الكتاب: منتهى الدراية
المؤلف: السيد محمد جعفر الشوشتري
الجزء: ٨
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٢
المطبعة: نمونه - قم
الناشر: المؤلف
ردمك:
ملاحظات:

منتهى الدراية
في
توضيح الكفاية
تأليف
السيد محمد جعفر الجزائري المروج
الجزء الثامن
1

* منتهى الدراية في توضيح الكفاية
* السيد محمد جعفر الجزائري المروج
* الجزء الثامن
* الطبعة الأولى عام 1412
* مطبعة نمونه - قم المقدسة
* عني بنشره: المؤلف
* الكمية: 4000 نسخة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله
الطيبين الطاهرين سيما الامام المبين وغياث المضطر المستكين (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
واللعن المؤبد على أعدائهم أجمعين، وبعد فهذا هو الجزء الثامن من كتاب (منتهى الدراية
في توضيح الكفاية) وفقنا لإعداده للطبع، وهو يتبع الأجزاء المتقدمة في النهج
والترتيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
3

المقصد الثامن في تعارض (1) الأدلة والامارات
5



[1] وهنا جهات أخرى كما قلنا آنفا:
منها: أن العرض المناسب هنا هو كون الدليلين في رتبة واحدة من
حيث شمول دليل الحجية لهما، فلا يكون لأحدهما تقدم رتبي
كالعلية على الاخر. وأما العرض بمعناه اللغوي وهو الاظهار فإرادته
في المتعارضين، بدعوى (أن كلا من الخبرين يظهر نفسه للاخر)
خالية عن المناسبة، ضرورة أن هذا الاظهار ثابت في الحجج وغيرها
من الأصول غير المعتبرة كالمسببية والروايات الضعاف التي
يقطع بعدم حجيتها حتى بدون التعارض، مع وضوح كون الموضوع
في باب التعارض خصوص الخبرين الجامعين لشرائط الحجية، و
انحصار المانع عن شمول دليل الاعتبار فعلا لهما بوجود التعارض
فقط، وعدم كون تعارض الخبرين من صغريات تعارض الحجة و
اللا حجة.
فالمتحصل: أن المراد بتعارض الدليلين هو الدليلان اللذان يكونان في
رتبة واحدة بأن لا يكون أحدهما في طول الاخر ومعلولا له.
نعم للاظهار مناسبة إن أريد به إبراز مفاد كل من المتعارضين بنحو
الانجاز وإيجاد المراد، حيث إن كلا منهما في مقام إبراز مفاده في
نظام الوجود، فإطلاق الاظهار حينئذ لا بأس به، إذا المفروض قابلية
كل منهما للحجية، والمانع عن فعليتها هو التعارض.
وأما العرض الذي هو أحد أبعاد الجسم في مقابل الطول والعمق
فالظاهر أنه لا مناسبة بينه وبين المعنى المقصود من تعارض الأدلة، و
إن قيل بها، بتقريب: (ان كلا من المتعارضين في عرض الاخر من حيث
الدليلية والحجية). لكن هذا البيان أقرب إلى ما ذكرناه - إن لم
يكن عينه - من إرادة وحدة المتعارضين رتبة وعدم علية أحدهما
للاخر، والامر سهل.
ومنها: أن التعارض عنوان عام يشمل الروايتين المتعارضتين وغيرهما
كتعارض الآيتين
9

فصل (1):
التعارض هو تنافي (2)
11

الدليلين
17

أو الأدلة (1) بحسب (2) الدلالة ومقام (3) الاثبات على (4) وجه التناقض
18

أو التضاد (1)

[1] أورد شيخنا المحقق العراقي (قده) وغيره على تعريفي المشهور و
المصنف بما محصله: أما الاشكال على تعريف المشهور فبلزوم
الاقتصار على قيد التناقض، إذ بعد تعميم المدلول للمدلول
19

يدلان على المتناقضين بالدلالة الالتزامية، فتقييد التنافي بالتناقض
كاف في عموم التعريف للمتضادين غير مسموعة، لعدم ثبوت
كفاية الدلالة الالتزامية في الحدود إن لم
20

حقيقة أو عرضا (1)،
21

بأن (1) علم كذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا (2).

[1] لعل الأولى التمثيل للتعارض بالتضاد العرضي - الذي هو خارج
حقيقة عن التعارض وداخل فيه عرضا أي لدليل خارجي - بالصورة
الأولى من هاتين الصورتين وهي مثال صلاتي الظهر والجمعة، حيث
إنه لا تنافي بينهما بعد تعددهما موضوعا، وإمكان تشريع
الوجوب لهما معا، لكن الشارع لما لم يوجب يوم الجمعة إلا إحداهما،
فكل من دليليهما يثبت مؤداه مطابقة، وينفي مؤدى الاخر التزاما،
فيثبت التناقض بينهما بالدلالة الالتزامية، فدليل وجوب الظهر يدل
مطابقة على وجوبه والتزاما على عدم وجوب الجمعة، وكذا العكس.
ومن المعلوم أن هذا التناقض نشأ من الدليل الخارجي القائم على
وحدة الفريضة في ظهر يوم الجمعة، كما أن تضاد المتعلقين نشأ أيضا
من هذا الدليل الخارجي، إذ لا تضاد حقيقة بينهما، والتضاد لم ينشأ
إلا من وحدة التكليف.
ونظير هذا المثال الماء القليل المتنجس المتمم كرا بطاهر، فإنه لا مانع
عقلا من نجاسة المتمم وطهارة متممه، لاستصحابهما. إلا أنه
ادعي الاجماع على عدم كون الماء الواحد محكوما بحكمين،
22



فتأمل.
وبالجملة: فبسبب الدليل الخارجي تندرج نظائر دليلي الظهر و
الجمعة في التعارض، إذ به يتحقق التنافي بينهما وهو التناقض الناشئ
من الدلالة الالتزامية ويجري عليهما أحكام التعارض.
وأما التمثيل لهذا القسم - أي: العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين -
بمثل انفعال البئر واستحباب الوضوء نفسيا - ففيه: أنه وان كان في
نفسه صحيحا، لكنه أجنبي عن باب التعارض، ضرورة أن مجرد العلم
الاجمالي بكذب أحد الدليلين لا يوجب تناقضا ولا تضادا في
المتعلقين ولا في حكميهما حتى يصدق عليهما تعريف التعارض،
فان صدقه على الدليلين منوط بتناقضهما أو تضادهما حقيقة
كالوجوب
وعدمه أو الوجوب والحرمة، أو عرضا كتناقض دليلي الظهر والجمعة
الناشئ من حكم الشارع بكون الفريضة إحداهما، فإنه يوجب
مناقضة مدلول كل منهما مطابقة لمدلول الاخر التزاما على التقريب
المتقدم آنفا.
وكالتناقض الناشئ من الملازمة الشرعية بين حكمين كوجوب القصر
والافطار، فإذا دل دليل على وجوب القصر مطابقة كان دالا على
عدم وجوب الصوم التزاما، كما أنه إذا قام دليل على وجوب الصوم
مطابقة كان دالا على عدم وجوب القصر التزاما، فيقع التعارض بين
الدلالة المطابقية لكل منهما مع الدلالة الالتزامية للاخر، فالقصر
واجب بالدلالة المطابقية لاحد الدليلين وغير واجب بالدلالة
الالتزامية
للدليل الاخر، وكذا الاتمام.
فصور التعارض التي تجري فيها أحكام التعارض منحصرة في تنافي
الدليلين بالتناقض أو التضاد حقيقة كما مر آنفا، أو عرضا إما
لحكم الشارع بوحدة الحكم كما في مثال الظهر والجمعة، وإما
لحكمه بالملازمة بين حكمين كوجوب القصر والافطار على ما مر آنفا.
وأما مجرد العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين من دون حصول
التنافي بينهما لا مطابقة ولا التزاما - كالدليلين الدال أحدهما على
انفعال ماء البئر بالملاقاة والاخر على الاستحباب النفسي للوضوء -
فلا يوجب اندراجهما في باب تعارض الخبرين وجريان أحكامه
عليهما، بل يعامل معهما معاملة العلم الاجمالي، فإن كانا دالين على
الحكم الإلزامي كدلالة أحدهما على وجوب جلسة الاستراحة و
الاخر
على حرمة شرب التتن جرى عليهما حكم العلم الاجمالي من لزوم
الاحتياط بناء على كون العلم بجنس التكليف كالعلم بنوعه في
التنجيز.
وإن كان أحدهما دالا على الحكم الإلزامي والاخر على الترخيصي
جرى فيه أصل البراءة، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف.
23



وكيف كان فلنعد إلى ما وعدنا بيانه من اختلاف تفسير التعارض بما
أفاده الشيخ والمصنف (قدهما) وعدمه، ثم تعقيبه بما أورد على
كل منهما، فنقول وبه نستعين: قال شيخنا الأعظم:
(وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار
مدلولهما، ولذا ذكروا.) وقريب منه تعريف الماتن في الفوائد كما
تقدم
في (ص 19). وقال المحقق الميرزا الآشتياني (قده): (وان كان الظاهر
على ما صرح به شيخنا الأستاذ في مجلس البحث عدم اتصاف
المدلول به عندهم، وكون هذا التعريف مبنيا على الإشارة إلى كون
تنافي الدليلين إنما هو باعتبار مدلوليهما). وعلى هذا فقد تفطن
الشيخ الأعظم لعدم اتصاف المدلولين بالتعارض وإن اتصاف بالتنافي
والتمانع، وأن التعارض وصف لنفس الدليلين والأمارتين. و
هذه النكتة المحكية عن مجلس درسه الشريف جهة أخرى في تعريف
الشيخ للتعارض بتنافي الدليلين، غير ما أفاده المصنف في حاشية
الرسائل من وجهين تقدما في التوضيح، وهما: كون الوصف بحال
الموصوف، وخروج موارد التوفيقات العرفية.
وأما الفرق بين التعارض والتنافي - بنظر شيخنا الأعظم - فقد تقدم
مجمله في التوضيح وأوضحه المحقق الأصفهاني (قده) في تعليقته
بما محصله: أن التنافي ينسب تارة إلى المدلولين من الوجوب و
الحرمة أو الوجوب وعدمه، وأخرى إلى الدليلين بما هما دليلان و
حجتان، فيكونان متنافيين في الحجية والدليلية، وثالثة إلى الدليلين
بما هما كاشفان عن أمرين متنافيين لتلون الدال بلون المدلول
لفنائه فيه. والتنافي وهو عدم الاجتماع في الوجود يكون في الأولين
بالذات وفي الثالث بالعرض.
أما تنافي الوجوب والحرمة فلوضوح امتناع اجتماعهما. وأما تنافي
الدليلين والحجتين كذلك فلامتناع حجيتهما معا، خصوصا إذا كانت
الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل، لأوله حينئذ إلى اجتماع
الوجوب والحرمة الفعليين في موضوع واحد، وهو محال.
وأما كون تنافي الدالين بما هما كاشفان بالعرض فلأنهما غير متمانعين
في الوجود، إذ ليس الكلام في الكاشفين القطعيين أو الظنيين
بالظن الفعلي حتى يستحيل اجتماعهما بالذات، بل في الكاشفين
بالكشف النوعي، ومن المعلوم إمكان اجتماعهما في الوجود، إذ
التنافي
في مطابقهما لا في نفسهما، ويكون توصيف الدال والكاشف بالتنافي
بالعرض، لما بين الكاشف والمنكشف من الاتحاد جعلا و
اعتبارا. وعليه يكون تنافي المدلولين واسطة في عروض التنافي على
الدالين، لا واسطة في الثبوت.
والتعارض إن كان كالتنافي فهو ينسب إلى المدلول والدليل بالذات و
إلى الكاشف بالعرض،
24



لسراية حكم المدلول إلى الدال. وان كان التعارض أخص من مطلق
التنافي - كما هو الصحيح - لعدم اتصاف المدلول كالوجوب و
الحرمة بالتعارض بل بالتمانع والتنافي، وكذلك الحجية، فإنها لا
توصف أيضا بالتعارض، بل بالمنافاة وشبهها، وإنما المتصف
بالتعارض ما دل على الوجوب وما دل على الحرمة، فيقال: (تعارض
الخبران) لا (تعارض الحكمان) فهو من أوصاف الدال بما هو دال
بالذات لا بالعرض وان كان تنافيهما بالعرض من جهة سرايته من
المدلول إليهما.
وعليه يتجه ما أفاده الماتن من كون التعارض تنافي الدليلين في مقام
الدلالة والاثبات، خصوصا إذا كان التعارض من العرض بمعنى
الاظهار، فان لكل من الدالين المتنافيين ثبوتا، ويظهر كل منهما نفسه
على الاخر، بخلاف المدلولين، فإنه لا ثبوت إلا لأحدهما، فلا معنى
لاظهار كل منهما نفسه على صاحبه.
وبهذا البيان يظهر وجه تصرف شيخنا الأعظم في تحديد المشهور
للتعارض بجعله تنافي الدليلين لا المدلولين. وليس وجهه ما أفاده
المصنف في حاشية الرسائل من خروج موارد الحكومة عنه، وإن كان
الشيخ قد أخرج بعض تلك الموارد عن التعارض أيضا بعد اعتبار
اتحاد الموضوع في المتعارضين.
وعلى هذا فالظاهر أن التعارض عند الشيخ والمصنف (قد هما)
بمعنى واحد من حيث اتصاف الدليل به لا المدلول، ويكون تقابل
المدلولين بالتناقض أو التضاد واسطة ثبوتية وحيثية تعليلية لتعارض
الدليلين، لا حيثية تقييدية وواسطة في العروض حتى يكون
التعارض قائما بالمدلولين حقيقة، وبالدليلين عناية وبالعرض.
وبهذا يظهر غموض ما في حاشية المحقق المشكيني (قده) من فرض
تغاير تعريفي الشيخ والمصنف (قدهما) للتعارض، وبيان الفرق
بينهما ب (كون التعارض من صفات نفس الدليلين حقيقة وان كان
منشؤه هو تنافي المدلولين على الأول. ومن صفات المدلولين حقيقة
على الثاني، فيكون تنافي المدلولين على الأول من الحيثيات التعليلية
وواسطة في الثبوت، وتوصيف الدليلين به توصيفا بحال
الموصوف، ولا يصح سلبه عنه مثل توصيف الماء بالحرارة بواسطة
النار. ومن الحيثيات التقييدية وواسطة في العروض. على
الثاني). وذلك لان منشأ هذه التفرقة هو قول الشيخ بعد ذكر تنافي
الدليلين: (باعتبار مدلولهما) مع أن هذه الكلمة تناسب كلا من
الحيثية التعليلية
25



التي التزم بها الماتن، والحيثية التقييدية التي قال بها المشهور كما سبق
بيانه في التوضيح.
ولا وجه لحمل هذه الكلمة على خصوص إرادة الحيثية التقييدية و
الواسطة في العروض مع التئامها مع كل من الحيثيتين، خصوصا بعد
تصريح الشيخ - على حسب حكاية تلميذه الثقة المحقق الآشتياني
(قده) - بكون التعارض وصفا للأدلة لا للمداليل. فلو سلمت قرينية
كلمة
(باعتبار مدلولهما) في كلام الشيخ الأعظم على إرادة الوساطة في
العروض اتجه ذلك بالنسبة إلى كلمة التنافي والمنافاة وشبههما،
فان تنافي المدلولين وتمانعهما بالذات يسري إلى الدالين والحاكيين،
فيكون تنافي الكاشفين بالعرض، وهذا لا ربط له بمادة
التعارض الذي لا يوصف به المدلولان أصلا، إذ ليس المتصف
بالتعارض إلا نفس الأدلة كالخبرين المتصفين بالتعارض في الاخبار
العلاجية.
فتحصل من أول البحث إلى هنا: أن للتعارض تحديدين أحدهما
للمشهور، والاخر للشيخ والمصنف ومن تبعهما.
وأما عدول المصنف عن تعريف المشهور لاخراج موارد الجمع
العرفي، فأورد عليه أولا: بعدم التنافي بين المدلولين في تلك الموارد
كما حكي عن المحقق النائيني (قده). أو في خصوص الورود و
الحكومة، فإنهما خارجان عن التعارض موضوعا، وسائر موارد الجمع
العرفي خارجة عنه حكما كما ذهب إليه المحقق العراقي. وعليه فلو
كان التعارض بمعنى تنافي المدلولين لم ينتقض بموارد الجمع
العرفي حتى يقتضي ذلك تفسيره بتنافي الدليلين أو التنافي في مقام
الدلالة، فالمراد بتنافي المدلولين تمانعهما في الصدق، وهذا هو
التعارض المستقر، لا مطلق التنافي حتى البدوي الزائل بإعمال النظر
العرفي.
وثانيا: بما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من أن تعريف المصنف
وإن أخرج موارد الجمع العرفي عن موضوع التعارض، لكن لا
وجه لاخراج أحكام الجمع وتمييز موارده عن مقاصد الباب، لمحض
عدم إعمال المرجحات السندية أو التخيير في مواردها، ليكون
التكلم في أحكام الجمع وما يتعلق به في هذا البحث لمحض
الاستطراد.
لكن لا محذور في الاستطراد، إذ لا بد من تمييز موارد الجمع العرفي
عن غيرها، والبحث عن موجبات قوة الظهور، وحيث لم يبحث
عنها في موضع آخر فلا مناص من تنقيحها في هذا المقصد.
26

وعليه (1) فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما (2) إذا كان
بينهما حكومة رافعة للتعارض (3) والخصومة، بأن (4) يكون أحدهما قد سيق ناظرا

وليس الاستطراد في هذه الأمور فحسب، لوجود جملة أخرى من
المباحث التزموا بالبحث عنها استطرادا في علم الأصول، لعدم
البحث
المستوفى عنها في مقامات أخرى، فالمهم البحث عن كون التعارض
تنافي الأدلة أو المداليل، فلو اقتضت الصناعة تعريفه بتمانع الأدلة لم
يكن إشكال الاستطراد موجبا للعدول عنه إلى تعريف المشهور.
27



[1] إذ بناء عليه يتفرع الحاكم على المحكوم تفرع المفسر، على
المفسر، لأنه يبين كمية موضوعه سعة وضيقا، فلو لم يرد قبل الحاكم
دليل كان الحاكم لغوا، إذ لا معنى لان يكون مبينا لكمية موضوع ليس
له عين ولا أثر. فقول الشيخ: (فلو فرض أنه لم يرد من الشارع
حكم الشكوك. إلخ) كالصريح في إرادة ورود المحكوم متقدما على
الحاكم زمانا، فإرادة التقدم عليه رتبة كما أفاده سيدنا الأستاذ
(قده) خلاف الظاهر، ولا بد من مزيد التأمل.
29



ووجهه المصنف في الحاشية بقوله: (ولعل منشأ توهم التفرع عليه و
اللغوية بدونه كون الحاكم بمنزلة الشرح، وتبعيته للمشروح لا
تحتاج إلى بيان وشرح) وبيانه: أن الدليل الحاكم شارح فعلي للدليل
المحكوم، لأنه يتعرض لحاله ويبين كمية موضوعه، ومن
المعلوم أن الشارح بالفعل منوط بالمشروح بالفعل، لان الشارحية و
المشروحية متضايفتان، والمتضايفان متكافئان في القوة و
الفعلية، فلو لم يتقدم المشروح بالفعل لم يكن معنى للشارح بالفعل. و
هذا البيان يقتضي استحالة تأخر المحكوم عن الحاكم، لوحدة
المتضايفين في القوة والفعلية، وهذا غير اللغوية التي وردت في
عبارة الشيخ، فان اللغو ليس محالا في نفسه، بل لقبح صدوره من
الحكيم يمتنع وجوده.
ولكن المصنف رد هذا التوجيه في الحاشية وأورد على كلام شيخنا
الأعظم كما في المتن بأن أظهر أفراد الحكومة - بنظره (قدس
سره) - حكومة أدلة الامارات على أدلة الأصول العملية، مع أنه لا يلزم
لغوية جعلها ولو لم تشرع الأصول العملية إلى يوم القيامة بديهة،
لوجود الفائدة التامة في جعل الامارات واستقلالها التام في الإفادة. و
هذا شاهد على عدم اعتبار تقدم المحكوم على الحاكم أو تقارنه
معه في انطباق ضابط الحكومة على الدليل الحاكم.
وأما التوجيه المتقدم عن الحاشية من اقتضاء الشارحية الفعلية وجود
المشروح الفعلي، فجوابه - أزيد مما تقدم في التوضيح - هو ما
أفاده المحقق الأصفهاني بقوله: (ان التضايف بين الشارح بالذات و
المشروح بالذات لا المشروح بالعرض. والمشروح المقوم للشارح
في مقام شارحيته - وهو وجوده العنواني - له ثبوت فعلي بثبوت
الشارح بالذات، والمتأخر بالزمان هو المشروح بالعرض، كالمعلوم
بالذات والمعلوم بالعرض، كما لا منافاة بين تأخر الشارح بالذات عن
المشروح بالحمل الشائع بالزمان).
ولعل عبارة شيخنا الأعظم ناظرة إلى غالب موارد الحكومة من تقدم
المحكوم زمانا على الحاكم، أو إلى إرادة تقدمه ذاتا، قال المحقق
الآشتياني: (ولا يعتبر فيها تأخر الحاكم عن المحكوم كما ربما يتوهم
من بيان شيخنا في الكتاب.) لكنه ظاهر كلام الشيخ لولا
صريحه، وليس إيهاما حتى يوجه بالتقدم الذاتي أو الرتبي.
30



بل أصل دعوى تفرع الحاكم على المحكوم ممنوعة، فان الحاكم قد
يكون ذا مفاد مستقل، ولا نظر له إلى مدلول دليل آخر - بالمعنى
الذي يظهر من كلام الشيخ للنظر - ولأجل هذا التزم المصنف بورود
أدلة الامارات على أدلة الأصول العملية كما سبق شرحه في تتمة
الاستصحاب، فراجع كلماته هناك وفي الحاشية والفوائد.
وليعلم أن مناقشة الماتن في مقالة شيخنا الأعظم (قده) - من حكومة
الامارات على الأصول - أمران:
أحدهما: ما تقدم في آخر الاستصحاب وسيأتي في المتن قريبا من
إنكار أصل حكومتها عليها، لان المعتبر عند الشيخ في حكومة أحد
الدليلين هو النظر - بمدلوله اللفظي - إلى مدلول الدليل المحكوم، و
المفروض فقدان هذا النظر بين أدلة الامارات والأصول.
ثانيهما: ما أفاده المصنف هنا بقوله: (مقدما أو مؤخرا) وحاصله - كما
مر تفصيله - أنه على فرض انطباق ضابط الحكومة نقول: بعدم
اعتبار سبق صدور المحكوم على الحاكم، ولا يلزم لغويته لو صدر قبل
المحكوم، ولذا لا يكون جعل الامارات لغوا قبل تشريع الأصول
العملية، فتأمل في كلمات المصنف كي لا تتوهم وحدة الاشكالين و
أولهما إلى أمر واحد.
بقي التنبيه على بعض أحكام الحكومة، وهو: أن قوام الحكومة حيث
كان بتعرض الدليل الحاكم لما يراد من موضوع الدليل المحكوم
تعميما أو تخصيصا، فلذا تخرج مواردها عن موضوع التعارض
كخروج موارد ورود أحد الدليلين على الاخر من جهة عدم تواردهما
على موضوع واحد.
فالدليل الحاكم يشبه القرينة المنفصلة من جهة والمتصلة من جهة
أخرى.
أما كونه بنظر العرف في حكم القرينة المتصلة الحاكية مع ذيها عن
معنى واحد فلان الحاكم وإن كان منفصلا عن المحكوم وغير مانع
عن ظهوره في مؤداه، إلا أنه بلحاظ شارحيته له لا يغاير مدلول
المحكوم. وأما كونه كالقرينة المنفصلة، فلان المدلول وإن كان واحدا
لبا، لعدم مغايرة الشارح للمراد من المشروح، إلا أن الدال على هذا
المدلول الواحد متعدد، لفرض الانفصال واستقرار ظهور كلا
الدالين. وبهذا تصير الحكومة برزخا بين القرينة المنفصلة والمتصلة،
فمن حيث
31



وحدة المدلول تشبه المتصلة ومن حيث تعدد الدال تشبه المنفصلة.
ويترتب على هذا أمران:
أحدهما: تعين الاخذ بمدلول الحاكم بعد الفراغ عن إثبات حكومته و
إن كان أضعف دلالة على مؤداه من المحكوم، من غير ملاحظة
النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم، ولا ملاحظة قوة الظهور و
ضعفه، بل يقدم الحاكم - بعد ثبوت نظره - ولو كانت نسبته إلى
موضوع دليل المحكوم العموم من وجه. وهذا بخلاف باب
التخصيص وسائر موارد الجمع، فان تقديم الخاص والأظهر يكون
بمناط
تقديم أقوى الدلالتين، ولذا يتوقف في تقديم الخاص في فرض
مساواته للعام في الدلالة، وقد يقدم العام على الخاص في المقدار
الذي
كان العام نصا فيه أو أقوى ظهورا من الخاص.
وبهذا تظهر جهة أخرى فارقة بين بابي الحكومة والتخصيص، وهي:
أن في باب الحكومة لا يخرج سند المحكوم عن الاعتبار حتى لو
فرض اقتضاء دليل الحاكم طرح ظهور المحكوم رأسا بحيث لا يبقى
تحت ظهوره شئ من مدلوله، لأنه بعد شرح مراده بمفاد الحاكم
كان بحكم القرينة المتصلة في تعيين المراد من الدليل المحكوم، و
دليل التعبد بسنده لا يلغى عن الاعتبار، إذ ينتهي الامر إلى العمل
بمراده ولو بتوسيط شارحه. وهذا بخلاف باب الجمع الدلالي، فان
دليل الأظهر لا يكون شارحا لمراد العام، بل العام الظاهر باق بعد
على ظهوره في المراد منه مع احتمال كون المراد الواقعي على طبق
ظهوره، غاية الامر أنه يجب رفع اليد عن حجيته عند قيام حجة أقوى
على خلافه، ولازمه حينئذ بقاء مقدار من الدلالة بحاله لزوما ليكون
هو المصحح للتعبد بسنده، وإلا يلزم طرح سنده أيضا، لأنه في حكم
التعبد بسند المجمل الذي لا معنى له.
والحاصل: أن باب الحكومة الشارحة للمراد من ظهور آخر تختلف
عن باب الجمع بين الدليلين المنفصلين بمناط الأظهرية وقوة الدلالة،
وعن باب القرائن المتصلة الشارحة للمراد والكاشفة عن المقصود
باللفظ.
هذا ما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) وهو في غاية المتانة
بحسب الكبرى، لكون الحاكم بمنزلة قرينة المراد. لكن الظاهر عدم
الظفر به في أدلة الاحكام، فان الحكومات فيها إما موسعة وإما مضيقة،
ويلحق الثاني حكم التخصيص من لزوم بقاء مورد للعمل بالعام
والمحكوم.
الامر الثاني: الظاهر عدم سراية إجمال الحاكم إلى المحكوم فيما لا
يسري إجمال الخاص
32

إلى بيان كمية ما أريد من الاخر (1) مقدما (2) كان أو مؤخرا.
أو كانا (3) على نحو إذا عرضا على العرف وفق بينهما بالتصرف

المردد بين الأقل والأكثر إلى العام، لفرض حجية أصالة العموم في
جميع أفراد العام، والمزاحم لهذه الحجية هو القدر المتيقن من
الخاص المجمل. وكذا الحال في باب الحكومة، فإذا ورد (أكرم العالم)
ثم ورد (العالم الفاسق ليس بعالم) فان إطلاق العالم في الدليل
المحكوم شامل لمرتكب الصغيرة لا عن إصرار. والشارح وإن كان
مجملا، ولعله يتوهم سراية إجماله إلى المحكوم قضية للتضايف
بين الشارح والمشروح، إلا أن الصحيح عدم سرايته، لان شارحية
الحاكم مقصورة على مقدار دلالته، والمفروض دلالته على الأقل و
هو مرتكب الكبيرة، وأما غيره فلا مزاحم لأصالة الاطلاق في دليل
المحكوم، فيؤخذ به.
هذا ما أفاده المصنف في الحاشية وهو متين.
33

في خصوص أحدهما (1) كما هو مطرد (2) في مثل الأدلة المتكفلة
لبيان أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية مع مثل الأدلة النافية
للعسر والحرج والضرر والاكراه والاضطرار مما (3) يتكفل لأحكامها
بعناوينها الثانوية، حيث (4) يقدم في مثلهما الأدلة النافية، ولا تلاحظ
34

النسبة بينهما أصلا (1)، ويتفق (2) في غيرهما (3) كما لا يخفى.
أو بالتصرف (4) فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما،

[1] لا يخلو من غموض، إذ كما يكون العلم مقتضيا لوجوب الاكرام
كذلك يكون الفسق مقتضيا لحرمته، فيندرج مورد الاجتماع في
تعارض المقتضيين، فلا بد من إجراء أحكام التعارض فيهما، ولا مجال
للتوفيق العرفي بينهما بحمل (أكرم العلماء) على الحكم الاقتضائي
و (لا تكرم الفساق) على الحكم الفعلي، فيندرج مثل هذا المثال فيما
اشتمل عليه بعض الاخبار العلاجية من الخبرين اللذين أحدهما يأمر
والاخر ينهى.
35

أو في (1) أحدهما المعين ولو كان من الاخر

نعم يمكن التمثيل للتوفيق العرفي بما دل على انفعال الماء القليل
بالملاقاة وما دل على عدم انفعال الماء ذي المادة بها، فإن مورد
الاجتماع - وهو القليل ذو المادة - محكوم بعدم الانفعال، إذ المادة
بنظر العرف كالكرية من موانع الانفعال، فيقدم على أدلة الانفعال
مع عدم طولية القلة والمادة كالعنوان الأولي والثانوي، لكونهما في
عرض واحد، ومع ذلك يوفق العرف بينهما بحمل انفعال القليل
بالملاقاة على الحكم الاقتضائي، وحمل عدم انفعال ذي المادة على
الحكم الفعلي.
[1] الظاهر أن من قال بهذا الجمع في المثال المذكور أراد أن يدرجه في
باب النص والظاهر وجعل الأول قرينة على التصرف في
الثاني. لكن الظاهر أجنبية المثال عنه، لكون التيقن الذي أريد به النص
هنا ناشئا من أمر خارجي وهو الحكم، لا من نفس اللفظ مع الغض
عما يترتب عليه من الحكم، والمفروض أن لفظ (العذرة) في كلا
الدليلين أما نص في معنى وإما ظاهر فيه، ولا يمكن أن يكون في أحد
الدليلين نصا في معنى وفي الاخر نصا في معنى آخر. إلا أن يلحق
التيقن الخارجي بالنص الذي نشأت نصوصيته من نفس اللفظ.
ولكن هذا الالحاق يحتاج إلى الدليل، ومع فرض عدم الدليل على
الالحاق يكون مقتضى الجمع الدلالي بينهما الحمل على الكراهة
الشديدة لو لم يقم دليل على خلافه، ولم يثبت اختصاص موارد
استعمال (السحت) بخصوص الحرام.
36

