الكتاب: أصول الفقه
المؤلف: الشيخ محمد رضا المظفر
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٨٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
الجزء الأول
تاليف: الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
الحمد لله على تواتر آلائه ووفور نعمائه، والصلاة والسلام على أفضل سفرائه
وخاتم أنبيائه، وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
وبعد، طالما كانت مؤسستنا والهة بتحقيق هذا السفر الشريف والأثر المنيف
وإخراجه بثوب فني جميل لائق بشأنه، وقد نالت مناها شاكرة لله تعالى، إذ تصدره
ممتازا عن طبعاته السابقة بما يلي:
1 - بذل الجهد البالغ في تصحيح الأخطاء، بعد المقابلة بالطبعة الأولى
والتعرض للاختلافات بتثبيت ما هو الأحرى في المتن والإشارة إلى غيره في الهامش.
2 - الاعتناء الوافر بوضع علامات الترقيم موضعها بالدقة - وقلما يوجد كتاب
محقق روعي فيه ذلك دقيا - وإعراب بعض الكلمات صونا عن اشتباه محتمل
حصوله عند القراءة، وتسهيلا لفهم المراد.
3 - تخريج الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وإرجاع ما ذكره المؤلف (قدس سره)
من الأقوال إلى مصادرها.
4 - تصدير الكتاب بمقدمة نافعة بقلم الأستاذ المحقق الشيخ محمد مهدي
الآصفي - دام ظله - مبينة لتأريخ علم الأصول وتطوره ومدارسه ومناهجه، مشتملة
على نبذة من حياة المؤلف (قدس سره).
وجدير بالذكر أن بعض التعليقات ال
توضيحية أو الاستدراكية التي كانت في
هامش الطبعات السابقة - ولم يتبين لنا أنها من المؤلف أو من المصححين - أثبتناها
كما هي ورمزنا إليها بالنجمة (*).
نسأل الله تعالى المزيد من التوفيق والسداد، إنه ولي الرشاد.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
1

تقديم بقلم الأستاذ المحقق
الشيخ محمد مهدي الآصفي:
يقول الفقهاء في تعريف علم الفقه:
" هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية " في مقابل التقليد
الذي هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية أيضا، ولكن عن دليل إجمالي. وهذا
الدليل الإجمالي الساري في كل المسائل الفقهية عنه المقلد هو الاعتماد على
فتوى المجتهد.
والأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة والعقل والإجماع.
والعمدة من الأدلة الأربعة هي الكتاب والسنة، ويأتي دور الإجماع والعقل
في مرحلة ثانوية، وهما كاشفان عن الحكم الشرعي وليسا دليلين شرعيين
كالكتاب والسنة.
ولكي يستخرج الفقيه الحكم الشرعي من الكتاب والسنة يحتاج إلى ثلاث
طوائف من العلوم تمكنه من استخراج الأحكام الشرعية أدلتها التفصيلية وهي:
1 - العلوم الممهدة للاستنباط (مبادئ الاستنباط).
2 - القواعد الفقهية.
3 - علم أصول الفقه.... بالتفصيل التالي:
الطائفة الأولى العلوم الممهدة للاستنباط (مبادئ الاستنباط).
وهذه العلوم هي:
1 - اللغة العربية وقواعدها: لأن مصادر الفقه الأساسية وهي الكتاب والسنة
5

باللغة العربية، ومن دون أن يتمكن الفقيه من اللغة العربية وقواعدها لا يستطيع أن
يستنبط أحكام الله تعالى منهما، كما أن أمهات الكتب الفقهية كذلك باللغة العربية،
وعلى العموم لغة الفقه هي العربية فلابد من أن يتوفر الفقيه على هذه اللغة
وقواعدها بالمقدار الذي يمكنه من فهم هذين المصدرين بشكل كامل ودقيق.
2 - المنطق: ولابد منه في كل العلوم القائمة على الاستدلال العقلي، وهو الفهم
العلمي للاستدلال أو كما يقول علماء المنطق: " آلة الاستدلال " وهو تعبير جيد في
تحديد مهمة المنطق ودوره بالنسبة إلى العلوم العقلية والاستدلالية.
3 - علم الحديث (الدراية): ويحتاجه الفقيه في تشخيص الحديث الذي
يمكن الاعتماد عليه في الاستنباط، وهو لا يمكن إلا بمعرفة قواعد الحديث
وتاريخه وأقسامه.
4 - التفسير وعلوم القرآن: لابد للفقيه من الإلمام بعلوم القرآن ومعرفة الناسخ
والمنسوخ والمحكم والمتشابه والتأويل والتفسير وغير ذلك من أبحاث علوم
القرآن التي تمكن الفقيه من فهم القرآن كما لابد للفقيه من ممارسة كتب التفسير
وآيات الأحكام بقدر ما يمكنه من فهم آيات الأحكام في القرآن والدقائق
والرقائق العلمية التي تتضمنها هذه الآيات.
5 - الرجال وعلم الجرح والتعديل: وهو خاص بمعرفة الرواة الثقات الذين
يمكن الاعتماد عليهم في الرواية...
وهذا العلم من العلوم التي ابتكرها على المسلمين، وليس له عند غير
المسلمين أثر ولا خبر حتى اليوم، وهو غير علم (التراجم والسير). وإن كانت
التراجم والسير تساعد علماء الرجال في الجرح والتعديل.
هذه هي أهم العلوم التي تمكن الفقيه من الاجتهاد.
الطائفة الثانية القواعد الفقهية:
هي أحكام كلية تندرج تحتها تطبيقات متشابهة لمصاديقها وجزئياتها، وقد
تكون هذه القواعد خاصة بكتاب واحد من كتب الفقه مثل قواعد الإرث والديات
6

والحدود. وقد تكون القاعدة تسري في أكثر من كتاب مثل قواعد العبادات
وقواعد المعاملات، وقد تسري القاعدة في أكثر من قسم مثل قاعدة الضرر فهي
تجري في العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام.
ويستند الفقيه على هذه القواعد لمعرفة الأحكام الشرعية، ولا غنى للفقيه عن
معرفة هذه القواعد والقدرة على تطبيقها في مواردها وتشخيص موارد تطبيقها
عن غيرها.
وأول من كتب في القواعد الفقهية كتابه منهجيته على ما أعلم هو الشهيد الأول
محمد بن مكي العاملي (رحمه الله) (المتوفى سنة 786 ه‍).
ويعرف كتابه ب‍ " القواعد والفوائد " وهو يتضمن ما يقرب من ثلاثمائة وثلاثين
قاعدة، غير أن فيها قواعد أدبية لا صلة لها بالفقه بصورة مباشرة. وهو كتاب جليل
قيم قال عنه مصنفه (رحمه الله) في إجازته لابن الخازن: إنه لم يعمل الأصحاب مثله.
ومن المتأخرين ألف في هذا الباب المولى المحقق النراقي كتاب
" عوائد الأيام " وهو من الكتب القيمة في هذا الباب ذكر فيه مؤلفه 88 قاعدة غير
أن فيها قواعد أصولية ودراسات قرآنية.
وكتاب " العناوين " للمحقق المير فتاح، من الكتب القيمة الجيدة في هذا
الباب.
وقد جمع الفقيه المعاصر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله) في المجلد
الأول من تحرير المجلة 182 قاعدة فقهية منها مائة قاعدة ذكرها صاحب المجلة
وأضاف إليها الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله) 82 قاعدة... وقال الشيخ: لو أردنا أن نحصي
جميع القواعد التي يرجع إليها في عامة أبواب الفقه لأمكن أن تنتهي إلى خمسمائة
قاعدة أو أكثر.
ومن الفقهاء المتأخرين المحقق البجنوردي ألف في القواعد الفقهية كتابا
جامعا قيما في سبع مجلدات ذكر فيه 64 قاعدة.
ومن فقهائنا الأحياء - حفظهم الله - من خص القواعد بكتب مستقلة ونافعة
وجيدة يطول الكلام بذكرها.
7

ثالثا علم أصول الفقه:
وهو مجموعة القواعد الكلية التي تقع كبرى لقياس الاستنباط وتنتج بعد ضم
صغرياتها إليها حكما شرعيا كليا أو وظيفة عملية. وهذا التعريف من أشهر
التعاريف وأسدها لعلم الأصول. ولابد لذلك من توضيح وتمثيل، فأقول:
دل على مطهرية الأرض إجماع فقهائنا أولا رواية صحيحة عن زرارة عن
أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ثانيا.
إلا أن دلالة الإجماع والصحيحة على مطهرية الأرض تتوقف على مجموعة
من الأصول والقواعد الكلية التي لابد من أن يضمها الفقيه إلى كل من هذين
الدليلين ليتألف من كل منهما قياس ينتج الحكم بمطهرية الأرض.
فلابد أولا من إثبات حجية الإجماع، ومن دون إثبات حجية الإجماع لا
يدل الإجماع المتقدم على الحكم الشرعي.
ولابد في دلالة صحيحة زرارة على الحكم المتقدم من إثبات حجية خبر
الواحد الثقة ومن دون ذلك لا تدل الصحيحة على الحكم المتقدم ولابد من إثبات
حجية الظهور العرفي للكلام. ومن دون إثباتها لا تدل الرواية على هذا الحكم.
ولابد بعد ذلك من أن يعتمد الفقيه قواعد علمية لعلاج التعارض، إذا كان
لصحيحة زرارة روايات معارضة.
وهذه القواعد وأمثالها هي التي يبحث عنها علم الأصول. وهي تقع كبرى
القياس الاستنباطي الذي يتوصل الفقيه من خلاله إلى الحكم الشرعي بعد أن يضم
إليه صغرى القياس، وهو الإجماع والصحيحة في المثال المتقدم.
ويطلق على هذه الأحكام في أصول الفقه بالأحكام الواقعية وعلى أدلتها
بالأدلة الاجتهادية.
وقد لا يتوصل الفقيه من خلال الأدلة الاجتهادية إلى الحكم الشرعي
الواقعي...
فيلجأ عندئذ إلى اكتشاف الوظيفة العملية والموقف العملي في ظرف الجهل
8

بالحكم الواقعي. وهذه الوظائف منها ما يقرره الشرع في ظرف الجهل بالأحكام
الواقعية مثل البراءة الشرعية والاستصحاب. وقد تكون مما يقرره العقل
كالاشتغال والتخيير العقليين.
وكما تقع الأحكام الأصولية كبريات في الأقيسة الاستنباطية التي يتوصل
من خلالها الفقيه إلى الأحكام الشرعية الواقعية، كذلك تقع الأحكام الأصولية
كبريات في الأقيسة التي يتوصل من خلالها الفقيه إلى الأحكام الظاهرية
والوظائف العملية عند الجهل بالأحكام الواقعية، وعدم إمكان الوصول إليها من
خلال الأدلة والحجج الاجتهادية.
الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:
والفارق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية مع أن كلا منهما يقعان في
طريق الوصول إلى الحكم الشرعي.
إن استفادة الحكم الشرعي من القاعدة الأصولية تكون من باب الاستنباط.
أما استفادة الحكم الشرعي من القاعدة الفقهية فتكون من باب التطبيق.
ولذلك لا يستخدم القاعدة الأصولية إلا المجتهد المتمكن من الاستنباط، أما
القاعدة الفقهية فتعطى للمقلد مباشرة ليطبقها مباشرة على مواضع الابتلاء والحاجة
كما في قاعدة الضرر والحرج واليد وأمثال ذلك.
وهذا هو الرأي الذي كان يذكره سيدنا الأستاذ الخوئي (رحمه الله) في مجلس درسه.
الفرق بين علم الأصول والعلوم الممهدة للاستنباط:
ومن التوضيح المتقدم في تعريف علم الأصول نعرف الفرق بين علم الأصول
والعلوم الممهدة للاستنباط مثل اللغة وقواعدها، والمنطق، والجرح والتعديل،
والحديث وقواعده... فإن هذه العلوم، وإن كانت تقع لا محالة في طريق
الاستنباط، ولا يستطيع الفقيه من دونها أن يستنبط الحكم الشرعي في جملة من
المسائل الفقهية، إلا أنها لوحدها لا تنتج الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها كبرى
9

أصولية. فإن وثاقة الراوي مثلا لا ينتج الحكم الشرعي ما لم تنضم إليها كبرى
حجية رواية الثقة الواحد.
بخلاف القواعد الأصولية، فإنها بنفسها منتجة للحكم الشرعي إذا انضمت إليها
صغرياتها.
الطبيعة الآلية لعلم الأصول:
ومن خلال هذا التعريف لعلم الأصول والمقارنة بينه وبين القواعد الفقهية
والعلوم الممهدة للاستنباط (مبادئ الاستنباط) نعرف أن دور الأصول دور آلي
في الاستنباط. كالدور الذي يؤديه المنطق بالنسبة إلى العلوم العقلية. وكما لا
يمكن الوصول إلى نتيجة علمية في العلوم الاستدلالية العقلية، من دون علم
المنطق، كذلك لا يمكن الدخول إلى استنباط الحكم الشرعي (الواقعي والظاهري)
من دون استخدام القواعد الأصولية في أقيسة الاستنباط.
تاريخ علم الأصول:
علم أصول الفقه من العلوم التي ابتكرها علماء المسلمين، واختص به
المسلمون إلى اليوم.
وأول من كتب في هذا العلم من فقهاء السنة محمد بن إدريس الشافعي إمام
المذهب الشافعي (المتوفى سنة 204 ه‍) ألف " الرسالة " في هذا العلم، وهو أول
كتاب علمي منهجي في علم الأصول لفقهاء أهل السنة.
أما عند الشيعة الإمامية. فقد شهد عصر النص (1) في حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
البدايات الأولى لهذا العلم... ولا سيما منذ عصر الصادقين (عليهما السلام)... فقد اتسعت

(1) الفقه المأثور عن أهل البيت (عليهم السلام) ليس من الاجتهاد في الفقه، كما هو لدى غيرهم من أئمة
المذاهب الفقهية وإنما هو مجموعة نصوص توارثوها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). تلقاها
أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأورثها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) إماما بعد إمام
وكابرا بعد كابر. ولذلك فإن هذه النصوص تأتي في امتداد الحديث النبوي وليس من
الاجتهاد في شئ وهذه هي عقيدة الإمامية في حديث أهل البيت (عليهم السلام).
10

المساحة الجغرافية التي يتواجد فيها أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في هذا التاريخ ولم
يكن يتيسر لهم الرجوع إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للسؤال عنهم فيما يشكل عليهم
من شؤون دينهم.
فكيف يتأتى لمن يعيش في بلاد آذربايجان أو كابل أو بلاد ما وراء النهر أن
يعرض سؤاله على الإمام الصادق (عليه السلام) وهو في المدينة أو في الكوفة... ويومئذ كان
أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يسكنون رقعة واسعة جدا من الأرض.
فكان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينصبون لهم رواة أحاديثهم وعلماء مدرستهم ممن
أخذوا علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم، وكانوا يأمرون شيعتهم بالرجوع إليهم.
روى محمد بن قولويه بالإسناد إلى علي بن المسيب الهمداني. قال: قلت
للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة، ولست أصل إليك في كل وقت، فممن آخذ عنه معالم
ديني قال: من زكريا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا (1).
وروى عبد العزيز بن المهتدي قال سألت الرضا (عليه السلام) فقلت إني لا ألقاك في كل
وقت، فعمن آخذ معالم ديني، قال (عليه السلام): خذ عن يونس بن عبد الرحمن (2).
وروى الطبرسي في الاحتجاج عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): فأما من
كان من الفقهاء، صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه،
فللعوام أن يقلدوه (3).
وبطبيعة الحال لم يكن هؤلاء الأعلام من تلامذة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
يستحضرون جميع النصوص المروية من حديثهم (عليهم السلام)... فكانوا يضطرون كثيرا
إلى الاجتهاد واستخدام القواعد والأصول الأولية لاستنباط الحكم الشرعي
الواقعي أو الوظيفة الشرعية (الأحكام الظاهرية).
وأهم وجوه الحاجة إلى استخدام القواعد والأليات الأصولية لاستنباط
الحكم الشرعي هو:

(1) جامع الرواة للأردبيلي 1: 330.
(2) جامع الرواة 2: 357 ط الأولى.
(3) الاحتجاج للطبرسي 2: 263 ط النجف.
11

تعارض الروايات المروية عنهم (عليهم السلام)... وقد يحصل التعارض أحيانا بسبب
الظروف السياسية التي كانت تضطرهم (عليهم السلام) إلى استخدام التقية، كما كان يحصل
بسبب انتشار ظاهرة انتحال الحديث (عليهم السلام)، وغير ذلك من الأسباب، وكان لابد من
علاج لهذه الحالات من التعارض.
ومن هذه الوجوه ورود عمومات وخصوصات ومطلقات وتقييدات في
حديثهم (عليهم السلام) وكان لابد من طريقة علمية لتخصيص العمومات بالمخصصات
والمطلقات بالمقيدات.
ومن هذه الوجوه خلو الواقعة أحيانا من النصوص والحجج الشرعية من
الكتاب والسنة أو عدم وفاء الحجج الشرعية بالحكم الشرعي، حيث يضطر الفقيه
إلى البحث عن الوظيفة العملية في ظرف فقدان الدليل والشك والجهل بالحكم
الشرعي.
ولهذه الوجوه وأمثالها كان أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يوجهون علماء مدرستهم إلى
استعمال الآليات العلمية المقررة في أمثال هذه الموارد لاستنباط الحكم الشرعي
الواقعي أو الوظيفة الشرعية عند فقدان الدليل على الحكم الشرعي الواقعي.
وكانوا يطلبون منهم أن يأخذوا منهم (عليهم السلام) الأصول، ثم يمارسوا التفريع عليها
بموجب القواعد والأصول الصحيحة.
روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع.
وعن الرضا (عليه السلام) قال: علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع.
الآليات الأصولية في حديث أهل البيت (عليهم السلام):
وقد ورد ذكر الآليات الأصولية التي تمكن الفقيه من الاستنباط في أحاديث
أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا ونحن نشير فيما يلي إلى بعضها للاستشهاد والمثال:
جاء في حجية خبر الثقة:
سأل أحمد بن إسحاق أبا محمد (عليه السلام) عمن يأخذ أحكام دينه، فقال: العمري
وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان.
12

وفي التوقيع الذي يرويه أحمد بن يعقوب سأل الإمام المهدي (عليه السلام) عن مسائل
فورد التوقيع بخطه الشريف: أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا
فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله (1).
ويسأل الراوي الإمام الرضا (عليه السلام) عن يونس بن عبد الرحمن " ثقة، آخذ عنه ما
أحتاج من معالم ديني " قال: نعم.
والروايات بهذا المعنى كثيرة متضافرة تدل على حجية خبر الواحد ثقة وهو
أصل هام من الأصول.
وورد في حجية الظواهر عن الإمام الصادق (عليه السلام) لمن وضع على إصبعه مرارة
لجرح أصابه كيف يتوضأ؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله * (ما جعل عليكم
في الدين من حرج) * وهو يدل على حجية ظواهر الكتاب العزيز.
وحجية الظواهر من الأصول والقواعد الهامة التي تدخل في عملية الاستنباط.
وفي علاج الروايات المتعارضة روى عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله
الصادق (عليه السلام) قال: سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة (إلى أن
قال عن الحكمين اللذين يحكمان بينهما من رواة الحديث): وكلاهما اختلفا في
حديثكم، فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث
وأورعهما.
قال فقلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، فقال: ينظر إلى من كان
روايتهما عنا في ذلك الحكم الذي حكما به المجمع عليه فيؤخذ به ويترك
الشاذ (2)... الخ، والحديث طويل وهو حديث معروف يعالج حالة التعارض في
الروايات.
والروايات بهذا المضمون كثيرة، وهذه الروايات معروفة لدى الأصوليين
بالروايات العلاجية، وهي روايات عديدة تعالج حالات التعارض بين الروايات.

(1) الفصول المهمة في أصول الأئمة: 208.
(2) وسائل الشيعة 18: 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.
13

وفي حجية الاستصحاب، ورد في حديثهم (عليهم السلام): لا ينقض اليقين أبدا بالشك
وإنما ينقضه بيقين آخر (1) وهو بمعنى حجية الاستصحاب وهو أصل عملي
معروف بين الفقهاء.
وورد أيضا في نفس المعنى: من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن
الشك لا ينقض اليقين (2).
وورد أيضا: ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين، لكنه ينقض
الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه - ولا يعتد بالشك في حالة من
الحالات (3).
وهذه الروايات وغيرها تدل على حجية الاستصحاب وهو من الأصول
العملية المعروفة لدى كافة فقهاء المسلمين.
وروى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق في أصالة الحل في كل أمر اشتبه
الإنسان في حليته وحرمته: كل شئ لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه، فتدعه من
قبل نفسه (4).
وقد صنف من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) في هذا العلم هشام بن الحكم الكوفي
الشيباني (المتوفى سنة 179 ه‍) وكان من ثقات رواة أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وابنه
الإمام موسى بن جعفر... صنف كتاب " الألفاظ ومباحثها " وهي من أبحاث
الأصول.
كما صنف يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين من أصحاب أبي الحسن
موسى بن جعفر والإمام الرضا (عليهما السلام)... كتاب " اختلاف الحديث ومسائله ".
وهو من المباحث المهمة في أصول الفقه في مسألة تعارض الأحاديث.
وجمع طائفة من الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الأصول

(1) الفصول المهمة للحر العاملي: 250، ط النجف.
(2) نفس المصدر: 250.
(3) نفس المصدر: 250.
(4) الفصول المهمة للحر العاملي: 253.
14

صاحب الوسائل الحر العاملي (رحمه الله) في " الفصول المهمة في أصول الأئمة " وهو
كتاب مبوب تبويبا جيدا، وقد بذل صاحب الوسائل (رحمه الله) جهدا كبيرا في تنظيم
وتبويب هذا الكتاب، كما جمع السيد عبد الله شبر (رحمه الله) طائفة من أحاديث الأئمة (عليهم السلام)
في الأصول في كتابه القيم " الأصول الأصيلة ".
ومن المدونات الجيدة في هذا الباب كتاب " أصول آل الرسول " للسيد هاشم
الموسوي ابن زين العابدين الخونساري. ومهما يكن من أمر فإن البدايات الأولى
لهذا العلم الشريف ظهرت في عصر الأئمة من آل البيت (عليهم السلام) ومن خلال أحاديثهم
وتوصياتهم لعلماء مدرستهم في تفريع الفروع على الأصول كما تقدم.
علم الأصول في عصر الغيبة:
وفي عصر الغيبة، وهو عصر انقطاع النص، أخذ علم الأصول بالتطور على يد
فقهاء هذا العصر.
وكلما كان الفقهاء يبتعدون عن عصر الحضور كانوا يشعرون بمسيس الحاجة
إلى هذا العلم وتطويره وتوسعته أكثر من ذي قبل.
وأول كتاب - كتب في هذا العلم في عصر الغيبة كتاب " المتمسك بحبل آل
الرسول " للشيخ الأقدم الحسن بن علي بن عقيل النعماني.
ومن أبرز من كتب في هذا العلم من فقهاء عصر الغيبة الشيخ المفيد (المتوفى
413 ه‍) ألف كتاب " النكت في مقدمات الأصول " أدرجه الكراجكي على نحو
الاختصار في كتاب " كنز الفوائد " وأ لف المرتضى (رحمه الله) (المتوفى 436 ه‍) " الذريعة
إلى علم أصول الشريعة ".
وأ لف الشيخ الطوسي (المتوفى 460 ه‍) كتاب " عدة الأصول " في الأصوليين:
أصول الدين وأصول الفقه، وألف المحقق الحلي (رحمه الله) (المتوفى سنة 676 ه‍) كتاب
" الوصول إلى معرفة الأصول " وكتاب " المعارج ".
وللعلامة الحلي (رحمه الله) (المتوفى سنة 726 ه‍) عدة مؤلفات في الأصول منها
" تهذيب الوصول إلى علم الأصول " و " مبادئ الوصول إلى علم الأصول " و " نهاية
15

الأصول " و " نهج الوصول إلى علم الأصول " وألف الشيخ البهائي (المتوفى سنة
1031 ه‍) كتاب " زبدة الأصول ".
وألف الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني. (المتوفى سنة 1011 ه‍)
كتاب " معالم الدين وملاذ المجتهدين " وهو من الكتب الجيدة في الأصول. وقد
قرأنا هذا الكتاب على مشايخنا في هذا العلم عندما بدأنا دراسة الأصول. ومنذ
هذا الوقت بدأ علم الأصول لدى الشيعة الإمامية يتطور بشكل ملحوظ على يد
فقهاء هذه المدرسة.
الصراع الفكري بين المدرسة الأصولية والأخبارية:
في هذه الفترة طرأ على هذا العلم حدث جديد، وهو التوجه الإخباري الذي
ظهر على يد " الأمين الاسترآبادي " (المتوفى سنة 1036 ه‍) مؤلف كتاب " الفوائد
المدنية " في الاستغناء عن الطابع العقلي لعلم الأصول والاختصار على ما ورد من
أهل البيت (عليهم السلام) من الأحاديث، دون الاستعانة بالقواعد العقلية والأصولية
المعروفة.
ويظهر أن خلفية هذا التوجه هو مخافة الاستغراق في الاعتماد على العنصر
العقلي في الاجتهاد والابتعاد عن النص، كما حدث ذلك لمدرسة الرأي عند فقهاء
أهل السنة.
وقد أحدث هذا التطور الجديد صراعا شديدا بين المدرستين: المدرسة
الأصولية، والأخبارية.
وامتد هذا الصراع ما يقارب القرنين من الزمان، وانتهى بتضاؤل دور المدرسة
الأخبارية، وتنامي وتكامل المدرسة الأصولية وأهم النقاط الخلافية التي تبنتها
المدرسة الأخبارية هي:
1 - التشكيك في حجية الدليل العقلي والتلازم بين حكم العقل والشرع.
2 - تبني حجية كل ما ورد في الكتب الروائية الأربعة (الكافي، والتهذيب
والاستبصار، والفقيه).
16

3 - عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية.
4 - نفي حجية الإجماع.
5 - التوقف عن الأخذ بظواهر الكتاب العزيز حتى يرد تفسير وشرح عن أهل
البيت (عليهم السلام) لها.
ورغم أن مساحة هذا الصراع امتدت من إيران إلى البحرين والعراق وجبل
عامل، غير أن مدرسة كربلاء احتضنت الصراع العلمي بين هاتين المدرستين، من
خلال علمين من أعلام الفقه الشيعي بصورة مركزة.
وهذان العلمان هما: الشيخ يوسف (رحمه الله) صاحب الموسوعة الفقهية الجليلة
" الحدائق الناضرة " الذي انتقل إلى كربلاء والوحيد البهبهاني (رحمه الله) (المتوفى سنة
1206 ه‍).
مدرسة الوحيد البهبهاني بكربلاء:
أثرى هذا الصراع المدرسة الأصولية، من غير شك، ولولا هذا الصراع لم تبلغ
هذه المدرسة هذا الحد من العمق والتوسع والتطور العلمي.
وكان للوحيد البهبهاني الدور الرائد في تطوير وتعميق هذه المدرسة التي
تكونت وانتعشت بكربلاء على يد الأستاذ وتلامذة مدرسته من بعده.
وتنعكس طائفة من أفكار الوحيد البهبهاني (رحمه الله) الأصولية في كتبه التي أبقاها
من بعده، وأهمها كتاب " الفوائد الحائرية " بقسميه (القديم والجديد). وقد طبع هذا
الكتاب أخيرا طباعة محققة، وأخرج إخراجا ملائما لموقع الكتاب العلمي من
قبل المجمع الفكري الإسلامي ب‍ (مدينة قم المقدسة).
وله رسالة " الاجتهاد والأخبار " ورسالة في " حجية الإجماع " وغير ذلك.
وكتبه كلها جيدة، تعكس أفكار الأستاذ الأصولية.
وتخرج على يده عدد جم من كبار الفقهاء الذين جمعوا وطوروا هذه
المدرسة، ووسعوا آفاقها، وترك كثير منهم من بعده آثارا علمية قيمة في علم
الأصول.
17

من هؤلاء المحقق القمي صاحب كتاب " القوانين " في الأصول، وهو من
أفضل ما كتب في هذا العلم في مباحث الألفاظ وفي المباحث العقلية.
والشيخ أسد الله الكاظمي (المتوفى سنة 1234 ه‍) مؤلف " كشف القناع عن
حجية الإجماع " والشيخ محمد تقي الإصفهاني صاحب كتاب " هداية
المسترشدين " وهو تعليقة عميقة على كتاب " معالم الأصول " للشيخ حسن بن
زين الدين الشهيد ومن خير ما ألف وكتب في مباحث الألفاظ في الأصول،
والشيخ محمد حسين الإصفهاني (المتوفى سنة 1250 ه‍) صاحب كتاب
" الفصول " والشيخ أحمد النراقي (المتوفى سنة 1245 ه‍) صاحب كتاب " عوائد
الأيام "، والسيد محسن الأعرجي الكاظمي (المتوفى سنة 1227) صاحب كتاب
" المحصول في علم الأصول ".
وهؤلاء هم أعلام الأصوليين المتأخرين من تلامذة الوحيد البهبهاني.
وكتبهم من خير ما كتب في علم الأصول وهي لا تزال مدار البحث والتحقيق:
القوانين، والفصول، والعوائد، والمحصول. وقد أثروا المدرسة الأصولية، ومهدوا
لظهور مدرسة ا لشيخ الأنصاري (رحمه الله) وهو الحلقة الأخيرة من حلقات التطور لعلم
الأصول عند الشيعة الإمامية.
وأهم الأفكار التي تبلورت في هذه المدرسة هي:
1 - التفريق بين الأمارات والأصول... ولا نعرف في كلمات الأصوليين قبل
الوحيد البهبهاني هذا التفريق. ولأول مرة تختمر فكرة التمييز بين هذين النوعين
من الأدلة والحجج في كلمات الوحيد البهبهاني وتلامذة مدرسته.
وتتعمق وتتطور وتتفنن فيما بعد في مدرسة الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، وتبلغ
ذروتها من النضج والتطوير والعمق.
فقد وجد الأستاذ الوحيد أن الأدلة والحجج على طائفتين:
منها ما يوظفه المجتهد للوصول إلى الأحكام الواقعية الشرعية، ويطلبها بها،
سواء أصابها أم أخطأها، كما هي طبيعة الاجتهاد. وهذه الأحكام هي " الأحكام
18

الشرعية الواقعية " والأدلة التي توصل إليها هي " الأدلة الاجتهادية " مثل خبر الثقة
الواحد، والإجماع، والشهرة. وهذه هي أهم " الأمارات " كما يصطلح عليها فقهاء
هذه المدرسة أو " الأدلة الاجتهادية ".
وهناك طائفة أخرى من الأدلة والحجج يتوصل بها الفقيه إلى الوظيفة
الشرعية، وليس الحكم الشرعي الواقعي، وذلك في ظرف الجهل بالأحكام
الشرعية الواقعية، وعندما يفقد الفقيه الأمارات والحجج والأدلة الاجتهادية التي
يتوصل بها إلى الأحكام الواقعية... في هذه الحالة يوظف الفقيه النوع الثاني من
الأدلة والحجج، وهي " الأدلة الفقاهتية " ليتوصل بها إلى الوظيفة الشرعية أو
العقلية في ظرف الجهل بالحكم الواقعي... فلابد للمكلف من موقف عملي في
ظرف الجهل بالحكم الشرعي الواقعي من براءة أو احتياط أو غيره... وهذا
الموقف العملي هو الوظيفة الشرعية، ويصطلح عليها فقهاء هذه المدرسة
ب‍ " الأحكام الشرعية الظاهرية " في مقابل " الأحكام الشرعية الواقعية "،
ويصطلحون على الأدلة التي يتوصل بها الفقيه إليها ب‍ " الأدلة، الفقاهتية " في مقابل
" الأدلة الاجتهادية " أو " الأمارات " التي يتوصل بها الفقيه إلى الأحكام الشرعية
الواقعية.
وتقع الأحكام الظاهرية في امتداد الأحكام الواقعية، كما تقع الأدلة الفقاهتية
في امتداد الأدلة الاجتهادية، وليس في عرضها.
وتترتب على فهم هذا الموقع الطولي مسائل كثيرة من قبيل تقديم الأمارات
على الأصول، وتنتج منها مسائل من قبيل " الحكومة " و " الورود "، تبلورت فيما
بعد في مدرسة الشيخ الأنصاري (رحمه الله).
2 - تقسيم الشك:
الوحيد البهبهاني هو المنظر الأول لمسألة الشك في تاريخ علم الأصول،
بالتأكيد، ويأتي من بعده الشيخ الأنصاري، ليطور هذا التنظير، ويبلغ به حدا عاليا
من النضج والتعميق والتطوير.
19

لاحظ الأستاذ الوحيد (رحمه الله)، لأول مرة في تاريخ هذا العلم: أن الشك في
الأحكام على قسمين وليس قسما واحدا، ويترتب على كل منهما حكم، يختلف
عن الآخر.
وهذان القسمان هما:
1 - الشك في التكليف، كما لو شك المكلف في تشريع زكاة مال التجارة،
أو تشريع الخمس في " الإرث " أو حرمة تدخين الأتباغ أو غير ذلك... وهذا من
الشك في أصل ثبوت التكليف من قبل الشارع.
2 - الشك في المكلف به... وهو الشك في الخروج عن عهدة التكليف بعد
العلم بثبوته على ذمته، كما إذا شك المكلف في الصلاة الواجبة عليه على رأس
الفرسخ الرابع في السفر هي القصر أم التمام، فإن التكليف بفريضة الظهر أو العصر
ثابت لدى المكلف بالقطع واليقين، ولكنه يشك في الخروج من عهدة التكليف
بالإتيان بالصلاة الثنائية فقط مثلا.
وحكم هذا الشك غير الشك في التكليف.
فإن حكم الشك في أصل التكليف هو البراءة العقلية بموجب قاعدة قبح
العقاب بلا بيان.
وأما حكم الشك في المكلف به فهو الاشتغال والاحتياط بموجب القاعدة
العقلية المعروفة " الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية "
يقول الوحيد البهبهاني: فرق بين مقام ثبوت التكليف ومقام الخروج عن
عهدة التكليف الثابت، إذ مجرد الاحتمال لا يثبت التكليف على المجتهد والمقلد،
لما عرفت من أن الأصل براءة الذمة حتى يثبت التكليف ويتم الحجة...
وأما مقام الخروج عن عهدة التكليف، فقد عرفت أيضا إن الذمة إذا صارت
مشغولة فلابد من اليقين في تحصيل براءتها للإجماع والإخبار، وثبتت أيضا من
العقل والنقل والآيات القرآنية والأخبار (1).

(1) الفوائد الحائرية: 319 - 322.
20

هذه خلاصة موجزة جدا عن مدرسة الوحيد البهبهاني التي نشأت وترعرعت
وتعمقت في كربلاء، ومهدت الطريق لظهور مدرسة الشيخ الأنصاري فيما بعد في
(النجف) بالقرب - من كربلاء - وهي المرحلة الأخيرة لتطور الفكر الأصولي عند
الشيعة الإمامية.
مدرسة الشيخ الأنصاري:
ظهرت هذه المدرسة في " النجف " أواخر القرن الثالث عشر.
وكان رائد هذه المدرسة الشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري
(1214 - 1281 ه‍) ظهرت هذه المدرسة بعد مدرسة الوحيد البهبهاني التي اقترن
اسمها بالصراع العلمي الذي جرى بين الأخباريين والأصوليين.
واستفادت هذه المدرسة من كل ما تمخضت عنه مدرسة الوحيد، وزادت
عليها.
فقد استوعب الشيخ مرتضى الأنصاري رائد هذه المدرسة الأفكار الأصولية
السابقة عليه، واستطاع أن يعيد بناء الأصول، وصياغته، ومنهجه، مستفيدا من كل
التجارب والأفكار والخبرات السابقة عليه.
وتخرج من مجلس درسه فقهاء كبار من أمثال صاحب الكفاية المحقق
" المولى محمد كاظم الخراساني " المعروف ب‍ " الآخوند " زعيم حركة الدستور،
و " السيد محمد حسن الشيرازي " الزعيم الديني المعروف والذي دخل في
مواجهة مع الشركات الإنجليزية التي احتكرت تجارة الأتباغ في إيران، وحرم
استعمال الأتباغ، وأجبر البلاط الملكي في إيران على إلغاء الاتفاقية مع الشركة
البريطانية... وغير هؤلاء من أعلام مدرسة الشيخ الأنصاري الذين ساهموا في
تعميق وتطوير هذه المدرسة، وتخرج على يد صاحب الكفاية المحقق الخراساني
أعلام كبار ومحققون في علم الأصول، مثل الأعلام الثلاثة المشهورين من طلابه:
المحقق العراقي، والمحقق النائيني، والمحقق الإصفهاني... وهكذا امتدت هذه
21

المدرسة إلى اليوم الحاضر ورغم أن أعلام هذه المدرسة أدخلوا الكثير من
التطوير في هذه المدرسة ونقحوا وعمقوا أفكارها... رغم ذلك لا تزال هذه
المدرسة قائمة بخطوطها ومحاورها الرئيسية، ولم يحدث تغيير جذري في
أفكارها ومنهجيتها.
وفيما يلي أشير إشارة سريعة موجزة إلى الخطوط الرئيسية لأفكار هذه
المدرسة.
التنظيم الثلاثي للحجج والأدلة الشرعية:
تتميز هذه المدرسة في ترتيب الأدلة والحجج بصورة منهجية ضمن ثلاث
مراحل بحيث لا تصل النوبة إلى المرحلة الثانية منها مع وجود المرحلة الثانية
ولا تصل النوبة إلى المرحلة الثانية مع قيام المرحلة الأولى.
وإذا انتفت المرحلة الأولى تصل النوبة إلى المرحلة الثانية ومع انتفاء المرحلة
الثانية تصل النوبة إلى المرحلة الثالثة، ولا يخلو حال المكلف من واحد من هذه
الثلاثة. لا محالة.
يقول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في بداية " فرائد الأصول ": اعلم أن المكلف إذا
التفت إلى حكم شرعي فإما أن يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن (1).
واقترح تلميذه المحقق الخراساني تعديل هذه المنهجية بمنهجية أخرى في
ترتيب الأدلة.
يقول (رحمه الله): فالأولى أن يقال: إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا. وعلى
الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أم لا (2).
" وتوضيح هذا الترتيب:
1 - إن المكلف إذا حصل له القطع بالحكم الشرعي فيعمل به بالضرورة، فإن
القطع منجز للتكليف في حالة الإصابة، ومعذر عند عدم الإصابة. والتنجيز
والتعذير لازمان عقليان للقطع بالحكم الشرعي.

(1) فرائد الأصول: 1.
(2) كفاية الأصول: 2.
22

2 - وإذا لم يقطع المكلف بالحكم الشرعي يرجع إلى الأدلة الظنية التي تثبت
اعتبارها وحجيتها بدليل معتبر من ناحية الشارع.
وهذه الطائفة من الأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر تسمى
عادة " الأمارات " و " الطرق " و " الظنون الخاصة " وذلك مثل " خبر الثقة الواحد "
و " الإجماع " و " الشهرة " وغير ذلك من الأدلة الظنية التي اعتبرها الشارع وتعبدنا
بها.
3 - وإن لم يتيسر للمكلف طريق معتبر (دليل ظني معتبر) يرجع المكلف إلى
الأصول العملية التي تقرر وظيفة المكلف في حالة عدم تمكن المكلف من دليل
ظني معتبر.
حالة الاستيعاب والترتب في الحجج:
وهذه المنهجية الجديدة في بحث الحجج تجمع بين أمرين: الأول منها
استيعاب كل الحجج وبصورة كاملة فلا تبقى حجة من الحجج ذاتية أو مجعولة
تفيد حكما شرعيا أم وظيفة عقلية أو شرعية إلا ويدخل ضمن هذه المنهجية، كما
سنوضح ذلك - إن شاء الله - فيما يأتي.
والميزة الأخرى لهذه المنهجية الترتيب والحالة الطولية في عرض الحجج
فالقطع، وهو انكشاف الواقع يتقدم على كل حجة أخرى، ولا تزاحمه حجة، مهما
كانت، وبعد ذلك يأتي دور الطريق والأمارات التي اعتبرها الشارع، وهي حجة
في حالة عدم انكشاف الواقع وفقدان القطع، عندما لم يتمكن المكلف من الوصول
إلى القطع بالحكم الشرعي وهي حالة مترتبة على الحالة الأولى، بمعنى إن حجية
الطرق والأمارات المعتبرة تأتي في حالة غياب القطع وعدم انكشاف الواقع، ومع
انكشاف الواقع والقطع بالحكم الشرعي لا يصح الاعتماد على هذه الطرق
والأمارات وإن كان لا يجب على المكلف أن يسعى للوصول إلى القطع.
والحالة الثالثة مترتبة على فقدان الحالة الثانية، فإن المكلف إنما يصح له
23

الرجوع إلى الأصول العملية الشرعية والعقلية في حالة غياب وفقدان الطرق
والأمارات المعتبرة شرعا، وبعد الفحص عنها واليأس منها بالمقدار المتعارف.
تقسيم الدليل إلى الأمارات والأصول:
ومن الشرح المتقدم يتضح أن المكلف إذا لم يقطع بالحكم الشرعي فلابد أن
يعمل بالأمارات والأدلة الظنية التي ثبت اعتبارها بدليل شرعي معتبر.
وإذا فقد المكلف هذه الطرق الظنية المعتبرة، ولم يتيسر له طريق معتبر شرعا
إلى الحكم الشرعي كان المورد مجرى لإحدى الأصول المعروفة الجارية في
الشبهات الحكمية أو الموضوعية.... والأحكام التي تثبت لهذه الأصول هي
الأحكام الظاهرية.
وهذه الأحكام الظاهرية التي تجري عند الشك تتميز عن الأمارات الظنية
أنها تفقد صفة الكشف عن الحكم الواقعي ولا تكسب الشاك رؤية إلى الحكم
الشرعي الواقعي، أو إلى الموضوع الخارجي ذي الأثر الشرعي بعكس الأمارات
فإنها تملك في حد نفسها درجة من الكشف عن الواقع، غير أنها ضعيفة وغير
كاملة، فيتممها الشارع بالاعتبار الشرعي، بإلغاء احتمال الخلاف واعتبار ما
تؤدي إليه.
أما الأصول الشرعية والعقلية التي تجري في مورد الشك فتفقد هذه
الخصوصية الناقصة عن الكشف، ولا تكسب الشاك في الحكم الشرعي رؤية إلى
الحكم وإنما تقرر له وظيفته العملية في ظرف الشك فقط.
ومن هذا المنطلق بدأت تختمر عند علماء الأصول فكرة تفكيك الأصول عن
الأمارات والطرق، وفرز إحداهما عن الأخرى.
وهذا التفكيك بين الأمارات والأصول ظهر كما يبدو لأول مرة على يد
الوحيد البهبهاني (رحمه الله) إلا أن الوحيد اقتصر فقط على التفكيك بينهما دون أن يجعل
من هذا التفكيك أساسا لتغيير منهج الدراسات الأصولية، ودون أن يتناول بالبحث
الآثار العلمية الكبرى لهذا التفكيك.
24

أما الشيخ فقد جعل من التفكيك بين الأمارات والأصول أساسا لمنهجية
حديثة لعلم الأصول وتناول الآثار والنتائج المترتبة على هذا التفكيك بشكل
علمي وعميق وخرج نتيجة لذلك بتصورات وأفكار جديدة في علم الأصول.
المنهجية الجديدة لعلم الأصول:
ومهما يكن من أمر فإن الشيخ الأنصاري قد وضع في هذا التقسيم الذي ذكره
للدليل أساسا قويا لمنهجية جديدة تماما في علم الأصول، وجعل منه منطلقا
جديدا لعلم الأصول، انطلق منه إلى اكتشاف ودراسة الآثار والنتائج العلمية
الكبرى المترتبة على هذا التفكيك.
وعلى هذا الأساس بحث الشيخ الأنصاري عن القطع وأحكامه في " المقصد
الأول " من كتابه وبحث عن الأدلة الاجتهادية في " المقصد الثاني " من كتابه، في
بحث الظن، كخبر الواحد الثقة والإجماع، والسيرة، والشهرة، وهي الظنون الخاصة
التي اعتبرها الشارع، بينما بحث الأدلة الفقاهتية التي تجري في ظرف الشك
والجهل بالحكم الشرعي الواقعي " وهي الأصول العملية " في " المقصد الثالث "
وهو " مبحث الشك ".
ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض:
وانطلاقا من الشرح المتقدم في التمييز والتفريق بين " الأدلة الاجتهادية "
و " الأدلة الفقاهتية " تتولى المدرسة الأصولية الحديثة عند الشيعة الإمامية أمر
تنظيم الأدلة وتقديم بعضها على بعض.
فليس بين الأدلة الاجتهادية والأدلة الفقاهتية بناء على هذا التمييز تعارض
حقيقي، كما لا يكون بين العام والخاص تعارض إلا ما يكون من التعارض
البدوي غير المستقر.
فإن الأمارات ترفع موضوع الأدلة الفقاهتية تكوينا، وبالوجدان، أو بالتعبد
والتشريع، وبارتفاع موضوع الأدلة الفقاهتية ترتفع الوظيفة العملية الثابتة بالعقل
25

أو بالشرع لهذا الموضوع فتتقدم الأدلة الاجتهادية على الأدلة الفقاهتية قهرا، ويتم
ذلك من خلال منهجين مختلفين هما (الحكومة) و (الورود).
ولابد لهذا الأمر من إيضاح وتفصيل وشرح، وإليك هذا الشرح.
الورود:
نستطيع أن نفهم المعنى الإجمالي ل‍ " الورود " من خلال العلاقة بين الأمارات
والأصول العملية العقلية، وهي البراءة العقلية، والاحتياط والتخيير العقليان.
فإن خبر الثقة الواحد من الأمارات الظنية التي تثبت حجيتها بالدليل القطعي،
باعتبار الشارع له.
فإذا ورد خبر من ثقة على حكم شرعي يعتبر هذا الخبر بيانا من قبل الشارع
على ذلك الحكم، وبه يرتفع موضوع البراءة العقلية وهو " عدم البيان " فإن الدليل
على البراءة العقلية هو قاعدة " قبح العقاب بلا بيان " ومع ثبوت البيان من ناحية
الشرع تنتفي البراءة العقلية انتفاء تكوينيا. وهذا هو " الورود ".
وكذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على أصالة الاحتياط العقلية، فإن موضوع
أصالة الاحتياط هو احتمال العقاب على ترك الوجوب المحتمل أو ارتكاب
الحرمة المحتملة، ومع حصول خبر الثقة الذي ثبتت حجيته من ناحية الشرع
يحصل للمكلف الأمن من العقوبة على مخالفة الوجوب المحتمل أو ارتكاب
الحرمة المحتملة. لأن المكلف حينذاك يستند في ترك الواجب المحتمل أو
ارتكاب الحرام المحتمل إلى ترخيص وإذن من الشارع، وبه يأمن عقوبة الشارع،
ولا يبقى موضوع ولا مجال لجريان أصالة الاحتياط من الناحية العقلية.
كذلك يتقدم خبر الثقة الواحد على أصالة التخيير العقلية، فإن التخيير العقلي
هو عدم وجود مرجح لأحد الطرفين على الطرف الآخر، وخبر الثقة الواحد
يصلح أن يكون مرجحا للطرف الذي يدل عليه الخبر على الطرف الآخر، فلا يبقى
مع وصول الخبر موضوع ولا مجال لجريان أصالة التخيير العقلية.
26

وبناء على هذا الإيضاح فإن الأمارات والطرق (الأدلة الاجتهادية) تتقدم
على الأصول العقلية من البراءة والاحتياط والتخيير العقلي (الأدلة الفقاهتية)
ولا يكون بينهما تعارض، لأن معنى التعارض هو تكاذب الدليلين، ولا يتكاذب
الدليلان إلا إذا كانا في عرض واحد، وأما إذا كان أحدهما في طول الآخر فلا
يتكاذبان، والأمر هنا كذلك، فإن الأصول العقلية تجري عند انتفاء خبر الثقة، ولا
معنى لجريان هذه الأصول مع وجود خبر الثقة، ويسمي الشيخ الأنصاري (رحمه الله) هذه
العلاقة بين الأدلة ب‍ " الورود " ويحدده بما لو كان الدليل الوارد ينفي موضوع الدليل
المورود نفيا تكوينيا ووجدانيا، بعناية التعبد من الشارع.
وهذا نوع من العلاقة بين الأدلة الاجتهادية والفقاهتية يذكره الشيخ
الأنصاري (رحمه الله) في المباحث العقلية من الأصول.
الحكومة:
والنوع الثاني من العلاقة بين الأدلة الاجتهادية والأدلة الفقاهتية هو
" الحكومة " وهي أيضا تقتضي تقدم الدليل الاجتهادي على الدليل الفقاهتي ولكن
ببيان آخر وطريقة أخرى تختلف بعض الشئ عن " الورود ".
وتطلق " الحكومة " في مدرسة الشيخ الأنصاري (رحمه الله) على حالة خاصة من
العلاقة بين الدليلين يكون فيها أحد الدليلين ناظرا إلى مفاد الدليل الآخر،
وشارحا له، ومبينا لكمية مدلوله، حتى إذا كانت هذه النظارة والشرح من الدليل
الثاني للدليل الأول بغير الألفاظ المستعملة للشرح والتفسير.
وفي مورد " الحكومة " لا تنفي الأدلة الاجتهادية موضوع الأصول العملية
نفيا تكوينيا بالوجدان ك‍ " الورود " وإنما تنفيه نفيا تشريعيا وبتعبد من الشارع،
وبحكم من الشارع، ولعل ذلك هو سبب تسميته ب‍ " الحكومة " وهذه الحكومة ترد
كثيرا في العلاقة بين الأمارات والأصول الشرعية (البراءة الشرعية
والاستصحاب) فإن موضوع البراءة الشرعية بمقتضى حديث الرفع: " رفع عن
27

أمتي ما لا يعلمون " هو الجهل بالحكم الشرعي، وبوصول خبر الثقة يرتفع الجهل
بتعبد من ناحية الشارع، فإن المكلف يبقى من الناحية التكوينية لا محالة شاكا
بالحكم الواقعي الشرعي، وجاهلا به ولا ينفي خبر الثقة الواحد جهله وشكه
تكوينا وبالوجدان، ولكن بما أن الشارع تعبدنا بحجية خبر الثقة وأتم الكشف
الناقص الموجود في هذه الأمارة فإن وصول خبر الثقة إلى المكلف يرفع الجهل
بالحكم الواقعي الشرعي لدى المكلف بتعبد وتشريع من ناحية الشرع، ومع انتفاء
الجهل تعبدا ينتفي موضوع الأصل فيثبت الدليل الاجتهادي ويتقدم على الدليل
الفقاهتي ولا يعارضه الدليل الفقاهتي، وهو يختلف عن طريقة تقدم خبر الواحد
الثقة على الأصول العقلية فإن خبر الثقة بعد ثبوت حجيته من الشرع بيان من دون
شك وهو يرفع موضوع البراءة العقلية - مثلا - وهو اللا بيان بصورة تكوينية قطعا.
وهذه " الحكومة " على ما اصطلح عليه الشيخ (رحمه الله) نحو آخر من تقدم الأمارات
على الأصول العملية.
العلاقة بين الأصول العملية:
ويتحدث الشيخ بعد ذلك عن العلاقة بين الأصول العملية نفسها، فإن من
الممكن أن تتعارض الأصول العملية بعضها مع بعض، وهذا التعارض يكون بين
الاستصحاب وسائر الأصول العملية (البراءة والاحتياط والتخيير) أو بين
استصحابين.
العلاقة بين الاستصحاب والأصول العقلية:
أما في العلاقة بين الاستصحاب والأصول العقلية (البراءة العقلية والتخيير
والاحتياط) فالاستصحاب لا محالة يكون واردا على هذه الأدلة بموجب
مصطلح الشيخ، ورافعا لموضوعها حقيقة رفعا تكوينيا، لأن الاستصحاب حينئذ
يعتبر بيانا من الشارع، ومع وجود البيان ينتفي موضوع البراءة العقلية، وهو " عدم
البيان " بصورة تكوينية، وموضوع الاحتياط عدم الأمن من العقاب في ارتكاب
28

محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب، وبالاستصحاب يتحقق الأمن من العقاب
شرعا بصورة تكوينية كذلك ولا يبقى موضوع للاحتياط...
وموضوع التخيير عدم وجود مرجح لأحد الطرفين، والاستصحاب يصلح
شرعا أن يكون مرجحا حقيقيا للطرف الذي يؤدي إليه الاستصحاب، وبذلك
ينتفي موضوع التخيير وهو عدم وجود المرجح.
وبناء عليه يتقدم الاستصحاب على كل من الأصول العقلية الثلاثة، وتكون
العلاقة بين الاستصحاب وبينها علاقة " الورود ".
العلاقة بين الاستصحاب والبراءة الشرعية:
أما العلاقة بين الاستصحاب والبراءة الشرعية فهي من " الحكومة " لأن
الاستصحاب يرفع موضوع البراءة الشرعية وهو " الجهل بالحكم الشرعي
الواقعي " باعتبار وتعبد من الشارع لا وجدانا وواقعا، فإن المكلف يبقى جاهلا
بالحكم الشرعي واقعا وذلك، لأن أدلة الاستصحاب ناظرة إلى تنزيل مؤداه منزلة
الواقع في مقام العمل، وبذلك يختلف الاستصحاب عن أصل البراءة وسائر
الأصول غير التنزيلية التي لها صفة وظيفية محضة، وليس لها نظر إلى تنزيل
مؤدياتها منزلة الواقع أو تنزيل أحد طرفي الشك منزلة اليقين. وبذلك يكون
الاستصحاب حاكما على البراءة الشرعية.
ومن هنا انفتح على هذه المدرسة باب جديد من العلم في التمييز بين نوعين
من الأصول العملية (التنزيلية منها وغير التنزيلية). فقد وجدوا أن مهمة طائفة من
الأصول العملية كالاستصحاب هي تنزيل أحد طرفي الشك منزلة الواقع في البناء
العملي، بينما وجدوا أن مهمة طائفة أخرى من الأصول العملية تحديد الوظيفة
العملية للمكلف في ظرف الشك بمقتضى ما يؤدي إليه الأصل دون النظر إلى
الواقع وتنزيل المؤدى منزلة الواقع.
وسموا الطائفة الأولى بالأصول التنزيلية تمييزا لها عن غير التنزيلية، ومهمة
29

الأصول التنزيلية هي تنزيل مؤدى الأصل منزلة الواقع في مقام العمل (1).
وبهذا التنزيل العملي يرتفع الشك والجهل بالحكم الشرعي بتعبد من الشارع
ويرتفع بذلك موضوع الأصول الشرعية غير التنزيلية بالتفصيل الذي تحدثنا عنه
وبذلك تكون الأصول التنزيلية حاكمة على الأصول الشرعية غير التنزيلية
ومتقدمة عليها، ولا يكون بينهما تعارض لتقدم الأول على الثاني إلا ما يبدو لأول
وهلة بينهما من التعارض البدوي الذي يزول بعد النظر والتأمل (2).
المناهج الأصولية المعاصرة:
النقطة الأخيرة التي لابد أن نشير إليها في هذه المقدمة هي أهم المناهج
المعاصرة لعلم الأصول منذ عصر الشيخ الأنصاري إلى اليوم لنعرف موضع المنهج
الذي يتخذه شيخنا المظفر (رحمه الله) في كتاب " أصول الفقه " وأهم هذه المناهج:
منهج الشيخ الأنصاري.
منهج المحقق الخراساني صاحب الكفاية.
منهج المحقق الشيخ محمد حسين الإصفهاني (رحمه الله) والذي اتخذه شيخنا
المظفر (رحمه الله) أساسا في تدوين هذا الكتاب.

