الأمر والنهي فان قدم النهى يصير هذا الفرد غير مأمور به ولا يصح اتيانه بداع الامر المتعلق
بالطبيعة، وعلى أي حال لا يصير منهيا عنه، وان قدم الامر، فلا نهى، واما بناءا على عدم
اشتراط القدرة، فهذا الفرد أيضا مأمور به ولا تزاحم بينهما إذ هما أي الأمر والنهي قابلان
للامتثال، وعلى جميع التقادير تكون هذه المسألة من الجهة الثانية من النزاع أجنبية عن
مسألة النهى في العبادات بالمرة.
وفى المقام وجهان، آخران للفرق ذكرهما الأصحاب.
أحدهما: ما افاده صاحب الفصول وحاصله ان النزاع في هذه المسألة انما هو فيما
إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات وان كانت النسبة بينهما
العموم المطلق كما إذا امر المولى عبده بالحركة ونهاه عن القرب في مكان مخصوص.
135

والنزاع في تلك المسألة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدان حقيقة ومختلفان
بمجرد الاطلاق والتقييد بان يتعلق الامر بالطبيعة المطلقة كالصلاة والنهى بحصة خاصة
منها كالصلاة في الدار الغصبية.
ويرد عليه انه إذا كان جهة البحث في المسألتين واحدة وكذلك الغرض، مجرد
اختلافهما موضوعا أو محمولا لا يوجب عقد مسألتين، فإذا كان ملاك البحث في تلك
المسألة موجودا في هذه المسألة وكان الغرض المترتب عليها مترتبا على تلك أيضا وهو
فساد العبادة لا اثر لمجرد الاختلاف المشار إليه.
ثانيهما: ان البحث في تلك المسألة لفظي، فإنه يبحث عن دلالة النهى على
فساد العبادة، وفى المقام عقلي فان الحاكم بالجواز أو الامتناع بملاك تعدد المجمع في
مورد الاجتماع ووحدته فيه هو العقل ولا ربط للفظ في البحث عنها.
وفيه أولا: سيأتي ان البحث في تلك المسألة أيضا عقلي ولا صلة له بعالم اللفظ
أصلا. وثانيا: انه مع الامتياز الذاتي بين المسألتين كما قدمناه لا نحتاج إلى امتياز عرضي
بينهما.
مسألة اجتماع الأمر والنهي من المسائل الأصولية
الرابع: في أن هذه المسألة، هل هي من المسائل الفقهية، أو من المسائل الكلامية،
أو من المبادئ التصديقية، أو الاحكامية، أو من المسائل الأصولية، وجوه وأقوال:
الأول: قد يقال انها من المسائل الفرعية، لأنه يبحث فيها عن عوارض فعل
المكلف وهي صحة العبادة باتيان المجمع وامتثال الامر باتيان مصداق من الطبيعة
المأمور بها، إذا انطبق عليه طبيعة منهي عنها أم لا؟
وفيه: انه لم يعنون المسألة هكذا، بل محل الكلام في هذه المسألة، انه، هل يلزم
اجتماع الحكمين في فعل واحد أم لا؟ واما صحة الاتيان بالمجمع وعدمها فهي من
ثمرات هذا البحث لا ان ذلك محل الكلام.
136

الثاني: انها من المسائل الكلامية، وقد ذكروا لذلك وجهين:
أحدهما: ما افاده المحقق النائيني (ره) من أنه يبحث فيها عن استحالة اجتماع
الحكمين في مورد واحد وجوازه.
وفيه: ما عرفت من أنه ليس كل ما يبحث فيه عن الامكان والاستحالة، مسألة
كلامية الا ترى انه يبحث في علم الحساب، عن انه، هل يمكن تقسيم الأعشار على
المتعارف، أم لا؟ فهل يتوهم أحد كون هذه المسألة من المسائل الكلامية.
ثانيهما: انه يبحث في هذه المسألة عن انه، هل يجوز للمولى ويمكن له ان يأمر و
ينهى عن الموجود الخارجي الذي ينطبق عليه عنوان مبغوض، وعنوان محبوب، أم لا
يجوز؟
وفيه: ان كل مسألة يبحث فيها عن الامكان والاستحالة ليست من المسائل
الكلامية، بل هي عبارة عن المسائل التي يبحث فيها عما يجوز للمولى ويمتنع عليه بما هو
مولى كالظلم له تعالى، واما البحث عن امكان الشئ واستحالته في نفسه كإعادة
المعدوم، وان عنوان البحث بأنه، هل يجوز للمولى ذلك، أم لا؟ فلا يوجب كون المسألة
كلامية، والمقام من قبيل الثاني: إذ البحث انما هو عن الجواز والامتناع بالنسبة إلى الشئ
نفسه كان الآمر والناهي، هو الله تعالى، أم غيره، فلو جاز جاز له ولغيره، كما أنه لو امتنع
امتنع لهما.
الثالث: انها من المبادي الأحكامية، بناءا على ثبوتها وعدم كونها من المبادئ
التصديقية، وهي ما يبحث فيها عن حال الاحكام بما هي من كونها مجعولة استقلالية، أو
انتزاعية ومن حيث اشتراطها بشروط عقلية، وعن ملازماتها، مثل البحث عن استلزام
وجوب الشئ للنهي عن ضده.
وتقريب كونها منها ما افاده المحقق النائيني وهو انه يبحث فيها عن استلزام حرمة
الشئ ووجوبه لعدم الاخر وعدم استلزامه له.
ولكن يرد عليه: ان البحث في المقام انما هو في لزوم اجتماع الحكمين في واحد و
عدمه، ولا يبحث عن استلزام كل من الوجوب والحرمة لعدم الاخر.
137

والأولى: في تقريبه ان يقال: ان من مباحث هذه المسألة سراية كل من الأمر والنهي
إلى متعلق الاخر وعدمها، وهذه عبارة أخرى عن، استلزام الامر بعنوان، والنهى عن عنوان
آخر المنطبقين على شئ واحد، اجتماع الحكمين في شئ واحد، وعدمه، وعليه فان
وقعت هذه المسألة في طريق استنباط الحكم الشرعي، تكون من المسائل الأصولية، والا
فهي من المبادئ الأحكامية.
الرابع: كونها من المبادئ التصديقية فقد اختاره المحقق النائيني، وذكر في وجهه،
انه لا يترتب فساد العبادة على القول بالامتناع، بل القول به يوجب دخول دليلي الوجوب
والحرمة في باب التعارض واجراء احكامه عليهما ليستنبط من ذلك حكم فرعى، وعليه
فالنزاع من الجهة الأولى يدخل في مبادئ بحث التعارض، كما أن النزاع في الجهة الثانية
يدخل في مبادئ بحث التزاحم.
وبالجملة استنباط الحكم الفرعي، انما يكون متوقفا على اجراء احكام التعارض،
أو التزاحم ولا يترتب على هذه المسألة نتيجة فرعية، بعد ضم صغرى نتيجة تلك المسألة
إليها.
أقول لو كان المراد من الحكم الفرعي المستنتج من هذه المسألة، الصحة، والفساد
كانت هذه المسألة كما أفيد من المبادئ التصديقية، إذ على الامتناع، يدخل دليلا الوجوب
والحرمة في باب التعارض، فبضميمة اجراء احكامه عليهما يستنتج حكم فرعى، وعلى
الجواز من الناحية الأولى، يدخلان في باب التزاحم، فبضميمة اجراء احكامه يستنتج
الصحة، أو الفساد، وما ذكره الأستاذ الأعظم ايرادا على المحقق النائيني من أنه يترتب على
هذه المسألة، صحة العبادة على القول بالجواز، وهذا المقدار يكفي في كون المسألة
أصولية، وان كان على القول بالامتناع لا يستنبط الفساد الا بعد ضم اجراء احكام
التعارض.
غير سديد إذ استنباط الصحة على القول بالجواز انما يكون بعد اجراء احكام
التزاحم أيضا.
ولكن يرد عليه ان الصحة والفساد ليستا من الأحكام الشرعية، فإنهما ينتزعان من
138

مطابقة الماتى به للمأمور به، وعدمها، فترتبهما ليس مناط كون المسألة أصولية، فلا بد وأن يكون
المراد من الحكم الفرعي الوجوب والحرمة.
وهو بهذا المعنى يستنتج من نفس هذه المسألة بلا احتياج إلى ضم شئ آخر إليها،
إذ بناءا على السراية يكون الثابت في المجمع حكما واحدا، وعلى الجواز وعدم السراية
يستنتج ان المجمع محكوم بحكمين.
فان قيل إنه ما لم ينضم إليه مسألة أخرى، وهي مسألة التزاحم لا يمكن الحكم
بكونه محكوما بحكمين، أجبنا عنه بان التزاحم انما يكون في مقام الامتثال بعد ورود
الحكم الشرعي من قبل الشارع، وان شئت فقل ان نتيجة هذا البحث على الجواز ثبوت
حكمين مشروطين بالقدرة، هذا بناءا على اعتبار القدرة في الحكم الشرعي واما بناءا على
عدم اعتبارها فالامر أوضح من ذلك، إذ لا يسقط شئ منهما، بل هما باقيان على كل
تقدير.
فالمتحصل مما ذكرناه ان هذه المسألة من المسائل الأصولية: لأنها تقع نفسها بلا
ضم مسألة أخرى إليها في طريق استنباط الحكم الشرعي، وقد مران هذا هو الملاك في
كون المسألة أصولية.
هذه المسألة من المسائل العقلية
الخامس: الظاهر أن هذه المسألة من المسائل العقلية لا اللفظية، وليس الوجه فيه ما
افاده المحقق الخراساني (ره) من أنه لا اختصاص للنزاع في الجواز والامتناع بما إذا كان
الايجاب والتحريم باللفظ، فإنه وان كان محل النزاع خصوص ذلك لم تكن لفظية فان
مناط كون المسألة عقلية، عدم كون النزاع في تحديد مدلول اللفظ وبديهي ان محل الكلام
في هذه المسألة ليس ذلك كان النزاع في اجتماع الأمر والنهي المدلولين للفظ أم
في الإرادة والكراهة والاعتبارات النفسانية - بعبارة أخرى - انه وان كان محل النزاع جواز
اجتماع الطلب المستفاد من الامر والزجر المستفاد من النهى وعدمه لما كانت المسألة
139

لفظية، بل تكون مع ذلك عقلية: لأنه بديهي ان محل الكلام ليس هو تحديد مدلول
اللفظ.
وقد يقال انه حيث يكون من جملة الأقوال في المسألة الجواز عقلا والامتناع عرفا
كما نسب إلى المحقق الأردبيلي (ره) فلا محالة تكون المسألة لفظية إذ معنى الامتناع
العرفي دلالة اللفظ بواسطة الملازمة العرفية على ذلك، بان يدل دليل الامر على وجوب
ما تعلق النهى به، ودليل النهى على حرمة ما تعلق به الامر فلا محالة يقع التنافي بين الدليلين.
وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بان المراد من الامتناع العرفي ليس ما ذكر بل
مراده منه ان الموضوع وان كان بحسب الدقة العقلية متعددا في مورد التصادق، الا انه
يكون بالنظر المسامحي العرفي واحدا، فالعقل هو الحاكم بالامتناع بعد تشخيص
الموضوع بنظر العرف لا ان اللفظ يدل عليه.
أقول انه قد تكرر منا ان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم سعة وضيقا، واما
في مقام تطبيق المفاهيم على المصاديق فلا يعتنى به، بل يضرب على الجدار، وعليه فان
كان مدعى هذا القائل ما افاده المحقق الخراساني، فهو بديهي البطلان، وان كان مراده
دلالة اللفظ على سراية كل من الأمر والنهي من متعلقه إلى متعلق الاخر، فيرده ان
ملاك السراية وعدمها وحدة المجمع في مورد التصادق وتعدده، فان كان واحدا بحسب
الواقع فلا مناص من القول بالامتناع والسراية، وان كان متعددا في الواقع، فان قلنا بسراية
الحكم من أحد المتلازمين إلى اللازم الاخر، فأيضا لابد من القول بالامتناع، وان قلنا بعدم
السراية كما هو الحق، فلا بد من الالتزام بالقول بالجواز، والملاك في وحدة المجمع
وتعدده انما هو نظر العقل لا العرف كما تقدم.
وربما يقال في وجه كون الامتناع عرفيا وصيرورة المسألة لفظية: بأنه يبحث في أنه
، هل يكون المتفاهم العرفي من الأدلة الدالة على وجوب الصلاة أو نحوها. بعد
ملاحظة دليل النهى عن التصرف في مال الغير مثلا انما هو وجوب حصة خاصة
من الصلاة، وهي الحصة التي لا تقع في مال الغير، فيكون الحصة الواقعة في ملك الغير
منهيا عنها فحسب ولا تكون مصداقا للمأمور بها ومآل ذلك إلى تخصيص دليل
140

المأمور به بغير موارد المنهى عنه وهذا معنى امتناع اجتماعهما في شئ واحد، أم لا
يكون المتفاهم العرفي ذلك.
وفيه أولا: ان ذلك لا ربط له بما هو محل الكلام، فان محل الكلام ما لو كان
المجمع مشمولا لدليل الأمر والنهي معا والمفروض في ذلك تخصيص الامر
بغير المجمع، ولا موضوع حينئذ للنزاع في جواز الاجتماع وامتناعه كما هو واضح.
وثانيا: انه لا وجه للدعوى المزبورة أصلا فان تخصيص الدليل بحصة خاصة
من الطبيعية المأمور بها يحتاج إلى دليل يدل عليه ودلالة دليل النهى على ذلك بعد كون
النسبة بينهما عموما من وجه تتوقف على القول بالامتناع وتقديم جانب النهى، أو الجواز
وأهمية دليل النهى وسيأتي الكلام في الموردين.
جريان النزاع في جميع أنواع الأمر والنهي
السادس: الظاهر جريان النزاع في جميع أنواع الأمر والنهي ما عدا التخييريين منهما
سواء أكانا نفسيين، أم غيريين، أم تعينيين، أم عينيين، أم كفائيين، فلنا دعويان:
الأولى: جريان النزاع في جميع أنواعهما. والوجه فيه انه قد عرفت ان القول
بالامتناع يبتنى على أحد أمرين، اما كون المجمع واحدا وجودا، أو الالتزام بسراية الحكم
من أحد المتلازمين بحسب الوجود إلى الملازم الاخر والقول بالجواز يبتنى على أمرين:
أحدهما: تعدد المجمع. الثاني: عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الاخر، وعليه
فحيث انه بديهي استحالة اجتماع الحكمين في شئ واحد كان الحكمان نفسيين أم
غيريين أو عينيين أم كفائيين، فلا محالة يكون النزاع في جميع أنواعهما.
ودعوى: ان عنوان المسألة لا يعم جميع الأقسام وان كان الملاك عاما لان
المأخوذ في العنوان هو الأمر والنهي وقد مر انصرافهما إلى النفسيين العينيين التعينيين.
مندفعة، بان هذين اللفظين ربما يطلقان في مقام الاخبار مثل: قولنا الأمر والنهي
لا يجتمعان. وقد يطلقان في مقام الانشاء ومقتضى الاطلاق في المورد الأول هو الشمول
141

لجميع الأقسام ومقتضاه في الثاني هو الحمل على النفسيين العينيين التعينيين كما تقدم
الكلام في ذلك مفصلا.
واما ما افاده المحقق الخراساني (ره) في مقام الجواب من أن الانصراف المشار
إليه لو سلم فإنما هو في صيغتهما لا في مادة الأمر والنهي، مع، ان الانصراف المذكور انما
هو بمقتضى مقدمات الحكمة لا بمقتضى الانصراف اللفظي أو الانسباق الالحاقي المستند
إلى الوضع.
فيرده، ان الانصراف لو تم فإنما هو في الموردين. فان منشأ الانصراف هو المعنى
لا اللفظ كي يفرق بين الصيغة المستعملة في مقام الانشاء ومادة الامر أو النهى المستعملة
فيه. وادعاء اختصاص العنوان ليس مبنيا على الانسباق الحاقي، بل على ظهور الكلام كان
لذلك، أم من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة.
فالصحيح في الجواب ما ذكرناه مع أن اختصاص العنوان لا يوجب اختصاص
البحث بعد كون الملاك عاما.
واما الدعوى الثانية وهي عدم جريانه في التخييريين منهما، فلانه لا نتصور للحرمة
التخييرية معنى قابلا لان تجتمع مع الايجاب في مورد: إذ بناءا على كون الحرمة ناشئة
عن المفسدة والمبغوضية مرد الحرمة التخييرية إلى حرمة الجمع بين الفعلين باعتبار قيام
مفسدة ملزمة بالمجموع، لا بالجامع بينهما، والا لكان كل من الفعلين محرما بالحرمة
التعينية لفرض انحلال النهى المتعلق بالجامع إلى نواه عديدة، بعدد ما للجامع من الافراد
فيثبت لكل واحد منهما نهى مستقل، وهذا بخلاف الايجاب فان مرد الوجوب التخييري
إلى ايجاب الجامع بين شيئين أو الأشياء لقيام مصلحة واحدة ملزمة بفرد واحد من ذلك
الجامع بلا دخل لخصوصية من الخصوصيات فيه.
وعلى ذلك فان اتى بالمجمع الذي هو مصداق لاحد طرفي الوجوب واحد
فردي التخييري من الحرمة، كما لو امر بالصلاة أو الصوم تخييرا، ونهى عن التصرف
في الدار والمجالسة مع الأغيار كذلك، فصلى فيها، فان لم يجلس مع الأغيار لا يكون
تصرفه في الدار حراما، فيتمحض المجمع في الوجوب، وان جالس معهم فيكون تصرفه
142

في الدار محرما بالحرمة التعينية غايته الضمنية لفرض ان المحرم هو مجموع الفعلين.
وبما ذكرناه يظهر ان ما افاده المحقق الخراساني في أن النزاع يجرى في التخييرين
أيضا، ومثل له بالمثال المذكور وقال فصلى فيها مع مجالستهم كان حال الصلاة فيها
حالها كما إذا امر بها تعيينا ونهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع ومجيئ أدلة
الطرفين، غير تام فان المفروض فيما افاده الحرمة التعينية لا التخييرية كما مر.
واما ما مثل به في الفوائد، وهو ما إذا امر بكل من الصلاة والصوم تخييرا ونهى عن
كل من الشرب والدخول في الحمام تخييرا، فصلى في الحمام، وقال هذه الصلاة كالصلاة
في الغصب من حيث جريان النزاع فيها، فان كان مراده الصلاة في الحمام من دون ان
يشرب فالمجمع لا حرمة فيه، وان كان مع الشرب ورد عليه ما أوردناه على ما في الكفاية.
اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع
السابع: صرح صاحب الفصول (ره) والمحقق القمي (ره) والمحقق الخراساني
في الفوائد بأنه لا بد من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة بل قال صاحب
الفصول ان من تركه فقد اتكل على الوضوح لظهور اعتباره.
ولكن قال المحقق الخراساني في الكفاية والتحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما
هو المهم من محل النزاع من لزوم المحال وهو اجتماع الحكمين المتضادين، وعدم
الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه،
وان تعدد الوجه يجدى في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلا وجود المندوحة وعدمها.
وأورد عليه المحقق النائيني وجمع من المحققين، بان النزاع في المقام انما يكون
من جهتين: الأولى: في سراية كل واحد من الأمر والنهي إلى متعلق الاخر وعدمها. الثانية:
في أنه على فرض عدم السراية، هل يوجب انطباقهما على فعل واحد، وقوع التزاحم بين
حكمهما أم لا؟ والنزاع في الجهة الثانية لا بد وأن يكون مع وجود المندوحة لان وقوع
التزاحم بين الحكمين مع عدمها واضح.
143

أقول انه بناءا على عدم اعتبار القدرة في متعلق التكليف، يكون الحكمان
موجودين على الجواز من الجهة الأولى حتى مع عدم المندوحة، واما بناءا على اعتبارها
في متعلق التكليف فبناءا على ما هو المعروف من كفاية الملاك المستكشف من الدليل
المتكفل لبيان الحكم وان سقط هو للتزاحم، في التقرب، صحت العبادة على القول
بالجواز من الجهة الأولى كانت المندوحة موجودة أم لم تكن، واما بناءا على ما هو الحق
من عدم استكشاف الملاك من ذلك الدليل بعد سقوط الحكم فبناءا على تعلق الأوامر
بالافراد، وجود المندوحة وعدمها سواء، فان القدرة على الامتثال بساير الافراد لا تجعل
المجمع مقدورا، - وبعبارة أخرى - القدرة على ساير الافراد لا توجب صحة الامر
بالمجمع، واما بناءا على تعلقها بالطبايع، فان قلنا بان تعلق الامر بالطبيعة السارية انما يصح
في صورة القدرة على جميع الافراد والا فالمتعلق هي الطبيعة السارية في الافراد المقدورة
فكذلك كما لا يخفى، نعم، على القول بتعلقها بالطبيعة وكفاية القدرة على بعض الافراد
في صحة الامر بالطبيعة أين ما سرت يصح اخذ المندوحة إذ مع فرض وجودها لا تزاحم
بين الأمر والنهي، واما مع انحصار الطبيعة في المجمع فيقع التزاحم بين الحكمين فتدبر
فان ما ذكرناه حقيق به.
عدم ابتناء النزاع في المقام على تعلق الأوامر بالطبايع
الثامن: قد يتوهم ان النزاع في الجواز والامتناع، يبتنى على القول بتعلق الاحكام
بالطبايع، واما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فهو في غاية الوضوح، لأنه على تقدير
القول بتعلقها بالافراد يكون الفرد الخارجي مصداقا للمأمور به والمنهى عنه معا ولم يقل
أحد بجواز ذلك حتى القائل بالجواز فإنه انما يقول به بدعوى ان تعدد العنوان يوجب
تعدد المعنون لا مطلقا فلا يعقل النزاع على هذا القول.
وقد يتوهم ان القول بالامتناع يبتنى على القول بتعلق الاحكام بالافراد لما مر
والقول بالجواز يبتنى على القول بتعلقها بالطبايع فان الامر إذا تعلق بطبيعة والنهى بطبيعة
144

أخرى واتفق انطباقهما على شئ في الخارج يكون المتعلقان متعددين ولا يلزم
اجتماعهما في واحد، ولعله يرجع إلى الأول، ولذلك.
أجاب المحقق الخراساني عنهما بجواب واحد، وحاصله ان تعدد الوجه ان كان
يجدى في تعدد المتعلق بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد لكان
يجدى ذلك، ولو على القول بالافراد إذ الموجود الخارجي الموجه بوجهين يكون فردا
لكل من الطبيعتين فيكون مجمعا لفردين موجودتين بوجود واحد، والا لما كان يجدى
أصلا حتى على القول بالطبايع لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا.
وحق القول في المقام ان يقال ان مرد النزاع في تعلق الأوامر بالطبايع، أو الافراد ان
كان إلى ما اختاره المحقق الخراساني (ره) والمحقق النائيني في تلك المسألة، من أن
المراد من تعلق الامر بالطبيعة هو تعلقه بنفسه الشئ مع قطع النظر عن مشخصاته،
والمراد من تعلقه بالفرد ان المشخصات تكون مقومة للمراد بما هو مراد فيكون تلك
اللوازم والمشخصات داخلة في متعلق الامر، فالقائل بتعلق بالطبيعة يريد تعلقه بذات
الشئ مع قطع النظر عن مشخصاته بحيث لو تمكن المكلف من ايجاده في الخارج بدون
أي مشخص وأوجده يسقط الامر ويحصل الامتثال، والقائل بتعلقه بالفرد يريد تعلقه به
مع مشخصاته فتكون مشخصاته أيضا مأمورا بها، يكون التوهم المذكور متينا جدا إذ
على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالافراد يكون الامر متعلقا بالصلاة مثلا مع مشخصاتها
ومن جملتها الغصب في مورد الاجتماع فهو متعلق للامر، والحال انه متعلق للنهي أيضا
فيلزم اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد وهو محال، وعلى القول بالتعلق بالطبايع يصح
النزاع، والقول بان متعلق كل من الأمر والنهي غير الاخر، فلم يجتمعا في واحد وانما
الاجتماع في مرحلة أخرى.
وبذلك يظهر ان المحقق الخراساني ليس له الجواب بما افاده.
ولكن قد مر في ذلك المبحث ان مسألة تعلق الأوامر بالطبايع أو الافراد، يمكن ان
تكون مبتنية على مسألة فلسفية وهي ان الأصل في التحقق هو الفرد أو الطبيعة والماهية،
والقائلون بأصالة الماهية يدعون ان متعلق الامر هو الطبيعة والقائلون بأصالة الوجود
145

يقولون ان المتعلق هو الفرد، وأيضا يمكن ان تكون مبتنية على مسألة فلسفية أخرى، وهي
ان الكلى الطبيعي موجود في الخارج بوجود افراده أم لا وجود له في الخارج، فعلى الأول
يكون متعلق الأوامر والنواهي وجودات الطبايع، وعلى الثاني يكون المتعلق الافراد.
وعلى هذين التقديرين عدم ابتناء النزاع في المقام على تلك المسألة في
غاية الوضوح وما افاده المحقق الخراساني يتم على هذين المبنيين فتدبر.
بيان ضابط ما به يدخل مورد في هذا الباب أو باب التعارض
التاسع: قال صاحب الكفاية: انه لا يكاد يكون من باب الاجتماع الا إذا كان في كل
واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق
والاجتماع كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه
محكوما بأقوى المناطين أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن أحدهما أقوى كما
يأتي تفصيله وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط كذلك فلا يكون من هذا الباب ولا يكون
محكوما الا بحكم واحد منهما إذا كان له مناطه أو حكم آخر غيرهما فيما لم يكن لواحد
منهما قيل بالجواز أو الامتناع. هذا بحسب مقام الثبوت واما بحسب مقام الدلالة
والاثبات فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان إذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني
فلا بد من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير والا فلا تعارض في البين بل
كان من باب التزاحم بين المقتضيين فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا لكونه أقوى
مناطا فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا بل لابد من مرجحات
المقتضيات المتزاحمات كما يأتي الإشارة إليها نعم لو كان كل منهما متكفلا للحكم
الفعلي لوقع بينهما التعارض فلابد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة لو لم يوفق بينهما
بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة انتهى.
وربما يورد عليه، بالتنافي، بين قوله في هذا الامر، فالروايتان الدالتان على الحكمين
متعارضتان إذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني. وبين قوله في الامر اللاحق وكلما لم يكن
146

هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض: إذ لازم الأول، هو اجراء احكام التزاحم
عند الشك في ثبوت المقتضى للحكمين، ولازم الثاني، هو اجراء احكام التعارض.
ولكن الظاهر عدم وجود صورة شك في ذلك كي يكون على الأول
مورد الاجراء احكام التزاحم وعلى الثاني مورد الاجراء احكام التعارض. وذلك لان
دليلي الحكمين ان لم يكن لهما اطلاق، أو كان لأحدهما خاصة لم يكونا من المتعارضين ولا المتزاحمين، وان كان لكل منهما اطلاق فان علم بكذب أحدهما كان من باب
التعارض مطلقا على كلا المسلكين. وان لم يعلم بكذب أحدهما. فعلى القول بالجواز
يعمل بكلا الدليلين فإذا كان الدليلان، أو أحدهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي يحكم
بفعليتهما، واما على الامتناع، فان كان الدليلان في مقام بيان الحكم الاقتضائي، أو كان
أحدهما كذلك يكونان من باب التزاحم، واما ان يكون الدليلان في مقام بيان الحكم
الفعلي، فالاطلاقان متعارضان إذ بعد فرض عدم امكان فعليتهما معا، اما ان يكون مرجح
من المرجحات المذكورة في الاخبار العلاجية. لأحدهما فيحكم بفعليته، والا فيتساقطان،
وعلى كل تقدير أي سواء كان الساقط أحدهما أو كليهما يكونان من باب التعارض، إذ كما
يمكن ان يكون السقوط والانتفاء لأجل المانع مع ثبوت المقتضى له يمكن ان يكون
لأجل انتفائه.
اللهم الا ان يقال ان قضية التوفيق بينهما هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي
لو لم يكن أحدهما أظهر والا فخصوص الظاهر منهما - بدعوى - ان الدليل المتكفل
لبيان الحكم الفعلي، يدل بالمطابقة على ثبوت الحكم وبالالتزام على ثبوت المقتضى له
فإذا وقع التنافي والتعارض بين الحكمين وسقطت الدلالة المطابقية لهما أو لأحدهما
عن الحجية، لا وجه لالقائهما عن الحجية في الدلالة الالتزامية، ولازم ذلك هو الحكم
بوجود المقتضى لهما فيكونان من باب التزاحم.
ثم إن هذا كله في شرح كلمات المحقق الخراساني، ودفع توهم التنافي بين كلماته
واما تحقيق القول في المقام، فملخص ما افاده في هذا الامر، أمور ثلاثة:
أحدها: ان هذه المسألة تدور مدار امر واحد، وهو كون المجمع لمتعلقي الامر
147

والنهى في مورد الاجتماع، مشتملا على ملاك الحكمين معا، ليكون على القول بالجواز
محكوما بكلا الحكمين، لفرض وجود الملاك، وعدم المانع من ناحية أخرى. وعلى
القول بالامتناع، يكون محكوما بأقوى الملاكين إذا كان أحدهما أقوى، وبحكم آخر غير
هذين الحكمين إذا كان الملاكان متساويين، واما لو يكن المجمع مشتملا على الملاكين
فلا يكون من هذا الباب، كان مشتملا على ملاك أحدهما أم لا؟
ولكن يرد عليه ان هذه المسألة لا تكون مبتنية على نظر الامامية القائلين بتبعية
الاحكام للملاكات الواقعية بل تعم نظر جميع المذاهب حتى مذهب الأشعري المنكر
لتبعية الاحكام للملاكات، مع أنه قد مر ان القول بالامتناع يبتنى على سراية النهى من
متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به، اما لوحدة المجمع وجودا وماهية، أو لعدم تخلف
اللازم عن الملزوم في الحكم، والقول بالجواز يكون مبتنيا على عدم السراية، وعليه
فأجنبية مسألتنا هذه، عن مسألة تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الواقعية، واضحة.
ثانيها: انه لو أحرز من الخارج، بان المجمع للمتعلقين مشتمل على ملاك واحد غير
المعلوم انه ملاك الامر أو النهى، يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي، ولابد من الرجوع
إلى مرجحات ذلك الباب، والا بان لم يحرز ذلك، كان من باب تزاحم المقتضيين،
ولابد من اعمال قواعد باب التزاحم.
ويرد عليه ما تقدم في مبحث الضد من أن ملاك التعارض هو تنافى الحكمين في
مقام الجعل، اما من ناحية المبدأ أو من ناحية المنتهى، والملاك في التزاحم هو ما إذا لم
يكونا متنافيين في مقام الجعل، بل كان بينهما كمال الملائمة، وكان التضاد بين المتعلقين
اتفاقيا وكان منشأه عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال اتفاقا - وعليه -
فإذا فرض وجود المقتضيين، وفرض ان المجمع واحد وجودا، وماهية، لا محالة يقع
المعارضة بين الحكمين: إذ لا يمكن اجتماع المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة، أو الغالبة
عليها، مع المفسدة كذلك، وأيضا لا يمكن اجتماع الإرادة، والكراهة، وأيضا لا يمكن
الامتثال ولا يكون ذلك من باب التزاحم، ولا مورد لأعمال قواعده، وقد مر ان باب
تزاحم المقتضيين، غير باب تزاحم الاحكام.
148

ثالثها: انه لو كان كل من الدليلين متكفلا للحكم الفعلي لوقع التعارض بينهما، فلا بد
من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، الا إذا جمع بينهما بحمل أحدهما على الحكم
الاقتضائي، بملاحظة مرجحات باب المزاحمة.
وفيه: ان التوفيق العرفي انما يكون بملاحظة مرجحات باب الدلالة والمعارضة، لا
بملاحظة مرجحات باب المزاحمة، لوضوح الفرق بين البابين، مع أن الحمل المزبور،
لا يجدى في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد لما مر ان اجتماع المصلحة،
والمفسدة، والموثرتين، في المحبوبية والمبغوضية، غير ممكن.
واما ما أورده المحقق النائيني على ما افاده المحقق الخراساني ضابطا في المقام،
بما حاصله، ان لازم ذلك عدم تحقق مورد للتعارض أصلا إذ انتفاء الملاك لا يمكن
استكشافه من نفس الدليلين لعدم تكاذبهما في ذلك وانما يكون تكاذبهما في الوجوب
والحرمة، ولو دل دليل من الخارج على انتفاء الملاك في أحدهما يكون ذلك من موارد
اشتباه الحجة باللاجحة.
فيرد عليه أولا: ما ذكره المحقق الخراساني بقوله، فان انتفاء أحد المتنافيين كما
يمكن ان يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضى له، يمكن ان يكون لأجل انتفائه، فعلى
الامتناع وكون الدليلين في مقام بيان الحكم الفعلي يكون الدليلان متعارضين. وثانيا: انه
لو علم من الخارج انتفاء الملاك في أحد الحكمين الموجب للعلم بكذب أحدهما بناءا
على مسلك العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد يكون ذلك من باب التعارض،
لا اشتباه الحجة باللاحجة كما حققناه في مبحث التعادل والترجيح.
بيان ما به يحرز كون مورد من قبيل التعارض أو من هذا الباب
العاشر: ان المحقق الخراساني (ره) بعد ما بين في المقدمة الثامنة ضابط ما به يدخل
مورد الاجتماع في هذا الباب قد تعرض لمقدمة أخرى، وغرضه من التعرض له بيان ما به
يمكن ان يحرز به كون مورد من قبيل التعارض أو من هذا الباب.
149

وحاصل ما افاده انه ان كان هناك ما دل من اجماع أو غيره على وجود المناط
لكلا الحكمين في المجمع فلا اشكال في أنه حينئذ من هذا الباب، والا فان كان لكل من
دليلي الحكمين اطلاق، فاما ان يكون الاطلاقان في مقام بيان الحكمين الاقتضائيين أو
يكون الاطلاقان في مقام بيان الحكمين الفعليين، فعلى الأول يدل الاطلاقان على ثبوت
المقتضى والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، وعلى الثاني فكذلك
على القول بالجواز الا إذا علم اجمالا بكذب أحدهما فيعامل معهما معاملة المتعارضين، و
على الامتناع فالاطلاقان متنافيان من غير دلالة على ثبوت المقتضى للحكمين، لان انتفاء
أحد المتنافيين كما يمكن ان يكون لأجل المانع، يمكن ان يكون لأجل انتفائه، اللهم الا
ان يقال ان مقتضى التوفيق بينهما حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي لو لم يكن
أحدهما أظهر والا فخصوص الظاهر منهما.
وفى كلامه مواقع للنظر، مع قطع النظر عما أوردنا عليه من عدم كون المناط في
هذا الباب وجود الملاكين.
الأول: ان المراد من الحكم الفعلي ان كان هو الحكم البالغ مرتبة الباعثية
والزاجرية، فهو ليس أمرا جعليا ومجعولا للشارع، بل هو يدور مدار فعلية ما اخذ
موضوعا له في مقام الجعل والانشاء: لما مر غير مرة من أن الأحكام الشرعية مجعولة
بنحو القضية الحقيقية، ولا يتوقف جعلها على وجود الموضوع وانما يصير الحكم فعليا
بعد فعلية موضوعه، ولا يعقل تخلفه عنه، وان كان المراد منه هو جعل الحكم وانشائه،
فيرد عليه ان اجتماع الحكمين كذلك في شئ واحد محال من غير فرق بين القول
بالجواز، والامتناع.
الثاني: فيما افاده في الحكم الاقتضائي، فإنه يرد عليه انه ان كان مراده منه
هو الانشاء بداعي الكشف عن كون المتعلق ذا مصلحة أو مفسدة فهو ليس الا حكما
ارشاديا ولا يثبت به الوجوب أو الحرمة، والكلام انما هو في اجتماع الأمر والنهي الدالين
على الوجوب والحرمة، فيكون خارجا عن مسألة الاجتماع، وان كان مراده منه هو الحكم
الطبيعي بمعنى الحكم الذي ثبت على ذات الشئ من دون النظر إلى عوارضه وطواريه،
150

غير المنافى لعروض عنوان على متعلقه واتصافه بحكم آخر، فيرد عليه ان الاهمال في
مقام الاثبات وان كان معقولا، الا ان التعارض والتزاحم فرع الاطلاق كما تقدم فمع عدمه
لا تمانع رأسا.
الثالث: ما افاده من امكان رفع المعارضة بالتوفيق المزبور، فإنه يرد عليه ما تقدم
فراجع.
الامتثال باتيان المجمع على القول بالجواز
الحادي عشر: المشهور بين الأصحاب انه على القول بالجواز وتعدد المجمع
تكون العبادة صحيحة ولو كان عالما بالحرمة، أي حرمة ما هو ملازم للواجب في مورد
الاجتماع، وانه يسقط الامر ويحصل الامتثال باتيان المجمع مطلقا، وان كان معصية
للنهي.
وكذلك الحال على الامتناع وترجيح جانب الامر الا انه لا معصية عليه حينئذ.
واما على الامتناع وتقديم جانب النهى فالامر يسقط باتيان المجمع مطلقا في غير
العبادات لحصول الغرض، واما في العبادات فلا يسقط الامر مع الالتفات إلى الحرام أو
بدونه تقصيرا. وأما إذا لم يلتفت إليه قصورا فالامر يسقط باتيانه ووافقهم المحقق
الخراساني في الكفاية.
ولكن خالفهم المحقق النائيني (ره) وذهب إلى بطلان العبادة على القول بالجواز
وتعدد المجمع فيما إذا كان المكلف عالما بالحرمة لا فيما إذا كان جاهلا بها أو ناسيا لها.
وتنقيح القول في المقام على وجه يظهر مدرك ما افاده الاعلام، وما هو الحق
منها يقتضى البحث في مقامين. الأول، في حكم الامتثال على الجواز وتعدد المجمع.
الثاني، في حكمه على القول بالامتناع ووحدة المجمع.
اما المقام الأول: فالكلام فيه في موردين: أحدهما: ما إذا فرض العلم بحرمة ما هو
ملازم للواجب في مورد الاجتماع. ثانيهما: ما إذا كان جاهلا بها أو ناسيا لها.
151

اما المورد الأول: فقد عرفت ان المحقق الخراساني (ره) وفاقا للمشهور، ذهب إلى
صحة العبادة وخالفهم المحقق النائيني (ره) وذهب إلى بطلانها.
والحق ان يقال انه، تارة نقول بعدم اشتراط القدرة في متعلق التكليف ما لم يستلزم
اللغوية كما اخترناه، أو نقول بأنه لو اعتبرنا القدرة فهو مختص بالقدرة التكوينية دون
التشريعية كما هو الصحيح، فلا اشكال في صحة العبادة لفرض ان المأمور به منطبق
على الفرد الماتى به في الخارج وهو المجمع، وان استلزم المعصية للنهي، لكن العبادة
ليست متحدة مع الحرام، فلا يكون ارتكابه موجبا للفساد بل يكون من قبيل النظر
إلى الأجنبية في الصلاة.
وأخرى نقول باعتبارها، فحينئذ ان قلنا بكفاية القدرة على بعض الافراد في
تعلق الامر بالطبيعة أين ما سرت كما اختاره المحقق الثاني (ره) لا كلام في الصحة كما لا
يخفى، واما بناءا على اشتراطها وعدم كفاية ذلك، واعتبار كون كل فرد مقدورا في نفسه
في دخوله في حيز الامر، فيقع التزاحم بين الأمر والنهي لعدم قدرة العبد على امتثالهما معا
فمع تقديم جانب النهى يسقط الامر.
وما ذكره الأستاذ الأعظم من أن حرمة ما يكون مقارنا للمأمور به لا تجعل ذلك
الفرد غير مقدور ليخرج عن حيز الامر إذ عدم القدرة اما ان يكون تكوينيا أو يكون
تشريعيا بتعلق النهى بذلك الشئ أو بمقدماته، وفى غير هذين الموردين لا يكون الشئ
غير مقدور - وعليه - فبما ان الآيتان بفرد الطبيعة المأمور بها في ضمن المجمع لا يكون
غير مقدور عقلا كما هو واضح، ولا شرعا لعدم تعلق النهى به ولا بمقدماته لعدم سراية
النهى عن ملازمه إليه فلا وجه لخروجه عن حيز الامر، فلا مانع من اتيان المأمور به في
ضمن المجمع بقصد امره حتى على هذا المسلك.
غير تام إذ بناءا على اعتبار القدرة، بما ان المكلف غير قادر على الاتيان بالمأمور به
في ضمن المجمع وترك المنهى عنه، فلا بد من سقوط النهى أو خروج هذا الفرد عن
حيز الامر، ولا يمكن بقائهما معا فإذا فرضنا بقاء النهى، فلا محيص عن خروج هذا الفراد
عن حيز الامر - وبعبارة أخرى - لم يظهر لي وجه الفرق بين هذا المورد من موارد التزاحم
152

وساير موارده، فان هذا البرهان بعينه يجرى في ساير الموارد كما لا يخفى، والجواب عنه
ما ذكرناه.
فالأظهر انه على هذا المبنى لابد من سقوط الامر، ولكن يمكن تصحيح العبادة
حينئذ والالتزام بحصول الامتثال باتيان المجمع بالترتب، أو بداعي الملاك بناءا على
استكشاف وجوده مع سقوط التكليف كما هو المشهور غير المنصور.
ثم إن المحقق النائيني استدل لما ذهب إليه من بطلان العبادة في صورة العلم
بالحرمة: بان صحة العبادة حينئذ تتوقف على أحد مسالك.
الأول: ثبوت الامر بها في عرض النهى.
الثاني: ثبوت الامر في طول النهى بنحو الترتب.
الثالث: اتيانها بداعي الملاك وشئ منها لا يتم.
اما الأول: فلانه يعتبر في متعلق التكليف القدرة على المأمور به وقد بينا في محله
ان مدرك اعتبار القدرة ليس هو حكم العقل بقبح تكليف العاجز، بل المدرك اقتضاء
الخطاب القدرة على متعلقه حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور و
ترجيح أحد طرفي الممكن وجعل الداعي للفعل، ومعلوم ان جعل الداعي نحو الممتنع
عقلا وشرعا محال، فلازم ذلك كون متعلق الامر هو الحصة المقدورة من الطبيعة و
خروج الحصة غير المقدورة عنه، - وبعبارة أخرى - ان لازمه أيضا اعتبار الزايد على قدرة
الفاعل التي يحكم باعتبارها العقل، وهو القدرة على الفعل والفرد المزاحم للحرام فيما
نحن فيه ليس مقدورا عليه لان المانع الشرعي كالمانع العقلي فلا تنطبق الطبيعة المأمور
بها بما انها مأمور بها عليه فلا تصح.
وفيه: ما عرفت في مبحث الضد مفصلا، ان هذا الوجه لا يتم وانه يبتنى على أن
يكون الامر هو البعث نحو الفعل مع أنه عبارة عن ابراز شوق المولى إلى الفعل، أو اعتبار
كون الفعل على عهدة المكلف، وشئ منهما لا يقتضى اعتبار القدرة فراجع ما ذكرناه
واما الثاني: وهو تصحيح العبادة في المجمع بالترتب فقد أنكر جريان الترتب في
مسألة الاجتماع ومحصل ما افاده في وجه عدم جريان الترتب، يظهر ببيان مقدمتين.
153

الأولى: ان الترتب انما يمكن فيما إذا كان فعل المهم على فرض عصيان الامر بالأهم
مقدورا للمكلف، واما لو فرضنا عدم القدرة عليه وصيرورة الفعل واجبا على تقدير
ترك الأهم كما في الضدين الذين لا ثالث لهما فلا مورد للترتب كما تقدم. الثانية:
ان الترتب انما نلتزم به فيما لم يلزم من الخطابين كذلك طلب الجمع بين الضدين، والا فلا
يمكن.
فبعد هاتين المقدمتين، قال إن عصيان خطاب النهى الذي هو شرط الامر حيث إنه
لابد وأن يكون اما باتيان متعلق الامر أو بضد آخر غيره، وعلى الأول يلزم من الخطاب
الترتبي طلب الحاصل، وعلى الثاني يلزم منه طلب أحد الضدين على تقدير وجود الضد
الاخر ومرجعه إلى طلب الجمع بين الضدين وكلاهما محال فلا يعقل الخطاب الترتبي
في المقام.
أقول ما ذكره (ره) من المقدمتين تامتان، ولكن لا يتم ما رتب عليهما، الا على
القول بالامتناع من الجهة الأولى، إذ بناءا على الجواز يكون وجود المنهى عنه مغايرا مع
وجود المأمور به وساير الافعال، فالامر بالصلاة مثلا على تقدير تحقق الغصب ليس طلبا
للحاصل.
فان قلت إن وجود الغصب يلازم مع فعل من الافعال، فاما ان يؤخذ في الموضوع
الحصة الملازمة للصلاة فيلزم طلب الحاصل، أو يؤخذ فيه الحصة الملازمة لفعل آخر من
النوم وغيره، فيلزم طلب الجمع بين الضدين.
قلت، يرد عليه أولا: النقض بساير المتزاحمين الذين صححنا الترتب فيها كالصلاة
والإزالة، فنقول ان ترك الإزالة الذي اخذ في موضوع الامر بالصلاة، اما ان يؤخذ الحصة
منه الملازمة للصلاة، فيلزم طلب الحاصل، أو يؤخذ الحصة الملازمة لفعل آخر فيلزم
طلب الجمع بين الضدين. وثانيا: بالحل، وهو انه لا يؤخذ قيد من القيود فيه، فكما انه
نقول في المثال ان الشرط هو ترك الإزالة المعرا عن جميع القيود، وعلى تقديره تكون
الصلاة مقدورة كذلك في المقام نقول ان الشرط هو فعل المنهى عنه ولا يؤخذ فيه قيد
من القيود، وعلى فرض وجوده يكون وجود المأمور به مقدورا فيؤمر به على هذا التقدير،
154

وقد مر تفصيل القول في ذلك في مبحث الضد فراجع.
واما الثالث: وهو تصحيحها بالملاك فقد أفاد (قده) في وجه عدم امكان ذلك
بان ملاك الامر انما يصلح للتقرب به فيما إذا لم يكن مزاحما بالقبح الفاعلي والا فلا
يكون صالحا للتقرب به إلى المولى: فان صحة العبادة كما يعتبر فيها الحسن الفعلي كذلك
هي مشروطة بالحسن الفاعلي بان يكون زايدا على محبوبيته وحسنه ايجادها من الفاعل
حسنا، والملاك المفروض وجوده في المقام ليس كذلك لان الصلاة والغصب مثلا بما
انهما ممتزجان في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة إلى أحدهما دون الاخر كانا متحدين
في مقام الايجاد والتأثير فيكون موجدهما مرتكبا للقبيح في ايجاده ومعه يستحيل ان
يكون الفعل الصادر منه مقربا له.
وفيه: انه بعد فرض تعدد وجود المأمور به والمنهى عنه كما هو المفروض في
هذا المقام، لا محالة يكون الايجاد متعددا: إذ الايجاد والوجود، متحدان بالذات
مختلفان بالاعتبار فلكل من المأمور به والمنهى عنه، ايجاد مستقل فليس في
ايجاد المأمور به قبح فعلى، ولا فاعلي، نعم هو مقارن لما هو قبيح ولكن قد مر ان القبح لا
يسرى من أحد المقارنين إلى المقارن الاخر.
فالمتحصل مما ذكرناه انه على القول بالجواز وتعدد المجمع يكون حكم المقام
حكم ساير موارد التزاحم، فالأظهر صحة العبادة بالاتيان بالمجمع.
نعم، بناءا على ما تقدم من أنه لا طريق لنا إلى احراز الملاك مع سقوط الامر،
لا سبيل إلى تصحيح العبادة الا بالطريقين الأولين.
واما المورد الثاني: وهو ما إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور أو ناسيا لها،
فعلى القول بالصحة في حال العلم فالصحة في فرض الجهل والنسيان أظهر.
واما على القول بعدم الصحة في صورة العلم، فالظاهر هي الصحة أيضا في صورة
الجهل والنسيان.
اما مع الجهل، فلانه في جميع موارد التزاحم إذا كان التكليف بالأهم غير منجز،
فبما انه لا يصلح ان يكون معجزا شرعيا عن امتثال الاخر لكونه معذورا في مخالفته لا
155

يعقل مزاحمته معه فلا محالة يكون الامر باقيا.
واما في فرض النسيان فالامر أوضح لان التكليف يكون مرفوعا رأسا.
فالمتحصل، مما ذكرناه صحة العبادة في مورد الاجتماع على القول بالجواز وتعدد
المجمع واقعا في جميع الصور من العلم والجهل والنسيان.
واما افاده المحقق الخراساني (ره) قال إنه لا اشكال في سقوط الامر وحصول
الامتثال باتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا ولو في العبادات وان كان معصية
للنهي أيضا انتهى.
فهو وان كان حقا كما مر الا انه لا يتم على مسلكه من سقوط التكليف عن
أحد المتزاحمين فإنه حينئذ ان قدم جانب الامر لم يكن وجه لحكمه بالمعصية للنهي وان
قدم جانب النهى لم يكن معنى للاتيان بداعي الامر بعد أنه لا يلتزم بالترتب.
حكم الامتثال باتيان المجمع على القول بالامتناع
المقام الثاني: في حكم الامتثال باتيان المجمع على القول بالامتناع ووحدة
المجمع واقعا فان قدمنا جانب الامر فالصحة واضحة غير محتاجة إلى البحث.
وان قدمنا جانب النهى فالكلام فيه في موضعين: الأول: في صورة العلم أو الجهل
به عن تقصير. الثاني: في صورة الجهل عن قصور والنسيان.
اما الموضع الأول: فالكلام فيه في موردين: أحدهما: في التوصليات. ثانيهما:
في العبادات.
اما المورد الأول: ففي الكفاية فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات لحصول
الغرض الموجب له انتهى.
وفيه: انه ان قدم جانب النهى وخرج المجمع عن حيز الامر وتمحض في كونه
منهيا عنه وقيد المأمور به بغير هذا الفرد لا معنى لصحته وحصول الغرض، وان شئت قلت إنه
على الامتناع يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي، فان قدمنا دليل النهى لقواعد و
156

مرجحات باب التعارض، يخرج المجمع عن كونه مأمورا به، ومعه لا وجه للاجزاء من
غير فرق بين التعبدي والتوصلي. نعم، ربما يعلم من الخارج انه يحصل الغرض من الواجب
ولو اتى به في ضمن محرم كإزالة النجاسة عن البدن والثوب لو غسلا بالماء المغصوب،
واما مع عدم الدليل على ذلك كتكفين الميت بالمغصوب وتحنيطه به فلا يحكم بالصحة
وسقوط الامر وحصول الغرض.
وبالجملة على الامتناع ووحدة المجمع وجودا وماهية، ووقوع التعارض بين
دليل الأمر والنهي، معنى تقديم جانب النهى تمحض المجمع في كونه مبغوضا ومحرما
فحسب، ومن الواضح ان الحرام لا يعقل ان يكون مصداقا للواجب.
وبما ذكرناه ظهر الحال في المورد الثاني وهو العبادات وانه لا اشكال في الفساد.
واما الموضع الثاني: فالكلام فيه، تارة في صورة الجهل عن قصور، وأخرى في
صورة النسيان.
اما في صورة الجهل، فالأظهر هو الفساد إذ بعد ما خرج المجمع عن تحت
دليل الامر وتمحضه في كونه مبغوضا ومحرما وعدم معقولية ان يكون مصداقا للواجب
لافرق بين صورة العلم والجهل، ولا بد من البناء على عدم سقوط الامر باتيانه، وان شئت
فلا حظ المثال المعروف - أكرم عالما - ولا تكرم الفساق، فعلى فرض تقديم النهى، هل
يتوهم أحد سقوط الامر باكرام العالم الفاسق، فكذلك في المقام.
وقد استدل المحقق الخراساني (ره) للصحة في العبادات بوجوه ثلاثة:
الأول: ان المجمع من حيث كونه مشتملا على المصلحة قابل لان يتقرب به وانما
لا يحكم بالصحة، في صورة العلم، وما يلحق به من الجهل إذا كان عن تقصير من جهة انه
يقع الفعل في الحالين مبعدا والمبعد لا يقرب، - وبعبارة أخرى - لا يكون صدوره حسنا بل
قبيحا من جهة كونه ايجاد المبغوض، وان شئت فقل انه يعتبر في صحة العبادة حسن الفعل
والحسن الفاعلي، وفى الحالين، وان كان الفعل حسنا الا انه يكون مقترنا بالقبح الفاعلي،
ولأجل ذلك لا يصح ولا يمكن ان يتقرب به، وهذا بخلاف ما إذا كان الجهل عن قصور
وعذر، فإنه لا يكون الفعل منه مبعدا ولا مقترنا بالقبح الفاعلي فتصح العبادة. هذا بناءا على
157

كفاية الاتيان بداعي الملاك بل يمكن تصحيح العبادة على القول باعتبار قصد الامر فيها.
بدعوى كفاية قصد الامر المتعلق بالطبيعة التي يندرج تحتها المجمع في الامتثال باتيان
المجمع، وان لم يكن بنفسه داخلا في حيز الامر.
وفيه: ان المصلحة المغلوبة للمفسدة، لا تصلح ان تكون موجبة للقرب فلا يصح
التقرب بما اشتمل عليها فاتيان المجمع في صورة الجهل عن قصور، وان لم يكن مقترنا
بالقبح الفاعلي، الا انه بنفسه لا يكون حسنا، مع أنه لو سلم ذلك لا يتم ما ذكره من كفاية
قصد الامر المتعلق بالطبيعة: إذ الامر لا يدعو الا إلى ما تعلق به فلا يصح الاتيان بالمجمع
غير المأمور به بداعي الامر المتعلق بغيره.
مضافا إلى أنه بعد عدم امكان كون المجمع محكوما بحكمين من غير فرق بين
صورة العلم والجهل، وتقديم جانب النهى وسقوط الامر، لا كاشف عن وجود المصلحة
إذ سقوط الامر، كما يلائم مع وجود المصلحة وغلبة المفسدة عليها، يلائم مع
عدم المصلحة وتمحض المجمع في كونه ذا مفسدة ومع عدم احراز المصلحة كيف
يمكن التقرب بالملاك.
الثاني: ان فعلية كل حكم تابعة للحسن أو القبح المتوقف تحققهما على العلم
بالمصلحة أو المفسدة - لا - على المصلحة والمفسدة الواقعتين وعليه ففي صورة الجهل
عن عذر وان كانت المفسدة الموجودة في المجمع أقوى من المصلحة الا انها لا تكون
منشئا لجعل الحرمة، والمصلحة وان كانت أضعف، الا انه للعلم بها الموجب للحسن
تكون منشئا لجعل الوجوب، فيكون المجمع مأمورا به في حال الجهل عن قصور، لان
قوة الملاك توجب جعل الحكم على طبق ما هو الأقوى في حال الالتفات والعلم بها أو ما
هو في حكم الالتفات دون ما يكون عن غير التفات، فان المجهول لا يصلح للمنشائية
لجعل الحكم.
وفيه: ان المصلحة الواقعية موجبة لحسن الفعل ذاتا كما أن المفسدة الواقعية،
موجبة لقبحه كذلك نعم الحسن والقبح الفاعليان لا يدوران مدار المصلحة والمفسدة
الواقعيتين، الا ان المنشأ لجعل الاحكام انما هو الحسن والقبح الذاتيان دون الفاعليين
158

المتأخرين عن جعل الاحكام، فان ذلك غير معقول كما هو واضح.
مع أنه على ذلك يخرج المجمع عن مورد البحث، وهو كونه مجمعا للعنوانين
الذين تعلق بأحدهما الامر وبالاخر النهى، فان لازم ما ذكره عدم كونه محكوما بالحرمة
رأسا.
واما ما اشتهر بين جماعة من كون الحكم تابعا للمصلحة أو المفسدة المعلومة، فإنما
أرادوا بذلك المعلومة عند الحاكم، لا المكلف، والا فهو بين الفساد، إذ مضافا إلى أنه لا
طريق للمكلفين لاحراز مصالح الاحكام، انه لا كلام في أنه لا يسمع اعتذار العبد التارك
لما امر به مولاه باني اعتقدت كون المأمور به خاليا عن المصلحة، أو ما أحرزت وجودها، و
لعمري ان فساد هذا الكلام أوضح من أن يبين.
الثالث: ان الاحكام لا تضاد بينها في مقام الانشاء كما لا تضاد بينها في مقام
الاقتضاء، وانما التضاد بينها يكون في مقام الفعلية، وعليه فبما ان المفروض وجود
الملاكين في المجمع فلا محالة يكون الانشائان ثابتين، وحيث إن المانع عن فعلية الامر انما
هو فعلية النهى، ففي صورة الجهل عن قصور يسقط النهى عن الفعلية فلا محالة يصير الامر
فعليا.
وفيه: ان التنافي والتضاد ثابت في مقام الاقتضاء والانشاء، إذ المصلحة التي تكون
ملاكا ومنشئا للامر هي المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة أو الغالبة عليها، والمفسدة التي
تكون منشئا للنهي هي ما لا تكون مزاحمة للمصلحة أو تكون غالبة عليها، وعليه فلا يعقل
اجتماعهما في واحد.
واما الانشاء فان أريد به استعمال اللفظ في المعنى، فهو وان لم يكن مضادا مع
حكم انشائي آخر الا انه لا يكون منشئا للأثر أصلا، وان أريد به انشاء الحكم على طبق
الملاك، ويكون ناشئا عن الإرادة والكراهة، فهو وان كان لا تضاد بينه وبين حكم انشائي
آخر كذلك إذ الجعل خفيف المؤنة، الا انه يثبت التضاد بينهما بالعرض من جهة
التضاد بين ملاكيهما، ومن ناحية المنتهى أيضا، كما سيجئ تنقيح القول في ذلك.
ثم إن المحقق الخراساني (ره) قال وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا
159

الحرمة والوجوب متعارضين وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا حيث لا يكون معه
مجال للصحة أصلا وبين ما إذا كانا من باب الاجتماع وقيل بالامتناع وتقديم جانب
النهى حيث يقع صحيحا في غير مورد من موارد الجهل والنسيان لموافقته للغرض بل
للامر انتهى.
وفيه: ما مر من أنه على الامتناع الذي أساسه وحدة المجمع وجودا وماهية
لا محالة يقع التعارض بين الدليلين وان باب تزاحم الملاكات غير باب تزاحم الاحكام و
الملاك للامر ليس وجود المصلحة بل هي المصلحة غير المغلوبة للمفسدة فمع تقديم
جانب النهى وغلبة المفسدة لا محالة لا تصلح المصلحة على فرض وجودها للملاكية
والداعوية.
فالأظهر هو الفساد وعدم الصحة في صورة الجهل، واما في صورة النسيان
فالأظهر هي الصحة لسقوط النهى بالنسيان فإذا كان المجمع جائزا واقعا فلا مانع من
شمول اطلاق دليل الامر له.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأظهر هي الصحة على القول بالجواز وتعدد المجمع، و
عدم الصحة على القول بالامتناع مطلقا الا في فرض النسيان.
دليل القول بالامتناع
وبعد ذلك نقول انه قد استدل لكل من القولين بوجوه، فالكلام يقع أولا فيما
استدل به القائلون بالامتناع. ثم فيما استدل به للجواز.
اما أدلة القول بالامتناع فنذكر منها في المقام وجهين: أحدهما: ما في الكفاية و
جعله مركبا من مقدمات أربع: الأولى: ان الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها.
الثانية: ان متعلقات التكاليف هي المفاهيم بما هي فانية في الموجودات الخارجية. الثالثة:
ان تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته. الرابعة: ان الموجود
الواحد لا يمكن ان يكون له ماهيتان. ورتب على هذه المقدمات ان المجمع بما انه واحد
160

وجودا وماهية فلا يعقل اجتماع الأمر والنهي فيه.
أقول: اما المقدمة الثانية، فقد تقدم الكلام فيها في مبحث تعلق الامر بالطبايع
أو الافراد وعرفت انها صحيحة.
واما المقدمة الرابعة: فهي بديهية، فالعمدة هو البحث في الأولى، والثالثة.
الأحكام الخمسة متضادة
اما المقدمة الأولى: فقد اختار (قده) ان الاحكام متضادة في مقام الفعلية، ولا
تضاد بينها ما لم تبلغ تلك المرتبة.
وفيه: ان هذا مبنى على مبناه من ثبوت المراتب للحكم، من الاقتضاء، والانشاء
والفعلية، والتنجز، واما بناءا على المختار من أن له مرتبتين مرتبة الانشاء، والجعل بداعي
التحريك على الموضوع المقدر وجوده وبنحو القضية الحقيقية، ومرتبة الفعلية
والمجعول، وخروجه من التقدير إلى الفعلية، فلا يتم ذلك إذ لو كان بين الفعليين تضاد،
لا محالة يكون التضاد بين الانشائيين أيضا إذ امكان الجعل تابع لامكان الفعلية، ومع عدم
امكان الفعليين لما كان يمكن انشائيين.
والمحقق الأصفهاني (ره) ذهب إلى أنه لا تضاد بين الاحكام رأسا حتى في
مقام الفعلية، ومحصل ما افاده (ره) ان التضاد كالتماثل من أوصاف الأحوال الخارجية،
للأمور العينية وليس الحكم بالنسبة إلى متعلقه كذلك، سواء كان المراد به البعث والزجر،
أو كان المراد به الإرادة والكراهة.
أما إذا كان المراد به البعث والزجر الذين هما أمران اعتباريان ينتزعان من الانشاء،
فلان الانشاء الذي هو مركب من كيف مسموع أي اللفظ، ومن كيف نفساني وهو قصد
ثبوت المعنى به، قائم بالمنشأ لا بالفعل. اما الاعتبار، فهو أيضا قائم بالمعتبر ومقومه
الفعل، بوجوده العنواني الفرضي، وليس هو الفعل الخارجي، فإنه يوجد سواء وجد الفعل
أم لا؟ كما هو واضح. واجتماع احكام متعددة ولو من موالي متعددين بالنسبة إلى عبيد
161

كذلك في واحد واضح لا يحتاج إلى بيان.
وأما إذا كان المراد به الإرادة والكراهة اللتين هما من الأمور الواقعية، ويكون
موضوعهما النفس ومتعلقهما الفعل، فلانه لا مانع من اجتماع إرادات وكراهات كذلك
في النفس في زمان واحد كما نشاهد بالعيان بالنسبة إلى أمور متعددة لبساطة النفس
وتجردها، واما من حيث المتعلق، فلان المتعلق ليس هو الوجود الخارجي كما حقق في
محله بل طبيعي الفعل بما انه فان في الخارج، واجتماع الأوصاف المتباينة في الواحد
الطبيعي من الجنسي والنوعي، واضح، بداهة ان الطبيعي مورد لاحكام متعددة ولو من
موالي متعددين بالنسبة إلى عبيد كذلك ولا يخرج طبيعي الفعل عن كونه طبيعيا باختلاف
الموالى والعبيد، وتعدد الفاعل، والسبب الموجد لا دخل له في تحقق التضاد والتماثل
وعدمه بل المناط وحدة الموضوع والمفروض امكان الاجتماع في مثل هذا الواحد، ثم
انه (قده) التزم بعدم امكان توجه البعث والزجر نحو شئ واحد لمحذور آخر وهو عدم
قدرة العبد على أن ينبعث نحو شئ وينزجر عنه في ذلك الزمان.
أقول: اما انكار التضاد بين الأمر والنهي فهو حق وستعرف تحقيقه، وما انكاره
بين الإرادة والكراهة، فهو غير تام، ويتضح بعد بيان مقدمة.
وهي، ان الصفات على قسمين: الأول: الصفات غير ذات الإضافة. الثاني:
الصفات ذات الإضافة، وفى الأول يكون التضاد ثابتا مع وحدة الموضوع. وفى الثاني
انما يكون التضاد مع وحدة الطرفين، مثلا، التقدم والتأخر ضدان ولكن التضاد انما يكون
مع وحدة المتقدم والمتقدم عليه، والمتأخر والمتأخر عنه، والا فمع تعدد أحد الطرفين لا
تضاد بينهما، مثلا، يصح قولنا: زيد متقدم على عمرو، ومتأخر عن بكر، وهذا بخلاف
قولنا: زيد متقدم على عمرو ومتأخر عنه.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم، ان الإرادة والكراهة من الصفات ذات الإضافة
فالمضادة ليست بين مطلق الإرادة والكراهة بل بين الإرادة الخاصة والكراهة كذلك أي
إرادة شخص واحد فعلا واحدا. وكراهته عنه، والتضاد بينهما ثابت، وعليه فاجتماع
إرادة وكراهة من الموالى المتعددين، أو بالنسبة إلى عبيد كذلك أو مع تعدد المتعلق لا
162

ينافي مع التضاد بينهما.
ودعوى: ان متعلقهما طبيعي الفعل لا الوجود الخارجي، ولا مانع من اجتماع
صفات متباينة في الواحد الطبيعي، مندفعة: بان المتعلق وان كان هو الطبيعي، الا انه فانيا
في الخارج، فإذا كان الطبيعي الفاني في افراد متعلقا للإرادة، والطبيعي الفاني في افراد اخر
متعلقا للكراهة، لا كلام، واما الطبيعي الفاني في جميع الافراد، فلا يمكن تعلق الإرادة
والكراهة من شخص واحد به بالنسبة إلى شخص واحد.
والتحقيق في هذا المقام ان الاحكام لا تضاد بينها ذاتا بل التضاد يكون بينها، من
ناحية المبدأ، أي الشوق والكراهة، والمصلحة والمفسدة، أو من ناحية المنتهى، أي
الامتثال، فالتضاد بينها ثابت، لكنه تضاد بالعرض، لا بالذات، وتمام الكلام في محله، و
على أي تقدير لا يمكن اجتماعهما في واحد.
ضابط كون التركيب اتحاديا أو انضماميا
واما المقدمة الثالثة: وهي ان تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد المعنون التي
هي أساس القول بالامتناع، كما أن القول بان تعدده يوجب تعدد المعنون أساس القول
بالجواز.
فقد أفاد المحقق النائيني (ره) في مقام الجواب عنها.
بعد فرضه كون محل الكلام، ما إذا تعلق الامر بطبيعة، والنهى بطبيعة أخرى وكانت
النسبة بين العنوانين عموم من وجه.
وأما إذا كانت النسبة عموما مطلقا فلم يتوقف في الامتناع: لاتحاد العنوانين
في الخارج، وان وجود الخاص في الخارج بعينه وجود للعام.
وانه يخرج عن محل الكلام ما إذا كانت النسبة بين الموضوعين عموما من وجه،
دون المتعلقين، كما في قضيتي أكرم العالم. ولا تكرم الفاسق، وانه في هذا المورد يمكن
ان يكون التركيب اتحاديا: إذ المشتق انما ينطبق على الذات باعتبار اتصافها بمبدء خاص
163

ولا مانع من عروض مبدئين على ذات واحدة واتصافها بهما معا.
انه إذا كانت النسبة بين الطبيعتين التين تكون، إحداهما متعلقة للامر، والأخرى
متعلقة للنهي عموما من وجه لا بد وأن يكون التركيب بينهما في مورد الاجتماع انضماميا
ولا يعقل ان يكون اتحاديا إذ المبدء الموجود في محل الاجتماع متحد ماهية مع المبدء
الموجود في محل الافتراق، وعليه: فحيث لا يعقل ان يكون لموجود واحد ماهيتان
متغايرتان، فلا بد وأن يكون التركيب انضماميا ويكون لكل منهما وجود خاص.
وتحقيق القول في المقام ان المتعلق للامر أو النهى، تارة يكون من الماهيات
المتأصلة كالضرب مثلا، وأخرى يكون من المفاهيم الانتزاعية التي تنتزع من الماهيات
المتأصلة المتعددة، وثالثة، يكون من الأمور الاعتبارية القابلة للانطباق على ماهيات
مختلفة كعنوان التعظيم حيث إنه ربما يصدق على القيام وأخرى على تحريك الرأس و
ثالثة على لبس العمامة وهكذا.
وعليه، فان كان المتعلقان من المهيات المتأصلة وكانت النسبة بينهما عموما مطلقا
لا محالة يكون التركيب اتحاديا، وان كانت النسبة عموما من وجه، لا بد وأن يكون
التركيب انضماميا، إذ لو فرضنا ان لكل منهما في غير مورد الاجتماع وجود أو فعلية،
فكيف يعقل اجتماعهما في وجود واحد، فان ذلك يستلزم كون الشئ الواحد متفصلا
بفصلين، وفعليا بفعلين، وبالجملة المقولات بأجمعها متباينة لا يعقل اجتماع اثنتين
منها في شئ واحد، وما يكون مصداقا لاحداها يمتنع كونه مصداقا للأخرى.
وان كان المتعلقان من المهيات الانتزاعية أو الاعتبارية، فان كان منشأ انتزاعهما،
أو مورد اعتبارهما شئ واحد، كما لو امر باكرام زيد، ونهى عن اكرام عمرو، فقام اكراما
لهما لا محالة يكون التركيب اتحاديا، وان كان لكل منهما منشأ انتزاع خاص، أو مورد
اعتبار كذلك غير مربوط بالآخر، كما لو قام اكراما لزيد وتحرك رأسه اكراما لعمرو
يكون التركيب انضماميا.
وان كان أحد المتعلقين من المهيات المتأصلة والاخر من الماهيات الانتزاعية،
أو الاعتبارية، وكان منشأ انتزاعه أو مورد اعتباره تلك المهية المتأصلة يكون التركيب
164

اتحاديا، وان كان غيرها يكون انضماميا، فيمكن ان تكون النسبة بين المتعلقين عموما من
وجه، ومع ذلك يكون التركيب بينهما اتحاديا في المجمع.
فما افاده المحقق النائيني من أنه إذا كانت النسبة عموما من وجه لا محالة يكون
التركيب انضماميا، لا يتم.
كما أن ما افاده المحقق الخراساني من أن تعدد الوجه والعنوان لا يوجب تعدد
المعنون على اطلاقه غير تام، فلا بد في تشخيص ذلك من ملاحظة كل مورد بخصوصه.
الصلاة في الدار المغصوبة
واما الصلاة في الدار المغصوبة، فملخص القول فيها، ان الصلاة مركبة من مقولات
متباينة، وليس لها بنفسها ماهية خاصة وعدم صدق الغصب على جملة منها واضح، فان
النية انما تكون من مقولة الكيف النفساني، والأذكار من التكبيرة، والقرائة، والتشهد، و
غيرها من مقولة الكيف المسموع، والافعال المعتبرة فيها جملة منها كالركوع، والسجود
والقيام، والجلوس، ونحوها، من مقولة الوضع أي الهيئة الحاصلة من إضافة بعض
الاجزاء إلى بعض، أو الكيف الجسماني، ولا مساس لشئ من ذلك بالغصب الذي هو من
الماهيات غير المتأصلة المنتزعة من مهيات مختلفة، حيث إنه في المقام ينتزع من الكون
في الدار الذي هو من مقولة الأين، ولا ينتزع، من الأذكار فإنها تصرف في اللسان، لافى
مال الغير، ولا من الافعال، ولا من النية كما هو واضح، وقد برهن في محله ان المقولات
العشر متباينة لا يعقل صدق اثنتين منها على موجود واحد فلا محالة يكون للغصب
وجود غير ما لهذه الاجزاء من الوجود، والتركيب يكون انضماميا.
واما الهوى إلى السجود والنهوض إلى القيام فان قلنا انهما ليسا من اجزاء الصلاة
كما هو الحق فلا كلام، واما ان قلنا بأنهما منها، فبناءا على أن الحركة لها مهية خاصة غير ما
لغيرها من الماهيات، كما ذهب إليه بعض، فحالهما حال الاجزاء السابقة، واما بناءا على ما
هو الحق من أن الحركة لا مهية متأصلة لها، بل هي تنتزع من تدريجية الوجود، و
165

كون الشئ في كل آن في حد غير ما كان فيه في الآن السابق، كما عليه المحققون، فهما
في المقام ينتزعان من مقولة الأين التي تنتزع منها الغصبية ومن مقولة الوضع، فان كان
المأمور به الأوضاع المتعددة الحاصلة بالهوى والنهوض فلا مساس لهما بالغصب فيكون
التركيب انضماميا، واما ان قلنا ان المأمور به هو نفس الحركة الخاصة التي هي حركة
في الأين فيلزم اجتماع المأمور به والمنهى عنه في واحد.
نعم، بناءا على اعتبار الاعتماد على الأرض في السجود، كما هو الظاهر، أو في القيام
كما ذهب إليه بعض لزم اتحاد المأمور به والمنهى عنه في هذا القيد: إذ الغصب انما ينتزع
من نفس الاعتماد على الأرض المغصوبة لأنه تصرف فيها.
وكيف كان فإذا عرفت الضابط لكون التركيب اتحاديا، أو انضماميا، فاعلم أنه
على الأول لا مناص عن القول بالامتناع، إذ لا يعقل اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد،
لعدم اجتماع مبدأيهما في واحد، وعلى الثاني لا مناص عن القول بالجواز: إذ بعد فرض
تعدد الوجود وتمحض أحدهما في كونه ذا مصلحة، والاخر في كونه ذا مفسدة، فلا بد
من الامر بأحدهما والنهى عن الآخر.
وللمحقق اليزدي في درره في المقام كلام لا باس بالتعرض له قال (قده) قد
يتراءى التهافت بين الكلمات حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي، ومثلوا له
بالعامين من وجه واختار جمع منهم الجواز، وانه لا تعارض بين الأمر والنهي في
مورد الاجتماع، وفى باب تعارض الأدلة جعلوا أحد وجوه التعارض، التعارض بالعموم
من وجه وجعلوا علاج التعارض الاخذ بالأظهر ان كان في البين والا التوقف، أو الرجوع
إلى المرجحات السندية على الخلاف.
وأجاب عنه بان هذه المسألة مبنية على احراز وجود الجهة والمناط في كلا
العنوانين وان المناطين، هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في واحد كما
يقوله المانع، أولا كما يقوله المجوز، ولا اشكال في أن الحاكم في هذا المقام هو العقل، و
باب تعارض الدليلين، مبنى على وحدة الملاك، ولا يعلم أن الملاك الموجود، هل هو
ملاك الامر؟ أو ملاك النهى مثلا فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهرية
166

ان كان أحد الدليلين أظهر، والا التوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية انتهى.
أقول، يرد على جوابه (قده) انه لا طريق إلى استكشاف وحدة المناط، وتعدده
من غير ناحية التكليف الا نادرا، - وبعبارة أخرى - التعارض المدعى في ذلك الباب، انما
هو بين نفسي الدليلين، لامن جهة احراز وحدة الملاك، فلا بد من رفع التهافت بوجه
آخر.
والحق في الجواب يبتنى على ما تقدم، وهو ان النسبة بين الموضوعين، وهما
عنوانان اشتقاقيان، كالعالم، والفاسق، إذا كانت عموما من وجه، فبما انهما يصدقان على
معروض واحد وذات واحدة، فلا محالة يكون التركيب اتحاديا، فلا مناص الاعن
التعارض، وأما إذا كانت النسبة بين المتعلقين وهما، مبدأ الاشتقاق عموما من وجه، و
كان كل واحد منهما من الماهيات المتأصلة، أو كان كل منهما من الماهيات الانتزاعية
أو الاعتبارية، وكان منشأ انتزاع كل منهما أو مورد اعتباره مغايرا للاخر، فلا محالة يكون
التركيب انضماميا، فلا مناص عن القول بالجواز، وعليه، فما هو المعنون في باب التعارض
هو المورد الأول، وما هو المعنون في المقام هو المورد الثاني فتدبر فان ذلك دقيق.
الوجه الثاني: مما استدل به للامتناع على فرض كون التركيب انضماميا، انه بما ان
كلا من متعلقي الأمر والنهي في المجمع يكون من مشخصات الاخر فالتكليف بكل
منهما يسرى إلى الاخر فيلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد.
والجواب عنه هو ما ذكرناه في مبحث الضد، ومبحث تعلق الامر بالطبايع
أو الافراد من أن التكليف المتعلق بشئ لا يسرى إلى مشخصاته التي لها وجودات
مستقلة، وملازماته.
أدلة القول بجواز الاجتماع
وقد استدل للجواز على فرض كون التركيب اتحاديا بوجوه:
الأول: ان الاجتماع في المقام بما انه مأموري لا آمري لكونه من قبل نفس
167

المكلف بسوء اختياره فلا مانع من الاجتماع.
وفيه: ان الاجتماع وان كان بسوء اختيار المكلف الا انه لا يعقل كون شئ واحد
محكوما بحكمين لعدم امكان اجتماع المبدأين وقاعدة الامتناع بالاختيار، لا ينافي
الاختيار، مضافا إلى أن المراد بها عدم منافاته له عقابا لا خطابا هي أجنبية عن المقام مما
يستحيل اجتماع المبدأين كما لا يخفى.
الثاني: ما ذكره المحقق القمي (ره) وحاصله، ان الفرد مقدمة لوجود الطبيعي، و
عليه فان قلنا بعدم وجوب المقدمة كان معروض الحرمة غير معروض الوجوب، وان قلنا
بوجوبها فاجتماعهما في واحد وان كان متحققا الا ان أحدهما نفسي والاخر غيري.
وفيه: ان الفرد ليس مقدمة لوجود الطبيعي بل الطبيعي موجود بوجود الفرد، فلا
مقدمية للفرد على وجود الطبيعي، - وبعبارة أخرى - قد تقدم ان متعلق الامر هو الطبيعي
الفاني في الوجودات الخارجية، مع أن متعلق النهى أيضا، هو الطبيعي بالمعنى المزبور،
والفرق بينهما ان أحدهما انحلالي، والاخر ليس كذلك. فيلزم اجتماعهما في واحد.
الثالث: ان المتعلق التكليف انما هو الطبيعي المتصف بالوجود، ولكن الصفة
خارجة عن حريم المتعلق، وانما الدخيل اتصاف الطبيعة بها. وعلى ذلك، فان تعلق الامر
بطبيعة والنهى بطبيعة أخرى وتحققتا في الخارج بوجود واحد، فالوجود الخارجي وان
كان واحدا الا ان الطبيعة المتصفة بالوجود متعددة، إذ اتصاف، كل من الطبيعتين بالوجود،
غير اتصاف الأخرى به، فمحل الامر غير محل النهى، ولازم ذلك اختلاف الإطاعة
والعصيان، وتعددهما أيضا، إذ الاتيان بالمجمع ليس بنفسه امتثالا ولا عصيانا، بل هو
يوجب حصول اتصاف كل من الطبيعتين بالوجود، ويكون الامتثال باتصاف إحداهما به.
والعصيان باتصاف الأخرى به، هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الوجه
وبه يظهر عدم تمامية جواب المحقق الخراساني من أن تعدد العنوان لا يوجب
تعدد المعنون إذ ليس مبنى الاستدلال تعدد المعنون بل مبناه كون المأمور به اتصاف
العنوان بالوجود فوحدة الوجود، لا تنافى هذه الدعوى.
ولكن يرد عليه، مضافا إلى ما تقدم في مبحث تعلق الأوامر بالطبايع، من أن متعلق
168