أظهر [ولو كان الاخر أظهر [1]]

[1] لا يخفى اختلاف نسخ الكفاية في المقام، ففي بعضها (ولو كان
الاخر أظهر) وفي بعضها (لو كان الاخر أظهر) بإسقاط الواو، وفي
بعضها كحاشية العلامة الرشتي (قده): (ولو كان من الاخر أظهر). و
هذا هو الصواب والملائم لكلمة (ولو) الوصلية على تقدير
اشتمال العبارة عليها، لدلالتها على الفرد الخفي. إذ مقتضى القاعدة
التصرف في الدليل الظاهر بقرينة الدليل الأظهر، فالتصرف في
الأظهر يعد فردا خفيا من التوفيقات العرفية بين الدليلين، ومقتضى
الايجاز إسقاط كلمة (من الاخر) بأن يقال: (ولو كان أظهر).
ولو كانت عبارة المتن هكذا: (أو في أحدهما المعين لو كان الاخر
أظهر) كان المراد بها العام
37

ولذلك (1) تقدم الامارات المعتبرة على الأصول الشرعية (2)، فإنه
(3) لا يكاد

والخاص والمطلق والمقيد وغيرهما من الدليلين اللذين يكون
أحدهما أظهر من الاخر، فان المتعين حينئذ التصرف في غير الأظهر.
والظاهر بل المعلوم عدم إرادة مثل العام والخاص من هذه العبارة، لأنه
صرح بخروج العام والخاص والمطلق والمقيد ومثلهما بعد
ذلك بقوله: (ولا تعارض) أيضا إذا كان أحدهما قرينة على التصرف
في الاخر. مثل العام والخاص والمطلق والمقيد أو مثلهما. إلخ)
فالمتعين أن يكون الصواب ما ضبطه العلامة الرشتي (قده) وقد تقدم
آنفا.
38

يتحير أهل العرف [1] في تقديمها (1) عليها بعد ملاحظتهما، حيث
(2) لا يلزم منه محذور تخصيص أصلا. بخلاف العكس (3)، فإنه يلزم منه محذور

[1] فيه: ان عدم تحير العرف وإن كان مسلما، لكنه ليس لأجل الجمع
بينهما كما هو مقتضى الجمع العرفي، بل إنما هو لأجل عدم
الموضوع لاحد الدليلين المانع عن جريانه والموجب لانحصار الدليل
في الاخر، فموضوع تحير العرف في موارد ورود أحد الدليلين
على الاخر مفقود.
وإرادة المعنى العام للتوفيق العرفي - وهو مطلق الجمع بين الدليلين
- لا تجدي في توجيه قوله (قده): (ولذلك تقدم الامارات
المعتبرة. إلخ) حيث إن معنى هذا الكلام (وللتوفيق العرفي تقدم) و
قد عرفت عدم الموضوع لهذا التوفيق في الدليلين الوارد أحدهما
على الاخر. بل لا سبيل لإرادة هذا المعنى العام هنا، لأنه (قده) جعل
تقديم الامارة على الأصل من التوفيق العرفي بمعناه الأخص، لا معناه
العام الشامل للحكومة والتخصيص والورود، فتأمل في العبارة.
ثم إن في التعبير بالتخصيص هنا مسامحة بناء على إرادة الورود
المصطلح كما سبق التنبيه عليه في باب الاستصحاب، فلاحظ.
39

التخصيص بلا وجه أو بوجه دائر (1) كما أشرنا إليه في أواخر
الاستصحاب (2).
وليس (3) وجه تقديمها حكومتها،
40

لعدم (1) كونها ناظرة إلى
41

على أدلتها (1) بوجه (2). وتعرضها (3) لبيان حكم موردها لا يوجب
(4) كونها (5)
43

ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها، وإلا (1) كانت أدلتها أيضا دالة ولو [1]
بالالتزام (2) على أن حكم مورد الاجتماع فعلا (3) هو مقتضى
الأصل لا الامارة، وهو (4)

[1] الظاهر زيادة كلمة (ولو) لأنها وصلية وتدل على فرد خفي، و
المفروض انحصار الدلالة هنا في فرد واحد وهو الالتزامية، فإن
دليل أصالة الحل مثلا لا يدل مطابقة إلا على حلية المشكوك فيه، فلو
دل على عدم حرمته كان ذلك دلالة التزامية عقلية ناشئة من تنافي
الحل والحرمة وتضادهما، والحاكم بعدم اجتماعهما هو العقل من
غير دلالة لفظية عليه.
44

مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة، بل [1 [1 ليس مقتضى حجيتها إلا

[1] الظاهر أن الأولى تبديل (بل) ب (إذ) لان السياق يقتضي علية (بل
ليس مقتضى حجيتها. إلخ) لقوله: (لا يوجب كونها ناظرة. إلخ)
فكأنه قيل: (ان تعرض الامارة لمورد الأصل لا يوجب النظر إلى دليل
الأصل، لان منشأ هذا النظر إما نفس الامارة وإما حجيتها، ولا
نظر لشئ منهما إلى الأصل. أما الامارة فلانه لا دلالة لها إلا على
الحكم الواقعي كحرمة شرب التتن. وأما حجيتها فلانه لا دلالة لها إلا
على لزوم العمل على طبق الامارة أي جعل حكم مماثل لمؤداها. و
شئ منهما لا نظر له إلى دليل الأصل).
فينحل جواب المصنف عن النظر الذي أفاده الشيخ (قدهما) إلى
جوابين: أحدهما نقضي، وهو
45

نفي ما قضيته عقلا (1) من دون دلالة عليه (2) لفظا، ضرورة (3) أن نفس

الذي أشار إليه بقوله: (والا كانت أدلتها أيضا. إلخ).
وثانيهما: حلي، وهو ما أشار إليه بقوله: (بل ليس مقتضى حجيتها.
إلخ) وهذا الجواب مبني على كون الحجية بمعنى جعل الاحكام على
طبق مؤديات الامارات، فحرمة شرب التتن مثلا المدلول عليها بخبر
الثقة وكذا لزوم العمل بها لا نظر لهما لفظا إلى الحل الذي هو
مقتضى أصالة الحل. نعم لا تجتمع الحرمة والحلية في موضوع واحد
من باب استحالة اجتماع الضدين عقلا، وهذا أجنبي عن النظر أي
الدلالة اللفظية المعتبرة في الدليل الحاكم كما مرت الإشارة إليه غير
مرة.
46

الامارة لا دلالة له (1) إلا على الحكم الواقعي (2)، وقضية حجيتها
ليست إلا لزوم العمل على وفقها شرعا [1] المنافي (3) عقلا للزوم
العمل
على خلافة (4)، وهو (5) قضية الأصل، هذا.
مع احتمال أن يقال (6): إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على

[1] فيشترك الأصل والامارة في كيفية الحجية، لأنها حينئذ جعل
الحكم شرعا لكل من مؤدى الامارة والأصل، فلا فرق بينهما في كيفية
الحجية وفي دلالة كل منهما على مدلوله مطابقة وعلى نفى الاخر
التزاما، فلا ورود ولا حكومة للامارة على الأصل، بل لا بد من معاملة
التعارض بينهما.
لكنه كما ترى لا يمكن الالتزام به.
ولعل الأولى في الاشكال على النظر المعتبر في حكومة الامارة على
الأصول أن يقال أولا: انه لا نظر في البين، لا في نفس الامارة إن
كان المقصود حكومتها على الأصل، ولا في دليل اعتبارها إن كان
الغرض حكومته على الأصل، إذ الامارة لا تدل إلا على الحكم
الواقعي،
ودليل الحجية لا يدل إلا على جعل حكم مماثل لمؤدى الامارة.
وثانيا: ان النظر على فرض وجوده مشترك بين الامارة والأصل، لان
الحجية في كليهما بمعنى واحد وهو جعل الحكم الظاهري. و
المنافاة بين الحكمين الظاهريين - اللذين أحدهما مؤدى الامارة
كالحرمة والاخر مفاد الأصل كالحلية - توجب طرد كل منهما للاخر،
و
هذا الطرد ليس هو النظر اللفظي المعتبر في حكومة أحد الدليلين على
الاخر، بل هو حكم عقلي ناش من تضاد نفس الحكمين المدلول
عليهما بالامارة والأصل.
47

وفق الحجة عقلا، وتنجز الواقع مع المصادفة، وعدم تنجزه في صورة
المخالفة.
وكيف كان (1) ليس (2) مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف
48

تعبدا كي يختلف الحال (1)،
49

ويكون (1) مفاده في الامارة نفي حكم الأصل، حيث (2) إنه حكم
50

الاحتمال (1)، بخلاف (2) مفاده فيه (3)، لأجل (4) أن الحكم
الواقعي ليس حكم احتمال خلافه (5)، كيف (6)؟ وهو (7) حكم
الشك فيه
51

واحتماله (1)، فافهم (2) وتأمل جيدا.
فانقدح بذلك (3) أنه لا يكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين
الأصل والامارة إلا بما أشرنا سابقا (4) وآنفا (5) فلا تغفل (6)، هذا.
52

ولا تعارض (1) أيضا (2) إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الاخر

[1] وحيث كان تقديم الأظهر على الظاهر بملاك القرينية، فلا بأس
بالإشارة إلى معنى القرينة وإلى المناط في تقديمها على ذي القرينة،
فهنا جهتان:
الأولى: في معنى القرينة - المنطبق على جميع الموارد - وهو: أن
يكون في الكلام لفظان يدل أحدهما على قيام فعل بفاعل وعرض
بجوهر، ويدل الاخر على كيفية قيام ذلك الفعل أو العرض، فما يكون
حاكيا عن أصل قيام العرض. بمعروضه فهو ذو القرينة، وما
يكون حاكيا عن دخل حال أو وصف فيه فهو القرينة.
وبعبارة أخرى: اللفظ الدال على ركن الكلام من الفعل والفاعل و
المبتدأ والخبر هو ذو القرينة، واللفظ المتأخر الحاكي عن القيود و
الملابسات المعدودة بنظر العرف مبينة لتمام المراد من اللفظ المتقدم
هو القرينة، ولذا تكون القرينة غالبا متأخرة في اللفظ، لبناء أهل
المحاورة كثيرا على جعل المتأخر ناظرا إلى المتقدم. ولا يعتبر في
صدق القرينة كونها أقوى ظهورا من ذيها، إذ ملاك صدقها وتقدمها
على ذيها هو النظر والشرح، ولذا يقال في مثل (رأيت أسدا يرمي)
بتقدم ظهور (يرمي) في رمي النبال مع ضعفه - لكونه بالاطلاق -
على ظهور (أسد) في الحيوان المفترس مع قوته لكونه بالوضع.
ولكن ظاهر المتن أو صريحه: (مما كان أحدهما نصا أو أظهر) اعتبار
أظهرية القرينة، لان الكلام في تقدم الخاص المنفصل ونحوه من
القرائن المنفصلة، فلا بد من الأظهرية حتى يقدم على
53

كما في الظاهر مع النص أو الأظهر مثل العام والخاص (1)

الظهور المستقر في العام والمطلق.
أقول: لعل نظره (قده) في اعتبار الأظهرية في مثل الخاص والمقيد
المنفصلين وغيرهما من القرائن المنفصلة إلى أنه لما انعقد الظهور
في ذي القرينة كالعام والمطلق ونحوهما كان رفع اليد عنه منوطا بقيام
حجة على خلافه، إذ لا وجه لرفع اليد عن الحجة بغير الحجة، فلا
بد أن يكون ظهور القرينة أقوى من ظهور ذي القرينة حتى تصلح
للتقدم عليه. وأما في القرائن المتصلة فلا يعتبر فيها الأظهرية، لعدم
انعقاد ظهور في ذي القرينة حتى يتوجه اعتبار الأظهرية في القرينة.
فان كان هذا وجه اعتبار الأظهرية في القرائن المنفصلة فيتوجه عليه:
أن العبرة في تقدم القرينة على ذيها إنما هي بعدم مانع عن حجية
ظاهرها. وأما اعتبار أظهريتها من ذي القرينة في حجيتها وتقدمها على
ذيها فلا دليل عليه بعد وضوح أن المناط فيها نظرها إلى ذيها
وشرحها له، فان ذا القرينة وان كان ظاهرا في معناه غاية الظهور لا
يقاوم القرينة وان كان ظهورها أضعف الظهورات، لأنها تتكفل
لما لا يتكفله الاخر.
والظاهر أن تقديم الخاص والمقيد المنفصلين على العام والمطلق
ليس من باب القرينة إلا إذا كانا بلسان الشرح والتفسير، بل
تقديمهما عليهما من باب الأظهرية الموجبة عرفا لتقديمهما، فان
لسانهما لسان المعارضة، فإذا قال: (أكرم الأمراء ولا تكرم زيدا
الأمير) كان بمنزلة قوله: (أكرم زيدا ولا تكرمه) وليس (لا تكرم) مفسرا
ل (أكرم الأمراء) حتى ينطبق عليه ضابط القرينة، فاعتبار
الأظهرية في تقديم الخاص والمقيد في محله.
وبالجملة: لا مجال لاعتبار الأظهرية في تقديمهما مع جعلهما من
صغريات القرينة، بل قد عرفت عدم انطباق ضابط القرينة عليهما، و
كونه أجنبيا عنهما، هذا.
الجهة الثانية: أن المناط في تقديم القرينة على ذيها كما أشرنا إليه آنفا
هو ملاك تقديم الحاكم على المحكوم في الخطابات الشرعية من
النظر والشرح، لبناء العرف على تفهيم المراد الجدي بالكلام المعد
لتفسير المقصود من اللفظ المتقدم.
54

والمطلق والمقيد، أو مثلهما (1) مما كان أحدهما نصا أو أظهر، حيث
إن بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في
الاخر. [1]
و بالجملة: الأدلة في هذه الصور (2) وإن كانت متنافية بحسب

[1] لا يخفى أن قرينية النص أو الأظهر ترفع التعارض الذي هو موضوع
حكم العقل بالتساقط أو التخيير، لان موضوع حكمه بهما هو
التحير في مقام العمل بالدليلين وعدم إمكان الجمع بينهما، ويرتفع
هذا التحير بوجود الجمع الدلالي العرفي بينهما، ويخرجان به
موضوعا عن باب التعارض الذي هو موضوع الاخبار العلاجية أيضا.
فما عن الشيخ (قده) في العدة من عد العام والخاص مما تشمله
الاخبار العلاجية مما لم يظهر له وجه وجيه، وسيأتي التعرض لبعض
الكلمات في الفصل الخامس من هذا المقصد إن شاء الله تعالى.
ثم إنه يعتبر في تقديم الأظهر على الظاهر بملاك القرينية أمور:
الأول: أن موضوع البحث في هذا الجمع الدلالي هو الكلامان
الصادران من شخص واحد أو بمنزلته كالاخبار الصادرة عن الأئمة
الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، فإنهم عليهم السلام بمنزلة
شخص واحد، ولا يجري هذا في الامارات المتعارضة على
الموضوعات
كالبينتين المتعارضتين، فلا عبرة بقوة الدلالة، بل الأصل فيها التساقط
إلا بدليل خاص على الترجيح كتقديم بينة الداخل على
55

مدلولاتها (1)، إلا أنها غير متعارضة، لعدم (2)

بينة الخارج.
الثاني: أنه يعتبر احتمال صدور كلا الخبرين عن الإمام عليه السلام،
بمعنى عدم العلم بكذب أحد الراويين في حكاية الحكم عن الامام،
أو
اشتباهه في نقله، فلو علم إجمالا بكذب أحد الخبرين من الظاهر و
الأظهر لم يتجه الجمع بينهما، لان الجمع بين الدلالتين متفرع على
إحراز صدورهما، وإلا فأصالة السند في كل منهما تقتضي بالدلالة
الالتزامية عدم صدور الاخر من الإمام عليه السلام، ولازم عدم
صدوره عدم التعبد بدلالته أيضا، ومعه لا ينتهي الامر إلى التعارض
بين الدلالتين حتى يجمع بينهما.
وبعبارة أخرى: المدار في هذا الجمع إنما هو على التصرف في كلام
إمام ورد منه أو من إمام آخر على خلافه أظهر منه، وهذا يقطع
تفصيلا بعدمه، لأنه على تقدير كون الصادر هو الأظهر فلا ظاهر في
قباله حتى يقتضي الأظهر التصرف فيه. وعلى تقدير كون الصادر
هو الظاهر فلا أظهر في قباله، ومرجع ذلك إلى العلم بعدم صدور
ظاهر من الإمام (عليه السلام يجب التصرف فيه بحمله على الأظهر،
إما لعدم صدور الظاهر نفسه، وإما لعدم صدور أظهر على خلافه.
الثالث: أنهم اعتبروا في هذا الجمع بقاء مقدار من دلالة الظاهر لئلا
يلزم لغوية التعبد بسنده، فيكون تقديم الأظهر عليه في بعض مدلوله
لا تمامه. وهذا المعنى لا يخلو من خفاء وإن التزموا به في العام و
الخاص، ولذا قالوا بعدم جواز التخصيص البالغ حد الاستهجان، فإنه
-
بناء على كون التقديم بمناط شارحية القرينة للمراد النهائي من ذيها -
يلزم جريان ضابط الحكومة في المقام أيضا، من جواز تصرف
الحاكم في تمام مدلول المحكوم، إذ الحاكم يحدد موضوع المحكوم.
وليكن المقام كذلك، سواء أكان في حمل الامر الظاهر في الوجوب
على الاستحباب بقرينة التصريح بجواز الترك، أم في حمل المطلق
على المقيد، أم في العام والخاص، فإن تقديم القرينة على ذي القرينة
ليس إلا بمناط الشرح والتفسير بنظر أهل المحاورة، وهذا المناط
مطرد في جميع الموارد، فما يقال من اعتبار بقاء مقدار من دلالة
الظاهر مما لم يظهر له وجه وجيه. إلا أن يكون تقديم الخاص على
العام
بملاك آخر غير القرينية.
56

تنافيها (1) في الدلالة وفي مقام الاثبات بحيث (2) تبقى أبناء
المحاورة متحيرة (3)، بل [1] بملاحظة المجموع (4) أو خصوص
بعضها
يتصرف في الجميع (5) أو في البعض (6)

[1] سوق العبارة يقتضي إبدال (بل) ب (إذ) لان الظاهر أنه في مقام
تعليل عدم المنافاة في مقام الاثبات بين الدليلين، لا في مقام الترقي
من عدم المنافاة في مقام الاثبات إلى مطلب آخر كما يشهد بذلك
مفاد عبارته من قوله: (بل بملاحظة) إلى قوله: (تكون في البين) فإنه
ليس إلا وجه عدم المنافاة في مقام الاثبات الذي ادعاه بقوله: (لعدم
تنافيها في الدلالة).
57

عرفا (1) ترتفع به المنافاة التي تكون في البين.
ولا فرق فيها (2) بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا،
58

ان يكون الخاص قطعيا صدورا ودلالة، وإما أن يكون ظنيا من
إحدى الجهتين وقطعيا من جهة أخرى، وإما أن يكون ظنيا من
الجهتين.
59

ولو كان (1) بحسبه قطعيا.
وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور (2) مما (3) كان التنافي فيه
بين
60

الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات. وإنما يكون التعارض بحسب
السند فيها إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة، أو ظنيا (1)
فيما (2) إذا لم يكن (3) التوفيق بينها بالتصرف في البعض أو الكل
(4)، فإنه (5)
61

حينئذ (1) لا معنى للتعبد بالسند في الكل إما للعلم بكذب أحدهما،
أو لأجل (2) أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها (3)، فيقع (4)
التعارض بين أدلة السند كما لا يخفى.
62

فصل التعارض (1)
وإن كان لا يوجب إلا سقوط أحد
63

المتعارضين عن الحجية رأسا (1)، حيث (2) لا يوجب إلا العلم
بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع [1] عن حجية الاخر، إلا أنه (3)
حيث
كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا (4)،

[1] الأولى أن يقال: (رافع لمقتضي حجية الاخر) أو (لما يقتضي حجية
الاخر) ضرورة أنه (قده) يذكر بعد ذلك مانع الحجية في المدلول
المطابقي لكل من المتعارضين، فالعلم الاجمالي مانع عن حجية
الاخر، وليس رافعا لمقتضيها.
68

فإنه (1) لم يعلم كذبه إلا كذلك - واحتمال (2) كون كل منهما كاذبا -
69

لم يكن (1) واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه، لعدم [1 [2
التعيين في الحجية أصلا كما لا يخفى.
نعم (3) يكون نفي الثالث بأحدهما، لبقائه

[1] لعل الأولى أن يقال: (لعدم شمول دليل الاعتبار لهما مع العلم
بكذب أحدهما إجمالا الموجب لعدم شمول دليل حجية الخبر
لكليهما)
إذ هو المناسب لعدم حجية كل واحد منهما، دون تعليل المتن، فإنه
يناسب حجية أحدهما لا بعينه، دون عدم حجية كل منهما كما هو
مفاد
(لم يكن واحد منهما بحجة. إلخ) وقد عرفت أن أحدهما المردد
ليس فردا لعموم دليل الاعتبار حتى يكون مشمولا له.
70

على الحجية (1) وصلاحيته (2) على ما هو عليه من عدم التعيين
لذلك (3)، لا بهما (. [1 [4

[1] ما أفاده (قده) في حجية أحدهما بلا عنوان وما رتبه عليه من نفي
الثالث به لا يخلو من غموض. أما حجية أحدهما بلا عنوان فظاهر
قوله: (فلا يكون هناك مانع عن حجية الاخر) وقوله:
71

هذا (1) بناء على حجية الامارات من باب الطريقية كما هو (2)
كذلك،

(لبقائه على الحجية) كصريحه في حاشية الرسائل حجية أحدهما في
كلا مدلوليه المطابقي والالتزامي، قال فيها: (وليس ما علم كذبه إلا
أحدهما كذلك، فلا وجه لسقوط غيره عن الحجية بالنسبة إلى كلا
مدلوليه المطابقي والالتزامي، كما لا وجه لبقائه - أي لبقاء أحدهما
بلا
عنوان - على الحجية بالإضافة إلى مدلوله الالتزامي.). ومن
المعلوم أن حجية أحدهما في كلا المدلولين تنافي قوله: (لم يكن
واحد
منهما بحجة في خصوص مؤداه) فسقوط كلا المؤديين عن الاعتبار
لمكان التعارض واحتمال انطباق معلوم الكذب على كل واحد من
الخبرين - كما هو الصحيح - لا يلتئم مع بقاء أحدهما بلا عنوان على
الحجية مطلقا ولو كان مقصوده من إبقاء أحد المتعارضين على
الحجية نفي الثالث به - في قبال من نفي الثالث بهما - مع فرض تبعية
الدلالة الالتزامية للمطابقية فلا بد من تقريب آخر، وهو الذي
استفادة المحقق الأصفهاني من هامش المصنف (قدهما) على بحث
الوجوب التخييري، ومحصله: أن عدم ترتب الغرض المترقب من
جعل
الحجية لأحدهما بلا - عنوان وهو الحركة على طبقها - لا ينافي
صحة جعلها لغرض آخر وهو نفي الثالث بها. وهذا بيان آخر لنفي
الثالث سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
ومع الغض عن التهافت الظاهر من كلاميه - من حجية أحدهما في
المدلول المطابقي والالتزامي معا تارة، وسقوط المدلول المطابقي
فيه عن الاعتبار أخرى - لا وجه للالتزام بما أفاده (قده) وذلك لما
أورده عليه المحقق الأصفهاني من وجوه ثلاثة:
أولها: أن تعلق الحجية - بما هي صفة من الصفات - بالمردد محال، إذ
المردد بالحمل الشائع محال، لا ثبوت له ذاتا ووجودا، ماهية و
هوية، وما لا ثبوت له بوجه يستحيل أن يكون مقوما ومشخصا لصفة
حقيقية أو اعتبارية، فإن الصفة التعلقية متقومة بطرفها. وحيث
استحال الطرف لم يعقل تحقق تلك الصفة المتقومة به. مضافا إلى: أن
تعلق الصفة بالمردد يلزمه أمر محال وهو تردد المعين أو تعين
المردد، وكلاهما خلف.
72

حيث (1) لا يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته، فلا محالة كان
العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته (2).

ثانيها: أن حقيقة الحجية - سواء كانت بمعنى تنجيز الواقع أو جعل
الحكم المماثل إيصالا للحكم الواقعي بعنوان آخر - سنخ معنى لا
يتعلق
بالمردد، بداهة أن الواقع الذي له تعين واقعا هو الذي يتنجز بالخبر، و
هو الذي يصل به بعنوان آخر، فكيف يعقل أن يكون المنجز هو
المردد والمبهم؟ أو الواصل هو المردد والمبهم؟ ثالثها: أن الأثر
المترقب من الحجية - بأي معنى من المعنيين - هو لزوم الحركة على
طبق ما أدت إليه الحجة، والحركة نحو المبهم والمردد واللا متعين
غير معقولة، فإن البعث المطلق لا يتحقق، وإنما هو أمر انتزاعي
يتشخص بمتعلقه، فلا معنى لتعلق البعث بالمردد.
وبهذه الوجوه الثلاثة - الناظرة إلى كون الحجية صفة من الصفات، و
إلى معنى الحجية، وإلى الأثر المترقب منها - يناقش في تصوير
المصنف (قده) حجية أحد المتعارضين بلا عنوان.
ولو كان المحذور منحصرا في الاشكال الثالث كان التفكيك في
الحجية بين المدلول المطابقي والالتزامي ممكنا بلحاظ ما يستفاد من
كلام الماتن في هامش الوجوب التخييري من أن المحذور في حجية
المؤدى لا يمنع جعل الحجية لنفي الثالث، لما أفاده هناك من إمكان
اعتبار الوجوب لعنوان (أحدهما) لكون الوجوب أمرا اعتباريا مجعولا
لأمر اعتباري، إلا أن البعث والتحريك - المترتب على إيجاب
شئ - نحو المردد غير معقول.
73



مع أن أصل هذا البيان ممنوع أيضا بما أفاده المحقق الأصفهاني هناك،
فراجع كلامه متنا وهامشا.
ومنه تعرف الاشكال في كلام المحقق المشكيني (قده) من (أن
الاعتبارات الوضعية على قسمين، فمنها ما يتعلق بالمعين كالزوجية، و
منها ما يتعلق به وبأحدهما لا بعينه كالملكية، والظاهر أن الحجية من
قبيل القسم الثاني) لما عرفت من أن الغرض من الحجية بعث
المكلف نحو المتعلق، ولا يعقل البعث نحو المبهم. وهذا المقدار
اعترف المصنف به في هامش بحث الوجوب التخييري، وإنما ادعى
إمكان إيجاب أحد الفردين لكون الوجوب أمرا اعتباريا.
وأما بيع صاع من صبرة والوقف على أحد المسجدين ونحوهما مما
ظاهره تعلق الامر الاعتباري الوضعي بالمردد فهو أجنبي عن
المقام، وتحقيقه موكول إلى الفقه الشريف.
ومع الغض عن جميع ما تقدم يرد عليه إشكال آخر أفاده شيخنا
المحقق العراقي ووافقه سيدنا الأستاذ في حقائقه، ومحصله: أن العلم
الاجمالي بكذب أحد الخبرين لا يمنع شمول دليل الاعتبار لكل
واحد من المتعارضين إلا على مبنى سراية العلم إلى الخارج، وهو
ممنوع،
فان متعلق العلم هو الصورة الاجمالية، وهذا لا يسري إلى صورة
أخرى ولا إلى الخارج، وكل منهما مشكوك الكذب، ولا مانع من
شمول دليل الاعتبار لكل خبر محتمل الصدق والكذب، والخارج
عن الحجية هو معلوم الكذب، إذ العلم بالكذب هادم للمقتضي وهو
احتمال الصدق.
فإن قلت: العلم الاجمالي بالكذب وإن كان لا يسري إلى الخارج، إلا
أنه ينجز متعلقه، فيجب الاحتياط في أطرافه.
قلت: الكذب الواقعي لا يمنع عن شمول دليل الحجية حتى يكون
العلم به علما بالمانع، وإلا لزم اختصاص الحجية بما هو معلوم
الصدق، و
هو خلف، بل لا معنى لجعل الحجية لما هو معلوم الصدق، فإن
موضوع دليل الاعتبار ما فيه احتمال الإصابة، فلا دخل للصدق و
الكذب
الواقعيين في اعتبار الحجية للخبر. وحيث لا علم بكذب أحدهما
بالخصوص ولم يكن الكذب الواقعي مانعا فلا يمنع العلم الاجمالي
بكذب
أحدهما عن شمول دليل الاعتبار لهما.
وينحصر الوجه في أصالة التساقط في امتناع التعبد بالمتناقضين أو
المتضادين، ودخول أحدهما بعينه تحت دليل الحجية دون الاخر
بلا مرجح ممتنع، وأحدهما لا بعينه ليس فردا للعام، فلا بد من
خروجهما معا عن دليل الاعتبار.
74



