الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الروحاني
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٢
المطبعة: قدس
الناشر: مدرسة الإمام الصادق (ع)
ردمك:
ملاحظات:

زبدة الأصول
تأليف
المحقق الفذ آية الله العظمى
السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
مد ظله
الجزء الأول
1

الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
نشر: مدرسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: قدس
الطبعة: الأولى، ربيع الأول 1412
الكمية: 1000 نسخه
السعر: 200 تومان
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على ما أولانا من رد الفروع إلى الأصول، والتفقه في الدين وتهذيب
مباني الأحكام الشرعية بالبحث في المسائل الأصولية، واستخراج زبدتها وأفضل صلواته
وأكمل تحياته على صاحب الشريعة الخالدة الكفيلة باسعاد المجتمع ومعالجة مشاكله
وعلى آله العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه، سيما بقية الله في الأرضين، الامام الثاني
عشر، الامام المهدى أرواح من سواه فداه.
وبعد فهذه زبدة الأصول جادت بها الفاكرة في خلال القاء المحاضرات
في المسائل الأصولية على جماعة من الأفاضل في خمس دورات، وكنت أدون ما ألقيه
فلما تم تأليف الكتاب رأيت الأولى اخراجه إلى عالم الظهور.
وحيث انه من النواميس المطردة اهداء المؤلفات إلى كبير من أكابر الدهر ولا أجد
أكبر من الامام المهدى روحي فداه، فلذلك ارفع بكلتا يدي. هدى هذا الكتاب إلى رفيع
قدس الامام، موقنا انى لست ممن يقوى على اتفاق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية
غير انى أقول سيدي بما ان هذا الذي بين يدي مسائل يستنبط منها الأحكام الشرعية
المأثورة عنك وعن ابائك الطاهرين، فمن على بقبول هذه البضاعة المزجاة وثبتها في
ديوان الحسنات، ليكون ذخرا لي يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.
وقد رتبت كتابي هذا على مقدمة، ومقاصد، وخاتمة.
3

اما المقدمة، ففي بيان أمور
الأول: في ثبوت المبادئ الأحكامية لعلم الأصول وعدمه.
لا كلام في أنه لكل علم، مسائل، ومبادي تصورية، وتصديقية.
اما المسائل: فهي قضايا متشتة جمعها اشتراكها في غرض خاص.
واما المبادئ فهي قسمان: قسم راجع إلى حدود تلك القضايا بأطرافها،
وهي المبادئ التصورية، وقسم يتوقف عليه التصديق ثبوت محمولات تلك القضايا لموضوعاتها، وهي المبادئ التصديقية.
وأفاد المحقق النائيني (ره) ان لعلم الأصول قسما ثالثا من المبادئ، وهي المبادئ
الأحكامية وهي ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية من التكليفية والوضعية
بأقسامها، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام من كونها متضادة، وكون الأحكام الوضعية
متأصلة في الجعل أو منتزعة عن التكليف وغير ذلك من حالات الحكم. قال
ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي
وواقع في طريق استنباطه.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) بان المبادئ الأحكامية ليست قسيما للتصورية
والتصديقية، بل المبادئ التصورية تارة لغوية وأخرى أحكامية، وكذا المبادئ التصديقية.
فالبحث عن المعاني الحرفية والخبر والانشاء والحقيقية والمجاز وأشباهها
من المبادئ التصورية اللغوية يعرف بها مفاد الهيئات النسبية الانشائية، ومعنى حقيقتها
5

ومجازها والبحث عن حقيقة الحكم بما هو، وعن التكليفي والوضعي، والمطلق
والمشروط، وغير ذلك من تقسيمات الحكم من المبادئ التصورية الأحكامية. والبحث
عن ثبوت الحقيقة الشرعية، والصحيح والأعم من المبادئ التصديقية اللغوية بها يصح
حمل الصلاة مثلا على معناها المتداول شرعا، وبها يحكم باجمال اللفظ على الصحيح،
فلا موقع للاطلاق، أو بالبيان الذي معه مجال له على الأعم. والبحث عن امكان اجتماع
الحكمين وامتناعه من المبادئ التصديقية الأحكامية - فيحكم بناءا على الامكان بعدم
التعارض بين الدليلين المتكفلين للحكمين، وعلى الامتناع بالتعارض - ولا باس به.
وكيف كان فجملة من المسائل المدونة في الأصول من قبيل المبادئ بأقسامها،
وانما نتعرض لها من جهة عدم التعرض لها في علوم اخر ودخالتها مع الواسطة
في الاستنباط.
لزوم الموضوع للعلم وعدمه:
الثاني: في لزوم الموضوع للعلم وعدمه. صرح اعلام الفن، بلزوم الموضوع للعلم،
ولذلك صرح المحقق الخراساني (ره) بأنه " ربما لا يكون لموضوع العلم وهو الكلى المتحد
مع موضوعات المسائل عنوان خاص واسم مخصوص " كما في علم الأصول، ومحصل
ما ذكروه في وجه ذلك: ان الغرض المترتب على كل علم بما انه امر واحد، مثلا الغرض
في المقال، وهكذا ساير العلوم، وهذا الغرض الواحد يترتب على مجموع القضايا
والمسائل المتشتة والمختلفة موضوعا ومحمولا. وقد برهن في محله " ان الواحد لا يصدر
الا عن الواحد "، فلا بد وأن يكون المؤثر فيه هو الجامع الذاتي الوحداني، وأيضا لابد وأن يكون
ذاك هو الجامع بين موضوعات المسائل لا الجامع بين المحمولات، لتقدم
الموضوع على المحمول، وكونه من آثار ذلك الموضوع، ويكون ذلك الجامع الوحداني
هو موضوع العلم. وان شئت قلت إنه لا بد من رجوع الموضوعات إلى موضوع جامع.
6

ويرد عليه: أولا ان ذلك الغرض الوحداني اما، يكون واحدا شخصيا، أو يكون
واحدا نوعيا، وعلى التقديرين لا تكشف وحدة الغرض عن وجود الجامع، اما على الأول
فلانه يترتب على مجموع القضايا، وكل مسألة تكون جزءا من المؤثر، والمؤثر
هو المجموع من حيث هو، ويكون سببية المجموع سببية واحدة شخصية، والاستناد إليه
استناد معلول واحد إلى علة واحدة شخصية لا إلى علل عديدة.
واما على الثاني، فلان الغرض يكون كليا ذا افراد يترتب كل فرد منه على واحدة
من المسائل. مثلا يترتب على مسألة حجية خبر الواحد، الاقتدار على استنباط جملة
من المسائل، وهو غير الاقتدار على استنباط المسائل المترتب على مسألة استلزام الامر
بالشئ للنهي عن ضده، وهما غير ما يترتب على مسألة حجية الاستصحاب. اللهم الا ان
يقال: ان الغرض الكلى إذا كان واحدا نوعيا حقيقا، وذلك الواحد بالذات الجامع بين
افراده لا بد وأن يكون له سنخية مع علته، والسنخية تستدعى وحدة العلة لوحدة المعلول،
نعم إذا كان الغرض واحدا بالعنوان كما اختاره المحقق الأصفهاني (ره) يتم هذا الجواب.
وثانيا ان المؤثر في الغرض ليس هو القضايا بوجوداتها النفس الامرية وإلا لزم
حصول الغرض لكل شخص كان عنده كتاب يشتمل على تلك القضايا، بل المؤثر فيه انما
هو العلم بتلك القضايا وثبوت محمولاتها لموضوعاتها، فلابد من تصوير الجامع بين العلوم
إذ القضايا حينئذ من قبيل الشروط، ولم يدع أحد لزوم وحدة الشروط مع فرض وحدة
المعلول، وعلى فرض التنزيل لا بد من فرض جامع بين النسب الخاصة لا الموضوعات.
وثالثا ان موضوعات مسائل علم الفقه لا يمكن تصوير جامع حقيقي بينها، إذ بعض
منها امر وجودي، والاخر امر عدمي، كترك الاكل في الصوم، وبعضها من الجواهر
كالبول والمنى، وبعضها من قبيل الكيف المسموع كالقراءة، وبعضها من قبيل مقولة
الوضع كالركوع. وقد برهن في محله: انه لا يتصور الجامع بين المعقولات العشر فضلا
عن الوجود والعدم، فالمتحصل مما ذكرناه: انه لا ملزم لتصوير الجامع بين موضوعات
المسائل ليكون هو موضوع العلم.
7

لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه
الثالث: في لزوم البحث عن العوارض الذاتية لموضوع العلم وعدمه. قد طفحت
كلمات القوم وأهل الفن بان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، مع أنهم
صرحوا بان العارض للشئ بواسطة امر أخص عارض غريب لا ذاتي. فيشكل حينئذ
بان أغلب محمولات العلوم، عارضة لأنواع موضوعاتها، فتكون اعراضا غريبة بالنسبة إلى
موضوع العلم. وقبل الشروع في ما ذكره الأصحاب في التفصي عن هذه العويصة، وبيان
ما هو الحق عندنا لابد من تقديم مقدمة وهي ان العوارض جمع العارض، لا العرض، فان
جمعه الاعراض، وهو المحمول على الشئ الخارج عنه، فيشمل العرض، المقابل
في باب الكليات بالذاتي، وهو ما يتألف منه الشئ كالجنس والفصل، وغيره، كما يشمل
الذاتي باصطلاح الحكماء وما يقابله، وهما، المحمول بالضميمة، أي ما لا يحمل على
الشئ الا بعد ضم شئ آخر إليه كالعالم، حيث إنه لا يحمل على الذات الا بعد ضم العلم
إليه، وخارج المحمول، أي ما يكون خارجا حقيقة الشئ، المحمول عليه بعد
ملاحظة نفس الذات، وان لم ينضم إليه شئ آخر.
ثم إن أول من صرح بهذا الكلام، أي موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية، بما انه من الحكماء، وتبعة غيره منهم، وكان لا ينطبق ذلك على اصطلاحهم
في الذاتي، إذا غلب المحمولات بالنسبة إلى الموضوعات تكون من المحمولات
بالضميمة، ففسره أهل المعقول، بما فسره به صاحب الكفاية بقوله: " أي بلا واسطة
في العروض ". والمراد به كون العارض عارضا له حقيقة، سواء كان بلا واسطة في الثبوت
كادراك الكليات العارضة للنفس الناطقة، أو مع الواسطة في الثبوت كالحرارة العارضة
للماء بواسطة النار، والضابط هو ان لا يكون نسبة العرض إلى الشئ بالعناية والمسامحة،
من قبيل وصف الشئ بحال متعلقه من غير فرق بين كونها حلية كالحركة العارضة
لجالس الفسينة؟؟ بواسطتها، أو خفية كالبياض المنتسب إلى الجسم، فان المعروض له حقيقة
8

هو السطح، وبذلك يظهر ان تعريف العارض الذاتي، بما يعرض الشئ لذاته
أو لجزئه المساوي وهو الفصل، والعارض الغريب بما يعرضه، بواسطة الجزء الأعم، أو امر
خارجي سواء كان أخص أو أعم أو المساوي، تام.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه تفصى الأصحاب عن هذه العويصة بوجوه، ولهم فيه
مذاهب:
الأول: ما افاده صدر المحققين، وأوضحه الحكيم السبزواري، واليه نظر المحقق
الخراساني في الكفاية وهو ان اخذ لا بشرط فعوارض أنواعه ذاتية له، وان اخذ
بشرط لا فعوارض أنواعه غريبة عنه، مثلا لو اخذ الحيوان لا بشرط يكون التعجب عارضا
ذاتيا له، وان اخذ بشرط لا يكون غريبا عنه، وعلل بان الجنس ان اخذ لا بشرط يكون نفس
الأنواع ومتحدا معها، فالعوارض لأنواعه عوارض له بلا واسطة. وعلى ذلك فان اخذ
موضوع العلم لا بشرط تكون محمولات المسائل عوارض ذاتية له، وفيه، ان كون
" عوارض الأنواع عوارض غريبة للجنس " مبنى على اللابشرطية، فاخذ الجنس لا بشرط
يصحح الحمل، إذ لو اخذ بشرط لا يكون مباينا لمعروض ذلك العارض، والمباينة منافية
للحمل، وموجبة لعدم صحته، فان اخذ الجنس لا بشرط، صح الحمل وكان العارض
غريبا عنه. ذاتيا، إذ لو كان من عوارضه الذاتية لزم كونه عارضا له في ضمن أي نوع تحقق
ولو غير ذلك النوع، وحيث انه بديهي البطلان فيستكشف من ذلك أنه انما يعرضه بالعناية
والمسامحة، وان كان بنظر العرف منسوبا إليه بالحقيقة، مع أنه لا يرتفع التهافت بين
كلمات القوم بذلك، فإنهم صرحوا بان العارض بواسطة امر أخص عارض غريب، مع أنه
من الواضح ان مرادهم هو صورة اخذه لا بشرط. وبما ذكره ظهر ضعف ما نسب إلى
المحقق الرشتي (ره): من أن الملاك في كون العارض ذاتيا كون الواسطة وذي الواسطة
متحدين في الوجود حتى يكون العارض عارضا لكليهما. ولذا التزم بكون عوارض النوع
عوارض ذاتية للجنس، ولم يبال بمخالفة القوم، قائلا: ان الاشتباه من غير المعصوم (ع) غير
عزيز
الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) في تعليقته: وهو ان موضوع كل علم
9

متحيث بحيثية خاصة، ولا يبحث في العلم عن الجميع أحواله، مثلا، موضوع علم الفقه ليس
هو فعل المكلف من حيث هو ولا يبحث فيه عن جميع ما يعرض له ككونه مخلوقا لله
تعالى أو الناس مثلا أو غير ذلك، بل يبحث فيه عن فعل المكلف من حيث الاقتضاء
والتخيير، وكذا، موضوع علم النحو ليس هو الكلمة والكلام بما هما، بل من حيث
الاعراب والبناء، وكذا ساير العلوم. والحيثيات المذكورة ليست عبارة عن الحيثيات
اللاحقة لموضوعات المسائل أي الحيثيات الفعلية ككون الكلمة معربة أو مبنية، لان اخذ
مبدء المحمول في الموضوع مستلزم لعروض الشئ لنفسه، بل المراد الحيثيات السابقة،
أي الحيثيات الاستعدادية، ككون الكلمة مثلا مستعدة لعروض الاعراب أو البناء عليها،
فهذه الحيثيات المتقدمة عناوين منتزعة من موضوعات المسائل، فالكلمة من حيث
الفاعلية مستعدة لعروض الرفع عليها، وفعل المكلف من حيث إنه الصلاة مستعدة
لعروض الوجوب عليه، وهكذا وحيث إن الامر الانتزاعي لا وجود له، ولا تحمل عليه
المحمولات، وانما هي تحمل على مناشئ انتزاعه، فليس موضوع العلم كليا متخصصا في
مراتب تنزله بخصوصيات تكون واسطة في عروض اللواحق له، بل هي تحمل على
المعنونات بلا توسط شئ في اللحوق والصدق.
وفيه: انه ان كان مراده ان الموضوع هو الامر الانتزاعي بما انه مشير إلى
موضوعات المسائل ومرآة إليها ومعرف لها ولا نظر إليه أصلا، فهو في الحقيقة انكار
لوجود الموضوع، وان كان مراده اخذ الامر الانتزاعي بما هو موضوعا، فلا ريب في أن
عوارض منشأ انتزاعه عوارض غريبة له، وبعبارة أخرى حاله أسوء من الكلى الحقيقي
الجامع بين موضوعات المسائل، حيث إن الكلى متحد في الوجود مع افراده، بخلاف
الامر الانتزاعي الذي لا موطن له الا الذهن، ولا يكون متحدا مع منشأ انتزاعه، فإذا كان
عوارض الفرد عوارض غريبة للكلي فعوارض منشأ الانتزاع أولى بان تكون عوارض
غريبة للامر الانتزاعي.
واما ما أورده الأستاذ الأعظم: من أن اقتضاء الموضوع لحمل المحمول عليه،
لا يكون الا في الفقه، بناءا على مذهب العدلية القائلين بتبعية الاحكام للمصالح
10

والمفاسد، والا فلا يتم ذلك في ساير العلوم، إذ الكلمة مثلا من حيث الفاعلية غير مقتضية
لعروض الرفع عليها، ولا اقتضاء فيها للحوقه، بل انما هو قانون مجعول.
فغير تام إذ مراده من الحيثيات، هي الحيثيات الاستعدادية، أي استعداد الموضوع
وقابليته لعروض المحمول عليه، وهذه الحيثيات عناوين انتزاعية لموضوعات المسائل،
مثلا الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء عنوان انتزاعي من الفاعل والمفعول
وغيرهما. ومرجع ذلك إلى دعوى ان موضوع علم النحو مثلا هو الكلمة من حيث
الفاعلية والمفعولية وما شاكل ذلك، وليس في كلامه (قده) من الاقتضاء بالمعنى الذي هو
أساس الايراد عين ولا اثر.
الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (ره) -، وتوضيحه يبتنى على بيان مقدمات:
1 - ان موضوع العلم ليس هو الذات بما هو، بل مقيدا بحيثية خاصة، مثلا موضوع
علم النحو، ليس هي الكمة من حيث هي، بل من حيث لحوق الاعراب والبناء لها، كما أن
موضوعات المسائل، ليست هي الذوات، بل مقيدة بحيثيات خاصة، مثلا الموضوع في
" كل فاعل مرفوع "، انما هو الفاعل من حيث قابلية عروض الرفع عليه وتكون الفاعلية علة
لعروض الرفع عليه، قال: وهذه الحيثية من الأمور الاعتبارية، مراده انها من الأمور
الانتزاعية.
2 - ان المراد بهذه الحيثية في الموردين، هي الحيثية السابقة التي بها يستحق
الاعراب الفعلي، لا الحيثية اللاحقة الاعرابية، حتى يقال: ان الكلمة المعربة يستحيل
عروض الاعراب عليها.
3 - ان الأمور الانتزاعية والاعتبارية، ليست من قبيل الجواهر التي تنحل
في الخارج إلى جزئين: مادة وصورة، ولذا قد تنعدم الصورة وتبقى المادة المشتركة
متصورة بصورة أخرى، ولا من قبيل الاعراض المنحلة بتعمل من العقل إلى جزئين، وان
كانت في الخارج بسيطه، بل هي من سنخ الوجود الذي هو بسيط من جميع الجهات،
ويكون ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.
إذا عرفت هذه الأمور، تبين لك ان موضوع العلم انما يكون منطبقا على
11

موضوعات المسائل بنحو العينية، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع
مسألة أخرى، هو عين ما به يشتركان، فيكون عوارض موضوعات المسائل عوارض ذاتية
لموضوع العلم.
ويتوجه عليه، ان خصوصيات موضوعات المسائل المنوعة، أو المصنفة لها
الموجبة لصيرورتها أنواعا أو أصنافا، تكون دخيله في الموضوع، لا انها حيثيات تعليلية،
مثلا الموضوع في قولنا، " كل فاعل مرفوع "، هو الفاعل بما هو فاعل، وفي قولنا، " الصلاة
واجبة " هي الصلاة بما هي صلاة وهكذا... وعليه فان ادعى ان موضوع العلم هي نفس تلك
الحيثية الانتزاعية بما انها تشير إلى موضوعات المسائل، فمرجع ذلك إلى انكار وجود
الموضوع، وان ادعى ان الموضوع هي نفس تلك الحيثية بما هي، فتكون المحمولات
عوارض غريبة لها، لكونها تعرضها بواسطة موضوعات المسائل التي غير ذلك الامر
الانتزاعي، وان ادعى ان الموضوع هو الكلى الجامع بين موضوعات المسائل مقيدا
بالحيثية المذكورة، فيعود المحذور، ويضاف إليه ان المقيد بالامر الانتزاعي لا يكون من
البسائط.
وبما ذكرناه ظهر ان ما افاده بعض الأساطين (ره) في دفع العويصة، من أن
خصوصيات موضوعات المسائل، جهات تعليلية لترتب المحمولات على الذات - مثلا
الرفع والنصب وغيرهما من العوارض، انما تعرض ذات الكلمة لا على أنواع خاصة،
فان الفاعلية والمفعولية وغيرهما من الخصوصيات المنوعة، جهات تعليلية لعروض
العوارض المزبورة على الذات، نظير المجاورة للنار بالنسبة إلى حرارة الماء، وعلى ذلك
فليس موضوع العلم الأعين موضوعات المسائل، وليست بالنسبة إليه من قبيل الأنواع إلى
جنسها.
غير تام، إذ الخصوصيات دخيلة في الموضوع، وتكون جهات تقييدية في عروض
العوارض. وذلك في المسائل الفقهية واضح فان الصلاة بما هي صلاة، واجبة لا بما هي
فعل المكلف الجامع بينها وبين شرب الخمر. واما في غيرها، فلان المحمول في قولنا:
" الفاعل مرفوع " مثلا، انما هو جعل الرفع له، ومن البديهي، ان الجاعل انما جعل لكل
12

نوع حركة خاصة ليمتاز كل من الأنواع الاخر. فتحصل ان شيئا مما قيل في دفع هذه
العويصة لا يفيد.
فالحق هو الالتزام بالاشكال، وتعيين رفع اليد عن أحد المبنيين، والبناء اما على أنه
لا يلزم ان يكون المحمولات عوارض آتية لموضوع العلم، كما هو الصحيح، إذ لو ترتب
غرض على البحث عن العوارض الغريبة لموضوعات المسائل، فضلا عن موضوع العلم،
صح تدوين علم خاص، وقد التزم به الأستاذ الأعظم أو ان العارض بواسطة امر أخص
كالنوع، لا يكون عارضا غريبا للأعم كالجنس.
وبما ذكرناه تندفع الشبهة الناشئة من أعمية موضوعات مسائل علم الأصول عن
موضوع العلم.
ما به تمايز العلوم
الرابع: فيما به تمايز العلوم قال المحقق الخراساني: وقد انقدح بما ذكرناه، ان تمايز العلوم،
انما هو باختلاف الاغراض الداعية إلى التدوين انتهى. وأورد عليه: بأنه لم يذكر ما يظهر
منه ذلك، ولكنه ناش عن عدم التدبر في كلماته.
فإنه ذكر أولا: ان موضوع العلم، هو الجامع بين موضوعات المسائل، وأقام
البرهان عليه، بان موضوع العلم، ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية، وحيث إن ما يبحث فيه
عن عوارضه الذاتية، هو موضوعات المسائل، فيكون موضوع العلم هو موضوعات
المسائل، و محمولاتها لواحقه، ونتيجة ذلك، كون العلم عبارة عن جملة مسائل جمعها
المدون و سماه باسم واحد.
ثم ذكر: ان الذي أوجب جمع المسائل المتشتة وجعلها واحدا اعتباريا،
هو اشتراكها في الدخل في الغرض، الذي لأجله دون هذا العلم، فيكون نتيجة ذلك كله، ان
تمايز العلوم انما يكون باختلاف الاغراض الداعية إلى التدوين.
ولكن يرد على ما اختاره في ما به تمايز في مقابل المشهور القائلين، بان
13

تمايز العلوم انما يكون بتمايز الموضوعات، وهو ان تمايز العلوم انما يكون بتمايز
الاغراض التي دونت العلوم لأجلها، أمور:
الأول: انه يرد عليه ما أورده هو (قده) على المشهور، من أنه يلزم ان يكون كل
باب بل كل مسألة علما على حدة، إذ يترتب على كل مسألة غرض خاص غير الغرض
المترتب على مسألة أخرى، مثلا الغرض في علم الأصول: الاقتدار على الاستنباط،
وبديهي ان المترتبة على مسألة حجية خبر الواحد، غير القدرة المترتبة على مسألة
حجية الاستصحاب.
الثاني: انه ربما لا يترتب على علم غرض خاص كالفلسفة العالية.
الثالث: انه على مسلكه (قده)، من أنه يستكشف عن وحدة الغرض وحدة
الموضوع، جامع بين موضوعات المسائل المؤثرة؟ في ذلك الغرض، لا وجه للعدول
عن ما اختاره المشهور، إذ مع وجود المائز في المرتبة السابقة على الغرض لا وجه لجعله
مائزا.
واما ما أورده المحقق النائيني عليه: ان العلوم المدونة ربما لا يترتب عليها
الاغراض المذكورة، فلا يمكن ان يكون التمايز بها.
فغريب إذ ليس المراد من الاغراض هو الوجودات الخارجية بل الاقتدار عليها،
مثلا الغرض من علم النحو ليس صيانة المقال عن الألحان بل القدرة عليها.
وحق القول في المقام، انه لا ريب في أن كل مسألة من أي علم كانت لها واقع
محفوظ ومتحققة في نفس الامر مع قطع النظر عن العلم والجهل، كان المحمول فيها
من الأمور الحقيقية، أم كان من الأمور الاعتبارية كالوجوب، وتميز كل مسألة عن غيرها،
تارة يكون بالموضوع، وأخرى بالمحمول، وثالثة بكليهما، كما لا ريب في أن هذه
المسائل المتشتة المتحققة في نفس الامر، يشترك كل طائفة منها في امر واقعي مع قطع
النظر عن تدوين العلم، وذلك الامر ربما يكون هو الجامع بين موضوعات المسائل،
وربما يكون هو الجامع بين المحمولات، وثالثا يكون هو الغرض المترتب على المجموع
الجامع بين الاغراض الخاصة المترتبة على المسائل، وذلك الجامع أيضا يختلف سعة
14

وضيقا، مثلا يترتب على مسائل باب الفاعل، غرض واحد في قبال بال المفعول. ويترتب
على مسائل باب المرفوعات، غرض وحداني أوسع من ذلك الغرض. ويترتب على
مسائل النحو غرض أوسع. وهكذا... هذا حال المسائل قبل التدوين واما بعد التدوين
وجعل كل طائفة من تلك المسائل علما مستقلا، فيتوجه السؤال عن ما به تمايز العلوم وانه
بماذا يتمايز كل علم عن غيره.
وفي هذا المقام أقول ان التمايز تارة يكون المراد منه التمايز في مقام التعليم
والتعلم لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه وان أيتها داخلة في هذا
العلم، وأيتها خارجة عنه، وأخرى يراد به التمايز في مقام التدوين، وانه ماذا يكون داعيا
وباعثا لاختيار المدون عدة من القضايا المتشتة المتخالفة وتدوينها علما واحدا وتسميتها
باسم واحد؟
اما التمايز في المقام الأول، وبالنسبة إلى الجاهل المتعلم، فتارة يكون بالموضوع
ولو مقيدا بحيثية خاصة، كما يقال: ان موضوع علم النحو، الكلمة والكلام من حيث
الاعراب والبناء، والمراد بالحيثية المذكورة، حيثية استعداد ذات الموضوع لورود
المحمول عليه. وعليه، فدعوى: " ان ذلك يرجع إلى التمييز بالمحمولات " ناشئة عن عدم
مراجعة كلمات أهل المعقول. وأخرى يكون بالمحمول، كما يقال في تعريف علم الفقه:
بأنه العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية. وثالثة يكون بالغرض، كما ترى من
تعريف المنطق بأنه: قانون آلي يقي رعايته عن خطأ الفكر وهذا غايته. ورابعة يكون بذكر
فهرست المسائل اجمالا.
واما في المقام الثاني وبالنسبة إلى المدون، فمناط اعتبار الوحدة لعدة مسائل متشتة
وجعلها علما واحدا، ليس هو وحدة الموضوع، أو المحمول، أو الغرض، لأنه، وان كان
لها جامع حقيقي، وهو تارة يكون بالموضوع، وأخرى بالمحمول ثالثة بالغرض المترتب
عليها، الا ان ذلك الجامع يختلف سعة وضيقا كما مر تفصيله. بل المناط: هو غرض
المصنف الشخصي، مثلا تارة يتعلق غرضه بتدوين علم يترتب عليه غرض خاص كعلم
المنطق، وأخرى يتعلق بتدوين ما يعرف فيه أحوال الانسان من تمام جهاته، وثالثة يتعلق
15

بتدوين ما يعرف به ما يعرضه الحركة والسكون، وهكذا... وهذا هو المصحح لهذا
الاعتبار، كما هو واضح بعد التدبر في ما ذكرناه.
موضوع علم الأصول
الخامس: في موضوع علم الأصول. مما ذكرناه ظهر انه لا موضوع لهذا العلم، ولكن
لو تنزلنا عن ذلك، وسلمنا ان له موضوعا، فيقع الكلام في بيان ما هو الموضوع.
ربما يقال: ان موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها. واختار هذا القول، المحقق
القمي، ونسب إلى كثير من الأصحاب، بل قيل: انه المشهور بينهم.
وأورد عليه: بان لازم ذلك، خروج أكثر المسائل الأصولية عن علم الأصول،
وكونها من مباديه، كمباحث الحجج والامارات، ومباحث الاستلزامات العقلية،
والأصول العملية، وغير ذلك من المباحث لان البحث في مباحث الحجج والامارات
بأسرها عن الدليلية فهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية، فتدخل في
مباديه، والبحث في الاستلزامات العقلية بحث عن أحوال الاحكام بما هي احكام، لا عن
عوارض الأدلة بما هي أدلة، ولا بما هي هي - فتدخل في المبادئ الأحكامية، وبذلك يظهر
خروج الأصول العملية.
ولذلك عدل صاحب الفصول عن هذا المسلك، واختار ان الموضوع ذوات الأدلة
بما هي، وعليه فالبحث عن دليليتها، بحث عن عوارض الموضوع لاعن ثبوته، ولكن يرد
عليه: ان البحث في حجية خبر الواحد، وساير الامارات على هذا خارج عن علم الأصول.
فان المراد من السنة ان كان نفس قول المعصوم، أو فعله، أو تقريره، كما هو كذلك،
فالبحث عن حجية الخبر بحث عن عوارض الحاكي للدليل لا عن عوارضه، وأيضا، يلزم
خروج مبحث التعادل والترجيح، وما شا كله من المباحث والاستلزامات العقلية عنه.
ولذلك التجأ الشيخ الأعظم إلى ارجاع البحث عن حجية الخبر الواحد إلى البحث
عن أحوال السنة، وقال: فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة، أعني قول الحجة، أو فعله، أو
16

تقريره، هل تثبت بخير الواحد أم لا تثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة، ومن هنا
يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة. انتهى.
وأورد عليه المحقق الخراساني بقوله: فان البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو
مفاد كان التامة، ليس بحثا عن عوارضه، فإنها مفاد كان الناقصة، لا يقال: هذا في الثبوت
الواقعي، واما الثبوت التعبدي كما هو المهم في هذه المباحث، فهو في الحقيقة يكون
مفاد كان الناقصة. فإنه يقال نعم، لكنه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فان
الثبوت التعبدي، يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، وهذا من
عوارضه لا عوارضها. انتهى.
وقد ذكر لا رجاع البحث عن ثبوت السنة بالخبر، بالثبوت التعبدي، إلى البحث عن
عوارض السنة، انتصارا للشيخ الأعظم، وجهان:
أحدهما: ما في تعليقة المحقق الأصفهاني على الكفاية، وحاصله: ان حجية الخبر،
عبارة عن تنزيله منزلة السنة، فهو وجود تنزيلي لها، وهذا المعنى كماله مساس بالخبر
كذلك له مساس بالسنة، فان حاصل البحث، اثبات وجود تنزيلي للسنة، وبهذا الاعتبار
يقال بثبوت السنة تعبدا.
وفيه أولا: انه قد حققناه في محله، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب، انه
لا تنزيل في باب الحجج، بل جعل الحجية، عبارة عن جعل الحكم المماثل، أو تتميم
الكشف، فلا يكون مؤدى الخبر، منزلا منزلة الواقع.
فان قلت: ان جعل الكاشفية للخبر، يلازم جعل المنكشفية للسنة، وصيرورتها
محكية، يرجع البحث إلى البحث عن عوارض السنة، قلت. ان غرض الأصولي متعلق
بالجهة الأولى، واما الجهة الثانية فلا يبحث عنه الأصولي، وانما هي لازمة لما يبحث عن
ثبوته، وهو كاشفية الخبر.
الثاني: ان حجية الخبر، عبارة عن تنجز السنة بالخبر، فالبحث عن حجية الخبر،
بحث عن عوارض السنة. وفيه مضافا إلى ما حقق في محله، من عدم معقولية جعل
المنجزية، وسيأتي مفصلا في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي: ان المجعول
17

هو المنجزية للخبر لا المتنجزية للسنة، وان كانت هي لازمة لما هو المجعول، فهو اشكالا
وجوابا، كالثبوت التعبدي.
فايراد المحقق الخراساني على الشيخ الأعظم متين لا يمكن الجواب عنه،
فهذا الوجه أيضا لا يتم.
ولذلك عدل صاحب الكفاية عن مسلك المشهور، والتزم بان موضوع علم
الأصول، عبارة عن جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله. وقد مر ما في ذلك مفصلا.
فعلى فرض لزوم البناء على وجود الموضوع، فالحق أين يقال: انه الجامع الانتزاعي من
مجموع مسائله، كعنوان ما يقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط، وتعيين الوظيفة في
مقام العمل.
تعريف علم الأصول
السادس، في تعريف علم الأصول، المعروف بين الأصحاب، تعريف علم الأصول،
بأنه هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي. وقال في الكفاية: الأولى تعريفه،
بأنه صناعة، يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام، أو التي ينتهى إليه في مقام العمل. انتهى.
ووجه الأولوية أمور، عمدتها اثنان:
أحدهما: خلوه من ذكر العلم، وهو متين، إذ الأصول ليس هن العلم بالقواعد
الخاصة، بل هو الفن والصناعة، وهي نفس المسائل التي يتعلق بها العلم تارة، والجهل
أخرى، واما العلم بتلك القواعد، فهو العلم بالأصول، لا علم الأصول.
الثاني: إضافة قيد: " أو التي ينتهى إليها في مقام العمل " ليدخل مسألة حجية الظن
على الحكومة، ومسائل الأصول العملية في علم الأصول.
توضيح ذلك: انه (ره) في أول مسألة البراءة، صرح: بان الأصول العملية لا تقع
في طريق استنباط الاحكام، لأنها وظائف مجعولة للجاهل بعد الفحص واليأس عن الظفر
18

بالدليل على الحكم الشرعي. واما حجية الظن على الحكومة في حال الانسداد، فالمراد
بها، التبعيض في الاحتياط، والاكتفاء في مقام الامتثال بالامتثال الظني كما حققناه في
محله، فلو اقتصر في التعريف، على ما اشتهر، لزم خروج هذه المسائل عن الأصول، وهو
بلا وجه. وهذا هو الوجه لإضافة هذا القيد، وعدم الاقتصار على تعريف المشهور.
لا ما افاده المحقق الأصفهاني (ره): من أن الأصول العملية على قسمين:، الأول:
الأصول الشرعية، والثاني: الأصول العقلية، والأصول الشرعية بأنفسها احكام شرعية،
لا انها واسطة في استنباطها، والأصول العقلية، لا تنتهي إلى حكم شرعي ابدا، والظن
الانسدادي لا ينتهى إلى حكم شرعي، بل ظن به ابدا. ثم انه (قده) اسرى هذا الاشكال إلى
جل المسائل الأصولية، بدعوى ان المجهول في الامارات غير العلمية سندا كخبر الواحد،
اما احكام مماثلة لما أخبر به العادل، أو منجزيتها للواقع، وعلى الأول، تكون نتيجة
البحث عن حجيتها، حكما شرعيا، وعلى الثاني، لا ينتهى إلى حكم شرعي، وكذلك
في الامارات غير العلمية دلالة كالظواهر، بل يتعين فيها الثاني، لان دليل حجيتها بناء
العقلاء، ولا معنى للالتزام بان هناك حكما من العقلاء مماثلا لما دل عليه ظاهر اللفظ
حتى يكون امضاء الشارع أيضا كذلك. ثم ادخل مباحث الألفاظ في ذلك من جهة ان
نتائجها لا تقع في طريق الاستنباط الا بتوسط حجية الظواهر التي عرفت حالها.
ثم بعد ذلك تصحيحا لتعريف المشهور بنحو لا يرد عليه هذا الايراد قال: ان
حقيقة الاستنباط ليست، الا تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، وهذا المعنى كما ينطبق
على حجية الامارات، لأنها بأي معنى كانت دخيلة في إقامة الحجة على حكم العمل في
الفقه، كذلك ينطبق على حجية الأصول العملية، وعليه فعلم الأصول، ما يبحث فيه
عن القواعد الممهدة لتحصيل الحجة على الحكم الشرعي من دون لزوم التعميم.
أقول: اما ما ذكره في تعريف الاستنباط، فهو مما لا يساعده اللغة، ولا الاصطلاح.
واما الجواب عن أصل الاشكال بحيث يتم ما ذكره المشهور، ويندفع ما أورد عليه،
فيتوقف على بيان مقدمات:
الأولى: ان المراد من الأحكام الشرعية، انما هي الاحكام الكلية القابلة للالقاء إلى
19

المقلدين، ويكون تطبيقها على مصاديقها بيد المقلدين لا المجتهدين، فلا تشمل الاحكام
الجزئية، كحرمة الخمر المعينة الخارجية، ولا الاحكام الكلية التي يكون امر تطبيقها
بيد المجتهد ولا يقدر المقلد على ذلك، وليس هو وظيفته.
الثانية: ان المراد بها، أعم من الاحكام الظاهرية والواقعية.
الثالثة: ان المراد من القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، ما يمكن ان يقع في
طريق الاستنباط لا الواقعة في ذلك الطريق على كل تقدير، وبعبارة أخرى، المراد بها،
المسائل التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط في الجملة وعلى بعض التقادير، ولا يعتبر
وقوع النتيجة على جميع التقادير في طريق الاستنباط، مثلا مسألة حجية الخبر الواحد
مسألة تقع نتيجتها في طريق الاستنباط على تقدير القول بالحجية، ولا تقع في ذلك الطريق
على فرض القول بعدم الحجية.
إذا عرفت ذلك فاعلم: ان الامارات غير العلمية تقع في طريق الاستنباط بمعنى انه
لو انضم إلى نتيجة البحث فيها صغرياتها، تكون النتيجة حكما كليا فرعيا، سواء قلنا: بان
المجعول فيها، الطريقية، أو الحكم المماثل، اما على الأول فواضح، واما على الثاني فلان
نتيجة البحث فيها وان كان حكما شرعيا الا ان حكم غير قابل للالقاء إلى المقلدين، بل
امر تطبيقها على صغرياتها بيد المجتهد، وهذا بخلاف الحكم المستخرج منها، بعد ضم
الصغرى إليها، فإنه بكونه حكما كليا قابلا للالقاء إلى المقلدين. وبهذا ظهر حال الأصول
العميلة الشرعية كالاستصحاب، فإنها وان كانت بأنفسها أحكاما الا انها لا يصح القائها إلى
المقلدين، نعم بينهما فرق، وهو ان الحكم ظاهري، وهذا لا يوجب الفرق فيما هو
ضابط كون المسألة أصولية.
واما الأصول العقلية، فهي بأنفسها ليست من المسائل، ولم تعنون في الأصول،
مثلا في الأصول لا يبحث عن قبح العقاب بلا بيان، بل هي قاعدة مسلمة عند الجميع، وهي
مسألة كلامية، والمخالف فيها انما هو الأشعري، كما لا يبحث فيها عن وجوب دفع الضرر
المحتمل، واستحالة الترجيح بلا مرجح، والتكليف بما لا يطاق، وانما تكون هذه، قواعد
20

مسلمة عند الكل، بل في الأصول، في مسألة البراءة، انما يبحث عن انه يجب التوقف
الاحتياط في الشبهة التحريمية لاخبار الاحتياط والتوقف، أم لا دليل على وجوبه؟
واختار الأول الأخباريون، وذهب الأصوليون إلى الثاني، وحيث انه على تقدير ثبوت
دلالة الاخبار على وجوب الاحتياط تقع النتيجة في طريق الاستنباط، لأنه إذا انضم إليها،
ان شرب التتن محتمل الحرمة، يستنج حكم فرعى كلي، وهو عدم جواز شرب التتن،
فتكون المسألة أصولية، وان كان على تقدير العدم والدخول في قاعدة: " قبح العقاب
بلا بيان " لا يستنبط حكم أصلا، كما عرفت في المقدمة الثالثة، كما أنه في مبحث الاشتغال،
انما يبحث عن شمول أدلة البراءة، كحديث الرفع وغيره، لأطراف العلم الاجمالي
والشبهات قبل الفحص، أم لا، وعلى تقدير العدم يرجع إلى قاعدة وجوب دفع الضرر
المحتمل فيما يمكن الموافقة والمخالفة، واستحالة الترجيح بلا مرجح فيما لا يمكن،
وحيث انه على تقدير الشمول، يستنبط من ضم الصغرى إلى نتيجة المسألة حكم فرعى
كلي، فتكون المسألة أصولية.
وقد يقال: انه على ما ذكرت تكون، قاعدة الطهارة لا ضرر، وقاعدة
ما يضمن بصحيحه بفساده من المسائل الأصولية: فان يستنتج من الجميع احكام
فرعية كلية، مثلا يستنتج من الأولى طهارة الحديد، ومن الثانية عدم لزوم البيع الغبني،
ومن الثالثة ان البيع الفاسد يضمن به.
أقول: اما قاعدة الطهارة، فهي وان انطبقت عليها تعريف مسائل الأصول الا ان
وجه عدم عدها من المسائل، أمران:
الأول: اتفاق الكل عليها، ولم يخالف فيها أحد كي تعنون وينازع فيها، والذي
يدلنا على أن هذا هو وجه عدم التعرض لها، الغائهم لجملة من المباحث الأصولية وعدم
تعرضهم لها كمسألة حجية القياس، ولذا تكون مذكورة في عداد المسائل في كتب
القدماء.
الثاني: ان المسائل الأصولية بالتتبع والاستقراء، هي ما يفيد في جميع أبواب الفقه
أو أكثرها، وليست قاعدة الطهارة كذلك.
21

واما قاعدة لا ضرر فقد حققناه في محله، وسيأتي في الجزء الثالث من هذا الكتاب،
ان الضرر المنفى هو الضرر الشخصي، لا النوعي، وعليه فلا يستنج منها حكم كلي، وانما
يستنتج منها احكام جزئية شخصية، ولذلك ذكرنا في محله: انه لا يمكن اثبات خيار الغبن
بحديث لا ضرر.
ومنه: يظهر ما في قاعدة: " ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده " لما حقق في محله، من أن
المراد بها، انه كل عقد شخصي خارجي ان كان صحيحا، يضمن به، فكذلك على
تقدير الفساد.
العلقة الوضعية ليست من الأمور الواقعية
السابع في الوضع، والكلام فيه في جهات: (1) ان العلقة الوضعية التي تكون بين
اللفظ والمعنى، ولا جلها
يدل اللفظ على المعنى، هل هي ذاتية، أم جعلية محضة، أم
تكون وسطا بينهما؟ (2) انه على فرض كون العلقة جعلية، ماذا يكون مجعولا؟ (3) في
اقسام الوضع امكانا، وأقسامه وقوعا.
اما الجهة الأولى، فقد يقال: انها ذاتية، بمعنى انها من الأمور التكوينية الواقعية،
ولكنه فاسد، لان الأمور الواقعية على قسمين،: الأول الموجودات الخارجية، الثاني،
الأمورات النفس الامرية التي يكون الخارج ظرفا لا نفسها لا لوجوداتها، أي لا وجود
خارجي لها، ومع ذلك لا تكون فرضية واعتبارية كالملازمات، واستحالة اجتماع
النقيضين، فإنها أمورات واقعية ومع ذلك لا وجود لها. والقسم الأول ينقسم إلى الجوهر
والعرض، اما عدم كون الوضع من الجواهر، فلان الجوهر هو الموجود لا في الموضوع،
والوضع ليس له وجود خارجي، وعلى فرضه، يكون وجوده بوجود المرتبطين. واما
عدم كونه من الاعراض، فلان هذه العلقة قائمة بطبيعي اللفظ والمعنى لا بوجودهما، ولذا
يصح الوضع للمعدوم بل المستحيل، واما عدم كونه من الأمورات النفس الامرية، فلان
المراد بكونه منها، ان كان كونه من المدركات العقلية، نظير الملازمة بين طلوع الشمس
22

والنهار، فهو بديهي الفساد. إذ لا ريب في أنه مع الجهل باللغة لا ينتقل الذهن إلى المعنى
من تصوير اللفظ. وان كان المراد، ثبوت المناسبة الذاتية بين كل لفظ ومعناه، وان كانت
تلك المناسبة بنحو لا يلتفت إليها الواضع حين الوضع، وهو وان لم يكن مستحيلا، الا انه
لابد من إقامة البرهان عليه، والاستدلال له: بأنه بما ان نسبة جميع الألفاظ إلى كل معنى
من المعاني على حد سواء فوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص من دون تلك المناسبة،
ترجيح بلا مرجح، وهو محال، فلابد من الالتزام بثبوتها، فاسد. لعدم استحالة الترجيح
بلا مرجح، كما حقق في محله، لا سيما إذا كان هناك مرجح لاختيار الطبيعي الجامع بين
الافراد، فإنه في هذه الصورة لا قبح فيه أيضا - وسيأتي الكلام في ذلك في مبحث الطلب
والإرادة - مع أن المرجح يمكن ان يكون أمرا خارجيا، كمن يسمى ولده (رضا) لكونه
متولدا في يوم تولد اما منا الرضا (ع) مثلا، مضافا إلى أن الالتزام بذلك، غير مربوط
بالمدعى، وهو كون العلقة أمرا واقعيا، واما يكون ذلك التزاما بان منشأها أمرا حقيقيا
فتحصل عدم كون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية محضة.
وقد يدعى كما عن المحقق النائيني (ره) بان الوضع وسط بين الواقعيات
والجعليات. وحاصل ما ذكره: انه بعد ما نقطع بحسب التواريخ انه ليس هناك شخص أو
جماعة وضعوا الألفاظ للمعاني، ونرى عدم كون الدلالة ذاتية، لا محيص عن الالتزام بان
الواضع هو الله تعالى ليس جعل لكل معنى لفظا خاصا لما بينهما مناسبة مجهولة عندنا،
وهذا الجعل منه تعالى ليس جعلا تكوينيا كحدوث العطش عند احتياج المعدة إلى الماء،
ولا جعل تشريعيا كجعل الاحكام المحتاج ايصالها إلى ارسال الرسل، بل يكون وسطا
بينهما، ويلهم الله تبارك وتعالى عباده على اختلافهم بالتكلم بلفظ مخصوص عند إرادة
معنى خاص، فحقيقة الوضع هو الوضع هو التخصيص والجعل الإلهي.
ويرد عليه - مضافا إلى أن لازم ما ذكره عدم كونه أمرا واقعيا بل جعلنا غاية الامر
طريق ايصاله غير طريق ايصال ساير المجعولات الشرعية وذلك لا يخرجه عن كونه
جعليا، هذا البرهان مؤلف من أمرين: الأول عدم امكان كون الواضع هو البشر:
لاستحالة احداث شخص أو أشخاص ألفاظ جديدة بقدر ألفاظ أي لغة، أو تعذره، بل
23

تصور المعاني أيضا الثاني: عدم تسجيل التاريخ ذلك، ولو كان الواضع شخصا أو أشخاصا
لا محالة كان مسجلا في التاريخ.
وفيهما نظر اما الأول، فلانه من الممكن أين يكون الواضع جماعة يضعون كل لفظ
خاص عند الاحتياج إلى ابراز المعاني المخصوصة في مدة من الزمن. ومما يؤكد ذلك،
ما نرى من وضع ألفاظ خاصة للمعاني الحادثة عند الابتلاء إلى ابزارها. واما الثاني، فلان
الوضع التدريجي بالنحو المتقدم، ليس من الأمور المهمة، والحوادث التاريخية، كي
يتصدى الناس لضبطه. فالمتحصل ان العلقة الوضعية ليست ذاتية ولا يكون لها منشأ ذاتي.
بيان حقيقة الوضع
واما الجهة الثانية، فقد ذهب كثير من المحققين، إلى أنها حقيقة اعتبارية، وذكروا
في كيفيتها أمورا: أحدها: ما افاده المحقق الأصفهاني، وحاصله: انه كما يكون للأسد مثلا
نحوان من الوجود: حقيقي وهو الحيوان المفترس، واعتباري وهو الرجل الشجاع كذلك
يكون للوضع نحوان من الوجود: الحقيقي كوضع العلم على رأس الفرسخ لينتقل
من النظر إليه، ان هذا رأس الفرسخ، والاعتباري، بمعنى ان الوضع يعتبر وضع لفظ خاص
على معنى مخصوص.
وفيه: انه في باب الوضع الحقيقي لا دلالة حقيقية، بل هي فيه أيضا تابعة للجعل
والبناء فباب الوضع الخارجي أجنبي عن باب الدلالة، وان كان قد يتصادقان في مورد
واحد كالمثال، كما أنه قد يتصادق الرفع والدلالة، كما لو بنى المولى على أنه كلما عطش
يرفع العمامة من رأسه فيكون الرفع دالا على حدوث العطش، وموجبا لانتقال الذهن
إليه، وعليه فحقيقة الوضع ليست اعتبار مفهوم الوضع على حد الوضع الخارجي، مع أنه
ينافي ذلك ما سيصرح به (ره) في مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى، من أن اللفظ
ليس علامة للمعنى بل يكون وجودا تنزيليا للمعنى، وعليه يبنى عدم جواز الاستعمال
المذكور.
24

وقد أورد عليه الأستاذ الأعظم تارة: بان هذا المعنى أجنبي عن أذهان الواضعين
لا سيما الأطفال وأمثالهم الذين يصدر منهم الوضع كثيرا فكيف يمكن صدور الوضع مع
كونه أمرا مغفولا عنه، وأخرى: بأنه في الوضع الحقيقي، المكان المخصوص موضوع
عليه، وكونه رأس الفرسخ، موضوعا له ومدلولا، وفي المقام الموضوع له والموضوع
عليه شئ واحد، وهو المعنى.
وفيها نظر، اما الأول، فلانه ان أراد بذلك ان الواضعين لا يتصورون الفرد الحقيقي،
ويكون حقيقة مغفولا عنها، فيرد عليه انه لا يعتبر في الاعتباريات تصور الفرد الحقيقي
والالتفات إليه حين اعتبار، الا ترى ان أهل القرى والصبيان في معاوضاتهم يعتبرون
الملكية مع أنه لا ينتقل أذهانهم إلى فردها الحقيقي الذي هو من الاعراض الخارجية
والمقولات الواقعية؟ وان أراد انهم لا يتصورون الاعتبار نفسه، فيرد عليه: انه ما الفرق بين
هذا الاعتبار وساير الاعتبارات كالملكية حيث إنهم يعرفونها ولا يعرفون هذا.
واما الثاني: فلانه لا يعتبر في الوضع الحقيقي كون المدلول والموضوع له
غير الموضوع عليه، بل قد يتحدان، وأخرى يتعددان. اما الأول، فكما في المثال، حيث إن
رأس الفرسخ الذي هو الموضوع له عنوان منطبق على نفس ذلك المكان، واما الثاني،
فكوضع العلم على باب البيت للدلالة على انعقاد مجلس خاص في البيت. وعليه فالمعنى
موضوع له وموضوع عليه في المقام، واستغراب اطلاق الموضوع عليه على المعنى، لعدم
شيوع هذا الاستعمال، لا لعدم كونه كذلك، فالصحيح في الايراد ما ذكرناه.
الثاني، اعتبار كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى. فيكون وجود اللفظ
وجودا للمعنى في عالم التنزيل. وفيه: ان نتيجة الوضع، الانتقال من اللفظ إلى المعنى
وكان المعنى هو الملقى إلى المخاطب ويحكم عليه بما يشاء، لا ترتيب آثار المعنى على
اللفظ كي يصح هذا التنزيل وان شئت قلت إن التنزيل الا دعائي انما يكون بلحاظ ترتيب
آثار المنزل عليه على المنزل ومن الواضح انه في باب الوضع ليس كذلك، إذ الواضع
لا يريد بالوضع ترتيب آثار المعنى على اللفظ.
فالتحقيق ان حقيقة الوضع، ليست الا ما اختاره جملة من أساطين المحققين، منهم
25

صاحب تشريح الأصول والاسناد الأعظم، وهو التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم
بتفهيم المعنى وابزاره، ويكون متعلق هذا الالتزام النفساني أمرا اختياريا، وهو المتكلم بلفظ
مخصوص عند إرادة ابراز معنى خاص، والارتباط لا حقيقة له، وانما ينتزع من ذلك.
وهذا المعنى، مضافا إلى كونه موافقا المعنى الوضع لغة، وهو الجعل والاقرار، مما يساعده
الوجدان والارتكاز وأورد عليه بايرادات:
الأول: ان حقيقة التعهد المزبور، هي الإرادة المقومة لتفهيم المعنى باللفظ،
وحيث انها إرادة مقدمية توصلية فلا يعقل ان تتعلق بما لا يكون مقدمة لتفهيم المعنى
الا بنفس هذه الإرادة.
وفيه: ان المراد بالتعهد المزبور، هو البناء الكلى على ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
المعنى به في مرحلة الاستعمال، عليه، فالتعهد المزبور، غير متوقف على كون اللفظ
مفهما فعلا، بل يتوقف على كونه لائقا ومستعدا في نفسه لذلك. وذلك الاستعداد،
لا يتوقف على التعهد، وما يتوقف على كونه مفهما فعلا، هي الإرادة الاستعمالية التي هي
غير هذه البناء الكلى.
الثاني: ما عن المحقق العراقي (ره) من أن التعهد المزبور، ان كان راجعا إلى النطق
باللفظ الخاص الذي هو مرآة للمعنى الخاص عند إرادة ذلك، فيرد عليه: ان ذلك يتوقف
على مرآتية اللفظ للمعنى في رتبة سابقة، وهي يتوقف على الوضع وبعده يكون التعهد
لغوا.
وفيه: ان التعهد المزبور لا يتوقف على المرآتية الفعلية، بل يتوقف على القابلية
لذلك، والمرآتية الفعلية، انما تتحقق بنفس هذا التعهد، وما يتوقف على المرآتية الفعلية
انما هو الاستعمال.
الثالث: ان التعهد لابد وان يتعلق بأمر اختياري، فالواضع متعهد لاستعمال نفسه
اللفظ المخصوص عند إرادة معنى خاص، واما استعمال غيره، فلا يكون مما تعهده
الواضع. وعليه، فالامر يدور بين الالتزام بان من وضع لفظا لمعنى خاص يكون بعد ذلك
كل فرد من الافراد المستعملين له فيه واضعا مستقلا، وبين يكون استعمال غيره مجازا
26

وبغير الوضع، وكلاهما كما ترى. فيستكشف من ذلك عدم تمامية ذلك.
وفيه: ان العقلاء لهم بناءات عديدة كلية فيما يتوقف رفع احتياجاتهم عليه،
كبنائهم على حجية الظواهر، واعتبارهم ملكية زيد لشئ خاص بعد شرائه له، وغير ذلك
من الموارد، والمراد من النباء في هذه الموارد، ليس انهم يشكلون مجلسا لذلك، بل هو
امر ارتكازي للجميع لا يتخطون عنده. ومن هذه الموارد الوضع. فان بناء العقلاء -
لاحتياجهم إلى ابراز مقاصدهم بالألفاظ - يكون على متابعة وضع من له الوضع في
هذا التعهد، وهم أيضا يتعهدون لذلك تبعا له، فكل فرد من الافراد يكون متعهدا، ولكن
يستند الوضع إلى الجاعل الأول، لسبقه، وصيرورة وضعه، داعيا لوضع غيره. ويترتب على
ما ذكرناه أمران:
أحدهما: ان كل مستعمل واضع حقيقة.
ثانيهما: ان العلقة الوضعية، مختصة بصورة خاصة، وهي ما إذا قصد المستعمل
تفيهم المعنى باللفظ، وما يرى من انتقال الذهن، من سماع اللفظ إلى المعنى وان صدر من
شخص بلا قصد التفهيم، أو عنه بلا شعور واختيار، بل وان صدر من اصطكاك حجر
بحجر، فهو لا ينافي ما ذكرناه، ولا يكون مستندا إلى العلقة الوضعية، بل هو من
جهة الانس الحاصل بكثرة الاستعمال أو بغيرها.
ثم إن العلقة تتحقق بالتصريح بانشائه، فيقول الوضع قد
وضعت اللفظ الفلاني للمعنى الفلاني، وباستعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما إذا وضع له،
بان يقصد الحكاية عنه، والدلالة عليه بنفسه، لا بالقرينة، ويسمى ذلك بقسميه بالوضع
التعييني، كذلك ربما تتحقق بكثرة استعمال اللفظ في المعنى من شخص واحد أو من
أشخاص متعددة، إلى أن يحصل به الاختصاص والارتباط الخاص، ويسمى
بالوضع التعيني.
وقد أورد على القسم الثاني من الوضع، التعييني: بان الوضع يستدعى لحاظ اللفظ
مستقلا، والاستعمال يستدعى لحاظه فانيا في المعنى. فالوضع بالاستعمال يلازم لحاظ
اللفظ بوجهين وبلحاظين في واحد شخصي محال.
27

ويرده ان الوضع سواء كان اعتباريا، أم كان هو الالتزام والتعهد النفساني، أم تنزيليا،
فهو يكون متحققا قبل الاستعمال، واستعمال في المعنى، أو التصريح به يكون مبرزا
لذلك، فدائما يكون الوضع قبل الاستعمال. مع أن المتكلم لابد وان يلاحظ اللفظ مستقلا
في مقام الاستعمال دائما كي يصح الاستعمال. وانما يلاحظه السامع المخاطب آلة. فان
حقيقة الاستعمال القاء اللفظ إلى المخاطب لينتقل ذهنه من اللفظ إلى المعنى، ويحمل
عليه المتكلم بما اراده. فاللاحظ آلة، هو المخاطب دون المتكلم. والمتكلم لابد وان
يلاحظ مستقلا، فيكون فعل المتكلم من قبيل جعل المرآة، وسماع المخاطب من قبيل
النظر إلى المرآة ليرى نفسه. ومن الوضح ان جاعل المرآة لا ينظر إليها آلة. فتدبر فإنه
دقيق.
أضف إلى ذلك، ان الوضع عبارة عن جعل اللفظ بحيث يكون حاكيا، والاستعمال
هو جعله حاكيا فعليا، وهو لازم لجعله بحيث يكون حاكيا، فكما انه في الانشائيات ربما
يجعل الشئ بنفسه، كجعل الوجوب والحرمة، وتمليك العين في الهبة، وربما يجعل
الشئ بجعل لازمه، كجعل العقاب على ترك الفعل، أو الاتيان به، وتسليط المتهب الذي
هو لازم التمليك، كذلك في الوضع، يمكن جعله مستقلا، ويمكن جعله بجعل لازمه وهو
جعل اللفظ حاكيا فعليا بالاستعمال.
وأيضا أورد عليه: بان الاستعمال يتوقف على كون اللفظ مفهما فعلا، وهو يتوقف
على الوضع، فإذا كان الوضع حاصلا بالاستعمال، كما هو المفروض، يلزم الدور. وفيه
ان كون اللفظ مفهما بلا قرينة يتوقف على الوضع، والاستعمال انما يتوقف على كونه
مفهما ولو مع القرينة فلا دور. فالوضع التعييني بقسميه خال عن الاشكال.
واما الوضع التعيني فان بلغ فيه الاستعمال إلى حد حصل الارتباط بين اللفظ
والمعنى، بحيث كان ينتقل الذهن إلى المعنى من سماعه ولكن لم يضع أحد ذلك اللفظ
لذلك المعنى، لم يتحقق الوضع لعدم التعهد، والاعتبار، والتنزيل. وان وضع أحد أو
جماعة، وأبرزه ولو بالاستعمال، فهو يرجع إلى الوضع التعييني.
وبالجملة ان الاستعمال وان ما بلغ، لا يؤثر بوجوده الخارجي في حصول
28

الوضع قهرا، ما لم يكشف عن جعل المستعمل والتزامه، ومعه يكون الوضع تعيينا، فلا
وضع تعيني لنا.
اقسام الواضع امكانا، ووقوعا
واما الجهة الثالثة، فالكلام فيها في موردين: الأول، في اقسام الوضع امكانا،
والثاني، في أقسامه وقوعا.
اما المورد الأول: فملخص القول فيه، ان الوضع سواء كان بمعنى التعهد أو
الاعتبار أو التنزيل يكون فعلا اختياريا للمواضع. فيتوقف تحققه على تصور اللفظ
والمعنى، وعليه فيقع الكلام في مقامين: أحدهما في المعنى، وثانيهما في ناحية اللفظ.
اما من ناحية المعنى، فالأنحاء المتصورة فيها أربعة: الأول: الوضع العام،
والموضوع له العام، والثاني: الوضع الخاص، والموضوع له الخاص، والثالث الوضع
العام، والموضوع له الخاص، والرابع الوضع الخاص، والموضوع له العام ولا اشكال،
ولا كلام في معقولية القسمين الأولين، بل ووقوعهما وانما الكلام في الأخيرين. وقبل
بيان ما هو المختار فيهما، ينبغي تقديم مقدمات.
الأولى: انه لا ريب في لزوم تصور ما يوضع له اللفظ قبل الوضع والا لا يعقل الوضع
الذي هو من الأفعال الاختيارية بأي معنى كان، وهذا من البداهة بمكان.
الثانية: لا يعتبر كون الموضوع له متصورا ومعلوما تفصيلا، بل لو تصوره الواضع
اجمالا كفى في الوضع، مثلا في الاعلام الشخصية، تارة يلاحظ الشخص، الموضوع له
بجميع خصوصياته فيضع له لفظا خاصا، وأخرى يلاحظ بعنوان اجمالي منطبق عليه،
كما لو دق الباب شخص فوضع الواضع لفظا، خاصا له، ولا حظه بعنوان من يدق الباب،
الذي هو عنوان اجمالي منطبق على ذلك الشخص. وفي الأنواع، تارة يلاحظ الطبيعة بمالها
من الذاتيات، فيضع اللفظ لها، كما لولا حظ الطبيعة المركبة من الحيوان والناطق، فوضع
لها الانسان، وأخرى يلاحظ اجمالا كما لولا حظ معروض الضحك، فوضع له لفظ
29

الانسان، وهذا أيضا بديهي.
الثالثة: ان العنوان الكلى الملحوظ قبل الوضع، ربما يكون من العناوين الذاتية، أو
منطبقا عليها، وبكلمة أخرى يكون جامعا ذاتيا بين الافراد كالانسان، وربما يكون
من العناوين الانتزاعية الحاكية عن الخصوصيات اجمالا، مثل عنوان فرد الكلى.
إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم أن جماعة من الأصحاب التزموا بعدم معقولية
الوضع العام والموضوع له الخاص مستندا إلى استلزامه الوضع لما لم يلاحظ، فان
الملحوظ هو الطبيعي، والموضوع له هو الافراد. وجملة من المحققين التزموا بامكانه،
مستدلا له بان لحاظ الجامع لحاظ للافراد اجمالا، ولا يعتبر في الواضع أزيد من ذلك.
وحق القول في المقام، ان الملحوظ ان كان من قبيل القسم الأول المذكور
في المقدمة الثالثة، لا يعقل الوضع للافراد، لعدم حكاية الجامع عنها، لمغايرته مع
الخصوصيات، فلا وجه لدعوى ان لحاظ الجامع لحاظ للافراد بوجه، فحيث لا تكون
الافراد ملحوظة، فلا يصح الوضع لها، كما عرفت في المقدمة الأولى. وان كان من قبيل
القسم الثاني المذكور فيها، لا استحالة في الوضع للافراد، فان العنوان الملحوظ، حاك
اجمالا عن جميع الخصوصيات، وقد عرفت في المقدمة الثانية، كفاية لحاظ الموضوع له
اجمالا في الوضع.
ولعله بما ذكرناه يجمع بين كلمات الأصحاب بان يكون نظر الطائفة الأولى إلى
القسم الأول، ونظر الطائفة الثانية إلى القسم الثاني.
واما الوضع الخاص والموضوع له العام، فعن المحقق صاحب الدرر امكانه،
واستدل له، بأنه إذا تصور الواضع شخصا وجزئيا خارجيا، فوضع اللفظ للجامع بينه وبين
ساير الافراد، فان كان عالما تفصيلا بالقدر المشترك بينه وبين ساير الافراد، فلا محالة
يكون الوضع عاما كالموضوع له، ولكن إذا لم يعلم به تفصيلا، وعلم اجمالا بوجود
الجامع كما إذا رأى جسما من بعيد ولم يعلم أنه حيوان أو جماد فوضع اللفظ بإزاء ما هو
متحد مع هذا الشخص، لا يكون الوضع الا خاصا، إذ الموضوع له العام لم يلاحظ الا
بالوجه، وهو الجزئي المتصور لفرض عدم تعقل الجامع.
30

ويرد عليه: انه قد مر في المقدمة الثانية، انه لا يعتبر في صحة الوضع سوى لحاظ
الموضوع له، ولو بعنوان مهمل حاك عنه، وعليه فكما انه الفرض الأول يكون تصور
الخاص موجبا لتصور العام، فيكون الوضع كالموضوع له عاما، كذلك في الفرض الثاني،
يكون تصور الخاص موجبا لتصور عنوان عام مهمل منطبق على الموضوع له، وهو الكلى
المشترك بين الشبح وغيره، فإنه بنفسه من العناوين العامة، ولحاظ الخاص أوجب لحاظه
وتصوره والانتقال إليه، فلا محالة يكون الوضع عاما، فالأقوى عدم معقولية هذا القسم،
بل دائما يوجب تصور الخاص تصور العام. هذا كله في ناحية المعنى.
واما من ناحية اللفظ، فالواضع حين إرادة الوضع، اما ان يلاحظ اللفظ بمادته
وهيئته كما في أسماء الأجناس، واعلام الأشخاص، واما ان يلاحظ المادة، كما في مواد
المشتقات، واما ان يلاحظ الهيئة، كما في هيئاتها، وهيئات الجمل الناقصة والتامة.
فالوضع في الأول والثاني شخصي، أي لا حظ الواضع شخص اللفظ بوحدته الطبيعية، و
شخصيته الذاتية التي امتاز بها في حد ذاته عما عداها، وفي الثالث نوعي، أي لا حظ
الواضع اللفظ بجامع عنواني، كهيئة الفاعل.
واما المورد الثاني، وهو مرحلة الاثبات والوقوع، فلا اشكال في وقوع الوضع
العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس، كما لا شبهة في وقوع الوضع الخاص و
الموضوع له الخاص، كوضع الاعلام الشخصية. واما الوضع العام والموضوع له الخاص
الذي مر انه ممكن، فقد وقع الخلاف في وقوعه، فذهب جماعة إلى أن وضع الحروف
وما يشبهها منه، وانكره جماعة منهم المحقق الخراساني.
في المعنى الحرفي
وتنقيح القول في المقام، يتوقف أولا على تحقيق المعاني الحرفية، والمفاهيم
الأدوية، ثم التكلم في أن الموضوع له فيهما كوضعهما عام أو انه خاص؟ فالكلام في
مقامين:
31

الأول، في تحقيق المعاني الحرفية، والمفاهيم الأدوية، وبيان المراد من عدم
استقلالها. وليعلم انه يترتب على البحث عن حقيقة المعنى الحرفي ثمرات مهمة:
منها، في الواجب المشروط، حيث إنه لو قلنا: انه جزئي، أو آلى مغفول عنه،
لا يعقل رجوع القيد إلى الهيئة، إذ كونه مغفولا عنه، ينافي لحاظه مقيدا وكذلك
الجزئية، لا تلائم مع التقييد، ولأجل ذلك أنكر الشيخ الأعظم الواجب المشروط.
ومنها في مفهوم الشرط، إذ لو كان المعنى الحرفي آليا مغفولا عنه لا يعقل رجوع
القيد إلى مفاد الهيئة، كما أنه لو كان جزئيا، لابد من انكار مفهوم الشرط فيما إذا كان
الوجوب مستفادا من الهيئة، لان انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء شرطه عقلي لا ربط له
بالمفهوم، بل الدلالة على المفهوم تتوقف على كون المعلق على الشرط سنخ الحكم. و
لذلك فضل الشيخ، بين ما كان الحكم في الجزاء، مستفادا من المادة كقوله (ع) إذا زالت
الشمس وجبت الصلاة، وما كان مستفادا من الهيئة، مثل ان جائك زيد فأكرمه، حيث
التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأول دون الثاني، بملاك ان الحكم في
الأول كلي وفي الثاني جزئي. وكيف كان فقد اختلفوا في حقيقة المعنى الحرفي على
أقوال:
منها: ان الحروف لم توضع لمعنى أصلا، بل وضعت لان تكون قرينة على كيفية
إرادة مدخولها، نظير الاعراب، مثلا وضعت لفظة " في " لان تكون قرينة على ملاحظة
الدار لا بما هو موجود عيني خارجي، بل بما هو موجود أيني وظرف مكان لشئ
آخر، حيث إن الدار يلاحظ بنحوين: تارة بما ان لها وجود عيني خارجي، فيقال: دار
زيد كذا، وأخرى بما ان لها وجود أيني أي ظرف مكان لشئ آخر، فكلمة " في "
وضعت لتدل على أن الدار في قولنا: ضربت زيدا في الدار، لوحظت بنحو الأينية لا
العينية، كما أن الرفع، مثلا قرينة على أن ما اتصل به من الاسم الواقع بعد الفعل، كقولنا:
ضرب زيد، هو الصادر عنه الفعل، بلا دلالة على معنى خاص، وهذا لقول منسوب إلى المحقق الرضى.
ومنها: ما يقابل هذا القول تمام التقابل، و هو انه لا فرق بين معاني الحروف و
32

معاني الأسماء في عالم المفهومية، وانما الفرق بينهما، انما يكون فيما هو خارج عن
حريم المعنى والمستعمل فيه، وهو الاستقلالية والالية اللتان هما من قيود الوضع، و
مميزاته على ستعرف توضيحه، من دون ان تكونا دخيلتين في الموضع له. فالمعنى في
حد ذاته لا يتصف بالاستقلال ولا بعدمه وانما نشأ من اشتراط الواضع، وهما من توابع
الاستعمال وشؤونه، واختار هذا القول المحقق الخراساني، ونسب إلى المحقق الرضى
أيضا.
ومنها ان الحروف لها معان في قبال المعاني الاسمية، وهي في حد كونها معان،
أي في عالم التجرد العقلاني معان غير مستقلة، بخلاف المعاني الاسمية فإنها معان
مستقلة، فكما ان الجوهر في وجوده لا يحتاج إلى موضوع بخلاف العرض، مع أنهما في
حد ذاتهما وكونهما معاني لا يحتاجان إلى موضوع، فكذلك المفاهيم الاسمية في عالم
التجرد العقلاني بجواهرها واعراضها معاني مستقلة، عكس المعاني الحرفية.
ثم إن أصحاب هذا القول، اختلفوا في بيان الخصوصية المميزة لكل منهما عن
الاخر على أقوال، وستمر وما هو الحق منها.
واما القول الأول فيرد عليه - مضافا إلى ما ستعرف عند ذكر البرهان على ما نختاره
في المعنى الحرفي - انه لا ريب في أن الجملة مفيدة لمعنى غير معاني مفرداتها من
الأسماء، مثلا " زيد في الدار " مفيد لظرفية الدار لزيد، وهي غير معنى زيد ودار وحيث
انها مأخوذة في مفهوم الدار وليس شئ آخر في الكلام غير كلمة " في " يدل عليها،
فيتعين ان يكون الدال عليها كلمة " في " والقياس على علامات الاعراب وان كان صحيحا
الا انه نلتزم في المقيس عليه أيضا بذلك كما سيمر عليك.
واما القول الثاني، فيرد عليه ان لازم ذلك جواز استعمال كل من الحرف والاسم
في موضع الاخر، مع أنه لا ريب في كونه من أفحش الأغلاط، لا حظ ما إذا استعملت
مكان سرت من البصرة، سير، ابتدا، بصرة، وهذا الاشكال ذكره المحقق الخراساني (ره)
33

مختار المحقق الخراساني ونقده
بقوله: ان قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون
مثل كلمة " من " ولفظ " الابتداء " مترادفين صح استعمال كل منهما في موضع الاخر،
وهكذا ساير الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة كما هو
واضح.
وأجاب عنه بقوله: قلت: الفرق بينهما، انما هو في اختصاص كل منهما بوضع،
حيث إنه وضع الاسم ليراد منه معناه هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك،
بل بما هو حالة لغيره، كما مرت الإشارة إليه غير مرة، فالاختلاف بين الاسم والحرف في
الوضع يكون موجبا لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الاخر، وان اتفقا في ماله
الوضع، وقد عرفت بما لا مزيد عليه، ان نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن ان يكون من
خصوصياته ومقوماته انتهى.
وقد وقع الخلاف بين الأكابر في بيان المراد مما افاده.
وقد أفاد المحقق النائيني: بان مرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ
من ولفظ الابتداء موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية وما لا يستقل،
فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر الا ان الواضع لم يجز ذلك،
ووضع لفظة من لان تستعمل فيما لا يستقل، وبان يكون قائما بغيره، ولفظة الابتداء
لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته، فكأنه شرط من قبل الواضع مأخوذ في
ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.
أقول ليس مراد المحقق الخراساني ما افاده، كما ستعرف عند بيان مراده، ولكن
لو سلم كون ذلك مراده، أو لا أقل من كونه مراد بعض آخر من الأعاظم يرد عليه: انه إذا
كان المعنى الحرفي والاسمي واحدا، ولم يقيد الموضوع له في كل منهما بقيد غير ما
يكون الاخر مقيدا به، ولم يضيق العلقة الوضعية، يلزم منه جواز استعمال أحدهما في
34

موضع الاخر، فان شرط الواضع لان يستعمل كل منهما في المعنى المشترك في حالة
خاصة، بما انه لا يكون راجعا إلى الموضوع، ولا الموضوع له ولا الوضع، لا يكون لازم
الاتباع.
واما ما أورده هو (قده) عليه، بان ما ذكره مستلزم لكون المعنى في نفسه لا مستقلا
ولا غير مستقل وليس هذا الا ارتفاع النقيضين، فهو غير تام. إذ الاستقلالية والالية في
كلماته أريد بهما الاستقلالية والآلية في اللحاظ، فقبل تعلق اللحاظ بالمعنى لا يكون
متصفا بشئ منهما، لعدم قابلية المعنى للاتصاف بأحدهما في نفسه، فلا يلزم ارتفاع
النقيضين.
وعن بعض الأعاظم، ان مراده: ان المعنى الأسمى والحرف متحدان في طبيعي
المعنى، وانما الاختلاف بينهما في أن كلا منها، حصة خاصة من ذلك الطبيعي الجامع.
توضيح ذلك: ان المعنى الحرفي هو الطبيعي الملحوظ آلة، والمعنى الأسمى هو
الطبيعي الملحوظ استقلالا، وحيث إن الطبيعي ما لم يتحصص لم يوجد لا خارجا ولا
ذهنا، فكل حصة موجودة بوجود تغاير ساير الحصص، وان كان جميع الحصص
مشتركة في أصل الطبيعي، وهذا هو معنى قولنا: ان نسبة الطبيعي إلى الافراد نسبة الاباء
إلى الأبناء لا نسبة الأب الواحد. والحرف موضوع للحصص الموجودة باللحاظ الآلي،
والاسم موضوع للحصص الموجودة باللحاظ الاستقلالي، ولا نعنى بذلك وضع كل
منهما للحصص مقيدة باللحاظ الآلي، أو الاستقلالي، حتى يرد عليه المحاذير الثلاثة
المذكورة في الكفاية، بل المراد وضعهما لذوات الحصص التوأمة مع اللحاظ، وانما
يؤخذ اللحاظ عنوانا معرفا، وعليه فيصح ان يقال: ان الاسم والحرف وضعا لمفهوم
واحد ومع ذلك لا يجوز استعمال أحدهما في موضع الاخر.
وفيه: بعد ما ستعرف من أن مراده ليس ذلك أيضا - انه لو سلم كون هذا مراده ان ما
ذكروه في محله - من أن الموجود لابد وأن يكون حصة من الطبيعي، ولا يعقل ان يكون
هو الطبيعي، والا يلزم ان يكون شئ واحد موجودا بوجودات متباينة، فيكون نسبة
الطبيعي إلى الافراد نسبة الاباء إلى الأبناء. انما هو في الوجود الخارجي، واما في الوجود
35

الذهني فلا ينبغي التوقف في أن الموجود به، أي المتصور والملحوظ انما هو الطبيعي
نفسه والا لما صح قولنا: الانسان نوع، إذ ما لم يتصور لا يصح الحمل، ومعه بصير حصة
لا نوعا. والسر في ذلك، ان النفس من المجردات، فيمكن إحاطة النفس بالطبيعي وليس
معنى الوجود الذهني الا ذلك. فإذا الملحوظ آلة، متحد مع الملحوظ استقلالا ذاتا، لا
انهما متغايران.
مع أن لازم كون الموجود بالوجود الذهني حصة من الطبيعي، عدم الصدق على
الخارجيات، وامتناع امتثال " سر من البصرة ". إذ الحصة الموجودة بالوجود الذهني، كما
تغاير الحصة الموجودة بالوجود الذهني الاخر، كذلك تغاير الحصة الموجودة بالوجود
الخارجي. فلا يمكن الامتثال حتى مع التجريد، والغاء الخصوصية. ودعوى ان الحصة
الملحوظة حين الامر، تكون مرآة لما يوجد في الخارج، فندفعه بأنه بعد كونهما
متغايرتين، لا معنى لذلك. أضف إلى ذلك كله، ان لازم ما ذكره، كون الموضوع له خاصا.
والمحقق الخراساني، ملتزم بان الموضوع له عام. بل لازمه كون الموضوع له في الأسماء
أيضا خاصا، كما لا يخفى.
والظاهر أن مراد المحقق الخراساني مما ذكره: ان المعنى الأسمى والحرفي واحد
من جميع الجهات. وانما الاختلاف بين الاسم والحرف، يكون في العلقة الوضعية. وهو
المانع عن صحة استعمال كل منهما موضع الاخر. توضيح ذلك: انه كما يكون للواضع ان
يقيد الموضوع له. ويوضع لفظ " البكاء " للبكاء الشديد، ويقيد الموضوع، ويوضع لفظ
" محمد حسن " لشخص خاص، كذلك له تضييق الوضع، والعلقة الوضعية، بان يقول: مثلا
انى وضعت لفظ الماء، للجسم السيال البار، وبالطبع في الشتاء، بمعنى انى متعهد باني متى
ما أردت ذلك الجسم في الشتاء، أبرزه بهذا اللفظ، وما لو أردته في الصيف، فأبرزه بلفظ
آخر. ويكون ذلك، نظير تقييد اعتبار الملكية في باب الوصية بما بعد الموت، وتقييد
الطلب في الواجب المشروط. وعليه فالمحقق الخراساني (ره) يدعى ان لفظ " من " ولفظ
" الابتداء " وضعا لمفهوم واحد، الا ان الوضع في الأول، مقيد بما إذا لو حظ ذلك المعنى
حالة لغيره وآلة، وفي الثاني، مقيد بما إذا لو حظ استقلالا، فالعلقة الوضعية بين كل من
36

اللفظين، وذلك المفهوم، انما تكون في حال دون حال. فلهذا لا يصح، استعمال أحدهما
في موضع الاخر. وأنت بعد الإحاطة بما ذكرناه، والتدبر في كلمات المحقق الخراساني
في الكفاية في المقام، وفى المشتق، لا ترتاب في أن مراده ذلك. ولكن ذلك أيضا.
لا يكون فارقا بين المعنيين، فإنه ان ادعى كون الحرف، موضوعا للمعنى
حين ملاحظته آلة لغيره، فيلزم ان يكون كل ما يلاحظ معرفا لغيره معنى حرفيا، توضيحه:
ان المفاهيم والعناوين والعناوين الكلية، قد تلاحظ استقلالا وبما هي، ليحمل عليها
بعض عوارضها، لكما إذا لو حظ الانسان، ليحمل عليه، انه كلي أو حيوان ناطق. وقد
تلاحظ بما انها مرآة، وآلة ووجه للمصاديق لها ليحمل عليها عوارض المصاديق. كما
إذا لو حظ الانسان، ليحمل عليه انه ضاحك. إذ بديهي، ان الضاحك، هو الفرد. وانما
يؤخذ العنوان قنطرة إليه، لتعذر تصور المصاديق بأجمعها. وعليه، فيلزم ان تكون
المفاهيم - حين ما تلاحظ مرآة للمصاديق - معان جرفية. وهو كما ترى.
أضف إليه، ان ملاحظة الشئ آلة لغيره، لا مورد لها، سوى المفاهيم، بالإضافة
إلى مصاديقها. إذ لا يصح جعل كل شئ، مرآة لكل شئ. بل لابد ان يكون بينهما
مناسبة خاصة، وهي كون المعرف عين المعرف. ولذا لا يصح لحاظ الجدار، مرآة
للباري تعالى مع وجود المناسبة بينهما، وهي العلية. وعلى ذلك فلا يعقل كون المعنى
الحرفي، ما لو حظ آلة لغيرة. إذ لو أريد ان الظرفية، مثلا في قولنا: " زيد في الدار " لوحظت
مرآة للمصاديق، فهي مفهوم كلي ومعنى اسمى. وان أريد انها لوحظت مرآة بالنسبة إلى
الطرفين أو أحدهما، فهو غير صحيح كما عرفت. وان ادعى ان المعنى الحرفي، هو
الملحوظ حالة لغيره، فيلزم ان تكون المصادر معان حرفية. توضيح ذلك: ان الفرق بين
المصادر، وأسماء المصادر - على ما ذكره أهله - هو ان المعنى الحدثي كاكرام - تارة
يلاحظ بما هو موجود في نفسه، وأخرى بما انه وصف لمعروضه، وحالة للمكرم.
والأول، هو اسم المصدر. والثاني، هو المصدر. وكذلك الظرفية، ربما تلاحظ بما هي. و
ربما تلاحظ بما انها حالة للدار. وان لوحظت على النحو الأول، فهي اسم المصدر. وان
لوحظت على النحو الثاني. فهي المصدر. لا انه على الأول، معنى اسمى. وعلى الثاني،
37

معنى حرفي.
فالمتحصل مما ذكرناه: فساد القولين الأولين. وان المعنى الأسمى والحرفي،
متباينان بالذات والحقيقة.
ثم إن القائلين بهذا القول، اختلفوا في كيفية هذا التباين، وما به الامتياز. فقد يقال: ان
التغاير بينهما ليس بالتباين، بل بالجزئية والكلية. وفيه انه ان أريد - يكون المعنى الحرفي
جزئيا - انه جزئي خارجي حقيقي، فيرد عليه، ان لازم ذلك كون الاعلام الشخصية معان
حرفية، مع أنه نرى استعمال الحرف في الكلى. كقولنا: سر من البصرة، وصل في المجسد.
وان أريد به، انه جزئي اضافي - كما عن صاحب الفصول - فيرد عليه ان لازم ذلك كون
جميع الأسماء الا الأجناس العالية، معان حرفية، كما لا يخفى، مع أن الأجناس العالية
- كغيرها من الأسماء - قابلة للتفييد بقيد، فتصير جزئية إضافية. وان أريد به انه جزئي
ذهني، فيرد عليه ما تقدم، من أن لحاظ كون المعنى آلة لغيره، وحالة، له، لا يوجب كون
المعنى معنى حرفيا.
واما ما أورده المحقق الخراساني على هذا الوجه، من الايرادات الثلاثة، فاثنان منها
غير واردين.
أحدهما: ان هذا اللحاظ لا يكون مأخوذا في المعنى والمستعمل فيه، والا فلا بد
من لحاظ آخر متعلق بهذا اللحاظ، بداهة ان تصور المستعمل فيه مما لابد منه في
استعمال الألفاظ، وهو كما ترى. فيرد عليه، انه يعتبر في الاستعمال لحاظ المستعمل فيه،
إذا لم يكن حاضرا بنفسه عند النفس، من جهة انه إذا لم يتوجه إليه، لا يمكن ان يحكم
عليه، وان يستعمل اللفظ فيه. وإذا كان المعنى من سنخ اللحاظ، أو كان ذلك جزء له، فلا
حاجة في الحكم عليه واستعمال اللفظ فيه لحاظ آخر.
ثانيهما: ان لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف، ليس إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء،
فكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه، كذلك ذاك اللحاظ. ويرد عليه، ان
المدعى ان لحاظ الالية اخذ جزء للموضوع له، ودخيلا فيه بخلاف لحاظ الاستقلالية في
الاسم، ولذا يكون معنى الحرف جزئيا، والمعنى الأسمى كليا.
38

نعم ايراده الثالث، تام. قال: مع أنه يلزم ان لا يصدق على الخارجيات، لامتناع
صدق الكلى العقلي عليها، حيث لا موطن لا الا الذهن.
مختار المحقق النائيني في المعنى الحرفي ونقده
وعن المحقق النائيني (ره) اختيار مسلك آخر في الفرق بينهما. وحاصلة: ان المعاني
الاسمية: معان إخطارية، ولها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل الذي هو وعاء الادراك،
ويكون استعمال الألفاظ فيها موجبا لاخطارها في الذهن، والمعاني الحرفية أمور
ايجادية، واستعمال الألفاظ فيها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لها نحو تقرر و
ثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال، بل توجد هي في موطن الاستعمال.
ومحصل ما ذكره من الفرق بينهما يبتنى على أركان أربعة:
الأول: ان المعاني الاسمية مفاهيم اخطارية غير مربوط بعضها ببعض، كمفهوم
" زيد " و " دار " ومفهوم النسبة الظرفية لا حقيقتها، ويتوقف تأليف الكلام منها إلى الربط،
ولو كان معاني الحروف أيضا اخطارية لما وجد الربط، بل كان حالها حال المعاني الا
سمية في الاحتياج إلى الربط، فلا محالة تكون المعاني الحرفية بأجمعها ايجادية موجدة
للربط بين المفاهيم غير المرتبطة.
الثاني: ان لازم كون المعاني الحرفية ايجادية، ان لا واقع لها بما هي معان حرفية
في غير التركيب الكلامي، بخلاف المفاهيم الاسمية، فإنها مفاهيم متقررة في عالم
مفهوميتها سواء استعمل اللفظ فيها أم لا.
الثالث: ان المادة في الهيئة الانشائية، مثل بعت، تكون ايجادية، الا انه فرق بين
هذا النحو من الايجاد والايجاد في الحروف، وهو ان الحرف موجد لمعنى غير
استقلالي ربطي بين مفهومين في مقام الاستعمال، ولا واقع له غير هذا المقام، بخلاف
البيع الذي يوجد بقول البايع: " بعت " فان ايجاده بمعونة الهيئة ليس في عالم الاستعمال،
بل بتوسط الاستعمال يوجد المعنى في نفس الامر في الأفق المناسب لوجوده، وهو عالم
39

الاعتبار. فكم فرق بين ايجاد معنى ربطي في الكلام بما هو كلام، وبين ايجاد معنى
استقلالي في موطنه المناسب له.
الرابع: ان المعنى الحرفي حين الاستعمال غير ملتفت إليه، ويكون حاله حال
اللفظ حين الاستعمال، فكما ان المستعمل حين الاستعمال لا يرى الا المعنى، ولا يلتفت
إلى اللفظ، كذلك المعنى الحرفي غير ملتفت إليه حال الاستعمال. بل الملتفت إليه، هي
المعاني الاسمية غير الاستقلالية. ولو التفت إليه يخرج عن كونه معنى حرفيا. ولذا لا يعقل
جعله مبتدئا يخبر عنه. توضيح ذلك: انه تارة تخبر عن نفس السير الخاص وتقول:. سرت
من البصرة " فالنسبة الابتدائية في هذا المقام، مغفول عنها. وأخرى عن نفس النسبة،
فتقول النسبة الابتدائية كذا، فهي الملتفت إليها.
فالمتحصل من هذه الأركان: ان الحروف، لها معان في قبال المعاني الاسمية.
وهي في حد كونها معاني - أي في عالم التجرد العقلاني - معان غير مستقلة وتكون
المعاني الحرفية بأجمعها، ايجادية، موجدة لمعنى ربطي في الكلام، لا في محل آخر،
كما في مادة الهيئة الانشائية. بخلاف المعاني الاسمية، فإنها بجواهرها واعراضها في عالم
التجرد العقلاني، معان مستقلة، وتكون اخطارية. ويرد على ما افاده (قده) أمور:
الأول: ان الكلام الذي هو مركب من الكلمات التي يكون كل كلمة منها فردا من
مقولة الكيف المسموع، من حيث هو كلام لا يعقل الارتباط فيه. بل كون الكلام مرتبطا
بعضه ببعض، انما يكون بلحاظ ما يحكى عنه هذا الكلام، وانما يستند إليه ثانيا وبالعرض.
وعلى ذلك، ان كان مراده (قده) من أن الحرف يوجد الربط، انه يوجد الربط في الكلام،
ويكون آلة لربط بعض اجزائه ببعض، فقد عرفت ما فيه. وان كان مراده، انه يوجد الربط
بين اجزاء المدلول بالعرض، أي الواقع، فهو غير معقول. إذ الحاكي لا يمكن ان يؤثر في
المحكى، والا لزم تقدم ما هو متأخر، مضافا إلى مخالفته للوجدان. وان أريد انه يوجد
الربط في المدلول بالذات، أي المفاهيم المتصورة، فيرد عليه: ان تلك المفاهيم، ان
لوحظت مرتبطا بعضها ببعض، فالحرف لم يصر سببا لايجاد الربط، بل يكون حاكيا عنه،
فيكون معناه اخطاريا. وان لوحظت غير مرتبط بعضها ببعض، فلا يعقل ايجاد الربط بين
40

ابعاضها، إذا الشئ لا ينقلب عما هو عليه. وان شئت قلت: ان الكلام يكون حاكيا عنها
ومؤخرا، فكيف يعقل تأثيره فيها.
الثاني: انه لو سلمنا ان الحرف يوجد الربط بين اجراء الكلام، ولكن بما انه
لا يكون حاكيا عن النسبة الخارجية، ولا حاكى عنها غيره فلا يصح السكوت عليه. مثلا
" زيد قائم " مركب من الموضوع، والمحول، والنسبة، والحاكي عن الموضوع والمحمول
الخارجيين، هو الموضوع والمحمول في الكلام، واما الحاكي عن النسبة الخارجية فليس.
وعليه فلابد ان لا يصح السكوت عليه، إذ الكلام انما يصح السكوت عليه باعتبار مدلوله،
وهو كما ترى.
الثالث: ان ما ذكره لكون المعنى الحرفي ايجاد يا ولا واقع له سوى الكلام
ولا يمكن لحاظ استقلالا ويكون دائما مغفولا عنه، يرد عليه: انه غالبا يكون المقصود
الصلى لالقاء الكلام إلى المخاطب، إفادة المعاني الحرفية، أي النسب الخارجية، مثلا
من علم وجود " زيد " و " الدار "، وأراد ان يخبر عن كون زيد في الدار، يقول: زيد
في الدار، لإفادة النسبة الظرفية، فكيف، يمكن الالتزام بكونها مغفولا عنها، مع أن الكلام
سيق لبيانها، وانما ذكر الاسم مقدمة لإفادتها.
مختار الأستاذ الأعظم في المعنى الحرفي ونقده
وقد أفاد الأستاذ الأعظم: بان الحروف انما وضعت لتضييقات المعاني الاسمية،
وتقيداتها بقيود خارجة عن حقائقها في عالم المفهومية، كان للمعنى وجود خارجي أم
لم يكن. توضح ذلك: ان كل مفهوم من المفاهيم الاسمية جزئيا كان أم كليا يكون مقسما
لاقسام وله حصص. غاية الامر، تارة يكون تقسيمه بلحاظ أنواعه كالجنس، وأخرى
بلحاظ أصنافه كالنوع، وثالثة بلحاظ افراده، ورابعة بلحاظ حالات شخص واحد ولو
كان بسيطا من جميع الجهات. وحيث إن حصص المعنى الواحد وأقسامه - فضلا عن
المعاني الكثيرة - غير متناهية، الموجب ذلك لعدم امكان وضع خاص لكل حصة،
41

وغرض المتكلم قد يتعلق بابراز حصة خاصة من المفهوم، فلابد للواضع من وضع ما
يوجب تحصص المعنى وتقييده، وليس ذلك الا الحروف والهيئات الدالة على النسب
الناقصة، وهيئة الإضافة أو التوصيف، مثلا كلمه " في " في قولنا: الصلاة في المسجد،
لا تدل الا على أن المراد من الصلاة ليس هي الطبعية السارية، بل خصوص حصة منها، كان
تلك الحصة موجودة في الخارج، أم معدومة ممكنة، أم ممتنعة. ولهذا يكون استعمال
الحروف في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، وبلا عناية في شئ منها.
ولكن يرد عليه، ان ما ذكر وان كان متينا، إذ ليس شان الأسماء التضييق، بل ذلك
شان الحروف، الا ان ذلك اثر معاني الحروف ونتيجتها لا انها وضعت لذلك. والشاهد
عليه، ان قولنا: زيد في الدار، يدل على ثبوت النسبة الظرفية التي غير المعاني الاسمية، ولو
مع فرض إرادة الحصص منها. والدال عليها ليس إلا لفظ " في ".
بيان المختار في المعنى الحرفي
والتحقيق يقتضى ان يقال: ان الحروف انما وضعت للنسب والروابط الصرفة.
توضيح ذلك: ان الوجود ينقسم إلى أربعة اقسام: الأول: ما يكون في نفسه ولنفسه وبنفسه
وهو وجود الواجب. الثاني: ما يكون في نفسه ولنفسه وبغيره، وهو وجود الجوهر.
الثالث: ما يكون في نفسه ولغيره وبغيره، وهو وجود الاعراض، ويعبر عنه بالوجود
الرابطي، ويعبر عن هذه الثلاثة، بالوجود المحمولي، ومفاد كان التامة وثبوت الشئ
الرابع: ما يكون في غيره ولغيره وبغيره وهو المعبر عنه بالوجود الرابط، وهو أضعف
مراتب الوجود، حتى أنه الاسفار حكم يتخالف الوجود الرابط مع الوجود المحمولي
سنخا، وان اطلاق الوجود عليما من باب الاشتراك اللفظي، والحروف والهيئات انما وضعت لإفادة
هذا المعنى، وبما ذكرناه ظهر الفرق بين الحروف والاعراض.
فان قلت: الفرق بين الحروف وجملة من الاعراض واضح مما ذكرت، واما
42

الفرق بينها وبين الاعراض النسبية، كمقولة الأين فغير ظاهر.
قلت: الفرق بينهما، ان تلك الاعراض انما وضعت لهيئات ذوات نسب، مثلا مقولة
الأين انما هي الهيئة القائمة بالكائن في المكان، واما الحروف فإنما وضعت للنسب
الخاصة، مثلا كلمة " في " وضعت لنسبة الكون في المكان، و " من " وضعت لنسبة المبتدء به
بالمبتدأ منه.
فان قيل: ان مثل قولنا: " زيد في الدار " يدل على مقولة الأين بلا ريب، والدال عليها
في هذه الجملة أحد أمرين: فاما ان يكون هو لفظ الدار ولو مجازا، وهو خلاف الوجدان.
واما يكون هو لفظ " في "، فيعلم من ذلك أن كلمة " في " انما وضعت للعرض النسبي
المعبر عن وجوده بالوجود الرابطي، لا لربط الاعراض بموضوعاتها المعبر عنه بالوجود
الرابط.
أجبنا: ان الكلام المزبور لا يدل على مقولة الأين، نعم لازم ما يدل عليه - وهي
نسبة الكون في المكان - تحقق مقولة الأين، ولكن الكلام لا يدل عليها، وهذا نظير ما لو
أخبر المتكلم بمجئ أحد المتلازمين، فإنه وان كان يستفاد منه مجيئ الاخر الا
ان الكلام المسوق لبيان مجيئ أحدهما لا يدل عليه.
فتحصل مما ذكرناه أمور:
الأول: ثبوت الفرق بين الحروف والاعراض النسبية، فما نسب إلى
المحقق العراقي (ره) من عدمه ضعيف.
الثاني: انه لا فرق بين الحروف والهيئات، كما عليه جماعة من الحكماء منهم
صدر المتألهين، فايراد المحقق العراقي عليه غير وارد.
الثالث: ان المعنى الحرفي اخطاري لا ايجادي، ومع ذلك يكون مباينا مع المعنى
الأسمى ذاتا، لكونه متقوما وجودا وذاتا بالغير، بخلاف المعنى الأسمى.
الرابع: ان المعنى الحرفي ملحوظ استقلالا، لكنه في ضمن لحاظ المنتسبين
لا وحده، فإنه بنفسه وذاته متقوم ومتدل بهما، ولا يكون ملحوظا آلة لغيره. فتدبر فإنه
حقيق به.
43

الوضع في الحروف عام والموضوع له عام
اما المقام الثاني: وهوان الموضوع له في الحروف عام أو خاص، فقد اختلفت
كلمات القوم فيه على أقوال:
الأول: كون الوضع عاما، والموضوع، والمستعمل فيه خاصا. الثاني: كون كل
من الواضع والموضوع له والمستعمل فيه عاما. الثالث: كون الوضع عاما وكل
من الموضوع له والمستعمل فيه خاصا.
اما الوجه الأول، فهو بديهي البطلان إذ الوضع انما يكون للاستعمال، فلا معنى
لوضع اللفظ لمعنى لا يستعمل فيه ابدا، ويستعمل في معنى آخر.
واما الوجه الثاني، ففيه مذاهب:
الأول: ما اختاره المحقق الخراساني، وقد عرفت ما فيه. نعم لو تم ما ذكره
في المعنى الحرفي، صح ما بنى عليه.
الثاني: ما اختاره أستاذ الأساتذة المحقق النائيني (ره) وحاصله: ان المراد من الكلية
والجزئية في المقام ليس بمعنى الصدق على الكثير ين وعدمه، كما هو شأن المفاهيم
الاسمية. إذ حقيقة المعنى الحرفي، هي حقيقة الربط الكلامي. فلا يعقل صدق هذه النسبة
على الخارج، بل هي مما ينطبق عليه المفهوم الأسمى بل المراد بالكلية والجزئية
في المقام، هو ان المعنى الحرفي الذي يكون قوامه بالطرفين، كما أن الطرفين خارجان عن
حريم المعنى، هل التقيدات أيضا خارجة فيكون الموضوع له واحدا وكليا؟ وبعبارة
أخرى: يكون ما أوجدته كلمة " من " مثلا في جميع الموارد هوية واحدة، وتكون
الخصوصيات اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حريم المعنى؟ أم
هي داخلة في المعنى، فيكون الموضوع له متعددا وخاصا؟ واختار قده الأول، بدعوى
ان المعاني الحرفية، وان احتاجت في مقام وجودها إلى خصوصية الطرفين، الا انها
في مقام ماهياتها لا تحتاج إليها، فهي نظير الاعراض، فكما انها في مقام تحققها في الخارج
44

تحتاج إلى الموضوع، لا في مقام ماهياتها، فكذلك المعنى الحرفي.
وفيه: ان الموضوع له في الحروف ان كان هو القدر المشترك بين الروابط الخاصة
الذي هو مفهوم من المفاهيم، تم ما ذكره في المقام: من أن الموضوع له عام، الا ان لازمه
كون المعنى الحرفي اخطاريا. وان كان الموضوع له في الحرف حقيقة الربط الكلامي،
الذاتي تكون معنى جزئيا وان كانت خصوصيات الأطراف خارجة عن حريم المعنى،
فيكون الموضوع له خاصا.
وبذلك يظهر ان ما ذكره المحقق الرشتي (ره) من القول بكون المعنى الحرفي
ايجاديا، يستلزم كون الموضوع له خاصا، إذ الشئ ما لم يتشخص لم يوجد، متين.
ولا يمكن الجواب عنه بان الكلى الطيعي موجود في الخارج، إذ هو كان صحيحا الا
انه لا يكون هو الموضوع له على هذا المبنى.
والتحقيق يقتضى ان يقال: بعد ما لا شك في أن النسب الخاصة المتحققة، إذا
لاحظناها نرى بالوجدان ان كل جملة منها متماثلة، وتماثلها انما يكون بأمر ذاتي داخل
في قوامها، مثلا النسبة الظرفية التي تستعمل كلمة " في " فيها، لها جزئيات خارجية متماثلة،
وتلك الجزئيات متباينة مع جزئيات النسبة الابتدائية، وعلى ذلك وقع الكلام في أن تلك
الجهة، هل هي جامع حقيقي أم انتزاعي، وهل تكون هي الموضوع لها أم لا؟ فالكلام
في موردين: الأول، في امكان وجود الجامع الحقيقي بين تلك النسب. والثاني، في مقام
الاثبات.
اما الأول، فقد يقال كما عن المحقق الأصفهاني: بأنه لا يمكن وجود الجامع بين
تلك النسب الخاصة، حيث إن حقيقة النسبة في ذاتها متقومة بالمنتسبين ذهنا وعينا، فلا
تقرر لها مع قطع النظر عن الوجودين، بخلاف الماهيات، فإنها متقررة في ذاتها. وعليه فلا
جامع ذاتي بين حقائق النسب، فان الغاء الطرفين اعدام لذاتها، فهي مع قطع النظر عنهما
لا شئ أصلا حتى تقررا، فلا يعقل ان يكون الموضوع له فيها عاما.
وفيه: ان المراد بالكلية والجزئية والعموم والخصوص في الموضوع له فيها، ليس
عدم دخل المنتسبين ودخلهما، بل المراد انه كما تكون النسبة في وجودها وتقررها
45

وذاتها تابعة لهما - وهي بذاتها معنى متدل في الغير - كذلك تكون في كليتها وجزئيتها
تابعة لهما. فان كان الموضوع له هي النسب الخاصة بين المنتسبين الخاصيين
بخصوصيتهما، كان الموضوع له خاصا. وان كان الموضوع له هو النسبة القائمة بالمنتسبين
العامين، كان عاما. مثلا نقول: ان " في " وضعت لإفادة النسبة الظرفية التي بين الظرف - كان
هو الدار أو غيرها - والمظروف - كان وهو زيدا أو غيره - وهذا المعنى من العموم
والخصوص يتصور في النسبة.
وأمال المورد الثاني: فالظاهر هو الوضع للعام، لما نرى من استعمال الحروف
في الجهات العامة بلا عناية، كما في قولنا: سر من البصرة إلى الكوفة. فإنه لا ريب في أن
كلمة " من " و " إلى " انما استعملتا في طبيعي معناهما، وعلى الجملة، المنساق إلى الذهن،
هو كون الموضوع له عاما. فالمتحصل مما ذكرناه كون الموضوع له عاما. وبما ذكرناه
ظهر مدرك كونه خاصا، ونقده.
تحقيق الانشاء والاخبار
قال المحقق الخراساني، بعد ما اختار من أن المعنى الأسمى والحرفي متحدان
بالذات والحقيقة ومختلفان باللحاظ الآلي والاستقلالي وقد بينا مراده: لا يبعدان يكون
الاختلاف في الخبر والانشاء أيضا كذلك، فيكون الخبر موضوعا ليستعمل في حكاية
ثبوت معناه في موطنه، والانشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وان اتفقا فيما استعملا
فيه انتهى.
توضيح ذلك: ان الصيغ المشتركة - كصيغة بعت - تستعمل في معنى واحد مادة
وهيئة في مقامي الانشاء والاخبار، اما بحسب المادة فلأنها وضعت للطبيعة المهملة،
وهي تستعمل فيها دائما. واما بحسب الهيئة فلأنها تستعمل في نسبة ثبوت المادة
إلى المتكلم في كلا المقامين، غاية الامر العلقة الوضعية في كل منهما غير العلقة الوضعية
في الاخر. فإنها في الجملة الانشائية تختص بما إذا قصد المتكلم ثبوت المعنى في الخارج،
46

وفي الجملة الخيرية تختص بما إذا قصد الحكاية عنه. وتبعه في ذلك جمع من المحققين.
وأورد عليه الأستاذ: بأنه لو كان الامر كذلك لصح استعمال الجملة الاسمية
في مقام الطلب، كالجملة الفعلية مع أنه يصح، فيكشف ذلك عن خصوصية في الافعال.
وفيه، ان استعمال الجملة الاسمية في مقام انشاء الطلب كثير. لا حظ " انى طالب
لقيامك " وفي مقام الانشاء في غير الطلب أكثر، كقولنا: " هذا لزيد بعد وفاتي ". و " زوجتي
طالق ". و " عبدي حر ". وبالجملة استعمال الجملة الاسمية في مقام انشاء الطلب وغيره غير
عزيز. وعدم صحة استعمال بعض الجمل الاسمية في مقام انشاء الطلب كعدم صحة
استعمال الفعل الماضي في مقام انشاء الطلب، واستعمال المضارع في مقام انشاء البيع،
انما هو لخصوصية في المعنى. مثلا " زيد قائم "، لا يصح استعماله في مقام طلب القيام من
زيد، من جهة ان هيئة هذه الجملة وضعت لتفهيم ثبوت النسبة بين القيام والزيد.
ثم انه (دام ظله) أفاد في مقام الفرق بينهما: ان الانشاء حقيقته، هو ابراز امر نفساني
باللفظ، غير قصد الحكاية. فالمتكلم بمقتضى تعهده والتزامه يكون اللفظ الصادر منه
مبرز الاعتبار من الاعتبارات القائمة بنفسه، وانه هو الداعي لايجاده، مثلا هيئة " افعل "
بمقتضى التعهد المزبور تكون مبرزة لاعتبار الوجوب، وكون المادة على عهدة
المخاطب. والخبار حقيقته ابراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع، أو نفيه
عنه في الجملة الاسمية، وابراز قصد الحكاية عن تحقق المبدء سابقا على التكلم في الفعل
الماضي، وابراز قصد الحكاية عن تلبس الذات بالمبدء في حال التكلم أو بعده
في المضارع.
و استدل لما اختاره: بان حقيقة الانشاء، ليست عبارة عن ايجاد معنى كالطلب و
غيره باللفظ. فان الوجودات الحقيقية للمعاني، لا يمكن ايجادها الا بأسبابها الخارجية،
واللفظ ليس منها بالضرورة. واما الوجودات الاعتبارية، فاعتبار نفس المتكلم، قائم
بنفسه من غير دخل للفظ فيه. واما الاعتبارات العقلائية، فالانشائات وان كانت
موضوعات لتلك الاعتبارات، الا انها مترتبة على قصد المعاني بها. والكلام فعلا في بيان
ذلك، فلا مناص عن الالتزام بما ذكرناه في الانشاء. واما الاخبار، مثلا الجملة الاسمية،
47

فهي غير موضوعة للنسبة الخارجية، كما هو المعروف، لعدم وجودها في كثير من الجمل
الاسمية. مع أنه لا كاشفية لها من حيث هي عن تحقق النسبة في الخارج ولو ظنا. فما معنى
كونها موضوعة لها؟ فلا محالة تكون موضوعة لما ذكرناه.
أقول: ما ذكره في الاخبار، من أنه موضوع لقصد الحكاية عن ثبوت المحمول
للموضوع، أو نفيه عنه، أو لقصد الحكاية عن انتساب المبدأ بالذات بالنسبة التحققية، أو
التلبسية، تام. ولا ينافي ما ذكرناه تبعا لجماعة من المحققين، من أن هذه الهيئات
موضوعة كساير الهيئات والحروف للنسب الخاصة. إذ مرادنا، هو ذلك لأجل ان الوضع
بما انه هو التعهد - كما عرفت - فلابد وان يتعلق بأمر اختياري. وهو التكلم بلفظ
مخصوص عند تعلق القصد بتفهيم معنى خاص. فالمراد من وضع الهيئة للنسبة، هو انه إذا
تعلق القصد بتفهيم النسبة، يجعل مبرزها الهيئة. فتكون الجملة بنفسها، مصداقا للحكاية.
فهذا الذي ذكره، يؤيد ما اخترناه في وضع الحروف.
واما ما افاده: من أن الانشاء ليس عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ، وان ما أشهر من أن
الانشاء، هو قصد تحقق المعنى باللفظ مجرد لقلقة اللسان، فهو على فرض الاخذ بما
هو ظاهر هذا الكلام في بادي النظر، حق ومتين. ولكن يمكن ان يقال: ان مراد المشهور،
كون الانشاء موجبها لوجود المعنى في عالم الاعتبار، أي اعتبار العقلاء. وعليه فهو حق
لا سترة عليه. إذ لا ريب في أنه اعتبر المتبايعان - مثلا - ملكية شئ للمشتري بإزاء
ملكية الثمن، تتحقق الملكية في اعتبار هما، وتتحقق في اعتبار العقلاء. وإذا أبرز هذا
الاعتبار النفساني باللفظ، أو الفعل فبمقتضى البناء الارتكازي العقلائي الكلى تتحقق
الملكية في عالم الاعتبار العقلائي. وليس المراد من ايجادية الانشاء، سوى ذلك. ولذا
يقول المحقق الخراساني في فوائده: انه بالانشاء يوجد الملكية في الوعاء المناسب لها،
بالنحو الذي توجد بالحيازة، والسبب الاضطراري، كموت المورث. وهذا امر متين لا
سترة عليه.
واما ما افاده: من أن الانشاء ابراز امر نفساني باللفظ، غير قصد الحكاية، فلا يتم.
إذ البرهان الذي ذكره لعدم كون الجملة الخبرية مبرزة للنسبة الخارجية، من أنه لا كاشفية
48

لها من حيث هي، عنها، وانها وضعت لابراز قصد الحكاية عن ثبوت المحمول
للموضوع، بعينه يجرى في الانشاء. ويقضى عدم كون الانشاء، مبرزا للاعتبار النفساني.
وانه مبرز لقصد تفهيم ذلك الاعتبار. نعم لو كانت دلالة الانشاء على الاعتبار الخاص
بالطبع، كان ما ذكر تاما، ولكن بما انها أيضا تكون بالوضع، فيجرى في الانشاء ما يجرى
في الخبار، من، ان الواضع تعهد بأنه متى ما قصد تفهيم ثبوت ذلك الاعتبار النفساني،
يجعل مبرزه الجملة الانشائية وعليه، فالموضوع له والمستعمل فيه، فيهما واحد، وهو
قصد تفهيم انتساب البيع إلى البايع مثلا، والاختلاف بينهما انما يكون من ناحية الدواعي
بالنحو الذي ستعرفه. والمنسوب إلى المحقق العراقي القول: بان الاخبار والانشاء يشتركان في المحكى
عنه بالذات، وهو نفس المفهوم الذي يتصوره النفس عند تصور الجملة الحاكية، وانما
يفترقان في المحكى عنه بالعرض. فإنه في الاخبار، يكون المحكى عنه بالعرض، هو
الطبيعي المنطبق على امر جزئي خارجي مفروغ الوجود، موضوعا كان أو محمولا، أو
نسبة، يريد المتكلم - بكلامه - الكشف عنها واعلام السامع بها. وفي الانشاء، الجملة
بهيئتها ومادة المسند فيها، تحكي عن طبيعي النسبة وطبيعي المسند، الحاكيان عن ايقاع
المادة ونسبتها غير المفروغ وقوعهما. بل يرى وجودهما، معلولين لنفس هذا الانشاء.
فوجود البيع الجزئي، ونسبته الجزئية في الخارج، يكون نتيجة الانشاء، بقول: بعت.
ويرد على ما ظاهره ما تقدم من أن القول بان حقيقة الانشاء ايجاد معنى باللفظ،
صرف لقلقة اللسان وفي الانشاء أيضا، لا يوجد المسند والنسبة باللفظ. وانما هما
يتحققان قبله بالاعتبار النفساني. ولكنه يمكن توجيه بما ذكرناه، بان يكون مراده ايجاد
المعنى في عالم الاعتبار العقلائي.
وذلك كله يظهر ان ما اختاره جماعة من المحققين، من أن الفرق بينهما انما يكون
باختلاف الدواعي، وانه قد يكون الداعي وهو الايجاد فهو الانشاء، وقد يكون الحكاية
فهو الاخبار، متين جدا.
وخلاصة القول في المقام: ان الموضوع له، والمستعمل فيه، في هيئة الصيغة
49

المشتركة - مثل بعت - شئ واحد. وهي النسبة المحققة بين المسند - وهو الاعتبار
النفساني - والمسند إليه - وهو المتكلم - إذ في كلا المقامين يكون الاعتبار - أي اعتبار
المتكلم - متحققا قبل الاستعمال. وانما يفترقان في الداعي. فإنه في الانشاء الداعي
للاستعمال في المعنى، واعلام انتساب الاعتبار النفساني بالمتكلم، وهو ايجاد الملكية،
مثلا في عالم الاعتبار. أي اعتبار العقلاء والشارع. حيث إن بناء العقلاء والشارع، على
عدم اعتبار الملكية في البيع - مثلا - الا مع اعتبار المتعاملين بقيد الاعلام به. فالاعلام انما
يكون بهذا الداعي. وهذا بخلاف الاخبار. فان الداعي للاعلام فيه غير ذلك. ولا فرق
بينهما من غير هذه الجهة. وبهذا الاعتبار صح تسمية الانشاء ايجادا، بمعنى انه بضمية
الاعتبار النفساني، موضوع لاعتبار العقلاء والشارع، فتدبر في أطراف ما ذكرناه حتى
لا تبادر بالاشكال. هذا في الصيغ المشتركة. واما الصيغ المختصة، فالكلام فيها موكول
إلى محل آخر.
أسماء الإشارة والضمائر
قال في الكفاية: يمكن ان يقال: ان المستعمل فيه في أسماء الإشارة والضمائر
ونحوهما، أيضا عام. وان تشخصه انما جاء من قبل طور استعمالها، حيث إن أسماء
الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا بعض الضمائر. وبعضها ليخاطب به المعنى.
والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخيص، كما لا يخفى. فدعوى ان المستعمل فيه في
مثل هذا وهو وإياك، انما هو المفرد المذكور. وتشخصه انما جاء من قبل الإشارة
والتخاطب بهذه الألفاظ إليه. فان الإشارة والتخاطب لا يكاد يكون الا إلى الشخص أو
معه غير مجازفة انتهى.
الكلام فيها تارة فيما هو الموضوع له، وأخرى على أنه عام أو خاص. اما الأول،
فعمدة الأقوال فيه ثلاثة:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني: وهو ان اسم الإشارة، مثل ذا وضع للمفرد
50

المذكر ليشار به إليه. بمعنى الإشارة الموجبة للتشخص، تكون من مقومات الاستعمال،
لا الموضوع له، أو المستعمل فيه.
وفيه: ان الإشارة باللفظ إلى المعنى ان كان باستعماله فيه، فجميع الألفاظ
موضوعة لذلك. وان كان بغير ذلك، فهو مما لا نتعقله. وان كان مرادة الإشارة إليه بالإشارة
الخارجية، فيرد عليه - مضافا إلى كونه خلاف ظاهر كلامه - انه كثيرا ما يستعمل في معان
يمتنع الإشارة إليها خارجا. وان كان مراده، انه وضع ليستعمل مقرونة بالإشارة الذهنية
إلى المعنى، ففيه: انا لا نتعقل للإشارة الذهنية معنى غير توجه النفس إلى المعنى وتصوره
المشترك فيه استعمال جميع الألفاظ في معانيها. مع أن الله تبارك وتعالى يستعمل
هذه الأسماء، ولا يمكن الالتزام بذلك فيه.
وبذلك ظهر ما في القول الثاني، الذي اختاره المحقق الأصفهاني (ره) وهو ان أسماء
الإشارة موضوعة للمعنى إذا صار مشارا إليه، بالإشارة الخارجية، بمثل اليد أو العين، أو
بالإشارة الذهنية، فلا نعيد.
الثالث: ان اسم الإشارة موضوع لايجاد الإشارة به، فيكون فردا جعليا وضعيا لالة
الإشارة. وبعبارة أخرى: ان لفظة " ذا " - مثلا - يتعهد الواضع جعلت مكان اليد في كونها
آلة للإشارة، وموجدها، ولكن لا مطلقا، بل فيما كان المشار إليه المفرد المذكر. أي
مصداقه، لا مفهومه. والى ذلك أشار ابن مالك بقوله: بذا لمفرد مذكر أشر.
وأورد عليه تارة بان لازوم ذلك كون أسماء الإشارة من الحروف، لكونها ايجادية.
وأخرى، بان لازمه عدم صحة قولنا: هذا زيد: لان هذا المحمول، لا يصح حمله على ما هو
آلة للإشارة. وفيهما نظر.
اما الأول: فلما عرفت من عدم كون معاني الحروف ايجادية. واما الثاني: فلا اسم
الإشارة وان كان يوجد الإشارة، الا انه نظير الآلة الخارجية، في أن الإشارة الموجودة
به، طريق للانتقال إلى المشار إليه ليتوجه المخاطب إليه ويحكم عليه بشئ، أو به على
شئ آخر. وعليه، فالموضوع في القضية الواقعية المحكى عنها بالقضية اللفظية - في مثل
هذا زيد - هو المشار إليه الخارجي، لا الإشارة ولا آلتها. فان الآلة، هي نفس اللفظ
51

لا معناه. والإشارة، انما تكون طريقا لاحضار المشار إليه. ولم يقم برهان على لزوم كون
الموضوع في القضية اللفظية، وجودا لفظيا للمعنى، بمعنى كونه موضوعا له. بل لابد من
احضار المعنى في ذهن السامع باللفظ، اما باستعماله فيه، أو بنحو آخر، مثل الإشارة إليه.
بل الأظهر، عدم اعتبار كون الموجب لاحضاره اللفظ، كما سيمر عليك. وبذلك كله يظهر
الحال في الضمائر والموصولات.
واما الكلام في المورد الثاني، فهو الكلام في وضع الحروف. فالأظهر كونه عاما.
لأنه كثيرا ما يكون المشار إليه معان كلية كما لا يخفى. وعليه فالتشخيص الجائي من قبل
الإشارة، ليس هو التشخيص الخارجي كي يتوهم انه داخل في الموضوع له. بل هو من
جهة اضافتها إلى المشير والمشار إليه. وقد ظهر مما ذكرناه في الحروف: خروجه عن
الموضوع له.
استعمال اللفظ في المعنى المجازى
الثامن: في استعمال اللفظ في المعنى المجازى، اختلفوا في أن استعمال اللفظ
في المعنى المجازى ماذا ملاك صحته؟ فقد ذهب جماعة، منهم المحقق الخراساني، إلى أنه
يصح بالطبع. والآخرون، إلى أنه بالوضع أي ترخيص الواضع في الاستعمال، وبدونه
لا يصح.
وأفاد صاحب الكفاية - في وجه ما اختاره، بشهادة الوجدان - بحسن الاستعمال
فيه ولو منع الواضع عنه. وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه، ولو مع ترخيصه. ولا معنى
لصحته الا حسنه. وليس مراده - مما افاده - انه في الاستعمالات المجازية يكون دلالة
اللفظ على ما يستعمل فيه بالطبع ابتداءا، حتى يورد عليه، بان هذا عين الالتزام بالدلالة
الذاتية، أو ما يقرب من ذلك. بل المراد، ان الألفاظ الموضوعة للمعاني الحقيقية بعد
وضعها لها، يصح استعمالها في المعاني المناسبة لتلك المعاني الموجبة لا دعاء العينية
بينهما. ففي الحقيقة يدعى، ان جواز هذا الاستعمال، انما يكون من شؤون الوضع الأول
52

بواسطة الطبع الذي يجول في ميدان المعاني، ويلحق بعضها ببعض.
وعليه، فيشهد له - مضافا إلى ما ذكره المحقق الخراساني - تقارب المعاني
المجازية في اللغات المتعددة. فان استعمال الأسد وما يرادفه من ساير اللغات في الرجل
الشجاع يصح. فهل اتفق الوضاعون على الترخيص فيه وفي غيره المجازات الشايعة؟
وفي المقام أمران، كل منهما يكفي في عدم الموضع لهذا البحث.
أحدهما: ما نسب إلى السكاكي، من أن اللفظ في جميع الموارد، يستعمل
في المعنى الموضوع له. غاية الامر ان التطبيق، قد يكون مبتنيا على التنزيل والا دعاء. يعنى
ان المستعمل، ينزل معنى من المعاني منزلة المعنى الحقيقي، ويعتبره هو، فيستعمل اللفظ
فيه، فيكون الاستعمال حقيقيا.
ونظير ذلك، ما افاده المحقق الخراساني، من أن كلمة " لا " الموضوعة لنفى
الحقيقة، تستعمل دائما فيه، حتى في مورد نفى الكمال. غاية الامر في ذلك المورد،
يكون استعمالها فيه على نحو الا دعاء والمبالغة، ولا تستعمل في نفى الكمال. ولا بعد في
ذلك. فان فيه، المبالغة في الكلام الجارية على مقتضى الحال. ولذلك نرى بالوجدان،
الفرق بين قولنا: زيد شجاع، وقولنا: زيد أسد. ولولا ذلك لما كان بينهما فرق. وهو واضح.
ثانيهما: ان الواضع لا يتعين في شخص، كي يبحث عن اذنه وعدمه. بل كل
مستعمل واضع حقيقة، كما مر تفصيل ذلك في مبحث الوضع.
استعمال اللفظ في نوعه
التاسع، في استعمال اللفظ في نوعه ومثله وصنفه وشخصه قال في الكفاية: لا شبهة
في صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه، كما إذا قيل: ضرب، مثلا فعل ماض أو صنفه، كما
إذا قيل: زيد، في ضرب زيد، فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول، أو مثله، كضرب
في المثال إذا قصد. انتهى.
تنقيح القول في المقام، بالبحث في موارد.
53

الأول، في اطلاق اللفظ وإرادة نوعه.
الثاني، في اطلاقه وإرادة صنفه أو مثله.
الثالث، في اطلاقه وإرادة شخصه.
اما المورد الأول، ففي صحة اطلاق اللفظ وإرادة نوعه خلاف، ذهب جماعة من
المحققين، منهم الخراساني والنائيني إلى الأول، واختار جماعة الثاني.
ثم إن القائلين بالصحة. اختلفوا في أنه، هل يكون ذلك من باب الاستعمال، كما
عن المحقق النائيني (ره) أم يكون من باب القاء المعنى بنفسه، كما اختاره الأستاذ الأعظم،
أم يكون بغير ذلك؟ وقد ذكر المحقق النائيني (ره) في تقريب ما ذهب إليه: ان استعمال
اللفظ في المقام، كاستعماله في ساير المعاني. فان المتكلم يلتفت إلى طبيعة لفظ ضرب
أولا، ثم حين الاستعمال يكون اللفظ الصادر منه، الذي هو من افرادها مغفولا عنه بحيث
لا يرى الا الطبيعة. ولا يلقى في الخارج الا إياها، كالاستعمال في المعاني. نعم بينه وبين
الاستعمال في ساير المعاني فرق من جهتين:
الأولى: ان المفنى في ساير الاستعمالات أمور متغايرة لطبيعة الألفاظ، وفيما
نحن فيه من سنخها.
الثانية: ان المصحح للاستعمال في ساير الموارد، اما الوضع، أو المناسبة
بين المعنى الحقيقي، وما استعمل اللفظ فيه. وفي المقام كون اللفظ الملقى بنفسه متحدا
مع المعنى فيه خارجا، والارتباط بينهما أشد من الارتباط الجعلي.
وأورد عليه المحقق العراقي (ره): بان اللفظ المستعمل، اما ان يكون هو طبيعي
اللفظ، أو شخصه، فعلى الأول يلزم اتحاد الدال والمدلول، وعلى الثاني يلزم عدم صحة
الاستعمال، لعدم المسانخة بين المستعمل، وهو الطبيعي والخصوصية المشخصة
- والمستعمل فيه - إذ المركب من المباين وغيره مباين.
وفيه: ان له. ان يختار شقا آخر. وهو كون المستعمل، الحصة م من الطبيعي التوأمة
مع الخصوصية. وهذا الجواب وان كان محل تأمل بناءا على المختار من وجود الكلى
الطبيعي في الخارج، الا لأن هذا المورد على مسلكه ليس له هذا الايراد. وحق القول
54

في المقام بنحو يظهر ما في كلمات القوم أيضا، ينبني على بيان مقدمتين.
الأولى: انه إذا وجد فرد من الطبيعي في الخارج، فكما ان المهية الشخصية،
موجودة في الخارج بتبع تحقق الوجود، كذلك يكون الطبيعي موجودا بوجوده. وبعبارة
أخرى ان الوجود الخارجي بناء على أصالة الوجود، له حد مختص به. ولا يشترك فيه
غيره، وهو المنشأ لانتزاع المهية الشخصية، وله حد آخر مشترك فيه مع غيره، وهو
المنشأ لانتزاع المهية النوعية. وبتعبير ثالث، انه كما يكون المهية الشخصية معروض
الوجود في التحليل العقلي، وفي مرحلة التصور، وعينه في الخارج كذلك يكون الطبيعي
معروضة تصورا، وعينه خارجا. فإضافة الوجود إلى المهية الشخصية، كإضافته إلى
الطبيعي من دون كون وجود الفرد واسطة لعروض الوجود على الطبيعي. ولذا يصح
اطلاق الطبيعي - كالانسان - على كل فرد من الافراد بما له من المعنى المشترك بين
الجميع.
الثانية: ان استعمال اللفظ، انما هو بايجاد الطبيعي في الخارج فانيا في
معناه. بمعنى ان الفناء صفة للطبيعي لا الفرد الخارجي. ضرورة ان الشخص يكون
بالوجود وفي مرحلة الاستعمال. فلا يعقل ان يكون هي المستعمل، وإلا لزم تأخر ما هو
متقدم والواضع انما وضع الطبيعي لا الفرد.
إذا عرفت هاتين المقدمتين، تعرف انه لا يصح استعمال اللفظ في نوعه، إذ يلزم
اتحاد الدال والمدلول. وهو محال. وما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) من عدم استحالة
ذلك، واستدل له بقوله (ع): يا من دل على ذاته بذاته. وقوله (ع): أنت دللتني عليك،
غريب. إذا لدلالة في المقام، عبارة عن ابراز المعنى باللفظ، وكونه علامة له. فكيف تقاس
بلالة الذات على نفسه التي هي اما بمعنى كون الذات دالا بخلقته، كما هو مقتضى قوله
تعالى: كنت كنزا مخفيا فأحببت لان اعرف، فخلقت الخلق لكي اعرف. أو بمعنى كونه،
هو الظاهر بنفسه وظهور غيره لابد وان ينتهى إليه. كما يشير إليه قوله (ع): ألغيرك من
الظهور، ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ ولكن مع ذلك يصح اطلاق اللفظ وإرادة
نوعه، لامن باب الاستعمال بل من باب احضار الموضوع في القضية الحقيقية بنفسه،
55

