الكتاب: تهذيب الأصول
المؤلف: تقرير بحث السيد الخميني ، للسبحاني
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: انتشارات دار الفكر - قم
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لبحث آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأول بلا أول قبله، والآخر بلا آخر بعده، لا تدركه الأفكار و
العقول، ولا تحيط به الابصار والقلوب، أحاط بكل شئ علما، وحاق به عزا، والصلاة
والسلام على أشرف خلقه، وخاتم رسله، أمينه على وحيه " محمد " أرسله داعيا إلى الحق
وشاهدا على الخلق، حين لا علم قائم ولا منهج واضح، وآله أئمة الحق، وهداته، و
اعدال الكتاب وقرنائه، الذين أوجب الله اقتفائهم وقارن بطاعته طاعتهم. صلاة
دائمة ما دار الفرقدان، وكر الجديدان
اما بعد: فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الموسوم، ب‍ تهذيب الأصول
نقدمه إلى القراء الكرام راجين منهم العفو والاغماض، وهو محاضرات علمية ألقاها
الامام العلامة، مثال الفقه والتقى، علم العلم والهدى سيدنا الأستاذ الأكبر آية الله
العظمى: الحاج آغا روح الله الخميني دام ظله الوارف في حوزة درسه، ومجلس
تدريسه، فحيا الله سيدنا الأستاذ وادام صحة وجوده حيث قام بتربية رواد العلم، و
طلاب الفضيلة، وسلام الله عليه علي ما أسدي إليهم من أيادي عظيمة، ونشر فيهم علوما
ناجعة سلاما لا بداية له ولا نهاية.
المؤلف
هل الأصل في الاجزاء والشرائط الركنية أولا
إذا ثبت جزئية شئ أو شرطيته للمركب في الجملة فيقع الكلام في نقصه و
زيادته عمدا أو سهوا في مقامات الأول إذا ثبت جزئية شئ مثلا لمركب فهل يوجب
نقصه سهوا بطلان المركب أولا، وان شئت قلت: هل الأصل العقلي هو الركنية
أولا الثاني بيان الأصل الشرعي في ذلك.
الثالث في حال الزيادة العمدية والسهوية ومقتضي الأصل العقلي والشرعي
الرابع بعد ما ثبت جزئية الشئ على وجه الاطلاق في حالتي الذكر والسهو، وبعبارة
أوضح على القول بأصالة الركنية في الاجزاء والشرائط،؟ ل قام الدليل على خلافها وان
الناقص في حال النسيان يجزى عن الواقع التام فهذه مقامات أربعة ودونك بيانها.
المقام الأول
إذا ثبت جزئية شئ للمركب فهل الأصل العقلي هو الركنية فيبطل المركب
لو أخل به سهوا وقبل الخوض في المقصود لا بد من تنقيح محط البحث
ان محل النزاع في المقام على القول بالبرائة أو الاشتغال هو ما إذا لم يكن
لدليل المركب ولا لدليل الجزء والشرط اطلاق، إذ لو كان لدليل المركب اطلاق
بالنسبة إلى جزئية الشئ، يقتصر في تقييده بالجزء المنسى بحال الذكر، كما أنه
لو كان لدليل الجزء أو الشرط اطلاق بالنسبة إلى حالة النسيان يحكم بعدم سقوط
وجوبه في حال النسيان ويكون المأتى به باطلا نعم ليس هنا ضابط كلي لبيان وجود
الاطلاق وعدمه في المركب والاجزاء والشرائط، نعم لا يبعد ان يقال: إن الأدلة
المتضمنة لبيان حكم المركبات، انما هو في مقام أصل التشريع، لا اطلاق لها
غالبا، كما أن أدلة الاجزاء والشرائط لها اطلاق بالنسبة إلي الأحوال الطارئة
ومع ذلك كله لا بد من ملاحظة الموارد، وربما صار بعضهم إلي بيان الضابط وقال:
ان أدلة اثبات الاجزاء والشرائط وكذا الموانع إن كانت بنحو التكليف مثل
1

قوله: اغسل ثوبك وقوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وقوله:
لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه مما لا يمكن عمومها وشمولها لحال النسيان و
الغفلة، فيختص جزئيته وشرطيته لحال الذكر، لامتناع انتزاع الوضع المطلق من
التكليف المختص بحال الذكر، واما إذا كانت بنحو الوضع مثل قوله: لا صلاة الا
بطهور، أو بفاتحة الكتاب فيمكن انتزاع الوضع المطلق لعدم انتزاعه من الخطاب
أو التكليف المختص بحالة دون غيرها.
و (فيه) ما عرفت في باب الخروج عن محل الابتلاء وان المحذور انما هو في
الخطاب الشخصي دون الكلى القانوني، و (عليه) فلا محذور إذا قلنا بان قوله:
فاغسلوا وجوهكم الخ مطلق يعم حال الغفلة والنسيان فراجع.
وربما يقال ضابط آخر مع تسليم امتناع شمول التكاليف المتقدمة لحال
النسيان والغفلة، ومحصله: انه يمكن استفادة الاطلاق من هذه الأدلة أيضا لأجل
أمور (منها) ظهور تلك الأدلة في الارشاد إلى الحكم الوضعي وان ذلك جزء أو
شرط أو مانع، و (منها) انه لو سلم ظهورها في المولوية، لكن ليس امتناع تكليف
الناسي والغافل من ضروريات العقول حتى يكون كالقرينة الحافة بالكلام مانعة من
الظهور، بل هو من النظريات المحتاجة إلى التأمل في مباديها فتكون حاله كالقرائن
المنفصلة المانعة عن حجية الظهور لا أصل الطهور (فح) يمكن ان يقال إن غاية
ما يقتضيه العقل المنع عن حجية ظهورها في الحكم التكليفي دون الوضعي،
فيؤخذ بظهورها بالنسبة إلى اثبات الجزئية ونحوها. و (منها) انه على فرض الإغماض
عنه يمكن التمسك باطلاق المادة لدخل الجزء في الملاك والمصلحة مطلقا في
حالتي الذكر والنسيان.
أقول: هذا ما افاده بعض محققي العصر وفيه مقامات للنظر.
منها: ان ما افاده من أن تلك الأوامر ارشادات إلى الجزئية فان أراد ان الهيئة
مستعملة في إفادة الجزئية، من دون ان يستعمل في البعث إلي الشئ فهو خلاف
الوجدان لأنها غير منسلخة عن معانيها، وحقايقها غاية الأمر ان البعث إلى جزء
المركب وشرطه، يفهم منه العرف الارشاد إلي كونه جزءا أو شرطا، كما أن النهى
2

عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه المستعمل في الزجر عن ايجاد الصلاة فيه،
ينتقل منه العرف إلى أن النهى ليس لمفسدة ذاتية، بل لأجل مانعيته عنها، وان
أراد انها مستعملة في البعث والزجر، غير انا ننتقل إلى الجزئية والشرطية المطلقة
فهو غير تام، لان استفادة الحكم الوضعي بتبع تعلق التكليف على ذات الجزء
والشرط، (فح) يكون الارشاد بمقدار امكان تعلق التكليف، والا فلا دليل علي الارشاد.
ومنها: ان ما افاده من أنه يؤخذ بأحد الظهورين ويطرح الاخر لأجل كون
القرينة منفصلة غير ضروري، ساقط من رأسه لان الاخذ بأحدهما وطرح الاخر فرع
وجود ظهورين عرضيين فيه فيرفع اليد عما يقتضيه العقل وهو سقوط اطلاق الحكم
التكليفي دون اطلاق الحكم الوضعي، واما إذا كان الظهور الثاني في طول الأول ومن
متفرعاته بحيث يكون وجود الوضع واطلاقه تابعا لوجود التكليف واطلاقه فلا
يعقل ذلك بعد سقوط المتبوع وارتفاعه، وما قرع الاسماع من التفكيك في حجيته بين
الملزوم واللازم ليس المقام من ذلك القبيل، أضف إلى ذلك ان الحكم العقلي يكشف
من عدم الظهور من أول الأمر، وانه كان ظهورا متخيلا متزلزلا، لا ثابتا فيكون
كالقرائن المتصلة.
ومنها: ان التمسك باطلاق المادة مرهون جدا، فلان العلم باشتمال المادة
على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء يتوقف اثباتا وكشفا علي ورود أمر من الشارع، ومع
سقوط الامر حال النسيان كما هو مبنى القائل والقوم كلهم، من أين حصل العلم
باشتمالها على المصلحة التامة، نعم قد يقطع بقيام المصلحة بالمادة الخالية من الامر
بجهات اخر لكنه خارج عن المقام.
إذا عرفت ذلك فنقول: فهل الأصل العقلي عند ترك الجزء نسيانا هو البراءة
والاكتفاء بالناقص، أو الاشتغال ولزوم الإعادة فنقول: لا اشكال في عدم تنجز
الجزء المنسى في حال النسيان، وانما الاشكال في ما عدا الجزء المنسى، وانه هل
يصح تكليفه بالاتيان بالباقي أو لا، اختار الشيخ الأعظم الثاني قائلا: بان ما كان جزءا
حال العمد يكون جزءا حال الغفلة والنسيان لامتناع اختصاص الغافل والساهي
3

بالخطاب بالنسبة إلى المركب الناقص، لان الخطاب انما يكون للانبعاث ويمتنع
انبعاث الغافل لأنه يتوقف على توجيهه بالخطاب بعنوانه، ومعه يخرج عن كونه
غافلا فخطابه لغو، فالأصل العقلي هو لزوم الاحتياط.
قلت: وقد أجاب القوم عن الاشكال بوجوه لا بأس بالإشارة إليها مع بيان ما هو
المختار من الجواب عندنا فنقول: أحدها: ما ذكرناه سابقا: وهو مبنى على مسالك القوم
من أن النسيان مانع عن فعلية التكليف بالجزء المنسى، والمختار عندنا غيره وانه كالعجز
والجهل مانع عن التنجيز لا عن الفعلية ان جريان البراءة لا يتوقف على اختصاص الناسي
والساهي بالخطاب بل يكفي في ذلك الخطابات العامة القانونية من قوله تعالى: أقم
الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل والخطابات الواردة على العناوين العامة من،
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا، أو يا أيها الناس افعلوا كذا وكذا، ضرورة ان الغرض
من الخطاب هو بعث المكلف نحو العمل، وهذه الخطابات كافية في البعث نحو العمل
غير أن العالم والعامد يبعث منه إلى المركب التام، والساهي والغافل عن الجزء إلى
المركب الناقص، لأن المفروض هو سقوط التكليف بالجزء عن الناسي وانه فرق بينه
وبين غيره في تعلق التكليف فيكون اختصاصه بالخطاب مع حصول الغرض بتلك
الخطابات لغوا.
وإذا فرض ان الصلاة التامة ذات مصلحة في حق الذاكر والصلاة الناقصة ذات
مصلحة وذات ملاك بالنسبة إلى غيره والمفروض - كما عرفت وجود خطاب واحد
باعث لهما نحو المطلوب القائم به الملاك، يكون المقام (ح) من صغريات الأقل
والأكثر إذا اتى الناس بالمركب ثم تنبه، لان الناسي بعدما اتى بالمركب الناقص
ووقف على الجزء المنسى، يشك في أن الجزء المنسي هل كان له اقتضاء بالنسبة إليه
في حال النسيان حتى يحتاج إلى الإعادة أو لا اقتضاء له، فتجرى في حقه بالبرائة، بعين
ما قدمناه في الأقل والأكثر من غير فرق بين النسيان المستوعب وغيره: فنقول: ان
الامر الداعي إلى المركب داع بعين تلك الدعوة إلى الاجزاء، والمفروض ان الاجزاء التي
4

كان الامر بالمركب داعيا إليها، قد اتى بها الناسي وبعد الاتيان بها يشك في أن
الامر هل له دعوة أخرى إلى اتيانها ثانيا حتى يكون داعيا إلى اتيان الجزء المنسى
أيضا أو لا ومع الشك فالأصل البراءة هذا ما افاده (دام ظله) في الدورة السابقة، وقد
أوضحه (دام ظله) في الدورة اللاحقة بما هذا مثاله:
ان من الممكن أن يكون الغرض المطلوب في حق الذاكر قائما بالصلاة
التامة، وفى حق الناسي بالناقصة منها وهذا أمر ممكن ليس بمستحيل ثبوتا، ولك
ان تقول: ان الصلاة التامة في حق الذاكر ما يأتي به من الاجزاء كما أن الصلاة
التامة للناسي هي الاجزاء ما عدا المنسى فكل منهما صلاة تامة في حالتين.
ثم إن الامر المتعلق بالمركب، داع كل فريق من العامد والذاكر والساهي
والغافل إلى العنوان الذي تعلق به الامر ومقتضي الإرادة الاستعمالية كون المأمور
به أمرا واحدا في حق الجميع، غير مختلف من حيث الكيفية والكمية، الا انه لما
كانت الجدية على خلافها وكان الناسي في أفق الإرادة الجدية محكوما بما عدا المنسى
وجب على المولى توضيح ما هو الواجب في حق الناسي بدليل عقلي أو نقلي وتخصيص
جزئية المنسى بحال الذكر كما هو الحال في سائر المواضع (فح) ينحصر داعوية الامر
المتعلق بالمركب إلى ما عدى المنسى، من دون حاجة إلى الامرين مع حصول الغرض
بأمر واحد.
وبالجملة: ما ذكرناه أمر ممكن يكفي في رفع الاستحالة التي ادعاه الشيخ -
الأعظم (رحمه الله) فإذا فرض امكانه، فلو فرض ان المكلف الناسي اتى بما عدا المنسى،
ثم تذكر، يشك بعد ذكره في داعوية الامر المتعلق بالمركب، إلى الاجزاء التامة
ثانيا والأصل يقتضى البراءة.
هذا كله: على مباني القوم، واما إذا قلنا بان النسيان والغفلة كالجهل والعجز
اعذار عقلية، مع بقاء التكليف على ما كان عليه فمع؟ ترك الجزء نسيانا يجب
الإعادة إذا كان لدليل، الجزء اطلاقا لعدم الاتيان بالمأمور به بجميع اجزائه ومع
عدم الاطلاق فالبرائة محكمة لرجوع الشك إلى الأقل والأكثر
5

ما تفصى به القوم عن الاشكال
ثاني الوجوه الالتزام بعدم الخطاب أصلا، لا بالتام لأنه غير قادر بالنسبة
إليه، ولا بالناقص المأتى به، لأنه غير قابل بالخطاب فتوجيه الخطاب إليه لغو
محض، ثم إنه إذا ارتفع النسيان، يشك الناسي في أنه هل صار مكلفا بالاتيان
بالمركب التام أو لا، لاحتمال وفاء الناقص بمصلحة التام ومع الشك فالأصل البراءة
وثبوت الاقتضاء بالنسبة إلى الجزء والفائت لا دليل عليه والأصل البراءة عنه كما
هو الشأن في الأقل والأكثر.
قلت: هذا الوجه وجيهة على مباني القوم من سقوط الخطاب عن الناسي و
الغافل، واما على المختار فالتكليف باق وإن كان السا؟؟ معذورا لكنه غير السقوط
من رأس.
أضف إلى ذلك ما عرفت من امكان بعثه إلى الناقص كما تقدم.
ثالثها ما نقله بعض أعاظم العصر (رحمه الله) عن تقريرات بعض الأجلة
لبحث الشيخ الأعظم: من امكان اخذ الناسي عنوانا للمكلف وتكليفه بما
عدى الجزء المنسى، وحاصله: ان المانع من ذلك ليس الا توهم كون الناسي لا
يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال، فلا يمكنه امتثال الامر لأنه فرع الالتفات إلى
ما اخذ عنوانا للمكلف، ولكنه مدفوع بان امتثال الامر لا يتوقف على الالتفات إلى
ما اخذ عنوانا له بخصوصه بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه ولو كان
من باب الخطاء في التطبيق فيقصد الامر المتوجه إليه بالعنوان الاخر، فالناسي
للجزء يقصد الامر الواقعي له وان أخطأ في تطبيق أمر الذاكر عليه.
وأورد عليه بعد نقله: بأنه يعتبر في صحة البعث والطلب أن يكون قابلا
للانبعاث عنه بحيث يمكن ان يصيره أعيا لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو
المأمور به ولو في الجملة وهذا التكليف الذي يكون دائما في الخطاء في التطبيق
لا يمكن أن يكون داعيا أصلا فهو لغو ولا يقاس هذا بأمر الأداء والقضاء لان الخطاء
في التطبيق فيهما قد يتفق بخلاف المقام.
6

ويرد على المورد انه بعد تصديق كون الامر الواقعي المتعلق بالناسي بعنوان
انه ناس محركا واقعا وانما وقع الخطأ في تطبيق عنوان أمر الذاكر على الناسي لا مجال
للاشكال لأن المفروض ان المحرك للناسي دائما انما هو الامر الواقعي المتعلق به لا
الامر المتوجه إلى الذاكر.
نعم يرد على المجيب ان هذا الامر غير محرك أصلا، لان البعث فرع
الوصول، وهو بعد لم يصل، بل المحرك له هو أمر الذاكر لتوهمه انه ذاكر،
والشاهد عليه ان الناسي منبعث نحو المأمور به سواء كان للناسي خطاب يخصه أو لا
فدعوى ان الامر الواقعي المتوجه إلي الناسي محرك له واقعا وإن كان الخطاء في التطبيق
ممنوعة.
رابعها: ما ذكره المحقق الخراساني واختاره بعض أعاظم العصر (رحمه الله)
وهو ان المأمور به في حق الذاكر والناسي انما هو ما عدا المنسى، غير أن الذاكر
يختص بخطاب يخصه بالجزء المنسى والمحذور في تخصيص الناسي بالخطاب لا الذاكر.
و (فيه) انه لا داعي للخطابين بعد انبعاث الفريقين من الخطاب الواحد على ما
تقدم توضيحه.
هذه جملة ما قيل من الأجوبة في رفع الاشكال وتصحيح جريان البراءة في
المقام. فعلى هذه الوجوه ان الأصل العقلي في الجزء المنسى يقتضى البراءة إذا لم
يكن لدليل الجزء اطلاق.
ثم إن التدبر الصحيح في هذه الوجوه يعطى عدم الفرق في الرجوع إلى البراءة
بين النسيان المستوعب للوقت وعدمه، الا انه يظهر من بعض أعاظم العصر التفصيل
ومحصل ما افاده ما يلي: ان أصالة البراءة عن الجزء المنسى في حلل النسيان لا تقتضي
عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر بل مقتضى اطلاق الأدلة وجوبه لأن الماء -
مور به هو صرف الطبيعة التامة في مجموع الوقت ويكفى في وجوب ذلك التمكن
من ايجادها كذلك ولو في جزء من الوقت ولا يعتبر التمكن في تمامه كما هو الحال
في سائر الاعذار و (الحاصل) ان رفع الجزئية بأدلة البراءة في حال النسيان لا
7

يلازم رفعها في ظرف التذكر لأن الشك في الأول يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال
النسيان وفى الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر (هذا) إذا
لم يكن المكلف ذاكرا في أول الوقت ثم عرض له النسيان في الأثناء، والا
فيجرى استصحاب التكليف للشك في سقوطه بسبب النسيان الطارئ الزائل في
الوقت " انتهى ".
وفيه ان القائل قد وافق القوم في سقوط التكليف بالجزء المنسى، (فح) يرجع الشك
بعد التذكر إلى حدوث التكليف بالجزء وتوجد داعوية أخرى للتكليف الثابت للمركب
بالنسبة إلى بقية الأجزاء المأتى بها والأصل يقتضى البراءة، وما افاده: من أن المأمور
به صرف الطبيعة التامة في مجموع الوقت وكفاية التمكن فيه في الجملة، صحيح لو
كان تاركا لها من رأس، واما بعد ما اتى بالمركب الناقص، وفرضنا سقوط التكليف
بالجزء المنسى فتوجه التكليف إليه بالنسبة إلى الجزء المنسى، أو تجدد داعوية للمركب
بالنسبة إلى الباقي مشكوك مورد للبرائة
ومنه يعلم حال ما إذا كان ذاكرا في أول الوقت ثم طرء عليه النسيان واتى بالمركب
بما عدا الجزء المنسى، ثم ارتفع العذر، (فح) فالتمسك باستصحاب التكليف الموجود
أول الوقت غريب، لأنا نعلم بانعدام الأمر الأول بعروض النسيان، وانه فات ومات به،
فكيف يجوز استصحابه، وان أراد منه التمسك باطلاق دليل الجزء فهو مخالف لمفروض
البحث على ما نبهنا عليه مرارا
المقام الثاني في مقتضى الأصل الشرعي
لو ثبت لدليل الجزء أو الشرط اطلاق بالنسبة إلى حال النسيان، فهل يجوز التمسك
بحديث الرفع في تقييد اطلاقها وتخصيصه بحال الذكر، أو لا يجوز، ولو لم يجز التمسك
فاطلاق الجزء والشرط محكمان
وليعلم ان محط البحث في المقام غيره في المقام السابق، لان البحث فيما مضى كان
في مقتضى الأصل العقلي، وموضوعه كون المورد مما لم يرد فيه بيان من المولى
8

ولذا اشترطنا فيه عدم وجود اطلاق لدليل الجزء والشرط واما المقام فالحديث
حديث حكومة وتقييد وهو فرع وجود اطلاق لدليلهما، بمعنى انه يلزم أن يكون
للمحكوم وجود، أو شأنية له، هذا كله في غير جملة: " ما لا يعلمون " واما تلك الجملة
فهما والبرائة العقلية متساوقان متحدان شرطا وموردا ومصبا وانما البحث في
المقام هو التمسك بالنسيان وغيره.
واعلم: ان الحق هو جواز التمسك بحديث الرفع في رفع جزئية المنسى في
حال النسيان، وتخصيصه بحال الذكر، ولازم ذلك اجزاء ما اتى به من المركب
الناقص وكونه تمام المأمور به في حقه وتوضيحه يحتاج إلى بيان أمور.
الأول: قد وافاك فيما مضى ان متعلق الاجزاء عنوان اجمالي هي عين
الاجزاء لكن في لحاظ الوحدة، كما أن الاجزاء عين ذلك العنوان لكن في لحاظ
التفصيل، وقد عرفت ان داعوية الامر إلى المركب عين داعويته إليها، لا بدعوة
أخرى مستقلة، ولا بدعوة ضمنية، ولا غيرية اما الدعوة المستقلة المغايرة للدعوة
إلي المركب فظاهر الفساد، واما الضمني أو الغيري فلا حاجة إليهما. فلو قال المولى
ابن مسجدا، ليس له الا امتثال هذا الامر، فكل ما يصدر من البناء من الحركات والسكنات
ورفع القواعد والجدار، مأمور به بذلك الامر وفعله امتثال له، لا امتثال لأمر ضمني
أو غيري، إذ بناء المسجد ليس الا هذا وذاك وذلك في لحاظ الوحدة وقس عليه باقي
المركبات الاعتبارية.
الثاني: ان الرفع في كل من العناوين التسعة لم يتعلق برفع ما
تعلق به الإرادة الجدية لاستلزامه النسخ المستحيل، بل تعلق برفع ما
تعلق به الإرادة الاستعمالية على ما هو المتعارف بين أصحاب التقنين، من طرح
القوانين الكلية أو لا، وذكر مخصصاتها وقيودها في ضمن فصول اخر، وهو يكشف
عن أن الإرادة اللبية لم يتعلق الا بغير مورد التخصيص والتقييد والحكومة، كما أن عدم
العثور على الدليل يكشف عن تطابق الإرادتين.
الثالث قد أوضحنا حال كل واحد من العناوين في مبحث البراءة فلا حاجة إلى
9

الإطالة وقد عرفت هناك ان الرفع وان أسند إلى النسيان الا انه غير مرتفع بالوجدان
والقول بان المصدر بمعنى المنسى على نحو المجاز في الكلمة خارج عن الذوق العرفي
بل الحق ان صحة الاسناد إليه مبنى على أمرين: ادعاء ان النسيان عين المنسي لعلاقة
بينهما، وادعاء ان رفع المنسى باعتبار رفع ماله من الاحكام حسب
الاطلاقات والعمومات، بحيث لولا حديث الرفع لكان الالتزام بمفادهما لازما.
الرابع: ان النسيان المتعلق بالموضوع هل هو متعلق بوجود الطبيعة،
أو بعدمها الظاهر لا ذا، ولا ذاك، بل هو متعلق بنفس الطبيعة، فان المصلى غفل
عن نفس الطبيعة وحضورها في الذهن ولذلك قلنا: إن الأثر المرفوع انما هو جميع
الآثار، لا المؤاخذة والأثر المناسب، لان رفع الطبيعة يناسبها رفع ماله من
الآثار، من وجوب وحرمة، وشرطية وجزئية، وقاطعية ومانعية وغيرها.
الخامس: ان نسبة الرفع إلى الأمور التسعة ليس على نسق واحد
فان منها ما أسند فيه الرفع إلى الموصول وصلته كما في: " ما لا يعلمون " و " ما اضطروا "
و " ما استكرهوا " وفي بعض أسند إلى نفس اللفظ كما في النسيان والخطاء و
يحتمل أن يكون ذلك اقتداءا بالكتاب العزيز حيث قال عز من قائل: ربنا لا
تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا ما لا طاقة لنا به حيث غير سبحانه
نسق الكلام إذ ما وصل بالثالث
ويحتمل أن يكون الوجه في ذلك هو ان ما يأتي به الانسان لأجل الاضطرار
والاكراه أو يتركه لأجلهما، ينطبق عليه ذانك العنوانان دائما فلو اكل الميتة و
ترك الصلاة عن اضطرار، أو باع داره وأفطر الصوم عن اكراه، يصدق على كل
من المأتى والمتروك انه مضطر إليه ومكره إليه، واما النسيان والخطاء، فان
الصادر عن الانسان لأجلهما تارة يصدق عليه النسيان والخطاء بالمعنى المفعولي -
على الوجه الذي قدمناه كترك الجزء والشرط نسيانا، وقد لا يصدق عليه ذلك الا ان
النسيان والخطاء مبدء لصدوره أو تركه، كإيجاد الموانع والقواطع في الصلاة
من المصلى العالم بابطال الضحك، الغافل عن كونه في الصلاة، فان الضحك صادر
10

عن الانسان عمدا بلا اشكال الا ان المبدء له هو نسيان كونه في الصلاة وقس عليه
الخطاء فالضحك وإن كان لا يصدق عليه انه مما نسى أو المنسى، الا انه مما للنسيان في
وجوده دخالة، و (عليه) فالتعبير باللفظ البسيط دون الموصول وصلته، لأجل كون
المرفوع عاما، أي سواء كان الشئ منسيا أو كان النسيان فيه مبدءا كالقواطع
والموانع التي تصدر عن المصلى عمدا مع الغفلة عن كونه في الصلاة.
إذا عرفت هذه الأمور يتضح لك صحة التمسك لحديث الرفع لرفع الجزئية في
حال النسيان وإن كان نسيان الموضوع، ويصير نتيجة الأدلة الأولية إذا فرض اطلاقها
لحال النسيان، إذا ضمت إلى الحديث الحاكم له ان المأمور به هو الباقي حال
النسيان، ووجهه بعد التأمل فيما تقدم ظاهر، إذ قد عرفت ان الامر المتعلق بالمركب
له داعوية إلى اجزائها بعين تلك الدعوة فلو قام الدليل على أن دعوة المركب
إلى هذا الجزء في حال النسيان وإن كان ثابتا بالدليل الأول، الا انه لم يتعلق به
الإرادة الجدية في تلك الحالة، من دون تعرض لباقي الاجزاء والشرائط غير المنسية
فلا مناص ينحصر دعوته بالباقي منهما، وقد مر ان رفع الجزء أعني الحمد في حالة
النسيان معناه رفع ماله من الآثار والاحكام عامة، ومن الآثار الجزئية والشرطية
فما يقال: إن اثر وجود الجزء هو الصحة ورفعها يناقض المطلوب ليس بشئ لما عرفت
ان المنسى المرفوع هو نفس الطبيعة لا وجودها أضف إلى ذلك: ان وجود الطبيعة
في الخارج عين الطبيعة، والصحة ليست اثرا جعليا بل لا يمكن أن تكون مجعولة
الا بمنشئها، وما هو المجعول هو الجزئية أو الشرطية على ما هو التحقيق من صحة
تعلق الجعل بهما، وكيف كان فالمرفوع لبا هو الشرطية أو الجزئية أو القاطعية
أو المانعية.
هذا توضيح المختار ولا بد لدفع ما هو استصعبه بعضهم من الاشكالات، حتى
يتضح الحقيقة بأجلى مظاهرها فنقول:
منها: انه ان ما هو جزء للصلاة انما هو طبيعة الشئ، والجزئية من أوصافها
والنسيان لم يتعلق بالطبيعة حتى يرتفع آثارها وانما تعلق بوجودها وهو ليس
11

جزءا. و (فيه) ان المنسى بالضرورة نفس الطبيعة بمعنى حضورها في الذهن، فان
أراد القائل من تعلقه بالوجود، تعلقه بالفرد الخارجي فواضح الفساد، وإن كان
المراد ايجاد الطبيعة فهو يرجع إلى ما ذكرنا.
منها: انه ان أريد من رفع الجزئية عن الجزء في مقام الدخل في الملاك فلا
شبهة انه أمر تكويني، لا يقبل الرفع التشريعي وان أريد رفعها بلحاظ انتزاعها
عن التكليف الضمني، (ففيه) ان الحديث يختص بما لولاه لكان قابلا للثبوت تكليفا
أو وضعا والتكليف الفعلي مرتفع عن المنسى بعروض النسيان بملاك استحالة
التكليف بما لا يطاق، فالتكليف مرتفع مع قطع النظر عن الحديث.
قلت: ان ذلك يناقض مع ما مر من القائل من القول بالجزئية المطلقة فيما
إذا كان لسان الدليل لسان وضع، أو لسان تكليف لكن علي وجه الارشاد إلى
الجزئية، وما نقلناه هناك عن القائل نص في امكان جعل الجزئية بالنسبة إلى
الغافل والجاهل ولا يلزم منه التكليف مما لا يطاق بل ذكر (رحمه الله) في موضع
من كلامه، ان البحث عن البراءة الشرعية في المقام فيما إذا ثبت لأدلة الاجزاء
والشرائط اطلاق، بحيث لولاه لما كان للبحث عنها مجال ولكنه زعم في المقام
ان ثبوت الاطلاق في حال النسيان يوجب التكليف بما لا يطاق، ولعله من عثرات
ذهنه أو قلمه الشريف.
ومنها: ما يستفاد من تقريرات العلمين انه ليس في المركب الا طلب واحد
متعلق بعدة أمور متبائنة، وينتزع جزئية كل من انبساط ذلك الطلب إلى الكل.
لا ان جزئية كل مستقلة بالجعل، (فح) رفع الجزئية برفع منشأ انتزاعها وهو
رفع التكليف عن المركب فلا بد من القول بان التكليف مرفوع عن المركب بحديث
الرفع، لتعلق الرفع بمنشأ انتزاع الجزئية ولا يمكن اثبات التكليف لبقية الاجزاء
إذ مع كون الطلب واحدا والمفروض ارتفاعه بارتفاع جزئية المنسى لا معنى لوجوب
البقية الا بقيام دليل خاص.
وفيه: ان رفع الجزئية في حال النسيان ليس معناه رفع الجزئية الثابتة
12

بالأدلة الأولية، رفعا حقيقيا جديا لما عرفت ان ذلك من المستحيل في حقه سبحانه، بل
المراد هو الرفع القانوني بمعنى عدم الجعل من رأس، وان الاطلاق المستفاد من الدليل
انما كان مرادا بالإرادة الاستعمالية لا الجدية وان الناسي والخاطئ لم يسبق إليهما
التكليف في الأزل الا بما عدا المنسى، فالتحديد بالبقية لم يحصل بحديث الرفع، و
انما هو كاشف عن التحديد من حين تعلق الاحكام، وقد تقدم أيضا ان الامر المتعلق
بالمركب له داعوية لكل جزء جزء بعين الدعوة إلى المركب، فلو قام الدليل علي سقوط
الجزئية في بعض الأحوال يفهم العرف من ضمهما، بقاء الدعوة إلى المركب الناقص
والاجزاء غير المنسية من غير فرق بين الجهل بالجزئية ونسيانها فراجع.
ومما ذكرنا يعلم دفع ما ربما يقال: إن
غاية ما يقتضى الحديث هو رفع بقاء الامر الفعلي والجزئية الفعلية حال
النسيان الملازم بمقتضى الارتباطية لسقوط التكليف عن البقية ما دام النسيان، واما
اقتضائه لسقوط المنسى عن الجزئية والشرطية في حال النسيان بطبيعة الصلاة المأمور
بها رأسا، على نحو يستتبع تحديد دائرة الطبيعة في حال النسيان بالبقية، ويقتضي
الامر بالاتيان بها، فلا - بداهة عدم تكفل الحديث لاثبات الوضع والتكليف، لان
الحديث حديث رفع لا حديث وضع.
توضيح الدفع: وان أوضحنا دفعه فيما سبق، ان الوضع ليس بيد الحديث،
وانما شأنه الكشف عن عدم تعلق الإرادة الجدية بالجزء المنسى حال النسيان وان
تعلق به الإرادة الاستعمالية، واما الوضع فالمتكفل له انما هو نفس الأوامر الإلهية
المتعلقة بعناوين المركبات، فالبقية مأمور بها بنفس تلك الأوامر، ومع رفع
الجزئية تكون البقية مصداقا للمأمور به ويسقط الامر المتعلق بالطبيعة وهذا
معنى الاجزاء.
منها: انه لا بد في التمسك بحديث الرفع من كون المرفوع له نحو
تقرر وثبوت فلا يتعلق الرفع بالمعدومات، وان تنالها يد التشريع،
ورفع النسيان لو تعلق بجزئية الجزء يكون من نسيان الحكم لا الموضوع
13

والحال ان المنسى نفس الجزء أي الاتيان به قولا وفعلا، ومعنى نسيانه خلو صفحة
الوجود عنه، فلا يعقل تعلق الرفع به لأنه معدوم، وأيضا ليس محل البحث النسيان
المستوعب ونسيان الجزء في بعض الوقت كنسيان أصل المركب، فكما ان الثاني لا يوجب
سقوط التكليف رأسا كذلك الأول.
وفيه: ان متعلق الرفع أمر وجودي وهو الجزئية حال النسيان الموضوع، ولا
دليل علي اختصاص الرفع على نسيان الحكم بل يعمه ونسيان الموضوع، فالجزء
الذي ثبت جزئيته للمركب بالأدلة الأولية، مرفوع جزئيته حال نسيان الموضوع
فما هو متعلق الرفع انما هو أمر وجودي وهو الجزئية حال نسيان الموضوع،
وكونه غير ناس للحكم وذاكرا له لا يقتضى ثبوت الجزء من حيث نسيان الموضوع
وحديث الرفع يقتضى رفعه من حيث نسيانه للموضوع لا للحكم واما قياس نسيان
الجزء بنسيان أصل المركب فمع الفارق لأنه مع عدم الاتيان بالمركب لا معنى للاجزاء
بخلاف ما لو اتى بما عدى المنسى فان الناقص يصير مصداق المأمور به بعد حكومة
الحديث على الأدلة فالاتيان به يقتضى الاجزاء
المقام الثالث في حال الزيادة العمدية والسهوية
وقبل الخوض في بيانه لا بد من التنبيه على أمر، وهو ان الزيادة في المأمور
به أو المكتوبة لا يتصور عقلا سواء اخذ المركب والجزء لا بشرط أو اخذ كلاهما
بشرط لا، أو اخذا مختلفين، نعم تتحقق الزيادة في المأمور به عرفا واما النقيصة، فهي
تتحقق فيه عقلا وعرفا.
اما النقيصة، فلو كان المركب من ذات اجزاء وشرائط دخيلا في حصول
الغرض فلا ريب ان المكلف إذا أخل بواحد منهما يصدق انه نقص في المأمور به
واما الزيادة في الجزئية أو الشرطية فغير متحققة عقلا لان عنواني الكلية والجزئية
انما تنتزعان من تعلق الامر بالمركب، فينتزع الكلية من تعلقه بالاجزاء مثلا في
لحاظ الوحدة، كما ينتزع من كل واحد الجزئية للمأمور به، فالجزئية من الأمور
الانتزاعية التابعة لتعلق المركب بالكل، (فح) فالزيادة في الجزء بالمعنى الذي
14

عرفت لا يتصور لان الزيادة تنافى الجزئية فلا يعقل الاتيان بشئ معتبر في المركب
ليصح انتزاع الجزئية ومع ذلك يكون زائدا وبالجملة: ان قول زيادة الجزء أشبه
شئ بالمتنافيين في نظر العقل، لان كون الشئ جزءا بالفعل منتزعا منه الجزئية فرع
تعلق الامر به، ومعنى الزيادة عدم تعلق الامر به، فكيف يجتمعان
وان شئت قلت: ان الزيادة في المكتوبة أو المأمور به لا تصدق الا إذا كان
ظرف الزيادة هو المأمور به والمكتوبة، ولا يصدق ذلك الا إذا كان الجزء الزايد
متعلقا للامر حتى يصدق انه زيادة في المأمور به، والا فهو شئ أجنبي واقع بين
الجزئين المأمور به، نعم الزيادة في الجزء ممكنة بالمعنى العرفي فإذا تكرر
الجزء، يصدق على الثاني منه انه زيادة في المركب غير محتاج إليه
واما ما افاده المحقق الخراساني من التفصيل في تحقق الزيادة بين ما إذا أخذ
الجزء لا بشرط فيتحقق الزيادة مع اخذ المركب بشرط لا وما إذا اخذ بشرط لا فان مآله إلى
النقيصة، فليس بشئ لان ما هو الجزء انما هو ذات الركوع وكونه مأخوذا بشرط لا، شرط أو
وصف له، فلو اتى بالجزء (الركوع) يصدق انه زاد في الجزء، وإن كان الزيادة يوجب
ورود النقص لمكان الشرط أيضا، (والحاصل) انه وقع الخلط بين زيادة الجزء
ونقصان الشرط، فالتكرار بذاته زيادة، وباعتبار آخر منشأ للاخلال بقيد الجزء
وشرطه، ولا مانع من كون شئ زيادة ومنشأ للنقصان.
وتوهم ان ما هو الجزء، هو مجموع الشرط والمشروط، فذات الركوع ليس
بجزء فلا يصير تكراره زيادة فيه، مدفوع بان جعل المجموع جزءا لا يقتضى خروج
ذات الركوع عن الجزئية لان جزء الجزء جزء.
ثم إن بعض محققي العصر (رحمه الله) أراد تصوير الزيادة الحقيقية، و
أوضحه بمقدمات ولا بأس بنقل كلامه وتوضيح ما فيه من الخلط قال: الأولى يشترط
كون الريادة من سنخ المزيد عليه، ولا تصدق على الكلام الأجنبي من الصلاة،
الثانية: يعتبر كون المزيد فيه محدودا بحد خاص ولو اعتبارا، الثالثة ان اخذ
شئ جزءا أو شرطا يتصور علي وجوه ثلاثة (أحدها) اخذه جزءا أو شرطا بشرط لا من
15

الريادة في مقام التحقق، (ثانيها) اعتباره لا بشرط من طرف الزيادة بحيث لو زيد
عليه لكان الزائد خارجا عن مهية المركب، لعدم تعلق اللحاظ بالزائد عند اعتباره
جزءا، كما لو اعتبر في الصلاة ذات الركوع الواحد لا مقيدا بشرط عدم الزيادة
ولا طبيعة الركوع، فيكون الركوع الثاني خارجا من حقيقة الصلاة لعدم تعلق
اللحاظ به، (ثالثها) اعتبار كونه جزءا لا بشرط لكن بنحو لو زيد عليه لكان الزائد من
المركب كما لو اعتبر طبيعة الركوع الجامعة بين الواحد والمتعدد لا الركوع الواحد
(فح) لا مجال لتصوير الزيادة على الأول لرجوعها إلى النقيصة وكذا على الثاني
لان الزائد عليه ليس من سنخ المزيد عليه لخروج الوجود الثاني عن دائرة اللحاظ
فيستحيل اتصافه بالصلوئية، واما على الثالث فيتصور الزيادة الحقيقية سواء اخذ
الجزء في مقام الامر بشرط لا أو لا بشرط بالمعني الأول أو الثاني وذلك (على الأولين)
ظاهر لان الوجود الثاني من طبيعة الجزء مما يصدق عليه الزيادة بالنسبة إلي ما
اعتبر في المأمور به من تحديد الجزء بالوجود الواحد حيث إنه يتعلق الامر بالصلاة
المشتملة على ركوع واحد، يتحدد طبيعة الصلاة بالقياس إلى دائرة المأمور به منها
بحد يكون الوجود بالنسبة إلى ذلك الحد من الزيادة لقلب حده إلى حد آخر و
ان لم يصدق الزيادة بالنسبة إلى المأمور به بما هو مأمور به وكذلك الامر على
الأخير إذ بانطباق صرف الطبيعي على الوجود في المتعاقبات يتحدد دائرة المركب
والمأمور به بحد قهرا يكون الوجود الثاني زيادة في المركب والمأمور به فتأمل
انتهى ملخصا.
ولعله (رحمه الله) أشار بالتأمل إلى بعض التأملات التي في كلامه ونحن نشير
إليها اجمالا منها: ان اللا بشرط بالمعنى الثاني أعني اخذ الركوع الواحد، لا
بقيد الوحدة ولا بأخذه طبيعيا، جزءا في المأمور به، مما لا محصل له، لان الوحدة
اما قيد أو لا، فعلى الأول يرجع إلى الاعتبار الأول أعني اخذه بشرط لا وعلى الثاني
يرجع إلى المعنى الثاني من لا بشرط أعني الاعتبار الثالث من كلامه وقد نبهنا في
الجزء الأول من مباحث الألفاظ ان القضية الحينية التي ربما يتخيل انها متوسطة
16

بين المطلقة والمشروطة مما لا أصل له وان اعتمد عليه القائل غير مرة، وتوهم انه يشير
بالركوع الواحد إلى الافراد الواقعية للركوع الواحد التي هي متميزة عن الركوعين في
نفس الامر بلا تقييد بالوحدة، غير تام، لان تميز افراده الواقعية عن غيرها، انما هو لاشتمال
كل فرد عن قيد أو قيود مفقودة في غير الركوع الواحد، والامر إذا أشار بالركوع إلى
تلك الحصة من الطبيعة (على مصطلحه) اما ان يشير إلى حيثية ركوع تلك الافراد الواحدة
فيلزم أن يكون الجزء هو الركوع المقيدة بالوحدة فهذا القسم من اللا بشرط مما لا معنى له
منها: ان الظاهر من كلماته كما صرح به في أواخر كلامه ان ما يعتبر
قبل تعلق الحكم غير ما تعلق به الحكم وبهذا الوجه يريد تصوير الزيادة وهو غريب جدا.
ضرورة ان اعتبار المهية قبل تعلق الحكم لا بشرط ثم تعليق الحكم بها بنحو آخر
أي بشرط لا أو لا بشرط بالمعنى الثاني لغو محض لا يترتب على الاعتبار المتقدم الرجوع اثر
والاعتبار قبل تعلق الحكم مقدمة لتعلقه فلا معنى للاعتبار بوجه ثم الرجوع عنه و
تعلق الحكم باعتبار آخر والجمع بين الاعتبارين غير ممكن للتنافي بينهما
منها انه مع تسليم ذلك لا يتصور الزيادة لان ما يوجب البطلان هو الزيادة
في المكتوبة والزيادة في صلاة المكلف، والموضوع الذي اعتبره قبل تعلق الحكم
ولم يأمر به فلا يكون مكتوبة ولا مرتبطة بالمكلف حتى تكون صلاة له وزيادة.
منها: ان الزيادة المتخيلة لا تكون في المأمور به كما اعترف به ولا يمكن
أن تكون في الطبيعة اللا بشرط لفرضها على نحو لو زيد عليه لكان الزائد أيضا من
المركب فأين الزيادة.
إذا عرفت ذلك: فاعلم: ان الزيادة العمدية فضلا عن السهوية لا يوجب البطلان
مطلقا اما فيما إذا لم يؤخذ عدمها في المركب أو الجزء فواضح لان الفساد انما
ينتزع من عدم تطابق المأتى به مع المأمور به، والمفروض ان الزائد غير دخيل في
المأمور به، وما هو الدخيل فقد اتى به على ما هو حقه، والمفروض ان المولى
لم يقيد المأمور به أو جزئه بعدمها، ومثله فيما إذا كان الزائد شريكا في الداعوية
17

مع الامر مع عدم اخذ عدمه قيدا في المأمور به أو جزئه، فان البطلان لا لأجل
الزيادة بل لنقص ما هو معتبر عقلا في الامتثال من كون الامر مستقلا في الداعوية
واما إذا كان عدمها مأخوذا في المركب أو جزئه فالبطلان مستند إلى النقيصة
لا إلى الزيادة فان القيد بعد لم يحصل وهو واضح.
فتحصل: ان الزيادة مطلقا لا توجب البطلان حتى مع اخذ عدمها في المركب
أو جزئه فإنه يرجع إلى النقيصة، فإذا شك في اخذ عدمه في أحدهما يكون من مصاديق
الأقل والأكثر فالمرجع هو البراءة
التمسك بالاستصحاب لاثبات الصحة
وقد قرر بوجوه: الأول ما افاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في مقامات
كثيرة منها هذا المقام فيقال باستصحاب عدم قاطعية الزائد أو مانعيته بنحو العدم الأزلي
فيشار إلى ماهية الزائد ويقال انها قبل تحققها لم تتصف بالقطعية والآن كما كان.
(وفيه) ما عرفت سابقا من عدم امكان بقاء هذيتها لان الشئ قبل تحققه لم يكن
مشار إليه ولا محكوما بشئ اثباتا أو نفيا، فالماهية قبل تحققها لا شيئية لها حتى
يقال إنها قبل وجودها كانت كذا أو لم يكن كذا وان شئت قلت: لابد في الاستصحاب
من وحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها وليس في السالبة بانتفاء الموضوع
عن حذو ساير القضايا موضوع ومحمول ونسبة حاكية عن الواقع بوجه فاستصحاب
العدم الأزلي لا أصل له، مع أنه على فرض جريانه يمكن ان يدعي انه من الأصول المثبتة
لان اثبات صحة المأتى به باستصحاب عدم اتصاف الزائد، بالقاطعية عقلي بل لعل
سلب قاطعيته للصلاة الموجودة بذلك الاستصحاب أيضا عقلي وفيه أيضا نظار اخر
يطول المقام بذكره.
الثاني: استصحاب عدم وقوع القاطع في الصلاة وتوضيحه: على نحو يتميز
المثبت من غيره يتوقف على بيان أمر: وهو ان الأثر ربما يترتب على كون الشئ متصفة
بصفة خاصة كما إذا قال: صل خلف الرجل العادل، فما هو موضوع للحكم كون الرجل
عادلا وربما يترتب الحكم على المحمول المتقيد بالموضوع كعدالة زيد، كما
18

لو نذر التصدق عند قيام الدليل على عدالته، فلكل من الموضوعين اثر ومقام،
فلو أراد ان يأتم بزيد وشك في كونه عادلا وقت الائتمام أو لا، مع كونه عادلا فيما سبق
فلابد من أن يستصحب كون زيد عادلا، واستصحاب عدالة زيد، لا يثبت كون زيد
عادلا، وقد أوضحنا في رسالة الدماء الثلاثة ان ما هو المفيد هو استصحاب كون المرأة
حايضا، لا استصحاب حيضية الدم، فإنه لا يثبت كونها حايضا.
إذا عرفت هذا: ان المفيد من الاستصحاب استصحاب ما هو موضوع للأثر وهو كون
الصلاة بلا مانع أو الهيئة الاتصالية بلا قاطع، فيستصحب بقائها علي هذه الحالة عند
الشك في طروهما، واما استصحاب عدم وقوع المانع فيها أو عدم وقوع القاطع
في الهيئة الاتصالية لا يثبت كون الصلاة بلا مانع أو كون الهيئة بلا قاطع، نعم قد
احتملنا في الدورة السابقة جريان الاستصحاب في نفس التقييد أي الكون الرابط
وقلنا إن استصحاب عدم تحقق المانع في الصلاة عبارة أخرى عن كونها بلا مانع
الا انه مورد تأمل ونظر كما عرفت وما قويناه أخيرا أوضح وليعلم ان جريان هذا الاستصحاب
في المانع والقاطع لا يحتاج إلي اثبات الهيئة الاتصالية للصلاة، نعم لا يجرى هذا
الاستصحاب فيما يقارن للصلاة من أول وجودها كاللباس المشكوك فيه وانما يجرى
في الطارئ المحتمل أثناء الصلاة.
واعلم: ان هذا الاستصحاب مبنى على أن معنى مانعية الشئ وقاطعيته راجع
إلى اخذ عدمهما في الصلاة بحيث يكون المأمور به هو الصلاة المتقيد بعدمهما كما
هو المعروف في معنى الموانع والقواطع فيجري هذا الاستصحاب وقد ميزت الأصل
النافع عن عدمه واما إذا قلنا بان كون الشئ مانعا أو قاطعا ليس الا كون وجوده مخربا
للصلاة، من دون ان يقع العدم موردا للامر، ومن دون أن يكون مؤثرا في حصول
الغرض كما هو الحال في الموانع التكوينية، فان المؤثر هو النار، لا النار مع عدم
الرطوبة، وانما الرطوبة مخربة وهادمة لاثرها، فلا مجال لهذا الاستصحاب، لان
المأمور به ليس الصلاة المتصفة بلا مانع ولا قاطع بل ذات الصلاة التي لا يجتمع في نفس
الامر مع هذه القواطع والموانع وهو لا يحرز بالأصل، لان نفى أحد الضدين لا يلازم
19

شرعا ثبوت الاخر، وهذا مثل اثبات السكون بنفي الحركة.
واما الكلام في تحقيق معنى المانعية والقاطعية وان مرجعهما إلى اخذ العدم،
أو إلى مخربية وجودهما من دون اخذه، فله مجال آخر فليكن هذا على ذكر منك.
الثالث: استصحاب الهيئة الاتصالية، وهى أمر اعتباري وراء نفس الاجزاء
يكون تحققها من أول وجود المركب إلى آخره فصار المركب بهذا الاعتبار أمرا
وحدانيا متصلة كالموجودات غير القارة كالزمان والحركة، فان كل واحد منهما أمر
واحد ممتد متصل يوجد بأول جزئه وينعدم بآخر جزء منه بلا تخلل عدم بينهما، غير أن
الاتصال هناك حقيقي وفي المقام اعتباري كما لا يخفى.
والمراد من الهيئة الاتصالية غير الوحدة المعتبرة في كل مركب يقع تحت
دائرة الطلب أو في أفق الإرادة، كما ذكرنا في باب الأقل والأكثر، لان الوحدة
تجعل تلك الأمور المختلفة شيئا واحدا يتعلق به أمر واحد، واما السكنات المتخللة
فتكون خارجة عن المركب، واما الهيئة الاتصالية فتجعل تلك السكونات داخلة
فيه، لا على حذو سائر الأجزاء، حتى تكون في عرضها بل هي كخيط ينضم شتات الاجزاء
ويوصل بعضها ببعض فتكون الآتي بالمركب داخلا فيه من أوله إلى آخره حتى
في السكونات المتخللة.
ويدل عليه مضافا إلى الروايات المستفيضة في باب القواطع المعبرة عن كثير
من المفسدات بالقواطع، إذ لولاها لما كان لاستعماله وجه، ارتكاز المتشرعة
الكاشفة عن الحكم الشرعي فترى كل متشرع يصلى، يرى نفسه في الصلاة من
تكبيرها إلى سلامها حتى في السكونات وهذا أوضح دليل على اعتبارها وما
عن بعض أعاظم العصر من الاشكال في ثبوتها في الصلاة لأجل وجوه ذكرها ليس في
محله وقد أوضحنا حال تلك الوجوه في الدورة السابقة وأطلنا المقال حتى بحثنا عن
صحة شرطية أحد الضدين ومانعية الاخر وعدم صحتها، غير انا نكتفي بما عرفت
والتفصيل موكول إلى محله.
واعلم أنه لو قلنا بان مآل المانعية أو القاطعية إلى شرطية عدمهما في المأمور به
20

فلا ينفع بقاء الهيئة الاتصالية، لان بقائها لا يثبت تحقق هذا العدم في المأمور به
فظهر ان هذا الاستصحاب وما سبقه متعاكسان في الجريان وعدمه فتدبر.
الرابع: استصحاب الصحة التأهلية للاجزاء بعد وقوع ما يشك في قاطعيته أو
مانعيته، ومعنى الصحة التأهلية، هو ان الاجزاء السالفة قبل حدوث ما يشك في قاطعيته
ومانعيته، كانت مستعدة للحوق الأجزاء الباقية عليها والأصل بقاء ذلك الاستعداد
وعدم بطلانه لأجل تخلل ما يشك في قاطعيته.
وما افاده بعض أعاظم العصر: من أنه استصحاب تعليقي وان معنى الصحة
التأهلية هو انه لو انضم إليها البقية تكون الصلاة صحيحة وهذا المعنى فرع وقوع
الاجزاء السالفة صحيحة وهذا ما يقطع به فلا شك حتى يجرى الاستصحاب، غير تام
اذاى تعليق فيما ذكرناه وما افاده من أن صحة الاجزاء السالفة مقطوعة، ليس
بشئ لأنه ليس معنى الصحة التأهلية، بل معناه هو الحيثية الاستعدادية المعتبرة
في الأجزاء السابقة لتأهل لحوق البقية وهذا أمر مشكوك فيه.
نعم يرد على هذا الاستصحاب انه لا يثبت الصحة الفعلية، وان بقاء الاستعداد
في الأجزاء السابقة لا يثبت ربط الاجزاء اللاحقة بها الا على القول بالأصل المثبت
المقام الرابع في قيام الدليل على خلاف مقتضى القاعدة
وما ذكرناه في المقام الثاني والثالث من حيث النقيصة والزيادة كان مقتضى
القاعدة الأولية، فلا بأس بعطف عنان البحث عما دل على خلافها فنقول قد دل الدليل
على بطلان الصلاة بالزيادة روايات.
الأولى: كما رواه الكليني باسناده عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله عليه السلام من
زاد في صلوته فعليه الإعادة.
الثانية: ما رواه أيضا عن زرارة وبكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال إذا
استيقن انه زاد في صلوته المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلوته استقبالا إذا كان قد
استيقن يقينا (وسيوافيك الاختلاف في متنه).
وبازائهما القاعدة المفروضة المنصوصة، رواها الصدوق باسناده عن زرارة عن
21

أبى جعفر عليه السلام قال. لا تعاد الصلاة الا من خمس: الطهور والوقت والقبلة والركوع
والسجود ثم قال عليه السلام: القراءة سنة، والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة.
والمهم بيان مفاد الحديثين الأولين وتوضيح نسبتهما مع حديث لا تعاد فنقول
اما ما رواه أبو بصير فالظاهر منه ان مطلق الزيادة في الصلاة والاتيان بها لكن بقصد
انها منها، سواء كانت من سنخ الصلاة كالركعة والركعتين أو من سنخ اجزائها كالسجدة
والركوع والقرائة أو من غيرهما كالتكتف والتأمين، إذا اتى بها بعنوان انها من الصلاة
ضرورة صدق قوله عليه السلام من زاد في صلوته على هذه كلها، نعم لو لم يأت بها بعنوان انها
منها، فلا يصدق انه زاد في صلوته بل أتى بشئ خارجي أثناء الصلاة.
ويدل علي التعميم المتقدم، قوله عليه السلام فيمن أتم في السفر لأنه زاد في فرض الله،
وما ورد من النهى عن قرائة العزيمة معللا بان السجود زيادة في المكتوبة وما ورد في
باب التكتف ووجوب سجدة السهو لبعض الأمور الزائدة.
ثم إن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه استظهر كون متعلق الزيادة في رواية أبي -
بصير هو ما يكون من سنخ الصلاة كالركعة والركعتين قائلا بان الزيادة في المقام من
قبيل الزيادة في العمر في قولك: زاد الله في عمرك فيكون المقدر الذي جعلت الصلاة
طرفا له هو الصلاة، فينحصر المورد بما كان الزائد مقدارا يطلق عليه الصلاة مستقلا كالركعة
مضافا إلى أنه القدر المتيقن من بطلان الصلاة بالزيادة، أضف إليه ان رواية زرارة
وبكير مشتمل على لفظ الركعة انتهى.
وفيه: ان قياس المقام بقوله: زاد الله في عمرك قياس مع الفارق، لان العمر أشبه شئ
بالامر البسيط، لا يقبل الزيادة من غير سنخها وهذا بخلاف الصلاة فإنه عمل مؤلف
من أفعال كثيرة مختلفة، تقبل الزيادة من سنخها وغير سنخها بشرط أن يكون الداعي
هو قصد كونها من الصلاة اعتقادا أو تشريعا، وان شئت فاستخبر الحال من العرف فلو
أمر الطبيب بعمل معجون، وقدر لها اجزاء وشرائط، فلو زاد بعض الاجزاء من مقداره
يصدق انه زاد في المعجون، مع أن الزائد ليس من سنخ المعجون، بل من سنخ بعض اجزائه
نعم يفترق المعجون عن الصلاة بان لو كان الزائد فيه من غير سنخ الاجزاء لا يصدق
22

عليه انه زاد في معجونه وهذا بخلاف الصلاة فلو زاد فيه أمرا من سنخ اجزائه لكن
بقصد انه من الصلاة (كالتأمين) يصدق انه زاد، والسر في ذلك واضح لان باب المعجون
باب التكوين لا يتقوم بالقصد، بخلاف الصلاة فان كون الجزء جزءا صلاتيا قائم
بالقصد، واما تمسكه (رحمه الله) برواية زرارة فسيوافيك الحال فيها.
فان قلت: ما ذكرت من التعميم صحيح الا ان ما ذكرت من الشرط في صدق
الزيادة من الاتيان بالزائد بعنوان كونه من الصلاة (كالتأمين) لا يدل عليه دليل، بل
الدليل على خلافه، فان النهى عن قرائه العزيمة في الصلاة معللا بان السجود زيادة في
المكتوبة ظاهر في عدم شرطية القصد المذكور، لان الآتي بالسجدة من العامة لا
يقصد كونها من الصلاة.
قلت: قد أجاب عنه شيخنا العلامة بان الوجه في ذلك هو اشتراط الصلاة بعدم
السجود للعزائم فيها، و (فيه) ان مرجع ذلك إلى النقيصة لا إلى الزيادة، أضف إلى
ذلك ان مثل السجدة (ح) يكون مثل القهقهة وغيرها من القواطع للصلاة، مع أن
ابطالها ليس لأجل الزيادة، في الصلاة بل لكونها ماحية بصورة الصلاة ومبطلة للهيئة
الاتصالية والحق ان هذا الاستعمال غير مأنوس فلا بد من الاقتصار علي بابه.
توضيح نسبة الرواية مع قاعدة لا تعاد
وقبل بيان النسبة لا بد من توضيح مفاد القاعدة فنقول لا اشكال في أنها منصرفة عن
العمد وان لا مانع عقلا من شموله لامكان أن يكون الاتيان بالخمسة موجبا لاستيفاء
مرتبة من المصلحة مما لا يبقي معها مجال لاستيفائها مع الإعادة مع سائر الأجزاء ولا
يلزم منه محذور كما توهم كما أنه لا اشكال في شموله لنسيان الموضوع والجهل به
جهلا مركبا، واما شمولها للموضوع المجهول جهلا بسيطا أو الحكم المجهول
مطلقا أو لنسيانه ففيه خلاف، وادعي شيخنا العلامة عدم الشمول وأوضح مرامه بمقدمتين
الأولى: ان ظاهر قوله عليه السلام لا تعاد هو الصحة الواقعية وكون الناقص مصداقا
واقعيا لامتثال أمر الصلاة، ويؤيده الأخبار الواردة في نسيان الحمد إلى أن ركع، فإنها
دالة علي تمامية الصلاة وقد قرر في محله امكان تخصيص الساهي بتكليف خاص.
23

الثانية: ان الظاهر من الصحيحة ان الحكم انما يكون بعد الفراغ من الصلاة وان
أبيت من ذلك فلا بد من اختصاصها بصورة لا يمكن تدارك المتروك كمن نسى القراءة
ولم يذكر حتى ركع فتختص بمن يجوز له الدخول في الصلاة ثم تبين الخلل
في شئ من الاجزاء والشرائط، فالعامد الملتفت خارج من مصب الرواية كالشاك في وجوب
الشئ وكذلك الشاك في وجود الشرط بعد الفراغ عن شرطيته فلا يجوز للشاك
في وجوب الحمد مثلا الدخول في الصلاة تاركا للحمد بقصد الامتثال مستدلا بالرواية
(نعم) لو اعتقد عدم وجوب الشئ أو كان ناسيا لحكم شئ من الجزئية يمكن توهم
شمول الصحيحة، لكن يدفعه ما في المقدمة الأولى من أن ظاهرها الحكم بصحة العمل
واقعا، ومقتضاها عدم كون المتروك جزءا أو شرطا، ولا يمكن تقييد الجزئية أو
الشرطية بالعلم بهما بحيث لو صار عالما بعد مهما بالجهل المركب لما كان الجزء
جزءا، نعم يمكن على نحو التصويب الذي ادعى الاجماع علي خلافه.
فظهر ان الأقسام المتوهم وقوعها في الصحيحة بعضها خارج من مصب الرواية
وبعضها خارج من جهة أخرى - الأول مثل الجاهل البسيط بالحكم أو الموضوع
فان الأول يجب عليه التعلم، والثاني مرجعه إلى القواعد المقررة للشاك، والثاني
مثل الجاهل المركب بالنسبة إلى الحكم الشرعي مثل الجزئية والشرطية، فان
الحكم بعدم الجزئية (ح) يستلزم التصويب، والقدر المتيقن هو السهو والنسيان و
الجهل المركب بالموضوع - انتهى كلامه.
وفي كلتا المقدمتين نظر اما الأولى: فلان قوله عليه السلام في ذيل الرواية: وان
التشهد سنة وان القراءة سنة، ولا ينقض الفريضة سنة، ظاهر في أن الوجه في عدم الإعادة
هو ان الفرائض لا تنقضها السنن، وان الصلاة ومع كونها ناقصة الاجزاء والشرائط
مسقط للامر، لاشتمالها على الفرائض، فهي لا تدل على تمامية الصلاة حتى يستلزم
التمامية التصويب في بعض الموارد، بل يدل علي الاكتفاء بالناقص وتقبله عن الكاملة
نعم لا مضايقة بهذا المعنى لكنه لا يفيده ولا ينتج له
واما الثانية: فلخروج العامد والشاك الملتفت وجه لعدم مجوز لدخولهما
24

في الصلاة، واما غيرهما فلا وجه لخروجه مع وجود ال؟ جوز لدخوله، واما التمسك
بالتصويب على تقدير الشمول فغير تام فان التصويب بهذا المعنى بان يختص فعلية
حكم الجزء والشرط بالعالم دون من لم يقم عنده امارة على الجزئية والشرطية
أو قام وحصل له عذر من نسيان حكمه وغير ذلك مع اشتراك الكل في الأحكام الواقعية
مما لم يقم دليل على بطلانه، والتصويب الباطل غير هذا إذ هو نفى الحكم في حق
الناسي والجاهل من رأس، فظهر ان الظاهر شمولها لعامة الأقسام الا العامد والجاهل
الملتفت كما أن الظاهر شمولها للزيادة والنقيصة بمعنى انه لا يختل أمر الصلاة
من جهة الزيادة أو النقيصة الا من قبل الخمسة زيادة ونقيصة وعدم تصور الزيادة في
بعض الأقسام لا يضر بالظهور فالزيادة داخلة في النفي والاثبات.
واما ما احتمله شيخنا العلامة (رحمه الله) من اختصاص القاعدة بالنقيصة
أو بالنقيصة في المستثنى دون المستثنى منه حتى تصير الزيادة في الخمسة
داخلة في المستثنى منه ولا يجب الإعادة في زيادتها وإن كانت يجب في نقصها
بتقريب ان الزيادة بما هي هي ليس مبطلة، بل لأجل شرطية عدمها في الصلاة فلو زاد
في صلوته بتكرار الركوع فقد نقص من صلوته شيئا، وقد عرفت ان الصلاة لا تبطل من
جهة النقيصة الا من خمس، وهذه النقيصة، أعني فقدان العلم المشترط ليس من تلك
الخمس فلا يجب الإعادة من زيادة الخمس، فمدفوع بأنه خلط بين حكم العرف
والعقل، فان الزيادة في المهية بشرط لا مضرة عرفا بما انها زيادة فيها وإن كانت
راجعة إلى النقيصة عقلا فإذا قيل: إن الصلاة أولها التكبير وآخرها التسليم من
غير زيادة ونقيصة تكون الزيادة مخلة بها عرفا من غير توجه إلى أن العقل بحسب
الدقة يحكم بان عدم الزيادة من قيود المأمور به وترجع الزيادة إلى النقصان، كما
يشهد بذلك التعبير في الروايات بالزيادة في المكتوبة، فإذا قيل: لا تعاد الصلاة
الا من خمس يكون ظهوره العرفي ان الزيادة والنقيصة الواردتين عليها من قبل غير
الخمسة لا توجبان الإعادة بخلاف الخمسة فان زيادتها أو نقيصتها مخلة، من غير توجه
إلى الحكم العقلي المذكور.
25

هذا مفاد القاعدة: واما توضيح نسبتها مع رواية أبي بصير فنقول: اما ان
نقول بان كلا من المستثنى والمستثنى منه جملتان مستقلتان، يقاس كل منهما بالنسبة
إلي غيره بعد ورود الاستثناء على المستثنى منه، ولكل واحد ظهوره أو نقول إنهما
جملة واحدة ولها ظهور واحد، بان يكون الحديث كقضية مرددة المحمول فيكون
الملحوظ فيها جميع الأجزاء والشرائط وان اختلف حكمها فتدبر، فعلى الأول
فالنسبة بين مفاد القاعدة في ناحية المستثنى منه وحديث أبي بصير عموم وخصوص من
وجه، لان القاعدة تشمل الزيادة والنقيصة، ولا تشمل الأركان لورود الاستثناء عليه ولا
يشملها المستثنى منه وشمول المستثنى عليها أجنبي عن المستثنى منه لأن المفروض لحاظ
كل واحد مستقلا بعد الاستثناء، وقوله عليه السلام في رواية أبي بصير: من زاد في صلوته الخ يعم
الأركان وغيرها ويختص بالزيادة فيتعارضان في زيادة ما عدا الخمسة أي في زيادة ما ليس
بركن وعلى الثاني فان قلنا: بان رواية أبي بصير عام يشمل العمد وغيره فالنسبة
أيضا عموم من وجه، لان القاعدة تشمل الزيادة والنقيصة، ولا تشمل الزيادة العمدية
كما لا تشمل النقيصة العمدية. والحديث يختص بالزيادة، ولكنه أعم من العمد
وغيره فيتعارضان في الزيادة غير الركنية، وان قلنا بعدم شمول الحديث للزيادة
العمدية كما هو المناسب لوضع المصلى القاصد لافراغ ذمته بل يستحيل اتيانه
بعنوان انه من الصلاة مع العلم بأنه ليس منها فالنسبة عموم وخصوص مطلق فيختص
الحديث بالزيادة ولكن القاعدة تعم الزيادة والنقيصة فتخصص بالحديث وينحصر
مورده بالنقيصة ويكون الزيادة موجبة للبطلان بمقتضى الدليل.
ثم إنه على القول بان النسبة بينهما عموم من وجه بأحد الطريقين فقد اختلف
انظارهم في تقديم أحدهما على الاخر، فربما يقال بتقديم القاعدة على قوله عليه السلام
من زاد في صلوته (الخ) وغيره مما يدل على بطلان الصلاة بالزيادة لحكومته عليها
كحكومته على سائر أدلة الاجزاء والشرائط، واختاره الشيخ الأعظم وغيره تبعا له
فقد قيل في وجه حكومته على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها هذه الأخبار
الدالة على مانعية الزيادة، بان لسان القاعدة هو قصر الجزئية والشرطية
26