وأما حجية أحدهما تخييرا - وهي أحد محتملات المسألة - فتقريبه:
أن مفاد أدلة اعتبار الامارة وإن كان حجية كل فرد تعيينا لا تخييرا
بينه وبين غيره، ومقتضاه سقوط كليهما حال التعارض، لامتناع التعبد
بالمتناقضين أو المتضادين، إلا أنه لا مانع من تقييد إطلاق حجية
كل واحد منهما بترك الاخذ بالآخر، بدعوى: أن العقل إذا لاحظ امتناع
وجوب الاخذ بهما عينا مع كون المتكلم حكيما لا يكلف بما ليس
بمقدور ولا بالتطرق إلى الواقع بما علم كذبه، استكشف عن الخطاب
الظاهر شموله لصورة التعارض أن الحكم فيهما هو الوجوب
التخييري.
ولكنه ممنوع أيضا بأن لازمه حجية كل منهما عند ترك الاخذ بهما
معا، فيعود محذور التعبد بالمتناقضين، فكيف يستكشف العقل
خطابا تخييريا؟ فإيكال حجية كل منهما إلى ترك الاخذ بالآخر غير
مفيد، إذ لازمه حجية كليهما عند ترك الاخذ بهما.
مضافا إلى: أن لازمه حجية معلوم الكذب، وهو مخالف للعلم بعدم
حجيته.
ولا تقاس الحجية التخييرية المستفادة من تقييد دليل الاعتبار على
التخيير الثابت بأخبار التخيير بين الخبرين المتعارضين، وذلك لان
المقصود إثبات التخيير بنفس الأدلة الأولية بتقييد إطلاقها الظاهر في
الحجية التعيينية. وأما أخبار التخيير فهي دليل ثانوي يدل على
لزوم الاخذ بأحدهما، والمؤاخذة بمخالفة الواقع لو ترك العمل بهما،
كالمخالفة على ترك الواقع في الشبهة البدوية قبل الفحص. ومن
المعلوم الفرق بين وجوب الاخذ بأحدهما بدليل ثانوي وبين ما يدل
على حجية أحدهما عند الاخذ به، فالأخذ واجب بمقتضى الاخبار،
و
شرط الحجية بمقتضى التقييد، فلا وجه للقياس المزبور.
وأما سائر المحتملات من حجية أحدهما تعيينا وهو الموافق للواقع،
وحجية كليهما وغيرهما فقد عرفت من مطاوي ما تقدم بطلانها، و
لا جدوى في التعرض لها تفصيلا، وإن شئت الوقوف عليها، فراجع
حاشية الرسائل وحاشية المحقق الأصفهاني (قده).
وأما نفي الثالث - ومورده ما إذا لم يعلم من الخارج موافقة أحد
المتعارضين للواقع وقد اشتبه بالآخر ظاهرا، فإنه يصلح الموافق
الواقعي لنفي الثالث قطعا - فاستدل له بوجوه:
منها: نفيه بأحدهما لا بعينه كما تقدم من المصنف.
ومنها: نفيه بكليهما، وقد تقدم نقله عن حاشية الرسائل في التوضيح.
ومنها: نفيه بكليهما بتقريب آخر، مذكور في تقرير بحث سيدنا الفقيه
الأعظم الأصفهاني (قده)، ومحصله: أن لكل واحد من
المتعارضين مدلولا مطابقيا ومدلولين التزاميين، والتعارض يوجب
75



سقوطهما في المؤدى وفي إحدى الدلالتين الالتزاميتين، وتبقى
الدلالة الالتزامية الأخرى في كليهما سليمة عن المعارض، فتصلح
لنفي
الثالث، مثلا إذا دل أحدهما على الوجوب والاخر على الاستحباب،
فالدال على الوجوب يدل عليه بالمطابقة وعلى نفي الاستحباب تارة
وعلى نفي الكراهة أخرى، وكاد الدال على الاستحباب يثبت
الاستحباب بالمطابقة، وينفي الوجوب أولا والكراهة ثانيا، و
التعارض
بين المدلولين المطابقيين بالتضاد، وبين مؤدى أحدهما والمدلول
الالتزامي الأول بالتناقض من جهة أنه ينفي ما يثبته الاخر، وأما
الدلالة الالتزامية الثانية فلا يتعارض الخبران فيها لا بالتضاد ولا
بالتناقض، لدلالة كليهما على عدم جعل الكراهة ومنها: نفيه
بكليهما بتقريب آخر أفاده المحقق النائيني (قده)، توضيحه: أن
الدليلين إن كانا متعارضين في المؤدى بأنفسهما فهما يشتركان في نفي
الثالث الخارج عن المؤديين، كدلالة أحدهما على وجوب الدعاء عند
رؤية الهلال والاخر على حرمته عندها، وذلك لان اللازم وإن كان
تابعا للملزوم ثبوتا وإثباتا، إلا أنه ليس تابعا له في الحجية، لان الاخبار
عن الملزوم ينحل إلى إخبارين أحدهما إخبار عن الملزوم، و
الثاني إخبار عن اللازم، ودليل الحجية شامل لكليهما، وبعد سقوط
الاخبار عن الملزوم عن الحجية بالمعارضة لا وجه لرفع اليد عن
الاخبار عن اللازم، لتوافقهما على نفي الثالث.
وإن كانا متعارضين لأمر خارج فلا يشتركان في نفي الثالث، ويجوز
الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة من البراءة أو الاحتياط،
كما إذا دل أحدهما على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة والاخر على
وجوب صلاة الجمعة، وثبت عدم وجوب صلاتين في يوم واحد قبل
صلاة العصر، فإن التعارض بينهما ليس في نفس المدلولين، بل لقيام
دليل من الخارج، فهما لا يشتركان في نفي الثالث.
ومنها: نفيه بذات الخبرين لا بما هما حجتان، لفرض سقوطهما عن
الحجية، ولكنهما بما لهما من الدلالة والكشف عن الواقع ينفيان
الثالث.
هذا ما استدل به على نفي الثالث بالمتعارضين.
أما نفيه بأحدهما فقد تقدم توقفه على إمكان جعل الحجية للمبهم و
المردد، ومع امتناعه لا معنى لنفي الثالث به.
وأما نفيه بكليهما سواء قلنا بتعدد الدلالة الالتزامية أم بوحدتها، فقد
ناقش فيه سيدنا الفقيه الأصفهاني (قده) فيه تارة: بانتفاء الدلالة
الالتزامية رأسا، فلا إخبار بالنسبة إلى اللازم حتى يشمله دليل الاعتبار،
فإذا أخبر زرارة بأن الإمام عليه السلام قال بوجوب الدعاء عند
رؤية الهلال، فأدلة
76



حجية الخبر تقتضي تصديق زرارة فيما أخبر به، فيثبت مدلوله
المطابقي وهو صدور الحكم بالوجوب، ولازم وجوبه عدم كراهته، و
ليس صدور الحكم بالوجوب من الإمام عليه السلام مستلزما لنفي
الكراهة ما لم يثبت نفس المضمون أعني الوجوب، والمفروض عدم
ثبوت المؤدى، لسقوطه بالتعارض.
والحاصل: أن الاخبار عن اللازم كالاخبار عن الملزوم أمر قصدي
منوط بالالتفات إليه حتى يصح إسناد اللازم إلى المخبر كإسناد
الملزوم إليه، وحيث إنه لم يثبت نفس الاخبار عن الملزوم فلا إخبار
عن اللازم أيضا.
وأخرى: بأنه لو سلمت دلالة الاخبار عن الملزوم على الاخبار عن
اللازم بالالتفات إليه ولو إجمالا فبمنع حجيته، لكونه دلالة عقلية، و
الموضوع لدليل اعتبار الظواهر هو الدلالة اللفظية.
وثالثة: بأنه لو سلمت حجية الدلالة الالتزامية فبمنع حجيتها في المقام
بعد فرض عدم حجية الدلالة المطابقية. والقول برفع اليد عن
خصوص حجية الدلالة المطابقية في حال التعارض لا عن أصل
الدلالة، لان التبعية تكون في الوجود دون الحجية ممنوع، لان الدلالة
الالتزامية إما أن تكون بنفسها مشمولة لدليل الاعتبار في قبال حجية
الدليل في المدلول المطابقي بلا تبعية في البين، فتخرج حينئذ عن
الدلالة الالتزامية، وهو خلف، وإما أن تكون حجيتها ناشئة عن حجية
الدلالة المطابقية ولازمة لحجيتها، فما لم يثبت حجية المطابقية لم
يثبت حجية الالتزامية، والمفروض سقوط الخبرين عن الحجية في
الدلالة المطابقية، فاللازم سقوطهما في الالتزامية أيضا، لان سقوط
الأصل مستلزم لسقوط الفرع.
أقول: ما أفاده (قدس الله نفسه الزكية) من الوجهين الأولين لا يخلو من
غموض. أما إنكار أصل الدلالة الالتزامية في بعض موارد
الاخبارات والحكايات فلا كلام فيه. وأما إنكاره في موارد الاخبار
بالأحكام الشرعية فممنوع، فإن إخبار مثل زرارة بصدور الحكم
بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن انتفاء سائر الأحكام
التكليفية عن الدعاء عندها قطعا، إذ مع وضوح تضاد الاحكام بأنفسها
أو بالنسبة إلى ما يترتب عليها في مرحلة الامتثال فالاخبار بواحد منها
يستلزم انتفاء غيرها عن صفحة التشريع، لتحقق كل من القصد و
الالتفات بالنسبة إليها كتحقق الالتفات الاجمالي في الاخبار عن طلوع
الشمس بالنسبة إلى وجود النهار.
نعم قد لا يلتفت المخبر إلى لازمه كلامه تفصيلا. لكن الظهار كفاية
الالتفات الاجمالي الارتكازي في باب الحكايات والأقارير، ولذا
يؤخذ المقر بلازم كلامه إذا كان مما يلتفت إليه نوعا وان ادعى المقر
غفلته عنه.
77



والحاصل: أن استلزام الاخبار بالوجوب لانتفاء الكراهة والإباحة و
نحوهما يعد من استلزام الملزوم للازمه البين بالمعنى الأخص الذي
لا مجال لانكار الملازمة أو الغفلة عنها.
وأما الوجه الثاني - وهو إنكار حجية الدلالة الالتزامية لكونها دلالة
عقلية - فهو كسابقه في الغموض، فإن دليل اعتبار ظواهر الكلام
ليس لفظيا حتى يقال باختصاص دلالته على حجية المدلول اللفظي
بالمطابقي والتضمني فحسب، وبقاء حجية المدلول الالتزامي تحت
أصالة عدم الحجية. وإنما الدليل على اعتبار ظواهر الألفاظ هو السيرة
العقلائية الممضاة، ومن المعلوم صحة مؤاخذتهم على كل من
ظاهر اللفظ ولازمه البين الملتفت إليه نوعا، ويكون عدم ترتيب أثر
اللازم بمنزلة عدم ترتيب أثر الملزوم في كونه طرحا لظاهر
الكلام.
وليس المدعى جواز الاحتجاج بمطلق اللوازم حتى اللازم البين
بالمعنى الأعم الذي يتوقف الالتفات إليه على تمهيد مقدمات، بل
المدعى
حجية اللازم البين الذي يلتفت إليه نوع العقلاء.
و حيث إن نفي الثالث مدلول التزامي بين وكانت الدلالة العقلية حجة
كالدلالة اللفظية فلا سبيل لطرح الدلالة الالتزامية - بعد تسليم أصل
الاستلزام - بدعوى اختصاص حجية الظواهر بالدلالة اللفظية
المطابقية.
وأما الوجه الثالث - وهو مركز النزاع في حجية المتعارضين في نفي
الثالث وعدمها - فالحق ما أفاده سيدنا الفقيه الأصفهاني (قدس
سره)، وبه يشكل استدلال المحقق النائيني (قده) وغيره من تبعية
الدلالة الالتزامية للمطابقية في الوجود دون الحجية.
وتوضيحه أزيد مما تقدم في كلامه هو: أن الاخبار عن الملزوم وإن
كان إخبارا عن اللازم، وكل منهما قد شملته عناية الجعل، إلا أن
الاخبار بالملزوم ليس إخبارا عن اللازم بوجوده السعي، بل هو إخبار
عن حصة خاصة هي لازمة له، وهذه الحصة الخاصة بما أنها لازمة
للملزوم، فهي تتبعها في الوجود، وبانتفاء الملزوم ينتفي لازمه، ولا
موضوع للحجية.
مثلا إخبار الراوي بوجوب شئ يستتبع الاخبار بعدم إباحته، لكن
هذه الإباحة المنفية ليست مطلقة بمعنى كونها مدلول دليل الوجوب
أو الكراهة أو الاستحباب أو الحرمة، بل هي إباحة خاصة لازمة
للوجوب، بحيث لو تردد الراوي وشك في صدور الوجوب من
الشارع
لما أخبر عن عدم الإباحة قطعا، بل توقف عن الاخبار به.
وكذا لو أخبرت البينة بإصابة الدم للاناء، فإنه ليس إخبارا عن النجاسة
المطلقة المسببة عن إصابة عين النجس مهما كان، بل هو إخبار
عن النجاسة الحاصلة بوقوع الدم فيه، فإذا علمنا بكذب
78

وأما (1) بناء على حجيتها من باب السببية،

البينة في إخبارها بوقوع الدم علمنا بكذبها في الاخبار عن نجاسة
الاناء. وأما النجاسة بسبب آخر فهي وإن كانت محتملة، إلا أنها
خارجة عن مفاد البينة.
مع أنه قد تقرر عدم التسبب بين وجود الضد وعدم الضد الاخر حتى
يقال ببقاء المسبب عند انتفاء سببه، بل هما متلازمان.
هذا مضافا إلى النقض على هذه المقالة بموارد نبه عليها بعض أعاظم
العصر (مد ظله).
منها: ما لو قامت بينة على وقوع قطرة من البول على ثوب، وعلمنا
بكذب البينة، ولكن احتملنا نجاسة الثوب بشئ آخر كوقوع الدم
عليه مثلا، فهل يمكن الحكم بنجاسة الثوب، لأجل البينة المذكورة؟
باعتبار أن الاخبار عن وقوع البول إخبار عن نجاسته، لكونها لازمة
لوقوع البول عليه، وبعد سقوط البينة عن الحجية في الملزوم - للعلم
بالخلاف - لا مانع من الرجوع إليها. ولا يظن أن يلتزم به فقيه.
ومنها: ما لو كانت دار تحت يد زيد وادعاها عمرو وبكر، فقامت بينة
على كونها لعمرو، وبينة أخرى على كونها لبكر، فبعد
تساقطهما في مدلولهما المطابقي للمعارضة هل يمكن الاخذ بهما في
مدلولهما الالتزامي والحكم بعدم كون الدار لزيد وأنها من المال
المجهول المالك.
ومنها: غير ذلك، فراجع.
ومما تقدم ظهر عدم إمكان نفي الثالث بذات الخبرين، لتوقف نفي
الحكم الشرعي كإثباته على الحجة، فمع الاعتراف بعدم حجية
المتعارضين وفرضهما كالعدم يندرج نفي الثالث بما هما خبران في
القول بغير العلم.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أن الأصل الأولي في تعارض
الامارات على الطريقية هو التساقط مطلقا من غير فرق بين المؤدى و
نفي
الثالث.
79

فكذلك (1) لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون
80

المقتضي للسببية فيها إلا فيه (1) كما هو (2) المتيقن من دليل اعتبار
غير السند منها وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور لا
للتقية ونحوها. وكذا (3) السند لو كان دليل اعتباره هو بناءهم أيضا، و
ظهوره (4) فيه [1] 5 لو كان هو الآيات والاخبار،

[1] لا يخفى أن عطف (ظهوره) على (المتيقن) يقتضي أن تكون العبارة
هكذا (وظاهره) أي:
81

ضرورة [1 [1 ظهورها فيه (2) لو لم نقل بظهورها (3) في خصوص ما
إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
وأما (4) لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان

وظاهر دليل اعتبار السند، ليناسب المعطوف عليه حتى يصير المعنى
(هو المتيقن من دليل اعتبار السند إن كان دليل اعتباره بناءهم،
وظاهره إن كان دليل اعتبار السند الآيات والاخبار).
وعليه فكلمة (فيه) مستغنى عنها. كما أنه لا بد من إبدال (ظهوره) ب
(وظاهره) فتدبر في صناعة العبارة وإن كان المراد واضحا.
[1] لا يخلو هذا التعليل من المصادرة، لوحدة المدعى والدليل، حيث
إن كليهما ظهور الآيات والروايات في كون مقتضى السببية
خصوص ما لم يعلم كذبه أو خصوص ما يوجب الظن أو الاطمئنان
بالصدق، فلعل الأولى أن يقال: (ضرورة انصراف إطلاقها ولو لأجل
طريقية الامارات وتشريعها تأسيسا أو إمضاء لانجاز الواقعيات إلى ما
يوجب الكشف المعتد به من الظن بل الاطمئنان) حتى يتميز
البرهان عن المدعي.
82

التعارض

[1] اعترض السيد الفقيه صاحب الوسيلة على حكم المصنف
(قدهما) بالتخيير في هذه الصورة بأجنبية المقام عن التخيير في
المتزاحمين،
فإن حكومة العقل بالتخيير بينهما إنما هي من جهة العجز عن امتثالهما
بعد تمامية الملاك في كليهما، وهذا بخلاف المقام، فإن التخيير
بينهما يكون شرعيا، لحجية الامارة شرعا على السببية المقتضية
لحدوث مصلحة ملزمة في المؤدى، وصيرورة كل منهما أحد فردي
الواجب التخييري، فيتخير في العمل به شرعا لا عقلا.
أقول: لم يظهر مرامه رفع مقامه، فإن الصلاة والإزالة من أوضح
صغريات باب التزاحم، والتخيير بينهما على فرض تساويهما ملاكا
عقلي لا شرعي، لكون المجعول نفس المؤدى وهو وجوب الإزالة و
الصلاة تعيينا، إذ مقتضى سببية كل أمارة لحدوث مصلحة في مؤداها
هو جعل حكم تعييني لمؤداها، ولم يظهر منشأ لجعل حكم تخييري
بين الامارتين، وإنما التخيير نشأ من حكم العقل به، لعجز المكلف عن
موافقة كلتا الامارتين، فالتخيير هنا هو التخيير العقلي الثابت في سائر
موارد التزاحم.
83

بينهما من تزاحم الواجبين [1 [1 فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب
الضدين أو لزوم المتناقضين (2)، لا فيما (3) إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير

[1] الأولى تبديله ب (الحكمين) ليشمل لزوم المتناقضين، ضرورة أنه
ليس من موارد تزاحم الواجبين، بل من تزاحم الحكمين وإن كان
أحدهما عدميا، لكونه حكما أيضا.
[2] وهنا صورة أخرى لم يتعرض لها الماتن، وهي: قيام أمارتين على
حكمين إلزاميين لفعلين لا تضاد بينهما ذاتا كدلالة إحداهما على
وجوب الظهر والأخرى على وجوب الجمعة، مع العلم الاجمالي
بعدم وجوبهما معا. وحكم هذه الصورة معاملة وجوب كلا الفرضين،
لوجود المصلحة في كل منهما من أجل قيام الامارة عليه. والعلم
الاجمالي بعدم وجوب أحدهما واقعا لا ينافي وجوبهما معا بعنوان
ثانوي
وهو قيام الامارة عليه.
وهذا نظير العلم الاجمالي بحرمة أحد الكأسين لإصابة القذر به، مع
تعلق الحلف بترك شربهما معا، فإن حلية أحدهما واقعا من جهة العلم
الاجمالي بطهارته لا تنافي وجوب الاجتناب عنهما بسبب طروء
عنوان الحلف على تركهما، كما لا تنافي وجوب الاجتناب عنهما عقلا
لتحصيل اليقين بالاجتناب عن النجس الواقعي المعلوم إجمالا.
84

إلزامي، فإنه (1) حينئذ لا يزاحم الاخر، ضرورة (2) عدم صلاحية ما
لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه (3) الاقتضاء.
إلا أن يقال (4): بأن قضية اعتبار دليل غير الإلزامي

[1] الظاهر من عبارة الشيخ: (فيصير المتعارضان من قبيل السببين
المتزاحمين، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لأعمال
الاخر كما في كل واجبين متزاحمين) هو إجراء حكم المتزاحمين في
خصوص ما كان وصف السببية فيه كما في كل واجبين متزاحمين،
فإذا كان وصف السببية في أحدهما دون الاخر فهو عند الشيخ أيضا
خارج عن التزاحم، فيمكن استظهار تفصيل المصنف من كلام الشيخ
أيضا، والتأمل في صحة نسبة إجراء حكم المتزاحمين إلى الشيخ في
الامارات المتعارضة بناء على حجيتها من باب السببية مطلقا.
85

أن يكون (1) عن اقتضاء، فيزاحم به (2) حينئذ ما يقتضي غير
الإلزامي، ويحكم فعلا بغير الإلزامي، ولا يزاحم (3) بمقتضاه [1 [4
ما (5)
يقتضي غير الإلزامي، لكفاية عدم تمامية علة الإلزامي في الحكم (6)
بغيره.

[1] الظاهر كون العبارة (بمقتضيه) حتى يناسب ما بعده من قوله: (ما
يقتضي غير الإلزامي) إذ المقصود فرض التزاحم بين المقتضيين،
لكن المذكور فيما ظفرنا به من نسخ الكفاية هو (بمقتضاه).
86

نعم (1) يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا (2) لو كان قضية

ثم إن ما أفاده (قده) - من عدم تأثير ملاك الحكم الإلزامي في فعليته،
لوجود المانع وهو ما يقتضي الحكم غير الإلزامي، وكون الحكم
الفعلي غير الإلزامي - مبني على كون عدم ما يقتضي الحكم غير
الإلزامي دخيلا في موضوع الحكم الإلزامي حتى يستند عدم تشريعه
إلى
عدم تمامية موضوعه. نظير ما قيل: من دخل عدم استلزام الحج لترك
واجب أو فعل حرام في الاستطاعة التي هي موضوع وجوب الحج.
وهذا أجنبي عن باب التزاحم المنوط بتمامية الموضوع والحكم في
كل واحد من المتزاحمين، وكون المانع عدم قدرة المكلف على
امتثالهما معا.
وعليه ففي تزاحم الحكم الإلزامي وغيره يقدم الإلزامي على غيره،
لأقوائية ملاكه من ملاك غيره.
كما أن الحق في وجوب الحج عدم دخل عدم استلزامه لترك واجب
أو فعل حرام في موضوعه المفسر في الروايات بأمور ليس الاستلزام
المزبور منها، بل وجوب الحج وترك ذلك الواجب أو فعل الحرام
متزاحمان، ويقدم ما هو الأعم منهما.
87

الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام (1) بما يؤدي إليه من الاحكام، لا
مجرد (2) العمل على وفقه (3) بلا لزوم الالتزام به. وكونهما (4) من
تزاحم الواجبين حينئذ (5) وإن كان واضحا، ضرورة (6) عدم إمكان
الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام، إلا أنه (7) لا دليل
نقلا ولا عقلا على الموافقة
88

الالتزامية للأحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية [1] كما مر تحقيقه (1).
وحكم (2) التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم (3)
هو التخيير لو لم يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة
(4) حسبما فصلناه في مسألة الضد (5).

[1] لا يخفى أن المناسب جعل مؤديات الامارات بناء على
الموضوعية من الاحكام الواقعية الثانوية، لأنها كالأحكام الاضطرارية
في طول
الاحكام الأولية، ضرورة أن ثبوت حكم - بسبب قيام خبر الثقة عليه -
في طول الحكم الثابت للشئ بعنوانه الأولي، وتسميتها بالأحكام
الظاهرية إنما هي لأجل كون موضوعها الامارات غير العلمية، نظير
الأصول العملية التي هي أحكام ووظائف للجاهل. والفرق بينهما
إن نفس خبر الثقة من دون لحاظ الجهل موضوع للحكم، بخلاف
الحكم في الأصل العملي، حيث إن الشك لوحظ فيه موضوعا، دون
الامارة، فإنه لوحظ فيها موردا، لعدم تعقل التعبد مع العلم بالوفاق أو
الخلاف.
89

وإلا (1) فالتعيين. وفيما (2) لم يكن من باب التزاحم هو (3) لزوم
الاخذ بما دل على الحكم الإلزامي لو لم يكن (4) في الاخر مقتضيا [1]
لغير الإلزامي،

[1] الصواب (مقتض) بدون الألف والياء، ليكون اسم (يكن).
90

وإلا (1) فلا بأس بأخذه والعمل عليه، لما أشرنا إليه من وجهه (2)
آنفا، فافهم (3).
هذا (4) هو قضية القاعدة في تعارض الامارات،

ثم إن ما أفاده (قده) من تقدم غير الإلزامي الذي فيه الاقتضاء على
الإلزامي معللا ذلك بكفاية عدم تمامية علة الإلزامي في الحكم غير
الإلزامي غير ظاهر، إذ بعد فرض وجود المقتضي في كليهما وكون
أحدهما مقتضيا لتشريع الحكم الإلزامي فهل يتصور أن لا يكون
أهم من الملاك الذي لا يقتضي إلا حكما ترخيصيا؟ ولو سلمنا عدم
أهمية الملاك الإلزامي من الملاك الترخيصي، فلا أقل من التساوي
المسقط لكلا الملاكين عن التأثير، فيصير الحكم غير الإلزامي لا عن
اقتضاء. وهذا خلاف ما فرضه (ره) من كون غير الإلزامي عن
اقتضاء.
هذا كله مضافا إلى افتقار كل حكم إلى تمامية علته من المقتضي و
عدم المانع، فلو كان مقتضي الحكم غير الإلزامي مانعا عن فعلية
الحكم
الإلزامي كان مقتضي ذلك أيضا مانعا عن فعلية الحكم غير الإلزامي.
91

لا الجمع (1) بينهما بالتصرف في أحد المتعارضين، أو في كليهما كما
هو (2) قضية ما يتراءى مما قيل من (3): (الجمع مهما أمكن أولى من
الطرح)
92

إذ (1) لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما [1] كان المجموع أو
أحدهما قرينة على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته
في الصور السابقة (2).
مع (3) أن في الجمع كذلك (4) أيضا (5) طرحا للامارة أو الامارتين (6).

[1] هذا بيان ل (ما) الموصول في (فيما لا يساعد) ومقتضاه حينئذ كون
قوله: (المجموع أو أحدهما قرينة عرفية. إلخ) بيانا لما لا يساعد
عليه العرف. مع أنه ليس كذلك، بداهة أن ذلك - أي كون المجموع أو
أحدهما قرينة عرفية. إلخ - من الجمع العرفي الذي يساعد عليه
العرف.
فالأولى أن تكون العبارة هكذا: (إذ لا دليل عليه - أي على الجمع في
غير ما يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما إلخ) حيث
إن (مما) حينئذ بيان ل (ما يساعد عليه العرف) لا لما لا يساعد عليه
العرف كما واضح. أو يقال: (إذ لا دليل عليه في غير موارد الجمع
العرفي، كما إذا كان المجموع أو أحدهما. إلخ) فتأمل في العبارة.
93

ضرورة (1) سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه (2).
وقد عرفت (3) أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيين
(4)، وفي السندين إذ كانا ظنيين (5). وقد عرفت (6) أن قضية
التعارض إنما هو
94

سقوط المتعارضين في خصوص (1) كل ما يؤديان إليه من الحكمين،
لا بقاؤهما (2) على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما (3)، أو
بقاء (4) سنديهما عليها (5) كذلك (6) بلا (7) دليل يساعد عليه من
عقل أو نقل، فلا يبعد (8)
95

أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا. ولا ينافيه (1)
الحكم بأنه أولى مع لزومه (2) حينئذ (3) وتعينه، فإن (4) أولويته من
قبيل الأولوية في
96

(أولي الأرحام) وعليه (1) لا إشكال فيه ولا كلام.
97

فصل (1)
لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات إنما هو بملاحظة
القاعدة (2) في تعارضها (3)، وإلا (4) فربما يدعى الاجماع على
عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار كما اتفقت عليه (5) كلمة غير
واحد من الاخبار (6).
98

ولا يخفى (1) أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو
التخيير بينهما هو (2) الاقتصار على الراجح منهما، للقطع (3) بحجيته
تخييرا أو
99

تعيينا، بخلاف الاخر (1)، لعدم القطع بحجيته، والأصل عدم حجيته [1 [2

[1] لا يقال: بمنع جريان أصالة التعيين في المقام، لاندراجه في الشك
السببي والمسببي، ومع جريان الأصل في السبب لا مجال لجريان
الأصل في المسبب، وبيانه: أن كل واحد من الخبرين المتفاضلين في
المزايا حجة شأنا، لاشتمال كليهما على شرائط الحجية، وإنما يشك
في حجية المرجوح فعلا من جهة احتمال مانعية المزية في الخبر
الراجح عن الحجية الفعلية في الخبر الفاقد لتلك المزية، ولا مانع من
جريان أصالة عدم مانعية المزية الموجودة في الراجح عن حجية
المرجوح.
ومعه يثبت التخيير بين الخبرين، لشمول أدلة حجية الخبر لكل منهما
من جهة إجماع شرائط الحجية فيهما، فكل منهما خبر عدل أو ثقة و
حجة لولا التعارض. ولا تجري أصالة التعيين هنا، وإنما تجري إذا
شك في أصل حجية شئ تخييرا بينه وبين شئ مقطوع الحجية،
فان
القاعدة تقتضي التعيين.
فإنه يقال: لا تجري أصالة عدم مانعية المزية الموجودة في الخبر
الواجد لها حتى يثبت التخيير بين الخبرين المتفاضلين، وذلك لما
تقرر في الاستصحاب من جريانه في موردين، أحدهما كون
المستصحب مجعولا شرعيا، والاخر كونه موضوعا لحكم شرعي، و
ليست
مانعية المزية حكما ولا موضوعا له. أما عدم كونها حكما شرعيا
فلوضوح أن الشارع جعل الخبر الواجد للمزية - كخبر الأعدل والأفقه
- حجة تعيينية، وليس معنى حجيته تعيينا جعل مزيته مانعة عن
حجية الخبر الفاقد لها، بل معناها كون المزية مقتضية للحجية
التعيينية. و
أما حجية كلا المتعارضين تخييرا فهي معلول وجود ملاك الحجية
التخييرية في كل منهما من احتمال إصابة الواقع، وليست معلولا لعدم
اعتبار المزية.
وأما عدم كون المزية موضوعا لحكم الشارع بالمانعية فلان حجية
الخبر المرجوح لم تترتب في شئ من الأدلة على عدم وجود المزية
في الخبر الاخر حتى تستفاد المانعية من ذلك الترتب كي يجري
الأصل فيها.
ولو فرض ترتب عدم حجية المرجوح على اقتضاء المزية للحجية
التعيينية كان الترتب عقليا لا شرعيا، مع أن المعتبر في حكومة الأصل
السببي على المسببي كون التسبب شرعيا كما في الموضوع والحكم.
ولو فرض تسبب الحجية التخييرية عن عدم اعتبار المزية شرعا
فهو ترتب عقلي لا شرعي، لان معنى اعتبار المزية شرعا كونها مقتضية
للحجية التعيينية، ومن المعلوم أن أصالة عدم
100

ما لم يقطع بحجيته، بل (1) ربما ادعي الاجماع أيضا على حجية
خصوص الراجح.
واستدل عليه (2) بوجوه اخر (3) أحسنها (4) الاخبار، وهي (5)
على طوائف:

المقتضي لا يترتب عليها شرعا عدم مقتضاه، فإن الترتب وعدمه
عقليان لا شرعيان.
وعليه فليس مقتضى أصالة عدم اعتبار المزية عدم حجية الراجح
تعيينا، فضلا عن حجية المرجوح تخييرا. وحينئذ تنتهي النوبة إلى
أصالة التعيين في الحجية، للعلم بحجية واجد المزية والشك في
حجية فاقدها، فلا بد من الاقتصار عقلا على معلوم الحجية.
101

منها (1): ما دل على التخيير على الاطلاق (2):
كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام: (قلت: يجيئنا الرجلان
وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا يعلم أيهما الحق، قال: فإذا لم
يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت) (3).
102

وخبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا سمعت
من أصحابك الحديث وكلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد
عليه) (1).
103

ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام: (اختلف
أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام في ركعتي الفجر،
فروى بعضهم: صل في (1) المحمل، وروى بعضهم: لا تصلها إلا في
الأرض، فوقع عليه السلام: موسع عليك بأية عملت) (2).
ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه السلام. إلى أن قال: (في الجواب
عن ذلك حديثان. إلى أن قال عليه السلام: وبأيهما أخذت من باب
التسليم كان صوابا) (3).
104

إلى غير ذلك من الاطلاقات (1).