التكليف، الطبيعي الفاني في الموجود الخارجي، ان الوجود إذا كان واحدا فلا محالة
يكون الايجاد واحدا، لأنهما متحدان ذاتا، متغايران اعتبارا، والايجاد إذا كان واحدا،
والوجود واحدا، كيف يعقل ان يكون مأمورا به، ومنهيا عنه، وامتثالا، وعصيانا.
العبادات المكروهة
الرابع: انه لو لم يجتمع الأمر والنهي لما وقع نظيره، وقد وقع كما في العبادات
المكروهة فمن وقوع نظيره يستكشف الجواز إذ الوجه لعدم الجواز انما هو تضاد
الأحكام الخمسة وامتناع اجتماع اثنين منها في واحد، وعليه، فمن الدليل على اجتماع
الاستحباب والكراهة في واحد يستكشف امكانه، ومن امكانه يستكشف امكان اجتماع
الوجوب والحرمة في واحد. ولهذا الوجه جوابان:
الأول: الجواب الاجمالي وهو ان الظهور لا يصادم البرهان فلو تم برهان الامتناع
لا مناص عن التصرف فيما ظاهره خلاف ذلك، مع أنه في تلك الموارد أي العبادات
المكروهة قد ادعى ظهور الأدلة في اجتماع الاستحباب والكراهة، بعنوان واحد، ولم
يلتزم بجواز ذلك أحد حتى القائل بالجواز.
الجواب الثاني: هو الجواب التفصيلي، وحاصله، ان العبادات المكروهة على
اقسام ثلاثة: الأول: ما تعلق النهى التنزيهي بشئ يكون نسبته مع المأمور به نسبة العموم
والخصوص المطلق، مع فرض عدم بدل للمنهى عنه في الخارج كصوم يوم عاشوراء.
الثاني: ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى هي العموم المطلق، مع وجود بدل للمنهى
عنه، كالصلاة في الحمام. الثالث: ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى هي العموم من
وجه، كالصلاة في مواضع التهمة، بناءا على أن النهى عنها انما هو لأجل اتحادها
مع الكون في مواضعها أو ملازمتها له
اما في القسم الأول: فقد أجاب عنه المحقق النائيني (ره) بما يبتنى على مقدمة
ذكرها، وهي، ان النذر إذا تعلق بعبادة مستحبة، فالامر الناشئ من النذر يتعلق بذات العبادة
169

التي كانت متعلقة للامر الاستحبابي في نفسها فيندك الامر الاستحبابي في الامر الوجوبي
ويتحد به فيكسب الامر الوجوبي جهة التعبد من الامر الاستحبابي والامر الاستحبابي
يكتسب جهة اللزوم من الامر الوجوبي فيتولد من ذلك امر وجوبي عبادي، وأما إذا
تعلقت الإجارة بالعبادة المستحبة في موارد النيابة عن الغير، فالامر الناشئ منها لا يتعلق
بذات العبادة التي تعلق بها الامر الاستحبابي، بل يتعلق باتيان العبادة بداعي الامر المتوجه
إلى المنوب عنه، لعدم تعلق الغرض بذات العبادة من دون قصد النيابة عن المنوب عنه،
فلا يعقل في هذا المورد تداخل الامرين واندكاك أحدهما في الاخر، إذ التداخل فرع
وحدة المتعلق والمفروض عدمها في هذا المورد، فلا يلزم اجتماع الضدين في
هذا المقام.
ثم بعد هذه المقدمة أفاد ان متعلق الامر في هذا القسم من العبادات المكروهة هو
ذات العبادة، ومتعلق النهى التنزيهي هو التعبد بهذه العبادة لا نفسها، إذ لا مفسدة في فعلها
ولا مصلحة في تركها، بل المفسدة في التعبد بها لما فيه من المشابهة للأعداء. وحيث، ان
متعلق الامر غير متعلق النهى فلا يكون النهى منافيا للامر وبما ان النهى تنزيهي لا يكون
مانعا عن التعبد بمتعلقه.
أقول في المقدمة التي ذكرها، وما ابتنى عليها نظر، اما في المقدمة فمورد ان للنظر.
اما الأول: فلان الامر النذري في التعبدية والتوصلية تابع لمتعلقة، إذ اتصاف الامر
بالتعبدية والتوصلية انما يكون من جهة انه ان كان يعتبر في حصول الغرض المترتب على
متعلقه قصد القربة، فهو تعبدي والا فتوصلي، ولا يختلف حقيقة الامر في الموردين و
على ذلك فان تعلق النذر بالعبادة فالامر النذري بما انه يعتبر في متعلقه قصد القربة تعبدي،
وان تعلق بغيرها فهو توصلي، فاتصاف الامر النذري بالتعبدية ليس لأجل اكتسابه تلك
من الامر الاستحبابي.
واما الثاني: فلان الامر الإجاري لم يتعلق باتيان العبادة بداعي الامر المتوجه
إلى المنوب عنه: إذ لا يعقل ان يقصد النائب الامر المتوجه إلى المنوب عنه، لان الامر
المتوجه إلى شخص يكون محركا له خاصة فكيف يجعل غيره داعيا له، بل متعلق الامر
170

الا جارى هو ما تعلق به الامر الاستحبابي العبادي المتوجه إلى جميع الناس للنيابة
في العبادة عن الميت، بل الحي في بعض الموارد من دون ان يكون له مساس بالامر
العبادي المتوجه إلى المنوب عنه، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله، وقد أشبعنا
الكلام في ذلك في الجزء الأول من منهاج الفقاهة في مبحث اخذ الأجرة على الواجب
وفى الجزء التاسع من فقه الصادق في مسألة النيابة في الحج، واما في البناء فلانه ان ادعى
ان متعلق النهى هو قصد الامتثال، فيرد عليه انه يلزم اجتماع الامر الاستحبابي الضمني
المتعلق بقصد القربة مع النهى التنزيهي، وان ادعى ان متعلقه ذات العبادة مع قصد الامر،
فيرد عليه انه يلزم وحدة متعلق الامر الاستحبابي، والنهى التنزيهي.
وقد أجاب الشيخ الأعظم وتبعه المحقق الخراساني، عن اشكال اجتماع الأمر والنهي
في شئ واحد في هذا القسم، بما حاصله. ان النهى التنزيهي فيه لا يكون زجرا
عن الفعل، بل يكون ارشادا إلى وجود مصلحة في الترك أرجح من مصلحة الفعل،
المستكشفة أرجحيته من مداومة الأئمة - عليهم صلوات الله - على الترك، فليست
الكراهة في هذا القسم بمعناها المصطلح، المقابل للاستحباب، المتحقق عن الزجر
عن الفعل الناشئ عن المفسدة في الفعل، كي تنافى، مع استحبابه، بل هي بمعنى رجحان
الترك من جهة انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة
موافقة للغرض وان كان مصلحة الترك أكثر، فيكون الفعل والترك من قبيل المستحبين
المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين والا فيتعين الأهم وان
كان الاخر يقع صحيحا حيث إنه كان راجحا وموافقا للغرض كما هو الحال في ساير
المستحبات المتزاحمات.
وقد أورد على هذا الجواب بايرادات.
الأول: انه لا تستكشف الأرجحية من مداومة الأئمة - عليهم السلام - إذ يمكن ان
يكون اختيارهم للترك لأجل مجامعته مع ساير المستحبات من دون رجحان لمزية
الترك.
وفيه: ان صوم يوم عاشوراء مثلا لا يكون مزاحما مع ساير المستحبات كي يكون
171

اختيارهم لتركه لما ذكر. مع، انه يستكشف تلك من أمرهم - عليهم السلام - أصحابهم
بالترك بلا تأمل.
الثاني ما في الدرر من أن انطباق عنوان راجح على الترك غير معقول، لان
معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي والعدم ليس له وجود.
وفيه: ان معنى الانطباق هو الاتصاف على الوجه المناسب للمثبت له ولو بلحاظ
الفرض والتقدير، وعليه، فان كان المدعى انطباق عنوان وجودي على الترك كان الايراد
في محله، ولكن يمكن ان يكون مراده انطباق عنوان عدمي عليه، وهو مخالفة بنى أمية
مثلا أي عدم الموافقة لهم في الصوم. مع، انه يمكن القول بانطباق عنوان اعتباري عليه.
الثالث: انه لم لا يلتزم برجحان الترك نفسه وانما التزم بانطباق عنوان راجح عليه.
وأجيب عن ذلك، تارة باستلزامه علية الشئ وجودا وعدما لشئ واحد
وهي المصلحة وهو محال. وأخرى، بان الترك لو كان بذاته راجحا لزم اتصاف الفعل
بالراجحية والمرجوحية معا لكونه نقيض الترك الراجح ونقيض الراجح مرجوح. وثالثة:
بان الترك لكونه عدميا لا يعقل ان يكون ذا مصلحة.
وفى الكل نظرا ما الأول، فلان المدعى حينئذ ليس ترتب فرد واحد من المصلحة
على الوجود والعدم، بل ترتب مصلحتين إحداهما على الفعل. والأخرى على الترك. واما
الثاني، فلانه ان أريد بكون نقيض الراجح مرجوحا كونه ذا مفسدة ومبغوضية أو منهيا
عنه فهو ممنوع، وان أريد به كونه أقل رجحانا من الترك، فهو تام إلا إنه لا ينافي رجحان
الفعل في نفسه. واما الثالث: فلان العدم المطلق كذلك، واما العدم المضاف فبما ان له
حظا من الوجود فيمكن ان يكون ذا مصلحة كتروك الحج والصوم.
فتحصل، انه لا مانع من الالتزام بثبوت الرجحان في الترك ولعل عدم ذكره
في الكفاية من جهة ان موارد هذا القسم ليست كذلك.
الرابع: ان أرجحية الترك وان لم توجب حزازة في الفعل الا انها توجب المنع
عنه فعلا ولذا كان ضد الواجب بناءا على كونه مقدمة له حراما ويفسد إذا كان عبادة.
وفيه: ما تقدم في مبحث الضد من أن الامر بالشئ لا يقتضى النهى عن ضده و
172

نقيضه فليس الفعل منهيا عنه إذ النهى النفسي لا بد وأن يكون عن منقصة، والغيري، لابد
وأن يكون لكونه مقدمة للحرام، وشئ من الملاكين لا يكون متحققا في ضد الواجب و
نقيضه.
واما ما أجاب به المحقق الخراساني في الحاشية، من أن المانع عن التقرب أحد
أمرين. النهى النفسي، والحزازة في الفعل، فالنهي التحريمي مطلقا يوجب الفساد، والنهى
التنزيهي انما يوجبه إذا كان عن منقصة وحزازة في الفعل، إذ الفعل لا يكون قابلا للتقرب،
مع عدم الترخيص في ارتكابه كما أنه لا يكون قابلا له إذا كان فيه منقصة وحزازة، والا
كما في المقام فلا يكون مانعا عنه لكونه مرخوصا فيه وهو على ما هو عليه من الرجحان
والمحبوبية.
فهو غير تام، لما ذكرناه في مبحث الضد من أن النهى الغيري كالنفسي يوجب عدم
امكان التقرب بالمنهي عنه، فراجع، فالصحيح ما ذكرناه.
الخامس: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو ان الفعل والترك إذا كان كل منهما
مشتملا على مقدار من المصلحة، فحيث انه يستحيل تعلق الامر، بكل من النقيضين في
زمان واحد، يكون المؤثر في نظر الآمر إحدى المصلحتين على تقدير كونها أهم، وما فيه
المصلحة المهمة لا امر به، لا تعيينا في عرض الامر بالمهم، ولا تخييرا، ولا بنحو الترتب.
اما الأول: فلكونه مستلزما لطلب النقيضين. واما الثاني: فلكونه مستلزما لطلب الحاصل.
واما الثالث: فلما عرفت من عدم جريان الترتب في الضدين الذين لا ثالث لهما،
ففي النقيضين أولى بعدم الجريان.
وفيه: ان الفعل والترك وان كانا نقيضين الا ان ما فيه المصلحة هو الفعل العبادي،
والترك - أي ترك الفعل رأسا - وهما ليسا نقيضين، لوجود ثالث لهما، وهو الفعل غير
العبادي، وعليه فلا مانع من الالتزام بجريان الترتب فيهما وكون الفعل أيضا مأمورا به على
تقدير عدم امتثال الامر بالترك. مع، انه لو سلم عدم جريان الترتب في المقام
فمن الاجماع القطعي يستكشف وجود الملاك في الفعل فيؤتى به بهذا الداعي فيقع
عبادة.
173

فتحصل، من مجموع ما ذكرناه ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) في هذا القسم
من الالتزام بان النهى ارشاد إلى ما في الترك من المصلحة لا انه ناش عن حزازة ومنقصة
في الفعل، لتنافي كونه عبادة، ومن مداومتهم - عليهم السلام - بالترك وأمرهم أصحابهم
به يستكشف أهمية تلك المصلحة عما في الفعل، وهذا لا ينافي وقوع الفعل عبادة - تام -
لا يرد عليه شئ.
نعم، هو خلاف الظاهر فان النهى كما عرفت عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب
الترك، والزجر عن الفعل انما يصح إذا كان الفعل ذا منقصة وحزازة، فحمله على إرادة
طلب الترك خلاف الظاهر، بل غير صحيح، بل يتعين الالتزام بخلاف ظاهر آخر الذي
هو مراد الشيخ (ره) وهو حمل النهى على الارشاد إلى أرجحية الترك.
واما القسم الثاني: فيمكن ان يلتزم فيه بما التزمنا به في القسم الأول.
ويمكن ان يجاب عن الاشكال فيه بجواب آخر وهو يبتنى على مقدمة - وهي -
انه إذا تعلق الامر بطبيعة بنحو صرف الوجود فلا محالة يكون المكلف مختارا في
تطبيقها على أي فرد شاء ما لم ينه عن فرد بالنهي الارشادي إلى المانعية، أو بالنهي
التحريمي وحينئذ ربما لا يكون في خصوصية خاصة محبوبية ولا مبغوضية، وأخرى
يكون فيها محبوبية ومصلحة غير ملزمة، وثالثة يكون فيها مبغوضية ومفسدة غير ملزمة،
فعلى الأول يكون تطبيق الطبيعة على الفرد المتخصص بتلك الخصوصية مباحا كالصلاة
في الدار، وعلى الثاني يكون مستحبا كالصلاة في المسجد، وعلى الثالث يكون مكروها
كالصلاة في الحمام إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أنه في هذا القسم النهى التنزيهي متعلق
بتخصيص الطبيعة بالخصوصية التي فيها حزازة ومنقصة، من دون ان يكون في وفاء
ذلك الفرد بمصلحة الواجب نقص، بل هذا الفرد يفي بجميع ما يفي به ساير الافراد من
المصلحة غاية الامر من جهة تلك الخصوصية نهى عنه تنزيهيا، وبالجملة النهى التنزيهي
لم يتعلق بصرف وجود الطبيعة الذي هو متعلق الامر فلا وجه للتنافي بينهما، بل تعلق
بتطبيق الطبيعة على هذا الفرد، فلو كان هناك تناف فإنما هو بينه وبين الترخيص في تطبيق
الطبيعة على أي فرد شاء المكلف، ولكن بما ان النهى ليس تحريميا بل هو تنزيهي فهو
174

لا ينافي الترخيص.
فان قيل إن وجود الطبيعة وتطبيقها على فرد، - وبعبارة أخرى - وجود
الخصوصية الذي نعبر عنه بتطبيق الطبيعة على الفرد، هل هما وجودان؟ أم وجود واحد
مضاف إليهما؟ فعلى الأول كما يجتمع الوجوب والكراهة يجتمع الوجوب والحرمة،
وعلى الثاني لا يمكن اجتماع الوجوب والكراهة أيضا إذ الاحكام بأسرها متضادة لا يعقل
اجتماع اثنين منها في مورد واحد.
أجبنا عنه بانا نختار الشق الثاني، ولا ندعي اتصاف ذلك الوجود بالوجوب
والكراهة، بل نقول انه واجب لا غير لكونه وافيا بجميع ما في الطبيعة من المصلحة بلا
نقص أصلا، ولكن النهى عنه انما يكون ارشادا إلى أن هذا الوجود بما انه وجود
للخصوصية أيضا، وتلك الخصوصية يبغضها المولى وفيها مفسدة غير ملزمة، فالحري ان
لا يأتي المكلف به في مقام الامتثال وان كان لو اتى به وقع مصداقا للواجب، والمثال
العرفي لذلك ما لو امر المولى عبده باتيان الماء وكان غرضه رفع العطش، وكان المولى
يكره الاناء من الخزف، ولكن لم يكن هذا لزوميا، فنهى عبده عن اتيان الماء في تلك
الاناء نهيا تنزيهيا، والعبد في مقام الامتثال اختار ذلك الفرد، فهو في عين كونه مصداقا
للواجب ووافيا بمصلحته بما انه وجود لتلك الخصوصية يكون منهيا عنه بالنهي التنزيهي.
فليكن هذا مراد من فسر الكراهة في هذا القسم بأقلية الثواب أي بما انه متحد مع ما
يبغضه المولى يكون أقل ثوابا مما لا يكون متحدا معه فلو كان مراد المحقق الخراساني
من قوله في المقام، انه يمكن ان يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها لأجل
تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في الحمام انتهى. فنعم
الوفاق، وان كان مراده نقصان المصلحة اللزومية كما هو ظاهره، فلا يتم إذ مع نقص
المصلحة اللزومية من حد اللزوم لا يكون العمل واجبا فتأمل.
واما القسم الثالث: وهو ما إذا كانت النسبة بين المأمور به والمنهى عنه عموما من
وجه كالصلاة في مواضع التهمة، فالقائل بجواز الاجتماع في وسع من هذا الاشكال، و
اما القائل بالامتناع مطلقا أو فيما كان العنوانان منطبقين على وجود واحد كما اخترناه، فله
175

ان يجيب عن الاشكال بالجواب الثاني الذي ذكرناه في القسم الثاني ولا يمكن له الجواب
بما أجبنا به في القسم الأول، كما لا يخفى.
اجتماع الوجوب والاستحباب.
ثم انه قال المحقق الخراساني (ره) كما انقدح حال اجتماع الوجوب و
الاستحباب فيها وان الامر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا
على نحو الحقيقة ومولويا اقتضائيا كذلك وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه
ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز، ولا يخفى انه لا يكاد يأتي
القسم الأول هيهنا فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له انما يؤكد
ايجابه لا انه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز الا على القول بالجواز وكذا
فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب الا
اقتضائيا بالعرض والمجاز انتهى.
ويرد عليه، ان ضم المصلحة غير الملزمة إلى المصلحة الملزمة لا يوجب اشتداد
ملاك الوجوب بما هو وجوب، فلا يكون لتأكد الوجوب معنى معقول، ولذا لا يشتد
عقابه لو خالف، اللهم الا ان يكون مراده من ايجابه الامر به، ولا بأس بالالتزام بتأكد
الطلب فتدبر.
مع أنه لو تم ما ذكره (قده) في القسم الثاني وهو ماله بدل من حمل الامر
الاستحبابي على الاستحباب الاقتضائي، تم في القسم الأول وهو ما ليس له بدل، إذ المراد
بالاستحباب الاقتضائي ليس هو ما يمكن ان يصير فعليا ولو في وقت ما: فان ذلك لا
يمكن في القسم الثاني أيضا إذ ما دام لم يغفل عن العبادة الواجبة لا معنى لصيرورته فعليا
والا لزم اجتماع الحكمين، ومع الغفلة عنها لا يعقل تحققه، كي يمكن ان يصير باعثا
فعليا إذ المفروض ان المتعلق هو تخصيص الطبيعة الواجبة بهذه الخصوصية، بل بمعنى
وجود المقتضى والملاك للاستحباب وهذا يمكن تصويره فيما ليس له بدل أيضا.
176

وحق القول في المقام، انه إذا جامع مع الفعل الواجب عنوان ذو مصلحة غير
ملزمة، فلو كان التركيب انضماميا، نلتزم بتعلق الامر الاستحبابي بذلك العنوان كما ذكرناه
في القسم الثالث من العبادات المكروهة، وان كان التركيب اتحاديا يجرى فيه ما ذكرناه
في القسم الثاني من العبادات المكروهة وهو ما إذا كانت الخصوصية المتحدة مع
الواجب ذا مصلحة، أو مفسدة من الجواب الثاني وهو حمل النهى أو الامر على الارشاد
فراجع ما ذكرناه، وأما إذا انطبق عنوان ذو مصلحة على الفعل الواجب فتأكد الوجوب
غير معقول كما عرفت، فيتعين، حمل الامر على الارشاد إلى وجود تلك المصلحة
أو الالتزام بتأكد الطلب، وبه يظهر ما في ساير كلماته (قده).
الاضطرار إلى ارتكاب الحرام
وينبغي التنبيه على أمور: الأول: ان الامتثال باتيان المجمع له موارد:
الأول: ما إذا كان المكلف متمكنا من امتثال الواجب في الخارج بدون ان يرتكب
الحرام ولكنه باختياره يرتكب الحرام ويأتي بالواجب في ضمنه. وذلك كمن يتمكن
من الاتيان بالصلاة في غير الدار المغصوبة، ولكنه باختياره دخلها وصلى فيها فعندئذ يقع
الكلام في صحة تلك الصلاة وفسادها، هذه هي محل البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي
، وقد تقدم الكلام فيه مفصلا.
الثاني: ما إذا كان متمكنا من ترك الحرام ولكنه كان غير متمكن من امتثال
الواجب من دون ان يرتكب الحرام، لعدم المندوحة له، كما إذا توقف الوضوء مثلا
على التصرف في ارض الغير بان يكون الماء في محل يتوقف الوضوء به على التصرف
فيها، وهده المسألة من مسائل التزاحم وقد مر الكلام فيها في مبحث الضد.
الثالث: ما إذا كان المكلف غير متمكن من ترك الحرام كالمحبوس في الدار
المغصوبة سواء أكانت مقدمته باختياره، أو بغير الاختيار، وبعد ذلك لم يتمكن من
الخروج عنها، ويضطر إلى التصرف فيها فقهرا يكون مضطرا إلى الصلاة فيها، وهذه هي
177

المسألة التي انعقد هذا الامر لبيان الحكم فيها.
والكلام فيها يقع في موضعين، الأول: ما إذا كان الاضطرار بغير سوء اختيار
المكلف. الثاني: في الاضطرار بسوء الاختيار.
اما الموضع الأول: فالكلام فيه في موردين: الأول: في حكم الفعل المضطر إليه
نفسه. الثاني: في حكم العبادة الواقعة معه كالصلاة في الدار المغصوبة.
اما الأول: فلا اشكال ولا كلام في أن الاضطرار يوجب سقوط التكليف عن العمل
المضطر إليه، ولا يعقل بقائه: ويدل عليه، مضافا إلى حكم العقل بقبح التكليف بما لا
يطاق: الآيات والروايات.
حكم العبادة الواقعة مع الفعل المحرم المضطر إليه.
واما الثاني: فان كانت العبادة غير متحدة مع المحرم خارجا، فلا كلام في الصحة.
والوجه فيه مضافا إلى ما مر من أنه من ثمرات مسألة الاجتماع هي صحة العبادة
على القول بالجواز مطلقا المتوقف على كون المجمع متعددا خارجا، انه مع سقوط
الحرمة لا مانع عن الصحة والفرض وجود المقتضى.
وان كانت العبادة متحدة وجودا مع المنهى عنه في الخارج فهل تصح العبادة
الواقعة في ذلك المكان كما لعله المشهور بين الأصحاب، أم لا تصح مطلقا؟ كما
هو المنسوب إلى المحقق النائيني (ره) أم يفصل بين كون ارتكاب المحرم واجبا فالصحة
وبين كونه غير واجب فالفساد كما هو المنسوب إلى بعض المحققين وجوه.
وقد استدل للقول الأول بان تقييد المأمور به بعدم وقوعه في ذلك المكان انما كان
لأجل النهى النفسي المفروض سقوطه فمقتضى القاعدة سقوط هذا القيد، لسقوط علته
المقتضية لذلك أعني بها الحرمة - وبعبارة أخرى - ليس اعتبار هذا القيد المستفاد من
النهى النفسي بواسطة دلالته على الحرمة، كالقيد العدمي المدلول ابتداءا للنهي الغيري كما
في النهى عن الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل لحمه، الذي لا يسقط اعتباره بمجرد
178

الاضطرار إلى ارتكابه، من جهة ان النهى انما يدل على أن المأمور به وما فيه المصلحة، انما
هو غير هذا الفرد وهذا لا مصلحة فيه، وحديث الرفع لا يصلح لاثبات وجود المصلحة
فيه وصيرورته مأمورا به. نعم، إذا كان الاضطرار مستوعبا للوقت تكون الصلاة مأمورا بها
لما تضمن ان الصلاة لا تدع بحال، بل القيد انما اعتبر بتبع دلالة النهى على الحرمة، فإذا
سقطت الحرمة، سقط اعتبار هذا القيد.
وقد استدل للقول الثاني، تارة بان الحرمة وفساد الصلاة، معلولان للنهي في مرتبة
واحدة من دون سبق ولحوق بينهما، وما يكون مرتفعا بأدلة نفى الاضطرار انما
هو الحرمة، ولا دليل على رفع المعلول الثاني، فمقتضى القاعدة الأولية هو سقوط الامر
بتعذره في مجموع الوقت وتقييد اطلاقه فيما إذا كان التعذر في بعض الوقت.
وأخرى، بان مقتضى اطلاق النهى ثبوت الحكم والمفسدة حتى في حال الاضطرار،
وبأدلة نفى الاضطرار، انما يرفع الحكم، فلا مقيد لاطلاق النهى بالإضافة إلى ثبوت المفسدة،
وليست هذه الأدلة نظير الدليل المخصص، المتضمن للتخصيص الوارد على دليل النهى
الكاشف عن اختصاص الحرمة بغير مورد التخصيص من أول الامر كي يمنع عن
التمسك باطلاق النهى حتى بالإضافة إلى ثبوت المفسدة، بل غاية ما يدل عليه هذه الأدلة،
انما هو رفع الحكم الفعلي لأجل عروض ما يوجب ارتفاعه فلا رافع لملاك التحريم، و
لا كاشف عن رفعه، فاطلاق النهى بالإضافة إليها على حاله، وهي تكون مانعة عن اتصاف
الفعل بالوجوب، إذ الفعل الذي فيه مفسدة غالبة على المصلحة لا يعقل اتصافه بالوجوب.
وفيهما نظر، اما الأول: فلانه ان أريد به ان الحرمة والفساد، معلولان له في مرتبة
واحدة كما هو صريحه، فهو بديهي الفساد إذ لا تغصب مثلا لا دلالة له على فساد الصلاة
المجتمعة مع الغصب، لعدم كونه ارشاديا بل هو متضمن لحكم نفسي وليس من قبيل
النهى المستفاد منه المانعية ابتداءا، وان أريد به ان لا تغصب مثلا انما يدل بالدلالة
المطابقية على الحرمة، وبالدلالة الالتزامية على فساد العبادة، والاضطرار انما أوجب
سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية، فتبقى الدلالة الالتزامية بحالها، لأنها تابعة للدلالة
المطابقية وجودا لا حجية كما قيل في توجيه هذا الوجه، فيرد عليه، ما حققناه في محله،
179

من أنها كما تكون تابعة لها وجودا تابعة لها حجية.
واما الثاني: فلانه مضافا إلى أنه لا كاشف عن وجود الملاك بعد سقوط التكليف،
ان المفسدة التي لا تكون منشئا للمبغوضية الفعلية، لا تكون مانعة عن ايجاب الفعل.
وللمحقق النائيني (ره) في تأييد المستدلين والايراد على الناقدين كلام في المقام
محصله ان التقييد ربما يستفاد من النهى مطابقة كما في النواهي التي تكون ارشادا إلى
المانعية كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه والميتة والحرير وما شاكل.
وربما يستفاد التقييد من النهى النفسي من جهة مزاحمة المأمور به مع المنهى
عنه، بمعنى ان المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج، فلا محالة تقع المزاحمة
بينهما فلو قدمنا جانب النهى لا محالة يقيد المأمور به بغير هذا الفرد.
وثالثا: يستفاد التقييد من النهى النفسي لامن جهة المزاحمة بل من ناحية الدلالة
الالتزامية بمعنى ان النهى، بالمطابقة يدل على الحرمة، وبالدلالة الالتزامية على التقييد.
اما النوع الأول: فلا اشكال في دلالته على الفساد في حال الاضطرار: لان مقتضى
اطلاق دليل التقييد فيه على تقدير تمامية مقدماته، هو اعتبار هذا القيد في المأمور به في
جميع أحوال المكلف، ولازم ذلك هو سقوط الامر عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد
للقيد، نعم، في خصوص باب الصلاة دل الدليل على عدم سقوط الصلاة بحال ومفاده
الغاء الشارع كل قيد من قيودها في حال العجز عن تحصيله.
واما النوع الثاني: أي ما كان اعتبار القيد العدمي ناشئا من مزاحمة المأمور به
للمنهى عنه. فالقاعدة تقتضي سقوط التقييد عند الاضطرار، لان التقييد فرع التزاحم،
والتزاحم فرع وجود التكليف التحريمي كي يكون معجزا للمكلف عن الاتيان بالمأمور به
ومعذرا له في تركه فإذا فرض سقوط التكليف التحريمي بالاضطرار لم يبق موضوع
للتزاحم الموجب لعجز المكلف فلا محالة يسقط التكليف.
واما النوع الثالث: أعني ما كان اعتبار القيد العدمي مستفادا من النهى النفسي، فان
قلنا ان التقييد تابع للحرمة ومتفرع عليها كما هو المشهور فمقتضى القاعدة هو سقوط
القيد عند الاضطرار لسقوط علته المقتضية أعني بها الحرمة، واما ان قلنا بان التقييد
180

والحرمة، معلولان لعلة في مرتبة واحدة بلا سبق ولحوق بينهما، فالقاعدة تقتضي سقوط
الامر عند تعذر قيده، والمقام كذلك و
ووجهه على ما في تقريرات المحقق الكاظمي ان القيدية في هذا النوع وان
استفيدت من النهى الا انها ليست معلولة للنهي، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى
فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة وهو الملاك وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار
لا يوجب سقوط المعلول الاخر، فالقيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية
المطلقة. وعلى ما في تقريرات بعض تلامذة الأستاذ، ان الوجوب والحرمة متضادان و
قد تقدم في بحث الضد ان وجود أحد الضدين ليس مقدمة لعدم الضد الاخر فلا تقدم
ولا تأخر بينهما، كما لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما، فإذا كان الامر كذلك: استحال ان
يكون عدم الوجوب متفرعا ومترتبا على الحرمة فلا يكون الدليل دالا على الحرمة في
مرتبة متقدمة وعلى عدم الوجوب في المرتبة المتأخرة بل تكون دلالته عليهما في مرتبة
واحدة فالقاعدة الأولية تقتضي سقوط الامر بالمركب عند الاضطرار وتعذر قيد من
قيوده دون سقوط التقييد.
ولكن يرد على التقريب الأول الذي ذكره المحقق الكاظمي (ره) انه وان كان
مقتضى حديث الرفع وما شاكله الوارد في مورد الامتنان ثبوت الملاك والمقتضى، والا
لم يكن رفع الحكم مستندا إلى الامتنان بل كان مستندا إلى عدم المقتضى كما هو واضح.
الا ان الملاك الذي لا يؤثر في المبغوضية لا يكون مانعا عن صحة العبادة: إذ الفعل
المشتمل عليه يكون في نفسه جائزا، وإذا كان جائزا لم يكن مانعا عن التمسك باطلاق
دليل الواجب لاثبات كونه مصداقا له.
ويرد على التقريب الثاني: ان عدم ترتب عدم أحد الضدين على وجود الاخر
واقعا وفى عالم الثبوت غير عدم ترتب ثبوته على ثبوته في مقام الدلالة والكشف
والمدعى هو الثاني، وبديهي ان دليل الحرمة لا يدل بالدلالة المطابقية على فساد العبادة
وعلى تقيدها بقيد، وعلى عدم الوجوب، بل يكون ذلك بالدلالة الالتزامية كما هو الشأن
في المتلازمين، بل يكون الدليل الدال على المعلول دالا على وجود علته بالدلالة الالتزامية
181

فيكون وجود المعلول مترتبا على وجود علته ولكن كاشفية الدليل عنهما انما تكون
بالعكس أي يكون كاشفيته عن وجود العلة متفرعة على كاشفيته عن وجود المعلول، و
قد مر في مبحث الضد بشكل موسع ان الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وجودا
وحجية، فالقاعدة الأولية تقتضي صحة العبادة المجامعة مع الحرمة عند سقوط الحرمة.
واستدل للقول الثالث بعد البناء على وجود المفسدة المانعة عن اتصاف الفعل
بالوجوب مع سقوط الحرمة لعروض الاضطرار، بأنه إذا وجب ارتكاب ذلك الفعل كما
إذا توقف حفظ النفس المحترمة على الدخول في الدار المغصوبة والمكث فيها، لا محالة
يوجد في ذلك الفعل مصلحة ويصير محبوبا وتلك المصلحة توجب اندكاك مفسدة
الغصب، فكان هذا الفعل لا مفسدة فيه أصلا، فالصلاة فيها أيضا جائزة، وهذا بخلاف ما
إذا لم تحدث فيه مصلحة.
وفيه: مضافا إلى ضعف المبنى كما عرفت آنفا، لا يتم هذا التفصيل، لان صيرورة
شئ محرم ذي مفسدة مقدمة لواجب أهم، انما توجب سقوط حرمته ولا يوجد فيه
مصلحة فمع بقاء المفسدة والملاك، كما هو المفروض يكون حكم هذا الشق حكم الشق
الاخر بلا فرق بينهما، - وبعبارة أخرى - لا يوجد فيه مصلحة كي يكون ذلك فارقا بين
الفرضين، فتحصل ان الأقوى هو ما ذهب إليه المشهور وهي الصحة مطلقا.
حكم الصلاة في حال الاضطرار
ثم انه لا باس بالتعرض لمسألة مناسبة للمقام وهي بيان حكم الصلاة في الأرض
المغصوبة في حال الاضطرار والكلام فيها في مقامين، الأول: ما إذا لم يتمكن المكلف من
الخروج عنها في الوقت، الثاني: ما إذا كان متمكنا من ذلك.
اما المقام الأول: فبعد ما لا كلام ولا اشكال في وجوب الصلاة عليه، وقع الكلام
في أنه، هل يجوز له الاتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود كما عن جماعة منهم
صاحب الجواهر (ره) أم يجب الاقتصار على الايماء والإشارة بدلا عنهما كما عن جماعة
آخرين منهم المحقق النائيني (ره) ومنشأ الاختلاف بعد الاتفاق على أن الاضطرار، وان
182

كان يسوغ الحرام الا انه لا بد من الاقتصار في التصرف على مقدار تقتضيه الضرورة دون
الزائد عليه، فإنه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز، ان الركوع والسجود تصرف زائد على
مقدار الضرورة فلا يسوغ، أم لا يعدان من التصرف الزائد باعتبار ان كل جسم يشغل
المكان بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق، وذلك المقدار لا يختلف باختلاف
أوضاعه واشكاله فيجوز، والمحقق النائيني (ره) قد سلم ان الركوع والسجود لا يعدان من
التصرف الزايد عقلا ومع ذلك حكم بعدم الجواز نظرا إلى أنهما منه عرفا.
توضيح ما افاده ان الانسان سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع
أو الساجد أو ما شاكل يشغل مقدارا خاصا من المكان، وذلك لا يختلف زيادة ونقيصة
بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال، فبالدقة العقلية ان الركوع والسجود لا يعدان تصرفا
زايدا، الا انهما من جهة استلزامهما للحركة يعدان تصرفا زائدا بنظر العرف، وبديهي
ان العبرة بصدق التصرف الزايد بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية، فلا محالة يجب الاقتصار
في الصلاة على الايماء والإشارة بدلا عنهما.
ولكن يرد عليه مضافا إلى ما صرح به (قده) أيضا كرارا، ان نظر العرف انما يتبع
في تعيين المفاهيم وتحديدها سعة وضيقا، واما في تطبيق المفهوم على المصداق فهو لا
يتبع والمقام من قبيل الثاني.
: ما صرح به صاحب الجواهر (ره) قال إن القيام والجلوس والسكون والحركة و
غيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز وجميعها أكوان ولا ترجيح لبعضها على بعض
فهي في حد سواء في الجواز وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس، نعم
يختلفان في الطول والعرض إذا الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه و
يتضح ما افاده ببيان أمرين: أحدهما: ما تقدم من أن كل جسم له حجم خاص ومقدار
مخصوص يشغل المكان بمقدار حجمه من دون ان يختلف ذلك باختلاف أوضاعه و
اشكاله، لان نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته
وأوضاعه، ولا يختلف ذلك باختلاف الأوضاع الطارئة عليه من الركوع والسجود والقيام
والجلوس وما شاكل. ثانيهما: انه لا فرق بين كون المكلف في الدار المغصوبة على هيئة
183

واحدة وكونه على هيئات متعددة في أنه مرتكب محرمات متعددة: إذ كون فيها بأي هيئة
كان معصية ومحرم في كل آن، ولا سبيل إلى توهم انه لو كان قائما في جميع الآنات،
فهو مرتكب لمحرم واحد ولو ركع وسجد فقد ارتكب محرمات متعددة، لان كون
المكلف في الدار على هيئة واحدة في كل آن وزمان تصرف في الأرض ومحرم لا ان
كونه عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرف واحد ومحكوم بحكم واحد.
وبذلك يتضح ان الركوع والسجود لا يكون تصرفا زائدا عرفا أيضا لأنه إذا لم
يركع وبقى قائما فقد تصرف في الدار المغصوبة، وكذلك إذا ركع وسجد والحركة
الركوعية أو السجودية، وان كانت تصرفا الا ان البقاء على القيام أيضا تصرف لا دليل
على ترجيحه على ذلك التصرف، فالمتحصل انه لا بد من البناء على أنه يأتي بالصلاة
مع الركوع والسجود.
واما المقام الثاني: وهو ما إذا كان المكلف متمكنا من التخلص عن الغصب
في الوقت، فتارة يكون مضطرا إلى البقاء بمقدار ما يصلى الصلاة، وأخرى لا يكون
مضطرا إلى ذلك بل يرتفع الاضطرار قبل ذلك.
اما في المورد الأول: فعلى ما اخترناه في صلاة المضطر إلى الغصب يجوز
له الاتيان بالصلاة ولا يجب عليه تأخير الصلاة لان يؤتى بها في خارج الدار، واما على
مسلك المحقق النائيني فيتعين عليه التأخير إذ لا موجب لان يصلى مع الايماء والإشارة
بدلا عن الركوع والسجود مع فرض تمكنه من الاتيان بها معهما في الوقت.
واما في المورد الثاني: فالظاهر أنه لا يجوز له الاتيان بالصلاة لحكم العقل والشرع
بلزوم التخلص من الغصب والخروج عن الدار المغصوبة في أول أزمنة الامكان ورفع
الاضطرار فلو بقى بعد ذلك يكون مرتكبا للحرام لفرض انه تصرف في ملك الغير من
دون اضطرار.
ولو صلى والحال هذه، تدخل صلاته هذه تحت مسألة الاجتماع، فعلى القول
بجواز اجتماع الأمر والنهي تصح، وعلى القول بالامتناع لا تصح لما تقدم مفصلا.
واما الموضع الثاني: وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار كما إذا توسط الدار
184

المغصوبة باختياره فالكلام فيه في موردين: الأول: ما إذا لم يكن له مندوحة، كما لو
دخل الدار ولم يتمكن من الخروج عنها، فقد ظهر مما تقدم حكم ذلك، من حيث
نفسه، ومن حيث العبادة التوأمة معه والمهم هو البحث في المورد الثاني.
حكم الخروج من الدار المغصوبة
وهو ما إذا كان له مندوحة كما لو دخل الدار المغصوبة وتمكن من الخروج عنها
والكلام فيه انما هو في حكم الخروج وفى الصلاة الواقعة في حاله، اما الأول فقد
اختلفت كلمات الأصحاب فيه، والأقوال فيه خمسة:
الأول: انه محرم ومنهي عنه فقط نسبه صاحب التقريرات إلى بعض الأفاضل
في الإشارات.
الثاني: انه واجب فحسب ولا يكون محرما بالنهي الفعلي ولا بالنهي السابق
الساقط فلا يجرى عليه حكم المعصية، اختاره الشيخ الأعظم والمحقق النائيني، ونسب
إلى العضدي والحاجبي.
الثالث: انه حرام وواجب بناءا على جواز اجتماع الأمر والنهي بعنوانين بينهما
عموم من وجه، وان المقام من هذا القبيل فالخروج واجب اما لأنه مقدمة للتخلص عن
الحرام الذي هو واجب ومقدمة الواجب واجبة أو لأنه مصداق للتخلص الواجب، و
حرام لأنه مصداق للتصرف في مال الغير وهو محرم، ذهب إليه أبو هاشم المعتزلي
والمحقق القمي ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخرينا بل وظاهر الفقهاء.
الرابع: انه واجب فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط من ناحية الاضطرار ولكن
يجرى عليه حكم المعصية، اختاره صاحب الفصول، ونسب إلى الفخر الرازي.
الخامس: انه غير محكوم بحكم من الأحكام الشرعية، ولكنه منهي عنه بالنهي
السابق الساقط بواسطة الاضطرار، فيجرى عليه حكم المعصية، نعم هو واجب عقلا من
جهة انه أقل المحذورين واخف القبيحين، اختار هذا القول المحقق الخراساني (ره)
185

في الكفاية:
اما القول الأول: فهو بين الفساد لأنه بعد فرض الاضطرار، وعدم تمكن المكلف
من ترك الغصب بمقدار زمان الخروج لأنه بعد الدخول في الدار المغصوبة لابد له من أن
يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث، وحيث إن البقاء فيها حرام، فلو حرم الخروج لزم
التكليف بما لا يطاق، وقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار انما هي في العقاب
دون الخطاب.
واما القول الثاني: وهو ما اختاره المحقق النائيني تبعا للشيخ الأعظم، فملخص ما
افاده ان المقام لا يكون تحت قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار، ودخوله
تحت كبرى قاعدة وجوب رد المال إلى مالكه، ولأجل ذلك يكون الخروج واجبا شرعا.
ولا يجرى عليه حكم المعصية. نعم، لو كان داخلا تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي
الاختيار كان الصحيح ما افاده المحقق الخراساني. فله (قده) دعا وثلاث.
اما الدعوى الأولى: وهي عدم كون المقام داخلا في كبرى قاعدة عدم منافاة
الامتناع بالاختيار للاختيار فقد استدل لها بوجوه أربعة:
الأول: ان ما يكون داخلا تحت تلك الكبرى، لا بد من أن يكون قد عرضه الامتناع
باختيار المكلف وارادته بحيث يكون خروجه عن القدرة مستندا إلى اختيار المكلف
كالحج يوم عرفة لمن ترك المسير إلى الحج باختياره، ومن الواضح ان الخروج عن الدار
المغصوبة ليس كذلك، فإنه باق على ما هو عليه من كونه مقدورا للمكلف فعلا وتركا
ولم يطرأ عليه ما يوجب امتناعه ثم قال، نعم مطلق الكون في الدار المغصوبة الجامع
بين البقاء والخروج بأقل زمان يمكن فيه الخروج وان كان مما لا بد منه الا انه أجنبي
عن الاضطرار إلى خصوص الغصب بالخروج.
والجواب عن ذلك يظهر ببيان أمور:
1 - انه لا فرق في شمول القاعدة بين المحرمات والواجبات، غاية الامر انه
على العكس فيهما: فإنه في التكاليف الوجوبية يصير الفعل ممتنعا وفى التكاليف
التحريمية يصير الترك ممتنعا، - وبعبارة أخرى - انه بحسب الغالب في التكاليف
186

الوجوبية ترك المقدمة يفضى إلى امتناع فعل ذي المقدمة في الخارج، وفى التكاليف
التحريمية يكون ايجاد المقدمة موجبا لامتناع ترك الحرام، مثلا: ترك المسير إلى الحج
يوجب امتناع الحج، والدخول في الدار المغصوبة يوجب امتناع ترك الحرام والانزجار
عنه.
2 - ان الخروج انما يكون محكوما بالحرمة من حيث انطباق عنوان الغصب عليه
لا من حيث هو، وعليه فبمقدار أقل زمان يمكن فيه الخروج يكون مقهورا في ارتكاب
الغصب إذ لا ثالث للبقاء والخروج، فبذلك المقدار يكون مضطرا إلى مخالفة التكليف
ويمتنع عليه الامتثال.
3 - لا فرق في شمول القاعدة بين موارد الامتناع الشرعي والامتناع العقلي.
وبعد ذلك يظهر شمول قاعدة الامتناع بالاختيار لمقدار زمان يمكن فيه الخروج.
مع أنه لو تم ما افاده لزم ان يكون الخروج محرما ومنهيا عنه فعلا، لان المانع
ليس الا الاضطرار وامتناع الامتثال، ولو أنكر ذلك لزم البناء على وجود المقتضى بالفتح
وهو الحرمة، ولو قيل بان النهى يسقط من جهة اضطرار المكلف إلى التصرف في الدار
المغصوبة بمقدار أقل زمان يمكنه الخروج وحيث انه لا بد من سقوط أحد التكليفين اما
حرمة البقاء أو حرمة الخروج، والخروج أقل محذورا، فيسقط نهيه لذلك، قلنا
ان الاضطرار إلى ذلك تكوينا بمعنى عدم القدرة على تركه، لا عدم القدرة على فعله،
بضميمة بقاء النهى عن البقاء، يوجب كون ترك الخروج ممتنعا فيدخل في تلك القاعدة.
الثاني: انه يعتبر في شمول القاعدة، كون الشئ ذا ملاك وجدت المقدمة أم لا و
يكون الحكم بنفسه مشروطا بمجيئ زمان متعلقه، لامتناع الواجب التعليقي، وهذا
بخلاف المقام، فان التصرف بالدخول من المقدمات التي لها دخل في تحقق القدرة
على الخروج وملاك الحكم فان الداخل هو الذي يمكن توجيه الخطاب المتعلق
بالخروج به دون غيره، فلا يكون مشمولا للقاعدة.
وفيه: ان الخروج قبل الدخول، ذو ملاك، ومنهي عنه، ويكون تركه مقدورا
بواسطة القدرة على الواسطة، وهو ترك الدخول، وانما يكون غير مقدور بعد الدخول
187

فليس الدخول دخيلا في ملاك حكم الخروج، ومن شرائط اتصاف الفعل بالمفسدة،
- وبعبارة أخرى - ان الخروج بعد الدخول مقدور تكوينا وذو ملاك قبل الدخول، وانما
يصير ممتنعا بعد الدخول للنهي عن البقاء، فبعد الدخول يصير ممتنعا شرعيا، فلا يكون
الدخول موجبا لتحقق ملاك الحكم في الخروج.
وان شئت قلت بعد ما لا ريب في شمول القاعدة للمحرمات كشمولها للواجبات
وأيضا تكون القاعدة شاملة للامتناع الشرعي، وعرفت ان شمولها للمحرمات عكس
شمولها للواجبات، بمعنى انه يعتبر في الواجبات كون الفعل مقدورا قبل الاتيان بالمقدمة
وبتركها يمتنع، وفى المحرمات يعتبر كون الترك مقدورا قبل الاتيان بالمقدمة وممتنعا
بعد الاتيان بها: ان شمول القاعدة للخروج ان كان بلحاظ وجوبه، تم ما افاده، لان
وجوب الخروج بلحاظ وجوب رد المال إلى مالكه لا ملاك له قبل الدخول ليفوت ذلك
بترك هذه المقدمة، مع أنه بايجاد المقدمة لا يفوت منه ذلك للاتيان بالخروج، ولكن ان
كان بلحاظ حرمته كما هو كذلك، وحيث إن ترك الخروج قبل الدخول مقدور،
والخروج لكونه منطبق عنوان التصرف في مال الغير ذو ملاك ملزم وحرام، وبالدخول
يصير ترك الخروج ممتنعا بعد فرض فعلية النهى عن البقاء، لدوران امره بين البقاء
والخروج، وامتناع الخروج يكون مستندا إلى الدخول باختياره فيكون مشمولا للقاعدة
الثالث: ان الملاك في دخول الشئ تحت القاعدة هو ان تكون المقدمة موجبة
للقدرة على ذي المقدمة ليكون الآتي بها قابلا لتوجيه الخطاب باتيان ذي المقدمة إليه،
وفى المقام الدخول وان كان مقدمة للخروج الا ان تحققه في الخارج يوجب سقوط
النهى عن الخروج فكيف يمكن ان يكون الخروج من صغريات تلك القاعدة.
وفيه: انه في الواجبات يعتبر في تحقق مورد القاعدة كون المقدمة موجبة للقدرة
على ذي المقدمة وتركها موجبا لامتناعه ليكون الآتي بها قابلا لتوجه الخطاب باتيان
ذي المقدمة إليه، واما في المحرمات فينعكس ذلك أي يعتبر كون المقدمة موجبة للزوم
وجوده وامتناع الانزجار وتركها موجبا للقدرة عليه.
الرابع: ان الخروج في المقام واجب في الجملة ولو كان ذلك بحكم العقل و
188

يكشف ذلك عن كونه مقدورا وكل ما كان كذلك لا يدخل تحت القاعدة قطعا لان
موردها ما إذا كان الفعل غير مقدور وغير قابل لتعلق الخطاب به.
وفيه: ان الخروج لا يكون واجبا شرعا كما ستعرف، مع أن جعل الوجوب
للخروج بعد جعل الحرمة لساير أنحاء التصرفات لغو ولا اثر عقلي له فلا يعقل جعله، و
ان شئت قلت إن العبد مجبور بحكم العقل بالمعنى الصحيح في اتيانه، وما هذا شأنه
يكون جعل الوجوب له لغوا وتمام الكلام في محله، ولا عقلا، إذ شان القوة العاقلة
الدرك، لا الالزام.
واما الدعوى الثانية: وهي كون المقام داخلا في كبرى قاعدة وجوب رد المال
إلى مالكه، فقد استدل لها: بان الخروج يوجب تحقق التخلية بين المال ومالكه التي به
يتحقق الرد في غير المنقولات فيكون واجبا.
توضيح ما افاده ان الاضطرار تعلق بمطلق الكون في الدار المغصوبة بعد الدخول
بقدر أقل زمان يمكن فيه الخروج لا بخصوص البقاء ليرتفع حرمته، ولا بالخروج ليسقط
وجوبه، فلا محالة يرتفع حرمة الجامع، وحيث إن البقاء بالسكون والحركة غير
الخروجية محرم، والخروج مصداق للتخلية بين المال ومالكه وواجب، فيكون المقام
من الاضطرار إلى مطلق التصرف في مال الغير الذي يكون بعض افراده واجبا وبعضها
محرما فهو نظير ما لو اضطر إلى شرب الماء لرفع عطشه الجامع بين النجس والطاهر، فكما
انه في المثال لا يوجب الاضطرار سقوط الحرمة عن شرب النجس لعدم الاضطرار إليه بل
يجب رفع العطش بشرب الماء الطاهر، كذلك في المقام يتعين عليه رفع الاضطرار
بالخروج.
وبالجملة فالخروج واجبا شرعا وعقلا لدخوله، تحت قاعدة وجوب التخلية
بين المال ومالكه وامتناع دخوله تحت قاعدة الامتناع بالاختيار، وغير الخروج من
اقسام التصرف يبقى على حرمته.
ثم انه (قده) قال إنه لو بنينا على أن الشارع لا يرضى بالتصرف في مال الغير بلا
رضاه، وان كان ذلك بعنوان التخلية ورده إليه، فغاية ما هناك ان يكون حال الخروج
189

في المثال حال شرب الخمر المتوقف عليه حفظ النفس، فكما ان الشارع حيث لا يرضى
بصدور شرب الخمر من أي شخص، فيحكم بحرمة المقدمة التي بها يضطر المكلف إلى
شربه ولكنه بعد تحقق المقدمة في الخارج لا يكون الشرب المتوقف عليه حفظ النفس
الا مطلوبا عقلا وشرعا، فكذلك يكون الخروج في المقام، فيكون المقدمة التي بها يضطر
المكلف إلى الخروج وهي الدخول محرما، وحيث انه محرم في نفسه فيكون الدخول
حراما من جهة نفسه ومن جهة كونه علة للخروج، واما الخروج نفسه، فهو بعد الدخول
يكون مطلوبا فحسب.
فالمتحصل ان التصرف في مال الغير بالخروج لا يخلو الامر فيه من أن يكون حاله
حال ترك الصلاة من المرأة التي توسلت إلى صيرورتها حائضا بشرب الدواء، أو يكون
حاله حال شرب الخمر المشتمل على ملاك الحرمة في جميع التقادير، فيحرم التسبيب
بفعل ما يضطر المكلف معه إليه، لكنه على تقدير تحقق الاضطرار في الخارج، لتوقف
واجب فعلى عليه، أو لكونه بنفسه مصداق الواجب لا يقع الفعل الا محبوبا.
والجواب عن ذلك: ان التخلية والتخلص، اما ان يكون أمرا عدميا وعبارة عن
ترك الغصب، أو يكون أمرا وجوديا وعبارة عن ايجاد الفراغ والخلاء بين المال و
صاحبه كما هو الصحيح، وعلى التقديرين لا يكون الخروج مصداقا لها: لان الحركة
الخروجية تصرف في مال الغير ومصداق للغصب، فهي اما مضادة للتخلية أو نقيض لها،
وعلى التقديرين لا يكون الخروج معنونا بعنوان التخلية.
فان قيل إن الخروج وان كان مصداقا للغصب أصله، ولا يصدق عليه التخلص منه
الا انه مصداق للتخلية والتخلص بالإضافة إلى الغصب الزايد، ومعه يكون محبوبا.
أجبنا عنه بان التخلص من الغصب الزايد، فرع الابتلاء به فما دام لم يبتل بشئ
لا يصدق انه خلص عنه، وبذلك يظهر اندفاع الوجهين الذين أفادهما.
واما ما افاده من أن العقاب انما يكون على فعل المقدمة في مثال الاتيان بما
يضطر معه إلى شرب الخمر، فقد مر في مبحث المقدمات المفوتة مفصلا، وعرفت
ان العقاب انما يكون على فعل ما هو محرم لولا الاضطرار فراجع.
190

وقد استدل في محكى التقريرات لوجوب الخروج بوجهين آخرين:
أحدهما: ان الخروج يكون مقدمة للواجب لوجوب ترك الغصب الزايد عن
مقدار الخروج، فيتعلق به الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب
ذي المقدمة ووجوب مقدمته، فالخروج عن الدار الغصبية يكون مأمورا به لكونه مقدمة
للواجب المنجز الفعلي.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين. الأول: ما محصله ان مقدمة الواجب ان
كانت مباحة تجب، وان كانت محرمة فمع عدم الانحصار، لا تجب بل يكون الواجب
هو المباحة، واما مع الانحصار فان لم يكن وجوب ذي المقدمة أهم لا تجب، وان كان
أهم فان كان الانحصار لا بسوء الاختيار، تجب المقدمة، وان كان بسوء الاختيار لا تجب
بل تبقى على مبغوضيتها والا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره و
عدم حرمته مع اختياره له، ففي المقام حيث إن الخروج واحد زمانا ففرض خروجه عن
المبغوضية لا يعقل فإنه يلزم منه حرمة الخروج على تقدير إرادة الدخول وجوازه على
تقدير إرادة نفسه كما هو بعد الدخول.
وقد يقال في توجيه مراده من قوله (والا لكان الحرمة معلقة على إرادة المكلف
واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له) ان الضمير في قوله لغيره، وله، عائد إلى
الخروج فتكون النتيجة تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه، و
جواز الخروج على إرادة الدخول، فيكون الحاصل حرمة الخروج عند ترك الدخول و
تجويزه عند الدخول.
وأيضا قد يقال في توجيه مراده ان المراد بغير الخروج ترك الخروج، وعليه فيلزم
من رفع حرمته رجوع الالزام إلى الإباحة أو طلب الحاصل: إذ طلب ترك الخروج معلقا
على إرادة ترك الخروج يلزم منه الأول وطلبه معلقا على نفس الخروج يلزم منه الثاني.
وكيف كان فيرد عليه انه لو سلم كون الخروج مقدمة للواجب، لا محالة يصير
واجبا إذ بعد فرض سقوط تكليفه التحريمي لا مانع عن اتصافه به، إذا المبغوضية الذاتية
لما لم تكن منشئا للأثر وموجبة لزجر الآمر عنه، فلا تنافى مع ايجابه من جهة توقف
191

الواجب الفعلي عليه، فالمقتضي موجود والمانع مفقود، فلا مناص عن البناء على وجوبه
- وبعبارة أخرى - ان الخروج قبل الدخول محرم شرعا، ولا يكون مقدمة للواجب، فان
للمكلف ترك الدخول والخروج، ولكن بعد الدخول يصير مقدمة للواجب، وحيث لا
مانع عن وجوبه لسقوط حرمته بالاضطرار، وعدم منافاة المبغوضية الذاتية له، فلا بد
من البناء على وجوبه
الثاني: ما ذكره (ره) بقوله مع أنه خلاف الفرض وان الاضطرار يكون بسوء
الاختيار.
وفيه: ان المفروض كون الاضطرار إلى الخروج بسوء الاختيار، لا ان اختيار
الخروج يكون بسوء، والفرق بينهما واضح.
فالحق في الجواب عن ذلك أن يقال ان الخروج مقدمة للكون في خارج الدار و
هو ليس بواجب، وانما هو ملازم لترك الكون في الدار الذي هو ترك للحرام. نعم، بناءا
على كون ترك الحرام واجبا، ولازم الواجب واجبا، يجب الكون في خارج الدار فيجب
مقدمته، وهو الخروج، ولكن قد عرفت في مبحث الضد فساد كلا المبنيين.
الوجه الثاني: ان التصرف في الدار المغصوبة بالخروج ليس كالتصرف بالدخول
والبقاء، بل هو لأجل كونه مما يترتب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه التخلص عن التصرف
بالحرام، لا يكون حراما في حال من الحالات، بل حاله مثل حال شرب الخمر المتوقف
عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.
وفيه: أولا، ما عرفت آنفا من عدم كونه مقدمة للواجب فلا وجه لوجوبه. وثانيا،
ان دعوى عدم كونه منهيا عنه قبل الدخول لا وجه لها سوى دعوى عدم القدرة عليه الا
بالدخول وهي فاسدة، فإنه مقدور غاية الامر بالواسطة لا بدونها.
واما الجواب عن ذلك بعد تسليم المقدمية بان المبغوضية الفعلية مانعة عن
الاتصاف بالوجوب فيدفعه ما ذكرناه آنفا.
فتحصل مما ذكرناه انه لاوجه للقول بوجوب الخروج عن الدار المغصوبة، وبه
يظهر عدم تمامية القولين الآخرين وهما، القول بأنه حرام وواجب، والقول بأنه واجب
192

فعلا وحرام بالنهي السابق الساقط بالاضطرار، مع أنه يرد على الأول منهما ما تقدم من
عدم كونه منهيا عنه، أضف إليه لزوم اجتماع الضدين في مورد واحد.
واما الثاني منهما وهو القول الرابع، فقد أورد عليه المحقق الخراساني والمحقق
النائيني بان تعلق حكمين بفعل واحد ممتنع ولو كان زمانا الايجاب والتحريم متغايرين،
لأن الاعتبار في الاستحالة والامكان، انما هو باتحاد زمان صدور الفعل وتعدده لا باتحاد
زمان الايجاب والتحريم وتعدده من حيث أنفسهما، كيف والا لزم وقوع الخروج
بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للامر اللاحق فعلا مبغوضا ومحبوبا كذلك
بعنوان واحد.
ولكن: الظاهر عدم ورود هذا الايراد على صاحب الفصول، فان كون فعل خاص
موردا للنهي في مدة من الزمان وموردا للامر في مدة أخرى، لا محذور فيه ولا يكون
ذلك من اجتماع الضدين المحال بشئ - وبعبارة أخرى - صاحب الفصول (ره) لا يدعى
بقاء الحرمة إلى حين ما يصير واجبا حتى يورد عليه ما ذكراه بل يدعى سقوط النهى بعد
ذلك وبقاء اثره، فالاشكال من حيث لزوم اجتماع الضدين في غير محله. وهو (قده)
أجاب عن هذا الايراد التقديري: بأنه لو كانت مبغوضية شئ في زمان مضادا لمطلوبيته في
زمان آخر، لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه وانما لا يترتب هنا اثر الأول لرفع
البداء له بخلاف المقام، فالأولى الجواب عن هذا القول بما تقدم.
ثم إن المحقق النائيني أورد على المحقق الخراساني بان هذا الجواب وان كان حقا
الا انه ليس لك الجواب بذلك، فإنك التزمت في حاشية المكاسب بنظير ما التزم
به الفصول في المقام، وهو ان المال الواقع عليه العقد الفضولي بعد صدور العقد وقبل
حصول الإجازة محكوم عليه واقعا بكونه ملك من انتقل عنه، وبعد الإجازة يحكم عليه
واقعا بكونه في ذلك الزمان بعينه لمن انتقل إليه، ولا منافاة بين الحكمين أصلا لتعدد
زمانهما وان اتحد زمان المحكوم بهما.
أقول: الظاهر عدم ورود هذا الاشكال على المحقق الخراساني إذ فرق بين
الأحكام الوضعية والتكليفية، فان الأحكام الوضعية انما تكون تابعة للمصلحة في نفس
193

الاعتبار، إذ لا وعاء له سوى الاعتبار، فمن الممكن وجود المصلحة في اعتبار ملكية ثوب
خاص في يوم السبت لزيد، ثم في يوم الأحد بواسطة الإجازة تحدث المصلحة في اعتبار
ملكية ذلك الثوب في يوم السبت لعمرو، فيعتبر له، ولا مضادة بين لاعتبارين. وتفصيل
ذلك في محله، واما الأحكام التكليفية فهي تابعة للمصالح والمفاسد في نفس الفعل
فحينئذ ان كانت فيه مصلحة ملزمة فلا معنى للنهي عنه، والا فلا مورد للامر به فتدبر.
فتحصل: من مجموع ما ذكرناه ان الخروج ليس مأمورا به، ولا منهيا عنه ولكنه
واجب عقلا، لكونه أقل المحذورين، ومعاقب عليه لدخوله تحت قاعدة الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار، فالأقوى هو الخامس، وهو انه غير محكوم بحكم شرعا و
واجب عقلا، ومعاقب عليه.
الصلاة في حال الخروج
واما الصلاة في حال الخروج، فقبل بيان حكمها لابد وان يعلم أن محل الكلام ما
لو كانت الصلاة التي تكون وظيفته يتمكن من اتيانها في حال الخروج، والا فلا كلام
في البطلان.
وملخص القول في المقام انه بناءا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي تصح
الصلاة، لما عرفت من أن الأظهر هي الصحة على هذا المسلك مطلقا.
وكذلك على القول بالامتناع وتقديم جانب الامر. والمحقق الخراساني بنى الصحة
في سعة الوقت على هذا المسلك، لو بنى على اجراء حكم المعصية على الخروج، على عدم
اقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده واستدل له، بان الصلاة في الدار المغصوبة، وان كانت
مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة الا انه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها، إذ
لا يبقى مجال لاحداهما مع الأخرى، وهي أهم لخلوها عن المنقصة الناشئة من قبل اتحادها
مع الغصب، فلا محالة تكون هي مأمورا بها، ولازمه كون الصلاة فيها منهيا عنها.
وفيه: ان الصلاة الواقعة في الدار لا تكون مصلحتها أقل من مصلحة الصلاة في
194

خارج الدار، ومقارنتها مع المفسدة لا توجب نقصا فيها، وعليه فلا وجه للتقييد الامر
بالطبيعة بما تقع في خارج الدار المغصوبة، بل يشمل الواقعة فيها، فالامر لا يكون مختصا
بالصلاة الواقعة في خارج الدار حتى يلازم مع النهى عن الصلاة فيها، مع أن مجرد
الأقوائية ما لم تصل إلى حد الالزام لا توجب التقييد.
واما على الامتناع وتقديم جانب النهى، فان بنينا على وجوب الخروج وعدم
اجراء حكم المعصية عليه، فالصحة واضحة، وان بنينا على أنه منهي عنه بالنهي الفعلي،
ففي حال السعة لا اشكال في الفساد، واما في حال الضيق فربما يقال.
ان مقتضى قوله (ع) - الصلاة لا تسقط بحال - صحة الصلاة في تلك الحالة.
ولكن الظاهر عدم شموله لا مثال المقام إذ معنى عدم سقوط الصلاة بحال، انما
هو، ان كل مكلف في أي حال من الحالات كان، مكلف بالصلاة بحسب وظيفته حتى
الغرقى، لا ان التكليف بها يكون باقيا بعد أن عصى المكلف وصير ايجادها على النحو
المعتبر شرعا حقه ممتنعا.
وان بنينا على عدم كون الخروج منهيا عنه ولكن يجرى عليه حكم المعصية،
فالأظهر هي صحة الصلاة حتى في حال السعة إذ لا وجه للفساد سوى دعوى ان حديث
رفع الاضطرار انما يرفع الحكم لا المفسدة، والمبغوضية الذاتية، ومن المفروض أقوائية
المفسدة من مصلحة الصلاة، وعليه فهما مانعتان عن صحة الصلاة، وهي فاسدة:
إذا المفسدة التي لا تصح لان تكون منشئا لجعل الحرمة، لا تصلح ان تكون مانعة عن
تعلق الامر بالصلاة، هذا كله لو لم تكن الصلاة في حال الخروج فاقدة لبعض ما يعتبر في
صلاته من الاجزاء والشروط كالركوع ونحوه.
والا فالأقوى هو الفساد مطلقا، اما في حال السعة فواضح، واما في حال الضيق،
فلما عرفت من عدم شمول قوله (ع) الصلاة لا تدع بحال لأمثال المقام كما عرفت آنفا.
قال المحقق النائيني، انه بناءا على كون الخروج داخلا في موضوع قاعدة ان
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، واجراء حكم المعصية عليه، تكون الصحة والفساد
في ضيق الوقت مبتنيا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من الجهة الأولى، وعدمه،
195

لأنه على الأول لا اشكال في صحة الصلاة: إذ القبح الفاعلي المانع عن التقرب في ساير
الموارد لا يتحقق، في ما نحن فيه قطعا لان ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال، يستفاد
منه، بالدلالة الالتزامية ارتفاع القبح الفاعلي عند مزاحمته لترك الصلاة رأسا، واما
على القول بالامتناع فكون الخروج مبغوضا فعلا، يستلزم خروج الفرد المتحد به عن
تحت الامر بالصلاة واقعا، فلا يصح الامتثال به قطعا وذلك يسلتزم سقوط الامر بالصلاة
حينئذ لعدم القدرة على امتثاله.
ويرد عليه (قده) مضافا إلى ما عرفت من أن القبح الفاعلي مما لا أساس له أصلا
سوى، القبح الفعلي، والتجري، غير المتحققين في المقام.
ومضافا إلى أن ما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال لا يشمل أمثال المقام كما
عرفت آنفا.
ومضافا إلى أن المبغوضية الذاتية لا تمنع عن كون الفرد المتصف بها باقيا
تحت الامر بالصلاة.
انه لو كان القبح الفاعلي مرتفعا، بما دل على أن الصلاة لا تسقط بحال. لابد
من القول بالصحة على الامتناع أيضا لذلك الدليل، فإنه على هذا يدل على عدم كون
الخروج مبغوضا للمولى عند تضيق وقت الصلاة.
دليل تقديم النهى
الامر الثاني: قد عرفت مما قدمناه ان مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة
المجمع في مورد الاجتماع حقيقة من صغريات كبرى باب التعارض، كما انها على القول
بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات باب التزاحم.
انما الكلام في هذا الامر في أنه على القول بالامتناع في المسألة، هل هناك مرجح
لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب، أو بالعكس، أو لا يكون مرجح لشئ منهما.
وقد ذكروا لتقديم جانب النهى على جانب الامر وجوها.
منها: ان النهى أقوى دلالة، ووجه أقوائيته في الدلالة، على ما عن التقريرات ان
196

دلالة الامر على الوجوب في مورد الاجتماع تكون بالاطلاق، ودلالة النهى على حرمته
انما تكون بالعموم، والعموم أقوى دلالة، فيقدم النهى.
ووجهها على ما في الكفاية، ان دلالة النهى على حرمة المجمع وان لم تكن
بالوضع ولكنها ليست بالاطلاق فحسب كما في الامر، بل الدلالة عليها انما هي بحكم
العقل نظرا إلى أن وقوع الطبيعة في حيز النهى أو النفي، يقتضى عقلا سريان الحكم إلى
جميع الافراد فالدلالة عليها عقلية، ولا يتوقف ذلك على جريان مقدمات الحكمة
في المتعلق، بل كما أن لفظة كل تدل على استيعاب جميع افراد المدخول من غير حاجة
إلى ملاحظة اطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة
المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب، كذلك وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهى
يقتضى عقلا استيعاب جميع افراد الطبيعة من دون ملاحظة الاطلاق في المتعلق.
ويرد عليهما ما تقدم في أول مبحث النواهي من أن دلالة النهى على انتفاء جميع
الافراد انما تكون بالاطلاق.
ثم انه لو سلم كون دلالة النهى على الاستيعاب ما افاده المحقق الخراساني، لا وجه
لقياسه على لفظة كل التي بنفسها تدل على إرادة العموم من مدخولها: فإنه في المقام
السلب بنفسه لا يدل على ذلك، بل يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله،
فإنه وضع للدلالة على سلب المدخول، وهذا بخلاف لفظ (كل) فإنها بنفسها تدل على
إرادة العموم من مدخولها بلا احتياج إلى اجراء مقدمات الحكمة في مدخولها كما
سيأتي تنقيح القول في ذلك في أول مبحث العام والخاص.
ولكن الظاهر أن مراد المستدل ليس شيئا من الوجهين المتقدمين.
بل الظاهر أن مراد المستدل ما افاده الأستاذ من أن الاطلاق، في طرف دليل النهى
شمولي ضرورة ان حرمة التصرف في مال الغير بدون اذنه لا تختص بمال دون آخر،
فهي تنحل بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج، وهذا بخلاف الاطلاق في طرف
دليل الامر، فإنه بدلي لان الامر المتعلق بصرف الطبيعة يقتضى كون المطلوب هو صرف
وجودها في الخارج، وقد ثبت في محله ان الاطلاق الشمولي يقدم على الاطلاق البدلي
197

في مقام المعارضة، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم، وتبعه المحقق النائيني، وقد أشبعنا
الكلام في ذلك في مبحث المشروط، وعليه فهذا الوجه تام.
ومنها: ان الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة
كذلك في متعلقه، وقد اشتهر في الألسن ان، دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، فلا بد
من ترجيح جانب الحرمة.
وأجاب عنه المحقق القمي بأنه في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين.
وفيه: انه لا مفسدة في ترك الواجب ولو كان معينا بل فيه فوت المصلحة وهي
غير درك المفسدة، مع أن ما هو مورد البحث وهو الصلاة في الدار المغصوبة مع وجود
المندوحة خارج عما ذكره: فإنه لا يتعين الواجب في المجمع وقد ذكر انه في ترك
الواجب مفسدة إذا تعين.
وأجاب عن هذا الوجه المحقق الخراساني بأمرين:
1 - ما ذكره في الكفاية وأوضحه في الهامش، وأفاد في وجه ذلك أن الترجيح به
انما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك، بما هو أوفق بغرضه لا المقام، و
هو مقام جعل الاحكام، فان المرجح هناك ليس الا حسنها أو قبحها العقليان لا موافقة
الاغراض ومخالفتها.
أقول بناءا على كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية لا وجه لدعوى انه
ليس مقام الجعل مقام جلب المنفعة ودفع المفسدة، بل المرجح هو حسن الفعل أو
قبحه، إذ بناءا على ذلك يدور امر الشارع بين ايصال المنفعة إلى العبيد، ودفع المفسدة
عنهم وحيث انه لا فرق في هذه القاعدة العقلائية بين الفاعل، وجاعل الاحكام: فإنه
لكونه رئيس العقلاء لدى التزاحم بين دفع المفسدة وايصال المنفعة يقدم الأول، لو
تمت القاعدة كما لا يخفى.
2 - انه لو سلم ان القاعدة تامة، فإنما هي فيما لا يكون مجال لأصالة البراءة
أو الاشتغال كما في دوران الامر بين الوجوب والحرمة التعيينيين، لا فيما يجرى كما في
محل الاجتماع لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال
198

في الشك في الاجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلا الا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة
عنها عقلا ونقلا، نعم لو قيل بان المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن
الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة
محكمة، ولو قيل بأصالة البراءة في الاجزاء والشرائط لعدم تأتى قصد القربة مع الشك
في المبغوضية.
وفيه: انه مع وجود القاعدة العقلائية التي يستكشف بها الحكم الشرعي لا يبقى
مورد لقاعدة الاشتغال أو البراءة. مع، ان المانع عن صحة الصلاة والموجب لتقييد الامر
بالصلاة، انما هو الحرمة الواقعية، وهي لا ترتفع بالبرائة، وعليه فحيث يحتمل عدم الامر
بالصلاة في الدار المغصوبة، فلا محالة يشك في أن الاتيان بها، هل يجزى عن الصلاة
المأمور بها في هذا اليوم قطعا التي يمكن امتثال أمرها بالصلاة في خارج الدار أم لا؟
والأصل يقتضى عدمه.
ويمكن الجواب عن هذا الوجه بأمور:
الأول: انه بناءا على ما ذكرناه سابقا من أنه على الامتناع يقع التعارض بين دليل
الأمر والنهي، ولا بد من سقوط أحدهما، لا مورد لهذه القاعدة أصلا، إذ كل منهما سقط،
لا كاشف عن وجود ملاكه - وبعبارة أخرى - ليس هناك ملا كان للامر والنهى كي يقع
التزاحم بينهما في مقام الاستيفاء فيرجع إلى هذه القاعدة.
الثاني: ان دفع المفسدة مطلقا ليس أولى من جلب المنفعة فإنه ربما يقدم العقلاء
على فعل فيه المفسدة والمضرة، لأجل ما يترتب عليه من المنافع.
الثالث: انه لا دوران في المقام، فإنه يمكن في المقام دفع المفسدة مع جلب
المنفعة بالصلاة في خارج الدار المغصوبة.
ومنها: الاستقراء بدعوى انه إذا تتبعنا موارد دوران الامر بين الوجوب والحرمة
في المسائل الشرعية واستقرأناها، نجدان الشارع قدم جانب الحرمة على جانب
الوجوب، ومن جملة تلك الموارد ان الشارع المقدس حكم بترك العبادة أيام الاستظهار
فان امر المرأة في تلك الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها، ومنها الوضوء
199

أو الغسل بمائين مشتبهين، إذ الامر حينئذ يدور بين حرمة الوضوء أو الغسل من كل منهما
ووجوبه، وقد قدم الشارع جانب الوجوب وامر باهراق المائين والتيمم للصلاة.
ويرد عليه أولا: ان الاستقراء وهو تتبع الجزئيات والافراد وتفحصها ليفيد العلم
بثبوت كبرى كلية، لا يثبت بهذا المقدار، بل الاستقراء الناقص وهو تتبع أكثر الجزئيات
ليفيد الظن بثبوتها لا يثبت بذلك.
وثانيا: ان الامر في هذين الموردين ليس كذلك وان الحكم فيهما ليس من ناحية
هذه القاعدة.
ترك العبادة أيام الاستظهار
وتمام الكلام بالبحث في موردين: الأول، في ترك العبادة أيام الاستظهار. الثاني،
في الوضوء أو الغسل بالمائين المشتبهين:
اما في الأول: ففي الكفاية، ان حرمة الصلاة فيها، انما تكون لقاعدة الامكان
والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا فيحكم بجميع احكامه ومنها حرمة الصلاة
عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى انتهى.
ويرد عليه ان الأظهر عدم ثبوت قاعدة الامكان، لعدم الدليل عليها كما عن
جماعة من المحققين كالمحقق الثاني والمقدس الأردبيلي وصاحب المدارك وغيرهم،
والغاء الشارع الاستصحاب في الحيض كالغائه إياه في ركعات الصلاة، وقد
أشبعنا الكلام فيهما في الجزء الثاني من فقه الصادق.
والتحقيق ان يقال ان الروايات الواردة في الاستظهار مختلفة، كما أن الأقوال فيها
كذلك، فقد ذهب جماعة إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه، نسب ذلك إلى عامة
المتأخرين، وعن مجمع الفائدة والمعتبر والذخيرة الإباحة.
ثم إن القائلين بالوجوب اختلفوا على أقوال. واختار جماعة وجوبه في يوم
واحد، وآخرون وجوبه ثلاثة أيام، وبديهي ان شيئا من هذه الأقوال لا يوافق مع القاعدة
200

المزبورة، إذ لو كان الحكم مستندا إلى القاعدة كان المتعين هو لزوم الاستظهار إلى عشرة
أيام. نعم، للتوهم المزبور مجال بالنسبة إلى القول بوجوبه إلى عشرة أيام، ولكنه أيضا
فاسد، لان الحكم حينئذ انما يكون مستندا إلى الروايات، وبديهي ان مجرد مطابقة
الروايات للقاعدة لا تكشف عن ثبوتها وابتناء وجوب الاستظهار عليها فلعله بملاك
آخر.
أضف إلى ذلك كله ان الاستشهاد، يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض
ذاتا إذ لو كانت الحرمة تشريعية كما هو الصحيح لم يكن الامر في أيام الاستظهار مرددا
بين الوجوب والحرمة فايجاب الاستظهار في تلك الأيام على المرأة أجنبي عن تلك
القاعدة.
الوضوء بمائين مشتبهين
واما المورد الثاني: وهو عدم جواز الوضوء بمائين مشتبهين فقد ظهر حاله
مما مر، فان عدم جواز الوضوء بهما لو كان، فإنما هو عدم الجواز تشريعا، لا الحرمة
الذاتية، مع أن مقتضى القاعدة هو الوضوء بهما كما ستعرف، فعدم الجواز لنص خاص،
غير مربوط بالقاعدة المشار إليها، ولا باس بالإشارة الاجمالية إلى الحكم في تلك المسألة
فملخص القول فيها انه يدل على عدم جواز الوضوء موثق سماعة عن الإمام الصادق (ع)
عن رجل معه إنائان وقع في أحدهما قذر ولا يدرى أيهما وليس يقدر على ماء غيرهما
قال (ع) يهريقهما ويتيمم (1) ومثله حديث عمار (2) وقد عمل بهما الأصحاب كما في المعتبر.
ثم إن ظاهر الخبرين من جهة ظهورهما في نجاسة ما في الاناء بمجرد ملاقاة
النجاسة ولفظ الاناء الاختصاص بالقليل، ففي الكرين لا مناص عن الرجوع إلى ما تقتضيه
القاعدة.