والقائه على السامع من دون وساطة ما يستعمل فيه. فيكون المضوع في القضية اللفظية
متحدا مع ما هو الموضوع في القضية الخارجية. ولا محذور في ذلك.
وقد يقال: ان المثال الذي ذكره المحقق الخراساني - ضرب فعل ماض - إذا لم
يقصد به شخص القول ليس من استعمال اللفظ في نوعه. لعدم كون الحاكي فعلا ماضيا.
وعليه، فهو من باب الاستعمال في غيره.
وفيه: ان الفعل الماضي، ما يكون بوضعه دالا على تحقق الحدث في الخارج. ولا
يعتبر فيه الدلالة الفعلية، فإنها غير ثابتة قبل الاستعمال. فلفظ ضرب استعمل في معناه أم لم
يستعمل فيه، فعل ماض. أي ما من شانه انه لو استعمل فيما وضع له يكون دالا على
الحدث.
واما المورد الثاني، فالظاهر أن اطلاق اللفظ وإرادة صنفه أو مثله، انما يكون من
قبيل القاء المعنى بنفسه، وليس من باب الاستعمال. وبعبارة أخرى يكون الطبيعي، ملقى
إلى السامع بنفسه بلا وساطة الحاكي عنه. وحيث إن الغرض تعلق بإفادة حصة خاصة منه،
فلابد من جعل الدال على ذلك. لا حظ. قولنا: زيد، في ضرب زيد، فاعل. ولا مجال
لتوهم استعمال الطبيعي في الصنف، أو المثل، أو الشخص. ويكون الدال الاخر قرينة على
ذلك. كما يظهر من ملاحظة موارد استعمال اللفظ في معناه وإرادة حصة خاصة منه،
كقولنا: الصلاة في المسجد، أفضل من الصلاة في الدار. فإنه في هذه الموارد، لا تستعمل
الصلاة في الحصة الخاصة من تلك الطبيعة. بل استعملت في نفس الطبيعة. وانما تستفاد
الصلاة، بتعدد الدال. كما حقق في مبحث المطلق والمقيد. فان هذا الكلام بعينه. يجرى
في صورة القاء المعنى بنفسه واحضاره في ذهن السامع، بلا تفاوت.
اطلاق اللفظ وإرادة شخصه
واما المورد الثالث، فقال صاحب الفصول: واما لو أطلق وأريد به شخص نفسه،
كقولك: زيد لفظ. إذا أردت به شخصه، ففي بدون تأويل، نظر. لاستلزامه اتحاد
56

الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزئين مع عدم مساعدة الاستعمال عليه. انتهى
ووجهه المحقق الخراساني بقوله: لان القضية اللفظية على هذا، انما تكون حاكية
عن المحمول والنسبة لا الموضوع. فتكون القضية المحكية بها، مركبة من جزئين مع
امتناع التركب الا من الثلاثة. ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين. انتهى.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بوجهين:
أحدهما: ان اشكال تركب القضية من جزئين، يبتنى على أن يكون الموضوع
في القضية الحقيقية، محتاجا في حضوره ووجود في الذهن إلى واسطة كاللفظ بالإضافة
إلى المعنى. فإنه واسطة لذلك. وليس هو بنفسه، موضوعا للقضية. بل هو، لفظ الموضوع،
وحاك عنه. فموضوعية اللفظ، انما هي باعتبار انه الواسطة لاحضار ما هو موضوع فيها
حقيقة. نعم هو، موضوع في القضية اللفظية. وإذا فرضنا ان الموضوع في القضية الحقيقية
لا يحتاج في وجوده وحضوره في الذهن إلى الواسطة، فلا يلزم محذور تركب القضية من
جزئين. ومقامنا من هذا القبيل. فان الموضوع في قولنا: زيد لفظ أو ثلاثي، إذا أريد به
شخصه، شخص ذلك اللفظ الذي هو من مقولة الكيف لا انه لفظ - وبديهي ان اللفظ،
لا يحتاج في حضوره في الذهن إلى أي واسطة، لا مكان ايجاده على ما هو عليه واثبات
المحمول له - فعليه فالقضية، مركبة من اجزاء ثلاثة: الموضوع، وهو ذات اللفظ و
شخصه، والمحمول، وهو لفظ، أو ثلاثي مع النسبة بينهما.
وأورد عليه بان القضية حينئذ، لا تكون لفظية، لعدم الحاكي عن الموضوع. وفيه:
ان القضية، هي ما تكون مركبة من مسند ومسند إليه في عالم اللفظ. ولا يعتبر في صدقها،
تغاير الموضوع فيها مع الموضوع في القضية المحكية. مع أنه، لا ضرر في عدم صدقها،
فإنه لا مشاحة في الاصطلاح.
ثانيهما: ان اتحاد الدال والمدلول ذاتا، مع تعددهما اعتبارا لا يضر. فمن حيث إنه
لفظ صادر عن لافظه، كان دالا. ومن حيث إنه نفسه وشخصه مراده، كان مدلولا.
وفيه: ان التعدد الاعتباري، غير مجد في المقام. إذ الدلالة، عبارة عن العلم بشئ
من العلم بشئ آخر. فهي، تتوقف على حصول علمين المتوقف على ثبوت معلومين.
57

فمع كون المعلوم واحدا، لا يعقل تعداد العلم. والتعدد الاعتباري، لا يجدى في تكثر العلم.
وكون أحد العلمين، معلولا لاخر. وان شئت قلت: ان استعمال شئ في شئ، عبارة عن
احضاره في ذهن السامع، لينتقل ذهنه إلى المستعمل فيه. وفي المقام، لا مورد للانتقال
الثاني. فلا يكون من الاستعمال في شئ مع أن الدال، انما هو ذات الشئ لا بقيد انه لفظ
صادر. وبعبارة أخرى، هذه الحيثية الاعتبارية ليست دخيلة في الدلالة كي توجب التعدد.
وقد ذكر المحقق الأصفهاني (ره) في وجه تصحيح كلام المحقق الخراساني وجها
دقيقا لا يخلو ايراد عن فائدة، وحاصله يتوقف على مقدمات:
الأولى: ان الشوق، يستحيل تحققه مطلقا وبلا متعلق. ولابد في تحققه من تعلقه
بمتعلق. ولا يعقل تعلقه تعلقه بالموجود الخارجي. إذ الخارج عن أفق النفس، لا يعقل ان يكون
مقوما لما في النفس. ولا الموجود الذهني. إذ الشوق والعلم، صفتان متباينتان وفعليتان.
ويستحيل تقوم فعلية بفعلية آخر. فان كل فعلية، تأبى عن فعلية أخرى مع أن الشوق ليس
متعلقا بالموجود الذهني بالوجدان. فلابد وان يتعلق بالماهية المعراة عن الوجود
الخارجي والموجود الذهني. ويتعلق الشوق بها، تكون الماهية موجودة بالوجود
الشوق. كما توجد في الخارج بالوجود الخارجي، وفي الذهن بالوجود الذهني.
الثانية: ان استعمال كل لفظ في معناه، يتقوم بإرادتين: أحدهما، تتعلق بايجاد
المعنى باللفظ وابرازه به. وثانيتهما، تتعلق بايجاد اللفظ تكوينا. وهذه الإرادة ربما تنفك
عن الأولى. كما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاستعمال والحكاية عن الواقع.
الثالثة: ان عوارض الألفاظ ومحمولاتها ككون لفظ زيد ثلاثيا - كما تكون
أوصافا للماهية الشخصية الموجودة الخارجية، كذلك تكون أوصافا للماهية الموجودة
بالوجود الشوقي. لأنها، أوصاف لمهية الكيف المسموع على الفرض. وهي أينما تحققت
تترتب عليها هذه الأوصاف.
إذا عرفت هذه المقامات، فاعلم. ان المتكلم إذا قال: زيد ثلاثي، وأراد منه
شخص نفسه، تكون هذه المهية الشخصية بوجودها الخارجي، دالة على الموجودة
بالوجود الشوقي. وبعبارة أخرى، يجعل اللفظ بوجوده الخارجي، فانيا في اللفظ
58

بوجوده الشوقي. ولا ينافي ذلك، إرادة شخص نفسه. لان المراد بالذات والمصادر، مهية
شخصية من غير جهة الإرادة في قبال ما إذا أريد افناء اللفظ في الطبيعة. كما أن فرض إرادة
أخرى مصححة للدلالة، لا ينافي في قرض إرادة شخصية وعدم إرائة غيره. إذ المرئي حينئذ،
نفس المهية الشخصية. غاية الامر، ثبوتها في وعاء دال على ثبوتها في وعاء آخر.
وفيه: أولا: ان الوجود، مساوق للتشخيص. ففرض ثبوتين، ملازم لفرض شخصين.
فيكون الحاكي شخصا، غير المحكى. فهو من استعمال اللفظ في مثله لا شخص. وان
شئت قلت: ان المهية الشخصية الثابتة بالثبوت الشوقي، غير الماهية الموجودة بالوجود
الخارجي.
وثانيا: ان الشوق وان لم يكن متقوما بالوجود الخارجي، لا لما ذكره من البرهان،
لأنه يرد عليه ما حققناه في محله من امكان تعلق العلم بنفس الموجود الخارجي، بل من
جهة عدم الثبوت الخارجي حين وجود الشوق. بل ربما لا يوجد إلى الأبد. ولا بالموجود
الذهني بما هو هو، ولكن لا نسلم تعلقه بالمهية وثبوتها به. فان الشوق من الصفات، و
الاعراض ذات الإضافة فهو بنفسه له مهية خاصة موجودة بوجوده، كما هو الشأن
في جميع الكيفيات النفسانية. وعليه، فلو كان متعلقه المهية الثابتة بثبوته، لزم اتحاد
المهيتين المختلفتين، وتحققهما بوجود واحد. وهو محال. بل المتعلق. هو الموجود
الذهني بما انه فان في الخارج، وآلة لملاحظة الموجود الحقيقي. وبالجملة ان الوجود،
منحصر بالوجود الخارجي والذهني على ما هو المسلم عند أرباب المعقول. وليس من
الوجود الشوقي في كلماتهم عين ولا اثر. وصدور مثل هذا الكلام من مثل هذا
المحقق النحرير، ليس الا من باب ان الجواد قد يكبو، ويؤيده ما ذكره (ره) في مسألة تعلق
الامر بالطبيعة: ان طبيعة الشوق، من الطبايع التي لا تتعلق لا بما له جهة فقدان وجهة وجدان.
تبعية الدلالة للإرادة
العاشر: في تبعية الدلالة للإرادة: قال في الفصول: فصل، هل الألفاظ، موضوعة
بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها وجهان. انتهى.
59

قبل البحث في ذلك، لابد من التنبيه على أمرين.
أحدهما: ان منشأ هذا البحث، ما حكى عن العلمين: الشيخ الرئيس،
والمحقق الطوسي، من مصيرهما إلى أن الدلالة، تتبع الإرادة.
ثانيهما: ان الدلالة - أي دلالة الألفاظ على المقاصد - على اقسام ثلاثة:
القسم الأول: الدلالة التصورية. وهي الانتقال من كثرة استعمال اللفظ في المعنى.
وغير مربوط بالدلالة الوضعية. بل لو فرض صدور اللفظ من غير اختيار أو اصطكاك
حجر على حجر، ينتقل الذهن إلى المعنى.
القسم الثاني: الدلالة التفهيمية: ويعبر عنها بالدلالة التصديقية فيما قال. وهذه
الدلالة، تتوقف زائدا على العلم بالوضع، على احراز ان المتكلم في مقام التفهيم، ولم
ينصب قرينة متصلة على الخلاف.
القسم الثالث: الدلالة التصديقية فيما أراد. وهي، الدلالة على مطابقة المراد الجدي
للمراد الاستعمالي. وهي، ثابتة ببناء العقلاء.
وبعد ذلك نقل: ان مراد العلمين مما أفاداه، ليس اخذ الإرادة قيدا للموضوع له
أو المستعمل فيه، - كما توهم صاحب الفصول - حتى يرد عليه:
1 - استحالة أخذ ما هو من مقومات الاستعمال المتأخر بالطبع عن المستعمل فيه
في الموضوع له أو المستعمل فيه. وإلا لزم تقدم ما هو متأخر.
2 - لزوم التجريد عند إرادة الحمل. إذ المحمول على زيد - في زيد قائم مثلا -
نفس القيام لا بما هو مراد. وكذا الموضوع. فإنه، نفس زيد لا بما هو مراد.
3 - لازمه كون وضع عامة الألفاظ، عاما والموضوع له خاصا. لمكان اعتبار
خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ.
ولا ما افاده المحقق الخراساني، من حمل الدلالة في كلامهما، على الدلالة
التصديقية فيما أراد غير الوضعية فان تبعيتها للإرادة في الواقع ونفس الامر واضحة
لا مجال للكلام فيها أصلا.
60

بل مرادهما أن العلقة الوضعية، مختصة بصورة تعلق الإرادة بتفهيم المعنى. وان
الدلالة الوضعية، مختصة بالدلالة التصديقية فيما قال كما هو صريح كلامهما في بحث
الدلالات للإرادة بتبعية مقام الاثبات للثبوت لا حظ كلامهما. قال العلامة الطوسي (ره) في
محكى شرح منطق الإشارات، في دفع انتقاض تعريف المفرد والمركب: دلالة اللفظ لما
كانت وضعية، كانت متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع فما يتلفظ به ويراد
منه معنى ما، ويفهم عنه ذلك المعنى: يقال: انه دال على ذلك المعنى وما سوى ذلك
المعنى، مما لا تتعلق به إرادة المتلفظ. وان كان ذلك اللفظ، أو جزء منه بحسب تلك اللغة
أو لغة أخرى أو بإرادة أخرى، يصلح لان يدل عليه. فلا يقال: انه، دال عليه. ونحوه، ما
ذكره في محكى شرح حكمة الاشراق في باب الدلالات الثلاث.
قال الشيخ الرئيس في محكى الشفاء ان اللفظ بنفسه، لا يدل البتة. ولولا ذلك
لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه، بل انما يدل بإرادة اللافظ.
وعلى ذلك، فما افاده العلمان متين جدا. وذلك على المختار في حقيقة الوضع من
كونه بمعنى الالتزام والتعهد، واضح. فان متعلق التعهد والالتزام، لابد وأن يكون أمرا
اختياريا. والامر غير الاختياري، لا يعقل ان يكون طرف الالتزام. وعليه، فلا محالة يكون
التعهد، مختصا بصورة تفهيم المعنى وارادته من اللفظ. وليس بين ذات المعنى
واللفظ مع عدم الإرادة، علقة وربط.
واما على القول: بان الوضع، عبارة عن جعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، أو
اعتبار وضع اللفظ على المعنى، فلانه وان أمكن ثبوت العلقة مع عدم الإرادة والقصد.
الا انه من جهة اختصاص فائدة الوضع، وهي الإفادة والاستفادة بصورة قصد التفهيم،
فلا محالة تكون العلقة الوضعية، مختصة تبلك الحالة مع فرض كون الموضوع له هو
طبيعي المعنى من دون تقييده بقيد. وما يرى من انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ
من التكلم بلا اختيار، فإنما هو من جهة الانس لامن جهة العلقة الوضعية.
61

وضع المركبات
الحادي عشر: في وضع المركبات في أنه، أهل يحتاج المركب إلى وضعه ثانيا بعد
وضع مفرداته، ومنها الهيئة التركيبة، أم لا؟ قولان: وقبل الشروع في البحث فيه، لابد وان
يعلم أن محل الكلام في المقام - كما افاده صاحب الفصول - في وضع المركب بما هو
مركب. أي وضعه بمجموع اجزائه من الهيئة والمادة. مثلا في قولنا: زيد قائم. قد وضعت
كلمة " زيد " لمعنى خاص، وكلمة " قائم " لمعنى آخر، والهيئة القائمة بهما لمعنى ثالث.
وهذا كله، لا اشكال فيه. انما الكلام في أنه هل يكون لمجموع المركب من هذه المواد
وضع على حدة أم لا؟
فما افاده المحقق النائيني (ره) (من أن المراد ليس ذلك. فإنه لا يمكن أين ينسب إلى
أحد من العقلاء. فضلا عن العلماء. بل النزاع في أن الموضوع للربط الكلامي في الكلام
العربي - كزيد قائم - هل هو الاعراب كما ذهب إليه بعض، أو انه هو الضمير المقدر
- أي لفظه هو - كما افاده جماعة من أهل الميزان، أو انه الهيئة التركيبية كما هو المختار
للمحققين؟) غير تام. فان هذا النزاع، انما حدث بين المتأخرين. واما النزاع الواقع بين
القدماء، فهو النزاع الأول.
وكيف كان فالحق في النزاع الأول، عدم الوضع للمركبات. لا لما في الكفاية، من
عدم الحاجة إليه بعد وضعها بموادها، مع استلزامه الدلالة على المعنى، تارة بملاحظة
وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
فإنه يمكن الجواب عن الايراد الأول، بان الفائدة المترتبة على الوضع ليست الا
امكان وقوعه مقدمة للتفهيم والتفهم. ولا ريب في امكان وقوع ضوع المركبات، مقدمة
لهما، ولو في مورد عدم العلم بوضع المفردات. وعن الثاني، بأنه، لا محذور في ذلك. إذ
معاني المفردات، لوحظت بنحو الانفراد. ومعنى المركب ملحوظ بنحو الجمع. نظير
الدار بالإضافة إلى البيت والجدران والسقف وغيرها. فلكل منهما، مدلول مستقل غير
62

مربوط بالآخر. فلا يلزم اجتماع السببين على مسبب واحد، مع أنه لو سلم لزوم ذلك،
فليكن من قبيل اجتماع العلتين على معلول واحد. فلا يكون مدلولان ودلالتان. بل
مدلول واحد ودلالة واحدة مستندة إلى مجموع العلتين.
بل الصحيح. ان يستدل لعدم وضعها، بعدم الدليل عليه. وبان الانتقال إلى المعنى
مرتين بالنحو الذي ذكرناه وان ممكنا الا انه غير واقع وهو آية عدم الوضع والا
لترتب عليه الانتقال لا محالة.
واما النزاع الثاني فقد أورد على القول بان الموضوع للربط الكلامي هو الاعراب،
بان الاعراب مشترك بين هذا النحو من التركيب وبقية التراكيب. وعلى القول بأنه
هو الضمير المقدر أي لفظة هو، بأنه موضوع لمفهوم استقلالي اسمى فلا يكون مقيدا
للمعنى الحرفي، فلا محالة يكون هو الهيئة التركيبية.
وأفاد المحقق النائيني (ره) ان ذلك انما هو في الهيئة التركيبة الاسمية، واما الجمل
الاخر، كضرب زيد، أو كان زيد قائما، فالمفيد للربط فيها هي هيئة الفعل بأنواعها وقد
يكون الدال على الربط أحد الافعال الناقصة كلفظة كان مثلا ولو كان للهيئة التركيبية
في الجمل الفعلية وضع على حدة لزم إفادة المعنى الواحد مرتين وهو غير معقول.
أقول يرد عليه أمور، الأول: ان هيئة الفعل انما تدل على قيام الحدث بمحل ما
وتشخيص ذلك المحل لا دليل عليه سوى الهيئة التركيبية - مثلا - ضرب انما يدل على
حركة هذا المعنى من عالم المفهومية إلى عالم التحقق والثبوت، واما تشخيص الفاعل
فهو لا يدل عليه وذكر لفظ زيد بعده لا يفيد ذلك فيتعين الالتزام بوضع هيئة الجملة لذلك،
الثاني: ان هناك مزايا اخر غير ما وضوع له هيئة الفعل وان سلم دلالتها على تشخيص
الفاعل، كالحصر والاستمرار ونحوهما، لا تدل هيئة الفعل عليها، فلا دال عليها سوى
الهيئة الكلامية، الثالث: انه بناءا على مسلكه (ره) من وضع الهيئة لايجاد الربط الكلامي،
لابد له من الالتزام بوضع المركبات لدلالة الجملة على الربط الخارجي، والمفروض عدم
وضع المفردات حتى الهيئة له فلابد من القول بوضع المركب لذلك الربط الخاص القائم
بالطرفين، ونحن فسحة من ذلك حيث التزمنا بان الهيئة وضعت لابرار إرادة تفهيم
63

الربط الخارجي.
ويظهر مما ذكرناه أهل الأدب من تقسيم المجاز إلى المجاز في الفرد و
المجاز في المركب، غير تام: لان الاستعمال المجازى فرع وجود الموضوع له وقد
عرفت ان المركب لم يوضع لشئ ومعه لا يتصور المجاز فيه.
نعم يجوز التشبيه في بان يشبه المركب بالمركب في قوله تعالى " مثلهم كمثل
الذي استو قد نارا " كما يجوز الكناية فيه كما في قولهم " أراك تقدم رجلا
وتؤخر أخرى "، فإنه كناية عن التردد الحاصل في النفس الموجب لذلك.
التبادر من علامات الحقيقة
الثاني عشر: في علامات الحقيقة والمجاز، وقد ذكر الأصحاب للحقيقة علائم.
منها التبادر - وغاية ما قيل في وجه كونه علامة الحقيقة، ان الانسباق إلى الذهن و
خطور المعنى فيه والانتقال من اللفظ إلى المعنى، اما ان يكون ناشئا من العلقة الوضعية، أو
من جهة المناسبة الذاتية، أو من جهة قرينة خارجية ولو كانت هي الاطلاق، وحيث إن
المفروض عدم الثالث، وبطلان الثاني، فلابد وأن يكون الانتقال مستندا إلى الوضع، وكون
اللفظ موضوعا له.
وفيه انه قد يكون التبادر ناشئا عن الممارسة في كلمات اللغويين والمراجعة إليها
فان ذلك أيضا يوجب الانتقال إلى المعنى، وليس ذلك آية كونه موضوعا له إذ هو لا يزيد
على أصله ومنشائه وهو قول اللغوي الذي لا يكون دليلا على الحقيقة، فالتبادر لا يكون
علامة للحقيقة بقول مطلق، بل إذا كان منشأ الانتقال، وهو الارتكاز النفساني، غير ناش
عن الممارسة في كلمات اللغويين فالعلامة الحصة الخاصة من التبادر، وهو فهم المعنى
من اللفظ نفسه بلا معونة خارجية وهي كاشفة عن الواضع لا محالة.
وربما يورد على ذلك، باستلزامه الدور إذ من المعلوم بالضرورة ان الوضع بنفسه
لا يوجب التبادر، بل الموجب هو العلم بالوضع فلو انتفى العلم به انتفى التبادر ولو كان
64

التبادر موجبا للعلم بالوضع لزم الدور.
وأجاب عنه المحقق العراقي على ما نسب إليه، بان الموقوف فرد من العلم و
الموقوف عليه فرد آخر منه، فلا دور حتى مع المعلوم كيف يعقل تعدد العلم.
وفيه: انه مع فرض وحدة المعلوم كيف يعقل تعدد العلم.
الصحيح - هو الجواب عنه بما هو معروف - وهو ان العلم بالوضع تفصيلا،
يتوقف على التبادر الاجمالي الارتكازي، توضيح ذلك أن كل فرد من افراد أهل المحاورة
يستعمل الألفاظ الدراجة في معان مخصوصة عند الابتلاء إليها وهو عالم بتلك المعاني
بالارتكاز، ولكنه غافل عن خصوصيات معلومة، كغيرها من معلومات الانسان التي
يغفل الانسان عن خصوصياتها مع كونها مرتكزة في ذهنه بالاجمال، فإذا كان في مقام
معرفة معنى لفظ خاص يرجع إلى ذهنه ويفتش عن ما في ضميره فان رأى تبادر معنى
عند اطلاق لفظ خاص من دون استناد إلى القرينة فيكشف له ان ذلك معنى ذلك اللفظ.
ويظهر مما ذكرناه من توقف التبادر على العلم الارتكازي، ان عدم التبادر ليس
علامة المجاز إذ ليس كل واحد عالما بمعاني جميع ما يستعملها أهل المحاورة - حتى ما
هو خارج عن محل ابتلائه - كما أن تبادر معنى لا يكون علامة كون غيره مجازا لاحتمال
الوضع له أيضا مع عدم علمه به.
ثم انه لو كان لفظ ظاهرا في معنى، بمعنى انه كان يتبادر منه عند الاطلاق، ولكن
شك في أن هذا التبادر، هل يكون من حاق اللفظ فيكون ذلك المعنى موضوعا له، أم
يكون بواسطة القرينة فلا يكون موضوعا له.
فان كانت القرينة المحتملة عامة موجودة في جميع موارد استعمال اللفظ،
لا يترتب ثمرة على النزاع في جريان أصالة عدم القرينة.
واما ان لم تكن كذلك فقد يقال انه يجرى أصالة عدم القرينة ويثبت بها ان
هذا المعنى موضوع له، فيحمل عليه عند اطلاقه مجردا عن تلك القرينة.
وأورد عليه: تارة بمعارضتها مع أصالة عدم الوضع لذلك المعنى وأخرى، بان
أصالة عدم القرينة لا تجرى في المقام، سواء كان مدرك أصالة القرينة بناء العقلاء، أو
65

اخبار الاستصحاب. اما على الأول فلان بناء العقلاء وان كان على عدم القرينة عند الشك
فيها، الا انه انما يكون في مورد الشك في المراد مع احراز المعنى الحقيقي، لا في
مثل المقام مما أحرز المراد وشك في المعنى الحقيقي لان بنائهم مطلقا عملي يستكشف
من العمل، وأما إذا كان مدركها الاخبار أي أدلة الاستصحاب، فلان احراز المراد من
الآثار غير الشرعية، فلا يثبت بتلك الأدلة.
وفيهما نظر، اما الأول: فلان أصالة عدم الوضع للمعنى المراد معارضة مع أصالة
عدم الوضع لغيره للعلم اجمالا بوضعه لمعنى من المعاني، واما الثاني: فلانا تختار ان
مدرك هذا الأصل بناء العقلاء ولا ندعي ثبوت بنائهم في مورد احراز المراد، بل المدعى
انه إذا استعمل لفظ امرارا وأريد منه معنى خاصا ثم بعد ذلك استعمل مرة أخرى وشك
في المراد منه من جهة انه يحتمل ان يكون فهمه ذلك المعنى في تلك الموارد من جهة
القرينة لا من حاق اللفظ بناء العقلاء على كون ذلك المعنى هو المراد، وان شئت فاختبر
ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فإنه، إذا امر المولى عبده مرارا باتيان الماء وكان
العبد بفهم منه إرادة الجسم السيال المخصوص، وبعد ذلك امره باتيانه وشك في أن فهم
ذلك المعنى في تلك الموارد كان من جهة القرينة غير الموجودة، أم من حاق اللفظ و
صار ذلك سببا للشك في المراد، فان أحدا لا يشك في أنه موظف باتيان ذلك الجسم في
نظر العقلاء وليس له الاعتذار عن عدم الامتثال بعدم كشف المراد.
عدم صحة السلب من علامات الحقيقة
ومنها: عدم صحة السلب وقد يعبر عنه بصحة الحمل، وقالوا كما أنه علامة
الحقيقة كذلك تكون صحة السلب علامة المجاز، أقول المجاز، أقول: تحقيق القول في المقام يقتضى
التكلم في مقامين: الأول: في صحة الحمل وملخص القول فيها: ان الحمل على قسمين:
الأول: حمل الأولى الذاتي، وهو عبارة عن حمل أحدا المفهومين على الاخر لما بينهما
من الاتحاد الماهوي. لا المفهومي سواء كان أحد المفهومين مجملا والاخر مفصلا،
66

كقولنا: " الانسان حيوان ناطق " أم كان كل منهما مجملا، " كقولنا الانسان بشر ".
فقد يقال ان صحة هذا الحمل علامة الحقيقة، فلو علم المستعلم عن معنى لفظ
بشر، معنى الانسان تفصيلا، جعله موضوعا، وحمل عليه لفظ البشر بما له من المعنى
المشكوك وضعه لذلك المعنى موضوع له، من غير فرق بين القسمين، إذ كما أنه
يستكشف من صحة الحمل في المجملين اتحاد المعنيين، كذلك يستكشف في الجمل
و المفصل اتحاد المعنيين ذاتا وماهية، ومجرد اختلافهما مفهوما ما لكون أحد هما
مركبا مفصلا، والاخر بسيطا مجملا، لا يضر باستكشاف الاتحاد، عليه، فما عن
المحقق العراقي (ره) من عدم تسليم كونها علامة الحقيقة في القسم الثاني، في غير محله.
ولكن يمكن ان يقال ان غاية ما يدل عليه صحة الحمل اتحاد المعنيين و اما كون
اللفظ حقيقة في أحد المعنيين فهو امر آخر غير مربوط بصحة الحمل و بعبارة أخرى ان
هذا المعنى الاخر عليه فلا يمكن اثبات كونه حقيقة بصحة الحمل فليست هذه علامة
الحقيقة وان تمسك بانسباقه إلى الذهن منه فهو استدلال بالتبادر والكلام في كون صحة
الحمل بنفسها علامة للحقيقة.
القسم الثاني: حمل الشايع الصناعي وهو حمل أحد المتحدين في الوجود الذهني
أو الخارجي على الاخر و هو على اقسام، إذ تارة يكون حمل الطبيعي على الفرد كزيد
انسان، وأخرى يكون حمل أحد الكليين على الاخر مع كونهما متساويين مثل " الانسان
ضاحك "، وثالثة يكون حمل الكلى الأعم على الأخص مثل " الانسان حيوان "، وعلى كل
تقدير، قد يكون الوجود المفروض وجودا لهما بالذات كما في حمل الطبيعي على
مصداقه أو الكلى الأخص منه مع كونه جهة جامعة له ولغيره، وقد يكون وجودا لهما
بالعرض مثل " الضاحك متعجب "، وثالثة يكون وجودا بالذات لأحدهما وبالعرض للاخر
مثل " الانسان ضامك ".
أما إذا كان وجودا بالذات لهما فغاية ما يمكن ان يقال في وجه استكشاف الوضع
67

منه في جميع الأقسام انه مثلا في الطبيعي والفرد إذا أراد المستعلم ان يعلم تفصيلا معنى
الانسان وكان عالما بالطبيعي الذي يكون زيد أحد افراده جعل - زيدا - موضوعا وحمل
الانسان عليه بما له المعنى الارتكازي في نفسه، فإذا صح هذا الحمل انكشف كون
معنى الانسان هو الجهة الجامعة بين زيد و غيره من افراد الحيوان الناطق، وهكذا
في المتساويين مثل " الانسان ناطق " إذا كان النظر إلى المميز لهذا النوع من غيره، وفي
الأعم والأخص، مثل " الانسان حيوان " إذا كان النظر إلى المعنى الموجود في ضمن النوع.
ولكنه غير تام فان ما ذكر غاية ما يستكشف منه كون المستعمل فيه كذلك
لا الموضوع له ومع الاغماض عن ذلك وتسليم ما ذكر فإنما هو فيما إذا كان وجودا لهما
بالذات. واما في غير ذلك من موارد الحمل الشايع حتى في الفرد والكلي مثل " زيد
ضاحك "، فلا يمكن استكشاف الوضع به، الا إذا رجع إليه كما في المثال، فإنه ان علم
معنى الهيئة، ولم يعلم تفصيلا معنى المادة وأراد تشخيص معناها جعل الضاحك
محمولا وحمله على زيد بلحاظ الصفة القائمة به فمن صحة الحمل وان استكشف معنى
المادة الا انه من جهة ان كل ما بالعرض لابد وان ينتهى إلى ما بالذات، فلا محالة ينتهى
الامر إلى الحمل على تلك الصفة القائمة بالجسم وهو من حمل الكلى على فرده، ويتبعه
يستكشف ان الضاحك معناه ماله تلك الصفة المسماة بالضحك، وكذلك ان علم معنى
المادة تفصيلا، وأراد ان يعلم معنى الهيئة تفصيلا وانها موضوعة لأي نحو من أنحاء
النسبة فإنه من صحة حمل لضاحك على زيد يستكشف وضعها للنسبة الجامعة بين قيام
الضحك بزيد وما ماثله.
ومما ذكرناه ظهر حكم حمل الحد العامين من وجه على الاخر، وانما لم نذكره
في العنوان لأجل انه لا يعقل كون النسبة عموما من وجه ويوجدان بوجود واحد مع كونه
وجودا لهما بالذات كما لا يخفى، هذا هو القول الفصل في المقام، ومنه يظهر ما في
كلمات المحققين من الخلط والاضطراب.
المقام الثاني: في صحة السلب، فملخص القول فيه: ان السلب أيضا على قسمين:
القسم الأول، نفى الاتحاد الماهوي والثاني، نفس الاتحاد وجودا.
68

اما صحة السلب بالمعنى الأول: فهي ليست امارة المجاز بقول مطلق فإنها لا تدل
على عدم كون المسلوب عنه من افراد المسلوب كي لا يصح اطلاقه عليه. نعم، هي امارة
المجاز بمعنى كون استعماله فيه مجازا.
واما صحة السلب بالمعنى الثاني، فمن جماعة من الأساطين كونها امارة المجاز
بقول مطلق إذ لازم صحة السلب عدم الاتحاد ماهية ولا وجودا فيكون المسلوب عنه
أجنبيا عن المسلوب لا معناه الحقيقي ولأفراد من افراده، فلا يصح استعماله فيه ولا
اطلاقه عليه، أقول: هذا انما يتم بناء على عدم اعتبار كون الموضوع متحدا مع المحمول
مهية في الحمل الشايع، والا فلا يتم إذ صحة السلب بالمعنى المذكور على هذا المعنى،
لا تلازم تغايرهما ماهية، فلا تكون امارة كون المسلوب أجنبيا عن المسلوب عنه.
الاطراد علامة الحقيقة
ومنها الاطراد، وقد جعله جماعة من الأصحاب علامة للحقيقة، وملخص القول
فيه: انه ان كان المراد منه كثرة استعمال اللفظ في معنى مخصوص، فهو حاصل في المجاز
لأنه إذا صح استعمال لفظ في معنى مرة صح استعماله فيه مرارا بعين ذلك الملاك. هذا
من حيث صحة الاستعمال، واما من حيث نفسه فربما يكون الاستعمال في المعنى
المجازى كثيرا، كما أنه ربما يكون في المعنى الحقيقي قليلا لقلة الابتلاء به.
وكذلك ان كان المراد منه صدق المعنى على تمام افراده في الخارج. وبعبارة
أخرى. أريد من الاطراد التكرار في التطبيق لا الاستعمال.
فإنه وان توهم المحقق الأصفهاني ان ذلك يختص بالمعنى الحقيقي فإنه الذي
يصح استعماله في جميع موارد وجود ذلك المعنى كالانسان الذي يطلق على زيد بلحاظ
كونه حيوانا ناطقا فإنه يصح اطلاقه على جميع افراد الحيوان الناطق بخلاف المعنى
المجازى كالبدر الذي يطلق على زيد بلحاظ جماله، فإنه لا يصح اطلاقه على كل جميل
حتى النخلة الجملية.
69

لكنه غير تام إذ صدق المعنى المستعمل فيه اللفظ على مصاديقه قهري عقلي
سواءا كان الاستعمال مجازيا أم حقيقيا.
نعم يمكن اخذ خصوصية فيه لا يصدق لأجل ذلك على فاقد الخصوصية، فان
هذا يمكن في المعنى الحقيقي أيضا، وهذا هو السر في عدم صدق البدر على الجميل غير
الانسان، وان كان المراد من كون الاطراد علامة الحقيقة انه إذا استعمل لفظ في معناه
الموضوع له المردد عندنا بين معان فيه يميز الموضوع له عن غيره - مثلا إذا رأينا انه يطلق
الانسان على زيد حقيقة - ولكنه لم نعرف انه من جهة قيام الضحك به، أو كونه حيوانا
ناطقا أو غير ذلك فبالاطراد - وكثرة اطلاقه على موارده ومصاديقه يستكشف انه
موضوع للحيوان الناطق، فيرد عليه انه يجرى في المعنى المجازى أيضا - مثلا إذا رأينا
صدق الأسد على زيد بما له من المعنى المجازى ولم نعرف انه بلحاظ شجاعته، أو غيرها
من الصفات، فبالاطراد يستكشف انه انما يكون بلحاظ تلك الصفة، مع أنه ربما لا يجرى
في المعنى الحقيقي وهو ما لو احتمل ان يكون استعمال الانسان وإرادة زيد بلحاظ ما هو
من لوازم هذا النوع كالكتابة بالقوة كما لا يخفى.
أقول: يمكن ان يكون المراد من الاطراد، صحة استعمال اللفظ في معناه في جميع
موارد جعله أو فرد من افراده موضوعا على اختلاف القضايا وتعدد المحمولات
- مثلا - الانسان يصح استعماله في معناه من دون فرق بين أنواع المحمولات المنتسبة إليه،
وهذا بخلاف المعنى المجازى فإنه لا يصح استعماله فيه وجعله موضوعا في جميع
القضايا - مثلا - إذا أردت اظهار الكراهة ممن هو في الجمال كالبدر لا يحسن ان تقول انى
أكره البدر، وجعل الاطراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز بهذا المعنى لا باس به،
وبعبارة أخرى المراد من الاطراد هو الاطراد في التراكيب المختلفة الكلامية مع حفظ
وحدة المستعمل فيه، فان صح التعبير عنه بهذا اللفظ في أي تركيب من التراكيب المختلفة
باختلاف الفعل المنسوب إليه كاستعمال لفظ الأسد في الحيوان المفترس، فهو علامة
الحقيقة، وان لم يصح كما في لفظ الأسد في الرجل الشجاع فإنه وان صح قولنا جائني
أسد، ولا يصح تزوج أسد، نام أسد وغيرهما من الافعال غير المناسبة لاظهار الشجاعة،
70

فيكون مجازا به.
بقى الكلام في ثمرة هذا البحث وانه، يترتب على هذا النزاع اثر أم لا؟ قد
يقال كما عن بعض الأجلة انه لا يترتب ثمرة على تشخيص المعنى الحقيقي إذ الظاهر
حجة، فان أحرز ظهور اللفظ في معنى يكون ذلك حجة سواء كان ذلك معناه الحقيقي أم
كان هو المعنى المجازى، وان لم يكن ظاهرا فيه فلا يفيد تشخيص كونه معنى حقيقيا إذ
على أي تقدير لا بكون حجة.
وفيه: ان ثمرة ذلك بناءا على كون أصالة الحقيقة من الأصول العقلائية التعبدية
ظاهرة لا تخفى، واما بناء على عدم كونها منها ودوران الحجية مدار الظهور الفعلي: فلان
تشخيص المعنى الحقيقي من مقدمات انعقاد الظهور الفعلي، فإنه إذا علم ذلك واستعمل
اللفظ وشك في إرادة معناه الحقيقي المحرز منه أم معناه المجازى من جهة احتمال
وجود القرينة تجرى أصالة عدم القرينة ويحرز بها إرادة الحقيقي ويثبت بها الظهور
الفعلي، نعم فيما إذا أحرز الظهور الفعلي في معنى أو عدمه كما في احتفاف الكلام بما
يصلح للقرينية لا يترتب ثمرة على تشخيص المعنى الحقيقي، لكنه يكفي ثمرة لهذا النزاع
ما ذكرناه، وهي ثمرة مهمة مترتبة على تمييز المعاني الحقيقة عن المعاني المجازية.
تعارض الأحوال
ثم إن الأصحاب ذكروا للفظ أحوالا، التخصيص، التقييد، الاشتراك، المجاز،
الاضمار وذكروا لتقديم كل واحد منها في صورة المعارضة وجوها، أقول تنقيح القول
في المقام انه ان دار الامر بين المعنى الحقيقي وغيره، فان كان المراد معلوما فلا كلام إذ
لا يترتب على النزاع في أن المراد هو المعنى الحقيقي أو غير مستندا، وان لم يكن معلوما
- فان كان احتمال إرادة غير المعنى الحقيقي مستندا إلى وجود ما يصلح للقرينة يحكم
بالاجمال لعدم انعقاد الظهور معه، وان كان مستندا إلى احتمال وجود القرينة - فيما إذا
دار الامر بينه وبين المجاز، أو التخصيص - والاضمار - فيما إذا دار الامر بينه وبين
71

الاضمار، والنقل - أو الوضع الثاني مع بقاء الأول - فيما دار الامر بينه وبين الاشتراك أو
النقل - يبنى ان المراد هو المعنى الحقيقي الأول لأصالة الحقيقة في الثلاث الأول،
وبعبارة أخرى أصالة عدم القرينة، وعدم التقدير والاضمار توجبان الحمل على المعنى
الحقيقي، كما أن أصالة عدم النقل وعدم الوضع الثاني اللتين من الأصول التي عليها بناء
العقلاء تعينان إرادة المعنى الأول، نعم فيما ثبت النقل أو الاشتراك وشك في أن
الاستعمال كان قبل ذلك أو بعده، كلام سيأتي تنقيح القول فيه في المسألة الآتية فانتظر.
وان دار الامر بين بعضها مع بعض آخر مع القطع بان المعنى الحقيقي الأول غير
مراد، فان كان اللفظ مع الصارف عن المعنى الحقيقي ظاهرا في أحدها، يحمل عليه لحجية
الظهور، والا فيحكم بالاجمال وما قيل في وجه التقديم من الوجوه الاعتبارية
الاستحسانية مثل كون بعضها أقرب إلى المعنى الحقيقي ونحوه، مما لا يعتمد عليه - نعم -
فيما إذا كان منشأ العلم بعدم إرادة المعنى الحقيقي هو تعارض الدليلين، لابد من الرجوع
إلى ما يقتضيه قواعد ذلك الباب من تقديم ما يكون دلالته بالعموم على غيره، وما يكون
اطلاقه شموليا وغير ذلك من القواعد المقتضية لتقديم أحد الدليلين على الاخر.
الحقيقة الشرعية
الثالث عشر: في الحقيقة الشرعية والكلام فيها في جهات.
الأولى: في محل النزاع والظاهر أنه اللفظ المستعمل في الماهية المخترعة من
الشارع بحيث لا يعرفها أهل العرف كالصلاة وغيرها، ويظهر من القوانين أعميته من ذلك
ومن سبب الموضوع العرفي كالبيع.
الجهة الثانية: ان الوضع التعييني كما مر في مبحث الوضع على قسمين: 1 - تصريح
الواضع بانشائه 2 - استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما إذا وضع له. وقد مر الاشكال في
معقولية القسم الثاني ونقده.
وقد يقال ان هذا الاستعمال أي الاستعمال بداعي الوضع لكونه بعد التعهد
72

النفساني يكون حقيقة، ولكن ان يوجه عليه بما تقدم في مبحث الاخبار الانشاء
انه في أمثال هذا الامر العقلاء لا يرتبون الأثر عليه ما لم يبزر فالتعهد النفساني وحدة
لا يفيد.
فما افاده المحقق الخراساني من أن هذا الاستعمال ليس بحقيقة تام، كما أن ما
افاده من عدم كونه مجازا أيضا تام لعدم كونه في غير ما وضع له.
الجهة الثالثة الظاهر ثبوت الحقيقة الشرعية بنحو الوضع التعييني بالمعنى الثاني،
ويمكن ان يستدل له بوجوه.
الأول: انه وان سلم عدم التصريح من الشارع بالوضع، والا لوصل إلينا لعدم كونه
مما توافر الدواعي لا خفائه بل توفر الدواعي لنقله، الا ان بناء العقلاء دليل وضعه إذ
لا ريب في ثبوت بنائهم على أن كل من اخترع شيئا يسميه باسم خاص لا سيما مع كونه
مورد الابتلاء، والظاهر أن الشارع المقدس لم يتخط عن هذه الطريقة المألوفة، وعليه فهو
أيضا وضع الفاظا لمخترعاته غاية الامر، بما انه نعلم بعدم الوضع بالتصريح، لا مناص عن
الالتزام بالوضع بنحو الاستعمال.
الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قال ويدل عليه تبادر المعاني الشرعية منها في
محاوراته، ويؤيد ذلك أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية فأي
علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء انتهى. وأورد عليه: بان التبادر الفعلي
لا يفيد إذ ثبوت الحقيقة المتشرعية ليس محل الكلام والخلاف، وهو لا يدل الا عليه،
واما التبادر في زمان الشارع بمعنى انسباق ذهن أهل ذلك الزمان من تلك الألفاظ
المتداولة إلى المعاني الشرعية فمما لا طريق لنا إلى اثباته - نعم - لا يبعد دعوى ثبوت
الحقيقة في زمان الصادقين عليهما السلام بل قبله.
ولكن الظاهر أن مراده هو التبادر في محاورات الشارع وفي ذلك الزمان بتقريب
ان العرب المتدينين لما سمعوا الآيات المتضمنة للامر بتلك الألفاظ، اما انهم لم يفهموا
شيئا من تلكم المفاهيم والمعاني المعروفة، أو فهموها بالقرينة، أو فهموها من حاق
اللفظ ولا رابع، والا ولأن واضح البطلان، فيتعين الثالث، وهو علامة الحقيقة.
73

وبما ذكرناه يظهر تمامية الاستدلال له بالآيات مثل قوله " كتب عليكم الصيام كما
كتب الج " وقوله تعالى " وأذن في الناس بالحج " وقوله تعالى " وأوصاني بالصلاة والزكاة
ما دمت حيا " إلى غير ذلك فإنها بضميمة ما ذكرناه في تقريب الاستدلال بالتبادر تدل على
ذلك.
ولا يراد عليه ما ذكره بعضهم بقوله ويرد عليه: أولا ان صلاة الأمم السابقة كما
نشاهد الان ليست الا دعاء محضا وكذلك الحج والزكاة، وثانيا ان غاية ما يستفاد من
هذه الآيات ثبوت هذه الماهيات المخترعة في الشرايع السابقة، ولا تدل على انها كانت
مسماة بهذه الأسماء، بل دعوى القطع بالعدم قريبة جدا: إذ لغات الشرايع السابقة غير
عربية وهذه ألفاظ عربية، مع أن قوله تعالى في الآية الأولى - كما كتب الخ - الضمير فيه
يرجع إلى معنى الصوم لا إلى لفظه كي يستدل به.
الجهة الثالثة في الثمرة بين القولين، قال جماعة منهم المحقق الخراساني بأنه يظهر
الثمرة في المسألة بحمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة بلا قرينة على المعاني اللغوية
مع عدم الثبوت وعلى معانيها الشرعية مع الثبوت إذا علم تاريخ الاستعمال.
ويرد عليه انه لابد من تقييد ذلك بعدم صيرورتها مجازات مشهورة في ذلك
الزمان في المعاني الشرعية إذا الشهرة مانعة عن انعقاد الظهور في المعنى الحقيقي بل ربما
توجب انعقاد الظهور في المعنى المجازى، بل يمكن ان يدعى انه إذا احتمل صيرورتها
كذلك في زمانه (ص) لابد من التوقف والحكم بالاجمال فيما لم يعلم تقدم الاستعمال
على ذلك: فان أصالة عدم وصولها إلى حد الشهرة إلى حين الاستعمال لو سلم جريانها،
تعارض استصحاب وصولها إلى هذا الحد بنحو القهقرى إلى حين الاستعمال فتدبر.
كما أنه: يرد على ما ذكره من حملها على المعاني الشرعية على تقدير ثبوتها انه
لابد وان يقيد ذلك بما إذا نقلت تلك الألفاظ عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية، وأما إذا
كان ثبوتها لا بهذا النحو بل بنحو الاشتراك فلا يتم ذلك بل يحكم بالجمال، ولا يبعد
دعوى كونها بنحو النقل على تقدير الثبوت. هذا كله إذا علم تاريخ الاستعمال.
وأما إذا جهل التاريخ، فتارة يكون زمان الاستعمال معلوما وزمان النقل مجهولا،
74

وأخرى يكونان بالعكس، وثالثة يكون كلا الزمانين مجهولين.
اما في الصورة الأولى - فقد يتوهم انه يحمل اللفظ على المعنى اللغوي: لأصالة
عدم النقل إلى حين الاستعمال. ولا يرد عليه ما قيل من أنها ليست أصلا عقلائيا: فإنه يمكن
دفعه بان بناء العقلاء على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية مع احتمال ان يكون
المستعمل نقلها إلى معان اخر، بل لان ذلك انما يتم في ما إذا لم يحرز النقل والا فمع
احرازه والشك في تقدم الاستعمال وتأخره، يعارض هذا الأصل مع أصالة النقل إلى حين
الاستعمال بنحو القهقرى التي هي أيضا في نفسها من الصول العقلائية: إذ لا ريب في أن
العقلاء إذا رأوا لفظا مستعملا في كلمات القدماء وله ظهور فعلا في معنى يحملونه عليه،
مع احتمال ان يكون الظهور الفعلي لنقله عن ما كان موضوعا عليه حين الاستعمال
- فتتساقطان ويحكم بالاجمال.
وبذلك ظهر وجه الحكم بالاجمال في الصورتين الأخيرتين، ولكن الذي يهون
الخطب - عدم ورود رواية متضمنة لهذه الألفاظ مع عدم القرينة على إرادة المعاني
اللغوية أو الشرعية - فهذا البحث مما لا يترتب عليه ثمرة عملية.
الصحيح والأعم
الرابع عشر في الصحيح والأعم، وقد وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات و
المعاملات، هل تكون أسام للصحيحة، أو الأعم وقبل ذلك ينبغي التنبيه على جهات.
الأولى: لا شبهه في تأتى الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، واما على
القول بعدم الثبوت ففيه اشكال. وقد ذكر في وجه جريان النزاع على هذا القول وجوه.
منها: ما نقله في الكفاية من أن النزاع وقع على هذا: في أن الأصل في هذه الألفاظ
المستعملة مجازا في كلام الشارع هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم، بمعنى
ان أيهما قد اعترت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداءا وقد استعمل في الاخر بتبعه
ومناسبته كي ينزل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى
75

معينة.
وهو غير صحيح: إذ المعنى المجازى الثاني ان كان بينه وبين المعنى الحقيقي
مناسبة صح الاستعمال، ولكنه ليس سبك المجاز من المجاز، والا لما صح الاستعمال وان
كان بينه وبين المعنى المجازى الأول مناسبة.
ثم إن كان مراد المحقق الخراساني من من نقل عنه هذا الكلام هو الشيخ الأعظم
فالظاهر أنه لم يحرر النزاع بهذا النحو، بل بنحو آخر، وحاصله ان اللفظ قد استعمل
مجازا عند الصحيحي في الصحيح دائما لعلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي، واستعماله في
الفاسد انما يكون من جهة التصرف في امر عقلي وهو تنزيل المعدوم منزلة الموجود،
فدائما يكون المستعمل فيه عنده الصحيح اما واقعا أو ادعاء. واما الأعمى فهو يدعى ان
اللفظ دائما يستعمل في الجامع بين الصحيح والفاسد مجازا وهو الذي اعتبرت العلامة
بينه وبين المعنى اللغوي، وإفادة خصوصية الصحة انما تكون بدال آخر، وعلى هذا
فاللفظ يحمل على الصحيح إذ استعمل في كلامه مع القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي
- عند الصحيحي - ما لم ينصب قرينة على التصريف في امر عقلي، كما أنه عند الأعمى
يحمل على الجامع مع عدم الدليل على خصوصية الصحة.
وبهذا التقريب يندفع ما أورده في الكفاية على الشيخ من لوجهين وهما، انه
لا يكاد يصح هذا الا إذا علم أن العلاقة انما اعتبرت كذلك وأين بناء الشارع في محاوراته
استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على ارادته بحيث كان هذا قرينة عليه من غير حاجة
إلى قرينة معينة أخرى وانى لهم باثبات ذلك.
اما ما ذكره أولا: فلان الدليل على ذلك هو الدليل على الحقيقة المتشرعية إذ منشأ
ثبوت تلك، استعمال اللفظ في ذلك المعنى مجازا في لسان الشارع وتابعيه حتى صار
حقيقة فيه، واما ما ذكره ثانيا: فلا من الصحيحي والا عمى يدعى ان المستعمل فيه
دائما شئ واحد فمع عدم نصب القرينة على التصرف في امر عقلي، أو على إرادة
الصحيح يحكم بإرادة المستعمل فيه منه كما هو الشأن في جميع الموارد.
و لكن يرد على ما افاده الشيخ الأعظم من التصرف في امر عقلي على القول
76

بالأعم، انه لا يتم في موردين، الأول: فيما إذا أريد منه الفاسد وجعل موضوعا في قضية
محمولها فاسد أو باطل - مثل - الصلاة بلا سورة فاسدة، الثاني: فيما إذا أريد منه الجامع
بين الصحيح والفاسد كما لا يخفى.
ويمكن تصوير النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية بوجه آخر، وهو ان
هذه الألفاظ المتداولة التي صارت حقائق في المعاني الشرعية عند المتشرعة، وتلك
معانيها المجازية في لسان الشارع، هل لوحظت العلاقة المصححة للاستعمال بين معانيها
الحقيقية و خصوص الصحيحة من المعاني الشرعية، أو لوحظت بينها وبين الأعم بنحو
يكون كلامه (ص) مع القرينة على عدم إرادة المعاني اللغوية ظاهرا فيما لوحظت العلاقة
بينها وبين المعاني الحقيقية، اما لاستقرار ديدنه على ارادتها من تلك الألفاظ، أو لكثرة
استعمال الشارع الألفاظ فيها فتدبر.
ومنها: ما نسب إلى الباقلاني وهو ان يكون النزاع في أن قضية القرينة المضبوطة
التي لا يتعدى عنها الا بالأخرى الدالة على اجزاء المأمور به وشرائطه هو تمام الاجزاء و
الشرائط أو هما الجملة.
وفيه: ان الدال على بقية الاجزاء والشرائط المعتبرة في موضوع الامر لا في
المستعمل فيه ان كان لفظا واحدا يستعمل فيها دائما صح هذا النزاع بالتقريب المذكور
ولكن الباقلاني لا يدعى ذلك بل يدعى ان الدال عليها انما هي الألفاظ الموضوعة لغة لكل
واحد منها وعليه فلا مجال لهذا النزاع.
الجهة الثانية في معنى الصحة: قال في الكفاية الظاهر أن الصحة عند الكل بمعنى
واحد وهو التمامية وتفسيرها، باسقاط القضاء كما عن الفقهاء، أو بموافقة الشريعة كما
عن المتكلمين، أو غير ذلك انما هو بالمهم من لوازمها. إلى أن قال ومنه ينقدح ان الصحة
والفساد أمران إضافيان فيختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات فيكون تاما
بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى.
وتنقح القول بالبحث في موردين: أحدهما: انه ما المراد من التمامية وان
الصحيحي هل يدعى الوضع للتام من أي جهة، وان المراد هو التمامية من جميع ما يعتبر
77

في المأمور به، أم يكون هو التمامية من جهة دون أخرى. الثاني: في أنه على فرض كون
المراد هو التام من جميع ما يعتبر في المأمور به، هل الصحة والفساد وصفان إضافيان كما
افاده في الكفاية أم هما وصفان حقيقيان.
اما المورد الأول: فلا اشكال في أنه ليس المراد من التمامية، التمامية من حيث
اسقاط القضاء، أو من حيث موافقة الامر: لان الشئ لا يتصف بالحد العنوانين الا بعد
الامر به واتيانه، ومثله لا يمكن ان يقع في حيز الامر، بل الظاهر أن المراد منها هو التمامية
من حيث الاستجماع للاجزاء والشرائط والخصوصيات المعتبرة في المأمور به ولعله
الظاهر من الكفاية وصريح غيرها.
والحق انه لا يصح دعوى الوضع للتام من جميع الجهات توضيح ذلك: ان
التمامية، تارة تلاحظ بالإضافة إلى الاجزاء خاصة، وأخرى بإضافة الشرائط إليها، وثالثة
بإضافة عدم المزاحم الموجب لعدم الامر فيكون الصحيح هو المركب من الاجزاء
والشرائط مع عدم كونه مزاحما بواجب آخر، ورابعة بإضافة عدم النهى إلى ما ذكر.
اما الأخيران خارجان عن المسمى قطعا: لأنهما فرع المسمى حتى ينهى عنه
أو يسقط امره بوجود المزاحم.
واما الشرائط فقد يقال بخروجها عن محل النزاع لأنها لا تعتبر في المسمى قطعا،
إذ الشرط متأخر عن المشروط رتبة فكيف يدخل في المسمى المستلزم ذلك لتساويهما،
ولكنه مردود بان تسمية المتقدم والمتأخر باسم واحد لا توجب تساويهما رتبة حتى
لا تكون ممكنة، نعم الشرط الذي يأتي من قبل الامر كقصد الامر المعتبر في التعبديات
لا يكون داخلا في المسمى وإلا لزم عدم استعمال اللفظ في معناه عند الامر به ولو في
مورد، وهو كما ترى، وستأتي تتمة البحث في ذلك عند البحث في تصوير الجامع على
القول بالوضع للصحيح.
واما المورد الثاني: فالحق ان الصحة بمعنى التمامية من حيث الاستجماع لجميع
ما يعتبر في المأمور به وما يقابلها وصفان حقيقيان، وما افاده المحقق الخراساني من أنهما
أمران إضافيان، لا يتم لأنه علله بأنه يختلف شئ واحد صحة وفسادا بحسب الحالات
78

فيكون تاما بحسب حالة وفاسدا بحسب أخرى، ويرده انه من الخصوصيات المعتبرة
في المأمور به حالات المكلف فما يكون واجدا لجميع الخصوصيات لا يتصف بالفساد
ابدا، مثلا صلاة الحاضر وان كانت فاسدة بالنسبة إلى المسافر، الا انه انما يكون لفقد
خصوصية من الخصوصيات المعتبرة كما هو واضح فالحق انهما وصفان حقيقيان
لا أمران إضافيان.
الاحتياج إلى تصوير الجامع
الجهة الثالثة، انه لابد على كلا القولين من تصوير جامع يشترك فيه جميع
الافراد، حتى يكون هو القدر المشترك الذي وضع اللفظ بإزائه، أو استعمل فيه مجازا
في لسان الشارع وعلى نحو الحقيقة في لساننا وذلك: لعدم كون هذه الألفاظ من قيل
المشترك اللفظي بين الافراد وهو بديهي، ولا من قبيل الموضوع له الخاص: لاستعمالها
في الجامع بلا عناية: ولأنا لا نتوقف عند سماع لفظ الصلاة بلا قرينة، بل ينتقل ذهننا إلى
تلك العبادة المخترعة من دون دخل الخصوصيات فيها: ولأنه لا سبيل إلى شئ منهما ان
كان وضعها تعينيا، أو تعيينيا بالاستعمال كما لا يخفى، وان كان وضعها تعيينيا بالتصريح
فهي كساير أسماء الأجناس، فتكون من قبيل المشتركات المعنوي، فلابد من تصوير الجامع
لكونه الموضوع له والمستعمل فيه.
وللمحقق النائيني في المقام كلام وهو انه لابد من تصوير الجامع وان كان
الموضوع له خاصا إذ لابد من قدر جامع به يشار إلى الموضوع له.
وفيه: ما مر منا في مبحث الوضع انه إذا لا حظ الواضع القدر المشترك بين الافراد
لا يصح وضع اللفظ للأفراد إذ الجامع لا يكون مرآة للخصوصيات وحاكيا عن الافراد،
بل لابد في الوضع للأفراد من لحاظها تفصيلا أو لحاظ عنوان منتزع عن الخصوصيات.
وعليه فبناءا على كون الموضوع له خاصا القدر المشترك لا يكون لازما.
ثم انه قال المحقق النائيني (ره) بعد أن أشكل في تصوير الجامع - ويمكن دفع
79

الاشكال بالالتزام بان الموضوع له هي المرتبة العليا الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط،
والاستعمال في غيرها من المراتب الصحيحة على قول الصحيحي أو الأعم منها على قول
الأعمى، من باب الا دعاء والتنزيل. ثم قال وهذا يوجب بطلان نزاع الصحيحي والأعمى
رأسا.
وفيه: أولا: ان المرتبة العليا ليست عبارة عن عدة اجزاء وشرائط معينة بحيث
لا يختلف قلة وكثرة، بل هي تختلف بحسب اختلاف اقسام الصلاة، مثل صلاة الصبح،
وصلاة الظهر، وصلاة العيدين، والآيات، والصلوات المستحبة، فالالتزام بوضعها
للمرتبة العليا يتوقف أيضا على تصوير جامع لجميع الأقسام. وثانيا: انا نرى بالوجدان ان
اطلاق الصلاة على المراتب النازلة كاطلاقها على المرتبة العليا انما يكون من دون
مسامحة وبلا تنزيل وتصرف في امر عقلي. وثالثا: ان المرتبة العليا لو سلم كونها قسما
واحدا بما انها تكون صحيحة بالنسبة إلى بعض المكلفين وفاسدة بالنسبة إلى آخرين، فيمكن النزاع في أن الموضوع له، هي تلك المرتبة أعم من أن تكون صحيحة أو فاسدة،
ورابعا: ان ما ذكره (ره) فليكن أحد الاحتمالات أي احتمالا ثالثا:، وهذا لا يوجب بطلان
النزاع.
تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة
ثم إن تنقيح القول بالبحث في مقامين الأول: في العبادات الثاني: في المعاملات.
اما الأول: فالكلام فيه في موردين 1 - في تصوير الجامع 2 - في أدلة الطرفين.
اما تصوير الجامع فالكلام فيه في موضعين، أحدهما في تصوير الجامع بين
الافراد الصحيحة، ثانيهما في تصويرة بين الافراد أعم من الصحيح، والفاسد.
اما الأول: فقد ذكر المحققون من الأصحاب لتصويره وجوها. منها ما افاده
المحقق صاحب الكفاية، قال منها - لا اشكال في وجوده بين الافراد الصحيحة - وامكان
الإشارة إليه بخواصه وآثاره فان الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع
80

واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع فيصح تصوير المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن
الفحشاء وما هو معراج المؤمن انتهى.
وحاصله ان الجامع يترتب النهى عن الفحشاء الذي هو غرض من
الصلاة المأمور بها فان وحدة الغرض تكشف عن وحدة المؤثر لان الواحد لا يصدر الا
عن الواحد - وأورد عليه باليرادات.
الأول: ما افاده المحقق النائيني وحاصله ان العبادات بالنسبة إلى الاغراض المترتبة
عليها من قبيل العلل المعدة وهي ما يتوسط بينها وبين المعلول امر آخر كان ذلك أمرا
اختياريا أم غير اختياري وليست من قبيل الأسباب التوليدية - وذلك يستكشف من تعلق
الامر بها بأنفسها لا ما يترتب عليها من الاغراض إذ لو كانت من قبيل الأسباب التوليدية
كان الأولى تعلق الامر بالاغراض كما هو الشأن في جميع ما هو من هذا القبيل نظير
الطهارة الخبيثة لا بنفس الاجزاء والشرائط فلا يعقل ان يكون هناك جامع يكون عنوانا
للمصاديق في مقام التسمية وتعلق الخطاب والغرض تصوير الجامع في هذا المقام.
وبعبارة أخرى انه كما لا يصح الامر بالاغراض كذلك لا يصح اخذها قيدا للمأمور به
لفرض خروجها عن تحت قدرة المكلف، ولا كاشفا عن المسمى بداهة انه بعد ما كانت
الملاكات من باب الدواعي وكان تخلف الداعي عن الأفعال الاختيارية بمكان من
الامكان فكيف يصح اخذها معرفا للمسمى.
وفيه: ان الغرض المترتب على المأمور به أمران: الأول: الغرض الا على الذي
يكون بالنسبة إلى المأمور به من قبيل المعلول بالنسبة إلى العلة المعدة. الثاني: الغرض
الاعدادي المترتب عليه الذي يكون بالنسبة إليه من قبيل المعلول بالنسبة إلى العلة التامة
أو الجزء الأخير منها، والذي يكون ملاكا للامر هو الغرض الثاني، لا الأول، وهو قابل
لتعلق التكليف به بنفسه أو يجعله قيدا له لكونه تحت اختيار المكلف بالواسطة وانما لم
يؤثر به وامر بمحصله لأجل كونه من الأمور الذي لا يفهمه العرف.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو انه لو سلم كونها من قبيل الأسباب
التوليدية فلازمه ان لا يمكن التمسك بالبرائة عند الشك في الاجزاء والشرائط لرجوع
81

الشك إلى الشك في المحصل.
وفيه: ما حققناه في محله من مبحث الأقل والأكثر من أن الغرض إذا كان مما
لا يفهمه العرف ولا يعرفون محصله والمولى لم يأمر به وامر بمحصله، الذي يجب على
المكلف هو الاتيان بالمحصل الذي امر به المولى، واما تحصيل الغرض حتى باتيان ما لم
يأمر به فلا يحكم العقل بلزومه، وعليه فالغرض بالمقدار الذي قام عليه من المولى بيان
يجب تحصيله، وفي غير ذلك يكون مورد الأصالة البراءة وتمام الكلام في محله.
الثالث: ما ذكره الأستاذ الأعظم وهو ان الصلاة مركبة من مقولات متباينة، وقد
ثبت في محله انها أجناس عالية ولا يمكن تصوير الجامع الحقيقي بين فردين منها، أضعف
إليه ان الصحة في صلاة الصيح مثلا متوقفة على ايقاع التسليمة في الركعة الثانية، وفي
صلاة المغرب متوقفة على ايقاعها في الثالثة وعدم ايقاعها في الثانية، فكيف يمكن
تصوير الجامع بين المشروط بشئ والمشروط بعدمه.
أقول هذان الايرادان كجملة من الايرادات الاخر التي أوردوها عليه، مبنيان على أن
يكون المحقق الخراساني مدعيا لوجود جامع حقيقي مقولي بين الافراد كما صرح دام
ظله به. لكن الظاهر من كلماته انه (قده) يدعى وجود جامع عنواني بسيط منطبق على كل
واحد من افراد الصلاة الصحيحة الذي هو ملزوم عنوان المطلوب المساوي له - لا حظ
قوله ان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة
بحسب اختلاف الحالات متحد متعه بنحو اتحاد -.
توضيح ذلك، ان العنوان غير الذاتي يمكن ان يتحد مع كل واحدة من ا لحقائق
المختلفة مثلا - عنوان التعظيم، قد ينطبق على القيام، وقد ينطبق على الايماء، وقد ينطبق
على الكيف المسموع ومعلوم انه لا جامع مقولي بين هذه العناوين. وعليه فيصح تصوير
المسمى بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما من
العناوين الاعتبارية المنطبقة على هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف
الحالات المتحدة معها نحو اتحاد، وان شئت قلت إن الصلاة مثلا عنوان جعلي اعتباري
ينطبق على كل فرد من افراد الصلاة الصحيحة بما لها من الاختلاف بحسب الاجزاء
82

والشرائط.
الرابع: ان اتحاد البسيط مع المركب محال ولا يعقل ان يكون المركب فراد للبسيط
وفيه ان انطباق عنوان بسيط جعلي اعتباري غير ذاتي على المركب لا استحالة فيه،
بل هو واقع كما في التعظيم وما ماثله من العناوين.
الخامس: ان الغرض المترتب على الصلاة واحد نوعي لا شخصي: إذ يترتب على
كل فرد من افراد الصلاة فرد من الغرض، غير ما يترتب على غيرها. والبرهان المزبور أي
" الواحد لا يصدر الا عن الواحد " على تقدير تماميته انما يتم في الواحد الشخصي دون
النوعي.
ويرد عليه: ما ذكرناه في أول الكتاب من جريان البرهان المزبور في الواحد
النوعي أيضا.
السادس: ما ذكره هو (قده) في الكفاية وهو ان لازم ذلك عدم جريان البراءة مع
الشك في اجزاء العبادات وشرائطها لعدم الاجمال في المأمور به حينئذ بل فيما يتحقق به.
والجواب عنه هو الذي ذكره بقوله ان الجامع انما هو مفهوم واحد الخ. وحاصله ان
هناك مسائل ثلاث: الأولى: ان يكون متعلق التكليف بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر،
كما إذا كان المأمورية في الصلاة نفس الاجزاء والشرائط المرددة بين الأقل والأكثر، وفي
هذا القسم أكثر المحققين اختاروا جريان البراءة. الثانية: ما إذا كان المأمور به عنوانا مسببا
عن مركب مردد بين الأقل والأكثر وله وجود منحاذ عن ذلك المركب نظير الطهارة
المسببة عن الغسل، وفي هذا القسم الأكثر على عدم جريان البراءة، وان كان المختار
عندنا جريانها في بعض موارد هذا القسم. الثالثة: ان يكون المأمور به عنوانا بسيطا منطبقا
على ذلك المركب المردد بين الأقل والأكثر. وفي هذا القسم مختار الشيخ الأعظم (ره)
عدم جريان البراءة، والمحقق الخراساني على ما يصرح به في تعليقته على الفرائد في
المسألة الرابعة من مسائل الأقل والأكثر، اختار جريان البراءة، وعليه فالمقام بما انه من
القسم الثالث لا الثاني، فيجرى في البراءة.
فالصحيح ان يورد عليه بان ذلك بخلاف ما ارتكز في أذهان المتشرعة، وخلاف
83

النصوص الواردة عن مخترعها الذي هو المرجع في ذلك، فإنها صريحة في كونها أسماء
للاجزاء والشرائط أنفسها، ومن مطاوي ما ذكرناه ظهر عدم امكان تصوير الجامع
المقولي الحقيقي. كما أنه ظهر مما ذكرناه انه ان ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره)، من
تصوير الجامع في خصوص الصلاة التي استكشفنا من أدلة القواطع وجود هيئة إتصالية
معتبرة فيها، فيكون لفظ الصلاة موضوعا لتلك المادة سواء أريد بها الجامع المقولي أو العنواني لا تكون الصلاة اسما
لها، اما على الأول: فلعدم معقوليته، واما على الثاني: فالمامر فلا نعبد، ولأن لازمه عدم
جريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط على مسلكه (قده) كما تقدم.
وقد يقال في تصوير الجامع كما في تعليقة المحقق الأصفهاني (ره) بما حاصله ان
في المعاني والمباهات المضوع له في جميع الموارد معين من جهة ومبهم من ساير
الجهات - مثلا - الخمر انما وضعت للمايع المسكر المعين من هذه الجهة المبهم من
حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما ومن حيث اللون والطعم وغيرهما من
الخصوصيات وتكون بحيث إذا أراد المتصور تصورها لم يوجد في ذهنه الا المايع
المسكر المبهم من جميع الجهات، وعليه فالموضوع له للفظ الصلاة مع هذا الاختلاف
الفاحش بين مراتبها كما وكيفا، سنخ عمل معين من جهة وهي النهى عن الفحشاء و
المنكر أو غيرها من المعرفات المبهم من ساير الجهات، فالموضوع له للفظ الصلاة، هو
الناهي عن الفحشاء والمنكر - ثم قال (ره) - ان هذا البيان يجدى للأعمى أيضا - بدعوى -
ان تلك الجهة المعينة كالناهي عن الفحشاء والمنكر - ان اخذ الناهي الفعلي معرفا للمسمى
فهو الجامع بين الافراد الصحيحة وان وضع بإزاء العمل المبهم الا من حيث اقتضاء
النهى عن الفحشاء دون الفعلية عم الوضع وكان الموضوع له هو الأعم: إذ كل مرتبة من
مراتب الصلاة لها اقتضاء النهى عن الفحشاء لكن فعلية التأثير موقوفة على صدورها من
أهلها لا ممن هو أهل لمرتبة أخرى.
أقول في كل من تصويري الجامع على الصحيحي، وعلى الأعمى، نظر.
اما على الأول: فلان العنوان المعلوم الذي هو الموضوع له أو معرف لما وضع له،
84

اما ان يكون ذاتيا للأفراد، أو عرضيا، وعلى الأول: فاما ان يكون تمام الذاتي لها كالانسان
الموضوع للحيوان الناطق، أو جزء ذاتها - كالحيوان - وعلى الثاني: فاما ان يؤخذ العنوان
المزبور معرفا للذات الموضوع له أو يكون الموضوع له نفس ذلك العنوان. فان كان
مراده من العنوان هو العنوان الذاتي فيرد عليه: ان الجامع الذاتي بين افراد الصلاة غير
معقول لأنها مركبة من مقولات متباينة وقد ثبت في محله انها أجناس عالية ليس فوقها
جنس، وان كان مراده هو العنوان العرضي بالنحو الأول فيرد عليه: انه انكار لوجود
الجامع، ويلزم ان يكون الموضوع له خاصا وهو خلاف الفرض، وان كان مراده العنوان
العرضي بالنحو الثاني، فهو يرجع إلى ما ذكره المحقق الخراساني والكلام فيه هو الذي
أوردناه عليه.
واما على الثاني: فلانه لو تم هذا الجامع على الصحيحي لا يتم على الأعمى، لان ما
ذكره انما يفيد بالنسبة إلى بعض الصلوات الفاسدة ولا يتم بالنسبة إلى جميعها - مثلا -
الصلاة خمس ركعات ليس فيها اقتضاء النهى عن الفحشاء ولا تصح ولو من شخص
واحد.
وأفاد المحقق العراقي (قده) في تصوير الجامع وجها آخر وحاصله: ان الجامع
لا ينحصر بالجامع المقولي والعنواني، بل هناك جامع آخر وهو الجامع الوجودي
والصلاة موضوعة له. بيان ذلك أن الصلاة مثلا وان كانت مركبة من المباهات المتباينة
ولكن بينها اشتراك وجودي وحصة خاصة من الوجود الجامعة بين تلك المقولات
المتباينة ماهية فتكون الصلاة أمرا بسيطا خاصا يصدق على الكثير والقليل والضعيف
والقوى. وبعبارة أخرى هي موضوعة لمرتبة من الوجود الساري في جملة من المقولات
المحدود من طرف القلة بعد أركان الصلاة مثلا ومن طرف الكثرة لو حظ لا بشرط بنحو
يصح حمله على الفاقد لها والواحد.
وفيه مضافا إلى أن المنسبق إلى الذهن من ألفاظ العبادات ليس مرتبة من الوجود
المقترنة بالمعقولات الخاصة، بل نفس تلك المقولات: ان الوجود من دون الإضافة يكون
جامعا ووجوديا بين جميع موجودات، ومع الإضافة يكون وجودا خاصا، وليس بين
85

الوجودات جامع وجودي.
فالمتحصل عدم تمامية شئ مما ذكر في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة
ليكون هو الموضوع له.
تصوير الجامع عل الأعم
واما الموضع الثاني: فقد ذكر الأصحاب في تصوير الجامع على الأعم وجوها:
أحدها: ما ذهب إليه المحقق القمي (ره) وهو ان يكون عبارة عن جملة من الاجزاء
كالأركان في الصلاة مثلا وكان الزايد عليها معتبرا في المأمور به لا في المسمى.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) في الكفاية بايرادات ثلاثة 1 - التسمية بها
حقيقة لا تدور مدارها ضرورتها صدق الصلاة مع الاخلال ببعض الأركان 2 - عدم الصدق
عليها مع الاخلال بساير الاجزاء والشرائط عند الأعمى 3 - انه يلزم ان يكون الاستعمال
فيما هو المأمور به باجزائه وشرائط مجازا عنده وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع
للجزء في الكل ولا يلتزم به القائل بالأعم.
وأورد المحقق النائيني (ره) عليه بايرادين: أحدهما: ان الأركان مختلفة بحسب
الموارد من القادر، والعاجز وأمثالها، فلابد من تصوير جامع آخر بين ذلك المراتب
فيعود الاشكال. الثاني: ان بقية الاجزاء ان كانت خارجة عن المسمى دائما فهو ينافي
الوضع للأعم فان المروض صدقها على الصحيحة أيضا، وان كانت خارجة عند عدمها
خاصة فيلزم دخول شئ في الماهية عند وجوده وخروجه عنها عند عدمه، وهو محال:
إذ التشكيك في المهية وان كان معقولا الا انه في الماهيات البسيطة كالسواد والبياض
وغيرهما، ولكنه لا يعقل في الماهيات المركبة كما حقق في محله.
أقول: الصحيح في تصوير الجامع هو هذا الوجه بعد اصلاحه بان الموضوع له
جملة من الاجزاء الخاصة لا الأركان، وان بقية الاجزاء على فرض وجودها داخلة في
المسمى. وتنقيح القول فيه يقتضى التكلم في مقامين: الأول في مقام الثبوت، وبعبارة
86

أخرى في امكانه. الثاني في مقام الاثبات وإقامة الدليل عليه.
اما المقام الأول: فحق القول فيه بنحو يندفع جميع الايرادات المتقدمة يقتضى
تقديم مقدمات: الأولى: انه لا مانع من ضم ماهيات مختلفة التي لا جامع بينها وتسميتها
باسم واحد، وتصير بذلك مركبا اعتباريا كما نرى ذلك بالوجدان في المركبات الاعتبارية
لا حظ الأطمعة والا شربة. والثانية: انه لابد في المركب الاعتباري عند إرادة تعيين
الموضوع له من الرجوع إلى مخترعه سواء كان المخترع هو الشارع أو غيره. الثالثة. انه
في المركب الاعتباري يمكن ان يكون شئ على تقدير وجوده جزءا وعلى تقدير عدمه
غير مضر، ان كان ما اخذ مقوما مأخوذا فيه لا بشرط، وهذا لا يستلزم التشكيك في
الماهية، وغير مربوط به. والدليل على ذلك وقوعه كما في لفظ البستان فإنه موضوع لما
اشتمل على ساحة وحيطان وعدة أشجار، وإذا زيد على ذلك عدة أشجار اخر أو حوض
أو غيره، فهي من اجزاء البستان والا فلا، وما اشتهر من أن المركب ينتفي بانتفاء أحد
الاجزاء فإنما هو في المركب الحقيقي لا الاعتباري. الرابعة: انه في المركب الاعتباري
يمكن ان يكون المقوم أحد أمور على سبيل البدلية - مثلا - المعجون في اللغة موضوع
للمركب من العسل وغيره أي شئ كان، والحلوا، اسم لما طبخ من شكر أو غيره من
الحلويات وغيره سواء كان ذلك أيضا حنطة أو أرزا أو غيرهما، ولا يلزم في ذلك تصوير
جامع بين تلك الأمور.
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أنه يمكن ان يقال ان الصلاة مثلا اسم لجملة من
الاجزاء والشرائط (وهي ما ستعرف في المقام الثاني، الطهارة، والتكبيرة، والركوع،
والتسليمة)، وان شئت فعبر عن هذه بالأركان بهذا الاعتبار، وغيرهما من الاجزاء
والشرائط حتى الفرد الثاني من الركوع، والسجود دخيلة في المأمور به، خارجة عن
حقيقتها، ولكنه عند الاتيان بها تدخل في المسمى. ولا يرد على ذلك شئ من
الاشكالات المتقدمة، اما الأولان: فلانه لا سبيل إلى دعواهما بعد ورود الدليل من
المخترع على ذلك، واما الثالث: فلما عرفت في المقدمة الثالثة، من أن بقية الاجزاء داخلة
في المسمى على تقدير وجودها. فاطلاق الصلاة واستعمالها في مجموع الاجزاء
87

والشرائط، لا يكون مجازا، واما الرابع: فلما عرفت في المقدمة الرابعة، واما الخامس فلما
ذكرناه في المقدمة الثالثة، هذا كله بحسب مقام الثبوت.
واما المقام الثاني وهو إقامة الدليل عليه في مقام الاثبات، فنتعرض للدليل على
ذلك في خصوص الصلاة التي هي العمدة في الباب، وبه يظهر الحال في بقية العبادات،
وملخص القول فيها، ان لنا دعويين، الأولى: كون الموضوع له للفظ الصلاة - هي -
الطهارة، والتكبيرة، والركوع، والسجود، والتسليمة، والموالاة. الثانية: ان بقية الاجزاء
والشرائط على فرض تحققها داخلة في المسمى.
اما الأولى: فيشهد لها: النصوص الكثيرة المتضمنة ان التكبيرة افتتاح الصلاة،
والتسليمة اختتامها، وانه لا صلاة الا بطهور، وان الصلاة ثلاثة الثلاث، ثلث الطهور، وثلث
الركوع، وثلث السجود فمفاد هذه النصوص كون الاجزاء الخمسة الأولى داخلة في
المسمى، واما الموالاة فيشهد لاعتبارها في مسمى الصلاة الارتكاز العرفي: إذ لا يشك
أحد في أن من كبر في أول الصبح، وركع في الظهر، وسجد في الليل، لا يصدق انه صلى،
فالمتحصل انه إذا راجعنا إلى الشارع المخترع يظهر لنا ان الأمور الستة المشار إليها داخلة
في المسمى ومن اتى بها يصدق على ما فعله الصلاة ولا يتوقف صدق الصلاة على شئ
آخر.
واما الثانية: فيشهد لها: استعمال الصلاة عند المتشرعة في مجموع الاجزاء
والشرائط بلا عناية وتجوز، بل في لسان الشارع الأقدس وحافظي شريعته وأيضا التعبير عن
غير الستة المذكورة في ألسنتهم باجزاء الصلاة وقيودها وما يعتبر، فان ذلك كاشف عن
صدقها على المجموع المركب من الستة المذكورة وغيرها حين وجود بقية الاجزاء
والشرائط، ويشهد به أيضا النصوص المتضمنة، ان من زاد في صلاته فليستقبل صلاته:
فان كل زيادة لا شبهة في عدم مبطليته كحك الرأس، بل الزيادة المبطلة هي ما لو أتى
بشئ بما انه من اجزاء الصلاة ومبطليته حينئذ ليست من جهة التشريع بل من جهة الزيادة
نفسها، فيستكشف من ذلك أن كل ما اتى به بعنوان انه من الصلاة يصير جزءا للصلاة
وداخلا في المسمى مع أنه عدمه لا يضر بالصدوق، ومما يشهد لذلك التعبير بكلمة (في) لا
88

(على) فان ذلك آية صيرورته جزءا للصلاة.
لا يقال ان ما تضمن ان التكبير افتتاح الصلاة، ينافي ما دل على دخالة الطهور الذي
يكون مقدما عليها: إذ لو كان دخيلا كان هو افتتاحها. فإنه يقال: ان الطهور من شرائط
الصلاة لا اجزائها وفي الشرائط انما يكون المعتبر تقيد الا جزء بها وليست بأنفسها دخيلة
في المأمور به والمسمى كما سيأتي تنقيح القول في ذلك في مبحث الشرط المتأخر.
لا يقال انه في حديث - لا تعاد الصلاة الا من خمس - أطلقت الصلاة على الفاقة
للطهارة والركوع والسجود فيعلم من ذلك من عدم دخلها بالخصوص في المسمى. فإنه
يقال: أولا: ان الاستعمال أعم من الحقيقة وأصالة الحقيقة انما يرجع إليها مع الشك في
المراد لا مع معلوميته. وثانيا: يمكن الالتزام بعدم دخالة الطهور فيها، وعدم جريان
الحديث في الصلاة غير الواجدة لطبيعي الركوع والسجود، وانه مختص بما إذا اتى ولو
بفرد واحد من الركوع مثلا ولم يأت بغيره من الافراد وأما إذا لم يأت ولو بفرد واحد
فهو باطل من جهة عدم كونه صلاة لا للحديث.
لا يقال ان لازم ما ذكرت عدم كون صلاة الغرقى صلاة، مع أنه يطلق عليها الصلاة.
فإنه يقال هذا اشكال يرد على الأعمى بأي نحو تصور الجامع والجواب عنه: انه لابد من
الالتزام بأحد أمرين: اما عدم كونها صلاة بل هو عمل خاص به يستوفى مصلحة الصلاة
في ذلك الوقت، أو الاشتراك اللفظي في لفظ الصلاة ولا محذور في شئ منهما.
فتحصل ان الصلاة اسم لجملة من الاجزاء والشرائط الخاصة لا بشرط من الزيادة،
بمعنى ان كل ما زيد عليها يدخل في المسمى، وعدم الاتيان به لا يضر في الصدق.
و مما يؤيد ما اخترناه افتاء افتاء الأصحاب بصحة صلاة وتر من تطهر ثم كبر فنسي
القراءة فركع وكذلك نسى بقية الاجزاء سوى السجود والتسليمة. فان ذلك يؤيد ما
اخترناه من تقوم الصلاة بتلكم الأمور الخاصة. وبذلك يطهر الحال في الحج وغيره من
العبادات.
89

الوجه الثاني لتصوير الجامع إلى الأعم
ثانيها: ان يكون الجامع هو معظم الاجزاء، فتكون الصلاة مثلا موضوعة لمعظم
الاجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفا، فصدق الاسم عليها كذلك يكشف عن وجود
المسمى وعدم صدقه عن عدمه وقد نسب الشيخ الأعظم ذلك إلى المشهور.
وأورد عليها المحقق الخراساني بايرادات 1 - ان لازم ذلك كون استعمال الصلاة
في مجموع الاجزاء والشرائط مجازا 2 - انه عليه يتبادل ما هو المعتبر في المسمى فكان
شئ واحد داخلا فيه تارة وخارجا عنه أخرى. بل مرددا بين انه يكون هو الخارج أو
غيره عند اجتماع تمام الاجزاء 3 - مع ما عليه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب
الحالات.
أقول انه مع قطع النظر عما ذكرناه في تصوير الجامع، هذا الوجه أحسن الوجوه
ولا يرد عليه شئ مما ذكر وغيره مما لم نذكره: إذ لو التزما بان الموضوع له هو معظم
الاجزاء، لا بمعنى مفهوم معظم الاجزاء، بل المراد ان الموضوع له عدة من الاجزاء
معتنى بها، وبعبارة أخرى أغلب الاجزاء والشرائط فصاعدا بالتقريب المتقدم، يندفع
الايرادان الأولان. فإنه عند الاجتماع يكون كل جزء داخلا في المسمى فلا مجاز،
ولا يتردد امر كل جزء بين ان يكون هو الخارج أو غيره، وعرفت انه لا مانع من كون أحد
أمور على البدل داخلا في المسمى.
واما الايراد الثالث فالجواب عنه وعن ساير ما أورد على هذا الوجه يظهر بعد بيان
امر، وهو انه لأغلب الماهيات والمفاهيم البسيطة - أو المركبة بالتركيب الحقيقي - أو
بالتركيب الاعتباري مع تبين المفهوم عند الشخص في عالم المفهومية - مصاديق
مشكوك فيها - مثلا - الماء الذي يكون مفهومه من أوضح المفاهيم، مصاديق يشك في أنها
من مصاديق الماء - وعلى ذلك - فالمدعى ان مفهوم الصلاة - واضح معين - وهو
معظم الاجزاء ولهذا المفهوم مصاديق متيقنة كمعظم اجزاء صلاة الظهر - ومصاديق
مشكوك فيها كمعظم اجزاء صلاة الوتر مثلا - وهذا لا يوجب عدم معلومية المفهوم عند
90

المتشرعة وتردده حتى في عالم المفهومية.
نعم يرد هذا الوجه انه امر ممكن الا انه يحتاج في البناء عليه إلى دليل في
مقام الاثبات وهو مفقود.
الوجه الثالث والرابع
ثالثها: ان يكون وضعها كوضع الاعلام الشخصية كزيد فكما لا يضر في التسمية
فيها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الاجزاء وزيادته كذلك في
المقام.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بان الاعلام موضوعة للأشخاص والتشخص
انما يكون بالوجود الخاص ويكون الشخص حقيقة باقيا ما دام وجوده باقيا وان تغيرت
عوارضه، واما ألفاظ العبادات فهي موضوعة للمركبات ولا يكاد تكون موضوعة لها الا
ما كان جامعا لشتاتها وحاويا لمتفرقاتها.
أقول يمكن توجيه هذا الوجه بنحو يرجع إلى ما اخترناه في تصوير الجامع
ولا يرد عليه ما ذكر، بان يقال ان من وضع له لفظ زيد، انما يكون مركبا من نفس وبدن،
ولا يكون الموضوع له هو النفس، لما نرى بالوجدان من صحة استناد الرؤية والضرب
وغير هما مما يعرض على البدن إلى زيد. ولأن لازمه عدم صحة استناد الموت إلى زيد
فان النفس تكون باقية بعد تفاوتها من البدن ويكون ذلك من قبيل خلع اللباس. مع أن هذا
مما لا يفهم أهل العرف الذين هم الواضعون للاعلام الشخصية - كما أنه لا يكون
الموضوع له هو البدن - لما نرى من صحة استناد العلم وما شابهه من عوارض النفس إلى
زيد، مضافا إلى القطع بدخالة النفس في المسمى. بل الموضوع له هو النفس مع عدة من
اجزاء البدن فصاعدا، وان شئت قلت الاجزاء التي تقوم بها الحياة، ولذا ما دام لم يقطع
رجل زيد يكون جزءا له، وقطعه لا يضر بالصدق، ويكون الصلاة مثلا كذلك كما مر
تقريبه. فينطبق هذا الوجه على ما اخترناه فيكون وضع الاعلام مؤيد للمختار.
رابعها: ان ما وضعت له الألفاظ ابتداءا هو الصحيح التام الواجد لجميع الاجزاء
91

والشرائط الا ان العرف يتسامحون ويطلقون تلك الألفاظ على الفاقد للبعض تنزيلا له
منزلة الواجد ثم يصير حقيقة فيه بعد الاستعمال فيه كذلك دفعة أو دفعات للانس
الحاصل من جهة المشابهة في الصورة أو المشاركة في الأثر.
ويرد عليه مضافا إلى ما أوردناه على المحقق النائيني - في أول هذا المبحث - ان
الاستعمال في غير تلك المرتبة العليا، ان كان في الافراد، فمضافا إلى أنه خلاف الفرض
وهو تصوير الجامع، لا يوجب صيرورته حقيقة فيها كما لا يخفى، وان كان في الجامع
فلابد من تصويره أولا:، ثم الالتزام بذلك، مع أن لازم ذلك كونها من قبيل المشترك
اللفظي، إذ هذا النحو من الوضع لا يوجب هجر المعنى الأول. وعليه فيلزم الاشتراك
اللفظي في ألفاظ العبادات بين الصحيح والأعم. وهو خلاف ما يدعيه الا عمى كما
لا يخفى.
بيان ثمرة المسألة
ثم انه وقع الخلاف في أنه هل لهذه المسألة ثمرة أم لا؟ وقد ذكر جماعة لها
ثمرتين الأولى: ما ذكره منهم المحقق الخراساني وهو انه يجوز التمسك بالاطلاق
أو العموم على القول بالأعم عند الشك في اعتبار شئ جزءا أو شرطا، ولا يجوز التمسك
به على القول بالصحيح، بل يكون الخطاب مجملا ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول
العملية. توضيح ذلك أن التمسك بالاطلاق يتوقف على تمامية مقدمات: الأولى: ورود
الحكم على المقسم بان يكون له قابلية الانطباق على نوعين أو أنواع. الثانية: كون المتكلم
في مقام البيان. الثالثة: عدم نصب قرينة على التعيين فإذا تمت المقدمات يصير الكلام
مطلقا ويصح التمسك به لنفى اعتبار ما شك في اعتباره في المأمور به، وان شئت قلت إنه
يعتبر في التمسك بالاطلاق احراز صدق ما تعلق الامر به ويكون الشك في اعتبار امر زيدا
على المسمى فلو كان صدقه مشكوكا فيه على الفاقد لما شك في اعتباره لم يصح التمسك
بالاطلاق. وعليه فعلى القول بالوضع للأعم يتم المقدمات الثلاث لو تمت الأخيرتان أي
92

كان الدليل في مقام البيان، ولم ينصب قرينة على التعيين لان المقدمة الأولى التي هي
الأساس تامة على هذا المسلك لان الحكم حينئذ تعلق بالطبيعي الجامع بين الافراد
الصحيحة والفاسدة، فيصح التمسك بالاطلاق لدفع ما شك في اعتباره جزءا أو قيدا لأنه
شك في اعتبار شئ زايدا على صدق اللفظ. بخلاف القول بالوضع للصحيح فان المقدمة
الأولى على هذا المسلك مفقودة إذ الحكم ورد على الواجدان لجميع الاجزاء والشرائط،
فلو شك في جزئية شئ أو شرطيته لا مجالة يؤول الشك إلى الشك في صدق اللفظ على
الفاقد للمشكوك فيه لاحتمال دخله في المسمى ومعه لا يصح التمسك بالاطلاق.
وأورد على هذه الثمرة بايرادين: الأول ان اللحظات المتعلقة بالعبادات الواردة
في الكتاب والسنة، اما ان لا تكون في مقام البيان كما هو الغالب فلا يصح التمسك
باطلاقها ولو الأعم، واما ان يكون في مقام بيان تعداد الاجزاء والشرائط كصحيح
حماد، فالصحيحي أيضا يتمسك بالاطلاق كالأعمى لعدم جزئية المشكوك فيه
للسكوت عنها في مقام البيان، وان شئت فاختبر ذلك من حال المقلدين في مراجعة كتب
الفتاوى حيث إن المجتهد إذا كان في مقام بيان تعداد الاجزاء والشرائط ولم يبين جزئية
المشكوك فيه يتمسكون بالاطلاق لنفى اعتباره، وكذلك عند مراجعة المريض إلى
الطبيب فإنه إذا كان في مقام بيان المعجون الفلاني يتمسك المريض بالاطلاق لنفى
ما يحتمل اعتباره إذا لم يصرح به الطبيب.
وفيه: هناك صورة ثالثة - غير ما ذكر - وهي: ما إذا كان الدليل واردا في مقام
بيان وجوب ما يصدق عليه الصلاة مثلا مع ما يعتبر في المأمور به: فإنه حينئذ الأعمى بعد
احراز صدق الصلاة يتمسك باطلاقه لدفع ما شك في اعتباره، واما الصحيحي فحيث ان
الشك في اعتبار امر في المأمور به عنده موجب للشك في صدق الصلاة على فاقدة فليس
له التمسك بالاطلاق، وان شئت قلت: ان محل الكلام هو التمسك بالاطلاق اللفظي
لا المقامي، وما ذكر في تقريب استدلال الصحيحي بالاطلاق انما هو تمسك بالاطلاق
المقامي والفرق بينهما ظاهر.
الايراد الثاني ان الصحيحي وان كان لا يمكن له التمسك بالاطلاق الا ان الأعمى
93

أيضا ليس له ذلك فان المأمور به ليس هو الفاسد ولا الجامع بينه وبين الصحيح بل هو
الصحيح فالمأمور به مقيد بقيد صدقه على الفاقد لما شك في اعتباره مشكوك فيه
فلا يمكن التمسك بالاطلاق.
وفيه: انه للصحة المستعملة في كلمات القوم في المقام معان: أحدها: ما يقوله
الصحيحي في الوضع، وهو العنوان البسيط الملزوم للمطلوب المنطبق على مجموع
الاجزاء والشرائط، أو غيره مما قيل في وجوه تصوير الجامع على الصحيح الذي يدعى
الصحيحي انه الموضوع له. الثاني: ترتب الأثر، فالصحيح هو ما يترتب عليه الأثر، ويكون
وافيا بالغرض. الثالث: مطابقة الماتى به للمأمور به. وشئ منها لا يكون دخيلا في المأمور
به على الأعم، اما الأول فلان دخل عنوان بسيط منطبق على مجموع الاجزاء والشرائط
في المأمور به بنفسه مما لا دليل عليه، بل الدليل ظاهر في تعلقه بنفس الاجزاء والشرائط،
و اما الثاني فلان المأمور به ليس هو المحصل للغرض بعد فرض كون بيان المحصل وظيفة
الشارع، وعلى أي تقدير لا دليل على تقيد المأمور به به، واما الثالث: فلانه مما لا يتأتى الا
من قبل الامر فكيف يمكن اخذه في المتعلق، وهل هذا الا تقدم ما هو متأخر وهو محال.
فتحصل انه كما لا يكون الفاسد مأمورا به لا يكون الصحيح مأمورا به بل المتعلق
هو الاجزاء والشرائط الخارجية وبعد تعيين ما هو دخيل في المأمور به بالدليل الخاص أو
بالاطلاق لو اتى به المكلف يتصف ما اتى به بالصحة، وعليه فعلى الأعم إذا امر بالصلاة
مثلا المفروض انها اسم لعدة اجزاء خاصة وشك في اعتبار امر آخر غير تلك الأجزاء
في المأمور به كجلسة الاستراحة، يتمسك بالاطلاق لنفى اعتباره وببركته تنصف الصلاة
الخارجية الفاقدة لها بالصحة، وهذا بخلاف القول بالوضع للصحيح، فان المأمور به انما
هو عنوان يشك صدقه على الفاقد لما شك في اعتباره لفرض كون المسمى هو الواجد
لجميع الاجزاء والشرائط، ومع الشك في صدق الموضوع لا مجال للتمسك بالاطلاق.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقق العراقي (ره) في المقام، حيث أورد على هذا
الجواب - أي عدم معقولية اخذ الصحة في المأمور به على الأعم - بأنه كما أن الصحة لم
تؤخذ في المسمى على الصحيح، بل الموضوع له واستعمل فيه، هي الحصة الخاصة
94

المقارنة للصحة كذلك، يكون المأمور به على الأعم هي تلك الحصة الخاصة، فالأعمى
والصحيحي سواء في التمسك بالاطلاق وعدمه. وجه عدم تمامية ذلك ما تقدم من أن
الصحيحي لا يمكن له التمسك بالاطلاق وعدمه. وجه عدم تمامية ذلك ما تقدم من أن
الصحيحي لا يمكن له التمسك بالاطلاق لأجل الشك في صدق المسمى - هذا
بخلاف القول بالأعم - فالمتحصل تمامية هذه الثمرة.
الثمرة الثانية
ما ذكره جماعة منهم المحقق القمي (ره) وسيد الرياض من أن، الأعمى يتمسك
بالبرائة عند الشك في جزئية شئ أو شرطيته للمأمور به، والصحيحي يتمسك بالاشتغال،
فلو شك في دخل شئ في المأمور به ولم يكن هناك اطلاق يتمسك به يلزم على
الصحيح الرجوع إلى قاعدة الاشتغال لرجوع شكه إلى الشك في الامتثال، واما الأعمى
فهو يرجع إلى البراءة.
وأورد عليه الشيخ الأعظم الأنصاري (ره) بان الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال على
القولين يبتنى على انحلال العلم الاجمالي وعدمه إذ على الأول يرجع إلى البراءة على
القولين، وعلى الثاني يرجع إلى الاشتغال كذلك، وأجاب عنه المحقق النائيني، بان الوضع
للصحيح لا يمكن، الا بتقييد المسمى اما من، ناحية المعلول، أو العلة، كما تقدم، وعليه
فحيث ان تعلق التكليف بذلك القيد معلوم وحصوله باتيان الاجزاء المعلومة مشكوك فيه
فالأبد من الرجوع إلى الاشتغال حتى مع انحلال العلم الاجمالي، واما الأعمى فهو لا يرى
تعلق التكليف بأمر خارج عن الماتى به، فهو على الانحلال يرجع إلى البراءة.
أقول هذا الجواب وان كان متينا على مبنى العلامة الأنصاري من الرجوع إلى
قاعدة الاشتغال فيما إذا كان المأمور به أمرا منطبقا على الاجزاء المرددة بين الأقل والأكثر
الذي يصرح به في المسألة الرابعة من مسائل الأقل والأكثر ويكون حكم هذه المسألة
حكم ما إذا تعلق التكليف بأمر حاصل منها - الا انه بناء على ما هو الحق عندنا من جريان
البراءة فيها لا يتم كما لا يخفى.
95

الثمرة الثالثة
بقى في المقام أمران: الأول: انه هل يترتب على هذه المسألة ثمرة فقهية غير ما ذكر
أم لا؟ والحق ترتبها عليها، وهو حمل الألفاظ الواقعة في لسان الشارع المأخوذة موضوعا
لحكم آخر على الصحيح على القول به، وعلى الأعم على القول به - مثلا - دل الدليل على
مرجوحية صلاة الرجل - إذا كانت المرأة تصلى بحياله أو قدامه، فلو كانت صلاتها فاسدة
على القول بالصحيح لا مرجوحية في صلاة الرجل بخلافه على الأعم، وكذلك - دل
الدليل على أن المسافر إذا قصد إقامة عشرة أيام وصلى صلاة رباعية ثم عدل عن قصده
يتم ما دام في ذلك المحل والا فيقصر - وحينئذ - لو صلى صلاة رباعية فاسدة، فعلى الأعم
يتم، وعلى الصحيح يقصر، وكذلك دل الدليل على صحة الاقتداء بصلاة العادل فعلى
الصحيح لابد من احراز صحة صلاته بخلافه على الأعم إلى غير ذلك مما يجده المتتبع
في الفقه، وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذه المسألة ولا ينقضي تعجبي عن الأساطين كيف
غفلوا عن ذلك ولم يذكروها.
الثاني: لو شك في الوضع للصحيح أو الأعم ولم يحرز شئ منهما، هل يكون
حكم الشاك في هذه الثمرات حكم الصحيحي، أو الأعمى، أم يفصل بينها؟ وجوده
أقواها الأخير: وذلك فإنه بالنسبة إلى جريان البراءة أو الاشتغال يكون ملحقا بالعمى، إذ
من شك في الوضع للصحيح أو الأعم يكون عالما بان في ترك الاجزاء المعلومة عقاب،
واما في ترك المشكوك فيه فلا يكون ذلك محرزا كان المأمور به هو ذوات الاجزاء
والشرائط، أو العنوان البسيط المنطبق على المجموع فيجرى البراءة ويحكم بعدم العقاب
عليه، وان شئت قلت إنه يجرى البراءة عن وجوب ذلك العنوان البسيط كما تجرى عن
وجوب الجزء المشكوك فيه، واما في التمسك بالطلاق فهو يشارك الصحيحي إذ
الشاك لا يكون محرزا المسمى على الجزاء المعلومة كما لا يخفى، واما بالنسبة
إلى الثمرة الأخيرة، فان اخذت الصلاة شرطا كما في الاقتداء، فهو يشارك الصحيحي،
وان اخذت مانعا، كما في مثال الصلاة خلف المرأة فهو يشارك الأعمى.
96

أدلة القول بالصحيح
الجهة الرابعة: في أدلة القولين، وقد استدل للصحيحي بوجوده.
أحدها التبادر، ويرده انه لا يتصور الجامع بين الافراد الصحيحة، سوى ما افاده
المحقق الخراساني، وهو الالتزام بعنوان بسيط منطبق على مجموع الاجزاء والشرائط،
ولا مورد لا دعاء تبادر ذلك المعنى، لما عرفت من أنه لا يخطر ببال عامة الناس وانه
خلاف ما ارتكز في أذهان المتشرعة من معاني هذه الألفاظ، ومعه كيف يدعى تبادره من
لفظ الصلاة مثلا.
ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، والمراد به ما يقابل الحمل الشايع الصناعي، إذ
صحته على نحو الحمل الأولى الذاتي، لا تكون علامة كما تقدم، ولذلك هي ثابتة
عند الأعمى، لأنه يدعى الوضع للجامع بين الصحيح والفاسد، لا الحصول الفاسد ولو
بنحو المشترك اللفظي.
ولكن يرد عليه انه بعد ملاحظة موارد اطلاق هذه الألفاظ بما لها من المفاهيم، في
لسان الشارع والمتشرعة وإرادة الافراد الفاسدة التي هي كثيرة جدا، لا سبيل إلى هذه
الدعوى، مع أنه لو أخبر شخص بان زيدا يصلى مع عدم علمه بصحة صلاته، فهل تراه
كاذبا في هذا الخبر وهذه آية قطعية على عدم صحة السلب.
ثالثها: الاخبار الظاهرة في اثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر، أو عمود الدين، أو معراج المؤمن وما شاكل: فان هذه
النصوص بمقتضى الاطلاق تدل على أن كل صلاة يترتب عليها هذه الآثار، فلازمه
بمقتضى عكس النقيض ان ما لا يترتب عليه هذه الآثار ليس بصلاة - وبديهي عدم ترتبها
على الصلاة الفاسدة فتدل على أن الفاسدة ليست بصلاة، وهكذا ساير العبادات.
وفيه: انه لو سلم استعمال هذه الألفاظ في الصحاح لا يصح الاستدلال بها: لان
أصالة الحقيقة انما يرجع إليها لتشخيص المراد بعد العلم بالمعنى الحقيقي والشك في أنه
97

المراد أو غيره، ولا يرجع إليها لتشخيص المعنى الحقيقي بعد العلم بالمراد والشك
في الموضوع له، كما أن أصالة العموم أو الاطلاق تكون حجة فيما أحرز المصداقية وشك
في الحكم لا فيما إذا شك في المصداقية وأحرز الحكم والأثر كما في المقام - أضف إلى
ذلك أنه لو سلم انه يرجع إلى أصالة الحقيقة وكذا أصالة العموم لتشخيص المعنى الحقيقي،
وثبت ان الاستعمال في المقام انما يكون في الموضوع له، لا يثبت مدعى الوضع للصحيح:
إذ الأعمى انما يدعى الوضع للجامع بين الصحيح والفاسد، وعليه فيمكن ان يكون إرادة
الصحيح منها بتعدد الدال والمدلول، ولا دليل على أن هذه الألفاظ انما استعملت وحدها
في الصحيحة حتى يثبت مدعى الصحيحي.
وأجاب المحقق الأصفهاني (ره) عن هذا الدليل بجواب آخر وهو ان ظاهر هذه
التراكيب الواردة في مقام إفادة الخواص كالقضايا غير الشرعية المتضمنة لذلك كقولنا
السنا مسهل - والسم قاتل - وغيرهما، سوقها لبيان الاقتضاء لا الفعلية، ويؤيده ان الظاهر
اتحاد المراد من الصلاة عقيب الامر والصلاة المؤثرة في النهى عن الفحشاء والمنكر مع أن
فعلية النهى عن الفحشاء موقوفة على قصد الامتثال الذي لا يمكن اخذه فيما وقع في
حيز الامر، وعليه فهذه الأخبار دليل للأعمى: إذ المقتضى لتلك الآثار هو نفس تلك
المراتب المتداخلة وحيثية الصدور غير دخيلة في الاقتضاء.
وفيه: ان ذلك يتم إذا لم يلاحظ المصلى وقصر النظر على ذات الفعل، وأما إذا لو
حظ المصلى ولو صدور الفعل من شخص كالمسافر والحاضر والمختار
والمضطر وغير ذلك من العناوين الدخيلة في المسمى على الصحيحي، فلا يتم إذ كل ما فيه
اقتضاء لترتب هذه الآثار هي الصلاة الصحيحة لا الفاسدة لأنها إلا اقتضاء فيها لها أصلا
كما لا يخفى، فالصحيح ما ذكرناه.
رابعها: ما في الكفاية، وهو ما تضمن نفى ماهية المسميات وطبايعها مثل لا صلاة الا
بفاتحة الكتاب ونحوه مما كان ظاهرا في نفى الحقيقة، بمجرد فقد ما يعتبر في الصحة شطرا
أو شرطا.
ولكن الاستدلال بهذه الاخبار لكون الموضوع له هو الصحيح بالمعنى الذي
98

اختاره، ينبغي ان يعد من سهو القلم إذ مقتضى هذه الأخبار عدم صدقها على الفاقد
للشرط أو الشرط وان صدر العمل ممن لا يجب عليه ذلك، مع الجامع الذي تصوره
هو الجامع بين الواحد لذلك القيد وفاقده.
ولاحد الشخصين الاستدلال بها لمختاره، 1 - من يدعى الوضع للمرتبة العليا
الواجدة لتمام الاجزاء والشرائط 2 - من يدعى الوضع لعدة اجزاء فصاعدا كما اخترناه،
وحيث عرفت فساد المسلك الأول فهذه الأخبار من الأدلة ما اخترناه غاية الامر بالنسبة
إلى بعض ما في تلك الأخبار من الاجزاء كفاتحة الكتاب بالنسبة إلى الصلاة، حيث
دل الدليل على عدم دخلها في المسمى ولذا تصح الصلاة مع نسيانها وتستعمل الصلاة في
فاقدها بلا عناية، فيحمل تلك الأخبار على كونها مسوقة لبيان أهمية هذا الجزء وان الفاقد
له كأنه ليس بصلاة مثلا.
خامسها: دعوى القطع بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات
التامة، والظاهر أن الشارع غير متخطئ عن هذه الطريقة فيستنتج من المقدمتين ان الشارع
وضع ألفاظ مخترعاته من العبادات لخصوص تام الاجزاء والشرائط.
أقول في كلتا المقدمين والنتيجة نظر، اما الأولى فلانا لا نسلم ان طريقة الواضعين
ذلك، بل مقتضى الحكمة الداعية إلى الوضع، هو الوضع للأعم، لان الغرض قد يتعلق
بالحكم على الناقص كالحكم على الصحيح التام، فهذا العرف ببابك لا حظ المركبات
المخترعة لهم، مثلا إذا اخترع معجونا لرفع وجع الرأس، وكان شرط تأثيره اكله قبل
الطعام، فهل يتوهم أحد ان الواضع المخترع وضع اللفظ لخصوص الواجد للشرط،
وكذلك بالنسبة إلى الاجزاء، واما الثانية فلانه لم يدل دليل قطعي على عدم تخطى الشارع
الا قدس عن هذه الطريقة، والظن لا يغنى من الحق شيئا، واما الثالثة، فلانه لو تمت
المقدمتان كانت النتيجة هو الوضع للمرتبة العليا الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط،
ولا تكون النتيجة الوضع للقدر الجامع بين الواحد لتلكم الاجزاء، وفاقدها. فالمتحصل
ان شيئا مما استدل به للوضع للصحيح لا يدل عليه، بل بعضها يشهد بالوضع للأعم.
99

وجوه القول بالوضع للأعم
وقد استدل للأعمى بوجوه.
منها: تبادر الأعم: وقد مر عند تصوير الجامع على القول بالوضع للأعم: الدليل على أن
الموضوع له هو الجامع الذي تصورناه.
ومنها: صحة التقسيم إلى الصحيح والسقيم، ومحصل هذ الوجه بتوضيح منا ان
صحة تقسيم الصلاة إلى الصحيح والسقيم بما لها من المعنى المرتكز في الأذهان آية
كونها حقيقة في الأعم إذ لا ريب في كاشفية ذلك عن كون الجامع هو الموضوع له.
ودعوى ان صحة التقسيم بهذا النحو وان كانت كاشفة عن وجود الجامع
بين الصحيح والفاسد، وليس التقسيم من باب تقسيم ما يطلق عليه اللفظ ولو مجازا كما هو
كذلك في قولنا، الانسان اما له روح وجسم وصورة، أو يكون نقشا في الجدار وكاشفة
عن كونها حقيقة في الجامع في هذا العصر، الا انها لا تكون كاشفة عن كونها حقيقة
في الجامع في عصر الشارع لا قدس.
مندفعة بأنه ان ثبت كونها حقيقة في الجامع في هذا العصر ثبت كونها كذلك في
عصر الشارع، بواسطة أصالة عدم النقل التي عليها بناء العقلاء كما مر مبحث
الحقيقة الشرعية، وعرفت انه لولاها لا نسد باب الاستظهار من الخصوص بالمرة.
ومنها: ما ذكره غير واحد، وهو استعمال الصلاة، وغيرها في غير واحد من الاخبار
في الفاسدة، وحيث انه بلا قرينة فيكون علامة الحقيقة. أقول هذا الوجه بعد تصحيحه
باطلاق الصلاة وغيرها على الفاسدة، إذ الأعمى يدعى الوضع للجامع بين الصحيحة
والفاسدة لا لخصوص الفاسدة، ومعلوم ان استعمال اللفظ الموضوع للجامع في نوع منه
مجاز، متين لا ايراد عليه، فان أغلب هذه الأخبار واردة في النواقض والمبطلات وهي
كثيرة، والالتزام بان جميع تلك الاستعمالات من قبيل المجاز ومع القرينة الحالية بعيد
غايته، فهي آية كون الموضوع له هو الجامع، وبذلك يندفع الايراد عليه بان الاستعمال
100

أعم من الحقيقة.
ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام. " بنى الاسلام على الخمس الصلاة و الزكاة
والحج والصوم والولاية فاخذ الناس بأربع وتركوا هذه فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله
ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة " فان الاخذ بالأربع لا يكون بناءا على بطلان
عبادات تاركي الولاية الا إذا كانت أسامي للأعم.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بجوابين: أحدهما: ان المراد هو خصوص الصحيح
بقرينة انها مما بنى عليها الاسلام، وفيه ان موضع الاستدلال قوله فأخذه الناس بالأربع
تقريب الاستدلال به انه (ع) استعمل الأربع وهي الصلاة واخوتها المذكورة في الصدر
في الفاسدة.
ثانيهما: انه لعل اخذهم بها انما كان بحسب اعتقاد هم لا حقيقة، وذلك لا بمقتضى
استعمالها في الفاسد أو الأعم. وفيه: انه لا يصح استناد فعل إلى شخص مع عدم استناده إليه
واعتقاده نفسه ذلك - مثلا - لو كان شخص معتقدا انه اعلم الناس وكان الانسان عالما
بخلافه، لا يصح ان يقال انه اعلم الناس، وهكذا ساير الافعال فلو لم تكن ما فعلوها تلك
العبادات لما صح استنادها إليهم وأجيب عنه بوجهين آخرين.
أحدهما: ان الاستعمال أعم من الحقيقة، وقد تقدم الكلام في ذلك.
الثاني: ان لفظة الأربع في الخبر لم تستعمل في ألفاظ تلك العبادات، وهي في
معانيها، بل استعملت هي ابتداءا في معانيها - وعليه فلم تستعمل ألفاظ. الصلاة، والصوم،
وأخوتهما، في الفاسدة كي يستدل بها.
وفيه: ان لفظة الأربع استعملت في معاني تلك الألفاظ لا في غيرها، أي الأعمال
التي تشبهها فيستكشف من ذلك أن معانيها أعم من الصحيحة والفاسدة إذ المفروض
فسادها في الفرض.
فالصحيح ان يجاب عنه: ان لفظة - الأربع - ان كانت مصدرة بالألف واللام كانت
تدل على ذلك فإنها حينئذ تكون إشارة إلى ما ذكرت في الصدر وهي الصلاة واخوتها وان
لم تكن مصدرة بهما، لم تكن إشارة إلى ما ذكر في الصدر، بل مفاد الخبر حينئذ اخذ
101

الناس بأربعة أشياء غير معينة، القابلة لان يراد بها تلك الحقائق التي بنى الاسلام عليها، أو
حقائق تشبهها ولا يدل الخبر على شئ منهما فلا يدل على المدعى، وحيث إن النسخ
مختلفة فلا يصح الاستدلال بتلك الأخبار.
فان قيل إنه يمكن ان يستدل له بما في ذيل تلكم الاخبار من قولهم عليهم السلام،
فلو أحدا صام نهاره الخ فإنه استعمل ألفاظ العبادات في الفاسدة. توجه عليه ان الاستعمال
أعم من الحقيقة لا يرجع إليها لتشخيص الموضوع له بعد معلومية المراد هذا بناءا على أن المراد
من عدم القبول الفساد، والا فلا يصح الاستدلال بهذه الرواية على كل تقدير.
ومنها قوله (ع): " دعي الصلاة أيام أقرائك " ضرورة انه له لم يكن المراد منها
الفاسدة لزم عدم صحة النهى عنها لعدم قدرة الحائض على الصحيحة منها.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بان النهى في هذا الخبر للارشاد إلى عدم القدرة
على الصلاة والا كان الاتيان بالأركان وساير ما يعتبر في الصلاة بل بما يسمى في العرف بها
ولو أخل بما لا يضر الاخلال به بالتسمية عرفا محرما على الحائض ذاتا وان لم تقصد به
القربة ولا أظن أن يلتزم به المستدل بالرواية.
وقد أورد عليه بعض الأكابر من المحققين: بأنه كما في صحة النهى المولوي
كون متعلقه مقدورا كذلك يعتبر القدرة في متعلق النهى الارشادي إذ الارشاد إلى
ترك المنهى عنه يستدعى قابليته لان ينهى عنه.
وفيه: انه لا يعتبر القدرة في متعلق النهى الارشادي، بل ربما يكون النهى ارشادا
إلى عدم القدرة على ما تعلق به وذلك فيما إذا لم يكن عدم القدرة على المنهى عنه مما
يعلمه من توجه إليه الخطاب، وذلك واقع في المحاورات العرفية الا ترى انه لو لم يعلم
الانسان عدم قدرته على المشي إلى السوق لمانع في الطريق يصح لغيره ان ينهاه عن ذلك
ويكون هذا النهى ارشادا إلى عدم القدرة. وعلى ذلك فلوا سلم ظهور النهى المتعلق بالعبادة في حال كالحيض أو مع شئ
في كونه ارشادا إلى مانعية تلك الحالة أو ذاك الشئ يتم جواب المحقق الخراساني إذ
102

حينئذ كما يمكن ان يكون النهى ارشادا إلى مانعيتها عن المأمور به، يمكن ان يكون ارشادا
إلى مانعيتها عن تحقق المسمى، وعدم القدرة على المسمى في تلك الحالة.
والمحقق الخراساني يدعى ان المستفاد من فتوى الأصحاب بعدم حرمة ما يسمى بالصلاة
مطلقا بل يعتبر في الحرام جميع ما هو يعتبر في الصلاة ما عدى الطهارة من حدث
الحيض، يستفاد ان النهى عن الصلاة أيام الحيض ارشادي إلى عدم القدرة على الصلاة
الصحيحة. فيتم جوابه.
ومنها: انه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهة بترك الصلاة في مكان تكره فيه،
وحصول الحنث بفعلها وهذه علامة الوضع للأعم، وهذا الوجه ينحل إلى أمرين:
أحدهما: ان انعقاد النذر يتوقف على القدرة على المنذور في ظرفه كما هو شرط في
صحة كل تكليف، وعليه: فان كانت الصلاة موضوعة للأعم يصح نذر من أن لا يصلى
في الحمام مثلا للقدرة عليها في ظرفها، وان كانت موضوعة للصحيحة لا ينعقد لعدم
القدرة على الصلاة الصحيحة على فرض انعقاد النذر الموجب لفساد الصلاة، بل هو
موجب للمحال فإنه يلزم من وجوده عدمه، وحيث إن الفقهاء اطبقوا على صحة هذا
النذر فيستكشف من ذلك وضعها للأعم.
الثاني: ان الحنث لا يصحل باتيان الصلاة الفاسدة على فرض كونها موضوعة
للصحيحة، فالصلاة في تلك الموضع إذا نذر تركها بما انها فاسده على الفرض لا يحصل
بها الحنث، وإذا لم يحصل به الحنث صحت، وعلى فرض الصحة يحصل بها الحنث، وما
يلزم من وجوده عدمه، محال.
والجواب عن هذا الاستدلال هو ما ذكرناه في أول هذا المبحث من المراد
من الوضع للصحيح هو الوضع للصحيح من غير ناحية الامر أو النهى المتعلق به بعناوين
أخرى فراجع، فالصلاة صحيحة بهذا المعنى حتى مع انعقاد النذر وفساد الصلاة، مع أنه
يمكن ان يقال ان متعلق النذر ان كان ترك الصلاة في تلك المواضع فلا ينعقد هذا النذر
بناءا على ما هو المسلم عندهم من اعتبار رجحان المنذور، فان ترك الصلاة لا رجحان
فيه إذا فعله أرجح كما سيأتي في العبادات المكروهة، فصحة النذر بترك الصلاة
103

في المكان الذي يكره الصلاة فيه تتوقف على أن يكون المنذور ترك الخصوصية أي
ايقاع الصلاة في ذلك المكان، وعليه فيسقط هذا الدليل رأسا كما لا يخفى. هذا كله
في العبادات.
المقام الثاني في المعاملات
وتنقيح القول فيه بالبحث في موضعين: الأول: في أن ألفاظ المعاملات كلفظ
البيع، والصلح، والإجارة وما شاكل، هل هي أسام للصحيحة أو الأعم؟ الثاني:
في التمسك باطلاقات أدلة الامضاء عند الشك في اعتبار شئ فيها.
اما الأول: فقد نص الشهيد الثاني في كتاب اليمين من المسالك على أن عقد البيع
وغيره من العقود حقيقة في الصحيح وتبعة غيره.
وقد ذهب جملة من المحقين منهم المحقق الخراساني، إلى أن أسامي المعاملات
ان كانت موضوعة للمسببات، فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو الأعم:
لعدم اتصافها بهما، بل بالوجود تارة وبالعدم أخرى، واما ان كانت موضوعة للأسباب
فللنزاع فيه مجال. ثم إن المحقق الخراساني نفى البعد عن كونها موضوعة للصحيحة أيضا.
وقد يوجه ما افاده من عدم جريان النزاع على القول بالوضع للمسببات بان للصحة
معنيين، أحدهما ترتب الأثر على الشئ في مقابل ما لا يترتب عليه الأثر، ثانيهما استجماع
الشئ لجميع الاجزاء والشرائط، والمسبب في المعاملات لا يتصف بشئ منهما،
اما الأول فلانه لا يكون مؤثرا في امر، بل هو نفسه اثر، واما الثاني فلانه بسيط من جميع
الجهات وليس له اجزاء وشرائط فهو انما يتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى، لا بالصحة والفساد.
وقد أورد على القول بأنه لا مجال للنزاع على القول بالوضع للمسببات بايراد.
وعلى القول بأنها موضوعة للصحيحة بايرادين. اما الأول: فاورد المحقق العراقي على ما
أفيد بان المسبب ان كان أمرا واقعيا متحققا عند تحقق بعض أسبابه ويكون نهى الشارع
104

عنه تخطئة للعرف فيما يراه سببا كان ما ذكر تاما، واما ان كان أمرا واقعيا متحققا بنحوين
من الأسباب والشارع اشترط في ثبوت احكامه ان يتحقق بسبب خاص، أو كان هو بنظر
العرف والشرع اعتباريا وشيئا واحدا الا ان مصاديقه تختلف باختلاف الاعتبار، فللنزاع
في أن أسام المعاملات مع وضعها للمسببات موضوعة للصحيحة أو الأعم مجال: إذ
الصحيحي يدعى وضعها للمعاملات التي يترتب عليها اثارها واحكامها اما للاشتراط أو
للاختلاف في الاعتبار، والأعمى يدعى وضعها للمسببات ترتب عليها الآثار أم لا؟
واما أورد على القول بوضعها للصحيحة فامران: أحدهما: ان لازم ذلك الالتزام
بالحقيقة الشرعية في المعاملات مع أنه بالبداهة ليس كذلك، كيف وقد كان الشارع
الأقدس يستعمل أساميها فيما كان يستعملها فيه أهل العرف ولم يصرح في مورد يكون
مراده غير ما يفهمه العرف. الثاني: ان لازم ذلك عدم جواز التمسك باطلاقات أدلة العقود
لنفى ما يشك في اعتباره فيها لاجمال المعاني حينئذ مع أن سيرة علماء الاسلام على
التمسك بها في هذه المقامات.
وأجاب الشيخ الأعظم عن الايراد الأول على وضعها للصحيحة: بان البيع مثلا إذا
استعمل في المسبب لا يستعمل الا فيما هو مؤثر وصحيح ولو في نظرهم، ثم إذا كان
مؤثرا عند الشارع كان بيعا عنده والا كان صورة بيع، فالموضوع له هو الصحيح المفيد
للأثر، ولا اختلاف في هذا المفهوم بين العرف والشرع، وانما الاختلاف في المصداق:
فان أهل العرف يرون بعض البيوع مفيدا مؤثرا والشارع لا يراه كذلك، وان شئت قلت إن
أهل العرف ربما يعتقدون وجود المصلحة فيعتبرون الملكية عند البيع الخاص، والشارع
أهل العرف ربما يعتقدون وجود المصلحة فيعتبرون الملكية عند البيع الخاص، والشارع
المقدس يخطئهم في ذلك فالتخطئة انما تكون في المنشأ للاعتبار.
وأجاب عن الايراد الثاني بان البيع مثلا وان كان موضوعا للصحيح المؤثر، الا ان
المخاطب بالخطابات الشرعية بما انه أهل العرف فيحمل دليل امضاء البيع على ما هو
الصحيح المؤثر عند العرف، ولو كان مراده خلاف ما عليه العرف، لزم عليه نصب القرينة
فمع عدمه يكون الموضوع هو البيع الصحيح عند العرف.
وتنقيح القول في المقام بالبحث أو لا في أنه إذا كان أسامي المعاملات أسام
105

للمسببات هل يصح النزاع في أنها أسام للصحيحة أو الأعم أم لا؟ وثانيا: في أنها أسام
الا الموجود الخارجي: لان الاتصاف بهما انما يكون بلحاظ انطباقه على ما اخذ طرفا
للحكم أو الاعتبار الشرعي وعدمه، وعليه فالمسببات أيضا تنصف بهما: وذلك لأنه في
باب المعاملات - كالبيع - المور أربعة: 1 - اعتبار المتعاملين الملكية 2 - اعتبار العقلاء
وامضائهم لذلك، فإنهم ربما يعتبرون الملكية لمن اعتبرها المتعاملان، وربما لا يعتبرون
كمعاملة السفيه 3 - اعتبار الشارع إياها، فإنه أيضا قد يمضى ما أمضاه العقلاء وقد
لا يمضى 4 - اظهار ذلك الامر النفساني بمظهر خارجي.
اما الاعتبار القائم بالعقلاء والاعتبار الشرعي - فالبيع مثلا - لم يوضع لهما لأنه
وساير أسامي المعاملات أسماء لا فعال المتعاملين، ولا يطلق على العقلاء ولا الشارع
الأقدس عنوان البايع، فعلى فرض كونه اسما للمسبب لا محيص عن كونه موضوعا
للاعتبار القائم بالبايع، وحيث إن الشارع لا قدس لم يعتبر الملكية في كل مورد اعتبر
الملكية المتعاملان، بل في بعض مواردها كما إذا كان مظهرا بمظهر خارجي، من لفظ أو
غيره، وكان المعتبر غير محجور عليه، وغير ذلك من الخصوصيات، فكل اعتبار شخصي
خارجي، ان كان منطبقا على ما هو موضوع للاعتبار الشرعي وطرف له، فهو صحيح والا
فهو فاسد، فالمعاملات وان كانت أساميها أسامي للمسببات فهي تنصف بالصحة والفساد،
وان كانت أسامي للأسباب فالامر أوضح. وقد حقق في محله انها أسامي للمسببات.
واما الجهة الثانية: فالظاهر أنها موضوعة للأعم لا لخصوص الصحيحة بالمعنى
المتقدم: لما عرفت من أن الصحة انما تنتزع من مطابقة الماتى به لما هو طرف الاعتبار،
فهي متأخرة عن الامضاء فكيف يمكن اخذها في المرتبة السابقة عليه فتدبر، فإنه يمكن
ان يقال بوضعها للحصص الخاصة الملازمة للامضاء الشرعي.
مع أن المعاملات أمور عرفية أمضاها الشارع المقدس، وضروري انه لم يتصرف
106