[1] لكن نوقش في استظهار التخيير المطلق أو المقيد بفقد المرجح أو
بزمان الغيبة من هذه
105



الاخبار بما سيأتي، فينبغي ملاحظتها والنظر أولا في وفائها بإثبات
التخيير بين الخبرين المتعارضين، وثانيا في النسبة بينها وبين
سائر الطوائف من أخبار العلاج، فلنقدم الكلام في الجهة الأولى بالنظر
في كل منها سندا ودلالة، بعد الاغماض عما في رسائل شيخنا
الأعظم (قده) من دعوى استفاضة أخبار التخيير بل تواترها،
كالاغماض عما عن الضوابط من ضعفها جميعا إلا واحدا منها. فان
دعوى
الاستفاضة وإن كانت في محلها، لكن دعوى التواتر لا تخلو من
مبالغة، كالمبالغة في القول بضعف ما عدا واحد منها سندا، لما سيظهر
من اعتبار أكثر من واحد منها، فنقول وبه نستعين:
الرواية الأولى: خبر الحسن بن الجهم المروي عن الاحتجاج، وهي
ضعيفة بالارسال، وحيث إن المدار في حجية الخبر هو الوثوق
الشخصي بالصدور، فلا وجه للاعتماد عليها. وشهادة الشيخ الطبرسي
في مقدمة الاحتجاج - من كون روايات كتابه مسندة في الأصل،
وهي مشهورة أو مجمع عليها، وإنما أسقط أسنادها اختصارا - غير
وافية بإثبات اعتبارها بالنسبة إلينا بعد اختلاف المباني في العدالة
وغيرها مما يبتني عليه حجية خبر الواحد. نعم لا بأس بهذه الشهادة
إذا أحرز مبني صاحب الاحتجاج في قبول الرواية وردها مع فرض
حصول الوثوق بصدور تلك الأخبار من مجرد شهادته. وعليه فالبحث
عن دلالة خبر الحسن بن الجهم يكون بتبع استدلال الماتن به، و
هو ينفع لتأييد القول بالتخيير الذي تدل سائر الروايات عليه.
وأما الدلالة فقد عرفت ظهور قوله عليه السلام: (فإذا لم يعلم فموسع
عليك) في التخيير بين الخبرين اللذين تم المقتضي للحجية في كل
منهما، لكون راوييهما ثقتين، وكان السؤال عن علاج المانع وهو
التعارض.
وأورد المحقق الأصفهاني (قده) على الاستدلال بها بما محصله: أنها
لا تدل على مدعى المصنف وهو إثبات التخيير بين الخبرين سواء أ
كانا متكافئين أم متفاضلين، وإنما تدل على التخيير بعد فقد المرجح،
وذلك لان صدرها مقيد بالعرض على الكتاب والسنة، وقد روى
شخص هذا الراوي عن موسى بن جعفر عليهما السلام أيضا العرض
على الكتاب والسنة في الحديثين المختلفين، كما روى عنه عليه
السلام الاخذ بما يخالف العامة. والغرض أن التخيير ليس على
الاطلاق، بل بعد الترجيح ولو في الجملة، فقوله: (ولا نعلم أيهما
الحق)
إما لموافقتهما معا للكتاب أو عدم موافقتهما معا للكتاب.
نعم بناء على ما سيجئ من المصنف (قده) - من أن العرض على
الكتاب ليس من المرجحات
106



لإحدى الحجتين على الأخرى، بل لتمييز الحجة عن اللا حجة -
يكون التخيير مطلقا غير مقيد بأعمال المرجحات، لكن سيأتي إن شاء
الله
ما فيه.
وأما حمل صدره - لاطلاقه - على عدم كون الجائي بالخبر ثقة
فيخرج عن مورد الترجيح، بخلاف ذيله، لتقيده بكون الجائي
بالخبرين
ثقة، وفي هذا المورد لم يعمل الترجيح، فبعيد، إذ مثله لا يؤخذ به مع
عدم الاختلاف، وظاهره أن الاختلاف هو الموجب لتحير السائل في
الاخذ به، فيعلم منه وجود المقتضي للعمل به.
إلا أنه يقرب هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن أبي يعفور، قال:
(سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به
و
منهم من لا نثق به، قال عليه السلام: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له
شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلا
فالذي جاءكم به أولى) وعليه فمنشأ تحير السائل ليس كونهما
حجتين بالذات، بل حيث إنه منسوب إليهم (عليهم السلام) له أن يرده
مطلقا أو يجب عليه رعاية الواقع بالتوقف والاحتياط، فتدبر وعليه
يشكل الاستدلال بهذه المرسلة على التخيير بين المتعارضين
مطلقا - حتى مع التفاضل - إلا إذا تم أحد أمرين على سبيل منع
الخلو:
أحدهما: أن يكون الغرض من السؤال الأول استعلام حكم تعارض
مطلق الخبرين حتى مع قصور المقتضي للحجية في أحدهما، ويكون
جوابه عليه السلام بقياس الخبرين على الكتاب والسنة أجنبيا عن
الحكم بالتخيير عند التكافؤ.
ثانيهما: أن يكون السؤال الأول سؤالا عن معارضة خبرين جاء بهما
ثقتان كما هو مفروض السؤال الثاني أيضا: إلا أن موافقة الكتاب
ليست من وجوه الترجيح، بل من مميزات الحجة عن اللا حجة.
ولا سبيل لاحراز الامر الأول. لكن الامر الثاني ثابت عند المصنف. و
عليه يتجه استدلاله برواية الحسن بن الجهم على التخيير المطلق،
إذ لا يبعد ظهور قوله عليه السلام: (فإن كان يشبههما فهو منا، وإن لم
يكن يشبههما فليس منا) في كونه في مقام تمييز الحجة عن
اللا حجة، لا ترجيح أحد المتعارضين على الاخر، فإنه قريب من رواية
الحسن بن الجهم عن العبد الصالح عليه السلام قال:
(إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا، فإن
أشبهها فهو حق، وإن لم يشبهها فهو باطل) وبذلك يتجه
استدلال المصنف بذيل الرواية على التخيير مطلقا سواء في
المتكافئين والمتفاضلين.
107



الرواية الثانية: خبر الحارث بن المغيرة. أما السند فهو كسابقه مروي
عن الاحتجاج مرسلا. وأما الدلالة فقد عرفت ظهورها في جعل
التخيير بين المتعارضين - تكافئا أم تفاضلا - إلى زمان التمكن من لقاء
الإمام الحجة صلوات الله وسلامه عليه وعجل فرجه الشريف.
لكن نوقش فيها تارة بأن موردها التمكن من لقاء الإمام القائم بالامر في
كل عصر، وصورة ترقب لقائه عليه السلام كما في أيام
الحضور، لا زمان الغيبة. والرخصة في التخيير في مدة قليلة لا تلازم
الرخصة فيه أبدا. وأخرى بأنها (لا دلالة لها على حكم
المتعارضين. ومفادها حجية اخبار الثقة إلى ظهور الحجة عليه
السلام).
وكلاهما لا يخلو من غموض: أما الأول فلان كل واحد من الأئمة
المعصومين عليهم السلام وإن كان قائما بالحق، بل أطلق على بعضهم
في الاخبار، إلا أن الظاهر اختصاص لقب (القائم) - عند الاطلاق -
بالامام الحجة المنتظر (عليه أفضل الصلاة والسلام)، لقب به من عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في كثير من الاخبار،
فقد روي عنه صلى الله عليه وآله عند بيان الأئمة من ولد الحسين
عليه السلام: (تاسعهم قائمهم) و (التاسع قائمهم) و (تاسعهم قائمهم
قائم أمتي) و (تاسعهم قائمهم ومهديهم) ونحو هذا التعبير كما لا
يخفى على من راجع مظانه.
وعليه فظاهر خبر الحارث جعل التوسعة والتخيير بين المتعارضين
في عصر الغيبة. ولعل تحديد ذلك برؤيته عليه السلام لأجل طول
غيبته زمانا وقصر مدى إمامة سائر الأئمة عليهم السلام.
ولو لم يكن مقصوده عليه السلام جعل التخيير كان الأنسب تحديد
التوسعة برؤية كل واحد منهم، بأن يقال: (حتى تراني أو ترانا)
كتحديد الامر بالوقوف في المقبولة بملاقاة الإمام عليه السلام فالاتيان
باللقب المختص بالامام الحجة (عليه السلام وعجل فرجه
الشريف، وتعليق السعة على رؤيته (عليه السلام) ظاهر في جعل
التخيير في الأزمنة المتمادية قبل ظهوره عليه السلام، حيث يكون
المدار في عصر الدولة المهدوية على الاحكام الواقعية بلا تقية لخوف
أو مداراة، هذا.
مضافا إلى: أن الحكمة في جعل التوسعة - وهي الارفاق بالمكلفين و
رفع الحرج عنهم مع كثرة الاخبار المتعارضة في أبواب الفقه -
تقتضي جعلها في حق الشيعة في عصر الغيبة، لحرمانهم عن التشرف
بمحضره عليه السلام بخلاف الشيعة المعاصرين لهم عليهم السلام
لتمكنهم أحيانا من التشرف واستعلام الوظيفة منهم.
وعليه فجعل التخيير في حقهم يقتضي جعله في عصر الغيبة
بالأولوية. هذا مع الغض عن ظهور
108



ألفاظ الرواية في إفادة التخيير في عصر الغيبة كما جعله المحقق
الآشتياني أقوى الاحتمالين وأما الثاني - وهو أجنبية الرواية عن
باب التعارض ودلالتها على حجية خبر الثقة - فلان حجية خبر الثقة
غير محدودة بعصر الغيبة حتى تكون هذه الرواية دليلا عليها، إذ
الاخبار المستدل بها على اعتبار الخبر الواحد لا تزيد عن إمضاء
السيرة العقلائية، ومن المعلوم عدم تفاوت حضورهم (عليهم السلام)
و
غيبته عليه السلام في بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة، بل مفاد
الاخبار الارجاعية حجية أخبار الثقات المعاصرين لهم عليهم السلام
كالارجاع إلى زكريا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن وزرارة وأضرابهم،
فهل يدل قوله عليه السلام: (أما ما رواه زرارة عن أبي
جعفر عليه السلام فلا يجوز لك أن ترده) على اختصاص حجية اخبار
زرارة بعدم التمكن من لقاء الإمام الصادق عليه السلام؟ والحاصل:
أن حجية خبر الثقة - بمعنى منجزية الواقع والاعتذار عنه - لم تقيد
في الروايات الارجاعية بعصر الغيبة، بل تشهد بخلافه كما عرفت.
هذا مضافا إلى: أجنبية مفاد هذه الرواية عن حجية خبر الثقة، وإنما
يدل عليها مثل قوله (عليه السلام) في التوقيع الشريف: (لا عذر لاحد
من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا) الظاهر في حجية
اخبار الثقات بنحو العموم، وقطع العذر الجهلي به، وانتفاء التوسعة
بإجراء الأصل النافي للتكليف، وأن إخبار الثقة بمنزلة السماع من
المعصوم عليه السلام، ومن المعلوم أن اخباره قد يتضمن السعة كما
إذا أخبر باستحباب فعل أو إباحته، وقد يتضمن الضيق والكلفة كما إذا
أخبر بالالزام. وهذا بخلاف خبر الحارث بن المغيرة المتضمن
للتوسعة بعد سماع الحديث من الأصحاب.
وظاهره اختلاف الثقات في الحديث عنهم عليهم السلام لقوله: (و
كلهم ثقة) وليس المراد به اخبار الثقات برواية واحدة، فإن مثله
يوجب
العلم العادي بالحديث، ولا يناسب جعل التوسعة المطلقة حينئذ.
والحاصل: أن دلالة هذه الرواية على مختار المصنف (قده) تامة، لما
عرفت من أن التوسعة المجعولة أجنبية عن إمضاء سيرة العقلاء على
العمل بخبر الثقة. والاشكال إنما هو في ضعف السند بالارسال.
الرواية الثالثة: معتبرة علي بن مهزيار في صلاة النافلة في المحمل.
رواها الشيخ في التهذيب بإسناده عن أحمد بن محمد عن العباس بن
معروف عن علي بن مهزيار. والظاهر أن أحمد هو ابن محمد بن
يحيى العطار القمي كما ذكره الشيخ في سنده رواية مفصلة في كتاب
الديات. ورجال هذا
109



السند من الاجلاء، وإسناد الشيخ إلى أحمد معتبر. ولو نوقش في
السند تارة بجهالة أحمد، وأخرى بتأخره عن العباس بطبقتين و
سقوط الواسطة بينهما، لم يقدح ذلك في اعتبار الرواية بعد تصريح
الشيخ في الفهرست بطريق آخر له إلى ابن مهزيار، قال: (أخبرنا
بكتبه ورواياته جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن
بابويه عن أبيه، ومحمد بن الحسن عن سعد بن عبد الله، والحميري،
ومحمد بن يحيى، وأحمد بن إدريس عن أحمد بن محمد عن
العباس بن معروف عنه) فسند الرواية معتبر على هذا الطريق.
وأما الدلالة: فظاهر قوله عليه السلام: (لا تصلهما إلا على الأرض) من
جهة اشتماله على السلب والايجاب هو شرطية الاستقرار في النافلة
كالفريضة، فتبطل الصلاة في المحمل، لفقدانها للشرط.
وظاهر الامر في (صلهما في المحمل) جواز الاتيان بالنافلة في حال
السير وعدم شرطية الاستقرار، لا وجوب الصلاة في المحمل، إذ
الامر في مقام توهم الحظر، ولا مورد للجمع الدلالي بين الخبرين
(بحمل الامر على الاستحباب فيخرج الخبران عن المتعارضين) و
ذلك لعدم كون (صل) ظاهرا في الوجوب أصلا حتى يتصرف في
دلالته، بل هو يدل على الترخيص من أول الامر، ومن المعلوم تحقق
التعارض بين هذين الخبرين، وقد أجاب عليه السلام بالتخيير في
الحجية بين المتعارضين.
وأورد عليه بعض أعاظم العصر بأن (ظاهر حكمه عليه السلام بالتخيير
أن التخيير واقعي، إذ لو كان الحكم الواقعي غيره لكان الأنسب
بيانه، لا الحكم بالتخيير بين الحديثين).
لكن يمكن أن يقال: ان وظيفة الإمام عليه السلام بما أنه مستودع علمه
(تعالى شأنه) بيان الاحكام الواقعية الأولية والثانوية، وكذا بيان
القواعد العامة كما هو كثير في الروايات التي بأيدينا. ومما يحتاج إلى
معرفته عامة المكلفين علاج تعارض الخبرين من التخيير أو
الترجيح أو التساقط رأسا مع كثرة الابتلاء بالمتعارضات في أبواب
الفقه. فلا تنحصر وظيفة الامام في تبليغ الاحكام الفرعية حتى
يكون الأنسب بشأنه بيان الحكم الواقعي خاصة، دون إعطاء قانون
تعارض الخبرين، بل كل من الامرين مناسب لمقام الامام.
وعليه فالمتبع ظهور جوابه عليه السلام عن السؤال، وهو قوله:
(فموسع عليك) ولا يبعد ظهوره في التخيير الظاهري بين الخبرين
المتعارضين في جميع الموارد، وكان منشأ التخيير في جميع الموارد
مصلحة التسهيل على المكلفين والتسليم لهم عليهم السلام، وفي
خصوص المورد كان منشأ التخيير عدم شرطية الاستقرار في الناقلة.
نعم يختص الحكم بالتخيير في هذه الرواية بالمستحبات المبني أمرها
على التخفيف كما أفاده
110



المحقق الأصفهاني (قده) ولا سبيل للتعدي إلى مطلق الاخبار
المتعارضة.
الرواية الرابعة: مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى
صاحب الزمان (أرواحنا فداه).
والكلام في سندها تارة وفي الدلالة أخرى.
أما السند فهي وإن كانت مرسلة في الاحتجاج، لكن رواها الشيخ في
كتاب الغيبة أيضا كما تقدم في التوضيح. وطريق الشيخ إلى
الحميري صحيح، قال في الفهرست: (له مصنفات وروايات أخبرنا بها
جماعة عن أبي جعفر ابن بابويه، عن أحمد بن هارون الفامي و
جعفر بن الحسين عنه). وأما الحميري فقال النجاشي في شأنه: (كان
ثقة وجها، كاتب صاحب الامر عليه السلام وسأله مسائل في
أبواب الشريعة).
وأما الدلالة فظاهرها التوسعة والترخيص في العمل بكل من
المتعارضين سواء في مورد السؤال وهو الاحكام الترخيصية أم في
غيرها. أما التخيير في المستحبات فلظهور أحد الخبرين في استحباب
التكبير في الانتقال من كل حالة إلى أخرى، لقوله عليه السلام
(فعليه التكبير). بعد وضوح أمرين:
أحدهما: أن كلمة (عليه) وإن كانت ظاهرة في التكليف الإلزامي الذي
فيه الثقل والمشقة، إلا أنها وردت بالنسبة إلى بعض المستحبات
أيضا باعتبار استقرارها في الذمة.
وثانيهما: كون ما عدا تكبيرة الافتتاح من التكبيرات مستحبا في الصلاة
بالضرورة، خصوصا مع جلالة الراوي وكون السؤال من
الناحية المقدسة. وظهور الخبر الاخر في نفي الاستحباب، لقوله عليه
السلام: (ليس عليه).
ووجه المعارضة حينئذ واضح، للتنافي بين ما يدل على استحباب
التكبير وما يدل على عدم استحبابه. وقد أجابه عليه السلام بالتخيير
أي بالاتيان بالتكبيرات بقصد الاستحباب، وتركها، وهذا هو التخيير
المدعى بين المتعارضين.
ومورد الرواية وإن كان حكما ترخيصيا، إلا أن مفاد جوابه عليه السلام
اطراد الحكم بالتخيير في جميع موارد التعارض، لقوله عليه
السلام: (من باب التسليم) فإنه تنبيه على علة الحكم، ولازمه التعدي
إلى جميع موارد تعارض الخبرين. وعليه فلا وجه لمقايسة هذه
الرواية برواية ابن مهزيار في الاقتصار على الاحكام الترخيصية كما
أفاده المحقق الأصفهاني (قده). وذلك لما عرفت من الفرق بين
جوابه عليه السلام في الروايتين، فإن قوله: (من باب التسليم) بيان لعلة
الحكم بالتخيير، والمدار على عموم العلة لا خصوص المورد، ولم
يرد هذا التعبير في رواية علي بن مهزيار.
111



وأورد على الاستدلال بهذه المكاتبة بخروج موردها عن التعارض،
للجمع العرفي بينهما بحمل الخبر العام - المثبت للتكبير في جميع
الانتقالات - على الخبر الخاص النافي للتكبير في خصوص حال
النهوض، والقاعدة تقتضي الجمع بين الخبرين بالتخصيص، لا الحكم
بالتخيير، فالحكم بالتخيير وعدم تخصيص العموم إنما هو لكون
التكبير ذكرا في نفسه.
لكنه لا يخلو من خفاء، فإن جهة سؤال الحميري هي اختلاف الخبرين
في استحباب التكبير بالسلب والايجاب. ولو كان مقصوده عليه
السلام من جعل التخيير - وعدم إرشاد السائل إلى الجمع بين
الخبرين بالتقييد - كون التكبير ذكرا في نفسه كان المناسب بيان ما
يدل عليه، لا الحكم بالتوسعة في الاخذ، فإن قوله عليه السلام:
(بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) ظاهر في الحجية التي هي
مسألة
أصولية، ونتيجة حجية أحدهما تخييرا جواز الافتاء باستحباب التكبير
في جميع الانتقالات بما أنه حكم الله، اعتمادا على رواية (فعليه
التكبير) لا الاتيان به من جهة مطلوبية مطلق الذكر.
وعليه فالظاهر تمامية دلالة المكاتبة على التخيير. وإطلاقها - الناشئ
من ترك الاستفصال - يعم المتفاضلين كالمتكافئين، والتعليل
المستفاد من قوله: (من باب التسليم) يقتضي تعميم الحكم لجميع
موارد التعارض.
الرواية الخامسة: معتبرة سماعة المتقدمة في التوضيح، رواها ثقة
الاسلام عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن عثمان بن عيسى والحسن بن
محبوب جميعا عن سماعة. وهذا السند موثق أو صحيح.
والتعبير عنه بالحسن أو الموثق - كما في كلام العلامة المجلسي -
لا بد أن يكون من جهة إبراهيم بن هاشم، مع أن المحكي عن
الوجيزة توثيقه.
وأما الدلالة فقد تقدمت في التوضيح إجمالا، وأن سؤال سماعة:
(كيف يصنع؟) يكون عن حكم واقعة ورد فيها حديثان مختلفان، وكلا
الراويين من أهل دينه، وأجاب عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى ملاقاة
الإمام عليه السلام حتى يسأله عن حكمها، وبالتوسعة في الفترة
الفاصلة بين الواقعة وبين الملاقاة، والمقصود بهذه الرخصة التخيير
في العمل بكل منهما شاء.
وأورد على الاستدلال بها تارة: بأن موردها دوران الامر بين
المحذورين (حيث إن أحد الخبرين يأمر والاخر ينهى، والعقل يحكم
فيه
بالتخيير بين الفعل والترك، وقول الإمام عليه السلام:
فهو في سعة لا يدل على أزيد منه).
وأخرى: بأنها - مضافا إلى اختصاصها بالتمكن من لقاء الإمام عليه السلام
- تكون من أدلة التوقف لا من أدلة التخيير، لقوله عليه السلام:
يرجئه.
112



ويشكل الأول أولا: بالفرق الموضوعي بين مسألة الدوران بين
المحذورين وبين مورد الموثقة بوجهين، فلا يصح حمل قوله عليه
السلام: (فهو في سعة) على ما يستقل به العقل من التخيير.
أحدهما: أن حكم العقل بالتخيير في العمل في مسألة الدوران يتوقف
على العلم بجنس الالزام والشك في الخصوصيتين كما مثلوا له
بالحلف على فعل في وقت خاص أو على تركه.
وأما إذا دار حكم واقعة بين الوجوب والحرمة والإباحة فهو خارج
عن مورد الدوران بين المحذورين، وتجري فيه البراءة الشرعية
كما تقرر في مجاري الأصول. ومفروض سؤال سماعة هو وصول
خبرين متعارضين أحدهما يأمر والاخر ينهى، ومن المعلوم عدم
استلزامه للعلم بالالزام، لاحتمال كذبهما معا، وأن يكون حكم الواقعة
الإباحة. ولا قرينة في السؤال على حصول العلم بالالزام الجامع
بين الوجوب والحرمة من إخبار المخبرين حتى يندرج في مورد
الدوران.
ودعوى (إفادة الحجتين التعبديتين للعلم بالالزام، فلا يحتمل معهما
الإباحة) ممنوعة بعدم اقتضاء حجية خبر الثقة حصول العلم بمؤداه،
خصوصا مع تعارض الخبرين وتكاذبهما وعدم حجية شئ منهما،
بعد كون الأصل الأولي في تعارض الطرق هو التساقط وعدم
نهوض دليل على حجية أحدهما تخييرا بعد.
ثانيهما: أن حكم العقل بالتخيير في مسألة الدوران بين المحذورين
منوط بعدم دليل يعين الوظيفة من عموم فوقاني يثبت أحد الحكمين،
أو أصل عملي منجز له كالاستصحاب المثبت للتكليف، إذ معه لا
تصل النوبة إلى التخيير، وحيث لم يحرز وجود هذا الدليل أو الأصل
و
عدمه في مورد سؤال سماعة، فلا سبيل لحملها على مورد الدوران،
فإن حمل إطلاق جواب الإمام (عليه السلام): (فهو في سعة) -
الشامل
لمورد وجود الأصل الحاكم وعدمه - على صورة عدمه حتى يكون
موردا للدوران بين المحذورين بلا وجه.
والحاصل: أن مجرد ورود خبرين متضمنين لطرفي الالزام لا يقتضي
درج المورد في الدوران بين المحذورين حتى تكون السعة
إرشادا إلى ما يستقل به العقل، لما عرفت من اعتبار أمرين في مسألة
الدوران، ولا سبيل لاحرازهما في الموثقة.
نعم لا بأس باستفادة الدوران بين المحذورين من مرسل سماعة بن
مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام): (قلت يرد علينا حديثان واحد
يأمرنا والاخر ينهانا عنه، قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى
صاحبك فتسأله، قلت: لا بد أن نعمل بواحد منهما، قال: خذ بما فيه
خلاف
العامة).
وثانيا: أن إرادة الحجية التخييرية في موارد الدوران بين المحذورين
من قوله عليه السلام: (فهو
113



في سعة) غير ظاهرة، لان هذه التوسعة إما أن تدل على الحجية
التخييرية وإما ان تدل على نفى منجزية الاحتمال وجعل المكلف
معذورا في مخالفة الواقع، كما يدل عليه حديث السفرة في بحث
أصالة البراءة (فهم في سعة حتى يعلموا) إذ لا يراد بالسعة إلا الاعذار
عن الواقع على تقدير المخالفة.
فإن أريد بها جعل الحجية التخييرية - كما هو المقصود من الاستدلال
بالموثقة - فمن المعلوم أنها أجنبية عن التخيير العملي في مسألة
الدوران، إذ العقل إنما يحكم بالتخيير في العمل ونفي الحرج عن
الفعل والترك، وهذا لا ربط له بجعل أحد الاحتمالين حجة والافتاء
به.
وإن أريد بها التوسعة في مقام العمل - لا الحجية - فلا وجه لحمل
الموثقة على مورد الدوران، فإن التوسعة بمعنى جعل العذر عن
مخالفة الواقع لا تختص به، بل تجري في الشبهات البدوية بعد
الفحص كما يظهر من الاستدلال بحديث السعة في الشبهة التحريمية.
وعليه كان اللازم الاشكال - على دلالة الموثقة على التخيير - بمنع
ظهور (فهو في سعة) في جعل الحجية، بل مساقها مساق حديث
السعة. لا حمل الرواية على موارد الدوران بين المحذورين، إذ لا حكم
للعقل فيها بالحجية التخييرية، بل غايته نفي الحرج عن موافقة كل
من الاحتمالين المتكافئين.
هذا.
مضافا إلى: أن الامر بإرجاء الواقعة مانع عن حمل التوسعة على موارد
الدوران بين المحذورين، لامتناع الاحتياط فيها، مع أنه عليه
السلام أمر بالارجاء والتوقف.
ويشكل الثاني: بالمنع من اختصاص الرواية بحال التمكن من لقاء
الإمام عليه السلام بما تقدم في خبر الحارث بن المغيرة. والمراد
بالموصول في (من يخبره) هو الإمام عليه السلام، إذ لا ترتفع الحيرة
بإخبار غيره كما هو واضح، إلا بدليل آخر يدل على كفاية إخبار
الغير عموما أو خصوصا، وهو مفقود في مورد الموثقة، وظهور
الموصول هنا في الإمام عليه السلام كظهور (صاحبك) في خبر
سماعة
فيه مما لا ينكر.
وأما ما أفاده من كون الموثقة من أدلة التوقف لا التخيير فممنوع بأنها
تتضمن حكمين:
أحدهما إرجاء الواقعة إلى زمن ملاقاة الإمام عليه السلام، والثاني
جعل التوسعة والترخيص في العمل بواحد من الخبرين، وظاهر
الجملة الأولى وإن كان هو الارجاء، والتوقف المطلق واقعا وظاهرا
بترك الاقدام في الواقعة إلى زمان الملاقاة، وعدم إسناد شئ من
المضمونين إلى الشارع.
لكن لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور بقرينة صراحة الجملة اللاحقة
في جعل التوسعة، ومن المعلوم امتناع الجمع بين التوسعة والتوقف
الظاهريين، للتنافي بينهما، فلا مناص من الجمع بجعل التوقف ناظرا
إلى الواقع، وعدم إسناد أحد المضمونين إلى الشارع واقعا لئلا
يلزم التشريع، وجعل التوسعة
114



في العمل بواحد من الخبرين ظاهرا، وهذا هو التخيير الظاهري في
حجية أحد الخبرين المتعارضين.
وقد يقال: باختصاص الموثقة بأصول الدين وأجنبيتها عن حكم
تعارض الخبرين في الفروع بقرينة قوله عليه السلام: (أحدهما يأمر
بأخذه) ولو كانت ناظرة إلى الفروع كان الأنسب أن يعبر بالامر بفعله،
لمناسبة التعبير بالأخذ بالأمور الاعتقادية. وكذا تعبير الإمام عليه السلام
ب (يرجئه) فإن الارجاء في الفروع يؤدي إلى التفويت
عادة، بخلافه في الاعتقادات.
لكنه غير ظاهر بعد ما عرفت من ورود كلمة (الاخذ) في تعارض
الخبرين الدالين على حكمين فرعيين، كما في المقبولة، حيث تكرر
كلمة (الاخذ) فيها، وموردها الفروع، وكذا غيرها من أخبار الباب. و
أما الامر بالارجاء فقد عرفت أنه ناظر إلى الواقع، وعدم إسناد
أحد الحكمين خاصة إلى الشارع، لا إلى العمل الخارجي.
الرواية السادسة: مرسلة الكافي، لقوله بعد نقل موثقة سماعة: (وفي
رواية أخرى: بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) ودلالة هذه
الجملة على التخيير بين المتعارضين تامة.
لكن يشكل الاعتماد عليها من جهة الارسال وإن كان ظاهر تعبير
الكليني (قده) وجود رواية بهذا المضمون غير موثقة سماعة. هذا مع
احتمال كون الرواية مضمون إحدى الروايات المسندة المتقدمة، فلا
يحرز التعدد حتى يستند إليها وإن كان الأصل الأولي عند بيان
الاخبار تعددها.
وأما ما ذكره في ديباجة الكافي من قوله عليه السلام: (بأيهما أخذتم
من باب التسليم وسعكم) فالظاهر أنها منقولة بالمعنى، بل الظاهر
أنها إشارة إلى ما ورد من الاخبار في الترجيح بالشهرة وبما وافق
الكتاب وبما خالف العامة، لا أنها رواية مستقلة في قبال سائر
الروايات حتى يؤخذ بمفادها، ولو لم تكن مأخوذة من غيرها فلا يعلم
صدرها حتى يكون الحكم بالتخيير مطلقا أو مقيدا بما جاء في
الصدر احتمالا.
وأما خبر فقه الرضا عليه السلام فدلالته على التخيير تامة. والاشكال
في سنده كما هو ظاهر.
لكن في ما تقدم من أخبار التخيير غنى وكفاية لاثبات أصل التخيير. و
قد عرفت دعوى شيخنا الأعظم استفاضتها بل تواترها، فهي
روايات معمول بمضامينها في الجملة بشهادة دعوى صاحب
المعالم الاجماع على التخيير بعد فقد المرجح الظاهرة في عدم
الاعتناء
بوجود المخالف كالشيخ في مقدمة التهذيب وإن ذهب في مقدمة
الاستبصار إلى التخيير، بل في العدة ألحق تعارض الاجماعين
بتعارض الخبرين مما ظاهره تسلم الحكم بالتخيير في الخبرين، قال
في مقدمة الاستبصار: (وإذا لم يمكن العمل بواحد من الخبرين إلا
بعد طرح الاخر جملة لتضادهما، وبعد التأويل بينهما كان العامل
115

ومنها (1): ما دل على التوقف مطلقا (2).