(1) دليل الاستصحاب (لا ينقض اليقين بالشك) ظاهر في تنزيل الشك منزلة اليقين في مقام العمل والامتثال،
وذلك لاستحالة النهي عن نقض اليقين بالشك، لانتقاض اليقين بالشك واقعا ووجدانا، وإنما التنزيل يكون
بلحاظ الامتثال وفي مقام العلم.
والمعنى المعقول لتنزيل اليقين منزلة الشك في مقام العمل: هو تنزيل مؤدى الاستصحاب (وهو أحد
طرفي الشك) منزلة الواقع.
وهذا هو معنى الأصول التنزيلية مثل الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز أما الأصول غير التنزيلية
فليس لها نظر إلى الواقع إطلاقا، لا في الأداء، ولا في المؤدى ولا يزيد لسان دليلها عن جعل الوظيفة
العملية فقط في ظرف الجهل وهما يختلفان عن الأمارات التي يتولى لسان دليلها جعل الطريقية والكشف
للأمارة.
(2) هذا الشطر من الكلام مستل على نحو الانتفاء من بحثنا الذي كتبناه عن تطور البحث الأصولي في مدرسة
الشيخ الأنصاري مع بعض الإضافات.
30

وهناك ثلاث مناهج أخرى هامة ساهمت في تطوير المنهجية الحديثة لعلم
الأصول لا أتحدث عنها رغم أهميتها إيثارا للاختصار وهي:
1 - منهجية المحقق النائيني (رحمه الله).
2 - منهجية استاذنا المحقق الخوئي (رحمه الله).
ولعل الله تعالى يوفقني لدراسة هذه المناهج جميعا وبيان نقاط الضعف والقوة
في كل منها، وطرح منهج عام لعلم الأصول من خلال هذه المحاولات مستفيدا
من كل هذه التجارب، مسددا ومكملا بعضها ببعض.
وإليك الآن شرحا موجزا للمناهج الثلاثة المتقدمة:
منهج الشيخ الأنصاري (رحمه الله):
يقول الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في بداية كتاب " فرائد الأصول ":
اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فأما أن يحصل له الشك فيه أو
القطع أو الظن، فإن حصل له الشك فالمرجع فيه القواعد الشرعية الثابتة للشاك في
مقام العمل، وتسمى بالأصول العملية، وهي منحصرة في الأربعة لأن الشك إما أن
يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
وعلى الثاني فإما أن يمكن الاحتياط أم لا.
وعلى الأول فإما أن يكون الشك في التكليف أو المكلف به.
فالأول مجرى الاستصحاب.
والثاني مجرى التخيير.
والثالث مجرى أصالة البراءة.
والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.
وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا.
فالأول مجرى الاستصحاب.
والثاني إما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا.
فالأول مجرى قاعدة الاحتياط.
31

والثاني مجرى قاعدة التخيير.
وما ذكرنا هو المختار في مجاري الأصول الأربعة.
وهو تنظيم جديد وجيد، وقائم على أساس علمي متين.
وعلى هذا الأساس استقر علماء الأصول في تنظيم أبحاث الأصول منذ عهد
الشيخ الأنصاري إلى اليوم الحاضر.
وهذا التمييز بين الأدلة الاجتهادية والفقاهتية، وتبويب الأدلة على أساس
منها مما يختص به فقهاء الإمامية المعاصرون منذ عصر الشيخ الأنصاري إلى
الوقت الحاضر، وعندما نرجع إلى كتب الأصول للمذاهب السنية - المعاصرة منها
والقديمة - لا نجد مثل هذا التفكيك، ونرى أنهم يذكرون هذه الأدلة في عرض
واحد.
فالكتاب والسنة والإجماع يذكر في عرض القياس والاستحسان، وهما في
عرض الاستصحاب والبراءة.
ملاحظات عامة على منهج الشيخ الأنصاري (رحمه الله):
نشير هنا على نحو الاختصار إلى ملاحظتين تخصان منهج الشيخ الأنصاري
ثم نعقبه بعد ذلك، بملاحظة تعم المنهج الأول والثاني وهما نهج الشيخ الأنصاري
وصاحب الكفاية.
أما التي تخص منهج الشيخ فهي:
أولا تداخل الأقسام الثلاثة التي يقسم الشيخ (رحمه الله) بموجبها كتابه (فرائد
الأصول)... فإن المقصود بالظن لا محالة: الأعم من الشخصي والنوعي، ضرورة
إن الأمارات لا تورث الظن الشخصي دائما، والمقصود بظنية الأمارات الأعم من
الظن الشخصي والنوعي، لأ نهى، نوعا، ولدى غالب الناس توجب الظن دائما...
وعليه فإن الأمارات تدخل في باب الشك والظن معا، في بعض الأحيان،
بالاعتبار الشخصي والنوعي.
32

وثانيا ليس كل مجاري الحجج والأدلة والطرق (الأمارات) من باب الظن،
ولا كل مجاري الأصول العملية من موارد الشك.
فقد يكون المكلف شاكا بالحكم، ولكن يقوم لديه دليل معتبر شرعا، فيكون
حجة عليه في الحكم الواقعي. ولا يجري فيه الأصل.
وقد يكون ظانا بالحكم الشرعي، ولكن لا يقوم لديه دليل معتبر شرعا على
حجية الطريق الظني، فيكون هذا المورد من مجاري الأصول العملية.
وعليه، فإن تثليث الأقسام بالطريق الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) لا يخلو عن مناقشة،
وإن كان التفكيك بين الأمارات والأصول (الأدلة الفقاهتية والأدلة الاجتهادية)،
على النهج الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) انطلاقا من هذا التقسيم هو الصحيح، وهو الأساس
الأول للمدرسة الحديثة في علم الأصول.
منهج المحقق الخراساني:
وناقش المحقق الخراساني هذا التقسيم لأن الظن ليس دائما المساحة
المخصصة للرجوع إلى الطرق والأمارات، كما أن الشك ليس دائما المساحة
المخصصة للرجوع إلى الأصول العملية. فقد يرجع المكلف في مورد الظن إلى
الأصول العملية لعدم وجود طريق معتبر، كما قد يرجع في مورد الشك إلى
الأمارات لوجود طريق معتبر من ناحية الشارع، ولذلك فقد اقترح المحقق
الخراساني (رحمه الله) تثليث الأقسام بالطريقة التالية: " فالأولى أن يقال: إن المكلف إما أن
يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ".
وفي هذا التقسيم يكون المعيار في الرجوع إلى الطرق والأمارات الطريق
المعتبر، وإن كان المورد موردا للشك، ويكون المعيار للرجوع إلى الأصول العملية
عدم وجود طريق معتبر من ناحية العقل أو الشرع، وإن كان المورد موردا للظن.
ملاحظة على منهجية المحقق صاحب الكفاية:
وهذه المنهجية سليمة ولا تنقص من قيمتها العلمية المناقشة التي ذكرها
33

المحققان العراقي والإصفهاني على هذا التقسيم (1).
غير أن المحقق الخراساني (رحمه الله) كان بصدد تنظيم بحث الحجج في الأصول
وترتيبها وتقديم بعضها على بعض، ولم يكن بصدد تنظيم منهج عام لعلم الأصول
ولذلك فإن هذا المنهج يصلح أن يكون منهجا لبحث الحجج، وهو ما خصص له
الجزء الثاني من كتاب " كفاية الأصول " كما خصص له الشيخ (رحمه الله) كتاب " الفرائد ".
أما لو كان الشيخ وتلميذه صاحب الكفاية (رحمهم الله) يريدان وضع منهجية شاملة لعلم
الأصول... فإن هذا التقسيم وتقسيم الشيخ (رحمه الله) لا يخلوان عن نقاط للمناقشة.
ويكون للبحث عن القطع وأحكامه موضع آخر، ويكون منهج المحقق الإصفهاني
واستاذنا المحقق الخوئي والمحقق الشهيد الصدر (رحمهم الله) أكثر استيعابا لأبحاث علم
الأصول وقدرة على تنظيم مباحث هذا العلم، وإن كان أساس المدرسة الحديثة
لعلم الأصول هو تقسيم الشيخ ومنهجه، على كل حال.
منهج المحقق الإصفهاني (رحمه الله):
وميزة هذه المنهجية أنها شاملة لعامة مباحث هذا العلم، بينما المنهجيات
السابقة تنظم فقط المباحث العقلية - لهذا العلم.
فإذا استعرضنا مثلا كفاية الأصول للمحقق الخراساني، نجد أن المجلد الثاني
منه يتميز بمنهجية علمية منظمة، بينما المجلد الأول منه لا تنتظمه منهجية علمية
دقيقة كالتي تنظم مباحث المجلد الثاني، وتتميز منهجية المحقق الإصفهاني بأنها
شاملة ومستوعبة لكل مباحث هذا العلم وتنظم مباحث هذا العلم كما يقول الشيخ
المظفر (رحمه الله) في أربعة فصول وخاتمة.
الفصل الأول مباحث الألفاظ: وهي تبحث عن مداليل الألفاظ وظواهرها من
جهة عامة نظير البحث عن ظهور صيغة " افعل " في الوجوب وظهور النهي في
الحرمة ونحو ذلك.

(1) راجع نهاية الأفكار للشيخ محمد تقي البروجردي تقرير بحث المحقق العراقي 3: 5،
ونهاية الدراية للمحقق الإصفهاني 2: 3 الطبعة الحجرية.
34

الفصل الثاني المباحث العقلية: وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها
ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة اللفظ، كالبحث عن الملازمة بين حكم العقل
وحكم الشرع، وكالبحث عن استلزام وجوب الشئ لوجوب مقدمته المعروف
هذا البحث باسم مقدمة الواجب، وكالبحث عن استلزام وجوب الشئ لحرمة
ضده المعروف باسم مسألة الضد، وكالبحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي.
وغير ذلك.
الفصل الثالث مباحث الحجة: وهي ما يبحث فيها عن الحجية والدليلية
كالبحث عن حجية خبر الواحد وحجية الظواهر وحجية ظواهر الكتاب وحجية
السنة والإجماع والعقل وما إلى ذلك.
والفصل الرابع مباحث الأصول العملية: وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند
فقدان الدليل الاجتهادي، كالبحث عن أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب
ونحوها.
فمقاصد الكتاب - إذن - أربعة، وله خاتمة تبحث عن تعارض الأدلة وتسمى
" مباحث التعادل والتراجيح " فالكتاب يقع في خمسة أجزاء إن شاء الله تعالى.
وقبل الشروع لابد من مقدمة يبحث فيها عن جملة من المباحث اللغوية التي
لم يستوف البحث عنها في العلوم الأدبية أو لم يبحث عنها.
وعلى هذه المنهجية يجري استاذنا المحقق آية الله الشيخ المظفر (رحمه الله) في كتابه
" أصول الفقه ".
المناهج الأخرى:
ومن المناهج المعاصرة الأخرى:
منهج استاذنا المحقق السيد الخوئي، ومنهج سيدنا المحقق الشهيد
الصدر (رحمهم الله) (1).

(1) راجع المحاضرات للشيخ إسحاق الفياض تقريرا لبحث آية الله الخوئي (رحمه الله) 1: 6 - 8. ق‍
وبحوث في علم الأصول للسيد محمود الهاشمي تقريرا لبحث آية الله الشهيد السيد
محمد باقر الصدر (رحمه الله) 1: 57 - 62.
35

ولفقهائنا الأحياء حفظهم الله اقتراحات وتصورات جديدة وجيدة لتنظيم
مباحث وأبواب علم الأصول لا يسعها المقام (1).
وبعد فهذه خلاصة وجيزة عن علم الأصول وعلاقته بالفقه والقواعد الفقهية
وتاريخه، وتطوره، ومدارسه، ومناهجه، أحببت تقديمها أمام كتاب " أصول الفقه "
لشيخنا المحقق آية الله الشيخ محمد رضا المظفر (رحمه الله) راجيا أن تكون هذه الوجيزة
نافعة لطلبة علم الأصول وافية بالمقصود. والحمد لله رب العالمين.
* * *
الشيخ محمد رضا المظفر
أسرته:
أسرة المظفر من الأسر العلمية في النجف الأشرف، عرفت فيها في أواسط
القرن الثاني عشر، وقطن بعض رجالها الجزائر التابعة للبصرة.
وكان الفقيه المجتهد الشيخ محمد بن عبد الله والد الفقيه الشيخ محمد رضا
المظفر من علماء النجف ومراجع التقليد فيها (نشأ في النجف وترعرع فيها، وكان
في عنفوان شبابه منقطعا إلى الجد والتحصيل، مكبا على العبادة والتدريس، إلى أن
برع في الفقه وعرف بجودة التحقيق فيه) وأ لف موسوعة فقهية جليلة شرح فيها
كتاب " شرائع الإسلام " وسماها ب‍ " توضيح الكلام " وقد استقصى فيها الفقه من
مبدئه إلى منتهاه.
ولادته:
ولد الشيخ محمد رضا المظفر في اليوم الخامس من شعبان عام 1322 بعد

(1) راجع كتاب الرافد لعلم الأصول للسيد منير القطيفي 1: 43 - 56، والأصول العامة للفقه
المقارن لآية الله السيد محمد تقي الحكيم: 85 - 94.
36

وفاة والده بخمسة أشهر فلم يقدر الله تعالى أن يظفر الطفل الرضيع برؤية والده
ولا الوالد أن يظفر برؤية ولده، فكفله أخوه الأكبر الشيخ عبد النبي المتوفى
سنة 1337 وأولاه من عنايته وعطفه ما أغناه عن عطف الأبوة.
نشأته الفكرية:
نشأ الشيخ المظفر في البيئة النجفية، وتقلب في مجالسها ونواديها وحلقاتها
ومحاضرها ومدارسها، وحضر فيها حلقات الدراسة العالية، وتخرج على كبار
مراجع التقليد والتدريس، وترعرع في هذا البيت العريق من بيوتات النجف
العلمية، وتعهد رعايته وتربيته أخواه العلمان: الشيخ عبد النبي والشيخ محمد
حسن.
وابتدأ حياته الدراسية بما يتعارف عليه الطالب النجفي من حضور الدراسات
الأدبية والفقهية والأصولية والعقلية. وتتلمذ على الشيخ محمد طه الحويزي في
الأدب والأصول كما أتقن الشعر، وبرع في ذلك كله. وتتلمذ على غيره من أساتذة
دروس مرحلة السطوح في ذلك الوقت، وبرز الشيخ الفقيد في ذلك كله.
وبعد أن أنهى الدور الإعدادي (السطح) تفرغ للدراسات العالية في الفقه
والأصول والفلسفة.
وحضر فيها على أخيه الشيخ محمد حسن مع أخيه الآخر الشيخ محمد
حسين، كما حضر درس الشيخ آقا ضياء الدين العراقي في الأصول، ودرس
الشيخ ميرزا محمد حسين النائيني في الفقه والأصول، وحضر بصورة خاصة
أبحاث الشيخ محمد حسين الإصفهاني (رحمه الله) في الفقه والأصول والفلسفة الإلهية
العالية.
وانطبع الشيخ المظفر كثيرا بآراء أستاذه الشيخ الإصفهاني في الأصول والفقه
والفلسفة وجرى على نهجه في البحث في كتابه " أصول الفقه " حيث تبع منهجه في
تبويب الأصول، كما يشير هو إلى ذلك في ابتداء الكتاب، كما تأثر بمبانيه الخاصة
37

على ما يظهر ذلك من خلال كتابه الكبير " أصول الفقه " فيما انجز من هذا الكتاب.
وكان يجله إجلالا كبيرا، كلما جرى له ذكر أو أتيح له أن يتحدث عنه، ويخلص له
الحب والاحترام، أكثر مما يخلص تلميذ لإستاذه.
ويلمس القارئ هذا الشعور والوفاء فيما كتب المظفر عن أستاذه في مقدمات
كتبه الفقهية والفلسفية وفي مقدمة الأسفار وغيرها من رسائله ومقالاته.
وتخرج كذلك على مشايخه في الفقه والأصول والفلسفة، واستقل هو
بالاجتهاد والنظر والبحث وشهد له شيوخه بذلك.
وكان خلال ذلك كله يشتغل بالتدريس على مستوى الدراسات الإعدادية
والدراسات العالية في الفقه والأصول والفلسفة.
ذلك كله خارج مدارس منتدى النشر وكليتها، أما فيها فقد نذر حياته على
تنميتها وتطويرها بمختلف الألوان.
وكان يقوم فيها بتدريس الأدب والمنطق والفلسفة والفقه والأصول من
المستوى الأولى إلى المستوى العالي، لا تمنعه من ذلك مكانته المرموقة في
الحوزة، ولا إمكانياته الفكرية العالية.
وكم رأينا الشيخ محمد رضا المظفر يحاضر على الصفوف الأولى من مدارس
منتدى النشر، ويتلقى أسئلتهم برحابة صدر، ويدفعهم إلى البحث والدرس
والتفكير. ويحشر نفسه معهم، حتى كان يبدو للإنسان، لأول وهلة، انه يخاطب
زملاء له في الدراسة، لا طلابا بهذا المستوى.
وكان الشيخ يمتاز فوق ذلك كله بعمق النظر ودقة الالتفاتة وسلامة الذوق
وبعد التفكير فيما تلقينا عنه من الفقه والأصول والفلسفة.
وقد حاول الشيخ في بدء حياته الدراسية أن يلم بعلوم الرياضة والفلك
والطبيعة والعروض.
فقد اتفق أن وقعت يد الشيخ على طرف من الثقافة العصرية، وهو في بدء
شبابه، فتذوبها، وحاول أن يشق طريقا إلى هذا اللون الجديد من الثقافة واتفق مع
38

آخرين ممن كانوا يتذوقون هذا اللون الجديد من الثقافة على أن يراسلوا بعض
المجلات العلمية كالمقتطف وبعض دور النشر لتبعث إليهم هذه الصحف والكتب
التي تحمل إليهم هذا اللون الجديد من الفكر.
وأتيح للشيخ فيما بعد أن يستمر على هذه الحالة ويواكب الحركة الفكرية
الناشئة ويأخذ نصيبا وافرا من هذه (العلوم الجديدة) كما كانوا يسمونها، ويتأثر بها
تأثرا بالغا إلى جنب تأثره بشيوخه في الفقه والأصول والفلسفة.
آثاره العلمية:
كان النشاط العلمي والكتابة والتأليف يشكل جزءا مهما من رسالة الشيخ
محمد رضا المظفر ونشاطه.
وإذا ضممنا نشاطه العلمي في التأليف والنشر إلى نشاطه الإصلاحي على
الصعيد العام والصعيد الدراسي للمسنا جانبا من هذا الجهد الكبير الذي كان يبذله
الشيخ في حياته.
وفي كتابات الشيخ يقترن جمال التعبير وسلامة الأداء وجدة الصوغ وروعة
العرض بخصوبة المادة ودقة الفكرة وعمق النظرة وجدة المحتوى، ويتألف منها
مزيج من العلم والأدب يشبع العقل ويروي العاطفة.
فقد كان يجري في الكتابة كما يجري الماء، من غير أن يظهر عليه شئ من
الكلفة أو التصنع، وينساق القارئ معه كما ينساق الماء على منحدر من الأرض،
من دون أن يعرقل سيره شئ، ولا يصطنع في الكتابة هذه المحسنات البديعية
التي تصرف الكاتب عن الانسياق مع الفكرة وتصرف القارئ عن مجاراة
الموضوع.
والمواضيع التي كان يتناولها بالكتابة والبحث مواضيع علمية كالأصول
والمنطق والفلسفة، يعسر على الأديب أن يصوغها صياغة أدبية أو يفرغها في
قالب أدبي من التعبير. وقد توفق الشيخ إلى أن يضم إلى عمق المادة جمال العرض
وأكثر ما يبدو هذا التوفيق في كتابه " أحلام اليقظة " حيث يناجي فيها صدر
39

المتألهين ويتحدث معه فيما يتعلق بنظرياته في الفلسفة الإلهية العالية ويتلقى منه
الجواب بصورة مشروحة وبعرض قصصي جميل.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الكتاب فتح كبير في الكتابة الفلسفية فلا تشكو الفلسفة
شيئا كما تشكو الكتابة التي لا تخضع لها أداتها.
وقد حاول الشيخ المظفر أن يخضع الكتابة للفلسفة، أو يخضع الفلسفة للكتابة،
ويجمع بينهما في كتابه هذا.
وتمتاز كتابات الشيخ المظفر بعد ذلك بروعة العرض والتنسيق، حتى أن كل
نقطة من البحث تأتي في موضعها الطبيعي ولا تتغير عن مكانها الخاص حتى
تختل أطراف البحث، ويبدو عليه الاضطراب ويتجلى توفيق الكاتب في التنسيق
في كتاب " المنطق " أكثر من غيره، ففي هذا الكتاب يجد القارئ كيف تأخذ
المواضيع بعضها برقاب بعض، وكيف يترتب كل موضوع على سابقه في تسلسل
طبيعي، من غير أن يحيل الطالب إلى موضوع آخر في غير هذا الكتاب أو إلى
ما يمر عليه فيما بعد.
ويعتبر الكتاب بالانضمام إلى شقيقاته: " الأصول " و " الفلسفة " التي لم يقدر
الله لها أن تظهر كاملة... تجديدا في كتابة الكتب الدراسية، وفتحا في هذا الباب،
وعسى أن يقيض الله من يتابع خطوات الشيخ المظفر في هذا السبيل.
ويجد الباحث بعد ذلك في كتب الشيخ المظفر جدة البحث والتفكير التي تطبع
كتاباته جميعا.
ويجد ملامح هذه الجدة في البحث والتحليل واضحة قوية في كتابه
" السقيفة " عندما يحلل اجتماع المسلمين في سقيفة بني ساعدة، وما حدث هناك.
وعندما يتحدث عن موقف المهاجرين والأنصار من مسألة الخلافة وموقف
الإمام مع الخلفاء.
كما يجد هذه الجدة في المنطق. عندما يستعير العلامات المستعملة في
الرياضيات للنسب الأربع أو عندما يعرض للقارئ بحث القسمة، أو في غير ذلك
مما يزدحم به هذا السفر القيم من تجديد البحث وجمال العرض وترابط الفكرة.
40

شعره:
وكان الشيخ المظفر يمارس النظم في شبابه بين حين وآخر وله شعر متين
رقيق الديباجة، تجده منشورا في بعض الكتب والصحف. ويجد القارئ فيه صورا
شعرية طريفة ويلتقي فيه بآفاق أدبية جديدة.
وانصرف عنه بعد ذلك إلى غيره من الشؤون الفكرية البناءة.
دور الشيخ في تطوير مناهج الدراسة والإصلاح:
كان الشيخ المظفر يحتل القمة من النشاط الإصلاحي في النجف الأشرف فقد
ساهم في جميع الحركات الإصلاحية التي أدركها، وكان فيها العضو البارز الذي
يشار إليه بالبنان.
إلا أن الفكرة الإصلاحية على قوتها وإيمان أصحابها بضرورة تحقيقها في
الحوزة العلمية... كان يفقدها الوضوح والتفكير المنهجي في العلاج.
وقد قدر للشيخ فيما قدر له، بفضل تجاربه الطويلة، أن تتبلور لديه فكرة
الإصلاح وتنظيم الدراسة والدعوة أكثر مما تقدم.
وأتيح له بفضل ما أوتي من نبوغ وحكمة في معالجة هذه القضايا أن يكشف
عن الجذور الأولى للمشكلة، ويدعو اخوانه وأبناءه بإخلاص إلى معالجة
المشكلة من هذه الجذور. والمشكلة فيما كان يبدو للشيخ تواجهنا في جهتين: في
مجال الدراسة، وفي مجال الدعوة:
ففي مجال الدراسة لاحظ أن التدريس في مدرسة النجف الأشرف ينتظم
في مرحلتين:
1 - مرحلة المقدمات والسطوح. 2 - مرحلة البحث الخارجي.
وتعتبر مرحلة السطوح دورا إعداديا، بينما تعتبر مرحلة الخارج دورا
للتخصيص في الاجتهاد.
وطبيعة هذه المرحلة تأبى أي تعديل في مشكلها ومحتواها ولا يمكن
41

إخضاع هذه المرحلة من الدراسة لأي تنظيم منهجي خاص. ولا تتبع الدراسة في
هذه المرحلة تنظيما خاصا ولا تكاد تشبه الدراسة بالمعنى المنهجي الذي نفهمه
من الدراسة.
وطبيعة هذا البحث لا تتحمل أي تحديد وتنظيم، ولا يمكن حصر النقاش أو
تحديد البحث بحد خاص، كما لا يمكن أن يكون الامتحان داعيا إلى البحث
والدرس في هذا الدور.
والدور الأول وحده هو الذي يعاني شيئا من النقص ويحتاج إلى شئ من
التوجيه والتنظيم.
ولاحظ أن أسباب ذلك يرجع إلى نقص في المادة وضعف في الأسلوب.
أما من حيث المادة فإن المادة التي يتلقاها الطالب النجفي في هذا الدور من
الدراسة لا تزال في كثير من الأحوال تقتصر على دراسة النحو والصرف والبلاغة
والمنطق والتفسير والفقه والأصول، مع توسع في المادتين الأخيرتين.
وهذه المواد على ما لها من الأهمية في تكوين ذهنية الطالب لا تنهض
وحدها بواجبات الطالب الرسالية من توجيه ودعوة وتبشير وتثقيف. ولا يستطيع
الطالب أن يقتصر على هذه المادة التي يتلقاها في هذا الدور لو أراد القيام بدوره
من التوجيه والدعوة على أوسع نطاق.
ومن حيث الأسلوب لاحظ الشيخ المظفر أن الكتب الدراسية التي يتعاطاها
الطالب النجفي في هذا الدور لا يزال يطغى عليها طابع الغموض والتعقيد، مما
يحوج الطالب إلى أن يصرف جهدا كثيرا في فهم العبارة وما يظهر عليها من
غموض وتعقيد.
ذلك بالإضافة إلى سوء التنظيم في تنسيق الأبحاث.
ذلك فيما يخص تنظيم الدراسة. أما ما يخص الدعوة والتوجيه:
فقد وجد الشيخ المظفر أن أداة الدعوة المفضلة هي الخطابة والكتابة.
والدعوة الإسلامية تعاني ضعفا في هذين الجانبين.
42

أما فيما يخص الخطابة فقد كان رحمه الله يلاحظ أن أسلوب الخطابة في
النجف بوضعها الحاضر لا يفي برسالة النجف بالشكل الذي يليق بمركزها الديني
ولا يتم للخطيب أن يقوم بواجبه الإسلامي على نطاق واسع، ما لم يطلع على آفاق
الفكر الحديث وشؤون المعرفة التجريبية، بالإضافة إلى الإحاطة الكاملة بشؤون
الفكر الإسلامي من فقه وتفسير وحديث وتاريخ وما إلى ذلك.
وفيما يخص الكتابة الإسلامية كان يلاحظ أن مكانة النجف الدينية تتطلب
منها أن تساهم في نشر الفكر الإسلامي على نطاق أوسع من الشكل الحاضر، وأن
تنطلق الدعوة الإسلامية منها عن طريق الكتابة والتأليف والصحافة والنشر على
أوسع مجال، وأن يشمل هذا التيار الفكري الذي ينطلق عنها والذي يحمل معه
الإيمان والإصلاح في وضوح وجلاء أقطار العالم وأينما يحل إنسان على ظهر
هذا الكوكب. في الوقت الذي كان يلاحظ فيه أن مدرسة النجف لا تعوزها في
كثير من الأحيان مادة الكتابة والبحث.
ومن جهة ثانية كان يلاحظ أن طابع الفردية هو الذي يغلب على الكتابة
النجفية والأبحاث التي يعرضها الكاتب النجفي فهي أقرب إلى الجهد الفردي منه
إلى الجهد الجماعي.
ومن جهة ثالثة لم تتوفر في النجف في ذلك العهد مطابع مجهزة ولا دور
جاهزة للنشر تليق بالمادة العلمية الخصبة التي تعرضها النجف على المطبعة.
وكذلك أتيح للشيخ المظفر أن يدرس الحالة في النجف بموضوعية وشمول
تامين.
ولكنه كان يعلم في نفس الوقت أن عرض المشكلة لا يؤدي إلى شئ مالم
تتضافر الجهود مخلصة صادقة لتلافي النقص.
وكان يعلم أن الأساليب السلبية لا تنفع لمواجهة الحالة والهدم لا يفيد ولا
ينهض بشئ، مالم يكن هناك بناء وراء ذلك، وأن العمل الإصلاحي لا ينفع في
مثل هذه الظروف، مالم يكن مقرونا إلى دراسة الوضع دراسة موضوعية شاملة
وإلى الرؤية والتدرج في العلاج.
43

أدرك الشيخ كل ذلك وفكر في ذلك كله طويلا، وشمر عن ساعد الجد ليخوض
ميدان العمل، وهو يدري أن هناك عقبات صعابا تعرقل سيره في هذا الطريق.
وأول ما بدا له إيجاد جماعة واعية من اخوانه فضلاء الحوزة تفهم ملابسات
الحياة النجفية وتعي واقع الرسالة الفكرية الضخمة التي تحملها النجف.
وفي رابع شوال عام 1353 المصادف 10 / 1 / 1935 قدم ثلة من الشباب
الروحانيين (فيهم الشيخ) بيانا إلى وزارة الداخلية يطلبون فيه تأسيس جمعية
دينية بالنجف الأشرف باسم منتدى النشر مصحوبا بالنظام الأساسي وبعد اللتيا
والتي أجازت الوزارة فتح المنتدى.
وأعقبها بمحاولة لتنظيم الدراسة، وتبسيط الكتب الدراسية، وتوسيع المناهج
الدراسية، ووجد ان الدراسة المنهجية هي الخطوة الأولى في هذا الطريق، ومهما
كانت ضرورة الدراسة الفردية، ومهما قيل في جدواها فلا بد أن ينضم إلى هذا
اللون من الدراسة لون آخر من الدراسة يعتمد على نظام خاص. وبهذا الشكل
حاول أن يحقق جزءا من الإصلاح.
فوضع في سنة 1355 الخطة لتأسيس مدرسة عالية للعلوم الدينية أو كلية
للاجتهاد بفتح الصف الأول الذي كان يدرس فيه أربعة علوم: الفقه الاستدلالي،
والتفسير، وعلم الأصول، والفلسفة على شكل محاضرات توضع بلغة سهلة
واضحة، فتبرع بتدريس الأول والثاني الشيخ عبد الحسين الحلي، وتبرع بتدريس
الثالث والرابع الشيخ عبد الحسين الرشتي. وكان تبرع هذين العلمين بالتدريس
دراسة منظمة من أهم الأحداث في تاريخ النجف الأشرف، ويعد تضحية نادرة
منهما تذكر مدى الدهر بالتقدير والإعجاب بروحهما الإصلاحية. ولم تأت العطلة
الصيفية إلا وتعطل هذا الصف ليعود بعدها، ولكنه أبى ولا يدري غير بعض أعضاء
مجلس الإدارة أكان إباؤه عن دلال أم هلال أم عن شئ آخر غير منتظر؟ حتى
من مثل هذين العلمين نفسهما قاتل الله الشجاعة الأدبية! كيف تعز في أشد ظروف
الحاجة إليها.
44

وفي سنة 1376 ه‍ بعد محاولات عديدة وتجارب طويلة أسس الشيخ المظفر
كلية الفقه في النجف الأشرف، واعترفت بها وزارة المعارف العراقية سنة 1377
يدرس فيها الفقه الإمامي، والفقه المقارن وأصول الفقه، والتفسير وأصوله،
والحديث وأصوله (الدراية) والتربية، وعلم النفس، والأدب وتأريخه، وعلم
الاجتماع، والتاريخ الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، والفلسفة الحديثة، والمنطق،
والتاريخ الحديث، وأصول التدريس، والنحو والصرف، وإحدى اللغات الأجنبية.
وقد بذل فقيدنا الشيخ حياته في سبيل تنمية هذه المؤسسة بإخلاص وإيمان
يعز مثله في نفوس المجاهدين، فكان يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية وإدارة
الصفوف عند غياب بعض المدرسين في سائر العلوم. وكان في الوقت نفسه يعد
مجلدات كتابه القيم " أصول الفقه " للتدريس في " كلية الفقه " ويباشر مهام الإدارة
والعمادة والتأليف وحتى تدوين السجلات في بعض الأحيان.
وكم رأيت الشيخ وهو يقوم بتدوين بعض سجلات الطلبة، أو طباعة بعض
الرسائل بالآلة الطابعة.
وكذلك قامت المؤسسة على عاتق الشيخ الفقيد، وأودعها حياته، وشيدها
بدقات قلبه، وبذل في سبيلها جميع إمكانياته.
كل ذلك إلى جنب المؤسسات والمشاريع الثقافية الإسلامية الأخرى التي
أسسها الشيخ وأتيح لها الاستمرار أو أصابها الفشل... وإلى جنب حركة النشر
والتأليف التي بعثها الشيخ في النجف كانت منها مجلتا البذرة والنجف.
وكان الشيخ المظفر محور الحركة في مختلف وجوه هذا النشاط وباعثها في
كثير من الأحيان، ولم يظهر على حديثه أو قلمه طيلة هذه المدة ما يشعر بأنه شئ
يذكر في هذه المؤسسة إلا عندما يأتي حساب المسؤولية فيظهر الشيخ على
المسرح ليتحمل هذه المسؤولية بنفس ثابتة وإيمان قوي.
وما أكثر ما شوهد الشيخ يلقي دروسا على طلابه الناشئين أو يلقي عليهم
نصائح وإرشادات أو يقوم بتوجيههم بنفسه في روحانية وبساطة.
45

ولم يعرف الشيخ الفقيد حينا من الزمن معنى لكلمة " أنا " ولما يلابس هذه
الكلمة من بغض وحب في غير ذات الله.
فقد كانت نفسه الكبيرة تضيق بما يسمى ب‍ " البغض " ولا تعرف معنى للخصومة
والعداء، فاستمع إليه كيف يحدد موقفه من خصومه أو بالأحرى من خصوم
المؤسسة "... وأنا أكثر إخواني عذرا لجماعة كبيرة ممن وقف موقف المخاصم
لمشروعنا ولا سيما الذين نطمئن إلى حسن نواياهم ويطمئنون إلى حسن نوايانا ".
وقلما نعهد أن تبلغ التضحية ونكران الذات فيمن رأينا من أصحاب الأفكار
هذا الحد... في سبيل الفكرة التي يؤمن بها الإنسان.
وإن من أحب الأشياء إلي أن أختم هذا الحديث بهذه الجملة الرقيقة التي
تشف عن نفسية كاتبها الكبيرة: " ونحن مستعدون لتضحية جديدة بأنفسنا فنتنحى
عن العمل عندما نجد من يحبون أن ينهضوا به دوننا خصوصا إذا اعتقدوا أنهم
سيعطون المشروع صبغة عامة بدخولهم وليثقوا أنا عمال للمشروع أينما كنا ومهما
كانت صبغتنا فيه، ولا نريد أن نبرهن بهذا القول على حسن نوايانا. إن هذا لا يهمنا
بقليل ولا كثير بعد الذي كان، إنما الذي يهمنا أن ينهض المشروع نهضة تليق
بسمعة النجف ويؤدي الواجب الملقى على عاتقه كاملا، وبأي ثمن، حتى إذا كان
ثمنه أرواحنا، وما أرخصها في سبيل الواجب!
وقد صرحنا مرارا أننا لم نخط حتى الآن إلا خطوة قصيرة في سبيل ما يقصد
من أهدافه ". وكذلك كانت قصة النفس الكبيرة.
محمد مهدي الآصفي
46

أصول الفقه
الجزء الأول
مجموعة المحاضرات التي القيت في
كلية منتدى النشر بالنجف الأشرف
ابتداء من سنة 1360 ه‍. ق
بقلم
الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
47

وضع هذا الكتاب لتبسيط أصول هذا الفن
للمبتدئين ليعينهم على الدخول في بحره العميق
عندما يبلغون درجة المراهقين، وهو الحلقة
المفقودة بين كتاب معالم الأصول وبين
كفاية الأصول، يجمع بين سهولة العبارة
والاختصار وبين انتقاء الآراء الحديثة التي تطور إليها
هذا الفن.
48

نحمده على آلائه، ونصلي على خاتم النبيين محمد وآله
الطاهرين المعصومين
المدخل
تعريف علم الأصول:
علم أصول الفقه هو: علم يبحث فيه عن قواعد تقع نتيجتها في طرق
استنباط الحكم الشرعي.
مثاله: إن الصلاة واجبة في الشريعة الإسلامية المقدسة، وقد دل على
وجوبها من القرآن الكريم قوله تعالى: * (وأن أقيموا الصلاة) * (1). * (إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (2). ولكن دلالة الآية الأولى
متوقفة على ظهور صيغة الأمر - نحو " أقيموا " هنا - في الوجوب،
ومتوقفة أيضا على أن ظهور القرآن حجة يصح الاستدلال به.
وهاتان المسألتان يتكفل ببيانهما علم الأصول.
فإذا علم الفقيه من هذا العلم أن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب وأن
ظهور القرآن حجة، استطاع أن يستنبط من هذه الآية الكريمة المذكورة:

(1) الأنعام: 72.
(2) النساء: 103.
49

أن الصلاة واجبة. وهكذا في كل حكم شرعي مستفاد من أي دليل شرعي
أو عقلي لابد أن يتوقف استنباطه من الدليل على مسألة أو أكثر من
مسائل هذا العلم.
الحكم: واقعي وظاهري.
والدليل: اجتهادي وفقاهتي.
ثم لا يخفى أن الحكم الشرعي - الذي جاء ذكره في التعريف السابق
- على نحوين:
1 - أن يكون ثابتا للشئ بما هو في نفسه فعل من الأفعال، كالمثال
المتقدم، أعني: وجوب الصلاة، فالوجوب ثابت للصلاة بما هي صلاة في
نفسها وفعل من الأفعال مع قطع النظر عن أي شئ آخر. ويسمى مثل هذا
الحكم " الحكم الواقعي " والدليل الدال عليه " الدليل الاجتهادي " (1).
2 - أن يكون ثابتا للشئ بما أنه مجهول حكمه الواقعي، كما إذا
اختلف الفقهاء في حرمة النظر إلى الأجنبية، أو وجوب الإقامة للصلاة.
فعند عدم قيام الدليل على أحد الأقوال لدى الفقيه يشك في الحكم
الواقعي الأولي المختلف فيه، ولأجل ألا يبقى في مقام العمل متحيرا لابد
له من وجود حكم آخر ولو كان عقليا، كوجوب الاحتياط أو البراءة أو
عدم الاعتناء بالشك. ويسمى مثل هذا الحكم الثانوي " الحكم الظاهري "
والدليل الدال عليه " الدليل الفقاهتي " أو " الأصل العملي ".
ومباحث الأصول منها ما يتكفل للبحث عما تقع نتيجته في طريق
استنباط الحكم الواقعي، ومنها ما يقع في طريق الحكم الظاهري.

(1) هذان الاصطلاحان من الوحيد البهبهاني (قدس سره)، راجع الفوائد الحائرية: ص 499، وفرائد
الأصول: ج 1 ص 309 (أوائل المقصد الثالث في الشك).
50

ويجمع الكل " وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي " على ما ذكرناه
في التعريف.
موضوع علم الأصول:
إن هذا العلم غير متكفل للبحث عن موضوع خاص، بل يبحث عن
موضوعات شتى تشترك كلها في غرضنا المهم منه، وهو: استنباط الحكم
الشرعي. فلا وجه لجعل موضوع هذا العلم خصوص " الأدلة الأربعة "
فقط، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، أو بإضافة الاستصحاب،
أو بإضافة القياس والاستحسان، كما صنع المتقدمون (1).
ولا حاجة إلى الالتزام بأن العلم لابد له من موضوع يبحث عن
عوارضه الذاتية في ذلك العلم، كما تسالمت عليه كلمة المنطقيين (2) فإن
هذا لا ملزم له ولا دليل عليه.
فائدته:
إن كل متشرع يعلم أنه ما من فعل من أفعال الإنسان الاختيارية إلا
وله حكم في الشريعة الإسلامية المقدسة: من وجوب أو حرمة أو نحوهما
من الأحكام الخمسة. ويعلم أيضا أن تلك الأحكام ليست كلها معلومة
لكل أحد بالعلم الضروري، بل يحتاج أكثرها لإثباتها إلى إعمال النظر
وإقامة الدليل، أي: أنها من العلوم النظرية. وعلم الأصول هو العلم الوحيد
المدون للاستعانة به على الاستدلال على إثبات الأحكام الشرعية.
ففائدته إذا: الاستعانة على الاستدلال للأحكام من أدلتها.

(1) حيث عدوها في عداد أدلة الفقه وتكلموا فيها، مثل السيد المرتضى في الذريعة، والشيخ
في العدة، والسيد ابن زهرة في الغنية، والمحقق في المعارج، والعلامة في النهاية، والفاضل
التوني في الوافية.
(2) راجع شرح المطالع: ص 18 س 8، والحاشية للمولى عبد الله: ص 18.
51

تقسيم أبحاثه:
تنقسم مباحث هذا العلم إلى أربعة أقسام: (1)
1 - مباحث الألفاظ: وهي تبحث عن مداليل الألفاظ وظواهرها من
جهة عامة، نظير البحث عن ظهور صيغة " افعل " في الوجوب، وظهور
النهي في الحرمة... ونحو ذلك.
2 - المباحث العقلية: وهي ما تبحث عن لوازم الأحكام في أنفسها
ولو لم تكن تلك الأحكام مدلولة للفظ، كالبحث عن الملازمة بين حكم
العقل وحكم الشرع، وكالبحث عن استلزام وجوب الشئ لوجوب
مقدمته - المعروف هذا البحث باسم " مقدمة الواجب " - وكالبحث عن
استلزام وجوب الشئ لحرمة ضده المعروف باسم " مسألة الضد "
وكالبحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي... وغير ذلك.
3 - مباحث الحجة: وهي ما يبحث فيها عن الحجية والدليلية،
كالبحث عن حجية خبر الواحد وحجية الظواهر وحجية ظواهر الكتاب
وحجية السنة والإجماع والعقل... وما إلى ذلك.
4 - مباحث الأصول العملية: وهي تبحث عن مرجع المجتهد عند
فقدان الدليل الاجتهادي، كالبحث عن أصل البراءة والاحتياط
والاستصحاب ونحوها.
فمقاصد الكتاب - إذا - أربعة. وله خاتمة تبحث عن تعارض الأدلة

وهذا التقسيم حديث تنبه له شيخنا العظيم الشيخ محمد حسين الإصفهاني (قدس سره) المتوفى سنة
1361 أفاده في دورة بحثه الأخيرة.
وهو التقسيم الصحيح الذي يجمع مسائل علم الأصول ويدخل كل مسألة في بابها.
فمثلا: مبحث المشتق كان يعد من المقدمات وينبغي أن يعد من مباحث الألفاظ، ومقدمة
الواجب ومسألة الإجزاء ونحوهما كانت تعد من مباحث الألفاظ، وهي من بحث الملازمات
العقلية... وهكذا.
52

وتسمى " مباحث التعادل والتراجيح " فالكتاب يقع في خمسة أجزاء (1)
إن شاءالله تعالى.
وقبل الشروع لابد من مقدمة يبحث فيها عن جملة من المباحث
اللغوية التي لم يستوف البحث عنها في العلوم الأدبية أو لم يبحث عنها.
المقدمة
تبحث عن أمور لها علاقة بوضع الألفاظ واستعمالها ودلالتها، وفيها
أربعة عشر مبحثا.
- 1 -
حقيقة الوضع
لاشك أن دلالة الألفاظ على معانيها في أية لغة كانت ليست ذاتية،
كذاتية دلالة الدخان - مثلا - على وجود النار، وإن توهم ذلك بعضهم (2)
لأن لازم هذا الزعم أن يشترك جميع البشر في هذه الدلالة، مع أن
الفارسي - مثلا - لا يفهم الألفاظ العربية ولا غيرها من دون تعلم، وكذلك
العكس في جميع اللغات. وهذا واضح.
وعليه، فليست دلالة الألفاظ على معانيها إلا بالجعل والتخصيص من
واضع تلك الألفاظ لمعانيها. ولذا تدخل الدلالة اللفظية هذه في الدلالة
الوضعية.

(1) وقد وضعه المؤلف - طاب مثواه - بعدئذ في أربعة أجزاء، حيث ألحق مباحث التعادل
والتراجيح في الجزء الثالث ضمن مباحث الحجة، وقد أوضح أسباب ذلك في مقدمة الجزء
الثالث.
(2) توهمه عباد بن سليمان الصيمري وجماعة من معتزلة بغداد وأهل التكسير، راجع نهاية
الوصول إلى علم الأصول للعلامة الحلي (قدس سره): الورقة 7.
53

- 2 -
من الواضع؟
ولكن من ذلك الواضع الأول في كل لغة من اللغات؟
قيل: إن الواضع لابد أن يكون شخصا واحدا يتبعه جماعة من البشر
في التفاهم بتلك اللغة (1). وقيل - وهو الأقرب إلى الصواب -: إن الطبيعة
البشرية حسب القوة المودعة من الله تعالى فيها تقتضي إفادة مقاصد
الإنسان بالألفاظ (2) فيخترع من عند نفسه لفظا مخصوصا عند إرادة معنى
مخصوص - كما هو المشاهد من الصبيان عند أول أمرهم - فيتفاهم مع
الآخرين الذين يتصلون به، والآخرون كذلك يخترعون من أنفسهم ألفاظا
لمقاصدهم وتتألف على مرور الزمن من مجموع ذلك طائفة صغيرة من
الألفاظ، حتى تكون لغة خاصة لها قواعدها، يتفاهم بها قوم من البشر.
وهذه اللغة قد تتشعب بين أقوام متباعدة وتتطور عند كل قوم بما يحدث
فيها من التغيير والزيادة، حتى قد تنبثق منها لغات أخرى فيصبح لكل
جماعة لغتهم الخاصة.
وعليه، تكون حقيقة الوضع هو جعل اللفظ بإزاء المعنى
وتخصيصه به. ومما يدل على اختيار القول الثاني في الواضع أنه لو كان
الواضع شخصا واحدا لنقل ذلك في تاريخ اللغات، ولعرف عند كل لغة
واضعها.

(1) قاله أبو هاشم الجبائي وأصحابه وجماعة من المتكلمين. لكنهم لم يحصروه بشخص
واحد، بل قالوا: واحد أو جماعة، راجع المصدر السابق.
(2) قالوه في الجواب عن استدلال الأشعري وتابعيه القائلين بأن الواضع هو الله تعالى
مستدلين بقوله تعالى: * (وعلم الآدم الأسماء كلها) * راجع المصدر السابق. وللمحقق
النائيني (قدس سره) هنا كلام دقيق، راجع فوائد الأصول: ج 1 ص 30.
54

- 3 -
الوضع تعييني وتعيني
ثم إن دلالة الألفاظ على معانيها الأصل فيها أن تكون ناشئة من
الجعل والتخصيص، ويسمى الوضع حينئذ " تعيينيا ". وقد تنشأ الدلالة من
اختصاص اللفظ بالمعنى، الحاصل هذا الاختصاص من الكثرة في
الاستعمال على درجة من الكثرة أنه تألفه الأذهان على وجه إذا سمع
اللفظ ينتقل السامع منه إلى المعنى، ويسمى الوضع حينئذ " تعينيا ".
- 4 -
أقسام الوضع
لابد في الوضع من تصور اللفظ والمعنى، لأن الوضع حكم على
المعنى وعلى اللفظ، ولا يصح الحكم على الشئ إلا بعد تصوره ومعرفته
بوجه من الوجوه ولو على نحو الإجمال، لأن تصور الشئ قد يكون
بنفسه وقد يكون بوجهه، أي: بتصور عنوان عام ينطبق عليه ويشار به
إليه، إذ يكون ذلك العنوان العام مرآة وكاشفا عنه، كما إذا حكمت على
شبح من بعيد أنه أبيض - مثلا - وأنت لا تعرفه بنفسه أنه أي شئ هو،
وأكثر ما تعرف عنه - مثلا - أنه شئ من الأشياء أو حيوان من
الحيوانات، فقد صح حكمك عليه بأنه أبيض مع أنك لم تعرفه ولم
تتصوره بنفسه وإنما تصورته بعنوان أنه شئ أو حيوان لا أكثر وأشرت
به إليه. وهذا ما يسمى في عرفهم " تصور الشئ بوجهه " وهو كاف لصحة
الحكم على الشئ. وهذا بخلاف المجهول محضا، فإنه لا يمكن الحكم
عليه أبدا.
وعلى هذا، فإنه يكفينا في صحة الوضع للمعنى أن نتصوره بوجهه،
كما لو كنا تصورناه بنفسه.
55

ولما عرفنا أن المعنى لابد من تصوره وأن تصوره على نحوين
- فإنه بهذا الاعتبار وباعتبار ثان هو أن المعنى قد يكون خاصا، أي
جزئيا، وقد يكون عاما، أي كليا - نقول: إن الوضع ينقسم إلى أربعة أقسام
عقلية:
1 - أن يكون المعنى المتصور جزئيا والموضوع له نفس ذلك
الجزئي، أي أن الموضوع له معنى متصور بنفسه لا بوجهه. ويسمى هذا
القسم " الوضع خاص والموضوع له خاص ".
2 - أن يكون المتصور كليا والموضوع له نفس ذلك الكلي، أي أن
الموضوع له كلي متصور بنفسه لا بوجهه. ويسمى هذا القسم " الوضع عام
والموضوع له عام ".
3 - أن يكون المتصور كليا والموضوع له أفراد ذلك الكلي لا نفسه،
أي أن الموضوع له جزئي غير متصور بنفسه بل بوجهه. ويسمى هذا
القسم " الوضع عام والموضوع له خاص ".
4 - أن يكون المتصور جزئيا والموضوع له كليا لذلك الجزئي.
ويسمى هذا القسم " الوضع خاص والموضوع له عام ".
إذا عرفت هذه الأقسام المتصورة العقلية، فنقول:
لا نزاع في إمكان الأقسام الثلاثة الأولى، كما لا نزاع في وقوع
القسمين الأولين. ومثال الأول الأعلام الشخصية، كمحمد وعلي وجعفر.
ومثال الثاني أسماء الأجناس، كماء وسماء ونجم وإنسان وحيوان.
وإنما النزاع وقع في أمرين: الأول في إمكان القسم الرابع، والثاني في
وقوع الثالث بعد التسليم بإمكانه. والصحيح عندنا: استحالة الرابع، ووقوع
الثالث، ومثاله: الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والاستفهام ونحوها،
على ما سيأتي.
56

- 5 -
استحالة القسم الرابع
أما استحالة الرابع - وهو الوضع الخاص والموضوع له العام - فنقول
في بيانه: إن النزاع في إمكان ذلك ناشئ من النزاع في إمكان أن يكون
الخاص وجها وعنوانا للعام، وذلك لما تقدم أن المعنى الموضوع له لابد
من تصوره بنفسه أو بوجهه لاستحالة الحكم على المجهول، والمفروض
في هذا القسم أن المعنى الموضوع له لم يكن متصورا وإنما تصور الخاص
فقط، وإلا لو كان متصورا بنفسه ولو بسبب تصور الخاص كان من القسم
الثاني، وهو " الوضع العام والموضوع له العام " (1) ولا كلام في إمكانه بل
في وقوعه، كما تقدم.
فلابد حينئذ للقول بإمكان القسم الرابع من أن نفرض أن الخاص
يصح أن يكون وجها من وجوه العام وجهة من جهاته حتى يكون تصوره
كافيا عن تصور العام بنفسه ومغنيا عنه، لأجل أن يكون تصورا للعام
بوجه.
ولكن الصحيح الواضح لكل مفكر أن الخاص ليس من وجوه العام بل
الأمر بالعكس من ذلك، فإن العام هو وجه من وجوه الخاص وجهة من
جهاته، ولذا قلنا بإمكان القسم الثالث، وهو " الوضع العام والموضوع له
الخاص " لأ نا إذا تصورنا العام فقد تصورنا في ضمنه جميع أفراده بوجه،
فيمكن الوضع لنفس ذلك العام من جهة تصوره بنفسه فيكون من القسم
الثاني، ويمكن الوضع لأفراده من جهة تصورها بوجهها فيكون من
الثالث. بخلاف الأمر في تصور الخاص، فلا يمكن الوضع معه إلا لنفس

(1) تقدم التعبير عنه بلفظ " الوضع عام والموضوع عام " بدون اللام، وهكذا في سائر الأقسام.
57

ذلك الخاص، ولا يمكن الوضع للعام لأ نا لم نتصوره أصلا لا بنفسه
- بحسب الفرض - ولا بوجهه، إذ ليس الخاص وجها له. ويستحيل الحكم
على المجهول المطلق.
- 6 -
وقوع الوضع العام والموضوع له الخاص
وتحقيق المعنى الحرفي
أما وقوع القسم الثالث، فقد قلنا: إن مثاله وضع الحروف وما يلحق بها
من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.
وقبل إثبات ذلك لابد من تحقيق معنى الحرف وما يمتاز به عن الاسم.
فنقول: الأقوال في وضع الحروف وما يلحق بها من الأسماء ثلاثة:
1 - إن الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء
المسانخة لها في المعنى، فمعنى " من " الابتدائية هو عين معنى كلمة
" الابتداء " بلا فرق، وكذا معنى " على " معنى كلمة " الاستعلاء "، ومعنى
" في " معنى كلمة الظرفية... وهكذا. وإنما الفرق في جهة أخرى، وهي: أن
الحرف وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة وآلة
لغيره، أي: إذا لوحظ المعنى غير مستقل في نفسه، والاسم وضع لأجل أن
يستعمل في معناه إذا لوحظ مستقلا في نفسه.
مثلا: مفهوم " الابتداء " معنى واحد وضع له لفظان: أحدهما لفظ
" الابتداء " والثاني كلمة " من " لكن الأول وضع له لأجل أن يستعمل فيه
عندما يلاحظه المستعمل مستقلا في نفسه، كما إذا قيل: " ابتداء السير كان
سريعا ". والثاني وضع له لأجل أن يستعمل فيه عندما يلاحظه المستعمل
غير مستقل في نفسه، كما إذا قيل: " سرت من النجف ".
58

فتحصل أن الفرق بين معنى الحرف ومعنى الاسم: أن الأول يلاحظه
المستعمل حين الاستعمال آلة لغيره وغير مستقل في نفسه، والثاني
يلاحظه حين الاستعمال مستقلا، مع أن المعنى في كليهما واحد. والفرق
بين وضعيهما إنما هو في الغاية فقط.
ولازم هذا القول أن الوضع والموضوع له في الحروف عامان. وهذا
القول منسوب إلى الشيخ الرضي نجم الأئمة (1) واختاره المحقق صاحب
الكفاية (2).
2 - إن الحروف لم توضع لمعان أصلا، بل حالها حال علامات
الإعراب في إفادة كيفية خاصة في لفظ آخر، فكما أن علامة الرفع في
قولهم: " حدثنا زرارة " تدل على أن زرارة فاعل الحديث، كذلك " من " في
المثال المتقدم تدل على أن النجف مبتدأ منها والسير مبتدأ به.
3 - إن الحروف موضوعة لمعان مباينة في حقيقتها وسنخها للمعاني
الاسمية، فإن المعاني الاسمية في حد ذاتها معان مستقلة في أنفسها،
ومعاني الحروف لا استقلال لها، بل هي متقومة بغيرها.
والصحيح هذا القول الثالث. ويحتاج إلى توضيح وبيان:
إن المعاني الموجودة في الخارج على نحوين:
الأول: ما يكون موجودا في نفسه ك‍ " زيد " الذي هو من جنس
الجوهر، و " قيامه " - مثلا - الذي هو من جنس العرض، فإن كلا منهما
موجود في نفسه، والفرق أن الجوهر موجود في نفسه لنفسه، والعرض
موجود في نفسه لغيره.