1. الوسائل باب 8 من أبواب الماء المطلق حديث 14
2. المصدر المتقدم
201

وفى الكفاية انها تقتضي التفصيل بين الكر، والقليل، ففي الثاني مقتضاها كالنص
تعين التيمم، وفى الأول مقتضى القاعدة صحة الوضوء أو الغسل لو توضأ أو اغتسل بهما
وصحة الصلاة بعد ذلك، اما في القليل فللابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم
الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضأ من الاناء الثانية، اما بملاقاتها،
أو بملاقاة الأولى، وعدم استعمال مطهر بعده ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى، و
اما في الكر فمن جهة عدم الحاجة في حصول الطهارة به إلى التعدد وانفصال الغسالة لا
يحصل في زمان علم بالنجاسة تفصيلا، وان علم بالنجاسة بالنجاسة اجمالا حين ملاقاة الأولى
أو الثانية، فلا مجال لاستصحاب النجاسة ولا استصحاب الطهارة، للجهل بالتاريخ.
وفيه، أولا: انه بعد تطهير بعض الأعضاء بالثانية، يحصل له علم اجمالي بنجاسة
أحد العضوين اما العضو الذي طهر لنجاسة ما طهر به، أو الباقي لنجاسة الأولى،
فيستصحب النجاسة المعلوم تاريخها إلى ما بعد تطهير الباقي فلا وجه للتفصيل. وثانيا:
ان المبنى ضعيف، إذ المختار جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ كجريانه في
معلومه، فيتعارض استصحاب الطهارة الثابتة بعد استعمال الطاهر منهما المرددة بين بقاء
الطهارة قبل الاستعمال وحدوث غيرها، وهي ثبوتها معلوم وبقائها مشكوك فيه، مع
استصحاب النجاسة في الفرضين فيتساقطان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، ففي كليهما لو
توضأ أو اغتسل بهما بالنحو المزبور أي توضأ بأحدهما، ثم طهر بالثانية مواضع الوضوء
ثم توضأ بها يحصل له الطهارة المائية مع عدم الابتلاء بالنجاسة الخبثية ظاهرا، فلا مجال
معه للتيمم.
مضافا إلى أنه لو كرر الصلاة عقيب كل وضوء تحرز الصلاة الصحيحة واجدة
للطهارة الحدثية والخبثية، فالامر بالتيمم انما يكون على خلاف القاعدة، وحيث إن النص
مختص بالقليل فلا يتعدى عنه إلى الكر.
ودعوى عدم الفصل بينهما على ما ذكر، مندفعة: باحتماله إذ تطهير الأعضاء و
تطهير ما يترشح عليه ماء الوضوء من مواضع البدن أو الثوب بالقليل، متعسر غالبا
بخلاف الكثير.
202

ما يقتضيه الأصل في المقام
الامر الثالث: إذا لم يثبت ترجيح لتقديم جانب النهى أو العكس، فقد أفاد المحقق
الخراساني انه يجرى حينئذ أصالة البراءة عن الحرمة، ومعه لا مانع من الحكم بصحة
الصلاة إذ المانع ليس الا الحرمة المرتفعة بالأصل وبعد ارتفاع الحرمة فهي قابلة للتقرب
بها فتقع صحيحة ولا يتوقف جريان هذا الأصل على جريانها في موارد الشك في الاجزاء
والشرائط لان المانعية في المقام أي وقوع الصلاة في المكان المخصوص ليست مانعية
شرعية ليكون عدم حرمة المكان الخاص قيدا للصلاة بل مانعيتها عقلية ومن ناحية ان
صحتها لا تجتمع مع الحرمة فالشك فيها لا يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر فلا يكون
شكا مقرونا بالعلم بل شك بدوي.
ثم قال نعم لو قلنا بان المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن
الغلبة محرزة فأصالة البراءة غير جارية بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة
محكمة ولو قيل بأصالة البراءة في الاجزاء والشرائط لعدم تأتى قصد القربة مع الشك
في المبغوضية.
وفى كلامه موقع للنظر.
الأول: انه في مورد تعارض العامين من وجه مع عدم الجمع العرفي بينهما
- مسلكان - أحدهما: الرجوع إلى المرجحات السندية. ثانيهما: تساقط الاطلاقين
والرجوع إلى العام الفوق أو الأصل، وما افاده من تصحيح الصلاة بأصالة البراءة لا يتم
على شئ من المسلكين، اما على الأول: فلانه في المثال يقدم دليل الصلاة، لان دليل
وجوبها الكتاب فيقدم على دليل الغصب وهو السنة، فالصلاة صحيحة للكتاب، لا
لأصالة البراءة. واما على الثاني: فلانه بعد تساقط الاطلاقين وان لم يكن مانع عن صحة
الصلاة الا انه لا مقتضى لها أيضا إذ المفروض ان مقتضيها اطلاق دليل الامر الساقط
في الفرض - وبعبارة أخرى - انه بأصالة البراءة لا ترتفع الحرمة الواقعية، والمفروض
203

ان المعارض للوجوب هو الحرمة الواقعية، والأصل لا يكون حجة في لوازمه فلا يدل
على الامر بالصلاة في المجمع فلا محرز لكونها مأمورا بها فلا وجه للحكم بصحتها.
الثاني: انه على فرض ثبوت اطلاق دليل الامر وشموله للمجمع، ما افاده من عدم
ابتناء جريان الأصل في المقام على جريان الأصل في الأقل والأكثر الارتباطيين فإنه وان
تم من حيث جريان أصالة البراءة عن الحرمة، الا انه لاثبات صحة الصلاة لا مناص من
البناء عليه، لان أصل وجوب الصلاة معلوم وتقييده بغير هذا المكان مشكوك فيه فان
جرى الأصل وارتفع التقييد صحت، والا فلا تصح.
الثالث: ما افاده من أن المؤثر في المبغوضية هي المفسدة الواقعية الغالبة ولو لم
تكن الغلبة بمحرزة فلا مجال للبرائة، فيرد عليه انه لا علم لنا بوجود المفسدة في هذه
الحالة كي يقال ان العلم بها وبالحرمة الذاتية كاف في تأثيرها بمالها من المرتبة للشك في
أصل وجودها، وانه هل يكون المجمع مشتملا على مفسدة، أم لا؟ لان مسألة الاجتماع
على الامتناع داخل في كبرى باب التعارض لا التزاحم، وفى ذلك الباب انما يكون الثابت
أحد الحكمين، وعليه فحيث ان ثبوت الحرمة مشكوك فيه، فلا طريق لنا إلى احراز
وجود المفسدة.
مع أنه لو سلم ان المجمع مشتمل على كلا الملاكين كما هو مختاره، فحيث ان
الموجب للحرمة هو المفسدة الغالبة على المصلحة، فالحرمة والمبغوضية مجهولة فلا
محالة تجرى أصالة البراءة فيها.
حكم ما لو تعدد الإضافات
الامر الرابع: قال في الكفاية الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات
والجهات في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز
الاجتماع كان تعدد الإضافات مجديا انتهى.
أقول: لا ريب في أن تعدد الإضافات يوجب اختلاف الطبيعة المضافة، حسنا، و
204

قبحا، ومصلحة، ومفسدة، وجوبا، وحرمة، مثلا السجود لله ذو مصلحة وحسن عقلا
ومحبوب شرعا، وللصنم ذو مفسدة وقبيح عقلا، وحرام شرعا مع أن السجود واحد،
واكرام العادل حسن، واكرام الفاسق قبيح، والصلاة إلى القبلة ذات مصلحة، والى غيرها
ذات مفسدة، فهذا امر بديهي لا يقبل للترديد والاشكال فما عن بعض المحققين من
انكار ذلك دعوى بينة الفساد.
ومترتبا على ذلك أورد المحقق الخراساني على القوم، بأنهم كيف اتفقوا على
معاملة المتعارضين، مع مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، مع أنهم اختلفوا في جواز
اجتماع الأمر والنهي وامتناعه، مع أن لازم المقدمة المزبورة كفاية تعدد الإضافة في
جواز الاجتماع على القول بكفاية تعدد العنوان.
وأجاب عنه انتصارا للقوم بأنه انما يكون بنائهم على معاملة تعارض العموم من
وجه في موارد تعدد الإضافات، مبنيا على الامتناع، أو عدم المقتضى لاحد الحكمين في
مورد الاجتماع.
وقد تقدم عند ذكر المختار في جواز الاجتماع وامتناعه، نقل هذا الايراد و
جوابه، عن المحقق اليزدي، وقد ذكرنا ما كان يخطر بالبال في الجواب عنه وعن أصل
الايراد فراجع.
اقتضاء النهى في العبادات للفساد وعدمه
الفصل الثاني: في أن النهى عن الشئ هل يقتضى فساده أم لا؟ وقبل الدخول في
البحث في ذلك، لا بد من البحث في جهات.
الأولى: قد تقدم في مبحث اجتماع الأمر والنهي ما به يمتاز هذه المسألة عن تلك
المسألة وان النزاع هناك صغروي، فإنه يبحث في تلك المسألة في أنه لو تعلق الامر
بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر وتصادقا في الخارج على مورد، فهل النهى يسرى عن
متعلقه في مورد الاجتماع والتطابق إلى متعلق الامر وما ينطبق عليه أم لا؟ وفى المقام
205

يكون النزاع كبرويا، فإنه يبحث عن تلازم النهى عن شئ مع فساده على فرض تعلقه
بنفس ما تعلق الامر به.
هذه المسألة من المسائل الأصول اللفظية
الثانية: هل هذه المسألة من المسائل الأصول العقلية، أو اللفظية، أم هناك تفصيل
بين العبادات، والمعاملات؟ والبحث في الأولى عقلي، وفى الثانية لفظي.
وملخص القول فيها ان البحث في دلالة النهى عن المعاملة على الفساد، انما
يكون لفظيا، لعدم التنافي بين ترتب الأثر والحرمة والمبغوضية فلا بد وأن يكون البحث
لفظيا فتأمل، واما النهى في العبادات، فقد يقال انه يمكن عقد المسألة لفظية، سواء بنينا
على كفاية الاتيان بداعي الملاك في صحة العبادة، أم بنينا على لزوم الامر. اما على الثاني
فبان ينعقد البحث هكذا، هل النهى يدل بالالتزام على عدم الامر أم لا؟، واما على الأول،
فبان يعنون المسألة، ان النهى هل يدل على عدم الملاك للامر من جهة ان ملاك الامر
المصلحة غير المزاحمة أو الغالبة على المفسدة واما المغلوبة فليست ملاكا له، أم لا؟
وعلى هذا فقد يقال انه بما ان البحث في المعاملات لفظي محض، وفى العبادات
قابل لان يكون لفظيا ولأن يكون عقليا فالأولى عقد بحث واحد لهما وهو انما يكون
لفظيا.
ولكن يرد على عقد المسألة هكذا، ما ذكره المحقق الخراساني في مبحث مقدمة
الواجب، من أنه إذا كانت الملازمة ثبوتا محل الكلام، لا مورد للنزاع في دلالة اللفظ
- وبعبارة أخرى - انه على القول بثبوت الملازمة بين الحرمة والفساد فإنما يكون الحاكم
به العقل، ولا صلة له بباب الألفاظ ولذا لا يختص النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولة لدليل
لفظي، وحيث إن هذا المعنى مورد للنزاع فلا مورد للنزاع في دلالة اللفظ.
مع أن ما قيل من أنه ينازع في دلالة اللفظ بالدلالة الالتزامية على الفساد، أجبنا عنه
: بأنه يشترط في الدلالة الالتزامية كون اللزوم بينا والا كما في المقام فلا دلالة التزامية أيضا
206

حتى على فرض حكم العقل بالملازمة.
وعلى ذلك فيتعين ان يكون السر في عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ ما ذكره
المحقق النائيني (ره) من أن الأصوليين لم ينعقدوا بحثا خاصا للأحكام العقلية
غير المستقلة أعني بها مباحث الاستلزامات بل ذكروا كلا منها في مورد لأجل مناسبة ما
وبديهي ان المناسب لهذه المسألة انما هي مباحث النواهي.
عدم اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي
الثالثة: ربما يقال بان محل النزاع في هذه المسألة، انما هو النهى النفسي التحريمي.
وتنقيح القول بالبحث في موردين: 1 - في الاختصاص بالتحريمي. 2 - في جريان النزاع
في النهى الغيري وعدمه.
اما المورد الأول: فقد استدل المحقق النائيني (ره) وتبعه الأستاذ الأعظم على
الاختصاص بالتحريمي، بان النهى التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة
من اطلاق الامر فلا ينافي اطلاق الامر بالطبيعة بالإضافة إلى ذلك الفرد، بخلاف النهى
التحريمي فإنه ينافي الاطلاق المزبور فيوجب تقييد المأمور به بغير الفرد المنهى عنه.
وأورد عليهما، بان تطبيق الطبيعة على الفرد ان كان له وجود غير وجود الطبيعة
فلا مانع من كونه حراما مع كون الطبيعة واجبة وان لم يكن له وجود منحاذ كما لا
يمكن ان يكون حراما، لا يمكن ان يكون مكروها أيضا: إذ الأحكام الخمسة بأسرها
متضادة. ولا يمكن دفع هذه الشبهة الا بما ذكرناه في مبحث العبادات المكروهة من
كون النهى التنزيهي ارشادا إلى وجود منقصة وحزازة في الخصوصية الموجودة
بوجود الطبيعي، - وبعبارة أخرى - الموجود الخارجي لا يكون متصفا الا بالوجوب، و
اما الالتزام بالكراهة الفعلية فمما لا يمكن كما مر.
ولكن يرد عليهما، ان هذا خلف الفرض إذ محل الكلام، ما لو تعلق النهى بنفس
ما تعلق به الامر، وما ذكراه انما هو تصحيح لتعلق النهى التنزيهي بتطبيق الطبيعة المأمور
207

بها على الفرد - وبعبارة أخرى - بايجاد المأمور به متخصصا بخصوصية خاصة التي فيها
مفسدة غير ملزمة، واما لو تعلق النهى التنزيهي بعبادة فبما ان الاحكام متضادة فلا محالة
لا امر بها. ويكون ملاكه مغلوبا أو معدوما، فلا وجه حينئذ لتصحيح العبادة حينئذ لا أمرا
ولا ملاكا.
فالمتحصل جريان النزاع في النهى التنزيهي أيضا.
المورد الثاني: في أنه هل النهى الغيري كالنهي النفسي، يجرى فيه النزاع أم لا؟
ملخص القول فيه ان النهى الغيري على قسمين، الأول: ما كان مسوقا لبيان مانعية
المنهى عنه عن العبادة واعتبار قيد عدمي في المأمور به. الثاني: ما كان نهيا تبعيا ناشئا من
توقف واجب فعلى على ترك عبادة.
اما القسم الأول: فلا ريب في دلالته على الفساد، فإنه إذا اعتبر في المأمور به قيد
عدمي ولم يقترن المأمور به بذلك القيد، لا محالة لا يكون واجدا لجميع ما اعتبر فيه فلا
ينطبق على الماتى به المأمور به بحده، وليس معنى الفساد الا ذلك.
واما القسم الثاني: وهو كالنهي عن الصلاة التي تتوقف على تركها، إزالة النجاسة
عن المسجد بناءا على ثبوت الملازمة بين الامر بشئ والنهى عن ضده، فقد ذهب
المحقق النائيني خلافا للمحقق الثاني والخراساني، إلى عدم دلالته على الفساد.
واستدل له: بان غاية ما يترتب على النهى الغيري، انما هو عدم الامر بالفعل، ولا
دلالة له بوجه على عدم الملاك، لعدم كونه ناشئا عن مفسدة ومبغوضية، وانما هو ناش
عن كون تركه مقدمة لواجب أهم، وحيث انه يكفي في صحة العبادة اشتمالها على
الملاك وان لم يتعلق بها امر. وقد تقدم الكلام في الكاشف عن الملاك والفرض ان
النهى لا يضر بالملاك فيصح الاتيان بالعبادة.
ويرد عليه مع قطع النظر عن ما ذكرناه من عدم الكاشف عن الملاك: ان الملاك
الذي يسبب الشارع الأقدس إلى تفويته وعدم ايجاده لا يصلح للمقربية وصيرورة العمل
عبادة ومقربا إلى الله تعالى وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا في مبحث الضد.
208

بيان المراد من العبادة
الرابعة: في بيان المراد من العبادة التي وقع البحث في أن النهى عنها هل يقتضى
الفساد، أم لا؟ وانما سيق هذا لأمر لبيان دفع ما قد يشكل في تصوير النهى عن العبادة، بان
العبادة ليست الا ما يوجب القرب، فكيف يعقل النهى عنها.
والحق في الجواب ان العبادة على قسمين. الأول: ما يكون عبادة ذاتا وأدبا يليق
الخضوع به، - وبعبارة أخرى - ما يكون ذاتا تخضعا وتذللا اظهارا للعبودية كالسجود.
الثاني: ما لا يكون كذلك.
اما القسم الأول: فتصوير النهى عن العبادة بذلك المعنى واضح.
نعم، هناك اشكال آخر وهو ان العبادة بهذا المعنى لا يصح النهى عنها، لأنها إذا
كانت أدبا وحسنا ذاتيا، فالنهي عنها، انما يكون كالنهي عن الإطاعة، - وبعبارة أخرى -
حسنها الذاتي مانع عن النهى.
ولكن يمكن دفعه بأنه ربما يكون في المكلف من الارجاس ما يوجب عدم كونه
لايقا باظهار العبودية، فتكون العبادة منه قبيحة فيصح النهى عنها.
واما القسم الثاني: فقد قيل في مقام الجمع بين كونها عبادة ومنهيا عنها، وجوه:
أحدها: ما في الكفاية وهو ان المراد بالعبادة، ما لو تعلق الامر به كان امره أمرا
عباديا لا يكاد يسقط الا إذا اتى به بنحو قربى كساير أمثاله، نحو، صوم العيدين، والصلاة
في أيام العادة.
وفيه: ان هذا خلاف الظاهر فان ظاهر قولهم النهى عن العبادة هي الفعلية
لا التقديرية، مع: ان فساد العبادة بهذا المعنى مستند إلى عدم المقتضى لا إلى النهى كما هو
واضح.
ثانيها: ما في التقريرات وهو ما امر به لأجل التعبد به.
ثالثها: ما هو منسوب إلى غير واحد، وهو ما يتوقف صحته على النية.
209

رابعها: ما عن المحقق القمي (ره) وهو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شئ.
وأورد المحقق الخراساني (ره) على هذه الثلاثة. بأنه ضرورة انها بواحد منها
لا يكاد يمكن ان يتعلق بها النهى.
أقول: ان ما ذكره (ره) وان تم، الا انه غير وارد عليهم، لعدم كونهم في مقام بيان
المراد من العبادة في المقام، بل في مقام بيان العبادة من حيث هي.
فالصحيح في المقام، ان يقال ان المراد بها ما لولا النهى كان عبادة لكونها
مشمولة لدليل متضمن للامر بها، فتكون في مرتبة سابقة على النهى عبادة، فلا يكون
المراد، العبادة التقديرية فتدبر هذا كله في العبادة بالمعنى الأخص.
واما العبادة بالمعنى الأعم كغسل الثوب وأمثاله من مقدمات الصلاة، فهي من
جهة وقوعها عبادة داخلة في محل النزاع، واما من جهة الآثار الوضعية المترتبة عليها،
فقد يتوهم دخولها في محل النزاع من جهة ان الطهارة مثلا من الاعتباريات فحكمها
حكم الملكية، لكنه فاسد فان الطهارة ليست مترتبة على فعل المكلف حتى يمكن التفرقة
بين كونها مبغوضة للشارع وعدمه كالملكية، بل هي مترتبة على نفس الغسل الذي هو
اسم المصدر فما هو سبب له غير مربوط بما يتعلق النهى به، فلا وجه لتوهم دلالة النهى
فيه على الفساد فتدبر فإنه لا يخلو عن دقة.
المراد بالمعاملة
الخامسة: في تعيين المراد من المعاملة التي يقع البحث عن اقتضاء النهى فسادها و
عدمه.
وقد قسم في التقريرات المعاملة على ثلاثة اقسام. الأول: ما يتصف بالصحة
والفساد كالعقود والايقاعات. الثاني: ما لا يتصف بهما مع ترتب الأثر الشرعي عليه،
كالغصب، والاتلاف، واليد، والجنايات، وأسباب الوضوء. الثالث: ما لا يتصف بهما مع
عدم ترتب اثر شرعي عليه وقد مثل له بشرب الماء.
210

والمحقق الخراساني (ره) تبع صاحب التقريرات في ذلك، واستدل لعدم جريان
النزاع في القسم الثاني، بان اثره لا ينفك عنه، وفى الثالث بأنه لا اثر له، واختار جريان
النزاع في القسم الأول، سواء كان من قبيل العقود والايقاعات أم كان من قبيل التحجير
والحيازة وأمثالهما، - وبعبارة أخرى - ان الداخل في العنوان هو المعاملة بالمعنى الأعم.
وأورد المحقق النائيني على ما افاده في القسم الأول، بان المعاملة بالمعنى الأعم
الشاملة للتحجير والحيازة وأمثالهما، لم يتوهم أحد دلالة النهى فيها على الفساد فالمراد
بها هي العقود والايقاعات خاصة.
وفيه: انه كما أن الملكية الحاصلة بالبيع من الأمور الاعتبارية التسبيبية لا الواقعية، و
بهذا الاعتبار دخلت في محل النزاع، من جهة انه بما ان الاعتبار فعل الشارع فيمكن ان لا
يعتبرها لو كان السبب مبغوضا له، كذلك ثبوت الملكية بالحيازة والحق بالتحجير
من الأمور الاعتبارية بلا فرق أصلا، فالأظهر دخولها في محل النزاع.
واما ما افاده العلمان من عدم دخول القسم الثاني في محل النزاع فهو متين جدا و
لكن لا لما افاده المحقق الخراساني، بل لعدم قابلية للاتصاف بالصحة والفساد فإنه
يختص بما يكون مرغوبا فيه وهو لا يكون كذلك فيه، بل يكون اثره الشرعي مجعولا
على المكلف كباب الضمانات والمحرمات، والحدث، الا ترى انه لا يقال لشرب الخمر
غير المحرم للاضطرار انه فاسد، ولسبب الضمان الذي لا يترتب عليه كالأكل في موضع
حق المارة انه اتلاف فاسد، ولما صدر من المسلوس والمبطون انه فاسد.
ثم لا يخفى انه يذكر مما ذكرناه من أنه لا يدخل في عنوان النزاع الا ما كان قابلا
للاتصاف بالصحة والفساد. انه يخرج عن محل النزاع أمران آخران.
أحدهما: البسائط فإنها تتصف بالوجود والعدم لا بالصحة والفساد، وان شئت
قلت. انهما وصفان للموجود الخارجي، وفى البسائط مع فرض الوجود الخارجي يكون
الشئ تاما ومع عدمه يكون معدوما لا فاسدا.
الثاني: موضوعات التكاليف، وذلك لان الصحة والفساد كانتا بمعنى ترتب الأثر
وعدمه، أم كانتا بمعنى مطابقة الماتى به لما هو طرف اعتبار الشارع أو حكمه كما
211

هو الأظهر على ما ستعرف، لا تتصف الموضوعات بهما، اما على الأول فلعدم تأثير
الموضوع في الحكم والا لزم انقلاب المجعول التشريعي مجعولا تكوينيا كما نبه عليه
المحقق النائيني، واما على الثاني فلان اعتبار الشارع وحكمه انما يصير فعليا بعد وجود
الموضوع فمع عدمه ولو بنقص جزء أو شرط منه، لا حكم ولا اعتبار أصلا فلا مورد
للنزاع.
حقيقة الصحة والفساد
السادسة: في بيان حقيقة الصحة والفساد، فقد قال المحقق الخراساني (ره) انهما
وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار فربما يكون شئ واحد صحيحا بحسب
اثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر ومن هنا صح ان يقال ان الصحة في العبادة والمعاملة لا
تختلف فيهما بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية وانما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما
من الآثار التي بالقياس إليها تتصف بالتمامية وعدمها انتهى.
والظاهر أنه ليس مراده كونهما من مقولة الإضافة التي هي عبارة عن شيئين إذا
عقل أحدهما عقل الاخر، كالأبوة والبنوة، حتى يقال انهما ليسا كذلك قطعا، مع أن ما ذكر
في وجه ذلك بقوله يختلفان بحسب الأنظار، لا يدل عليه: فان الأمور الحقيقية النظرية
أيضا تختلف باختلاف الأنظار. بل مراده كونهما من الصفات ذات الإضافة، كالعلم مثلا،
لو كان من الصفات لا من الافعال.
ولكن يرد عليه (قده) ان الصفات الحقيقية ذات الإضافة، وان كان يجوز اجتماع
المتقابلات منها، ككون الشخص عالما بشئ وجاهلا بآخر، وكون شئ علة لشئ و
معلولا لآخر، الا ان ذلك في صورة اختلاف المضاف إليه لا مطلقا. والا فلا ريب في
عدم جواز اجتماعها. الا ترى انه لا يعقل كون الشخص عالما بشئ وجاهلا به.
وعلى ذلك، فحيث انه (قده) سيصرح بان معنى الصحة هي التمامية، فالمضاف
إليه للتمامية، ان كان هو الطبيعة الجنسية أو النوعية أو الصنفية، فاجتماعهما في واحد الذي
212

يكون مع اختلاف المضاف إليه انما يتحقق بكون الشئ صحيحا تاما من طبيعة، وفاسدا
وناقصا من أخرى، لا من حيث ترتب اثر دون آخر، مثلا، الخل صحيح وفاسد، صحيح
بالإضافة إلى الخل فاسد بالنسبة إلى ماء التمر، وليس لترتب الأثر دخل في ذلك.
وان كان المضاف إليه للتمامية هو الأثر، فالصحيح هو ما يترتب عليه جميع الآثار
فان ترتب عليه اثر دون آخر، لا يكون صحيحا فلا يصح ان يقال انه صحيح بلحاظ اثر
دون آخر.
والحق في المقام ان يقال ان الصحة والفساد إذا أضيفتا إلى الأمور الخارجية، يراد
من الصحيح ما يترتب عليه الآثار المرغوبة منه، ومن الفاسد ما لا يترتب عليه شئ من
الآثار، واما ما يترتب عليه بعض الآثار دون بعض فهو المعيب.
واما في الشرعيات، فهما ليسا بهذا المعنى قطعا، اما في المعاملات فلان البيع مثلا
لا اثر له وثبوت الملكية وترتبها عليه انما يكون حكما واعتبارا شرعيا، وهو خارج عن
قدرة البايع وفعل اختياري للمولى وفعل المكلف غير مؤثر فيه، وبالجملة باب التأثير
والتأثر، والعلية والمعلولية، أجبني عن الحكم وموضوعه وليس الموضوع سببا للحكم و
مؤثرا فيه.
واما في العبادات، وان كان يمكن تصوير هذا المعنى فيها بناءا على مسلك العدلية
من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، بدعوى ان الصحيح هو ما يؤثر في حصول
المصلحة التي دعت المولى إلى الامر بالفعل، والفاسد ما لا يؤثر فيه الا ان الصحيح
والفاسد، يطلقان فيها عند الأشاعرة المنكرين لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، وبعض
الامامية القائل بتبعيتها للمصالح في الجعل، بما لهما من المعنين الذين يطلقان عليهما عند
المشهور من العدلية، فيستكشف من ذلك، انه ليس مرادهم من الصحة والفساد ترتب
الأثر وعدمه.
بل المراد بالصحة في الشرعيات انطباق الماتى به والموجود الخارجي على ما هو
طرف اعتبار الشارع وحكمه، ويكون شاملا لجميع قيوده، وبالفاسد، ما لا يكون
كذلك، مثلا إذا قال الشارع ان العقد العربي المقدم ايجابه على قبوله، سبب للملكية، فإذا
213

أوجد الشخص البيع مع هذه القيود فهو صحيح والا فهو فاسد، وبالجملة الصحة
والفساد وصفان لا يتصف بهما الا الموجود الخارجي، ولا معنى معقول للقول بان طبيعة
الصلاة صحيحة أو فاسدة، واتصاف الموجود الخارجي بهما انما يكون باعتبار انطباقه
على ما اخذ متعلقا للحكم الشرعي، وسببا للاعتبار وعدمه.
مجعولية الصحة والفساد وعدمها
السابعة: ان الصحة والفساد في العبادات والمعاملات، هل هما مجعولان شرعا
كساير الأحكام الشرعية، أو واقعيان، أو يفصل بين العبادات والمعاملات فهما مجعولان
شرعا في المعاملات دون العبادات كما اختاره الأستاذ، أو يفصل في المعاملات بين
المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية فهما في الأول مجعولان شرعا دون الثانية كما
اختاره المحقق الخراساني (ره) أو يفصل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية، فالثانية
مجعولة دون الأولى كما اختاره المحقق النائيني (ره) فيه وجوه.
والتحقيق ان الصحة والفساد من الأوصاف الطارئة على الموجود الخارجي، و
اما الماهيات مع قطع النظر عن طرو الوجود عليها فلا يعقل اتصافها بالصحة والفساد
كما مر بيان ذلك مفصلا، وعليه فالصحة الواقعية في العبادات والمعاملات غير مجعولة،
بل هي والفساد وصفان واقعيان لكونهما عبارتين عن انطباق الماتى به على المأمور به، أو
على الأسباب الشرعية، وعدمه، والانطباق وعدمه أمران تكوينيان.
واما في موارد الأوامر الظاهرية بالنسبة إلى الأوامر الواقعية، فالحق ان الصحة امر
مجعول ما لم ينكشف الخلاف: إذ انطباق المأمور به بالامر الواقعي على الماتى به، وان
كان مشكوكا فيه الا ان للشارع ان يتعبد بذلك وبترتيب آثار الصحة عملا، وقد فعل
ذلك في جميع موارد الاحكام الظاهرية، غاية الامر في بعضها بالصراحة كما في مورد
قاعدة الفراغ والتجاوز، لاحظ قوله (ع) بلى قد ركعت، وفى الاخر بالالتزام كما إذا صلى
مع الطهارة المستصحبة: فان دليل الاستصحاب يدل بالالتزام على جعل الصحة للمأتي به
214

وانطباقه على المأمور به.
وأما إذا انكشف الخلاف فان كان ذلك قبل فوات محل تدارك الجزء الناقص
مثلا، فلا محالة لا يحكم بالصحة الا بعد الاتيان به لان موضوع الحكم بالصحة كان
هو الشك وقد ارتفع، وان كان بعد فوات محل التدارك وكان الناقص مما لا يوجب نقصه
البطلان، فالحق هو تبدل الصحة الظاهرية حينئذ بالصحة الواقعية: إذ لو لم يرفع الشارع
التكليف عن الناقص، كان اللازم الاتيان به، ولو رفع التكليف عنه وسقط عن الجزئية
كان الماتى به صحيحا واقعا.
وبذلك ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) الملتزم بكون الصحة أمرا مجعولا
حتى في صورة كشف الخلاف. بدعوى، انه في هذه الصورة يفرض الشارع ما اتى به
مطابقا للمأمور به، إذ لا يمكن الحكم بالصحة مع عدم رفع اليد عن التكليف بما لم يأت
به، ومعه يكون صحيحا واقعا لا ظاهرا كي تكون الصحة مجعولة.
ثم إن المحقق الخراساني بعد اختياره ان الصحة في العبادات بمعنى، سقوط
الإعادة والقضاء في المأمور به الواقعي، انما هي امر واقعي ومما يحكم به العقل.
قال وفى غيره ربما يكون مجعولا، والتعبير ب‍ (ربما) إشارة إلى أنه ان كان الماتى
به المنطبق عليه المأمور به بالامر الاضطراري، أو الظاهري وافيا بجميع ما يكون المأمور به
بالامر الواقعي الأولى وافيا به من المصلحة، أو كان وافيا بالمهم منها بحيث كان الباقي
غير لازم الاستيفاء يكون السقوط غير مجعول، بل هو حينئذ امر واقعي.
ولكن حيث لا طريق لنا إلى كشف الملاكات وكون الماتى به وافيا بالجميع
لا محالة تكون الصحة مجعولة دائما وقد مر الكلام في ذلك في مبحث الاجزاء.
ثم انه (قده) قال نعم الصحة والفساد في الموارد الخاصة لا يكاد يكونان
مجعولين بل هي انما تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به انتهى.
ولكن يرد عليه انه مع فرض مجعولية الصحة للكلي لا معنى لعدم كون الصحة
في الموارد الخاصة مجعولة، إذ بعد فرض كون تعلق الاحكام بالطبايع على نحو القضية
الحقيقية، لا يعقل عدم سراية الحكم المجعول إلى الفرد، إذ الجعل المتعلق بالطبيعي انما
215

هو جعل على الافراد المقدر وجودها، وبعد وجودها يصير المجعول فعليا، فالصحة
في الموارد الخاصة تكون مجعولة على فرض كون الصحة مجعولة على الكلى كما
هو الشأن في جميع الأحكام التكليفية والوضعية كما لا يخفى.
ثم إن المحقق الخراساني (ره) ذهب في المعاملات إلى التفصيل بين الكلية منها،
كالبيع، والإجارة، والصلح، والنكاح، وما شاكل ذلك، وبين الخارجية الشخصية فبنى
على أنهما في الأولى مجعولان شرعا، وفى الثانية منتزعان واقعا بدعوى ان المأخوذ في
أدلة الامضاء هو المعاملات الكلية، واما الشخصية فإنما تتصف بهما لأجل انطباق
المعاملة الخارجية مع ما هو المجعول سببا، وعدمه.
وفيه: ان الصحة والفساد بمعنى مطابقة الموجود الخارجي لما جعل سببا
في الأحكام الوضعية، لا يكونان مجعولين في المعاملات أيضا، فان انطباق الكلى
على الفرد كان الكلى أمرا تكوينيا أم جعليا، عقلي قهري، وان شئت قلت إن المجعول
الشرعي هو جعل شئ خاص سببا، وفى هذا المقام لا معنى للصحة والفساد، لأنهما من
صفات الموجود الخارجي، وهو انما يتصف بهما باعتبار انطباق المجعول الشرعي عليه
وعدمه، والانطباق وعدمه لا يكونان مجعولين فهما في المعاملات أيضا غير قابلين
للجعل بل أمران واقعيان.
مع أنه إذا كانت الصحة مجعولة للكلي لا محالة تكون صحة كل فرد مجعولة ولا
يعقل التفكيك.
الأصل في المسألة
الثامنة: لا أصل في المسألة يعول عليه في المسألة الأصولية، إذ الأصل المتوهم
وجوده ليس الا الاستصحاب، ولا مجرى له في المقام، إذ الملازمة وان لم تكن داخلة
تحت إحدى المقولات لكنها من الأمور الواقعية الأزلية، وليست لها حالة سابقة، فان
كانت موجودة فهي من الأزل والى الأبد كذلك فلا يتصور اليقين بأحد الطرفين في زمان
216

والشك فيه في زمان آخر، بل الشك فيها دائما انما هو في أصل ثبوتها من الأزل وعدم
ثبوتها كذلك، وأوضح من ذلك ما لو كان النزاع في دلالة النهى على الفساد لفظا وعدم
دلالته عليه إذ عدم الأصل على هذا الفرض ظاهر.
واما في المسألة الفرعية ففي الكفاية، نعم، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد
لو لم يكن هناك اطلاق أو عموم يقتضى الصحة في المعاملة، واما العبادة فكذلك
لعدم الامر بها مع النهى عنها.
قال المحقق النائيني (ره) ان الأصل في المعاملة هو الفساد مطلقا. واما العبادة فان
كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها
هو الحكم بفساد الماتى به وعدم سقوط أمرها، وأما إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم
بالصحة والفساد عند الشك يبتنى على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال عند الشك
في الجزئية أو الشرطية أو المانعية.
أقول: ان ما ذكراه غير مربوط بما هو محل الكلام إذ الكلام في المقام ليس في
حكم مطلق الشك في الصحة والفساد إذ هو موكول إلى محله، وانما الكلام في المقام في
خصوص الشك في الصحة من جهة تعلق النهى.
فالحري في المقام ان يقال، ان الأصل في المعاملات هي الصحة وفى العبادات
هو الفساد. اما في المعاملات، فلان مورد النزاع ينحصر في وجهين. الأول: استلزام النهى
عقلا لتقييد اطلاق دليل الاعتبار بالنسبة إلى ما تعلق به. الثاني: استلزامه لذلك عرفا و
بالدلالة الالتزامية، وعلى كل تقدير يشك في تقييد الاطلاق، والأصل عدمه
- وبعبارة أخرى - يحكم بالصحة للاطلاق أو العموم. نعم، إذا لم يكن هناك اطلاق أو
عموم يقتضى الصحة الأصل هو الفساد الا انه خارج عن محل الكلام.
واما في العبادات فيتصور هناك نزاع آخر، وهو انه هل يمكن التقرب
بالمبغوض أم لا؟ وعلى كل تقدير لا كلام في تقييد اطلاق الامر، إذ لو فرض الشك في
استلزام المبغوضية لاستحالة التقرب والشك في ظهور اللفظ في الفساد، الا انه لا يتصور
الشك في تقييد اطلاق الامر لأنهما ضدان لا يجتمعان. فإذا لم يكن هناك امر، وحيث إن
217

ملاكه أيضا ليس فان ملاكه المصلحة غير المغلوبة للمفسدة، والمفروض من فعلية النهى
وسقوط الامر غلبة ملاك النهى، فلا يمكن التقرب به والحكم بصحتها إذ صحة العبادة
متوقفة على الامر بها أو اشتمالها على ملاك الامر والمفروض عدمهما.
وبما ذكرناه سيما في العبادات ظهر ما في كلمات المحقق الأصفهاني (ره) حيث إنه
التزم، بان الأصل هو الفساد إذا كانت عقلية من جهة الشك في أن التقرب بالعبادة مع
المبغوضية الفعلية، هل يتنافيان أم لا؟ فان ذلك موجب للفساد بحكم قاعدة الاشتغال. إذ
يرد عليه ان الشك ليس في مانعية المبغوضية بل في صلاحية الملاك للتقرب.
النهى المتعلق بذات العبادة
إذا عرفت هذه الجهات فالكلام يقع في مقامين، الأول: في العبادات. الثاني:
في المعاملات.
اما الأول: فملخص القول فيه، ان النهى المتعلق بها يتصور على اقسام، الأول: ما
يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صوم يوم العيد. الثاني: ما يتعلق بجزئها كالنهي عن قرائة
سورة العزيمة في الصلاة. الثالث: ما يتعلق بشرط العبادة كالنهي عن التستر بثوب مغصوب
أو الحرير أو نحو ذلك. الرابع: ما يتعلق بوصفها الملازم لها، وقد مثل المحقق الخراساني
له بالجهر والاخفات. الخامس: ما يتعلق بوصفها غير الملازم لها أي القابلة للانفكاك
عنها كالتصرف في مال الغير الملازم لأكوان الصلاة في مورد الالتقاء والاجتماع.
اما القسم الأول: وهو النهى المتعلق بذات العبادة. فتنقيح القول فيه ان النهى
المتعلق بالعبادة، ربما يكون ارشاديا من جهة مزاحمتها بالأهم كالصلاة عند مزاحمتها
بالإزالة، وقد يكون تشريعيا، وثالثا يكون نفسيا تحريميا.
اما الأول: فربما يقال بعدم دلالته على الفساد لان غاية ما يدل عليه عدم الامر، ولا
يدل على عدم الملاك، وقد مر انه يكتفى في صحة العبادة بالاتيان بها بداعي الملاك، و
لكن قد عرفت ان الأظهر دلالته على الفساد، لدلالته على عدم الامر، والملاك الموجود
218

فيها على فرض وجوده مع أنه لا كاشف عنه لا يصلح للتقرب به: إذا لملاك الذي يتسبب
الشارع إلى اعدامه لا يكون مقربا.
واما الثاني: فهو يدل على الفساد من جهة دلالته على عدم الامر وعدم الملاك: إذ
بعد فرض ان النهى ليس لمفسدة ذاتية ولا لمزاحمته مع واجب أهم، لا محالة يستكشف
ان هذا الفعل لا يمكن وقوعه عبادة بوجه، - وبعبارة أخرى - ان هذا النهى وارد مورد
توهم وجود الامر أو الملاك، فيدل على عدمهما، وعليه، فإذا كان الدليل المتضمن له
قطعيا، لا مجال للاتيان به برجاء المطلوبية أو الملاك، إذ الاتيان بالرجاء فرع الاحتمال، و
أما إذا كان ظنيا، فللاتيان به برجاء المحبوبية والملاك مجال، فحينئذ لو كان عبادة يقع ما
اتى به صحيحا ومجزيا.
واما الثالث: وهو النهى التحريمي النفسي، فقبل بيان وجه دلالته على الفساد لابد
من بيان امر، وهو انه ربما يقال انه لا يمكن تعلق النهى التحريمي النفسي بالعبادة، وقد مر
ذلك وانما نعيده لبيان ما افاده المحقق الخراساني، وكيف كان فذكر وجه عدم الامكان
بقوله، لا يقال هذا لو كان النهى عنها دالا على الحرمة الذاتية ولا يكاد يتصف بها العبادة
لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها الا تشريعا ومعه
تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة، ومعه لا يتصف بحرمة أخرى لامتناع اجتماع
المثلين كالضدين انتهى.
وحاصله ان متعلق النهى اما ان يكون ذات العمل مع قطع النظر عن قصد الامر، أو
يكون هو العمل مع قصد امتثال الامر الواقعي، أو يكون هو الفعل مع قصد الامر الجعلي،
ولا رابع، والأول باطل باعتراف الخصم، والثاني باطل من جهة عدم القدرة عليه لعدم
الامر، والثالث حرام تشريعا، ومع الحرمة التشريعية لا يعقل الاتصاف بالحرمة الذاتية،
والا لزم اجتماع المثلين.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين، أحدهما: ان المتعلق للنهي والحرمة هو
ما يقع عبادة لو كان مأمورا به.
وفيه: ان هذا بحسب الفرض وان كان متينا، ولكن المستشكل يدعى انه في
219

موارد تعلق النهى بالعبادة، كصلاة الحائض ليس المتعلق هو ذات العمل مع قطع النظر
عن قصد القربة، ولذا لم يلتزم فقيه بالحرمة لو صلت الحائض لتعليم الغير لا مع قصد
القربة، - وبعبارة أخرى - ان الالتزام بكون المنهى عنه ذات العبادة، أي ما لو امر به لكان
امره عباديا، لا يوجب دفع الاشكال، فان المستشكل يدعى انه في موارد النهى عن
العبادات التي يدعى كون النهى فيها تحريميا نفسيا لا يكون المتعلق ذات العبادة مع قطع
النظر عن قصد الامر والملاك، وحيث انه ليس هو العمل مع قصد الامر الواقعي، فيتعين
كونه الفعل مع قصد الامر البنائي وحيث انه محرم بالحرمة التشريعية فلا يعقل تعلق
الحرمة الذاتية به.
الثاني: ان المحرم بالحرمة التشريعية ليس هو الفعل الخارجي بل انما يكون
المتصف بها ما هو من أفعال القلب كما هو الحال في التجري والانقياد. فلا مانع من
اتصاف الفعل الخارجي بالحرمة الذاتية.
وفيه: ان تعلق النهى في التشريع بالامر القلبي وان كان ممكنا، الا ان المتعلق
بحسب التحقق الخارجي هو ذات العمل الماتى به بقصد التشريع: لأنه منطبق عنوان
التشريع، واما البناء القلبي فهو بناء على التشريع لا انه تشريع فتدبر.
فالحق في الجواب عن أصل الايراد، أولا بالنقض بالمحرمات الذاتية التي يؤتى
بها بداعي الامر فإنه لا ريب في اتصافها بالحرمة التشريعية والذاتية. وثانيا: بالحل، وهو
الالتزام بالتأكد كما هو الشأن في جميع الموارد التي تعلق تكليفان متماثلان بشئ واحد.
إذا عرفت هذا فاعلم أن النهى النفسي في العبادات الجعلية يدل على الفساد
لوجهين، عدم المقتضى، ووجود المانع وفى العبادات الذاتية يدل على الفساد لوجه
واحد، وهو الاقتران بالمانع.
وذلك لأنه في وقوع الفعل عبادة يعتبر أمران. أحدهما: كون الفعل صالحا للتقرب
به لكونه عبادة ذاتا أو للامر أو الملاك. ثانيهما: عدم مبغوضيته: إذ المبغوض لا يصلح لان
يتقرب به لكونه مبعدا والمبعد لا يقرب وعلى هذا فدلالة النهى عن العبادة على الفساد
واضحة.
220

لأنه في العبادات الجعلية المنهى عنها، كلتا الجهتين، مفقودتان، اما الأولى: فلان
النهى، يدل على عدم الامر، وعدم الملاك، اما دلالته على عدم الامر فواضحة، واما
دلالته على عدم الملاك، فلان ملاك الامر هو المصلحة غير المزاحمة بالمفسدة،
أو الغالبة عليها، واما المصلحة المغلوبة فلا تكون ملاكا ولولا مغلوبية المصلحة لما كان
المولى ينهى عن الفعل، فمن النهى كما يستكشف عدم الامر يستكشف عدم المصلحة أو
مغلوبيتها للمفسدة، فيدل النهى على عدم الامر وعدم الملاك. واما الثانية: فلان النهى
يدل على المبغوضية والمبغوض لا يقرب، وفى العبادات الذاتية النهى لا يوجب سلب ما
هو ذاتي له فلا محالة ينحصر وجه الفساد بفقد الجهة الثانية أي تكون مبغوضة وهي تمنع
عن التقرب بها فتدبر.
ثم انه بناءا على ما اخترناه من دلالة النهى باقسامه على الفساد، لا مجال للنزاع في أنه
إذا شك في كون النهى من أي الأقسام، هل يدل على الفساد، أم لا؟ واما على القول
بعدم دلالة بعض أقسامه على الفساد فهل يوجب مثل هذا النهى الفساد، أم لا؟ أقول الظاهر
دلالته عليه إذ هو بجميع أقسامه يدل على عدم الامر، وببعض أقسامه يدل على عدم
الملاك، وعليه ففي هذا المورد بما ان عدم الامر محرز ووجود الملاك مشكوك فيه
فلا يصح الاتيان به.
فهل يصح الاتيان به برجاء وجود الملاك أم لا؟ وجهان: أقواهما الثاني ما لم
يرتفع احتمال المبغوضية بأصل أو دليل كما لا يخفى.
تذييل به يتم البحث في النهى عن العبادة: وهو ان مقتضى ما ذكرناه في وجه دلالة
النهى على الفساد، هو الفساد حتى في مورد الجهل، بالنهي عن قصور، كما لا يخفى وقد
التزم الأصحاب بذلك، وفى مبحث اجتماع الأمر والنهي على الامتناع، وترجيح جانب
النهى، بعين هذا الوجه التزمنا بالفساد حتى في صورة الجهل عن قصور، ولكن جمعا
من الأصحاب لم يلتزموا بذلك في ذلك المبحث، مع أنه لا فرق بين البابين أصلا، في
جريان ما ذكرناه وجها للفساد كما هو واضح وهذا ايراد على القوم غير قابل الذب.
221

النهى المتعلق بجزء العبادة
واما القسم الثاني: وهو النهى المتعلق بجزء العبادة، فقد أفاد المحقق
الخراساني (ره) ان جزء العبادة من حيث إنه عبادة يجرى فيه ما ذكرناه في القسم الأول،
الا ان بطلان الجزء لا يوجب بطلان العبادة المركبة منه ومن غيره الا إذا اقتصر المكلف
عليه في مقام الامتثال، وأما إذا لم يقتصر عليه واتى بعده بالجزء غير المنهى عنه تقع
العبادة صحيحة لعدم المقتضى للفساد، الا ان يستلزم ذلك موجبا آخر للفساد كالزيادة
العمدية أو نحو ذلك وهو امر آخر أجبني عن محل الكلام.
وأفاد المحقق النائيني (ره) ان النهى عنه يقتضى فساد العبادة مطلقا سواء كان
الجزء من سنخ الافعال أو كان من سنخ الأقوال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهى
عنه أو لم يقتصر عليه، سواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا أو كان لا بشرط.
وقد ذكر في وجه ذلك ما ينحل إلى أمور بعضها مختص بالصلاة وبعضها عام يجرى في
جميع المركبات.
أحدها: وهو يختص بخصوص الجزء الذي اخذ فيه عدد خاص كالسورة بناءا
على حرمة القران. وحاصله، ان الآتي به في ضمن العبادة، اما ان يقتصر عليه فيها، أو يأتي
بعده بما هو غير منهي عنه، وعلى كل تقدير تبطل الصلاة، اما على الأول: فلان الجزء
المنهى عنه خارج عن اطلاق دليل الجزئية، فيكون وجوده كعدمه فالاقتصار عليه في
مقام الامتثال موجب لفقد الجزء، واما على الثاني: فلانه يوجب الاخلال بالوحدة
المعتبرة في الجزء.
وفيه: ان المنهى عنه هو الاتيان بسورتين بداعي تحقق الامتثال بالمجموع، ولو
اتى بإحداهما لا بقصد الجزئية للصلاة، لا يصدق القران الممنوع. وعليه، فلو اتى بالجزء
المحرم لا بقصد الجزئية لا يوجب الاتيان بفرد آخر بعده صدق القران.
ثانيها: صدق عنوان الزيادة في الفريضة على الاتيان بالفرد المنهى عنه، وان لم
222

يقصد به الجزئية إذ لا يعتبر في تحققها قصد الجزئية إذا كان المأتى به من جنس أحد
اجزاء العمل، وهو يوجب البطلان.
وفيه: ان المركب الاعتباري لا يزيد شئ فيه الا مع الاتيان به بداعي كونه منه.
نعم، في خصوص الركوع والسجود لا يعتبر ذلك للنص الخاص في الثاني والقطع بعدم
الفصل بينه وبين الركوع، فالجزء المحرم لو أتى به لا بقصد الجزئية لما صدق عليه عنوان
الزيادة.
ثالثها: ان التكلم العمدي مبطل للصلاة بمقتضى الأدلة خرج عنها الذكر المختص
بمقتضى دليل الحرمة بغير الفرد المحرم، فالذكر المحرم مبطل لها بمقتضى عموم ما دل
على مبطلية التكلم للصلاة.
وفيه: ان هذا في بادي النظر وان كان متينا، الا انه بعد التدبر في أدلة مبطلية التكلم
يظهر ان تلك الأدلة مختصة بكلام الآدميين والذكر المحرم ليس منه.
ثم إن هذين الوجهين الأخيرين مختصان بالصلاة، ولا يجريان في غيرها، فما
افاده المحقق النائيني (ره) من أنهما يدلان على بطلان غير الصلاة من المركبات الاعتبارية
لو اتى بالجزء المنهى عنه منها غير تام.
رابعها: ان تحريم الجزء يستلزم اخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا، وتوضيح ما
افاده ان تعلق الامر بالجزء لا يخلو عن أحد الاعتبارات الثلاثة، اما ان يكون بشرط شئ
بالقياس إلى ما يماثله كتعلق الامر بتسبيحتين من التسبيحات الأربع، فإنه مقيد بالاتيان
بالثالثة: وأخرى يكون بشرط لا بالقياس إليه نظير الامر بالسورة على القول بحرمة القران،
وثالثة: يكون لا بشرط بالإضافة إليه كما في المثال بناءا على جواز القران - وعلى هذا -
فإذا تعلق النهى بفرد من افراد المأمور به، فلا محالة يوجب النهى تقيد المأمور به بعدم
الاقتران به، ويوجب صيرورته بشرط لا بالإضافة إليه فيكون المأمور به مقيدا بعدمه فلا
محالة يبطل بوجوده هذا ملخص ما افاده بتوضيح منا.
وفيه: انه ان أريد من تقييد اطلاق المأمور به، ان المأمور به انما هو غير هذا الجزء
وان تضمن المركب له لا يوجب انطباق المأمور به على الماتى به، فهو متين على القول
223

بدلالة النهى عن العبادة على الفساد كما ستعرف، وان أريد تقيده بعدم هذا الجزء بحيث
يكون وجوده مانعا ومبطلا الذي هو المطلوب، فدون اثباته خرط القتاد إذ لا ملازمة بين
مبغوضيته ومانعيته عن العبادة، الا ترى ان النظر إلى الأجنبية محرم ومبغوض للشارع مع أن
وجوده لا يبطل العبادة - وبالجملة - النهى عن الشئ الذي تكون العبادة بالقياس إليه
لا بشرط لا يوجب اشتراطها بعدمه، فالمتحصل ان فساد الجزء من جهة تعلق النهى به لا
يوجب فساد العبادة لا في الصلاة ولا في غيرها الا إذا قيدت العبادة بعدمه فيكون مانعا و
هو خارج عن محل الكلام.
النهى عن شرط العبادة
واما القسم الثالث: وهو النهى عن شرط العبادة، فقد ذكر المحقق الخراساني ما
محصله ان للشرط قسمين التعبدي والتوصلي، فما كان من قبيل الأول النهى عنه يوجب
فساده فلا محالة يوجب فساد المشروط لانتفائه بانتفاء شرطه، وما كان من قبيل الثاني
حيث إن النهى عنه لا يوجب فساده فلا يلزم منه فساد المشروط.
وأورد عليه المحقق النائيني (قده) بان تقسيم الشرط إلى التعبدي كالطهارات
الثلاث، وغير تعبدي كالتستر ونحوه لا يتم: إذ ما هو شرط انما هو المعنى المعبر عنه باسم
المصدر، واما الافعال الخاصة كالوضوء وأخويه، فهي بأنفسها ليست شروطا للصلاة، بل
هي محصلة لما هو شرطها، وما هو عبادة انما هو الافعال الخاصة، فما هو عبادة غير ما هو
شرط، بل حال الشرط في هذه الموارد حال بقية الشرائط في عدم اعتبار قصد القربة فيه،
ولذا لو صلى غافلا عن الطهارة وانكشف كونها مقترنة بها صحت صلاته بلا كلام.
وفيه: ان هذه بناءا على مسلك المشهور من أن الشرط للصلاة، انما هو الامر
الحاصل من هذه الأفعال لا هي بأنفسها، متين. ولكن بناءا على ما قويناه في الجزء الأول
من فقه الصادق تبعا للمحقق الخراساني (ره) من أن الطهارة عنوان منطبق على نفس
هذه الأفعال، تقسيمه للشرط إلى قسمين متين.
224

ثم إن المحقق النائيني (ره) اختار عدم دلالة النهى عن الشرط على الفساد،
واستدل له: بان الشرط للعبادة الذي تعلق به الامر انما هو المعنى المعبر عنه باسم المصدر،
واما المتعلق للنهي فهو المعنى المعبر عنه بالمصدر فما هو متعلق النهى ليس شرطا للعبادة
وما هو شرط لها لم يتعلق به النهى.
وفيه: ان الفرق بين المعنيين المعبر عنهما، بالمصدر، واسم المصدر، اعتباري والا
فهما واحد حقيقة كما تقدم وعليه فلا يعقل كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه.
ولكن مع ذلك يمكن تصحيح العبادة، بأنه في الشروط على ما تقدم في الشرط
المتأخر ليس وجوداتها مأمورا بها بالامر بالمشروط بخلاف الاجزاء بل التقيد بها
مأمور به، والامر به لا يستلزم الامر بالقيد، بل ربما يكون القيد غير اختياري كالكعبة، و
قد تقدم تنقيحه، وعليه: فالنهي عن وجود الشرط لا يوجب تقييد الطبيعة المأمور بها
بالاتيان بها غير متقيدة بهذا القيد لان متعلقه غير متعلق الامر الضمني.
ومنه: يظهر ان ما رتبه الأستاذ الأعظم على وحدة المعنيين وهو فساد المركب
المأمور به غير سديد.
النهى عن وصف العبادة
واما القسم الرابع: وهو النهى عن وصف العبادة، فقد أفاد المحقق الخراساني ما
محصله ان النهى عن الوصف اللازم كالنهي عن الجهر في القراءة، مساوق للنهي عن
موصوفه لاستحالة كون الموصوف مأمورا به ووصفه الذي لا ينفك عنه منهيا عنه، وان
لم يكن الوصف لازما بل كان مفارقا كالغصبية لأكوان الصلاة المنفكة عنها، فان
اتحد الوصف وجودا مع الموصوف وبنينا على امتناع اجتماع الأمر والنهي كان النهى عنه
نهيا عن الموصوف، واما مع عدم اتحادهما وجودا، أو انه وان اتحدا الا انه بنينا على
جواز الاجتماع فالنهي عن الوصف لا يسرى إلى الموصوف.
أقول: يرد عليه أمران.
الأول: انه في عد الجهر من قبيل الوصف اللازم، والغصبية من قبيل الوصف
225

المفارق، نظر، إذ كما أن القراءة لا تنفك عن الجهر، أو الاخفات، كذلك الصلاة لا تنفك
عن إباحة المكان أو غصبيته وكما أن الصلاة تنفك عن خصوص الغصبية كذلك القراءة
تنفك عن خصوص الجهر.
الثاني: ان ضابط سراية النهى عن الوصف إلى الموصوف وعدمها، ليس كون
الوصف لازما أو مفارقا، بل الضابط كون الوصف من مراتب وجود الموصوف بحيث
لا يكون في الخارج الا موجود واحد نظير السرعة والبطؤ في الحركة، والجهر والاخفات
بالنسبة إلى القراءة، وعدم كون الوصف من مراتب وجود الموصوف، بل يكون له
وجود مستقل كالاعراض غير الانتزاعية التي لا تكون من كيفيات موصوفه كالنظر
إلى الأجنبية في الصلاة.
إذ على الأول يسرى النهى عن الوصف إلى الموصوف، لا محالة، وان لم يكن
الوصف لازما، كما لو فرضنا النهى عن الجهر لا عن الجهر في القراءة، فإنه يوجب النهى
عن القراءة الجهرية لوحدة الموجود الخارجي.
وعلى الثاني لا يسرى النهى إلى الموصوف وان كان وصفا لازما، كما لو فرضنا
النهى عن النظر إلى الأجنبية في خصوص الصلاة إذ بعد تعدد المتعلق لا مانع من كون
أحدهما مأمورا به والاخر منهيا عنه.
واما حديث انه لا يعقل اختلاف المتلازمين في الحكم، فقد مر الجواب عنه في
مبحث الضد فراجع، مع: انه غاية ما يلزم منه عدم اختلافهما فيه، لا لزوم اتفاقهما كما
اختاره المحقق الخراساني لالتزامه بسراية النهى إليه فتدبر.
النهى عن المعاملات
واما المقام الثاني: أعني به النهى المتعلق بالمعاملة، ففي دلالته على الفساد وعدمه
أقوال:
1 - ما ذهب إليه جماعة من المحققين منهم المحقق النائيني من دلالته على
226

الفساد 2 - ما عن أبي حنيفة والشيباني وهو دلالته على الصحة والمنقول عن نهاية العلامة
التوقف ووافقهما فخر المحققين في نهاية المأمول 3 - ما ذهب إليه جماعة وهو عدم
دلالته على الصحة ولا على الفساد.
وتنقيح القول في المقام ان النهى المتعلق بالمعاملة، تارة يكون ارشاديا، وأخرى
يكون تحريميا، وعلى الثاني قد يتعلق النهى بالآثار، والتصرف في الثمن أو المثمن،
كقوله (ع) ثمن العذرة سحت، وقد يتعلق بنفس المعاملة، أو بعنوان منطبق عليها، وثالثة
يكون النهى تشريعيا.
لا ريب في دلالة القسم الأول على الفساد، وكذلك القسم الثاني، إذ لا وجه للمنع
عن التصرف في الثمن سوى عدم صحة المعاملة وبقائه على ملك مالكه، نعم دلالة القسم
الأول عليه، تكون بالمطابقة ودلالة الثاني بالالتزام.
واما القسم الثالث: وهو النهى التحريمي المتعلق بالمعاملة فهو، قد يتعلق بالاعتبار
النفساني القائم بالمتعاملين، وقد يتعلق بابرازه بمبرز خارجي. توضيح ذلك، ان
في المعاملة كالبيع أربعة أمور: أحدها اعتبار الملكية القائم بالمتبايعين. ثانيها اعتبارها
القائم بالعقلاء. ثالثها الاعتبار القائم بالشارع الأقدس. رابعها اظهار المتبايعين اعتبارهما
النفساني بمظهر خارجي، من لفظ أو غيره.
اما الاعتبار القائم بالشارع فهو غير قابل لتعلق النهى به: وذلك لأنه من الأفعال الاختيارية
للمولى وخارج عن تحت قدرة المكلف، مع: انه إذا كان مبغوضا له فلأي
جهة يوجده.
واما الاعتبار القائم بالعقلاء الذي يعبر عنه في كلماتهم بالمسبب العرفي، أي
امضاء العقلاء اعتبار المتبايعين، فهو أيضا غير قابل لتعلق النهى به لكونه خارجا عن تحت
قدرة المتبايعين، وليس نسبته إلى فعلهما نسبة المسبب التوليدي إلى سببه كي يصح النهى
عنه للقدرة على سببه.
وبذلك يظهر فساد ما افاده المحقق النائيني (ره) حيث التزم، بان متعلق النهى
هو المسبب العرفي، وعلى ذلك فيتعين تعلق النهى، اما بالاعتبار القائم بالمتبايعين، أو بما
227

يكون مظهرا له في الخارج.
وعلى كل تقدير لا يدل النهى على الفساد، اما على الثاني فواضح سواء تعلق النهى
بذات ما هو مظهر كانشاء البيع باللفظ أثناء الاشتغال بالفريضة، أو به بما انه مظهر للاعتبار
المزبور، واما على تقدير تعلقه بالاعتبار النفساني فغاية ما قيل في وجه دلالته على الفساد
أمران:
الأول: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو انه يعتبر في صحة المعاملة أمور ثلاثة،
أحدها: كون كل من المتعاملين مالكا للعين أو بحكمه. ثانيها: ان لا يكون محجورا
عن التصرف فيها من جهة تعلق حق الغير بها، أو غير ذلك من أسباب الحجر ليكون له
السلطنة الفعلية على التصرف فيها. ثالثها: ان يوجد المعاملة بسبب خاص وآلة مخصوصة،
فإذا تعلق النهى بالمسبب، أي الاعتبار النفساني - وبعبارة أخرى - بالملكية المنشأة كما
في النهى عن بيع المصحف من الكافر، كان النهى معجزا مولويا للمكلف عن الفعل و
رافعا لسلطنته عليه، فيختل بذلك الشرط الثاني المعتبر في صحة المعاملة ويترتب عليه
فسادها، وبالجملة يعتبر في نفوذ المعاملة السلطنة الفعلية على التصرف في العين ومنع
المولى يوجب رفع السلطنة فلا محالة تفسد المعاملة.
وفيه: ان توقف نفوذ المعاملة وصحتها على السلطنة الوضعية بديهي، واما
كون النهى موجبا لسلب هذه السلطنة فهو أول الكلام. نعم، النهى يوجب رفع السلطنة
التكليفية ونفوذ المعاملة غير متوقف عليها، وبالجملة المعتبر في صحة المعاملة انما هي
السلطنة الوضعية والحرمة انما توجب رفع السلطنة التكليفية لا السلطنة الوضيعة، إذ لا
منافاة بين حرمة شئ ونفوذه وضعا فتدبر.
الوجه الثاني: الروايات الواردة في نكاح العبد بدون اذن سيده، الدالة على صحته
مع اجازته لا بدونها، معللة بأنه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجاز جاز مثل ما رواه
في محكى الكافي والفقيه عن زرارة عن الإمام الباقر (ع) سأله عن مملوك تزوج بغير اذن
سيده فقال ذلك إلى سيده ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما، قلت أصلحك الله ان الحكم
ابن عتبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون ان أصل النكاح فاسد ولا يحل إجازة
228

السيد له فقال أبو جعفر (ع) انه لم يعص الله وانما عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز (1)
وصحيحه الاخر عنه (ع) قال سألته عن رجل تزوج عبده امرأة بغير اذنه فدخل بها ثم
اطلع على ذلك مولاه قال (ع) ذلك لمولاه ان شاء فرق بينهما وان شاء أجاز نكاحهما إلى أن
قال، فقلت لأبي جعفر (ع) فإنه في أصل النكاح كان عاصيا فقال أبو جعفر (ع) انما اتى
شيئا حلالا وليس بعاص لله انما عصى سيده ولم يعص الله تعالى ان ذلك ليس كاتيان ما
حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه (2) ونحوهما غيرهما وتقريب الاستدلال بها
بوجهين:
أحدهما: ما عن الفصول والقوانين وغيرهما، وحاصله انها متضمنة لتعليل عدم
فساد النكاح أي نكاح العبد غير المأذون، مع لحوق الإجازة بأنه لم يعص الله فيه وانما
عصى سيده، فتدل على أن عصيان الله تعالى في النكاح الذي هو من المعاملات يوجب
الفساد.
ويرد عليه: ان المراد من العصيان في قوله لم يعص الله، هو العصيان التكليفي، و
عليه فان كان المراد من العصيان في قوله، وانما عصى سيده هو العصيان التكليفي، لزم
التهافت في الكلام فان عصيان السيد تكليفا عصيان لله تعالى، وان أريد به العصيان
الوضعي أي عدم الامضاء، لزم منه التفكيك في المراد من العصيان في الجملتين وهو
خلاف الظاهر جدا.
ثانيهما: ما افاده المحقق النائيني ويمكن استفادته من الجواهر في كتاب النكاح و
هو مبنى على إرادة العصيان التكليفي من العصيان في الجملتين، وحاصله ان المستفاد من
الروايات ان النهى ربما يكون ناشئا عن المفسدة في الفعل نفسه وبعنوانه ويكون راجعا
إلى حقه تعالى على عبيده مع قطع النظر عن حقوق الناس بعضهم على بعض، وربما
يكون النهى لأمر خارج عن المعاملة وناشئا عن التمرد على سيده من دون ان يكون
في الفعل مفسدة بنفسه وعنوانه، فان كان النهى من قبيل الأول كان دالا على الفساد: لان

1 - الوسائل باب 22 من أبواب نكاح العبيد والإماء من كتاب النكاح حديث 1.
2 - الوسائل باب 22 من أبواب نكاح العبيد والإماء حديث 2.
229

متعلق النهى مبغوض للشارع حدوثا وبقاءا لاستمرار مفسدته المقتضية للنهي عنه، وان
كان من قبيل الثاني كان دائرا مدار تمرده عليه حدوثا وبقاءا فإذا رضى السيد بما عصاه
فيه ارتفع عنه النهى بقاءا، فلا يكون حينئذ موجب لفساده، ولا مانع عن صحته،
فالمستفاد من الاخبار ان الفساد يدور مدار النهى حدوثا وبقاءا فالنهي الإلهي الناشئ من
تفويت حق الغير، انما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهى باقيا ببقاء موضوعه فإذا
ارتفع بإجازة من له الحق تلك المعاملة ارتفع النهى عنه، واما النهى الراجع إلى حقه تعالى
فحيث انه غير قابل للارتفاع فلا موجب للصحة، فالمنفي في الروايات العصيان التكليفي
بالمعنى الثاني، والمثبت هو العصيان التكليفي بالمعنى الأول.
ولكن يتوجه على ذلك، أولا: ان انشاء البيع أو التزويج ليس تصرفا عرفا كي
يكون حراما، ولذا لو أنشأ العبد البيع لغير نفسه، لما توقف على إجازة سيده بلا كلام، ولم
يكن فاعلا للحرام، نعم، إذا نهى عنه يكون حراما، ولكن المفروض عدم النهى.
وثانيا: لو سلم انه إذا استقل العبد بأمر كان عاصيا لاقتضاء العبودية، وكون العبد
كلا على مولاه لا يقدر على شئ، ذلك حيث إنه اتى بما ينافيه مقام عبوديته، لا يعقل
انقلاب هذا العصيان فان الإجازة والرضا البعدى لا توجب انقلاب الشئ عما وقع عليه.
وقد استدل لدلالة النهى على الصحة بوجهين، الأول: انه يعتبر في متعلق النهى
القدرة ولا يكاد يقدر على المسبب الا فيما كانت المعاملة صحيحة مؤثرة. الثاني:
النصوص المتقدمة بتقريب انها صريحة في أن عصيان السيد، لا يستلزم بطلان النكاح، و
بما ان عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى، فيستفاد منها ان عصيانه تعالى لا يستلزم
الفساد، واما عصيانه تعالى المستلزم للفساد بمقتضى مفهوم قوله (ع) انه لم يعص الله،
فلا بد ان يراد به العصيان الوضعي.
وكلاهما فاسدان اما الأول، فلانه يتم لو كان متعلق النهى الاعتبار القائم بالشارع،
وقد عرفت عدم معقولية ذلك، وانما المتعلق له الاعتبار القائم بالمتبايعين، وهو مقدور
وان لم يكن صحيحا. واما الثاني: فلتوقفه على أن يكون المراد من العصيان في كل
من الموردين معنى يغاير ما يراد منه في الآخر وقد عرفت فساد ذلك أيضا وانه خلاف
230

ظاهر السياق.
فالمتحصل انه كما أن القاعدة لا تقتضي دلالة النهى على الفساد ولا على الصحة
كذلك لا تدل النصوص الخاصة على شئ منهما.
وحاصل ما قدمناه في الاخبار ان محتملات المراد من العصيان في الجملتين
أربعة، الأول: ان يراد به فيهما العصيان الوضعي. الثاني: ان يراد به فيهما العصيان التكليفي.
الثالث: ان يراد بالعصيان في الأولى التكليفي منه وفى الثانية الوضعي منه. الرابع: عكس
ذلك، والاحتمالان الأخيران يدفعان بوحدة السياق، فيدور الامر بين الأولين.
والظاهر هو الأول، وذلك لوجهين، أحدهما: ان انشاء البيع أو التزويج أو ما
شاكل ليس تصرفا عرفا كي يكون حراما ولذا لو أنشأ العبد البيع لغير نفسه لما توقف على
إجازة سيده بلا كلام. الثاني: ان عصيان السيد حرام شرعا فمعصيته يكون معصية لله تعالى
فكيف يتصور ان يكون فعل معصية للسيد، ولا يكون معصية لله، فلا محالة يكون المراد
منه العصيان الوضعي أعني عدم النفوذ.
فالمتحصل حينئذ انه لا توقف في نفوذ النكاح من قبل الله تعالى وليس نكاحا
غير مشروع في نفسه بل التوقف في نفوذه انما هو من قبل السيد لاعتبار رضاه فيه فيدور
عدم الصحة مدار عدم الرضا حدوثا وبقاءا فإذا أجاز جاز.
لا يقال، ان العصيان الوضعي للسيد مستلزم لعصيان الله تعالى: لان عدم امضاء
السيد موجب، لعدم امضاء الله تعالى.
فإنه يقال: ان عصيان السيد ومخالفته حرام شرعا والمحرم الشرعي ليس على
قسمين - وبعبارة أخرى - بالإجازة والرضا البعدى لا ينقلب ما وقع معصية عما وقع عليه،
وهذا بخلاف عدم الامضاء: فان عدم امضاء الشارع الأقدس لما لم يمضه السيد، عدم
امضاء ما دامي، أي ما دام لم يجز السيد فتدبر فإنه دقيق.
ويؤيد ما ذكرناه من كون المراد من العصيان فيهما العصيان الوضعي تمثيله (ع)
لعصيان الله تعالى في الصحيح الثاني، بالنكاح في العدة وأشباهه، فالمتحصل انه لا يدل
النهى التحريمي على الصحة ولا على الفساد.
231

واما القسم الرابع: وهو النهى التشريعي، فملخص القول فيه، انه ان تعلق نهى
بمعاملة خاصة فهو لا محالة يكون دالا على فسادها، وعدم مشروعيتها، واما المعاملة
التي لا يعلم مشروعيتها ولا دليل عليها إذا اتى بها بما انها مشروعة، فمقتضى عموم النهى
عن التشريع حرمتها، ومقتضى أصالة عدم الانتقال هو البناء على الفساد ما لم ينكشف
كونها ممضاة.
وانما الكلام فيما لو انكشف كونها مشروعة، أقول: على المختار من عدم دلالة
النهى النفسي المتعلق بالمعاملة على الفساد صحت هذه المعاملة، واما على ما اختاره
المحقق النائيني (ره) تبعا للمشهور، من دلالته على الفساد، فلابد له من الالتزام بالفساد،
بناءا على أن المحرم في التشريع هو ذات العمل الخارجي المتصف بعنوان التشريع و
هو الاعتبار النفساني في المقام، إذ لا فرق بين تعلق نهى خاص بمعاملة خاصة، وبين انطباق
عنوان عام محرم عليها: فان المبغوضية ان استلزمت الفساد، ففي الموردين، والا فكذلك.
وبذلك ظهر ان ما اختاره المحقق النائيني (ره) من الصحة في الفرض، وعدم دلالة
النهى التشريعي على الفساد لا ينطبق على مسلكه. هذا تمام الكلام في النواهي والحمد لله
أولا وآخرا.
232

المقصد الثالث
المفاهيم
233

[...]
234

في المفهوم وبيان المراد منه
المقصد الثالث: في المفاهيم، وفيه مباحث، وقبل الدخول في المباحث لابد من
تقديم مقدمات، الأولى، ان للمفهوم اطلاقين: أحدهما: ما يراد منه كل معنى يفهم من
اللفظ فحسب سواء أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية، أو كل ما يفهم من الشئ سواء
أكان ذلك الشئ لفظا، أم غيره كالإشارة أو الكتابة أو نحو ذلك، وهذا قد يكون
مدلولا مطابقيا للفظ بحيث يكون اللفظ قالبا له، وقد يكون من جهة لزومه لما يكون
اللفظ قالبا له، والأول ينقسم إلى المدلول المطابقي، والتضمني، والثاني، ربما يستفاد من
اللفظ من دون ضم مقدمة خارجية عقلية أو نقلية إليه، وربما يستفاد منه مع ضم مقدمة
إليه، ويعبر عن الأول باللزوم البين، وعن الثاني باللزوم غير البين، والأول على قسمين إذ تارة
يكفي تصور الملزوم في الانتقال إلى اللازم فهو البين بالمعنى الأخص، وأخرى لا ينتقل
إلى اللازم الا بعد تصور الطرفين والنسبة فهو البين بالمعنى الأعم، وهما مشتركان في عدم
الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية، ثم انه يعتبر في الدلالة الالتزامية كون المعنى لازما بينا و
لا يكفي فيها مجرد اللزوم، وهذا الاطلاق خارج عن محل الكلام حيث إنه في المفهوم
المقابل للمنطوق.
وهو الاطلاق الثاني، فلا بد من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم
فأقول، اما المنطوق فقد عرفه الحاجبي، بما دل عليه اللفظ في محل النطق، والمفهوم
235

بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وفسر العضدي الأول بقوله ان يكون حكما لمذكور
وحالا من أحواله، وفسر الثاني بقوله بان يكون حكما لغير مذكور وحالا من أحواله.
والمحقق الخراساني (ره) قال إنه حيث يكون المفهوم عبارة عن قضية تستتبعها
خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية وهو العلية المنحصرة.
فالصحيح ان المفهوم حكم غير مذكور لا حكم لغير مذكور.
والاعلام (قده) أطالوا الكلام في المقام بالنقض والابرام طردا وعكسا.
وحق القول في المقام، ان المنطوق عبارة عن كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة
وضعا أو اطلاقا أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة، واما المفهوم فهو عبارة عن معنى
يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظرا إلى العلاقة اللزومية البينة بينه وبين المنطوق،
- وبعبارة أخرى - ان المفهوم عبارة عما كان انفهامه من لوازم انفهام المنطوق باللزوم البين
بالمعنى الأخص أو الأعم بلا حاجة إلى شئ آخر.
وبذلك يظهر ان وجوب المقدمة، وحرمة الضد، وما شاكل خارجة عن المفهوم:
إذ ما لم يضم إلى دليل وجوب ذي المقدمة، ووجوب شئ، حكم العقل بالملازمة لما
كان يستفاد تلك فيكون اللزوم غير بين فلا يكون من المفهوم.
فان قيل إن تبعية انفهام معنى لمعنى آخر، لا يكون جزافا، فلا محالة تكون مستندة
إلى امر واقعي، وهو وجود الملازمة بين المعنيين، وعليه فلا فرق بين تبعية وجوب
المقدمة لوجوب ذي المقدمة، وتبعية المفهوم للمنطوق، فكما انه في المورد الأول
يتوقف استفادة وجوب المقدمة من دليل وجوب ذيها إلى ضم مقدمة خارجية، وهي
درك العقل الملازمة بين الوجوبين، كذلك في المورد الثاني يكون انفهام المفهوم من
المنطوق مستندا إلى مقدمة خارجية، وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم.
فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
أجبنا عنه بان التبعية في المقام مستندة إلى دلالة الجملة الشرطية وضعا أو اطلاقا،
على كون الشرط علة منحصرة، فيكون الدال على تلك الحيثية هو اللفظ، وهذا بخلاف
تلك الموارد، فان التبعية هناك مستندة إلى مقدمة خارجية.
236

وبما ذكرناه يظهر تمامية ما افاده صاحب الفصول، ردا على ما أورد على حد
المفهوم.
بأنه منقوض بدلالة الامر بالشئ على الامر بمقدمته، وبدلالته على فساد الضد
على القول به مع أن شيئا منهما لا يسمى مفهوما اصطلاحا.
بان المعتبر في المفهوم هو دلالة اللفظ، واقتضاء الامر لما ذكر من دلالة العقل.
ثم الظاهر أن دلالة الاقتضاء وهي، ما توقف صحة الكلام، أو صدقه عليه كما في
قوله تعالى (فاسئلوا القرية) فإنه إذا لم يقدر الأهل لم يصح الكلام، وقوله (ص) رفع عن
أمتي الخطاء والنسيان، ودلالة الإشارة وهي ما يلزم من الكلام وان لم يقصده المتكلم
كدلالة الآيتين الكريمتين على أن أقل الحمل ستة أشهر، ودلالة الايماء وهي ما يستبعد
معه عدم ارادته كدلالة قوله (ع) كفر عقيب قول السائل هلكت وأهلكت جامعت أهلي
في نهار شهر رمضان على علية الجماع للتكفير، كل ذلك لا تكون من الدلالة اللفظية و
يكون اللزوم فيها من اللزوم غير البين، وعلى فرض كون بعضها من الدلالة اللفظية فهو ليس
من المنطوق، وهو ما دل عليه الجملة التركيبية بالدلالة المطابقية، ولا من المفهوم وهو ما
دلت عليه الجملة بالدلالة الالتزامية المتوقفة على كون اللزوم بينا، وغير محتاج إلى ضم
مقدمة خارجية كما هو واضح.
فما يظهر من بعض من ادخال مثل دلالة الإشارة في المنطوق، غير تام، كما أنه ما
يظهر من بعض من ادراجها في المفهوم فاسد، بل هي ليست بشئ منهما.
وقد ظهر مما ذكرناه ان المحقق النائيني (ره) قد خلط في المقام، بين اللزوم البين
بالمعنى الأعم، واللزوم غير البين، ولذلك عد هذه الموارد من اللزوم البين بالمعنى الأعم،
مع أنها من اللزوم غير البين.
وعلى الجملة، المنطوق هو المدلول المطابقي للجملة التركيبية، والمفهوم
هو المدلول الالتزامي لها على معنى كونه لازما بينا بالمعنى الأعم أو الأخص له، ولعله إلى
ذلك يرجع ما عن الحاجبي، بان يكون المراد من محل النطق المدلول المطابقي،
ولا محله هو المدلول الالتزامي.
237

واما ما افاده المحقق الخراساني (ره) ردا على الحاجبي والعضدي بان المفهوم
هو حكم غير مذكور لا حكم لغير مذكور.
فيرده ان المراد بالحكم ان كان هو الحكم الشخصي فهو كما أنه غير مذكور من غير
فرق بين مفهوم الموافقة والمخالفة، فان حرمة الشتم المفهومة من قوله تعالى (لا تقل لهما
أف) غير مذكورة، وعدم وجوب الاكرام عند عدم المجئ المستفاد من قولنا ان جاء
زيد فأكرمه غير مذكور، كذلك هما حكمان لغير المذكور إذ الشتم في الأول والاكرام
المقيد بعدم المجئ غير مذكورين، وان كان المراد به سنخ الحكم فيلزم خروج مفهوم
الموافقة من هذا التعريف، فان سنخ الحكم المفهومي، وهو حرمة الشتم مذكور، فالأظهر
هو صحة تعريفه بكل منهما مع إرادة الحكم الشخصي.
ثم إن الظاهر، كون لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البين بالمعنى الأخص،
ضرورة انه ينتقل الذهن إلى الانتفاء عند الانتفاء من العلية المنحصرة المستفاد من اللفظ
بلا حاجة إلى تصور أي شئ آخر.
الثانية: قال في محكى التقريرات الظاهر من موارد اطلاق اللفظين (أي المنطوق
والمفهوم) في كلمات أرباب الاصطلاح انهما وصفان منتزعان من المدلول، إلى أن قال،
خلافا لظاهر العضدي تبعا للحاجبي والمحكي عن الشهيد حيث جعلوهما من الأوصاف
الطارية للدلالة ولا وجه لذلك، قال المحقق الخراساني وان كان بصفات المدلول أشبه
وتوصيف الدلالة أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق انتهى.
أقول الظاهر أنهما ليسا من صفات الدلالة: إذ هي تتصف بالصراحة والظهور
ونحوهما، ولا تتصف بالمنطوق والمفهوم، ولا من صفات المدلول: فإنه يتصف بالكلي
والجزئي وأمثالهما، بل الظاهر أنهما من صفات الدال إذ الدال على المعنى ان كان لفظا كما
في دلالة اللفظ على معناه المطابقي، فهو منطوق، وان كان هو المعنى المستتبع الموجب
لانتقال الذهن إلى معنى آخر، فهو مفهوم، فتوصيف المدلول بهما انما يكون توصيفا
بحال المتعلق باعتبار ان الدال ربما يكون منطوقا وربما يكون مفهوما.
الثالثة: الظاهر أن مسألة المفهوم من المسائل الأصولية اللفظية لا من المسائل
238