أيضا مخيرا في العمل بأيهما شاء من جهة التسليم.).
وسيأتي الكلام في سائر طوائف الاخبار وأنها هل تقتضي تقييد
مطلقات التخيير أم لا؟
116

ومنها (1): ما دل على ما هو الحائط منها. [1]

[1] في تقريرات سيدنا الفقيه الأعظم صاحب الوسيلة (قده): (والمراد
بما دل على التوقف أو الاحتياط هو الأخبار الدالة عليهما في مطلق
الشبهات، لا في خصوص المتعارضين، لعدم ما يدل على أحدهما
فيهما. نعم في الأخبار الآمرة بأخذ المرجحات ما يدل على التوقف
بعد
فقدها، لكنها ليست دالة على التوقف أو الاحتياط ولو مع وجود
المرجحات).
أقول: أما ما أفاده (قده) بالنسبة إلى الاحتياط فالظاهر أنه كذلك، إذ لم
نعثر على ما يدل على الاحتياط مطلقا في خصوص المتعارضين،
والدال عليه فيهما هو ما عرفته من بعض فقرات مرفوعة زرارة، وذلك
أيضا ليس مطلقا بل هو مقيد بفقد المرجحات. فإن كان مراد
المصنف تلك الفقرة فالتعبير عنها بالطائفة مسامحة، فلا يبعد أن يريد
بالطائفة ما في تقريرات سيدنا الاجل من الأخبار الدالة على
الاحتياط في مطلق الشبهات.
117



وأما ما أفاده (قده) من الاخبار العامة الدالة على التوقف في مطلق
الشبهات فهو وإن كان محتملا، لكن احتمال ما ذكرناه من روايتي
سماعة ومحمد بن علي بن عيسى لعله أقرب، إذ الظاهر عدم قصور
في دلالتهما على التوقف في الفتوى والسعة في العمل.
هذا ما دل من الاخبار على التوقف في تعارض الخبرين مطلقا من غير
تقييد بفقد المرجح. وفي بعض الاخبار تقييد الامر بالارجاء بما
إذا لم يكن لاحد الخبرين مزية ترجحه على الاخر، كما في مقبولة عمر
بن حنظلة، فإنه عليه السلام بعد فرض استواء الحاكمين في
الصفات أمر بالنظر في مستندي حكميهما، والاخذ بالمشهور و
الموافق للكتاب والمخالف للقوم وما يكون حكامهم أميل إليه، وبعد
تكافؤ الخبرين في هذه الأمور قال عليه السلام: (إذا كان ذلك فأرجه
حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في
الهلكات) فالحكم بالتوقف متأخر عن وجوه الترجيح.
كما أن ظاهر المقبولة بقرينة قوله عليه السلام: (حتى تلقى إمامك)
اختصاص الحكم بالارجاء بزمان الحضور، خصوصا مع اقتضاء مورد
السؤال - وهو النزاع المالي - رفع الخصومة وقطع مادة التشاجر بين
المترافعين، مما يكون إيقاف الدعوى لمدة قصيرة - أي إلى
إمكان التشرف واستعلام الواقع - ممكنا.
ولأجل اختلاف مضمون المقبولة مع مفاد المطلقات الامرة بالوقوف
عند المتعارضين لم نذكر هذه الرواية في التوضيح المعد لبيان
مراد الماتن من مطلقات أخبار الوقوف.
وكيف كان فالظاهر أن أخبار التخيير معارضة بأخبار الوقوف بالتباين، و
من المعلوم إناطة حجية أحد الخبرين المتعارضين تخييرا
بتقديم أخبار التخيير بنحو من الجمع الدلالي بين الطائفتين بعد ما
عرفت من وجود الأخبار المعتبرة سندا في كلتيهما.
وقد تصدى الأصحاب (رضوان الله عليهم) للجمع بينهما أو تقديم
أخبار التخيير مطلقا، أو في عصر الغيبة. وقد حكى المحدث البحراني
وجوها ثمانية للجمع بينهما، وناقش فيها، وإخبار الثاني من تلك
الوجوه جمع منهم شيخنا الأعظم، وهو حمل أخبار الوقوف على
التمكن من رفع الشبهة والوصول إلى الإمام عليه السلام، وحمل
أخبار التخيير على زمان تعذر الوصول إليه عليه السلام، وهو محكي
عن الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج،
فراجع.
كما أن القائلين بالتخيير اختلفوا في كيفية تقديم أخباره على أخبار
الوقوف، فذهب المحقق الآشتياني ووافقه شيخنا المحقق العراقي
(قدهما) إلى حكومتها على أخبار الوقوف العامة، واختار
118



المحقق الرشتي أخبار التخيير من جهة الجمع الدلالي بين النص و
الظاهر، والمحكي عن المجلسي (قدهما) الجمع بحمل الامر
بالوقوف على الاستحباب.
وكيف كان فالمعزي إلى المشهور هو القول بالتخيير بين الخبرين
المتعارضين، بل ادعى في المعالم الاجماع عليه.
وقد وجه المحقق النائيني فتوى المشهور بالتخيير بما حاصله: أن
الاخبار على طوائف أربع:
منها: ما دل على التخيير مطلقا أي في زمن الحضور والغيبة كخبر
الحسن بن الجهم.
ومنها: ما دل على التوقف كذلك بناء على وجوده في الاخبار كما
حكي.
ومنها: ما دل على التخيير في زمن الحضور كخبر الحارث بن المغيرة.
ومنها: ما دل على التوقف في زمن الحضور كما في ذيل مقبولة عمر
بن حنظلة.
والنسبة بين مطلقات التخيير ومقيداته وإن كانت هي العموم و
الخصوص كالنسبة بين مطلقات الوقوف ومقيداته، إلا أنه لا تحمل
المطلقات على المقيدات، إذ حمل المطلق على المقيد في المثبتين
مشروط بكون المطلوب فيهما صرف الوجود حتى يتحقق التنافي
الموجب للحمل، والمفروض كونهما انحلاليين، والمقصود هو حكم
الخبرين المتعارضين بنحو مطلق الوجود.
والنسبة بين المطلقات هي التباين، لكن لما لم يعمل بإطلاق أدلة
التخيير في زمان الحضور صار الاطلاق معرضا عنه وغير مراد، فكأنه
من أول الامر كان دليل التخيير مختصا بزمان الغيبة، وحينئذ تنقلب
النسبة التباينية التي كانت بين مطلقات التوقف والتخيير إلى الأعم
والأخص المطلق، لصيرورة مطلقات التخيير بالاعراض المزبور أخص
من إطلاقات أدلة التوقف، فتخصص إطلاقات التوقف وتكون
النتيجة التخيير في زمان الغيبة والتوقف في زمان الحضور.
هذا ما حكاه سيدنا الأستاذ في مجلس الدرس عن المحقق النائيني
(قدهما) وهو مغاير لما في تقريرات العلامة الكاظمي (قده) من
وجهين:
أحدهما: أن النسبة بين مطلقات الوقوف والتخيير هي العموم من
وجه، وقد تكرر هذا التعبير في موضعين من التقرير، ولكن السيد
الأستاذ (قده) صرح بأن مراد المحقق النائيني هو ما ذكرناه من أن
النسبة بينهما هي التباين.
وثانيهما: أن النسبة بين مقيدات التخيير والتوقف هي التباين كما في
التقرير، ولكن تخلص من التعارض بينهما بقوله: (ولا يهمنا
البحث عن رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير في زمان
الحضور، فإنه لا أثر له. مضافا إلى أنه لم يعلم العمل بما دل على
التخيير في زمان الحضور.). ولكن
119



سيدنا الأستاذ لم يتعرض لحكم تعارض المقيدات، واقتصر على
الاعراض عن مطلقات التخيير وعدم العمل بها في عصر الحضور.
أقول: أما الوجه الأول - أعني النسبة بين مطلقات التخيير والتوقف -
فالظاهر أن التعارض بينهما تبايني كما أفاده سيدنا الأستاذ
(قده). لكن يمكن تقريب العموم من وجه المذكور في التقريرات
أيضا، بأن يقال: إن مفاد أخبار التخيير هو الحكم الأصولي أعني حجية
أحد الخبرين تخييرا، لا التخيير في المسألة الفرعية، والتخيير في
الحجية معقول في جميع موارد التعارض سواء أكان الحكم إلزاميا أم
ترخيصيا، ولا مانع من حجية أحدهما في دوران الامر بين
المحذورين، بأن دل أحدهما على وجوب فعل والاخر على حرمته. و
أخبار
الوقوف تعم الفتوى والعمل، فإن الوقوف هو السكون وعدم المضي،
وإطلاقه شامل للفتوى والعمل، ولكنه لا يجري في الدوران بين
الوجوب والحرمة، لأنه مورد اللابدية العقلية، ويتعذر فيه الاحتياط.
وعليه فأخبار الوقوف أعم من أخبار التخيير، لشمولها للحكم
الأصولي والفرعي، وأخص منها، لاختصاصها بغير مورد الدوران بين
المحذورين. وأخبار التخيير أخص من أخبار الوقوف، لدلالتها على
الحكم الأصولي، وأعم منها لشمولها لموارد الدوران، ومادة
الاجتماع هي تعارض الخبرين في غير الوجوب والحرمة، فمقتضى
أخبار التخيير حجية أحد الخبرين، ومقتضى أخبار الوقوف التوقف
عن الفتوى والعمل بالاحتياط.
وهذا التوجيه وإن كان صحيحا خصوصا بملاحظة موثقة سماعة
الدالة على حجية أحد الخبرين تخييرا مع كون أحدهما أمرا والاخر
نهيا.
لكن يبعده ما أفاده المحقق النائيني في مسألة أصالة التخيير من قوله:
(وما ورد من التخيير في باب تعارض الامارات إن كان المراد منه
التخيير في المسألة الأصولية وهو التخيير في أخذ أحد المتعارضين
حجة وطريقا إلى الواقع في مقام الاستنباط فهو أجنبي عما نحن
فيه. وإن كان المراد منه التخيير في المسألة الفقهية أي التخيير في
العمل فيكون من التخيير العقلي التكويني، لا تعبدي شرعي.).
وعليه فحيث إن التخيير في المقام هو الاخذ بأحدهما بما أنه حجة
شرعا، فلا يكاد يجري في مسألة الدوران، فإن الأثر المترقب من
الحجية وهو الحركة على طبقها حاصل قهرا، لعدم خلو المكلف
تكوينا من الفعل والترك. وعليه فكون النسبة بين المطلقات هي
التباين
أولى من العموم من وجه.
120



وأما الوجه الثاني: فالظاهر عدم تأثيره في انقلاب النسبة بين مطلقات
التخيير والتوقف، إذ الغرض المهم للميرزا (قده) إثبات عدم
العمل بأخبار التخيير في زمن الحضور، وهذا لا يختلف الحال فيه بين
سقوط أخبار التخيير في حال الحضور بمعارضتها بمقيدات
أخبار الوقوف، ثم دعوى إعراض الأصحاب عن العمل بأخبار التخيير
في عصر الحضور، وبين إسقاط مقيدات أخبار التخيير
بالاعراض، ثم تخصيص أخبار التخيير المطلقة بأخبار التوقف في
زمان الحضور كي يتجه انقلاب النسبة بين مطلقات التخيير بعد
التخصيص وبين مطلقات الوقوف.
وكيف كان فلا يخلو الجمع الذي أفاده المحقق النائيني (قده) من
تأمل.
أما أولا: فلان خبر الحارث بن المغيرة الذي جعله الميرزا (قده) دالا
على التخيير في زمان التمكن من الوصول إليهم عليهم السلام يكون
أدل على جعل التخيير مطلقا، كما استظهره المحقق العراقي من دلالته
على جعل التخيير في زمان التمكن، فإن التحديد في قوله عليه
السلام: (حتى ترى القائم) كناية عن مرور الأزمنة السابقة على زمان
التمكن من الوصول إلى الحجة عليه السلام، وهذا المضمون لو لم
يختص بزمان الغيبة فلا أقل من شموله له، لوضوح الفرق بين تحديد
الحكم بمثل قوله عليه السلام: (حتى ترى إمامك) وبين تحديده
برؤيته عليه السلام، لظهور الأول في اختصاص الحكم بزمان الحضور
والتمكن من لقاء الإمام عليه السلام، وهذا بخلاف التحديد
برؤية الحجة عليه السلام، الظاهر في جعل الوظيفة في حال الغيبة، و
لا أقل من إطلاقه لزماني الحضور والغيبة، إذ لا خصوصية لزمان
الحضور، وإنما المدار على التمكن من الوصول إلى الإمام عليه السلام
وعدم التمكن منه.
وأما ما دل على التوقف مطلقا فإما أن يراد به الاطلاقات الامرة
بالوقوف عند كل شبهة سواء أكان منشؤها تعارض الروايات أم
غيرها، وإما مكاتبة محمد بن علي بن عيسى. فإن أريد بها الاطلاقات
فالجواب: أنها كما تقدم في بحث البراءة قاصرة عن إفادة الحكم
المولوي، لكونها إرشادا إلى موارد تنجيز التكليف بالعلم الاجمالي أو
بالاحتمال، ومن المعلوم أنها لا تصلح للمعارضة مع ما دل على
التخيير.
ولو سلم دلالتها على الحكم المولوي كانت مخصصة بأخبار التخيير
أو محكومة بها. أما التخصيص فلانه جمع عرفي بين ما دل على
لزوم التوقف عند كل شبهة مهما كان منشؤها، وبين ما دل على التخيير
في الشبهة الناشئة من تعارض الخبرين.
وأما الحكومة فلان التوقف منوط بتحقق موضوعه أعني الشبهة (و
عدم وجود الدليل، الزائل
121



حكما أو حقيقة بأخبار التخيير الدالة على حجية أحد المتعارضين
كأخبار الترجيح من غير فرق بينهما).
وبعبارة أخرى: مورد الامر بالتوقف هو صورة فقد الحجة وعدم
الطريق إلى الواقع، ومفاد أخبار التخيير إثبات الحجة، فيرتفع به
موضوع الامر بالتوقف.
وإن أريد به المكاتبة، فالجواب منع دلالتها على التوقف المطلق،
لظهور قوله عليه السلام: (وما لم تعلموا فردوه إلينا) في الرد إلى
الامام الموجود في زمان وصول الخبرين المتعارضين إلى السائل،
فيرجع إليه لرفع الشبهة. وهذا غير الرد إلى الله ورسوله الوارد في
بعض الاخبار، فإن المقصود منه التوقف عن رد الخبرين وطرحهما و
إيكال البيان إلى الرسول والامام عليهما السلام.
نعم يمكن تقريب دلالة المقبولة على وجوب التوقف حتى في عصر
الغيبة بما سيأتي، لكنه خلاف استظهار الميرزا (قده) من اختصاصها
بزمان الحضور.
وحيث اتضح قصور الاخبار عن الدلالة على وجوب التوقف مطلقا
فلا سبيل للجمع الذي حققه (قدس سره).
وأما ثانيا: فلانه بناء على دلالة خبر الحارث بن المغيرة على التخيير
في زمن الحضور خاصة يقع التعارض بالتباين بينه وبين مقبولة
عمر بن حنظلة، وبعد تساقطهما ينتهي الامر إلى مطلقات الوقوف و
التخيير، لسلامتها عن المقيد، فيقع بينهما التعارض بالتباين. و
لازمه التساقط والرجوع إلى الأصل العملي.
وما أفاده في التقرير من (عدم أهمية حكم التعارض في عصر الحضور
وعدم إحراز العمل بأخبار التخيير فيه) ممنوع، فإنه وإن لم
يهمنا تعيين وظيفة المكلفين في عصر الحضور، إلا أن الكلام في مفاد
المقبولة وخبر الحارث، وهما متعارضان بالتباين في تعيين
الوظيفة بالنسبة إلى المكلفين المعاصرين للأئمة عليهم السلام، ولازم
تعارضهما تساقطهما. وأما عدم إحراز العمل بأخبار التخيير في
زمان الحضور فهو خلاف ظاهر بعض أخباره في أن السؤال عن حكم
التعارض كان من جهة ابتلاء السائل بالتردد في الحكم الواقعي
لأجل تعارض الخبرين كما يستفاد من خبر الحسن بن الجهم وغيره، و
لازمه اعتماد السائل على التوسعة في الاخذ بأي منهما.
مضافا إلى: أن عدم العمل بأخبار التخيير لا يشهد بالاعراض عنها، إذ
لعله كان من جهة تفاضل الخبرين في المزايا وعدم تكافئهما من
جميع الجهات.
والحاصل: أنه بعد تعارض المقيدين وتساقطهما لا يبقى إلا إطلاق
الوقوف والتخيير، ولا مجال
122



لانقلاب النسبة بينهما من العموم من وجه - أو التباين - إلى العموم
المطلق حتى يكون نتيجة التقييد القول بالوقوف في عصر الحضور و
بالتخيير في عصر الغيبة. مع أن مبنى الانقلاب لم يلتزم به الكل - كما
سيأتي - حتى يتم به توجيه فتوى المشهور.
فالتحقيق أن يقال: بتقديم أخبار التخيير بعد تمامية دلالتها على
التخيير مطلقا في عصر الحضور والغيبة، ولا يعارضها شئ من أخبار
الوقوف إلا المقبولة، وهي - كما تقدم - بقرينة مورد السؤال تكون
كالنص في وجوب التوقف في موردها أعني تعارض الخبرين
المتكافئين في المرجحات إذا كانت المسألة في باب الحكومة و
القضاء.
وفي دلالتها على التوقف في عصر الغيبة أيضا حتى تعارض مطلقات
التخيير تأمل وإن ذهب المحقق الرشتي (قده) إلى التعميم بقوله:
(أولا: بأن التحديد بلقاء الإمام عليه السلام أعم من صورة تمكن
الوصول إليه وعدمها، لان كلمة - حتى - كما تدخل على الغاية
الممكنة
كذلك تدخل على الغاية الممتنعة كما في قوله تعالى: - حتى يلج
الجمل في سم الخياط - فهذه الأخبار المحدودة بلقاء الإمام عليه السلام
أيضا مطلقة من حيث إمكان الوصول وعدمه، كما أن أخبار التخيير
أيضا مطلقة من هذه الجهة، فيكونان متباينين، فيحتاج الجمع بينهما
بحمل كل منهما على صورة معينة على شاهد. وثانيا:
ان العبرة في مثل المقام بأعم العناوين لا بأخصها.).
وكلا الوجهين لا يخلو من غموض، أما الأول فلان قياس (حتى تلقى
إمامك) على الآية الشريفة غير ظاهر، فإن مدخول (حتى) فيها وإن
كان ممتنعا، لكن ملاقاة الإمام عليه السلام ممكنة، خصوصا بقرينة
مورد السؤال، إذ لا معنى لايقاف الدعوى والمرافعة مدة مديدة ولو
عشرات السنين حتى يتفق له الوصول إلى الإمام عليه السلام، فإن هذا
الارجاء المديد غير مطلوب في باب القضاء، كما أن التخيير في
تعيين الحاكم غير مجعول.
إلا أن يكون مورد المقبولة من باب التداعي كما رجحه المصنف في
حاشية الرسائل كما سيأتي.
وعليه فنفس مورد سؤال عمر بن حنظلة قرينة على كون الامر
بالتوقف مخصوصا بزمان الحضور.
نعم لو كان الغاية كالتحديد في خبر الحارث من قوله عليه السلام
(حتى ترى القائم) كانت كالنص في الامر بالتوقف في عصر الغيبة
بناء على اختصاص إطلاق هذا اللقب الشريف به عجل الله تعالى
فرجه الشريف.
وأما الثاني: فقد عرفت حال الأدلة العامة على وجوب التوقف، فلا
نعيد.
123

ومنها (1): ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات
منصوصة
124

من مخالفة القوم، وموافقة الكتاب والسنة، والأعدلية، والأصدقية،
125

والأفقهية، والأورعية، والأوثقية، والشهرة، على اختلافها (1) في
الاقتصار على بعضها، وفي الترتيب بينها (2). ولأجل اختلاف
الاخبار (3) اختلفت
126

الأنظار، فمنهم من أوجب الترجيح بها (1) مقيدين بأخباره (2)
إطلاقات التخيير، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها (3)، ومن (4)
تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته (5)
كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه (6)،
127

أو المفيدة (1) للظن كما ربما يظهر من غيره (2).
فالتحقيق (3) أن يقال: إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو
128

المقبولة والمرفوعة، مع اختلافهما (1)،
129

وضعف [1 [1 سند المرفوعة جدا [2] والاحتجاج بهما [3] على

[1] لا يخفى أنه بناء على ضعف سند المرفوعة وعدم اعتبارها لا
يقدح الوجه الأول - وهو الاختلاف في ترتيب المرجحات - في
اعتبار
المقبولة، إلا إذا ثبت إعراض الأصحاب عما فيها من ترتيب
المرجحات.
[2] ودعوى انجبار ضعفه بعمل الأصحاب وتحقق الشهرة على العمل
بمضمونها فاسدة، لما في تقريرات سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني
(قده) من (مخالفة مضمونها مع فتوى المشهور، لكونها متضمنة
للترجيح بالاحتياط، مع أن المشهور غير قائلين به أولا، وعدم العلم
باستنادهم إليها، واحتمال كونهم مستندين إلى غيرها من أخبار
الترجيح ثانيا.
مضافا إلى: أن تقديم المشهور الرواية المشهورة على رواية أخرى
تكون أرجح من حيث صفات الراوي لا يشهد بعملهم بالمرفوعة،
فلعلهم أخذوا بالمقبولة، لان التقديم بشهرة الرواية في المقبولة هو
أول مرجحات الرواية بعد تساويهما في صفات الراوي، فليست
المقبولة مخالفة للمرفوعة في أن أول مرجحات الرواية هو الشهرة
الخبرية. وأما عدم تعرض الترجيح بالصفات في المقبولة بعد
الترجيح بالشهرة فإنما هو لأجل تساويهما في صفات الحاكمين اللذين
هما راويان للحديثين المختلفين. وعليه فما أفاده الشيخ الأعظم
(قده) من (أن المرفوعة موافقة لسيرة العلماء، فينجبر ضعفها) غير
ظاهر، لقوة احتمال استنادهم إلى المقبولة.
[3] كذا في النسخ التي عثرنا عليها حتى النسخة المطبوعة على النسخة
الأصلية المخطوطة بقلم المصنف (قده)، لكن المطلب الذي أفاده
يقتضي إفراد الضمير كإفراده في قوله: (اختصاص الترجيح بها بمورد
الحكومة) كما أنه يقتضي اختصاص الاشكال الذي ذكره بقوله
(ره).
130

وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو (1) عن إشكال،

(والاحتجاج) بالمقبولة، لا اشتراكه بينها وبين المرفوعة كما هو ظاهر
المتن الذي تقتضيه تثنية الضمير.
131

لقوة (1) احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة
وفصل الخصومة كما هو (2) موردها (3). ولا وجه معه (4)
للتعدي منه إلى غيره كما لا يخفى (5). ولا وجه (6) لدعوى تنقيح
المناط، مع (7) ملاحظة أن
132

رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما
استندا [1] إليه من (1) الروايتين لا يكاد (2) يكون إلا بالترجيح، ولذا
(3) أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السلام في صورة

[1] بلفظ التثنية كما في النسخة المطبوعة عن نسخة الأصل، وهو
الصحيح، دون ما في سائر النسخ من الافراد، وذلك لرجوعه إلى
(الحكمين) لأنه بمنزلة أن يقال: (وتعارض ما استند الحكمان إليه) ولا
فرق في لزوم تثنية (استندا) بين كون (الحكمين) بفتح الحاء و
الكاف وبضم الحاء وسكون الكاف، غاية الامر أن (استندا) يكون
على الأول معلوما وعلى الثاني مجهولا كما هو واضح.
133

تساويهما (1) فيما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى [1 [2 ومجرد (3)

[1] أورد عليه بأن الترجيح إنما يكون في قبال التخيير، والتخيير إنما هو
في المسألة الأصولية بمعنى أخذ أحدهما حجة وطريقا إلى
الواقع، والترجيح في المسألة الأصولية هو أخذ الراجح حجة شرعية و
محرزا للواقع. وعليه لا يمكن الفرق بين باب الحكومة والفتوى،
بل نفوذ حكم من وافق حكمه الراجح إنما هو لأجل موافقة فتواه له.
مضافا إلى أن صدر الرواية سؤالا وجوابا وإن كان في مورد
الحكومة، إلا أن الظاهر من قوله عليه السلام: ينظر إلى ما كان من
روايتهم عنا. هو أن الإمام عليه السلام صار بصدد بيان الوظيفة
الكلية عند تعارض مطلق الاخبار.
لكن يمكن أن يقال: ان الترجيح والتخيير وإن كانا في المسألة
الأصولية، والمخاطب بالتخيير بين المتعارضين هو المخاطب
بالترجيح
بين المتفاضلين، إلا أن المدعى اختصاص هذا الترجيح - بناء على
لزوم الترجيح بالمزايا - بباب الحكومة، وعدم جريانه في مطلق
الاخبار المتعارضة، بشهادة قوله عليه السلام بعد فرض تكافئهما في
الصفات: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به
المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به) فإنه عليه السلام رجح مستند
الحاكم بكونه مشهورا، ولم يقل عليه السلام: (ينظر إلى ما كان من
روايتهم عنا المجمع عليه بين أصحابك) حتى يستفاد منه
134

مناسبة الترجيح لمقامها أيضا (1) لا يوجب (2) ظهور الرواية (3) في
وجوبه مطلقا (4) ولو في غير مورد الحكومة كما لا يخفى.