والمانعية بغير صورة النسيان ومن المعلوم انه لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم
وان شئت قلت: ان قوله عليه السلام من زاد في صلوته الخ بصدد بيان كون الصلاة متقيدة
بعدم الزيادة فوزانه وزان سائر ما دل على جزئية شئ أو شرطيته أو مانعيته واما القاعدة
فهي ناظرة إلى تحديد دائرة الاجزاء والشرائط والموانع بان الزيادة والنقيصة
لا توجب الإعادة إذا كان عن سهو فهي حاكمة على كل ما دل علي الشرطية و
المانعية والجزئية.
و (فيه) ان ما دل من الأدلة على لزوم الإعادة بالزيادة وإن كان يدل على تقيد
الصلاة بعدم الزيادة أو مانعية الزيادة بوجودها (على اختلاف في معنى المانعية)
الا ان الحكومة قائمة باللسان ولسان الدليلين واحد، فان ميزان الحكومة تعرض
أحد الدليلين لما لم يتعرض له الاخر كما سيوافيك شرحه ومن الواضح ان لسان
لا تعاد ولسان عليه الإعادة واحد وليس أحدهما متعرضا لما لم يتعرض له الاخر.
وان شئت فلاحظ قول القائل في بيان عد اجزاء المأمور به من أن الفاتحة
جزء والسورة جزء، مع قوله عليه السلام من زاد في صلوته، فان الأول بصدد بيان
أصل الجزئية، من غير تعرض لحال تركها أو زيادتها، بخلاف الثاني فإنه متعرض
لحال زيادة الجزء فهو حاكم عليه، كما أن لا تعاد متعرض لحال الزيادة والنقيصة
فلسان الدليلين واحد، والدليلان قد تعرض كل منهما لما تعرض الاخر له وينفى
أحدهما ما يثبته الاخر مع وحدة الموضوع والمحمول ولا بد من العلاج من ناحية أخرى
ويمكن ان يقال إن الوجه لتقديم القاعدة اشتمالها على الحصر المستفاد من الاستثناء
وهو موجب لقوة الدلالة، ولاشتمالها على تعليل الحكم بقوله عليه السلام القراءة سنة
والتشهد سنة ولا ينقض السنة الفريضة، وان شئت قلت إن التعليل مشتمل على
ملاك الحكومة وهو تعرض أحد الدليلين لسلسلة علل الحكم أعني الإعادة، فان
الإعادة بالزيادة انما هو لورود نقص على الصلاة لأجل الزيادة، فإذا قيل لا تنقض
الصلاة لأجل الزيادة، ينهدم علة الإعادة، فهي هادمة لما يوجب الإعادة ومعدمة
لموجبها أعني النقص.
27

فان قلت: تقديم القاعدة على قوله عليه السلام من زاد الخ يستلزم اشكالا
آخر وهو ان الحديث (من زاد) (ح) يختص بالزيادة في الخمسة ومن المعلوم ان
الزيادة لا تتصور في غير السجود والركوع، والزيادة العمدية فيهما على تقدير
شمول الحديث له نادر جدا ومن البعيد تأسيس قاعدة كلية بقوله من زاد في صلوته
الخ لأجل الزيادة في الركوع والسجود لا سيما للزيادة السهوية منهما وهذا عين تخصيص
الأكثر، فالأولى ان يقال إن قاعدة لا تعاد شموله للزيادة ضعيف جدا حتى أنكره
بعض الفحول وادعى ظهوره في النقيصة فتحمل القاعدة على النقيصة حملا للظاهر
على الأظهر فتبقى الزيادة موجبة للبطلان مطلقا في الركن وغيره عمدا كان أو سهوا
قلت: ما ذكر أخيرا من الحمل مخالف لفتاوى الأصحاب، ولا مناص في حل
العقدة عن الالتجاء إلى ما ذكره شيخنا العلامة من حمل الحديث (من زاد) على
زيادة الركون أو الركعة، وان ضعفناه في حد نفسه سابقا فراجع.
حال القاعدة مع قوله (ع): إذا استيقن انه زاد في صلوته
أظن أن بسط القول فيما سبق كاف عن التفصيل في المقام فإنه يجرى فيه ما
أوضحناه في السابق حرفا بحرف غير أن هذا الحديث يختص بأمر آخر كما سنشير.
فنقول: إذا لوحظ المستثنى منه بعد الاستثناء في القاعدة مستقلا بحياله
فالنسبة بينها وبين الحديث عموم من وجه، لان القاعدة لا تشمل الخمسة، وتعم
الزيادة والنقيصة، والحديث يختص بالزيادة ويعم الخمسة وغيرها، وان اعتبر المستثنى منه و
المستثنى أمرا واحدا، فالنسبة بينهما عموم مطلق، لان القاعدة متكفلة لبيان احكام
الاجزاء والشرائط عامة، نقصا كان أو زيادة، ركنا كان أو غير ركن، سهوا كان
أو عن جهل حتى الجهل عن تقصير أيضا بحسب الظاهر مع قطع النظر عن الجهات
الخارجية ولكن الحديث مختص بالزيادة ولا يجرى فيه ما احتملناه في حديث أبي -
بصير من عموميته للعمد، دون القاعدة، لظهور قوله إذا استيقن انه زاد في صلوته
الخ في غير العمد.
28

فعلى الأول يقع التعارض بينهما وقد عرفت حال الحكومة وانه على فرض
صحته موجب للتخصيص الأكثر في ناحية الحديث (إذا استيقن) كما تقدم وعلى الثاني
فتختص القاعدة بالنقيصة ويصير الزيادة السهوية مبطلة، دون النقيصة السهوية،
اللهم الا ان يدعي الاجماع علي وجود الملازمة بين مبطلية الزيادة السهوية ومبطلية
النقيصة السهوية، ولكن الدعوى غير ثابتة مضافا إلى استلزامها (ح) صيرورة القاعدة
بلا مورد أو قريب منه.
والذي يسهل الخطب هو اضطراب الرواية، فقد نقلها في الوافي عن الكافي
والتهذيب والاستبصار بالصورة التي قدمناها أي بغير لفظ " ركعة " لكن رواه
الشيخ الحرفي وسائله مع زيادة ركعة، وكذا رواه (المجلسي) في شرح الكافي
في باب السهو عن الركوع بالسند المذكور لكن باسقاط بكير بن أعين، مع زيادة
لفظ ركعة، وهو (قدس سره) رواه بلا زيادة في باب من سهي في الأربع والخمس
عن زرارة وبكير مع تفاوت يسير في المتن أيضا.
وهذا الاختلاف لا يبقى معه وثوق بالنسبة إلى الرواية، واحتمال انهما روايتان
بعيد جدا والقدر المتيقن منه ان المراد هو زيادة الركعة، ولا يبعد أن يكون
المراد منها هو الركوع كما أطلقت عليه في روايات أخر، والأصل المسلم عندهم عند
دوران الامر بين الزيادة والنقيصة هو أصالة عدم الزيادة، و (عليه) فلا معارضة بين
الحديث والقاعدة.
فاتضح ان طريق الحل هو حمل رواية أبي بصير المتقدمة وهذه الرواية لأجل
هاتيك القرائن أو بعض العويصات على زيادة الركعة أو الركوع فتدبر وراجع
كلام بعض أعاظم العصر فقد أتى بأمر غريب، عند بيان النسبة بينه وبين القاعدة
ولا نطيل بذكره، بل نتعرض لما افاده في تكملة البحث حيث إنه بعد ما بين ما يصدق
عليه الزيادة وما لا يصدق قال ما هذا محصله: ان الظاهر من التعليل في بعض الأخبار
الناهية عن قرائة العزيمة في الصلاة من أن السجود زيادة في المكتوبة انه لا يعتبر
في صدقها عدم قصد الخلاف بل الاتيان بمطلق مسانخ أفعال الصلاة زيادة ولكن
29

يمكن ان يقال إن المقدار المستفاد منه صدق الزيادة على ما لا يكون له
حافظ وحدة، ولم يكن بنفسه من العناوين المستقلة واما ما كان كذلك كاتيان
صلاة في أثناء الظهر فالظاهر عدم اندراجه فيه لان السجود والركوع المأتى بهما
لصلاة أخرى لا دخل لهما بصلاة الظهر، ولا تصدق عليهما الزيادة فيها ويؤيده بل
يدل عليه ما ورد في بعض الأخبار انه لو ضاق وقت صلاة الآيات وخاف المكلف انه
لو اخرها إلى الفراغ عن اليومية يفوت وقتها، صلاها في أثناء الصلاة اليومية، و
يبنى عليها بعد الفراغ من الآيات من غير استيناف، وليس ذلك الا لعدم صدق الزيادة
فيمكن التعدي إلى عكس المسألة باتيان الصلاة اليومية في أثناء الآيات في ضيق
الوقت، فان بطلان الآيات اما للزيادة فالمفروض عدم الصدق واما لفوات الموالاة
فلا ضير فيه إذا كان لأجل واجب أهم، وعلى هذا يبتنى جواز الاتيان بسجدتي السهو من
صلاة في أثناء صلاة أخرى انتهى.
وفيه مواقع للنظر: اما أولا: فلان كون الشئ ذا عنوان مستقل لا دخل له في
صدق الزيادة ضرورة ان العرف يفهم بعد الوقوف على التعليل الوارد في النهى عن
السجود لأجل قرائة العزيمة من أنه زيادة في المكتوبة، ان الاتيان بصلاة تامة مشتملة على
التكبير والسجود والركوع والتشهد والتسليم، أيضا لا يجوز لأنها زيادة في المكتوبة
واما ما قدمناه من أنه يشترط في الزائد الاتيان بها بقصد كونه من الصلاة، فلا تشمل ما
إذا اتى به بغير هذا القصد، فإنما هو مع قطع النظر عن هذا التعليل، واما بناء على الاخذ
بهذا التعليل فهو عام شامل لما اتى به بقصد كونها من الصلاة أولا كان له عنوان مستقل
أولا وثانيا: انه لم يعلم الفرق بين الصلاة وسجدة العزيمة مع أن الثاني له أيضا عنوان
مستقل وله حافظ وحدة، وكلاهما مسببان عن سبب خاص فان السجدة مسببة عن
تلاوة آيتها كالصلاة المسببة عن سببها الخاص، وثالثا: ان التفريق بين سجدة العزيمة
وسجدتي السهو حيث يظهر منه عدم ابطال الثاني دون الأول غير واضح، مع أن الثاني
أولى بالابطال لأنهما أشبه شئ بعدم الاستقلال ومع غض البصر فهما والسجدة العزيمة
سيان في الاستقلال وعدمه، ولكل واحد سببه الخاص ورابعا: ان ما ذكره من التمسك
30

ببعض الروايات من اقحام الآيات في اليومية إذا ضاق وقتها، غير صحيح فان الاخبار
قد وردت في عكس ما ذكره من اقحام اليومية في الآيات إذا ضاق وقتها، ولا يجوز قياس
الآيات بها، لجواز أن يكون للآيات خصوصية يجوز معها اقحام اليومية فيها دون
العكس. وخامسا: ان التعدي إلى عكس المسألة حسب فرضه قائلا بان البطلان
اما للزيادة فلا تصدق بالفرض واما لفوات الموالاة فلا ضير لأهمية الفريضة، غير تام، لان
أهمية الفريضة لا توجب سقوط الموالاة إذا دل الدليل على اعتباره مطلقا بل غاية
ذلك موجب تقديم الأهم على المهم والاتيان به بعد الفراغ من الأهم نعم على فرض
ورود الدليل على طبق ما زعمه لا يبعد الغاء الخصوصية عرفا بالنسبة إلى سائر
الفرائض وأنت خبير ان السبب الباعث لهذه الاشتباهات هو الاعتماد على الحافظة
في نقل الروايات والاستدلال بها من غير مراجعة الأصول والجوامع، وكم وقفنا على
نظائر هذه الاشتباهات من الأعاظم وكان السبب الباعث ما ذكر من الاعتماد على
الحافظة، فلازم على رواد الحقيقة وطلابها ان يراجعوا في كل ما ينقلونه و
يستدلون به من جليل وحقير على المصادر الأولية المؤلفة بيد الاعلام، بل جدير ان
لا يكتفى بالوسائل ونحوه، إذا أمكن الرجوع إلى الجوامع الأربعة.
الاضطرار إلى ترك أحد القيود الوجودية أو العدمية
لو تعذر أحد قيود المأمور به ففي سقوط التكليف عن المركب قولان مبنيان
على ثبوت التقيد مطلقا فيسقط أو في حال التمكن فقط فلا يسقط.
واعلم أنه اما أن يكون لدليل المركب اطلاق دون دليل اعتبار الجزء واما أن يكون
بالعكس واما أن يكون لكلاهما اطلاق، أو لا يكون لواحد منهما اطلاق، فعلى
الأول يجب الاتيان بالمركب المتعذر قيده كما أنه على الثاني يسقط الامر
بالمركب لتعذر قيده المطلق وعلى الثالث فاما أن يكون لاحد الاطلاقين تقدم
على الاخر أو لا فعلي الأول، فاما أن يكون التقدم لدليل المركب، فيجب الاتيان
به ويصير حاله حال ما إذا كان لدليله اطلاق دون دليل الجزء، واما أن يكون التقدم
31

لدليل القيد، فينعكس الحكم فيسقط الامر بالمركب، ويصير حاله حال ما إذا كان
لدليل القيد اطلاق دون دليل المركب.
فان قلت: ان اطلاق دليل القيد حاكم علي اطلاق دليل المقيد كحكومة اطلاق
القرينة على ذيها قلت: مضافا إلى أن تقدم القرائن علي ذيها ليس من باب الحكومة بل
من باب تقديم الاظهر على الظاهر وهو غير الحكومة وسيوافيك بيانه ان دليل المركب
قد يكون حاكما على دليل اعتبار الجزء أو الشرط، كقوله: الصلاة لا يترك بحال إذا
قيس إلى أدلة اعتبار الاجزاء والشرائط من قوله: القراءة جزء والركوع جزء
ونظائره، والحاصل: ان قوله عليه السلام: الصلاة لا يترك بحال حاكم على أدلة
القيود لأنه تعرض لما لم يتعرض له تلك الأدلة وهو مقام الترك المتأخر
عن اعتبارهما وهذا أيضا نحو من الحكومة نعم قد يكون لسان دليل الجزء أو الشرط
حاكما على دليل المركب كما في قوله عليه السلام: لا صلاة الا بطهور ولا صلاة الا بفاتحة
الكتاب، فإنهما حاكمان على ما ذكر وعلى غيره من الأدلة العامة من قوله تعالى
أقم الصلاة لدلوك الشمس. لأنها بعث إلى مهية الصلاة أو زجر عن تركها المفروض
كونها صلاة، وهذان ينفيان كون المركب الفاقد للطهور أو الفاتحة داخلا في
مهية الصلاة.
ثم إنه لا يبعد أن يكون ما ذكرنا راجعا إلى ما نسب إلي الوحيد البهبهاني
من التفصيل على ما حكاه بعض أعاظم العصر، ولا بأس بنقل كلامه وما ذكره من
التوجيه فقال: ان مقتضى اطلاق دليل القيد سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد
مطلقا من غير فرق بين القيود المستفادة من مثل قوله لا صلاة الا بطهور وبين القيود
المستفادة من مثل قوله: اسجد في الصلاة أو لا يلبس الحرير من الأوامر والنواهي
الغيرية وقد نسب التفصيل بينهما إلى الوحيد البهبهاني فذهب إلى سقوط الامر
بالمقيد عند تعذر القيد في الأول دون الثاني ويمكن توجيهه بان الامر الغيري
مقصور بالتمكن من متعلقه لاشتراط كل خطاب بالقدرة عليه فلا بد من سقوط الامر
بالقيد عند عدم التمكن منه ويبقى الامر بالباقي على حاله، وهذا بخلاف القيدية
32

المستفادة من مثل قوله لا صلاة الا بطهور مما يفيد القيدية بلسان الوضع لا التكليف
فلا يشترط فيه القدرة (ولا يخفى ما فيه) لان القدرة معتبرة في متعلقات التكاليف النفسية
لكونها طلبا مولويا وبعثا فعليا، بخلاف الخطابات الغيرية في باب الوضع والأسباب
والمسببات حيث إن مفادها ليس الا دخل المتعلق في حصول المسبب، ففي الحقيقة
الخطابات الغيرية مطلقا بمنزلة الاخبار من دون بعث وتحريك حتى تقتضي القدرة
على المتعلق، ولو سلم الفرق بين الوضعيات والتكليفيات وان الخطاب في الثانية
يتضمن البعث فلا اشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات ملاك البعث المولوي، و
الا لخرجت عن كونها غيرية بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع فالقدرة
معتبرة فيه فلا فرق بين القيدية من مثل لا صلاة الا بطهور والمستفادة من الامر و
النهى الغيري انتهى كلامه.
ولا يخفى ان ارجاع ما ذكره الوحيد إلى ما ذكرنا أولى مما ذكره من
التوجيه مع ضعفه في نفسه (كما سيوافيك بيانه مع بيان ضعف ما اورده عليه) اما
رجوعه إلى ما ذكرنا فواضح فلانه إذا كان لدليل اعتبار الجزء اطلاقا حاكما على
دليل المركب، يصير المركب متعذر الاتيان، لعدم القدرة عليه بشراشر ماله دخل
فيه مطلقا، واما إذا لم يكن لدليل الجزء اطلاقا حاكما لدليل المركب، يكون
مثل قوله عليه السلام: لا يترك الصلاة بحال محكما ومرجعا فيجب الاتيان به.
واما ما افاده من التوجيه والنقد ففي كليهما نظر اما الأول فالظاهر أن غرض
الوحيد ليس هو التفصيل بين الوضعيات والتكليفيات، ولو كان غرضه هذا لكان الأليق
التثميل بالوضعيات بمثال غيرهما مما ليس فيه خصوصية سوى كونه متضمنا حكما
وضعيا، لا بما فيه خصوصية أخرى غير الوضع مما يتضمن نفى الموضوع عند انتفاء
الجزء الذي هو من أظهر وجوه الحكومة على دليل المركب. فتأمل - واما ما افاده
في رد التوجيه فهو أيضا مثل ما سبق، لان ما ذكره من أن الخطابات الغيرية تكون
بمنزلة الاخبار بالجزئية أو الشرطية ولا بعث فيها بوجه، ضعيف غايته، فان الامر
مطلقا للبعث والتحريك نحو المتعلق نفسيا كان أو غيريا، مولويا كان أو ارشاديا،
33

وليس المولوية ملاك البعث، وانما الفرق بينهما من جهة أخرى، وهو ان الغرض من
البعث في النفسي هو الوصول إلى المطلوب الذاتي الذي هو المتعلق، ومن البعث
الغيري، هو دخالته في المطلوب الذي بنحو الجزئية والشرطية.
والحاصل ان الامر مطلقا للبعث والتحريك نحو المتعلق وانكاره خلاف الوجدان
وإن كانت الأغراض مختلفة حسب اختلاف الامر و (عليه) فيشترط في متعلقه نفسيا كان
أو غيريا القدرة بالاتيان به من غير فرق بين انحاء البعث، فما ذكره أخيرا من أنه لا
اشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولى والا لخرجت
عن كونها غيرية، غير تام، لان الملاك في اعتبار القدرة في الأوامر ليس كونها
أوامر مولوية، بل لأجل اشتمالها على البعث والتحريك، والمفروض انه موجود في انحاء
الأوامر عامة، فيجب اعتبارها في الجميع بلا اشكال.
ثم إن محط البحث مورد ان، أحدهما ما إذا لم يكن لكل من دليل المركب
ودليل الجزء اطلاق، ثانيهما: ما إذا كان لكل واحد منهما اطلاق، ولم يكن في أحد
الاطلاقين ملاك التقدم علي الاخر، (فح) يقع الكلام تارة في مقتضى القواعد الأولية والأصل
العقلي واخرى في مقتضى القواعد الثانوية مما دل على خلاف الأولى، فانحصر الكلام في
المقامين واليك بيانهما.
المقام الأول
الحق فيه البراءة من غير فرق بين أن يكون العجز من القيد ثابتا قبل
زمان التكليف كمن بلغ وهو لا يقدر على القراءة أو كان طارئا عليه كمن إذا كان
تمكن أول الوقت عن الاتيان بالعجز لكن طرء عليه العجز أثناء الوقت، أو كان
القدرة والعجز في واقعتين، كمن كان قادرا في الأيام السالفة، وطرء العجز في يومه،
اما جريانها في الأول والثالث فواضح جدا لان مرجع الشك فيه إلى أصل التكليف
اما في الأول فلان الشخص كان قاطعا بعدم التكليف قبل البلوغ، ويشك بعد ما أصبح
مكلفا مع العجز عن الاتيان بالمركب تاما، في أصل الحكم والخطاب، ومثله
34

الثالث، فلان تمامية الحجة في الأيام الخالية، لا تصير حجة للأيام الفعلية فهو في
يومه هذا، شاك في أصل التكليف، واما الثاني فلانه أول الوقت وإن كان مكلفا
بالاتيان بالمركب تاما، لكنه قد ارتفع بارتفاع حكم الجزء وتعذره عقلا بعد
العجز والتكليف بالفاقد مشكوك فيه من رأس فيكون المرجع إلى البراءة.
فان قلت: ما الفرق بين المقام والشك في القدرة حيث إنهما مشتركان في
الشك في أصل ثبوت التكليف لا في سقوطه، مع أن الظاهر من الأكابر هو الاحتياط عقلا في
الثاني مع كون الشك في أصل التكليف.
قلت: ان القدرة ليست من الشرائط الشرعية، بل هي شرط وقيد عقلي،
(فح) فمع الشك في القدرة فالتكليف ثابت من قبل المولى لعدم تقيده بشئ، و
الشك في سقوطه لأجل الشك في كونه عاجزا أو لا ومعه لا مناص عن الاشتغال واما
المقام فالمتيقن منه هو ثبوت الجزئية في حال التمكن، واما حالة العجز فهو يشك
في جزئيته، فالعجز عن القيد معلوم والتكليف بالفاقد مشكوك فيه من رأس مع
القدرة عليه وهذا هو الفرق بين الامرين.
لا يقال: ما الفرق بين المقام وما إذا اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف من
المعلوم اجمالا، حيث إنه يجب الاجتناب عن الطرف الآخر، لحكم العقل بحرمة المخالفة
القطعية مع عدم امكان الموافقة القطعية، فليكن المقام مثله. لأنا نقول: ما ذكرت
قياس مع الفارق لعدم العلم الاجمالي في المقام بل الموجود علم تفصيلي بوجوب الصلاة
تامة، وشك بدئي في وجوب الفاقدة لبعض قيودها هذا كله حال البراءة العقلية، واما
الشرعية، فلا شك في أن حديث الرفع لا يثبت وجوب الفاقدة لبعض القيود إذا لم يكن لدليل
المركب، ولا لدليل اعتبار الجزء والشرط اطلاق، لأنه حديث رفع لا حديث وضع
نعم لو ثبت لكل من الدليلين اطلاق أمكن رفع اطلاق الجزئية والشرطية في حال
الاضطرار، والتمسك باطلاق دليل المركب في وجوب الباقي من الاجزاء، وقد تقدم
غير مرة ان وجوب الباقي واجزائه عن الكامل انما هو بنفس الأدلة الأولية ولذا
اشترطنا وجود الاطلاق لدليل المركب.
35

وبما ذكرنا من أن وجوب الفاقدة بنفس الأدلة الأولية يندفع ما ربما يتوهم
من أن رفع الجزئية في حال الاضطرار منة وايجاب الباقي يعد خلاف المنة، و
الحديث حديث امتنان لا خلافه (وجه الاندفاع) ان الامتنان وخلافه انما تلاحظان في مجرى
الحديث فقط، ورفع الجزئية ليس خلافه، واما ايجاب الباقي فليس مجرى الرفع
بل ولا من لوازمه العقلية والعادية والشرعية بل لازم رفع الجزئية، هو رفع
التعارض واما الدليل المتكفل لايجاب الباقي فإنما هو نفس الاطلاقات الأولية
لأدلة المركب.
هذا كله في الاضطرار العرفي، واما الاضطرار العقلي، فيمكن ان يقال إنه
لا مجرى للحديث لسقوط التكليف عن الكل بحكم العقل غير انك قد عرفت حكاية
ذلك عن بعضهم حيث منع عن التمسك بحديث الرفع عند نسيان بعض الاجزاء
قائلا بان التكليف الفعلي مرتفع عن المنسى بعروض النسيان بملاك استحالة التكليف
بما لا يطاق فالتكليف مرتفع مع قطع النظر عن حديث الرفع - وقد عرفت ضعفه هناك
فلا يفيد هذا كله على القول بجريان حديث الرفع على الاضطرار على الترك، واما على
فرض عدم جريانه فلا، وقد تقدم الحق في ذلك.
المقام الثاني في مفاد القواعد الثانوية في الباب
فالبحث يقع تارة في استصحاب وجوب باقي الاجزاء واخرى في اثبات الوجوب
له ببركة قاعدة الميسور ونظيره كما سيوافيك اما الأول فيقرر بوجوه:
أحدها: استصحاب وجوبه على نحو القسم الثالث من استصحاب الكلى بان
يقال إن الاجزاء الفاقدة لبعض القيود، كانت واجبة بالوجوب الغيري حال وجوب
الكل، وقد علمنا بارتفاعه الا انا نشك في حدوث الوجوب النفسي للباقي مقارنا
لزوال الوجوب الغيري فيستصحب الجامع بين الوجوبين بأنه كان متيقنا وشك في
بقائه، وان شئت فبدل الوجوب الغيري بالضمني بان يقال: إن الباقي من المركب
كان واجبا بالوجوب الضمني حال وجوب الكل وقد وقفنا على ارتفاعهما قطعا لكن
36

نشك في حدوث الوجوب النفسي للباقي مقارنا لزوال وجوبه الضمني فالجامع
بينهما متيقن فيستصحب حتى يثبت خلافه، و (فيه) انه يشترط في جريانه أن يكون
المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي، والجامع بين الوجوبين ليس
موضوعا لحكم شرعي كما هو واضح، ولا هو حكم شرعي مجعول، لان المجعول،
انما هو كل واحد من الوجوبين، اي ما هو فرد للوجوب بالحمل الشايع واما الجامع
بينهما فهو أمر انتزاعي غير مجعول أصلا، فلو حكم الشارع بوجوب الصلاة ووجوب
الصوم، فالجامع بينهما غير مجعول، وما هو المجعول انما هو مصداق الجامع الذي
يعبر عنه بالفرد وما هو الحكم انما هو مصداق الجامع لا نفسه، وان شئت قلت: ان
الجامع بنعت الكثرة حكم شرعي وبنعت الوحدة لم يكن حكما ولا مجعولا فلا يجرى
فيه الاستصحاب، على انك قد عرفت ان اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري مما لا معنى
له واما اتصافها بالنفسي فسيوافيك ضعفه.
الثاني من وجوه تقرير الاستصحاب، هو استصحاب الوجوب النفسي الشخصي
بادعاء ان تعذر بعض الاجزاء مما يتسامح فيه عرفا ولا يصير القضية المتيقنة غير القضية
المشكوك فيها وهذا مثل ما إذا وجب اكرام زيد، ثم قطع بعض أعضائه فشككنا في
بقاء وجوبه، فلا شك ان عدم الاكرام يعد نقضا عند العرف لما علم سابقا. و (فيه) ان قياس
العناوين الكلية بالجزئيات الخارجية قياس مع الفارق، لان العنوان الكلي إذا أضيف إليه
جزء أو قيد يعد مغائرا للكلي الفاقد لهما فالانسان العالم مبائن لمطلق الانسان، والصلاة مع
السورة غير الصلاة بدونها، والماء المتغير غير الماء، الذي ليس متغيرا، واما الأمور الخارجية
فتلك الزيادة والنقيصة لا تصير مبدءا لحصول التبائن بين الفاقد والواجد والسر في
ذلك ان ملاك البقاء في الموجودات الخارجية هو بقاء الشخصية والهذية، وهو حاصل
لدى العرف بزيادة وصف أو ارتفاعه، فإذا تغير الكر، ثم ذهب تغيره بنفسه، فلا شك في
صحة استصحاب نجاسته، لان الموضوع انما هو الماء وهو باق وان شئت قلت: القضية
المتيقنة هي نجاسة ذلك الماء وهى عين القضية المشكوك فيها لبقاء الهوهوية عرفا و
هذا بخلاف العناوين الكلية، غير المتحققة في الخارج، فان ضم جزء أو قيد به، موجب
37

لتبدل الموضوع إلى موضوع آخر:
أضف إلى ذلك: ان ما يقال: من أن تغير بعض الحالات لا يضر بالاستصحاب، انما
هو في الحالات التي علم دخالتها في الحكم في الجملة، ولم يعلم كونها دخيلا فيه حدوثا
وبقاءا أو حدوثا فقط وان شئت قلت: لم يعلم كونها دخيلا على نحو الواسطة في العروض
حتى لا يجرى الاستصحاب أو واسطة في الثبوت حتى يجرى، فلو كان حال القيد المرتفع
مما ذكرنا فلا اشكال انه يستصحب، واما إذا علم كونه دخيلا في الحكم على نحو القطع
وألبت، الا انه تعذر الاتيان به فلا شك انه لا يجرى الاستصحاب لأن المفروض دخالته
في الحكم الشخصي ومع انتفاء جزء من اجزاء المركب، ينتفى الحكم المتعلق به
بالضرورة فلا معني للتعبير عنه بالشك في بقاء شخص الحكم، لان المتيقن مرفوع، وغيره
مشكوك الحدوث.
فان قلت: ما الفرق بين تعذر بعض الاجزاء وما إذا نقص مقدار من الماء الكر،
حيث يجري في الثاني دون الأول ويعد المنقوص من الحالات في الثاني دون الأول
(قلت) فرق واضح بينهما، فان دخالة المقدار المفقود في الكرية مشكوك من
أول الأمر لاحتمال كون الكر هو الباقي، فإذا صدق كون هذا ذاك، فلا مانع من الاستصحاب، واما المقام فقد علمنا ببركة أدلة الجزء دخالته في الحكم الشخصي
من أول الأمر، ومع فقد انه، لا يمكن القول ببقاء الحكم الشخصي الذي كان قائما
بالموضوع المركب، ومن المعلوم ان ارتفاع المركب بارتفاع بعض اجزائه أو
كلها، كما أن ارتفاع حكه بارتفاع موضوعه.
الثالث: استصحاب الوجوب النفسي الشخصي أيضا بان يقال: إن الأجزاء الباقية
غير المتعذرة كانت واجبة بالوجوب النفسي ونشك في بقائه لاحتمال اختصاص
جزئية الامر المتعذر بحال التمكن، فيبقي وجوب الباقي بحاله. وفيه: انه لا يعقل
قيام الوجوب الواحد الشخصي أو الإرادة الواحدة الشخصية بأمرين متغايرين،
تارة بالموضوع التام واخرى بالمركب الناقص، والقول بأنه من قبيل تعدد المطلوب
غير مفيد فان تعدد المطلوب يستلزم تعدد الطلب والإرادة فعلى فرض تعدد المطلوب
38

هنا طلب مستقل وإرادة مستقلة متعلقة بالمطلوب التام لمن يقدر عليه، وطلب
مستقل وإرادة أخرى متعلقة بالمطلوب الناقص لمن لا يقدر على التام منه، ولا يعقل
بقاء الطلب المتعلق بالتام مع فقد جزئه فلا مجال لاستصحاب الحكم الشخصي.
الرابع: استصحاب الحكم الشخصي النفسي أيضا، بان يقال: إن الوجوب
وإن كان أمرا واحدا، الا انه ينبسط علي الاجزاء حسب كثرتها وتعددها، فالامر
المتعلق بالاجزاء له نحو انبساط علي الاجزاء ولأجل هذا الانبساط يكون كل واحد
من الاجزاء واجبا بعين الوجوب المتعلق بالمركب، فإذا زال انبساطه عن الجزء
المتعذر يشك في زواله عن الأجزاء الباقية، فيستصحب بلا مسامحة في الموضوع
ولا في المستصحب.
قلت: قد عرفت ما هو الحق في المقام عند البحث عن الأقل والأكثر، وقد
أوضحنا هناك ان متعلق الأمر الواحد والإرادة الواحدة، ليس الا أمرا وحدانيا، وان
الاجزاء بنعت الكثرة لا يعقل ان تقع مصبا للطلب الواحد، الا ان يصير الواحد كثيرا
أو الكثير واحدا وكلاهما خلف، بل المتعلق للبعث الواحد انما هي نفس الاجزاء
في لحاظ الوحدة والاجمال، وفي حالة اضمحلالها وفنائها في صورتها الوحدانية، لا بمعنى
كون الاجزاء من قبيل المحصلات لما هو متعلق الأمر، بل الاجزاء عين المركب لكن
في حالة التفصيل كما أن المركب عين الاجزاء لكن في لباس الوحدة وصورة الاجمال
فتعلق إرادة أو بعث بالمركب ليس من قبيل تعلق الواحد بالكثير بل من قبيل تعلق
واحد بواحد و (عليه) فالقول بانبساط الإرادة أو البعث الوحداني، على موضوعهما
مما لا محصل له، لان المتعلق (بالفتح) كالمتعلق ليس الا أمرا وحدانيا وإن كانت ذات
اجزاء عند التحليل ولحاظه تفصيلا، ومع لا يصح ان يقال إنه قد علم زوال انبساطه
عن المتعذر وشك في زواله عن غيره، إذ كل ذلك فرع أن يكون المتعلق ذات ابعاض
واجزاء عند تعلق الامر والمفروض ان الامر لا يتعلق بالكثير، بما هو كثير، ما لم
يتخذ لنفسه صورة وحدانية يضمحل فيها الكثرات والابعاض والاجزاء ومع
الاضمحلال لا مجال للتفوه بالانبساط وبذلك يبطل القول بالعلم بارتفاع الوجوب
39

عن جزء والشك في ارتفاعه عن الأجزاء الباقية.
أضف إلى ذلك: انه لو سلمنا كون الوجوب منبسطا على المركب انبساط
العرض على موضوعه، لكن الوجوب المتعلق على الاجزاء تابع لوجوب المركب
والمفروض ان الوجوب المتعلق به أمر واحد شخصي ينتفى بانتفاء بعض اجزائه
وبانتفائه ينتفى الوجوب الضمني التبعي المتعلق بالاجزاء فلا يصير من قبيل الشك
في البقاء كما لا يخفى.
مقتضى القاعدة الجارية في المقام
ربما يقال إن مقتضى ما عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا امرتكم بشئ فأتوا منه ما
استطعتم، وما عن أمير المؤمنين عليه السلام الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله
لا يترك كله، هو الاتيان بالبقية، غير انا نعطف نظر القارئ إلى بيان مفادها مع الغض
عن ضعف اسنادها، فان اشتهارها بين المتأخرين لا يجبر ضعف اسنادها خصوصا العلويين
فإنك لا تجد عنهما ذكرا في كلام المتقدمين، فنقول: اما النبوي فمع قطع النظر
عن صدره الوارد في الحج، فيحتمل وجوها واحتمالات أظهرها انه إذا امرتكم بشئ
سواء كان ذا اجزاء أو ذا افراد فأتوا منه كل ما كان في استطاعتكم
وما عن بعض أعاظم العصر من أن إرادة الأعم توجب استعمال لفظة من في الأكثر
لعدم الجامع بين الاجزاء والافراد، ولحاظ الاجزاء يباين لحاظ الافراد ولا يصح استعمال كلمة
" من " في الأعم وان صح استعمال لفظة " شئ " في الأعم من الكلى والكل، ضعيف، لان كون
كلمة " من " تبعيضية، ليس معناه كونها بمعنى البعض، فإنه باطل بالضرورة، بل الحرف
مستعمل في معناها الحرفي غير أن المدخول ينطبق عليه انه بعض المركب، فليس
معنى قولنا: اكلت من السمكة، انه اكلت بعضها، بل المراد ان السمك ملحوظ أمرا
وحدانيا يكون المأكول مما ينطبق عليه انه بعضها.
وعلى ذلك فغاية ما يتوقف صحة ذلك الاستعمال، ملاحظة الشئ أمرا واحدا
يكون المدخول بالحمل الشايع بعضا منه، وهو كما يصح في الاجزاء كذلك يصح في
40

الطبيعي الذي له افراد، فان كل فرد من الطبيعي وان لم يكن بعضا منه بل عينه و
هكذا الفرد الآخر الا انه مقتضى حكم العقل الدقيق، واما في نظر العرف الساذج
فان الطبيعي عندهم بمنزلة مخزن يخرج منه الافراد، يكون كل فرد بعضا منه،
فيكون منطبقا على التبعيض بالحمل الشايع عرفا.
وان أبيت فالعرف ببابك فان استعمال كلمة " من " التبعيضية في الكلى الذي له
افراد، شايع في العربية وغيرها وأوضح من الجميع انه لو قال القائل: إذا امرتكم
بطبيعة الصلاة فأتوا منها كل فرد يكون في استطاعتكم، لكان قولا صحيحا من دون
استلزامه تجوزا.
فتلخص ان كون " من " تبعيضية، ليس مانعا من حمل الرواية على الأعم، و
ان غاية ما يقتضيه التبعيض، كون المدخول متقطعا مما قبلها بنحو من الاقتطاع،
أو يكون ما قبلها كالمخزن لما بعدها كالكلي بالنسبة إلى افراده وهو حاصل في المقام.
هذا كله مع قطع النظر عما قبله، واما مع ملاحظة صدره، فالظاهر منه إرادة
الافراد، لا الاجزاء ولا الأعم منهما، فان الحديث وارد في حجة الوداع حيث إنه
صلى الله عليه وآله قام خطيبا وقال: ان الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة ويروى سراقة بن
مالك فقال في كل عام يا رسول الله فاعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا فقال
ويحك وما يؤمنك ان أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم ولو -
تركتم لكفرتم فاتركوا مما تركتم، وانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم
إلى أنبيائهم فإذا امرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ
فاجتنبوه.
وجه الظهور: ان اعراضه صلى الله عليه وآله عن الراوي لأجل انه انما سئل عما هو
واضح لدى العقل، وهو انه إذا أوجب المولى شيئا يسقط امره بالاتيان بأول مصداق
منه، ومع هذا لا مجال للاصرار، ويوضحه قوله صلى الله عليه وآله أو يحك ما يؤمنك ان أقول والله
لو قلت نعم لوجب أي لوجب كل سنة، فهو ظاهر في أن حكم العقل أعني الاكتفاء بأول مصداق
منه، محكم ما لم يرد منه خلافه، واما مع الورود فيتبع مقدار دلالة الدليل الوارد
41

(فح) قوله صلى الله عليه وآله إذا امرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، بعد ما تقدمه من السؤال
والجواب، ظاهر من اعطاء الضابطة الكلية، المطابقة لما يحكم به العقل من
السقوط بالاتيان بأول مصداق من الطبيعة إلى أن يأتي بيان ينقضها، وعلى هذا
يصير كلمة " ما " في قوله صلى الله عليه وآله ما استطعتم مصدرية زمانية، أي إذا امرتكم بشئ
فأتوا منه زمن استطاعتكم، لا موصولة حتى يجب كل فرد مستطاع لأنه خلاف سياق
الحديث علي ما عرفت، وبذلك يتضح عدم صحة إرادة المركب، لأنه إذا وجب
علينا المركب، وجب علينا الاتيان بها بكل اجزائه لا بعض اجزائه (فتأمل).
القول في العلويان
اما الأول منهما أعني قوله عليه السلام الميسور لا يسقط بالمعسور ففيه احتمالات
أوضحها ان يقال: إن نفس الميسور لا يسقط بالمعسور، واما احتمال ان المراد ان
حكم الميسور لا يسقط عن عهدته، أو ان حكمه لا يسقط عن موضوعه، أو ان الميسور
لا يسقط عن موضوعيته للحكم فكلها خلاف الظاهر، وانما قلنا إن كون الأول أظهر
فان استعمال كلمة " لا يسقط " يتوقف على ثبوت ما يسقط بنحو من الأنحاء في محل
عال حقيقة أو اعتبارا، فلما كان الطبايع ثابتا بواسطة الامر في عهدة المكلف وذمته التي
هي أمر عال في عالم الاعتبار، كانت الاجزاء ثابتة في ذلك المحل بعين ثبوت الطبيعة ولما
كان سقوط الجزء وتعذره موجبا لتعذر المركب وسقوطه حسب القاعدة الأولية جاء
الحديث نافيا لتلك القاعدة قائلا بان سقوط المعسور لا يوجب سقوط الميسور وإن كان
ملاك عدم السقوط مختلفا، فان الملاك لعدم سقوطه قبل التعذر انما هو الامر المتعلق
بالطبيعة الموجب لثبوتها الذي هو عين ثبوت اجزائها، واما الملاك لعدم سقوطه
بعد التعذر فإنما هو لأجل أمر آخر مستفاد من ذلك الحديث، وهو غير قادح أصلا
فان الاختلاف انما هو في جهة الثبوت لا في أصله، نظير السقف المحفوظ بالدعائم
المختلفة المتبدلة، فالسقف ثابت، وإن كان ما به الثبوت يختلف، كما أن الاجزاء
الميسورة ثابتة وإن كان ما به الثبوت مختلفا فتارة يكون ما به الثبوت هو الامر المتعلق
بالطبيعة التامة، واخرى يكون الامر المستفاد من ذلك العلوي.
42

واردى الاحتمالات هو الأخير وإن كان الجميع غير الأول مشتركا في كونه خلاف
الظاهر، (وجه الأذردئية) ان لفظة السقوط لا يلائم هذا الاحتمال، لما عرفت من أن
تحقق مفهوم السقوط يتوقف على كون الساقط في محل عال، ككون الحكم
بالنسبة إلي الموضوع وهو بالنسبة إلى ذمة المكلف، واما كون سقوط الموضوع
(الميسور) عن الموضوعية فلا يتحقق فيه الشرط المذكور، لان الحكم يسقط عن الموضوع
لا الموضوع عن الموضوعية، الا بتبع سقوط الحكم عن موضوعه، نعم لو كان ارتفاع
الموضوع لأجل موضوعيته لصح ذلك فيه، كما يقال سقط الآمر عن الامارة والمقام
ليس من ذلك القبيل.
واما كون الكل مشتركا في كونه خلاف الظاهر، فان الحكم الذي كان متعلقا
بالميسور قبل تعذره فهو يسقط قطعا سواء قلنا إنه وجوب غيري أو نفسي، والثابت
له بعد تعذره بعض اجزائه، انما هو أمر آخر بملاك آخر فنسبة عدم السقوط إليه
مسامحة موجودة في الاحتمالات الثلاثة، وهذا بخلاف الأول، فان عدم السقوط مستند
فيه إلى نفس الميسور وهو لا يستلزم شيئا من المسامحة.
واما ما ربما يقال: إن المراد من عدم السقوط عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي
أو الاستحبابي لظهور الحديث في ثبوت ما ثبت سابقا بعين ثبوته أولا، الراجع
إلى بقاء الامر السابق، نظير قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك، الشامل للوجوب و
الاستحباب.
فضعيف لان الحكم الوحداني المتعلق بالمركب الثابت بثبوته، كيف يتصور
بقائه مع زواله، والإرادة الشخصية، المتعلقة بالمراد، المتشخصة به، كيف تبقى
بحالها مع زوال ما هو ملاك تشخصه، وقياس المقام بأدلة الاستصحاب مع الفارق،
فان مفادها التعبد بابقاء اليقين عند الشك في بقاء المتيقن، واما المقام فلا شك
في سقوط ما ثبت، وزوال ما كان موجودا، نعم يحتمل في المقام وجود ملاك آخر
يوجب ثبوت البقية في الذمة لكن بأمر آخر وحكم مستقل، وملاك مغاير.
واما ما افاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه تبعا للشيخ الأعظم من التمسك
43

بالمسامحة العرفية فغير وجيه، لان العرف مهما كان متسامحا، لا يرضى أن يقول بان
الوجوب الغيري الثابت سابقا، عين الوجوب النفسي الحادث لاحقا بدليل آخر،
ولو فرض تسامحه إلي هذه المنزلة فسيوافيك ان المسامحات العرفية غير مقبول.
وانما الميزان في المقام هو العرف الدقيق نعم، لا عبرة بالدقة العقلية، كما لا عبرة
بالمسامحة العرفية فانتظر.
ثم إنه يظهر مما ذكرنا اختصاص العلوي بالواجبات إذ لا ثبوت ولا عهدة في
المستحبات الا بوجه آخر، واما تنقيح المناط أو الغاء الخصوصية مع الاعتراف بظهورها
في الواجبات فلا وجه له.
واما العلوي الثاني: فلا شك انه ظاهر في الكل المجموعي وهل يمكن استفادة
حرمة ترك البقية أولا، وجهان مبنيان على تقديم أحد الظهورين من الصدر والذيل على
الآخر، فان الصدر أعني الموصول ظاهر في الأعم من الواجب والمستحب، كما أن
النهى أعني قوله عليه السلام " لا يترك " ظاهر في حرمة الترك، فلا وجه لتقديم الذيل
على الصدر لو لم نقل بان الراجح هو العكس " فيتصرف في الذيل ويحمل على مطلق
المرجوحية، والسر في ذلك ان توجه الذهن إلى الصدر يمنع عن انعقاد ظهور للذيل الا
إذا كان أقوى ظهورا منه حتى ينصرف الذهن عما توجه إليه أولا ولو تنزلنا فلا أقل من
عدم الترجيح.
وما افاده الشيخ الأعظم من أن قوله " لا يترك " كما أنه قرينة على تخصيص الموصول
بغير المباحات والمحرمات، هكذا قرينة على اختصاصه بالواجبات، لا يخلو من
ضعف، فان القرينة على تخصيصه بغير هما انما هو قوله عليه السلام لا يدرك، لاقوله " لا يترك "
فان الدرك وعدم الدرك انما يستعمل في المواضع التي يكون للآمر والمكلف داع إلى
اتيانه، فإذا قال الآمر: " ما لا يدرك كله " يفهم منه ما يليق ان يدرك كله، فيكون
معنى قوله ما لا يدرك كله أي كل راجح يكون للمكلف والآمر داع إلي اتيانه ولم يدرك
كله، فعندئذ لا يترك كله.
44

توضيح محتملات الحديث
الأول: ان يراد من الكل في الجملتين المجموع، لكنه احتمال بدئي
لا يلائم مع مرمي الحديث، فان درك المجموع بدرك جميع اجزائه وعدم دركه يحصل
بعدم درك بعض اجزائه، كما أن ترك المجموع بترك بعض منه، وعدم تركه هو
الاتيان به بماله من الاجزاء عامة، ولو أريد من الكل، المجموع في الموضعين يصير
المعنى، ما لا يدرك جميع اجزائه لا يترك جميع اجزائه وهو ظاهر الفساد.
الثاني: ان يراد من الكل فيهما كل جزء منه فيصير المعنى ما لا يدرك كله
لا يترك كل جزء منه، فهو صحيح وان لم يكن الحديث متعينا فيه (وجه الصحة)
ان مقابل درك كل جزء، هو عدم دركه وهو يحصل بدرك البعض أيضا، كما أن
مقابل ترك كل جزء عدم ترك كل جزء الذي يحصل بعدم ترك البعض، فيصير مفاد
الحديث، ما لا يدرك كل جزء منه لا يترك كل جزئه، ويفهم منه لزوم الاتيان بالبقية
والحاصل: انه فرق بين الاحتمالين، فلو قلنا: لا يترك مجموعه يصير المعنى
انه يجب اتيان جميع اجزائه لان ترك المجموع بترك البعض، والاتيان به باتيان جميع
اجزائه، وهذا بخلاف الاحتمال الثاني فلو قلنا: إنه لا يترك كل جزء منه، فالنهي
يدل على حرمة ترك كل جزء منه على نحو سلب العموم وهو يحصل بالاتيان بالبعض
وما افاده الشيخ الأعظم: من أن لفظ الكل مجموعي لا افرادي إذ لو حمل على
الافرادي كان المراد ما لا يدرك شئ منه لا يترك شئ منه ضعيف، فان الكل إذا ورد
عليه النفي انما هو يفيد سلب العموم، لا عموم السلب وما ذكره من المعنى مبنى على
الثاني دون الأول، وان شئت فلاحظ قولنا: ليس كل انسان في الدار، تجد بينه وبين
قولنا ليس واحد منه فيها، فان الثاني يفيد عموم السلب دون الأول وقد عرف المنطقيون
بان نقيض السالبة الكلية، هو الموجبة الجزئية فنقيض قولنا: كل انسان حيوان
هو ليس كل انسان حيوان، وهو يتوقف على كون بعض الانسان ليس بحيوان،
لاكل فرد منه.
45

وتوهم ان المسلوب لما كان متعددا، فالسلب الوارد عليه متعدد أيضا لمكان
التضايف الواقع بينهما، غير صحيح، فان قولنا: ليس كل انسان حيوان، ليس قضايا
متعددة وسلوبا كثيرة. و (عليه) يبتنى النزاع المعروف بين الشيخ المحقق صاحب
الحاشية والشيخ الأعظم في تعيين المفهوم المستفاد من قوله عليه السلام الماء إذا بلغ
قدر كر لم ينجسه شئ، فان مفهومه على المختار انه إذا لم يبلغ كرا ليس لا ينجسه
شئ ولازمه سلب تلك القضية السالبة الكلية وهو يتحقق بالاثبات الجزئي، وقد
أوضحنا حاله في محله.
الثالث: ان يراد من الكل في الجملة الأولى المجموع، ومن الثاني كل
جزء منها، وهو صحيح بعين ما ذكرناه في الثاني، فمعناه: ما لا يدرك مجموعه ويتعذر
مجموعه، لا يترك كل جزء منه، أي لا يترك بكليته وهذا أظهر الاحتمالات ويساعده
الذوق العرفي.
الرابع: عكس الثالث وهو ظاهر الفساد بعين ما ذكرنا في الأول.
ما هو الشرط في جريان قاعدة الميسور
قد تداول في كلماتهم ان جريان قاعدة الميسور، يتوقف على أن يصدق ميسور
الطبيعة على الباقي عرفا، فلو تعذرت الاجزاء الكثيرة بحيث لا يصدق على الباقي
انه ميسورها ولا يراه العرف من مصاديقها الناقصة، فلا تجرى تلك القاعدة ولا بد
من استفادة ذلك من الأدلة الدالة عليها وما يمكن ان يستدل عليه بأمور:
الأول: النبوي المعروف: إذا امرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، فان
المراد من الشئ هو الطبيعة، كما أن المراد من الموصول هو الافراد سواء كان الفرد
فردا عرضيا أو طوليا، وعليه فمعناه إذا امرتكم بطبيعة ذات افراد فأتوا منها ما
يكون في استطاعتكم، وهو دال بظاهره على أنه يشترط أن يكون المأتى به فرد
الطبيعة وإن كان فرده الناقص بالنسبة إلي المتعذر، فلو كان المفقود معظم
الاجزاء، أو اجزائها الركنية فلا يصدق على المأتى به في نظر العرف انه فرد الطبيعة
لا كاملها ولا ناقصها و (فيه) ما تقدم من أن الظاهر أن كلمة " ما " مصدرية زمانية،
46

لا موصولة فيسقط الاستدلال.
الثاني: قوله عليه السلام: ما لا يدرك كله لا يترك كله، فان المراد من الموصول هو
المركب والمراد من قوله عليه السلام: لا يدرك، انه لا يدرك كل جزء من ذلك المركب
وقد حكم علي الموصول الذي أريد منه المركب، بأنه لا يترك ذلك المركب
بكليته وهو يعطى انه لا بد من الاتيان بالمركب الناقص إذا تعذر الكامل، وهو عين
ما يدعيه المشهور بأنه لا بد من صدق الطبيعة على الباقي الميسور بوجه من الوجوه
وفيه ما عرفت: من أن الاظهر في فقه الحديث ان كل مركب لا يدرك مجموعه أو
كل جزء من اجزائه، انه لا يترك جميع اجزائه بل لا بد من الاتيان بما تيسر من تلك الأجزاء
، لا ما تيسر من ذلك المركب حتى يتوقف على صدق المركب على الباقي،
(والحاصل) ان الفرق بين المعنيين واضح فان النهى عن الترك قد تعلق على المعنى
الأول بالمركب الميسور، وبالاجزاء الميسورة على المعنى الثاني، فالضمير على
الأول في قوله: لا يترك يعود على المركب وعلي الثاني على اجزاء المركب، ولا ريب
انه يصدق جزء المركب على كل جزء منه وإن كان قليلا.
الثالث: قوله الميسور لا يسقط بالمعسور، وهو يحتمل في بادي النظر
وجوها أربعة:
الأول: ان ميسور الطبيعة لا يسقط بمعسورها، الثاني: ان الاجزاء الميسورة
من الطبيعة لا يسقط بالمعسور من اجزائها، الثالث: ان الطبيعة الميسورة لا يسقط
بالمعسور من اجزائها، الرابع: عكس الثالث، فعلى الأول والثالث يدل علي
المقصود وانه لا بد أن يكون المأتى به صادقا عليه الطبيعة بوجه من الوجوه ولا يبعد أظهرية
الاحتمال الأول، ويمكن: ان يقال المتيقن من الحديث هو ميسور الطبيعة المأمور بها.
ثم إن المرجع في تعيين الميسور، هو العرف بلا اشكال فإنه المحكم في عامة
الموضوعات سواء كان الموضوع عرفيا أو شرعيا، فان الموضوع للقاعدة هو الطبايع
المأمور به، ولا اشكال ان العرف واقف على حقيقة الامر في هذه الميادين حيث يشخص
انه الميسور من الطبيعة عن غيره فيعد الجبيرة في بعض الاجزاء ميسورها، كما
47

انه لا يعد الجبيرة في معظم الاجزاء ميسورها من غير فرق بين الموضوعات العرفية
والشرعية فما عن البعض من التفصيل بينهما غير وجيه.
وما يقال من أن المراد من الميسور، ما يكون وافيا بالغرض أو بعضه وهذا
لا يقف عليه العرف ضعيف مثل ما يقال من أنه لا يجوز الاتكاء على القاعدة
لكثرة التخصيصات الواردة عليها فلا بد ان يضم إليه عمل المشهور حتى يكون
جابرا لضعف دلالته.
اما ضعف الأول فلانه لا دلالة في الحديث على ما ذكر، واطلاقه حاكم على
خلافه ولا وجه للمصير إليه بلا داع فيكون كل ما ورد على خلافه مخصصا له واما الثاني
فلانه انما يصح لو قلنا بعمومية الحديث للواجب وغيره، واما على ما اخترناه
من اختصاصه بالواجبات بقرينة عدم تحقق العهدة في غيرها واختصاصه بما إذا كان
الباقي لدى العرف ميسور الطبيعة لا مطلقا فلا أظن ورود التخصيصات الكثيرة عليه
إذ لم يرد عليه تخصيص في الحج والصلاة، واما الصوم فلا يتحقق فيه الميسور و
المعسور فإنه ظاهرا أمر بسيط وضعي تكون المفطرات مفسداته، فلا يعد من
الطبيعة إذا اجتنب عن مفسداته مع شرب الماء القليل، نعم قلنا بعموميته للواجب
وغيره، وما هو ميسور الطبيعة وما ليس كذلك بل اكتفينا بميسور الاجزاء لكان
لما توهم مجال.
في شرائط جريان الأصول
اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شئ بل هو حسن على كل حال الا ان يستلزم
اختلال النظام، واما ما توهم من الاشكالات في صحة العمل بالاحتياط فقد فرغنا
عن بعضها في مبحث القطع فلا بأس بالإعادة على وجه الاختصار لما فيه من الإفادة
فنقول ان مرجع بعض الاشكالات إلى مطلق الاحتياط، وبعضها إلى الاحتياط في أطراف
العلم الاجمالي، وبعضها إلى الاحتياط فيما قامت الامارة على خلافه كأن قامت الامارة
على وجوب الجمعة، فالمكلف يأتي بها وبالظهر أيضا.
اما الاشكال على مطلق الاحتياط: فربما يقال: إن الإطاعة عبارة عن انبعاث
48

العبد ببعث المولى، لعدم صدق الإطاعة على غير ذلك وان شئت قلت: الإطاعة عبارة
عن كون امره داعيا إلى الاتيان بالمأمور به وصيرورة العبد متحركا بتحريكه،
والمحرك في الشبهة البدئية ليس امره وبعثه، بل احتمال امره وبعثه سواء كان في
الواقع أمر أم لا، وما هو الموضوع لانبعاثه ليس الأنفس الاحتمال من غير دخالة
لمحتمله في البعث والشاهد عليه انبعاثه وان لم يكن في نفس الامر بعث.
وبعبارة أخرى: ان الباعث انما هو الصورة الذهنية من الامر القائم
بالنفس، من غير دخالة لوجودها الواقعي في الانبعاث، وهذا لا يكفي في تحقق
الإطاعة.
أقول: مر الايعاز إلي هذا الاشكال في مبحث القطع وأوضحنا حاله هناك
وقد فصلنا الكلام في دفعه في الدورة السابقة ولأجل ذلك نكتفي في المقام بما
يلي: ان الإطاعة والعصيان من الأمور العقلائية ولا يتوقف تحقق الإطاعة على كون
انبعاثه عن امره وبعثه، بل يكفي في ذلك أن يكون العبد آتيا بالشئ لأجله تعالى
متقربا بعمله، راجيا الوصول إلى أغراضه، وهو محقق مطلقا سواء كان عالما بالامر
أو محتملا والحاصل: ان عبادية العبادة لا يتوقف على ما ذكره بل يكفي ما ذكرنا
على أن الانبعاث مطلقا ليس من امره، فان علة الانبعاث انما هو المبادى
الموجودة في نفس المطيع من الطمع في رضوانه، والخوف من ناره وعقابه واما الامر، فليس
له شأن سوى انه محقق لموضوع الإطاعة.
على أن المنبعث عن احتمال الامر أولى بكونه مطيعا ممن لا ينبعث الا عن
الامر القطعي فان الانبعاث عن احتماله كاشف عن قوة المبادى الباعثة إلى الإطاعة في نفس
المطيع من الاقرار بعظمته والخضوع لديه هذا ولا أظن أن المقام يحتاج إلى أزيد من هذا
علي ان مساق الاشكال كونه واردا على مطلق الاحتياط بحيث يعم أطراف العلم
الاجمالي، ولكنك عرفت في مبحث القطع ان الباعث إلى الاتيان بالاطراف انما هو البعث
القطعي التفصيلي المردد بين تعلقه لهذا أو ذاك والاجمال انما هو في المتعلق فراجع.
اما ما يختص بالاحتياط في أطراف العلم الاجمالي: فمنه ما يختص بصورة
49

التكرار، ومنه ما يعم، اما الأول: وهو الاحتياط بتكرار العبادة مع التمكن
من العلم التفصيلي، فهو لعب بأمر المولي، وتلاعب بتكاليفه ودستوراته، ومعه كيف
يتحقق الإطاعة والعبادة.
أقول مر البحث حول هذا الاشكال في مبحث القطع ونعيد الجواب في المقام
ان غرض المكلف من الاحتياط بالتكرار إن كان سخرية المولى والتلاعب بأمره دون
الجمع بين المحتملات فهو خارج عن محل البحث، فان عمله (ح) باطل من غير فرق
بين العلم التفصيلي والاجمالي، واما إذا فرضنا ان غرضه الامتثال وإطاعة مولاه،
غير أنه يترتب على تكرار العبادة غرض عقلائي، فنمنع كونه موجبا للبطلان،
بل قد قلنا في محله انه لو كان قاصدا للإطاعة في الاتيان بأصل العمل، ولاعبا في
في كيفيته فيصح عبادته فلو صلى في رأس المنارة أو في مكان عال قاصدا الإطاعة
في أصل العمل ولاعبا في كيفيته، فهو محكوم بالصحة لكونه من الضمائم المباحة
غير المضرة، فلو كانت الضمائم المباحة موجبا للبطلان، يلزم بطلان أكثر العبادات
إذ قلما يتفق أن يكون العبد آتيا بجميع الخصوصيات لأجل مولاه، والحاصل انه
يكفي في الصحة أن يكون المحرك في الاتيان بأصل العمل، الداعي الإلهي، واما
الخصوصيات والضمائم الخارجة عن مصب الاحكام، فلا يجب أن يكون آتيا بها لأجله
ولا يضر إذا كان آتيا بها لأغراض عقلائية أو غير عقلائية على أن التكرار ليس من
الضمائم كما هو واضح لمن تدبر، واما الضمائم المحرمة فالبحث عنها وعن بيان حكمها
في محل آخر.
واما ما يعم صورة التكرار وعدمه فهو انه يعتبر في صحة العبادة قصد الوجه
والجزم في النية: وهو لا يحصل الا مع العلم التفصيلي و (فيه) انه لا دليل عقلا ولا
شرعا على اعتبار قصد الوجه أو الجزم في النية، اما الأول فلان الامر لا يدعو المكلف
الا إلى ما تعلق به، أعني ما وقع تحت دائرة الطلب، فلو أتى المكلف به كالصلاة
اتى بعامة اجزائها من التكبير إلى التسليم يسقط الامر بها، والمفروض ان قصد
الوجه أو الجزم في النية ليسا مما تعلق بهما الامر، نعم قام الاجماع على لزوم قصد
50

التقرب والاخلاص فلا بد من مراعاته، واما غيره فلا وأوضح دليل على عدم اعتباره
عقلا ان العقلاء لا يفرقون بين من ينبعث بالامر القطعي ومن ينبعث باحتماله.
واما الثاني: فالمتتبع في مظان الأدلة لا يجد اثرا منها في محالها والاجماع
المدعى من أهل المعقول والمنقول، المؤيد بالشهرة المحققة المعتضدة بما عن
الرضى من أنه اتفقت الامامية على بطلان صلاة من لا يعلم احكامها، لا يرجع إلي
شئ لان من المحتمل جدا أن يكون الاجماع مستندا إلى حكم العقل الواضح
عندهم من لزوم اعتبار قصد الوجه والجزم في النية، لان تحصيل الاجماع في هذه
المسألة مما للعقل إليها سبيل، صعب لو لم يكن بمستحيل، ويؤيده المحكى عن
المحقق الطوسي من الاجماع على أن استحقاق الثواب في العبادة موقوف على نية
الوجه مع وضوح ان كون استحقاق الثواب مسألة عقلية لا شرعية.
أضف إلى ذلك أنه يمكن قصد الوجه في الشك البدئي والمقرون بالعلم
الاجمالي، نعم الجزم في النية غير ممكن الا مع العلم التفصيلي.
الاحتياط فيما إذا كانت الحجة الشرعية على خلافها.
ربما يقال إنه يعتبر في الاحتياط فيما إذا قامت الحجة الشرعية على أحد
الطرفين ان يعمل المكلف بمؤدى الحجة، ثم يعقبه بالعمل على خلاف مقتضاه
احرازا للواقع، نعم فيما إذا لم يستلزم التكرار، له ان يأتي بالواجب،؟ - عامة اجزائه
الواجبة والمحتملة، والسر فيه: ان معنى حجية الطريق هو الغاء احتمال كون
مؤداه مخالفا للواقع، فلو قدم في مقام العمل على ما قامت الحجة على خلافه، فهو
اعتناء لاحتمال المخالفة لا الغاء، وأيضا انه يعتبر في حسن الإطاعة الاحتمالية عدم
التمكن من الإطاعة التفصيلية فان للإطاعة مراتب عقلا الأول: الامتثال التفصيلي
الثاني: الامتثال الاجمالي، الثالث: الامتثال الظني، الرابع: الامتثال الاحتمالي
ولا يجوز الانتقال من المرتبة السابقة إلى اللاحقة الا بعد التعذر عن السابقة، لان
حقيقة الإطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحركه
عن تحريكه، وهذا يتوقف على العلم بالبعث، ولا يمكن الانبعاث بلا بعث واصل
51

والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثا فلا تتحقق معه الإطاعة الا انه
يتوقف حسن ذلك على عدم التمكن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة
العبادة والطاعة
وفيما ذكر مواقع للنظر: منها: انه ان أريد من الغاء احتمال الخلاف عدم
جواز العمل على الاحتمال المخالف ولو من باب الاحتياط، فهو أول الكلام وان
أريد لزوم العمل علي طبقها، وفرض مؤداه مؤدى الواقع، فهو أمر مسلم ولكن
لا يفيد ما استنتج منه القائل كما لا يخفى، واما عدم جواز الاكتفاء بالاحتمال المخالف
فليس ذلك لأجل عدم جواز العمل بالاحتمال المخالف، بل لأجل كونه طردا
للامارة المعتبرة شرعا.
منها: لو سلمنا ان معنى الغاء احتمال الخلاف عدم جواز العمل على طبق الاحتمال
المخالف فالعمل على طبقه عين الاعتناء بهذا الاحتمال، سواء عمل به قبل العمل بمؤدى
الامارة أم بعده، لزم منه التكرار أولا، فلا وجه للتفصيل بينهما كما لا يخفى الا ان يدعى
ان الأدلة الدالة على لزوم الغاء احتمال الخلاف منصرف عن الموردين وهو كما ترى،
وما قيل من أن العقل يستقل بحسن الاحتياط بعد العمل بالوظيفة، حسن لكنه مستقل
مطلقا لأجل احراز الواقع من غير فرق بين الصور.
منها: ان ما ذكره من حديث المراتب في الإطاعة مما لا دليل عليه فان العقل
انما يستقل بوجوب الاتيان بتمام ما وقع تحت دائرة الطلب، مع جميع قيوده و
شروطه، سواء اتى به بالامر القطعي أو باحتماله، فلو احتمل وجوب الجمعة مع
التمكن عن العلم التفصيلي واتى بها باحتمال الامر صح لو وافق المأتي مع المأمور
به، وما افاده: من أن الإطاعة هو انبعاث العبد عن بعث المولى، وهو لا يحصل الا
بالعلم التفصيلي، ممنوع، إذ فيه أولا: ما قدمناه من أن الباعث حقيقة هو المبادى
الموجودة في نفس المكلف من الخوف والرجاء واما الامر فليس له شأن سوى كونه
محققا لموضوع الطاعة وثانيا: لا يتوقف عبادية الشئ على الامر فضلا عن باعثيته،
إذ ليست الغاية إطاعة أمر المولى، حتى يتوقف على ما ذكر، بل الغاية كون المأتى
52