العقلية وان كان فيها ملاكها أيضا، لأنه وان كان الحاكم بالانتفاء عند الانتفاء هو العقل ولذا
قيل إنها من المسائل العقلية، ولكن حيث إن الكاشف عن انحصار العلة والشرط هو الذي
يكون كاشفا عن لازمه بالدلالة الالتزامية، فهي من المسائل اللفظية.
الرابعة: ان محل الكلام في المقام ليس، هو حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده،
فان تلك متسالم عليها، بل محل الكلام أصل وجود المفهوم وتحققه، يعنى ان الجملة
الشرطية مثلا، هل تكون ظاهرة في المفهوم وتدل بالدلالة الالتزامية على الانتفاء
عند الانتفاء أم لا تدل على ذلك، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت، والا فبعد ثبوت
ظهورها في ذلك يشمله ما دل على حجية الظواهر.
المبحث الأول في مفهوم الشرط
إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم أن الكلام يقع في مباحث الأول في مفهوم الشرط
ولتحقيق الحال في المقام لا بد من تقديم أمرين:
الأول: انه قد مر في مبحث الواجب المشروط ان أدوات الشرط انما وضعت
لتعليق مفاد جملة على مفاد جملة أخرى، بلا فرق بين ان تكون الجملة المعلقة انشائية، و
ان تكون خبرية ومن غير فرق في الانشاء بين ان يكون الحكم المستفاد من الجزاء مفهوما
اسميا بان يكون مدلول كلمة، وجب، أو يجب أو ما شاكل ذلك، وبين ان يكون مستفادا
من الهيئة ومفهوما حرفيا، وبالجملة يكون المقدم في القضية الشرطية قيدا لنفس الحكم
المذكور في التالي، لا قيدا للواجب كما اختاره الشيخ الأعظم (ره) والكلام في ثبوت
المفهوم يكون مبتنيا على ذلك، واما على ما افاده الشيخ (ره) فحال القضية الشرطية
عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة على المفهوم وعدمها.
الثاني: ان دلالة الألفاظ والجمل ليست ذاتية وانما تستند إلى الوضع،
أو الانصراف، أو القرينة العامة، أو الاطلاق ومقدمات الحكمة، وعليه فلا بد من البحث
في مقامات. الأول: في أنه هل تدل القضية الشرطية على المفهوم بالوضع، أو القرينة العامة
239

أم لا؟ الثاني: في أنه هل تدل عليه بالانصراف أم لا؟ الثالث: في التمسك بالاطلاق.
دلالة القضية الشرطية على المفهوم بالوضع أو القرينة العامة
اما المقام الأول: فقد سلك المحققون منهم المحققان الخراساني، والنائيني
طريقا لاثباتها، وهو يرتكز على ركائز:
الأولى: ان ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط انما يكون بنحو اللزوم وتكون ملازمة
بين الجزاء الشرط ولا يكون مدلول القضية مصاحبة المقدم مع التالي بلا دلالة على اللزوم
أو الاتفاق، إذ لو لم تكن ملازمة بين الجزاء والشرط لما استلزم عدم الشرط عدم الجزاء.
الثانية: ان تكون القضية ظاهرة في ترتب الجزاء على الشرط والا لما دلت القضية
على عدم التالي عند عدم المقدم.
وما افاده الأستاذ من أن هذا الامر لا بد من الغائه إذ المراد بالترتب ان كان هو الترتب
في عالم الثبوت فلا حاجة إلى ذكر الامر الثالث وهو كون الترتب بنحو ترتب المعلول
على علته إذ الترتب في عالم الثبوت يستحيل ان يكون في غير ذلك، وان كان المراد
الترتب في عالم الاثبات فلا حاجة إلى ذكر الامر الأول إذ الترتب في عالم الاثبات ملازم
للزوم بل ليس الا هو.
غير سديد، إذ الترتب في عالم الثبوت كما يكون بين المعلول وعلته يكون بين
المتقدم والمتأخر في الزمان وبجعل الجزاء واعتباره بعد تحقق الشرط كما في القضايا
الشرعية.
الثالثة: كون القضية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول
على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول، ولا من باب ترتب أحد المعلولين لعلة ثالثة
على المعلول الاخر، والا لما دلت القضية على المفهوم لان عدم المعلول لا يكشف عن
عدم ذات العلة لجواز استناده إلى وجود المانع، ولا عن عدم المعلول الاخر.
الرابعة ان تكون القضية ظاهرة في أن الشرط علة منحصرة للجزاء والا فيمكن
240

ثبوت الجزاء عند عدم الشرط لوجود علة أخرى له.
اما الركيزة الأولى فقد ذهب المنطقيون والمحقق الأصفهاني (ره) إلى عدم دلالة
القضية الشرطية على اللزوم، بل تدل القضية على مصاحبة المقدم مع التالي فحسب، و
قسم المنطقيون القضية الشرطية إلى لزومية واتفاقية، ومثلوا للثانية بقولنا ان كان الانسان
ناطقا فالحمار ناهق.
واستدل المحقق الأصفهاني (ره) له بان أداة الشرط موضوعة لمجرد جعل متلوها
واقعا موقع الفرض التقدير، وان التعليق والترتب انما يستفاد من تفريع التالي على المقدم
والجزاء على الشرط كما تدل عليه الفاء الذي هو للترتب سواء كان الترتب زمانيا كما في
جاء زيد فجاء عمرو، أو كان الترتب بنحو العلية كما في تحركت اليد فتحرك المفتاح، أو
بالطبع كما في وجد الواحد فوجد الاثنان، أو كان الترتب بمجرد اعتبار العقل كما في قولنا
ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة وان كان هذا ضاحكا فهو انسان، ولا دلالة للقضية
على أزيد من ذلك فلا تدل على لزوم بينهما.
واختار المحقق الخراساني والمحقق النائيني دلالتها على ذلك.
واستدل الأول له بالتبادر والانسباق، ويرده: انا نرى استعمال الجملة الشرطية،
في الاتفاقيات كثيرا بلا حاجة إلى لحاظ قرينة وأعمال عناية. لا حظ، موارد الترتب الزماني
وقولنا ان كان زيد ضعيفا فايمانه قوى، أو ان كان زيد مريضا فعقله سالم، ونحو ذلك
من القضايا الشرطية الاتفاقية.
واستدل المحقق النائيني (ره): بأنه لو صح الاستعمال في غير مورد اللزوم بلا
رعاية علاقة وأعمال عناية لصح تعليق كل شئ على كل شئ.
ويرده ان عدم صحة تعليق كل شئ على كل شئ بديهي، الا انه من جهة دلالة
القضية على ترتب الجزاء على الشرط بأحد أنحاء الترتب فمع عدم شئ من أقسامه لا
يصح التعليق ومع وجوده يصح التعليق، وان لم يكن لزوم بينهما، فالمتحصل عدم دلالة
القضية الشرطية على اللزوم بين الجزاء والشرط.
واما الركيزة الثانية فهي واضحة إذ هذا هو الظاهر من جعل شئ مقدما والاخر
241

تاليا، خصوصا إذا كان الجزاء مصدرا بالفاء الترتيبية.
واما الركيزة الثالثة وهي دلالة القضية الشرطية على أن ترتب الجزاء على الشرط
من باب الترتب المعلول على العلة، فالظاهر أنها غر سديدة كما اعترف به المحقق
الخراساني (ره) إذ كما تستعمل القضية في ذلك المورد، كذلك تستعمل في مورد ترتب
العلة على المعلول كما هو الحال في البرهان الآني، كقولنا ان كان النهار موجودا فالشمس
طالعة، وان كان العالم حادثا فهو متغير، وأيضا تستعمل فيما كان من قبيل ترتب
أحد المعلولين، لعلة ثالثة على معلول آخر كقولنا، ان كان النهار موجودا فالعالم مضئ، و
نحو ذلك كل ذلك بلا لحاظ وجود قرينة في البين وعمال عناية، وهذه آية كون المعنى
واحدا في الجميع.
ثم إن المحقق النائيني (ره) بعد اعترافه بان استعمال القضية الشرطية في موارد غير
ترتب المعلول على علته ليس مجازا، قال إن ظاهر القضية الشرطية هو ذلك لان ظاهر
جعل شئ مقدما وجعل شئ آخر تاليا هو ترتب التالي على المقدم، فان كان هذا الترتب
موافقا للواقع، ونفس الامر، بان يكون المقدم علة للتالي، فهو، والا لزم عدم مطابقة ظاهر
الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية، و
عليه فبظهور الجملة الشرطية في ترتب التالي على المقدم، يستكشف كون المقدم علة
للتالي وان لم يكن ذلك مأخوذا في الموضوع له.
وفيه: ان أساس هذا الوجه انحصار الترتب في عالم الثبوت في ترتب المعلول على
علته، وهو غير تام: إذ مضافا إلى ما تقدم من أن للترتب أقساما: الترتب الزماني، والترتب
بنحو العلية والترتب الاعتباري، ملاحظة القضايا الشرعية توجب القطع
بعدم دلالتها على كون الجزاء معلولا للشرط، فان الحكم فيها ليس معلولا للشرط، بل هو
معلول لإرادة الجاعل، فغاية ما يدل عليه التعليق والجملة بتمامها هو ترتب ثبوت الجزاء
على ثبوت الشرط، واما كونه بنحو العلية فلا بل كما يمكن ان يكون كذلك يمكن ان
يكون ترتبا زمانيا أو جعليا.
والاعتذار في القضايا الشرعية بان ترتب الحكم فيها على الشرط نحو ترتب
242

المعلول على علته، لا يفيد.
واما الركيزة الرابعة وهي دلالة القضية على كون الشرط علة منحصرة للجزاء، فهي
على ما ذكرناه من عدم دلالتها على العلية واضحة الفساد، واما على ما اختاره المحقق
النائيني (ره) فان تمت قاعدة، الواحد لا يصدر الا عن الواحد، ولم تختص بالواحد
الشخصي، فقد يقال انه لابد من الالتزام بها إذ الشرط ان كان علة منحصرة يكون بعنوانه
الخاص علة، والا كانت العلة هي الجهة الجامعة بين هذا الشرط والشرط الاخر المفروض
ثبوته بلا دخل لخصوصيات الشرط المذكور في العلة، وهو خلاف الظاهر، ولكن الذي
يسهل الخطب عدم علية الشرط في القضايا الشرعية للجزاء.
فالمتحصل مما ذكرناه عدم تمامية هذا الوجه، ويمكن ان يسلك سبيلا آخر
لاثبات المفهوم، وهو انكار جميع تلك الركيزات المتقدمة مع دعوى الدلالة
على المفهوم، بمعنى ان استفاد المفهوم من القضية الشرطية غير مربوطة بالارتباطات
العقلية، وانها تابعة للحصر المستفاد من الجملة الشرطية كاستفادته من ساير أدوات
الحصر.
محصله انه بعد التحفظ على أن الشرط في القضية الشرطية يرجع إلى
الحكم المستفاد من الهيئة، وان مفاد ان جائك زيد فأكرمه، ان وجوب اكرام زيد، معلق
وموقوف ومشروط، بالمجئ، وأيضا بعد التحفظ على ما تقدم من أن المفهوم عبارة عن
المدلول الالتزامي أي القضية التي تكون ملزومة لخصوصية مستفادة من المنطوق باللزوم
البين وهو الحصر، أي حصر ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، بلا ربط لذلك بالارتباطات
العقلية من اللزوم والعلية وغيرهما.
ان المنساق إلى الذهن من مجموع كلمة ان مثلا وهيئة الجملة الشرطية ان ثبوت
الجزاء يكون منحصرا بمورد ثبوت الشرط كساير ما يستفاد منه الحصر، وان شئت ان
يظهر لك ذلك فلاحظ قولنا ان وجوب اكرام زيد معلق، أو موقوف، أو مشروط،
بمجيئه، فهل يتوهم أحد عدم استفادة الحصر منه، فكذلك في المقام وأظن أن ذلك
ظاهر لمن راجع المحاورات العرفية.
243

ودعوى، انه لا اشكال في صحة قول القائل، ان أحسن إليك زيد فأكرمه بعد قوله
ان جائك زيد فأكرمه، وأيضا لا اشكال في صحة السؤال عن انه، هل يجب اكرامه لو
أحسن إلى بعد ذلك القول، وهذه علامة عدم الظهور في الحصر والانتفاء عند الانتفاء.
مندفعة، بان صحة ذلك نظير صحة قول القائل لا تكرم زيدا بعد قوله أكرم العلماء
الظاهر في العموم بلا كلام، وان ذلك يكون من قبيل المطلق والمقيد.
الاستدلال بالانصراف
المقام الثاني: ذكر المحقق الخراساني (ره) انه قد يستدل لدلالة القضية الشرطية.
على المفهوم بالانصراف، وحاصله ان اطلاق العلاقة اللزومية المستفادة من القضية
الشرطية، منصرف إلى ما هو أكمل افرادها، وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها.
وأجاب عنه، بأنه ممنوع صغرى وكبرى. اما الصغرى فلعدم كون اللزوم بينهما
أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة إذ الانحصار لا يوجب كون الربط الخاص الذي لا بد
منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى.
ويرده ان العلة في فرض الانحصار لا تنفك عن التأثير بخلافها في فرض
عدم الانحصار، إذ لو سبقتها شريكتها كانت هي مؤثرة دون هذه، اللهم الا ان يقال ان عدم
فعلية التأثير لا يوجب ضعفاني العلة، وانما هو لا جل عدم قابلية المحل لان تؤثر العلة فيه،
مع أن المحقق الخراساني لم يسلم ظهور القضية في العلية وانما سلم اللزوم خاصة، وبه
يظهر انه على ما سلكناه من منع دلالتها على اللزوم أيضا يكون منع الصغرى أوضح.
واما الكبرى فاشكالها ظاهر، إذ الأكملية لا توجب الانصراف، سيما مع كثرة
الاستعمال في غير الأكمل كما في المقام لكثرة استعمال الجملة الشرطية في غير العلة
المنحصرة لو لم يكن بأكثر.
التمسك بالاطلاق لاثبات المفهوم
واما المقام الثالث: وهو التمسك بالاطلاق، وقد ذكروا له تقريبات، أشار
244

المحقق الخراساني إلى ثلاثة منها الأول قياس المقام على اطلاق صيغة الامر فكما انه
يقتضى كون الوجوب نفسيا لا غيريا، فكذلك في المقام، ويكون ذلك تمسكا باطلاق
أداة الشرط، ومبنيا على الاعتراف بدلالة الشرطية على اللزوم، كما أن تالييه مبنيان
على الاعتراف بدلالتها على الترتب على العلة التامة، ولا ينفع شئ من التقارير لمنكر الدلالة
على اللزوم كما اخترناه.
وكيف كان فحاصل هذا التقرير ان مفاد الشرطية اللزوم، وله فردان، اللزوم
مع الانحصار، واللزوم لا معه، وحيث إن القيد الثاني امر وجودي، بخلاف الأول. فإذا كان
المولى في مقام البيان ولم يذكر القيد الوجودي مقتضى الاطلاق هو الحمل على مقابله
نظير ما يقال ان اطلاق الامر يقتضى كون الوجوب نفسيا من جهة ان الوجوب النفسي هو
ما لا يترشح من الغير، والوجوب الغيري هو ما يترشح من غيره، فالثاني مقيد بأمر وجودي،
والأول بأمر عدمي، وحيث إن الامر الوجودي يحتاج إلى البيان بخلاف العدمي فاطلاق
الامر يقتضى كون الوجوب نفسيا.
وأورد عليه المحقق الخراساني بايرادين. أحدهما: ان هذا يتم فيما إذا تمت هناك
مقدمات الحكمة ولا يكاد تتم فيما هو مفاد الحروف كما هاهنا، فان اللحاظ في مدلول
الحرف آلى، سواء كان مدلوله جزئيا يدخل فيه اللحاظ، أم كليا كما هو مختار المحقق
الخراساني (ره) نظرا إلى خروج اللحاظ عن المدلول وكونه من شرائط الاستعمال، وعلى
هذا فان لم يلاحظ المعنى استقلالا لا يصح التقييد، لأنه ضرب من الحكم، وهو لا يمكن
بدون الالتفات إلى متعلقه استقلالا، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الاطلاق وان لوحظ
مستقلا خرج عن كونه معنى حرفيا وصار معنى اسميا.
وفيه: انه قد تقدم تحقيق القول في ذلك وعرفت جريان مقدمات الحكمة في
مفاد الحروف، وقد اعترف هو بذلك، ولذلك تمسك باطلاق هيئة فعل الامر لاثبات
كون الوجوب نفسيا لا غيريا، وحله على مسلكه على ما افاده تلميذه المحقق بملاحظة
245

المعنى الحرفي الوسيع أو الضيق بتبع المعنى الأسمى، فيلاحظ اللازم والملزوم، على نحو
لا ينفك أحدهما عن الاخر، ويكون ذلك ملاحظة للزوم بنحو الانحصار بالتبع.
الايراد الثاني: ان القياس على تعيين الوجوب النفسي باطلاق صيغة الامر مع
الفارق، فان النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري فإنه واجب على تقدير دون
تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤنة التقييد بما إذا وجب الغير، وهذا بخلاف اللزوم بنحو العلة
المنحصرة، إذ كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب محتاج في تعيينه إلى القرينة مثل الآخر،
- وبعبارة أخرى - القيود العدمية كالوجودية تحتاج إلى التنبيه والبيان، وانما لا يحتاج
إلى البيان عدم القيد لا القيد العدمي، والا فهو كالضد الوجودي لا بد من بيانه.
وان شئت قلت، ان الضابط عنده (قده) انه كلما كان عدم بيان الطرف المقابل
في المتفاهم العرفي بيانا له، من غير احتياج إلى التصريح به فعند الاطلاق يحمل اللفظ
عليه، وكلما لم يكن كذلك بل كان كل منهما محتاجا إلى التصريح، لا سبيل إلى
حمل اللفظ عليه عند الاطلاق، وما نحن فيه من قبيل الثاني، إذ كما أن الترتب بغير
الانحصار يحتاج إلى القرينة والبيان كذلك الترتب مع الانحصار وبالجملة وجود ترتب
آخر وعدمه لا يسريان إلى هذا الترتب.
ويمكن الجواب عنه بوجه آخر وهو ان الانحصار وعدمه ليسا من عوارض
الشرطية وشئونها بل من حالات الشرط، وعليه، فان أريد التمسك باطلاق الشرط فهو
يرجع إلى الوجه الثالث الذي سيأتي الكلام فيه، والا فلا معنى للتمسك باطلاق الشرطية
والسببية لاثبات الانحصار.
هذا كله مبنى على تسليم دلالة الشرطية على اللزوم، وقد مر انها لا تدل عليه، فلا
مورد لهذا الوجه أصلا.
التقريب الثاني، من تقارير التمسك بالاطلاق للقول بثبوت المفهوم للقضية
الشرطية، ما افاده المحقق الخراساني بقوله بتقريب انه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده
ضرورة انه لو قارنه أو سبقه الاخر لما اثر وحده، وقضية اطلاقه انه يؤثر كذلك مطلقا
انتهى، وهو انما يكون تمسكا باطلاق تأثير المقدم والشرط، في التالي والجزاء.
246

وحاصله بعد الاعتراف بدلالة القضية الشرطية على العلية ان مقتضى اطلاق التأثير
هو استناد التالي إلى المقدم مطلقا، ولو كان المقدم علة غير منحصرة لا يستند التالي إلى
المقدم كذلك، بل لو سبقه الاخر كان هو المؤثر، ولو قارنه كانا معا مؤثرا فمن اطلاق
الاستناد يستكشف انحصار العلة.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بقوله، وفيه انه لا يكاد ينكر الدلالة على المفهوم
مع اطلاقه كذلك الا انه من المعلوم ندرة تحققه لو لم نقل بعدم اتفاقه.
ومحصله ان الدليل المتضمن للعلية انما يكون في مقام بيان صلاحية الشئ و
قابليته للتأثير لا في مقام بيان العلية الفعلية. وعليه فبما انه لا فرق في العلية بهذا المعنى بين
الانحصار وعدمه فلا يتم هذا الوجه، ويمكن ان يكون نظره إلى عدم تسليم دلالة القضية
الشرطية على العلية.
التقريب الثالث للتمسك بالاطلاق ما ذكره المحقق الخراساني بما حاصله ان
مقتضى اطلاق الشرط كون الملازمة ثابتة بين الجزاء وهذا الشرط وليست بينه وبين شئ
آخر فيكون نظير ما ذكروه من أن مقتضى اطلاق الامر كون الوجوب تعيينيا.
وأورد عليه المحقق الخراساني بما حاصله ان الوجوب التعييني والتخييري،
سنخان من الوجوب، ولكل منهما حد خاص كما حقق في محله، وعليه فإذا تردد الامر
بينهما، فبما ان ثبوت الوجوب التخييري، يحتاج إلى التصريح بثبوت العدل، بخلاف
الوجوب التعييني فإنه يكفي فيه عدم بيان العدل، فإذا كان المولى في مقام بيان
حد الوجوب وجرت ساير مقدمات الحكمة، يثبت الثاني بالاطلاق، وهذا بخلاف العلة
فان ثبوت عدل آخر له وعدمه، لا يوجبان اختلافا في سنخ العلية، ولا يتفاوت حدها
بثبوت العدل وعدمه، فالاطلاق لا يثبت كون العلة منحصرة، وان شئت قلت: ان الانحصار
وعدمه ينتزعان من ثبوت علة أخرى وعدمها، فلا يكون الاطلاق الوارد في مقام بيان
العلية مثبتا لأحدهما. نعم، لو كان المولى في مقام بيان كل ماله العلية لهذا الجزاء ولم
يصرح بثبوت غير هذه العلة يكشف ذلك عن انحصارها فيها، ولكن ذلك أجنبي عما
هو محل الكلام.
247

وبما ذكرناه في توضيح كلامه (قده) يظهران ايراد المحقق النائيني (ره) عليه: بان
الاطلاق المتمسك به في المقام ليس هو اطلاق الجزاء واثبات ان ترتبه على الشرط انما
هو بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ليرد عليه ما ذكر، بل هو استدل باطلاق
الشرط، في غير محله. وجه الظهور ان ايراده انما يكون باطلاق الشرط.
فالصحيح ان يورد على المحقق الخراساني (ره) بان القضايا الشرطية سيما القضايا
الواردة في مقام بيان الأحكام الشرعية لا تدل على علية الشرط للجزاء كي يجرى فيه ما
ذكره بل انما يدل على الترتب خاصة.
ويمكن توجيه هذا التقريب بنحو يسلم عن جميع ما أورد عليه، وهو ان حقيقة
الامر كما مر ليست الا ابراز كون الفعل متعلقا لشوق المولى. وعليه فبما ان الشرط لا يكون
راجعا إلى الابراز كما واضح، فلا محالة يكون راجعا إلى الشوق، فيكون شوق المولى
بالفعل معلقا على قيد وشرط، ولازمة انتفاء الشوق بانتفاء القيد، من غير فرق بين كون
الابراز بالهيئة، أو بالمادة المستعملة في المفهوم الأسمى.
ويمكن التمسك بالاطلاق لاثبات المفهوم، بوجه آخر وهو التمسك باطلاق
الجزاء بتقريب انه قيد الجزاء، وهو الحكم الكلى والشوق المطلق بذلك الشرط
بخصوصه، ولم يقيد بشئ آخر، لا على نحو الاشتراك بان يجعل شئ آخر مجامعا
لذلك الشرط قيدا للجزاء ولا على نحو الاستقلال، بان يجعل شئ آخر موجبا لترتب
الجزاء عليه ولو عند انفراده وعدم مجامعته لما جعل في القضية شرطا، ومقتضى ذلك
دوران الجزاء مدار الشرط في القضية وجودا وعدما، فكما انه لم يشك أحد في التمسك
باطلاق الجزاء لنفى قيدية شئ آخر مع وجود الشرط، كذلك لا ينبغي ان يشك في
التمسك باطلاقه لعدم دخل شئ آخر في ثبوت الجزاء مستقلا ولازم ذلك الانتفاء
عند الانتفاء.
وليس ذلك تمسكا باطلاق الشرط كي يورد عليه بما افاده المحقق الأصفهاني
بان الاطلاق لا يكون الا مع انحفاظ ذات المطلق فالاطلاق من حيث الضميمة معقول، و
اما الاطلاق من حيث البدل فلا، إذ لا يكون بدله الا في ظرف عدمه فلا يعقل اطلاق القيد
248

في ظرف عدم نفسه.
وجه عدم الورود انه ليس تمسكا باطلاق الشرط، بل هو تمسك باطلاق الجزاء
فلا ايراد عليه.
نعم الايراد المذكور وارد على ما افاده المحقق النائيني (ره) حيث أفاد ان مقتضى
اطلاق الشرط بعد عدم العطف بأو أو بواو، ان القيد مطلق من حيث الضميمة، ومن حيث
البدل فيستفاد من الاطلاق، الاستقلال في العلية والانحصار.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه، ان القضية الشرطية تدل على المفهوم وطريق
اثبات ذلك أمور. الأول: الدلالة الوضعية، فان المنساق إلى الذهن من القضية الشرطية ان
ثبوت الجزاء منحصر بمورد ثبوت الشرط. الثاني: اطلاق الشرط بالتقريب المتقدم.
الثالث: اطلاق الجزاء.
وقد يتوهم ان لازم ما ذكرناه دلالة جميع القضايا الشرعية على المفهوم بناءا على
ما مر سابقا من أن القضايا الحقيقية انشائية كانت أم اخبارية ترجع إلى قضايا شرطية مقدمها
فرض ثبوت الموضوع وتاليها ثبوت المحمول، وان القضايا الشرطية ترجع إلى القضايا
الحقيقية.
والجواب عنه ان القضية الشرطية ليست ذات مفهوم بقول مطلق بل هي على
اقسام: الأول: ما يكون الشرط فيها مما يكون الحكم معلقا عليه عقلا، ويكون الشرطية
سيقت لبيان تحقق الموضوع، نظير، ان رزقت ولدا فاختنه. وإذا حييتم بتحية فحيوا
بأحسن منها أو ردوها. الثاني: ما لا يكون الشرط فيها مما يكون الحكم معلقا عليه عقلا بل
على فرض دخله يكون اعتباره شرعيا محضا. والثاني: تارة يكون القيد قيدا للموضوع، و
أخرى للمتعلق، وثالثة للحكم، والمدعى انما هو دلالة القسم الرابع على المفهوم كما
يظهر مما ذكرناه وجها لذلك، غاية الامر ان ظاهر القضية الشرطية في نفسها رجوع القيد
إلى الحكم لا إلى الموضوع أو المتعلق وعليه، فدعوى دلالة القضية الشرطية التي لم تسق
لبيان تحقق الموضوع في محلها، وعلى هذا فالقضايا الحقيقية، وان رجعت إلى القضايا
الشرطية، الا انها تكون من القسم الأول فلا تدل على المفهوم.
249

ما استدل به لعدم ثبوت المفهوم للشرط ونقده
ثم إن في المقام قولين آخرين. أحدهما: عدم ثبوت المفهوم للشرط مطلقا واستدل
له بأمور:
الأول: ما عن السيد (قده) وحاصله ان غاية ما يكون القضية الشرطية دالة عليه
كون الشرط علة للجزاء ويكون تأثير الشرط كافيا في صوغ القضية الشرطية، وتعليق
الحكم به بجعل الشرط مقدما والمشروط تاليا بلا عناية، ولا يستفاد منها الانحصار، ثم
ذكر في ذيل كلامه جملة من الموارد التي يكون الشرط غير منحصر، وقال ونيابة بعض
الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى.
وبهذا البيان يظهر ان السيد قد تجاوز عن المحقق الخراساني بمرحلتين،
فان المحقق الخراساني بعد ما أفاد ان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف على أمور
أربعة. الدلالة على اللزوم، والترتب، وكون الترتب من قبيل ترتب المعلول على العلة،
والانحصار، اعترف بالأول خاصة، وصرح بعدم الدلالة على الأخيرين، والسيد (قده)
اعترف بالثلاثة الأول، وأنكر الاخر خاصة، فلا وجه لا يراد المحقق الخراساني عليه.
وكانه (قده) لم ينظر إلى ما افاده السيد، والا لما أجاب بما في الكفاية من أن نيابة
بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت امر ممكن ولكنه غير مربوط بما هو محل الكلام
في مقام الاثبات، واما في مقام الاثبات فمجرد الاحتمال لا يكفي في دفع الظهور ما لم
يكن بحسب القواعد اللفظية راجحا أو مساويا، وليس فيما افاده ما يثبت ذلك، فان السيد
ينكر الظهور مثل المحقق الخراساني (ره).
الثاني: انه لو دل لكان بإحدى الدلالات الثلاث، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة،
وأجيب عنه، تارة بمنع بطلان التالي فإنه قد مر دلالة القضية بالدلالة الالتزامية على ثبوت
المفهوم، وأخرى، بمنع الملازمة لأنه يمكن اثبات المفهوم بالاطلاق كما مر.
الثالث: قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا).
250

وفيه: ان الشرط في الآية الكريمة مسوق لبيان تحقق الموضوع، حيث إن إرادة
التحصن من القيود العقلية لحرمة الاكراه، إذ لا يعقل الاكراه على البغاء، في فرض عدم
إرادة التحصن كما هو واضح، وقد مر عدم المفهوم لمثل هذه القضية.
القول بالتفصيل ومدركه
الثاني: ما اختاره جماعة منهم الشيخ الأعظم، وهو التفصيل بين كون الحكم في
الجزاء مستفادا من المادة، كقوله (ع) إذا زالت الشمس وجبت الصلاة، والطهور، وبين
كونه مستفادا من الهيئة كقولنا: ان جاء زيد فأكرمه، والالتزام بدلالة القضية الشرطية
في القسم الأول على المفهوم دون الثاني: واستدل له بوجهين.
أحدهما: ان المفهوم كما مر عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند
انتفائه، واما انتفاء شخص الحكم المذكور في التالي عند عدم الشرط، فهو عقلي لا ربط له
بدلالة اللفظ ابدا، لاستحالة بقاء الحكم مع انتفاء موضوعه أو قيد من قيوده، أو من قيود
الحكم، ومن هنا لم نقل بدلالة اللقب على المفهوم، مع أن انتفاء شخص الحكم بانتفاء ما
اخذ في موضوعه واضح، ولو ثبت حكم شخصي آخر، مع عدم الشرط، فإنما هو حكم
آخر غير الحكم الثابت له عند ثبوت الشرط، غاية الامر انه من سنخه، وعلى الجملة ان
المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط، وعليه فحيث ان الحكم
المستفاد من المادة مفهوم اسمى وكلي فتدل القضية الشرطية المعلقة للحكم على الشرط
عندئذ على المفهوم، واما ما يكون مستفادا من الهيئة فحيث انه معنى حرفي ويكون
جزئيا فلا تدل على المفهوم، إذ غايته انتفاء الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه وهو
جزئي، فلا يدل على انتفاء فرد آخر.
والجواب عنه ما تقدم من أن المعنى الحرفي ليس جزئيا بل هو أيضا كالمعنى
الأسمى كلي.
ثانيهما: ان مفاد الهيئة جزئي لأنه معنى آلى وملحوظ آلى، وهو غير قابل للتقييد
251

فالقيد والشرط في القضية الشرطية المشتملة على بيان الحكم بالهيئة يرجع إلى المادة
والمتعلق فلا يكون الحكم معلقا كي ينتفى بانتفاء القيد. وهذا بخلاف المعنى الأسمى
لو كان الحكم مستفادا من المادة فإنه يرجع الشرط إليه فينفي الحكم بانتفاء الشرط فتدل
على المفهوم.
والجواب عنه ما تقدم في الواجب المشروط مفصلا، وبينا انه مضافا إلى أن المعنى
الحرفي كلي وقابل للتقييد. ان الجزئي لا يقبل التقييد بمعنى التضييق وقابل للتقييد بمعنى
التعليق والربط كما في التعليق على الشرط.
ضابط اخذ المفهوم.
بقى أمور الأول: ان المفهوم كما عرفت عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق عن
الموضوع في المنطوق عند انتفاء شرطه، واما انتفاء شخص الحكم فهو غير مربوط
بالمفهوم كما أن انتفاء الحكم عن موضوع آخر غير ما هو موضوع في المنطوق لا ربط له
بالمفهوم. - وبعبارة أخرى - ان المفهوم تابع للمنطوق موضوعا ومحمولا ونسبة، سوى
ان المنطوق قضية موجبة، أو سالبة والمفهوم عكس ذلك.
وعلى ضوء ذلك قال المحقق الخراساني (ره) انه ليس من المفهوم دلالة القضية
على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنذور والايمان كما توهم، بل عن الشهيد
في تمهيد القواعد انه لا اشكال في دلالتها على المفهوم، وذلك لان انتفائها عن غير ما هو
المتعلق لها من الأشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شئ أو بشرطه مأخوذة في العقد
أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لأجل انه إذا صار شئ وقفا
على أحد أو أوصى به أو نذر له إلى غير ذلك لا يقبل ان يصير وقفا على غيره أو وصية أو
نذرا له وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير مورد المتعلق قد عرفت انه عقلي
مطلقا انتهى.
قال الشهيد (ره) في تمهيد القواعد لا اشكال في دلالتها في مثل الوقف
252

والوصايا والنذر والايمان كما إذا قال وقفت هذا على أولادي الفقراء أو ان كانوا فقراء أو
نحو ذلك انتهى.
ومحصل الايراد عليه كما في التقريرات والكفاية وغيرهما ان دلالة القضية
على الانتفاء عند الانتفاء في تلكم الموارد، ليست من المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم، بل هو
من باب انتفاء شخص الحكم.
وقد يقال انتصارا للشهيد (ره) ان الوقف أو النذر أو الوصية قد يتعلق بالمال
الشخصي. وأخرى، يتعلق بالكلي، فإذا تعلق بالشخصي، فلا يعقل تعلق وصية أخرى مثلا
بهذا المال في عرض هذه الوصية، ولكن يمكن تعلقها به في طول هذه، وإذا تعلق بالكلي
فيمكن تعلق فرد آخر في طول هذا الفرد، وفى عرضه، وعلى كل تقدير تعلق فرد آخر
معقول فيجرى فيه نزاع المفهوم، وانه، هل يدل على انتفاء الفرد الطولى في الأول ومطلق
الفرد في الثاني، أم لا؟ بعد أن انتفاء شخص الوقف أو الوصية أو النذر ليس بالمفهوم.
مفهوم تعليق الحكم الكلى بنحو العام الاستغراقي على الشرط
الثاني: ان الحكم الثابت في الجزاء، المعلق على الشرط، قد يكون حكما واحدا
متعلقا بشئ واحد، كوجوب الحج المعلق على الاستطاعة، وقد يكون حكما كليا له افراد
متعلقا بأمور متعددة، أو متعلقا بواحد، وعلى الثاني قد يكون بنحو العام المجموعي، وقد
يكون بنحو العام الاستغراقي، لا اشكال في القسمين الأولين.
انما الكلام في القسم الثالث: كقوله (ع) الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ (1)، وان
مفهوم هذه القضية، هل هو الايجاب الجزئي كما عن جماعة منهم المحقق الشيخ محمد تقي
الشيرازي مدعيا بداهة ذلك: نظرا إلى أن المفهوم يكون نقيض المنطوق، وقد برهن
في محله ان نقيض السالبة الكلية، الموجبة الجزئية، فلا تدل القضية على أكثر من أن بعض

1 - الوسائل باب 9 من أبواب الماء المطلق.
253

النجاسات ينجس الماء القليل، ففي غير موارد القدر المتيقن لا سبيل إلى التمسك بهذه
الرواية، أم يكون مفهومها موجبة كلية كما ذهب إليه جماعة آخرون منهم الشيخ
الأعظم (ره) والمحقق النائيني، مدعيا الأول منهما بداهة ذلك، فتدل الرواية على تنجس
الماء القليل بالملاقاة كل ما يصلح للتنجيس، من غير فرق بين أنواع النجاسات
والمتنجسات، ومن غير فرق بين أحوال الافراد ككون النجاسة واردة أم مورودة ونحو
ذلك، فيه وجهان:
وقبل بيان أدلة الطرفين لابد من تمهيد أمور:
1 - ان هذا النزاع لا يجرى فيما إذا كان الشرط منحلا إلى شروط عديدة حسب ما
للحكم من الافراد، حيث إن ظاهر القضية حينئذ تعليق كل حكم من تلكم الاحكام
المتعددة، على فرد من افراد الشرط، كقولنا: أكرم العلماء ان كانوا عدولا، فان ظاهره تعليق
وجوب اكرام كل عالم على كونه عادلا، فإذا انتفى بعض تلك الشروط ينتفى بعض تلك الأحكام
، وإذا انتفى الشرط بالمرة ينتفى الحكم بالكلية، بل مورد الكلام ما إذا كان الشرط
واحدا كما في الرواية الكريمة.
2 - ان المفهوم تابع للمنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه، وانما التفاوت بينهما
بالسلب والايجاب، فالموضوع والمحمول فيهما واحد، والفرق بينهما ان المنطوق، قضية
موجبة أو سالبة، والمفهوم عكس ذلك أي يكون مفهوم الايجاب السلب ومفهوم
السلب الايجاب.
3 - ان الفرق بين العام المجموعي والاستغراقي، انما هو في الواقع ونفس الامر فإنه
يكون في الأول حكما واحدا ناشئا عن ملاك واحد له امتثال واحد وعصيان كذلك و
غير مربوط بالآخرين، واما في مقام الاثبات فالانشاء واحد ويبرز حكما واحدا.
إذا تمهدت هذه الأمور فاعلم أنه استدل الشيخ (ره) لما ذهب إليه: بان العموم
لوحظ مرآة وآلة لملاحظة الافراد فكأنه لم يذكر في القضية الا الاحكام الجزئية المتعلقة
بالافراد، فيكون تعليق هذا الحكم المنحل إلى احكام جزئية عديدة على الشرط منحلا إلى
254

تعليقات عديدة ولازم حصر الشرط كما هو المفروض انه في صورة انتفائه ينقلب كل نفى
إلى الاثبات.
وفيه: ان انحلال الحكم وتعدده وتعدد التعليقات انما هو بحسب مقام الثبوت
والواقع، واما في مقام الاثبات والابراز فالحكم واحد والمعلق بحسب ملاحظة التعليق في
مقام الابراز امر وحداني لا تعدد فيه، ولازم ذلك انقلاب هذا الحكم الوحداني إلى
نقيضه فتدبر.
وأفاد المحقق النائيني (ره) ان المقرر في علم الميزان، وان كان ان نقيض السالبة
الكلية الموجبة الجزئية، ونقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية، الا ان النظر في
علم الميزان مقصور على القواعد الكلية لتأسيس البراهين العقلية، ولذا لا ينظر فيه
إلى الظواهر، واما في علم الأصول فالمهم هو استنباط الحكم شرعي من دليله، فيكفي فيه
اثبات ظهور الكلام في شئ وان لم يساعده البرهان المنطقي، وعلى ذلك فلا بد وان ينظر
إلى ظاهر الدليل فان كان المعلق على الشرط في القضية الشرطية مجموع الاحكام،
فالمفهوم يكون جزئيا: إذ المنتفى بانتفاء الشرط هو ما علق عليه وهو عموم الحكم، لا
الحكم العام، وان كان هو الحكم العام أي كل واحد واحد من الاحكام، فالمفهوم يكون
كليا هذا بحسب مقام الثبوت، واما بحسب مقام الاثبات، فان كان العموم المستفاد
من التالي معنى اسميا مدلولا عليه بكلمة كل وأشباهها، أمكن ان يكون المعلق على الشرط،
هو نفس العموم والحكم العام، فلا بد في تعيين أحدهما من إقامة قرينة خارجية، وأما إذا
كان معنى حرفيا مستفادا من مثل هيئة الجمع المعرف باللام وغير قابل لان يكون
ملحوظا بنفسه، أو كان مستفادا من مثل وقوع النكرة في سياق النهى، ولم يكن هو بنفسه
مدلولا عليه باللفظ، فلا محالة يكون المعلق على الشرط، هو الحكم العام كما في الرواية
المزبورة، فيكون مفهومها نجاسة القليل بملاقاة كل واحد من النجاسات.
أقول سواء كان في مقام الاثبات العموم مستفادا من معنى اسمى، أو حرفي، لا وجه
لهذا التفصيل إذ الحكم المجعول المدلول عليه التالي انما يكون بنحو العام الاستغراقي،
والمعلق على الشرط انما هو ذلك الحكم المجعول في التالي فلا وجه للالتزام بكون
255

المعلق هو مجموع الاحكام بهذا القيد الا بالتقريب الذي نذكره وبذلك التقريب أيضا
لا فرق بين كون العموم مستفادا من معنى اسمى أو حرفي.
وحاصل ذلك التقريب ان المعلق انما هو الحكم المجعول في التالي، وهو في
مقام الثبوت وان كان منحلا إلى احكام عديدة، الا انه في مقام الاثبات حكم واحد لا
متعدد، وهو معلق على الشرط، فيكون مفهوم القضية الشرطية حينئذ نفى الحكم الثابت
على الطبيعة السارية عند عدم الشرط وهو انما يتحقق بانتفائه عن بعض الافراد، وعلى
ذلك فينطبق الظهور العرفي على القانون المنطقي، وهو ان نقيض السالبة الكلية الموجبة
الجزئية، كما أن نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية، وان شئت توضيح ذلك بالمثال
العرفي لاحظ، قولنا إذا لبست الدرع الفلاني لا يغلب على أحد فهل يتوهم أحد ان مفهومه
انه ان لم يلبس ذلك الدرع يغلب عليه كل أحد.
والى ذلك نظر المحقق اليزدي (ره) حيث استدل لكون مفهوم السالبة الكلية
الموجبة الجزئية بالتبادر، فالمتحصل مما ذكرناه ان مفهوم الرواية الكريمة تنجس الماء
القليل بملاقاة بعض النجاسات.
ثم إن المحقق النائيني (ره) أفاد انه لا يترتب ثمرة على النزاع المزبور في مورد
الرواية، إذ لو كان مفهومها تنجس الماء القليل بنجاسة ما، ثبت تنجسه بكل نجس، إذ لا
قائل بالفصل بينها، واما المتنجس فحيث ان المراد بالشئ المذكور في الرواية الشئ الذي
يكون في نفسه موجبا لتنجس ملاقيه فان ثبت من الخارج تنجيس المتنجس، كفى ذلك
في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته، من دون احتياج في ذلك إلى التمسك بمفهوم
الرواية.
ويرد عليه ان ثبوت تنجيس المتنجس من الخارج، يوجب دخوله في المنطوق
وهو عدم تنجس الكر بملاقاته، واما ثبوت تنجس الماء القليل بملاقاته، فهو يتوقف على أحد
أمرين. اما القول بان مفهوم السالبة الكلية، الموجبة الكلية، أو ورود دليل خاص دال عليه،
256

والا بان لم يرد دليل خاص، وبنينا على أن مفهوم السالبة الكلية الموجبة الجزئية، فحيث
انه لم يثبت عدم الفصل بينه، وبين النجاسات، بل أفتى المحقق الخراساني (ره) بأنه لا
يتنجس الماء القليل بملاقاة المتنجس، مع بنائه على تنجسه بملاقاة النجس، فلا محالة
لا يثبت تنجس القليل به.
حكم تعدد الشرط واتحاد الجزاء
الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، كما في المثال المعروف، إذا خفى الاذان
فقصر. وإذا خفى الجدران فقصر، بناءا على وجود الخبر بالنحو الثاني وعلى ان الشرط
هو خفاء الاذان، والجدران بما هما. لا ان الشرط هو البعد الخاص ولو حظ العنوانين
معرفين له (وقد أشبعنا الكلام في الموردين في الجزء الخامس من فقه الصادق) فعلى
القول بثبوت المفهوم للقضية الشرطية. وكون النسبة بين الشرطين هو العموم من وجه (
وان أنكره المحقق النائيني (ره) وادعى تارة بان خفاء الاذان دائما يحصل قبل خفاء
الجدران، وأخرى تطابقهما) لا محالة تقع المعارضة بين اطلاق مفهوم كل منهما و
منطوق الأخرى، فلا بد من علاج هذه المعارضة وقد ذكر لذلك طرق.
الأول: ان يلتزم بعدم دلالتهما على المفهوم، فلا دلالة لهما على عدم سببية شئ
ثالث لوجوب القصر، وقد اختار هذا الوجه المحقق الخراساني.
الثاني: ان يلتزم بكون الشرط أحدهما تخييرا الذي نتيجة العطف بكلمة (أو) برفع
اليد عن كون كل من الشرطين سببا منحصرا مع بقائه على كونه سببا تاما، - وبعبارة
أخرى - بتقييد كل من الشرطين باثبات العدل له، ونتيجة ذلك ترتب وجوب القصر على
خفاء أحدهما وان لم يخف الاخر.
الثالث: ان يلتزم بان الشرط هو مجموع الامرين الذي هو نتيجة العطف بكلمة
(واو) برفع اليد عن كون كل شرط سببا تاما، وجعله جزء السبب، ويقيد اطلاق كل من
الشرطين بانضمامه إلى الشرط الاخر فإذا خفيا وجب القصر، والا فلا، وان خفى
257

أحدهما الرابع: ان يلتزم بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الاخر، من دون تصرف في شئ
من المنطوقين.
الخامس: ان يجعل الشرط، هو القدر المشترك بينهما بان يكون تعدد الشرط قرينة
على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من
العنوان قال صاحب الكفاية (ره) ان العقل يعين هذا الوجه.
السادس: رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين، وبقاء الاخر على
مفهومه، نسب ذلك إلى الحلي، وفى الكفاية انه لا وجه له الا ان يكون ما أبقى على
المفهوم أظهر، هذه هي تمام الوجوه المتصورة في هذه الموارد.
اما الوجه الأول: فقد استدل له: بان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية تابع لثبوت
الخصوصية المستتبعة له كما تقدم، وحيث إن المفهوم بنفسه ليس مدلولا للكلام حتى
يتصرف فيه، بل لابد من التصرف في المنطوق، بدلالته على الخصوصية وهي الحصر، فلا
محالة يقع التعارض، بين دلالة كل منطوق على الثبوت عند الثبوت، مع دلالة الاخر
على الحصر، وبما ان دلالة المنطوقين على الثبوت عند الثبوت، أقوى من دلالتهما على
تلك الخصوصية فتنتفى دلالتهما عليها فلا يثبت المفهوم لهما، لا يقال: انه يرفع اليد عن
دلالتهما على تلك الخصوصية في بعض مدلوله لا في جميعه، فإنه يقال: ان تلك
الخصوصية بسيطة، فاما ان تؤخذ في المنطوق أو لا، فالتبعيض باخذها في الجملة مما
لا يعقل.
وفيه: ان التقييد ان كان مستلزما للتصرف في الاستعمال كان هذا الوجه متعينا،
ولكن بما انه لا يلزم التصرف فيه، بل يوجب التصرف في الإرادة الجدية مثلا لو قال أكرم
العلماء ثم قال لا تكرم زيدا، يكون المستعمل فيه هو الجميع لا العلماء غير زيد، والخاص
يوجب التصرف في الإرادة الجدية، وبسببه يحكم بعدم إرادة تمام مدلول العام بالإرادة
الجدية، وفى المقام كل من المنطوقين استعمل فيما وضع له، ويدل على الثبوت عند
الثبوت مع الحصر، الا انه لا بد من التصرف في مدلوله الثاني، والالتزام بعدم كونه بتمامه
258

مرادا جديا، والتبعيض في ذلك المقام بالالتزام بإرادة الحصر، بالنسبة إلى غير هذا الفرد
مما لا محذور فيه فتدبر فإنه دقيق
واما الوجه الرابع: فهو بظاهره غير معقول الا ان يرجع إلى الوجه الثاني إذا المفهوم
من المداليل الالتزامية، والدلالة عليها دلالة عقلية، والتصرف فيه بتقييد أو تخصيص، من
دون التصرف في المنطوق، غير معقول: لان الحكم العقلي لا يقبل ذلك، لان مرده إلى
انفكاك اللازم عن الملزوم والمعلول عن علته وهو مستحيل.
واما الوجه الخامس: فقد استدل له المحقق الخراساني بان الأمور المتعددة بما هي
مختلفة لا يمكن ان يكون كل منها مؤثرا في واحد، فإنه لابد من الربط الخاص بين العلة
والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطا بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك
أيضا لا يصدر من الواحد الا الواحد، فلابد من المصير إلى أن الشرط في الحقيقة واحد و
هو القدر المشترك بين الشرطين.
وفيه: ما تقدم من أنه ليس في باب الأحكام الشرعية تأثير وتأثر وعلية حتى يجرى
ذلك، مع أنه لو التزمنا بالوجه الثالث، وهو كون المجموع شرطا لا مجال لهذا الوجه.
اما الوجه السادس: فاورد عليه المحقق الخراساني بان رفع اليد عن المفهوم في
خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه لا يصار إليه الا بدليل آخر، الا ان يكون
ما أبقى على المفهوم أظهر.
وفيه: انه بذلك لا يرتفع التعارض وان دل عليه الدليل: لان التنافي انما يكون بين
منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر، إذ مفهوم كل منهما انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط
المأخوذ فيه، وهذا ينافي ثبوته عند ثبوت الشرط الاخر، وعلى ذلك فلو رفع اليد عن
المفهوم في أحدهما بقى التنافي بين مفهوم الاخر، ومنطوق هذا.
فيدور الامر بين الوجه الثاني وهو تقييد اطلاق كل من الشرطين باثبات العدل له،
وبين الوجه الثالث، وهو تقييد اطلاق كل منهما بانضمامه إلى الشرط الاخر، - وبعبارة
أخرى - يدور الامر بين تقييد الاطلاق المقابل للعطف بكلمة أو - وبين تقييد الاطلاق
المقابل للعطف بكلمة واو -
259

وللمحقق النائيني (ره) في المقام كلام، بعد الاعتراف بدوران الامر بين الامرين
والتصرف في أحد الاطلاقين، وحاصله، انه حيث لا مرجع لأحدهما على الاخر، ولا
يمكن الاخذ بكليهما للعلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما، فيسقطان معا وحيث انه يعلم
بوجوب القصر في المثال عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير، واما في فرض
انفراد كل من الشرطين بالوجود، فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكا فيه، ولا أصل لفظي
في المقام على الفرض، لسقوط الاطلاقين بالتعارض، فتصل النوبة إلى الأصل العملي، و
هو يقتضى عدم وجوب القصر عند تحقق أحد الشرطين لاستصحاب بقاء وجوب التمام
الثابت في حال خفائهما المشكوك تبدله إلى وجوب القصر عند خفاء أحدهما، و
يوافقه أصل البراءة، فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل للعطف بواو.
ويرد عليه، مضافا إلى ما سنبينه في وجه المختار من أنه لاحد الاطلاق مرجح
على الاخر، انه لو سلم ذلك يقع التعارض بين الاستصحاب المشار إليه، واستصحاب بقاء
وجوب القصر في نفس ذلك المحل، لو عاد إلى منزله من السفر حيث إن الثابت هناك
وجوب القصر فيستصحب ذلك، كما أن أصالة البراءة عن وجوب القصر تعارضها أصالة
البراءة عن وجوب التمام بعد العلم بوجوب أحدهما.
مع أنه لو سلم تمامية الأصل المشار إليه وعدم المعارض له، لا تصل النوبة إليه
لعموم ما دل على وجوب القصر على المسافر بناءا على ما هو الظاهر من صدق المسافر
على من خرج من منزله قاصدا السفر إلى المسافة، وقد خصص ذلك، بما دل على أنه لا
يقصر ما لم يصل إلى حد الترخص، وحيث انه مجمل مفهوما، والقدر المتيقن منه ما لو لم
يخف الاذان ولا الجدران، وفى مورد الشك وهو ما لو خفى أحدهما لابد من الرجوع
إلى ما دل على وجوب القصر فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل للعطف بأو.
وحق القول في المقام انه يتعين تقييد الاطلاق المقابل ب‍ (أو) وابقاء
الاطلاق المقابل للعطف بواو وتكون النتيجة كفاية أحدهما في وجوب القصر، وهو
يبتنى على مقدمة.
وهي ان الميزان الكلى الذي يعمل به في موارد المعارضة هو انه إذا كان
260

للمتعارضين ظهورات عديدة لا بد من ملاحظة ان أيا منها طرف للمعارضة ثم العلاج برفع
اليد عنه أو عن طرفه، واما رفع اليد عن الظهور الآخر الذي ليس طرف المعارضة فمما
لا وجه له، وان ارتفعت المعارضة به مثلا، إذا ورد أكرم العلماء، ثم ورد لا يجب اكرام
زيد العالم فحيث ان طرف المعارضة هو ظهور الأول في العموم، فالمتعين هو رفع اليد
عنه خاصة، وان كان ترتفع المعارضة برفع اليد عن ظهوره في الوجوب وحمله على إرادة
الاستحباب.
إذا عرفت هذه المقدمة، فاعلم أنه في المقام بما ان التعارض انما يكون بين مفهوم
كل من القضيتين وبين منطوق الأخرى، وكل من المنطوقين أخص من مفهوم الأخرى،
فيتعين تقييد اطلاقه ولكن، حيث إنه لا يعقل التصرف في المفهوم نفسه لما تقدم، فلا بد
من رفع اليد عن ملزوم المفهوم بمقدار يرتفع به التعارض إذ الضرورات تتقدر بقدرها، و
هو انما يكون بتقييد اطلاق المنطوق المقابل للتقييد بكلمة أو، وما رفع اليد عن اطلاق
المنطوق المقابل للعطف بكلمة واو، وهو وان كان يرتفع به التعارض، الا انه لا موجب
لهذا التصرف.
وان شئت قلت إن التعارض انما يكون بين دلالة كل من القضيتين على الثبوت عند
الثبوت، مع اطلاق دلالة الأخرى على الحصر بالنسبة إلى جميع الأمور، فلا بد من تقييد
اطلاق دلالة كل منهما على الحصر، بدلالة الأخرى على الثبوت عند الثبوت، فتكون
النتيجة، ان الشرط هو أحد أمرين، وهذا معنى تقييد الاطلاق المقابل للعطف بكلمة أو،
والتعارض وان كان يرتفع بجعل المجموع شرطا واحدا وتقييد الاطلاق المقابل للعطف
بواو الا انه لعدم كونه طرف المعارضة لا وجه لرفع التعارض به.
تداخل الأسباب
الامر الرابع: إذا تعدد الشرط اتحد الجزاء، وثبت بالدليل من الخارج، أو من
نفس القضيتين أو القضايا ان كل شرط سبب مستقل للجزاء وترتبه عليه، فهل القاعدة
261

تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها اثرا واحدا، مثلا، إذا اجتمع أسباب للغسل في شخص
واحد كالجنابة ومس الميت والحيض وما شاكل، فهل القاعدة تقتضي تعدد الجزاء، أو لا
تستدعى الا اثرا واحدا، ويعبر عن ذلك بتداخل الأسباب.
وعلى تقدير اقتضائها التعدد، فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء، بان يكتفى
بغسل واحد في مقام الامتثال، أو عدم التداخل فلا يكتفى به في هذا المقام بل لا بد من
الاتيان به متعددا حسب تعدد الشرط، وهو المراد بالعنوان المعروف بمسألة تداخل
المسببات.
فالكلام يقع في مقامين: الأول: في تداخل الأسباب. الثاني: في تداخل المسببات،
وقبل الشروع في البحث في المقامين ينبغي تقديم أمور:
الأول: ان محل الكلام في المقام ما لم يعلم من الخارج، التداخل، أو عدمه، والا
فهو خارج عن محل الكلام كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل، اما الأول فلان
الظاهر من رواياته من جهة التعبير عن الموجبات له بالنواقض مثل لا ينقض الوضوء الا ما
خرج من طرفيك (1)، واما شاكل ذلك، وبديهي ان النقض غير قابل للتكثر والتعدد، هو ان
أسبابه إذا تعددت فان اقترنت اثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد
جزء السبب، وان ترتبت اثر المتقدم خاصة، واما الغسل، فلانه دلت الروايات (2) الكثيرة
على أنه إذا اجتمعت حقوق متعددة يجزى غسل واحد عن الجميع فبمقتضى الاخبار
يحكم في الوضوء بتداخل الأسباب، وفى الغسل بتداخل المسببات. نعم، في الغسل حكم
الافراد من سبب واحد كما لو أجنب مرات حكم تعدد أسباب الوضوء.
الثاني: ان محل الكلام انما هو الاحكام القابلة للتعدد، واما ما لا يكون قابلا له
كالقتل فسيأتي الكلام فيه فيما بعد.
الثالث: في تأسيس الأصل في المسألة، أقول ان الشك، تارة يكون في تداخل
الأسباب، وأخرى في تداخل المسببات، اما الشك من الناحية الأولى، وانه لو اجتمع

1 - الوسائل باب 2 من أبواب نواقض الوضوء.
2 - الوسائل باب 43 من أبواب الجنابة.
262

السببان أو الفردان من سبب واحد، هل هما معا سبب واحد، أو كل منهما سبب لحكم
غير ما يكون الاخر سببا له، فالأصل يقتضى التداخل، إذ الحكم الواحد متيقن الثبوت،
والشك انما يكون في ثبوت حكم آخر فيرجع فيه إلى البراءة، واما الشك من الناحية
الثانية، بعد احراز عدم التداخل من الناحية الأولى، فحيث ان الشك يكون في الامتثال لا
في التكليف فيكون المرجع قاعدة الاشتغال فتكون النتيجة عدم التداخل.
ثم انه لا فرق فيما ذكرناه في الموردين بين الحكم التكليفي والوضعي: إذ الشك
في حدوث حكم زايدا على المقدار المتيقن ثبوته مورد لأصالة العدم، كما أن الشك في
سقوطه بعد احراز الثبوت مورد لأصالة بقاء الحكم وعدم سقوطه.
فما افاده المحقق النائيني (ره) من أنه لا ضابطة كلية لجريان الأصل في موارد
الأحكام الوضعية فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع فيه إلى ما يقتضيه
الأصل، لا يمكن المساعدة عليه.
الرابع: ان المنسوب إلى فخر المحققين (ره) ان القول بالتداخل وعدمه يبتنيان
على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات، فعلى الأول لابد من البناء على التداخل
إذ يمكن ان تكون أمور متعددة حاكية عن امر واحد، ومع احتمال وحدة السبب
الحقيقي لا مجال للبناء على تعدد المسبب، وعلى الثاني لا بد من القول بعدم التداخل إذ
مقتضى سببية كل من الأمور المتعددة ان يكون له مسبب مستقل: إذ لو كان هناك مسبب
واحد لزم اجتماع العلل المتعددة على معلول واحد.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بايرادين:
الأول: انه حيث يمكن ان يكون الأسباب الشرعية على القول بكونها معرفات،
حاكيات عن أسباب حقيقية متعددة وظاهر القضايا الشرطية تعدد المسبب بتعدد السبب،
فلا محالة تدل الشرطية على تعدد السبب الحقيقي.
وفيه: انه يتم لو كان المراد من المعرفات الكواشف عن حدوث السبب واما لو
كان المراد منها الكواشف عن ثبوت السبب أو عن ثبوت الحكم، فلا يتم: إذ مرجع ذلك
حينئذ إلى انكار دلالة الشرطية على الحدوث عند الحدوث وانها تدل على مجرد الثبوت.
263

الثاني: ان الأسباب الشرعية على نوعين: معرفات، ومؤثرات. لا انها على نوع
واحد، فتكون كساير الأسباب فالمبنى فاسد.
وفيه: انها ليست معرفات، ولا مؤثرات: فان المؤثر في الحكم هو إرادة الجاعل.
والحق ان يورد على الفخر، بأنه ان أريد بكون العلل الشرعية غير مؤثرات انها
لا تكون دخيلة في الحكم كدخل العلة في المعلول، فهو وان كان متينا جدا لما عرفت
مرارا من أن الأحكام الشرعية مجعولات اختيارية للشارع، والمؤثر فيها إرادة الشارع
فحسب، نعم، حيث إن اللغو لا يصدر من الشارع الحكيم فلا محالة تكون هناك
ملاكات، وهي أمور واقعية ولكنها بالنسبة إلى المؤثر في الحكم، من قبيل الدواعي كبقية
الدواعي للفعل الاختياري، وعلى أي حال لا تكون العلل مؤثرات، الا انه لا يلازم ذلك
كونها معرفات لجواز كونها موضوعات للأحكام الشرعية، فإذا كانت كذلك فحيث
ان الشارع جعل تلك الأحكام على موضوعاتها على نحو القضية الحقيقية فلا محالة
يتوقف فعلية تلك الأحكام على فعلية موضوعاتها، ولا تنفك ابدا عنها، ولذلك قيل إنها
تشبه العلة التامة من هذه الناحية.
وان أريد بذلك كونها معرفات للموضوعات الواقعية، ولا مانع من تعدد المعرف
لموضوع واحد واجتماعه عليه، مثلا عنوان الافطار في نهار شهر رمضان المأخوذ
موضوعا لوجوب الكفارة، لا يكون بنفسه موضوعا، بل هو معرف لما هو الموضوع له
واقعا، فهو وان كان ممكنا، الا انه خلاف ظواهر الأدلة، إذ الظاهر من كل عنوان دخيل
في الحكم كونه موضوعا له بنفسه لا بما انه معرف لعنوان آخر، فلا يصح الحمل على
كونه معرفا بلا قرينة.
وان أريد بذلك كونها معرفات لملاكاتها الواقعية، فيرده انها ليست بكاشفة عنها
بوجه إذ الكاشف عنها اجمالا هو نفس الحكم الشرعي، واما الشرط فلا يكون كاشفا عنها
هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الاحكام وشرائطها، واما لو أريد بها
ملاكاتها الواقعية، فالامر أوضح إذ لا معنى لدعوى كونها معرفات.
الخامس: ان محل الكلام في التداخل وعدمه، هو ما إذا كان الشرط قابلا للتعدد،
264

وأما إذا لم يكن قابلا له كما في الافطار في نهار شهر رمضان المأخوذ سببا لوجوب
الكفارة فإنه إذا اكل أو شرب مرة واحدة، فقد صدق عليه الافطار ولو اكل بعده لا يكون
الاكل الثاني مفطرا، ولا يصدق عليه هذا العنوان، ولذا لو اكل أو شرب في نهار شهر
رمضان مرات لا يجب عليه الا كفارة واحدة ولا ربط له بالتداخل.
وما عن الفقيه صاحب العروة (ره) من أن عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب
، وانما اخذ عنوان الافطار معرفا لما هو الموضوع له، ثم قال وتدل عليه الروايات
أيضا.
غير سديد: إذ ظاهر كل عنوان مأخوذ في الدليل كونه بنفسه موضوعا لا كناية عما
هو الموضوع له فحمله عليه لا بد فيه من قيام قرينة عليه، وما ذكره من دلالة الروايات عليه
لم نعثر على واحدة منها، نعم، يمكن ان يكون نظره الشريف إلى خصوص ما ورد
في الجماع والاستمناء. لكنه لا وجه للتعدي عن مورد النصوص والالتزام بالتفصيل بينهما
وبين ساير المفطرات لا محذور فيه.
وبعد ذلك نقول، اما الكلام في المقام الأول وهو التداخل في الأسباب ففيه أقوال:
1 - عدم التداخل وهو المشهور بين الأصحاب.
2 - التداخل اختاره جماعة منهم المحقق الخونساري، والمحقق صاحب العروة
في ملحقات العروة.
3 - التفصيل بين ما إذا كان الشرطين من نوع واحد كما إذا تعدد الوطء بالشبهة،
فالثاني، وبين ما إذا كانا من نوعين فالأول، نسب ذلك إلى الحلي (ره)
واما الاحتمالات فهي أربعة:
الأول: ان يلتزم بحدوث الأثر عند وجود كل شرط. الا انه هو الحكم عند الشرط
الأول، وتأكده عند تحقق الشرط الثاني، مثلا، إذا ورد، إذا بلت فتوضأ، ثم ورد، إذا نمت
فتوضأ، فبال المكلف ثم نام، يكون المتحقق عند البول وجوب الوضوء، وعند النوم
تأكد ذلك الوجوب، فتكون النتيجة مع التداخل، وان لم يكن ذلك تداخلا اصطلاحيا.
الثاني: تقييد اطلاق المادة في كل من القضيتين بفرد غير الفرد الذي أريد
265

من المادة الواقعة في حيز الخطاب الآخر، فتكون النتيجة عدم التداخل.
الثالث: الالتزام بعدم دلالة شئ منهما على الحدوث عند الحدوث بل على مجرد
الثبوت فتكون النتيجة التداخل المصطلح.
الرابع: الالتزام بان متعلق الجزاء وان كان واحدا صورة الا انها حقائق مختلفة
متصادقة على واحد، فتكون النتيجة عدم التداخل من حيث الأسباب، والتداخل من
حيث المسببات.
وقد يقال كما في الكفاية انه لما كان ظاهر الجملة الشرطية، حدوث الجزاء عند
حدوث الشرط، وكان مقتضى ذلك تعدد الجزاء بتعدد الشرط، كان الاخذ بظاهر القضية
إذا تعدد الشرط حقيقية أو وجودا محالا، فإنه يلزم منه كون حقيقة واحدة مثل الوضوء
محكوما بحكمين متماثلين، وهو واضح الاستحالة، فلا بد للقائل بالتداخل من الالتزام
بأحد أمور، اما بعدم دلالة الجملة الشرطية في صورة التعدد على الحدوث عند الحدوث
بل على مجرد الثبوت، أو بكون متعلق الجزاء وان كان واحدا صورة الا انه حقائق
متعددة حسب تعدد الشرط متصادقة على واحد، أو بتأثير الشرط الأول في الوجوب
والثاني في تأكد الوجوب، وكل ذلك خلاف الظاهر.
واما القول بعدم التداخل فلا يلزم منه التصرف في ظهور: لان ظهور الجملتين في
عدم تعدد الفرد ووحدة المتعلق انما يكون بالاطلاق، وهو يتوقف على عدم البيان، و
ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سببا أو كاشفا عن السبب المقتضى لتعدد الفرد في
فرض تعدد الجملة، يصلح بيانا لما هو المراد من الاطلاق، ومعه لا ينعقد ذلك الاطلاق
فلا يلزم على ذلك تصرف في ظهور أصلا.
وفيه أولا: ان ذلك لو تم فإنما هو بالنسبة إلى ظهور الحكم في الجزاء في التأسيس،
ولا يكفي ظهور الجملة الشرطية في الحدوث عند الحدوث وحده لذلك فإنه يلائم
مع الالتزام بالتأكد كما عرفت، وعليه، فاثبات ذلك يتوقف على اثبات ان ظهور الحكم
في التأسيس، كظهور الجملة الشرطية في الحدوث عند الحدوث بالوضع، لا بالاطلاق،
والا فيقع التعارض بين الاطلاقين فيتساقطان معا، ولازم ذلك هو البناء على أن الامر بشئ
266

بعد الامر به قبل امتثاله مقتضيا للاتيان بفردين عملا بظهور الهيئة في التأسيس، مع أنه
(قده) اختار هناك أي في تلك المسألة التأكيد.
وثانيا: لو سلمنا كونه بالوضع لكان ذلك موجبا لتقييد الاطلاق لا عدم انعقاده
فتدبر.
وللمحقق النائيني (ره) في المقام كلام، قال الأستاذ انه في غاية المتانة فإنه (ره)
اختار القول بعدم التداخل مطلقا ومحصل ما افاده يتضح ببيان أمرين:
أحدهما: انه إذا تعدد الشرط جنسا، يكون استفادة تعدد الحكم من ظهور كل من
القضيتين في أنه كل من الشرطين، يكون مستقلا في سببيته للجزاء، وانه يترتب عليه
الجزاء مطلقا سبقه الاخر أو قارنه، أم لا؟ وإذا تعدد الشرط من جنس واحد، فاستفادة
تعدده انما تكون من جهة ما حققناه في محله، من أن كل قضية شرطية ترجع إلى القضية
الحقيقية، وعليه فكما ان الحكم في القضية الحقيقية ينحل إلى احكام عديدة حسب
تعدد افراد الموضوع كذلك ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه: إذ أدوات
الشرط وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير واثبات التالي على هذا الفرض،
فلا يكون بين القضية الحقيقية، والشرطية، فرق فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجودا.
الثاني: ان تعلق الطلب بشئ لا يقتضى كون المتعلق صرف الوجود، وأول
الوجودات، بل إن ذلك انما يكون من جهة حكم العقل بالاكتفاء بوجود واحد عند تعلق
طلب واحد بالطبيعة، فإذا فرض ظهور الجملتين الشرطيتين في تعدد الطلب، يكون ذلك
رافعا لحكم العقل بالاكتفاء بوجود واحد لارتفاع موضوعه، وهو الطلب الواحد، و
بالجملة ان كل امر في نفسه لا يدل الا على الطلب المقتضى لايجاد متعلقه، واما كون
هذا الطلب واحدا أو متعددا فليس في الامر بهيئته ومادته دلالة عليه، نعم، إذا لم يكن
هناك ما يقتضى تعدد الطلب وقد فرض تعلق الامر بالطبيعة كان الطلب واحدا قهرا، الا
انه من جهة عدم المقتضى لتعدد، لا من جهة دلالة اللفظ عليه فإذا فرض ظهور القضية
الشرطية في تعدد الطلب، كان لازم ذلك ارتفاع موضوع الحكم بوحدة الطلب أي عدم
المقتضى للتعدد، ويكون ظهور القضية في التعدد واردا عليه، وعلى فرض التنزل وتسليم
267

ظهور الجزاء في وحدة الطلب انما يكون ذلك من جهة عدم ما يدل على التعدد، فإذا
دلت الجملة الشرطية بظهورها في الانحلال، أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد
الطلب كان هذا الظهور لكونه لفظيا مقدما على ظهور الجزاء في وحدة الطلب الناشئ عن
عدم ما يدل على التعدد الذي هو من الظهورات السياقية.
فالنتيجة على ضوء هذين الامرين انه لا موضوع للتعارض بين ظهور القضية
في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور الجزاء في وحدة التكليف، حيث
لا ظهور للجزاء في ذلك في فرض تعدد الشرط، بل عرفت ان تعدد البعث يستدعى تعدد
الانبعاث فيكونان تكليفين متعلقين بطبيعة واحدة كل منهما يستدعى ايجاد فرد منها فلا
موجب للحمل على التأكيد فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل.
أقول: يرد على ما افاده في الامر الثاني أو لا. ان الطبيعة المتعلقة للطلب لا بد وان
تلاحظ على نهج الوحدة أو التعدد لعدم تعقل تعلق الحكم بالمهمل. وعليه فالاكتفاء
بالواحد انما يكون بمقتضى الاطلاق.
واما ما ذكره على فرض التنزل من حكومة ظهور الجملة الشرطية في تعدد الطلب
على ظهور الجزاء في وحدته الناشئ عن عدم ما يوجب التعدد: فغاية ما يمكن توجيهه ان
يقال ان ظهور الجزاء في الوحدة انما يكون بالاطلاق المتوقف على عدم البيان وظهور
الجملة الشرطية في التعدد يصلح للبيانية، أو يقال ان ظهور الجزاء في الوحدة انما يكون
ظهورا سياقيا من باب ان عدم الدليل على التعدد دليل العدم وظهور الجملة الشرطية
في التعدد رافع لمنشأ الظهور، أو يقال ان ظهور الجملة الشرطية في التعدد انما هو بالوضع
وظهور الجزاء في الوحدة بالاطلاق فيقدم الأول.
الا ان شيئا من التوجيهات لا يتم ما لم ينضم إليه ظهور الحكم في الجزاء
في التأسيس، وانه كظهور الجملة الشرطية في التعدد انما يكون بالوضع، والا فمع انكاره
كما سيمر عليك عند بيان المختار فلا يتم كما مر عند بيان ما يرد على المحقق
الخراساني (ره).
والحق هو القول بالتداخل مطلقا. غاية الامر، ان الشرطين ان كانا من نوع واحد
268

فالتداخل المدعى هو المصطلح منه، وان كانا من نوعين فهو بمعنى الالتزام بحكم واحد
أكيد فلنا دعويان.
اما الأولى: فالوجه فيه ما افاده السيد في ملحقات عروته: بان الموجب حينئذ
جنس الشرط الصادق على الواحد والمتعدد فبحصول الجزاء دفعة واحدة يصدق
حصول مقتضى كل منهما ويكون من باب التداخل في السبب نظير الجنايات المتعددة.
وقد أورد على ذلك بايرادين:
أحدهما: للمحقق الخراساني (ره) وحاصله ان مقتضى اطلاق الشرط في مثل، إذا
بلت فتوضأ، هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات.
وفيه: ان غاية ما يقتضيه الاطلاق هو عدم خصوصية لفرد دون آخر، واما
ان المأخوذ شرطا، هل هي الطبيعة السارية، أم هو صرف الوجود، والوجود السعي،
للطبيعة، فهو لا يدل عليه، بل يمكن ان يقال ان الاطلاق، هو رفض القيود، انما يقتضى
كون الشرط، والسبب هو صرف وجود الطبيعة، إذ ملاحظتها بنحو الطبيعة السارية تحتاج
إلى عناية زايدة.
وان شئت فقل انه كما يدعى ان الاطلاق يقتضى كون المطلوب صرف الوجود في
متعلقات التكاليف، كذلك يقتضى كون السبب والشرط هو صرف الوجود، أي الوجود
السعي للطبيعة.
الايراد الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) في وجه استفادة كون كل فرد سببا
مستقلا من أن القضية الشرطية ترجع إلى القضية الحقيقية، فينحل الحكم فيها إلى احكام
عديدة حسب تعدد افراد الشرط.
ويرد عليه ان ذلك يتوقف على اثبات كون السبب مأخوذا بنحو الطبيعة السارية
كما هو الشأن في المحرمات على ما حققناه في أول مبحث النواهي، والا فلا يتم.
واما الثانية: وهو انه إذا كان الشرطان من نوعين، كما لو اكل في نهار شهر رمضان
وجامع أهله، فلانه لو التزمنا به لا يوجب التصرف في شئ من الظهورات. أي ظهور
القضية في الحدوث عند الحدوث، وظهورها في أن المتعلق حقيقة واحدة لا حقائق
269

متعددة، واطلاق المادة.
ودعوى: انه يستلزم التصرف في ظهور الحكم في كونه تأسيسيا.
مندفعة، أولا: بما مر في مبحث تعلق الامر بشئ بعد الامر به، من أنه بناءا على ما
هو الحق من أن الامر كساير الانشائيات ليس ايجادا للطلب، - وبعبارة أخرى - ليس
ايجاديا بل حقيقته ابراز الاعتبار النفساني، أو ابراز شوق الامر بالفعل المتعلق له، وعلى
هذا فليس هناك ظهور في التأسيس.
وثانيا: انه لو سلم كونه ايجاديا. فبما ان تأكد الطلب ليس شيئا غير الطلب بل هو من
سنخه كما في كل مقول بالتشكيك، فالحمل على التأكيد لا يستلزم كون شئ من القضيتين
في غير مقام انشاء الطلب وجعل الحكم. نعم، ان الحكم المجعول في كل منهما ان
حدث في محل فارغ عن مثله يكون مستقلا وان حدث في محل مشغول بمثله فهو
تأكيد.
واما المحتملات الاخر فكل واحد منها يتوقف على رفع اليد عن ظهور
من الظهورات.
اما المحتمل الثاني فلانه يتوقف على تقييد اطلاق المادة في كل من القضيتين.
واما الثالث: فلانه يتوقف على رفع اليد عن ظهور القضيتين في الانشاء، والالتزام
بكون كل منهما في مقام الاخبار والا لم يتم ذلك كما لا يخفى.
واما الرابع: فلانه يستلزم التصرف في المادة بإرادة حقيقة خاصة منطبقة عليها
لا هي بأنفسها، وعلى ذلك فيتعين الالتزام بما ذكرناه.
وقد استدل الحلي لما اختاره على ما عن التقريرات من التفصيل بالتعدد عند
اختلاف الأجناس وعدمه عند الاتحاد، بدعوى الصدق على الثاني: وباطلاق السببية
على الأول. وحاصله انه عند تعدد الشرط من نوع واحد، لا بد من البناء على التداخل
لان الشرط حينئذ اسم جنس صادق على الواحد والمتعدد، واما لو تعدد النوع فلا وجه
لتداخل الأجناس فلا مناص من التعدد.
وبما ذكرناه ظهر تمامية ما افاده في الشرطين من نوع واحد وعدمها في النوعين
270

هذا كله فيما إذا كان متعلق الحكم في الجزاء قابلا للتعدد.
واما فيما لا يكون قابلا لذلك فهو على قسمين: أحدهما: ما يقبل التقييد بالسبب
كالخيار، حيث إنه قابل للتقييد بالمجلس والحيوان وما شاكل، ومعنى تقييده بالسبب، هو
ان يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه أو يصالح عليه ويبقى له الخيار المستند
إلى الحيوان على القول بعدم التداخل، وكذا في القتل لأجل حقوق الناس، فلو قتل زيد
شخصين، فقتله وان لم يقبل التعدد الا انه قابل للتقييد بالسبب، فلو أسقط ورثة
أحد المقتولين حق القود، لم يسقط حق ورثة الاخر.
ثانيهما: ما لا يكون قابلا للتقييد كوجوب القتل الناشئ عن غير حق الناس،
كالارتداد ونحوه، فان حكم الله تعالى لا يمكن العفو عنه.
لا اشكال في خروج الثاني عن محل الكلام. ودخول الأول فيه.
ويترتب على النزاع في التداخل وعدمه فيه اثر، وهو انه على فرض القول
بعدم التداخل لذي الخيار مثلا اسقاط الخيار المستند إلى أحد السببين دون الاخر
أو المصالحة عليه، فيسقط ويبقى الاخر، وعلى فرض التداخل ليس له ذلك.
تداخل المسببات
واما المقام الثاني: وهو تداخل المسببات، فملخص القول فيه انه بناءا على القول
بالتداخل في الأسباب لا مورد لهذا البحث، واما بناءا على القول بعدم التداخل، والالتزام
بتعدد المأمور به، أو انه على القول بالتداخل لو دل دليل خاص على عدم التداخل في
مورد، فهل القاعدة الأولية تقتضي التداخل في المسببات فيكتفى باتيان فرد واحد
عن الوجودات المتعددة للمأمور به، كما ورد النص في خصوص الأغسال المتعددة، وانه
يجتزى بغسل واحد عن الجميع، أم تقتضي عدم التداخل، وجهان، أظهر هما الثاني.
إذ سقوط التكليفين المتعلقين بفردين من الطبيعة باتيان فرد واحد مما لاوجه له،
الا ان يدل عليه دليل خاص.
271

وربما ينعقد هذا البحث في مورد آخر، وهو ما إذا كان هناك تكليفان متعلقان
بشيئين، وكانت النسبة بينهما عموما من وجه، وتنقيح القول فيه، انه تارة تكون النسبة
المفروضة بين الموضوعين، مثل أكرم العلماء وأكرم الهاشميين، وأخرى تكون
بين المتعلقين، مثل أكرم العلماء، وأضف العلماء وعلى كل تقدير، تارة يكون الحكمان
مجعولين: بنحو العام البدلي، وأخرى يكونان بنحو العام الشمولي.
فان كانت النسبة بين الموضوعين عموما من وجه وكانا شموليين، يكون ذلك من
صغريات الكبرى الكلية المبحوث عنها في المقام، إذ في المجمع أي العالم الهاشمي
في المثال يأتي النزاعان، وعلى المختار من أن القاعدة تقتضي القول بالتداخل
في الأسباب، نلتزم في المثال بان المأمور به فرد من الاكرام، وعلى القول بعدم التداخل
يكون المأمور به فردان من الاكرام، وعليه فلا وجه للالتزام بالاجتزاء باكرام واحد.
وان كانت النسبة بين المتعلقين عموما من وجه وكانا شموليين. لا يعقل القول
بعدم التداخل إذ لا يعقل التعدد فيه.
وان كانت النسبة بين المتعلقين. أو الموضوعين عموما من وجه وكانا عامين
بدليين. فلا كلام في التداخل.
انما الكلام في أنه، هل يكون في المجمع حكم مؤكد، أم يكون الاكتفاء بفرد
واحد من جهة انطباق متعلق كل منهما على الماتى به، فقد اختار المحقق الخراساني
الأول، ولكن الأظهر هو الثاني، إذ المأمور به انما هو الطبيعة من دون دخل شئ
من الخصوصيات فيه، فالفرد الماتى به في الخارج، ليس بخصوصه متعلقا للتكليف كي
يتصف بالوجوب الأكيد، - وبعبارة أخرى - إذا ورد أكرم عالما. ثم ورد، أكرم هاشميا
يكون متعلق التكليف في الأول اكرام العالم بلا دخل للهاشمية فيه، وفى الثاني يكون
بعكس ذلك، فلا وجه للقول بتأكد الطلب في مجمع العنوانين، وان شئت قلت، ان لازم
القول بالتأكد كون الحكم المجعول في مورد العامين من وجه ثلاثة. أحدها: الحكم
المؤكد. والآخران غير مؤكدين، وهو باطل.
وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة بين الواجب والمستحب عموما
272