(1) نسبه إليه المحقق الرشتي حيث قال: وببالي أن هذا التفصيل قد صرح به المحقق الشريف
في حاشية على العضدي، راجع بدائع الأفكار: ص 41 س 29.
(2) كفاية الأصول: ج 1 ص 25.
59

الثاني: ما يكون موجودا لا في نفسه، كنسبة القيام إلى زيد.
والدليل على كون هذا المعنى لا في نفسه: أنه لو كان للنسب
والروابط وجودات استقلالية، للزم وجود الرابط بينها وبين موضوعاتها،
فننقل الكلام إلى ذلك الرابط، والمفروض أنه موجود مستقل، فلابد له من
رابط أيضا... وهكذا ننقل الكلام إلى هذا الرابط فيلزم التسلسل،
والتسلسل باطل.
فيعلم من ذلك: أن وجود الروابط والنسب في حد ذاته متعلق بالغير
ولا حقيقة له إلا التعلق بالطرفين.
ثم إن الإنسان في مقام إفادة مقاصده كما يحتاج إلى التعبير عن
المعاني المستقلة كذلك يحتاج إلى التعبير عن المعاني غير المستقلة في
ذاتها، فحكمة الوضع تقتضي أن توضع بإزاء كل من القسمين ألفاظ
خاصة، والموضوع بإزاء المعاني المستقلة هي الأسماء، والموضوع بإزاء
المعاني غير المستقلة هي الحروف وما يلحق بها. وهذه المعاني غير
المستقلة لما كانت على أقسام شتى فقد وضع بإزاء كل قسم لفظ يدل
عليه، أو هيأة لفظية تدل عليه.
مثلا، إذا قيل: " نزحت البئر في دارنا بالدلو " ففيه عدة نسب مختلفة
ومعان غير مستقلة، إحداها: نسبة النزح إلى فاعله والدال عليها هيئة الفعل
للمعلوم وثانيتها: نسبته إلى ما وقع عليه - أي مفعوله - وهو البئر والدال
عليها هيئة النصب في الكلمة. وثالثتها: نسبته إلى المكان والدال عليها
كلمة " في ". ورابعتها نسبته إلى الآلة والدال عليها لفظ الباء في كلمة
" بالدلو ".
ومن هنا يعلم أن الدال على المعاني غير المستقلة ربما يكون لفظا
مستقلا كلفظة " من " و " إلى " و " في ". وربما يكون هيئة في اللفظ كهيئات
المشتقات والأفعال وهيئات الإعراب.
60

النتيجة:
فقد تحقق مما بيناه: أن الحروف لها معان تدل عليها كالأسماء.
والفرق: أن المعاني الاسمية مستقلة في أنفسها وقابلة لتصورها في ذاتها
وإن كانت في الوجود الخارجي محتاجة إلى غيرها كالأعراض، وأما
المعاني الحرفية فهي معان غير مستقلة وغير قابلة للتصور إلا في ضمن
مفهوم آخر. ومن هنا يشبه كل أمر غير مستقل بالمعنى الحرفي.
بطلان القولين الأولين
وعلى هذا، يظهر بطلان القول الثاني القائل: إن الحروف لا معاني لها،
وكذلك القول الأول القائل: إن المعنى الحرفي والاسمي متحدان بالذات
مختلفان باللحاظ.
ويرد هذا القول أيضا أنه لو صح اتحاد المعنيين لجاز استعمال كل من
الحرف والاسم في موضع الآخر، مع أنه لا يصح بالبداهة حتى على نحو
المجاز، فلا يصح بدل قولنا: " زيد في الدار " - مثلا - أن يقال: زيد الظرفية
الدار.
وقد أجيب عن هذا الإيراد بأنه إنما لا يصح أحدهما في موضع الآخر
لأن الواضع اشترط ألا يستعمل لفظ " الظرفية " إلا عند لحاظ معناه مستقلا،
ولا يستعمل لفظ " في " إلا عند لحاظ معناه غير مستقل وآلة لغيره (1).
ولكنه جواب غير صحيح، لأ أنه لا دليل على وجوب اتباع ما يشترطه
الواضع إذا لم يكن اشتراطه يوجب اعتبار خصوصية في اللفظ والمعنى.
وعلى تقدير أن يكون الواضع ممن تجب طاعته فمخالفته توجب
العصيان، لا غلط الكلام.

(1) أجاب بهذا الجواب المحقق الرضي، على ما نقله السيد الخوئي في أجود التقريرات: ج 1
ص 14.
61

زيادة إيضاح:
إذ قد عرفت أن الموجودات (1) منها ما يكون مستقلا في الوجود، ومنها
ما يكون رابطا بين موجودين، فاعلم أن كل كلام مركب من كلمتين أو
أكثر إذا القيت كلماته بغير ارتباط بينها، فإن كل واحد منها كلمة مستقلة
في نفسها لا ارتباط لها بالأخرى، وإنما الذي يربط بين المفردات ويؤلفها
كلاما واحدا هو الحرف أو إحدى الهيئات الخاصة. فأنت إذا قلت مثلا:
" أنا، كتب، قلم " لا يكون بين هذه الكلمات ربط وإنما هي مفردات صرفة
منثورة. أما إذا قلت: " كتبت بالقلم " كان كلاما واحدا مرتبطا بعضه مع
بعض مفهما للمعنى المقصود منه، وما حصل هذا الارتباط والوحدة
الكلامية إلا بفضل الهيئة المخصوصة ل‍ " كتبت " وحرف " الباء " و " أل ".
وعليه يصح أن يقال: إن الحروف هي روابط المفردات المستقلة
والمؤلفة للكلام الواحد والموحدة للمفردات المختلفة، شأنها شأن النسبة
بين المعاني المختلفة والرابطة بين المفاهيم غير المربوطة. فكما أن النسبة
رابطة بين المعاني ومؤلفة بينها فكذلك الحرف الدال عليها رابط بين
الألفاظ ومؤلف بينها.
وإلى هذا أشار سيد الأولياء أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله المعروف في
تقسيم الكلمات: " الاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة
المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره " (2). فأشار إلى أن المعاني

ينبغي أن يقال للتوضيح: إن الموجودات على أربعة أنحاء: موجود في نفسه لنفسه بنفسه
وهو واجب الوجود، وموجود في نفسه لنفسه بغيره وهو الجوهر كالجسم والنفس، وموجود
في نفسه لغيره بغيره وهو العرض، وموجود في غيره وهو أضعفها، وهو المعنى الحرفي
المعبر عنه ب‍ " الرابط ". فالأقسام الثلاثة الأولى الموجودات المستقلة، والرابع عداها الذي
هو المعنى الحرفي الذي لا وجود له إلا وجود طرفيه.
(2) الفصول المختارة: ص 59.
62

الاسمية معان استقلالية، ومعاني الحروف غير مستقلة في نفسها وإنما هي
تحدث الربط بين المفردات. ولم نجد في تعاريف القوم للحرف تعريفا
جامعا صحيحا مثل هذا التعريف.
الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص
إذا اتضح جميع ما تقدم يظهر: أن كل نسبة حقيقتها متقومة بطرفيها
على وجه لو قطع النظر عن الطرفين لبطلت وانعدمت، فكل نسبة في
وجودها الرابط مباينة لأية نسبة أخرى ولا تصدق عليها، وهي في حد
ذاتها مفهوم جزئي حقيقي.
وعليه لا يمكن فرض النسبة مفهوما كليا ينطبق على كثيرين وهي
متقومة بالطرفين وإلا لبطلت وانسلخت عن حقيقة كونها نسبة.
ثم إن النسب غير محصورة، فلا يمكن تصور جميعها للواضع، فلابد
في مقام الوضع لها من تصور معنى اسمي يكون عنوانا للنسب غير
المحصورة حاكيا عنها - وليس العنوان في نفسه نسبة، كمفهوم لفظ
" النسبة الابتدائية " المشار به إلى أفراد النسب الابتدائية الكلامية - ثم
يضع لنفس الأفراد غير المحصورة التي لا يمكن التعبير عنها إلا بعنوانها.
وبعبارة أخرى: أن الموضوع له هو النسبة الابتدائية بالحمل الشايع، وأما
النسبة الابتدائية بالحمل الأولي فليست بنسبة حقيقة بل تكون طرفا
للنسبة كما لو قلت: الابتداء كان من هذا المكان.
ومن هذا يعلم حال أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها.
فالوضع في الجميع عام والموضوع له خاص.
- 7 -
الاستعمال حقيقي ومجازي
استعمال اللفظ في معناه الموضوع له " حقيقة " واستعماله في غيره
63

المناسب له " مجاز " وفي غير المناسب " غلط ". وهذا أمر محل وفاق.
ولكنه وقع الخلاف في الاستعمال المجازي في أن صحته هل هي
متوقفة على ترخيص الواضع وملاحظة العلاقات المذكورة في علم البيان،
أو أن صحته طبعية تابعة لاستحسان الذوق السليم، فكلما كان المعنى غير
الموضوع له مناسبا للمعنى الموضوع له واستحسنه الطبع صح استعمال
اللفظ فيه، وإلا فلا؟
والأرجح القول الثاني، لأ نا نجد صحة استعمال " الأسد " في الرجل
الشجاع مجازا وإن منع منه الواضع، وعدم صحة استعماله مجازا في كريه
رائحة الفم - كما يمثلون (1) - وإن رخص الواضع. ومؤيد ذلك اتفاق اللغات
المختلفة غالبا في المعاني المجازية، فترى في كل لغة يعبر عن الرجل
الشجاع باللفظ الموضوع للأسد. وهكذا في كثير من المجازات الشائعة
عند البشر.
- 8 -
الدلالة تابعة للإرادة
قسموا الدلالة إلى قسمين: التصورية والتصديقية:
1 - التصورية، وهي أن ينتقل ذهن الإنسان إلى معنى اللفظ بمجرد
صدوره من لافظ ولو علم أن اللافظ لم يقصده، كانتقال الذهن إلى المعنى
الحقيقي عند استعمال اللفظ في معنى مجازي، مع أن المعنى الحقيقي
ليس مقصودا للمتكلم، وكانتقال الذهن إلى المعنى من اللفظ الصادر من
الساهي أو النائم أو الغالط.
2 - التصديقية، وهي دلالة اللفظ على أن المعنى مراد للمتكلم في

(1) في ط الأولى: مثلا.
64

اللفظ وقاصد لاستعماله فيه. وهذه الدلالة متوقفة على عدة أشياء: أولا:
على إحراز كون المتكلم في مقام البيان والإفادة. وثانيا على إحراز أنه
جاد غير هازل. وثالثا: على إحراز أنه قاصد لمعنى كلامه شاعر به.
ورابعا: على عدم نصب قرينة على إرادة خلاف الموضوع له، وإلا كانت
الدلالة التصديقية على طبق القرينة المنصوبة.
والمعروف: أن الدلالة الأولى - التصورية - معلولة للوضع، أي: أن
الدلالة الوضعية هي الدلالة التصورية. وهذا هو مراد من يقول: " إن الدلالة
غير تابعة للإرادة بل تابعة لعلم السامع بالوضع " (1).
والحق أن الدلالة تابعة للإرادة، وأول من تنبه لذلك فيما نعلم الشيخ
نصير الدين الطوسي - أعلى الله مقامه (2) - لأن الدلالة في الحقيقة منحصرة
في الدلالة التصديقية، والدلالة التصورية التي يسمونها دلالة ليست بدلالة،
وإن سميت كذلك، فإنه من باب التشبيه والتجوز، لأن التصورية في
الحقيقة هي من باب تداعي المعاني الذي يحصل بأدنى مناسبة، فتقسيم
الدلالة إلى تصديقية وتصورية تقسيم الشئ إلى نفسه وإلى غيره.
والسر في ذلك: أن الدلالة حقيقة - كما فسرناها في كتاب المنطق
الجزء الأول، بحث الدلالة (3) - هي أن يكشف الدال عن وجود المدلول،
فيحصل من العلم به العلم بالمدلول، سواء كان الدال لفظا أو غير لفظ.
مثلا: إن طرقة الباب يقال: إنها دالة على وجود شخص على الباب
طالب لأهل الدار، باعتبار أن المطرقة موضوعة لهذه الغاية. وتحليل هذا
المعنى: أن سماع الطرقة يكشف عن وجود طالب قاصد للطلب، فيحصل
من العلم بالطرقة العلم بالطارق وقصده، ولذلك يتحرك السامع إلى إجابته،

(1) قاله شارح المطالع والتفتازاني والمحقق الشريف، راجع مفاتيح الأصول: ص 4 س 29.
(2) شرح الإشارات: ج 1 ص 32.
(3) راجع المنطق: ج 1 ص 40.
65

لا أنه ينتقل ذهن السامع من تصور الطرقة إلى تصور شخص ما، فإن هذا
الانتقال قد يحصل بمجرد تصور معنى الباب أو الطرقة من دون أن يسمع
طرقة، ولا يسمى ذلك دلالة، ولذا إن الطرقة لو كانت على نحو مخصوص
يحصل من حركة الهواء - مثلا - لا تكون دالة على ما وضعت له المطرقة
وإن خطر في ذهن السامع معنى ذلك.
وهكذا نقول في دلالة الألفاظ على معانيها بدون فرق، فإن اللفظ إذا
صدر من المتكلم على نحو يحرز معه أنه جاد فيه غير هازل وأنه عن
شعور وقصد وأن غرضه البيان والإفهام - ومعنى إحراز ذلك أن السامع
علم بذلك - فإن كلامه يكون حينئذ دالا على وجود المعنى أي وجوده
في نفس المتكلم بوجود قصدي، فيكون علم السامع بصدور الكلام منه
يستلزم علمه بأن المتكلم قاصد لمعناه لأجل أن يفهمه السامع. وبهذا
يكون الكلام دالا كما تكون الطرقة دالة، وينعقد بهذا للكلام ظهور في
معناه الموضوع له أو المعنى الذي أقيمت على إرادته قرينة.
ولذا نحن عرفنا الدلالة اللفظية في المنطق بأنها: هي كون اللفظ بحالة
ينشأ من العلم بصدوره من المتكلم العلم بالمعنى المقصود به (1). ومن هنا
سمي المعنى " معنى " أي المقصود، من " عناه " إذا قصده.
ولأجل أن يتضح هذا الأمر جيدا اعتبر باللافتات التي توضع في هذا
العصر للدلالة على أن الطريق مغلوق - مثلا - أو أن الاتجاه في الطريق
إلى اليمين أو اليسار، ونحو ذلك، فإن اللافتة إذا كانت موضوعة في
موضعها اللائق على وجه منظم بنحو يظهر منه أن وضعها لهداية
المستطرقين كان مقصودا لواضعها، فإن وجودها هكذا يدل حينئذ على ما
يقصد منها من غلق الطريق أو الاتجاه. أما لو شاهدتها مطروحة في

(1) راجع المنطق: ج 1 ص 43.
66

الطريق مهملة أو عند الكاتب يرسمها، فإن المعنى المكتوب يخطر في
ذهن القارئ، ولكن لا تكون دالة عنده على أن الطريق مغلوقة أو أن
الاتجاه كذا، بل أكثر ما يفهم من ذلك أنها ستوضع لتدل على هذا بعد
ذلك، لا أن لها الدلالة فعلا.
- 9 -
الوضع شخصي ونوعي
قد عرفت في المبحث الرابع: أنه لابد في الوضع من تصور اللفظ
والمعنى، وعرفت هناك أن المعنى تارة يتصوره الواضع بنفسه واخرى
بوجهه وعنوانه. فاعرف هنا أن اللفظ أيضا كذلك ربما يتصوره الواضع
بنفسه ويضعه للمعنى - كما هو الغالب في الألفاظ - فيسمى الوضع حينئذ
" شخصيا " وربما يتصوره بوجهه وعنوانه، فيسمى الوضع " نوعيا ".
ومثال الوضع النوعي الهيئات، فإن الهيئة غير قابلة للتصور بنفسها، بل
إنما يصح تصورها في مادة من مواد اللفظ كهيئة كلمة " ضرب " مثلا وهي
هيئة الفعل الماضي، فإن تصورها لابد أن يكون في ضمن " الضاد "
" والراء " و " الباء " أو في ضمن " الفاء " و " العين " و " اللام " في فعل. ولما
كانت المواد غير محصورة ولا يمكن تصور جميعها، فلابد من الإشارة
إلى أفرادها بعنوان عام، فيضع كل هيئة تكون على زنة " فعل " مثلا أو زنة
" فاعل " أو غيرهما، ويتوصل إلى تصور ذلك العام بوجود الهيئة في إحدى
المواد كمادة " فعل " التي جرت الاصطلاحات عليها عند علماء العربية.
- 10 -
وضع المركبات
ثم الهيئة الموضوعة لمعنى تارة تكون في المفردات كهيئات
67

المشتقات التي تقدمت الإشارة إليها واخرى في المركبات كالهيئة
التركيبية بين المبتدأ والخبر لإفادة حمل شئ على شئ، وكهيئة تقديم
ما حقه التأخير لإفادة الاختصاص.
ومن هنا تعرف: أنه لا حاجة إلى وضع الجمل والمركبات في إفادة
معانيها زائدا على وضع المفردات بالوضع الشخصي والهيئات بالوضع
النوعي - كما قيل (1) - بل هو لغو محض. ولعل من ذهب إلى وضعها أراد
به وضع الهيئات التركيبية، لا الجملة بأسرها بموادها وهيئاتها زيادة على
وضع أجزائها. فيعود النزاع حينئذ لفظيا.
- 11 -
علامات الحقيقة والمجاز
قد يعلم الإنسان - إما من طريق نص أهل اللغة أو لكونه نفسه من
أهل اللغة - أن لفظ كذا موضوع لمعنى كذا، ولا كلام لأحد في ذلك، فإنه
من الواضح أن استعمال اللفظ في ذلك المعنى حقيقة وفي غيره مجاز.
وقد يشك في وضع لفظ مخصوص لمعنى مخصوص، فلا يعلم أن
استعماله فيه هل كان على سبيل الحقيقة؟ فلا يحتاج إلى نصب قرينة
عليه، أو على سبيل المجاز؟ فيحتاج إلى نصب القرينة. وقد ذكر
الأصوليون لتعيين الحقيقة من المجاز - أي لتعيين أنه موضوع لذلك
المعنى أو غير موضوع - طرقا وعلامات كثيرة نذكر هنا أهمها:
الأولى: التبادر
دلالة كل لفظ على أي معنى لابد لها من سبب. والسبب لا يخلو

(1) نسبه شارح المعالم (قدس سره) إلى جماعة من الأجلة ولم يسمهم، راجع هداية المسترشدين: ج 1
ص 197 (ط - مؤسسة النشر الإسلامي). ولتحرير محل النزاع في المسألة راجع بدائع
الأفكار للمحقق الرشتي (قدس سره): ص 51.
68

فرضه عن أحد أمور ثلاثة: المناسبة الذاتية - وقد عرفت بطلانها (1) - أو
العلقة الوضعية، أو القرينة الحالية، أو المقالية. فإذا علم أن الدلالة مستندة
إلى نفس اللفظ من غير اعتماد على قرينة فإنه يثبت أنها من جهة العلقة
الوضعية.
وهذا هو المراد بقولهم: " التبادر علامة الحقيقة ". والمقصود من كلمة
" التبادر " هو انسباق المعنى من نفس اللفظ مجردا عن كل قرينة.
وقد يعترض على ذلك بأن التبادر لابد له من سبب، وليس هو إلا
العلم بالوضع، لأن من الواضح أن الانسباق لا يحصل من اللفظ إلى معناه
في أية لغة لغير العالم بتلك اللغة، فيتوقف التبادر على العلم بالوضع، فلو
أردنا إثبات الحقيقة وتحصيل العلم بالوضع بسبب التبادر لزم الدور
المحال. فلا يعقل - على هذا - أن يكون التبادر علامة للحقيقة يستفاد منه
العلم بالوضع، والمفروض أنه مستفاد من العلم بالوضع.
والجواب: أن كل فرد من أية أمة يعيش معها لابد أن يستعمل الألفاظ
المتداولة عندها تبعا لها، ولابد أن يرتكز في ذهنه معنى اللفظ ارتكازا
يستوجب انسباق ذهنه إلى المعنى عند سماع اللفظ، وقد يكون ذلك
الارتكاز من دون التفات تفصيلي إليه وإلى خصوصيات المعنى. فإذا أراد
الإنسان معرفة المعنى وتلك الخصوصيات وتوجهت نفسه إليه، فإنه يفتش
عما هو مرتكز في نفسه من المعنى فينظر إليه مستقلا عن القرينة، فيرى
أن المتبادر من اللفظ الخاص ما هو من معناه الارتكازي، فيعرف أنه
حقيقة فيه.
فالعلم بالوضع لمعنى خاص بخصوصياته التفصيلية - أي الالتفات

(1) راجع ص 53.
69

التفصيلي إلى الوضع والتوجه إليه - يتوقف على التبادر، والتبادر إنما هو
موقوف على العلم الارتكازي بوضع اللفظ لمعناه غير الملتفت إليه.
والحاصل أن هناك علمين: أحدهما يتوقف على التبادر وهو العلم
التفصيلي، والآخر يتوقف التبادر عليه وهو العلم الإجمالي الارتكازي.
هذا الجواب بالقياس إلى العالم بالوضع. وأما بالقياس إلى غير العالم
به فلا يعقل حصول التبادر عنده، لفرض جهله باللغة. نعم، يكون التبادر
أمارة على الحقيقة عنده إذا شاهد التبادر عند أهل اللغة، يعني أن الأمارة
عنده تبادر غيره من أهل اللغة. مثلا: إذا شاهد الأعجمي من أصحاب
اللغة العربية انسباق أذهانهم من لفظ " الماء " المجرد عن القرينة إلى
الجسم السائل البارد بالطبع، فلابد أن يحصل له العلم بأن هذا اللفظ
موضوع لهذا المعنى عندهم. وعليه فلا دور هنا، لأن علمه يتوقف على
التبادر، والتبادر يتوقف على علم غيره.
العلامة الثانية: عدم صحة السلب وصحته، وصحة الحمل وعدمه
ذكروا: أن عدم صحة سلب اللفظ عن المعنى الذي يشك في وضعه له
علامة أنه حقيقة فيه وأن صحة السلب علامة على أنه مجاز فيه.
وذكروا أيضا: أن صحة حمل اللفظ على ما يشك في وضعه له علامة
الحقيقة وعدم صحة الحمل علامة على المجاز.
وهذا ما يحتاج إلى تفصيل وبيان، فلتحقيق (1) الحمل وعدمه والسلب
وعدمه نسلك الطرق الآتية:
1 - نجعل المعنى الذي يشك في وضع اللفظ له موضوعا، ونعبر عنه
بأي لفظ كان يدل عليه. ثم نجعل اللفظ المشكوك في وضعه لذلك المعنى

(1) في ط الأولى: فنقول لتحقيق.
70

محمولا بما له من المعنى الارتكازي. ثم نجرب أن نحمل بالحمل الأولي
اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن على ذلك اللفظ الدال على
المعنى المشكوك وضع اللفظ له. والحمل الأولي ملاكه الاتحاد في
المفهوم والتغاير بالاعتبار (1).
وحينئذ إذا أجرينا هذه التجربة، فإن وجدنا عند أنفسنا صحة الحمل
وعدم صحة السلب علمنا تفصيلا بأن اللفظ موضوع لذلك المعنى. وإن
وجدنا عدم صحة الحمل وصحة السلب علمنا أنه ليس موضوعا لذلك
المعنى، بل يكون استعماله فيه مجازا.
2 - إذا لم يصح عندنا الحمل الأولي نجرب أن نحمله هذه المرة
بالحمل الشايع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا والتغاير مفهوما.
وحينئذ، فإن صح الحمل علمنا أن المعنيين متحدان وجودا سواء
كانت النسبة التساوي أو العموم من وجه (2) أو مطلقا، ولا يتعين واحد منها
بمجرد صحة الحمل. وإن لم يصح الحمل وصح السلب علمنا أنهما
متباينان.
3 - نجعل موضوع القضية أحد مصاديق المعنى المشكوك وضع اللفظ
له، لا نفس المعنى المذكور. ثم نجرب الحمل - وينحصر الحمل في هذه
التجربة بالحمل الشائع - فإن صح الحمل علم منه حال المصداق من جهة
كونه أحد المصاديق الحقيقية لمعنى اللفظ الموضوع له، سواء كان ذلك
المعنى نفس المعنى المذكور أو غيره المتحد معه وجودا. كما يستعلم منه
حال الموضوع له في الجملة من جهة شموله لذلك المصداق، بل قد
يستعلم منه تعيين الموضوع له، مثل ما إذا كان الشك في وضعه لمعنى عام

وقد شرحنا الحمل وأقسامه في الجزء الأول من المنطق ص 97.
(* *) إنما يفرض العموم من وجه إذا كانت القضية مهملة.
71

أو خاص، كلفظ " الصعيد " المردد بين أن يكون موضوعا لمطلق وجه
الأرض أو لخصوص التراب الخالص، فإذا وجدنا صحة الحمل وعدم
صحة السلب بالقياس إلى غير التراب الخالص من مصاديق الأرض يعلم
بالقهر تعيين وضعه لعموم الأرض. وإن لم يصح الحمل وصح السلب علم
أنه ليس من أفراد الموضوع له ومصاديقه الحقيقية، وإذا كان قد استعمل
فيه اللفظ فالاستعمال يكون مجازا إما فيه رأسا أو في معنى يشمله ويعمه.
تنبيه:
إن الدور الذي ذكر في التبادر يتوجه إشكاله هنا أيضا. والجواب عنه
نفس الجواب هناك، لأن صحة الحمل وصحة السلب إنما هما باعتبار ما
للفظ من المعنى المرتكز إجمالا، فلا تتوقف العلامة إلا على العلم
الارتكازي وما يتوقف على العلامة هو العلم التفصيلي.
هذا كله بالنسبة إلى العارف باللغة. وأما الجاهل بها فيرجع إلى أهلها
في صحة الحمل والسلب وعدمهما، كالتبادر.
العلامة الثالثة: الاطراد
وذكروا من جملة علامات الحقيقة والمجاز الاطراد وعدمه، فالاطراد
علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز.
ومعنى الاطراد: أن اللفظ لا تختص صحة استعماله بالمعنى المشكوك
بمقام دون مقام ولا بصورة دون صورة، كما لا يختص بمصداق دون
مصداق.
والصحيح: أن الاطراد ليس علامة للحقيقة، لأن صحة استعمال اللفظ
في معنى بما له من الخصوصيات مرة واحدة تستلزم صحته دائما، سواء
كان حقيقة أم مجازا. فالاطراد لا يختص بالحقيقة حتى يكون علامة لها.
72

- 12 -
الأصول اللفظية
تمهيد:
اعلم أن الشك في اللفظ على نحوين:
1 - الشك في وضعه لمعنى من المعاني.
2 - الشك في المراد منه بعد فرض العلم بالوضع، كأن يشك في أن
المتكلم أراد بقوله: " رأيت أسدا " معناه الحقيقي أو معناه المجازي، مع
العلم بوضع لفظ " الأسد " للحيوان المفترس، وبأنه غير موضوع للرجل
الشجاع.
أما النحو الأول: فقد كان البحث السابق معقودا لأجله، لغرض بيان
العلامات المثبتة للحقيقة أو المجاز، أي المثبتة للوضع أو عدمه. وهنا
نقول: إن الرجوع إلى تلك العلامات وأشباهها - كنص أهل اللغة - أمر
لابد منه في إثبات أوضاع اللغة أية لغة كانت، ولا يكفي في إثباتها أن
نجد في كلام أهل تلك اللغة استعمال اللفظ في المعنى الذي شك في
وضعه له، لأن الاستعمال كما يصح في المعنى الحقيقي يصح في المعنى
المجازي، وما يدرينا؟ لعل المستعمل اعتمد على قرينة حالية أو مقالية
في تفهيم المعنى المقصود له فاستعمله فيه على سبيل المجاز، ولذا اشتهر
في لسان المحققين حتى جعلوه كقاعدة قولهم: " إن الاستعمال أعم من
الحقيقة والمجاز ".
ومن هنا نعلم بطلان طريقة العلماء السابقين لإثبات وضع اللفظ
بمجرد وجدان استعماله (1) في لسان العرب، كما وقع ذلك لعلم الهدى

(1) في ط الأولى زيادة: في المعنى.
73

السيد المرتضى (قدس سره) فإنه كان يجري أصالة الحقيقة في الاستعمال (1)
بينما أن أصالة الحقيقة إنما تجري عند الشك في المراد لا في الوضع،
كما سيأتي.
وأما النحو الثاني: فالمرجع فيه لإثبات مراد المتكلم الأصول اللفظية.
وهذا البحث معقود لأجلها، فينبغي الكلام فيها من جهتين:
أولا: في ذكرها وذكر مواردها.
ثانيا: في حجيتها ومدرك حجيتها.
أما من الجهة الأولى، فنقول: أهم الأصول اللفظية ما يأتي:
1 - أصالة الحقيقة:
وموردها: ما إذا شك في إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي من اللفظ،
بأن لم يعلم وجود القرينة على إرادة المجاز مع احتمال وجودها، فيقال
حينئذ: " الأصل الحقيقة " أي الأصل أن نحمل الكلام على معناه الحقيقي،
فيكون حجة فيه للمتكلم على السامع وحجة فيه للسامع على المتكلم،
فلا يصح من السامع الاعتذار في مخالفة الحقيقة، بأن يقول للمتكلم:
" لعلك أردت المعنى المجازي " ولا يصح الاعتذار من المتكلم بأن يقول
للسامع: " إني أردت المعنى المجازي ".
2 - أصالة العموم:
وموردها: ما إذا ورد لفظ عام وشك في إرادة العموم منه أو الخصوص
- أي شك في تخصيصه - فيقال حينئذ " الأصل العموم " فيكون حجة في
العموم على المتكلم أو السامع.

(1) الذريعة إلى أصول الشريعة: ج 1 ص 13.
74

3 - أصالة الإطلاق:
وموردها: ما إذا ورد لفظ مطلق له حالات وقيود يمكن إرادة بعضها
منه وشك في إرادة هذا البعض لاحتمال وجود القيد، فيقال: " الأصل
الإطلاق " فيكون حجة على السامع والمتكلم، كقوله تعالى: * (أحل الله
البيع) * (1) فلو شك - مثلا - في البيع أنه هل يشترط في صحته أن ينشأ
بألفاظ عربية؟ فإننا نتمسك بأصالة إطلاق البيع في الآية لنفي اعتبار هذا
الشرط والتقييد به، فنحكم حينئذ بجواز البيع بالألفاظ غير العربية.
4 - أصالة عدم التقدير:
وموردها: ما إذا احتمل التقدير في الكلام وليس هناك دلالة على
التقدير، فالأصل عدمه.
ويلحق بأصالة عدم التقدير أصالة عدم النقل وأصالة عدم الاشتراك.
وموردهما: ما إذا احتمل معنى ثان موضوع له اللفظ. فإن كان هذا
الاحتمال مع فرض هجر المعنى الأول وهو المسمى بالمنقول فالأصل
" عدم النقل ". وإن كان مع عدم هذا الفرض وهو المسمى بالمشترك فإن
الأصل " عدم الاشتراك ". فيحمل اللفظ في كل منهما على إرادة المعنى
الأول ما لم يثبت النقل والاشتراك. أما إذا ثبت النقل فإنه يحمل على
المعنى الثاني، وإذا ثبت الاشتراك فإن اللفظ يبقى مجملا لا يتعين في أحد
المعنيين إلا بقرينة، على القاعدة المعروفة في كل مشترك.
5 - أصالة الظهور:
وموردها: ما إذا كان اللفظ ظاهرا في معنى خاص لا على وجه النص
فيه الذي لا يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر،

(1) البقرة: 275.
75

فإن الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه.
وفي الحقيقة أن جميع الأصول المتقدمة راجعة إلى هذا الأصل، لأن
اللفظ مع احتمال المجاز - مثلا - ظاهر في الحقيقة، ومع احتمال
التخصيص ظاهر في العموم، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق،
ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه. فمؤدى أصالة الحقيقة نفس مؤدى
أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص (1) وهكذا في باقي الأصول
المذكورة.
فلو عبرنا بدلا عن كل من هذه الأصول ب‍ " أصالة الظهور " كان التعبير
صحيحا مؤديا للغرض، بل كلها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور،
فليس عندنا في الحقيقة إلا أصل واحد هو " أصالة الظهور " ولذا لو كان
الكلام ظاهرا في المجاز واحتمل إرادة الحقيقة انعكس الأمر وكان الأصل
من اللفظ المجاز، بمعنى أن الأصل الظهور، ومقتضاه الحمل على المعنى
المجازي ولا تجري أصالة الحقيقة حينئذ. وهكذا لو كان الكلام ظاهرا
في التخصيص أو التقييد.
حجية الأصول اللفظية:
وهي الجهة الثانية من البحث عن الأصول اللفظية، والبحث عنها يأتي
في بابه وهو باب " مباحث الحجة ". ولكن ينبغي الآن أن نتعجل في
البحث عنها - لكثرة الحاجة إليها - مكتفين بالإشارة، فنقول:
إن المدرك والدليل في جميع الأصول اللفظية واحد وهو تباني العقلاء
في الخطابات الجارية بينهم على الأخذ بظهور الكلام وعدم الاعتناء
باحتمال إرادة خلاف الظاهر، كما لا يعتنون باحتمال الغفلة أو الخطأ

(1) كذا في ط الأولى والثانية، والظاهر: المجاز.
76

أو الهزل أو إرادة الإهمال والإجمال، فإذا احتمل الكلام المجاز أو
التخصيص أو التقييد أو التقدير لا يوقفهم ذلك عن الأخذ بظاهره، كما
يلغون أيضا احتمال الاشتراك والنقل ونحوهما.
ولابد أن الشارع قد أمضى هذا البناء وجرى في خطاباته على
طريقتهم هذه، وإلا لزجرنا ونهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته،
أو لبين لنا طريقته لو كان له غير طريقتهم طريقة خاصة يجب اتباعها ولا
يجوز التعدي عنها إلى غيرها. فيعلم من ذلك على سبيل الجزم أن الظاهر
حجة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق.
- 13 -
الترادف والاشتراك
لا ينبغي الإشكال في إمكان الترادف والاشتراك، بل في وقوعهما في
اللغة العربية، فلا يصغى إلى مقالة من أنكرهما (1). وهذه بين أيدينا اللغة
العربية ووقوعهما فيها واضح لا يحتاج إلى بيان (2).
ولكن ينبغي أن نتكلم في نشأتهما، فإنه يجوز أن يكونا من وضع
واضع واحد - بأن يضع شخص واحد لفظين لمعنى واحد أو لفظا لمعنيين
- ويجوز أن يكونا من وضع واضعين متعددين، فتضع قبيلة - مثلا - لفظا
لمعنى وقبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى، أو تضع قبيلة لفظا لمعنى
وقبيلة أخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر، وعند الجمع بين هذه اللغات باعتبار
أن كل لغة منها لغة عربية صحيحة يجب اتباعها يحصل الترادف
والاشتراك.

(1) أما الاشتراك فحكي إنكاره عن تغلب والأبهري والبلخي، راجع مفاتيح الأصول: ص 23
س 10. وأما إنكار الترادف فحكي عن ابن فارس وتغلب. مفاتيح الأصول: ص 21 س 6.
(2) في ط الأولى بدل " واضح لا يحتاج إلى بيان ": كالنور على المنار.
77

والظاهر أن الاحتمال الثاني أقرب إلى واقع اللغة العربية، كما صرح به
بعض المؤرخين للغة (1) وعلى الأقل فهو الأغلب في نشأة الترادف
والاشتراك، ولذا نسمع علماء العربية يقولون: لغة الحجاز كذا ولغة حمير
كذا ولغة تميم كذا... وهكذا. فهذا دليل على تعدد الوضع بتعدد القبائل
والأقوام والأقطار في الجملة. ولا تهمنا الإطالة في ذلك.
استعمال اللفظ في أكثر من معنى:
لا شك في جواز استعمال اللفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة
القرينة المعينة. وعلى تقدير عدم القرينة يكون اللفظ مجملا لا دلالة له
على أحد معانيه.
كما لا شبهة في جواز استعماله في مجموع معانيه بما هو مجموع
المعاني، غاية الأمر يكون هذا الاستعمال مجازا يحتاج إلى القرينة، لأ أنه
استعمال للفظ في غير ما وضع له.
وإنما وقع البحث والخلاف في جواز إرادة أكثر من معنى واحد من
المشترك في استعمال واحد، على أن يكون كل من المعاني مرادا من
اللفظ على حدة وكأن اللفظ قد جعل للدلالة عليه وحده. وللعلماء في
ذلك أقوال وتفصيلات كثيرة لا يهمنا الآن التعرض لها. وإنما الحق عندنا
عدم جواز مثل هذا الاستعمال.
الدليل:
إن استعمال أي لفظ في معنى إنما هو بمعنى إيجاد ذلك المعنى
باللفظ، لكن لا بوجوده الحقيقي، بل بوجوده الجعلي التنزيلي، لأن وجود
اللفظ وجود للمعنى تنزيلا. فهو وجود واحد ينسب إلى اللفظ حقيقة أولا

(1) راجع أجود التقريرات: ج 1 ص 51.
78

وبالذات، وإلى المعنى تنزيلا ثانيا وبالعرض (1) فإذا أوجد المتكلم اللفظ
لأجل استعماله في المعنى فكأنما أوجد المعنى وألقاه بنفسه إلى
المخاطب. فلذلك يكون اللفظ ملحوظا للمتكلم - بل للسامع - آلة
وطريقا للمعنى وفانيا فيه وتبعا للحاظه، والملحوظ بالأصالة والاستقلال
هو المعنى نفسه.
وهذا نظير الصورة في المرآة، فإن الصورة موجودة بوجود المرآة،
والوجود الحقيقي للمرآة، وهذا الوجود نفسه ينسب إلى الصورة ثانيا
وبالعرض. فإذا نظر الناظر إلى الصورة في المرآة فإنما ينظر إليها بطريق
المرآة بنظرة واحدة هي للصورة بالاستقلال والأصالة وللمرآة بالآلية
والتبع. فتكون المرآة كاللفظ ملحوظة تبعا للحاظ الصورة وفانية فيها فناء
العنوان في المعنون (2).
وعلى هذا، لا يمكن استعمال لفظ واحد إلا في معنى واحد، فإن
استعماله في معنيين مستقلا - بأن يكون كل منهما مرادا من اللفظ كما إذا
لم يكن إلا نفسه - يستلزم لحاظ كل منهما بالأصالة، فلابد من لحاظ
اللفظ في آن واحد مرتين بالتبع، ومعنى ذلك اجتماع لحاظين في آن
واحد على ملحوظ واحد - أعني به اللفظ الفاني في كل من المعنيين -
وهو محال بالضرورة، فإن الشئ الواحد لا يقبل إلا وجودا واحدا في
النفس في آن واحد.
ألا ترى أنه لا يمكن أن يقع لك أن تنظر في مرآة واحدة إلى صورة
تسع المرآة كلها وتنظر - في نفس الوقت - إلى صورة أخرى تسعها أيضا،
إن هذا لمحال. وكذلك النظر في اللفظ إلى معنيين، على أن يكون كل

(1) راجع عن توضيح الوجود اللفظي للمعنى الجزء الأول من المنطق ص 36.
(2) راجع عن توضيح فناء العنوان في المعنون الجزء الأول من المنطق ص 73.
79

منهما قد استعمل فيه اللفظ مستقلا ولم يحك إلا عنه.
نعم، يجوز لحاظ اللفظ فانيا في معنى في استعمال، ثم لحاظه فانيا
في معنى آخر في استعمال ثان، مثل ما تنظر في المرآة إلى صورة تسعها،
ثم تنظر في وقت آخر إلى صورة أخرى تسعها.
وكذا يجوز لحاظ اللفظ في مجموع معنيين في استعمال واحد - ولو
مجازا - مثلما تنظر في المرآة في آن واحد إلى صورتين لشيئين
مجتمعين. وفي الحقيقة إنما استعملت اللفظ في معنى واحد هو مجموع
المعنيين، ونظرت في المرآة إلى صورة واحدة لمجموع الشيئين.
تنبيهان:
الأول: أنه لا فرق في عدم جواز الاستعمال في المعنيين بين أن
يكونا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين، فإن المانع - وهو تعلق لحاظين
بملحوظ واحد في آن واحد - موجود في الجميع، فلا يختص بالمشترك
كما اشتهر.
الثاني: ذكر بعضهم أن الاستعمال في أكثر من معنى إن لم يجز في
المفرد يجوز في التثنية والجمع (1) بأن يراد من كلمة " عينين " - مثلا - فرد
من العين الباصرة وفرد من العين النابعة، فلفظ " عين " - وهو مشترك - قد
استعمل حال التثنية في معنيين: في الباصرة والنابعة. وهذا شأنه في
الإمكان والصحة شأن ما لو أريد معنى واحد من كلمة " عينين " بأن يراد
بها فردان من العين الباصرة مثلا، فإذا صح هذا فليصح ذاك بلا فرق.
واستدل على ذلك بما ملخصه: أن التثنية والجمع في قوة تكرار
الواحد بالعطف، فإذا قيل: عينان فكأنما قيل: " عين وعين ". وإذ يجوز

(1) معالم الدين: ص 40.
80

في قولك " عين وعين " أن تستعمل أحدهما في الباصرة والثانية في
النابعة فكذلك ينبغي أن يجوز فيما هو بقوتهما، أعني " عينين ". وكذا
الحال في الجمع.
والصحيح عندنا عدم الجواز في التثنية والجمع كالمفرد.
والدليل: أن التثنية والجمع وإن كانا موضوعين لإفادة التعدد، إلا أن
ذلك من جهة وضع الهيئة في قبال وضع المادة، وهي - أي المادة - نفس
لفظ المفرد الذي طرأت عليه التثنية والجمع. فإذا قيل: " عينان " - مثلا -
فإن أريد من المادة خصوص الباصرة فالتعدد يكون فيها، أي فردان منها.
وإن أريد منها خصوص النابعة - مثلا - فالتعدد يكون بالقياس إليها. فلو
أريد الباصرة والنابعة فلابد أن يراد التعدد من كل منهما، أي فرد (1) من
الباصرة وفرد (2) من النابعة، لكنه مستلزم لاستعمال المادة في أكثر من
معنى، وقد عرفت استحالته.
وأما أن التثنية والجمع في قوة تكرار الواحد فمعناه: أنها تدل على
تكرار أفراد المعنى المراد من المادة، لا تكرار نفس المعنى المراد منها.
فلو أريد من استعمال التثنية أو الجمع فردان أو أفراد من طبيعتين أو
طبائع متعددة لا يمكن ذلك أبدا، إلا أن يراد من المادة " المسمى بهذا
اللفظ " على نحو المجاز، فتستعمل المادة في معنى واحد، وهو معنى
" مسمى هذا اللفظ " وإن كان مجازا، نظير الأعلام الشخصية غير القابلة
لعروض التعدد على مفاهيمها الجزئية إلا بتأويل المسمى. فإذا
قيل: " محمدان " فمعناه فردان من المسمى بلفظ " محمد " فاستعملت المادة
وهي لفظ " محمد " في مفهوم المسمى مجازا.

(1 و 2) كذا في ط الأولى والثانية، والظاهر: فردان.
81

- 14 -
الحقيقة الشرعية
لا شك في أنا - نحن المسلمين - نفهم من بعض الألفاظ المخصوصة
- كالصلاة والصوم ونحوهما - معاني خاصة شرعية، ونجزم بأن هذه
المعاني حادثة لم يكن يعرفها أهل اللغة العربية قبل الإسلام، وإنما نقلت
تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى هذه المعاني الشرعية.
هذا لا شك فيه، ولكن الشك وقع عند الباحثين في أن هذا النقل وقع
في عصر الشارع المقدس على نحو الوضع التعييني أو التعيني فتثبت
الحقيقة الشرعية، أو أنه وقع في عصر بعده على لسان أتباعه المتشرعة
فلا تثبت الحقيقة الشرعية، بل الحقيقة المتشرعية.
والفائدة من هذا النزاع تظهر في الألفاظ الواردة في كلام الشارع
مجردة عن القرينة، سواء كانت في القرآن الكريم أم السنة. فعلى القول
الأول يجب حملها على المعاني الشرعية، وعلى الثاني تحمل على
المعاني اللغوية، أو يتوقف فيها فلا تحمل على المعاني الشرعية ولا على
اللغوية، بناء على رأي من يذهب إلى التوقف فيما إذا دار الأمر بين المعنى
الحقيقي وبين المجاز المشهور (1) إذ من المعلوم أنه إذا لم تثبت الحقيقة
الشرعية فهذه المعاني المستحدثة تكون - على الأقل - مجازا مشهورا في
زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم).
والتحقيق في المسألة أن يقال: إن نقل تلك الألفاظ إلى المعاني
المستحدثة إما بالوضع التعييني أو التعيني:
أما الأول: فهو مقطوع العدم، لأ أنه لو كان لنقل إلينا بالتواتر أو بالآحاد

(1) ذهب إليه صاحب المعالم (قدس سره) في معالم الدين: ص 53 ووافقه جماعة من أجلة المتأخرين،
كصاحب المدارك والذخيرة والمشارق، راجع هداية المسترشدين: ج 1 ص 658.
82

على الأقل، لعدم الداعي إلى الإخفاء، بل الدواعي متظافرة على نقله، مع
أنه لم ينقل ذلك أبدا.
وأما الثاني: فهو مما لا ريب فيه بالنسبة إلى زمان إمامنا
أمير المؤمنين (عليه السلام) لأن اللفظ إذا استعمل في معنى خاص في لسان جماعة
كثيرة زمانا معتدا به - لا سيما إذا كان المعنى جديدا - يصبح حقيقة فيه
بكثرة الاستعمال، فكيف إذا كان ذلك عند المسلمين قاطبة في سنين
متمادية.
فلابد - إذا - من حمل تلك الألفاظ على المعاني المستحدثة فيما إذا
تجردت عن القرائن في روايات الأئمة (عليهم السلام).
نعم، كونها حقيقة فيها في خصوص زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير معلوم وإن
كان غير بعيد، بل من المظنون ذلك، ولكن الظن في هذا الباب لا يغني عن
الحق شيئا. غير أنه لا أثر لهذا الجهل، نظرا إلى أن السنة النبوية غير مبتلى
بها إلا ما نقل لنا من طريق آل البيت (عليهم السلام) على لسانهم، وقد عرفت الحال
في كلماتهم أنه لابد من حملها على المعاني المستحدثة.
وأما القرآن المجيد فأغلب ما ورد فيه من هذه الألفاظ أو كله
محفوف بالقرائن المعينة لإرادة المعنى الشرعي، فلا فائدة مهمة في هذا
النزاع بالنسبة إليه.
على أن الألفاظ الشرعية ليست على نسق واحد، فإن بعضها كثير
التداول كالصلاة والصوم والزكاة والحج، لا سيما الصلاة التي يؤدونها كل
يوم خمس مرات، فمن البعيد جدا ألا تصبح حقائق في معانيها المستحدثة
بأقرب وقت في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
83

الصحيح والأعم
من ملحقات المسألة السابقة مسألة " الصحيح والأعم ". فقد وقع
النزاع في أن ألفاظ العبادات أو المعاملات أهي أسام موضوعة للمعاني
الصحيحة أو للأعم منها ومن الفاسدة. وقبل بيان المختار لابد من تقديم
مقدمات:
الأولى: إن هذا النزاع لا يتوقف على ثبوت الحقيقة الشرعية، لأ أنه قد
عرفت أن هذه الألفاظ مستعملة في لسان المتشرعة بنحو الحقيقة ولو
على نحو الوضع التعيني عندهم. ولا ريب أن استعمالهم كان يتبع
الاستعمال في لسان الشارع، سواء كان استعماله على نحو الحقيقة أو
المجاز.
فإذا عرفنا - مثلا - أن هذه الألفاظ في عرف المتشرعة كانت حقيقة
في خصوص الصحيح، يستكشف منه أن المستعمل فيه في لسان الشارع
هو الصحيح أيضا، مهما كان استعماله عنده أحقيقة كان أم مجازا. كما أنه
لو علم أنها كانت حقيقة في الأعم في عرفهم كان ذلك أمارة على كون
المستعمل فيه في لسانه هو الأعم أيضا وإن كان استعماله على نحو
المجاز.
84

الثانية: إن المراد من الصحيحة من العبادة أو المعاملة: هي التي تمت
أجزاؤها وكملت شروطها، والصحيح إذا معناه: " تام الأجزاء والشرائط "
فالنزاع يرجع هنا إلى أن الموضوع له خصوص تام الأجزاء والشرائط من
العبادة أو المعاملة، أو الأعم منه ومن الناقص.
الثالثة: إن ثمرة النزاع هي: صحة رجوع القائل بالوضع للأعم - المسمى
ب‍ " الأعمي " - إلى أصالة الإطلاق، دون القائل بالوضع للصحيح - المسمى
ب‍ " الصحيحي " - فإنه لا يصح له الرجوع إلى أصالة إطلاق اللفظ.
توضيح ذلك:
أن المولى إذا أمرنا بإيجاد شئ وشككنا في حصول امتثاله بالإتيان
بمصداق خارجي فله صورتان يختلف الحكم فيهما:
1 - أن يعلم صدق عنوان المأمور به على ذلك المصداق ولكن
يحتمل دخل قيد زائد في غرض المولى غير متوفر في ذلك المصداق، كما
إذا أمر المولى بعتق رقبة، فإنه يعلم بصدق عنوان المأمور به على الرقبة
الكافرة، ولكن يشك في دخل وصف " الإيمان " في غرض المولى
فيحتمل أن يكون قيدا للمأمور به.
فالقاعدة في مثل هذا: الرجوع إلى أصالة الإطلاق في نفي اعتبار
القيد المحتمل اعتباره، فلا يجب تحصيله، بل يجوز الاكتفاء في الامتثال
بالمصداق المشكوك، فيمتثل في المثال لو أعتق رقبة كافرة.
2 - أن يشك في صدق نفس عنوان المأمور به على ذلك المصداق
الخارجي، كما إذا أمر المولى بالتيمم بالصعيد، ولا ندري أن ما عدا التراب
هل يسمى صعيدا أولا، فيكون شكنا في صدق " الصعيد " على غير التراب.
وفي مثله لا يصح الرجوع إلى أصالة الإطلاق لإدخال المصداق
المشكوك في عنوان المأمور به ليكتفى به في مقام الامتثال، بل لابد
85

من الرجوع إلى الأصول العملية، مثل قاعدة الاحتياط أو البراءة.
ومن هذا البيان تظهر ثمرة النزاع في المقام الذي نحن فيه، فإنه في
فرض الأمر بالصلاة والشك في أن السورة - مثلا - جزء للصلاة أم لا:
إن قلنا: إن الصلاة اسم للأعم كانت المسألة من باب الصورة الأولى،
لأ أنه بناء على هذا القول يعلم بصدق عنوان الصلاة على المصداق الفاقد
للسورة وإنما الشك في اعتبار قيد زائد على المسمى، فيتمسك حينئذ
بإطلاق كلام المولى في نفي اعتبار القيد الزائد وهو كون السورة جزءا من
الصلاة ويجوز الاكتفاء في الامتثال بفاقدها.
وإن قلنا: إن الصلاة اسم للصحيح كانت المسألة من باب الصورة
الثانية، لأ أنه عند الشك في اعتبار السورة يشك في صدق عنوان المأمور
به - أعني الصلاة - على المصداق الفاقد للسورة، إذ عنوان المأمور به هو
الصحيح والصحيح هو عنوان المأمور به، فما ليس بصحيح ليس بصلاة،
فالفاقد للجزء المشكوك كما يشك في صحته يشك في صدق عنوان
المأمور به عليه.
فلا يصح الرجوع إلى أصالة الإطلاق لنفي اعتبار جزئية السورة حتى
يكتفى بفاقدها في مقام الامتثال، بل لابد من الرجوع إلى أصالة الاحتياط
أو أصالة البراءة على خلاف بين العلماء في مثله، سيأتي في بابه إن شاء
الله تعالى.
المختار في المسألة:
إذا عرفت ما ذكرنا من المقدمات فالمختار عندنا هو الوضع للأعم.
والدليل: التبادر، وعدم صحة السلب عن الفاسد. وهما أمارتا الحقيقة،
كما تقدم.
86

وهم ودفع:
الوهم: قد يعترض على المختار فيقال:
إنه لا يمكن الوضع بإزاء الأعم، لأن الوضع له يستدعي أن نتصور
معنى كليا جامعا بين أفراده ومصاديقه هو الموضوع له، كما في أسماء
الأجناس. وكذلك الوضع للصحيح يستدعي تصور كلي جامع بين مراتبه
وأفراده.
ولا شك أن مراتب الصلاة - مثلا - الفاسدة والصحيحة كثيرة متفاوتة،
وليس بينها قدر جامع يصح وضع اللفظ بإزائه.
توضيح ذلك: أن أي جزء من أجزاء الصلاة - حتى الأركان - إذا
فرض عدمه يصح صدق اسم الصلاة على الباقي بناء على القول بالأعم،
كما يصح صدقه مع وجوده وفقدان غيره من الأجزاء. وعليه يكون كل
جزء مقوما للصلاة عند وجوده غير مقوم عند عدمه، فيلزم التبدل في
حقيقة الماهية. بل يلزم الترديد فيها عند وجود تمام الأجزاء، لأن أي
جزء منها لو فرض عدمه يبقى صدق الاسم على حاله.
وكل منهما - أي التبدل والترديد في الحقيقة الواحدة - غير معقول، إذ
أن كل ماهية تفرض لابد أن تكون متعينة في حد ذاتها وإن كانت مبهمة
من جهة تشخصاتها الفردية. والتبدل أو الترديد في ذات الماهية معناه
إبهامها في حد ذاتها، وهو مستحيل.
الدفع: إن هذا التبادل في الأجزاء وتكثر مراتب الفاسدة لا يمنع من
فرض قدر مشترك جامع بين الأفراد، ولا يلزم التبدل والترديد في ذات
الحقيقة الجامعة بين الأفراد. وهذا نظير لفظ " الكلمة " الموضوع لما تركب
من حرفين فصاعدا، ويكون الجامع بين الأفراد هو " ما تركب من حرفين
فصاعدا " مع أن الحروف كثيرة، فربما تتركب الكلمة من الألف والباء
87

ك‍ " أب " ويصدق عليها أنها كلمة، وربما تتركب من حرفين آخرين مثل
" يد " ويصدق عليها أنها كلمة... وهكذا. فكل حرف يجوز أن يكون
داخلا وخارجا في مختلف الكلمات مع صدق اسم الكلمة.
وكيفية تصحيح الوضع في ذلك: أن الواضع يتصور - أولا - جميع
الحروف الهجائية، ثم يضع لفظ " الكلمة " بإزاء طبيعة المركب من اثنين
فصاعدا إلى حد سبعة حروف مثلا. والغرض من التقييد بقولنا: " فصاعدا "
بيان أن الكلمة تصدق على الأكثر من حرفين كصدقها على المركب من
حرفين. ولا يلزم الترديد في الماهية، فإن الماهية الموضوع لها هي طبيعة
اللفظ الكلي المتركب من حرفين فصاعدا، والتبدل والترديد إنما يكون في
أجزاء أفرادها. وقد يسمى ذلك بالكلي في المعين أو الكلي المحصور في
أجزاء معينة. وفي المثال أجزاؤه المعينة هي الحروف الهجائية كلها.
وعلى هذا ينبغي أن يقاس لفظ " الصلاة " مثلا، فإنه يمكن تصور
جميع أجزاء الصلاة في مراتبها كلها وهي - أي هذه الأجزاء - معينة
معروفة كالحروف الهجائية، فيضع اللفظ بإزاء طبيعة العمل المركب من
خمسة أجزاء منها - مثلا - فصاعدا، فعند وجود تمام الأجزاء يصدق على
المركب أنه صلاة، وعند وجود بعضها - ولو خمسة على أقل تقدير على
الفرض - يصدق اسم الصلاة أيضا.
بل الحق: أن الذي لا يمكن تصور الجامع فيه هو خصوص المراتب
الصحيحة. وهذا المختصر لا يسع تفصيل ذلك.
تنبيهان:
1 - لا يجري النزاع في المعاملات بمعنى المسببات
إن ألفاظ المعاملات (كالبيع والنكاح) والإيقاعات (كالطلاق والعتق)
يمكن تصوير وضعها على أحد نحوين:
88

1 - أن تكون موضوعة للأسباب التي تسبب مثل الملكية والزوجية
والفراق والحرية ونحوها، ونعني بالسبب إنشاء العقد والإيقاع، كالإيجاب
والقبول معا في العقود والإيجاب فقط في الإيقاعات. وإذا كانت كذلك
فالنزاع المتقدم يصح أن نفرضه في ألفاظ المعاملات من كونها أسامي
لخصوص الصحيحة - أعني تامة الأجزاء والشرائط المؤثرة في المسبب -
أو للأعم من الصحيحة والفاسدة. ونعني بالفاسدة مالا يؤثر في المسبب
إما لفقدان جزء أو شرط.
2 - أن تكون موضوعة للمسببات، ونعني بالمسبب نفس الملكية
والزوجية والفراق والحرية ونحوها. وعلى هذا فالنزاع المتقدم لا يصح
فرضه في المعاملات، لأ نهى لا تتصف بالصحة والفساد، لكونها بسيطة غير
مركبة من أجزاء وشرائط، بل إنما تتصف بالوجود تارة وبالعدم أخرى.
فهذا عقد البيع - مثلا - إما أن يكون واجدا لجميع ما هو معتبر في صحة
العقد أولا، فإن كان الأول اتصف بالصحة وإن كان الثاني اتصف بالفساد.
ولكن الملكية المسببة للعقد يدور أمرها بين الوجود والعدم، لأ نهى توجد
عند صحة العقد، وعند فساده لا توجد أصلا، لا أنها توجد فاسدة. فإذا
أريد من البيع نفس المسبب - وهو الملكية المنتقلة إلى المشتري - فلا
تتصف بالصحة والفساد حتى يمكن تصوير النزاع فيها.
2 - لا ثمرة للنزاع في المعاملات إلا في الجملة
قد عرفت أنه على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة لا يصح
التمسك بالإطلاق عند الشك في اعتبار شئ فيها، جزءا كان أو شرطا،
لعدم إحراز صدق الاسم على الفاقد له. وإحراز صدق الاسم على الفاقد
شرط في صحة التمسك بالإطلاق.
89

إلا أن هذا الكلام لا يجري في ألفاظ المعاملات، لأن معانيها غير
مستحدثة، والشارع بالنسبة إليها كواحد من أهل العرف، فإذا استعمل أحد
ألفاظها فيحمل لفظه على معناه الظاهر فيه عندهم، إلا إذا نصب قرينة على
خلافه.
فإذا شككنا في اعتبار شئ عند الشارع في صحة البيع - مثلا - ولم
ينصب قرينة على ذلك في كلامه، فإنه يصح التمسك بإطلاقه لدفع هذا
الاحتمال، حتى لو قلنا بأن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح، لأن
المراد من " الصحيح " هو الصحيح عند العرف العام، لا عند الشارع. فإذا
اعتبر الشارع قيدا زائدا على ما يعتبره العرف كان ذلك قيدا زائدا على
أصل معنى اللفظ، فلا يكون دخيلا في صدق عنوان المعاملة - الموضوعة
حسب الفرض للصحيح - على المصداق المجرد عن القيد. وحالها في
ذلك حال ألفاظ العبادات لو كانت موضوعة للأعم.
نعم، إذا احتمل أن هذا القيد دخيل في صحة المعاملة عند أهل العرف
أنفسهم أيضا، فلا يصح التمسك بالإطلاق لدفع هذا الاحتمال بناء على
القول بالصحيح - كما هو شأن ألفاظ العبادات - لأن الشك يرجع إلى
الشك في صدق عنوان المعاملة. وأما على القول بالأعم، فيصح التمسك
بالإطلاق لدفع الاحتمال.
فتظهر ثمرة النزاع - على هذا - في ألفاظ المعاملات أيضا، ولكنها
ثمرة نادرة.
* * *
90

المقصد الأول
مباحث الألفاظ
91

تمهيد:
المقصود من " مباحث الألفاظ " تشخيص ظهور الألفاظ من ناحية
عامة، إما بالوضع أو بإطلاق الكلام، لتكون نتيجتها قواعد كلية تنقح
صغريات " أصالة الظهور " التي سنبحث عن حجيتها في المقصد الثالث.
وقد سبقت الإشارة إليها (1).
وتلك المباحث تقع في هيئات الكلام التي يقع فيها الشك والنزاع،
سواء كانت هيئات المفردات - كهيئة المشتق والأمر والنهي - أو هيئات
الجمل، كالمفاهيم ونحوها.
أما البحث عن مواد الألفاظ الخاصة وبيان وضعها وظهورها - مع أنها
تنقح أيضا صغريات أصالة الظهور - فإنه لا يمكن ضبط قاعدة كلية عامة
فيها، فلذا لا يبحث عنها في علم الأصول، ومعاجم اللغة ونحوها هي
المتكفلة بتشخيص مفرداتها.
وعلى أي حال، فنحن نعقد " مباحث الألفاظ " في سبعة أبواب:
1 - المشتق.
2 - الأوامر.