به موافقا لغرضه بماله من القيود والشروط، سواء أمر به أم لم يأمر كما إذا لم
يأمر لغفلة لكن لو توجه لأمر به، كانقاذ ولده الغريق، فان القيام بهذا الامر مقرب ومستوجب
للثواب، ونظيره لو سقط أمر الضد، لابتلائه بالمزاحم الأقوى على القول بامتناع
الترتب، وثالثا: يمكن ان يقال إن الآتي بالشئ لاحتماله امره يصدق عليه الإطاعة
عرفا لان الباعث على أي حال ليس هو الامر كما تقدم، والمبادئ الباعثة موجودة
في عامة الصور فالمسألة واضحة.
في شروط البراءة العقلية
اما الشبهات الحكمية فشرط جريانها فيها هو الفحص واستدلوا عليه بالأدلة
الأربعة فمنها العقل ويقرر حكمه في المقام بوجوه.
الأول ان تمام الموضوع لحكمه في قبح العقاب بلا بيان وإن كان هو البيان
الواصل إلى المكلف، إذ نفس وجوده في نفس الامر بلا وصول منه إليه لا يرفع قبحه
الا ان المراد من الايصال ليس الا الايصال المتعارف بين الموالى والعبيد، ورئيس الدولة
وتابعيها، أعني الرجوع إلى المواضع والمحال المعدة لبيان القوانين والاحكام،
التي شرعها صاحبها لمن يجب له اتباعها والعمل بها، وهو يختلف حسب اختلاف
الرسوم والعادات، والأمكنة والأزمنة وليس هو اليوم الا الكتب والزبر الحاوية
لبيان المولى وأمره ونهيه.
وقد جري رسم المولى سبحانه على ابلاغ احكامه بنبيه صلى الله عليه وآله وهو قد بلغ
إلى أوصيائه وهم قد بلغوا ما أمروا به حسب وسعهم، وقد ضبطها ثلة جليلة من
أصحابهم، وملازميهم، ومن يعد بطانة لعلومهم واسرارهم وقد بلغ تلك الزبر
الكريمة والصحف المباركة عن السلف إلى الخلف بأيدينا، فمن الواجب علينا
الرجوع إليها للوقوف على وظائفنا، فلو تركنا الفحص والتفتيش، لسنا معذورين
في ترك التكاليف، فلو عاقبنا المولى، لا يعد عقابه عقابا بلا بيان.
وربما يورد عليه: بان الأحكام الواقعية انما يتصف بالمنجزية إذا كانت متصفة
بالباعثية والمحركية، وهى لا تتصف بالباعثية بوجودها الواقعي بل بوجودها العلمي
53

لا الاحتمالي، لأنه ليس كاشفا عن الواقع قطعا، فإذا توقفت باعثية الاحكام على كونها
منكشفا انكشافا تاما، توقفت منجزيتها عليه إذ الواقع بنفسه ليس بمنجز ولا باعث
بل هو باعث وكاشف لدى العلم وانكشافه، وعليه فاحتمال التكليف ليس باعثا و
لا منجزا، كما أن احتماله، ليس مساوقا لاحتمال الباعث والمنجز لما عرفت ان
الباعثية والمنجزية انما يعرضان له عند الوقوف على التكليف لا قبله، (فح) فاحتمال
وجود التكليف في المواضع المعدة للبيان، ليس بباعث ولا منجز ومعه كيف يجب
الفحص، فان وجوبه فرع الباعث والمنجز واحتماله ليس مساوقا لاحتمال المنجز
وفيه: ان ما ذكر مغالطة محضة إذ فيه مضافا إلى ما عرفت ان الباعث والمحرك
ليس الا مبادئ الحاصلة في نفوس المكلف حتى في صورة العلم كما وافاك تفصيله، ان
في المقام فرقا بين المنجزية والباعثية، فان تنجز الحكم كفعليته، لا يتوقف على
العلم به، فان معنى التنجز ليس الا كون الحكم تاما من قبل المولى، قابلا للاجراء
وكون مخالفتها موجبا للعقاب والمفروض حصول هذه الأمور من قبله، سواء
اتصفت بالباعثية أم لا والعقل يحكم بان العبد ليس معذورا في مخالفة المولى،
إذا بين تكاليفه في صحيفة واقعة بين لديه، وليس له الاعتذار بان التكليف ليس.
بوجوده الواقعي باعثا ومنجزا ولا داعى إلى تحصيل الكلفة، فنفس الاحتمال منجز
لدى العقل والعقلاء، على أن لازم ذلك عدم اتصافه بالتنجز إذا بلغه التكليف عن
طريق معتبر غير العلم، فان التكليف الواقعي ليس بباعث فليس بمنجز، ومجرد
معلومية الامارة لا يوجب انكشاف التكليف عقلا حتى يتصف لأجله بهما، مع أنه
واضح البطلان.
الثاني: من وجوه حكم العقل - ما افاده بعض الأعيان المحققين (قدس الله
سره) وهو ان الاقتحام قبل الفحص خروج عن رسم العبودية وزي الرقية فيما
إذا كان التكليف لا يعلم عادة الا بالفحص، فالإقتحام بلا فحص ظلم على المولى، و
الفرق بين هذا الوجه وما سبق، هو ان العقوبة على الوجه السابق انما هي على
مخالفة التكليف الواقعي المنجز، وعلى الثاني على الاقدام بلا فحص، لأنه بنفسه
54

ظلم، وملاك لاستحقاق العقوبة سواء خالف الواقع أو لا كما في التجري، فمناط
صحة العقوبة هو تحقق عنوان الظلم لا مخالفة التكليف الواقعي حتى يقال إنها قبيحة
بلا بيان، فعقاب المولى عبده على مخالفة التكليف الواقعي قبيح وظلم، كما أن
اقدام العبد أو تركه بلا فحص ظلم على المولى، ولكل حكمه، (نعم)
التحقيق ان الظلم لا ينطبق على الاقدام بل على ترك الفحص عن التكليف الذي
لا يعلم عادة الا به.
وفيه: ان عنوان الظلم لا ينطبق على عنوان ترك الفحص بالذات ولو انطبق
عليه فإنما هو بلحاظ احتمال المخالفة، ولو سلمنا (كما هو المفروض) جريان قبح
العقاب بلا بيان وان التكليف الواقعي على فرض وجوده غير مؤثر، وان العبد في
سعة منه، فلا معنى لانطباق عنوان الظلم عليه، والحاصل: ان العقل بعد ما حكم
بعدم القبح في مخالفة التكليف الواقعي على فرض وجوده، فلا يصير ترك الفحص
منشاءا لانطباق عنوان الظلم عليه، إذ لا معنى ان يصير التكليف الذي لا قبح في مخالفته
منشاءا لتحقق عنوان الظلم والتجري، وما افاده من أن لكل من مخالفة التكليف
الواقعي وترك الفحص حكمه، ممنوع بعد ما عرفت ان تحقق عنوان الظلم
متفرع على كون الواقع منجزا، وما ليس منجزا، لا قبح في مخالفته فليس في
ترك فحصه ظلم.
ومما ذكرنا يظهر النظر فيما افاده: من أن الظلم لا ينطبق على الاقدام بل
على ترك الفحص، لان ترك الفحص ليس ظلما مع الاحتياط في مقام العمل، فان
الفحص وعدمه لا موضوعية لهما، وانما الفحص لأجل التحفظ علي الواقع، بل الظلم
ينطبق على الاقدام المحتمل كونه مخالفة للمولى.
الثالث من وجوه حكم العقل: ان المكلف الواقف الملتفت يعلم اجمالا
بالضرورة بان للمولى سبحانه تكاليف وواجبات ومحرمات يطلبها منه ولا يرضى
بتركه، ومع هذا العلم الاجمالي يصير المقام من الشك في المكلف به وهو ليس
مجرى للبرائة، وانما مجراه هو الشك في التكليف.
55

وفيه ان البحث في شرائط جريان البراءة بعد تسليم كون المقام مجري لها
وتسليم ان الشك فيه شك في التكليف لا في المكلف به، فالاستدلال بما ذكر خروج
عن موضوع البحث.
نعم نوقش فيه بوجهين: الأول: بأنه أخص من المدعى، فان المدعى وجوب
الاستعلام عن المسائل، كان هنا علم اجمالي أم لا، والدليل يوجب الفحص قبل
استعلام جملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه، لانحلال
العلم الاجمالي بذلك الثاني: انه أعم منه لأنه هو الفحص عن الاحكام في خصوص
ما بأيدينا من الكتب، والمعلوم بالاجمال هو الأحكام الثابتة في الشريعة مطلقا،
والفحص عن تلك الكتب لا يرفع اثر العلم الاجمالي.
وناقش بعض أعاظم العصر في الوجهين، فقال: اما في الوجه الأول فان استعلام
مقدار من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم فيها لا يوجب الانحلال إذ متعلق العلم
تارة يتردد من أول الأمر بين الأقل والأكثر كما لو علم بان ما في هذا القطيع من الغنم
موطوء وتردد بين العشرة والعشرين، واخرى يكون المتعلق عنوانا ليس بنفسه
مرددا بين الأقل والأكثر من أول الأمر بل المعلوم وهو العنوان بماله من الافراد
الواقعية كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع وترددت بين العشرة والعشرين
ففي الأول ينحل العلم الاجمالي دون الثاني فإنه لا ينحل بالعلم التفصيلي بمقدار
يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه بل لا بد من الفحص التام عن كل محتمل لان
العلم يوجب تنجز متعلقه بماله من العنوان، وما نحن فيه من هذا القبيل لان المعلوم
بالاجمال هي الاحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ولازم ذلك هو الفحص التام
الا ترى انه ليس للمكلف الاخذ بالأقل لو علم اشتغاله لزيد بما في الطومار وتردد بين
الأقل والأكثر بل لا بد له من الفحص من الطومار، كما عليه بناء العقلاء وما نحن
فيه من هذا القبيل واما في الوجه الثاني: فلانه وان علم اجمالا بوجود احكام في الشريعة
أعم مما بأيدينا من الكتب، الا انه يعلم اجمالا ان فيما بأيدينا أدلة مثبتة للأحكام
مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها، فينحل العلم الاجمالي
56

العام بالعلم الاجمالي الخاص ويرتفع الاشكال ويتم الاستدلال بالعلم الاجمالي بوجوب
الفحص " انتهى كلامه ".
وفيما ذكره مواقع للنظر: منها: انه لا فرق في الانحلال بين تعلق العلم
بشئ يتردد من أول الأمر بين الأقل والأكثر، وما إذا تعلق العلم بعنوان ليس
بنفسه مرددا بينهما من أول الأمر بل المعلوم هو العنوان بماله من الافراد الواقعية
لكن الافراد ترددت بينهما (وجه عدم الفرق) ان ما ذكره انما يصح لو لم يكن العنوان
مما ينحل بواسطة انحلال تكليفه، واما المنحل بانحلاله كالعالم إذا تعلق به وجوب
الاكرام بماله من الافراد الواقعية، وترددت الافراد بين الأقل والأكثر، فلا محالة
ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي، ومثله البيض من الغنم إذا كان مصب التكليف
وتردد افراده بين الأقل والأكثر، نعم لو كان نسبة العنوان إلي المعنون نسبة
المحصل إلى المحصل لوجب الاحتياط بلا اشكال، لكن المفروض عدمه.
منها: انه لو سلمنا ما ذكره من الفرق فإنما هو فيما إذا كان متعلق التكليف
بالذات هو العنوان بحيث يكون العنوان بنفسه ذا اثر شرعي، واما إذا تعلق العلم
بما ليس بذى اثر أصلا كما في المقام فلا، فان العلم وان تعلق باحكام موجودة في
الكتب التي بأيدينا، الا انه من العناوين المشيرة إلى ذوات الأحكام الواقعية، و
اما ما ذكر من العنوان، فليس الا محلا لها من غير دخالة لها (فح) فلا يتنجز الواقع
علينا بهذا العنوان، ولا يكون الاحكام بذلك العنوان موردا للتكليف ولا يكون
مانعا عن الانحلال، فالعلم الاجمالي المؤثر متعلق بنفس الاحكام بوجودها الواقعي
وتردد من أول الأمر بينهما وينحل إلى التفصيلي والشك البدوي (نعم) لو تنجز علينا
الواقع بماله من العنوان بحيث يكون المنجز (بالفتح) هو الحكم المقيد بعنوانه
المتعلق للعلم لكان ذلك مانعا عن الانحلال.
ومما ذكر يظهر حال المثالين: فان عنوان البيض ليس مما يتعلق به التكليف،
وليس الواقع منجزا علينا بهذا العنوان، حتى يكون العلم المتعلق به منجزا له بهذا
العنوان ويكون مانعا عن الانحلال وانما هو عنوان عرضي ومن الأمور الاتفاقية
57

المقارنة لما هو متعلق التكليف لبا أعني الموطوء. (فح) لو قلنا بمقالته من أنه
إذا تعلق بعنوان بماله من الافراد الواقعية أغمضنا عما ذكرنا من انحلاله لانحلال
التكليف المتعلق به، يجب الاحتياط في كلا المثالين، لتعلق الحكم بالموطوء،
لا لتعلقه بعنوان البيض من الغنم.
منها: ان ما ذكره في الوجه من انحلال العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي
الخاص، غير صحيح على مختاره، فان العلم تعلق بالأحكام الواقعية بما في الكتب
مطلقا، أو الاحكام الصادرة عن الله سبحانه فإذا فرضنا ان تعلق العلم بالعنوان،
منجز لعامة الافراد الواقعية، لما يصح جعل العلم الثاني موجبا لانحلال العلم العام
بعد تنجيزه كل ماله فرد واقعي، الا ان يحصل القطع بالإحاطة بتمام افراده.
منها: ان ما ذكره من أنه إذا تعلق العلم باشتغال الذمة بما في الطومار ليس
للمكلف الاخذ بالأقل، خارج من مصب البحث، فإنه من الشبهات الموضوعية التي
تعرض (قدس سره) له فيما بعد، واختار وجوب الفحص، وسيوافيك لزوم الفحص
في الشبهات الموضوعية في الموارد التي لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى مقدمات
كثيرة بل يحصل بأدنى امعان النظر، وسيوافيك لزوم الفحص في هذه الموارد و
ان لم يكن علم اجمالي فانتظر.
ثم إن بعض محققي العصر أجاب عن أخصية الدليل بأنه يتجه لو كان متعلق
العلم الاجمالي مطلقا أو كان مقيدا بالظفر به على تقدير الفحص و (لكن كان)
تقريب العلم الاجمالي هو كونه بمقدار من الاحكام على وجه لو تفحص ولو في
مقدار من المسائل لظفر به واما لو كان تقريبه بما ذكرناه من العلم بمقدار من
الاحكام في مجموع المسائل المحررة على وجه لو تفحص في كل مسألة تكون مظان
وجوده محتملة لظفر به فلا يرد اشكال.
وفيه: انه مجرد فرض لا يمس الواقع، فان ادعاء العلم بان في كل مسألة دليلا
الزاميا لو تفحصنا لظفرنا به مما هو مخالف للوجدان، وكانه بصدد دفع الاشكال بأي وجه
ممكن طابق الواقع أولا.
58

والتحقيق ما سبق ان الاستناد في لزوم الفحص إلى العلم الاجمالي خروج عما
هو موضوع للبحث، فان البحث انما هو بعد صلاحية المقام للبرائة، والبحث في
شرائط جريانه، ومعنى الاستناد إلى العلم الاجمالي كون المقام غير صالح للبرائة و
ان المجرى مجرى الاشتغال، ولو أغمضنا عنه فلا شك ان العلم ينحل مع التفحص
في أبواب الفقه، إذ لا علم اجمالي الا باحكام بنحو الاجمال، وهو ينحل بالتفحص
بالضرورة.
الفحص في الشبهات الموضوعية
فالحق فيها عدم معذورية الجاهل قبل الفحص عند العقل والعقلاء، والوجدان، فلو
قال المولى أكرم ضيفي، وشك العبد في أن زيدا ضيفه أولا، فلا يجوز له المساهلة بترك
الفحص مع امكانه خصوصا إذا كان رفع الشبهة سهلا والمشتبه مهما وما قرع سمعك
من معذورية الجاهل وقبح عقابه بلا سبب وحجة فإنما هو فيما إذا لم يكن الجهل في
معرض الزوال، أو لم يكن العبد مقصرا في تحصيل اغراض مولاه، نعم بعد ما استفرغ
وسعه لكان لما ذكره من القاعدة مجال و (عليه) فملاك صحة العقوبة هو عدم جريان
الكبرى العقلية قبل الفحص والبحث، هذا كله في البراءة العقلية وسيوافيك حال
البراءة الشرعية ولب القول فيهما.
الاستدلال على لزوم الفحص بالاجماع
ثم إن القوم قد استدلوا عليه بالاجماع ولكنه لا يفيد في المقام شيئا إذ
المسألة عقلية واضحة، إذ من المحتمل جدا أن يكون مستند المجمعين، حكم العقل
الواضح البات.
واما الاستدلال بالآيات والاخبار فسيوافيك لب القول فيهما عن قريب انشاء الله
ومما ذكرنا يظهر ان وجوب التعلم وجوب مقدمي يتضح ان العقاب على ترك
الواقع، لا على الفحص كما اختاره صاحب المدارك تبعا لإستاذه المحقق الأردبيلي ولا
على ترك الفحص والتعلم المؤديين إلى ترك الواقع كما اختاره بعض أعاظم العصر (رحمه الله)
59

اما ان العقاب على ترك الواقع فلما عرفت من أن الواقع منجز قبل الفحص إذا احتمل تكليفا
جديا للمولى، ومعنى تنجزه هو صحة العقاب على مخالفته وقد وافاك ان التنجيز
لا يتوقف على العلم بالتكليف.
واما مقالة السيد صاحب المدارك فسيوافيك ضعفه عند البحث عن ترك التعلم
واما ما اختاره بعض أعاظم العصر قائلا بان العقاب على ترك الفحص المؤدى إلى
ترك الواقع مستدلا بان العقاب على ترك الفحص ينافي وجوبه الطريقي الذي لا
نفسية له ولا يجوز على ترك الواقع للجهل به فلا بد وأن يكون لترك الفحص المؤدى
إلى ترك الواقع، فضعيف غايته فإنه إذا كان ترك الواقع مما لا عقاب له للجهل به، و
ترك الفحص بما هو مما لا عقاب له أيضا لكون وجوبه طريقيا فكيف يصح العقاب
على ترك الفحص المؤدى إلى ترك الواقع، أضف إلى ذلك أنه يمتنع ان ينقلب الحكم
الطريقي إلى النفسي، فإذا كان وجوب الفحص طريقيا فكيف صار نفسيا عند أدائه على
ترك الواجب، علي ان انكار صحة العقاب على ترك الواقع قبل الفحص، غير وجيه
والحق قراح ان العقاب يدور على مخالفة الواقع، مع قطع النظر عن الروايات
بحكم العقل، فلو كان البيان موجودا لاستحق العقاب ومع عدمه لا يستحق بل
يقبح، ولما كان مركز البيان هو الكتاب والسنة يحكم العقل بلزوم الفحص،
للوصول إلى البيان، فليس الفحص واجبا نفسيا، ولا تركه قبيحا كذلك، وما
يقال من أن تركه ظلم علي المولى قد عرفت ضعفه.
بحث وتنقيح
لو ترك الفحص فهل يستحق العقاب عند المخالفة مطلقا سواء كان بيان بحيث
لو تفحص عنه لوقف عليه أم لم يكن، بل لو كان هنا طريق على ضد الواقع بحيث لو تفحص
لوصل إلى هذا الطريق المضاد للواقع، أو انه يستحق العقاب إذا ترك الفحص وخالف
الواقع ولكنه لو كان باحثا عنه لوصل إلي البيان يحتمل الأول اما لأنه خالف الواقع
بلا عذر وحجة، ومجرد وجود الطريق الموصل إلى ضد الواقع لا يصير عذرا إذا
لم يستند العبد إليه في مقام العمل واما لان العقل يحكم بلزوم الاحتياط عند ترك
60

الفحص، فهذا الحكم منه يمكن أن يكون بيانا وحجة، وان شئت قلت: ان العقل
يحكم على سبيل التخيير بين الفحص والاحتياط عند تركه، فلو فحص عن مظان
البيان يجرى البراءة العقلية، لتحقق موضوعها أعني العقاب بلا بيان، ومع ترك
الفحص يحكم بالاحتياط في المقام للتحفظ على الواقع، فمخالفته مع حكمه بالاحتياط
يوجب صحة العقوبة.
ويحتمل الثاني بان يقال: إن حكم العقل بلزوم الاحتياط قبل الفحص ليس
لأجل التحفظ على الواقع مستقلا، بل لأجل احتمال ورود البيان في الكتاب والسنة
والمفروض انه لم يرد بيان فيهما، فترك الاحتياط في هذه الموارد، لا يوجب استحقاق
العقاب، لأن المفروض عدم البيان في مظان وجوده، الذي لأجله كان العقل
يحكم بالاحتياط، فضلا عن وجود الطريق المضاد للواقع، فاستحقاقه للعقوبة مع
ترك الفحص وحكم العقل بلزوم الاحتياط تابع لوجود بيان واصل من المولى بحيث
لو تفحص لوصل إليه.
واما ما ذكرناه من أنه ترك الواقع بلا حجة، فيمكن ان يدفع بأنه انما ترك
الواقع مع وجود عذر واقعي مغفول عنه، ومعه لا يكون عاصيا وإن كان متجريا،
اللهم الا ان يقال، ان العذر الواقعي المغفول عنه، غير الملتفت إليه ليس بعذر،
والشاهد عليه انه لو فرضنا ان شرب التتن كان حراما واقعا وقام به طريق،
لكنه لو تفحص عنه لوقف على دليل أرجح منه يدل على حليته، بحيث كان له
الاخذ بالأرجح حسب القواعد الاجتهادية، ومعه لم يتفحص وشربه وخالفه فلا يمكن
ان يعد وجود الدليل الراجح عذرا والمسألة يحتاج إلى التأمل وامعان النظر في
مجال واسع.
ثم إنه يظهر مما ذكرنا من حكم العقل على استحقاق العقاب على ترك الواقع
الذي ورد البيان له بحيث لو تفحص لظفر به، ان المنجز (بالكسر) هو الاحتمال
والمنجز هو الواقع ومعنى تنجيز الواقع هو صحة العقوبة عليه عند المخالفة، و
ما أفيد في المقام من أن المنجز (بالفتح) انما هو الطريق قائلا بان الواقع غير فعلي
61

مع عدم وصوله وانما يصير فعليا بوصوله حقيقة، قد تقدم جوابه، حيث قلنا: إن
الفعلية لا تتوقف على علم المكلف وقدرته فالواقع منجز باحتماله واما منجزية
البيان (بالفتح) فمما لا محصل له لعدم العقاب على التكاليف الطريقية.
تنبيه
قد أفاد المحقق الخراساني ان المخالفة في المقام مغفول عنها، ولكن لما
كانت منتهية إلي الاختيار يستحق العقوبة عليها، (أقول) وفي كلامه خلط واضح،
فان البحث انما هو في شرائط جريان البراءة فلا محالة يكون المورد ملتفتا إليه،
وهو يستلزم كون احتمال المخالفة ملتفتا إليه أيضا، وإن كانت المخالفة غير معلومة
(فح) فرق بين كون المخالفة غير معلومة، وكونها مغفولا عنها، فهي غير معلومة
لكنها ليست مغفولا عنها
ثم إنه لو فرض كون ترك الفحص موجبا لبقاء الغفلة عن التكليف كما لو
ترك الفحص عن حكم شرب التتن، وفرضنا انه لو تفحص عن حكمه لظفر على
الدليل الدال على لزوم الدعاء عند رؤية الهلال، الذي هو غافل عنه من رأس فهل
يستحق العقاب على ترك الدعاء، لأنه خالف المولى بلا عذر وان هذه الغفلة
الباقية مستندة إليه، باعتبار انه ترك الفحص ولو عن تكليف آخر، أولا
يستحق لان الغفلة عذر، ومجرد ترك الفحص عن تكليف آخر لا يكون
قاطعا له، الظاهر هو الأول، وان مثل تلك الغفلة لا تعد عذرا، فان معذوريته إن كان
لأجل عدم فعلية الاحكام، في حال غفلة المكلف عنها، فقد عرفت ضعفه منا مرارا
وان الغفلة والجهل والعجز وما شابهها لا يصير سببا لعدم فعليتها ورجوعها إلى
الانشائية وقد عرفناك لب القول في معنى فعلية الاحكام وانشائيتها، فراجع بحث
الترتب، والشاهد عليه انه ليس للمكلف تعجيز نفسه وسلب قدرته عن نفسه اختيارا
فلو كانت القدرة شرطا، والعجز، مانعا عن الفعلية لجاز له ذلك لعدم لزوم ابقاء شرط
الواجب المشروط، وما عن شيخنا العلامة أعلى الله مقامه من التمسك باطلاق المادة
62

فقد عرفناك ضعفه.
وإن كانت معذوريته، لأجل كون الغفلة مطلقا من اي سبب كان، عذرا عند
العقل مع تسليم فعلية الاحكام، ففيه منع ظاهر فان المكلف لو شرب دواءا موجبا
لغفلته عن الواجب، لا يعد ذلك عذرا عنده بل يستحق العقوبة، ولا يقصر المقام
عنه، فان المكلف وان ترك الواجب غفلة، الا ان سبب الغفلة هو تركه الفحص
طغيانا وبلا عذر وفي مثله لا يكون المأمور به متروكا مع العذر، ولا يكون العقاب
عقابا بلا بيان.
تتمة
لو صار ترك الفحص موجبا لترك واجب مشروط أو موقت في زمان تحقق
الشرط والوقت بمعنى انه ترك الفحص قبل تحقق الشرط والوقت مع احتمال
كون تركه موجبا لترك المشروط والموقت في زمان تحقق الشرط والوقت فصار كذلك
فهل يستحق العقوبة كما في ترك الفحص عن الواجب المطلق أولا، وقد فصل بعض
محققي العصر (رحمه الله) بينما إذا قلنا يكون الوجوب فعليا. وإن كان الواجب
استقباليا، على الوجهين اللذين أوضحهما في كلامه، فيستحق العقاب (ح) مثل
تركه في الواجب المطلق، واما إذا قلنا بعدم فعلية الوجوب، الا عند حصول
المعلق عليه، خصوصا إذا قلنا بان وجوب الفحص غيري مقدمي، ومن المعلوم تبعية
وجوب المقدمة لذيها، فكيف يجب الفحص مع عدم وجوب ذيها.
الظاهر عدم صحة التفصيل المذكور، فانا لو قلنا بوجوب الفحص وجوبا
غيريا لكن ليس وجوب المقدمة ناشئا من وجوب ذيها، أو ارادتها مترشحة من إرادة
ذيها كما يوهمه ظواهر عبائرهم، فان ترشح إرادة من أخرى وتولد حكم من آخر
غير صحيح جدا (كما أوضحناه في محله) بل لكل من الوجوبين والإرادتين مباد
ومقدمات بها يتكون وجوبها وارادتها على القول بوجوبها بحيث لو وجدت تلك
المبادى في المقدمة، لعرضها الوجوب، سواء اتصفت ذوها بالوجوب أم لا، وعلى
ما ذكر، يتصف الفحص بالوجوب على القول بوجوب المقدمة، وان مناط وجوبه
63

هو المقدمية، لحصول ما يعد مباديا لوجوبه فان المولى لما وقف علي توقف الواجب
المشروط الذي سيتحقق شرطه بعد، على الفحص، قبل حصول الشرط، وان تركه
يوجب سلب القدرة عنه في حال تحقق الشرط، فلا محالة تنقدح في نفسه ارادتها
وايجابها، لحصول عامة المبادي في نفسه من التصور والتصديق بالفائدة وغيرهما
من المبادى فيتصف بالوجوب لا محالة، وان لم يتصف الواجب بعد بالوجوب (فح)
يكون ترك الفحص الموجب لفوت الواجب في محله بلا عذر موجبا لاستحقاق
العقوبة، (نعم) لو قلنا بما هو الظاهر من كلامهم من نشوء إرادة من اخري لكان لما
ذكره مجال.
هذا كله لو قلنا بوجوب المقدمة واما إذا قلنا بعدم وجوبها أو قلنا بوجوب
الفحص لكن لا من باب المقدمية (كما هو الحق في المقامين) فلا ريب أيضا في استحقاقه
للعقوبة، لحكم العقل والعقلاء بان تفويت الواجب المشروط الذي سيتحقق شرطه
تفويت بلا عذر وموجب لاستحقاق العقوبة، ولا مجال لمن هو واقف على حصول الشرط
ان يتسامح في الاتيان بما يفوت الواجب بتركه، فان العقل والعقلاء لا يفرقون
بين الواجب المشروط المعلوم تحقق شرطه والواجب المطلق في عدم معذورية العبد.
ومما ذكرنا يتضح انه لا حاجة في اثبات العقاب في هذه الصورة إلى التمسك
بالقاعدة المعروفة: من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فان القاعدة أجنبية
عن المقام فإنها وردت عند أهلها، ردا لأوهام بعض المتكلمين حيث زعم ذلك البعض
ان قول الحكماء بان الشئ ما لم يجب لو يوجد، مستلزم لان يكون الواجب فاعلا
موجبا (بالفتح) فرد الحكماء عليه بالقاعدة المعروفة من أن الامتناع بالاختيار لا
ينافي الاختيار، أضف إلى ذلك ان الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار في المقام، لان
من ترك السير حتى ضاق الوقت، خرج الاتيان بالحج عن اختياره بلا شك، نعم لا
يصير الامتناع في المقام عذرا عند العقل والعقلاء ولكنه قاعدة أخرى غير القاعدة
الدارجة، فكم فرق بين ان نقول بعدم كون هذا الامتناع عذرا، (كما هو المختار)
وبين ان تقول باتصاف هذا الترك في حاله بالاختيار.
64

ثم إن بعض محققي العصر أجاب عن الاستدلال بالقاعدة بقوله: بان مورد
القاعدة ما إذا كان الامتناع ناشئا عن سوء اختيار المكلف ولا يكون ذلك الا إذا تحقق
التكليف الفعلي بالواجب في حقه وقد تساهل في تحصيل مقدماته، واما إذا لم يتحقق
التكليف الفعلي في حقه كما هو المفروض فلا و (فيه) ما عرفت من أن العقل والعقلاء
لا يفرقون بين المطلق والمشروط الذي سيتحقق شرطه في عدم جواز المساهلة فيما ينجر
إلى ترك المطلوب فراجع إلى المتعارف بينهم.
ثم إن المحكى عن الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك هو القول بالوجوب
النفسي التهيئي للتعلم واستحقاق العقوبة على ترك نفسه لا على ما أدى إليه، وأورد
عليه بعض محققي العصر: بأنه يستلزم منه وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها، وان
تبعية وجوبها لوجوبه كالنار على المنار. و (فيه) ان اتصاف التعلم بالوجوب النفسي التهيئي
ليس بمناط المقدمية، لعدم تتوقف وجود ذيها علي التعلم، بل الوجه في اتصافه به
(على القول به) هو ان المولى لما رأى أن ترك التعلم موجب لترك الواجب وارتكاب
الحرام أحيانا، وليس فيه مناط المقدمية حتى يجب بهذا المناط على القول بالملازمة
وقد عرفت صحة اتصاف المقدمة بالوجوب إذا كان فيه مناط المقدمية وان لم يتصف
ذوها بالوجوب بعد، (فح) لا مناص عن الامر به نفسيا لسد الاحتمال كالأمر بالاحتياط في
الشبهات البدئية.
نعم يرد على المحقق الأردبيلي وتلميذه ان ما ذهبا إليه لم يدل عليه دليل لا من
العقل كما هو واضح ولا من النقل كما سيوافيك بيان مفاد الأدلة النقلية، أضف
إلى ذلك ان الوجوب النفسي التهيئي لا يوجب عقوبة، لعدم ملاكها فيه، فان العقوبة
انما يصح على ترك ما هو مأمور به نفسا ولذاته والواجب بالوجوب النفسي التهيئي،
انما وجب لأجل التحفظ على الغير، فلا يكون تعلق الامر به لأجله حتى يكون مولويا
ذاتيا موجبا لاستحقاق العقوبة، مع أن انكار استحقاق العقوبة على مخالفة نفس الواقع
خلاف الانصاف كما مر.
هذا كله حكم العقل واما مفاد الآيات والاخبار، فخلاصة الكلام فيه انه
65

قد يستفاد من اخبار كثيرة متفرقة في أبواب متفرقة، ان الاجتهاد في الاحكام
وتحصيل مرتبة التفقه، مستحب نفسي مؤكد، أو واجب كفائي نفسي، ويدل على
المطلوبية النفسية اخبار: (منها) ما ورد في فضل العلم والعلماء كما في مرسلة الربعي
عن أبي جعفر عليه السلام: الكمال كل الكمال التفقه في الدين والصبر على النائبة وتقدير
المعيشة وما روى عن أبي عبد الله عليه السلام. ان العلماء ورثة الأنبياء، وقوله عليه السلام العلماء
أمناء الله، وقوله صلى الله عليه وآله من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلي الجنة
وغيرها من أن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم مما لا تعد،
وهذه الروايات تعطى كون التفقه مطلوبا نفسيا، وليس من البعيد لو قلنا: بدلالة
طائفة منها على الوجوب الكفائي كما لا يبعد استفادته من آية النفر.
وهيهنا طائفة أخرى يدل على أن الجهل وترك السؤال والتعلم لا يعد عذرا،
كما يدل عليه مرسلة يونس عن بعض أصحابه قال سئل أبو الحسن عليه السلام هل يسع الناس
ترك المسألة عما يحتاجون إليه فقال: لا. وصحيحة الفضلاء قالوا: قال أبو عبد الله
عليه السلام: لحمران بن أعين في شئ سئله انما يهلك الناس لانهم لا يسئلون ورواية المجدور
الذي غسلوه ولم يمموه وما ورد في تفسير قوله تعالى: فلله الحجة البالغة انه يقال
للعبد يوم القيمة هل علمت فان قال نعم قيل فهلا عملت، وان قال لا قيل له هلا تعلمت حتى
تعمل إلى غير ذلك ما هو ظاهر في أن العلم للعمل، وهذه الروايات ارشاد إلى حكم العقل
من لزوم السؤال والتعلم، لتمامية الحجة على العبد على فرض ورود البيان من المولي، و
لا يدل على الوجوب النفسي، ولا النفسي التهيئي، لأن مفادها تابع لحكم المرشد إليه
وهو حاكم بعدم وجوبه نفسيا وهيهنا روايات كثيرة لا يسع المقام لايرادها وتوضيح
مقاصدها، وفيما ذكرنا كفاية انشاء الله تعالى.
صحة عمل الجاهل وبطلانه
قد اتضح مما ذكرنا ان الملاك لصحة عمله وبطلانه هو الاتيان بكل ما يعتبر في المأمور
به من الاجزاء والشرائط، وعدمه، وهذا هو المراد من قولهم. من وجود الملازمة بين
بطلان العمل واستحقاق العقاب، وصحته وعدم استحقاقه. غير أنه قد انتقض هذه القاعدة
66

في موردين: (الأول) الجهر بالقرائة في موضع الاخفات وبالعكس جهلا بالحكم
ولو عن تقصير (الثاني) الاتمام في موضع وجوب القصر، فان الأصحاب قد افتوا في
هذين الموضعين تبعا للنصوص بصحة الصلاة مع الجهل بالحكم ولو عن تقصير مع
التسالم على استحقاق العقاب على ما هو مقتضى اطلاق كلامهم من عدم معذورية الجاهل
المقصر، فأوجب ذلك اشكالا في المقام، لأنه لو كان المأتى به هو المأمور به فلا وجه
لاستحقاق العقاب، والا فلا وجه للصحة، وان شئت قلت: ان وجوب الجهر والاخفات
كذا القصر، ان توقف علي العلم به فهو يستلزم الدور المعروف، وإن كان غير متوقف
عليه فيلزم، عدم صحة الصلاة، لعدم الاتيان بالمأمور به، وإن كان من باب
تقبل العمل الناقص بعد وجوده بدلا عن الكامل، وسقوط ما كان واجبا من قبل، فهو مما
يأباه العقل من سقوط الواجب مع بقاء وقته مع المؤاخذة على تركه، وان قلنا:
بعدم استحقاقه العقوبة فهو ينافي مع ما تسالموا عليه من عدم معذورية الجاهل و
استحقاقه للعقوبة و (الحاصل) انه كيف يجتمع الصحة والعقوبة مع بقاء الوقت
فان الناقص لو كان وافيا لمصلحة التام فيصح العمل ولا يستحق العقاب، والا فلا
وجه للصحة، الا إذا كان الناقص مأمورا به وهو خلاف الواقع للاجماع على عدم وجوب
صلوتين في يوم واحد.
ولقد أجاب عن هذه العويصة ثلة من المحققين لا بأس بالإشارة إلي تلك الأجوبة
الأول: ما افاده المحقق الخراساني: من احتمال كون الناقص واجدا لمصلحة
ملزمة مضادة في مقام الاستيفاء مع المصلحة القائمة بالتام، والتام بما هو تام مشتمل
على مصلحة ملزمة، ويكون مأمورا به لا الناقص لكن مع الاتيان بالناقص يستوفي
مقدار من المصلحة المضادة لمصلحة التام فيسقط أمر التام لأجله، ويكون الصلاة
صحيحة لأجل استيفاء تلك المصلحة انتهى وهذا الجواب يدفع الاشكال بحذافيره
اما صحة الصلاة المأتى بها، فلعدم توقفها على الامر، واشتمالها على المصلحة
الملزمة، واما العقاب فلانه ترك المأمور به عن تقصير والاتيان بالناقص أوجب
سقوط امره قهرا، وعدم امكان استيفاء الفائتة من المصلحة، لأجل عدم اجتماعها
67

مع المستوفاة.
وأورد عليه بعض أعاظم العصر: بان الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة
بالفعل المأتى به في حال الجهل إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا
يعقل سقوطه بالفاقد لها خصوصا مع امكان استيفائها في الوقت كما لو علم بالحكم
في الوقت، ودعوى عدم امكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء لان استيفاء أحدهما
يوجب سلب القدرة عن استيفاء الأخرى واضحة الفساد، لان القدرة على الصلاة
المقصورة القائمة بها المصلحة التامة حاصلة، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة
سوى القدرة على متعلقها وان لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين
القصر والاتمام غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير.
وفيه: ان الخصوصية الزائدة لازمة الاستيفاء الا انها لا دخالة لها في حصول
المصلحة القائمة بالناقص، فهي ممكنة الاستيفاء وان لم ينضم إليه الخصوصية
الزائدة التي لها دخل في استيفاء الغرض الا كمل واما عدم الامر باستيفائها بعد
الاتيان بالفرد الناقص، فللتضاد بين المصلحتين، وعدم امكان استيفائها الا في
ضمن المجموع ولا يمكن استيفائها بالاتيان بها مستقلا، أو في ضمن الناقص الذي
ليس فيه مصلحة بعد وهذا هو المراد من قول المحقق الخراساني من عدم امكان
استيفاء المصلحتين، فان للاستيفاء طريقين اما بالاتيان بها مستقلا، أو في ضمن
الناقص غير القائم به المصلحة، وكلاهما غير صحيح، فما افاده من أن القدرة على
الاتيان بالصلاة المقصورة حاصلة، غير صحيحة، فإنه خلط بين القدرة على الصلاة
القائم بها لمصلحة وصورة الصلاة فهو قادر بعد الاتيان بالناقص على الثانية دون الأولى.
الثاني: ما افاده بعض محققي العصر (قدس سره) من الالتزام بتعدد المطلوب
بان يكون الجامع بين القصر والتمام، والجهر والاخفات مشتملا علي مرتبة من
المصلحة الملزمة، ويكون لخصوصية القصرية وكذا الجهرية، مصلحة زائدة ملزمة
أيضا مع كون المأتى به الفاقد لتلك الخصوصية من جهة وفائه بمصلحة الجامع
68

المتحقق في ضمنه مقوما للمصلحة الزائدة القائمة بالخصوصية القصرية أو الجهرية
بحيث لا يبقى مع استيفائها به مجال لتحصيل الزائدة القائمة بالخصوصية، فيقال
اما الصحة فلو فائه بمرتبة من المصلحة الملزمة القائمة بالجامع وصيرورته بذلك
مأمورا به بمرتبة من الامر المتعلق بالجامع ضمنا واما العقاب فلتفويته المصلحة اللازمة
القائمة بالخصوصية القصرية انتهى.
وحاصله: تعلق أمر بالجامع، وامر آخر على الواجد بالخصوصية، وهو مبنى
على أن يكون المطلق والمقيد عنوانين مختلفين، بحيث يدفعان التضاد بين الاحكام
وقد قلنا في مبحث الاجتماع ما هو حقيقة الحال ورجحنا خلافه، قائلا بان المقيد عين
المطلق مع قيد آخر، عينية اللا بشرط مع بشرط شئ ومثله غير كاف في دفع التضاد بين الامر
والنهى التضاد بين الامرين، اللهم الا ان يفرق بين المقامين، بدعوى ان امتناع
تعلق الامر والنهى بهما ليس لأجل التضاد بينهما، لعدم التضاد بين الاحكام
بل لأمر آخر راجع إلى عدم الجمع بين الإرادتين، واما المقام فلا مانع
يمنع عن تعلق بعثين إليه، وكون المطلق محبوبا والمقيد محبوبا آخر،
فالعطشان المشرف للموت، الذي يندفع هلاكه بمطلق الماء، وبالماء البارد
فهو بنحو الاطلاق محبوب، وبقيد انه بارد محبوب مؤكد.
فان قلت: تشخص الإرادة بالمراد، فلو صح ما حرر في مبحث النواهي من
عينية المطلق مع المقيد، فكيف تتشخص الارادتان بشئ فلو قيل بالمغايرة، فهو
كما يصحح اجتماع البعثين، يصحح اجتماع الامر والزجر.
قلت: نعم لكن يكفي في تشخصها اختلاف هوية المتعلقين ولا يكفي ذلك
في جواز تعلق الإرادة المضادة للأخرى.
الثالث: ما أجاب به الشيخ الأكبر - كاشف الغطاء - من الالتزام بالترتب وان
المأمور به أولا وبالذات هو القصر مثلا، فلو عصى وتركه ولو للجهل
بالحكم يجب عليه الاتمام، وأورد عليه بعض أعاظم العصر مضافا إلى ما ذكره الشيخ
الأعظم من عدم امكان الترتب، بأنه أجنبي عن الترتب لأنه يعتبر في الخطاب
69

الترتبي أن يكون كل من المتعلقين واجدا لتمام ما هو ملاك الحكم ويكون المانع
من تعلق الامر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع للتضاد بينهما والمقام ليس
كذلك لعدم ثبوت الملاك فيهما والا لتعلق الامر بكل منهما، لامكان الجمع بينهما
وليسا كالضدين فعدم تعلق الامر بهما يكشف عن عدم الملاك.
هذا مع أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان
الأهم، وفي المقام لا يعقل ان يخاطب التارك للقصر بعنوان العاصي فإنه لا يلتفت
إليه والا يخرج من عنوان الجاهل، ولا تصح منه (ح) الصلاة التامة، فلا يندرج في
صغرى الترتب " انتهى "
قلت: والكل ضعيف اما الأول فلان البحث مبنى على صحة الترتب، وربما
يقال بامكانه في المقام وان لم يكن ممكنا في غيره، لان الشرط في المقام للامر
بالتمام يحتمل أن يكون أمرا انتزاعيا وهو كونه ممن لا يأتي بالقصر جهلا قبل
التمام وهو حاصل من أول الأمر، ومثل هذا الشرط مما يمتنع أن يكون شرطا
للامر بالمهم لاستلزامه وجود أمرين فعليين متوجهين إليه في زمان واحد مع عجزه
بخلاف المقام، فإنه يصح ان يجعل شرطا للامر بالتمام لأنه لا يكون في المقام عاجزا
عن الاتيان بالقصر والتمام، انما الكلام في الملاك وهو حاصل عند حصول العنوان
الانتزاعي، و (فيه) ان لازم ما ذكره استحقاق عقابين إذا ترك كلتا الصلاتين، ولا
أظن القائل يلتزم به، وان التزمنا به في باب الترتب على وجه آخر أضف إليه ان ما
ذكره خلط بين القدرة على صورة الصلاة، وحقيقتها بما لها من الملاك، والمقدور
هو الأول لا الثاني فهو أيضا عاجز عن الاتيان بالصلاتين بالمعنى الذي عرفت فتأمل.
واما عن الثاني، فلانه لا يشترط أن يكون الضد واجدا للملاك من أول الأمر
بل يكفي حدوث الملاك عند الجهل بحكم القصر أو عند العصيان، بل لا اشكال
في أن الصلاتين واجدتان للملاك اما القصر فواضح، واما التمام فهو أيضا صحيح عند
عدم الاتيان بالقصر عند الجهل بالحكم للتضاد اجماعا، وقد وافاك معنى كونهما
متضادين، واما عن الثالث فبأنه لا يشترط في الخطاب الترتيبي أن يكون المخاطب
70

متوجها إلى الشرط المأخوذ موضوعا للامر الثانوي بل يكفي وجوده الواقعي وان
لم يلتفت كما في المقام فتأمل (1) وقد تقدم في خطاب الناس ما يفيد في المقام
ثم إن في المقام أجوبة شتى وفيما ذكرنا عن كفاية.
في شرائط البراءة الشرعية
فربما يتوهم اطلاق أدلتها قائلا بأنه ظاهر قوله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي ما لا
يعلمون، وان الناس في سعة ما لا يعلمون، هو الرفع والتوسعة كان قبل الفحص أو
بعده وربما يجاب بالتقييد بالاجماع، وهو كما ترى، وربما يتمسك بالعلم الاجمالي
وقد عرفت ان التمسك به خروج عن موضوع البحث، لان البحث في شرائط الجريان بعد
الفراغ عن كون المقام مجري لها، والحق انكار اطلاقها لما قبل الفحص وذلك بوجهين.
الأول: ان العقل يحكم بوجوب اللطف على الله، ببعث الرسل وانزال
الكتب، حتى ينتفع الناس باحكامه تعالى عاجلا وآجلا ويصلح حالهم في الدنيا و
الآخرة، ومع هذا الحكم البات، هل يمكن ان يحتمل العقل ان من احكامه تعالي،
هو الرفع بقول مطلق، بان يجوز لهم الاعراض عن سماع قول الأنبياء، وترك التعلم
والتفحص عن احكامه وشريعته، حتى يتنزلوا منزلة البهائم والمجانين، حاشا
وكلا وان أبيت عن ذلك كله لأجل وضوح كثير من الاحكام فلا مانع من جريان
البراءة في الباقي، فلا أقل من انصراف أدلتها عما قبل الفحص
الثاني: وهو الموافق للتحقيق، ان المراد من عدم العلم المأخوذ موضوعا في
لسان أدلتها، ليس العلم الوجداني، حتى يكون تقديم أدلة الامارات والأصول
الحاكمة عليها من باب التخصيص، لاستهجان ذلك التخصيص الكثير بل لا يخلو
عن استهجان ولو كان بنحو الحكومة أيضا، بل المراد من العلم هو الحجة، و
مفادها انه رفع عما لا حجة عليه، وسيوافيك في مبحث الاستصحاب ان اطلاق العلم

(1) إشارة إلى عدم معقولية الترتب في المقام فان الموضوع للامر الثانوي انما هو
العصيان بترك القصر في تمام الوقت، سواء كان شرطا بوجوده الخارجي أو بوجوده اللحاظي
وهو غير متحقق في المقام لأن المفروض بقاء الوقت، ولا يحصل العصيان الا بانقضائه المؤلف.
71

واليقين بهذا المعنى كثير في الاخبار، ومن المعلوم ان الحجة موجودة في الكتاب
والسنة وقد قامت الحجة على كثير من الاحكام ووصلت إلينا وصولا متعارفا، فمع
عدم الفحص يشك في تحقق ما هو موضوع البراءة، وان أبيت فلاحظه لسان أدلتها
فان قوله تعالي ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا من أدلة البراءة وأوضحنا مفاده
وهو كما ترى جعل بعث الرسول غاية لرفع التعذيب وقد عرفت ان المراد ولو
بمعونة مناسبة الحكم والموضوع من بعثه هو تبليغ احكامه وايصال شريعته على
النحو الدائر بين العقلاء، فيدل انه لو بلغ الرسول وأتم الحجة، لوقع التعذيب على
فرض المخالفة، هذا مفاد الآية والمفروض ان الرسول قد بلغ، وأتم البيان بالكتاب
والسنة، فلا يجوز الصفح عنهما.
ومثله قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا الا ما آتيها، بناءا علي دلالتها، ومثله
الروايات المذكورة في بابها من قوله عليه السلام انما يحتج على العباد بما آتيهم وعرفهم
وقوله كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى، فتلك الأدلة صريحة في تقيد البراءة بورود
النهى وما في معناه، والمفروض ورود النهى في مظانه، ولو فرض هنا اطلاق يقيد
بهذه الأدلة.
ومع الغض عما ذكرنا كله فلا شك ان ما يدل على وجوب التعلم والتفقه
في الدين، حاكم على اطلاق أدلة البراءة واليك نماذج من هذه الروايات مثل
قوله صلى الله عليه وآله طلب العلم فريضة على كل مسلم وما في مرسلة الكافي عن علي عليه السلام الا وان
طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إلى أن قال: والعلم مخزون عند أهله وقد
امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه وما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام تفقهوا في الدين
فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو اعرابي وما في الكافي عن يونس عن بعض أصحابنا
قال سئل أبو الحسن هل يسع الناس ترك مسألة عما يحتاجون إليه فقال لا وما في الكافي في
الصحيح قال أبو عبد الله لحمران بن أعين في شئ سئله انما يهلك الناس لانهم لا يسئلون.
وما ورد في تفسير قوله تعالي فلله الحجة البالغة، وما ورد فيمن أطال الجلوس في بيت الخلا،
وما ورد في غسل المجدور إلى غير ذلك من الروايات، ولا شك في حكومة تلك الطائفة
72

على اطلاقات الباب، فإنها متعرضة لما هو موضوع دليل البراءة، وتتعرض لما لم يتعرض له
أدلة البراءة.
ثم إن بعض محققي العصر رحمه الله قد استشكل في صلاحية تلك الأدلة
لتقييد مطلقات الباب قائلا بأنها ظاهرة في الارشاد إلى حكم العقل بلزوم الفحص
لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره، فعموم أدلة البراءة واردة عليها، لأنه
بقيام الترخيص الشرعي قبل الفحص يرتفع حكم العقل، مضافا إلى امكان
دعوى اختصاصها بصورة العلم الاجمالي فتكون ارشادية أيضا مع أنها قاصرة عن
إفادة تمام المطلوب لأنها ظاهرة في الاختصاص بصورة يكون الفحص مؤديا إلى العلم
بالواقع والمطلوب أعم من ذلك (انتهى كلامه).
ولا يخفى ما في هذه الدعاوى اما الأول فلانه لو كانت أدلة البراءة واردة عليها،
فالتعيير على عدم العلم بماذا، وما معنى الهلكة في ترك السؤال ولماذا دعا (ع) القوم الذين
غسلوا المجدور بأنه قاتلهم الله فهل بعد ذلك التعييرات يصح لنا ان نقول بورود اطلاق
أدلتها على هذه الطائفة من الاخبار بل يكشف ذلك أنه لا اطلاق لها من رأس واضعف منه
دعوى اختصاصها بصورة العلم الاجمالي وأي شاهد على هذا الاختصاص مع شمولها على الشبهة
البدئية واما عن الثالث فلا شك في اطلاقها فهي عامة تشمل صور العلم بالوصول إلى الحكم
وعدمه، نعم لو علم بأنه لا يصل إلى الواقع فلا شك في عدم وجوب التعلم والفحص،
لان ايجاب التعلم لأجل العلم بالواقع، ومع اليأس عن الوصول لا معنى لإيجابه، واما مع العلم
بالوصول أو الشك فيه فلا ريب في أن اطلاقها محكم وحاكمة علي اطلاق أدلة
البراءة لو قلنا بوجود الاطلاق فيها.
ثم إنه قد ذكر لجريان البراءة شرطين آخرين، وبما انهما بمكان من الضعف
فقد ضربنا عنهما صفحا.
نعم ان جمعا من المحققين منهم الشيخ الأعظم، وتلاميذه قد استطرفوا المقام
بالبحث عن قاعدة لا ضرر استطرادا لما فيها عظيم فائدة وقد آثرناهم في موارد كثيرة
وبما ان مباحث القاعدة طويلة الذيل، أفردنا لها رسالة مستقلة، والى المولى
73

سبحانه نبتهل ومنه نستمد وهو ولى التوفيق.
وقد فرغنا عن تسويد هذه المباحث سنة 1375 من شهر شعبان المعظم في
مدينة قم وحوزتها العلمية صانها الله عن البلية وتم بيد مؤلفه الحقير محمد جعفر
السبحاني ابن الفقيه الحاج ميرزا محمد حسين التبريزي عاملهما الله بلطفه الخفى،
وقد فرغنا عن تبييضه عصر يوم السبت في الرابع والعشرين من رمضان المبارك من
شهور عام 1379 في قرية " ماهان " من مصائف كرمان والله ولى التوفيق نعم
المولى ونعم النصير.
74

نيل الأوطار
في بيان قاعدة لا ضرر ولا ضرار
تقرير البحث سيدنا
الأستاذ الأكبر
الحاج آغا روح الله الخميني
دام ظله الوارف
بقلم مؤلفه
الحاج ميرزا جعفر السبحاني
18 جمادى الآخرة 1382
75

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع عنها الضرر والضرار، وجعل الكتاب والسنة وسيلتين لنيل
الأوطار، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفي، محمد وآله الأئمة الأتقياء الشرفاء.
اما بعد. فهذه رسالة عملناها في تحقيق حديث الضرر والضرار، وأسميناها
نيل الأوطار في حديث الضرر والضرار، وأفردناها عما كان يتصل به من مباحث
الاشتغال، لما فيها من الاشباع والاسهاب، اوردنا فيها الجوهر واللباب، و
حذفنا القشر والإهاب.
خذ بنصل السيف واترك غمده * واعتبر فضل الفتى دون الحلل
فجائت بحمد الله صحيفة كافلة لمباحث عامة فشكر الله مساعي سيدنا الأستاذ وادام
صحة وجوده، وأنار به مدارس العلوم، ومحافل المعارف وأوساط الفضائل، ووفقه
لتربية رواد العلم وعشاق الحقيقة وتهذيب الأصول وفروعها.
قال دام ظله: ولنذكر ما هو المهم من الروايات فنقول:
الرواية الأولى: ما رواه ثقة الاسلام عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد
بن خالد عن أبيه عن عبد الله بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إن سمرة
بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان
فكان يمر به إلى نخلته، ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى
سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فشكي إليه وخبره
الخبر، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكى، وقال إذا (ان خ ل)
أردت الدخول فاستأذن فأبى فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان
يبيع فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار.
76

قال الشيخ الحر (ره) في وسائله: انه رواه الصدوق باسناده عن ابن بكير نحوه، ورواه
الشيخ باسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله.
الثانية: ما رواه الكليني عن علي بن محمد بن بندار عن أحمد بن أبي عبد الله
عن أبيه عن بعض أصحابنا عن عبد الله بن مسكان، عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إن
سمرة بن جندب كان له عذق وكان طريقه إليه في جوف منزل رجل من الأنصار فكان
يجئ ويدخل إلى عذقه بغير اذن من الأنصاري فقال الأنصاري: يا سمرة لا تزال
تفجأنا على حال لا نحب ان تفجأنا عليها، فإذا دخلت فاستأذن فقال: لا استأذن
في طريق وهو طريقي إلى عذقي قال فشكاه الأنصاري إلى رسول الله فأرسل إليه
رسول الله صلى الله عليه وآله فاتاه فقال له ان فلانا قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلى أهله بغير
اذنه فاستأذن عليه إذا أردت ان تدخل فقال: يا رسول الله أستأذن في طريقي إلى
عذقي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله خل عنه ولك مكانه عذق في مكان كذا وكذا فقال
لا قال فلك اثنان قال لا أريد، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق فقال: لا قال: فلك
عشرة في مكان كذا وكذا فأبى فقال خل عنه ولك مكانه عذق في الجنة قال لا أريد
فقال له رسول الله انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن قال: ثم أمر بها رسول
الله فقلعت ثم رمى بها إليه وقال له رسول الله انطلق فاغرسها حيث شئت.
الثالثة: ما نقله في الوسائل عن محمد بن علي بن الحسين باسناده عن الحسين الصيقل
عن أبي عبيدة الحذاء قال قال: أبو جعفر (ع) كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط
بنى فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شئ من أهل الرجل يكرهه الرجل،
قال فذهب الرجل إلى رسول الله فشكاه فقال يا رسول الله ان سمرة يدخل على بغير
اذنى فلو أرسلت إليه فأمرته ان يستأذن حتى تأخذ أهلي خدرها منه فأرسل إليه رسول
الله فدعاه فقال يا سمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول: يدخل بغير اذنى فترى من
أهله ما يكره ذلك يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت ثم قال رسول الله يسرك أن يكون
لك عذق في الجنة بنخلتك قال: لا قال لك ثلثة قال: لا قال: ما أراك يا سمرة الا مضارا
اذهب يا فلان فاقطعها واضرب بها وجهه.
77

الرابعة: ما رواه ثقة الاسلام عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن
عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد (1) عن أبي عبد الله قال: قضى: رسول الله بين أهل المدينة
في مشارب النخل انه لا يمنع نفع (2) الشئ وقضى بين أهل البادية انه لا
يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال لا ضرر ولا ضرار، ورواه صاحب الوسائل في
الباب 7 من أبواب احياء الموات غير أنه رواه بلفظة فقال لا ضرر ولا ضرار.
الخامسة: ما رواه صاحب الوسائل في الباب من أبواب الشفعة عن الكليني
بالسند المتقدم في الرواية الرابعة عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قضي رسول الله
بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين وقال لا ضرر ولا ضرار، وقال إذا أرفت الا
الارف وحدت الحدود فلا شفعة، قال ورواه الشيخ باسناده عن محمد بن يحيى مثله
ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد وزاد ولا شفعة الا لشريك غير مقاسم.
السادسة: ما رواه صاحب الوسائل عن الصدوق باسناده عن أبي الأسود الدئلي
ان معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا يهودي مات وترك أخا مسلما فقال
معاذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الاسلام يزيد ولا ينقص، فورث المسلم من أخيه اليهودي
قال الصدوق وقال النبي: الاسلام يزيد ولا ينقص قال وقال: لا ضرر ولا ضرار في
الاسلام، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا قال وقال: الاسلام يعلو ولا يعلى
عليه راجع الوسائل الباب (1) من أبواب الإرث

(1) قال العلامة المامقاني في ترحمة الرجل ما هذا مثاله: عده الشيخ في رجاله والنجاشي
في فهرسته من أصحاب الصادق وظاهرهما وصريح الكشي كونه اماميا ويظهر عما رواه
الكافي في كتاب الجنائز في باب ما يعاين المؤمن والكافر، حسن عقيدته وقوة ايمانه
وكونه ذا جاه عند الصادق (ع) يروى عنه ابنه ومحمد بن عبد الله بن هلال وغالب بن عثمان.
(2) الظاهر أنه تصحيف " نقع البئر " بالمعجمتين، وسيجيئ ما يؤيده في رواية عبادة
بن الصامت من أنه صلى الله عليه وآله قضى بين أهل المدينة في النخل، لا يمنع نقع بئر الخ وفي المجمع: نقع
البئر فضلها قال في التذكرة: ان الماشية انما ترعى بقرب المار فإذا منع من فضل الماء فقد
منع من الكلاء منه دام ظله.
78

السابعة: ما رواه المحدث النوري في المستدرك ج 3 ص 150 عن دعائم
الاسلام روينا عن أبي عبد الله انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط
فامتنع من بنيانه قال: ليس يجبر على ذلك الا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى
بحق أو بشرط في أصل الملك ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقك ان
شئت قيل له، فإن كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه اضرارا بجاره لغير
حاجة منه إلي هدمه قال: لا يترك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لا ضرر ولا ضرار (اضرار) وان
هدمه كلف ان يبنيه
الثامنة: وعنه روينا عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام
ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: لا ضرر ولا ضرار.
هذه جملة ما وقفت عليه في جوامع الحديث للشيعة وسيوافيك ما في جوامع
العامة، ولا باس ان نردف ما رويناه عن جوامع أصحابنا بما وقفنا عليه في الكتب
الاستدلالية لهم ونكتفي بالقليل من الكثير.
قال الشيخ في الخلاف في خيار الغبن في المسألة الستين: دليلنا ما روى عن
النبي أنه قال لا ضرر ولا ضرار.
واستدل رحمه الله في كتاب الشفعة منه في المسألة الرابعة عشر بالحديث أيضا.
قال ابن زهرة في خيار العيب: ويحتج على المخالف بقوله: لا ضرر
ولا ضرار.
واستدل العلامة في التذكرة بالحديث في باب خيار الغبن فراجع
المسألة الأولى.
وفي مجمع البحرين: وفي حديث الشفعة: قضى رسول الله بالشفعة بين
الشركاء في الأرضين والمساكين وقال لا ضرر ولا ضرار في الاسلام وقال وفي بعض
النسخ ولا اضرار ولعله غلط.
واما ما وقفنا عليه في معاجم العامة وجوامعهم ما رواه أحمد بن حنبل ج 5 ص
326 قال: حدثنا عبد الله، حدثنا أبو كامل الحجدري، حدثنا الفضيل بن سليمان،
79

حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد ابن عبادة الصامت عن عبادة:
قال: إن من قضاء رسول الله ان المعدن جبار، والبئر جبار والعجماء جرحها جبار (1)
وقضى في الركاز الخمس، وقضى ان تمر النخل لمن أبرها، الا ان يشترط المبتاع و
قضى ان مال المملوك لمن باعه - إلى أن قال - وقضى للجدتين من الميراث بالسدس
بينهما، وقضى ان من أعتق شركاء في مملوك، فعليه جواز عتقه إن كان له مال
وقضى لا ضرر ولا ضرار، وقضى انه ليس لعرق ظالم حق وقضى بين أهل المدينة في النخل:
لا يمنع نقع وقضى بين أهل المدينة انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء. الخ
وراه ابن ماجة القزويني في جامعه فراجع ج 1 ص 313.
وعن ابن الأثير في نهايته: وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار في الاسلام هذه جملة
الروايات التي وقفنا عليه ولعل في طيات أبواب الفقه وجوامع الحديث روايات يقف
عليه المتتبع، نعم ههنا روايات أخرى تؤكد مضمون الرواية وعموميتها وإن كانت
مغايرة مع ما سبق في اللفظ الا ان بينهما اتحاد في المضمون، فإليك جملة منها تحت
أرقام رياضية لئلا يختلط بما سبق.
1 - ما رواه الكليني في باب الضرار عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين
عن يزيد بن إسحاق، عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله في رجل شهد
بعيرا مريضا وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم فجاء وأشرك فيه رجلا بدرهمين
بالرأس والجلد، فقضى ان البعير برء فبلغ ثمنه دنانير قال: فقال: لصاحب
الدرهمين خمس ما بلغ فان قال أريد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار وقد اعطى
حقه إذا اعطى الخمس ورواه الشيخ باسناده عن محمد بن يحيى.
2 - ما رواه ثقة الاسلام عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله
بن هلال عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله في رجل اتى جبلا فشق فيه قناة فذهبت
قناة الاخر بماء قناة الأول قال يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب البئر ليلة ليلة
فينظر أيتهما أضرت بصاحبتها، فان رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور، الوسائل

(1) العجماء البهيمة من الانعام، والجبار هو الهدر اللذي لا يغرم المؤلف.
80

كتاب احياء الموات الباب 16 - وقال: ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد نحوه
وزاد وقضى رسول الله بذلك وقال إن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب
الأخيرة على الأول سبيل، وعن محمد بن الحسن باسناده، عن أبي عبد الله قريب منه.
3 - ما رواه ثقة الاسلام عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين قال كتبت إلى أبى
محمد (ع) رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له كم
يكون بينهما في البعد حتى لا يضر بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة
فوقع عليه السلام على حسب أن لا يضر إحديهما بالأخرى إن شاء الله - الوسائل كتاب الاحياء
الباب 14.
4 - ما رواه أيضا بالسند المتقدم قال كتبت إلى أبى محمد عليه السلام رجل كانت له رحي
علي نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية ان يسوق إلى قريته الماء في غير
هذا النهر ويعطل هذه الرحى أله ذلك أم لا فوقع عليه السلام يتقى الله ويعمل في ذلك بالمعروف
ولا يضر أخاه المؤمن. الوسائل كتاب الاحياء الباب 13.
5 - ما في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى عن طلحة بن
زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: قرأت في كتاب لعلى: ان رسول الله صلى الله عليه وآله كتب
كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل يثرب ان كل غازية غزت بما
يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين فإنه لا يجوز حرب الا بإذن أهلها وان
الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وحرمة الجار علي الجار كحرمة امه وأبيه لا يسالم مؤمن
دون مؤمن في قتال في سبيل الله الا على عدل وسواء (1).
6 - ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال عن النبي صلى الله عليه وآله في حديث قال ومن أضر
بامرأته حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار - إلى أن قال - ومن ضار
مسلما فليس منا ولسنا منه في الدنيا والآخرة - الوسائل كتاب الخلع الباب 2.
هذه جملة ما وقفنا عليه من الروايات، ونقل الاعلام عن فخر الدين ادعائه تواتر

(1) الظاهر زيادة لفظة " بما " في بما يعقب، ونقل عن أكثر نسخ التهذيب بدل
" لا يجوز حرب " لا تجار حرمة، راجع الوسائل.
81

حديث نفي الضرر والضرار (1)
جولة حول الروايات
وأنت إذا أحطت خبرا بما سردناه تقف على استفاضة قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار وقد

(1) وقد وقفنا على بعض الروايات ودونك بيانه.
1 - ما رواه في الوسائل عن مجمع البيان قال: جاء في الحديث ان الضرار في الوصية
من الكبائر - الوسائل كتاب الوصية الباب 8.
2 - ما رواه الكليني عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: انه نهى ان يضار
بالصبي وتضار بأمه - الوسائل باب أقل مدة الرضاع الرواية 3.
3 - ما رواه الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعت يقول:
المطلقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها وهى أحق بولدها ان ترضعه بما تقبله امرأة
أخرى يقول الله تعالى: ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك لا يضار
بالصبى ولا يضار بأمه في ارضاعه - الوسائل باب أقل مدة الرضاع.
4 - ما رواه الكليني عن محمد بن حفص عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سألته عن قوم كانت لهم عيون في ارض قريبة بعضها من بعض فأراد رجل ان يجعل عينه أسفل
من موضعها الذي كانت عليه وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضر بالبقية، وبعضها لا يضر
من شدة الأرض قال فقال: ما كان في مكان شديد فلا يضر وما كان في ارض رخوة بطحاء فإنه
يضر وان عرض رجل على جاره ان يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال: إن تراضيا
فلا يضر قال في الوسائل ورواه الصدوق مرسلا إلى قوله: فإنه يضر.
5 - من أضر بطريق المسلمين فهو ضامن.
6 - ما رواه الصدوق باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل ان يطلق
امرأته ثم يراجعها وليس فيها حاجة ثم يطلقها فهذا الضرار الذي نهى الله عنه - باب كراهة
الامساك من أبواب الطلاق.
7 - الجد أولى بذلك ما لم يكن مضارا - باب ولاية الجد.
8 - في رواية... إلى أن قال. على من أوصى ولم يجف ولم يضار كان كمن تصدق في
حياته - المؤلف.
82