من وجه، وكان كل من الوجوب والاستحباب متعلقا بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات،
أو كانت النسبة بين المستحبين كذلك، والأول كالنسبة بين صوم الاعتكاف وصوم شهر
رمضان، أو صوم واجب بالنذر، والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب، وصلاة
الجعفر ونافلة المغرب أو الليل، وأمثال ذلك فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال
باتيان المجمع.
المبحث الثاني في مفهوم الوصف
المشهور بين الأصحاب عدم المفهوم للوصف، وأثبته جماعة وعزى ذلك إلى
ظاهر الشيخ، وحكى عن الشهيد انه جنح إليه في الذكرى، وعن العلامة التفصيل بين ما
كان الوصف علة كما في أكرم زيدا لأنه عالم وبين غيره. وفى المسألة تفاصيل اخر لا
يعبأ به ولتنقيح محل النزاع لابد من تقديم أمور:
الأول: ان محل الكلام ليس هو خصوص الوصف المصطلح، وهو المشتق
الجاري على الذات كاسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم الزمان وما شاكل. بل
أعم من ذلك ومن المنسوبات كالبغدادي. وما يؤدى معنى الوصف كذي علم. والأسامي
الجارية على الذوات بلحاظ اتصافها بعرض كالسواد أو بعرضي كالملكية. بل الظاهر
شموله لما عبر عنه في القوانين بالوصف المقدر وهو ما يكون كناية عنه كما في قوله (ص)
لان يمتلئ بطن الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا فان امتلاء البطن كناية عن الشعر
الكثير.
الثاني: ان محل الكلام هو الوصف المعتمد على موصوفه بان يكون مذكورا
في القضية كقولنا أكرم انسانا عالما. أو ما شاكل ذلك، واما الوصف غير المعتمد على
الموصوف كقولنا أكرم عالما. فلا كلام في عدم دلالته على المفهوم، فإنه حينئذ كساير
افراد اللقب، الذي سيأتي انه لا مفهوم له بلا كلام، والفرق بينه وبين غيره، بكون المبدأ فيه
غير جعلي، بخلاف المبدأ في غيره، لا يكون بفارق في المقام.
273

ومجرد ان الوصف ينحل بتعمل من العقل، إلى شيئين، ذات، ومبدأ، لا يوجب
فارقا بينه، وبين الجامد، بعد انه لا يتعدى ذلك عن أفق النفس إلى مقام الدلالة.
بل لو قيل بدلالة الوصف غير المعتمد على الموصوف على المفهوم، لا يبعد دعوى
أولوية دلالة الجامد عليه، لما عرفت في مبحث المشتق، من أن كون المبدأ الجوهري
مناطا للحكم، بحيث يرتفع الحكم عند عدمه أولى من كون المبدأ العرضي مناطا له.
وبهذا يظهر ان من فصل بين الوصف المعتمد على الموصوف وغيره، والتزم
بدلالة الأول على المفهوم، دون الثاني، ليس تفصيلا في المقام بل هو التزام بدلالة
الوصف على المفهوم مطلقا.
الثالث: ان النسبة بين الوصف والموصوف، تارة، تكون هي التساوي، كالانسان
الضاحك. وأخرى، تكون النسبة عموما من وجه، كالانسان الأبيض. وثالثة، تكون عموما
مطلقا، والأخير يتصور على وجهين: إذ قد يكون الموصوف أعم، كالانسان العالم، وقد
يكون الوصف أعم كالانسان الماشي.
وحيث إن النزاع في المقام ليس في أن تعليق الحكم على الوصف، هل يدل على
كونه تمام الموضوع وعلة منحصرة للحكم فتكون النتيجة عدم ثبوت الحكم عند انتفاء
الوصف ولو لموضوع آخر وثبوته مع وجود الوصف ولو في محل آخر: فان دلالة
الجملة على ذلك أجنبية عن المفهوم المبحوث عنه في المقام، بل النزاع انما هو في انتفاء
الحكم عن الموضوع الثابت له الحكم عند انتفاء القيد، - وبعبارة أخرى - يكون النزاع
في أن التوصيف هل يوجب حصر الحكم الثابت للموصوف بصورة وجود الوصف
أم لا؟ فيختص محل الكلام بصورة بقاء الموصوف بعد وصفه، وهو انما يكون في صورة
كون النسبة عموما من وجه في صورة الافتراق وصورة كون النسبة عموما مطلق مع
كون الوصف أعم كما لا يخفى.
إذا عرفت هذه الأمور. فاعلم أنه قد استدل لثبوت المفهوم للوصف بوجوه:
الأول: ما عن التقريرات من دعوى التبادر عرفا.
وفيه: انه بعد ما نرى استعمال القضية الوصفية في غير مورد الانحصار الذي هو
274

أساس الدلالة على المفهوم بلا عناية ولا رعاية علاقة فلا يصغى إلى هذه الدعوى.
الثاني: انه لو لم يدل الوصف على المفهوم، لكان الآتي به لاغيا وهو مستحيل في
حق الحكيم فلا مناص عن البناء على دلالته على المفهوم.
وفيه: ان ذكر الوصف ربما يكون لفوائد اخر غير حصر ثبوت الحكم بمورد
الوصف، كشدة الاهتمام بمورد الوصف كقوله إياك وظلم اليتيم، أو لدفع توهم عدم
شمول الحكم لمورد الوصف كما في قوله تعالى (لا تقتلوا أولادكم خشية املاق) أو
لعدم احتياج السامع إلى غير مورد الوصف كقولك لمن لا يجد غير ماء البئر، ماء البئر طاهر
مطهر، أو لغير ذلك من الفوائد.
الثالث: الانصراف إلى العلية المنحصرة.
وفيه: ما عرفت من عدم تمامية ذلك في مفهوم الشرط.
الرابع: ما نسب إلى العلامة وهو ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، و
لازم ذلك انتفاء الحكم عند انتفائه، لانتفاء المعلول بانتفاء علته.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بان مجرد ظهوره في العلية لا يوجب ذلك بل
ثبوت المفهوم يتوقف على ثبوت العلية المنحصرة.
وفيه: انه على فرض ثبوت ظهوره في العلية، لا مناص من قبول دلالته
على المفهوم، بناءا على ما هو المسلم عنده من أن الواحد لا يصدر الا عن الواحد، فإنه على
ذلك يكون الدليل الظاهر في علية الوصف بعنوانه الخاص ظاهرا في كونه علة منحصرة،
والا كانت العلة هو الجامع بينه وبين غيره، لا خصوصه بعنوانه، وهو خلاف الظاهر،
فانكاره دلالته على المفهوم على فرض تسليم ظهوره في العلية لا مورد له على مسلكه.
كما أن تسليم المحقق النائيني (ره) دلالته على المفهوم على فرض تسليم ظهوره
في العلية لا يتم على مسلكه الذي صرح به في مفهوم الشرط، حيث إنه (قده) سلم ظهوره
في العلية وانما أنكر دلالته على المفهوم بالوضع من جهة عدم دلالة القيد على كونه علة
منحصرة.
فالصحيح في الجواب عن هذا الوجه منع ظهوره في العلية، بل لا يعقل ذلك
275

في الأحكام الشرعية لعدم كون القيود الخارجية والموضوعات علة للحكم، بل علته
إرادة الجاعل كما مر. أضف إليه ان مجرد الاشعار لا يكفي لاثبات المفهوم جزما حيث إنه
لا يكون من الدلالات العرفية.
الخامس: ما ذكره المحقق صاحب الحاشية، من أن المشتهر في الألسنة ان الأصل
في القيد ان يكون احترازيا ولا يكون احترازيا الا بان يدل على المفهوم ولا يلائم مع عدم
المفهوم للوصف، فان معنى الاحترازية عدم ثبوت الحكم للفاقد.
وفيه: ان المراد به خروج الفاقد للقيد عن حيز الحكم الشخصي في القضية،
أي الحكم المجعول للمقيد لا خروجه عن حيز سنخ الحكم الذي هو المفهوم.
السادس: انه لولا ذلك لما صح حمل المطلق على المقيد في المثبتين نظير أعتق رقبة
واعتق رقبة مؤمنة. مع أن بنائهم على الحمل.
وفيه: ان الحمل في المثبتين يتوقف على احراز وحدة الحكم في القضيتين وكونه
حكما مجعولا بنحو العام البدلي، فإنه على ذلك يحمل المطلق على المقيد من جهة ظهور
القيد في كونه دخيلا في شخص الحكم المجعول، من دون توقف على دخالته في سنخ
ذلك الحكم، وهذا لا ربط له بالمفهوم. فالمتحصل انه لا دليل على ثبوت المفهوم
للوصف.
بل يمكن ان يستدل لعدم ثبوت المفهوم له بما ذكره جماعة منهم المحقق النائيني
(ره) وتوضيح ذلك انما يتم ببيان أمرين:
أحدهما: ان القيد ربما يعتبر قيدا للموضوع أو المتعلق الذي يعبر عنه بالمفهوم
الافرادي فيكون المقيد بما هو مقيد موضوعا للحكم أو متعلقا له كما في الوصف، وربما
يرجع إلى الحكم كما في الشرط، - وبعبارة أخرى - كما أنه عرفت ظهور القضية الشرطية
في كون القيد قيدا للهيئة، كذلك ظاهرا لتوصيف كون الوصف قيدا للمفهوم الافرادي
قبل ورود الحكم عليه.
ثانيهما: ان ملاك الدلالة على المفهوم كما عرفت في مفهوم الشرط رجوع القيد
إلى الحكم ليترتب عليه ارتفاع الحكم عند ارتفاع الشرط، واما القيد الراجع إلى الموضوع
276

فغاية ما يقتضيه ثبوت الحكم للمقيد، وانتفاء شخص الحكم المذكور في القضية عند
انتفاء القيد، ولا يدل على عدم ثبوت حكم آخر للفاقد، لان ثبوت شئ لشئ لا يستلزم
النفي عما عداه، وعليه فالوصف بما انه ليس قيدا للحكم بل هو قيد للموضوع أو المتعلق
فلا تدل القضية الوصفية على المفهوم.
وقد أورد على ذلك بأنه وان كان متينا الا انه ليس للمحقق النائيني الالتزام بذلك
لأنه يرى رجوع القضايا الحقيقية إلى القضايا الشرطية مقدمها ثبوت الموضوع وتاليها
ثبوت الحكم، ورجوع القضايا الشرطية إلى القضايا الحقيقية وان المعنى المستفاد منهما
شئ واحد وانما الاختلاف في كيفية التعبير.
وفيه: ان القضايا الحقيقية لا تدل على المفهوم مع رجوعها إلى القضايا الشرطية،
من جهة ما ذكره (ره) في أول مبحث المفاهيم، من أن القضية الشرطية التي سيقت لبيان
تحقق الموضوع لا تدل على المفهوم، واما رجوع القضية الشرطية إلى القضية الحقيقية،
فليس المراد به عدم كون القيد من قيود الحكم، بل المراد به عدم فعلية الحكم قبل
فعليته، وتلازم فعليته لفعلية كل فرد من افراده.
ثم انه قد استدل لعدم الدلالة على المفهوم - باية - ربائبكم اللاتي في حجوركم (1).
وأجاب عنه في الكفاية، بأنه يعتبر في دلالته عليه عند القائل بالدلالة، ان لا يكون
واردا مورد الغالب، كما في الآية لعدم دلالته على الاختصاص معه وبدونها لا يكاد يتوهم
دلالته على المفهوم.
وفيه: ان مدرك الدلالة على المفهوم، ان كان لزوم اللغوية كان لهذا الكلام وجه،
واما لو كان غيره من الوجوه المتقدمة فلا يتم إذ تلك الوجوه تجرى حتى في القيود
الواردة مورد الغالب، الا بناءا على انصراف المطلق إلى الغالب فإنه عليه يكون التقييد به
كالتقييد بالمساوي، ولكن المبنى فاسد كما سيأتي في محله، مع أن البناء على الانصراف
مستلزم للبناء على التقييد بالقيود الواردة مورد الغالب وبناء المشهور على خلافه مع، انه

1 - النساء / 32
277

يمكن منع تماميته حتى على الوجه الأول، إذ بعد عدم دخل القيد في الحكم يكون ذكره لغوا.
مفهوم الغاية
المبحث الثالث: في أن الغاية في القضية، هل تدل على ارتفاع الحكم عما
بعد الغاية، بناءا على دخول الغاية في المغيا، أو عنها وبعدها بناءا على خروجها، أم
لا تدل عليه، وجهان، وتنقيح القول بالبحث في مقامين: الأول: في المنطوق وان الغاية
داخلة في المغيا، أم خارجة عنه. الثاني: في المفهوم، وانها تدل عليه أم لا؟
اما الأول: فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم المغيا وعدم دخولها
فيه إلى أقوال: أحدها: عدم الدخول مطلقا ذهب إليه نجم الأئمة والمحقق الخراساني
(ره) ثانيها: الدخول كذلك. ثالثها: التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيا وعدم
كونها من جنسه فعلى الأول الغاية داخلة فيه دون الثاني. رابعها: التفصيل بين كون الغاية
مدخولة لكلمة حتى، وكونها مدخولة لكلمة إلى، فعلى الأول هي داخلة في المغيا دون
الثاني. اختاره الزمخشري وادعى بعض النحاة الاجماع على الدخول في حتى - ومال إليه
المحقق النائيني (ره) - خامسها: التفصيل بين كون الغاية قيدا للفعل مثل سر من البصرة
إلى الكوفة، وبين كونها قيدا للحكم مثل صم إلى الليل، فعلى الأول داخلة في المغيا و
على الثاني خارجة عنه، وفى المقام أقوال اخر لا يعبأ بها.
وقد استدل المحقق الخراساني للأول. بأنها من حدوده فلا تكون محكومة
بحكمه.
وقد استدل بعض المحققين للثاني، بان غاية الشئ هو الجزء الذي ينتهى إليه
الشئ فلا محالة تكون داخلة فيه.
أقول: ما ذكراه بحسب الكبرى الكلية متين، فان الحد الاصطلاحي خارج
عن المحدود، لكونه مما ينتهى عنده الشئ كما أن ما به ينتهى الشئ أي الجزء الأخير
داخل بلا كلام، وانما الكلام في المقام في أن مدخول أداة الغاية هل هو من قبيل الأول
278

أو الثاني، وما ذكراه أجنبي عما هو محل الكلام.
وقد استدل للقول الرابع: بان كلمة حتى تستعمل غالبا في ادخال الفرد الخفي في
موضوع الحكم، فتكون الغاية حينئذ داخلة في المغيا لا محالة.
وفيه: ان كلمة حتى تستعمل في موردين: أحدهما: العطف. ثانيهما: الخفض،
لإفادة كون مدخولها غاية لما قبلها، وما تستعمل لادراج الفرد الخفي انما هي حتى
العاطفة، فتدبر.
واستدل المحقق اليزدي للقول الخامس: بأنه إذا كانت الغاية غاية للحكم فحيث
انها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه إلى الفعل المتخصص بها، فلا محالة تكون خارجة
وان كانت غاية للفعل، فهي تكون داخلة كما يظهر لمن راجع موارد الاستعمال.
وفيه: انه إذا كانت الغاية غاية للحكم يكون النزاع المعقول ما صرح به المحقق
الخراساني (ره) في هامش الكفاية، قال نعم يعقل ان ينازع في أن الظاهر، هل هو انقطاع
الحكم المغيا بحصول غايته أو استمراره في تلك الحال، وعليه فلا وجه لهذا التفصيل.
والظاهر أن الصحيح هو ان الغاية بطبعها الأصلي من دون مراعاة القرائن والشواهد
الحالية أو المقالية لا دلالة لها على الدخول ولا الخروج وانما تختلف دخولا وخروجا
باختلاف المقامات ولا ضابطة لها.
وما افاده الأستاذ من أن الظاهر أن المتفاهم العرفي من القضية المغياة بغاية هو
عدم دخول الغاية في المغيا ان أراد منه عدم الدلالة على الدخول، فكلام متين، وان أراد
منه الدلالة على العدم، فلا يتم.
واما المقام الثاني: فالغاية قد تكون قيدا وغاية للموضوع كما في مثل قوله تعالى
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وقد تكون غاية للمتعلق كقوله تعالى
أتموا الصيام إلى الليل، وقد تكون غاية للحكم كقوله كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه
حرام.
أما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على المفهوم يبتنى على القول
بدلالة الوصف على المفهوم، وقد مر ان المراد من الوصف ليس هو الوصف المصطلح، و
279

عرفت ان الفرق بين القضية الشرطية، والقضية الوصفية حيث إن الأولى تدل على المفهوم
دون الثانية، انما يرتكز على أن القيد في الأولى للحكم، وفى الثانية للموضوع أو المتعلق.
وأما إذا كانت غاية للحكم فقد أفاد المحقق الخراساني، في وجه دلالتها
على المفهوم بقوله لانسباق ذلك منها كما لا يخفى وكونه قضية تقييده بها والا لما كانت
ما جعل غاية له بغاية انتهى.
ويرد عليه انه (قده) صرح في مفهوم الشرط بأنه لا دلالة للقضية الشرطية
على المفهوم، مع تصريحه برجوع القيد فيها إلى الحكم، وأفاد انه لا يستفاد المفهوم ما لم
يدل الكلام على كون القيد علة منحصرة، وحيث انه لا يدل على ذلك فلا تدل على
المفهوم، وبعين هذا البرهان يقال في المقام ان الدلالة على المفهوم تتوقف على ثبوت
كون الغاية للحكم مطلقا بحيث تكون غاية لتأثير كل ما يفرض كونه علة له، وأما إذا لم
يدل الا على كونها غاية للحكم المعلول لعلة خاصة، اما لتمامية ذلك المقتضى أو لوجود
المانع عن تأثيره، ولم يكن ناظرا إلى الحكم المعلول لعلة أخرى ولا لعلته، فلا يدل
على المفهوم.
ولكن ما افاده (قده) في المقام في نفسه تام إذ لو جعل الغاية غاية للحكم، لدلت
على المفهوم وانه حيث يكون ظاهرها كون الغاية غاية لطبيعي الحكم في المنطوق، فتدل
على انتفائه بعد الغاية.
ثم ليعلم ان المراد من كون الغاية غاية للحكم كونها غاية لثبوت الحكم لا لنفسه،
والا لما دل على المفهوم فان الكلام حينئذ يدل على جعل الحكم المقيد، وهو لا يستلزم
عدم جعل غيره، وانما التزمنا في الشرط بدلالته على المفهوم، من جهة ظهور الكلام في
حصر ثبوت الحكم بثبوت القيد، وهذا بخلاف ما إذا كانت غاية لثبوت الحكم فان
الكلام حينئذ، يدل على أن الحكم المطلق ثبوته لهذا الموضوع مغيا بهذه الغاية، فتكون
القضية حينئذ كالقضية المتضمنة للشرط، وعليه فادعاء الأستاذ ان دلالة الغاية على
المفهوم أقوى من دلالة الشرط، في محله: لان ظهورها في كونها قيدا لثبوت الحكم لا
لنفسه أقوى من ظهور الشرط فتدبر فإنه دقيق.
280

هذا كله في مقام الثبوت - واما في مقام الاثبات وتمييز موارد كون الغاية غاية
للحكم - أو للموضوع أو المتعلق، مع صلاحيتها كونها غاية لكل منها. مثلا إذا قال صم
إلى الليل يصلح إلى الليل كونه غاية للصوم، فيكون الواجب مقيدا، ويصلح ان يكون غاية
للحكم فيدل على المفهوم، فالمحقق الخراساني لم يذكر شيئا.
واما المحقق النائيني فأفاد انها بحسب الوضع لا تكون ظاهرة في شئ، ولكنها
بحسب التركيب الكلامي لا بد وان تتعلق بشئ والمتعلق لها هو الفعل المذكور في الكلام
لا محالة فتكون حينئذ ظاهرة في كونها من قيود الجملة لا من قيود المفهوم الافرادي
فتلحق بأدوات الشرط فتكون ظاهرة في المفهوم.
وأفاد المحقق الخوئي في ضابط ذلك - انه ان كان الحكم المذكور في القضية
مستفادا من الهيئة كان الكلام في نفسه ظاهرا في رجوع القيد إلى متعلق الحكم: إذ الظاهر
هو رجوع القيد في الكلام إلى المعنى الحدثي فرجوعه إلى الموضوع خلاف الظاهر، كما أن
رجوعه إلى الهيئة خلاف المتفاهم العرفي، وان كان الحكم المذكور مستفادا من مادة
الكلام فان لم يذكر متعلق الحكم في الكلام كما في قولنا يحرم الخمر إلى أن يضطر إليه
المكلف، فالكلام ظاهر في رجوع القيد إلى نفس الحكم، وان كان المتعلق مذكورا فيه،
فلا يكون للكلام ظهور في رجوعه إلى الحكم، أو المتعلق.
أقول: لم يظهر لي وجه ادعائه ظهور الكلام في رجوع القيد إلى المتعلق دون
الحكم إذا كان الحكم المذكور في القضية مستفادا من الهيئة بعد كون بنائه على امكان
رجوع القيد إليها وعدم محذور في ذلك.
ثم أي فرق بين كون الحكم مستفادا من الهيئة أو من المادة حيث ادعى في الفرض
الثاني اجمال الحكم وعدم ظهوره في رجوعه إلى الحكم أو المتعلق.
فالأولى في مقام الضابط، ان يقال ان الأصل في القيود التي تذكر بعد الجملة
رجوعها إلى النسبة أي ما سيق الكلام لبيانه وهو النسبة، وما يذكر قبل اسناد الحكم إلى
متعلقه فهو يرجع إلى المتعلق أو الموضوع، والظاهر أن هذا واضح لا يحتاج إلى بيان أزيد
من التنبيه إليه، والظاهر أن مراد المحقق النائيني ذلك.
281

فالمتحصل مما ذكرناه ان الغاية ان ذكرت بعد اسناد الحكم إلى المتعلق دل
الكلام على المفهوم، والا فلا.
المبحث الرابع في مفهوم الحصر
المشهور بين الأصحاب انه يدل على الحصر كلمات، منها كلمة، الا الاستثنائية، و
قالوا انها تدل على اختصاص الحكم سلبا وايجابا بالمستثنى منه.
وتنقيح القول في المقام، ان هذه الكلمة تستعمل على نحوين، وفى موردين:
أحدهما: تستعمل وصفية، وهي التي تذكر قيدا للمفهوم الافرادي من الموضوع،
أو المتعلق، قبل ورود الحكم عليه، وانتسابه إليه كما في الآية الكريمة - لو كان فيهما الا
الله لفسدتا - ونحوها قولنا: القوم الا زيدا جاؤوا. وهي حينئذ خارجة عن محل الكلام و
يكون سبيلها حينئذ سبيل ساير الأوصاف، وقد مر ان المراد بها كل ما يوجب تقييد
المفهوم الافرادي لا خصوص الوصف المصطلح وقد مر عدم دلالتها على المفهوم،
فالا الوصفية لا تدل على المفهوم.
مما يدل على الحصر كلمة (الا)
ثانيهما: ما يستعمل استثنائية، وهي التي تذكر قيدا للجملة، وتستعمل بعد تماميتها
أي ثبوت الحكم للموضوع كقولنا: جاء القوم الا زيدا. وهي حينئذ تدل على المفهوم و
على نفى الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى فتفيد كلمة (الا) ثبوت نقيض الحكم
المذكور في القضية للمستثنى.
وما في الكفاية وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا، مراده ما ذكرناه ومحل كلامه
الا الاستثنائية، فلا يرد عليه انه لم لا يذكر القسمين في كلمة الا نحو ما ذكره في الغاية.
واما ما في بعض الكلمات من تصور ان يكون الاستثناء عن الحكم مع قطع النظر
282

عن المتعلق أو الموضوع أو ثبوت الحكم له، فلا معنى له سوى في مثل لا وجوب لاكرام
زيد الا وجوبا ضعيفا أو وجوبا لا عقاب على مخالفته وأمثال ذلك. وعلى الجملة
ان الاستثناء أي كلمة (الا) ان كان من المفهوم الافرادي تكون القضية وصفية وغير دالة
على المفهوم، وان كان من الجملة التركيبة تدل على المفهوم، فالنزاع في الحقيقة راجع
في قوله: جاء القوم الا زيدا. إلى أن قوله الا زيدا من قيود القوم، ويكون المعنى ان القوم
الذين هم غير زيد جاؤوا فلا تدل القضية على المفهوم لان اثبات حكم لموضوع خاص لا
يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع، أو يكون من الحكم فتكون الا استثنائية، و
يكون للقضية المفهوم لان اثبات حكم للقوم واخراج زيد عن هذا الحكم مع أنه منهم
عين المفهوم.
هذا بحسب مقام الثبوت، واما في مقام الاثبات فما كان قبل الاسناد يكون استثناءا
عن الموضوع أو المتعلق فلا يدل على المفهوم، وان كان بعد الاسناد فهو ظاهر في رجوعه
إلى الجملة، أي ما سيقت الجملة لبيانه وهو ثبوت الحكم للموضوع، وان شئت قلت إنه
ظاهر في رجوعه إلى الموضوع بما ان الحكم ثابت له وعليه فيدل على المفهوم، وهذا
هو الضابط في المقام.
واما ما ذكره المحقق النائيني من أن الأصل في كلمة (الا) كونها استثنائية ومن قبيل
الثاني، وكونها وصفية ومن قبيل الأول يحتاج إلى القرينة.
فلم يظهر لي وجه كون ما ذكر أصلا فيها بعد وضعها للاخراج الجامع بين
القسمين، وكون الوصفية، والاستثنائية منتزعتين عن كونها اخراجا عن المفهوم الافرادي
أو الجملة. مع أنه لو سلم تعدد الوضع لم يظهر وجه كون أحدهما أصلا.
واما ما نقل عن نجم الأئمة من أن رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء
منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد.
فكما افاده المحقق النائيني (ره) كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه إذ الكلام لا
يحمل على شئ الا على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته من لواحقه وتوابعه، فلا
تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل
283

الاسناد.
أضف إليه انه لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تكون القرينة
مناقضة لذي القرينة كما في قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات مع ذي القرائن
والعمومات والمطلقات، وعلى الجملة لا اختصاص لهذا التوهم بباب الاستثناء.
وربما يستدل لدلالة الاستثناء على المفهوم بقبول رسول الله صلى الله عليه وآله
قبول اسلام من أظهر الاعتراف بكلمة التوحيد، قال في محكى التقريرات وقبول
رسول الله (ص) اسلام من قال لا إله إلا الله من، اعدل الشواهد على ذلك، أي على كون
الاستثناء من النفي مفيدا للاثبات، وقريب منه ما عن الفصول.
وأفاد المحقق الخراساني في رده انه يمكن دعوى ان دلالتها على التوحيد كان
بقرينة الحال أو المقال. وفيه، ان هذه كلمة التوحيد في جميع الأزمنة لا في خصوص
الصدر الأول كي تصح هذه الدعوى، وان تمت بالإضافة إلى ما عن التقريرات، - وبعبارة
أخرى - نفس هذه الكلمة مع عدم القرينة تكون كلمة التوحيد.
والانصاف ان هذه الكلمة تدل على التوحيد بحسب المتفاهم العرفي.
فيما أورد على كلمة التوحيد وجوابه
ولكن هاهنا اشكالا معروفا، ولأجله التزم جماعة بان كون هذه الكلمة كلمة
التوحيد، انما هو من جهة التعبد. وهو، ان خبر لا بما انه محذوف فلا بد وان يقدر شئ،
ولا يخلو ذلك من أن يكون ممكنا، أو موجودا، ولا ثالث، وان كان الأول فلا يدل على
وجوده تعالى، وان كان الثاني فلا يدل على نفى امكان اله آخر حيث إن نفى الوجود أعم
من نفى الامكان وأجابوا عنه بأجوبة.
منها: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو ان مراد من الاله واجب الوجود،
وامكانه مساوق لوجوده ووجوبه، فان المتصف بالامكان الخاص ما لا اقتضاء له في
ذاته لا للوجود ولا للعدم، فوجوده يحتاج إلى وجود علة له فمفهوم واجب الوجود إذا
284

قيس إلى الخارج يدور امره بين الامتناع والوجود، ولا ثالث لهما، وعليه فهذه الكلمة
تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكنا أو موجودا.
والظاهر أن نظره (قدس سره) إلى البرهان المعروف عند العرفاء ببرهان
الصديقين، وهو ان الممكن بالامكان العام إذا لم يوجد في الخارج، فلا بد وان يستند
عدم وجوده إلى عدم المقتضى، أو عدم الشرط، أو وجود المانع، وحيث إن كل ذلك لا
يعقل في مفهوم واجب الوجود لعدم استناد وجوده إلى وجود المقتضى والا انقلب
الواجب ممكنا، فنفس تصوره يكفي للتصديق بوجوده.
وفيه: ان الاله ليس بمعنى واجب الوجود، بل هو بمعنى المعبود: لأنه من اله أي
عبد، أضف إليه ان هذا مطلب فلسفي دقيق لا يعرفه العوام، وهذه كلمة التوحيد للجميع.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان كلمة لا الواقعة في كلمة التوحيد،
مستغنية عن الخبر، فهي تدل على عدم تقرر مدخولها مطلقا ولو في مرحلة الامكان،
فتدل الكلمة المباركة على نفى الوجود والامكان عن غير الله تعالى واثبات كليهما له.
وفيه: ان كلمة لا وان كانت تستعمل بلا خبر، الا انها حينئذ تكون تامة لا ناقصة فلا
تدل حينئذ على نفى الامكان عن غيره، نعم يثبت به نفى وجود غيره تعالى.
ومنها: ما ذكره المحقق اليزدي (ره) قال ويمكن ان يجاب بان المراد من الاله
المنفى هو خالق تمام الموجودات وبعد نفى هذا المعنى مطلقا واثباته في ذاته المقدسة
يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقا له، ولا يمكن مع كونه مخلوقا ان
يكون خالقا فحصر وجود الاله في الباري جل وعلا يدل بالالتزام البين على عدم امكان
غيره تعالى.
وفيه: مضافا إلى أن الاله ليس بمعنى الخالق: ان الجملة مركبة من عقدين، سلبي،
وايجابي، والأول ينفى خالقية غيره تعالى، والثاني يثبت الخالقية له، واما اثبات مخلوقية
ما عداه فهو خارج عن العبارة، فلا يصح جعله أساسا لهذا الجواب.
والصحيح في الجواب ان يقال ان الاله كما مر هو المعبود، فالمراد بهذه الكلمة
نفى المستحق للعبادة غيره تعالى، واثبات استحقاقه جل جلاله لها: وذلك يلازم مبدئيته
285

تعالى لجميع الموجودات، فان ذلك يوجب كونه مستحقا لها، لاستحقاق العلة لان
يخضع لديه المعلول وعدم مبدأية غيره.
أضف إليه انه لو كان الاله بمعنى واجب الوجود، أمكن اثبات التوحيد بهذه الكلمة
بوجه آخر، وهو كفاية التوحيد الوجودي، والاقرار بوجود مبدأ واحد في الاسلام، و
لا يتوقف على نفى الامكان عن غيره، ولذا لو غفل عن ذلك حين التكلم بها يحكم
باسلامه بلا كلام.
وقد يقال ان هذه الكلمة وردت في قبال المشركين، ولذا يسمونه كلمة التوحيد
واثبات وجود الصانع مفروغ عنه، وعليه فحيث ان الاله بمعنى المعبود، فمفاد الكلمة
نفى المستحق للعبادة غيره تعالى، ومعلوم ان نفى الموجود الكذائي سوى الله تعالى يدل
على التوحيد في المعبود وهو يكفي في الاسلام.
ثم إن الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد بمقايسة نظائرها كون
المقدر فيها موجود لا ممكن.
ثم إن المحكى عن أبي حنيفة انه استدل لعدم دلالة الاستثناء على المفهوم،
بقوله (ص) لا صلاة الا بطهور، إذ لو كان الاستثناء من النفي اثباتا للزم كفاية الطهور في
صدق الصلاة.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بأجوبة:
1. ما افاده في الهامش، وهو ان كلمة الا في مثل هذا التركيب، تدل على
نفى الامكان يعنى ان الصلاة لا تكون ممكنة بدون الطهور ومعه تكون ممكنة لا ثابتة
فعلا.
وفيه: ان موارد استمال هذه الكلمة تشهد بأنها تستعمل للنفي الفعلي، أو الاثبات
كذلك. مع، انه ان لوحظ العمل المشتمل على جميع ما يعتبر في الصلاة فهي الصلاة فعلا،
وان لوحظ نفس الطهارة أو كل عمل مقترن بها، فهي ليست بصلاة امكانا.
2 - ان الاستعمال مع القرينة كما في مثل التركيب مما علم فيه الحال لا دلالة له
على مدعاه أصلا.
286

وفيه: انه لا قرينة هنا حيث لأنه لا فرق بين هذا التركيب واستعماله في غيره من
الموارد.
3 - ما توضيحه ان المتفاهم العرفي من مثل هذا التركيب، نظير، لاعلم الا بالعمل.
ان الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة، وإذا تحققت، لا بد وأن تكون مع الطهارة - وبعبارة
أخرى - ان الصلاة الواجدة لجميع ما يعتبر فيها لا تكون صلاة الا إذا اقترنت بالطهارة،
كما أن العلم ليس علما حقيقة الا مع الاقتران بالعمل، ولا يدل على أن العمل وحده غير
مقرون به علم، وعلى ذلك فلا مانع من الاخذ بمفهومه وهي صلاتية الواجدة لجميع ما
يعتبر في الصلاة إذا اقترنت بالطهارة لا صلاتية الطهارة ولا صلاتية كل مقترن بالطهارة.
ثم انه وقع الخلاف في أن دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى هل هي
داخلة في المنطوق أو المفهوم؟
فقد افاده المحقق الخراساني (ره) انه ان كانت الدلالة عليه في طرفه بنفس الاستثناء
لا بتلك الجملة كانت بالمنطوق كما هو ليس ببعيد، وان كان لازم خصوصية الحكم في
جانب المستثنى منه التي دلت عليها الجملة الاستثنائية كانت بالمفهوم.
وفيه: انه وان كانت الدلالة عليه بنفس الاستثناء لما كان بالمنطوق، فان أداة
الاستثناء تدل على الاخراج، وليس ذلك عين ثبوت نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه
للمستثنى، بل هو لازمه، نظير، ان عدم وجوب اكرام زيد على فرض عدم مجيئ عمرو
المستفاد من قولنا: أكرم زيدا ان جاء عمرو. انما يكون لازم العلية المنحصرة والقيد
المنحصر على اختلاف المسلكين.
فالمتحصل ان كلمة الا، المستعملة للاخراج عن الحكم تدل على المفهوم، وما
تستعمل بمعنى الصفة وللاخراج من الموضوع أو المتعلق لا تدل عليه.
وبما ذكرناه ظهران ما افاده في المسالك في توجيه فتوى صاحب الشرايع، بأنه لو
قال ليس لزيد عل عشرة الا درهما لا يلزم بشئ. بما حاصله، ان الاستثناء إذا كان من نفس
الموضوع قبل الحكم المذكور في الكلام، لم يكن في الكلام دلالة الا على نفى العشرة
المخرج عنها الواحد فكأنه قال ليس لزيد على تسعة. وإذا كان استثناءا بعد الحكم
287

المذكور، ثبت الدرهم الواحد في ذمة المقر، وحيث انه لا قرينة على كون الاستثناء بعده
أو قبله فلا يكون الكلام المذكور اقرارا بشئ، متين ولا يرد عليه شئ.
مما يدل على الحصر كلمة (انما)
ومما يدل على الحصر والاختصاص كلمة (انما) على المشهور. وقد نص
أهل الأدب على ذلك أي على انها من أداة الحصر، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف و
المحاورة، وان لم يكن لهذه الكلمة مرادف في لغة الفرس ولذلك استشكل في محكى
التقريرات في ذلك، ولكنه لا يمنع عن الانسباق بملاحظة تتبع موارد استعمال هذه
الكلمة، ويمكن ان يقال انها مركبة من كلمة (ان) التي هي للتحقيق واثبات الشئ، و
كلمة (ما) التي هي للنفي، والنفي يرد على تالي انما والاثبات على الجزء الاخر وعليه
فقوله انما الأعمال بالنيات، بمنزلة لا عمل إلا بنية.
فان قيل إنها كما تستعمل في قصر الصفة على الموصوف كقولنا انما الفقيه زيد،
كذلك تستعمل في قصر الموصوف على الصفة كقولنا انما زيد عالم أو مصلح، وبديهي
انها في المورد الثاني، لا تدل على الحصر حيث إن لزيد صفات اخر غيره، فيستكشف من
ذلك أن انسباق الحصر منها في ما هو من قبيل الأول انما يكون بواسطة القرائن المقامية
كتقديم ما حقه التأخير ونحو ذلك، فيتم ما افاده الشيخ (ره) من أنه ليس لهذه الكلمة في
عرفنا اليوم مرادف حتى يعلم أن انسباق الحصر منها انما يكون من حاق اللفظ فتكون
دالة على الحصر.
أجبنا عنه بأنه في المورد الأول أي قصر الصفة انما يكون المتكلم في مقام التجوز
والمبالغة، وكانه فرض ان لا صفة له غيره، فيجعله مقصورا عليه ادعاءا، كما في زيد
عدل، ونفس ذلك دليل على إفادة الحصر، والا لم يكن ذلك مبالغة
ثم إن الفخر الرازي في تفسيره في الآية الكريمة انما وليكم الله ورسوله والذين
288

امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون) (1) نقل استدلال الشيعة بهذه الآية
على خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وأجاب عنه بان هذا الاستدلال يبتنى على
كون كلمة (انما) مفيدة للحصر، ولا نسلم ذلك: والدليل عليه قوله تعالى انما مثل الحياة
الدنيا كماء أنزلناه من السماء، ولا شك في أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى ولا تنحصر
بهذا المثال، وقوله تعالى، انما الحياة الدنيا لعب ولهو، ولا شك في أن اللعب واللهو قد
يحصلان في غيرها.
ويرد عليه أولا النقص بقوله تعالى: وما الحياة الدنيا الا لهو ولعب، وقوله
عز وجل وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب، مع أنه لا شبهة لاحد حتى الفخر في أنها
تفيد الحصر فما يجيب به عن هاتين الآيتين، أجبنا به عن تلك الآية.
وثانيا بالحل، وهو ان الدنيا في الآيتين صفة للحياة لا انها مضاف إليها، فتدل
الآيتين على انحصار الحياة الدانية التي هي في مقابل الحياة الراقية العالية التي تستعمل في
موردين، أي في مقابل الحياة الأخروية، وفى مقابل الحياة الدنيوية الراقية كحياة الأنبياء
والأولياء ومن يتلو تلوهما، حيث إن حياتهم عبادة وطاعة لله تعالى في أي شكل ونوع
كانت، باللعب واللهو، يعنى ان الحياة الدنية في هذه الدنيا هي اللعب واللهو.
ثم انه أفاد المحقق النائيني (ره) ان دلالتها على ثبوت شئ لشئ ونفيه عن غيره،
انما يكون بنفس اللفظ فهي خارجة عن محل الكلام، وداخلة في الدلالات المنطوقية.
ويرد عليه ان كلمة انما لا تدل بالمنطوق على النفي، بل تدل على حصر المحمول
بالموضوع، ولازم ذلك هو القضية الأخرى مناقضة لما تدل عليه، وهذا هو المفهوم.
وقد يعد من ما دل على الحصر كلمة. بل الاضرابية قال المحقق الخراساني (ره)، و
التحقيق ان الاضراب على أنحاء منها ما كان لأجل ان المضرب عنه انما اتى به غفلة أو
سبقه به لسانه، فيضرب بها عنه إلى ما قصد بيانه، فلا دلالة له على الحصر أصلا، فكأنه اتى
بالمضرب إليه ابتداءا كما لا يخفى، ومنها ما كان لأجل التأكيد، فيكون ذكر لمضرب عنه

1 - المائدة / 55.
289

كالتوطئة والتمهيد لذكر المضرب إليه فلا دلالة له عليه أيضا، ومنها ما كان في مقام الردع
وابطال ما أثبت أولا فيدل عليه وهو واضح، والظاهر أن مراده من التأكيد الترقي أي ما
يستعمل لأجل الاهتمام في افهام المقصود بذكر غير المقصود، فلا يرد عليه ان ما كان
لأجل التأكيد ليس من اقسام بل الاضرابية بل هو قسيمها.
ثم إن المحقق الخراساني في الكفاية ذهب إلى دلالة القسم الثالث منها وهو
ما كان في مقام الردع وابطال ما أثبت أولا على المفهوم، وفى الهامش، قال إن هذا يتم إذا
كان بصدد الردع عنه ثبوتا، وأما إذا كان بصدده اثباتا كما إذا كان مثلا بصدد بيان انه انما
أثبته أولا بوجه لا يصح معه الاثبات اشتباها فلا دلالة له على الحصر.
وفيه: انه وان كان بصدد الردع عنه ثبوتا لما دل على المفهوم والحصر: فان غاية
ما يدل عليه حينئذ هو الحصر بالإضافة إلى خصوص ما ذكر أولا أي يدل على عدم ثبوت
الحكم له، واما الحصر بالإضافة إلى غيره فلا يدل على، فالانصاف ان الاضراب باقسامه
لا يدل على المفهوم.
تعريف المسند إليه باللام
ومما قيل بأنه يفيد الحصر تعريف المسند إليه بالكلام ومرادهم به خصوص
المبتدأ كما صرح به جماعة، فتعريف الفاعل باللام كما في جاء الضارب خارج عن محل
الكلام.
وكيف كان فملخص القول في المقام انه قد استدل لدلالته على الحصر بوجوه:
الأول: ان اللام للاستغراق فيكون مفاد قولنا القائم زيد، ان جميع افراد القائم هو
زيد فيدل على الحصر.
وفيه: ان الظاهر ولا أقل من المحتمل كونها للجنس.
الثاني: ان مدخولها مأخوذ بنحو الطبيعة المطلقة السارية في جميع الافراد،
والفرق بينه وبين الأول اخذ الخصوصيات الفردية المقومة في الأول، دون الثاني. وفيه،
290

انه لا معين لذلك.
الثالث: ان الحمل أولى ذاتي فيدل على عدم ثبوت المسند إليه في غير مورد
المسند.
وفيه: ان الظاهر من مثل هذه التراكيب كون الحمل شايعا صناعيا.
الرابع: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) هو ان المعروف عند أهله اعتبار كون
الموضوع هو الذات، لا المفهوم وان كان الموضوع من الأوصاف العنوانية فالقائم وان
كان مفهوما كليا، الا ان جعله موضوعا في القضية يستدعى جعله بما هو ذات أي اعتبار
كونه كذلك ومعه لا يعقل ان يعرضه خصوصيات متباينة كخصوصية الزيدية والعمروية
والبكرية إذ الواحد لا يكون الا معروضا لخصوصية واحدة، فاعتبار الكلى ذاتا وجعل
المحمول ما لا يقبل السعة يقتضى الحصر.
وفيه: مضافا إلى ما يعترف به هو (قده) من عدم كون ذلك لأجل ادخال اللام
عليه، انا لا نسلم لزوم جعل الموضوع هو الذات، بل في موارد الحمل الأولى الموضوع
هو المفهوم الكلى لا الذات، والا انقلب الحمل إلى الشايع الصناعي، وفى موارد الحمل
الشايع وان كان الشايع جعل الموضوع هو الذات، الا انه لم يقم دليل على ذلك بنحو
يجعل مدركا للحكم فتدبر، فالأظهر عدم دلالته على الحصر، فغاية ما يستفاد من
قولنا القائم زيد اتحاد القائم مع زيد وجودا، وهذا لا يلازم عدم اتحاد مع عمرو
وجودا.
المبحث الخامس في مفهوم العدد
قال في الكفاية لا دلالة، للقب، ولا للعدد على المفهوم، وانتفاء سنخ الحكم عن
غير موردهما أصلا، وقد عرفت ان انتفاء شخصه ليس بمفهوم، كما أن قضية التقييد
بالعدد منطوقا عدم جواز الاقتصار على ما دونه لأنه ليس بذاك الخاص والمقيد، و
اما الزيادة فكالنقيصة إذا كان التقييد به للتحديد بالإضافة إلى كلا طرفيه... وكيف كان
291

فليس عدم الاجتزاء بغيره من جهة دلالته على المفهوم انتهى.
المراد باللقب مطلق ما يعبر به عن الشئ، وعليه فعدم دلالته على المفهوم واضح
إذ اثبات شئ لشئ لا يلازم نفيه عما عداه.
واما العدد فالكلام فيه يقع من جهتين: الأولى في منطوقه، الثانية في مفهومه.
اما الجهة الأولى: فلا ريب في ظهور القضية التي تضمنت جعل الحكم للعدد مثل،
أكرم عشر رجال، في عدم تعلق شخص الحكم المذكور في القضية بأقل من العدد و
حينئذ ان كان الحكم بنحو العام الاستغراقي، لو أتى بأقل منهما بان أكرم خمسا فقد امتثل
بالإضافة إلى اكرامهم، وعصى من حيث ترك اكرام غيرهم، ولو كان مجموعيا لما تحقق
الامتثال الا بعد اكرام العشرة فلو لم يكرم واحدا منهم لما امتثل.
واما في طرف الزيادة ففيه نزاعان: الأول، في شمول الحكم للأكثر بحده
الأكثري بحيث إذا أكرم اثنى عشر رجلا، فقد انطبق عليه المأمور به بماله من الحد. الثاني،
في أنه على فرض عدم الانطباق هل تكون الزيادة مفسدة للمأتي به أم لا؟
اما الأول: فالكلام فيه هو الكلام في طرف الأقل، بمعنى انه لا ينطبق عليه بحده
عنوان المأمور به.
واما الثاني: فان كان المتكلم في مقام البيان حتى من هذه الجهة أي في مقام بيان
جميع ما يعتبر في المأمور به ولم يقيده بعدم الأكثر مقتضى الاطلاق عدم المفسدية، والا
فحيث ان مآل الشك حينئذ إلى أن المطلوب هو العدد لا بشرط، أو بشرط عدم الزيادة،
فيكون المورد داخلا في الأقل والأكثر الارتباطيين، والمختار فيه جريان البراءة.
واما الجهة الثانية: فالقول بدلالته على المفهوم يبتنى على القول بدلالة الوصف،
عليه: لما عرفت من أن المراد بالوصف، أعم من الوصف المصطلح، والعدد من الوصف
بهذا المعنى فتدبر.
292

المقصد الرابع
العام والخاص
293

[...]
294

المقصد الرابع في العام والخاص
وفيه مباحث، وقبل الخوض في المباحث لا بد من ذكر أمور لا يستغنى عنها
الأول: انه عرف العام بتعاريف، قال في الفصول ان للقوم في العام حدودا كثيرة لا يسلم
كلها أو جلها عن المناقشة أو الخلل المحوج إلى ارتكاب التعسف أو التمحل إلى اخر ما
أفاد.
والمحقق الخراساني (ره) في الكفاية بعد ما أشار إلى ذلك أفاد ما محصله ان تلك
التعاريف لفظية تقع في جواب السؤال عنه ب‍ [ما] الشارحة لا واقعة في جواب
السؤال عنه ب‍ (ما) الحقيقية، واستدل لما ادعاه: بان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح
مما عرف به مفهوما ومصداقا، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه
المقياس في الاشكال عليها مع أنه يعتبر في التعريف ان يكون هو أجلى وأظهر من
المعرف، ثم انه (قده) اعتذر عن القوم بان الغرض من التعريف ليس هو بيان حقيقة العام
بما له من المفهوم العام لعدم كونه محلا لحكم من الاحكام كي يجب تعيين مفهومه، بل
هو لبيان مصاديق العام وافراده التي محل للأحكام، فالغرض بيان ما يكون بمفهومه
جامعا بين ما لا شبهة في أنها افراد العام ليشار به إلى ما هو محل للأحكام.
ويرد على ما افاده أمور. الأول: ان شرح اللفظ التعريف اللفظي على قسمين:
1. شرح تام موجب لتمييز المدلول عن جميع ما عداه، 2 - شرح ناقص موجب لتمييزه
عن بعض ما عداه، والذي لا يضر عدم اطراده أو انعكاسه انما هو الثاني ومقصود
الشارحين للعناوين هو الأول، فالاعتذار عن عدم اطراد تعاريف القوم: تارة، وعدم
انعكاسها أخرى: بان تعاريفهم تعاريف لفظية لا يقبل.
295

الثاني: ان ما ذكره (ره) من مرادفة التعريف اللفظي لمطلب ما الشارحة خلاف
اصطلاح أهل الميزان، فان ما يستفاد من كلماتهم، ان مطلب ما الشارحة بعينه مطلب
ما الحقيقية، وانما الاختلاف بينهما من جهة، ان الأول انما يكون قبل معرفة
وجود المسؤول عنه، والثاني بعده، واما التعريف اللفظي فهو عبارة عن تفسير اللفظ بما
يرادفه من غير أن يعرف بحقيقته ولا بأمر خارج عنها لازم لها.
الثالث: ان ما ذكره في وجه كون تعاريفهم لفظية وهو ان المعنى المركوز منه
في الأذهان أوضح من تلك التعاريف. لا يكون شاهدا له. فان في التعريف اللفظي أيضا
يعتبر عدم أو ضحية المعرف عن المعرف والا لغى التعريف.
الرابع: ان ما ذكره في وجه أوضحية ذلك المعنى المركوز من جعله مقياسا
للاشكال، يرد عليه انه يمكن ان يكون المعنى معلوما اجماليا ويعلم بعض مصاديقه يقينا
كما يعلم عدم كون جملة من الأمور من مصاديقه ومع ذلك لا يكون معلوما تفصيلا
بحيث يحرز حال المصاديق المشتبهة الاندراج، فيعرف بما يميز به ذلك.
الخامس: ان ما ذكره من عدم تعلق غرض بشرح حقيقته، يرد عليه انه ان لم يتعلق
غرض بذلك لم يكن حاجة إلى شرح لفظه أيضا، والإشارة إلى المصاديق كما تحصل
بذلك تحصل بشرح الماهية.
واما ما أورد عليه بأنه من جملة المسائل المعنونة، تقدم العام على المطلق وعدمه.
وموضوع هذه المسألة العام بعنوانه لا مصاديقه.
ففيه ان موضوع الحكم ليس هو العام بما هو، بل ما يكون شموله لمصداقه بالوضع
في قبال ما يكون بالاطلاق وهذا لا يتوقف على معرفة حقيقة العام.
وحق القول في المقام ان العموم في اللغة معناه الشمول وهو المنساق إلى الذهن من
حاق لفظه، والمتفاهم العرفي منه، واما بحسب الاصطلاح، فالظاهر أنه ليس للقوم
اصطلاح خاص فيه، بل هو في اصطلاحهم مستعمل في معناه اللغوي والعرفي، ولذلك
نريهم انهم يفسرونه بما دل على شمول الحكم لجميع افراده مدخوله.
الثاني: ان الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى: (أحل الله البيع) ان دلالة
296

العام على العموم والشمول انما هو بالوضع، ودلالة المطلق على ذلك انما هي بمقدمات
الحكمة.
اقسام العموم
الثالث: ان العموم ينقسم إلى، استغراقي، ومجموعي، وبدلي، والحكم في الأول
في مقام الاثبات واحد، وفى مقام الثبوت متعدد بعدد افراد العام، ولكل فرد حكم
مستقل غير مربوط بالحكم الثابت للاخر، وفى الثاني واحد في مقامي الثبوت والاثبات
والمتكلم يجعل المجموع من حيث المجموع موضوعا واحدا، وفى الثالث أيضا يكون
الحكم واحدا في المقامين، الا ان المتعلق هو صرف وجود الطبيعة لا مجموع الافراد
وهذا كلمه مما لا كلام فيه.
انما الكلام في منشأ هذا الاختلاف والانقسام وقد أفاد المحقق الخراساني
والنائيني وجمع آخرون، ان منشأه اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام، والا فالعموم
في جميع بمعنى واحد حيث إن الحكم المتعلق به، تارة يكون بنحو يكون كل فرد
موضوعا للحكم، وأخرى يكون الجميع موضوعا واحدا، وثالثة بنحو يكون كل واحد
موضوعا على البدل، وعلى الأول يكون العام استغراقيا، وعلى الثاني يكون مجموعيا،
وعلى الثالث يكون بدليا.
أقول: اما العام البدلي فهو يغاير مفهوما مع أخويه، فان الاستيعاب فيه استيعاب
تبادلي، أي المفهوم لا يصدق على أكثر من فرد واحد، وصدقه على كل فرد، انما يكون
بالتبادل ولا يكون عرضيا، وهذا بخلافه في الآخرين. وهذا كاشف عن اختلاف البدلي
مع القسمين الآخرين بالمفهوم، ويشهد له: مضافا إلى ذلك اختلافه معهما، في الألفاظ
الموضوعة له، ولهما، فان لفظ (أي) مثلا موضوع للبدلي، ولفظة (كل) موضوعة لهما.
واما القسمان الآخران، فقد أفاد المحقق الأصفهاني (ره) ان الفرق بينهما انما
يكون قبل تعلق الحكم بتقريب، ان مصاديق العام لها مفاهيم متقومة بالكثرة بالذات فلها
297

وحدة مفهومية وكثرة ذاتية، وهذا المعنى الكذائي محفوظ، وان ورد عليه اعتبارات
مختلفة فقد يترتب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتية كما في الكل الافرادي، وقد
يترتب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة، كما في الكل المجموعي، فالكثرة وان كانت
محفوظة الا انها ملغاة في مرحلة موضوعيته للحكم.
وفيه: ان الموضوع في العام المجموعي ليس هي جهة الوحدة الجامعة، فان معنى
كون الموضوع هي تلك الجهة عدم دخل الخصوصيات في الحكم مع أنه في العام
المجموعي يكون الموضوع هي الافراد بأجمعها بمالها من الخصوصيات.
مضافا إلى أنه لا معنى لجعل الموضوع هي الطبيعة والجهة الجامعة من حيث هي،
فلا محالة يكون بلحاظ وجوداتها ومن البديهي عدم كون الموضوع فردا واحدا بل كونه
تمام الوجودات فيسئل عن أن المجموع بمالها من الوجودات المتكثرة، هل هي موضوعة
لحكم واحد أو متعدد؟ ويكون كل فرد موضوعا لحكم واحد، فمجرد الالتزام بكون
الموضوع هي جهة الوحدة لا يكفي في كون العام مجموعيا فتدبر فإنه دقيق.
فالحق ان يقال ان الاختلاف بينهما انما يكون بلحاظ الحكم ولكن قبله، بمعنى انه
في مقام جعل الافراد موضوعا، تارة يلاحظ المجموع شيئا واحدا لترتب غرض واحد
على المجموع، وأخرى تلاحظ الافراد بمالها من الوجودات المتكثرة لترتب اغراض
متعددة عليها، فالأول عام مجموعي، والثاني عام استغراقي.
الرابع: ان العام البدلي هل هو داخل في اقسام العام، أو هو من اقسام المطلق؟ فقد
اختار المحقق النائيني (ره) الثاني، بدعوى ان البدلية تنافى العموم فان متعلق الحكم
في العموم البدلي ليس الا فردا واحدا وهو ليس بعام، وأيده بان هذا القسم من العموم
يستفاد غالبا من اطلاق المتعلق فيكون بذلك مندرجا في المطلق دون العام.
وفيه: ان العام البدلي، عبارة عن ما يكون ترخيص تطبيق المأمور به على افراده
مدلولا لفظيا ومستندا إلى الوضع، واستفادة هذا المعنى وان كانت غالبا بالاطلاق، الا انه
ربما يكون مدلولا للفظ ومستندا إلى الوضع، كما في قولنا: أكرم أي رجل شئت. و
ما يكون من اقسام العام هو هذا، لا ما استفيد ذلك فيه باجراء المقدمات فإنه يكون حينئذ
298

مطلقا بدليا وهذان القسمان يأتيان في العام الشمولي أيضا كما لا يخفى
. الخامس: انه على ما ذكرناه لا يبقى مورد للشك في كون العموم بدليا، أو غيره، و
لو شك في أنه استغراقي أو مجموعي.
فقد أفاد المحقق النائيني (ره) ان الأصل يقتضى كونه استغراقيا، من جهة ان العموم
المجموعي يحتاج إلى اعتبار الأمور الكثيرة أمرا واحدا ليحكم عليها بحكم واحد، وهذه
عناية زايدة تحتاج إفادتها إلى مؤنة أخرى.
وفيه: انه في العام الاستغراقي أيضا لا بد وان يلاحظ كل واحد مستقلا فكل منهما
يحتاج إلى خصوصية زايدة.
فالصحيح، في وجه تعين الحمل على الاستغراقي عند الدوران ان يقال، انه في العام
المجموعي يكون كل فرد محكوما بحكم ضمني، الا انه مقيد بالاتيان بساير الافراد، وهذا
بخلافه في الاستغراقي، فان كل فرد محكوم بحكم مستقل له امتثال خاص، ويمتثل لو أتى
به وان لم يأت بساير الافراد فالعام المجموعي يحتاج إلى تقييد زايد، والأصل اللفظي،
والعملي يقتضيان عدمه، والحمل على الاستغراقي.
السادس: قال المحقق الخراساني في الكفاية، وقد انقدح ان مثل عشرة، وغيرها
لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل
واحد منها انتهى.
وأورد عليه بان العام أيضا لا يصلح للانطباق على افراده، مثلا (كل رجل) لا ينطبق
على فرد من الرجل.
وفيه: ان ألفاظ العموم، وضعت لإفادة شمول المدخول لجميع ما يصلح ان ينطبق
عليه مثلا، لفظة كل، وضعت لإفادة شمول مدخولها، وهو الرجل في المثال، لجميع ما
يصلح ان ينطبق عليه، فالمدخول أي الرجل لا بد وأن يكون صالحا للانطباق على كل فرد
لا بعد تصدره بلفظ العموم بل في نفسه.
فان قيل: ان العشرة أيضا كذلك، فان مادتها الواحد وهو يصلح ان ينطبق على كل
واحد، والعشرة توجب استيعاب الواحد إلى هذا الحد.
299

أجبنا: ان الواحد ليس مادة العشرة، بل لكل منهما مفهوم وحداني، يغاير الاخر، و
هذا بخلاف كل رجل.
هل للعموم صيغة تخصه؟
السابع: اختلفوا في أنه هل للعموم صيغة تخصه أم لا؟ ذهب جماعة منهم المحقق
والشيخ والعلامة إلى الأول، ونسب إلى الأكثر، واختاره المحقق الخراساني وغيره من
المحققين المتأخرين، وذهب قوم إلى الثاني. وتوقف بعضهم، واختلف النافون، فمنهم
من جعلها مشتركة بينه وبين الخصوص ووافقهم السيد لغة قائلا انها نقلت في عرف
الشارع إلى العموم، ومنهم من جعلها حقيقة في الخصوص ومجازا في العموم.
وقد استدل لكون صيغ العموم حقيقة في الخصوص بأمرين: أحدهما: ان إرادة
الخصوص ولو في ضمن العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال ان يكون المراد به
الخصوص فقط وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى من جعله حقيقة في المحتمل.
وفيه: ان كون الخاص متيقنا انما هو بحسب الإرادة الخارجية وهذا لا يمنع عن
ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره، غاية الامر يكون العام نصا في إرادة الخاص
وظاهرا بالإضافة إلى إرادة العام، ومحط النظر انما هو في اثبات الظهور وعدمه.
نعم لو كان إرادة الخاص على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة
القرينة المتصلة في الكلام بحيث احتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة كان وضع اللفظ
للعموم لغوا، فالأولى ان يكون موضوعا للخصوص، لكن الامر ليس كذلك لكثرة إرادة
العموم منها في الشرعيات وغيرها.
مع أن الخاص ليس له حد خاص إذ العام إذا خرج منه فرد واحد، فالباقي خاص
وان خرج منه فردان، فكذلك إلى أن يصل إلى حد، لا يجوز ان يتجاوز عنه التخصيص،
وعليه فان قيل إنها وضعت لجميع تلك المراتب بنحو المشترك اللفظي فهو بين الفساد،
وان قيل إنها موضوعة للجميع بنحو الاشتراك المعنوي، فهو أوضح فسادا لعدم الجامع.
300

الثاني: انه قد اشتهر التخصيص وشاع حتى قيل ما من عام الا وقد خص، الحاقا
للقليل بالعدم مبالغة، والظاهر يقتضى كونه حقيقة في الأشهر الا غلب تقليلا للمجاز.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بقوله ولو سلم فلا محذور فيه أصلا إذا كان
بالقرينة.
ولا يخفى انه بعد تسليم كثرة المجاز لا موجب للحمل عليه: إذ المعروف
في المجاز المشهور، التوقف أو الحمل على المجاز بقرينة الشهرة.
فالحق في الجواب منع المجاز في موارد التخصيص لما سيأتي في محله، من أن
إرادة الخاص من العام لا تنافى استعماله فيما وضع له فانتظر لذلك زيادة توضيح، مع أن
استعمال العام فيما وضع له وإرادة العموم منه كثير، كما يظهر لمن راجع العمومات
العرفية والعقلية، بضميمة عدم وضع خاص في العمومات الشرعية. بيان ما يدل على العموم
الثامن: بعد ما عرفت من أن للعموم صيغة تخصه ذكر المحقق الخراساني جملة من
ما عد مما يدل على العموم وهي، النكرة في سياق النفي أو النهى، ولفظة كل، والمحلى
باللام، فالكلام في موارد، الأول: في النكرة في سياق النفي أو النهى، والمراد من النكرة
ليس هو اسم الجنس الداخل عليه التنوين المفيد للوحدة، بل المراد منها هو الطبيعة
اللا بشرط.
لا كلام في ظهور النكرة في سياق النفي أو النهى في الشمول إذا وردت في مقام
البيان، ولذلك قال في الفصول لا ريب في أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، وقريب
منه ما افاده المحقق القمي، والمحقق الخراساني ادعى فوق ذلك قال ودلالتها عليه لا
ينبغي ان تنكر عقلا.
وكيف كان فقد وقع الكلام في أن دلالتها عليه هل تكون سياقية عقلية، أم تكون
بالوضع، أو بالاطلاق؟
301

والحق انها بالاطلاق، لا سياقية عقلية، ولا بالوضع: لان مدخول النفي، أو النهى،
وهي النكرة، قابل للانطباق على المطلق والمقيد، والنفي كلفظة (لا) موضوعة لنفى
مدخولها ليس الا، فلا محالة إذا جرت مقدمات الحكمة في المدخول يستفاد منها
العموم، والا فيكون مهملا، والمهملة في قوة الجزئية ولا يستفاد منها العموم.
وقد استدل المحقق اليزدي (ره) لإفادتها العموم بنفسها: بان النفي المتعلق بالطبيعة
المهملة لا يصح الا إذا لم تكن متحققة أصلا: إذ لو صح نفى الطبيعة مع وجود فرد خاص
منها لزم اجتماع النقيضين.
وفيه: ان اجتماع النقيضين انما يلزم لو أريد من المدخول الطبيعة المطلقة، واما لو
أريد منه المهملة فلا يلزم اجتماع النقيضين، فالأظهر ان دلالتها عليه انما تكون بالاطلاق،
وليست دلالتها عليه سياقية عقلية كما مر في أول مبحث النواهي.
المورد الثاني: في لفظة (كل) وأمثالها. وبعد مالا كلام في استفادة العموم منها.
وقع الكلام في أن هذه هل تتوقف على اجراء مقدمات الحكمة في مدخولها، أم دلالتها
عليه تستند إلى الوضع ولا تحتاج إلى اجراء المقدمات؟
والحق هو الثاني، بمعنى ان لفظة (كل) مثلا وضعت لإفادة فعلية صلاحية مدخولها
لما يصلح ان ينطبق عليه، فبادخال لفظة (كل) على الطبيعة تصير تلك الصلاحية فعلية،
فهي بالوضع تدل على الغاء جميع الخصوصيات عن مدخولها. فقول القائل: أكرم كل
عالم. في قوة ان يقول لا دخل لشئ من القيود في موضوع حكمي، والشاهد على ذلك
أمران: الأول: انه لو كان في مقام الاهمال واتى بهذه اللفظة يعد خارجا عن طريق
المحاورة، الثاني: انه لو جرت المقدمات في المدخول واستفيد الاطلاق منها لا يبقى
احتياج إلى أداة العموم، ويكون وجودها لغوا.
وقد استدل للأول بوجوه، أحدها: انه لا ريب في امكان تقييد المدخول كما في
قولنا: كل رجل عالم، وهذه قرينة على احتياج استفادة العموم إلى اجراء مقدمات
الحكمة، إذ لولا ذلك لزم كونه تقييدا لدائرة العموم في فرض ثبوته فيكون التقييد منافيا
له.
302

وفيه: ان أداة العموم تدل على استيعاب جميع افراد ما يصلح ان ينطبق عليه
مدخولها من الأجناس، أو الأنواع، أو الأصناف، والتقييد يوجب تضييق دائرة المدخول فلا
تنافى.
الثاني: ان شمول أداة العموم تابع لسعة المدخول وضيقه، ان مطلقا فمطلقا، وان
مقيدا فمقيدا فهي لا اقتضاء بالإضافة إلى اطلاق مدخولها وتقييدها فلو كانت بأنفسها
مفيدة للسعة والاستيعاب من غير اجراء مقدمات الحكمة لزم الخلف أي كونه مقتضيا
بالإضافة إلى ما يكون لا اقتضاء بالإضافة إليه.
وفيه: ان شمول أداة العموم تابع لسعة المدخول وضيقه من حيث الصلاحية
للانطباق، ولازم ما ندعيه من إفادتها استيعاب ما يصلح ان ينطبق عليه المدخول كونه
مقتضيا بالإضافة إلى فعلية هذه الصلاحية لا نفس الصلاحية فلا خلف.
الثالث: ان غاية ما تقتضيه الأداة كون المدخول غير مهمل، اما كونه طبيعة وسيعة،
أو حصة منها، فالأداة لا تعين شيئا منهما، فيتوقف احراز ذلك على اجراء مقدمات
الحكمة.
وفيه: ان احتمال إرادة الحصة ان كان لاحتمال وجود القرينة، فهو يندفع بأصالة
عدم القرينة التي هي من الأصول العقلائية، وان كان لاحتمال إرادة الحصة واقعا فنفس
ظهور الكلام ينفيه، فتحصل انه في مثل لفظة (كل) و (أي) لا يتوقف استفادة العموم على
اجراء مقدمات الحكمة.
المورد الثالث: انه بعد ما لا كلام ولا ريب في تبادر العموم من الجمع المحلى
باللام، وقع الكلام في أن ذلك، هل هو من جهة وضع اللام وحدها، أم من جهة وضع
هذه الهيئة بنفسها، أي الألف واللام مع أداة الجمع، الواردة على المادة في عرض واحد بلا
تقدم ولا تأخر بينهما كما اختاره المحقق النائيني (ره) أم من جهة ان الألف واللام
وضعت للتعريف فتدل على تعريف مدخولها، وتعينه ولا تعين لشئ من مراتب الجمع
القابلة للانطباق عليها الا أقصى مراتب الجمع، وهي المرتبة الأخيرة وهي جميع الافراد.
أقول: يرد على الأول، ان لازمه ورود العموم على الجمع، وإفادة ثبوت الحكم على
303

جميع مصاديق الجمع بما هو جمع وهو خلاف المتفاهم العرفي، مع أن لازمه إفادة
المفرد المعرف باللام أيضا للعموم كما لا يخفى.
ويرد على الثاني، ان لازمه كون استعمال الجمع المعرف باللام، في موارد العهد
الذهني والخارجي مجازا، وهو فاسد بالبداهة.
مع أنه على هذا يكون للمركب وضع، ولكل من جزئية وضع آخر، فلو استعمل
بلا قرينة، فاما ان يلتزم باستعمال المفردات في معانيها والمركب في معناه، أو باستعمال
المفردات في معنى المركب، لا سبيل إلى شئ منهما اما الأول فواضح، واما الثاني
فلاحتياجه إلى قرينة معينة مفقودة.
وعلى هذا فيتعين الثالث وهو وضع الألف واللام للتعريف، وحيث لا تعين لشئ
من مراتب الجمع الا إرادة جميع الافراد فهي المرادة.
والايراد عليه كما عن المحقق الخراساني، في مبحث المطلق والمقيد، بان أقل
مراتب الجمع أيضا متعين الظاهر أن إليه نظر المحقق النائيني حيث منع استفادة العموم
من ما ذكرناه، وقال والا لكان لمنعها مجال واسع.
غير تام إذ المراد التعين بين المصاديق في الخارج المختص بالمرتبة الأخيرة لان
لها مصداقا واحدا، واما أقل مراتب الجمع فالظاهر أن ابهامها أزيد من ابهام ساير المراتب،
فان مصاديقها القابلة لانطباقها عليها أزيد من مصاديق ساير المراتب، فان كل ثلاثة، ثلاثة،
أو اثنين اثنين على الخلاف في أقل مراتب الجمع بأنحاء التركيبات المختلفة من مصاديق
هذه المرتبة.
فالأظهر ان إفادتها العموم انما تكون لأجل تعين أقصى مراتب الجمع، إذا عرفت
هذه الأمور، فالكلام يقع في فصول.
حجية العام المخصص في الباقي
الفصل الأول: إذا ورد عام وخصص بشئ، فهل يوجب تخصيصه به سقوطه عن
304

الحجية بالنسبة إلى الباقي فما لم يعلم شمول الحكم وشك فيه لا حجة على ثبوته، أم لا؟
وتنقيح القول فيه بالبحث في مواضع ثلاثة.
الأول: ما إذا كان المخصص مبينا مفهوما ومصداقا، وكان الشك في شمول العام
لمورد ناشئا عن الاشتباه في الحكم، كما إذا ورد أكرم كل عالم، وخصص ذلك ب‍ (لا
تكرم مرتكب الكبائر من العلماء) وشك في وجوب اكرام العالم المرتكب للصغائر.
الثاني: ما إذا كان المخصص مجملا مفهوما، وكان الشك في شمول العام لمورد
من الاشتباه في مفهوم الخاص، ودورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد (أكرم كل عالم)
ثم ورد (لا تكرم الفساق منهم) وفرضنا ان مفهوم الفاسق كان مجملا مرددا بين ان يكون
خصوص المرتكب للكبائر، أو الجامع بينه وبين المرتكب للصغائر، وشككنا في وجوب
اكرام العالم المرتكب للصغيرة ومنشأه اجمال مفهوم الخاص.
الثالث: ما إذا كان المخصص مجملا مصداقا يعنى كان الشك في شمول العام
لمورد ناشئا من الاشتباه في الأمور الخارجية، كما إذا دل الدليل على وجوب اكرام العلماء،
ودل دليل آخر على عدم وجوب اكرام الفاسق منهم، وشككنا ان زيدا فاسق أم لا؟
اما الأول: فلا خلاف بين أصحابنا في حجية العام في الباقي كما عن المعالم، وعن
الفصول والقوانين دعوى الاتفاق عليه، وانما الخلاف فيه يكون بين العامة حيث نسب إلى
جماعة منهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقا، ونسب إلى آخرين التفصيل بين ما
كان المخصص منفصلا وما كان متصلا فذهبوا إلى عدم جواز التمسك بالعام على الأول
دون الثاني، وربما نسب إلى بعضهم التفصيل بين الاستثناء وغيره.
واستدل النافي بان اللفظ حقيقة في العموم، فبعد التخصيص، يعلم أنه غير مراد فهو
لم يستعمل في العموم، فلا يكون حجة في الباقي لتعدد مراتبه، ومعلوم ان المعاني
المجازية إذا تعددت، فإرادة كل واحد منها تحتاج إلى قرينة معينة، وحيث لا قرينة
فبالطبع يصبح العام مجملا، فلا يمكن التمسك به، وبالجملة ففي كل مورد كان المعنى
المجازى متعددا يحتاج إرادة معنى واحد من تلك المعاني إلى قرينتين صارفة، ومعينة
وفى المقام القرينة الصارفة وهو المخصص موجودة، والقرينة المعينة غير موجودة فلا
305

محالة يكون اللفظ مجملا فلا يجوز التمسك به.
وأجابوا عنه بأجوبة. منها، ما ذكره المحقق القمي وصاحب الفصول، وهو انه مع
وجود المرجح لا اجمال وهو الأقربية إلى العام فهي قرينة على إرادة تمام الباقي.
ورده المحقق الخراساني، بان الأقربية بحسب المقدار لا اعتبار بها وانما المدار
على الأقربية بحسب زيادة الانس الناشئة من كثرة الاستعمال.
وفيه: ان الظاهر أن المجيب أراد من الأقربية معناه الثاني، مدعيا ان منشأ زيادة
الانس، كما يكون كثرة الاستعمال، كذلك قد يكون شدة العلاقة والارتباط.
ومنها: ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وحاصله: ان دلالة العام على جميع الافراد،
وان كانت واحدة، الا انها تنحل إلى دلالات ضمنية متعددة حسب تعدد الافراد،
- وبعبارة أخرى - بما ان المصاديق التي تحكى عنها هذه الدلالة الواحدة متعددة و
شان الحكاية والمرآة جذب لون محكيه، فالحكاية أيضا متعددة، فالعام يدل على كل فرد
بدلالة ضمنية في قبال دلالته على ساير الافراد، ومعنى ذلك كون كل فرد مستعملا فيه و
مرادا بالإرادة الاستعمالية، فإذا ورد المخصص فهو وان كان كاشفا عن عدم تعلق الإرادة
الاستعمالية بجميع الافراد، ولازم ذلك كونه مجازا، الا ان هذا المجاز ليس على حد ساير
المجازات التي تكون مباينة للمعنى الحقيقي، ولذا لو تردد المعنى المجازى بين أمور
متعددة لا يحكم بإرادة أحدهما مع عدم القرينة عليه، بل هذا المعنى المجازى انما هو من
جهة عدم شمول العام لافراد مخصوصة، فالمقتضي للحمل على الباقي، وهو دلالة العام
بنفسه على كل فرد موجود، والمانع مفقود إذ المانع المتصور ليس الا ما يوجب صرف
اللفظ عن مدلوله، والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره.
وأورد عليه المحقق الخراساني بان الدلالات الضمنية تابعة للدلالة المطابقية، فهو
انما يدل على كل فرد بتبع دلالته على العموم والشمول، فإذا انكشف بالمخصص عدم
استعماله في العموم والشمول، فلا كاشف عن استعماله في الافراد الباقية لسقوط الدلالة
التضمنية بسقوط المطابقية. وعليه، فالمانع وان كان مفقودا الا انه لا مقتضى للحمل
على الباقي، إذ المقتضى اما الوضع أو القرينة، والمفروض انه ليس بموضوع له وليست
306

قرينة، ولا موجب آخر للحمل على الباقي، ودلالته على كل فرد قد عرفت سقوطها.
ويمكن ان يقال ان العام حين استعماله دال على جميع الافراد بدلالة واحدة وعلى
كل فرد بدلالة تضمنية، فبعد ورود المخصص، وان كان يكشف عدم استعماله في العموم
وسقوط الدلالة المطابقية، الا ان سقوطها انما يكون بتبع سقوط الدلالة التضمنية على
عكس الثبوت، حيث إن التضمنية تابعة للمطابقية، وذلك لان المزاحم انما يزاحم أولا و
بالذات الدلالة التضمنية فهي تسقط ابتداءا وبتبعها تسقط المطابقية. وحيث انه انما يزاحم
بعض تلك الدلالات التضمنية لا جميعها فلا وجه لسقوط جميعها بل الساقط منها
خصوص ماله مزاحم أقوى. وعلى ذلك فمرجعه إلى ثبوت القرينة على الحمل على
الباقي فتدبر فإنه دقيق.
ثم إن المحقق النائيني (ره) أفاد في وجه مراد الشيخ الأعظم (ره) وجها آخر، وهو
ان دلالة العام على ثبوت الحكم لكل فرد من افراد العام، لا تكون منوطة بدلالته على
ثبوته لساير الافراد، فكما ان نفس ثبوت الحكم لكل فرد غير مربوط بثبوته لساير الافراد،
كذلك دلالة العام على ذلك، وهذا نظير ما لو قال أكرم هؤلاء مشيرا إلى جماعة خاصة،
فكما ان تخصيص بعض الافراد في مثل ذلك، لا ينافي وقوع الإشارة إلى الجميع، وكون
كل فرد من الافراد الباقية محكوما عليه بوجوب الاكرام، وان قلنا باستلزام التخصيص
للمجازية كذلك يكون الحال فيما إذا كانت الدلالة على ثبوت الحكم لجميع الافراد
بلفظ عام، فهناك دلالات عرضية فإذا سقطت إحداها عن الحجية لا وجه لسقوط غيرها
من الدلالات عن الحجية فخروج بعض الافراد عن حكمه لو سلم انه يستلزم المجاز لا
يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الافراد التي لا يعمها المخصص، وبذلك
يظهر ان المجاز اللازم للتخصيص انما هو من جهة خروج بعض ما كان داخلا في المفهوم
المستفاد من لفظ العام، واما دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون الاستعمال مجازيا،
وهذا بخلاف المجاز المتحقق في مثل قولنا (رأيت أسدا يرمى) الذي هو من جهة
استعمال اللفظ فيما يباين ما وضع له.
أقول: ان خروج بعض الافراد عن الحكم الثابت لجميع الافراد ان لم يكن مستلزما
307

للتصرف في استعمال العام في العموم كما هو ظاهر تقريره (ره) فهذا خروج عن الفرض
والتزام بعدم المجازية، ومجرد اخراجه عن الحكم بعد كون المستعمل فيه هو معناه
الموضوع له لا يوجب صيرورته مجازا، وان كان مستلزما لذلك، فيرد عليه ما ذكره
المحقق الخراساني، لولا ما أوردناه عليه.
ومنها: ما افاده المحقق الخراساني، واليه يرجع ما افاده المحقق النائيني كما سيمر
عليك، وملخصه ان التخصيص لا يستلزم تجوزا في العام مطلقا سواء أكان المخصص
متصلا، أم منفصلا، أما إذا كان المخصص متصلا كما إذا قال (أكرم كل هاشمي عادل)
فلان أداة العموم مستعملة فيما هو معناها الحقيقي من استغراق تمام افراد المدخول،
- وبعبارة أخرى - شمول المدخول لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه، غاية الامر ان دائرة
المدخول مضيقة من جهة التقييد، وكذلك المدخول مستعمل فيما وضع له، فإنه لم
يوضع الا للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة، ومن البديهي انه لم يستعمل الا
فيه، وإفادة التقييد بدال آخر كإفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة، لا تنافى استعمال اللفظ
في نفس الطبيعة المهملة، وبالجملة الاطلاق لم يؤخذ في معنى المطلق كي يكون التقييد
مخالفا للمعنى الموضوع له كما أن المدخول لم يستعمل في المقيد والقيد قرينة عليه كي
يكون مجازا.
وأما إذا كان المخصص منفصلا كما إذا ورد (أكرم كل عالم) ثم ورد (لا تكرم
الفاسق من العلماء) فالعام استعمل في العموم والتقييد لا يوجب تصرفا فيه. وتوضيح
ذلك يتوقف على بيان:
مقدمة وهي ان الدلالات على اقسام: الأولى: الدلالة التصورية وهي الانتقال إلى
المعنى من سماع اللفظ، ولو كان اللافظ بغير شعور واختيار، وهذه الدلالة لا تستند
إلى الوضع بل منشأها الانس الحاصل من كثرة الاستعمال. الثانية: الدلالة التصديقية فيما
قال ويعبر عنها بالدلالة التفهيمية، وهي دلالة اللفظ على أن المتكلم أراد به تفهيم المعنى،
وهذه الدلالة مستندة إلى الوضع لما تقدم في مبحث الوضع من أن حقيقته، تعهد الواضع
بأنه متى أراد تفهيم معنى خاص تكلم بلفظ مخصوص، وهذه الدلالة تتوقف زايدا
308