في وضعها، ولم يستعملها في غير ما وضعت تلك الألفاظ لها في العرف، بل استعملها في
معانيها، غاية الامر اعتبر في امضائها قيودا، وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم
في المقام. نعم دعوى وضعها لخصوص الصحيحة عند العرف أي الممضاة عند العرف
والعقلاء ممكنة، لكنها خلاف الظاهر أيضا.
جواز التمسك بالاطلاق في المعاملات
واما الموضوع الثاني: فالمشهور جواز التمسك بالاطلاق في المعاملات على كلا
القولين، ولا يختص الجواز التمسك بالاطلاق في المعاملات على كلا
القولين، ولا يختص الجواز باختيار القول بالأعم، وربما يقال انه بناءا على كون سام
المعاملات أسامي للمسببات، لا يجوز التمسك على القولين أي كانت موضوعة للصحيحة
أم للأعم، اما على الأول فواضح، واما على الثاني: فلان دليل الامضاء انما يدل على
امضاء المسببات، ولا يدل على امضاء الأسباب العرفية إذ السبب والمسبب موجود ان
متغاير ان لا ربط لامضاء أحدهما بامضاء الاخر.
وأجاب عن ذلك الأستاذ الأعظم، بان هذا لو تم فإنما هو على مسلك القوم من كون
نسبة صيغ العقود إلى المعاملات نسبة الأسباب إلى المسببات، واما بناءا على ما هو الحق
من كون الصيغ مظهرة للأمور الاعتبارية فلا يتم ذلك: فان مقتضى اطلاق دليل الامضاء
امضاء تلك الاعتبارات بأي نحو أظهرت.
وفيه: ان هذا الاشكال على هذا المسلك أولى بالورد: إذ بعد ما لا ريب في أن
الاعتبار القائم بالمتعاقدين ما لم يظهر بمظهر لا يترتب عليه الأثر عند العرف والشارع فإذا
شك في ترتب الآثار شرعا إذا أبرز بمظهر خاص كالعقد الفارسي لا يمكن التمسك
بالاطلاق الافرادي لدليل امضاء ذلك الامر النفساني لرفع هذا الشك والالتزام بترتبها.
فالصحيح ان يقال، بناءا على مسلك المشهور مقتضى اطلاق دليل المسبب
الافرادي امضاء كل فرد من افراد المسبب في نظر المتعاقدين، ولازمه امضاء كل سبب
يتسبب به إليه، والا كان اطلاق دليل المسبب مقيدا بغير ما حصل من ذلك السبب الذي
107

يشك في امضائه.
واما بناءا على المسلك الحق فلا يصح التمسك بالاطلاق الافرادي لما تقدم لكنه
يمكن التمسك بالاطلاق الأحوالي. توضيح ذلك: ان أدلة امضاء المعاملات - مثل أحل
الله البيع، كما أن لكل واحد منها اطلاقا افراديا فيدل على امضاء كل فرد من افراد البيع
مثلا، كذلك له اطلاق أحوالي. فمقتضى أحل الله البيع. امضاء كل فرد من افراد البيع في
جميع حالاته أي سواء أبرز بالفارسي أو بالعرى أو بغيرهما، ولازم ذلك امضاء كل
مظهر.
وقد أجاب المحقق النائيني (ره) عن الاشكال بان نسبة صيغ العقود إلى المعاملات
ليست نسبة الأسباب إلى المسببات حتى يكونا موجودين خارجيين فيرد المحذور
المذكور بل نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذيها والإرادة متعلقة بنفس المعاملة ابتداءا، فليس
هناك موجودان حتى لا يكون امضاء أحدهما امضاءا للاخر، بل الموجود واحد غاية
الامر انه باختلاف الآلة ينقسم إلى اقسام عديدة فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم
يقيده بنوع خاص يستكشف عمومه لجميع الأنواع.
وفيه: مضافا ضعف المبنى كما حققناه. في مبحث الانشاء و الاخبار، ان
وجود الآلة مغاير مع وجود ذي الآلة كما يشهد له الوجدان والضرورة، و الإرادة وان
تعلقت حين البيع بذى الآلة ابتداءا وبالآلة تتعلق تبعا الا انه في مقام الجعل لابد من لحاظ
الآلة مستقلا كي يرى صلاحية كل آلة أو آلة خاصة، وعليه فإذا كان الاطلاق مسوقا لبيان
ذي الآلة لا الآلة لا يصح الاستدلال بالاطلاق لصلاحية كل آلة لذلك الا بالنحو الذي
قربناه، وعليه: فلا فرق بين كونها من قبيل الأسباب و المسببات، أم من قبيل الآلة وذي
الآلة. هذا كله بناءا على وضعها للمسببات.
واما بناءا على وضعها للأسباب أي المظهر لتلك الاعتبارات النفسانية فالتمسك
بالاطلاق لامضاء كل مظهر أو سبب أو آلة على اختلاف المسالك أوضح من أن يبين.
ثم لو أغمضنا عن ما ذكرناه وبنينا على دخل شئ آخر غير الاعتبار القائم
بالمتعاقدين في المعاملات وانه لا تصدق أسمائها بمجرد تلك الاعتبارات، فلا يخلوا الامر
108

من أمور: 1 - اعتبار امضاء العقلاء والعرف، بمعنى ان كل معاملة واقعة بين المتعاملين
ممضاة عند العقلاء فهي بيع أو معاملة أخرى، والا فلا 2 - اعتبار امضاء الشارع فيها
3 - اعتبار وجود المصلحة والمناسبة الواقعية، فالتمليك بعوض ان كان عن المصلحة
والمناسبة الواقعية فهو بيع وهكذا ساير المعاملات، والا فلا 4 - ان يكون البيع مثلا
موضوعا لأمر واقعي، ويكون نظر العرف والشرع طريقا إليه، وعليه فيكون النهى تخطئة
للعرف في المصداق.
فلو كان المعتبر هو الامر الأول، لو شك في دخالة شئ في امضاء العرف
العقلاء لا يصح التمسك بالاطلاق، واما لو ذلك وشك في دخالته في الامضاء
الشرعي يتمسك بالاطلاق لنفيه.
ولو كان هو الثاني لا يصح التمسك بالاطلاق اللفظي إذ كل ما شك في دخالته في
الامضاء الشرعي يحتمل دخالته في المسمى فمع عدمه لا يحرز صدق المسمى ومعه
لا يصح التمسك بالاطلاق. نعم، يمكن التمسك بالاطلاق المقامي بتقريب ان الدليل إذا
كان في مقام البيان، ولم يبين فيه اختلاف الشارع، والعقلاء في البيع، فلا محالة
يستكشف، ان كل بيع عرفي بيع شعري، وإلا لزم الاجمال ونقض الغرض.
فتأمل فان ذلك يتم إذا لم يكن هناك قدر متيقن، ودار الامر بين أمور متباينة، وأما إذا
كان فرد متيقن، كما هو متحقق في المعاملات الرائجة، فلا يتم ذلك، فإنه يمكن ان
يعتمد الشارع المقدس عليه.
وبما ذكرناه ظهر ان مراد صاحب الكفاية (قده) حيث أفاد تبعا للمشهور من صحة
التمسك بالاطلاق في المعاملات وان كانت موضوعة للصحيح، لابد وأن يكون
أحد أمرين، اما انه يصح التمسك بالاطلاق الكلامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر
العرف، أو انه يتمسك بالاطلاق المقامي إذا كانت موضوعة للصحيح بنظر الشرع.
ولو كانت المعاملات أسماء للأمورات الواقعية، ونظر العرف والشرع طريق إليها،
أو كانت أسماء للاعتبارات ولكن مقيدة بما إذا كانت عن المصالح والمناسبات الواقعية،
يمكن التمسك بالاطلاق لنفى ما شك في اعتباره شرعا بتقريب: انه بما ان للشارع المقدس
109

جهتين: الأولى كونه مشرعا وجاعلا للأحكام. الثاني: كونه من العرف والعقلاء، بل هو
رئيسهم، فإذا، قال أحل الله البيع، ولم يعين البيع الشرعي لا محالة يحمل على إرادة
امضاء البيع العرف، كما هو الشأن في جميع المفاهيم الواقعة في الأدلة الشرعية، وعليه
فيتمسك بالاطلاق لنفى ما شك في اعتباره شرعا.
فتحصل مما ذكرناه انه يصح التمسك بالاطلاق جميع الوجوه والأقوال،
الانباء على كونها موضوعة للصحيح عند الشارع.
ومع عدم الاطلاق لابد من الرجوع إلى أصالة الفساد أي عدم تحقق ذلك الامر
الاعتباري، لو شك في دخالة شئ في تحققه، من غير فرق بين الوضع للصحيح، أو الأعم.
اقسام دخل الشئ في المأمور به
بقى امر وهو انه قسم جماعة، ما يكون دخيلا في المأمور به وجودا أو عدما، إلى
قسمين، ما يعتبر في حقيقة المأمور به وماهيته، وما يعتبر في تشخصه وتحققه، وقالوا، انه
كما يكون لما يعتبر في المركب الحقيقي قسمان، ما يعتبر في الماهية، وما يعتبر في الفرد،
كذلك لما يعتبر في المركب الاعتباري قسمان.
وتنقيح القول في المقام يتوقف على بيان مقدمة، وهي، ان الجزء، والشرط،
والمانع المصطلحة في باب العلل والمعلومات التكونية، غير ما هو مصطلح في الاحكام:
فان الجزء في باب العلل، عبارة عن بعض ما يترشح منه المعلول، والشرط عبارة من
ما يوجب تأثير المقتضى فعلا ولا يترشح منه الأثر، بل هو اما متمم لفاعلية الفاعل، أو
متمم لقابلية القابل، والمانع عبارة عما يزاحم المقتضى في التأثير، واما الجزء في متعلقات
الاحكام فهو عبارة عما يكون دخيلا فيه قيدا وتقيدا، والشرط هو ما يعتبر التقيد به
في المأمور به دون القيد، والمانع عبارة عما اخذ عدمه في المأمور به، والشرط على
قسمين، الأول ما يعتبر في جميع الاجزاء والأكوان الثاني ما يعتبر في الاجزاء خاصة.
ودعوى انه يمكن ان يقال بان المراد بها في البابين واحد بناء على مسلك العدلية
110

من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، فان الجزء هو بعض ما يؤثر في ما لمصلحة،
والشرط ما يوجب تأثير الاجزاء فيها والمانع ما يزاحم تأثيرها فيها. مندفعة بان المصالح
غير معلومة عندنا كما أن كيفية ترتبها مجهولة، والذي هو معلوم عندنا ترتبها على مجموع
الاجزاء والشرائط وعدم المانع، فلا سبيل إلى الدعوى المذكورة. ومما يؤيد ذلك عدم
تسمية ما سمى عند الفقهاء بالجزء والشرط في النصوص بهما.
وبعد بيان هذه المقدمة يقع الكلام فيما انعقد له هذا الامر، وهو بيان الفرق بين
ما هو دخيل في الماهية، وما يكون دخيلا في الرف، والكلام فيه في موردين.
1 - في المركب الحقيقي 2 - في المركب الاعتباري.
اما المقام الأول: فالموجود الخارجي، كزيد له طبيعة موجودة بوجوده، وهي
في المثال طبيعة الانسان، المؤلفة من الجنس والفصل ومشخصات لتلك الطبيعة التي هي
من لوازم وجودها في الخارج، وعليه فما كان من الأمور يأتلف منه الطبيعة، كالحيوان
والناطق، يسمى بجزء الطبيعة، وما كان من لوازم وجود الطبيعة في الخارج، بمسمى بجزء
الفرد.
واما المقام الثاني: فالمراد من الجزء للطبيعة، والجزء للفرد، ليس هو جزء الطبيعة
والفرد بهذا المعنى، فان المركب الاعتباري كالصلاة المركبة من مقولات متعددة، وان
كان لكل جزء منها كالتكبيرة مثلا لوازم الوجود، الا ان محل الكلام ثبوت الجزء لفرد
هذا المركب الاعتباري بما هو مركب وعليه فجزء الفرد بهذا المعنى مما لا معنى معقول
له، بل المراد بهما، جزء أصل الطبيعة، وجزء الطبيعة الفاضلة.
توضيح ذلك أن بعض الأمور يكون دخيلا في حصول الغرض الملزم كالتكبيرة
بالنسبة إلى مصلحة الصلاة، فهو جزء الطبيعة، وبعض آخر لا يكون دخيلا في ذلك بل
انما يكون دخيلا في حصول الغرض الأكمل، وبعبارة أخرى ما يكون دخيلا في حصول
المزية غير لازمة التحصيل فهو جزء للفرد كالقنوت وكما أن القسم الأول قد يكون
دخيلا في حصول الغرض قيدا وتقيدا، وقد يكون دخيلا قد تقيدا لا قيدا، وقد يكون
عدمه دخيلا كذلك، وبهذا الاعتبار يتقسم إلى الجزء والشرط والمانع، كذلك القسم
111

الثاني، فالأول كالقنوت، والثاني كايقاع الصلاة في المسجد، والثالث كالصلاة في الحمام
ثم إن دخالة القسم الأول باقسامه في المسمى على الصحيح أو الأعم تقدم الكلام فيها،
واما الثاني فهو لا يكون دخيلا فيه على كلا القولين لفرض عدم دخالته في صحة العبادة.
ومقتضى القاعدة هو عدم فساد الصلاة بفساد الجزء بالمعنى الثاني: فان غاية ما يلزم منه
عدم تحقق الطبيعة الفاضلة.
فما عن بعض من الاستدلال لفساد: بان انتفاء جزء الفرد موجب لعدم تحقق
الطبيعي إذ لا يعقب وجوده من دون الفرد، وهم غريب: فإنه خلط بين جزء الفرد
في المركب الاعتباري وجزء الفرد في المركب الحقيقي. نعم، ما ذكرناه انما هو مقتضى
القاعدة الأولية، واما مقتضى القاعدة الثانوية - المستفادة من قوله (ع) من زاد في صلاته
الخ - فالكلام فيه موكول إلى محله. وأوضح من هذا القسم في عدم الدخل في المسمى
وعدم موجبية فساده لفساده المركب - ما يكون المركب ظرفا لمطلوبيته بلا دخل له
في العبادة أصلا - كما لو نذران يدعو لزيد في صلاته.
الاشتراك
الخامس عشر في الاشتراك، وتنقيح القول فيه، بالبحث في مقامات: الأول: في أن
الاشتراك محال أو واجب أو ممكن. الثاني: في أن الاشتراك واقع أم لا. الثالث: في
استعماله في الكتاب المجيد.
اما المقام الأول: فقبل شروع الكلام فيه لابد من التنبيه على امر وهو ان المراد
من الوجوب والاستحالة، ليس هو الذاتي منهما: إذ بديهي ان ملاحظة الاشتراك لا تقتضي
ضرورة الوجود حتى يكون واجب الوجود، وليس تصور مفهومه مقتضيا ضرورة العدم،
بل المراد انه هل يلزم من فرض وقوعه محال حتى يكون ممتنعا، أم يلزم المحال من
فرض عدمه فيكون واجبا، أم لا يلزم شئ منهما فهو ممكن، فالمراد هو الوقوعي منهما.
فقد استدل للاستحالة بوجوه.
112

الأول: منافاته لحكمة الوضع وهي التفهيم والتفهيم إذ الاشتراك موجب لعدم
حصول تفيهم المعنى الأول - ولا الثاني الذين هما الموضوع لهما -.
وأجاب عن ذلك المحقق الخراساني بجوابين: الأول: امكان الاتكال في تفهيم
المعنى على القرائن الواضحة، وفيه: ان هذا الجواب غير مربوط بالاستدلال: فان تقريب
الاستدلال ان الغرض من الوضع ليس هو عدم تفهيم المعنى لأنه محقق قبله ولا أمور اخر
كايقاظ النائم لعدم ترتبها على الوضع، بل الغرض منه هو تفهيم المعنى، والاشتراك
يوجب عدم ترتبه كما عرفت، وما ذكره المحقق الخراساني غير مرتبط بذلك، بل هو
جواب عما أدرجه هو (قده) في الاستدلال، وهو ان تفهيم المعنى بواسطة القرائن غير
صحيح: فإنه كثيرا ما يختفي القرائن. الثاني: انه قد يتعلق الغرض بالاجمال، وفيه: ما تقدم
من أن الاجمال وعدم التفهيم ليس غرضا من الوضع.
فالصحيح في الجواب عنه ان يقال: ان الانتقال في الجملة بمعنى الصرف عن بقية
المعاني ثابت مع الاشتراك، فهو ليس منافيا لحكمة الوضع رأسا، مع أن الوضع انما يكون
مقتضيا للانتقال إلى المعنى لا علة تامة له وذا عند نصب القرينة لا ينتقل إليه، فكما
ان القرينة تمنع من ذلك، كذلك الوضع الثاني، فلو علمنا من الخارج أو من قرينة انه لم يرد
أحد المعنيين لا محالة ينتقل إلى الاخر وبهذا يمتاز عن الحقيقة والمجاز: فان عدم
إرادة حقيقة لا يكفي في الانتقال إلى المعنى المجازى فيتوقف الانتقال إليه له ما يدل
على ارادته، وهذا بخلاف المشترك، وهذا هو المراد مما اشتهر من أن إرادة أحد المعنيين
في المشترك تتوقف على القرينة الصارفة، واما المجاز فإرادته تتوقف على القرينة المعينة.
الوجه الثاني: ان لازم الاشتراك الانتقال إلى معنيين في آن واحد وهو غير ممكن.
وفيه: ان المراد بالانتقال ان كان هو الانتقال التصوري فهو مما لا محذور فيه لان
اجتماع شيئين في آن واحد في النفس التي هو من المجردات لا مانع عنه، بل هو واقع
كثيرا، ولذا يحكم على الوجود والعدم بأنهما نقيضان ولو أنهما يتصورا في آن واحد
لما صح الحمل للزوم تصور الموضوع حين الحمل، ومنه يظهران ذلك جار في جميع
القضايا فان صحة الحمل تتوقف على تصور الموضوع والمحمول في آن واحد، وان
113

أريد الانتقال التصديقي بمعنى انه يحكم بان المتكلم أرادهما معا، فان بنينا على جواز
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد كما هو الحق وستعرفه فلا محذور فيه، والا
فلازمه الاجمال كما هو واضح.
الوجه الثالث: وهو يختص بما بنينا عليه من أن حقيقة الوضع هو التعهد، بذكر
اللفظ عند إرادة المعنى، وحاصله ان التعهد الثاني ينافي التعهد الأول ومناقض له ولا يمكن
بقائه معه، الا ترى انه لو تعهد زيد بأنه لو لبس الثوب الأبيض فهو مريد للكوفة، ثم تعهد
ثانيا: بأنه لو لبسه فهو مريد المشي إلى مكة، يكون التعهد الثاني منافيا للأول.
وفيه: أولا: سيأتي انه يجوز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وعليه فلازم هذين
التعهدين انه عند ذكر اللفظ مريد لتفهيم معنيين ولازم ذلك أنه عند عدم نصب القرنية
يحمل على ارادتهما معا. وثانيا: ان الواضع انما يتعهد ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى،
لا انه يتعهد إرادة المعنى عند ذكر اللفظ والفرق بين التهدين واضح لا يخفى، فتحصل انه
لا دليل على الاستحالة.
وقد استدل لوجوبه بان الألفاظ متناه لتألفها من حروف الهجاء التي هي متناهية
والمركب من المتناهي متناه والمعاني غير متناهية فلابد من الاشتراك فيها.
وأجاب عنه صاحب الكفاية بأجوبة: أربعة. الأول: ان الوضع لجميع المعاني
غير المتناهية يستدعى الأوضاع غير المتناهية. وفيه: ان الوضع بنحو الوضع العام والموضوع
له الخاص امر ممكن كما تقدم فكون المعاني غير متناهية لا يوجب عدم تناهى الأوضاع
لامكان ان يكون بهذا النحو. الثاني انه لو سلم ذلك لا يجدى الا في مقدار متناه لاستدعاء
استعمال الألفاظ في جميعها الاستعمالات غير المتناهية. وفيه: ان المراد من عدم التناهي
في هذا المقام عدم التناهي العرفي، والا فالعلم بأجمعها يكون متناهيا، وعليه
فالاستعمالات غير المتناهية بالنسبة إلى شخص واحد، وان امتنع الا انه بالنسبة إلى جميع
افراد البشر لا امتناع فيه كما لا يخفى. الثالث: ان المجاز باب واسع. وفيه: ان الاستعمال
المجازى يتوقف على ذكر القرينة اللفظية غالبا لتعذر القرائن الحالية بحسب الغالب،
وبذلك يظهر الجواب عن جوابه الرابع، وهو عدم لزوم الوضع للجزئيات بل يوضع
114

الألفاظ للكليات وهي متناهية.
فالصحيح في الجواب عنه عدم تناهى الألفاظ كالمعاني. وذلك: فانا إذا لا حظنا ان
المركب الثنائي من حروف الهجاء يحصل منه ألفاظ كثيرة جدا، حيث إن كل واحد منها
يمكن تركبه مع نفسه ومع أحد حروف اخر فيتولد من ذلك سبعمائة كلمة مثلا، ثم إن
هذه الكلمة الثنائية، تارة يكون أولها مفتوحا، وأخرى مضموما، وثالثة مكسورا، وثانيها
أيضا قد يكون مكسورا، وأخرى مفتوحا، وثالثة مضموما، ورابعة ساكنا، فلازم ذلك
امكان تحقق ما يقرب ثمان مائة الف كلمة ثنائية. نقطع بعدم تناهى الألفاظ أيضا، فتحصل
ان الاشتراك ممكن لا واجب ولا ممتنع.
واما المقام الثاني: فالأظهر وقوعه كما نشاهد ذلك في الاعلام الشخصية وفي
غيرها كالقرأ الموضوع للحيض، والطهر - وما شاكل - وما ذكره بعض الاعلام من انكار
وقوع الاشتراك في غير الاعلام الشخصية، وارجاع كل مورد مما ظاهره الاشتراك إلى
وجود جامع بين المعاني المتشتتة، وانه الموضوع له، تكليف بارد كما صرح به
المحقق العراقي (ره).
واما المقام الثالث: فقد يتوهم انه يمتنع استعمال المشترك في القرآن المجيد،
لان الله تعالى، اما ان لا يعتمد في بيان المراد منه على القرائن الدالة على ذلك فيلزم التطويل
بلا طائل، واما ان يعتمد على شئ فيلزم الاهمال والاجمال وكلاهما غير لائقين بكلامه
تعالى.
ويرد الأول: انه إذا كان الاتكال على القرينة الحالية قلا يلزم التطويل، وإذا كان
الاتكال على القرينة المقالية اتى بها لغرض آخر زايدا على بيان المراد لا يكون بلا طائل.
ويرد الثاني: منع كون الاجمال غير لائق بكلامه، إذا الغرض ربما يتعلق بالاجمال
وقد أخبر الله تعالى بوقوعه في كلامه وقال عز وجل " فيه آيات محكمات هن أم الكتاب
واخر متشابهات " والمتشابه هو الجمل. ثم انه لا يهمنا البحث في أن منشأ الاشتراك هل هو الوضع تعيينيا أو تعيينا أم ما
نقله المحقق النائيني عن بعض مؤرخي متأخري المتأخرين، من أن حصول الاشتراك في
115

اللغات حصل من خلط اللغات بعضها ببعض، فان العرب مثلا كانوا على طوائف فكل
طائفة قد وضعت لفظا خاصا لمعنى مخصوص غير اللفظ الذي وضعه طائفة أخرى له،
ولما جمعت اللغات من جميع هذه الطوائف وجعلت لغة واحدة حدث الاشتراك: فإنه
لا يترتب على تحقيق ذلك ثمرة.
استعمال اللفظ في أكثر من معنى
بل المهم هو البحث في أنه يصح استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أم
لا؟ ملخص القول فيه: انه بعد ما ثبت امكان الاشتراك ووقوعه، لا اشكال في جواز
استعماله في كل من واحد المعنيين أو المعاني لوضعه له، كما لا ينبغي التوقف في
جواز استعماله في الجامع، غاية الامر كونه مجازا، كما لا اشكال في جواز استعماله
في المجموع.
انما الكلام والاشكال في جواز استعماله في أكثر من معنى واحد على سبيل
الاستقلال، بان يراد كل واحد كما إذا لم يستعمل الا فيه، ففي الحقيقة يكون الاستعمال
متعددا بلفظ واحد.
وبذلك يظهر ان ما ذكره صاحب المعالم (ره) في عنوان المسألة من قوله، بان
يستعمل في معنيين يكون كل واحد مناطا للاثبات والنفي ومتعلقا لحكم واحد، غير
جيد: إذ تعلق الحكم انما يكون في مرتبة لا حقة للاستعمال، والنسبة بين ما ذكره وما
ذكرنا. عموم من وجه.
وقد اختلف كلماتهم فيه على أقوال، منها ما ذهب إليه أكثر المحققين وهو عدم
الجواز عقلا. وقد استدل له بوجوده.،
الأول: ما عن المحقق النائيني (قده) من أن لازم الاستعمال في معنيين تعلق اللحاظ
الاستعمالي في آن واحد بمعنيين، ولازمه الجمع بين الخاطبين وهو ممتنع عقلا.
وفيه: ان الجمع بين اللحاظين في آن واحد مع كون الملحوظ متعددا لا استحالة
116

فيه: فان معنى لحاظ الشئ إحاطة النفس به وحيث انها من المجردات فلا مانع من
إحاطتها بشيئين في آن واحد، وان شئت قلت إن الذهن يكون كالخارج كما أنه
في الخارج يمكن ان يجتمع شيئان في الوجود كذلك في الذهن، بل هو واقع كثيرا. الا ترى
انه كثيرا ما يصدر عن الانسان فعلان اختياريان كان يمشى ويتكلم، مع أن كلا منهما
يتوقف تحققه على تصوره ولحاظه.
الوجه الثاني: ما في الكفاية وحاصله: ان اجتماع اللحاظين في آن واحد وان كان لا
محذور فيه إذا كان الملحوظ متعددا، الا انه ممتنع إذا كان الملحوظ واحدا، وعليه
فالاستعمال في أكثر من معنى وان كان لا محذور فيه من حيث لحاظ المعنيين في آن
واحدا، الا انه ممتنع من ناحية المستعمل، إذ حقيقة الاستعمال جعل اللفظ وجها وعنوانا
للمعنى بل بوجه نفسه كأنه الملقى، وعلى ذلك فاستعمال اللفظ في معنى يستلزم لحاظ
اللفظ فانيا فيه أي لحاظه آلة للحاظه. ولا يعقل ان يكون في هذه الحالة ملحوظا بلحاظ
آخر آليا أم استقلاليا، فاستعماله في معنى آخر لا يجوز، لاستلزامه اجتماع اللحاظين
الآليين في شئ واحد.
وفيه: انه قد تقدم منا في الوضع انه عبارة عن التعهد والالتزام بالتلفظ بلفظ خاص
عند إرادة تفهيم معنى مخصوص، فحقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللفظ علامة
لا إرادة المعنى، وعليه فلا مانع من جعل اللفظ علامة لمعنيين لعدم استلزامه تعدد
اللحاظين، كما نشاهد ذلك بالوجدان في التعهدات الخارجية. وعلى ذلك، فالاستعمال في
معنيين كالاستعمال في معنى واحد لا يلاحظ اللفظ فيه الا بلحاظ واحد استقلالي، غاية
الامر تارة يكون الداعي له هو تفهيم معنى واحد، وأخرى يكون تفهيم معنيين.
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) في حاشيته على الكفاية - وحاصله -
ان وجود اللفظ في الخارج وجود لطبيعي اللفظ بالذات، ووجود لطبيعي المعنى بالتنزيل
والمواضعة. وحيث إن المجود بالذات واحد فلا محالة يكون ذلك الوجود وجودا
تنزيليا واحدا أو لا يعقل ان يكون وجودين تنزيليين لمعنيين إذ كما أن الوجود الواحد
لا يمكن ان يكون وجود الماهيتين بالذات كذلك لا يعقل ان يكون وجودين تنزيليين
117

لمعنيين، وليس الاستعمال الا ايجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي خارجا، وقد مر ان
الايجاد والوجود متحدان بالذات، وحيث إن الوجود واحد فكذا الايجاد، ثم قال (قده) ان
الاستعمال لو فرض محالا تحققه بلا لحاظ لكان محالا.
وفيه أولا: ما مر من أن حقيقة الوضع ليست الا التعهد بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم
المعنى وليس الاستعمال الا فعلية ذلك فحدث الوجود التنزيلي مما لا يرجع إلى محصل.
وثانيا: لازم ما ذكره قده الالتزام باستحالة الاشتراك إذ بعد ما صار وجود طبيعي اللفظ
الذي هو الموضوع له وجودا تنزيليا لمعنى خاص كيف يمكن صيرورته وجودا تنزيليا
لاخر، وبعبارة أخرى يحث الاستعمال ليس الا فعلية الوضع ويكون هو بنحو الذي
وضع، فان التزم هو (قده) في الوضع بالوجود التنزيلي فليس له الالتزام بامكان الاشتراك
والا فليس له الالتزام بذلك في مقام الاستعمال. وثالثا: انه لا محذور في صيرورة الوجود
الحقيقي الواحد وجودين تنزيليين لشيئين إذا لوجود التنزيلي انما يتحقق بالوضع
والاعتبار وهو خفيف المؤنة، الا ترى في عكس المسألة قد يكون المنزل عليه واحدا
كالأسد والمنزل متعددا كزيد، وعمر، وغيرهما من افراد الانسان. والحل في ذلك ما
ذكرناه من أن الوجود التنزيلي امر اعتباري يحصل بالوضع وهو خفيف المؤنة، فتحصل
انه لا دليل على الاستحالة.
القول الثاني: امكانه ثم إن القائلين بهذا القول اختلفوا على أقوال:
الأول: انه مجاز مطلقا: واستدل له صاحب تشريح الأصول، بان كل وضعت مستقل
ولا يكون ناظرا إلى الاخر ومتمما له فالواضع حين وضع اللفظ لكل من المعنيين
أو المعاني لم يتصور الا المعنى الواحد، فيجب ان يكون الاستعمال على وفق الوضع بان
يتصور أحد المعنيين أو المعاني وإلا لزم الخروج عن طريقة الواضع.
وفيه: ان متابعة الواضع لازمة، في الخصوصيات الراجعة إلى الموضوع،
والموضوع له، والوضع، واما في غير ذلك فلا يعتبر مثلا من وضع لفظا لمعنى أو علما
لشخص، وكان في تلك الحالة متعمما فهل يتوهم أحد لزوم كون المستعمل حين
الاستعمال كذلك، مع أنه لا قطع بذلك ويحتمل ان يكون وضع المشترك لجميع ما هو
118

موضوع له في آن واحد.
الثاني: انه مجاز في المفرد وحقيقة في التثنية والجمع، وهذه الدعوى مركبة من
أمرين:
الأول: كونه مجازا في المفرد، واستدل له: لان قيد الوحدة مأخوذ في الموضوع له
فلو استعمل اللفظ في معنيين لزم استعمال اللفظ الموضوع للكل في الجزء وهو
ذات المعنى بلا قيد الوحدة:
وأجاب عنه المحقق الخراساني بان لازم ذلك عدم جواز الاستعمال فان الأكثر
ليس جزء المقيد بالوحدة بل يباينه مباينة الشئ بشرط شئ والشئ بشرط لا.
وفيه: ان المستعمل فيه ان كان هو الأكثر بقيد الانضمام كان ما ذكره تاما، ولكنه
خلاف الفرض وهو الاستعمال في كل واحد مستقلا فالمستعمل فيه هو ذات المعنى بلا
قيد ولا ريب في كونه جزء الموضوع له على هذا القول.
فالصحيح في الجواب منع اخذ قيد الوحدة في الموضوع له.
الثاني: كونه حقيقة في التثنية والجمع، والمراد بذلك ليس استعمال التثنية مثلا في
أربعة افراد فردين من طبيعة وفردين من طبيعة أخرى. ولا استعمال التثنية في فردين من
طبيعة واحدة فان ذلك هو ا لموضوع له، بل المراد استعمالها في فردين من طبيعتين.
واستدل لجوازه بنحو الحقيقة بان التثنية في قوة التكرار فكما انه لو كرر اللفظ
المفرد مرتين وأريد منه في كل مرة فردا من طبيعة يكون كلا الاستعمالين من الاستعمال
في المعنى الحقيقي كذلك لو ثنى وأطلق وأريد منه فردان من طبيعتين.
والحق في الجواب يقتضى تقديم مقدمه - وهي - انه في المركبات قد تقدم
ان المادة موضوعة بوضع خاص والهيئة موضوعة أيضا كذلك ولم يوضع كل مركب
بوضع خاص - مثلا - رجلان وضع المادة للطبيعة الخاصة، والهيئة لإفادة فردين من
مدخوله، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك - وعليه - فإذا استعمل التثنية في فردين من
طبيعتين لا يخلوا لأمر من أمرين، اما بإرادتهما من المادة ويكون الهيئة أي الألف و النون،
قرينة على إرادة ذلك فهذا مجاز على هذا القول فان المادة استعملت في معنيين فهو
119

كاستعمال المفرد بل هو هو. مع أنه خلاف وضع الأداة، واما بان يراد من المدخول فردا
ومن الهيئة فردا آخر وهو أيضا بين الفساد وحينئذ، فلا محيص عن استعمال المادة
في الطبيعة الموضوع لها والألف والنون في إرادة فردين منها، وعليه فلا يمكن إرادة
فردين من طبيعتين بنحو الحقيقة.
واما ما في الكفاية من أن التثنية والجمع، انما هما بتأويل المفرد إلى المسمى به.
ففيه ان مفهوم المسمى به ليس موضوعا له، ومصداقه هو الموجود الخارجي.
فالصحيح ان يقال ان اللفظ فيهما انما يستعمل في اللفظ الفاني في المعنى وهو
الذي يثنى أو يجمع.
وبما ذكرناه ظهر مدرك القول بامتناع الاستعمال في المفرد وجوازه في التثنية
والجمع، والجواب عنه.
الثالث: انه ممكن وحقيقة في المفرد وغيره وستعرف ما في هذا القول عند
بيان المختار. وهو ان استعمال المفرد في أكثر من معنى ممكن وحقيقة.
اما الأول: فلما مر من بطلان ما استدل به على عدم الامكان، وان شئت نظر المقام
بالمسببات التوليدية حيث إنه لا محذور في تولد مسببين من سبب كاكرام زيد وإهانة
عمرو الناشئين من قيام واحد أو حركة خاصة مع القصد إليهما فيكون استعمال اللفظ في
أكثر من معنى كذلك.
واما الثاني: فلان الاستعمال في كل منهما استعمال فيما وضع له فيكون حقيقة.
واما التثنية والجمع فاستعمالهما في فردين - أو افراد - من طبيعتين أو طبايع قد مر
انه لا يصح، واما استعمالهما في فردين أو افراد من طبيعتين أو طبايع، بان يراد من كل
طبيعة فردان - أو افراد - وان كان ممكنا عقلا باستعمال الهيئة فيما وضعت له والمادة في
معنيين أو أكثر، الا انه لا يبعد دعوى وضع الهيئة فيهما للدلالة على إرادة المتعدد من افراد
طبيعة واحدة. فتدبر فان هذه الدعوى قابلة للمنع.
بقى الكلام في ثمرة هذا البحث، وهي انه لو قلنا بجواز استعمال اللفظ في أكثر من
معنى على نحو الحقيقة، فان تردد الامر بينه وبين استعماله في معنى خاص، فقد يدعى
120

الظهور العرفي في إرادة الواحد، وقيل هذا العرف والعقلاء ببابك، فاختير ذلك منهم فيما
لو امر المولى العرفي عبده باتيان ماله معان متعددة كالعين: فإنهم لا يحكمون بلزوم اتيان
جميع معانيه. فلو تمت هذه الدعوى، والا فمقتضى الاطلاق الحكم بإرادة الجميع.
ولو دار الامر بين إرادة مجموع المعنيين، أو جميعهما بنحو التعدد في الاستعمال،
فلابد من الحمل على إرادة المعنيين بالنحو الثاني: إذ الاستعمال على الأول: مجاز دون
الثاني، وأصالة الحقيقة تثبت الثاني.
واما لو قلنا بعدم جواز الاستعمال في أكثر من معنى، فسواء تردد الامر بينه وبين
إرادة أحد المعنيين، أو مجموعهما لا سبيل إلى الالتزام به كما هو واضح، واما ان قلنا بأنه
ممكن ولكنه مجاز فان دار الامر بين ارادتهما ذلك، أو أحدهما يحمل على الثاني
لأصالة الحقيقة، وان دار بين ارادتهما كذلك، أو إرادة مجموع المعنيين فحيث ان
كلا منهما مجاز فلا أصل يعين أحدهما فلابد من الانتهاء إلى الأصول العملية.
ثم انه قال المحقق الخراساني بعد ما منع عن جواز استعمال اللفظ في أكثر من
معنى واحد: وهم ودفع لعلك تتوهم ان الأخبار الدالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين
تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت
عن انه لا دلالة لها أصلا على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ فلعلها كانت
بإرادتها في أنفسها حال الاستعمال في المعنى لا من اللفظ كما إذا استعمل فيها، أو
كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وان كان أفهامنا قاصرة عن ادراكها
انتهى.
ويرد على ما افاده أولا: ان إرادة المعنى، بمعنى تصوره حين استعمال اللفظ في
غيره، لا توجب كون ذلك المتصور بطنا للقرآن ومعنا له بل كانت شيئا أجنبيا عنه أريدت
حال التكلم بألفاظه، مع أن ذلك لا يوجب عظمة القرن على غيره وفضيلته على ساير
المحاورات لا مكان ان يراد المعاني بأنفسها حال التكلم بالألفاظ غير القرآن بل
بالمهملات، نعم ما افاده ثانيا من كون المراد بالبطون لوازم معناه وملزوماته التي لم تصل
إلى ادراكها أفهامنا القاصرة تام.
121

ومن المحتمل ان يكون المراد من هذه الأخبار انه لألفاظ القرآن معان جامعة بين
ما نفهمه ونراه ظاهرا، وبين غيره ونظيره فيما نفهمه لفظ الميزان، حيث إن معناه الظاهر
عندنا أحد مصاديق معناه الجامع، والمصداق الاخر، امام المتقين عليه السلام.
المشتق
السادس عشر في المشتق، لا اشكال ولا كلام في أنه يصح اطلاق المشتق
على المتلبس بالمبدأ فعلا، وعلى من انقضى عنه المبدأ، وعلى من سيتلبس به
في المستقبل.
ولا خلاف في أن اطلاقه على المتلبس بالمبدأ فعلا اطلاق حقيقي ويكون المشتق
حقيقة في المتلبس بالمبدأ به في الحال، كما لا خلاف في أن اطلاقه على من سيتلبس
بالمبدأ في المستقبل اطلاق مجازي، ويكون مجازا فيه.
وانما الخلاف في أن اطلاقه على من انقضى عنه المبدأ هل هو مجاز أو حقيقة؟
فان قلنا بوضع المشتق لخصوص المتلبس فيكون مجازا فيه، وان قلنا بوضعه للأعم
فيكون اطلاقه عليه حقيقة، وذهب إلى كل من القولين جماعة، وقبل تحقيق الحال
في المقام ينبغي تقديم أمور.
أحدها: ان المعاني على اقسام - منها - ما هو متأصل في الوجود ويوجد في الخارج
لا في الموضوع وهي الذي يعبر عنه بالجوهر كالانسان - ومنها - ماله ما بإزاء في عالم
العين الا انه لابد وان يتحقق في الموضوع، وهو الذي يعبر عنه بالعرض كالبياض - ومنها -
ما يتحقق في عالم الاعتبار، وهو الامر الاعتباري كالملكية والزوجية - ومنها - ما ليس ما
ما بإزاء في الخارج، لا في عالم العين، ولا في عالم الاعتبار، وانما يكون منتزعا من الذات
أو بلحاظ ذاته كالامكان أو من جهة مقايسته بشئ آخر كالفوقية، وهو الامر الانتزاعي
- ومنها - النسب المتحققة بين أحد الأقسام الأخيرة والقسم الأول، وهي المعاني الحرفية
على التفصيل المتقدم، وبإزاء هذه الطوائف الخمس من الألفاظ
122

موضوعة لها وكل هذه الأقسام خارجة عن محل الكلام كما لا يخفى وجهه.
وهناك طائفتان أخريان من الألفاظ موضوعتان للمركب من الذات والصفة
والنسبة. الأولى: ما وضعت للذات المتصفة بإحدى تلك الصفات الذاتية والحقيقة
والاعتبارية والانتزاعية بقسميها. والثانية: ما وضعت للاحداث المنتسبة إلى الذات
ما لمصادر والافعال، ومحل الكلام هي الطائفة الأولى، ومحصل البحث ان الذات إذا
اتصفت بإحدى تلك الصفات وعرت عنها بعد ذلك هل يصح حمل المشتق عليها أم لا؟
وهذه الطائفة على اقسام: الأول: ما يحمل على جزء الذات المتصف بالجزء
الاخر كالناطق. الثاني: ما يحمل على الذات باعتبار اتصافها بالمبدأ المنتزع من مقام الذات
ولا يحاذيه شئ في الخارج كعنوان العلية. الثالث: ما يحمل على الشئ ويكون المبدأ
فيه من الاعراض التسعة. الرابع: ما يحمل عليه باعتبار اتصافه بأمر انتزاعي كالسابقية
والأشدية. الخامس: ما يحمل على الذات باعتبار اتصافها بأمر اعتبار كالمالكية، لا اشكال
ولا كلام في دخول الأقسام الثلاثة الأخيرة في محل النزاع.
واما القسم الأول والثاني: فقد ذهب جمع منهم المحقق النائيني (ره) إلى خروجهما
من محل النزاع.
واستدل له في الأول: بان شيئية الشئ انما تكون بصورته النوعية، فإذا تبدل
الانسان بالتراب فما هو ملاك الانسانية وهي الصورة النوعية قد زالت، واما المادة
المشتركة الباقية التي هي القوة الصرفة فهي غير متصفة بالانسانية، فالمتصف زال والباقي
غير متصف.
واستدل له في الثاني: بان المحمولات فيه تتبع نفس العناوين الذاتية وقد عرفت
خروجها عن محل الكلام.
ولكن يرد عليهما ان الهيئة في مثل الناطق والممكن ونحوهما توضع بوضع
خاص بل لها وضع واحد، في جميع الموارد، ومع جميع المواد. ومحل الكلام انها، هل
وضعت للمتلبس، أو الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ؟ وعدم معقولية الانقضاء في
بعض الموارد لخصوصية في المادة لا يوجب خروجه عن محل البحث، فان شئت فاختبر
123

ذلك من لفظ (سيال) فان له له فردين، أحدهما ما يمكن فرض عدم سيلانه كالماء، ثانيهما ما
لا يمكن فيه ذلك كالزمان، فهل يتوهم اختصاص النزاع بالأول ولا يشمل الثاني، فتحصل
ان الأظهر دخول جميع الأقسام في محل النزاع.
ومما ذكرناه ظهر ان تعميم المحقق الخراساني محل الكلام للعرض والعرضي،
في محله إذ مراده بالعرضي على ما صرح به في الاستصحاب هي الأمور الاعتبارية لا
المبادئ، التي لا يحاذيها شئ في الخارج كي يرد عليه ما أورده المحقق النائيني (ره) من
عمد انطباقه على الأمثلة المذكورة في الكفاية من الزوجية وما شابها.
واما ما ذكره هو (قده) من كونه الزوجية مقولة الإضافة المعدودة من الاعراض
التسعة، فغير تام: إذ هي من الأمور الاعتبارية ذات الإضافة لا من مقولة الإضافة التي هي
من جملة المقولات التسع.
ثمرة هذا البحث
قال المحقق الخراساني (ره) بعد اختياره جريان النزاع في هذا القسم من الجوامد
كما يشهد به ما عن الايضاح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان
أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه، تحرم المرضعة الأولى و الصغيرة مع الدخول
بالكبيرتين واما المرضعة الآخرة ففي تحريمها خلاف فاختار والدي المصنف (ره) وابن إدريس
تحريمها لان هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق
منه. انتهى. وحيث إن هذه ثمرة متفرعة على هذا المبحث فلا باس ببيانها اجمالا.
ومحصله انه تارة يفرض عدم الدخول بالكبيرتين، وأخرى يفرض الدخول
بالمرضعة الأولى، وثالثة يفرض الدخول بالثانية، واما حكم صورة الدخول بهما فهو
يظهر من بيان حكم هذه الفروض.
اما في الفرض الأول، فقد يقال يبطل عقد المرضعة الأولى، وعقد الرضيعة: إذ
الجمع بين الام والنبت كما لا يجوز حدوثا لا يجوز بقاءا والمفروض تحقق الأمومة
124

للمرضعة، والبنتية للمرتضعة فلا يمكن بقاء زوجيتهما وحيث لا يمكن الالتزام ببقاء
زوجية إحديهما دون الأخرى - وإلا لزم الترجيح بلا مرجح - فلا مناص عن البناء على
بطلان زوجيتهما معا.
ولكن الحق انه بعد عدم امكان بقاء زوجيتهما معا، يتعين البناء على التخيير: فان
الضرورات تتقدر بقدرها، فبالرضاع لا يمكن بقاء زوجيتهما، ولا مانع من بقاء زوجية
إحداهما بنحو التخيير لامكانه ثبوتا، وتعينه في مقام الاثبات على ما حققناه في الجزء
الحادي والعشرين من كتابنا فقه الصادق في مسألة الجمع بين الأختين.
واما ما افاده في الكفاية من احتمال الرجوع إلى القرعة، فغير تام لأنه انما يرجع
إليها فيما إذا كان هناك واقع معين عند الله مشتبه عندنا لا مثل المقام.
واما المرضعة الثانية فبطلان زوجيتها مبنى على مسألة المشتق. فلو بنيا على أن
المشتق حقيقة في المتلبس لا تبطل زوجيتها، ولو بنينا على كونه حقيقة في الأعم بطلت
لأنه يصدق عليها انها أم الزوجة هذا في بطلان الزوجية.
واما الحرمة الأبدية فلا اشكال في عدم حرمة الرضعية إذا كان اللبن من الغير
لاشتراط حرمة الربية حينئذ بالدخول بأمها، وان كان اللبن من الزوج تحرم البنت مؤيدا
وان لم يدخل بأمها كما دلت عليه النصوص، وتصويره انما يكون بان وطئها بشبهة
فحملت منه وولدت ثم تزوجها ولم يدخل بها حتى أرضعت الصغيرة.
واما حرمة المرضعة الأولى فهي تتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم
ليصدق عليها أم الزوجة والا فلا تحرم: فإنه في آن تحقق البنتية والأمية اما تبطل كلتا
الزوجيين كما هو المشهور أو إحداهما كما هو المختار، وعلى أي تقدير ليس زمان يكون
البنت زوجة، والمرضعة أمها، ودعوى انه مرتبة سقوط الزوجية متأخرة عن مرتبة سقوط
الامامية والبنتية، ففي المرتبة الأولى تصدق أم الزوجة على الام فتحرم، مندفعة بان
الأحكام الشرعية مترتبة على الموجودات الزمانية دون الرتبة.
وقد استدل فخر المحققين (ره) لحرمتها بوجهين:
أحدهما: ان أم الزوجة كبنت الزوجة تحرم ان اتصف بالأمية بعد خروج البنت
125

عن الزوجية، وظاهر المحقق النائيني ارتضائه.
وفيه: ان ظاهر الآية الكريمة " وأمهات نسائكم " والنصوص ان المحرم هي أم
الزوجة - وفي النسب لا يتصور تحقق الأمية بعد الخروج عن الزوجية بخلاف بنت الزوجة،
فدليل محرمية الرضاع لا يصلح لاثبات حرمة من اتصف بالأمية بعد خروج البنت عن
الزوجية.
ثانيهما: انه يكفي في الحرمة صدق المشتق، وتحقق الزوجية في زمان فتدخل في
عموم قوله تعالى " وأمهات نسائكم ".
وفيه: انه ان أريد به كون المشتق حقيقة في الأعم فهذا الذي أشرنا إليه وسيأتي
الكلام في المبنى، وان أريد به ان صدق الزوجة على البنت في زمان ما كاف في حرمة
أمها ابدا: إذ لم تقيد حرمة أم الزوجة في الآية بكونها أم الزوجة الفعلية فيكفي في الحرمة
كونها أم الزوجة السابقة، فيرد عليه ان ذلك خلاف ظاهر الدليل فان ظاهر كل عنوان
مأخوذ في الموضوع دخله في فعلية الحكم ودوران الحكم بقاءا وارتفاعا مدار بقائه
وارتفاعه.
واما خبر على بن مهزيار أبى جعفر (ع) الوارد في المسألة، " تحريم عليه الجارية
وامرأته التي أرضعتها أولا فاما الأخيرة فلم تحريم عليه كأنها أرضعت ابنته " [المذكور في
الوسائل باب 14 من أبواب ما يحرم بالرضا حديث 1 كتاب النكاح] فمع الاغماض عن
سنده، يكون مختصا بصورة الدخول وتمام الكلام في كتاب النكاح.
واما المرضعة الثانية فقد استدل الشهيد الثاني لحرمتها بعد ما نسبها إلى الحلي
والمحقق في النافع وأكثر المتأخرين، بصدق أم الزوجة عليها لعدم اشتراط بقاء المعنى في
صدق المشتق. وبمساواة الرضاع للنسب وهو يحرم سابقا ولا حقا. والأول سيأتي الكلام
في مبناه. والثاني يندفع بان ظاهر الآية الكريمة كون الموضوع أم الزوجة الفعلية
ولا تشمل أم من كانت زوجته، أضعف إليه انه لا نظير لها في النسب كي يحرم مثلها
في الرضاع، وأم الزوجة، أضعف إليه انه لا نظير لها في النسب كي يحرم مثلها
في الرضاع، وأم الزوجة المطلقة انما تحرم لصدق أم الزوجة الفعلية قبل الطلاق عليها
فتحرم ابدا، فان قيل إن المراد بالنساء في الآية الشريفة بقرينة السياق ما يعم من كانت
126

زوجة ولو في زمان سابق بقرينة قوله تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم "
حيث إن المراد من النساء في هذه الجملة أعم من الزوجة الفعلية فكذلك النساء في قوله
تعالى " و أمهات نسائكم " توجه عليه ان إرادة الأعم من النساء في الآية الأولى انما استفيدت
من الخارج لا من نفس الآية.
واما في الفرض الثاني فعن المحقق النائيني انه لا اشكال في تحريم الرضيعة وأمها
وبطلان زوجيتهما لكون الرضيعة بنت الزوجة المدخول بها، وكون الام أم الزوجة،
وتحريم المرضعة الثانية مبتن على النزاع في المشتق.
أقول اما بطلان زوجية الرضيعة وحرمتها ابدا فلا ريب فيهما: لان بنت الزوجة
المدخول بها محرمة ابدا حتى البنت التي توجد بعد خروجها عن حبالته، فان قيل لا دليل
على حرمة بنت الزوجة الرضاعية، اجنبا عنه بورود النص بها [راجع الوسائل باب 10 من
أبواب ما يحرم الرضاع] أصف إليه ما حققناه في محله من أن العنوان المتولد من النسب
والمصاهرة بوجب التحريم إذا كان الحاصل بالرضاع العنوان النسبي كما في المقام، مع أنه
في صورة كون اللبن له تكونه الرضيعة بنتا رضاعية له فتحرم.
واما المرضعة الأولى فلا أرى وجها لبطلان نكاحها (غير خبر على بن مهزيار
المتقدم) فإنه عند تحقق الرضاع تخرج الصغيرة عن حبالته وفي ذلك الان تتحقق الأمومة
فليس هناك زمان خارجي تنصف فيه الكبيرة بأنها أم الزوجة، فقول المحقق النائيني (ره)
كون الام أم الزوجة، غير تام.
وغاية ما قيل في وجه خروجها عن زوجيته وبطلان نكاحها 1 - ان أم الزوجة
كبنت الزوجة كما أن الثانية تحرم وان وجدت بعد خروج الام عن الزوجية كذلك الأولى
فالكبيرة أم من كانت زوجته 2 - ان المشتق أعم من المتلبس ومن النقض عنه المبدأ
فيصدق عليها أم الزوجة بهذا الاعتبار 3 - انه لمكان اتصال آخر زمان زوجية الصغيرة
بأول زمان أمية الكبيرة، تكون كالمجتمع معها زمانا فيصدق على المرضعة بعد هذه
المسامحة العرفية انها صارت أم الزوجة حقيقة 4 - ان بطلان زوجية النبت في طول
حصول الأمية والبنتية، ففي تلك المرتبة يصدق عليها أم الزوجة فتحرم.
127

والكل كما ترى اما الأول: فلما من أن ظاهر الآية الكريمة والنصوص
ان المحرم أم الزوجة وفي النسب لا يتصور تحقق الأمية بعد الخروج عن الزوجية
بخلاف بنت الزوجة، فدليل محرمية الرضاع لا يصلح لاثبات حرمة من اتصفت بالأمية
بعد خروج البنت عن الزوجية، واما الثاني: فسيأتي الكلام في المبنى، واما الثالث: فلان
المسامحات العرفية في تطبيق المفاهيم على المصاديق تضرب على الجدار، واما الرابع:
فلان الأحكام الشرعية مترتبة على الموجودات الزمانية دون الرتبية فالأظهر ان مقتضى
القاعدة عدم خروجها عن الزوجية ولا يبطل نكاحها، ولا يلزم منه الترجيح بلا مرجح.
وقد استدل لحرمتها بالوجهين المتقدمين في الفرض الأول الذين استدل بهما
لحرمتها وقد عرفت الجواب عنهما، واما الاجماع، فلا يكون تعبديا كاشفا عن حجة. نعم
خبر على بن مهزيار دال على حرمتها، والخدشة في سنده لو تمت ينجبر بالعمل.
واما المرضعة الثانية: فحكمها حكم المرضعة الثانية في المسألة المتقدمة وعرفت
عدم حرمتها و يدل على عدم حرمتها خبر على بن مهزيار.
واما في الفرض الثالث: فحكم الرضيعة، والمرضعة الأولى، حكمهما في الفرض
الأول. واما المرضعة الثانية ففي فرض خروج الرضيعة عن الزوجية لا تحرم ولا تبطل
نكاحها، وقد استدل لبطلان نكاحها بوجوه ولحرمتها بوجهين تقدم الجميع في الفرضين
السابقين مع أجوبتها، ومع بقائها على زوجيتها، تكون حكم المرضعة الثانية، حكم
المرضعة الأولى المتقدم في الفرض السابق. ثم إن هذه إحدى ثمرات هذا البحث فمن
راجع إلى الفقه يقف على كثير من المسائل تكون على هذه المسألة كما لا يخفى
على المتتبع في الفقه.
النزاع عام لاسم الزمان
الثاني: ربما يتوهم خروج اسم الزمان عن حريم النزاع، واستدل له: بان الذات فيه
وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم فكيف يصح النزاع في أنه إذا بقى الذات المتصفة
128

وزال الوصف هل يصح استعمال المشتق واطلاقه عليه، وأجيب عنه بأجوبة.
الأول: ما في الكفاية: قال إن انحصار مفهوم عام بفرد كما في المقام لا يوجب ان
يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد، والا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن
الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصار فرده فيه تبارك وتعالى.
وفيه أولا: ان الأولى كان تبديل التنظير بالواجب بالإله: فإنه، لا خلاف في وضعه
للمعبود بالحق المنحصر هذا المفهوم فيه تبارك وتعالى، واما الواجب، فهو عام له تعالى
ولغيره مما وجب بالشرع أو بغيره. نعم، واجب الوجود بالذات منحصر فيه تعالى ولكن
ليس له وضع خاص، وثانيا: ان ما ذكر من امكان وضع لفظ لمفهوم ينحصر فرده و
مصداقه في فرد واحد، حق وواقع كما عرفت، بل يمكن وضع اللفظ لمفهوم يمتنع
وجود جميع افراده ومصاديقه كشريك الباري لو كان له وضع خاص، الا ان ذلك انما يتم
فيما إذا فرض للوضع فائدة بان يوجد مورد يستعمل فيه، كلفظ الاله: حيث إنه يستعمل
فيه، في " لا إله إلا الله " واما اسم الزمان فوضعه لمفهوم عام شامل للمتلبس والمنقضي عنه
المبدأ لا يترتب عليه فائدة لعدم الحاجة إلى استعماله فيه في مورد، وان شئت قلت: ان
ثمرة هذا النزاع، يظهر فيما انقضى عنه المبدأ، واما في المتلبس فلا فارق بين الطرفين
فحيث لا مصداق لما انقضى عنه المبدء في اسم الزمان ولا حاجة إلى استعمال اللفظ فيه
أو اطلاقه عليه، فيلغو هذا البحث.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو انه كما في لفظ السبت وأول الشهر
وغيرهما من أسماء الأزمنة يكون الموضوع لها معان كلية، لها افراد تدريجية كذلك
أسماء الأزمنة المصطلحة تكون موضوعة لزمان كلي له افراد تدريجية متصف بالوصف
مثلا، المقتل موضع لزمان كلي كيوم العاشر من المحرم الذي وقع فيه القتل، وعليه
فيكون الذات باقية مع انقضاء الوصف.
وفيه أولا: ان المتصف بالوصف فرد من ذلك الزمان الكلى المفروض،
والمفروض انه انعدم وحدث فرد آخر وهو غير متصف فلا موقع لهذا النزاع، فهل
يتوهم أحد جريان هذا النزاع فيما لو كان زيد متصفا بالعلم فزال عنه هذا الوصف وويات؟؟
129

وتحقق فرد آخر من الانسان كعمرو، فيقال ان طبيعي الانسان كان متصفا بالعلم فقد زال
عنه الوصف، وهو بذاته كلا، وثانيا: ان الزمان الكلى المدعى دخوله في الموضوع له
يتصور على وجوه مثلا في المقتل يتصور مفاهيم كلية من الأزمنة بحسب افراد القتل
الخارجي، ففرد منه واقع في يوم السبت، وآخر في يوم الأحد، وهكذا فأيها يؤخذ في
الموضوع له فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.
الثالث: ما ذكره المحقق العراقي (ره) في مقالاته بما حاصله: ان مهية الزمان كغيره
من التدريجات كالتكلم مهية خاصة في قبال الماهيات القارة، وقد اخذ فيها التصرم
والتدرج، فإذا انبسط عليها الوجود يظهرها بما هي عليه من التدرج فما دام ذلك الامر
التدريجي في سير وجوده يكون ذلك شخصا خاصا من افراد طبيعة، وعليه فإذا وقع في
أول هذا الوجود الخاص حدث وانعدم، صح ان يقال ان هذا الوجود الخاص كان مصفا
بهذا الوصف وانقضى عنه ذلك.
وفيه: ان ما ذكر من أن للزمان وحدة إتصالية وبهذه الجهة يصح ان يقال، ان هذا
الزمان هو الذي وقع فيه هذا الامر مع أنه وقع في جزء منه متين الا ان الوصف لا يكون
منقضيا بهذا الاعتبار، الا ترى انه يصح ان يقال ان قتل سيد الشهداء عليه السلام وقع في
هذا الدهر: فإنه في مثل ذلك لما لا يكون الظرف منقضيا، لا يكون المظروف منقضيا،
ومحل الكلام انما هو اسناد ذلك العنوان إلى الزمان المتأخر الذي انقضى المبدأ بالقياس
إليه، الملازم ذلك لفرض كل جزء من الزمان بحياله، ولا ريب في أنه إذا لو حظ هكذا
يكون كل جزء من الزمان مباينا مع الجزء الاخر، ولذا ترى انه لا يصح ان يقال وقع قتل
ابن بنت رسوله الله (ص) في ليلة العشرين من المحرم، مع أنه يصح ان يقال وقع قتله (ع)
في المحرم - ونظيره - انه لو ضرب زيد بيده يصح اسناد الضرب إلى زيد باعتبار صدوره
من يده، ولا يصح اسناده إلى رجله، ويقال ضرب برجله.
الرابع: ما ذكره الاسناد الأعظم، وحاصله ان هذا الاشكال يبتنى على أن تكون
هيئات أسماء الأزمنة مستقلة في قبال هيئات أسماء الأمكنة، ولكن بما ان
الوضع فيها واحد، مثلا هيئة مفعل وضعت لوعاء الفعل أعم من كونه زمانا أو مكانا
130

فلا يتم ذلك: فإنه قد تقدم منا ان المفهوم إذا كان بالقياس إلى بعض أصنافه أو افراده
يتصور فيه الانقضاء، وبالقياس إلى بعضها الاخر لا يتصور كالعالم: فإنه بالنسبة إلى الباري
تعالى لا يتصور فيه الانقضاء، وبالقياس إلى غيره يتصور، يجرى النزاع في ذلك المفهوم،
وعليه ففي المقام بما ان بعض أصناف هذه الهيئة يتصور فيه الانقضاء وبعضها يتصور فيه
ذلك يجرى النزاع فيه. وهذا هو القول في المقام.
عدم دلالة الافعال على الزمان
الثالث: قد مر ان المصادر والافعال خارجة عن محل النزاع: لأنها غير جارية على
الذوات، لان المصادر وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذات ولا يقبل الحمل
عليها، والافعال وضعت للدلالة على نسبة المادة إلى الذات على أنحائها المختلفة ومعلوم
ان معانيها هذه تأبى عن الحمل عل الذوات.
ثم إن المشهور بين النحويين دلالة الافعال على الزمان ولذا زادوا في حد الفعل
الاقتران بأحد الأزمنة الثلاثة، ولكن الظاهر أن مراد النحويين من دلالة الفعل على الزمان،
ليس ما هو ظاهره من أن، فعل الماضي ما دل على وقوع الحديث في الزمان الماضي، وفعل
المضارع ما دل على وقوع الفعل في الحال أو المستقبل، كي يرد عليهم: بان الفعل قد
يسند إلى الزمان، مثل مضى شهر رمضان، وقد يسند إلى المحيط بالزمان كما يقال ان
الله تعالى تكلم مع موسى (ع)، أو خلق الله الأرواح وماما كل، فيلزم منه حينئذ القول
بالمجاز أو التجريد عند الاسناد في هذه الموارد.
بل المراد ان فعل الماضي موضوع الإفادة النسبة التحقيقية السبقة، والمضارع
وضع لإفادة النسبة التحقيقية المعية، أو الآتية، وهو حق لا ريب فيه.
توضيح ذلك أنه لكل فعل مادة وهيئة ولكل منهما وضع خاص، فالمادة موضوعة
للطبيعة في ضمن أي هيئة كانت، والهيئة موضوعة لمعنى خاص مع أي مادة كانت، اما
المادة فهي موضوعة لنفس الطبيعة الخاصة المهملة، ولم يؤخذ فيها التحقق ولا عدمه،
131

ولا كونها متعلقة لاعتبار من الاعتبارات وعدمه، واما الهيئة فقد وضعت لإفادة فعلية
ما للمادة من القابلية لعروض التحقق أو عدمه عليها، ولعل هذا هو المراد مما في الخبر
الشريف، الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، أي ما يكون مظهر الحركة المادة من القوة إلى
الفعلية، فان قيل إن هذا امر يشترك فيه الافعال والجمل الاسمية فهذا التعريف للفعل
لا يكون مانعا، أجبنا عنه ان المقسم هي الكلمة، والجمل خارجة عنه.
ثم إن هيئة فعل الماضي تدل على تحقق المادة في الخارج قبل التكلم، والقبلة في
كل شئ بحسبه ولازم ذلك فيما نسب إلى الزماني وقوعه في الزمان الماضي، وهيئة فعل
المضارع موضوعة لإفادة ان الحدث يتحرك من القوة إلى الفعلية حين التكلم أو بعده،
وبعبارة أخرى تدل على أن الحدث لم يتحقق سابقا بل يخرج من القوة إلى الفعلية بعده،
ولازم ذلك أنه إذا سند إلى الزماني وقوعه في الزمان الحال أو المستقبل.
لا يقال ان لازم ما ذكرت عدم صحة ان يقال، جائني زيد في العالم الماضي، وكان
يأكل ويجئ زيد بعد عام، وقد حج قبله بشهر، فإنه يقال: ان هذين الاستعمالين
صحيحان، ويعبر عن الأول بالحكاية عن حال الماضي، وعن الثاني بالحكاية عن حال
المستقبل، بمعنى ان المتكلم في المثال الأول يفرض نفسه في الزمان الماضي فكأنه
يتكلم في ذلك الزمان، وفي المثال الأول يفرض نفسه في الزمان المستقبل. واما ما افاده
المحقق النائيني (ره) من أن فعل المضارع، وضع للدلالة على مبدئية الذات للحدث فعلا
فلابد من دلالته على الاستقبال من الحاق كلمة سين أو سوف، ففيه: مضافا إلى ما نرى من
كثرة استعمال المضارع في المستقبل في القرآن والاخبار وغيرهما بلا قرينة: ان لازم
ذلك الالتزام بالاشتراك اللفظي بمعنى ان فعل المضارع وضع مرة مع كلمة سين
أو سوف، وأخرى وحده، والا فيقع التهافت بين مفاد سين أو سوف وبين مفاد الفعل،
واما فعل الأمر والنهي فسيأتي الكلام فيهما في الأوامر فانتظر.
اختلاف المشتقات في المبادئ
الرابع: قال في الكفاية ان اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها حرفة
132

وصناعة وفي بعضها قوة وملكة وفي بعضها فعليا لا يوجب تفاوتا في دلالتها بحسب
الهيئة ولا في الجهة المبحوث عنها انتهى.
والظاهر أن غرضه (قده) من بيان اختلاف المبادئ، هو رد ما توهم من أنه من التسالم
على كون بعض المشتقات حقيقة في الأعم، كما في التاجر، والصائغ، والمجتهد فإنها
تصدق بعد انقضاء المبدأ بلا كلام، يستكشف الوضع للأعم.
ومحصل جوابه ان المبدأ في هذه الموارد لم يؤخذ فيه التلبس، بل في بعض
الموارد يكون حرفة وصناعة كما في التاجر والصائغ وفي بعضها قوة وملكة كالمجتهد،
وذلك سبب الاختلاف في المتلبس والانقضاء فما دام لم تزل ملكة الاستنباط يكون
التلبس فعليا كما أن الصائغ ما لم يعرض عن شغله يكون متلبسا به، ولو لم يكن متلبسا
بالصياغة أو الاستنباط.
ويرد عليه انه لو كان ذلك من ناحية المبدأ لزم الالتزام به في الافعال المشتقة من
تلك المبادئ مع أنه لا يصح ان يقال اجتهد، أو اتجر، أو صاغ مثلا، بمعنى صار ذا ملكة
في الاستنباط أو ذا حرفة في التجارة أو الصياغة، فيعلم من ذلك أنه ليس ذلك من باب
التفاوت في نفس المعنى.
والحق ان يقال انه قد شاع استعمال هذه العناوين في من صار الاستنباط ملكة له،
واتخذ التجارة أو الصياغة حرفة، ولعله في بعض الموارد من جهة ان العرف لا يرون
الفترات المتخللة بين تلك الأعمال موجبا لانقطاعها لينتفي التلبس، وفي بعض الموارد
يكون الهيئة موضوعة لإفادة صلاحية الموضوع لقيام المبدأ به، كما في اسم الآلة
كالمفتاح، وفي بعض الموارد شاع استعمال المادة المتهيئة بهيئة خاصة في من له القوة
والملكة، كما في المجتهد، وعلى كل، الانقضاء في هذه الموارد انما يكون بانتفاء
الصلاحية، وزوال المكلة، والاعراض عن الحرفة.
وبما ذكرناه يظهر عدم تمامية ما افاده من خروج اسم الآلة عن محل النزاع معللا
بان الهيئة فيه موضوعة لاسناد المبدأ إلى ما يقوم به بالتهيأ والاستعداد بمعنى انها موضوعة
لإفادة صلاحية الموضوع لقيام المبدأ به فلا يشترط فيه التلبس بالمبدأ أصلا، بداهة صدق
133

المفتاح مع عدم التلبس بالفتح به في زم. ان من الزمنة.
فان الانقضاء في مثل ذلك انما يكون بخروجه عن الصلاحية والقابلية.
وأوضح من ذلك ايراد ما افاده من خروج اسم لمفعول عن حريم النزاع، بدعوى
انه موضوع لمن وقع عليه الفعل وهذا المعنى مما لا يعقل فيه الانقضاء ابدا بداهة ان
الشئ بعد وقوعه لا ينقلب عما هو عليه فصدق المشتق حال تلبسه وانقضائه على نحو
واحد.
إذ يرد عليه أولا: النقض باسم الفاعل، فإنه موضوع لمن صدر عنه الفعل، ولازم
البرهان المذكور عدم انقضاء المبدأ فيه، وثانيا: بالحل وهو انه لم يوضع اسم المفعول
لعنوان من وقع عليه الفعل، بل هو موضوع لمن يكون نسبة المبدأ إليه نسبة الوقوع وهذا
المعنى يتصور فيه التلبس، وعدم التلبس، والانقضاء كما لا يخفى.
بيان المراد من الحال في العنوان
الخامس: قد ذكروا في عنوان البحث، ان المشتق هل هو حقيقة في خصوص
المتلبس به في الحال أو الأعم منه ومن المنقضى عنه، وبما ان الحال صار قيدا لمحل
النزاع لزم بيان معناه ليتضح محل البحث، ولذلك وقع الكلام فيه، فعن جماعة ان المراد
به حال النطق، وعن آخرين ان المراد به حال التلبس وستعرف انه الأظهر، وقد استدل
للأول بوجهين:
الأول: ما ادعاه العضدي من الانفاق، على أن مثل زيد ضارب غدا، مجاز.
وأجاب عنه في الكفاية بان الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال كما هو قضية
الاطلاق والغد انما يكون لبيان زمان التلبس فيكون الجري والاتصاف في الحال والتلبس
في الاستقبال انتهى.
وفيه: ان الظاهر من القيد رجوعه إلى ثبوت المحمول للموضوع، وعليه فيتحد
مفاد هذه الجملة مع مفاد - زيد سيكون ضاربا عدا - التي لا شبهة في كونها حقيقة، وعلى
134

فرض القرينة على عدم رجوعه إلى ذلك يتعين رجوعه إلى الموضوع، فيكون الموضوع
زيد المقيد بكونه في الغد، أي قطعة من قطعات استمرار وجوده الملازم لتقيد المحمول
والنسبة، أو إلى المحمول، فيكون المفاد حينئذ ان زيدا هو الضارب المقيد بكونه في
الغد الملازم ذلك لتقيد النسبة، وعلى التقديرين أيضا يكون هذا المثال حقيقة، واما
رجوع القيد إلى جزء المحمول - أي المبدأ فيكون المفاد، زيد ضارب فعلا بالضرب
المقيد بكونه في الغد الذي ذكره المحقق الخراساني فالظاهر عدم صحته.
فالصحيح في الجواب عنه ان هذا اشتباه من العضدي.
الثاني: انه إذا حمل المشتق على شئ لا ريب في ظهوره في كونه متلبسا بمبدئه
حال النطق، فيعلم من ذلك اخذه فيه.
وفيه: ان هذا انما يكون من جهة ظهور الحمل الشايع الصناعي الذي ملاكه
الاتحاد في التحقق، في اتحاد زماني التلبس والجري اللفظي ولا ربط له بما هو محل
الكلام من تعيين مفهوم المشتق في نفسه، ولعل هذا هو مراد المحقق الخراساني من قوله،
انهم في هذا العنوان بصدد تعيين ما وضع له المشتق لا تعيين ما يراد منه بالقرينة.
ثم إن المراد من الحال ليس هو زمان التلبس لعدم اخذ الزمان، في مفهومه،
لوجوه: الأول: اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، الثاني: انه قد يستند
المشتقات بما لها من المعاني بلا تجريد إلى من لا يعقل إحاطة الزمان به - مثلا - يقال انه
تعالى عالم، خالق إلى غير ذلك من الأوصاف، الثالث: ان المشتق مركب من مادة وهيئة،
والأولى موضوعة لذلك المعنى الحدثي، والثانية موضوعة لانتساب ذلك الحدث إلى
الذات ولم يؤخذ في شئ من ذلك الزمان، بل المراد من الحال في العنوان ليس الأفعلية
التلبس الملازمة ذلك لزمان التلبس في الزمانيات.
وقد يقال كما عن بعض أكابر المحققين - بان عنوان البحث بهذا الذي في
الكلمات، وهو الوضع للمتلبس أو الأعم، غلط واشتباه: إذ اللفظ لم يوضع لشئ منهما
وانما وضع للماهية: إذ النزاع على الوجه المزبور مستلزم لفرض اخذ التحقق الخارجي
في الموضوع له كي ينازع في أن الموضوع له هو خصوص التلبس أو الأعم ولم
135

يؤخذ التحقق الخارجي فيه، وانما الموضوع له هي الطبيعة من حيث هي القابلة لحمل
الوجود والعدم عليها، ولذا يصح استعمال القائم في معناه ولو لم يكن له مصداق
خارجي، فالموضوع له في القائم مثلا انما هو الذات المنتسب إليها القيام، بل النزاع لابد
وأن يكون في مصداق هذا المفهوم، وانه، هل يصدق من انتسب إليه القيام سابقا أو
ينتسب إليه فيما بعد، أم يختص بمن نسب إليه فعلا، ثم اختار هو (قده) صدقه على الجميع،
ثم أورد على نفسه بان ذلك ينافي اتفاق الأصوليين على أن المشتق لا يصدق حقيقة على
من لم يلتبس بالمبدأ وان كان يتلبس به فيما بعد، وأجاب عنه: بأنه بعد مساعدة الدليل
المؤيد بما نرى استعمال المشتق في المتلبس به في المستقبل، كاستعمال - محيي السنن
ومميت البدع - في ولى العصر روحي له الفداء، والمعذب بالنار في الله تعالى، لا يعتنى
بمخالفة القوم، ثم قال: ان هذا الاشتباه لا يختص بالأصوليين بل الفلاسفة أيضا وقعوا في
الاشتباه من هذه الجهة، إذ لو كان الموضوع له هي الطبيعة، لا معنى للنزاع المعروف بين
المعلم الثاني والشيخ الرئيس في الأوصاف حيث إن الأول اكتفى بامكان التلبس والثاني
زاد قيد الفعلية، ولذا قد يحتمل عليه الممتنع، فإذا كان الامكان أو الفعلية مأخوذا
في الموضوع له لما أمكن حمل الممتنع عليه.
أقول ما ذكره (قده) من أن الموضوع له هي الطبيعة والماهية مما لا كلام فيه ومتين
غايته، ولكن اشكاله على الفلاسفة كاشكاله على الأصوليين مبتنيا على ذلك غير تام.
اما الأول: فلان النزاع المعروف، ليس في تعيين الموضوع له، بل صرح الجميع
بالوضع للماهية، وانما يكون كلامهم في القضايا الحقيقة التي رتب الاحكام
والمحمولات على المصاديق، وعلم من الخارج عدم إرادة الماهيات من حيث هي من
الأوصاف المجعولة موضوعات في تلك القضايا مثل، النار محرقة، فوقع النزاع في أن
المحمولات في هذه القضايا مترتبة على الافراد الفعلية أم ثابتة للافراد الممكنة أيضا.
واما الثاني: فلان محل النزاع بينهم بعد تسليم الوضع للماهية، ان الموضوع له هي
الطبيعة الصادقة على خصوص المتلبس، أم ما تكون أوسع من ذلك ولها مصداق آخر
وهو المقتضى عنه المبدأ، وما ذكره من أن النزاع انما يكون في المصداق لا المفهوم،
136

اشتباه: إذ النزاع في المصداق يتصور على وجهين، الأول فيما كان حدود المفهوم معلوما
وكان الشك في المصداق من جهة الأمور الخارجية، ومثل ذلك لا يليق بالأصولي ان
يبحث عنه، الثاني: ان يكون الشك في المصداق لأجل اجمال المفهوم كما في الغناء،
وفي مثل ذلك لو انعقد البحث للتعيين، لابد وأن يكون في المفهوم وتعيين حدوده وبه
يرفع الشك في المصداق، ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا تعين المفهوم في المقام وهو الذات
التي بينها وبين المبدأ نسبة، وفرض الشك والنزاع في المصداق لا نسلم صدق هذا المفهوم
على من لم يتلبس بالمبدأ وانما يتلبس به فيما بعد، والاستعمال في الأمثلة المذكورة في
كلامه انما يكون بلحاظ حال التلبس والا لما صح.
في تعيين ما يقتضيه الأصل
السادس: قال صاحب الكفاية لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك.
أقول ما افاده متين إذ لا أصل يتوهم كونه مرجعا عند الشك، الا أصالتي عدم لحاظ
الخصوصية وعدم الوضع للخاص، وهما معارضتان مع أصالة عدم لحاظ العموم، وعدم
الوضع للعام، ودعوى عدم جريان أصالة عدم الوضع للخاص للوضع له على أي تقدير،
كما أنه لا تجرى أصالة عدم لحاظ العموم للحاظه اما مستقلا أو في ضمن لحاظ الخاص،
مندفعة: فان العموم والخصوص انما هما في الصدق على الخارج، واما في المفهوم
والمدرك العقلاني، فكل مفهوم يباين مفهوما آخر وان كان بينهما عموم مطلق
في المصاديق، فعند دوران الامر بين لحاظ العام، أو الخاص، لا متيقن في البين، كما أنه
لا متيقن عند الدوران بين الوضع للعام أو الخاص، وان شئت فقل ان لحاظ العام في ضمن
الخاص لا يفيد في الوضع للعام، بل المفيد انما هو لحاظه مستقلا، أضف إلى ذلك أن
الأصلين المزبورين عبد عدم كونهما من الأصول العقلائية، لا يجريان في أنفسهما، إذ
لا يثبت بهما الوضع للخاص كما هو واضح فلابد من الرجوع إلى الأصل في المسألة
الفقهية.
137

والكلام فيه في مقامين: الأول: فيما يقتضيه الأصل اللفظي الثاني: في مقتضى
الأصول العملية.
اما المقام الأول: فإذا ورد عام مثل قوله تعالى " ولا يغتب بعضكم بعضا " وخصص
ذلك بما اخذ في موضوعه عنوان اشتقاقي مثل ما دل على جواز غيبة المعلن بالفسق،
فبالطبع بعد الشك في كون المشتق حقيقة في الأعم يشك في أن من كان متلبسا سابقا بهذا
الوصف وانقضى عنه المبدأ هل يكون باقيا تحت العام أو هو مشمول لدليل الخاص
والفرض كون الشبهة مفهومية - فحينئذ ان كان المخصص متصلا بصير العام مجملا -
ففي مورد الشك لا يمكن التمسك بالعام ولا بالخاص، وان كان منفصلا كما في المثال،
ففي المقدار المتيقن دخوله تحت عنوان الخاص يؤخذ بالخاص، وفي الزايد منه يرجع
إلى العام كما حقق في محله.
واما المقام الثاني: فعن جماعة منهم المحقق الخراساني، انه يرجع إلى
الاستصحاب إذا كان الانقضاء بعد فعلية الجواز، والى البراءة إذا كان قبله.
ولكن الأظهر عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب في الفرض الأول أيضا، وذلك
لوجهين: أحدهما: عدم جريان الاستصحاب في الاحكام، لكونه محكوما لاستصحاب
عدم الجعل، كما حققناه في الجزء الرابع من هذا الكتاب في مبحث الاستصحاب. الثاني:
ما ذكرناه في ذلك المبحث تبعا للشيخ الأعظم، من أنه إذا تردد الموضوع بين الزايل
والباقي، كما لو انقلب الكلب واستحال ملحا، وشك في نجاسته، من جهة الشك في أن
معروض النجاسة، المادة المشتركة الباقية، أو الصورة النوعية الزايلة، لا يجرى استصحاب
بقاء الحكم، حتى على القول بجريانه في الاحكام الكلية الشرعية، ولا استصحاب بقاء
الموضوع. اما عدم جريان استصحاب الحكم فللشك في بقاء موضوعه. واما عدم جريان
الاستصحاب الموضوعي فلعدم الشك في الموجود الخارجي. وتمام الكلام في محله،
وعلى ذلك فلا يجرى الاستصحاب في المقام حتى فيما كان الايجاب قبل الانقضاء،
لا الاستصحاب الحكمي ولا الموضوعي.
ولا يخفى انه على فرض جريان الاستصحاب الموضوعي لا فرق بين الصورتين
138

فيجرى فيما ذا كان الايجاب بعد الانقضاء أيضا بناءا على ما هو الحق من أنه لا يعتبر في
جريان الاستصحاب سوى ترتب الأثر حين الشك، ولا يعتبر كون المستصحب ذا اثر
شرعي حين ما كان متيقنا.
وبذلك يظهر ان مراد المحقق الخراساني من الاستصحاب هو الاستصحاب
الحكمي، وعليه فيرد عليه الايرادان فالمتحصل المتعين هو الرجوع إلى البراءة
في الموردين.
ما يدل على المختار، في وضع المشتق
ثم انه يقع الكلام بعد تمهيد هذه الأمور في أصل المسألة وفيها أقوال، الا انه كما
افاده المحقق الخراساني انها حدثت بين المتأخرين، والا فالمسألة في الأصل ذات قولين
بين المتقدمين، الوضع مطلقا لخصوص المتلبس، أو للأعم منه ومن المنقضى عنه المبدأ.
والا ظهر تبعا للمحققين من المتأخرين، انه موضوع لخصوص المتلبس. وذلك
بناءا على كون مفهوم المشتق بسيطا، وانه نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط، فواضح، إذ عليه
لا يتصور الجامع بين المتلبس، والمنقضى عنه، فان المشتق حينئذ ملازم لصدق نفس
المبدأ ومع انتفائه ينتفى العنوان الاشتقاقي، فأي جامع يتصور بين وجود الشئ وعدمه،
كي يقال انه الموضوع له، فان قيل على هذا لابد من الالتزام بعدم جواز استعمال المشتق
في المنقضى عنه المبدأ مجازا، إذ أي علاقة تتصور بين وجود الشئ وعدمه، مع أنه
يجوز بلا كلام، فيستكشف من ذلك عدم تمامية هذا البرهان، أجبنا عنه، بان وجه صحة
الاستعمال حينئذ بقاء الذات المتصفة بالعنوان الاشتقاقي حين الاتصاف، وهذا هو الفارق
بين المشتق، والعنوان الذاتي كالانسان، حيث إنه يصح استعمال المشتق في المنقضى عنه
المبدأ مجازا، ولا يصح استعمال العنوان الذاتي بعد زوال الصورة النوعية.
واما على القول بالتركب وان المشتق موضوع للذات مع المبدأ، فقد يقال كما عن
المحقق النائيني بلزوم الالتزام بالوضع للأعم، لان الركن الوطيد في المفهوم الموضوع له
139

هو الذات، وانتساب المبدأ إليها كأية جهة تعليلية لصدق المشتق عليها، وعليه فحيث انه
من المعلوم انه لم يؤخذ الزمان قيدا في المفهوم الموضوع له، والذات تكون باقية بعد
الانقضاء. فلا محالة يصدق المشتق عليها بحسب اقتضاء طبع المعنى وهذا بخلاف من
لم يتلبس به بعد، فإنه لأجل عدم تحقق الانتساب لا يصدق المشتق على الذات.
ولكنه (قده) رجع عن ذلك وبنى على أن الموضوع له خصوص المتلبس على هذا
القول أيضا ولنعم ما أفاد، وحاصله انه لابد من القول بالوضع لخصوص المتلبس حتى
على هذا القول لأنه لا يتصور الجامع حتى بناءا على التركب: فان مفهوم المشتق على
هذا القول ليس هي الذات المطلقة مع المبدأ بل هي الذات المتقيدة به والمتصفة بوصف
ما، وبعبارة أخرى الذات مع المبدأ، وبما انه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة، والذات
الفاقدة له الا من ناحية الزمان والمفروض انه لم يؤخذ في مفهوم المشتق وليس شئ
آخر جامع بين المتلبس والمنقضى عنه مأخوذا فيه، فيتعين كونه موضوعا لخصوص
المتلبس، بعد عدم كونه موضوعا لخصوص المنقضى عنه، ولا لهما بالاشتراك اللفظي.
وأورد على هذا، المحقق العراقي (قده)، بأنه على القول بوضع المشتق للذات
المنتسب إليها المبدأ نسبة ما، ولا ريب في أنه قدر جامع بين الفردين، وينطبق على كل
منهما بلا عناية.
وفيه: ان المفهوم المركب من شيئين أو أزيد ينعدم بانعدام أحد جزئية أو اجزائه.
وعليه فان كان المراد من نسبة ما، أعم من النسبة الفعلية والسابقة فيرجع ذلك إلى اخذ
الزمان في مفهوم المشتق والمفروض عدمه، وان كان المراد ذلك مع عدم اخذ الزمان
فهو لا يرجع إلى محصل، وان كان المراد هي النسبة الفعلية، فهو لا يصدق على المنقضى
عنه، وبالجملة المفهوم المركب من الذات والمبدأ والنسبة بلا اعتبار شئ آخر لا يصدق
الا في صورة فعلية المبدأ.
فالأظهر انه لا جامع المتلبس والمنقضى عنه، فالوضع للأعم مما لا معنى له،
وحيث إن الوضع لخصوص المتلبس مما لا معنى له،
وحيث إن الوضع لخصوص المتلبس مما لا ريب فيه، ووضع آخر لخصوص المنقضى
140

عنه مفروض العدم، محالة يكون الموضوع له خصوص المتلبس، فالاستعمال
في المنقضى عنه يكون مجازا.
وقد استدل للوضع لخصوص المتلبس بوجوده اخر غير ما قدمناه.
الأول: ما في الكفاية قال ويدل عليه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال.
ويرده انه لو أريد اثبات الوضع للمتلبس فهو ليس محل الخلاف، وان أريد به انه
لا يتبادر منه المنقضى عنه المبدأ فيكون ذلك آية عدم كونه الموضوع له فهو يتوقف على
كون عدم التبادر علامة المجاز، وقد مر انه ليس كذلك.
الثاني: صحة السلب عما انقضى عنه كالمتلبس به في الاستقبال، لوضوح ان مثل
القائم والعالم والضارب وما يرادفها من ساير اللغات لا يصدق على من تلبس بها قبل
الجري والانتساب ولم يكن متلبسا بها حينه ويصح سلبها عنه، ولا يخفى ان هذا الوجه
يتم لو أريد من صحة السلب باعتبار الحمل الشايع، بان يقال انه يصح سلب عنوان المشتق
مثل العالم بما له من المعنى المرتكز عما انقضى عنه المبدأ وذلك علامة عدم الوضع
للأعم إذ لو كان للأعم لما صح سلبه عما هو بعض مصاديقه، وصحة السلب بهذا المعنى
علامة للمجازية سواء كان القيد أي زمان الحال قيدا للسلب، أو المسلوب، أو المسلوب
عنه، اما الأول فلانه حينئذ علامة عدم الوضع للجامع والا لما صح سلبه عن مصداقه في
حين من الأحيان، واما الثاني فلانه إذا لو حظ المسلوب في حال الانقضاء وسلب عن
الذات مطلقا يكون ذلك منافيا للوضع للأعم فان المادة المقيدة كعدم كون زيد ضاربا
بضرب اليوم وان لم تكن منافية للوضع للأعم، لعدم منافاته لكونه ضاربا فعلا بضرب
الأمس، الا ان الهيئة المقيدة تكون منافية له كما هو واضح، واما الثالث فلانه إذا قيد الذات
بحال الانقضاء وسلب عنها مطلقا مطلق الوصف كان ذلك امارة عدم الوضع للجامع.
وبما ذكرناه اندفع الايراد على هذا الوجه: بأنه ان أريد بصحة السلب صحته مطلقا
فغير سديد، وان أريد مقيدا فغير مفيد، لان علامة المجاز هي صحة السلب المطلق. فإنه
يرده ان غير المقيد هو تقيد المادة لا الهيئة، كما ظهر ان ما أجاب به المحقق الخراساني (ره)
من أنه لو أريد بالتقييد المسلوب الذي يكون سلبه أعم من سلب المطلق، فصحة سلبه
141

وان لم تكن علامة على كونه المطلق مجازا فيه، الا ان تقييده ممنوع، فإنه قد عرفت انه
وان أريد تقييد المسلوب، بمعنى تقييد الهيئة، لا المادة، يكون ذلك علامة على المجاز.
ويمكن تقريب علامية صحة السلب بنحو الحمل الذاتي للمجازية بان صحة سلب
المشتق بما له من المعنى المرتكز في الأذهان عن المفهوم الأعم لا عن خصوص المنقضى
عنه المبدأ، يكشف عن عدم الوضع للجامع.
ولكن يرد عليه ما تقدم من عدم الجامع بين خصوص المتلبس وما انقضى عنه
المبدأ فتأمل جيدا.
الثالث: انه لا ريب في أنه كما يكون التضاد بين المبادئ المتضادة، كالسواد
والبياض، والقيام والقعود، والحركة والسكون، وما شاكل، كذلك يكون بين مشتقاتها
أيضا مضادة. القائم يضاد القاعد، والأسود يضاد الأبيض، والمتحرك يضاد الساكن،
وعليه فلو كان الذات متصفة بأحدها وانقضى عنه المبدأ - كمن كان قائما فقعد - يصدق
عليه ما يضاد العنوان الأول أي يصدق عليه القاعد، فحيث يكون هذا العنوان مضادا
للقائم فلا يصدق عليه القائم حينئذ فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينهما مضادة
بل مخالفة لتصادق العنوانين على من كان قائما فقعد.
وأورد عليه لأن التضاد بين المبادئ وان كان لا ينكر، الا انه يمكن ان يكون وضع
الهيئة بنحو يوجب ارتفاع التضاد. بمعنى ان التضاد انما يكون المبادئ وهذا لا يلازم
التضاد بين المشتقات، والمدعى للوضع للأعم يدعى ذلك.
وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بثبوته بين المشتقات أيضا ما ارتكز لها
من المعاني في الأذهان كما في مباديها.
وأيده بعض المحققين (ره) بانا نرى بالوجدان انه لو أخبر شخص، بان زيدا قائم،
وأخبر آخر بأنه قاعد، يرى العرف بحسب ما ارتكز لهما من المعنى في أذهانهم التنافي
والتضاد بينهما.
اقلو ان هذا التضاد أيضا لا ينكر، الا انه يمكن ان يكون من جهة ان ظاهر الحمل
الشايع اتحاد زماني الجري والنسبة مع زمان التلبس، لامن جهة ظهور المشتق في نفسه
142

في ذلك.
أدلة القول بالوضع للأعم
وقد استدل للقول بالوضع للأعم بوجوده: أحدها: التبادر: وقد مر الكلام فيه. ثانيها:
عدم صحة السلب في مضروب ومقتول عمن انقضى عنه المبدأ.
وأورد عليه المحقق الخراساني بان عدم صحته مثلهما انما هو لأجل انه أريد
من المبدأ معنى يكون التلبس به باقيا في الحال ولو مجازا.
وفيه: مضافا إلى انا لا نتعقل إرادة معنى من الضرب أو القتل يكون باقيا بعد انقضاء
المعنى الحدثي: انه بالوجدان لا يتصرف في مادتي الضرب والقتل إذا هيئتا بهيئة المفعول
بل الظاهر أنه أريد بهما في ضمنهما، ما يراد منهما إذا كانتا بهيئة الفاعل، فاختصاص اسم
المفعول بعدم صحة السلب، دون اسم الفاعل، مع أنهما متضائفان، غير سديد.
فالصحيح في الجواب ان يقال ان كثرة استعمال اسم المفعول فيما انقضى عنه
المبدأ ولو بلحاظ حال التلبس، أوجب عدم ظهوره في اتحاد زمان النسبة والتلبس
عند لاطلاق والحمل وأوجب ذلك توهم عدم صحة السلب، وذلك لا ينافي وضعه
لخصوص المتلبس.
الثالث: استدلالهم عليهم السلام بقوله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين " على عدم
لياقة من عبد صنما أو وثنا للخلافة تعريضا بمن تصدى لها ممن عبد الصنم. ومن الواضح
توقف ذلك على كون المشتق موضوعا للأعم، والا لما صح التعريض لانقضاء تلبسهم
بالظلم وعبادتهم للصنم حين التصدي للخلافة.
تنقيح القول في المقام ان الظاهر كون استدلال الامام بظاهر الآية، فلا يصح ان
يقال انه استدلال بباطنها، وأيضا المفروض في الاستدلال ان المراد بالعهد هو الإمامة
والخلافة لا النبوة كما عن جماعة من المفسرين، وأيضا المفروض في الآية شمول الظلم
للظلم بالنفس وان من لبس بمعصوم فهو ظالم اما لنفسه أو لغيره وهو كذلك، ثم إن القوم
143

أجابوا عن الاستدلال بها على الوضع للأعم بوجوده:
1 - ما في الكفاية وهو انه يمكن ان يكون استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس
فيكون معنى الآية: ان من كان ظالما ولو آنا ما في الزمان السابق لا ينال عهدي ابدا.
وفيه: ان الظاهر من اطلاق المشتق ان التلبس حاصل حال النسبة لا قبلها، وبعبارة
أخرى ان الظاهر اتحاد زماني التلبس والنسبة الحملية أو اسناد الحكم إليه فالظاهر من
الآية عدم نيل الخلافة في حال الظلم.
2 - ما فيها أيضا، قال: ان الآية الشريفة في بيان جلالة قد الإمامة والخلافة وعظم
خطرها ورفعة محلها وان لها خصوصية من بين المناصب الإلهية، ومن المعلوم ان
المناسب لذلك هوان لا يكون المتقمص بها متلبسا بالظلم أصلا انتهى.
ويرده انه مجرد استحسان لا يصلح ان يكون صارفا عما هو المستفاد من ظاهر
الآية.
3 - ما افاده المحقق النائيني (ره) ان استدلال الإمام (ع) بالآية مبتن على أن يكون
حدوث الظلم ولو آنا ما علة لعدم نيل الخلافة حدوثا وبقاءا، وحيث إن هذه القضية
قضية حقيقية ففعلية موضوعه فم اتصف بالظلم في زمان ما يشمله
الحكم قطعا وهو ان عهد الله لا يناله ابدا.
وفيه: ان كون القضية حقيقية يقتضى خلاف ما افاده الظاهر من القضية
الحقيقية بضميمة ظهور العنوان المأخوذ في الموضوع في كون فعليته مدار فعلية، الحكم
حدوثا بقاءا، ان عدم النيل بالخلافة انما يكون ما دام كون المتقمص بها متلبسا بالظلم،
وكفاية التلبس بالظلم آنا ما في عدم النيل بالخلافة خلاف الظاهر.
4 - ما افاده المحقق العراقي (ره)، وحاصله انه لا ريب في عدم اختصاص الحكم
في الآية الكريمة بخصوص الكافر، بل تشمل كل ظالم، وحيث إن بعض افراد الظلم آني
الوجود ولا دوام له كضرب اليتيم، فيدور الامر بين ان يكون الموضوع عنوان الظالم،
وبين ان يكون هو نفس فاعل الظلم ويكون الظلم علة لطرو الحكم عليه ولكن جعل
العنوان هو الموضوع متوقف على وضعه للأعم من المتلبس وحيث لا ترجيح لاحد
144

الاحتمالين على الاخر فلا يصح الاستدلال.
وفيه: ان ظهور القضية كون العنوان المأخوذ في الموضوع مما يدور الحكم مداره
ولا يتوقف ذلك على وضع المشتق للأعم، بل هذا الظهور قرينة على اختصاص الآية
ببعض افراد الظلم ولا تشمل جميعها، لان ظهور القرينة مقدم على ظهور ذي القرينة.
5 - ما افاده شيخ الطائفة من أن من تلبس بالظلم تناولته الآية في حال كونه ظالما
فإذا نفى ان يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها ولم يقيدانه لا ينالها في هذه الحال دون غيرها
فيجب ان تحمل الآية على عموم الأوقات في ذلك ولا ينالها وان تاب فيما بعد.
والى ذلك نظر الفخر الرازي فإنه لما تعرض لتفسير هذه الآية الشريفة وذكر
استدلال الشيعة بها على عدم لياقة الخلفاء الثلاثة للخلافة الإلهية لأنهم كانوا عابدين
للصنم مدة مديدة، أجاب عنه بان استدلالهم انما يتم بناءا على كون المشتق حقيقة في
الأعم من المنقضى عنه والمتلبس به وهو ممنوع. قال - ايرادا على نفسه - انهم فيما كانوا
متلبسين بالظلم شملهم قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين فدلت الآية الكريمة على عدم
لياقتهم للخلافة ابدا، فان تم ذلك والا فيتعين الالتزام بان الإمام (ع) فسرها بما هو عالم
بالمراد منها واقعا وان لم تكن الآية ظاهرة فيه، وليس في الروايات على كثرتها حتى
ما روى عن النبي (ص) ما يشهد بكون الاستدلال بظاهر الآية الشريفة.
ثم إن تمام الكلام في تفسير هذه الآية الكريمة واستفادة اعتبار العصمة في
الإمام (ع) منها سيما بقرينة ما قبلها من الآية ودلالتهما على انفصال الإمامة عن النبوة، وان
النبي ربما يكون إماما وقد لا يكونه إماما، وان منزلة الإمامة ارفع من رتبة النبوة، وغيره
ذلك من الدقائق والمعارف الحقة موكول إلى محله.
الرابع: ان اية حد السارق والسارقة، وآية حد الزاني والزانية تدلان على أن المشتق
حقيقة في الأعم فان ظاهر الآيتين كون الجري متحدا زمانا مع وجوب القطع والحد،
وضروري ان الحكمين انما يكونان ثابتين لمن انقضى عنه المبدأ، وقد استدل بهما للتفصيل
بين المحكوم عليه والمحكوم به باختيار عدم الاشتراط في الأول كما في الكفاية.
ويرده ان إرادة المنقضى عنه المبدأ مع القرينة، لا محذور فيها، وليست هي محل
145

الكلام والخلاف، والتمسك بأصالة الحقيقة لاثبات كون المستعمل فيه هو المعنى
الموضوع له قد عرفت مرارا انه، غير تام: لأنه انما يرجع إليها لتشخيص المراد بعد
معلومية الموضوع له، لا لتشخيص الموضوع له بعد معلومية المراد، أضف إليه انه يمكن
ان يكون الجري بلحاظ حال التلبس وان كان ذلك أيضا خلاف الظاهر، مع أن الاستدلال
بهما للتفصيل بين المحكوم عليه والمحكوم به، واضح البطلان كما افاده
المحقق الخراساني لموضوع بطلان تعدد الوضع حسب وقوعه محكوما عليه أو به.
وبما ذكرناه ظهر مدارك ساير الأقوال وما يرد عليها.
كما ظهر ان الحق المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ.
في بساطة مفهوم المشتق وتركبه
ويبتغي التنبيه على أمور، الأول: ان مفهوم المشتق هل هو بسيط، أو مركب.
وملخص القول فيه ان، عمدة الأقوال في المسألة التي تصلح ان تقع موردا للنقض
والابرام ثلاثة: الأول: ان مفهوم المشتق مركب من الذات والمبدأ والنسبة، اختاره جمع
من الأساطين منهم الأستاذ الأعظم، ولعله الأقوى الثاني: ان مفاده الحدث المنتسب إلى
الذات، فيكون مفهومة مركبا من المبدأ والنسبة. اختاره المحقق الشريف، وتبعه
المحقق العراقي، لا يقال ان المحقق الشريف يصرح بالبساطة فكيف ينسب إليه هذا القول،
فإنه يقال ان مراده بالبساطة على ما ظهر من استدلاله عدم اخذ الذات في مفهومه. الثالث:
ان مفاد المشتق هو المبدأ الملحوظ اتحاده مع الذات ويكون الذات والنسبة خارجتين
عن مدلوله، اختاره المحقق الدواني، وتبعه المحقق النائيني (ره).
وقبل الشروع في بيان أدلة الأقوال ينبغي التنبيه على أمرين:
الأول: ان محل الكلام ومورد النقض والابرام ليس هو التركب والبساطة بحسب
اللحاظ والتصور: فان بساطته بهذا النحو مورد اتفاق الجميع: إذ لم يدع أحد ان تصور
القائم - مثلا - عبارة عن تصور مفاهيم الشئ والقيام والنسبة، ولا ريب في أنه إذا سمع
146

العاقل لفظ القائم لا يتصور ولا ينتقل ذهنه الا إلى معنى واحد بل محل الكلام ان مفهوم
المشتق بحسب التحليل العقلي، هل هو شئ واحد، أم مركب من شيئين أو ثلاثة أشياء.
الثاني: ان من يدعى اخذ الذات في مفهوم المشتق انما يدعى اخذ المفهوم فيه،
والمراد به على ما ستعرف، هو المعنى المبهم من جميع الجهات غير جهة قيام المبدأ به،
لا اخذ الذوات الخاصة حسب اختلاف الموارد كي يلزم كون المشتق من قبيل متكثر
المعنى، إذ لا ريب في أن المشتق الذي يستعمل في موارد مختلفة كالقائم، انما يكون له
معنى واحد، مع أن لازم الوجه الاخر عدم انتقال الذهن إلى معنى مع عدم استناده إلى
ذات خاصة، وذكره منفردا، وهو خلاف الوجدان، وبما ذكرناه من الامرين تقدر على
دفع جملة مما أورد على القول بالتركب.
وكيف كان فقد استدل المحقق الشريف لعدم اخذ الذات في مفهوم المشتق، في
هامش شرح المطالع، في مقام الاعتراض على الشارح، حيث أجاب عما توهم من عدم
تمامية ما ذكره الشمهور في تعريف الفكر، بأنه ترتيب أمور معلومة لتحصيل المجهول
لأنه ربما يقع المعرف مفردا كالتعريف بالفصل القريب، أو العرض العام.
بان ما وقع في التعريف من قبيل المشتق وهو مركب، لأنهما ينحلان إلى شئ
ثابت له المبدأ المأخوذ فيه فيكون في الحقيقة ترتيب أمور معلومة.
بما حاصله ان الشئ لا يمكن اخذه في مفهوم الناطق مثلا، إذ لو كان المراد اخذ
مصداق الشئ فيه لزم انقلاب مادة الا مكان الخاص ضرورة، بداهة ان ما صدق عليه
الشئ هو الانسان، وثبوت الشئ لنفسه ضروري، ولو كان المراد اخذ مفهومه فيه لزم
دخول العرض العام في الفصل.
وأورد المحقق النائيني (ره) بان لازم مفهوم الشئ في المشتق، دخول
الجنس في الفصل، لا العرض العام، لان الشئ ليس من العرض العام بل هو جنس
الأجناس.
وتنقيح القول بالبحث في مقامين 1 - فيما افاده المحقق النائيني من كون الشئ
جنسا عاليا لجميع الماهيات 2 - في بيان أصل المطلب وانه هل يلزم محذور من اخذ
147

الشئ في مفهوم المشتق أم لا؟ اما المقام الأول: فقد استدل المحقق النائيني (ره) بان
العرض العام هو ما كان خاصة للجنس والشيئية تعرض لكل ماهية من الماهيات، وليس
ورائها امر آخر يكون هي الجهة المشتركة بين جميع الماهيات وجنس الأجناس حتى
تكون الشيئية عارضة وخاصة له بل هي جهة مشتركة بين جميعها، فتكون جنس
الأجناس، وعليه تفرع أمرين، الأول: ان شيئية الشئ انما تكون بماهيته لا بوجوده،
والمراد من كون الشيئية مساوقة للوجود اتحاد هما بحسب الصدق لا بحسب المفهوم.
الثاني: ان ما اشتهر من أن المقولات العشر أجناس عالية لتمام الممكنات ولا جنس فوقها،
مما لا أصل له.
وأورد عليه الأستاذ الأعظم: بان الشئ يصدق على الوجود الواجبي والا مكاني،
وعلى الماهيات، وعلى المستحيلات، وعليه فكيف يمكن ان يقال انه جنس عال لتمام
الماهيات.
أقول عند التحليل يرجع هذا الايراد إلى ايرادين: الأول: ان الشئ بما انه يصدق
على الوجود، والمستحيلات، والماهيات، فلازم القول المزبور كونه جهة مشتركة بين
الوجود، والعدم. والماهية، وجنسا لها، مع أنه مضافا إلى عدم الجامع بينها، الجنس انما
يتصور في الماهية ولا جنس للوجود: الثاني: انه يصدق على الوجود الواجبي فلو كان
جنسا لزم تركبه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وفيها نظر، اما الأول: فلانه (قده) أجاب عن ما توهم من صدقه على الوجود: بأنه
لا يصدق عليه، بل المراد من أنه المهية مساوقة للوجود، اتحادهما خارجا بمعنى ان،
الشئ يوجد، واللاشئ لا يعقل وجوده، واما صدقه على المستحيلات فإنما هو من جهة
المهية المستحيل وجودها ففي الحقيقة يطلق على المهية لا العدم، واما الثاني: فلان
قوله (ع) في خطبته المعروفة انه شئ لا كالأشياء، جواب عن هذا الايراد.
فالصحيح في الجواب عنه ان يقال، انه انما يصدق الشئ على الفصل كصدقه على
الجنس فلو كان جنسا عاليا، وجهة مشتركة، لاحتاج الفصل إلى فصل آخر، وهو خلف،
مضافا إلى لزوم التسلسل: فإنه ينتقل الكلام إلى الفصل الثاني ويقال انه يصدق عليه
148

الشئ فيحتاج إلى فصل آخر وهكذا، فلا يمكن الالتزام بكونه جنس الأجناس.
واما ما استدل به لعدم كونه عرضا عاما، وهو ان العرض العام ما كان خاصة للجنس
البعيد أو التقريب، فهو مما لا ملزم له - لا أقول شعر بلا ضرورة، فلو لزم محذور من اخذه
فهو ما ذكره المحقق الشريف لا ما ذكره المحقق النائيني (ره).
واما المقام الثاني: فقد أجيب عن استدلال المحقق الشريف بوجهين:
الأول: ما افاده صاحب الفصول وهو ان الناطق مثلا جعل فصلا مبنيا على عرف
المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب وضعه لغة لذلك.
وفيه ان المقطوع عدم التصرف في معنى اللفظ، بل انما يجعل فصلا بما له من
المعنى اللغوي.
الثاني: ما في الكفاية قال إن مثل الناطق ليس بفصل حقيقي، بل لازم ما هو الفصل
وأظهر خواصه وانما يكون فصلا مشهوريا منطقيا يوضع مكانه إذا لم يعلم نفسه بل
لا يكاد يعلم كما حقق في محله انتهى. فلا يلزم من اخذ مفهوم الشئ فيه الا اخذ العرض
العام في الخاصة لا في الفصل.
وأورد عليه المحقق النائيني بان الناطق بمعنى التكلم أو ادراك الكليات وان كان
من عوارض الانسان، الا انه بمعنى صاحب النفس الناطقة يكون فصلا حقيقيا فيعود
المحذور.
وأجاب عنه الأستاذ الأعظم بان صاحب النفس الناطقة هو الانسان وهو نوع
لا فصل فلا مناص عن كون الناطق فصلا مشهوريا لا حقيقيا.
وحق القول في المقام بنحو يظهر ما هو الصحيح، وفساد جميع ما قيل في المقام.
ان مادة الناطق، أي النطق بأي معنى كانت ليست فصلا بل هو من أظهر آثاره وخواصه،
ولكن الناطق وهو الشئ الذي له النطق ويكون ذلك اثره وخاصته، يكون فصلا حقيقيا
لا نوعا، فما افاده الأستاذ بين الاشكال.
واما ما افاده المحقق النائيني فيرده ان الشئ المأخوذ في الناطق، انما هو المفهوم
المبهم من جميع الجهات إلا جهة انتساب النطق إليه فيكون فصلا حقيقيا من دون ان يلزم
149

اخذ العرض العام في الفصل.
واما ما افاده المحقق الخراساني، فلان النطق وان كان فصلا مشهوريا، الا ان الناطق
قصل حقيقي، فان قلت إن لازم البيان المذكور كون الضاحك فصلا فان الضحك من
اثار الفصل الحقيقي وخواصه كالناطق، مع أنه بين الفساد أجبنا عنه، بأنه في أمثال
هذا المثال حيث يكون النظر إلى المادة نفسها وانما تتهيأ بهذه الهيئة، تصحيحا للحمل
ولا يكون النظر إلى ماله الأثر بخلاف الناطق حين ما يجعل فصلا، فلا يكون الضاحك
فصلا، وبذلك يظهر ان الماشي أيضا لا يكون جنسا فتدبر حتى لا تبادر بالاشكال.
وقد استدل المحقق النائيني، لعدم اخذ الذات في مفهوم المشتق بوجوه اخر.
منها: ان مادة المشتق موضوعة للمعنى الحدثي، وهيئته موضوعة لقلب المادة
من البشرط لائية إلى اللابشرطية، واتحاد المبدأ مع موضوعه كي يصح الحمل، فلم يبق
هناك ما يدل على الذات.
وفيه: ان ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود والمبدأ الذي هو من الاعراض، أو
من الأمور الاعتبارية، لا يعقل اتحاده مع موضوعه الذي هو من الجواهر،
واعتبار اللابشرطية لا يوجب اتحاد المتغايرين، فلا محيص عن الالتزام بوضعها للنسبة
وحدها أو مع الذات تصحيحا للمحل، وستعرف ان الثاني أقوى.
ومنها: ان اخذ الذات في مفهوم المشتق مستلزم لاخذ المحمول بشرط شئ
وهو ينافي المحمولية الصرفة، وفيه: ان الذات بمعنى المعنى المبهم من جميع الجهات غير
جهة قيام المبدأ بها، لا يلزم من اخذها في مفهومه اخذ المحمول بشرط شئ.
ومنها: انه يلزم منه اخذ المعروض في العرض وكل من الجنس والفصل في الاخر
وهو خلف. بل يلزم انقلاب كل منهما إلى النوع، وفيه: ان هذا لو لزم فإنما هو لو اخذ
مصداق الذات في المفهوم لا مفهومها بالمعنى المتقدم.
وفيها: ان الواضع الحكيم لابد وان يلاحظ في أوضاعه فائدة مترتبة عليها،
ولا يترتب على اخذ الذات فائدة أصلا، وفيه: ان فائدته امكان جعل المشتق موضوعا
في القضية، ولا يصلح ذلك بدونه كما ستعرف، وبما ذكرناه ظهر اندفاع ساير ما ذكره
150

فلا وجه للإطالة.
وقد استدل لعدم اخذ النسبة في مفهومة بوجهين.
الأول: ان النسبة بما انها معنى حرفي لزم من اخذها في مفهومه كونه مبنيا لتضمنه
المعنى الحرفي، وحيث انه معرب فيستكشف عدم اخذها فيه، ويرد عليه ان ما صرح به
أئمة الأدبيات، من أن المتضمن للمعنى الحرفي مبنى، ليس مرادهم ذلك، بل يكون
نظرهم إلى أسماء الإشارة ونحوها مما يكون معانيها غير مستقلة في أنفسها ويتوقف فهم
المراد منها إلى ضم شئ آخر إليها، والا فلو كان مجرد الاشتمال على المعنى الحرفي،
موجبا لكون المتضمن مبنيا لزم كون المصادر لا سيما المزيد منها مبنية كما لا يخفى.
الثاني: ان اخذ النسبة في المفهوم مستلزم لاخذ الذات فيه: إذ النسبة قائمة بالطرفين
فما دل على عدم اخذ الذات فيه، يدل على عدم اخذ النسبة أيضا، وفيه مضافا إلى ما تقدم
من عدم اخذ الذات فيه: انه على فرض وجوده لا يلزم من اخذ النسبة فيه اخذ الذات كي
يدل على عدمه: إذ النسبة في مقام تحققها وان احتاجت إلى الطرفين، الا انه في مقام دلالة
اللفظ عليها لا تتوقف على الطرفين، الا ترى ان المعنى الحرفي غير مستقل بذاته بل هو
متقوم بالمعنى الأسمى كما تقدم، ولا يلزم اخذ المعنى الأسمى في مدلول الحرف.
فتحصل ان شيئا مما ذكر في وجه عدم اخذ الذات أو النسبة في مفهوم المشتق
لا يدل عليه.
دليل تركب المشتق
بل الظاهر أخذهما في مفهومه، اما اخذ النسبة فيه: فلانه لولا ذلك لما صح الحمل
المتوقف صحته على الاتحاد في الوجود بعد كون المبدأ من الاعراض التسعة، أو الأمور
الاعتبارية والموضوع من الجواهر: فإنه لا يعقل اتحادهما ولو بعد الف اعتبار.
فما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن الهيئة وضعت لقلب المادة من البشرط لائية
العاصية عن الحمل إلى اللابشرطية، غير تام: إذا المبدأ لا يقبل الحمل على الموضوع
151

بمجرد ذلك، فلابد من اخذ الذات والنسبة، أو النسبة وحدها في مفهومه كي يصح
الحمل.
ودعوى ان العرض يكون وجوده مندكا في وجود المحل ويعد من أطواره
وكيفياته فحينئذ تارة يلاحظ على نحو يحكى عن الوجود النعتي المندك في المحل،
وهو المراد من قوله يلاحظ على نحو اللابشرط فيصح حمله عليه، وأخرى يلاحظ على
نحو الاستقلال وهو المراد من ملاحظته بشرط لا ولا يصح حمله حينئذ، مندفعة، بأنه
مضافا إلى أن هذا التوجيه خلاف الاصطلاح انه أيضا لا يفيد في صحة الحمل: إذ الوجود
التبعي المندك في الغير، وان لو حظ كذلك يغاير مع ذلك الغير، ولا يكون متحدا معه كما
لا يخفى.
واما اخذ الذات فيه: فلان المشتق بنفسه يجعل موضوعا في القضية الحملية
ومسندا إليه في غيرها مثلا يقال أكرم العالم والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما، وهذه آية
اخذ الذات في مفهومه كما لا يخفى على من تدبر، مضافا إلى أنه يدل على أخذهما فيه:
التبادر والوجدان، الا ترى انه عند سماع لفظ القائم ينتقل الذهن إلى ذات ثبت له القيام،
لا خصوص القيام، وعند سماع المضروب ينتقل إلى من رفع عليه الضرب وهكذا ساير
المشتقات.
فتحصل ان الأقوى كون المشتق مركبا من الذات والنسبة والمبدأ.
الفرق بين المشتق ومبدأه
الثاني: المشهور بين جماعة من المحققين ان الفرق بين المبدأ والمشتق انما هو
باعتبار اللابشرط لا، فحدث الضرب ان اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ الضرب
وامتنع حمله على الذات وان اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ الضارب وصح حمله عليها.
فاخذ صاحب الفصول بعد نقل ذلك في نقده و الاعتراض عليه: بما حاصله ان
صحة الحمل وعدمها لا تخلف من حيث اعتبار شئ لا بشرط أو بشرط لا: لان العلم
152

والحركة والشرب وما شاكلها يمتنع حملها على الذوات وان اعتبرت لا بشرط الف مرة.
وأجاب عنه المحقق الخراساني، بان مراد الفلاسفة مما ذكروه ليس ما توهمه
صاحب الفصول من كون الفرق بينهما بالاعتبار، بل مرادهم ان المشتق يغاير مبدئه
مفهوما وان المشتق بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصى عن
الجري عليه لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ: فإنه بمعناه يأبى عن ذلك بل
إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو وملاك الحمل والجري انما هو نحو من الاتحاد
والهوهوية، ثم انه (قده) نظر المقام بما ذكروه في مقام الفرق بين الصورة والمادة، والفصل
والجنس، حيث قالوا: ان الجنس كالحيوان مأخوذ لا بشرط فصح حمله، والمادة مأخوذة
بشرط لا فلا يصح حملها، وكذلك الفصل والصورة، بدعوى ان مرادهم هو التفرقة
بحسب المفهوم لا بالاعتبار.
أقول يقع الكلام في موارد ثلاثة: الأول: في أن الفرق بين الجنس والفصل،
والمادة والصورة، هل هو بالاعتبار، أم بالفرق في المفهوم؟ الثاني: في أن مراد القوم
في المقام هو ما فهمه صاحب الفصول، أم ما فهمه المحقق الخراساني. الثالث: في بيان
ما هو الحق في الفرق بين المشتق ومبدئه.
اما المورد الأول: فالحق هو ان مرادهم التفرقة بالاعتبار: فإنهم صرحوا بان
الاجزاء في المركبات الحقيقية التي يكون التركيب فيها اتحاديا لا انضماميا ان لوحظت
بما هي اجزاء متغايرة وبشرط لا، فهي المادة والصورة، وان لوحظت بما هي موجودة
بوجود واحد ولا بشرط، فهي الجنس والفصل، وقال الحكيم السبزواري: وفيه إشارة إلى أن
كلا من هاتين (أي المادة والصورة) مع كل من هذين (أي الجنس والفصل) متحد ذاتا
مختلف اعتبارا، وقريب منه كلام غيره، ولا أظن أن من تدبر كلماتهم يشك في أن
مرادهم ما ذكرناه.
واما الثاني: فالأظهر هو ما فهمه صاحب الفصول: لأنه الظاهر من كلماتهم - كيف
وقد نسب إلى المحقق الدواني، انه صرح بان الاعراض كالبياض والعلم وأمثالهما من
مبادئ المشتقات، تارة تلاحظ بما انها موجودات مستقلة في الخارج في قبال وجود
153

الجواهر، فلا يصح حمل شئ منها على الجواهر، وهذه مبدأ المشتقات، وأخرى
تلاحظ بما انها من كيفيات الوجود الجوهري ومن أطواره، فيصح الحمل، وهذه هي
المشتقات، وقريب منه كلام غيره وعليه، فايراد صاحب الفصول وارد عليهم كما مر
توضيحه.
واما الثالث: فالحق ان الفرق بينهما انما يكون في المفهوم، ومفهوم المشتق مفهوم
عند التحليل ينحل إلى ذات له المبدأ ولهذا يصح حمله، واما مفهوم المبدأ فهو، ينطبق
على نفس ذلك الوجود العرضي المغاير مع وجود الجوهر ولذا لا يصح حمله.
ملاك الحمل
الثالث: قال في الكفاية ملاك الحمل هو الهوهوية والاتحاد من وجه والمغايرة
من وجه آخر، أقول لا ريب في أنه يعتبر في صحة الحمل أمران أحدهما الاتحاد من وجه
حتى يصير هذا ذاك، والاخر المغايرة من وجه كي يصير هذا وذاك، ولا يلزم حمل
الشئ على نفسه، وحينئذ، ربما يكون الاتحاد ذاتيا والمعايرة تكن بالاعتبار، نظير حمل
الجنس والفصل على النوع - مثل - الانسان حيوان ناطق، حيث إنهما واحد ذاتا والمغايرة
انما تكون بالاجمال والتفصيل، وأخرى يكون المغايرة ذاتية - أي التغاير بينهما انما
يكون بحسب المفهوم - فحينئذ، ان كانا متحدا بحسب الوجود الخارجي كما في الحمل
الشايع صح الحمل لما ذكرناه وان كانا مغايرين في الوجود، فلا مصحح للحمل أصلا،
وصاحب الفصول (ره) حيث توهم، ان التركيب بين الجنس والفصل، يكون نضماميا؟؟
ورأى أنه يصح حمل أحدهما على الاخر، التزم بأنه يكفي في صحة الحمل إذا كان
الموضوع والمحمول متغايرين مفهوما ووجودا، الاتحاد الاعتباري وانه يصح الحمل
بشروط ثلاثة: 1 - اخذ المجموع من حيث المجموع موضوعا 2 - اخذ الاجزاء لا بشرط
3 - اعتبار الحمل بالنسبة إلى المجموع من حيث المجموع.
وعليه فلا يرد عليه ما في الكفاية من أنه لا يعتبر معه ملاحظة التركيب بين
154

المتغايرين: لأنه غير مربوط بما ذكره في الفصول: فإنه يدعى اعتبار الشروط الثلاثة في
حمل أحد المتغايرين على الاخر، لا فيما كانا متحدين في الوجود.
واما الايراد عليه كما في الكفاية أيضا بأنه يكون لحاظ ذلك مخلا لاستلزامه
المغايرة بالجزئية والكلية فيمكن الجواب عنه، بأنه إذا فرض اتحاد المجموع واخذ
في الموضوع، وحمل عليه الجزء المأخوذ لا بشرط صح الحمل، ولا يرد عليه المحذور
المذكور: لمكان الاتحاد في الوجود، في الوجود الاعتباري، وانما لا يصح الحمل بلحاظ
الوجود الخارجي الذي يكون جزء مغايرا للآخر.
ومما ذكرناه ظهر عدم ورود ايراده الثالث الذي ذكره بقوله مع وضوح عدم لحاظ
ذلك في التحديدات الخ فإنه انما لا يلاحظه ذلك في التحديدات من جهة ثبوت الاتحاد
المعتبر في صحة الحمل بوجه آخر.
فالصحيح ان يورد عليه، مضافا إلى ما هو المحقق في محله من أن التركيب بين
الجنس والفصل اتحادي، بل صدر المحققين جعل من أدلة كون التركيب اتحاديا صحة
حمل أحدهما على الاخر: ان الوحدة الاعتبارية انما تصحح الحمل في الوجود الاعتباري
لا في الوجود الخارجي.
ما هي النسبة بين المبدأ والذات
الرابع: صاحب الفصول (ره) التزم بالتجوز أو النقل في الصفات الجارية على الله
تعالى وذلك لوجهين:
أحدهما: انه يعتبر التغاير بين المبدأ والذات التي يجرى عليها المشتق ولا يتم هذا
في الصفات الجارية على الله تعالى لان المبدأ فيها متحد مع الذات بل هو عينها خارجا
كما هو واضح.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بأنه يكفي في التغاير المعتبر في الحمل التغاير
المفهومي بين مبدأ المشتق مع ما يجرى عليه المشتق، وان اتحدا عينا وخارجا.
155

وفيه: انه لا يعتبر التغاير والاتحاد الا بين الموضوع والمحمول، لا بين مبدأ
المحمول مع ما يجرى عليه، وحينئذ فتارة يكون المبدأ مغايرا مع ما يجرى المشتق عليه
مفهوما وخارجا ولكن لا تغاير بين المشتق والموضوع خارجا، كزيد عالم: فان العلم غير
زيد وجودا ومفهوما، بخلاف العالم، وأخرى يكونان، أي المبدأ وما يجرى عليه،
متغايرين مفهوما متحدين وجودا، كما في الصفات الجارية على الله تعالى، مثل الله عالم،
وثالثة يكونان متحدين وجودا ومفهوما، الا ان المشتق يغاير ما يجرى عليه مفهوما، مثل
الوجود موجود، وفي جميع هذه الصور يصح الحمل لثبوت التغاير بين الموضوع
والمحمول من وجه، واما التغاير بين مبدأ المحمول والموضوع، فهو قد يكون وقد
لا يكنون، وعلى التقديرين يصح الحمل.
وما ذكره بعض المحققين في وجه صحة حمل الموجود على الوجود، من أن
الحمل عبارة عن ثبوت شئ لشئ وجد أن الشئ لنفسه واضح.
غير تام والالزام صحة حمل النائم على النوم مثلا، والضارب على الضرب وهكذا
مع أنه باطل بالضرورة، بل الوجه في صحة الحمل كون الوجود بنفسه من مصاديق
الموجود، إذ الماهيات توجد بالوجود وهو موجود بنفس ذاته، وهذا بخلاف الأمثلة
المشار إليها.
ثانيهما عدم قيام مبادئ الأسماء الحسنى والصفات الجارية على الله تعالى بذاته
المقدسة لعينيتها له تعالى، وبعبارة أخرى لا نسبة هناك لعدم تعقل النسبة بين الشئ
ونفسه فالعالم بما له من المعنى، وهو الذات الثابت لها العلم لا يعقل حمله على الله تعالى
لعينيته معه.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بان قيام المبدأ بالذات لا يستدعى التغاير بل
يجتمع مع العينية، فالعل وما شاكل من مبادئ الصفات العليا قائمة بذاته المقدسة بنحو
العينية والاتحاد، ثم أورد على صاحب الفصول بقوله كيف ولو كانت بغير معانيها العامة
الجارية عليه تعالى كانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى فان غير تلك المفاهيم
العامة الجارية على غيره تعالى غير مفهوم ولا معلوم لا بما يقابلها ففي ما إذا قلنا انه تعالى
156

عالم اما ان نعنى انه من ينكشف لديه الشئ فهو ذاك المعنى العام، أو انه مصداق لما
يقابل ذاك المعنى فتعالى عن ذلك علوا كبيرا واما ان لا نعنى شيئا فتكون كما قلناه من
كونها صرف اللقلقة و كونها بلا معنى انتهى.
أقول يرد على جوابه ان لازم ما افاده صحة حمل المشتقات على مباديها ومن
البديهي ان مفهوم عالم وضارب وقادر وقاتل لا ينطبق على نفس المبادئ ليكون العلم
عالما والقتل قاتلا والضرب ضاربا وهكذا.
ويرد على ما أورده عليه ان صاحب الفصول يدعى النقل أو التجوز من مفهوم
المشتق إلى المبدأ، فالمراد من العالم نفس العلم والحضور، ومن القادر نفس القدرة
والإحاطة ولا يلزم من ذلك شئ من المحاذير المذكورة.
ويمكن الجواب عن صاحب الفصول بان النسبة المأخوذة في المشتق ليست نسبة
خارجية، بل المراد بها تضييق المفهوم بلا نظر إلى الوجود والعدم فلا محذور في حمل
المشتق بما له من المفهوم على الله تعالى، ومع ذلك كله الالتزام بنفي الصفات عنه تعالى
الذي هو كمال الاخلاص وان هذه الصفات العليا عبارات عن كمال وجوده حسب ما
للكمال عندنا من التعبيرات أولى ولعله إليه يرجع ما في الفصول.
ما هو المتنازع فيه في المشتق
الخامس: ان محل الكلام في المشتق هو معرفة مفهومه ومعناه سعة وضيقا، واما
تطبيق هذا المفهوم على موارده واسناده إليها هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز فهو خارج
عن محل الكلام ونسب إلى صاحب الفصول اعتبار الاسناد الحقيقي في صدق المشتق
حقيقة.
وأورد عليه في الكفاية بأنه لا يعتبر في صدق المشتق حقيقة التلبس بالمبدأ حقيقة
وبلا واسطة في العروض، بل يكفي التلبس به ولو مجازا كما في الميزاب الجاري، فاسناد
الجريان إلى الميزاب وان كان اسناد إلى غير ما هو له وبالمجاز الا انه في الاسناد لا في
157

الكلمة.
أقول: الكلام يقع في مقامين: الأول: في أنه هل يعتبر في صدق المشتق على
الذات وجريه عليها، التلبس الحقيقي بالمبدأ أم لا. الثاني: انه هل يعتبر في استعمال
المشتق في مفهومه كون الاسناد حقيقيا أم لا.
اما المقام الأول: فالأظهر اعتباره، الا ترى لو قيل زيد عالم مع عدم اتصافه
بالعلم لا يكون هذا الاسناد حقيقيا، واما الثاني: فالظاهر عدم اعتباره فان الاستعمال
الحقيقي هو استعمال اللفظ في ما وضع له، ولا يعتبر في ذلك كون اسناده اسنادا إلى من
هو له، بل لو كان غيره أيضا كان هذا الاستعمال حقيقيا، والظاهر أن نظر صاحب الفصول
إلى المقام الأول فايراد المحقق الخراساني عليه في غير محله.
والحمد لله أولا وآخرا
158

في الأوامر
فيما يتعلق بمادة الامر
المقصد الأول في الأوامر، وفيه فصول، الأول فيما يتعلق بمادة الامر " ا - م - ر "
والكلام فيه في جهات: الأولى: ذكر جماعة ان مادة الامر موضوعة بحسب اللغة لعدة معان، الطلب
الشأن، الشئ، الحادثة، الغرض، الفعل، القدرة، الصفة وغير ذلك وقد أنهاها بعضهم إلى
خمسة عشر.
اختار صاحب الفصول انها موضوعة لمعنيين وهما الطلب والشأن.
وأفاد المحقق الخراساني بعد ذكر جملة من المعاني، ولا يخفى ان عد بعض هذه
المعاني من معاني الامر من اشتباه المصداق بالمفهوم إذ الامر لم يستعمل في نفس هذه
المعاني وانما استعمل في معناه ولكنه قد يكون مصداقه، ثم قال ولا يبعد دعوى كونه
حقيقة في الطلب في الجملة والشئ.
وذهب المحقق النائيني (ره) إلى أن لفظ الامر موضوع لمعنى واحد، وهو الواقعة
التي لها أهمية في الجملة، وجميع ما ذكر له من المعاني، يرجع إلى هذا المعنى الواحد
حتى الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة له: فإنه أيضا من الأمور التي لها أهمية
فلا يكون للفظ الامر الا معنى واحد تندرج فيه كل المعاني المذكورة، وتصور الجامع
159