(1) سبقت في ص 75.
93

3 - النواهي.
4 - المفاهيم.
5 - العام والخاص.
6 - المطلق والمقيد.
7 - المجمل والمبين.
* * *
94

الباب الأول:
المشتق
95

اختلف الأصوليون من القديم في المشتق، في أنه حقيقة في
خصوص ما تلبس بالمبدأ في الحال ومجاز فيما انقضى عنه التلبس، أو
أنه حقيقة في كليهما، بمعنى أنه موضوع للأعم منهما؟ بعد اتفاقهم على
أنه مجاز فيما يتلبس بالمبدأ في المستقبل.
ذهب المعتزلة وجماعة من المتأخرين من أصحابنا إلى الأول (1).
وذهب الأشاعرة وجماعة من المتقدمين من أصحابنا إلى الثاني (2).
والحق هو القول الأول.
وللعلماء أقوال أخر فيها تفصيلات بين هذين القولين (3) لا يهمنا
التعرض لها بعد اتضاح الحق فيما يأتي.
وأهم شئ يعنينا في هذه المسألة - قبل بيان الحق فيها وهو أصعب
ما فيها - أن نفهم محل النزاع وموضع النفي والإثبات. ولأجل أن يتضح
في الجملة موضع الخلاف نذكر مثالا له، فنقول:
إنه ورد كراهة الوضوء والغسل بالماء المسخن بالشمس (4) فمن قال
بالأول لابد ألا يقول بكراهتهما بالماء الذي برد وانقضى عنه التلبس،

(1 و 2) راجع القوانين للمحقق القمي: ج 1 ص 76، وبدائع الأفكار للمحقق الرشتي: ص 180.
(3) راجع الوافية للفاضل التوني: ص 62، ومفاتيح الأصول للسيد المجاهد: ص 14.
(4) راجع الوسائل: ج 1 ص 150، الباب 6 من أبواب الماء المضاف.
96

لأ أنه عنده لا يصدق عليه حينئذ أنه " مسخن بالشمس " بل " كان
مسخنا ". ومن قال بالثاني لابد أن يقول بكراهتهما بالماء حال انقضاء
التلبس أيضا، لأ أنه عنده يصدق عليه أنه مسخن حقيقة بلا مجاز.
ولتوضيح ذلك نذكر الآن أربعة أمور مذللة لتلك الصعوبة، ثم نذكر
القول المختار ودليله.
- 1 -
ما المراد من المشتق المبحوث عنه؟
اعلم أن " المشتق " باصطلاح النحاة ما يقابل " الجامد " ومرادهم
واضح. ولكن ليس هو موضع النزاع هنا، بل بين المشتق بمصطلح
النحويين وبين المشتق المبحوث عنه عموم وخصوص من وجه.
لأن موضع النزاع هنا يشمل كل " ما يحمل على الذات باعتبار قيام
صفة فيها خارجة عنها تزول عنها " وإن كان باصطلاح النحاة معدودا من
الجوامد، كلفظ " الزوج " و " الأخ " و " الرق " ونحو ذلك. ومن جهة أخرى
لا يشمل الفعل بأقسامه ولا المصدر وإن كانت تسمى مشتقات عند
النحويين.
والسر في ذلك: أن موضع النزاع هنا يعتبر فيه شيئان:
1 - أن يكون جاريا على الذات، بمعنى أنه يكون حاكيا عنها وعنوانا
لها، نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، وأسماء المكان والآلة وغيرهما، وما
شابه هذه الأمور من الجوامد. ومن أجل هذا الشرط لا يشمل هذا النزاع
الأفعال ولا المصادر، لأ نهى كلها لا تحكي عن الذات ولا تكون عنوانا لها،
وإن كانت تسند إليها.
2 - ألا تزول الذات بزوال تلبسها بالصفة - ونعني بالصفة المبدأ الذي
97

منه يكون انتزاع المشتق واشتقاقه ويصحح (1) صدقه على الذات - بمعنى
أن تكون الذات باقية محفوظة لو زال تلبسها بالصفة، فهي تتلبس بها تارة
ولا تتلبس بها أخرى والذات تلك الذات في كلا الحالين.
وإنما نشترط ذلك فلأجل أن نتعقل انقضاء التلبس بالمبدأ مع بقاء
الذات حتى يصح أن نتنازع في صدق المشتق حقيقة عليها مع انقضاء
حال التلبس بعد الاتفاق على صدقه حقيقة عليها حال التلبس. وإلا لو
كانت الذات تزول بزوال التلبس لا يبقى معنى لفرض صدق المشتق على
الذات مع انقضاء حال التلبس لا حقيقة ولا مجازا.
وعلى هذا، لو كان المشتق من الأوصاف التي تزول الذات بزوال
التلبس بمبادئها فلا يدخل في محل النزاع وإن صدق عليها اسم المشتق،
مثلما لو كان من الأنواع أو الأجناس أو الفصول بالقياس إلى الذات،
كالناطق والصاهل والحساس والمتحرك بالإرادة.
واعتبر ذلك في مثال كراهة الجلوس للتغوط تحت الشجرة المثمرة،
فإن هذا المثال يدخل في محل النزاع لو زالت الثمرة عن الشجرة، فيقال:
هل يبقى اسم المثمرة صادقا حقيقة عليها حينئذ فيكره الجلوس أولا؟ أما
لو اجتثت الشجرة فصارت خشبة فإنها لا تدخل في محل النزاع، لأن
الذات - وهي الشجرة - قد زالت بزوال الوصف الداخل في حقيقتها، فلا
يتعقل معه بقاء وصف " الشجرة المثمرة " لها، لا حقيقة ولا مجازا. وأما
الخشب فهو ذات أخرى لم يكن فيما مضى قد صدق عليه - بما أنه
خشب - وصف " الشجرة المثمرة " حقيقة، إذ لم يكن متلبسا بما هو
خشب بالشجرية (2) ثم زال عنه التلبس.

(1) في ط 2: يصح.
(2) في ط 2: بالشجرة.
98

وبناء على اعتبار هذين الشرطين يتضح ما ذكرناه في صدر البحث
من أن موضع النزاع في المشتق يشمل كل ما كان جاريا على الذات
باعتبار قيام صفة خارجة عن الذات وإن كان معدودا من الجوامد
اصطلاحا. ويتضح أيضا عدم شمول النزاع للأفعال والمصادر.
كما يتضح أن النزاع يشمل كل وصف جار على الذات، ولا يفرق فيه
بين أن يكون مبدأه من الأعراض الخارجية المتأصلة كالبياض والسواد
والقيام والقعود، أو من الأمور الانتزاعية كالفوقية والتحتية والتقدم والتأخر،
أو من الأمور الاعتبارية المحضة كالزوجية والملكية والوقف والحرية.
- 2 -
جريان النزاع في اسم الزمان
بناء على ما تقدم قد يظن عدم جريان النزاع في اسم الزمان، لأ أنه قد
تقدم أنه يعتبر في جريانه بقاء الذات مع زوال الوصف، مع أن زوال
الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات، لأن الزمان متصرم الوجود،
فكل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق، فلا تبقى ذات مستمرة، فإذا
كان يوم الجمعة مقتل زيد - مثلا - فيوم السبت الذي بعده ذات أخرى من
الزمان لم يكن لها وصف القتل فيها، ويوم الجمعة تصرم وزال كما زال
نفس الوصف.
والجواب: أن هذا صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص،
ولكن الحق أن هيئة اسم الزمان موضوعة لما هو يعم اسم الزمان والمكان
ويشملهما معا، فمعنى " المضرب " مثلا: " الذات المتصفة بكونها ظرفا
للضرب " والظرف أعم من أن يكون زمانا أو مكانا، ويتعين أحدهما
بالقرينة. والهيئة إذا كانت موضوعة للجامع بين الظرفين، فهذا الجامع
99

يكفي في صحة الوضع له وتعميمه لما تلبس بالمبدأ وما انقضى عنه أن
يكون أحد فرديه يمكن أن يتصور فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذات.
والخلاصة: أن النزاع حينئذ يكون في وضع أصل الهيئة التي تصلح
للزمان والمكان لا لخصوص اسم الزمان. ويكفي في صحة الوضع للأعم
إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه وإن امتنع الفرد الآخر.
- 3 -
اختلاف المشتقات من جهة المبادئ
قد يتوهم بعضهم أن النزاع هنا لا يجري في بعض المشتقات الجارية
على الذات، مثل: النجار والخياط والطبيب والقاضي، ونحو ذلك مما كان
للحرف والمهن، بل في هذه من المتفق عليه أنه موضوع للأعم.
ومنشأ الوهم أنا نجد صدق هذه المشتقات حقيقة على من انقضى
عنه التلبس بالمبدأ - من غير شك - وذلك نحو صدقها على من كان نائما
- مثلا - مع أن النائم غير متلبس بالنجارة فعلا أو الخياطة أو الطبابة أو
القضاء، ولكنه كان متلبسا بها في زمان مضى. وكذلك الحال في أسماء
الآلة كالمنشار والمقود والمكنسة، فإنها تصدق على ذواتها حقيقة مع عدم
التلبس فعلا بمبادئها.
والجواب عن ذلك: أن هذا التوهم منشأه الغفلة عن معنى المبدأ
المصحح لصدق المشتق، فإنه يختلف باختلاف المشتقات، لأ أنه تارة
يكون من الفعليات، واخرى من الملكات، وثالثة من الحرف والصناعات.
مثلا: اتصاف زيد بأنه قائم إنما يتحقق إذا تلبس بالقيام فعلا، لأن القيام
يؤخذ على نحو الفعلية مبدأ لوصف " قائم " ويفرض الانقضاء بزوال فعلية
القيام عنه. وأما اتصافه بأنه عالم بالنحو أو أنه قاضي البلد، فليس بمعنى
100

أنه يعلم ذلك فعلا أو أنه مشغول بالقضاء بين الناس فعلا، بل بمعنى: أن له
ملكة العلم أو منصب القضاء، فما دامت الملكة أو الوظيفة موجودتين فهو
متلبس بالمبدأ حالا وإن كان نائما أو غافلا. نعم، يصح أن نتعقل الانقضاء
إذا زالت الملكة أو سلبت عنه الوظيفة، وحينئذ يجري النزاع في أن وصف
القاضي - مثلا - هل يصدق حقيقة على من زال عنه منصب القضاء.
وكذلك الحال في مثل النجار والخياط والمنشار، فلا يتصور فيها
الانقضاء إلا بزوال حرفة النجارة ومهنة الخياطة وشأنية النشر في
المنشار.
والخلاصة: أن الزوال والانقضاء في كل شئ بحسبه، والنزاع في
المشتق إنما هو في وضع الهيئات مع قطع النظر عن خصوصيات المبادئ
المدلول عليها بالمواد التي تختلف اختلافا كثيرا.
- 4 -
استعمال المشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة
اعلم أن المشتقات التي هي محل النزاع بأجمعها هي من الأسماء.
والأسماء مطلقا لا دلالة لها على الزمان حتى اسم الفاعل واسم
المفعول، فإنه كما يصدق " العالم " حقيقة على من هو عالم فعلا كذلك
يصدق حقيقة على من كان عالما فيما مضى أو يكون عالما فيما يأتي بلا
تجوز إذا كان إطلاقه عليه بلحاظ حال التلبس بالمبدأ، كما إذا قلنا: " كان
عالما " أو " سيكون عالما " فإن ذلك حقيقة بلا ريب، نظير الجوامد لو تقول
فيها مثلا: " الرماد كان خشبا " أو " الخشب سيكون رمادا ". فإذن إذا كان
الأمر كذلك فما موقع النزاع في إطلاق المشتق على ما مضى عليه التلبس
أنه حقيقة أو مجاز؟
101

نقول: إن الإشكال والنزاع هنا إنما هو فيما إذا انقضى التلبس بالمبدأ
وأريد إطلاق المشتق فعلا على الذات التي انقضى عنها التلبس، أي أن
الإطلاق عليها بلحاظ حال النسبة والإسناد الذي هو حال النطق غالبا،
كأن تقول مثلا: " زيد عالم فعلا " أي أنه الآن موصوف بأنه عالم، لأ أنه
كان فيما مضى عالما، كمثال إثبات الكراهة للوضوء بالماء المسخن
بالشمس سابقا بتعميم لفظ المسخن في الدليل لما كان مسخنا.
فتحصل مما ذكرناه ثلاثة أمور:
1 - إن إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس حقيقة مطلقا، سواء كان
بالنظر إلى ما مضى أو الحال أو المستقبل. وذلك بالاتفاق.
2 - إن إطلاقه على الذات فعلا بلحاظ حال النسبة والإسناد قبل زمان
التلبس لأنه سيتلبس به فيما بعد مجاز بلا إشكال، وذلك بعلاقة الأول أو
المشارفة. وهذا متفق عليه أيضا.
3 - إن إطلاقه على الذات فعلا - أي بلحاظ حال النسبة والإسناد -
لأ أنه كان متصفا به سابقا، هو محل الخلاف والنزاع. فقال قوم بأنه حقيقة،
وقال آخرون بأنه مجاز.
المختار:
إذا عرفت ما تقدم من الأمور، فنقول:
الحق أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ، ومجاز في
غيره.
ودليلنا: التبادر، وصحة السلب عمن زال عنه الوصف، فلا يقال لمن
هو قاعد بالفعل: " إنه قائم " ولا لمن هو جاهل بالفعل: " إنه عالم " وذلك
لمجرد أنه كان قائما أو عالما فيما سبق. نعم، يصح ذلك على نحو المجاز.
102

أو يقال: " إنه كان قائما " أو " عالما " فيكون حقيقة حينئذ، إذ يكون
الإطلاق بلحاظ حال التلبس.
وعدم تفرقة بعضهم بين الإطلاق بلحاظ حال التلبس وبين الإطلاق
بلحاظ حال النسبة والإسناد هو الذي أوهم القول بوضع المشتق للأعم، إذ
وجد أن الاستعمال يكون على نحو الحقيقة فعلا مع أن التلبس قد مضى،
ولكنه غفل عن أن الإطلاق كان بلحاظ حال التلبس، فلم يستعمله - في
الحقيقة - إلا في خصوص المتلبس بالمبدأ، لا فيما مضى عنه التلبس
حتى يكون شاهدا له.
ثم إنك قد عرفت - فيما سبق - أن زوال الوصف يختلف باختلاف
المواد، من جهة كون المبدأ اخذ على نحو الفعلية، أو على نحو الملكة، أو
الحرفة، فمثل صدق " الطبيب " حقيقة على من لا يتشاغل بالطبابة فعلا
لنوم أو راحة أو أكل لا يكشف عن كون المشتق حقيقة في الأعم - كما
قيل (1) - وذلك: لأن المبدأ فيه اخذ على نحو الحرفة أو الملكة، وهذا لم
يزل تلبسه به حين النوم أو الراحة. نعم، إذا زالت الملكة أو الحرفة عنه
كان إطلاق الطبيب عليه مجازا إذا لم يكن بلحاظ حال التلبس، كما لو
قيل: " هذا طبيبنا بالأمس " بأن يكون قيد " بالأمس " لبيان حال التلبس،
فإن هذا الاستعمال لا شك في كونه على نحو الحقيقة. وقد سبق بيان
ذلك.
* * *

(1) ذكره في الفصول ص 61 حجة للقول بأن المشتق حقيقة في الماضي إذا كان الاتصاف
أكثريا.
103

الباب الثاني:
الأوامر
وفيه بحثان:
- في مادة الأمر
- وصيغة الأمر
- وخاتمة في تقسيمات الواجب
105

المبحث الأول
مادة الأمر
وهي كلمة " الأمر " المؤلفة من الحروف " أ. م. ر " وفيها ثلاث مسائل:
- 1 -
معنى كلمة الأمر
قيل: إن كلمة " الأمر " لفظ مشترك بين الطلب وغيره مما تستعمل فيه
هذه الكلمة، كالحادثة والشأن والفعل، كما نقول: " جئت لأمر كذا "، أو
" شغلني أمر " أو " أتى فلان بأمر عجيب " (1).
ولا يبعد أن تكون المعاني التي تستعمل فيها كلمة " الأمر " ما خلا
" الطلب " ترجع إلى معنى واحد جامع بينها، وهو مفهوم " الشئ ".
فيكون لفظ " الأمر " مشتركا بين معنيين فقط: " الطلب " و " الشئ ".
والمراد من الطلب: إظهار الإرادة والرغبة بالقول أو الكتابة أو الإشارة
أو نحو هذه الأمور مما يصح إظهار الإرادة والرغبة وإبرازهما به (2)

(1) حكاه المحقق الحلي عن أبي الحسين البصري واختاره، راجع معارج الأصول: ص 61. واختار
صاحب الفصول أنها موضوعة لمعنيين من هذه المعاني: الطلب، والشأن، الفصول الغروية: 62.
والظاهر أن تفسير بعض الأصوليين للفظ الأمر بأنه " الطلب بالقول " ليس القصد منه أن لهم
اصطلاحا مخصوصا فيه، بل باعتبار أنه أحد مصاديق المعنى، فإن الأمر كما يصدق على ق‍
الطلب بالقول يصدق على الطلب بالكتابة أو الإشارة أو نحوهما.
106

فمجرد الإرادة والرغبة من دون إظهارها بمظهر لا تسمى طلبا. والظاهر
أنه ليس كل طلب يسمى أمرا، بل بشرط مخصوص سيأتي ذكره في
المسألة الثانية، فتفسير الأمر بالطلب من باب تعريف الشئ بالأعم.
والمراد من " الشئ " من لفظ الأمر أيضا ليس كل شئ على
الإطلاق، فيكون تفسيره به من باب تعريف الشئ بالأعم أيضا، فإن
الشئ لا يقال له: " أمر " إلا إذا كان من الأفعال والصفات، ولذا لا يقال:
" رأيت أمرا " إذا رأيت إنسانا أو شجرا أو حائطا. ولكن ليس المراد من
" الفعل " و " الصفة " المعنى الحدثي - أي المعنى المصدري - بل المراد منه
نفس الفعل أو الصفة بما هو موجود في نفسه، يعنى لم يلاحظ فيه جهة
الصدور من الفاعل والإيجاد، وهو المعبر عنه عند بعضهم بالمعنى الاسم
المصدري، أي ما يدل عليه اسم المصدر، ولذا لا يشتق منه، فلا يقال:
" أمر. يأمر. آمر. مأمور " بالمعنى المأخوذ من الشئ، ولو كان معنى
حدثيا لاشتق منه.
بخلاف الأمر بمعنى الطلب، فإن المقصود منه المعنى الحدثي وجهة
الصدور والإيجاد، ولذا يشتق منه فيقال: (أمر. يأمر. آمر. مأمور).
والدليل على أن لفظ الأمر مشترك بين معنيين: " الطلب " و " الشئ "
لا أنه موضوع للجامع بينهما:
1 - إن " الأمر " - كما تقدم - بمعنى الطلب يصح الاشتقاق منه، ولا
يصح الاشتقاق منه بمعنى الشئ. والاختلاف بالاشتقاق وعدمه دليل
على تعدد الوضع.
2 - إن " الأمر " بمعنى الطلب يجمع على " أوامر " وبمعنى الشئ على
" أمور " واختلاف الجمع في المعنيين دليل على تعدد الوضع.
107

- 2 -
اعتبار العلو في معنى الأمر
قد سبق أن الأمر يكون بمعنى الطلب، ولكن لا مطلقا بل بمعنى طلب
مخصوص. والظاهر أن الطلب المخصوص هو الطلب من العالي إلى
الداني، فيعتبر فيه العلو في الآمر.
وعليه لا يسمى الطلب من الداني إلى العالي أمرا، بل يسمى " استدعاء ".
وكذا لا يسمى الطلب من المساوي إلى مساويه في العلو أو الحطة
أمرا، بل يسمى " التماسا " وإن استعلى الداني أو المساوي وأظهر علوه
وترفعه. وليس هو بعال حقيقة.
أما العالي فطلبه يكون أمرا وإن لم يكن متظاهرا بالعلو.
كل هذا بحكم التبادر وصحة سلب الأمر عن طلب غير العالي.
ولا يصح إطلاق الأمر على الطلب من غير العالي إلا بنحو العناية والمجاز
وإن استعلى.
- 3 -
دلالة لفظ " الأمر " على الوجوب
اختلفوا في دلالة لفظ " الأمر " بمعنى الطلب على الوجوب، فقيل: إنه
موضوع لخصوص الطلب الوجوبي (1). وقيل: للأعم منه ومن الطلب
الندبي (2). وقيل: مشترك بينهما اشتراكا لفظيا (3). وقيل غير ذلك (4).

(1) هذا القول عليه معظم علماء الإسلام، منهم الشيخ والمحقق والعلامة وصاحب المعالم
والحاجبي والعضدي، راجع مفاتيح الأصول: 110.
(2) هذا القول للسيد عميد الدين والخطيب القزويني والفاضل صاحب الوافية وجماعة،
المصدر السابق.
(3) قاله صاحب المنتخب والمحصول والتحصيل، المصدر السابق.
(4) راجع مفاتيح الأصول: ص 110 - 111، وأصول السرخسي: ج 1 ص 15 - 17.
108

والحق عندنا أنه دال على الوجوب وظاهر فيه فيما إذا كان مجردا
وعاريا عن قرينة على الاستحباب. وإحراز هذا الظهور بهذا المقدار كاف
في صحة استنباط الوجوب من الدليل الذي يتضمن كلمة " الأمر " ولا
يحتاج إلى إثبات منشأ هذا الظهور هل هو الوضع أو شئ آخر.
ولكن من ناحية علمية صرفة يحسن أن نفهم منشأ هذا الظهور، فقد
قيل: إن معنى الوجوب مأخوذ قيدا في الموضوع له لفظ الأمر (1). وقيل:
مأخوذ قيدا في المستعمل فيه إن لم يكن مأخوذا في الموضوع له (2).
والحق أنه ليس قيدا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، بل منشأ
هذا الظهور من جهة حكم العقل بوجوب طاعة الآمر، فإن العقل يستقل
بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره، قضاء لحق
المولوية والعبودية، فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لابد للعبد من
الطاعة والانبعاث مالم يرخص في تركه ويأذن في مخالفته.
فليس المدلول للفظ الأمر إلا الطلب من العالي، ولكن العقل هو الذي
يلزم العبد بالانبعاث ويوجب عليه الطاعة لأمر المولى مالم يصرح المولى
بالترخيص ويأذن بالترك.
وعليه، فلا يكون استعماله في موارد الندب مغايرا لاستعماله في
موارد الوجوب من جهة المعنى المستعمل فيه اللفظ. فليس هو موضوعا
للوجوب، بل ولا موضوعا للأعم من الوجوب والندب، لأن الوجوب
والندب ليسا من التقسيمات اللاحقة للمعنى المستعمل فيه اللفظ، بل من
التقسيمات اللاحقة للأمر بعد استعماله في معناه الموضوع له.

(1) لم نقف على موضوع البحث عنه حتى في الكتب المفصلة، نعم صرح به المحقق الرشتي
في صيغة الأمر، راجع بدائع الأفكار: ص 220.
(2) لم نجد من صرح بأنه مأخوذ قيدا في المستعمل فيه، نقل المحقق الرشتي عن بعض
المحققين أن تبادر الوجوب من لفظ " الأمر " عند الإطلاق ليس لأ أنه موضوع له، بل هو من
باب انصراف المطلق إلى أكمل الأفراد، راجع بدائع الأفكار: ص 205.
109

المبحث الثاني
صيغة الأمر
- 1 -
معنى صيغة الأمر
صيغة الأمر - أي هيئته - كصيغة " افعل " ونحوها (1): تستعمل في
موارد كثيرة:
منها: البعث، كقوله تعالى: * (فأقيموا الصلاة) * (2). * (أوفوا بالعقود) * (3).
ومنها: التهديد، كقوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * (4).
ومنها: التعجيز، كقوله تعالى: * (فأتوا بسورة من مثله) * (5).
وغير ذلك، من التسخير، والإنذار، والترجي، والتمني، ونحوها.
ولكن الظاهر أن الهيئة في جميع هذه المعاني استعملت في معنى

المقصود بنحو صيغة " افعل ": أية صيغة وكلمة تؤدي مؤداها في الدلالة على الطلب والبعث،
كالفعل المضارع المقرون بلام الأمر أو المجرد منه إذا قصد به إنشاء الطلب، نحو قولنا:
" تصلي " " تغتسل " " أطلب منك كذا " أو جملة اسمية، نحو " هذا مطلوب منك " أو اسم فعل،
نحو: صه ومه ومهلا، وغير ذلك.
(2) المجادلة: 13، الحج: 78.
(3) المائدة: 1.
(4) فصلت: 40.
(5) البقرة: 23.
110

واحد، لكن ليس هو واحدا من هذه المعاني، لأن الهيئة مثل " افعل " شأنها
شأن الهيئات الأخرى وضعت لإفادة نسبة خاصة كالحروف، ولم توضع
لإفادة معان مستقلة، فلا يصح أن يراد منها مفاهيم هذه المعاني المذكورة
التي هي معان اسمية.
وعليه، فالحق أنها موضوعة للنسبة الخاصة القائمة بين المتكلم
والمخاطب والمادة. والمقصود من المادة الحدث الذي وقع عليه مفاد
الهيئة، مثل الضرب والقيام والقعود في " اضرب " و " قم " و " اقعد " ونحو
ذلك. وحينئذ ينتزع منها عنوان " طالب " و " مطلوب منه " و " مطلوب ".
فقولنا: " اضرب " يدل على النسبة الطلبية بين الضرب والمتكلم
والمخاطب، ومعنى ذلك: جعل الضرب على عهدة المخاطب وبعثه نحوه
وتحريكه إليه، وجعل الداعي في نفسه للفعل.
وعلى هذا فمدلول هيئة الأمر ومفادها هو النسبة الطلبية، وإن شئت
فسمها النسبة البعثية، لغرض إبراز جعل المأمور به - أي المطلوب - في
عهدة المخاطب، وجعل الداعي في نفسه وتحريكه وبعثه نحوه. ما شئت
فعبر.
غير أن هذا الجعل أو الإنشاء يختلف فيه الداعي له من قبل المتكلم.
فتارة: يكون الداعي له هو البعث الحقيقي وجعل الداعي في نفس
المخاطب لفعل المأمور به، فيكون هذا الإنشاء حينئذ مصداقا للبعث
والتحريك وجعل الداعي، أو إن شئت فقل: يكون مصداقا للطلب، فإن
المقصود واحد.
واخرى: يكون الداعي له هو التهديد، فيكون مصداقا للتهديد ويكون
تهديدا بالحمل الشائع.
وثالثة: يكون الداعي له هو التعجيز، فيكون مصداقا للتعجيز وتعجيزا
بالحمل الشائع... وهكذا في باقي المعاني المذكورة وغيرها.
111

وإلى هنا يتجلى ما نريد أن نوضحه، فإنا نريد أن نقول بنص العبارة:
إن البعث أو التهديد أو التعجيز أو نحوها ليست هي معاني لهيئة الأمر قد
استعملت في مفاهيمها - كما ظنه القوم - لا معاني حقيقية ولا مجازية. بل
الحق أن المنشأ بها ليس إلا النسبة الطلبية الخاصة، وهذا الإنشاء يكون
مصداقا لأحد هذه الأمور باختلاف الدواعي، فيكون تارة بعثا بالحمل
الشائع واخرى تهديدا بالحمل الشائع... وهكذا. لا أن هذه المفاهيم
مدلولة للهيئة ومنشأة بها حتى مفهوم البعث والطلب.
والاختلاط في الوهم بين المفهوم والمصداق هو الذي جعل أولئك
يظنون أن هذه الأمور مفاهيم لهيئة الأمر وقد استعملت فيها استعمال
اللفظ في معناه، حتى اختلفوا في أنه أيها المعنى الحقيقي الموضوع له
الهيئة وأيها المعنى المجازي.
- 2 -
ظهور الصيغة في الوجوب
اختلف الأصوليون في ظهور صيغة الأمر في الوجوب وفي كيفيته
على أقوال. والخلاف يشمل صيغة " افعل " وما شابهها وما بمعناها من
صيغ الأمر.
والأقوال في المسألة كثيرة، وأهمها قولان:
أحدهما: أنها ظاهرة في الوجوب، إما لكونها موضوعة فيه، أو من
جهة انصراف الطلب إلى أكمل الأفراد.
ثانيهما: أنها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب،
وهو - أي القدر المشترك - مطلق الطلب الشامل لهما من دون أن تكون
ظاهرة في أحدهما.
112

والحق أنها ظاهرة في الوجوب، ولكن لامن جهة كونها موضوعة
للوجوب، ولا من جهة كونها موضوعة لمطلق الطلب وأن الوجوب أظهر
أفراده. وشأنها في ظهورها في الوجوب شأن مادة الأمر، على ما تقدم
هناك: من أن الوجوب يستفاد من حكم العقل بلزوم إطاعة أمر المولى
ووجوب الانبعاث عن بعثه، قضاء لحق المولوية والعبودية، ما لم يرخص
نفس المولى بالترك ويأذن به. وبدون الترخيص فالأمر لو خلي وطبعه
شأنه أن يكون من مصاديق حكم العقل بوجوب الطاعة.
فيكون الظهور هذا ليس من نحو الظهورات اللفظية، ولا الدلالة هذه
على الوجوب من نوع الدلالات الكلامية. إذ صيغة الأمر - كمادة الأمر -
لا تستعمل في مفهوم الوجوب لا استعمالا حقيقيا ولا مجازيا، لأن
الوجوب - كالندب - أمر خارج عن حقيقة مدلولها ولا من كيفياته وأحواله.
وتمتاز الصيغة عن مادة كلمة " الأمر " أن الصيغة لا تدل إلا على
النسبة الطلبية - كما تقدم - فهي بطريق أولى لا تصلح للدلالة على
الوجوب الذي هو مفهوم اسمي، وكذا الندب.
وعلى هذا فالمستعمل فيه الصيغة على كلا الحالين (الوجوب
والندب) واحد لا اختلاف فيه. واستفادة الوجوب - على تقدير تجردها
عن القرينة على إذن الآمر بالترك - إنما هو بحكم العقل كما قلنا، إذ هو
من لوازم صدور الأمر من المولى.
ويشهد لما ذكرناه من كون المستعمل فيه واحدا في مورد الوجوب
والندب ما جاء في كثير من الأحاديث من الجمع بين الواجبات
والمندوبات بصيغة واحدة وأمر واحد أو أسلوب واحد مع تعدد الأمر (1).

(1) قال المحقق القمي بعد إيراد الكلام المذكور: مثل قوله: " اغتسل للجمعة وللزيارة وللجنابة
ولمس الميت " لكنا لم نظفر به في الروايات.
113

ولو كان الوجوب والندب من قبيل المعنيين للصيغة لكان ذلك في الأغلب
من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل، أو تأويله (1)
بإرادة " مطلق الطلب " البعيد إرادته من مساق الأحاديث، فإنه تجوز
- على تقديره - لا شاهد له ولا يساعد عليه أسلوب الأحاديث الواردة.
تنبيهان:
الأول: ظهور الجملة الخبرية الدالة على الطلب في الوجوب.
اعلم أن الجملة الخبرية في مقام إنشاء الطلب شأنها شأن صيغة
" افعل " في ظهورها في الوجوب، كما أشرنا إليه سابقا بقولنا: " صيغة افعل
وما شابهها ".
والجملة الخبرية مثل قول: يغتسل، يتوضأ، يصلي، بعد السؤال عن
شئ يقتضي مثل هذا الجواب، ونحو ذلك.
والسر في ذلك: أن المناط في الجميع واحد، فإنه إذا ثبت البعث من
المولى بأي مظهر كان وبأي لفظ كان، فلابد أن يتبعه حكم العقل بلزوم
الانبعاث مالم يأذن المولى بتركه.
بل ربما يقال: إن دلالة الجملة الخبرية على الوجوب آكد، لأ نهى في
الحقيقة إخبار عن تحقق الفعل بادعاء أن وقوع الامتثال من المكلف
مفروغ عنه.
الثاني: ظهور الأمر بعد الحظر أو توهمه.
قد يقع إنشاء الأمر بعد تقدم الحظر - أي المنع - أو عند توهم الحظر،
كما لو منع الطبيب المريض عن شرب الماء، ثم قال له: " اشرب الماء "
أو قال ذلك عندما يتوهم المريض أنه ممنوع منه ومحظور عليه شربه.

(1) كذا، والظاهر أنه معطوف على " من باب " والعبارة غير منسجمة.
114

وقد اختلف الأصوليون في مثل هذا الأمر أنه هل هو ظاهر في
الوجوب، أو ظاهر في الإباحة، أو الترخيص فقط - أي رفع المنع فقط من
دون التعرض لثبوت حكم آخر من إباحة أو غيرها - أو يرجع إلى ما كان
عليه سابقا قبل المنع؟ على أقوال كثيرة.
وأصح الأقوال هو الثالث وهو دلالتها على الترخيص فقط.
والوجه في ذلك: أنك قد عرفت أن دلالة الأمر على الوجوب إنما
تنشأ من حكم العقل بلزوم الانبعاث مالم يثبت الإذن بالترك. ومنه
تستطيع أن تتفطن أنه لا دلالة للأمر في المقام على الوجوب، لأ أنه ليس
فيه دلالة على البعث وإنما هو ترخيص في الفعل لا أكثر.
وأوضح من هذا أن نقول: إن مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعي
الترخيص في الفعل والإذن به، فهو لا يكون إلا ترخيصا وإذنا بالحمل
الشايع. ولا يكون بعثا إلا إذا كان الإنشاء بداعي البعث. ووقوعه بعد
الحظر أو توهمه قرينة على عدم كونه بداعي البعث، فلا يكون دالا على
الوجوب. وعدم دلالته على الإباحة بطريق أولى، فيرجع فيه إلى دليل
آخر من أصل أو أمارة.
مثاله قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (1) فإنه أمر بعد الحظر عن
الصيد حال الإحرام، فلا يدل على وجوب الصيد.
نعم لو اقترن الكلام بقرينة خاصة على أن الأمر صدر بداعي البعث
أو لغرض بيان إباحة الفعل، فإنه حينئذ يدل على الوجوب أو الإباحة.
ولكن هذا أمر آخر لا كلام فيه، فإن الكلام في فرض صدور الأمر بعد
الحظر أو توهمه مجردا عن كل قرينة أخرى غير هذه القرينة.
* * *

(1) المائدة: 2.
115

- 3 -
التعبدي والتوصلي
تمهيد:
كل متفقه يعرف أن في الشريعة المقدسة واجبات لا تصح ولا تسقط
أوامرها إلا بإتيانها قربية إلى وجه الله تعالى.
وكونها قربية إنما هو بإتيانها بقصد امتثال أوامرها أو بغيره من وجوه
قصد القربة إلى الله تعالى، على ما ستأتي الإشارة إليها. وتسمى هذه
الواجبات " العباديات " أو " التعبديات " كالصلاة والصوم ونحوها.
وهناك واجبات أخرى تسمى " التوصليات " وهي التي تسقط أوامرها
بمجرد وجودها وإن لم يقصد بها القربة، كإنقاذ الغريق، وأداء الدين، ودفن
الميت، وتطهير الثوب والبدن للصلاة، ونحو ذلك.
وللتعبدي والتوصلي تعريف آخر كان مشهورا عند القدماء، وهو أن
التوصلي: " ما كان الداعي للأمر به معلوما " (1). وفي قباله التعبدي، وهو:
" مالم يعلم الغرض منه ". وإنما سمي تعبديا، لأن الغرض الداعي للمأمور
ليس إلا التعبد بأمر المولى فقط.
ولكن التعريف غير صحيح، إلا إذا أريد به اصطلاح ثان للتعبدي
والتوصلي، فيراد بالتعبد التسليم لله تعالى فيما أمر به وإن كان المأمور به
توصليا بالمعنى الأول، كما يقولون مثلا: " نعمل هذا تعبدا " ويقولون:
" نعمل هذا من باب التعبد " أي نعمل هذا من باب التسليم لأمر الله وإن لم
نعلم المصلحة فيه.

(1) لم نظفر به في كلمات القدماء والمتأخرين، نعم قد عرف التعبدي بما لا يعلم انحصار
مصلحته في شئ، والتوصلي بما يعلم انحصارها في شئ، راجع مطارح الأنظار: ص 59،
وبدائع الأفكار للمحقق الرشتي: ص 284.
116

وعلى ما تقدم من بيان معنى التوصلي والتعبدي - المصطلح الأول -
فإن علم حال واجب بأنه تعبدي أو توصلي فلا إشكال، وإن شك في ذلك
فهل الأصل كونه تعبديا أو توصليا؟ فيه خلاف بين الأصوليين. وينبغي
لتوضيح ذلك وبيان المختار تقديم أمور:
أ - منشأ الخلاف وتحريره:
إن منشأ الخلاف هنا هو الخلاف في إمكان أخذ قصد القربة في
متعلق الأمر - كالصلاة مثلا - قيدا له على نحو الجزء أو الشرط، على
وجه يكون المأمور به المتعلق للأمر هو الصلاة المأتي بها بقصد القربة،
بهذا القيد، كقيد الطهارة فيها، إذ يكون المأمور به الصلاة عن طهارة، لا
الصلاة المجردة عن هذا القيد من حيث هي هي.
فمن قال بإمكان أخذ هذا القيد - وهو قصد القربة - كان مقتضى
الأصل عنده التوصلية، إلا إذا دل دليل خاص على التعبدية، كسائر القيود
الأخرى، لما عرفت أن إطلاق كلام المولى حجة يجب الأخذ به مالم
يثبت التقييد، فعند الشك في اعتبار قيد يمكن أخذه في المأمور به
فالمرجع أصالة الإطلاق لنفي اعتبار ذلك القيد.
ومن قال باستحالة أخذ قيد " قصد القربة " فليس له التمسك
بالإطلاق، لأن الإطلاق ليس إلا عبارة عن عدم التقييد فيما من شأنه
التقييد، لأن التقابل بينهما من باب تقابل العدم والملكة (الملكة هي التقييد
وعدمها الإطلاق) وإذا استحالت الملكة استحال عدمها بما هو عدم ملكة،
لا بما هو عدم مطلق. وهذا واضح، لأ أنه إذا كان التقييد مستحيلا فعدم
التقييد في لسان الدليل لا يستكشف منه إرادة الإطلاق، فإن عدم التقييد
يجوز أن يكون لاستحالة التقييد ويجوز أن يكون لعدم إرادة التقييد، ولا
طريق لإثبات الثاني بمجرد عدم ذكر القيد وحده.
117

وبعد هذا نقول: إذا شككنا في اعتبار شئ في مراد المولى وما تعلق
به غرضه واقعا ولم يمكن له بيانه، فلا محالة يرجع ذلك إلى الشك في
سقوط الأمر إذا خلا المأتي به من ذلك القيد المشكوك، وعند الشك في
سقوط الأمر - أي في امتثاله - يحكم العقل بلزوم الإتيان به مع القيد
المشكوك كيما يحصل له العلم بفراغ ذمته من التكليف، لأ أنه إذا اشتغلت
الذمة بواجب يقينا فلابد من إحراز الفراغ منه في حكم العقل. وهذا معنى
ما اشتهر في لسان الأصوليين من قولهم: " الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني ".
وهذا ما يسمى عندهم بأصل الاشتغال أو أصالة الاحتياط.
ب - محل الخلاف من وجوب (1) قصد القربة
إن محل الخلاف في المقام هو إمكان أخذ قصد امتثال الأمر في
المأمور به.
وأما غير قصد الامتثال من وجوه قصد القربة، كقصد محبوبية الفعل
المأمور به الذاتية باعتبار أن كل مأمور به لابد أن يكون محبوبا للآمر
ومرغوبا فيه عنده، وكقصد التقرب إلى الله تعالى محضا بالفعل لامن جهة
قصد امتثال أمره بل رجاءا لرضاه، ونحو ذلك من وجوه قصد القربة، فإن
كل هذه الوجوه لا مانع قطعا من أخذها قيدا للمأمور به، ولا يلزم المحال
الذي ذكروه في أخذ قصد الامتثال، على ما سيأتي.
ولكن الشأن في أن هذه الوجوه هل هي مأخوذة في المأمور به فعلا
على نحو لا تكون العبادة عبادة إلا بها؟
الحق أنه لم يؤخذ شئ منها في المأمور به. والدليل على ذلك ما

(1) كذا، والظاهر: وجوه.
118

نجده من الاتفاق على صحة العبادة - كالصلاة مثلا - إذا أتى بها بداعي
أمرها مع عدم قصد الوجوه الأخرى. ولو كان غير قصد الامتثال من
وجوه القربة مأخوذا في المأمور به لما صحت العبادة ولما سقط أمرها
بمجرد الإتيان بداعي أمرها بدون قصد ذلك الوجه.
فالخلاف - إذا - منحصر في إمكان أخذ قصد الامتثال واستحالته.
ج - الإطلاق والتقييد في التقسيمات الأولية للواجب
إن كل واجب في نفسه له تقسيمات باعتبار الخصوصيات التي يمكن
أن تلحقه في الخارج، مثلا: الصلاة تنقسم في ذاتها مع قطع النظر عن
تعلق الأمر بها إلى:
1 - ذات سورة، وفاقدتها.
2 - ذات تسليم، وفاقدته.
3 - صلاة عن طهارة، وفاقدتها.
4 - صلاة مستقبل بها القبلة، وغير مستقبل بها.
5 - صلاة مع الساتر وبدونه.
وهكذا يمكن تقسيمها إلى ما شاء الله من الأقسام بملاحظة أجزائها
وشروطها وملاحظة كل ما يمكن فرض اعتباره فيها وعدمه.
وتسمى مثل هذه التقسيمات: " التقسيمات الأولية " لأ نهى تقسيمات
تلحقها في ذاتها مع قطع النظر عن فرض تعلق شئ بها. وتقابلها
" التقسيمات الثانوية " التي تلحقها بعد فرض تعلق شئ بها كالأمر مثلا،
وسيأتي ذكرها.
فإذا نظرنا إلى هذه التقسيمات الأولية للواجب فالحكم بالوجوب
بالقياس إلى كل خصوصية منها لا يخلو في الواقع من أحد احتمالات
ثلاثة:
119

1 - أن يكون مقيدا بوجودها، ويسمى " بشرط شئ " مثل شرط
الطهارة والساتر والاستقبال والسورة والركوع والسجود وغيرها من أجزاء
وشرائط بالنسبة إلى الصلاة.
2 - أن يكون مقيدا بعدمها، ويسمى ب‍ " شرط لا " مثل شرط الصلاة
بعدم الكلام والقهقهة والحدث... إلى غير ذلك من قواطع الصلاة.
3 - أن يكون مطلقا بالنسبة إليها - أي غير مقيد بوجودها ولا بعدمها -
ويسمى " لا بشرط " مثل عدم اشتراط الصلاة بالقنوت، فإن وجوبها
غير مقيد بوجوده ولا بعدمه.
هذا في مرحلة الواقع والثبوت. وأما في مرحلة الإثبات والدلالة، فإن
الدليل الذي يدل على وجوب شئ إن دل على اعتبار قيد فيه أو على
اعتبار عدمه فذاك. وإن لم يكن الدليل متضمنا لبيان التقييد بما هو محتمل
التقييد لا وجودا ولا عدما، فإن المرجع في ذلك هو أصالة الإطلاق، إذا
توفرت المقدمات المصححة للتمسك بأصالة الإطلاق على ما سيأتي في
بابه - وهو باب المطلق والمقيد - وبأصالة الإطلاق يستكشف أن إرادة
المتكلم الآمر متعلقة بالمطلق واقعا، أي أن الواجب لم يؤخذ بالنسبة إلى
القيد إلا على نحو اللابشرط.
والخلاصة أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق لرفع احتمال التقييد في
التقسيمات الأولية.
د - عدم إمكان الإطلاق والتقييد في التقسيمات الثانوية للواجب
ثم إن كل واجب - بعد ثبوت الوجوب وتعلق الأمر به واقعا - ينقسم
إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، وما يؤتى به لا بداعي أمره. ثم
ينقسم أيضا إلى معلوم الوجوب (1) ومجهوله.

(1) في ط 2: الواجب.
120

وهذه التقسيمات تسمى " التقسيمات الثانوية " لأ نهى من لواحق الحكم
وبعد فرض ثبوت الوجوب واقعا، إذ قبل تحقق الحكم لا معنى لفرض
إتيان الصلاة - مثلا - بداعي أمرها، لأن المفروض في هذه الحالة لا أمر
بها حتى يمكن فرض قصده. وكذا الحال بالنسبة إلى العلم والجهل
بالحكم.
وفي مثل هذه التقسيمات يستحيل التقييد - أي تقييد المأمور به - لأن
قصد امتثال الأمر - مثلا - فرع وجود الأمر، فكيف يعقل أن يكون الأمر
مقيدا به؟ ولازمه أن يكون الأمر فرع قصد الأمر، وقد كان قصد الأمر فرع
وجود الأمر، فيلزم أن يكون المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما. وهذا
خلف، أو دور.
وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق أيضا، لما قلنا سابقا: إن الإطلاق
من قبيل عدم الملكة بالقياس إلى التقييد، فلا يفرض إلا في مورد قابل
للتقييد. ومع عدم إمكان التقييد لا يستكشف من عدم التقييد إرادة
الإطلاق.
النتيجة:
وإذا عرفنا هذه المقدمات يحسن بنا أن نرجع إلى صلب الموضوع،
فنقول:
قد اختلف الأصوليون في أن الأصل في الواجب - إذا شك في كونه
تعبديا أو توصليا - هل أنه تعبدي أو توصلي؟
ذهب جماعة إلى أن الأصل في الواجبات أن تكون عبادية إلا أن
يقوم دليل خاص على عدم دخل قصد القربة في المأمور به (1) لأ أنه لابد

(1) منهم الشيخ الكبير في كشف الغطاء: ص 55 س 18، والسيد المراغي في العناوين: ج 1
ص 378، وهو ظاهر عبارة السيد في مدارك الأحكام: ج 1 ص 184.
121

من الإتيان به تحصيلا للفراغ اليقيني مع عدم الدليل على الاكتفاء بدونه،
ولا يمكن التمسك بالإطلاق لنفيه حسب الفرض. وقد تقدم ذلك في الأمر
الأول. فتكون أصالة الاحتياط هي المرجع هنا، وهي تقتضي العبادية.
وذهب جماعة إلى أن الأصل في الواجبات أن تكون توصلية (1) لا
لأجل التمسك بأصالة الإطلاق في نفس الأمر، ولا لأجل أصالة البراءة
من اعتبار قيد القربة، بل نتمسك (2) لذلك بإطلاق المقام.
توضيح ذلك: أنه لا ريب في أن المأمور به إطلاقا وتقييدا يتبع
الغرض سعة وضيقا، فإن كان القيد دخيلا في الغرض فلابد من بيانه
وأخذه في المأمور به قيدا، وإلا فلا.
غير أن ذلك فيما يمكن أخذه من القيود في المأمور به - كما في
التقسيمات الأولية -.
أما ما لا يمكن أخذه في المأمور به قيدا - كالذي نحن فيه وهو قيد
قصد الامتثال - فلا يصح من الآمر أن يتغافل عنه حيث لا يمكن أخذه
قيدا في الكلام الواحد المتضمن للأمر، بل لا مناص له من اتباع طريقة
أخرى ممكنة لاستيفاء غرضه، ولو بإنشاء أمرين: أحدهما يتعلق بذات
الفعل مجردا عن القيد، والثاني يتعلق بالقيد.
مثلا: لو فرض أن غرض المولى قائم بالصلاة المأتي بها بداعي
أمرها، فإنه إذا لم يمكن تقييد المأمور به بذلك في نفس الأمر المتعلق بها
لما عرفت من امتناع التقييد في التقسيمات الثانوية، فلابد له - أي الآمر -
لتحصيل غرضه أن يسلك طريقة أخرى، كأن يأمر أولا بالصلاة ثم يأمر
ثانيا بإتيانها بداعي أمرها الأول، مبينا ذلك بصريح العبارة.

(1) نسبه في التقريرات إلى ظاهر جماعة - لم يسمهم - واستقربه، مطارح الأنظار: ص 60.
(2) كذا، والظاهر: بل تمسكوا.
122

وهذان الأمران يكونان في حكم أمر واحد ثبوتا وسقوطا، لأ نهما
ناشئان من غرض واحد، والثاني يكون بيانا للأول، فمع عدم امتثال الأمر
الثاني لا يسقط الأمر الأول بامتثاله فقط، وذلك بأن يأتي بالصلاة مجردة
عن قصد أمرها، فيكون الأمر الثاني بانضمامه إلى الأول مشتركا مع
التقييد في النتيجة وإن لم يسم تقييدا اصطلاحا.
إذا عرفت ذلك فإذا أمر المولى بشئ - وكان في مقام البيان - واكتفى
بهذا الأمر ولم يلحقه بما يكون بيانا له فلم يأمر ثانيا بقصد الامتثال، فإنه
يستكشف منه عدم دخل قصد الامتثال في الغرض، وإلا لبينه بأمر ثان.
وهذا ما سميناه ب‍ " إطلاق المقام ".
وعليه، فالأصل في الواجبات كونها توصلية حتى يثبت بالدليل أنها
تعبدية.
- 4 -
الواجب العيني وإطلاق الصيغة
الواجب العيني: " ما يتعلق بكل مكلف ولا يسقط بفعل الغير " كالصلاة
اليومية والصوم. ويقابله الواجب الكفائي، وهو: " المطلوب فيه وجود
الفعل من أي مكلف كان " فيسقط بفعل بعض المكلفين عن الباقي،
كالصلاة عن الميت وتغسيله ودفنه. وسيأتي في تقسيمات الواجب
ذكرهما.
وفيما يتعلق في مسألة (1) تشخيص الظهور نقول:
إن دل الدليل على أن الواجب عيني أو كفائي فذاك. وإن لم يدل فإن
إطلاق صيغة " افعل " تقتضي أن يكون عينيا سواء أتى بذلك العمل

(1) كذا، والظاهر: بمسألة.
123

شخص آخر أم لم يأت به، فإن العقل يحكم بلزوم امتثال الأمر مالم يعلم
سقوطه بفعل الغير.
فالمحتاج إلى مزيد البيان على أصل الصيغة هو الواجب الكفائي، فإذا
لم ينصب المولى قرينة على إرادته - كما هو المفروض - يعلم أن مراده
الوجوب العيني.
- 5 -
الواجب التعييني وإطلاق الصيغة
الواجب التعييني: هو " الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له وبديلا
عنه في عرضه " كالصلاة اليومية. ويقابله الواجب التخييري، كخصال
كفارة الإفطار العمدي في صوم شهر رمضان، المخيرة بين: إطعام ستين
مسكينا، وصوم شهرين متتابعين، وعتق رقبة. وسيأتي في الخاتمة
توضيح الواجب التعييني والتخييري.
فإذا علم واجب أنه من أي القسمين فذاك، وإلا فمقتضى إطلاق صيغة
الأمر وجوب ذلك الفعل سواء أتى بفعل آخر أم لم يأت به. فالقاعدة
تقتضي عدم سقوطه بفعل شئ آخر، لأن التخيير محتاج إلى مزيد بيان
مفقود.
- 6 -
الواجب النفسي وإطلاق الصيغة
الواجب النفسي: هو " الواجب لنفسه لا لأجل واجب آخر " كالصلاة
اليومية. ويقابله الواجب الغيري كالوضوء، فإنه إنما يجب مقدمة للصلاة
الواجبة، لا لنفسه، إذ لو لم تجب الصلاة لما وجب الوضوء.
فإذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق تعلق الأمر به
124

- سواء وجب شئ آخر أم لا - أنه واجب نفسي. فالإطلاق يقتضي
النفسية مالم تثبت الغيرية.
- 7 -
الفور والتراخي
اختلف الأصوليون في دلالة صيغة الأمر على الفور والتراخي على
أقوال:
1 - أنها موضوعة للفور (1).
2 - أنها موضوعة للتراخي (2).
3 - أنها موضوعة لهما على نحو الاشتراك اللفظي (3).
4 - أنها غير موضوعة لا للفور ولا للتراخي ولا للأعم منهما، بل لا
دلالة لها على أحدهما بوجه من الوجوه، وإنما يستفاد أحدهما من
القرائن الخارجية التي تختلف باختلاف المقامات (4).
والحق هو الأخير. والدليل عليه: ما عرفت من أن صيغة " افعل " إنما
تدل على النسبة الطلبية، كما أن المادة لم توضع إلا لنفس الحدث غير
الملحوظة معه شئ من خصوصياته الوجودية. وعليه، فلا دلالة لها - لا
بهيئتها ولا بمادتها - على الفور أو التراخي، بل لابد من دال آخر على
شئ منهما. فإن تجردت عن الدال الآخر فإن ذلك يقتضي جواز الإتيان
بالمأمور به على الفور أو التراخي.