على العلم بالوضع على احراز ان المتكلم في مقام التفهيم وانه لم ينصب قرينة متصلة
في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية. الثالثة: الدلالة التصديقية فيما اراده وهي
دلالة اللفظ على أن المراد الجدي للمتكلم مطابق مع المراد الاستعمالي. - وبعبارة أخرى -
ان الداعي للإرادة الاستعمالية هو الجد لا غيره، وهذه الدلالة أيضا أجنبية عن الوضع بل
هي مستندة إلى بناء العقلاء على أن ما يصدر من الفاعل المختار من قول أو فعل يصدر
بداعي الجد لا بغيره من الدواعي، وهذه الدلالة تتوقف زائدا على ما مر على احراز عدم
وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضا، والا فمع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفا
عن المراد الجدي، فهذه القرينة مانعة عن حجية ظهور العام في العموم لا عن أصله.
إذا عرفت ذلك يظهر لك انه في التخصيص بالمنفصل، لا يستعمل العام الا في
العموم وليس هناك معنى مجازي حتى يصير مجملا، لان المخصص حينئذ لا يصادم
العام في الدلالة الثانية التي هي الدلالة الوضعية، وانما يصادمه في الثالثة، - وبعبارة أخرى -
يكشف المخصص عن عدم مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي، وعدم حجية العام
في جميع الافراد، وهذا لا يقتضى رفع اليد عن الدلالة الوضعية والظهور، فالعام
المخصص مستعمل في معناه الحقيقي دائما غاية الامر في المقدار الذي قامت القرينة على
عدم كونه مرادا جديا يرفع اليد عنه وفى المقدار الزايد ينعقد الظهور بالمعنى الثالث ببناء
العقلاء الذي هو المتبع في المقام.
فان قيل، كما قيل: ان المخصص المنفصل إذا كان كاشفا عن عدم كون المراد
الجدي مطابقا للمراد الاستعمالي، فما فائدة استعمال العام في العموم.
أجبنا عنه: بأنه مضافا إلى أن المتكلم ربما يكون لابد من ذلك لأجل مفسدة في
بيان القيد أو مصلحة في تأخيره ولو تقية أو ما شاكل، ان استعماله فيه انما هو ضرب للقانون
والقاعدة، حيث إنه لا بد بحكم العقل من العمل على طبقه وعدم التعدي عنه الا بقيام
دليل على خلافه، فهو حجة بهذا العنوان العام بالإضافة إلى جميع موارده ومصاديقه الا ما
قام الدليل على خلافه وفى غيره يرجع إلى العموم. فالمتحصل ان التخصيص لا يوجب
التجوز في العام بل هو مستعمل فيما وضع له وان لم يكن المستعمل فيه مرادا جديا.
309

وأورد على ذلك بايرادات، أحدها: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان الإرادة
الاستعمالية، ان أريد بها ايجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والإرادة
مغفولين عنهما حين الاستعمال باعتبار ان النظر إليهما آلى، فهذه هي بعينها الإرادة الجدية
المتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى، وان أريد بها الإرادة الهزلية في مقابل الإرادة
الجدية، فهي وان لم تكن منافية لاستعمال اللفظ في المعنى لعدم كون الاستعمال الحقيقي
دائرا مدار كون الداعي إليه هو خصوص الإرادة الجدية، الا انه من المقطوع به ان استعمال
عمومات الكتاب والسنة في معانيها لا يكون من هذا القبيل أي لا يكون الداعي إليه الإرادة
الهزلية.
وفيه: انه لا تلازم، بين ان لا يكون الداعي إلى الاستعمال هو الإرادة الجدية، وبين
كونه هو الإرادة الهزلية، لما عرفت من أنه يمكن ان يكون الداعي ضرب القانون والقاعدة
وعرفت ما يترتب على ذلك من الفائدة.
ثانيها: ما عن المحقق النائيني أيضا، وهو ان ورود العام في بعض الموارد لبيان
حكم الشك ضربا للقاعدة، وان كان لا ينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة و
ما شاكل، الا ان التخصيص في هذه الموارد قليل جدا حيث إن تقدم شئ عليها غالبا يكون
بنحو الحكومة أو الورود، واما العمومات المتكفلة لبيان الاحكام الواقعية للأشياء
بعناوينها الأولية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه، فعمل أهل العرف بها حال الشك
لا يكشف عن كونها واردة في مقام ضرب القانون والقاعدة، ضرورة ان عملهم بها
عند الشك في ورود التخصيص عليها انما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون
الظاهر مرادا واقعا، وعن ان المتكلم ألقى كلامه بيانا لما اراده في الواقع، وعليه فيستحيل
كون تلك العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك.
وفيه: ان المراد من استعمال العام في العموم من باب جعل القانون والقاعدة، ليس
كون الحكم المجعول على العام مجعولا عليه في ظرف الشك، بل المراد به ان العام
استعمل في معناه الموضوع له والداعي إليه كونه بيانا للمراد الجدي ما لم تكن قرينة
على التخصيص.
310

الثالث: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) قال: ان الظاهر من الانشاء كونه بداعي
البعث لا بداعي جعل القانون والقاعدة، فبعد ورود التخصيص، يدور الامر بين مخالفة
أحد ظهورين، اما الظهور الاستعمالي برفع اليد عنه مع حفظ ظهوره في كونه بداعي البعث
الجدي بالنسبة إلى ما استعمل فيه وهو الخصوص، واما الظهور من حيث الداعي وهو
كون الانشاء بداعي البعث برفع اليد عنه، وحمل الانشاء على كونه بداعي ضرب القانون و
اعطاء الحجة، ولا مرجح لأحدهما على الاخر.
وفيه: انه إذا ورد كلام له ظهورات، ثم ورد ما ينافيه. لا بد من لحاظ انه مناف لأي
ظهور من الظهورات ورفع اليد عن خصوصه، وان ارتفع التنافي برفع اليد عن الظهور
الاخر، مثلا إذا ورد (أكرم العلماء). ثم ورد (لا يجب اكرام زيد العالم) فالتنافي وان كان
يرتفع بحمل الامر في الدليل الأول على الاستحباب، الا انه لا وجه له: إذ التنافي انما هو
بين ظهور الدليل الأول في العموم، وبين الخاص فلا بد من رفع اليد عنه، وابقاء ظهوره
في الوجوب، وهذا هو الميزان الكلى في جميع موارد التعارض، وعليه ففي المقام إذا
فرضنا ورود اكرام العلماء، ثم ورود (لا تكرم زيدا) فبما ان طرف المعارضة للدليل الثاني،
هو ظهور الأول في كون الانشاء بداعي البعث بالإضافة إلى جميع افراد العام فالمتعين هو
رفع اليد عنه خاصة، دون ظهوره في إرادة العموم بالإرادة الاستعمالية.
الرابع: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) أيضا وحاصله: ان حجية الدليل انما هي
باعتبار كاشفية الانشاء عن كونه بداعي البعث الجدي والانشاء الواحد المتعلق بموضوع
متعدد، حيث إنه بداعي البعث الحقيقي، فيكون منشأ لانتزاع البعث حقيقة بالإضافة إلى
كل واحد، ولو لم يكن بداعي البعث الحقيقي بالإضافة إلى بعض الافراد مع كونه متعلقا به
في مرحلة الانشاء، فاما ان يكون الداعي متعددا، فيلزم صدور الانشاء الواحد عن داعيين
بلا جهة جامعة تكون هي الداعي، واما ان يكون هو البعث الحقيقي، فالمفروض عدمه
بالإضافة إلى بعض الافراد، فيتعين كون الانشاء لا بداعي البعث الجدي بالإضافة
إلى الجميع. وعليه فلا يكون حجة بالنسبة إلى البقية: إذ الحجية انما تكون فيما إذا كان
الانشاء بداعي البعث الجدي، لا إذا كان بداع آخر.
311

وفيه: ان انشاء الحكم لموضوع متعدد وصدوره عن داعيين بمعنى كون الداعي
بالإضافة إلى بعض الافراد، البعث الجدي، وبالإضافة إلى آخر داع آخر، كما إذا كانت
مصلحة في تأخير بيان القيد أو مفسدة في بيانه بالمتصل، لا محذور فيه، إذ الداعي ليس
علة الفعل كي يصح ان يقال الواحد لا يصدر الا عن الواحد.
الخامس: انه في الكلام الصادر من المتكلم وان كان أصلين مترتبين، أحدهما
أصالة الظهور المعينة ان الظاهر هو المراد الاستعمالي عند الشك واحتمال إرادة غيره.
ثانيهما، أصالة صدور الظاهر بداعي الجد لا بدواع اخر، الا ان الأصل الأول، انما يكون
طريقا وقنطرة للمراد الجدي الذي هو مقتضى الأصل الثاني، والا فأي معنى للبناء على أن
الظاهر هو المراد بالإرادة الاستعمالية مع العلم بعدم كونه مرادا جديا. وعليه، فإذا فرضنا
ان القرينة، وهي الخاص قامت على أن الظاهر ليس مرادا جديا - وبعبارة أخرى - لا إرادة
جدية على طبق مدلول اللفظ بتمامه، لا يبقى مجال لأصالة الظهور إذ لا بناء لأهل
المحاورات على حمل اللفظ على ظاهره بعد ذلك.
وفيه: انه ان احتملنا استعمال اللفظ في معناه الظاهر غير المراد بلا داع من الدواعي
العقلائية كان ما ذكر تاما، ولكنا لا نحتمل ذلك في الكلمات الصادرة من الشارع
الأقدس، وعليه، فإذا كان ذلك لأجل داع عقلائي ولو كان ذلك في المقام اعطاء الحجة
وجعل القانون، فلا محالة يكون بناء العقلاء على أصالة الظهور والاعتماد عليها.
فتحصل ان ما افاده المحقق الخراساني في المقام حق لا يرد عليه شئ من ما
أوردوه عليه.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وحاصله، ان الميزان في كون اللفظ حقيقة هو
كونه مستعملا، في معناه الموضوع له بحيث ان الملقى في الخارج كأنه هو نفس ذلك
المعنى البسيط العقلاني، وهذا الميزان متحقق في المقام، من جهة ان أداة العموم لا
تستعمل الا فيما وضعت له، كما أن مدخولها لم يستعمل الا فيما وضع له، اما الثاني: فلان
المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة، ومن الواضح انه لم
يستعمل الا فيها، وإفادة التقييد بدال آخر متصل أو منفصل كإفادة الاطلاق بمقدمات
312

الحكمة، لا تنافى استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر، واما الأول: فلان
الأداة لا تستعمل ابدا الا في معناها الموضوع له أعني به تعميم الحكم لجميع افراد ما أريد
من مدخولها، غاية الامر ان المراد بالمدخول، تارة يكون أمرا وسيعا، وأخرى يكون أمرا
ضيقا. وهذا لا يوجب فرقا في ناحية الأداة أصلا.
وفيه: ان هذا لا يتم بناءا على ما اخترناه من أن أداة العموم بأنفسها متكفلة لبيان
عدم دخل شئ من الخصوصيات في الحكم ولا تحتاج إلى اجراء مقدمات الحكمة
في المدخول: فإنه على هذا يكون المخصص منافيا لهذه الدلالة مع قطع النظر عما ذكرناه
والظاهر أن مراده (قده) ما ذكرناه وعليه فيتم.
ومنها: ان تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه لامكان ان يراد العموم
من العام المخصص إرادة تمهيدية، ليكون ذكر العام توطئة لبيان مخصصه، وحيث ما كان
العموم مرادا من اللفظ كان اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان ذكر العام للدلالة على معناه دلالة تصورية
توطئة للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعض
وان كان صحيحا الا انه يختص بموارد التخصيص بالمتصل ولا يعم موارد التخصيص
بالمنفصل فتبقى دعوى عدم استلزام التخصيص فيها للمجازية بلا دليل.
وفيه: ان مراد هذا القائل، من أن إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية ليس هو
الإرادة التصورية، بل مراده منها الإرادة التفهيمية أي التصديقية فيما قال، والتعبير عنها
بالتمهيدية من جهة ان ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده، فهذا الوجه يرجع إلى
ما ذكرناه وأوضحنا به ما افاده المحقق الخراساني واجبنا عن كل ما أورد عليه.
إذا خصص العام بالمجمل مفهوما
واما الموضع الثاني: وهو ما إذا فرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشك
في مفهوم الخاص ومن جهة الشبهة المفهومية فملخص القول فيه.
313

ان المجمل المفهومي ربما يكون مجملا من جميع الوجوه كما في (أكرم العلماء
الا بعضهم) وهذا القسم خارج عن محل الكلام، ولا كلام في سقوط العام عن الحجية
رأسا، وربما يكون مجملا من بعض الجهات بحيث يبقى للعام موارد متيقنة، كما في
(أكرم العلماء الا الفساق منهم) وفرض تردد الفاسق بين اختصاصه بمرتكب الكبيرة،
وشموله لمرتكب الصغيرة، حيث إن العالم الذي لا يرتكب شيئا منهما يكون مشمولا للعام
يقينا، وهذا هو محل الكلام.
ثم إن المخصص المجمل مفهوما على أربعة اقسام. إذ ربما يكون المخصص
متصلا، وربما يكون منفصلا، وعلى كل تقدير، قد يكون امره مرددا يبن الأقل والأكثر.
وقد يكون مرددا بين المتباينين، وقبل بيان ما هو الحق في هذه المسألة لا بد من التنبيه على
امر مر تفصيله.
وملخصه، ان لكل كلام صادر من متكلم مختار دلالات، الأولى: الدلالة
التصورية. الثانية: الدلالة التصديقية فيما قال. الثالثة: الدلالة التصديقية فيما أراد،
والمخصص منفصلا كان أو متصلا لا يصادم الدلالة الأولى، وإذا كان متصلا فهو يصادم و
يزاحم الدلالة الثانية، ويوجب قصرها على غير موارد التخصيص، وإذا كان منفصلا فهو
لا يصادم الثانية، بل يزاحم الثالثة، ويوجب قصر الحجية على غير مورد التخصيص.
إذا حققت ذلك فاعلم، ان المخصص إذا كان متصلا يسرى اجماله إلى العام كان
اجماله لدوران الامر بين الأقل والأكثر، أو لدورانه بين المتباينين: فإنه من جهة مزاحمة
الخاص إذا كان متصلا لظهور العام في العموم لا ينعقد للعام ظهور، الا في الافراد المعلوم
عدم دخولها تحت الخاص. - وبعبارة أخرى - بعد فرض كون الخاص المتصل موجبا
لعدم ظهور العام الا في غير ما هو مشمول للخاص، إذا كان الخاص مجملا يصير العام
أيضا مجملا.
وان كان المخصص منفصلا، فان كان امره دائرا بين المتباينين يسرى اجماله
إلى العام من جهة ان الخاص، أوجب تقييد مراد المتكلم بشئ، غير معين، وقصر حجيته
في غير ذلك الشئ، فإذا كان الخاص مجملا لا محالة يصير العام مجملا، غاية الامر لا
314

يوجب اجمال العام بالإضافة إلى دلالته التصديقية فيما قال، بل يوجب اجماله بالإضافة
إلى دلالته التصديقية فيما أراد.
واما ان كان اجماله لدوران امره بين الأقل والأكثر كما إذا ورد أكرم العلماء، ثم
ورد في دليل منفصل، لا تكرم الفساق منهم، وتردد الفاسق بين ان يكون مرتكب الكبيرة
خاصة، أو هو مع المرتكب للصغيرة، فلا يسرى اجماله إلى العام، لا بالإضافة إلى الدلالة
التصديقية فيما قال، ولا بالإضافة إليها فيما أراد، اما في الأولى فواضح، واما في الثانية
فلان قصر الخاص حجية العام انما يكون من جهة كونه حجة أقوى، فهو انما يصلح لقصر
الحجية في المقدار الذي هو حجة فيه، واما فيما لا حجية له بالإضافة إليه، فلا قاصر
لحجية العام فلا محالة يكون العام حجية فيه، وحيث، ان الخاص حجة في القدر المتيقن،
وهو الأقل ولا يكون حجة في الافراد المشكوك فيها فلا مزاحم لحجية العام فيها كي
يمنع عن حجيته فهو الحجة والمعلول.
وقد أورد على ما ذكرناه من التفصيل بين المخصص المتصل والمنفصل وان
اجمال الخاص لا يسرى إلى العام في الثاني بأمرين:
الأول: ان دليل الخاص يوجب تقييد المراد الواقعي بغير ما يكون الخاص شاملا له
لا بخصوص ما علم من افراده، إذ الخارج هو المفهوم الكلى، وعليه، فإذا فرض اجمال
الخاص لتردده بين الأقل والأكثر يكون الباقي تحت العام بحسب المراد الواقعي، مرددا
بين الأقل والأكثر فلا فرق بين المخصص المتصل، والمنفصل بالنسبة إلى تقييد المراد
الواقعي، فكل منهما يوجب اجمال العام - وبعبارة أخرى - ان المنفصل فيما له من
المدلول واقعا، يمنع عن حجية العام ويوجب قصر الحجية على ما لا يكون داخلا تحت
الخاص واقعا، لا بما علمناه من مدلوله، كما أنه في صورة الاتصال يتضيق ظهوره بما له
من المدلول لا بما علمناه من مدلوله، وبالجملة لا فرق بين صورتي الاتصال والانفصال،
الا في زوال الظهور في أحدهما دون الاخر، والا فمن حيث تضييق الحجية هما متساويان.
وفيه: انه في المخصص المتصل لا ينعقد للعام ظهور بالنسبة إلى الافراد المشكوك
فيها فلا يتم موضوع الحجية الثابتة ببناء العقلاء، واما في المنفصل فالعام ينعقد ظهوره في
315

جميع الافراد فيكون حجة على جميع الافراد في نفسه، وانما الخاص يمنع عن حجيته
لكونه حجة أقوى، وحيث إن حجية الخاص انما تكون بالنسبة إلى الافراد المعلومة
خاصة، لعدم ترتب الحكم على المفاهيم، والألفاظ، وتعلقه بالمصاديق، فقول المولى، لا
تكرم الفساق حكم انحلالي بحسب ما للفاسق من الافراد وحينئذ فكل فرد علم شمول
الخاص له يكون هو خارجا عن تحت العام، والافراد المشكوك فيها من جهة عدم العلم
بشمول الخاص لها، وبالتبع لا يكون هو حجة فيها، تكون باقية تحت العام، وبالجملة ليس
الخارج عن تحت العام شئ واحد، بل أشياء فكل ما علم خروجه فهو، والا فيبقى تحت
العام.
الثاني: انه بعد ما صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلا عن
كلامه، فلا محالة يحتاج في التمسك بعموم كلام المتكلم احراز عدم المخصص
المنفصل، وعليه، فاللازم الاجمال فيما نحن فيه لعدم احرازه بالنسبة إلى الافراد
المشكوك فيها لا بالقطع، ولا بالأصل، اما الأول فواضح، واما الثاني فلعدم بناء العقلاء
على التمسك به بعد وجود ما يصلح ان يكون صارفا والمفروض وجوده وهو الخاص.
وفيه: ان لازم ذلك أن لا يجوز لأصحاب الأئمة عليهم السلام التمسك
بالعمومات الصادرة عنهم مع احتمال صدور المخصص المنفصل من ذلك الامام
أو الامام اللاحق، وهذا مما ثبت خلافه بالضرورة، فيستكشف منه ان بناء العقلاء على
التمسك بعموم كل ما استقر ظهوره التصديقي فيما قال ما لم يقم حجة أقوى على خلافه،
والخاص لا يكون حجة في الافراد المشكوك فيها كي يمنع عن حجية العام. نعم، إذا كان
الخاص مرددا بين المتباينين لا يمكن التمسك به في شئ من الموردين، للعلم الاجمالي
بخروج أحدهما وهو كما يمنع عن جريان الأصول العملية في أطرافه، كذلك يمنع عن
جريان الأصول اللفظية فيها.
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
واما الموضع الثالث: وهو ما إذا شك في خروج مورد عن العام وعدم شموله له،
316

من ناحية الشبهة الموضوعية، كما لو (ورد أكرم العلماء الا المرتكب للكبيرة) وفرضنا
الشك في ارتكاب زيد العام للكبيرة وعدمه، فقد وقع الخلاف فيه في أنه، هل يتمسك
بالعام ويحكم بان الفرد المشكوك فيه محكوم بحكم العام، وفى المثال، يحكم
بوجوب اكرام زيد، أم لا يجوز التمسك بالعام فيه.
الظاهر أنه لا كلام في عدم جواز التمسك به فيما إذا كان المخصص متصلا، بلا
فرق، بين ان يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كما في المثال، أو بغيرها كالوصف
أو نحوه كقولنا (أكرم كل عالم تقى) والوجه في ذلك: انه لا ينعقد للعام ظهور الا فيما
علم خروجه عن المخصص ففي المثالين لا ينعقد للعام ظهور الا في حصة خاصة
من العلماء وهي التي لا توجد فيها الارتكاب للكبيرة، وما علم كونه تقيا. فمع الشك
في الموضوع لا سبيل إلى التمسك بالعام.
واما في المنفصل، فنسب إلى أكثر القدماء، بل قيل إنه المشهور بينهم
جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ونسب ذلك إلى الشهيد الثاني، حيث نسب
إليه الاستدلال لان الخنثى إذا ارتد يقتل: بعموم قوله من بدل دينه فاقتلوه خرج منه المرأة
ويبقى الباقي داخلا في العموم.
وأيضا نسب إلى السيد صاحب العروة، ولكن هذه النسبة إلى صاحب العروة انما
استنبطت، من بعض الفروع الذي ذكره، منها: قوله إذا علم كون الدم أقل من الدرهم، و
شك في أنه من المستثنيات أم لا يبنى على العفو. ومنها: قوله إذا شك في أنه بقدر الدرهم
أو أقل فالأحوط عدم العفو.
ولكن لا يصح هذا الاستنباط إذ مضافا إلى أنه يمكن ان يكون حكمه بالعفو
في الفرع الأول لاستصحاب عدم كونه من المستثنيات بنحو العدم الأزلي، أو أصالة البراءة
عن مانعية هذا الدم للصلاة، أو غيرهما، كما أن احتياطه بعدم العفو في الثاني يمكن ان يكون
لأجل ان عنوان المخصص عنوان وجودي، فلا مانع من استصحاب عدمه عند الشك
فيه، ومضافا إلى أن بعض الفروع الذي ذكره في العروة، لا يلائم هذا المبنى، منها ما
317

لو شك في مايع انه مطلق أو مضاف ولم يعلم حالته السابقة: فإنه حكم بعدم تنجسه
بملاقاة النجاسة ان كان بقدر الكر، مع أنه لو جاز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية كان
عليه ان يفتى بالنجاسة، لان مقتضى العمومات، تنجس كل شئ بالملاقاة الا الماء الكر،
فمع الشك في المائية يشك في المصداق.
انه يصرح في العروة وملحقاتها بعدم الجواز، اما في العروة فقد أفاد في كتاب
النكاح في مسألة ما إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة، انه
يجب الاجتناب عن الجميع، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب، وان
كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية فان شك في كونه مماثلا أو لا أوشك في كونه
من المحارم النسبية أو لا، فالظاهر وجوب الاجتناب، لان الظاهر من اية الغض ان
جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلا أو من المحارم، فمع الشك يعمل
بمقتضى العموم لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية بل لاستفادة شرطية
الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك، فإنه دليل على أنه ليس من القائلين بالجواز.
واما في الملحقات ففي كتاب القضاء في الفصل الخامس عشر في المسألة 13
في التنازع في صحة العقد وفساده في ذيل رد من استدل للصحة بالآيات والأخبار الدالة
على حمل فعل المسلم على الصحة، قال كما لا وجه للتمسك له بالعمومات إذ مع
الاغماض عن كون الشبهة مصداقية قد يكون هناك أصل يثبت موضوع المخصص
المعلوم كاصالة عدم البلوغ وأصالة عدم التعيين ونحوهما.
واما النسبة إلى المشهور فقد أفاد المحقق النائيني (ره) ان مسألة جواز التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية وعدمه لم تكن محررة في كلام المشهور، وانما نسب إليهم
ذلك من جهة ذهابهم إلى الضمان، فيما إذا دار الامر بين كون اليد عادية وكونها غير عادية،
فحيث توهم انه لا مدرك لذلك سوى عموم ما دل على ضمان اليد الخارج عنه اليد
الأمانية غير العادية، مع أنه يمكن ان يكون مدركهم التمسك بالأصل واحراز موضوع
الضمان بضم الوجدان إليه كما يستفاد ذلك من كلمات المحقق الثاني، بدعوى ان
موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير وعدم رضاه بذلك، والمفروض ان
318

الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضاه بذلك محرز بالأصل وبضم
الوجدان إلى الأصل يتم الموضوع المركب فيترتب عليه الضمان، فهذه النسبة أيضا غير
ثابتة، واما النسبة إلى الشهيد الثاني فهي أيضا غير صحيحة لان الظاهر من استدلاله انه يرى
الخنثى المشكل صنفا ثالثا غير الرجل والمرأة، فإنه قال خرج عن العموم المرأة و
بقى الباقي ولم يقل من علم كونه امرأة، وبالجملة فالقائل بالجواز مطلقا غير ثابت.
نعم، لو صح ما نسب إلى العلامة من التمسك بعموم ما دل على وجوب الغض
للحكم بعدم جواز النظر إلى من شك في كونه مماثلا كان هو من القائلين به.
وعن الشيخ الأعظم الأنصاري انه قد فصل بين ما كان المخصص لفظيا وما كان
لبيا، فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، دون الثاني، وتبعه
المحقق الخراساني (ره).
فالكلام يقع في مقامين. الأول: فيما إذا كان المخصص لفظيا. والثاني: ما إذا كان
لبيا.
اما المقام الأول: فالأظهر عدم جواز التمسك بالعام، في الشبهة المصداقية: لأنه قد
مر مرارا انه لا يمكن التمسك بأي دليل ما لم يحرز موضوعه ولا يكون حجة بدون
ذلك، ولذا لو شك في مايع انه خمر أو غير خمر لا يجوز التمسك بعموم ما دل على
حرمة شرب الخمر، بل يرجع إلى أصالة البراءة وهذا من الوضوح بمكان، وعليه ففي
المقام، قبل ورود الخاص كان العام بحسب الظاهر تمام الموضوع للحكم، وبعد وروده
وتقديمه على العام تكون حجية العام مختصة بغير المعنون بعنوان الخاص - وبعبارة
أخرى - يكون عنوان العام جزء الموضوع والجزء الاخر عدم عنوان الخاص، فكما انه
لو شك في صدق عنوان العام، لا يجوز التمسك بالعموم، للشك في الموضوع كذلك،
لو شك في عنوان الخاص، إذ لا فرق بين الشكين في كونهما شكا في الموضوع المانع عن
التمسك بأصالة العموم.
وقد استدل للجواز بوجوه. الأول: ان العام حجة فيما لا يزاحمه حجة أقوى، و
عليه، فحيث ان الخاص لا يكون حجة في الفرد المشكوك فيه فلا مزاحم لحجية العام
319

فيه، إذ اللاحجة لا يصلح لمزاحمة الحجة.
وفيه: ان الخارج عن تحت العام لا يكون هي الافراد الخارجية بما هي، بل الخارج
هو العنوان الذي تضمنه دليل الخاص لكن لا مفهومه، بل واقع ذلك العنوان بلا دخل
للخصوصيات الفردية، ولازم ذلك اختصاص حجية العام بغير مورد ذلك العنوان،
فالفرد المشكوك فيه يكون نسبته إلى العام والخاص على حد سواء، ولا يكون شئ
منهما حجة فيه.
الثاني: قياس المقام بالافراد المشكوك فيها من حيث اجمال مفهوم الخاص،
فكما ان هناك يتمسك بعموم العام كذلك في المقام.
وفيه: ان هناك حجية الخاص لا تكون في العنوان المشكوك شموله لافراد خاصة
بل لفرض الشك في المفهوم واجماله تكون حجة في المقدار المتيقن، ولا يكون حجة
في الزايد، مثلا لو تردد الفاسق بين كونه موضوعا لخصوص المرتكب للكبيرة، وشموله
للمرتكب للصغيرة يكون الخاص، وهو لا تكرم الفساق حجة في خصوص القسم الأول،
ولا يكون حجة في المرتكب للصغيرة، فهذا العنوان يكون باقيا تحت أكرم العلماء وهذا
بخلاف ما نحن فيه فان الخاص حجة في تمام مدلوله وذلك العنوان يكون خارجا عن
تحت العام.
وبعبارة أخرى: ان لازم وجود الخاص الذي هو الكاشف الأقوى اختصاص
الحكم المترتب على العام بالافراد التي لا ينطبق عليها العنوان الذي تضمنه دليل الخاص،
ولا يدور قصر الحكم مدار انطباق عنوان المخصص على الفرد الخارجي، كي يتوهم عدم
قصر الحكم بالنسبة إلى الفرد الذي لا يعلم انطباق الخاص عليه.
وان شئت قلت: ان القضية الحقيقية انما تكون متكفلة لاثبات الحكم على الافراد
المفروض وجودها، ولا تكون متكفلة، لتطبيق الموضوع على الافراد الخارجية بل هو
موكول إلى المكلف. وعليه فلو كانت الشبهة مصداقية لا يكون العام حجة الا في غير
عنوان الخاص، فكما يكون انطباق الخاص على هذا الفرد مشكوكا فيه، كذلك انطباق
العام عليه مشكوك فيه، وقد عرفت ان دليل العام لا يتكفل للتطبيق، فلا يصح التمسك
320

به، واما في الشبهة المفهومية: فلا يعمل خروج الزايد عن مقدار المعلوم عن تحت العام،
بفرض وجوده واعتبار عدمه في العام، فلا محالة يكون العام حجة بالقياس إلى تلك
الافراد أي الافراد المشكوك شمول الخاص لها.
الثالث: قياس الأصول اللفظية بالأصول العملية، فكما انه لو شك في الحلية
والحرمة يتمسك بمثل أصالة الحل كذلك: لو شك في اندراج الفرد المشكوك فيه في
ما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم.
وفيه: انه قياس مع الفارق: إذ الأصول العملية، مجعولة في فرض الشك في الواقع،
وهذا بخلاف الأصول اللفظية، فإنها واقعة في طريق احراز الواقع، وقد أحرز
ان الموضوع للحكم هو العام المعنون بغير عنوان الخاص، وكون فرد داخلا تحت عنوان
العام بعد التخصيص وعدمه أجنبي عما هو مفاد أصالة العموم.
الرابع: ان العام له عموم افرادي، واطلاق أحوالي، مثلا، (أكرم العلماء)
بعمومه الافرادي يدل على وجوب اكرام كل فرد، وباطلاقه الأحوالي يدل على وجوب
اكرام كل فرد في جميع حالاته التي تفرض، ومن جملة حالاته كونه، معلوم العدالة، و
معلوم الفسق، ومشكوك العدالة والفسق، وبورود المخصص، ك‍ (لا تكرم الفساق
منهم) يعلم خروج الفسق وشك في خروج مشكوك الفسق والعدالة، فمقتضى
أصالة العموم والاطلاق بقاء المشكوك فيه تحت الحكم.
وفيه: ان المخصص انما يوجب تخصيص العموم الافرادي، واختصاص الحكم
بغير افراد الفاسق واقعا، وهذا يوجب سقوط الاطلاق الأحوالي، لأنه فرع حجية العام
في العموم الافرادي.
الخامس: قاعدة المقتضى والمانع، بتقريب ان عنوان العام من قبيل المقتضى
لثبوت الحكم لكل فرد، وعنوان الخاص، انما هو من قبيل المانع، فإذا أحرز المقتضى و
شك في وجود المانع، لابد من الاخذ بالمقتضى بالفتح والبناء على ثبوته.
وفيه: انه ان أريد بذلك ما يرجع إلى مقام الاثبات والدلالة، بدعوى، ان
ظهور العام مقتض للحجية، والمخصص مانع عنها، ومع الشك في تطبيق المانع على فرد،
321

يؤخذ بالمقتضى، لأوله إلى الشك في وجود مزاحم لما هو حجة عليه في نفسه، فهو
يرجع إلى الوجه الأول الذي عرفت ما فيه، وان المخصص يوجب قصر حجية العام على
غير مورد الخاص.
وان أريد به ما يرجع إلى مقام الثبوت، بتوهم ان عنوان العام مقتض، و
عنوان الخاص مانع عنه، فيرد عليه مضافا إلى أنه لا دليل على هذه القاعدة من العقل
أو الشرع، انه يمكن ان يكون في الواقع المقتضى قاصرا عن الشمول للافراد التي تنطبق
عليها عنوان الخاص - وبعبارة أخرى - يكون المقتضى في الافراد التي لا ينطبق عليها
عنوان الخاص.
فتحصل: ان الأظهر عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان
المخصص لفظيا.
واما ما عن التقريرات من الاحتجاج له بالاستصحاب فيما لو عمل بالعام
في المشكوك بواسطة القطع باندراجه ثم طرأ الشك فيه، فهو على فرض جريانه تمسك
بالأصل، لا بالعام.
واما المقام الثاني: وهو ما إذا كان المخصص لبيا، فقد عرفت ان الشيخ ذهب إلى
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيه مطلقا.
واختار المحقق الخراساني التفصيل بين ما إذا كان المخصص واضحا بمثابة صح
للمتكلم ان يتكل عليه في مقام التخاطب، كما إذا كان من الاحكام الضرورية العقلية، فهو
حينئذ كالمتصل، فلا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لأنه حينئذ يكون
كالقرينة المتصلة الموجبة لصرف الكلام عن العموم إلى الخصوص، وبين ما إذا لم يكن
كذلك كما إذا كان حكما نظريا موقوفا ثبوته على مقدمات أو اجماع فيجوز.
وقد ذكر في وجه الجواز والفرق بينه وبين المخصص اللفظي وجوها، أحدها: انه
إذا ورد عام، كقولنا (أكرم كل عالم) ورود من الشارع مخصص لفظي كقولنا (لا تكرم
الفساق منهم) تكون الحجة الملقاة من المولى إلى عبده اثنتين. إحداهما العام، والأخرى
الخاص. والخاص انما يوجب رفع اليد عن حجية العام بمقدار مدلوله، فالفرد المشكوك
322

فيه يكون نسبته إليهما على حد سواء، فلا يصح الاخذ بإحداهما دون الأخرى، واما
في المخصص اللبي فالحجة الملقاة من المولى حجة واحدة، لابد من اتباعها وعدم رفع
اليد عنها الا بمقدار القطع الحاصل من تلك المقدمات، ومعلوم ان القطع بالعنوان
لا يسرى إلى المصاديق المشكوك فيها فهي مما يعلم عدم كونها موضوعا للحجية
فبالنسبة إليها ليس في البين حجة على خلاف العام واقعا، فلا يجوز رفع اليد عن العام لأنه
بلا وجه.
وفيه: أولا انه على هذا الوجه لا مورد للفرق بين ما هو كالمتصل وغيره، إذ
في القسم الأول أيضا يجرى هذا البرهان بعينه، وبه يحرز عدم كون المشكوك فيه من
افراد الحجة على خلاف العام، فلا وجه لدعوى عدم انعقاد ظهور للعام في العموم. وثانيا:
انه (قده) سيصرح في مبحث الاستصحاب بسراية العلم إلى الخارج، وعليه، فلو كان العلم
متعلقا بعنوان واحتمل انطباق ذلك العنوان على الفرد الخارجي، يحتمل كونه موضوعا
للعلم مثلا، لو علم بحرمة اكرام الفاسق، واحتمل كون زيد فاسقا يحتمل كونه موضوعا لما
علم حرمة اكرامه، وعلى ذلك فلا فرق بين المخصص اللفظي واللبي. وثالثا: ان
المخصص اللبي كاللفظي يوجب تقييد المراد الواقعي، وعدم كون الموضوع الواقعي
هو العام بما هو بل مقيدا بقيد خاص، ففي الافراد المشكوك فيها، وان كان عدم حجية
الخاص معلوما، الا ان دخولها في موضوع ما هو حجة من مفاد العام غير معلوم، فلا
يمكن التمسك به.
ثانيها: ان الفرق بين الموردين يظهر من عدم صحة مؤاخذة المولى، إذا ورد (أكرم
جيراني) ثم قال (لا تكرم أعدائي من جيراني) لو لم يكرم واحدا من جيرانه لاحتمال
عداوته، وهذا بخلاف ما إذا لم يرد الخاص بل علم من الخارج انه لا يريد اكرام أعدائه من
جيرانه، وشككنا في عداوة بعض جيرانه ولم يكرمه فإنه يستحق المؤاخذة حينئذ على
ترك اكرامه.
ويرد عليه ان ذلك دعوى لا شاهد لها، بل بنظر العقلاء الذي هو المعيار في
هذا الباب، لا فرق بين الموردين أصلا.
323

ثالثها: ما ذكره بقوله وبالجملة كان بناء العقلاء على حجيتها بالنسبة إلى المشتبه
هيهنا بخلافه هناك، وهذه أيضا دعوى بلا بينة ولا شاهد.
رابعها: ما ذكره في التقريرات، ومنها اخذ المحقق الخراساني، وذكره في آخر
كلامه، وحاصله ان الرجوع إلى العام فيما إذا كان المخصص لبيا، يوجب رفع الشك عن
المصداق المشتبه للخاص، فيقال في مثل (لعن الله بنى أمية قاطبة) ان فلانا وان شك في
ايمانه يجوز لعنه، لمكان العموم وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا فينتج انه ليس بمؤمن.
ويرده، انه إذا ورد عام مثل (لعن الله بنى أمية قاطبة) فتارة يعلم أن في بنى أمية
مؤمنين، وأخرى يشك في ذلك، وما افاده يتم في الفرض الثاني، و
محل الكلام هو الفرض الأول الذي يعلم بعدم بقاء العام على ظهوره في العموم، وورد
التخصيص عليه، غاية الامر انه مردد بين الأقل والأكثر. فتدبر.
ثم إن المحقق النائيني اختار تفصيلا آخر فيما إذا كان المخصص لبيا، وهو ان ما
يسمى بالمخصص العقلي أي المخصص غير اللفظي، ان كان بمعنى ما يوجب تقييد
موضوع الحكم وتضييقه نظير تقييد الرجل في قوله (ع) (فانظروا إلى رجل قد روى
حديثنا) الخ، بكونه عادلا لقيام الاجماع على ذلك، فحاله حال المخصص اللفظي، وأما إذا
كان بمعنى ادراك العقل ما هو ملاك حكم الشارع، غير الصالح لتقييد الموضوع،
إذ الملاك هو ما يترتب على الفعل المتأخر عن الحكم المتأخر عن وجود الموضوع، كما
في قوله (ع) (لعن الله بنى أمية قاطبة) مع حكم العقل بان ملاك لعنهم انما هو بغضهم
لأهل البيت عليهم السلام، فالمؤمن منهم على تقدير وجوده كخالد بن سعيد لا يشمله
اللعن المزبور، فيجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وذلك، لان احراز كون
الملاك في جميع افراد العام انما هو من وظائف المولى إذ لا يصح له القاء العام الا مع
احراز ذلك، ولو فرض العلم بعدم وجود الملاك في بعض الافراد لابد من حمل كلام
الشارع الأقدس على أنه لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك، وأما إذا شك في وجود
الملاك وعدمه فنفس العموم يصلح لان يكون كاشفا عن وجوده في الفرد المشكوك
فيه إذ مع عدم احرازه وجود الملاك في المشكوك فيه لما كان يلقى كلامه بنحو يشمله.
324

وفيه: انه إذا أحرز العقل عدم وجود الملاك في فرد، فلا محالة يكون ذلك من
جهة اشتماله على خصوصية أو فقده الخصوصية الموجودة في ساير الافراد، والا فلا يعقل
احراز عدم الملاك فيه، وحينئذ ان كانت تلك الخصوصية معلومة تكون هي في الصورة
الأولى وعدمها في الثانية قيدا للعام، فحال هذا القسم حال القسم الأول إذا شك في وجود
تلك الخصوصية في فرد، وان لم تكن معلومة وكانت مرددة بين أمور يكون المقام من
قبيل دوران امر الخاص بين المتباينين.
تذييل في استصحاب العدم الأزلي
وقد اختلف المحققون في أنه، هل يمكن احراز دخول الفرد المشتبه في افراد
العام باجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم امكان التمسك بعموم العام بالإضافة إليه
أم لا؟ فذهب المحقق الخراساني (ره) إلى القول الأول وتبعه جماعة، والمحقق النائيني
إلى الثاني وتبعه جماعة آخرون.
وليعلم ان محل الكلام في المقام ما إذا كان المخصص ذات عنوان وجودي و
موجبا لتقييد موضوع العام، كالمخصص المنفصل كما لو قال (أكرم العلماء) وقال بدليل
منفصل (لا تكرم فساقهم) أو كالاستثناء من المتصل نظير (أكرم العلماء الا الفساق منهم)
أو (المرأة تحيض إلى خمسين، الا القرشية) وأما إذا كان متصلا بالكلام على وجه
التوصيف كما لو قال (أكرم العلماء العدول أو غير الفساق) أو (المرأة غير القرشية تحيض
إلى خمسين) أو ما شاكل فهو خارج عن محل الكلام، فإنه لا أصل يحرز به حال الفرد
المشتبه، الا إذا كان لنفس القيد حالة سابقة عدما أو وجودا مع وجود الموضوع.
وقد استدل المحقق الخراساني لما اختاره: بأنه في محل الكلام، يكون الباقي
تحت العام غير معنون بعنوان خاص، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص، فيمكن
احراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب الموارد، وبه يحكم عليه بحكم العام،
مثلا إذا شك ان امرأة تكون قرشية أو غيرها فلا أصل يحرز به انها قرشية أو غيرها لأنه
325

ليس زمان تكون المرأة موجودة وعلم اتصافها بأحدهما ثم شك فيه، الا ان أصالة عدم
تحقق الانتساب بينها وبين القريش تجدي في تنقيح انها ممن لا تحيض الا إلى خمسين،
لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين القريش انتساب أيضا باقية تحت ما دل على أن المرأة
انما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشية.
فملخص ما يدعيه ان مثل التخصيص المزبور، انما يوجب تعنون الموضوع
في العام بعدم كونه متصفا بذلك الوصف الذي اخذ في المخصص، بمعنى اعتبار عدم
اتصاف العام بالوصف الوجودي المأخوذ في ناحية الخاص، وهذا هو المراد من قوله بل
بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص، أي كل عنوان وجودي أو عدمي فرض تحققه
في طرف العام، فهو لا ينافي ثبوت الحكم له، الا العنوان المأخوذ في الخاص، ولا يضر
وجوده ولا عدمه، وليس مراده دخل كل عنوان في الحكم، وعليه فيجرى استصحاب
عدم تحقق الوصف والعنوان المأخوذ في الخاص، وفى المثال استصحاب عدم القرشية
المتحقق قبل تولد تلك المرأة في الخارج ويثبت به انها غير متصفة بالقرشية فتكون باقية
تحت دليل العام الدال على أن المرأة تحيض إلى خمسين عاما، لان الموضوع في العام
الباقي تحته مركب من أمرين، كونها مرأة، وعدم انتسابها إلى قريش، والأول محرز
بالوجدان، والثاني بالأصل فبضم أحدهما إلى الاخر، يتم الموضوع.
وأورد عليه تارة، بان المخصص المنفصل المذكور يوجب تعنون العام بعنوان
خاص وجودي مضاد لعنوان الخاص، وهو المنسوب إلى الشيخ الأعظم.
وأخرى بان الباقي تحت العام بعد التخصيص حسب ظهور دليله هي المرأة التي
لا تكون قرشية على نحو مفاد ليس الناقصة، فالتمسك باستصحاب العدم ان كان المراد
استصحاب العدم النعتي، فهو لا يجرى لعدم الحالة السابقة، وان كان المراد العدم
المحمولي فهو وان كان يجرى فيه الأصل الا انه لا يثبت به العدم النعتي الذي هو المأخوذ
في الموضوع الا على القول بالأصل المثبت كما عن المحقق النائيني (ره).
وثالثة: بان العام لا يتعنون من جهة الخصيص ويكون التخصيص نظير موت فرد
من افراد الموضوع فإنه وان أوجب قصر الحكم بالباقي الا انه لا يوجب تعنونه بعنوان
326

آخر زايدا عما كان عليه، ومع ذلك فاستصحاب العدم انما يصلح لرفع حكم الخاص لا
لاثبات حكم العام كما عن المحقق العراقي (ره).
وتنقيح القول في المقام بنحو يثبت صحة ما افاده المحقق الخراساني (ره) من
جريان الأصل في العدم الأزلي الذي يترتب عليه ثمرات عديدة، وعدم ورود شئ من ما
أوردوه عليه يتوقف على بيان مقدمات.
الأولى: ان الوجود والعدم، تارة يضافان إلى الماهية ويقال انها موجودة أو
معدومة - وبعبارة أخرى - ان الماهية متأصلة كانت كالجواهر والاعراض أم غيرها، لا
تخلو من أن تكون موجودة أو معدومة ولا ثالث، والا لزم ارتفاع النقيضين، فكما يقال
في الجوهر انه اما موجود أو معدومه كذلك يقال في العرض كالبياض انه اما موجود أو
معدوم، ويعبر عن هذين بالوجود والعدم المحموليين، وبمفادي كان وليس التامتين و
هما ثبوت الشئ وسلبه.
وأخرى يلاحظ وجود العرض بالإضافة إلى معروضة وموضوعه لا إلى ماهيته، أو
عدمه بالإضافة إليه، ويعبر عنها بمفادى كان الناقصة وليس الناقصة، والوجود والعدم
النعتيين، وهما ثبوت شئ لشئ ونفيه عنه، وهذان أي الوجود والعدم كذلك، يحتاجان
في تحققهما إلى وجود موضوع خارجي في الخارج ولا يعقل تحققهما بدونه، ويكونان
من هذه الناحية كالعدم والملكة، فكما ان عدم الملكة يحتاج إلى محل قابل للاتصاف
بالملكة، كذلك العدم النعتي، وعلى الجملة ان الوجود والعدم النعتيين لا يعقل تحققهما
بدون الموضوع الخارجي، ولذلك قالوا ان ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، و
من هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون ان يلزم ارتفاع النقيضين، وهذا
بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث إنه لا يمكن ارتفاعهما معا فإنه من ارتفاع
النقيضين.
فالمتحصل ان الوجود والعدم النعتيين، يحتاجان في تحققهما إلى موضوع
خارجي، والعدم الثابت قبل تحقق الموضوع غير هذا العدم.
الثانية: ان الموضوع أو المتعلق ان كان مركبا من أمور متعددة، فتارة يكون مركبا
327

من جوهرين، أو عرضين، أو جوهر وعرض ثابت، ولو في غير ذلك الجوهر، وأخرى
يكون مركبا من العرض ومحله، وثالثة يكون مركبا من المعروض وعدم العرض.
ففي القسم الأول: يكون الدخيل هو ذوات اجزاء المركب، أي كل واحد من تلك
الأمور المأخوذة - وبعبارة أخرى - الوجودات التوأمة بلا دخل لعنوان آخر من قبيل
عنوان اجتماعهما في الوجود، وغير ذلك في الموضوع أو المتعلق، ولذا إذا كان بعضها
محرزا بالوجدان، والاخر مستصحبا يترتب عليه الأثر، كما لو فرضنا ان موضوع وجوب
الاكرام، هو العالم في يوم الجمعة، فلو أحرز كون اليوم يوم الجمعة، واستصحب عالمية
زيد التي هي متيقنة سابقا ومشكوك فيها لاحقا يترتب عليه الأثر وهو وجوب الاكرام.
ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم المركب، لا لأن الشك في بقاء
عدم المركب مسبب عن الشك في وجود اجزائه، فإذا جرى الأصل فيه لا تصل النوبة إلى
جريان الأصل في المسبب، كما عن المحقق النائيني (ره)، فان السببية في المقام ليست
شرعية، فلا يكون الأصل في السبب حاكما على الأصل في المسبب.
بل: لان المركب من حيث إنه مركب بوصف الاجتماع، لا يكون موضوعا
للحكم، وانما هو مترتب على ذوات الاجزاء المجتمعة، ولا شك فيها بعد ضم الوجدان
إلى الأصل. نعم، إذا كان وصف المقارنة أو غيرها دخيلا في الحكم يجرى استصحاب
العدم، ويترتب عليه عدم الحكم، ولا يعارض باستصحاب وجود الجزء وضمه إلى
الوجدان كما لا يخفى.
وفى القسم الثاني: لا بد من اخذ الموضوع هو المعروض المتصف بذلك العرض،
لا مجرد وجود المعروض والعرض، واجتماعهما في الوجود، وذلك لان وجود العرض
في نفسه وجود في الغير وعين وجوده لموضوعه وعليه، فان اخذ وجود العرض
في الموضوع، بما هو شئ في نفسه ولم يلاحظ كونه في الغير، ووصفا له، فيخرج عن
هذا القسم، ويدخل في القسم الأول، ولا بد من الالتزام بترتب الأثر وان كان العرض
موجودا في غير هذا الموضوع وهو خلف الفرض، وان اخذ بما هو قائم بالذات وعرض،
فلا محالة يعتبر العرض نعتا، ففي ترتب الحكم لا بد من احراز اتصاف الموضوع بالعرض
328

زايدا على احراز وجود الموضوع ووجود العرض، وفى مثل ذلك لا يمكن اجراء
الاستصحاب واحراز الموضوع، الا إذا كان الوصف بوصف كونه نعتا مسبوقا بالحالة
السابقة.
وفى القسم الثالث: يمكن ان يكون الحكم مترتبا على عدم الوصف، بنحو النعتية،
وبنحو الموجبة المعدولة، ويكون العدم رابطيا بمعنى اخذ خصوصية فيه ملازمة لعدم
العرض، والا فلا معنى لكون العدم نعتا ومنتسبا ومرتبطا بشئ، فان الارتباط والنسبة من
شؤون الوجود، وفى مثل ذلك لا مورد لجريان الاستصحاب في العدم، واحراز الموضوع
بضم الوجدان إلى الأصل، ما لم يكن العدم بوصف النعتية مسبوقا باليقين إذ لا يثبت
به العدم النعتي، لكون المستصحب هو العدم المحمولي واثبات العدم النعتي به من قبيل
الأصل المثبت، مثلا، لو كان موضوع الحكم بالتحيض إلى خمسين عاما، هي المرأة
المتصفة بأنها غير قرشية لا يجدى استصحاب عدم القرشية المتحقق قبل وجود المرأة
لأنه لا يثبت به اتصاف هذه المرأة بغير القرشية.
ويمكن ان يكون الدخيل في الموضوع هو العدم المحمولي، بل هذا النحو
هو الظاهر من القضايا المتضمنة لاخذ العدم في الموضوع، فان وجود العرض في نفسه عين
وجوده لموضوعه، الا ان عدم العرض ليس كذلك، ولا يلزم ان يكون نعتا بل هو انما
يكون بعدم نسبته إلى موضوعه، وعدم تحقق العرض بنفسه، فلا يعتبر فيه ملاحظة النسبة
بينه وبين الموضوع. وبالجملة، الربط وان كان مأخوذا في طرف الوجود، الا انه لا يكون
مأخوذا في طرف العدم، وعلى ذلك فاخذ عدم العرض في الموضوع انما يكون بالطبع
بأخذه على ما هو عليه من كونه عدما محموليا لا عدما نعتيا، وفى مثل ذلك يجرى
الاستصحاب في عدم الوصف الثابت قبل وجود الموضوع والمعروض، ويحرز
الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل، ويترتب عليه الحكم، مثلا إذا كان الموضوع للتحيض
إلى خمسين عاما المرأة التي لا تكون متصفة بالقرشية، فباستصحاب عدم تحقق الانتساب
بينها وبين قريش المتحقق قبل وجود المرأة، وضمه إلى ما هو محرز بالوجدان، وهو
وجود المرأة يثبت الحكم ويترتب عليه ذلك.
329

هذا فيما إذا أحرز أحد الامرين، ولو شك في مورد ان المأخوذ في الموضوع، هل
هو العدم المحمولي، أو العدم النعتي، فقد يقال كما عن المحقق النائيني (ره) بان
الاعتبارين متباينان، فليس أحدهما متيقنا والاخر مشكوكا فيه فلا يمكن ترتيب اثر
أحدهما المعين، وهو غير تام: فان اعتباره نعتا يحتاج إلى عناية زايدة بان يؤخذ في الذات
خصوصية ملازمة لعدم الوصف، لما عرفت من أن العدم من حيث هو لا معنى لانتسابه
وارتباطه فإنهما من شؤون الوجود. وعليه، فما لم يدل دليل على اخذه كذلك يتعين حمله
على أن المأخوذ هو العدم المحمولي.
الثالثة: انه إذا ورد عام ثم ورد خاص وكان عنوان الخاص من قبيل الأوصاف،
كما إذا ورد (المرأة تحيض إلى خمسين عاما) ثم ورد (ان القرشية تحيض إلى ستين عاما)
فهو يكون كاشفا عن تقييد المراد الواقعي، وعدم جعل الحكم للخاص من أول الامر
واقعا، ولازم ذلك، ان ما ثبت له الحكم واقعا هو المقيد وملحوظا بنحو التقييد إذ مع
عدم الاهمال في الواقع، وعدم الاطلاق يتعين التقييد.
وذهب المحقق (ره) إلى أنه في مثل ذلك لا يتعنون العام من جهة
التخصيص، واستدل له: بان خروج فرد كموته في الخارج فكما ان الموت يوجب قصر
الحكم على الافراد الباقية من دون ان يعنون عنوان العام بعنوان آخر زائدا على ما كان
عليه، كذلك إذا خرج فرد عن تحت العام بدليل خاص.
وفيه: ان دليل التخصيص انما يوجب تضييق الموضوع في مقام الجعل، وانه لم
يجعل الا على افراد لا تكون داخلة تحت دليل الخاص، وهذا بخلاف الموت، فإنه
يوجب عدم فعلية الحكم من دون ان يوجب تصرفا في مقام الجعل، وهذا هو الفارق
بينهما، فالتخصيص يوجب التقييد ولكن دليل خاص لا يوجب تقييد العام بكونه متصفا
بعدم ذلك الوصف ليكون الموضوع مركبا من الذات، وعدم الوصف بنحو العدم النعتي
كي لا يجدى استصحاب عدمه الثابت قبل وجود الذات، وذلك: فان غاية ما يلزم من
التخصيص وخروج عنوان عن تحت دليل العام كونه غير مطلق بالإضافة إلى وجود ذلك
الوصف ولا مقيدا بوجوده ولا مهملا، بل مقيدا بعدم اتصافه بوجوده، واما زايدا على
330

ذلك بان يعتبر النسبة بين الذات والعدم بالنحو المعقول فدليل التخصيص، لا يدل عليه،
فلا وجه لاعتباره، والبرهان المتقدم على أن لازم اخذ عدم العرض في الموضوع
أو المتعلق دخله فيه على نحو العدم النعتي، قد عرفت ما فيه.
واما ما افاده المحقق النائيني (ره) برهانا عليه بأنه إذا كان دليل التخصيص كاشفا
عن تقييد ما ورافعا لاطلاق العام، فلا بد وأن يكون ذلك باعتبار أوصافه ونعوته التي
يكون انقسام العام باعتبارها في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته، فيرجع التقييد
إلى التقييد بالعدم النعتي، إذ لو كان راجعا إلى التقييد بعدم المقارنة للوصف على نحو مفاد
ليس التامة، فاما ان يكون ذلك مع بقاء الاطلاق بالنسبة إلى كون العدم نعتا، أو يكون
ذلك مع التقييد بالإضافة إلى العدم النعتي، وكلاهما باطل. اما الأول: فللزوم التدافع بين
الاطلاق من جهة العدم النعتي، والتقييد بالعدم المحمولي. واما الثاني: فللزوم لغوية التقييد
بالعدم المحمولي لكفاية التقييد بالعدم النعتي.
فيرد عليه، أولا انه مع تحقق العام يكون كل من العدمين ملازما للاخر خارجا فلا
يبقى مجال مع التقييد بأحدهما للتقييد بالآخر أو الاطلاق بالإضافة إليه، وان شئت فقل ان
انقسام العام بالإضافة إلى نعوته وأوصافه، وان كان في مرتبة سابقة على انقسامه بالإضافة
إلى مقارناته في طبعه، الا ان كونه كذلك في مقام الدخل في الغرض ولو في لحاظ المولى
وفى مقام جعل الحكم ممنوع. وعليه، فعين البرهان المتقدم يجرى لو قيد العام بالعدم
النعتي، ويقال، ان العام بالإضافة إلى العدم المحمولي مطلق أو مقيد، وكلاهما باطل، و
الحل ما ذكرناه.
وثانيا: انه يمكن ان يختار الشق الأول على فرض التنزل وهو كونه مطلقا بالإضافة
إلى العدم النعتي، وليس معنى الاطلاق، دخل جميع القيود في الحكم حتى يلزم التدافع،
بل معناه رفض القيود فلا تدافع.
إذا حققت هذه المقدمات تعرف ان خروج الخارج عن تحت العام وهو في المثال
عنوان القرشية يستلزم اخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على نحو التقييد بعدم
اتصاف المرأة بذلك الوصف، فيكون الباقي بعد التخصيص هي المرأة التي لا تكون
331

متصفة بالقرشية.
وعليه فلو شك في كون امرأة قرشية لا مانع من التمسك باستصحاب عدم القرشية
المتحقق قبل تولد المرأة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فيثبت الموضوع المركب من
وجود المرأة، وعدم اتصافها بالوصف الذي هو الموضوع للعام بعد التخصيص.
فالمتحصل ان ما افاده المحقق الخراساني متين لا يرد عليه شئ مما أوردوه عليه،
فالأصل في العدم الأزلي يجرى.
ثم إن المحقق النائيني (ره) أورده على المحقق الخراساني بايرادات اخر.
منها: ان ما افاده من أن العام يكون معنونا بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان
الخاص، يناقض ما افاده في صدر كلامه من أن العام بعد التخصيص لا يكون معنونا بعنوان
خاص.
وفيه: ما عرفت من أن مراده بقوله، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاص،
ان التخصيص يوجب تعنون الموضوع وتقيده بعدم كونه متصفا بذلك الوصف
الوجودي - وبعبارة أخرى - كل عنوان وجودي أو عدمي فرض تحققه في طرف العام،
فهو لا ينافي ثبوت الحكم له، الا العنوان المأخوذ في الخاص ولا يضر وجوده ولا عدمه،
فلا تناقض بين كلماته.
ومنها: جعله التخصيص بالمتصل إذا كان بالاستثناء كالمخصص المنفصل في عدم
كونه موجبا لتعنون العام بعنوان خاص، غير صحيح فان المخصص المتصل انما يوجب
انعقاد الظهور التصديقي في غير عنوان الخاص، وقد اعترف هو (قده) بذلك.
وفيه: ان مراده بما ذكره ان التخصيص بالاستثناء لا يوجب تعنون العام بعنوان
خاص، بل غاية ما يترتب عليه، اعتبار عدم اتصاف العام بالوصف المأخوذ في الخاص، و
هذا لا ينافي مزاحمة المخصص للدلالة التصديقية فيما قال، لدليل العام كما لا يخفى.
ومنها: انه (ره) عدل عن اجراء أصالة العدم في نفس عنوان القرشية المأخوذ في
لسان الدليل إلى اجراء أصالة العدم في العنوان الانتزاعي، وهو عنوان الانتساب إلى قريش
وهذا لا وجه له.
332

وفيه: ان عنوان القرشية، والانتساب إلى قريش، امر واحد والاختلاف انما هو
في التعبير.
كلام للمحقق الخراساني
ثم إن المحقق الخراساني ذكر في الكفاية، انه ربما يظهر من بعضهم التمسك
بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهة أخرى كما
إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمايع مضاف فيكشف صحته بعموم مثل (أوفوا
بالنذور) فيما إذا وقع متعلقا للنذر، بان يقال وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاءا للنذر للعموم
وكلما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به،
وربما يؤيد ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفى السفر إذا تلعق بهما
النذر ثم اخذ في النقد على ذلك.
وتمام الكلام في المقام بالبحث في موارد:
الأول: ان ما ذكره هذا البعض من التمسك بعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر
هو بعينه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية غاية الامر مع اثبات ان المشكوك فيه من
الافراد الباقية تحت العام لا الافراد الخارجة الذي اعترف المحقق الخراساني بأنه يثبت به.
توضيح ذلك: ان أوفوا بالنذر انما يكون عاما، ومقتضى عمومه وجوب الوفاء
بكل نذر، خرج عنه ما إذا كان المتعلق غير راجح في نفسه، فإذا شك في رجحان الوضوء
بالماء المضاف وعدمه، لأجل عدم الدليل، فيشك في كون النذر المتعلق به مما يجب
الوفاء به أم لا؟ فيتمسك بالعموم بناءا على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، و
يحكم بلزوم الوفاء بالنذر المتعلق بالوضوء بالمضاف، ويترتب عليه صحة الوضوء به، إذ
لو لم يكن صحيحا لما وجب الوفاء به، وعلى ذلك، فلا مورد لهذا الاستيحاش من
صاحب الكفاية مع أنه ممن يرى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان
المخصص لبيا.
333

الثاني: انه (قده) أفاد انه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكفلة لاحكام
العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها، إذا اخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلقة
بالافعال بعناوينها الأولية كما هو الحال في وجوب الوفاء بالنذر، وملخص
ما ذكره ان العنوان الثانوي المأخوذ في موضوع الحكم الشرعي، قد يكون موضوعا
لحكمه مطلقا، وقد يكون موضوعا له إذا كان العنوان الأولى للموضوع محكوما بحكم
خاص، وان كان على النحو الثاني كما في النذر، فإنه موضوع لوجوب الوفاء إذا كان
المنذور محكوما بحكم خاص، وكونه راجحا لا مطلقا، وشك في ثبوت ذلك الحكم
الخاص، وهو رجحان المنذور في نفسه لا مورد للتمسك بالعموم، لأن الشك حينئذ
شك في الموضوع ومعه لا مورد للتمسك بعموم الحكم، وان كان على النحو الأول، فان
شك في ثبوت حكم العام للفرد، صح التمسك بالعموم لاثباته كما في العناوين الأولية،
وحينئذ ان كان محكوما بعنوانه الأولى بغير حكمه بالعنوان الثانوي، وقعت المزاحمة
بين المقتضيين، ويؤثر الأقوى منهما لو كان، والا لم يؤثر أحدهما ويحكم بحكم آخر
كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضيا للوجوب والاخر مقتضيا للحرمة.
أقول في كلا شقي كلامه نظر:
اما الأول: فلما مر من كون ذلك تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية، وعليه،
فما ذكره وان صح على ما بنينا عليه من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
مطلقا، لكنه لا يتم على مسلكه، بل عليه ان يقيد جوابه بأنه لا يجوز التمسك لو كان دليل
اعتبار رجحان المنذور متصلا، أو منفصلا لفظيا، كما هو واضح.
واما الثاني: فلان المورد داخل في باب التعارض لا التزاحم، إذ العنوانان منطبقان
على موجود فارد لا وجه للرجوع إلى مرجحات باب التعارض، وحيث إن النسبة
بينهما عموم من وجه، فان كان دليل العنوان الثانوي حاكما على دليل العنوان الأولى، كما
في لا ضرر بالنسبة إلى دليل الوضوء مثلا، فيقدم هو، والا فلا بد من اعمال قواعد
التعارض بين العامين من وجه المذكورة في محله. مع، ان ما ذكره في المقام، ينافي ما
اختاره، من عدم مزاحمة أدلة العناوين الأولية لأدلة العناوين الثانوية، وان التوفيق العرفي
334

يقتضى تقديم الثانية مطلقا.
الثالث: ان المحقق الخراساني ذكر في وجه صحة الصوم في السفر بنذره فيه بناءا
على عدم صحته فيه بدونه، وكذا الاحرام قبل الميقات أمورا، الأول: ان صحتهما انما
تكون دليل خاص كاشف عن رجحانهما ذاتا في السفر وقبل الميقات وانما لم يؤمر بهما
لمانع يرتفع مع النذر.
وفيه: ان المانع من الامر بهما، ان كان هي المفسدة التي بقدرها أو أزيد فهما ليسا
راجحين فلا يجب الوفاء بالنذر المتعلق بهما، فان قلت بعد تعلق النذر يصيران كذلك،
قلت فيرجع هذا الجواب إلى الجواب الثاني، وان كان غيرها، بمعنى ان هناك مانع عن
البعث فلا بد وان يلتزم بصحة الصوم في السفر، والاحرام قبل الميقات لو اتى بهما
بقصد المحبوبية من دون قصد الامر، ولم يلتزم بذلك فقيه.
الثاني: ان دليل صحتهما يكشف عن عروض عنوان راجح عليهما ملازم لتعلق
النذر بهما.
وفيه: ان ذلك العنوان الحسن الذي يصير الفعل راجحا، انما يستحق فاعله المدح
إذا اتاه عن قصد لما تقدم مرارا من أن العناوين التي يختلف بها حسن الفعل وقبحه
كعنواني التأديب، والتشفي، المنطبقين على ضرب اليتيم، لابد وان تقصد والا لا يقع الفعل
حسنا، والقصد يتوقف على العلم، وحيث إن ذلك العنوان مجهول ومغفول عنه، فلا
يكون سببا لرجحان الفعل وعباديته.
الثالث: انه يكفي الرجحان الطارئ عليهما من قبل النذر في عباديتهما بعد تعلق
النذر باتيانهما عبادة أو متقربا بهما منه تعالى وان لم يتمكن من اتيانهما كذلك قبله، الا انه
يتمكن منه بعده ولا يعتبر في صحة النذر، الا التمكن من الوفاء ولو بسببه، والشاهد على
كفاية ذلك في المقام النص الخاص المخصص لعموم دليل اعتبار الرجحان في متعلق
النذر.
وفيه: انه ان أريد من الرجحان الطارئ من قبل النذر انطباق عنوان راجح على
المنذور، بعد النذر، فيرد عليه ما أوردناه على الوجه الثاني، بل مرجعه إليه، وان أريد
335

منه الرجحان الطارئ بسبب النذر من حيث إنه يوجب تعلق الامر النذري به فيصير راجحا
فيرد عليه: انه ينافي ما ذكره سابقا من أن الامر النذري توصلي لا يعتبر في سقوطه الا الاتيان
بالمنذور بأي داع كان.
نعم، يتم هذا الوجه بناءا على ما حققناه في محله من أن التعبدية والتوصلية ليستا من
صفات الامر والوجوب، بل هو فيهما على نسق واحد وسنخ فارد، وانما هما من صفات
الواجب، إذ الغرض منه، تارة يحصل لو أتى به بقصد القربة، وأخرى يحصل لو أتى به بأي
داع كان، والأول تعبدي والثاني توصلي، وعليه فسقوط الامر بالوفاء بالنذر في التعبدية
والتوصلية تابع للمنذور، فان كان عباديا لا يسقط الا إذا اتى به بقصد القربة، والا فيسقط
بأي داع كان، وفى المقام بما ان المنذور يكون الاتيان بهما عبادة، فلا يسقط الامر بالوفاء
الا باتيانهما كذلك فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال، وبالجملة ان صحة الاحرام قبل الميقات
وصحة الصوم في السفر من جهة النذر انما هما من ناحية الروايات الخاصة الدالة على
صحتهما كذلك.
وعليه فاما ان يجعل هذه الروايات مخصصة، لما دل على اشتراط صحة النذر
برجحان متعلقه، واما ان يكون نذر الاحرام قبل الميقات والصوم في السفر ملازما واقعا
لجهة موجبة للرجحان، أو يكون النذر الجامع لشرائط الصحة سوى شرط الرجحان
موجبا لرجحان المتعلق، وعلى أي تقدير لا يكون ذلك دليلا على صحة التمسك بأدلة
وجوب وفاء بالنذر في مسألة الوضوء مثلا، بل ولا يصلح للتأييد، إذ غاية ما قيل في وجه
التأييد احتمال كشف النص الخاص عن صلاحية عموم الوفاء بالنذر، لاقتضاء الصحة ولو
في حال النذر، ولكنه كما ترى فان مرجع ما ذكر إلى كشف النص عن أن النذر يوجب قلب
حكم العنوان الأولى، ويؤثر في صحة المتعلق بعد فرض العلم بالبطلان قبل النذر، وهذا
غير مربوط بما هو محل البحث والكلام من الشك في دخوله في المخصص، وإرادة
اثبات صحته بما دل على وجوب الوفاء بالنذر بعد التمسك بعمومه، لا قلب الحكم
المترتب على العنوان الأولى.
336

التمسك بالعام مع معلومية الحكم
بقى أمران، الأول: إذا علم أن فردا محكوم بحكم خلاف حكم العام، وشك في أنه
من مصاديق العاف قد خصص العام به، أم لا؟ كما إذا علم أن زيدا لا يجب اكرامه،
وشك في أنه عالم فقد خصص ما دل على وجوب اكرام كل عالم، أو جاهل يكون
خروجه عنه تخصصا، فهل يجوز التمسك، بأصالة العموم، وأصالة عدم التخصيص،
لاحراز عدم كونه من مصاديق العام، بحيث يترتب عليه ساير ما لغير موضوع العام
من الاحكام أم لا؟ قولان.
فعن الشيخ الأعظم اختيار القول الأول، وهو الظاهر من جماعة من الفقهاء حيث
تمسكوا، بما دل على طهارة ملاقي ماء الاستنجاء من الروايات على طهارة الماء نفسه
بدعوى انه لو كان نجسا لصار سببا لنجاسة ملاقيه، أو كان مخصصا لعموم ما دل على أن
الملاقى للماء النجس نجس، فبضم أصالة العموم في ذلك الدليل، بما دل على طهارة
ملاقي ماء الاستنجاء يحكم بأنه طاهر.
ونظيره تمسك الأصوليين باطلاقات التخدير على مخالفة الامر (فليحذر الذين
يخالفون عن امره) لاثبات ان الامر الندبي لا يكون أمرا حقيقيا.
والمحقق الخراساني في مبحث الصحيح والأعم ذهب هذا المسلك حيث استدل
على كون الصلاة اسما لخصوص الصحيحة بالاخبار المتضمنة لترتب الآثار على الصلاة،
ولكنه في المقام استشكل في جواز التمسك بأصالة العموم، وقد استدل للجواز بوجهين:
الأول: ان ظاهر مثل أكرم العلماء جعل الملازمة بين عنوان العالم، ووجوب
الاكرام، فكما ان مقتضى طرد القضية ثبوت الحكم كلما ثبت الموضوع كذلك قضية
عكسها انتفاء الموضوع كما انتفى الحكم.
وفيه: ان ظاهر القضية جعل الحكم من لوازم ثبوت الموضوع، لا التلازم من
الطرفين.
الثاني: انه من القواعد المنطقية المسلمة انه من لوازم القضية الموجبة الكلية عقلا
337

عكس نقيضه، مثلا من لوازم قولنا (كل انسان حيوان)، (كل ما ليس بحيوان ليس بانسان)
فمن لوازم أصالة العموم الجارية في العمومات عكس نقيض القضية، مثلا من لوازم (أكرم
كل عالم) انه كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم، وحيث إن أصالة العموم من الأصول
اللفظية، والامارات فتكون حجة في لوازمها، فيثبت بأصالة العموم، عدم فردية ما علم أنه
غير مشمول لحكم العام من مصاديق العام.
وفيه: ان مدرك حجية أصالة العموم انما هو بناء العقلاء، فلا بد من ملاحظة ثبوت
هذا البناء في كل مورد بالنسبة إلى مداليل الكلام، إذ لم يرد دليل خاص على حجية مثبتات
الامارات، كي يتمسك باطلاقه، وعلى ذلك فبناء العقلاء، انما هو على حجية أصالة
العموم في مدلولها المطابقي، والمدلول الالتزامي في فرض ثبوت الدلالة المطابقية، فلو
شك في شمول الحكم لفرد تجرى أصالة العموم، ويترتب عليها الحكم ولوازمه، واما
مع العلم بعدم شمول الحكم لفرد، فلا دليل على حجية أصالة العموم الجارية بالنسبة إلى
ساير الافراد في اثبات عدم فردية هذا المشكوك فيه، وان شئت قلت إن حجية الامارة في
مثبتاتها تابعة لمقدار دلالة دليل تلك الامارة، وفى المقام لم يثبت بناء من العقلاء على
حجية أصالة العموم بالنسبة إلى مثل هذا اللازم، فتحصل ان الأظهر عدم جواز التمسك
بأصالة العموم في المقام.
الثاني: انه إذا دار امر ما علم خروجه عن حكم العام بين فردين أحدهما فرد للعام،
والاخر ليس فردا له، كما إذا ورد (لا تكرم زيدا) وتردد زيد بين زيد العالم، وغيره من
ناحية الشبهة المفهومية، فهل يجوز التمسك بأصالة العموم لاثبات وجوب اكرام زيد
العالم، أم لا يجوز؟ فيه وجهان.
أظهرهما الأول: لفرض ان الشك يكون في خروج فرد من العام المعلوم فرديته
عن حكم العام، وبذلك يثبت ان زيد الجاهل محكوم بعدم وجوب الاكرام: والسر في
ذلك ما تقدم من أن مورد التمسك بأصالة العموم، العلم بالفردية والشك في الحكم، و
انما لم نتمسك بها في المسألة السابقة من جهة انه كان هناك الحكم معلوما وكان الشك
في الفردية وفى هذه المسألة الامر بالعكس.
338

واستدل للقول الثاني بان العلم الاجمالي بحرمة اكرام أحدهما المردد بين العالم
والجاهل موجب لترك اكرامهما، وأصالة العموم لا توجب انحلاله لعدم تكفلها لبيان
حال الافراد بخلاف الامارة القائمة على أن زيد العالم يجب اكرامه.
وفيه: ان لأصالة العموم مدلولين مطابقيا، والتزاميا، والأول وجوب اكرام زيد
العالم، والثاني انتفاء الحرمة عنه، واثباتها لزيد الجاهل باعتبار حجيتها في مثبتاتها فلا
محالة ينحل العلم الاجمالي بعلمين تفصيليين، هما، العلم بوجوب اكرام زيد العالم،
والعلم بحرمة اكرام زيد الجاهل.
اللهم الا ان يقال انه لا اطلاق لدليل حجية أصالة العموم ليثبت به حجيتها في
مثبتاتها كما تقدم، فتدبر فان المسألة غير خالية عن الاشكال.
العمل بالعام قبل الفحص
الفصل الثاني: المشهور بين الأصحاب عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن
المخصص، وعن النهاية دعوى الاجماع عليه، وعن ظاهر التهذيب اختيار الجواز وتبعه
جماعة، ونقل التفصيل بين ضيق الوقت، فالجواز وبين عدمه فالمنع عن بعض.
وتنقيح القول بالبحث في موارد: الأول، في الاخذ بالعام قبل الفحص عن
المخصص. الثاني، في مقدار الفحص. الثالث، في أنه هل هناك فرق بين احتمال
المخصص المتصل، والمنفصل أم لا؟ الرابع، في أنه هل هناك فرق بين الفحص هنا، و
الفحص في موارد الأصول العملية، أم لا؟
اما المورد الأول: فقد استدل لعدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص عن
المخصص بوجوه:
الأول: ما عن المحقق القمي (ره): وهو ان خطابات الكتاب والسنة مختصة
بالمشافهين ولابد لاثبات الحكم للغائبين والمعدومين من التمسك بدليل قانون
الاشتراك في التكليف، ومعلوم ان التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم
339

المشافهين من تلك الخطابات وانه عام أو خاص، وتعيين ذلك يتوقف على الفحص
فإذا يجب الفحص على غير المشافهين.
وفيه: أولا ان كثيرا من الأدلة المتضمنة لبيان الاحكام ليست بطريق الخطاب، وانما
وردت على نحو القضية الحقيقية، وبديهي انها لا تختص بالمشافهين، فهل يتوهم ان قوله
تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وقوله عز وجل: (أحل الله البيع و
حرم الربوا) وما شاكل. تكون مختصة بالمشافهين، وثانيا ان الخطابات الشرعية غير
مختصة بالمشافهين كما سيمر عليك.
الثاني: ما عن الزبدة وهو ان الظن بالمراد لا يحصل قبل الفحص، وحجية أصالة
العموم مختصة بما إذا حصل الظن بالمراد، فيجب الفحص تحصيلا للظن.
وفيه: ان حجية أصالة العموم، انما هي من باب إفادة الظن النوعي، دون الشخصي،
بل هي حجة وان قام الظن الشخصي على الخلاف، أضف إليه انه أخص من المدعى إذ
ربما يحصل الظن قبل الفحص.
الثالث: الاجماع، ويرده ان الاجماع على فرض وجوده معلوم المدرك فلا يكون
حجة.
الرابع: ما عن الشيخ الأعظم (قده) وهو ان كل من يتصدى للاستنباط يعلم اجمالا
بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة في الكتاب والسنة ومقتضى ذلك عدم
جريان أصالة العموم في شئ من الموارد، الا بالفحص وخروج العام، عن أطراف العلم
الاجمالي.
وأورد عليه بايرادين، أحدهما: ان لازم ذلك هو عدم جواز العمل بالعام لو
تفحص عن الخاص في الكتب المعتمدة ولم يظفر به ولكن احتمل وجوده في كتب
أخرى فان العام لا يخرج عن الطرفية للعلم الاجمالي الا إذا علم بعدم تخصيصه.
وفيه: ان لنا علمين اجماليين، أحدهما العلم بوجود مخصصات في ضمن
الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السلام، ثانيهما العلم بوجودها في ضمن
خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة في الأبواب المناسبة للمسألة،
340

والعلم الاجمالي الأول وان كان مقتضاه ما ذكر لو كان وحده، لكنه ينحل بالعلم الاجمالي
الثاني الأصغر منه، ضرورة انه لا علم اجمالي بوجود المخصص في غير تلك الكتب فلا
يكون مانعا عن التمسك بالعام إذا لم يكن الثاني مانعا كما لو تفحص في تلك الكتب
ولم يظفر بالمخصص.
ثانيهما: ان المقتضى لوجوب الفحص ان كان هو العلم الاجمالي، لزم عدم وجوب
الفحص بعد انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، مع أن
ظاهر الأصحاب وجوب الفحص حتى في شبهة واحدة باقية ولو مع الظفر بالمخصصات
أكثر مما علم اجمالا، وقد تصدى المحقق النائيني لاثبات ان هذا العلم الاجمالي غير قابل
للانحلال بالظفر بالمقدار الأقل المعلوم.
ومحصل ما افاده ان المعلوم بالاجمال المردد بين الأقل والأكثر على قسمين:
القسم الأول: ما لا يكون للمعلوم علامة وتمييز كما لو علم بأنه مديون اما بعشرة
تومان، أو بعشرين، وفى مثل ذلك ينحل العلم الاجمالي، بالعلم باشتغال الذمة بالعشرة،
والشك في الاشتغال بالزايد وتجري فيه البراءة.
القسم الثاني: ما يكون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتمييز، كما لو علم بأنه مديون
بزيد بالمقدار المكتوب في دفتره المردد عنده بين الأقل والأكثر، وفى مثل ذلك لا
ينحل العلم الاجمالي، وليس لاحد دعوى جريان البراءة في المقدار الزايد على المتيقن
بحسب الكمية والمقدار.
والسر في ذلك، ان العلم إذا تعلق بذلك العنوان والعلامة يوجب تنجز الواقع
بمقدار سعة عنوان متعلقه، وعليه فلا يعقل انحلال العلم بالأقل، والشك في الأكثر. وان
شئت قلت، ان الأكثر حينئذ طرف لعلم اجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلاحظ فيه الكمية
فلا وجه لجريان الأصل فيه.
والمقام من قبيل الثاني: إذ نعلم بوجود المخصصات للعمومات في الكتب
المعتبرة، ففي الحقيقة هناك علمان أحدهما العلم بوجود المخصصات المرددة بين الأقل
والأكثر. الثاني: العلم بوجودها في الكتب المعتبرة، فالعلم الأول الملحوظ فيه الكمية، وان
341