القريب بين الجميع وان كان صعبا، الا انا نرى بالوجدان الاستعمال في جميع الموارد
بمعنى واحد ومعه ينتفى الاشتراك اللفظي، نعم لابد وأن يكون المستعمل فيه من قبيل
الافعال والصفات فلا يطلق على الجوامد.
وتنقيح القول بالبحث في موارد: 1 - ان جملة من المعاني التي ذكروها للامر
الظاهر أنها اشتباه، ففي الكفاية، ومنها الفعل كما في قوله تعالى وما امر فرعون برشيد
ويرده ان لفظ الامر في الآية لم يستعمل في الفعل، بل استعمل في معناه الذي يستعمل
فيه في مقام الطلب.
قال ومنها الفعل العجب كما في قوله تعالى فلما جاء أمرنا، ويرده ان لفظ الامر
في هذه الآية استعمل في الإرادة التكوينية لا في الفعل العجيب.
قال ومنها الغرض كما تقول جاء زيد لأمر كذا ويرده ان لفظ الامر لم يستعمل في
مفهوم الغرض ولا مصداقه لان لفظ لام يفيد ذلك والامر انما هو متعلق ذلك.
واما ما افاده المحقق الخراساني من أن عد بعضها من معانيه من اشتباه المصداق
بالمفهوم، فيرده مضافا إلى ما مر من عدم كون جملة منها من معاني لفظ امر ولا مصاديقه:
ان اشتباه المفهوم بالمصداق انما يكون فيما إذا كان اللفظ موضوعا للمصداق بما هو
مصداق لذلك المعنى وضع اللفظ له، وأما إذا كان مصداقا ولكن لم يلاحظ
مصداقية له في مقام وضع اللفظ والاستعمال، فليس من باب خلط المفهوم بالمصداق
وهذه الموارد من قبيل الثاني كما لا يخفى.
2 - ان المعاني المتعددة التي ذكروها للفظ الامر هل ترجح إلى معنى واحد، أم لا؟
وقد مر اختيار المحقق النائيني (ره) للأول، واستدلاله بانا نرى بالوجدان ان
الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد.
ولكن ما افاده مخدوش، أولا: ان الامر ربما يستعمل فيما لا أهمية له ويسلب عنه
الأهمية، ويقال ان هذا امر لا أهمية فيه والاستعمال في هذا المورد، انما يكون في معناه
الموضوع له حسب ما ارتكز في الأذهان، ومنه يعلم عدم اخذ الأهمية في مفهومة،
وثانيا: انا نرى ان الامر الذي، يستعمل في مقام الطلب يجمع على أوامر، وما يستعمل في
160

غيره يجمع على أمور، واستعمال أحد الجمعين في مورد الاخر يعد من الأغلاط، ولو
كان للفظ الامر معنى واحد وكان الجمع بذاك اللحاظ لما كان وجه لعدم صحة استعمال
أحدهما في مورد الاخر، فذلك كاشف عن تعدد المعنى، وثانيا: ان الامر المستعمل في
مقام الطلب قابل لان تطرأ عليه الهيئات، مثل امر، يأمر، آمر، مأمور، وغير ذلك وبالمعنى
الاخر غير قابل لذلك، ولو كان موضوعا للجامع بينهما لما صح طرو الهيئات عليه: إذ
الجامع بين ما يقبل طروها، وما لا يقبل، غير قابل لذلك، فمن قابلية ما يستعمل في مقام
الطلب، وعدم قابلية غيره، يستكشف تعدد المعنى، وكون لفظ الامر من المشترك
اللفظي.
3 - ان الظاهر كون الامر المستعمل في مقام الطلب مفهومه هو الذي يكون مفاد
صيغة الامر الذي سيجئ الكلام فيه، واما المستعمل في غيره فالظاهر أن مفاده شئ
واحد الافعال، وليس له في الفارسي مرادف، ولا في العربي، ولا يكون هو الشئ كما افاده
في الكفاية لعدم صدقه على الجواهر، والشئ يصدق عليها، وذلك المعنى الجامع هو
المستعمل فيه في جميع تلك الموارد: لأنه كل ما أطلق لفظ الامر في غير مقام الطلب يرى
الانسان عند المراجعة إلى نفسه، انه ينتقل ذهنه إلى معنى قابل للانطباق على معان متعددة
ويصح ترجمته بساير اللغات ولو بالألفاظ المركبة، بنحو يصلح ان ينطبق على كل واحد
من تلك، المعاني، مثلا: إذا قال القائل رأيت اليوم أمرا عجيبا، ينتقل ذهن السامع إلى أنه
رأى شيئا، يكون من قبيل الاعراض، لا الجواهر، وحينئذ قد يفسره، بما يكون من قبيل
الافعال، كان يقول رأيت صبيا يخطب خطبة بليغة، وقد يفسره بما يكون من قبيل
الصفات، كان يقول رأيت فرسا طويلا.
4 - ان الامر المستعمل في مقام الطلب حقيقة في ذلك المعنى الذي ستقف عليه،
واما المستعمل في غيره، فهل يكون حقيقة فيما يستعمل فيه أم يكون مجازا، وجهان؟
أقواهما: الأول، لأنا نرى بالوجدان انه يستعمل فيه بلا عناية وهو آية الحقيقة، أضعف إليه
انه لا علاقة مصححة للاستعمال بين الطلب وبعض ما يراد من لفظ الامر، إذا استعمل
161

في المعنى الاخر، مثلا إذا قال القائل رأيت اليوم أمرا لم أكن رأيته قبل ذلك، ثم فسره
بنزول المطر الشديد، فأي علاقة بين ذلك والمعنى الذي يستعمل فيه الامر في مقام
الطلب؟ وحيث لا ريب في اعتبار العلاقة المصححة للاستعمال بين المعنى الحقيقي
والمعنى المجازى، فيستكشف من ذلك أن استعماله فيه ليس مجازا.
واما ما ذكره بعض الأكابر، في وجه كونه حقيقة فيه، من أن لفظ الامر لو كان
حقيقة في الطلب مجازا في غيره لما اختلف جمع الامر بأحد المعنيين مع الجمع بالمعنى
الاخر كما هو المشاهد في ساير المعاني الحقيقة والمجازية، مع أن جمع لأمر بمعنى
الطلب على " أوامر " وجمعه بالمعنى الاخر، على " أمور ".
ففيه: ان اختلاف الجمع وتعدده كاشف عن عدم وضعه للجامع بين المعنيين،
حيث: ان المفهوم الواحد المنطبق على مصداقين، لا يعقل ان يكون جمع ما يدل عليه و
وضع له، بنحوين بلحاظ اختلاف المصداقين بعد كون المستعمل فيه واحدا، كما عرفت،
واما بعد تسليم تعدد المعنى، فلا يصح تعيين كونه حقيقة فيهما، بذلك: لامكان ان يكون
أحد الجمعين بلحاظ معناه الحقيقي، والاخر بلحاظ معناه المجازى، وقد صرح بذلك
بعض أئمة الأدب ومثل له باليد، حيث إن جمعه بلحاظ معناها الحقيقي على (أيدي)
وبلحاظ معناها المجازى وهي النعمة على أيادي.
ومما ذكرناه ظهر عدم تمامية ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) من أن لفظ الامر
وضع لمعنى واحد وهو الجامع بين ما يصح ان يتعلق به الطلب تكوينا وما يتعلق به
تشريعا، وان الأصل فيه ان يجمع على أوامر.
وجه الظهور ما مر من عدم الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد
ليكون الامر موضوعا بإزائه.
المعنى الاصطلاحي للفظ الامر
قال المحقق الخراساني، واما بحسب الاصطلاح فقد نقل الاتفاق على أنه حقيقة
162

في القول المخصوص ومجاز في غيره ولا يخفى انه عليه لا يمكن منه الاشتقاق فان معناه
حينئذ لا يكون معنا حدثيا مع أن الاشتقاقات منه ظاهرا تكون بذلك المعنى المصطلح
عليه بينهم لا بالمعنى الاخر، ويمكن ان يكون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه تعبيرا
عنه بما يدل عليه انتهى.
وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني (ره) بعد بيان مقدمة، وهي: ان الاشتقاق
المعنوي عبارة عن قبول المبدأ للنسبة، وهذا انما يكون فيما له نحو من أنحاء القيام بشئ
قيام العرض بموضوعة والفرق بين المعنى الجامد والمعنى الاشتقاقي، ان الأول لا يكون
قابلا للحاظ نسبته إلى شئ بذاته، بخلاف الثاني، وحاصل ما ذكره مبتنيا على ذلك أن
وجه الاشكال ان كان توهم ان الموضوع حينئذ لفظ لا معنى فضلا عن كونه حدثيا، فيرد
عليه: ان طبيعة الكيف المسموع كساير الطبايع قابلة للحكاية عنها بلفظ، واللفظ، وان كان
وجودا لفظيا لطبيعة الكيف المسموع الا انه يمكن ان يكون وجودها اللفظي حاكيا عن
لفظ آخر، ووجودا تنزيليا له أيضا، وان كان الوجه: توهم عدم كونه حدثيا، ففيه ان لفظ
اضرب مثلا صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع، وهو من الاعراض، وعليه فتارة
يلاحظ نفسه فهو المبدأ الحقيقي، وأخرى يلاحظ قيامه فقط فهو المعنى المصدري،
وثالثة يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي فهو المعنى الماضوي، وهكذا، فليس هذا
القول كالأعيان الخارجية غير القائمة بشئ حتى لا يكون لحاظ قيامه فقط أو في أحدا
لأزمنة.
وفيه: انا نختار الشق الثاني، ويمكن دفع ما ذكره: بان ملاك امكان الاشتقاق من
شئ ليس كونه عرضا قائما بالغير بل الملاك فيه وفي عروض النسب عليه، كون المعنى
لوحظ فيه النسبة: والدليل عليه أولا، ملاحظة - البياض - والاسم - والفعل - والجملة -
وغير ذلك مما يكون من الاعراض ولا يصح الاشتقاق منها: وثانيا: ان اللفظ الموضوع
لمعنى عرضي، ان لو حظ في الوضع نفس المعنى من حيث هو ولم يلاحظ حيث انتسابه
لا يعقل عروض النسب عليه إذ المقيد بعدم النسبة كيف يعقل عروض النسبة عليه،
فلا يصح الاشتقاق منه، ومن هذا القبيل الأمثلة المتقدمة، وان لو حظ بما هو منتسب واخذ
163

وفيه النسبة فيصح عروضها عليه، كالضرب ونحوه، وفي المقام حيث إن المنقول إليه ان
ثبت، انما هو ذلك القول المخصوص من غير اخذ النسبة فيه فلا يصح الاشتقاق منه.
والذي يسهل الخطب انه من المستبعد جدا ان يكون للأصوليين في لفظ الامر
اصطلاح خاص، ووضعه للقول المخصوص: لعدم ترتب ثمرة على الوضع أو النقل، إذ
المباحث الآتية كاجتماع الأمر والنهي وغيره لا تختص بالقول المخصوص بل هي احكام
للبعث والطلب أي ذلك الامر النفساني الذي ستعرف حقيقته، المبرز باللفظ أو بغيره،
وتفسيرهم الامر بالقول المخصوص انما يكون لأجل ان المبرز له غالبا يكون هو القول
المخصوص.
ثم انه بناءا على ما ذكرناه في معنى الامر وانه مشترك لفظي بين معنيين، لا يكون
مورد يشك في كونه مستعملا في أيهما: لان هذه المادة المستعملة في مقام الطلب
في القرآن والسنة انما تكون بالألفاظ المشتقة، وقد عرفت ان الامر إذا استعمل في معناه
الاخر لا يصح الاشتقاق منه مع: ان الامر المستعمل في مقام الطلب يحتاج إلى المتعلق
لكون معناه من الأمور التعلقية بخلاف المستعمل في المعنى الاخر، مع، ان جمعه
بالمعنى الأول - أوامر - وبالمعنى الثاني على أمور، وعلى ذلك فلا أظن وجود مورد
يشك في معناه، وعلى فرض وجوده لا محاله يصير مجملا إذ لا وجه لانصرافه إلى الطلب
كما افاده المحقق الخراساني.
اعتبار العلو في معنى الامر
الجهة الثانية: في أنه هل يعتبر العلو في معنى الامر أم لا، وملخص القول في ذلك،
انه لا اشكال في أن طلب السافل مع عدم الاستعلاء لا يكون أمرا، انما الكلام في موردين:
الأول: في طلب السافل من العالي المستعلى عليه.
فقد يقال بأنه يصدق عليه الامر: والشاهد عليه تقبيح الطالب السافل من العالي
المستعلى عليه وتوبيخه بمثل لم تأمره.
164

وفيه: مضافا إلى أن الاستعمال أعم من الحقيقة، ان اطلاق الامر على طلبه، انما
يكون مبنيا على الادعاء والعناية، حيث إن فرض نفسه عاليا فلا محالة يكون طلبه أمرا،
فيكون نظير اطلاق الفتوى على الحكم من غير استناد إلى الأدلة - في النصوص المتضمنة
حكم من أفتى بغير علم - مع أن الفتوى عبارة عن الحكم المستنبط من الأدلة وليس ذلك
الا من جهة فرض نفسه مجتهدا: والشاهد على كونه ادعائيا لا حقيقيا، عدم صحة اطلاق
الامر عليه في مقام النقل، ويقال ان السافل امر العالي بكذا، ولو كان حقيقة في المورد
صح نقله.
واما ذكره المحقق الخراساني في مقام الجواب من أن التقبيح انما يكون على
استعلائه لا على امره حقيقة بعد استعلائه، فغير مربوط بالمقام لان الاستدلال لم يكن
بالتقبيح بل، باطلاق الامر على طلبه.
الثاني: انه إذا كان الطالب عاليا، فهل يعتبر استعلائه أيضا أم لا، أقول - الاستعلاء
بالمعنى المقابل لخفض الجناح الذي هو من الأخلاق الحميدة لا يكون معتبرا قطعا
ولا يصح نسبة اعتباره إلى أحد، وبمعنى صدور الامر من العالي بما هو عال لا بما هو شافع
أو طبيب أو مصلح، لا ينبغي التأمل في اعتباره ولذا لا يكون الأوامر الارشادية أوامر
حقيقة، ويشهد له، مضافا إلى وضوحه قضية بريرة حيث قال (ص) في مقام الجواب عن،
أتأمرني يا رسول الله (ص)، لابل انا شافع، وعدم تصريح القوم باعتبار ذلك، انما هو
للاكتفاء عن اعتبار العلو عن ذلك بنحو من اللطافة، وهو ان مرادهم من اعتبار العلو اعتبار
صدور الامر من العالي بما هو عال لامن ذات العالي أو للاكتفاء عنه باعتبار هم ان يكون
بداعي البعث. فتدبر جيدا.
وبما ذكرناه يمكن الجمع بين كلمات القوم، ويظهر انه لا خلاف بينهم في
هذا المقام.
الامر محمول على الوجوب
الجهة الثالثة: لا اشكال في أن الامر محمول على الوجوب، انما الكلام في أنه، هل
165

يكون منشأ ذلك وضعه للدلالة عليه، أو الاطلاق ومقدمات الحكمة، أو حكم العقل،
المعروف والمشهور بين الأصحاب هو الأول، واختار جماعة القول الثاني، وذهب جمع
من المحققين منهم المحقق النائيني (ره) إلى الثالث، وهو الأظهر.
والوجه في ذلك سيأتي في مقام بيان وجه دلالة الصيغة على الوجوب فإنه يجرى
في المقام لان معنى لفظ الامر المستعمل في مقام الطلب هو معنى صيغة الامر، فالكلام
فيهما واحد.
وقد استدل المحقق الخراساني للقول الأول بانسباق الوجوب عنه عند اطلاقه،
ويرده انه ممنوع بعد استعماله في الكتاب والسنة في موارد الاستحباب كثيرا، وكذا في
العرف، وصحة تقسيمه إليهما ولو باعتبار الأمور الخارجية، وصحة السؤال عن كونه
وجوبيا أم استحبابيا بعد الامر بشئ، مع أنه نرى بالوجدان انه لا يصح ان يقال: ان زيارة
الحسين - عليه السلام - أو صلاة الليل، لم يؤمر بها في الاسلام فلو كان حقيقة في الوجوب
لصح هذه الدعوى، ثم انه (قده) أيد ما افاده بأمور أربعة:
الأول: قوله تعالى " فليحذر الذين يخالفون عن امره " وتقريب كونه مؤيدا: ان
التحذير في الآية الشريفة رتب على الامر غير المقيد بشئ، فمقتضى اطلاقها ان
الامر ملازم للتحذر، ومعلوم ان هذا لازم الامر الوجوبي لا الاستحبابي.
وفيه: ان أصالة العموم أو الاطلاق انما يرجع إليها لتسرية الحكم إلى ما علم كونه
فردا للعام أو المطلق، وشك في ثبوت الحكم له، لا فيما علم ثبوت الحكم أو عدمه،
وشك في كونه فردا له فلا يصح التمسك بها لا ثبات فردية المشكوك فيه أو عدمها.
الثاني: قوله (ص) " لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك "، وتقريب الاستدلال
به أو جملة مؤيدا - أمران - الأول: ما مر والجواب عنه ما عرفت، الثاني: ان مفهومه انه بما
ان الامر يوجب المشقة فما أمرت بالسواك، مع أن الطلب الندبي متعلق بالسواك قطعا،
فيستكشف من ذلك عدم صدق الامر على الطلب الندبي.
وفيه: ان التمسك بأصالة الظهور انما يكون فيما كان اللفظ ظاهرا في شئ ولم
يعلم كونه مرادا كما لو أحرز وضع لفظ الأسد للحيوان المفترس، وقال المولى جئني
166

بأسد، ولم يحرز ان المطلوب هو ذلك، أو الرجل الشجاع، فيرجع إلى أصالة الظهور
لا ثبات ان المطلوب هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه، واما لو كان المراد معلوما، فلا يصح
التمسك بها لاثبات انه المعنى الحقيقي إذ مدركها بناء العقلاء وهو انما يكون على
التمسك بها لكشف المراد، لا لكيفية الاستعمال بعد معلومية المراد، وفي المقام حيث إنه
علم أن المراد من عدم الامر به عدم الامر الوجوبي لا يصح التمسك بأصالة الظهور لا ثبات
ان الامر الوجوبي يكون موضوعا له بخصوصه.
وبذلك: طهر تقريب دلالة قوله (ص) لبريرة بعد قوله أتأمرني يا رسول الله، لا بل انا
شافع، والجواب عنه، مع انك قد عرفت في مبحث اعتبار العلو عدم كون مثل ذلك أمرا
حقيقة ولو كان ندبيا فراجع، فهو أجنبي عن المقام بالمرة.
الرابع: صحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة امره وتوبيخه على
مجرد مخالفته كما في قوله تعالى (ما منعك ان لا تسجد إذ أمرتك).
وفيه: انا نسلم ذلك ولكن نقول انه من جهة حكم العقل بوجوب إطاعة المولى
ما لم يرخص في ترك ما امر به وليس في ذلك دلالة على كون الوجوب هو الموضوع، له
وسيأتي لذلك زيادة توضيح فانتظر.
الجهة الرابعة في اتحاد الطلب والإرادة
ولا يخفى انى كتبت سابقا رسالة مستقلة في الجبر والتفويض ثم كررت النظر فيها
فغيرت بعض مطالبها وأضفت إليها بعض المطالب فها انا إذ كرها في المقام بتمامها مع هذه
التغييرات ليعم الانتفاع بها.
167

الجبر والاختيار
من المسائل المهمة مسألة " الجبر والاختيار "، وهي من أقدم الأبحاث العلمية،
اشتغل بها المتفكرون والفلاسفة، والآراء فيها كثيرة سنذكر عمدتها.
وقد عرفت أن أشهر المتفكرين السابقين المتعرضين للمسألة هو " أرسطو " وقد
تعرض للمسألة في كتاب " الأخلاق إلى نيقو ماخوس ".
وأساس الآراء والعقائد " الجبر " و " التفويض " و " الامر بين الامرين "، لا أفعال
الانسان دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور ثلاثة: الأول أن لا يكون لقدرته وارادته
دخل فيها، الثاني أن لا يكون المؤثر فيها سوى قدرته وارادته، الثالث أن يكون حصول
الفعل مستندا إليه نفسه والى الله تعالى. فالأول هو " الجبر " والثاني " التفويض " والثالث
" الامر بين الامرين ".
أقول الجبريين
أما الجبريون فلهم مسالك شتى عمدتها مسلكان:
أحدهما - ما عن الجبريين على الاطلاق، منهم جهم بن صفوان واتباعه، وهو أن
أفعال العباد غير اختيارية لهم وهم مقهورون في أفعالهم وليس لإرادتهم دخل فيها
ولا كسب. ولا فرق عندهم بين مشى زيد وحركة يد المرتعش، ولا بين الصاعد إلى السطح
169

والساقط منه.
الثاني - ما ذهب إليه جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأتباعه وهم كثيرون،
فإنهم لما رأوا شناعة المذهب الأول فروا منه بما لا ينفعهم، وقالوا: ان أفعال العباد
الاختيارية واقعة بقدرة الله وحده وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته
بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك صانع أوجد فيه فعله المقدور
مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى ابداعا واحداثا ومكسوبا للعبد.
وقد ذكروا في المراد من الكسب وجوها، أحسنها ما قاله القاضي أبو بكر
الباقلاني، وهو أن الانسان، وان كان فعله صادرا عنه بغير تأثير منه في صدوره، الا أن
تلونه بلون حسن أو قبيح انما يكون بقدرته واختياره. مثلا: ضرب اليتيم إذا صدر منه
يكون المؤثر في أصل تحققه هو الله تعالى، الا أن قصد كونه للتربية فيكون حسنا أو
الظلم فيكون قبيحا انما فوض إلى العبد، وهذا هو المعيار للثواب والعقاب.
ولكن الظاهر أنه لا ينفعهم ذلك أيضا، إذا القصد بنفسه فعل من الافعال، فعلى
القول بالكسب لابد وأن يكون ذلك أيضا صادرا عن إرادة الله تعالى وقدرته، فلا اختيار
أصلا.
ولعله لذلك قال العلامة المجلسي (ره): والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وارادته،
من غير أن يكون هناك تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له، وقالوا نسبة
الفعل إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار ايجاده له.
والالتزام بأحد هذين المذهبين مستلزم لانكار التحسين والتقبيح العقليين
بالإضافة إلى أفعال العباد، لأنهما انما يكونان على الأفعال الاختيارية. ألا ترى أن السيف
إذا وقع آلة لقتل من يحسن قتله لا يحسنه العقلاء. وعلى القول بالجبر السياف والسيف
متساويان في القتل وكل منهما آلة لوقوعه، فالسياف أيضا لا يستحق التحسين.
كما أن القائلين بأحد هذين القولين - أي الجبر - وقعوا في اشكال تكليف العصاة،
لأنه ان لم تكن ارادته تعالى متعلقة بالفعل فلا يكون التكليف جديا، وان كانت ارادته
متعلقة به فكيف تتخلف عن المراد.
170

وفي مقام الجواب عن هذه العويصة التزموا بأن التكليف انما يكون طلبا، وهو غير
الإرادة، وتخلف ارادته تعالى عن المراد غير ممكن وأما طلبه فلا محذور في تخلفه عن
المطلوب. فمع فرض عدم تعلق ارادته تعالى بالصلاة مثلا يأمر بها، وبه يوجد الطلب،
وتخلفه عن المطلوب لا محذور فيه. ولذلك التزموا بأن التكليف بما لا يطاق جائز
ولا بأس به.
وبما ذكرناه ظهر أن توجيه المحقق الخراساني (ره) كلام الأشاعرة القائلين
بالمغايرة بين الطلب والإرادة، بأن المراد من المغايرة مغايرة الانشائي من الطلب كما هو
المنصرف إليه اطلاقه، والحقيقي من الإرادة كما هو المراد منه غالبا حين اطلاقها، فيكون
النزاع لفظيا، توجيه في غير محله.
وحيث لا ريب ان الله تعالى يعاقب طائفة لأجل ترك الواجبات وفعل المحرمات،
فلا مناص لهم من انكار التحسين والتقبيح العقليين بالإضافة إليه تعالى أيضا، والا فبناءا
على القول بهما لاوجه لعقابه على الفعل غير الاختياري.
ويترتب على الالتزام بأنه يعاقب على الأمور غير الاختيارية سلب العدالة عنه،
ولذا التزموا بأن له أن يعاقب أشرف الأنبياء ويثبت أشقى الأشقياء، تعالى عن ذلك علوا
كبيرا.
القول بالتفويض
وأما المفوضة فحفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن أفعال العباد غير مربوطة به
تعالى وتمام المؤثر فيها هو العبد. ولكن لازم هذا القول نفى السلطنة عنه، تعالى عن ذلك
علوا كبيرا.
والمثال العرفي الذي يوضح هذا المذهب: انه إذا فرضنا أن المولى أعطى لعبده
كأسا من الخمر مع علمه بأنه يشربه وبعد ذلك خرج أمر الشرب عن اختياره بحيث لو
شاء أن لا يقع في الخارج لما تمكن منه، فالشرب إذا صدر منه باختياره لا يكون مستندا
171

إلى المولى بوجه، فإنه حين صدوره عنه يكون أجنبيا عنه بالمرة.
وأكثر القائلين بالتفويض - وهم المعتزلة - قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد.
وبعضهم قال بعدم وجوب الفعل بل يصير أولى.
قال المحقق الطوسي (ره): ذهب مشائخ المعتزلة وأبو الحسن البصري وامام
الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد له قدرة قبل الفعل وإرادة بها تتم مؤثريته فيصدر منه
الفعل، فيكون العبد مختارا إذا كان فعله بقدرته الصالحة للفعل والترك تبعا لداعية الذي
هو ارادته. والفعل يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكنا، وبالقياس إليها مع الإرادة
يصير واجبا. وقال محمود الملاحمي وغيره من المعتزلة: ان الفعل عند وجوب القدرة
والإرادة يصير أولى بالوجود، حذرا من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب -
انتهى.
ولا يخفى ان للتفويض معنيين آخرين:
أحدهما - رفع الخطر والمنع عن أفعال العباد وان جميع أفعالهم مباحة. قال
الشيخ المفيد (ره) في شرح الاعتقادات: والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في
الافعال والإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الاباحات -
انتهى.
ثانيهما - ايكال أمر الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض العباد، قال الامام على
ابن موسى الرضا عليه السلام - على ما في خبر رواه الصدوق باسناده عن يزيد بن عمير -:
ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه (ع) فقد قال بالتفويض 1.
معنى الامر بين الامرين
وأما " الامر بين الامرين " فهو أمر دقيق لا يعلمه الا العلم أو من علمه إياه العالم

1 - عيون أخبار الرضا ص 87.
172

كما في خبر صالح بن سهل 1، وسر الله كما في النبوي 2 وبمعناهما أخبار أخر.
وقد قال الفخر الرازي: حال هذه المسألة عجيبة، فان الناس كانوا فيها مختلفين
أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع فيها إليه متعارض متدافع. ثم ذكر جملة من أدلة الطرفين
ثم قال: وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملو مما يوهم الامرين وكذا الآثار، وان من أمة
من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين، وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين،
حتى قيل إن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر - انتهى.
ومثله في الاعتراف بالشك والحيرة محيي الدين بن العربي في محكى الفتوحات.
ولعلمائنا في تحقيقه مسالك:
الأول ما ذهب إليه الشيخ المفيد (ره) في شرحه على الاعتقادات وهو أن الله أقدر
الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ونهاهم عن القبائح
بالزجر والتخويف والوعد والوعيد، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها،
ولم يفوض الأعمال إليهم لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها
ونهاهم عن قبيحها. ثم قال: فهذا هو الفضل بين الجبر والتفويض - انتهى.
وهو حسن، ولكن لا يصح تنزيل الأخبار الكثيرة الواردة في بيان الامر بين
الامرين التي ستمر عليك جملة منها على ذلك.
الثاني أن المراد به أن الله تعالى جعل عباده مختارين في الفعل والترك مع قدرته
على صرفهم عما يختارون وعلى جبرهم على فعل ما لا يفعلون.
وهذا أيضا حسن، الا أن الظاهر كون الامر بين الامرين أدق من ذلك كما سيمر
عليك.
الثالث أن المراد به بأن الأسباب القربية للفعل بقدرة العبد والأسباب البعيدة
كالآلات والأدوات والجوارح والأعضاء والقوى بقدرة الله سبحانه، فقد حصل الفعل

1 - أصول الكافي 1 / 159 باب الجبر والقدر، حديث 10.
2 - الوافي 1 / 118 باب الجبر والقدر.
173

بمجموع القدرتين.
إليه يؤل ما نسب إلى المحقق العراقي في تقريرات بحثه، قال بعد كلام له: ومعه
يصح أن يقال الجبر في البين، لكون أحد مبادئ الفعل هو اختيار الانسان المنتهى إلى
ذاته، ولا تفويض بملاحظة كون بقية مبادئه الأخرى مستنده إليه تعالى، ولا مانع من أن
يكون ما ذكرناه هو المقصود بقوله عليه السلام " لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ".
ويرده أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد يحتاج إلى نفيه.
الرابع أن التفويض المنفى هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى بعض
العباد.
وهذا أيضا غير مربوط بما تعرضت له النصوص الكثيرة المروية عنهم
عليهم السلام.
الخامس أن المراد به أن فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والإرادتين والتأثيرين
من العبد ومن الرب سبحانه، والعبد لا يستقل في ايجاد فعله وليس قدرة العبد بحيث
لا تأثير لها في فعله أصلا، ك وستعرف ما فيه.
السادس ما ذكره المحدث الكاشاني (ره) في الوافي، قال بعد كلام له: ولنذكر في
بيانه ما ذكره بعض المحققين موافقا لما حققه المحقق الطوسي نصير الملة والدين في
بعض رسائله المعمولة في ذلك، قال قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قر بهيئته
وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده، وقد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع
الممكنات ولم يخرج شئ من الأشياء عن مصلحته وعمله وقدرته وايجاده والا لم
يصلح لمبدأية الكل. إلى أن قال: فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه
وقدره، وهي واجبة الصدور ومنا بذلك ولكن بتوسط أسباب وعلل من ادراكاتنا وإرادتنا
وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا الخارجة عن
قدرتنا وتأثيرنا. إلى أن قال: ولما كان من جملة الأسباب إرادتنا وتفكرنا وتخيلنا فالفعل
اختياري لنا، فان الله تعالى أعطانا القوة والاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا مع
إحاطة علمه، فوجوبه لا ينافي امكانه واضطراريته لا تدافع كونه اختياريا، كيف وانه
174

ما وجب الا بالاختيار. ثم أخذ في بيان عدم الاختيارية الا إرادة إلى أن قال: فنحن في عن
الاختيار مجبورون، فنحن إذا مجبورون على الاختيار.
وهو كما سيمر عليك ليس أمرا بين الامرين بل هو عين الجبر.
وللأصحاب تقاريب أخر له، ولكن بعضها يرجع إلى ما تقدم وبعضها يؤل إلى
الجبر.
والحق في تصويره أن يقال: ان الجبر المنفى هو قول الأشاعرة والجبرية المتقدم،
والتفويض المنفى هو قول المعتزلة أنه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض
إليهم الاختيار، فهم مستقلون بايجادها على وفق مشيتهم وقدرتهم، وليس لله تعالى في
أعمالهم صنع. وأما الامر بين الامرين فهو أن الفعل انما يصدر عن اختيار العبد وقدرته،
وله أو يفعل وأن لا يفعل، ومع ذلك حياته وقدرته واختياره كلها متحققة بإفاضة الباري
تعالى، بحيث لو لم يفض إليه واحدا منها لزم منه عدم صدور الفعل وعدم تحققه.
والمثال العرفي - الذي يوضح ذلك - انه: إذا فرضنا أن العبد لا يتمكن من تحريك
اليد الا مع ايصال القوة الكهربائية، فأوصل المولى القوة إليها آنا فآنا، فذهب العبد
باختياره إلى قتل نفس والمولى يعلم بذلك، فالفعل بما أنه صادر من العبد باختياره فهو
اختياري له، وبما أن المولى يعطى القوة للعبد آنا فآنا فافعل مستند إليه، وكل من
الاسنادين حقيقي بلا تكلف وعناية. وهذا واقع: " الامر بين المرين "، الذي تطابقت
عليه الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
وقد صرح بذلك المحقق النائيني (ره)، واليه يرجع ما أفاده المحقق الأصفهاني (ره)
قال: ان العلة الفاعلية ذات المباشر بإرادته وهي العلة القريبة ووجوده وقدرته علمه
وارادته لها دخل في فاعلية الفاعل، ومعطى هذه الأمور هو الواجب تعالى، فهو الفاعل
البعيد. فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض، ومن قصر النظر على الثاني حكم
بالجبر، والناقد البصير ينبغي أن يكون ذا عينين - انتهى.
كما أنه يمكن توجيه ما أفاده العلامة المجلسي (ره) في جملة من كتبه بنحو يرجع
إلى ذلك.
175

أدلة الجبريين لما ذهبوا إليه
الوجه الأول:
وقد استدل للقول بالجبر بقسمين من الوجوه: أحدهما من ناحية العوامل الطبيعية،
الثاني من ناحية ما وراء الطبيعة.
أما الأول، فقد استدل له بأن الفعل يصدر عن الإرادة ومعلول لها، والإرادة اما أن
تكون إرادية صادرة عن إرادة أخرى أو تكون غير إرادية، فان كانت إرادية كانت معلولة
لإرادة أخرى، وينتقل الكلام إلى تلك الإرادة التي تكون علة لهذه الإرادة، فلابد وأن
تنتهي إلى أمر غير إرادي وإلا لزم التسلسل. فان انتهت إلى أمر غير اختياري، أو التزمنا
بأنها غير إرادية فلا محالة يكون الفعل غير اختياري، وذلك لان الجبر على العلة جبر على
المعلول. وبعبارة أخرى: المعلول الامر غير اختياري خارج عن تحت الاختيار، كما هو
واضح.
جواب الحكماء ونقده
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة:
أحدها - ما عن الحكماء، وهو أن وجوب الفعل وكونه ضروريا من ناحية ارادته
لا ينافي الاختيار. وبعبارة أخرى: ضرورية الفعل ووجوبه وعدم امكان تركه لا تنافى
الاختيار، بل الفعل الاختياري هو الفعل الذي ان شاء فعل وان شاء لم يفعل، ولا يلزم في
صدق القضية الشرطية أن يكون طرفاه ممكنين، بل يمكن أن يكونا واجبين ويمكن أن
يكونا ممتنعين.
فضرورية الفعل أو الترك لا تنافى الاختيار، والا فلو كان وجوب الفعل موجبا
لخروج الفعل عن الاختيار لزم أن لا يكون الله سبحانه فاعلا مختارا، إذ الصادر الأول
176

منه تعالى لابد أن يكون ذاته تعالى علة تامة لوجوده، إذ المفروض أنه ليس هناك شئ
آخر غير ذاته، فصدور الصادر الأول يكون واجبا ضروريا وإلا لزم تخلف المعلول عن
علته التامة.
وفيه: ان وجوب الفعل من ناحية علته لا ينافي امكانه لكنه ينافي مع اختياريته،
وأما وجوب الصادر الأول فسيأتي الكلام فيه.
جواب المحقق العراقي ونقده
الجواب الثاني - ما عن المحقق العراقي (ره) وحاصله: ان الإرادة والاختيار من
قبيل العوارض اللازمة لوجود الانسان غير المحتاجة إلى جعل آخر وراء جعل
المعروض، وهو الشأن في كل ما هو عارض لازم للماهية أو الوجود، كالحرارة للنار.
فالانسان، ولو في بعض مراتب وجوده، مقهور بالاتصاف بصفة الاختيار، ويكفي في
تحقق صفة الاختيار للانسان تعلق الإرادة بوجود الانسان.
ولا ريب في أن كل فعل صادر من الانسان بإرادة له مباد، كعلم بفائدته، وكشوق
إليه وقدرة عليه. وعليه فيكون الفعل الصادر عن الانسان له نسبتان: إحداهما إليه باعتبار
تعلق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الانسان المجعولة بجعله لا بحمل مستقل،
و الأخرى إلى الله تعالى باعتبار ايجاد سائر المبادئ، وحينئذ فليس الفعل مفوضا إليه
بقول مطلق ولا مستندا إليه سبحانه كذلك ليكون العبد مقهورا عليه.
وفيه: أولا: ان ما هو؟ مجعول بجعل الانسان على فرض تسليم كونه من لوازم
وجود الانسان هو قوة الاختيار، وصيرروة تلك فعلية انما تكون تدريجية وتتجدد على
النفس وتنعدم، فيبقى السؤال عن أن فعلية تلك القوة تحتاج إلى علة تامة، فيعود
المحذور.
وثانيا: ان لازم هذا التقريب هو كون الاختيار نفسه غير اختياري، فيبقى اشكال
أن الجبر على العلة جبر على المعلول.
177

ما هو الحق نقد هذا الوجه
وهناك أجوبة أخر لا يهمنا التعرض لها، والحق في الجواب عن هذا الوجه يبتنى
على بيان مقدمات:
تجرد النفس عن المادة
الأولى ان كل انسان يجد في نفسه مشاهدة أن له وراء الأعضاء وأجزاء بدنه التي
يشعر بها بالحسن أو بنحو من الاستدلال - كالأعضاء الظاهرة المحسوسة بالحواس
الظاهرة والأعضاء الباطنة التي عرفها بالحسن والتجربة، معنى يحكى عنه ب‍ " أنا "، وتارة
يعبر عنه ب‍ " الروح "، وأخرى ب‍ " الذات "، وثالثة ب‍ " النفس ".
والدليل على كون تلك غافلة عن أنفسها، مثلا: أعصاب اليد لا تتوجه إلى أيها
أعصاب اليد وهكذا. وهذه الحقيقة لا تغفل عن نفسها، بل تشعر بها وبسائر الأعضاء.
2 - ان هذه تحدد الغرائز وتبارز معها، ولا يعقل مبارزة الشئ مع نفسه.
3 - انه لو كانت هي، هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من
خواصه الموجودة فيه، وهي جميعا مادية، ومن أحكام المادة الانقسام، والمجزى،
والتغير التدريجي - لكانت مادية قابلة للانقسام ومتغيرة، وليست كذلك، فانا نجد من
أنفسنا بعد المراجعة إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لأنفسنا، ونذكر ما كنا نجده من
هذه المشاهدة منذ أول شعورنا بأنفسنا، معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير
أدنى تغير وتعدد، كما نجد أبداننا وأجزاءها والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من
كل جهة في موادها وأشكالها وسائر أحوالها وصورها، وكذا نجده معنى بسطا غير قابل
178

للانقسام والتجزي كما نجد البدن وأجزاءه وخواصه. فليست تلك الحقيقة هو البدن
ولا شيئا من أجزائه، ولا خاصة من خواصه.
وأنكر الماديون وجود هذه الحقيقة، وقالوا: ان الآنية التي تشاهد ليست الا سلسلة
الأعصاب التي تؤدى الادراكات إلى العضو المركزي، وهو الجزء الدماغي على التوالي
وفي نهاية السرعة، غاية الامر على صفة الوحدة. ففي ذلك الجزء الدماغي مجموعة
متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزاؤها ولا يدرك بطلان بعضها وقيام الاخر مقامه،
وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها ب‍ " أنا "، فالذي نرى أنه ثابت
فهو في الحقيقة مشتبه على المشاهدة من جهة توالى الواردات الادراكية وسرعة ورودها.
وذكر بعضهم في تنظيره بقوله: كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج
من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا وهو
بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت، وكذا يجد صورة الانسان أو الشجر أو غير هما فيه
واحدا ثابتا وليس بواحد ثابت بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي
لاجزاء الماء فيه. وعلى هذا النحو وجود الثبات والواحدة والشخصية التي نرى
في النفس، والذي نرى أنه غير جميع أجزائنا صحيح لكنه لا يثبت أنه غير البدن وغير
خواصه، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا تغفل عنه، فان لازم الغفلة
وقوف الأعصاب عن أفعالها، وهو الموت.
وأيضا قالوا: ان كل خاصة من الخواص البدنية وجدنا علتها المادية ولم نجد أثرا
روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى نحكم بوجود حقيقة الآنية.
وقال المتأخرون منهم: ان المتحصل من التشريح والفزيولوجيا ان الخواص
الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الأصول في حياة الانسان،
فالنفس أثر مخصوص لكل واحد منها أرواح متعددة، فالآنية المشهودة للانسان على
صفة الوحدة مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على صفة الاجتماع، ولذا هذه
الخواص الروحية تبطل بموت السلولات وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح المجردة
الباقية بعد فناء التركيب البدني.
179

هذه هي عمدة ما استدل بها الماديون على نفى أمر آخر وراء أعضاء البدن،
وهناك وجوه أخر يظهر ما فيها مما نورده على هذه الوجوه.
ويرد على الوجه الأول: انه إذا كان المفروض أمورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة
لها، وليس وراء تلك الأمور شئ آخر، وكون ما نرى من الامر المشهود الذي هو النفس
الواحدة هو عين هذه الادراكات الكثيرة. فما الموجب لحصول هذا الواحد الذي
لا يشاهد غيره، ومن أين حصلت الوحدة.
وما ذكروه من الوحدة الاجتماعية غير مربوطة بالمقام، فان الواحد الاجتماعي
هو الكثير في الواقع الواحد في الحس أو الخيال. لا في نفسه، والمدعى في المقام كون
الادراكات الكثيرة في أنفسها هي شعور واحد عند أنفسها.
وان قيل: ان المدرك في المقام هو الجزء الدماغي.
توجه عليه: ان المفروض أن ليس للجزء الدماغي ادراك آخر وراء هذه
الادراكات متعلقا بها كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا
حسية.
وان قيل: انه لا وحدة لها وانما يشتبه الامر على الحس أو القوة المدركة فتدرك
الكثير واحدا.
أجبنا عنه بأن الاشتباه من الأمور النسبية التي تحصل بمقايسة ما عند الحس بما في الخارج
من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي. مثلا: نشاهد
الجرم العظيم من بعيد صغيرا كنقطة سوداء، فما عند الحسن - وهي النقطة السوداء -
لا اشتباه فيها، وانما الاشتباه يكون لو قايسنا ما عنده بما في في الخارج من واقع ذلك
المشهود. والمفروض في المقام أن لا مقام آخر وراء الادراكات الكثيرة كي يحكم
بالاشتباه والغلط من مقايسة ما فيه بتلك الادراكات.
ويرد على الوجه الثاني: ان المثبتين لا يسندون بعض الأفاعيل البدنية
إلى البدن وبعضها إلى النفس، والأول فيما علله ظاهرة، والثاني فيما علله مجهولة كي يرد
عليهم ما ذكر. بل يسندون الا فاعيل الا البدن بلا واسطة والى تلك الحقيقة مع
180

الواسطة، وانما أسندوا إلى النفس ما لا يمكن اسناده إلى البدن، وهو علم الانسان بنفسه
ومشاهدته ذاته كما تقدم.
ويرد على الوجه الثالث مضافا أوردناه على الوجه الأول: ان غاية ما يمكن
أن يثبت بما ذكر من الأصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي: ان العلل الطبيعة لا تقى
بوجود الروح، ولا تصلح أن يستنتج منها وجوده. وقديما قالوا " عدم الوجدان لا يدل
على عدم الوجود "، فالمتحصل: ان وجود ذلك الحقيقة المعبر عنها ب‍ " أنا " غير قبال
للانكار.
وتلك الحقيقة لها حكومة على سائر الأعضاء والغرائز ولها أن تفشل ما يميل إليه
سائر الأعضاء، وهي العاملة القوبة الموجبة لحصول الاعتدال بين ما هو أساس الغرائز،
وهو حس جلب النفع ودفع الضرر، مع التكاليف الاجتماعية والدينية، وبالنتيجة تصير
الافعال موافقة للقوانين الخارجية.
الشوق ليس علة للفعل الاختياري
الثانية ان الموجب لصدور الفعل الاختياري هو اعمال هذه الحقيقة قدرتها
في العمل لا الشوق، إذ نرى بالوجدان أنه يعد تحقق الشوق الأكيد المتعلق بالهدف وبنفس
الفعل، يمكن لتلك الحقيقة المشار إليها آنفا أن تمنع عن الفعل وتمنع عن تحققه
وتوجب أن لا يوجد.
قال أرسطو: ان ما هو سبب صدور الفعل هو ذلك لا الشوق المشترك بين الانسان
وسائر الحيوانات، وأيضا ربما يعارض ذلك مع الشوق والرغبة ولا يعقل المبارزة الا مع
التعدد، وأيضا ان الشوق يتعلق بالمجال والممتنع ولا يقع تعلق الاختيار به.
نعم، لا ننكر أن العوال الخارجية والداخلية ربما تبلغ من الشدة إلى حد تغفل
الحقيقة الآنية عن نفسها. مثلا لو استمعت صوتا حسنا وغفلت عن نفسها، وفي مثل ذلك
لا محالة يصدر الفعل لكنه فعل غير اختياري وخارج عن تحت القدرة.
181

وبالجملة لا ريب في أن مجرد الشوق لا يوجب تحرك العضلات لما يرى
بالوجدان أنه ربما يشتاق الانسان إلى شئ ولا يتحقق المشتاق إليه الا بعد اعمال القدرة
وحمله النفس. مثلا: لو وقف الانسان على قنطرة وكان في أحد طرفيها بساتين فيها
رياحين واشتاق إلى الذهاب إليها كمال الاشتياق وكان في الطرف الآخر النار مشتعلة لو دنا
منها لاحترق وكره الذهاب إليها كمال الكراهة، ومع ذلك لا يتحقق ما تعلق شوقه به، بل
يرى نفسه بعد ذلك قادرا على الذهاب إلى كلا الطرفين.
فمن هذا يستكشف أن الشوق لا يكون علة للفعل، بل بينهما واسطة، وهو اعمال
القدرة، حيث أن زمام البدن بيد النفس تقلبه حيث ما شاءت، فبعد تحقق الشوق لها أن
تعمل قدرتها في الفعل فيفعل، وهذا معنى ما يقال " شئت ففعلت "، ولها أن لا تعمل فلا
يتحقق الفعل.
وهذا الأعمال الذي يكون فعل النفس، يعبر عنه بالمشيئة والاختيار، وحملة
النفس والإرادة والفعل يصدر عنه لا عن الشوق.
قانون العلية العامة
الثالثة ان قانون العلية والمعلولية، بمعنى أن الموجود يحتاج إلى علة لأجل
وجوده ووجوب تحقق المعلول عند تحقق العلة بتمام أجزائها وامتناع تحققه مع عدم
جزء منها، وان تم في الموجودات غير الأفعال الاختيارية الا أنه لا يتم في الاختيار،
بحيث يكون الاختيار لازم التحقق عند تمامية علته وان لا يعقل وجوده مع عدم العلة.
وبعبارة أخرى: احتياج كل ممكن حادث إلى علة لا ينفك عنها، ممنوع، لعدم
البرهان عليه، بل البرهان على خلافه، فان الاختيار فعل النفس، والنفس توجده ولا تكون
الأمور الخارجية ولا الغرائز الداخلية التي أساسها حب البقاء المنشعب منه حس جلب
النفع ودفع الضرر، إذ ربما يكون جميع ذلك موجودة والنفس متوجهة إليها ومع ذلك
لا يختار الفعل.
182

وما ذكره المحقق الأصفهاني (ره) من أن دعوى عدم احتياج بعض الممكنات إلى
العلة من الغرائب، إذ الممكن مساوق للمفتقر.
مندفع: بأنا لا ندعي وجود الممكن بذاته وتلتزم بافتقاره إلى الموجد، الا أنا نقول:
ان احتياج كل ممكن ولو كان فعلا اختيارا إلى العلة التامة - أي ما لا ينفك إلى الموجد
والخالق والصانع.
إذا عرفت هذه المقدمات، يظهر لك أن السبب لوجود الفعل الاختياري ليس هو
الشوق، حتى تكون شبهة الجبر شبهة لا يمكن دفعها، بل السبب هو اعمال النفس قدرتها
في الفعل وأنها تامة في الأفعال الاختيارية بلا محرك آخر، فالجواب عنها واضح.
ايرادات هذا الجواب ونقدها
وربما يورد على هذا الجواب بايرادات:
أحدها أن الاختيار بهذا المعنى حادث أم واجب، فان كان واجبا لزم أن يصحبه
من أول وجوده، وان كان حادثا ولكل حادث محدث فوجود الاختيار يكون بايجاد
الموجد. والموجد اما أن يكون هو أو غيره، فان كان هو بنفسه فان كان باختيار آخر لزم
التسلسل، فلابد وأن يكون وجود الاختيار بغير الاختيار، فيكون مجبورا على الاختيار
من غيره. وبما أن الجبر على العلة جبر على المعلول فالفعل يصدر حبرا.
وبعبارة أخرى: الاختيار لا يكون واجبا بالبداهة بل هو ممكن وبما أن كل ممكن
يحتاج في وجوده إلى العلة التامة فهو معلول لعلة وتلك العلة اختيارية أم غير اختيارية،
فان كانت اختيارية وصادرة عن اختيار آخر ينقل الكلام إلى ذلك الاختيار، فلابد وأن
ينتهى إلى علة غير اختيارية وإلا لزم التسلسل، فان انتهى إلى علة غير اختيارية أو من الأول
183

التزمنا بذلك فيعود المحذور ويثبت الجبر، إذ القسر على العلة قسر على المعلول.
وفيه: ان الجواب عن هذه الشبهة يتوقف على بيان مقدمتين: " الأولى " - انه لا يعتبر
في انصاف الفعل بكونه اختياريا سوى القدرة عليه واستناد الفعل إليها، ولا يعتبر سبق
الاختيار وان كان اختيارية الفعل الخارجي مساوقة لذلك. ولا يكفي مجرد القدرة، فلو
كان الشخص قادرا على الذهاب إلى محل خاص ولكن لم يعمل قدرته في ذلك بل
أجبر عليه وكان بتحريك الغير، لا يكون هذا الفعل اختياريا.
" الثانية " - ان كل ممكن بما أن الوجود والعدم بالإضافة إليه على حد سواء لا يعقل
وجوده بنفسه، فلا محالة يحتاج إلى الموجد ليخرج به عن حد الاستواء. وغير الأفعال الاختيارية
من الموجودات يحتاج إلى العلة التامة، وأما الأفعال الاختيارية فلا يتوقف
صدورها عليها، بحيث يكون الموجد لها لا يكاد ينفك عنها كما عرفت. وبعبارة أخرى:
دعوى احتياج الأفعال الاختيارية إلى شئ يستحيل انفكاكها عنه، من الاشتباهات الناشئة
عن التعبير باحتياج الممكن في وجوده إلى العلة.
وبهذا البيان يندفع ما يقال: كيف يلتزم بوجود الصانع القديم وحدوث
الممكنات، ولو كان الله تعالى علة لما أمكن التخلف ولزم القدم في جميع الممكنات.
إذا عرفت هاتين المقدمتين فاعلم: ان اعمال القدرة والاختيار انما يكون فعلا قائما
بالنفس، وهي موجدة له بنفسها ويكون هو اختياريا بلا احتياج إلى العلة التامة.
والنفس ليست علة تامة له حتى يستحيل انفكاكه عنها فيعود المحذور، بل النفس موجدة
له، فقد يوجد الداعي لها فتوجده وأخرى لا ينقدح لها الداعي فلا توجده، فالفعل
الخارجي اختياري للنفس بوساطة اختيارية فعل النفس لا بنفسه، لأنه ليس من أفعالها
مزاحم في سلطانها يكون الفعل الخارجي اختياريا للنفس.
ومعنى كونه اختياريا لها صدوره مسبوقا بالاختيار، وأما فعل النفس، وهو اعمال
القدرة، فهو اختياري لها بنفسه بلا وساطة شئ آخر وبلا احتياج إلى سبق اختيار آخر.
وهذا نظير العلم، حيث أن المعلوم ينكشف بوساطته وهو منكشف بنفسه. ولعل
184

هذا هو المراد من الرواية الشريفة المتضمنة انه " خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء
بالمشيئة " 1، فلا وجه لتوجيهها بتوجيهات بعيدة كما عن بعض المحقين.
وما ذكره المحقق الأصفهاني من أن ارادته تعالى التي هي أيضا من أفعاله،
يستحيل أن تكون عين ذاته، لاستحالة كون الفعل عين فاعله، فلا محالة تكون قائمة
بذاته. فان كانت قديمة بقدمه كان حال هذا القائل حال الأشعري الملتزم بقدم الصفات
الزائدة على الذات وهو باطل بالضرورة. وان كانت حادثة كان محلها الواجب، إذ لا شئ
آخر تقوم به، فيلزم كون الواجب محلا للحوادث، فيكون حال هذا القائل حال الكرامية
القائلين بحدوث الصفات.
مندفع بما ستعرف من أن ارادته تعالى من صفات الفعل لامن صفات الذات،
وليست أفعاله تعالى نظير أفعالنا، بل ارادته ليست الا خلقه وارزاقه وغيرهما من أفعاله.
وعليه فدعوى عدم كون ارادته من سنخ الافعال الصادرة عن الاختيار، حتى يكون
موجودا قائما بنفسه أو بموجود آخر، فاسدة. وعلى الجملة ليس قيامها به الا كقيام سائر الأفعال
به، بل هي هي.
الثاني ما في مقالات المحقق العراقي (ره) من أن انعزال الإرادة (أي الشوق) عن
التأثير وكون تمام المؤثر هو الاختيار (أي اعمال القدرة) خلاف الوجدان. كيف ويعتبر
في العبادات أن تكون اراده قربية، ولو انعزلت الإرادة عن التأثير فلا معنى لارادية العبادة
ولا لنشؤها عن قصد القربة، وهو كما ترى.
أقول: ينبغي أن يعد صدور هذا الكلام من هذا المحقق النحرير من الغرائب،
وذلك لان المراد من إرادية الفعل صدوره عن الاختيار الذي يكون واسطة بين الشوق
والفعل، ومعنى اعتبار الإرادة القربية في العبادة أنه حيث يكون الاختيار بدواعي مختلفة
فيعتبر في العبادات أن يكون بداع القربة ويكون المحرك أمر المولى، وهذا لا ينافي
ثبوت الواسطة بين الشوق والعمل.

1 - أصول الكافي 1 / 110 من طبعة طهران.
185

الثالث ما في تقريرات بحثه، وحاصله: انا لا نتعقل شيئا في النفس يحدث بعد
الإرادة، إذ للنفس قسمان من الفعل الجانحي والجارحي، والأول ينحصر في التصور
و التصديق ونحوهما مما يكون من مبادئ الإرادة ولا يعقل تأخره عنها، والثاني نفس
الافعال الخارجية.
وفيه: ان المدعى ثبوت فعل من ما يكون من قبيل القسم الأول أي الفعل
الجانحي، ولكن دعوى عدم معقولية تأخره عن الشوق فاسدة، إذ لو أريد تأخر ما يكون
متقدما عليه، فهو واضح البطلان وأما لو أريد به وجود فعل آخر - وهو حملة النفس
الذي عرفت أن الوجدان يساعد على وجوده - فهو لا يكون متقدما كي يلزم منه تأخر
ما هو متقدم.
عدم استحالة الترجيح بلا مرجح
تذنيب لا يخفى أنه بعدما عرفت من عدم كون الشوق علة للفعل، فاعلم أنه
الداعي والمرجح لوجود الاختيار غالبا، لان الاختيار في وجوده يحتاج إلى موجد وهو
النفس ومرجح وهو الشوق غالبا، والاحتياج إلى المرجح انما يكون لأجل الخروج عن
اللغوية، والا فيمكن ايجاد الفعل الاختياري بلا مرجح، لعدم استحالة الترجيح بلا
مرجح.
توضيح ذلك: انه لا اشكال ولا كلام في استحالة الترجح بلا مرجح، بمعنى وجود
الشئ بلا موجود، لان الممكن في وجوده محتاج إلى المؤثر وهو المرجح للوجود. وهذا
من البداهة بمكان.
وأما الترجيح بلا مرجح فقد وقع الخلاف في امكانه، فالتزم أكثر الفلاسفة
والحكماء بامتناعه، وذهب جماعة من المحققين إلى امكانه، وهو الأقوى عندي.
إذ محصل البرهان الذي ذكر للامتناع أن الترجيح بلا مرجح يرجع إلى الوجود
بلا موجد، وحيث أنه محال فهذا أيضا محال. توضيحه: أنه لو فرضنا تساوى الفعلين من
186

جميع الجهات وكانت نسبة الإرادة إليهما متساوية فتعلق الإرادة الذي هو موجود من
الموجودات بأحدهما دون الاخر يكون بلا مرجح وبلا موجد، فيلزم الوجود بلا موجد،
ومن البديهي امتناعه.
وفيه: انه بعد ما عرفت من أن الموجد للاختيار هو النفس لا يلزم الوجود بلا
موجد من الترجيح بلا مرجح، إذ ليس لتعلق الإرادة بالفعل وجود آخر غير وجود
الإرادة والاختيار، بل للاختيار وتعلقه بالفعل وجود واحد، لكونه من الصفات التعلقية،
وموجد هذا الوجود هو النفس. فلا يلزم المحذور المذكور، أذلها الخيار في ايجاد كل
منهما، فلا يترتب على ايجاد أحدهما دون الاخر محذور عقلي، فالأقوى بحسب
البرهان امكان الترجيح بلا مرجح.
ويضاف إلى ذلك الوجدان، فراجعة في موارده ترى أن ما ادعيناه واضح لا سترة
عليه. بداهة أن الهارب يختار أحد الطرفين مع عدم مرجح له بالخصوص.
ودعوى وجود المرجحات الخفية في أمثال هذا المورد. لا يمكن المساعدة
عليها، فعهدة اثباتها على مدعيها. هذا كله في امكان الترجيح بلا مرجح.
وأما الكلام في قبحه، فالحق هو التفصيل. توضيح ذلك: أن ترجيح المرجوح على
الراجح قبيح، ومنه ترجيح الفعل على الترك إذا كان مرجوحا، وأما إذا تساويا فان لم
يكن ترجيح في نوع الفعل: بأن لم لم تترتب فائدة على الفعلين أصلا، يكون قبيحا أيضا، إذ
مرجع ذلك إلى ايجاد الفعل بلا فائدة، وهو قبيح لكونه عبثا. وأما إذا كان المرجح في
النوع ولم يكن في واحد بالخصوص فلابد من التفصيل بين التكوينيات والتشريعيات،
والالتزام بالقبح في الثانية دون الأولى، وذلك لأنه في التشريعات إذا فرضنا قيام المصلحة
بالجامع بين الفعلين أو بكل منهما ولم يكن لأحدهما ترجيح على الاخر، فحيث أن الامر
بالجامع أو أحدهما ممكن لا محذور فيه، كما هو المفروض. فالامر بأحدهما لا وجه له،
لان المصلحة لا تختص به، فالتخصيص قبيح.
وأما في التكوينيات أن اختيار الجامع وايجاده بلا خصوصية محال وما
يوجد لا محالة يكون مع إحدى الخصوصيتين فلا يكون ترجيح أحدهما قبيحا، بداهة
187

أن الجائع يختار أحد القرصين مع عدم مرجح لأحدهما، ولا يعد فعله قبيحا، بل قد يعد
عدم الترجيح قبيحا، كما لو لم يختر أحدهما حتى مات من الجوع.
قانون الوراثة
وقد يستدل للجبروت بقانون الوراثة والعادة:
وتقريب الأول: انه لا اشكال ولا ريب في أن الأوصاف الجسمية والروحية
للأبوين لها تأثير تام في صفات الولد، وهي تكون سببا للفعل ومؤثرة فيه بلا كلام.
ولكنه يندفع: بأن قانون الوراثة لا ينكر وقد أشير إليه في كثير من الروايات، ولذلك
حدد الشارع الأقدس للتزويج حدودا من الطرفين معللة بتأثير روحيات الأبوين في الولد،
الا أنه ليس تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف، وذلك لما نرى بالوجدان أنه ربما يتولد من
الأبوين الخبيثين أولاد طيبون وبالعكس.
وأيضا لو كان تأثير ذلك قطعيا لا يتخلف لكانت التربية لغوا.
أضف إليهما أنا نرى بالوجدان أنه قد يغير الآداب والرسوم في زمان واحد في
مجتمع، وهذا أقوى شاهد على أن الوراثة لا تقدر على اجبار الانسان، مع أن القوانين
المجعولة للأقوام والملل تصلح شاهدة على ذلك.
الاعتياد
وتقريب الثاني: ان العادة من الغرائز الداخلية الارتكازية الموجبة بعد طي مراحلها
الثلاث، لصيرورة الفعل غير اختياري، وقالوا: ان العادة طبيعة ثانوية، وان العادة توجب
كون الفعل غير إرادي.
أقول: ان العادة لا تصلح مانعة عن تسلط الحقيقة الآنية ونظارتها على الغرائز
الداخلية والأعضاء الظاهرية. وصيرورة الفعل غير اختياري فإنها وان كانت توجب عدم
188

التوجه حين الاتيان بالفعل بخصوصياته وعدم تعلق الإرادة التفصيلية المستقلة بكل جزء
من أجزائه ولكنها لا تصير سببا لعدم التمكن من ترك الفعل، وليس معنى اختيارية الفعل
الا ذلك.
الندامة واحساس المسؤولية
وبعدما عرفت من عدم تمامية ما استدل به على الجبر به حيث العوامل الطبيعية
يمكن أن يستدل للاختيار من تلك الناحية بوجوده:
منها انه لا اشكال في أن لكل فرد من أفراد الانسان يجد في نفسه حالة الندامة
وفي غيره آثارها مع التقصير في بعض الأفعال الموجب لتوجه ضرر إليه أو إلى غيره أو
سلب نفع عنه، ولا يجدها مع عدم التقصير كما لو وجد ذلك الفعل من غير اختيار، وليس
ذلك الا من جهة كون الأول اختياريا دون الثاني.
مثلا: إذا لم يقم لمن يلزم احترامه وأنطبق عليه عنوان الهتك والإهانة، فان كان
ذلك عن تقصير تحصل الندامة، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا لم يتوجه إلى
وروده، وهكذا في سائر الأفعال. وهذه آية قطعية على اختيارية بعض الأفعال.
ومنها ان الانسان يحس بالمسؤولية أمام القانون أعم من الإلهي أو الحكومي،
ولو لم يكن هناك اختيار لما كان لذلك وجه، لان العمل غير الاختياري لا يصح
المؤاخذة عليه عقلا.
فان قيل: ان احساس المسؤولية انما هو من جهة جعل الجزاء على العمل، وهو
انما يكون من جهة تأثيره في تبديل العمل. وبعبارة أوضح: ان جعل ذلك انما هو إضافة
عامل داخلي آخر إلى العوامل الداخلية المؤثرة في الإرادة والاختيار جبرا، فلا يكون
ذلك آية كون الاختيار اختياريا.
189

قلنا: ان فرض تأثير هذا الجعل في تغيير مصير الإرادة فرض اختيارية الإرادة، إذ
لولا كونها اختيارية لم يكن يؤثر هذا الجعل في تغييرها.
الاستدلال للجبر بمبدئية الله سبحانه
القسم الثاني ما استدل به للجبر من ناحية ما وراء الطبيعة، وهو أمور:
أحدها أنه قد ثبت في محله أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات وانه مبدأ
الكل ولا مؤثر في الوجود الا هو، ومن جملة الأشياء أفعالنا الاختيارية، فهي مخلوقة لله
سبحانه ابداعا واحداثا، قال الله عز وجل " ذلك الله ربكم خالق كل شئ لا اله الا هو " 1،
وقال سبحانه، " وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم " 2 وقال " ألا له الخلق والامر " 3 فكل
ما يصدق عليه اسم شئ - ومن ذلك الأفعال الاختيارية - فهو مخلوق لله تعالى
منسوب إليه.
أقول: انه كما لا تنافى بين تأثير العلل والأسباب الطبيعية في المعلولات والمسببات
نظير تأثير النار في الحرارة وما شاكل، وبين مبدئيته تعالى بعد كون زمام أمر العلل
والأسباب بيده سبحانه، ولذلك قد يسند القرآن الافعال الطبيعية إلى فواعلها، وقد يسند
الجميع إلى الله سبحانه. كذلك لا تنافى بين كون الفعل الاختياري منسوبا إلى الانسان
وبين استناده إلى الله تعالى بعد كون أصل وجوده وحياته وقدرته حدوثا وبقاءا بإفاضة
من الله.
ولذلك نرى أنه قد جمع في كثير من الآيات بين الاثباتين جميعا، فنسب الفعل إلى
فاعله والى الله سبحانه، كقوله تعالى " والله خلقكم وما تعلمون " 4، فنسب أعمال الناس

1 - سورة المؤمن: 26.
2 - سورة الأنعام: 10.
3 - سورة الأعراف: 53.
4 - سورة الصافات: 95.
190

إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقوله عز وجل " وما رميت إذ رميت
ولكن الله رمى " 1 فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إليه تعالى.
مع أن الآيات المشار إليها انما هي في غير الأفعال الاختيارية، بل فيما يجعل
شريكا لله تعالى من الجن والشمس والقمر وما شاكل ذلك وتدل على أنها بأجمعها
مخلوقة له.
أضعف إلى ذلك أن غاية ما هناك دلالة الآيات على كون جميع الأشياء مخلوقة لله
تعالى، ومنها الأفعال الاختيارية، فيخصص عمومها بالآيات الكثيرة المتضمنة لنسبة
الأفعال الاختيارية إلى العباد البالغة مائة آية، كقوله تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة " 2
وقوله سبحانه " فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسيها " 3
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
بل لو تدبرنا في القرآن الكريم نجد أنه تعالى نسب في ما يقرب من ثلاثمائة آية
العمل والفعل إلى الانسان، وعليه فلا شك في تخصيص الآية الشريفة بها.
الاستدلال للجبر بانتهاء الافعال إلى إرادة الله تعالى
ثانيهما ان أفعال العباد اما أن تكون متعلقة لمشيئة الله وارادته الأزلية، واما أن
لا تكون كذلك. وعلى الأول يجب وجودها وإلا لزم تخلف المراد عن ارادته، وعلى
الثاني يمتنع وجودها، إذ بما أن أفعال العباد من الممكنات وكل ممكن لابد وأن يوجد
بإرادته وإلا لزم التصرف في سلطان المولى، فيمتنع وجودها ان لم تكن ارادته تعالى
متعلقة بها، فجميع أفعال العباد انما توجد بإرادة الله فيجب وجودها وليس للعبد اختيار
في الفعل.

1 - سورة الأنفال: 18.
2 - سورة المدثر: 38.
3 - سورة الشمس: 7 و 8 و 9.
191

توضيح كلام المحقق الخراساني
وأجاب عنه المحقق الخراسان (ره) في الكفاية - بعد ما وجه تكليف العصاة بأن
ارادته تعالى هو العلم بالصلاح، فان كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلى فنفس
هذا العلم من دون حالة منتظرة علة للتكوين، وان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض
الأشخاص لا بحسب النظام التام فهو علة لا علام ذلك الشخص بما هو صلاحه وفيه
المصلحة والمفسدة، وما لا محيص عنه في الأفعال الاختيارية المتعلقة للتكاليف هو
الثاني دون الأول. نعم إذا توافقا لابد من الإطاعة والايمان، وان تخالفا لا محيص عن
اختيار الكفر والعصيان.
وأورد على نفسه: بأنه إذا كان الكفر والعصيان والإطاعة والايمان بإرادة الله تعالى
التكوينية التي لا تتخلف عن المراد، فلا يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن
الاختيار المعتبر فيه عقلا. بما حاصله بتوضيح منا: ان إرادة الله تعالى لو كانت متعلقة بفعل
العبد وان لم يرد لكان ذلك مستلزما للجبر وعدم قدرة العبد وارادته في الفعل
لفرض وجوب صدوره، ففيما اراده العبد من باب الاتفاق يكونان، أي الفعل والإرادة
معلولين لعلة واحدة وهي الإرادة الإلهية. واما ان كانت متعلقة بفعله بما له من المبادئ
المصححة لاختياريته في حد ذاته من القدرة والإرادة والشعور، فلا يستلزم ذلك الجبر،
لفرض عدم تعلق الإرادة بالفعل وان لم يرده العبد بل بماله من المبادئ الاختيارية
أيضا، فلا مجال لدعوى الاختيارية لوجوب الصدور.
ثم أورد على نفسه أيضا: بأن ما ذكر يكفي في صحة التكليف ويخرج بذلك عن
اللغوية. لا أنه يبقى السؤال عن وجه المؤاخذة والعقاب، لان اشكال وجوب الفعل
بإرادة الباري - الذي توهمه الأشعري - يندفع بما ذكر، كما أن اشكال وجوب الفعل
بإرادة الفاعل مندفع بأن ذلك يؤكد إراديته، الا أن اشكال وجوب الإرادة نفسها التي هي
من الممكنات المستندة إلى إرادة الباري الواجبة بالذات الموجبة لعدم اختيارية الفعل
192

المعلول لها لان الجبر على العلة جبر على المعلول، يبقى بحاله. ومعه لا يصح العقاب، لأنه
لا يصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار.
وأجاب عنه: بأن العقاب تابع للكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن
مقدماته الناشئة عن الشقاوة الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما.
وليس مراده بذلك ما احتمله بعض من أن المثوبة والعقوبة من تبعات الافعال
ولوازم الأعمال ونتائج الملكات الفاضلة وآثار الملكات الرذيلة، ومثله هذه العقوبة على
النفس لخطيئتها كالمرض على البدن، المؤيد ذلك بقوله تعالى " هل يجزون الا بما كانوا
يعلمون " 1. وقوله عليه السلام " انما هي أعمالكم ترد إليكم ". لامن جهة منافاة ذلك لظاهر الكتاب والسنة، فإنه يمكن أن يقال: ان المادة حيث
كانت مستعدة فهي مستحقة لإفاضة الصورة المنافرة من الله تعالى، ونسبة التعذيب
والادخال في النار إليه تعالى بملاحظة أن إفاضة تلك الصورة المؤلمة منه تعالى بتوسط
ملائكة العذاب.
بل من جهة أن الجواب لا يناسب مع مبنى الاشكال، وهو أنه كيف يؤاخذ على
مالا ينتهى بالآخرة إلى الاختيار، ولا مع قوله بأنه عقاب على الكفر والعصيان الناشئين
عن الاختيار.
بل الظاهر أن مراده أن العقاب انما هو من معاقب خارجي، غاية الامر يكفي في
صحة المؤاخذة التي يكون استحقاقها بحكم العقل والعقلاء، هذا المقدار من الاختيار
المصحح للتكليف، كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الموالى العرفية ومؤاخذة العبد إذا أمروه
بشئ وخالفه، إذ لو كان الفعل بمجرد استناده إلى الله تعالى غير اختياري وغير صالح
المؤاخذة لما صحت مؤاخذة الموالى العرفية أيضا، وإذا كان الفعل في حد ذاته قابلا
للمؤاخذة عليه لم يكن هناك فرق بن كون المؤاخذة ممن انتهت إليه سلسلة الإرادة أو
غيره. غاية الامر يبقى سؤال، وهو أنه تعالى لم أوجد من سيوجد منه المهلكات، أو لم

1 - سورة الأعراف: 146، وسورة سبا: 32.
193

أوجد نفس مقدمات الاختيار الموجبة لأنواع العقوبات، وهل لا يكون ذلك منافيا
لرحمة رب الأرباب؟
و الظاهر أن قوله " اللازمة لخصوص ذاتهما " الخ، إشارة إلى الجواب عن ذلك.
وجه ايجاد من سيوجد منه المهلكات
وحاصله كما أفاده بعض المحققين يظهر بعد بيان مقدمات: الأولى ان لكل ماهية من الماهيات في حد ذاتها حدا معنيا بحيث لو زيد عليه أو
نقص عنه خرجت عن كونها تلك الماهية. مثلا: ماهية الشجر جوهر ممتد نام، ولو زيد
عليه الحاسبة صار حيوانا، ولو نقص عنه النمو صار جمادا.
الثانية ان لماهية الأشياء نحو وجود في العلم الأزلي الربوبي بتبع العلم
بالوجودات.
الثالثة: ان المجعول بالأصالة هو الوجود والماهية ومجعولة بالتبع والعرض، و
وجدانها لذاتها وذاتياتها ولوازمها غير محتاج إلى جعل وتأثير، ولا يعقل الجعل بين
الشئ ونفسه ولا بينه وبين لوازمه.
الرابعة ان كل ممكن غير متوقف على ممتنع بالذات يجب وجوده، إذ لا نقص في
طرف مبدأ المبادئ ولا في المعلول لفرض امكانه ولا في الوسائط والأسباب لفرض
عدم التوقف على الممتنع بالذات، وغيره يجرى فيه هذا البيان.
إذا عرفت هذه المقدمات يظهر لك أن تفاوت الماهيات في أنفسها ولوازمها
بنفس ذواتها لا يجعل جاعل وتأثير مؤثر، فمنهم شقي ومنهم سعيد بنفس ذاته وما هويته،
حيث أن الماهيات كانت موجودة في العلم الأزلي وطلبت بلسان حال استعدادها الدخول
في دار الوجود، وكان معطى الوجود فياضا بذاته غنيا بنفسه فيجب عليه إفاضة الوجود
ويمتنع عليه الامساك عنه، وحيث إن الجود بمقدار قبول القابل وعلى طبق حال السائل
كانت الإفاضة عدلا وصوابا.
194

فالاعتراض ان كان بالقياس إلى الماهية فهو باطل بأن الشقي شقي فيه حد ذاته
والسعيد سعيد في حد ذاته، وان كان بالإضافة إلى الوجود فيدفعه أو إفاضة الوجود على
وفق قبول القابل عدل وصواب.
ويمكن أن يقال: ان ما في النبوي الشريف مع قطع النظر عما ورد في تفسيره
" الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه " 1 يكون إشارة إلى ذلك،
والاختصاص ببطن الام اما لأنه أول النشئات الوجودية عند الجمهور، أو أن المراد
بالبطن مكنون الماهية، واطلاق الام على الماهية بلحاظ جهة قبولها كما أطلق الأب على
الله تعالى في بعض الكتب السماوية بلحاظ جهة فاعليته.
الموجب لاختيار الله تعالى العقاب
ويبقى السؤال عن أنه: ما الموجب لاختيار الله تعالى العقاب بعد استحالة التشقي
في حقه؟
ويمكن الجواب عنه بوجهين:
أحدهما ما عن جماعة من الأساطين منهم الشيخ الرئيس والمحقق الأصفهاني (ره)
وهو أن التعذيب من باب تصديق التخويف والايفاء بالوعيد الواجبين في الحكمة الإلهية،
فان اختلاف الميعاد مناف للحكمة وموجب لعدم ارتداع النفوس من التوعيد.
قلنا: ان وجهه حفظ النظام، والحكيم يراعى المصلحة العامة الكلية، فكما لولا
تخويف من يرتدع حقيقة بالردع لما ارتدع فلم يبق نظام الكل محفوظا كذلك لو احتمل
المجرم بما هو مجرم أنه يا يعذب، فعموم التخويف له دخل في حفظ النظام الذي لا أتم

1 - التوحيد للصدوق ص 356 من طبعة طهران باب السعادة والشقاوة، والبحار الجزء
الخامس ص 9 طبعة طهران رواه عن تفسير على بن إبراهيم.
195

منه نظام.
ثانيهما ان استحقاق العقاب انما هو بحكم العقل، من جهة أن العصيان والمخالفة
خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، وهو ظلم والظالم يستحق العقاب.
هذا كله فيما يرجع إلى شرح مطالب الكفاية، وانما أطلنا الكلام في ذلك دفعا
للشبهة المغروسة في أذهان الأكثر من أن المحقق الخراساني يصرح بالجبر.
ومع ذلك ففي كلامه مواقع للنظر يظهر عند بيان المختار في الجواب عن هذا
الوجه.
إرادة الله تعالى على فسمين
وحاصله يبتنى على بيان أمور:
الأول ان إرادة الله تعالى على قسمين التكوينية والتشريعية، والمراد بالأولى هو
فعله تعالى واحداثه وخلقه كما نطقت بذلك النصوص الكثيرة.
لا حظ صحيح صفوان بن يحيى قلت لأبي الحسن عليه السلام: أخبرني عن
الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال (ع): الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك
من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته احداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروى ولا يهم ولا يتفكر،
وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله لا غير ذلك، يقوله له كن
فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له 1
ونحوه غيره.
والمراد بالإرادة التشريعية جعل الاحكام، وبما ذكرناه يظهر أن ما أفاده
المحقق الخراساني (قده) تبعا للحكماء والفلاسفة من تفسير إرادة الله تعالى بالعلم في غير
محله، فان العلم عين ذاته تعالى والإرادة فعله واحداثه، وبينهما بون بعيد.

1 - أصول الكافي 1 / 109 باب ان الإرادة من صفات الفعل، من طبعة طهران.
196

وأضعف من ذلك ما عن جماعة منهم، من ارجاع الإرادة في الله تعالى إلى العلم
مفهوما، مع أنه لو أغمض عما ذكرناه وسلم كونها عين ذاته، ما استدلوا به على تغاير
العلم و القدرة والحياة في الله سبحانه، يجرى في الإرادة أيضا. والوجدان أقوى شاهد
على التغاير، فان قولنا " الله عالم " و " الله مريد " ليسا من قبيل المترادفين نظير " زيد انسان "
و " زيد بشر " بل الضرورة قاضية بأنه بفهم من كملة " الله عالم " شئ " ومن كلمة " الله مريد "
شئ آخر.
وأيضا قاضية بأن الاعتقاد بان الله تعالى عالم ليس اعتقادا بأنه مريد، والبرهان على
كونه عالما لا يكون برهانا على أنه مريد. نعم لو التزمنا بثبوت إرادة ذاتية فيه سبحانه وراء
لإرادة في مرتبة فعله، لا مصداق له فيه سوى علمه تعالى، ولكن لا دليل على ثبوتها.
إرادة الله من صفات الفعل
الامر الثاني ان إرادة الله تعالى من صفات الفعل لامن الصفات الذاتية، وذلك
لوجوه: الأول انطباق ما ذكرناه ضابطا لصفات الفعل من اتصافه بما يقابلها أيضا على
ارادته، ويقال: ان الله تعالى مريد لو لوجود الانسان وغير مريد لوجود العنقاء.
الثاني ان وجود الموجودات ليس كمالا له تعالى حتى تكون إرادة وجودها من
الصفات الكمالية الذاتية.
الثالث تطابق الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام على ذلك.
لا حظ صحيح عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت قال لم يزل الله
مريدا. قال (ع): ان المريد لا يكون الا المراد معه، لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد 1. وهذا
الخبر صريح في أن ارادته ليست من الصفات الذاتية.

1 - أصول الكافي 1 / 109.
197

وصحيح محمد بن مسلم عنه عليه السلام: المشيئة محدثة 1. ونحوهما غيرهما.
أفعال العباد غير متعلقة لإرادة الله تعالى
الثالث ان ارادته تعالى لو كانت من الصفات الذاتية كالعلم والقدرة لكانت متعلقة
بجميع الممكنات، ومنها أفعالنا لان الصفات الذاتية المتحدة مع الذات متعلقة بالجميع،
والا فلو لم تكن متعلقة ببعض الممكنات لصح سلبها عنه تعالى بالإضافة إليه. وقد تقدم
أن الصفات الذاتية لا يمكن سلبها عنه.
ولكن بعد ما عرفت من أنها من صفات الفعل، فاعلم أن متعلقها الأعيان الخارجية
وأفعاله، وأما أفعال العباد فلا تكون متعلقة لإرادته تعالى وان كان فيض الوجود والقدرة
وساير المبادئ من قبل الله تبارك وتعالى، بل موحد فعل العبد هو النفس بوساطة اعمال
القدرة بلا دخل لإرادته فيه، فلا تكون أفعال العباد متعلقة لإرادته حتى يلزم الجبر.
ولأئمتنا الأطهار عليهم الصلاة والسلام كلمات في هذا الموضوع تشير إلى ما
ذكرناه:
منها ما رواه المحقق المجلسي عن امامنا الهادي عليه السلام أنه سئل عن أفعال
العباد أهي مخلوقة الله؟ فقال: لو كان خالقا لها لما تبرأ منها 2.
ومنها خبر صالح النيلي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: ولكن حين كفر
كان في إرادة الله تعالى أن يكفر، وهم في إرادة الله وفي عمله أن لا يصيروا إلى شئ من
الخير. قلت: أراد منهم ان يكفروا؟ قال عليه السلام: ليس هكذا أقول، ولكني أقول علم
أنهم سيكفرون 3. ونحوهما غيرهما. وعلى الجملة كون إرادة الله تعالى من الصفات
الفعلية وعدم تعلقها بأفعال العباد الاختيارية، ينبغي أن يعد من الأمور المسلمة.

1 - أصول الكافي 1 / 110 من طبعة طهران.
2 - البحار، الجزء الخامس ص 20، من طبعة طهران.
3 - أصول الكافي 1 / 162 من طبعة طهران، باب الاستطاعة.
198

وما عن المتكلمين من النزاع والجدال في أن ارادته تعالى حادثة أم قديمة، يبتنى
على أن يكون المراد من الإرادة هو الشوق. ولكن بعد ما عرفت من أن الإرادة عبارة عن
اعمال القدرة، فكل ما قيل في هذا المقام في غير محله، إذ على ذلك لا ريب في أنها
حادثة مخلوقة له.
فان قلت: ان ارادته تعالى وان لم تكن متعلقة بفعل العبد الا أن إرادة العبد بما أنها
خارجة عن تحت قدرته فهي معلولة لإرادته تعالى وموجودة بايجاده، فتكون ارادته علة
لعلة الفعل، فتكون العلة واجبة الصدور وإلا لزم تخلف مراده عن ارادته، فالفعل أيضا
يكون واجب الصدور، لان الجبر على العلة جبر على المعلول.
توجه عليك ما تقدم مفصلا من أن الاختيار فعل النفس. وهي موجدة له واختياري
بنفس ذاته، فلا تكون إرادة العبد متعلقة لإرادة الله.
إذا تبينت لك هذه الأمور انكشف جليا دفع هذا الوجه، فان إرادة الله تعالى
لا تكون متعلقة بأفعال العباد ليلزم وجودها ولا يلزم من وجودها من دون تعلق ارادته به
التصرف في سلطان المولى، بعد كون المبادئ بأجمعها تحت اختياره وقدرته كما مر،
فلا جبر.
الآيات التي استدل بها
على تعلق إرادة الله تعالى بالافعال
وقد يقال: ان في القرآن الكريم قد انتسب الإرادة ومشتقاتها في ثلاث وأربعين
آية إلى الله تعالى، وعلى ذلك فهي متعلقة بأفعال العباد وارادته لا تتخلف عن المراد،
فيعود محذور الجبر.
ولكن يرد عليه أن تلك الآيات على طوائف:
الأولى الآيات الدالة على عدم تخلف المراد عن ارادته، نظير قوله تعالى " انما امره
199

إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون " 1، وقوله عز وجل " قل فمن يملك من الله شيئا ان
أرد بكم ضرا أو أرد بكم نفعا " 2.
وهذه الطائفة لا تعين ما تتعلق به الإرادة، بل تدل على أنه ان تعلقت ارادته بشئ
يتحقق ذلك الشئ. وهذا مما لا كلام فيه ولا نزاع حوله.
الثانية الآيات المتضمنة لجعل إرادة الانسان موردا لإرادة الله تعالى، كقوله
سبحان " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها
مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم
مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا 3.
وهذه الطائفة لا تدل على تعلق إرادة الله بالفعل الاختياري، بل تدل على أن
الانسان مختار في كل ما يريد ولا يكون مجبورا فيه، غاية الأمران الله تعالى يمد الفاعل
المختار أيا ما أراد باعطاء الوجود والقدرة وسائر مبادئ الفعل، فهذه الطائفة تدل على
الاختيار دون الجبر.
الثالثة ما يدل على أن الله تعالى لا يريد الظلم، نظير قوله سبحانه " وما ما الله يريد ظلما
العالمين " 4.
وعدم دلالة هذه على المدعى واضح. نعم ان كان للوصف واللقب مفهوم لكانت
دالة على إرادة غير الظلم.
الرابعة ما دل على تعلق ارادته باليسر، كقوله تعالى " يريد الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر " 5.
وهذه الطائفة دالة التشريعية باليسر دون العسر، وقد مر أنها

1 - سورة يس: 82.
2 - سورة الفتح: 11.
3 - سورة الإسراء: 18 و 19 و 20.
4 - سورة آل عمران: 108.
5 - سورة البقرة: 185.
200

تتخلف عن المراد.
وأما الآية الكريمة " ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد
أن يغويكم هو ربكم واليه ترجعون " 1 التي توهم دلالتها على ذلك، بتقريب انها تدل على
أن عدم ايمان قوم نوح عليه السلام انما كان من جهة إرادة الله تعالى المتعلقة بأفعالهم.
فيرد على الاستدلال بها: الغى ليس بمعنى الضلالة، بل من المحتل إرادة
اليأس أو العقاب منه. وعلى الأول تدل الآية على أن اليأس الذي هو نتيجة أفعالهم
الاختيارية مورد لإرادة الله تعالى، وإرادة النتيجة غير إرادة الفعل وبه يظهر ما فيه
على الثاني، مع أنه لو كان بمعنى الضلالة يرد على الاستدلال بها ما سيأتي في الآيات التي
نسب فيها الضلال إلى الله.
وأما الآية الشريفة " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين
لا مؤمنون " 2.
فذيلها قرينة على أن جعل الله تعالى صدره ضيقا انما هو من جهة أن الكافر لم
يؤمن باختياره، فيكون سبيل الآية الكريمة سبيل النصوص الكثيرة الدالة على أن العبد
ربما يكون مخذولا ومحروما من عناية الله تعالى بسبب ارتكابه بعض المعاصي، كما أنه
ربما يكون موفقا بالحسنات والخيرات بواسطة التزامه ببعض الخيرات والحسنات
فبعضها يكون معدا للاخر ويعطى القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته، وإذا ثبت ذلك
في الضلالة ثبت في الهداية أيضا.
المشيئة الإلهية وافعال العباد
ولا يخفى أن كثير من الآيات الكريمة تضمنت للمشيئة الإلهية، واستدل بها تارة

1 - سورة هود: 34.
2 - سورة الأنعام: 152.
201

لكون أفعال العباد الاختيارية متعلقة لها، فلابد من وجودها لاتحاد الإرادة والمشيئة،
وأخرى للحبر، كقوله تعالى " وما تشاؤن الا أن يشاء الله " 1، وقوله سبحانه " قل الله يضل
من يشاء ويهدى إليه من أناب " وقوله عز وجل " لله ما في السماوات وما في الأرض وان
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " 3،
وقوله تعالى " لتدخلن المسجد الحرام انشاء الله آمنين محلقين رؤوسكم " 4، وقوله سبحانه
" ستجدني انشاء الله صابرا " 5، وقوله تعالى " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ما شاء
الله " 6، وقوله عز وجل " لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " 7، وقوله تعالى " ولا تقولن لشئ
انى فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله " 8 إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة للمشيئة البالغة
مائتي آية.
ولكن لأدلة في شئ منها على ما استدل بها له.
أما الآية الأولى وما بمضمونها، فلان صدرها متضمن لبيان أن القرآن يكون
هاديا وان الانسان يكون متمكنا من الهداية إلى الحق بواسطته، ولكن الضالين لا يشاؤن
هذه الهداية بسوء اختيارهم. فهي بقرينته تدل على أن الله تعالى لو شاء أن يجبرهم على
أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا كان له ذلك، ولكنه لم يشأ لان دار الدنيا دار الأسباب
والاختيار، بل جعل ذلك تحت اختيارهم ومشيئتهم.
ويمكن أن يقال: ان المراد بها " ما تشاؤن الاسلام الا أن يشاء الله أن يلطف لكم
في الاستقامة "، لما في الكلام من معنى النعمة.

1 - سورة الانسان: 30، وسورة التكوير: 28.
2 - سورة الرعد: 27.
3 - سورة البقرة: 284.
4 - سورة الفتح: 27.
5 - سورة الكهف: 96.
6 - سورة يونس: 49.
7 - سورة الرعد: 31.
8 - سورة الكهف: 24.
202

وأما الآية الثانية وما بمضمونها نظير قوله تعالى " والله يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم " 1، وقوله سبحانه " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء " 2، وقوله " انك
لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " 3 إلى غير ذلك من الآيات، فهي تدل على
أن الهداية الخاصة وكذا ما يقابلها مختصة بطائفة خاصة.
توضيحه: ان الهداية هي الارشاد والدلالة، والهدى ضد الضلال، والهداية من
الله تعالى على قسمين عامة وخاصة، والأولى قد تكون تكوينية وقد تكون تشريعية.
والهداية العامة التكوينية ما أعدها الله تعالى في طبيعة كل موجود، فهي تسرى
بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، الفارة تفر من الهرة ولا تفر من الشاة، والنمل يهتدى
إلى تشكيل جمعية وحكومة، والطفل يهتدى إلى ثدي أمه. وهكذا، قال " ربنا الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " 4.
والهداية التشريعية العامة هي إفاضة العقل على الانسان العقل على الانسان ثم ارسال الرسل وانزال
الكتب.
وأما الهداية الخاصة فهي عناية ربانية خص الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه
حكمته، فيهئ له ما به يهتدى إلى كماله ويصل إلى المقصودة، ولولا تسديده لوقع في
الغى والضلالة، ومع ذلك لا يكون مجبورا في ذلك.
وفي أمثال هذه الآية أشير نكته لطيفة، وهي الرد على القائلين باله الخير واله
الشر، أي المجوس الملتزمين بأن وسائل الشر انما تكون متحققة بايجاد اله الشر وان الله
تعالى لا يهئ تلك الوسائل، وتدل على أن الأسباب كلها من الله تعالى.
وأما الآية الثالثة وما بمضمونها فإنما تدل على أن جميع الأفعال واقعة تحت
المحاسبة، سواء أكانت ظاهرة أم لا، غاية الامر الله تعالى أن يغفر لمن يشاء.

1 - سورة البقرة: 212.
2 - سورة الأنعام: 144.
3 - سورة العنكبوت: 69.
4 - سورة طه: 50.
203

وأما الرابعة والخامسة وما بمضمونهما من الآيات فغاية ما تدل عليه أنه حيث
يحتمل من يريد أن يعمل عملا أن يحدث ما يمنع عنه، فعليه أن يتوجه إلى الله تعالى
ويسأله أن تكون الحوادث بنحو لا تمنعه عما يريد.
وأما السادسة وما بمضمونها فملخص القول فيها ان المراد بالنفع والضرر ان كان
هو الطبيعي منهما فعدم ارتباطها بالمقام ظاهر، وان كان ما ينشأ عن عدم العمل بالوظائف
فكونه منوطا بمشيئة الله تعالى انما هو من جهة كون جعل الوظيفة وبيانها على الله تعالى.
وبما ذكرناه في الآيات السابقة يظهر ما في السابعة والثامنة.
الاستدلال للجبر بعلم الله تعالى
ثالثها ان الثابت في محله أن علمه تعالى متعلق بجميع الموجودات ولم يخرج
شئ عن تحت علمه، ومنها أفعالنا، فكل ما يصدر منا متعلق لعلمه فيجب وجوده وإلا لزم
كون عمله تعالى جهلا. وان شئت قلت: انه لتعلق علمه بالفعل لابد وأن يوجد الفعل
جبرا، أو يتبدل علمه بالجهل، وحيث أن الثاني محال فيتعين الأول.
ويتضح الجواب عن ذلك ببيان أمور:
الأول ان علمه تعالى لا يكون متعلقا بأفعالنا فقط، بل هو متعلق بها وبمقدماتها،
وإلا لزم كون علمه محدودا واتصافه بمقابل العلم وهذا ينافي كون العلم من الصفات
الذاتية. وحيث إن من مقدمات الفعل الاختياري الاختيار والإرادة، فيكون عالما بصدور
الفعل عن الاختيار. ولو التزاما بالجبر ولزوم صدور الفعل لزم انقلاب علمه جهلا، إذ
المعلوم كون الفعل صادرا عن الاختيار، والواقع صدوره جبرا.
الثاني أن علمه تعالى ليس علة للفعل، كما أن علمنا بأنا سنفعل كذا لا يكون هذا
العلم علة لذلك الفعل، فان حقيقة العلم هو انكشاف الواقع على ما هو عليه ولا ربط لذلك
بصدور ذلك الفعل ليكون علة له.
وأيضا فلو كان علمه علة لم يكن هناك حاجة إلى الإرادة، وقد قال الله تعالى
204

" وانما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " 1 وفي غير ذلك من الآيات والروايات
جعلت الإرادة غير العلم، وقد تقدمت. وقد عرفت أن تفسير جماعة ارادته
تعالى بعلمه غلط واشتباه مناف للاخبار والآيات.
فان قيل: ما معنى تصريح كثير من الفلاسفة بأن علمه تعالى فعلى لا
انفعالي، بعد كون طاهره أن علمه ليس تابعا للمعلوم بل المعلوم تابع له؟
قلنا: ان مرادهم بذلك أن العلم تارة يطلق ويراد منه نفس الإضافة
المتأخرة عن وجود الطرفين التي هي المضاف الحقيقي، وأخرى يطلق
ويراد منه مبدأ تلك الإضافة. والعلم بالمعنى الأول ليس من الصفات
الذاتية له تعالى والا يلزم أن يكون لغير ذاته مدخلية في كمال ذاته، وهو
مستلزم لمدخلية غيره في ذاته، وهو ضروري البطلان، بل العلم بالمعنى
الثاني، أي مبدأ تلك الإضافة الخاصة كمال له وعين ذاته، فعلمه بمعنى
ما هو مبدأ العالمية.
أو المراد أن علمه بما أنه من الصفات الذاتية متحد مع ذاته،
وحيث أن ذاته مبدأ لجميع الموجودات حتى أفعال العباد لان مبادئها من
قبل الله تعالى، فكذلك علمه المتحد مع ذاته، فليس معنى فعلية علمه كونه
علة لجميع الموجودات. وحيث أن ذاته لا تكون علة لافعال العباد بل
الموجد لها هو العبد، فكذلك علمه المتحد مع ذاته.
الثالث أن علمه تعالى كما يكون متعلقا بأفعال العباد كذلك يكون
متعلقا بأفعاله، فلو كان علة لزم الالتزام بالجبر حتى في أفعاله سبحانه.
الاستدلال للجبر بسلطنة الله تعالى
رابعها أن اثبات القدرة للعبد واسناد الفعل إليه استقلالا أو مع الله والالتزام بأنه

1 - سورة يس: 82.
205

الموجد يستلزم ثبوت الشريك له، فلابد من الالتزام بالجبر حفظا لسلطنة الله وأنه
المتصرف الوحيد.
وفيه: ان ذلك انما يلزم لو كان للعبد استقلال ووجود وقدره بنفسه، وأما مع
التزامه بأنه محتاج في وجوده وقدرته وسائر مبادئ الفعل بل بالنظر الدقيق هو كسائر
الموجودات عين الحاجة لا شئ محتاج، فلا يلزم من اسناد الفعل إلى العبد حقيقة عزل
الله تعالى عن ملكه أو تصرف الغير في سلطانه، كيف هو وقدرته وجميع شؤونه موجودة
بايجاده. ولنمثل لتقريب ذلك مثالا وان كان دون ما نحن فيه بكثير، وهو: أن الغنى القادر
القوى لو أعطى الضعيف وأغنى الفقير، وهو قادر في كل حين على سلبه وابقائه، هل
يتوهم أحد أن يعد الضعيف شريكا للقوى؟ كلا.
وبهذا الذي ذكرناه أخبر المؤمنين عليه السلام عباية الأسدي حين سأله عن
الاستطاعة التي يقوم بها يقعد ويفعل ويترك. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أسألك
عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين (ع):
قل يا عباية. وما أقول؟ قال: ان قلت انك تملكها من دون الله قتلتك، وان قلت
تملكها مع الله قتلتك. قال: فما أقول؟ قال: تقول انك تملكها بالله الذي يملكها من دونك
- الحديث 1.
فانظر إلى هذا الحديث كيف كشف الغطاء ولم يدع على هذه الحقيقة من ستار.
الاستدلال للجبر باسناد الاضلال إلى الله تعالى
خامسها انه قد نسب الاضلال إلى الله تعال في كثير من الآيات، قال الله تعالى

1 - نقله الإمام أبو الحسن الثالث عليه السلام في رسالته إلى أهل الأهواز
على ما رواها في البحار 5 / 75 من طبعة طهران.
206

" فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء " 1، وقال عز وجل " قل الله يضل من يشاء ويهدى
إليه من أناب " 2 وقال سبحانه " ومن يرد فتدل هذه الآيات على أنه تعالى خالق الضلال
والكفر في العبيد، فيصدهم عن الايمان ويحول بينهم وبينه. وربما قالوا: ان هذا هو حقيقة
اللفظ بحسب اللغة، لان الاضلال عبارة عن جعل الشئ ضالا، كما أن الاخراج
والادخال عبارتان عن جعل الشئ خارجا وداخلا.
وأورد العدلية على ذلك بوجوه:
الأول انه لا يقال لمن صد الطريق أنه أضله بل يقال منعه، وانما يقال أضله إذا
أغواه.
الثاني ان الله تعالى وصف الشيطان وفرعون وأمثالهما بالاضلال، ومعلوم أنهم
ليسوا خالقين للضلال في قلب أحد، قال الله تعالى " انه عدو مضل مبين " 4، وقال " وأضل
فرعون قومه وما هدى " 5.
الثالث ان ذلك يضاد كثيرا من الآيات، كقوله تعالى " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ
جائهم الهدى " 6 وقوله سبحانه " فما لهم عن التذكرة معرضين " 7، وقوله عز وجل " أنى
يصرفون " 8، إلى غير ذلك من الآيات.
الرابع ان الله تعالى ذم إبليس ومن سلك سبيله في الاضلال والاغواء وأمر

1 - سورة إبراهيم: 4.
2 - سورة الرعد: 27.
3 - سورة الأنعام: 125.
4 - سورة القصص: 5.
5 - سورة طه: 79.
6 - سورة الإسراء: 94.
7 - سورة المدثر: 49.
8 - سورة غافر: 69.
207

بالاستعاذة منهم، قال سبحانه " قل أعوذ برب الناس * من شر الوسواس الخناس " 1، وقال
" وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين " 2، وقال " ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب أليم " 3، وقال سبحانه " وأضل فرعون قومه وما هدى " 4، فلو كان الله تعالى
هو المضل الحقيقي فيكف ذمهم عليه. وأيضا لو جبت الاستعاذة منه كما وجبت منهم،
ولاستحق المذمة كما استحقوا، ولوجب أن يتخذوه عدوا كما وجب اتخاذ إبليس
عدوا.
الخامس انه عز وجل في كثير من الآيات نسب الضلال إلى العصاة، كما في قوله
تعالى " وما يضل به الا الفاسقين " 5، وقوله سبحانه " يضل الله من هو مسرف مرتاب " 6، فلو
كان المراد بالضلال هو ما هم فيه لزم منه تحصيل الحاصل وهو محال: وأيضا فأمثال
هذه الآيات صريحة في أنه يفعل بهم الاضلال بعد فسقهم، فيكون مغايرا له.
السادس انه تعالى يذكر هذا الضلال جزاءا لهم على سوء فعلهم وعقوبة عليه، فلو
كان المراد ما هم عليه لكان ذلك تهديدا لهم بشئ هم عليه مقبلون وبه متلذذون.
ولذلك كله ذهب العدلية إلى أنه يجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل:
الأول - أن يحمل الاضلال على الاضلال عن الجنة.
الثاني - أن يحمل الاضلال على الهلاك والابطال، كقوله تعالى " الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم " 7، وقوله تعالى " وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي
خلق جديد " 8.

1 - سورة الناس: 1 و 4.
2 - سورة المؤمنون: 97.
3 - سورة ص: 26.
4 - سورة طه: 72.
5 - سورة البقرة: 26.
6 - سورة غافر: 34.
7 - سورة محمد (ص): 1.
8 - سورة السجدة: 10.
208

الثالث - أن الضلال والاضلال هو العقاب والتعذيب، كما في قوله تعالى " ان
المجرمين في ضلال وسعر " 1.
الربع - أن يكون الاضلال هو التخلية وترك المنع، فيقال أضل فلان ابنه إذا لم
يتعاهده بالتأديب.
ويؤيده ما عن العيون عن الإمام الرضا عليه السلام في قوله تعالى " وتركهم في ظلمات
لا يبصرون "، قال: ان الله تعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، لكنه متى علم أنهم
لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم.
وقريب منه غيره.
الخامس - وهو أحسن الوجوه، انه إذا ضل الانسان باختياره عند حضور شئ من
دون أن يكنون ذلك علة لضلاله بل غايته كونه من مقدماته البعيدة وعلله المعدة، يقال انه
أضله، قال الله تعالى في حق الأصنام " رب انهن أضللن كثيرا من الناس " 2، أي ضلوا بهن،
وقال " ولا يغوث ونسرا وقد أضلوا كثيرا " 3، أي ضل بهم كثير من الناس.
والاضلال بهذا المعنى منسوب إلى الله تعالى نظرا إلى أن الأفعال الاختيارية
الصادرة عن الإنسان لها مبادئ خارجة عن دائرة اختياره، كوجود الانسان وحياته و
ادراكه للفعل وشوقه إليه، وملائمة ذلك الفعل لقوة من قواه وقدرته على ايجاده، وتلك
المبادئ موجدها هو موجد الانسان نفسه، وقد ثبت في محله أن بقاء الأشياء
واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن. وعلى هذا فالكفر والفسق إذا صدرا
عن العبد باختياره بما أن مبادئهما من قبل الله تعالى فلذلك. يصح أن ينسبا إليه تعالى.
وبذلك يظهر الجواب عما أورد على القرآن المجيد بأنه: قد يسند الفعل إلى العبد
واختياره، وقد يسند الافعال إلى الله تعالى، وهذا تناقض واضح.

1 - سورة القمر: 84.
2 - سورة إبراهيم: 40.
3 - سورة نوح: 23.
209

كلام العارف الشيرازي في معنى الاضلال
وللعارف الصدر الشيرازي كلام في توجيه نسبة الاضلال إلى الله تعالى لا بأس
بنقله ملخصا، لاشتماله على مطالب دقيقة:
قال: ان الله تعالى متجل للخلق بجميع صفات كماله وأسمائه ومفيض على عباده
وعوالمه بكل نعوت جماله وجلاله، فالأول ما تجلى في ذاته لذاته، فظهر من تجليه عالم
أسمائه وصفاته، فهي أول حجب الأحدية، ثم تجلى بها على عالم الجبروت، فحصلت
من تجليه أنوار عقلية وملائكة مهيمنة قدسية، وهي سرادقات جبروتية ثم تجلى من خلق
تلك الأنوار على العالم الملكوت الاعلى والأسفل ثم على أشباحها الغيبية والمثالية، ثم
على عالم الطبيعة السماوية والأرضية.
ولكل من هذه العوالم والحضرات منازل وطبقات متفاوتة، وكلما وقع النزول
أكثر قلت هذه الأنوار الأحدية بكثرة هذه الحجب الامكانية، وتراكمت النقائص
والشرور بمصادمات الاعدام. أو لا ترى أن كلا من الصفات السبعة الإلهية التي هي أئمة
سائر الصفات برية من النقصان و الامكان والكثرة والحدثان.
ثم إذا وقعت ظلالها في هذا العالم الأدنى حجبتها الآفات والشرور ولزمتها
الاعدام والنقائص، فإذا ارتفعت عن عالم الأجسام زالت عنها تلك النقائص والشرور
ورجعت إلى إقليم الوحدة.
ثم زعم أن هذا هو معنى الامر بين الامرين من الجبر والقدر، وهو أن النقائص
والقصورات اللازمة في هذا العالم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحق تارة والى الخلق،
أخرى انما نشأت ولزمت من خصوصية هذا الموطن فعادت إلينا لا إلى الصفة الإلهية،
وهو معنى قوله تعالى في الحديث القدسي " أنت أولى بسيئاتك منى "، ومعنى قوله " لا
أسأل عما أفعل " أن الافعال الصادرة منه بلا واسطة وكذا الصفات الإلهية الثابتة له في
مقام التوحيد قبل عالم الكثرة ليس فيها شائبة النقص والقبح حتى يرد فيها السؤال، لان
210

عالم الألوهية كله نور وكمال.
ثم نقل عن بعض أصحاب القلوب، والظاهر أنه ابن العربي، أنه ذكر تقريبا للطبائع
والافهام وتسهيلا لفهم التوحيد الافعالي على العقول فيما يضاف إلى الجمادات
والاعجام، فان الحجاب عن ادراك هذا التحقيق أمران: أحدهما اختيار الانسان
والحيوان، وثانيهما ما ينسب إلى الجمادات وسائر الأجرام.
اما الأول - فان نسبة إرادة الانسان إلى مشيئة الله تعالى كنسبة ادراك الحواس إلى
ادراك العقل، كما في قوله تعالى " وما تشاؤن الا أن يشاء الله " 1، ونسبة مصادير أفعالها
من الأبدان والأعضاء كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو أمير الجوارح، كما دل عليه
قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم " 2 " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " 3، وقوله تعالى " وما
رميت إذ رميت ولكن الله رمى " 4.
وأما الثاني فقد انكشف لدى البصائر المستنيرة أن الشمس والقمر والغيم والمطر
والأرض وكل حيوان وجماد مسخرات بأمره تعالى ومقبوضات بقبض قدرته، كالقلم
الذي هو مسخر للكاتب وعلمه وارادته وقدرته وقوته التي في عصبه وإصبعه، كما أن
علمه ومشيئته واردتان من خزائن غيب الملكوت، وكتابة قلم اللاهوت على ترتيب ونظام
وتقدم وتأخر من الأعلى فالأعلى إلى الأدنى حتى انتهى أثر القدرة من إحدى حاشيتي
الوجود إلى الأخرى من القلم الاعلى إلى القصب الأدنى. وهذا مما يشاهده من انشرح
صدره بنور الله ويسمع بسمعه المنور من يدرك ويفهم تسبيح الجمادات وتقديسها
وشهادتها على أنفسها بالعجز والسخرية بلسان ذلق أنطقها الله به الذي أنطق كل شئ بلا
حرف وصوت مالا يسمعه، الذين هم عن السمع لمعزولون.
فقال بعض الناظرين من هذا المشكاة للكاغذ وقد رآه اسود وجهه: لم تسود

1 - سورة الدهر: 30.
2 - سورة الفتح: 11.
3 - سورة التوبة: 14.
4 - سورة الأنفال: 18.
211

وجهك وتشويق بياضك بهذا السواد؟ فقال بلسان الحال: سلوا هذا المداد الذي ورد على
وغير هيئتي وجلبتي. فقال للمداد: لم فعلت ذلك؟ فقال: كنت مستقرا في قعر الدواة
لا صعود لي بنفسي عن ذلك القعر فوردت على قضبة تسمى القلم فرقاني من مقعدي،
ولولا نزوله ما كان لي صعود. فقال للقلم: لم فعلت ذلك؟ فقال: كنت قصبا ثابتا في بعض
البقاع لا حركة منى ولا سعى فورد على قهرمان سكين بيد قاطع فقطعني عن أصلى ومزق
علي ثيابي وشق رأسي ثم غمسني في سواد الحبر ومرارته. فقال للسكين: لم فعلت؟
فأشارت إلى اليد، فاعترض عليها فقالت: ما أنا إلا لحم ودم وعظم حركني فارس يقال له
القدرة فاسألها. فلما سألها عن ظلمها وتعديها على اليد أشارت إلى الإرادة، فقال لها: ما
الذي قواك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة؟ فقالت: لا تعجل لعل لنا عذرا وأنت تلوم،
فانى ما انبعثت بنفسي ولكن بعثني حكم حاكم وأمر جازم من حضرة القلب وهو رسول
العلم على لسان العقل بالاشخاص للقدرة والالتزام لها في الفعل، فانى مسكين مسخر
تحت قهر العلم والعقل فلا أدرى بأي جرم سخرت لهما وألزمت لهما الطاعة، ولكني
أدري أن تسخيري إياها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم، فأقبل على العلم والعقل
والقلب طالبا ومعاتبا إياهم على سبب استنهاض الإرادة وانهاضها للقدرة. فقال العقل: أما
انا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكن أشعلت وقال القلب: اما أنا فلوح ما انبسطت ولكن
بسطت وما انتشرت ولكن نشرني من بيده نشر الصحائف، اما العلم فقال: انما انا نقش
في منقوش وصورة في بياض لوح القلب لما أشرق العقل وما انحططت بنفسي فكم كان
هذا اللوح قبلي خاليا فاسأل القلم عنى واسأله عن هذا. فرجع إلى القلم تارة أخرى بعد
قطع هذه المنازل والبوادي وسير هذه المراحل والمقامات، فوقع في الحيرة حيث لم
يعلم قلما الا من القصب ولا لوحا الا من العظم والخشب ولا خطا الا بالحبر ولا سراجا
الا من النار، وكان يسمع في هذا المنزل هذه الأسامي ولا يشاهد شيئا من مسماها، فقال
له العلم: زادك قليل وبضاعتك مزجاة ومركبك ضعيف، فالصواب لك أن تؤمن بهذه
المسميات ايمانا بالغيب وتنصرف وتدع ما أنت فيه.
فلما سمع السالك ذلك استشعر قصور نفسه فاشتعل قلبه نارا من حدة غضبه على
212

نفسه لما رآه بعين النقص، ولقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضئ ولو لم تمسسه نار
لقوة استعداد كبريائيته في مادته، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتغل زيته فأصبح نورا على
نور فقال له العلم: اغتنم الفرصة وافتح بصرك فلعلك تجد على هذه النار هدى. ففتح
بصره فرأى القلم الإلهي كما سمع نعته من العلم أنه ليس من قصب ولا خشب ولا له
رأس وذنب، وهو يكتب على الدوام في صحائف قلوب الأنام أصناف العلوم والحقائق،
وكان له في كل قلب رأس ولا رأس له، فقضى منه العجب فودع عند هذا العلم وشكره
وقال: لقد طال مقامي عندك وأنا عازم على السفر إلى حضرة القلم.
فلما جاءه وقص عليه القصص وسأله ما بالك تخط على الدوام في القلوب من
العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدرة وصرفها إلى المقدورات؟ فقال: لقد
نسيت ما رأيت في عالم الملك وسمعته من جواب القلم عن سؤالك. قال: لم أنس. فقال:
جوابي مثل جوابه لتطابق عالمي الملك والملكوت، أما سمعت أن الله تعال خلق آدم
على صورته، فاسأل عن شأني المقلب ب‍ " يمين الملك " فاني مقهور في قبضته مسخر، فلا
فرق بين قلم الآدمي والخلق الإلهي في معنى التسخير انما الفرق في ظاهر الصورة
والتصوير.
قال: ومن يمين الملك؟ قال: أما سمعت قوله تعالى " والسماوات مطويات بيمينه "،
هو الذي يرددها. فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم، فقال: جوابي ما سمعت من
اليمين الذي في عالم الشهادة وهو الحوالة إلى القدرة، فلما سار إلى عالم القدرة فرأى فيه
من العجائب ما استحقر غيرها، فأقبل عند ذلك عليها فسألها عن تحريك اليمين فقالت: أنا
صفة فاسأل القادر إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات.
وعند هذا كاد أن يزيغ وينطق بالجرأة على السؤال، فثبت بالقول الثابت ونودي
من سرادقات الحضرة: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فغشيه الحضرة فخر صعقا، فلما
أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار
الواحد القهار، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ الا بعفوك من عقابك
وبرضاك من سخطك وبك منك؟ فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك، واحلل عقدة
213

الصمت من لساني لأثني عليك.
فعند هذا رجع السالك واعتذر عن سؤاله ومعاتبته، فقال لليمين والقلم والعلم
والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري فانى غريبا كنت في بلادكم ولكل داخل دهشة
فما كان انكاري عليكم الا عن قصوري وجهلي والآن قد صح عندي عذركم وانكشف
لي ان المتفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار والكل تحت
تسخيره وهو الأول والآخر والظاهر والباطن. فهذا هو الكلام في تفسير الاضلال - انتهى.
الآيات التي استدل بها للجبر
سادسها جملة من الآيات الشريفة، وهي طوائف:
منها - ما تقدم من الآيات المتضمنة لاسناد الاضلال إلى الله تعالى وقد مر الجواب
عنها.
ومنها - الآيات المتضمنة لنسبة الهداية إلى الله سبحانه، وقد مر عند الاستدلال بها
لتعلق ارادته تعالى ومشيئته بأفعال العباد الجواب عنها، وملخصه أن للهداية أنواعا:
أولها الهداية العامة التكوينية، وهي الهداية إلى جلب المنافع ودفع المضار،
بإضافة المشاعر الظاهرة والمدارك الباطنة والقوة العاقلة، قال الله سبحانه " ربنا الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " 1.
وثانيها نصب الدلائل العقلية الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد، واليه
يشير قوله تعالى " وهديناه النجدين " 2.
ثالثها الهداية العامة التشريعية بارسال الرسل وانزال الكتب واليه يشير قوله سبحانه
" وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " 3، وقوله عز وجل " انا هديناه السبيل

1 - سورة طه: 53.
2 - سورة البلد: 11.
3 - سورة فصلت: 71.
214

اما شاكرا واما كفورا " 1.
رابعها الهداية الخاصة التكوينية، وهي الهداية إلى طريق السير إلى حصار القدس
والسلوك إلى مقامات الانس بانطماس آثار التعلقات البدنية واندراس أكدار الجلابيب
الجسمية والاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال ومطالعة أنوار الجمال، وهذا النوع عناية
ربانية خص الله بها بعض عباده حسب ما يقتضيه حكمته.
والى هذا النوع يشير كثير من الآيات، قال عز من قائل " ليس عليك هداهم ولكن
الله يهدى من يشاء " 2، " ان الله تعالى لا يهدى القوم الظالمين " 3، " والله يهدى من يشاء إلى
صراط مستقيم " 4، " انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء " 5، إلى غير ذلك من
الآيات الكريمة.
ومنها الآيات المتضمنة لنسبة أفعال العباد إلى الله تعالى، وقد تقدمت جملة منها.
والجواب عنها: ما مر من أن فعل العبد وسط بين الجبر والتفويض وله حظ من كل
منهما، لان القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله تعالى واعمال القدرة في
أخرى، وكل من الاسنادين حقيقي، والآيات الكريمة ناظرة إلى هذا المعنى.
ومنها قوله عز من قائل " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنة والانس لهم قلوب
لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم
أضل أولئك هم الغافلون " 6.
وفيه: ان اللام في قوله " لجهنم " ليست للعلة، بل للعاقبة و المآل والصيرورة، كما

1 - سورة الإنسان: 3.
2 - سورة البقرة: 274.
3 - سورة الأنعام: 146.
4 - سورة البقرة: 210.
5 - سورة القصص: 56.
6 - سورة الأعراف: 179.
215

في قول الشاعر " لدوا للموت وانبوا للخراب ". فالآية الشريفة لا تدل على أن كثيرا من
الإنس والجن خلقوا اليد خلوا السعير، بل تدل على أن عاقبة كثير من الطائفتين هو دخول
جهنم وذيلها يدل على أن هذه العاقبة التي في انتظارهم ليست بجبر من الله تعالى، بل من
ناحية أنهم أفشلوا وسائل اداركاتهم بالمعاصي عن اختيار.
وبذلك يظهر الجواب عن استدلال له بقوله تعالى " ان الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم
غشاوة ولهم عذاب عظيم " 1 فان هذه الآية واردة في الذين كفروا باختيارهم.
ولا يبعد أن يكون المراد بهم الكفار من كبراء مكة الذين عاندوا في أمر الدين
ولم يألوا جهدا في ذلك، تدل خصوصا بقرينة تغيير السياق (حيث نسب الختم إلى نفسه
تعالى والغشاوة إليهم أنفسهم) على أن فيهم حجا بين حجابا في أنفسهم وحجابا من الله
تعالى عقيب كفرهم، فأعمالهم متوسطة بين حجا بين من ذاتهم ومن الله تعالى.
القول بالجبر مخالف للوجدان
فالمتحصل مما ذكرناه أن شيئا من البراهين التي أقيمت على الجبر لا يتم.
وأضف إلى ذلك أن القول به مخالف للحس والوجدان، وذلك لان كل انسان
يجد ويدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الافعال ويتمكن من أن يفعلها أو يتركها،
ولا يفعلها الا ويرى قادر على تركها. وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد ما لم يعتريه
شبهة من الخارج.
وقد أطبق العقلاء كافة على استحقاق فاعل القبيح للذم وفاعل الحسن للمدح، مع
اطباقهم على أن الذم والمدح انما يتوجهان إلى المختار دون المضطر، فكون جملة من
الافعال اختيارية مما بنى عليه بناء العقلاء.

1 - سورة البقرة: 6 و 7.
216

مع أنه يترتب على القول بالجبر عدة توال فاسدة، قد أشرنا إليها سابقا، وهي:
انكار التحسين والتقبيح العقليين، وسلب العدالة عن الله تعالى، وان التكليف بما لا يطاق
لا محذور فيه. وكل واحد من هذه التوالي كاف في الرد على الجبرية.
التحسين والتقبيح العقليان
ولا بأس بالإشارة الاجمالية إلى وجه فساد كل واحد منها وان كان واضحا غير
محتاج إلى بيان، فأقول:
أما الحسن والقبح العقليان فذهبت الأشاعرة - خلاقا للمعتزلة والامامية - إلى
انكار الحسن والقبح العقلين، وأنه مع قطع النظر عن كون الافعال ملائمة للطبع أو
منافرة له تكون الافعال متساوية لا تفاوت بينها في الحسن والقبح، سوى أن أفعال العباد
قد تتصف بالحسن والقبح بعد تعلق الأحكام الشرعية بها باعتبار موافقتها للشرع
ومخالفتها، بخلاف أفعاله تعالى فإنها لا تتصف بهما من هذه الجهة أيضا، ولا مجال
للعقل أن يحكم فيها بتحسين أو تقبيح.
وقد استندوا في ذلك إلى أمرين:
الأول: ان الفعل عرض والحسن والقبح العقليان من قسم العرض أيضا، والعرض
لا يعرض عليه عرض ولا يتصف به، فالفعل لا يمكن اتصافه بالحسن والقبح العقليين.
وفيه: أولا النقض، بأن الألوان كالبياض والحمرة والسواد أعراض، والشدة
والضعف والحسن والقبح أيضا من الاعراض، وغير خفى أن الشدة والضعف والحسن
والقبح تعرض على الألوان وتتصف الألوان بها، هذا اللون شديد وذاك ضعيف، هذا
حسن وذلك قبيح، فكيف جاز هنا اتصاف العرض بالعرض.
وثانيا بالحل، وهو أنه فرق بين العرض الوجودي والعرض الانتزاعي، والذين وقع
محل الكلام في عروضه على العرض انما هو القسم الأول كالألوان، وأما القسم
الثاني كالحسن والقبح والشدة والضعف فليس لأحد دعوى عدم عروضها على
217

الاعراض.
الثاني: وهو يختص بانكارهما بالإضافة أفعاله تعالى، وهو أنه لو سلم الحسن
والقبح العقليان في أفعال العباد أنا لا نسلمهما في أفعاله تعالى. ضرورة أنه ليس للعقل
التحكم على الله تعالى، فيقول: هذا الفعل منه قبيح فيجب تركه، أو حسن فيجب فعله.
كيف وهو الفعال لما يشاء، وكل ما يفعل يكون تصرفا في ملكه، لا يسأل عما يفعل.
وفيه: ان هذا اشتباه نشأ من التعبير بأن العقل يحكم بالحسن والقبح، وقد حققنا
في محله أن شأن القوة العاقلة حتى بالنسبة إلى أفعال العباد ليس هو التشريع وجعل
الاحكام، بل هذا المقام من مختصات الله تعالى وسفرائه، بل شأنها الدرك، فالقوة
العاقلة دراكة لا مشرعة. وعليه فنقول في المقام: ان الحسن والقبح لا يكونان يتحكم من
العقل، بل هما صفتان واقعيتان يدركهما العقل.
توضيح ذلك: أنه كما يكونن لكل واحدة من الحواس الخمس ملائمات
ومنافرات - مثلا: السمع تلذه الأصوات الحسنة وتزعجه الأصوات القبيحة - كذلك تكون
للعقل الذي به انسانية الانسان والا فهو كغيره من الحيوانات ملائمات ومنافرات. ضرورة
أن القوة العاقلة قوة دراكة، فإذا لاحظت الافعال فقد تراها ملائمة لها وترى استحقاق
فاعلها للمدح كالعدل فيقال انها حسنة، وقد تراها منافرة لها ترى استحقاق فاعلها للذم
كالظلم فيقال انها قبيحة، وقد تراها خالية عن الجهتين فتخلف بالوجوه والاعتبارات.
وان شئت توضيح ذلك بالمثال العرفي: فانظر إلى رجل قد أحسن إليك غاية
الاحسان ثم احتاج إليك بأهون شئ، فلا شبهة في أن العقل مع قطع النظر عن الشرع
يدرك حسن قضاء حاجته وقبح مقابلته بالرد والهوان، مع أن قضاء حاجته لا يلائم
الشهوات ورده لا ينافرها، فليس ذلك الا لان للعقل ملائمات ومنافرات مع قطع النظر عن
كل شئ.
وبالجملة بما أن للعقل نورانية تنكشف لها الحقائق على ما هي عليه، يحكم (أي
يدرك) بقبح بعض الأفعال وحسن بعضها، فانكار الحسن والقبح العقليين مكابرة.
218

عدالة الله تعالى
وأما عدله تعالى: فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجوز والحكيم الذي لا يظلم، وانه
لا يكلف عباده مالا يطيقون ولا يتعبدهم بما ليس لهم إليه سبيل، ولا يكلف نفسا الا
وسعها، ولا يعذب أحدا على ما ليس من فعله، ولا يلومه على ما خلقه فيه. وهو المنزه عن
القبائح والمبرأ من الفواحش، والمتعالي عن فعل الظلم والعدوان، ولا يريد ظلما للعباد،
ولا يظلم مثقال ذرة.
وأما من يخالفنا - وهم الأشاعرة - فقالوا: ان من الله جور الجائرين وفساد
المعتدين، وانه صرف أكثر خلقه عن الايمان والخير وأوقعهم في الكفر والشرك، وان
من أنفذ وفعل ما شاء عذبه ومن رد قضاءه وأنكر قدره وخالف مشيئة أثابه ونعمه، وأنه
خلق أكثر خلقه للنار ولم يمكنهم من طاعته ثم أمر هم بها وهو عالم بأنهم لا يقدرون
عليها ولا يجدون السبيل إليها، ثم استبطأهم لم لم يفعلوا ما لم يقدروا عليه لم لم
يوجدوا ما لم يمكنهم منه، وان الحسن ما فعله ولو كان ذلك عقاب أشرف الأنبياء،
والقبيح ما تركه ولو كان ذلك ثواب أشقى الأشقياء.
واستدلوا لما قالوا بأنه ليس للعقل التحكم على الله تعالى، بل هو ساقط في هذا
المقام.
ولكنك بعد ما عرفت من ثبوت الحسن والقبح العقليين فثبوت عدالته تعالى
لا يحتاج إلى مزيد بيان، إذ العقل يدرك حسن العدل وان تركه للقادر عليه قبيح. وان فعل
القبيح ينافر الحكمة والكمال فلا يكاد يصدر منه تعالى.
وبالجملة العقل يدرك أنه سبحانه لكماله وحكمته وقدرته وغناه صدور القبيح
منه بحال، ولا يفعل القبيح. لأنه لو فعل القبيح والظلم لكان اما جاهلا بالقبيح، أو عالما
به عاجزا عن تركه، أو محتاجا إلى فعله، أو قادرا غير محتاج بل يفعله عبثا. وعلى الأول
يلزم كونه جاهلا، وعلى الثاني كونه عاجزا، وعلى الثالث كونه محتاجا، وعلى الرابع
219

كونه سفيها، والكل عليه محال.
التكليف بما لا يطاق
وأما التكليف بما لا يطاق، فالتزمت الأشاعرة بعدم قبحه وعدم قبح العقاب على
مخالفته، خلافا للعدلية.
أقول: أما قبح العقاب على مخالفة التكليف بما لا يطاق فمما لا يمكن انكاره بعد
الالتزام بالتحسين والتقبيح العقليين، لان العقاب حينئذ مصداق للظلم، وهو قبيح بلا ريب.
وأما التكليف بما لا يطاق، ففيه قولان للعدلية، وقد استدل على استحالية بوجوه
ليس المقام موردا لذكر كلها وانما نشير إلى الوجوه المهمة منها:
الأول ما عن المحقق النائيني قد سره، وهو أن الطلب التشريعي انما هو تحريك
لعضلات العبد نحو المطلوب بإرادته واختياره وجعل الداعي له لن يفعل، ومن البديهي
أنه لا يمكن جعل الداعي للفعل غير الإرادي.
وفيه: ان الوضع ليس الا التعهد بذكر اللفظ عند تعلق قصد المتكلم بتفهيم المعنى
وابرازه، وفي الامر - على ما حقق في محله - يكون المبرز باللفظ كون صدور المادة
من المخاطب متعلقا لشوق المتكلم. وعلى ذلك أقول: انه لا ريب في امكان تعلق شوق
المولى بفعل غير اختياري للعبد، بل بفعل غير اختياري لنفسه إذا كان المولى من الموالى
العرفية، وانه يمكن ابراز هذا الشوق باللفظ الذي هو واقع الامر. نعم، العقل بلزوم
إطاعة المولى يتوقف على كونه مقدورا له.
الثاني ما عن المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو أن المطلوب على المذهب الحق لابد
وأن يكون حسنا بالحسن الفاعلي، وهو لا يتحقق في الفعل غير الإرادي.
وفيه: ان اعتبار الحسن الفاعلي في اتصاف الفعل بالوجوب، مما لم يقم عليه
دليل، إذ الوجوب تابع للملاك، فان كان الملاك في الفعل وان لم يكن متصفا بالحسن
الفاعلي كان الوجوب متعلقا به كذلك. بل يمكن دعوى اتفاقهم على عدم اعتباره، لأنهم
220

التزموا في التوصليات بأن الفعل يقع مصداقا للواجب وان لم يؤت به بقصد التقرب إلى
الله بل بالدواعي النفسانية. وغير خفى أن الفعل الصادر عن غير الداع القربى لا يكون
متصفا بالحسن الفاعلي.
الثالث ما ذكره بعض المحققين من أن البعث والانبعاث متضائفان، والمتضائفان
متكافئان في القوة والفعلية، فإذا لم يمكن الانبعاث ولم يقدر العبد عليه لا يمكن البعث
أيضا.
وفيه: ما حقق في محله في بيان حقيقة الامر من أنه ليس الامر الا ابراز كون المادة
متعلقة لشوق المولى.
الرابع ان ابراز المولى شوقه إلى الفعل لابد وأن يكون بداع من الدواعي، والا
يكون لغوا وصدوره من الحكيم محالا، وفائدة ذلك ليست الا اتيان العبد به وتحصل
ملاكه ومصلحته، فإذا لم يكن مقدورا فلا يترتب على الابراز ثمرة فيكون لغوا.
أقول: هذا وجه قوى، الا أنه يختص بالتكليف بغير المقدور مستقلا، ولا يجرى
في التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور، فإنه يمكن فرض فائدة في ذلك المورد،
وهو أنه لو صدر منه ذلك الفعل غير المقدور بغير اختياره لكان مجزيا عن الاتيان بالفرد
المقدور ويسقط التكليف بذلك، كما أنه يختص بالقدرة العقلية ولا يجرى في موارد
عدم القدرة الشرعية، كعدم القدرة على الامر المهم في موارد التزاحم.
ولصاحب بن عباد كلام في هذا المقام لا بأس بنقله، قال في فصل له في هذا
الباب: كيف بأمره بالايمان وقد منعه منه، وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف
يصرفهم عن الايمان ثم يقول " أنى يصرفون " ويخلق فيهم الكفر ثم يقول " فأنى
يؤفكون "، وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول " لم تكفرون "، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم
يقول " ولا تلبسوا الحق بالباطل "، وصدهم عن السبيل ثم يقول " لم تصدوا عن سبيل الله "،
وحال بينهم وبين الايمان ثم قال " وماذا عليهم لو آمنوا "، وذهب بهم عن الرشد ثم قال
" فأين تذهبون "، وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال " فما لهم عن التذكرة معرضين ".
وغيرها من الآيات الدالة على أن التكليف بما لا يطاق لم يقع، قال سبحانه
221

" لا يكلف الله نفسا الا وسعها " 1، وقال " وما جعل عليكم في الدين من حرج " 2، وقال
" ونضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم " 3 وأي حرج ومشقة فوق التكليف
بالمحال.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه: ان القول بالجبر لا يساعده البرهان بل يخالفه
والوجدان يرده وينافيه، والآيات القرآنية المباركة والنصوص الواردة عن المعصومين
عليهم السلام ترده، ويترتب عليه عدة توال فاسدة.
الاستدلال للقوم بالتفويض ونقده
الطائفة الثانية من المسلمين - وهم المعتزلة - حفظا لعدالة الله تعالى التزموا بأن
أفعال العباد الاختيارية غير مربوط به تعالى، بل تمام المؤثر هو الانسان. وقد مر عند نقل
الأقوال في المسألة، ان أكثر القائلين بالتفويض قالوا بوجوب الفعل بعد إرادة الانسان،
وذهب جماعة منهم إلى عدم الوجوب.
واستدلوا له بعد الرد على الجبرية والبناء على أن الأفعال الاختيارية تصدر عن
الانسان باختياره، بأن مبادئ الافعال من نفس وجود الانسان وحياتهن، وادراكه للفعل،
وشوقه إليه، وملائمة ذلك الفعل لقوة من قواه وقدرته على ايجاده، وان كان حدوثها من
قبل الله عز وجل، الا أن بقاءها واستمرارها في الوجود لا يحتاج إلى المؤثر في كل آن.
ويكون مثل خالق الأشياء معها، مثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه وتبقى الكتابة
نفسها، أو مثل البناء يقيم الجدار بصنعه ثم يستغنى الجدار عن بانيه ويستمر وجوده وان
فنى صانعه. وعليه فلا يحتاج العبد في صدور الفعل منه - بعد إفاضة الوجود وسائر
المبادئ - إلى شئ، وهو المؤثر التام فيه.