(1) قال به الشيخ وجماعته [من العامة] راجع معالم الدين: 55.
(2) ذهب إليه الجبائيان وأبو الحسين البصري والقاضي أبو بكر، وجماعة من الشافعية
وجماعة من الأشاعرة، حكاه عنهم العلامة في نهاية الوصول: الورقة 32.
(3) اختاره السيد المرتضى في الذريعة: ج 1 ص 132.
(4) ذهب إليه المحقق في معارج الأصول: ص 65، والعلامة في نهاية الوصول: الورقة 32،
وقواه صاحب المعالم، معالم الدين: ص 56.
125

هذا بالنظر إلى نفس الصيغة. أما بالنظر إلى الدليل الخارجي المنفصل
فقد قيل بوجود الدليل على الفور في جميع الواجبات على نحو العموم إلا
ما دل عليه دليل خاص ينص على جواز التراخي فيه بالخصوص (1). وقد
ذكروا لذلك آيتين.
الأولى: قوله تعالى - في سورة آل عمران 127 -: * (وسارعوا إلى
مغفرة من ربكم) *. وتقريب الاستدلال بها: أن المسارعة إلى المغفرة لا
تكون إلا بالمسارعة إلى سببها، وهو الإتيان بالمأمور به، لأن المغفرة فعل
الله تعالى فلا معنى لمسارعة العبد إليها. وعليه، فيكون الإسراع إلى فعل
المأمور به واجبا لما مر من ظهور صيغة " افعل " في الوجوب.
الثانية: قوله تعالى - في سورة البقرة 143 والمائدة 53 -: * (فاستبقوا
الخيرات) * فإن الاستباق بالخيرات عبارة أخرى عن الإتيان بها فورا.
والجواب عن الاستدلال بكلتا الآيتين: إن " الخيرات " و " سبب
المغفرة " كما تصدق على الواجبات تصدق على المستحبات أيضا،
فتكون المسارعة والمسابقة شاملتين لما هما في المستحبات أيضا، ومن
البديهي عدم وجوب المسارعة فيها، كيف! وهي يجوز تركها رأسا. وإذا
كانتا شاملتين للمستحبات بعمومهما كان ذلك قرينة على أن طلب
المسارعة ليس على نحو الإلزام. فلا تبقى لهما دلالة على الفورية في
عموم الواجبات.
بل لو سلمنا باختصاصهما في الواجبات (2) لوجب صرف ظهور صيغة
" افعل " فيها (3) في الوجوب وحملها على الاستحباب، نظرا إلى أنا نعلم

(1) انظر هداية المسترشدين: ص 190 س 27.
(2) الأولى في العبارة: اختصاصهما بالواجبات.
(3) كذا، والظاهر: فيهما.
126

عدم وجوب الفورية في أكثر الواجبات، فيلزم تخصيص الأكثر بإخراج
أكثر الواجبات عن عمومهما. ولا شك أن الإتيان بالكلام عاما مع
تخصيص الأكثر وإخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات
العرفية ويعد الكلام عند العرف مستهجنا، فهل ترى يصح (1) لعارف
بأساليب الكلام أن يقول مثلا: " بعت أموالي " ثم يستثني واحدا فواحدا
حتى لا يبقى تحت العام إلا القليل؟ لا شك في أن هذا الكلام يعد
مستهجنا لا يصدر عن حكيم عارف.
إذن لا يبقى مناص من حمل الآيتين على الاستحباب.
- 8 -
المرة والتكرار (2)
واختلفوا أيضا في دلالة صيغة " افعل " على المرة والتكرار على
أقوال (3) كاختلافهم في الفور والتراخي. والمختار هنا كالمختار هناك،
والدليل نفس الدليل: من عدم دلالة الصيغة لا بهيئتها ولا بمادتها على
المرة ولا التكرار، لما عرفت من أنها لا تدل على أكثر من طلب نفس

(1) في ط الأولى: ألا ترى أيصح.
(2) المرة والتكرار لهما معنيان: الأول الدفعة والدفعات، الثاني الفرد والأفراد. والظاهر أن
المراد منهما في محل النزاع هو المعنى الأول: والفرق بينهما: أن الدافعة قد تتحقق بفرد
واحد من الطبيعة المطلوبة، وقد تتحقق بأفراد متعددة إذا جئ بها في زمان واحد، فلذلك
تكون " الدفعة " أعم من " الفرد " مطلقا. كما أن " الأفراد " أعم مطلقا من " الدفعات "، لأن
الأفراد - كما قلنا - قد تحصل دفعة واحدة وقد تحصل بدفعات.
(3) قال العلامة (قدس سره): فقال أبو إسحاق الإسفرائني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين: إنه يقتضي
التكرار المستوعب لمدة العمر مع الإمكان. وقال آخرون: إنه لا يقتضي وحدة ولا تكرار من
حيث المفهوم، إلا أن ذلك المطلوب لما حصل بالمرة الواحدة اكتفى بها، وهو الحق، وهو
مذهب السيد المرتضى وأبي الحسين البصري وفخر الدين الرازي. وقال قوم: إنه يقتضي
المرة الواحدة لفظا. وآخرون توقفوا، نهاية الوصول: الورقة 30.
127

الطبيعة من حيث هي، فلابد من دال آخر على كل منهما.
أما الإطلاق، فإنه يقتضي الاكتفاء بالمرة. وتفصيل ذلك:
إن مطلوب المولى لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة (ويختلف الحكم فيها
من ناحية جواز الاكتفاء وجواز التكرار):
1 - أن يكون المطلوب صرف وجود الشئ بلا قيد ولا شرط، بمعنى
أنه يريد ألا يبقى مطلوبه معدوما، بل يخرج من ظلمة العدم إلى نور
الوجود لا أكثر، ولو بفرد واحد. ولا محالة - حينئذ - ينطبق المطلوب
قهرا على أول وجوداته، فلو أتى المكلف بما أمر به أكثر من مرة فالامتثال
يكون بالوجود الأول، ويكون الثاني لغوا محضا، كالصلاة اليومية.
2 - أن يكون المطلوب الوجود الواحد بقيد الوحدة، أي بشرط ألا
يزيد على أول وجوداته فلو أتى المكلف حينئذ بالمأمور به مرتين
لا يحصل الامتثال أصلا، كتكبيرة الإحرام للصلاة، فإن الإتيان بالثانية
عقيب الأولى مبطل للأولى وهي تقع باطلة.
3 - أن يكون المطلوب الوجود المتكرر، إما بشرط تكرره فيكون
المطلوب هو المجموع بما هو مجموع، فلا يحصل الامتثال بالمرة أصلا
كركعات الصلاة الواحدة. وإما لا بشرط تكرره بمعنى أنه يكون المطلوب
كل واحد من الوجودات كصوم أيام شهر رمضان، فلكل مرة امتثالها
الخاص.
ولا شك أن الوجهين الأخيرين يحتاجان إلى بيان زائد على مفاد
الصيغة. فلو أطلق المولى ولم يقيد بأحد الوجهين - وهو في مقام البيان -
كان إطلاقه دليلا على إرادة الوجه الأول. وعليه، يحصل الامتثال - كما
قلنا - بالوجود الأول، ولكن لا يضر الوجود الثاني، كما أنه لا أثر له في
الامتثال وغرض المولى.
128

ومما ذكرنا يتضح أن مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بأفراد كثيرة معا
دفعة واحدة ويحصل الامتثال بالجميع. فلو قال المولى: " تصدق على
مسكين " فمقتضى الإطلاق جواز الاكتفاء بالتصدق مرة واحدة على
مسكين واحد، وحصول الامتثال بالتصدق على عدة مساكين دفعة واحدة
ويكون امتثالا واحدا بالجميع، لصدق صرف الوجود على الجميع، إذ
الامتثال كما يحصل بالفرد الواحد يحصل بالأفراد المجتمعة بالوجود.
- 9 -
هل يدل نسخ الوجوب على الجواز؟
إذا وجب شئ في زمان بدلالة الأمر ثم نسخ ذلك الوجوب قطعا،
فقد اختلفوا في بقاء الجواز الذي كان مدلولا للأمر، لأن الأمر كان يدل
على جواز الفعل مع المنع من تركه، فمنهم من قال ببقاء الجواز (1) ومنهم
من قال بعدمه (2).
ويرجع النزاع - في الحقيقة - إلى النزاع في مقدار دلالة نسخ
الوجوب، فإن فيه احتمالين:
1 - إنه يدل على رفع خصوص المنع من الترك فقط، وحينئذ تبقى
دلالة الأمر على الجواز على حالها لا يمسها النسخ وهو القول الأول.
ومنشأ هذا: أن الوجوب ينحل إلى الجواز والمنع من الترك، ولا شأن في
النسخ إلا رفع المنع من الترك فقط، ولا تعرض له لجنسه وهو الجواز، أي
الإذن في الفعل.
2 - إنه يدل على رفع الوجوب من أصله، فلا يبقى لدليل الوجوب

(1) مبادئ الوصول إلى علم الأصول: ص 113.
(2) معالم الدين: ص 86.
129

شئ يدل عليه. ومنشأ هذا هو: أن الوجوب معنى بسيط لا ينحل إلى
جزءين، فلا يتصور في النسخ أنه رفع للمنع من الترك فقط.
والمختار هو القول الثاني، لأن الحق أن الوجوب أمر بسيط وهو
" الإلزام بالفعل " ولازمه المنع من الترك، كما أن الحرمة هي " المنع من
الفعل " ولازمها الإلزام بالترك، وليس الإلزام بالترك الذي هو معناه وجوب
الترك جزءا من معنى حرمة الفعل، وكذلك المنع من الترك الذي معناه
حرمة الترك ليس جزءا من معنى وجوب الفعل، بل أحدهما لازم للآخر
ينشأ منه تبعا له.
فثبوت الجواز بعد النسخ للوجوب يحتاج إلى دليل خاص يدل عليه،
ولا يكفي دليل الوجوب، فلا دلالة لدليل الناسخ ولا لدليل المنسوخ على
الجواز. ويمكن أن يكون الفعل بعد نسخ وجوبه محكوما بكل واحد من
الأحكام الأربعة الباقية.
وهذا البحث لا يستحق أكثر من هذا الكلام، لقلة البلوى به. وما
ذكرناه فيه الكفاية.
- 10 -
الأمر بشئ مرتين
إذا تعلق الأمر بفعل مرتين فهو يمكن أن يقع على صورتين:
1 - أن يكون الأمر الثاني بعد امتثال الأمر الأول. وحينئذ لا شبهة في
لزوم امتثاله ثانيا.
2 - أن يكون الأمر الثاني قبل امتثال الأمر الأول. وحينئذ يقع الشك
في وجوب امتثاله مرتين، أو كفاية المرة الواحدة في الامتثال. فإن كان
الأمر الثاني تأسيسا لوجوب آخر تعين الامتثال مرة بعد أخرى، وإن كان
تأكيدا للأمر الأول فليس لهما إلا امتثال واحد.
130

ولتوضيح الحال وبيان الحق في المسألة نقول: إن هذا الفرض له أربع
حالات:
الأولى: أن يكون الأمران معا غير معلقين على شرط، كأن يقول مثلا:
" صل " ثم يقول ثانيا " صل " فإن الظاهر حينئذ أن يحمل الأمر الثاني على
التأكيد، لأن الطبيعة الواحدة يستحيل تعلق الأمرين بها من دون امتياز في
البين، فلو كان الثاني تأسيسا غير مؤكد للأول لكان على الآمر تقييد
متعلقه ولو بنحو " مرة أخرى ". فمن عدم التقييد وظهور وحدة المتعلق
فيهما يكون اللفظ في الثاني ظاهرا في التأكيد وإن كان التأكيد في نفسه
خلاف الأصل وخلاف ظاهر الكلام لو خلي ونفسه.
الثانية: أن يكون الأمران معا معلقين على شرط واحد، كأن يقول
المولى مثلا: " إن كنت محدثا فتوضأ "، ثم يكرر نفس القول ثانيا، ففي
هذه الحالة أيضا يحمل على التأكيد لعين ما قلناه في الحالة الأولى
بلا تفاوت.
الثالثة: أن يكون أحد الأمرين معلقا والآخر غير معلق، كأن يقول
مثلا: " اغتسل " ثم يقول: " إن كنت جنبا فاغتسل " ففي هذه الحالة أيضا
يكون المطلوب واحدا ويحمل على التأكيد، لوحدة المأمور به ظاهرا
المانعة من تعلق الأمرين به. غير أن الأمر المطلق - أعني غير المعلق -
يحمل إطلاقه على المقيد - أعني المعلق - فيكون الثاني مقيدا لإطلاق
الأول وكاشفا عن المراد منه.
الرابعة: أن يكون أحد الأمرين معلقا على شئ والآخر معلقا على
شئ آخر، كأن يقول مثلا: " إن كنت جنبا فاغتسل " ويقول: " إن مسست
ميتا فاغتسل " ففي هذه الحالة يحمل - ظاهرا - على التأسيس، لأن
الظاهر أن المطلوب في كل منهما غير المطلوب في الآخر، ويبعد جدا
131

حمله على أن المطلوب واحد. أما التأكيد فلا معنى له هنا. وأما القول
بالتداخل - بمعنى الاكتفاء بامتثال واحد عن المطلوبين - فهو ممكن،
ولكنه ليس من باب التأكيد، بل لا يفرض إلا بعد فرض التأسيس وأن
هناك أمرين يمتثلان معا بفعل واحد.
ولكن التداخل - على كل حال - خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلا
بدليل خاص، كما ثبت في غسل الجنابة أنه يجزئ عن كل غسل آخر.
وسيأتي البحث عن التداخل مفصلا في مفهوم الشرط.
- 11 -
دلالة الأمر بالأمر على الوجوب
إذا أمر المولى أحد عبيده أن يأمر عبده الآخر بفعل، فهل هو أمر
بذلك الفعل حتى يجب على الثاني فعله؟ [اختلفوا] على قولين. وهذا
يمكن فرضه على نحوين:
1 - أن يكون المأمور الأول على نحو المبلغ لأمر المولى إلى المأمور
الثاني، مثل أن يأمر رئيس الدولة وزيره أن يأمر الرعية عنه بفعل. وهذا
النحو - لا شك - خارج عن محل الخلاف، لأ أنه لا يشك أحد في ظهوره
في وجوب الفعل على المأمور الثاني. وكل أوامر الأنبياء بالنسبة إلى
المكلفين من هذا القبيل.
2 - ألا يكون المأمور الأول على نحو المبلغ، بل هو مأمور أن يستقل
في توجيه الأمر إلى الثاني من قبل نفسه، على نحو قول الإمام (عليه السلام) " مرهم
بالصلاة وهم أبناء سبع " (1) يعني الأطفال.
وهذا النحو هو محل الخلاف والبحث. ويلحق به مالم يعلم الحال فيه
أنه على أي نحو من النحوين المذكورين.

(1) الوسائل: ج 3 ص 12 الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض، ح 5. (باختلاف في اللفظ).
132

والمختار: أن مجرد الأمر بالأمر ظاهر عرفا في وجوبه على الثاني.
توضيح ذلك: أن الأمر بالأمر لا على نحو التبليغ يقع على صورتين:
الأولى: أن يكون غرض المولى يتعلق في فعل المأمور الثاني،
ويكون أمره بالأمر طريقا للتوصل إلى حصول غرضه. وإذا عرف غرضه
أنه على هذه الصورة يكون أمره بالأمر - لا شك - أمرا بالفعل نفسه.
الثانية: أن يكون غرضه في مجرد أمر المأمور الأول من دون أن
يتعلق له غرض بفعل المأمور الثاني، كما لو أمر المولى ابنه - مثلا - أن
يأمر العبد بشئ ولا يكون غرضه إلا أن يعود ابنه على إصدار الأوامر أو
نحو ذلك، فيكون غرضه فقط في إصدار الأول أمره، فلا يكون الفعل
مطلوبا له أصلا في الواقع.
وواضح لو علم الثاني المأمور بهذا الغرض لا يكون أمر المولى بالأمر
أمرا له ولا يعد عاصيا لمولاه لو تركه، لأن الأمر المتعلق لأمر المولى
يكون مأخوذا على نحو الموضوعية وهو متعلق الغرض، لا على نحو
الطريقية لتحصيل الفعل من العبد - المأمور الثاني -.
فإن قامت قرينة على إحدى الصورتين المذكورتين فذاك، وإن لم تقم
قرينة فإن ظاهر الأوامر عرفا مع التجرد عن القرائن هو أنه على نحو
الطريقية.
فإذا، الأمر بالأمر مطلقا يدل على الوجوب، إلا إذا ثبت أنه على نحو
الموضوعية، وليس مثله يقع في الأوامر الشرعية.
* * *
133

الخاتمة
في تقسيمات الواجب
للواجب عدة تقسيمات لا بأس بالتعرض لها، إلحاقا بمباحث الأوامر
وإتماما للفائدة.
- 1 -
المطلق والمشروط
إن الواجب إذا قيس وجوبه إلى شئ آخر خارج عن الواجب، فهو
لا يخرج عن أحد نحوين:
1 - أن يكون متوقفا وجوبه على ذلك الشئ، وهو - أي الشئ -
مأخوذا في وجوب الواجب على نحو الشرطية، كوجوب الحج بالقياس
إلى الاستطاعة. وهذا هو المسمى ب‍ " الواجب المشروط " لاشتراط
وجوبه بحصول ذلك الشئ الخارج، ولذا لا يجب الحج إلا عند حصول
الاستطاعة.
2 - أن يكون وجوب الواجب غير متوقف على حصول ذلك الشئ
الآخر - كالحج بالقياس إلى قطع المسافة - وإن توقف وجوده عليه. وهذا
هو المسمى ب‍ " الواجب المطلق " لأن وجوبه مطلق غير مشروط بحصول
134

ذلك الشئ الخارج. ومنه الصلاة بالقياس إلى الوضوء والغسل والساتر
ونحوها.
ومن مثال الحج يظهر أنه - وهو واجب واحد - يكون واجبا مشروطا
بالقياس إلى شئ وواجبا مطلقا بالقياس إلى شئ آخر. فالمشروط
والمطلق أمران إضافيان.
ثم اعلم أن كل واجب هو واجب مشروط بالقياس إلى الشرائط
العامة، وهي: البلوغ والقدرة والعقل، فالصبي والعاجز والمجنون لا يكلفون
بشئ في الواقع.
وأما " العلم " فقد قيل: إنه من الشروط العامة. والحق أنه ليس شرطا
في الوجوب ولا في غيره من الأحكام، بل التكاليف الواقعية مشتركة بين
العالم والجاهل على حد سواء. نعم العلم شرط في استحقاق العقاب على
مخالفة التكليف على تفصيل يأتي في مباحث الحجة وغيرها - إن شاء
الله تعالى - وليس هذا (1) موضعه.
- 2 -
المعلق والمنجز
لاشك أن الواجب المشروط بعد حصول شرطه يكون وجوبه فعليا
شأن الواجب المطلق، فيتوجه التكليف فعلا إلى المكلف. ولكن فعلية
التكليف تتصور على وجهين:
1 - أن تكون فعلية الوجوب مقارنة زمانا لفعلية الواجب، بمعنى أن
يكون زمان الواجب نفس زمان الوجوب. ويسمى هذا القسم " الواجب
المنجز " كالصلاة بعد دخول وقتها، فإن وجوبها فعلي، والواجب - وهو
الصلاة - فعلي أيضا.

(1) الظاهر: هنا.
135

2 - أن تكون فعلية الوجوب سابقة زمانا على فعلية الواجب، فيتأخر
زمان الواجب عن زمان الوجوب. ويسمى هذا القسم " الواجب المعلق "
لتعليق الفعل - لا وجوبه - على زمان غير حاصل بعد، كالحج - مثلا -
فإنه عند حصول الاستطاعة يكون وجوبه فعليا - كما قيل - ولكن
الواجب معلق على حصول الموسم، فإنه عند حصول الاستطاعة وجب
الحج، ولذا يجب عليه أن يهيئ المقدمات والزاد والراحلة حتى يحصل
وقته وموسمه ليفعله في وقته المحدد له.
وقد وقع البحث والكلام هنا في مقامين:
الأول: في إمكان الواجب المعلق. والمعروف عن صاحب الفصول
القول بإمكانه ووقوعه (1) والأكثر على استحالته. وهو المختار، وسنتعرض
له - إن شاء الله تعالى - في مقدمة الواجب مع بيان السر في الذهاب إلى
إمكانه ووقوعه (2) وسنبين أن الواجب فعلا في مثال الحج هو السير
والتهيئة للمقدمات، وأما نفس أعمال الحج فوجوبها مشروط بحضور
الموسم والقدرة عليها في زمانه.
والثاني: في أن ظاهر الجملة الشرطية في مثل قولهم: " إذا دخل
الوقت فصل " هل إن الشرط شرط للوجوب فلا تجب الصلاة في المثال
إلا بعد دخول الوقت، أو إنه شرط للواجب فيكون الواجب نفسه معلقا
على دخول الوقت في المثال، وأما الوجوب فهو فعلي مطلق؟
وبعبارة أخرى هل إن القيد شرط لمدلول هيئة الأمر في الجزاء، أو إنه
شرط لمدلول مادة الأمر في الجزاء؟
وهذا البحث يجري حتى لو كان الشرط غير الزمان، كما إذا قال
المولى: " إذا تطهرت فصل ".

(1) الفصول الغروية: ص 79.
(2) يجئ التعرض له في ص 338.
136

فعلى القول بظهور الجملة في رجوع القيد إلى الهيئة - أي أنه شرط
للوجوب - يكون الواجب واجبا مشروطا، فلا يجب تحصيل شئ من
المقدمات قبل حصول الشرط. وعلى القول بظهورها في رجوع القيد إلى
المادة - أي أنه شرط للواجب - يكون الواجب واجبا مطلقا (1) فيكون
الوجوب (2) فعليا قبل حصول الشرط، فيجب عليه تحصيل مقدمات
المأمور به إذا علم بحصول الشرط فيما بعد.
وهذا النزاع هو النزاع المعروف بين المتأخرين في رجوع القيد في
الجملة الشرطية إلى الهيئة أو المادة. وسيجئ تحقيق الحال في موضعه (3)
إن شاء الله تعالى.
- 3 -
الأصلي والتبعي
الواجب الأصلي: ما قصدت إفادة وجوبه مستقلا بالكلام، كوجوبي
الصلاة والوضوء المستفادين من قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة) * (4) وقوله
تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * (5).
والواجب التبعي: مالم تقصد إفادة وجوبه، بل كان [وجوبه] (6) من
توابع ما قصدت إفادته. وهذا كوجوب المشي إلى السوق المفهوم من أمر
المولى بوجوب شراء اللحم من السوق، فإن المشي إليها حينئذ يكون
واجبا لكنه لم يكن مقصودا بالإفادة من الكلام. كما في كل دلالة التزامية
فيما لم يكن اللزوم فيها من قبيل البين بالمعنى الأخص.

(1) كذا، والظاهر: معلقا.
(2) في ط 2: الواجب.
(3) يجئ في ص 338.
(4) البقرة: 43.
(5) المائدة: 6.
(6) لم يرد في ط 2.
137

- 4 -
التخييري والتعييني
الواجب التعييني: ما تعلق به الطلب بخصوصه، وليس له عدل في
مقام الامتثال، كالصلاة والصوم في شهر رمضان، فإن الصلاة واجبة
لمصلحة في نفسها لا يقوم مقامها واجب آخر في عرضها. وقد عرفناه
فيما سبق (ص 124) بقولنا: " هو الواجب بلا واجب آخر يكون عدلا له
وبديلا عنه في عرضه ". وإنما قيدنا " البديل " في عرضه، لأن بعض
الواجبات التعيينية قد يكون لها بديل في طولها ولا يخرجها عن كونها
واجبات تعيينية، كالوضوء مثلا الذي له بديل في طوله وهو التيمم لأ أنه
إنما يجب إذا تعذر الوضوء، وكالغسل بالنسبة إلى التيمم أيضا كذلك،
وكخصال الكفارة المرتبة نحو كفارة قتل الخطأ، وهي العتق أولا، فإن
تعذر فصيام شهرين، فإن تعذر فإطعام ستين مسكينا.
والواجب التخييري ما كان له عدل وبديل في عرضه، ولم يتعلق به
الطلب بخصوصه، بل كان المطلوب هو أو غيره يتخير بينهما المكلف.
وهو كالصوم الواجب في كفارة إفطار شهر رمضان عمدا، فإنه واجب
ولكن يجوز تركه وتبديله بعتق رقبة أو إطعام ستين مسكينا.
والأصل في هذا التقسيم أن غرض المولى ربما يتعلق بشئ معين،
فإنه لا مناص حينئذ من أن يكون هو المطلوب والمبعوث إليه وحده،
فيكون " واجبا تعيينيا ". وربما يتعلق غرضه بأحد شيئين أو أشياء لا على
التعيين - بمعنى أن كلا منها محصل لغرضه - فيكون البعث نحوها جميعا
على نحو التخيير بينها.
وكلا القسمين واقعان في إراداتنا نحن أيضا. فلاوجه للإشكال في
إمكان الواجب التخييري، ولا موجب لإطالة الكلام.
138

ثم إن أطراف الواجب التخييري إن كان بينها جامع يمكن التعبير عنه
بلفظ واحد، فإنه يمكن أن يكون البعث في مقام الطلب نحو هذا الجامع.
فإذا وقع الطلب كذلك فإن التخيير حينئذ بين الأطراف يسمى " عقليا "
وهو ليس من الواجب التخييري المبحوث عنه، فإن هذا يعد من الواجب
التعييني، فإن كل واجب تعييني كلي يكون المكلف مخيرا عقلا بين أفراده
والتخيير يسمى حينئذ " عقليا ". مثاله: قول الأستاذ لتلميذه: " اشتر قلما "
الجامع بين أنواع الأقلام من قلم الحبر وقلم الرصاص (1) وغيرهما، فإن
التخيير بين هذه الأنواع يكون عقليا. كما أن التخيير بين أفراد كل نوع
يكون عقليا أيضا.
وإن لم يكن هناك جامع مثل ذلك (2) - كما في مثال خصال الكفارة -
فإن البعث إما أن يكون نحو عنوان انتزاعي كعنوان " أحد هذه الأمور " أو
نحو كل واحد منها مستقلا ولكن مع العطف ب‍ " أو " ونحوها مما يدل على
التخيير. فيقال في النحو الأول مثلا: " أوجد أحد هذه الأمور " ويقال في
النحو الثاني مثلا: " صم أو أطعم أو أعتق ". ويسمى حينئذ التخيير بين
الأطراف " شرعيا " وهو المقصود من التخيير المقابل للتعيين هنا.
ثم هذا التخيير الشرعي تارة: يكون بين المتباينين كالمثال المتقدم،
واخرى: بين الأقل والأكثر كالتخيير بين تسبيحة واحدة وثلاث تسبيحات
في ثلاثية الصلاة اليومية ورباعيتها على قول (3). وكما لو أمر المولى برسم
خط مستقيم - مثلا - مخيرا فيه بين القصير والطويل.
وهذا الأخير - أعني التخيير بين الأقل والأكثر - إنما يتصور فيما إذا

(1) في ط الأولى: مثاله: قول الطبيب: " اشرب مسهلا " الجامع بين أنواع المسهل من زيت
الخروع والملح الا فرنگي...
(2) في ط الأولى: وإن لم يكن جامع كذلك.
(3) قال به السيد ابن طاووس في البشري، حكاه عنه الشهيد في الذكرى: ج 3 ص 315.
139

كان الغرض مترتبا على الأقل بحده ويترتب على الأكثر بحده أيضا، أما
لو كان الغرض مترتبا على الأقل مطلقا وإن وقع في ضمن الأكثر
فالواجب حينئذ هو الأقل فقط، ولا تكون الزيادة واجبة، فلا يكون من
باب الواجب التخييري، بل الزيادة لابد أن تحمل على الاستحباب.
- 5 -
العيني والكفائي
تقدم (ص 123) أن الواجب العيني: " ما يتعلق بكل مكلف ولا يسقط
بفعل الغير " ويقابله الواجب الكفائي وهو " المطلوب فيه وجود الفعل من
أي مكلف كان ". فهو يجب على جميع المكلفين، ولكن يكتفى بفعل
بعضهم فيسقط عن الآخرين ولا يستحق العقاب بتركه.
نعم إذا تركوه جميعا من دون أن يقوم به واحد فالجميع منهم (1)
يستحقون العقاب، كما يستحق الثواب كل من اشترك في فعله.
وأمثلة الواجب الكفائي كثيرة في الشريعة، منها تجهيز الميت والصلاة
عليه، ومنها إنقاذ الغريق ونحوه من التهلكة، ومنها إزالة النجاسة عن
المسجد، ومنها الحرف والمهن والصناعات التي بها نظام معائش الناس،
ومنها طلب الاجتهاد، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأصل في هذا التقسيم: أن المولى يتعلق غرضه بالشئ المطلوب له
من الغير على نحوين:
1 - أن يصدر من كل واحد من الناس، حينما تكون المصلحة
المطلوبة تحصل من كل واحد مستقلا، فلابد أن يوجه الخطاب إلى كل

(1) الظاهر: واحد منهم فالجميع.
140

واحد منهم على أن يصدر من كل واحد عينا، كالصوم أو الصلاة وأكثر
التكاليف الشرعية. وهذا هو " الواجب العيني ".
2 - أن يصدر من أحد المكلفين لا بعينه، حينما تكون المصلحة في
صدور الفعل ولو مرة واحدة من أي شخص كان، فلابد أن يوجه الخطاب
إلى جميع المكلفين لعدم خصوصية مكلف دون مكلف، ويكتفي بفعل
بعضهم الذي يحصل به الغرض. فيجب على الجميع بفرض الكفاية الذي
هو " الواجب الكفائي ".
وقد وقع الأقدمون من الأصوليين في حيرة من أمر " الوجوب
الكفائي " وتطبيقه على القاعدة في الوجوب الذي قوامه بل لازمه " المنع
من الترك " إذ رأوا أن وجوبه على الجميع لا يتلاءم مع جواز تركه بفعل
بعضهم، ولا وجوب بدون المنع من الترك. ولذا ظن بعضهم: أنه ليس
المكلف المخاطب فيه الجميع بل البعض غير المعين، أي أحد المكلفين (1).
وظن بعضهم: أنه معين عند الله غير معين عندنا ويتعين من يسبق إلى
الفعل منهم، فهو المكلف حقيقة (2)... إلى غير ذلك من الظنون.
ونحن لما صورناه بذلك التصوير المتقدم لا يبقى مجال لهذه الظنون،
فلا نشغل أنفسنا بذكرها وردها. وتدفع الحيرة بأدنى التفات، لأ أنه إذا كان
غرض المولى يحصل بفعل البعض فلابد أن يسقط وجوبه عن الباقي، إذ
لا يبقى ما يدعو إليه. فهو - إذا - واجب على الجميع من أول الأمر، ولذا
يمنعون جميعا من تركه ويسقط بفعل بعضهم لحصول الغرض منه.

(1) حكاه السيد المجاهد عن صاحب المعراج ومحكي الرازي والبيضاوي، راجع مفاتيح
الأصول: ص 313.
(2) لم نظفر على ظانه بالخصوص، ذكره السيد المجاهد وجها للقول بأن الوجوب يتعلق بواحد
مبهم، وحكم ببطلانه، راجع المصدر السابق.
141

- 6 -
الموسع والمضيق
ينقسم الواجب باعتبار الوقت إلى قسمين: موقت وغير موقت
ثم الموقت إلى: موسع ومضيق
ثم غير الموقت إلى: فوري وغير فوري
ولنبدأ بغير الموقت - مقدمة - فنقول:
غير الموقت: مالم يعتبر فيه شرعا وقت مخصوص وإن كان كل فعل
- لا تخلو عقلا من زمن يكون ظرفا له - كقضاء الفائتة وإزالة النجاسة عن
المسجد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك.
وهو - كما قلنا - على قسمين: فوري، وهو: مالا يجوز تأخيره عن
أول أزمنة إمكانه كإزالة النجاسة عن المسجد، ورد السلام، والأمر
بالمعروف. وغير فوري، وهو: ما يجوز تأخيره عن أول أزمنة إمكانه،
كالصلاة على الميت، وقضاء الصلاة الفائتة، والزكاة، والخمس.
والموقت: ما اعتبر فيه شرعا وقت مخصوص، كالصلاة والحج
والصوم ونحوها. وهو لا يخلو - عقلا - من وجوه ثلاثة: إما أن يكون
فعله زائدا على وقته المعين له أو مساويا له أو ناقصا عنه.
والأول ممتنع، لأ أنه من التكليف بما لا يطاق.
والثاني لا ينبغي الإشكال في إمكانه ووقوعه. وهو المسمى
" المضيق " كالصوم، إذ فعله ينطبق على وقته بلا زيادة ولا نقصان من طلوع
الفجر إلى الغروب.
والثالث هو المسمى " الموسع " لأن فيه توسعة على المكلف في أول
الوقت وفي أثنائه وآخره، كالصلاة اليومية وصلاة الآيات، فإنه لا يجوز تركه
في جميع الوقت، ويكتفي بفعله مرة واحدة في ضمن الوقت المحدد له.
142

ولا إشكال عند العلماء في ورود ما ظاهره التوسعة في الشريعة،
وإنما اختلفوا في جوازه عقلا على قولين: إمكانه (1) وامتناعه (2) ومن قال
بامتناعه أول ما ورد (3) على الوجه الذي يدفع الإشكال عنده، على ما
سيأتي.
والحق عندنا جواز الموسع عقلا ووقوعه شرعا.
ومنشأ الإشكال عند القائل بامتناع الموسع: أن حقيقة الوجوب
متقومة بالمنع من الترك - كما تقدم - فينافيه الحكم بجواز تركه في أول
الوقت أو وسطه.
والجواب عنه واضح، فإن الواجب الموسع فعل واحد، وهو طبيعة
الفعل المقيد بطبيعة الوقت المحدود بحدين على ألا يخرج الفعل عن
الوقت، فتكون الطبيعة بملاحظة ذاتها واجبة لا يجوز تركها، غير أن الوقت
لما كان يسع لإيقاعها فيه عدة مرات، كان لها أفراد طولية تدريجية مقدرة
الوجود في أول الوقت وثانية وثالثة... إلى آخره، فيقع التخيير العقلي بين
الأفراد الطولية كالتخيير العقلي بين الأفراد العرضية للطبيعة المأمور بها،
فيجوز الإتيان بفرد وترك الآخر من دون أن يكون جواز الترك له مساس
في نفس المأمور به، وهو طبيعة الفعل في الوقت المحدود. فلا منافاة بين
وجوب الطبيعة بملاحظة ذاتها وبين جواز ترك أفرادها عدا فرد واحد.
والقائلون بالامتناع التجأوا إلى تأويل ما ظاهره التوسعة في الشريعة،
فقال بعضهم: بوجوبه في أول الوقت والإتيان به في الزمان الباقي يكون

(1) قال بإمكانه أكثر الأصحاب، كالمرتضى والشيخ والمحقق والعلامة وجمهور المحققين من
العامة، معالم الدين: ص 73.
(2) عزاه العلامة في النهاية إلى أبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة من
الحنفية، راجع نهاية الوصول: الورقة 37.
(3) يعني ما ورد مما ظاهره التوسعة.
143

من باب القضاء والتدارك لما فات من الفعل في أول الوقت (1). وقال آخر:
بوجوبه في آخر الوقت والإتيان به قبله من باب النفل يسقط به الفرض (2)
نظير إيقاع غسل الجمعة في يوم الخميس وليلة الجمعة. وقيل غير ذلك (3).
وكلها أقوال متروكة عند علمائنا، واضحة البطلان. فلا حاجة إلى
الإطالة في ردها.
هل يتبع القضاء الأداء؟
مما يتفرع عادة على البحث عن الموقت مسألة " تبعية القضاء للأداء "
وهي من مباحث الألفاظ، وتدخل في باب الأوامر.
ولكن اخر (4) ذكرها إلى الخاتمة مع أن من حقها أن تذكر قبلها، لأ نهى
- كما قلنا - من فروع بحث الموقت عادة. فنقول:
إن الموقت قد يفوت في وقته، إما لتركه عن عذر أو عن عمد
واختيار، وإما لفساده لعذر أو لغير عذر. فإذا فات على أي نحو من هذه
الأنحاء، فقد ثبت في الشريعة وجوب تدارك بعض الواجبات كالصلاة
والصوم، بمعنى أن يأتي بها (5) خارج الوقت. ويسمى هذا التدارك " قضاء ".
وهذا لا كلام فيه.
إلا أن الأصوليين اختلفوا في أن وجوب القضاء هل هو على مقتضى
القاعدة، بمعنى أن الأمر بنفس الموقت يدل على وجوب قضائه إذا فات
في وقته فيكون وجوب القضاء بنفس دليل الأداء، أو أن القاعدة لا تقتضي

(1) قاله جماعة من الأشاعرة، راجع نهاية الوصول: الورقة 37.
(2) قاله جماعة من الحنفية، المصدر السابق.
(3) مثل ما عن الكرخي: أن الصلاة المأتية في أول الوقت موقوفة فإن أدرك المصلي آخر
الوقت وهو على صفة التكليف كان ما فعله واجبا وإن لم يبق على صفات المكلفين كان نفلا،
المصدر السابق.
(4) في ط الأولى: أخرت.
(5) كذا، والمناسب: بهما، أو به.
144

ذلك، بل وجوب القضاء يحتاج إلى دليل خاص غير نفس دليل الأداء؟
وفي المسألة أقوال ثلاثة:
قول بالتبعية مطلقا (1).
وقول بعدمها مطلقا (2).
وقول بالتفصيل بين ما إذا كان الدليل على التوقيت متصلا، فلا تبعية
وبين ما إذا كان منفصلا فالقضاء تابع للأداء (3).
والظاهر أن منشأ النزاع في المسألة يرجع إلى أن المستفاد من
التوقيت هو وحدة المطلوب أو تعدده؟ أي أن في الموقت مطلوبا واحدا
هو الفعل المقيد بالوقت بما هو مقيد، أو مطلوبين وهما ذات الفعل وكونه
واقعا في وقت معين؟
فعلى الأول: إذا فات الامتثال في الوقت لم يبق طلب بنفس الذات،
فلابد من فرض أمر جديد للقضاء بالإتيان بالفعل خارج الوقت. وعلى
الثاني: إذا فات الامتثال في الوقت فإنما فات امتثال أحد الطلبين وهو
طلب كونه في الوقت المعين، وأما الطلب بذات الفعل فباق على حاله.
ولذا ذهب بعضهم إلى التفصيل المذكور باعتبار أن المستفاد من دليل
التوقيت في المتصل وحدة المطلوب فيحتاج القضاء إلى أمر جديد،
والمستفاد في المنفصل تعدد المطلوب، فلا يحتاج القضاء إلى أمر جديد
ويكون تابعا للأداء.
والمختار هو القول الثاني، وهو عدم التبعية مطلقا.

(1) نسبه السيد عميد الدين إلى بعض الفقهاء وجماعة من الحنابلة، راجع منية اللبيب: ص 135.
وفي المبسوط للسرخسي (ج 1 ص 46): وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن القضاء يجب
بالسبب الذي به وجب الأداء عند فواته، وهو الأصح.
(2) قاله به المحقق في معارج الأصول: ص 75، والعلامة في مبادئ الوصول: ص 112، ونسبه
في المنية إلى محقق الأصوليين.
(3) قاله المحقق الخراساني في كفاية الأصول: ص 178.
145

لأن الظاهر من التقييد أن القيد ركن في المطلوب، فإذا قال مثلا: " صم
يوم الجمعة " فلا يفهم منه إلا مطلوب واحد لغرض واحد، وهو خصوص
صوم هذا اليوم، لا أن الصوم بذاته مطلوب وكونه في يوم الجمعة مطلوب آخر.
وأما في مورد دليل التوقيت المنفصل، كما إذا قال: " صم " ثم قال
مثلا: " اجعل صومك يوم الجمعة " فأيضا كذلك، نظرا إلى أن هذا من باب
المطلق والمقيد، فيجب فيه حمل المطلق على المقيد، ومعنى حمل المطلق
على المقيد هو: تقييد أصل المطلوب الأول بالقيد، فيكشف ذلك التقييد
عن أن المراد بالمطلق واقعا من أول الأمر خصوص المقيد، فيصبح
الدليلان بمقتضى الجمع بينهما دليلا واحدا، لا أن المقيد مطلوب آخر غير
المطلق، وإلا كان معنى ذلك بقاء المطلق على إطلاقه، فلم يكن حملا ولم
يكن جمعا بين الدليلين، بل يكون أخذا بالدليلين.
نعم، يمكن أن يفرض - وإن كان هذا فرضا بعيد الوقوع في الشريعة -
أن يكون دليل التوقيت المنفصل مقيدا بالتمكن كأن يقول في المثال:
" اجعل صومك يوم الجمعة إن تمكنت " أو كان دليل التوقيت ليس فيه
إطلاق يعم صورتي التمكن وعدمه وصورة التمكن هي القدر المتيقن منه.
فإنه في هذا الفرض يمكن التمسك بإطلاق دليل الواجب لإثبات وجوب
الفعل خارج الوقت، لأن دليل التوقيت غير صالح لتقييد إطلاق دليل
الواجب إلا في صورة التمكن، ومع الاضطرار إلى ترك الفعل في الوقت
يبقى دليل الواجب على إطلاقه.
وهذا الفرض هو الذي يظهر من الكفاية لشيخ أساتذتنا الآخوند (قدس سره) (1)
ولكنه فرض بعيد جدا. على أنه مع هذا الفرض لا يصدق " الفوت " ولا
" القضاء " بل يكون وجوبه خارج الوقت من نوع الأداء.

(1) راجع كفاية الأصول: ص 178.
146

الباب الثالث:
النواهي
وفيه خمس مسائل:
147

- 1 -
مادة النهي
والمقصود بها كلمة " النهي " كمادة الأمر. وهي عبارة عن طلب العالي
من الداني ترك الفعل. أو فقل - على الأصح -: إنها عبارة عن زجر العالي
للداني عن الفعل وردعه عنه، ولازم ذلك طلب الترك، فيكون التفسير
الأول تفسيرا باللازم على ما سيأتي توضيحه.
وهي - كلمة النهي - ككلمة الأمر في الدلالة على الإلزام عقلا لا
وضعا. وإنما الفرق بينهما أن المقصود في الأمر " الإلزام بالفعل " والمقصود
في النهي " الإلزام بالترك ".
وعليه، تكون مادة النهي ظاهرة في الحرمة، كما أن مادة الأمر ظاهرة
في الوجوب.
- 2 -
صيغة النهي
المراد من صيغة النهي: كل صيغة تدل على طلب الترك.
أو فقل - على الأصح -: كل صيغة تدل على الزجر عن الفعل وردعه
عنه، كصيغة " لا تفعل " أو " إياك أن تفعل " ونحو ذلك.
148

والمقصود ب‍ " الفعل " الحدث الذي يدل عليه المصدر وإن لم يكن أمرا
وجوديا، فيدخل فيها - على هذا - نحو قولهم: " لا تترك الصلاة " فإنها من
صيغ النهي لا من صيغ الأمر. كما أن قولهم: " اترك شرب الخمر " تعد من
صيغ الأمر لا من صيغ النهي وإن أدت مؤدى " لا تشرب الخمر ".
والسر في ذلك واضح، فإن المدلول المطابقي لقولهم: " لا تترك " هو
الزجر والنهي عن ترك الفعل وإن كان لازمه الأمر بالفعل، فيدل عليه
بالدلالة الالتزامية. والمدلول المطابقي لقولهم: " اترك " هو الأمر بترك
الفعل وإن كان لازمه النهي عن الفعل، فيدل عليه بالدلالة الالتزامية.
- 3 -
ظهور صيغة النهي في التحريم
الحق أن صيغة النهي ظاهرة في التحريم، ولكن لا لأ نهى موضوعة
لمفهوم الحرمة وحقيقة فيه كما هو المعروف. بل حالها في ذلك حال
ظهور صيغة " افعل " في الوجوب، فإنه قد قلنا هناك: إن هذا الظهور إنما
هو بحكم العقل، لا أن الصيغة موضوعة ومستعملة في مفهوم الوجوب.
وكذلك صيغة " لا تفعل " فإنها أكثر ما تدل على النسبة الزجرية بين
الناهي والمنهي عنه والمنهي. فإذا صدرت ممن تجب طاعته ويجب
الانزجار بزجره والانتهاء عما نهى عنه ولم ينصب قرينة على جواز
الفعل، كان مقتضى وجوب طاعة هذا المولى وحرمة عصيانه عقلا - قضاء
لحق العبودية والمولوية - عدم جواز ترك الفعل الذي نهى عنه إلا مع
الترخيص من قبله.
فيكون - على هذا - نفس صدور النهي من المولى بطبعه مصداقا
لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية، فيكون النهي مصداقا
149

للتحريم حسب ظهوره الإطلاقي، لا أن التحريم - الذي هو مفهوم اسمي -
وضعت له الصيغة واستعملت فيه.
والكلام هنا كالكلام في صيغة " افعل " بلا فرق من جهة الأقوال
والاختلافات.
- 4 -
ما المطلوب في النهي؟
كل ما تقدم ليس فيه خلاف جديد غير الخلاف الموجود في صيغة
" افعل ". وإنما اختص النهي في خلاف واحد، وهو أن المطلوب في النهي
هل هو مجرد الترك أو كف النفس عن الفعل؟ والفرق بينهما: أن المطلوب
على القول الأول أمر عدمي محض، والمطلوب على القول الثاني أمر
وجودي، لأن الكف فعل من أفعال النفس.
والحق هو القول الأول:
ومنشأ القول الثاني توهم هذا القائل أن الترك - الذي معناه إبقاء عدم
الفعل المنهي عنه على حاله - ليس بمقدور للمكلف، لأ أنه أزلي خارج عن
القدرة، فلا يمكن تعلق الطلب به، والمعقول من النهي أن يتعلق فيه الطلب
بردع النفس وكفها عن الفعل، وهو فعل نفساني يقع تحت الاختيار.
والجواب عن هذا التوهم: أن عدم المقدورية في الأزل على العدم
لا ينافي المقدورية بقاءا واستمرارا، إذ القدرة على الوجود تلازم القدرة
على العدم، بل القدرة على العدم على طبع القدرة على الوجود، وإلا لو
كان العدم غير مقدور بقاءا لما كان الوجود مقدورا، فإن المختار القادر
هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
والتحقيق: أن هذا البحث ساقط من أصله، فإنه - كما أشرنا إليه فيما
150

سبق - ليس معنى النهي هو الطلب، حتى يقال: إن المطلوب هو الترك أو
الكف، وإنما طلب الترك من لوازم النهي، ومعنى النهي المطابقي هو الزجر
والردع. نعم، الردع عن الفعل يلزمه عقلا طلب الترك، كما أن البعث نحو
الفعل في الأمر يلزمه عقلا الردع عن الترك.
فالأمر والنهي كلاهما يتعلقان بنفس الفعل رأسا، فلا موقع للحيرة
والشك في أن الطلب في النهي يتعلق بالترك أو الكف.
- 5 -
دلالة صيغة النهي على الدوام والتكرار
اختلفوا في دلالة صيغة النهي على التكرار أو المرة كالاختلاف في
صيغة " افعل ".
والحق هنا ما قلناه هناك بلا فرق، فلا دلالة لصيغة " لا تفعل " لا
بهيئتها ولا بمادتها على الدوام والتكرار ولا على المرة، وإنما المنهي عنه
صرف الطبيعة، كما أن المبعوث نحوه في صيغة " افعل " صرف الطبيعة.
غير أن بينهما فرقا من ناحية عقلية في مقام الامتثال، فإن امتثال
النهي بالانزجار عن فعل الطبيعة، ولا يكون ذلك إلا بترك جميع أفرادها،
فإنه لو فعلها مرة واحدة ما كان ممتثلا. وأما امتثال الأمر فيتحقق بإيجاد
أول وجود من أفراد الطبيعة، ولا تتوقف طبيعة الامتثال على أكثر من فعل
المأمور به مرة واحدة.
وليس هذا الفرق من أجل وضع الصيغتين ودلالتهما، بل ذلك مقتضى
طبع النهي والأمر عقلا.
تنبيه:
لم نذكر هنا ما اعتاد المؤلفون ذكره من بحثي اجتماع الأمر والنهي
151

ودلالة النهي على الفساد، لأنهما داخلان في المباحث العقلية، كما سيأتي
وليس هما من مباحث الألفاظ. وكذلك بحث مقدمة الواجب ومسألة
الضد ومسألة الإجزاء ليست من مباحث الألفاظ أيضا. وسنذكر الجميع
في المقصد الثاني (المباحث العقلية) إن شاء الله تعالى.
* * *
152

الباب الرابع:
المفاهيم
153

تمهيد:
في معنى كلمة " المفهوم " وفي النزاع في حجيته، وفي أقسامه. فهذه
ثلاثة مباحث:
- 1 -
معنى كلمة المفهوم
تطلق كلمة " المفهوم " على ثلاثة معان:
1 - المعنى المدلول للفظ الذي يفهم منه، فيساوق كلمة " المدلول "
سواء كان مدلولا لمفرد أو جملة، وسواء كان مدلولا حقيقيا أو مجازيا.
2 - ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم، وإن لم يكن مدلولا
للفظ، فيعم المعنى الأول وغيره (1).
3 - ما يقابل المنطوق، وهو أخص من الأولين. وهذا هو المقصود
بالبحث هنا. وهو اصطلاح أصولي يختص بالمدلولات (2) الالتزامية
للجمل التركيبية سواء كانت إنشائية أو إخبارية، فلا يقال لمدلول المفرد:
" مفهوم " وإن كان من المدلولات الالتزامية.
أما المنطوق فمقصودهم منه ما يدل عليه نفس اللفظ في حد ذاته

(1) لم يرد " وغيره " في ط الأولى.
(2) في ط الأولى: بالمداليل.
154

على وجه يكون اللفظ المنطوق حاملا لذلك المعنى وقالبا له، فيسمى
المعنى " منطوقا " تسمية للمدلول باسم الدال. ولذلك يختص المنطوق
بالمدلول المطابقي فقط، وإن كان المعنى مجازا قد استعمل فيه اللفظ
بقرينة.
وعليه، فالمفهوم الذي يقابله مالم يكن اللفظ حاملا له دالا عليه
بالمطابقة ولكن يدل عليه باعتباره لازما لمفاد الجملة بنحو اللزوم البين
بالمعنى الأخص (1). ولأجل هذا يختص المفهوم بالمدلول الالتزامي.
مثاله: قولهم: " إذا بلغ الماء كرا لا ينجسه شئ " (2) فالمنطوق فيه هو
مضمون الجملة، وهو عدم تنجس الماء البالغ كرا بشئ من النجاسات.
والمفهوم - على تقدير أن يكون لمثل هذه الجملة مفهوم - أنه إذا لم يبلغ
كرا يتنجس.
وعلى هذا يمكن تعريفهما بما يلي:
المنطوق: " هو حكم دل عليه اللفظ في محل النطق ".
والمفهوم: " هو حكم دل عليه اللفظ لا في محل النطق ".
والمراد من " الحكم " الحكم بالمعنى الأعم، لا خصوص أحد الأحكام
الخمسة.
وعرفوهما أيضا بأنهما حكم مذكور وحكم غير مذكور (3) وأنهما
حكم لمذكور وحكم لغير مذكور (4). وكلها لا تخلو عن مناقشات طويلة
الذيل. والذي يهون الخطب أنها تعريفات لفظية لا يقصد منها الدقة في
التعريف. والمقصود منها واضح، كما شرحناه.

(1) راجع كتاب المنطق للمؤلف، الجزء الأول ص 104 عن معنى البين وأقسامه.
(2) في الخبر: " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " راجع الوسائل 1: 117، الباب 9 من
أبواب الماء المطلق.
(3) كفاية الأصول: ج 1 ص 230.
(4) نسبه في الفصول الغروية: ص 145 وفي مطارح الأنظار: ص 174 إلى العضدي.
155

- 2 -
النزاع في حجية المفهوم
لا شك أن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه، فيكون
حجة من المتكلم على السامع ومن السامع على المتكلم، كسائر الظواهر
الأخرى.
إذا، ما معنى النزاع في حجية المفهوم حينما يقولون مثلا: هل مفهوم
الشرط حجة أو لا؟
وعلى تقديره، فلا يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان
الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام وتنقيح صغريات حجية الظهور،
بل ينبغي أن يدخل في مباحث الحجة كالبحث عن حجية الظهور وحجية
الكتاب ونحو ذلك.
والجواب: أن النزاع هنا في الحقيقة إنما هو في وجود الدلالة على
المفهوم، أي في أصل ظهور الجملة فيه وعدم ظهورها. وبعبارة أوضح:
النزاع هنا في حصول المفهوم للجملة لا في حجيته بعد فرض حصوله.
فمعنى النزاع في مفهوم الشرط - مثلا - أن الجملة الشرطية مع قطع
النظر عن القرائن الخاصة هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟
وهل هي ظاهرة في ذلك؟ لا أنه بعد دلالتها على هذا المفهوم وظهورها
فيه يتنازع في حجيته، فإن هذا لا معنى له، وإن أوهم ذلك ظاهر بعض
تعبيراتهم، كما يقولون مثلا: " مفهوم الشرط حجة أم لا ". ولكن غرضهم
ما ذكرنا.
كما أنه لا نزاع في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت لها
قرينة خاصة على ذلك المفهوم، فإن هذا ليس موضع كلامهم. بل موضوع
156

الكلام ومحل النزاع في دلالة نوع تلك الجملة كنوع الجملة الشرطية على
المفهوم مع تجردها عن القرائن الخاصة.
- 3 -
أقسام المفهوم
ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة (1):
1 - مفهوم الموافقة: ما كان الحكم في المفهوم موافقا في السنخ
للحكم الموجود في المنطوق، فإن كان الحكم في المنطوق الوجوب
- مثلا - كان في المفهوم الوجوب أيضا... وهكذا.
كدلالة الأولوية في مثل قوله تعالى: * (فلا تقل لهما اف) * (2) على
النهي عن الضرب والشتم للأبوين ونحو ذلك مما هو أشد إهانة وإيلاما
من التأفيف المحرم بحكم الآية.
وقد يسمى هذا المفهوم " فحوى الخطاب " (3). ولا نزاع في حجية
مفهوم الموافقة، بمعنى دلالة الأولوية على تعدي الحكم إلى ما هو أولى
في علة الحكم، وله تفصيل كلام يأتي في موضعه (4).
2 - مفهوم المخالفة: ما كان الحكم فيه مخالفا في السنخ للحكم
الموجود في المنطوق. وله موارد كثيرة وقع الكلام فيها، نذكرها بالتفصيل،
وهي ستة:
1 - مفهوم الشرط
2 - مفهوم الوصف

(1) كذا، فالظاهر: المفهوم الموافق والمفهوم المخالف.
(2) الاسراء: 23.
(3) في ط الأولى: لحن الخطاب.
(4) يأتي في ج 3 ص 204.
157

3 - مفهوم الغاية
4 - مفهوم الحصر
5 - مفهوم العدد
6 - مفهوم اللقب
* * *
158

الأول
مفهوم الشرط
تحرير محل النزاع:
لا شك في أن الجملة الشرطية يدل منطوقها - بالوضع - على تعليق
التالي فيها على المقدم الواقع موقع الفرض والتقدير. وهي على نحوين:
1 - أن تكون مسوقة لبيان موضوع الحكم، أي أن المقدم هو نفس
موضوع الحكم، حيث يكون الحكم في التالي منوطا بالشرط في المقدم
على وجه لا يعقل فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: " إن رزقت ولدا فاختنه "،
فإنه في المثال لا يعقل فرض ختان الولد إلا بعد فرض وجوده. ومنه قوله
تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان أردن تحصنا) * فإنه لا يعقل
فرض الإكراه على البغاء إلا بعد فرض إرادة التحصن من قبل الفتيات.
وقد اتفق الأصوليون على أنه لا مفهوم لهذا النحو من الجملة
الشرطية، لأن انتفاء الشرط معناه انتفاء موضوع الحكم، فلا معنى للحكم
بانتفاء التالي على تقدير انتفاء المقدم إلا على نحو السالبة بانتفاء
الموضوع. ولا حكم حينئذ بالانتفاء، بل هو انتفاء الحكم. فلا مفهوم
للشرطية في المثالين، فلا يقال: " إن لم ترزق ولدا فلا تختنه "، ولا يقال:
" إن لم يردن تحصنا فأكرهوهن على البغاء ".
159

2 - ألا تكون مسوقة لبيان الموضوع، حيث يكون الحكم في التالي
منوطا بالشرط على وجه يمكن فرض الحكم بدونه، نحو قولهم: " إن
أحسن صديقك فأحسن إليه " فإن فرض الإحسان إلى الصديق لا يتوقف
عقلا على فرض صدور الإحسان منه، فإنه يمكن الإحسان إليه أحسن
أو لم يحسن.
وهذا النحو الثاني من الشرطية هو محل النزاع في مسألتنا. ومرجعه
إلى النزاع في دلالة الشرطية على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، بمعنى
أنه هل يستكشف من طبع التعليق على الشرط انتفاء نوع الحكم المعلق -
كالوجوب مثلا - على تقدير انتفاء الشرط؟
وإنما قلنا: " نوع الحكم " لأن شخص كل حكم في القضية الشرطية أو
غيرها ينتفي بانتفاء موضوعه أو أحد قيود الموضوع، سواء كان للقضية
مفهوم أولم يكن.
وفي مفهوم الشرطية قولان، أقواهما أنها تدل على الانتفاء عند
الانتفاء.
المناط في مفهوم الشرط:
إن دلالة الجملة الشرطية على المفهوم تتوقف على دلالتها - بالوضع
أو بالاطلاق - على أمور ثلاثة مترتبة:
1 - دلالتها على الارتباط والملازمة بين المقدم والتالي.
2 - دلالتها - زيادة على الارتباط والملازمة - على أن التالي معلق
على المقدم ومترتب عليه وتابع له، فيكون المقدم سببا للتالي. والمقصود
من السبب هنا هو كل ما يترتب عليه الشئ وإن كان شرطا ونحوه،
فيكون أعم من السبب المصطلح في فن المعقول.
160

3 - دلالتها - زيادة على ما تقدم - على انحصار السببية في المقدم،
بمعنى أنه لا سبب بديل له يترتب عليه التالي.
وتوقف المفهوم للجملة الشرطية على هذه الأمور الثلاثة واضح، لأ أنه
لو كانت الجملة اتفاقية أو كان التالي غير مترتب على المقدم أو كان
مترتبا ولكن لا على نحو الانحصار فيه، فإنه في جميع ذلك لا يلزم من
انتفاء المقدم انتفاء التالي.
وإنما الذي ينبغي إثباته هنا، هو أن الجملة ظاهرة في هذه الأمور
الثلاثة وضعا أو إطلاقا لتكون حجة في المفهوم.
والحق ظهور الجملة الشرطية في هذه الأمور وضعا في بعضها
وإطلاقا في البعض الآخر.
1 - أما دلالتها على الارتباط ووجود العلقة اللزومية بين الطرفين،
فالظاهر أنه بالوضع بحكم التبادر. ولكن لا بوضع خصوص أدوات
الشرط حتى ينكر وضعها لذلك، بل بوضع الهيئة التركيبية للجملة الشرطية
بمجموعها. وعليه، فاستعمالها في الاتفاقية يكون بالعناية وادعاء التلازم
والارتباط بين المقدم والتالي إذا اتفقت لهما المقارنة في الوجود.
2 - وأما دلالتها على أن التالي مترتب على المقدم بأي نحو من أنحاء
الترتب فهو بالوضع أيضا، ولكن لا بمعنى أنها موضوعة بوضعين: وضع
للتلازم ووضع آخر للترتب، بل بمعنى أنها موضوعة بوضع واحد
للارتباط الخاص وهو ترتب التالي على المقدم.
والدليل على ذلك هو تبادر ترتب التالي على المقدم عنها (1)، فإنها
تدل على أن المقدم وضع فيها موضع الفرض والتقدير، وعلى تقدير
حصوله فالتالي حاصل عنده تبعا، أي يتلوه في الحصول. أو فقل: إن

(1) في ط الأولى: منها.
161

المتبادر منها لابدية الجزاء عند فرض حصول الشرط. وهذا لا يمكن أن
ينكره إلا مكابر أو غافل، فإن هذا هو معنى التعليق الذي هو مفاد الجملة
الشرطية التي لا مفاد لها غيره. ومن هنا سموا الجزء الأول منها شرطا
ومقدما، وسموا الجزء الثاني جزاءا وتاليا.
فإذا كانت جملة إنشائية - أي أن التالي متضمن لإنشاء حكم تكليفي
أو وضعي - فإنها تدل على تعليق الحكم على الشرط، فتدل على انتفاء
الحكم عند انتفاء الشرط المعلق عليه الحكم.
وإذا كانت جملة خبرية - أي أن التالي متضمن لحكاية خبر - فإنها
تدل على تعليق حكايته على المقدم، سواء كان المحكي عنه خارجا وفي
الواقع مترتبا على المقدم فتتطابق الحكاية مع المحكي عنه كقولنا: " إن
كانت الشمس طالعة فالنهار موجود " أو مترتب عليه (1) بأن كان العكس
كقولنا: " إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة " أو كان لا ترتب بينهما
كالمتضائفين في مثل قولنا: " إن كان خالد ابنا لزيد فزيد أبوه ".
3 - وأما دلالتها على أن الشرط منحصر، فبالإطلاق، لأ أنه لو كان
هناك شرط آخر للجزاء بديل لذلك الشرط وكذا لو كان معه شئ آخر
يكونان معا شرطا للحكم، لاحتاج ذلك إلى بيان زائد، إما بالعطف ب‍ " أو "
في الصورة الأولى، أو العطف ب‍ " الواو " في الصورة الثانية، لأن الترتب
على الشرط ظاهر في أنه بعنوانه الخاص مستقلا هو الشرط المعلق عليه
الجزاء، فإذا اطلق تعليق الجزاء على الشرط، فإنه يستكشف منه أن
الشرط مستقل لاقيد آخر معه، وأنه منحصر لا بديل ولا عدل له، وإلا
لوجب على الحكيم بيانه، وهو - حسب الفرض - في مقام البيان.