روته المشايخ الثلاثة بأسانيد مختلفة وهو يفيد الاطمئنان بصدور قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر و
لا ضرار، وما تجد من الاختلاف في المتون، واشتمال بعض الروايات على فقرات لا
توجد في الأخرى غير ضار لكون الاختلاف صوريا غير جوهري، ناشئا من نقل الحديث
بالمعنى، واختلاف الدواعي في نقل الحديث فربما يتعلق الداعي بنقل الحديث
بعامة خصوصياته وربما يتعلق بنقل ما هو الغرض منه مع حذف ما ليس مهما في نظر
الراوي.
ولأجل ذلك تجد مرسلة زرارة مشتملة على فقرات لا توجد في موثقته، فقد ضم
إلى قوله لا ضرر ولا ضرار، قوله صلى الله عليه وآله: انك رجل مضار، وقوله: انطلق فاغرسها حيث
شئت، كما ذيل القاعدة بكلمة " على مؤمن " فهذه الخصوصيات مما لا توجد في موثقته
كما لا توجد في رواية الحذاء، نعم فيها: ما أراك يا سمرة الا مضارا.
ثم إن بعض أعاظم العصر نفى الاشكال عن ورود قوله: لا ضرر ولا ضرار مستقلا
في موارد أخر غير ما عرفت من واقعة " سمرة " قلت: اما اشتمال حديث الشفعة و
حديث منع فضل الماء فسيوافيك الكلام فيه ويظهر لك الحق في الحديثين، و
إماما رواه في المستدرك عن الدعائم في هدم الجدار لاضرار الجار فهو وإن كان
ظاهرا في وروده مستقلا، وانه قضية من أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله حيث إن الامام استدل
على عدم جواز هدمه لاضرار جاره بان رسول الله قال لا ضرر ولا ضرار الا انه ليس
ظهورا لفظيا حتى يقول عليه واستشهاده عليه السلام - لا يدل على وروده وصدوره مستقلا
من رسول الله (صلى الله عليه وآله بل يدل على كونه قاعدة كلية وان لم يصدر من رسول الله في
غير واقعة " سمرة ".
فلم يبق ما يدل على صدوره من رسول الله مستقلا، غير المراسيل التي لا يجوز
الاعتماد عليها، أعني مرسلة دعائم الثانية ومراسيل الصدوق والشيخ وابن زهرة
والعلامة على أن تلك المراسيل ليست ظاهرة في صدوره مستقلا ولعل الكل أخذوا
من ذيل واقعة " سمرة " واما رواية مسند الحنابلة، فليست حجة عندنا حتى نعتمد
عليها، (فح) فان أراد من وروده، مستقلا الأعم مما يحتج به أو لا فله وجه لوروده في
83

مسند أحمد، وان أراد وروده على نحو يصح الاحتجاج به فقد عرفت عدم الدليل عليه
حديث الشفعة ومنع فضل الماء
قد عرفت ان الحديثين وردا مذيلين بقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار على نحو يعرب
عن انه كبرى كلية، وان المورد من صغرياته كما في رواية الأنصاري وقد استشكل على
كونه كبرى في ذينك الموردين بوجوه نشير إليها.
الأول: لو كان كبرى كلية وعلة للحكم لزم كونها معممة ومخصصة واللازم منه في
باب الشفعة ان يخصص حق الشفعة بموارد لزم من الشركة الثانية ضرر دون غيرها
ضرورة ان الضرر ليس لازما لمطلق الشركة مع غير الشريك الأول، فربما تكون
الشركة مع الثاني أنفع له من الأول، وربما لا يكون ضرر أصلا مع عدم التزامهم بذلك
أضف إلى ذلك أنه يلزم منه ثبوت الشفعة في غير البيع من سائر المعاوضات إذ الزم
منها الضرر، وبالجملة قضية العلية دوران الحكم مدارها،
الثاني: انه يلزم أن يكون " لا ضرر " مشرعا للحكم الثبوتي فان جواز اخذ
الشفعة حكم ثبوتي زائد على نفى اللزوم في البيع من الغير، اللازم منه الضرر.
الثالث: انه يلزم ان ترفع بالضرر الاحكام التي يلزم منها عدم النفع فان في
منع فضل الماء عدم وصول النفع إلى الماشية مضافا إلى أن المشهور على ما قيل كراهة
منع فضل الماء فيلزم منه سد باب الاستدلال بحديث " لا ضرر " إلي غير ذلك
من الاشكالات.
ثم إن العلامة المتبحر شيخ الشريعة الأصفهاني قدس الله سره قد أسهب في المقال
فأفاد في توطيد ما ذكره وجها آخر واليك بيانها قال في رسالته التي ألفها في مفاد القاعدة
ما هذا ملخصه ان الحديثين لم يكونا حال صدورهما عن النبي صلى الله عليه وآله مذيلين بحديث
الضرر وان الجمع بينهما وبينه وقع من الراوي بعد صدور كل في وقت خاص به واستدل
عليه - بأنه يظهر بعد التأمل التام في الروايات ان الحديث الجامع لا قضية رسول الله
في مواضع مختلفة كان معروفا بين الفريقين اما من طرقنا فبرواية عقبة بن خالد عن
الصادق عليه السلام واما من طرق أهل السنة فبرواية عبادة بن صامت قال إن من قضاء رسول الله
84

ان المعدن جبار والبئر جبار، والعجماء جرحها جبار، وقضى في الركاز الخمس،
وقضى ان ثمر النخل لمن أبرها الا ان يشترط المبتاع وقضى ان مال المملوك لمن باعه الا ان
يشترط المبتاع وقضى ان الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقضى بالشفعة بين الشركاء
في الأرضين والدور - إلى أن قال - وقضى في الرحبة تكون بين الطريقين ثم يريد
أهلها البنيان فيها فقضى ان يترك للطريق فيها سبع أذرع وقضى في النخلة أو النخلتين أو
الثلث فيختلفون في حقوق ذلك فقضى ان لكل نخلة من أولئك مبلغ جريدتها خير لها وقضى
في شرب من السيل ان الاعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى
الأسفل الذي يليه فكذلك تنقضي حوائط أو يفنى الماء، وقضى ان المرأة لا تعطى من مالها
شيئا الا بإذن زوجها، وقضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما سواء وقضى من أعتق
شركاء في مملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال، وقضى ان لا ضرر ولا ضرار، و
قضى انه ليس لعرق ظالم حق وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نقع بئر، وقضى
بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلاء وقضى...
وقد عرفت بما نقلناه مطابقة ما روى من طرقنا لما روى من طرق القوم من
رواية عبادة من غير زيادة ونقيصة بل بعين تلك الألفاظ غالبا الا الحديثين الأخيرين
المرويين عندنا بزيادة قوله: لا ضرر ولا ضرار وتلك المطابقة بين الفقرات مما يؤكد
الوثوق بان الأخيرين أيضا كانا مطابقين لما رواه عبادة من عدم التذييل بحديث الضرر
إلى أن قال: والذي اعتقده انها كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله
عليه السلام كما في رواية عبادة بن صامت الا ان أئمة الحديث فرقوها على الأبواب إلي ان
قال: وان ما في النسخ من عطف قوله: لا ضرر ولا ضرار بالفاء (اي فقال لا ضرر ولا ضرار)
تصحيف قطعا والنسخ الصحيحة المعتمدة من الكافي متفقة على الواو - انتهى ملخصا.
أقول: وفيه ان ما افاده من أن أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله مروية في جوامعنا برواية
عقبة بن خالد، غير واضح جدا فان المتتبع في غضون الجوامع يقف على أن كثيرا من
تلك الأقضية غير مروى بطريق عقبة بن خالد، بل رواه أناس آخرون، وان ما رواه
عقبة من القضايا قليل من الكثير الذي نقله الآخرون، حتى أن ما رواه عقبة من الأقضية غير
85

متفرد في نقل غالبها، بل شاركه في نقله بعض آخر، وهو قدس سره اورد من أقضية
النبي من طرق القوم عشرين قضاءا برواية عبادة، ومن طرقنا سبعة قضاء أو ستة برواية
عقبة بن خالد وهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي وقفنا عليه من أقضية النبي صلى الله عليه وآله في
طيات الأبواب ولولا ضيق المجال لسردنا مقدارا مما وقفنا عليه ما رواه أئمة
الحديث في جوامعهم بطرق آخر، وعليك التتبع والمراجعة، و (عليه) كيف
يمكن الوثوق بقوله: (قدس سره) من أن قضاياه كانت مجتمعة في رواية عقبة بن خالد
ثم فرقها أئمة الحديث على الأبواب.
واماما ربما يقال دليلا على اجتماعها في رواية عقبة بان سند الكليني إلى عقبة في
جميع الأقضية المنقولة عنه واحد، فغير تام لان كون طريقه إلى عقبة واحدا أو متعددا
لا يدل على الاجتماع وعدمه، إذ ربما يكون الطريق إلي أصحاب الكتب واحدا، وقد
يكون متعددا وليس الوحدة دليلا على الاجتماع، ولا التعدد دليلا على ضده.
أضف إلى ذلك انا سلمنا كونه مجتمعة في رواية عقبة وان أئمة الحديث فرقها
على الأبواب، لكن يبقى السؤال عن تكراره في ذيل قضيتين، فان عقبة لم يذكر تلك
القضية الا مرة واحدة، فلماذا اوردها الكليني في موردين، وفى ذيل الحديثين.
حل العقدة
قد عرفت ان ما ذكره مما لا تفك به العقدة وان السياق يقتضى تذيل الحديثين بالقاعدة
فيجب الاخذ به حتى يمنع عنه مانع بان يمتنع جعله كبرى كلية أو نكتة للتشريع،
(فح) يرفع اليد من الظهور تخلصا من الاشكال.
نعم يمكن ان يقال: إن قوله: لا ضرر ولا ضرار يصلح أن يكون كبرى كلية
للموردين، ونكتة تشريع للحكم الموجود فيهما اما الأول: فلان الكبرى الكلية
لا بد وان يندرج في موضوعها: الأصغر ويحمل عليه حملا شايعا، كما في قولنا: الخمر
مسكر، وكل مسكر حرام، فالخمر حرام فالحكم بحرمتها. ليس بما هي خمر، بل انها
من مصاديق الخمر، واندراجه في الكبرى المذكورة واما المقام فليس من هذا القبيل،
فان اخذ ملك الشريك شفعة لا يترتب عليه دفع الضرر في مورد من الموارد فإنه على فرض
86

تحقق الضرر يكون مرفوعا دائما بأمر متقدم طبعا على الاخذ بالشفعة وهو عدم لزوم
بيع الشريك أو منع فضول الماء، لا يندرجان موضوعا وحكما في قوله: لا ضرر ولا ضرار
أضف إليه ان نفى الضرر لا يصلح أن يكون علة، لجواز الاخذ بالشفعة، ولا لحرمة منع فضول
الماء لعدم التناسب بينهما.
واما عدم كونه نكتة للتشريع، فان نكتة التشريع عبارة عما يكون ما لأجله
التشريع مما لا يترتب على مورد التشريع على وجه الكلية، كالأمر بالغسل في يوم الجمعة
لإزالة أرياح الاباط، والعدة لعدم اختلاط المياه، والحج للتفقه في الدين ومعرفة الامام
والصوم لذوق الأغنياء ألم الجوع، والزكاة لاختبارهم وتحصين أموالهم إلى غير ذلك
من الموارد، واما المقام فليس من هذا القبيل.
واما منع فضول الماء فليس الا فقد المنفعة، لا الضرر كما لا يخفى، اللهم الا ان يقال إنه
يكفي في نكتة التشريع أو في مناسبة لذكرها أو يقال: إن سلطنة الشريك على الفسخ
وإن كان يرفع الضرر عن الشريك، الا انه ربما يكون موجبا لضرر آخر، وهو كون مال
الشريك مالا بلا مشترى وهو ربما يورث الضرر والضيق، فنكتة التشريع ليس سلب الضرر
عن الشريك بل عنه وعن صاحب المال، فلأجل دفع الضرر عنهما شرعت الشفعة بشرائطها.
وبعد ما عرفت من عدم تناسب هذا الذيل لصدر روايتي ثبوت الشفعة وكراهة منع
فضول الماء الا بتكلف فلا يبعد الالتزام بعدم كونهما مذيلين به.
ويؤيده خلو سائر روايات الباب عن هذا التذييل فراجع إلى باب الشفعة فلا تجد
فيه رواية مشتملة عليه، ومثله روايات منع فضل الماء واليك ما رواه الصدوق قال: قضى
رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل البوادي ان لا يمنعوا فضل ماء ولا يبيعوا فضل كلاء وما رواه ابن أبي
جهمور في غوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه وآله قال من منع فضل الماء ليمنع به الكلاء منعه الله فضل
رحمته يوم القيمة ويؤيده أيضا ما رواه أحمد ابن حنبل في مسنده فقد نقلناه سابقا بطوله، فإنه
قد نقل القضيتين غير مذيلتين بالقاعدة بل نقل أو لاقضائه بالشفعة بين الشركاء في المساكن
والدور، ثم بعد ما اورد عدة أقضية منه صلى الله عليه وآله قال وقضى ان لا ضرر ولا ضرار، وقضى انه ليس لعرق
ظالم حق، وقضى بين أهل المدينة في النخل، انه لا يمنع نقع بئر، وقضى بين أهل البادية
87

انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل الكلاء.
أضف إلى ذلك أنه يمكن ان يقال: إن مقتضى السياق هو كونه قضية مستقلة،
إذ لو كان علة للحكم أو نكتة للتشريع لكان الأنسب عدم تخلل كلمة " وقال " بين الصدر
والذيل، وهذا التخلل يمكن أن يكون مؤيدا لظهور الروايتين في كون لا ضرر ولا ضرار
قضية مستقلة، واما ما في بعض النسخ من قوله: " فقال " على وجه يشعر بالتفريع والتذييل،
فتصحيف، فقد نقل العلامة شيخ الشريعة (قدس سره) ان النسخ المعتمدة عليها متفقة
على الواو، وقد لاحظنا بعض نسخ الكافي الذي يحضرني فوجدناه بالواو أيضا.
فتلخص مما ذكرناه ان ما ذكره العلامة المزبور من دعوى الوثوق من اجتماع
تلك الأقضية في رواية عقبة وان أئمة الحديث فرقها وإن كان غير مرضى عندنا، الا ان
الحق معه في عدم تذيل الحديثين به. لما عرفت من عدم المناسبة، وخلو باقي الروايات
عنه، وما عرفته من مسند أحمد، وما في التذييل من اشكالات غامضة: (وعليه) فلا بد
ان يقال: إن عقبة قد سمع من أبى عبد الله أقضية النبي صلى الله عليه وآله في محال مختلفة ولكنه ذيل
حديثي الشفعة ومنع فضل الماء بهذا التذييل، زعما منه انه سمع من الامام كذلك (1).
هذا كله: مع ضعف الروايتين بمحمد بن عبد الله ابن هلال المجهول وعقبة بن خالد
الذي لم يرد فيه توثيق فلا تصلحان لاثبات حكم.
في تذيل القاعدة بكلمتي في الاسلام أو على مؤمن وعدمه
اما الأول: فلم نجده في كتبنا الا في مرسلة الصدوق والعلامة، ولعله اتبع في نقله
لرواية الصدوق، وهى ما نقلناها سابقا عنه من أنه قال النبي: الاسلام يزيد ولا ينقص
قال: وقال لا ضرر ولا ضرار في الاسلام، فالاسلام يزيد المسلم خيرا ولا يزيده شرا
ويمكن ان يقال إن الزيادة من ناحية النساخ لا من الصدوق وهو (رحمه الله)
نقله عاريا من هذه الكلمة، غير أن الباعث لاشتباه الناسخ هو كلمة (فالاسلام) في قوله
فالاسلام يزيد المسلم خيرا، وهو متصل بقوله: لا ضرر ولا ضرار، فوقع الكاتب في الاشتباه

(1) أو أراد الاستئناس من قضاء لقضاء آخر، فوجد قوله: لا ضرر ولا ضرار مناسبا
لان يكون علة للتشريع أو نكتة له فأضافه إليه، وفصل بينهما بقوله: وقال: لا ضرر ولا
ضرار - المؤلف.
88

وزاغ بصره فكتب تلك الكلمة (فالاسلام) مرتين التكرار في الكتابة خصوصا بالنسبة
إلى كلمة واحدة مما يتفق للكاتب المستنسخ ثم جاء الآخرون فرأوا الزيادة والتكرار
صاروا بصدد اصلاحه بزعم ان الأولى تصحيف والصحيح " في الاسلام " وانه جزء من الجملة
فالمتقدمة: أعني قوله: لا ضرر ولا ضرار فجائت القاعدة مذيلة من ناحية الناسخ والقارئ لا من
المحدث: ثم تتابعت النسخ عليه.
نعم اورد الطريحي حديث الشفعة مذيلا بهذه الكلمة وهو اشتباه قطعا لان
الحديث مروى في الكافي الذي اخذ هو منه، بلا هذه الزيادة، ولعل قلمه الشريف
سبق إلى كتابة هذه الكلمة لما ارتكزت في ذهنه وبذلك يمكن توجيه الزيادة الواقعة
في كلام " ابن الأثير " فإنه نقل الرواية مذيلا بهذه الكلمة (1) مع أن الرواية في كتب
العامة عارية من هذه الكلمة فقد نقل العلامة شيخ الشريعة: انه تتبع صحاحهم ومسانيدهم
ومعاجمهم وغيرها فحصا أكيدا فلم يجد روايته في طرقهم الا عن ابن عباس وعبادة
بن الصامت وكلاهما رويا من غير هذه الزيادة - ثم قال - ولا أدرى من أين جاء ابن
الأثير في النهاية بهذه الزيادة: وعلى اي حال فالمرسلتان لم يثبت حجيتهما، حتى تتقدم
أصالة عدم الزيادة على النقيصة في مقام الدوران.
اما الثاني: أعني كلمة " على مؤمن " فقد وردت في مرسلة أبى عبد الله عن أبيه عن
بعض أصحابنا عن عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام وقد أوضحنا عليك فيما
تقدم ان هذه المرسلة اشتملت على أمرين لم تشتمل عليهما، موثقه " زرارة " ولا رواية
الحذاء أعني قوله: على مؤمن وقوله: فانطلق فاغرسها حيث شئت، ولكن شاركت
الروايتان في عامة المطالب، وهذا مما يورث الوثوق بصدقها وصدورها وبما ان الاختلاف
صوري لا جوهري والباعث هو نقل الحديث بالمعنى والاختلاف في الأغراض، فربما
يتعلق الغرض بنقل مفاد عامة الخصوصيات وربما يتعلق بنقل ما هو المهم منها، و
(عليه) فيمكن ان يقال إنه قد سمع زرارة، وأبا عبيدة الحذاء واحتملا الرواية من

(1) بل يمكن ان يقال إن الزيادة الواقعة في مرسلة الصدوق من هذا القبيل أيضا لارتكاز
هذه الكلمة في ذهنه، وان الحكم حكم اسلامي - المؤلف.
89

أبى جعفر عليه السلام، بعامة خصوصياتها، ثم جاء الاختلاف عند نقلها بالمعنى منهما أو من ناحية
غيرهما ممن رووا عنهما.
وهذا الاختلاف الغير الجوهري موجود في نفس الروايتين أيضا قد اشتملت
الموثقة على قوله: لا ضرر ولا ضرار، دون رواية الحذاء، كما اشتملت الثانية علي قوله
أنت رجل مضار دون الموثقة، والسبب هو النقل بالمعنى واختلاف المرمى، فظهر
انه لا مانع من القول باشتمال القاعدة على كلمة " على مؤمن " لما عرفت من القرائن على
صدور المرسلة وصدقها على أن الأصل المعتمد عليها، هو تقديم أصالة عدم الزيادة على
أصالة عدم النقيصة عند العقلاء.
فان قلت: ان تقديم أصالة عدم النقيصة على الأخرى، لأجل أبعدية إحدى
الغفلتين عن الأخرى، فان الغفلة بالنسبة إلى النقيصة ليس بغريب ونادر، واما
بالنسبة إلى الزيادة فليس بهذه المثابة، الا انه فيما إذا لم يثبت النقيصة من جانبين
والزيادة من جانب واحد، كما في المقام فان الزيادة انما اتى بها المرسلة، والموثقة و
رواية الحذاء عاريتان منها وكذا سائر الروايات ومن البعيد غفلة المتعدد، وتوجه
الواحد، أضف إلى ذلك ان هذه الزيادة. من الكلمات المرتكزة المأنوسة فيحتمل
أن يكون منشائها نفس الراوي، لمناسبة بين الحكم وموضوعه، وان المؤمن الذي
لا بد ان تحفه العنايات الربانية، وينفى عنه الضرر.
قلت: تقديم أحد الأصلين على الاخر، ليس لأجل دوران الامر بين الغفلتين وأبعدية
إحديهما بالنسبة إلى الأخرى، كما ذكر في الاشكال حتى يقال بان هذا فيما إذا
لم يتوافق الروات على النقيصة وتفرد واحد منهم على الزيادة بل لان الزيادة لا تقع
الا غفلة أو كذبا وافتراءا واما النقيصة فهي مشاركة معها في ذلك وتختص بأنها ربما
تقع لداعى الاختصار أو توهم ان وجود الكلمة وعدمها سواء في إفادة المقصود وان
الكلمة مما لا دخالة لها في الغرض، أو لعدم كونه بصدد بيان عامة الخصوصيات (فح)
يرجح الأصل في جانب الزيادة على الاخر، وان تفرد ناقلها وتوافق الرواة في جانب
النقيصة هذا أو لا.
90

وثانيا ان ما ذكرت انما يكون مرجحا، إذا كان الراويان مثلا متوافقين في
سائر الجهات، واما مع اختلافهما في بعض الجهات ولو مع اتفاقهما في جهة واحدة
فلا، وقد عرفت الاختلاف بين الموثقة ورواية الحذاء، وان الأولى مشتملة على قوله:
لا ضرر ولا ضرار متعقبا بالامر بالقلع، دون الثانية وهى تتضمن قوله: ما أراك يا سمرة
الا رجلا مضارا، مقدما على الامر بالقلع، والمرسلة مشتملة على الجميع، وهذه قرينة على
كونها بصدد نقل عامة الخصوصيات دون الروايتين، ويؤيد ذلك ما تشتمل المرسلة
عليه من التفصيل والاسهاب فيما دار بين الرجل والأنصاري من الكلام، وما ترددت
بينهما، وبين رسول الله من المقاولة وما تلوناه يؤيد كون المرسلة بصدد نقل تمام
القضية دونهما ويؤكد اشتمال الرواية في الأصل على لفظة " على مؤمن " ويوجب
تقدم أصالة عدم الزيادة على الأخرى.
وثالثا: ان ما ذكر: من أنه يمكن أن يكون منشأ الزيادة نفس الراوي
لمناسبة بين الحكم والقيد ضعيف جدا، لأنه ان أريد منه ان الراوي قد أضاف القيد
عمدا لمناسبة ادركها بين القيد والحكم، فهو أمر باطل لأنه يمس بعدالته وكرامته
ولم يبق الطمأنينة على أمثال هذه القيود، وان أريد ان لسان الراوي أو قلمه سبق
إلى الزيادة لأجل المناسبة بين المزيد والمزيد فيه ففيه انه فرع أن يكون الفرع
من الأمور المرتكزة التي لا ينفك تصور المزيد فيه عن تصور المزيد ويكون كاللازم
البين حتى يكون ملاكا لسبق اللسان أو القلم، والمورد ليس من هذا القبيل جدا
ضرورة انه لا تسبق على الذهن كلمة " على مؤمن " عند تصور لا ضرر ولا ضرار حتى
يجرى على طبقه اللسان أو القلم، وبالجملة: لو قلنا بحجية المرسلة لما عرفت
من قرائن الصدق والصدور أمكن اثبات الزيادة بها ولا يضر عدم ورودها في
الموثقة وقرينها (1).

(1) غير أنه يمكن ان يقال: بالوجه الأول ولا يرد عليه ما ذكره بمعنى ان الراوي اعتقد
ان مصب الحكم هو نفى الضرر عن المؤمن دون الكافر فأضاف ما ذكر زعما بأنه المراد من
الحديث، والزيادة والنقيصة في الحديث عند نقله بالمعنى شايع إذا لم يخل بالغرض عند
القائل وقد سئل محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام عن الزيادة وضدها عند نقل الحديث
فقال: إذا أردت معناه فلا بأس - المؤلف.
91

في معنى الضرر والضرار
هذا بحث عن مفردات الحديث، وسيوافيك البحث عن مفاد الهيئة التركيبية
فنقول: اما الضرر فهو من الكلمات الشايعة الدارجة التي لا يكاد يخفى معناه على
العرف الساذج، والمفهوم منه عندهم هو النقص على المال والنفس، يقال: البيع ضرري
أو أضر به البيع أو ضره الدواء والغذاء، ويقابله النفع، ولا يستعمل في هتك الحرمة والإهانة،
كما لا يستعمل النفع في ضد الهتك، فلو نال الرجل: من عرض جاره بان نظر إلي امرأته
نظر الريبة، أو هتكه واهانه، لا يقال: إنه أضر به، كما لا يقال عند تبجيله وتوقيره بين
الناس انه نفعه، وذلك واضح، واما توصيف الضرر أحيانا بالعرضي فهو أعم من الحقيقة
والمجاز، هذا هو المفهوم عرفا واما أئمة اللغة فقد ذكر الجوهري في صحاحه انه يقال:
مكان ذو ضرر أي ضيق ويقال: لا ضرر عليك ولا ضارورة وتضرة وظاهره ان في هذه
الاستعمالات يكون الضرر بمعنى الضيق، وقال الفيروزآبادي في قاموسه: الضرر الضيق
وفي المصباح: الضرر بمعنى فعل المكروه يقال: ضره فعل به مكروها، وفى المنجد
الضر والضر والضرر ضد النفع، الشدة، الضيق وسوء الحال والنقصان الذي يدخل في
الشئ ولعل منه الضراء ضد السراء بمعنى الشدة والقحط (1).
وبما ذكرنا يظهر ان معنى الضرر والضرار والمضار في الروايات انما هو الضيق و
الشدة وايصال المكروه وإيجاد الضرر، فلاحظ قوله صلى الله عليه وآله: ما أراك يا سمرة الا مضارا
أي ما أراك الا رجلا موقعا أخاك في الحرج والشدة، ولا تريد بفعلك الا التضييق
على الأنصاري. واماما ربما يقال: إن استعمال الضرر بلحاظ الضرر العرضي وانه
بدخوله فجأة كان يورث الضرر العرضي، ويوجب هتكه وان معنى قوله: الا مضارا:
أي هاتكا للحرمة بدخوله منزل الأنصاري ونظره إلي أهله، فضعيف جدا، إذ قد

(1) لا يخفى تقارب هذه المعاني الكثيرة التي ذكرها أئمة اللغة، بحيث يمكن ارجاعها
إلى معنى واحد، كما لا يخفى تقارب ما يفهم منه عرفا مع هذه المعاني وان شئت فراجع إلى المخصص
لأبي على الفارسي فان كتابه موضوع لتشخيص المعاني الأولية وارجاع بعضها إلى بعض
- المؤلف.
92

عرفت ان هذا المعنى غير معهود لا من العرف ولا من اللغة، وأنت إذا لاحظت مظان
استعمال هذه المادة في الكتاب والسنة لا تجد موردا استعمل فيه هذه المادة مكان
هتك الحرمة، والإهانة بالعرض وسيوافيك شطر منه في توضيح معنى الضرار،
وبالجملة: استعماله في معنى الهتك والنيل من العرض وايراد النقص في العرض غير
معهود وانما استعماله في الحديث بالمعنى الذي عرفت.
واما الضرار: فالظاهر أنه بمعنى الضرر لا بمعنى المجازات في الضرر وعليه
كثير من أئمة اللغة وعليه جرى الذكر الحكيم فقد استعمل فيه بمعنى الاضرار لا المجازات
على الضرر، واليك الآيات.
1 - لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
2 - ولا تضار وهن لتضيقوا عليهن.
3 - ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا.
4 - والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين.
5 - ولا يضار كاتب ولا شهيد.
6 - من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار.
واليك شطر من الروايات الذي استعملت فيه الضرار بمعنى الضرر لا المجازات
الذي هو مفاد باب المفاعلة، فلاحظ روايات الباب: فان قوله: الا مضارا ليس الا
بمعنى الضرر، لا المجازات، إذ لم يسبق من الأنصاري ضرر حتى يجازيه، (منه)
رواية هارون بن حمزة التي أوردناه عند سرد الروايات فان قوله: فليس له ذلك هذا
الضرار وقد اعطى له حقه الخ، بمعنى ان طلب الرأس والجلد يورث الضرر علي الشريك
(ومنه) رواية طلحة بن يزيد في باب اعطاء الأمان: ان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم
ومنه ما رواه الصدوق في باب كراهة الرجعة بغير قصد الامساك عن أبي عبد الله عليه السلام
قال لا ينبغي للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس فيه حاجة ثم يطلقها فهذا
الضرار الذي نهي الله عز وجل عنه، و (منه) ما ورد في ولاية الجد قال الجد اولي بذلك ما لم
يكن مضارا و (منه) ما في عقاب الأعمال: من ضار مسلما فليس منا، و (منه) ما في
93

كتاب الوصية في رواية قال على من اوصى ولم يجف ولم يضار كان كمن تصدق في حياته إلي
غير ذلك من الروايات وبالجملة لم نجد موردا في الكتاب والسنة استعمل فيه الضرار
بمعنى باب المفاعلة والمجازات (1).
الفرق بين الضرر والضرار
بعد ما عرفت ان الضرار، بمعنى الضرر لا بمعني المجازات، لكن بينهما فرق من ناحية
اخري وهو ان الضرر والضر والاضرار وما يشتق منهما انما يستعمل في الضرر المالي والنفسي
بخلاف الضرار فان الشايع من استعماله، هو استعماله في التضييق والحرج وايراد
المكروه وايقاع الكلفة، والظاهر أن هذا هو المراد من موارده في الذكر الحكيم
واليك بيانها.
منها: قوله عز وجل: ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده فقد فسره الامام
بقوله: لا ينبغي للرجل ان يمتنع من جماع المرأة فيضار بها إذا كان لها ولد مرتضع
ويقول لها لا أقربك فانى أخاف عليك الحبل فتقتلي ولدى وكذلك المرأة لا يحل لها
ان تمنع على الرجل فتقول انى أخاف ان أحبل فاقتل ولدي وهذه المضارة في
الجماع على الرجل والمرأة ومثله غيره، وقد فسر الإمام أبو عبد الله عليه السلام
المضارة بالام في رواية أخرى بنزع الولد عنها، وحكاه في مجمع البحرين بقوله:
أي لا تضار بنزع الرجل الولد عنها ولا تضار الام الأب فلا ترضعه، وعنه عليه السلام:
المطلقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها وهى أحق بولدها ان ترضعه بما تقبله امرأة
أخرى يقول الله عز وجل لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل
ذلك لا يضار بالصبى ولا يضار بأمه في رضاعه.
فهذه الروايات تعطى ان المضارة في الآية ليست بمعنى الضرر المالي والنفسي
بل بمعنى ايقاع كل من الرجل والمرأة عديله في الحرج والمشقة، بترك الجماع،
ونزع الولد.

(1) ويؤيده ما استدركناه من الروايات فلاحظ الأرقام التالية في الحواشي الماضية،
تحت أرقام 1 - 2 - 3 - المؤلف.
94

واما قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، فاللائح
منه كون الضرار بهذا المعنى بتفريق شملهم، وادخال الشك في قلوبهم، والتزلزل
في عقائدهم، واليك ما روى في وجه نزوله رواه في الصافي والمجمع وغيرهما: ان بنى
عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله فحسدتهم اخوتهم: بنو غنم
بن عوف فبنوا مسجد الضرار وأرادوا ان يحتالوا بذلك فيفرقوا المؤمنين ويوقعوا الشك
في قلوبهم بان يدعوا أبا عامر الراهب من الشام ليعظهم ويذكروهن دين الاسلام ليشك
المسلمون ويضطربوا في دينهم فأخبر الله نبيه بذلك فامر باحراقه وهدمه بعد الرجوع
من تبوك. ويوضح المقصود ما ذكره الطبرسي ضرارا أي مضارة، وهو يريد بذلك
الضرر بمن بنوا مسجد قبا، بتفريقهم وتمزيقهم، وتشويش عقائدهم وليس هذا الا
التضييق وايقاع المكروه، لا الضرر المالي والنفسي.
ويشهد لما ذكرنا قوله عز من قائل: ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا فقد
روى الصدق باسناده عن أبي عبد الله قال سئلته عن قول الله عز وجل ولا تمسكوهن
ضرارا لتعتدوا قال: الرجل يطلق إذا كادت ان يخلو اجلها راجعها ثم طلقها بفعل ذلك
ثلاث مرات فنهى الله عز وجل من ذلك، وقال الطبرسي أي لا تراجعوهن لا لرغبة فيهن
بل لطلب الاضرار بهن اما بتطويل العدة أو بتضييق النفقة في العدة
ومنها قوله: ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن - الطلاق - 6 - فان المقصود، كما
يشهد له صدرها " واسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " هو التضييق عليهن باسكانهن
فيما لا يناسب شأنهن، ويلوح ما ذكرناه من الوجهين اللذين ذكره الطبرسي
فقال: لا تدخلوا الضرر بالتقصير في السكنى والنفقة والكسوة طالبين بالاضرار التضيق
عليهن ليخرجن، وقيل المعنى اعطوهن من المسكن ما يكفيهن بجلوسهن ومبيتهن
وطهارتهن ولا تضايقوهن حتى يتعذر عليهن السكنى.
ومنها: قوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد قال الطريحي: فيه قرائتان إحديهما، لا يضار
بالاظهار والكسر والبناء للفاعل على قرائة أبى عمرو فعلى هذا يكون المعنى:
لا يجوز وقوع المضارة من الكاتب بان يمتنع من الإجابة أو يحرف بالزيادة والنقصان
95

وكذا الشهيد، وثانيتهما: قرائة الباقين: لا يضار بالادغام والفتح والبناء للمفعول فعلى
هذا يكون المعنى: لا يفعل بالكاتب والشهيد ضرر بان يكلفا قطع مسافة بمشقة من
غير تكلف بمؤنتهما أو غير ذلك وقال الطبرسي: نقل عن ابن مسعود ومجاهد: ان الأصل
فيه لا يضار بفتح الراء الأولى فيكون معناه لا يكلف الكاتب الكتابة في حال عذر
لا يتفرغ إليها ولا يضيق الامر على الشاهد بان يدعى إلى اثبات الشهادة وإقامتها في
حال عذر ولا يعنف عليها.
نعم الظاهر أن المضار في آية الوصية هي الاضرار المالي بالورثة.
والمقصود من هذا التطويل الممل اثبات شيوع استعمال الضرار وتصاريفه في
التضييق وايصال المكروه والحرج والتكلف وأمثاله كما أن الشايع في الضرر
والضرر والاضرار هو الاستعمال في الضرر الوارد في المال والنفس كما هو معلوم.
وبذلك يتضح ان المراد من الضرار في الحديث، هو التضييق فان سمرة كان بدخوله
فجأة من غير استيذان، يشدد الامر على الأنصاري، ويوقعه في أمر مكروه، بالنظر إلى
أهله، كما يتضح به ضعف ما تداولته الألسن، من أن الضرار انما هو تأكيد للضرر، إذ
لا مجال للتأكيد، مع ظهور التأسيس، فان الضرر كما وقفت عليه من التبادر العرفي
انما هو الضرر على المال والنفس، والضرار هو التضييق والتشديد، فلا مجال لهذا
التأكيد البارد، كما لا مجال لما ربما يقال من أن الضرار هو الاضرار علي الضرر، ولا
المجازات مع أن المضار في الحادثة هو نفس سمرة فقط فكيف يكون بمعنى المفاعلة
والمجازات، ولا أظنك بعد التأمل فيما ذكرناه والفحص عن موارد استعمال الكلمتين
في الكتاب والحديث والتدبر في قضية سمرة واطلاق خصوص المضار عليه ان تتأمل في
تصديق ما ذكرناه وان المنطبق على المورد هو الضرار لا الضرر.
حول ما افاده أئمة اللغة في معنى الضرار
نعم الكلمات الواصلة إلينا من أساتذة اللغة ومهرتها، هو ان الضرار بمعنى المفاعلة
أي المجازات، واليك نقل عبائرهم، فعن ابن منظور عن لسانه: معنى قوله لا ضرر: أي
لا يضر الرجل أخاه هو ضد النفع، وقوله لا ضرار: أي لا يضار كل منهما صاحبه وعن ابن الأثير
96

في نهايته: معنى قوله: لا ضرر أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه والضرار " فعال "
ومن الضرر أي لا يجازيه على اضراره بادخال الضرر عليه والضرر فعل الواحد والضرار
فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه، وقيل: الضرر ما تضر صاحبك
وتنتفع أنت به والضرار ان تضره من غير أن تنتفع أنت به، وقيل هما بمعني واحد والتكرار
للتأكيد، ونقل هذه العبارة بعينها الطريحي في مجمعه، وعن جلال الدين السيوطي وتاج
العروس لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ولا ضرار أي لا يجازيه على اضراره
بادخال الضرر عليه.
غير أنه يمكن ان يقال: إن هؤلاء الاعلام مع الاذعان بفضلهم، قد فسروه اخذا
بحكم مفاد الباب، فان الأصل في باب المفاعلة: انما هو المجازات، والضرار مصدر من
هذا الباب ففسروه بما هو الأصل في مفاد هذه المصادر من غير فحص ولا تتبع عن مظان
استعماله في الكتاب والسنة، والشاهد عليه، اتحاد عبائرهم في تفسيره كما عرفت من
التاج وما نقله السيوطي، وقد مر ان المجمع اكتفى بنقل ما افاده ابن أثير، ولعل الأساس هو
ابن أثير في نهايته وابن منظور في لسانه، وتبعهما الباقون.
ويشهد لضعف ما أفاداه، وقوع كلمة " مضار " في حديث سمرة، فان قوله صلى الله عليه وآله: ما
أراك يا سمرة الا مضارا، لا يصح بمعنى المجازات على الضرر أو بمعنى اضرار كل
على صاحبه، وهذه الجملة صغرى لقوله: ولا ضرر ولا ضرار، فيلزم اتحاد الكلمتين في
المعني، وقد أوضحنا فيما مر عدم ثبوت ورود قوله: لا ضرر ولا ضرار مستقلا، ولم يثبت عندنا
صدوره الا في ذيل حديث سمرة، أضف إلى ذلك ما تلوناه من الشواهد فإنك لا تجد فيها
موردا استعمل فيما يدعيه الأساتذة ومهرة اللغة، فتحصل: ان الضرر في المقام ما هو
المفهوم عرفا منه، من النقص في الأموال والأنفس، والضرار، بمعنى الحرج والتضييق
وليس من حديث التأكيد، والمجازات عين ولا اثر.
في توضيح مفاد الهيئة التركيبية
وقد وقع مشارا للبحث واختار كل مذهبا واليك نقل ما اختاره الاعلام و
توضيح ما فيه.
97

الأول: واختاره الشيخ الأعظم وقال ما هذا حاصله: ان الاظهر ابقاء النفي
على حاله، وان المنفى هو الحكم الشرعي الذي يلزم منه الضرر على العباد ويكون
المحصل انه ليس في الاسلام مجعول ضرري وبعبارة أخرى: حكم ضرري يلزم من العمل
به الضرر على العباد كلزوم البيع مع الغبن ووجوب الوضوء إذا استلزم ضررا ماليا، و
إباحة الاضرار بالغير فان الكل احكام ضررية منتفية في الشريعة، هذا كله إذا كان الحديث
مطلقا، أو مقيدا بقوله: في الاسلام. وإذا قلنا بوروده مقيدا بقوله " على مؤمن " فيختص
بالحكم الضرري بالنسبة إلى الغير ولا يشمل نفي وجوب الوضوء والحج مع الضرر - إلى أن
قال - وما ذكرنا من الوجه هو الأرجح في معنى الرواية بل المتعين بعد تعذر حمله على
حقيقته لوجود الحقيقة في الخارج بديهة.
الثاني: ما اختاره بعض الفحول وهو أن يكون كناية عن لزوم التدارك اي الضرر
المجرد عن التدارك منفى، وجعله الشيخ الأعظم أردء الوجوه.
الثالث: إرادة النهى من النفي ومرجعه إلى تحريم الاضرار وهذا هو الذي يظهر من
كلمات اللغويين وشراح الحديث حسبما استظهر وحيد عصره شيخ الشريعة الأصفهاني
وبالغ في تشييده وسيوافيك بيانه.
واما ما افاده المحقق الخراساني من أن المراد نفى الحكم بلسان نفى موضوعه فليس
في عرض هذه الوجوه الثلاثة - كما صدر عن بعض أعاظم العصر بل هو راجع إلى
الوجه الأول، غير أن الفرق بينه وبين ما عن الشيخ الأعظم إلى كيفية استفادة نفى
الاحكام الضررية من الحديث فهو يتحد مع ما افاده الشيخ الأعظم لبا، ويفارقه في
طريق الاستفادة، وسيوافيك مزيد توضيح لهذا وانه لا فرق بين المختارين فانتظر.
وهيهنا وجه رابع ولم اقف عليه في كلمات القوم، وهو أن يكون نهيا سلطانيا
صدر عن رسول الله بما هو سائس الملة وسلطانها وستوضحه حق التوضيح، هذه هي
الوجوه التي قيلت في المقام ولنرجع إلى توضيح حالها.
حول ما افاده الشيخ الأعظم
صريح كلامه (قدس سره) ان المنفى هو الحكم الشرعي المستلزم للضرر
98

وان ما اختاره من المعنى، ليس علي طريق الحقيقة بل على نحو المجاز لتعذر حمله
على الحقيقة لوجودها في الخارج و (عليه) لا وجه لما أتعب به بعض الأعاظم نفسه
الشريفة في توضيح ما افاده الشيخ الأعظم وانه لا يستلزم تجوزا ولا ادعاءا، مع أن
صاحب المقال يصرح بخلافه، وعلى ذلك فلابد في الوجه المصحح للمجاز، وانه
ماذا والذي يمكن ان يقال وجوه.
الأول: أن يكون على نحو المجاز في الحذف، أي لا حكم ضرري كما هو
المختار عند النحاة في قوله تعالى: واسأل القرية.
الثاني: أن يكون على نحو المجاز في الكلمة من استعمال اللفظ في غير ما هو
موضوع له بلا ادعاء - على ما هو مصطلح عندهم - لعلاقة السببية والمسببية، فأطلق
المسبب وأريد السبب فان تشريع الحكم الضرري سبب للضرر وبما انك وقفت على
حقيقة المجاز في فنون البلاغة وأساليب الفصاحة فلا وقع لهذا القولين في تصحيح
ما هو المطلوب، وعرفت ان كل ما يدعيه القوم من كونه على نحو المجاز في الحذف
أو في الكلمة على الطريقة المألوفة عندهم ليس بشئ وإن كان يوهم بعض تعبيراته
(قدس سره) ان المقام من قبيل المجاز في الحذف.
الثالث: أن يكون على نحو الحقيقة الادعائية وهو يتصور على وجوه:
(منها) ما افاده المحقق الخراساني: من أنها من قبيل نفى الموضوع كناية عن نفى
آثاره كقول القائل: يا أشباه الرجال ولا رجال مدعيا ان تمام حقيقة الرجولية هو المروءة
والشجاعة، فإذا فقدتا فقد فقدت الرجولية، والمراد من الآثار المنفية هي الآثار المتعلقة
بالموضوعات بعناوينها الأولية كوجوب الوفاء بالعقد الضرري ووجوب الوضوء الضرري
والظاهر أن مرجع هذا إلى ما اختاره الشيخ الأعظم، ويشهد له ما ذكره الشيخ في
رسالته التي عملها في قاعدة لا ضرر حيث قال في عداد معانيها: " الثالث ان يراد به
نفى الحكم الشرعي الذي هو ضرر على العباد وانه ليس في الاسلام مجعول ضرري
وبعبارة أخرى: حكم يلزم من العمل به الضرر على العباد " فقد جعل نفى الحكم
الذي يلزم الضرر من العمل به تفسيرا لما قبله أعني نفى الحكم الشرعي الذي
99

هو ضرر علي العباد وبذلك يتضح معني قوله في الفرائد: " ان الشارع لم يشرع
حكما يلزم منه ضرر على أحد " فان المراد ليس الحكم المستلزم للضرر وبوسائط
عديدة بل المراد ما ذكره في الرسالة: الحكم الذي يلزم الضرر من العمل به على
العباد، و (عليه) فما افاده المحقق الخراساني من الفرق بين مختاره، وما افاده
الشيخ الأعظم ليس بسديد. فراجع (1).
منها: ما افاده في تعليقته على الفرائد: ان المنفى هو الحكم الضرري بلسان
نفى الموضوع على نحو الحقيقة الادعائية مثل: لا رفث ولا فسوق ولا جدال، بمعنى
ان الشارع لم يجوز الاضرار بالغير، أو وجوب تحمل الضرر عنه، والفرق بين
المختارين واضح.
منها: ما افاده شيخنا العلامة في درسه الشريف على ما هو ببالي من أن النفي
نفى تشريعي وانه بلحاظ محيط التقنين، فإذا فرض ان سلطان مملكة، قلع أسباب
الضرر برفع الاحكام الضررية وعدم تشريعها ونهى الناس عن الاضرار، وامر بالتدارك
عنده، يصح أن يقول: إنه لا ضرر في مملكتي، وحوزة سلطاني وحمى قدرتي وهو رحمه -
الله كان بصدد جمله على الحقيقة دون الحقيقة الادعائية، لكنه غير سديد لان الضرر
المنفى هو الضرر الخارجي، وهو كان في حوزه سلطنته صلى الله عليه وآله كثيرا، ومجرد نهي
الناس عن الاضرار والامر بالتدارك لا يوجب فقدان الضرر وقلعه ولا يستلزم الحمل على
الحقيقة، ولو قيل باختصاصه بنفي الاحكام الضررية وان المرمى نفى الضرر عن
محيط التشريع وانه لا يشمل اضرار البعض ببعض فلا يكون على وجه الحقيقة، أيضا لوجود

(1) رتب (قدس سره) على ما ذكره من الفرق آثارا (منها) عدم حكومة لا ضرر على
الاحتياط العقلي، و (منها) ما افاده في حاشية المكاسب قوله في خيار الغبن بان انتفاء اللزوم
وثبوت التزلزل في العقد لا يستلزم ثبوت الخيار في العقد فقال: هذا إذا كان المرفوع
بحديث لا ضرر الحكم الناشئ منه الضرر واما إذا كان المرفوع ما كان للضرر من الحكم مع
قطع النظر عن هذا الحديث كان المرفوع في المعاملة الغبنية وجوب الوفاء بها وهو يستلزم
جوازها، نعم لا يستلزم ثبوت الخيار الحقي - المؤلف.
100

الاحكام الضررية إلى ما شاء الله من تشريعه الجهاد والخمس والزكاة والكفارات
ولو اغمض عنه، وقيل إنها ليست احكاما ضررية لبا، فلا مسرح للحقيقة، لان
المنفى حقيقة هو الحكم الضرري، والمنفى حسب الظاهر هو نفس الضرر واطلاق نفي
الضرر، وإرادة نفى الحكم الضرري لا يكون حقيقة قطعا كيف وهو قدس سره كان
بصدد تصحيح حكومته على الأحكام الواقعية فلا مسرح عن القول بان المنفى هو الحكم
وإن كانت حرف النفي داخلة على الضرر.
ومنها ما اخترناه وهو ان المصحح للحقيقة الادعائية هي السببية والمسببية
لا بمعنى اطلاق المسبب وإرادة السبب فان ذلك بمكان من الابتذال كما مر في رد القول
بأنها من قبيل المجاز في الكلمة على النحو المصطلح عندهم، بل بمعنى اطلاق المسبب
وإرادة نفسه لكن ادعاء انها عين السبب، وان نفيه عين نفيه كما هو الحال في عامة
المجازات، فان الأساس للمجاز في الأبواب هو الادعاء أي ادعاء عينية المعنى الحقيقي
والمجازي وإن كان مصحح الادعاء في الحقايق الادعائية مختلفة، فربما يكون المجاورة
والسببية والمسببية وغيرهما مما انهوه إلى خمسة وعشرين وجها، فان الأساس هو
الادعاء حتى فيما جعلوه من قبيل المجاز في الحذف كما في قوله واسأل القرية التي كنا فيها
بادعاء ان القرية كاهلها واقفة على القضية لكمال ظهورها واشتهارها وعلى ذلك جري
الفرزدق في مدح الامام الطاهر زين العابدين عليه السلام.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
واما في المقام فبأن يقال: إن السبب لوقوع المكلف في الضرر اما اطلاق
الاحكام بالنسبة إلى الحالات الضررية أو اضرار بعضهم ببعض وإذا نفى الشارع في
حكومة تشريعه اطلاقها ولم يضع حكما ضرريا ونهى المكلفين عن الاضرار، فقد
قلع بذلك أصول الضرر ووسائله وحسم مواده وأسبابه، وبذلك يصح له ان يدعى عدم الضرر
المسبب في محيط تشريعه، على سبيل الحقيقة الادعائية ويدعى ان الضرر هو الحكم
حقيقة، وان نفيه عين نفيه، والفرق بينه وبين ما ذكره المحقق الخراساني أظهر
من أن يخفى فان المصحح للحقيقة الادعائية على المختار هو علاقة السببية والمسببية
101

واما على ما اختاره فباعتبار ان تمام حقيقة الموضوع عبارة عن آثاره كما أن تمام
حقيقة الرجل انما هي المرؤة والشجاعة فيصح ادعاء نفى الموضوع بادعاء نفي آثاره
فالعقد الضرري إذا لم يجب الوفاء به، صح ان يدعى عدمه وان العقد الكذائي غير
موجود في محيط التشريع باعتبار عدم أظهر خواصه كما أن الفرق بينه وبين ما
افاده شيخنا العلامة واضح جدا فان المصحح على ما ذكرنا كما عرفت هي العلاقة
المذكورة، واما على ما افاده فالمصحح انما هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم لقلع
أسبابه وقطع أصوله، فتدبر تعرف.
ومنها: ان الملاك للحقيقة الادعائية هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم لكن
لا على النحو الذي عرفت بل باعتبار ندرة وجود الضرر وقلته في الخارج بحيث صار
الموجود منه كالمعدوم فصح ان يقال: إنه لا ضرر في الاسلام ويكون كذلك كناية من أنه
ليس في الاسلام حكما ضرريا.
ثم إن بعض أعاظم العصر قد أطال الكلام في توضيح مفاد القاعدة وأتى بمقدمات
غير واضحة وزعم أن النفي محمول على الحقيقة بلا ادعاء ولا مجاز وان ما أوضحه عين ما رامه
الشيخ الأعظم، فبما ان التعرض لعامة ما أفاد يورث الملال في القراء الكرام، فلأجله
ننقل محصل مرامه ومن أراد الوقوف على توضيحه فعليه بما حرره مقرر بحثه
(رحمه الله) فقال إن حال لا ضرر ولا ضرار بعينه حال رفع عن أمتي تسعة فكما ان الرفع
في هذا الحديث تعلق بما يقبل الرفع بنفسه ومالا يقبله الا باثره فكذلك يمكن تعلق
نفى الضرر بكلتا الطائفتين من دون تجوز أو ادعاء ونحوهما من العنايات لأنه ليس
قوله صلى الله عليه وآله رفع أو لا ضرر اخبارا حتى يلزم تجوز أو اضمار لئلا يلزم الكذب فإذا لم
يكن لا ضرر الا انشاءا ونفيا له في عالم التشريع فيختلف نتيجته باختلاف المنفى
كاختلاف المرفوع - إلى أن قال - الأحكام الشرعية من الأمور الاعتبارية النفس
الامرية ووجودها التكويني عين تشريعها فإذا كانت كذلك فاثباتها أو نفيها راجعة
إلى افاضتها حقيقتها وإيجاد هويتها أو اعدامها عن قابلية التحقق فعلى هذا يكون
نفيها من السلب البسيط وقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر من هذا القبيل واما متعلقات التكاليف،
102

فحيث ان قابليتها للجعل اختراعا أو امضاءا عبارة عن تركيب أنفسها أو محصلاتها
دون إفاضة هوياتها وإيجاد حقايقها فلا محيص من أن يكون النفي من السلب التركيبي
ويكون المجعول نفس النفي دون المنفي - إلى أن قال - ولا تصل النوبة فيما إذا دار
الامر بين الحمل على نفى الاحكام أو نفى الموضوعات إلى الثاني إذا كان الأول ممكنا إلى أن
أفاد ان المنفي هو الحكم الضرري والضرر عنوان ثانوي للحكم ونفى العنوان الثانوي
وإرادة العنوان الأولى ليس من باب المجاز وانما يستلزمه لو كان من قبيل المعد للضرر
أو إذا كان سببا له وكانا وجودين متعلقين أحدهما مسبب عن الآخر واما مثل القتل أو
الايلام المترتب على الضرب فاطلاق أحدهما على الآخر شايع متعارف وبالجملة نفس
ورود القضية في مقام التشريع وانشاء نفى الضرر حقيقة يقتضي أن يكون المنفى هو
الحكم الضرري، لا انه استعمل الضر وأريد منه الحكم الذي هو سببه انتهى ملخصا جدا
وفيما افاده غرائب نشير إلى مهماتها.
منها: ان البحث في قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار، وان من الواضحات ان الاحكام
أمور ضررية، لا نفس الضرر وان الحكم له نحو مبدئية للضرر (كما سيوافيك بيانه)
وعليه فاطلاق لفظ موضوع لمعنى نعبر عنه بالضرر وإرادة احكام هي أمور ضررية
ويتصف بوجه بالضرر، لا يكون على سبيل الحقيقة جدا وان بالغ القائل في اثباته ما
بالغ فان الضرر شئ والحكم شئ آخر وما أفاد من أن الاحكام تشريعها عين تكوينها،
ونفيها بسيطا عين اعدامها، لا يثبت ما رامه بل لا ربط له.
ومنها: ان ما افاده من أن اطلاق الضرب وإرادة القتل اطلاق شايع وكذلك
العكس لو سلم لكن الشيوع غير مسألة الحقيقة والاستعمال أعم من الحقيقة مع أن
التأمل والتردد في شيوعه غير بعيد، نعم اطلاق " القاتل " علي الضارب الذي
وجب ضربه القتل وانتهى إليه شايع، لا اطلاق القتل على الضرب وبينهما فرق.
منها: ان الحكم ليس سببا للضرر وانما السبب له هو نفس العمل الخارجي، وتوهم
ان السبب وإن كان نفس الوضوء الضرري الا المكلف منبعث من بعثه، وايجابه، فكأنه
هو السبب الوحيد لورود الضرر عليه، مدفوع بما أوضحناه غير مرة في مبحث الاشتغال من أن
103

الانبعاث التكويني مستند إلى المبادى الموجودة في نفس المكلف على اختلافها من
الطمع في جنته والخوف من ناره، أو علمه بكمال المحبوب وانه أهل للعبادة إلى غير
ذلك، وعليه فالامر المتعلق بالموضوع يكون دخيلا في انبعاث العبد بنحو من الدخالة
لا من باب السببية والمسببية، بل بما انه محقق موضوع الطاعة، فلا يمكن ان يقال إن
الحكم بالنسبة إلى الضرر من العلل التوليدية، كما في حركة اليد وحركة المفتاح و
القتل والإيلام، بل الاحكام لها وجودات اعتبارية مستقلة، فإذا وقف المكلف عليها فقد
وقف على موضوع الطاعة، فالمبادئ الموجودة في نفسه يحركه نحوه، فيأتي به ويترتب
عليه الضرر أحيانا، وما هذا حاله لا يمكن ان يقال: إن اطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما
على الاخر حقيقة وما ذكره من ورود القضية في مقام التشريع قرينة على أن المنفى هو الحكم
الضرري على وجه الحقيقة ضعيف جدا، إذ ما ذكره قرينة على كون المراد من الضرر
هو الحكم الضرري لا انه موجب لكون الجري على وجه الحقيقة.
منها: ان ما ذكره من حديث الرفع أو قوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ليس اخبارا إلى
آخر ما افاده، ضعيف غايته: فان هيئة الجملة المصدر بلا النافية للجنس موضوعة
للحكاية عن الواقع ونفى ما يليه نفيا اخباريا كما في قوله لا رجل في الدار ونظائره
فاطلاق هذه الهيئة الموضوعة للحكاية، وإرادة انشاء النفي مجاز قطعا بل لا فرق
بينه وبين سائر الموارد، ويليه في الضعف قوله الآخر: من أن الاخبار والانشاء
من المداليل السياقية لا مما وضع له اللفظ لما عرفت من أن هذه الهيئة موضوعة
للحكاية عن الواقع حكاية تصديقية بحكم قضاء العرف والتبادر، - وعليه - فلو
قلنا: إن الانشاء قرينة من المداليل السياقية فاما ان نقول بان الهيئة غير موضوعة
لشئ أصلا فيكون مهملة فهو كما ترى، واما ان نقول بكونها موضوعة لأمر
آخر غير الانشاء والاخبار، بل مباين لهما فهو أسوء حالا من مقدمه، أو نقول
بأنه أمر جامع بينهما، فهو أضعف لعدم الجامع بين الاخبار والانشاء بل أوضحنا
الحال في الجزء الأول انه لا جامع بين المعاني الحرفية، الا الجامع الأسمى فراجع (1).

(1) واما ما ذكره المحقق الخراساني في تعليقته على الرسائل وجعله من أظهر الاحتمالات
فسوف نرجع إليه عند نقد الأحوال فانتظر - المؤلف.
104

نقد الوجوه المذكورة حول كلام الشيخ الأعظم
ما ذكرناه من الوجوه المحتملة أو المنقولة كله راجع إلى ما اختاره شيخنا
الأعظم في فرائده ورسالته واما البحث عما افاده بعض الفحول أو ما افاده وحيد عصره
شيخ الشريعة، فسيوافيك البحث عنه بعد الفراغ عما قيل حول مختار الشيخ الأعظم
إن شاء الله تعالى غير أن هذه الوجوه كلها لا يخلو من اشكالات مشتركة، ومختصة
بكل واحد واليك الاشكالات المشتركة بين الجميع فنذكر منها اشكالين
الأول: استلزام كثرة التخصيص ولا شك في استهجانها وتوضيحه:
ان الاحكام كما عرفت ليست عللا تامة للضرر، ولا علة توليديا له وانما يسند
إليه الضرر اسناد الشئ إلى معده والى ماله دخل في وجوده بنحو من الاعداد
وليس للأحكام شأن غير أنها محققة لموضوع الطاعة، واما احتمال كونها مبادى
للانبعاث فليس له من الحق مسحة، بل الانبعاث دائما من المبادى الموجودة في
نفوس المكلفين من الخوف والطمع فان الانبعاث خارجا مستند إليهما أخيرا بعد
ما تحقق المبادى الاخر المقررة في محله هن التصور والتصديق إلى آخر ما ذكروه،
(فعندئذ) لا يتصور للحكم الاعتباري والايجاب والزجر التشريعي شأن غير أنه محقق
لمركز الخوف والطمع وموضح لموضوع الطاعة والعصيان.
واما الضرر الخارجي فهو مستند إلى نفس المتعلق الذي يباشر به المكلف و
كونه مبدءا له على أقسام، فتارة يكون نفسه ضرريا بان يكون علة له وسببا توليديا
له واخرى يكون معدا، ومما ينتهي إليه الضرر ويكون ذا دخالة فيه بنحو من
الدخالة، وان شئت فلاحظ العقد اللازم الضرري، فان الحكم الشرعي المتصور
في المقام انما هو اللزوم وهو ليس ضرريا، بل البيع الخارجي ضرري، فربما يكون
بذاته ضرريا وقد يتصف به لكون الضرر يترتب عليه ترتبا ثانويا أو يترتب عليه
بوسائط كثيرة بل ربما يكون البيع مبدءا لورود الضرر على غير المكلف كما في بيع
الشئ بأرخص من قيمته السوقية فإنه يوجب نزول السوق وورود الضرر علي الباقين
الواجدين له، أو بيعه باغلى من قيمته الفعلية، فإنه يستعقب الغلاء والقحط ونزول
105

الضرر على فاقديه، وربما يتضرر به الأهل والعيال والجار والشريك، ففي هذه الأقسام
لا يتصف البيع بالضرر بنفسه ولا يترتب عليه ترتبا ثانويا بل البيع له نحو دخالة في
ورود الضرر على غير مباشره.
إذا وقفت على ما ذكرنا فنقول: لو كانت الأحكام الشرعية كمتعلقاتها تارة
عللا تامة له، واخرى معدات أو كانت تارة مما يترتب عليه الضرر ترتبا
أوليا، واخري مما يرتب عليها ترتبا ثانويا أو غير ذلك من الأقسام لصح للقائل
ان يدعى " ان قوله صلى الله عليه وآله ": لا ضرر يختص بنفي الاحكام التي لها العلية والسببية
التامة للضرر واما إذا كانت الاحكام من الأمور التي لها نحو اعداد للضرر، أو مما ينتهى
إليه بوسائط كثيرة فلا " وقد عرفت نفي كونها عللا للضرر في مورد من الموارد، بل لها
نحو دخالة في وروده، كدخالة المعد وأشباهه وعلى ما ذكرنا فلا مجوز لهذا القول ولا
مساغ لاختصاص قوله صلى الله عليه وآله بحكم دون حكم، فان دخالة الوجوب في الوضوء الضرري
في الضرر كدخالة لزوم الرهن المفروض كونها غير ضرري فان الحكم الشرعي
فيهما دائما معد للضرر سواء كان المتعلق ضرريا أو لا، كما لا مساغ لاختصاصها بالأحكام
فان المتعلقات مثلها حرفا بحرف. فلا مناص للقائل الا الالتزام بتخصيصات كثيرة
مستهجنة، حتى يختص قوله صلى الله عليه وآله بعدها بحكم دون حكم وضرر دون ضرر ومعد دون معد
حتى لا يلزم تأسيس فقه جديد، والقول باختصاصها بالأحكام التي يكون متعلقاتها عللا
تامة للضرر، لا معدا له، قول بلا برهان.
وقد صار الشيخ الأعظم إلى الجواب عنه بان الجميع خرج بعنوان واحد لا
بعناوين ولا استهجان فيه. وفيه مضافا إلي ان قبح كثرة التخصيص لا يدور مدار كون
الخروج بعنوان واحد أو بعناوين إذا كان المخصص منفصلا فلو قال أكرم كل انسان
ثم اخرج عن العموم كل من له رأس واحد، وصار العموم مختصة بمن له رأسان لصار
كلاما بشيعا، إذ التعبير عن اكرام من له رأسان بما ذكر من الكبرى قبيح جدا، ان اخراج
هذه الموارد بعنوان واحد يحتاج إلى جامع عرفي يقف عليه المخاطب عند التخصيص
ولا أظن وجوده ولو فرض وجوده الواقعي وفرض غفلة المخاطب عنه، وكان التخصيص
106

بغير هذا الجامع عنده فلا يخرج الكلام من الاستهجان.
الثاني من الاشكالات المشتركة: ان المعروف عندهم هو ان قاعدة لا ضرر دليل
امتناني أريد من وضعه الامتنان علي العباد كحديث الرفع ودليل رفع الحرج، و
ما هو شأنه هذا، ليكون آبيا عن التخصيص، قل أو كثر، مع أن هنا احكاما كثيرة الهية
ضررية مجعولة على العباد في الشرع من زكاته وخمسه، وحجه وجهاده وكفارته و
حدوده واسترقاقه، وغير ذلك مما نجده في أبواب المكاسب من سلبه مالية أمور
لها مالية عند العقلاء كالخمر وآلات الطرب والأغاني، والأعيان النجسة، وما يجئ
منه الفساد محضا في نظر الشارع، فان هذه وأشباهه احكام ضررية على العباد في
عاجلهم، ومع تشريعها كيف يمكن له ان يدعى بأنه لم يجعل حكما ضرريا أصلا
مع كون معظمها أو أصولها أو كثيرا منها ضرريا، سواء بلغ التخصيص حد الاستهجان
أم لم يبلغ وما ربما يقال من أنه ناظر إلى الاحكام التي يلزم من اطلاقها الضرر دون
ما يكون مبناه على الضرر، غير مفيد جدا، فان قوله: لا ضرر: عام يشمل كلا
القسمين، ناظرا إلى أن الشارع لم يجعل حكما ضرريا مطلقا فلو خرج ما كان
طبعه على الضرر لكان ذلك بنحو من التخصيص، أضف إليه ان دخول ما يكون طبعه
ضرريا أولى بان يكون مشمولا له من قرينه: وما ربما يقال: من أن التخميس
وتطهير الأموال باخراج الزكاة ليس ضرر عرفا، قول بلا برهان فان سلب مالكية
المالك عن خمس ماله أو عشره ضرر جدا اللهم الا ان يتمسك بذيل الانصراف
وانه منصرف عن هذه العناوين وهو ليس ببعيد لكن هذا لا يدفع أصل الاشكال لورود
تخصيصات غيرها عليه خصوصا على ما قررناه
الاشكالات غير المشتركة
اما القولان الأولان أعني جعل المقام من قبيل المجاز في الحذف أو في الكلمة
على النهج المصطلح عندهم من دون ادعاء، فقد عرفت ضعفه فيما سبق وان تنزيل كلام
البلغاء علي هذه المنزلة يوجب سلب أي مزية منها وان جمال المحاورة ليس في حذف
المضاف كما تخيل في قوله تعالى واسئل القرية، أو في استعمال لفظ في معنى آخر
107

لعلاقة المجاورة فقط كما قيل في " جرى الميزاب " بل جمال المحاورة وحسنها في
ادعاء ان الامر قد بلغ في وضوحه حتى وقف عليه القرية، وانها كاهلها شاعرة بذلك و
واقفة به، وان الماء لغزارته وكثرته صار إلى حد كان الميزاب جاريا بنفسه فيعطى للمحل
حكم المحال ادعاءا وقد أوضحنا في الجزء الأول ان المجازات، مرسلها واستعارتها
كلها حقايق ادعائية فلا نعيد.
واما الحقيقة الادعائية التي أشار إليه الاعلام فلا يصح شئ منها في المقام اما ما
افاده المحقق الخراساني من نفي الآثار بلسان نفى موضوعها ففيها ان الضرر ليس
موضوعا لهذه الأحكام، حتى تنفى بنفيه، فان ما هو الموضوع انما هو نفس العقد للزوم،
لا الضرر ولا العقد الضرري نعم لو كان لنفس الضرر اثرا بارزا غير مرتب عليه، أو كان
الضرر قليل الوجود وعديمه أمكن دعوى انه لا ضرر ولا ضرار وهو غير ما هو بصدده
واما قياس المقام بقوله: يا أشباه الرجال ولا رجال، فغير صحيح، لان القائل يدعى ان
تمام الحقيقة للرجال انما هو المروءة والشجاعة، والمصارعة مع الابطال في معارك القتال
فمن تقاعد عنها جبنا، لا يصح ان يعد رجلا، لكونه فاقدا لما هو الملاك، واما الاحكام
فليس تمام الحقيقة للضرر، حتى تنفى بنفيها بالقياس مع الفارق.
واما ما افاده في تعليقته على الرسائل واستنهض انه أظهر الاحتمالات من أن المراد:
ان الشارع لم يشرع جواز الاضرار بالغير أو وجوب تحمل الضرر عنه، فإن كان
الضمير في قوله: تحمل الضرر عنه عائدا إلى الشارع أو إلى الغير المقصود منه الشارع
(على طريق الاستخدام) فهو يرجع إلى مختار الشيخ الأعظم، وإن كان المقصود عنه،
المكلفين، بمعنى عدم وجوب تحمل الضرر عن الناس وجواز الدفاع عنه وجواز
تداركه على نحو التقاص، فهو ضعيف غايته لا يقصر عما احتمله بعض الفحول كما
سيجئ الإشارة إليه.
واما الوجوه الأخر لتوضيح الحقيقة الادعائية فيرد على الجميع مع
الاعتراف باختلافها في التقرير، ان نفى الحقيقة من رأس، وادعاء انتفائها في الخارج
مع وجودها فيه انما يصح إذا نزل الموجود منزلة المعدوم اما لندرة وجودها واما لقلعها لأجل
108