1 - سورة البقرة: 287.
2 - سورة الحج: 78.
3 - سورة الأعراف: 157.
222

وفيه: ان الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر كذلك يحتاج في بقائه إليه،
لأنه لا يخرج عن امكانه بالوجود، ففي كل آن من الآنات بما أنه ممكن الافتقار من
لوازم ذاته محتاج إلى المؤثر ليفيض إليه الوجود، ومفتقر إلى مدد مبدعة الأول في كل
حين والا لا نعمد، بل بالنظر الدقى الحقيقي انه عين الحاجة لا شئ محتاج. فالانسان في
كل حين - حتى حين الفعل - مفتقر إلى موجده ليفيض إليه الوجود وسائر المبادئ، والا
لما تمكن من ايجاد الفعل، ويكون مثله تعالى (ولله المثل الاعلى) كتأثير القوة الكهربائية
في الضوء، فان الضوء لا يوجد الا حين تمده القوة بتيارها ويفتقر في بقاء وجوده إلى مدد
هذه القوة في كل حين.
مع أن الله تعالى نفسه في مقام التشريع، والتشريع لا يلائم التفويض، إذ لا معنى
للتكليف المولوي فيما لا يملك المولى منه شيئا.
مع أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه،
وقد قال سبحانه " له ملك السماوات والأرض " 1، وقال " له الملك وله الحمد " 2، وقال " لله
ما في السماوات وما في الأرض " 3.
الامر بين الامرين
إذا عرفت فساد قول هاتين الطائفتين - أي قول الجبرية والمفوضة - وشناعة تينك
المقالتين، فاعلم أن الحق هو القول بالامر بين الامرين الذي هو الخير كله. وقد مر تقريبه
وتوضيحه بالمثال، ففعل العبد الاختياري وسط بين الجبر والتفويض، لأنه بعد ما عرفت
من نفى الجبر والتفويض بالبرهان العقلي، فالافعال الاختيارية الصادرة عن العباد بما أنها
تصدر منهم بالاختيار وليس في صدورها منهم قهر واجبار، فهم مختارون فيها، والافعال

1 - سورة الحديد: 5.
2 - سورة التغابن: 1.
3 - سورة البقرة: 284.
223

تستند إليهم وهم الموجدون لها.
وبما أن فيض الوجود والقدرة وسائر المبادئ يكون بإفاضة الله تعالى آنا فآنا
بحيث لو انقطع الفيض لما تمكن العبد من ايجاد الفعل، فالفعل مستند إليه تعالى وكل من
الاسنادين حقيقي، فالعلم ينادى بأعلى صوته موافقا لمذهب الحق انه: لا جبر ولا تفويض
بل أمر بين الامرين.
والآيات القرآنية كما مر ناظرة إلى هذا المعنى، وان اختيار العبد في فعله لا يمنع
من نفوذ قدرة الله وسلطانه.
وما حققناه وأوضحناه وأوضحنا المنزلة بين المنزلتين ووفينا دليلها، دقيقة
غامضة تكون من أسرار العلوم الإلهية وخلاصة الفلسفة الحقة، مأخوذة عن ارشادات
أهل البيت عليهم السلام وعلومهم، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
بحث روائي
واليك بعض ما ورد عنهم عليهم السلام:
روى الصدوق بسند صحيح عن الإمام الرضا عليه السلام قال: ذكر عنده الجبر
والتفويض، فقال (ع): ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد
الا كسر تموه؟ قلنا: ان رأيت ذلك. فقال عليه السلام: ان الله عز وجل لم يطع باكراه ولم
يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه، هو ملكه، هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم
فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وان لم يحل فعلوه، فليس هو الذي أدخلهم فيه. ثم
قال عليه السلام: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه 1.

1 - التوحيد ص 361 الحديث 7 من طبعة طهران، باب نفى الجبر
والتفويض.
224

فانظر إلى هذا الحديث كيف أثبت الامر بين الامرين ونفى الطرفين بكلمتين
موجزتين، حيث أنه نفى التفويض بقوله " وهو المالك، هو القادر "، ونفى الجبر بقوله " لما
ملكهم وأقدرهم ".
توضيحه: انه قد عرفت أن المفوضة انما ذهبوا إلى ما قالوا من جهة توهم استغناء
الممكن في بقائه عن المؤثر وان حدوثه كاف في بقائه، فلزمهم من ذلك نفى سلطنة الله
تعالى وقدرته وخروج الأشياء بالوجود عن ملكه، فقد نفى عليه السلام ذلك بقوله
" هو المالك " كما صرح بذلك في الآيات القرآنية على ما تقدم. وحاصل كلامه عليه السلام:
ان الله جل شأنه قادر على كل شئ ومالك كل شئ حتى اختيار الانسان، فلا معنى لقول
المفوضة.
والجبرية انما التزموا بما قالوا من جهة توهم عدم مالكية العبد وعدم قدرته،
لتخيل احتياج كل ممكن إلى علة موجبة، أو تخيل كون علمه تعالى أو ارادته علة لصدور
الفعل، أو منافاة القدرة لسلطنة الله تعالى، فقد نفى جميع ذلك بقوله عليه السلام " لما
ملكهم " و " على ما أقدرهم ". وحاصل كلامه: ان علمه تعالى وارادته متعلقان بقدرة العبد
ومالكيته، فالفعل يصدر عن القدرة، وحيث أنه هو المالك والقادر فلا تنافى قدرة العبد
مع قدرته وسلطنته.
وروى الكليني (قده) في الطريق 1 عن أمير المؤمنين عليه السلام بسند فيه رفع، و
رواه الصدوق (ره) في العيون بعده طرق، والعلامة (ره) في شرح التجريد، وغيرهم في سائر
الكتب الحديثية والكلامية: انه لما انصرف أمير المؤمنين عليه السلام من صفين إذ أقبل
شيخ فجثى بين يديه ثم قال له: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام بقضاء
من الله وقدر؟ فقال أمير المؤمنين (ع): أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد
إلا بقضاء من الله وقدر. فقال له الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال له:

1 - أصول الكافي 1 / 155 من طبعة طهران حديث 1، والبحار الجزء
الخامس ص 75 من طبعة طهران.
225

مه يا شيخ فوالله لكم الاجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي
منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليه
مضطرين. فقال له الشيخ: كيف لم نكن في شئ من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين
وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال عليه السلام له: وتظن أنه كان
قضاءا وقدرا لازما، انه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهى والزجر من
الله، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن، ولكان
المذنب أولى بالاحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك
مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمة
ومجوسها، ان الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا
ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات والأرض وما
بينهما باطلا ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين
كفروا من النار - الحديث.
فانظر إلى هذه الرواية أيها الطالب للحقيقة كيف جمع فيها تحقيقات دقيقة ونفى
الجبر والتفويض بالبرهان وذكر التوالي الفاسدة المترتبة على الجبر، وذلك أنه لما سأله
الشيخ عن مسيرهم إلى الشام أبقضاء من الله وقدر، قال عليه السلام: أجل كل ما فعلتم
كان بقضائه وقدره، فتوهم الشيخ من هذه الجملة الجبر، من جهة أنه صور القضاء
والقدر واستنتج نتيجته، وهي: ان إرادة الله تعالى الأزلية التي لا تتخلف عن المراد متعلقة
بأفعال الانسان، وكان لازم ارتفاع والحسن والقبح، ولذلك لما سمع الشيخ منه (ع)
كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في حال اليأس: عند الله احتسب عنائي، أي فعلى هذا
كان مسيري من حيث تعلق إرادة الله تعالى غير اختياري لي فلم يبق لي الا الغناء والتعب.
فأوضح عليه السلام مراده وقال: وتظن انه كان قضاءا حتما وقدرا لازما لا دخل
لاختيار العبد وارادته، ليس كذلك بل العبد مختار في فعله. فالقضاء والقدر عبارة عن
الامر والحكم، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية كما صرح بذلك في رواية
226

أخرى 1 في ذيل هذا الحديث. ثم أخذ عليه السلام بالأصول العقلائية التي أساس التشريع
مبنى عليها، إلى أن قال: ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها، والظاهر أن المراد به أنه لم
يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال ان طوعه مكروه للمطيع.
وأما قوله " ولكان المذنب أولى بالاحسان " الخ، فالظاهر أنه عليه السلام أشار
بذلك إلى مطلب دقيق، وهو: أنه على مسلك الجبرية بما أن ذات المذنب اقتضت
الاحسان في الدنيا باللذات فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذات في
النشأتين وبما ان ذات المطيع اقتضت المشقة في الدنيا وإيلام المطيع، بالتكاليف الشاقة
فينبغي أن تكون في الآخرة أيضا كذلك.
ثم أشار عليه السلام إلى بعض المطالب الدقيقة لا تساعدنا الظروف لشرحه، ثم
أبطل التفويض بقوله " لم يملك مفوضا ".
وفي التوحيد عن الامامين الصادقين عليهما السلام: ان الله عز وجل أرحم بخلقه
من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون.
قال: فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع ما بين السماء
والأرض 2.
وفيه أيضا عن محمد بن عجلان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: فوض الله
الامر إلى العباد؟ قال (ع): أكرم من أن يفوض إليهم. قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم؟
فقال (ع): لله أعدل من يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه 3.
وفيه أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله (ص): من زعم أن الله يأمر
بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله تعالى، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد
أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغيره قوة الله فقد كذب على الله 4.

1 - البحار الجزء الخامس ص 96 من طبعة طهران.
2 - 3 - التوحيد باب 59 حديث 3 و 6.
4 - التوحيد باب 59 حديث 2.
227

وفيه أيضا عن مهزم قال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني عما اختلف فيه من
خلقك من موالينا. قال: قلت في الجبر والتفويض. قال: فاسألني. قلت: الله أقدر عليهم من
ذلك. قال: قلت فأي شئ هذا أصلحك الله؟ قال: فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال: لو
أجبتك فيه لكفرت 1.
قوله عليه السلام " الله أقهر لهم من ذلك " معناه: ان الله أقوى من أن يقهر عباده
ينحو يبطل به مقاومة القوة الفاعلة، بل هو يريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من
مجرى اختياره، فيأتي به من غير أن يبطل ارادته.
وعن تحف العقول 2 كتب على بن محمد إلى شيعته من أهل الأهواز كتابا مفصلا
وهو مشحون بالتحقيقات مشتمل على البرهان لاثبات الامر بين الامرين ولغيره من
المطالب الدقيقة، ولا يساعد وضع الكتاب لنقله بتمامه، وانما نذكر بعض ما رواه عن
آبائه عليه السلام:
قال عليه السلام: فانا نبدأ بقول الصادق عليه السلام " لا جبر ولا تفويض ولكن
منزلة بين المنزلين " وهي صحة الخلقة وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد مثل
الراحلة والسبب المهيج للفاعل على الفعل، فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق جوامع
الفضل.
ثم في آخر الرسالة فسر كلام الإمام الصادق عليه السلام، ففسر صحة الخلقة
بكمال الخلق للانسان بكمال الحواس وثبات العقل والتمييز واطلاق اللسان بالنطق،
وفسر تخلية السرب بأنه الذي ليس عليه رقيب يمنعه العمل مما أمر الله تعالى به، وفسر
المهلة في الوقت بالعمل الذي يمتنع به الانسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل
الوقت وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله، وفسر الزاد بالجدة والبلغة

1 - التوحيد باب 59 حديث 11.
2 - البحار الجزء الخامس ص 68 من طبعة طهران.
228

التي يستعين بها العبد على ما أمر الله تعالى به مثل الراحلة للحج، وفسر السبب المهيج
بالنية التي هي داعية الانسان إلى جميع الأفعال وحاستها القلب.
وروى عن الإمام الصادق عليه السلام أيضا انه سئل: هل أجبر الله العباد على
الامر مفوض إليه فقد وهن الله تعالى في سلطانه فهو هالك، ورجل يزعم أن الله جل وعز
أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله تعالى في حكمه فهو هالك،
ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون و لم يكلفهم مالا يطيقون فإذا أحسن حمد الله
وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ.
وروى عليه السلام في أخريات الرسالة ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام عباية
الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها ويقعد ويفعل ويترك، فقال له
أمير المؤمنين عليه السلام: أسألك عن الاستطاعة تملكها من دون الله تعالى أو مع الله؟
فسكت عباية، فقال أمير المؤمنين (ع): قل يا عباية. قال: وما أقول؟ قال (ع): ان قلت انك
تملكها بالله الذي يملكها من دونك؟ فان يملكها إياك كان ذلك من عطائه وان
يسلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملك والقادر على ما أقدرك، أما سمعت
الناس يسألون الحول و القوة حين يقولون " لا حول ولا قوة الا بالله ". قال عباية: وما
تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: لا حول عن معاصي الله الا بعصمة الله، ولا قوة
على طاعة الله الا بعون الله.
ثم روى عليه السلام روايات أخرى عن آبائه عليهم السلام، ثم أخذ في بيان
حقيقة المنزلة بين المنزلين واثباتها، والاحتياج عليها حتى صيرها أظهر من الشمس.
على أن لكل واحد من الأئمة الاثني عشر عليهم السلام الذين هم خزان علم الله
ومعادن حكمته كلمات وافية في هذا الموضوع ومقالات موضحة للمنزلة بين المنزلتين،
229

ولم يدعوا على هذه الحقيقة من ستار.
دفع الشبهة عن الحديث القدسي
خاتمه في بيان أمور:
الأول ان في جملة من نصوص 1 المقام تمسك المعصومون عليهم السلام بما ورد
في الحديث القدسي من قول الله عز وجل " انى أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك
منى "، والمقصود من هذا الامر دفع الشبهة التي ربما تورد على هذه الجملة، وحاصلها ان
نسبة الفعل في الطاعة والمعصية إلى الله تعالى والى العبد نسبة واحدة، وفي الموردين
منتسب إلى الله عز وجل من جهة والى العبد من جهة أخرى، فما الوجه في الأولوية من
الطرفين؟
وقد ذكر في دفعها وجوه:
الأول - ان الله تعالى جعل في قبال القوى النفسانية التي هي جنود الجهل، من
الغضب والطمع وغيرهما، قوى رحمانية، وعبرتها في النصوص بجنود العقل والرحمن،
لئلا يكنون العبد مجبولا على إطاعة النفس ويكون مختارا في الطاعة والمعصية، ويكون
متمكنا من المجاهدة وتقديم المرجحات الإلهية. فحينئذ إذا تعارضت القوى النفسانية
مع القوى الرحمانية وقدم المرجح الإلهي فالله عز وجل أولى بالفعل، وان قدم المرجح
النفساني وغلبت جنود الجهل فهو أولى بالفعل لمغلوبية الجهة الإلهية، فالامر بين
الامرين لا ينافي الأولوية.
الثاني - انه قد ورد في النصوص الكثيرة أن بعض الحسنات يكون معدا للاخر
ويعطى القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته، كما أن بعض المعاصي موجب للخذلان،

1 - راجع أصول الكافي ج 1 باب الجبر والقدر حديث 12، وباب المشيئة
والإرادة حديث 6، والتوحيد باب 59 حديث 10، وباب 55 حديث 13،
وغير هما من كتب الأحاديث.
230

وهذه الجملة تكون ناظرة إلى ذلك، ومحصل مفادها حينئذ: انه أطاع فالله أولى به
لأنه الموفق، وان عصى فالعبد أولى به لأنه اتبع فيه هو نفسه وشهواته.
الثالث - ان منشأ لأولوية هو أن الله تعالى انما أعطى نعمة الوجود والقدرة
والشعور وغيرها وأمر بصرفها في محلها، فان فعل ذلك فقد عمل بوظيفته ومع ذلك فالله
هو ولى الاحسان الذي مكنه من ذلك، وان لم يفعل ذلك وصرف النعمة في غير محلها
فقد فعل بسوء اختياره، وهذا حسن.
ويؤيده تذييل هذه الجملة في بعض تلك النصوص بقوله تعالى " عملت المعاصي
بقوتي التي جعلتها فيك ".
حقيقة السعادة والشقاوة
الثاني انه قد مر أن المحقق الخراساني (ره) التزم بأن الكفر العصيان تابعان
للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما،
واستشهد لذلك بخبرين: أحدهما " السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي في بطن
أمه " 1، والثاني " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " 2، قال والذاتي لا يعلل.
أقول: السعادة والشقاوة ليستا ذاتيتين، وذلك لان السعادة عبارة عما يوجب
دخول الجنة والراحة الأبدية واللذات الدائمة، والشقاوة عبارة عما يوجب دخول النار
والعقوبات والا لام.
ويتضح ذلك بعد بيان الحقيقة السعادة والشقاوة، وهي: أن سعادة كل شئ هي
بلوغه منتهى كماله وغاية فعليته بحسب نوعه، وهي الفعلية التامة من جميع ما لنوعه من
الاستعداد. وهذه هي المرتبة العليا من السعادة، ويقابلها الشقاوة المطلقة، وهي عدم كمال

1 - تفسير على بن إبراهيم ص 214.
2 - الوافي 1 / 116.
231

عن موضوع قابل له، وما بين أقصى الطرفين مراتب لا تحصى.
وحيث أن المرتبة العليا من السعادة قليلة جدا وهي في الانسان أقل، بل من أول
الدهر إلى آخره الانسان الكامل بتمام معنى الكلمة البالغ غاية فعلية هذا النوع منحصر في
فرد واحد، وهو أشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله، فلا محالة سعادة كل
أسنان ممزوجة بالشقاوة، بمقدار نقص حظ الانسان من السعادة له حظ من الشقاوة.
إذا عرفت ذلك فاعلم: انهما تنتزعان عن الإطاعة التي توجب القرب إلى الله تعالى
وصيرورة الانسان كاملا، والعصيان الموجب للعبد، لنقص حظ الانسان من الكمال فلا
معنى لكون الإطاعة ناشئة عن السعادة والعصيان ناشئا عن الشقاوة، فهما ليستا ذاتيتين.
لا يقال: ان منشأهما من الصفات النفسانية المعبر عنها في الاخبار بجنود العقل
وجنود الجهل، من الذاتيات.
فإنه يقال: ان الله سبحانه أعطى بحكمته الكاملة كل مكلف قوتين داعيتين إلى
الخير والشر، إحداهما العقل، والأخرى الجهل. وخلق صفات حسنة تقوى العقل في
دعوته إلى الخير، وخلق ضدها من الرذائل تقوى الجهل في دعوته إلى الشر، فلا تخص
الصفات الحسنة بطائفة والرذيلة بطائفة أخرى حتى يقال: ان بعض الناس سعيد ذاتا
والاخر شقي كذلك باعتبار منشأهما.
وأما الرواية الأولى التي استدل بها على مختاره، فهي بظاهرها، وان كانت دالة
على ما اختاره - الا أنه لابد من صرفها عن ظاهرها لوجهين:
الأول - ان الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام يفسر بعضها بعضا،
كما ورد عنهم عليهم السلام، وهذه الرواية قد فسرت في الروايات الأخرى بأن المراد
منها ان الله يعلم وهو في بطن أمه أنه يعمل أعمال الأشقياء أو السعداء.
لا حظ خبر ان أبى عمير 1 قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن
معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله " الشقي من شقي في بطن والسعيد من سعد في

1 - التوحيد باب 58 باب السعادة والشقاوة حديث 3.
232

بطن أمه ". فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد
من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء - الحديث.
الثاني - أنه مع قطع النظر عن الروايات المفسرة لا محيص عن صرفها عن
ظاهرها، لان من كان مطيعا فصار عاصيا أو كان عاصيا فصار مطيعا، هل يكون في بطن
أمه شقيا أم سعيدا، فان كان سعيدا يلزم أن لا يكون الشقي في بطن أمه شقيا لأنه حين
عصيانه شقي، أولا يكون عصيانه ناشئا عن الشقاوة، وان كان شقيا لزم أن لا يكون السعيد
في بطن أمه سعيدا لأنه حين اطاعته سعيد، أولا تكون اطاعته ناشئة عن السعادة الذاتية.
وأما الرواية الثانية فهي أجنبية عما اختاره بالمرة، وذلك لأن مفادها أنه كما أن
معادن الذهب والفضة مختلفة تنقسم إلى الجيد والردئ كذلك الناس مختلفون
باختلاف الغرائز والاستعدادات والصفات النفسانية، وذلك لا يلزم سلب الاختيار، بل
الاختيار في الجميع يكون موجودا ولا يكون أحد مجبورا على الإطاعة أو العصيان كما
مر تحقيق ذلك. وأين هذا من الالتزام بأن الإطاعة والعصيان ناشئتان عن السعادة
والشقاوة الذاتيتين.
اختلاف الناس في الصفات النفسانية.
الثالث لا يخفى أنا لا ندعي تساوى جميع الافراد في المرجحات الداعية إلى
اختيار الطاعة أو العصيان وعدم مدخلية الصفات النفسانية، التي هي جنود العقل وجنود
الجهل فيه، لان هذا مخالف للعيان ويرده الآيات الشريفة والروايات المستفيضة. بل
ندعي وجود الاختيار في الجميع وان المطيع يطيع باختياره والعاصي يخالف التكليف
باختياره، والا فلو كان مجبورا على الفعل لا يكون بالنسبة إلى ذلك الفعل مطيعا ولا
عاصيا ولا يستحق الثواب ولا العقاب عليه.
وبعبارة أخرى: لابد من اشتراك جميع المكلفين في قدرتهم على الفعل والترك
حتى يصح التكليف والثواب والعقاب، وأما زائدا على ذلك بحيث يلزم تساوى الجميع
233

في الاستعدادات والصفات النفسانية الداعية إلى اختيار الطاعة أو العصيان فغير لازم، ولا
محذور في اختلاف الناس فيها كاختلافهم في الجمال وأشباهه.
وتلك الاستعدادات والصفات النفسانية قسمان: قسم يكون كسبيا إراديا يحصل
من الإطاعة والعصيان. كما ورد في الروايات الكثيرة ان بعض الحسنات يكون معدا
للاخر ويعطى القابلية لان يوفقه الله تعالى لمرضاته، كما أن بعض المعاصي موجب
للخذلان. وقسم يحصل من أمور غير اختيارية، وعلى أي حال لا يوجب سلب القدرة.
البداء في التكوين
ولمناسبات غير خفية ينبغي لنا البحث في مسألتين:
الأولى مسألة البداء في التكوين:
لا خلاف بين علمائنا في القول بالبداء، وما عن المحقق الطوسي (قده) في نقد
المحصل في الرد على الفخر الرازي، من أن الامامية لا يقولون بالبداء، يتعين أن يكون
مراده هو البداء الذي نسبه الفخر إلى الامامية، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر
بخلاف ما اعتقده. وبه يندفع استغراب جماعة من المحققين منهم السيد الداماد والعلامة
المجلسي هذا الجواب.
وكيف كان فيشهد له:
من الكتاب قوله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " 1، وسيمر
عليك معنى الآية الكريمة.
والنصوص الكثيرة، لا حظ خبر زرارة عن أحدهما عليهما السلام: ما عبد الله
بشئ مثل البداء 2، وخبر هشام بن سالم وحفض بن البختري وغيرهما عن أبي عبد الله

1 - سورة الرعد: 39.
2 - أصول الكافي ج 1 باب البداء حديث 1
234

عليه السلام قال في هذه الآية " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قلا: فقال وهل يمحى الا ما كان
ثابتا وهل يثبت الا ما لم يكن 1، وخبر عبد الله بن سنان عنه عليه السلام: ما بدا لله في شئ
الا كان في علمه قبل أن يبدو له 2.
وخبر ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عنه عليه السلام: ما عظم الله عز وجل بمثل
البداء 3.
وخبر الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ما بعث الله نبيا قط
الا بتحريم الخمر وان يقر له بالبداء.
وخبر الجهني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقولون: لو يعلم الناس ما في القول
بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام فيه 4.
إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الواردة في ذلك.
انما الكلام في المراد من البداء، فان المخالفين نسبوا إلى الشيعة ما هم برآء منه،
قال الفخر الرازي عند تفسيره قوله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت ": قالت الرافضة البداء
جائز على الله تعالى، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الامر بخلاف ما اعتقده - انتهى.
كلمات علمائنا في معنى البداء
ولعلمائنا الأبرار في تحقيق البداء معان:
أحدها ما عن السيد المرتضى في جواب مسائل أهل الري، وهو أن المراد بالبداء
النسخ نفسه، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوي. وقريب منه ما ذكره الشيخ في
محكى العدة، الا أنه صرح بأن اطلاقه على النسخ على ضرب من التوسع والتجوز.
ووافقهما في ذلك الفيلسوف النحرير السيد السند محمد باقر الداماد في نبراس
.

1 - نفس المصدر
2 - أصول الكافي ج 1 باب البداء حديث 9
3 - 4 - 5 - التوحيد باب البداء حديث 2 و 6 و 7.
235

الضياء.
ثانيهما ما ذكره الصدوق في كتاب التوحيد قال: ليس البداء كما يظنه جهال الناس
بأنه بداء ندامة، ولكن يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء، ومعناه أن له ان يبدأ
بشئ من خلقه فيخلقه قبل كل شئ ثم يعدم ذلك الشئ، ويبدأ بخلق غيره ويأمره بأمره
ثم ينهى عن مثله، أو ينهى عن شئ ثم يأمر بمثل ما نهى عنه
ثالثها ما ذكره بعض المحققين في شرحه على الكافي وتبعه المحدث
الكاشاني (ره) في الوافي، وهو أن القوى المنطبقة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من
الأمور دفعة واحدة لعدم تناهى تلك الأمور، بل انما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا
وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر، فمهما حصل لها العلم
بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم،
وربما تأخر بعض الأسباب الا موجب لوقوع الحوادث على خلاف ما يوجبه بقية الأسباب
لولا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب،
لولا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب،
ثم لما جاء أو انه واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأول، فينمحي عنها نقش
الحكم السابق ويثبت الحكم الاخر. وهذا هو السبب في البداء في أمور العالم، فإذا
اتصلت بتلك القوى نفس النبي (ص) أو الإمام (ع) فرأى فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر
بما رآه بعين قلبه أو شاهده بنور بصره أو سمعه بإذن قلبه، وأما نسبة ذلك كله إلى الله
تعالى فلان كل ما يجرى في العالم الملكوتي انما يجرى بإرادة الله تعالى بل فعله بعينه
فعل الله، فكل كتابه تكون في هذه الألواح فهو أيضا مكتوب لله تعالى بعد قضائه السابق
المكتوب بقلمه الأول، فيصح أن يصف الله نفسه بأمثال ذلك الاعتبار.
رابعها ما عن الفاضل المدقق الميرزا رفعيا، و حاصله: أن الأمور كلها منتفشة في
اللوح، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قد يكون الامر العام
أو المطلق المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة، ويتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة
فيضانه فيه، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو والاثبات، البداء
عبارة عن هذا التغير في ذلك الكتاب.
236

خامسها ما اختاره المحقق المجلسي (ره) وحاصله: ان المعصومين عليهم السلام
انما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون ان الله قد فرغ من الامر، وعلى النظام
وبعض المعتزلة القائلين ان الله خلق الموجودات دفعة واحدة والتقدم انما يقع في
ظهورها، وعلى بعض الفلاسفة القائلين بأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة الا في العقل الأول،
وعلى آخرين منهم قالوا ان الله سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة وانما ترتبها
في الأزمان فقط. فنفوا عنه كل ذلك، واثبتوا أن الله تعالى كل يوم في شأن من اعدام شئ
واحداث آخر وأمانة شخص واحياء آخر إلى غير ذلك.
وهناك أقوال أخر لا يهمنا التعرض لها.
ما هو الحق في معنى البداء
وحق القول في المقام بتوقف على بيان أمور:
الأول لا شك في أن ما يحدث في عالم الكون بأجمعه تحت قدرة الله وسلطانه،
وان وجود أي ممكن منوط بمشيئة الله تعالى. وهذا من البداهة بمكان.
الثاني ان للأشياء بأجمعها تعينا علميا في علم الله الأزلي، ويعبر هذا التعين
العلمي تارة بتقدير الله وأخرى بقضائه، ولكن ليس العلم الإلهي متعلقا بالموجودات
خاصة بل يكون متعلقا بها بما لها من المبادئ والخصوصيات.
وعليه فحيث أن الممكنات بأجمعها تحت قدرة الله ومنوطة بتعلق المشيئة
والإرادة بها، فيكون العلم بها منذ الأول غير مزاحم لقدرته عليها حين ايجادها، فمعنى
قضاء الله وتقديره أن الأشياء بأجمعها متعينة في العلم الإلهي الأزلي على ما هو عليه من
أن وجودها معلق على أن تتعلق الإرادة والاختيار والمشيئة بها حسب ما تقتضيه.
المصالح والمفاسد المختلفة باختلاف الظروف.
الثالث ان وجود كل موجود له نسبتان: نسبة إلى علته التامة التي يستحيل عمده
معها، ونسبة إلى مقتضيه الذي يحتاج الشئ في وجوده معه إلى شرط وعدم مانع. فمع
237

وجود الشروط وعدم الموانع يوجد، ومع وجود المانع أو فقد الشرط لا يكاد بتحقق.
وعلى هذا فمع تحقق المقتضى كان الظاهر ذلك الشئ ما وجد المانع
ظهر منه خلاف ما كان يظهر من المقتضى، والى هذا يشير جملة من الاخبار:
روى العياشي عن الفضيل قال: موقوفة عنه الله يقدم ما يشاء ويمحو
ما يشاء ويثبت منها يشاء، لم يطلع ذلك أحدا يعنى الموقوفة، فأما ما جاءت به
الرسل فيه كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته 1. ونحوه غيره.
الرابع حيث عرفت أن العلم الأهلي يتعلق بالأشياء على واقعها، لان انكشاف
الشئ لا يزيد على واقع ذلك الشئ، فإذا كان الواقع منوطا بمشيئة الله حسب ما تقتضيه
المصالح والمفاسد كان العم متعلقا به على هذه الحالة، الا لم يكن العلم علما به على
وجهه وانكشافا له على واقعه.
فيكون لله علمان: علم بالأشياء من جهة عللها التامة وهو العلم الذي لا بداء
فيه أصلا، وله علم بالأشياء من جهة مقتضياتها التي موقوفة التأثير على وجود الشروط
وفقد الموانع. وهذا العلم يمكن أن يظهر خلاف ما كان ظاهرا منه يفقد شرط أو وجود
مانع.
والى هذا المعنى يشير كثير من الاخبار المروية عن المعصومين عليهم السلام، قال
الإمام الرضا عليه السلام لسليمان المروزي في حديث: ان عليا (ع؟ كان يقول: العلم
علمان: فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فان يكون ولا يكذب
نفسه ولا ملائكته ورسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما
يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ويثبت ما يشاء 2.
وفي الكافي عن أبي بصير عبد الله عليه السلام: ان لله علمين: علم مكنون

1 - البحار 4 / 119 حديث 58 من طبعة طهران.
2 - التوحيد باب 66 حديث 1.
238

مخزون لا يعلمه الا هو من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن
نعمله 1. ونحوهما غيرهما.
إذا تدبرت فيما ذكرناه يظهر لك أن البداء انما يكون في القضاء الموقوف المعبر
عنه بلوح المحو والاثبات، وأما القضاء الحتمي المعبر عنه بأم الكتاب والعلم المخزون
عند الله تعالى فيستحيل أن يقع فيه البداء.
ففي خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما بدا لله في شئ الا
كان في علمه قبل أن يبدو له 2.
وفي خبر الجهني عنه عليه السلام: ان الله لم يبدله من جهل 3.
وفي خبر منصور بن حازم عنه عليه السلام قال: سألته هل يكون اليوم شئ لم
يكن في علم الله بالأمس؟ قال عليه السلام: لا، من قال هذا فأخزاه الله. قلت: أرأيت ما
كان ما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق 4.
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.
والى ما ذكرناه نظر العلامة المجلسي (ره) قال: اعلم أن الآيات والاخبار تدل على
أن الله تعالى خلق لو حين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات: أحدهما اللوح المحفوظ
الذي لا تغير فيه أصلا وهو مطابق لعلمه تعالى، والاخر لوح المحو والاثبات فيثبت فيه
شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولى الألباب. مثلا: يكتب فيه أن عمر زيد
خمسون سنة، ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضى طوله
أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه الستون وإذا قطعها
يكتب مكانه أربعون، وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون، كما أن الطبيب
الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاح يكون ستين سنة

1 - أصول الكافي باب البداء حديث 8
2 - نفس المصدر
3 - نفس المصدر
4 - نفس المصدر
239

فإذا شرب سما ومات أو قتله انسان فنقص من ذلك أو استعمل دواءا قوى مزاجه فزاد
عليه لم يخالف قول الطبيب. والتغيير الواقع في هذا اللوح مسمى بالبداء اما لأنه مشبه به
كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الأنباء والاستهزاء والسخرية وأمثالها، أو لأنه يظهر
للملائكة أو للحق إذا أخبر بالأول ما اعلموا أولا - انتهى.
تنبيهات
وتمام الكلام في المقام بالتنبيه على أمور:
الأول أن ما ذكرناه في معنى البداء المستفاد من الاخبار، هو الظاهر من الآية
الكريمة المتقدمة " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "، لان محو الشئ هو
اذهاب رسمه وأثره، وقد قوبل في الآية الشريفة بالاثبات وهو اقرار الشئ في مستقره
بحيث لا يضطرب، فالمحو هو إزالة الشئ بعد ثبوته برسمه.
وحيث أنه ذكر الآية بعد قوله تعالى " لكل أجل كتاب " وذكر في ذيلها " وعنده أم
الكتاب "، فالظاهر منها أن لكل وقت كتابا يخصه، فتختلف الكتب باختلاف الأوقات.
وان هذا الاختلاف ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيئته حسب ما تقتضيه
المصالح لامن جهة اختلافها في أنفسها، ومع ذلك فعند الله أم الكتاب أي الأصل الذي
ينشأ منه الشئ ويرجع إليه هذه الكتب التي تمحى وتثبت بحسب الأوقات.
وبعبارة أوضح: ان الله سبحانه في كل وقت كتابا وقضاءا، وانه يمحو ما يشاء من
تلك الأقضية ويثبت ما يشاء، ومع ذلك عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء محتوم لا يتغير،
وهو الأصل الذي يرجع إليه سائر الأقضية.
وبهذا البيان يظهر أن ما قيل في تفسير الآية الشريفة من الوجوه و الأقوال كلها في
غير محلها، ولتمام الكلام محل آخر.
الثاني ان البداء بالمعنى الذي يقول به الإمامية هو الابداء والاظهار حقيقة،
واطلاق لفظ " البداء " عليه مبنى على التنزيل والمشاكلة.
240

الثالث ان القول بالبداء اعتراف بأن الله تعالى السلطنة التامة على الممكنات وأنها
بأجمعها تحت سلطانه و قدرته حدوثا وبقاءا، وانه يوجب انقطاع العبد إلى الله وطلبه منه
إجابة دعائه وكفاية مهماته. والى هذا تشير الاخبار المتضمنة للاهتمام بشأن البداء، وعليه
يحمل ما دل على أن الصدقة تزيد في العمر وكذلك صلة الرحم وما شاكل.
الرابع ان ما وقع في كلمات المعصومين عليهم السلام من الانباء بالحوادث الآتية،
انما هو على نحوين: أحدهما ما أخبر بوقوع الامر المستقبل على سبيل الجزم، فهو
كاشف عن أن ما أخبر به مما جرى به القضاء المحتوم. والاخر ما أخبر به معلقا على أن
لا تتعلق بخلافه المشيئة الإلهية ولو مع قرينة منفصلة، فهو كاشف عن كون المخبر به مما
جرى به القضاء الموقوف الذي هو مورد للبداء.
الكلام النفسي
الثانية مسألة الكلام النفسي:
قد اتفقت الأشاعرة على أن للكلام نوعا آخر غير النوع اللفظي المعروف المسمى
عندهم بالكلام النفسي، ثم اختلفوا فذهب جماعة منهم إلى أنه مدلول للكلام اللفظي
ومعناه، وذهب آخرون إلى أنه مغاير لمدلول اللفظ وان دلالة اللفظ عليه من قبيل دلالة
الفعل الاختياري على إرادة الفاعل.
وعلى ذلك بنوا القول بقدم القرآن، نظرا إلى أنه كلام الله الذي هو من صفاته
الذاتية القديمة بقدمه، والمعروف بينهم اختصاص القدم بالكلام، الا أن الفاضل
القوشجي نسب إلى بعضهم القول 1 بقدم جلد القرآن وغلافه أيضا.
وفي مقابل هذه الطائفة، ذهب غيرها من طوائف المسلمين إلى حدوث القرآن،
وان كلامه اللفظي مخلوق له، وليس هناك نوع آخر من الكلام.

1 - شرح التجريد المقصد الثالث ص 354.
241

أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي
وقد استدل القائلون بثبوت الكلام النفسي على مدعاهم بوجوده:
الأول ان الكلام اللفظي المؤلف من الحروف الهجائية المتدرجة في الوجود أمر
حادث يستحيل اتصاف الله تعالى به في الأول وغير الأزل وإلا لزم اتحاد القديم مع
الحادث وهو محال، لان صفات الله عز وجل عين ذاته. وحيث إن الله تعالى وصف نفسه
بهذه الصفة في كتابه فقال سبحانه " وكلم الله موسى تكليما " 1 وكذلك وصفه بها
المعصومون عليهم السلام في الاخبار والأدعية، فلا مناص من البناء على ثبوت الكلام
النفسي وان الله تبارك وتعالى متصف به، وذلك الكلام مجتمعة اجزاؤه وجودا.
و الجواب عن ذلك يبتنى على بيان مقدمة، وهي: ان صفاته تعالى على قسمين
الصفات الذاتية والصفات الفعلية، والفارق بينهما أن صفات الله الذاتية هي التي، لا يمكن
نفيها عنه، ويستحيل أن يتصف سبحانه بنقيضها أبدا كالعلم و القدرة، حيث أنه لا يمكن
نفيها عنه، ولسنا نصفه بالعجز والجهل، والصفات الفعلية هي التي يمكن أن يتصف بها في
حال وبنقيضها في حال آخر كالخلق والرزق، فيقال: ان الله تعالى خلق كذا ولم يخلق
كذا، ورزق فلانا ولدا ولم يرزقه مالا. وأيضا الصفات الذاتية لا تتعلق بها القدرة ولا
الإرادة، لأنهما تتعلقان بالممكنات دون غيرها، والقسم الأول متحد مع ذاته سبحانه
قديم بقدمه، وأما القسم الثاني فهو من مخلوقاته ومن آياته، ولا يكون متحدات مع ذاته
ولا قديما بقدمه.
إذا عرفت هذه المقدمة يظهر لك جليا أن التكلم انما هو من الصفات الفعلية،
لانطباق ما ذكر ضابطا لها عليه، فإنه يصح أن يتصف الله تعالى بمقابله ويصح سلبه عنه،
ويقال كلم الله موسى ولم يكلم فرعون، وتتعلق قدرته به لأنه سبحانه كان قادرا على

1 - سورة النساء: 163.
242

التكلم مع موسى ويتبع ذلك تتعلق ارادته به.
مع أنه يدل على كونه من صفات الفعل ما رواده الكليني (ره) باسناده عن أبي بصير
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله عز وجل ربنا، والعلم ذاته ولا
معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلما
أحدث الأشياء وكان معلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر
على المبصر والقدرة على المقدور. قال: فقال تعالى الله عن ذلك، ان الحركة صفة محدثة
بالفعل. قال: قلت فلم يزل الله متكلما؟ قال: فقال إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية،
كان الله عز وجل ولا متكلم 1.
وعلى ذلك فلا يلزم من اتصاف الله تعالى بالكلام اللفظي اتحاد الحادث والقديم.
الوجه الثاني ما عن المحقق الدواني (ره)، وهو أن ترتيب الكلمات وجعلها جملا
مترتبة في الذهن هو الكلام النفسي، لأنه معنى قائم بالنفس وجدانا غير العلم.
وفيه: ان هذا عين العلم التصوري، غاية الامر كون المتصور الكلمات. وبعبارة
أخرى: هو الوجود الذهني الذي يعم الأفعال الاختيارية كافة.
الثالث ان انكشاف ثبوت المبدأ والمحمول للموضوع للنفس علم، وأما قرار
النفس وحكمها بذلك فهو غير العلم، فهو الكلام النفسي وصفة من الصفات النفسانية.
وفيه: ان للعلم فردين، أحدهما تصوري، والاخر تصديقي، وما ذكر ليس وراء
العلم التصديقي شيئا.
الرابع ان يطلق الكلام على الموجود منه في النفس، يقال: ان في نفسي كلاما
لا أريد أن أبديه، قال الله تعالى " وأسروا قولكم أو اجهروا به انه عليم بذات الصدور " 2.
وفيه: ان هذا لا يختص بالكلام، مثلا يقول المهندس ان في نفسي صورة بناء
سأنقشها، ويقول الصائم ان في نفسي أن أصوم غدا، وهكذا، والحال ان ذلك ليس وراء

1 - أصول الكافي باب صفات الذات ص 107 من طبعة طهران.
2 - سورة الملك: 13.
243

الوجود الذهني والتصور شيئا.
الخامس انه يطلق المتكلم على الله تعالى، وهذه الهيئة - أي هيئة اسم الفاعل -
وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما وصفيا، ولذا النائم على من أوجد النوم
في الغير بل على من اتصف به. وحيث أن من الواضح أنه لا يتصف الله تعالى بالكلام
اللفظي، لاستحالة اتصاف القديم بالحادث، فلابد من الالتزام بالكلام القديم، وليس هو
الا الكلام النفسي.
وفيه: أولا - ان المبدأ في صيغة المتكلم ليس هو الكلام، فإنه كيفية عارضة
للصوت الحاصل من تموج الهواء، وهو قائم بالهواء لا بالمتكلم، بل المبدأ في صيغة
المتكلم هو التكلم ومعناه ايجاد الكلام، فاطلاقه على الله تعالى وغيره بمعنى واحد.
وثانيا - ان ما ذكر من أن هيئة اسم الفاعل وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات قياما
وصفيا، فهو غلط بل هي وضعت لإفادة قيام المبدأ بالذات نحو قيام، وأما خصوصية
كونه قياما حلوليا أو ايجاديا أو غيرهما فيه تختلف باختلاف الموارد ولا تدخل تحت
ضابط كلي، فالنائم لا يطلق على الموجد للنوم، لكن الضار والنافع يطلقان على موجد
هذين المبدأين. وعليه فلا مانع من صدق المتكلم على الموحد للكلام.
السادس انه لا كلام في صحة الأوامر الامتحانية وتحققها عند عدم تعلق الإرادة
الحقيقية بمتعلقاتها، وتلك الأوامر تدل على معنى قائم في النفس ليس بإرادة لانتفائها
وجدانا ولا بغيرها من الصفات المعروفة من العلم والترجي وما شاكل، وليس هو
الا الطلب الذي هو الكلام النفسي في الانشائيات ويكون قائما بالنفس.
وفيه: ان الأوامر الامتحانية على قسمين:
أحدهما - ما يكون مقصود الامر هو صدور العمل وتحققه خارجا لاستكشاف
قدرة المأمور على ذلك العمل لا لمصلحة فيه، وفي ذلك لا محالة تتعلق إرادة الامر بنفس
العمل لتوقف غرضه الباعث له على الامر على تحقق العمل.
ثانيهما - ما يكون المقصود استكشاف استعداد المأمور لطاعة الامر وعدمه، وفي
مثل ذلك نلتزم بأنه ليس الامر سوى ابراز الاعتبار النفساني، وهو جعل المادة على عهدة
244

المأمور، وليس هناك إرادة ولا طلب. فانقدح أنه لا برهان على وجود الكلام النفسي.
الدليل على عدم ثبوت الكلام النفسي
بل الوجدان يرده وينفيه، ويظهر ذلك بعد بيان مقدمة، وهي: انه لا ريب في أن
للنفس صفات وكيفيات - كالشوق والحب والكراهة وما شاكل، كما أنه لا كلام في أن لها
أفعالا كالتأمل والتفكر والبناء وغيرها، والعلم على مسلك المتقدمين من الفلاسفة من
الصفات وعلى مسلك المتأخرين منهم من أفعال النفس.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن دعوى وجود صفة في النفس غير الصفات المعلومة
المعينة وتسمى بالكلام النفسي، مردودة. والنزاع ينقطع بالرجوع إلى ما في النفس وجعل
الوجدان قاضيا وحاكما، حيث يرى الناظر المنصف أنه ليس في النفس صفة غير تلك
الصفات.
وان أردت أن يطمئن قلبك فراجع نفسك ترى أن كل صفة وفعل توجد في النفس
ويصدر منها عند إرادة التكلم تكون موجودة وصادرة منها عند إرادة الاكل مثل بلا فرق
بينهما أصلا، فكما أنه إذا أراد المتكلم أن يتكلم يتصوره ويتصور دواعيه ثم يحصل له
التصديق بالفائدة فيحصل الميل ثم الجزم والعزم عليه فيعمل قدرته فيتكلم، كذلك عند
إرادة الاكل جميع هذه موجودة بلا نقيصة، فوجود صفة أخرى في النفس عند إرادة
التكلم وتكون مدلولة للكلام اللفظي مما لا يساعده الوجدان.
وان شئت توضيح ذلك فاعلم: ان الجمل اما خيرية أو انشائية:
أما الجمل الخبرية فليس في مواردها، غير تسعة أمور: 1 - مفردات الجملة، 2 -
معاني المفردات، 3 - الهيئة التركيبية لها، 4 - مدلول الهيئة التركيبية، 5 - تصور المخبر مادة
الجملة وهيئتها، 6 - تصور مدلول الجملة، 7 - مطابقة النسبة لما في الخارج أو عدم
مطابقتها له، 8 - علم المخبر بالمطابقة أو عدمها أو شكه فيها، 9 - إرادة المتكلم لايجاد
الجملة في الخارج مسبوقة بمقدماتها. واعتراف المثبتون له بعدم كون شئ من هذه هو
245

الكلام النفسي.
أما الجمل الانشائية فهي كالجمل الخبرية، والفارق بينهما أنه ليس في مواردها
خارج تطابقه أو تطابقه، وعليه فالأمور التي لابد منها في الجملة الانشائية سبعة، وهي
غير السابع والثامن من الأمور المذكورة، وقد علمت أن الكلام النفسي عند القائلين به ليس
واحدا منها.
فالمتحصل ما ذكرناه: ان الكلام النفسي أمر خيالي لا برهان على وجوده، بل
البرهان والوجدان على خلافه، والرويات المروية عن المعصومين عليهم السلام ترده.
وقد وقع الفراغ من هذه الرسالة في اليوم الثامن من شهر صفر سنة 1390 ه‍
والحمد لله أولا وآخرا.
246

الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الامر
وفيه مباحث، الأول: ربما يذكر لصيغة الامر معان، الطلب، التهديد، التراجيث، التمني،
الانذار، الإهانة، الاحتقار، التعجيز، التسخير وغير ذلك وأن حاشية المعالم ذكر خمسة
عشر معنى لها.
ولكن الذي اختاره جماعة من المحققين كالخراساني والنائيني والأصفهاني
وغيرهم ان لها معنى واحدا.
وتنقيح القول بالبحث في موارد: الأول: في تعيين معنى صيغة الامر إذا استعملت
في مقام الطلب الثاني: في أن الصيغة المستعملة في مقام التهديد والترجي وما شابه، هل
استعملت فيما تستعمل فيه إذا كانت في مقام الطلب، أم غيره؟ الثالث: هي انه، هل هي
من قبيل المشترك اللفظي، أو الحقيقة والمجاز؟
اما المورد الأول: فقد ذكر في تعيينه وجوه.
منها: ما اختاره المحقق الخراساني من أنها موضوعة للطلب الانشائي وتستعمل فيه
دائما نعم يختلف الداعي إلى انشائه، فقد يكون هو الطلب الحقيقي، وقد يكون التهديد،
وقد يكون امر آخر، فتخيل ان لها معان متعددة منشأه اشتباه الداعي بالمعنى، نعم، يمكن
247

ان يدعى انها موضوعة لانشاء الطلب فيما إذا كان بداع البعث والتحريك لا بداع آخر
منها، فاستعمالها في الطلب بسائر الدواعي خلاف الوضع لا الموضوع له.
ولكنك عرفت في مبحث الطلب والإرادة، ان الطلب عبارة عن التصدي نحو
المطلوب، وان الامر بعد تحققه يكون مصداقا للطلب لا ان الانشاء يتعلق به، وعرفت ان
الطلب الانشائي لا نتعقل له معنى معقولا.
ومنها: ما اختاره المحقق النائيني وهو ان الصيغة انما وضعت للنسبة الانشائية
الايقاعية.
وفيه: ان المراد ان كان وقوع المادة على المكلف في عالم التشريع، وجعله في
كلفتها، فهي توجد بالصيغة إذ بها يقع المكلف في الكلفة والكلام انما هو في معنى
الصيغة أي الذي تستعمل فيه، وان كان غير ذلك، فعليه زيادة التوضيح والبيان.
ومنها: ما عن جماعة منهم المحقق العراقي، والمحقق الأصفهاني (ره)، من أنه عبارة
عن البعث الملحوظ نسبة بين المادة التي طرئت عليها الصيغة وبين المخاطب بها.
وفيه: ان البعث كالطلب من المفاهيم التي تصدق على الامر بعد وجوده ويكون
الامر بنفسه مصداقا له: لكونه يبعث المأمور نحو الفعل لا انه يكون الامر مستعملا فيه.
فالصحيح ان يقال ان هيئة الامر بمقتضى التهديد الوضعي مبرزة لقصد تفهيم كون
صدور المادة من المخاطب متعلقا لشوق المتكلم، وبعبارة أخرى وضعت لإفادة تلك
النسبة، ولعل ما عن جماعة من كون الحكم عبارة عن الإرادة، يرجع إلى ذلك.
واما ما افاده الاسناد الأعظم من أنها موضوعة لابراز اعتبار الوجوب، وكون
المادة على عهدة المخاطب، فهو لا يرد عليه شئ، ويؤيده النصوص المعبرة عن
التكاليف بالديون، الا ان الأظهر بعد مراجعة موارد استعمالها عند العرف هو ما اخترناه.
واما الموارد الثاني: فقد اختار المحقق الخراساني انها تستعمل في معنى واحد
دائما وانما الاختلاف من ناحية الداعي.
ولكن بعدما عرفت في مبحث الانشاء والاخبار، ومن أن ما هو المشهور، ان حقيقة
الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ، باطل، وليس الانشاء الا ابراز امر نفساني وعرفت
248

ان الصيغة المستعملة في مقام الطلب تكون مبرزة لشوق المتكلم إلى الفعل لا يبقى مورد
لهذا الكلام.
والحق ان يقال بتعدد المستعمل فيه، إذ في مورد الطلب يكون المستعمل فيه هو
الشوق إلى الفعل، وفي الموارد الاخر ليس كذلك كما هو واضح، ولذا تكون الصيغة في
المورد الأول مصداقا للطلب، ويصدق على الامر الطالب وعلى المأمور به المطلوب منه،
وهذا بخلاف الموارد الاخر.
واما المورد الثالث: ففي الكفاية اختيار ان الصيغة موضوعة لانشاء الطلب إذا كان
بداعي البعث والتحريك فتكن حقيقة فيه خاصة.
ولكن بعد ما لا كلام في أنه عند نصب القرنية تكون الصيغة محمولة على انها
استعملت بداعي الجد، ولا يعتنى باحتمال إرادة التهديد مثلا منها، اما للانصراف، أو
للأصل العقلائي: لان بناء العقلاء على حمل الأقوال والافعال على الجد حتى يظهر
خلافه، أو لما افاده (قده)، الصفح عن هذا البحث أولى لعدم ترتب اثر عليه.
دلالة صيغة الامر على الوجوب وعدمها
المبحث الثاني: لا شك في، ان الأوامر الصادرة من الشارع الا قدس على نحوين
أحدهما - ما يكون المكلف ملزما بامتثاله، ويعاقب على مخالفته - ثانيهما - ما يكون
مقرونا بالترخيص على نحو يجوز مخالفته ويسمى، الأول بالوجوب، والثاني بالندب.
وعلى ما هذا وقع الكلام في أنه إذا ورد امر من الشارع ولم تقم قرينة على تعيين
أحدهما فهل الصيغة تحمل على الوجوب أو الندب. وتنقيح القول بالبحث في موردين:
أحدهما: فيما يمتاز به الوجوب عن الندب: وفيه أقوال.
1 - ما ذهب إليه المتقدمون من الأصحاب من تركب الوجوب والاستحباب من
جنس، وهو طلب الفعل، وفصل وهو المنع من الترك، أو الاذن فيه.
2 - ما اختاره المحققون من المتأخرين وهو انهما مترتبتان بسيطتان من الطلب،
249

والمنع من الترك وعدمه من لوازم شدة الطلب وضعفه لا انهما مقومان لحقيقة الوجوب
والندب.
3 - ما اختاره جماعة منهم المحقق النائيني، والأستاذ، من أن الوجوب
والاستحباب ليسا من كيفية المستعمل فيه وهما خارجان عن حريم الموضوع له
والمستعمل فيه، بل المستعمل فيه كالموضوع له واحد فيهما حقيقة في كلا الموردين،
والاختلاف بينهما انما هو من ناحية حكم العقل بلزوم العلم وعدمه، فالوجوب
والاستحباب امر ان انتزاعيان ينتزعان من ترخيص المولى في ترك المأمور به وعدمه،
ولعله إلى ذلك نظر المحقق القمي حيث جعل الوجوب من اللوازم صدور الصيغة من
المولى، الا انه أرجعه بالآخرة إلى المدلول اللفظي.
اما القول الأول: فيرده انه لا يخطر المعنى المركب عند استعمال الصيغة
في الوجوب أو الاستحباب، وبعبارة أخرى ان الصيغة انما تحكى عن الإرادة والشوق،
ولا تحكى عن المنع من الترك أو الاذن فيه كما يظهر ذلك بعد المراجعة إلى المرتكزات
العرفية والمتفاهم العرفي عند الامر بشئ.
واما القول الثاني: الذي اختاره المتأخرون، فاورد عليه المحقق النائيني بان
ما يستعمل فيه الصيغة في جميع الموارد هي النسبة الانشائية، وهي لا شدة فيها ولا ضعف،
وما الإرادة فيه وان كانت قابلة للشدة والضعف في حد نفسها، الا انها ما لم تشتد
لا تكون إرادة سواء أكان المراد فعلا من الافعال الضرورية أم غيرها، واما الطلب الذي
هو عين الاختيار فهو أيضا في جميع الأفعال على حد سواء.
وفيه، أولا: ما عرفت من أن ما يستعمل فيه الصيغة ليس هو النسبة الايقاعية بل
ابراز الشوق بالمادة، ثانيا: انه لو سلم عدم ثبوت المراتب في الإرادة التكوينية بكلا
معنييها، لا نسلم ذلك في الإرادة التشريعية إلى الشوق المتعلق بفعل العبد: إذ لا ريب في أن
له مراتب من جهة اختلاف المصالح الموجبة لتعلق الشوق بالفعل المأمور به، ودعوى:
ان الإرادة التشريعية، والإرادة التكوينية توأمتان، مندفعة: بان ذلك غير تام كما مر.
فالصحيح في الايراد عليه، ان يقال ان مراتب الشوق مختلفة في الواجبات أيضا،
250

ويكون الشوق المتعلق ببعضها آكد من الشوق المتعلق بالآخر، بل يمكن ان يدعى القطع
بان الشوق والميل المتعلق ببعض المستحبات كزيارة أبى عبد الله (ع) آكد بمراتب من
الشوق المتعلق ببعض الواجبات، وعليه فلا يمكن ان يكون الوجوب و الاستحباب،
مرتبتين من الطلب، فان قيل إنه يمكن ان يقال، ان الطلب الوجوبي، هو ما نشأ عن
المصلحة اللزومية، والاستحبابي ما كان عن المصلحة غير اللزومية، أجبنا عنه، بان
الوجوب والاستحباب، متحققان حتى مع عدم وجود المصحلة فكيف يصح جعل
المصلحة ملاكا للوجوب والاستحباب، مع أنه لا يمكن ان يكون المصلحة دخيلة في
الموضوع له: لأنها من دواعي الامر ومقدمه عليه، فكيف اخذها في المستعمل فيه،
وهل هذا الا تأخر ما هو متقدم فتأمل.
فالأظهر ان المستعمل فيه في الموردين واحد حقيقة، والاختلاف بينهما انما
يكون من ناحية حكم العقل بلزوم الامتثال وعدمه، توضيح ذلك، انه إذا امر المولى عبده
بشئ، فان رخص في مخالفته فلا سبيل للعقل إلى الحكم بلزوم اتيان المأمور به، وان لم
يرخص في الترك، فالعقل من باب لزوم دفع الضرر المحتمل يحكم بلزوم الاتيان
بالمأمور به، بمعنى ان العقل يدرك استحقاق العقاب على مخالفته، وبعبارة أخرى، انه لو
عاقبه المولى على ترك ما امر به، لا يعد المولى مذموما بل العقلاء يرون ان له ذلك، وان
العبد مستحق له، جريان على قانون المولوية والعبودية، وهذا الحكم من العقل ثابت حتى
مع علم العبد بعدم المصلحة في المأمور به، وبذلك يظهر أمور.
1 - ان ما عن المحقق النائيني (ره)، من الاختلاف انما هو من حيث المبادئ،
حيث إن ايقاع المادة على المخاطب، تارة ينشأ عن مصلحة لزومية، وأخرى عن مصلحة
غير لزومية، غير تام.
(2) ان ما عبر به في كلمات القوم، من أن الامر حقيقة في الوجوب، مسامحة في
التغيير: فان الوجوب انما يحكم به العقل لو امر المولى بشئ ولم يرخص في تركه، بل
لو لم يصل الترخيص إلى العبد، ولذا يحكم بالوجوب مع عدم وصول الترخيص وان
احتمل وجوده.
251

3 - ان حمل الامر على الوجوب لي من الظهور اللفظي، ولذا يحكم به، ولو
أنشأ الحكم بغير اللفظ.
4 - انه إذا استعمل الصيغة في موارد الوجوب والاستحباب معا، كما في
قوله (ع) اغتسل للجمعة والجنابة، ورخص في ترك أحدهما دون الاخر، كما لو قال
لا باس بترك غسل الجمعة، يحكم بوجوب ما لم يخص في تركه، واستحباب ما رخص
فيه من دون ان يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى، أو استعماله في الطلب الجامع
غير المتفصل بفصل، أو غير محدود بحد الشدة والضعف، أو يلزم خلاف ظاهر من
الظهورات المتبعة وهذا بخلاف المسلكين الآخرين كما لا يخفى فهذه ثمرة مهمة مترتبة
على ما حققناه.
المورد الثاني: هل يحمل الامر على الوجوب مع عدم القرينة أم لا؟
أقول على ما اخترناه حمل الامر على الوجوب واضح. واما على المسلكين
الآخرين:
فقد يقال كما عن جماعة منهم المحقق الخراساني انه حقيقة في الوجوب.
واستدل لذلك بان المنساق إلى الذهن والمتبادر هو الوجوب عند استعماله بلا قرينة.
ويرده ان التبادر وان كان علامة الحقيقة الا انه فيما إذا كان ذلك من حاق اللفظ
والا فلو احتمل ان يكون لغير ذلك كما في المقام إذ لعله يكون من جهة الاطلاق
ومقدمات الحكمة كما ذهب إليه بعض، أو من جهة حكم العقل كما اخترناه فلا يكون
هذا الانسباق علامة الحقيقة.
وأورد صاحب المعالم على القوم انه لو سلم كون الصيغة حقيقة في الوجوب الا
ان كثرة استعمالها في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما تكون سببا لصيرورة الندب
مجازا مشهورا، والشهرة تارة تصل إلى حد تحصل العقلة الوضعية فحينئذ لو هجر
المعنى الحقيقي يصير هو معناه المنقول إليه، والا فيكون من قبيل المشترك اللفظي، وان
لم تصل إلى هذا الحد، فلا يحمل اللفظ المجرد عن القرينة على شئ منهما.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بأجوبة ثلاثة: الأول: ان كثرة الاستعمال في المعنى
252

المجازى توجب النقل، أو الحمل عليه، أو التوقف فيما إذا لم يكن اللفظ مستعملا في
المعنى الحقيقي كثيرا، والا فلا توجب شيئا من ذلك، والمقام من هذا القبيل لكثرة
استعمال الصيغة في الوجوب أيضا.
وفيه: ان استعمال الصيغة في الاستحباب أكثر من استعمالها في الوجوب بمراتب،
بل نسبة الثاني إلى الأول نسبة الواحد إلى المائة، كما يظهر لمن راجع الواجبات كالصلاة،
فان مستحباتها أزيد من واجباتها كما لا يخفى، هذا مضافا إلى المستحبات المستقلة
كآداب الاكل ونحوها.
الثاني: ان المجاز المشهور انما يكون فيما إذا كان استعمال اللفظ فيه بلا قرينة،
والا فان كان مع القرينة المصحوبة لا تكون كثرة الاستعمال موجبا لصيرورته مجازا
مشهورا.
وفيه: ان المجاز الشمهور هو ما كثر استعمال اللفظ فيه مع القرينة، ثم وصل إلى
حد يحمل اللفظ المجرد عن القرينة أو يتوقف ولا يحمل لا عليه ولا على المعنى
الحقيقي.
الثالث: النقض بصيغة العموم حيث إنه كثر استعماله في الخاص حتى قبل ما من
عام الا وقد خص ولا ينثلم بذلك ظهوره بل تحمل على العموم ما لم تقم قرينة على إرادة
الخصوص.
وفيه: أولا ان مسلكه المنصور، ان التخصيص لا يوجب استعمال العام في
الخاص، بل العام مستعمل فيما وضع له وان التخصيص يكون بتعدد الدال والمدلول
وثانيا لو أغمضنا عن ذلك، فيما انه في موارد كون التخصيص بدال متصل بالعام لا بدليل
منصل ليس شائبه المجازية كما لا يخفى، فلا يتم ما ذكره لعدم كون التخصيص
بالمنفصل كثيرا كي يصح النقص المزبور. وثالثا ان ألفاظ العموم ليس لها أوضاع خاصة
في الشرعيات، وحيث إن التخصيص في غير الشرعيات من موارد استعمال العموم قليل
جدا، فدعوى كثرة التخصيص واستعمال العام في الخاص بالنسبة إلى استعماله فيما وضع
له، ممنوعة.
253

وربما يورد على صاحب المعالم (ره) بوجه آخر، وهو ان كثرة الاستعمال الموجبة
لكون المجاز مجازا مشهورا، انما تكون في الاعلام الشخصية وأسماء الأجناس، لا في
مثل الهيئات التي تختلف باختلاف المواد المتهيئة بها التي ينتزع منها على اختلافها جامع
يعبر عنه بصيغة افعل مثلا واستعمال هيئات خاصة في الندب لا يوجب النس الذهن بالنسبة
إلى غر تلك الهيئات.
وفيه: انه قد مر في أوائل الكتاب ان الهيئات موضوعة بالوضع النوعي فلكل هيئة
وضع واحد في ضمن أي مادة تحققت فهي تستعمل دائما في الجامع.
فالمتحصل ان ما افاده صاحب المعالم متين.
وفي المقام نزاع آخ وهو انه على فرض عدم كونها حقيقة في الوجوب، هل
لا تكون ظاهرة فيه أيضا.
أقول بناءا على ما اخترناه من خروج الوجوب والاستحباب عن حريم الموضوع
له والمستعمل فيه، لا يبقى مورد لعقد هذا البحث، كما هو واضح.
واما على القول الاخر، فقد استدل لظهورها في الوجوب، بوجوده:
الأول: غلبة استعمالها في الوجوب.
الثاني: غلبة وجوده، والجواب عنهما ما ذكرناه انتصارا لصاحب المعالم (ره) من أن
استعمالها في الندب أكثر من استعمالها في الوجوب لغلبة وجوده فراجع.
الثالث: ما ذكره صاحب الحاشية، وهو أكملية الوجوب وهي توجب ظهور اللفظ
فيه وانصرافه إليه، وهو بظاهره بين الفساد، ويرد عليه ما افاده المحقق الخراساني من أن
الأكملية غير موجبة للظهور إذا ظهور لا يكاد الا لشدة انس اللفظ بالمعنى بحيث
يصير وجها له ومجرد الأكملية لا يوجبه. ولكن الظاهر ولا أقل من المحتمل انه أراد بذلك
ما اختاره المحقق الخراساني كما ستعرف.
الرابع: ما افاده المحقق الخراساني انه لو كان الامر بصدد البيان فقضية مقدمات
الحكمة هو الحمل على الوجوب، فان الندب كأنه يحتاج إلى مؤنة بيان التحديد والتقييد
بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب فإنه لا تحديد فيه.
254

وهذا الوجه لو قصر النظر على ما هو ظاهره بين الفساد: لان الوجوب يحتاج إلى
مؤنة بيان التقييد بالمنع من الترك، دون الندب الذي قيده عدم المنع من الترك: إذ يكفي
في اثباته عدم نصب القرينة على المنع، فالا طلاق يقتضى الحمل على الندب لا
الوجوب.
ولكن الظاهر أن المحقق الخراساني ينبه ذكره على امر دقيق لطيف، وهو ان
الوجوب والاستحباب امر ان بسيطان لا مركبان، من طلب شئ مع المنع من الترك، أو
الاذن فيه، والوجوب هو الطلب التام الذي لا حد له من جهة النقص وبلغ مرتبة لا يرضى
الامر بترك ما تعلق به، والندب هو الطلب المحدود الفاقد لمرتبة من الإرادة فهو منفصل
بفصل عدمي ليس من سنخ الطلب، وعليه فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم ينصب
قرينة على إرادة الحد يحمل الكلام على إرادة المرتبة التامة الخالصة غير المحتاجة إلى
بيان الحد لعدم الحد له، ولعل هذا هو مراد صاحب الحاشية من الأكملية والشاهد عليه،
قوله: ان الانصراف الموجب لتبادر الوجوب من الصيغة انصراف حقيقة الطلب ولبه لا
انصراف الصيغة.
ويرد على ذلك مضافا إلى أنه امر دقيق لا يتكل عليه عند بيان عمر عرفي، ان لازم
ذلك حمل الامر على أعلى مراتب الوجوب في الشدة والتأكد.
فالصحيح في وجه ظهور الامر في الوجوب بناءا على ذلك هو بناء العقلاء كما
يظهر بالمراجعة إلى الأوامر الصادرة عن الموالى العرفية: فإنه لا ريب في عدم صحة
الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب، ويصح عقاب المولى على مخالفته، وان لم يعين
الوجوب، راجع المحاورات العرفية.
دلالة الجملة الخبرية على الوجوب
المبحث الثالث: هل الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب ككلمة أعاد
- بعيد - أو ماشا كلهما ظاهرة في الوجوب أم لا؟ والكلام فيها يقع مقامين.
255

الأول: في أن الجملة الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب، هل هي تستعمل في
غير معناها، أو تكون مستعملة في معناها، وعلى الأول، فهل هي تستعمل فيه مجازا، أم
بنحو الحقيقة، وعلى الثاني، فهل هو استعمال فيه بداعي الاعلام، أو انه
من قبيل الاخبار عن تحق المقتضى، لأجل العلم بتحقق المقتضى بالكسر للغفلة عن
مانعه أو عدم شرطه، أو عدم الاعتناء به كما هو كذلك في اخبار المنجمين والأطباء
وجوه وأقوال.
أقول: اما الوجه الأول: فقد اختاره القدماء، وهو خلاف الاستعمالات الشايعة
المتعارفة.
واما الوجه الثاني: فقد اختاره الأستاذ الأعظم، وقد تقدم الكلام في توضيح ما
ذكره في هذا المقام وما يرد عليه في أوائل الكتاب في مبحث الاخبار والانشاء فراجع.
واما الوجه الرابع: فيرد عليه ان امر المولى وطلبه ليس متقضيا للفعل بل يكون
داعيا إليه، وعلى فرض كونه مقضيا ليست إرادة المأمور من قبيل الشرائط التي تغفل عنها
ولا يعتنى باحتمال عدمها عند العرف والعقلاء.
واما الوجه الثالث: فأفاده المحقق النائيني (ره) قال إن المستعمل فيه في الموردين
أي مقامي الانشاء والاخبار شئ واحد وهو - النصبة التلبسية - غاية الامر انها إذا
استعملت في مقام الاخبار يكون ظرف النسبة الخارج وتدل على النسبة التلبسية
في الخارج وإذا استعملت في مقام الانشاء يكون ظرفها هو عالم التشريع.
وفيه: ان هيئة فعل المضارع لم توضع لكل نسبة تلبسية، بل للنسبة التلبسية
الصدورية، وعليه فإذا استعملت في مقام الانشاء لا تكون مستعملة فيما وضعت له على
هذا فان النسبة المتحققة بالطلب في عالم التشريع غير هذه النسبة.
والحق ان يقال انها تستعمل في معنى واحد سواء، أكانت مستعملة في مقام
الاخبار، أم استعملت في مقام الانشاء، ولكن في المورد الثاني يكون الاستعمال كنائيا أي
استعملت في معناها وأريد منه الانتقال إلى لازمه، وهو تعلق الشوق بالفعل، وهذا النحو من
من الاستعمال شايع.
256

المقام الثاني: في وجه دلالتها على الوجوب، وملخص القول فيه، ان الكلام في
ذلك هو الكلام في دلالة صيغة الامر على الوجوب، من حيث الأقوال، والمختار،
والأدلة، الا ان في المقام وجها آخر للدلالة على الوجوب ذكره المحقق الخراساني،
وحاصله ان الاخبار بالوقوع في مقام الطلب كاشف عن كون المتعلق مطلوبا بنحو
لا يرضى المولى الا بوقوعه وتحققه، ولكن يمكن ان يورد عليه، بعدم انحصار النكتة
المصححة لاستعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب في ذلك، بل نفس كون المتعلق
موردا للشوق ومطلوبا للمولى، يصلح لذلك لكونه محركا لوقوعه في الخارج، فالحق انها
كصيغة الامر في ذلك بلا تفاوت بينهما.
التعبدي والتوصلي
المبحث الرابع: في الواجب التعبدي والتوصلي وقبل بيانهما تقدم مقدمات.
الأولى ان الواجب التوصلي يطلق على معنيين.
الأول ما لا يعتبر فيه قصد القربة كدفن الميت وكفنه ورد السلام وما شاكل، وفي
مقابله الوظيفة الشرعية التي شرعت لأجل التعبد والتقرب بها.
الثاني مالا يعتبر فيه المباشرة، أو الاختيار، أو الاتيان به في ضمن فرد سائغ فلو
تحقق من دون التوصلي مرة يطلق ويراد منه مالا يعتبر فيه المباشرة من المكلف، وأخرى
يطلق ويراد منه، مالا يعتبر فيه الالتفات والاختيار، وثالثة يطلق ويراد منه مالا يعتبر فيه ان
يكون في ضمن فرد غير محرم، ويقابل الأول ما يعتبر فيه المباشرة، والثاني ما يعتبر فيه
الاختيار، والثالث ما يعتبر ان يكون في ضمن فرد سائغ.
والنسبة بين التعبدي بالمعنى الأول وهو ما يعتبر فيه قصد القربة، والقسم الأول من
التعبدي بالمعنى الثاني عموم من وجه إذ جملة من الواجبات التعبدية بالمعنى الأول
توصلي بالمعنى الثاني، منها: الزكاة فإنها واجبة تعبدية يعتبر قصد القربة، وتسقط عن
257

ذمة المكلف بفعل الغير سواء كان بالاستنابة أو بالتبرع مع الاذن، واما سقوطها بالتبرع من
دون الاذن فلا يخلوا عن اشكال، ومنها: الصلوات الواجبة على ولى الميت فإنها تسقط عن
ذمته باتيان غيره، ومنها: صلاة الميت فإنها تسقط عن ذمة المكلف بفعل الصبي غير
المميز، ومنها: الحج فإنه واجب على المستطيع ويسقط عنه بفعل غيره إذا كان عاجزا
ومنها غير ذلك.
وجملة من الواجبات التعبدية بالمعنى الثاني توصلية بالمعنى الأول، كرد السلام.
وجملة منها تعبدية بكلا المعنيين، كالصلوات اليومية، وصيام شهر رمضان
وما شاكل.
كما أن النسبة بين التعبدي بالمعنى الأول، والقسم الثاني من التعبدي بالمعنى الثاني
عموم من وجه: لتصادقهما على الصلوات الواجبة: وافتراق الأول في الواجبات التعبدية
الصادرة عن الغير كالصلوات الواجبة على ولى الميت إذا اتى به غيره فان فعل الغير خارج
عن تحت اختياره وقدرته، وافتراق الثاني، في رد السلام.
نعم - النسبة بين التعبدي بالمعنى الأول والقسم الثالث من التعبدي بالمعنى الثاني
عموم مطلق إذ لا واجب يعتبر فيه قصد القربة ويسقط بالاتيان في ضمن فرد محرم كما
لا يخفى.
الثانية: قد فسر المحقق الخراساني التوصلي والتعبدي بالمعنى الأول بقوله:
الوجوب التوصلي هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول الواجب ويسقط بمجرد
وجوده بخلاف التعبدي فان الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك بل لابد في سقوطه
وحصول غرضه من الاتيان به متقربا به منه تعالى انتهى.
وفيه أولا: ان الفرق بينهما انما يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب ولا
فرق بينهما من ناحية الغرض من الوجوب - توضيح ذلك - انه في كل امر من أوامر
المولى الحكيم غرضان أحدهما في طول الاخر، فان المولى إذا لا حظ الفعل الصادر من
العبد اختيارا فربما يرى أن فيه مصلحة فيشتاق إلى فعله فيحصل من ذلك غرض في الامر
به، وهو جعل ما يمكن ان يكون داعيا للعبد إلى الفعل: إذ لو امر المولى، ولم يرخص في
258

تركه يصير هذا الامر صغرى لكبري عقيلة، وهي قبح مخالفة المولى، فامر المولى
بضميمة تلك الكبرى يحرك العبد نحو الفعل، فاحد الغرضين مترتب على الاخر،
ويكون أحدهما مترتبا على الواجب، وهو الغرض الأول، والآخر مترتبا على الوجوب
وهو الثاني، والغرض المترتب على الامر والوجوب يترتب على نفس الامر في جميع
الموارد بلا توقف على شئ آخر سوى الوصول إلى العبد، وبعبارة أخرى يترتب الغرض
عليه في ظرف وصول التكليف إلى العبد، واما الغرض المترتب على الواجب، أي
المصلحة فتارة يترتب على مطلق وجوده، وأخرى يترتب عليه إذا اتى به بقصد القربة،
ففي المورد الأول يكون الواجب توصليا، وفي المورد الثاني يكون تعبديا.
ويترتب على هذا مضافا إلى عدم تمامية ما ذكره المحقق الخراساني ان الاطلاق
الذي هو محل الكلام من أنه يقتضى التعبدية أو التوصلية هو اطلاق المادة لا اطلاق
الصيغة، ويكون جعل هذا المبحث من مباحث الصيغة في غير محله.
وثانيا: مع الاغماض عن هذه المسامحة الواضحة، جعل التعبدي خصوص ما
لا يحصل الغرض المترتب عليه الا مع اتيانه بقصد القربة، غير صحيح: إذ من المطلوبات
التعبدية العبادات الذاتية وهي ما تكون بنفس ذاتها مع قطع النظر عن انطباق عنوان إطاعة
المولى عليها التي هو السبب لصيرورة غيرها عبادة، يصدق عليها عنوان التخضع والتذلل
واظهار العبودية كالسجود وغيره من الافعال التي بنى العقلاء قاطبة على الاتيان بها في
مقام اظهار العبودية والتخضع، ولا يعتبر في اتصاف هذه الأفعال بالعبادية: الاتيان بها
بقصد القربة، بل تتصف بها لو أتى بها، بقصد عناوين أنفسها، كعنوان السجود، مع قصد
كونها تعظيما لشخص خاص، ما لم ينه عنها الشارع، فان سئل ان ما هو عبادة كذلك كيف
يعقل النهى عنه، أجبنا عنه: بأنه ربما يكون المكلف معه من الأرجاس، ما يوجب عدم
قابليته لان يعبد ربه، ولهذا يصح النهى عنه.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأولى ففي مقام الفرق بينهما، ان يقال ان التعبدي هو ما
لا يحصل الغرض المترتب على الفعل الا مع الاتيان به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع،
والتذلل، واظهار العبودية والتوصلي غيره.
259

وقد أورد المحقق النائيني على من فرق بينهما من ناحية الغرض متبنيا على ما ذكره
في مبحث الصحيح والأعم، من أن الافعال بالإضافة إلى المصالح من قبيل العلل المعدة،
لامن قبيل الأسباب بالإضافة إلى مسبباتها، ولذلك التزم باستحالة جعلها متعلقة للتكليف،
وحاصل الايراد ان حصول المصلحة، عدمها، أجنبيان عن المكلف، فلا معنى لكونه
بصدد تحصيلها، بله هو مكلف بايجاد المأمور به في الخارج.
وفيه: مضافا إلى ما تقدم في ذلك المبحث، من أن نسبة الافعال إلى الاغراض
الموجبة للامر بها، نسبة الأسباب إلى مسبباتها، وان كانت بالإضافة إلى الغرض الأقصى
من قبيل العلل المعدة، انه لو سلم ذلك يتم الفرق المذكور أيضا، إذ حينئذ يقال، ان
الواجب التوصلي هو ما كان نفس وجود الفعل من قبيل العلة المعدة، والواجب التعبدي
هو ما كان الفعل الماتى به بنحو ينطبق عليه عنوان التخضع، والتذلل من قبيل العلة المعدة،
لا مجرد وجود الفعل.
الدواعي القربية
الثالثة: هل الداعي القربى أي ما يوجب اتصاف الفعل بالعبادية يكون منحصرا في
قصد الامر كما اختاره صاحب الجواهر، أم يعم قصد المحبوبية، كما هو الأقوى أم هناك
دواع قربية غيرهما، وجوه، وأقوال.
الأظهر هو القول الثاني، وهو انحصار الداعي القربى في الامر، والمحبوبية، واما
غيرهما مما توهم كونه من الدواعي القربية فلا تكون بأنفسها منها.
توضيح ذلك أن ما يتوهم ان يكون منها أمور: الأول: حصول القرب إليه تعالى
الثاني: شكر نعمه الثالث: تحصيل رضاه، والفرار من سخطه الرابع: رجاء الثواب، ورفع
العقاب الخامس: حصول المصلحة الكامنة في الفعل.
وشئ منها بنفسه لا يكون موجبا للعبادية: إذ القرب إليه تعالى سواء أ كان المراد
منه القرب الروحاني، أم القرب المكاني الا دعائي لا يحصل الا باتيان المطلوب الشرعي
260

امتثالا لامره تعالى.
كما أن، نعمه لا تشكر الا به، ورضاه لا يحصل الا بذلك.
واما رجاء ثوابه والتخلص من النار، فهما أيضا يترتبان على امتثال امره تعالى فلو
كان قصده ذلك على وجه المعاوضة بلا توسيط قصد الامر، لا يكون الماتى به عبادة
ولا يصح.
وعليه فيتم ما عن العلامة في جواب المسائل المهنائية - اتفقت العدلية على أن من
فعل فعلا لطلب الثواب أو لخوف العقاب لا يستحق بذلك ثوابا.
ومما ذكرناه، ظهر حال المصلحة الكامنة إذ استيفائها في العبادات لا يمكن الا
باتيانها امتثالا لامره تعالى، فلو اتى بالعبادة من دون قصد القربة، ولو كان من قصده
حصول المصلحة لا تستو في تلك لترتبها على الفعل الماتى به امتثالا لامره تعالى.
مع أن اتيان العمل بداعي حصول المصلحة يكون كالتجارة للربح لا يوجب
القرب إلى الله تعالى فلا يكون ذلك من الدواعي القربية، وان كانت المصلحة مترتبة على
ذات الفعل.
وبالجملة شئ من الأمور المذكورة لا يترتب في العبادات على ذات العمل كي
يقصد به ذلك، فلا يحسن عد شئ منها في قبال قصد الامر من الدواعي القربية.
ثم انه بعد ما عرفت من أن العبادة في غير العبادات الذاتية لا تتحقق الا باتيان الفعل
بقصد الامر أو المحبوبية، فاعلم أنه حيث يكون الأمور الخمسة المذكورة آنفا وغيرها
من قبيل داعي الداعي، فيكون لغاياتا الامتثال درجات. أحدها وهو أعلاها ان يكون
الداعي والمحرك لاتيان الفعل بقصد القربة، أهلية المطاع للعبادة، وهذه المرتبة لا توجد
الا للأوحدي بل ليس لأحد دعواها الا لمن ادعاها - بقوله (ع) إلهي ما عبدتك خوفا من
نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك 1. الثاني، ان يكون أقصى
غرضه حصول القرب إليه تعالى أو تحصيل رضاه أو شكر نعمه التي لا تحصى الثالث. ان

1 - مرآة العقول ج 1 ص 101 باب النية.
261

يقصد به حصول الثواب ورفع العقاب، أو حصول المصلحة، أو زيادة النعم الدنيوية إلى
غير ذلك.
اخذ قصد الامر في المتعلق
وبعد ذلك نقول لا كلام ولا اشكال فيما إذا علم كون الواجب توصليا أو تعبديا
بالمعنى الأول أو الثاني.
وانما الكلام والاشكال فيما إذا شك في كون الواجب توصليا أو تعبديا والكلام
فيه في مقامين - الأول في الشك في التعبدي والتوصلي بالمعنى، الأول - الثاني في الشك
في التعبدي والتوصلي بالمعنى الثاني.
اما المقام الأول: - فالكلام فيه في موردين، الأول، في مقتضى الأصل اللفظي من
عموم أو اطلاق، الثاني - في مقتضى الأصل العملي وانه يقتضى البناء على كونه تعبديا، أو
توصليا.
اما المورد الأول: فالمعروف بين الأصحاب انه لا اطلاق في المقام كي يتمسك به
لاثبات كون الواجب توصليا، وهذه الدعوى مبتنية على أمرين، الأول. دعوى استحالة
تقييد الواجب بقصد القربة وعدم امكانه، الثاني. دعوى عدم امكان التمسك بالاطلاق في
صورة استحالة التقييد، فلابد من البحث في هاتين الدعويين. اما الدعوى الأولى فتنقيح
القول فيها بالبحث في موارد.
1 - هل يمكن اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول، فيكون دخل قصد القربة
في العبادات كدخل ساير الاجزاء والشرائط بأخذه تحت الامر وفي حيز الخطاب
بالمركب، أم لا.
2 - انه هل يمكن دخله في المتعلق بالامر الثاني بحيث يكون في كل عبادة امر ان
- أحدهما متعلق بذات العمل - والثاني باتيانه بداعي امره، أم يستحيل ذلك، أو غير واقع.
3 - إذا لم يمكن اخذ قصد الامر في المتعلق لا بأمر واحد ولا بأمرين، هل يمكن
262

اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره من الدواعي القربية، أم لا يمكن.
4 - إذا لم يمكن شئ من ذلك، هل يمكن اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق أم لا.
5 - هل يكون دخل قصد القربة في العبادات من باب دخله في حصول الغرض
بلا اخذه في خطاب، فيكون الالزام به عقليا من باب لزوم تحصيل غرض المولى، أم
لا يفعل ذلك.
اما المورد الأول: فقد استدل لاستحالة اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول
بوجوده.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني في الكفاية، وهو انه يلزم تقدم الحكم على
نفسه، وقد قربه في صدر كلامه بما حاصله ان قصد الامر متأخر عن الامر، لأنه يتأتى من
قبل الامر، فلا يمكن اخذه في المتعلق الذي هو متقدم على الامر، وإلا لزم تقدم ما هو
متأخر، وظاهر ذلك أن المحذور انما هو في مقام جعل الحكم، وحيث إن هذا الوجه كان
واضح الفساد، لان ما لا يتأتى الا من قبل الامر انما هو قصد الامر خارجا، وما يعتبر في
متعلق الامر هو لحاظه قبل الامر ولا تنافى في تأخر الشئ خارجا وتقدمه لحاظا.
فقد غير هذا التقريب. بقوله فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة لا يكاد يمكن اتيانها
بقصد امتثال أمرها، ونظره إلى لزوم الدور في مرحلة الاتصاف خارجا كما صرح به في
حاشيته على رسائل الشيخ الأعظم الشيخ الأعظم في رسالة القطع.
قال في التعليقة، وبالجملة ما لم يكن الامر متعلقا بنفس الصلاة بما اعتبر فيها من
الاجزاء والشرائط وحدها من دون تقييد بالقربة ونحوها لم يكد يتمكن منها بداهة
توقف اتيانها بداعي أمرها على كون الامر بها وحدها، ومن هنا انقدح لزوم الدور الصريح
في ذلك في اتصاف الصلاة الماتى بها بقصد القربة مثلا بالوجوب أو الاستحباب. تقريره
انه يتوقف حينئذ اتصافها بأحدهما وكونها واجبة أو مستحبة على قصد امتثال الامر بها
ضرورة توقف تحقق الصيغة والاتصاف على الموصوف والمفروض انه لا يتحقق بدونه
ويتوقف قصد امتثال الامر بها واتيانها بداعي أمرها على كونها واجبة أو مستحبة
ومحكومة بأحدهما لما عرفت من عدم التمكن منه بدونه انتهى. فيكون هذا وجها اخر
263

للامتناع.
ثم انه (قده) أورد عليه في الكفاية، بأنه إذا لم يكن محذور في عالم الجعل كما هو
المفروض لامكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر، المستلزم ذلك لتعلق الامر بنفس
الصلاة في ضمن الامر بالصلاة المقيدة بقصد الامر، فلا محالة يمكن اتيان الصلاة بداعي
الامر الضمني المتعلق بها فلا يلزم تقدم ما هو متأخر.
وأجاب عن ذلك بان اعتبار قصد الامر ان كان من قبيل الشرط ويكون الدخيل
التقيد به دون القيد، فذات المقيد لا تكون مأمورا بها فان الجزء التحليلي لا يتصف
بالوجوب أصلا، ولا ينحل الامر بالمقيد إلى الامر بذاته والامر بقيده، وان كان من قبيل
الجزء فيكون المأمور به نفس الصلاة، وقصد الامر، ويكون قصد الامر جزء للمأمور به:
فهو وان لم يلزم ما ذكر من المحذور الا انه يرد عليه أمران: الأول - ان اعتباره كذلك
موجب لتعلق الوجوب بأمر غير اختياري إذا لفعل وان كان بالإرادة اختياريا الا ان
الإرادة ليست اختيارية والا لزم التسلسل. الثاني - ان الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه
انما يصح إذا اتى بالمركب بهذا الداعي، لا إذا اتى به وحده مثلا انما يصح الاتيان بالركوع
بقصد الامر بالصلاة في ضمن الاتيان بالصلاة لا فيما إذا اتى به وحده وهذا غير ممكن
في المقام إذ لا يمكن الاتيان بالمركب من قصد الامر بداعي امتثال امره وإلا لزم كون الامر
داعيا إلى داعوية نفسه، - وهو حد علية الشئ لعلة نفسه.
أقول يمكن ان يختار كون قصد الامر جزء للمأمور به، ولا يرد عليه ما ذكره من
الامرين: اما الأول فلان قصد الامر ليس هو الإرادة بل يكون من دواعيها، إذ المحرك
والداعي للإرادة، ربما يكون أمرا إلهيا، وربما يكون نفسانيا، ويعتبر في العبادات ان
يكون من قبيل الأول، مع أن لزوم التسلسل من محاذير لا بدية اختيارية الإرادة، واما ان
الإرادة هل يمكن ان تتحقق متصفة بالاختيارية فهو لا يترتب عليه ذلك المحذور،
وبديهي انه يمكن، وذلك لأنه وان سلم تحقق الإرادة في بعض الأحيان من غير اختيار
المريد، الا انه لا شبهة في أنه قد يتحقق بالإرادة، ويضاعف إلى ذلك ما حققناه في محله
من أن الإرادة إرادية بنفس ذاتها لا بإرادة أخرى فلا يلزم التسلسل.
264

واما الثاني: فوضوح وجه النظر فيه يتوقف على بيان مقدمات.
الأولى: ان الامر المتعلق بمركب اعتباري من الموجودات المتعددة ينحل إلى
أوامر عديدة: فان الامر ليس الا ابراز شوق المتكلم بتحقق المأمور به، فإذا كان له
وجودات متعددة فلا محالة يكون كل موجود متعلقا لشوق المولى المبرز بالامر، فيكون
كل جزء محكوما بحكم، غاية الامر حيث تكون المصلحة المترتبة عليها واحدة وهي
لا تستو في الا باتيان جميع الاجزاء، فلا محالة يكون لهذه الأحكام المتعددة، امتثال
واحد، وعصيان واحد، فتكون ارتباطية.
الثانية: ان المتعلق للامر ان كان واجبا توصليا، واتى المكلف ببعض تلك الأجزاء
بداعي القربة، وببعضها الاخر لا بداعي القربة، يثاب على اتيانه بما قصد به الامتثال،
ولا يتوقف ذلك على اتيان الجميع بداعي امتثال الامر كما لو كان الداعي لغسل الثوب
مقدمة للصلاة، في الغسلة الأولى هو امر المولى، وفي الغسلة الثانية غيره.
الثالثة: انه ربما يكون بعض اجزاء المأمور به تعبديا وبعضها توصليا، نظير ما لو
نذر ان يصلى في هذه الليلة، صلاة الليل، وبكرم العالم بنحو يكون المجموع متعلقا لنذر
واحد: فان جزء المأمور به بالامر الوجوبي، وهي الصلاة، تعبدي، وجزئه الاخر وهو
اكرام العالم، توصلي، بل الظاهر أن أكثر الواجبات التعبدية كذلك، باعتبار أكثر شروطها،
الا ترى: ان الصلاة التي هي من الواجبات التعبدية مشروطة بالاستقبال والتستر الذين هما
واجبان توصليان فيها، فلو ستر لا لقصد الامر صحت صلاته، ودعوى: ان لازم ذلك كون
الامر الواحد تعبديا وتوصليا: وذلك كاستعمال الفظ في أكثر من معنى بل أردأ منه،
مندفعة: بما عرفت من أن الوجوب في التعبدي والتوصلي واحد، ولا اختلاف فيه، وانما
الاختلاف بينهما يكون من ناحية الغرض المترتب على الواجب فالتعبدي والتوصلي
عنوانان طارئان عليه باعتبار ذلك لا انهما من الخصوصيات الذاتية الموجبة لتعدد الامر.
إذا عرفت هذه المقدمات فاعلم، انه يمكن ان يؤخذ، قصد الامر في المتعلق من
دون ان يلزم هذا المحذور: إذ المأمور به حينئذ شيئان، أحدهما الصلاة التي هي من
الافعال الجوارحية، والثاني قصد الامر الذي هو فعل جانحي، وكل منهما له امر خاص
265

غير الاخر، ويكون أحدهما وهي الصلاة من الواجبات التعبدية، والاخر واجبا توصليا،
والامر المتعلق بقصد الامر انما يدعو إلى اتيان الجزء الاخر أي الصلاة بقصد أمرها
لا بداعي آخر، فمتعلق هذا الامر الضمني انما هو قصد ذلك الامر الضمني، فيكون محركا
نحو اتيان ذلك المأمور به بداعي امره، فلا يلزم كون الامر داعيا داعوية نفسه، بل إلى
داعوية غيره بمعنى جعله داعيا.
ومن ما ذكرناه ظهر عدم تمامية الوجه الثالث من الوجوه التي ذكروها لامتناع اخذ
قصد الامر في المتعلق وهو ما ذكره بعض المحققين (ره)، وحاصله انه لا ريب في أن الامر
انما يحرك نحو المتعلق فلو جعلت دعوة الامر ومحركيته، التي هي معنى قصد الامر،
بعض المتعلق لزم كون الامر محركا نحو جعل نفسه محركا، وهو محال: فإنه على حد
كون الشئ علة لعلية نفسه الذي هو أوضح فسادا من كون الشئ علة لنفسه.
ويرد عليه مضافا إلى ما تقدم: ان الامر لا يكون محركا لا بوجوده الواقعي ولا
بوجوده العملي، اما الأول: فواضح، واما الثاني: فلان كثيرا من الناس يصل إليهم الامر،
ولا يتحركون كالفساق، فمن ذلك يعلم أن الامر ليس علة للحركة بل هو لا يكون الا ما
يمكن كونه محركا وداعيا، وان شئت قلت إن الامر لا يكون علة للحركة في شئ من
الموارد: إذ تحريك العضلات انما يكون بتأثير الإرادة واعمال النفس قدرته، نعم
المرجح لذلك يكون هو الامر، فكما ان المرجح قد يكون الشوق النفساني، وقد يكون
امر المولى، وعليه فدعوى كون اخذ قصد الامر في المتعلق على حد كون الشئ علة
لعلية نفسه، ممنوعة.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (قده) وهو العمدة في المقام وهو ان اخذ قصد
الامر في المتعلق مستلزم لتوقف الشئ على نفسه وفرضه موجودا قبل وجوده، في مقام
الانشاء، والفعلية، والامتثال. وتوضيح ما ذكره يتوقف على بيان مقدمة مفروضة في
استدلاله، التي عليها يبتنى ما ذكره في وجه الاستحالة.
وهي ان كل حكم من الأحكام الشرعية، له متعلق وموضوع، والأول هو ما يطلبه
المولى ويجب ايجاده في الواجبات، والثاني هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك
266

بما له من الشرائط من العقل والبلوغ ونحوهما، ثم إن المتعلق، تارة يكون له متعلق، وهو
يكون على قسمين، الأول ما يكون وجوده، تحت قدرة المكلف، مثل العقد الذي هو
متعلق للوفاء الذي هو متعلق للوجوب، والثاني ما يكون وجوده خارجا عن تحت قدرة
العبد، كالكعبة التي هي متعلقة الاستقبال الذي هو مأمور به، وعلى كلا التقديرين متعلق
المتعلق لا يكون متعلقا للتكليف، بل هو موضوع له وحكمه حكم المكلف وقيوده،
ولابد ان يكوم مفروض الوجود في القضايا الحقيقة بفرض ينطبق على ما في الخارج،
ولازم ذلك توقف فعلية الحكم على فعليته وعدم امكان فعليته قبل فعليته، كما لا يخفى.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن المحذور المذكور يلزم في المراحل الثلاث من
اخذ قصد الامر في المتعلق.
اما في مقام الانشاء فلان قصد الامر إذا كان متعلقا فالامر يكون موضوعا، فلابد
وان يفرض الامر في مقام الانشاء موجودا بفرض ينطبق على ما في الخارج - والمفروض
ان الامر يتحقق بنفس الانشاء فيلزم فرض وجود الامر قبل وجوده وهو يعينه محذور
الدور.
وبما ذكرناه في تقريب كلامه (قده) يندفع ما أورده عليه بعض المحققين من أن
الموضوع لابد وان يفرض وجوده في مقام جعل الحكم لا المتعلق وقصد الامر متعلق
للحكم لا موضوع له، وذلك فان كلامه (قده) في الامر لا في قصد الامر.
واما في مقام الفعلية فلان الامر حيث إنه موضوع فلابد وان يصير فعليا قبل فعلية
الحكم الذي هو نفس هذا الامر، فيلزم فعلية الامر قبل فعلية، نفسه وبعبارة أخرى ما لم
يصير الموضوع فعليا لا يصيرا لحكم فعليا ومن المفروض ان الامر موضوع فلابد وان
يصير فعليا حتى يصير الحكم الذي هو الامر فعليا فيتوقف فعلية الحكم على فعلية نفسه.
واما في مقا الامتثال فلان قصد الامتثال متأخر عن اتيان تمام الاجزاء والشرائط
طبعا فان قصد الامتثال انما يكون باتيانها، وحيث انه من المفروض كون قصد الامتثال
الذي هو عبارة عن دعوة شخص ذلك الامر من الاجزاء والقيود، فلابد وأن يكون
المكلف في مقام الامتثال قاصدا للامتثال قبل قصد امتثاله.
267

وأورد الاسناد الأعظم على المقدمة التي عليها بناء هذا الوجه بان لزوم اخذ قيد
في مقام الانشاء مفروض الوجود الذي لازمه كونه شرطا لفعلية الحكم، اما ان يكون من
جهة الظهور العرفي كما في قوله تعالى " أوفوا بالعقود " 1، واما من جهة استلزام عدم اخذه
كذلك التكليف بما لا يطاق، كما إذا امر المولى بايقاع الصلاة في الوقت، واما في غير
ذل فلا ملزم لاخذه مفروض الوجود، وفي المقام بما ان القيد نفس الامر المتحقق في
ظرف الانشاء لا ملزم لاخذه مفروض الوجود من ظهور عرف أو غيره.
وفيه: ان دعوى الظهور العرفي لو تمت في مثل أوفوا بالعقود، لتمت في جميع
القيود الدخيلة في الحكم التي لم يؤمر بها - من غير الجهة التي سنذكرها -.
والتحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق، يقتضى ان يقال ان القيود الدخيلة على
قسمين: الأول: ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة، كالوقت بالإضافة إلى
الصلاة، و العقد بالنسبة إلى الوفاء، والمرض بالإضافة إلى شرب المسهل. الثاني: ما يكون
دخيلا في حصول المصلحة، وفي العرفيات كعدم اكل المريض الخبز قبل شرب
المسهل، وفي القسم الأول لا مناص عن اخذا لقيد مفروض الوجود سواء كان ذلك القيد
اختياريا، أم كان غير اختياري. وفي القسم الثاني، ان كان القيد اختياريا لابد للمولى من
الامر به، وان كان غير اختياري فليس للمولى الامر به وحينئذ، ان لزم من التكليف بذلك
الفعل بنحو الاطلاق التكليف بما لا يطاق كامر المستطيع بالحج، قبل مجيئ الأيام
الخاصة فلابد للمولى من اخذه مفروض الوجود، لئلا يلزم المحذور المذكور، والا فلا
ملزم لذلك، ولذا لا يلزم اخذ وجود الكعبة مفروض الوجود، بالنسبة إلى الاستقبال
الواجب في الصلاة.
والمقام من هذا القبيل أي من قبيل القسم الأخير: إذ الامر من القيود الدخيلة في
حصول المصلحة، لا في اتصاف الفعل بها لكونه معلولا لها، فلا يعقل كونه دخيلا في
الاتصاف، وهو ان كان غير اختياري الا انه لفرض تحققه في ظرف الانشاء لا يلزم من

1 - المائدة / 1.
268

عدم اخذه مفروض الوجود التكليف بما لا يطاق فلا ملزم لاخذه مفروض الوجود،
وعلى ذلك: فما ذكره، من لزوم فرض وجود الامر قبل وجوده في مقام الانشاء، ومن
لزوم توقف فعلية الحكم على نفسها في مقام الفعلية من اخذ قصد الامر في المتعلق، غير
تام.
اما ما ذكره في مقام الانشاء فلعدم الملزم لاخذ الامر مفروض الوجود.
واما ما ذكره في مقام الفعلية فلانه أيضا يتوقف على لزوم اخذ الامر مفروض
الوجود في مرحلة الانشاء الذي عرفت فساده.
واما ما ذكره من أن لازم الاخذ المزبور توقف قصد الامتثال على نفسه في ذلك
المقام، فهو يندفع: بما ذكرناه في مقام الجواب عن ما ذكر في وجه الاستحالة من لزوم
داعوية الشئ إلى داعوية نفسه، من انحلال الامر بالمركب إلى أوامر عديدة حسب
ما للمركب من الاجزاء، وانه لا مانع من كون بعض الأوامر الضمنية، تعبديا وبعضه،
توصليا: فإنه على ذلك يكون المأخوذ في المتعلق قصد الامر الضمني المتعلق بالصلاة،
والمكلف يقصد امتثال ذلك الامر الضمني فلا يلزم تقدم الشئ على نفسه.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه، امكان اخذ الامر في المتعلق، وكونه من
اجزاء المأمور به.
اخذ قصد الامر في المتعلق بالامر الثاني
واما المورد الثاني: وهو اخذ قصد الامر في المتعلق بالامر الثاني، بان يتعلق امر
بذات الفعل، وامر آخر، باتيانه بداعي امره، فملخص القول فيه، ان الجعل الشرعي ربما
يكون تاما، ويكون ما تعلق به وافيا بالغرض، فلا محالة يكون الاتيان به مجزيا عقلا،
وربما لا يكون كذلك، من جهة عدم تمكن المولى من الامر بجميع ما يفي بغرضه بأمر
واحد، ففي المورد الثاني، لا محالة لابد للمولى من متمم للجعل، وذلك كما في الغسل
269

للجنابة، قبل الفجر، فيما إذا وجب صوم الغد، فإنه على فرض عدم معقولية الواجب
المعقل، حيث إن الغرض مترتب على الصوم المقيد بالطهارة ويستحيل ان يأمر بهما بأمر
واحدا جامع بين ما قبل الفجر، وما بعد الفجر، فلا مناص من استيفاء غرضه بأمرين،
واحدهما بالصوم بعد الفجر، والاخر بالغسل قبله، حيث يكون الأمران ناشئين عن غرض
واحد فهما في حكم امر واحد، واطاعتهما، كعصيانهما، واحدة، والمقام على فرض عدم
امكان اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول من هذا القبيل: إذ لو كان الغرض مترتبا على
الصلاة بداعي القربة، والمفروض انه لا يمكن استيفائه بأمر واحد، فلابد له من
الامرين، امر متعلق بذات الصلاة، وامر متعلق باتيانها بقصد القربة.
وأورد عليه في الكفاية بايرادين:
1 - القطع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبات،
ويرده انه لا سبيل إلى هذه الدعوى، بعد ملاحظة ان بناء الشارع ليس على اخذ تمام اجزاء
المأمور به التي يمكن اخذها في متعلق الامر الأول فيه، بل غالبا بأمر بالقيود والاجزاء
بأوامر عديدة كما لا يخفى.
2 - ان الامر الأول ان كان يسقط بم ء رد موافقته ولو لم يقصد به الامتثال كما هو
قضية الامر الثاني فلا يبقى مجال الثاني مع موافقة الأول بدون قصد امتثاله
فلا يتوسل الامر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة وان لم يسقط بذلك فلا يكاد يكون له
وجه الا عدم حصول غرضه بذلك من امره لاستحالة سقوط مع عدم حصوله، والا لما
كان موجبا لحدوثه، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه وسيلة تعدد الامر
لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الامر بمجرد موافقة الامر بوجوب الموافقة على
نحو يحصل به غرضه فيسقط امره انتهى.
والظاهر أن مراده ان الامر الثاني المتعلق باتيان العمل بقصد امره، ان كان تأسيسيا
اقتضى ان يكون اتيان متعلق الامر الأول لا بداعي امره تحت اختيار المكلف وقدرته
عقلا وشرعا مع قطع النظر عن الامر الثاني، والا فلو كان العقل يحكم بلزوم اتيانه بقصد
امره لم يكن هذا الامر الثاني تأسيسيا، ولما كان المولى محتاجا في تحصيل غرضه إلى
270

وسيلة تعدد الامر، ولازم ذلك سقوط الامر الأول بمجرد موافقته ولو لم يقصد به
الامتثال، ومعه لا يبقى مجال الموافقة الثاني فلا يتوسل الامر إلى غرضه بهذه الحيلة
والوسيلة، فتدبر فإنه لطيف.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان شأن العقل انما هو الادراك وان هذا الشئ
مما اراده الشارع أم لا وليس شانه الامر والتشريع، فلا معنى لحكم العقل بلزوم الاتيان
بمتعلق الامر بقصد امره مع قطع النظر عن الامر الثاني فيكون عدم سقوط الامر الأول
بمجرد الموافقة من قبل الامر الثاني، لا من قبل حكم العقل، كي لا يحتاج المولى في
استيفاء غرضه إلى الامر الثاني، ودعوى ان الامر حينئذ تأسيسي ولازمه سقوط الامر
الأول بمجرد الموافقة مندفعة بأنه بما ان الامرين ناشئان عن غرض واحد، فلا محالة
لا يقع سقوط أحدهما دون الاخر.
وفيه: ان الظاهر أن مراد المحقق الخراساني من أن العقل يحكم بوجوب الموافقة
بنحو يحصل الغرض، وهو الاتيان بالفعل بقصد الامر مع عدم حصول الغرض بمجرد
موافقة الامر، ومعه لا حاجة الا الامر الثاني، ليس كون العقل مشرعا وآمرا في قبال
الشارع المقدس، بل مراده به حكم الفعل بالاحتياط في المقام إذا شك في سقوط الامر
الأول وحصول الغرض ودون قصد الامر، لعدم جريان البراءة في الفرض على ما
سنبينه انشاء الله تعالى، وعليه فهذا الاشكال غير وارد عليه.
وقد يورد عليه كما عن المحقق الأصفهاني (ره) في حاشيته: بانا نختار سقوط الامر
الأول بمجرد الموافقة، ولكن نقول ان موافقة الأول، ليست علة تامة لحصول الغرض بل
يمكن إعادة الماتى به لتحصيل الغرض المترتب على الفعل بداعي الامر - توضيحه - ان
ذات الصلاة مثلا لها مصلحة ملزمة والصلاة الماتى بها بداعي أمرها لها مصلحة ملزمة
أخرى، أو تلك المصلحة بنحو أو في بحيث يكون بحدها لازمه الاستيفاء، فلو اتى
بالصلاة وحدها فقد سقط أمرها، ومع ذلك حيث يكون المصلحة الأخرى لازمة
الاستيفاء وهو متمكن من الاستيفاء بالإعادة تجب الإعادة لتحصيل الغرض الثاني فإذا
اتى بها بقصد الامر يستوفى الغرضان.
271

وفيه: أولا ان هذا مترتب على امكان تبديل الامتثال، والا فمع عدم امكانه لو
فرض سقوط الامر الأول بمجرد الموافقة لا يبقى مجال لموافقة الثاني، لأنها متفرعة على
بقاء الامر الأول كي يمكن الاتيان بالمتعلق بداعي امره والمفروض سقوطه، وستعرف
امتناعه، ثانيا: فرضنا صحة ذلك فلازمه ان يثاب من صلى بقصد الامر بثوابين، وان
يعاقب من تركها بالمرة بعقابين، وان يعاقب من صلى بلا بقصد القربة بعقاب واحد، كما
هو الشأن في نظائر الفرض - كالصلاة الواجبة التي نذر المكلف الاتيان بها - وشئ من
ذلك مما لا يمكن ان يلتزم به فقيه.
فالصحيح في مقام الجواب عن ما ذكره المحقق الخراساني ان يقال ان ما بنى عليه
هذا البرهان وهو حكم العقل بالاحتياط، فاسد: لما سيأتي عند تعرضه له، وستعرف ان
الأظهر جريان البراءة في امتثال المقام أيضا، وان بنينا على عدم امكان اخذ قصد الامر في
متعلق الامر الأول، مع: انه لو صح المبنى، لا يتم النباء إذا العقل لو حكم بالاحتياط تخلصا
من العقاب في مورد لا يكون ذلك مانعا عن امر المولى به، ولا يصح ان يقال انه مع
استقلال العقل بذلك لا حاجة إلى الامر، لعدم انحصار الغرض من الامر في اتيان العمل
بأي نحو كان كي لا يصح الامر المولوي في الفرض، بل يمكن ان يأمر به لان يكون
المكلف على بصيرة من امره ويعرف وظيفته تفصيلا.
فتحصل، انه على فرض عدم امكان اخذ قصد الامر في متعلق الامر الأول، يمكن
اخذه في المأمور به بالامر الثاني.
اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره في المتعلق
واما المورد الثالث: وهو اخذ الجامع بين قصد الامر وغيره من الدواعي القربية في
المتعلق، فملخص القول فيه انه بعد الفراغ عن أمرين: الأول: ان اتصاف الفعل بالعبادية
لا يتوقف على خصوص قصد الامر بل يتصف بها لو أتى به بقصد المحبوبية، نعم ساير
الدواعي انما هي في طول هذين الداعيين - كما مر تفصيل ذلك في المقدمات - الثاني:
272

عدم اعتبار قصد خصوص المحبوبية.
يقع الكلام في أن اخذ الجامع المنطبق على جميع الدواعي القربية في المأمور به،
ممكن، أم ممتنع، وعلى الأول، هل يمكن دعوى القطع بعدم الاخذ، أم لا.
وقد استدل عل بالامتناع بوجهين، الأول: ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن
الداعي أيا ما فرض فإنما هو في مرتبة سابقة على الإرادة المحركة للعمل فيستحيل كونه
في عرض العمل الصادر عنها وإلا لزم تأخر ما هو متقدم، فإذا لم يمكن تعلق الإرادة
التكوينية به امتنع تعلق الإرادة التشريعية به، بداهة ان متعلق الإرادة التشريعية هو بعينه ما
تتعلق به الإرادة التكوينية، فلو لم يمكن تعلق الإرادة التكوينية بشئ لا يمكن تعلق
الإرادة التشريعية به.
وفيه: أولا: ان لازم ذلك عدم صحة تعلق الامر به ولو كان بجعل المتمم، مع أنه
(قده) يصرح بامكانه، وبعبارة أخرى إذا كان المانع عن تعلق التكليف به ثبوتا وعقليا،
وهو عدم تعلق الاختيار به، لم يكن فرق في ذلك بين كون تعلق التكليف به بأمر واحد،
أو بأمرين فكيف يلتزم هو (قده) بامكان تعلقه به بأمرين، ثانيا: ان قصد القربة الذي هو من
دواعي اختيار الفعل الخارجي، بنفسه فعل من أفعال النفس ويتعلق به الاختيار كما صرح
بذلك المحقق النائيني (قده) في باب النية، والبرهان المتقدم انما يقتضى عدم امكان تعلق
شخص الإرادة المتعلقة بالفعل الخارجي به، واما تعلق اختيار آخر به غير ذلك الاختيار
فهو لا يقتضى امتناعه بل هو ممكن، وان شئت قلت إن سلب الأخص لا يلازم سلب الأعم
وعلى ذلك، فهناك اختياران، أحدهما متعلق بالفعل الخارجي، والاخر متعلق بالفعل
النفساني، فحينئذ بما ان الغرض المترتب على الفعلين واحد لا متعدد، فلا محالة يكون
الامر المتعلق بهما واحدا: إذ وحدة الامر وتعدده يتبعان وحدة الغرض وتعدده، لا وحدة
الإرادة وتعددها.
الثاني: انه إذا كان اخذ قصد الامر في المتعلق محالا، فاخذ الجامع الشامل له
ولغيره أيضا محال، وفيه: مضافا إلى ما تقدم من امكان اخذ قصد الامر: ان الاطلاق عبارة
عن، رفض القيود، وعدم دخل شئ من الخصوصيات في الحكم، لا دخل كل
273

خصوصية فيه، فامتناع اخذ قصد الامر بخصوصه لا يلازم امتناع اخذ الجامع.
وقد استدل المحقق الخراساني (ره) للقول الأول وهو عدم اخذه في المتعلق قطعا:
بكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم امكان اخذه فيه، وفيه: ان هذا
البرهان يقتضى عدم اخذ خصوص غير قصد الامر في المأمور به وليس هو محل الكلام
بل المدعى هو اخذ الجامع فيه.
اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق
واما المورد الرابع: وهو اخذ ما يلازم قصد الامر في المتعلق وبه يتوسل المولى
إلى غرضه - وقد نسب على بعض تقريرات السيد الشيرازي - فالظاهر امكانه.
وملخص القول فيه انه يمكن اخذ عنوان آخر في المأمور به ملازم للداعي القربى
كما لو قيد المأمور به بعدم اتيانه بغير الداعي القربى، وبعبارة أخرى يقيده بعدم ضد
الداعي القربى، وبذلك يتوسل المولى إلى غرضه إذا لفعل الاختياري لابد وان يصدر عن
داع من الدواعي، وهو اما ان يكون من الدواعي القربية أو من الدواعي النفسانية، فإذا كان
الغرض مترتبا على اتيانه بداعي القربة ولم يتمكن المولى من التصريح به لمانع في ذلك له
ان يأمر بالفعل مقيدا بان لا يكون مع الدواعي النفسانية ولا يرد عليه شئ من المحاذير
المتقدمة.
وقد أورد عليه بايرادات.
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو انه لو فرض محالا انفكاك ذلك العنوان
عن أحد الدواعي القربية لابد من الالتزام بصحة العبادة مع أنه لم يلتزم به فقيه، وفيه: انه
مع تسليم تلازم ذلك العنوان لاحد الدواعي القربية خارجا، لا اثر لفرض المحال، إذ
لا يلزم من مثل هذا التكليف نقض الغرض، وغيره من التوالي الفاسدة، مثلا لو تعلق
الغرض بالمشي إلى المقصد، من أحد الطريقين، ولم يكن هناك طريق ثالث، كما يصح
المولى، الامر بالمشي من ذلك الطريق، ويتوسل بذلك إلى غرضه، كذلك يصح له الامر
274

بالمشي مقيدا بكونه من غير الطريق الاخر.
الثاني: ان ما ذكر ليس من العناوين الملازمة لاحد الدواعي القربية: إذ يمكن
ايجاد الفعل بلا داع من الدواعي، وفيه: انه ممتنع، ولو أمكن فله ان يقيد المأمور به بعدم
هذا الضد أيضا، ويقول مثلا صل لا بداعي النفساني ولا بلا داعي.
الثالث: ان القدرة على المأمور به على هذا التقدير متوقفة على الامر، إذ مع عدمه
لا يتمكن المكلف من الفعل لا بداعي النفساني، والقدرة من شرائط صحة التكليف قطعا،
وفيه: ان القدرة المعتبرة هي القدرة في ظرف العمل، لا حين التكليف، وفي المقام بما انه
يقدر على اتيان المأمور به في ظرفه لفرض تعلق الامر به، فلا مانع عنه من هذه الجهة
أيضا.
فالمتحصل مما ذكرناه امكان اخذ قصد الامتثال في المتعلق، بجميع الأنحاء الأربعة.
واما المورد الخامس، وهو حكم العقل بدخالة قصد الامر في العبادات، فقد مر
في المورد الثاني تقريبه وما يرد عليه.
ما يقتضيه الأصل اللفظي
اما الدعوى الثانية: وهي عدم امكان التمسك بالأصل اللفظي - فملخص القول
فيها - انه اختلفت كلمات القوم في أن الأصل اللفظي من الاطلاق وغيره ماذا يقتضى على
أقوال: 1 - ما اختاره جماعة منهم الشيخ والأستاذ وهو انه يقتضى البناء على كون الواجب
توصليا. 2 - ما ذهب إليه جماعة منهم صاحب الإشارات وهو البناء على كونه تعبديا.
3 - اما اختاره المحققان الخراساني والنائيني، وهو الاهمال وعدم الاطلاق مطلقا.
وتنقيح القول بالبحث في مقامين: الأول: فيما يقضيه الأصل بناءا على امكان
اخذ قصد الامتثال في المأمور به. الثاني: في مقتضى الأصل اللفظي بناءا على عدم امكانه.
اما المقام الأول فالمختار فيه ان الأصل يقتضى كون الواجب توصليا: إذ بعد ما
275

عرفت من امكان اخذ قصد القرة في المتعلق يكون هو كساير الاجزاء والشرائط لو شك
في اعتباره، ولم يدل دليل عليه، مقتضى الاطلاق عدم اعتباره، وبه يثبت كون الواجب
توصليا.
وقد استدل لأصالة التعبدية بوجوده:
الأول: ان امر المولى بما انه فعل من أفعاله الاختيارية فلابد وأن يكون لغرض
ليخرج بذلك عن اللغوية، والغرض منه جعل امره محركا إياه نحو العمل فالامر بنفسه
جعل للداعي والمحرك، فما دام لم يقم قرينة على التوصلية كان مقتضى نفس الامر هو
التعبدية.
وفيه أولا: ما تقدم من أن الغرض من الامر ليس جعل الداعي، والا لما تخلف عنه،
ولما صدرت المخالفة من العصاة، بل الغرض منه جعل ما يمكن ان يكون داعيا: إذ
المولى إذا رأى في فعل من الأفعال الاختيارية للعبد مصلحة و اشتاق إليه يتصدى
لايجاده، بالامر به ليوجد العبد ذلك الفعل جريا على ما يقتضيه قانون العبودية
والمولوية، وهذا الغرض يشترك فيه التعبديات و التوصليات، وانما الاختلاف بينهما في
الغرض المترتب على الواجب: فإنه ان ترتب على مطلق وجود الفعل، فالواجب توصلي،
وان ترتب على الاتيان به بقصد القربة فالواجب تعبدي، وعلى فرض استكشاف ترتب
الغرض على مطلق وجود الفعل، ولو بمقتضى الاطلاق لما كان الامر داعيا إلى ايجاده
بقصد القربة، ويؤيد ما ذكرناه ملاحظة حال النواهي، حيث إن هذا البرهان جار فيها بعينه
لأنه يمكن ان يقال ان النهى فعل اختياري للمولى ولابد وأن يكون لغرض، والغرض منه
انزجار العبد، فالنهي جعل للزاجر مطلقا، فالأصل في النواهي أيضا هو التعبدية، مع أنه لم
يتفوه به أحد.
وثانيا: انه لو سلمنا كون الغرض من الامر جعل الداعي، نقول انه بعد استكشاف
كون الغرض المترتب على المأمور به مترتبا على مطلق وجوده، ولو بواسطة الاطلاق، لو
اتى المكلف بالفعل بلا قصد القربة لا محالة يحصل الغرض، فاما ان يسقط الامر، فهو
المطلوب، والالزام بقائه مع عدم الملاك بعد فرض عدم وجود غرض آخر، وهو كما
276

ترى بنا في مسلك العديلة، وان شئت قلت إن للازم على المكلف الاتيان بالمأمور به
المحصل للغرض، واما الغرض من الامر فليس لازم التحصيل، فحينئذ لو استكشفنا ترتب
الغرض على مطلق وجود الفعل، فالعقل انما يحكم بلزوم اتيان الفعل تحصيلا له، ولا
يحكم بلزوم اتيان الفعل بقصد الامر كي يتحصل الغرض من الامر.
الثاني: قوله تعالى " وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " 1 حيث إنه
يقتضي الحصر المستفاد من لفظه الا، يدل على عبادية جميع الواجبات، بل كل امر
به، خرج ما خرج.
وأجاب عنه: الشيخ الأعظم بجوابين الأول: ان هذا المعنى مستلزم لتخصيص
الأكثر: فان أكثر الواجبات توصليات فيستكشف من ذلك عدم إرادة هذا المعنى من الآية
الشريفة. الثاني: ان الآية الشريفة في مقام بيان تعيين المعبود وحصره في الله تعالى، لا في
مقام بيان حال الأوامر كما تشهد له الفقرة السابقة عليه، وهي قوله عز وجل " لم يكن
الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ".
أقول لم تم هذان الجوابان فهو، والا فيمكن ان يجاب عنه: بان الآية الشريفة انما
تدل على أن الغرض الأقصى من الأوامر، هو العبادة الله تعالى، كما انها المقصود من
ارسال الرسل وانزال الكتب، وهذا لا ينافي كونه جملة من الواجبات توصليات - والشاهد
على ذلك - ان الامر لا يتعدى بلام، كما يظهر لمن راجع موارد استعماله بل اما ان يتعدى
بنفسه، أو بباء، فاللام انما هي لإفادة الغرض وان مدخولها الغرض الأصلي من الأوامر.
هذا بناءا على رجوع الضمير في قوله تعالى وما أمروا الا ليعبدوا الله الخ إلى عامة
المكلفين.
واما بناءا على رجوعه إلى أهل الكتاب كما يشهد لتعين ذلك ملاحظة الآيات
السابقة على هذه الآية، فهي أجنبية عن المقام بالمرة، وانما تدل على أن التفرق الموجود
بين أهل الكتاب انما نشأ من قبل أنفسهم بعد ما جائتهم البينة وهم لم يكونوا مأمورين الا

1 - البينة / 5.
277

بعبادة الله تعالى.
الثالث: النصوص الواردة بالسنة مختلفة المتضمنة ان العمل بلا نية كلا عمل،
كقوله (ص) الأعمال بالنيات، وهي تدل على اعتبار النية في جميع الأفعال فما لم تقم قرينة
على صحة العمل بلا نية لا يعتد به في مقام الامتثال.
وفيه: ان المراد من النية ليس هو قصد القربة لان هذا الاصطلاح من الفقهاء، واما
بحسب معناها اللغوي، فهي بمعنى القصد، وعليه، فمفاد هذه النصوص ان روح العمل
انما يكون بالقصد، فلو ضرب اليتيم بقصد التأديب يتصف بالحسن، وان ضربه للتشفي
يتصف بالقبح وان تأدب بذلك، وان جاهد لله فالعمل له تعالى، وان جاهد لطلب المال
فله ما نوى، فهذه الروايات أجنبية عن كون الأوامر عبادية.
فتحصل انه بناءا على امكان اخذ قصد القربة في المتعلق مقتضى الأصل اللفظي
هو التوصلية.
واما بناءا على عدم امكانه الذي هو المقام الثاني من الكلام، فقد يقال كما عن
الشيخ الأعظم، بأنه يتمسك بالاطلاق ويثبت به كون الواجب توصليا: واستدل لمختاره،
بأنه لا يمكن تقييد المأمور به بقصد الامر، فالاطلاق ثابت.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره)، بان ذلك يتم لو كان التقابل بين التقييد و الاطلاق
تقابل السلب والايجاب، ولكن حيث يكون الاطلاق متوقفا على ورد الحكم على
المقسم وتمامية مقدمات الحكمة فالتقابل بينهما يكون تقابل العدم والملكة، وعليه، فإذا
فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسك بالاطلاق، وما نحن
فيه من هذا القبيل فان انقسام المتعلق بما إذا اتى به بقصد الامر وعدمه يتوقف على ورود
الامر وليس في مرتبة سابقة عليه مقسم أصلا، فالحكم لم يرد عليه، فلا معنى للتمسك
بالاطلاق، وعلى ذلك بنى على أن كل مورد لم يكن قابلا للتقييد يمتنع الاطلاق فيه أيضا.
وأورد عليه الأستاذ الأعظم، بان من اشتاق إلى فعل وكان ملتفتا إلى امكان وجوده
في الخارج على وجوه، فاما ان يتعلق شوقه بخصوص حصة خاصة منه مقيدة بقيد
وجودي أو عدمي، أو يتعلق بمطلق وجوده القابل للانطباق على كل واحد من الوجودات
278