(1) كذا في ط الأولى والثانية، والظاهر مترتبا عليه.
162

وهذا نظير ظهور صيغة " افعل " بإطلاقها في الوجوب التعيني (1)
والتعييني.
وإلى هنا تم لنا ما أردنا أن نذهب إليه من ظهور الجملة الشرطية في
الأمور التي بها تكون ظاهرة في المفهوم.
وعلى كل حال، إن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم مما لا ينبغي
أن يتطرق إليه الشك إلا مع قرينة صارفة أو تكون واردة لبيان الموضوع.
ويشهد لذلك استدلال إمامنا الصادق (عليه السلام) بالمفهوم في رواية أبي بصير
قال: سألت أبا عبد الله عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير
عبيط، فقال: " لا تأكل، إن عليا كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت
العين فكل " (2) فإن استدلال الإمام بقول علي (عليه السلام) لا يكون إلا إذا كان له
مفهوم، وهو: إذا لم تركض الرجل أو لم تطرف العين فلا تأكل.
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء:
ومن لواحق مبحث " مفهوم الشرط " مسألة ما إذا وردت جملتان
شرطيتان أو أكثر، وقد تعدد الشرط فيهما وكان الجزاء واحدا. وهذا يقع
على نحوين:
1 - أن يكون الجزاء غير قابل للتكرار، نحو التقصير في السفر فيما
ورد: " إذا خفي الأذان فقصر " (3) و " إذا خفيت الجدران فقصر " (4).
2 - أن يكون الجزاء قابلا للتكرار، كما في نحو " إذا أجنبت
فاغتسل "، " إذا مسست ميتا فاغتسل ".
أما النحو الأول: فيقع فيه التعارض بين الدليلين بناء على مفهوم

(1) كذا، والمراد به: العيني.
(2) الوسائل: ج 16 ص 321، الباب 12 من أبواب الذبائح، ح 1.
(3 و 4) الوسائل: ج 5 ص 505. الباب 6 من أبواب صلاة المسافر، ح 1، 3، 7.
163

الشرط. ولكن التعارض إنما هو بين مفهوم كل منهما مع منطوق الآخر،
كما هو واضح، فلابد من التصرف فيهما بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن نقيد كلا من الشرطين من ناحية ظهورهما في
الاستقلال بالسببية - ذلك الظهور الناشئ من الإطلاق (كما سبق) الذي
يقابله التقييد بالعطف بالواو - فيكون الشرط في الحقيقة هو المركب من
الشرطين، وكل منهما يكون جزء السبب، والجملتان تكونان حينئذ
كجملة واحدة مقدمها المركب من الشرطين، بأن يكون مؤداهما هكذا:
" إذا خفي الأذان والجدران معا فقصر ".
وربما يكون لهاتين الجملتين معا حينئذ مفهوم واحد، وهو انتفاء
الجزاء عند انتفاء الشرطين معا أو أحدهما، كما لو كانا جملة واحدة.
الوجه الثاني: أن نقيدهما من ناحية ظهورهما في الانحصار - ذلك
الظهور الناشئ من الإطلاق المقابل للتقييد بأو - وحينئذ يكون الشرط
أحدهما على البدلية، أو الجامع بينهما على أن يكون كل منهما مصداقا له،
وذلك حينما يمكن فرض الجامع بينهما ولو كان عرفيا.
وإذ يدور الأمر بين الوجهين في التصرف، فأيهما أولى؟ هل الأولى
تقييد ظهور الشرطيتين في الاستقلال، أو تقييد ظهورهما في الانحصار؟
قولان في المسألة.
والأوجه - على الظاهر - هو التصرف الثاني، لأن منشأ التعارض
بينهما هو ظهورهما في الانحصار الذي يلزم منه الظهور في المفهوم،
فيتعارض منطوق كل منهما مع مفهوم الآخر، كما تقدم. فلابد من رفع اليد
عن ظهور كل منهما في الانحصار بالإضافة إلى المقدار الذي دل عليه
منطوق الشرطية الأخرى، لأن ظهور المنطوق أقوى. أما ظهور كل من
الشرطيتين في الاستقلال فلا معارض له حتى ترفع اليد عنه.
164

وإذا ترجح القول الثاني - وهو التصرف في ظهور الشرطين في
الانحصار - يكون كل من الشرطين مستقلا في التأثير. فإذا انفرد أحدهما
كان له التأثير في ثبوت الحكم. وإن حصلا معا، فإن كان حصولهما
بالتعاقب كان التأثير للسابق، وإن تقارنا كان الأثر لهما معا ويكونان
كالسبب الواحد، لامتناع تكرار الجزاء حسب الفرض.
وأما النحو الثاني - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتكرار - فهو على
صورتين:
1 - أن يثبت بالدليل أن كلا من الشرطين جزء السبب. ولا كلام
حينئذ في أن الجزاء واحد يحصل عند حصول الشرطين معا.
2 - أن يثبت من دليل مستقل أو من ظاهر دليل الشرط أن كلا من
الشرطين سبب مستقل، سواء كان للقضية الشرطية مفهوم أم لم يكن. فقد
وقع الخلاف فيما إذا اتفق وقوع الشرطين معا في وقت واحد أو متعاقبين
أن القاعدة أي شئ تقتضي؟ هل تقتضي تداخل الأسباب فيكون لها
جزاء واحد كما في مثال تداخل موجبات الوضوء من خروج البول أو
الغائط والنوم ونحوهما، أم تقتضي عدم التداخل فيتكرر الجزاء بتكرر (1)
الشروط كما في مثال تعدد وجوب الصلاة بتعدد أسبابه من دخول وقت
اليومية وحصول الآيات؟
أقول: لا شبهة في أ أنه إذا ورد دليل خاص على التداخل أو عدمه وجب
الأخذ بذلك الدليل. وأما مع عدم ورود الدليل الخاص فهو محل الخلاف.
والحق أن القاعدة فيه عدم التداخل.
بيان ذلك: إن لكل شرطية ظهورين:
1 - ظهور الشرط فيها في الاستقلال بالسببية. وهذا الظهور يقتضي

(1) في ط 2: بتكرار.
165

أن يتعدد الجزاء في الشرطيتين موضوعتي البحث، فلا تتداخل الأسباب.
2 - ظهور الجزاء فيها في أن متعلق الحكم فيه صرف الوجود.
ولما كان صرف الشئ لا يمكن أن يكون محكوما بحكمين، فيقتضي
ذلك أن يكون لجميع الأسباب جزاء واحد وحكم واحد عند فرض
اجتماعها. فتتداخل الأسباب.
وعلى هذا، فيقع التنافي بين هذين الظهورين، فإذا قدمنا الظهور الأول
لابد أن نقول بعدم التداخل. وإذا قدمنا الظهور الثاني لابد أن نقول
بالتداخل، فأيهما أولى بالتقديم؟
والأرجح: أن الأولى بالتقديم ظهور الشرط على ظهور الجزاء، لأن
الجزاء لما كان معلقا على الشرط فهو تابع له ثبوتا وإثباتا، فإن كان
واحدا كان الجزاء واحدا وإن كان متعددا كان متعددا. وإذا كان المقدم
متعددا - حسب فرض ظهور الشرطيتين - كان الجزاء تبعا له. وعليه،
لا يستقيم للجزاء ظهور في وحدة المطلوب، فيخرج المقام عن باب
التعارض بين الظهورين، بل يكون الظهور في التعدد (1) رافعا للظهور
في الوحدة، لأن الظهور في الوحدة لا يكون إلا بعد فرض سقوط الظهور
في التعدد (2) أو بعد فرض عدمه، أما مع وجوده فلا ينعقد الظهور في
الوحدة.
فالقاعدة في المقام - إذا - هي عدم التداخل. وهو مذهب أساطين
العلماء الأعلام (3) قدس الله تعالى أسرارهم.

(1 و 2) في ط 2: التعداد.
(3) منهم المحقق النائيني، فوائد الأصول: ج 2 ص 493، والمحقق العراقي، نهاية الأفكار:
ج 2 ص 488 - 489. وإن شئت تفصيل البحث راجع مطارح الأنظار: ص 175.
166

تنبيهان:
- 1 -
تداخل المسببات
إن البحث في المسألة السابقة إنما هو عما إذا تعددت الأسباب،
فيتساءل فيها عما إذا كان تعددها (1) يقتضي المغايرة في الجزاء وتعدد
المسببات - بالفتح - أو لا يقتضي فتتداخل الأسباب؟ وينبغي أن تسمى
ب‍ " مسألة تداخل الأسباب ".
وبعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب هناك، ينبغي أن يبحث أن تعدد
المسببات إذا كانت تشترك في الاسم والحقيقة كالأغسال هل يصح أن
يكتفى عنها بوجود واحد لها أو لا يكتفى؟
وهذه مسألة أخرى غير ما تقدم، تسمى ب‍ " مسألة تداخل المسببات "
وهي من ملحقات الأولى.
والقاعدة فيها أيضا عدم التداخل:
والسر في ذلك: أن سقوط الواجبات المتعددة بفعل واحد وإن اتي به
بنية امتثال الجميع يحتاج إلى دليل خاص، كما ورد في الأغسال بالاكتفاء
بغسل الجنابة عن باقي الأغسال (2) وورد أيضا جواز الاكتفاء بغسل واحد
عن أغسال متعددة (3). ومع عدم ورود الدليل الخاص فإن كل وجوب
يقتضي امتثالا خاصا به لا يغني عنه امتثال الآخر وإن اشتركت الواجبات
في الاسم والحقيقة.
نعم، قد يستثنى من ذلك ما إذا كان بين الواجبين نسبة العموم

(1) لا يخفى ما في العبارة، وإن كان المقصود واضحا.
(2 و 3) الوسائل: ج 1 ص 525 - 528، الباب 43 من أبواب الجنابة.
167

والخصوص من وجه وكان دليل كل منهما مطلقا بالإضافة إلى مورد
الاجتماع، كما إذا قال مثلا: " تصدق على مسكين " وقال ثانيا: " تصدق
على ابن سبيل " فجمع العنوانين شخص واحد - بأن كان فقيرا وابن سبيل
- فإن التصدق عليه يكون مسقطا للتكليفين.
- 2 -
الأصل العملي في المسألتين
إن مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب هو التداخل،
لأن تأثير السببين في تكليف واحد متيقن، وإنما الشك في تكليف ثان
زائد. والأصل في مثله البراءة.
وبعكسه في مسألة تداخل المسببات، فإن الأصل يقتضي فيه عدم
التداخل كما مرت الإشارة إليه، لأ أنه بعد ثبوت التكاليف المتعددة بتعدد
الأسباب يشك في سقوط التكاليف الثابتة لو فعل فعلا واحدا. ومقتضى
القاعدة في مثله الاشتغال، بمعنى أن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ
اليقيني، فلا يكتفى بفعل واحد في مقام الامتثال.
* * *
168

الثاني
مفهوم الوصف
موضوع البحث:
المقصود بالوصف هنا: ما يعم النعت وغيره، فيشمل الحال والتمييز
ونحوهما مما يصلح أن يكون قيدا لموضوع التكليف. كما أنه يختص بما
إذا كان معتمدا على موصوف، فلا يشمل ما إذا كان الوصف نفسه
موضوعا للحكم نحو * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (1) فإن مثل
هذا يدخل في باب مفهوم اللقب. والسر في ذلك: أن الدلالة على انتفاء
الوصف لابد فيها من فرض موضوع ثابت للحكم يقيد بالوصف مرة
ويتجرد عنه أخرى، حتى يمكن فرض نفي الحكم عنه.
ويعتبر - أيضا - في المبحوث عنه هنا أن يكون أخص من الموصوف
مطلقا أو من وجه، لأ أنه لو كان مساويا أو أعم مطلقا لا يوجب تضييقا
وتقييدا في الموصوف حتى يصح فرض انتفاء الحكم عن الموصوف عند
انتفاء الوصف.
وأما دخول الأخص من وجه في محل البحث فإنما هو بالقياس إلى

(1) المائدة: 38.
169

مورد افتراق الموصوف عن الوصف، ففي مثال " في الغنم السائمة زكاة "
يكون مفهومه - لو كان له مفهوم - عدم وجوب الزكاة في الغنم غير
السائمة وهي المعلوفة. وأما بالقياس إلى مورد افتراق الوصف عن
الموصوف فلا دلالة له على المفهوم قطعا، فلا يدل المثال على عدم الزكاة
في غير الغنم، السائمة أو غير السائمة، كالإبل مثلا، لأن الموضوع
- وهو الموصوف الذي هو الغنم في المثال - يجب أن يكون محفوظا
في المفهوم.
ولا يكون (1) متعرضا لموضوع آخر لا نفيا ولا إثباتا.
فما عن بعض الشافعية من القول بدلالة القضية المذكورة على عدم
الزكاة في الإبل المعلوفة (2) لا وجه له قطعا.
الأقوال في المسألة والحق فيها:
لا شك في دلالة التقييد بالوصف على المفهوم عند وجود القرينة
الخاصة. ولا شك في عدم الدلالة عند وجود القرينة على ذلك، مثلما إذا
ورد الوصف مورد الغالب الذي يفهم منه عدم إناطة الحكم به وجودا
وعدما، نحو قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) * (3) فإنه لا
مفهوم لمثل هذه القضية مطلقا، إذ يفهم منه أن وصف " الربائب " بأنها
" في حجوركم " لأ نهى غالبا تكون كذلك. والغرض منه الإشعار بعلة
الحكم، إذ أن اللاتي تربى في الحجور تكون كالبنات.
وإنما الخلاف عند تجرد القضية عن القرائن الخاصة، فإنهم اختلفوا في
أن مجرد التقييد بالوصف هل يدل على المفهوم - أي انتفاء حكم

(1) الظاهر أنها معطوفة على قوله: فلا يدل المثال...
(2) راجع المجموع: ج 5 ص 355 - 357.
(3) النساء: 23.
170

الموصوف عند انتفاء الوصف - أو لا يدل؟ نظير الاختلاف المتقدم في
التقييد بالشرط.
وفي المسألة قولان (1) والمشهور القول الثاني وهو عدم المفهوم.
والسر في الخلاف يرجع إلى أن التقييد المستفاد من الوصف هل هو
تقييد لنفس الحكم - أي أن الحكم منوط به - أو أنه تقييد لنفس موضوع
الحكم أو متعلق الموضوع باختلاف الموارد، فيكون الموضوع أو متعلق
الموضوع هو المجموع المؤلف من الموصوف والوصف؟
فإن كان الأول، فإن التقييد بالوصف يكون ظاهرا في انتفاء الحكم
عند انتفائه بمقتضى الإطلاق، لأن الإطلاق يقتضي - بعد فرض إناطة
الحكم بالوصف - انحصاره فيه كما قلنا في التقييد بالشرط.
وإن كان الثاني، فإن التقييد لا يكون ظاهرا في انتفاء الحكم عند انتفاء
الوصف، لأ أنه حينئذ يكون من قبيل مفهوم اللقب، إذ أنه يكون التعبير
بالوصف والموصوف لتحديد موضوع الحكم فقط، لا أن الموضوع ذات
الموصوف، والوصف قيد للحكم عليه، مثلما إذا قال القائل: " اصنع شكلا
رباعيا قائم الزاوية متساوي الأضلاع " فإن المفهوم منه أن المطلوب صنعه
هو المربع، فعبر عنه بهذه القيود الدالة عليه، حيث يكون الموضوع هو
مجموع المعنى المدلول عليه بالعبارة المؤلفة من الموصوف والوصف،
وهي في المثال " شكل رباعي قائم الزوايا متساوي الأضلاع " وهي
بمنزلة كلمة " مربع " فكما أن جملة " اصنع مربعا " لا تدل على الانتفاء
عند الانتفاء كذلك ما هو بمنزلتها لا تدل عليه، لأ أنه في الحقيقة يكون من
قبيل الوصف غير المعتمد على الموصوف.

(1) قال صاحب المعالم (قدس سره): فأثبته قوم، وهو الظاهر من كلام الشيخ وجنح إليه الشهيد في
الذكرى، ونفاه السيد والمحقق والعلامة وكثير من الناس، وهو الأقرب، معالم الدين: ص 79.
171

إذا عرفت ذلك، فنقول: إن الظاهر في الوصف - لو خلي وطبعه من
دون قرينة - أنه من قبيل الثاني - أي أنه قيد للموضوع لا للحكم -
فيكون الحكم من جهته مطلقا غير مقيد. فلا مفهوم للوصف.
ومن هذا التقرير يظهر بطلان ما استدلوا به لمفهوم الوصف بالأدلة
الآتية:
1 - إنه لو لم يدل الوصف على الانتفاء عند الانتفاء لم تبق فائدة فيه.
والجواب: أن الفائدة غير منحصرة برجوعه إلى الحكم. وكفى فائدة
فيه تحديد موضوع الحكم وتقييده به.
2 - إن الأصل في القيود أن تكون احترازية.
والجواب: أن هذا مسلم، ولكن معنى الاحتراز هو تضييق دائرة
الموضوع وإخراج ما عدا القيد عن شمول شخص الحكم له، ونحن نقول
به، وليس هذا من المفهوم في شئ، لأن إثبات الحكم لموضوع لا ينفي
ثبوت سنخ الحكم لما عداه، كما في مفهوم اللقب. والحاصل: أن كون
القيد احترازيا لا يلزم إرجاعه قيدا للحكم.
3 - إن الوصف مشعر بالعلية، فيلزم إناطة الحكم به.
والجواب: أن هذا الإشعار وإن كان مسلما، إلا أنه ما لم يصل إلى حد
الظهور لا ينفع في الدلالة على المفهوم.
4 - الاستدلال بالجمل التي ثبتت دلالتها على المفهوم، مثل
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مطل الغني ظلم " (1).
والجواب: أن ذلك على تقديره لا ينفع، لأ نا لا نمنع من دلالة التقييد
بالوصف على المفهوم أحيانا لوجود قرينة، وإنما موضوع البحث في
اقتضاء طبع الوصف لو خلى ونفسه للمفهوم.

(1) الوسائل: ج 13 ص 90، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، ح 3.
172

[وفي خصوص المثال نجد القرينة على إناطة الحكم بالغنى موجودة
من جهة مناسبة الحكم والموضوع، فيفهم أن السبب في الحكم بالظلم
كون المدين غنيا، فيكون مطله ظلما، بخلاف المدين الفقير، لعجزه عن
أداء الدين، فلا يكون مطله ظلما] (1).
* * *

(1) ما بين المعقوفتين لم يرد في ط الأولى.
173

الثالث
مفهوم الغاية
إذا ورد التقييد بالغاية نحو * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (1) ونحو
" كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه " (2) فقد وقع خلاف
الأصوليين فيه من جهتين:
الجهة الأولى في دخول الغاية في المنطوق، أي في حكم المغيى.
فقد اختلفوا في أن الغاية - وهي الواقعة بعد أداة الغاية نحو " إلى "
و " حتى " - هل هي داخلة في المغيى حكما، أو خارجة عنه، وإنما ينتهي
إليها المغيى موضوعا وحكما؟ على أقوال:
منها: التفصيل بين كونها من جنس المغيى فتدخل فيه نحو " صمت النهار
إلى الليل " وبين كونها من غير جنسه فلا تدخل (3) كمثال " كل شئ حلال ".
ومنها: التفصيل بين كون الغاية واقعة بعد " إلى " فلا تدخل فيه، وبين
كونها واقعة بعد " حتى " فتدخل (4) نحو " كل السمكة حتى رأسها ".

(1) البقرة: 187.
(2) الوسائل: ج 12 ص 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 1 و 4.
(3) حكي هذا التفصيل عن المبرد، راجع مفاتيح الأصول: ص 100.
(4) نسب إلى الزمخشري، راجع مطارح الأنظار: ص 185.
174

والظاهر أنه لا ظهور لنفس التقييد بالغاية في دخولها في المغيى
ولا في عدمه، بل يتبع ذلك الموارد والقرائن الخاصة الحافة بالكلام.
نعم، لا ينبغي الخلاف في عدم دخول الغاية فيما إذا كانت غاية
للحكم، كمثال " كل شئ حلال " فإنه لا معنى لدخول معرفة الحرام في
حكم الحلال.
ثم إن المقصود من كلمة " حتى " التي يقع الكلام عنها هي " حتى
الجارة " دون العاطفة وإن كانت تدخل على الغاية أيضا، لأن العاطفة
يجب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها، لأن هذا هو معنى العطف، فإذا
قلت: " مات الناس حتى الأنبياء " فإن معناه: أن الأنبياء ماتوا أيضا. بل
" حتى العاطفة " تفيد أن الغاية هو الفرد الفائق على سائر أفراد المغيى في
القوة أو الضعف، فكيف يتصور ألا يكون المعطوف بها داخلا في الحكم،
بل قد يكون هو الأسبق في الحكم، نحو " مات كل أب حتى آدم ".
الجهة الثانية في مفهوم الغاية
وهي موضوع البحث هنا، فإنه قد اختلفوا في أن التقييد بالغاية - مع
قطع النظر عن القرائن الخاصة - هل يدل على انتفاء سنخ الحكم عما وراء
الغاية وعن الغاية نفسها أيضا إذا لم تكن داخلة في المغيى، أو لا؟
فنقول: إن المدرك في دلالة الغاية على المفهوم كالمدرك في الشرط
والوصف، فإذا كانت قيدا للحكم كانت ظاهرة في انتفاء الحكم فيما
وراءها. وأما إذا كانت قيدا للموضوع أو المحمول فقط فلا دلالة لها على
المفهوم.
وعليه، فما علم في التقييد بالغاية أنه راجع إلى الحكم فلا إشكال في
ظهوره في المفهوم، مثل قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه
175

نجس " (1) وكذلك مثال " كل شئ حلال ".
وإن لم يعلم ذلك من القرائن فلا يبعد القول بظهور الغاية في رجوعها
إلى الحكم وأنها غاية للنسبة الواقعة قبلها، وكونها غاية لنفس الموضوع
أو لنفس المحمول هو الذي يحتاج إلى البيان والقرينة.
فالقول بمفهوم الغاية هو المرجح عندنا.
* * *

(1) لم نعثر عليه باللفظ المذكور، والذي ورد في الروايات: " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه
قذر " الوسائل: ج 2 ص 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، ح 4.
176

الرابع
مفهوم الحصر
معنى الحصر
الحصر له معنيان:
1 - القصر بالاصطلاح المعروف عند علماء البلاغة (1) سواء كان من
نوع قصر الصفة على الموصوف نحو " لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا
علي " (2) أم من نوع قصر الموصوف على الصفة نحو * (وما محمد إلا
رسول) * (3) * (إنما أنت منذر) * (4).
2 - ما يعم القصر والاستثناء الذي لا يسمى قصرا بالاصطلاح، نحو
* (فشربوا منه إلا قليلا) * (5). والمقصود به هنا هو هذا المعنى الثاني.
اختلاف مفهوم الحصر باختلاف أدواته:
إن مفهوم الحصر يختلف حاله باختلاف أدوات الحصر كما سترى،

(1) القصر في اللغة: الحبس، وفي الاصطلاح: تخصيص شئ بشئ بطريق مخصوص،
مختصر المعاني: ص 115 الباب الخامس.
(2) روضة الكافي: ص 110، ح 90، إرشاد المفيد: 47.
(3) آل عمران: 144.
(4) الرعد: 7.
(5) البقرة: 249.
177

فلذلك كان علينا أن نبحث عنها واحدة واحدة، فنقول:
1 - إلا.
وهي تأتي لثلاثة وجوه:
1 - صفة بمعنى غير.
2 - استثنائية.
3 - أداة حصر بعد النفي.
أما " إلا الوصفية " فهي تقع وصفا لما قبلها كسائر الأوصاف الأخرى.
فهي تدخل من هذه الجهة في مفهوم الوصف، فإن قلنا هناك: إن للوصف
مفهوما فهي كذلك، وإلا فلا. وقد رجحنا فيما سبق: أن الوصف لا مفهوم
له، فإذا قال المقر مثلا: " في ذمتي لزيد عشرة دراهم إلا درهم " بجعل " إلا
درهم " وصفا، فإنه يثبت في ذمته تمام العشرة الموصوفة بأنها ليست
بدرهم. ولا يصح أن تكون استثنائية لعدم نصب " درهم " ولا مفهوم لها
حينئذ، فلا تدل على عدم ثبوت شئ آخر في ذمته لزيد.
وأما " إلا الاستثنائية " فلا ينبغي الشك في دلالتها على المفهوم، وهو
انتفاء حكم المستثنى منه عن المستثنى، لأن " إلا " موضوعة للإخراج
وهو الاستثناء، ولازم هذا الإخراج باللزوم البين بالمعنى الأخص أن
يكون المستثنى محكوما بنقيض حكم المستثنى منه. ولما كان هذا اللزوم
بينا ظن بعضهم أن هذا المفهوم من باب المنطوق.
وأما " أداة الحصر بعد النفي " نحو " لا صلاة إلا بطهور "، فهي في
الحقيقة من نوع الاستثنائية.
فرع: لو شككنا في مورد أن كلمة " إلا " استثنائية (1) أو وصفية، مثل

(1) في ط الأولى: للاستثناء.
178

ما لو قال المقر: " ليس في ذمتي لزيد عشرة دراهم إلا درهم " إذ يجوز في
المثال أن تكون " إلا " وصفية ويجوز أن تكون استثنائية، فإن الأصل في
كلمة " إلا " أن تكون للاستثناء، فيثبت في ذمته في المثال درهم واحد. أما
لو كانت وصفية فإنه لا يثبت في ذمته شئ، لأ أنه يكون قد نفى العشرة
الدراهم كلها الموصوفة تلك الدراهم بأنها ليست بدرهم.
2 - إنما. وهي أداة حصر، مثل كلمة " إلا "، فإذا استعملت في حصر
الحكم في موضوع معين دلت بالملازمة البينة على انتفائه عن غير ذلك
الموضوع. وهذا واضح.
3 - بل. وهي للإضراب، وتستعمل في وجوه ثلاثة:
الأول: للدلالة على أن المضروب عنه وقع عن غفلة أو على نحو
الغلط. ولا دلالة لها حينئذ على الحصر. وهو واضح.
الثاني: للدلالة على تأكيد المضروب عنه وتقريره، نحو زيد عالم بل
شاعر. ولا دلالة لها أيضا حينئذ على الحصر.
الثالث: للدلالة على الردع وإبطال ما ثبت أولا، نحو * (أم يقولون به
جنة بل جاءهم بالحق) * (1) فتدل على الحصر، فيكون لها مفهوم، وهذه
الآية الكريمة تدل على انتفاء مجيئه بغير الحق.
4 - وهناك هيئات غير الأدوات تدل على الحصر، مثل تقدم المفعول،
نحو * (إياك نعبد وإياك نستعين) * ومثل تعريف المسند إليه بلام الجنس مع
تقديمه، نحو " العالم محمد " و " إن القول ما قالت حذام ". ونحو ذلك مما
هو مفصل في علم البلاغة.
فإن هذه الهيئات ظاهرة في الحصر، فإذا استفيد منها الحصر فلا ينبغي

(1) المؤمنون: 70.
179

الشك في ظهورها في المفهوم، لأ أنه لازم للحصر لزوما بينا. وتفصيل
الكلام فيها لا يسعه هذا المختصر.
وعلى كل حال، فإن كل ما يدل على الحصر فهو دال على المفهوم
بالملازمة البينة.
* * *
180

الخامس
مفهوم العدد
لا شك في أن تحديد الموضوع بعدد خاص لا يدل على انتفاء الحكم
فيما عداه، فإذا قيل: " صم ثلاثة أيام من كل شهر " فإنه لا يدل على عدم
استحباب صوم غير الثلاثة الأيام، فلا يعارض الدليل على استحباب صوم
أيام أخر.
نعم، لو كان الحكم للوجوب - مثلا - وكان التحديد بالعدد من جهة
الزيادة لبيان الحد الأعلى، فلا شبهة في دلالته على عدم وجوب الزيادة
كدليل صوم ثلاثين يوما من شهر رمضان. ولكن هذه الدلالة من جهة
خصوصية المورد، لا من جهة أصل التحديد بالعدد حتى يكون لنفس
العدد مفهوم.
فالحق أن التحديد بالعدد لا مفهوم له.
* * *
181

السادس
مفهوم اللقب
المقصود باللقب: كل اسم - سواء كان مشتقا أم جامدا - وقع
موضوعا للحكم، كالفقير في قولهم: " أطعم الفقير " وكالسارق والسارقة
في قوله تعالى: * (السارق والسارقة...) * (1).
ومعنى مفهوم اللقب نفي الحكم عما لا يتناوله عموم الاسم. وبعد أن
استشكلنا في دلالة الوصف على المفهوم فعدم دلالة اللقب أولى، فإن
نفس موضوع الحكم بعنوانه لا يشعر بتعليق الحكم عليه، فضلا عن أن
يكون له ظهور في الانحصار.
نعم غاية ما يفهم من اللقب عدم تناول شخص الحكم لغير ما يشمله
عموم الاسم، وهذا لا كلام فيه. أما عدم ثبوت نوع الحكم لموضوع آخر،
فلا دلالة له عليه أصلا.
وقد قيل: إن مفهوم اللقب أضعف المفهومات (2).
* * *

(1) المائدة: 38.
(2) لم نظفر بقائله.
182

خاتمة
في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة
تمهيد:
يجري كثيرا على لسان الفقهاء والأصوليين ذكر دلالة الاقتضاء
والتنبيه والإشارة، ولم تشرح هذه الدلالات في أكثر الكتب الأصولية
المتعارفة. ولذلك رأينا أن نبحث عنها بشئ من التفصيل لفائدة المبتدئين.
والبحث عنها يقع من جهتين: الأولى في مواقع هذه الدلالات الثلاث
وأنها من أي أقسام الدلالة، والثانية في حجيتها.
الجهة الأولى
مواقع الدلالات الثلاث
قد تقدم أن " المفهوم " هو مدلول الجملة التركيبية اللازمة للمنطوق
لزوما بينا بالمعنى الأخص. ويقابله " المنطوق " الذي هو مدلول ذات
اللفظ بالدلالة المطابقية.
ولكن يبقى هناك من المدلولات ما لا يدخل في المفهوم ولا في
المنطوق اصطلاحا، كما إذا دل الكلام بالدلالة الالتزامية (1) على لفظ مفرد

المقصود من الدلالة الالتزامية ما يعم الدلالة التضمنية باصطلاح المناطقة باعتبار رجوع ق‍
الدلالة التضمنية إلى الالتزامية لأنها لا تتم الا حيث يكون معنى الجزء لازما للكل فتكون
الدلالة من ناحية الملازمة بينهما.
183

أو معنى مفرد ليس مذكورا في المنطوق صريحا، أو إذا دل الكلام على
مفاد جملة لازمة للمنطوق، إلا أن اللزوم ليس على نحو اللزوم البين
بالمعنى الأخص، فإن هذه كلها لا تسمى مفهوما ولا منطوقا. إذا ماذا
تسمى هذه الدلالة في هذه المقامات؟
نقول: الأنسب أن نسمي مثل هذه الدلالة - على وجه العموم -
" الدلالة السياقية " - كما ربما يجري هذا التعبير في لسان جملة من
الأساطين - لتكون في مقابل الدلالة المفهومية والمنطوقية.
والمقصود بها - على هذا - أن سياق الكلام يدل على المعنى المفرد أو
المركب أو اللفظ المقدر. وقسموها إلى الدلالات الثلاث المذكورة:
الاقتضاء، والتنبيه، والإشارة. فلنبحث عنها واحدة واحدة:
- 1 -
دلالة الاقتضاء
وهي أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلم بحسب العرف ويتوقف صدق
الكلام أو صحته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة عليها.
مثالها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " (1) فإن صدق
الكلام يتوقف على تقدير " الأحكام والآثار الشرعية " لتكون هي المنفية
حقيقة، لوجود الضرر والضرار قطعا عند المسلمين. فيكون النفي للضرر
باعتبار نفي آثاره الشرعية وأحكامه. ومثله: " رفع عن أمتي مالا يعلمون
وما اضطروا إليه... " (2).

(1) الوسائل: ج 17 ص 319، ب 5 من أبواب الشفعة، ح 1، وص 341 ب 12 من أبواب إحياء
الموات ح 3 - 5، وليس في هذه الروايات قيد " في الإسلام ".
(2) الوسائل: ج 4 ص 1284، ب 37 من أبواب قواطع الصلاة، ح 2.
184

مثال آخر، قوله (عليه السلام): " لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد " (1)
فإن صدق الكلام وصحته تتوقف على تقدير كلمة " كاملة " محذوفة
ليكون المنفي كمال الصلاة، لا أصل الصلاة.
مثال ثالث، قوله تعالى: * (واسأل القرية) * (2) فإن صحته عقلا تتوقف
على تقدير لفظ " أهل " فيكون من باب حذف المضاف، أو على تقدير
معنى " أهل " فيكون من باب المجاز في الإسناد.
مثال رابع، قولهم: " أعتق عبدك عني على ألف " فإن صحة هذا الكلام
شرعا تتوقف على طلب تمليكه أولا له بألف، لأ أنه " لا عتق إلا في
ملك " (3) فيكون التقدير: ملكني العبد بألف ثم أعتقه عني.
مثال خامس، قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
فإن صحته لغة تتوقف على تقدير " راضون " خبرا للمبتدأ " نحن " لأن
" راض " مفرد لا يصح أن يكون خبرا ل‍ " نحن ".
مثال سادس، قولهم: " رأيت أسدا في الحمام " فإن صحته عادة
تتوقف على إرادة الرجل الشجاع من لفظ " أسد " (4).
وجميع الدلالات الالتزامية على المعاني المفردة وجميع المجازات
في الكلمة أو في الإسناد ترجع إلى " دلالة الاقتضاء ".
فإن قال قائل: إن دلالة اللفظ على معناه المجازي من الدلالة
المطابقية فكيف جعلتم المجاز من نوع دلالة الاقتضاء؟ نقول له: هذا
صحيح، ومقصودنا من كون الدلالة على المعنى المجازي من نوع دلالة

(1) مستدرك الوسائل: ج 3 ص 356، الباب 2 من أبواب أحكام المساجد، ح 1 و 2.
(2) يوسف: 82.
(3) كما ورد في الروايات، راجع الوسائل: ج 16 ص 7 ب 5 من أبواب العتق ح 1 و 2 و 6.
(4) لم يرد هذا المثال في ط 2.
185

الاقتضاء، هو دلالة نفس القرينة المحفوف بها الكلام على إرادة المعنى
المجازي من اللفظ، لا دلالة نفس اللفظ عليه بتوسط القرينة.
والخلاصة: إن المناط في دلالة الاقتضاء شيئان: الأول أن تكون
الدلالة مقصودة. والثاني أن يكون الكلام لا يصدق أو لا يصح بدونها. ولا
يفرق فيها بين أن يكون لفظا مضمرا أو معنى مرادا، حقيقيا أو مجازيا.
- 2 -
دلالة التنبيه
وتسمى " دلالة الإيماء " أيضا، وهي كالأولى في اشتراط القصد عرفا،
ولكن من غير أن يتوقف صدق الكلام أو صحته عليها، وإنما سياق الكلام
ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد عدم إرادته. وبهذا تفترق عن
دلالة الاقتضاء، لأ نهى - كما تقدم - يتوقف صدق الكلام أو صحته عليها.
ولدلالة التنبيه موارد كثيرة نذكر أهمها:
1 - ما إذا أراد المتكلم بيان أمر فنبه عليه بذكر ما يلازمه عقلا أو
عرفا، كما إذا قال القائل: " دقت الساعة العاشرة " مثلا، حيث تكون
الساعة العاشرة موعدا له مع المخاطب لينبهه على حلول الموعد المتفق
عليه. أو قال: " طلعت الشمس " مخاطبا من قد استيقظ من نومه حينئذ،
لبيان فوات وقت أداء صلاة الغداة. أو قال: " إني عطشان " لدلالة على
طلب الماء.
ومن هذا الباب ذكر الخبر لبيان لازم الفائدة، مثل ما لو أخبر
المخاطب بقوله: " إنك صائم " لبيان أنه عالم بصومه.
ومن هذا الباب أيضا الكنايات إذا كان المراد الحقيقي مقصودا
بالإفادة من اللفظ ثم كني به عن شئ آخر.
2 - ما إذا اقترن الكلام بشئ يفيد كونه علة للحكم أو شرطا أو مانعا
186

أو جزءا، أو عدم هذه الأمور. فيكون ذكر الحكم تنبيها على كون ذلك
الشئ علة أو شرطا أو مانعا أو جزءا أو عدم كونه كذلك.
مثاله قول المفتي: " أعد الصلاة " لمن سأله عن الشك في أعداد
الثنائية، فإنه يستفاد منه أن الشك المذكور علة لبطلان الصلاة وللحكم
بوجوب الإعادة.
مثال آخر قوله (عليه السلام): " كفر " لمن قال له: " واقعت أهلي في نهار شهر
رمضان " (1) فإنه يفيد أن الوقاع في الصوم الواجب موجب للكفارة.
ومثال ثالث، قوله: " بطل البيع " لمن قال له: " بعت السمك في النهر "
فيفهم منه اشتراط القدرة على التسليم في البيع.
ومثال رابع قوله: " لا تعيد " لمن سأل عن الصلاة في الحمام، فيفهم منه
عدم مانعية الكون في الحمام للصلاة... وهكذا.
3 - ما إذا اقترن الكلام بشئ يفيد تعيين بعض متعلقات الفعل، كما إذا
قال القائل: " وصلت إلى النهر وشربت " فيفهم من هذه المقارنة أن
المشروب هو الماء وأنه من النهر. ومثل ما إذا قال: " قمت وخطبت " أي
وخطبت قائما... وهكذا.
- 3 -
دلالة الإشارة
ويشترط فيها - على عكس الدلالتين السابقتين - ألا تكون الدلالة
مقصودة بالقصد الاستعمالي بحسب العرف، ولكن مدلولها لازم لمدلول
الكلام لزوما غير بين أو لزوما بينا بالمعنى الأعم، سواء استنبط المدلول
من كلام واحد أم من كلامين.

(1) لم نعثر عليه بلفظ " كفر " راجع الوسائل: ج 7 ص 29، الباب 8 من أبواب ما يمسك عنه
الصائم، ح 2 و 5.
187

مثال ذلك: دلالة الآيتين على أقل الحمل، وهما آية * (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا) * (1) وآية * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * (2)
فإنه بطرح الحولين من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر فيعرف أنه
أقل الحمل.
ومن هذا الباب دلالة وجوب الشئ على وجوب مقدمته، لأ أنه لازم
لوجوب ذي المقدمة باللزوم البين بالمعنى الأعم. ولذلك جعلوا وجوب
المقدمة وجوبا تبعيا لا أصليا، لأ أنه ليس مدلولا للكلام بالقصد، وإنما
يفهم بالتبع، أي بدلالة الإشارة.
الجهة الثانية
حجية هذه الدلالات
أما دلالة " الاقتضاء " و " التنبيه " فلا شك في حجيتهما إذا كانت هناك
دلالة وظهور، لأ أنه من باب حجية الظواهر. ولا كلام في ذلك.
وأما دلالة " الإشارة " فحجيتها من باب حجية الظواهر محل نظر
وشك، لأن تسميتها بالدلالة من باب المسامحة، إذ المفروض أنها غير
مقصودة والدلالة تابعة للإرادة. وحقها أن تسمى " إشارة " و " إشعارا " فقط
بغير لفظ " الدلالة " فليست هي من الظواهر في شئ حتى تكون حجة
من هذه الجهة.
نعم، هي حجة من باب الملازمة العقلية حيث تكون ملازمة،
فيستكشف منها لازمها سواء كان حكما أم غير حكم، كالأخذ بلوازم
إقرار المقر وإن لم يكن قاصدا لها أو كان منكرا للملازمة. وسيأتي في
محله في باب الملازمات العقلية إن شاء الله تعالى.

(1) الأحقاف: 15.
(2) البقرة: 233.
188

الباب الخامس:
العام والخاص
189

تمهيد:
العام والخاص: هما من المفاهيم الواضحة البديهية التي لا تحتاج إلى
التعريف إلا لشرح اللفظ وتقريب المعنى إلى الذهن، فلذلك لا محل
لتعريفهما بالتعاريف الحقيقية.
والقصد من " العام ": اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق
عنوانه عليه في ثبوت الحكم له. وقد يقال للحكم: إنه عام أيضا باعتبار
شموله لجميع أفراد الموضوع أو المتعلق أو المكلف.
والقصد من " الخاص ": الحكم الذي لا يشمل إلا بعض أفراد موضوعه
أو المتعلق أو المكلف، أو أنه اللفظ الدال على ذلك.
والتخصيص: هو إخراج بعض الأفراد عن شمول الحكم العام بعد أن
كان اللفظ في نفسه شاملا له لولا التخصيص.
والتخصص: هو أن يكون اللفظ من أول الأمر - بلا تخصيص -
غير شامل لذلك الفرد غير المشمول للحكم.
أقسام العام:
ينقسم العام إلى ثلاثة أقسام باعتبار تعلق الحكم به:
1 - العموم الاستغراقي، وهو أن يكون الحكم شاملا لكل فرد فرد،
190

فيكون كل فرد وحده موضوعا للحكم، ولكل حكم متعلق بفرد من
الموضوع عصيان خاص، نحو أكرم كل عالم.
2 - العموم المجموعي، وهو أن يكون الحكم ثابتا للمجموع بما هو
مجموع، فيكون المجموع موضوعا واحدا، كوجوب الإيمان بالأئمة، فلا
يتحقق الامتثال إلا بالإيمان بالجميع.
3 - العموم البدلي، وهو أن يكون الحكم لواحد من الأفراد على
البدل، فيكون فرد واحد فقط - على البدل - موضوعا للحكم، فإذا امتثل
في واحد سقط التكليف، نحو " أعتق أية رقبة شئت ".
فإن قال قائل: إن عد هذا القسم الثالث من أقسام العموم فيه مسامحة
ظاهرة، لأن البدلية تنافي العموم، إذ المفروض أن متعلق الحكم أو
موضوعه ليس إلا فردا واحدا فقط.
نقول في جوابه: العموم في هذا القسم معناه عموم البدلية، أي صلاح
كل فرد لأن يكون متعلقا أو موضوعا للحكم. نعم، إذا كان استفادة العموم
من هذا القسم بمقتضى الإطلاق فهو يدخل في المطلق، لا في العام.
وعلى كل حال، إن عموم متعلق الحكم لأحواله وأفراده إذا كان
متعلقا للأمر الوجوبي أو الاستحبابي فهو على الأكثر من نوع العموم
البدلي.
إذا عرفت هذا التمهيد، فينبغي أن نشرع في تفصيل مباحث العام
والخاص في فصول:
- 1 -
ألفاظ العموم
لا شك أن للعموم ألفاظا تخصه دالة عليه إما بالوضع أو بالإطلاق
بمقتضى مقدمات الحكمة. وهي إما أن تكون ألفاظا مفردة مثل " كل "
191

وما في معناها مثل " جميع " و " تمام " و " أي " و " دائما ". وإما أن تكون
هيئات لفظية كوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي، وكون اللفظ جنسا
محلى باللام جمعا كان أو مفردا. فلنتكلم عنها بالتفصيل:
1 - لفظة " كل " وما في معناها، فإنه من المعلوم دلالتها بالوضع على
عموم مدخولها سواء كان عموما استغراقيا أو مجموعيا، وأن العموم معناه
الشمول لجميع أفرادها مهما كان لها من الخصوصيات اللاحقة لمدخولها.
2 - " وقوع النكرة في سياق النفي. أو النهي " فإنه لا شك في دلالتها
على عموم السلب لجميع أفراد النكرة عقلا، لا وضعا، لأن عدم الطبيعة
إنما يكون بعدم جميع أفرادها. وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
3 - " الجمع المحلى باللام. والمفرد المحلى بها " لا شك في استفادة
العموم منهما عند عدم العهد. ولكن الظاهر أنه ليس ذلك بالوضع في
المفرد المحلى باللام، وإنما يستفاد بالإطلاق بمقتضى مقدمات الحكمة،
ولا فرق بينهما من جهة العموم في استغراق جميع الأفراد فردا فردا.
وقد توهم بعضهم (1): أن معنى استغراق الجمع المحلى وكل جمع مثل
" أكرم جميع العلماء " هو استغراق بلحاظ مراتب الجمع، لا بلحاظ الأفراد
فردا فردا، فيشمل كل جماعة جماعة، ويكون بمنزلة قول القائل: " أكرم
جماعة جماعة " فيكون موضوع الحكم كل جماعة على حدة، لا كل
مفرد، فإكرام شخص واحد لا يكون امتثالا للأمر. وذلك نظير عموم
التثنية، فإن الاستغراق فيها بملاحظة مصاديق التثنية، فيشمل كل اثنين
اثنين، فإذا قال: " أكرم كل عالمين " فموضوع الحكم كل اثنين من العلماء،
لاكل فرد.
ومنشأ هذا التوهم أن معنى الجمع " الجماعة " كما أن معنى التثنية

(1) زعمه المحقق الشريف، على ما نسبه إليه المحقق الإصفهاني في الفصول الغروية: ص 171.
192

" الاثنين " فإذا دخلت أداة العموم عليه دلت على العموم بلحاظ كل
جماعة جماعة، كما إذا دخلت على المفرد دلت على العموم بلحاظ كل
فرد فرد، وعلى التثنية دلت عليه بلحاظ كل اثنين اثنين، لأن أداة العموم
تفيد عموم مدخولها.
ولكن هذا توهم فاسد للفرق بين التثنية والجمع، لأن التثنية تدل على
الاثنين المحدودة من جانب القلة والكثرة. بخلاف الجمع، فإنه يدل على
ما هو محدود من جانب القلة فقط، لأن أقل الجمع ثلاثة، وأما من جانب
الكثرة فغير محدود أبدا، فكل ما تفرض لذلك اللفظ المجموع من أفراد -
مهما كثرت - فهي مرتبة من الجمع واحدة وجماعة واحدة، حتى لو أريد
جميع الأفراد بأسرها، فإنها كلها مرتبة واحدة من الجمع، لا مجموعة
مراتب له. فيكون معنى استغراق الجمع عدم الوقوف على حد خاص من
حدود الجمع ومرتبة دانية منه، بل المقصود أعلى مراتبه. فيذهب استغراقه
إلى آخر الآحاد، لا إلى آخر المراتب، إذ ليس هناك بلحاظ جميع الأفراد
إلا مرتبة واحدة، لا مراتب متعددة، وليس إلا حد واحد هو الحد الأعلى،
لا حدود متكثرة، فهو من هذه الجهة كاستغراق المفرد، معنا: عدم الوقوف
على حد خاص، فيذهب إلى آخر الآحاد.
نعم، الفرق بينهما إنما هو في عدم الاستغراق، فإن عدم استغراق
المفرد يوجب الاقتصار على واحد، وعدم استغراق الجمع يوجب
الاقتصار على أقل الجمع، وهو ثلاثة.
- 2 -
المخصص المتصل والمنفصل
إن تخصيص العام على نحوين:
1 - أن يقترن به مخصصه في نفس الكلام الواحد الملقى من المتكلم
193

كقولنا: " أشهد أن لا إله إلا الله ". ويسمى " المخصص المتصل " فيكون
قرينة على إرادة ما عدا الخاص من العموم. وتلحق به - بل هي منه -
القرينة الحالية المكتنف بها الكلام الدالة على إرادة الخصوص على وجه
يصح تعويل المتكلم عليها في بيان مراده.
2 - ألا يقترن به مخصصه في نفس الكلام، بل يرد في كلام آخر
مستقل قبله أو بعده. ويسمى " المخصص المنفصل " فيكون أيضا قرينة
على إرادة ما عدا الخاص من العموم، كالأول.
فإذا لا فرق بين القسمين من ناحية القرينة على مراد المتكلم، وإنما
الفرق بينهما من ناحية أخرى، وهي ناحية انعقاد الظهور في العموم، ففي
المتصل لا ينعقد للكلام ظهور إلا في الخصوص، وفي المنفصل ينعقد
ظهور العام في عمومه، غير أن الخاص ظهوره أقوى، فيقدم عليه من باب
تقديم الأظهر على الظاهر أو النص على الظاهر.
والسر في ذلك: أن الكلام مطلقا - العام وغيره - لا يستقر له
الظهور ولا ينعقد إلا بعد الانتهاء منه والانقطاع عرفا، على وجه لا يبقى
بحسب العرف مجال لإلحاقه بضميمة تصلح لأن تكون قرينة تصرفه عن
ظهوره الابتدائي الأولي، وإلا فالكلام ما دام متصلا عرفا فإن ظهوره
مراعى، فإن انقطع من دون ورود قرينة على خلافه استقر ظهوره الأول
وانعقد الكلام عليه، وإن لحقته القرينة الصارفة تبدل ظهوره الأول إلى
ظهور آخر حسب دلالة القرينة وانعقد حينئذ على الظهور الثاني، ولذا
لو كانت القرينة مجملة أو إن وجد في الكلام ما يحتمل أن يكون
قرينة أوجب ذلك عدم انعقاد الظهور الأول ولا ظهور آخر، فيعود الكلام
برمته مجملا.
هذا من ناحية كلية في كل كلام. ومقامنا من هذا الباب، لأن
194

المخصص - كما قلنا - من قبيل القرينة الصارفة، فالعام له ظهور ابتدائي
- أو بدوي - في العموم، فيكون مراعى بانقطاع الكلام وانتهائه، فإن لم
يلحقه ما يخصصه استقر ظهوره الابتدائي وانعقد على العموم، وإن لحقته
قرينة التخصيص قبل الانقطاع تبدل ظهوره الأول وانعقد له ظهور آخر
حسب دلالة المخصص المتصل.
إذا فالعام المخصص بالمتصل لا يستقر ولا ينعقد له ظهور في العموم.
بخلاف المخصص بالمنفصل، لأن الكلام بحسب الفرض قد انقطع بدون
ورود ما يصلح للقرينة على التخصيص، فيستقر ظهوره الابتدائي في
العموم، غير أنه إذا ورد المخصص المنفصل يزاحم ظهور العام، فيقدم عليه
من باب أنه قرينة عليه كاشفة عن المراد الجدي.
- 3 -
هل استعمال العام في المخصص مجاز؟
قلنا: إن المخصص بقسميه قرينة على إرادة ما عدا الخاص من لفظ
العموم، فيكون المراد من العام بعض ما يشمله ظاهره. فوقع الكلام في أن
هذا الاستعمال هل هو على نحو المجاز أو الحقيقة؟ واختلف العلماء فيه
على أقوال كثيرة: منها أنه مجاز مطلقا (1). ومنها أنه حقيقة مطلقا (2). ومنها
التفصيل بين المخصص بالمتصل وبين المخصص بالمنفصل، فإن كان

(1) قواه صاحب المعالم وفاقا للشيخ والمحقق والعلامة في أحد قوليه وكثير من أهل الخلاف،
معالم الدين: ص 113.
(2) نسبه العلامة إلى الحنابلة وجماعة من الأشاعرة (نهاية الوصول: الورقة 60) وعلى هذا
استقر رأي المحققين من المتأخرين مثل المحقق الخراساني في الكفاية: ص 255،
والمحقق النائيني كما في فرائد الأصول: ج 2 ص 516، والمحقق الحائري في درر الفوائد:
ج 1 ص 212.
195

التخصيص بالأول فهو حقيقة دون ما كان بالثاني (1) وقيل: بالعكس (2).
والحق عندنا هو القول الثاني، أي أنه حقيقة مطلقا.
الدليل: إن منشأ توهم القول بالمجاز أن أداة العموم لما كانت
موضوعة للدلالة على سعة مدخولها وعمومه لجميع أفراده، فلو أريد منه
بعضه فقد استعملت في غير ما وضعت، فيكون الاستعمال مجازا. وهذا
التوهم يدفع بأدنى تأمل، لأ أنه في التخصيص بالمتصل كقولك - مثلا -:
" أكرم كل عالم إلا الفاسقين " لم تستعمل أداة العموم إلا في معناها، وهي
الشمول لجميع أفراد مدخولها، غاية الأمر أن مدخولها تارة يدل عليه لفظ
واحد مثل " أكرم كل عادل " واخرى يدل عليه أكثر من لفظ واحد في
صورة التخصيص، فيكون التخصيص معناه: أن مدخول " كل " ليس ما
يصدق عليه لفظ " عالم " مثلا بل هو خصوص " العالم العادل " في المثال.
وأما " كل " فهي باقية على مالها من الدلالة على العموم والشمول، لأ نهى
تدل حينئذ على الشمول لكل عادل من العلماء، ولذا لا يصح أن يوضع
مكانها كلمة " بعض " فلا يستقيم المعنى لو قلت: " أكرم بعض العلماء إلا
الفاسقين " وإلا لما صح الاستثناء. كما لا يستقيم لو قلت: " أكرم بعض
العلماء العدول " فإنه لا يدل على تحديد الموضوع كما لو كانت " كل "
والاستثناء موجودين.
والحاصل: أن لفظة " كل " وسائر أدوات العموم في مورد التخصيص
لم تستعمل إلا في معناها، وهو الشمول.