قطع أسبابها وعللها حتى يندر وجودها، وكلا الشقين غير صحيح لكثرة وجود الضرر
في الخارج وشيوعه، ومجرد نهى الشارع عن الاضرار، أو امره بالتدارك لا يوجب
ولا يصحح نفى الضرر، واما حديث قلع أسباب الضرر تشريعا، فيبطله كثرة الاحكام
الضررية وكون أصول احكامه وأساس دينه، احكاما ضررية على العباد في عاجلهم
في نظر العقلاء، ومعه كيف يدعى انه لا حكم ضرري في الاسلام، وانه قلع أسباب
الضرر، بعدم تشريع حكم ضرري، فهل هذا الا كادعاء السلطان بأنه لا سرقة في حوزة
سلطنتي، وحمى قدرتي، مع كون مقربي حضرته من السرقة، وبذلك يمكن ان
يقال بأنه أردء الوجوه، بعامة تقريراته، وانه لا يقصر عما افاده بعض الفحول الذي
قال الاعلام بأنه أردء الوجوه.
وما تمسك به الاعلام في تصحيح الدعوى من أنه ناظر إلى الاحكام التي ينشأ من
اطلاقها لا إلى ما طبعه على الضرر، كدعوى ان الأحكام المذكورة ليست ضررية، غير
صحيح جدا إذ كما لا يصح نفى الضرر عن صحيفة التكوين مع شيوعه فيها، فهكذا
لا يصح ان ينفى مع كون أصول فروعه، احكاما ضررية عند العقلاء، من جهاده وزكاته
وحجه، وخمسه، وسلبه المالية عن أشياء هي أحب الأمتعة عند الناس، " وبالجملة ":
ان الكلام في مصحح الادعاء وقد عرفت انه لا يصح نفى هوية الضرر تكوينا أو تشريعا
الا بتنزيل الموجود منه منزلة المعدوم، لندرته في الخارج أو لاعدام علله التشريعية
ولكن صحيفة التكوين مملوءة منه كما هو ظاهر، والامر بالتدارك أو النهى عن الاضرار
لا يصحح دعوى نفى هوية الضرر عن الخارج، وصحيفة التشريع مشتملة على احكام تعد
أصولا لفروع الدين وهى بعامتها ضررية عند العقلاء، ومع هذا الشيوع في التكوين
والتشريع، لا يصح ان يدعى ندرة وجوده، ولا قلع أسبابه في التشريع، وما عرفت من حديث
الانصراف فلو صح لا يدفع الاشكال كما أشرنا إليه.
حول ما افاده شيخ الشريعة الأصفهاني
هذا حال الاحتمال الأول الذي اختاره الشيخ الأعظم وتبعه المشايخ والمعاصرون
وقد عرفت ضعفه، ويتلوه في الضعف ما نقله عن بعض الفحول، وبما ان الأساتذة
109

والاعلام قد أوضحوه حقه وضعفوه غايته، فيلزم علينا ان نضرب عنه صفحا ونعطف
عنان الكلام إلى ما أوضحه فريد عصره شيخ الشريعة الأصفهاني، آخذا خلاصة مرماه من
رسالته قال قدس سره: هذه هي الوجوه المحتملة في كلمات القوم والحق المتعين بالأخذ
هو ان النفي بمعنى النهى عن الضرر، وله أشباه ونظائر في الكتاب والعنة واليك منها
ما يلي قوله تعالى لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وقوله عز وجل: فان لك في الحياة ان
تقول لا مساس أي لا تقربني ولا تمسني، وقوله صلى الله عليه وآله: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام، و
قوله صلى الله عليه وآله لا جلب ولا جنب ولا اعتراض وقوله: لا اخصاء في الاسلام ولا بنيان كنيسة
وقوله: لا حمى في الاسلام ولا مناجشة، وقوله: لا حمى في الأراك، وقوله: لا حمي الا ما حمى الله
ورسوله، وقوله: لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل، وقوله: لا صمات يوم إلى الليل، وقوله:
لا صرورة في الاسلام وقوله. لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقوله: لا هجر بين
المسلمين فوق ثلاثة أيام، وقوله: لا غش بين المسلمين هذا كله في الكتاب والسنة ولو
ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء نظما ونثرا لطال
المقال وادى إلى كلال وفيما ذكرنا كفاية في اثبات شيوع هذا المعني في هذا التركيب
أعني تركيب " لا " التي لنفى الجنس وفى رد من قال (1) في ابطال احتمال النهي: ان
النفي بمعنى النهى وإن كان ليس بعزيز الا انه لم يعهد من مثل هذا التركيب - إلى أن قال -
ان الأذهان الفارغة لا تسبق الا إلي هذا الوجه، ثم أيد مقاله بان قوله: انك رجل مضار
ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن بمنزلة صغرى وكبرى، فعلى المختار يصير معناه: انك رجل
مضار والمضارة حرام وهو المناسب لتلك الصغرى لكن لو أريد غيره مما يقولون
صار معناه: انك رجل مضار والحكم الموجب للضرر منفى أو الحكم المجعول
منفى في صورة الضرر ولا أظن بالأذهان المستقيمة ارتضائه - إلى أن قال - وهو
موافق لكلمات أئمة اللغة ومهرة أهل اللسان وقد نقل (قدس سره) كثيرا من
عبائرهم التي قدمنا ذكرها عند البحث عن مفردات الحديث ثم قال: وليعلم ان
المدعى ان حديث الضرر يراد به إفادة النهى عنه سواء كان هذا باستعمال التركيب

(1) يريد به المحقق الخراساني - المؤلف.
110

في النهى ابتداءا أو انه استعمل في معناه الحقيقي وهو النفي ولكن لينتقل منه إلى
إرادة النهى - إلى أن قال - فالمدعي ان الحديث يراد به إفادة النهى لا نفى الحكم
الضرري ولا نفى الحكم المجعول للموضوعات عنه ولا يتفاوت في هذا
المدعى ان استعمال النفي في النهى بأي وجه وربما كانت دعوى الاستعمال في معنى
النفي مقدمة للانتقال إلى طلب الترك ادخل في اثبات المدعى حيث لا يتجه (ح) ما
يستشكل في المعنى الأول من أنه تجوز لا يصار إليه انتهى الموارد الحساسة
من كلامه.
وما ذكرناه نزر من كثير من كلامه وهو قدس سره بالغ في اثبات مرامه
وحاصل ما أفاد: ان النفي اما مستعمل في النهى ابتداءا، واما باق على حاله،
لكن التعبير بالجملة الخبرية في مقام الانشاء طلبا لافهام شدة التنفر، والانزجار
عنه، حتى يقف المخاطب إلى الزجر الأكيد، وان المولى لا يرضى بأي وجه بوقوعه
وصدوره، كما أن المولى إذا أراد ان يطلع المخاطب علي مطلوبية أمر ومحبوبيته
ربما اتى بالجملة الخبرية مخبرا عن وجوده حتى ينتقل المخاطب إلى البعث الشديد،
والإرادة المؤكدة بحيث نزله منزلة الموجود.
والانصاف ان ما ذكره أظهر مما احتمله القوم بحيث لو دار الامر بين المحتملات
المزبورة، فالترجيح معه، ولكن ما ذكره لا يتعين الا بابطال ما ذكروه من
المحتملات على حذو ما أبطلناه، ومجرد كثرة الاستعمال لا يوجب التعين مع كونه مجازا
سواء أريد منه النهى أو أريد منه النفي كناية عن النفي على النحو الذي عرفت، فإنه أيضا مجاز
فان المعنى الحقيقي قد صار عبرة إلى معنى آخر وهو انشاء النهى عن الاضرار ولو صح ما ذكره
لما صح الا من هذا الطريق وهو أيضا مجاز كمالا يخفى والحاصل ان شيوعه ليس موجبا
لظهوره فيه ابتداءا أو مع تعذر الحقيقة مع انفتاح باب المحتملات التي أفادها الاعلام
الا ان تدفع بما أوضحناه.
والحاصل ان اطلاق النفي وإرادة النهي وإن كان شايعا كما استشهد من
الشواهد الا انه ليس بمثابة يكون من المجازات الراجحة عند تعذر الحقيقة لان
111

استعماله في غيره أشيع منه واليك ما يلي من الروايات والكلمات مما ورد على حذو هذا
التركيب، وقد أريد منه النفي بلا اشكال ونحن نذكر قليلا من كثير مما ربما يطلع
عليه المتتبع في طيات الأبواب والكتب واليك بيانها. لا طلاق الا على طهر،
لا طلاق الا بخمس: شهادة شاهدين الخ، لا طلاق فيما لا تملك، ولا عتق فيما لا
تملك، ولا بيع فيما لا تملك، لا طلاق للسكران الذي لا يعقل، لا ظهار الا في طهر، لا
طلاق الا ما أريد به الطلاق، ولا ظهار الا ما أريد به الظهار، ولا ايلاء حتى يدخل بها،
لا نكاح للعبد، ولا طلاق الا بإذن مولاه، لا يمين للولد مع والده، ولا للملوك مع مولاه،
ولا للمرأة مع زوجها، لا رضاع بعد فطام، لا يتم بعد احتلام لا عتق قبل الملك، لا طلاق
قبل النكاح، لا يمين في قطيعة لا يمين في معصية الله، لا يمين فيما لا يبذل، لا يمين في استكراه
ولا على سكر ولا على معصيته، ولا يمين الا بالله، لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم، لا سهو
لمن أقر على نفسه بسهو، لا سهو في سهو لا سهو في نافلة، لا نذر في معصية الله
لا يمين لمكره إلي غير ذلك من الروايات التي أريد فيها غير ما ذكره، وبذلك يظهر
ان استعمال النفي في النهى ليس على حد يوجب انصرافه إليه، وعدم ظهوره في
غيره، نعم لو دار الامر بين ما ذكره القوم، فما اختاره أرجح لخلوه عن كثير مما
ذكرناه من الاشكال.
وقد حان البحث عما أشرنا إليه في مقدمة البحث من المختار في معنى هذه
القاعدة ولم أعثر عليه في كلام القوم وهو أقرب الاحتمالات بملاحظة اللفظ الوارد
من طرق العامة، وما روى في شأنها من طرق الخاصة.
حول المختار في معنى الرواية
وتحقيق الحق، وتمحيصه يحتاج إلى ذكر أمور سيوافيك بعضها في رسالة الاجتهاد
والتقليد.
الأمر الأول: اعلم أن للنبي الأكرم مقامات ثلاثة (الأول) النبوة والرسالة
وهو صلى الله عليه وآله بما انه نبي ورسول ينبئ عن الله ويبلغ احكامه خطيرها وحقيرها حتى
أرش الخد، (الثاني) الحكومة والسلطنة، فهو صلى الله عليه وآله سلطان الأمة والحاكم بينهم،
112

وسائس العباد في البلاد وهو بما ان له السلطنة والحكومة، يرسل سرية ويأمر
بالجهاد ويعد القوة ويقضى على المتخلف إلي غير ذلك من شؤون الحكومة الإلهية
في الخلق، والفرق بين المقامين أوضح من أن يخفى، فإنه صلى الله عليه وآله بما انه نبي ورسول
ليس له أمر ولا نهى، ولا بعث ولا زجر بل كلما يأمر به أو ينهى عنه فارشاد إلى امره
تعالى ونهيه فلو أطاع المكلف أو عصى، فإنما أطاع أمر الله ونهيه، وهكذا إذا
عصى تكاليفه، واما بالنسبة إلى رسوله ومبلغ احكامه فليس له في ميادين التشريع
أمر ولا نهى حتى يتصور الإطاعة والعصيان بالنسبة إليه، فمثل الرسول وأوصيائه في
تبليغ احكامه كمثل الفقهاء بالنسبة إلى مقلديهم في أنهم أمناء الله في نشر احكامه و
بسط تكاليفه، من دون أن يكون لهم مولوية بالنسبة إلى ما يبلغونه، فلو قال الامام:
اغسل ثوبك من أبوال مالا يؤكل لحمه، فهو وإن كان بصورة الامر لكنه ارشاد إلى
الامر الإلهي وانه تعالى أمر بكذا أو امرني بتبليغه، وما على الرسول الا البلاغ، فهكذا إذا
تفوه به المقلد.
واما إذا أمر بما انه سائس الأمة وسلطانها، فيجب اطاعته ويحرم مخالفته فلو
خالف فإنما خالف أمر الرسول ونهيه، ولو أطاع فقد اطاعه، والاطاعة والعصيان عندئذ ينسب
إلى الرسول ابتداءا ويكون أوامرها ونواهيها (ح) مولوية ذات إطاعة وعصيان، من
دون أن يكون ارشادا إلى حكم إلهي، أو إلى بعثه وزجره وإن كانت هذه السلطنة مجعولة
من الله تعالى بالنسبة إليه، لكن الامر والجعل بعدما تم واستتم، يكون صاحب
المقام ذا دستور وامر وزجر مستقلا، والى ذلك يشير قوله تعالى: أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فامر بإطاعة أولي الأمر بما انهم
أولياء الأمة كما أنه أمر بإطاعة رسوله وإطاعة نفسه والى ذلك ينظر قوله عز وجل:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم و
من يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا. إلى غير ذلك من الآيات (الثالث) مقام القضاوة
وفصل الخصوصة عند التنازع في مال أو حق أو ميراث وأشباهه، فهو يحكم ويفصل
ويقضى ويبرم بما انه قاضي الأمة، وحاكمها الشرعي في الأمور الحسبية، ويكون ما
113

قضى به لازم الإطاعة، ولا يجوز التخلف عنه، وهذه المناصب قد تجتمع في شخص واحد كما في
نفس الرسول وأوصيائه وربما يجعل الحكومة لشخص، فيجب إطاعة قوله فيما يرجع إلى
شؤون السلطنة دون ما يرجع إلى شؤون القضاوة ويجعل القضاوة لشخص آخر فيتبع قوله في
شؤونها من فصل الخصومة، وربما يكون شخص واحد قاضيا وحاكما والحاصل ان هذه مناصب
ثلاثة، ولكل واحد آثار والرسول مع أنه نبي ورسول، ومبلغ سلطان حاكم يجب اطاعته
في شؤون الخلافة والسلطنة الإلهية، وقاض يتبع قضائه في مختلف الأمور، واليه ينظر قوله
سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا
مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء - 65) وسوف يوافيك البحث عن هذه المناصب عند البحث
عن النيابة العامة للفقيه في محالها فانتظر.
الأمر الثاني: إذا عرفت المناصب الثلاثة ووقفت على آثارها فاعلم: ان
كلما ورد في الروايات من الرسول ووصيه من أنه قضى أوامر، فهو ظاهر في أنه قضى به
أو أمر به، بما انه قاضي الأمة، وسائسها لا بما انه مبلغ الاحكام وناشرها حتى يكون
ارشادا إلى امره وحكمه تعالى فان ذلك خلاف ظاهر اللفظ فلا يؤخذ حتى يقوم عليه
القرينة (وبالجملة) إذا جاء في الأثر الصحيح ان الرسول أمر به وحكم، أو قضى وابرم
فهو ظاهر في أمر الرسول نفسه وحكمه وقضائه بما ان له مناصب الحكومة والقضاوة
لا بما انه مبلغ للحرام والحلال، لما عرفت من أنه ليس للرسول وأوصيائه أمر في
احكامه وحلاله وحرامه تعالى وليس ذا أمر ونهى، ولا ذا بعث وزجر، فلو قال الراوي
انه صلى الله عليه وآله أمر وقضى اقتضى ظهور اللفظ ان الامر امره والقضاء قضائه يجب الاخذ
به ولا يعدل إلى غيره من الارشاد إلى امره تعالى الا بدليل.
ويرشد إلى هذا انك فلما تجد أمثال هذه التعابير (قضى، أمر، حكم) في غير
الرسول والأمير، ممن حالت الأعداء بينهم وبين مناصبهم الشرعية من السلطنة
والقضاوة ولم يساعد الزمان على قضائهم وحكومتهم، ولكن تجدها كثيرا في الأثر
المنقول من الرسول ووصيه عليهما السلام و (عليه) فلو دل دليل علي ان المراد من
قوله: قضى أوامر، هو الارشاد إلي حكمه تعالى وأمره، وحلاله وحرامه فتأخذ
114

بمقتضى الدليل والا فاللفظ ظاهر في أنه الأمر المولوي والقضاء والحكومة لا الارشاد
إلى حكمه وأمره تعالي شأنه فإنه مجاز لا حقيقة.
الأمر الثالث: ربما يعبر عن الأوامر الصادرة عنهم عليهم السلام بما ان لهم
مناصب السلطنة والحكومة والقضاوة، بلفظة " قال " ويقال: قال رسول الله أو أمير
المؤمنين لمن تخاصما في مال أو ميراث ان المال لصاحب البينة، وقال لأسامة: أنت زعيم
الجيش فاذهب بسريتك إلى قطر من أقطار الشام، لكن ذلك لا يضر بالمرام، فان
القرائن الحالية قائمة على أن الامر كان أمرا سلطانيا وان قوله هذا قضاء بالحمل
الشايع، من دون ان يحتاج إلى التعبير عنه بلفظة قضي أو أمر، ولك ان تقول
ان قوله: أمر بكذا ظاهر في الأمر المولوي السلطاني وان قوله: قضى ظاهر في
القضاء وفصل الخصومة، وان قوله: حكم مردد بينهما، واما ما ورد في الآثار من
التعبير بأنه صلى الله عليه وآله قال فدلالته على أنه كان أمرا مولويا سلطانيا يحتاج إلى قرينة دالة
عليه، واما إذا نقل بصيغ الامر فهي ظاهرة في حد أنفسها في الأمر المولوي فالعدول
عنه يحتاج إلى دليل آخر.
الأمر الرابع: في سرد بعض الروايات الصادرة عنهم عليهم السلام بالألفاظ
المتقدمة، ونردفه بما ورد عنهم عليهم السلام بغير تلك الألفاظ غير أن القرائن
متظافرة على أن الأوامر أوامر مولوية سلطانية وان الحكم حكم قضائي، اما القسم
الأول فنذكر منه غيضا من فيض
1 - ما رواه ثقة الاسلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله انما اقضي
بينكم، بالبينات والايمان.
2 - وعن تفسير الإمام عليه السلام عن أمير المؤمنين (ع) قال كان رسول الله يحكم
بين الناس بالبينات والايمان
3 - روى ثقة الاسلام عن أبي عبد الله عليه السلام قال كان رسول الله يقضى بشاهد واحد مع
يمين صاحب الحق.
4 - وعنه عليه السلام حدثني أبي ان رسول الله قد قضى بشاهد ويمين، إلى غير ذلك
115

من الروايات ودونك أقضية الامام أمير المؤمنين المروية بأنه عليه السلام قضي في واقعة
كذا وكذا، وربما يبدل هذا بلفظ الإجازة كما عن أبي جعفر: قال لو كان الامر
إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس
فاما ما كان من حقوق الله عز وجل أو رؤية الهلال فلا، وفي بعض الروايات، أجاز
رسول الله شهادة شاهد مع يمين طالب الحق: والمستفاد من الروايتين ان الإجازة،
اجازة سلطاني، وتنفيذ مولوي، واليك بعض الروايات الحاكية لقضايا رسول الله بما
انه سلطان.
5 - روى الكليني عن عقبة بن خالد ان النبي قضى في هوائر النخل (1)
أن يكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الآخر فيختلفون في حقوق تلك
فقضى بها ان لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها
6 - وعن الصادق عليه السلام قال: قضى النبي في رجل باع نخلا واستثنى عليه نخلة
فقضي له رسول الله بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى جرائدها.
7 - وعن أبي عبد الله عليه السلام: قال سمعته يقول قضى رسول الله في سيل وادى مهزور
للزرع إلى الشراك، وللنخل إلى الكعب ثم يرسل الماء إلى أسفل من ذلك قال
ابن عمير، ومهزور موضع واد.
واما القسم الثاني أعني ما ورد بلفظة " قال " أو " يقول " غير أن القرائن هادية إلى
المراد وان المرمى هو الحكم والقضاء فهي كثيرة واليك نقل بعض منها.
1 - ما رواه ثقة الاسلام عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله في رجل اتى جبلا فشق
فيه قناة فذهبت قناة الاخر بماء قناة الأول قال فقال: يتقاسمان وفى نسخة (يتقايسان)
بحقائب البئر إلى آخرها، ورواه الصدوق نحوه وزاد وقضى رسول الله بذلك وقال:
إن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة الخ: وقد اوردنا الرواية بتمامها في صدر الرسالة
2 - ما رواه الشيخ في أبواب الجهاد عن أبي جعفر عن آبائه، ان النبي
قال: فاقتلوا المشتركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم، ولا يبعد أن يكون الامر

(1) مساقط ثمراتها - المؤلف.
116

مولويا سلطانيا. (1)
3 - ما رواه ثقة الاسلام عن أبي عبد الله في آداب الجهاد قال كان رسول الله
إذا أراد ان يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله
وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا
شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطعوا شجرا الا ان تضطروا إليها.
4 - ما رواه الكليني عن إبراهيم بن جندب عن أبيه ان أمير المؤمنين كان يأمر
في كل موطن لقينا فيه عدونا فيقول: لا تقتلوا القوم حتى يبدؤكم فإنكم بحمد الله على
حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤكم حجة أخرى لكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا
مدبرا ولا تجيزوا علي جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل. هذا بعض ما يمكن ان
يستشهد لما قصدناه واليك بيان ما هو المحصل من هذه الأمور.
الغاية من القالة
إذا عرفت ما أوضحناه من الأمور فاعلم أن المحتمل جدا بل هو المتعين حسب
القرائن الواصلة ان قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار، بمعنى النهى عن الضرر، لكن
لا بمعنى النهى الإلهي كاكثر النواهي المذكورة في الكتاب والسنة، بل بمعنى النهى
السلطاني والحكم المولوي وقد صدر عنه بما انه سائس الملة وقائدها ورئيس الملة
وأميرها، وانه صلى الله عليه وآله نهى ان يضر الناس بعضهم ببعض، وان يجعل أحد أحدا في
ضيق وحرج ومشقة وقد ألقاه صلى الله عليه وآله علي الوجه الكلى حتى يكون حجة على الكل
في جميع الأدوار وهو بما انه نهى سلطاني صدر عن نبي مفترض الطاعة، يجب اقتفاء
اثره واتباع قوله - هذا هو المدعى - واما ما يدل عليه فمن طرق العامة ما رواه أحمد
بن حنبل في مسنده برواية عبادة بن صامت، حيث وقفت على أنه رواه بلفظة " وقضى "
ان لا ضرر ولا ضرار ثم ساق سائر الأقضية، وقد أوضحنا ان لفظة " قضى وحكم وامر "
ظاهر في كون المقضى والمحكوم به من احكام رسول الله صلى الله عليه وآله بما هو سلطان، أو

(1) وهو بعيد جدا مع تظافر الأوامر على وجوب قتل المشركين من الله تعالى في الذكر
الحكيم وانه يجب قتلهم أينما ثقفوا - المؤلف.
117

من قضائه بما هو قاض ومعه لا مجال لحمله على أنه صلى الله عليه وآله بصدد الحكم النازل إليه
من عند الله، إذ ليس المقام مقامه وظاهر الكلام على خلافه، كما أن المقام ليس
مقام فصل الخصومة والقضاء كما لا يخفى فينحصر قوله: لا ضرر في كونه نهيا سلطانيا
أراد به نهى الأمة عن الاضرار وإيجاد الضيق والحرج ولا ينافي ما ذكرنا من أنه
نهى سلطاني مع ما تقدم منا ان لفظة " قضى " ظاهر في أن الحكم المتلو له صادر
عنه صلى الله عليه وآله بما هو قاض، فان ذلك صحيح إذا لم يقم قرينة على كونه ليس بصدد فصل
الخصومة والقضاء كما عرفت.
وما يظهر من وحيد عصره شيخ الشريعة (قدس سره) من أنه نهى الاهي مستدلا بان
شراح الحديث فسروه بأنه: لا يضر أخاه، في غير محله لما عرفت من أن جعل النهى،
نهيا الاهيا، مضافا إلى كونه خلاف ظاهر قوله: " قضى " ان المقام ليس من قبيل تبليغ
احكام الله وكشف مراده كما أن المعنى المعروف بين الاعلام بأنه بصدد نفى الحكم
الشرعي الضرري لا يجتمع مع رواية أحمد بن جنبل، إذ أي تناسب بين قضائه
ونفى الحكم الضرري.
وما استند إليه (قدس سره) من تفسير شراح الحديث لا يثبت ما رامه، فإنه
(قدس سره) نقل عبائرهم بأنهم قالوا إن معناه: لا يضر أخاه، وهو لا يدل على، كون النهي
من الله، أو من قبل الرسول صلى الله عليه وآله بما انه سلطان وحاكم، لا نبي ورسول ومبلغ للحلال
والحرام، بل كلامه أيضا غير صريح في كون النهى، نهيا شرعيا بل هو بصدد بيان
النفي بمعنى النهى، قبال ما افاده الاعلام، وإن كان المتبادر منه كون النهى
الاهيا وحكما شرعيا.
واما ما ثبت وروده من طرقنا هو قضية سمرة والآثار الواردة من طرق الشيعة و
ان لم يكن مصدرة بلفظة " قضي " ونحوه الا ان التأمل في صدر القضية وذيلها و
الامعان في هدف الأنصاري حيث رفع الشكاية إلى النبي صلى الله عليه وآله ليدفع عنه الظلم، والتدبر في أنه
لم يكن لواحد منهما شبهة حكمية ولا موضوعية، يورث الاطمئنان ويشرف
الفقيه بالقطع على أن الحكم حكم سلطاني، والنهى نهى مولوي من جانب النبي علي
118

ان لا يضر أحد أحدا وان من كان في حوزة حكومتي مصون من الضرر والضرار، والحاصل
ان الأنصاري لما كره ورود سمرة ذلك الرجل الفاسق الفاجر الذي سود صحيفة
تاريخ حياته برده قول النبي والتجري عليه رفع الشكاية إلى رئيس الملة بعدما شافه
الأنصاري نفس سمرة وأتم عليه الحجة، ولم يقبله حتى يرفع عنه الظلم
ويحمى عنه، حماية الحاكم والسلطان عن رعيته، ومن يعيشون تحت ظل لوائه
فأحضره النبي، ونقل إليه شكاية الأنصاري وامر عليه ان يستأذن عند وروده فأبي
سمرة عن قبوله، فلما تأبى استبداله. بنخلة أخرى إلي آخر ما في الرواية أمر صلى الله عليه وآله
بقلع الشجرة حسما لمادة الفساد، وحكم بأنه لا يضر في ظل لوائي أحد أحدا، ولا يوقع
أحد حرجا وضيقا على أحد فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله بعد تلك المقاولات بصدد بيان
حكم الله الواقعي حتى يفسر بان الأحكام الواقعية لا ضرر فيها، وانه لم يشرع
حكما ضرريا، أو بصدد بيان النهى الإلهي الموجه إلى عباده بلسان رسوله صلى الله عليه وآله
بان الله نهى ان يضر أحد أحدا، بل هذا وذاك، لا يتبادران، إذا لوحظت القرائن الحافة
بالكلام، وان المقام لم يكن مناسبا لبيان حكم الله على أي وجه كان، بل كان مناسبا
لأعمال المولوية وانفاذ الكلمة حتى ينحسم مادة الفساد، ويرتفع الغائلة ويحصل بها
الطمأنينة لكل من يعيش ظل لواء الاسلام، في حمى حكومة الرسول صلى الله عليه وآله ويشاهد
الباقون انه صلى الله عليه وآله أمر بقلع الشجرة، وحكم ان الرعية ممنوعون عن الضرر والضرار
دفاعا عن المظلوم وسياسة للعباد.
فعلى ما قررناه يكون ما ورد من طرقنا موافقا لما عن طرق العامة المنتهية إلى
عبادة بن صامت الذي لم يشك فيه اثنان، فقد صرحوا بإتقانه وضبطه، ويظهر من معاجم
الشيعة انه من اجلائهم، حتى روى الكشي عن الفضل بن شاذان، انه من السابقين
الذين شهدوا الغزوات والمعارك، كبدر واحد والخندق وعامة المشاهد مع النبي صلى الله عليه وآله
وانه من الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين نظراء: ابن التيهان وجابر بن عبد الله وخزيمة
بن ثابت وأبى سعيد الخدري، وممن شهدوا العقبتين إلى غير ذلك من كلمات الثناء
التي تجدها في ترجمة الرجل في محالها، ويؤيد اتقانه ان ما روى عنه أحمد بن
119

حنبل من أقضية النبي - كما مثلناه بطوله - مروية بعين ألفاظها أو قريبة منها
في جوامعنا عن الصادقين، متفرقة في أبواب متفرقة، غير أن صاحب المسند جمعها في
رواية واحد (1).
فذلكة المقام
والحاصل: ان الذي دعانا إلى هذا الوجه، أنما هو تظافر القرائن على صحته
وعدم الطمأنينة بما ذكره الاعلام في تفسير الحديث فان ما اختاره شيخنا الأعظم
(رحمه الله) لم يكن خاليا من اشكالات غير منحلة - كما عرفت - أضف إلى ذلك
ان ما اختاره من المذهب يستلزم ان لا يكون الحديث من أقضية النبي صلى الله عليه وآله مع أنه
من قضايا بل قيل من أشهر ما قضى به النبي صلى الله عليه وآله ولا يوجد أي تناسب بين صدر
الواقعة وذيلها فان شأن الحديث وإن كان غير مروى في كتب العامة الا انه مروى
في كتبنا وقد عرفت ان الصدر متضمن رفع الشكاية من المظلوم عن الظالم إلى رئيس
الملة وسلطانها المطلق، وأي تناسب بينه وبين الاخبار عن نفى الحكم الضرري
وعدم جعلها، وأي تناسب في تعليل قلع الشجرة بقوله: لا ضرر ولا ضرار مضافا إلى
عدم معهودية ما ذكره من المعنى من أمثال هذه التراكيب الدارجة في كلمات الفصحاء
الواردة في الآثار الشرعية عن بيوت الوحي، فان الغالب انما هو نفى الأثر بلسان
نفى موضوعه أو النهي بلسان النفي، واما نفى عنوان (الضرر) وإرادة نفى ماله أدنى
دخالة في تحققه فلم يعهد من هذا التركيب، وقد أوضحنا ان الحكم الشرعي،
ليس علة أو سببا توليد بالضرر وانما له أدنى دخالة في تحققه بما انه باعث اعتبارا
نحو الموضوع الذي فيه الضرر، وهو السبب الوحيد له.
واما ما افاده المحقق الخراساني من أن المعهود في مثل هذا التركيب هو نفى

(1) غير أن تصحيح آخر السند لا يفي بتصحيح الوسائط، وقد تقدم عن سيدنا الأستاذ
التصريح بان ما رواه أحمد ليس حجة عندنا، ذكره دام ظله في رد بعض الأعاظم حيث تسلم
وروده، مستقلا، والظاهر أن غرضه الاستئناس وتوفير الشواهد والقرائن على أن الحكم
حكم مولوي سلطاني - المؤلف.
120

الأثر بلسان نفى الموضوع وإن كان صحيحا غير أن المقام ليس من صغريات ما ادعاه،
لما عرفت ان الحكم الشرعي ليس اثرا للضرر، ولا الضرر موضوعا له.
نعم: يمكن تصحيح ما ذكره بشرط ثبوت أمرين: الأول قلة الاحكام الضررية
في صفحة التشريع بحيث ينزل الموجود منه منزلة المعدوم الثاني: ادعاء انه لا
شؤون للضرر من الشؤون غير الحكم الضرري كما لا شأن للرجل غير المروءة والشجاعة
حتى يصح ادعاء ان المسبب عين السبب فلو ثبت هذان الأمران أمكن نفى الضرر
وإرادة نفى الحكم الضرري بتنزيل الموجود منزلة المعدوم، وانى يمكن اثباتهما إذ هو
يستلزم - على مبنى المشهور في المجاز - استعمال اللفظ الموضوع للمسبب في
السبب، مع عدم ثبوت الامرين في حد نفسهما مضافا إلى غرابته وعدم معهوديته.
واما ما أيده وحيد عصره تبعا لشراح الحديث فهو أحسن الوجوه بل هو المتعين
غير أن الاختلاف بيننا وبينهم في منشأ النهى فيظهر منهم انه نهى الاهي ألقاه رسول الله
صلى الله عليه وآله على النحو الكلى واستند إليه في ردع سمرة عن الدخول بغير استئذان بل
في أمر الأنصاري بقلع الشجرة كما يظهر من عبائره " قدس سره " واما علي ما استظهرناه
فهو نهى مولوي صادر عنه صلى الله عليه وآله بما هو سائس الملة، ورئيسهم حسب القرائن التي
أوردناها وأظن أن هذا الوجه أصوب الوجوه فان ثبت اتقانه عندك وتعينه، فهو
من فضل الله تعالى، والا فاجعله أحد المحتملات لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
دفع توهم
يمكن ان يتوهم متوهم ان الرسول صلى الله عليه وآله قد استند في امره بالقلع والرمي بها
على وجهه على قوله: فإنه لا ضرر ولا ضرار، وظاهر الاستناد، والفاء المفيد للتعليل،
انه حكم الاهي، وقاعدة كلية من الله تعالى، وهو صلى الله عليه وآله اتكل على الحكم الإلهي، و
أمر الأنصاري بقلعها ورميها فعلل عمل نفسه بالحكم الصادر من الله، ولا يناسب ان
يفسر عمل نفسه ويعلله بحكم نفسه، ولكنه مدفوع، وما ادعاه من الظهور ممنوع
بل الظاهر خلافه، فان الأنصاري لما رفع شكواه إلى النبي الأعظم واستدعاه النبي و
امره بالاستئذان عند الدخول وهو كان رجلا مضارا تخلف عن حكمه، مست الحاجة
121

إلى تأديبه فأصدر حكمه السياسي لحفظ نظام الأمة وامر بقلعها ورميها إلى وجهه
ثم علل هذا الحكم التأديبي بالحكم السياسي الكلى وانه لا ضرر ولا ضرار، وانه لا
يجوز ان يضر أحد أحدا في حوزة حكومتي، وحمى سلطاني، فعلى هذا يتوافق الجمل
ويتضح التناسب بين المعلول (قلع الشجرة) وتعليلها (لا ضرر ولا ضرار) بلا أدنى تكلف
فان كلا من المعلول وعلته حكم سياسي تأديبي لحفظ النظام، واما على ما افاده
الاعلام فلا يتضح التناسب بينهما الا على تأويل سوف نرجع إليه في التنبيه الآتي،
" وبالجملة ": لا يصح تعليل حكمه بالقلع والرمي بأنه لم يشرع حكما ضرريا، أو
ان الله نهى عن أن يضر أحد أحدا، مع أن نفس القلع ضرر، والحكم به ضرري، أضف
إلى ذلك: مرسلة زرارة فإنها كانت مشتملة علي قوله: " على مؤمن " فهذا التقييد، يؤكد كون
النفي بمعني النهى، وقد أوضحنا الوثوق بصدورها في صدر الرسالة، فلا نعيده هنا و (ح)
يتمحض النفي في النهى، فإذا ضمت إليها القرائن الموجودة في صدرها وذيلها يسهل
لك تصديق ما ذكرناه ويتضح انه نهى مولوي سلطاني، لا نهى شرعي الاهي فتدبر.
تنبيهات - الأول
قد اورد الشيخ الأعظم في رسالته المطبوعة في ملحقات مكاسبه اشكالا وقال:
ان في هذه القصة اشكال من حيث حكم النبي بقلع العذق مع أن القواعد لا تقتضيه و
نفى الضرر لا يوجب ذلك لكن لا يخل بالاستدلال " انتهى ": قلت: كيف لا يخل
بالاستدلال والحال هذه نعم ما أوضحه من الاشكال غير وارد على المختار لان المورد
أعني قلع الشجرة من صغريات الحكم الكلى السلطاني السياسي، والامر به لأجل
قلع مادة الفساد في المجتمع، المتوقع في مثل المقام، واما على مختاره (قدس سره)
فلا مساغ للقلع، لأن عدم تشريع الحكم الضرري، أو نهى الله تعالى عن الاضرار بالغير
لا يستلزم قلعها والرمي بها على وجهه لأنه ضرر واضرار بالغير بالحمل الشايع، وما ربما
يقال من أن قوله: لا ضرر ولا ضرار علة لوجوب استئذان سمرة عند الدخول، والامر
بالقلع لأجل حكومته وسلطنته الإلهية، ضعيف ضرورة مخالفته للتعليل المذكور
في الموثقة فإنه صلى الله عليه وآله علل قوله اذهب فاقلعها وارم بها إليه، بقوله: فإنه لا ضرر ولا
122

ضرار، ومعه كيف يمكن القول بان الامر بالقلع لأجل حكومته وسلطنته الإلهية.
وأجاب بعض أعاظم العصر عن الاشكال بما هذا ملخصه: ان قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر
ليس علة لقلع العذق بل علة لوجوب الاستئذان وانما أمر الأنصاري بقلع عذقه لأنه صلى الله عليه وآله
باصرار سمرة على ايقاع الضرر على الأنصاري قد أسقط احترام ماله فامر صلى الله عليه وآله
بالقلع من باب الولاية العامة حسما للفساد هذا أولا:
وثانيا: لو سلمنا ما ذكر الا ان هذا لا ينافي القواعد لان لا ضرر حاكم على
قاعدة السلطنة التي من فروعها احترام مال المسلم الذي هو عبارة عن سلطنة المالك
على منع غيره في التصرف في ماله، لا يقال: على فرض أن يكون احترام مال المسلم
من فروع سلطنته وعدم كونه قاعدة مستقلة الا ان قاعدة السلطنة مركبة من أمر
وجودي وهو كون المالك مسلطا على التصرف في ماله بما يشاء وامر سلبي وهو
سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله والضرر انما يرد علي الأنصاري من تصرف
سمرة في ماله بما يشاء لا من منع الأنصاري عن قلع عذقه فلا وجه لسقوط احترام ماله
رأسا لأنا نقول: جهة السلطنة وان انحلت إلى جزئين ايجابي وسلبي الا ان هذا
تحليل عقلي لا انها مركبة من حكمين فلا معنى لان يكون قاعدة لا ضرر حاكمة
على أحد جزئي السلطنة دون الآخر، نعم الجزء الأخير من علة الضرر ابتداءا و
بلا واسطة هو الدخول بلا استئذان الا انه حيث يكون متفرعا على ابقاء نخلته في
البستان فالضرر ينتهى وينشاء بالآخرة من علة العلل فينفي حق الابقاء، وبالجملة
ان سمرة لم يكن مالكا الا للنخلة وله حق ابقائها في البستان وهذا علة لجواز الدخول
بلا استئذان فلو كان المعلول مستلزما للضرر فدليل الضرر رافع لعلته، لان الضرر
في الحقيقة نشأ من استحقاق سمرة لابقاء عذقه فقاعدة الضرر ترفع هذا الاستحقاق
لا يقال فعلى هذا لزم ان يرتفع الصحة واللزوم في العقد الغبني مع أنه ليس كذلك
لأنا نقول: فرق بين المقام ومسألة الصحة واللزوم فان الصحة وإن كانت متقدمة
في الرتبة على اللزوم الا ان كل واحد منهما حكم مستقل ملاكا ودليلا ولا ربط لأحدهما
بالآخر ولا علية بينهما واما المقام فان جواز الدخول بلا استئذان مع كونه مترتبا
123

على استحقاق بقاء العذق يكون من آثاره، فالضرر معلول الاستحقاق كما أن الضرر
في الوضوء معلول الايجاب الشرعي وان نشأ من اختيار المكلف " انتهى كلامه "
وفيه انظار نشير إلى مهماتها.
منها: ان استظهار كون القاعدة علة لوجوب الاستئذان لا للامر بالقلع، مخالف
لموثقة زرارة، واليك لفظ الرواية " فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وخبره بقول الأنصاري
وما شكا وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبي فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء
الله فأبى ان يبيع فقال لك بها عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
للأنصاري اذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنه لا ضرر ولا ضرار " وظاهر الرواية يعطى كونه علة
للامر بالقلع فقط، إذ كيف يمكن ارجاعه إلى الامر بالاستئذان مع هذا الفصل الطويل
علي ان امره صلى الله عليه وآله سمرة بالاستئذان انما وقع حين مشافهته إياه ثم إنه صلى الله عليه وآله اعرض
عنه، وتوجه إلى الأنصاري وأمره بالقلع معقبا امره بقوله: فإنه لا ضرر، فكيف يمكن
ان قوله لا ضرر، علة لوجوب الاستئذان مع أنه لم يقله الا بعد التولي عنه، والاعراض
عن مشافهته.
منها: ان ما ذكره: " ان سمرة لما أصر على الاضرار فاسقط صلى الله عليه وآله احتراما له
لأجل اصراره على الاضرار " ما لم يقم عليه البرهان، وهذه هي القواعد الشرعية والعقلية
هل تجد فيها ما يدل علي ان الاصرار على الاضرار بالغير، يوجب سقوط احترام مال المصر
وما افاده من أن للسلطان ان يأمر بالقلع حسما للفساد، صحيح لكنه لا يصح (ح)
تعليل الحكم السياسي التأديبي بالحكم الشرعي الإلهي أعني قوله فإنه لا ضرر ولا ضرار،
حسب ما اختاره القوم في مفاده، نعم على ما اخترناه من المعنى، فالتعليل صحيح جدا و
المناسبة واضحة، وظهور الموثقة محفوظ.
منها: ان جعل قاعدة احترام مال المسلم من فروع قاعدة السلطنة غريب جدا
ومثله تفسير الاحترام بأنه عبارة: عن سلطنة المالك على منع غيره من التصرف في ماله:
إذ اقحام إحدى القاعدتين في الأخرى، مع كونهما قاعدتين مستقلتين عند العقلاء
والشريعة دليلا وملاكا، لا وجه له، فان قاعدة السلطنة أي تسلط المالك على أن يتصرف في ماله
124

كيف شاء، ويتقلب فيه كيف أراد، هي من احكام المالكية وشئونها عند العقلاء وقد
أمضاها الشارع بالنبوي المشهور: الناس مسلطون على أموالهم، واما قاعدة الاحترام
فهي عبارة عن كون المال واقعا في حريم المالك، بحيث لا يجوز لاحد ان يتصرف فيه
بغير اذنه ولو تصرف فيه واتلفه ضمن عوضه، فالقاعدتان متغايرتان ملاكا، كما أنهما
مختلفتان دليلا فإليك بعض ما يدل على الثانية فمنه قوله صلى الله عليه وآله في خطبة حجة الوداع
فان دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم
هذا إلى يوم يلقونه، ومنه ما أرسله الصدوق عن رسول الله صلى الله عليه وآله: سباب المؤمن فسوق،
وقتاله كفر، واكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه ونحوها موثقة أبي بصير
عن أبي جعفر (ع) ومنه التوقيع المروى عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه
لا يحل لاحد ان يتصرف في مال غيره بغير اذنه، إلى غير ذلك.
فاتضح اختلاف القاعدتين في الملاك والدليل
منها: ان جعل قاعدة السلطنة مركبة من أمر وجودي هو كون المالك مسلطا على
التصرف في ماله، وامر سلبي وهو سلطنته على منع غيره، خلط بين الشئ ومتعلقه،
فان قاعدة السلطنة عبارة عن تسلط المالك على ماله والسلطنة على منع الغير يعد
من شؤون ذلك السلطنة ومن أنحائها، فالكثرة انما هي في المتعلق، لا في نفس القاعدة
أضف إليه، ان السلطنة على دفع الغير ليس أمرا سلبيا ولو كان متعلقها - منع غير و
دفعه - سلبيا مع أن متعلقها أيضا ليس أمرا سلبيا كما هو واضح
منها: لو سلمنا ان القاعدة مركبة من أمر وجودي وهو كون المالك مسلطا
على التصرف في ماله كيف يشاء وامر سلبي وهو سلطنته علي منع غيره لكن دخول
سمرة في منزل الأنصاري فجأة بلا استئذان ليس من انحاء سلطنته على التصرف في
عذقه كيف يشاء، حتى تستدل بالقاعدة على جوازه، بل من المقدمات الوجودية للتصرف
في ماله، ولا يعقل أن يكون قاعدة السلطنة منحلة إلي السلطنة على الشئ ومقدمته
الوجودية بما انها مقدمته.
أضف إليه - بعد الغض عما ذكر - ان سلطنة سمرة على ماله يستلزم سلطنته على جواز
125

الدخول إلى بيت الأنصاري والعبور منه إلى عذقه، ولما كان الدخول بلا استئذان
ضررا على الأنصاري يرتفع به سلطته على الدخول بلا استئذان واما سلطنته على
الدخول مع الاستئذان وعلى سائر انحاء التصرف في ماله، وحرمة ماله، فلم
يدل دليل على ارتفاعها، بل هي باقية تحت أدلة السلطنة والاحترام من دون دليل رافع.
التنبيه الثاني
ان ما اشتهر بين الأساطين من حكومة قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار، على
الأحكام الواقعية، انما يصح على مختارهم في توضيح الحديث وتفسيره واما على
المذهب المنصور فهو حاكم على قاعدة السلطنة فقط، لأنه ورد لكسر سورتها، و
ان السلطنة على المال إذا استلزمت الضرر والحرج على الغير، وأوقعه في المشقة
والمضيقة، غير جائزة ولا نافذة، وقد تمسك بها نفس سمرة في رده لزوم الاستئذان فقال:
" استأذن في طريقي إلى عذقي " وهو صلى الله عليه وآله بما انه سلطان الأمة وزعيمها وسائس
المجتمع وقائدها الأكبر، وبما ان حكمه على الأولين حكمه على الآخرين منع
الأمة جمعاء عن الضرر والضرار، وايقاع المؤمن في الضرر والمكروه، نظير ايقاع
" سمرة " أخاه الأنصاري فيه بدخوله فجأة واشرافه على أهله مما كان هو يكرهه، و
ان السلطنة محدودة بحد لا يجئ منه الضرر إلى المؤمن واما رفع اللزوم في المعاملة
الضررية كالغبن، أو رفع وجوب الوضوء الضرري وماضاها هما مما اشتهر بينهم التمسك
به، فهو أجنبي عنه على المختار.
فان قلت: فما الدليل على رفع اللزوم في هذه الموارد، ولو أسقطنا القاعدة
عن الاعتبار في هاتيك المواضع، فما الدليل على الخيار وأشباهه، وقد يظهر من
بعضهم ان القاعدة هو الدليل المنحصر في بعض الخيارات، قلت: انحصار الدليل به
ممنوع جدا، فان من أوضح موارد النقض على المختار، انما هو خيار الغبن، و
لا يلزم من انكار جريان القاعدة فيه، عدم الدليل على الخيار، فان وجود الخيار
في هذه الموارد عقلائي بما هو خيار الغبن، وأي دليل أوضح من بنائهم الذي
لم يرده الشارع وجرى على ديدنهم في احكام المعاملة غالبا، وليس
126

الخيار عندهم لأجل وجود الشرط الضمني في المعاملة من مساواة الثمن والمثمن في
القيمة السوقية، حتى يكون من قبيل خيار تخلف الشرط، كما ربما توهم نظيره
في خيار العيب أيضا لان الملاك للرجوع عندهم في صورة الغبن بما انه مغبون،
وفي العيب بما ان المبيع معيب.
نعم بناء العقلاء على حل العقد إذا كان المبيع معيبا، واما حله إذا كان أحد
المتبايعين مغبونا، فيتوقف جوازه عندهم علي عدم بذل التفاوت، فلو بذل فيسقط
خياره عندهم ولا أظن أن يستفاد أزيد من ذلك من القاعدة لو كانت دليلا في خيار
الغبن، كما اعترف عليه الشيخ الأعظم، وشيخنا العلامة أعلى الله مقامهما، ونقل
عن العلامة.
والحاصل ان استدلال الاعلام بالقاعدة على الخيار، لا يدل على انحصار دليل
الخيار عليها، فهذا ابن زهرة يمكن ان يستظهر منه عدم اعتماده على القاعدة في
اثبات الخيار حيث قال ويحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار (فتأمل)
ويظهر من صاحب الجواهر انه اعتمد في خيار الغبن على الاجماع الذي ادعاده لا
على القاعدة، و " بالجملة " استدلال من استدل من الأعاظم من زمن الشيخ إلى اعصارنا
لا يدل على الانحصار، وانه لولاه لما أمكن اثبات الخيار، ولو سلم فالتالي لا يعطى ظهورا
للرواية فان الظهور العرفي انما يقتنص من مجاريه، وليس من طرقه، بقاء عدة من
المسائل بلا دليل إذ هو لا يعطى الظهور ولا يوجب ان نحكم بخلاف ظاهر الحديث،
الا ان يقال إن الاستدلال انما هو بفهم المشهور، لا غير ولكنه أيضا غير سديد.
التنبيه الثالث
ان الممنوع انما هو الاضرار على الناس تسبيبا أو مباشرة، واما رفع الضرار
أو دفعه عنهم، فالحديث أجنبي عنهما وهو من الوضوح بمثابة، وعليه فلو توجه السيل إلى
دار الغير، فلا يجب عليه دفعه ولا توجيهه إلى داره، لرفع الضرر عن جاره، كما أنه
لو توجه إلى داره، يجوز له دفعه عن داره وان استلزم جريانه بنفسه إلى دار الغير نعم
ليس له توجيهه إلى دار الغير، لدفع الضرر عن نفسه لكونه هو الاضرار، و " بالجملة "
127

ما هو الحرام انما هو الاضرار على انحائه تسبيبا أو مباشرة، واما حديث الرفع والدفع
عن الغير، فهو خارج عن مفاده.
بقى الكلام في الاكراه علي الضرر، فالظاهر حكومة حديث الرفع علي
دليل نفى الضرر بأي معنى فسر سواء كان نهيا شرعيا أو نهيا سلطانيا، فان حديث
رفع ما استكرهوا حاكم على الرواية أو على وجوب اتباع الرسول وأولي الأمر،
أعني قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وغيره، أو يقال بانصراف
قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار عن هاتيك الموارد، مما لا يستند الضرر حقيقة إلى
المباشر بل إلى أمر المتوعد، كالتولية من الجائر على وجه الاكراه، فان
الضار في نظر العرف انما هو المكره: لا المكره، (بالفتح) نعم: القول بحكومة
حديث الرفع على أدلة الاحكام على اطلاقها غير صحيح، وقد نبهنا عليه في الرسالة
التي عملناها في التقية ولا يمكن الجمود على اطلاق الحديث والعمل به وان تحقق
الاكراه، كما إذا أوعده وأكرهه على هدم الكعبة، واحراق القرآن، وابطاله
بحيث يقع الناس معه في الضلالة، أو امره على المعاصي الموبقة المهلكة، ولا أظن
التزامهم بحكومة الحديث على ما دل على حرمة تلك الأفعال، وان أوعده المكره
بما لو اوعد به في طلاق امرأته، أو عتق عبده لتحقق الاكراه وصار الطلاق والعتق
باطلين كما لو أوعده بالشتم والضرب، ونهب مال يسير، فان الايعاد بها يدخل الطلاق
والعتاق لأجله تحت حديث الرفع، ويحكم الطلاق وعديله، بالبطلان الا ان ذلك
الايعاد لا يمكن أن يكون ملاكا للاتيان بالمحارم الموبقة، والعزائم المذكورة، بل
لا يجوز في بعض الصور وان أوعده بالقتل وان ورد التقية في كل شئ الا الدماء.
وبذلك يتضح، انه لو امره الوالي، بعدم بيوت الناس وضربهم، وسبى نسائهم ونهب
أموالهم، وأوعده بما يتحقق معه أول مرتبة من الاكرام، من الشتم ونحوه، لا
يجوز له ذلك وان اطلاق قوله: كل ما اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله منصرف
عنه، وعلى ذلك فالأولى التفصيل بين الوضع والتكليف وان حديث الرفع حاكم
على الأحكام الوضعية في عامة مراتب الاكراه، واما التكليفية، فالحق التفصيل
128

بين مهماتها وغيرها.
التنبيه الرابع
في تعارض الضررين أو تعارض الضرر والحرج وغيرهما من الصور كما إذ
استلزم التصرف في ملكه الضرر على الغير، وقد نقل عن المشهور الجواز ونقل
عدم الخلاف عن الشيخ وابن زهرة والحلى وكيف كان فالأولى بيان الصور المتصورة
وبيان ما هو الضابط فيها فنقول ههنا صور.
الأولى: إذا دار الامر بين الضررين ولزم من تصرفه في ملكه الضرر على الغير و
من ترك تصرفه، الضرر علي نفسه الثانية: ان يتضرر الجار من تصرفه، ولزم من
تركه الحرج على نفسه الثالثة: عكس تلك الصورة، فلو تصرف وقع الجار في
الحرج، ولو ترك التصرف تضرر بتركه الرابعة: أن يكون في تصرفه ضرر أو حرج
على الجار وفي تركه فقدان منفعة له الخامسة: تلك الصورة غير أن ترك التصرف
لا يلازم شيئا من الضرر والحرج وفقدان المنفعة فيكون تصرفه لغوا لايصال الحرج
والضرر على الجار السادسة: إذا دار الامر بين الحرجين فلو تصرف وقع الجار في
الحرج ولو تركه، وقع نفسه فيها.
بناء على ما ذكرناه يمكن القول بجواز التصرف فيما لو استلزم ترك التصرف
وقوع المالك في الضرر والحرج، لانصراف النهى عن الاضرار بالغير عن هذه
الصورة لان حرمة الاضرار بالغير، غير تحمل الضرر والمشقة عنه فما هو الحرام هو
الأول دون الثاني فلا يجب عليه تحملهما لدفع الضرر عن الجار. والمقام من قبيل الثاني
دون الأول، ولا يتوهم انه يلزم من جوازه جواز الاضرار بالغير ابتداء إذا استلزم
تركه الضرر عليه، لوضوح الفرق بين المقامين كما لا يخفى، ويلحق به ما إذا
استلزم ترك التصرف، فقدان منفعة خطيرة، إذ أي حرج أوضح من حبس المالك عن
الانتفاع بماله مدة لا يستهان بها، واما غير هذه الصور، فلا يجوز له التصرف
لأنه يعد اضرارا حقيقة بلا وجه - هذا - والظاهر أن ما ذكرنا هو المحكم ولو
قلنا بما اختاره الاعلام في تفسير الرواية، لان القاعدة قاعدة امتنانية، ولا امتنان في
129

الزام المالك بتحمل الضرر والحرج عن الغير، أو الصبر على عدم الانتفاع عن العين،
واما في غير هذه الصور فمقتضى الامتنان، عدم الجواز كما لو حفر بالوعة لمجرد الاضرار
على جاره، أو غير ذلك من الهوسات.
اشكال ودفع
وقد يقال: إذا تعارض الضرران من جانب المالك والجار، فمقتضى القاعدة
سقوطهما والرجوع إلى قاعدة السلطنة أو إلى الأصول العقلية والشرعية ومثله ما لو
كان المقام مما تعارض فيه الحرجان، واما إذا كان أحدهما حرجيا والآخر ضرريا
فيمكن القول بتعارضهما وتساقطهما والرجوع إلى ما سبق في الصورتين السابقتين
اللهم الا ان يقال بحكومة قاعدة لا حرج على الأخرى فيختلف صور المسألة ففي تعارض
الضررين والحرجين فالمرجع قاعدة السلطنة، أو الأصول الموجودة وفيما إذا كان
أحدهما حرجيا والاخر ضرريا، يقدم ما فيه الحرج علي ما فيه الضرر لو قلنا بالحكومة
والا فيرجع إلى قاعدة السلطنة أو الأصول.
وقد يقال: إن منع المالك عن التصرف في ملكه حرج مطلقا فيقدم جانب المالك
في جميع الصور اما لحكومته على قاعدة لا ضرر أو للتعارض والرجوع إلى قاعدة
السلطنة أو الأصول الموجودة.
وفي الدعويين ما لا يخفى اما الثانية: فان القول بان منع المالك عن التصرف
في ملكه حرج مطلقا غير صحيح، فان الحرج هو المشقة والضيق والكلفة ومطلق
المنع لا يستلزم ذلك نعم ربما يستلزم ذلك.
واما تعارض الضررين: فتقريره بما يلي: إذا كان تصرف المالك في ملكه
بحفر البئر ضرريا بالنسبة إلى الغير، فجواز حفره مرتفع بحكم القاعدة وإذا كان
رفع هذا الجواز ضرريا بالنسبة إليه، فهذا الضرر الناشئ من رفع السلطنة ورفع الجواز
منفى بحكم نفى الضرر فيتعارض دليل الضرر في مصداقين، من نفسه، فان قوله صلى الله عليه وآله
لا ضرر بحكم القضية الحقيقية منحلة إلى قضايا كثيرة، وان تولد أحد الضررين من
رفع الضرر في ناحية أخرى.
130

وفيه: ان ذلك بمنزلة اعدام الدليل نفسه أو مصداقا من مصاديقه وهو غير معقول
والدليل الواحد لا يمكن ان يتكفل ما ذكر، وقوله صلى الله عليه وآله: لا ضرر ولا ضرار
وإن كان انشاء النفي الاحكام الضررية على مباني القوم، حسب القضية
الحقيقية، غير أن الدليل الواحد، لا يمكن ان يتكفل بجعل واحد ما ذكر، بان
يكون معدما لنفسه، أو مصداقا من مصاديقه الذي هو هو بعينه، ولا يقاس المقام
بحكومة الأصل السببي على المسببي بان يقال. ان المقام من قبيل حكومة مصداق
من الدليل على مصداق آخر، وهو غير اعدام الشئ نفسه، لأنه قياس مع الفارق - وجه
الفرق - ان الأصل في ناحية السبب يرفع موضوع الأصل المسببي أعني الشك تشريعا
(على مسلك القوم) فلا يبقى بعد جريانه موضوع لقوله: لا تنقض اليقين بالشك في
ناحية المسبب حتى يكون الدليل معدما نفسه، فالحكم في ناحية المسبب مرتفع
بالذات، لارتفاع موضوعه وهو الشك من أجل الأصل السببي مع أن في كيفية حكومة
الأصل السببي على المسببي كلاما تعرضناه في الأصول وقررناها بما يدفع عنها الاشكال
نعم لو لزم في مورد نفى " لا تنقض " نفسه بان يتكفل انشاء عدم نقض اليقين بالشك
اعدام عدم النقض فهو أيضا محال، وما نحن فيه من هذا القبيل، والتمسك بذيل
القضية الحقيقية على فرض تسليمه لا يرفع الاشكال، فان اعدام الشئ نفسه باطلا،
وحديث الانحلال لا يصحح الامر الباطل، على أن تفسير الانحلال بما ذكر من انشاء قضايا
متكثرة غير تام عندنا، وقد أوضحنا معنى الانحلال في محله، وقلنا: انه ليس في
البين الا انشاء واحد غير أنه حجة علي الناس في عامة الموارد.
وربما يقال: في تقرير تعارض الضررين، ان جواز التصرف منفي بلا ضرر ومنع
التصرف الناشئ من لا ضرر أيضا منفى بلا ضرر فيتعارضان.
وفيه: ان شأن الحديث هو رفع الحكم أعني جواز التصرف، لا اثبات الحكم
أعنى المنع من التصرف الذي هو حكم وجودي، ورفع الحكم ليس حكما شرعيا
حتى ينفى بلا ضرر.
ثم إن بعض أعاظم العصر أجاب عن تعارض الضررين بان الحكم الناشئ
131

من قبل لا ضرر لا يمكن ان ينفى بلا ضرر، لان المحكوم لابد أن يكون في الرتبة
المتأخرة من الحاكم حتى يكون شارحا وناظرا إليه (1) والمفروض ان هذا
الضرر الحادث متأخر عن لا ضرر فكيف يكون حاكما على الامر المتأخر " انتهى ".
وفيه: ان ذلك مبنى على ما اختاره في باب الحكومة وسيوافيك في محله
انه لا يشترط في الحكومة التفسير والشرح، على أن النظر إلى المتأخر رتبة
ممكن، فإذا تولد من اجراء القاعدة حكم ضرري، فلا مانع من نفيه بنفس هذا
الدليل - كما في قوله: صدق العادل - فان الحكم مجعول على وزان القضايا الحقيقية،
والشارع نفى ورفع كل حكم ضرري محقق وجوده أو مقدره في ظرف تحققه.
ومما ذكرنا يتضح حال تعارض الحرجين، فإنه كتعارض الضررين طابق النعل
بالنعل واما حديث حكومة لا حرج على لا ضرر فمما لا أصل له بناءا على مسلك القوم،
اما إذا قلنا: بان دليل رفع الحرج، هو قوله صلى الله عليه وآله: لا ضرار، على ما عرفت منا تحقيقه،
وانه بمعنى الحرج والكلفة والمشقة فواضح واما إذا كان دليله قوله تعالى: جاهدوا
في الله حق جهاده هو اجتبيكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم
هو سماكم المسلمين من قبل الحج 78: فمثل ما تقدم، فان لسان الدليلين واحد
وكلاهما انشاء لنفى الاحكام الضررية والحرجية علي ما ذهب إليه القوم في معنى
القاعدة، (وعليه) فحكومة أحدهما على الاخر بعد اشتراكهما في اللسان والمرمى بلا وجه
ولو قيل: إن لسان لا ضرر نفى تحققه ولسان لا حرج بمقتضى الآية نفى الجعل
وبما ان الجعل مقدم على التحقق يكون نفيه حاكما على نفيه يقال: إن باب
الحكومة لابد وأن يكون عقلائيا بحيث إذا عرض الدليلان على العرف يقدم أحدهما
تحكيما بلا نظر إلى النسبة بينهما وما ذكر ليس تقديما عقلائيا عرفيا كما لا يخفي

(1) ودونك نقل عبارته الموجودة في تقريراته المذكورة ص 225: فقال: فإذا نشأ ضرر من
حكومة لا ضرر فلا يمكن أن يكون ناظرا إلى هذا الضرر لان المحكوم لابد أن يكون متقدما!
في الرتبة على الحاكم حتى يكون شارحا له وناظرا إليه وان هذا الضرر الحادث متأخر في
الرتبة عن قاعدة لا ضرر ولعل بين التعبيرين فرقا - المؤلف.
132

وبقى في المقام أبحاث طفيفة وتنبيهات تعرض لها الاعلام غير أن سيدنا الأستاذ
طوى عنها الكلام بعد كون مبناه في الحديث غير مبنى القوم ولعله يظهر انظاره
دام ظله فيما بقى من المباحث من التدبر فيما أفاد، وعليه تعالى التوكل في المعاش
والمعاد، تمت الرسالة بعونه في شهر ذي قعدة الحرام من شهور سنة 1375 وقد
أعدنا النظر وكررنا البصر مرة ثانية في محروسة كرمان، صانها الله عن الحدثان
وفرغنا عنه في الثامن عشر في شهر رمضان من شهور عام 1380 من الهجرة النبوية
حرره بأنامله الداثرة مؤلفه: محمد جعفر السبحاني التبريزي، عامله الله
بلطفه العميم.
133

رسالة في
الاجتهاد والتقليد
تقرير البحث
سيدنا الأستاذ الأكبر زعيم الحوزة العلمية
الحاج آغا روح الله الخميني
دام ظله الوارف
لمؤلفه: الحاج ميرزا جعفر السبحاني
134

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارئ النفوس ومفيض النعم، والصلاة على نبيه وآله خيرة الأمم،
وعلي الدعاة إلى طريقته الحقة وشريعته المتقنة وسلم تسليما.
اما بعد: فان هذه درر وفرائد وغرر وفوائد، التقطتها من بحث سيدنا
العلامة الأستاذ الأكبر آية الله العظمى: الحاج آغا روح الله الخميني دامت اظلاله
عندما انتهى بحثه إلى مباحث الاجتهاد والتقليد، ولما كان ما افاده (دام ظله)
غزير المادة، طويل الذيل، كثير النفع، أحببت ان افرزه عما تقدمه من المباحث
فجاء بحمد الله رسالة تامة كافلة لبيان ما هو الأهم من المسائل.
قال دام ظله: ان دين الاسلام من أثبت الطرق دعائمه وأوضح المذاهب شوارعه،
عزز جامعة البشر - في أحوج أوقاتها إلى مصلح يهديها بعلمه الجم إلى طريق الصلاح
ويضمن لها نتائج النجاح - بوضع قوانين كلية، ودستورات واضحة، يحصل بها حياتها
وتتكفل سعادتها الفردي والاجتماعي.
ثم إن من أهم ما يحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه ونفوسه واجتماع شتات
أموره ومتفرقاته، هو جعل قائد بينهم يجب على الكل إطاعة قوله، وتبعية فعله،
وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرعة - بالحاكم والسائس - فللحرص
على هذا النظام البشرى والترتيب المدني أصدرت حكومة الشرع العالية، قانون
الحكومة، فعينت لأمهات المناطق حكاما كبارا يضمنون سياسة المنطقة في داخلها
وخارجها ويحفظون توازن الجمعية في كافة حركاتها، حفظا لها عن التلف والاندحار،
وسفك الدماء، وقتل النفوس وتطرق اللصوص إليها من داخل وخارج حتى ينتظم
135

أمورهم وينضبط كيانهم ومدنيتهم.
كما أن من مقتضيات القوى النفسانية، الميل والمتوجه إلى القوى النفسانية
والاحتراز والتباعد عن المضار، وذلك يوجب نزاعا في الحقوق والأموال وربما
ينجر إلى الحرب والاحتدام فلدفع هذه المفسدة، عين الشارع الصادق في كل
صقع وجيل، من يتبع قوله في حل خصوماتهم ومرافعاتهم، ليكون قوله نافذا
وأمره قاضيا، وهذا ما يعبر عنه في لسان الشرع وأئمة الدين - بالقاضي.، وكل
من هذين الامرين راجع إلى كيفية معاشهم في أدوار حياتهم، ليخرجوا عن الوحشية
إلى المدنية، حتى يتم نظامهم بأحسن صورة وادق معانيه.
وهيهنا مقام ثالث وراء ما تقدم أعني به مقام الافتاء فان الأحكام الشرعية بأبوابه
الأربعة من عبادات ومعاملات وايقاعات وسياسات لما كان أمرا نظريا محتاجا إلى التعلم و
التعليم، ولا يمكن لكل واحد منا عرفانها عن عن مآخذها العلمية ومداركها المتقنة، فان ذلك
يعوق الانسان عن مهام أموره الدنيوية، ارجع نظام الافتاء إلى فقيه عالم بشرائع
دينه ومذهبه وهذا هو الذي يدور في السنة المتشرعة - بالمفتى - ليكون مرجعا
لاخذ الاحكام، ولما لم يكن كل فرد لائقا لاشغال هذه المناصب الخطيرة، والمقامات
المهمة، حدد الشارع هذا المقام بحدود وقيود، بحث عنها الأساطين في كتبهم،
ولا يناسب البحث عن عامتها وضع الرسالة الا البحث عن شرطية الاجتهاد لمن يتكفل
هذه المناصب واما بيان سائرها من عدالة وحرية ورجولية فموكولة إلى محلها، ويقع
البحث عن مقامات ثلث، ولنقدم البحث عن الافتاء.
المقام الأول: في الافتاء ويقع البحث فيه في جهات:
الجهة الأولى: بيان من يجب عليه العمل برأيه ويحرم عليه الرجوع إلى الغير
الجهة الثانية: في بيان من يجوز له العمل برأيه، ويكون مثابا أو معذورا في
العمل به شرعا وعقلا.
الجهة الثالثة: في شرايط المفتى، ومن يجوز له الافتاء.
اما الجهة الأولى: فالموضوع لوجوب العمل برأيه وحرمة الرجوع إلى
136