الخاصة، من غير فرق بين التقسيمات الأولية ككون الصلاة الطهارة أو بدونها، وبين
التقسيمات الثانوية المكلف عالما بالحكم أو جاهلا، وكون الصلاة مع قصد القربة
أو بدونه: لان متعلق الشوق لابد وأن يكون متعينا في ظرف تعلقه به ويستحيل فرض
الاهمال في الواقع وتعلق الشوق بما لا تعين له في فرض تعلقه به، فكما ان الملتفت إلى
انقسام الماء إلى الحار والبارد إذا اشتاق إلى شربه لا مناص له من تعلق شوقه اما بالمطلق أو
المقيد فكذلك الملتفت إلى انقسام الصلاة إلى قسمين، باعتبار انه تارة يؤتى بها مع قصد
القربة، وأخرى بدونه اما ان يتعلق شوقه بالمطلق أو المقيد، وعليه فإذا فرض استحالة
التقييد باتيانها مع قصد القربة كان الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا، وإذا
فرض استحالة التقييد بالخلاف أيضا فالاطلاق يكون ضروريا.
وأورد على ما استدل به المحقق النائيني لاستلزام استحالة التقييد استحالة الاطلاق:
بان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة: بان القابلية المعتبرة فيه لا يلزم ان تكون شخصية
دائما بل يجوز ان تكون صنفية أو نوعية أو جنسية، الا ترى انه يصدق على الانسان انه
جاهل بحقيقة ذات الواجب مع أنه يستحيل ان يكون عالما بها.
أقول تحقيق القول في المقام على نحو يظهر ما هو الحق عندنا وما يرد على هؤلاء
الأساطين يقتضى ان يقال انه في الانقسامات الأولية والثانوية امتناع التقييد في مقام
الثبوت إلى جعل الحكم، تارة يكون لأجل امتناع شمول الحكم للمقيد بهذا القيد، مثل
تقييد الصلاة الواجبة بالافراد الخارجة عن تحت قدرة المكلف، وأخرى يكون لأجل
امتناع تخصيص الحكم بالمقيد بهذا القيد كتخصيص الولاية بالفاسق: فإنه مستلزم
لترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح، وصدوره من الحكيم محال، وثالثة لأجل
مانع في نفس الجعل، والا فشمول الحكم له بعد جعله لا محذور فيه كما أن التخصيص
به مما لا يترتب عليه محذور.
فان كان الامتناع من الجهة الأولى، فلا محالة يمتنع الاطلاق أيضا فإنه لا فرق في
شمول الحكم بين كونه ثابتا له بالخصوص أو لما يعمه، فكما ان التكليف بغير المقدور
ممتنع، كذلك التكليف بالجامع بين المقدور وغيره، فتأمل فان في خصوص المثال كلاما
279

تقدم.
وان كان الامتناع من الجهة الثانية فالاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروري
فان المانع انما هو في التخصيص لا في شمول الحكم.
وان كان من الجهة الثالثة، فان كان الاطلاق عبارة عن دخل جميع الخصوصيات
في الحكم، امتناع التقييد مستلزم لامتناع الاطلاق، إذ لا فرق في امتناع الجعل بين كونه
بنحو التقييد، أو الاطلاق، وان كان الاطلاق عبارة عن رفض القيود، وعدم دخل شئ
من الخصوصيات في الحكم، فامتناع التقييد لا يستلزم امتناع الاطلاق، ولا كونه ضروريا،
كما لا يستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضروريا، اما الأول فلانه يمكن
جعل الحكم على الطبيعة الجامعة، ودعوى ان الاطلاق بتوقف على ورد الحكم على
المقسم، وهو ممتنع في الانقسامات الثانوية كما في المقام إذ ليس في مرتبة سابقة على
جعل الحكم مقسم أصلا فلا يمكن ورود الحكم عليه، مندفعة بأنه يعتبر في الاطلاق
ورود الحكم على ذات المقسم وهي الطبيعة الجامعة المعراة عن جميع الخصوصيات،
لا بما هو مقسم فعلى، واما الأخيران: فلانه يمكن ان يكون الغرض مترتبا على المقيد،
بهذا القيد وشوق المولى متعلقا به خاصة، وانما لم يؤمر به لمانع في الجعل وعليه، فليس
له جعل الحكم مطلقا ولا مقيدا بخلاف ذلك القيد، هذا بحسب مقام الثبوت.
واما في مقام الاثبات، فإذا امتنع التقييد لا يمكن التمسك بالاطلاق إذ من
مقدمات الحكمة انه كان له ان يقيد ولم يقيد وهذه المقدمة غير جارية في الفرض.
فتحصل مما ذكرناه انه في المقام لو فرض عدم امكان اخذ قصد الامر في المتعلق
لا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات كون الواجب توصليا، فلا مناص عن الرجوع إلى ما
يقتضيه الاطلاق المقامي لو كان، والا فإلى ما يقتضيه الأصول العملية وستعرف تنقيح
القول فيهما.
كما أنه ظهر عدم تمامية شئ من كلمات أئمة الفن فان مورد كلامهم هو امتناع
التقييد من الجهة الثالثة.
وعليه فما افاده الشيخ الأعظم (ره) من أن امتناع التقييد يوجب كون الاطلاق
280

ضروريا وثابتا، وما افاده الاسناد الأعظم من كونه مستلزما لكون الاطلاق أو التقييد
بخلاف ذلك القيد ضروريا: يرد عليهما انه يمكن ان يكون ما فيه الغرض ومتعلق الشوق
المقيد بهذا القيد.
واما ما افاده العلامة النائيني (ره) فإنه يتوقف عل يكون الاطلاق عبارة عن دخل
جميع الخصوصيات في الحكم وقد عرفت ما فيه فتدبر فان ما ذكرناه حق القول في المقام.
ما يقتضيه الاطلاق المقامي
ثم انه على فرض الاغماض عما ذكرناه من امكان اخذ قصد القربة في المتعلق،
الذي عليه بنينا جواز التمسك بالاطلاق اللفظي، وفرض امتناع اخذه في المأمور به، يكون
مقتضى الاطلاق المقامي البناء عل يكون الواجب توصليا حتى تثبت التعبدية: وذلك لان
المولى إذا كان في مقام البيان وكان القيد على فرض دخالته مما لا يمكن اخذه في
المأمور به، فان كان القيد مما لا يغفل عنه العامة كقصد القربة، وكان مما يحكم العقل
ولو من باب الاحتياط بلزوم الاتيان به، فعدم بيان المولى دخله في حصول الغرض، ولو
بنحو الاخبار، لا يعد اخلالا بالغرض فلا يصح التمسك بالاطلاق المقامي لاثبات عدم
دخله في المأمور به: إذ للمولى ان يتكل في بيان ما يحصل به الغرض على ما يحكم به
العقل.
واما لو انتفى أحد القيدين، بمعنى ان العقل لم يكن حاكما بلزوم الاتيان به، بل
كان يحكم بقبح العقاب بلا بيان، أو كان القيد مما يغفل عنه العامة كقصد الوجه والتمييز،
فيصح التمسك بالاطلاق المقامي، التوقف على أن يكون عدم بيان دخل القيد على
فرض دخالته اخلالا بالغرض حتى يصح ان يقال ان الحكيم حيث لا يخل بالغرض
فيستكشف من عدم البيان عدم دخله في ما يحصل به الغرض، الذي هو حقيقة الاطلاق
المقامي، اما مع انتفاء القيد الأول فواضح، و اما مع انتفاء القيد الثاني فلان القيد لو كان
دخيلا ليس للمولى الاتكال على حكم العقل بلزوم الاتيان به لأنه فرع الالتفات المفقود
281

في الفرض، وحيث إن المختار في جميع القيود المشكوك دخلها، عدم الرجوع إلى
قاعدة الاشتغال على ما ستعرف، فيتمسك بالاطلاق المقامي لا ثبات كون الواجب توصليا
وبما ذكرناه ظهر أمور.
الأول. ان الاطلاق المقامي يقتضى البناء على كون الواجب توصليا.
الثاني: ان ما اختاره المحقق الخراساني من عدم التمسك بالاطلاق المقامي في
قصد القربة انما يكون صحيحا على ما نبي عليه، من حكم العقل بلزوم الاحتياط عند
الشك في دخله في حصول الغرض.
الثالث: ان ما الكفاية من أنه إذا كان الامر في مقام بصدد بيان تمام ماله دخل
في حصول غرضه ولم ينصب قرينة على دخل قصد الامتثال في حصوله يحكم بعدم
دخله، لا ربط له بالاطلاق المقامي، فان هذا الوجه يتوقف على احراز كون المولى بصدد
بيان تمام ما له دخل في الغرض، والاطلاق المقامي من مقدماته لزوم القيام مقام البيان،
والا يكون اخلالا بالغرض.
الرابع: ان ما افاده المحقق الخراساني، من أنه يتمسك بالاطلاق المقامي لاثبات
عدم دخل الوجه والتمييز في الطاعة بالعبادة، تام، ولا ينافي مع ما افاده من عدم التمسك
به لاثبات عدم اعتبار قصد القربة.
ما يقتضيه الأصل العملي
واما المورد الثاني: وهو ما يقتضيه الأصل العملي، فبناءا على ما هو الحق من
امكان اخذ قصد الامر في المأمور به، لو شك في واجب انه تعبدي أو توصلي، ولم يكن
هناك اطلاق يثبت التوصلية، لا كلام في أن المرجع هي أصالة البراءة بناءا على جريانها
فيما إذا دار الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين: لعدم الفرق بين هذا القيد وساير القيود.
واما بناءا على عدم امكان اخذه في المتعلق، كما بنى عليه المحقق الخراساني، فقد
يقال كما في الكفاية، انه لا مجال الا لأصالة الاشتغال وان لا تجرى البراءة العقلية ولا
282

الشرعية، وان بنينا على جريانهما في ما إذا دار الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
اما عدم جريان البراءة العقلية في المقام مع جريانها في تلك المسألة فلان الشك
هناك في نفس التكليف، فإذا ترددت الصلاة الواجبة بين المشتملة على جلسة
الاستراحة وفاقدها، يرجع الشك، إلى الشك في التكليف بجلسة الاستراحة وعدمه، وهذا
بخلاف المقام، فإنه لاشك في التكليف كان قصد الامر دخيلا أم لم يكن، بل الشك انما
يكون في سقوط التكليف بمجرد الفعل بلا قصد القربة لحصول الغرض، وعدم سقوطه
لعدم حصوله، ومعلوم ان الشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال.
واما عدم جريان البراءة الشرعية: فلانه في ساير موارد الأقل والأكثر، دخل الجزء
أو الشرط في حصول الغرض، وان كان واقعيا غير قابل للوضع والرفع، ولكن دخله في
المأمور به شرعي وقابل للرفع والوضع، فبدليل الرفع يكشف انه ليس هناك امر فعلى بما
يعتبر فيه المشكوك فيه يجب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام فان قصد
الامتثال على فرض دخله، كما لا يكون دخله في حصول الغرض شرعيا قابلا للرفع،
كذلك لا يكون دخله في المأمور به شرعيا بمعنى انه ليس للشارع وضعه، فليس له رفعه،
فهو غير قابل لتعلق الرفع الشرعي به، وعلى ذلك فبما انه شك في سقوط الامر للشك في
سقوط الغرض، لو اتى بالفعل بلا قصد القربة ولا تجرى البراءة، فلا مناص عن الرجوع
إلى ما يستقل به العقل من لزوم الخروج عن عهدة التكليف، وانه لا يكون العقاب مع
الشك وعدم احراز الخروج عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان، هذا محصل كلامه
(قده) بتوضيح منا.
وأورد عليه المحقق النائيني بايرادين: أحدهما انه بناءا على لزوم تحصيل الغرض،
لابد من البناء على الاشتغال في ساير موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
وعدم الجدوى في جريان البراءة الشرعية، والكلام في ذلك موكول إلى محله.
الثاني: ان الوجه في كون المرجع في المقام هي قائدة الاشتغال ان كان من جهة
رجوع الشك إلى الشك في حصول الغرض اللازم الاستيفاء لو اتى بالفعل مجردا عن
قصد القربة كما هو ظاهر كلامه، فيرد عليه ان ترتب الملاكات على الافعال ليس من قبيل
283

ترتب المسببات التوليدية على أسبابها كي يصح تعلق التكليف بها، بل من قبيل ترتب
المعلومات على عللها المعدة، فليست تحت اختيار المكلف فلا يصح تعلق التكليف بها،
بل وظيفة المكلف حينئذ ليست الا الاتيان بالمأمور به كما تقدم تفصيل ذلك في مبحث
الصحيح والأعم، وعليه فلو اتى بالمأمور به وشك في حصول الغرض لا يحكم العقل
بلزوم الاتيان بالفعل بنحو يسقط الغرض وهو اتيانه مع قصد الامتثال.
والجواب عن ذلك قد تقدم في مبحث الصحيح والأعم وعرفت ان نسبة
الاغراض إلى الواجبات نسبة المسببات إلى أسبابها، فراجع ولا نعيد ما ذكرناه.
فالصحيح في الجواب عن ما افاده المحقق الخراساني ان الاغراض المترتبة على
الواجبات على قسمين، الأول: ما يفهمه العرف والعامة ويكون محصله أيضا معلوما
عندهم بمعنى ان له قدر متيقنا ثابتا عندهم، كالقتل، والطهارة، وفي هذا القسم يصح
التكليف بالغرض وإذا شك في المحصل لابد من الاتيان بما يقطع معه بحصول الغرض.
الثاني: مالا يفهمه العرف ولا يدرون ماذا يحصله، وفي مثل ذلك لا يصح التكليف به، بل
وظيفة المولى حينئذ الامر بما يحصله ووظيفة المكلف الاتيان بالمأمور به وأكثر
الواجبات الشرعية من هذا القبيل، فحينئذ لو اتى بالمأمور به بتمامه ومع ذلك شك في
حصول الغرض لا مورد لقاعدة الاشتغال إذ تطبيق ما يفي بالغرض على ما امر به انما هو
وظيفة المولى ولا يجب على العبد سوى الاتيان بالمأمور به.
فان قيل إن كان المشكوك دخله في الغرض مما أمكن اخذه في المتعلق تم ما
ذكرت، إذ يصح الرجوع إلى قبح العقاب بلا بيان، وأما إذا كان مما لا يمكن اخذه كقصد
القربة على الفرض، فحيث انه لو كان دخيلا في حصول الغرض لما تمكن المولى من
بيانه، فلا مورد للرجوع إلى تلك القاعدة العقلية، أجبنا عنه: ان المراد من البيان الذي يكون
عدمه موضوعا لذلك الحكم العقلي، ليس هو الامر، بل المراد به الوصول، وايصال
المولى، تارة يكون بأمره، وأخرى بجعل وجوب الاحتياط، وثالثة بالاخبار، فإنه أيضا
ايصال ويرتفع به موضوع قبح العقاب بلا بيان، وفي المقام وان كان لا يمكن الايصال
بالامر، الا انه للمولى الاخبار بدخله في حصول الغرض، فإذا لم يبين يكون المرجع
284

القاعدة المزبورة.
فتحصل انه بناءا على جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين تجرى البراءة
في المقام أيضا، فالأصل العملي أيضا يقتضى كون الواجب توصليا.
الشك في سقوط الواجب في ضمن الفرد المحرم
واما المقام الثاني: وهو ما إذا شك في واجب انه توصلي أو تعبدي بالمعنى الثاني
فالكلام فيه يقع في مواضع.
الأول: انه لو شك في واجب انه، هل يسقط بفعل المحرم، أم لا، فهل الخطاب
يقتضى عدم السقوط بمعنى انه يقتضى اعتبار صدوره على وجه غير محرم، أم لا؟
وجهان أقواهما الأول: إذ لا ريب في تضاد الاحكام كما سيأتي تنقيح القول فيه في
مبحث اجتماع الأمر والنهي، وعليه فإذا فرضنا بقاء الحرمة، فلا يمكن ان ينطبق الطبيعة
المأمور بها على ذلك الفرد في موارد امتناع الاجتماع وهي الموارد التي تنطبق الطبيعتان
المتعلقة إحداهما للامر، والأخرى للنهي، على الموجود الواحد، نعم في موارد جواز
الاجتماع وهو ما لو كان كل من الطبيعتين منطبقة على موجود، غير ما ينطبق عليه
الأخرى، مقتضى القاعدة سقوط المأمور باتيانه في ضمن الفرد المحرم، من غير فرق بين
التعبدي، والتوصلي، على ما سيأتي تحقيق القول في ذلك في محله، وستعرف ان ما ذكره
المحقق النائيني، من اعتبار الحسن الفاعلي في اتصاف الفعل الخارجي بالوجوب، وعليه
بنى عدم الصحة حتى في مورد جواز اجتماع الأمر والنهي، وغير تام، مع أنه في مورد
جواز الاجتماع، لفرض ان للمأمور به وجودا، غير وجود المنهى عنه، يكون الحسن
الفاعلي باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم موجودا: إذ كما أن الوجود متعدد
كذلك الايجاد لاتحاد الوجود والايجاد، وتمام الكلام في محله.
ثم انه نسب إلى المحقق العراقي القول بان مقتضى القاعدة السقوط حتى في
موارد امتناع الاجتماع، واستدل له بأنه لو كان للكلام ظهورات ودلالات متعددة، فلا
285

يسقط بعضها لأجل سقوط بعضها الاخر، بل مقتضى القاعدة بقائه على الحجية والمقام
كذلك: إذ للهيئة ظهور ان واطلاقان، أحدهما كون جميع افراد المادة مأمورا بها. الثاني
كون كل فرد من ما يصدق عليه المادة ذا مصلحة ملزمة، فاطلاقها من الجهة الأولى قد قيد.
عقلا بالفرد غير المحرم، فلا وجه لسقوط اطلاقها من الجهة الثانية عن الحجية، وعليه
فإذا اتى بالفرد المحرم يحصل الغرض، وبتبع ذلك يسقط الامر، ودعوى ان مقتضى
الاطلاق الأحوالي للمقيد لزوم الاتيان بالفرد غير المحرم سواء اتى بالفرد المحرم غير
المأمور به قبله أم لا، فيقع التنافي بين هذين الاطلاقين، مندفعة: بأنه بما ان التقييد انما
يكون بدليل منفصل فهو لا يقتضى سوى سقوط حجية ظهور المطلق في اطلاق،
ولا يوجب ذلك انعقاد ظهور للمقيد في التقييد هذا محصل كلامه (قده).
وفيه: ان كشف وجود الملاك والغرض في مورد يتوقف على أحد أمرين، اما
كون الدليل في مقام بيانه ولو بالاطلاق، وثبوت الامر الفعلي فيه ليكشف عن وجود
الملاك كشف المعلول عن علته، وفي المقام بالنسبة إلى الفرد المحرم شئ منهما ليس،
اما الأول فلان الدليل المتضمن لبيان الحكم انما يكون في مقام البيان من هذه الجهة
ولا يكون في مقام بيان ما فيه الغرض زايدا على ذلك، فلا يصح التمسك بالطلاق الدليل
لاثبات ذلك: فإنه فرع تمامية مقدماته، ومن جملتها كون المولى في مقام البيان، وكونه
في مقام البيان من جهة لا يكفي في التمسك بالاطلاق من الجهة الأخرى، واما الثاني:
فلفرض عدمه فلا كاشف عن وجود الملاك.
فتحصل انه في موارد امتناع اجتماع الأمر والنهي، لو قدم جانب النهى مقتضى
القاعدة عدم السقوط باتيان المأمور به في ضمن الفرد المحرم، الا إذا قامت قرينة على
السقوط الكاشف عن تحقق المصلحة، فهي حينئذ تكون دليلا على أن التكليف مشروط
بعدم هذا الفرد، وعلى فلو شك في سقوطه بفعل المحرم يشك في الاشتراط وعدمه،
ومقتضى الأصل اللفظي لو كان، والعملي مع عدمه، البناء على عدم الاشتراط، فالأصل
يقتضى عدم التوصلية بهذا المعنى.
286

الشك في سقوط الواجب بالفعل غير الاختياري
الموضع الثاني: لو شك في واجب انه، هل يسقط إذا تحقق الفعل من دون إرادة
واختيار، أم لا أقول بناءا على ما تقدم في مبحث الطلب والإرادة ويأتي في مبحث الضد
من امكان تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور، لا مانع من التمسك
بالاطلاق لو كان، لاثبات عدم اعتبار القدرة شرعا في المأمور به، ومع عدمه مقتضى
أصالة البراءة عن اعتبار امر زايد على المقدار المعلوم تعلق التكليف به ذلك، فالأصل هو
التوصلية بهذا المعنى.
وقد استدل للاختصاص بالمقدور بوجوده: الأول: الانصراف، اما بدعوى انصراف
مادة الافعال إلى خصوص ما إذا صدرت عن إرادة واختيار، أو بدعوى انصراف هيئاتها
إلى ذلك، فلا يصح التمسك بالاطلاق والأصل، لعدم اعتبار القدرة والاختيار.
ولكن الدعويين فاسدتان، اما الأولى، فلان المادة ان كانت قصدية بحيث
لا يتحقق الا مع القصد كالتعظيم والتوهين فلا كلام فيها، وان لم تكن بنفسها كذلك
كالقيام والضرب، فلا وجه لانصرافها إلى خصوص ما إذا صدرت بإرادة واختيار.
واما الثانية فقد أجاب عنها المحقق النائيني (ره) بان هيئات الافعال موضوعة لإفادة
قيام المبادئ وانتسابها إلى فاعلها، وهذا امر يشترك فيه جميع المواد على اختلافها أعم
من أن تكون صادرة بالاختيار وصادرة من غير اختيار، فدعوى الانصراف في الهيئة
المشتركة بين الجميع خالية عن الدليل.
أقول هذا الجواب أي عدم الوجه للانصراف المزبور، وان كان متينا على ما خلقناه
في بيان ما وضعت هيئة الامر له، ولكن ليس للمحقق النائيني (ره) ان يجيب بذلك: فان
دعوى المستدل وان كانت عامة الا ان محط نظره في المقام خصوص هيئة الامر، فمثل
287

المحقق النائيني (ره) الذي يرى أنها وضعت لتحريك عضلات العبد نحو المطلوب،
لا مناص له من تسليم هذه الدعوى وارجاعها إلى ما افاده (قده) في وجه الاختصاص.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني، وحاصله ان الغرض من الامر هو بعثه وإيجاد
الداعي له لتحريك عضلاته نحو ايجاد المأمور به، وهذا يستلزم كون المتعلق مقدورا له
لأنه من البديهي انه انما يمكن جعل الداعي في خصوص الفعل الإرادي، فحيث انه
لا يمكن التخيير بينهما عقلا فيرجع الشك إلى الشك في اشتراط الخطاب وعدمه،
فالاطلاق والأصل يقتضيان عدم الاشتراط.
والجواب عن ذلك أن التكليف بخصوص غير المقدور الممتنع الوجود لغو
لا يصدر عن الحكيم، واما تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور الصادر من
المكلف بغير اختياره فلا أرى فيه محذورا.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني أيضا، وهو انه يعتبر في المأمور به زائدا على
الحسن الفعلي الحسن الفاعلي، ولازمه تعلق التكليف بخصوص الحصة المقدورة إذ غير
المقدورة لأحسن فاعلي فيها وان كان لها حسن فعلى.
والجواب عنه مضافا إلى منع اعتباره كما مر، ان لازمه كون الأصل في الواجبات
التعبدية بمعنى اعتبار قصد القربة فيها كما لا يخفى.
فالمتحصل ان مقتضى الاطلاق كون الواجب هو الجامع، وسقوط التكليف
بالفعل غير الاختياري، والأصل العملي يقتضى ذلك أيضا: إذ تقيد التكليف بخصوص
الحصة المقدورة مشكوك فيه، والأصل عدمه.
الشك في سقوط الواجب بفعل الغير
الموضع الثالث: لو شك في سقوط الواجب بفعل الغير، فهل الأصل اللفظي أو
العملي يقتضى السقوط، أو عدمه، وجهان، بل قولان.
288

ولقد أطال المحقق النائيني في المقام، وقسم السقوط بفعل الغير إلى السقوط به مع
الاستنابة وبدونها، وأفاد في كل من القسمين تحقيقات، الا ان اقتضاء الأصل له،
لا يتوقف عليها، والمنسوب إلى المشهور ان مقتضى الاطلاق سقوطه وكون الواجب
توصليا بهذا المعنى من غير فرق بين كونه بالتسبيب أو بالتبرع أو بغير ذلك.
وحق القول في المقام، ان احتمال سقوط التكليف بفعل الغير في عالم الثبوت
يتصور على أنحاء، أحدها: احتمال كون التكليف متعلقا بفعل نفسه أو غيره بنحو التخيير
الشرعي، أو بالجامع بينهما فيكون التخيير عقليا، ثانيها: احتمال كون المتعلق هو فعله أو
استنابته لغيره، ونتيجة ذلك تخييره بين قيام نفس المكلف به وبين الاستنابة لاخر، ثالثها:
ان يكون التكليف مرددا بين كونه مشروطا بعدم قيام غير المكلف به فيسقط بفعل غيره،
وبين كونه مطلقا أي سواءا قام به غيره أم لا لم يقم فلا يسقط.
وعلى الأولين، يدور امر الواجب بين كونه، تعيينيا، أو تخييريا، وعلى الثالث يدور
امر الوجوب بين كونه مطلقا أو مشروطا. وقد مر وسيأتي في محله ان مقتضى الاطلاق
كون الواجب تعيينيا عند دوران الامر بينه وبين كونه تخييريا، كما أن مقتضى الاطلاق
كون الوجوب مطلقا عند دوران الامر بينه وبين المشروط.
أضف إلى ذلك أن الاحتمال الأول غير معقول: لان تعلق التكليف المتوجه إلى
شخص يفعل غيره غير معقول، وكذا بالجامع بينه وبين فعل نفسه، والاحتمال الثاني
لازمه كفاية الاستنابة ومسقطيتها بنفسها، ولو لم يأت بالفعل في الخارج وهو خلاف الفرض.
أضف إلى ذلك كله، ان الظاهر من الدليل في مقام الاثبات هو ذلك، إذ كما أنه إذا
استند الفعل الماضي أو المضارع إلى شخص، يكون ظاهرا في صدور المادة منه
بالمباشرة، كقولنا ضرب زيد فإنه ظاهر في صدور الضرب من زيد بالمباشرة، كذلك، إذا
امر به، ووجه الخطاب إليه، وقال فليضرب زيد يكون ظاهرا في أن المطلوب هو صدوره
منه بنفسه، وعلى ذلك فاحتمال السقوط بفعل الغير، مرجعه إلى الشك في اشتراط
الوجوب بعدم فعل الغير، فمقتضى اطلاق الخطاب لو كان هو عدم الاشتراط.
واما الأصل العملي فالشك في الوجوب بعد فعل الغير على الاحتمال الثالث
289

المعقول الذي لا محذور فيه، شك في سقوط التكليف بعد ثبوته لا في أصل الثبوت، فهو
مورد لقاعدة الاشتغال والاستصحاب، لا البراءة.
لا يقال انه لو شك في الوجوب من ناحية الشك في كونه مشروطا أو مطلقا مع
الشك في وجود الشرط يكون المرجع أصالة البراءة لكون الشك في ثبوت الحكم لا في
السقوط.
فإنه يقال ان يتم ذلك مع عدم احراز فعلية التكليف، كما لو شك في فعلية وجوب
اكرام زيد من ناحية عدم مجيئه، واحتمال شرطية المجئ لوجوب اكرامه، واما مع
احراز الفعلية كما في المقام واحتمال عدم التكليف من ناحية احتمال سقوطه بفعل الغير،
كما في تحنيط الميت لو فعله الصبي المميز، فلا يتم لأنه شك في سقوط التكليف بعد
ثبوته فتدبر فإنه دقيق، فالمتحصل ما ذكرناه ان الأصل هو التوصلية في هذا المقام.
تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
المبحث الخامس: إذا علم بوجوب شئ، وتردد امره بين، الوجوب النفسي
والغيري، أو بين التعييني والتخييري، أو بين العيني والكفائي يقتضيه الأصل
والقاعدة فالكلام في مسائل ثلاث، الأولى إذا دار امر الوجوب بين النفسي والغيري،
فأفاد المحقق الخراساني ان اطلاق الصيغة يقتضى كون الوجوب نفسيا لان الوجوب
الغيري مقيد إذ معنى كونه غيريا انه منوط بوجوب شئ آخر والنفسي مطلق إذا هو
الوجوب غير المنوط بشئ والاطلاق ينفى التقييد.
وأورد عليه بان الوجوب النفسي هو الوجوب لا لغيره، لا الوجوب المطلق، غاية
الأمران قيده من القيود العدمية، فالامر دائر بين ان يكون مشروطا بشئ وأن يكون
بشرط لا والاطلاق يثبت اللابشرطية لا بشرط اللائية.
وفيه: ان يمكن ان يقال انه بالاطلاق يثبت عدم كون الوجوب مترشحا من الغير،
ولازم ذلك كون الوجوب نفسيا غير مترشح من الغير، وبديهي ان الأصل اللفظي كما
290

يثبت به الشئ يثبت به لوازمه كما في ساير الامارات، ولعله إلى ذلك يرجع ما افاده
المحقق الخراساني وأيضا يكون ذلك مراد بعض المحققين حيث قال ردا على الايراد ان
القيود العدمية يكفي فيها عدم القرينة على الوجودية بدعوى ان مجرد ذلك دليل
عدمها وإلا لزم نقض الغرض.
الثانية: لو شك في واجب انه تعييني أو تخييري، فبناءا على كون التخييري هو
الوجوب المتعلق بالجامع الحقيقي أو العنواني بين الفعلين، فمقتضى ظهور الصيغة
المتضمنة للامر بالفعل بخصوصه، هو كان الواجب تعيينا: إذ حمل المتعلق على إرادة
الجامع بينه وبين غيره خلاف الظاهر، واما بناءا على كونه هو الوجوب المتعلق بكل
منهما مشروطا بعدم الاتيان بمتعلق الاخر، فمقتضى اطلاقها ذلك: فإنه لو دار الامر بين
الوجوب المطلق والمشروط، الاطلاق يعين الأول: كما عرفت.
ومما ذكرناه ظهر حكم ما لو دار الامر بين كون الوجوب عينيا، أم كفائيا: إذ لو
كان الوجوب الكفائي، هو الوجوب المتعلق بأحد المكلفين مقتضى ظهور الصيغة كون
الوجوب عينيا ولو كان عبارة عن الوجوب المتعلق بجميع الافراد الساقط عن الجميع
باتيان واحد منهم مقتضى اطلاق الصيغة ذلك.
الامر عقيب الحظر
المبحث السادس: إذا وقع الامر عقيب الحظر أو توهمه فهل يدل على الوجوب
كما عن كثير من العامة أو على الإباحة كما هو المشهور بين الأصحاب أو هو تابع لما قبل
النهى ان علق الامر بزوال علة النهى، أو يحكم بالاجمال وعدم الدلالة على شئ، وجوده
وأقوال.
والتحقيق ان يقال ان الضابط في الحجية وحمل الكلام على إرادة معنى خاص
انما هو الظهور العرفي وليس الضابط كون المستعمل فيه حقيقيا كي يحتاج إلى اثبات كون
المستعمل فيه كذلك، بدعوى ان الأصل في الاستعمال كونه حقيقة كما ذهب إليه
291

السيد المرتضى (قده) وبالجملة بناء العقلاء انما هو على أن المتكلم أراد ما يكون كلامه
ظاهرا فيه، وعليه فإذا كان الكلام محفوفا بما يصلح للقرينية كان ذلك الكلام منعدم
الظهور عندهم فيحكمون بالاجمال.
ومن تلك الموارد ما نحن فيه: إذ ورود الامر عقيب الحظر أو توهمه مما يحتمل
عند العقلاء كونه قرينة على عدم إرادة المتكلم الوجوب من الصيغة بناءا على كونها
ظاهرة فيه بنفسها وضعا أو انصرافا على ما تقدم من المحقق الخراساني وعلى كون الامر
مما يجوز ترك متعلقه، بناءا على كونه يحكم العقل كما هو المختار - وبعبارة أخرى - ان
وقوع الامر عقيب الحظر يصلح ان يكون قرينة على الترخيص في الترك ومعه لا يحكم
العقل بلزوم الاتيان بمتعلقة، وان شئت قلت إن العقل انما يحكم بلزوم الاتيان إذا لم يكن
الامر واردا في هذا المورد، فلا يحمل الامر الواقع الحظر أو توهمه على الوجوب
على المسلكين.
فالقول ببقاء ظهوره في الوجوب ساقط.
كما أن القول بظهوره في الإباحة فاسد: إذ هو تحكم لعدم الدليل على ذلك من
وضع أو غيره.
كما أن القول بتبعيته لما قبل النهى ان علق الامر بزوال علة النهى - كما في الآية
الشريفة - (فإذا حللتم فاصطادوا) بعد أن الحكم السابق ارتفع بالنهي و عوده يحتاج إلى
دليل - قول من غير دليل - وانما استفيد ذلك من الآية الشريفة بدليل آخر.
فتحصل ان الصيغة في هذا المورد فاقدة للظهور فلا أصل لفظي يرجع إليه
في المقام، فلابد من الرجوع إلى الأصل العملي، ومؤداه يختلف باختلاف الموارد، فان
المأمور به إذا كان عبادة احتمال الكراهة والإباحة منتف قطعا، إذ العبادة لا تكون
مرجوحة ولا مباحة، والمفروض زوال الحرمة، فيدور الامر بين الاستحباب والوجوب
فبضميمة قبح العقاب بلا بيان، يثبت الاستحباب فتدبر، وان كان غير عبادي يبنى على
الإباحة، بناءا على جريان البراءة الشرعية في الاحكام غير اللزومية إذ تجرى البراءة عن
الوجوب والكراهة والاستحباب فيثبت الإباحة.
292

المرة والتكرار
المبحث السابع: لا اشكال في أن الوظائف الشرعية على قسمين الأول: ما يكون
انحلاليا يتعدد بتعدد الموضوع، كالأحكام التحريمية، وكوجوب الصوم والصلاة، فان
تعدد وجوب الصوم انما هو عديده، كما أن وجوب الصلاة تتعدد بتعدد دلوك الشمس،
الثاني ما لا يكون انحلاليا كوجوب الحج فإنه لا يتعدد بتعدد الاستطاعة.
فأفاد المحقق النائيني (ره) انه، من نظر إلى القسم الأول: حكم باستفادة التكرار من
الامر، ومن نظر إلى القسم الثاني، حكم باستفادة المرة.
والتحقيق بطلان هذا النزاع رأسا فان تعدد الحكم بتعدد موضوعه ووحدته
بوحدته أجنبي عن دلالة الامر على التكرار والمرة.
وتنقيح القول في المقام يقتضى تقديم المور، الأول: ان صاحب الفصول استدل
على أن محل الكلام ليس دلالة المادة على المرة أو التكرار، بل محل الكلام اما
خصوصة الهيئة أو هي مع المادة: باتفاق أئمة الأدب على أن المصدر المجرد عن اللام
والتنوين لا يدل الا على الماهية المعراة عن لحاظ المرة والتكرار، حيث إن اتفاقهم على
ذلك في المادة قرينة على أن نزاعهم انما هو في غيرها.
وأجاب عنه المحقق الخراساني، بان هذا يتم بناءا على كون المصدر مادة
للمشتقات، وهو فاسد: فإنه مشتق في عرض ساير المشتقات وله مادة وهيئة: لاشتماله
لفظا على هيئة خاصة، ومعنى على خصوصية زايدة، على المعنى الاشتقاقي الساري في
جميع المشتقات وهي النسبة الناقصة، بل المادة لجميع المشتقات هي المادة المشتركة
بين جميع الألفاظ التي تكون لا بشرط لفظا من حيث كل هيئة من الهيئات ومعنى من
حيث قبولها لطرو أنحاء النسب عليها.
وفيه: ان ما ذكره ره من عدم كون المصدر مادة لساير المشتقات، وان كان حقا
293

لا ريب فيه، الا انه لا يكون جوابا عن صاحب الفصول: إذ اتفاقهم على أن المصدر لا يدل
عل شئ من المرة والتكرار يكون كاشفا عن عدم دلالة المادة عليها لاشتماله حينئذ،
على المادة وهيئة، وبعبارة أخرى المشتق هي المادة المتهيئة بهيئة خاصة فهو مشتمل على
كون تلك الخصوصية زايدة، فمن عدم دلالة أحد المشتقات على خصوصية يستكشف عدم
كون تلك الخصوصية مأخوذة في المادة، فإذا ثبت عدم دلالة المصدر على شئ من
المرة والتكرار يثبت عدم دلالة المادة في ضمن أي هيئة كانت على ذلك.
الثاني: قال في الكفاية ثم المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد
والافراد والتحقيق ان يقعا بكلا المعنيين في محل النزاع انتهى وهو متين.
وما عن الفصول، من أن المراد لو كان هو الواحد والوجودات، كان
اللازم ان يجعل هذا المبحث من تتمة البحث الآتي، وهو ان الامر، هل هو متعلق بالطبيعة
أو الفرد، فمن ذهب إلى تعلقه بالطبيعة فلا يصح له هذا النزاع، ومن اختار تعلقه بالفرد
يأتي نزاع آخر، وهو انه هل هو متعلق بفرد واحد أو افراد، ولو كان المراد هي الدفعة
والدفعات يصح النزاع على كل من المسلكين.
غير تام: إذ المراد من الطبيعة والفرد في تلك المسألة دخل الخصوصيات المفردة
في الحكم وعدمه، وعليه فيمكن: ان ينازع على القول الأول: في أن الامر المتعلق
بالطبيعة أي ايجادها الذي يكون لا محالة في ضمن فرد ما، هل يدل على أن المطلوب هو
ايجاد الطبيعة في ضمن فرد أو افراد، وبعبارة أخرى هل المطلوب وجود واحد للطبيعة أو
وجودات.
الثالث: ان قد يتوهم ان هذا البحث هو بعينه البحث عن اجزاء الاتيان بالمأمور به
عن إعادة ثانيا، فالقائل بالاجزاء يتعين له القول بدلالة الامر على المرة، والقائل بعدمه
يتعين ان يلزم بدلالته على التكرار، وهو فاسد: إذ هذا البحث انما هو لتعيين المكلف به،
وبحث الاجزاء، انما يتكفل لبيان - ان الاتيان بالمكلف به على حده هل يجزى عن
اعادته ثانيا - أم لا؟
إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن الامر لا يدل على المرة ولا التكرار لان امر
294

مركب من المادة والهيئة، والأولى موضوعة للماهية لا بشرط، والثانية موضوعة لابراز
الشوق، فكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما، وليس للمركب وضع آخر حتى
يدعى دخل أحدهما فيه. نعم، مقتضى الأصل اللفظي والعملي هو كون المطلوب وجودا
واحدا اما الأول. فلانه إذا تمت مقدمات الحكمة وثبت الاطلاق يكون الثابت به ان
المطلوب صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجودات، فما لم ينصب قرينة على
كون المطلوب وجودات عديدة، لابد من البناء على ذلك، من غير فرق في ذلك بين
الواجبات المستقلة والضمنية، كما أن مقتضى الاطلاق ان المطلوب ينطبق على الوجود
الأول:، وان انضم إليه الوجود الثاني، وبعبارة أخرى انه كما يقتضى كون المطلوب
وجودا واحدا غير مقيد بانضمام ساير الافراد إليه، كذلك يقتضى انه المطلوب غير مقيد
بعدم انضمام غيره إليه، واما الثاني فلانه يشك في وجوب غير الفرد الأول: المطلوب
قطعا، فيجرى أصالة البراءة ويحكم بعدم الجوب.
واما اتيان المأمور به ثانيا بعد اتيانه أولا المسمى ذلك بالامتثال عقيب الامتثال
فسيأتي الكلام فيه في الاجزاء مفصلا.
الفور والتراخي
المبحث الثامن: هل الصيغة تدل على الفور، أو التراخي، أم لا يدل على شئ
منهما معنى كون الواجب فوريا هو تضييقه ولزوم البدار إلى امتثاله كما أن معنى جواز
التراخي هو توسعته، وعلى ذلك فانقدح مما حققناه في مبحث المرة والتكرار انه لا دلالة
للصيغة على الفور ولا على التراخي: لأنها لو دلت على أحدهما قطعيا اما ان تكون من
ناحية المادة أو من ناحية الهيئة، والمادة كما عرفت موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن
جميع الخصوصيات، والهيئة وضعت للدلالة على ابراز الشوق أو اعتبار كون المادة على
عهدة المأمور فلا دلالة في شئ منهما على ذلك.
والاستدلال لدلالة الهيئة على الفور: بان البعث الشرعي انما هو بمنزلة العلة في
295

التكوينيات فكما انها لا تنفك عن المعلول في أول أزمنة الامكان كذلك ما هو منزل منزلها.
فاسد لعدم تسليم صحة التنزيل المزبور، مع أن البعث الشرعي انما هو جعل
ما يمكن ان يكون داعيا، نعم مقتضى الاطلاق جواز التراخي: فان مقتضاه كون الواجب
هو الطبيعي المطلق بلا اعتبار خصوصية زائدة من الفور أو التراخي، ولازم ذلك جواز
التراخي، وقد مر ان الأصول اللفظية حجة في مثبتاتها، هذا إذا كان هناك اطلاق والا
فيرجع إلى الأصل العملي وهو أيضا يقتضى ذلك لأصالة البراءة عن الخصوصية الزايدة.
وقد يقال ان مقتضى القاعدة والأصل وان كان ذلك، الا انه قامت القرينة العامة
على الفور وهي قوله تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ركم " وقوله عز وجل " فاستبقوا
الخيرات " بدعوى ان الامر ظاهر في الوجوب، فالاتيان تدلان على وجوب المسارعة
والاستباق، وبديهي ان الواجبات الشرعية من أظهر افراد المغفرة والخير، فيجب
المسارعة والاستباق إليها باتيانها في أول أزمنة الامكان، وأجاب عنه المحقق
الخراساني (ره) بأجوبة، أحدها: ان سياق الآيتين انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة
والاستباق إلى الخبر من دون استتباع تركهما الغضب والشر ضرورة ان تركهما لو كان
مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذر عنهما انسب.
وهذه بظاهره بين الوهن، فان المستدل انما يستدل بظاهر الامر فلو تم ذلك لزم
عدم ظهور الامر في مورد في الوجوب. وبعبارة أخرى انه لو تم لجرى ذلك في ساير
الواجبات المقتصر في بيانها على البعث من غير ضم وعيد على الترك.
ولذلك ربما يقال انه أراد بما ذكره مطلبا آخر وان كانت العبارة قاصرة عن إفادته
- وحاصله ان تعلق الامر في الآيتين بعنواني، المسارعة إلى المغفرة، والاستباق إلى
الخيرات، بنفسه دال على الاستحباب، لدلالته على تحقق الخير والمغفرة في كلتا صورتي
- المسارعة والاستباق، وعدمهما، ولازم ذلك عدم كون الامر وجوبيا، والا لم يكن
الاتيان بالفعل في الأزمنة اللاحقة مغفرة وخيرا، ولازم ذلك عدم كونه في الان الأول،
مسارعة إلى المغفرة واستباقا إلى الخير.
ولكن يرد عليه ان لازم هذا الوجه عدم كون الاستباق من قيود المأمور به مقوما
296

للمصلحة اللزومية، واما عدم كونه واجبا آخر ناشئا عن مصلحة أخرى قائمة به، فهذا
الوجه لا يكفي في رده، وعليه فحيث ان الظاهر هو الوجوب، فيتعين الالتزام به.
اللهم الا ان يقال ان الامر المتعلق بخصوصية من خصوصيات المأمور به يكون
ظاهرا في كونه ارشادا إلى جزئيتها أو شرطيتها، وانها معتبرة فيه، ولو دل الدليل على عدم
كونها من القيود اللزومية، يحمل على كونها من القيود غير اللزومية، ولذلك يبنى على أن
القنوت من الاجزاء المستحبة للصلاة، وفي المقام بما ان اتيان المأمور به في أول أزمنة
الامكان من خصوصيات المأمور به فالامر به ظاهر في اعتباره في المأمور به، وحيث انه
لا يمكن حمله على الوجوب لما تقدم، فيحمل على إرادة أفضلية الاتيان بالمأمور به في
أول أزمنة الامكان فتدبر فإنه دقيق.
ثانيها: لزوم تخصيصه في المستحبات وأكثر الواجبات من حمل الامر فيهما
على الوجوب فيتعين حمله على الاستحباب.
ثالثها: ان العقل مستقل بحسن المسارعة والاستباق فما ورد في مقام البعث نحوه
ارشاد إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على أصول الطاعة.
وفيه: ان الاحكام العقلية التي لا معنى لها سوى الادراكات العقلية - لان العقل
ليس مشرعا - بل شأن القوة العاقلة هو الدرك، ان كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الشرعية
كما لو حكم العقل بقبح شئ لما فيه من المفسدة الشخصية أو النوعية، لا
محالة يكون الحكم الشرعي الوارد في ذلك المورد حكما مولويا نفسيا، كما هو كذلك
فيما دل على حرمة الظلم الذي استقل العقل بقبحه. نعم، ان كانت واقعة في سلسلة معاليل
الاحكام، كحكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية، لا يصح ان يرد من الشارع حكم
مولوي فيما حكم به العقل كما حقق في محله، والا لزم التسلسل واللغوية وغيرهما
من التوالي الفاسدة، وفي المقام بما ان حكم العقل بحسن المسارعة، والاستباق حكم
عقلي واقع في سلسلة علة الحكم الشرعي، فالامر الوارد في هذا المورد يحمل على
المولوية.
مع أن حكم العقل بحسن المسارعة ليس حكما لزوميا كما هو الظاهر لمن راجع
297

إلى مرتكزه الذهني، فحكم الشارع بوجوبها لا يكون حكما ارشاديا إلى ما حكم به
العقل، فالعمدة هي الوجهان الأولان.
في أنه على الفورية هل يجب فورا ففورا
ثم انه بناءا على القول بعدم دلالة صيغة الامر على الفور، ولا التراخي، أو دلالتها
على التراخي فلا كلام، واما بناء على دلالتها على الفور، فهل يسقط الامر بالطبيعة مع
عدم الاتيان فلا يجب الاتيان بها بعد ذلك، أم لا يسقط؟ وعلى الفرض الثاني، فهل يجب
الاتيان بالمكلف به في الزمان الثاني فورا أيضا أم لا؟ وعليه، فالكلام يقع في موردين،
الأول: في سقوط الامر بالطبيعة مع عصيان الامر بالاستباق، وعدمه، الثاني: انه هل يجب
الاتيان بالمأمور به في الزمان الثاني فورا، أم لا؟
اما المورد الأول: فعن المحقق العراقي (ره)، انه ان كان منشأ القول بالفورية، هو
الصيغة بان استفيدت الفورية منها، تعين البناء على سقوط التكليف رأسا: لان الفورية
دخيلة في الواجب كدخل ساير الاجزاء والشرائط، فكما انه يسقط الامر بالمركب بتعذر
تلك القيود، فكذلك هذا القيد، وان كان المنشأ ما كان عنها - كالآيتين - فالظاهر أنها
تكون من قبيل الواجب على نحو تعدد المطلوب.
وفيه: ما تقدم من أن الامر بقيد في المأمور به ظاهر في كونه ارشادا إلى الجزئية أو
الشرطية، وعليه فلا فرق بين كون المنشأ نفس الصيغة أو أمرا خارجيا، فالتفصيل في غير
محله.
فالمتحصل مما ذكرناه، لو دل الدليل على وجوب الفور، لدل على كون
الواجب بنحو وحدة المطلوب، وسقوط الامر بعدم اتيان المأمور به فورا.
وبما ذكرناه يظهر، ما في كلمات المحقق الخراساني في الكفاية، من ابتناء الوجهين
على: ان مفاد الصيغة على هذا القول هو وحدة المطلوب أو تعدده، ثم اختيار انه لا يكون
لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، حتى على القول بدلالتها على الفور.
298

وعلى فرض التنزل وتسليم وعدم سقوط الامر، يقع الكلام في المورد الثاني، وهو
انه هل يجب الاتيان به في الزمان الثاني أيضا فورا، أم لا يجب؟ وقد استدل للأول، بان
منشأ القول بالفور، ان كان هو ما كان خارجا عن الصيغة كالآيتين، فهو يدل ان كل ما هو
خير ومغفرة يجب المسارعة والاستباق إليه، والفعل بعد عدم اتيانه في الزمان الأول: بما
ان التكليف به باق، فهو خير ومغفرة في الزمان الثاني فيجب المسارعة نحوه بمقتضى
عموم الآيتين وهكذا في الأزمنة المتأخرة.
وفيه: ان عنوان المسارعة المطلوبة ان كان يصدق على غير الاتيان به في الزمان
الأول:، فلازم ذلك التخيير بين افراد السبق والمسارعة، والا، فلا دليل على لزوم الاتيان
به في الزمان الثاني فورا، وان شئت قلت إن الظاهر منهما وجوب المسارعة بقول مطلق،
وليس لهذا العنوان الا فرد واحد، وهو الاتيان في الزمان الأول: واتيان الفعل في الزمان
الثاني، وان صدق عليه المسارعة بالإضافة، الا انه لا دليل على مطلوبيتها: لان الدليل دل
على مطلوبية المسارعة بقول مطلق، لا مطلق المسارعة، فتحصل انه لا فرق في كون منشأ
القول بالفور، هي الصيغة، أم كان خارجا عنها كالآيتين في عدم دلالته على لزوم
الاتيان به فورا فتدبر.
مبحث الاجزاء
الفصل الثالث: في أن الاتيان بالمأمور به على وجهه، هل يقتضى الاجزاء، أم لا؟
أم هناك تفصيل؟ وجوه وقبل الخوض في المقصود وتقيح القول فيه لابد من تقديم
أمور: الأول: ما هو المراد من كلمة وجهه في العنوان. ذكر المحقق الخراساني في الكفاية
ان المراد به، وهو النهج الذي ينبغي ان يؤتى به على ذاك النهج شرعا وعقلا، لا خصوص
الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا.
واستدل له بوجهين: أحدهما: انه لو كان المراد خصوص الوجه الشرعي، لزم
خروج التعبديات عن حريم النزاع بناءا على كنون قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا:
299

إذ لا ريب في أنه في التعبديات لا يكون الاتيان بالمأمور به الشرعي مجزيا. الثاني: انه على
ذلك يلزم كون هذا القيد توضيحيا، وهو بعيد.
وفيهما نظر: اما الأول: فلان لازم اختاره من أن اعتبار قصد القربة في التعبديات
انما هو بحكم العقل، ان المأمور به ليس هو مطلق وجوده، بل الحصة المقارنة لقيد
الدعوة، فالمأمور به تلك الحصة، واتيان تلك الحصة يكون مجزيا على القول بالاجزاء،
فلا يلزم خروجها عن حريم النزاع، لو أريد خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا.
واما الثاني: فلانه من جهة ان الامر بالمركب ينسط على الاجزاء ويتعلق بكل
جزء حصة من الامر، ويكون كل جزء مأمورا به، لو لم يكن قيد " على وجهه " كان لتوهم
ان المراد من اجزاء الاتيان بالمأمور به، اجزاء الاتيان بكل جزء عن امره، مجال واسع،
فقيد " على وجهه " انما يكون لدفع هذا التوهم، وان المراد اجزاء الاتيان بالمأمور به على
النهج الذي ينبغي ان يؤتى به، باتيان جميع الاجزاء والشرائط، أضف إليه ان هذا القيد
مأخوذ فيما عنونه المشهور القائلون باعتبار قصد القربة في المأمور به شرعا. فلو كان القيد
توضيحيا. بدون تلك الإضافة كان كذلك معها - فالمتحصل ان المراد من وجهه في العنوان
هو الوجه المعتبر شرعا ولا يلزم من ذلك محذور حتى على مسلك المحقق الخراساني من أن
قصد القربة مما يعتبر في المأمور به عقلا كما مر.
بيان المراد من الاقتضاء، والاجزاء
الثاني: ما هو المراد من الاقتضاء، هل هو الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، أو
الكشف والدلالة؟ والحق ان الاقتضاء ان أضيف إلى الاتيان كما في الكفاية لا محالة
يكون المراد منه العلية والتأثير. وان أضيف إلى الامر يراد منه الدلالة والكشف إذ ليس
في الامر علية وتأثير في الاجزاء.
والمحقق القمي حفظا لمناسبة هذا المبحث مع المباحث المتقدمة اضافه إلى الامر
وقال إن المراد منه الدلالة والكشف.
300

والمحقق الخراساني لما رأى أن محل النزاع هو العلية والتأثير وان اتيان المأمور به
يوجب سقوط الامر أم لا؟ اضافه إلى الاتيان وقال: ان المراد من الاقتضاء هيهنا الاقتضاء
بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة.
وللمحقق الأصفهاني (ره) في المقام كلام، وهو ان الاتيان بالمأمور به لا يكون علة
لسقوط الامر: إذ سقوط الامر انما يكون لحصول الغرض وعدم بقائه على غرضيته
ودعوته والمعلول ينعدم بانعدام علته، والا الفعل لا يعقل ان يؤثر في سقوط الامر: لان
الامر علة الوجود الفعل في الخارج فلو كان الفعل علة لسقوط الامر لزم علية الشئ لعدم
نفسه بل سقوط الامر انما هو لتمامية اقتضائه وانتهاء أمده.
وفيه أولا: ان العلة والداعي لوجود الفعل، هو الامر بوجوده العلمي، وما هو
معلول لحصول المأمور به سقوط الامر بوجوده الواقعي فليس وجود شئ علة لعدمه بل
العلم بالامر علة لعدم الامر، وثانيا: ان المستحل كون وجود الشئ علة لعدم هذا
الوجود، لاستلزامه اجتماع النقيضين: إذ العلة والمعلول مجتمعان في التحقق فيلزم كون
الشئ موجودا ومعدوما في آن واحد وهو محال، واما علية وجود الشئ لعدم ذلك
الشئ في الان الثاني، وبعبارة أخرى علية الحدوث لعدم البقاء فلا محذور فيها، بل هي
متحققة - مثلا - إذا اتصل بدنه بالسلك الكهربائي مع وجود القوة فيه وتحرك، ولزم من
هذا التحريك الانفصال، فهل يتوهم أحد ان هذا من قبيل علية الشئ لعدم نفسه فان
الاتصال صار علة لعدمه، والمقام من هذا القبيل إذ وجود الامر في الان الأول: علة وداع
لوجود الفعل، وهو يوجب سقوطه في الزمان الثاني فتدبر.
وأورد المحقق الخراساني على ما افاده من أن النزاع في العلية والتأثير: بان ذلك
يتم بالنسبة إلى امره، واما بالنسبة إلى امر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو
الظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو
يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده.
وأجاب عنه - بما حاصله - ان النزاع الاخر يكون منحلا إلى نزاعين أحدهما: وفاء
المأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري بتمام الغرض الداعي إلى الامر والواقعي
301

الاختياري الثاني: انه بعد الوفاء، هل يكون مجزيا عن الامر الواقعي أم لا؟ و النزاع الأول:
يكون صغرويا بالنسبة إلى النزاع الثاني، وعليه فالخلاف فيه وان كان في دلالة دليلهما
على أنه، هل يكون المأمور به الاضطراري أو الظاهري وافيا به أم لا، الا ان ذلك لا يوجب
كون الاقتضاء بمعنى الكشف والدلالة في العنوان بعد كون النزاع الثاني: انما هو في العلية
والتأثير.
هذا ويمكن ان يقال ان النزاع الأول أيضا ليس في دلالة الدليل على كون المأمور
به وافيا بتمام الغرض الداعي إلى الامر الواقعي، بل في اشتمال المأمور به عليه، غاية الامر
من جملة الأدلة على الاشتمال المزبور، دلالة الأدلة. كما هو الشأن في جملة من
المباحث الأصولية العقلية كالاستصحاب.
الثالث: في بيان المراد من الاجزاء، فالظاهر كما افاده المحقق الخراساني من أنه
ليس لهم فيه اصطلاح خاص، بل المراد منه هو الكفاية التي هي معناه اللغوي، وانما
يختلف ما يكفي عنه، فاجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره هو كفايته عما امر به إعادة
وقضاءا، واجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن الامر الاختياري انما هو سقوط
القضاء خاصة.
الفرق بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار
الرابع: قد يتوهم، انه لا فرق بين هذه المسألة، ومسألة المرة والتكرار، بدعوى ان
القول بالاجزاء موافق للقول بالمرة، والقول بعدم الاجزاء موافق للقول بالتكرار، كما أنه
قد يتوهم عدم الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء، فان القائل بالتبعية يلتزم ببقاء
الامر في خارج الوقت عند عدم الامتثال وهو متحد في النتيجة مع القول بعدم الاجزاء
ولكن كلا التوهمين فاسدان.
اما الأول: فلما افاده المحقق الخراساني من أن تلك المسألة انما هي في تعيين
المأمور به وهذه المسألة في أن الاتيان بالمأمور به بحدوده هل يكون مسقطا للامر. هذا
302

في النزاع في اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره، واما النزاع الاخر الذي هو المقصود
المهم في عقد هذه المسألة، وهو ان الاتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري، هل
بكون مجزيا عن الامر الواقعي الاختياري أم لا فعدم ارتباط تلك المسألة بهذه واضح: إذ
النزاع حينئذ في هذه المسألة في اغناء المأمور به بأمر عن المأمور به بأمر آخر، واما في
تلك المسألة، فالنزاع انما هو في الاكتفاء بفرد واحد وعدمه.
واما الثاني: فظاهر ما في الكفاية في بادي النظر، ان الفرق بين المسألتين، انما هو
بكون إحداهما لفظية، والأخرى عقلية، ولكن ليس ذلك مراده قطعيا: فان مجرد ذلك
لا يوجب عقد مسألتين، بل عقد مسألة واحدة يبحث فيها عن الجهتين معا، كما في
مبحث البراءة، ولعل نظره الشريف إلى أن النزاع في المقام أجنبي، عن النزاع في تلك
المسألة بالمرة، وذلك في النزاع الأول: في المقام واضح: حيث إن النزاع حينئذ في أن
الاتيان بالمأمور به، هل يوجب سقوط الامر به أداءا وقضاءا أم لا؟ وفي تلك المسألة في أنه
على فرض عدم الاتيان بالمأمور به هل الامر به يقتضى الاتيان به قضاءا أم لا؟
فموضوع إحدى المسألتين الاتيان، وموضوع الأخرى عدم الاتيان.
واما النزاع الثاني: في مسألة الاجزاء. فالظاهر أن الفرق بينه وبين مسألة التبعية
أيضا واضح، فان الكلام في مسألة التبعية انما هو في أصل اقتضاء الامر للقضاء وعدمه،
والكلام في مسألة الاجزاء، بعد الفراغ عن اقتضائه له أو ثبوت وجوبه بدليل آخر انما
يكون في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري أو الاضطراري هل يغنى عن قضاء
المأمور به بالامر الواقعي الاختياري أم لا وبعد ذلك نقول يقع الكلام في مسائل ثلاث.
الأولى: ان الاتيان بالمأمور به هل يقتضى الاجزاء عن امره سواءا كان ذلك الامر
أمرا واقعيا أو اضطراريا أو ظاهريا.
الثانية: ان الاتيان بالمأمور به بالامر به بالامر بالاضطراري هل يقتضى الاجزاء عن الامر
الواقعي الاختياري أم لا؟
الثالثة: ان الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يوجب الاجزاء عن الامر
الواقعي أم لا؟
303

اجزاء الاتيان بالمأمور به عن امره
اما المسألة الأولى: فقد أفاد المحقق الخراساني (ره) ان الاتيان بالمأمور به يجزى
عن امره عقلا سواء أكان أمرا واقعيا أو اضطراريا أم ظاهريا لاستقلال العقل بذلك وهو
كما افاده، ولذلك ليس فيه نزاع يعتد به وان نسب الخلاف إلى أبى هاشم وبعد الجبار:
والوجه فيه ان الامر انما يكون عن داع وعن مصلحة مترتبة على المأمور به، وعلى ذلك،
فعدم سقوط الامر بعد الاتيان بالمأمور به، ان كان لعدم حصول الغرض والمصلحة، فهو
خلف إذ المفروض وفائه به، وكون الامر ناشئا من ذلك، وان كان مع فرض حصوله، فهو
محال، وان كان لوجود غرض غير الغرض الحاصل من الماتى به أولا، فلازمه الامر
بفردين لا بفرد واحد، وان كان لحدوث غرض بعد استيفاء ذلك الغرض، فلازمه حدوث
امر جديد لا بقاء الأول: فبقاء الامر بعد وجود المأمور به غير معقول، ووجود الخلاف
في المسألة غير ثابت وعلى تقديره فهو محجوج بما عرفت.
عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال اخر
وبهذا البيان يظهر ان الامتثال عقيب الامتثال غير معقول، ولكن قد يتوهم وقوعه
نظرا إلى أنه ورد في الشرع موردين امر فيهما بذلك.
أحدهما: جواز إعادة من صل فرادى جماعة، وقد دلت على ذلك عدة روايات
منها صحيح هشام عن الإمام الصادق (ع) انه قال في الرجل يصلى الصلاة وحده ثم يجد
جماعة قال (ع) يصلى معهم ويجعلها الفريضة ان شاء 1 ونحوه خبر حفص 2 وغيره ومنها

1 و 2 - الوسائل باب 54 من أبواب صلاة الجماعة حديث 1 - 11.
304

- مرسل الفقيه - المتضمن قوله (ع) يحسب له أفضلهما وأتمهما 1 ومنها خبر أبي بصير:
المتضمن لقوله (ع) يختار الله أحبهما إليه 2.
المورد الثاني: الامر بإعادة من صلى صلاة الآيات ثانيا: وقد دلت عليه صحيحة
معاوية قال أبو عبد الله (ع) صلاة الكسوف إذا فرغت قبل ان ينجلي فأعد 2 ونحوه غيره
ولذلك تصدى الفقهاء لتوجيهه.
وقد أفاد المحقق الخراساني بأنه ربما يكون اتيان المأمور به علة تامة لحصول
الغرض بحيث يحصل بمجرد الاتيان به كما إذا امر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه
فاهرقه، وفي مثله لا يعقل تبديل الامتثال، وربما لا يكون الامتثال علة تامة لحصول
الغرض كما لو امر المولى باتيان الماء ليشربه واتى به المكلف ولم يشربه بعد، وفي مثله
يجوز تبديل الامتثال فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولذا لو الامتثال علة تامة لحصول
الغرض كما لو امر المولى باتيان الماء ليشربه واتى به المكلف ولم يشربه بعد، وفي مثله
يجوز تبديل الامتثال فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد، ولم يشربه بعد، ولذا لو أهرق الماء واطلع
عليه العبد وجب عليه الاتيان ثانيا كما إذا لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه، ما لم يحصل
غرضه الداعي إليه والا لما أوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر
كما كان له قبل اتيانه الأول. بدلا عنه، فتبديل الامتثال على هذا يسقط الماتى به حقيقة،
ويظهر ذلك بملا حظة ما لو أهرق الماء قبل الشرب واتى بماء آخر.
وفي كلامه (قده) مواقع للنظر الأول: ما افاده من أن ترتب الغرض الباعث للامر
على اتيان المأمور به انما يكون على نحوين: أحدهما: ترتب المعلول على علته التامة.
ثانيهما: ترتب المعلول على علته المعدة، والالتزام بجواز تبديل الامتثال في القسم الثاني.
فإنه يرد عليه ما ذكرناه في بعض المباحث السابقة من أن الغرض الباعث للامر
لابد وأن يكون هو ما يترتب على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة، ولا يعقل ان
يكون من قبيل ترتب المعلول على علته المعدة، غاية الامر الاغراض متفاوتة: إذ قد يكون
هو الغرض الأقصى وقد يكون هو الغرض الاعدادي، وبعبارة أخرى تارة يكون الغرض

1 و 2 - الوسائل باب 54 من أبواب صلاة الجماعة حديث 4 - 10.
3 - الوسائل باب 8 من أبواب صلاة الكسوف والآيات حديث 1.
305

المترتب على المأمور به، هو حصول شئ الخارج، وأخرى يكون الاعداد لحصوله
- نعم - في المورد الثاني يكون هناك غرض أقصى ولكنه كما لا يكون سببا وداعيا للامر
حدوثا، لا يكون عدم حصوله وبقائه علة لبقاء الامر كي يصح تبديل الامتثال
- وبالجملة - الغرض الذي سبب للامر يحصل بمجرد الامتثال مطلقا، وما يكون باقيا في
بعض الموارد بعد الامتثال لا يصلح ان يكون سببا له حدوثا ولا بقاءا.
وبما ذكرناه ظهر ما في المثال الذي مثل به لما إذا اتيان المأمور به علة
لسقوط الغرض، وهو الامر باحضار الماء ليشربه أو يتوضأ به: إذ الغرض من اتيان الماء
الموج للامر به ليس هو الشرب. أو الوضوء: فإنه خارج عن تحت قدرة العبد، بل هو
تمكن المولى من ذلك، وعليه فالاتيان به موجب لسقوط الغرض والامتثال علة له.
الثاني: ما استشهد لذلك بأنه لو أهرق الماء وجب عليه اتيانه ثانيا.
إذ يرد عليه: ان ذلك انما هو الج انتفاء الغرض الحاصل، وهو التمكن من
الشرب أو الوضوء فيجب الاتيان به تحصيلا لذلك الغرض. إذا كان ذلك مطلوبا له
ومتعلقا لشوقه كما في المثال، وبعبارة أخرى ان اعدام الموضوع، غير سقوط الماتى به،
بل هو موجب لحدوث امر آخر، وله امتثال آخر غير الامتثال آخر غير الامتثال للامر الأول: فهو من باب
تعدد الامتثال لتعدد الامر لامن باب تبديل الامتثال.
أضف إلى ذلك أنه في باب العبادات لا موضوع للمأتي به كي يعدم الموضوع
فيتخيل سقوط الماتى به، والمأتي به بنفسه لا بقاء له كي ينعدم وقلبه عما وقع عليه واضح
الفساد وبالجملة سقوط الماتى به مستلزم لانقلاب الشئ عما وقع عليه، وهو غير
معقول.
الثالث: ما ذكره من الاستشهاد بنصوص الإعادة: فإنه يرد عليه انه لو كان مفاد تلك
النصوص جواز تبديل الامتثال، لزم القول بجواز إعادة المنفرد صلاته فرادى، وجواز
إعادة من صلى جماعة فرادى مع أنه لم يلتزم به أحد، وبعبارة أخرى إذا استكشف من
تلك الأخبار، ان مصلحة الصلاة والغرض الباعث للامر بها تكون باقية بعد الاتيان بها
- وعليه بنى جواز تبديل الامتثال - لزم الالتزام به في جميع تلك الفروض.
306

أضف إليه ان لازمه ان من يعلم بأنه يعيد صلاته في مورد جواز الإعادة وهو مورد
النصوص، ان لا يقصد الامر الجزمي بشئ من الصلاتين، أو الصلاة الفرادى. على
الخلاف في أن المستفاد منها ان الله تعالى يختار الأفضل وان كانت هي الصلاة الفرادى.
أو استقرار الامتثال على الصلاة التي صلاها جماعة وهو كما ترى. وسيمر عليك ان مفاد
تلكم الاختبار أجنبي عن تبديل الامتثال وانه تدل على استحباب الإعادة نفسها.
والمحقق النائيني بعد ما قسم الغرض الباعث للامر إلى قسمين. ما يكون ترتبه على
المأمور به ترتب المعلول على علته التامة، وما يكون ترتبه عليه ترتب المعلول عليه ترتب المعلول على علته
المعدة وأفاد انه في مقام الثبوت يجوز تبديل الامتثال في القسم الثاني نحو ما ذكره
المحقق الخراساني قال إنه يحتاج إلى الدليل في مقام الاثبات كما ثبت في تبديل الصلاة
الفرادى بالصلاة جماعة.
أقول يرد عليه مضافا إلى ما أوردناه على ما افاده المحقق الخراساني، ان لازم
ما ذكره في مبحث الصحيح والأعم من أنه يستكشف من تعلق الامر بالمحصل دون
الغرض، ان ترتبه عليه، انما يكون من قبيل ترتب المعلوم على علته المعدة، لا كترتب
المعلول على علته التامة، الا تعين الامر به دون السبب، وما ذكره في المقام. هو البناء
على أن جواز التبديل في مقام الاثبات أيضا يكون على القاعدة، إذ بما ذكره في ذلك
المبحث يحرز ان ترتب الاغراض عليب الواجبات الشرعية من قبيل ترتب المعاليل على
العلل المعدة. وإذا انضم إلى ما ذكره في المقام من أنه لو كان الترتب على هذه النحو جاز
التبديل يستنتج جواز التبديل فتدبر فان ذلك دقيق.
وأفاد المحقق العراقي في توجيه تبديل الامتثال، ان الامر بالشئ اما ان يكون
لاشتماله على الغرض والمصلحة، واما ان يكون لكونه مقدمة لما فيه الغرض الأقصى،
وعلى الثاني، فتارة يكون ما فيه الغرض أي ذي المقدمة فعل المكلف، كالصلاة بالنسبة
إلى المقدمات مثل الوضوء ونحوه، وأخرى يكون هو فعل المولى، وعلى الثاني فقد يكون
من أفعاله الجوارحية كامر المولى عبده باحضار الماء ليشربه، وقد يكون من أفعاله
الجوانحية كامر المولى العبد بإعادة الصلاة جماعة ليختار أحب الصلاتين إليه، وعلى
307

ذلك فبناءا على القول باختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة إذا اتى العبد بفردين من
افراد الواجب في الأقسام المذكورة غير الأول: - طول - فأيهما الذي ترتب عليه ما فيه
الغرض هو المصداق للواجب فيقع الاخر لغوا، فلو صلى فرادى ثم جماعة واختار
المولى الثانية في مقام ترتب الثواب على اطاعته، تقع الثانية مصداقا للواجب، دون الأولى
بل هي تقع غير واجبة.
وفيه: ان ما التزم به (قده) من عدم ترتب غرض على الصلاة في نفسها وانما الامر بها
لأجل كونها مقدمة لاختيار المولى إياها في مقام ترتب الثواب التزام بعدم كون هذا
الحكم تابعا للمصلحة وهو مناف لمسلك العدلية، مع أنه قد وردت نصوص كثيرة دالة
على أنه في خصوص الصلاة مصالح وأغراض من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وغير
ذلك.
أضف إلى ذلك أن كون الامتثال مراعى بعدم الاتيان بفرد أكمل لو تم فإنما هو في
الافعال التي يعود نفعها إلى المولى كما في الامر بالاتيان بالماء ليشربه، فإنه اتى بفرد
من الماء يقال انه مراعى بعدم الاتيان بفرد أكمل قبل ان يشربه المولى، والا فللمولى
اختيار الفرد الأكمل، ولا يتم في التكاليف الشرعية الناشئة عن الاغراض العائدة إلى
فواعلها دون المولى، مع أنه لا يتم فيها أيضا، فان غرض المولى الذي لا يكون محصله
تحت اختيار المكلف بل الفاصل بين فعل العبد وحصول الغرض اختيار المولى، لا يصلح
كونه ملاك الوجوب.
وعن جماعة تصوير تبديل الامتثال بسقوط الماتى به بناءا - لا حقيقة - ونظروه
بالعدول من العصر إلى الظهر مثلا وقالوا انه كما يتبدل عنوان المأتى به وينقلب من
العصرية إلى الظهرية في مواضع العدول كذلك يتصور البناء على تبديل الامتثال، وبعبارة
أخرى انه كما أين يتبدل امتثال امر منطبق على فرد إلى الامتثال باتيان فرد آخر.
ويرده انه في موارد العدول لا يتبدل العنوان وإلا لزم الانقلاب، بل الدليل دل على
اكتفاء الشارع الأقدس بما اتى به بقصد العصرية مثلا عن الامر بالظهر، وهذا ليس من باب
308

التبديل والسقوط البنائي مع أنه لو تم في العناوين القصدية لا يتم في الامتثال الذي هو امر
واقعي وعبارة عن مطابقة الماتى به المأمور به.
فالمتحصل مما ذكرناه عدم معقولية تبديل الامتثال، لا بسقوط الماتى به حقيقة
على ما افاده المحققان الخراساني والنائيني، ولا بسقوطه بناءا على ما عن جماعة من
الأساطين، ولا بوقوع الماتى به امتثالا مراعى بعدم الاتيان بفرد أكمل، ولا بغير ذلك، واما
الموردان اللذان ذكرهما القوم فليس شئ منهما من هذا الباب.
اما المورد الأول: وهو جواز إعادة الصلاة - جماعة - فملخص القول فيه ان مفاد
نصوصها استحباب الإعادة في نفسها فيكون كل فرد امتثالا لأمر غير ما يكون الاخر
امتثالا له. دعى القوم إلى الالتزام بأنه تدل على جواز تبديل الامتثال انما هو
تضمن تلك النصوص لجمل ثلاث، إحداها: قوله (ع) يحسب له أفضلهما وأتمهما. كما في
مرسل الفقيه. الثانية: قوله (ع) يختار الله أحبهما إليه. كما في خبر أبي بصير. الثالثة: قوله (ع)
فمن صلى وحده ثم وجد جماعة، يصلى معهم ويجعلها الفريضة كما خبري حفص
البختري وهشام وغيرهما.
ولكن شيئا منها لا يدل على ذلك، اما الأولى: فلان الظاهر من المرسل المتضمن لها
وروده في الصلاة مع المخالفين، فيكون نظير طائفة من نصوص الإعادة الدالة إعادة
الصلاة مع المخالفين، وفي بعضها انها تحسب له بأربع وعشرين صلاة، وفي بعضها انها
تحسب له خمس وعشرون درجة، وفي بعضها، انه يجعلها تسبيحا، والمراد به كما في
خير آخر انه ذكر محض، وفي بعضها، قوله (ع) أريهم ان اسجد ولا اسجد، ولا ريب في أن
تلك الطائفة من النصوص المصرح في بعضها بعدم الاتيان بها بعنوان الصلاتية، أجنبية
عن تبديل الامتثال، فالمراد من الجملة المتقدمة - هو المراد - مما في بعضها انها تحسب
له بأربع وعشرين صلاة، والشاهد على كون المرسل من هذه النصوص ارسالها بعد ما رواه
عن الإمام الصادق (ع) الوارد في الصلاة معهم على ما هو صريحه، وعلى ذلك فيتعين قرائة
أفضلهما وأتمهما بالنصب لا بالرفع كما لا يخفى.
واما الجملة الثانية: فلان المراد بها على الظاهر ولا أقل من المحتمل، هو ان الله
309

تعالى يعطى الثواب على الصلاة الكاملة منهما الواقعتين بداعي امتثال أمرين: وجوبي
واستحبابي، لا ان الصلاة التي تكون أحب هي المسقطة للامر الوجوبي وانها التي تستقر
عليها الامتثال ومحصلة للغرض الأقصى - والشاهد عليه - قوله (ع) أحبهما إليه الظاهر في
اشتراكهما في المحبوبية: إذا القائل بتبديل الامتثال لا يلتزم بذلك.
واما الجمة الثالثة: ففيها احتمالات، الأول: ان يكون المراد بها، الاتيان بالثانية
بعنوان القضاء عما في الذمة من الصلوات الفاسدة - أو التي لم يؤت بها - ويؤيده قوله (ع)
في خبر هشام، يجعلها الفريضة ان شاء. الثاني: ما ذكره شيخ الطائفة وهو ان المراد بها، ان
من يصلى ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة فله ان يجعلها نافلة ثم يصلى الفريضة في
جماعة. وأيده الوحيد، بان ذلك هو ظاهر صيغة المضارع، وان راوي هذا الخبر، روى هذا
المعنى الذي ذكره الشيخ عن سليمان بن خالد عن الصادق (ع). الثالث: ان يكون المراد بها
ما ذكره بعض المحققين (ره)، من أنه يجعلها فريضة ذاتية من ظهر أو عصر أو نحوهما مما
أداها سابقا، لا نافلة ذاتية حيث لا جماعة فيها، وعلى أي تقدير تكون أجنبية عما استدل بها
له: ويشهد لعدم كون نصوص الإعادة في مقام بيان جواز تبديل الامتثال ما في بعضها. فان
له صلاة أخرى.
فتحصل ان الأظهر عدم جواز تبديل الامتثال: ويشهد له مضافا إلى ما تقدم. ان
الامر ان كان باقيا بعد الاتيان بفرد فبما انه ايجابي يجب الاتيان به ثانيا، والا فلا موجب
للاتيان به.
واما المورد الثاني: وهو الامر بإعادة صلاة الآيات فالصحيح انه يتعين رفع اليد
عن ظهور الامر في الوجوب وحمل تلك النصوص على الاستحباب كما عليه الفتوى
فحكم هذا المورد حكم المورد الأول:
اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري
واما المسألة الثانية: وهي ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يكون
310

مجزيا عن الواقع أم لا. فتنقيح القول فيها بالبحث في مواضع.
الأول: ان الاتيان بالمأمور به الاضطراري هل يجزى عن قضاء المأمور به
الواقعي الأولى، فيما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت، أم لا؟
الثالث: في جواز البدار للمضطر باتيانه في أول الوقت وعدمه.
اما الموضع الأول: فبناءا على كون وجوب القضاء تابعا لفوت الفريضة في الوقت،
لا يجب القضاء في المقام: لعدم كون المأمور به الاختياري فريضة ومأمورا به بالنسبة إلى
المضطر، فلا يصدق فوت الفريضة إذا التكليف الواقعي بالنسبة إلى المضطر هو الامر
الاضطراري، لا الامر الاختياري كي يتحقق فوت الواقع.
وبذلك ظهر ما في كلام المحقق الخراساني في اخر المقام الأول: حيث قال نعم لو
دل دليله على أن سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجبا عليه لتحقق
سببه.
واما لو كان وجوب القضاء تابعا لفوت الملاك، فقد يقال كما عن المحقق -
النائيني (ره): بان مقتضى القاعدة أيضا الاجزاء وذلك لان القيد المتعذر، ان كان دخيلا في
ملاك الواجب حتى في حال التعذر فلازمه عدم وجوب الفاقد في الوقت، وان لم يكن
دخيلا فيه حين التعذر، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها فلا يجب قضائها، من غير فرق
في ذلك بين ان يكون هناك مصلحة أخرى مترتبة على نفس القيد وعدمه: إذ مصلحة
القيد اللزومية لقيام مصلحتها بالفاقد فلا يمكن استيفاء مصلحة القيد أصلا.
أقول ان دخل القيد في الملاك والمصلحة حال التعذر يتصور على وجوده،
الأول: ان يكون هناك مصلحتان: إحداهما: مترتبة على الفعل، والثانية: على القيد، ولازم
ذلك عدم وجوب القضاء كما أفاد (قده) الثاني: ان يكون المأمور به الاختياري مشتملا
311

على مصلحتين ملزمين، إحداهما: مترتبة عليه مع ذلك القيد المتعذر خاصة، والأخرى
مترتبة على ما هو بدل عن ذلك القيد أيضا، وحينئذ، اما ان لا يمكن استيفاء تلك المصلحة
الفائتة: لان استيفائها انما يمكن من استيفاء الأخرى لا وحدها، أو يمكن ولكن ليست
مصلحة ملزمة، أو يمكن مع استيفاء الأخرى لا وحدها، أو يمكن ولكن ليست
مصلحة ملزمة، أو يمكن وتكون لزومية، فعلى الأولين لا يجب القضاء، وعلى الأخير
يجب: الثالث: ان يكون دخل القيد المتعذر في المصلحة المترتبة على الواجب مختصا
بحال الاختيار، ولازم ذلك عدم وجوب القضاء، الرابع: ان يكون في المأمور به
الاختياري مصلحة واحدة، ويكون القيد المتعذر دخيلا فيها حتى في حال الاضطرار،
وحينئذ، ان لم تترتب على الفاقد مصلحة أصلا، فلازمه عدم وجوب الفاقد، وان ترتبت
عليه مصلحة أخرى غير تلك المصلحة، ان لم يكن استيفائها مانعا عن استيفاء تلك
المصلحة يجب القضاء، والا فلا، وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات القوم في المقام.
وبعد ما عرفت من أنه في مقام الثبوت يمكن ان يكون القضاء واجبا، ويمكن ان
لا يكون كذلك، يقع الكلام فيما، تقتضيه الأدلة والأصول في مقام الاثبات.
والكلام في هذا المقام يقع أولا في مقتضى الأدلة، وقد استدل للاجزاء: باطلاق
دليل المأمور به الاضطراري، وفيه انه ان بذلك ان الاطلاق يقتضى كون المأمور به
الاضطراري وافيا بالمصلحة المترتبة على المأمور به الاختياري، فيرد عليه: ان الامر
لا يصلح الا لا ثبات كون الفعل الاضطراري وافيا بجميع ما دعى المولى إلى هذا الامر
لا كونه وافيا بمصلحة الفعل الاختياري، وان أريد به ان مقتضى اطلاقه عدم وجوب
الفعل الاختياري بعد الاتيان به، فيرد عليه: ان التمسك بالاطلاق انما يصح فيما إذا لزم من
ثبوت ما أريد نفيه بالاطلاق تقييد في ذلك الدليل، مثلا لو قال المولى أكرم العلماء، وشك
في دخالة العدالة فيه ينفى اعتبارها الاطلاق، كما أنه لو شك في كون ما امر به واجبا
تعيينيا أم تخيير يا بينه وبين غيره يثبت الاطلاق كونه تعيينيا، واما لو كان المشكوك ثبوته
على تقدير الثبوت غير مربوط بهذا الدليل، ولا يلزم منه تغيير في هذا الحكم فلا مورد
للتمسك بالاطلاق، مثلا لو شك في وجوب صلاة أول الشهر لا سبيل إلى التمسك باطلاق
دليل صلاة اليومية لنفيه، والمقام من هذا القبيل إذ على فرض ثبوت القضاء لا يلزم تقييد
312

فيما دل على وجوب الفعل الاضطراري، ولا يلزم منه صيرورته واجبا تخييريا: إذ على أي
تقدير يجب الاتيان به في الوقت ولا يكون وجوبهما ارتباطيا على فرض الثبوت، فلا يصح
التمسك بالاطلاق لنفى وجوب القضاء.
نعم: التمسك باطلاق دليل بدل القيد المتعذر إذا كان بلسان التنزيل كما في
قوله: (ع) " التراب أحد الطهورين " صحيح: إذ مقتضى اطلاق التنزيل ترتب جميع اثار
الطهارة المائية، عل الترابية عند فقد ان الماء وهو يكون حاكما على اطلاق دليل القيد
الاختياري فلا يعتنى بما قيل من معارضته مع ذلك الاطلاق.
فالصحيح في المقام ان يقال: ان انعقاد هذا البحث في المقام، وعدم تعرض أحد له
في ما إذا تبدل حال المكلف بان صار مسافرا بعد كونه حاضرا، وعدم توهم أحد وجوب
القضاء فيه، انما هو لبنائهم على أن المكلف به في المورد الثاني ليس هي الصلاة أربع ركعات
في جميع الحالات حتى لو كان مسافرا، بل المكلف به هو الجامع، بمعنى ان
المسافر لا تكليف له سوى بالصلاة ركعتين، فبعد الاتيان بهما لا مجال للقضاء، واما
في المقام فالواجب على كل مكلف أي ما فيه ملاك الوجوب الملزم انما هو الفعل
الاختياري حتى في حال الاضطرار، وانما لم يؤمر به لعجز المكلف عنه وانما امر بالفعل
الاضطراري لكونه وافيا بتلك المصلحة أو بعضها. فلذلك جرى هذا النزاع بينهم.
ولكن لنا ان نمنع عن ذلك وتلتزم بان المكلف به ليس هو الفعل الاختياري حتى
في حال الاضطرار، بل مقتضى ظهور الآلة كون العجز منوعا - كما أن الحالات الاخر
منوعة - فالمكلف به في حال الاضطرار والواجد للمصلحة هو خصوص الفعل
الاضطراري، عليه فيكون الواجب على المكلفين هو الجامع بين الصلاتي المختار
والمضطر بالمعنى المتقدم، وا نما عين الشارع المقدس لكل منهما فردا خاصا فميا يؤمر به
في حال الاضطرار، هو نفس المأمور به لابد له، فيكون وافيا بما أوجب الامر بذلك الفعل.
وعلى ذلك فليس احتمال عدم الجزاء حينئذ الا كاحتمال العدم لو اتى بالفعل الاختياري
ثم طرء العذر بعد مضى الوقت وليس أحدهما أولى من الاخر.
لا يقال: لازم ذلك هو ان يجب قضاء ما فات في حال الاضطرار باتيان مثله ولو بعد
313

رفع العذر كما هو الشأن في تبديل الحالات.
فإنه يقال: ان ما دل على كون فعل الاضطراري من افراد الجامع، انما يدل على
كونه كذلك في خصوص حال الاضطراري، لا مطلقا فبعد رفعه قضاء الجامع انما يكون
باتيان الفعل الاختياري لا الاضطراري، فتدبر في أطراف ما ذكرناه حقيق به.
ولو فرضنا عدم استفادة عدم وجوب القضاء من اطلاق الأدلة و الشك في وجوبه،
لابد من الرجوع إلى الأصول العملية وهي تقضى عدم الوجوب: و ذلك بناءا على كون
القضاء بأمر جديد، واضح: فإنه لو شك في أن الفعل الاضطراري هل يكون وافيا بتمام
المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري أم لا. لا محالة يشك في الفوت الذي هو
الموضوع لوجوب القضاء، وبتبعه يشك في الوجوب فتجري أصالة البراءة عنه.
ولو علم بعدم وفائه بها وشك في أن الباقي يمكن استيفائه أم لا، فحيث ان شمول
أدلة القضاء له غير معلوم: إذ من المحتمل بل الظاهر اختصاصها بفوت تمام المصلحة
لا بعضها ففي صورة فوت البعض لا دليل على وجوب القضاء، فلا محالة يشك في الوجوب ومقتضى الأصل عدم الوجوب، ولا سبيل حينئذ إلى دعوى ان الشك
في التكليف في الفرض بما انه مسبب عن الشك في القدرة فالمرجع فيه قاعدة الاحتياط
لا البراءة كما عن بعض أكابر المحققين (ره) فان الشك في القدرة مع تمامية الجعل من
ناحية الشارع الأقدس مورد لقاعدة الاحتياط لا في مثل المقام مما أوجب الشك
في الجعل. كما يخفى.
واما بناءا على كون القضاء بالامر الأول: فعدم الوجوب أظهر: إذ المفروض عدم
توجه الامر الاختياري في حال الاضطرار، فالشك في وجوب القضاء لا محالة يكون
شكا في أصل التكليف ولا ريب في كونه موردا للبرائة، من غير فرق بين العلم بعدم
استيفاء تمام المصلحة في امكان استيفاء الباقي، وبين الشك في استيفاء التمام
وعدمه.
ودعوى انه مع الشك في استيفاء تمام المصلحة يكون مرجع الشك المزبور إلى
الشك في أن المطلوب الأول: هل هو الجامع بين المشتمل على المبدل، والمشتمل على
314

البدل، أو هو خصوص المشتمل على المبدل غاية الامر امر بالمشتمل على البدل لأجل
اشتماله على مقدار من المصلحة فيكون الامر دائرا بين التعيين والتخيير، والاحتياط
يقتضى البناء على الأول: ومع الشك في امكان استيفاء الباقي يقينا، يكون الشك في
الوجوب مسببا عن الشك في القدرة والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.
مندفعة بأنه مع العجز لا يكون المشتمل على المبدل واجبا في الوقت، والتكليف
متمحض فيما تعلق بالمشتمل على البدل، وبعد مضى الوقت وارتفاع العذر، لا سبيل إلى
دعوى ثبوت القضاء بالامر الأول: وبعبارة أخرى ان معنى كون القضاء بالامر الأول:
كفاية الامر بالصلاة في الوقت لثبوت وجوبها في خارجه مع فوتها فيه، وبما ان المفروض
في المقام عدم تعلق التكليف بالفعل الاختياري في الوقت فلا مورد لدعوى ثبوت
وجوب القضاء للتبعية، فلو ثبت فإنما هو بأمر جديد ومقتضى أصالة البراءة عدم
الوجوب.
فتحصل ان مقتضى الأدلة، والأصل عدم وجوب القضاء.
ارتفاع العذر في الوقت
الموضوع الثاني: في أنه إذا بالمأمور به الاضطراري ثم ارتفع العذر في الوقت
فهل تجب الإعادة، أم لا. وملخص القول فيه انه لا كلام بناءا على عدم جواز البدار واقعا:
فان الماتى به حينئذ لا يكون مأمورا به فلا مورد لتوهم الاجزاء، نعم، فيما لو جاز البدار
ظاهرا، واتى بالفعل الاضطراري ثم ارتفع العذر، كلام من حيث اجزاء الاتيان بالمأمور به
بالامر الظاهري عن الواقعي، وعدمه، وسيأتي الكلام فيه،
واما بناءا على جواز البدار واقعا. فالكلام يقع أولا في أنه في مقام الثبوت يتعين،
وجوب الإعادة، أو عدم وجوبها، أم يمكن كل منهما.
والظاهر هو الأخير: إذ لو كان العمل الاضطراري في حال الاضطراري وافيا بجميع
المصلحة التي يفي بها الاتيان بالمأمور به الاختياري، أو ببعضها مع عدم كون الباقي مما
315

يجب تحصيله، أو وافيا بمصلحة مباينة لما يترتب على الفعل الاختياري، ولكنه لم يمكن
استيفاء المصلحة المترتبة على الفعل الاختياري، مع استيفاء تلك المصلحة بالاتيان
بالمأمور به الاضطراري، لا تجب الإعادة، وان كان وافيا ببعض تلك المصلحة، والمقدار
الباقي مما يمكن استيفائه وكان لازم الاستيفاء، أو كان مشتملا على غير تلك المصلحة
وكانت مصلحة المأمور به الاختياري ممكن الاستيفاء، تجب الإعادة.
توضيح ذلك أنه بناءا على جواز البدار كيفية وفاء العمل الاضطراري بالمصلحة
تتصور على أنحاء.
الأول: ان يكون وافيا بتمام ما يترتب على العمل الاختياري في حال الاختيار، أو
ببعضها ولكن الباقي لا يجب تحصيله، ودعوى ان ذلك لا يمكن الالتزام به في مقام
الاثبات: لاستلزامه جواز تفويت القدرة وتعجيز المكلف نفسه، مع أن ذلك مما لم يفت
به أحد، مندفعة لا بما قيل إن الملاك انما يترتب على الفعل الاضطراري إذا كان
الاضطراري طارءا بالطبع دون الآتي باختيار المكلف: فإنه يرد عليه: ان لازم ذلك عدم
وجوب العمل الاضطراري في صورة الاضطرار باختيار المكلف وهو كما ترى، بل بان
هذا الاتفاق لو ثبت لا يكون تعبديا فلا مانع من مخالفة القوم لو ساعدنا الدليل، مع أنه
ليس ثابتا، مضافا إلى أنه لو كان تعبديا نلتزم بعدم جواز ذلك للدليل الخاص.
الثاني. ان يكون وافيا بمصلحة غير تلك المصلحة ولكن بقدرها ولا يمكن استيفاء
تلك المصلحة مع استيفائها، ودعوى: ان هذا الوجه خلاف ظاهر أدلة الفعل الاضطراري
لأنها ظاهرة في أن الماتى به في حال الاضطرار من سنخ الماتى به في حال الاختيار، مع أن
لازمه الالتزام بتعدد العقاب لو كان في أول الوقت مختارا وفي آخره مضطرا، ولم
يأت بشئ من الفعلين: لتفويته مصلحتين، مندفعه: بان الأدلة ليست في مقام بيان
المصلحة كي يستظهر منها ذكر - كما هو واضح - وتعدد العقاب انما هو مترتب على ما
إذا كان التكليفان اللذان خالفها المكلف تعيينين لا أما إذا كانا تخييريين، كما في المقام
كما لا يخفى.
الثالث: ان يكون الفعل الاضطراري مشتملا على إحدى المصلحتين المترتبتين
316

على العمل الاختياري، أو على ذات تلك المصلحة المترتبة عليه التي تكون ملزمة بحسب
ذاتها وباعتبار مرتبتها أيضا، ودعوى ان لازم هذا الوجه عدم جواز البدار على تقدير عدم
امكان استيفاء الباقي من المصلحتين أو مرتبتها، ولزوم الإعادة تقدير الامكان،
وإلا لزم نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة، مندفعة، لا بما قيل من أنه لا محذور
فيه لما في البدار من مراعاة ما هو فيه من مصلحة أول الوقت، فإنه يرد عليه: ان تلك
المصلحة استحبابية لا تصلح لمزاحمة المصلحة اللزومية الفائتة: بل لأنه يمكن ان يكون
عدم مسبوقية الفعل الاختياري بالعمل الاضطراري، من شرائط اتصاف المأمور به
الاختياري بالمصلحة، لامن شرائط حصولها.
توضيح ذلك: ان القيود الدخيلة في المصلحة على قسمين: الأول: ما يكون دخيلا
في اتصاف الفعل بالمصلحة. كالمرض بالإضافة إلى شرب المسهل في العرفيات وزوال
الشمس بالنسبة إلى الصلاة في الشرعيات، وفي مثل ذلك لا يجب تحصيل الشرط،
ولا محذور في ايجاد المانع عن وجوده. الثاني: ما يكون دخيلا في حصول المصلحة كما في برودة الهواء مثلا بالنسبة إلى شرب الدواء للمريض، والوضوء بالإضافة إلى الصلاة،
وفي مثل ذلك يجب تحصيل الشرط، ولا يجوز تركه وإيجاد المانع عن تحققه، وعلى
ذلك فان كان عدم استيفاء أصل المصلحة أو إحدى المصلحتين من شرائط اتصاف
العمل الاختياري بكونه ذا مصلحتين أو واجدا لأصل المصلحة ومرتبتها. بحيث لو
استوفى تلك باتيان العمل الاضطراري لما كان يتصف العمل الاختياري بالمصلحة، لما
كان محذور في البدار إذ منه يلزم وجود المانع عن تحقق شرط الوجوب، وان كان من
شرائط حصول المصلحة لما جاز البدار لاستلزامه تفويت الغرض فتدبر فإنه دقيق.
الرابع: ان يكون وافيا بإحدى المصلحتين المترتبتين على الفعل الاختياري أو
بأصل المصلحة المترتبة عليه. مع كون الباقي من المصلحتين أو مرتبتها يمكن استيفائها.
الخامس: ان يكون وافيا بمصلحة غير تلك المصلحة، مع امكان استيفائها بعد رفع
العذر، وفي الأنحاء الثلاثة الأول: لا تجب الإعادة، وفي الأخيرين تجب، واما سائر
الأنحاء المتصورة، فلا يلائم، مع جواز البدار كما لا يخفى هذا كله بحسب مقام الثبوت،
317

واما في مقام الاثبات.
بيان ما يقتضيه الأدلة في مقام الاثبات
فقد استدل لعدم وجوب الإعادة: باطلاق ما تضمن الامر بالعمل الاضطراري،
بدعوى انه لو كانت المصلحة المترتبة عليه بأحد الأنحاء الثلاثة الأول: لكان العمل
الاضطراري هو المأمور به تعيينا، ولو كانت بأحد النحوين الأخيرين، فلابد من الامر
بالاتيان به وضم المأمور به الاختياري بعد ارتفاع العذر إليه، أو الانتظار والآتيان
بالمأمور به الاختياري بعد ارتفاع العذر خاصة مخيرا بينهما، وحيث إن الامر يدور بين
التعيين والتخيير، فلابد من حمل الامر على الأول: لان ذلك مقتضى الاطلاق.
ولكن يرد عليه: انه ان أريد التمسك بالاطلاق لاثبات كونه مأمورا به تعيينا فهو
معلوم عدم كونه كذلك: إذ لا ريب في جواز التأخير إلى ما بعد ارتفاع العذر، و الاتيان
بالمأمور به الاختياري كما لا يخفى، ولا شئ من الواجب التعييني مما يجوز تركه، وان
أريد التمسك به لاثبات انه وحده عدل التخيير لا هو بضميمة الاتيان بالمأمور به
الاختياري بعد رفع العذر، فهو لا يصح: من جهة أو وجوب ذلك وتعينه لو ثبت لما
أوجب تقييدا في دليل المأمور به الاضطراري، بل هو حكم استقلالي ناش عن مصلحة
أخرى، فالاطلاق لا يصلح لرفع ذلك التكليف، وان أريد التمسك به لاثبات كونه مشتملا
على تمام مصلحة المأمور به الاختياري أو مصلحة أخرى بقدرها فالاطلاق أجنبي عن
ذلك، وعليه، فلا وجه للتمسك بالاطلاق. نعم، هذا كله بناءا على مسلك القوم من عدم
كون العجز منوعا للمكلف كغيره من الحالات والا فالاجزاء واضح كما عرفت في
الاجزاء عن القضاء فراجع.
وقد يتمسك باطلاق دليل القيد المتعذر لوجوب الإعادة، بعد ارتفاع العذر: فان
اطلاق ذلك الدليل شامل لصورتي الاتيان بالعمل الاضطراري وعدمه، وقد يقرب هذا
التقريب من التمسك بالاطلاق كما في تقريرات المحقق العراقي، بان اطلاق أدلة العمل
318

الاختياري شامل لحالة طرو الاختيار بعد الاضطرار. وذلك لأنه لمتعلق الخطاب المطلق
افراد عرضية وطولية فكما ان سقوط الاطلاق بالنسبة إلى بعض الافراد العرضية وسقوط
الخطاب من جهة لا يمنع من التمسك بالاطلاق بالنسبة إلى الافراد الممكنة كذلك بالنسبة
إلى الافراد الطولية. فنتيجة ذلك أنه بعد رفع العذر يكون مقتضى ذلك الدليل لزوم المبدل
أي المأمور به الاختياري.
والجواب عن هذا الوجه: ان دليل البدل الاضطراري قسمان، أحدهما: ما تضمن
تنزيل البدل منزلة المأمور به الاختياري كما في قوله (ع): " التراب أحد الطهورين " ثانيهما:
ما تضمن الامر به في حال الاضطرار خاصة، وما أفيد لا يتم في شئ منهما، اما الأول:
فواضح لان مقتضى اطلاق دليل التنزيل ترتب جميع اثار المبدل عليه، واما الثاني: فلان
دليل القيد لا يلزم باتيانه الا على تقدير لزوم الاتيان بأصل العمل وهو غير ثابت بل ثابت
العدم فلا يقتضى ذلك الدليل وجوبه.
ولو فرضنا عدم امكان التمسك بالاطلاق أو ظهور الأدلة. لعدم وجوب الإعادة،
وفرضنا الشك في ذلك، مقتضى أصالة البراءة هو البناء على العدم.
وقد نسب إلى المحقق العراقي (ره) ان الأصل هو أصالة الاشتغال. وذلك لأن الشك
في وجوب الإعادة، اما ان يكون من ناحية الشك في وفاء المأمور به الاضطراري بتمام
مصلحة المأمور به الاختياري، فالامر يدور بين التعيين والتخيير والرجع فيه قاعدة
الاشتغال: لأن الشك في وجوب الإعادة وعدمه إذا كان منشأه الشك في كون العمل
الاضطراري وافيا بتمام مصلحة المأمور به الاختياري أو بعضها، مع كون الباقي لازم
الاستيفاء لا محالة يعلم بترتب مقدار من المصلحة على الجامع بين العملين، ويشك في أن
الباقي الذي يكون لازم الاستيفاء هل يكون مترتبا عليه أيضا فلا يجب الإعادة، أو على
خصوص العمل الاختياري، فيجب، فالامر مردد التعيين والتخيير فيتعين الرجوع إلى
قاعدة الاشتغال، واما ان يكون من ناحية الشك في امكان استيفاء الباقي وعدمه، فالمرجع
فيه أيضا قاعدة الاشتغال لكونه من قبيل الشك في القدرة.
أقول: الأظهر كون المرجع هو أصالة البراءة في كلا الفرضين، اما على الأول: فلانه
319

وان سلم كون المرجع في دوران الامر بين التعيين والتخيير في ساير الموارد، هي قاعدة
الاشتغال، لا نسلم كونها المرجع في خصوص المقام، إذ في ساير الموارد، تعلق التكليف
بالمعين، اما تعيينا، أو تخييرا، معلوم، وتعلقه بالعدل الاخر مشكوك فيه، واما في المقام
فتعلق التكليف، ولو تخييرا، ومنضما إلى شئ آخر، بالمأمور به الاضطراري، معلوم،
وتعلقه بالمأمور به الاختياري، في صورة عدم الاتيان بالبدل أيضا معلوم، وانما الشك
يكون في تعلقه بالفعل الاختياري، في ظرف الاتيان بالمأمور به الاضطراري، ولا ريب
في أنه مورد لأصالة البراءة. واما على الثاني: فلما مر من أن الشك في القدرة ان كان سببا
للشك في سعة الجعل، وصيغة، يكون مورد لقاعدة البراءة، لا الاشغال، فتحصل مما
ذكرناه ان الأصول العملية أيضا تقتضي عدم وجوب الإعادة.
جواز البدار وعدمه
والموضع الثالث: في جواز البدار، وملخص القول فيه انه في مقام الثبوت ان كانت
المصلحة المترتبة على العمل الاضطراري، بأحد الأنحاء الخمسة المتقدمة في أي جزء
من الوقت اتى به يجوز البدار حتى مع العلم بارتفاع العذر في أثناء الوقت.
وان كان ترتبها مقيدا بما إذا اتى به في آخر الوقت، لما جاز البدار، وان علم ببقاء
العذر آخر الوقت، وان كان الترتب عليه إحدى المصلحتين على العمل الاختياري، أو
أصل المصلحة التي تكون هي بنفسها وبمرتبتها اللزومية مترتبة على العمل الاختياري مع
كون الباقي مما لا يمكن استيفائه، وكان عدم مسبوقيته بالعمل الاضطراري من قبيل
شرائط حصول المصلحة، لما جاز البدار الا مع العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت وعدم
اعتبار الاتيان به في آخر الوقت في حصول تلك المصلحة.
وان كان الباقي مما يمكن استيفائه جاز البدار مطلقا ان كان الملاك المترتب عليه
مترتبا عليه، وان اتى به في أول الوقت، غاية الامر يجب الإعادة حينئذ بعد ارتفاع العذر
هذا كله في مقام الثبوت والواقع.
320

واما في مقام الاثبات والدليل فمقتضى اطلاق الدليل جواز البدار مع العلم بعدم
التمكن في جميع الوقت، واما مع العلم بزوال العذر فلابد من ملاحظة الدليل في كل
مورد ليرى انه هل يشمل عدم التمكن في بعض الوقت فيجوز البدار، أو لا يشمل فلا
يجوز.
ولو كان الدليل مطلقا غير مقيد بشئ من ذلك فالظاهر أن مقتضى الاطلاق اعتبار
الاستيعاب: وذلك لان المأمور به كالصلاة هي، الطبيعة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى،
وظاهر ما تضمن ان العجز عن الاتيان بالمأمور به الاختياري شرط للامر الاضطراري، هو
العجز عن الطبيعة بلا دخل للخصوصيات الخارجة عن حريم المأمور به في ذلك،
ومعلوم ان العجز عن الطبيعة انما هو بالعجز عن جميع افرادها بخلاف القدرة عليها
الصادقة على القدرة على فرد منها، وعليه فمع التمكن من بعض الافراد المأمور بها
الاختياري ولو الطولى منها لا يصدق عدم القدرة والعجز فلا يكون الشرط محققا
فالظاهر من الدليل المطلق اعتبار العذر المستوعب.
واستظهر المحقق العراقي (ره) في خصوص دليل التيمم من الآية الكريمة، ان
الشرط هو العذر، ولو في جزء من الوقت بتقريب ان المشروط في الآية هو التيمم عند
إرادة الصلاة لان المراد من قوله تعالى " إذا فمتم إلى الصلاة " إذا أردتم الصلاة فلو أراد
الصلاة في أول الوقت ولم يتمكن من الماء يجوز له التيمم بنص الآية الشريفة.
ويرد عليه ما افاده السيد المرتضى (ره) من، ان ذلك يتوقف على أن يكون له إرادة
الصلاة في أول الوقت ونحن نخالفه، ونقول بأنه ليس له ذلك، ومن المعلوم ان المراد
بإرادة الصلاة إرادة الصلاة الجائزة لا مطلقها.
ومع عدم الدليل على جواز البدار مقتضى الأصل العملي هو الجواز في صورة
العلم ببقاء العذر إلى آخر الوقت، وفي غير ذلك لو علم بالارتفاع، لا يجوز البدار: إذا الامر
في الواجب الموسع يتعلق بالطبيعة الجامعة بين الافراد الواقعة بين المبدأ والمنتهى، وفي
مثل ذلك انما يحكم العقل بالتخيير بين الافراد الطولية كما يحكم بالتخيير بين الافراد
العرضية، ولا ريب في أنه انما يحكم به إذا أحرز ان الافراد متساوية في الوفاء بالغرض
321

المترتب على تلك الطبيعة، وأما إذا كان بعضها وافيا به دون بعض، أو احتمل ذلك، فلا
يحكم العقل بالتخيير، وعليه ففي المقام لا يحكم العقل بالتخيير بل يرى وجوب الصبر
والانتظار إلى آخر الوقت.
ولو شك في بقاء العذر وارتفاعه، يجرى استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت
بناءا على جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية، ويحكم بجواز البدار ظاهرا.
وأورد على هذا الأصل في المقام بان المستصحب ان كان هو حالة المكلف من
الاضطرار والعجز فهو بالنسبة إلى ما هو موضوع الحكم وهو عدم مقدورية الافراد
الاختيارية من المثبت غير الحجة، وان كان هو عدم مقدورية الافراد، فالمتيقن غير
المشكوك فيه، فان المتيقن هي الحصص الخاصة، والمشكوك فيها غيرها فلا
يجرى.
وفيه أولا: ان ظاهرا لأدلة كون الشرط عجزا لمكلف فالشرط هو حالة المكلف.
وثانيا: انه لو سلم كون الشرط هو عدم مقدورية المأمور به الاختياري، فمن
الواضح ان الخصوصيات خارجة عن تحت التكليف فالشرط عدم القدرة على صرف
وجود الطبيعة، ومن المعلوم ان المتيقن على هذا عين المشكوك فيه وثالثا: انه يمكن ان
يقال ان جميع الافراد الطولية، غير مقدورة في أول الوقت، ولو من جهة عدم مجيئ
وقت جمله منها، ويشك في أنه بعد مجيئ الوقت هل يتبدل ذلك إلى القدرة أم لا
فيجرى الاستصحاب.
ولا يرد على ذلك أن لازمه جواز البدار واقعا وان علم بارتفاع العذر لأنه يصدق
في أول الوقت عدم القدرة على جميع الافراد فإنه يندفع بان الظاهر من الدليل ان المسوغ
هو العذر المستوعب المستمر من أول الوقت إلى آخرة.
اجزاء الاتيان بالمأمور به الظاهري
واما المسألة الثالثة: وهي اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن المأمور به
322

بالامر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم أو علمي. فقد اختلفت كلمات
الأصحاب فيها على أقوال منها: الاجزاء مطلقا ومنها: عدمه مطلقا ومنها: التفصيل بين ما
إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني، وما إذا انكشف بعلم تعبدي فيجزى على الثاني دون
الأول: مطلقا أو بعض اقسام السببية، وعدم الاجزاء على الثاني، ومنها: التفصيل بين
الامارات والأصول، فيجزى في المورد الأول: ولا يجزى في الثاني، ومنها: ما اختاره
المحقق الخراساني الذي سيمر عليك ومنها: غير ذلك من التفاصيل - وستمر عليك - وقبل
الشروع في البحث لا باس بنقل ما افاده المحقق الخراساني وبه يظهر موارد البحث.
محصل ما افاده، ان مؤدى الامارة، أو الأصل، قد يكون حكما شرعيا جعل موضوعا
لحكم آخر أو قيدا لموضوع حكم آخر، كالطهارة المجعولة قيدا للماء والتراب، وشرطا
لجواز الدخول في الصلاة، وكحيلة لحم حيوان خاص، كالأرنب، المجعولة قيد الجواز
الصلاة في الوبر المتخذ منه، وما شاكل، وقد يكون حكما شرعيا غير مجعول موضوعا لحكم
آخر، أو قيد الموضوع حكم، كوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فالكلام في موردين.
اما المورد الأول: فاما ان يكون الحكم الظاهري ثابتا بأصل عملي، كاصالة الطهارة
والحلية، والاستصحاب (بناءا على ما يشير إليه في التنبيه الخامس من الاستصحاب، من
اختيار كون المجعول فيه الحكم المماثل)، واما ان يكون ثابتا بامارة شرعية، كخبر
الواحد، والبينة، وما شاكل، فان كان ثابتا بالأصل، فحيث ان المأخوذ في موضوعه الشك،
ويجعل الحكم على الشك بلا نظر إلى الواقع أصلا، ولذا لا يتصف بالصدق والكذب، بل
بتبدل الشك إلى العلم، يتبدل الموضوع والحكم، ولا يتصور فيه انكشاف الخلاف، فلا
محالة يكون دليله حاكما على ما دل على الاشتراط ومبينا لدائرة الشرط، وانه أعم من
الطهارة الواقعية مثلا: فانكشاف الواقع لا يكون موجبا لانكشاف فقد ان العمل لشرطه،
بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل فلا مناص عن البناء على
الاجزاء. واما ان كان ثابتا بالامارة التي تكون ناظرة إلى الواقع وكاشفة عنه من دون جعل
شئ آخر وحكم في موردها. فلابد من البناء على عدم الاجزاء على الطريقية.
323

إذ المجعول في مورد الامارة ليس حكما ظاهريا، بل اما ان يكون هو الطريقية، أو التنجيز
والتعذير، فبانكشاف الخلاف ينكشف عدم واجدية العمل لما هو شرطه، لا واقعا، ولا
ظاهرا، فلا محالة يبنى على عدم الاجزاء، نعم على القول بالسببية مقتضى اطلاق دليل
الحجية هو الاجزاء، ومع الشك في الطريقية والسببية، فبالنسبة إلى الإعادة في الوقت
يبنى على عدم الاجزاء لقاعدة الاشتغال، وبالنسبة إلى القضاء حيث إنه يكون بأمر جديد،
ويشك فيه، فأصالة البراءة تقضى عدم الوجوب والاجزاء.
واما المورد الثاني: كما إذا قام الدليل، أو الأصل، على وجوب صلاة الجمعة في
زمان الغيبة، فانكشف بعد أدائها، وجوب صلاة الظهر، فالوجه عدم الاجزاء مطلقا: إذ غاية
ما هناك وجوب صلاة الجمعة لمصلحة فيها، وهذا لا ينافي وجوب صلاة الظهر أيضا، لما
فيها من المصلحة الواقعية، الا ان يقوم دليل خاص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.
وسيمر عليك ما يرد على افاده المحقق الخراساني (ره) في المقام.
وتنقيح القول بالبحث في مقامين الأول: في الامارات الثاني، في الأصول.
والكلام في المقام الأول: في موردين الأول: بناءا على الطريقية الثاني: بناءا على السببية.
اما المورد الأول: فمقتضى القاعدة هو عدم الاجزاء إذ بانكشاف الخلاف ينكشف عدم
امتثال الامر الواقعي فالاجزاء يحتاج إلى دليل.
وقد استدل للاجزاء بوجوه يختص بعضها بما إذا كان الانكشاف بحجة شرعية،
ويعم بعضها ما لو كان الانكشاف بالقطع واليقين.
أحدها: ان الاجتهاد الأول: كالاجتهاد الثاني فلا وجه لرفع اليد عن الأول: بالثاني
وإعادة الأعمال الواقعة على طبق الاجتهاد الأول.
ويرد عليه، انه بعد انكشاف فساد الاجتهاد الأول: وعدم حجية مدرك الحكم
الأول:، بالاجتهاد الثاني، لا سبيل إلى دعوى ان الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأول:.
ثانيها: ان الحكم الشرعي يتبدل بتبدل الرأي. كالملكية المتبدلة بالبيع والشراء،
فالمكلف في زمان الاجتهاد الأول: كان حكمه على طبقه، وفي زمان الاجتهاد الثاني
يتبدل حكمه، ولا يكون مكلفا الا بما تعلق به الاجتهاد الثاني.
324

وفيه: ان ذلك لو تم فإنما هو على القول بالسببية، واما على القول بالطريقية التي
حقيقتها جعل صفة المحرزية، والطريقية، والمرآتية، للامارة بلا تصرف في الواقع، ولا
جعل حكم في الظاهر، فلا يتم: إذ بالاجتهاد الثاني ينكشف عدم موافقة اجتهاد الأول:
للواقع.
ثالثها: ان تبدل الاجتهاد، وقيام حجة على خلاف الحجة السابقة انما هو نظير
النسخ فإنه بوصول الثانية ينقضي زمان الحجية الأولى، فهي إلى زمان الحجية الثانية،
حجة واقعية.
والايراد عليه، بان الحجية انما تكون نظير ساير الأحكام الشرعية، لها مرتبتان،
واقعية، وظاهرية وعليه فبوصول الثانية ينكشف انها كانت حجة من الأول: ولم تكن
الأولى كذلك، لا انها كانت حجة واقعية إلى زمان وصول الثانية.
غير صحيح، فان الحجية انما هي من قبيل الاحراز الوجداني ومتقومة بالوصول.
لا معنى لوجودها واقعا مع عدم وصولها: فان حقيقة الحجية جعل صفة المحرزية
للشئ، ولا يتحقق ذلك في الخارج الا بوصول هذا الجعل وموضوعه إلى المكلف، وعليه
فليس لها مرتبتان.
ولكن يرد عليه ان وجوب الإعادة أو القضاء وبعبارة أخرى عدم الاجزاء، من
آثار الحكم الواقعي على خلاف ما وصل إليه، لامن آثار حجية الحجة الثانية، وعلى
الجملة التبدل في الحجية لو سلم، لا ينفع في المقام، بل النافع هو التبدل في الحكم
الواقعي، وهو باطل لكونه مستلزما للتصويب الذي لا نقول به، واما التبدل في الحجية
- أي في الاحراز - فهو غير مفيد.
رابعها: ما عن الفصول من أن الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين.
وأورد عليه المحقق النائين بان مؤدى الاجتهاد بعد فرض كونه حكما كليا غير
مختص بزمان خاص ان أراد انه لا يحتمل اجتهادين من شخص واحد في زمان واحد
فهو مسلم لكنه أجنبي عن المقام وان أراد انه لا يحتمل اجتهادين في زمانين فهو بديهي
البطلان.
325

أقول ان هذا الوجه ذكره في الفصول في مبحث تبدل الرأي من مباحث الاجتهاد
والتقليد بعد اختاره القول بعدم الاجزاء مطلقا في هذه المسألة - ومحصل ما افاده - ان
الواقعة التي أوقعها على طبق الاجتهاد الأول: تارة تنقضي بانقضاء الزمان ولا يمر عليها
الزمان مرتين كالصلاة بلا سورة، أو الواقعة في شعر الأرنب، أو الواقعة فيما بنى على
طهارته، أو العقد بالفارسي وما شاكل، وأخرى لا تنقضي بانقضاء الزمان ويمر الزمان عليها
مرتين كالحيوان الذي بنى على حليته فذكاه وفرض بقائه إلى زمان الاجتهاد الثاني، وفي
القسم الأول: حيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد، وهي على الفرض وقعت صحيحة
فلا تنقلب فاسدة بتجدد الرأي، وهذا هو مراده من العبارة المزبورة، فلا يرد عليه ما
افاده (ره) من أنه لم يظهر معنى مفعول لهذا الاستدلال.
ولكن يرد عليه انه في القسم الأول: أيضا كان يتخيل انها وقعت صحيحة وبحسب
الاجتهاد الثاني ظهر انها كانت فاسدة هذا كله على القول بالطريقية.
واما على القول بالسببية: فقد يقال كما عن المحقق الخراساني في الامارات
الجارية في متعلقات الاحكام، أي الاحكام التي جعلت موضوعا لاحكام اخر أو قيدا
للموضوع، كطهارة الماء المجعولة موضوعا لجواز الصلاة أو الوضوء، أو التيمم، وعن
غيره في الامارات الجارية في الاحكام مطلقا.
بأنه وان كان يحتمل ثبوتا كون العمل الفاقد معه في هذا الحال كالواجد في كونه
وافيا بتمام الغرض فيجزى، وان لا يكون وافيا بتمامه فلا يجزى مع امكان استيفاء الباقي
ووجوبه، الا ان قضية اطلاق دليل الحجية على هذا هو الاجزاء بموافقته أيضا.
أقول ان السببية تتصور على اقسام، الأول: السببية على مسلك الأشعريين وهي ان
قيام الامارة سبب لحدوث المصلحة والحكم وانه مع قطع النظر عن ذلك لا يكون حكم
ولا ملاك. الثاني، السببية على مسلك المعتزلة. وهي ان قيام الا رماة والحجة من قبيل طرو
العناوين الثانوية. يكون موجبا لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع.
الثالث، السببية على مسلك بعض العدلية وهي ان قيام الامارة موجب لتدارك المقدار
الفائت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة. وعلى الأولين لا تتصور الصور
326

الأربعة المذكورة ولا عدم الاجزاء.
اما على الأول: فلفرض انه لا حكم في الواقع ولا ملاك فلا يلزم فوته، من باب
السالبة بانتفاء الموضوع.
واما الثاني: فلانه لا يتم السببية حينئذ الا بناءا على كون المصلحة في المؤدى غالبة
على مصلحة الواقع.
ثم انه لو سلم تصوير الصور الأربعة على هذين المسلكين، ما ذكر من التمسك
باطلاق دليل الحجية للاجزاء لا يتم لما ذكرناه في المأمور به بالامر الاضطراري وجها لان
اطلاق الدليل لا يصلح لرفع وجوب الإعادة أو القضاء، فراجع.
واما على الثالث: فلا وجه للاجزاء إذا لمفروض ان المتدارك هو المقدار الفائت
من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الامارة. مثلا لو أدت الامارة إلى وجوب صلاة
الجمعة وكان الواجب في الواقع هي صلاة الظهر، فان انكشف الخلاف بعد مضى وقت
الفضيلة يكون الفائت بسبب سلوك الامارة فضل الوقت، وهو المتدارك، واما مصلحة
الصلاة، فهي يمكن استيفائها وغير متداركة فيجب ذلك إذ تفويتها ليس مستندا إلى
سلوك الامارة، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون الفائت بسبب سلوك
الامارة مصلحة الوقت، فهي تتدارك، وان لم ينكشف الخلاف أصلا كان المتدارك
بالمصلحة السلوكية مصلحة أصل الصلاة.
والمحقق الخراساني بعد اختياره القول بالاجزاء بناءا على السببية في الامارات
الجارية في متعلقات الاحكام مستندا إلى الوجه المتقدم، ذهب إلى عدم الاجزاء في
الامارات الجارية في نفس الاحكام حتى على السببية بدعوى: ان الامارة إذا قامت على
وجوب شئ كصلاة الجمعة وكان الواجب في الواقع شيئا آخر وهي صلاة الظهر، فغاية
الامر ان تصير صلاة الجمعة أيضا، ذات مصلحة لذلك، ولا ينافي هذا بقاء صلاة الظهر
على ما هي عليه من المصلحة، الا ان يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في
يوم واحد.
وفيه: ان محل الكلام هو ما إذا كان لسان الامارة ومؤديها تعين ما هو الوظيفة
327

الواقعية وفي المثال ما دل على وجوب صلاة الجمعة انما يدل على أن الواجب من
الصلاتين الظهر والجمعة في يوم الجمعة هي صلاة الجمعة لا الظهر، فيكون لسان الامارة
الجارية في الاحكام كلسانها في المتعلقات فعلى القول بالاجزاء على السببية لا وجه
للتفصيل بينهما.
وبعبارة أخرى إذا كان لسان الامارة تعيين الواجب فلا محالة تدل بالدلالة
الالتزامية على أنه لا يجب صلاة الظهر في يوم الجمعة ويستلزم ذلك كون مصلحة صلاة
الجمعة في يومها مصلحة بدلية مسانخة لمصلحة صلاة الظهر، لا مصلحة مستقلة أخرى
غير تلك المصلحة كي لا ينافي استيفائها لاستيفاء تلك المصلحة نعم: ما ذكره (ره) يتم فيما
لو قامت الامارة على وجوب شئ خاص بلا نظر لها إلى بيان الواجب الواقعي، وتعينه في
مؤديها، لكنه خارج عن مفروض البحث، ويضاف إلى ذلك، المناقشة في المثال، فان
صلاتي الجمعة، والظهر، عمل واحد، وانما الاختلاف بينهما في الكيفية، نظير القصر
والاتمام، لا سنخان متغايران، فالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة دون الظهر، من
قبيل الامارة الجارية في المتعلقات.
بقى في المقام شئ لابد من التنبيه عليه، وهو انه بعد بأمر من أن مقتضى القول
بالسببية هو الاجزاء، والقول بالطريقة عدم الاجزاء، لو أحرز أحد المسلكين فلا كلام.
ومع عدم احرازه، هل يحكم بالاجزاء، أو بعدمه، أم يفصل بين الإعادة والقضاء،
فيحكم بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة، والاجزاء بالنسبة إلى القضاء وجوه.
قد استدل المحقق الخراساني للقول بعدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة، بان انكشف
الخلاف في الوقت، باستصحاب عدم الاتيان بالمسقط للتكليف.
ويرده انه لا اثر لهذا، ولا هو موضوع لاثر شرعي لعدم كون سقوط التكليف من
آثار عدم الاتيان بالمسقط شرعا.
فالصحيح ان يستدل له: باستصحاب بقاء التكليف الواقعي إذ الشك انما هو في
سقوطه لحصول غرضه من جهة كون الماتى به ذا مصلحة بدلية، وعدمه، فيجزى
استصحاب عدم السقوط، وبما ان المستصحب بنفسه اثر شرعي لا يعتبر في جريانه ترتب
328

اثر شرعي آخر عليه، بل يكفي ترتب اثر عقلي، وهو لزوم الاتيان بالمتعلق.
فان قيل إنه يعارضه استصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعليا في الوقت، قلنا ان
عدم فعليه الواقع اما لعدم فعلية موضوعه، أو لعدم وصوله، أو لسقوطه والأول: انكشف
خلافه. والثاني انقلب إلى نقيضه وهو الوصول. والثالث مشكوك فيه يجرى فيه
الاستصحاب، هذا كله فيما هو مفاد الأصول اللفظية.
ما يقتضيه الأصول العملية
واما الأصول العملية، فالكلام فيها في مقامين: الأول: في الأصول غير التنزيلية،
كقاعدة الطهارة، وأصالة الإباحة. الثاني: في الأصول التنزيلية كالاستصحاب.
اما الأول: فقد اختار المحقق الخراساني في الكفاية انها تقتضي الاجزاء. قال فان
دليلة يكون حاكما على دليل الاشتراط ومبينا لدايرة الشرط وانه أعم من الطهارة الواقعية
والظاهرية فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجبا لانكشاف فقدان العمل بشرطه بل
بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل انتهى.
وأورد عليه بايرادات عمدتها للمحقق النائيني (ره) 1 - ان هذا لا يستقيم على مسلكه
من تفسير الحكومة بان تكون بمثل كلمة أعني واردات وأشباه ذلك، ومن الواضح عدم
تحقق الحكومة بهذا المعنى في المقام.
وفيه: انه (قده) يصرح في تعليقته على الرسائل بان الحكومة هي ما إذا كان أحد
الدليلين مسوقا بنحو يصلح للنظر إلى كمية موضوع الاخر، وهذا ينطبق على المقام فان
دليل المحكوم متكفل لاثبات ان الطهارة مثلا شرط للصلاة، ودليل الحاكم يدل على أن
المشكوك طهارته طاهر فهو يصلح للنظر إلى التوسعة في موضوع المحكوم.
2 - ان الحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة والحلية الظاهرية مجعولة أولا ثم
يأتي دليل على أن ما هو الشرط في الصلاة أعم الطهارة الظاهرية والواقعية فيكون هذا
الدليل موسعا لما دل على اعتبار الطهارة في الصلاة، ومن الواضح ان المتكفل لاثبات
329

الحكم الظاهري ليس الأنفس دليل قاعدة الطهارة فكيف يمكن ان يكون هو المتكفل
لبيان كون الشرط أعم من الواقعية والظاهرية منها.
وفيه: ان المحقق الخراساني يدعى ان جعل الطهارة مثلا جعل لها بالمطابقة،
ولأحكامها بالالتزام، ومن جملة أحكامها شرطيتها للصلاة، فيلزم من ضم دليل الحكم
الطاهري المتكفل باثبات ان مشكوك الطهارة طاهر، إلى دليل المحكوم المتكفل باثبات
ان الطهارة شرط في صحة الصلاة، ان الشئ المشكوك طهارته بعض افراد الشرط
- وبالجملة - عموم الشرط للطهارة الظاهرية من لوازم جعل الطهارة ظاهرا فلا محذور
من هذه الجهة.
3 - ان الحكومة المدعاة في المقام ليست الا من باب جعل الحكم الظاهري
وتنزيل المكلف منزلة المحرز للواقع في ترتيب آثاره، وهذا مشترك فيه بين جميع الأحكام
الظاهرية سواء ثبتت بالامارة أم بالأصل بل الامارة أولى بذلك من الأصل فان
المجعول في الامارات نفس صفة الاحراز.
وفيه: ان الحكومة المدعاة في المقام ليست لما ذكر بل لان المجعول في الحاكم
بنفسه حكم شرعي جعل شرطا وهذا المعنى مفقود في الامارات.
4 - ان الحكومة لو سلمت فإنما هي حكومة ظاهرية لا واقعية وعليه فلازم ذلك
ترتيب اثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف لا التوسعة في الواقع في ظرف الشك.
وفيه: ان المحقق الخراساني (ره) لا يدعى حكومة دليل قاعدة الطهارة على دليل
الطاهر الواقعي ولا على ما دل على اشتراط الطهارة الواقعية في الصلاة، بل يدعى حكومته
على دليل اشتراط الطهارة غير المقيدة بالواقعية في الصلاة، وفي مثل ذلك لا يكون مرتبة
الحاكم متأخرة عن مرتبة المحكوم، وان شئت قلت إنه بالحكومة يستكشف ان المأخوذ
شرطا للصلاة أعم من الواقعية والظاهرية. ولا محذور في اخذ الشرط شيئين طولين ولا في
اخذ الطهارة الظاهرية شرطا واقعا كما لا يخفى.
5 - انه لو التزامنا وبالحكومة لزم الالتزام بها في ساير احكام الطهارة، فلو غسل ثوبه
بالمشكوك طهارته مع البناء على طهارته لقاعدة الطهارة لابد من البناء على طهارته واقعا
330