(1) أصل هذا التفصيل لأبي الحسين البصري (راجع المعتمد: ج 1 ص 262) واختاره
العلامة (قدس سره) في التهذيب (مخطوط) الورقة 17، ومبادئ الوصول: ص 131.
(2) لم نظفر بقائله، انظر نهاية الوصول: الورقة 60، البحث الخامس، والمعتمد لأبي الحسين
البصري: ج 1 ص 262.
196

ولا معنى للقول بأن المجاز في نفس مدخولها، لأن مدخولها مثل
كلمة " عالم " موضوع لنفس الطبيعة من حيث هي، لا الطبيعة بجميع
أفرادها أو بعضها. وإرادة الجميع أو البعض إنما يكون من دلالة لفظة
أخرى ك‍ " كل " أو " بعض " فإذا قيد مدخولها وأريد منه المقيد بالعدالة في
المثال المتقدم لم يكن مستعملا إلا في معناه، وهو " من له العلم " وتكون
إرادة ما عدا الفاسق من العلماء من دلالة مجموع القيد والمقيد من باب
تعدد الدال والمدلول. وسيجئ إن شاء الله - تعالى - أن تقييد المطلق
لا يوجب مجازا.
هذا الكلام كله عن المخصص بالمتصل. وكذلك الكلام عن المخصص
بالمنفصل، لأ نا قلنا: إن التخصيص بالمنفصل معناه جعل الخاص قرينة
منفصلة على تقييد مدخول " كل " بما عدا الخاص، فلا تصرف في أداة
العموم، ولا في مدخولها، ويكون أيضا من باب تعدد الدال والمدلول. ولو
فرض أن المخصص المنفصل ليس مقيدا لمدخول أداة العموم بل هو
تخصيص للعموم نفسه، فإن هذا لا يلزم منه أن يكون المستعمل فيه في
العام هو البعض حتى يكون مجازا، بل إنما يكشف الخاص عن المراد
الجدي من العام.
- 4 -
حجية العام المخصص في الباقي
إذا شككنا في شمول العام المخصص لبعض أفراد الباقي من العام بعد
التخصيص، فهل العام حجة في هذا البعض، فيتمسك بظاهر العموم
لإدخاله في حكم العام؟ على أقوال.
مثلا، إذا قال المولى: " كل ماء طاهر " ثم استثنى من العموم - بدليل
متصل أو منفصل - الماء المتغير بالنجاسة، ونحن احتملنا استثناء الماء
197

القليل الملاقي للنجاسة بدون تغيير، فإذا قلنا بأن العام المخصص حجة
في الباقي نطرد هذا الاحتمال بظاهر عموم العام في جميع الباقي، فنحكم
بطهارة الماء الملاقي غير المتغير. وإذا لم نقل بحجيته في الباقي يبقى هذا
الاحتمال معلقا لا دليل عليه من العام، فنلتمس له دليلا آخر يقول
بطهارته أو نجاسته.
والأقوال في المسألة كثيرة: (1) منها التفصيل بين المخصص بالمتصل
فيكون حجة في الباقي، وبين المخصص بالمنفصل فلا يكون حجة (2)
وقيل بالعكس (3).
والحق في المسألة هو الحجية مطلقا، لأن أساس النزاع ناشئ من
النزاع في المسألة السابقة، وهي أن العام المخصص مجاز في الباقي أم لا؟
ومن قال بالمجاز يستشكل في ظهور العام وحجيته في جميع الباقي،
من جهة أن المفروض أن استعمال العام في تمام الباقي مجاز واستعماله
في بعض الباقي مجاز آخر أيضا. فيقع النزاع في أن المجاز الأول أقرب
إلى الحقيقة فيكون العام ظاهرا فيه، أو أن المجازين متساويان فلا ظهور
في أحدهما. فإذا كان المجاز الأول هو الظاهر كان العام حجة في تمام
الباقي، وإلا فلا يكون حجة.
أما نحن الذين نقول بأن العام المخصص حقيقة - كما تقدم - ففي
راحة من هذا النزاع، لأ نا قلنا: إن أداة العموم باقية على مالها من معنى
الشمول لجميع أفراد مدخولها، فإذا خرج من مدخولها بعض الأفراد

(1) منها: أنه حجة في الباقي مطلقا إن لم يكن المخصص مجملا، اختار هذا القول المحقق في
المعارج: ص 97، والعلامة في النهاية: الورقة: 61، صاحب المعالم في معالم الدين:
ص 116. ومنها: أنه لا يجوز الاستدلال به مطلقا ذهب إليه عيسى بن أبان وأبو ثور، راجع
المعتمد لأبي الحسين البصري: ج 1 ص 265.
(2 و 3) انظر نهاية الوصول: الورقة 61، والمعتمد: ج 1 ص 265.
198

بالتخصيص بالمتصل أو المنفصل فلا تزال دلالتها على العموم باقية على
حالها، وإنما مدخولها تتضيق دائرته بالتخصيص.
فحكم العام المخصص حكم العام غير المخصص في ظهوره في
الشمول لكل ما يمكن أن يدخل فيه.
وعلى أي حال بعد القول بأن العام المخصص حقيقة في الباقي - على
ما بيناه - لا يبقى شك في حجيته في الباقي. وإنما يقع الشك على تقدير
القول بالمجازية، فقد نقول: إنه حجة في الباقي على هذا التقدير وقد
لا نقول، لا أنه كل من يقول بالمجازية يقول بعدم الحجية، كما توهم
ذلك بعضهم.
- 5 -
هل يسري إجمال المخصص إلى العام؟
كان البحث السابق - وهو حجية العام في الباقي - في فرض أن
الخاص مبين لا إجمال فيه، وإنما الشك في تخصيص غيره مما علم
خروجه عن الخاص.
وعلينا الآن أن نبحث عن حجية العام في فرض إجمال الخاص.
والإجمال على نحوين:
1 - الشبهة المفهومية، وهي في فرض الشك في نفس مفهوم الخاص
بأن كان مجملا، نحو قوله (عليه السلام): " كل ماء طاهر إلا ما تغير طعمه أو لونه أو
ريحه " (1) الذي يشك فيه: أن المراد من " التغير " خصوص التغير الحسي أو
ما يشمل التغير التقديري. ونحو قولنا: " أحسن الظن إلا بخالد " الذي
يشك فيه: أن المراد من " خالد " هو خالد بن بكر، أو خالد بن سعد، مثلا.

(1) مستدرك الوسائل: ج 1 ص 186، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، ح 5.
199

2 - الشبهة المصداقية، وهي في فرض الشك في دخول فرد من أفراد
العام في الخاص مع وضوح مفهوم الخاص، بأن كان مبينا لا إجمال فيه،
كما إذا شك في مثال الماء السابق: أن ماء معينا أتغير بالنجاسة فدخل في
حكم الخاص أم لم يتغير فهو لا يزال باقيا على طهارته؟
والكلام في الشبهتين يختلف اختلافا بينا. فلنفرد لكل منهما بحثا
مستقلا:
أ - الشبهة المفهومية:
الدوران في الشبهة المفهومية تارة يكون بين الأقل والأكثر كالمثال
الأول، فإن الأمر دائر فيه بين تخصيص خصوص التغير الحسي أو يعم
التقديري، فالأقل هو التغير الحسي - وهو المتيقن - والأكثر هو الأعم منه
ومن التقديري.
واخرى يكون بين المتباينين كالمثال الثاني، فإن الأمر دائر فيه بين
تخصيص " خالد بن بكر " وبين " خالد بن سعد " ولا قدر متيقن في البين.
ثم على كل من التقديرين، إما أن يكون المخصص متصلا أو منفصلا.
والحكم في المقام يختلف باختلاف هذه الأقسام الأربعة في الجملة،
فلنذكرها بالتفصيل:
1، 2 - فيما إذا كان المخصص متصلا سواء كان الدوران فيه بين الأقل
والأكثر أو بين المتباينين، فإن الحق فيه أن إجمال المخصص يسري إلى
العام، أي أنه لا يمكن التمسك بأصالة العموم لإدخال المشكوك في حكم
العام.
وهو واضح على ما ذكرناه سابقا من أن المخصص المتصل من نوع
قرينة الكلام المتصلة، فلا ينعقد للعام ظهور إلا فيما عدا الخاص، فإذا كان
200

الخاص مجملا سرى إجماله إلى العام، لأن ما عدا الخاص غير معلوم، فلا
ينعقد للعام ظهور فيما لم يعلم خروجه عن عنوان الخاص.
3 - في الدوران بين الأقل والأكثر إذا كان المخصص منفصلا، فإن
الحق فيه أن إجمال الخاص لا يسري إلى العام، أي أنه يصح التمسك
بأصالة العموم لإدخال ما عدا الأقل في حكم العام. والحجة فيه واضحة
بناء على ما تقدم في الفصل الثاني من أن العام المخصص بالمنفصل ينعقد
له ظهور في العموم، وإذا كان يقدم عليه الخاص فمن باب تقديم أقوى
الحجتين فإذا كان الخاص مجملا في الزائد على القدر المتيقن منه، فلا
يكون حجة في الزائد، لأ أنه - حسب الفرض - مجمل لا ظهور له فيه،
وإنما تنحصر حجيته في القدر المتيقن - وهو الأقل - فكيف يزاحم العام
المنعقد ظهوره في الشمول لجميع أفراده التي منها القدر المتيقن من
الخاص، ومنها القدر الزائد عليه المشكوك دخوله في الخاص، فإذا خرج
القدر المتيقن بحجة أقوى من العام يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجية
العام وظهوره فيه.
4 - في الدوران بين المتبائنين إذا كان المخصص منفصلا، فإن الحق
فيه أن إجمال الخاص يسري إلى العام كالمخصص المتصل، لأن
المفروض حصول العلم الإجمالي بالتخصيص واقعا وإن تردد بين شيئين،
فيسقط العموم عن الحجية في كل واحد منهما.
والفرق بينه وبين المخصص المتصل المجمل أنه في المتصل يرتفع
ظهور الكلام في العموم رأسا، وفي المنفصل المردد بين المتبائنين ترتفع
حجية الظهور وإن كان الظهور البدوي باقيا.
فلا يمكن التمسك بأصالة العموم في أحد المرددين، بل لو فرض أنها
تجري بالقياس إلى أحدهما فهي تجري أيضا بالقياس إلى الآخر، ولا
201

يمكن جريانهما معا، لخروج أحدهما عن العموم قطعا، فيتعارضان
ويتساقطان، وإن كان الحق أن نفس وجود العلم الإجمالي يمنع من
جريان أصالة العموم في كل منهما رأسا، لا أنها تجري فيهما فيحصل
التعارض ثم التساقط.
ب - الشبهة المصداقية:
قلنا: إن الشبهة المصداقية تكون في فرض الشك في دخول فرد من
أفراد ما ينطبق عليه العام في المخصص، مع كون المخصص مبينا لا
إجمال فيه وإنما الإجمال في المصداق، فلا يدرى أن هذا الفرد متصف
بعنوان الخاص فخرج عن حكم العام، أم لم يتصف فهو مشمول لحكم
العام، كالمثال المتقدم، وهو الماء المشكوك تغيره بالنجاسة، وكمثال الشك
في اليد على مال أنها يد عادية أو يد أمانة، فيشك في شمول العام لها،
وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (1) لأ نهى يد عادية، أو
خروجها منه لأ نهى يد أمانة، لما دل على عدم ضمان يد الأمانة المخصص
لذلك العموم.
ربما ينسب إلى المشهور من العلماء الأقدمين القول بجواز التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية (2) ولذا أفتوا في مثال اليد المشكوكة
بالضمان (3). وقد يستدل لهذا القول: بأن انطباق عنوان العام على المصداق

(1) مستدرك الوسائل: ج 17 ص 88، الباب 1 من أبواب الغصب، ح 4. سنن ابن ماجة: ج 2
ص 802 ح 2400 بلفظ " حتى تؤديه " في المصدرين.
(2) لم نظفر بقائله، قال في المحاضرات: إن هذه المسألة لم تكن معنونة في كلماتهم لا في
الأصول ولا في الفروع، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلا على
القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، فلأجل ذلك نسب إليهم، محاضرات في
أصول الفقه، (تقريرات أبحاث السيد الخوئي (قدس سره)): ج 5 ص 190.
(3) لم نتوفق للفحص عن ذلك والإشارة إلى مواضع فتياهم.
202

المردد معلوم فيكون العام حجة فيه مالم يعارض بحجة أقوى، وأما
انطباق عنوان الخاص عليه فغير معلوم، فلا يكون الخاص حجة فيه،
فلا يزاحم حجية العام. وهو نظير ما قلناه في المخصص المنفصل في
الشبهة المفهومية عند الدوران بين الأقل والأكثر.
والحق عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المتصل
والمنفصل معا.
ودليلنا على ذلك: أن المخصص لما كان حجة أقوى من العام، فإنه
موجب لقصر حكم العام على باقي أفراده، ورافع لحجية العام في بعض
مدلوله. والفرد المشكوك مردد بين دخوله فيما كان العام حجة فيه وبين
خروجه عنه مع عدم دلالة العام على دخوله فيما هو حجة فيه، فلا يكون
العام حجة فيه بلا مزاحم، كما قيل في دليلهم. ولئن كان انطباق عنوان
العام عليه معلوما، فليس هو معلوم الانطباق عليه بما هو حجة.
والحاصل: أن هناك عندنا حجتين معلومتين حسب الفرض: إحداهما
العام، هو حجة فيما عدا الخاص. وثانيتهما المخصص، وهو حجة في
مدلوله، والمشتبه مردد بين دخوله في تلك الحجة أو هذه الحجة.
وبهذا يظهر الفرق بين الشبهة المصداقية وبين الشبهة المفهومية في
المنفصل عند الدوران بين الأقل والأكثر، فإن الخاص في الشبهة المفهومية
ليس حجة إلا في الأقل، والزائد المشكوك ليس مشكوك الدخول فيما
كان الخاص معلوم الحجية فيه، بل الخاص مشكوك أنه جعل حجة فيه
أم لا، ومشكوك الحجية في شئ ليس بحجة - قطعا - في ذلك الشئ (1).

سيأتي في مباحث الحجة: أن قوام حجية الشئ بالعلم، لأ أنه إنما يكون الشئ صالحا
لأن يحتج به المولى على العبد إذا كان واصلا إليه بالعلم، فالعلم مأخوذ في موضوع الحجة،
فعند الشك في حجية شئ يرتفع موضوعها فيعلم بعدم حجيته. ومعنى الشك في حجيته ق‍
احتمال أنه نصبه الشارع حجة واقعا على تقدير وصوله، وحيث لم يصل يقطع بعدم حجيته
فعلا، فيزول ذلك الاحتمال البدوي عند الالتفات إلى ذلك، لا أنه حين الشك في الحجية
يقطع بعدم الحجية، وإلا للزم اجتماع الشك والقطع بشئ واحد في آن واحد، وهو محال.
203

وأما العام فهو حجة إلا فيما كان الخاص حجة فيه. وعليه لا يكون الأكثر
مرددا بين دخوله في تلك الحجة أو هذه الحجة، كالمصداق المردد، بل
هو معلوم أن الخاص ليس حجة فيه، لمكان الشك، فلا يزاحم حجية العام
فيه.
وأما فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة أنها يد عادية أو يد
أمانة فلا يعلم أنها لأجل القول بجواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، ولعل لها وجها آخر، ليس المقام محل ذكره.
تنبيه:
في جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا
المقصود من " المخصص اللبي " ما يقابل اللفظي، كالإجماع ودليل
العقل اللذين هما دليلان وليسا من نوع الألفاظ. فقد نسب إلى الشيخ
المحقق الأنصاري (قدس سره) جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية مطلقا إذا
كان المخصص لبيا (1) وتبعه جماعة من المتأخرين عنه (2).
وذهب المحقق شيخ أساتذتنا صاحب الكفاية (قدس سره) إلى التفصيل بين ما
إذا كان المخصص اللبي مما يصح أن يتكل عليه المتكلم في بيان مراده
- بأن كان عقليا ضروريا - فإنه يكون كالمتصل فلا ينعقد للعام ظهور في
العموم فلا مجال للتمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وبين ما إذا لم يكن
كذلك - كما إذا لم يكن التخصيص ضروريا على وجه يصح أن يتكل عليه

(1) راجع مطارح الأنظار: ص 194 الهداية الثالثة من مباحث العام والخاص.
(2) لم نحقق ذلك، وإن صرح بهذه التبعية في فوائد الأصول أيضا، راجع ج 2 ص 536.
204

المتكلم - فإنه لا مانع من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لبقاء العام
على ظهوره، وهو حجة بلا مزاحم.
واستشهد على ذلك بما ذكره من الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة
المألوفة بين العقلاء، كما إذا أمر المولى منهم عبده بإكرام جيرانه، وحصل
القطع للعبد بأن المولى لا يريد إكرام من كان عدوا له من الجيران، فإن
العبد ليس له ألا يكرم من يشك في عداوته، وللمولى أن يؤاخذه على
عدم إكرامه. ولا يصح منه الاعتذار بمجرد احتمال العداوة، لأن بناء
العقلاء وسيرتهم هي ملاك حجية أصالة الظهور، فيكون ظهور العام في
هذا المقام حجة بمقتضى بناء العقلاء.
وزاد على ذلك بأنه يستكشف من عموم العام للفرد المشكوك أنه
ليس فردا للخاص الذي علم خروجه من حكم العام. ومثل له بعموم قوله:
" لعن الله بني فلان قاطبة " (1) المعلوم منه خروج من كان مؤمنا منهم، فإن
شك في إيمان شخص يحكم بجواز لعنه، للعموم. وكل من جاز لعنه ليس
مؤمنا، فينتج من الشكل الأول: هذا الشخص ليس مؤمنا (2).
هذا خلاصة رأي صاحب الكفاية (قدس سره)
ولكن شيخنا المحقق الكبير النائيني - أعلى الله مقامه - لم يرتض هذا
التفصيل، ولا إطلاق رأي الشيخ (قدس سره)، بل ذهب إلى تفصيل آخر.
وخلاصته: أن المخصص اللبي سواء كان عقليا ضروريا يصح أن
يتكل عليه المتكلم في مقام التخاطب، أو لم يكن كذلك - بأن كان عقليا
نظريا أو إجماعا - فإنه كالمخصص اللفظي كاشف عن تقييد المراد
الواقعي في العام: من عدم كون موضوع الحكم الواقعي باقيا على إطلاقه
الذي يظهر فيه العام. فلا مجال للتمسك بالعام في الفرد المشكوك بلا فرق

(1) كامل الزيارات: ص 329.
(2) راجع كفاية الأصول: ص 259 - 261.
205

بين اللبي واللفظي، لأن المانع من التمسك بالعام مشترك بينهما، وهو
انكشاف تقييد موضوع الحكم واقعا. ولا يفرق في هذه الجهة بين أن
يكون الكاشف لفظيا أو لبيا.
واستثنى من ذلك ما إذا كان المخصص اللبي لم يستكشف منه تقييد
موضوع الحكم واقعا بأن كان العقل إنما أدرك ما هو ملاك حكم الشارع
واقعا، أو قام الإجماع على كونه ملاكا لحكم الشارع - كما إذا أدرك العقل
أو قام الإجماع على أن ملاك لعن بني فلان هو كفرهم - فإن ذلك لا
يوجب تقييد موضوع الحكم، لأن الملاك لا يصلح لتقييد، بل من العموم
يستكشف وجود الملاك في جميعهم. فإذا شك في وجود الملاك في فرد
يكون عموم الحكم كاشفا عن وجوده فيه. نعم، لو علم بعدم وجود الملاك
في فرد يكون الفرد نفسه خارجا كما لو أخرجه المولى بالنص عليه،
لا أ أنه يكون كالمقيد لموضوع العام.
وأما سكوت المولى عن بيانه، فهو إما لمصلحة أو لغفلة إذا كان من
الموالي العاديين.
نعم، لو تردد الأمر بين أن يكون المخصص كاشفا عن الملاك أو مقيدا
لعنوان العام، فإن التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية يكون وجيها.
والحاصل: أن المخصص إن أحرزنا أنه كاشف عن تقييد موضوع
العام فلا يجوز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية أبدا، وإن أحرزنا أنه
كاشف عن ملاك الحكم فقط من دون تقييد فلا مانع من التمسك بالعموم،
بل يكون كاشفا عن وجود الملاك في المشكوك. وإن تردد أمره ولم
يحرز كونه قيدا أو ملاكا، فإن كان حكم العقل ضروريا يمكن الاتكال
عليه في التفهيم، فيلحق بالقسم الأول، وإن كان نظريا أو إجماعا لا يصح
الاتكال عليه فيلحق بالقسم الثاني، فيتمسك بالعموم، لجواز أن يكون
206

الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه، مع احتمال أن ما
أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاكات (1).
هذا كله حكاية أقوال علمائنا في المسألة. وإنما أطلت في نقلها، لأن
هذه المسألة حادثة، أثارها شيخنا الأنصاري (قدس سره) - مؤسس الأصول
الحديث - واختلف فيها أساطين مشايخنا. ونكتفي بهذا المقدار دون بيان
ما نعتمد عليه من الأقوال لئلا نخرج عن الغرض الذي وضعت له الرسالة.
وبالاختصار: أن ما ذهب إليه الشيخ هو الأولى بالاعتماد، ولكن مع
تحرير لقوله على غير ما هو المعروف عنه (2).
وتوضيح ذلك: أن كل عام ظاهر في العموم لابد أن يتضمن ظهورين: 1 - ظهوره في عدم
منافاة أية صفة من الصفات أو أي عنوان من العناوين لحكمه.
2 - ظهوره في عدم وجود المنافي أيضا. أي: أنه ظاهر في عدم المنافاة وعدم المنافي معه.
فإن معنى ظهور عموم " أكرم جيراني " - مثلا -: أنه ليس هناك صفة أو عنوان ينافي
الحكم بوجوب إكرام الجيران، نحو صفة العداوة أو الفسق أو نحو ذلك، كما أن معناه أيضا أنه
ليس يوجد في الجيران من فيه صفة أو عنوان ينافي الحكم بوجوب إكرامه. وهذا واضح
لا غبار فيه.
فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصص منفصل لفظي، كما لو قال في المثال
المتقدم: " لا تكرم الأعداء من جيراني " فإن هذا المخصص لا شك في أنه يكون ظاهرا
في أمرين:
1 - إن صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام.
2 - إن في الجيران من هو على صفة العداوة فعلا أو يتوقع منه أن يكون عدوا، وإلا لو لم
يوجد العدو ولا يتوقع فيهم لكان هذا التخصيص لغوا وعبثا لا يصدر من الحكيم.
وعلى ذلك فيكون المخصص اللفظي مزاحما للعام في الظهورين معا، فيسقط عن
الحجية فيهما معا. فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا، فلا مجال فيه للتمسك
بالعام في إلحاقه بحكمه، لسقوط العام عن حجيته في شموله له، إذ يكون هذا الفرد مرددا
بين دخوله فيما أصبح العام حجة فيه وبين دخوله فيما كان الخاص حجة فيه.
أما لو كان هناك مخصص لبي، كما لو حكم العقل - مثلا - بأن العداوة تنافي وجوب ق‍
الإكرام، فإن هذا الحكم من العقل لا يتوقف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقعون،
بل العقل يحكم بهذا الحكم سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبدا، إذ لا مجال للقول بأنه لو
لم يكن هناك أعداء لكان حكم العقل لغوا وعبثا، كما هو واضح بأدنى تأمل والتفات. وعليه،
فالحكم العقلي هذا لا يزاحم الظهور الثاني للعام، أعني ظهوره في عدم المنافي، فظهوره
الثاني هذا يبقى بلا مزاحم.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا فلا مانع من التمسك بالعام في إدخاله في
حكمه، لأ أنه لا يكون هذا الفرد مرددا بين دخوله في هذه الحجة أو هذه الحجة، إذ
المخصص اللبي حسب الفرض لا يقتضي وجود المنافي وليس حجة فيه، أما العام فهو حجة
فيه بلا مزاحم.
فظهر من هذا البيان: أن الفرق عظيم بين المخصص اللبي والمخصص اللفظي من هذه
الناحية، لأ أنه في المخصص اللبي يبقى العام حجة في ظهوره الثاني من دون أن يكون
المخصص متعرضا له، ولا يسقط العام عن الحجية في ظهوره إلا بمقدار المزاحمة لا أكثر.
وهذا بخلاف المخصص اللفظي، فإنه ظاهر في الأمرين معا، كما قدمناه، فيكون مزاحما
للعام فيهما معا.
ولا فرق في المخصص اللبي بين أن يكون ضروريا أو يكون غير ضروري، ولا بين أن
يكون كاشفا عن تقييد موضوع العام أو كاشفا عن ملاك الحكم، فإنه في جميع هذه الصور لا
يقتضي وجود المنافي.
وبهذا التحرير للمسألة يتجلى مرام الشيخ الأعظم انه الأولى بالاعتماد.
[هذه التعليقة لم ترد في ط الأولى] (*)

(1) فوائد الأصول: ج 2 ص 536 - 537.
207

- 6 -
لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص
لاشك في أن بعض عمومات القرآن الكريم والسنة الشريفة ورد لها
مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات. وهذا معلوم
من طريقة صاحب الشريعة والأئمة الأطهار - عليهم الصلاة والسلام -
حتى قيل: " ما من عام إلا وقد خص ". ولذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا
برأيهم في الأحكام، لأن في الكتاب المجيد والسنة عاما وخاصا ومطلقا
ومقيدا.
208

وهذه الأمور لا تعرف إلا من طريق آل البيت (عليهم السلام) [وصاحب البيت
أدرى بالذي فيه] (1).
وهذا ما أوجب التوقف في التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص
واليأس من وجود المخصص، لجواز أن يكون هذا العام من العمومات
التي لها مخصص موجود في السنة أو في الكتاب لم يطلع عليه من وصل
إليه العام. وقد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام
قبل الفحص واليأس (2) وهو الحق.
والسر في ذلك واضح لما قدمناه، لأ أنه إذا كانت طريقة الشارع في
بيان مقاصده تعتمد على القرائن المنفصلة لا يبقى اطمئنان بظهور العام في
عمومه، فإنه يكون ظهورا بدويا. وللشارع الحجة على المكلف إذا قصر
في الفحص عن المخصص.
أما إذا بذل وسعه وفحص عن المخصص في مظانه حتى حصل له
الاطمئنان بعدم وجوده، فله الأخذ بظهور العام. وليس للشارع حجة عليه
فيما لو كان هناك مخصص واقعا لم يتمكن المكلف من الوصول إليه عادة
بالفحص، بل للمكلف أن يحتج فيقول: إني فحصت عن المخصص فلم
أظفر به، ولو كان مخصص هناك كان ينبغي بيانه على وجه لو فحصنا عنه
عادة لوجدناه في مظانه. وإلا فلا حجة فيه علينا.
وهذا الكلام جار في كل ظهور، فإنه لا يجوز الأخذ به إلا بعد الفحص
عن القرائن المنفصلة. فإذا فحص المكلف ولم يظفر بها فله أن يأخذ
بالظهور ويكون حجة عليه.

(1) لم يرد في ط 2.
(2) قال في مطارح الأنظار (ص 201 السطر الأخير): وربما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي
والآمدي، بل ادعي عليه الاجماع كما عن النهاية.
209

ومن هنا نستنتج قاعدة عامة تأتي في محلها ونستوفي البحث عنها
- إن شاء الله تعالى - والمقام من صغرياتها، وهي:
إن أصالة الظهور لا تكون حجة إلا بعد الفحص واليأس عن القرينة.
أما بيان مقدار الفحص الواجب أهو الذي يوجب اليأس على نحو
القطع بعدم القرينة، أو على نحو الظن الغالب والاطمئنان بعدمها؟ فذلك
موكول إلى محله. والمختار كفاية الاطمئنان.
والذي يهون الخطب في هذه العصور المتأخرة أن علماءنا - قدس الله
تعالى أرواحهم - قد بذلوا جهودهم على تعاقب العصور في جمع الأخبار
وتبويبها والبحث عنها وتنقيحها في كتب الأخبار والفقه، حتى أن الفقيه
أصبح الآن يسهل عليه الفحص عن القرائن بالرجوع إلى مظانها المهيأة،
فإذا لم يجدها بعد الفحص يحصل له القطع غالبا بعدمها.
- 7 -
تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده
قد يرد عام ثم ترد بعده جملة فيها ضمير يرجع إلى بعض أفراد العام
بقرينة خاصة. مثل قوله تعالى (2: 228): * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء...) * إلى قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) * فإن
المطلقات عامة للرجعيات وغيرها، ولكن الضمير في " بعولتهن " يراد به
خصوص الرجعيات. فمثل هذا الكلام يدور فيه الأمر بين مخالفتين
للظاهر، إما:
1 - مخالفة ظهور العام في العموم، بأن يجعل مخصوصا بالبعض
الذي يرجع إليه الضمير. وإما:
2 - مخالفة ظهور الضمير في رجوعه إلى ما تقدم عليه من المعنى
210

الذي دل عليه اللفظ، بأن يكون مستعملا على سبيل الاستخدام، فيراد منه
البعض، والعام يبقى على دلالته على العموم، فأي المخالفتين أولى؟ وقع
الخلاف على أقوال ثلاثة:
الأول: أن أصالة العموم هي المقدمة (1) فيلتزم بالمخالفة الثانية.
الثاني: أن أصالة عدم الاستخدام هي المقدمة (2) فيلتزم بالمخالفة
الأولى.
الثالث: عدم جريان الأصلين معا (3) والرجوع إلى الأصول العملية.
أما عدم جريان أصالة العموم، فلوجود ما يصلح أن يكون قرينة في
الكلام وهو عود الضمير على البعض، فلا ينعقد ظهور العام في العموم.
وأما أن أصالة عدم الاستخدام لا تجري، فلان الأصول اللفظية
يشترط في جريانها - كما سبق أول الكتاب - أن يكون الشك في مراد
المتكلم، فلو كان المراد معلوما - كما في المقام - وكان الشك في كيفية
الاستعمال، فلا تجري قطعا.
والحق أن أصالة العموم جارية ولا مانع منها، لأ نا ننكر أن يكون
عود الضمير إلى بعض أفراد العام موجبا لصرف ظهور العموم، إذ لا يلزم
من تعين البعض من جهة مرجعية الضمير بقرينة أن يتعين إرادة البعض من
جهة حكم العام الثابت له بنفسه، لأن الحكم في الجملة المشتملة على
الضمير غير الحكم في الجملة المشتملة على العام، ولا علاقة بينهما،
فلا يكون عود الضمير على بعض العام من القرائن التي تصرف ظهوره

(1) قاله القاضي عبد الجبار واختاره جماعة من المعتزلة والأشاعرة، نهاية الوصول: الورقة: 75.
(2) اختاره العلامة في نهاية الوصول.
(3) هو مذهب السيد المرتضى وأبي الحسين البصري والجويني وفخر الدين الرازي، - كما في
المصدر المتقدم - واختاره المحقق في معارج الأصول: ص 100.
211

عن عمومه. واعتبر ذلك في المثال، فلو قال المولى: " العلماء يجب
إكرامهم " ثم قال: " وهم يجوز تقليدهم " وأريد من ذلك " العدول " بقرينة،
فإنه واضح في هذا المثال أن تقييد الحكم الثاني بالعدول لا يوجب تقييد
الحكم الأول بذلك، بل ليس فيه إشعار به. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون
التقييد بمتصل كما في مثالنا، أو بمنفصل كما في الآية.
- 8 -
تعقيب الاستثناء لجمل متعددة
قد ترد عمومات متعددة في كلام واحد ثم يتعقبها استثناء في آخرها،
فيشك حينئذ في رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة أو لجميع
الجمل.
مثاله قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم
الفاسقون * إلا الذين تابوا...) * (1) فإنه يحتمل أن يكون هذا الاستثناء من
الحكم الأخير فقط وهو فسق هؤلاء، ويحتمل أن يكون استثناء منه ومن
الحكم بعدم قبول شهادتهم والحكم بجلدهم الثمانين. واختلف العلماء في
ذلك على أربعة أقوال:
1 - ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة،
وإن كان رجوعه إلى غير الأخيرة ممكنا، ولكنه يحتاج إلى قرينة عليه (2).
2 - ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل، وتخصيصها بالأخيرة فقط
هو الذي يحتاج إلى الدليل (3).

(1) النور: 4 و 5.
(2) هذا القول منسوب إلى أبي حنيفة وأصحابه، راجع قوانين الأصول: ج 1 ص 283.
(3) ذهب إليه الشيخ والشافعية، المصدر السابق.
212

3 - عدم ظهوره في واحد منهما وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقنا
على كل حال. أما ما عدا الأخيرة فتبقى مجملة لوجود ما يصلح للقرينة،
فلا ينعقد لها ظهور في العموم، فلا تجري أصالة العموم فيها (1).
4 - التفصيل بين ما إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم
يتكرر ذكره وقد ذكر في صدر الكلام مثل قولك: " أحسن إلى الناس
واحترمهم واقض حوائجهم إلا الفاسقين " وبين ما إذا كان الموضوع
متكررا ذكره لكل جملة كالآية الكريمة المتقدمة (2) وإن كان الموضوع في
المعنى واحدا في الجميع (3).
فإن كان من قبيل الأول فهو ظاهر في رجوعه إلى الجميع، لأن
الاستثناء إنما هو من الموضوع باعتبار الحكم، والموضوع لم يذكر إلا في
صدر الكلام فقط، فلابد من رجوع الاستثناء إليه، فيرجع إلى الجميع. وإن كان
من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة، لأن الموضوع قد
ذكر فيها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محله، ويحتاج تخصيص الجمل
السابقة إلى دليل آخر مفقود بالفرض، فيتمسك بأصالة عمومها.
وأما ما قيل: " إن المقام من باب اكتناف الكلام بما يصلح لأن يكون
قرينة، فلا ينعقد للجمل الأولى ظهور في العموم " (4) فلاوجه له، لأ أنه لما
كان المتكلم - حسب الفرض - قد كرر الموضوع بالذكر واكتفى باستثناء
واحد، وهو يأخذ محله بالرجوع إلى الأخيرة، فلو أراد إرجاعه إلى

(1) قال به السيد المرتضى، الذريعة إلى أصول الشريعة ج 1 ص 250.
(2) لا يخفى أن تعدد العمومات المتعقبة بالاستثناء لا يخلو: من أن يكون بتعدد خصوص
موضوعاتها، أو بتعدد خصوص محمولاتها أو بتعدد كليهما معا. والآية الكريمة مما تكرر
فيها المحمول، كما هو ظاهر. وعبارة المؤلف (قدس سره) هنا غير منقحة. وإن شئت التحقيق راجع
المحاضرات للسيد الخوئي (قدس سره) ج 5 ص 304 - 305.
(3) راجع المعتمد: ج 1 ص 246، ونهاية الوصول: الورقة 64.
(4) كفاية الأصول: ص 274.
213

الجميع لوجب أن ينصب قرينة على ذلك، وإلا كان مخلا ببيانه.
وهذا - القول الرابع - هو أرجح الأقوال، وبه يكون الجمع بين كلمات
العلماء، فمن ذهب إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة، فلعله كان
ناظرا إلى مثل الآية المباركة التي تكرر فيها الموضوع (1). ومن ذهب إلى
القول برجوعه إلى الجميع فلعله كان ناظرا إلى الجمل التي لم يذكر فيها
الموضوع إلا في صدر الكلام. فيكون النزاع على هذا لفظيا، ويقع التصالح
بين المتنازعين.
- 9 -
تخصيص العام بالمفهوم
المفهوم ينقسم - كما تقدم - إلى الموافق والمخالف، فإذا ورد عام
ومفهوم أخص مطلقا، فلا كلام في تخصيص العام بالمفهوم إذا كان
" مفهوما موافقا ". مثاله: قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * (2) فإنه عام يشمل
كل عقد يقع باللغة العربية وغيرها، فإذا ورد دليل على اعتبار أن يكون
العقد بصيغة الماضي، فقد قيل: إنه يدل بالأولوية على اعتبار العربية في
العقد (3) لأ أنه لما دل على عدم صحة العقد بالمضارع من العربية، فلئن لم
يصح من لغة أخرى فمن طريق أولى. ولا شك أن مثل هذا المفهوم إن
ثبت فإنه يخصص العام المتقدم، لأ أنه كالنص أو أظهر من عموم العام،
فيقدم عليه.
وأما التخصيص بالمفهوم المخالف، فمثاله قوله تعالى: * (إن الظن

(1) كذا، والآية المباركة تكرر فيها المحمول، كما نبهنا عليه.
(2) المائدة: 1.
(3) نسبه في التقريرات إلى المحقق الثاني (مطارح الأنظار: ص 210) لكنا لم نظفر به في
جامع المقاصد.
214

لا يغني من الحق شيئا) * (1) الدال بعمومه على عدم اعتبار كل ظن حتى
الظن الحاصل من خبر العادل. وقد وردت آية أخرى هي: * (إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا...) * (2) الدالة بمفهوم الشرط على جواز الأخذ بخبر غير
الفاسق بغير تبين. فهل يجوز تخصيص ذلك العام بهذا المفهوم المخالف؟
قد اختلفوا على أقوال:
فقد قيل بتقديم العام ولا يجوز تخصيصه بهذا المفهوم (3). وقيل بتقديم
المفهوم (4). وقيل بعدم تقديم أحدهما على الآخر فيبقى الكلام مجملا (5).
وفصل بعضهم تفصيلات كثيرة (6) يطول الكلام عليها.
والسر في هذا الخلاف: أنه لما كان ظهور المفهوم المخالف ليس من
القوة بحيث يبلغ درجة [قوة] (7) ظهور المنطوق أو المفهوم الموافق، وقع
الكلام في أنه أقوى من ظهور العام فيقدم عليه، أو أن العام أقوى فهو
المقدم، أو أنهما متساويان في درجة الظهور فلا يقدم أحدهما على
الآخر، أو أن ذلك يختلف باختلاف المقامات.
والحق أن المفهوم لما كان أخص من العام حسب الفرض فهو قرينة
عرفا على المراد من العام، والقرينة تقدم على ذي القرينة وتكون مفسرة لما
يراد من ذي القرينة، ولا يعتبر أن يكون ظهورها أقوى من ظهور ذي القرينة.

(1) يونس: 36.
(2) الحجرات: 6.
(3) قد ذكروا هذا القول ولم يعينوا قائله، راجع نهاية الوصول: الورقة 71، معالم الدين:
ص 140، الفصول الغروية: ص 212.
(4) نسبه صاحب المعالم إلى الأكثر، وقواه، معالم الدين: ص 140.
(5) لم نظفر بمصرح به، ذكره في التقريرات على وجه الاستشكال، راجع مطارح الأنظار:
ص 210.
(6) منها التفصيل المنسوب إلى الشيخ الأعظم الأنصاري بين ما إذا كان العموم غير آب عن
التخصيص فيقدم المفهوم عليه، وما إذا كان آبيا عنه فيقدم العموم على المفهوم، راجع أجود
التقريرات: ج 1 ص 501.
(7) لم يرد في ط 2.
215

نعم، لو فرض أن العام كان نصا في العموم، فإنه يكون هو قرينة على
المراد من الجملة ذات المفهوم، فلا يكون لها مفهوم حينئذ، وهذا أمر آخر.
- 10 -
تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد
يبدو من الصعب على المبتدئ أن يؤمن لأول وهلة بجواز تخصيص
العام الوارد في القرآن الكريم بخبر الواحد، نظرا إلى أن الكتاب المقدس
إنما هو وحي منزل من الله تعالى لا ريب فيه، والخبر ظني يحتمل فيه
الخطأ والكذب، فكيف يقدم على الكتاب؟ ولكن سيرة العلماء من القديم
على العمل بخبر الواحد إذا كان مخصصا للعام القرآني، بل لا تجد على
الأغلب خبرا معمولا به من بين الأخبار التي بأيدينا في المجاميع إلا وهو
مخالف لعام أو مطلق في القرآن، ولو مثل عمومات الحل (1) ونحوها. بل
على الظاهر أن مسألة تقديم الخبر الخاص على الآية القرآنية العامة من
المسائل المجمع عليها من غير خلاف بين علمائنا، فما السر في ذلك مع
ما قلناه؟
نقول: لا ريب في أن القرآن الكريم - وإن كان قطعي السند - فيه
متشابه ومحكم - نص على ذلك القرآن نفسه (2) - والمحكم نص وظاهر،
والظاهر منه عام ومطلق. كما لا ريب أيضا في أنه ورد في كلام النبي
والأئمة - عليهم الصلاة والسلام - ما يخصص كثيرا من عمومات القرآن
وما يقيد كثيرا من مطلقاته وما يقوم قرينة على صرف جملة من ظواهره.
وهذا قطعي لا يشك فيه أحد.
فإن كان الخبر قطعي الصدور فلا كلام في ذلك. وإن كان غير قطعي

(1) المائدة: 1، 4، 5. الأعراف: 157.
(2) آل عمران: 7.
216

الصدور - وقد قام الدليل القطعي على أنه حجة شرعا، لأ أنه خبر عادل
مثلا، وكان مضمون الخبر أخص من عموم الآية القرآنية - فيدور الأمر
بين أن نطرح الخبر بمعنى أن نكذب راويه وبين أن نتصرف بظاهر القرآن،
لأ أنه لا يمكن التصرف بمضمون الخبر لأ أنه نص أو أظهر، ولا بسند القرآن
لأ أنه قطعي.
ومرجع ذلك إلى الدوران - في الحقيقة - بين مخالفة الظن بصدق
الخبر وبين مخالفة الظن بعموم الآية. أو فقل: يدور الأمر بين طرح دليل
حجية الخبر وبين طرح أصالة العموم، فأي الدليلين أولى بالطرح؟ وأ يهما
أولى: التقديم؟
فنقول: لا شك أن الخبر صالح لأن يكون قرينة على التصرف في
ظاهر الكتاب، لأ أنه بدلالته ناظر ومفسر لظاهر الكتاب بحسب الفرض.
وعلى العكس من ظاهر الكتاب، فإنه غير صالح لرفع اليد عن دليل حجية
الخبر لأ أنه لا علاقة له فيه من هذه الجهة - حسب الفرض - حتى يكون
ناظرا إليه ومفسرا له. فالخبر لسانه لسان المبين للكتاب، فيقدم عليه.
وليس الكتاب بظاهره بصدد بيان دليل حجية الخبر حتى يقدم عليه.
وإن شئت فقل: إن الخبر بحسب الفرض قرينة على الكتاب، والأصل
الجاري في القرينة - وهو هنا أصالة عدم كذب الراوي - مقدم على
الأصل الجاري في ذي القرينة، وهو هنا أصالة العموم.
- 11 -
الدوران بين التخصيص والنسخ
اعلم أن العام والخاص المنفصل يختلف حالهما من جهة العلم
بتأريخهما معا أو بتأريخ أحدهما أو الجهل بهما معا، فقد يقال في بعض
217

الأحوال بتعيين أن يكون الخاص ناسخا للعام أو منسوخا له، أو مخصصا
إياه. وقد يقع الشك في بعض الصور ولتفصيل الحال نقول:
إن الخاص والعام من ناحية تأريخ صدورهما لا يخلوان من خمس
حالات: فإما أن يكون معلومي التأريخ، أو مجهولي التأريخ، أو أحدهما
مجهولا والآخر معلوما. هذه ثلاث صور. ثم المعلوم تأريخهما: إما أن
يعلم تقارنهما عرفا، أو يعلم تقدم العام، أو يعلم تأخر العام. فتكون الصور
خمسا:
الصورة الأولى:
إذا كانا معلومي التأريخ مع العلم بتقارنهما عرفا، فإنه لا مجال لتوهم
النسخ فيها.
الصورة الثانية:
إذا كانا معلومي التأريخ مع تقدم العام، فهذه على صورتين:
1 - أن يكون ورود الخاص قبل العمل بالعام. والظاهر أنه لا إشكال
حينئذ في حمله على التخصيص بغير كلام، إما لأن النسخ لا يكون قبل
وقت العمل بالمنسوخ كما قيل (1) وإما لأن الأولى فيه التخصيص، كما
سيأتي في الصورة الآتية.
2 - أن يكون وروده بعد وقت العمل بالعام. وهذه الصورة هي أشكل
الصور، وهي التي وقع فيها الكلام في أن الخاص يجب أن يكون ناسخا،
أو يجوز أن يكون مخصصا ولو في بعض الحالات؟ ومع الجواز يتكلم
حينئذ في أن الحمل على التخصيص هو الأولى، أو الحمل على النسخ؟

(1) قاله المعتزلة وبعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، راجع المعتمد: ج 1 ص
376، ونهاية الوصول: الورقة: 100.
218

فالذي يذهب إلى وجوب أن يكون الخاص ناسخا فهو ناظر إلى أن
العام لما ورد وحل وقت العمل به بحسب الفرض، فتأخير الخاص عن
وقت العمل لو كان مخصصا ومبينا لعموم العام يكون من باب تأخير
البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح من الحكيم، لأن فيه إضاعة للأحكام
ولمصالح العباد بلا مبرر. فوجب أن يكون ناسخا للعام، والعام باق على
عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاص، فيجب العمل ثانيا على
طبق الخاص.
وأما من ذهب إلى جواز كونه مخصصا، فلعله ناظر إلى أن العام يجوز
أن يكون واردا لبيان حكم ظاهري صوري لمصلحة اقتضت كتمان الحكم
الواقعي، ولو مصلحة التقية، أو مصلحة التدرج في بيان الأحكام، كما هو
المعلوم من طريقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان أحكام الشريعة، مع أن الحكم
الواقعي - التابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية - إنما هو
على طبق الخاص، فإذا جاء الخاص يكون كاشفا عن الحكم الواقعي،
فيكون مبينا للعام ومخصصا له. وأما الحكم العام الذي ثبت أولا ظاهرا
وصورة إن كان قد ارتفع وانتهى أمده، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه،
وليس هو من باب النسخ.
وإذا جاز أن يكون العام واردا على هذا النحو من بيان الحكم ظاهرا
وصورة، فإن ثبت ذلك كان الخاص مخصصا أي كان كاشفا عن الواقع
قطعا.
وإن ثبت أنه في صدد بيان الحكم الواقعي التابع للمصالح الواقعية الثابتة
للأشياء بعناوينها الأولية، فلا شك في أنه يتعين كون الخاص ناسخا له.
وأما لو دار الأمر بينهما إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما، فأيهما
أرجح في الحمل؟ فنقول: الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص.
219

والوجه فيه: أن أصالة العموم بما هي لا تثبت أكثر من أن ما يظهر من
العام هو المراد الجدي للمتكلم، ولا شك أن الحكم الصوري الذي نسميه
ب‍ " الحكم الظاهري " كالواقع مراد جدي للمتكلم، لأ أنه مقصود بالتفهيم،
فالعام ليس ظاهرا إلا في أن المراد الجدي هو العموم سواء كان العموم
حكما واقعيا أو صوريا. أما أن الحكم واقعي فلا يقتضيه الظهور أبدا حتى
يثبت بأصالة العموم، لا سيما أن المعلوم من طريقة صاحب الشريعة هو
بيان العمومات مجردة عن قرائن التخصيص ويكشف المراد الواقعي منها
بدليل منفصل، حتى اشتهر القول بأنه " ما من عام إلا وقد خص " كما سبق.
وعليه فلا دليل من أصالة العموم على أن الحكم واقعي حتى نلتجئ
إلى الحمل على النسخ، بل إرادة الحكم الواقعي من العام على ذلك الوجه
يحتاج إلى مؤنة بيان زائدة أكثر من ظهور العموم. ولأجل هذا قلنا: إن
الحمل على التخصيص أقرب إلى الصواب من الحمل على النسخ وإن كان
كل منهما ممكنا.
الصورة الثالثة:
إذا كانا معلومي التأريخ مع تقدم الخاص، فهذه أيضا على صورتين:
1 - أن يرد العام قبل وقت العمل بالخاص، فلا ينبغي الإشكال في
كون الخاص مخصصا.
2 - أن يرد بعد وقت العمل بالخاص، فلا مجال لتوهم وجوب الحمل
على النسخ من جهة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأ أنه من باب
تقديم البيان قبل وقت الحاجة ولا قبح فيه أصلا. ومع ذلك قيل بلزوم
الحمل على النسخ (1). ولعل نظر هذا القائل إلى أن أصالة العموم جارية،

(1) نسبه في معارج الأصول ص 98 إلى الشيخ، وفي معالم الدين ص 143 إلى ظاهر كلام
علم الهدى، وصرح به ابن زهرة في الغنية: ج 2 ص 325 - 326.
220

ولا مانع منها إلا احتمال أن يكون الخاص المتقدم مخصصا وقرينة على
العام، ولكن أيضا يحتمل أن يكون منسوخا بالعام، فلا يحرز أنه من باب
القرينة. ولا شك أن الخاص المنفصل إنما يقدم على العام لأ أنه أقوى
الحجتين وقرينة عليه، ومع هذا الاحتمال لا يكون الخاص المنفصل أقوى
في الظهور من العام.
قلت: الأصوب أن يحمل على التخصيص كالصورة السابقة، لما تقدم:
من أن العام لا يدل على أكثر من أن المراد جدي، ولا يدل في نفسه على
أن الحكم واقعي تابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية،
وإنما يكون العام ناسخا للخاص إذا كانت دلالته على هذا النحو، وإلا
فالعمومات الواردة في الشريعة على الأغلب ليست كذلك. وأما احتمال
النسخ فلا يقلل من ظهور الخاص في نفسه قطعا، كما لا يرفع حجيته فيما
هو ظاهر فيه، فلا يخرجه عن كونه صالحا لتخصيص العام، فيقدم عليه،
لأ أنه أقوى في نفسه ظهورا.
بل يمكن أن يقال: إن العام اللاحق للخاص لا ينعقد له ظهور في
العموم إلا بدويا بالنسبة إلى من لا يعلم بسبق الخاص، لجواز أن يعتمد
المتكلم في بيان مراده على سبقه، فيكون المخصص السابق كالمخصص
المتصل أو كالقرينة الحالية، فلا يكون العام ظاهرا في العموم حتى يتوهم
أنه ظاهر في ثبوت الحكم الواقعي.
الصورتان: الرابعة والخامسة
إذا كانا مجهولي التأريخ أو أحدهما فقط كان مجهولا، فإنه يعلم
الحال فيهما مما تقدم، فيحمل على التخصيص بلا كلام. ولا وجه لتوهم
النسخ، لا سيما بعد أن رجحنا التخصيص في جميع الصور. وهذا واضح
لا يحتاج إلى مزيد بيان. * * *
221

الباب السادس:
المطلق والمقيد
وفيه ست مسائل:
223

المسألة الأولى
معنى المطلق والمقيد
عرفوا المطلق بأنه " ما دل على معنى شائع في جنسه " ويقابله المقيد.
وهذا التعريف قديم بحثوا عنه كثيرا وأحصوا عليه عدة مؤاخذات يطول
شرحها. ولا فائدة في ذكرها ما دام أن الغرض من مثل هذا التعريف هو
تقريب المعنى الذي وضع له اللفظ، لأ أنه من التعاريف اللفظية.
والظاهر أنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في لفظي " المطلق "
و " المقيد " بل هما مستعملان بما لهما من المعنى في اللغة، فإن المطلق
مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والشيوع، ويقابله التقييد تقابل الملكة
وعدمها، والملكة: التقييد، والإطلاق: عدمها. وقد تقدم (ص 117).
غاية الأمر: أن إرسال كل شئ بحسبه وما يليق به. فإذا نسب
الإطلاق والتقييد إلى اللفظ - كما هو المقصود في المقام - فإنما يراد ذلك
بحسب ما له من دلالة على المعنى، فيكونان وصفين للفظ باعتبار المعنى.
ومن موارد استعمال لفظ " المطلق " نستطيع أن نأخذ صورة تقريبية
لمعناه، فمثلا عندما نعرف أن العلم الشخصي والمعرف بلام العهد لا
يسميان مطلقين باعتبار معناهما - لأ أنه لا شيوع ولا إرسال في شخص
معين - لا ينبغي أن نظن أنه لا يجوز أن يسمى العلم الشخصي مطلقا، فإنه
224

إذا قال الآمر: " أكرم محمدا " وعرفنا أن لمحمد أحوالا مختلفة ولم يقيد
الحكم بحال من الأحوال نستطيع أن نعرف أن لفظ " محمد " هنا أو هذا
الكلام بمجموعه يصح أن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال وإن لم يكن له
شيوع باعتبار معناه الموضوع له. إذا للأعلام الشخصية والمعرف بلام
العهد إطلاق، فلا يختص المطلق ب‍ " ما له معنى شايع في جنسه " كاسم
الجنس ونحوه.
وكذلك عندما نعرف أن العام لا يسمى مطلقا، فلا ينبغي أن نظن أنه لا
يجوز أن يسمى مطلقا أبدا، لأ نا نعرف أن ذلك إنما هو بالنسبة إلى أفراده،
أما بالنسبة إلى أحوال أفراده غير المفردة، فإنه لا مضايقة في أن نسميه
مطلقا. إذا لا مانع من شمول تعريف المطلق - المتقدم - وهو " ما دل على
معنى شايع في جنسه " للعام باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده.
وعلى هذا، فمعنى المطلق: هو " شيوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من
المعنى وأحواله " ولكن لاعلى أن يكون ذلك الشيوع مستعملا فيه اللفظ
كالشيوع المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي وإلا كان الكلام عاما
لا مطلقا.
المسألة الثانية
الإطلاق والتقييد متلازمان
أشرنا إلى أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من باب تقابل الملكة
وعدمها، لأن الإطلاق هو عدم التقييد فيما من شأنه أن يقيد. فيتبع
الإطلاق التقييد في الإمكان، أي أنه إذا أمكن التقييد في الكلام وفي لسان
الدليل أمكن الإطلاق ولو امتنع استحال الإطلاق. بمعنى أنه لا يمكن
فرض استكشاف الإطلاق وإرادته من كلام المتكلم في مورد لا يصح
التقييد. بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقا ولا مقيدا، وإن كان في الواقع
225

أن المتكلم لابد أن يريد أحدهما. وقد تقدم مثاله في بحث التوصلي
والتعبدي (ص 121) إذ قلنا: إن امتناع تقييد الأمر بقصد الامتثال يستلزم
امتناع إطلاقه بالنسبة إلى هذا القيد. وذكرنا هناك كيف يمكن استكشاف
إرادة الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الكلام الواحد.
المسألة الثالثة
الإطلاق في الجمل
الإطلاق لا يختص بالمفردات - كما يظهر من كلمات الأصوليين - إذ
مثلوا للمطلق باسم الجنس وعلم الجنس والنكرة، بل يكون في الجمل
أيضا كإطلاق صيغة " افعل " الذي يقتضي استفادة الوجوب العيني
والتعييني والنفسي، فإن الإطلاق فيها إنما هو من نوع إطلاق الجملة.
ومثله إطلاق الجملة الشرطية في استفادة الانحصار في الشرط.
ولكن محل البحث في المسائل الآتية خصوص الألفاظ المفردة.
ولعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار أن ليس هناك ضابط كلي
لمطلقاتها، وإن كان الأصح أن بحث مقدمات الحكمة يشملها. وقد بحث
عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها، كإطلاق صيغة " افعل " والجملة
الشرطية ونحوها.
المسألة الرابعة
هل الإطلاق بالوضع؟
لاشك في أن الإطلاق في الأعلام بالنسبة إلى الأحوال - كما تقدمت
الإشارة إليه (1) - ليس بالوضع، بل إنما يستفاد من مقدمات الحكمة.