انحل بعد العثور على المقدار المعلوم، الا ان العلم الثاني يمنع عن جريان الأصل في غير
المقدار المتيقن.
وفيه: ان المعلوم بالاجمال إذا كان معنونا بعنوان غير مردد بنفسه بين الأقل
والأكثر، صح ما ذكره، وأما إذا كان نفس ذلك العنوان المعلوم والعلامة المعينة مرددا بين
الأقل والأكثر، وظفرنا بالمقدار المتيقن يجرى الأصل في الزايد، مثلا لو علمنا بنجاسة اناء
زيد الموجود بين الإناءات، وتردد بين كونه اناءا واحدا أو أزيد، ثم علمنا بكون اناء
خاص اناء زيد يجرى الأصل في غيره بلا مانع.
والمقام من هذا القبيل: فان العلم بوجود المخصصات في الكتب المعتبرة، وان كان
علما بعنوان خاص وعلامة مخصوصة، الا ان ذلك العنوان امره بنفسه مردد بين الأقل
والأكثر، فبعد العثور على المقدار المتيقن المعنون بذلك العنوان يكون الشك
في المقدار الزايد شكا خارجا عن طرف العلم الاجمالي، فتحصل ان هذا الوجه أيضا لا
يصلح ان يكون مستند الحكم بعدم جواز العمل بالعام قبل الفحص مطلقا، لأخصيته
عن المدعى.
الخامس: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو ان عمومات الكتاب والسنة بما
انها في معرض التخصيص من جهة غلبة المخصصات لم يثبت استقرار سيرة العقلاء على
العمل بها قبل الفحص لو لم ندع ثبوت عدمه.
وفيه: انه ان أريد بذلك، الأصل المحرز لكون الظاهر، هو المراد بالإرادة
الاستعمالية، فيرد عليه ما تقدم من أن المخصص القطعي التفصيلي لا يكشف عن عدم
كون الظاهر مرادا بالإرادة الاستعمالية ولا ينافيه فضلا عن العلم الاجمالي بوجود
المخصصات - وبعبارة أخرى - يتم ذلك بناءا على احتياج استفادة العموم من أداته إلى
اجراء مقدمات الحكمة في المدخول، إذ حينئذ يصح ان يقال حجية العمومات متقومة
بجريان مقدمات الحكمة الكاشفة عن عدم دخل قيد في مراد المتكلم، فإذا علم بجريان
عادة المتكلم على التعويل على القرائن انهدم أساس مقدمات الحكمة، ولكن قد عرفت
عدم تمامية ذلك فراجع.
342

وان أريد به الأصل المحرز لكون المراد الجدي منطبقا على المراد الاستعمالي،
فيرد عليه: انه لم يظهر وجه دعوى التفصيل، بين كون العام في معرض التخصيص و
عدمه، نعم، بناءا على اعتبار الظن الفعلي في حجية أصالة العموم يتم ذلك، لكنك
عرفت فساد المبنى.
فالحق ان يستدل لوجوب الفحص بحكم العقل بذلك: فإنه يستقل بوجوب
الفحص عن الأحكام الشرعية جريا على طبق قانون العبودية والمولوية، إذ ليس وظيفة
الشارع ايصال احكامه إلى المكلفين بأي نحو كان بل وظيفته بيان الاحكام، وجعلها في
معرض الوصول إليهم بحيث لو تفحصوا عنها لعثروا بها، ووظيفة العبد حينئذ الفحص
عنها في مظان وجودها، بمعنى انه لو لم يفحص عنها وكانت ثابتة وعاقبه المولى على
مخالفتها جاز له ذلك، ويشهد له مضافا إلى ذلك الأدلة الدالة على وجوب التعلم
مقدمة للعمل.
واما المورد الثاني: ففي الكفاية ان مقدار الفحص اللازم ما به يخرج عن المعرضية
له، والظاهر أن مراده بذلك ليس ما هو ظاهره، إذ العمومات التي تكون معرضا للتخصيص
لا تخرج عن المعرضية بالفحص عن المخصص، إذ الشئ لا ينقلب عما هو عليه، بل مراده
ان المقدار الواجب هو ما يحصل به الاطمينان بعدم وجود المخصص في مظانه، دون
الزايد عليه، لان الاطمينان حجة عقلائية، كما أنه لا يجوز الاقتصار على ما دونه يعنى
الظن، لعدم الدليل عليه والظن لا يغنى من الحق شيئا.
واما المورد الثالث: ففي الكفاية الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل
باحتمال انه كان ولم يصل، بل حاله احتمال قرينية المجاز، وقد اتفقت كلماتهم
على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص عنها.
وأفاد المحقق الأصفهاني (ره) توجيها لذلك بان الفارق عليه المعرضية
للتخصيص بالمنفصل، ولا غلبة للاحتفاف بالمتصل، فلا يبقى الا احتمال احتفافه
بالمخصص والظهور حجة على عدمه.
ولكن بعد ما عرفت من أن وجه لزوم الفحص عن المخصص ليس هي المعرضية،
343

بل الوجه فيه ما ذكرناه من الوجهين، ولا فرق فيهما بين المتصل والمنفصل، تعرف ان
الأظهر لزوم الفحص عن المخصص المتصل أيضا.
واما المورد الرابع: فقد ذهب المحقق الخراساني والمحقق النائيني (ره) إلى الفرق
بين الفحص في المقام والفحص في موارد التمسك بالأصول العملية، حيث إن الفحص
هيهنا عما يزاحم الحجية والمانع عنها، مع ثبوت المقتضى لها، والفحص هناك انما هو
لتتميم المقتضى لان العام قد انعقد ظهوره في العموم مع عدم الاتيان بالقرينة المتصلة،
والفحص انما هو عن وجود قرينة منفصلة، وهي انما تزاحم حجية العام، لا ظهوره،
فالفحص انما هو لرفع المانع والمزاحم، واما الفحص هناك فإنما هو لتتميم مقتضى
جواز العمل بالأصل، اما بالإضافة إلى البراءة العقلية، فان العقل بدونه يستقل باستحقاق
العقاب على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان، و
اما الأصول الشرعية من البراءة والاستصحاب، فأدلتها وان كانت مطلقة وغير مقيدة
بالفحص، الا ان الاجماع بقسميه على تقييده به كما في الكفاية.
وحكم العقل يقيدها بذلك ضرورة ان اطلاقها يستلزم نقض الغرض من بعث
الرسل وانزال الكتب، فان لازم الاطلاق هو عدم وجوب النظر في المعجزة، ومع عدم
النظر لا تثبت أصل النبوة فضلا عن فروعها، فتجويز ترك النظر في المعجزة تستلزم نقض
الغرض الداعي إلى بعث الرسل وانزال الكتب وهو قبيح، وبعين هذا الملاك يجب
الفحص عن الأحكام الشرعية عند احتمال تحققها في نفس الامر وامكان وصول العبد
إليها بالفحص كما عن المحقق النائيني (ره).
أقول: بناءا على ما ذكره المحقق الخراساني في وجه لزوم الفحص في المقام،
لا يكون الفحص هاهنا عما يزاحم مقتضى الحجية، لفرض انه لا بناء من العقلاء على
حجية أصالة العموم الا بعد الفحص عن المخصص، فلا مقتضى للحجية قبله، كما هو
الشأن في الأصول العملية، فإنه لا مقتضى لجريانها قبل الفحص عن الدليل على الحكم وان
شئت فقل انه في كلا البابين يكون الفحص فحصا عن أن العام، أو الأصل حجة، أم يكون
شئ آخر حجة.
344

كما أنه بناءا على ما سلكناه في وجه لزوم الفحص، من أن العقل يدل على ذلك،
لا يكون الفحص في شئ من الموردين عما يزاحم الحجة.
وما افاده المحقق النائيني في وجه تقييد أدلة الأصول، يجرى بالإضافة إلى أصالة
العموم: فان العقل كما يستقل بوجوب النظر إلى المعجزة، والا لزم اقحام جميع الأنبياء
عليهم السلام، وبوجوب الفحص في مقام الرجوع إلى الأصول العملية، كذلك يستقل
بوجوب الفحص في مقام التمسك بأصالة العموم، فالملاك لاستقلاله في كلا الموردين
واحد، لان المكلف لو تمسك بأصالة العموم بدون الفحص عن المخصص، مع علمه بان
بيان الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج وبالطرق العادية المتعارفة لوقع المكلف في
مخالفة تلك الأحكام كثيرا ولا يكون معذورا، لان العقل يرى أن وظيفته هي الفحص عن
المخصص فتدبر.
الخطابات الشفاهية
الفصل الثالث: هل الخطابات الشفاهية مثل: (يا أيها الذين امنوا) تختص بالحاضرين
مجلس التخاطب أو تعم غيرهم من الغائبين بل المعدومين؟ فيه خلاف.
وقبل الخوض في بيان المقصود لابد من تعيين محل الكلام، قال المحقق
الخراساني (ره) انه يمكن ان يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح
تعلقه بالمعدومين أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب
بالألفاظ الموضوعة للخطاب أو بنفس توجيه الكلام إليهم وعدم صحتها، أو في عموم
الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة
تلك الأداة انتهى.
أقول: لا اشكال في أن محل كلام القوم ليس هو الوجه الأول، إذ الظاهر أنه
لا خلاف بينهم في أنه لا يصح توجيه التكليف الحقيقي بمعنى البعث أو الزجر الفعلي إلى
المعدومين بل الغائبين، واما التكليف بمعنى الانشاء على نحو القضية الحقيقية فامكانه
345

وصحته من البديهيات، ولذا ترى ان موضوع بحثهم هو ما إذا كان الكلام المتكفل لبيان
الحكم مشتملا على أداة من أدوات الخطاب ولكن تبعا له (قده) نبحث في جميع الموارد.
فان كان النزاع على الوجه الأول ففي الكفاية ما محصله ان التكليف المتوجه إلى
المكلف الذي هو محل النزاع في المقام من أنه، هل يتعلق بالمعدوم، أم لا؟ اما ان يراد به
التكليف الانشائي بلا بعث ولا زجر، واما ان يراد به التكليف الحقيقي، فان أريد به الأول
فيصح تعلقه بالمعدوم إذ الانشاء خفيف المؤنة فللحكيم ان ينشأ حكمه على وفق الحكمة
والمصلحة ويطلب شيئا قانونا من الموجود والمعدوم، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط،
وان أريد به الثاني، فهو على قسمين: الأول التكليف التنجيزي المطلق، بان يراد به الاتيان
بالفعل قبل ان يوجد. الثاني: التكليف الحقيقي الفعلي بالفعل الكائن في ظرف الوجود
والقدرة وتحقق ساير الشرائط، فان أريد به القسم الأول فهو محال، وان أريد الثاني فهو
امر ممكن، والى الثاني، أشار في آخر كلامه بقوله وأما إذا أنشأ مقيدا بوجود المكلف و
وجد أنه الشرائط فامكانه بمكان من الامكان.
وبهذا التقريب لكلامه يندفع ما أورده عليه المحقق الأصفهاني (ره) من أنه بناءا
على مسلكه من صحة تعلق الإرادة والبعث حقيقة بأمر استقبالي يمكن تعلقه بالمعدوم
أيضا، فان إرادة شئ فعلا ممن يوجد استقبالا كإرادة ما لا يمكن فعلا بل يمكن تحققه
استقبالا، إذ المراد منه كالمراد ليس موضوعا للإرادة كي يتوهم انه من باب العرض
بلا موضوع، بل موضوعها النفس وهي مما تقوم بها الإرادة الخاصة في مرتبة وجودها لا
في مرتبة وجودهما.
لما عرفت من أنه يصرح بامكان تعلق التكليف الحقيقي بالنحو المزبور به وانما
ينكر تعلقه به مطلقا غير معلق على وجوده وهو مما لا ريب في عدم امكانه.
ثم انه نظر المقام بانشاء التمليك في الوقف على البطون، قال: فان المعدوم منهم
يصير مالكا للعين الموقوفة بعد وجوده بانشائه ويتلقى لها من الواقف بعقده انتهى.
أقول: ان التمليك الحقيقي بالملكية الاعتبارية، لا الملكية الحقيقية، التي هي من
المقولات العشر، وخارجة عن محل الكلام، وان كان يمكن ان يكون للمعدوم،
346

- وبعبارة أخرى - بعد كون الملكية من الأمور الاعتبارية وهي خفيفة المؤنة فكما يمكن
اعتبار ملك المعدوم إذا دعت المصلحة إلى اعتبارها، كذلك يمكن اعتبارها للمعدوم و
ليست الملكية كالطلب الحقيقي، ولكن الامر في الوقف ليس كما أفاد من جهة ان الشئ
الواحد لا يقبل لان يكون ملكا للموجود وللمعدوم بالاستقلال.
وان كان النزاع على الوجه الثاني فقال المحقق الخراساني انه لا ريب في عدم
صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة وعدم امكانه ضرورة عدم تحققه توجيه الكلام
نحو الغير حقيقة الا إذا كان موجودا وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت إليه انتهى.
أقول: الأقسام الثلاثة المتقدمة في الطلب تجرى في الخطاب أيضا، فإنه ربما يكون
خطابا انشائيا، فيصح خطاب المعدوم فضلا عن الغائب، وأخرى يكون خطابا حقيقيا، و
هو على قسمين: الأول: ان يخاطب المعدوم بغرض التفهيم فعلا، الثاني: ان يخاطبه بغرض
التفهيم في ظرف وجوده والتفاته. اما القسم الأول فهو ممتنع بالنسبة إلى الغائب
والمعدوم، واما الثاني فهو ممكن، ويكون هذا بعينه كخطاب النائي في المكاتبات
والمصنفات، فكما انه ربما يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حين ما وصل إليه الخطاب
لا من حين صدوره كما إذا فرضنا ان المخاطب نائم، أو كان في بلد آخر فيكتب له كتابا و
يخاطبه بخطاب ليعمل عملا بعد قيامه من النوم أو مجيئه من السفر، أو يخاطب ولده
الصغير بقوله يا ولدى إذا كبرت فافعل كذا، أو نحو ذلك فكذلك يمكن ان يكون
المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب جميع البشر إلى يوم القيامة.
واما النزاع على الوجه الثالث: وهو عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب
للغائبين والمعدومين وعدم عمومها لهما، بمعنى انها هل وضعت للخطاب الانشائي،
فيشمل المعدومين، أو للخطاب الحقيقي فلا يشمل الغائبين، فضلا عن المعدومين، فهو
يبتنى على اختيار جواز تكليف المعدوم، وامتناع المخاطبة معه، اما على فرض اختيار
جواز مخاطبة المعدوم بالخطاب الحقيقي فلا يبقى لهذا النزاع مجال، إذ على فرض كون
الأداة موضوعة للخطاب الحقيقي أيضا يجتمع مع عموم المتعلق، وحيث عرفت امكانها
فالأظهر هو شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين أيضا.
347

وعلى تقدير الامتناع يمكن ان يستدل لشمول الخطابات الشفاهية للمعدومين: بما
في الكفاية وذهب إليه الأستاذ الأعظم، من أن أداة الخطاب حسب ما ندركه من مفاهيمها
عند الاستعمال موضوعة للخطاب الانشائي، فصح شمولها للمعدوم والغائب، وانصرافها
إلى الحقيقي وان كان لا ينكر، الا انه ما لم يمنع عنه مانع، كما هو موجود في كلام الشارع،
ضرورة عدم اختصاص تلك الأحكام التي تضمنتها الجملات المصدرة بأداة الخطاب
بالحاضرين مجلس التخاطب، إذ اختصاص الخطاب بالمدركين لزمان الحضور وان كان
ممكنا ومحتملا، الا انه لم يحتمل أحد اختصاصه بالحاضرين مجلس الخطاب، وعليه
فلابد من حمله على الخطاب الانشائي، فيشمل الخطاب المعدومين.
واما ما افاده المحقق النائيني (ره) في وجه الشمول في القضايا الحقيقية بعد تسليم
امتناع خطاب المعدوم، بأنه يصح خطابه بعد التنزيل والعناية، بان يفرض المعدوم
موجودا حاضرا ويخاطب معه، وهذا التنزيل مفروض في القضايا الحقيقية، ومقوم لكون
القضية حقيقية، لا انه امر زايد، ليكون مدفوعا بالأصل إذ كون القضية حقيقية يقتضى بنفسه
فرض الموضوع موجودا، فيكون الخطاب خطابا لما فرض وجوده من افراد الطبيعة في موطنه.
فغير سديد إذ مقوم القضية الحقيقية، فرض الموضوع موجودا وهذا المقدار
لا يكفي في صحة الخطاب الحقيقي بل يحتاج إلى فرضه حاضرا، هو مما لا يقتضيه
القضية الحقيقية، وبالجملة ملاك القضية الحقيقية جعل الحكم على الافراد المقدرة
الوجود، وملاك الخطاب الحقيقي هو الحضور.
ثم انه قد استدل لعموم الخطابات القرآنية للمعدومين بإحاطته تعالى بالموجود
في الحال والموجود في الاستقبال.
ويرد عليه، مضافا إلى أن عدم صحة خطاب المعدوم انما هو لقصور فيه لا في
المخاطب بالكسر، فلا يلزم من عدم شمول خطاباته له نقضا فيه تعالى، ان خطابه تعالى من
صفات فعله لا ذاته فعدم صلاحيته للشمول للمعدوم لا يوجب نقصا في الله تعالى.
وكون المعدوم موجودا في عالم آخر غير عالم المادة، ككونه في عالم الذر، أو
في علمه تعالى، لا يصلح لان يكون سببا لصحة المخاطبة معه بالخطاب بالألفاظ وغيرها
348

من الدوال المناسبة لهذا العالم، ومحل الكلام هو خطابات القرآن والا فالخطاب بما
يناسب ذلك العالم لا كلام فيه.
وفى خطابات الكتاب المجيد احتمال آخر وهو ان المخاطب والموجه إليه
الكلام حقيقة وحيا والهاما، هو النبي (ص) ويكون النبي حين القاء الخطاب إلى الناس
حاكيا لخطاب الله تعالى إليه، ويؤيد ذلك ما ورد (انه لا يعرف القرآن الا من خوطب به)
وعلى هذا فحيث ان متلو أداة الخطاب بنفسه شامل لغيره، فلا محيص عن حمل الأداة في
مثله للخطاب الايقاعي لفرض كون المخاطبة الحقيقية معه (ص) وعدم المخاطبة
الحقيقية مع غيره، وعليه فلا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب
بالحاضرين بل يعم المعدومين فضلا عن الغائبين. ولكن احتمال حمل لفظ الجمع مثل
(يا أيها الذين امنوا) على إرادة النفس النبوية من جهة انه لقوة ايمانه ورجحان ايمانه على
ايمان جميع المؤمنين كأنه جميع المؤمنين، خلاف الظاهر.
ثمرة البحث
ثم إن الأصحاب ذكروا لهذا البحث ثمرتين، إحداهما: ما ذكره المحقق القمي
(ره) وهي حجية خطابات الكتاب للمعدومين وعدمها، فإنه إذا كانت الخطابات مختصة
بالمشافهين، فلا محالة لا يكون غير المشافهين مقصودين بالافهام، فلا يكون الظواهر
حجة عليهم لاختصاص حجيتها بالمقصودين بالافهام.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بايرادين، الأول: انه مبنى على اختصاص
حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام وقد حقق عدم الاختصاص. الثاني: انه لو سلم ذلك
فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك، ممنوع، بل الظاهر أن الناس كلهم كذلك،
وان لم يعمهم الخطاب، ثم استشهد له بغير واحد من الاخبار، والظاهر أن نظره،
إلى الأخبار الدالة على عرض الخبر على الكتاب والاخذ بما وافقه ونحو ذلك.
ويرد على الايراد الثاني انه إذا كان الخطاب مختصا بالمشافهين، لا محيص عن
349

البناء على أنهم مقصودون بالافهام، والا لزم لغوية القاء الخطاب المتضمن للتكليف،
والأخبار الدالة على الرجوع إلى الكتاب لا يدل شئ منها على أنه في آيات الاحكام
الواردة بطريق المخاطبة كغيرها من الآيات، يكون الجميع مقصودين بالافهام.
الثمرة الثانية: ما عن المحقق البهبهاني وفى التقريرات ومحصلها ان المعدومين
حين الخطاب إذا وجدوا وبلغوا وكانوا مخالفين مع الموجودين حال الخطاب في
خصوصية مصنفة يحتمل دخلها ثبوتا في الحكم، كاختلافهم في درك حضور الامام
المحتمل دخله في وجوب صلاة الجمعة، فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين،
يجوز لهم التمسك بالاطلاق لرفع دخالة ما شك في دخله، كما جاز التمسك باطلاقاتها
للموجودين، واما لو قلنا بعدم شمولها لهم، فلا يجوز لهم التمسك بالاطلاقات لعدم
كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين، والتمسك بالاطلاق فرع توجه الخطاب، فلا
يبقى في البين سوى قاعدة الاشتراك المثبتة للأحكام الثابتة للمشافهين للمعدومين، و
حيث لا دليل لها سوى الاجماع، أو اخبار لا اطلاق لها، ولا اطلاق للاجماع فلا يثبت
به الحكم الا مع الاتحاد في الصنف.
وأورد عليه في الكفاية بأنه يمكن اثبات الاتحاد، وعدم دخل ما كان البالغ الان
فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له، باطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به، و
كونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق مع إرادة المقيد معه، فيما يمكن ان يتطرق إليه
الفقدان، وان صح فيما لا يتطرق إليه ذلك، وليس المراد من الاتحاد في الصنف الا
الاتحاد فيما اعتبر قيدا في الاحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه
بين الأنام بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام، والا لما ثبت بقاعدة الاشتراك
للغائبين فضلا عن المعدومين حكم من الاحكام، ودليل الاشتراك انما يجدى في عدم
اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين، فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان
لو لم يكونوا معنونين به لشك في شمولها لهم أيضا، فلولا الاطلاق واثبات عدم دخل
ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين، و
لو قيل باختصاص الخطابات بهم.
350

وزاد عليه المحقق صاحب الدرر، بأنه ليس شئ يشترك فيه جميع المشافهين
إلى آخر عمرهم ولا يوجد عندنا.
وفيه: انه يصح التمسك بالاطلاق في الصفات التي يتطرق إليها الفقدان ككونهم
في المسجد ويثبت به عدم دخلها في الحكم بالنسبة إليهم، فبدليل الاشتراك يثبت
لغيرهم، إذا لم يحتمل دخل الحدوث واعتباره في الحكم حدوثا وبقاءا، والا فلا يصح
التمسك بالاطلاق كالفرض الاخر، وهو كونهم واجدين لصفة لا يتطرق إليها الفقدان
ككونهم في زمان الحضور، إذ الحدوث مما لا يتطرق إليه الفقدان، وعليه، فلا يمكن
دفع شئ من القيود المحتمل دخلها بالاطلاق على فرض عدم شمول الخطابات
للمعدومين، فلابد من اثبات تلك الأحكام لهم، اثبات الاتحاد، وعدم دخل تلك القيود
فيها، وهذا بخلاف القوم بالتعميم فإنه حينئذ يصح التمسك بالاطلاق لهم ابتداءا، و
لعمري هذه ثمرة نفيسة مهمة مترتبة على هذا المبحث.
تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده
الفصل الرابع: إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده، فان كانا في كلام
واحد، وكانا محكومين بحكم واحد كما لو قيل (والمطلقات أزواجهن أحق بردهن) فلا
شبهة في تخصيص العام به.
وان وقعا في كلامين، أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه
في الكلام كما في قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) إلى قوله تعالى (وبعولتهن
أحق بردهن) (1) فيدور الامر بين التصرف في العام، أو في الضمير، لان كلمة المطلقات تعم
الرجعيات، وغيرهن والضمير في قوله وبعولتهن يرجع إلى خصوص الرجعيات، لان
حق الرجوع للزوج انما هو فيهن دون غيرهن.

1 - البقرة: 228.
351

وملخص القول في المقام انه في المسألة أقوال، الأول: التصرف في العام باجراء
أصالة عدم الاستخدام في ناحية الضمير، ذهب إليه العلامة في النهاية، الثاني: الالتزام
بالاستخدام أو ما بحكمه، باجراء أصالة العموم وابقاء ظهور العام في عمومه، ذهب إليه
العلامة في التهذيب والسيد المرتضى، الثالث: تعارض الأصلين والحكم بالاجمال،
ذهب إليه المحقق وصاحب المعالم الرابع: التفصيل بين ما إذا كانت الجملتان في كلام
واحد فيحكم بالاجمال لأجل عدم جريان شئ من الأصليين، وبين ما إذا كانتا في
كلامين منفصلين، فيحكم ببقاء ظهور العام باجراء أصالة العموم خاصة، ذهب إليه
المحقق صاحب الكفاية، الخامس: الالتزام بجريان الأصلين وعدم تعارضهما، وحمل
كلتا القضيتين على إرادة معناهما اللغوي في مرحلة الاستعمال، مع الالتزام بخروج بعض
افراد العام في الثانية عن تحت الإرادة الجدية، هذه هي الأقوال في المسألة وعرفت ان
ظاهر الكفاية اختيار القول الرابع.
فللمحقق الخراساني دعويان إحداهما: ان الجملتين لو كانتا في كلام واحد يحكم
بالاجمال وعدم جريان شئ من أصالة العموم، وأصالة عدم الاستخدام. ثانيهما: انه لو
كانتا في كلامين تجرى أصالة العموم بلا معارض.
اما الدعوى الأولى: فاستدل لها بأنه لا يجرى أصالة عدم الاستخدام، لان مدركها
بناء العقلاء والمتيقن منه اتباع الظهور في ما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ، وأما إذا
كان المراد معلوما وكان الشك في كيفية ارادته، وانها على نحو الحقيقة أو المجاز
في الكلمة أو الاسناد كما هو الحال في ناحية الضمير، فلا يجرى ذلك الأصل، لعدم ثبوت
بناء العقلاء عليه، واما أصالة العموم فهي أيضا لا تجرى لان تعقب العام بضمير يرجع إلى
بعض افراده، مع كونهما في كلام واحد، يصلح ان يمنع عن انعقاد ظهوره فيه، لأنه من
قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به،
الا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبدا، وهو غير ثابت، فيحكم بالاجمال ويرجع إلى
ما يقتضيه الأصول العملية.
واما الدعوى الثانية: فأفاد في وجهها ان أصالة عدم الاستخدام لا تجرى لما مر،
352

فلا معارض لأصالة الظهور في ناحية العام المنعقد ظهوره في العموم بعد عدم ما يصلح
للقرينية في الكلام المتضمن له.
وأورد على ما افاده في وجه عدم جريان أصالة عدم الاستخدام بوجهين: الأول:
انه يتم ذلك بناءا على دوران الامر بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، واما بناءا
على دورانه بين أصالة العموم والاسناد إلى من هوله، فالمراد من الضمير هو البعض تارة،
والكل أخرى، إذ لو كان العام مستعملا في الخصوص كان الاسناد إلى من هو له، وكان
المراد بالضمير هو الكل، وإذا كان الاسناد إلى الكل توسعا كان المراد من الضمير هو
البعض، فالمراد من الضمير مختلف.
وفيه: ان العبرة في جريان الأصول التي بنى عليها العقلاء، بالمراد الجدي الذي
يختلف به العمل، لا المراد الاستعمالي، فمع الشك في مثل هذا المراد الذي لا يختلف به
في مقام العمل لا تجرى هذه الأصول فتدبر.
الايراد الثاني: ما ذكره الأستاذ الأعظم، وهو ان المدعى لجريان أصالة عدم
الاستخدام لا يدعى ظهور نفس الضمير في شئ، ليرد عليه ما ذكر، بل انما يدعى ظهور
الكلام بسياقه في اتحاد المراد من الضمير ومرجعه، وبما ان المراد من الضمير في محل
الكلام معلوم، يدور الامر بين رفع اليد عن الظهور السياقي المثبت لعدم إرادة العموم من
العام، ورفع اليد عن أصالة العموم المقتضية للالتزام بالاستخدام، وعليه فيجرى
هذا الأصل.
وما ذكره يتم ان رجع إلى ما سنشير إليه، وهو ان المعتبر في جريان أصالة
عدم الاستخدام كساير الأصول العقلائية هو اختلاف العمل بالبناء عليها وعدمه: فإنه
حينئذ يكون ذلك من تعيين المراد، ولا يعتبر زايدا على ذلك كون ذلك بتعيين المراد
المطابقي، بل يكفي الاختلاف من ناحية تعيين المراد الالتزامي، والمقام من هذا القبيل
فان اللازم من جريان أصالة عدم الاستخدام وان الضمير مستعمل فيما وضع له كون
المراد من العام بعض افراده، فيجرى هذا الأصل لهذه الجهة.
والايراد على ذلك، بان اثبات اللازم العقلي، وهي إرادة الخاص من العام
353

في المقام، فرع اثبات الملزوم بالأصل فإذا لم يمكن اثبات الملزوم به، لم يمكن اثبات
لازمه به أيضا لأنه فرعه وبتبعه كما عن المحقق النائيني (ره).
غريب: إذ عدم امكان اثبات الملزوم به، انما يكون لأجل عدم اختلاف العمل،
والأصول العقلائية، انما تكون جارية في مقام تعيين الوظيفة، والا، فمع فرض الاختلاف
ولو من جهة اللازم فيجرى الأصل بلا محذور (ولكن ستعرف بعيد هذا انه ليس لازم
جريان أصالة عدم الاستخدام إرادة الخاص من العام فانتظر)
وان لم يرجع إلى ذلك، وأراد منه ان ذلك من تعيين المراد المطابقي فهو كما
ترى، فالمتحصل انه لا محذور في جريان أصالة عدم الاستخدام من ناحية ما ذكر.
واما ما افاده في وجه عدم جريان أصالة العموم فسيأتي الكلام فيه.
ثم إن المحقق النائيني ذكر في وجه عدم جريان أصالة عدم الاستخدام وجهين
آخرين غير ما ذكره المحقق الخراساني.
أحدهما: ان الاستخدام في الضمير، انما يلزم إذا كان العام بعد التخصيص مجازا،
فإنه حينئذ يكون المراد من الضمير المعنى المجازى، ومن العام المعنى الحقيقي، واما
بناءا على الحقيقة وعدم كونه مجازا فلا يلزم الاستخدام إذ لا يكون للعام حينئذ الا معنى
واحد حقيقي وليس له معنى آخر حقيقي أو مجازي ليراد بالضمير الراجع إليه معنى
مغاير لما أريد من نفسه ليلزم الاستخدام في الكلام.
وفيه: ان العام المخصص لا يكون مجازا لو أريد به نفسه بالإرادة الاستعمالية
معناه الحقيقي، وهو تمام الافراد، إذ المخصص يكشف عن عدم مطابقة المراد الجدي
للمراد الاستعمالي فلا تلزم المجازية، واما لو كان المراد بالضمير الراجع إليه بالإرادة
الاستعمالية بعض افراد العام فهو الاستخدام، إذ المراد بالمرجع حينئذ جميع الافراد، و
بالضمير الراجع إليه هو البعض، وليس الاستخدام الا ذلك، أي عدم اتحاد المراد من
المرجع والضمير.
الثاني: انه لو سلمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد الا انها انما
تجرى فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع كما إذا قال المتكلم، رأيت أسدا و
354

ضربته، وعلمنا ان مراده بالضمير هو الرجل الشجاع، واحتملنا ان يكون المراد بلفظ
الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع لئلا يلزم الاستخدام، وأن يكون
المراد منه الحيوان المفترس، ليلزم ذلك، ففي مثل ذلك نسلم جريان أصالة عدم
الاستخدام، فيثبت بها ان المراد بلفظ الأسد في المثال، هو الرجل الشجاع، دون الحيوان
المفترس، واما فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير، في الآية الكريمة هو خصوص
الرجعيات، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه، يعنى كلمة المطلقات في الآية
الكريمة، فالمراد بالضمير فيها انما هو مطلق المطلقات، وإرادة خصوص الرجعيات منها،
انما هي بدال آخر، وهو عقد الحمل في الآية، فإنه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته
فما استعمل فيه الضمير، هو بعينه ما استعمل فيه المرجع، فأين الاستخدام لتجري أصالة
عدمه.
وفيه ان ما افاده من أن الضمير في الآية الكريمة مستعمل في العموم متين جدا،
وقيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض اقسام المطلقات في أثناء العدة،
لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص، لما مر مفصلا من أن التخصيص لا يستلزم كون
العام مجازا، ولكن ما افاده من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد
الحمل، غير تام، فان الآية الكريمة، متعرضة لبيان حكمين للمطلقات: 1 - لزوم التربص
والعدة 2 - أحقية الزوج برد زوجته، ولو كان الدليل منحصرا بالآية لقلنا بعموم الحكمين
لجميع اقسام المطلقات، وانما ثبت الاختصاص بدليل خارجي، فإنه دل دليل من الخارج
على اختصاص الحكم الثاني بقسم من المطلقات كما أنه دل دليل خارجي، على
اختصاص الحكم الأول بغير اليائسة ومن لم يدخل بها، فكما ان المطلقات استعملت
في العموم، والتخصيص لا يوجب استعمالها في الخاص، فكذلك الحال في الضمير،
فالمتحصل انه لا مانع من اجراء أصالة عدم الاستخدام.
واما أصالة العموم، فلم يورد على جريانها شئ سوى ما افاده المحقق الخراساني
(ره) من أنه من قبيل اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية، وهو غير تام، فان اكتناف الكلام
بما يصلح للقرينية انما هو فيما إذا ذكر في الكلام كلمة أو جملة مجملة، من حيث المعنى
355

بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده مثل أكرم العلماء الا الفساق منهم إذا
افترضنا ان لفظ الفاسق يدور امره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه و
من المرتكب للصغيرة فلا محالة يسرى اجماله إلى العام.
واما فيما نحن وهو ما إذا كان الكلام متكفلا لحكمين متغايرين كما في الآية
الكريمة، حيث إن الجملة المشتملة على العام متكفلة لبيان حكم، وهو لزوم التربص
والعدة، والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لبيان حكم آخر، وهو أحقية الزوج
بالرجوع إلى الزوجة في أثناء العدة، والحكم الأول ثابت لجميع افراد العام، والثاني ثابت
لبعض افراده، ومن الواضح انه لا صلة للثاني بالأول كي يكون قرينة على اختصاص
الحكم الأول أيضا، وعلى الجملة لا تمانع بين عمومه الحكم الأول واختصاص الحكم
الثاني، حتى يكون الثاني قرينة على الأول، فأصالة العموم أيضا تكون جارية.
ثم انه بعد جريان كل من الأصلين في أنفسهما، يقع الكلام في أنه، هل يكون
بينهما تعارض حتى يرفع اليد عن أحدهما، أم لا؟ الظاهر هو الثاني، إذ مقتضى أصالة
عدم الاستخدام إرادة العموم، لا الخصوص بالإرادة الاستعمالية، لا بالإرادة الجدية كي
يقال ان المراد معلوم فلا يجرى أصالة عدم الاستخدام - وبعبارة أخرى - انه لا تمانع
بين الأصلين، فان أصالة العموم تقتضي كون المراد بالعام هو العموم، وأصالة عدم
الاستخدام لا يقتضى الا كون المراد من الضمير بالإرادة الاستعمالية هو ما أريد من
مرجعه، لا ان المراد بالإرادة الجدية هو ذلك.
نعم، بعد جريانها في ساير الموارد يجرى أصل آخر وهو مطابقة المراد
الاستعمالي مع المراد الجدي، وعليه، فهذا الأصل لا يجرى في المقام، لا انه لا تجرى
أصالة عدم الاستخدام نفسها، فالأصلان الطوليان الجاريان في ناحية العام وهما، أصالة
العموم، وأصالة مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي، لا معارض لهما، إذ أصالة عدم
الاستخدام المعينة لان المراد الاستعمالي في الضمير هو جميع الافراد تجرى ولا تنافى
شيئا منهما، واما الأصل الطولى لهذا الأصل، وهو أصالة مطابقة المرادين، فهو لا يجرى
لمعلومية المراد الجدي.
356

ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تعارض الأصلين، أي أصالة العموم وأصالة عدم
الاستخدام، لابد من تقديم الثاني بحسب المتفاهم العرفي، كما هو الشأن في جميع موارد
تعارض ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة، فان الأول يقدم مطلقا، كما يظهر لمن راجع
تلك الموارد، مثل رأيت أسدا يرمى أو ضربته فتدبر، فتحصل ان الأقوى هو القول
الخامس، ثم الأول.
تعارض المفهوم مع العموم
الفصل الخامس: إذا تعارض العام مع المفهوم، فهل يقدم المفهوم على العموم،
أو العكس، أولا هذا ولا ذاك، أم هناك تفصيل وجوه وأقوال.
وقد استدل لتقديم العموم، بان دلالة العام على العموم ذاتية أصلية، ودلالة اللفظ
على المفهوم تبعية، وطبيعي تقدم الأصلية على التبعية، ولعله إلى ذلك نظر صاحب
المعالم قال إنه انما يقدم الخاص على العام من جهة أقوائية دلالته، وليس الامر هاهنا
كذلك فان المنطوق أقوى دلالة من المفهوم، وان كان المفهوم خاصا فلا يصلح
للمعارضة.
ويرد عليه ان دلالة اللفظ على المفهوم، انما هي من جهة دلالته على خصوصية
مستتبعة له، ودلالته عليها، اما ان يكون بالوضع أو بمقدمات الحكمة، والمفروض ان
دلالة العام على العموم أيضا لا تخلو من أحد هذين الامرين، أي الوضع، أو مقدمات
الحكمة فما معنى كون إحدى الدلالتين ذاتية أصلية والأخرى تبعية.
واستدل لتقديم المفهوم مطلقا، وان كانت النسبة عموما من وجه، بان دلالة
القضية على المفهوم عقلية، ودلالة العام على العموم لفظية، فلا يمكن رفع اليد عن
المفهوم من جهة العموم، - وبعبارة أخرى - ان المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي
تكون في المنطوق، وبديهي انه لا يعقل رفع اليد عن المفهوم من دون ان يتصرف في
تلك الخصوصية لاستحالة انفكاك الملزوم عن لازمه والعكس، ورفع اليد عن تلك
357

الخصوصية بلا موجب لفرض انها ليست طرفا للمعارضة. مع العام، فما هو طرف
للمعارضة لا يمكن رفع اليد عنه، وما يمكن فيه ذلك ليس طرف المعارضة.
ويرده، ان التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين
المنطوق والعام، لان القضية ذات مفهوم، تدل على تلك الخصوصية بالمطابقة،
وعلى المفهوم بالالتزام فالعام المعارض انما يعارض لكليهما لان انتفاء الملزوم، كما
يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، ولا يعقل انفكاك أحدهما
عن الاخر، فالعام المنافى للمفهوم يكون منافيا للمنطوق، ويقع التعارض بينهما.
وقد فصل المحقق الخراساني (ره) في المقام بما حاصله، انه إذا ورد العام مع
ماله المفهوم في كلام أو كلامين مرتبطين، على نحو يصلح ان يكون كل منهما قرينة
على الاخر، ودار الامر بين تخصيص العموم أو الغاء المفهوم، فالدلالة على كل منهما ان
كانت بالاطلاق، أو بالوضع فلا تكون هناك عموم ولا مفهوم لعدم تمامية مقدمات
الحكمة في شئ منهما وتزاحم ظهور أحدهما وضعا، لظهور الاخر، لاحتفاف كل منهما
بما يصلح للقرينية وهو ظهور الاخر الا إذا كان أحدهما أظهر فإنه يقدم ذلك لكونه مانعا
عن انعقاد ظهور الاخر، أو استقراره، وان كانا في كلامين ولم يرتبط أحدهما بالآخر بنحو
يصلح ان يكون قرينة على التصرف في الاخر يعامل معهما معاملة المجمل، الا إذا كان
أحدهما أظهر.
ويرد عليه مضافا إلى أنه لم يبين حكم ما إذا كانت دلالة أحدهما بالوضع والاخر
بالاطلاق، ان ما افاده يتم إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه، كما في عموم ما دل على أن
، ماء البئر واسع لا يفسده شئ الشامل للقليل، وما دل بمفهومه على أن القليل ينجس
بملاقاة النجاسة كقوله (ع) (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ) وأما إذا كانت النسبة
عموما مطلقا فلا يتم لتقدم ظهور القرينة على ظهور ذي القرينة وسيمر عليك تفصيل
القول في ذلك وتنقيح القول بالبحث في مقامين. الأول: في المفهوم الموافق. الثاني:
في المفهوم المخالف.
اما الأول: فقبل بيان حكمه لابد من تقديم مقدمة، وهي، ان المفهوم الموافق، و
358

هو ما إذا توافق المفهوم والمنطوق في الايجاب أو السلب، تارة يكون على نحو الأولوية،
وأخرى على نحو المساواة - والأول - انما يكون فيما إذا أدرك ان مناط الحكم موجود
في مورد آخر بنحو أشد وأكمل، كما في الآية الشريفة (ولا تقل لهما أف) (1) حيث إن مناط
حرمة قول - أف - موجود في الضرب والشتم بنحو أشد - وبعبارة أخرى - انما يتحقق
فيما إذا كان الحكم في لسان الدليل مترتبا على فرد وكانت أولوية ثبوت الحكم في مورد
آخر قطعية.
وأما إذا فرضنا ان الدليل المتضمن لحكم فرد انما يكون بحسب القرائن الداخلية
والخارجية، من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام كما احتمل ذلك في الآية الشريفة، فهو
خارج عن المفهوم، بل هو من باب انطباق موضوع الحكم نفسه على فرده ومصداقه.
والظاهر أن هذا هو مراد المحقق النائيني (ره) بقوله، وأما إذا كانت الأولوية عرفية
كما في الآية الشريفة، فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللفظية العرفية.
فلا يرد عليه ما أورده الأستاذ الأعظم: بأنه قد تقدم اعترافه (قده) بان المفهوم
داخل في المداليل اللفظية، فلا وجه لما افاده في المقام من خروج ما إذا كانت الأولوية
عرفية من المفهوم الموافق.
واما الثاني: وهو ما إذا كان المفهوم على نحو المساواة فقد يتحقق فيما أحرز مناط
الحكم من الخارج وكان ذلك المناط موجودا في مورد آخر، فيحكم بسراية الحكم
إلى ذلك المورد، وقد يتحقق فيما إذا كانت علة الحكم منصوصة، وهو انما يكون فيما
إذا كانت العلة المذكورة واسطة في الثبوت كما في قضية لا تشرب الخمر لاسكاره، وأما إذا
كانت من قبيل العنوان المنطبق عليه كما في قضية لا تشرب الخمر لأنه مسكر، فهو
خارج عن المفهوم.
توضيح ذلك أن العلة تارة تكون عنوانا منطبقا على الموضوع الخاص المذكور
في القضية، فحينئذ يكون ظاهر القضية كون الموضوع ذلك العنوان المذكور في التعليل، و

1 - الاسراء 23.
359

يكون ثبوته للموضوع المذكور في القضية من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، وهذا
خارج عن المفهوم، إذ ثبوت الحكم المترتب على العنوان الكلى على مصاديقه و
معنوناته ليس من المفهوم، بل هو نظير ثبوت وجوب الاكرام لزيد العالم لو قال المولى
اكرام كل عالم.
وأخرى تكون العلة من الحيثيات التعليلية للحكم كما في المثال الأول، وفى مثل
ذلك يكون ظاهر القضية كون المذكور في التعليل بنفسه علة للحكم مع قطع النظر عن اية
خصوصية فرضت حتى خصوصية القيام بالموضوع المذكور في القضية، وعليه فاحتمال
ان يكون في خصوص العلة القائمة بالموضوع المذكور في القضية خصوصية داعية إلى
جعل الحرمة، مندفع بالظهور، وعلى هذا فيحكم بثبوت الحكم في غير ذلك الموضوع
مما يشترك معه في تلك العلة، وهذا هو المفهوم الموافق بالتساوي الذي يعبر عنه
بالمفهوم بالتساوي، ولحن الخطاب، ومنصوص العلة.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقق النائيني (ره) في المقام حيث عد القسم
الأول من المفهوم الموافق، وأنكر تسرية الحكم المذكور في القضية من الموضوع
المذكور فيها في القسم الثاني وقد عرفت ما في كلا شقي كلامه (قده).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد يتوهم تقدم المفهوم الموافق على العام إذا كانت
النسبة بينهما عموما مطلقا كما هو الشأن في جميع موارد العام والخاص.
وقد يتوهم تقدمه عليه، وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه، وذلك من جهة
ان التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه مع ابقاء المنطوق على حاله غير ممكن لفرض
كون الأولوية قطعية - وبعبارة أخرى - يلزم التفكيك بين اللازم والملزوم، وهو محال،
واما رفع اليد عن المنطوق مع عدم كونه معارضا فمما لا وجه له فيتعين التصرف في العام.
ولكن الظاهر فساد كلا التوهمين: وذلك: لان التعارض بين المفهوم والعام،
يرجع إلى التعارض بين العام، والمنطوق لأنه كما يستلزم ثبوت الملزوم لثبوت لازمه و
لأجله يحكم بثبوت المفهوم الموافق كذلك يستلزم نفى اللازم، نفى الملزوم، لفرض
التلازم، فحينئذ دليل بعمومه يدل على عدم ثبوت المفهوم فيدل على عدم ثبوت
360

المنطوق - مثلا - لو قال (اضرب كل أحد) ثم قال (ولا تقل لوالديك أف) فإنه كما يدل
الثاني على حرمة ضربهما، كذلك يدل الأول على جواز قول آلاف لهما بالأولوية، و
عليه، فلا بد من علاج التعارض بينهما، فان كان المنطوق أخص مطلقا من العام يقدم
المنطوق والمفهوم، وان كانت النسبة بين العام والمفهوم عموما من وجه، كما في مثل
(أكرم فساق خدام العلماء) الدال بالأولوية على وجوب اكرام العلماء عدولا كانوا، أم
فساقا، و (لا تكرم الفساق)، وان كانت النسبة بين المنطوق والعام عموما من وجه. كما لو
كان المنطوق في مفروض المثال (أكرم خدام العلماء) فلا بد من ملاحظة ما يرجع إليه في
مثل هذا التعارض، فان قدم المنطوق لكون دلالته بالوضع ودلالة العام بالاطلاق مثلا
فيحكم بثبوت المفهوم وان قدم العام وخصص المنطوق فلا محالة تتضيق دائرة
المفهوم أيضا كما هو أوضح من أن يخفى فتدبر في أطراف ما ذكرناه.
واما المقام الثاني: فالنسبة بين العموم والمفهوم ان كانت عموما من وجه، فان
كانت دلالة العام على العموم وضعية فان قلنا ان دلالة الكلام على المفهوم أيضا وضعية
كما تقدم. فلا بد من الرجوع إلى الاخبار العلاجية بناءا على المختار كما سيأتي تحقيقه.
وان قلنا بان دلالة الكلام على المفهوم بالاطلاق يقدم العام على المفهوم، لان من
جملة المرجحات لتقديم أحد العامين من وجه كون دلالة أحدهما بالوضع والاخر
بالاطلاق.
وان كانت دلالة العام على العموم غير وضعية، فان كانت دلالة الكلام على
المفهوم وضعية يقدم المفهوم على العام، والا فيتساقط الاطلاقان، ولا بد من الرجوع إلى
دليل آخر من أصل لفظي أو عملي.
وأما إذا كانت النسبة عموما مطلقا، وكان المفهوم أخص من العام، يقدم المفهوم
مطلقا، وذلك فيما إذا كان للمفهوم حكومة على العام، كمفهوم اية البناء الحاكم على
عموم العلة فيها المستفاد منها المنع عن اتباع غير العلم، واضح، فان المفهوم حينئذ
متكفل لعقد الوضع للعام، ويوجب خروج مورده عن كونه فردا للعام، والعام غير
متعرض لذلك، وانما يثبت الحكم على ما تحققت فرديته له، فهو لا يصلح لان يمنع عن
361

انعقاد الظهور في المفهوم الا على وجه دائر - وبعبارة أخرى - كون المورد فردا للعام
يتوقف على عدم المفهوم وهو يتوقف على شمول العام له، المتوقف على كونه فردا له.
وان لم يكن له حكومة عليه، فوجه تقديمه عليه هو ورود دليل حجيته على
أصالة العموم، من جهة ان الخاص في نفسه قرينة على العام فالتعبد به تعبد بعدم إرادة
الظهور من العام، وقد حقق في محله ان أصالة الظهور في القرينة مقدمة على أصالة الظهور
في ذي القرينة ولو كان ظهور القرينة في نفسه أضعف من ظهور ذي القرينة وتمام الكلام
في ذلك يأتي في مبحث التعادل والترجيح.
تعقب الاستثناء للجمل المتعددة
الفصل السادس: إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة، فهل الظاهر هو رجوعه إلى
الكل كما عن الشيخ (قده) أو خصوص الأخيرة كما عن جماعة، أو لا ظهور له في واحد
منهما، اما لكونه مشتركا لفظيا كما عن السيد، أو معنويا كما يؤول إليه ما في المعالم، أو ان
المستعمل فيه واحد كان الاستثناء راجعا إلى الكل أو إلى خصوص الأخيرة كما
في الكفاية وجوه.
وتنقيح القول بالبحث في موردين: الأول: في امكان رجوع الاستثناء إلى الكل و
عدمه. الثاني: في أن الظاهر هو الرجوع إلى الكل على فرض امكانه، أو إلى الأخيرة، أو
لا ظهور له في شئ منهما.
اما الأول: فأفاد المحقق الخراساني (ره) بأنه لا اشكال في صحة رجوعه إلى
الكل، وأفاد في وجهه ما محصله ان أداة الاستثناء موضوعة للاخراج وهي تستعمل فيه
دائما سواء اتحد طرفاها أعني المستثنى والمستثنى منه، أم تعددا، أم اختلفا بالتعدد في
جانب والاتحاد في آخر، وان قلنا بوضع الأداة بالوضع العام والموضوع له الخاص كما
اختاره صاحب المعالم (ره) إذ الاخراج من المتعدد، نظير اخراج المتعدد مصداق واحد
لمفهوم الاخراج لا مصاديق متعددة، فلو رجع الاستثناء إلى الجميع أو إلى خصوص
362

الأخيرة لم يكن فرق من ناحية استعمال الأداة في معنى واحد - وبعبارة أخرى - ان نسبة
الاخراج واحدة كانت قائمة بالمتحد، أو المتعدد، غاية الامر إذا كانت قائمة بالمتعدد
تنحل تلك النسبة إلى نسب ضمنية متعددة بتعدد أطراف النسبة.
وفيه: مضافا إلى أن قياس تعدد المستثنى منه، بتعدد المستثنى، مع الفارق فان
تعدد المستثنى لا يصح الا بالعطف، وهو في حكم تعدد أداة الاستثناء، وهذا بخلاف
تعدد المستثنى منه، ولذلك ترى انه استدل لعدم جواز الرجوع إلى الجميع، بأنه ان أضمر
مع كل جملة استثناءا لزم مخالفة الأصل، وان لم يضمر كان العامل فيما بعد الاستثناء أكثر
من واحد، ولا يجوز تعدد العامل على معمول واحد في اعراب واحد: لنص سيبويه عليه
وقوله حجة: انه إذا كان الدال على الاستثناء حرفا وكان الموضوع له في الحروف خاصا،
لا محالة يكون ذلك موضوعا للاخراجات الخاصة، ولازم ذلك تعدد الاخراج بتعدد
أحد الطرفين كما هو الشأن في الأمور النسبية فيكون الاخراج متعددا إذا كان المستثنى،
أو المستثنى منه متعددا، الا ان يلاحظ الوحدة في الجمل المتعددة، أو في المستثنيات
المتعددة، وعلى ذلك فارجاع الاستثناء إلى الجميع مع عدم لحاظ الوحدة مستلزم
لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ولكن الذي يسهل الخطب فساد المبنى، وان الموضوع له في الحروف عام، فلا
كلام في امكان الارجاع إلى الجميع. نعم، إذا كان المستثنى شخصا واحدا غير قابل
الانطباق على المخرج من كل جملة، كما إذا قال: (أكرم العلماء) و (أضف العدول الا
زيدا) ولم يكن زيد مجمع العنوانين لا يمكن الرجوع إلى الجميع، الا بتأويل زيد إلى
مسماه، أو باستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ولكنه غير مربوط بما هو محل
الكلام.
واما المورد الثاني: ففي الكفاية انه لا ظهور له في الرجوع إلى الجميع أو خصوص
الأخيرة، وان كان الرجوع إليها متيقنا. نعم، غير الأخيرة من الجمل لا تكون ظاهرة
في العموم، لاكتنافها بما لا تكون معه ظاهرة فيه ثم قال اللهم الا ان يقال بحجية أصالة
الحقيقة تعبدا لا من باب الظهور، فيكون المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا، واما
363

إذا كان بالاطلاق فلا يكاد يتم ذلك لعدم تمامية مقدمات الحكمة، والوجه في عدم
جريان المقدمات صلوح الاستثناء لذلك، لاحتمال الاعتماد حينئذ في التقييد عليه لاعتقاد
انه كاف فيه ثم امر بالتأمل، وأفاد في وجهه في الهامش، ان مجرد صلوحه لذلك بدون
قرينة عليه غير صالح للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع
إلى الجميع، فأصالة الاطلاق مع عدم القرينة محكمة لتمامية مقدمات الحكمة.
أقول: في كلماته مواقع للنظر: 1 - ما افاده من أنه لا ظهور له في الرجوع
إلى الجميع، فإنه يرد عليه انه بعد كون الاستثناء والمستثنى صالحين للرجوع إلى الجميع
باستعمالهما في الجامع وإرادة جميع افراده يكون مقتضى الاطلاق هو الرجوع
إلى الجميع، وحينئذ لو كان ظهور العمومات الاخر غير الأخيرة وضعيا يقدم على
ظهور الاستثناء والمستثنى في الاطلاق، والا فيتعارض الاطلاقان ويتساقطان، اللهم الا ان
يقال ان ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة مطلقا كما هو الصحيح، وعليه بناء العرف
في المحاورات، وعليه فيقدم ظهور الاستثناء في كونه راجعا إلى الجميع وتخصص
جميع العمومات به.
2 - ما افاده (قده) من أنه بناءا على عدم ظهور الاستثناء في الرجوع إلى الكل أو
خصوص الأخيرة يكون ذلك مانعا عن انعقاد الظهور لساير الجمل غير الأخيرة،
لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، فإنه يرد عليه ان كبرى احتفاف الكلام بذلك انما هو
ما إذا صح اعتماد المتكلم عليه وان كان مشتبه المراد عند المخاطب كلفظ الفاسق، لو
فرضنا كون الفسق مشتبه المراد عند المخاطب، ودار امره بين كونه عبارة عن ارتكاب
الكبيرة، أو الأعم منه ومن ارتكاب الصغيرة، فلو قال: (أكرم العلماء الا الفساق منهم) فلا
محالة يكون ذلك مانعا عن انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة، حيث إنه
يصح للمتكلم ان يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي.
وهذا بخلاف المقام، فان مجرد صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع بدون قرينة
عليه لا يصلح للاعتماد عليه، بل الاعتماد عليه يصح إذا كان بحسب مقام العرف ظاهرا
في الرجوع إلى الجميع، وعلى الجملة، ان العمومات ظاهرة في الشمول لجميع الافراد
364

فلا بد في صرفها عن ظواهرها من الاكتناف بما هو أظهر منه، أو المساوي معه الموجب
ذلك لاجمالها، والفرض ان الاستثناء ليس له ظهور في تخصيص تلك الجمل، فلا يصح
للمولى ان يتكل عليه فلا تكون العمومات من قبيل الكلام المحفوف بالقرينة.
3 - ان ما افاده في الهامش من أن مجرد الصلوح لذلك بلا قرينة عليه غير صالح
للاعتماد ما لم يكن بحسب متفاهم العرف ظاهرا في الرجوع إلى الجميع، وان كان تاما، و
به يندفع ما افاده في الاطلاق، الا انه لم يظهر وجه الفرق بين العموم والاطلاق، وانه كيف
لا يكون صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع مانعا عن انعقاد الاطلاق، ويكون مانعا عن
ظهور العام في العموم.
ثم إن للمحقق النائيني في المقام تفصيلا، قال إن من الواضح انه لا بد من رجوع
الاستثناء إلى عقد الوضع لا محالة. وعليه فان لم يكن عقد الوضع مذكورا الا في
صدر الكلام كما إذا: (قيل أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم الا فساقهم) لا مناص من
رجوع الاستثناء إلى الجميع، لفرض ان عقد الوضع لم يذكر الا في صدر الكلام، وعرفت
انه لا بد من رجوع الاستثناء إلى عقد الوضع، وان كان عقد الوضع مكررا في الجملة
الأخيرة كما في الآية الكريمة (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا)
إلى آخر الآية، فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة، لان تكرار
عقد الوضع في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب اخذ الاستثناء محله من الكلام، فيحتاج
تخصيص الجملة السابقة على الجملة الأخيرة إلى دليل آخر مفقود على الفرض.
ويرد عليه أمران: 1 - ما افاده في صورة عدم تكرر عقد الوضع، فإنه يرد عليه ان
الاستثناء كما يصح من الاسم الظاهر، يصح من الضمير وليس الضمير كالتوصيف، وعليه
فحكم هذه الصورة حكم الصورة الثانية 2 - ما افاده في صورة تكرر عقد الوضع من
اخذ الاستثناء محله من الكلام، فإنه يرد عليه انه مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجميع
ما معنى اخذ الاستثناء محله من الكلام؟
وللأستاذ تفصيل آخر، وحاصله ان الصور ثلاث، الأولى: ان يكون تعددها بتعدد
365

الموضوع فحسب كما لو قيل: (أكرم العلماء والسادة الا الفساق منهم). الثانية: ان يكون
تعددها بتعدد المحمول كما لو قال المولى لعبده: (بع كتبي وأعرها واجرها الا ما كان
مكتوبا على ظهره انه مخصوص لي) الثالثة: ان يكون تعددها بتعدد الموضوع والمحمول
معا. كما لو قال: (أكرم السادة وانظر إلى العلماء الا الفساق منهم).
اما في الصورة الأولى فان لم يتكرر عقد الحمل كما في المثال فلا شبهة في رجوع
الاستثناء إلى الجميع، حيث إن ثبوت الحكم الواحد لهم جميعا قرينة عرفا على أن
الجميع موضوع واحد في مقام الجعل واللحاظ، وأما إذا كرر فيها عقد الحمل كما إذا
قيل: (أكرم العلماء وأكرم الشيوخ الا الفساق منهم) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى
خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت لان تكرار عقد
الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أنه كلام آخر منفصل عما قبله من الجملات، و
بذلك يأخذ الاستثناء محله من الكلام.
واما الصورة الثانية، فان كان الموضوع فيها غير متكرر كما في الآية الكريمة
والمثال، فالظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع، والوجه فيه هو رجوع الاستثناء
إلى الموضوع فبطبيعة الحال يكون استثناءا من الجميع. وان كان الموضوع فيها متكررا
كما في مثل قولنا: (أكرم العلماء وأضفهم وجالس العلماء الا الفساق منهم) فالظاهر هو
رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل لو
كانت، فان تكرار عقد الوضع قرينة عرفا على قطع الكلام عما قبله، وبذلك
يأخذ الاستثناء محله.
واما الصورة الثالثة: فيظهر حالها مما تقدم وهو رجوع الاستثناء إلى الجملة
الأخيرة.
أقول: ان أساس ما افاده من التفصيل أمور. أحدها: ان تكرار عقد الوضع قرينة
عرفية على انفصال الكلام عما قبله فيأخذ الاستثناء محله. ثانيها: انه مع عدم تكراره يكون
الكلام ظاهرا في الرجوع إلى الجميع لرجوع الاستثناء إلى الموضوع، والمفروض انه ذكر
في صدر الكلام. ثالثها: ان ثبوت الحكم الواحد للموضوعات المتعددة قرينة عرفا على أن
366

الجميع موضوع واحد.
ويرد على ما افاده أولا: ان تكرار عقد الوضع لو سلم كونه قرينة على انفصال
الكلام عما قبله، لا يكون سببا لرجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة بعد كونه
صالحا للرجوع إلى الجميع، ولم افهم معنى اخذ الاستثناء محله، ويرد على ما افاده ثانيا
ما أوردناه على المحقق النائيني (ره) من أن الاستثناء يصح ان يرجع إلى الضمير، نعم ما
افاده من الامر الثالث تام.
فالمتحصل مما ذكرناه، هو ظهور القضية مطلقا، في الرجوع إلى الجميع.
تخصيص الكتاب بخبر الواحد
الفصل السابع: ذهب جماعة إلى جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، و
حكى المحقق عن الشيخ وجماعة انكاره مطلقا، وقال صاحب المعالم وهو مذهب
السيد، وفصل بعضهم فاجازه ان كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلا كان أو
منفصلا، وتوقف بعض واليه يميل المحقق.
ويمكن ان يستدل لجواز بوجوه: 1 - انه حيث لا تعارض بين سند الكتاب و
سند الخبر، بل التنافي انما هو من جهة الدلالة، أي دلالة الكتاب عموما أو اطلاقا وسند
الخبر، أو دلالته، فلا ريب في التقديم الخبر، لان دليل اعتبار سند الخبر يكون حاكما
عليها، ورافعا لموضوعها، وهو الشك في إرادة العموم، حيث إنه بعد اعتبار الخبر سندا و
حجيته يكون مبينا لما هو المراد من الكتاب في الواقع فيقدم عليه، واما دلالة الخبر فهي
قطعية لكونه نصا في مدلوله، وبديهي ان الظاهر يرفع اليد عنه بالنص.
2 - الاخبار العلاجية حيث إنهم (ع) قدموا فيها عند بيان المرجحات الشهرة
وصفات الراوي على موافقة الكتاب، فتدل على أن الخبر المخالف للكتاب، بنحو العام
والخاص، لا التباين إذا كان مشهورا يكون حجة، ومقدما على معارضه، فلا محالة
يخصص العموم به، أضف إلى ذلك ما سيأتي في محله، من أن الأمور المذكورة فيها منها
367

موافقة الكتاب من مرجحات إحدى الحجتين على الأخرى، لا من مميزات الحجة عن
اللا حجة، فجعل موافقة الكتاب من تلكم بنفسه دليل حجية المخالف.
3 - انه لولا ذلك لزم الغاء الخبر بالمرة، ضرورة انه لا خبر الا ويخالفه عموم
الكتاب، فأدلة حجية الخبر تدل على جواز تخصيص الكتاب به.
واما ما استدل به صاحب التقريرات والمحقق الخراساني، قال في الكفاية لما
هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل باخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى
زمن الأئمة عليهم السلام، فيرد عليه: ان المتيقن من ذلك في زمن الأئمة، هو ما لو كان
الخبر قطعي السند، فإنه لا ريب في حصول القطع بالصدور كثيرا، مع قلة الواسطة وكون
الواسطة مورد الوثوق والاطمينان.
واستدل لعدم الجواز بوجوه. أحدها: ان الكتاب قطعي السند، والخبر ظني السند،
فكيف يرفع اليد عن القطعي بالظني.
ويرد عليه ما مر من: ان القطعي انما هو سند الكتاب وصدور ألفاظه الخاصة عن
الشارع الأقدس، والخبر لا ينافي ذلك، واما دلالته على العموم أو الاطلاق فهي ليست
قطعية، لاحتمال عدم ارادته تعالى العموم أو الاطلاق من العمومات والمطلقات، وانما
يكون حجية أصالة الظهور فيها ببناء العقلاء، وبديهي ان بنائهم عليها انما هو ما لم يقم على
خلافها قرينة والا فلا بناء منهم على العمل بها، والفرض ان خبر الواحد بعدم قيام الدليل
على حجيته يصلح قرينة على الخلاف، وعلى الجملة ان طرف معارضة الخبر هو دلالة
الكتاب وهي غير قطعية.
ثانيها: ما ذكره المحقق (ره) المائل إلى التوقف وهو انه، لا دليل على حجية الخبر
غير الاجماع والمتيقن منه ما لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو اطلاقه.
ويرده ما سيأتي من أن مدرك حجية الخبر هو، السيرة العقلائية، والآيات،
والاخبار كما سيأتي.
ثالثها: ما عن الشيخ في العدة وهو الأخبار الدالة على المنع عن العمل بما خالف
368

كتاب الله، وان ما خالفه زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله أو ما شاكل ذلك (1)،
وهذه الأخبار تشمل الاخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته أيضا فتدل على عدم
حجيته.
وفيه: ان المخالفة بالعموم والخصوص لا تكون مخالفة عرفا، بل العرف يرى كون
الخاص قرينة على العام، وشارحا له، ومع وجوده لا بناء من العقلاء على حجية أصالة
الظهور، فالمراد من المخالفة فيها اما خصوص المخالفة بالتباين، أو الأعم منه ومن
العموم من وجه، أضف إليه انه بعد العلم بصدور الاخبار المخالفة للكتاب بالعموم
المطلق، فلو سلم شمول المخالفة له لابد من تخصيص تلك الأخبار بغير تلك المخالفة.
فان قيل إن الأخبار الآمرة برد المخالف آبية عن التخصيص، أجبنا عنه انها آبية
عن التخصيص الافرادي ولكنها غير آبية عن التخصيص الأنواعي بان يقال كل خبر
خالف كتاب الله فهو زخرف الا المخالف له بنحو العموم والخصوص المطلق.
واما ما في الكفاية من قوله مع قوة احتمال ان يكون المراد انهم لا يقولون بغير ما
هو قول الله تعالى واقعا، وان كان على خلافه ظاهرا شرحا لمرامه تعالى وبيانا لمراده من
كلامه.
فيرد عليه: ان الأخبار الآمرة بطرح المخالف صريحة في كون المراد هو ما بين
الدفتين لا الحكم الله الواقعي، فإنه لا يعلمه الا هو ونبيه وأوصيائه، فلا معنى لارجاع
الناس إليه، وجعله معيارا لهم في تشخيص الخبر الصحيح عن غيره.
مع أنه لو تم ما أفاد فإنما هو فيما كان لسانه، لم نقله أو ما شاكل، ولا يتم فيما كان
لسانه اضربه على الجدار كما لا يخفى.
رابعها: انه لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نسخه به، حيث إنه قسم من
التخصيص وهو التخصيص بحسب الأزمان ولا فرق بينهما الا في كون التخصيص
المصطلح تخصيصا بحسب الافراد العرضية، والنسخ تخصيصا بحسب الافراد الطولية

1 - وسائل الشيعة 18 / 78.
369

فلو جاز الأول جاز الثاني مع أنه ممتنع جزما، فيمتنع الأول.
ويرد عليه: انه قد دلت الأدلة القطعية على أن الشريعة المقدسة قد كملت في زمان
النبي (ص) وانه لا يتبدل شئ من الاحكام بعد موته، وان حلاله حلال إلى يوم القيامة و
حرامه حرام كذلك، وهذه تدل على أن الخبر الدال على النسخ باطل وغير موافق للواقع
وليس كذلك التخصيص، نعم إذا تضمن خبر الواحد نسخ حكم في زمان النبي (ص)
نلتزم به ولا محذور فيه، فالمتحصل هو جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد.
دوران الامر بين التخصيص والنسخ
الفصل الثامن: إذا ورد عام وخاص ودار الامر بين النسخ والتخصيص ففيه صور:
الأولى: ان يكون الخاص متصلا بالعام ومقارنا معه.
الثانية: ان يكون الخاص بعد العام قبل حضور وقت العمل به.
الثالثة: ان يكون الخاص بعد العام وبعد حضور وقت العمل به.
الرابعة: ان يكون العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به.
الخامسة: ان يكون العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به.
اما الصورة الأولى: فلا ريب في كونه مخصصا لعدم معقولية النسخ لأنه عبارة عن
رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض ان الحكم العام في العام المتصل بالمخصص
غير ثابت فيها ليكون الخاص رافعا له، وبالجملة لا معنى معقول لجعل الحكم ورفعه في
آن واحد.
واما الصورة الثانية: فقد يقال بعدم جواز التخصيص، فإنه يلزم منه تأخير البيان عن
وقت الخطاب، ويرده ما سيأتي من جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة فضلا عن تأخيره
عن وقت الخطاب.
وفى الكفاية وعن المحقق القمي وصاحب المعالم وغيرهم من الأساطين، انه
لا محيص من كونه مخصصا له وبيانا، واستدل له بوجهين:
370

أحدهما: ان المتعلق في ظرف العمل ان كان فيه مصلحة فلماذا ينسخ الحكم، والا
فلماذا يجعله.
ويرده ان هذا ايراد أورد على جواز النسخ مطلقا وسيأتي الجواب عنه انه يمكن
ان يكون مصلحة في البعث إليه في زمان أو يكون مفسدة في اخراج هذا الفرد في أول
الامر.
ثانيهما: انه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم فعليته في الخارج
بفعلية موضوعه فان اثر الحكم الايجابي منحصر في امكان داعويته في ظرف العمل.
والالتزام بأنه يمكن ان يكون مصلحة في جعل الحكم، ونسخه قبل زمان العمل،
التزام بعدم امكان النسخ، إذ مثل ذلك الجعل ليس جعلا للحكم الحقيقي، بل هو حكم
صوري امتحاني، أو نحوه، وهو خلف الفرض.
ولا فرق في ذلك بين القضية الخارجية، والحقيقية، إذ في القضية الحقيقية، وان
كان المجعول هو الحكم على موضوع مقدر الوجود، وليس منوطا بوجود الموضوع
خارجا، ويصح الجعل مع عدم تحقق الموضوع في الخارج، فيما إذا صار الجعل سببا
لعدم تحققه، كما في بعض الأحكام الجزائية، كجعل القصاص، الا انه لأجل كون
الحكم البعثي، انشاءا بداعي جعل الداعي، ومع نسخه لا يترقب منه ذلك، فلا يصح
- وبعبارة أخرى - اثر جعل الحكم، ولو كان بنحو القضية الحقيقية، هو امكان داعويته في
حين فعليته فلا يصح نسخ مثل ذلك قبل فعلية الموضوع المستلزم للغوية الجعل.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) حيث إنه التزم بامكان النسخ
قبل حضور وقت العمل في القضايا الحقيقية غير الموقتة بوقت مخصوص، مستدلا بأنه لا
يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له في العام أصلا، إذ المفروض انه حكم على
موضوع مقدر الوجود.
: فإنه قد عرفت ان المانع هو لغوية جعل الحكم ثم نسخه، مع، انه في مورد علم
الحاكم بعدم تحقق الموضوع خارجا وعدم استناد ذلك إلى الجعل نلتزم بعدم معقولية
الجعل للغوية.
371

وما يرى من صحة جعل الحكم الموجب لعدم تحقق موضوعه في الخارج
الموجب لعدم فعليته في الخارج كما في القصاص وبعض الحدود فإنما هو من جهة
خروج ذلك الجعل عن اللغوية ولا ربط لذلك بما هو محل الكلام الذي لا اثر عملي له
سوى امكان الداعوية.
فالمتحصل انه، يمكن ان يكون ذلك ناسخا، ويمكن ان يكون مخصصا، و
لكن الأظهر كونه مخصصا لما سيأتي في الصورة الثالثة.
وهي ما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، فقد يقال بتعين النسخ، و
قد يقال بتعين التخصيص.
واستدل للأول، بعدم معقولية التخصيص لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بان العام إذا كان واردا في مقام بيان الحكم
الواقعي ثم ما ذكر، وأما إذا كان واردا في مقام بيان جعل القانون والقاعدة، بمعنى
ان المتكلم أراد بالإرادة التصديقية فيما قال، جعل الحكم على جميع الافراد، وان
استعمال العام في معناه انما هو لكونه بيانا للمراد ما لم يجئ قرينة على التخصيص، كما
هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات، فلا مانع من ورود
التخصيص بعد حضور وقت العمل به، إذ لا يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، لعدم
كون المولى في مقام بيان المراد الجدي حين جعله الحكم على نحو العموم، وانما يكون
في مقام بيان ضرب القاعدة وهو على الفرض لم يتأخر بيانه عن وقت الحاجة.
ويرد عليه ان ما ذكر من كون عمومات الكتاب والسنة واردة في مقام ضرب
القاعدة، وان كان تاما كما مر في مبحث عدم استلزام تخصيص العام للمجازية، ولا يرد
عليه ما أورده المحقق النائيني (ره) كما عرفت في ذلك المبحث.
الا انه لا يفيد في المقام إذ لا يخل الامر من كون العمومات ظاهرة في إرادة
العموم واقعا وجدا في مقام الاثبات والدلالة، أو لا تكون ظاهرة فيها، فعلى الأول يلزم
تأخير البيان عن وقت الحاجة، إذ العام حينئذ ظاهر في العموم والخاص المتأخر كاشف
عن عدم إرادة العموم، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعلى الثاني لا ظهور
372

لها في العموم كي يتمسك به في مقام الاثبات وفى ظرف الشك في المراد، وبالجملة
المحذور في ذلك المبحث ثبوتي يرتفع بما أفيد، وفى المقام اثباتي لا يرتفع به فتدبر.
فالأولى في مقام الجواب ان يقال ان قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة انما هو
بمناط انه يوجب ايقاع المكلف في المشقة من دون مقتض لها واقعا، وذلك فيما إذا
افترضنا ان العام مشتمل على حكم الزامي في الظاهر، ولكن كان بعض افراده في الواقع
مشتملا على حكم ترخيصي، وهو قبيح، أو انه يوجب القاء المكلف في المفسدة أو
يوجب تفويت المصلحة كما إذا كان العام مشتملا على حكم ترخيصي في الظاهر، وكان
بعض افراده في الواقع واجبا أو حراما. وهو أيضا قبيح، وأيا ما كان انما يكون هذا القبح
قابلا للرفع وذلك فيما إذا اقتضت المصلحة الأقوى ذلك، فإنه لا يكون هذا القبح كقبح
الظلم غير ممكن التخلف عنه بل هو اقتضائي ومن قبيل قبح الكذب، وعليه فإذا اقتضت
المصلحة الأقوى من مفسدة التأخير، أو كان في التقديم مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره
لا محذور فيه ولا مانع عنه (كما كان كذلك في صدر الاسلام)
واستدل للثاني بوجوه يأتي الإشارة إليها في الصورة الخامسة، وستعرف وجه
تعين التخصيص في جميع الصور.
الصورة الرابعة: ما لو ورد العام بعد الخاص قبل حضور وقت العمل به ففي هذه
الصورة يتعين الالتزام بالتخصيص، لما مر في الصورة الثانية من أن البناء على النسخ
يوجب لغوية جعل الحكم.
الخامسة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به، ففي هذه
الصورة يقع الكلام في أن الخاص المتقدم، هل يكون مخصصا فيكون الحكم المجعول
بعد ورود العام هو حكم الخاص دون العام، أو ان العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم
فيكون الحكم المجعول بعد وروده هو حكم العام، فيه وجهان.
وقد استدل لتعين التخصيص بوجوه. الأول: ما في الكفاية قال وان كان الأظهر
ان يكون الخاص مخصصا لكثرة التخصيص حتى اشتهر ما من عام الا وقد خص مع قلة
النسخ في الاحكام جدا، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ولو كان بالاطلاق أقوى
373

من ظهور العام ولو كان بالوضع كما لا يخفى انتهى.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) تبعا للشيخ الأعظم، بامتناع كون دليل الحكم
متكفلا لبيان استمرار ذلك الحكم ودوامه، لان الحكم باستمرار أي حكم انما هو في
مرتبة متأخرة عن نفس ذلك الحكم، ضرورة انه لابد من أن يكون نفس الحكم مفروض
الوجود حين الحكم عليه بالاستمرار فكيف يعقل ان يكون دليل واحد متكفلا باثبات
نفس الحكم وباثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج.
ولكن يمكن رد ذلك بان معنى استمرار الحكم ودوامه، هو ثبوت الحكم في
جميع الأزمنة وبلحاظ الافراد الطولية للمتعلق، وعليه فكما ان الدليل بالإضافة إلى الافراد
العرضية قد يكون مقيدا، وقد يكون مطلقا كذلك بالإضافة إلى الافراد الطولية وليس
معناه، ثبوت حكم واحد، واستمرار ذلك الحكم، بل لا محالة ينحل الحكم إلى احكام
عديدة بعدد ما لموضوعه من الافراد، وعليه فإذا كان الدليل في مقام البيان ولم يقيده
بزمان خاص يكون الحكم مطلقا بالإضافة إلى جميع الأزمنة فيتمسك به في كل زمان
يشك في ثبوت الحكم له، فما افاده المحقق الخراساني من أن الخاص يدل على الدوام
والاستمرار بالاطلاق، متين.
ولكن ما افاده من تقديم الخاص على العام، وان كانت دلالة الخاص بالاطلاق و
دلالة العام على العموم بالوضع، غير تام، فان دلالة العام على العموم تنجيزية غير متوقفة
على شئ وتصلح ان تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في الخاص، غلبة التخصيص
لا تكون بحد توجب الاطمينان بذلك، ومجرد الظن لا يغنى عن الحق شيئا. مع أنه لا يدور
الامر في المقام بين التخصيص والنسخ، فان الخاص صلاحيته لكونه مخصصا تتوقف
على جريان مقدمات الحكمة، وهي غير جارية على الفرض.
الثاني: التمسك بقولهم عليهم السلام (حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة و
حرامه حرام إلى يوم القيامة) (1) فان ذلك ظاهر في أن كل حكم ثابت في الشريعة المقدسة

1 - أصول الكافي ج 1 ص 58 ح 19.
374

مستمر إلى يوم القيامة فيتمسك في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم الثابت فيه
بعموم هذا الدليل.
وفيه: أولا ان المراد به ان شريعة محمد (ص) باقية إلى يوم القيامة وانه لا ينالها
يد النسخ بشريعة أخرى، ولا نظر له إلى استمرار كل حكم منه إلى يوم القيامة. مع، انه لو
سلم ظهوره في استمرار كل حكم منها، يقع التعارض بينه وبين عموم العام المقتضى
للشمول لجميع الافراد منها هذا الخاص المستلزم ذلك للنسخ.
الثالث: ان الامر في محل الكلام دائر بين رفع اليد عن أصالة العموم، وبين رفع
اليد عن أصالة عدم النسخ في مثل ذلك يتعين رفع اليد عن أصالة العموم، لقلة النسخ، و
كثرة التخصيص.
وفيه: انه لو جرت أصالة العموم لكانت حاكمة على أصالة عدم النسخ، لان
مدرك الأولى بناء العقلاء، ومدرك الثانية الاستصحاب، ولا كلام في حكومة الأصل
اللفظي على الأصل العملي.
مع أن أصالة العموم في نفسها لا تجرى، إذ الخاص المتأخر يصلح أو يكون بيانا
للمراد من العام، وان ورد بعد حضور وقت العمل به إذا كانت هناك مصلحة تقتضيه، و
عليه فلا تجرى أصالة العموم التي مدركها بناء العقلاء، لعدم كون بنائهم على ذلك في
مثل الفرض.
أضف إلى ذلك كله، ان أصالة عدم النسخ لا تجرى في الثورة الثالثة لوجهين:
أحدهما: انه يجب على المكلف، بعد ورود الخاص تطبيق عمله على طبق
الخاص، كان هو ناسخا أو مخصصا فلا اثر لجريان أصالة عدم النسخ، فان قيل إنه يترتب
عليها الأثر بلحاظ ثبوت الحكم العام إلى زمان ورود الخاص، أجبنا عنه بأنه يعتبر
في الاستصحاب ترتب الأثر بلحاظ البقاء لا الحدوث فتدبر.
ثانيهما: ان المعتبر في الاستصحاب كون الحدوث متيقنا والبقاء مشكوكا فيه، وفى
المقام يكون بالعكس، فإنه في المقام لا شك في حكم الخاص بعد وروده، وانما الشك
في أن حكمه قبل ذلك كان هو هذا الحكم بعينه ليكون الخاص مخصصا لدليل العام، أو
375