ولو بعد انكشاف الخلاف ونجاسة الماء واقعا، وكذا توضأ بماء مشكوك الطهارة
لابد من البناء على تحقق الطهارة الحدثية ولو بعد انكشاف نجاسة الماء. وهذا مما
لا يمكن الالتزام به.
وفيه: انه يمكن الالتزام في تلك الموارد، بان النجاسة مانعة عن تحقق الطهارة
الحدثية وطهارة ما غسل بالنجس فما دام لم ينكشف الخلاف لا تكون النجاسة واصلة
وكان في الظاهر محكوما بعدم النجاسة، فبعد وصوله يظهر انه كانت النجاسة مانعة عن
تحقق الطهارة.
والصحيح في الجواب عن الحكومة ان يقال انه لو سلم دلالة الروايات على جعل
الطهارة مع أنه محل الكلام كما سيأتي في اخبار الطهارة والحلية المستدل بها لحجية
الاستصحاب: ان الطهارة من الخبث بنفسها ليست أمرا وجوديا بل هي امر عدمي، وهو
خلوا لمحل عن القذارات كما سيمر عليك في مبحث الاستصحاب في ذيل تلك الأخبار،
وعليه فلا معنى لجعلها الا جعل آثارها فمفاد الاخبار ترتيب اثار الطهارة على المشكوك
طهارته، مع أنه على فرض النجاسة الواقعية وعدم ارتفاعها بجعل الطهارة وتنافي الطهارة
والنجاسة لا محالة يكون المجعول ترتيب الآثار، فلا شك في عدم الحكومة حينئذ كما
لا يخفى.
واما الثاني: أي الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب، ففي الكفاية أفاد ان حكمه بناءا
على ما هو الحق من جعل الحكم المماثل الذي اختاره في التنبيه الخامس من تنبيهات
الاستصحاب حكم قاعدة الطهارة.
ولكن حيث إن المختار عندنا في المجعول في باب الاستصحاب هو كون
المجعول الجري العملي على طبق اليقين السابق كما سيأتي توضيحه في محله فلا موهم
للاجزاء.
وربما يتوهم دلالة صحيح زرارة المتضمن لتعليل عدم وجوب إعادة الصلاة
الواقعة مع النجاسة الواقعية المحكوم ظاهرا بالطهارة - بالاستصحاب - فإنه لولا اقتضاء
امتثال الامر الظاهري للاجزاء لما صح التعليل. فيكون صحيح زرارة لما فيه من التعليل
331

دليلا على قاعدة الاجزاء.
والجواب عنه اما، ما افاده الشيخ الأعظم من أن العلة حينئذ هو مجموع الصغرى
والكبرى. أي الاستصحاب، وقاعدة الاجزاء، لا الاستصحاب خاصة فلا يصح التعليل به.
وأورد عليه بايرادات أجبنا عنها في مبحث الاستصحاب في ذيل الصحيح الثاني الذي
استدل به للاستصحاب مع أنه يمكن ان يكون الاستصحاب من جهة ان الشرط
أعم من الطهارة الواقعية والمحرزة. أو من جهة ان النجاسة التي لم يقم معذر شرعي أو
عقلي مانعة. وتمام الكلام في محله.
فالمتحصل انه لا وجه للاجزاء في الامارات والأصول مطلقا لفرض بقاء الواقع
وكون الإعادة أو القضاء من آثاره هذا ما تقتضيه القاعدة الأولية.
ما يقتضيه الأدلة الثانوية
واما مقتضى الأدلة الثانوية - فمتحصل القول فيه - انه قد استدل للقول بالاجزاء في
موارد الأوامر الشرعية الظاهرية بوجوه.
أحدها: ما وقع الاستدلال به في كلمات جماعة من الأساطين، وهو ان عدم
الاجزاء في موارد الأوامر الظاهرية مستلزم للحرج نوعا، ويكفي الحرج النوعي في نفى
الحكم رأسا، ولا يعتبر الحرج الشخصي، وقد أثبتوا جملة من الاحكام بواسطة استلزام
عدمها الحرج في الجملة ولو بالنسبة إلى جمع من الأشخاص، والظاهر كما نبه عليه
المحقق النائيني (ره) ان منشأ ذلك هو تعليل بعض الأحكام الشرعية بنفي الحرج - كطهارة
الحديد - مع أن نجاسة الحديد لا تستلزم الحرج بالنسبة إلى جميع الأشخاص في جميع
الأحوال فتخيل ان الحرج المنفى هو الحرج النوعي لا الشخصي.
ولكن يرد عليه ان الظاهر من دليل نفى الحرج من الآية الكريمة والاخبار كون
المنفى هو العسر والحرج الشخصيان، كما في قاعدة نفى الضرر، ولذلك يجب الوضوء
على من لم يكن الوضوء بالنسبة إليه حرجيا، أو ضرريا، وان كان بالنسبة إلى عامة الناس
332

حرجيا، أو ضرريا، والتعليل المشار إليه انما هو من جهة الاشتباه والخلط بين موضوع
الحكم، وداعي جعله، وأدلة نفى الحرج يكون موضوعها الحرج، وهي كساير القضايا
الحقيقة يدور الحكم فيها مدار الموضوع وجودا وعدما، فلا معنى لكون الميزان هو
الحرج النوعي، واما ما في خبر طهارة الحديد من التعليل بالحرج فهو انما يكون حكمة
للتشريع، ولا مانع من كون شئ داعيا وحكمة لجعل حكم لا يدور ذلك الحكم مداره
لكن ذلك انما هو شان الشارع لا المجتهد. وتمام الكلام في محله وعليه فلا وجه للحكم
بالاجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ما لم يتحقق الحرج الشخصي.
ثانيها: ما عن المحقق النائيني (ره) من دعوى الاجماع على الاجزاء في العبادات
الواقعة على طبق الاجتهاد المتبدل، أو التقليد كذلك.
وفيه: مضافا إلى عدم ثبوت الاجماع، انه على فرض ثبوته لا يكون اجماعا تعبديا
كاشفا عن رأى المعصوم (ع) بل الظاهر ولا أقل من المتحصل كونه مدركيا مستندا إلى
بعض ما ذكر من الوجوه.
ثالثها: حديث لا تعاد الصلاة، بناءا على ما هو الحق من شموله للجاهل غير
المقصر كما حقق في محله، فهو يدل على أن الخلل الواقع في الصلاة جهلا أو نسيانا
- من غير جهة الخمسة المذكورة فيه - لا يوجب بطلان الصلاة، فلا يجب اعادتها أو
قضائها، فالحديث يدل على الاجزاء في خصوص باب الصلاة. وحيث انه لا دليل على
الاجزاء غير هذا الحديث فلا وجه للقول بالاجزاء في غير باب الصلاة من العبادات.
واما على ما اختاره المحقق النائيني المتمسك بالاجماع عليه فهو يجرى في جميع
أبواب العبادات لأنه يدعى الاجماع على الاجزاء في باب العبادات مطلقا.
وعليه فلو كان يرى عدم مفطرية الارتماس للصوم، ثم تبين له مفطريته وقد ارتكبه
واتى به فإنه يجب عليه القضاء على المختار، ولا قضاء عليه على مختاره.
ثم إن مسألة الاجزاء مختصة بباب العبادات، ولكن مسألة تبديل الرأي أعم منها
ومن الوضعيات من العقود والايقاعات والأسباب.
وحيث إن المدرك واحد فعلى الطريقية لا اجزاء وينقض الأعمال السابقة. وعلى
333

الموضوعية لا انتقاض، وحيث انا لا نسلم الاجماع التعبدي، وانما بنينا على الاجزاء في
باب الصلاة لحديث لا تعاد الصلاة.
فالأظهر هو الانتقاض مطلقا في الوضعيات من غير فرق بين بقاء الموضوع - كما لو
بنى على صحة العقد بالفارسي اجتهادا فعامل معاملة فارسية والمال الذي انتقل إليه بتلك
المعاملة باق - وبين عدم بقائه، كما لو كان المال المشترى بذلك العقد تالفا، ولا يصغى
إلى ما قيل، من الاجماع على الانتقاض في الصورة الثانية.
الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطاء
وينبغي التنبيه على مور: أفاد المحقق الخراساني (ره) انه لا ينبغي توهم
الاجزاء في القطع بالامر في صورة الخطاء، واستدل له: بأنه لا يكون موافقة للامر فيها
وبقى الامر بلا موافقة أصلا، وأورد عليه بما حاصله ان الاجزاء ليس مناطه موافقة الامر
بل ملاكه وفاء الماتى به بمصلحة المأمور به وفي مورد القطع يمكن ذلك بل هو واقع
في الجملة، كما في مورد الجهر والاخفات والقصر والامام وأجاب عنه: بأنه في موارد
الامارات والأصول زايدا على امكان ذلك: يشهد له في مقام الاثبات ما مر، واما في
مورد القطع المخالف فلا يكون شئ يستدل به اللاجزاء بنحو الكلية ووجود الدليل في
بعض المقامات الخاصة لا يجعل البحث أصوليا وكليا.
ولكن ما افاده يتم فيما هو مقتضى الأدلة الأولية، واما الأدلة الثانوية من الاجماع
وقاعدة لا حرج، وحديث لا تعاد الصلاة، فهي في الشمول لمورد القطع والامارات على
حد سواء ولا فرق بينهما أصلا.
الثاني: قال المحقق الخراساني لا يذهب عليك ان الاجزاء في بعض موارد الأصول
والطرق والامارات على ما عرفت تفصيله لا يوجب التصويب المجمع على بطلانه إلى
آخر ما يفيد، محصل ما افاده في هذا الامر ردا لما قيل من أن الاجزاء وعدمه، مبنيان
على القول بالتصويب أو التخطئة، وعلى الأول: لابد من البناء على الاجزاء، وعلى الثاني
334

على عدمه. ان التصويب ان كان بلحاظ خلو الواقعة عن الحكم فلا ملزم للالتزام به إذ
الحكم الواقعي بمرتبته محفوظ إذ الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل بر يرتفع
بقيام الامارة على خلافه حتى بناءا على اشتمال مؤداها على المصلحة التي مع استيفائها
لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الواقع الذي هو ملاك الاجزاء، وان كان بلحاظ سقوط
الحكم بمراتبه بعد الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري، فهو يؤكد ثبوت الحكم المشترك:
إذ مجرد قيام الامارة لم يوجب السقوط، بل اتيان المأمور به بالامر الظاهري أوجب
حصول الغرض وسقوط الحكم بسقوط غرضه ليس من التصويب الباطل بشئ لان
المراد من ثبوت الحكم المشترك ليس ثبوته ابدا حتى مع الإطاعة أو العصيان أو الاتيان
بما يوجب سقوط الغرض، وان كان بلحاظ عدم فعلية الحكم الواقعي للجهل أو قيام
الامارة على الخلاف فهو غير مربوط بالاجزاء لاجتماع عدم فعلية الواقع حال الجهل مع
عدم الاجزاء مع أنه ليس من التصويب في شئ، لبقاء الحكم الواقعي.
فالمتحصل ان القول بالاجزاء غير ملازم للتصويب، نعم القول بعدم الاجزاء،
لا يلائم مع التصويب الباطل، بل هو يلائم مع التصويب على مسلك بعض العدلية كما مر
مفصلا.
العدول من مجتهد إلى آخر
الثالث: ان الشيخ الأعظم، وبتبعه أكثر المحققين المتأخرين عنه، ذهب إلى التلازم
بين تبدل الرأي، والعدول من مجتهد إلى آخر، في الانتقاض وعدمه، فلو كان مقتضى
التقليد الثاني بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليد الأول: فلابد من ترتب الأثر فعلا
على طبق الحجة الفعلية.
والمحقق النائيني، استدل له بان حجية فتوى المجتهد للمقلد ليست من باب السببية
والموضوعية بل من باب الطريقية فيجرى فيها ما ذكرناه في الامارات والأصول، مع أنه لو
ضاق بنا الخناق لا نلتزم بأزيد من المصلحة السلوكية التي لا تستلزم الاجزاء كما مر.
335

أقول الفرق واضح: فان فتوى المجتهد انما ينتهى أمد حجيتها بالموت مثلا، وهذا
بخلاف الخبر فإنه لو ظفر المجتهد بما هو أقوى منه فإنه يوجب نقض الآثار السابقة من
حيث اطلاق مضمونه واضمحلال الحجة الأولى لقيام الأقوى على خلافها. وان شئت
قلت إنه بالظفر بالحجة الأقوى يظهر ان الحجة هي لا الخبر الأول: فيظهر اثر تنجزه فيما
قبل من حيث التدارك.
واما فتوى الثاني فإنه وان علم بها المكلف لا تكون حجة عليه بل الحجة غيرها
- وبالجملة - ان مفاد الحجة الأقوى للمجتهد هو كون ما فعله على طبق الحجة الأولى
كان باطلا في الواقع وان كان معذورا في مخالفته، وليس كذلك فتوى المجتهد للمقلد
فإنه لو سئل المقلد عن مقلده هل كان عملي في السابق بنظرك باطلا، يجيب كلا بل لو
كنت فاعلا على ما أراه صحيحا كان باطلا، لان الوظيفة في ذلك الوقت كانت في أظاهر
والواقع هو العمل على طبق الفتوى الأولى ولم ينكشف خلافها فتلك الأعمال بحسب
فتوى المجتهد الثاني محكومة بالصحة لمطابقتها للحجة ففتوى المجتهد الأول: ينتهى
أمدها بموته مثلا وهو مبدأ حجية فتوى الثاني، وليس كذلك عند تبديل الرأي.
نعم لو كان مورد الفتوى باقيا وللزمان عليه مروان يجب على المقلد العمل على
طبق فتوى الثاني، وهو غير مربوط بمسألة الاجزاء، فلو صلى الجمعة استناد إلى فتوى من
يرى وجوبها في زمان الغيبة وترك الظهر، ثم مات المجتهد وقلد من يرى وجوب الظهر
لا يجب عليه قضاء ما تقدم، لان فتوى المجتهد الثاني لا حجية لها بالنسبة إلى الأعمال
السابقة، وهذا بخلاف ما لو تبدل رأيه فان الرأي الثاني حجة بالنسبة إلى الأعمال السابقة
أيضا وان كان معذورا في مخالفتها حين العمل.
فالأظهر هو البناء على الاجزاء وعدم الانتقاض عند تبدل المجتهد مطلقا الا إذا
تبين عدم صحة تقليد الأول: من الأول: فإنه يجرى فيه حينئذ ما ذكرناه في الامارات
والأصول.
336

في اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخصين
الرابع: ذكر المحقق النائيني، انه لا فرق فيما ذكرناه من كون عدم الاجزاء على
القاعدة بين اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص كما إذا فرضنا اختلاف
المجتهدين في الفتوى فلا يجزى فتوى أحدهما بالنسبة إلى الاخر أو لمقلديه، مثلا إذا
كان أحد الشخصين يرى جواز العقد بالفارسي، وطهارة العصير النبي، وعدم جزئية
السورة للصلاة فلا يمكن لمن يرى تلك الأمور ان يكون أحد طرفي العقد معه أو ان
يعامل معاملة الطاهر في فرض العلم بملاقاته للعصير أو يقتدى به في الصلاة أو يستأجره
لها وتحقيق القول بالتكلم في موارد:
الأول: في الاختلاف في شروط الصيغة: وتقيح القول فيه بالبحث في موارد
1 - في القيود التي ينحصر دليلها بالاجماع. 2 - في ما لدليل اعتباره اطلاق مع عدم سراية
إحدى الصفات إلى فعل الاخر 3 - فيما لدليل اعتباره اطلاق مع السراية.
اما الأول: فالظاهر صحة العقد كما هي مقتضى العمومات والمطلقات، والمتيقن
من الاجماع على اعتبار ذلك القيد كالعربية، مثلا، هو غير المقام الصادر فيه الايجاد
والقبول عن اعتقاد كل منهما صحة ما أنشأه، ففيه يرجع إلى العمومات المقتضية للحصة.
واما المورد الثاني: ففيه أقول، ثالثها التفصيل بين كون العقد فاسدا في نظر الجميع
بحيث لا قائل بصحته، كما لو فرضنا انه لا قائل بنفوذ العقد الفارسي المقدم ايجابه على
قبول فعدم الصحة، وبين غيره فالصحة.
وقد ابتنى الشيخ الأعظم القولين الأولين على، ان الاحكام الظاهرية المجتهد فيها
بمنزلة الواقعية الاضطرارية، فالايجاب بالفارسي من المجتهد القائل بصحته عند من يراه
باطلا، بمنزلة إشارة الأخرس، أم هي احكام ظاهرية لا يعذر فيها الا من اجتهد أو قلد فيها.
وأورد عليه المحققان اليزدي والخراساني بايرادين أجبنا عنهما في الجزء الثاني عشر من
فقه الصادق فما افاده متين، وحيث لا دليل على أن الاحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية
337

مطلقا، فالقوم بعدم الصحة أقوى.
وبه يظهر حكم المورد الثالث بل الحق فيه البطلان حتى على القول بكون
الاحكام الظاهرية بمنزلة الواقعية مطلقا وتمام الكلام في محله في كتاب البيع.
الثاني: في اقتداء المجتهد أو مقلده، بمجتهد آخر أو مقلده المخالف له
في الفروع مع استعماله محل الخلاف في الصلاة، فالظاهر هو جواز الاقتداء إذا كان
المخل به في صلاة الامام من الفعل أو الترك بنظر المأموم ما لا يخل مطلق وجوده وانما
يخل بها إذا كان عمديا وعن علم أو جهل تقصيري وهي جميع الاجزاء والشرائط
والموانع غير الخمسة المستثناة في حديث لا تعاد الصلاة. نعم، في خصوص القراءة
يشكل الحكم بالصحة كما حققناه في الجزء الرابع من فقه الصادق. وعدم الجواز إذا
كان المخل به في صلاة الامام من الخمسة المستثناة. ولتنقيح القول في ذلك محل آخر.
الثالث: في معاملة الطاهر مع من يعتقد طهارة ما يراه نجسا. والكلام فيه محرر في
الجزء الأول من فقه الصادق.
يستثنى من ما ذكرناه من أن نفوذ الحكم الظاهري الثابت لشخص في حق غيره
الذي يرى خلافه يحتاج إلى دليل ولا دليل.
مسألتان إحداهما، مسألة النكاح والأخرى مسألة الطلاق.
اما الأولى: فيجب على كل أحد ترتيب آثار النكاح الصحيح على نكاح كل قوم
وان كان فاسدا في مذهبه، فلو اعتقد شخص صحة النكاح بالعقد الفارسي وعقد على
امرأة كذلك ورأى الاخر بطلانه، لزمه ترتيب آثار النكاح الصحيح وان كان فاسدا في
نظره فلا يجوز له ترويج امرأته.
والدليل عليه مضافا إلى ما دل على أنه لكل قوم نكاح. وامكان استفادته من الروايات،
السيرة القطعية الجارية بين المسلمين يرتبون آثار النكاح الصحيح على نكاح طائفة أخرى ولو كان
فاسدا في مذهبهم. وبه يظهر الحال في المسألة الثانية.
338

مقدمة الواجب
الفصل الرابع: في مقدمة الواجب، قبل التعرض للمقصود يقع الكلام في عدة
جهات الأولى: في بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام، فنقول انه لا ريب
ولا شك لاحد في أن المراد منه ليس، هو الوجوب العقلي يعنى لا بدية الاتيان بالمقدمة:
بداهة ان ذلك مساوق للمقدمية للواجب، إذ العقل إذا أدرك توقف الواجب على مقدمته
ورأى أو تركها يؤدى إلى ترك الواجب الذي فيه احتمال العقاب، يستقل بلزوم اتيانها
تحصيلا للأمن من العقوبة فيكون انكاره انكارا لها وهو خلف الفرض.
وأيضا لا ينبغي الشك في أن المراد من الوجوب المبحوث عنه ليس هو الوجوب
المجازى بمعنى ان الوجوب المسند إلى ذي المقدمة أولا وبالذات، ينسب إلى مقدماته
مجازا وثانيا وبالعرض، ضرورة انه ليس شان الأصولي ولا الفقيه البحث عن ذلك. مع أن
صحة هذا الاسناد لا كلام فيها.
بل المراد منه اما، الوجوب الاستقلالي الشرعي كما هو ظاهر المحقق القمي (ره) أو
الوجوب التبعي الارتكازي، بمعنى ان الامر لو كان ملتفتا إلى نفس المقدمة لأوجبها
وسيجيئ عند البحث عن أدلة الطرفين ما هو الحق في المقام.
وحيث إن للوجوب تقسيما آخر إذ ربما يكون نفسيا ناشئا عن مصلحة
في المتعلق، وربما يكون طريقيا جعل تحفظا على الملاكات الواقعية التي لا يرضى الشارع
الأقدس بفوتها حتى في حال الجهل كوجوب الاحتياط في الأبواب الثلاثة، وثالثا، يكون
غيريا من جهة كون متعلقه مقدمة لما فيه الملاك الملزم.
وبديهي ان وجوب المقدمة ليس من القسمين الأولين، فلا محالة هو على تقدير
الثبوت من قبيل القسم الأخير.
339

مبحث المقدمة من المسائل الأصولية
الثانية: ان هذه المسألة هل هي من المسائل، الأصولية، أو الفقهية، أو الكلامية،
أو المبادئ الأحكامية، أو المبادئ التصديقية. ففيها وجوه وأقوال.
قد يقال انها من المسائل الفقهية: لان المبحوث عنه في هذه المسألة هو وجوب
المقدمة.
وأجاب عنه المحقق النائيني، بان المسألة تكون أصولية، وان كان البحث عن
وجوب المقدمة، وعلله، بان علم الفقه متكفل لبيان أحوال موضوعات خاصة، كالصلاة،
والصوم، وما شاكل، والبحث عن وجوب المقدمة، التي لا ينحصر صدقها، بموضوع
خاص، لا يتكفله علم الفقه.
ويرد عليه الفقه، كما يكون متكفلا لبيان أحوال الموضوعات الخاصة
بعناوينها الأولية، كذلك يكون متكفلا لبيان أحوال العناوين العامة التي تنطبق على كثير
من العناوين الخاصة، كعنوان النذر، والشرط، وإطاعة الوالد، وما شاكل.
وأجاب عنه المحقق العراقي على ما نسب إليه، بان وجوب المقدمة ليس حكما
وحدانيا ناشئا عن ملاك واحد، بل هو واحد عنوانا ومتعدد بتعدد ملاكات الواجبات
النفسية، والمسألة الفقهية ما تكون نتيجتها حكما فرعيا وحدانيا ناشئا من ملاك واحد
سواء أكان متعلقه طبيعة شرعية كالصلاة والصوم، أم عنوانا يشاربه إلى مصاديقه التي هي
متعلقات الاحكام كالموضوع في قاعدة ما يضمن وأمثالها.
وفيه: انه لا دليل على ما أفيد بل الملاكات خارجة عن باب جعل الاحكام ولا
كاشف عن وحدتها أو تعددها: والميزان في هذا الباب ملاحظة المجعول، وفيه لا فرق
بين قاعدة ما يضمن ومسألة وجوب المقدمة.
والحق في الجواب ان البحث في هذه المسألة ليس عن وجوب المقدمة ابتداءا،
بل البحث فيها انما هو عن ثبوت الملازمة بين الامر بشئ والامر بمقدمته وعدم ثبوتها،
340

ومن المعلوم ان البحث عن ذلك لا ربط له بأحوال فعل المكلفين وعوارضه بلا واسطة
وما يوهمه ظاهر كلمات كثير من الأصحاب، حيث إنهم عنونوا المسألة بنحو تكون فقهية،
فلابد من الحمل على إرادة الاهتمام بشأن الوجوب، والا فمحط بحثهم ثبوت الملازمة،
وعدمه، ولذا لم يعقدوا لمسألة استحباب مقدمة المستحب بحثا خاصا، بل انما يحكمون
باستحباب مقدمة المستحب بملاك حكمهم في مقدمة الواجب بالوجوب، وذلك
كاشف عن أن نظر هم إلى الملازمة بين الحكمين.
وقد يقال انها من المبادئ الأحكامية وهي المسائل التي تكون محمولاتها من
عوارض الأحكام التكليفية أو الوضعية كتضاد الاحكام وملازمة بعضها لبعض، والبحث
عن وجوب المقدمة من هذا القبيل، فإنه يبحث في هذه المسألة عن ملازمة وجوب
المقدمة لوجوب ذي المقدمة.
وفيه: انه لا مانع من كون المسألة فيها جهتان يوجب كل منهما تعنونها بعنوان
مستقل، وهذه المسألة كذلك، فهي من حيث وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط كما سيمر
عليك من المسائل الأصولية، وان كانت فيها جهة مقتضية لكونها من المبادئ الأحكامية.
وقد يقال انها من المبادئ التصديقية فان موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة
ومنها حكم العقل، والمراد منه اذعان العقل بشئ فلا محالة تكون المسألة الأصولية هي
ما يبحث عن لواحق حكم العقل، واما ما يبحث فيه عن نفس حكم العقل فهو بحث عن
ذات الموضوع لاعن عوارضه، وحيث إن المبحوث عنه في هذه المسألة الملازمة العقلية
بين الوجوبين نفسها فيه من المبادئ التصديقية.
وفيه: ما مر في أول الأصول من أن موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة
بل المسألة الأصولية هي ما يقع نتيجتها في طريق الاستنباط كانت باحثة عن عوارض
الأدلة الأربعة أم لا. ومسألة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة من هذا
القبيل. وبما ذكرناه ظهر ان المسألة من المسائل الأصولية فإنه يستنبط من هذه المسألة
الحكم الشرعي وتقع نتيجة هذه المسألة في طريق الاستنباط من دون حاجة إلى ضم
مسألة أصولية أخرى واستفادة الحكم منها انما هو من باب الاستنباط لامن باب التطبيق.
341

واما ما قيل من أنها من المسائل الكلامية نظرا إلى أن البحث عنها بحث عقلي فلا
ربط لها بعالم اللفظ أصلا، فيرد عليه ان مجرد كون البحث عنها عقليا لا يوجب دخولها
في المسائل الكلامية فإنها عبارة عن المسائل التي يبحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد
فحسب.
هذه المسألة من المسائل العقلية
الثالثة: الظاهر أن هذه المسألة، من المسائل العقلية، لامن مباحث الألفاظ كما
يظهر من صاحب المعالم، إذ الحاكم بالملازمة انما هو العقل، غاية الامر ان هذا الحكم
العقلي، انما هو من الاحكام العقلية غير المستقلة، وهي مالا يستنبط منها الأحكام الشرعية
، الا بعد ضم مقدمة شرعية إليها، وليس من الاحكام العقلية المستقلة، وهي ما يستنبط منها الأحكام الشرعية مستقلا بلا احتياج إلى ضم شئ آخر إليها.
وذلك لأنه لا يستنبط من حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب
المقدمة، حكم شرعي الا بعد ثبوت وجوب ذي المقدمة وضمه إليه، وتوهم انحصار
الاحكام العقلية بالقسم الثاني، أوجب جعل هذه المسألة من مباحث الألفاظ، والا فلا
ربط لهذه المسألة بها.
وربما يقال انه يمكن ان يكون نظر صاحب المعالم إلى أن الملازمة ان كانت ثابتة
بحكم العقل كان لازمه دلالة ما دل على وجوب ذي المقدمة على وجوب المقدمة
بالدلالة الالتزامية فمن نفيها يستكشف عدمها.
ويرد عليه ان الدلالة الالتزامية تتوقف على كون اللزوم عرفيا أو عقليا بينا بالمعنى
الأخص بحيث يلزم من تصور الملزوم تصور اللازم. واما ان كان اللزوم بينا بالمعنى
الأعم وهو ما يجب معه الحكم باللزوم عند تصور الطرفين أو غير بين فلا يدل الكلام
الدال على الملزوم عليه بالدلالة الالتزامية، فمن نفى الدلالة اللفظية لا يمكن ان يستدل
على عدم الملازمة.
342

بيان خروج الاجزاء عن حريم النزاع
الرابعة: في تقسيمات المقدمة، فقد ذكروا للمقدمات تقسيمات متعددة من
جهات عديدة، الأول: تقسيمات إلى الداخلية وهي الاجزاء المأخوذة في الماهية المأمور
بها والخارجية. توضيح ذلك أنه إذا لو حظ شئ مع المأمور به فلا يخلو الامر من أحد
أمور ثلاثة 1 - انه يكون داخلا في المأمور به قيدا وتقيدا كالقراءة بالإضافة إلى الصلاة
ويسمى ذلك بالمقدمة الداخلية 2 - يكون خارجا عنه قيدا وتقيدا كالسير إلى الحجاز
بالإضافة إلى الحج ويسمى ذلك بالمقدمة الخارجية بالمعنى الأخص 3 - ما يكون
وسطا بين القسمين ويكون داخلا فيه تقيدا لا قيدا كالطهارة بالإضافة إلى الصلاة، ويسمى
ذلك، تارة بالمقدمة الخارجية بالمعنى الأعم، وأخرى بالداخلية بالمعنى الأعم، وثالثة
بالمتوسط. وبعد ذلك نقول لا اشكال في دخول القسم الثاني في محل النزاع، وكذا
الصنف الثالث بناءا على ما هو الحق خلافا المحقق النائيني (ره) من عدم انبساط الامر
المتعلق بالمركب الاعتباري على القيود والشرائط كما مر في مبحث الواجب المشروط.
انما الكلام في الصنف الأول: والكلام فيه تارة من حيث المقدمية موضوعا
وأخرى من حيث ثبوت حكم المقدمة الخارجية لها.
اما الكلام في الجهة الأولى فقد استدل لعدم كونها من المقدمة موضوعا بان
المركب ليس الا الاجزاء بالأسر والشئ لا يعقل ان يكون مقدمة لنفسه وإلا لزم تقدم
الشئ على نفسه.
وأجابوا عن ذلك بأجوبة، أحدها: ما عن التقريرات وهو ان للاجزاء اعتبارين،
أحدهما لحاظها بشرط لا وبهذه الملاحظة تكون اجزاء ومقدمة للكل. ثانيهما لحاظها
لا بشرط وبها تكون متحدة مع الكل وعينه.
ثانيهما: ما في الكفاية وهو ان المقدمة هي الاجزاء الملحوظة لا بشرط. وذا المقدمة
انما هو الاجزاء بشرط الاجتماع أي الملحوظة مجتمعة ومعلوم ان المعروض له نحو
343

تقدم على عارضه. وأورد على ذلك بان ما ذكر من اخذ الاجزاء لا بشرط يناقض ما ذكره
أهل المعقول من أن الاجزاء الخارجية كالهيولي والصورة هي الماهية المأخوذة بشرط
لا، وأجاب عنه ما ذكره في أواخر مبحث المشتق بما حاصله ان مراد القوم بذلك انما هو
الفرق بين الاجزاء الخارجية والتحليلية، وان الفرق بينهما انما هو بحسب المفهوم لا
بحسب الاعتبار، ولكن قد مر عدم تمامية ذلك فراجع.
فالحق في الجواب عن المناقضة، اختلاف المضاف إليه في اللابشرط، وبشرط لا،
حيث إن مراد هم من بشرط لا في ذلك المقام هو بشرط لا عن الحمل، والمراد من
اللابشرط في المقام هو اللابشرطية من حيث الاجتماع، وأيضا مورد الكلام في ذلك
المقام هو الاجزاء التحليلية التي تنحل إليها البسائط، ومحل الكلام في المقام هو الاجزاء
الخارجية للمركبات، فالفرق بين المقامين واضح لا يخفى، فلا وقع لهذا الايراد أصلا.
ثالثها: ما عن بعض المحققين وهو ان مناط التقدم الطبيعي موجود في كل جزء
بالنسبة إلى الكل إذ لا يمكن للكل وجود ولا وجود للجزء، بخلاف العكس - توضيحه -
ان للمقدمة اطلاقين، إذ، تارة يراد بها ما يكون وجوده في الخارج غير وجود ذيها،
ويكون الوجود الثاني متوقفا على وجود الأول، أخرى يراد بها مطلق ما يتوقف عليه
وجود الشئ وان لم يكن وجوده في الخارج غير وجود ذيه، وهي بالاعتبار الأول وان
لم تصدق على الاجزاء الا انها بالاعتبار الثاني تصدق عليها: لبداهة توقف وجود الكل
على وجود الاجزاء، واما وجودها فلا يتوقف على وجوده فيكون وجود الجزء متقدما
على وجود الكل طبعا، فلا يعقل وجوده بدون وجوده، وهذا معنى المقدمية.
ولكن يرد على الكل ان ما هو محل الكلام انما هو ما يمكن ان يترشح الوجوب
من ذي المقدمة إليها المتوقف ذلك على الاثنينية الخارجية: إذ لا يعقل ترشح الوجوب
من الوجوب المتعلق بشئ إلى نفس ذلك الشئ، فاثبات التغاير في موطن العقل لا يفيد
مع العينية الخارجية.
واما الجهة الثابتة: فالكلام فيها تارة في أنه، هل يكون لاتصافها بالوجوب الغيري
مقتض أم لا، وأخرى في أنه على تقدير ثبوت المقتضى هل هناك مانع عن اتصافها به أم لا.
344

اما من حيث وجود المقتضى فالحق انه لا مقتضى له كما يظهر مما أوردناه
على القوم وأشار إليه المحقق الخراساني (ره) في هامش الكفاية وحاصله ان ملاك الوجوب
الغيري انما هو فيما إذا كان وجود المقدمة إلى مقدمته، واما مع العينية في الوجود فجعل
وجوب غيري لها بعد كونها واجبة بالوجوب النفسي لغو محض.
واما من حيث المانع، فقد استدل في الكفاية لعدم امكان تعلق الوجوب المقدمي
بالاجزاء حتى على فرض صدق المقدمة عليها موضوعا، بان كل جزء من الاجزاء متعلق
للوجوب النفسي المتعلق بالمركب، إذ الاجزاء بالأسر هي المركب المأمور به، فالامر
النفسي المتعلق بالمركب يكون منبسطا على اجزائه، ومتعلقا بكل منها، فيكون كل جزء
واجبا بالوجوب النفسي، فلا يعقل تعلق وجوب آخر بالاجزاء، وإلا لزم اجتماع المثلثين،
وهو ممتنع، وان قلنا بكفاية تعدد الجهة، وجواز اجتماع الأمر والنهي، لعدم التعدد
هاهنا، فان عنوان المقدمية واسطة في ثبوت الحكم لذات المقدمة، ولا يكون متعلقا له.
وفيه: انه لا يلزم اجتماع المثلين من تعلق الوجوب الغيري بها، بل يلتزم بالوجوب
الواحد الأكيد، كما في نظائر المقام من موارد اجتماع ملاكي الوجوبين وموضوعيهما،
في مورد واحد.
وأجاب عنه المحقق العراقي، بان ملاك الوجوب الغيري في الاجزاء انما هو في
طول ملاك الوجوب النفسي في الكل، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتحاد المتماثلين
بالنوع.
وفيه: ان الطولية في الملاك لا يلازم الطولية في الحكم، مع أن الحكم المتأخر
رتبة وان لم يكن في مرتبة المتقدم، الا ان المتقدم ثابت في مرتبة المتأخر، فيلزم الاتحاد.
أضف إلى ذلك أن المراد الاتحاد في الوجود الخارجي والتحقق وهذا لا ينافي مع تعدد
المرتبة.
ونسب إلى المحقق العراقي (ره) الاستدلال له: بأنه بعد كون الاجزاء واجبة
بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب لأنها نفس الكل المركب منها وجودا في الخارج،
345

تعلق الوجوب الغيري المتأخر عن ذلك الوجوب بكل جزء يكون بلا اثر ولغوا: إذ ان كان
المأمور ممن يحركه امر المولى فالامر النفسي يوجب تحركه وان كان ممن لا يحركه
الامر النفسي فالامر الغيري أيضا لا يحركه، فأي فائدة في البعث إليه ثانيا، وإذا كان البعث
الغيري لغوا استحال على الحكيم صدوره منه.
و فيه: انه يمكن ان يكون شخص في حال لا يحركه الامر الواحد ولكن لو تعدد
وصار مؤكدا يحركه، ولذا ربما ينذر الاتيان بالواجب وليس ذلك الا لما ذكرناه، ولولاه
لزم عدم انعقاد هذا النذر لما ذكر مع أنه ينعقد بلا كلام.
فالصحيح: ان يستدل له بما تقدم من منع المقدمية الخارجية إذ حينئذ لا معنى
لترشح الوجوب من الوجوب المتعلق بالمركب إليها، وان شئت قلت بان الاجزاء محبوبة
للمولى بأنفسها ومتعلقة لإرادته بذاتها، فيستحيل كون محبوبيتها منشئا لمحبوبيتها
بالمحبوبية الغيرية.
وقد يقال كما عن بعض الأعاظم بأنه تظهر النزاع في كون الاجزاء متصفة
بالوجوب الغيري وعدمه، في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين: إذ
على القول الأول لا ينحل العلم الاجمالي بوجوب أحدهما إلى العلم التفصيلي بوجوب
الأقل لان مناط الانحلال انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير
وفي المقام لا ينطبق عليه لان المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل
الجامع بين الوجوب النفسي والغيري فلا انحلال في البين وعلى الثاني ينحل العلم
الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل النفسي والشك في اعتبار امر زايد.
وفيه: أولا ان لازم اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري ليس عدم اتصافها بالوجوب
النفسي فعلى كل تقدير تفصيلا بالوجوب النفسي المتعلق بالأقل غاية الامر على
تقدير تكون الاجزاء متصفة أيضا بالوجوب الغيري دونه على تقدير اخر. وثانيا انه سيأتي
في محله ان ضابط الانحال عدم جريان الأصل في الأقل. وجريانه في الزائد بلا معارض
وفي ذلك لا فرق بين المسكين كما لا يخفى.
الثاني: تقسيم المقدمة: إلى العقلية والشرعية والعادية والظاهر أنه لا وقع لهذا
346

التقسيم ولا يترتب عليه ثمرة أصلا. إذ المقدمة العقلية هي ما استحيل وجود ذي المقدمة
بدونها وهي المقدمة الخارجية المتقدم بيانها، والشرعية، هي المتوسطة المتقدم ان نفسها
من قبيل المقدمة الخارجية، والتقيد بها من قسم المقدمة الداخلية.
واما العادية فان أريد بها، ما يتوقف عليه الواجب بحسب العادة، بحيث يمكن
تحقق ذي المقدمة بدونها، الا انه جرت العادة على الاتيان بها مقدمة، فلا مورد لتوهم
دخولها في محل النزاع، لعدم كونها مقدمة حقيقة، وان يرد بها ما يكون التوقف عليها
فعلا واقعيا الا انه لأجل عدم التمكن عادة من الاتيان بها، فهي ترجع إلى المقدمة العقلية،
كما لا يخفى.
الثالث: تقسيم المقدمة، إلى مقدمة الجود، ومقدمة الوجوب، ومقدمة الصحة
ومقدمة العلم.
اما مقدمة الوجود فلا اشكال في دخولها في محل النزاع وهي المقدمة الخارجية
العقلية وهي ما يتوقف وجود المأمور به عليها عقلا.
واما مقدمة الصحة فهي المقدمة المتوسطة بين الخارجية والداخلية التي تقدم
انها بنفسها من قسم الخارجية العقلية. ومن حيث التقيد بها من قسم الداخلية.
واما مقدمة الوجوب، فقد استدل لخروجها عن حريم النزاع بان تلك المقدمة
ما لم تتحقق لا وجوب لذي المقدمة كي يترشح الوجوب منه إليها، وبعد تحققتها وثبوت
الوجوب لا يمكن الترشح لكونه طلبا للحاصل، وأورد عليه بان ذلك انما يتم في الشروط
المتقدم والمقارن، ولا يتم في الشرط المتأخر. أقول يمكن ان يقال فيه بان الشرط
المتأخر، ان كان خارجا عن الاختيار فلا كلام، وان كان تحت الاختيار فحيث ان كون
ذي المقدمة واجبا يتوقف عل تحققه في ظرفه، فلو لم يأت به لما وجب ذو المقدمة كي
يجب بوجوبه ولو اتى به لا يمكن تعلق الوجوب به لكونه طلب الحاصل.
واما مقدمة العلم فليست بمقدمة أصلا، إذ مثلا في الصلاة إلى أربع جوانب ليست
الصلاة الواقعة إلى غير القبلة مقدمة للصلاة الواقعة إليها، نعم الصلوات الواقعة إلى أربع
جهات مقدمة لاحراز تحقق المأمور به وجوده في الخارج، ووجوبها انما يكون
347

بمقتضى قاعدة الاشتغال لامن باب الملازمة كما لا يخفى.
الشرط المتأخر
الرابع: تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر والمقارن. وقد ورد في الشرع في جملة من
الموارد ما ظاهره تقدم المشروط على الشرط زمانا مع أنه قد برهن في محله انه لا يمكن
تقدم المعلول على شئ من اجزاء علته ومنها الشرط، واجماله انه لو تقدم يلزم، اما تأثير
المعدوم في الموجود، أو عدم التأثير، والأول ممتنع، والثاني خلف، وتوطئة لدفع هذا
الاشكال قسم الأصحاب المقدمة ومن أقسامها الشرط كما مر، إلى المتقدم، والمقارن،
والمتأخر.
والمحقق الخراساني بعد تقريب الاشكال في الشرط المتأخر اسرى الاشكال إلى
الشرط المتقدم. بدعوى انه من الضروري عدم جواز انفكاك المعلول عن العلة، وعدم
جواز انفكاكها عنه، فكما انه لا يجوز المعلول على علته كذلك لا يجوز تقدم العلة
على المعلول، وإلا لزم اما تأثير المعدوم في الموجود، أو الخلف.
وأورد على المحقق الخراساني، بان من قوله في أول البحث، ولا من تقدمها
بجميع اجزائها على المعلول، ان كان هو التقدم الرتبي، فلا ينافيه التأخير الزماني: إذ
لا تضاد بين تأخر المعلول عن العلة رتبة، وتقدمة عليها زمانا واما ان يكون هو التقدم
الزماني. فهو مضافا إلى منافاته لما صرح به بعد أسطر من اعتبار المقارنة الزمانية، غير تام.
وفيه: ان مراده التقدم الرتبي، الا انه يستلزم عدم التأخر زمانا: إذا لتقدم الرتبي
العلى، معناه انه لا يعقل وجود المعلول و ضرورة وجوده الا إذا وجدت العلة ووجبت،
ولازم ذلك في الزمانيات ان لا يتقدم المعلوم على علته زمانا والا لم يكن وجوده تابعا
لوجودها.
ولكن يرد على المحقق الخراساني (ره) ان اسرائه الاشكال إلى الشرط المتقدم، غير
صحيح: فان المقارنة الزمانية انما تعتبر في العلة التامة المؤثرة، كالعلة البسيطة، و الجزء
348

الأخير من العلة المركبة، واما في العلة الناقصة، والمقربة للأثر، المعبر عنها بالمعد فلا
تعتبر المقارنة، فالاشكال مختص بالشرط المتأخر.
وحيث إن المورد التي توهم انخرام القاعدة فيها تكون على نحوين، لان المتأخر
قد يكون شرطا للتكليف أو الوضع، وقد يكون شرطا للمأمور به. فتنقيح القول فيها
بالبحث في موردين: الأول، في شرط الحكم، الثاني، في شرط المأمور به.
اما الأول: فقد عرفت ان محذور تأخر الشرط انما هو تأثير المعدوم في الموجود،
أو عدم التأثير، والأول ممتنع، لأنه لا يمكن ان يترشح موجود بالفعل، من معدوم بالفعل.
والثاني خلف، ولذلك ذهب جماعة من المحققين منهم المحقق النائيني (ره) إلى امتناع
ذلك، وللقوم في تصوير الشرط المتأخر مسالك.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني، وحاصله ان شرط التكليف أو الوضع، ليس الا
ان للحاظه دخلا في الجعل كالشرط المقارن، حيث إن الحكم تكليفيا كان أو وضعاه، من
الأفعال الاختيارية للمولى، فمن مباديه تصور الشئ ولحاظ أطرافه ليرغب في طلبه،
ويسمى هذه الأطراف التي والتصور، واما الأمور الموجودة في الخارج فهي متعلقة
للحاظ لا دخيلة في الحكم، وعلى ذلك فكما يمكن ان يلاحظ المولى الامر المقارن أو
المتقدم فيأمر يمكن ان يلاحظ الامر المتأخر، ففي موارد الشرط المتأخر لا يكون الشرط
متأخرا كي يلزم تحقق المشروط قبل شرطه. الشرط يكون مقارنا دائما.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان ذلك يتم في القضايا الخارجية التي لا يتوقف
الحكم فيها على غير دواعي الحكم المؤثرة فيه بوجودها العلمي طابق الواقع أم لا،
وكذلك يتم في القضايا الحقيقية في شرائط الجعل، فان الدخيل في الجعل ليس الا
اللحاظ، ولا يتم في شرائط المجعول: فان الدخيل في فعلية الحكم انما هو الوجودات
الخارجية المأخوذة مفروض الوجود، فما لم يتحقق الموضوع في الخارج بجميع
قيوده لا يصير الحكم فعليا: إذ نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة المعلول إلى علته فيعود
الاشكال، فجعل شرائط الحكم مطلقا من دخل اللحاظ في الحكم، انما نشأ من الخلط
349

بين القضايا الحقيقة، والخارجية.
وأجاب عنه الأستاذ الأعظم: بان شرط الحكم وان كان لابد من اخذه مفروض
الوجود في مقام الجعل والانشاء الا ان ظرف وجوده المفروض يختلف باختلاف كيفية
الجعل، فربما يجعل الحكم على الموضوع مقيد بقيد اخذ مفروض الوجود مقارنا له أو
متقدما، عليه وربما يجعل الحكم على الموضوع المقيد بقيد اخذ مفروض الوجود بعد
وجوده، والقيد في جميع ذلك وان كان مفروض الوجود، الا انه باختلاف ظرف
وجود المأخوذ قيدا في الحكم انتهى.
وهذا الوجه الثاني للامكان.
ولكن يرد على ما افاده الأستاذ، ان ذلك لا يتم بناءا على مسلك العدلية من تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد: إذ بناءا عليه، لا يكون اخذ القيد مفروض الوجود لغوا
وجزافا، بل لا محالة يكون من جهة دخلة في اتصاف الفعل بالمصلحة، وعليه فيعود
الاشكال وهو ان المتأخر كيف يمكن ان يؤثر في المتقدم، ويوجب اتصاف الفعل
بالمصلحة قبل وجوده فهذا الوجه غير تام.
كما أن الوجه الأول لا يتم لما افاده المحقق النائيني (ره) فإنه لا ريب في أن الدخيل
في فعلية الحكم في القضايا الحقيقية هي الوجودات الخارجية، لا الوجودات اللحاظية.
الثالث: ان استحالة الشرط المتأخر انما هي التكوينيات، واما في التشريعيات،
فيما ان الاعتبار والتشريع، خفيف المؤنة فلا محذور في تأخر شرائطه عقلا.
وأجاب عنه المحقق النائيني بان المتأخر ان لم يكن له دخل في هذا الاعتبار
لا بنحو العلية، ولا بنحو الموضوعية، فلا معنى لكونه شرطا، وان كان دخيلا فيه، فكيف
يعقل تأخره، وفيه ان مجرد ذلك لا يكفي في الجواب: إذ للمستدل ان يلتزم بأنه دخيل في
هذا الاعتبار بنحو الموضوعية، الا ان وجوده في ظرفه، أوجب فعلية الحكم قبل وجوده
بواسطة اعتبار المولى وجعله.
فالأولى: في الجواب ان يقال، ان دخله في اتصاف الفعل بالمصلحة، أوجب دخله
في الموضوع بناءا على مسلك العدلية، ودخله فيه يكون تكوينيا فيعود المحذور.
350

الرابع: ان الممتنع تأخر المقتضى المترشح منه المعلول، لا الشرائط التي لا يترشح
منها المعلول.
وفيه: ان الشرط يؤثر في وجود المعلول، اما بتأثيره في تتميم فاعلية الفاعل، أو
قابلية القابل فيعود الاشكال، وهو ان المعدوم كيف يؤثر في الموجود بالفعل، وقد
استدل لامكانه بوجوه اخر واضح الفساد.
والحق في وجه امكان الشرط المتأخر في الاحكام، ان يقال ان الشرط، والجزء،
يختلفان في كيفية الدخل في الموضوع بتبع الاختلاف في كيفية الدخل في اتصاف الفعل
بالمصلحة، إذا لجزء بنفسه دخيل فيه، واما الشرط فالتقيد به دخيل في ذلك لا نفسه بل
هو بوجوده الخارجي طرف لما يكون دخيلا في الموضوع، وهو التقيد به، وذلك امر
مقارن للحكم. مثلا في العرفيات، الحمامي انما يرضى بالتصرف في الحمام وصرف الماء
لمن يعطى العوض فيما بعد خروجه فمن علم من حال نفسه انه يعطى العوض فيما بعد
حيث إنه بالفعل مقيد بهذا ويتصف به يجوز له الدخول فيه. وبالجملة الشرط بوجوده
الخارجي في أي ظرف كان وجوده، موجب لحصول ذلك التقيد المقارن، لا انه بنفسه
دخيل كي يلزم الاشكال والتقيد عبارة عن إضافة خاصة حاصلة للشئ إذا لو حظ مع
غيره، وتلك الإضافة كما تحصل له إذا لو حظ مع المقارن أو المتقدم كذلك تحصل له إذا
لو حظ مع المتأخر.
فان قلت: ان تلك الإضافة ان كانت حاصلة قبل تحقق ذلك الشرط ولم يكن
حصولها منوطا بحصول ذلك المتأخر في ظرفه لزم ان لا يكون الشرط دخيلا، وهو
خلف الفرض، وان كان منوطا بحصوله لزم تأثير المتأخر في حصول المتقدم فيعود
الاشكال.
قلت: أو لا يمكن ان يقال ان المؤثر في المصلحة والحكم هي الحصة الخاصة، من
ذلك الشئ وهي ما لو حصل بعده ذلك المتأخر ولا يكون مطلق وجوده دخيلا فيهما،
فلا يحصل عنوان آخر، كي يقال انه كيف يوجد مع أن المؤثر فيه امر متأخر، وثانيا: ان
هذا البرهان انما يتم في الموجودات العينية ولا يتم في العناوين الإضافية الاعتبارية
351

فيمكن ان يكون الشئ الذي يتعقبه شئ آخر معنونا بعنوان اعتباري إضافي، ودخل
العناوين الاعتبارية في المصالح في غاية الكثرة، الا ترى انه إذا علم الانسان، ان زيدا يعينه
في حال مرضه، أو سفر في السنة الآتية، يرى في اكرامه بالفعل مصلحة ويشتاق إليه
فيكرمه بالفعل، وعلى الجملة حصول امر اعتباري إضافي من جهة تحقق المتأخر في
ظرفه واضح، ودخل العناوين الاعتبارية في المصالح في غاية الوضوح، وعليه فلا
محذور في الشرط المتأخر أصلا. وهذا هو القول الفصل في المقام.
الشرط المتأخر للمأمور به
المورد الثاني: في الشرط المتأخر للمأمور به، كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة
صوم المستحاضة عند بعض وملخص القول فيه، انه مما ذكرناه في وجه امكان الشرط
المتأخر للحكم، يظهر امكانه في المقام: إذ لا فرق بين القسمين، سوى ان شرط الحكم،
هو ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة، وشرط المأمور به، ما يكون دخيلا في
حصول المصلحة، ولذلك الأول غير لازم التحصيل، والثاني يكون لازما، واما من الجهة
التي أشكل على الشرط المتأخر فهما متحدان اشكالا، وجوابا، حيث إن المستشكل يقول إن
المتأخر كيف يعقل ان يؤثر في حصول المصلحة من المتقدم، والجواب عنه
ما ذكرناه، من أن الشرط بنفسه لا يكون دخيلا في المأمور به، وفي حصول المصلحة، بل
تقيد المأمور به دخيل فيهما، وهو بوجوده الخارجي طرف للإضافة، وهي متحققة
مقارنة، لوجود المأمور به.
ويمكن تصحيح الشرط المتأخر في هذا القسم بوجه آخر يخصه، وهو ان شرط
المأمور به من حيث كونه شرطا له، لا اشكال فيه أصلا، بعد كون الحكم من الأمور
الاعتبارية، ومعنى كونه شرطا له تقيد المأمور به، وبديهي ان هذا المعنى غير مربوط
بالشرط في باب العلة والمعلول، ولا يكون دخيلا في التأثير أصلا، نعم بناءا على مسلك
العدلية، يتوجه الاشكال من حيث كونه دخيلا في حصول المصلحة، في أن المتأخر كيف
352

يمكن ان يؤثر في المتقدم، وهو يتوقف على أمرين 1 - دخالة المتأخر في المصلحة 2 -
تحقق المصلحة قبل وجود الشرط، ومع عدم ثبوت الامرين أو أحدهما يرتفع الاشكال
كما هو واضح.
ولنا منع كلا الامرين، اما الأول: فلانه يمكن ان يكون الشرط كاشفا ومعرفا عن
كون ذي المصلحة، هو الحصة الخاصة، ولا يكون الشرط دخيلا فيها أصلا، واما الثاني:
فلانه يمكن ان يقال ان المصلحة لا تستوفى ولا تتحقق قبل وجود الشرط، بل الفعل
المأمور به كصوم المستحاضة على القول باشتراطه بغسل الليل، يكون مقتضيا لحصول
المصلحة وغسل الليل دخيل في فعلية المصلحة، نظير ذلك في العرفيات، شرب المسهل
المشروط تأثيره في حصول الاسهال بالنوم مثلا: فان لازم شرطيته حصول الأثر بعد النوم
لا قبله، وعلى هذا فلا يلزم تأثير المتأخر في المتقدم، فليكن الامر في الشرعيات على هذا
المنهج.
والمحقق النائيني (ره) بعد اختاره عدم جواز الشرط المتأخر في القسم الأول، وانه
لابد من التأويل فيما ظاهره اشتراط الامر المتأخر، بالارجاع إلى شرطية عنوان التعقب
اختار الجواز في القسم الثاني - أي شرط المأمور به - وأفاد في وجهه، ان معنى كون شئ
شرطا كون الدخيل في المأمور به التقيد به، فهو لا يزيد على الجزء الدخيل فيه قيدا
وتقيدا، فكما لا اشكال في تأخر بعض الاجزاء عن بعضها كذلك لا ينبغي الاشكال في
تأخر الشرط عن المشروط، ثم أورد على نفسه: بأنه في الاجزاء الامر ينبسط على تمامها
وان كانت تدريجية الوجود، واما الشرائط فحيث ان القيود خارجة عن المأمور به
والدخيل هي التقيدات الحاصلة من إضافة المأمور به إلى الشرائط، فيسأل ان هذه
التقيدات توجد قبل وجود الشرائط أو حينها، فعلى الأول يلزم وجود الامر الانتزاعي
قبل وجود منشأ انتزاعه وهو محال، وعلى الثاني يلزم وجود الإضافة مع عدم أحد
الطرفين وهو المشروط، وأجاب عنه بان الامر المتعلق بالامر الانتزاعي لا محالة يكون
متعلقا بمنشأ انتزاعه، وعليه فالامر المتعلق بالتقيد امر بذلك القيد ولأجل ذلك لابد وأن تكون
الشرائط الاختيارية، فامتثال الامر بالمركب انما يتحقق باتيان الشرط المتأخر في
353

ظرفه، كما أن امتثال الامر بالمركب انما يتحقق باتيان الجزء الأخير، وكون تعلق الامر
بالجزء انما هو من جهة دخله قيد أو تقيدا، وتعلقه بالشرط من جهة دخله تقيدا فقط
لا يكون فارقا بعد تعلقه بكل منهما ودخل كل منهما في الامتثال.
أقول: في كلامه (ره) مواقع للنظر، الأول: ان الامر الانتزاعي وان كان أمرا
بمنشأ انتزاعه بلا كلام ولا ريب، الا ان التقيد بشئ، لا ينتزع من ذلك الشئ بل ذلك
الشئ على ما عرفت للإضافة وهي انما تتحقق حين صدور العمل بلحاظ تحقق
المتأخر في ظرفه، وعلى هذا يبتنى عدم لزوم كون الشرط اختياريا: إذ التقيد بالامر غير
الاختياري بما انه تحت الاختيار، وهو المتعلق للامر فيصح التكليف بشئ مشروطا بأمر
غير اختياري كالأمر بعتق الرقبة المقيدة بالمؤمنة: فان ايمان الغير وان كان خارجا عن
تحت قدرة المكلف الا ان عتق الرقبة المقيدة بالمؤمنة تحت الاختيار فيصح التكليف.
الثاني: ان الالتزام بكون الامر المتعلق بالتقيد، أمرا بالقيد أيضا لا يدفع الاشكال إذا لا يراد
انما هو في أن التقيد المعتبر متى يوجد، هل هو قبل وجود الشرط أم بعده، فعلى الأول
يلزم وجود الامر الانتزاعي قبل وجود منشأ انتزاعه، وعلى الثاني يلزم تحقق الإضافة مع
عدم أحد طرفيها، والجواب عن ذلك بان نفس القيد مأمور به لا ربط له بالاشكال. الثالث:
ان لازم الالتزام بتعلق الامر بالقيد نفسه، عدم الفرق بين الشرط والجزء وكون الشرط
أيضا من المقدمات الداخلية لا المتوسطة، فلا مورد حينئذ لالتزامه بكونه من المتوسطة
كما صرح به.
فالحق في الجواب عن الايراد المذكور، مضافا إلى النقض بالاجزاء: فان هذا
الوجه يجرى فيها أيضا إذ فيها أيضا التقيد داخل كالقيد، مثلا في الصلاة الواجب هو
التكبير - المتقيدة بمجيئ التسليم بعدها، فيسأل عن ظرف تحقق التقيد، فان كان حين
التكبيرة لزم تحقق الامر الانتزاعي قبل تحقق منشأ انتزاعه، وان كان حين التسليم لزم
تحقق الإضافة مع عدم أحد طرفيها: ان التقيد المزبور ليس أمرا انتزاعيا من وجود القيد
في ظرفه، بل هو طرف للإضافة فلا حظ.
354

الواجب المشروط
الخامسة: في تقسيمات الواجب منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط. ولا يخفى
ان اتصاف الواجب بهما انما يكون عرضيا والمتصف بهما أولا وبالذات، هو الوجوب،
وهو الذي قد يكون مطلقا، وقد يكون مشروطا، ثم المراد من الاطلاق والاشتراط انما هو
معناهما اللغوي، وليس للقوم فيهما اصطلاح خاص فالمطلق هو المرسل، والمشروط هو
المربوط بشئ أو أشياء، فالواجب الذي لا يكون وجوبه مشروطا بشئ يكون مطلقا،
والذي يكون وجوبه مربوطا يكون مشروطا، وحيث انه ليس في الشرع واجب مطلق
بقول مطلق، بحيث لا يكون وجوبه مربوطا بشئ: إذ لا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة،
وكذا ليس فيه ما يكون وجوبه مربوطا بجميع الأشياء، فلا محالة يكون وصفا الاطلاق
والاشتراط، وصفين إضافيين فيلاحظ كل واجب مع قيد، فان كان بالقياس إليه وجوبه
مربوطا به وغير مرسل، فهو واجب مشروط بالنسبة إليه، وان كان غير مربوط به فهو
واجب مطلق كذلك، وعلى هذا فلا يهمنا البحث فيما ذكر في تعريف المطلق والمشروط،
والنقض والابرام في ذلك.
هل القيد يرجع إلى المادة، أو الهيئة، أو المادة المنتسبة
وانما المهم في المقام تحقيق القول في أن القيد في الواجب المشروط، هل يرجع
إلى المادة كما عن الشيخ الأعظم (ره)، أو يرجع إلى الهيئة كما عن جماعة منهم
المحقق الخراساني، أم يرجع إلى المادة المنتسبة كما بنى عليه المحقق النائيني (ره) وبه وجه
كلام الشيخ.
وقبل تنقيح القول في ذلك لابد من التنبيه على أمور 1 - انه قد أورد على
المحقق الخراساني بان ما اختاره في المقام من رجوع القيد إلى الهيئة، الذي نتيجة عدم
355

ثبوت الحكم قبل تحققه، ينافي ما صرح به في الشرط المتأخر من أن معنى كون شئ
شرطا للحكم ليس الا ان للحاظه دخلا في الحكم من غير فرق بين اقسام الشرط، وان
الموجودات الخارجية غير دخيلة في الحكم فكيف التوفيق بين كلماته، وقيل في توجيه
كلامه في المقام بما يرتفع به التنافي ان ما علق عليه الحكم الظاهر في عدم فعلية الحكم
قبله، لا يكون شرطا حقيقيا، بل هو ملازم لارتفاع المانع عن الفعلية، فيكون قبل تحققه
مانع عن الطلب فعلا، فلا يصح الطلب منه الا معلقا على حصول ذلك الامر الملازم
لارتفاع المانع فتأمل فان ذلك لا يخلو عن الاشكال.
2 - ان لازم رجوع القيد إلى المادة - الذي نسب إلى الشيخ وان أنكر السيد العلامة
الشيرازي والمحقق النائيني هذه النسبة - هو انكار الواجب المشروط، وان القيد من قيود
الواجب، وكون الوجوب مطلقا فعليا، فيرجع إلى الواجب المعلق باصطلاح صاحب
الفصول (ره)، ولازم القولين الآخرين النباء على وجود الواجب المشروط، وكون القيد
للوجوب، لا الواجب فانكار الواجب المشروط، والبناء عليه يبتنيان على البحث فيما
يكون مرجع القيد.
3 - انه لا ريب ولا كلام في أن ظاهر القضية الشرطية بحسب القواعد العربية رجوع
الشرط الهيئة، بداهة ان استعمال قضية - إذا توضأت فصل - في مقام طلب الصلاة
المقيدة بالوضوء يعد من الأغلاط، وظهور قضية، إذا زالت الشمس وجب الظهر ان في
عدم الوجوب قبل الزوال، وقد عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على
تقدير أخرى، ومعنى ذلك رجوع القيد إلى مفاد الجملة، وبعبارة أخرى انها ظاهرة في
كون المقدم قيدا للتالي وهو مفاد الهيئة فارجاع القيد إلى المادة خلاف الظاهر، ومن التزم
بذلك كالشيخ اعترف بان قضية القواعد العربية انه من قيود الهيئة وانما التزم به لتخيل
امتناع ذلك ثبوتا واثباتا، على ذلك لابد من البحث في أنه هل يمكن ارجاع القيد إلى
الهيئة أم لا.
والقائلون بامتناع ذلك، استندوا إلى بوجوه، والشيخ زايدا على ذلك استدل لكون
القيد من قيود المادة إلى لزوم ذلك ثبوتا. وتنقيح القول بالبحث في موارد. 1 - في امكان
356

كونه قيدا للهيئة وامتناعه 2 - في لزوم كونه قيدا للمادة. 3 - في أن القيد قيد للمادة المنتسبة.
اما المورد الأول: فقد استدل للامتناع بأمور: الأول: ان معنى الهيئة معنى حرفي،
وهو جزئي غير قابل للتقييد والاطلاق لعدم صدقه على كثيرين، نسب ذلك في التقريرات
إلى الشيخ الأعظم (ره).
وقد أجاب المحقق الخراساني عن هذا الوجه بأنه لو سلم انه فرد قائما يمنع عن
التقييد لو أنشأ أولا غير مفيد لاما إذا أنشأ من الأول مقيدا غاية الامر قد دل عليه بدالين
وهو غير انشائه أولا ثم تقييده ثانيا، وفيه: ان المعنى إذا كان جزئيا، غير قابل للتقييد لا فرق
فيه بين التقييد قبل الاستعمال، وبعده، إلا بناءا على القول بأنه الحرفي من أنه ليس بجزئي
بل كلي صادق على كثيرين فهو قابل للتقييد. مثلا صل في المسجد يمتثل بالصلاة في أي
موضع من مواضع المسجد لصدق المأمور به عليها. فهو قابل للتقييد بان يقال صل في
جنوب المسجد مثلا. وثانيا: ان للتقييد معنيين، أحدهما التضييق، وفي مقابله الاطلاق
بمعنى الصدق على كثيرين. ثانيهما: الربط. وفي مقابله الاطلاق بمعنى الارسال وعدم
الربط، وفي المقام المدعى هو التقييد بالمعنى الثاني، والجزئي الحقيقي أيضا قابل للتقييد
بهذا المعنى، الا ترى ان يقال ان الزوجية هي الربط بين الزوجين في مقابل الطلاق، الذي
هو بمعنى الارسال والبينونة، وليس المدعى هو التقييد بالمعنى الأول، وعليه فلو سلم
كون مفاد الهيئة من المعاني الجزئية لا مانع من تقييده أيضا، وبالجملة الاشتباه انما نشأ من
الخلط بين الاطلاق والتقييد في المقام، الذين هما بمعنى الارسال، الارتباط، وبين
الاطلاق والتقييد في مبحث المطلق والمقيد، والذي لا يعقل في الجزء انما هو التقييد
بالمعنى الثاني، والمدعى هو التقييد بالمعنى الأول.
الثاني: ما استند إليه المحقق النائيني، ولعله أمتن من الأول، وهو ان مفاد الهيئة
معنى حرفي وملحوظ آلى، والتقييد والاطلاق من شؤون المفاهيم الاسمية الملحوظة
استقلالا.
وفيه أولا: قد مر في مبحث المعنى الحرفي، انه ملحوظ استقلالا كالمعنى الأسمى،
357

وما اشتهر من أن المعاني الحرفية، ملحوظات آلية، حتى كاد ان يعد من الضروريات مما
لا أصل له، وقد ذكرنا في ذلك المبحث انه غالبا يكون المعنى الحرفي مقصودا أصليا في
الكلام، بل الفرق بين المعنيين انما يكون في أنفسهما لا في اللحاظ، وثانيا انه لو كان
المحذور ذلك فإنما هو يمنع عن تقييد المعنى بعد اللحاظ لا ما إذا قيد المعنى أولا ثم
لو حظ المعنى المقيد، واستعمل اللفظ فيه بنحو تعدد الدال والمدلول.
الثالث: انه من المبرهن في محله، ان الايجاد والوجود واحد حقيقة، والقرق
بينهما انما هو بالاعتبار حيث إنه باعتبار استناده إلى الموجد ايجاد، وباعتبار نفسه وجود،
وعليه فلا يعقل كون الايجاد فعليا والوجود استقباليا، فكيف يمكن ان يكون الانشاء
فعليا، والمنشأ استقباليا، وان شئت فقل ان الانشاء ايجاد للطلب فلا يمكن تأخر المنشأ عن
الانشاء، وأجاب عنه صاحب الكفاية بان المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله
فلابد ان لا يكون قبل حصوله طلب وبعث وإلا لتخلف عن انشائه، وانشاء امر على تقدير
كالاخبار به بمكان من الامكان كما يشهد به الوجدان انتهى.
وفيه: انه فرق بين الاخبار والانشاء، فان الاخبار انما يكون حكاة ى فيمكن تعلقه
بالامر المتأخر، لتعلق الحكاية بالامر المتأخر، بخلاف الانشاء الذي هو ايجاد، والصحيح
هو قياس الانشاء والمنشأ، بالايجاد والوجود الخارجيين كما صنعه المستدل، فكما
لا يعقل التخلف هناك لا يعقل التخلف هنا، وما افاده بقوله فلابد ان لا يكون قبل حصوله
طلب والا لتخلف عن انشائه، وان كان متينا، الا انه متفرع على امكان انشاء امر على
تقدير الذي هو محل الكلام.
وأجاب عنه بعض المحققين، بان المنشأ هو الوجود الانشائي وهو يكون ملازما
للانشاء، ومتحققا بتحققه بل هو عينه، والمتأخر انما هو فعلية المنشأ، فلا يلزم تخلف
المنشأ عن الانشاء وبعبارة هو الطلب الانشائي لا الفعلي وهو غير متخلف
عن الانشاء.
وفيه: ان فعلية المنشأ عبارة أخرى عن تحققه فحينئذ يسئل عن هذا التحقق
والوجود المعبر عنه بالفعلية هل يكون بانشاء أحد، أم وجد بنفسه، وعلى الأول هل له
358

انشاء آخر غير الانشاء الأول أم لا لا سبيل إلى الأول والثالث، فيتعين الثاني فيبقى
المحذور على حاله.
والصحيح في الجواب يبتنى على مقدمات 1 - ان الشوق والاعتبار كساير الصفات
ذات الإضافة والافعال القائمة بالنفس التعليقة، كالعلم والتصور وما شاكل، يمكن تعلقهما
بالامر المتأخر لا حظ اعتبار الملكية في باب الوصية، وبالجملة الاعتبار النفساني،
والشوق، يتعلقان بالامر المتأخر وهذا من البداهة بمكان. 2 - ان ما اشتهر من أن الجمل
الانشائية موجدة لمعانيها في نفس الامر مما لا أساس له، بل هي مبرزة للأمور القائمة
بالنفس، كالجمل الاخبارية وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث الانشاء والاخبار مصلا.
3 - انه قد تقدم في أول مبحث الأوامر، ان هيئة افعل كساير ما يستعمل في مقام البعث،
انما وضعت لابراز ان المادة متعلقة لشوق الامر، أو لابراز اعتبار الامر كون المادة على
عهدة المأمور فراجع ما حققناه، إذا عرفت هذه المقدمات وتوجهت إليها يظهر لك ان
تعليق هيئة الامر على امر متأخر امر ممكن، سواء كان مفاد الهيئة، ابراز الاعتبار النفساني،
أم كان هو ابراز الشوق، وان أساس الشبهة انما هو تخيل ان الهيئة تكون موجدة لمعناها
في نفس الامر، ولكن قد مر انه بمراحل عن الواقع، فالمتحصل ان شيئا مما ذكر لامتناع
كون القيد للهيئة لا يتم فهو امر ممكن.
واما المورد الثاني وهو لزوم كون القيد راجعا إلى المادة، فقد استدل له: بان
العاقل إذا توجه إلى شئ، التفت إليه، فاما ان يتعلق طلبه به، أولا يتعلق به طلبه أصلا، لا
كلام على الثاني وعلى الأول، فاما ان يكون ذاك الشئ موردا لطلبه وأمره مطلقا على
اختلاف طواريه، أو على تقدير خاص وذاك التقدير، تارة يكون من الأمور الاختيارية،
وأخرى لا يكون كذلك، وما كان من الأمور الاختيارية، قد يكون مأخوذا فيه على نحو
يكون موردا للتكليف، وقد لا يكون على اختلاف الاغراض الداعية إلى طلبه والامر به
من غير فرق في ذلك بين القول بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، والقول بعدم التبعية
انتهى ما نقله الخراساني عن التقريرات.
وأجاب عنه هو (قده) - بما حاصله - ان هناك شقا آخر، لم يتعرض له الشيخ وهو
359

ان يكون المقتضى للطلب، موجودا، بمعنى وجود المصلحة في الفعل، وكونه موافقا
للغرض، ولكن لأجل وجود المانع عن الطلب فعلا قبل حصول ذلك الامر، ليس للمولى
ذلك، بل يتعين عليه ان يبعث نحوه معلقا، ويطلبه استقبالا على تقدير شرط متوقع
الحصول الموجب لارتفاع المانع، ثم قال (قده) ان هذا بناءا على تبعية الاحكام لمصالح
فيها في غاية الوضوح، واما بناءا على تبعيتها للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهى
عنها: فلان التبعية كذلك انما تكون في الاحكام الواقعية بما هي واقعية لا بما هي فعلية،
فان المنع عن فعلية تلك الأحكام غير عزيز كما في بعض الأحكام في أول البعثة بل إلى
يوم طلوع شمس الهداية. وفي موارد الأصول والامارات على خلافها.
أقول الظاهر أن ما ذكره مبتن على ما بنى عليه في تعليقته على الرسائل من أن الفرق
بين الاحكام الواقعية والفعلية انما يكون بالجعل، وانه يمكن تعلق الحرمة الواقعية بشئ
كالخمر، وعدم كون حرمتها فعلية حتى بعد وجوده، ولكنه فاسد وقد رجع هو (قده) عن
ذلك، فان الحكم الواقعي المجعول لا يعقل عدم فعليته بعد وجود موضوعه كما أشبعنا
الكلام في ذلك مرارا.
وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (ره)، بان تبعية المصلحة للفعل، تبعية المقتضى
للمقتضى لا تبعية المعلول للعلة التامة، فيمكن ان تكون هناك مفسدة مانعة عن البعث
المعلق على عدم المانع لا مانع منه.
وفيه: ان هذا لا يتم في جميع الموارد، لأنه في الاحكام العرفية أيضا احكام
مشروط، مثل ان يقول المولى لعبده أكرم زيدا ان جائك، مع أنه لا مانع عن البعث
الفعلي، ولا بعث آخر بالأهم، مضافا إلى أنه لا يمكن الالتزام بان جميع الواجبات الشرعية
المشروطة من هذا القبيل.
وتحقيق القول في المقام انه يتصور الواجب المشروط في صورتين، إحداهما: في
القيود غير الاختيارية الدخيلة في وجود المصلحة بناءا على عدم معقولية الواجب
المعلق. ثانيتهما: في القيود الدخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة. توضيح ذلك يتوقف على
360

بيان مقدمة.
وهي انه بناءا على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، إذ لو حظ
قيد مع المأمور به، لا يخلو من إحدى حالات، الأولى: كونه شرطا وقيدا في اتصاف الفعل
بالمصلحة بحيث لا يكون الفعل ذا مصلحة الا بعد حصول ذلك القيد، وذلك
في العرفيات نظير المرض بالقياس إلى شرب المسهل، حيث إنه دخيل في اتصاف الشرب
بالمصلحة، ولا مصلحة في الشرب قبله، وفي الشرعيات نظير الزوال بالإضافة إلى الصلاة،
والاستطاعة بالنسبة إلى الحج، الثانية: كونه دخيلا في استيفاء المصلحة لا في اتصافه بها،
نظير المشي قبل شرب المسهل أو بعده للمريض. حيث إن الشرب بالنسبة إليه ذو مصلحة
الا ان استيفائها متوقف على ذلك، وفي الشرعيات الطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وهذا
النحو من القيود على قسمين، الأول: ما هو اختياري للمكلف كالطهارة بالإضافة إلى
الصلاة، الثاني: ما يكون غير اختياري كايقاع الحج في الأيام الخاصة، الثالثة: ما لا يكون
القيد دخيلا، لا في اتصاف الفعل بالمصلحة، ولا في استيفائها. هذه هي الصور المتصورة
في القيود.
إذا عرفت ذلك فاعلم، انه إذا لم يكن القيد دخيلا في الاتصاف ولا في الاستيفاء،
لابد من الطلب الفعلي المطلق بالفعل.
وان كان دخيلا في استيفاء المصلحة، فان كان ذلك القيد اختياريا كالطهارة بالنسبة
إلى الصلاة، لابد من الامر والطلب الفعلي بالمقيد والقيد، وليس للمولى الامر بالمقيد
معلقا على ذلك القيد، وان كان غير اختياري كالكعبة بالإضافة إلى الصلاة حيث إنها
شرط للاستقبال الذي هو شرط للصلاة، فليس للمولى الامر بالمقيد على أي تقدير، ولا
الامر به وبالقيد لعدم القدرة، وعلى ذلك فقبل حصول الشرط لابد من أن يطلب فعلا
ويقيد الواجب به، وبعبارة أخرى يطلب الفعل المقيد المقدور في ظرف حصول القيد،
بناءا على امكان الواجب التعليقي، واما بناءا على امتناعه فالمقتضى للطلب فعلا وهو
المصلحة وان كان موجودا، الا انه لوجود المانع عن الطلب الحالي، لا مناص ان يقيد
الطلب بذلك القيد، فيكون الواجب واجبا مشروطا.
361

وان كان القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة. وصيرورته ذا مصلحة، كالزوال
بالنسبة إلى صلاة الظهر، والسفر بالنسبة إلى صلاة القصر، كان القيد اختياريا، أم غير
اختياري لا يصح الطلب الحالي قبل حصول الشرط بل يتعين ان يعلق الطلب على حصوله
لعدم المصلحة في الفعل قبله، فلا مقتضى للطلب قبل تحققه: لان الأوامر تابعة للمصالح
فلا محالة يكون الواجب واجبا مشروطا.
وما افاده الشيخ الأعظم (ره) من أنه إذا كان الفعل مطلوبا على تقدير دون جميع
التقادير يكون الطلب متعلقا به مطلقا غير معلق، ولكن المتعلق هو الفعل على ذلك
التقدير، يتم في القيود غير الاختيارية الدخيلة في استيفاء المصلحة بناءا على امكان
الواجب التعليقي، ولا يتم في القيود الدخيلة في تحقق المصلحة في الفعل: إذ ليس المراد
من الطلب الفعلي هو الانشاء كما هو واضح، بل هو، الشوق فعلا إلى الفعل، أو اعتبار
كون المادة على عهدة المأمور، أو الطلب الفعلي على اختلاف المسالك، ومن البديهي ان
الفعل الذي لا مصلحة فيه بالفعل، وانما يحدث فيه مصلحة بعد ذلك لا يكون متعلقا
للشوق الفعلي للمولى، ولا يعتبر ذلك الفعل على عهدة المأمور والاعتبار
لغوا وبلا منشأ، فلا مناص عن تعليق الامر على ذلك الشئ.
فالمتحصل، انه في الواجب المشروط لابد وان يرجع القيد الهيئة ولا يصح جعله من قيود المادة.
واما المورد الثالث: وهو رجوع القيد إلى المادة المنتسبة، فمحصل ما افاده
المحقق النائيني (ره) في توجيه يبتنى على بيان مقدمتين، الأولى: ان النسبة مفهوم حرفي
وملحوظ تبعي فلا يمكن ان يكون القيد قيدا لها: لان الاطلاق والتقييد، من شؤون
المفاهيم الاسمية، والمادة وان كانت للتقييد الا انه لكونها مفهوما افراد يا وادة
الشرط موضوعة لربط الجملتين، وجعل مدخولها موقع الفرض والتقدير، لا يكون
القيد راجعا إليها. الثانية: ان الشئ قد يكون متعلقا للنسبة الطبية مطلقا من غير تقييد،
وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج، في الخارج، وفي الفرض الثاني ما لم يوجد القيد
يستحيل تعلق الطلب الفعلي به. إذا عرفت هاتين المقدمتين تعرف ان القيد في القضايا
362

الشرطية راجع إلى المادة بما هي منسبة إلى الفاعل، وبعبارة أخرى إلى المعنى المتحصل
من المادة والهيئة وهو في الاخبارات مثل إذا طلعت الشمس فالنهار موجود نتيجة
الحمل، وهي وجود النهار وهو متعلق على طلوع الشمس، وفي الانشائات نتيجة الجملة
الانشائية، وهي اتصاف الاكرام بالوجوب مثلا، فالمعلق في الحقيقة هي المادة بعد
الانتساب بالبعدية الرتبية، هذا غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الوجه.
ولكن يرد عليه: أولا: انا لا نتعقل هذا الكلام: لان المادة المنتسبة ليست شيئا غير
المادة والانتساب فان رجع القيد إلى المادة المنتسبة فهو عين الرجوع إلى المادة، وان
رجع إلى جهة انتسابها فهو عبارة أخرى عن رجع القيد إلى الهيئة، والاختلاف انما هو
في المعتبر. إذ معروضية المادة للوجوب، عروض الوجوب للمادة شئ واحد، وان
شئت قلت: انه لابد من التزامه (قده)، اما برجوع القيد إلى نفس المادة حال الانتساب، أو
إلى جهة الانتساب، أو إليهما معا، ولا رابع إذ نتيجة الجملة ليست شيئا غير المادة
والانتساب والأول والثاني يرجعان إلى القولين الآخرين، والثالث لا وجه لالتزامه به إذ لو
لم يكن مانع عن رجوع القيد إلى الهيئة، لا وجه للالتزام بهذا القول، بعد كون مقتضى
القواعد العربية هو الرجوع إلى الهيئة خاصة، وان ترتب محذور وتال فاسد على رجوعه
إليها، فالالتزام برجوعه إليهما معا، لا يستلزم عدم ترتب ذلك المحذور، إذ المحذور انما
يترتب على الرجوع إلى الهيئة، لا على عدم الرجوع إلى غيرها، كي يرتفع بالالتزام
برجوعه إليهما معا، وثانيا: لو تعقلنا ذلك وكان له معنى محصل، يرد عليه ان البرهان الذي
ذكره لعدم جواز الرجوع إلى الهيئة لو تم، وهو كونه معنى آليا غير قابل للتقييد يقتضى
عدم جواز الرجوع إلى المادة المنتسبة، إذا المقيد بأمر آلى حكمه حكمه في جواز التقييد
وعدمه، وثالثا: قد مر جواز رجوع القيد إلى الهيئة.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه، ان الواجب المشروط بنحو يكون الواجب
مقيدا بالقيد ولا يكون وجوب قبله، وكونه من قيود الهيئة، لا مانع عنه ثبوتا واثباتا، بل
يلزم كونه من قيود الهيئة، وحيث عرفت ان قضية القواعد العربية أيضا رجوعه إليها فلا
اشكال في الواجب المشروط ثبوتا واثباتا وامكانا ووقوعا.
363

بقى في المقام شبهة وهي انه إذا لم يكن المنشأ به طلبا فعليا وبعثا حاليا فما فائدة
الانشاء فعلا. والجواب عنها ما ذكره المحقق الخراساني وهو انه كفى فائدة له انه يصير بعثا
فعليا بعد حصول الشرط بلا حاجة إلى خطاب آخر، مع شمول الخطاب كذلك للايجاب
فعلا بالنسبة إلى الواجد للشرط، فيكون بعثا فعليا بالإضافة إليه وتقديريا بالنسبة إلى الفاقد
له مع أنه ربما لا يقدر الامر بعد حصول الشرط على الامر - في الموارد العرفية -.
مقدمات الواجب المشروط
ثم انه يقع كلام في حكم المقدمات الوجودية للواجب المشروط. وتنقيح
القول يقتضى البحث في مقامات الأول: في حكم المقدمة التي علق عليها الوجوب، أو
الواجب على اختلاف المسلكين الثاني: في المقدمات الوجودية غير المفوتة. الثالث: في
التعليم والمعرفة، الرابع: في المقدمات التي يترتب على تركها فوت الغرض في ظرفه.
اما المقام الأول: فبناءا على ما اخترناه من رجوع القيود إلى الهيئة، خروجها عن
محل النزاع واضح، لأنها حينئذ من المقدمات الوجوبية التي تقدم في أول المبحث
خروجها عن محل البحث والكلام.
واما بناءا على ما اختاره الشيخ الأعظم، فهي وان كانت من المقدمات الوجودية،
الا انها اخذت على نحو لا يمكن ترشح الوجوب من ذي المقدمة إليها، إذ هذا القيد اخذ
مقدر الوجود فكيف يمكن ان يصير واجبا بالوجوب المترشح من هذا الوجوب، وان
شئت فقل ان الوجوب متفرع على موضوعه بجميع قيوده ومتأخر عنه رتبة، فلا يعقل
ترشح الوجوب من متعلقه إلى قيد من قيود موضوعه حيث إنه يستدعى تقدم الوجوب
عليه ليترشح منه إليه، وقد فرض تأخره عنه، فيلزم تأخر ما هو متقدم.
واما المقام الثاني: فبعد تحقق ذلك الشرط لا ريب في دخول المقدمات في محل
النزاع.
واما قيل تحققه فبناءا على مسلك الشيخ، تكون داخلة في محل النزاع إذا علم
364

بتحقق الشرط في طرفه، إذ الملازمة بين وجوب ذي المقدمة، ووجوب مقدماته، انما
تدعى بين الوجوبين، لا الوجودين، والمفروض ان وجوب ذي المقدمة فعلى، وان كان
ظرف وجوده فيما بعد فيترشح من وجوه الوجوب إلى مقدماته، نعم، لو علم بعدم
تحقق الشرط في ظرفه، أو شك فيه، لا يحكم بوجوب المقدمات حتى على القول
بالملازمة، اما في الفرض الأول فلعدم وجوب ذي المقدمة، واما في الثاني فلاستصحاب
عدم تحقق الشرط الذي يترتب عليه عدم وجوب ذي المقدمة.
واما بناءا على ما اخترناه من رجوع القيد إلى الهيئة، فقبل تحقق الشرط لا تكون
المقدمات الوجودية غير المفوتة داخلة في محل النزاع، إذ وجوب ذي المقدمة انما
يكون فبما بعد، ولا يعقل ان يترشح الوجوب الفعلي إلى المقدمات من الوجوب البعدى
لذي المقدمة، إذ الملازمة انما تدعى بين الوجوبين الفعليين لا الانشائيين.
ومما ذكرناه ظهر ان ما ذكره المحقق الخراساني بقوله، الظاهر دخول المقدمات
الوجودية للواجب المشروط في محل النزاع أيضا فلا وجه لتخصيصه بمقدمات الواجب
المطلق، ان كان جريانه في المقدمات بعد حصول الشرط فمتين، ولا يرد عليه انه بعد
حصول الشرط يكون مطلقا، لا مشروطا، لما سيأتي في محله من أن الواجب المشروط
لا يصير مطلقا بحصول شرطه، وان كان مراده دخولها في محل النزاع قبل حصول
الشرط، فغير تام.
حكم التعلم
واما المقام الثالث: فملخص القول فيه انه في التعليم والمعرفة مسالك ثلاثة.
الأول: ما ذهب إليه المحقق الأردبيلي (ره) وتبعه تلميذه صاحب المدارك، وهو ان
التعلم واجب نفسي تهيئي، للنصوص الدالة عليه، وهو الأظهر عندنا كما سيأتي الكلام
عليه في بحث الاشتغال، ولازم ذلك هو وجوبه قبل حصول الشرط أيضا لعدم
اختصاص تلك الأدلة بالواجبات المطلقة والمشروطة بعد حصول، الشرط، بل تشمل
365

المشروطة قبل حصول شرطها، ويترتب على هذا القول استحقاق العقاب على ترك
التعلم سواء صادف عمله الواقع أم لم يصادف.
ثانيها: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) وهو المنسوب إلى المشهور، وهو ادراج
المقام في المقدمات المفوتة وجعله من صغريات باب القدرة، فملاك وجوبه هو قاعدة
الامتناع بالاختيار، لا ينافي الاختيار، ويترتب عليه، ان وجوبه وجوب مقدمي، بملاك
وجوب المقدمات المفوتة، لكونه من متممات الخطاب بذى المقدمة، ولازمه استحقاق
العقاب على مخالفة الواقع.
ثالثها: ما اختاره المحقق النائيني (ره) وهو ان وجوبه طريقي من قبيل وجوب
الاحتياط في موارد لزومه، أي الوجوب الذي يكون بملاك التحفظ على ما في المتعلق
للحكم الواقعي من المصلحة اللازمة الاستيفاء حتى عند الجهل، وبعبارة أخرى
المجعول تحفظا على الحكم الواقعي، ويترتب عليه استحقاقه العقاب على ترك التعلم
عند آرائه إلى مخالفة الواقع، والفرق بينه وبين سابقه ظاهر.
وقد استدل المحقق الخراساني لوجوبه قبل حصول شرط الوجوب بقوله، من باب
استقلال العقل بتنجيز الاحكام على الأنام بمجرد قيام احتمالها الا مع الفحص وإلياس
عن الظفر بالدليل على التكليف فيستقل بعده بالبرائة انتهى.
وفيه: ان الاحتمال لا يزيد على العلم من حيث المنجزية للحكم، فكما ان العلم
بالتكليف المشروط قبل حصول شرطه موجب للتنجيز عند حصول الشرط مع بقائه على
شرائط فعليته وتنجزه عند حصول الشرط فلذا لا عقاب على مخالفته مع عروض الغفلة
عند حصول شرطه، ولا يجب ابقاء الالتفات العلمي والتحفظ على عدم النسيان كذلك
الاحتمال انما يوجب التنجيز في وقته مع بقائه على صفة الالتفات إلى حين تنجز التكليف
ولا يجب بقائه بالتحفظ على عدم الغفلة المانعة عن الفحص عنه.
واما الشيخ الأنصاري (ره) فقد استدل لما اختاره بما دل على وجوب المقدمات
التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه، سيأتي الكلام عليه عند بيان
المختار.
366

واما المحقق النائيني (ره) فقد استدل لما اختاره بعد الاعتراض على الشيخ
الأعظم (ره) بان التعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة، لان الجهل
بالحكم لا يوجب سلب القدرة ومن هنا كانت الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل.
بما حاصله ان العقل يستقل بان لكان من المولى والعبد وظيفة، فوظيفة المولى
اظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث
هناك مانع فوظيفته ارسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الاحكام، وبعد ذلك تصل
النوبة إلى وظيفة العبد، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه، وحينئذ
يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته، كما يستقل بقبح العقاب عند
ترك المولى وظيفته، ولولا استقلال العقل بذلك لا نسد طريق وجوب النظر إلى معجزة
من يدعى النبوة، وللزم افحام الأنبياء، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعى
النبوة لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له، إذ للعبد ان يقول لم اعلم بأنك
نبي، وبالجملة كما يستقل العقل بلزوم النظر إلى معجزة من يدعى النبوة كذلك يستقل
بوجوب تعلم أحكام الشريعة، والمناط في الجميع واحد وهو استقلال العقل بان ذلك من
وظيفة العبد، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ كما لا يختص وجوب النظر في
معجزة النبي به، بل يجب ذلك قبل البلوغ ان كان مميزا ليكون أول بلوغه مؤمنا مصدقا
بالنبوة، وإلا لزم عدم وجوب الايمان عليه أول البلوغ، ويجب تعلم الصبي احكام العبادة
الواجبة عليه أول البلوغ إذا لم يتمكن منه في وقته لو ترك التعلم قبل البلوغ.
وفي كلامه موقعان للنظر ببيان ما هو الحق في المقام.
وتفصيله، ان ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يكون على اقسام.
أحدها: ما لو تمكن المكلف مع تركه من تعلم الواجب بعد ذلك، والامتثال العلمي
التفصيلي، كما لو ترك تعلم مسائل الحج قبل زمان وجوبه مع كونه متمكنا من
تعلم احكامه تدريجا من الوقت الذي يحرم فيه إلى آخر اعمال الحج، ومن الضروري
انه لا وجه للقول بوجوب التعلم قبل دخول الوقت حينئذ على القول بعدم كون وجوبه
نفسيا، نعم بعد دخول الوقت لا يجوز له تركه مع عدم امكان الامتثال الاجمالي.
367

ويلحق بهذا القسم الثاني، وهو ما لو فرض انه لو ترك التعلم قبل الوقت لما تمكن
من الامتثال العلمي التفصيلي، الا انه كان متمكنا من الامتثال العلمي الاجمالي، كما لو
دار امر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام وكان بحيث لو ترك التعلم قبل الوقت
لما تمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده، ولكنه كان متمكنا من الاحتياط، وكما لو لم
يعلم بمقدار النفقة الواجبة عليه على فرض الازدواج ولم يتمكن من معرفة ذلك بعده،
ولكنه كان متمكنا من الاحتياط، بناءا على ما هو الحق من أن الامتثال الاجمالي انما هو
في عرض الامتثال العلمي التفصيلي، فإنه حينئذ لا وجه لوجوب التعلم قبل الازدواج.
واما من حيث الامتثال في غير موارد دوران الامر بين المتباينين كما في المورد
الثاني فقد يقال انه حيث يكون شاكا في التكليف فتجري البراءة عنه وان تمكن من
الاحتياط فلا يجب عليه شئ، لكنه توهم فاسد إذ بعد حصول الشرط بما انه يحتمل
التكليف، ولا محالة يحتمل العقاب على مخالفته، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر
الأخروي المحتمل. بمعنى انه لو كان واجبا ولم يأت به أو كان حراما ففعل، وعاقبه
المولى، يكون عقابه في محله فلابد من الاحتياط.
فان قيل إنه ما المانع من جريان البراءة عن ذلك التكليف المحتمل، ويرفع احتمال
العقاب بها، فيرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر والمحتمل.
أجبنا عنه بان عدم جيران البراءة العقلية انما هو من جهة ان موضوعها عدم البيان،
وحيث إن بيان المولى، ليس بايصال التكليف إلى العبيد بأي نحو أمكن، بل انما وهو بجعل
القانون، ووضعه في معرض الوصول، بحيث لو تفحصوا عنه لو صلوا إليه، فلا موضوع
لها في المورد، ومن لم يتفحص عنه مع التمكن منه قبل حصول الشرط لا يجرى في حقه
هذه القاعدة، فان شئت فاختبر ذلك من حال الموالى والعبيد العرفية فإنه إذا ارسل المولى
مكتوبا إلى العبد، وعين فيه تكاليفه في الشهر القادم، ووصل المكتوب إلى العبد ولكنه
لم ينظر إليه حتى يعرف وظائفه، مستندا إلى أنه لا تحب المقدمة قبل وجوب ذيها، وبعد
تحقق الشرط لم يتمكن من المراجعة إليه وتمكن من الاحتياط، ومع ذلك لم يحتط
وترك واجباته، فهل يتوهم أحد بأنه ليس للمولى ان يعاقبه على ذلك لقاعدة قبح العقاب
368

بلا بيان، والظاهر أن هذا من الوضوح بمكان، واما عدم جريان البراءة الشرعية: فلما سيأتي
في مبحث البراءة والاشتغال من أنها لا تجرى في الشبهات قبل الفحص مطلقا.
ثالثها: ان الملك لو ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يتمكن من الامتثال العلمي
التفصيلي، كذلك لا يتمكن من الامتثال الاجمالي بعد الوقت، ويكون متمكنا من الاتيان
بذات الواجب أي الامتثال الاحتمالي، كما إذا فرض ان الوقت ضيق لا يتمكن المكلف
الا باتيان إحدى الصلاتين، الجمعة أو الظهر، والقصر أو الاتمام، وفي هذا القسم يجب
التعلم لأنه يحتمل ترك الواجب في ظرفه لو ترك التعلم قبل حصول الشرطة ويكون
احتمال ذلك مستندا إلى ترك التعلم فيجب التعلم، لا للمقدمية، ولا لما افاده الشيخ
الأعظم (ره)، من ما دل على وجوب المقدمة التي لو تركت قبل الوقت لما تمكن من امتثال
الواجب في ظرفه كالسير إلى الحج. بل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل حيث إنه
لاحتمال ترتب ترك الواجب على ترك التعلم يحتمل العقاب على المخالفة ولا مؤمن
منه فيحكم العقل بوجوب الدفع، وهو لا يمكن الا بالتعلم قبل الوقت.
رابعها: ما لو كان ترك التعلم قبل الوقت موجبا لترك الواجب في ظرفه، اما للغفلة
عن التكليف، أو لعدم التمكن من امتثاله، والأول كثيرا ما يتفق في المعاملات فإنه إذا لم
يتعلم احكام المعاملات ولم يميز الصحيحة عن الفاسدة فأوقع المعاملة فاسدة
في الخارج وتحقق الانتقال في نظره فلا محالة يتصرف فيما يراه منتقلا إليه غافلا عن
حرمته، والثاني كثيرا ما يتفق في العبادات كالصلاة حيث إنها مركبة من عدة اجزاء
وشرائط، ومعلوم ان تعلمها يحتاج إلى مدة من الزمن لا سيما لمن لا يحسن اللغة العربية،
وفي هذا القسم يجب التعلم قبل الفوت، لما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو الملاك الذي
لأجله يبنى على وجوب المقدمة، الموجب تركها فوت الواجب في ظرفه، الآتي.
وبذلك يظهر ان ايراد المحقق النائيني، في غير محله، كما أن افاده من أن
وجوب التعلم ثابت حتى فيما قبل البلوغ بالتقريب المتقدم يرده ما دل على رفع القلم عن
الصبي، فإنه يشهد بعدم الوجوب، ولم يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الطريقي بعدم
شمول دليل الرفع له، سوى ما قيل، من أن وجوب التعلم عقلي، وحديث الرفع لا يصلح
369

لرفعه، وهو مردود بأنه بعد ورود التعبد من الشارع بأنه لا شئ على الصبي من ناحية
مخالفة الأحكام الشرعية لا يحكم العقل بوجوب التعلم، فان شئت قلت، انه يرتفع
موضوع الحكم العقلي بتعبد الشارع، فلا يلزم من ذلك التخصيص في الحكم العقلي، كي
يقال انه ممتنع.
ثم انه قد حكم الشيخ الأعظم (ره) في رسالته العملية بفسق تارك تعلم مسائل الشك
والسهو فيما يبتلى به عامة المكلفين.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره)، بان ذلك يبتنى على أحد أمور. 1 - اختيار مذهب
المحقق الأردبيلي من كون وجوب التعلم نفسيا موجبا للعقاب. 2 - كون التجري موجبا
للفسق وان لم يوجب العقاب. 3 - الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها، من جهة
قضاء العادة باستلزام ترك التعلم فيما يكثر الابتلاء به، لمخالفة الواقع، والأول لم يلتزم
هو (قده) به، واما الثاني فالالتزام به بعيد، واما الثالث فالالتزام به أبعد فرض كون
الوجوب طريقيا.
ويمكن ان يقال انه على القول بان العدالة هي الملكة الباعثة للاتيان بالواجبات
وترك المحرمات يتم ما افاده الشيخ لكشف التجري عن عدم وجود الملكة في النفس
وان لم يكن الفعل حراما.
وجوب التعلم عند الشك في الابتلاء
هذا كله فيما لو علم المكلف بالابتلاء، أو اطمئن به، واما لو شك في ذلك فهل
يجب التعلم كما هو المشهور بين الأصحاب، أم لا. قد استدل للأول بما استدل به
لوجوب التعلم مع العلم بالابتلاء.
ولكن قد يقال انه يمكن اجراء استصحاب عدم الابتلاء بالإضافة إلى الزمان
المستقبل، لليقين بعدم الابتلاء فعلا، والشك في الابتلاء فيما بعد، فيستصحب عدم
الابتلاء، بناءا على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في الأمور الاستقبالية.
370

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان الاستصحاب انما يجرى فيما إذا كان
المستصحب اثرا شرعيا، أو موضوعا ذا اثر شرعي، والا كما في المقام، حيث إن الأثر،
وهو استقلال العقل بوجوب التعلم انما هو مترتب على مجرد احتمال الابتلاء، لقاعدة
وجوب دفع الضرر المحتمل، لا على واقعه، فلا يجرى الاستصحاب وبعبارة أخرى، ان
الأثر في كل مورد كان مترتبا على نفس الشك والاحتمال دون الواقع، متى شك فيه
فالموضوع محرز بالوجدان، ومعه لا مورد للتعبد بالواقع أصلا فإنه لغو، وما نحن فيه
كذلك، لان الموضوع هو احتمال الابتلاء، وهو محرز بالوجدان، واما الابتلاء الواقعي
فلا اثر له كي يجرى الاستصحاب فيه.
وفيه: ان التعبد بما هو محرز بالوجدان لغو صرف، ومن أردأ أنحاء تحصيل
الحاصل، والتخصيص في الحكم العقلي لا ريب في امتناعه، اما التعبد بما يوجب رفع
موضوع حكم العقل، فلا محذور فيه، وبعبارة أخرى ان الحكم العقلي قابل للتخصص
والخروج الموضوعي، وما نحن فيه من هذا القبيل: فان موضوع حكم العقل هو الضرر
المحتمل، والمطلوب بالاستصحاب ليس هو اثبات وجوب الدفع، بل المثبت
بالاستصحاب عدم العقاب، والضرر، وبه يرتفع موضوع وجوب الدفع، وعلى الجملة
كما أنه يصح رفع موضوع قبح العقاب بلا بيان باستصحاب الوجوب، كذلك يصح رفع
موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل بالاستصحاب المذكور ولا محذور في ذلك.
ولكن يمكن الاستدلال لوجوب الدفع، وعدم جريان الأصل المذكور بوجهين.
1 - العلم الاجمالي بجملة من الأحكام الشرعية في ظرفها وهذا العلم الاجمالي
مانع عن اجزاء الأصل المذكور في كل ما هو من أطراف العلم الاجمالي.
2 - اطلاق ما دل على وجوب التعلم: إذ لو اختص ذلك بموارد العلم أو الاطمينان
بالابتلاء لم يبق تحت تلك الأدلة الا موارد نادرة.
ثم إن الكلام في أن المستفاد من الأدلة من الآيات والروايات، ان وجوب التعلم،
نفسي، أو طريقي، أو ارشادي موكول إلى محله وقد استوفينا الكلام في ذلك في مبحث
الاشتغال.
371

بيان حكم المقدمات المفوتة
واما المقام الرابع، وهو بيان حكم المقدمات الوجودية للواجب التي يفوت
الواجب في ظرفه بتركها قبل مجيئ وقت الواجب فتنقيح القول فيه يتوقف على بيان
مقدمتين.
الأولى: انه من القواعد المسلمة " ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " وهذه
القاعدة لها موردان.
الأول: ان امتناع الفعل الاختياري لأجل عدم تعلق الإرادة والاختيار به، لا ينافي
الاختيار، والمخالف في هذا المورد الأشاعرة، القائلون بالجبر، بدعوى ان كل فعل من
الافعال بما انه ممكن الوجود يحتاج في وجوده إلى العلة، وهي اما موجودة، أو
معدومة، فعلى الأول يجب وجوده، وعلى الثاني يمتنع، فلا يكون فعل من الافعال
اختياريا، والجواب عن ذلك أن الفعل الاختياري يستحيل وجوده بلا اختيار وإرادة، فإذا
اعمل الفاعل قدرته في الفعل ففعل، يكون صدور هذا الفعل عن اختياره، ووجوب الفعل
بعد الاختيار غير مناف للاختيار بل من لوازمه، وإذا اعمل قدرته في الترك فترك يمتنع
وجود الفعل وهذا الامتناع انما هو امتناع بالاختيار، وهو لا ينافي الاختيار بل يؤكده،
والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار لا ينافي الاختيار في هذا المورد عقابا وخطابا.
المورد الثاني: ان الفعل الاختياري بالواسطة، امتناعه لأجل اختيار الواسطة،
لا ينافي الاختيار، كمن ألقى نفسه من شاهق: فان السقوط قبل الالقاء مقدور بواسطة
القدرة على الالقاء وعدمه، فامتناعه لأجل اختيار الالقاء لا ينافي الاختيار، لان هذا
الامتناع يكون منتهيا إلى الاختيار، وهذا انما هو في خصوص العقاب إذ العقلاء لا يذمون
المولى إذا عاقب مثل هذا الشخص ويرون هذا العقاب صحيحا، واما في الخطاب:
فالامتناع ينافيه وان كان بالاختيار، والمخالف في هذا المورد أبو هاشم فإنه قائل بان
372

الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا أيضا، ولم يخالف في عدم منافاته للاختيار
عقابا، أحد من العقلاء.
المقدمة الثانية: ان القدرة، تارة لا يكون لها دخل في ملاك الحكم أصلا بل
الفعل يتصف بالمصلحة كان المكلف قادرا أم غير قادر، وفي هذا المورد القدرة شرط
عقلي، وأخرى تكون القدرة شرطا ودخيلة في الملاك، وفي اتصاف الفعل بالمصلحة،
وفي هذا المورد القدرة شرط شرعي كما في باب الوضوء حيث إن القدرة على الماء
شرط شرعي كما هو المستفاد من الآية الشريفة، وعلى الثاني، تارة تكون القدرة المطلقة
ولو قبل حصول الشرط دخيلة في الملاك، وأخرى تكون، القدرة الخاصة كذلك، وعلى
الثاني، تارة تكون الخصوصية المعتبرة فيها هي حصولها في زمان الواجب فقط، وأخرى
تكون هي حصولها بعد تحقق شرط الوجوب ولو كان ذلك قبل زمان الواجب، فهذه
شقوق أربعة.
إذا عرفت هاتين المقدمتين، فاعلم أنه في الشق الأول، وهو ما إذا لم تكن القدرة
دخيلة في الملاك والغرض أصلا، أقول:
الأول: ما نسب إلى المحقق العراقي (ره)، وهو انه لا يجب تحصيل تلك المقدمة
التي يفوت الواجب في ظرفه بتركها، ولا يحكم العقل باستحقاقه العقاب، لا على ترك
المقدمة، ولا على ترك ذي المقدمة. بدعوى، انه لو قصر المكلف قبل زمان الواجب في
تحصيل المقدمات التي لو فعلها قبل تحقق وقت الخطاب لتمكن من امتثاله، وتساهل في
تحصيلها حتى حضر وقت التكليف، وهو عاجز عن امتثاله، لا يستحق العقاب على ترك
شئ منهما، اما عدم استحقاقه على ترك المقدمة فلعدم تعلق التكليف بها، لا عقلا لعدم
وجود ملاكه فيها، ولا شرعا لعدم الدليل عليه، واما عدم استحقاقه على ترك
ذي المقدمة، فلان التكليف غير متوجه إلى العبد، لعدم القدرة، فلا يكون العبد مقصرا في
امتثال التكليف.
وفيه: ان العقل كما يستقل بان تفويت الحكم وعدم التعرض لامتثاله مع وجوده
موجب لاستحقاق العقاب، كذلك يستقل بان تفويت الغرض الملزم، الذي هو قوام
373

الحكم وملائكه، موجب لاستحقاق العقاب، وان كان هناك مانع عن جعل الحكم،
الا ترى انه لو علم العبد بان المولى عطشان، ومن شدة العطش لا يقدر على طلب الماء،
وهو قادر على الاتيان به، لا ريب في استحقاقه العقاب على تركه. وبالجملة لا ينبغي
التوقف في حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم، وعليه فلو ترك
العبد المقدمة وبواسطة ذلك امتنع عليه الاتيان بذى المقدمة في ظرفه يستحق العقاب على
تفويت ملاك ذي المقدمة في ظرفه: لما تقدم من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار
عقابا، فاستحقاق العقاب يكون على ذلك لاعلى ترك المقدمة، ولا على مخالفة التكليف
فتدبر.
القول الثاني: ما اختاره المحقق النائيني (ره)، وهو وجوب المقدمة التي يفوت
الواجب في ظرفه بتركها قبل تحقق وقت الخطاب، بدعوى انه يستكشف الوجوب شرعا
من حكم العقل باستحقاق العقاب على تفويت الغرض الملزم تبركها حفظا للغرض
فيكون متمما للجعل الأول، وأوضح ذلك بالقياس على الإرادة التكوينية، فإنه كما لاشك
في أن من يعلم بابتلائه في السفر بالعطش لو ترك تحصيل الماء قبل السفر، تتعلق ارادته
التكوينية بايجاد القدرة قبل بلوغه إلى وقت العطش، فكذلك في الإرادة التشريعية
للملازمة بينهما كما مر سابقا.
أقول: يرد على ما افاده من استكشاف الوجوب الشرعي من حكم العقل بقبح
ترك المقدمة الموجب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه، ان الحكم العقلي الواقع في
سلسلة علل الاحكام، أي ما يكون دركا للمصلحة أو المفسدة التي هو ملاك الحكم،
يستكشف منه الحكم الشرعي من باب الملازمة، واما ما يكون واقعا في سلسلة معاليل
الاحكام كقبح المعصية، أو ما يكون نظيره، والجامع ما لا يكون دركا لمصلحة أو
المفسدة، فلا يستكشف منه الحكم الشرعي، والمقام من قبيل الثاني لكونه دركا لصحة
العقاب على ترك ما فيه الغرض الملزم في ظرفه، لا دركا للمصلحة وهو بنفسه يصلح
لمحركية العبد، فلا يصلح ان يكون كاشفا عن جعل شرعي مولوي متمم للجعل الأول.
فتحصل ان الأقوى هو القول الثالث، وهو استحقاق العقاب بترك المقدمة
374

المفوتة وعدم وجوبها الشرعي.
واما الشق الثاني: وهو ما إذا كانت القدرة المطلقة دخيلة في الملاك، فحاله حال
الشق الأول كما هو واضح.
واما الشق الثالث: كالاستطاعة التي علق عليها وجوب الحج، فان الظاهر أن
الاستطاعة في أشهر الحج توجب صيرورة الحج ذا ملاك ملزم، وان كان ظرف أفعاله
متأخرا، والاستطاعة قبلها لا اثر لها فمن يرى معقولية الواجب المعلق يلتزم بوجوب الحج
من أول أشهر الحج مع تحقق الاستطاعة، وعليه فوجوب ساير المقدمات التي يتوقف
عليها الحج على أقول بوجوب المقدمة، واضح، ومن يرى عدم معقولية المعلق، يلتزم
بان وجوبه مشروط، وعلى ذلك فالمقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب وعدم
القدرة على الحج في ظرفه، بعد حصول شرط الملاك، وهو الاستطاعة في أشهر الحج،
حكمها حكم المقدمة المفوتة في الشقين الأولين، والأولين، والمقدمة التي يترتب على تركها ذلك
قبل حصوله لا محذور في تركها، إذا العقل انما يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم،
ولا يحكم بقبح ما يوجب عدم تحقق الملاك، الا ترى ان الصوم ذو ملاك ملزم بالنسبة
إلى الحاضر، ولا يحكم العقل بقبح المسافرة الموجبة لعدم كون الصوم بالنسبة إلى هذا
الشخص ذا ملاك، وعلى الجملة لا قبح في الفعل أو الترك المانع عن صيرورة فعل
خاص ذا ملاك ملزم، بخلاف ما يوجب فوت الملاك الملزم.
وبما ذلك يظهر حكم الشق الرابع، وهو ما إذا كانت القدرة في زمان الواجب
دخيلة في الملاك فإنه لا يحكم العقل بالقبح لو ترك المقدمة الموجبة لفوت الواجب
في ظرفه أصلا، فان ذلك يوجب عدم صيرورة الفعل ذا ملاك ملزم.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه عدم وجوب المقدمة التي تركها يوجب عدم
القدرة على الواجب في ظرفه مطلقا ومنها التعلم، وانما يوجب تركها العقاب فيما إذا لم
تكن القدرة دخيله في الملاك، أو كانت القدرة المطلقة دخيلة فيه، أم كانت القدرة بعد
حصول شرط خاص دخيلة وترك المقدمة بعده لا قبله، ولا يوجب العقاب في غير هذه
الموارد، هذا كله فيما لو علم بافضاء الترك إلى فوت الواجب في ذلك.
375

واما لو احتمل ذلك فلا دليل على قبح ترك المقدمة وان أوجب فوت الملاك
في ظرفه، وعليه فلو صح ما نسب إلى المشهور من حكمهم بوجوب التعلم قبل الوقت
وان احتمل الابتلاء بما لا يعلم حكمه ولم يعلم بذلك، يكون ذلك من جهة كون وجوب
التعلم واجبا نفسيا فتدبر فإنه غير خال عن الاشكال.
فان قلت: انه بناءا على حكم العقل بقبح ترك المقدمة، الموجب لترك الواجب
في ظرفه، انه احتمل ذلك فبما انه يحتمل تحقق العصيان في ظرفه بتركه المقدمة، فلا
محالة يحتمل العقاب، فيحكم العقل بوجوب دفعه باتيانها دفعا باتيانها دفعا للضرر المحتمل، لعدم
جريان البراءة في هذا المورد كما هو واضح ومر أيضا.
قلت: انه بناءا على ما حققناه في محله من جريان الاستصحاب في الأمور
الاستقبالية يجرى في المقام استصحاب عدم فوت الواجب في ظرفه بغير اختيار منه،
فتأمل فان ذلك يتم على القول بوجوب المقدمة التي يترتب على تركها فوت الواجب في
ظرفه كما اختاره المحقق النائيني، ولا يتم على ما اخترناه من عدم الوجوب، لعدم الأثر
الشرعي.
واما ما أورده المحقق النائيني على هذا الاستصحاب، بان جريان يتوقف على كون
الواقع المشكوك فيه اثرا، أو ذا شرعي حتى يتعبد به في ظرف الشك، وأما إذا لم
يكن هناك اثر شرعي، أو كان الأثر مترتبا على نفس الشك المحرز وجدانا فلا معنى
للعبد به في مورده، وما نحن فيه من هذا القبيل، فان وجوب دفع الضرر المحتمل
مترتب على نفس الاحتمال وجدانا، وليس للواقع اثر شرعي يدفع احتماله بالأصل،
فلا يبقى مجال لجريان استصحاب العدم.
فغير تام، إذ مستند منعه عن الجريان ان كان عدم ترتب اثر على الواقع، فيرد عليه
ان من لم يفت الملاك الملزم منه في ظرفه على تقدير ترك المقدمة، لا يجب على
المقدمة، وجوبها مترتب على الفوت في ظرفه، وان كان ترتب اثر الواقع الذي أريد
اثباته بالاستصحاب على نفس الاحتمال، فيرد عليه انه لو أتم فإنما هو فيما إذا كان
المترتب على الاستصحاب نفس الحكم المترتب على الاحتمال ولا يتم فيما إذا كان
376

المترتب عليه عدم ذلك الحكم كما هو واضح، والمقام من قبيل الثاني إذ المترتب على
الاستصحاب هو عدم الوجوب.
الواجب المعلق
ومن تقسيمات الواجب، تقسيمه إلى المعلق، والمنجز. وأول من قسم الواجب إلى
هذين القسمين انما هو صاحب الفصول، قال إنه ينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه
بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا، والى ما
يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج فان وجوبه
يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيئ وقته
وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك
للوجوب وهنا للفعل انتهى.
وهذا التقسيم في نفسه وان كان متينا، وله وجه وجيه، إذ القيد الدخيل في
الواجب أو الوجوب على اقسام. 1 - ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة كزوال
الشمس بالإضافة إلى صلاة الظهرين. 2 - ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه
اختيار يا كالطهارة بالإضافة إلى الصلاة. 3 - ما يكون دخيلا في حصول المصلحة مع كونه
غير اختياري، كالأيام المخصوصة المجعولة وقتا للحج، فان الحج يتصف بالمصلحة من
أول زمان الاستطاعة، أو من أول أشهر الحج أي من أول شوال، أو من حين خروج الرفقة
الا ان حصول المصلحة بفعل الحج متوقف على مجيئ وقته، وفي القسم الأول
لا مناص عن جعل الوجوب مشروطا كما تقدم، وفي القسم الثاني جعله مطلقا وايجاب
ايجاد القيد، وفي القسم الثالث جعل الوجوب حاليا والواجب استقباليا على فرض
معقولية المعلق كما ستعرف.
الا ان الذي صار لتقسيم صاحب الفصول، هو ما رأى في الفقه واجبات
يكون ظرفها في ما بعد، ومع ذلك تجب مقدماتها قبل زمانها، منها: ان الفقهاء أفتوا بلزوم
377

المقدمات الوجودية للحج قبل وقت الحج، ومنها: افتائهم بوجوب غسل الجنابة قبل
الفجر ليلة الصيام. ومنها: غير ذلك من الموارد، ومن البديهي انه لا يتصور ان تكون
المقدمات واجبة مع عدم وجوب ذويها: إذ وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب
ذي المقدمة، فكيف يمكن تحققه. وليست هي من الواجبات النفسية فلم يريدا عن
الالتزام بالواجب المعلق، ولكن قد عرفت انه يمكن تصوير وجوب المقدمات المزبورة
من وجه آخر من دون الالتزام بالواجب المعلق.
والمحقق الخراساني (ره) أشكل عليه بان وجوب المقدمة فعلا من آثار اطلاق
وجوبه وحاليته لامن استقباله الواجب، ومراده على ما يصرح به فيما بعد انه يمكن
تصوير فعلية وجوب ذي المقدمة كي يترشح منه الوجوب إلى المقدمة من دون ان يلتزم
بالواجب المعلق وهو ارجاع القيد إلى الهيئة وكون الواجب مشروطا بنحو الشرط
المتأخر، فيكون الوجوب المشروط به حاليا، ومنه يسرى الوجوب إلى مقدماته.
وبذلك ظهر انه لا يرد عليه ما ذكره في المقام بان هذا ليس اشكالا على صاحب
الفصول لأنه انما يلتزم بالواجب المعلق لاثبات فعلية الوجوب، وجه عدم الورود ما
عرفت من أنه يدعى امكان اثبات فعلية الوجوب مع عدم الالتزام بالمعلق.
ولكن يرد عليه ان الالتزام بوجوب المقدمات بالوجوب المقدمي في المورد
المشار إليها، يتوقف على الالتزام بالشرط المتأخر، والواجب المعلق معا، وعلى فرض
عدم معقولية الواجب المعلق لا يمكن اثبات وجوبها بالالتزام بالشرط المتأخر، كما أنه
على فرض القول باستحالة الشرط المتأخر لا يمكن اثباته بالالتزام بالواجب المعلق.
اما الأول: فلانه إذا كان القيد راجعا إلى الهيئة، فان لم يكن الواجب مقيدا به وكان
مطلقا لزم كان الواجب حاليا والفعل مما يجب الاتيان به ولو قبل حصول الشرط لو علم
بتحققه في ظرفه مثلا لو التزم بكون الامساك الواجب غير مقيد بطلوع الفجر لزم وجوبه
من الليل، وهو خلف الفرض، وان كان مقيدا به كان الواجب معلقا.
واما الثاني: فلانه لو التزاما بكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا فاما ان يكون
الوجوب فعليا حتى مع فرض عدم بقاء المكلف إلى ذلك الزمان، أو عدم بقائه على وجه
378

يصح توجه التكليف إليه كصيرورته مجنونا أو كون الفعل غير مقدور له، أو يكون
مشروطا ببقائه وبقائه على نحو يصح توجه التكليف إليه، لا سبيل إلى الالتزام بالأول،
والثاني هو الالتزام بالشرط المتأخر، ففعلية وجوب المقدمات بالوجوب المقدمي قبل
زمان الواجب تتوقف على القول بالواجب المعلق والشرط المتأخر معا، والالتزام بعدم
معقولية الواجب المعلق يوجب عدم معقولية فعلية الوجوب ومجرد القول بالشرط
المتأخر لا يصححها.
ما استدل به لعدم معقولية الواجب المعلق
وكيف كان فقد استدل لعدم معقولية الواجب المعلق بوجوه: الأول: ما عن
المحقق السيد محمد الأصفهاني (ره) وحاصله، ان الإرادة التشريعية، أي الإرادة المتعلقة
بفعل الغير، وايجابه عليه، والإرادة التكوينية توأمتان ولا فرق بينهما الا في أن الأولى
متعلقة بفعل الغير، والثانية متعلقة بفعل الشخص نفسه فيثبت للأولى، جميع ما للثانية من
الآثار والاحكام، وحينئذ فحيث ان الإرادة التكوينية لا تتعلق بالامر المتأخر، وإلا لزم
انفكاك الإرادة عن المراد، وهو غير معقول، فكذلك الإرادة التشريعية، فايجاب الامر
الاستقبالي بنحو يكون الوجوب فعليا غير معقول.
وأجاب المحقق الخراساني عن ذلك بان الإرادة التكوينية تتعلق بأمر متأخر
استقبالي، ولذا ترى ان العقلاء يتحملون المشاق في تحصيل المقدمات فيما إذا كان
المقصود بعيدة المسافة وليس ذلك الا لأجل تعلق الإرادة بأمر استقبالي. ومراد القوم من
قولهم ان الإرادة هو الشوق المؤكد المحرك لعضلات نحو المراد، انما هو بيان مرتبة
الشوق التي تكون هي الإرادة وان لم يكن هناك فعلا تحريك لكون ما اشتاق إليه كمال
الاشتياق أمرا استقباليا.
أقول سواء كانت الإرادة المحركة للعضلات نحو المراد هو الشوق المؤكد كما
هو المشهور، أم كانت هي اعمال النفس قدرتها في الفعل أو الترك كما هو الحق لا يعقل
379

تعلقها بالامر المتأخر. اما على الأول: فلان من يقول بان الإرادة المحركة للعضلات نحو
المراد هو الشوق لا يقول إنها مطلق الشوق بل الشوق البالغ حدا يكون علة للفعل وتلك
المرتبة منه التي هي الإرادة لا يعقل انفكاكها عنه والالزام انفكاك المعلول عن جزء أخير
علته وهو محال. واما على الثاني: فلان اعمال النفس قدرتها في الفعل انما يكون في
ظرف امكان حصول الفعل، وبديهي ان الامر المتأخر يستحيل صدوره بالفعل فلا تتعلق
به اعمال القدرة.
واما ذكره من البرهان على ما افاده من انا نرى بالوجدان انه ربما يتعلق الشوق
المؤكد بأمر استقبالي، ولذا يحتمل المشاق في تحصيل مقدماته، فيرد عليه: ان ذلك
الشوق الذي ينبعث منه الشوق إلى مقدماته، ويصير ذلك سببا لتعلق الإرادة المحركة
للعضلات بها، لا يكون إرادة على المسلكين، اما على المسالك الحق فواضح، واما على
المسلك الاخر فلان الشوق إلى ذي المقدمة لما لم يكن وصوله إلى حد الباعثية قبل
مجيئ زمانه فلا محالة لا يكون واصلا إلى مرتبة يكون هو تلك المرتبة المحركة للعضلات.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) حيث إنه (قده) اختار تعلق الإرادة
بالامر المتأخر إذا كان له مقدمات مقدورة، بدعوى انه يكون حينئذ مقدورا ولو بواسطة
القدرة على مقدمته فيتحرك نحوه ويجود مقدماته بنفس التفاته إلى المقدمية وأما إذا
كان مقيدا بقيد اختياري فلا يعقل تعلق الإرادة به، إذ المقيد بأمر غير اختياري بما هو مقيد
لا يكون اختياريا، ولكن قد عرفت انه لا يعقل الإرادة التكوينية بالامر المتأخر مطلقا
وان كان مقدمات مقدورة.
فالحق في الجواب عن هذا الوجه ان ما ذكر من ترتب جميع احكام
الإرادة التكوينية، على الإرادة التشريعية غير تام، إذ ايجاب المولى الذي هو المراد من
الإرادة التشريعية عبارة عن ابزار الشوق النفساني أو ابزار اعتبار كون الفعل على ذمة
المكلف وهو بكلامه معنييه يتعلق، بالامر المتأخر كما لا يخفى.
الوجه الثاني: ان القول بالواجب التعليقي يتوقف على القول بالشرط المتأخر كما
عرفت وحيث انه محال فهذا أيضا غير معقول.
380

وفيه: انه قد مر في مبحث الشرط المتأخر معقولية.؟ فالواجب المعلق من هذه
الجهة لا محذور فيه.
الثالث: انه يعتبر في صحة التكليف القدرة على متعلقه حال البعث إلى فعلية
الوجوب. وحيث انه في الواجب المعلق يكون المتعلق حين فعلية الوجوب غير مقدور
لنوقفه على امر غير مقدور فلا يكون معقولا.
وفيه: ان القدرة المعتبرة هي القدرة في ظرف امتثال الواجب والفرض تحققها
ولا يعتبر القدرة قبل ذلك.
الرابع: ان القيد اما لا ربط بالواجب أصلا فهو خارج عن محل الكلام أو يكون
مربوطا به. وعليه فاما، ان يكون مفروض الوجود فيلزم تأخر الحكم عنه ويكون الواجب
واجبا مشروطا، أو يكون قيدا للواجب، وحينئذ، اما ان يكون القيد اختياريا فيكون
أو أجب منجزا أو يكون غير اختياري فلا يعقل تعلق التكليف به، لكونه غير مقدور، ولا
بالفعل المقيد به إذا الفعل المقيد بأمر غير اختياري غير اختياري. لا يقال: ان المقيد بأمر
غير اختياري لا يعقل تعلق الطلب به مطلقا، واما تعلقه به على فرض وجود القيد بنفسه فلا
محذور فيه، فإنه يقال: ان هذا عبارة أخرى عن فرض وجود القيد الذي عرفت ان لازمه
تأخر الحكم عنه ويكون الواجب مشروطا، وعلى ذلك فلا يتصور الواجب المعلق.
وفيه: انه يمكن ان يكون القيد غير الاختياري قيدا للواجب وشرطا ولا يلزم من
ذلك محذور، إذ المحذور المتوهم ترتبه على هذا أمران حسب ما يستفاد من هذا الوجه:
أحدهما: ان المقيد بأمر غير اختياري خارج عن تحت القدرة. ثانيهما: انه إذا كان نفس
وجود القيد مفروض الوجود كان الواجب مشروطا فلا يكون الوجوب فعليا وشئ
منهما لا يتم.
اما الأول: فيدفعه مضافا إلى النقض بأغلب الواجبات فإنها مقيدة بقيود غير
اختيارية مثلا الصلاة المأمور بها هي ما وقعت مستقبل القبلة، وبديهي ان وجود الكعبة
خارج عن تحت الاختيار. ان قيد الواجب ربما يكون دخيلا فيه تقيدا وقيدا، وقد يكون
دخيلا تقيدا فقط ولا يكون القيد بنفسه دخيلا، والأول يسمى بالجزء والثاني بالشرط،
381

وفي القسم الأول يعتبر كون القيد اختياريا، وفي الثاني لا يعتبر ذلك، فان التقيد المعتبر
اختياري على فرض وجود القيد غير الاختياري.
واما الثاني: فيدفعه ان القيد الذي يفرض وجوده في التكليف وان كان التكليف
مشروطا به، الا انه ان كان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة تكون دخالته فيه بنحو
الشرط المقارن، وان كان دخيلا في استيفاء المصحلة، تكون دخالته بنحو الشرط
المتأخر، فيكون الوجوب فعليا.
وبما ذكرناه ظهر عدم تمامية الوجه الخامس، وهو ما ذكره المحقق النائيني (ره) و
حاصله، انه لو كان الواجب المعلق معقولا، فإنما هو في القضايا الخارجية، واما في
القضايا الحقيقية، فلا يمكن تصويره بوجه، إذ فعلية الحكم فيها تتوقف على فعلية كل ما
اخذ مفروض الوجود في الخطاب، وعليه: فكل ما فرض وجوده في الخطاب لا محالة
يتأخر التكليف عنه رتبة، ويتوقف فعليته على فعليته وكل ما لم يكن كذلك وكان مأخوذا
في الواجب، فلابد وأن يكون الوجوب بالإضافة إليه مطلقا، ويكون المكلف مأمورا
بايجاده، فامر التكليف دائر بين الاطلاق والاشتراط لا محالة، ولا ثالث لهما.
وجه عدم تماميته ما عرفت من أن القيد غير الاختياري الذي اخذ مفروض
الوجود يتصور على نحوين، إذ تارة يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة، وحينئذ
لا مناص عن الالتزام بتأخر الحكم عنه وأخرى لا يكون دخيلا فيه وانما اخذ مفروض
الوجود لكونه غير اختياري، ويكون الملاك تاما قبل وجوده فيمكن فعلية الحكم قبل
تحققه لكونه من قبيل الشرط المتأخر.
السادس: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره)، وحاصله: ان البعث انما يكون مقدمة
لحصول فعل الغير امكانا إذا ترتب عليه الانبعاث وخرج عن حد الامكان إلى الوجوب
يتمكن المكلف له وانقياده، فإذا كان الواجب مقيدا بأمر غير اختياري متأخر فلا يعقل
الانبعاث فكذلك البعث، وبعبارة أخرى البعث والانبعاث متلازمان في الامكان، فإذا لم
يكن الثاني معقولا لم يكن الأول معقولا، وان شئت قلت: ان ايجاب المولى انما يكون
جعل ما يمكن ان يكون داعيا فإذا فرض عدم امكان داعويته قبل تحقق القيد لعدم القدرة
382