(1) تقدمت في ص 225.
226

وكذلك إطلاق الجمل وما شابهها - أيضا - ليس بالوضع بل بمقدمات
الحكمة. وهذا لا خلاف فيه.
وإنما الذي وقع فيه البحث هو أن الإطلاق في أسماء الأجناس
وما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحكمة؟ أي أن أسماء الأجناس
هل هي موضوعة لمعانيها بما هي شايعة ومرسلة على وجه يكون
الإرسال - أي الإطلاق - مأخوذا في المعنى الموضوع له اللفظ - كما
نسب إلى المشهور من القدماء (1) قبل سلطان العلماء - أو أنها موضوعة
لنفس المعاني بما هي والإطلاق يستفاد من دال آخر، وهو نفس تجرد
اللفظ من القيد إذا كانت مقدمات الحكمة متوفرة فيه؟ وهذا القول الثاني
أول من صرح به فيما نعلم سلطان العلماء في حاشيته على معالم
الأصول (2) وتبعه جميع من تأخر عنه إلى يومنا هذا.
وعلى القول الأول يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا، وعلى
القول الثاني يكون حقيقة.
والحق ما ذهب إليه سلطان العلماء، بل قيل: إن نسبة القول الأول إلى
المشهور مشكوك فيها (3). ولتوضيح هذا القول وتحقيقه ينبغي بيان أمور
ثلاثة تنفع في هذا الباب وفي غير هذا الباب (4) وبها تكشف للطالب ما وقع

(1) لم نظفر بمن نسبه إليهم صريحا، والنسبة مشكوك فيها، كما يأتي.
(2) لم نجد التصريح به في كلامه، راجع الحاشية: ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: " فلأنه
جمع بين الدليلين... ".
(3) قاله المحقق الخراساني بلفظ " إلا أن الكلام في صدق النسبة " راجع كفاية الأصول: ص
286.
(4) وقد اضطررنا إلى الخروج عن الطريقة التي رسمناها لأنفسنا في هذا الكتاب في الاختصار.
ونعتقد أن الطالب المبتدئ الذي ينتهي إلى هنا يكون على استعداد كاف لفهم هذه الأبحاث.
واضطرارنا لهذا البحث باعتبار ما له من حاجة ماسة في فهم الطالب لكثير من الأبحاث التي
قد ترد عليه فيما يأتي.
227

للعلماء الأعلام من اختلاف في التعبير بل في الرأي والنظر. وهذه الأمور
التي ينبغي بيانها هي كما يلي:
1 - اعتبارات الماهية:
المشهور أن للماهية ثلاثة اعتبارات إذا قيست إلى ما هو خارج عن
ذاتها، كما إذا قيست الرقبة إلى الإيمان عند الحكم عليها بحكم ما
كوجوب العتق، وهي:
1 - أن تعتبر الماهية مشروطة بذلك الأمر الخارج. وتسمى حينئذ
" الماهية بشرط شئ " كما إذا كان يجب عتق الرقبة المؤمنة، أي بشرط
كونها مؤمنة.
2 - أن تعتبر مشروطة بعدمه. وتسمى " الماهية بشرط لا " (1) كما إذا
كان القصر واجبا في الصلاة على المسافر غير العاصي في سفره، أي
بشرط عدم كونه عاصيا لله في سفره، فاخذ " عدم العصيان " قيدا في
موضوع الحكم.
3 - ألا تعتبر مشروطة بوجوده ولا بعدمه. وتسمى " الماهية لا
بشرط " كوجوب الصلاة على الإنسان باعتبار كونه حرا مثلا، فإن الحرية
غير معتبرة لا بوجودها ولا بعدمها في وجوب الصلاة، لأن الإنسان بالنظر
إلى الحرية في وجوب الصلاة عليه غير مشروط بالحرية ولا بعدمها، فهو
لا بشرط بالقياس إليها.
ويسمى هذا الاعتبار الثالث " اللابشرط القسمي " في قبال " اللابشرط
المقسمي " الآتي ذكره. وإنما سمي " قسميا " لأ أنه قسم في مقابل القسمين
الأوليين، أي " البشرط شئ " و " البشرط لا ". وهذا ظاهر لا بحث فيه.

وقد تقال: " الماهية بشرط لا شئ " ويقصدون بذلك الماهية المجردة على وجه يكون كل
ما يقارنها يعتبر زائدا عليها.
228

ثم إن لهم اصطلاحين آخرين معروفين:
1 - قولهم: " الماهية المهملة ".
2 - قولهم: " الماهية لا بشرط مقسمي ".
أفهذان اصطلاحان وتعبيران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان
مختلفان في المعنى؟
والذي يلجئنا إلى هذا الاستفسار ما وقع من الارتباك في التعبير عند
كثير من مشايخنا الأعلام، فقد يظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنى
واحد، كما هو ظاهر " كفاية الأصول " (1) تبعا لبعض الفلاسفة الأجلاء (2).
ولكن التحقيق لا يساعد على ذلك، بل هما اصطلاحان مختلفان.
وهذا جوابنا على الاستفسار.
وتوضيح ذلك: أنه من المتسالم عليه الذي لا اختلاف فيه ولا اشتباه
أمران:
الأول: أن المقصود من " الماهية المهملة ": الماهية من حيث هي، أي
نفس الماهية بما هي مع قطع النظر عن جميع ما عداها، فيقتصر النظر على
ذاتها وذاتياتها.
الثاني: أن المقصود من الماهية " لا بشرط مقسمي ": الماهية المأخوذة
لا بشرط التي تكون مقسما للاعتبارات الثلاثة المتقدمة، وهي - أي
الاعتبارات الثلاثة - الماهية بشرط شئ، وبشرط لا، ولا بشرط قسمي.
ومن هنا سمي " مقسما ".
وإذا ظهر ذلك، فلا يصح أن يدعى أن الماهية بما هي تكون بنفسها
مقسما للاعتبارات الثلاثة، وذلك لأن الماهية لا تخلو من حالتين: وهما

(1) راجع كفاية الأصول: ص 282 - 283.
(2) المراد به الفيلسوف المتأله المحقق السبزواري، راجع شرح منظومته: ص 21 - 22.
229

أن ينظر إليها بما هي هي غير مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، وأن ينظر
إليها مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، ولا ثالث لهما.
وفي الحالة الأولى تسمى " الماهية المهملة " كما هو مسلم. وفي
الثانية لا يخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة. وعلى هذا فالملاحظة
الأولى مباينة لجميع الاعتبارات الثلاثة وتكون قسيمة لها، فكيف يصح أن
تكون مقسما لها ولا يصح أن يكون الشئ مقسما لاعتبارات نقيضه، لأن
الماهية من حيث هي - كما اتضح - معناها ملاحظتها غير مقيسة إلى الغير
والاعتبارات الثلاثة ملاحظتها مقيسة إلى الغير.
على أن اعتبار الماهية غير مقيسة اعتبار ذهني له وجود مستقل في
الذهن، فكيف يكون مقسما لوجودات ذهنية أخرى مستقلة، والمقسم
يجب أن يكون موجودا بوجود أحد أقسامه، ولا يعقل أن يكون له وجود
في مقابل وجودات الأقسام، وإلا كان قسيما لها لا مقسما.
وعليه، فنحن نسلم أن الماهية المهملة معناها اعتبارها " لا بشرط "
ولكن ليس هو المصطلح عليه ب‍ " اللابشرط المقسمي " فإن لهم في " لا
بشرط " - على هذا - ثلاثة اصطلاحات:
1 - لا بشرط أي شئ خارج عن الماهية وذاتياتها، وهي الماهية بما
هي هي التي يقصر فيها النظر على ذاتها وذاتياتها، وهي الماهية المهملة.
2 - لا بشرط مقسمي، وهو الماهية التي تكون مقسما للاعتبارات
الثلاثة، أي الماهية المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. والمقصود
بلا بشرط هنا لا بشرط شئ من الاعتبارات الثلاثة، أي لا بشرط اعتبار
" البشرط شئ " واعتبار " البشرط لا " واعتبار " اللابشرط " لا أن المراد
بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقا من كل قيد وحيثية. وليس هذا اعتبارا
ذهنيا في قبال هذه الاعتبارات، بل ليس له وجود في عالم الذهن
230

إلا بوجود واحد من هذه الاعتبارات ولا تعين له مستقل غير تعيناتها،
وإلا لما كان مقسما.
3 - لا بشرط قسمي، وهو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهية
المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها.
فاتضح أن " الماهية المهملة " شئ، و " اللابشرط المقسمي " شئ
آخر. كما اتضح أيضا أن الثاني لا معنى لأن يجعل من اعتبارات الماهية
على وجه يثبت حكم للماهية باعتباره، أو يوضع له لفظ بحسبه.
2 - اعتبار الماهية عند الحكم عليها:
واعلم أن الماهية إذا حكم عليها، فإما أن يحكم عليها بذاتياتها،
وإما أن يحكم عليها بأمر خارج عنها. ولا ثالث لهما.
وعلى الأول: فهو على صورتين:
1 - أن يكون الحكم بالحمل الأولي، وذلك في الحدود التامة خاصة.
2 - أن يكون بالحمل الشايع، وذلك عند الحكم عليها ببعض ذاتياتها،
كالجنس وحده أو الفصل وحده. وعلى كلتا الصورتين فإن النظر إلى
الماهية مقصور على ذاتياتها غير متجاوز فيه إلى ما هو خارج عنها. وهذا
لا كلام فيه.
وعلى الثاني: فإنه لابد من ملاحظتها مقيسة إلى ما هو خارج عنها،
فتخرج بذلك عن مقام ذاتها وحدها من حيث هي، أي عن تقررها الذاتي
الذي لا ينظر فيه إلا إلى ذاتها وذاتياتها. وهذا واضح، لأن قطع النظر عن
كل ما عداها لا يجتمع مع الحكم عليها بأمر خارج عن ذاتها، لأ نهما
متناقضان.
وعليه، لو حكم عليها بأمر خارج عنها وقد لوحظت مقيسة إلى هذا
الغير، فلابد أن تكون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة، إذ يستحيل
231

أن يخلو الواقع من أحدها - كما تقدم -. ولا معنى لاعتبارها باللابشرط
المقسمي، لما تقدم أنه ليس هو تعينا مستقلا في قبال تلك التعينات،
بل هو مقسم لها.
ثم إن هذا الغير - أي الأمر الخارج عن ذاتها - الذي لوحظت الماهية
مقيسة إليه لا يخلو: إما أن يكون نفس المحمول أو شيئا آخر، فإن كان
هو المحمول فيتعين أن تؤخذ الماهية بالقياس إليه لا بشرط قسمي، لعدم
صحة الاعتبارين الآخرين:
أما أخذها بشرط شئ - أي بشرط المحمول - فلا يصح ذلك دائما،
لأ أنه يلزم أن تكون القضية ضرورية دائما لاستحالة انفكاك المحمول عن
الموضوع بشرط المحمول. على أن أخذ المحمول في الموضوع يلزم منه
حمل الشئ على نفسه وتقدمه على نفسه، وهو مستحيل، إلا إذا كان
هناك تغاير بحسب الاعتبار، كحمل " الحيوان الناطق " على " الإنسان "
فإنهما متغايران باعتبار الإجمال والتفصيل.
وأما أخذها بشرط لا - أي بشرط عدم المحمول - فلا يصح، لأ أنه
يلزم التناقض، فإن الإنسان بشرط عدم الكتابة يستحيل حمل الكتابة
عليه.
وإن كان هذا الغير الخارج هو غير المحمول، فيجوز أن تكون الماهية
حينئذ مأخوذة بالقياس إليه بشرط شئ كجواز تقليد المجتهد بشرط
العدالة، أو بشرط لا كوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بشرط عدم وجود
الإمام، أو لا بشرط كجواز السلام على المؤمن مطلقا بالقياس إلى العدالة
مثلا، أي لا بشرط وجودها ولا بشرط عدمها. كما يجوز أن تكون مهملة
غير مقيسة إلى شئ غير محمولها.
ولكن قد يستشكل في كل ذلك بأن هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات
232

ذهنية، لا موطن لها إلا الذهن، فلو تقيدت الماهية بأحدها عندما تؤخذ
موضوعا للحكم، للزم أن تكون جميع القضايا ذهنية عدا حمل الذاتيات
التي قد اعتبرت فيها الماهية من حيث هي، ولبطلت القضايا الخارجية
والحقيقية، مع أنها عمدة القضايا، بل لاستحال في التكاليف الامتثال، لأن
ما هو موطنه الذهن يمتنع إيجاده في الخارج.
وهذا الإشكال وجيه لو كان الحكم على الموضوع بما هو معتبر بأحد
الاعتبارات الثلاثة على وجه يكون الاعتبار قيدا في الموضوع أو نفسه
هو الموضوع. ولكن ليس الأمر كذلك، فإن الموضوع في كل تلك القضايا
هو ذات الماهية المعتبرة ولكن لا بقيد الاعتبار، بمعنى أن الموضوع في
" بشرط شئ " الماهية المقترنة بذلك الشئ، لا المقترنة بلحاظه واعتباره،
وفي " بشرط لا " الماهية المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه، وفي " لا بشرط "
الماهية غير الملاحظ معها الشئ ولا عدمه، لا الملاحظة بعدم لحاظ
الشئ وعدمه، وإلا لكانت الماهية معتبرة في الجميع بشرط شئ فقط،
أي بشرط اللحاظ والاعتبار.
نعم، هذه الاعتبارات هي المصححة لموضوعية الموضوع على الوجه
اللازم الذي يقتضيه واقع الحكم، لا أنها مأخوذة قيدا فيه حتى تكون
جميع القضايا ذهنية. ولو كان الأمر كذلك لكان الحكم بالذاتيات أيضا
قضية ذهنية، لأن اعتبار الماهية من حيث هي أيضا اعتبار ذهني.
ومما يقرب ما قلناه: من كون الاعتبار مصححا لموضوعية الموضوع
لا مأخوذا فيه مع أنه لابد منه عند الحكم بشئ، أن كل موضوع
ومحمول لابد من تصوره في مقام الحمل والا لاستحال الحمل، ولكن
هذه اللابدية لا تجعل التصور قيدا للموضوع أو المحمول، وإنما التصور
هو المصحح للحمل وبدونه لا يمكن الحمل.
233

وكذلك عند استعمال اللفظ في معناه لابد من تصور اللفظ والمعنى.
ولكن التصور ليس قيدا للفظ، ولا للمعنى، فليس اللفظ دالا بما هو
متصور في الذهن وإن كانت دلالته في ظرف التصور، ولا المعنى مدلولا
بما هو متصور وإن كانت مدلوليته في ظرف تصوره. ويستحيل أن يكون
التصور قيدا للفظ أو المعنى، ومع ذلك لا يصح الاستعمال بدونه، فالتصور
مقوم للاستعمال لا للمستعمل فيه ولا للفظ. وكذلك هو مقوم للحمل
ومصحح له، لا للمحمول، ولا للمحمول عليه.
وعلى هذا يتضح ما نحن بصدد بيانه، وهو أنه إذا أردنا أن نضع اللفظ
للمعنى لا يعقل أن نقصر اللحاظ على ذات المعنى بما هو هو مع قطع
النظر عن كل ما عداه، لأن الوضع من المحمولات الواردة عليه، فلابد أن
يلاحظ المعنى حينئذ مقيسا إلى ما هو خارج عن ذاته، فقد يؤخذ " بشرط
شئ " وقد يؤخذ " بشرط لا " وقد يؤخذ " لا بشرط ". ولا يلزم أن يكون
الموضوع له هو المعنى بما له من الاعتبار الذهني، بل الموضوع له نفس
المعتبر وذاته لا بما هو معتبر، والاعتبار مصحح للوضع.
3 - الأقوال في المسألة:
قلنا فيما سبق: إن المعروف عن قدماء الأصحاب أنهم يقولون بأن
أسماء الأجناس موضوعة للمعاني المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيدا
للموضوع له، فلذلك ذهبوا إلى أن استعماله في المقيد مجاز، وقد صور
هذا القول على نحوين:
الأول: أن الموضوع له المعنى بشرط الإطلاق على وجه يكون
اعتباره من باب اعتباره بشرط شئ.
الثاني: أن الموضوع له المعنى المطلق، أي المعتبر لا بشرط.
وقد اورد على هذا القول بتصويريه - كما تقدم - بأنه يلزم على
234

كلا التصويرين أن يكون الموضوع له موجودا ذهنيا، فتكون جميع
القضايا ذهنية، فلو جعل اللفظ بما له من معناه موضوعا في القضية
الخارجية أو الحقيقية وجب تجريده عن هذا القيد الذهني، فيكون مجازا
دائما في القضايا المتعارفة. وهذا يكذبه الواقع.
ولكن نحن قلنا: إن هذا الإيراد إنما يتوجه إذا جعل الاعتبار قيدا في
الموضوع له. أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا يلزم هذا الإيراد
كما سبق.
هذا قول القدماء، وأما المتأخرون ابتداءا من سلطان العلماء (رحمه الله) فإنهم
جميعا اتفقوا على أن الموضوع له ذات المعنى - لا المعنى المطلق - حتى
لا يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا. وهذا القول بهذا المقدار من
البيان واضح.
ولكن العلماء من أساتذتنا اختلفوا في تأدية هذا المعنى بالعبارات
الفنية مما أوجب الارتباك على الباحث وإغلاق طريق البحث في
المسألة. لذلك التجأنا إلى تقديم المقدمتين السابقتين لتوضيح هذه
الاصطلاحات والتعبيرات الفنية التي وقعت في عباراتهم. واختلفوا فيها
على أقوال:
1 - منهم من قال: إن الموضوع له هو الماهية المهملة المبهمة، أي
الماهية من حيث هي (1).
2 - ومنه من قال: إن الموضوع له الماهية المعتبرة باللابشرط
المقسمي (2).

(1) لم نظفر به في كلام من تقدم على المؤلف (قدس سره)، لكن قال به السيد الخوئي (قدس سره) على ما في
المحاضرات: ج 5 ص 345.
(2) قاله سلطان العلماء على ما نسب إليه صريحا في فوائد الأصول: ج 2 ص 572، لكنا لم نجد
التصريح به في حاشيته، راجع ص 48 ذيل قول صاحب المعالم: " فلأنه جمع بين الدليلين... ".
235

3 - ومنه من جعل التعبير الأول نفس التعبير الثاني (1).
4 - ومنهم من قال: إن الموضوع له ذات المعنى لا الماهية المهملة ولا
الماهية المعتبرة باللابشرط المقسمي، ولكنه ملاحظ حين الوضع باعتبار
اللابشرط القسمي، على أن يكون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قيدا
للموضوع له (2). وعليه يكون هذا القول نفس قول القدماء على التصوير
الثاني، إلا أنه لا يلزم منه أن يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا.
ولكن المنسوب إلى القدماء أنهم يقولون: بأنه مجاز في المقيد، فينحصر
قولهم في التصوير الأول على تقدير صحة النسبة إليهم.
ويتضح حال هذه التعبيرات أو الأقوال من المقدمتين السابقتين، فإنه
يعرف منهما:
أولا: أن " الماهية بما هي هي " غير الماهية باعتبار اللابشرط
المقسمي، لأن النظر فيها على الأول مقصور على ذاتها وذاتياتها. بخلافه
على الثاني، إذ تلاحظ مقيسة إلى الغير. وبهذا يظهر بطلان القول الثالث.
ثانيا: أن الوضع حكم من الأحكام، وهو محمول على الماهية خارج
عن ذاتها وذاتياتها، فلا يعقل أن يلاحظ الموضوع له بنحو الماهية بما هي
هي، لأ أنه لا تجتمع ملاحظتها مقيسة إلى الغير، وملاحظتها مقصورة على
ذاتها وذاتياتها. وبهذا يظهر بطلان القول الأول.
ثالثا: أن " اللابشرط المقسمي " ليس اعتبارا مستقلا في قبال الاعتبارات
الثلاثة، لأن المفروض أنه مقسم لها، ولا تحقق للمقسم إلا بتحقق أحد
أنواعه كما تقدم، فكيف يتصور أن يحكم باعتبار اللابشرط المقسمي؟ بل
لا معنى لهذا على ما تقدم توضيحه. وبهذا يظهر بطلان القول الثاني.

(1) صرح به في فوائد الأصول: ج 2 ص 572.
(2) لم نعثر على قائله بالقيد المذكور.
236

فتعين القول الرابع، وهو أن الموضوع له ذات المعنى، ولكنه حين
الوضع يلاحظ المعنى بنحو اللابشرط القسمي. وهو يطابق القول
المنسوب إلى القدماء على التصوير الثاني كما أشرنا إليه، فلا اختلاف.
ويقع التصالح بين القدماء والمتأخرين إذا لم يثبت عن القدماء أنهم
يقولون أنه مجاز في المقيد، وهو مشكوك فيه.
بيان هذا القول الرابع: أن ذات المعنى لما أراد الواضع أن يحكم عليه
بوضع لفظ له، فمعناه: أنه قد لاحظة مقيسا إلى الغير، فهو في هذا الحال لا
يخرج عن كونه معتبرا بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهية. وإذ يراد تسرية
الوضع لذات المعنى بجميع أطواره وحالاته وقيوده لابد أن يعتبر على
نحو اللابشرط القسمي. ولا منافاة بين كون الموضوع له ذات المعنى وبين
كون ذات المعنى ملحوظا في مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمي، لأن
هذا اللحاظ والاعتبار الذهني - كما تقدم - صرف طريق إلى الحكم على
ذات المعنى، وهو المصحح للموضوع له. وحين الاستعمال في ذات
المعنى لا يجب أن يكون المعنى ملحوظا بنحو اللابشرط القسمي، بل
يجوز أن يعتبر بأي اعتبار كان ما دام الموضوع له ذات المعنى، فيجوز في
مرحلة الاستعمال أن يقصر النظر على نفسه ويلحظه بما هو هو، ويجوز
أن يلحظه مقيسا إلى الغير فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة. وملاحظة ذات
المعنى بنحو اللابشرط القسمي حين الوضع تصحيحا له لا توجب أن
تكون قيدا للموضوع له.
وعليه، فلا يكون الموضوع له موجودا ذهنيا إذا كان له اعتبار
اللابشرط القسمي حين الوضع، لأ أنه ليس الموضوع له هو المعتبر بما هو
معتبر، بل ذات المعتبر. كما أن استعماله في المقيد لا يكون مجازا لما
تقدم أنه يجوز أن يلحظ ذات المعنى حين الاستعمال مقيسا إلى الغير،
فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة التي منها اعتباره بشرط شئ، وهو المقيد.
237

المسألة الخامسة
مقدمات الحكمة
لما ثبت أن الألفاظ موضوعة لذات المعاني، لا للمعاني بما هي
مطلقة، فلابد في إثبات أن المقصود من اللفظ هو المطلق لتسرية الحكم
إلى تمام الأفراد والمصاديق من قرينة خاصة، أو قرينة عامة تجعل الكلام
في نفسه ظاهرا في إرادة الاطلاق.
وهذه القرينة العامة إنما تحصل إذا توفرت جملة مقدمات تسمى
" مقدمات الحكمة " والمعروف أنها ثلاث:
الأولى: إمكان الإطلاق والتقييد، بأن يكون متعلق الحكم أو
موضوعه قبل فرض تعلق الحكم به قابلا للانقسام، فلو لم يكن قابلا
للقسمة إلا بعد فرض تعلق الحكم به، كما في باب قصد القربة، فإنه
يستحيل فيه التقييد فيستحيل فيه الإطلاق، كما تقدم في بحث التعبدي
والتوصلي (1). وهذا واضح.
الثانية: عدم نصب قرينة على التقييد لا متصلة ولا منفصلة، لأ أنه مع
القرينة المتصلة لا ينعقد ظهور للكلام إلا في المقيد، ومع المنفصلة ينعقد
للكلام ظهور في الإطلاق، ولكنه يسقط عن الحجية، لقيام القرينة المقدمة
عليه والحاكمة، فيكون ظهوره ظهورا بدويا، كما قلنا في تخصيص العموم
بالخاص المنفصل، ولا تكون للمطلق الدلالة التصديقية الكاشفة عن مراد
المتكلم، بل الدلالة التصديقية إنما هي على إرادة التقييد واقعا.
الثالثة: أن يكون المتكلم في مقام البيان، فإنه لو لم يكن في هذا
المقام بأن كان في مقام التشريع فقط أو كان في مقام الإهمال إما رأسا
أو لأ أنه في صدد بيان حكم آخر، فيكون في مقام الإهمال من جهة مورد

(1) راجع ص 117.
238

الإطلاق - وسيأتي مثاله - فإنه في كل ذلك لا ينعقد للكلام ظهور في
الإطلاق.
أما في مقام التشريع - بأن كان في مقام بيان الحكم لا للعمل به فعلا
بل لمجرد تشريعه - فيجوز ألا يبين تمام مراده، مع أن الحكم في الواقع
مقيد بقيد لم يذكره في بيانه انتظارا لمجئ وقت العمل، فلا يحرز أن
المتكلم في صدد بيان جميع مراده.
وكذلك إذا كان المتكلم في مقام الإهمال رأسا، فإنه لا ينعقد معه
ظهور في الإطلاق، كما لا ينعقد للكلام ظهور في أي مرام.
ومثله ما إذا كان في صدد حكم آخر، مثل قوله تعالى: * (فكلوا مما
أمسكن) * (1) الوارد في مقام بيان حل صيد الكلاب المعلمة من جهة كونه
ميتة، وليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك أنها تتنجس فيجب
تطهيرها أم لا، فلم يكن هو في مقام بيان هذه الجهة، فلا ينعقد للكلام
ظهور في الإطلاق من هذه الجهة.
ولو شك في أن المتكلم في مقام البيان أو الإهمال، فإن الأصل
العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، فإن العقلاء كما يحملون
المتكلم على أنه ملتفت غير غافل وجاد غير هازل عند الشك في ذلك،
كذلك يحملونه على أنه في مقام البيان والتفهيم، لا في مقام الإهمال
والإيهام.
وإذا تمت هذه المقدمات الثلاث، فإن الكلام المجرد عن القيد يكون
ظاهرا في الإطلاق وكاشفا عن أن المتكلم لا يريد المقيد، وإلا لو كان قد
أراده واقعا لكان عليه البيان، والمفروض: أنه حكيم ملتفت جاد غير
هازل وهو في مقام البيان، ولا مانع من التقييد حسب الفرض، وإذا لم يبين

(1) المائدة: 4.
239

ولم يقيد كلامه فيعلم أنه أراد الإطلاق وإلا لكان مخلا بغرضه.
فاتضح من ذلك أن كل كلام صالح للتقييد ولم يقيده المتكلم مع كونه
حكيما ملتفتا جادا وفي مقام البيان والتفهيم، فإنه يكون ظاهرا في
الإطلاق ويكون حجة على المتكلم والسامع.
تنبيهان:
القدر المتيقن في مقام التخاطب:
الأول: إن الشيخ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أضاف إلى مقدمات
الحكمة مقدمة أخرى غير ما تقدم، وهي ألا يكون هناك قدر متيقن في
مقام التخاطب والمحاورة، وإن كان لا يضر وجود القدر المتيقن خارجا
في التمسك بالإطلاق (1). ومرجع ذلك إلى أن وجود القدر المتيقن في مقام
المحاورة يكون بمنزلة القرينة اللفظية على التقييد، فلا ينعقد للفظ ظهور
في الإطلاق مع فرض وجوده.
ولتوضيح البحث نقول: إن كون المتكلم في مقام البيان يتصور على
نحوين:
1 - أن يكون المتكلم في صدد بيان تمام موضوع حكمه، بأن يكون
غرض المتكلم يتوقف على أن يبين للمخاطب ويفهمه ما هو تمام
الموضوع وأن ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
2 - أن يكون المتكلم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعا. ولو
لم يفهم المخاطب أنه تمام الموضوع، فليس له غرض إلا بيان ذات
موضوع الحكم بتمامه حتى يحصل من المكلف الامتثال وإن لم يفهم
المكلف تفصيل الموضوع بحدوده.

(1) كفاية الأصول: 287.
240

فإن كان المتكلم في مقام البيان على النحو الأول، فلاشك في أن
وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة لا يضر في ظهور المطلق في
إطلاقه، فيجوز التمسك بالإطلاق، لأ أنه لو كان القدر المتيقن المفروض هو
تمام الموضوع لوجب بيانه، وترك البيان اتكالا على وجود القدر المتيقن
إخلال بالغرض، لأ أنه لا يكون مجرد ذلك بيانا لكونه تمام الموضوع.
وإن كان المتكلم في مقام البيان على النحو الثاني، فإنه يجوز أن
يكتفي بوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعا
ما دام أنه ليس له غرض إلا أن يفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا
بوصف التمام، أي أن يفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع. وبذلك
يحصل التبليغ للمكلف ويمتثل في الموضوع الواقعي، لأ أنه هو المفهوم
عنده في مقام المحاورة. ولا يجب في مقام الامتثال أن يفهم أن الذي فعله
هو تمام الموضوع أو الموضوع أعم منه ومن غيره.
مثلا، لو قال المولى: " اشتر اللحم " وكان القدر المتيقن في مقام
المحاورة هو لحم الغنم وكان هو تمام موضوعه واقعا، فإن وجود هذا
القدر المتيقن كاف لانبعاث المكلف وشرائه للحم الغنم، فيحصل موضوع
حكم المولى. فلو أن المولى ليس له غرض أكثر من تحقيق موضوع
حكمه، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقن لتحقيق غرضه ولبيانه،
ولا يحتاج إلى أن يبين أنه تمام الموضوع.
أما لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان غرضه أن يفهم المكلف
تحديد الموضوع بتمامه، فلا يجوز له الاعتماد على القدر المتيقن، وإلا
لكان مخلا بغرضه، فإذا لم يبين وأطلق الكلام، استكشف أن تمام
موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقن وغيره.
إذا عرف هذا التقرير، فينبغي أن نبحث عما ينبغي للآمر أن يكون
بصدد بيانه، هل أنه على النحو الأول أو الثاني؟
241

والذي يظهر من الشيخ صاحب الكفاية: أنه لا ينبغي من الآمر أكثر
من النحو الثاني، نظرا إلى أنه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة
كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه وهو الامتثال، ولا يجب عليه مع ذلك بيان أنه
تمام الموضوع.
نعم، إذا كان هناك قدر متيقن في مقام المحاورة وكان تمام الموضوع
هو المطلق، فقد يظن المكلف أن القدر المتيقن هو تمام الموضوع وأن
المولى أطلق كلامه اعتمادا على وجوده، فإن المولى دفعا لهذا الوهم
يجب عليه أن يبين أن المطلق هو تمام موضوعه، وإلا كان مخلا بغرضه.
ومن هذا ينتج: أنه إذا كان هناك قدر متيقن في مقام المحاورة وأطلق
المولى ولم يبين أنه تمام الموضوع، فإنه يعرف منه أن موضوعه هو القدر
المتيقن.
هذا خلاصة ما ذهب إليه في الكفاية مع تحقيقه وتوضيحه. ولكن
شيخنا النائيني (رحمه الله) - على ما يظهر من التقريرات - لم يرتضه (1).
والأقرب إلى الصحة ما في الكفاية. ولا نطيل بذكر هذه المناقشة
والجواب عنها.
الانصراف:
التنبيه الثاني: اشتهر أن انصراف الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق
معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسك بالإطلاق، وإن تمت مقدمات
الحكمة، مثل انصراف المسح في آيتي التيمم والوضوء إلى المسح باليد
وبباطنها خاصة.
والحق أن يقال: إن انصراف الذهن إن كان ناشئا من ظهور اللفظ في
المقيد بمعنى أن نفس اللفظ ينصرف منه المقيد لكثرة استعماله فيه وشيوع

(1) فوائد الأصول: ج 2 ص 575.
242

إرادته منه، فلا شك في أنه حينئذ لا مجال للتمسك بالإطلاق، لأن هذا
الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيد بالتقييد اللفظي، ومعه لا ينعقد للكلام
ظهور في الإطلاق حتى يتمسك بأصالة الإطلاق التي هي مرجعها في
الحقيقة إلى أصالة الظهور.
وأما إذا كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ بل كان من سبب
خارجي، كغلبة وجود الفرد المنصرف إليه أو تعارف الممارسة الخارجية
له، فيكون مألوفا قريبا إلى الذهن من دون أن يكون للفظ تأثير في هذا
الانصراف، - كانصراف الذهن من لفظ " الماء " في العراق مثلا إلى ماء
دجلة أو الفرات - فالحق أنه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في
إطلاقه، فلا يمنع من التمسك بأصالة الإطلاق، لأن هذا الانصراف قد
يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيد بخصوصه من اللفظ، ولذا يسمى هذا
الانصراف باسم " الانصراف البدوي " لزواله عند التأمل ومراجعة الذهن.
وهذا كله واضح لا ريب فيه. وإنما الشأن في تشخيص الانصراف أنه
من أي النحوين، فقد يصعب التمييز أحيانا بينهما للاختلاط على الإنسان
في منشأ هذا الانصراف. وما أسهل دعوى الانصراف على لسان غير
المتثبت! وقد لا يسهل إقامة الدليل على أنه من أي نوع.
فعلى الفقيه أن يتثبت في مواضع دعوى الانصراف، وهو يحتاج إلى
ذوق عال وسليقة مستقيمة. وقلما تخلو آية كريمة أو حديث شريف في
مسألة فقهية عن انصرافات تدعى. وهنا تظهر قيمة التضلع باللغة وفقهها
وآدابها. وهو باب يكثر الابتلاء به، وله الأثر الكبير في استنباط الأحكام
من أدلتها.
ألا ترى أن المسح في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد، وكون هذا
الانصراف مستندا إلى اللفظ لا شك فيه، وينصرف أيضا إلى المسح
243

بخصوص باطن اليد. ولكن قد يشك في كون هذا الانصراف مستندا إلى
اللفظ، فإنه غير بعيد أنه ناشئ من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته،
ولأ أنه مقتضى طبع الإنسان في مسحه، وليس له علاقة باللفظ، ولذا أن
جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذر المسح بباطنها
تمسكا بإطلاق الآية، ولا معنى للتمسك بالإطلاق لو كان للفظ ظهور في
المقيد. وأما عدم تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعله
للاحتياط، إذ أن المسح بالباطن هو القدر المتيقن، والمفروض حصول
الشك في كون هذا الانصراف بدويا فلا يطمئن كل الاطمئنان بالتمسك
بالإطلاق عند الاختيار. وطريق النجاة هو الاحتياط بالمسح بالباطن.
المسألة السادسة
المطلق والمقيد المتنافيان
معنى التنافي بين المطلق والمقيد: أن التكليف في المطلق لا يجتمع
والتكليف في المقيد مع فرض المحافظة على ظهورهما معا، أي أنهما
يتكاذبان في ظهورهما، مثل قول الطبيب مثلا: " اشرب لبنا " ثم يقول:
" اشرب لبنا حلوا " وظاهر الثاني تعيين شرب الحلو منه. وظاهر الأول
جواز شرب غير الحلو حسب إطلاقه.
وإنما يتحقق التنافي بين المطلق والمقيد إذا كان التكليف فيهما واحدا
- كالمثال المتقدم - فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلقا على
شئ وفي الآخر معلقا على شئ آخر، كما إذا قال الطبيب في المثال:
" إذا أكلت فاشرب لبنا، وعند الاستيقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا ".
وكذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميا وفي المقيد على
نحو الاستحباب، ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن فإنه لا ينافيه
رجحان الحلو منه باعتباره أحد أفراد الواجب. وكذا لا يتنافيان لو فهم
244

من التكليف في المقيد أنه تكليف في وجود ثان غير المطلوب من
التكليف الأول، كما إذا فهم في المقيد في المثال طلب شرب اللبن الحلو
ثانيا بعد شرب لبن ما.
إذا فهمت ما سقناه لك من معنى التنافي، فنقول: لو ورد في لسان
الشارع مطلق ومقيد متنافيان سواء تقدم أو تأخر، وسواء كان مجئ
المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله، فإنه لابد من الجمع بينهما إما
بالتصرف في ظهور المطلق فيحمل على المقيد، أو بالتصرف في المقيد
على وجه لا ينافي الإطلاق، فيبقى ظهور المطلق على حاله.
وينبغي البحث هنا في أنه أي التصرفين أولى بالأخذ؟ فنقول: هذا
يختلف باختلاف الصور فيهما، فإن المطلق والمقيد إما أن يكونا مختلفين
في الإثبات أو النفي، وإما أن يكونا متفقين.
الأول: أن يكونا مختلفين، فلاشك حينئذ في حمل المطلق على
المقيد، لأن المقيد يكون قرينة على المطلق، فإذا قال: " اشرب اللبن " ثم
قال: " لا تشرب اللبن الحامض " فإنه يفهم منه أن المطلوب هو شرب
اللبن الحلو. وهذا لا يفرق فيه بين أن يكون إطلاق المطلق بدليا، نحو
قوله: " أعتق رقبة " وبين أن يكون شموليا مثل قوله: " في الغنم زكاة "
المقيد بقوله: " ليس في الغنم المعلوفة زكاة ".
الثاني: أن يكونا متفقين، وله مقامان: المقام الأول أن يكون الإطلاق
بدليا، والمقام الثاني أن يكون شموليا.
فإن كان الإطلاق بدليا، فإن الأمر فيه يدور بين التصرف في ظاهر
المطلق بحمله على المقيد، وبين التصرف في ظاهر المقيد. والمعروف أن
التصرف الأول هو الأولى، لأ أنه لو كانا مثبتين مثل قوله: " أعتق رقبة
مؤمنة " فإن المقيد ظاهر في أن الأمر فيه للوجوب التعييني، فالتصرف فيه
245

إما بحمله على الاستحباب - أي أن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها
باعتبار أنها أفضل الأفراد - أو بحمله على الوجوب التخييري، أي أن
الأمر بعتق الرقبة المؤمنة باعتبار أنها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصية
فيها حتى خصوصية الأفضلية.
وهذان التصرفان وإن كانا ممكنين، لكن ظهور المقيد في الوجوب
التعييني مقدم على ظهور المطلق في إطلاقه، لأن المقيد صالح لأن يكون
قرينة للمطلق، ولعل المتكلم اعتمد عليه في بيان مرامه ولو في وقت
آخر، لا سيما مع احتمال أن المطلق الوارد كان محفوفا بقرينة متصلة
غابت عنا، فيكون المقيد كاشفا عنها.
وإن كان الإطلاق شموليا، مثل قوله: " في الغنم زكاة " وقوله: " في الغنم
السائمة زكاة " فلا تتحقق المنافاة بينهما حتى يجب التصرف في أحدهما،
لأن وجوب الزكاة في الغنم السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي
وجوب الزكاة في غير السائمة إلا على القول بدلالة التوصيف على
المفهوم، وقد عرفت أنه لا مفهوم للوصف (1). وعليه، فلا منافاة بين
الجملتين لنرفع اليد بها عن إطلاق المطلق.
* * *

(1) راجع ص 171.
246

الباب السابع:
المجمل والمبين
وفيه مسائل:
247

- 1 -
معنى المجمل والمبين
عرفوا المجمل اصطلاحا ب‍ " أنه مالم تتضح دلالته " ويقابله المبين.
وقد ناقشوا هذا التعريف بوجوه لا طائل في ذكرها.
والمقصود من المجمل على كل حال: ما جهل فيه مراد المتكلم
ومقصوده إذا كان لفظا، وما جهل فيه مراد الفاعل ومقصوده إذا كان فعلا.
ومرجع ذلك إلى أن المجمل هو اللفظ أو الفعل الذي لا ظاهر له. وعليه،
يكون المبين ما كان له ظاهر يدل على مقصود قائله أو فاعله على وجه
الظن أو اليقين، فالمبين يشمل الظاهر والنص معا.
ومن هذا البيان نعرف: أن المجمل يشمل اللفظ والفعل واصطلاحا،
وإن قيل: إن المجمل اصطلاحا مختص بالألفاظ ومن باب التسامح يطلق
على الفعل (1). ومعنى كون الفعل مجملا أن يجهل وجه وقوعه، كما لو
توضأ الأمام (عليه السلام) - مثلا - بحضور واحد يتقى منه أو يحتمل أنه يتقيه،
فيحتمل أن وضوءه وقع على وجه التقية فلا يستكشف مشروعية الوضوء
على الكيفية التي وقع عليها، ويحتمل أنه وقع على وجه الامتثال للأمر
الواقعي فيستكشف منه مشروعيته. ومثل ما إذا فعل الإمام شيئا في

(1) احتمله في الفصول الغروية: ص 224.
248

الصلاة كجلسة الاستراحة - مثلا - فلا يدرى أن فعله كان على وجه
الوجوب أو الاستحباب، فمن هذه الناحية يكون مجملا، وإن كان من
ناحية دلالته على جواز الفعل في مقابل الحرمة يكون مبينا.
وأما اللفظ فإجماله يكون لأسباب كثيرة قد يتعذر إحصاؤها (1) فإذا
كان مفردا فقد يكون إجماله لكونه لفظا مشتركا ولا قرينة على أحد
معانيه، كلفظ " عين " وكلمة " تضرب " المشتركة بين المخاطب والغائبة،
و " المختار " المشترك بين اسم الفاعل واسم المفعول.
وقد يكون إجماله لكونه مجازا، أو لعدم معرفة عود الضمير فيه الذي
هو من نوع " مغالطة المماراة " (2) مثل قول القائل لما سئل عن فضل
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: " من بنته في بيته " (3) وكقول عقيل: " أمرني
معاوية أن أسب عليا، ألا فالعنوه! " (4).
وقد يكون الإجمال لاختلال التركيب، كقوله:
وما مثله في الناس إلا مملكا * أبو امه حي أبوه يقاربه
وقد يكون الإجمال لوجود ما يصلح للقرينة، كقوله تعالى: * (محمد
رسول الله والذين معه أشداء على الكفار...) * الآية (5) فإن هذا الوصف في
الآية يدل على عدالة جميع من كان مع النبي من أصحابه، إلا أن ذيل
الآية * (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا
عظيما) * صالح لأن يكون قرينة على أن المراد بجملة * (والذين معه) *
بعضهم لا جميعهم، فتصبح الآية مجملة من هذه الجهة.

راجع بحث المغالطات اللفظية من الجزء الثالث من كتاب المنطق للمؤلف ص 483 تجد
ما يعينك على إحصاء أسباب إجمال اللفظ.
(2) راجع المنطق للمؤلف (قدس سره): ص 486.
(3) القائل هو ابن الجوزي كما في الكنى والألقاب: ج 1 ص 237.
(4) راجع العقد الفريد: ج 4 ص 31.
(5) الفتح: 29.
249

وقد يكون الإجمال لكون المتكلم في مقام الإهمال والإجمال. إلى
غير ذلك من موارد الإجمال مما لا فائدة كبيرة في إحصائه وتعداده هنا.
ثم اللفظ قد يكون مجملا عند شخص مبينا عند شخص آخر. ثم
المبين قد يكون في نفسه مبينا، وقد يكون مبينا بكلام آخر يوضح
المقصود منه.
- 2 -
المواضع التي وقع الشك في إجمالها
لكل من المجمل والمبين أمثلة من الآيات والروايات. والكلام العربي
لاحصر لها، ولا تخفى على العارف بالكلام. إلا أن بعض المواضع قد وقع
الشك في كونها مجملة أو مبينة، والمتعارف عند الأصوليين أن يذكروا
بعض الأمثلة من ذلك لشحذ الذهن والتمرين، ونحن نذكر بعضها اتباعا
لهم. ولا تخلو من فائدة للطلاب المبتدئين.
فمنها: قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (1).
فقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية من المجمل المتشابه (2) إما من
جهة لفظ " القطع " باعتبار أنه يطلق على الإبانة ويطلق على الجرح كما
يقال لمن جرح يده بالسكين: قطعها، كما يقال لمن أبانها كذلك. وإما من
جهة لفظ " اليد " باعتبار أن " اليد " تطلق على العضو المعروف كله، وعلى
الكف إلى أصول الأصابع، وعلى العضو إلى الزند، وإلى المرفق، فيقال
مثلا: " تناولت بيدي " وإنما تناول بالكف بل بالأنامل فقط.
والحق أنها من ناحية لفظ " القطع " ليست مجملة، لأن المتبادر من

(1) المائدة: 38.
(2) منهم السيد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة: 350، والشيخ في العدة: ج 1 ص 412.
250

لفظ " القطع " هو الإبانة والفصل، وإذا اطلق على الجرح فباعتبار أنه أبان
قسما من اليد، فتكون المسامحة في لفظ " اليد " عند وجود القرينة، لا أن
" القطع " استعمل في مفهوم " الجرح " فيكون المراد في المثال من " اليد "
بعضها، كما تقول: " تناولت بيدي " وفي الحقيقة إنما تناولت ببعضها.
وأما من ناحية " اليد " فإن الظاهر أن اللفظ لو خلي ونفسه يستفاد منه
إرادة تمام العضو المخصوص، ولكنه غير مراد يقينا في الآية، فيتردد بين
المراتب العديدة من الأصابع إلى المرافق، لأ أنه بعد فرض عدم إرادة تمام
العضو لم تكن ظاهرة في واحدة من هذه المراتب. فتكون الآية مجملة
في نفسها من هذه الناحية، وإن كانت مبينة بالأحاديث عن
آل البيت (عليهم السلام) (1) الكاشفة عن إرادة القطع من أصول الأصابع.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " (2) وأمثاله من
المركبات التي تشتمل على كلمة " لا " التي لنفي الجنس، نحو " لا صلاة
إلا بطهور " (3) و " لا بيع إلا في ملك " (4) و " لا صلاة لمن جاره المسجد إلا
في المسجد " (5) و " لا غيبة لفاسق " (6) و " لا جماعة في نافلة " (7) ونحو ذلك.
فإن النفي في مثل هذه المركبات موجه ظاهرا لنفس الماهية
والحقيقة. وقالوا: إن إرادة نفي الماهية متعذر فيها، فلابد أن يقدر - بطريق
المجاز - وصف للماهية هو المنفي حقيقة، نحو: الصحة، والكمال،
والفضيلة، والفائدة، ونحو ذلك. ولما كان المجاز مرددا بين عدة معان كان

(1) الوسائل: ج 18 ص 489 الباب 4 من أبواب حد السرقة.
(2) عوالي اللئالي: ج 1 ص 196 ح 2 و ج 2 ص 218 ح 13 و ج 3 ص 82 ح 65.
(3) الوسائل: ج 1 ص 256، الباب 6 من أبواب الوضوء ح 1.
(4) عوالي اللئالي: ج 2 ص 247 ح 16.
(5) دعائم الإسلام: ج 1 ص 148.
(6) عوالي اللئالي: ج 1 ص 438 ح 153.
(7) الوسائل: ج 5 ص 182 الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ح 6.
251

الكلام مجملا، ولا قرينة في نفس اللفظ تعين واحدا منها، فإن نفي الصحة
ليس بأولى من نفي الكمال أو الفضيلة، ولا نفي الكمال بأولى من نفي
الفائدة... وهكذا.
وأجاب بعضهم: بأن هذا إنما يتم إذا كانت ألفاظ العبادات والمعاملات
موضوعة للأعم فلا يمكن فيها نفي الحقيقة. وأما إذا قلنا بالوضع للصحيح
فلا يتعذر نفي الحقيقة، بل هو المتعين على الأكثر، فلا إجمال.
وأما في غير الألفاظ الشرعية مثل قولهم " لاعلم إلا بعمل " فمع عدم
القرينة يكون اللفظ مجملا، إذ يتعذر نفي الحقيقة (1).
أقول: والصحيح في توجيه البحث أن يقال: إن " لا " في هذه
المركبات لنفي الجنس، فهي تحتاج إلى اسم وخبر على حسب ما تقتضيه
القواعد النحوية. ولكن الخبر محذوف حتى في مثل " لا غيبة لفاسق " فإن
" الفاسق " ظرف مستقر متعلق بالخبر المحذوف. وهذا الخبر المحذوف
لابد له من قرينة، سواء كان كلمة " موجود " أو " صحيح " أو " مفيد " أو
" كامل " أو " نافع " أو نحوها. وليس هو مجازا في واحد من هذه الأمور
التي يصح تقديرها.
والقصد أنه سواء كان المراد نفي الحقيقة أو نفي الصحة ونحوها، فإنه
لابد من تقدير خبر محذوف بقرينة، وإنما يكون مجملا إذا تجرد عن
القرينة. ولكن الظاهر أن القرينة حاصلة على الأكثر وهي القرينة العامة
في مثله، فإن الظاهر من نفي الجنس أن المحذوف فيه هو لفظ " موجود "
وما بمعناه من نحو لفظ " ثابت " و " متحقق ".
فإذا تعذر تقدير هذا اللفظ العام لأي سبب كان، فإن هناك قرينة
موجودة غالبا، وهي: " مناسبة الحكم والموضوع " فإنها تقتضي غالبا

(1) ذكره المحقق القمي في تحرير القول بالتفصيل، راجع القوانين: ج 1 ص 338.
252

تقدير لفظ خاص مناسب مثل " لا علم إلا بعمل " فإن المفهوم منه أنه
لا علم نافع. والمفهوم من نحو " لا غيبة لفاسق " لا غيبة محرمة. والمفهوم
من نحو " لا رضاع بعد فطام " (1) لا رضاع سائغ. ومن نحو " لا جماعة في
نافلة " لا جماعة مشروعة. ومن نحو " لا إقرار لمن أقر بنفسه على الزنا "
لا إقرار نافذ أو معتبر. ومن نحو " لا صلاة إلا بطهور " بناء على الوضع
للأعم لا صلاة صحيحة. ومن نحو " لا صلاة لحاقن " لا صلاة كاملة، بناء
على قيام الدليل على أن الحاقن لا تفسد صلاته... وهكذا.
وهذه القرينة وهي قرينة " مناسبة الحكم للموضوع " لا تقع تحت
ضابطة معينة، ولكنها موجودة على الأكثر، ويحتاج إدراكها إلى ذوق
سليم.
تنبيه وتحقيق:
ليس من البعيد أن يقال: إن المحذوف في جميع مواقع " لا " التي هي
لنفي الجنس هو كلمة " موجود " أو ما هو بمعناها، غاية الأمر أنه في
بعض الموارد تقوم القرينة على عدم إرادة نفي الوجود والتحقق حقيقة،
فلابد حينئذ من حملها على نفي التحقق ادعاء وتنزيلا بأن ننزل الموجود
منزلة المعدوم باعتبار عدم حصول الأثر المرغوب فيه أو المتوقع منه.
يعني يدعى أن الموجود الخارجي ليس من أفراد الجنس الذي تعلق به
النفي تنزيلا، وذلك لعدم حصول الأثر المطلوب منه، فمثل " لاعلم إلا
بعمل " معناه: أن العلم بلا عمل كلا علم، إذ لم تحصل الفائدة المترقبة منه.
ومثل " لا إقرار لمن أقر بنفسه على الزنا " معناه: أن إقراره كلا إقرار
باعتبار عدم نفوذه عليه. ومثل " لا سهو لمن كثر عليه السهو " معناه:

(1) الكافي: ج 5 ص 443.
253

أن سهوه كلا سهو باعتبار عدم ترتب آثار السهو عليه من سجود أو صلاة
أو بطلان الصلاة.
هذا إذا كان النفي من جهة تكوين الشئ.
وأما إذا كان النفي راجعا إلى عالم التشريع، فإن كان النفي متعلقا
بالفعل دل نفيه على عدم ثبوت حكمه في الشريعة، مثل " لا رهبانية في
الإسلام " (1) فإن معنى عدم ثبوتها عدم تشريع الرهبانية وأنه غير مرخص
بها. ومثل " لا غيبة لفاسق " فإن معنى عدم ثبوتها: عدم حرمة غيبة الفاسق.
وكذلك نحو: " لا نجش في الإسلام " (2) و " لا غش في الإسلام " (3) و " لا
عمل في الصلاة " (4) و * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * (5) و " لا
جماعة في نافلة " فإن كل ذلك معناه: عدم مشروعية هذه الأفعال.
وإن كان النفي متعلقا بعنوان يصح انطباقه على الحكم، فيدل النفي
على عدم تشريع حكم ينطبق عليه هذا العنوان، كما في قوله: " لا حرج
في الدين " (6) و " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " (7).
وعلى كل حال: فإن مثل هذه الجمل والمركبات ليست مجملة في
حد أنفسها. وقد يتفق لها أن تكون مجملة إذا تجردت عن القرينة التي
تعين أنها لنفي تحقق الماهية حقيقة أو لنفيها ادعاء وتنزيلا.

(1) البحار 70: 115، وفيه: ليس في أمتي رهبانية.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) سنن الدارمي: ج 2 ص 248، وفيه: لا غش بين المسلمين.
(4) الوسائل: ج 4 ص 1264، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ح 4، وفيه: ليس في الصلاة
عمل.
(5) البقرة: 197.
(6) الوسائل: ج 1 ص 114، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ح 5 وفيه: ما جعل عليكم في
الدين من حرج.
(7) الوسائل: ج 17 ص 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات ح 3 و 5، وص 319 باب 5
من أبواب الشفعة ح 1.
254

ومنها: مثل قوله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * (1) وقوله تعالى:
* (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * (2) مما أسند الحكم فيه كالتحريم والتحليل
إلى العين.
فقد قال بعضهم بإجمالها (3) نظرا إلى أن إسناد التحريم والتحليل لا
يصح إلا إلى الأفعال الاختيارية، أما الأعيان فلا معنى لتعلق الحكم بها،
بل يستحيل، ولذا تسمى الأعيان موضوعات للأحكام، كما أن الأفعال
تسمى متعلقات.
وعليه، فلابد أن يقدر في مثل هذه المركبات فعل تصح إضافته إلى
العين المذكورة في الجملة ويصح أن يكون متعلقا للحكم، ففي مثل الآية
الأولى يقدر كلمة " نكاح " مثلا، وفي الثانية " أكل ". وفي مثل * (وأنعام
حرمت ظهورها) * (4) يقدر ركوبها، وفي مثل * (النفس التي حرم الله) * (5)
يقدر قتلها... وهكذا.
ولكن التركيب في نفسه ليس فيه قرينة على تعيين نوع المحذوف،
فيكون في حد نفسه مجملا، فلا يدرى فيه هل أن المقدر كل فعل تصح
إضافته إلى العين المذكورة في الجملة ويصح تعلق الحكم به، أو أن المقدر
فعل مخصوص كما قدرناه في الأمثلة المتقدمة؟
والصحيح في هذا الباب أن يقال: إن نفس التركيب مع قطع النظر عن
ملاحظة الموضوع والحكم وعن أية قرينة خارجية، هو في نفسه يقتضي
الإجمال لولا أن الإطلاق يقتضي تقدير كل فعل صالح للتقدير، إلا إذا

(1) النساء: 23.
(2) المائدة: 1.
(3) حكي عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وعن قوم من القدرية، راجع مفاتيح
الأصول: ص 227.
(4) الأنعام: 138.
(5) الإسراء: 33.
255

قامت قرينة خاصة على تعيين نوع الفعل المقدر. وغالبا لا يخلو مثل هذا
التركيب من وجود القرينة الخاصة، ولو قرينة " مناسبة الحكم
والموضوع ". ويشهد لذلك: أنا لا نتردد في تقدير الفعل المخصوص في
الأمثلة المذكورة في صدر البحث ومثيلاتها، وما ذلك إلا لما قلناه من
وجود القرينة الخاصة ولو " مناسبة الحكم والموضوع ".
ويشبه أن يكون هذا الباب نظير باب " لا " المحذوف خبرها.
ألهمنا الله تعالى الصواب، ودفع عنا الشبهات، وهدانا الصراط
المستقيم.
انتهى الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني في بحث الملازمات العقلية
* * *
256