حجية الشهرة ولزوم الترجيح بها في مطلق تعارض الاخبار.
ولا قرينة على إسقاط قوله عليه السلام: (في ذلك الذي حكما به) عن
الموضوعية، ولا أقل من احتمال خصوصية باب القضاء ودخلها في
الترجيح بالشهرة. وعليه فلو قيل بتقييد إطلاقات التخيير فاللازم
الاقتصار على ترجيح الاخبار المتعارضة في موارد الترافع و
الحكومة، ولا موجب للتعدي إلى غيرها من أبواب العبادات ونحوها.
نعم يشكل الاقتصار على باب الحكومة من جهة التعليلات الواردة في
المقبولة، كتعليل الاخذ بالمشهور (بأن المجمع عليه لا ريب فيه) و
بقوله عليه السلام: (وإنما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع.) والاخذ
بمخالف العامة (بأن الرشد في خلافهم)، وتعليل الاخذ بما وافق
الكتاب في رواية السكوني (بأن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب
نورا) لظهور هذه التعليلات - بل صراحتها - في عدم اختصاص
الترجيح بموارد الترافع والحكومة، فالخبر غير المشهور في باب
الصلاة والصوم ونحوهما يندرج في الامر المشتبه أو في البين غيه،
وكذا الخبر المخالف للكتاب ليس صوابا، والموافق للعامة ليس فيه
الرشاد. ومن المعلوم إباء هذا السنخ من التعبير عن التقييد بباب
دون باب.
[1] هذا كله مضافا إلى عدم اقتضاء المناسبة المزبورة لوجوب الترجيح
في المسألة الأصولية، لامكان حجية أحد المتعارضين تخييرا كما
يدعيه القائلون باستحباب الترجيح، وعدم توقف حجيته على
الترجيح.
135

وإن أبيت (1) إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا (2)
مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء
الإمام عليه السلام بهما (3)، لقصور (4) المرفوعة سندا، وقصور
المقبولة دلالة، لاختصاصها (5) بزمان التمكن من لقائه عليه السلام،
136

ولذا (1) ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح.
مع (2) أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم
المتعارضين بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين - مع ندرة
137

كونهما متساويين جدا (1) - بعيد (2) قطعا بحيث (3) لو لم يكن
ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص (4) لوجب (5) حملها (6) عليه
أو على مالا ينافيها من (7) الحمل على الاستحباب [1] كما فعله

[1] قد يستشكل في الحمل على الاستحباب بأن المرجح إن كان
دخيلا في حجية ذيه وجب الاخذ به، إذ لا معنى لاستحباب الاخذ
بالحجة.
وإن لم يكن دخيلا فيها، وكانت الحجة التخييرية أحدهما المخير فلا
وجه لاستحبابه أيضا، لتساوي الخبرين المتعارضين في المنجزية
والمعذرية.
لكنه مندفع بأن الاستحباب ناش عن مصلحة زائدة على المصلحة
المقتضية لنفس الحجية اقتضت أفضلية الاخذ بذي المزية من دون
دخل
المزية في حجيته، بل الحجية نشأت من اجتماع شرائطها فيه.
وبالجملة: فهذا الاشكال على حمل المقبولة على استحباب الترجيح
غير وارد.
138

بعض الأصحاب (1). ويشهد به (2) الاختلاف الكثير بين ما دل على
الترجيح من (3) الاخبار.
ومنه (4) قد انقدح
139

حال سائر أخباره (. [1 [1
مع (2) أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار

[1] الظاهر الاستغناء عن قوله: (ومنه) إلى قوله: (أخباره) بقوله: (من
الاخبار) لورود أكثر إشكالات المقبولة والمرفوعة على ما
عداهما من الاخبار. فالأولى أن يقال: (ويشهد به الاختلاف الكثير بين
سائر ما دل على الترجيح من الاخبار. مضافا إلى ما فيها من أكثر
الاشكالات المتقدمة).
141

الباب (1) نظرا (2)، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف
للكتاب في نفسه (3) غير حجة، بشهادة (4) ما ورد في أنه (5) زخرف
(6) وباطل (7)
142

وليس بشئ (1)، أو أنه (2) لم نقله (3) أو أمر (4) بطرحه على
الجدار (5). وكذا الخبر الموافق للقوم (6)،
143

ضرورة (1) أن أصالة عدم صدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم
مع الوثوق بصدوره لولا القطع به (2) غير (3) جارية، للوثوق
حينئذ (4) بصدوره كذلك (5). وكذا الصدور (6) أو الظهور في الخبر
المخالف للكتاب
144

يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند، ولا الظهور (1) كما لا
يخفى، فتكون (2) هذه الأخبار (3) في مقام تمييز الحجة عن
اللا حجة، لا (4) ترجيح الحجة على الحجة، فافهم (5).
145

وإن أبيت عن ذلك (1) فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين
الاطلاقات، إما على ذلك (2)،
146

أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا (1)، هذا.
ثم إنه لولا التوفيق بذلك (2) للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات،
وهي (3) آبية عنه، كيف يمكن تقييد مثل (ما خالف قول ربنا لم
أقله) أو (زخرف) أو (باطل) كما لا يخفى [1]

[1] لا يظن من أحد أن يجعل الروايات المشتملة على هذه العناوين من
أخبار الترجيح حتى
147

فتلخص مما ذكرنا (1): أن إطلاقات التخيير محكمة، وليس في
الاخبار (2) ما يصلح لتقييدها (. [1 [3

يقال: بإبائها عن التقييد، إذ المراد بهذه المخالفة الموجبة لكون الخبر
المخالف للكتاب زخرفا وباطلا هي المخالفة التباينية، لما تقدم
في أول مبحث التعادل والترجيح من أن المخالفة بالأعم والأخص
المطلق ليست مخالفة عرفا، لوجود الجمع العرفي بين العام والخاص
والمطلق والمقيد.
وعليه فالاخبار المشتملة على كون الخبر (باطلا وزخرفا) ونحو ذلك
أجنبية عن أخبار المرجحات حتى تحتاج إلى التقييد، و
يستشكل فيه بإبائها عن التقييد، بل هذه الأخبار في مقام تمييز الحجة
عن اللا حجة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
[1] قد عرفت في توضيح المتن أن المرجحات المنصوص عليها في
الاخبار العلاجية كثيرة:
فمنها: الترجيح بصفات الراوي كما في المقبولة والمرفوعة مع
اختلافهما في بعض الصفات.
ومنها: الترجيح بالشهرة كما في الخبرين مع اختلافهما في تقديمه
على الترجيح بالصفات وتأخيره عنه.
ومنها: الترجيح بموافقة الكتاب والسنة كما في المقبولة وغيرها.
ومنها: الترجيح بمخالفة العامة كما فيها أيضا وفي غيرها.
ومنها: الترجيح بالأحدثية كما استظهره الصدوق (قده) من بعض
الاخبار.
فينبغي النظر في مفاد هذه الطوائف المختلفة، وتحقيق ما أفاده
المصنف (قده) من حمل جملة منها على تمييز الحجة عن غيرها، أو
حملها
على الاستحباب، فالمهم الكلام في المقبولة التي هي أجمع أخبار
العلاج للمرجحات، ثم في بعض أخبار الترجيح، فنقول وبه نستعين:
ان جهات البحث في المقبولة أربع، وهي السند، وفقه الحديث، و
الاشكالات الواردة على الاستدلال بها، والمرجحات المنصوصة فيها
و
في سائر الأخبار.
أما الجهة الأولى فالظاهر اعتبار سند المقبولة إلا من ناحية عمر بن
حنظلة، فقد رواها ثقة
148



الاسلام (قده) عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد
بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين عن عمر بن
حنظلة، ولا غمز في هذا السند كما هو غير خفي على من له دراية
بالرجال. وإنما الكلام في جهالة عمر بن حنظلة، لعدم توثيقه في
الأصول الرجالية.
والوجوه المعتمد عليها لاثبات وثاقته عند جمع - من الاخبار
المادحة له المدرجة للرجل في الثقات أو الحسان، ومن رواية
أصحاب
الاجماع كصفوان بن يحيى عنه، ومن توثيق الشهيد الثاني إياه في
الدراية والعلامة المجلسي في محكي الوجيزة، وقال في المرآة:
(موثق تلقاه الأصحاب بالقبول) ونحوها - غير ظاهرة.
أما الاخبار المادحة فلأنها غير نقية سندا، إما لعدم ثبوت وثاقة الراوي
كما في رواية يزيد بن خليفة، وإما لكون راويها عمر نفسه.
وأما توثيق الشهيد الثاني والعلامة المجلسي وغيرهما من المتأخرين
(قدس سرهم) فلا يجدي أيضا، إذ المطلوب في الجرح والتعديل
كسائر موارد الشهادات هو الاخبار عن الحس لا الحدس، ومن
المعلوم عدم احتمال كون هذا التوثيق شهادة حسية، لبعد العهد. مع
أن
المحكي عن الشهيد استناده إلى رواية يزيد بن خليفة عن الصادق
عليه السلام: (إذن لا يكذب علينا) وهي قاصرة سندا. ولو قيل بأن
يزيد ممن روى عنه ابن أبي عمير بسند صحيح، فيشمله عموم توثيق
رجال أصحاب الاجماع، ويثبت به كلام الإمام عليه السلام في شأن
عمر بن حنظلة، قلنا لو تم ذلك لما كانت حاجة إلى رواية يزيد بن
خليفة لكونه تبعيدا للمسافة، إذ المفروض رواية صفوان بسند معتبر
عن عمر، فيحكم بوثاقته بهذا الطريق لا برواية يزيد.
وأما رواية صفوان عن عمر بن حنظلة - مع كون صفوان بن يحيى من
أصحاب الاجماع - فهي كسائر الوجوه قاصرة عن إثبات وثاقة
الرجل. ولتوضيح الحال لا بأس بالتعرض لشطر من الكلام فيه،
للانتفاع به في غير المقام أيضا، فنقول وبه نستعين:
الأصل في هذا الاجماع ما في رجال الكشي في عنوان تسمية الفقهاء
من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام: (أجمع
أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم
بالفقه والعلم، وهم ستة نفر أخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في
أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، منهم يونس بن عبد الرحمن، و
صفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمد بن أبي عمير، وعبد
149



الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر،
وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب الحسن بن علي بن فضال و
فضالة بن أيوب، وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب عثمان بن عيسى.
وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى).
وينبغي النظر في تحقق هذا الاجماع، ثم في مفاد كلام الكشي، ثم في
حجيته، فهنا مباحث:
المبحث الأول: في ثبوت الاجماع المزبور وعدمه، والظاهر تحققه -
مع الغض عن اختلاف الأصحاب في مفاده - لما عرفت من نقل
الكشي له، واعتراف من تأخر عنه به كالشيخ وابن شهرآشوب و
العلامة وابن داود وغيرهم (قدس سرهم). فالمستفاد من كلام الشيخ
تقريره له في موضعين:
أحدهما: ما حكاه السيد الاجل علي بن طاوس (قده) - في كتابه فرج
الهموم - لما أملاه الشيخ في المشهد الغروي على مشرفه أفضل
الصلاة والسلام بقوله: (فإن هذه الأخبار اختصرتها من كتاب الرجال
لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، واخترنا ما
فيها) فان ظاهره - بل صريحه - كون كل ما في رجال الكشي
الموجود بأيدينا مرضيا للشيخ ومختارا له، فيكون الاجماع المدعى
مقبولا عنده أيضا.
ثانيهما: ما أفاده في بحث الخبر الواحد من العدة بقوله: (فأما الاخبار
إذا تعارضت وتقابلت فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى الترجيح،
والترجيح يكون بأشياء. إلى أن قال: وإذا كان أحد الراويين مسندا و
الاخر مرسلا نظر في حال المرسل، فان كان ممن يعلم أنه لا
يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل
ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير وصفوان بن
يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا
بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق به، وبين ما أسنده
غيرهم، ولذلك عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم. إلى أن
قال: فأما إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذي
ذكرناه.
ودليلنا على ذلك الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد،
فإن الطائفة عملت بالمسانيد كما عملت بالمراسيل).
والظاهر أو المتيقن من قوله: (من الثقات الذين عرفوا.) هو أصحاب
الاجماع المعهودون، ضرورة أن جميع ثقات الرواية ليسوا كذلك،
لما نشاهده من أن كثيرا منهم يروون عن غير الثقة كما
150



يروون عن الثقة، فالمتصف من ثقات الرواة بهذه الصفة جمع خاص
يمتازون عن غيرهم من الاجلاء بهذا الوصف أي بالاقتصار على
الرواية والاخذ من خصوص الثقة.
ولولا إرادة هذا المعنى كان مفاد كلامي الشيخ والكشي مختلفا،
لظهور الموصول في (ما يصح) في الرواية، فمعقد إجماع الكشي هو
الحكم بصحة روايات هذه العدة بلا نظر إلى خصوصية اقتصارهم على
الرواية عن الثقات خاصة، إذ المنسوب إلى القدماء أعمية الخبر
الصحيح مما كان رواته إماميين عدولا ضابطين - وهو الصحيح
باصطلاح المتأخرين - ومن الثقات غير الإماميين، ومن الضعفاء
الذين
اعتضدت رواياتهم بقرائن الصدق. وهذا بخلاف كلام الشيخ،
لصراحته في أن منشأ إجماع العصابة على العمل برواية هؤلاء الثقات
هو
اقتصارهم على الرواية عن الثقة سواء في مسانيدهم ومراسيلهم.
كما أن بين العبارتين فرقا آخر، وهو: أن كلام الكشي غير ناظر إلى حال
انفراد تلك العدة برواية عن المعصوم عليه السلام مسندة و
مرسلة، وحال تعارض روايتهم برواية أخرى، وأنه على فرض
المعارضة هل يقدم روايتهم على رواية غيرهم مطلقا؟ أو بالتفصيل
بين
المسند والمرسل، أو يحكم بالتخيير مثلا، أو غير ذلك، فهذا من قبيل
الأدلة الأولية على حجية أخبار هذه الجماعة بلا تكفل لحكم
تعارضها مع أخبار غيرهم. ولكن عبارة الشيخ صريحة في حكم
الحالتين أي حال التعارض وحال عدم وجود المعارض لأخبارهم. و
لعله (قده) استفاد اندراج حكم القسمين في إطلاق إجماع الكشي.
وعلى كل فكلام الشيخ أدل على المقصود - من الحكم باعتبار جميع
روايات أصحاب الاجماع سواء المسانيد والمراسيل - من عبارة
الكشي.
هذا بعض ما يدل على تقرير الاجماع، وتلقي الأصحاب له بالقبول، و
إن شئت الوقوف على كلمات ابن شهرآشوب والعلامة وابن داود
وغيرهم فراجع المستدرك، فان المحدث النوري (قده) نقل جملة من
عباراتهم.
وبالجملة: فالمتتبع في كلماتهم يحصل له الاطمئنان بثبوت هذا
الاجماع عندهم، فإنهم نقلوا ذلك، وظاهر نقلهم من غير نكير هو
تلقيهم
له بالقبول.
المبحث الثاني: في مفاد قوله: (تصحيح ما يصح عنه) ولهم في ذلك
أقوال أربعة:
151



الأول: ما نسب إلى المشهور من أن المراد توصيف متن الحديث
بالصحة إن صح سنده إلى أحد أصحاب الاجماع، قال المحقق الداماد
(قده) في محكي الرواشح: (قد أورد أبو عمرو الكشي في كتابه - الذي
هو أحد أصول إليها استناد الأصحاب وعليها تعويلهم في رجال
الحديث - جماعة أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم و
الاقرار لهم بالفقه والفضل والضبط والثقة وإن كانت روايتهم بإرسال،
أو رفع، أو عمن يسمونه وهو ليس بمعروف الحال، ولمة منهم في
أنفسهم فاسدوا العقيدة غير مستقيمي المذهب، ولكنهم من السفط و
الجلالة في مرتبة قصيا،. إلى أن قال:
وبالجملة: هؤلاء - على اعتبار الأقوال المختلفة في تعيينهم أحد و
عشرون، بل اثنان وعشرون رجلا - [و] مراسيلهم ومرافيعهم و
مقاطيعهم ومسانيدهم إلى من يسمونه من غير المعروفين معدودة
عند الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم من الصحاح، من غير اكتراث
منهم لعدم صدق حد الصحيح - على ما قد علمته - عليها).
وظاهر قوله: (معدودة عند الأصحاب) هو إجماع الأصحاب على هذا
الاستظهار. ونسب هذا إلى المشهور تارة وإلى الأكثر أخرى في
عبارتي شارح الاستبصار ومؤلف رسالة أبان، فراجع المستدرك
للوقوف عليهما.
والحاصل: أن المراد بالموصول هو متن الحديث - أي المروي -
الذي هو المعنى المفعولي للرواية، لا الاخبار الذي هو المعنى
المصدري
لها.
الثاني: ما اختاره جمع منهم المحقق الكاشاني وصاحب الرياض
(قدهما) من أن المراد هو الاجماع على صدق هؤلاء وعدم كذبهم في
نقلهم، فالتصحيح يتعلق بالرواية بمعناها المصدري، قال في الوافي -
بعد نسبة المعنى الأول الذي اختاره المشهور إلى المتأخرين - ما
لفظه: (وأنت خبير بأن العبارة ليست صريحة في ذلك ولا ظاهرة، فإن
ما يصح عنهم هو الرواية لا المروي، بل كما يحتمل ذلك يحتمل
كونها كناية عن الاجماع على عدالتهم وصدقهم، بخلاف غيرهم ممن
لم ينقل الاجماع على عدالته).
ونقل أبو علي - في محكي رجاله - عن أستاذه السيد الاجل صاحب
الرياض بعد إنكار المذهب
152



المشهور: (بل المراد دعوى الاجماع على صدق الجماعة، وصحة ما
ترويه إذا لم يكن في السند من يتوقف فيه، فإذا قال أحد الجماعة:
حدثني فلان، يكون الاجماع منعقدا على صدق دعواه، وإذا كان فلان
ضعيفا أو غير معروف لا يجديه ذلك نفعا).
وقال أبو علي في المقدمة الخامسة من رجاله: (وادعى السيد الأستاذ
دام ظله - السيد علي صاحب الرياض - أنه لم يعثر في الكتب
الفقهية - من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات - على عمل
فقيه من فقهائنا بخبر ضعيف محتجا بأن في سنده أحد الجماعة وهو
إليه صحيح) وسيأتي أن ما أفاده (قده) متين في الجملة.
وعلى كل فهذا القول يقابل ما ذهب إليه المشهور بتمام المقابلة، إذ
عليه لا يكون رواية أصحاب الاجماع عن رجل ضعيف أو مجهول
موجبا لاتصاف خبره بالصحة سواء أريد بها ما نسب إلى القدماء من
مساوقة الصحة للاعتبار والصدق، أم ما عليه المتأخرون من كون
الخبر الصحيح هو الذي يرويه عدل إمامي ضابط.
الثالث: ما حكي عن الفاضل السبزواري في لب اللباب مدعيا عليه
الاجماع من أن المراد هو الاجماع على كون هؤلاء. ثقات وعن
المحقق
الشيخ محمد في شرح الاستبصار بعد نقل القول المشهور: (وتوقف
في هذا بعض قائلا: إنا لا نفهم منه إلا كونه ثقة).
الرابع: ما يظهر من جمع من أن المراد الاجماع على توثيق الجماعة
الذين قيل في حقهم ذلك ومن يكون قبلهم من رجال السند، فتدل
العبارة على توثيق طائفتين، إحداهما: نفس هؤلاء الذين هم أصحاب
الاجماع، والثانية: الرجال الذين هم قبل هؤلاء إلى المعصوم عليه
السلام.
وهذا الوجه هو صريح كلام الشيخ في العدة: (ممن عرفوا بأنهم لا
يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة). وقال به جمع من الأعيان، كالشهيد
في مسألة بيع الثمرة من كتابه غاية المراد، قال - بعد ذكر حديث في
سنده الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي
- ما لفظه: (وقد قال الكشي: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح
عن الحسن بن محبوب. قلت: في هذا توثيق [ما] لأبي الربيع
الشامي).
وكالعلامة الطباطبائي في رجاله في ترجمة زيد النرسي - الذي رواه
عنه ابن أبي عمير - قال: (وحكى الكشي في رجاله إجماع
العصابة على تصحيح ما يصح عنه والاقرار له بالفقه والعلم،
153



ومقتضى ذلك صحة الأصل المذكور، لكونه مما قد صح عنه، بل
توثيق رواية أيضا، لكونه العلة في التصحيح غالبا، والاستناد إلى
القرائن
وإن كان ممكنا، إلا أنه بعيد في جميع روايات الأصل).
وكالمحدث النوري، حيث قال بعد تتبع في الأقوال: (فتحصل من
جميع ما ذكرناه: قوة القول بدلالة الاجماع المذكور على وثاقة
الجماعة
ومن بعدهم إلى المعصوم، مطابقة بناء على ما حققنا في المقام
الأول، أو التزاما على مسلك المشهور).
وهذه الاستفادة في محلها - على تقدير تمامية الاجماع - خصوصا
بقرينة كلمة التصحيح قبل قول الكشي: (ما يصح عنه) إذ المراد به
وثاقة رواة الأحاديث فيما بيننا وبين أصحاب الاجماع، فيقتضي
السياق عدم التفكيك في معنى الصحة بين ما قبل الموصول وما
بعده.
وعليه فما عن فوائد الوحيد (قده) (من نسبة هذا المعنى الرابع إلى
توهم بعض) لم يظهر له وجه.
أما المعنى الأول فهو قريب جدا، لظهور كلام الكشي فيه، فعلى تقدير
تمامية أصل الاجماع يتعين المصير إلى التعبد باعتبار روايات
هذه الجماعة كما أفاده المحقق الداماد وغيره.
وأما المعنى الثاني فيرده ما أفيد من: أنه لو كان مرادهم ذلك لكان
التعبير بالتصديق كافيا في إفادة وثاقة الجماعة في نقلهم وأمانتهم
في إخبارهم، ولم تكن حاجة إلى قول الكشي: (على تصحيح ما يصح
عنهم) لان التصحيح ظاهر في اتصاف المتن بالصحة، لأنه المتصف
بها وبالضعف والحسن وغيرها من الأوصاف الطارئة على الخبر
باعتبار حالات رجال السند.
وأما المعنى الثالث فيرده أيضا ما عن المحقق الشيخ محمد - وهو
سبط الشهيد كما قيل - في شرح الاستبصار من قوله: (أن كون الرجل
ثقة أمر مشترك، فلا وجه لاختصاص الاجماع بهؤلاء المذكورين، و
حينئذ لا بد من بيان الوجه).
وناقش فيه المحدث النوري بما محصله: أن مراد القائل إن كان بيان
معنى العبارة بحيث سيقت العبارة لحكايته، فيبعد أن يراد بها أن
الجماعة ثقات، لوضوح المغايرة بين (الثقات) وبين مدلول قولهم:
(أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن جماعة) وإن كان دالا
على
الوثاقة بالتزام، لان التصحيح من لوازم الوثوق، لكن التعبير عن الوثاقة
بهذه الجملة أشبه شئ بالاكل من القفا، مع كون لفظ (الثقة) من
الألفاظ الشائعة الواضحة المعاني.
154



وإن كان مراده إفادة العبارة وجود الوثاقة في الجماعة بالدلالة
الالتزامية مع كون العبارة مسوقة لبيان معنى آخر، فلا بأس به. ولا
يرد عليه حينئذ إيراد شارح الاستبصار، لان العبارة بناء على هذا
سيقت لبيان وقوع الاجماع على تصحيح رواياتهم الذي يلزمه وجود
الوثاقة فيهم، وهذا المعنى مختص بهم لا يشاركهم أحد فيه، إذ لم يقع
الاجماع على نفس الوثاقة حتى يسأل عن وجه الاختصاص مع
وجود شركاء لهم في الوثاقة.
لكن الانصاف ورود إشكال شارح الاستبصار، لان كلام القائل ظاهر في
كون العبارة مسوقة لبيان أنهم ثقات، ولا تدل على غير ذلك.
ومن المعلوم توجه إيراده عليه، لان معنى العبارة مغاير لمعنى قوله:
(ثقات) وجعل هذه الجملة حاكية عن معنى لفظ مفرد خارج عن
طريقة أبناء المحاورة.
وأما المعنى الرابع - وهو الحكم بوثاقة الجماعة مع الوسائط - فهو
صريح كلام الشيخ في العدة وظاهر إجماع الكشي أيضا، وقد
التزام به الشهيد والسيد بحر العلوم (قده) في رجاله، وهذا هو
المتعين من بين المحتملات - على تقدير صحة أصل الاجماع - لا
سائر
الاحتمالات حتى الأول الذي نسبه السيد الداماد إلى الأصحاب،
لابتنائه على قبول روايات هذه العدة تعبدا، لكن الظاهر عدم تعبد في
قبولها، وإنما التعبد في الاعتماد على شهادة العصابة بانحصار روايات
أصحاب الاجماع في الصحاح، وأن من يروي عنه هؤلاء هم من
الثقات.
فان قلت: ان دعوى الكشي إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن
عدة مخصوصة لا تكشف عن أنهم لا يروون إلا عن ثقة موثوق به،
لان الصحة عند القدماء بمعنى الثبوت والاعتبار سواء أكان منشؤه
وثاقة رواة الخبر أم اعتضاده بقرائن الصدق ولو كان راويه ضعيفا.
وعليه لا تنفع هذه الشهادة العامة بالنسبة إلى أمثال زماننا حيث
اختفيت تلك القرائن، ولو كانت معلومة لم تنفع أيضا بعد اختلاف
الأنظار في مسألة حجية الخبر، وعدم قرينية بعض القرائن المعدودة
عند القدماء على صحة الاخبار.
قلت: هذا الاشكال مبني على ما هو المشهور من أعمية الخبر الصحيح
باصطلاح القدماء منه باصطلاح المتأخرين، إذ عليه لا تجدي صحة
الخبر عند أولئك لاثبات صحته عند المتأخرين الذين يعتبرون الوثوق
المخبري في العمل بخبر الواحد.
155



قال شيخنا البهائي في محكي مشرق الشمسين بعد تقسيم الحديث
إلى الأقسام الأربعة المشهورة في اصطلاح المتأخرين - وهي
الصحيح
والموثق والحسن والضعيف - ما لفظه: (وهذا الاصطلاح لم يكن
معروفا بين قدمائنا، كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم، بل المتعارف
بينهم إطلاق الصحيح على ما اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه، أو
اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه، وذلك بأمور منها: وجوده
في كثير من الأصول الأربعمائة. ومنها تكرره في أصل أو أصلين منها
فصاعدا بطرق مختلفة وأسانيد معتبرة. ومنها: وجوده في أصل
معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم. و
منها: اندراجه في إحدى الكتب التي عرضت على الأئمة صلوات الله
عليهم، فأثنوا على مصنفيها. إلخ). ونحوه كلام صاحب المعالم في
مقدمة منتقى الجمان.
لكن أصل هذه الدعوى لا تخلو من تأمل كما أفاده المحدث النوري
في المقام، فإنه (قده) أتعب نفسه الشريفة بالتتبع في كلمات ثقة
الاسلام والشيخ الصدوق وشيخ الطائفة وغيرهم واستنتج بتتبعه
أمرين:
أحدهما: أن ما اشتهر من كون الصحيح باصطلاح القدماء أعم منه
باصطلاح المتأخرين غير وجيه.
وثانيهما: أن الصحيح القدمائي إن كان أعم من خبر الامامي العدل
فإنما يطلق عندهم على خبر الثقة غير الامامي أي: من كان عدلا في
مذهبه، ولا يطلق على الخبر الضعيف سندا لمجرد الاعتضاد بالقرائن.
وقال - بعد نقل عبارة المنتقى والإشارة إلى كلام الشيخ البهائي
المتقدم بيانه - ما لفظه: (ونحن نسأل هذا الشيخ وهذا المحقق عن
مأخذ هذه النسبة ومدرك هذا القول، فإنا لم نجد في كلمات القدماء
ما يدل على ذلك، بل هي على خلاف ما نسبه - أو من تبعهما -
إليهم،
بل وجدناهم يطلقون الصحيح غالبا على رواية الثقة وإن كان غير
الامامي).
ثم استدل على الامرين المشار إليهما، وقال: (أما الأول فقال الشيخ
في العدة - وهو لسان القدماء ووجههم -: فصل في ذكر القرائن
التي تدل على صحة أخبار الآحاد أو بطلانها أو ما يترجح به الاخبار
بعضها على بعض، وحكم المراسيل: القرائن التي تدل على صحة
متضمن الاخبار التي لا توجب العلم أربعة أشياء، وذكر العقل أي أصل
الإباحة والحظر والكتاب خصوصه أو عمومه أو
156



دليله أو فحواه، والسنة المقطوع بها من جهة التواتر، قال - أي الشيخ
- (ره): فإن ما يتضمنه خبر الواحد إذا وافقه مقطوع على صحته
أيضا وجب العمل به، وإن لم يكن ذلك دليلا على صحة نفس الخبر،
لجواز أن يكون الخبر كذبا، وإن وافق السنة المقطوع بها. ثم ذكر
الاجماع، وقال: فإنه متى كان كذلك دل أيضا على صحة متضمنه، ولا
يمكننا أيضا أن نجعل إجماعهم دليلا على نفس الخبر.
فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد، ولا تدل على
صحتها أنفسها، لما بينا من جواز أن يكون الاخبار مصنوعة وإن
وافقت هذه الأدلة) انتهى كلام الشيخ في العدة.
ثم قال المحدث النوري: (انظر كيف صرح في مواضع عديدة بأن
موافقة هذه الأدلة لا توجب الصحة في نفس الخبر، ولا يصير الخبر بها
صحيحا. وعلى هذا كافة الأصحاب، ومع ذلك كيف يجوز نسبة ذلك
إليهم من غير اكتراث؟ ثم ترتيب الآثار عليها).
ثم تعرض لكلام الفاضل الكاظمي. إلى أن قال: (وأما الثاني - وهو
إطلاقهم الصحيح على خبر الثقة ولو من غير الامامي كثيرا وفي
موارد لا يبعد بعد ملاحظتها دعوى الاطمئنان بانحصار مصطلحهم
فيه، فينحصر الأعمية في دخول الموثق في الصحيح عندهم - فله
شواهد. منها: ما في الفقيه: وأما خبر صلاة يوم غدير خم والثواب
المذكور فيه، فإن شيخنا محمد بن الحسن رضي الله عنه كان لا
يصححه، ويقول: إنه من طريق محمد بن موسى الهمداني، وكان غير
ثقة، وكلما لم يصححه ذلك الشيخ قدس الله روحه ولم يحكم
بصحته من الاخبار فهو عندنا متروك غير صحيح.
ولا يخفى على المتأمل: أن المراد من الصحيح في أول الكلام ما كان
تمام رواته ثقات، فيكون في آخره كذلك. مع أن غير الوثاقة مما
عدوه من أصحاب الصحة - كالوجود في الأصل، والمعروض على
الإمام عليه السلام، والموافقة - من الأمور المحسوسة غير المحتاجة
إلى تبعية الاخر، والذي لا ضير في التبعية فيها معرفة الرجال و
وثاقتهم وضبطهم وتثبتهم، خصوصا لمثل الناقد الخبير محمد بن
الحسن بن الوليد الذي من سلم من طعنة فكأنه مرضي الكل).
إلى أن قال المحدث النوري (قده): (ومنها ما في التهذيب في باب
التيمم في بحث المحتلم الخائف على نفسه من الغسل لشدة البرد،
بعد
إيراد حديث بسندين أولهما محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن
الحسين عن جعفر بن بشير عمن رواه عن أبي عبد الله عليه السلام. و
ثانيهما: سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن
جعفر بن بشير عن عبد الله بن سنان أو غيره عنه عليه السلام، قال:
فأول ما فيه أنه خبر مرسل منقطع الاسناد، لان جعفر بن بشير في
الرواية الأولى
157



قال: عمن رواه، وهذا مجهول يجب إطراحه، وفي الرواية الثانية قال:
عن عبد الله بن سنان أو غيره، فأورده وهو شاك فيه، وما
يجري هذا المجرى لا يجب العمل به، ولو صح الخبر على ما فيه
لكان محمولا. إلخ).
إلى أن قال: (ومنها ما في الفهرست في ترجمة يونس بن عبد الرحمن
- بعد ذكر الطرق إلى كتبه - وقال محمد بن علي بن الحسين:
سمعت محمد بن الحسن بن الوليد رحمه الله يقول: كتب يونس بن
عبد الرحمن - التي هي بالروايات - كلها صحيحة معتمد عليها، إلا ما
ينفرد به محمد بن عيسى بن عبيد، ولم يروه غيره. إلى ذلك من
الموارد الصريحة في أن المناط في الصحة عندهم - أي القدماء -
حالات
نفس السند من غير ملاحظة اقترانه بأمر خارجي. ويوضحه ويدل
عليه: أن الشيخ ذكر الحجة من الخبر الواحد في كتاب العدة في
مواضع، وليس فيه ذكر للخبر الضعيف المنجبر ضعفه بالقرائن
الخارجية، فلو كان الضعيف المقترن بها داخلا في صحيحهم لكان
حجة،
ومعه كان عليه أن يذكره، مع أنه أهمله.) هذا بعض ما استشهد به
المحدث النوري من عبائرهم لاثبات مدعاه، فراجع المستدرك
للوقوف على كلمات أخرى استفاد منها عدم إطلاق الصحيح عند
القدماء على خبر غير الثقة.
وبما أفاده (قده) يتضح أن تعبير الشيخ في العدة (ممن عرفوا بأنهم لا
يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة) وإن كان مغايرا بحسب ظهوره
البدوي لاجماع الكشي على تصحيح روايات أصحاب الاجماع، إلا
أن مفاديهما واحد في الحقيقة، إذ أعمية الصحيح القدمائي من
الصحيح
عند المتأخرين إنما تكون لاندراج الخبر الموثق - باصطلاح
المتأخرين - فيه.
وعليه فالحجة عند الجميع واحد وهو الخبر الذي رواه الثقة عن مثله
سواء كانوا إماميين أم من سائر الفرق مع تحرزهم عن الكذب في
النقل.
وقد تحصل مما ذكرناه في المبحث الثاني: أن عبارة الكشي ظاهرة
بدوا في الاحتمال الأول أو الرابع، أي لا بد من الحكم بصحة روايات
هذه العدة إما تعبدا من جهة إجماع العصابة، وإما لكشفه عن أنهم لا
يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، فيكون كلام الكشي والشيخ توثيقا
عاما لجميع الرجال المجهولين الذين روى عنهم بعض أصحاب
الاجماع، ولو تم هذا سلمت طائفة من الاخبار من الوهن في أسنادها.
158