الغير، هو من كان ذا قوة وملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي من مداركها
وان لم يستنبط فرعا من الفروع فلو زاول الرجل مقدمات الاجتهاد، ومارسها ممارسة
أكيدة، بحيث حصل من تلك المزاولة قوة الاجتهاد، ونال المرتبة القدسية، وان لم
يستنبط فرعا واحدا ولم يرجع إلى مسألة واحدة بحيث يصدق في حقه فعلا انه جاهل
بالأحكام، يحرم عليه تقليد الغير، فيجب عليه استفراغ الوسع والبال لتحصيل الحكم
الشرعي لان الدليل على جواز رجوع الجاهل إلى الغير، ليس الا بناء العقلاء، وما ورد
في الكتاب والسنة من التحريص إلى الرجوع ليس الا ارشادا إلى الفطرة المرتكزة
وهو دليل لبى لا اطلاق له حتى يتمسك باطلاقه، خصوصا إذا علم أن مؤدي الامارات و
الأصول عنده قد يكون مخالفا لرأى من يريد ان يرجع إليه بحيث لو استفرغ الوسع لوقف
على خطأه في الاجتهاد، فلا يعذره العقلاء لو رجع وبان خطأه والحال هذه.
وان شئت قلت: ان المتيقن أو ما هو الظاهر من بناء العقلاء هو الجاهل الذي لا يتمكن
فعلا من تحصيل الأحكام الواقعية من طرقه المألوفة، فعليه ان يرجع إلى المتمكن
واما القادر على تحصيلها من طرقها، بحيث لا حاجز بينه وبينها، الا مراجعة الامارات و
الأصول، المجتمعة في الكتاب والسنة فخارج عنه بل يجب عليه بذل الجهد، في
تحصيل ما هو ضالته، وما يدور عليه وظايفه.
والحاصل: انه لو باشر وقام على تحصيل الأحكام الشرعية بنفسه فهو
مأمون من العتاب والعقاب، أصاب أو أخطأ، لكونه خبيرا فيما باشره، والخبير قد
يصيب وقد لا يصيب، واما إذا رجع إلى الغير، فلو كان الغير خاطئا في اجتهاده، فلا يعذر
في مراجعته لأنه من المحتمل جدا عدم خطائه فيما لو باشره بنفسه.
فان قلت: جرت سيرة العقلاء من أصحاب الصنائع وغيرهم على خلاف ذلك،
فربما يدفعون كلفة التدبر والتشخيص في أمر إلى ذمة الغير، مع كون الدافع قادرا على
القيام به بنفسه قلت: قياس التكاليف الإلهية بما جرت السيرة عليه بين الصناعين
قياس مع الفارق فان رجوعهم إلى الغير لأجل تقديم بعض الغايات على بعض، كتقديم
الاستراحة والعيش، على التعب والوصب أو من باب الاحتياط والوقوف على نظر الغير،
137

حتى يطمئن قلبه إذا حصل التوافق بين الرأيين أو غير ذلك، مما لا مساغ لها في الأحكام الشرعية
، ومع هذا كله، يمكن تقريب جواز رجوعه إلى الغير، بما يلي: ان ملاك رجوع
الجاهل إلي الغير، ليس الا الغاء احتمال الخطاء والخلاف في نظر الغير، لكونه غالب
الموافقة وكثير الإصابة، كما أن ذلك هو الملاك في العمل بالامارات وأمثالها، وهذا
الملاك بعينه موجود، في الجاهل القادر على الاستنباط، فعليه ان يدفع كلفة الاجتهاد
عن نفسه نعم لو استفرغ الوسع، وصار مؤدى نظره مخالفا لما رآه غيره لا يجوز له الرجوع
إليه لكونه مخطئا في نظره.
هذا ولكنه لا يخلو عن غموض، فان هذا يصح لو كان الاختلاف بين الفقهاء
طفيفا، لا كثيرا، والجاهل القادر علي بذل الجهد، يعلم من نفسه انه لو تصدي
لاستفراغ الوسع، لوقف على خطايا كثيرة في انظار من يريد الرجوع إليه، ومعه كيف
يجوز له الرجوع، ومن المحتمل أن يكون للعجز دخالة في جواز الرجوع، واما
سيرة المتشرعة فالمتيقن منها غير ذلك، هذا وللمقال صلة فانتظر.
اما الجهة الثانية أعني ما هو الموضوع لجواز العمل برأيه، فيجوز لمن
استفرغ الوسع في تحصيل الأحكام الشرعية من طرقها المألوفة لدى أصحاب
الفن، أو بذل جهده في تحصيل ما هو العذر بينه وبين ربه ان يعمل برأيه
ويستغنى بذلك عن الرجوع إلى الغير. غير أن ذلك يتوقف على مقدمات ومبادي كثيرة
نشير إلى أكثرها.
1 - الوقوف علي القواعد العربية ومعرفة مفرداتها، على حد يتوقف عليه فهم
الكتاب والسنة، ولا يحصل ذلك الا بمزاولتها وممارستها على نحو يقف على قواعدها
ومفرداتها، والكنايات والاستعارات التي تختص بالكتاب والسنة، وسائر الخصوصيات
التي لا مناص للفقيه عنها.
2 - تمييز المعاني العرفية الدارجة بين الناس على اختلافهم، من المعاني
العقلية الدقيقة، التي لا يقف عليها الا ثلة قليلة فان الكتاب والسنة وردا في مستوى
الافهام المعمولة والمعاني الدارجة بين عامة الطبقات، لا أقول إن كل ما بين الدفتين
138

في الكتاب والسنة وارد على هذا النمط، لان ذلك مجازفة في القول فإنك ترى ان
الكتاب إذا اخذ البحث عن المعارف الإلهية والمطالب العقلية يأتي بما هو أعلى عن
مستوى الافهام العادية، بحيث لا يقف على مغزاها الا من صرف أعمارا في ذلك المضمار
بل أقول انما ورد فيهما لأجل بيان الأحكام الشرعية، والوظائف العملية، ورد
في موقف الافهام الرائجة، والمعاني البسيطة التي تقف على حقيقتها، كل واحد
من الناس.
ولأجل ذلك يجب على الفقيه، الانس بالمحاورات العرفية، وفهم الموضوعات
الدارجة بينهم، والتجنب عن المسائل العقلية الفلسفية في فهم المعاني العرفية،
والمطالب السوقية، فقد وقفنا على أخطاء كثيرة من الأعاظم صدرت من
تلك الناحية.
3 - معرفة الاشكال الأربعة، وشرائط انتاجها، وتمييز عقيمها عن منتجها،
ويدخل في ذلك معرفة العكس المستوى، وعكس النقيص مما يتوقف عليه الاستنباط
في بعض المقامات وغيرها من المباحث الرائجة منه في غالب المحاورات، نعم لا يجب
الوقوف علي تفاصيل الشرطيات والاقترانيات، واشباههما مما لا وقوف لتحصيل
الحكم الشرعي عليه (1).
4 - معرفة مسائل أصول الفقه، وتحصيلها بأدق وجه، واعنى عن مسائلها
مالها دخالة في استنباط الحكم الشرعي، ولها مقدمية لها، فلو ان الفقيه، لم يتقن
ولم يحقق حجية مسألة خبر الواحد، أو ان المحكم فيما لا نص على حرمة شئ أو
وجوبه هو البراءة، أو ان المرجع في تعارض الروايات ما هو، وغير ذلك من المسائل
الهامة، لتعذر عليه الاستدلال في هذه الموارد وأمثالها، وتوهم الاستغناء عنها،

(1) الظاهر أن الاستدلال الفقهي لا يتوقف على معرفة صناعة المنطق أصلا وان
الفطرة السليمة والذوق الفقهي، غنى عن ذلك، والشاهد عليه هذه الكتب المدونة
الفقهية إلى اعصارنا فإنك لا تجد فقيها فحلا يستدل على حكم شرعي بهذه القواعد
الصناعية، اللهم نادرا، ولعله لصوغ ما أدركه بالذوق الفقهي في قالب الصناعة - المؤلف
139

بأنه لم يكن في اعصار الأئمة عين ولا اثر من هذه المسائل المدونة، سخيف جدا،
للفرق الواضح بين اعصارهم واعصارنا، على أن بعض ما عددناه من المسائل كان
منقحا عند أهل الاستنباط في تلك الاعصار، كما هو واضح على من سبر أبواب الفقه،
وفصول الروايات.
والحاصل: ان معرفة مسائل أصول الفقه التي احتل في هذه الاعصار المكانة
العظمى، من أهم ما يتوقف عليه رحى الاستنباط، إذ لو لم يثبت عندها حجية قول الثقة
أو صحة العمل بالظواهر، ولم نعلم الوظيفة عند فقدان الدليل، أو كيفية الجمع،
فلا يمكن لنا الاعتماد على قول الثقة أو الظواهر عند الاستنباط ونصير متحيرا عند فقدان
الدليل، أو تعارضه فلابد للفقيه تنقيح هذه المسائل، وما يقع في موقفها من البحث في
عموم الألفاظ أو خصوصها، مطلقها ومقيدها، وما يشبهها من البحث في مفاد الأوامر
والنواهي كل ذلك على نحو الاجتهاد، على حسب ما يسوقه الدليل.
ليت شعري، ما الدليل على الاستغناء عن تنقيح هذه المباحث مع أن أكثر مدارك
هذه المسائل موجود في الذكر الحكيم، والروايات المأثورة، والمرتكزات
الفطرية العرفية العقلائية، كما أن بعض مسائلها مما يستدل عليه من طريق العقل،
كاجتماع الامر والنهى، فان مرجع البحث فيه إلى أنه هل يلزم على القول بالاجتماع
اجتماع الضدين أو النقيضين الذي أجمع العقلاء حتى الاخباري على امتناعه.
واما تدوينها في كتاب مستقل، فليس من البدع المحرمة والمحدثات المذمومة،
إذ كل علم إذا كثر البحث حوله، تشعب فنونه، وصار لائقا لان يدون في كتاب مستقل
وما تمسك به الاخباري في الاستغناء عنه من أن الروايات المأثورة مقطوعة الصدور،
مما لا يسمن ولا يغنى من جوع فإنه على فرض صحته لا يثبت ما رامه، ولا يوجب الغناء
عن كثير من مسائل أصول الفقه، وبالجملة فدعوى الغناء مجازفة.
نعم: لابد من الاكتفاء علي المباحث التي تعد مقدمة واقعية على الاستنباط
بحيث لولاها لاختل نظامه، وانفصم عقده، واما مالا دخالة لها في تحصيله،
فالاشتغال به ضياع للعمر، وانحراف عن الهدف، ولولا خوف الإطالة لعددت عليك
140

مسائل بحث عنها الأصوليون من قديم وحديث، بحثا ضافا، مع أنه لا يتوقف عليه
الاستنباط في واحدة من المسائل، فطالب السعادة الربانية، لا مناص له عن أن يرجع إلى
مسائلها، على نحو الطريقية والمقدمية، فلا يخوض في مسألة الا ولها دخالة في فروعه
واستنباطه، ولا ينظر إليه على أنه علم برأسه، وان الوقوف على مسائلها، خطيرها و
حقيرها ودقيقها، كمال نفساني، يطلب لانفسها، أو ان لها دخالة في جودة الذهن
وتشحيذه، كما أنه ربما يروم به الألسن روما.
ويمكن أن يكون هذا التطويل مصدرا لطعن الأخباريين في تدوين مسائل
أصول الفقه، كما أنه هنها مصدرا آخر لطعنهم، فإنهم لاحظوا، بعض ما الفه
أصحابنا في أصول الفقه فرأوا ان المسائل المدونة فيها، وطريق الاستدلال عليها،
يشبه أو يتحد مع طريق العامة، فزعموا أن مباني استدلالهم في الفقه، عين ما حرروه
في كتب أصولهم، مع أن الواقف على طريق استدلالهم على الاحكام الفرعية، جد
عليم بأنهم لم يتجاوزوا عن الكتاب والسنة قدر أنملة، واما الاستدلال على بعض
الفروع ببعض الطرق التي لا يرضى بها الا العامة، فلأجل مصالح لا يكاد يخفى على
القارئ عرفانها، فان تحكيم المسألة من الطرق التي يرضى بها الخصم، من فنون
البحث والجدل، وهذا لا يستلزم جواز الطعن على رؤساء المذهب وعمد الدين.
5 - معرفة علم الرجال، وتمييز الثقة عن غيرها حتى يتضح عنده سند الرواية
وحالها وانه داخل في أي واحد من أقسامها من المقبول والمردد و، ويدخل في ذلك
معرفة المشايخ في الرواية وتلامذتها حتى يتضح عنده ارسال الرواية عن مسندها، كما
هو واضح لدى أهلها، وتوهم الاستغناء عنه، بان الروايات مقطوعة الصدور كما
ترى، أو ان الميزان في حجية الرواية، عمل الفقهاء بها، فما عمل به المشهور
نعمل به وإن كان ضعيفا، وما اعرض عنه لا نعمل وان بلغ من الصحة بمكان، ضعيف جدا
فان مورد الاستنباط ربما يشتمل على صنفين من الروايات، وقد عمل بهما عدة من
الاعلام، فلا مناص في ترجيح واحد من الصنفين من الرجوع إلى أحوال رواتهما،
على أنه ربما لا يحرز الاعراض، ولا العمل فلا وجه لرفع اليد عن اطلاق ما دل على حجية
141

قول الثقة، في هذا المورد، ولا يحرز كون الراوي ثقة الا بالمراجعة إليه
6 - معرفة الكتاب والسنة، وهى أهم المقدمات، وعليها يدور رحى الاستنباط
في عامة الاعصار، فلا منتدح عن الفحص عن مفرداتهما، لغة وعرفا، والقرائن الحافة
ومعارضاتهما بقدر الامكان، وما يمكن ان يصرفهما عن ظاهرهما، ويلحق بذلك، الوقوف
على شأن نزول الآيات، فربما يوجد فيه قرائن يصرف الكلام عن ظاهره، والانس،
بنفس الروايات، حتى يقف الفقيه على كيفية محاورتهم مع الناس، وطريق
استدلالهم على الاحكام، فيحصل بالانس. ملكة يقتدر بها علي فهم مقاصدهم ولا
يحصل ذلك الا بالتدبر والتدقيق في الروايات على نحو لا يخرج عن مستوى
الافهام والعرفية.
والى ذلك أشار الإمام الصادق عليه السلام فيما رواه الصدوق في معاني اخباره،
عن داود بن فرقد سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني
كلامنا، ان الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء و
لا يكذب، وروى أيضا في عيونه باسناده عن الرضا عليه السلام قال من رد
متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدى إلى صراط مستقيم، ثم قال إن في اخبارنا
محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا
تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا.
7 - الممارسة بالفروع الفقهية وتفريعها على أصولها حتى يحصل بذلك ملكة
الاستنباط، فان الاستنباط من العلوم العملية التي لا ينالها طالبها الا بالعمل مرة بعد
أخرى، وهكذا
8 - معرفة الشهرات المحققة الفتوائية وما أجمع عليه أساطين الفقه منذ دون
الفقه فان العدول عنها خطأ محض، ولا قيمة للرواية إذا اعرض عنه، مدونها، وافتوا
بخلافها، فلأجل ذلك يجب الفحص عن كلمات القوم والبحث عن فتاوى قدمائهم
الذين أخذوا الفقه والاحكام، والأحاديث والروايات عن الحجج الطاهرة، أو عن
تلاميذهم، أو مقاربي اعصارهم فان لفتاواهم واجماعاتهم قيمة، لا يوزن
142

بها فتاوي من تأخر عنهم، فان أكثر الأصول المصححة كانت موجودة عندهم وقد كون
دأبهم الافتاء بمتون الروايات من دون تغيير، فلا غني للفقيه عن مراجعة ما دونه الصدوقان
والشيخان، خصوصا شيخنا الطوسي، شيخ الطائفة الحقة، حتى يقف على المشهور والنادر.
9 - معرفة فتاوى العامة الدارجة في اعصار الأئمة فان معرفة الموافق لهم، وتمييزه
عن مخالفها، يتوقف على الخبروية في هذا المجال.
فإذا استنبط حكما شرعيا على تلك الموازين وبدل جهده واستفرغ باله،
يجوز له العمل بما استنبط، فيكون مثابا لو أصاب، ومعذورا لو أخطأ، بل هو مثاب
على كل حال.
اما الجهة الثالثة: فما هو الموضوع لجواز العمل برايه هو الموضوع لجواز
الافتاء لغيره بلا تفاوت: هذا تمام البحث في هذا المقام وسيوافيك البحث عنه على
وجه الاستقصاء بعد الفراغ عن اثبات كون الفقيه حاكما وقاضيا.
المقام الثاني البحث عن منصب القضاء
وقد ادرجنا البحث عن منصب الحكومة، وتحديد من يتصداها في هذا
المقام، لاشتراكهما فيما هو الأصل الأولى في المقام، وفي الأدلة التي وردت
لجعل منصبي القضاء والحكومة، للفقيه العادل، فلأجل ذلك صار المقامان مقاما
واحدا.
فنقول: لما كان منصب القضاء وكذا عديله أعني منصب الحكومة، أمرا مجعولا
فلا ينفذ قضاء القاضي فيما رفع إليه أمر قضائه وفصله، كما لا ينفذ حكم الحاكم فيما
يدور عليه رحى الحياة المدني، الا إذا اعطى لهما هذان المنصبان ممن بيده الجعل والوضع
وصارا مصدرا لتصديهما، من عند من له شأن النصب والرفع - فلأجل ذلك - لا مناص
هن اتباع الأدلة سعة وضيقا في موضوعهما.
ما هو الأصل الأولى: الأصل الأولى في المقام هو عدم نفوذ حكم أحد
في المقام في حق آخر، قضاءا كان أو غيره والمراد من النفوذ، عدم جواز
143

التخلف عنه، وحرمة نقضه، وإن كان مخالفا للواقع، ولا يتفاوت في ذلك أصحاب
الوحي وأوصيائهم وأوليائهم، لان ارتقائهم إلى أعلى درجات الكمال لا يقتضى نفوذ
قضائهم وحكمهم فاصلا، بحيث يجب اتباعه في حد نفسه، ما لم ينته امرهم إلي من يحكم
العقل بلزوم اتباع قضائه وحكمه نعم العقل الفطري يحكم بنفوذ حكم خالقه في
عباده وخلائقه، لكون حكمه تصرفا في ملكه وسلطانه، فهو جل سلطانه، سلطان
الخلائق، ومالك رقابهم، لا بالجعل والاعتبار، بل بالاستحقاق الذاتي، فإذا نفوذ غيره
يحتاج إلى الجعل من ناحيته، والاعتراف له بهذا المنصب من جانبه تعالى وقد دلت
الآيات والروايات والأصول على أن النبي والأئمة (ع) من بعده خلفاء الله في ارضه،
فوض إليهم أمر الحكومة والقضاء، فلهم الحكومة والسلطة بجعل من الله،
واعتراف منه عز شأنه ودونك بعض الآيات.
1 - النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
2 - يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان
تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير
وأحسن تأويلا (النساء - 59).
3 - وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله (النساء - 64).
4 - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (النساء - 65).
فان المراد من الإطاعة في الآية ليس الاقتفاء به فيما يبلغه من الاحكام والوظائف
فإنه صلى الله عليه وآله ليس له أمر ولا نهى في هاتيك الموارد، بل المراد اتباع قوله فيما له فيه
أمر ونهى، حتى يكون الاقتفاء به طاعة، والتخلف عنه معصية، ولأجل ذلك يجب
حمل الآية على ما يكون الامر والنهى من عند نفسه لا من عند الله، وإن كان الجميع منتهيا
إليه تعالى، لكونه هو الذي اعطى له منصب القضاء والحكومة، فأعطى له حق
الامر والنهى.
ثم الأئمة من بعده، خلفائه وأوصيائه، حكامه وقضاته على العباد وكم وكم
144

من الروايات المتواترة الدالة على ذلك، بما لا نحتاج إلى ايرادها.
انما الكلام في تحديد من نصب لاحد هذين المنصبين، أو كليهما في زمن الغيبة
بعد قضاء الأصل المتقدم على عدم نفوذ حكم أحد في حق آخر، بعد ورود الأدلة الدالة
على أن القضاء والحكومة من شؤون الخلافة من الله، والنبوة والوصاية (1) فلابد في
الخروج عن مقتضى الأصل، ومفاد الأدلة، من دليل قاطع يسهل لنا معه الخروج
عن مقتضاهما.
فنقول: قبل الخوض في مفاد الروايات الواردة في المقام لابد من التنبيه على أمر
وهو انا نعلم بالضرورة ان دين الاسلام، أكمل الأديان وأتمها، وآخرها وخاتمها،
وان رسول الله جاء بعامة ما يحتاج إليه البشر في معاشه ومعاده إلى يوم القيمة، وقد
صرح هو بنفسه في خطبة حجة الوداع وتظافر الروايات منه صلى الله عليه وآله على أنه كل أمر
خطير أو دقيق، الا وقد بينه وأوضحه حتى أرش الخدش، ومما يحتاج إليه الأمة، بل هو
من مهام أمورهم، وأعظمها، وجود السائس والحاكم، والقاضي والفاصل في مختلف
أمورهم إذ لا حياة الا بهما، ولا قرار ولا استقلال الا باستقرارهما في المجتمع
الاسلامي، فلو لم يعين صلى الله عليه وآله تكليف الأمة بعد حياته أو في زمن غيبة أوصيائه، لعاد ذلك
نقصا في شريعته المقدسة، وصار ناقضا، لما خطب به في حجة وداعه: معاشر الناس ما
يقربكم إلى الجنة ويبعدكم الخ.

(1) قال تعالى شأنه: يا داود انا جعلناك خليفة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله ص - 26. دلت بحكم " الفاء " على أن الحكم بالحق من شؤون
الخلافة، فهو بما انه خليفة من الله جاز له الحكم بالحق. ومن الروايات قول الصادق
(ع) في صحيحة سليمان بن خالد: قال اتقوا الحكومة فان الحكومة انما هي للامام
العالم بالقضاء العادل بين المسلمين لنبي أو وصى نبي (الوسائل - كتاب القضاء ب 3 / 3
ومثله ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال قال أمير المؤمنين (ع) لشريح
يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي أو وصى نبي أو شقي (الوسائل - كتاب القضاء ب 2 / 3)
إلى غير ذلك - منه دام ظله.
145

فلأجل هذا وذاك تحكم الضرورة بأنه صلى الله عليه وآله أوضح أمر الحكومة والقضاء
وعين حدودهما، وبين من يشغلهما، بعد حياته وفي زمن غيبة أوصيائه، ولم يترك
الأمة سدى خصوصا مع اخباره عن تطاول الغيبة، وانقطاع يد الأمة عن أوليائه، مع
تحريمه الرجوع إلى قضاة الجور، وقضاة الطاغوت، وان المأخوذ بحكمهم سحت و
إن كان الحق ثابتا، فهو صلى الله عليه وآله تكميلا لنبوته، وتتميما لشريعته عين تكليف الأمة
في زمن الغيبة أو أمر بأوصيائه ان يوضحوا لهم الطريق في هذا الباب حتى يندفع
النقيصة ويتم الشريعة.
وما يقال: إن وجوده لطف وغيبته منا فلا يجب تعيين السائس علينا لتقصيرنا
في غيبته لا يخلو عن خفاء فان وجوده وإن كان لطفا، الا غيبته لمصالح ربنا اعرف
بها، لا لتقصير منا، فان الشيعة في الحواضر والبوادي، يناجون ربهم ويدعونه إلى أن
يعجل في اظهار وليه، فهم غير مقصرون في ذلك حتى تكون الغيبة من ناحيتهم.
فإذا وقفت على قضاء العقل على أنه قد خولت أمور السياسة والحكومة والقضاء
وفصل الخصومة إلى افراد من هذه الأمة فالقدر المتيقن منها هو الفقيه العادل العارف
بشؤون القضاء، وفنون السياسة الدينية الاسلامية، أضف إلى ذلك ما ورد في المأثورات
من تعظيم العلماء وتكريمهم وما مدح الله به ورسوله والأئمة عليهم السلام من بعده
تلك الطبقة الصالحة من أنهم. ورثة الأنبياء وخلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وامناء الرسل،
وحصون الاسلام، وخير خلق الله بعد الأئمة إذا صلحوا، وانهم كأنبياء بني إسرائيل،
وانهم كفيل أيتام أهل البيت وان مجارى الأمور بيد العلماء بالله الامناء على حلاله
وحرامه، وانهم حكام ملوك الأرض إلى غير ذلك من الكلمات الضافية المطرية، فان كل
واحد من هذه الروايات وإن كان قابلا للنقض والابرام في سنده ودلالته، الا ان مجموعها
يعطي ان المتيقن من تلك الورثة والخلفاء هو الفقيه على النحو الذي أشرنا إليه.
حول الروايات الواردة في المقام
1 - مقبولة عمر بن حنظلة، رواه المشايخ العظايم، وتلقاها الأصحاب بالقبول
بل عليها المدار في باب القضاء كما هو ظاهر لمن أمعن النظر فيه، ودونك متنها:
146

سئلت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك قال عليه السلام من تحاكم إليهم في
حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وإن كان
حقه ثابتا، لأنه اخذ بحكم الطاغوت - إلى أن قال - قلت: كيف يصنعان قال ينظران
إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا
فليرضوا به حكما فانى جعلته عليكم حاكما ومن رده فإنما بحكم الله استخف، وعلينا قد
ردوا لراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله قلت: فإن كان كل رجل يختار رجلا
من أصحابنا فرضيا ان يكونا ناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا
في حديثكم، قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما
ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر - الخ...
دلت على أن المنصوب للقضاء والحكومة يجب أن يكون اماميا مقتديا بأئمة
الشيعة، آخذا عنهم احكامهم، معرضا عن غيرهم، قائلا بإمامتهم. دون امامة غيرهم
فالمخالف لا ينفذ حكمه وان ان حاكما بحكمهم عليهم السلام كما أنه يجب أن يكون
فقيها مجتهدا فيما تقضى وتبرم وتنقض، لان قوله عليه السلام " روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا " لا يصدق علي غير الفقيه في هذه الاعصار، لان
غيره ليس ناظرا في حلالهم ولا حرامهم، ولا عارفا باحكامهم، بل ولا راويا لأحاديثهم
فان الراوي في الأجيال الماضية كان مفتيا، بلفظ الرواية وسيوافيك بيان وجود الاجتهاد
بالمعنى المصطلح في اعصارهم عليهم السلام على أن المتبادر من قوله (روى حديثنا)
في المقام أن يكون رواية الحديث عنهم شغله، وان يزاول به ويمارسه ولا يكفي رواية
حديث أو حديثين أو أحاديث قليلة طيلة عمره فالعامي، ومن لم يبلغ مرتبة الاجتهاد
خارج عنه، وان شئت قلت: ان ايراد هذه الجمل المتعاطفة وعدم الاكتفاء بواحدة
منها، يدل على أن الموصوف بها ثلة مخصوصة من الشيعة، ما برحوا يزاولون
برواية الحديث، والنظر في حلالهم وحرامهم، ومعرفة احكامهم، وهى ليس
الا الفقهاء في هذه الاعصار.
147

ويمكن تقريب دلالتها بوجوه أخر
منها: قوله (ع) نظر في حلالنا وحرامنا.. فان إضافة الحلال والحرام
والاحكام إلى أنفسهم، مع أنه ليس لهم حلال ولا حرام ولا احكام، إذ المشرع هو
الله سبحانه، والنبي والأئمة من بعده محال احكامه وحملتها، للاشعار علي ان
المنصوب لابد ان ينظر إلى الفتاوى الصادرة والاخبار المروية عنهم (ع) وليس هذا
الا شأن الفقيه، لا العامي، إذ هو غير ناظر الا إلى فتوى الفقيه، ومن يجب ان يرجع
إليه في حلال الشرع وحرامه (1).
منها: التعبير ب‍ " نظر "، بعدما قال روي. فإنه دال على أن متعلقه يحتاج إلى
التدقيق والتفكير الذي هو الاستنباط في المقام واستفراغ الوسع في تمييز الحق
عن الباطل.
منها: التعبير ب‍ " عرف " دون علم، فان عرفان الشئ غير العلم به، فان
الأول، يستعمل فيما إذا اشتبه الشئ بين أمور يشابهها من جهة أو جهات، فإذا عرفه
بخصوصياته وميزه عما يشابهها، يقال عرف ذلك، فالمقصود من هذا التعبير، هو
ان المنصوب للحكومة والقضاء لابد ان يعرف الحكم الواقعي عن غيره ويميز الحكم
الصادر لأجل التقية أو غيرها من الصادر لبيان الحكم النفس الامرى، ولو بمعونة
ما جعله الامام مقياسا لمعرفته، من الرجوع إلى الكتاب والسنة، وفتاوى العامة. و
عرفان الاحكام بهذا المعنى، لا يقوم به الا الفقيه لا العامي ولا يتحملها غير من لم
يبلغ مرتبة الاجتهاد.
منها: قوله: وكلاهما اختلفا في حديثكم. فان الظاهر هو الاختلاف في
مفاد الحديث ومعناه، لا في نقله، بان يروي كل واحد غير ما ينقله الآخر، فلو سلم

(1) يمكن أن يكون الإضافة إلى المتكلم لأجل اخراج المخالف الناظر إلى
الفتاوى الصادرة عن الخلفاء والصحابة، والفقهاء من بعدهم، لا لاخراج العامي الشيعي
الناظر إلى فتاوى مقلده - فتدبر - المؤلف.
148

فالاختلاف الناشئ من هذه الناحية، ربما يكون من أجل تسليم إحدى الروايتين
ورد الأخرى، لخلل في سنده أو جهة صدوره، وليس هذا الا شأن الفقيه لا العامي.
منها: قوله (ع): في مقام ترجيح أحد الحكمين على الآخر، الحكم ما
حكم به أعدلهما وأفقههما، وقوله فيما بعد: أرأيت إن كان الفقيهان عرفا
حكمه من الكتاب والسنة الخ فان ظاهره مفروغية كون القاضي والحاكم فقيها، و
لا شك في عدم صدق الفقاهة أو الأفقهية على العامي.
ثم إنه كما يستفاد من الرواية، جعل منصب القضا، للفقيه، كذلك يستفاد جعل
منصب الحكومة والولاية عليه أيضا، إذ أي جملة يكون أصرح من قوله (ع) فانى قد
جعلته عليكم حاكما، والحكومة لغة وعرفا أعم من القضاء المصطلح، بل القضاء من
شؤون الحاكم ودعوى الانصراف إلى الحكم بمعنى القضاء وفصل الخصومة، عند
رفع الرافع غير مسموعة، إذ لا وجه للانصراف، فالفقيه كما هو منصوب من ناحيتهم
للقضاء وفصل الخصومات، منصوب للولاية والحكومة فيما يحتاج إليه المسلمون
في حياتهم ومعاشهم، فيما يتصل باصلاح حالهم، وتنظيم سياساتهم الدينية، وكون
الكبرى الكلية واردا في في مورد القضاء لا يصير مخصصا كمالا يخفى.
أضف إلى ذلك. ان قول الراوي في صدر الرواية: فتحاكما إلى السلطان
أو القضاة الخ يدل على أعمية الموارد، فان للسلطان شأن وللقضاة شأن آخر غالبا
فان وظيفة الولاة، حفظ نظام البلاد، من تطرق الفساد، باعمال السياسات الدينية
وشأن القضاة رفع التداعي، والقضاء بالحق القراح، فهو (ع) نصب الفقيه بمقتضى عمومية
الصدر، للحكومة والقضاوة، واعطى له ما كان للسلطان والقضاة، وكون الراوي
بصدد السؤال عن مسألة قضائية بعده لا يوجب اختصاص الصدر بها كما لا يخفى (1).

(1) لا يخفى ان السائل كان بصدد السؤال عن القضاء من أول الأمر، قبل هذا
الصدر المفيد للعموم، وذلك قوله: سئلت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا يكون
بينهما منازعة في دين أو ميراث الخ فان النزاع فيهما نزاع في مسألة قضائية لا حكومية
فقوله: فتحاكما إلى السلطان الخ يفيد ان الرجوع إليه لأجل القضاء فلا يدل على ثبوت
شأن السلطان، للفقيه كمالا يخفى - المؤلف.
149

في شرطية الاجتهاد المطلق وعدمها
ربما يقال، باشتراط الاجتهاد المطلق في المنصب مستدلا بان الجمع المضاف
أعني احكامنا، يفيد العموم وكذا المصدر المضاف، وعليه فلا يشغل منصة القضاء
والولاية، الا من يكون مجتهدا مطلقا، عارفا جميع الأحكام، ولكنه
ضعيف من وجوه:
الأول: ان الجعل المزبورة وإن كانت صالحة لإفادة العموم في حد نفسه،
الا ورودها في مقام المنع عن الرجوع إلى حكام الجور وقضاة الطاغوت يمنع عن استفادة
العموم فهي ليست بصدد بيان شرطية عرفان جميع الأحكام أو بعضها، بل الغرض، بعث
الشيعة إلى من عرف احكامهم، وحلالهم وحرامهم، وردعهم عن المنحرفين عن بابهم
المفتين بآرائهم وأقيستهم واجتهاداتهم فورود الجملة في هذا المقام يمنع عن
الاعتماد على هذا العموم، على أن قوله عرف احكامنا، صادق عرفا على من وقف على مقدار
يعتد به من احكامهم في رفع الخصومات، ولا يحتاج صدقه إلى وقوفه لكافة ما يحتاج
إليه الأمة في شرايع دينهم، وقد مر ان المراد من قوله: روى حديثنا، ليس هو رواية
الحديث إلى الغير، ضرورة عدم دخالة هذا القيد، بل هو كناية عن العلم بفتاوى
الأئمة، واحكامهم، لان الافتاء في الأجيال الماضية كانت بصورة نقل متن الرواية
التي سمعها عن امامه أو شيخه الذي اخذه من الامام.
الثاني: ان المعرفة الفعلية لتمام الاحكام لا يحصل لغير النبي والامام عادة
فالحمل عليها يوجب لغوية هذا الجعل، وحملها على قوة استنباط جميع الأحكام
ليس أولى من حملها على المعرفة الفعلية لما يليه من الشؤون، أو معرفته بمقدار
معتد به بحيث يصدق في حقه انه عارف باحكامهم.
الثالث: لو سلم امكان معرفة عامة الاحكام فعلا، فلا طريق للمترافعين إلى
عرفان هذا الشخص، فلا معنى لجعل المنصب على من لا طريق إلى معرفته
فلابد ان يحمل على معرفة الفعلية على الوجه المعتد به في أمور القضاء والحكومة
150

بحيث يصدق في حقه الجمل المتعاطفة: روى حديثنا الخ. وعلى ذلك يحمل ما في
صحيحة أبى خديجة، كما سيوافيك بيانه.
فتلخص انه لا دليل على اعتبار الاجتهاد المطلق في الوالي والقاضي سواء فسر
بالملكة والاقتدار على استنباط الجميع أو المعرفة الفعلية لو لم نقل ان الدليل على
خلافه، نعم لا مناص من علمه باحكام الحوادث والوقائع، والمرافعات التي يتصدى
لها كل يوم وشهر.
حول ما بقى من الروايات
هذا تمام الكلام حول الرواية المتلقاة بالقبول، وبما انها بصدد
التحديد والبيان فلابد من الاخذ بالقيود التي اعتبرها، الا ما دل العقل والعرف
على عدم دخالته، كما أنه لا محيص من تقييد المطلقات بها ودونك بعض ما يمكن
الاستدلال به.
1 - صحيحة القداح: ان العلماء ورثة الأنبياء ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا
درهما ولكن ورثوا العلم فمن اخذ منه اخذ بحظ وافر.
2 - ما رواه الكليني بسند ضعيف عن البختري قال: إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن
الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وانما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن اخذ
بشئ منها فقد اخذ حظا وافرا. الوسائل كتاب القضاء باب 2 - الحديث 8.
تقريب الدلالة: ان مقتضى حذف المتعلق في قوله: العلماء ورثة الأنبياء، كونهم
وارثين عنهم في عامة شئونهم ومنها الحكومة والقضاء الا ما دل الدليل على كونه من
خصايصهم (ع)، فلا يصح هذا الاخبار علي النحو المفيد للعموم، الا إذا جعل لهم
الولاية والقضاء قبل هذا الاخبار. لا يقال: إن تذييل الروايتين بقوله: ولكن ورثوا
العلم، وقوله: انما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، قرينة على أن المراد من التوارث
هو التوارث في العلم والحديث لا في كل الأمور، فلا ينعقد الاطلاق للصدر مع
الاحتفاف بما يصلح للقرينية، لأنا نقول: إذ هو انما يصلح لصرف الاطلاق لو كان الحصر
151

حقيقيا لا اضافيا وليس كذلك فان الحصر في الجملتين اضافي في مقابل الدرهم والدينار كما
هو لائح منهما عند الامعان، على أنه لا يصح الحمل على الحصر الحقيقي، لانهم (ع) لم يورثوا
العلم والحديث فقط، بل أورثوا أمورا غيرهما من الزهد والتقوى، كما أورثوا الولاية
والقضاء.
والأولى في دفعه ان يقال: إن قوله العلماء ورثة الأنبياء جملة خبرية بحتة،
ويصح في صدقه إذا كان العلماء ورثة لهم في العلم والحديث، نعم لو كان بصدد
الانشاء والجعل، أمكن دعوى اطلاقه وان حذف متعلقه، مفيد لعموميته على اشكال
فيه أيضا كما لا يخفى (1) هذا وقد ادعى النراقي تواتر مضمونهما ونحن لم نقف
علي غير ما ذكرنا.
3 - مشهورة أبى خديجة (2) قال بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا فقال
قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارئ في شئ من الاخذ والعطاء ان
تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا

(1) أضف إلى ذلك ان قوله: العلماء ورثة الأنبياء لا يخلو اما أن يكون انشاءا
أو اخبارا، فعلى الأول فهي انما يتم في الأمور القابلة للجعل كمناصب الولاية والقضاء
لا في مثل العلم والحديث والتحلي بالفضائل التي هي من أوضح ما أورثوه، ولا يحصل
الا بالاكتساب وبذل الجهد، لا بالانشاء اللفظي فعلى الثاني، فهو يكشف عن سبق الجعل لمثل
الولاية والقضاء فلابد من الاتباع للمكشوف ولحاظه سعة وضيقا وحيث لا طريق إلى لحاظه
فلابد من الاكتفاء بالقدر المتيقن وهو لا يفيد الا طفيفا - المؤلف.
(2) انما سميت مشهورة لاشتهار العمل بها على ما قيل وإن كانت ضعيفة السند و
دونك سندها: روى الشيخ باسناد صحيح عن محمد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد
(بن عيسى) عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة، ورجال الرواية كلهم
ثقات، غير أن المظنون ارسال الرواية إذ يبعد ان يروى الحسين بن سعيد الذي أدرك
عصر الرضا والجوادين، عن أبي الجهم الذي هو بكير بن أعين وقد مات في حياة الصادق (ع)
بلا واسطة، كما هو غير خفى على من لاحظ طبقات الرواة - منه دام ظله.
152

فانى قد جعلته عليكم قاضيا وإياكم ان يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر.
تقريبه على حذو ما عرفته في المقبولة وإن كانت المقبولة أوضح دلالة ولا يبعد
دلالة المشهورة أيضا على جعل منصبي القضاء والحكومة، على الفقيه العارف بالحلال
والحرام، اما منصب القضاء فواضح واما منصب الحكومة فلا طلاق صدرها أعني
وقوع الخصومة في شئ من الاخذ والعطاء سواء كانت راجعة إلى الولاة أو القضاة
ويؤكد ما ذكرنا ما في ذيلها من قوله: وإياكم ان يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان
الجائر، فان ما كان يتصداه السلطان في تلك الاعصار غير ما كان يتصداه القضاة
منهم، بل كان لكل شأن.
3 - صحيحة أبى خديجة: قال قال: أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم
شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فانى قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه، وهو يدل على
ثبوت منصب الولاية للفقيه كالقضاوة، فان المراد من أهل الجور، هم الولاة
والحكام، واما القاضي فهو حاكم بالجور، كمالا يخفى (1).
وهذه عمدة ما يمكن ان يستدل به على ثبوت المنصبين للفقيه في زمن الغيبة
مضافا إلى الضرورة والاجماع على ثبوت القضاء للفقيه فيها، وقد عرفت منا دلالة
الأدلة على ثبوت الحكومة والولاية له فيها في الجملة، واما حدودها وقيودها ومقدار
ولايتها ونفوذ امره فموكول إلى محله.
ثم إنه ربما يستدل ببعض الروايات القاصرة سندا ودلالة لا بأس بالإشارة
إلى بعضها.
منها: التوقيع الرفيع واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا
فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم، وفيه: انه قاصر السند ومنها: رواية تحف
العقول، مجارى العلماء على يد العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه، وفيه ان التدبر

(1) غير أن ما ذكره دام ظله، تدقيق علمي خارج عن مستوى الافهام العرفية فان
العرف يعد الجميع من الدرة إلى الذرة أهل الجور والظلم - المؤلف.
153

في الرواية صدرها وذيلها يقضى بورودها في حق الأئمة مضافا إلى ضعف السند ومنها
ما رواه في الفقه الرضوي من تنزيل الفقهاء منزلة أنبياء بني إسرائيل، وفيه:
انه ضعيف السند.
في استقلال العامي في القضاء وعدمه
وقد استدل على صحة قضائه بوجوه:
منها: قوله تعالى: ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم
بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا (النساء
- 58) بتقريب ان الخطاب شامل للمجتهد والعامي المقلد العارف بالعدل، فإذا
وجب عليه الحكم بالعدل وجب القبول والالزم لغوية ايجاب الحكم بالعدل نظير
ما قرروه من الملازمة بين حرمة الكتمان ولزوم القبول. وفيه: ان
المخاطب في صدر الآية، من عنده الأمانة وفي ذيلها من له الحكم والقضاء
لا عنوان: الناس، ولا المؤمنين، فلا اطلاق له من هذه الجهة، ويصير محصل الآية
ان من عنده الأمانة فليردها إلى أهلها، ومن له الحكم والقضاء فليحكم بالعدل،
واما الحاكم فمن هو؟! فلابد ان يحرز بدليل آخر وان شئت قلت: انه بصدد بيان
لزوم الحكم بالعدل! لا أصل لزوم الحكم والقضاء بين الناس، فلا اطلاق لها من
هذه الناحية.
ويؤيد ما ذكرنا: من أن الخطاب متوجه إلى من له الحكم، وفرغنا عن كونه
حاكما، ما رواه الصدوق عن المعلى بن خنيس عن الصادق (ع) قال قلت له قول الله
عز وجل ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان
تحكموا بالعدل، فقال: عدل الامام ان يدفع ما عنده إلى الامام الذي بعده، وامر
الأئمة ان يحكموا بالعدل وامر الناس ان يتبعوهم وما ذكره (ع) تفسير وتوضيح
لما يعطيه الآية بنفس ظهوره، على أن مناصب القضاء والحكومة، لم يكن لمطلق
الناس، منذ هبط الانسان إلى مهد الأرض بل كان لطبقة مخصوصة من الامراء والملوك
154

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بارئ النفوس ومفيض النعم، والصلاة على نبيه وآله خيرة الأمم،
وعلي الدعاة إلى طريقته الحقة وشريعته المتقنة وسلم تسليما.
اما بعد: فان هذه درر وفرائد. وغرر وفوائد التقطتها من بحث سيدنا
العلامة الأستاذ الأكبر آية الله العظمى: الحاج آغا روح الله الخميني دامت اظلاله
عندما انتهى بحثه إلى مباحث الاجتهاد والتقليد، ولما كان ما افاده (دام ظله)
غزير المادة، طويل الذيل، كثير النفع، أحببت ان افرزه عما تقدمه من المباحث
فجاء بحمد الله رسالة تامة كافلة لبيان ما هو الأهم من المسائل.
قال دام ظله: ان دين الاسلام من أثبت الطرق دعائمه وأوضح المذاهب شوارعه،
عزز جامعة البشر - في أحوج أوقاتها إلى مصلح يهديها بعلمه الجم إلى طريق الصلاح
ويضمن لها نتائج النجاح - بوضع قوانين كلية، ودستورات واضحة، يحصل بها حياتها
وتتكفل سعادتها الفردي والاجتماعي.
ثم إن من أهم ما يحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه ونفوسه واجتماع شتات
أموره ومتفرقاته، هو جعل قائد بينهم يجب على الكل إطاعة قوله، وتبعية فعله،
وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرعة - بالحاكم والسائس - فللحرص
على هذا النظام البشرى والترتيب المدني أصدرت حكومة الشرع العالية، قانون
الحكومة، فعينت لأمهات المناطق حكاما كبارا يضمنون سياسة المنطقة في داخلها
وخارجها ويحفظون توازن الجمعية في كافة حركاتها، حفظا لها عن التلف والاندحار،
وسفك الدماء، وقتل النفوس وتطرق اللصوص إليها من داخل وخارج حتى ينتظم
155

الواقعة، فهو اذن عالم بشئ من قضايا مقلده، لا بشئ من قضاياهم، واما ان يستند
إلى اخباره عن قضاياهم، فهو لا يتجاوز عن كونه خبرا مرسلا لا يجوز الركون إليه
ولو صحح له السند، فلا يجوز له العمل لأنه يحتاج إلى الفحص عن المعارض ومخصصه
ومقيده، وهو خارج عن حيطة اقتداره والحاصل ان قوله: يعلم شيئا من قضايانا، مختص
بالفقيه أو منصرف إليه، ولو استدل به علي جواز استقلال المتجزي في القضاء
لكان له وجه.
منها: صحيحة الحلبي قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما كان بين الرجلين من
أصحابنا المنازعة في الشئ فيتراضيان برجل منا فقال ليس هو ذاك انما هو الذي يجبر الناس
على حكمه بالسيف والسوط (الوسائل ب 1 - 8) ومركز الاستدلال امران، اطلاق قول
الراوي: رجل منا وشموله للفقيه وغيره وان شئت قلت، ترك الاستفصال من الامام
دليل العموم، وحصر من لا يجوز عليه الرجوع فيمن يجبر الناس على حكمه بالسوط
والسيف وغيره من الفقيه ومقلده يجوز لهم الرجوع. وفيه: ان الكلام قد سيق إلي
ان رفع الامر إلى قضاة الشيعة ليس من قبيل رفع الامر إلى قضاة الجور، فلا اطلاق لها
من جهة أخرى على أن الحصر اضافي بلا اشكال فإنه لا يجوز الاعتماد علي حكم
غير الشيعة وان لم يكن له سوط ولا سيف على أن الرواية تشعر بوضوح ان الحديث
كان مسبوقا بكلام آخر، حيث قال (ع) ليس هو ذاك فأسقطه الراوي وحذف ما جرى
بينهما من الكلام ومعه لا يجوز الاعتماد على هذا الحصر، ولا على الاطلاق المدعي
خصوصا مع ما جرت عليه السيرة منذ زمن النبي من تصدى العلماء والفقهاء منصب
القضاء وهى تمنع من انعقاد أي اطلاق، ثم على فرض وجوده يقيد بالمقبولة.
منها: ان الاجتهاد الدائر في اعصارنا لم يكن موجودا في عصر النبي والأئمة
من بعده، (فح) حمل قوله: ممن روى حديثنا الخ على من تحصل قوة الاستنباط، ورد
الفروع على الأصول بالمعنى الدارج في اعصارنا. من قبيل حمل الكلام علي ما لم يكن
موجودا في عصر صدوره، مع أنه صدر لضرب القاعدة على عامة الاعصار، فلا مناص من
حمله على المعنى الدارج في جميع الأجيال، وهو الوقوف على الاحكام، وما هو
156

حلال وحرام، اما بأخذه عن الامام، أو عن الفقيه، ومثل المقلدين في عصرنا مثل
المحدثين في اعصارهم، فهم كانوا يفزعون معالمهم عند أئمتهم أو تلامذتهم، و
أولئك يرجعون إلى الفقهاء العارفين بحلالهم وحرامهم، فلم جاز لهم التصدي
دون أولئك.
وفيه: ان تمام الموضوع لجواز القضاء هو العلم بحلالهم وحرامهم سواء كان
زمن الغيبة أو زمن الحضور، غير أن العلم بهما في هذه الاعصار (لأجل تشتت الروايات
وتضاربها، وبعد العهد وندرة التواتر وانفصال القرائن الموجودة) لا يحصل الا إذا
تحلى الرجل بقوة الاستنباط، حتى يعالج بها هذه النواحي العائقة. فالفقهاء في هذه
الاعصار، والمحدثون في أجيالهم (ع) مشتركون في أنهم رووا حديثهم، وعرفوا
حلالهم وحرامهم، غير أن المحدثين لقرب عهدهم وتمكنهم من الأئمة، كان
تحصيل العلم بحلالهم وحرامهم عليهم سهلا غير عسير، الا ان علم فقهاء الاعصار ووقوفهم
على احكامهم، يحتاج إلى طي مقدمات وتحصيل مباد، يحتاج إلى بذل الجهد و
استفراغ الوسع الذي تحصل بهما قوة الاستنباط والاجتهاد، فلو قال أحد بشرطية
الاجتهاد، في جواز القضاء في هذه الاعصار فلا يقصد منه دخالته في الموضوع وتقوم
الموضوع به ضرورة ان الموضوع في المقبولة غيره، بل المقصود منه، دخالته في حصول
قيود الموضوع أعني ما ساقتها المقبولة من القيود والحدود على ما عرفت واما المقلد
فقد عرفت بمالا مزيد عليه انه خارج عن الموضوع من رأس، وانه ليس ممن عرف
حلالهم واحكامهم على ما مر.
أضف إلى ذلك ما سيوافيك بيانه: من وجود الاجتهاد بالمعنى المعروف في
اعصارهم بين العامة والخاصة اما الخاصة فسيمر عليك بيان ما يدل علي وجوده فيهم،
واما العامة، فإنهم كانوا أصحاب رأى وقياس، وكان المنصوبون من الخلفاء لأمر القضاء
من الفقهاء وذوي الاستنباط والاجتهاد، كأبي حنيفة وابن شبرمة وابن أبي
ليلى واضرابهم.
157

جواز نصب العامي للقضاء وعدمه
هذا كله في استقلال العامي للقضاء وقد عرفت انه لاحظ للعامي فيه واما نصب
العامي له بعدما عرف مسائل القضاء تقليدا، فربما يقال بجوازه، قائلا بان للنبي الوصي
نصب كل واحد من الناس للقضاء مجتهدا كان أو مقلدا، وكل ما كان لهم من
المناصب فهو ثابت للفقيه الا ما خرج بالدليل، فله نصب كل من شاء للقضاء بمقتضى
أدلة الولاية، وربما يجاب عن الأمر الأول، بالشك في جواز نصب النبي والامام العامي
للقضاء، كيف وقد دلت المقبولة على أن هذا المنصب للفقيه العارف بالحلال والحرام
لا العامي، و (فيه) ان المقبولة دلت على أن الفقيه منصوب من ناحيتهم للقضاء،
واما اختصاص هذا المنصب للفقيه في نفس الامر ومحرومية العامي عنه كذلك بحيث
كانت الفقاهة من شروطه الشرعية وان ذلك كان بالزام شرعي الاهي فلا يستفاد منها.
نعم يمكن ان يستفاد ما في الجواب عن صحيحة سليمان بن خالد: قال اتقوا
الحكومة فان الحكومة انما هي للامام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبي أو وصى
نبي، بتقريب ان ظاهر حصرها، اختصاص الحكومة من جانب الله للنبي وأوصيائه
بحيث لاحظ للغير فيه ولا أهلية له، خرج عن ذلك الحصر، الفقيه، بحكم الأدلة
الماضية وبقى الباقون بل يمكن ان يقال لعدم ورود تخصيص عليه أصلا، ببيان ان
الفقيه وصى النبي، لما مر من أنهم الخلفاء والامناء على حلال الله وحرامه وانهم
كأنبياء بني إسرائيل، فيكون الحصر ضابطا حاصرا، وظاهره اختصاص ذلك المقام
من الله، لنبيه ووصيه، ولا أهلية لغيره (1).

(1) يرد على هذا الوجه ان الفقهاء لو كانوا أوصياء الأنبياء (ع) فهم عندئذ منصوبون
للقضاء من جانب الله، ولا معنى لنصب الامام إياهم على القضاء والحكومة، فان هذا المنصب
على هذا الوجه اعطى لهم من جانبه تعالى كما اعطى لنبيه ويمكن ان يجاب عنه بان نصبهم
يمكن أن يكون كاشفا عن نصب الله تعالى إياهم كما أن نصب النبي عليا (ع) مع أنه منصوب
من قبل الله تعالى كذلك أو يقال صيرورة الفقهاء وصى النبي انما هو بجعلهم وصيا
وحاكما فالجعل المذكور ادخلهم في الوصاية موضوعا - منه دام ظله -
(1) ويؤيده ان أمير المؤمنين خاطب شريحا بقوله: جلست مجلسا لا يجلسه الا بنى *
158

وعلى اي حال فالصحيحة ظاهرة في اختصاص ذلك المنصب للأنبياء وأوصيائهم
والفقهاء اما داخل تحت قوله أو وصى نبي بحكم الروايات أو خرجوا عن الحصر بالأدلة
الماضية وبقى الباقون تحت المنع، علي ان الشك في جواز نصب النبي العامي كاف في عدم
جواز نصب الفقيه إياه للقضاء إذ من الممكن اشتراط الفقاهة مع عدم اطلاق يصح الاتكال عليه
وربما يرد الأمر الثاني، بأنه إذا سلمنا ان للنبي نصب العامي العارف بالأحكام
للقضاء لكن لا نسلم ان كل ما للنبي من الشأن الثابت للفقيه، فان أقوى الأدلة، مقبولة
عمر بن حنظلة، لكن لا دلالة لها علي عموم الولاية للفقيه بل صدرها وذيلها يدل على أن للفقيه
القضاء بين الناس، وبيان الحلال والحرام ويجب علي الناس الاتباع لهم، وأين ذلك من
القول بعموم الولاية وثبوت كل ما للنبي من الشأن للفقيه، ولو فرض دلالتها يجب
حملها على ذلك حذرا من التخصيص الأكثر، إذ للنبي والأئمة من بعده، شؤون كثيرة
تختص بهم ولا نتجاوز غيرهم فكيف يمكن التفوه بعموم المنزلة والولاية، بل
لا يمكن التمسك في الموارد المشكوكة بأدلة الولاية، الا بعد تمسك جماعة من
الأصحاب حتى يرتفع غبار الشك، ولم يتمسك في المقام الا القليل من المتأخرين.
ويمكن ان يجاب عنه: بان جواز نصب العامي للقضاء لا يتوقف على عموم
الولاية بالمعنى الذي ذكر بان نقول بثبوت كل ما للنبي من الشؤون، للفقيه بل
يكفي في ذلك ان يقال: بان المستفاد من المقبولة، هو اعطاء منصب الحكومة للفقيه،
على وجه الاطلاق، وجعلهم حكاما شرعيا في مقابل حكام الجوز، وان لهم التولي
والتصدي لكل ما كان توليه من شؤون الحكام في ذلك الزمان، وقد كان نصب القاضي
من شؤون الحكام والسلاطين كما كان نصب الامراء من شئونهم في تلك الأزمنة، و
(عليه) فجعل الفقيه حاكما، مستلزم لجواز نصب القضاة بلا احتياج إلى اثبات أمر
آخر، وهذا لائح لمن سبر حالات الخلفاء، والحكام والقضاة في الاسلام ويكشف ذلك
عن انه كان عليه السيرة من بدء الاسلام.
وما فسره به الرواية من أنه بصدد بيان ان وظيفة الفقيه بيان الاحكام، ساقط

(1) أو وصى نبي أو شقي، وقد خاطب به (ع) إياه حين نصبه قاضيا فلو أراد انه داخل تحت
قوله شقي، لما صح له (ع) نصبه مع اقتداره على العزل ونصب الاخر مكانه - المؤلف
159

جدا، إذ ليس بيان الاحكام منصبا من المناصب حتى يحتاج إلى الجعل، كما أن
القول باختصاصها بالقضاء، خال عن الدليل فان موردها وإن كان القضاء، الا ان صدرها
وذيلها كاشف عن عموم الجعل، وانه (ع) جعل الفقيه حاكما بقول مطلق، لا قاضيا
فقط، وقد أوضحنا سبيل استفادة العموم منها ومن المشهورة فراجع.
واما حديث تخصيص الأكثر، فان أراد فيما يرجع إلى شؤون الحكومة والولاية
والسياسات الاسلامية والأمور الحسبية فالتخصيص ليس بأكثر بل قليل جدا وان أراد
غير ما يرجع إلى تلك الشؤون، من خصايص النبي وآله (ع) التي جمعها العلامة في
التذكرة في كتاب النكاح، فلم يشملها عموم أدلة الجعل حتى يخرج بالتخصيص
فتلخص من ذلك عدم جواز نصب الفقيه العامي العارف لمنصب القضاء لما عرفت
في الأمر الأول، من أن ظاهر الصحيحة اختصاص ذلك من قبل الله بالنبي والوصي،
خرج الفقيه تخصيصا أو تخصصا وبقى الباقون تحت المنع.
جواز توكيل الفقيه العامي للقضاء
واثبات جوازه يتوقف على ثبوت أمرين غير ثابتين الأول: اثبات ان القضاء
من الأمور التي يقبل النيابة والتنزيل، ولا يشترط فيه مباشرة الفقيه، وانى لنا
باثبات ذلك لا سيما بعد ظهور الأدلة في اختصاصه بالفقيه وعدم وجود دليل أو أصل
يدل على كونه من الأمور النيابية، فإذا كان الحال كذلك، فالأصل الأولى الذي عرفته
في صدر البحث محكم حتى يدل دليل على خلافه الثاني: وجود اطلاق أو دليل في
أدلة الوكالة، يدل على نفوذ الوكالة في كل الأمور، ومنها القضاء وفصل الترافع
وليس فيما بأيدينا، ما يمكن مصدرا لهذا، الا الصحيحتان، وهما بصدد بيان حكم
آخر، ولا اطلاق لهما من جهة نفوذ الوكالة في كل أمر، أو قابلية كل شئ للوكالة و
دونك الروايتين.
1 - صحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (ع): أنه قال من وكل رجلا
على امضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة ابدا حتى يعلمه بالخروج منها كما اعلمه
160

بالدخول فيها.
2 - صحيحة هشام بن سالم عن الصادق (ع) في رجل وكل آخر على وكالة في أمر
من الأمور واشهد له بذلك الشاهدين فقام الوكيل فخرج لامضاء الامر فقال: اشهدوا
انى قد عزلت فلانا عن الوكالة فقال: إن كان الوكيل امضى الامر الذي وكل فيه
قبل العزل فان الامر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل كره الموكل أم رضى، قلت:
فان الوكيل امضى الامر قبل ان يعلم العزل أو يبلغه انه قد عزل عن الوكالة فالامر
على ما أمضاه قال نعم - إلي ان قال - ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره
ماض ابدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافهه بالعزل
عن الوكالة.
والامعان القليل في الصحيحين، يعطى صحة ما قلناه أضف إلى ذلك ان القضاء
من الأمور الخطيرة ربما يجبر أقل الخطاء فيه إلى القتل والاندحار، وسفك الدماء
فتفويض ذلك إلي العامي وان عرف ما عرف، بعيد بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع
غير معهود بين العقلاء، وبذلك يعرف دفع ما ربما يقال: إن التوكيل في الأمور، من
الأمور العقلائية، فلا يحتاج كل مورد منه إلى ورود دليل على جواز التوكيل بل يكفي
عدم ردع من الشارع، كان ما ذكر وإن كان صحيحا، الا ان عدم الردع انما
يكفي فيما إذا كان الشئ بمرأى ومنظر من الشارع، كالعمل بالامارات والوكالة في
المعاملات والأنكحة، واما التوكيل في القضاء فمما لم يعهد في عصر النبي ولا بعده، حتى
يتمسك بعدم الردع ويستكشف رضاه، وليس مصب السيرة أمرا كليا أو ذات اطلاق
حتى يتمسك بعمومه واطلاقه، بل السيرة جارية على موارد من المعاملات والأنكحة
وغيرهما من الأمور الشايعة فيها التوكيل.
القول فيمن يؤخذ عنه الفتوى
وفيه نقاط من البحث: هل يشترط فيمن يرجع إليه في الفتوى أن يكون مجتهدا
مطلقا، أو يكفي كونه متجزئا مجتهدا فيما يفتى وعلى الأول فهل يجب أن يكون اعلم
161

أولا، وعلى فرض لزومه فتارة: يكون فتوى الأعلم موافقا لفتوى غيره، واخرى
يكون مخالفا، معلوما بالعلم التفصيلي، أو بالعلم الاجمالي، وثالثة: يكون مجهول
المخالفة والموافقة وقبل الخوض فيما يسوقنا إليه الأدلة لابد من تأسيس الأصل
فنقول: الأصل حرمة العمل بغير العلم، كما أوضحنا سبيله في مبحث حجية الظن، ولا خفاء
في أن الرجوع إلى الغير لاخذ الفتوى، وتطبيق العمل على قوله، عمل بمالا يعلم
العامل كونه مطابقا للواقع، من غير فرق بين أن يكون مدرك جوازه، السيرة
العقلائية أو الاجماع أو غيرهما من الروايات، خرج عنه، بضرورة الفقه والدين، العمل
بقول الأعلم، لامتناع قيام الناس كلهم على الاجتهاد وبطلان وجوب العمل
بالاحتياط، أو التبعيض فيه، وبقى الباقي، تحت المنع المسلم، فلا يخرج عنه
الا بالدليل هذا هو مقتضى الأصل الأولى.
وربما يقرر الأصل على وجه آخر، وهو ان العلم الضروري حاصل لكل واحد من
المكلفين، بوجود تكاليف في الوقائع، فلا يجوز له الاهمال، لوجود العلم بالتكاليف الجدية
ولا الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج بل الاختلال في النظام ولا الرجوع إلى قول
المفضول لاستلزامه ترجيح المفضول على الفاضل وهو قبيح، ولا يمكن تحصيل الاجتهاد
لقضاء الضرورة على خلافه، فتعين العمل بقول الفاضل وهو المطلوب.
وفيه أولا: ان العلم الاجمالي بوجود تكاليف في الوقائع والحوادث، منحل
بالرجوع إلى فتاوى الاحياء من المجتهدين، وليس له فيما ورائها علم أصلا،
فيحكم العقل عندئذ، الاخذ بأحوط الأقوال منهم، ولا يلزم العسر ولا الحرج
فضلا عن الاختلال.
وثانيا: ان الاخذ برأي غير الأعلم، ليس من قبيل ترجيح المرجوح على الراجح
إذ ربما يتفق كثيرا، مطابقة قوله مع فتوى من هو اعلم من الاحياء عامة، على أن الرجوع
إلى فتوى الغير من قبيل الرجوع إلى الامارات، وربما يحتف فتوى المفضول بقرائن
أو يوجد فيه خصوصيات، يصير أقرب إلى الواقع أضف إليه، ان لازم ما ساقه من
المقدمات هو التبعيض في الاحتياط على حد لا يستلزم العسر، لا الرجوع إلى الأعلم.
162

وربما يقال: إن مقتضي الأصل كون المفضول والفاضل متساويي الاقدام في
جواز التقليد، بتقريب انه إذا فرضنا مجتهدين متساويين من جميع الجهات لا يفضل
واحد منهما على الأخرى، حكم العقل بالتخيير بينهما، بعد الفراغ عن عدم جواز
طرحهما أو الاخذ بأحوطهما، ويصير حكم العقل بالتخيير مصدرا لاستكشاف حكم
شرعي على طبقه، ثم إذا صار أحدهما بعد ردح من الزمن اعلم من الآخر، فالأصل بقاء
التخيير الشرعي المستكشف ويتم في غيره بعدم القول بالفصل.
وفيه: ان ما هو الموضوع لحكم العقل هو الموضوع للحكم الشرعي المستكشف
فلا يعقل، بقائهما بعد ارتفاع الموضوع وانقلابه، وان حكم العقل بالتخيير كان
بمناط قبح الترجيح بغير مرجح، وكان حكم الشرع المستكشف به أيضا بهذا المناط، فلا
يعقل بقاء هذا ولا ذاك بعد حدوث الترجيح وصيرورة أحدهما اعلم.
فان قلت: يمكن أن يكون حكم الشرع بالتخيير، بملاك آخر قائم مقام
الأول عند ارتفاعه فإذا احتملنا قيام مناط آخر مقامه، فقد احتملنا بقاء الحكم الشرعي
والحكم الشرعي المستكشف وإن كان مقطوع الارتفاع، لارتفاع موضوعه والحكم
الشرعي القائم بمناط آخر وإن كان مشكوك الحدوث الا انه لا بأس باستصحاب
التخيير الجامع بينهما، على حذو ما قرروه في استصحاب الكلى.
قلت: ان المجعول هو الحكم الشرعي الشخصي، لا الجامع بينهما، فالحكم
بالتخيير بالمناط الأول مجعول، كما أن الحكم به القائم بالمناط الآخر على فرض
ثبوته في الواقع، مجعول مثله، واما الجامع بينهما فهو أمر انتزاعي لا يتعلق به الجعل
ويمتنع وجوده في الخارج وقد أوضحناه غير مرة فالتخيير بهذا الجامع، لا حكم
شرعي مجعول، ولا موضوع لحكم شرعي.
لا يقال: إن ذلك انما يتم فيما إذا كان الحكم الثاني المحتمل قائما بملاك
مبائن لملاك الحكم الأول واما إذا كان الحكم الشرعي الواقعي في نفس الامر قائما
بملاك أوسع مما أدركه العقل، فلا بأس لاستصحاب الحكم الشرعي المستكشف ابتداء
لان المستكشف حكما وملاكا غير مبائن مع الحكم الواقعي النفس الامرى، فيعد
163

الحكم المنكشف، مرتبة من مراتب الحكم الواقعي، وملاكه مرتبة من الملاك
الواقعي. فيكون نفس الحكم الشخصي محتمل البقاء مع عدم العلم بارتفاع
موضوعه.
لأنا نقول: لا معنى للملاك الأوسع من ملاك حكم العقل أي قبح الترجيح
بلا مرجح فلابد وأن يكون بازائه ملاك آخر لاملاك أوسع من قبح الترجيح نعم
يمكن ان يقال إن مقارن ملاك حكم العقل يحتمل أن يكون ملاك مستقل آخر فإذا
ارتفع ملاك حكم العقل بقى شخص الحكم بذلك الملاك المستقل المجامع مع
الملاك العقلي فشخص الحكم قبل زوال ملاك حكم العقل كان معلولا لهما أو بجامعهما
وبعد زواله صار باقيا ببقاء الملاك الآخر فالشخص محفوظ وإن كان العلة له ملاكين
في زمان وملاك واحد في زمان آخر واختلاف العلة لا يوجب اختلاف الشخص عرفا.
ثم لو صح ما ذكر من التقريب، أمكن تقريب ما يعارضه بان يقال: لو انحصر
الاجتهاد في شخص واحد ثم بلغ الفرد الآخر مقام الاجتهاد، وان لم يبلغ مرتبته ولم يدرك
شأوه، فنشك عندئذ في جواز الرجوع من الفاضل إلى المفضول، فيستصحب عدم
جوازه أو تعين قوله في الحجية الفعلية، ويتم في غيره بما ذكره من عدم القول بالفصل
فتأمل (1) وههنا أصول اخر لهم ضربنا عنها صفحا لوضوح ضعفها (2).
في الأدلة التي استدلوا على جواز التقليد.
واستدل القوم عليه بوجوه اتقنها وأهمها بل يمكن ان يقال إنه الدليل
الوحيد، وبناء العقلاء على رجوع الجاهل على العالم بل قد عد ذلك من القضايا الفطرية
الارتكازية، وان الانسان بفطرته وارتكازه واقف علي لزوم الاستعلام من العالم، من

(1) وجهه واضح فان المستصحب كما في التقريب السابق لا مجعول ولا موضوع
لاثر مجعول - المؤلف.
(2) وبما حققه (دام ظله) يظهر ما هو الأصل في اشتراط الاجتهاد المطلق و
عدمه - المؤلف.
164