عليه فلا يعقل الايجاب والبعث.
وقد أورد على نفسه، بأنه لو كان الامر كذلك لما أمكن البعث نحو فعل الشئ في
وقته مع عدم حصول مقدماته الوجودية إذ لا يمكن الانبعاث نحو ذي المقدمة الا بعد
وجود مقدماته والمفروض ان البعث إلى مقدماته لا ينبعث الا عن البعث إلى ذيها.
وأجاب عنه بأن عدم الامكان في الفرض انما يكون بالامتناع بالغير. وعدم الامكان
في محل الكلام انما هو بالامتناع الوقوعي. ففيما هو محل الكلام يمتنع الانبعاث فيمتنع
البعث، وفى الفرض يمكن الانبعاث لامكان تحصيل مقدماته فيمكن البعث، وامتناع
الانبعاث بالغير لا يمنع عن البعث إذ ملاك امكان البعث وقوعيا امكان الانبعاث كذلك
بامكان علته لا بوجود علته.
وفيه: انه لو كانت الملازمة ثابتة فإنما هي بين امكان البعث، وامكان الانبعاث
وعدم امتناعه ولو بالغير - وبعبارة أخرى - ان امتناع الانبعاث بعدم إرادة الفعل لا ينافي
امكان البعث، واما امتناعه لأجل عدم تحقق مقدماته فهو يلازم عدم امكان البعث على
فرض ثبوت الملازمة بينهما. وان شئت قلت، ان الانبعاث في مقدار من الزمان الذي
يكون بقدر الاتيان بالمقدمات، يمتنع بالامتناع الوقوعي، فيمتنع البعث.
أضف إلى ذلك أن حقيقة الامر، والايجاب على ما عرفت ليست الا ابراز كون
المادة، متعلقة لشوق المولى، والبعث انما يكون من المفاهيم التي تصدق على الامر بعد
وجوده، ويكون الامر بنفسه مصداقا للبعث لكونه يبعث المأمور نحو الفعل، وعليه فلا
يعتبر في صحته سوى ما يخرج به عن اللغوية، وكفى في ذلك وجوب مقدماته التي لو
تركت لما تمكن المكلف من اتيان الواجب في ظرفه المقرر له، وعدم الايكال إلى العقل
الحاكم بذلك الذي ليس من الواضحات التي يعرفها كل أحد.
فتحصل ان شيئا مما استدل به على امكان الواجب المعلق لا يدل عليه،
فالأظهر امكانه، وعليه فلابد من ملاحظة الدليل في كل مورد، فان ساعد ظاهر الدليل
على القول به أو دل دليل آخر عليه، يتعين الالتزام به.
وقد يقال بأنه في الواجبات التي لها اجزاء تدريجية الوجود، لا مناص عن القول
383

بالواجب المعلق كالصوم الذي هو عمل واحد وله وجوب واحد، وهو انما يصير فعليا
في أول وقت الامساك، فالجزء الأخير من الامساك مطلوب من أول الوقت لفرض
وحدة الطلب والمطلوب وهذا عين الالتزام بالواجب التعليقي.
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بأنه إذا كان الواجب وشرطه تدريجيين، فلا محالة
يكون الوجوب أيضا كذلك، لان فعلية الحكم تساوق فعلية موضوعه ويستحيل التقدم
والتأخر فالوجوب المتعلق بالجزء الأخير لا يكون فعليا في أول الوقت.
أقول: ان ما ذكره (ره) على القول بامتناع الواجب المعلق وان كان متينا، الا انه بناءا
على امكانه لا سبيل إلى الالتزام بذلك بل يتعين القول بالواجب التعليقي إذ الملاك تام من
أول الوقت ولا يكون القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة فلا مناص عن عدم اخذه
من قيود الحكم.
ثم انه خصص صاحب الفصول الواجب المعلق بما يتوقف حصوله على امر غير
مقدور.
وأورد عليه في الكفاية قال ثم لا وجه لتخصيص المعلق بما يتوقف حصوله على
امر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى امر مقدور متأخر اخذ على نحو يكون مورد
التكليف ويترشح عليه الوجوب من الواجب أولا لعدم تفاوت فيما يهمه من وجوب
تحصيل المقدمات التي لا يكاد بقدر عليها في زمان الواجب المعلق دون المشروط
لثبوت الوجوب الحالي فيه فيترشح منه الوجوب على المقدمة بناءا على الملازمة دونه
لعدم ثبوته فيه الا بعد الشرط نعم لو كان الشرط على نحو الشرط المتأخر وفرض وجوده
كان الوجوب المشروط به حاليا أيضا فيكون وجوب ساير المقدمات الوجودية للواجب
أيضا حاليا وليس الفرق بينه وبين المعلق حينئذ الا كونه مرتبطا بالشرط بخلافه وان ارتبط
بالواجب انتهى.
أقول: انه ان كان القيد راجعا إلى الهيئة وكان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة
فالواجب يكون واجبا مشروطا، وان كان راجعا إلى المادة ودخيلا في حصول المصلحة
لا في اتصافه بها، فان كان أمرا مقدورا للمكلف وجب الاتيان به ويكون الواجب حينئذ
384

منجزا كالطهارة التي تكون شرطا للصلاة، وان كان غير مقدور له كان الواجب معقلا
فتحصل ان ما افاده في الفصول من اختصاص الواجب المعلق بما يتوقف حصوله على
امر غير مقدور، حق ولا يرد عليه ما افاده المحقق الخراساني (ره).
ثم انه عرفت ان الذي أوجب تصدى الأصحاب لتقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز
هو ما ثبت من الشرع من وجوب بعض المقدمات قبل وقت الواجب الظاهر كونه قيدا
للوجوب، مثل الغسل في صوم شهر رمضان، ومثل تحصيل الزاد والراحلة بعد الاستطاعة
قبل مجيئ موسم الحج وما شاكل والمحقق الخراساني أفاد انه يمكن التفصي عن هذه
العويصة بغير التعلق بالتعليق. مراده انه يمكن اثبات فعلية الوجوب بنحو آخر، وهو
ارجاع القيد إلى الهيئة بنحو الشرط المتأخر فيكون الوجوب فعليا فتحب مقدماته،
ولا يلزم الالتزام بالواجب التعليقي.
ولكن قد عرفت ان الالتزام بالشرط المتأخر في المقام وحده من دون الالتزام
بالواجب المعلق لا يكفي: فإنه لو لم يرجع القيد إلى المادة كان الواجب فعليا منجزا
كالوجوب.
وقد أورد على صاحب الفصول والشيخ بايرادين آخرين غير ما مر ذكرهما
المحقق الخراساني (ره) في الكفاية بقوله: ان قلت: لو كان وجوب المقدمة في زمان كاشفا
عن سبق وجوب ذي المقدمة لزم وجوب جميع مقدماتها ولو موسعا وليس كذلك بحيث
يجب عليه المبادرة لو فرض عدم تمكنه منها لو لم يبادر انتهى. وهذا ينحل إلى ايرادين.
أحدهما: ان لازم كشف سبق وجوب ذي المقدمة من وجوب إحدى مقدماته
لزوم الاتيان بجميع مقدماته بحيث لو فرض عدم التمكن من إحداها في الوقت وجبت
المبادرة إليها وليس كذلك ثانيهما: انه يجوز الاتيان بجميع المقدمات قبل الوقت بداعي
الوجوب لأنها تجب موسعا.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بقوله: قلت: لا محيص عنه الا إذا اخذ في الواجب
من قبل ساير المقدمات قدرة خاصة وهي القدرة عليه بعد مجيئ زمانه لا القدرة عليه في
زمانه من زمان وجوبه انتهى. محصل ما ذكره (قده) انه إذا ورد دليل على وجوب مقدمة
385

من المقدمات قبل الوقت، وورد أيضا انه من لم يتمكن من المقدمة الأخرى في الوقت
لا يجب عليه المقدمة قبل الوقت وان قدر عليها كما إذا دل الدليل على وجوب حفظ
الماء قبل الوقت، وحرمة اراقته لمن يعلم بعدم وجدان الماء في الوقت وورد أيضا، ان
من يعلم بعدم التمكن من الوضوء في الوقت لمرض ونحوه لو لم يتوضأ قبله لا يجب
الوضوء قيل الوقت، لما كان بينهما تناف، فان وان كان يستكشف من الدليل الأول،
وجوب ذي المقدمة قبل الوقت، ولكن من الدليل الثاني يستكشف ان الصلاة مع الوضوء
انما تتصف بالمصلحة إذا تمكن منه في الوقت ويكون القدرة عليه في وقت العلم شرطا
شرعيا فإذا لم يتمكن منه في الوقت لا مصلحة للصلاة معه، فلا يجب حفظ القدرة عليه
من قبل الوقت إذ فعل ما يوجب اتصاف شئ بالمصلحة غير لازم كما هو واضح وهذا
لا ينافي كشف وجوب ذي المقدمة قبل الوقت وبتبعه وجوب ساير مقدماته.
ولكن هذا الجواب انما يفيد في رفع الاشكال الأول، ولا يفيد في رفع الثاني، وما
ذكره بعضهم من أنه يمكن ان يكون الوضوء الذي مقدمة للصلاة انما هو الوضوء
في الوقت لا قبله، غير مفيد فان لازم ذلك أنه لو توضأ قبل الوقت لداعي آخر، لا يجوز له
الدخول في الصلاة. ولا يخفى ان كل ذلك مجرد فرض لا واقع له.
تردد امر القيد بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة
ولو دار امر القيد ثبوتا بين رجوعه إلى الهيئة أو المادة، فعن الشيخ استظهار
رجوعه إلى المادة، ولكنه غير خفى ان هذا البحث يصح بناءا على امكان رجوع
القيد إلى الهيئة، والى المادة. فمن يرى عدم امكان رجوعه إلى الهيئة كالشيخ
الأعظم (ره) لا وجه لانعقاد هذا البحث، فمن ذلك يعلم أن عنوان هذا البحث من
الشيخ (قده) انما يكون تنزيليا.
ثم إن الشك تارة يكون في كيفية رجوع القيد إلى الهيئة مع العلم بأنه راجع إليها،
وانه على نحو الشرط المقارن كي لا يجب الا بعد تحقق القيد، أو بنحو الشرط المتأخر
386

كي يجب قبله، ففي هذه الصورة حيث يعلم بالوجوب بعد تحقق القيد ويشك في وجوبه
قبله فتجري البراءة عنده.
وان علم رجوعه إلى المادة، فقد انه لا يتصور الشك في وجوب القيد وعدمه
إذ لو كان اختياريا كان واجبا لا محالة، ولو كان غير اختياري لما وجب.
واما لو شك في أنه راجع إلى المادة فيجب تحصيله، أو انه راجع إلى الهيئة فلا
يجب، وعلى الثاني فهل هو من قبيل الشرط المتأخر فذوا المقدمة واجب قبل وجود
المقدمة، أو انه من قبيل الشرط المقارن فلا يجب قبله، فالشك في هذه الصورة شكلان
الأول، في وجوب المقدمة. الثاني، في وجوب ذي المقدمة قبل وجود القيد، ومقتضى
أصالة البراءة عدم وجوبهما، هذا ما تقتضيه الأصول العملية.
واما بحسب الأدلة الاجتهادية، فقد ذكر الشيخ الأعظم (ره) لترجيح رجوع القيد
إلى المادة دون الهيئة وجهين.
الأول: ان اطلاق الهيئة شمولي، بمعنى ان مفاده ثبوت الوجوب على كل تقدير
يمكن ان يتوجه معه الخطاب إلى المكلف، بخلاف اطلاق المادة فإنه بدلي بمعنى ان
المطلوب فرد واحد من افراد الطبيعة أي فرد كان لاكل فرد، وإذا دار الامر بينهما
فالاطلاق البدلي أولى برفع اليد عنه وابقاء الاطلاق الشمولي على حاله لكونه أقوى في
العموم وأظهر، وعليه بنى (قده) تقديم الاطلاق الشمولي في مثل لا تكرم فاسقا على
الاطلاق البدلي في مثل أكرم عالما في باب التعارض.
وأورد عليه المحقق الخراساني في الكفاية، بأنه إذا كان الدوران بين رفع اليد عما
يكون شموله بالوضع أو رفع اليد عما يكون شموله بالطلاق ومقدمات الحكمة يكون
المتعين رفع اليد عن الثاني، وأما إذا كان الدوران بين رفع اليد عن أحد الاطلاقين فلا
يمكن تقديم أحدهما على الاخر بمجرد كونه شموليا والاخر بدليا.
والمحقق النائيني (ره) رجح ما اختاره الشيخ من تقديم الاطلاق الشمولي على
الاطلاق البدلي ووجهه بنحو لا يرد عليه هذا الايراد وحاصله ان الاطلاق الشمولي
لا يحتاج في شمول الحكم لجميع الافراد إلى أزيد من الاطلاق ومقدمات الحكمة. واما
387

الاطلاق البدلي فهو يحتاج زايدا على ذلك إلى احراز تساوى الافراد في الوفاء بالغرض
حتى يحكم العقل بالخير، والسر في ذلك أنه في الاطلاق الشمولي الحكم ينحل إلى
احكام عديدة، وكل فرد محكوم بحكم واحد، والاطلاق البدلي انما يثبت حكما واحدا
لفرد من الافراد على البدء، وبعبارة أخرى لصرف وجود الطبيعة وتطبيق ذلك على كل
فرد يتوقف على احراز تساوى الافراد في الوفاء بالغرض والا فالعقل لا يحكم بالخير،
وعليه فحيث ان شمول الاطلاق الشمولي للمجمع تنجيزي غير متوقف على شئ
وشمول الاطلاق البدلي له يتوقف على احراز التساوي المتوقف على عدم شمول
الاطلاق الشمولي له فلا محالة لا يكون البدلي شاملا له ويكون المجمع شمولا
للاطلاق الشمولي، فإنه يصلح ان يكون موجبا لعدم احراز التساوي بل لاحراز عدمه،
وان شئت قلت إن رفع اليد عن الشمولي اما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر بخلاف
رفع اليد عن الاطلاق البدلي.
أقول المقدمة التي عليها بنى هذا الوجه وهو احتياج الاطلاق البدلي احراز
تساوى الافراد في الوفاء بالغرض. غير تامة وذلك لوجهين.
الأول: انه لو تم ذلك لزم يكون قدر المتيقن مانعا عن التمسك بالاطلاق ذا مع
وجوده لا يكون التساوي محرزا، ومعه لا وجه للتمسك بالاطلاق، فلو ورد أكرم عالما
واحتمل الاختصاص بالهاشمي لزم الاقتصار عليه، وعدم الاكتفاء باكرام غير الهاشمي
وهو كما ترى.
الثاني: ان احراز التساوي انما يكون من الاطلاق نفسه، وذلك لان الحكم إذا
ترتب على الطبيعة ولم يؤخذ فيه قيد من القيود لا وجودا ولا عدما يستكشف منه عدم
دخل قيد في الغرض وعدم مضريته باستيفائه، فالاكتفاء باتيان كل فرد في الامتثال يكون
مستفادا من الاطلاق ومقدمات الحكمة بلا حاجة إلى ضم شئ آخر إليها.
ولكن مع ذلك كله ما افاده الشيخ الأعظم من تقدم الاطلاق الشمولي على
الاطلاق البدلي، قوى: إذا الاطلاق الشمولي الدال على ثبوت ما تضمنه من الحكم
وملاكه في كل فرد من الافراد، يصلح ان يكون مانعا عن قابلية المجمع امتثالا للحكم
388

الذي تضمنه دليل الاطلاق البدلي بخلاف العكس - وان شئت قلت - ان الجمع بين
الدليلين انما يقتضى الالتزام بتقييد الاطلاق البدلي إذ به يمتثل كلا التكليفين بخلاف
العكس، فإنه يستلزم طرح أحد الحكمين وبعبارة ثالثة مناط الحكم الذي تضمنه دليل
الاطلاق البدلي تخييري ومناط الاخر تعييني والأول لا يزاحم الثاني.
هذا كله بحسب الكبرى، ولكن لا تنطبق هذه الكبرى على المقام فان هذا المرجح
كساير المرجحات، ولا معنى لأقوائية أحدهما عن الاخر، إذ نسبة العلم الاجمالي
إليهما على حد سواء تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله والمقام من هذا القبيل فان
التنافي بينهما انما عرض للعلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما.
الوجه الثاني: من الوجهين الذين استند إليهما الشيخ الأعظم (ره) في ترجيح رجوع
القيد إلى المادة: ان تقييد الهيئة يوجب بطلان محل الاطلاق في المادة إذ لو رجع إليها لم
يكن الفعل مطلوبا قبل حصول القيد، وهذا بخلاف العكس، فإنه لو رجع إلى المادة
لا يوجب بطلان محل الاطلاق في الهيئة: إذ يمكن الحكم بالوجوب قبل تحقق القيد
وكلما دار الامر بين تقييدين كذلك كان التقييد الذي لا يوجب بطلان محل الاطلاق في
الاخر متعينا: إذ لا فرق في مخالفة الأصل بين تقييد المطلق وعمل يشترك معه في النتيجة
وهو بطلان محل الاطلاق.
وأجاب المحقق الخراساني عنه بان ذلك انما يتم في القيد الثابت بدليل منفصل،
ولا يتم في ما إذا كان التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.
أقول الحق عدم تماميته في التقييد بالمنفصل أيضا: فان القيد إذا رجع إلى الهيئة
يكون القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة وغير واقع في حيز الطلب، وان رجع إلى
المادة يكون دخيلا في حصول المصلحة وواقعا في حيز الطلب ان كان اختياريا،
ولا متيقن في البين، بل هو من موارد دوران الامر بين المتباينين ولا ألوية لأحدهما على
389

الاخر - نعم - يتم فيما إذا كان القيد غير اختياري ودار الامر بين رجوعه إلى الهيئة على
نحو الشرط المقارن وبين رجوعه إلى المادة.
وقد ذكر المحقق النائيني (ره) لترجيح رجوع القيد إلى المادة وجهين آخرين.
أحدهما: انه بناءا على أنه في الواجب المشروط القيد راجع إلى المادة المنتسبة لا
إلى الهيئة، يكون الفرق بين المشروط والمعلق انه في الواجب المعلق تقيد المادة ثم يرد
عليها الطلب، وفي الواجب المشروط القيد يرجع إليها في حال الانتساب لا مطلقا،
وعليه، ففي المقام نقول ان رجوع القيد إلى المادة متيقن وتقيده بحال الانتساب يحتاج
إلى بيان أكثر من ذكر نفس القيد فالشك فيه يدفع بالأصل.
ثانيهما: ان القيد إذا كان راجعا إلى المادة بعد الانتساب لابد وان يؤخذ مفروض
الوجود، وحيث إن اخذه كذلك يحتاج إلى بيان أكثر من ذكر القيد فيدفع احتماله باطلاق
القيد والفرق بين الوجهين انه يدفع احتمال رجوع القيد إلى مفاد الهيئة في الأول باطلاق
المادة المنتسبة وفي الثاني باطلاق نفس القيد.
أقول يرد على ما افاده امر ان: الأول: ما تقدم من أن القيد في الواجب المشروط
يرجع إلى الهيئة لا إلى المادة المنتسبة فراجع. الثاني: انه لو سلم ذلك:
يدفع الوجه الأول بان المتيقن في المقام هو رجوع القيد إلى ذات المادة الملائمة
مع الواجب المشروط والمطلق ولكن في الواجب المطلق لا يكفي مجرد ذلك، بل لابد
وان يرجع القيد إليها قبل الانتساب وهذا ليس متيقنا - وبعبارة أخرى - الواجب المطلق
كالواجب المشروط يحتاج إلى بيان أكثر من ذكر القيد، وهو رجوعه إلى المادة قبل
الانتساب، فلا يكون هو متيقنا، لو دار الامر بين رجوعه إليها قبل الانتساب أو بعده،
فيكون الدوران بين المتباينين.
ويدفع الوجه الثاني، انه كما يحتاج الواجب المشروط، إلى لحاظ القيد مفروض
الوجود واخذه كذلك،، كذلك يحتاج الواجب المطلق إلى اخذه في حيز الخطاب فليس
أحدهما متيقنا.
فتحصل انه لا ظهور يتمسك به في مقام الشك وعند دوران الامر بين رجوع القيد
390

إلى الهيئة أو المادة لابد من الرجوع إلى الأصول العملية وقد عرفت ما يقتضيه الاوصل.
الواجب النفسي والغيري
ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى النفسي والغيري وتنقيح القول بالبحث في
موضعين: الأول: في تعريف النفسي والغيري. الثاني: في أنه دار الامر بين كون واجب
كغسل الجنابة نفسيا أو غيريا ولم يحرز شئ منهما فهل القواعد والأصول تقتضي البناء
على الأول أو الثاني.
وقبل الدخول في البحث لابد وان يعلم أنه تظهر ثمرة هذا البحث فيما إذا علم
وجوب شئ كغسل الجنابة ولم يعلم أن جوبه نفسي فيجب مطلقا، أو غيري للصلاة
وغيرها، فلا يجب ما لم يجب ما يحتمل كونه واجبا لأجله فإذا لم تجب الصلاة لمانع من
حيض أو غيره لا يجب وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذا البحث.
اما الموضع الأول: فقد ذكروا في تعريف النفسي والغيري أمران: أحدهما: ما عن
التقريرات نسبته إلى القوم وهو ان الواجب النفسي هو ما امر به لنفسه ويكون واجبا لا
لأجل واجب آخر. والغيري ما امر به لغيره ويكون وجوبه لغيره.
وأورد عليه بأنه على هذا يكون جل الواجبات واجبات غيرية فإنها انما وجبت لما
فيها من المصالح، وبعبارة أخرى ان هذا التعريف غير جامع لعدم شموله لغير المعرفة.
وغير مانع لان غير المعرفة من الواجبات النفسية قد امر بها لأجل ترتب مصالح عليها.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بان تلك المصالح وان كانت محبوبة لزوما الا انها
لخروجها عن تحت قدرة المكلف لما كان يتعلق بها الايجاب.
ورد المحقق الخراساني (ره) هذا الجواب بان تلك الغايات وان كانت غير مقدورة
بلا واسطة الا انها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة وبديهي ان القدرة
على السبب قدرة على المسبب والا لم يصح وقوع مثل التطهير والتزويج إلى غير ذلك
من المسببات مورد الحكم من الأحكام الشرعية.
391

ووجه المحقق النائيني (ره) جواب الشيخ بما حاصله ان الغايات المترتبة على أفعال
المكلفين على ثلاثة أصناف 1 - ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط امر
اختياري أو غير اختياري كالزوجية المرتبة على العقد. 2 - ما يترتب على الفعل الخارجي
بتوسط امر اختياري خاصة كالصعود على السطح الذي يكون واسطة بين نصب السلم
والكون على السطح. 3 - ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط امر خارج عن اختيار
الانسان، فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعد إلى المعد له لا نسبة السبب إلى المسبب.
كحصول الثمر من الزرع المتوقف ترتبه على الأفعال الاختيارية من زرع الحب في
الأرض وسقيها وما شاكل، على مقدمات اخر خارجة عن تحت الاختيار. وتعلق التكليف
بالغايات انما يصح في الصنفين الأولين. ولا يتم في الثالث لخروجه عن تحت الاختيار،
وما نحن فيه من هذا القبيل لان نسبة الأفعال الواجبة إلى المصالح المترتبة عليها نسبة
المعد إلى المعد له حيث يتوسط بينهما أمور خارجة عن اختيار المكلف فجواب
الشيخ تام.
وأورد عليها الأستاذ بان افاده وان تم بالقياس إلى الغرض الأقصى والغاية
القصوى الا انه لا يتم بالإضافة إلى الغرض القريب وهو حيثية الاعداد للوصول إلى
الغرض الأقصى حيث إنه لا يتخلف عنها فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على علته
التامة.
وفيه: ان المطلوب بالأصالة هو الغرض الأقصى وهو الموجب لجعل الوجوب
على الافعال وحيث إن ترتبه على الواجب ترتب المعلول على علته المعدة فلا محالة
لا يصح تعلق التكليف به لخروجها عن تحت القدرة.
ويمكن توجيه ما افاده الشيخ (ره) بوجه آخر غير ما افاده المحقق النائيني (ره) الذي
عرفت انه متين، وهو انه يعتبر التكليف بشئ زايدا على القدرة على متعلقه، ان
يكون أمرا عرفيا وقابلا لان يقع في حيز التكليف بحسب أنظار العرف. وتلك المصالح
والاعراض ليست مما يفهمه العرف العام لأنها خارجة عن أذهان عامة الناس ومجهولة
392

فالمتحصل تمامية تعريف الواجب النفسي بأنه واجب لا لواجب آخر وان كان
وجوبه لشئ آخر، والواجب الغيري ما وجب لواجب آخر، وان شئت فقل ان المولى
إذا لا حظ الفعل ورأى أنه يترتب عليه مصلحة وأوجبه حفظا لها فهو الواجب النفسي،
وان رأى أن الواجب الاخر يتوقف عليه والا فلا مصلحة فيه نفسه فهو الواجب الغيري.
فالواجب النفسي ما وجب حفظا للمصلحة، والغيري ما وجب لو أجب آخر وإرادة
أخرى. وان جواب الشيخ تام.
وأجاب السيد المرتضى عن الايراد بجواب آخر. وهو ان المسبب التوليدي وسببه
ليسا فعلين صادرين عن المكلف بل هما يتحققان بفعل واحد وحركة واحدة مثلا،
الاحراق والالقاء في النار موجود ان بفعل واحد وحركة فاردة فلا يعقل تعلق تكليفين
بهما، بل التكليف المتعلق بهما واحد والذي يتعلق بأحدهما عين ما يتعلق بالآخر وعليه
فالامر وان تعلق بالمصلحة الا انه عين تعلقه بالفعل فلا يصح ان يقال ان الفعل انما وجب
لواجب آخر وهذا بخلاف الواجب الغيري.
ويرد عليه ما تقدم من أن نسبة الافعال إلى المصالح ليست نسبة الأسباب إلى
المسببات بل نسبة المعد إلى المعد له. مع أنه قد عرفت ان المصالح من جهة أخرى
لا تكون قابلة لتعلق التكليف بها.
الامر الثاني: ما افاده المحقق الخراساني (ره)، وهو ان الواجب النفسي ما كان
وجوبه لأجل حسنه في حد ذاته سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن
و الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل غيره سواء أكان في نفسه أيضا حسنا
كالطهارات الثلاث أم لم يكن، ثم قال ولعله مراد من فسرهما بما امر به لنفسه وما امر به
لأجل غيره، وبعبارة أخرى ان، ملاك الواجب النفسي حسن ذي الأثر من جهة انطباق
عنوان حسن يستقل العقل بمدح فاعله بل وذم تاركه سواء كان مقدمة لواجب آخر أم لا،
وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره وان كان في نفسه أيضا حسنا
كالطهارات الثلاث.
ويرد عليه أولا: ان العنوان الحسن المنطبق ان كان شيئا عن ترتب المصلحة عليه،
393

فالاشكال باق بحاله، فان هذا العنوان يكون منطبقا على الواجب الغيري أيضا، وان كان
ثابتا في حد ذاته فيلزم ان لا يكون شئ من الواجبات النفسية متمحضا في النفسية
لاشتمالها بأجمعها على ملاكين نظير صلاة الظهر الواجبة لنفسها ولكونها مقدمة لصلاة
العصر وافعال الحج فان المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة لغيره. وثانيا: ان دعوى
الحسن الذاتي في جميع الواجبات دعوى جزا فيه لا دليل عليها من الشرع ولا من العقل.
بل الدليل انما دل على عدمه فان الدليل الشرعي متضمن لبيان علل الشرايع وهي
المصالح المترتبة على الواجبات.
وقد يتوهم ان في المقام قسما آخر من الواجب لا يكون نفسيا ولا غيريا - وذلك -
كالمقدمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلا لصوم غد. اما عدم كونه واجبا غيريا فلان
وجوب الواجب الغيري معلول لوجوب واجب نفسي ومترشح منه فلا يعقل وجوبه قبل
ايجابه. واما عدم كونه واجبا نفسيا فلان الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب
والمفروض ان ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه.
ولكن يرده مضافا إلى ما سيأتي من استحقاق العقاب على ترك الواجب الغيري ان
وجوب تلك المقدمات انما هو تحفظا لواجب آخر وعرفت ان هذا هو الملاك لكون
الواجب واجبا غيريا.
لو دار الامرين بين كون الواجب نفسيا أو غيريا
واما الموضع الثاني: وهو ما لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فهل الأصل
اللفظي أو العملي يقتضى أحدهما خاصة، فيحمل الامر عليه حتى يثبت الاخر.
والبحث فيه يقع في مقامين: الأول: في الأصل اللفظي الثاني: في الأصل العملي.
اما المقام الأول: فيمكن التمسك باطلاق دليل ذلك الواجب الذي يحتمل ان
يكون هذا واجبا لأجله كدليل الصلاة أو نحوها، لدفع احتمال كون هذا المشكوك فيه
المردد بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا قيدا له. ولازم ذلك كونه واجبا نفسيا. بيان ذلك: انه
394

إذا كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الواجب كالصلاة يقيد،
فيتمسك باطلاق دليل الصلاة لاثبات عدم تقييدها به، ولازم ذلك هو عدم كون ما شك
في قيديته واجبا غيريا، وقد ثبت في محله ان الأصول اللفظية تثبت لوازمها.
والمشهور هو التمسك باطلاق دليل وجوب ما علم وجوبه وتردد امره بين كونه
واجبا غيريا، أو نفسيا كاطلاق ما تضمن الامر يغسل الجنابة، ويثبت به وجوبه النفسي،
توضيح ذلك أن الواجب النفسي وان كان في عالم الثبوت كالواجب الغيري مقيدا بقيد
حيث إنه الواجب لما يترتب عليه من المصلحة وليس هو الواجب المطلق غير المقيد، الا
انه في مقام الاثبات، بما ان الواجب النفسي لا يحتاج إلى التنبيه على قيده، بخلاف
الواجب الغيري، فلو كان غسل الجنابة واجبا نفسيا لما احتاج إلى أزيد من الامر به،
بخلا ما إذا كان واجبا غيريا فإنه يحتاج إلى التنبيه على أن وجوبه مقيد بما إذا وجب
ذلك الغير، فمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة البناء على أنه واجب نفسي.
وأورد عليه، تارة بان مفاد الهيئة معنى حرفي وهو جزئي غير قابل للإطلاق
والتقييد، فلا يصح التمسك باطلاقها، وأخرى بأنه لا ريب في اتصاف الفعل بالمطلوبية
بالطلب المستفاد من الهيئة، ومن المعلوم ان الشئ لا يتصف بالمطلوبية الا بواسطة تعلق
وقع الطلب وحقيقة الإرادة به لا بتعلق مفعوله به، فيستكشف من ذلك أن مفاد الهيئة فرد
وهو لا يقبل التقييد، وكلا الايرادين منسوبان إلى الشيخ الأعظم (ره).
ولكن يندفع الايراد الأول بما تقدم في الواجب المشروط، وفي المعنى الحرفي
من أن مفاد الهيئة ليس جزئيا، مع: انه أمكن للشيخ (قده) انكار الواجب المشروط لهذه
الشبهة، ولكنه لا ينكر الواجب الغيري فلا محالة يلتزم برجوع القيد إلى نتيجة الجملة وهو
وجوب ذلك الشئ المستفاد من الدليل، وعليه فيتمسك باطلاقها لنفيه.
واما الايراد الثاني: فقد أجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بقوله ففيه ان مفاد الهيئة
كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد بل هو مفهوم الطلب كما عرفت تحقيقه في وضع
الحروف ولا يكاد يكون فرد الطلب الحقيقي والذي يكون بالجمل الشايع طلبا والا لما
صح انشائه بها ضرورة انه من الصفات الخارجية الناشئة من الأسباب الخاصة. نعم ربما
395

يكون هو السبب لانشائه كما يكون غيره أحيانا واتصاف الفعل بالمطلوبية الواقعية
والإرادة الحقيقية الداعية إلى ايقاع طلبه وانشاء ارادته بعثا نحو مطلوبه الحقيقي
وتحريكا إلى مراده الواقعي لا ينافي اتصافه بالطلب الانشائي أيضا والوجود الانشائي
لكل شئ ليس الا قصد حصول مفهومه بلفظ كان هناك طلب حقيقي أو لم يكن بل
كان انشائه بسبب آخر انتهى.
وحاصل ما يفيده ان اتصاف الفعل بالمطلوبية الحقيقية ليس بواسطة دلالة الصيغة
على الطلب الحقيقي فحسب. بل الفعل يتصف بالمطلوبية الانشائية بحسب مدلول
الصيغة، وانما يتصف بالمطلوبية الحقيقية نظرا إلى أنه إذا لم يكن قرينة على كون الداعي
إلى الانشاء هو غير الطلب، يكون بناء العقلاء على البناء على أنه الداعي، ولذا لو كانت
قرينة كذلك لا يتصف الفعل الا باعتبار الطلب المفهومي. وإذا أحرزت الطلب الحقيقي من
غير انشائها اتصف باعتباره دون المفهومي.
أقول: ما يمكن ان يقال في مفاد الهيئة ومفهوم الطلب ومصداقه تقدم مفصلا
ولا نعبد، والذي نزيد في القمام ان التمسك بالاطلاق في المقام لا يبتنى على كون مفاد
الهيئة فردا أم كليا حتى ينازع في ذلك: فإنه على كلا المسلكين لا سبيل إلى التمسك
بالاطلاق الافرادي، اما على الأول فواضح، واما على الثاني فلانه لا يحتمل ان يكون
المفاد متعددا إذ المنشأ فرد من الوجوب لا أزيد، كما أنه على المسلكين يصح التمسك
بالاطلاق الأحوالي للفرد كما هو واضح. وتوهم ان مفاد الهيئة لكونه معنى حرفيا مغفول
عنه فلا يعقل توجه الاطلاق والتقييد إليه، فاسد لما حققناه في محله من أن المعاني
الحرفية ملحوظات استقلالا وليست بمغفول عنها.
واما المقام الثاني: وهو التمسك بالأصول العملية عند عدم وجود الأصول اللفظية.
فهي تختلف باختلاف الموارد، توضيح ذلك أنه مع الشك في كون فعل واجبا نفسيا أو
غيريا، تارة يعلم الوجوب بما يشك في كونه مقيدا به، وأخرى يشك في ذلك،
وثالثة يعلم بعدمه، وفي الصورة الأولى، تارة يعلم الوجوبين المفروضين من حيث
الاطلاق والاشتراط، وأخرى لا يعلم بذلك فهيهنا صور أربع.
396

الأولى: ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك كون هذا قيدا له، مع تماثل
الوجوبين، كما إذا علم بوجوب الغسل وشك في أنه واجب نفسي أو غيري للصلاة، وعلم
فعلية وجوب الصلاة، وأيضا علم اشتراط الوجوبين بالزوال.
وفي هذه الصورة اختار المحقق النائيني جريان البراءة عن تقييد متعلق ما علم كونه
نفسيا بالواجب الاخر، وانه يثبت بذلك نتيجة الاطلاق، ففي المثال يكون المكلف مخيرا
بين الاتيان بالصلاة قبل الغسل، والآتيان بها بعده.
وأورد عليه الأستاذ الأعظم بان هذا الأصل، يعارض أصالة البراءة عن الوجوب
النفسي المحتمل ثبوته للغسل، إذ المتيقن ثبوته إحدى الخصوصيتين يمنع عن جريان
البراءة في كل منهما، فاللازم هو الاحتياط، والآتيان بالصلاة بعد الوضوء في المثال.
ولكن الحق ما افاده المحقق النائيني، إذ لا يجرى الأصل عن كون الوجوب نفسيا،
لعدم ترتب الأثر الخاص على وجوبه النفسي، لوجوب الاتيان بالغسل في المثال على
التقديرين، ويعاقب على تركه، اما على المختار من استحقاقه العقاب على مخالفة
الواجب الغيري فواضح، واما على المشهور من عدم العقاب عليها فلانه يعلم بالعقاب
على تركه، اما لكون وجوبه نفسيا، أو لاستلزامه ترك الواجب النفسي وعليه، فحيث
يترتب على وجوبه الغيري اثر خاص، وهو لزوم الاتيان بالصلاة بعد الوضوء، فيجرى
البراءة عنه بلا معارض.
الصورة الثانية: ما إذا علم بفعلية التكليف المتعلق بما يشك في كون هذا قيدا له مع
عدم العلم بتماثل الوجوبين، كما إذا علم باشتراط خصوص الوجوب المعلوم كونه نفسيا،
واما الواجب الاخر المجهول حاله فيحتمل فيه من الاطلاق والاشتراط من جهة الشك
في كون وجوبه نفسيا أو غيريا - كما - إذا لم في المثال ان وجوب الغسل مطلق
بالقياس إلى الوقت، أم مشروط وفي هذه الصورة يتصور الشك من جهات.
الأولى: من جهة الشك في تقيد الصلاة بالغسل، والكلام في هذه الجهة هو
الكلام في الصورة الأولى.
397

الثانية: من جهة الشك في وجوب ما تردد امره بين كون وجوبه نفسيا، أم غيريا
قبل تحقق شرط ما علم كونه نفسيا، فقد اختار المحقق النائيني (ره) جريان البراءة عن
وجوبه قبل تحقق ذلك الشرط فتكون النتيجة من هذه الجهة نتيجة الغيرية، فيختص
وجوب الغسل في المثال بما بعد دخول الوقت.
ولكن الأظهر عدم جريانها، اما العقلية منها فللعلم بعدم ترتب العقاب على تركه
قبل الزوال خاصة، إذ المفروض ان وجوبه غير مختص بما قبل الزوال بل هو على فرض
وجوبه نفسيا موسع، واما الشرعية منها فلأنها انما تجرى لرفع الكلفة الزايدة لا لرفع
التوسعة وجريان البراءة في ذلك موجب للتضييق لا للتوسعة، بل البراءة في المقام تجرى
عن لزوم ايقاع ذلك العمل بعد الشرط فتكون النتيجة من هذا الجهة أيضا نتيجة النفسية.
وبذلك ظهر حكم الشك من الجهة الثالثة وهو عدم لزوم الاتيان به بعد الشرط
لو أتى به قبله كما لا يخفى.
الصورة الثالثة: ما لو لم يعلم الا وجوب ما يدور امره بين كونه واجبا نفسيا أو
غيريا، لاحتمال ان يكون في الواقع واجب آخر فعلى يتوقف حصوله على ما علم وجوبه
اجمالا.
وفي هذه الصورة نسب المحقق النائيني (ره) إلى الكفاية التمسك بالبرائة في المقام،
وأورد عليه بان استحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب اما لنفسه أو يتوقف واجب
فعلى عليه معلوم تفصيلات فيكون منجزا، وان لم يكن ذاك الوجوب المحتمل ثبوته
في الواقع منجزا من جهات اخر، فان عدم تنجزه من جهة لا ينافي تنجزه من جهة أخرى،
واصل البراءة لا ينافي فعليته واقعا وتنجزه بمقدار العلم، بناءا على ما حقق في محله من
صحة التفكيك في التنجز فلا تجرى البراءة في وجوب ما علم وجوبه المردد بين كونه
نفسيا أو غيريا.
وما افاده المحقق النائيني في نفسه حق لا ريب فيه، الا ان ما في الكفاية من الرجوع إلى البراءة هو في غير هذه الصورة، بل مورد كلامه الصورة الرابعة الآتية، واما
هذه الصورة فهي داخلة في المورد الأول الذي اختار فيه عدم جريان البراءة.
398

الصورة الرابعة: ما إذا علم وجوب شئ في الشريعة كالوضوء وتردد امره بين
كونه واجبا نفسيا أم غيريا ومقدمة للصلاة التي لا تكون واجبة فعلا لمانع كالحيض وفي
هذه الصورة تجرى البراءة عن وجوب الوضوء كما افاده المحقق الخراساني (ره) إذ لو كان
واجبا غيريا لما وجب فعلا. فيبقى الشك في وجوبه النفسي فتجري البراءة عنه.
آثار الواجب النفسي والغيري
ثم انه يقع الكلام في آثارهما. منها ما قيل من، استحقاق الثواب على امتثال الامر
النفسي، واستحقاق العقاب على عصيانه، وهما لا يترتبان على موافقة الامر الغيري
ومخالفته وتنقيح القول في مقامين: الأول: في الواجب النفسي. الثاني: في الواجب
الغيري. اما المقام الأول فالكلام فيه في موردين: أحدهما في العقاب ثانيهما في الثواب.
اما المورد الأول: فلا كلام في أصل استحقاق العقاب على مخالفته الامر النفسي.
وانما الكلام في سبب ذلك. فأقول، انه لا ريب في أن العقاب عليها ليس لأجل عدم
وصول المولى إلى غرضه لعلوه عما ينشأ من الجهة الحيوانية علوا كبيرا، ولا لأجل عدم
وصول العبد إلى الغرض المترتب على المتعلق إذ عدم تحصيل الغرض في نفسه لا يوجب
استحقاق العقاب، ولا لأجل تأديب العبد لئلا يعود إلى مخالفته المولى فان هذا انما
يحسن في دار التكليف لا في النشأة الآخرة التي ليست دار التكليف، وليس لأجل إزالة
القذارات الحاصلة بالمخالفة ليصير العبد لائقا لحضور مجلس السلطان وطاهرا قابلا
لتنعمه بنعم دار الآخرة لعدم اجتماعه مع الخلود في العذاب فتدبر.
بل العقاب انما يكون بملاحظة أحد أمور ثلاثة. الأول: بلحاظ جعل الشارع
بدعوى ان قاعدة اللطف المقتضية لارسال الرسل وانزال الكتب، وبيان الاحكام واعلام
العباد ما فيه الفساد أو الصلاح، تقتضي تأكيد الدعوة في نفوس العامة بجعل العقاب.
الثاني: بملاحظة الحكم العقلي العملي الذي من شانه ان يدرك ما ينبغي فعله أو
تركه أي القوة المميزة للحسن والقبح باعتبار مدركاته وهو يدرك ان مخالفة المولى
399

خروج عن ذي الرقبة ورسم العبودية فهو بذلك يصير ظالما وفاعل الظلم يستحق الذم من
العقلاء والعقاب من الشارع بادراك من العقل.
الثالث: بملاحظة العلاقة اللزومية بمعنى ان أفعال العباد لما لها من الصور في هذا
العالم تكون مادة لصور في عالم الآخرة ملائمة أو منافرة تستعد لإفاضة صورة كذائية،
ولكن الأخير مخالف لظاهر الآيات والروايات، فالمتعين هو الأولان.
واما المورد الثاني: فالمشهور بين المتكلمين على ما نسب إليهم ان الثواب انما هو
بالاستحقاق والمفيدره بنى على أنه بالتفضل وتبعه المحقق النائيني وجمع من المحققين.
واستدل المحقق النائيني (ره) له بان إطاعة المولى والعمل على وفق العبودية لازم
يحكم العقل وامتثال العبد لأوامر مولاه جرى منه على وظيفته لئلا يكون ظالما له وليس
هو في عمله أجيرا للمولى حتى يستحق عليه شيئا.
ويرد عليه انه أخص من المدعى لاختصاصه بالواجبات ولا يعم المستحبات
واستحقاق الثواب انما هو بملاك واحد.
والحق ان الثواب انما هو بملاحظة أحد أمور ثلاثة، اما بلحاظ جعل الشارع، أو
بملاحظة درك العقل العملي، أو بملاحظة العلاقة اللزومية على ما مر في العقاب،
واطلاق الاستحقاق بلحاظ الأول من جهة ان العبد بعمله بعد جعل الشارع يستحق ما
جعله له، وبلحاظ الثاني من جهة ان العبد بعمله يصير موردا للمدح بمعنى انه لو أثيب
يكون الثواب واقعا في محله، وبلحاظ الثالث من جهة اقتضاء المادة القابلة لإفاضة
الصورة الكذائية، وحيث إن الثالث مخالف لظاهر الآيات والروايات والأصحاب غير
متلزمين بذلك فلا يبعد ان يكون النزاع لفظيا لان المراد من الاستحقاق الذي ينفيه
المفيد (ره) ومن تبعه هو اللزوم على المولى بحيث لو لم يثب على الطاعة فقد ظلم، وبعبارة
أخرى ثبوت حق للمكلف على المولى كما يثبت حق للمستأجر على المؤجر، ولا أظن أن
يكون هذا مراد المشهور من الاستحقاق، بل الظاهر أن مرادهم به الأهلية واللياقة للثواب،
وان اعطاء الثواب للمطيع ليس كاعطائه للعاصي تفضلا صرفا بل ثواب واقع في محله.
وهذا المعنى من الاستحقاق لا أظن أن ينفيه المفيد ومن تبعه.
400

واما المقام الثاني: فالكلام فيه في موردين الأولى في العقاب. الثاني في الثواب.
اما الأول: فقد ذهب جمع من المحققين إلى أنه لا عقاب على مخالفة الامر
الغيري من حيث هو. واستدل له بوجهين.
أحدهما: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو ان العقاب دائر مدار البعد عن الله
غير المتحقق عند مخالفة التكليف الغيري فلا عقاب عليها. وفيه ان البعد المعنوي على
فرض تعقله لا نتصور له معنى سوى معصية الله الصادقة على عدم الاتيان بما تعلق به
التكليف الغيري، مع أنه لو سلم كونه شيئا آخرا فالعقاب لا يترتب عليه وانما هو اثر
لمخالفة المولى وعدم العمل بما عينه من الوظيفة.
واما ما افاده في وجه العقاب بقوله لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند
ترك المقدمة الخ فيرد عليه انه لو كان العقاب على مخالفة التكليف النفسي فما دام لم
يخالف التكليف وان صارت المخالفة لازمة عليه لترك المقدمة لا وجه لاستحقاقه
العقوبة لأنه من قبيل القصاص قبل الجنابة.
الوجه الثاني: ما افاده المحقق العراقي (ره) وهو انه لأجل عدم ترتب غرض عليه
لا يعاقب على مخالفته، وفيه ما تقدم آنفا من عدم دوران العقاب مدار الغرض، وانما
يدور مدار مخالفة المولى وعصيانه وهتك حرمته والتجاوز عن حد العبودية الصادقة
على ترك المأمور به بالامر الغيري، فالأظهر استحقاق العقاب على مخالفة التكليف
الغيري من حيث هو.
واما المورد الثاني: ففيه أيضا خلاف، والأظهر هو ترتب الثواب على موافقة الامر
الغيري، وبعين الملاك الذي يحكم باستحقاق من وافق التكليف النفسي، وهو ان موافقة
امر المولى والآتيان بما تعلق به انما يكون تعظيما له ويكون هذا الفعل اظهارا لعظمة
المولى، فيكون مستحقا للثواب، يحكم بان الاتيان بالمور به بالامر الغيري يوجب
استحقاق الثواب.
واما ذكر في وجه ذلك من أن الثواب على فعل المقدمة انما هو لكونه شروعا
في إطاعة الامر النفسي، فغير سديد: لعدم كونه شروعا في الإطاعة بل في مقدماتها.
401

كما أن ما ذكره المحقق الخراساني في وجه عدم الاستحقاق من أن موافقة الامر
الغيري لا توجب قربا إلى المولى والمثوبة انما تكون من تبعات القرب، غير تام: لما مر من
انا لا نتصور معنى للقرب والبعد سوى إطاعة الله تعالى، وعصيانه، وعلى فرض كونهما
بمعنى آخر لا يوجبان، الثواب، والعقاب.
بيان اشكال الظهارات الثلاث والجواب عنه
وبما حققناه اندفع أحد الاشكالين الذين أوردا في الطهارات الثلاث، وهو انه
لا ريب في ترتب الثواب عليها مع أن الامر المتعلق بها غيري.
واما اشكال الثاني. وهو انه لا ريب في أن الطهارات الثلاث عبادة مع أن الامر
المتعلق بها غيري وهو لا يوجب العبادية، وقد ذكروا في تقريب هذا الاشكال وجهين
أحدهما: ان الامر الغيري غير ناش عن المصلحة في المتعلق وعن المحبوبية الذاتية وانما
نشأ عن توقف محبوب عليه فهو لا يعقل ان يكون عباديا إذ لا مثوبة على موافقته من
حيث هي ولا يوجب القرب إليه تعالى وليس له موافقته بالاستقلال وبعبارة أخرى - بما
انه غير مقرب ولا شأن له بالاستقلال فهو لا يصلح ان يكون موجبا للعبادية.
والجواب عن ذلك أن العبادة ليس الا اتيان الفعل الصالح لان يضاف إلى المولى
مضافا إليه، ولا دخل للمصلحة في ذلك، فإذا كان فعل متعلقا لأمر الشارع صح الاتيان به
مضافا إليه. بل ستعرف تحقق العبادة بالاتيان بالمقدمة للتوصل إلى ذي المقدمة حتى بناءا
على عدم تعلق التكليف الغيري بها.
الوجه الثاني: انه لا اشكال في أن الطهارات الثلاث اخذت عبادة مقدمة للصلاة
مثلا فالامر الغيري متوقف على عباديتها. وحيث إن العبادية تحتاج إلى وجود الامر. فاما
ان يكون تعلق الامر لغيري بها فيلزم الدور، أو يكون الموجب هو الامر النفسي المتعلق
بها فهو فاسد. لأنه يصح الاتيان بقصد أمرها لغيري وان لم يلتفت إلى رجحانها الذاتي.
وأجابوا عن ذلك بأجوبة: منها، ما افاده المحقق الخراساني وحاصله، ان عباديتها
402

انما تكون للامر النفسي المتعلق بها وانما يكتفى بقصد أمرها الغيري من جهة ان الامر
لا يدعو الا إلى متعلقه، والمفروض ان المتعلق مستحب في نفسه، فقصد الامر الغيري في
الحقيقة قصد لذلك الامر النفسي.
وأورد عليه بايرادات الأول: ان ذلك لا يتم في التيمم لعدم كونه مستحبا نفسيا.
وفيه: ما حققناه في الجزء الثاني من فقه الصادق، من أنه مستحب نفسي أيضا
كالغسل والوضوء.
الثاني: ان الامر النفسي الاستحبابي يزول وينعدم عند عروض الوجوب الغيري.
وفيه: انه بناءا على ما هو الحق من أن الفارق بين الندب والوجوب، وليس الا ان
الأول رخص في ترك ما تعتلق به، والثاني لم يرخص فيه، لا معنى لانعدام الامر
الاستحبابي، بل لو عرض الوجوب يتبدل الترخيص في الترك بعدم الترخيص فيه،
فلا تنافى بين كونها محكومة بحكم واحد ذي ملاكين أحدهما يقتضى المنع من الترك والاخر
لا يقتضيه، وبما: ان المقرب هو ذات الطلب لا بقيد انه مما رخص في تركه، فيصح الاتيان
بها حال كونها مقدمة لغاية واجبة إذا قصد التقرب بالامر الاستحبابي النفسي.
مع أن دعوى بقاء الاستحباب النفسي حتى بناءا على كون الفارق بين الوجوب
والندب اختلاف الطلب شدة وضعفا، بحده ومرتبته بالفعل قوية: إذ الوجوب الغيري لم
يتعلق بذات ما تعلق به الامر الاستحبابي حتى يندك أحدهما في الاخر، بل تعلق به بداعي
الامر الاستحبابي فالموضوع متعدد فلا مانع من الالتزام بأنهما موجودان بالفعل.
مضافا إلى أنه لو سلم اندكاك الامر الاستحبابي فبما ان المعدوم ليس هو ذات
الطلب بل حده ومرتبته، والمقرب هو ذات الطلب لا حيثية ضعفه فيصح الاتيان بها بداعي
ذات الطلب الموجود في تلك المرتبة الاستحبابية وان كانت تلك المرتبة متبدلة إلى مرتبة
أقوى منها.
هذا كله مضافا إلى أنه على فرض تسليم عدم بقاء الامر الاستحبابي لا بذاته
ولا يقيده ومترتبته فبما ان ملاكه موجود فيصح الاتيان به بداعي ملاكه فتدبر فإنه دقيق.
403

الثالث: انه على هذا لابد وان يقصد الامر النفسي كي تقع عبادة ولا يكتفى بقصد
أمرها الغيري مع أنه لا كلام في أنه يكتفى به في مقام الامتثال.
وأجاب هو (قده) بما أشرنا إليه في ضمن تقريب كلامه وحاصله، ان ان الاكتفاء به انما
هو لأجل انه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه حيث إنه لا يدعو الا إلى ما هو المقدمة.
وفيه: ان قصد الامر ليس من الأمور الواقعية الملائم تحققها، مع عدم الالتفات،
بل قوامه انما يكون بالالتفات فمن يكون غافلا عن تعلق الامر النفسي بالوضوء، أو
معتقدا عدمه كيف يمكن ان يقال ان قصد امر الغيري قصد لذلك الامر.
والحق في الجواب عن أصل الايراد ان يقال، انه لا يعتبر في اتصاف الفعل
بالعبادية سوى صلاحية الفعل للإضافة إلى المولى، واضافته إليه. ولو بان يؤتى به بقصد
المحبوبية، ففي المقام الطهارات الثلاث لفرض تعلق الامر النفسي بها، صالحة للإضافة
إلى المولى، فلو اتى بها مضافة إلى المولى ولو بان قصد أمرها الغيري وقعت عبادة.
ودعوى، ان الجهة التي تقيد القرب أي الامر النفسي، لم تقصد، وما قصد وهو الامر
الغيري لا يصلح لان يكون مقربا. مندفعه، بان هذا الايراد انما يكون مبتنيا على التقريب
الأول لهذا الاشكال وقد عرفت الجواب عنه فراجع، فتحصل ان الجواب، المحقق - الخراساني عن اشكال الطهارات الثلاث متين لا يرد عليه شئ مما أورد عليه.
الجواب الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو الامر النفسي المتعلق
بذى المقدمة كالصلاة، كما أن له تعلقا باجزائها كذلك له تعلق الشرائط المأخوذة فيها،
فلها أيضا حصة من الامر النفسي وهو الموجب لعباديتها فالموجب للعبادية في الاجزاء
والشرائط على نحو واحد.
ويرد عليه ما تقدم منا في أول مبحث مقدمة الواجب في تقسيم المقدمة إلى
الداخلية والخارجية، من أن الامر المتعلق بذى المقدمة، لا تعلق له بالشرائط أنفسها أصلا.
الجواب الثالث: ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وهو ان اعتبار التقرب فيها انما
يكون لأجل ان العناوين المنطبقة عليها التي بها صارت مقدمة للصلاة مثلا مجهولة.
وحيث انها تكون قصدية لا تتحقق في الخارج من دون تعلق القصد بها فلا مناص عن
404

قصد أمرها للإشارة إلى تلك العناوين المجهولة إذ الامر لا يدعوا لا إلى متعلقه فقصد
الامر الغيري انما يكون لكونه طريقا إلى قصد عنوان المأمور به لا لكونه معتبرا فيها.
وفيه: ان لازم هذا الوجه صحة الطهارات الثلاث، لو قصد الامر الغيري وصفا
لا غاية، أو غاية لا بنحو تمام الداعي بل بنحو الجزء الداعي، أو قصد عنوان المقدمية مع
كون الداعي غير قربى.
الجواب الرابع: ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) أيضا وتقريبه بنحو يسلم عن جميع
ما أورد عليه من ما في الكفاية وغيرها، ان عبادية الطهارات الثلاث ليست من ناحية الامر
النفسي المتعلق بها، ولا من ناحية الامر الغيري، بل انما تكون لأجل ان الغرض من
الواجبات المتوقفة عليها، لا يحصل الا باتيانها عبادة ومضافة إلى المولى بمعنى ان
المقدمة ليست طبيعي الوضوء مثلا بل الوضوء الذي اتى به مضافا إلى المولى، وحيث انه
يمكن ان يضاف إلى المولى مع قطع النظر عن الامر النفسي والغيري، بان يؤتى به بداعي
التوصل إلى ذي المقدمة، وليس كالأفعال التي لا تصح اضافتها إلى المولى مع قطع النظر
عن الامر، فعبادية الطهارات لا تتوقف على تعلق الامر الغيري بها حتى يرد المحذور
المتقدم، بل الامر الغيري متعلق بالطهارات التي يؤتى بها عبادة، ولكن حيث إن الامر
الغيري متعلق بذواتها أيضا، فيصح ان يؤتى بها بداعي ذلك الامر وبه يتحقق الجزء الاخر
فتدبر.
فتحصل من مجموع ما ذكرناه ان عبادية الطهارات الثلاث لا تتوقف على الامر
الغيري بل متوقفة على أحد أمرين اما تعلق الامر النفسي بها كما هو كذلك، واما توقف ما
يتوقف عليها على اتيانها عبادة.
واما اتصافها خارجا بالعبادية فإنما يكون بأحد أمور: اما قصد الامر النفسي
المتعلق بها، أو قصد التوصل بها إلى ذي المقدمة، أو قصد أمرها الغيري على القول به.
بقى في المقام شئ وهو انه لو اتى بواحدة من الطهارات الثلاث بداعي التوصل
بها إلى غاية خاصة كما لو توضأ لصلاة الجعفر، وبعد ما توضأ بداله عن الاتيان بها، فهل
يصح وضوئه مطلقا، أم لا يصح كذلك، أم يفصل بين القول بوجوب المقدمة الموصلة
405

فلا يصح، وبين القول بوجوب المقدمة مطلقا فيصح، وجوه وأقوال.
وقد استد المحقق النائيني (ره) للقول الا خبر: بأنه على القول بالمقدمة الموصلة عدم
الايصال الخارجي يكشف عن عدم تعلق الامر الغيري به وكان وجود الامر تخيلا من
المكلف، اما بناءا على عدم اعتبار الايصال في وجوب المقدمة، فيصح لوجود الامر.
أقول يرد عليه مضافا إلى أنه خلاف مبناه فإنه (ره) بنى على أن المصحح للعبادية
ليس هو الامر الغيري بل الامر النفسي المتعلق بذى المقدمة، إذ عليه لا يتم هذا التفصيل
لأنه لا فرق بين المسلكين بالنسبة إلى ذلك الامر كما لا يخفى - انه قد عرفت - عدم
انحصار المصحح للعبادية بالامر الغيري، وبناءا على القول بالمقدمة الموصلة، وان لم
يكن تكليف غيري في الفرض متعلق بما اتى به، الا انه لأجل حصول القرب به خارجا لو
اتى به لا بداعي ذلك الامر الغيري، بل لأجل محبوبيته النفسية أو التوصل به إلى
ذي المقدمة، ولو مع عدم الامر به كما عرفت، يصح الوضوح في الفرض على المسلكين:
إذ وان لم يقصد شيئا منهما، لكنه قد مر انه لا يعتبر في العبادة سوى، صلاحية الفعل للتقرب
الموجودة في المقام، واضافته إلى المولى ولو من جهة غير منطبقة على ذلك الفعل، مع،
ان قصد التوصل هو المصحح للعبادية المفروض تحققه في المقام، وعدم الايصال
لا يكشف عن عدم صحة قصد التوصل، ولا يوجب انقلاب الشئ عما وقع عليه، وان
كان كاشفا عن عدم الامر الغيري، وعدم الامر الغيري لا يلازم عدم صحة قصد التوصل،
كما أن عدم الايصال لا يلازمه فتدبر فإنه دقيق. فالأظهر هي الصحة مطلقا. إذا عرفت هذه
الجهات فتنقيح القول في هذا الفصل بالبحث في أمور.
الأقوال في وجوب المقدمة
الأول: لا شبهة ولا كلام في تبعية ولا كلام في تبعية وجوب المقدمة، لوجوب ذي المقدمة في
الاطلاق والاشتراط بناءا على ثبوت الملازمة بين الوجوبين فلو كان وجوب ذي المقدمة
مطلقا لابد وأن يكون وجوب المقدمة أيضا كذلك ولو كان مشروطا كان وجوبها كذلك،
406

انما الكلام في أنه إذا كانت الملازمة ثابتة، فهل الواجب مطلق المقدمة، أم يكون
خصوص حصة خاصة منها. وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية على أقوال.
أحدها: ما نسب إلى صاحب المعالم (ره) وهو اعتبار العزم والإرادة اتيان ذيها.
ثانيها: ما نسب إلى الشيخ الأعظم وهو ان الواجب المقدمة التي قصد بها التوصل
إلى الواجب.
ثالثها: ما اختاره صاحب الفصول (ره) وهو ان الواجب خصوص المقدمة الموصلة
دون غيرها.
اما القول الأول فهو بطاهرة بين الفساد: إذ ان كان وجوب ذي المقدمة أيضا
مشروطا بإرادة الاتيان به لزم طلب الحاصل، مع أنه يلزم الخروج عن كونه واجبا،
وصيرورته جائزا إذ لو لم يرد الاتيان به لما كان على شئ لعدم كون واجبا، وان لم يكن
مشروطا بها، لزم ان لا يكون وجوب المقدمة تابعا لوجوب ذي المقدمة في الاطلاق
والاشتراط.
وأضف إلى ذلك أن وجوب المقدمة إذا كان مشروطا بإرادة الاتيان بذى المقدمة
لزم اشتراطه بإرادة الاتيان بها أيضا، إذ إرادة الاتيان بذى المقدمة لا تنفك عن إرادة الاتيان
بالمقدمة، فيلزم المحذور المتقدم، ولعمري ان هذا من الوضوح بمكان لا ينبغي إطالة
الكلام فيه، وأظن أن صاحب المعالم لم يرد ما هو ظاهر كلامه، بل مراده كون إرادة
ذي المقدمة من قيود الواجب لا الوجوب، فيرجع إلى القول الثاني
اشتراط وجوب المقدمة بقصد التوصل
واما القول الثاني: وهو اعتبار قصد التوصل إلى الواجب، فهو وان نسب إلى الشيخ
الأعظم ولكن عبارات مقرر بحثه في المقام مشوشة. فان ظاهر بعضها اعتبار قصد التوصل
في تحقق امتثال الوجوب المقدمي. وظاهر بعضها الاخر اعتباره قيدا في خصوص
المقدمة المحرمة المنحصرة. وظاهر بعضها الاخر اعتباره قيدا في متعلق الوجوب
407

المقدمي مطلقا. فلابد من البحث في جميع هذه المحتملات.
فان كان نظر الشيخ الأعظم (ره) إلى اعتبار قصد التوصل، بالمقدمة في حصول
الامتثال والتقرب بها، فيرد عليه: ما تقدم في الطهارات الثلاث من أن عباديتها انما تكون
بقصد التوصل إلى ذي المقدمة، أو بقصد أمرها النفسي، أو بقصد أمرها الغيري، فما
اعترف به المحقق الخراساني (ره) عند رده للتقريرات من أنه على تقدير عدم الاستحباب
النفسي يعتبر قصد التوصل، ضعيف: لابتنائه على عدم قابلية الامر الغيري للمقربية وقد
عرف ما فيه.
وان كان نظره (قده) إلى اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب المقدمي، فقد
استدل عليه: بان المقدمة انما تجب بما انها مقدمة، وعنوان المقدمية، من العناوين
القصدية، نظير التأديب، والتعظيم، فيلزم قصدها في انطباق الواجب عليها.
وأورد عليه المحققان الخراساني، والنائيني بما حاصله، ان المقدمية من
الجهات التعليلية والفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة لامن الجهات التقييدية والعناوين
التوليدية المنطبقة عليها حتى يلزم قصدها.
وأجاب عنه المحقق الأصفهاني (ره) انتصارا للشيخ الأعظم - بما حاصله - يتوقف
على بان مقدمتين: الأولى: ان الاغراض في الاحكام العقلية عناوين لموضوعاتها، مثلا
العقل، لا يحسن ضرب اليتيم، لغاية التأديب بل يحسن تأديبه، وبعبارة أخرى الحيثيات
التعليلية فيها راجعة إلى الحيثيات التقييدية. الثانية: انه يعتبر في اتصاف الفعل بالوجوب
صدوره عن قصد وعمد، والا فالفعل غير الاختياري، لا يكون مصداقا للواجب.
إذا عرفت هاتين المقدمتين، فاعلم أن العقل لا يحكم بوجوب فعل لأجل مقدميته
بل تكون المقدمية عنوانا للواجب، ويكون المطلوب المقدمة من حيث إنها مقدمة، فإذا
اتى بها من حيث مقدميتها كان ممتثلا للامر الغيري، وإلا فلا وان كان مسقطا للغرض و
وقع مقدمة لعدم قصد عنوان المقدمية الذي عنوان للمطلوب على الفرض.
أقول ان هذا المطلب وان كان دقيقا ومتينا في الاحكام العقلية كان الحكم العقلي
من الاحكام العقلية النظرية. التي يعبر عنها بما لابد وان يعلم، أم كان من الاحكام العقلية
408

العملية التي يكون مبدأ المبادئ فيها حسن العدل وقبح الظلم، الا ان ذلك غير مربوط
بالمقام فإنه في المقام وجوب المقدمة انما يكون بحكم الشارع، غاية الامر ان هذا
الوجوب الشرعي مستكشف أو الضدين فإذا كان واجبا بالوجوب الشرعي فلا يكون عنوان
المقدمية مأخوذا في المتعلق إذ الملازمة انما تدعى بين وجوب ذي المقدمة، ووجوب
ما هو مقدمة بالجمل الشايع، والمقدمية تكون واسطة لثبوت الوجوب على الذات،
فتحصل ان الأظهر، عدم اعتبار قصد التوصل قيدا في متعلق الوجوب الغيري.
وان كان نظره إلى دخل قصد التوصل في خصوص المقدمة المحرمة فقد وجه
ذلك بوجهين.
الأول: ان المقدمة المحرمة إذا توقف عليها واجب أهم، فغاية ما يقتضيه التوقف
في مقام المزاحمة ارتفاع الحرمة عنها إذا اتى بها بقصد التوصل، ومع عدم قصده
لا مقتضى لارتفاع حرمتها.
الثاني: ان ملاك وجوب المقدمة، هو التوقف والمقدمية، ولازم ذلك هو ترشح
الامر الغيري إلى طبيعي ما يتوقف عليه الواجب، ويكون المكلف مخيرا في تطبيق
الطبيعي، ولكن ذلك في صورة تساوى الافراد بنظر العقل وإذا لم تكن متساوية فالعقل
يحكم بلزوم تطبيق الطبيعي المزبور على خصوص الافراد غير المشتملة على المنقصة
- وعليه - فحيث ان المقدمة المحرمة التي يقصد بها التوصل إلى ذي المقدمة. إذا قصد بها
ذلك تحقق مزية في نفس المقدمة، وبها يضعف ملاك مبغوضيتها فالعقل مستقل بتعين
اختيارها وتطبيق الطبيعي عليها.
وفيهما نظر اما الأول: فلان المزحمة انما تكون بين وجوب ما يتوقف عليها،
وحرمة المقدمة، ولفرض أهمية الواجب تسقط حرمة المقدمة من غير دخل لقصد
التوصل فيه عدمه. ونعم المزاحمة انما تقتضي سقوط حرمة المقدمة الموصلة لا مطلقها،
وستعرف ان الأقوى اختصاص الوجوب الغيري أيضا بها فانتظر لذلك مزيد توضيح.
واما الثاني: فيرد عليه مضافا إلى ما تقدم من أن المزاحمة انما هي بين حرمة
409

المقدمة وجوب ما يتوقف عليها، ان قصد التوصل لا يكون موجبا لكون المقدمة ذات
فردين كي يترتب عليه لزوم تطبيق الطبيعي على الفرد الراجح بل هو وعدمه حالتان
للواحد الشخصي وغير دخيلين في مقدميته فلا وجه لاعتباره، مع أن رجحان قصد
التوصل ليس بحد اللزوم، وإلا لزم الامر به في كل مقدمة فان لم تكن محرمة، فلا يستقل
العقل الا برجحان تطبيق الطبيعي عليه لا لزومه. فتحصل ان اعتبار قصد التوصل في
المقدمة مما لا يمكن الالتزام به.
المقدمة الموصلة
واما القول الثالث: وهو قول صاحب الفصول (ره)، من أن الواجب من المقدمة
الحصة الموصلة أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها فقبل تنقيح القول فيه،
ينبغي ان يعلم أن محل الكلام ليس كون الايصال شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخر، أو
المقارن، وذلك لان الثاني لازمه طلب الحاصل: إذ لازمه عدم اتصافها بالوجوب الا بعد
الاتيان بها وحصول الوصول إلى ذي المقدمة، واما الأول فلان لازمه تعليق الوجوب.
على الإرادة فإنه في ظرف عدم الاتيان بها بما انه يستلزم عدم اتصال فلا يكون واجبة
فيكون الوجوب مقيدا بصورة الاتيان - وبعبارة أخرى - لازم ذلك عدم تصوير المخالفة
لمثل هذا التكليف فإنه لا مخالفة الا في صورة عدم الاتيان بمتعلقة، والمفروض في المقام
انه في صورة عدم الاتيان لا وجوب لعدم حصول الشرط فلا مخالفة. ومعلوم ان جعل
مثل هذا الحكم لغو وغير صحيح. إذ التكليف انما يتوجه لاحداث الداعي للعبد. ولا
يحدث الداعي إذا لم يكن في ترك المتعلق مخالفة المولى.
وبذلك يظهر بطلان القول بكون الايصال قيد الوجوب على نحو لا يجب تحصيله
كما لا يخفى.
فمحل الكلام هو كون الايصال من قيود الواجب بنفسه، أو لكونه مشيرا إلى
الحصة الخاصة مع كونه لازم التحصيل. إذا عرفت ذلك فاعلم أنه، قد استدل للقوم: بعدم
410

اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.
الأول: ما في الكفاية - وخاصة - ان الغرض المترتب على المقدمة الداعي إلى
ايجابها هو التمكن من وجود ذي المقدمة، وهذا كما يترتب على المقدمة الموصلة كذلك
يترتب على غير الموصلة فلا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص القسم الأول، وتوهم
ان الغرض هو ترتب ذي المقدمة، فاسد: إذ هو ربما لا يترتب على مجموع المقدمات
فضلا عن واحدة منها، والغرض من الشئ ما يترتب عليه ويكون اثره ولا ينفك عنه.
وفيه: ان الغرض من المقدمة الداعي إلى ايجابها، ليس هو التمكن من
ذي المقدمة، فإنه اثر التمكن من اتيان المقدمة لا الاتيان بها، ولذلك يتعلق الوجوب به،
ومنه يترشح الوجوب إلى المقدمة، فليس الغرض من ايجاب المقدمة التمكن من اتيان
ذي المقدمة. فان قلت: ان الغرض منه الامكان القياسي أي حفظ وجود ذي المقدمة من
ناحية هذه المقدمة، وسد باب عدمه من هذه الجهة، وهذا اثر مشترك بين الموصلة
وغيرها، قلت: ان ذلك خلاف الوجدان، فإنه أقوى شاهد على أن الباعث إلى ايجاب
المقدمة انما هو ترتب ذي المقدمة عليها، وهو الموجب لمحبوبيتها التبعية لا حفظ وجود
ذي المقدمة من ناحيتها، فإنه بنفسه لا يكون محبوبا للمولى فكيف يصير سببا لمحبوبية ما
يترتب عليه.
الثاني: ما في الكفاية أيضا - وحاصله - ان بعد الاتيان بالمقدمة يسقط الامر بها،
وسقوط اما ان يكون بالعصيان أو بارتفاع موضع التكليف، أو بالموافقة، ولا يكون
الاتيان بها بالضرورة من هذه الأمور غير الموافقة.
وفيه. انه بناءا على القول بخصوص الموصلة نختار انه يسقط أمرها مراعى بالاتيان
بذى المقدمة كما هو الحال في كل امر نفسي أو غير أو غيري ضمني. مثلا، الامر بالتكبيرة
لا يسقط بمجرد الاتيان بها رأسا، ولا يكون الاتيان عصيانا له، ولا من باب ارتفاع
الموضوع، بل يكون سقوطه مراعى باتيان ساير الاجزاء.
الثالث: ما يظهر من كلمات المحقق الخراساني في رد صاحب الفصول، وهو ان
القول باختصاص الوجوب المقدمة الموصلة يستلزم الدور، وتقريبه انما يكون بطريقين.
411

أحدهما ان الايصال امر انتزاعي ينتزع من وجود ذي المقدمة، فإذا كان دخيلا
في المقدمة، لزم ان يكون ذو المقدمة مقدمة المقدمة، إذ على فرض عدم تحققه،
لا تتحقق المقدمة، وحيث إن المقدمة مقدمة له فيلزم الدور.
الثاني: ان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذي المقدمة، ولازم القول
باختصاص الوجوب بالموصلة ترشح الوجوب عن المقدمة إلى ذي المقدمة لفرض
توقف قيدها وهو الايصال عليه وهذا دور واضح.
أقول يرد على كلا التقريبين، ان عنوان الموصلية انما ينتزع من المقدمة عند بلوغها
مرتبة يمتنع انفكاكها عن ذي المقدمة، فهو ملازم لترتب ذي المقدمة لا انه ينتزع منه. وان
شئت قلت إن هذا الوجه لا يصلح لدفع القول بالموصلة، بمعنى ان الواجب هو المقدمة
الموصلة لا بقيد الايصال بل ذات ما تكون موصلة ويشير بهذا إلى تلك الحصة الخاصة.
مع أنه يرد على التقريب الأول ان اعتبار الايصال لا يستلزم كون ذي المقدمة
مقدمة للمقدمة، إذ الايصال قيد زايد معتبر في المقدمة لا دخيل في لمقدمة. وان شئت
قلت إن فعلية المقدمة ملازمة لوجود ذي المقدمة لا متوقفه عليه.
ويرد على التقريب الثاني: ان اخذ قيد الايصال في المتعلق لا يستلزم ترشح
الوجوب النفسي لذي المقدمة من وجوب المقدمة كي يلزم الدور، بل اللازم هو ترشح
وجوب غيري آخر من وجوب المقدمة إلى ذي المقدمة، ولا محذور في ذلك، سوى
توهم لزوم اجتماع المثلين وهو يندفع بالالتزام بالتأكد.
الرابع: ان لازم هذا القول ان لا تحصل الطهارة من الطهارات الثلاث الا بعد اتيان
ذي المقدمة كالصلاة لأنها لا تحصل الا بعد امتثال الامر الغيري، والمفروض انه لا يحصل
الا بعد اتيان الصلاة فيلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة، بل يلزم عدم تحقق
الطهارة بعد الصلاة أيضا إذ هي بدون الطهارة كعدمها.
وفيه: انه لا تلازم بين عدم سقوط التكليف الغيري رأسا وعدم حصول الطهارة
فإنها انما تحصل. من الغسلتين والمسحتين مثلا مع قصد القربة، وان لم يسقط التكليف
الغيري رأسا.
412

وهناك وجوه اخر: ذكروها لعدم اختصاص الوجوب بالموصلة ولأجل وضوح
دفعها أغمضت عن ذكرها.
ثم إن المحقق النائيني (ره) بعد اختياره عدم امكان تخصيص الوجوب بخصوص
الموصلة لبعض الوجوه المتقدمة، قال إن الاطلاق أيضا محال لان الاطلاق والتقييد انما
يتقابلان تقابل العدم والمكة ثبوتا واثباتا فامتناع التقييد، يستلزم امتناع الاطلاق. فلا
مناص عن الاهمال.
وفيه: ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي من أن امتناع التقييد إذا كان لأجل
امتناع تخصيص الحكم بخصوص مورد خاص كتخصيص الولاية بالعالم الفاسق، يكون
تخصيص الحكم بما يقابله، أو الاطلاق ضروريا، فإذا لم يحتمل اختصاصه بما يقابله لا
محالة يكون الاطلاق ضروريا. وفي المقام بما ان امتناع التقييد انما هو لامتناع تخصيص
الحكم بخصوص الموصلة، ولا يحتمل اختصاص الوجوب بغير الموصلة، فلا محالة يكون
الاطلاق ضروريا، ولكن عرفت عدم استحالة التقييد فراجع.
وقد استدل لاختصاص الوجوب بخصوص الموصلة بوجوه.
الأول: ما افاده الأستاذ الأعظم (ره) وهو ان كل مقدمة ليست واجبة بوجوب غيري
مستقل، بل كما أن ذا المقدمة واجب بوجب واحد وان كان مركبا من اجزاء كذلك
المقدمات بأجمعها واجبة بوجوب واحد غيري، إذ الغرض المترتب على المجموع وهو
التوصل إلى ذي المقدمة وتحققه في الخارج واحد، وينسبط ذلك الامر الغيري المتعلق
بمجموع المقدمات التي من جملتها الاختيار، بناءا على ما هو الحق من اختياريته، على
كل مقدمة انبساط الوجوب على اجزاء الواجب، وتكون كل مقدمة واجبة بوجوب
ضمني غيري، وعليه فحيث ان ترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات قهري، وكل
مقدمة واجبة بوجوب ضمني، فإذا اتى بمجموع المقدمات تحقق الواجب في الخارج
وكانت موصلة، وان اتى ببعضها ولم يتوصل لما اتصف ما اتى به بالوجوب ولما كان
مصداق الواجب إذ الواجب هو مجموع المقدمات، فيكون كما إذا اتى ببعض اجزاء
الواجب النفسي ولم يضم إليه ساير الاجزاء فإنه لا يقع مصداقا للواجب فكل مقدمة انما
413

تقع مصداقا للواجب إذا انضم إليها ساير المقدمات الملازم ذلك للايصال وترتب
ذي المقدمة، ومع عدم الانضمام لا تقع مصداقا للواجب، فالمقدمة الموصلة تكون واجبة
أي ذات ما هي وموصلة لا المقيدة بهذا القيد.
لا يقال ان مامن واجب إلا وله مقدمات غير اختيارية ولا أقل من بعض مبادئ
الاختيار، فترتب ذي المقدمة على مجموع المقدمات الاختيارية المتعلقة للوجوب
لا يكون دائميا.
فإنه يقال: ان أمثال تلك المقدمات تؤخذ مفروضة الوجود وفي ظرف وجود تلك
المقدمات يكون الترتب دائميا.
فإنه يقال: ان أمثال تلك المقدمات تؤخذ مفروضة الوجود وفي ظرف وجود تلك
المقدمات يكون الترتب دائميا.
وفيه: ان إذ المقدمة وان كان يترتب على مجموع المقدمات حتى الاختيار
فيمكن ان يكون هو الغرض من ايجابها لترتبه عليها دائما، الا انه يرد عليه ان اختيار
وجود ذي المقدمة متعلق للتكليف النفسي، فإنه وان تعلق بنفس ذي المقدمة الا انه لأجل
ان التكليف انما يتوجه لأجل احداث الداعي للعبد ليختار الفعل، وهو تحريك للعبد نحو
الفعل باختياره فهو لا يتعلق به التكليف الغيري، وان شئت قلت إن الإرادة معلولة
للتكليف النفسي ومتأخرة وواقعة في مرحلة امتثال الامر النفسي بها، وعليه فبما ان
ذا المقدمة لا يترتب على مجموع المقدمات غير الإرادة فليس هو الغرض من وجوبها.
الثاني: انه للمولى ان يأمر بشئ وينهى عن مقدمته التي لا تكون موصلة. وليس له
النهى عن خصوص الموصلة، أو عن مطلق المقدمة، وهذا آية الملازمة انما تكون بين
وجوب الشئ ووجوب مقدمته الموصلة.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بوجهين: الأول: انه ليس له النهى عن المقدمة غير
الموصلة إذ يلزم منه ان لا يكون ترك الواجب حينئذ مخالفة وعصيانا لعدم التمكن منه
لاختصاص جواز مقدمته بصورة الاتيان به. وبالجملة يلزم ان يكون الايجاب مختصا
بصورة الاتيان لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال.
وفيه: ان جواز المقدمة ووجوبها لا يكونان مقيدين باتيان ذي المقدمة، بل المقيد
414

به هو الواجب والجائز، والمقدمة الخاصة تجوز بل تجب من الأول. والاشكال انما نشأ
من الخلط بين شرط الجواز والوجوب، وشرط الواجب والحائز.
الوجه الثاني: انه لو نهى عن غير الموصلة فهي وان لم تتصف بالوجوب الا ان
ذلك انما هو لأجل المانع عن الاتصاف بالوجوب، وهو المنع عنها.
وفيه: ان امكان النهى وصحته آية عدم الملازمة، والا لما صح.
الثالث: ما في الفصول، وهو ان وجوب المقدمة لما كان من باب الملازمة العقلية
فالعقل لا يدل عليه زايدا على القدر المذكور إلى أن قال وأيضا حيث إن المطلوب
بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل بها إليه
وحصوله معتبرا في مطلوبيتها فلا تكون مطلوبة إذا انفكت عنه وصريح الوجدان قاض
بان من يرد شيئا بمجرد حصول شئ آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ويلزم منه ان
يكون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله انتهى.
وأورد عليه في الكفاية بما يندفع بتوضيح ما في الفصول. بان يقال.
ان مراده ان التكليف الغيري ليس ناشئا من الغرض المترتب على متعلقة والا
انقلب نفسيا فلا مورد للنزاع في تعيين الغرض، بل انما يكون التكليف الغيري ناشئا عن
الغرض الأصلي المترتب على ذي المقدمة، وهو كما أوجب محبوبية ذي المقدمة كذلك
أوجب محبوبية المقدمة تبعا لان الحب إلى الشئ يستلزم الحب التبعي إلى ما هو واقع
في سلسلة مبادئ وجوده، وعليه فلا ينبغي التوقف في أن المحبوب بالتبع انما هو
المقدمة التي تكون مقدمة فعلية وواقعة في سلسلة مبادئ وجود المحبوب بالذات، واما
المقدمة بالقوة غير الواقعة في تلك السلسلة فلا تكون متعلقة للحب التبعي فان من اشتاق
إلى شئ انما يشتاق إلى مقدماته التوأمة والملازمة معه لا المفارقة عنه في الوجود
وعليه فالواجب الغيري هو ذات المقدمة الموصلة لا بهذا القيد.
فتحصل مما ذكرناه اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.
415

بيان ثمرة القول باختصاص الوجوب بالموصلة
بقى الكلام في بيان ثمرة هذا النزاع، وقد ذكر الأصحاب ثمرات للنزاع في هذه المسألة وهي صنفان، أحدهما، ما يترتب على النزاع في أن الواجب خصوص المقدمة
الموصلة، أو مطلق المقدمة، ثانيهما ما يترتب على النزاع في وجوب المقدمة وعدمه.
اما الصنف الأول: فهو ثمرتان، إحداهما ما افاده الأستاذ، وهي انه لو توقف واجب
على محرم وكان الواجب أهم، كما لو توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير
بغير رضاه، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة لا تتصف تلك المقدمة بالحرمة، وان لم
توصل، بل كان التصرف في ملك الغير لغرض آخر من التفريح، والتكسب وما شاكل،
ولا يكون سفره سفر معصية، واما بناءا على اختصاص الوجوب بالموصلة لا يجوز
التصرف في المثال في ملك الغير الا في صورة الانجاء، والا فهو حرام وسفره سفر
معصية وان شئت فقل ان كل مقدمة من المقدمات إذا توقف عليها واجب أهم، فبناءا
على وجوب مطلق المقدمة تتصف بالوجوب مطلقا، واما بناءا على اختصاص الوجوب
بالموصلة لا تتصف بالوجوب ما لم توصل بل تبقى على حكمها الأولي.
أقول يرد عليه ان الوجوب المقدمي بما أنه غير ناشئ عن المصلحة والغرض، فلا
يصلح للمعارضة مع الحرمة النفسية، فلا محالة تقدم الحرمة عليه، وعلى ذلك فلا مسقط للحرمة على المسلكين سوى وجوب ذي المقدمة، وهو انما يوجب السقوط في ظرف
الاتيان به دون عصيان امره إذا الضرورات تتقدر بقدرها، فهذه ليست ثمرة لهذا المبحث.
ثانيتهما: ما افاده جماعة منهم صاحب الفصول، وهو انه إذا كان ترك عبادة
مقدمة لواجب أهم كالصلاة التي يكون تركها مقدمة لإزالة النجاسة عن المسجد مثلا،
فعلى القول باختصاص الوجوب بالموصلة تصح صلاته لو صلى ولم يزل النجاسة، واما
على القول بوجوب المقدمة مطلقا، فتكون فاسدة، وذلك لان ترك أحد الضدين مقدمة
لوجود الضد الاخر، فترك الصلاة مقدمة للإزالة، فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة،
416

يجب تركها أزال أم لم يزل، فيحرم فعلها الذي هو نقيض الترك، والتحريم في العبادة
متقض للفساد، واما على القول بالموصلة، فحيث ان الواجب من ترك الصلاة هو الترك
الموصل، وايجاب ذلك لا يستلزم تحريم الفعل، لعدم كونه نقيضه، بل نقيضه عدم الترك
الخاص، وهو قد يقارن الفعل، وقد لا يقارنه، وحرمة الشئ لا تستلزم حرمة ما قارنه.
وأورد عليهم في التقريرات بان فعل الضد وان لم يكن نقيضا للترك الخاص لان
نقيضه رفعه وهو أعم من الفعل والترك الاخر المجرد الا انه لازم لما هو من افراد
النقيض، وهذا يكفي في اثبات الحرمة والا لم يكن الفعل المطلق محرما على القول
بمطلق المقدمة: لان الفعل ليس نقيضا للترك لأنه وجودي ونقيض الترك انما هو رفعه
ورفع الترك يلازم الفعل مصداقا وليس عينه فكما ان هذه الملازمة تكفى في اثبات
الحرمة لمطلق الفعل فكذلك تكفى في المقام، غاية الامر ان ما هو النقيض في مطلق
الترك انما ينحصر مصداقه في الفعل، واما النقيض للترك الخاص فله فرد ان وذلك
لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بالفرق بين الموردين بان الفعل في الأول لا يكون
الا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى
وحرمة الشئ لا تسرى إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا، وهذا بخلاف الفعل في
الثاني فإنه بنفسه بعاند الترك المطلق وينافيه لا انه ملازم لما يعانده وينافيه، فلو لم يكن
عين ما يناقضه مفهوما لكنه متحد معه عينا وخارجا فإذا كان الترك واجبا لا محالة يكون
الفعل منهيا عنه.
أقول يرد عليه أولا، ان المركب من أمرين ليس له نقيض واحد بل له نقيضان، أي
لكل منهما نقيض، فيكون نقيض المركب مجموع النقيضين، واما المركب من حيث هو
فلا نقيض له، وعليه فبناءا على اختصاص الوجوب بالموصلة الواجب هو الترك المقيد
بالايصال، فيكون نقيضه الفعل مع عدم الايصال، أي نقيض الترك هو الفعل، ونقيض
الايصال عدمه وليس له نقيض واحد. فإذا كان نقيض الواجب حراما يكون الفعل مع
عدم الايصال، محكوما بالحرمة فلا محالة تنحل الحرمة كالوجوب فيكون الفعل أيضا
417

محكوما بالحرمة غاية الامر حرمة ضمنية وان شئت قلت إن الواجب المتعلق بالمقدمة
الموصلة على مسلكة إلى وجوبين أحدهما متعلق بالترك والثاني متعلق
بالخصوصية ونقيض الترك الواجب بالوجوب المقدمي الضمني هو الفعل فيكون
حراما بالحرمة الضمنية فعلى فرض كون هذه ثمرة لوجوب المقدمة لا فرق بين القول
بالموصلة والقول بوجوب مطلق المقدمة فايراد الشيخ الأعظم في محله.
وثانيا: ان هذه الثمرة من أصلها غير تامة: وذلك لان ترك أحد الضدين ليس مقدمة
لفعل الاخر كما سيأتي في مبحث الضد - مع أنه على فرض كونه مقدمة له. الفعل
لا يكون حراما إذ نقيض الواجب ليس بحرام مضافا إلى أن النهي الغيري المقدمي غير
الناشي عن المفسدة في الفعل لا يوجب الفساد كما سيأتي.
ثمرة القول بوجوب المقدمة.
الصنف الثاني: ما ذكر ثمرة للنزاع في وجوب المقدمة وعدمه. وهي أمور.
منها: انه إذا توقف واجب على مقدمة محرمة وكان الوجوب أهم فإنه على القول
بوجوب مطلق المقدمة تسقط الحرمة مطلقا وان لم يأت بذي المقدمة وعلى القول بعدم
الوجوب لا مسقط للحرمة سوي مزاحمتها مع وجوب ما هواهم منها، وهي انما تقتضي
سقوط الحرمة في صورة الاتيان بالواجب لا مطلقا إذا الضرورات تقديرها بقدرها.
وفيه: ما تقدم من أن الوجوب الغيري المقدمي بما انه غير ناش عن المصلحة
والغرض فلا يصلح لمعارضة الحرمة النفسية فلا محالة تقدم وعليه فلا مسقط
للحرمة على القولين سوى مزاحمتها مع وجوب ذي المقدمة فهذه الثمرة لا تكون ثمرة
ومنها ان نفس وجوب المقدمة في نفسه انما يكون ثمرة للبحث عن ثبوت
الملازمة وعدمه: إذ على الأول يحكم بالوجوب وعلى الثاني بالعدم.
وأورد عليه بأنه حيث لا يترتب على وجوب المقدمة اثر من الثواب على امتثاله
وحصول القرب به، والعقاب على مخالفته وحصول البعد بها واما لا بدية الاتيان بما
418

تعلق به عقلا فهي لا تدور مدار القول بوجوبها شرعا. فمثل هذا الحكم ليس شان الفقيه
بيانه والافتاء به فلا يصح جعلة ثمرة لهذا البحث.
وفيه: أولا: قد تقدم ان موافقة التكليف الغيري، توجب استحقاق الثواب، كما أن
مخالفته توجب استحقاق العقوبة. وثانيا: انه إذا ثبت وجوب المقدمة كالوضوء، بضم
الصغرى إلى نتيجة هذه المسألة، فاشكال عدم ترتب اثر عملي عليه واضح الدفع: لان
تطبيق كبريات اخر مستفادة من أدلتها كحصول البرء والاصرار على المعصية وغير ذلك
مما سيأتي عليه يوجب ترتب اثر عملي عليه كما لا يخفى.
ومنها: انه على القول بوجوب اتصال الفعل بالعبادية، وقد تقدم
الكلام في ذلك وعرفت انه يوجب القرب أيضا.
ولكن مثل هذه الثمرة لا توجب كون البحث المزبور أصوليا: إذ المسألة الأصولية
ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلى الفرعي، ومسئلتنا هذه ليست كذلك فان
المترتب عليها انما هو ما ثبت من طريق آخر على اتيان المقدمة بقصد أمرها فلا تصير
المسألة بذلك أصولية، الا ان ذلك يكفي ثمرة عملية لوجوب المقدمة ويخرج بذلك عن
كونه حكما لغوا ليس شأن الفقيه بيانه.
ومنها: انه من المسلم عند الأصحاب، ان الامر المعاملي يوجب الضمان، فلو امر
بما له مقدمة فعلى القول بوجوب المقدمة يكون الامر ضامنا بالنسبة إليها أيضا،
وعلى القول بعدمه لا يكون ضامنا لها.
وأورد عليه بان الوجوب بنفسه لا يوجب الضمان، والوجه في الضمان في الامر
المعاملي ما ذكر في محله من رجوعه إلى معاملة خاصة وهو جعل العمل في مقابل مال
خاص وان الظاهر من الامر ذلك، وحينئذ في المقام بنيا على وجوب المقدمة أو على
عدمه لا يفرق من هذه الجهة، ووجوب المقدمة المترشح من وجوب آخر على القول به
لا يوجب الضمان.
وفيه: ان الامر بنفسه ظاهر في كونه معامليا أي أمرا بالعمل لا مجانا، فلو كان الامر
419

بذى المقدمة مستلزما للامر بالمقدمة، فهو أيضا يوجب الضمان، فلو اتى بالمقدمات ولم
يأت بذى المقدمة ضمن.
اللهم الا ان يقال ان الامر بذى المقدمة يوجب الضمان على المقدمات حتى بناءا
على عدم استلزام الامر بذى المقدمة للامر بالمقدمة، فتأمل فان المسألة تحتاج إلى تأمل
أزيد من ذلك.
وعلى كل حال يجرى فيه ما ذكرناه في سابقه من عدم كون هذه الثمرة موجبة
لكون البحث عن جوب المقدمة أصوليا. ولكنها تكفى اثرا عمليا موجبا لخروج
وجوب المقدمة عن اللغوية.
ومنها: برء النذر بالاتيان بالمقدمة لو نذر الاتيان بواجب على القول بوجوب
المقدمة.
أقول ان هذه الثمرة كسابقتها وان لم توجب بنفسها كون المسألة أصولية إذ ثمرة
المسألة الأصولية لابد وأن يكون حكما فرعيا كليا مثل نفس وجوب الوفاء بالنذر، واما
تطبيق هذا الحكم على مصاديقه فليس نتيجة المسألة الأصولية. ولكن تكفى ثمرة عملية
يخرج وجوب المقدمة بذلك عما قيل من عدم كون بيانه وظيفة الفقيه لعدم ترتب الأثر
عليه.
واما ما افاده المحقق الخراساني (ره) من أن البرء وعدمه انما يتبعان قصد الناذر.
ففيه: انه لو نذر الاتيان بمطلق ما تعلق به الوجوب الشرعي. كان حصول الوفاء باتيان
المقدمة مبتنيا على القول بوجوب المقدمة.
ومنها: انه يحصل الاصرار على الحرام الموجب لحصول الفسق بترك واجب له
مقدمات إذا قلنا بوجوبها.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بان العصيان انما يحصل بترك أول مقدمة
لا يتمكن معه من الواجب فلا يكون ترك ساير المقدمات بحرام أصلا.
وفيه: ان ساير المقدمة انما يكون بالعصيان، فإذا كان الاصرار يحصل بترك
420

واجبين تحقق بترك واجب له مقامات، على القول بوجوب المقدمة، وعلى القول بعدمه
لا يحصل، وبه يظهر الحال لو كان الاصرار يحصل بترك واجبات أربعة فإنه على القول
بوجوب المقدمة يحصل بترك واجبين نفسيين لهما مقدمات ولا يحصل به على القول
بعدمه.
مع أنه إذا فرضنا عدم ترتب المقدمات بعضها على بعض، وكان الجميع في عرض
واحد فان بتركها يترك الجميع دفعة واحدة لا طولا - وعليه - فيحصل الاصرار في ذلك
المورد.
وأورد على هذه الثمرة المحقق النائيني (ره) والأستاذ بان المعصية انما تدور مدار
الامر النفسي فليس مخالفة الامر الغيري بما هو معصية حتى يحصل الاصرار على
المعصية بمخالفته.
وفيه: ما تقدم في محله من أن الإطاعة والعصيان، انما يدوران مدار الامر نفسيا
كان أم غيريا. إذ الامر الغيري أيضا يوجب موافقته القرب والثواب، ومخالفته البعد
والعقاب.
ولكن يرد على هذه الثمرة ما أوردناه على سوابقها مضافا إلى ما حقق في محله من أن
المعصية مطلقا توجب الفسق وعليه، فلا يبقى مورد لهذه الثمرة إذ بترك المقدمة
يترك الواجب النفسي فيوجب الفسق على كل تقدير.
ومنها: عدم جواز اخذ الأجرة على فعل المقدمة على القول بوجوبها لعدم جواز
اخذ الأجرة على فعل الواجب.
وفيه: مضافا إلى ما مر، ما حقق في محله من أن اخذ الأجرة على الواجبات بما انها
واجبة لا مانع عنه ان لم يكن الواجب مما ألقى الشارع ماليته.
ومنها: اجتماع الوجوب والحرمة في المقدمة المحرمة إذا قبل بالملازمة فيما إذا
كانت المقدمة محرمة فيبتنى على جواز اجتماع الامر النهى وعدمه بخلاف ما لو قيل
بعدمها.
وأورد المحقق الخراساني (ره) على ذلك بأمور: الأول: ان عنوان المقدمة من
421

الجهات التعليلية فالواجب هو ما بالحمل الشايع مقدمه، وحيث انه الحرام فيكون على
الملازمة من باب النهى في العبادات والمعاملات.
وفيه: ان الواجب على الملازمة ليس ذات المقدمة الخارجية بل هو العنوان الكلى
المنطبق عليها، وقد اجتمع العنوانان في المقدمة الخاصة فيكون من باب الاجتماع.
الثاني: انه إذا كانت المقدمة المحرمة غير منحصرة لما تعلق بها الوجوب بل هو
متعلق بغيرها، وان كانت منحصرة، فاما لا وجوب لعدم وجوب ذي المقدمة لمزاحمته مع
حرمة المقدمة، واما لا حرمة لها لذلك فلا يلزم الاجتماع أصلا.
وفيه: انه في صورة عدم الانحصار، لا وجه لاختصاص الوجوب بغير المحرم من
المقدمات بعد كون تلك المقدمات وافية بتمام ما يفي به غيرها غاية الامر على تقدير القول
بالامتناع وتقديم جانب النهى يسقط وجوبها لذلك.
الثالث: انه لو كان المقدمة، توصلية صح التوصل بها ولو لم نقل بجواز الاجماع.
ولو كانت تعبدية لما جاز التوصل بها على القول بالامتناع قيل بوجوب المقدمة، أم لا،
وجاز التوصل بها على القول بالجواز على المسلكين.
بيان ما يقبضه الأصل العملي في المقام.
الثاني: في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة، ليرجع إليه مع عدم الدليل
على شئ من الأقوال، والكلام فيه في موردين 1 - في بيان الأصل في المسألة الأصولية:
2 - فيما يقتضيه الأصل في المسألة الفقهية.
اما الأول: فقد يقال ان الملازمة بين وجوب المقدمة، ووجوب ذيها على فرض
ثبوتها مسبوقة بالعدم لأنها من الحوادث فيستحب عدمها.
وأورد عليه المحقق العراقي بأنه ليس لها حالة سابقة بل هي اما ثابتة أزلا أو
معدومة أزلا فليست مورد الاستصحاب لا وجودا، ولا عدما.
وفيه: ان الملازمة بما انها في التقرر تابعة لتحقق طرفيها فهي مسبوقة بالعدم، غاية
422

الامر بمفاد ليس التامة، فلا مانع من استصحاب عدمها من هذه الجهة.
ولكن لا يجرى الاستصحاب من جهة أخرى وهي انه لا يترتب الأثر على ذلك،
لعدم كون وجوب المقدمة اثرا للملازمة كما لا يخفى.
واما المورد الثاني: فمقتضى الاستصحاب عدم وجوب المقدمة: لمعلومية عدم
وجوبها حال عدم وجوب ذيها وقد استدل لعدم جريانه بوجوه.
الأول: انه يعتبر في جريان الاستصحاب ان يكون التعبد الشرعي بالمستصحب
واثره ممكنا عقلا في نفسه. وحيث انه على تقدير ثبوت الملازمة بين الوجوبين لا يعقل
التعبد بعدم وجوب المقدمة فالشك فيها يوجب الشك في امكان التعبد بعدم وجوبها،
وقد عرفت انه مع عدم احراز امكان التعبد لا يجرى الاستصحاب.
وأجاب المحقق الخراساني (ره) عن ذلك بان الملازمة على فرض ثبوتها فإنما هي
بين الوجوبين والواقعيين، وأصالة عدم وجوب المقدمة فعلا مع وجوب ذيها كذلك
لا تنافى تلك - نعم - لو كانت الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الفعليين صح التمسك
بذلك في اثبات بطلانها.
أقول يرد على ذلك على ما هو ظاهره بدوا ما أورده المحقق العراقي (ره) من أن من
يدعى الملازمة انما يدعيها بين الفعليين أيضا، ولكن الظاهر بعد التأمل انه أراد ما حاصله:
ان الملازمة على فرض ثبوتها انما هي بين الوجوبين الواقعيين لا بين الوجوبين الواصلين
بهذا القيد. ففي مرحلة الوصول يمكن ان يصل وجوب ذي المقدمة ولا يصل وجوب
المقدمة. فيحكم في الظاهر بعدم وجوبها غير المنافى لوجوبها واقعا، وعلى هذا فهو متين
جدا.
وبه يظهر عدم تمامية ما ذكره بعضهم من أنه إذا جرى الأصل وثبت عدم وجوبها
يستكشف منه عدم ثبوت الملازمة بين الملازمة بين الوجوبين. فان بالاستصحاب لا يثبت ذلك الا
على القول بالأصل المثبت.
ويمكن ان يجاب عن هذا الوجه بجواب آخر، وهو انه لا يعتبر في جريان
الاستصحاب احراز امكان التعبد بل يعتبر عدم احراز استحالته: إذ الاستصحاب كساير
423

الأحكام الشرعية يلزم اتباعه ما لم يحرز الامتناع وبالجملة سيأتي في محله ان ظهورات
كلمات المولى تكون متبعة ما لم تثبت الاستحالة ومجرد احتمالها لا يكون مانعا.
الثاني: ان وجوب المقدمة على تقدير الملازمة من قبيل لوازم الماهية غير
مجعولة ولا اثر مجعول مترتب على وعليه فلا يجري الأصل إذ يعتبر في جريانه كون
المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا لما هو مجعول شرعي.
وأجاب المحقق الخراساني عن ذلك بان وجوب المقدمة وان كان غير مجعول
بالذات لا بالجعل البسيط، ولا بالجعل التأليفي الا انه مجعول بالعرض وبتبع جعل
وجوب ذي المقدمة وهو كاف في جريان الأصل.
أقول: ان لوازم المهية على قسمين: الأول ما إذا كان ذلك الشئ منتزعا عن
الماهية بلحاظ نفسها مع قطع النظر عن الوجودين الذهني والخارجي، كالامكان بالقياس
إلى الانسان الثاني: ما يكون لازما للمهية سواء كانت موجودة في الذهن، أو في العين
كالزوجية بالقياس إلى الأربعة ومعلوم ان إرادة المقدمة بالنسبة إلى إرادة ذي المقدمة
ليست من القسمين، بل هي على تقدير الملازمة تابعة للوجود الخارجي لإرادة
ذي المقدمة فهو من لوازم الوجود الخارجي. وحيث انه لوجوب المقدمة وجود غير ما
لوجوب ذي المقدمة من الوجود فلبرهان وحدة الايجاد والوجود يكون لكل منهما
ايجاد مغاير للاخر فهو بنفسه مجعول شرعي فلا مانع من اجراء الأصل فيه.
الثالث: انه لو كان المستصحب حكما شرعيا يعتبر في جريان الأصل فيه ترتب
ثمرة عملية عليه، وحيث إن وجوب المقدمة لا يترتب عليه اثر عملي للا بدية الاتيان بها
على كل تقدير وعدم ترتب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته فلا يجري فيه
الأصل.
وفيه: ما عرفت من ترتب عدة ثمرات على وجوب المقدمة غير لا بدية الاتيان بها
وعليه فيجري الأصل فيه ويترتب عليه تلك الآثار.
فتحصل ان الأظهر جريان أصالة عدم وجوب المقدمة فعلى فرض عدم الدليل
على الوجوب يبني على عدم الوجوب.
424

دليل القول بوجوب المقدمة
الثالث: فيما استدلوا به لوجوب المقدمة وقد ذكروا وجوها.
منها: ما افاده الشيخ الأعظم وتبعه المحققان الخراساني والنائيني وحاصله ان من
راجع وجدانه وانصف من نفسه يقطع بان الملازمة بين الطلب المتعلق بالشئ والمتعلق
بمقدماته ثابتة، لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها، كيف والبداهة قاضية بعدمه لجواز غفلة
الطالب عن المقدمية، إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتى لا يتصور
في حقه ذلك، بل المقصود ان الطالب لشئ إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه يجد من
نفسه حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها كما قد يتفق هذا النحو من الطلب أيضا
فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو إلى كونه ابنه فان الطلب الفعلي في مثله
غير متحقق لابتنانه على الالتفات لكن المعلوم من حاله انه لو التفت إلى ذلك لأراد من
عبده الانفاذ، وهذه الحالة وان لم تكن طلبا فعليا الا انها تشترك معه في الآثار ولهذا
نرى بالوجدان في المثال المذكور انه لو ينقذ ابن المولى عد عاصيا ويستحق العقاب.
وأوضحه المحقق النائيني (ره) بما محصله. انه كما أن من اشتاق إلى فعل نفسه
لا محالة ينبعث منه الشوق إلى مقدماته كذلك لو اشتاق إلى ما هو فعل الغير، فكما انه لو
أراد شيئا وكان ذلك الشئ يتوقف على مقدمات، لا محالة يريد تلك المقدمات وتتولد
من تلك الإرادة إرادة المقدمات قهرا كذلك إرادة الامر، ولا مورد للايراد عليه بأنه
لا موجب لإرادة المقدمات بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها،
وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها، فإنه ليس الكلام في الحاجة وعدم الحاجة بل
كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الامر قهرا بحيث لا يمكن ان لا يريدها فلا
تصل النوبة إلى الحاجة وعدمها، نعم لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو
الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة، لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها وكان
الأقوى حينئذ عدم وجوبها الا انه ليس الكلام فيه بل في الوجوب القهري الترشحي وهذا
425

النحو من الوجوب بما لابد منه.
وبما ذكرناه توضيح ما افاده المحقق النائيني يظهر اندفاع ما أورده عليه بعض
الأعاظم وهو انه لم يقم برهان على عدم الفرق بين الإرادتين في جميع اللوازم والآثار،
بل الدليل على خلافه فان استلزام تعلق الإرادة التكوينية بشئ لتعلق إرادة أخرى
بمقدمته، انما هو لأجل ان فعل المريد نفسه لا يتحقق الا بعد الاتيان بالمقدمة فلا مناص
عن ارادتها، واما الإرادة التشريعية، فحيث انها متعلقة بفعل الغير، فلا تستلزم تعلق إرادة
أخرى بمقدماته. وبعبارة أخرى ان الاستلزام في الإرادة التكوينية انما هو لأجل توقف
فعله على المقدمة المتوقفة على ارادتها، وهذا المناط ليس في الإرادة التشريعية، بل
المتعلق لها انما هو فعل الغير وتحت اختياره فلا موجب لتعلق إرادة أخرى بمقدماته. وان
شئت قلت إن الإرادة التكوينية لا تتعلق بذى المقدمة الا بعد ايجاد المقدمة المتوقف على
ارادتها، فإرادة ذي المقدمة متوقفة على إرادة المقدمة خارجا، وهذا بخلاف الإرادة
التشريعية كما لا يخفى.
فان هذا الايراد يتم لو كان المدعى تعلق إرادة مستقلة أصلية، ولا يتم في القهرية
التبعية الترشحية لو التفت إليها.
وأورد عليه الأستاذ الأعظم بايرادين: الأول: ان تعلق الشوق بفعل الغير لا يستلزم
تعقله بمقدماته بعد فرض كونه تحت اختيار الغير وان صدوره انما يكون باختياره.
وفيه: ان الشوق كما يتعلق بفعل الغير كذلك يتعلق بما لا يمكن مع عدمه وجود
المشتاق إليه.
الثاني: ان التكليف ليس هو الشوق بل حقيقته اعتبار كون الفعل على ذمة الغير،
وهذا فعل من أفعال المولى ويحتاج في خروجه عن اللغوية إلى ترتب اثر عملي عليه،
وحيث إن صدور المقدمة خارجا لازم على المكلف وان لم يأمر به لتوقف الواجب
النفسي عليه، فالامر بها لغو محض لا يصح صدوره من الحكيم.
وفيه: ان المدعى التبعية القهرية المصلحة المترتبة على ذي المقدمة كما أوجبت
جعل الوجوب له كذلك توجب جعل الوجوب قهرا لما هو واقع في سلسلة علل وجوده
426

- وبعبارة أخرى - كما أن الشوق يتعلق بها قهرا كذلك ما يتبعه وهو جعل الوجوب
واختياريته انما يكون من جهة كون علته وهو جعل الوجوب على ذي المقدمة تحت
الاختيار والقدرة لامن جهة تعلق القدرة به مستقلا. فالمتحصل تمامية هذا الوجه.
ومنها: اتفاق أرباب العقول كافة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل
نظير الاجماع الذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم، فان
اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي اجمالا عن حكم العقل، وليس ذلك هو الاجماع
المصطلح كي يورد عليه بعدم جواز التمسك بالاجماع في المسألة العقلية، لعدم كونه
كاشفا عن رأى المعصوم (ع). ولكن يرد عليه انه لا مثبت لوجود هذا الاتفاق.
ومنها: ما عن المحقق السبزواري، وحاصله انه يلزم من عدم وجوب المقدمة عدم
كون تارك الواجب المطلق مستحقا للعقاب، بيان الملازمة انه إذا كلف الشارع بالحج
ولم يوجب المسير إليه فترك العبد المسير إليه ولم يأت بالحج، فاما ان يستحق هذا
التارك العقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج، في موسمها المعلوم،
لا سبيل إلى الأول لأنه لم يصدر منه في ذلك الزمان الا ترك المشي غير الواجب عليه،
ولا إلى الثاني لان اتيان الحج في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه فكيف يستحق العقاب بما
يمتنع الصدور منه، ثم نقول إذا فرضنا ان العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان
الفعل فاما ان يستحق العقاب أولا، لا وجه للثاني لأنه ترك الواجب مع كونه مقدورا له
فيثبت الأول، فاما ان يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو قبلها لا وجه للأول، لان
العقاب انما يكون على الفعل القبيح، ولا للثاني لان السابق على النوم لم يكن الا ترك
المقدمة والمفروض عدم وجوبها.
وفيه: ان لنا اختيار كلا الشقين - اما الأول: فقوله ان العقاب في زمان ترك
المقدمة لا وجه له لعدم كونه واجبا، يرد عليه، انه انما يستحق العقاب على ترك المقدمة
لكونه سببا لترك الحج الواجب فان تركه مستند إلى ترك المقدمة اختيارا. واما الثاني:
فقوله ان ترك الحج غير مقدور له فلا يمكن اتصافه بالقبح ولا استحقاق العقاب عليه،
يرده ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا انفاقا - وبعبارة أخرى - ان الحج أوجبه
427

الشارع وهو مقدور بواسطة القدرة على مقدماته فالعبد قد ترك الواجب المقدور عليه
فيستحق العقاب بذلك وامتناعه في ظرفه انما هو بسوء اختيار العبد.
واما ما ذكره أخيرا من فرض العبد نائما حين الفعل، فيرد عليه، انه ان استند ترك
الحج مثلا إلى النوم لا يستحق العقاب ولكن في الفرض انما يكون مستندا إلى ترك
المقدمة في زمانها وهذا النوم المفروض وقوعه في زمان امتناع الفعل وجوده وعدمه
سيان وهذا واضح.
ومنها: ما افاده المحقق السبزواري أيضا، وحاصله انه ان لم تجب المقدمة
فوجوب ذي المقدمة بالإضافة إليها وجودا وعدما اما ان يكون مطلقا أو يكون مشروطا
بوجودها. فان كان مطلقا كان معناه وجوب ذي المقدمة في ظرف عدم الاتيان بالمقدمة
وهو ممتنع لأنه تكليف بما لا يطاق فيثبت كونه مشروطا باتيان المقدمة ولازمة عدم
استحقاق العقاب بترك ذي المقدمة من ناحية ترك مقدمته لعدم الوجوب حينئذ لفقدان
شرط الوجوب فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب.
وفيه: أولا انه لو تم ما أفيد لزم عدم وقوع الكذب في الأمور المستقبلة مثلا لو
أخبر المخبر بأنه يسافر غدا فعلى فرض عدم المسافرة لا وجه لتكذيبه إذ اخباره بالمسافرة
اما ان يكون على تقدير ايجاد جميع المقدمات والمفروض عدم وجود واحدة أو أكثر
منها فلا يكون كذبا إذ عدم تحقق الملزوم في فرض عدم تحقق اللازم ليس كذبا في
القضية الشرطية.
وثانيا بالحل وهو ان الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بين القيود فمعنى
اطلاق وجوب ذي المقدمة انه لأنظر له إلى المقدمات وجودا وعدما والمفروض كونه
في الفرضين تحت قدرته واختياره فلا اشكال فيه.
ومنها: ما افاده المحقق الخراساني وهو وجود الأوامر الغيرية في الشرعيات
والعرفيات فان ذلك من أوضح البرهان على وجوب المقدمة، لوضوح انه لا يكاد يتعلق
بمقدمة امر غيري الا إذ كان فيها مناطه، وإذا كان فيها كان في مثلها، فيصح تعلقه بها أيضا
لتحقق ملاكه.
428

وفيه: ان هذا يتم لو كانت تلك الأوامر مولوية، وقد ثبت في محله ان الأوامر
المتعلقة بالاجزاء والشرائط ظاهرة في الارشاد إلى شرطيتها وجزئيتها.
ومنها: ما ذكره البصري، وهو انه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها وحينئذ فان بقى
الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق، والاخراج الواجب المطلق عن كونه واجبا.
وفيه: ان الملازمة ممنوعة. سواء أريد بالجواز الجواز الشرعي، بالمعنى الأعم، أو
الأخص، أم أريد به الجواز أعم من الشرعي والعقلي.
اما على الأول: فلانه يمكن ان لا تكون محكومة بحكم أصلا. ودعوى، انه
لا تخلو واقعة عن حكم شرعي متعلق بها، مندفعة بان هذا من حيث هو، واما بلحاظ طرو
المانع فربما تكون الواقعة غير محكومة بحكم، كاستدبار الجدي حال الصلاة فإنه
لا يكون محكوما بحكم ترخيصي، لمنافاته مع وجوب الاستقبال، ولا محكوما بحكم
الزامي لعدم المصلحة والمفسدة.
واما على الثاني: فلان عدم الجوب شرعا لا يلازم عقلا، بل العقل يحكم
بلزوم الاتيان بها كما في أطراف العلم الاجمالي حيث إن الالزام الشرعي ليس بأزيد من
واحد الا ان العقلي منه متعدد.
وان أريد بالجواز عدم المنع الشرعي من الترك، فالملازمة وان كانت ثابتة ولكن
مع حكم العقل بلزوم الاتيان بها لا يترتب محذور على الامر بذى المقدمة كما لا يخفى.
فالمتحصل تمامية الوجه الأول فحسب وكفى به مدركا للقول بوجوب المقدمة.
وربما يفصل بين السبب وغيره بوجوب الأول دون الثاني. واستدل لوجوب
الأول بان الامر المتعلق بالمسبب متعلق به. أقول مع قطع النظر عن كون ذلك خارجا عن
محل الكلام، غير تام في نفسه.
وتنقيح القول فيه ان في تعلق الامر المتعلق بالمسبب بالسبب، أقوالا: أحدها: انه
متعلق بالسبب مطلقا عقلا. ثانيها: انه متعلق به نفسه كذلك، ثالثها: التفصيل: بين ما لو كانت
الواسطة من قبل الآلة مثل انكسار الخشية المتحقق بايصال الآلة قوة الانسان إليها
فالمتعلق هو المسبب، وبين ما لو لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر، كما في
429

القاء النفس إلى السبع فيتلفها، أو القاء شخص في النار فتحرقه، فيرجع الامر إلى التعلق
بالسبب.
وقد استدل للأول بوجهين: أحدهما: ان المعتبر في متعلق التكليف ان يكون فعلا
صادرا عن المكلف، والمسبب ليس كذلك فان المسبب من فعل السبب والواسطة:
لانفكاكه عن المكلف في بعض الأحيان، كما إذا رمى سهما فمات فأصاب زيدا بعد
موت الرامي، فلو كان الفاعل هو المكلف الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم
الرامي: لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا فيكشف ذلك عن عدم كون الفاعل
في المثال هو الرامي، بل هو السهم غاية الامر انه لم يكن فاعلا بالطبع وانما يكون فاعليته
من جهة احداث الرامي القوة فيه.
وفيه: ان المسبب من أفعال المكلف بنظر العرف، فإنه عندهم ليس هناك
وجودان وإيجاد ان، بل وجود واحد، وهذا يكفي تعلق التكليف. مع أنه لم يدل دليل
على اعتبار كون المتعلق من أفعال المكلف بل الذي دل عليه الدليل هو كون المأمور به
بيد المكلف وباختياره وان كان من قبل الواسطة وبعبارة أخرى يعتبر كون المكلف به
مستندا إلى المكلف وان لم يكن فعله.
الثاني: عدم كون المسبب مقدورا إذ هو قطع النظر عن سببه لا يقدر عليه
المكلف ومع وجوده يكون واجب الصدور فعلى أي تقدير غير مقدور.
ويرد عليه ان المسبب وان لم يكن مقدورا بالمباشرة الا انه مقدور بواسطة القدرة
على سببه.
واستدل المحقق اليزدي للثالث بان متعلق الطلب لابد وأن يكون معنى مصدريا
صادرا عن المكلف فلو لم يكن كذلك بان لم يكن من معنى المصدر كما في الاعراض
التي تكون بالنسبة إلى محالها كونها حالة فيها من دون ان تكون صادرة عن محالها
كالموت والحياة والبياض والسواد، أو كان ولم يكن صادرا من المأمور لم يمكن تعلق
الامر به. اما الأول فواضح. واما الثاني فلان الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى
الفعل ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه فإذا كان الطلب صورة متعلقا بما ليس من
430

الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك، وعليه فإذا تعلق بما ليس بينه
وبين المكلف الا آلة توصل قوة الفاعل إلى القابل، وما إذا تعلق بالافعال التي ليست فعلا له
بل هي من أفعال الواسطة، ففي الأول التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل، وفي الثاني يجب
ارجاعه إلى السبب.
ويرده ان المعتبر في تعلق التكليف، كونه من حركات المكلف، ومستندا إليه،
ومن الواضح ان المسبب في الموردين من هذا القبيل.
فالأظهر هو التعلق بالمسبب. نعم يمكن ان يوجه تعلقه بالسبب، بما قد مر من أن
المقدمات السببية خارجة عن محل الكلام وهي واجبة بالوجوب النفسي لا الوجوب
المقدمي إذ إرادة المسبب بعينها إرادة السبب وكذلك البعث نحوه بعينه بعث نحو سببه
وكذلك التحرك نحو أحدهما عين التحرك نحو الاخر بل بالنظر العرفي ليس هناك الا
وجودا واحدا وحركة واحدة فعلى هذا لا معنى لجعل وجوبين.
الواجب الأصلي والتبعي
ذكر المحقق صاحب الكفاية في المقام انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي مع أن
المناسب عليه كان درج هذا التقسيم في الامر الثالث لأنه من شؤون تقسيم الواجب وكيف
كان ففي الكفاية والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعية في الواقع ومقام
الثبوت حيث يكون الشئ تارة متعلقا للإرادة والطلب مستقلا للالتفات إليه بما هو عليه
مما يوجب طلبه فيطلبه كان طلبه نفسيا أو غيريا وأخرى متعلقا للإرادة تبعا لإرادة غيرة
لأجل كون ارادته لازمة لإرادته من دون التفات إليه بما يوجب ارادته.
أقول ان الأصلي التبعي بالمعنى الذي ذكره لهما لا تقابل بينهما.
توضيح ذلك أن الأصلي والتبعي تارة يطلقان بلحاظ مقام الاثبات والدلالة
فالمراد، بالأصلي هو ما كان مقصودا بالافهام من الخطاب بحيث تكون دلالة الكلام عليه
بالمطابقة، وبالتبعي هو ما لم يكن كذلك بل كانت دلالة الكلام عليه بالتبعة والالتزام،
431

وهذا التقسيم لا يترتب عليه ثمرة.
وأخرى يطلقان بلحاظ مقام الثبوت، والاطلاق بلحاظ هذا المقام قد يكون بلحاظ
تعلق الالتفات إذ ربما يكون المحبوب ملتفتا إليه مستقلا، وربما يكون ملتفتا إليه ارتكازا
واجمالا بمعنى انه لو التفت إلى موجبها لإرادة. وبهذا المعنى يتصف كل من النفسي
والغيري بالأصلي والتبعي، ولا يختص التقسيم إليهما بالغيرى. مثلا، تارة يعلم المولى بان
ابنه في شرف الغرق وملتفت إلى ذلك وبامر عبده بانقاذه. وأخرى لا يلتفت إليه ويكون
وجوب الانقاذ حينئذ بحكم العقل، وهذا هو الوجوب النفسي التبعي إلى لو التفت إلى
موجبه لأوجبه.
وقد يطلقان بلحاظ تعلق الإرادة، فإنه ربما يكون تعلق الإرادة لأنه محبوب وفيه
مصلحة، وربما يكون من جهة ترشحا من إرادة متعلقة بشئ آخر، وبهذا المعنى
يختص الأصلي بالواجبات النفسية وهي منحصرة فيه. ويختص التبعي بالغيرية. وبعبارة
أخرى يكون هذا التقسيم بعينه التقسيم السابق أي التقسيم إلى النفسية والغيرية، إذ
الواجب النفسي ما يكون متعلقا للإرادة مستقلا ناشئة عن محبوبيته، والغيري يكون متعلقا
للإرادة، المترشحة من إرادة أخرى، فوجوب الواجب النفسي اصلى، ووجوب الغيري
تبعي.
والمحقق الخراساني حيث جعل الأصلي بالمعنى الثاني - أي الملتفت إليه
استقلالا - مقابلا وقسيما للتبعي بالمعنى الثالث أي المراد بالإرادة المترشحة، التزم
بجريان القسمين في الواجبات الغيرية دون النفسية، وبما ذكرناه عرفت عدم التقابل
بينهما، وان الواجب الغيري لا يعقل كونه، أصليا بالمعنى الأخير، بالجملة، هذا التقسيم
باللحاظين الأولين لا يترتب عليه ثمرة، وباللحاظ الأخير يرجع إلى التقسيم السابق.
قال في الكفاية إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعقل به إرادة مستقلة فإذا شك في
واجب انه اصلى أو تبعي فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت انه تبعي انتهى.
وأورد عليه المحقق الأصفهاني بان معنى عدم استقلالية الإرادة لو كان نشوها عن
إرادة أخرى وترشحها منها فالأصلية موافقة للأصل إذ الترشح من إرادة أخرى امر وجودي
432

مسبوق بالعدم، والاستقلال على هذا امر عدمي، وهو عدم نشوها عن إرادة أخرى.
أقول ان الموضوع إذا قيد بأمر عدمي فان كان ذلك هو عدم الاتصاف يجرى
الأصل فيه فإذا كان الجزء الاخر محرزا بالوجدان أو بالأصل يترتب عليه الأثر. كما هو
الشأن في كل موضوع مركب من أمرين وجوديين الذي لا يكون الدخيل وصف
اجتماعهما أو غير ذلك من العناوين. وأما إذا كان ذلك هو الاتصاف بعدم ذلك القيد فان
كان لهذا العدم النعتي حالة سابقة يجرى الأصل فيه، والا فلا فان استصحاب العدم
المحمولي لاثبات العدم النعتي من الأصول المثبتة. وحيث إن في المقام الوجوب الأصلي
هو المقيد بعدم الترشح من الغير فالعدم المأخوذ فيه عدم نعتي فاستصحاب عدم الترشح
بنحو العدم المحمولي لا يصلح لاثباته.
مقدمة الحرام
ثم انه مما ذكرناه في مقدمة الواجب يظهر الحال في مقدمة المستحب فان الكلام
فيهما واحد.
واما مقدمة الحرام فقد يقال ان ما ذكر في مقدمة الواجب بعينه يجرى في مقدمة
الحرام، إذ ما يكون حراما لا محالة يكون تركه واجبا، فترك المقدمة التي به يترك
الحرام يكون مقدمة الواجب، فعلى القول بوجوبها، يجب ذلك الترك فيحرم فعلها إذ
نقيض الواجب حرام. نعم، بين المقامين فرق، وهو ان الفعل إذا وجب حيث إنه يتوقف
على جميع المقدمات فتجب الجميع، وأما إذا كان الترك واجبا، فجميع التروك أي
ترك المقدمات ليست مقدمة لترك ذي المقدمة، بل هو يترك بترك مقدمة واحدة، فهو
الواجب دون الجميع فيجب إحداها تخييرا ولكن هذا ليس بفارق في المقام.
ويرد عليه ان ترك الحرام ليس بواجب، لعدم المصلحة في الترك، والوجوب
تابع لها، بل انما نهى عن الفعل لوجود المفسدة فيه.
وحق القول في المقام ان يقال، ان مقدمة الحرام على قسمين، الأول ما إذا لم
433

يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وارادته، الثاني ما يتوسط بينهما الإرادة.
واما الأول: فهو على اقسام. 1 - ما إذا لم تكن بينهما رابطة ولكن من باب الاتفاق
صار كذلك كمن يعلم من نفسه انه لو دخل في المكان الفلاني لاضطر إلى ارتكاب
الحرام قهرا. 2 - ما إذا كان بينهما ارتباط وكانت المقدمة سببا وعلة لذي المقدمة ولكل
منهما وجود يختص به كما في اسقاء السم المترتب عليه ذهاق الروح بعد مدة من الزمان.
وكطلوع الشمس الذي يكون علة لضوء النهار وأمثال ذلك من المسببات التوليدية. 3 - ما
إذا كان بينهما ارتباط وكانا موجودين بوجود واحد وكان هناك فعل واحد معنون
بعنوانين طوليين كما في العناوين التوليدية مثل الانحناء والتعظيم. وبحسب النظر العرفي
كما في الالقاء في النار والاحراق. وكذا الحال في الطهارات الثلاث وفري الأوداج
والقتل وأمثال ذلك.
وقد حكم المحقق الخراساني بحرمة المقدمة في جميع هذه الأقسام بالحرمة
الترشحية الغيرية.
وحكم المحقق النائيني (ره) بحرمتها بالحرمة النفسية. وأفاد في القسم الأول في
غير المقام بان المقدمة حينئذ من قبيل المقدمة الفوتة وتقدم منه ان العقل مستقل
بقبحها وبضميمة قاعدة التلازم يستفاد حرمتها.
وأفاد في القسم الثاني ان المقدمة هي التي تعلق بها القدرة والإرادة أولا وبالذات
والمعلول انما يكون مقدورا بتبعها فتسري إليها الحرمة المتعلقة به.
وأفاد في القسم الثالث ان ما فيه المفسدة هو الفعل المعنون فلا محالة يكون هو
المتعلق للحرمة غاية الامر لا بصورته الأولى بل بعنوانه الثانوي. وبعبارة أخرى ان الصادر
عن المكلف فعل واحد معنون بعنوانين طوليين أولى وثانوي فالحكم المتعلق بأحدهما
متعلق بالآخر.
أقول ما افاده في القسم الأخير متين جدا وان كان المثال الفقهي الذي ذكره، وهو
اجراء الماء على اجزاء البدن للوضوء المنصب على ارض مغصوبة بلا وساطة جريانه على
ارض مباحة ليس من هذا القبيل: لان جريان الماء على اجزاء البدن خارجا مغاير وجودا
434

لجريان الماء على الأرض المغصوبة.
واما ما افاده في القسم الثاني فقد مر الكلام فيه في المقدمة السببية وعرفت ان
المحرم وهو المسبب لا حرمة نفسية له.
واما ما افاده في القسم الأول فقد مر ما فيه في المقدمات المفوتة وبينا انه
لا يستكشف الحكم من هذا الحكم العقلي. نعم، في القسم الثاني بناءا على ثبوت
الملازمة يمكن ان يقال ان هذه المقدمة محكومة بحكم ترشحي مقدمي كما في مقدمة
الواجب بعين الوجه الذي ذكرناه فيها.
ولعل مراد المحقق الخراساني هو هذا القسم دون القسمين الآخرين وعليه فما
افاده متين جدا. وهنا تم الجزء الأول، ويتلوه الجزء الثاني في مسألة الضد.
والحمد الله أولا وآخرا.
435