المبحث الثالث: في وجه حجية هذا الاجماع. لا يخفى أن المقرر في
الأصول حجية الاجماع من جمة كشفه عن قول المعصوم عليه السلام
أو
فعله أو تقريره، وإلا فلا عبرة بنفس اتفاق الفقهاء، بل حتى إذا احتمل
مدركيته. وأما في المقام فإما أن يكون الوجه في اعتباره ما في
مختلف العلامة في بحث الكفارة من كتاب الصوم من قوله: (لا يقال: لا
يصح التمسك بهذا الحديث من حيث السند، فإن في طريقه أبان بن
عثمان الأحمر، وكان ناووسيا. لأنا نقول: إن أبان وإن كان ناووسيا إلا
أنه ثقة، وقال الكشي: انه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما
يصح عنه، والاجماع حجة قاطعة، ونقله بخبر الواحد حجة).
وإما أن يكون وجهه إفادته للظن، حيث إنه يوجب الظن بصدور
روايات هذه العدة، والظن حجة في الرجال، لانسداد باب العلم فيه.
وفي كليهما مالا يخفى أما الأول فلان الاجماع - كما أفاده العلامة -
منقول بخبر الواحد، ولا عبرة بتضافر نقله بعد انتهاء السلسلة إلى
الكشي، إلا أنه قد تقرر عدم حجية المنقول منه بخبر الواحد.
مضافا إلى أن مفروض الكلام في حجية الاجماع هو الاتفاق على
حكم شرعي لا موضوع خارجي وهو وثاقة رجال السند، وعليه
فمناط
الحجية فيه مفقود.
وأما الثاني فلان الأصل فيه عدم الحجية، إذ لا دليل على حجية الظن
في علم الرجال، وإنما يعول فيه على الوثوق والاطمئنان، لا على
مجرد الظن، فإن حصل الوثوق من أقوال علماء الرجال كما يحصل
ذلك من اتفاقهم على تعديل شخص أو جرحه فلا كلام، وإلا فلا نقول
بحجية قولهم، والروايات الموثوق بصدورها تغنينا عن القول بحجية
الظن في الرجال من باب الانسداد، إذ لا حاجة إليه مع كفاية تلك
الروايات.
إلا أن يدعى حصول الوثوق بالصدور من هذا الاجماع كما التزم به
المحدث النوري (ره) فلا يقصر عن تزكية الرجاليين لشخص، ولا
فرق في التعديل بين توثيق رجل واحد أو بيت معين ك آل أبي شعبة
مثلا وبين التوثيق العام لكل من روى عنه أصحاب الاجماع.
وعلى هذا يسلم هذا الاجماع عن الاشكال العام في حجية الاجماع
المنقول من عدم شمول أدلة حجية الخبر للخبر الحدسي، وذلك لان
الكشي يدعي اتفاق العصابة على صحة أحاديث هذه العدة، وهذا
إخبار حسي، كدعوى السيد ابن طاوس (قده) الاجماع على وثاقة
إبراهيم بن هاشم، فإن هذا
159



الاخبار لا يقل عن توثيق النجاشي والشيخ، لأنه شهادة من السيد
منضمة إلى شهادة سائر الأصحاب.
والحاصل: أن إجماع الكشي في رجاله، والشيخ في العدة سليم عن
إشكال الاجماع المنقول، لكونه كسائر موارد إخبار الثقات حسا
بالموضوعات الخارجية.
إلا أن الموهن لهذا الاجماع - بحيث يمنع عن الاخذ بظاهره من
الحكم بوثاقة كل من وقع في طريق أصحاب الاجماع إلى المعصومين
عليهم السلام - هو عدم إحراز ما قيل في حق هذه العدة من أنهم لا
يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، بل أحرزت روايتهم عن أشخاص
صرح علماء الرجال بضعفهم كمفضل بن صالح وعمرو بن شمر وأبي
البختري وغيرهم، كما رووا عن المجاهيل أيضا، ومع هذا العلم
بالخلاف لا يبقى وثوق بالحكم بوثاقة كل مجهول وقع في اسناد هذه
الجماعة إلى المعصومين عليهم السلام، بل لم نظفر في كتب
الرجال باعتماد مؤلفيها - كالنجاشي والشيخ - على هذا الاجماع بأن
يحكموا بوثاقة شخص لمجرد كونه ممن روى عنه أحدهم، فهنا
دعاو لا بد من إثباتها في طي مقامين.
الأول: ما يرجع إلى حكم مسانيد هذه العدة، والثاني ما يتعلق بحكم
مراسيلهم.
أما المقام الأول فينبغي الإشارة أولا إلى بعض موارد رواية هذه العدة
عن المجاهيل ممن عنونهم الرجاليون بلا تزكية وتعديل، ثم إلى
موارد روايتهم عن الضعفاء.
أما صفوان بن يحيى فقد روى عن جمع لم يرد فيهم توثيق - حسب
مراجعتنا لتراجمهم - كجعفر ابن محمد بن يحيى، والحسين بن أبي
غندر، والحسين بن خالد الصيرفي، والحسين بن زرارة، والحكم بن
أيمن (سوى أنه من رجال كامل الزيارات) وخالد بن إسماعيل، و
خزيمة بن يقطين، وخضر، وزكريا بن إدريس القمي، وزيد بن الجهم،
وصباح الأزرق، وعبد الاعلى، وعبد الحميد بن سعد، وعبد
الله بن الوليد الوصافي وغيرهم.
كما روى هو وابن أبي عمير عن كليب الأسدي ومحمد بن أبي حمزة،
ومحمد بن الحكم.
وأما أحمد بن محمد بن أبي نصر فقد روى عن إبراهيم بن شيبة، و
أحمد بن المبارك وإدريس ابن يزيد، وإسماعيل بن أبي حنيفة، و
إسماعيل بن عمر، والحسن بن محمد الهاشمي، والحسين بن موسى
الحناط، والحسين بن خالد والحسين بن ميسر، وحماد بن يحيى،
وخلاد بن عمارة، وعيسى الفراء، وفضيل سكرة، وفلان المصري، و
القاسم مولى أبي أيوب، ومثنى بن الوليد. كما روى هو وابن أبي
عمير عن الحكم بن مسكين.
160



وأما ابن أبي عمير فقد أشرنا إلى بعض موارد روايته عن المجاهيل
ممن روى عنه صفوان أو أحمد بن محمد بن أبي نصر. وإن شئت
الوقوف على غيرهم، فراجع ترجمته في معجم رجال الحديث في
باب محمد وابن أبي عمير (6) 1 - 22 - 101).
وأما رواية هذه العدة عن الذين نصوا على ضعفهم، فقد روى أحمد
وصفوان وابن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن عن علي
بن أبي حمزة البطائني، بل روى ابن أبي عمير كتب البطائني كما في
رجال النجاشي (ره). وقد نقل الكشي عن ابن مسعود عن علي
بن الحسن بن فضال في شأن البطائني: (انه كذاب متهم).
وقد روى خمسة من أصحاب الاجماع - وهم يونس بن عبد الرحمن
والحسن بن محبوب وعثمان بن عيسى وحماد بن عيسى وعبد
الله بن المغيرة - عن عمرو بن شمر الذي ضعفه النجاشي.
وروى يونس وأحمد بن محمد بن أبي نصر في موارد عديدة عن
المفضل بن صالح الذي ضعفه النجاشي.
وروى صفوان وابن أبي عمير عن يونس بن ظبيان الذي عبر النجاشي
عنه بأنه (ضعيف جدا) على ما حكاه عنه في معجم رجال
الحديث.
وروى ابن أبي عمير عن علي بن حديد الذي ضعفه الشيخ في كتابيه
بقوله: (ضعيف جدا) وروى عن الحسين بن أحمد المنقري الذي
ضعفه النجاشي.
وروى زرارة عن سالم بن أبي حفصة الذي تضافرت الروايات في ذمه
وإضلاله. مع أن زرارة أفقه أصحاب أبي عبد الله عليه السلام
كما في عبارة الكشي.
وغير هذه مما يقف عليها المتتبع في روايات أصحاب الاجماع، و
معه كيف تتجه دعوى أن هؤلاء لا يروون إلا عن ثقة موثوق به؟ وأما
المقام الثاني - وهو مراسيل أصحاب الاجماع وعدم اعتماد جمع
من الأصحاب عليها
161



فكثيرة:
فمنها: ما رواه الشيخ عن محمد بن يعقوب بسنده عن ابن بكير عن
رجل: (قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: إني قلت لامرأتي.) وما
رواه بطريقه عن ابن فضال عن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق) ثم قال الشيخ: (أول
ما في هذه الأخبار أن الخبرين منهما وهما الأخيران مرسلان، و
المراسيل لا يعترض بها على الاخبار المسندة.).
ومنها: ما رواه في التهذيب عن ابن فضال عن ابن بكير عن عبد الاعلى
مولى آل سام. ثم قال:
(فأول ما فيه أنه موقوف غير مسند إلى أحد من الأئمة عليهم السلام، و
ما كان هذا حكمه لا يعترض به الأخبار الكثيرة المسندة.) و
منها: ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار عن محمد بن أبي عمير
عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، ثم قال
فيهما: (فأول ما فيه أنه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارضه به الاخبار
المسندة).
ومنها: ما رواه فيهما عن محمد بن علي بن محبوب عن العباس عند
عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام.
قال في التهذيب: (وهذا خبر مرسل) وفي الاستبصار: (فأول ما في
هذا الخبر أنه مرسل).
هذه بعض عبارات الشيخ في اعتذاره عن طرح مراسيل أصحاب
الاجماع، وتعليله بقوله: (وما هذا سبيله لا يعارض به الاخبار
المسندة)
صريح في عدم صلاحية الرواية المرسلة للاعتماد عليها حتى إذا كان
مرسلها أحد أصحاب الاجماع. وهل يبقى وثوق بتمامية ما اختاره
هو من رجال الكشي وما ادعاه في العدة من أن هؤلاء لا يروون ولا
يرسلون إلا عن ثقة؟ وأما من تأخر عنه فكلماتهم مختلفة، فمنهم من
حكم بصحة الخبر المسند الذي وقع في طريقه بعض هؤلاء كما تقدم
عن العلامة والشهيد والعلامة الطباطبائي (قدس سرهم)، وأما
المرسل فلا، ومنهم من لم يعتن بهذا الاجماع إما مطلقا أو في
خصوص المرسلات.
162



فمنهم المحقق في المعتبر، حيث قال: (ولو احتج بما رواه ابن أبي
عمير عن بعض أصحابنا. كان الجواب الطعن في السند، لمكان
الارسال. ولو قال: مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب، منعنا
ذلك، لان في رجاله من طعن الأصحاب فيه، وإذا أرسل احتمل أن
يكون الراوي أحدهم). وهذه العبارة وإن كانت ناظرة إلى عدم
اعتنائه بمرسلات ابن أبي عمير، إلا أن المستفاد منه عدم ركونه إلى
مطلق مسنداته، لعدم كون جميع رجاله من الثقات، بل فيهم الضعفاء
الذين طعن فيهم علماء الرجال. وبهذا تكون مرسلاته شبهة
موضوعية لعموم شهادة الشيخ من قوله: (لا يرسلون إلا عن ثقة) لأنه
لما كانت مسنداته بين صحيحة وضعيفة فلا يمكن الحكم بصحة
مرسلاته، لاحتمال أن يكون من أرسل عنه ضعيفا، فيبقى تحت أصالة
عدم الحجية، في غير ما علم بخروجه عنها.
وقال الشهيد في محكي الذكرى في مضمرة لزرارة - ومضمراته تبلغ
78 موردا كما في معجم رجال الحديث - (رواية زرارة موقوفة)
وهذا كاشف عن عدم اعتماده على الاجماع مطلقا حتى بالنسبة إلى
المراسيل.
وقال الشهيد الثاني في المسالك في الاشكال على الاستدلال
بالمقبولة: (والرواية نص في المطلوب، لكن قد عرفت ما في طريقها،
فإن
تم الاستدلال بها لانجبار ضعفها بالشهرة فهي العمدة) وهذا صريح
في عدم اعتماده على الاجماع في الحكم بوثاقة كل من روى عنه
هؤلاء.
نعم قد يدعى اعتبار مرسلات ابن أبي عمير خاصة، لقول النجاشي:
(أصحابنا يسكنون إلى مراسيله) فإن السكون هو العمل، والمراد
به الحجية، بحيث يكون معقد الاجماع حجية مراسيلهم، والحجية
حكم شرعي أصولي، فيكشف الاتفاق عن رضا الشارع بذلك، أو أنه
شهادة إجمالية بوثاقة كل من روى عنه ابن أبي عمير مرسلا، وإن كان
يسند عن غير الثقة أيضا.
لكنه ممنوع بما تقدم من المحقق وغيره من أنه لو كان جميع رجال ابن
أبي عمير من الثقات - في رواياته المسندة - أمكن دعوى حجية
مراسيله من جهة اقتصاره على الرواية عن الثقات، وحيث اتضح
ضعف عده منهم لم يبق سبيل لاحراز وثاقة كل رجل روى عنه ابن أبي
عمير مرسلا.
وقد تحصل من جميع ما ذكرناه: أن الاخذ بظاهر إجماع الكشي و
الشيخ في حق أصحاب الاجماع غير متيسر، لعدم عمل الشيخ ولا
غيره
بهذه الشهادة العامة، لتصريحه بضعف علي بن حديد
163



وهو ممن روى عنه بعض أصحاب الاجماع، وبضعف المرسلات
مهما كان مرسلها. وحينئذ فإما أن يتأمل في أصل هذا الاجماع ورد
علمه إلى مدعيه، وإما يخصص بمقدار قيام الحجة على روايتهم عن
الضعفاء وفي المراسيل أيضا، ويؤخذ به في غيرها، فيعول عليه في
توثيق المجاهيل الذين روى هذه العدة عنهم. وإما أن يؤخذ به في
موارد انفرادهم بالرواية دون موارد التعارض.
والمتعين - بحسب الظاهر - هو الأول، ولا مجال للالتزام
بالتخصيص، وذلك أما أولا: فلان قول الكشي: (أجمعت العصابة على
تصحيح
ما يصح عن جماعة) وقول الشيخ ممن عرفوا بأنهم لا يروون ولا
يرسلون إلا عن ثقة) آب عن التخصيص والتقييد، لوضوح كثرة ثقات
الرواة وعدم انحصارهم في العدة المنعقد عليهم الاجماع، وإنما
المقصود بيان فضيلة ومنقبة تختص بهم ولا يشاركهم فيها غيرهم،
لان غير هؤلاء كما رووا عن الثقة كذلك رووا عن غيره، فالعصابة التي
سوت بين مراسيل هؤلاء وبين مسانيد غيرهم كأنهم أخبروا عن
قضية خارجية، وهي اقتصار هذه العدة الجليلة على الرواية عن
الثقات خاصة، فإذا ثبت - باعتراف الشيخ وغيره - رواية هؤلاء عن
الثقات والضعفاء كسائر الرواة كشف ذلك عن عدم تحقق هذه
الخصوصية فيهم.
ولعله لهذا ذهب صاحب الرياض وغيره إلى أن المفهوم من العبارة
وثاقة نفس هذه العدة، دون توثيق الوسائط، ولا التعبد بصحة
روايتهم.
فان قلت: لا وجه لطرح هذه الشهادة الاجمالية كلية لمجرد قيام الدليل
على روايتهم عن الضعفاء أحيانا، بل لا بد من الاخذ بها و
تخصيصها بموارد قيام الحجة على الخلاف، فإنها نظير التوثيق العام
الذي استفادة بعض الأجلة من مقدمتي تفسير علي بن إبراهيم
القمي وكامل الزيارات، حيث لا منافاة بينه وبين تخصيصه بمن ثبت
ضعفه عند الأصحاب. وليس ذلك إلا لان حمل العام على الخاص
توثيق عرفي جرت عليه سيرة العقلاء في محاوراتهم. وما أكثر
العمومات - في الخطابات الشرعية - المخصصة بقرائن منفصلة حتى
قيل: ما من عام إلا وقد خص. وعليه فاللازم الاخذ بظاهر كلامي
الكشي والشيخ وتخصيصه بموارد ثبت فيها روايتهم عن الضعفاء و
بالمراسيل.
قلت: فرق بين المقام وبين العمومات الشرعية الصادرة من باب
ضرب القانون، فإن طريقة التقنين جرت على بيان العام بنحو القضية
الحقيقية - حتى لو كان الموضوع معدوما في ظرف التشريع - ثم بيان
المخصصات حسب الحاجة. وهذا الامر لا يجري في المطلقات
الواردة في جواب السائل عن وظيفته الفعلية المبتلى بها، ولذا التزم
الفقهاء في موارد بالمعارضة بين المطلق والمقيد
164



مدعين قوة الاطلاق وإباءه عن التقييد.
والمقام من هذا القبيل، لما عرفت من أن إخبار العصابة بهذه الصفة
لأصحاب الاجماع نشأ من تتبعهم في رواياتهم، والنظر في تثبتهم
في أمر الحديث بحيث اختصوا بالرواية عن الثقات والارسال عنهم، و
هذه الشهادة تنخرم حتى لو ظفرنا برواية واحدة لكل واحد منهم
رواها عن ضعيف أو مجهول الحال، فإذا روى عن مجهول لم يبق
اطمئنان بوثاقته، لاحتمال كونه ضعيفا واقعا. خصوصا مع عدم اعتماد
النجاشي والشيخ وغيرهما من أساطين علم الرجال على هذا
الاجماع وعدم حكمهم - بنحو الكبرى الكلية - بوثاقة الرجال الذين
روى
عنهم أصحاب الاجماع.
وأما النقض بتخصيص عموم شهادة كامل الزيارات والتفسير
فموقوف على استظهار التوثيق العام، وهو ممنوع أيضا، لما تقرر من
روايتهما عن الضعفاء، والمجهولين أيضا.
وأما ثانيا فلانه لو فرض منع قوة الظهور أو نصوصيته في الحصر و
قابليته للتخصيص، فإنما يجوز ذلك في خروج أفراد قليلة لا في
التخصيص الكثير الموهن لاعتبار أصالة العموم عند العقلاء.
وتوضيحه: أن المناط في التخصيص المستهجن إما الكثرة النوعية و
إما الفردية.
فإن قلنا بالأول - كما ذهب إليه شيخنا الأعظم (قده) في قاعدة لا ضرر
- فلزوم محذور تخصيص الأكثر واضح، لان روايات هذه العدة
بين مسندة ومرسلة، والمفروض خروج مرسلاتهم طرا عن دائرة
الحجية، كما صرح به مدعي الاجماع - وهو الشيخ - وغيره
كالمحقق والشهيد، وخروج جملة من مسانيدهم أيضا، لما ثبت من
وقوع الضعفاء المتهمين بالكذب والوضع في طرقهم إلى الأئمة
المعصومين عليهم السلام، وقلة رواية بعضهم كزرارة ومحمد بن
مسلم عن غير المعصوم مباشرة، فلم تنفعهما هذه الشهادة العامة
لتصحيح الواسطة بينهما وبينه عليه السلام، والباقي تحت عموم (لا
يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة) هو القليل بحسب النوع أي ما كان
روايتهم عن المعصوم عليه السلام بواسطة، وكانت الرواة ثقات أو
مجهولين.
وإن قلنا بالثاني توقف ذلك على التتبع التام حتى يظهر أن مراسيلهم و
مسانيدهم التي رووها عن الضعفاء تبلغ حدا يمنع التخصيص
أولا، لكن في ما ذكرناه أولا من إباء نفس العبارة عن التخصيص كفاية.
ولعله لأجل هذا التخصيص الكثير عدل بعض الأجلة عن استظهار
التوثيق العام من عبارتي علي بن إبراهيم وابن قولويه، والاقتصار
على توثيق مشايخهم الذين رويا عنهم بلا واسطة.
165



وبما ذكرناه ظهر الاشكال في الاخذ ب آخر كلام الشيخ في العدة (من
حجية روايات هذه العدة فيما إذا لم يكن معارض لها سواء رووا
مسندا أم مرسلا) وذلك لان مأخذ هذا الكلام - ظاهرا - هو كلام
الكشي، حيث لا تعرض فيه لحكم معارضة أخبار أصحاب الاجماع
بروايات الآخرين، كما ذكرناه في أول البحث. وحيث عرفت تعذر
الاعتماد عليه لم يختلف حكم انفراد هذه العدة بالرواية - مسندا أو
مرسلا - عن حكم تعارض روايتهم مع رواية غيرهم.
وأما احتمال عدول الشيخ عما ذهب إليه في كتابي الاخبار - من
الحكم بضعف علي بن حديد وطرح المراسيل - إلى ما أفاده في
العدة
من قوله: (لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة.) لأنه (قده) ألف التهذيب
والاستبصار قبل كتاب العدة كما يظهر من قوله في بحث الخبر
الواحد: (وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث
المختلفة التي تختص بالفقه في كتابي المعروف بالاستبصار، وفي
كتاب
تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث، وذكرت في
أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها. إلخ). وعليه فتوثيقه العام في
العدة ناسخ لما صنعه في الكتابين، فلا بد من الاخذ بشهادته في العدة
من اعتبار جميع مسنداتهم ومرسلاتهم.
فممنوع، إذ المستفاد من العبارة سبق تأليف التهذيب والاستبصار
على تأليف كتاب العدة، ولا دلالة فيها على عدوله عما صنعه في
الكتابين من ترجيح بعض الاخبار على بعض، فإن هذا الترجيح أو
التخيير مما لا بد منه عند اختلاف الاخبار، ولا أدري كيف يتوهم من
مجرد تأخر تأليف العدة عدوله عن مبناه المعمول به في كتابي
الاخبار؟ ولو فرض عدوله عنه للزم التنبيه عليه في نفس الكتابين في
كل موضع حكم بطرح مراسيل أصحاب الاجماع، وعدم الاقتصار
على دعوى إجماع الطائفة على التسوية بين مراسيل هؤلاء ومسانيد
غيرهم.
هذا كله مضافا إلى أن من الأصحاب من يحكم بوثاقة الرجل استنادا
إلى أمور قاصرة عندنا عن إثباتها، مثل كون الراوي شيخ إجازة أو
وكيلا عن الامام المعصوم عليه السلام، أو كونه من أصحاب الصادق
عليه السلام إلا من ثبت ضعفه، أو كونه من رجال محمد بن أحمد بن
يحيى ولم يستثن من رواياته، أو كونه كثير الرواية عن المعصوم عليه
السلام، أو كونه صاحب أصل أو كتاب، وغير ذلك مما تحقق عدم
صلاحيته لاثبات الحسن فضلا عن الوثاقة.
فالنتيجة: أن رواية صفوان عن عمر بن حنظلة لا تقتضي وثاقة عمر ولا
حسنه، والله تعالى هو
166



العالم بحقائق الأمور.
و للاعتماد على عمر بن حنظلة وجه آخر أفاده في قاموس الرجال -
بعد نقل الاخبار المادحة - بقوله: (قلت: ومستند خيار الرؤية
منحصر بروايته).
و الظاهر أن مقصوده هو رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه
السلام (في رجل اشترى أرضا على أنها عشرة أجربة، فلما افترقا و
مسح المشتري الأرض وجدها خمسة أجربة، فقال (عليه السلام): إن
شاء استرجع فضل ماله، وإن شاء رد البيع.).
لكن لم أظفر في هذه العجالة على من استدل بها على مشروعية خيار
الرؤية، ولا في بيع الأراضي من الجواهر، بل استدل الشيخ وغيره
بصحيح جميل بن دراج وغيره. فراجع المكاسب هذا.
مضافا إلى: أنه لو فرض استنادهم إلى رواية عمر بن حنظلة - بما أن
المدرك منحصر فيها - لم ينفع ذلك للاعتماد على روايته هنا، فإن
عمل الأصحاب وإن كان جابرا لضعف السند، لكنه قاصر عن إثبات
وثاقة رواتها، لاحتمال ظفرهم بقرينة على صدورها فعولوا عليها.
وعليه فعمل المشهور برواية ضعيفة - بعد إحراز استنادهم إليها - لا
يكشف عن وثاقة رواتها حتى يعتمد على سائر رواياتهم، بدعوى
كون التوثيق العملي كالقولي، لما عرفت من أن فتوى المشهور على
طبق رواية لازم أعم لوثاقة الراوي.
والحاصل: أن الوجوه المستدل بها على اعتبار الرجل أو وثاقته لا
تخلو من شئ. والمعتمد في قبول روايته في بيان مرجحات تعارض
الخبرين والاستناد إليها هو توصيفها بالمقبولة وتلقي الأصحاب لها
بالقبول، بل اقتصر الشهيد في الدراية للتمثيل بالمقبولة على هذه
الرواية، قال (قده) في أقسام الحديث: (ثامن عشرها المقبول، وهو ما
تلقوه بالقبول والعمل بالمضمون من غير التفات إلى صحته و
عدمها، كحديث عمر بن حنظلة في حال المتخاصمين). ونحوه
عبارة الشهيد الثاني بالنسبة إلى المقبولة ورواية أبي خديجة، حيث
قال: (وفي طريق الخبرين ضعف، لكنهما مشتهران بين الأصحاب،
متفق على العمل بمضمونهما بينهم، فكان ذلك جابرا للضعف
عندهم).
وهذه الشهادة كافية لاثبات صغروية المقبولة لكبرى جبر ضعف
السند بعمل الأصحاب، ومن المعلوم أن اعتماد جل الأصحاب على
رواية شخص - مع تفاوتهم في توثيق الرجال واختلاف
167



مبانيهم فيه - يكشف بنحو الان عن ظفرهم بقرينة على صدورها من
المعصوم عليه السلام، وهو موجب للاطمئنان الشخصي بالصدور،
والمختار في حجية الخبر الواحد هو الوثوق به الأعم من الخبري و
المخبري.
وهذا الوجه وإن كان قاصرا عن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة، ولأجله
لا يعامل مع سائر رواياته معاملة المقبولة، إلا أن المقصود حجية
روايته في المقام من جهة العمل بمضمونها، وسيأتي عن المحقق
الآشتياني (قده) استناد الفقهاء إليها في مسائل أربعة.
هذا ما يتعلق بالجهة الأولى وهي سند المقبولة.
وأما الجهة الثانية - وهي فقه المقبولة - فنقول في تقريبه: إنها تشتمل
على فقرات:
الفقرة الأولى: قول عمر بن حنظلة: (منازعة في دين أو ميراث) ظاهر
المنازعة هو الترافع والخصومة لا السؤال عن الفتوى. ثم إن
النزاع في الدين والميراث يتصور تارة بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا
اختلفا في الضمان بأحد موجباته كالمقبوض بالعقد الفاسد، فإن
كان موجبا للضمان كان المشتري ضامنا لما قبضه ومديونا للمالك
ببدله. وإن لم يكن موجبا للضمان لم يكن المشتري ضامنا.
والنزاع في الدين بنحو الشبهة الموضوعية كالاختلاف في أداء دين
ثابت، وعدمه.
والنزاع في الميراث بنحو الشبهة الحكمية كما إذا اختلف الوراث في
مقدار الحبوة، وكما إذا اختلفوا في خروج منجزات المريض من
الأصل أو الثلث، ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلاف الروايات.
والنزاع في الإرث بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا ادعى بعض الورثة
- الذي كان ممنوعا من الإرث بالكفر - إسلامه قبل القسمة، و
أنكره سائر الورثة.
وعليه فالنزاع في الدين والميراث وإن كان قابلا لكل من الشبهة
الحكمية والموضوعية، إلا أن ظاهر قول عمر بن حنظلة: (وكلاهما
اختلفا في حديثكم) كون النزاع في الدين والميراث بنحو الشبهة
الحكمية، وأن منشأه اختلاف الأحاديث، إذ لو كانت الشبهة
موضوعية
تعين الاستناد فيها إلى الامارة المعتبرة فيها كالبينة لا إلى الأحاديث.
الفقرة الثانية: قوله: (فتحا كما إلى السلطان) ظاهر هذه الكلمة أن تحاكم
المتنازعين - اللذين هما من الامامية، بقرينة قوله: من أصحابنا
- إلى سلطان الجور كان في زمان عدم بسط يد الامام المعصوم عليه
السلام، فتخيل المتنازعان جواز الرجوع إلى السلطان وقضاة
المخالفين، فردع الإمام عليه السلام عن الرجوع إليهم، لان التحاكم
إليهم تحاكم إلى الطاغوت، وأن المأخوذ بحكمه سحت
168



وإن كان حقا ثابتا.
ولعل الوجه فيه: أن آخذ المال مأمور بالاحتياط في الأموال، لكونه من
الموارد الثلاثة التي انقلب الأصل فيها إلى الاحتياط، فأخذ المال
بحكم السلطان مخالف لوجوب الاحتياط.
ولا ينافي سحتية المال المأخوذ بحكمه ما تقرر في محله من (جواز
الرجوع إلى الجائر إذا توقف إنقاذ الحق على الرجوع إليه) وذلك
لعدم انحصار إنقاذ الحق في الرجوع إلى الجائر في مفروض هذه
الرواية، لقول عمر بن حنظلة: (فإن كان كل رجل يختار رجلا من
أصحابنا) الظاهر في عدم الاضطرار - الرافع للمحظور - إلى الترافع
إلى الجائر، وإمكان حل النزاع بالمراجعة إلى رجل من أصحابنا.
الفقرة الثالثة: قوله عليه السلام: (ينظران إلى من كان منكم ممن قد
روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به
حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما). تدل هذه الجملة على أن
منصب القضاء لهم عليهم السلام بالأصالة، وتتوقف مشروعية قضاء
غيرهم
على النصب ولو بنحو العموم. وصدر هذه الجملة يدل على
الموضوع أعني من له أهلية القضاء وفصل الخصومة، وهو الراوي
لحديثهم و
الناظر في حلالهم وحرامهم والعارف بأحكامهم، ولا تنطبق هذه
الأوصاف إلا على المجتهد الذي استنبط جملة وافية من الاحكام من
أدلتها المعهودة، وسيأتي في بحث الاجتهاد والتقليد إن شاء الله
تعالى مزيد توضيح له، فانتظر.
الفقرة الرابعة: قوله عليه السلام: (فلم يقبل منه) لا يخفى أن عدم
القبول تارة يكون لأجل الجحود وإنكار وجوب إنفاذ حكم الحاكم
الجامع للشرائط، وأخرى يكون لعدم العمل على طبقه مع الاعتقاد
بوجوب إنفاذه واتباعه كبعض العصاة المعترف بوجوب الصلاة و
الصيام مع تركهما تكاسلا.
فإن كان عدم القبول للجحود فهو كجحود سائر الأحكام الضرورية
موجب للارتداد. وإن كان عدم القبول في مقام العمل - لا بحسب
الاعتقاد - كان المراد بقوله عليه السلام: (على حد الشرك بالله) بعده
عن رحمته تعالى.
والظاهر إرادة هذا المعنى. ولا ينافي عدم العمل إطلاق الاستخفاف
عليه، لان ترك إنفاذ الحكم نوع استخفاف به.
ثم إنه يستدل بهذه الفقرة على نفوذ حكم الحاكم الجامع للشرائط على
كل أحد حتى حاكم آخر، وانتقاض الفتوى بالحكم، كما إذا ترافع
شخصان على بيع شئ من المائعات - وقد لاقى عرق الجنب من
الحرام مثلا عند من يرى طهارته، فحكم الحاكم بطهارته وبصحة بيعه،
وكونه مملوكا لمن
169