غير فرق بين ان يرجع ذلك إلى معاشه وحياته المادي وغيره، فالجاهل بأمور الصنائع
يرجع إلى الصناع، والمريض المسدود عليه باب معالجة مرضه يرجع إلى الأطباء، وهكذا
وهذا البناء من العقلاء أو الفطرة الانسانية بمثابة، لا يرتدع عنه الانسان
الا بقول صريح ونص مبين، ينادى بأعلى صوته: يا معشر العقلاء، يحرم عليكم الرجوع
إلى الصناع والفلاح والأطباء فيما تجهلونه إذا لم يفد قولهم العلم، ولا يكفي في ذلك
العمومات التي أوضحنا حالها عند البحث عن حجية الظن من حرمة العمل بالظن و
غيرها لا لأنه لا يرى العمل بأقوالهم عملا بالظن بل عملا بالعلم كما قيل وإن كان له وجه أيضا
بل لأن هذه الأمور المرتكزة التي فطر عليها الانسان في حياته، بمثابة من الرسوخ
والاستحكام، لا ينقدح في أذهانهم ان الغرض من تلك العمومات، ردعها وقلعها من
رأس ولا ينتقل منها إليه، ما لم ينص عليه بصريح القول، وأوضح شاهد عليه، ان
المخاطبين في عصر نزول هذه الآيات، لم يتنبه أحد ولم ينتقل واحد منهم إلى أن
الهدف منها ردع تلك المرتكزات وانه لا يجوز بعد نزولها، العمل بقول الثقة، أو
لا يجوز ترتيب اثر الملكية على اليد وغيرها من الأمارات الظنية بل بقوا على ما
كانوا و (عليه) رجوع الجاهل في احكامه العرفية أو الشرعية فرع من فروع ذلك
البناء، وصرح قائم عليه.
وربما يورد عليه بان الأمور العقلائية انما يسمن ويغنى إذا كان بمرأى ومنظر
من النبي أو الأئمة من بعده حتى يستكشف من سكوته رضاه، ومن عدم ردعه
كونه مرضيا عنده واما الأمور العقلائية المستحدثة، التي لم يكن في زمنهم (ع)
منها عين ولا اثر، فلا يدل عدم ردعه على رضائه، وما نحن فيه من هذا القبيل،
فان الامر الدارج في أزمنتهم، انما هو الرجوع إلى نظراء عبد الله بن عباس، و
معاذ، ومحمد بن مسلم وزرارة، وابن أبي يعفور وأبان و.. الذين أخذوا الاحكام، عن
مستقى الوحي، وأئمة الدين وعاشروهم مدة طويلة، حتى صاروا بطانة علومهم، ومخازن
معارفهم، ومعادن اسرارهم، فنقلوا ما سمعوها باسماعهم وابصروها بأعينهم إلى
الأجيال القادمة من دون اجتهاد ولا اعمال نظر، فارجعوا شيعتهم إلى تلك العلماء
165

الذين هذه سيرتهم، وتلك كيفية اخذهم الاحكام عن أئمتهم، فكان رجوع الجاهل
إلي العلماء في ذلك الزمان من رجوع الجاهل إلي العالم بالعلم الوجداني، الحاصل
لهم من مشافهة الأئمة من دون اجتهاد ولا اعمال نظر، واما رجوع الجاهل في اعصارنا
فإنما هو إلى العلماء الذين عرفوا الاحكام من طرق الامارات والظنون الاجتهادية
فليس هذا من ذاك.
وان شئت قلت: ان الفقه في هذه الاعصار أخذت لنفسه صورة فنية وجائت على
طراز سائر العلوم العقلية الفكرية بعدما كان في اعصارهم من العلوم الساذجة، المبنية
على سماع الاحكام من الأئمة وبثهابين الناس، من دون ان يجتهد في تشخيص حكم
الله أو يرجح دليلا على الاخر، أو يقيد ويخصص واحدا بالآخر، إلى غير ذلك من
الأصول الدارجة في زماننا، فلم يكن الرجوع إلى مثل علمائنا في اعصارهم مرسوما
حتى يستكشف من عدم ردعه رضاهم وانما حدث ذلك بعد ممر الزمان، ومضى الدهور،
ولم يرد دليل على مضى كل المرتكزات الا ما خرج بالدليل حتى نأخذ به، وليس
لبناء العقلاء في ذلك الباب اطلاق أو عموم حتى نتمسك به، بل لابد ان يتصل كل فرد
من هذه الأمور العقلائية إلى زمانهم (ع) ولم يكن الرجوع إلى مثل تلك العلماء
والاجتهادات والترجيحات موجودا في اعصارهم حتى نستدل بعدم ردعهم امضائهم
ورجوع الجاهل في أيامنا إلى العلماء وإن كان ارتكازيا لهم، الا انه لا يفيد كونه
ارتكازيا ما لم يتصل بزمانهم.
ومن ذلك يظهر انه لا يجوز الاستدلال على جواز التقليد في هذه الاعصار
بالروايات التي ارجع الامام فيها، شيعته إلي نظراء من سبق منا ذكرهم، بتقريب
ان الجامع بينهم، انما هو علمهم بالأحكام، للفرق الواضح بينهم، فإنهم كانوا يعرفون
الصحيح من الزايف، والصادق عن الكاذب، والصادر لأجل الحكم الواقعي عن
الصادر تقية، لأجل الممارسة والمعاشرة، طيلة سنين، واما فقهاء الاعصار فهم
عاملون بما هو الوظيفة الفعلية سواء كانت مطابقة للواقع أو خالفه، إلي غير
ذلك من الفروق.
166

الجواب عن الشبهة
قلت: ان ذلك أشبه شئ بالشبهة ويمكن الجواب عنه بوجهين:
الأول: ان الاجتهاد بالمعنى الوسيع واعمال النظر في الروايات، والتدقيق
في دلالتها وترجيح بعضها على بعض، كان موجودا في اعصارهم دارجة بين أصحابهم
فان الاجتهاد وان توسع نطاقه في اعصارنا وبلغ مبلغا عظيما، الا ان أصل الاجتهاد، بالمعنى
الجامع بين عامة مراتبه كان دارجا في تلك الاعصار وان الأئمة ارجعوا شيعتهم إلى
الفقهاء في اعصارهم وكانت سيرة العوام الرجوع إليهم من دون تزلزل. اما ما يدل
على وجود الاجتهاد في اعصارهم فعدة روايات.
منها: ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا عن هشام بن سالم عن أبي
عبد الله (ع) قال: انما علينا القاء الأصول وعليكم ان تفرعوا (الوسائل كتاب القضاء الباب
6 / 52) ورواه أيضا عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (ع) قال علينا القاء الأصول
وعليكم التفريع فان التفريع الذي هو استخراج الفروع عن الأصول الكلية الملقاة وتطبيقها
على مواردها وصغرياتها، انما هو شأن المجتهد، وما هو نفسه الا الاجتهاد، نعم التفريع
والاستخراج يتفاوت صعوبة كما يتفاوت نطاقه حسب مرور الزمان، فإذا قال (ع)
لا تنقض اليقين بالشك أو روى عن النبي: لا ضرر ولا ضرار، كان على المخاطبين وعلى
علماء الأعصار المتأخرة، استفراغ الوسع، في تشخيص صغرياته وما يصلح أن يكون
مصداقا له أو لا يصلح، فهذا ما نسميه الاجتهاد.
منها: ما رواه الصدوق في معاني اخباره عن داود بن فرقد: قال: سمعت أبا عبد الله
(ع) يقول أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ان الكلمة لتنصرف على وجوه
فلو شاء انسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب (الوسائل الباب 9 / 3) فان عرفان
معاني الكلام ليس الا تشخيص ما هو الاظهر بين المحتملات، بالفحص عن القرائن الحافة
وبعرض اخبارهم على الكتاب والسنة وعلى اخبار العامة وفتاواهم، وغير ذلك، مما
يتضح به المراد، ويتعين ما هو المفاد، وليس هذا الا الاجتهاد.
167

منها: ما عن عيونه باسناده عن الرضا قال: من رد متشابه القرآن إلي محكمه
فقد هدى إلي صراط مستقيم، ثم قال: إن في اخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها
كمتشابه القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها
فتضلوا (الوسائل ب 9 / 25) فان رد المتشابه إلى محكمه بجعل أحدهما قرينة على
الآخر، لا يتحقق بدون الاجتهاد.
منها: ما عن كتاب الغيبة باسناده عن الحسين بن روح عن أبي محمد الحسن بن علي
(ع) انه سئل عن كتب بنى فضال فقال خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا (الوسائل ب
8 / 78) دل على أنه كانت لهم روايات وآراء، فامر بالأخذ بالأولى، وطرح الثانية
ولعله لاشتراط العدالة، واتباع مذهب الحق في المفتى، واحتمال ان المقصود من
الآراء المطروحة، ما رأوها واعتقدوا به في أصول مذهبهم، ساقط لاطلاق الكلام (1)
منها: قول أبى جعفر (ع) لابان: بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة وافت الناس
فانى أحب ان يرى في شيعتي مثلك. فان الافتاء ظاهر في الاجتهاد (2).
منها: الروايات الواردة في تعليم أصحابهم كيفية استفادة الاحكام والفروع
عن الذكر الحكيم، مثل قول أبى جعفر (ع) بعدما سئله زرارة بقوله: الا تخبرني
من أين علمت وقلت إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين فضحك وقال يا زرارة قاله
رسول الله صلى الله عليه وآله ونزل به الكتاب عن الله عز وجل قال فاغسلوا وجوهكم فعرفنا ان الوجه

(1) أظن أن معنى الرواية: ان لكم الاخذ برواياتهم لكونهم رووها عن مشايخهم
وأئمتهم في حال الاستقامة وعدم الانحراف عن مذهب الحق، وذروا ما رأوا من العقائد
أي لا يضر تلك العقائد الباطلة الحادثة بعد طيلة سنين لما رووها من قبل فيخرج الرواية
عن صلاحية الاستشهاد - المؤلف.
(2) غير أن كونه ظاهرا في المعنى المصطلح في هذه الاعصار محل تأمل
وقد استعمل في الذكر الحكيم في نفس القاء الحكم بلا جهد واجتهاد، مثل قوله
تعالى: ويستفتونك عن الكلالة، قل: الله يفتيكم ان امرؤ هلك ليس له ولد (النساء:
176) - المؤلف.
168

كله ينبغي ان يغسل، ثم قال: وأيديكم إلى المرافق فوصل اليدين إلى المرافق بالوجه
فعرفنا انه ينبغي لهما ان يغسلا إلي المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال وامسحوا
برؤسكم، فعرفنا حين قال: برؤسكم ان المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثم وصل
الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال وأرجلكم إلى الكعبين فعرفنا حين
وصلهما بالرأس ان المسح على بعضها ثم فسر ذلك رسول الله فضيعوه (الوسائل الباب
23 من الوضوء 1).
ويليه ما في رواية عبد الأعلى مولى آل سام بعدما سئل الامام عن المسح على ظفره
الذي اصابه الجرح لما عثر وجعل عليه جبيرة، قال: هذا وأشباهه يعرف من كتاب
الله قال الله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج امسح على المرارة، فقد أوضح على
السائل كيفية الاستنباط، ورد الفروع على أصولها.
ونظير ما تقدم بل أقوى منه ما في مرسلة يونس الطويلة الواردة في أحكام الحائض
والاستحاضة، فان فيها موارد يرشدنا إلى طريق الاجتهاد إلى غير ذلك من
الروايات المرشدة إلى دلالة الكتاب وكيفية الاستدلال، وهى منبثة في طيات أبواب
الفقه فراجع.
منها: ما رواه علي بن أسباط قال قلت للرضا يحدث الامر ولا أجد بدا من
معرفته، وليس في البلد، الذي انا فيه أحدا ستفتيه من مواليك، قال فقال ائت فقيه
البلد فاستفته من امرك فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه فان الحق فيه (الوسائل
ب 9 / 26).
منها المقبولة المتقدمة، فقد أوضحنا فيما تقدم ان قوله روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف احكامنا، يختص بطبقة خاصة، ممن لهم قوة عرفان
الحكم من بين متشابهاتها، وتمييزه عن غيرها، واعطف عليه قوله: وكلاهما
اختلفا في حديثكم، فان الاختلاف اما في معنى الحديث الواحد كما استظهرناه
وترجيح كل معنى غير ما يرجحه الآخر، فليس هو الا الاجتهاد أو في ترجيح أحد
الحديثين على الآخر، فأحدهما يرجح غير ما يرجحه عديله، فهو أيضا مثله، وحمله
169

على أن كل واحد اعتمد على رواية غافلا عما يرويه الآخر، بعيد جدا، مع كونهما
معاصرين مجتمعين في النظر في حقهما:
منها: الروايات العلاجية التي أوضحها دلالة على ما نرتأيه، أعني ما يدل على عرض
الروايات على الكتاب والسنة واخبار العامة فإنه من أظهر مصاديق الاجتهاد.
منها ما دل على حرمة الفتوى بغير علم فيدل على جوازه معه، وليس الفتوى الا
الاجتهاد واستفراغ البال في فهم الاحكام ونشرها بين الناس.
منها: ما كتبه الامام أمير المؤمنين عليه السلام إلى قثم بن عباس حين ما ولاه:
واجلس لهم العصرين فافت المستفتى وعلم الجاهل وذاكر العالم، فهذه نماذج مما
وردت ووقفنا عليه، كلها تدل بلسان واحد، على وجود الاجتهاد في تلك الاعصار،
وان أمر فضلا الرواة لم يكن يوم ذاك منحصرا بنقل الرواية من دون امعان
واجتهاد.
واما ما يدل على ارجاع الأئمة شيعتهم على فقهاء اعصارهم فروايات كثيرة:
منها: المقبولة المتقدمة: فإنه يظهر من ملاحظة صدرها ان اختلاف
المترافعين في الدين والميراث كان بالجهل بالحكم الشرعي، فيدل حجية قوله
في القضاء في الشبهات الحكمية علي حجية فتواه للتلازم الواضح بين الامرين. ومثله
مشهورة أبى خديجة حسب ما قررناه سابقا.
منها: ما يدل على مفروغية لزوم الرجوع إلى فقهاء البلدان وعلماء الأمصار
غير أن الراوي كان بصدد تشخيصه، وتعيين الامام إياه مثل ما عن علي بن المسيب قال
قلت للرضا: شقتي بعيدة، ولست أصل لك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني قال من
زكريا بن آدم القمي المأمون علي الدين والدنيا قال علي بن المسيب فلما انصرفت
قدمنا على زكريا بن آدم فسئلته عما احتجت إليه، وما رواه الكشي باسناده عن
شعيب العقرقوفي قال قلت: لأبي عبد الله: ربما احتجنا ان نسئل عن الشئ فممن نسئل
قال عليك بالأسدي يعنى أبا بصير ونظيره قوله لابن أبي يعفور بعد السؤال عمن
يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة: فما يمنعك عن الثقفي يعنى محمد بن مسلم.
170

منها: الارجاعات الابتدائية مثل قوله (ع) لابان بن تغلب اجلس في مسجد
المدينة وافت الناس الخ، ومثل قوله في التوقيع الرفيع: واما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، وما كتبه الامام إلي قثم بن عباس، وما ورد في تفسير
آية النفر إلى غير ذلك فان القوم رضي الله عنهم وان استدلوا بها علي حجية قول الثقة، الا ان
الاستدلال بها على حجية فتوى المفتى أظهر، فان هؤلاء الأعاظم كانوا في الرعيل
الأول من فقهاء عصرهم، وكانوا يناظرون العامة في فقههم وعقائدهم، ويستفرغون
الوسع في فهم كتاب الله وسنة نبيه ومعاني اخبار أئمتهم، حسب ما رزقهم الله من
الفهم والاجتهاد.
هذا ما بذلنا جهدنا في قلع الشبهة الا في النفس منه شئ، وهو ان هذه النصوص
وإن كانت تعطينا وجود أصل الاجتهاد في الاعصار ووجود الفقهاء في الأمصار، الا ان
الاختلاف الذي نشاهده بين فقهائنا بحيث صارت المسائل النظرية الاتفاقية في هذه
الاعصار قليلة جدا، لم يكن بين فقهاء تلك الاعصار الماضية فارجاع العوام إلى هؤلاء
المتفقون في الرأي غالبا، لا يستلزم جواز الرجوع إلى غيرهم الذين قلما يحصل بينهم
الاتفاق، فعندئذ لا مناص في الجواب عن التمسك بالوجه الثاني كما سنوضحه.
الثاني: لو سلمنا ما ادعاه القائل لكن نقول: إن النبي الأكرم والأئمة من
بعده عارفون بحال أمته، وما يجرى عليهم في مختلف الزمان ومرور الدهور، من
غيبة ولى الدين، وامامه، وحرمان الأمة عن الوصول إليه، وان الأمة بمقتضى ارتكازهم
من لزوم رجوع الجاهل إلى عالمه، سوف يرجعون إلى علمائهم، الذين لا محيص لهم
من الرجوع إلى اخبارهم وآثارهم التي دونها أربابها، باذلين جهدهم، مستفرغين بالهم
في استنباط الحكم: فلو لم يكن هذه السيرة مرضية لكان عليهم الردع، ومنع
الأمم الجائية عن التطرق بهذا الطريق وارجاعهم إلى طريق آخر وقد أخبروا (ع) عن
كثير من الأمور التي لم يكن يوم ذاك عنها عين ولا اثر وكيف وقد امروا أصحابهم
بضبط الأحاديث والأصول معللين بأنه سيأتي زمان هرج ومرج، ويحتاج الناس
بكتبكم، كل ذلك يرشدنا إلي كون السيرة مطلقا ماضية بلا اشكال.
171

ثم إنه ينبغي قبل البحث عن لزوم تقليد الفاضل أو جوازه، البحث عن مناط السيرة
العقلائية حتى نخوض بعده في أدلة الطرفين.
القول في مناط السيرة العقلائية
والذي يمكن أن يكون مناطا لرجوعهم أحد أمور ثلاث.
الأول: أن يكون ذلك لأجل انسداد باب العلم في الموارد التي يري الجاهل
نفسه ملزما لتحصيل الواقع لما فيه من مصالح ومفاسد يجب استيفائها أو الاحتراز
عنها ولا يمكن له العمل بالاحتياط، لكونه مستلزما للاختلال أو العسر والحرج،
فيحكم عقله بالرجوع إلى أهل الخبرة وعلماء الفن لكونه أقرب الطرق.
وفيه بطلان مقدمات الانسداد في أكثر الموارد، لعدم استلزام الاحتياط
الاختلال والعسر في موارد كثيرة يرجع الجاهل إلى أهل الخبرة وعلى فرض استلزامه،
فلازمه التبعيض في الاحتياط لا العمل بقول أهل الخبرة كما أوضحناه في محله.
الثاني: ان رؤس كل فرقة ونحلة قد اجتمعوا، فرأوا ان مصلحة مللهم ونحلهم
حفظا لرغد عيشهم، وتسهيلا لأمرهم، ان يرجع جاهل كل مورد، إلى عالمه فوصل هذا
من السلف إلي الخلف حتى دار بينهم أجيالا وقرونا وصار من الأمور الارتكازية،
لكنه بمراحل من الواقع بل مقطوع خلافه، لان تصادف القوانين البشرية من باب
الاتفاق بعيد بل ممتنع عادة فالأمم الغابرة، المتبدد شملهم المتفرق جمعهم، المفقود
عندهم عامل الارتباط والاجتماع، كيف اجتمعوا ورأوا ان مصالح الأمم ذلك، مع
تفرقهم في اصقاع مختلفة وامكنة متباعدة.
الثالث: أن يكون ذلك لأجل الغاء احتمال الخلاف، والغلط، في عمل أهل
الصنائع والفنون، وما يلقيه إليهم العلماء وأصحاب الآراء في المسائل النظرية، ووجه
ذلك الالغاء، هو ندرة المخالفة، وقلتها، بحيث لا يعتنى بها العقلاء، بل يعملون به
غافلا عن احتمال المخالفة، بحيث لا يختلج في أذهانهم، الريب والشك وان أوجدنا
عندهم وسائل التشكيك ربما ينقدح في قلوبهم، فهو عندهم علم عرفي يوجب،
172

الطمأنينة، وهذا (الغاء احتمال الخلاف لندرة المخالفة للواقع) هو الأساس لأكثر
السير الدارجة عندهم من العمل بالامارات واصل الصحة، وقاعدة اليد، وهذا الوجه
أقرب الوجوه.
ويرد عليه: ان دعوى الغاء احتمال الخطاء فيما نحن فيه غريب جدا مع ما
نشاهده ويشاهد العقلاء كثرة الاختلاف بين الفقهاء في المسائل الفرعية، بل الاختلاف
الموجود في كتب فقيه واحد، ومع ذلك كيف يمكن أن يكون هذا الالغاء لأجل
ندرة المخالفة للواقع، اللهم الا ان يقال إن رجوع العقلاء إلي أصحاب الفتيا مبنى
على غفلتهم عن هذا المعنى، وتخيلهم ان فن الفقه كسائر الفنون يقل فيه الخطاء، أو
على وجود دليل شرعي، وصل من السلف إلى الخلف و (ح) يصير الرجوع أمرا
تعبديا لا عقلائيا.
فان قلت: ان أخطاء الفقهاء وإن كانت كثيرة في حد نفسه، بحيث لو جمعت
من أول الفقه إلى آخره، أمكن تدوين فقه غير صحيح، الا ان أخطاء كل واحد منهم
قليلة بالنسبة إلى آرائه المطابقة للواقع، فلو لاحظت عامة فتواه، وضممت الموارد،
بعضها إلى بعض، ترى الانسان، قلة خطأه بالنسبة إلى ما أصاب.
قلت: هذا غير صحيح إذ نرى بالوجدان كثرة اختلافهم في باب واحد من أبواب
الفقه فلا محالة يكون الآراء جميعا أو غير واحد منهما مخالفا للواقع وكثرة الاختلاف دليل
علي كثرة الخطاء.
وربما يقال: ما هذا محصله: ان المطلوب للعقلاء في باب الاحتجاجات، بين
الموالى والعبيد، انما هو قيام الحجة وسقوط التكليف والعقاب بأي وجه اتفق،
والرجوع إلى الفقهاء، موجب لذلك، لانهم مع اختلافهم في الرأي مشتركون في عدم
الخطاء في الاجتهاد، ولا ينافي ذلك، الاختلاف في الرأي لامكان عثور أحدهما على
حجة في غير مظانها أو على أصل من الأصول المعتمدة ولم يعثر الآخر عليهما مع بذله
الجهد، فلا يكون واحد منهما مخطئا في اجتهاده، بل له ولغيره العمل برأيه ورجوع
العقلاء إليهم لأجل قيام الحجة والعذر لهم لا لأجل أصابتهم الواقع، وأوضح من ذلك
173

لو قلنا بجعل المماثل في مفاد الامارات.
وفيه أولا: انه ان أراد من عدم خطائهما، عدم تقصيرهما في تحصيل الحكم
الشرعي، فمسلم لكن لا يجديه، وان أراد منه عدم خطائهما في نفس الحكم الشرعي،
فواضح الخطاء، لان واحدا منهما مخالف للواقع، فإذا اتسع نطاق الخلاف، ووقفنا علي
اختلافهما في موارد كثيرة من المسائل، لا يصح الرجوع إلى كل واحد حتى فيما اتفقا
عليه من الفتاوى للاعتداد باحتمال الخطاء (ح) وانقداح الشك والريب في عامة ما
افتى به ولا يتحقق بناء العقلاء علي الغاء الخلاف واحتمال الخطاء عندئذ فلا يكون ذلك
الفتيا مع ذلك معذرا.
وثانيا: انه لو سلمنا ان غرض العقلاء تحصيل الحجة والعذر لا الإصابة
بالواقع، لكنهما يتوقفان على الغاء احتمال الخطاء في الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية
الواقعية، حتى يجعل مع هذا الالغاء في عداد سائر الأمارات العقلائية في
تحصيل الحجة والعذر وهو مع هذا الاختلاف الفاحش في الفتاوى غير ممكن. ولو
كان الخطاء في الاجتهاد مستندا إلى خطأ الامارة، فما هو المعذور انما هو المجتهد
لا المقلد، لان مبنى علمه انما هو فتواه لا الامارة التي تبين خطاها، ولا يكون فتواه
معذرا له الا إذا وقع في عداد سائر الأمارات العقلائية، بان يكون قليل الخطاء، كثير
الإصابة عندهم، وكيف يكون كذلك مع تخطئة كل مجتهد، مخالفه وانه مخطئ
غير مقصر.
اللهم: الا ان يقال ما أوضحناه سابقا من أن عدم ردع الشارع هذا البناء من
المتشرعة، مع علمه بأن الأمة سوف ترجع إلى الفقهاء الذين يقوم الاختلاف والتشاجر
بينهم علي ساقيه دليل على امضائه وارتضائه، لكن جعل ذلك بناء عقلائيا وجعل
العمل به كالعمل بسائر الامارات المعتبرة عندهم لا يخلو عن غموض، الا ان يقال إن
عمل المتشرعة بالفتاوى من باب الطريقية والأمارية مع عدم كونها حائزا لشرائطها
لكن سكوتها وعدم ردعها عن هذه السنة العملية كاشف عن رضاه وملازم عن جعل
الشارع إياها امارة شرعية مجعولة، فتأمل جيدا.
174

في لزوم ترجيح قول الأعلم وعدمه
ثم انك قد عرفت ان ما هو الأقرب من هذه الوجوه، ما اخترناه من أن المناط
هو الغاء احتمال الخلاف، و (عليه) فهذا المناط موجود في رأى الأعلم وغيره
ضرورة ان العقلاء يعملون بقول المفضول عند عدم قول الفاضل، وهذا يدل على
كونه واجدا لملاكه كان الفاضل موجودا أو لا، اتفق رأيهما أو اختلفا، والالزم
أن يكون عملهم في حال عدم وجود الأعلم، فاقدا للمناط وهو باطل بالضرورة أو لزم
ان يختص وجود المناط فيه بصورة خاصة وهو عدم وجود رأي الأعلم المخالف له
وهو كما ترى.
وتقديم رأى الأفضل على غيره عند التعارض لا يدل على عدم كونه واجدا
للملاك، بل هو من باب تقديم إحدى الحجتين على غيرها، مع كونها امارة عقلائية
حجة في حد نفسه لأجل موهومية الخطاء فيه كما هو الملاك في حجية قول الأعلم.
ثم إنه ينبغي البحث عن بناء العقلاء في تقديم رأي الأعلم بالمخالفة اجمالا أو
تفصيلا، هل هو على نحو اللزوم، أو من باب حسن الاحتياط، لا يبعد الثاني، لكون
الرأيين واجدين للملاك، وشرائط الحجية والأمارية، واحتمال أقربية قول الأعلم
ليس على وجه يلزمهم على التقديم، ولذا تراهم، يراجعون المفضول من أهل الفن
مع وجود الفاضل في البلد معتذرين عن ذلك باعذار لا يعد عذرا عند العقل والعقلاء من
بعد طريقه وسوء خلقه، ونحو ذلك، مع علمهم بمخالفة أهل الفن في تشخيصاتهم اجمالا
وهذا يدل على أن ترجيح الأفضل ليس على حد اللزوم، وترجيح رأيه أحيانا، لا يدل
على لزومه، كما أنه لو قدر واحد على تحصيل اجماعهم في موضوع لفعل، لا لطرد
قول المفضول والفاضل، بل لترجيح الاحتياط المنجى على كل حال، و (عليه) فمقتضى
القاعدة هو الاحتياط لدى التعارض والعلم بمخالفتهما تفصيلا أو اجمالا وان لم يمكن
فالتخيير لكونهما واجدين لما هو الملاك، وإن كان ترجيح قول الأفضل حقا.
ولكن التحقيق خلافه، فان الاعتماد علي قول المفضول مع معارضته لقول
175

الأفضل في باب العمل بالتكاليف الصادرة من الموالى إلي العبيد مشكل جدا فإنه
ربما يسامح الرجل في اغراضه الشخصية ولا يصح ذلك في اغراض المولى وموارد
الاحتجاج، أضف إلى ذلك أنه لم يحرز عمل العقلاء بقول المفضول مع وجود الفاضل
فيما إذا علم مخالفتهما تفصيلا، بل اجمالا إذا كان على نحو التنجيز، كما إذا كان الأطراف
محصورة بان يعلم مخالفة رأى المفضول لرأى غيره في إحدى المسائل المعينة، وما
ذكرنا من أن العقلاء يتركون مراجعة الأفضل ويراجعون إلى غيره معتذرين في
هذا باعذار غير وجيهة، انما هو إذا لم يعلم مخالفتهما تفصيلا أو اجمالا على الوجه المنجز
مضافا إلى كون المقام من دوران الامر بين التعيين والتخيير، مضافا إلي ان الأصحاب
أرسلوه ارسال المسلمات، فتعين قول الأعلم لا يخلو عن قوة هذا بناء العقلاء بقى الكلام
في بيان حال الأدلة الشرعية فلنذكر أدلة الطرفين.
حال الأدلة الشرعية في لزوم تقليد الأعلم وعدمه
استدل القائلون بجواز تقليد المفضول مع مخالفة رأيه لرأى الفاضل بوجوه:
منها: قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل
الذكر ان كنتم لا تعلمون (الأنبياء - 7) مدعيا ان اطلاقها يشمل السؤال عن
مطلق أهل الذكر، فاضلا كان أو مفضولا، حصل التوافق بينهما أو لا، خصوصا مع ندرة
التساوي والتوافق.
وفيه أولا: انه لا يصح الاستشهاد بالآية لما نحن فيه لا بحكم السياق إذ لازمه
كون المراد من أهل الذكر، هو علماء اليهود والنصارى، ولا بحكم الروايات، فان
مقتضى المأثورات كون الأئمة هم أهل الذكر المأمور بالسؤال عنهم.
وثانيا: ان الهدف من السؤال انما هو تحصيل العلم، لا القبول علي وجه التعبد
كما هو يفصح عنه الجملة الشرطية، ويؤيده ان الامر بالسؤال، كان، لما يختلج في
أذهانهم من الشبهات حول الأصول والعقائد، (فح) يختص الآية بالموارد التي يعتبر
فيها تحصيل العلم، ومعلوم ان السؤال عن واحد منهم لا يفيد العلم، فلا محيص عن
176

القول بنفي الاطلاق عن الآية وانه بصدد بيان ان طريق تحصيل العلم هو الرجوع إلى
أهله من دون أن يكون له اطلاق بالنسبة إلى المسؤول حتى يكون مقتضاه هو الرجوع إلي
المفضول مع وجود الفاضل بل وزانها وزان قول القائل للمريض: ارجع إلى الطيب، واشرب
الدواء لكي تصح، في أن طريق تحصيل الصحة هو الرجوع إلى الطبيب، فلا اطلاق
له لا من جهة الطبيب ولا الدواء، بل يمكن أن يكون الآية كالقول المزبور ارشادا إلى
ما هو المرتكز في أذهان العقلاء من لزوم الرجوع إلى العالم فقط، من دون اطلاق ولا
تحميل أمر تعبدي من كفاية المفضول مع مخالفته للفاضل.
منها: قوله تعالى: وما كان للمؤمنين ان ينفروا كافة فلو لا نفر من كل
فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلم يحذرون
(التوبة: 122) والاستدلال على المقام يتوقف على تمامية أمور: الأول: وجوب
النفر، الثاني: كون التفقه من الغايات المترتبة عليه لا من الفوائد الثالث:
انحصار التفقه في الدين في الاحكام الفرعية الرابع: كون ما ينذر به من جنس
ما تفقهوا فيه الخامس: كون المنذر كل واحد من النافرين، السادس: كون
المنذر كل واحد من المتخلفين الباقين السابع. اثبات ان المراد من الحذر هو
الحذر العملي، أي القيام على العمل علي طبق ما حذروهم، الثامن. والتاسع: لزوم
العمل بقول المنذر، حصل العلم من قوله أو لا خالف قول الغير أو لا، فلو تمت هذه
المقدمات، أمكن للقائل الاستدلال بها قائلا بان مفاد الآية، لزوم الحذر العملي من
قول المنذر، مطلقا، فاضلا كان أو غيره وافق قول المفضول، قول غيره أو لا.
لكن الكلام في اثباتها، فان أكثرها غير ثابت أو ثبت خلافه.
اما الأول: فيمكن منعه بمنع كون التفقه غاية للنفر بان يقال إن قوله وما كان
المؤمنون لينفروا كافة اخبار في مقام الانشاء أي ليس لهم النفر العمومي وابقاء رسول
الله وحده فامر بنفر طائفة للجهاد وبقاء طائفة عند رسول الله صلى الله عليه وآله للتفقه في الدين
فلا يكون التفقه غاية للنفر.
ولكن الانصاف عدم صحة ما ذكر لان ظاهرها كون الآية بصدد الاخبار عن
177

أمر طبيعي، وهو ان نظام الدنيا والمعاش وإن كان يمنع عن نفر الجميع، لا انه لماذا
لا ينفر عدة منهم للتفقه، فظاهرها هو كون الغاية من النفر، هو التفقه، هذا مع قطع
النظر عن الروايات، نعم يمكن الخدشة في الباقي، فان دعوى كون ما ينذر به، من
جنس ما يتفقه فيه، ممنوعة، لان الانذار ببيان الأحكام الشرعية ضمني، وهذا بخلاف
الانذار، بايراد المواعظ، وبيان درجات أهل الجنة ودركات أهل النار فان ذلك يزعزع
القلوب، ويملأها من خشية الله، فإذا خافوا يرشدهم عقلهم إلى تحصيل المؤمن
من العقاب، وليس المؤمن عنده الا العلم بشرائطه واحكامه مقدمة للعمل بها
والحاصل ان النفر له غايتان: التفقه في الدين، وانذار القوم وموعظتهم، فللفقيه
وظيفتان، فهم احكامه وانذار قومه بما أنذر الله به ولا دليل على كون ما أنذر من جنس
ما تفقه فيه ولعل الزام الفقيه على انذار قومه، لأجل كون الفقيه اعرف بحدود ما ينذر
به، وشرائط الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، أضف إليه ان لكلامه تأثيرا في
القوم، لعلو كعبه، وعظم مقامه لديهم.
كما أن تخصيص التفقه في الدين، بالفروع تخصيص بلا جهة، لان الدين يطلق
علي أصوله وعروقه كما في قوله تعالى: ان الدين عند الله الاسلام ويظهر أيضا من
الروايات عموميته كما سيوافيك وعليه فلا يمكن القول بوجوب قبول قوله تعبدا
لعدم حجية قوله في الأصول الا ان يقال إن الاطلاق مقيد بإفادة العلم في الأصول، بحكم
العقل والأدلة.
نعم ظاهر الآية يعطى ثبوت الأمر الخامس، وهو كون المنذر كل واحد من
النافرين الا انه يدل على أن لكل واحد منهم انذار القوم جميعا، لا بعض القوم، كما
هو مبنى الاستدلال (فح) يسقط الآية عن الدلالة، لأنه ربما يحصل العلم بانذار المنذرين
جميع القوم، ولا يدل على وجوب القبول من كل واحد تعبدا وان لم ينضم إليه
الآخرون، كما أن حمل الحذر على قبول قول الغير والعمل بمقتضاه، خلاف الظاهر، فإنه
ظاهر في الحذر بمعنى الخوف القلبي الحاصل من انذار الناذرين.
والعمدة انه لا اطلاق للآية الكريمة ضرورة انها بصدد بيان كيفية النفر وانه
178

إذا لا يمكن للناس النفر العمومي فلم لا ينفر طائفة منهم فإنه ميسور لهم وبالجملة
لا يجوز لهم سد باب التعلم والتفقه بعذر الاشتمال بأمور الدنيا فان أمر الدين كسائر
أمورهم يمكن قيام طائفة به فلابد من التفقه والانذار فلا اطلاق لها يدل على وجوب
القبول بمجرد السماع فضلا عن اطلاقها لحال التعارض، والانصاف انها أجنبية عن
حجية قول المفتى وكذا عن حجية قول المخبر بل مفادها والعلم عند الله تعالى انه
يجب على طائفة من كل فرقة: التفقه في الدين والرجوع إلى قومهم للانذار بالمواعظ
والبيانات الموجبة لحصول الخوف في قلوبهم لعلهم يحذرون ويحصل في قلوبهم
الخوف من الله تعالى (فح) يدور رحى الديانة ويقوم الناس بأمرها لا محالة.
هذا كله إذا قصرنا النظر إلى نفس الآية، واما إذا لاحظنا الروايات الواردة
في تفسيرها فالامر أوضح فقد استدل الامام في عدة منها بها على لزوم معرفة الامام،
وان الامام إذا مات لم يكن للناس عذر في عدم معرفة الامام الذي بعده، اما من في
البلد فلرفع حجته واما غير الحاضر فعليه النفر إذا بلغه، وفي رواية أخرى يجب على
الناس الفحص عن الامام إذا مات، بنفر طائفة منهم وان النافرين في عذر ما داموا
في الطلب والمنتظرين في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم ومعلوم ان قول النافرين
ليس بحجة في باب الإمامة.
ثم ورد في تفسيرها روايات أخر منها: ما تمسك الامام بهذه الآية في
بيان منافع الحج وان فيه التفقه ونقل الروايات إلى الناس، ونشرها في النواحي،
منها: ما استدل به الإمام علي لزوم التفقه فقد روى علي بن حمزة قال سمعت أبا
عبد الله (ع) يقول تفقهوا في الدين فان من لم يتفقه فهو اعرابي ان الله يقول في كتابه
ليتفقهوا في الدين الخ، ومنها ما فسر الامام بها، الرواية المأثورة عن النبي:
اختلاف أمتي رحمة، فقال (ع) المراد، اختلافهم نحو الحديث وان الله تعالى يقول
فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة
وهذه الطائفة من الروايات على تسليم اسنادها لا اطلاق ولا دلالة لها على
وجوب قبول قول الراوي بمجرد السماع فضلا عن شمولها لحال اختلاف فاضله و
179

مفضوله كما لا يخفى.
الاستدلال على جواز تقليد المفضول بالروايات
واستدل القائلون بروايات منها: الرواية المنقولة عن تفسير الإمام العسكري
عليه السلام ولفظ الرواية مختلف جدا ونحن ننقلها عن تفسير البرهان للمحدث
البحراني رحمه الله وأوردها في تفسير قوله تعالى: ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
الا أماني وان هم الا يظنون (البقرة -) ما هذا لفظه: قال فقال رجل للصادق عليه السلام
فإذا كان هؤلاء القوم لا يعرفون الكتاب الا بما يسمعونه من علمائهم - إلى أن قال - وهل عوام
اليهود الا كعوامنا يقلدون علمائهم فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء
القبول من علمائهم فقال عليه السلام فرق من جهة واستواء من جهة اما من حيث الاستواء فان الله قد ذم
عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامنا، واما من حيث افترقوا، فلا قال: بين يا بن رسول الله
قال عليه السلام ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علمائهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والشناع
بتغيير الاحكام عن واجبها بالشناعات والعنايات - إلى أن قال - فلذلك ذمهم لما قلدوا من
قد عرفوا انه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه - إلى أن قال - وكذلك عوام امتنا إذا
عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حرام الدنيا و
حرامها.... فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء هم مثل اليهود الذين ذمهم الله
تعالى بالتقليد بفسقة فقهائهم فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه
مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فعلى العوام ان يقلدوه، الخ دل باطلاقه على
جواز تقليد المفضول وافق قوله، قول الأفضل أولا.
وفيه: أولا مع كونه ضعيف السند انه لا اطلاق له وانه ليس بصدد البيان من
هذه الجهة حتى يتمسك باطلاقه إذ الكلام قد سبق لبيان الفرق بين علمائنا وعلمائهم
لا لبيان لزوم التقليد للعوام حتى يؤخذ باطلاقه في صورتي وجود الأفضل وعدمه
وموافقتها وعدمهما.
وثانيا. ان ظاهر الحديث صحة التقليد في الأصول والعقائد إذا اخذوها عمن
180

هو صادق في حديثه، غير متجاهر بفسقه، ولا متكالب في أمور الدنيا، وان مذمة اليهود
ليس لأجل انهم قلدوا علمائهم في أصول دينهم، بل لأجل انهم قلدوا علمائا ليس لهم
أهلية و (عليه) فلو قلد عوام المسلمين عالما صائنا لنفسه حافظا لدينه الخ فيما كان
اليهود يقلدون فيه من الأصول والعقائد، لما كان به بأس، وهو باطل بضرورة الدين
واخراجها عن مصب الحديث، اخراج المورد المستهجن، وتوهم ان اليهود كانوا
يقلدون في أصول عقائدهم علمائهم، لكن كان يحصل لهم العلم من أقوالهم، لحسن الظن
بهم، فليكن تقليد عوامنا على علمائهم في الأصول كذلك، مدفوع بأنه خلاف تنصيص
الرواية حيث قال وان هم الا يظنون ما تقول رؤسائهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وآله في نبوته الخ
أضف إليه انه لو كان حصل لهم العلم من أقوال علمائهم لما كان لهم ذم ولا محذور...
" وبالجملة " ان مصب البحث فيها انما هو في التقليد الظني، في الأصول والعقائد، بترخيص
قسم وهو التقليد عمن له صيانة وحفاظة، والمنع عن آخر، والالتزام بجوازه فيها
غريب جدا.
ومنها: صدر المقبولة أعني: انظروا إلى رجل روى حديثنا.... فان اطلاقها
يعم الشبهات الحكمية، كما يعم رأى الفاضل والمفضول، اختلفا أو اتفقا، خرج عنه مورد
واحد، وهو اختلاف الحكمين، فقد نص الامام فيه بالأخذ بقول الأفقه، وبقى الباقي
تحت اطلاقه، و (فيه) ان مصبها القضاء والحكومة، فلا ارتباط لها بباب التقليد، ولا يجوز
التمسك بصدرها على جواز تقليد المفضول ولا بذيلها على لزوم تقليد الأعلم عند
المخالفة، واما حديث تنقيح المناط فسيأتي جوابه في البحث عن المشهورة.
ومنها: المشهورة المتقدمة: اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا
فانى قد جعلته عليكم قاضيا.... بتقريب ان حجية قضائه في الشبهات الحكمية يدل
على حجية فتواه في غير القضاء بالملازمة العرفية أو بالغاء الخصوصية، أو بتنقيح
المناط، أو بان قوله (ع) في المقبولة: فإذا حكم بحكمنا الخ، ظاهر في الغاء احتمال
الخلاف عن فتوى الفقيه، إذ ليس المراد علم المترافعين بان الرجل حكم بحكم
الأئمة، وانى لهم ذلك، بل المراد جعل فتواه طريقا إلى حكمهم ورأيهم (ع) وهذا
181

معنى حجية فتواه: في نفسه قبل قضائه فيؤخذ باطلاقه في موارد تخالف الفاضل
والمفضول.
وفيه: ان المشهورة والمقبولة لا تدلان على حجية الفتوى حتى يؤخذ باطلاق
الحجية في موارد الاختلاف، اما الغاء الخصوصية فإنما يتحقق فيما إذا لم يكن الحكومة
في نظر العرف ذات خصوصية، غير موجودة في الفتوى لأجلها جعل الشارع حكم
الحاكم نافذا والخصوصية واضحة فان رفع الترافع والتشاجر، بين المترافعين لا
يحصل الا بفصل حاكم ثالث، نافذ حكمه، ولا يتحقق الفصل الا به غالبا، لا بالامر
بالاحتياط ولا بالتصالح، واما العمل بفتوى الفقيه في موارد الاحتياج إليها، فربما
يكون المطلوب درك الواقع على الوجه الأتم، أو ببعض مراتبه إذا تعذر الاحتياط
ولا يكون العمل بقول الفقيه مطلوبا. فدعوى التلازم بين الحجيتين أو الغاء الخصوصية
ضعيفة جدا.
ومثله دعوى تنقيح المناط القطعي، نعم قوله: فإذا حكم بحكمنا، وإن كان
يشعر بالغاء احتمال الخلاف في فتواه، لكنه يقتصر على محله (الحكومة والقضاء)
فقط واسرائه إلى محل آخر يحتاج إلى دليل آخر.
ومنها: التوقيع الرفيع: واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا
فإنهم حجتي عليكم وانا حجة الله عليهم (الوسائل باب 11 / 10) بتقريب ان قوله اما
الحوادث، أعم من الشبهات الحكمية، وان معنى قولهم فإنهم حجتي، هو حجية
أقوالهم وآرائهم إذ لا محصل لجعل الحجية لرواة الأحاديث، بما هم رواة ما لم يصرف
إلى حجية ما يروونه وينقلونه، وقد تقدم منا ان أهل الرواية، كانوا أصحاب الآراء
والفتاوى أيضا وكان الفتاوى تلقى بصورة الرواية ويرشد إلي ذلك قوله: وانا حجة الله
فان الحجة قول الإمام وفعله وتقريره لا نفسه، وحمله على حجية الأحاديث المنقولة
عنهم بواسطتهم، خلاف الظاهر وفيه: بعد تسليم هذه المقدمات ان التوقيع مقطوع
الصدر لان قوله: واما الحوادث، بصدد الجواب عن سؤال حذف فيه، ومن المحتمل أن يكون
السؤال راجعا إلى القضاء وفصل الترافع، فينحصر حجية رأيهم فيه دون الفتوى
182

فضلا عن أن يؤخذ باطلاقه مضافا إلى ضعف سنده.
منها: ما رواه الكشي بسند ضعيف عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال كتبت
إليه يعني أبا الحسن الثالث: أسئله عمن آخذ معالم ديني وكتب اخوه أيضا بذلك
فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل من في حبنا وكل كثير القدم
في امرنا فإنهما كافوكما انشاء الله وفيه: ان الرواية تعطى ان الرجوع إلى العالم
كان ارتكازيا له غير أنه كان يتطلب الشخص الذي لابد له من الرجوع إليه، كما هو الحال
في أكثر الروايات الواردة.
فان قلت: ما ذكر من الجواب لا يضر، فان الغرض نفى لزوم الرجوع إلى
الفاضل، وهو حاصل لان الامام لم يذكر من شرائط من يرجع إليه، كونه أفقه أو
اعلم، واكتفى بما ذكر من الشروط قلت: بعد كون الجواب بعد الفراغ عن
إرتكازيته والارتكاز هو الرجوع إلى الأعلم لا وقع لهذا الاشكال.
وهيهنا: روايات كثيرة نقلها الكشي وغيره وفيها الصحيح وغيره فيظهر منها
ان رجوع الناس إلى الفقهاء لاخذ معالم دينهم الذي هو عبارة أخرى للتقليد كان
متداولا، ويستفاد منها أمور أخر كما سننبه عليه بعد نقل بعضها واليك نصوصها.
1 - صحيحة ابن أبي يعفور قال قلت: لأبي عبد الله عليه السلام انه ليس كل ساعة ألقاك
ولا يمكن القدوم ويجئ الرجل من أصحابنا فيسئلني وليس عندي كل ما يسألني
عنه فقال: ما يمنعك عن محمد بن مسلم الثقفي فإنه سمع من أبى وكان عنده وجيها.
2 - رواية شعيب العقرقوفي: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ربما احتجنا ان نسئل
عن الشئ فممن نسئل قال عليك بالأسدي يعنى أبا بصير.
3 - رواية عبد العزيز بن المهندي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا
عليه السلام قال قلت له: لا أكاد أصل إليك في كل ما احتاج إليه في معالم ديني أفيونس بن
عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه معالم ديني فقال: نعم.
4 - رواية معاذ بن مسلم قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام بلغني انك تقعد في
الجامع فتفتي الناس قلت نعم الخ وغيرها مما مر بعضها.
183

يستفاد من تلك الروايات أمور: الأول: تداول رجوع الناس إلى الفقهاء لاخذ
معالم دينهم بالاستفتاء عنهم، وقد مر توضيح ذلك الثاني: جواز رجوع الفقيه إلى
الأفقه إذا لم يكن له طريق إلى الواقع، كما ارجع الامام الفقيه ابن أبي يعفور إلي
الأفقه منه أعني محمد بن مسلم الثقفي كما مر، وما أوضحنا حاله من أنه يحرم على
من له قوة الاستنباط الرجوع إلى الغير وان تمام الموضوع لعدم جواز الرجوع وجود
نفس تلك القوة، لا ينافي مع ما ذكر في الرواية لان ما ذكرنا انما فيما إذا كان للجاهل
القادر على الاستنباط طريق إلى الواقع كما في هذه الاعصار، حيث جاءت الروايات
مدونة ومجتمعة في الأصول والجوامع، واما إذا لم يكن له طريق إلى الواقع لأجل تشتت
الروايات وعدم تدونها في جامع أو جوامع، كعصر ابن أبي يعفور، فلا مناص إلى
الرجوع الا إلى الأفقه، مع احتمال ان رجوع ابن أبي يعفور إلي الثقفي لاخذ الحديث
غير أنه كان له النظر والاجتهاد فيما يسمعه. الثالث: انه يجوز الرجوع إلى الفقيه
مع وجود الأفقه، لكن يمكن ان يقال: إن الرجوع إلى الفقيه مع وجود الأفقه، لعله
كان لأجل عدم التمكن منه، كما يظهر من نفس الروايات على أن البحث انما هو فيما
إذا علم تخالفهما في الرأي تفصيلا أو اجمالا، واستفادة جواز الرجوع إليه في هذه
الحالة مشكل، لعلة الاختلاف بين فقهاء الأصحاب في تلك الاعصار فان المراجع
في تلك الروايات كانوا بطانة علوم الأئمة ومهبط اسرارهم، كما أوضحنا حالها فتلخص
انه لم يقم دليل على جواز الرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل وعرفت ان مقتضى
الأصل عدم الجواز.
الاستدلال على لزوم الرجوع إلى الأعلم
استدل القائلون به بوجوه: منها: الاجماعات المنقولة التي لا قيمة لها في
مثل تلك المسألة العقلية التي تضاربت فيها الأقوال والآراء مع تراكم الأدلة ومنها
الاخبار التي منها المقبولة، وقد عرفت ان القائل بجواز الرجوع إلى المفضول تمسك
باطلاق صدرها والقائل بتعين الفاضل تمسك بما في الذيل من نفوذ حكم الأفقه عند
تعارضه مع حكم الفقيه، فنفوذ حكمه متعينا يستلزم لنفوذ فتواه كذلك في المسألة
184

فيتعدى إلى غيرها بالغاء الخصوصية أو القطع بالملاك لا سيما مع تناسب الأفقهية و
الأصدقية في الحديث لذلك من المرجحات وفيه: ان ملاك التقدم في المقبولة انما هو
الصفات الأربعة بحكم واو العطف لا الأفقهية فقط و (عليه) فلا يكون تلك ملزمة بمجردها
وما استظهره الشيخ الأعظم في رسالة التعادل والتراجيح من أن الراوي
بعدما سمع المرجحات الأربعة عن الامام سئل عن صورة التساوي، ولم يسئل عن صورة وجود
بعض منها دون بعض وهذا يكشف عن أن المرجح كل واحد منها مستقلا، لا مجتمعا غير
ظاهر ولا كاشف عما ادعاه، أضف إليه ان التلازم انما هو بين نفوذ الحكم وحجية فتواه
لا بين عدم نفوذه، وعدم حجية فتواه، لان سلب المركب أو ما بحكمه انما هو بسلب
بعض اجزائه فعدم نفوذ حكم غير الأفقه، يمكن أن يكون لأجل عدم كون حكمه
فاصلا، ويمكن أن يكون لعدم حجية فتواه، ونفى الأخص لا يدل على نفى الأعم، و
عدم جواز اخذه فتواه في المقام لا يدل علي سلب الحجية عن فتواه، بل لعدم كون
فتواه فاصلا ورافعا للترافع، بل الفتوى مطلقا وإن كان فتوى الأعلم، ليس بفاصل
بل الفاصل هو الحكم.
وجعل الأفقهية علة تامة لتقديم قضاء اعلم الحكمين، مما يحتاج إلى الدليل
مع احتمال أن يكون للقضاء دخلا في تقديم قضائه فان مركز القضاء غالبا، هي النواميس
والحقوق، ومن المحتمل ان الشارع لاحظ فيها جانب الاحتياط فحكم بنفوذ حكم
الأعلم دون غيره، لا قربيته إلى الواقع، ولكنه اطلق القول في اخذ الفتوى في احكامه
وشرائعه ارفاقا للناس وتوسعة عليهم ومعه كيف يمكن القول بكون الأفقهية علة
تامة، وأوضح من ذلك فسادا الغاء الخصوصية أو القطع بالملاك كما لا يخفى.
واستدل القائلون أيضا بوجه آخر دارج في كلامهم، وهو ادعاء أقربية قول الأعلم
للواقع، قائلا ان نظر الفقيه طريق محض إلي الواقع كنظر غيره، من غير فرق
بين الأحكام الواقعية الأولية أو الثانوية والاعذار العقلية والشرعية، فإذا كان
قوله أقرب، لزم الاخذ به في مقام اسقاط التكاليف وإقامة الاعذار، ولو جاز الاخذ
بغيره أيضا لزم موضوعيته " انتهى ".
185

وفيه: منع الصغري لان فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتوى الأفضل
لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات أو لفتوى الأعلم من الاحياء إذا لم يجز تقليده
لفقد شرط من شروطه، ربما يكون فتوى غير الأعلم موافقا لفتوى الباقين من
الفقهاء ويكون الأعلم متفردا في رأيه في الاحياء.
ويظهر من بعض الأعيان المحققين في تعليقته، خلاف ما ذكرنا حيث قال: إن
حجية الفتوى ليس لأجل مطلق الظن بحكمه تعالى ولذا لا يجوز عمل العامي بظنه
بل لأجل انه خصوص ظن حاصل من فتوى المجتهد المستند إلى حجة قاطعة للعذر فما
هو الحجة عقلا أو شرعا هو الظن الخاص دون الفرق بما افتى به المجتهد وان لم
يحصل من فتوى المجتهد (وعليه) فدعوى الفرق بين الأقربية الداخلية والخارجية
في كمال القوة واما الظن الحاصل من موافقة فتوى الحي المفضول للأفضل من
الأموات فحيث انه متقوم بفتوى من لا حجية لفتواه فهو كالظن الحاصل من سائر
الامارات الغير المعتبرة، واما الاقوائية الحاصلة من مطابقة فتوى المفضول لغيره
من الاحياء فهي غير مسلمة إذ المطابقة لا محالة لوحدة المدرك وتقارب انظارهم و
أفكارهم فالكل في قوة نظر واحد ولا يكشف توافق آرائهم عن قوة مداركهم من
مدرك الأفضل والا لزم الخلف لفرض اقوائية نظر الأفضل من غيره في مرحلة الاستنباط
بجميع جهاته، ومنه يعرف فساد قياس المورد بالخبرين المتعارضين المحكي أحدهما
بطريق متعددة دون الآخر، إذ ليست الحكايات المتعددة بمنزلة حكاية واحدة
فلا محالة يوجب كل حكاية الظن بصدور شخص هذا الكلام من الإمام عليه السلام ولا
يلزم منه الخلف كما كان يلزم فيما نحن فيه (انتهى بنصه وفصه).
وفيه: ان المقصود في منع الصغرى انما هو رد أقربية فتوى الأفضل إلى الواقع
عن غيره وهذا يحصل بتوافق رأى المفضول للأعلم من الاحياء الغير الصالح للرجوع
أو توافقه لباقي الفقهاء وتفرد الأفضل وما ذكره من أن هذا التوافق من الظنون
الحاصلة من الامارات الغير المعتبرة لا يصلح لرده وانما يصلح لرد دعوى تقدم قول
المفضول في مقام الاحتجاج وهو خارج عما نرتأيه كمالا يخفى وبذلك يسقط كل
186

ما افاده في صدر كلامه، فان المقصود رد أقر بيته فقط.
واما انكار أقربية قول المفضول إذا وافق جل الفقهاء وتفرد الأفضل برأيه على
نحو الذي ذكره، فمنظور فيه، لان اتفاق آراء أهل الفن علي أمر واحد يوجب سلب
الاطمئنان عما يخالفه، ولا يبقى له وثوق أصلا، ولا يجرى أصالة عدم الغفلة والسهو في
اجتهاده، وما أفاد من أن اتفاقهم لا يكشف عن قوة مداركهم، لكون الكل بمنزلة
نظر واحد، غريب جدا ومثله ما أفاد من أنه لو كشف عن قوة مداركهم لزم الخلف
لفرض اقوائية نظر الأفضل عن غيره في مرحلة الاستنباط، فان المسلم انما هو اقوائية
نظر الأفضل عن المفضول فقط لا عن جل الفقهاء، أو الأعلم الذي لا يجوز تقليده
لمانع من الموانع.
ثم إنه يمكن منع الكبرى: أعني انه يجب الاخذ بالأقرب جزما عند المعارضة
بان ادعاء تعين الرجوع إلى الأقرب، يتوقف على ادراك العقل لزوم الاخذ به وتعينه
ادراكا جزميا قطعيا لا يحتمل خلافه، بحيث لو ورد دليل على خلافه من الشرع لأوله
أو طرحه، وانى للعقل هذا الادراك، إذ للشارع ترخيص الرجوع إلى المفضول إذا رأى
مفسدة في تعين الرجوع إلى الأفضل أو رأى مصلحة في توسعة الامر على المكلفين
كما هو الواقع في جواز العمل بقول الثقة وترك الاحتياط، من دون ان يستلزم ذاك
الترخيص والرجوع إلي المفضول موضوعيته كما ادعاه المستدل نعم لو وقف العقل
على لزوم احراز الواقعيات وادراك عدم رضاء المولى بتركها، لحكم بلزوم العمل
بالاحتياط وعدم جواز العمل بقول الفاضل والأفضل، من غير فرق بين لزوم العسر
والحرج واختلال النظام وعدمه.
والحاصل: انه لا يتسنى للعقل الحكم البات بتعين الرجوع إلى الأقرب مع
احتمال ورود تعبد من الشارع بالترخيص في الرجوع إلى الفاضل والمفضول، ومع
هذا الاحتمال ولو كان ضعيفا، لا مساغ لادعاء القطع بتعين الاخذ به وتوهم عدم وجود
ذاك الاحتمال، لا يخلو عن مكابرة.
ثم إن بعض الأعيان المحققين قد صحح الكبرى في تعليقته ونحن ننقل ملخص
187

كلامه فقال: ان أريد ان القرب إلى الواقع لا دخل له أصلا فهو خلاف الطريقية الملحوظة
فيها الأقربية إلى الواقع، وان أريد ان القرب إلى الواقع بعض الملاك وان هناك خصوصية
أخرى تعبدية فهو غير ضائر بالمقصود لان فتوى الأفضل وإن كانت مساوية لفتوى
غيره في تلك الخصوصية التعبدية، الا انها أقوى من غيرها، من حيثية القرب الذي
هو بعض الملاك فان الأرجح لا يجب أن يكون أقوى من غيره من جميع الجهات، هذا إذا
كانت الخصوصية التعبدية مما يتقوم به الملاك أو كانت جزء المقتضى واما إن كانت شرطا
لتأثير القرب إلى الواقع في جعل الامارة حجة فالامر أوضح إذ العبرة في التقوى
والضعف بحال المقتضى دون الشرط، ومنه يظهر فساد القياس بمثل البصر والكتابة
إذا اعتبرا في القاضي فإنه لا يترجح الأقوى بصرا أو الأجود خطا على غيره فكذا هنا
وجه الفساد ان المعرفة في الافتاء هو الملاك والمقتضى للحجية فيؤثر قوته في رجحانه
وتقدمه بخلاف البصر والكتابة فإنها شرائط والمقتضى لتعينه علمه بموازين القضاء
مضافا إلى أن المراد بالأعلم إن كانت أقوى معرفة بحيث لا تزول بتشكيك المشكك
لقوة مبنى عرفانه فالامر كما في البصر والكتابة فان المطلوب أصل وجودهما لا قوتهما
فكذا المعرفة ولا اثر لقوة المعرفة، واما إن كان المراد بالأعلم من كان أحسن
استنباطا من غيره (فح) لا مجال للقياس فان الأعلم بهذا المعني أكثر إحاطة بالجهات
الموجبة للاستنباط المغفولة عن غيره لقصور نظره، فمرجع التسوية بين الأعلم وغيره
إلى التسوية بين العالم والجاهل لقصور نظر غيره عما وصل إليه الأفضل.
وهذا وجه آخر لتعين الأعلم وان لم نقل بأقربية فتواه إلي الواقع ولم نقل بان
الملاك كلا أو بعضا هو القرب إلى الواقع، فان فتوى الأعلم أوفق بمقتضيات الحجج
الشرعية والعقلية لبلوغ نظره إلى ما لم يبلغ نظر غيره لفرض الأعلمية فيكون
بإضافة إلى غيره كالعالم بالإضافة إلي الجاهل، فيتعين في مقام ابراء الذمة، وان التسوية
بينهما كالتسوية بين العالم والجاهل انتهى كلامه.
وفى كلامه مواقع للنظر نشير بوجه الاجمال إلى مهماتها.
منها: ان الخصوصية التعبدية المحتملة، لا يلزم أن يكون جزء المقتضى و
188

لا شرطه حتى يرد ما ذكره: بل يحتمل أن يكون مانعا عن تعين الرجوع إلى الأفضل
اما لفساد في تعينه أو لتوسيع الامر على المكلفين، كما في العمل بقول الثقة وعدم
لزوم العمل بالاحتياط، من دون استلزام ذلك كون العمل به من باب الموضوعية
لا الطريقية.
منها: ان تفسير الأعلم بالأحسن استنباط وكونه أقوى نظرا عن غيره تعبير
آخر عن أقربية رأيه ونظره إلي الواقع فما افاده من أن هذا وجه آخر لتعين الأعلم وان لم
نقل بأقربية فتواه إلي الواقع، لا يخلو من تدافع.
منها: ان ما ذكره من أن التسوية بين الفاضل والأفضل يرجع إلي التسوية
بين العالم والجاهل، يستلزم قبح الرجوع إلى المفضول عقلا بل امتناعه، ولا أظن أحدا
يلتزم به، وقد تقدم ان جواز الرجوع إليه ليس لأجل التسوية بينها، بل لمصالح اخر
لتوسيع الامر على المكلفين أو لوجود الفساد في تعينه على ما تقدم.
ثم: ان ههنا وجوها اخر استدلوا بها على لزوم تقليد الأعلم، من كون المقام
من قبيل دوران الامر بين التخيير والتعيين، أو بناء العقلاء على الرجوع إلى الأعلم
عند الاختلاف وقد مرت الإشارة إليها فافهم.
فتلخص: من هذا البحث انه لم يقم دليل على لزوم تقديم رأى الأعلم الا
الأصل المشار إليه في صدر البحث، مع امكان منعه أيضا في الأمثلة المتقدمة أي فيما
إذا كان رأى غيره موافقا لرأى الأعلم من الأموات والاحياء إذا كانوا فاقدين لبعض
شرائط اخذ الفتوى منهم، وفيما إذا كان رأى غير الأعلم موافقا لرأى عامة الفقهاء
من الماضين والحاضرين، وكان الأعلم وحيدا في رأيه، فان المقام يصير من قبيل دوران
الامر بين التخيير والتعيين، لا تعيين الأعلم، والأصل فيه التخيير، اللهم الا ان يقال إن
تعين غير الأعلم في هذه الأمثلة غير محتمل حتى يدور الامر بين ما ذكر، لتسالم
الأصحاب على خلافه فيدور الامر (ح) بين التعيين والتخيير في عامة الموارد، والحكم
فيه هو الاخذ بالقدر المتيقن وهو الأعلم.
هذا إذا علم المخالفة تفصيلا واجمالا، واما إذا كانت محتملة فلا يبعد التخيير
189

وعليه السيرة، ويمكن استفادة ذلك مما تقدم من الروايات فلاحظ.
حول المتساويين في الفقاهة عند اختلافهما في الفتوى
ومقتضى القاعدة تساقطهما والرجوع إلى الاحتياط أو الرجوع إلى القواعد الأخر
لو أخل الاحتياط بالنظام ا وأوجب العسر والحرج، غير أن المتسالم عند
الأصحاب هو التخيير بينهما. نعم يظهر من شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - كون
التخيير مقتضى الأدلة، وان أدلة حجية رأى الفقهاء، تشمل حال التعارض وغيره بخلاف
أدلة حجية قول الثقة فإنها تختص بغير تلك الحال قال في توضيح ذلك: الفرق
بين البابين: ان ما هو الموضوع للحجية في باب الروايات، انما هو طبيعة خبر الثقة
على نحو الوجود الساري، إذ لا معنى لحجية خبره علي نحو صرف الوجود، لان
الغرض قائم بحجية خبر الثقة على النحو العام الاستغراقي ولا يفيد صرف وجود الخبر
في الفقه أصلا، و (عليه) فلا يعقل جعل الحجية التعيينية في المتعارضين
كمالا يمكن جعل الحجية التعيينية في غير موارد التعارض، والتخييرية فيها، بدليل
واحد، فلا مناص عن انكار الاطلاق، وهذا بخلاف الموضوع في حجية قول الفقهاء،
فان ما هو الموضوع انما هو طبيعة قول الفقيه على نحو صرف الوجود، لان الغرض
قائم بقول كل واحد من الفقهاء على هذا النحو، ولا معنى لجعل الحجية لقول عامة
الفقهاء على نحو الطبيعة السارية بان يكون المكلف ملزما لتحصيل رأى الفقهاء
في كل واقعة بل يكون الرجوع إلى فقيه واحد في عامة ما يحتاج إليه، فإذا كان
المأمور به هو صرف الوجود، فلا اشكال في شمول اطلاق جعل الحجية لحال التعارض
وغيره، فإذا اخذ برأي واحد من الفقهاء فقد أطاع وامتثل.
فظهر من ذلك: ان اطلاق قوله (ع) في التوقيع: واما الحوادث الواقعة فارجعوا
فيها إلى رواة أحاديثنا، وما في خبر أحمد بن حاتم بن ما هوية الماضي: فاصمدا في
دينكما إلي كل مسن في حبنا، وغيرهما من عمومات حجية رأي الفقهاء شامل حال
التعارض وغيره، فإذا اخذ بآراء واحد من الفقهاء قد أطاع الامر الوارد.
190

وفيه: ان ما ذكره (أعلى الله مقامه) مصحح امكان الاخذ بالاطلاق في الباب لو
وجد، دون باب حجية قول الثقة، لكنه فرع وجود دليل يصح الاتكال عليه، وقد
اوردنا كثيرا من هذه العمومات التي استدل بها على حجية رأى الفقيه، عند البحث
عن لزوم تقديم رأى الأعلم وعرفت انها بين مالا يصح سندا أو دلالة و
ما أشار إليه من التوقيع، قد عرفت اجماله، واما قوله (ع): فاصمدا في
دينكما... فقد أوعزنا فيما مضى: ان الظاهر مفروغية لزوم الرجوع إلى أحد من
العلماء عند السائل، كما يشير إليه قوله. عمن آخذ معالم ديني، غير أنه كان يتطلب
من الامام تعيين ذلك المرجع، ما أرجح غير واحد من السائلين إلى افراد معينة،
من أبي بصير ومحمد بن مسلم وزكريا بن آدم، فضرب الامام قاعدة كلية، حتى يأخذها
مقياسا وقال: إلى كل مسن في حبنا، كثير القدم في امرنا، كناية (1) عمن له معرفة
تامة بأمور الإمامة، وقدم صدق وراسخ في أبوابهم، حتى يوجب الطمأنينة والوثوق
بما ينقل ويفتى و (عليه) فترك الإمام عليه السلام ما هو الشرط الأساسي أعني الفقاهة لكونه
مفروغ الوجود عند السائل والمسؤول وتركه على ارتكازه، فليس هو بصدد
اعمال التعبد والارجاع إلي الفقهاء حتى يؤخذ باطلاقه بل بصدد بيان القيود الأخر.
ولو سلم كونه بصدد ارجاعه إلى الفقهاء، لكنه ليس في مقام البيان، بل وزانه
وزان قول الناصح المشفق لصديقه المريض يجب عليك الرجوع إلى الطبيب وشرب
الدواء، إلي غير ذلك من العبائر التي ليس القائل الا بصدد بيان الحكم على نحو
الاهمال فتلخص انه ليس للأدلة اطلاق لحال التعارض.
الاستدلال على التخيير بالروايات العلاجية
وربما يستدل له بالروايات العلاجية كموثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه السلم