ان حكمه كان على طبق العموم فيكون ناسخا، فلا معنى لجريان الاستصحاب.
فالصحيح في وجه تعين التخصيص ان يقال مضافا إلى ما مر من عدم جريان أصالة
العموم في نفسها ان الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الاسلام في زمان النبي (ص) ولا
نسخ بعده، وعليه فالاحكام التي بينها الأئمة المعصومين عليهم السلام هي الاحكام
الثابتة من الأول لا من حين صدورها، فتكون العمومات والخصوصات بأجمعها كاشفة
عن ثبوت مضامينها من الأول، وعليه فلا مناص من جعل الخاص مخصصا في جميع
الصور لا ناسخا.
النسخ
ثم انه لا بأس بصرف الكلام إلى ما هو الحق في النسخ، تبعا للأساطين.
فأقول: ان النسخ في اللغة رفع شئ واثبات غيره مكانه، وتحويل شئ إلى غيره
وفى الاصطلاح هو رفع امر ثابت في الشريعة بارتفاع أمده وانتهاء، وان شئت قلت إنه
البداء في التشريعيات.
وبذلك يظهر ان ارتفاع الحكم الفعلي بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصوم
بانتهاء شهر رمضان، ليس من النسخ بشئ، بل النسخ هو رفع الحكم عن موضوعه
المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.
والمشهور بين المسلمين امكانه، وخالفهم اليهود والنصارى، وقد استدلوا له: بان
النسخ يستلزم أحد محذورين، اما عدم حكمة الناسخ، أو جهله، وكلاهما مستحيل في
حقه تعالى.
: والوجه فيه ان الله تعالى حين ما جعل المنسوخ ان كان عالما بوجود المصلحة
إلى الأبد فيلزم كون نسخه جزافا وعلى خلاف الحكمة، وان لم يكن عالما به بل كان
جاهلا مركبا يعتقد وجود المصلحة ثم انكشف له عدمها كان جاهلا ولا ثالث: والجواب
، عن ذلك أولا: النقض بالتخصيص، فإنه يجرى فيه هذا البرهان فان الشارع الجاعل
376

للحكم على نحو العموم، ان كان عالما بوجود المصلحة في جميع الافراد فالتخصيص
جزاف وعلى خلاف الحكمة، وان لم يكن عالما به بل كان يعتقد وجود المصلحة ثم
ينكشف له عدم المصلحة فيلزم كونه جاهلا.
وثانيا: بالحل وهو ان الشارع الأقدس يعلم أنه لا مصلحة في جميع الافراد في
موارد التخصيص وفى جميع الأزمنة في مورد النسخ ولكنه لمصلحة يجعل الحكم
بنحو العموم، وفى جميع الأزمنة ليكون العام دليلا حيث لا قرينة على خلافه، فيكون
الحكم بحسب الواقع مقيدا بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله المجهول عند الناس، و
يكون ارتفاعه بانتهاء أمده وحلول اجله، ولكنه بحسب مقام الاثبات والبيان يكون ثابتا
في جميع الأزمنة، ولعله إلى هذا نظر المحقق الخراساني حيث قال إن النسخ وان كان رفع
الحكم الثابت اثباتا الا انه في الحقيقة رفع الحكم ثبوتا وانما اقتضت الحكمة اظهار دوام
الحكم واستمراره، وعليه فما افاده تام.
ولكن ما فرعه على ذلك بقوله، وحيث عرفت ان النسخ بحسب الحقيقة يكون
دفعا وان كان بحسب الظاهر رفعا فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل
لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى بالمعنى المستلزم لتغير ارادته تعالى مع
اتحاد الفعل ذاتا وجهة انتهى.
لا يتم فإنه وان كان لا يلزم المحذور المذكور، ولكنه يلزم لغوية جعل الحكم
فإنه انما يصح الجعل فيما إذا أمكن داعويته ومع عدم امكانها يكون الحكم لغوا
وصدوره من الحكيم محالا. نعم، يمكن ان يقال ان الاحكام على نوعين، أحدهما ما يراد
منه البعث أو الزجر الحقيقي، ثانيهما ما لا يراد منه ذلك كالحكم الصادر لغرض
الامتحان، والقسم الثاني يصح جعله ثم رفعه قبل حضور وقت العمل به، ولا يلزم من
رفعه محذور، الا انه بعد رفعه يظهر انه لم يكن حكما بل كان صورة الحكم ولا مشاحة
في تسمية ذلك أيضا نسخا.
ومن هذا القبيل لعله يكون امر إبراهيم بذبح إسماعيل، عليهما السلام. واما البداء
فالكلام فيه ما حققناه في ذيل مسألة الجبر والاختيار، وقد مر.
377

[...]
378

المقصد الخامس
المطلق والمقيد
379

[...]
380

المطلق والمقيد
المقصد الخامس: في المطلق والمقيد والمجمل والمبين، وفيه فصول:
الفصل الأول: المطلق على ما عرفه أكثر الأصوليين هو ما دل على شايع في جنسه،
وفى القوانين أي على حصة محتملة الصدق على حصص كثيرة مندرجة تحت جنس
ذلك الحصة، وقريب منه ما عن المعالم، وعن الفصول ان أصل التعريف بالحصة من
العضدي، وأورد على هذا التعريف بايرادين.
أحدهما: ما عن صاحب الفصول (ره) وهو انه انما ينطبق هذا التعريف على النكرة
فإنها التي تدل على ذلك، أي على حصة شايعة بدليا في حصص ذلك الجنس، ولا يشمل
الاطلاق المستفاد من اسم الجنس الدال على جميع الحصص - وبعبارة أخرى - لا يشمل
الاطلاق الشمولي.
وأجيب عنه، تارة بأنه انما يختص هذا التعريف بالنكرة بناءا على إرادة الفرد
المردد من الشايع الواقع في التعريف، وأما إذا أريد به المعنى الساري في الجنس كما هو
الظاهر لان معنى الشيوع، هو السريان، فينطبق التعريف على النكرة واسم الجنس. و
أخرى بما في الكفاية: من أن ذلك شرح الاسم، وهو مما يجوزان لا يكون بمطرد ولا
منعكس. وثالثة: بان هذا التعريف من التفتازاني وغيره ممن يقولون بعدم وجود الكلى
الطبيعي في الخارج فلذا عرفوه على نحو لا يكون منطبقا الا على النكرة.
والكل كما ترى، اما الأول: فلان التعريف انما هو بما دل على الشايع في جنسه
والشيوع وان كان بمعنى السريان الا ان الساري في الجنس ليس الا النكرة، واما اسم
381

الجنس فهو شايع في افراده، واما الثاني: فلان الشارح للاسم. تارة يكون في مقام شرح
تمام ما يكون مدلولا للفظ فلا مناص له من الاتيان بلفظ يرادف المشروح، فلو شرح بغير
ذلك أي مع الزيادة أو النقيصة، يرد عليه الاشكال، وأخرى يكون في مقام الشرح
الناقص، وحيث إن مقصود الشارحين للألفاظ الواقعة في عناوين الأبحاث هو الأول،
لكونهم في مقام ضبط المدلول بنحو لا يفوتهم شئ، ولذا تريهم يشرحونها بعد الايراد
على غيرهم بعدم الاطراد أو الانعكاس، فيصح الاشكال عليهم، واما الثالث: فلان الاطلاق
الشمولي يلائم مع القول بعدم وجود الكلى الطبيعي، والايراد انما هو عدم شمول
التعريف له، فالأظهر صحة هذا الايراد.
الثاني: ان الاطلاق والتقييد من صفات المعنى وانما يتصف بهما اللفظ بالتبع
والعرض، وهذا التعريف ظاهره كونهما من صفات اللفظ.
وعرفه جماعة منهم الشهيد الثاني في تمهيد القواعد، والمحقق في مقدمة المعتبر
بأنه اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي.
فالصحيح ان يقال ان الظاهر أنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في معنى الاطلاق
والتقييد، وانهم يطلقونهما بما لهما من المعنى اللغوي، وهو الارسال، والاشتراط، يقال
أطلق الفرس أي ارسل عنانه وأرخى في مقابل تقييده. وعليه، فالأولى تعريفه أي المطلق
بأنه ما دل على معنى شايع مرسل في غيره، كما عن بعض المحققين (ره).
ثم إن الاطلاق والتقييد كما يتصف بهما المفاهيم الافرادية، كذلك يتصف بهما
الجمل التركيبة، غاية الامر، اطلاق المفهوم الافرادي يقتضى التوسعة دائما، واطلاق
الجمل التركيبية قد يقتضى التوسعة، وقد يقتضى التضييق، وقد تكون عند الاطلاق ظاهرة
في معنى، وبالتقييد ظاهرة في آخر، مثلا، اطلاق العقد يقتضى نقد البلد أو التسليم
والتسلم، وتقييده يقتضى خلاف ذلك، واطلاق الامر يقتضى النفسية العينية التعيينية،
والتقييد يقتضى الغيرية، أو التخييرية، أو الكفائية، وحيث انه لا ضابط لاطلاق الجمل
التركيبية، فلا بد من البحث عن اطلاق كل جملة بخصوصها في المورد المناسب له،
فالبحث في المقام متمحض في البحث عن اطلاق المفاهيم الافرادية.
382

اسم الجنس
ثم انه يقع الكلام في جملة من الأسماء، وهل انها من المطلق أم لا؟ منها أسماء
الأجناس من الجواهر والاعراض، وفى وضعها أقوال:
1 - ما نقله صاحب الفصول قال وقيل بل موضوع للفرد المنتشر، وهو مردود
بشهادة التبادر على خلافه.
2 - ما نسب إلى المشهور، وهو وضعها للمهية المطلقة أي المقيدة بالشياع والسريان
بحيث كان الشياع والسريان جزء المدلول، ولكن المحقق الخراساني يصرح بان الكلام
في صدق النسبة.
3 - ما اختاره المحققون تبعا لسلطان العلماء وهو وضع اسم الجنس للمهية
المهملة التي تكون مقسما لجميع اعتبارات المهية، وهو الحق عندنا.
توضيح ذلك، انما يكون ببيان اقسام الماهية، وملخصه انه، تارة تلاحظ الماهية
من حيث هي ويكون النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها من دون النظر إلى الخارج عن
ذاتها، وأخرى تلاحظ مقيسة إلى الخارج عن ذاتها فيلاحظ معها شئ آخر خارج عن
مقام ذاتها، والجامع بين القسمين الذي لا تحقق له الا في ضمن أحدهما، هي الماهية
المهملة غير المقيدة بلحاظ حتى لحاظ قصر النظر على الذات والذاتي، وهو الكلى الطبيعي،
كما ستعرف.
والقسم الثاني وهو الماهية الملحوظ معها شئ خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها، له
اقسام. أحدها: ما لو كان ذلك الشئ عنوان مقسميتها للأقسام التالية دون غيره، ويسمى
ذلك بالماهية اللابشرط المقسمي.
ثانيها: لحاظ عدم دخل شئ من الخصوصيات، وعدم اخذ شئ منها مع الماهية
ورفض القيود، - وبعبارة أخرى - عنوان الاطلاق والارسال، ويسمى ذلك، باللابشرط
القسمي، والماهية المطلقة والمرسلة، والمحمول المترتب عليها يثبت لجميع الافراد
383

الخارجية.
ثالثها: ما لو كان ذلك الشئ الخارج الملحوظ مع الماهية عنوان تجردها في وعاء
العقل عن جميع الخصوصيات والعوارض، ويسمى ذلك بالماهية المجردة، والماهية
بشرط لا، والمحمول المترتب عليها حينئذ لا يثبت لشئ من الافراد الخارجية، ولا يصح
حمل شئ عليها سوى المعقولات الثانوية، مثل: نوع، وهذه تسمى بالأسماء التالية، النوع
الجنس، الفصل، العرض العام، العرض الخاص، حيث إنها عناوين للماهيات الموجودة
في أفق النفس فلا تصدق على الموجود الخارجي.
رابعها: ما لو كان ذلك الشئ خصوصية من الخصوصيات الخارجية، وتلك
الخصوصية، تارة تكون وجودية كلحاظ ماهية الانسان مع العلم، وأخرى تكون عدمية
كلحاظها مع عدم العلم، وتسمى هذه الماهية بالماهية المخلوطة، والماهية بشرط شئ،
بلا فرق بين نوعيه، نعم في اصطلاح الأصوليين ربما يعبر عن النوع الثاني، بالماهية بشرط لا.
وبعد ذلك نقول ان اسم الجنس موضوع للماهية المهملة الجامعة بين جميع
تلك الأقسام المعراة عن تمام الخصوصيات والتعينات الخارجية والذهنية حتى
خصوصية قصر النظر عليها، والشاهد على ذلك استعماله في الماهية بجميع أطوارها
ولو كان شئ من تلكم الخصوصيات مأخوذا فيها، كان استعماله في غير تلك الخصوصية
مجازا ومحتاجا إلى قرينة، حتى ولو كانت تلك الخصوصية قصر النظر على ذاتها و
ذاتياتها، وان شئت فقل ان تلكم الخصوصيات بأجمعها الطارئة على الماهية انما هي في
مرحلة الاستعمال ومما حققناه يظهر أمور.
الأول: ان الماهية المقصور فيها النظر إلى ذاتها وذاتياتها ليست هي الماهية المهملة
نظرا إلى أنها متعينة من هذه الجهة فنسبة هذه إلى الماهية المهملة فيها مسامحة واضحة، بل
هي فوق جميع الاعتبارات واللحاظات الطارئة عليها.
الثاني: ما في كلمات المحقق الخراساني (ره) حيث إنه بعد اختياره لوضع اسم
الجنس للماهية المهملة قال وبالجملة الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى وصرف
المفهوم الغير الملحوظ معه شئ أصلا الذي هو المعنى بشرط شئ ولو كان ذلك الشئ
384

هو الارسال، إلى أن قال بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الافراد، إلى أن
قال وكذا المفهوم اللابشرط القسمي فإنه كلي عقلي لا موطن له الا الذهن لا يكاد
يمكن صدقه وانطباقه عليها بداهة ان مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجا فكيف يمكن
ان يتحد معها ما لا وجود له الا ذهنا انتهى.
فإنه يرد عليه أمور: 1 - انه جعل الماهية الملحوظة مرسلة، المعبر عنها بالماهية
المطلقة التي نسب إلى المشهور ان اسم الجنس موضوع لها، من الماهية بشرط شئ، مع أنه
قد عرفت انه اللابشرط القسمي لا بشرط شئ، ومنشأ جعلها منها تخيل ان لحاظ
السريان قد اخذ قيدا لها، مع أن معنى لحاظ سريانها هو لحاظها فانية في المصاديق
والافراد الخارجية بالفعل من دون اخذ اللحاظ قيدا لها، فالمعتبر فيها هو واقع السريان
الفعلي، لا لحاظه ووجوده في أفق النفس، وقد عرفت ان معنى الاطلاق رفض القيود و
عدم دخل شئ منها فيه، وبديهي ان السريان الفعلي من لوازم لحاظ اطلاق الماهية
وارسالها كذلك، وبالجملة السريان ليس خصوصية وجودية مأخوذة في الماهية لتكون
الماهية المطلقة، الماهية بشرط شئ، بل هو عبارة عن انطباق نفس الماهية على افرادها
في الخارج.
2 - انه (قده) أفاد ان الماهية المطلقة لا وجود لها الا في الذهن، ويرد عليه ما تقدم
من أنه ليس معنى الماهية المطلقة، الماهية المقيدة بلحاظ السريان، بل معناها لحاظ
الماهية فانية في جميع مصاديقها وافرادها الخارجية بالفعل ومن الطبيعي ان الماهية
الملحوظة كذلك تنطبق على جميع افرادها ومصاديقها بالفعل، فالحكم الثابت لها
يسرى إلى جميع افرادها في الخارج.
3 - انه أفاد ان الماهية الملحوظ معها عدم لحاظ شئ معها التي هي الماهية
اللابشرط القسمي كلي عقلي لا موطن له موطن له الا الذهن، ولا تصدق على الخارجيات.
فإنه يرد عليه ان اللابشرط القسمي هو الماهية المطلقة، وهذه هي الماهية بشرط لا.
الثالث: ان الكلى الطبيعي عبارة عن الماهية المهملة لان الكلى الطبيعي هو الكلى
الممكن انطباقه على الافراد الخارجية، وهذا ينطبق على الماهية المهملة، واما اللابشرط
385

المقسمي الذي ذهب المحقق السبزواري إلى أنه الكلى الطبيعي، فهو ليس كليا طبيعيا
لوجهين:
أحدهما: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان اللابشرط المقسمي عبارة عن
الطبيعة الجامعة بين الكلى المعبر عنه باللا بشرط القسمي، والماهية المطلقة الصادقة
على الافراد الخارجية، والكلي المعبر عنه بالماهية المجردة وبشرط لا، التي لا موطن لها
الا العقل الممتنع صدقها على الافراد الخارجية، والكلي المعبر عنه بالماهية بشرط شئ
الذي لا يصدق الا على الافراد الواجدة لما اعتبر فيه من الخصوصية، وبديهي انه يستحيل
ان يكون الجامع بين هذه الأقسام، هو الكلى الطبيعي، لان الكلى الطبيعي، هو الكلى
الجامع بين الافراد الخارجية الممكن صدقه عليها فهو حينئذ لا يعقل ان يكون مقسما
للكلي العقلي الممتنع صدقه على الافراد الخارجية، لان المقسم لابد من أن يكون متحققا
في ضمن جميع أقسامه ولا يعقل ان تكون الماهية المعتبرة على نحو تصدق على الافراد
الخارجية في ضمن الماهية المعتبرة على نحو يمتنع صدقها على ما في الخارج.
ثانيهما: ان الماهية المعنونة بعنوان كونها اللابشرط المقسمي، التي لا تحقق لها الا
في ضمن أحد أقسامها من الماهية المجردة، والمخلوطة، والمطلقة، كما هو الشأن في كل
مقسم بالإضافة إلى أقسامه - وبعبارة أخرى - انه عنوان انتزاعي، ويكون عروضه
على الماهية في مرتبة متأخرة عن عروض تلك التقسيمات عليها غير قابلة للصدق
والانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها الا الذهن، فلا تصلح ان تكون كليا طبيعيا،
واما مع قطع النظر عن هذا العنوان فهي قابلة للانطباق عليها وتصلح ان تكون كليا طبيعيا،
الا انها حينئذ ليست الماهية اللابشرط المقسمي بل هي ماهية المهملة.
واما اللابشرط القسمي الذي ذهب المحقق النائيني (ره) إلى أنه الكلى الطبيعي،
فهو أيضا لا يكون كذلك لان اللابشرط القسمي هو الماهية المطلقة، ويعتبر فيها انطباقها
بالفعل على جميع مصاديقها، لأنه قد لو حظ فيها السريان الفعلي، واما الكلى الطبيعي فهو
قابل لان يصدق على الخارجيات، لا انه هو الصادق بالفعل عليها بلحاظ فنائه فيها.
فالكلي الطبيعي هو الماهية المهملة غير المقيدة بلحاظ خاص حتى لحاظها بقصر
386

النظر على مقام الذات والذاتيات، لا الماهية اللابشرط المقسمي كما ذهب إليه المحقق
السبزواري، ولا الماهية اللابشرط القسمي كما ذهب إليه المحقق النائيني (ره).
الرابع: ان اللابشرط المقسمي ليس هو الماهية الملحوظة من حيث هي إذ
اللابشرط المقسمي، ما يكون مقسما للاعتبارات الثلاثة للماهية المقيسة إلى الخارج عن
ذاتها، والماهية من حيث هي قسيم لها فكيف يتحدان.
الخامس: الفرق بين اللابشرط القسمي، والمقسمي، حيث إن المضاف إليه
في الأول الخصوصيات الخارجية للماهية، والمضاف إليه في الثاني، اعتبارات الماهية
المقيسة إلى الخارج عن ذاتها.
علم الجنس
ومنها: علم الجنس كأسامة، وفى وضعه أقوال، أحدها: ما هو المشهور بين
الأصحاب وهو انه موضوع للطبيعة لا بما هي هي بل بما هي متعينة بالتعين الذهني ولذا
يعاملون مع اعلام الأجناس معاملة المعارف.
الثاني: ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية، قال لكن التحقيق انه موضوع
لصرف المعنى بلا لحاظ شئ معه أصلا كاسم الجنس والتعريف فيه لفظي كما هو الحال
في التأنيث اللفظي، ووافق في دعوى كون التعريف فيه لفظيا نجم الأئمة وأبا حيان، قال
نجم الأئمة في بحث العلم إذا كان مؤنث لفظي كغرفة وبشرى وصحراء، ونسبة لفظية
ككرسي، فلا باس ان يكون لنا تعريف لفظي اما باللام كما ذكرناه قبل أو بالعلمية كما في
أسامة انتهى.
الثالث: ما اختاره المحقق الأصفهاني (ره) تبعا للسيد الشريف، وصاحب الفصول،
وهو انه موضوع للماهية بما انها متعينة بالتعين الجنسي، بيانه ان كل معنى طبيعي فهو
بنفسه متعين وممتاز عن غيره، وهذا وصف ذاتي له، فاللفظ ربما يوضع لذات المتعين،
والممتاز كالأسد، وأخرى للمتعين والممتاز بما هو كذلك كأسامة.
387

الرابع: انه موضوع لتمام أشخاص جنس واحد مستوعبا من غير دخل اللحاظ، و
بهذا الاعتبار يطلق عليه علم الجنس في قبال علم الشخص المختص ببعض أشخاص
الجنس، فيكون اللفظ مشتركا بين تمام تلك الأشخاص، ولو بوضع واحد عام.
واستدل للقول الأول: باتفاق أهل العربية، على المعاملة مع علم الجنس معاملة
المعرفة بخلاف اسم الجنس، ولا فرق بينهما الا ملاحظة تعين الماهية بالتعين الذهني، قال
في القوانين ان علم الجنس قد وضع للماهية المتحدة مع ملاحظة تعينها وحضورها
في الذهن كأسامة، فقد تراهم يعاملون معها معاملة المعارف بخلاف اسم الجنس فان
التعين والتعريف انما يحصل فيه بالآلة مثل الألف واللام فالعلم يدل عليه بجوهره واسم
الجنس بالآلة.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بايرادين، أحدهما: انه لو كان موضوعا
للمتعين في الذهن أي الماهية مع لحاظ تعينها في الذهن كان لازمه عدم صحة حمله
على الافراد بلا تصرف وتجريد، إذ ما لا موطن له الا الذهن لا يقبل للانطباق على ما
في الخارج، مع أنه لا شبهة في صحة انطباقه بما له من المعنى على الافراد الخارجية من
دون تصرف وتجريد وهذا يكشف قطعيا عن عدم اخذ تلك الخصوصية في الموضوع
له. ثانيهما: ان وضع اللفظ لمعنى، يحتاج إلى تجريده عن خصوصيته، في مقام الاستعمال،
لا يصدر عن جاهل فضلا عن الواضع الحكيم.
ولأجل ذلك اختار هو القول الثاني، وقال إنه لا فرق بين اسم الجنس، وعلم
الجنس، في المعنى الموضوع له أصلا، واما انهم يعاملون مع علم الجنس معاملة المعرفة
فالتعريف فيه لفظي، بمعنى ان العرب كما أنه قد يجرى على بعض الألفاظ حكم التأنيث،
مع أنه ليس فيه تأنيث حقيقي كلفظ اليد وغرفة، وما شاكل كذلك قد يجرى على بعض
الألفاظ حكم التعريف وآثاره من قبيل الابتداء به، وعدم دخول الألف واللام عليه و
عدم وقوعه مضافا مع أنه ليس فيه تعريف أصلا.
كما أنه لأجل هذه الشبهة ذهب جماعة إلى القول الثالث والرابع، والا فلا كلام
لاحد في أن اللغة تابعة للسماع، ولا قياس فيها فإذا كان المسموع والمنقول فيها من أهلها
388

ان علم الجنس موضوع للماهية بما هي متعينة بالتعين الذهني، لابد من متابعته سيما وان
دعوى انسباق التمييز والتعين منه غير بعيدة.
ولكن: الحق عدم ورود هذا الايراد على المشهور فلا حاجة إلى هذه التكلفات، و
ذلك لان المراد بالوضع للمتعين بالتعين الذهني ليس وضعه له بنحو يكون الوجود
الذهني دخيلا في الموضوع له من حيث هو، بل المراد دخل الوجود الذهني بنحو المرآتية
فيكون لفظ أسامة موضوعا للأسد المتعين في الذهن على نحو المرآتية للخارج كما
هو الشأن في العهد الذهني - وبعبارة أخرى - علم الجنس موضوع لذات معنى تعلقت
الإشارة به، وما هو معروضها بلا اخذ تقيدها فيه ويصير بذلك معرفة إذ معروض الإشارة
له نحو من التعين ليس لغيره، فالحق تمامية ما ذكره المشهور.
المفرد المعرف باللام
ومنها: المفرد المعرف باللام، والمراد بالمفرد اسم الجنس، والمعروف بين
الأصحاب ان اللام على اقسام: الجنس، والاستغراق، والعهد الخارجي الحضوري،
والعهد الذكرى، والعهد الذهني، ولا كلام في أنه يستعمل اللام في تلكم الموارد كثيرا،
والأول كما في قولنا (الرجل خير من المرأة) والثاني، كما في (ان الانسان لفي خسر الا
الذين آمنوا) و (أحل الله البيع) والثالث كما في (اليوم أكملت لكم دينكم) والرابع، كما
(في عصى فرعون الرسول) والخامس كما في (ادخل السوق واشتر اللحم).
انما الكلام في أن هذه الخصوصيات، هل تستفاد من وضع الألف واللام للتعريف
والتعين الجامع بين هذه الأقسام، وتوضيح ذلك ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) بان
الألف واللام وضعت للدلالة على أن مدخولها واقع موقع التعين، اما جنسا، استغراقا، أو
عهدا باقسامه ذكرا وخارجا وذهنا على حد ساير الأدوات الموضوعة لربط خاص
كحرف الابتداء الموضوعة لربط مدخوله بما قبله ربط المبتدأ بالمبتدأ من عنده وهكذا
كما هو المعروف بين الأصحاب، أم من وضعهما لذلك بأوضاع متعددة، فيكون من قبيل
389

الاشتراك اللفظي، أم يكون ذلك بوضع مدخولهما لذلك، ويكون الألف واللام علامة
له، أم بوضع مجموع الداخل والمدخول، أم تستفاد هذه الخصوصيات من القرائن
الخارجية كما اختاره المحقق الخراساني (ره) فيه وجوه وأقوال.
: الظاهر عدم وضع المدخول، ولا الداخل والمدخول: إذ الظاهر أن المفهوم من
المدخول هو المفهوم منه حال عرائه عنهما، فيدور الامر بين قولين، وضع الألف واللام،
أو استفادة الخصوصيات من القرائن، والا ظهر منهما هو الأول، كما صرح به أهله، والمراد
انهما وضعتا للدلالة على أن مدخولهما واقع موقع التعين، اما جنسا، أو استغراقا، أو عهدا
باقسامه.
وأورد المحقق الخراساني عليه بايرادات، الأول: انه لا تعين للجنس الا الإشارة
إلى المعنى المتعين بنفسه من بين المعاني ذهنا، إذ لا تعين للجنس ليمكن الإشارة إليه وراء
التعين الذهني، ولازم ذلك أن لا يصح حمله على الخارجيات، لامتناع الاتحاد مع ما لا
موطن له الا الذهن الا بالتجريد ومعه لا فائدة في التقييد. الثاني: ان الوضع لما لا حاجة إليه
بل لابد من التجريد عنه والغائه في الاستعمالات العرفية كان لغوا. الثالث: ان استفادة
الخصوصيات انما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعينها حتى على القول بالوضع للتعريف،
ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة.
أقول: الايرادان الأولان قابلان للمناقشة من وجوه، منها: اختصاصهما باللام التي
تكون إشارة إلى الجنس. ومنها: ان الإشارة إلى الجنس المعين ليست بكونه ملحوظا
وموجودا بالوجود الذهني، بل المراد بها الإشارة إلى جهة تعين الجنس. توضيح ذلك: ان
كل معنى طبيعي فهو متعين في الواقع وممتاز بنفسه عما عداه، واسم الجنس انما وضع
لذات المتعين واللام انما وضعت لإفادة تلك التعين الواقعي. ومنها: ان المراد بوضعهما
للإشارة إلى المعين ذهنا لو سلم ليس دخل الوجود الذهني بنحو الموضوعية، بل بنحو
المرآتية لما في الخارج.
واما الايراد الأخير، فيدفعه ان القرينة المعينة للمعنى الجامع المشار إليه باللام غير
القرينة الدالة على أصل الإشارة إلى الخصوصية كما لا يخفى.
390

بقى في المقام شبهة أخرى ذكرها المحقق العراقي (ره) ولأجلها سلم ما ذكره
المحقق الخراساني (ره) وهي، انه في مثل هذا الانسان لو كان اللام، للإشارة لزم اجتماع
الإشارتين في زمان واحد، وهو محال، فلا مناص من جعل اللام فيه للزينة وحينئذ فيلتزم
بذلك في غير المصدر بلفظ هذا لعدم صحة التفكيك بينهما. وفيه: ان اللام انما هي
للإشارة إلى النوع المتعين، وهذا إشارة إلى فرد خاص منه فلا يلزم اجتماع الإشارتين.
فالحق ان الألف واللام مطلقا للتعريف، والتعيين، لا بمعنى كون التعين الذهني
جزء المعنى الموضوع له أو قيده، بل بمعنى دلالتهما على تعريف مدخولها وتعينه في
موطنه، نظير أسماء الإشارة، والضمائر، فكما ان اسم الإشارة موضوع للدلالة على تعريف
مدخوله، وتعينه في موطنه، كما في هذا زيد، أو هذا الكلى أعم من الاخر، وما شاكل
كذلك الألف واللام، والشاهد على ذلك الارتكاز والوجدان في الاستعمالات
المتعارفة، نعم في خصوص العهد الذهني كلمة لام لا تفيد شيئا زايدا على ما يفيده
مدخولها، ولا تدل على تعين مدخولها، وانما تدخل من جهة ان أسماء المعرب في
كلمات العرب لا تستعمل بدون أحد أمور ثلاثة، التنوين، الألف واللام، والإضافة، ففي
مثله لابد وان يقال، ان اللام للتزيين فحسب، وقد نقل الأستاذ ان المحقق الرضى ذهب إلى
ذلك أي كون اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني، وهو متين.
وبما ذكرناه يظهر ان مراد المحقق الخراساني (ره) من كون اللام للتزيين مطلقا هو
ذلك، نظير ما ذهب إليه أهل العربية من أن التنوين ربما يكون، للتمكن، كما في مثل هذا
رجل لا امرأة، وعليه فلا معنى لما أورده المحقق الإيرواني (ره) من أنه أي زينة يحصل
باللام، لا تحصل بساير الحروف الهجائية. فتدبر.
وقد مر في مبحث العام والخاص ان إفادة الجمع المحلى بالألف واللام للعموم
انما يكون لأجل ذلك فراجع.
النكرة
ومنها: النكرة، وهي تطلق على معنيين، أحدهما: ما يقابل المعرفة التي عرفوها
391

بما هي قابلة لآل، وهي تشمل اسم الجنس.
ثانيهما: ما يكون حدا وسطا بين اسم الجنس، القابل للصدق على كثيرين عرضيا،
وبين الماهية المتعينة بشخص معين، وهي التي تكون محل الكلام، وتصدق على افراد
الماهية تبادليا - وبعبارة أخرى - المراد بالنكرة في محل الكلام الطبيعة المقيدة بالوحدة
المعبر عنها بالحصة في كلمات بعضهم.
والمعروف في الألسنة ان النكرة وضعت للدلالة على الفرد المردد في الخارج. و
هو على ظاهره بين الفساد: إذ لا وجود للفرد المردد، لان كل ما هو موجود فهو متعين ولا
يعقل كونه مرددا بين نفسه وغيره.
وذكر المحقق الخراساني انها تستعمل، تارة في الفرد المعين في الواقع المجهول
عند المخاطب المحتمل الانطباق على غير واحد من افراد الطبيعة وذلك في النكرة
الواقعة في حيز الاخبار كما في (جاء رجل من أقصى المدينة) وتستعمل أخرى في الطبيعة
المأخوذة مع قيد الوحدة وذلك في النكرة الواقعة في حيز الطلب كما في (جئني برجل)
فيكون حصة من الرجل ويكون كليا ينطبق على كثيرين، وبالجملة النكرة اما هي فرد
معين في الواقع غير معين للمخاطب أو طبيعي مقيد بمفهوم الوحدة - وبعبارة أخرى -
حصة كلية فيكون كليا قابلا للانطباق.
وفيه: ان المفهوم منها في الموردين شئ واحد، واللفظ انما يستعمل في معنى
واحد وقع في حيز الطلب أو الاخبار، واستفادة التعين في المورد الثاني، لا تستند إلى نفس
اللفظ، بل انما هي تكون من الخارج من جهة نسبة الفعل الخارجي إليه - وبعبارة أخرى -
ان النكرة ليس لها وضع مخصوص، بل هي مركبة من اسم الجنس، والتنوين، والأول يدل
على نفس الطبيعة المهملة. والثاني، وضع لإفادة فرد غير معين في مرحلة الاسناد اخبارا،
أو انشاءا، فلا يكون المفهوم منها في الموردين الا شئ واحد، وهي الحصة غير المعينة
في مرحلة الاسناد، والتعين الواقعي فيما إذا وقعت في حيز الاخبار، غير مربوط بمفهوم
اللفظ.
ثم انه يقع الكلام في أن التنوين، هل يدل على مفهوم الوحدة، فيكون مفاد النكرة
392

الطبيعة الكلية المقيدة بمفهوم الوحدة، أي عنوان أحد التشخصات، فتكون هي أيضا كليا،
إذ ضم الكلى إلى الكلى، لا يصيره جزئيا كما اختاره المحقق الخراساني، أم يدل على
مصداقها اما معينا أو مرددا، أم يدل على أحد التشخصات المفردة بنحو يكون القيد
المفهوم منه نفس التشخص غير المعين المنطبق على الخارج بنحو التبادل، وان أحد اخذ
كما، للقيد وإشارة إلى كم التشخص كما اختاره المحقق العراقي (ره) وجوه.
: الأظهر ما ذكره المحقق الخراساني وذلك، لان القيد ليس مصداق
أحد التشخصات لا معينا كما تقدم ولا مرددا، لما عرفت من أنه لا ذات له ولا وجود،
ولا نفس التشخص، لان له أيضا مفهوما ومصاديق، ولا ريب في أن مفهومه ليس قيدا
وكذلك جميع المصاديق، بل مصداق واحد، وحينئذ فلا بد من اختيار أحد الطرق الثلاثة الأخر
، فالأظهر ما اختاره المحقق الخراساني.
ثم انه قد عرفت في ضمن المباحث السالفة ان اسم الجنس موضوع للماهية
المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات التي يمكن ان يطرأ عليها، وبديهي ان الاطلاق
والتقييد من الخصوصيات الطارئة على الماهية المهملة، فهما خارجان عن حريم
الموضوع له والمستعمل فيه، وعليه فالتقييد لا يوجب المجاز لاستعمال اللفظ في معناه
الموضوع له والتقييد مستفاد من دال آخر.
واما على ما نسب إلى المشهور من كون اللفظ موضوعا للمطلق أي المقيد بالارسال
والشمول، ففي الكفاية ان المطلق بهذا المعنى لطرو التقييد غير قابل، فان ماله من
الخصوصية ينافيه ويعانده، فيرد عليه انه على هذا المسلك أيضا لا يستلزم التقييد المجاز،
إذ المراد الاستعمالي منه هو المطلق، واستعمل اللفظ فيه، والتقييد انما يدل على أن المراد
الجدي هو المقيد، دون المطلق ولا يدل على أن اللفظ استعمل في المقيد ليكون مجازا
- وبعبارة أخرى - ان المطلق حينئذ يكون كالعام فكما مر في العام والخاص ان التخصيص
لا يوجب كون استعمال العام مجازا، لأنه لا يوجب التصرف في الدلالة التفهيمية، بل
في الدلالة التصديقية فكذلك في المطلق.
ولكن ذلك في التقييد بالمنفصل، واما في المقيد المتصل فيتم ما افاده المحقق
393

الخراساني، إذ لا يجرى فيه ما ذكرناه في التخصيص بالمتصل، من أن أداة العموم موضوعة
لإفادة الشمول لجميع افراد ما يصلح ان يراد من مدخولها فتقييد المدخول لا ربط له
بأداة العموم، والوجه في عدم الجريان واضح، فان المطلق على هذا المسلك موضوع
للطبيعة المقيدة بالارسال والشمول لجميع افرادها، وبديهي ان التقييد ينافي ذلك.
فالمتحصل انه على ما نسب إلى المشهور لابد من التفصيل بين التقييد بالمتصل و
بالمنفصل، والبناء على المجازية في الأول، دون الثاني.
مقدمات الحكمة
الفصل الثاني: في مقدمات الحكمة، وقبل بيانها لابد وان يعلم أن المحمول
في القضية تارة يكون من قبيل الذات والذاتيات، وأخرى، يكون من المعقولات الثانوية
من قبيل: الانسان نوع، والحيوان جنس، وثالثة، يكون من غيرهما مما هو قابل للسراية إلى
حصص الموضوع وافراده في الخارج، فان كان من قبيل الذات والذاتيات، يستكشف ان
المأخوذ هي الطبيعة التي قصر النظر على ذاتها وذاتياتها، وان كان من المعقولات الثانوية
يستكشف انه لوحظت الطبيعة مجردة عن الخصوصيات، ومأخوذة بنحو بشرط لا في
الموضوع، وان كان المحمول من غير هذين القسمين، يعلم عدم اخذ الطبيعة من حيث
هي، ولا بنحو بشرط لا، فيدور الامر بين اخذها مطلقة وسارية في جميع الافراد، بمعنى
عدم دخل شئ من الخصوصيات في الحكم، وبين اخذها بشرط شئ بمعنى دخل
خصوصية من الخصوصيات فيه، فلا بد في الحكم بأحدهما من إقامة الدليل عليه فلو كانت
هناك قرينة خاصة فلا كلام، والا فان تمت المقدمات التي سيمر عليك المسماة
بمقدمات الحكمة يحكم باخذها مطلقة والا فلا، وتلك المقدمات ثلاث:
الأولى: ان يكون المتكلم الحاكم متمكنا من بيان القيد على فرض دخله في
الحكم بانشاء واحد، أو بانشائين، أو بنحو آخر كالاخبار، والا فلا يكون لكلامه اطلاق
في مقام الاثبات حتى يكون كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت، وعدم دخل القيد
394

في الحكم، لفرض انه على فرض دخله، لا يتمكن المولى من بيانه، ومعه كيف يكون
اطلاق كلامه في مقام الاثبات كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت.
الثانية: ان يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده من الجهة التي نحاول التمسك
باطلاق كلامه لكشف الاطلاق من تلك الجهة في مقام الثبوت، ولا يكون في
مقام الاهمال أو الاجمال كما في قوله تعالى (أقيموا الصلاة) (1) و (تيمموا صعيدا طيبا) (2) وكما
في قول الطبيب للمريض اشرب الدواء، ولا يكون في مقام البيان من جهة أخرى ومسوقا
لبيان حكم آخر كما في قوله تعالى (فكلوا مما أمسكن) (3) الوارد في مقام بيان عدم كون ما
افترسه الكلب المعلم باصطياده ميتة سواء أمسك من الحلقوم أو من غيره. فإنه لا يكون
واردا في مقام بيان اثبات طهارة موضع الامساك من الصيد، وعلى الجملة يعتبر ان يكون
المتكلم في مقام البيان من جهة التي يراد التمسك باطلاق كلامه من تلك الجهة، إذ مع
فرض عدم كون المولى في مقام البيان، أو كونه في مقام بيان حكم آخر لا معنى للتمسك
باطلاق كلامه والحكم بان ما بينه تمام مراده. وهذا من الوضوح بمكان.
ثم إن لابد من التنبيه على أمرين، أحدهما: ان في المقام نزاعا معروفا بين الشيخ
الأعظم وبين المحقق الخراساني وهو ان عدم البيان الذي هو من المقدمات.
هل هو عدم البيان إلى الأبد ولو منفصلا بحيث إذا ظفرنا بعد على المقيد يكشف
ذلك عن اختلال المقدمة الثانية، فلا اطلاق للمطلق أصلا. فالامر الثاني: هو عدم اتيان
المتكلم في كلامه ما يدل على اعتبار قيد لا متصلا ولا منفصلا، اختاره الشيخ وتبعه
المحقق النائيني (ره).
أو ان الجزء المقتضى للاطلاق هو عدم بيان القيد متصلا، واما بيان القيد منفصلا
فهو لا يضر بالاطلاق، وانما يوجب تقييد المراد الجدي، اختاره المحقق الخراساني (ره)
والحق هو ما اختاره المحقق الخراساني (ره) فالمراد بكون المتكلم في مقام البيان هو

1 - البقرة / 34
2 - المائدة / 9
3 - المائدة / 4
395

كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي، لا بيان المراد الجدي، - وبعبارة أخرى - يكون
المراد منه كون الملقى للكلام نحو ينعقد لكلامه ظهور في الاطلاق، ولا يكون من قبيل
قول الطبيب للمريض اشرب الدواء، ويكون حجة على المخاطب على سبيل القانون
والقاعدة.
توضيح ذلك أنه قد بينا سابقا ان مراتب الدلالة ثلاث، الأولى: الدلالة التصورية.
الثانية: الدلالة التفهيمية، ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال، والمراد بها انعقاد
الظهور فيما قاله المتكلم، وهذه الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة المتصلة،
ولا يضربها وجود القرينة المنفصلة، وهي الدلالة اللفظية. الثالثة: الدلالة التصديقية
الكاشفة عن مطابقة المراد الجدي للمراد الاستعمالي، ولا ربط للفظ بذلك، بل مدركها
سيرة العقلاء في المحاورات، وهذه الدلالة تتوقف على عدم وجود القرينة ولو منفصلا،
وعلى ذلك فالقرينة المنفصلة كاشفة عن تقييد المراد الجدي، ولا ينثلم بها ظهور المطلق
في الاطلاق.
ويترتب على ذلك أن تقييد المطلق من جهة، لا يوجب سقوط اطلاق الكلام من
الجهات الاخر. مثلا، لو فرضنا ان الآية الكريمة (أحل الله البيع) (1) في مقام البيان من جميع
الجهات، وورد عليها التقيد بعدم كون البايع صبيا أو مجنونا، وشك في ورود التقييد
عليها من جهة أخرى ككون الانشاء باللفظ، وعدم كفاية المعاطاة، فلا مانع من التمسك
بالاطلاق والحكم بعدم اعتباره.
الامر الثاني: المشهور بين الأصحاب، ان الأصل فيما شك في كون المتكلم في
مقام البيان حمل كلامه عليه، فعدم كونه في هذا المقام، يحتاج إلى دليل.
ولكن الحق تبعا للمحقق النائيني هو التفصيل بين ما لو شك في أن المتكلم كان في
مقام التشريع، أو كان في مقام بيان تمام مراده، وبين ما لو شك في ذلك من جهة سعة
الإرادة وضيقها، بان علمنا أن لكلامه اطلاقا من جهة، وشك في اطلاقه من جهة أخرى،

1 - البقرة / 275.
396

كما في الآية الكريمة (كلوا مما أمسكن) (1) حيث نعلم باطلاقها من جهة عدم اعتبار
الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتبار القبلة فيها وما شاكل، وشك في أنها في
مقام البيان من جهة طهارة محل الامساك وعدمها، فالأصل في الكلام حمله على كونه
في مقام البيان في المورد الأول، دون الثاني: وذلك لجريان سيرة أهل المحاورات على
ذلك في المورد الأول خاصة، ولعل منشأ ذلك أن أهل المحاورات عند القاء كلماتهم
يكونون في مقام ابراز مراداتهم لا في مقام الاهمال فنفس القاء الكلام كاشف بالكشف
الناقص عن كون المتكلم في مقام البيان، وهذا الملاك كما ترى مختص بالمورد الأول.
وقد يقال كما عن صاحب الدرر بأنه لا حاجة إلى أحرار كون المتكلم في مقام
بيان تمام المراد في الحمل على الاطلاق، بيانه، ان المهملة مرددة بين المطلق، والمقيد،
ولا ثالث، ولا اشكال في أنه لو كان المراد المقيد تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة وانما
ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد وعليه، فيستفاد الاطلاق من ظاهر الكلام بواسطة
أصالة الظهور حيث إن الظاهر أن الإرادة متعلقة بالطبيعة أصالة.
وفيه: ان أصالة الظهور لا بد لها من منشأ من الوضع أو القرينة، وحيث إن الموضوع
له ليس هو المطلق كما عرفت بل هي الطبيعة المهملة، والاطلاق كالتقييد يتوقف على شئ
آخر غير ترتب الحكم على الطبيعة المهملة، فلا يصح التمسك بأصالة الظهور الا بعد
فرض تمامية المقدمات.
الثالثة: ان لا يأتي المتكلم في كلامه بما يدل على اعتبار خصوصية من
الخصوصيات الوجودية أو العدمية، واما القيد المنفصل فقد عرفت حاله.
فلو تمت المقدمات يستكشف ان موضوع الحكم أو متعلقه هي الطبيعة المطلقة.
لا يقال، كيف يمكن الحكم بان الموضوع هو المطلق مع أن الاطلاق كالتقييد قيد
زائد يحتاج ثبوته إلى دليل دال عليه.
لأنه يقال انه بعد فرض عدم معقولية ثبوت الحكم للطبيعة المهملة نفس عدم

1 - المائدة: 4.
397

التقييد يكفي في الحكم بان الموضوع هو الطبيعة السارية، بمعنى انه لا يكون شئ من
القيود دخيلا في الحكم - وبعبارة أخرى - كون الموضوع هو الطبيعة المطلقة يكفي في
احرازه احراز عدم التقييد بضميمة ان الموضوع ليس هو الطبيعة المهملة.
ثم إن المحقق الخراساني جعل من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر المتيقن في مقام
التخاطب، ولو كان المتيقن بحسب الخارج عن ذلك المقام في البين، والمراد به، ان لا
يكون المتقيد بقيد خاص بالنظر إلى دلالة اللفظ، وظهوره لا بحسب واقع الإرادة متيقنا
والا فلو كان هناك قدر متيقن بالنظر إلى ذلك المقام، واتكل المولى في مقام بيان مراده
على وجوده، وكان المقدار المتيقن هو تمام مراده لما أخل بغرضه لفرض بيانه، وهذا
بخلاف القدر المتيقن بلحاظ الخارج عن ذلك المقام، فإنه لو كان تمام مراده المقدار
المتيقن لأخل ببيانه.
وبهذا البيان اندفع ما أورد عليه بأنه ما الفرق بين القسمين، فان كان أحدهما مضرا
بالتمسك بالاطلاق فليكن الاخر كذلك.
فالصحيح ان يورد عليه، أولا: بان لازم ذلك عدم التمسك بالاطلاقات في أكثر
المطلقات المتضمنة لبيان الاحكام فإنها واردة في موارد خاصة، ومن المعلوم ان المورد
هو المتيقن، كون مرادا من اللفظ المطلق مع أنه لم يلتزم به أحد، ولذا اشتهر ان المورد،
لا يكون مخصصا، ولا مقيدا ولا يلتزم هو أيضا به، الا في بعض الموارد، مثل المطلقات
الواردة في مورد قاعدة التجاوز حيث إنه (قده) التزم باختصاصها بالصلاة من جهة ان
الأمثلة المذكورة في صدر النصوص من اجزاء الصلاة.
وثانيا: انه إذا فرضنا ان المولى كان في مقام بيان تمام مراده، وكان القيد دخيلا في
حكمه لأخل بغرضه، وان كان قدر المتيقن في مقام التخاطب موجودا، فان المطلق
الشامل لذلك المورد قطعا، لا يدل على دخل القيد في الحكم، وانما يدل على ثبوت
الحكم لذات المقيد وهو أعم من دخل القيد وعدمه فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.
واما ما جعله المحقق النائيني (ره) من المقدمات، وهو كون الموضوع أو المتعلق
قابلا للانقسام إلى قسمين، مع قطع النظر عن تعلق الحكم به، بدعوى انه مع عدم قبوله
398

للانقسام في مرتبة سابقة على الحكم كانقسام الواجب إلى، ما يقصد به امتثال امره، وما
لا يقصد فيه ذلك، يستحيل فيه الاطلاق من جهة استحالة التقييد لأنهما من قبيل العدم
والملكة، فإذا امتنع أحدهما امتنع الاخر.
فيرد عليه، انه لو سلم عدم امكان التقييد بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة في انشاء
واحد مع أنه ممنوع كما تقدم في التعبدي والتوصلي، الا انه يمكن بانشائين، أو بانشاء و
اخبار، وعليه فيمكن التقييد ولو بتعدد الدليل، فيمكن الاطلاق، مضافا إلى ما مر في ذلك
المبحث من أن استحالة التقييد كما لا توجب ضرورية الاطلاق لا تستلزم امتناعه. نعم،
هي مانعة عن التمسك بالاطلاق كما تقدم في المقدمة الأولى.
الانصراف مانع عن التمسك بالاطلاق
ثم انه يعتبر في التمسك بالاطلاق زايدا على ما مر، احراز صدق المطلق على الفرد
المشكوك فيه، كما هو الشأن في كل دليل، وما لم يحرز صدقه لا يجوز التمسك بالدليل
وهو واضح جدا، وعليه، فحيث ان التشكيك في الماهية وان كان محالا عقلا، الا انه
بحسب المرتكزات العرفية امر ممكن وواقع وله عوامل متعددة منها علو مرتبة بعض
افراد الماهية كما في المثال الآتي ومنها غير ذلك، فالانصراف الناشئ عن ذلك يمنع عن
التمسك بالاطلاق، والانصراف في غير هذا المورد لا يمنع عنه، وتفصيل القول في
ذلك أن الانصراف المانع عن التمسك بالاطلاق، قسمان يجمعهما التشكيك
في الماهية في متفاهم العرف، توضيحه ان التشكيك في الماهية الموجب للانصراف
المانع عن التمسك بالاطلاق، تارة يكون بحيث يرى العرف بعض افراد الطبيعة خارجا
عن كونه فردا لها، كما في الانسان الذي هو حيوان حقيقة ولكن الحيوان لا يصدق عليه
عند العرف وعلى ذلك بنوا انصراف ما دل على بطلان الصلاة في شئ من اجزاء ما لا
يؤكل عن اجزاء الانسان، وأخرى يكون بحيث يشك العرف في كون فرد مصداقا للطبيعة
وعدمه، وعلى أي تقدير، الانصراف في الموردين مانع عن التمسك بالاطلاق غاية الامر
399

في المورد الأول، لا ينعقد للمطلق ظهور الا في غير ما انصرف عنه اللفظ من جهة كون
الكلام حينئذ من قبيل المحفوف بالقرينة المتصلة، وفى المورد الثاني لا ينعقد له ذلك
من جهة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية، ولكنهما يشتركان في المنع عن انعقاد ظهور
المطلق في الاطلاق.
واما في غير هذين الموردين، من قبيل الانصراف الناشئ عن غلبة الوجود، أو
كثرة الاستعمال، وما شاكل، فلو كان فهو بدوي يزول بأدنى تأمل.
ثم إن المحقق الخراساني قال لا اطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص
بعض الافراد، أو الأصناف لظهوره فيه، أو كونه متيقنا منه ولو لم يكن ظاهرا فيه
بخصوصه انتهى.
فان كان نظره الشريف إلى ما ذكرناه من القسمين فهو متين، وان كان نظره إلى ما
افاده في التقريرات من أن شيوع إرادة المقيد من المطلق ربما يبلغ حد الشياع في المجاز
المشهور عند تعارضه مع الحقيقة المرجوحة، وربما يوجب استقرار الشك واستمراره
على وجه لا يزول بالملاحظة والتأمل، نظير الشك الحاصل في المجاز المشهور عند
التردد في وصول الشهرة حدا يمكن معها التصرف، وحكم فيهما بعدم التمسك
بالاطلاق وانه يحكم، في القسم الأول بالتقييد، وفى الثاني بالاجمال.
فيرد عليه ان إرادة المقيد لدى اطلاق المطلق بدال آخر لا يوجب انس اللفظ
بالمعنى كما في المجاز المشهور، فضلا عن أن يوجب تعينه، وقد صرح المحقق
الخراساني في مبحث ان الامر حقيقة في الوجوب في الجواب عن صاحب المعالم، ان
كثرة الاستعمال مع القرينة المصحوبة لا توجب صيرورة اللفظ مجازا مشهورا، وعدم
الحمل على معناه الحقيقي كيف، وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام
الا وقد خص ولم ينثلم به ظهوره في العموم بل يحمل عليه ما لم تقم قرينة بالخصوص
على إرادة الخصوص.
وبذلك يظهر ما يرد على ما افاده في المقام بقوله كما أنه منها ما يوجب الاشتراك
أو النقل، لا يقال كيف يكون ذلك وقد تقدم ان التقييد لا يوجب التجوز في المطلق
400

أصلا، فإنه يقال إلى أن قال إن كثرة إرادة المقيد لدى اطلاق المطلق، ولو بدال آخر ربما
تبلغ بمثابة توجب له مزية انس كما في المجاز المشهور أو تعيينا واختصاصا به كما
في المنقول بالغلبة انتهى.
حمل المطلق على المقيد
الفصل الثالث: إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يختلف حكمهما بمعنى كون
المحكوم به فيهما مختلفين، مثل (أطعم يتيما، وأكرم يتيما هاشميا) أو يتحد حكمهما،
مثل (أطعم يتيما، أطعم يتيما هاشميا) ومحل الكلام هو الثاني.
اما الأول: فلا يحمل المطلق على المقيد اجماعا الا عن أكثر الشافعية، وقد نقل
عنهم حمل اليد في آية التيمم على اليد في آية الوضوء، فقيدوها بالانتهاء إلى المرفق
لاتحاد الموجب وهو الحدث، واشكاله ظاهر لأنه يرجع إلى اثبات العلة والعمل بالقياس.
واما على الثاني: فقد يكون المقيد مخالفا للمطلق في الحكم مثل (أعتق رقبة ولا
تعتق رقبة كافرة) وآخر يكون موافقا له مثل (أعتق رقبة، واعتق رقبة مؤمنة) وعلى الأول
فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد، وعلى الثاني فالمشهور الحمل
والتقييد، وذهب جماعة منهم إلى أنه يحمل المقيد على أفضل الافراد.
ولكن الظاهر أنه لا وجه للفرق بين القسمين، لما مر في العام والخاص، من أن
الوجوب إذا تعلق بالطبيعة ربما يكون تطبيقها على مورد مباحا، كما في الصلاة في الدار،
وربما يكون مستحبا، كما في الصلاة في المسجد وربما يكون واجبا، كما في الصلاة في
محل نذر ان يأتي بها فيه، وربما يكون مكروها، كما في الصلاة في الحمام، وعلى ذلك
فكما يمكن ان يقال انه إذا ورد مطلق مقيد مثبتين، مثل (أعتق رقبة، واعتق رقبة مؤمنة)
انه يحمل الامر في المقيد على الاستحباب، فلا وجه لحمل المطلق على المقيد، كذلك
يمكن ان يقال انهما إذا كانا مختلفين، كما في (أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة) يحمل
النهى على الكراهة فيكون عتق الكافرة أردأ الافراد، كما أن عتق المؤمنة في الأول أفضل
401

الافراد، فما هو المشهور من حمل المطلق على المقيد في المختلفين جزما وبدون الترديد،
والكلام والبحث في المتوافقين في غير محله، بل هما من باب واحد.
وكيف كان فقد استدل الأكثرون للحمل فيما هو محل البحث بينهم: بأنه جمع بين
الدليلين وهو أولى.
وأورد عليه بامكان الجمع على وجه آخر كحمل الامر فيهما على التخيير أو في
المقيد على الاستحباب.
وأورد عليه في التقريرات على ما حكى: بان الأول باطل لعدم معقولية التخيير بين
الفرد والكلي، والثاني فاسد: لان التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ، وانما هو تصرف في
وجه من وجوه المعنى الذي اقتضاه تجرده عن القيد، مع تخيل وروده في مقام بيان تمام
المراد، وبعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد نعلم وجوده على وجه الاجمال، فلا اطلاق فيه
حتى يستلزم تصرفا فلا يعارض ذلك بالتصرف في المقيد بحمل امره على الاستحباب.
وناقش المحقق الخراساني في انتصار التقريرات بما حاصله انه قد مر ان الظفر
بالمقيد المنفصل لا يكشف عن عدم ورود المطلق في مقام البيان، بل عن عدم كون
الاطلاق بمراد جدي، فيكون التقييد أيضا تصرفا في المطلق، كما أن حمل الامر
على الاستحباب يكون تصرفا، فيتعادل التصرفان، مع أن حمل الامر في المقيد في الحقيقة
مستعمل في الايجاب، فان المقيد إذا كان فيه ملاك الاستحباب كان من أفضل افراد
الواجب لا مستحبا فعلا، فلا يلزم من حمل الامر في المقيد على الاستحباب تصرف
في المعنى فلا يعارض ذلك بالتصرف في المطلق.
ثم انه (قده) قال، ولعل وجه التقييد كون ظهور اطلاق الصيغة في الايجاب
التعييني أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق.
أقول: ما أورده على التقريرات متين، واما ما افاده في وجه حمل المطلق
على المقيد، فيرد عليه انه لا يلائم مع ما اختاره من أن دلالة الامر على الوجوب التعييني،
انما يكون بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع، فإنه حينئذ يكون كل من الظهورين
بالاطلاق، فلا وجه لدعوى أقوائية أحدهما من الاخر.
402

وحق القول في المقام: ان حمل المطلق على المقيد يتوقف على ثبوت أمرين،
أحدهما: التنافي بين الدليلين. ثانيهما: أقوائية ظهور المقيد في كون متعلق التكليف
خصوص الحصة الخاصة من الطبيعة، من ظهور المطلق في كون المتعلق الطبيعة أين
ما سرت ولو في ضمن غير تلك الحصة.
وقبل البحث في الموردين لابد وان يعلم أن محل الكلام، هو ما إذا كان ظاهر دليل
المقيد كونه متكفلا لبيان حكم مستقل مولوي، وأما إذا كان ظاهرا في نفسه في الارشاد
إلى الجزئية، أو الشرطية، أو المانعية، فلا كلام في حمل المطلق على المقيد، ولذلك لم
يتوهم أحد عدم حمل الامر بالصلاة مطلقا على مثل قوله (ع) (لا تصل فيما لا يؤكل
لحمه) (1) الظاهر في الارشاد إلى مانعية لبسه في الصلاة، وكذا الحال في المعاملات مثل قوله
(نهى النبي (ص) عن بيع الغرر) (2) الظاهر في الارشاد إلى مانعية الغرر عن البيع، وهذا كله
مما لا اشكال فيه.
وكيف كان فالكلام في مقامين، الأول: فيما يثبت به التنافي بين الدليلين، ومحل
الكلام انما هو المتوافقان (كاعتق رقبة، واعتق رقبة مؤمنة) واما المختلفان (كاعتق رقبة
ولا تعتق رقبة كافرة) فثبوت التنافي واضح.
ثم إن ثبوت التنافي يتوقف على وحدة التكليف، وهي ان أحرزت من الخارج فلا
كلام، والا فثبوتها يتوقف على أمور:
1 - ان يكون المتعلق في كل من دليلي المطلق والمقيد، صرف الوجود المنطبق على
أول الوجودات، إذ لو كان المتعلق جميع الوجودات، مثل أحل الله البيع، وأحل الله البيع
العربي، فلا تنافى بين الدليلين لعدم التنافي بين امضاء البيع العربي وغيره. نعم، إذا كان
لدليل المقيد مفهوم ثبت التنافي وهذا بخلاف ما إذا كان المتعلق في كل منهما صرف
الوجود، فان اطلاق دليل المطلق يقتضى الاجتزاء بغير المقيد في مقام الامتثال، و
تقييد المتعلق في دليل المقيد يقتضى عدم الاجتزاء به، فيحصل التنافي بينهما وما ذكرناه

1 - الوسائل باب 2 من أبواب لباس المصلي.
2 - الوسائل باب 40 من أبواب آداب التجارة.
403

هو السر في عدم حمل المطلق على المقيد في المحرمات، إذ المتعلق فيها جميع
الوجودات.
2 - كون دليل المقيد متضمنا لحكم الزامي، والا فلا يتحقق التنافي بينه، وبين دليل
المطلق، إذ لو كان متضمنا لبيان حكم غير الزامي، كانت الجزئية أو الشرطية، للقيد الذي
تضمنه غير الزامية لفرض انتزاعها من التكليف غير الإلزامي، فلا تنافى بينه وبين الترخيص
المستفاد من الاطلاق (فتأمل فان للكلام فيه مجالا واسعا) وهذا بخلاف ما إذا كان
متضمنا لحكم الزامي، ثم انه لا فرق فيه بين كون التكليف الإلزامي ارشاديا أم نفسيا، كما
لا فرق بين كون الحكم الذي تضمنه دليل المطلق لزوميا أو غير لزومي.
3 - ان يكون الحكم في كل من المطلق والمقيد مرسلا، أم معلقا على سبب واحد،
وأما إذا كان كل منهما معلقا على سبب غير ما يكون الاخر معلقا عليه، مثل (ان ظاهرت
فأعتق رقبة، وان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة) أو كان أحدهما مرسلا والاخر معلقا على
سبب، مثل (أعتق رقبة وان ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة) فلا تنافى بين الدليلين، فلنا دعويان.
إحداهما: عدم التنافي في الموردين الأخيرين. ثانيهما: التنافي في الموردين الأولين.
اما الأولى: ففي صورة تعليق كل منهما على سبب مستقل، فعدم التنافي انما يكون
من جهة ظهور القضيتين في تعدد الحكم بتعدد السبب، واما في صورة تعليق أحدهما على
السبب دون الاخر، فالعدم، انما هو من جهة ان هناك اطلاقين وتقييدين، اطلاق الوجوب
وتقييده بحصول السبب، اطلاق المتعلق، وتقييده بالمؤمنة، وتقييد كل من الاطلاقين،
يتوقف على تقييد الاخر إذ لو لم يقيد الوجوب بحصول السبب لما كان وجه لتقييد
المتعلق، لأنه بعد فرض بقائه على اطلاقه، وبقاء المقيد على تقييده، لا مناص عن كونهما
حكمين لمتعلقين، كما أنه لو لم يقيد المتعلق لما كان وجه لرفع اليد عن اطلاق الحكم، إذ
مع فرض تعدد المتعلق لا محالة يكون الثابت حكمين فلا موجب للحمل.
واما الدعوى الثانية: فمضافا إلى أن وحدة السبب بنفسها كاشفة عن وحدة الحكم،
والا لزم تأثير شئ واحد في شيئين - وهما وجوب عتق الرقبة - ووجوب عتق الرقبة
المؤمنة: انه ان لم نلتزم بوحدة التكليف في الموردين والتزمنا بان التكليف متعدد،
404

فلا يخلو الامر من أنه، اما ان يكون متعلق التكليف في المقيد هو التقيد، بحيث لا تكون
الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه، دخيلة في الحكم فيكون المقيد واجبا في واجب،
أو يكون المتعلق هي الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمن المقيد، لا مجال للمصير إلى
الأول، لكونه خلاف الظاهر، ولقلة وجود مثل هذا التكليف في الشرع الأنور، واما الثاني:
فان التزمنا بان الملاكين الذين هما منشأ الحكمين لا يستوفيان باتيان المقيد، لكان ذلك
مخالفا لتعلق الامر في المطلق بصرف وجود الطبيعة المنطبق على ما في ضمن المقيد أيضا،
وان كان المقيد وافيا بكلا الملاكين واتيانه موجبا لسقوط التكليفين، لزم تعليق الامر
بالمطلق على عدم الاتيان بالمقيد الذي يجب الاتيان به تعيينا على كل تقدير، ولا موجب
للامر بالمطلق بنحو يشمله، وهو خلاف الظاهر، فيتعين الالتزام بوحدة التكليف.
المقام الثاني في بيان أقوائية ظهور المقيد في كون متعلق الحكم هو الحصة الخاصة
من الطبيعة، وبعبارة أخرى في علاج هذا التنافي.
وملخص القول فيه ان الامر يدور بين، ابقاء المطلق على ظاهره من الاطلاق
والسريان، والتصرف في المقيد بحمل امره على الواجب التخييري، أو حمله على إرادة
أفضل الافراد، وان شئت قلت بحمل القيد المذكور فيه على كونه واردا في مقام بيان
الفضيلة الكامنة في المقيد، وبين حمل المطلق على المقيد.
وقد ذكروا في وجه تقديم الثاني أي حمل المطلق على المقيد وجوها.
الأول: ما نسب إلى الأكثر وهو انه جمع بين الدليلين، وقد تقدم ما يرد عليه.
الثاني: ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وقد مر في أول المبحث، وعرفت انه يرد
عليه ما افاده المحقق الخراساني.
الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية، وقد تقدم، ومر ايراده.
الرابع: ان التقييد شايع فهو المتعين عند دوران الامر بينه وبين مخالفة ظهور آخر
: وفيه مضافا إلى أن الغلبة والشيوع لا توجب الأظهرية، ان إرادة الاستحباب من الامر أيضا
شايعة.
الخامس: ما افاده المحقق النائيني (ره)، ومحصله ان الامر في المقيد يكون بمنزلة
405

القرينة على ما هو المراد من الامر في المطلق، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون
حاكما على الأصل الجاري في ذي القرينة، اما الأول: فلان ملحقات الكلام من، الصفة،
والحال، والتمييز تكون قرينة على أركان الكلام من المبتدأ والخبر، واما الثاني: فلان
الشك في المراد من ذي القرينة يكون مسببا عن الشك في المراد من القرينة وظهورها رافع
لظهور ذي القرينة فلا يبقى له ظهور حتى يصلح لصرف ظهور القرينة وليس كذلك
العكس: إذ القرينة بمدلولها الأولى تقتضي ان يكون المراد من ذي القرينة خلاف ظاهره،
وذو القرينة ليس بمدلوله الأولى متعرضا لحال القرينة، وفى المقام، بما ان القيد يكون
بمنزلة القرينة بالنسبة إلى المطلق لأنه لا يخلو من كونه وصفا أو حالا أو غير ذلك من
ملحقات الكلام فأصالة الظهور فيه تكون حاكمة على أصالة الظهور في المطلق، ثم قال
هذا في المتصل، واما في المنفصل، فالميزان فيه لتشخيص كون شئ قرينة على غيره هو
فرضه متصلا به في الكلام الواحد، فان كان في هذا الفرض قرينة كان قرينة في فرض
الانفصال أيضا، والا فيكون معارضا له، ففي المقام إذا ورد (أعتق رقبة) ثم ورد، (أعتق
رقبة مؤمنة) لابد من فرض المؤمنة متصلة بقوله: (أعتق رقبة) وحيث انه لا ريب في كونها
قرينة على المراد من المطلق في هذا الفرض، فيتعين الالتزام بذلك في فرض الانفصال
أيضا.
وفيه أولا: ان مركز التنافي ليس هو ظهور المؤمنة، وظهور الرقبة، بل اطلاق الرقبة،
وظهور الامر بعتق الرقبة المؤمنة، في الوجوب والامر دائر بين رفع اليد عن أحدهما،
وقرينية الثاني على الأول، في فرض الاتصال أيضا أول الكلام، كما لو قال: (أعتق رقبة،
واعتق رقبة مؤمنة).
وثانيا: ان قرينية المؤمنة في ظرف الاتصال انما هي لأجل انه من مقدمات الحكمة
عدم التقييد فمع التقييد لا ينعقد للمطلق ظهور في الاطلاق، فقياس صورة الانفصال
بصورة الاتصال، قياس مع الفارق.
فالحق في وجه تقديم التقييد ان يقال: ان التزاحم والتنافي ليس بين ظهور المطلق
في الاطلاق، وظهور الامر بالمقيد في الوجوب التعييني، بل بين أصالة صدور الظاهر بداعي
406

الجد لا بدواعي اخر في المطلق، وظهور الامر بالمقيد في الوجوب التعييني، فإنه كما
عرفت في مبحث العام والخاص، ان للكلام الصادر من المتكلم أصلين مترتبين أحدهما:
أصالة الظهور المعينة ان الظاهر هو المراد الاستعمالي عند الشك واحتمال إرادة غيره،
ثانيتهما: أصالة صدور الظاهر بداعي الجد لا بدواعي اخر - وبعبارة أخرى - أصالة تطابق
المراد الجدي مع المراد الاستعمالي، فطرف المعارضة في طرف المطلق الأصل الثاني
لا الأول، وعليه، فحيث ان مدرك ذلك الأصل هو بناء العقلاء، وهو انما يكون مع عدم
ورود دليل من الشارع الأقدس على خلافه، ودليل المقيد يصلح لذلك، فيتعين التصرف
في المطلق بالمعنى الذي عرفت، وابقاء الامر بالمقيد على ظاهره فتدبر في أطراف ما
ذكرناه، فإنه حق القول في المقام ولا أظن بقاء الترديد لاحد في حمل المطلق على المقيد
بعد التدبر فيما ذكرناه. هذا كله في المتوافقين، وبه يظهر الحال في المتخالفين، مثل (أعتق
رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) بل حمل المطلق على المقيد فيهما أظهر كما لا يخفى.
بقى في المقام أمور لا بد من التنبيه عليها.
أحدها: انه إذا كان الحكم متعلقا بجميع الوجودات لا صرف الوجود كما في أحل
الله البيع، فان كان دليل المقيد مخالفا له في الايجاب والسلب، كما ورد من النهى عن بيع
الخمر والخنزير والبيع الربوي وما شاكل، لا كلام ولا اشكال في حمل المطلق على المقيد،
لما مر من أن النهى عن حصة خاصة من مركب اعتباري جعله المولى متعلقا لحكمه
التكليفي أو الوضعي ظاهر في الارشاد إلى المانعية، فيدل دليل المقيد على مانعية ما تضمنه
عن صحة البيع مثلا، وان كان موافقا له كما إذا ورد في أحد الدليلين انه في الغنم السائمة
زكاة، وورد في الاخر انه في الغنم زكاة، فان لم يكن لدليل المقيد مفهوم لا موجب لحمل
المطلق على المقيد لما عرفت من توقف الحمل على وحدة التكليف المستكشفة من تعلقه
بصرف الوجود، والمفروض في المقام تعلق التكليف بجميع الوجودات، دون صرف
الوجود فلا وجه للحمل وان كان لدليل المقيد مفهوم، فحيث ان مفهومه نفى الحكم عن
غير مورد الخاص، فلا محالة يوجب ذلك تقييد المطلق.
ثانيها: ان المشهور بين الأصحاب عدم حمل المطلق على المقيد في باب
407

المستحبات واختصاص ذلك بالواجبات فالكلام انما هو في الفارق بينهما.
أفاد المحقق الخراساني (ره) في وجه ذلك وجهين.
1 - تفاوت المستحبات غالبا من حيث المراتب بمعنى ان غالب المستحبات تتعدد
بتعدد مراتبها في المحبوبية، وهذه الغلبة قرينة على حمل المقيد على الأفضل.
ويرد عليه: أولا ان لازم ذلك هو الالتزام باستحباب المطلق وان كان القيد متصلا،
كما إذا ورد، زر الحسين (ع) مغتسلا، بان يقال ان مغتسلا لا يوجب تقييد المتعلق للامر
لعلمنا خارجا بان مراتب المحبوبية مختلفة، وثانيا: ان المراتب في الواجبات أيضا متفاوتة،
فلابد على هذا ان يقال ان المطلق وارد لبيان ثبوت مرتبة من الوجوب والمقيد وارد لبيان
مرتبة أخرى منه، وثالثا: ان الغلبة لا توجب ذلك إذا كان دليل المقيد قرينة عرفية على تعيين
المراد من المطلق لعدم مانعية الغلبة عن ظهور دليل المقيد في ذلك.
2 - ان ثبوت استحباب المطلق انما هو من جهة قاعدة التسامح في أدلة السنن، وكان
عدم رفع اليد من دليل استحباب المطلق، بعد مجيئ دليل المقيد، وحمله على تأكد
استحبابه من التسامح فيها.
ويرد عليه ان معنى حمل المطلق على المقيد كون المراد بالمطلق هو المقيد، وعليه
فليس في المطلق خبر دال على الاستحباب كي يشمله اخبار من بلغ مع أنه لو تم هذا لزم
الالتزام به في الواجبات أيضا غاية الامر بالالتزام باستحباب المطلق بناءا على ما هو الحق
من شمول اخبار من بلغ لما إذا تضمن النص وجوب شئ.
أضف إليه انه لو تم ذلك لم يكن وجه لكون المقيد أفضل الافراد لان استحبابه
ثبت بدليل واستحباب المطلق ثبت بدليل اخر أجنبي عنه فتدبر.
والحق في المقام ان يقال ان الدليل الدال على التقييد يتصور على وجوه.
الأول: ان يكون له مفهوم، ويكون دالا على نفى الاستحباب عن غير ذلك
المورد، كما إذا ورد دليل بعد دليل استحباب صلاة الليل، ودل على أن استحبابها انما هو
إذا اتى بها المكلف بعد نصف الليل، وفى ذلك لابد من حمل المطلق على المقيد عرفا
ووجهه واضح.
408

الثاني: ان يكون الامر في دليل المقيد بنفس التقييد، لا بالقيد كما إذا دل دليل على
استحباب الإقامة، وورد في دليل آخر، فلتكن في حال الطهارة وكان ظاهرا في لزوم ذلك
وفى مثل ذلك لابد من حمل المطلق على المقيد لان الامر في المقيد يكون ظاهرا
في الارشاد إلى شرطية الطهارة، ولا فرق في ذلك بين كون الإقامة واجبة أم مستحبة.
الثالث: ان يكون دليل المقيد مخالفا لدليل المطلق في الحكم كما إذا دل دليل
على استحباب الإقامة ثم ورد في دليل آخر النهى عن الإقامة في حال الجلوس، ففي مثل
ذلك أيضا لا بد من حمل المطلق على المقيد لما مر من أن النهى عن خصوصية في متعلق
الحكم يكون ظاهرا في الارشاد إلى المانعية فيكون مرجع ذلك إلى أن عدم الجلوس،
مأخوذ في الإقامة المأمور بها.
فما نسب إلى المشهور من عدم حمل المطلق على المقيد في باب المستحبات
لا يتم في شئ من هذه الأقسام الثلاثة، ولا يظن بهم الالتزام بعد الحمل في تلكم
الأقسام.
الرابع: ان يتعلق الامر في دليل المقيد بالقيد كما هو الغالب في باب المستحبات
كما ورد مطلقات آمرة بزيارة سيد الشهداء صلوات الله عليه، وورد في أدلة اخر استحباب
زيارته في أوقات مخصوصة كليالي الجمعة، وما شاكل، وفى مثل ذلك لا يحمل المطلق
على المقيد، لما مر من أن الحمل يتوقف على التنافي بين الدليلين، وإذا لم يكن دليل
المقيد الزاميا فلا محالة لا يكون منافيا مع الترخيص المستفاد من اطلاق المطلق في تطبيقه
على أي فرد من افراده شاء في مقام الامتثال ومع عدم التنافي لا موجب للحمل.
وبما ذكرناه يظهر ان الميزان هو كون دليل المقيد الزاميا، أو غير الزامي: ففي
الأول يحمل المطلق على المقيد وان كان دليل المطلق متضمنا لحكم غير الزامي،
وفى الثاني لا يحمل وان كان دليل المطلق متضمنا لحكم الزامي، ولعله إلى ذلك نظر
المشهور والله العالم.
ثالثها: ان الاطلاق كما عرفت عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شئ من القيود
في الحكم، ويترتب عليه اختلاف الاطلاق باختلاف المقامات، وتكون نتيجته في بعض
409

الموارد تعلق الحكم بصرف الوجود، كما في الأحكام التكليفية الوجوبية، كاعتق رقبة،
أو أكرم عالما، وما شاكل، وفى مورد آخر تعلق الحكم بمطلق الوجود، والطبيعة السارية
وذلك كما في الاحكام التحريمية كلا تشرب الخمر، وفى الأحكام الوضعية كأحل الله
البيع، وما شاكل، وقد مر تفصيل ذلك في مبحث النواهي.
رابعها: ان قضية مقدمات الحكمة في المطلقات تختلف بحسب اختلاف
المقامات، بمعنى ان الاطلاق في مقام الاثبات ربما يكشف عن الضيق في مقام الثبوت،
كما في اطلاق صيغة الامر حيث إنه في مقام الاثبات يكشف عن أن الواجب في مقام
الثبوت نفسي، لا غيري، تعييني لا تخييري، وعيني لا كفائي وذلك كله ضيق على
المكلف، وقد مر في أول مبحث المطلق والمقيد البحث في ذلك.
المجمل والمبين
الفصل الرابع: في المجمل والمبين، قال المحقق الخراساني (ره) الظاهر أن المراد
من المبين في موارد اطلاقه الكلام الذي له ظاهر ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا
لخصوص معنى، والمجمل بخلافه فما ليس له ظهور مجمل وان علم بقرينة خارجية ما
أريد منه، كما أن ماله الظهور مبين وان علم بالقرينة الخارجية انه ما أريد ظهوره وانه مؤول
انتهى.
وما افاده (قده) من التعريف للمجمل والمبين ينافي ما سيذكره في ذيل كلامه
المتضمن لبيان انهما وصفان إضافيان، فان ظاهر هذا التعريف انهما من صفات اللفظ
ناشئتان من تعدد الوضع، أو تكثر المعاني المجازية عند احراز عدم إرادة المعنى الحقيقي،
وظاهر الذيل انهما وصفان ناشئان عن العلم بالوضع والجهل به.
والحق هو الأول، الا ترى انه لا يصح ان يقال ان الألفاظ العربية كلها مجملات
بالقياس إلى الجاهل بها، فيستكشف من ذلك أن اطلاقهما انما يكون بلحاظ الأول،
فالمجمل هو اللفظ الذي لا قالبية له للمعنى في متفاهم العرف عند أهل تلك اللغة، وهذا
410

بخلاف المبين، فللاجمال والبيان واقعان محفوظان، يطلقان بلحاظهما، نعم قد يقع
الاختلاف في كون لفظ مجملا، فيدعى أحد انه مجمل، والاخر يدعى انه مبين، ولكن
ذلك انما يكون في مقام الاثبات وهو يشهد بأنهما من الأمور الواقعية والا لم يكن معنى
لوقوع النزاع والخلاف في الأمور الإضافية.
ثم انه تارة يكون اللفظ مجملا من حيث المراد الاستعمالي، وأخرى يكون ظاهرا
من حيث ذلك، ولكن المراد الجدي منه غير معلوم، فان شئت عبر عن الثاني بالمجمل
حكميا في قبال الأول الذي هو مجمل حقيقي.
والأول: قد يكون اجماله ذاتيا، كاللفظ المشترك وقد يكون بالعرض كالكلام
المحفوف بما يصلح للقرينية.
والثاني: كالعام المخصص بمخصص منفصل دائر امره بين متباينين كما إذا ورد
(أكرم العالم) ثم ورد (لا تكرم زيدا العالم) وتردد زيد في الخارج بين شخصين، فيكون
المخصص مجملا ويسرى اجماله إلى العام حكما لا حقيقة لما مر من أن المخصص
المنفصل يوجب التصرف في المراد الجدي لا المراد الاستعمالي فيكون العام مجملا من
حيث المراد الجدي.
ثم انه وقع الكلام في طائفة من الألفاظ المفردة والجمل في أبواب الفقه انها
مجملة أو مبينة، والأول، كلفظ، الصعيد، والغناء، والكعب، واليد في آية السرقة (1) عند
السيد المرتضى وجماعة.
والثاني: مثل لا صلاة الا بطهور (2)، لا صلاة الا بفاتحة الكتاب (3)، وحرمت عليكم
أمهاتكم (4)، وأحلت لكم بهيمة الأنعام (5)، مما أضيف الحكم إلى الأعيان الخارجية.
وحيث إن كل تلكم المباحث مباحث صغروية، وليست مباحث كبروية،

1 - المائدة: 38.
2 - الوسائل باب 1 من أبواب الوضوء حديث 6.
3 - مستدرك الوسائل باب 1 من أبواب القراءة في الصلاة حديث 5 - 8.
4 - النساء / 23.
5 - المائدة / 1.
411

ولا ضابطة كلية لتمييز المجمل عن المبين في هذه الموارد، فلا مناص الا عن الرجوع
في كل مورد إلى فهم العرف فان كان له ظهور عرفي فلا كلام، والا فيرجع إلى القواعد
والأصول وهي تختلف باختلاف الموارد والحمد لله أولا وآخرا.
412