(1) الظاهر: انه كناية عن مزاولته وممارسته باخبارهم، حتى يكون بطانة
لأسرارهم ويعرف الصحيح عن الزايف - المؤلف.
191

قال سئلته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه، أحدهما
يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع، قال: يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في
سعة حتى يلقاه.
بتقريب ان المراد من تخالفهما، ليس التخالف في نقل الرواية من دون جزم
بمفاده، بل نقله علي وجه جاز العمل بمنقوله، مصدقا مفاده وهو مساوق للفتوى، ويشهد له قوله
أحدهما يأمر بأخذه... فان الامر بالأخذ، ليس الا دعوة المخاطب إلي اخذه معتقدا
صحته وهو عبارة أخرى عن الفتوى، فالرواية صريحة في الفتوى أو ظاهرة فيها، و
من ذلك يعلم أنه يمكن التمسك بعامة الروايات الآمرة بالتخيير عند تعارض الروايات
في المقام بالغاء الخصوصية، فان اختلاف الفقيهين، يرجع إلي اختلاف الرواية واختلاف
نظرهما في الجمع والترجيح هذا.
ولكن ما ذكر من التقريبين لا يسمن ولا يغنى، بل الأول على خلاف المطلوب
أدل، فان الاستدلال بالموثقة مبنى على حمل قوله عليه السلام فهو في سعة حتى يلقاه، على
جواز العمل بالخبرين، حتى يلاقى من يخبره، بالحكم الواقعي ولكن هذا مخالف بما
ذكره الامام قبله يرجئه حتى يلقى من يخبره فان معنى الارجاء انما هو تأخير الواقعة
وعدم العمل بشئ منهما، فيصير قرينة على أن قوله: فهو في سعة الخ انه في سعة في
ترك الحكم الواقعي، ومعذور فيه، إذا كان مقتضى الأصول التي رجع إليها مخالفا
للحكم الواقعي، فهو على خلاف المطلوب أدل.
واما ادعاء الغاء الخصوصية، فهو أضعف، لمنع كون الاختلاف بين الفقيهين
مستندا إلى اختلاف الحديثين، بل لاختلافهما علل شتى، مع تحقق الفرق الواضح
بين اختلاف الاخبار، واختلاف الآراء أضف إلى ذلك أنه لو صح العمل باخبار التخيير
في المقام، لزم العمل باخبار المرجحات، فيرجح بما ذكر في الروايات من الوجوه
المرجحة مع أنه لم يقل به أحد.
على انك قد عرفت منافى باب التعادل والتراجيح ان ما ادعاه الشيخ الأعظم
من تواتر اخبار التخيير أو استفاضته، غير صحيح بل لم نجد رواية حائزة شرايط الحجية
192

دالة على التخيير.
فخلاصة هذا البحث: ان مقتضى الأصل في الآراء المتضاربة بين المتفاضلين
والمتساويين، هو العمل بالاحتياط أو الاخذ بأحوط الأقوال الا انه يظهر من الأصحاب
تسالمهم علي عدم وجوبه، فيلزم الاخذ برأي اعلمهما في المتفاضلين لدوران الامر بين
التعيين والتخيير، مضافا إلى تسالمهم عليه، وان لم يكن فيما بأيدينا من الأدلة
الشرعية منه عين ولا اثر: وقد عرفت حال الأدلة الشرعية، كما أنه يكفي الاخذ
برأي أحدهما على التخيير في المتساويين لتسالمهم عليه، وان لم يوجد عليه دليل
نقلي كما تقدم.
اشتراط الحياة في المفتى
المشهور اشتراط الحياة في المفتى، وقد ادعى عليه الاجماع ونسب إلى بعضهم
عدمه وربما يفصل بين الابتدائي والاستمراري، وقد اعتمد القائلون بالجواز
بالاستصحاب وقرروه بوجوه منها: كان الاخذ بفتوى المجتهد الفلاني في حال حياته
جائزا والأصل بقائه بعدها، منها: انه كان جائز التقليد في زمن حياته، فيستصحب
بعد موته، منها: ان لكل مقلد جواز الرجوع إليه في زمان حياته، والأصل
استمراره، إلى غير ذلك من الوجوه التي ترجع إلى وجه.
ورد بوجهين الأول: ان جواز الرجوع لكل بالغ عاقل إن كان بنحو القضية الخارجية
بمعنى ان كل مكلف كان موجودا في زمانه جاز له الرجوع إليه فلا يفيد بالنسبة إلى
الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخرة ويختص الدليل بمن أدرك حياته مكلفا
وإن كان بنحو الفضية الحقيقية أي كل من وجد في الخارج وكان مكلفا في كل زمان
كان له تقليد المجتهد الفلاني فان أريد اجراء استصحاب التنجيزي فلا يمكن لعدم
ادراك المتأخرين زمان حياته فلا يقين بالنسبة إليهم، وإن كان بنحو التعليق أي
لو كانوا موجودين في حياته، كان لهم ذاك الحكم، فهو محل منع على ما تقرر
في محله انتهى.
193

وفيه: ان ذلك غفلة عن حقيقة جعل الأحكام الشرعية على نحو القضايا
الحقيقية، وقد أوضحنا في الأبحاث المتقدمة ما خلاصته: هو جعل الحكم على العنوان
الكلى له مصاديق كثيرة تدريجية في عمود الزمان فهو بهذا الجعل الواحد على
العنوان الكلى يكون حجة عقلائية على عامة المعنونات في طول الزمان من دون
تعداد رادة ولا جعل حسب تعداد المكلفين
توضيحه: ان حقيقة الإرادة التشريعية، في ظرف جعل الاحكام كالإرادة
التقنينية بين العقلاء فكما ان الإرادة التقنينية الدارجة في أقطار العالم، عبارة عن
جعل حكم واحد، على معنون كلي، مثل عنوان: الناس والمالك، المستأجر فهو
بهذا الجعل الواحد على معنونه، يصير حجة على مصاديق معنونة، مدى الدهور
والأيام، سواء كانوا موجودين حال الجعل، أو لا، من دون ان يتعلق جعل مستقل
بكل واحد من مصاديقه، ولا إرادة مستقلة، بحيث يكون هناك إرادات وجعلات
حسب نفوس المكلفين، وهكذا الجعل التشريعي، فان جعل من استطاع من الناس
مركزا وموضوعا لطلب حج البيت ليس معناه تعلق جعل مستقل، لكل واحد من
الافراد، بل معناه تعلق الطلب التشريعي الواحد على العنوان الواحد، لكنه يصير
بوحدانيته حجة عند العقلاء، لكل من تلبس به فعلا أو في المستقبل، فان ما هو تمام
الموضوع انما هو من استطاع، أين وجد، وفى أي زمان تلبس، ولذا لو شككنا في طرو
النسخ على هذا الحكم بعد قرن أو قرون، كان علينا استصحابه، مع أن ما ذكره القائل
من الاشكال في جريان الاستصحاب، جار بعينه في المقام، بل في عامة الاستصحابات
الحكمية، والسر في عدم وروده مطلقا، هو انه ليس المجعول على الموجودين حال
التشريع مغايرا لما هو المجعول على الموجودين بعده، بل هنا جعل واحد، ومجعول
واحد على عنوان كلي، فهذا الجعل المتعلق على العنوان الكلى الذي له مصاديق
في طول الزمان، حجة واحدة على الكل في عموم الأوقات وعليه فيسقط ما ذكره من
الشقين في كيفية اجراء الاستصحاب علي نحو القضية الحقيقية وبذلك يظهر معنى
الانحلال في الاحكام حسب تعدد الافراد، ومعنى الشأنية والفعلية فيها على حذو
194

تكرر منا بيانه وبالجملة: جواز رجوع الناس أو كل من له التقليد، على المجتهد
الفلاني، كتعلق وجوب الحج على عنوان من استطاع فكما يجوز استصحابه عند
طرو الشك وهكذا ذاك بلا تفاوت.
الثاني: وهو العمدة في المقام، عدم بقاء الموضوع، فان المشهور عند القوم
شرطية بقاء الموضوع في جريانه، وإن كان التحقيق عندنا اتحاد القضية المتيقنة مع
القضية المشكوك فيها، وما هو المتيقن أو ما هو الموضوع للحكم، انما هو رأى المجتهد
وفتواه، ولا رأى للميت ولا فتوى له، ولا يتصف الميت عند العرف بالعلم ولا بالظن ومعه
لا بقاء للموضوع، ولا اتحاد للقضيتين، وان شئت قلت: ان مدار الفتوى انما هو الظن
الاجتهادي، ولذا يقول المجتهد هذا ما أدي إليه ظني، وكل ما أدى إليه ظني يجوز
لي الافتاء به، فإذا مات لم يبق له ظن ولا علم، فلا يبقى له رأى ولا فتوى، ومعه كيف
يجوز الاستصحاب.
وفيه: ان ملاك عمل العقلاء، بآراء ذوي الفنون وأصحاب الصنائع ومن له
شغل التقويم، انما هو لكون الرأي بنحو الجزم بوجوده الحدوثي طريقا إلى الواقع
وصفة الطريقية ثابتة له كان صاحبه بعد ابراز رأيه حيا أو ميتا، فان مناط الحجية
وملاك الطريقية عندهم، قائم بنفس الاخبار جزما، عن أمر واقعي فلو افتى الفقيه
بأنه لا يصح الصلاة في وبر مالا يؤكل لحمه، فنفس هذا الفتوى بما هو هو من غير دخالة
أمر، كاشف عن الواقع، طريق إليه ومنجز له، ولا ينسلخ هذه الأوصاف عنه أصلا
لا بموته ولا بنومه الا بنقضه وتبدل رأيه، والجزم على خلافه، هذا حال السيرات
العقلائية في العمل بالامارات وقد عرفت ان الدليل الوحيد في باب التقليد انما هو
السيرة العقلائية التي عرفت ملاك العمل به، واما الأدلة الشرعية، فلو فرض وجودها
فهي غير خارجة عن حدودها، فإذا كانت الحجية والطريقية والتنجيز، قائمة بنفس
الرأي فقط فلو مات صاحبه، وشك في دخالة الحياة في جواز العمل به شرعا فلا مانع
من استصحابه لبقاء الموضوع، واتحاد القضيتين، المتيقنة والمشكوكة، فان ما
هو الموضوع أو ما هو المتيقن، انما هو رأى الفقيه وجزمه بالحكم واظهاره، طريق
195

إلى الواقع، بوجوده الحدوثي، وهو المناط لجواز العمل به في نظر العقلاء وقد أمضاه
الشرع أيضا بهذا المناط، لكن نشك في دخالة الحياة فيه شرعا على وجه التعبد
فلا شك في جواز استصحابه لاتحاد المتيقن والمشكوك والشك انما هو في دخالة
شرط خارج عما هو المناط في نظرهم.
وان شئت قلت: ان رأى الفقيه وابرازه بصورة الجزم جعل كتابه، طريقا إلى
الواقع لدي العقلاء وجايز العمل في زمان حياته، ونشك في بقاء جواز العمل على طبقه
بعد موته، والأصل بقائه
فان قلت: ان الطريقية والحجية والتنجيز، أوصاف ايجابية واحكام فعلية
فيحتاج إلى وجود الموضوع، فكيف يصلح أن يكون الرأي بوجوده الحدوثي، موضوعا
لهذه الأحكام الفعلية، بعد مضى زمان طويل ولو قيل إن الرأي بوجوده الحدوثي
أوجب أن يكون كتابه الموجود فعلا طريقا وحجة ومنجزا، فهو خروج عن طور البحث
الدائر بينهم.
قلت: قد قلنا إن الرأي والجزم بوجودهما الحدوثي جعلا الكتاب أو الرأي
بمعنى حاصل المصدر جائز العمل وحجة وطريقا إلى الواقع ومع الشك يستصحب
جواز العمل والحجية والطريقية ونحوها والرأي الذي عدم هو الرأي القائم بنفسه
لا الرأي بمعنى حاصل المصدر.
ثم إن الشيخ الأعظم - رحمه الله - قد تسلم جريان الاستصحاب وبقاء الموضوع
بتقريب انه إذا قلنا بان الفتوى هي عبارة عن نقل الحديث على وجه المعنى على ما
يدعيه الاخباري لكنه خلاف الواقع (انتهى كلامه).
وفيه: ان مناط الحجية في الفتوى والاخبار، أمر واحد، فان الكاشف عند
العقلاء في اخبار الثقة، انما هو اخباره جزما عما سمعه ورآه، فلو أخبر بلا جزم،
لا يصير طريقا، ولا يتصف بالكاشفية ولا يجوز العمل به عندهم، ولو أخبر عن جزم،
يتصف بهذه الأوصاف حتى بعد موته وعدم بقاء جزمه، لان اخباره على وجه الجزم
انما جعله حجة إلى الأبد، ما لم ينقضه نفسه، أو حجة أخرى، فلو شك في بقاء أوصافه واحكامه
196

بعد موت الراوي لاحتمال دخالة حياته تعبدا يستصحب بقائها بلا اشكال لاتحاد القضيتين
أو لبقاء الموضوع عندهم، وما ذكرنا من الاشكال والجواب في الفتوى جار فيه حذو
النعل بالنعل.
ثم إنه - قدس سره - قد منع جريان الاستصحاب وحكم بعدم بقاء موضوعه
بقوله: ان الظن في الاحكام الظاهرية انما يكون موضوعا لما يترتب على المظنون
فإنه هو المقصود من حجية الظن في الأمور الشرعية والاحكام الفرعية فإنه يكون
وسطا في القياسات التي يطلب فيها ترتيب آثار متعلقات تلك الظنون مثلا ان شرب
الخمر المظنون حرمته بواسطة امارة ظنية معتبرة انما يستفاد الحكم فيه في مقام
العمل والظاهر، بواسطة الظن كان يقال إن شرب الخمر مما يظن حرمته بواسطة
امارة كذائية وكل ما يظن حرمته فيجب ترتيب آثار الحرمة الواقعية التي كان
الظن طريقا إليه على ذلك المظنون فينتج وجوب ترتيب الآثار على هذه الحرمة
المظنونة من لزوم الاجتناب عنها وغيرها من الاحكام (انتهى بنص عبارته).
وفيه: ان ما ذكره - قدس سره - عبارة عن الحجة المنطقية وليست معنى الحجية
في الامارات وقوعها حدا وسطا لاثبات الحكم الشرعي، بل المراد من الحجية فيها
ليس الا تنجيز الواقع على فرض صدقه وصحة عقوبة المكلف لو تخلف والحجية بهذا
المعني لا تختص بالامارات بل يصح اطلاقه على القطع بل وبعض الشكوك، (وعليه)
فالحكم الشرعي انما هو مترتب على موضوعه الواقعي دون ما قام عليه الامارة ولا
المظنون بما هو مظنون كما يفيده ظاهر كلامه.
واما ما ربما يقال في حل الاشكال، من أن الموضوع للحجية انما هو الرأي
الموجود في موطنه، وزمن حياته، فهذا الظن المتحقق في ظرفه، وزمن حياته، حجة مطلقا
حتى اليوم مات صاحبه وزال رأيه لكن نفى وجوده المقيد، لا يوجب ارتفاع وجوده
المطلق. عن صحيفة الواقع ضعيف: لان اثبات الحجية الفعلية وجواز العمل كذلك
لأمر معدوم فعلا غير صحيح، فالمحمول الفعلي الايجابي يحتاج إلى موضوع مثله،
وبعبارة أخرى، ما هو الموضوع للحجية وجواز العمل انما هو الظن الموجود، بقيد
197

انه موجود، ومع ارتفاعه، لا معني لاستصحابه، نعم لو كانت القضية حينية مطلقة،
بان كان الموضوع هو الظن، في حال الوجود أمكن استصحابه خصوصا على ما حققناه من عدم
شرطية بقاء الموضوع وانما الشرط اتحاد القضيتين، ولكنه لا يخلو عن منع وتأمل
بل الظاهر أن الموضوع هو الظن الموجود بين العقلاء ولو سلمنا فالاشكال المتقدم
بحاله لان حمل الحجية الفعلية على أمر معدوم، غير صحيح (1).
حول الاشكال الآخر على الاستصحاب
وهو أصعب حلا مما ذكر، وهو ان المستصحب يجب أن يكون اما حكما شرعيا،
أو موضوعا لحكم شرعي، حتى يصح النهى عن النقض وما يمكن استصحابه في المقام
أحد أمور:
1 - الحجية العقلائية، وارتكازهم على رجوع الجاهل إلى العالم في فنه ولزوم
الاتباع عن ذوي الآراء وصحة الاحتجاج بها عندهم، وهذا لا حكم شرعي ولا موضوع
ذو اثر شرعي.
2 - الحجية الشرعية، وجواز العمل على طبق رأيه، ولكنه فرع أن يكون في
المقام جعل شرعي، سواء كان المجعول هو الحجية أو جواز العمل، وقد عرفت انه
ليس في المقام جعل من الشارع بل الموجود انما هو تنفيذ الامر العقلائي، ولم نجد بين
الأدلة، دليلا يصح الاتكال عليه، يدل على جعل الشارع لزوم العمل برأي الفقيه

(1) ان الحجية وجواز العمل وتطبيق العمل عليه، من الأمور الاعتبارية الدارجة
بين العقلاء وليست من الحقائق الخارجية الأصلية التي يحتاج ثبوتها الفعلي إلى الموضوع
الفعلي، وأي محذور أن يكون الظن الموجود في محله، موضوعا لجواز الاحتجاج على
نحو الاطلاق، وقد عرفت ان رفع الوجود المقيد لا يلازم سلب وجوده المطلق في الواقع
على ما قرر في محله، ثم أي فرق بين ما ذكره القائل. وما اختار الأستاذ (دام ظله) من أن
الرأي الجزمي بوجوده الحدوثي، طريق وكاشف عن الواقع مع أن ما ذكره (دام ظله)
وارد على مختاره فتأمل - المؤلف.
198

أو جوازه فراجع.
3 - استصحاب الأحكام الواقعية: ولكنه أيضا فرع الشك فيها لأن الشك
فيها اما أن يكون من أجل الشك في طرو النسخ إليها، أو من أجل فقدان شرطه
كاحتمال شرطية حضور الامام في صلاة الجمعة، أو من عروض مانع وليس الشك في
المقام مستندا لاحدى هذه الجهات.
4 - استصحاب الاحكام الظاهرية: بناءا على جعل المماثل عقيب فتوى
المجتهد وهو بعد محل منع ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه، لأن الظاهر هو امضاء ما هو
الدائر بين العقلاء، من مراجعة كل جاهل إلى خبير فنه، بلا تأسيس ولا جعل مماثل كما قيل
في حجية الامارات، فتلخص انه ليس في المقام مجعول شرعي، ولا موضوع لحكم شرعي،
بل الموجود هو حجية قول أهل الخبرة للجاهل، وليس هو موضوعا لحكم شرعي
بل هو موضوع لحكم عقلي، وهو تنجز الواقع على المكلف، إذا كان الشارع راضيا
بالسيرة أو غير رادع عنها وتوهم استصحاب بقاء امضاء الشارع له، وارتضائه لما هو
المرتكز، مدفوع: بان الامضاء والارتضاء ليس حكما شرعيا حتى يستصحب بنفسه،
اللهم الا ان يقال: إن رضا الشارع بالعمل وامضائه، وان لم يكن حكما
شرعيا، لكن مع التعبد ببقائه، يحكم العقل بجواز العمل فهو مثل الحكم في
ذلك فتأمل (1).
لا يقال: لازم ما ذكر سد باب الاستصحاب في الاحكام التي هي مؤديات
الامارات، فان الفتوى كما هو امارة إلى الحكم الواقعي، وهكذا الامارات القائمة
على الاحكام، فلو شككنا في بقاء مؤدى الامارة، نحكم ببقائه بلا اشكال وليكن
فتوي الفقيه مثله، لأنا نقول: فرق واضح بين المقامين فان الشك في مفاد الامارات
متعلق ببقاء نفس الوجوب الذي قامت الامارة عليه، وهو حكم شرعي قابل للتعبد

(1) وجهه ان لازم ما ذكر انهدام الضابطة المقررة في باب الاستصحاب من لزوم
كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي بل هنا شق ثالث وهو كونه
موضوعا لحكم عقلي كالمقام - المؤلف.
199

بالبقاء وانما طرء الشك عليه، لاحتمال طرو النسخ عليه أو فقدان شئ نحتمل شرطيته
كالحضور في صلاة الجمعة، واما المقام فالشك لم يتعلق بنفس الوجوب الذي
افتى به المفتى، بل هو على تقدير وجوده من أول الأمر باق قطعا، وانما الشك تعلق
بمقدار حجية رأيه وفتواه وان شئت قلت تعلق الشك بمقدار حجية الامارة وكاشفيته شرعا
عن الواقع وانها هل هو حجة مطلقا حيا كان أو ميتا، أو يختص بحال حياته، نعم لو كان الشك
في الامارات في مورد مثل الشك في مقدار حجية فتوى المفتى، منعنا الاستصحاب فيه أيضا.
ان قلت: على القول بلزوم الجزم في النية في اجزاء العبادات وشرائطها،
يلزم القول بجعل المماثل في الامارات ومنها فتوى الفقيه، والا يلزم اتيان كثير
منها رجاءا، لعدم قيام الدليل القطعي على جزئيتها وشرطيتها فلا مناص من القول
باستتباع الامارات احكاما علي طبق مؤدياتها.
قلت: مضافا إلى منع لزومه في العبادات وقد أوضحنا سبيله غير مرة وقلنا إن
المسألة عقلية لا مناص لدعوى الاجماع فيها، ان الجزم حاصل من غير احتياج إلى
القول باستتباع الامارات احكاما مماثلا لمؤدياتها، وذلك لان احتمال الخلاف و
الخطاء مغفول عنه للعقلاء عند العمل بالامارات الدارجة بينهم، وما ذكرنا من أن
بنائهم على العمل بها بالغاء احتماله، ليس معناه انهم يحتملونه ثم يلغونه عملا
بل معناه غفلتهم عن هذا الاحتمال ولكن لو نبههم أحد عليه لتنبهوا، لكنهم عند
عدم التنبيه، يعملون معه بصرافة ارتكازهم معاملة العلم الجازم، ودونك معاملاتهم
السوقية فهم يبيعون ويشترون علي وجه الجزم، مع أن أساسه على كون البايع
مالكا، ولا طريق لهم غالبا على الملكية الا اليد التي هي امارتها، وليس ذلك لعدم
انقداح احتمال الخطاء في أذهانهم. هذا أولا:
وثانيا: ان استتباعها للحكم الظاهر في خصوص فتوى الفقيه ليس محصلا للجزم
فان عمل العامي بفتوى الفقيه انما هو لأجل كونها طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه،
كعملهم على آراء أهل الخبرة في سائر الفنون، فإذا كان هذا مبني عملهم، فاستتباع
فتواه للحكم الظاهري أمر مغفول عنه للمقلدين، فكيف يكون مناطا لحصول
200

الجزم وبالجملة، مناط عمل العامي له كونه كاشفا عن الحكم الواقعي، وكون صاحبه
عالما باحكام الله الواقعية، واما استتباعها لحكم ظاهري موافق لمؤدى الامارة،
مما لا ينقدح في أذهانهم، ومعه يكون محصلا للجزم.
جوابنا عن الشبهة
ان الحاجة إلي الاستصحاب في الحكم بجواز البقاء، انما هو فيما إذا كان فتوى
الميت مخالفا للحي الذي يفتى بجواز البقاء إذ لو كانا متوافقي الفتوى، وكان عامة
فتاواه موافقا لرأى المجتهد الحي، لكان له ارجاع العامي إلى الميت من دون حاجة
إلى الاستصحاب لقيام الحجة عنده على صحة هذه الفتاوى وليست الغاية الا الوصول
إلي هذه الأحكام، من دون دخالة التقليد، والاخذ بالرأي وانما الحاجة إليها انما
هي فيما إذا كانا متخالفي الفتوى، (فح) لو فرضنا ان المكلف أدرك مجتهدين متساويين
في العلم، مختلفين في الفتوى، فقد تسالم الأصحاب على كونه مخيرا في الاخذ بواحد
منهما لدليل شرعي دال علي التخيير الشرعي واصل إليهم وان لم يصل إلينا، أو لأجل السيرة
المستمرة إلى زمن الأئمة (عليهم السلام) الكاشفة عن رضائهم وارتضائهم ولولا الدليل أو
السيرة الكاشفة كان مقتضى القاعدة هو التساقط، والعمل بالاحتياط كما أوضحناه، مع أنهم
تسالموا على التخيير، فإذا مات واحد منهما، طرء الشك في بقاء التخيير الشرعي
المتقدم أو ارتفاعه بفوته والأصل بقائه، ولازم ذلك جواز البقاء للمكلف الذي أدرك
حياة المجتهدين بالغا وعاقلا، بحيث توجه إليه الخطاب الشرعي بالتخيير، واما إذا
لم يدرك حياتهما فلا، لعدم الحالة السابقة، وهذا ما يعبر عنه في كلام الأصحاب بالتقليد
الابتدائي للميت.
ولا ينافي ذلك ما حررناه في دفع الاشكال الأول من أن الحكم الثابت للعنوان
لا يختص بحال الموجودين وقت الخطاب، بل يعم كل من صدق عليه العنوان ولو بعد مضى
قرن، - وجه عدم المنافاة - فان ذلك انما هو في ثبوت الحكم على العنوان، أعني المكلف
أو الناس ولكنه لم يدل دليل على ثبوت التخيير الشرعي على عنوان المكلف على هذا
201

النحو، بل المتيقن من فتوى الأصحاب هو ثبوت التخيير لهذا الشخص الذي أدرك
الفقيهين المتساويين في العلم المختلفين في الفتاوى.
نعم: لازم ذلك ان للمكلف الذي ادركهما بالغا، العمل بعامة فتاواه، سواء عمل
بها سابقا أو لا، فتلخص ان مقتضى القاعدة بعد قيام الاجماع على بطلان تقليد الميت
ابتداءا هو التفصيل بين ما إذا لم يدرك المكلف حياة المجتهد بالغا، فلا يجوز تقليده
أصلا وما إذا أدركه بالغا، فيجوز له تقليده والاخذ بفتاواه من غير فرق بين الابتدائي
والاستمراري، أي ما عمل به سابقا وما لم يعمل فلو قام الاجماع على عدم جواز
الابتدائي مطلقا تصير النتيجة التفصيل بين الابتدائي والاستمراري هذا كله مقتضى
الاستصحاب.
بناء العقلاء في تقليد الميت
لا شك انهم لا يفرقون بين رأى الميت والحي بعد كون المرتكز لديهم ان
الآراء كلها طرق وامارات إلى الواقع كسائر الامارات ولكن الكلام في أنه هل
يكفي مجرد عدم الفرق بينهما بحسب الارتكاز، أو لابد من اثبات أمر آخر، وهو
بنائهم على العمل بقول الميت وتعارفه لديهم، حتى يكون بمرأى ومسمع من الشارع
ويستكشف من عدم ردعه رضاه ومن سكوته ارتضائه، الظاهر هو الثاني، فإنه لو لم
يجر السيرة بينهم على العمل بقول الميت، وان فرض ارتكازهم على جوازه، لا يكون
للردع موضوع، فان ما هو الواجب على الشارع ردعه هو رد السيرة التي جرت عليها
العقلاء حسب ارتكازهم، واما مع عدم الجري على طبق الارتكاز، فما هو الغرض حاصل
من دون ردع.
وبالجملة: ان جواز العمل بالامارات العقلائية يتوقف على ثبوت أحد أمرين
اما امضاء الشارع إياه بدليل لفظي واما عدم ردعه، مع كون العمل منهم عليها بمرأى
ومنظر منه، والدليل اللفظي غير موجود، وعدم الردع غير محرز الشرط.
نعم: يمكن ان يقال: إن دائرة السيرة أوسع من العمل برأي الحي ما دام حيا،
202

فإنهم إذا أخذوا الرأي من الحي يعملون به حتى بعد موته ويجدون أنفسهم غير
محتاجين إلى أن يرجعوا إلى فقيه آخر وهذه هي السيرة المستمرة بين العقلاء إلى
يومنا هذا، ويمكن استفادة ذلك من الأخبار الماضية التي ارجع الامام، شيعتهم أو
السائل إلى فقهائهم أو إلى واحد معين منهم، فقد قال علي بن المسيب للرضا. شقتي
بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني قال من زكريا بن آدم
المأمون على الدين والدنيا، أتظن ان علي بن المسيب فهم منه انه يجب عليه الرجوع
عليه والاخذ بآرائه، غير أنه إذا مات وقضى نحبه تسقط تلك الآراء عن الحجية ويجب
عليه الرجوع مرة ثانية إلى الامام حتى يعين فردا آخر * لا أظن أنه فهم ذلك، بل القطع
على خلافه فلو كان الحياة شرطا في جواز العمل بالرأي لكان له (ع) التنبيه عليه،
لشهادة ارتكاز كل عاقل على عدم الفرق بين حياته ومماته في جواز العمل بكل
ما تعلم من العالم سيما مع كون شقته بعيدة وانقطع عن الامام بعد ذهابه إلى شقته في
تلك الأزمنة، وقس عليه سائر الروايات الواردة في ارجاع السائلين إلى اشخاص
خاصة كالأسدي، ومحمد بن مسلم وغيرهما.
نعم هذه النصوص منصرفة عن التقليد الابتدائي لانصراف الدواعي عن الاخذ
عن المجتهد الميت الذي لم يدركه ولم يأخذ بآرائه في حال حياته، مع وجود الحي
الذي يسهل عنه الاخذ.
أضف إليه: ان التقليد الابتدائي كان غير ممكن في تلك الأزمنة التي لم يكن
ذكر الفتاوى وتدوينها في كتاب مرسوما، وكان الرائج، تدوين الأحاديث والروايات
صحيحها وضعيفها، وما كان يعتمد عليه مؤلفه، أولا يعتمد، في الأصول والكتب، فمن أين
كان يمكن للعامي ان يرجع إلى الميت ويأخذ آرائه، ولم يكن تدوين الحديث دليلا على
الافتاء به حتى يستكشف من تدوينه، الافتاء بمضمونه لما عرفت من تدوينهم الصحيح
والضعيف، نعم قد كان الافتاء عند السؤال شفاها بنفس نقل الرواية، وهو غير ما
نحن فيه.
وقد كان السيرة على هذا المنوال إلى زمن الصدوقين، إلى أن تطور الامر، و
203

صارت تدوين الفتاوى بنقل متون الروايات بحذف اسنادها دارجا من غير تجاوز
عن حدود ما وردت فيه الروايات إلى أن جاء دور التكامل والاستدلال، والتفريع
والاستنتاج، فتوسع نطاق الفقه والاجتهاد منذ زمن الشيخ إلى عصرنا الحاضر.
كل ذلك يرشدنا إلى عدم جرى التعارف على الاخذ من الميت ابتداءا وإن كان البقاء
على الرأي الذي اخذه عن الحي بعد موته دارجا لقضاء ارتكازهم على عدم الفرق
بين الحي والميت في الباب ولم يرد عنهم ما يوجب ردعه والنهى عنه لو لم نقل انه
ورد عنهم ما يكشف عن صحتها من الاطلاقات التي عرفت حالها.
فصارت النتيجة في هذا الفصل، انه لو كان الأساس لجواز البقاء على رأى الفقيه
بعد موته، هو بناء العقلاء فلابد من التفصيل بينما إذا اخذ عنه الرأي في حياته، وبين
ما لم يأخذه. واما الاخذ عنه ابتداءا بعد فوته، بالرجوع إلى رسائله العملية أو الاعتماد
على نقل الثقات ففي غاية الاشكال لعدم الدليل عليه من السيرة، بعد كون الأصل
الأولى هو عدم الحجية وعدم النفوذ.
واما الاستدلال بالكتاب والسنة، فقد عرفت عدم دلالتهما علي تأسيس حكم في
المقام، بل كلها ارشاد إلى الارتكاز فلابد من ملاحظة المرشد إليه، كما أوضحنا
حاله عند البحث عن حجية رأى المفضول فراجع.
هل التخيير بدئي أو استمراري
على القول بتخيير العامي في تقليد أحد المجتهدين المتساويين، فهل تخييره
هذا بدئي أو استمراري، فلو قلد أحدهما فهل يجوز له العدول منه إلى الآخر أو لا يجوز،
يظهر من تقرير بحث شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ان ههنا صورا ثلاثة:
الأولى: إذا عمل بفتوى من رجع إليه، في واقعة شخصية ثم أراد العدول في
نفس تلك الواقعة إلى الاخر، كما لو صلى صلاة الظهر بلا سورة، فأراد تكرير نفس
هذه الصلاة معها جريا على رأى الآخر، فحكم بعدم الجواز في هذه الصورة مطلقا قائلا
بأنه لا مجال للعدول بعد العمل بالواجب المخير لعدم امكان تكرر صرف الوجود
204

وامتناع تحصيل الحاصل، وليس كل زمان قيدا للاخذ بالفتوى حتى يقال: ليس باعتبار
الزمان المتأخر تحصيلا للحاصل، بل الاخذ بالمضمون أمر واحد ممتد يكون الزمان
ظرفا له بحسب الأدلة، نعم يمكن إفادة التخيير في الأزمنة المتأخرة بدليل آخر يفيد
التخيير في الاستدامة علي العمل الموجود، ورفع اليد عنه والاخذ بالآخر، لكنه ليس
ما بأيدينا ما يدل على التخيير في الأزمنة المتأخرة وعليه فلا يمكن الحكم بالتخيير
وافادته بأدلة التخيير، في احداث الاخذ بهذا أو ذاك، ممتنع للزوم الجمع بين لحاظين
متنافيين، نظير الجمع بين الاستصحاب والقاعدة بدليل واحد ولا يجرى الاستصحاب
لان التخيير بين الاحداثين غير ممكن الجري وبالنحو الثاني لا حالة سابقة
والاستصحاب التعليقي لفتوى الآخر غير جار لان الحجية المبهمة
السابقة قد صارت معينة في المأخوذ وزالت قطعا كالملكية المشاعة إذا صارت مفروزة.
الصورة الثانية: العدول في الوقائع المستقبلة التي لم تعمل، الصورة الثالثة: العدول
قبل العمل وبعد الالتزام والاخذ، فلو قلنا بان التقليد عبارة عن نفس الالتزام والاخذ فلا
يجوز العدول لعين ما مر من البيان السابق فيكون المأمور به على هذا في مثل قوله:
فارجعوا إلى رواة أحاديثنا وغيره هو العمل الجوانحي أعني الالتزام والبناء القلبيين
ولو قلنا بأنه العمل فلا اشكال في بقاء الامر التخييري في كلتا الصورتين ومع فقد الاطلاق
فلا مانع من الاستصحاب " انتهى كلامه على ما في تقرير بحثه ".
قلت: الذي يصلح أن يكون محلا للنزاع في أول الصور هو جواز تكرار العمل
مطابقا لفتوى الآخر، واما البحث عن التخيير أو جواز العدول، فواضح الاشكال
إذ لا معنى للتخيير بين العمل الموجود فعلا وغيره، وان شئت قلت: التخيير بين الاتيان
بما اتى والعمل بقول الآخر، فان التخيير انما يتصور بين الامرين اللذين لم يوجدا
أصلا، واما إذا وجد أحد الطرفين، فيرتفع موضوعه وما اتى به من العمل فهو موجود
في ظرفه، وطرحه واعدامه بعد الوجود غير معقول حتى يتحقق موضوع التخيير
ومنه يظهر انه أيضا لا معنى لجواز العدول بعد العمل، و (على ذلك) لابد من تغيير
مصب البحث إلى ما عرفت وتمحضه في جواز تكرير العمل بالعمل بقول الآخر بعد
العمل بقول الأول.
205

ونقول: فربما يقال بعدم الجواز في الصورة الأولى كما عن شيخنا العلامة
قائلا بان الاتيان بأحد شقي الواجب التخييري موجب لسقوطه، فلا يجوز الاتيان به
بعده بداعوية الأمر الأول باحتمال داعويته أو بداعوية المحتمل، إذ هي فرع عدم العلم بالسقوط
ومنه يظهر عدم جواز الاستصحاب، لا استصحاب الوجوب التخييري لسقوطه قطعا،
ولا جواز العمل على طبق فتوي الآخر لعدم احتمال وجود أمر آخر غير ما عرفت من
الامر التخييري الذي علم سقوطه.
وفيه: ان التخيير في المسألة الفرعية غيره في المسألة الأصولية، فان الاتيان
بأحد شقي الواجب يوجب سقوط الحكم التخييري في الفرعية من التخيير، دون
الأصولي منه، وذلك أن التخيير في المسألة الأصولية لا نفسية له وانما هو لأجل احراز
الواقع حسب الامكان بعد عدم لزوم الاحتياط، فلو اتى بأحد الفردين كالعمل بأحد
الفتوائين أو الامارتين يبقى معه المجال للاتيان بالفرد الآخر، تحصيلا للقطع واليقين
وإن كان المكلف غير ملزم علي تحصيله، نعم لو قلنا بحرمة الاحتياط أو بالاجزاء
في موارد الطرق وان لم تكن موافقة للواقع كان لما ذكره وجه ومنه يظهر صحة
استصحاب جواز الاتيان بما لم يأته على نحو الاستصحاب التنجيزي، نعم التعليقي
منه غير صحيح لكون التعليق غير شرعي.
واما الصورتان الباقيتان: فالظاهر كون التخيير استمراريا وان لم نقل به في
الأولى وقياسهما على الأولى قياس مع الفارق توضيحه ان التقليد وإن كان يتحقق بالأخذ
والالتزام وعقد القلب، الا انه يمكن اعدامه بالرجوع عما التزم ومع الابطال، يتحقق
موضوع الامر باحداث الاخذ بأحدهما ولا يلزم ما استشكله من لزوم الجمع بين
اللحاظين فان ذلك فرع بقاء التقليد حتى يكون نتيجة أدلة التخيير الابقاء بالنسبة إلى
الأول، والاحداث بالنسبة إلى الثاني، لكنك قد عرفت ان الرجوع مبطل ومعدم للأول
ومعه، يكون المقام كالتخيير بلا سبق تقليد أصلا، أضف إلى ذلك ان الكلام انما هو في
امكان التخيير بعد الفراغ عن الاطلاق لا في وجود اطلاق الدليل وإهماله، وعليه
فلا يصح الاستدلال على منع التخيير بأنه يستلزم الجمع بين اللحاضين إذ هو
206

انما يناسب البحث الاثباتي دون الثبوتي.
وبه يظهر الاشكال فيما افاده، من أن الالتزام وعقد القلب أمر وحداني ممتد إذا
حصل في زمان لا يعقل حدوثه ثانيا (وجه الاشكال) ان الالتزام الثاني التزام حادث
وقد بطل الالتزام الأول بالرجوع ومعه كيف يكون الثاني بقاءا للأول، هذا كله
حسب الثبوت.
واما الاثبات، فقد عرفت عدم دليل لفظي يصح الاعتماد عليه في أصل التقليد
فضلا عن وجود اطلاق يشمل حالة تعارض الفتوائين، وقد التجأنا إلى التخيير في
الفتوائين لأجل الاجماع والشهرة لمنقولين، والمتيقن منهما انما هو التخيير الابتدائي
أي فيما إذا لم يسبق منه التزام أصلا، وشمولهما لغير هذه الصورة مورد شك وريب
والتمسك باستصحاب التخيير ضعيف جدا لكون التخييري البدئي مبائنا للتخيير
الاستمراري موضوعا ومحمولا هذا كله إذا كان المستصحب شخصي الحكم، واما
استصحاب الجامع بين التخييرين أو جامع الجوازين فقد أوضحنا حاله فيما سبق بان
الجامع أمر انتزاعي ليس بحكم شرعي، على أن ترتيب اثر الجامع على المصداق لا يخرج
عن الأصول المثبتة فراجع.
فيما إذا اختلف الحي والميت في مسألة البقاء
ذيل شيخنا الأعظم - رحمه الله - مسألة البقاء بما يلي: فقال: إذا قلد شخصا ثم مات
فان قلد مجتهدا آخر، يوافق قوله قول الأول بقاءا وعدولا فلا اشكال، وكذا إذا كان
مقتضى التقليد الأول البقاء والثاني الرجوع فان هذه الواقعة كاحدى الوقائع التي لابد
فيها من التقليد، ولابد من الرجوع عن التقليد الأول فيها ويتفرع على رجوعها
الرجوع عن سائر الوقائع المقلد فيها، انما الاشكال فيما إذا كان مقتضى الأول الرجوع
ومقتضى الثاني البقاء فإنه يرجع إلى التناقض في مقتضاهما فان البقاء في هذه الواقعة
يوجب الرجوع ولو عن هذه الواقعة، والذي يسهل الخطب عدم الاخذ بعموم الفتوى
الثانية بالنسبة إلى مسألة البقاء والعدول للزوم تخصيص الأكثر لولاه ولأدائه إلى وجوب
207

العدول مع أن المفتى لا يقول به " انتهى ".
وتوضيح الصورة الثالثة: انه إذا قلد مجتهدا كان يقول بوجوب الرجوع إلى
الحي ثم مات فاما أن يكون المكلف بعد موته غافلا عن الواقعة ولوازمها أولا فعلي
الأول فالميزان في صحة أعماله وعدمها ما أوضحناه سابقا وعلى الثاني فان رجع إلى
الغير، فإن كان رجوعه إلى الغير الحي بالاستناد إلى قول الميت الذي كان يقول
بوجوب الرجوع إلى الحي، بتوهم جواز تقليده في مسألة الرجوع، كان الكلام في
صحة أعمالها وعدمها ما قدمناه وان تذكر بعدم جواز تقليده في مسألة الرجوع إلي
الحي، لأنه أيضا تقليد الميت أو تحير فيه ولكنه رجع إلى الحي الذي كان يقول
بوجوب البقاء فلا شك في أنه يجب عليه البقاء على رأى الأول في سائر المسائل الفرعية
واما هذه المسألة الأصولية التي كان يقول الميت بوجوب الرجوع إلى الحي ويقول
الحي بوجوب البقاء فلا يجوز له البقاء على رأى الميت لأنه قلد في هذه المسألة المجتهد
الحي ومعه كيف يجوز له البقاء في هذه المسألة، إذ التقليد فرع التحير وهو بالرجوع
فيها إلي الحي ارتفع عنه التحير بل لا يجوز للمفتي الافتاء له بالبقاء في خصوص
المسألة، لكون الميت مخطئا عنده فيها، فليس بشاك حتى يستصحب من عند نفسه
واما اجراء الاستصحاب من ناحية مقلده فهو أيضا غير شاك بعد رجوعه في هذه
المسألة إلى الحي وهو امارة أو بمنزلة الامارة وبعد قيامها عنده لا معنى للاستصحاب
ويمكن ان يقال، لا يجوز له اجراء الاستصحاب من ناحية العامي حتى مع قطع النظر
عن قيام الامارة عند العامي، فان ما يختص بالمجتهد، انما هو تشخيص مجارى الأصول
واما نفس الاحكام، أصولية كانت أو فرعية، فإنما هي أمور مشتركة بين العالم
والجاهل فإذا عرضه الشك الصالح للاستصحاب فإنما يستصحب الحكم المشترك
بين العباد و (ح) فلو فرضنا ان الحي يخطئ الميت في مسألة عدم جواز البقاء، ويرى
جواز البقاء، أو وجوبه، ويختل أركان الاستصحاب وهو الشك في الحكم المشترك
بين العباد، إذ مع قيام الدليل على خلاف قول الميت يرتفع الشك من رأس.
208

تكميل
وبالتدبر فيما حررناه يظهر حال مسألة أخرى وهى انه لو قلد مجتهدا في الفروع
ثم مات وقلد مجتهدا آخر يرى لزوم الرجوع إلى المجتهد الحي وبطلان البقاء ثم
مات وقلد ثالثا يقول بلزوم البقاء وحرمة العدول إلى الحي فيما تحقق التقليد فهل
عليه العمل على طبق آراء المجتهد الأول، أو يجب عليه تطبيق عمله على آراء
المجتهد الثاني.
التحقيق هو الأول لقيام الامارة الفعلية أعني فتوى المجتهد الثالث على
بطلان عدوله عن الأول إلى الثاني وان حكم الله في حقه في الماضي والمستقبل هو لزوم
البقاء، على رأى من قلده في بدء الامر، وحرمة العدول عنه.
وتوهم جواز البقاء على آراء المجتهد الثاني، بتجويز الثالث، البقاء فيما
تحقق التقليد مدفوع بان الثالث الحي يخطى الثاني في رأيه بلزوم الرجوع إلى الحي
تخطئة هذه بمنزلة الامارة الفعلية بالنسبة إلى العامي فيجب عليه ان يتبع ما يقوله الحي
في هذه المسألة الأصولية، وما قوله الا بطلان العدول عن الأول إلى الثاني
في الزمان الماضي.
كلام لشيخنا العلامة
ثم إن شيخنا العلامة بعدما نقل في المقام ما قدمناه عن الشيخ الأعظم في صدر البحث
أفاد في المقام ما هذا تلخيصه مأخوذا من تقرير بحثه من أن لازم البقاء في هذه المسألة
على رأى المفتى الثاني، هو عدم البقاء في باقي المسائل، نظير حجية قول السيد في
الخبر الواحد، من حيث إن لازم شمول الأدلة لقوله، خروج الباقي، وبعدما فرق بين
المقامين من أنه لا يلزم في المقام التخصيص المستهجن واللغز والمعمى لعدم عموم
صادر من المعصوم فيه، بخلاف باب حجية الخبر الواحد أفاد ما هذا ملخصه.
المحقق في المقام فتوا آن لا يمكن الاخذ بكليهما لان المجتهد بعدما نزل
209

نفسه منزلة المقلد في كونه شاكا رأى هنا طائفتين من الاحكام ثابتتين للمقلد
إحديهما فتوى الميت في الفروع وثانيتهما الفتوى في الأصول الناظر إلى الفتاوى
في الفروع والمسقط لها عن الحجية فيرى ان أركان الاستصحاب فيهما تامة، وعندئذ
لا محيص عن الاخذ بالفتوى الأصولية فإنه لو أريد في الفرعية استصحاب الأحكام الواقعية
فالشك في اللاحق موجود دون اليقين السابق اما الوجداني فواضح واما
التعبدي فلإرتفاعه بموت المفتى فصار كالشك الساري، وان أريد استصحاب الحكم
الظاهري، الجائي من قبل دليل اتباع الميت، فان أريد استصحابه مقيدا بفتوى
الميت، فالاستصحاب في الأصولية حاكم عليه، لأن الشك في الفروعية مسبب عن الشك
فيها وان أريد استصحاب ذات الحكم الظاهري وجعل كونه مقول قول الميت جهة
تعليلية، فاحتمال ثبوته اما بسبب سابق فقد سد بابه الاستصحاب الحاكم أو بسبب
لاحق وهو مقطوع العدم إذ مفروض الكلام صورة مخالفة فتوى الميت للحي، نعم
يحتمل بقاء الحكم الواقعي، لكن لا يكفي ذلك في الاستصحاب، لأنه مع الحكم
الظاهري في رتبتين وموضوعين فلا يكون أحدهما بقاء الآخر لكن يجرى استصحاب
الكلى بناءا على جريانه في القسم الثالث، وان أريد استصحاب حجية الفتاوى
الفرعية فاستصحاب الحجية في الأصولية حاكم عليه لان شكه مسبب عنه، لأن عدم
حجية تلك الفتاوى اثر لحجية هذه، وليس الأصل مثبتا لان هذا من الآثار الثابتة لذات
الحجة الأعم من الظاهرية والواقعية.
ثم إنه - أعلى الله مقامه - رجع أخيرا عن جريان الاستصحاب الأصولية بتقريب
ان مقتضى جريانه الاخذ بخلاف مدلوله، ومثله غير مشمول لأدلة الاستصحاب فان
مقتضى الاخذ باستصحاب هذا الفتوى سقوط فتاويه عن الحجية ومقتضى سقوطها
الرجوع إلى الحي وهو يفتي بوجوب البقاء فالأخذ بالاستصحاب في الأصولية التي
مفادها عدم الاخذ بفتاواه في الفرعيات، لازمه الاخذ في الفرعيات بها، وهذا باطل
وإن كان اللزوم لأجل الرجوع إلى الحي لا لكون مفاد الاستصحاب ذلك إذ لا فرق
في الفساد بين الاحتمالين هذا مضافا إلي ان المسؤول عنه في الفرعيات المسألة الأصولية
210

أعني الذي هو المرجع فيها، فلا ينافي مخالفة الحي للميت في نفس الفروع مع افتائه
بالبقاء في المسألة الأصولية، واما الفتوى الأصولية فنفسها مسؤول عنها ويكون
الحي هو المرجع فيها وفى هذه المسألة لا معنى للاستصحاب بعد ان يرى الحي
خطأ الميت فلا حالة سابقة حتى تستصحب " انتهى "
وفيما افاده - رحمه الله - مواقع للنظر نشير إلى مهماتها:
منها: ان عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الواقعية ليس لأجل عدم اليقين
السابق بكلا شقيه (الوجداني والتعبدي) بل هو غير جار وان فرض وجود اليقين السابق
لتقوم الاستصحاب، بأمرين، باليقين السابق، والشك في الشئ شكا في البقاء، وليس
الشك في المقام شكا في بقائه، لأن الشك في بقاء الاحكام الكلية الواقعية انما يتصور
إذا كان الشك مسببا عن احتمال النسخ واحتمال فقدان الشرط أو احتمال وجدان
المانع، وليس المقام من هذا القبيل كما هو واضح وانما الشك فيه ممحض في حجية
الفتوى وجواز العمل بها نعم لو قلنا بالسببية والتصويب كان الشك في البقاء لتطرق
أحد الاحتمالات المتقدمة لكنه باطل عندنا.
منها: ان ما ذكره من منع استصحاب الاحكام الفرعية لأجل حكومة
الاستصحاب في الأصولية عليها، ممنوع، لأن الشك في بقاء الاحكام الفرعية
ليس مسببا عن الشك في الأصولية، بل كلاهما مسببان عن أمر ثالث وهو الشك في
اعتبار الحياة في المفتى وعدمه، فالمجتهد إذا قام مقام المقلد كما هو المفروض
يكون شكه في جواز العمل على فتاوى الميت في الأصول والفروع ناشيا من الشك
في اعتبار الحياة في المفتى وجواز العمل في كل منهما مضاد للاخر إذ مقتضى جواز
كل عدم جواز الآخر.
لا يقال: إن مقتضي ارجاع الحي المقلد إلى الميت كون شكه في الأصولية
سببا وفى الفروعية مسببا لأنا نقول: هذا خلاف المفروض، إذ المفروض انه بعد
لم يقلد فيها عن الحي والا فلا يبقى له فيها شك.
أضف إلى ذلك ان مجرد كون الشك في إحدى الفتوائين مسببا عن الأخرى،
211

لا يوجب حكومة الأصل الجاري في ناحية السبب على الجاري في المسبب وقد أوضحنا
حاله في خاتمة الاستصحاب، ومجمل ما قلناه هناك: انه لا تعارض بين السببي والمسببي
لاختلاف موضوعهما وانهما فردان عرضيان لقوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك ومعه
لا وجه لحكومة أحدهما على الآخر، نعم الأصل الجاري في ناحية المسبب ينقح
موضوع الدليل الاجتهادي فالحاكم انما هو الدليل الاجتهادي الذي نقح موضوعه
الأصل السببي، دون الأصل السببي، مثلا إذا غسل الثوب النجس بماء مشكوك الكرية
وضم ما هو أمر وجداني بما هو مفاد الاستصحاب يصير المحصل: هذا الثوب النجس قد غسل
بماء محكوم بالكرية شرعا ويصير هذا المحصل صغرى لكبري شرعية وهو ان كل
متنجس قد غسل بماء الكر فهو طاهر، وهذه الكبرى الشرعية حاكمة على الأصل
الجاري في ناحية المسبب أعني أصالة بقاء النجاسة في الثوب.
والحاصل: ان مفاد الأصل المسببي هو ان هذا الثوب المشكوك طهارته و
نجاسته، محكوم بالنجاسة ولسان الدليل الاجتهادي حاكم على هذا الأصل حسب
ما قرر في محله، وتوهم كفاية الأصل السببي في المقام من دون احتياج إلى الدليل
الاجتهادي، بتقريب ان معنى التعبد ببقاء الكرية شرعا هو ترتيب آثارها الشرعية
التي منها طهارة الثوب مدفوع: بان مقتضى الاستصحاب انما هو عدم جواز نقض
اليقين بالشك، أعني الحكم ببقاء الكربة فقط واما ترتيب الآثار فإنما هو بالدليل
الاجتهادي دون نفس الاستصحاب، واما ما يدور في الألسن، من أن مفاد الاستصحاب في
الاحكام انما هو ابقائها واما في الموضوعات فإنما هو ترتيب آثارها، مما لا سند له،
بل مقتضى الاستصحاب في كلا الموردين أمر واحد وهو الحكم ببقاء ما تعلق به
اليقين، موضوعا كان أو حكما، واما ترتيب الأثر بعد احراز بقاء الموضوع بالأصل
فإنما هو على عاتق الدليل الاجتهادي، والشاهد عليه انما هو اتحاد دليل الاستصحاب
في الموردين فكما ان معنى الاستصحاب في الاحكام انما هو بقاء ذواتها، فكذلك
في الموضوعات نعم لو لم يكن الموضوع المستصحب مصداقا للكبرى الشرعية
الاجتهادية، لما صح استصحابه، ولا التعبد ببقائه.
212

أضف إلى ذلك انا لو سلمنا ان معنى استصحاب الكرية انما هو طهارة الثوب،
من دون احتياج إلى الدليل الاجتهادي، لكنه لا يستلزم تقدم الأصل السببي على
المسببي، فكما ان معنى بقاء الكرية والبناء عليها هو طهارة الثوب المغسول
به، فهكذا مفاد الاستصحاب في ناحية المسبب انما هو الحكم ببقاء النجاسة في
الثوب المغسول، وليس الغرض من استصحاب بقاء النجاسة فيه سلب الكرية عن الماء
حتى يقال إنه مثبت بل الحكم ببقائها فيه فقط، وتوهم انه لا يمكن التفكيك بين
كرية الماء وطهارته، وعدم كريته ونجاسته، غير صحيح جدا، فان التفكيك بين
اللازم والملزوم في الاحكام الظاهرية جايز واقع فراجع هذا خلاصة ما حررناه
هناك وعليك بالمراجعة إلى محله تفصيلا.
وبذلك يتضح لك صحة ما قلناه من عدم حكومة الأصل الجاري في المسألة
الأصولية على الجاري في ناحية الفروع لعدم دخول المجرى في الأصولية تحت دليل
اجتهادي حاكم على الأصل المسببي، ومجرد كون مفاده في الأصولية عدم جواز
العمل بفتاوى الميت عند الشك لا يوجب تقدمه على ما مفاده جواز العمل بفتاواه
لديه إذ كلاهما مسببان عن أمر ثالث تقدم بيانه.
وبذلك يظهر النظر أيضا في إحدى شقوق كلامه أعني قوله: من حكومة
استصحاب الحجية في المسألة الأصولية علي استصحابها في الفروع، لكون الشك
سببيا، (وجه النظر) مضافا إلى ما أوضحناه في محله من عدم جريان استصحاب الحجية
لا الشرعية ولا العقلائية منها ان الشك في كليهما مسببان عن أمر ثالث كما أوضحناه
وبالجملة فهذا الشق مشترك مع الشق المتقدم بيانا واشكالا فلاحظ.
منها: ان ما افاده من منع جريان استصحاب الحكم الظاهري إذا جعل كونه
مقول الميت جهة تعليلية، لأجل ان احتمال ثبوته بسبب سابق فقد سد بابه الاستصحاب
الحاكم إلي آخره غير صحيح وان قلنا في الفرض المتقدم بتقدم الأصل السببي
على المسببي فان نفى المسبب بنفي سببه من أوضح مصاديق الأصول المثبتة، وإن كان
السبب شرعيا، لان ترتيب المسبب على سببه من الأحكام العقلية، مطلقا سواء
213

كان المسبب شرعيا أو تكوينيا، نعم لو كان الترتيب مثل المسبب أيضا شرعيا
كان لما ذكره مجال كما في قوله: العصير العنبي إذا غلي أو نش يحرم ولكنه غير
موجود في المقام.
منها: ما ذكره من جريان استصحاب الكلى الجامع بين الحكم الظاهري
والواقعي بناءا على جريانه في القسم الثالث، إذ فيه مضافا إلى أن الجامع في الأحكام الشرعية
أمر انتزاعي غير مجعول شرعا، أولا ان الحكم الواقعي غير مشكوك البقاء
على ما عرفت منا توضيحه، فان الشك في بقائه انما فيما إذا كان الشك ناشئا من
احتمال النسخ أو فقدان الشرط أو وجدان المانع، والاحتمالات الثلاثة غير موجودة
في المقام وثانيا: انه إذا قلنا بتقدم الأصل السببي على المسببي، يسقط الحكم الظاهري
لما اعترف - رحمه الله - من حكومة الأصل الجاري في ناحية المسألة الأصولية على
الفرعية، ومع لا علم بالأحكام الظاهرية، فعلى القول بالحكومة، يسقط الحكم
الظاهري، وبسقوطه لا دليل فعلا على ثبوت الحكم الواقعي، لسراية الشك إلى السابق
ومعه لا علم بالجامع فعلا، فاستصحاب الكلي انما يجرى إذا علم بالجامع فعلا وشك
في بقائه وهو غير نظير المقام الذي إذا انعدم أحد الفردين ينعدم الآخر من الأول
أو ينعدم الدليل على ثبوته من الأول فتدبر.
منها: ان ما اختاره في آخر كلامه من عدم جريان الاستصحاب في الأصولية
فان مقتضى جريانه الاخذ بخلاف مدلوله، فان مقتضى الاخذ باستصحاب هذا الفتوى
سقوط فتاواه عن الحجية، ومقتضى سقوطها الرجوع إلى الحي إلى آخر كلامه فان
مقتضى الاستصحاب وإن كان سقوط حجية فتاواه الفرعية الا ان الرجوع إلى الغير
ليس أمرا لازما له، لامكان العمل بالاحتياط بعد سقوطها عن الحجية، وان شئت
قلت: ان سقوط الفتاوى عن الحجية أمر، والرجوع إلى الغير أمر آخر غير ملازم
معه، وسقوطها عن الحجية وان جاء من قبل الاستصحاب، الا ان الرجوع إلى الغير،
ليس من لوازمه وشئونه، نعم لو رجع إلى الغير، وكان فتوى الغير لزوم البقاء علي
رأى الميت، يلزم منه، حجية فتاواه السابقة، فاتصافها بالحجية، بعد سقوطها عنها
214

ليس من جانب الاستصحاب، بل لأجل الرجوع إلى الغير، وهو - رحمه الله - وان أشار
إلى ما ذكرنا لكنه لم يجب عنه بجواب مقنع فلاحظ.
وتوهم ان دليل الاستصحاب منصرف عن هذا المورد، منقوض بالأصل المسببي
والأصلين المتعارضين، لان اجراء الاستصحاب لغاية السقوط أسوء حالا من
المقام، لما عرفت ان الاخذ بالفتاوى الفرعية الساقطة عن الحجية بالأصل الجاري
في المسألة الأصولية، انما هو لأجل دليل آخر، مثله أو أقوى منه.
على أن الاشكال في الموارد الثلاثة انما يتجه إذا كان الدليل خاصا، واردا
لبيان مورد من تلك الموارد، واما إذا كان الدليل، اطلاق الكبرى الواردة في باب
الاستصحاب، فلا مجال لما ذكر من التوهم، وكم فرق بين تعرض الدليل لخصوص
المورد وبين شموله له باطلاقه
منها: ان ما افاده من سقوط الاستصحاب في الأصولية لكون الحي هو المرجع
فيها، وفي هذه المسألة لا معني للاستصحاب بعد ان يرى الحي خطأ الميت، مدفوع
بما افاده - رحمه الله - في صدر البحث، فان ما ذكره انما يصح لو كان المستصحب
هو المجتهد وأراد اجراء الاستصحاب لنفسه، ولكنه غير مفروض البحث، فان
المستصحب انما هو العامي دون المفتى، وهو بعد شاك وقد صرح بذلك في صدر
البحث وقال إن في المقام فتوا آن لا يمكن الاخذ بكليهما لان المجتهد لما نزل
نفسه منزلة المقلد في كونه شاكا إلى آخره وبالجملة ان المجتهد نزل نفسه منزلة
العامي في الشك في الواقعة.
215

القول في تبدل الاجتهاد
لو اضمحل الاجتهاد السابق وتبدل إلى اجتهاد آخر، يخالفه فهل يحتاج
إلي الإعادة أو القضاء أو لا فتارة: يقع الكلام في عمل نفس المجتهد واخرى في
عمل مقلديه، اما الكلام في عمل نفسه فالأقوى ما اخترناه في باب الاجزاء من التفصيل
بين الامارات والأصول بالاجزاء في الثاني دون الأول وقد أطلنا الكلام في توضيحه
وتفصيله في الجزء الأول عند البحث عن مسألة الاجزاء فلا حاجة إلى التكرار
بالإعادة (1) وقد قام سيدنا الأستاذ - دام ظله - بالبحث عن هذا التفصيل هنا في
كلتا الدورتين غير انا أسقطنا هذه المباحث عند الطبع لما أوضحناه في محله روما
للاختصار والاقتصاد.
واما الكلام في عمل مقلديه فهل يمكن اجراء هذا التفصيل فيه، بالاجزاء
فيما إذا كان مدرك مجتهده الأصول، وعدمه فيما إذا كان دليل حكمه الامارات،
بتقريب ان وظيفة المجتهد تعيين وظائف العباد مطلقا، واقعا وظاهرا، فكما ان
العمل بالوظائف الظاهرية يفيد الاجزاء بالنسبة إلى عمل نفسه، لحكومتها على
الأدلة، فكذلك بالنسبة إلى عمل مقلديه، بلا تفاوت.
غير أن الأقوى عدم الاجزاء في حق المقلد مطلقا، سواء استند مقلده
(بالفتح) إلى الأصول أم إلى الامارات فان مدرك العامي في الحكم الذي طبق عمله
علي وفقه، انما هو رأى مرجعه وحكمه، وهو امارة إلى تكاليفه الشرعية وقد أوضحنا
في مسألة الاجزاء، ان قيام الحجة علي تخلف الامارة لا يوجب الاجزاء.
وان شئت قلت: ان مدرك حكمه، ليست الأصول الحكمية من البراءة و
الاستصحاب والامارات والروايات الواردة في حكم المسألة، إذ هي متوجهة إلى الشاك

(1) راجع الجزء الأول
216

والعامي ليس بشاك ولا بمتيقن فلا معنى لتوجه تلك الخطابات إليه إذ هي تقصد
من تفحص عن موارد البيان، ويئس عن وروده والعامي ليس كذلك، ومعه كيف يشمله
أدلة الأصول فلا يجرى في حقه الأصول حتى تحرز مصداق المأمور به، وكون الدليل
عند المجتهد، في موارد الشك هي الأصول الجارية لا يوجب ركون المقلد إليها،
بل انما هي يركن إلى رأي المجتهد للبناء العملي والارتكاز الفطري من غير
توجه إلى مدركه.
والحاصل ان رجوع العقلاء إلى أهل الخبرة انما هو لأجل الغاء احتمال الخلاف كما
هو شأن العمل بالامارات وقد أمضاه الشارع على هذا النعت، فاضمحلال الاجتهاد
السابق عند المقلد يصير بمنزلة تخلف الامارة وتبين خطأه عند المجتهد، فكما لا يوجب
ذات الاجزاء، فهكذا المقدم.
وكيف يمكن ان يشمل أدلة الأصول العامي وتكون مستند عمله، مع أن العامي
ليس بشاك ولا بفاحص ولا بآيس عن البيان، كما هو الحال في المجتهد.
لا يقال: لو كان المقلد خارجا عن مصب أدلة الأصول فلماذا يفتى المجتهد
بمضمونها ويقول للمقلد اعمل بنتائجها مع أنها أحكام مترتبة على الشاك، ولا يتعدى
إلى غيره والمقلد ليس بشاك ولا بمتيقن، فكما لا يجوز للمجتهد الذي تم عنده البيان
العمل بالأصول باعتبار انه ليس بشاك، فهكذا لا يجوز للمقلد العمل بنتائجها
لخروجه عن الموضوع. وتوهم ان الخطاب عام، والمجتهد نائب عنه في فهم الخطاب
وبيانه، مدفوع مضافا إلى أنه لا يرجع إلى معنى محصل، بأنه يستلزم الاجزاء وهو
خلاف المطلوب.
لأنا تقول: بان الخطاب وإن كان خاصا للشاك الا ان المجتهد إذا كان متيقنا
بحكم الله تعالى الكلى المشترك بين جميع العباد، ثم شك في نسخه، فما هو المشكوك
ليس هو الحكم الاختصاصي بل حكم الله المشترك بين عباده، و (عليه) فما هو المستصحب
انما هو ذاك الحكم المشترك. الغير المختص، فيجوز له ان يطبق عمله على وقفه وان
يفتى بمضمونه، لكون ما أدرك انما هو حكم الله المشترك وما استصحبه، حكم كلي راجع
217

إلى جميع العباد، ومعه كيف لا يجوز له ان يفتى بمضمونه، فكما يجوز إذا قامت
الامارة على حكم الله المشترك، الافتاء بمضمونه، من دون غمض، فكذا إذا استصحب
حكم الله المشترك أو دلت الأصول على عدم فعلية ذلك الحكم المشترك، وإذا افتى
لا مناص للمقلد الا بالأخذ به، للفطرة المرتكزة من رجوع الجاهل إلى العالم.
وقد بان بما أوضحناه ان مقتضى القاعدة الاجزاء بالنسبة إلى نفس القاعدة
دون مقلديه إذا استند إلى الأصول لكون مستنده، الأصول الحاكمة على الواقع دون
مقلديه فهم مستندون إلى الامارة أعني رأى الغير وادراكه.
فههنا نجعجع بالقلم عن الإفاضة، حامدين شاكرين لله عز وجل وقد بقى
أبحاث طفيفة، لم يتعرض لها سيدنا الأستاذ - دام ظله - وقد لاح بدر تمام تلك الرسالة
وبتمامها تمت الدورة الأصولية في منتصف شهر شعبان المعظم من شهور عام الف
وثلاثمائة وسبعين (1370) في مدينة قم، عاصمة العلم والدين، عند جواز الحضرة
الفاطمية سلام الله عليها، ثم أعدنا النظر عليه ثانيا في الدورة الأخيرة وأضفنا إليه ما افاده
سيدنا الأستاذ - دام ظله - في تلك الدورة وذلك في مختتم عام الف وثلاثمائة وسبعة وسبعين
وتم تأليفها وتبييضها وتهذيبها بيد مؤلفه محمد جعفر السبحاني التبريزي في اليوم
الثالث من شهر شعبان يوم ميلاد الامام الطاهر السبط عليه السلام في عام 1382
والحمد لله وآخرا وظاهرا وباطنا
شكر وثناء عاطر
نقدم ثنائي العاطر إلى الفاضلين الجليلين: الحاج الشيخ أبى القاسم شمس اللهي
التويسركاني والميرزا حسين الإسحاقي القمي فقد بذلا مجهودهما في تصحيحه
فشكرا لهما ثم شكرا. المؤلف
218