يكون المائع عنده وإن كان أحد المترافعين مجتهدا يرى نجاسة عرق
الجنب من الحرام، أو كان مقلدا لمن يقول بنجاسته، فإن الحكم
الكلي يبطل في خصوص الواقعة الجزئية التي وقع النزاع والخلاف
في حكمها حتى أدى إلى الترافع.
الفقرة الخامسة: قول عمر بن حنظلة: (قلت: فان كان كل رجل يختار
رجلا من أصحابنا. إلى قوله عليه السلام: ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الاخر) ظاهر تقريره عليه السلام جواز اختيار كل واحد من المترافعين
حكما لحل الخصومة، وعدم اختصاص هذا الحق بالمدعى، وفي
صورة تعارض الحاكمين اللذين هما من أهل النظر والاستدلال رجح
الإمام عليه السلام حكم الحاكم الأعدل الأفقه الأصدق في الحديث و
الأورع، ولم يحكم بنفوذ أسبق الحكمين زمانا. وهذه الجملة إحدى
جهات البحث والاشكال كما سيأتي.
الفقرة السادسة: قول عمر بن حنظلة: (فإنهما عدلان مرضيان عند
أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الاخر. إلى قوله عليه السلام.
وقع
في المحرمات) بعد أن رجح الإمام عليه السلام حكم الأعدل الأفقه
سأل الراوي عن فرض استواء الحاكمين في الصفات، فأخذ عليه
السلام في ترجيح أحد الحكمين بالنظر في مستنديهما، وجعل
المرجح الأول شهرة الرواية بين الأصحاب، وعلل الترجيح به بأمرين،
أحدهما: كون المجمع عليه مما لا ريب فيه إما حقيقة وإما بالإضافة
إلى غيره، وثانيهما: كونه بين الرشد، وأن غيره إما مشتبه ينبغي
رده إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله، وإما بين غيه يجب
الاجتناب عنه.
الفقرة السابعة: قوله عليه السلام: (وهلك من حيث لا يعلم) المراد
بهذه الهلكة هي العقوبة، ولازمه إيجاب الاحتياط، إذ الحرام الواقعي
ما
لم يجب الاحتياط فيه لا يوجب العقوبة عليه، فإن استحقاقها مترتب
على العصيان، وهو متوقف على مخالفة التكليف المنجز بالحجة من
العلم أو العلمي، ومع عدم وصول التكليف بالحجة إلى العبد يقبح
على المولى العقاب عليه، لأنه بلا بيان، فلا بد أن يكون تنجز التكليف
بسبب إيجاب الاحتياط في الشبهات سواء أكانت الشبهة ناشئة من
فقد الحجة أم تعارضها أم إجمالها، فمقتضى هذه الجملة وجوب
الاحتياط في تعارض الخبرين لا التخيير ولا الترجيح.
وأما الجهة الثالثة - وهي المناقشة في الاستدلال بالمقبولة على
ترجيح أحد الخبرين المتعارضين المتفاضلين - فقد قال فيها شيخنا
الأعظم (قده): (وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الاشكال بل
الاشكالات - من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل
الخصومة وقطع المنازعة
170



فلا يناسبها التعدد، ولا غفلة أحد الحكمين عن المعارض الواضح
لمدرك حكمه، ولا اجتهاد المترافعين وتحريهما في ترجيح مستند
أحد
الحكمين على الاخر، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الاخر،
مع بعد فرض وقوعهما دفعة، مع أن الظاهر حينئذ تساقطهما والحاجة
إلى ثالث - ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجحات
بين المتعارضين، فإن تلك الاشكال لا تدفع هذا الظهور بل
الصراحة) وزاد المصنف في الحاشية إشكالا خامسا، وحكي عن
السيد الصدر إيرادا سادسا.
أما ما أفاده المصنف (قده) فهو: أن الامر في تعيين الحاكم واختياره
إنما هو بيد المدعي، فينفذ حكم من اختاره في الواقعة، لا حكم من
اختاره المنكر وإن كان أفضل، مع أن مفروض الرواية تفويض الامر إلى
حاكمين.
وأما ما حكي عن السيد الصدر فهو: أن اللازم على من يسأل عن حكم
المتعارضين أن يجيب بالترجيح بأحد المرجحات، مع أن الراوي
سأل مرة عن حكمهما فأجاب عليه السلام بالترجيح المتعلق بالسند،
ثم فرض التساوي فيه فأجاب بترجيح المشهور على الشاذ، فيشكل
الامر بأن الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الاخر غير السند ثم
فرض التساوي فيه أيضا كان الجواب التوقف أو التخيير ليس إلا،
دون الترجيح بالشهرة. وإن لم يفرض التساوي فيهما كان الجواب
العمل بما هو أقوى ظنا من الاخر، لا بما هو أصح سندا منه، لان صحة
السند لا تفيد الظن مطلقا كما إذا كانت في مقابل الشهرة ومعلومات
أحكام الامامية.
وتفصى السيد الصدر عنه وعن سائر الايرادات ببناء الترجيح على
الاستحباب دون الوجوب.
لكنه كما ترى، فإنه فرع سلامة ظهور المقبولة في أصل الترجيح حتى
تصل النوبة إلى إقامة القرينة الصارفة لظهور الامر بالأخذ في
الوجوب إلى الاستحباب، وأما مع فرض مخالفة بعض الفقرات
للمشهور أو المجمع عليه يوهن الاخذ بالظهور بالمرة، قيل بوجوب
الترجيح أم باستحبابه.
وكيف كان فأورد المحقق الميرزا الرشتي على ما أفاده شيخنا الأعظم
(قدهما) - من عدم قدح الاشكالات في دلالة المقبولة ظهورا أو
صراحة على وجوب الترجيح - بأنه مع مخالفة بعض فقراتها لاجماع
الامامية وإعراضهم عنها لا مجال للاستدلال بها، ولذا سلك (قده)
طريقا آخر للتفصي عن الاشكالات، وقال ما محصله: ينحسم ما عدا
الاشكال الأول - أعني به تعدد الحاكم - بارتكاب أحد أمرين:
171



الأول: إخراج الواقعة من المخالفة والمخاصمة المفتقرة إلى القضاء
بحملها على السؤال عن حكم المسائل الخلافية المتعلقة بالأموال،
فيكون الحديث دليلا على تشريع القضاء في الشبهات الحكمية، لا
على ترجيح أحد الحكمين في واقعة جزئية على الاخر.
الثاني: تخصيص المأمور بالمرجحات بالمجتهد، ولا بعد فيه في ذلك
العصر. وترجيح الفتوى عند الاختلاف وإن كان بالأعلمية لا
بسائر الصفات، لكنه لا يقدح في الاستدلال بالرواية، إذ الرواية و
الفتوى والحكومة كانت في العصر السابق متحدة المناط، لان رواة
ذلك العصر كانت روايتهم فتواهم وبالعكس. وكذا الحكومة، ولذلك
تكون سائر المرجحات دخيلة في الفتوى أيضا.
وأما إشكال تعدد الحاكم المدلول عليه بقوله: (فرضيا أن يكونا
الناظرين) فلا بد من تأويله، ولا يبعد أن يكون المراد (فرضيا أن
يكون أحدهما ناظرا في أمرهما فاتفق تعارض حكمهما أي
فتواهما).
وقريب منه ما أفاده المحقق الميرزا الآشتياني في الشرح وفي كتاب
القضاء،، والمصنف في أحد وجهيه في الحاشية.
لكن يشكل حمل صدر المقبولة على كون رجوع المترافعين لمجرد
الاستفتاء واستعلام الحكم الشرعي الكلي، فإن عوام الشيعة في عصر
الحضور وإن كان لهم الرجوع إلى الأئمة عليهم السلام لتحصيل العلم
بالأحكام وإلى الرواة الثقات، كما أرجعوا عليهم السلام جماعة
إلى أجلة صحابتهم كزرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وزكريا بن آدم
ويونس وغيرهم. وهذه الارجاعات تكون تارة بلسان أخذ
الرواية، وأخرى بلسان أخذ معالم الاحكام منهم، سواء أكان بنقل
ألفاظ الرواية أم ببيان مضمونها أو تطبيق أصل من الأصول المتلقاة
منهم على المورد. إلا أن الكلام في إباء صدر المقبولة عن هذا الحمل،
لظهور كلمة (الحكومة) - المتكررة فيها - في الحكومة المصطلحة و
فصل النزاع لا مجرد الاستفتاء. مضافا إلى قرائن أخرى.
منها: قول السائل: (بينهما منازعة في دين أو ميراث) فإن المنازعة
ظاهرة أولا في كون الرجوع إلى القاضي والسلطان لحسم مادة
التشاجر، لان حكمه فاصل للنزاع نافذ عليهما، بحيث لا ينقطع النزاع
بمجرد السؤال عن الحكم الكلي، لاحتمال بقاء المرافعة معه من جهة
مخالفة أحد المتخاصمين لرأي الحاكم اجتهادا أو تقليدا.
172



ومنها: أن تشديد النكير على الترافع إلى سلطان الجور والقاضي
المنصوب من قبله لحل المرافعات بقوله عليه السلام: (من تحاكم
إليهم
في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم به فإنما يأخذه
سحتا، وإن كان ثابتا، لأنه أخذه بحكم الطاغوت) يدل على أن
مقصود عمر بن حنظلة من الرجوع إلى قضاة الجور ليس مجرد
الاستفتاء من جهة كون الشبهة حكمية، بل غرضه فصل النزاع المنوط
بإنشاء الحكم من قبل الحاكم ثم تنفيذه، وهو عليه السلام لعلمه بمرام
السائل حرم عليه الترافع إلى حكامهم وأرشده إلى من يصلح
الرجوع إليه بقوله: (ينظر إلى من كان منكم قد روى حديثنا.).
ومنها: أن الرجوع إلى رواة أحاديثهم لاخذ الحكم الكلي منهم لا
يناسبه التعبير بقوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا
حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف) بل المناسب له
كما ورد في بعض الاخبار الارجاعية: (لا يجوز لك أن ترده) أو (ما
أدى فعني يؤدي) ونحوهما كقوله: (لا عذر لاحد من شيعتنا التشكيك
فيما يرويه عنا ثقاتنا). ومن المسلم عدم توقف أخذ الرواية من
الثقة على جعل الشارع، بل يكفي فيه الوثاقة والأمانة في النقل،
بخلاف منصب القضاء المنوط بالنصب ولو بنحو العموم، هذا.
وقد اعترف المحقق الآشتياني (قده) بورود صدر المقبولة في
الحكومة المصطلحة، ولأجله تمسك الفقهاء بها في كتاب القضاء في
مسائل:
منها: حرمة الترافع إلى غير الفقيه الامامي إلا فيما توقف أخذ الحق
على الرجوع إليه.
ومنها: كون المأخوذ بحكمه سحتا وإن كان الاخذ محقا.
ومنها: حرمة الترافع إلى العامي، بل المتجزي.
و منها: لزوم تنفيذ حكم الحاكم وكون رده كفرا. ومعه كيف يتجه
حملها على المراجعة إليهم لمجرد الاستفتاء؟ وأما تأويل قوله:
(فرضيا أن يكونا الناظرين) إلى: أن يكون المراد (فرضيا أن يكون
أحدهما ناظرا) فهو وإن كان محتملا، لكنه ينافيه قوله بعده:
(فاختلفا في ما حكما) الظاهر في كون كليهما ناظرا في الامر لا واحد
منهما. والاشكال في الترافع إلى حاكمين لا يقتضي هذا الحمل ما
لم يكن شاهد عليه كما هو واضح.
وعليه، فالحق ما أفاده شيخنا الأعظم من ظهور صدر المقبولة في
التحكيم. وهذه الاشكالات لا توجب وهنا في الاستدلال بها على
وجوب الترجيح، إذ لو سلم إعراض الأصحاب عنها فإنما هو
173



عن بعض جمل الرواية. وأما ما يتعلق بترجيح أحد الخبرين فلا
إعراض عنها، وقد تقرر في محله إمكان التفكيك في الحجية، وأن
الرواية المشتملة على جمل أعرض الأصحاب عن بعضها ليست
بأسواء حالا من العامين من وجه، لبنائهم على حجية كل منهما في
مورد
الافتراق، وعدم حجيتهما في مورد الاجتماع، مع أن البناء على صدور
بعض مدلولي العامين من وجه دون بعض أشد محذورا من
التفكيك بين فقرات رواية واحدة.
وقد أجاب المصنف (قده) في الحاشية عن الاشكالات المتقدمة في
كلام الشيخ الأعظم بإخراج الترافع من باب المدعي والمنكر إلى
صورة التداعي، فإنه كما يتجه به الرجوع إلى حاكمين - من جهة أن
لكل منهما لكونه مدعيا تعيين الحاكم بنظره - كذلك تنحل به سائر
الاشكالات. قال (قده): (أما التعدد فلعدم تراضيهما على واحد، بل
المفروض رفع كل أمره إلى واحد. وأما غفلة الحكمين - مع أن لزومها
ممنوع، لامكان اطلاع كل على قدح في سند - فمثلها غير عزيز. وأما
تحريهما في سند الحكمين فلا يبعد كل البعد بعد عدم نفوذ أحد
الحكمين من الحكمين على واحد منهما، لعدم تمكين واحد منهما
الاخر في تعيين من اختاره من الحكمين. وأما حكم أحدهما بعد
الاخر فلا
ضير فيه أصلا، حيث لم يكن حكم الأول نافذا على من عليه، حيث لم
يرض به، مع أنه يمكن هذا، لعدم الاطلاع على صدور الحكم من
الاخر.
وأما تساقطهما فهو مطلقا ممنوع، والمسلم منه إنما هو صورة تساوي
الحكمين. وأما غيره هذه الصورة فيمكن الاستناد إلى الرواية في
جواز التحري والاجتهاد في حكم المسألة المتنازع في حكمهما
بالرجوع إلى ملاحظة صفات الحكمين أو صفات ما استندا إليه من
الروايتين.).
والوجوه المذكورة في كلامه وإن لم تخل من قوة، إلا أن تنزيل
المقبولة على صورة التداعي - حتى يثبت لكل منهما حق تعيين
الحاكم -
تأويل فيها بلا موجب، فإنه - مضافا إلى ظهور (وكلاهما اختلفا في
حديثكم) في كون الشبهة حكمية لا موضوعية، إذ ليس اختلاف
الأحاديث المأثورة عنهم عليهم السلام موجبا للتشاجر في الشبهة
الموضوعية، بل الاختلاف فيها مستند إلى تعارض البينات والامارات
المعتمدة في تلك الشبهات - يكون إطلاق الامر بتقديم حكم الأفقه
بقوله عليه السلام:
(الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما.) الناشئ من ترك الاستفصال
عن حال القضية المتنازع فيها من كونها من باب المدعي والمنكر
أو التداعي محكما، ولا وجه لحمله على صورة التداعي خاصة، مع
بعده في نفسه في مثل الميراث وإن جرى في الدين، هذا.
174



مضافا إلى: أن صريح كلام عمر بن حنظلة رضاهما بالحاكمين، وهو لا
يلتئم مع توجيه الرجوع إليهما بقوله: (فلعدم تراضيهما على
واحد) وقوله: (بعد عدم نفوذ أحد الحكمين من الحكمين على واحد
منهما، لعدم تمكين واحد منهما الاخر في تعيين من اختاره).
والظاهر جواز التمسك بالمقبولة، وعدم ورود الاشكالات المذكورة
في عبارة الشيخ - أو بعضها - عليه بلا حاجة إلى التفصي عنها
تارة بإرادة الرجوع إلى الحاكمين للاستفتاء، وأخرى بالحمل على باب
التداعي.
وذلك أما الاشكال الأول - وهو تعدد الحاكم - ففيه: عدم اختصاص
المحذور بالمقبولة، لوروده في خبري داود بن الحصين والنميري
أيضا، ففي الأول: (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في
حكم وقع بينهما فيه اختلاف، فرضيا بالعدلين واختلف العدلان
بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال عليه السلام: ينظر إلى
أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى
الاخر). وفي الثاني: (فيتفقان على رجلين يكونان بينهما حكما
فاختلفا فيما حكما.). ولا ريب في شمول إطلاق تنفيذ حكم الأفقه
منهما
لما إذا كان مسبوقا بحكم الفقيه.
والعمدة في المقام هي أن أمر تعيين الحاكم بيد المدعي، لكونه مطالبا
بحقه، وهذا لا ينافي رضاه بالترافع إلى حاكم آخر يرضى به
المنكر أيضا. وليس وجوب إنفاذ حكم الفقيه الجامع للشرائط مجمعا
عليه حتى عند تراضي الخصمين بالترافع إلى حاكمين لتكون
المقبولة معارضة بالاجماع.
قال في المستند: (إذا كان مجتهدان متساويان، فالرعية بالخيار فيهما
في الترافع إليهما، لبطلان الترجيح بلا مرجح. ولو تفاوتا في
العلم فهل يتعين الأعلم أم لا؟ قال في المسالك والمفاتيح: فيه قولان
مبنيان على وجوب تقليد الأعلم وعدمه. قال في التحرير: يكون
بالخيار للمدعي مع التعدد مطلقا. ثم قال: ولو تراضيا بالفقيهين و
اختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد. وذهب جماعة إلى الأول،
بل
هو الأشهر كما في المسالك، وبعضهم نفي الخلاف عنه عندنا.) إلى
أن قال بعد التعرض لأدلة تقديم حكم الأعلم والجواب عنها: (و
ظهر مما ذكرنا أن الحق اختصاص ترجيح الأعلم بمورد النصوص، و
هو ما إذا اختلف المترافعان أولا في الاختيار كما في المقبولة، أو
اتفقا على رجلين فاختلفا كما في الروايتين كما هو ظاهر الفاضل في
التحرير، وأن اللازم ترجيحه حينئذ أيضا هو الأعلم والأعدل
معا.).
وقال في الجواهر: (نعم لو فرض أن المتخاصمين قد حكموا رجلين
فصاعدا في أمرهم
175



فاختلف الحكم الصادر منهم في ذلك رجح بالمرجحات
المذكورة.).
والمقصود أن بطلان رأي المتأخرين إجماعيا حتى يكون الترجيح
بالصفات ثم بمستند حكميهما مخالفا للاجماع وموهونا بإعراض
الأصحاب عنه.
وأما الاشكال الثاني - وهو غفلة كل من الحاكمين عن المعارض
الواضح لمدرك حكمه - ففيه:
عدم استلزام تعارض حكميهما للغفلة عن المعارض الواضح، فإن
الحديثين وإن كانا مشهورين كما صرح به السائل بعد الترجيح
بالصفات، إلا أن عدم اعتناء كل من الحاكمين بما استند إليه الحاكم
الاخر يمكن أن يكون لخلل في دلالته أو في جهته، فإن مجرد شهرة
الروايتين رواية لا يوجب قطعية دلالتهما وجهتهما.
وأما توجيه غفلة الحاكمين بما تقدم في كلام المصنف - من إمكان
قدح كل في سند الاخر، أو عدم كون الاخبار في عصر الصادقين
عليهم السلام مدونة في جوامع الاخبار كالكتب الأربعة التي بأيدينا،
فتتفق الغفلة عن المعارض حينئذ - فينافيه مورد المقبولة، حيث
فرض الراوي شهرة الروايتين وموافقتهما للكتاب ومخالفتهما للعامة،
وميل قضاتهم إلى إحداهما برهة وإلى الأخرى تارة أخرى.
وأما الاشكال الثالث - وهو اجتهاد المترافعين وتحريهما في ترجيح
مدرك الحكمين - فالظاهر عدم لزومه أصلا، وذلك لان عمر بن
حنظلة - بعد فرض تساوي الحاكمين في الصفات - سأل عن صورة
تعارض حكميهما لاختلاف مستنديهما، وأجاب عليه السلام بقوله:
(ينظر إلى.) وهذا ظاهر في بيان ضابطة كلية من أنه متى ترافع
الخصمان إلى حاكمين واختلفا في الحكم فاللازم النظر في
مدركيهما، وليس المأمور بالنظر نفس المترافعين كي يشك بأن
تفويض التحري إليهما مخالف للاجماع، وذلك لان (ينظر) مبني
للمجهول، وليس مبنيا للفاعل كما كان في الافعال المتقدمة مثل
(انظروا إلى، اختار رجلا، فرضيا أن يكونا) ونحوها. ولا يبعد أن
يكون عدوله عليه السلام عن الفعل المبني للفاعل إلى المبني
للمفعول للتنبيه على أن التحقيق في مستند الحكمين وظيفة المجتهد
القادر
على النظر في مدرك الحكمين، وعلى ترجيح أحدهما على الاخر.
وأما الاشكال الرابع - وهو ندرة تقارن الحكمين زمانا، ولزوم تنفيذ
الأسبق منهما، لا الترجيح بالصفات وبالمستند - ففيه: أنه إن
أمكن حمل الترجيح بالصفات على ما أفاده المحقق الآشتياني من (أن
تعين الترجيح عند الاختلاف في كلي الواقعة أوجب الاخذ بالراجح
في شخص الواقعة
176



المختلف فيها، لا أن الرجوع الفعلي صار سببا لذلك كما هو ظاهر)
فهو، إذ الترجيح بالصفات يكون قاعدة عامة في كل مورد اختلف
نظر الحاكمين فيه، وأنه لا عبرة بنظر المفضول عند مخالفته لرأي
الفاضل كما هو الحال في باب التقليد أيضا، وهذا أجنبي عن صدور
حكمين من الحاكمين خارجا حتى يجب تنفيذ السابق كي يشكل مع
ما في المقبولة من الترجيح بصفات الحاكم أو بمرجحات الرواية.
وإن تعذر هذا الحمل - بدعوى ظهور كلام السائل في علاج اختلاف
الحكمين في مرافعة شخصية، لا السؤال عن حكم كلي الواقعة -
فالانصاف أن الاشكال الرابع لا يخلو من وجه، إذ مع كون الغالب
تعاقب الحكمين زمانا وندرة تقارنهما يتعين تنفيذ حكم السابق و
إلغاء اللاحق، لا الترجيح بالصفات، لاطلاق أدلة حرمة نقض حكم
الحاكم من الاجماع المنقول البالغ حد الاستفاضة، وقوله عليه السلام
في المقبولة: (فارضوا به حكما، فإني قد جعلته حاكما) وقوله: عليه
السلام فيها: (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فبحكم الله استخف و
علينا رد) وغير ذلك مما استدل به على وجوب إنفاذ الحكم وحرمة
رده.
إلا أن يقال: باختصاص أدلة حرمة نقض الحكم بما إذا كان الحاكم
واحدا - كما هو الغالب - أو توافقهما في الحكم إذا كان الترافع إلى
اثنين، وعدم شمولها للمقام أعني تراضي الخصمين بحاكمين. أما
الاجماع فمع تسليمه - والغض عما حكي عن العلامة (قده) من نفوذ
قضاء الأعلم الأزهد - لا إطلاق له لمورد تراضي الخصمين بحكمين،
فالمتيقن منه صدور الحكم عن حاكم واحد.
وأما قوله عليه السلام: (فإني قد جعلته حاكما) فكذلك، لظهوره في
نصب من له أهلية القضاء بنحو العموم، والضمير في (به، جعلته)
راجع إلى (رجل أو الموصول، والمقصود إرجاع المترافعين إلى رجل
واحد. وليس ناظرا إلى بيان حكم تعدد الحاكمين واختلافهما
حتى يتمسك به على وجوب تنفيذ الحكم السابق وإلغاء اللاحق. و
أما حكم صورة تعدد الحاكم واختلافهما في القضاء فهو مذكور في
الجملة اللاحقة له أعني الترجيح بالصفات، ومع احتفاف حرمة الرد
بالترجيح بالصفات لا يبقى إطلاق في حكمه عليه السلام بوجوب
إنفاذ الحكم لصورة تراضي الخصمين بحاكمين.
ومما ذكرنا ظهر أجنبية الاستدلال بالهرج والمرج على حرمة نقض
حكم الحاكم عن المقام، إذ مع تعيين الوظيفة - وهي تقديم أحد
الحكمين بصفات الحاكم ووجوب تنفيذه - تنحسم مادة النزاع، ولا
مجال لدعوى الهرج والمرج.
177



وقد تحصل من جميع ما ذكرناه أن الاشكالات التي أوردها شيخنا
الأعظم على صدر المقبولة غير واردة عليها. ومع العجز عن التفصي
عنها فهي - كما قال (قده) - غير قادحة في الاستدلال بها على
وجوب الترجيح.
وأما الجهة الرابعة: - وهي المرجحات المنصوصة في المقبولة - فهي
الترجيح بالصفات وبالشهرة وبموافقة الكتاب وبمخالفة العامة.
أما الترجيح بالصفات فقد تقدم في توضيح المتن اختصاصه بباب
الحكمين، وعدم شموله للراويين بما هما راويان لحديثين.
فالمهم التعرض لمرجحات أحد الخبرين على الاخر كما صنعه الإمام عليه السلام
بعد فرض السائل استواء الحاكمين في الصفات، وهي
الشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة.
وقد يقال: بعدم ارتباط المقبولة بمرجحات الخبرين، لأنها في مقام
بيان مرجحات الحكمين دون مرجحات الخبرين، وذيلها وهو
(فإن كان الخبران عنكم مشهورين) وإن كان ظاهرا بدوا في السؤال عن
الخبرين، وأجيب عن مرجحاتهما. لكن وحدة السياق تقتضي
كون مرجحاتهما مرجحات الحكم أيضا، بمعنى كونها مرجحات
الخبرين من حيث كونهما مستندين للحكم لا من حيث خبريتهما.
نظير
الأعدلية وغيرها من الصفات، فإنها مرجحات للشخص من حيث
كونه حاكما لا راويا للحديث حتى تعد من مرجحات الخبرين.
لكنه غير ظاهر، فإن وحدة السياق وإن اقتضت اختصاص المرجحات
بالخبرين المتعارضين في باب القضاء، إلا أن التعليلات الواردة
فيها تقتضي التعدي إلى مطلق الخبرين المتعارضين سواء كانا في دين
أو ميراث أو نحوهما من الماليات أم في أبواب العبادات مثلا.
كتعليل الاخذ بالمشهور بأمرين وهما: كونه مما لا ريب فيه، وكونه بين
الرشد. وتعليل الاخذ بما خالف القوم بأن ما خالفهم فيه
الرشاد، أو (فإن الحق فيه) كما في خبر العيون. وتعليل الاخذ بما وافق
الكتاب في خبر السكوني ب (ان على كل حق حقيقة وعلى كل
صواب نورا). ومن المعلوم أن عدم الريب في الخبر المجمع عليه لا
يختص بباب القضاء، بل هو شأن الخبر المشهور في جميع الأبواب.
كما أن التعليل بكون الرشد في خلافهم آب عن التقييد. وعليه فهذه
التعليلات صالحة للتعدي من مورد السؤال في المقبولة إلى سائر
موارد تعارض الخبرين.
إنما الكلام في كون الشهرة من المرجحات أو من مميزات الحجة عن
غيرها؟ قد يقال بالثاني نظرا إلى أن المذكور في المقبولة هو
الاخذ بالمجمع عليه، والمراد به الخبر الذي أجمع الأصحاب
178



على صدوره من المعصومين عليهم السلام، وذلك لتعليل الاخذ به
بأمرين: أحدهما قوله عليه السلام:
(فإن المجمع عليه لا ريب فيه) وثانيهما: تطبيق الامر البين رشده على
الخبر المجمع عليه. وعليه يكون الخبر المعارض له ساقطا عن
الحجية، لما دل على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة، فإن المراد
بالسنة هو مطلق الخبر المقطوع صدوره عن المعصوم عليه السلام
لا خصوص النبوي ولا ينافي هذا فرض الراوي شهرة كلتا الروايتين،
فإن الشهرة بمعنى الوضوح، ومنه قولهم: شهر فلان سيفه، فمعنى
شهرتهما أنهما قد رواهما جميع الأصحاب وعلم صدورهما من
المعصوم (عليه السلام).
والحاصل: أن الخبر الشاذ المقابل للمشهور مقطوع العدم أو موثوق
بعدمه، فلا يعمه أدلة حجية الخبر.
لكن يمكن أن يقال: أن كلمة (المجمع عليه) وإن كان ظاهرا في اتفاق
الكل على رواية، ولذا استدل بعضهم بها على حجية الاجماع على
ما حكاه المجلسيان (قدهما)، وكذا (المشهور) الظاهر في الوضوح،
ومقتضاهما كون الشهرة من مميزات الحجة عن غيرها.
إلا أنه يشكل الالتزام به في المقبولة، لقرينة فيها، وهي شمول إطلاق
تقديم حكم الأعلم الأفقه الأصدق على غيره لما إذا كان مستند
حكمه خبرا مشهورا أم غير مشهور، ولو كان عدم اعتبار الخبر غير
المشهور - الذي استند إليه الأفقه احتمالا - قطعيا لما صح تنفيذ
حكم الأفقه مطلقا، بل كان اللازم التنبيه على مدرك حكمه، فهو عليه
السلام كما أمر بالنظر في ما يفضل به أحدهما على الاخر من
الصفات، فكذا كان من المناسب التنبيه على مستنديهما، بأن لا يكون
أحدهما خبرا شاذا في قبال مستند الاخر، فعدم التنبيه عليه - مع
بعد الاهمال من هذه الجهة - كاشف عن صلاحية الخبر غير المشهور
للاستناد إليه، وعدم كونه مقطوع البطلان.
وعليه فالمراد بالمشهور هو المستفيض من حيث النقل، لا من حيث
العمل بمضمونه. وهذا المقدار لا يوجب الوثوق بعدم حجية الخبر
الشاذ المقابل له، وذلك (لان مفاد الأخبار الدالة على حجية خبر الثقة
كفاية وثاقة الراوي في قبول خبره، من دون إناطته بالوثوق
الفعلي بخبره، فلا يضر عدم الوثوق الفعلي أو الظن بعدمه. كما أن بناء
العقلاء على العمل بخبر الثقة من حيث كونه لو خلي وطبعه مفيدا
للظن بالصدور.
ولو سلم أن الشهرة موجبة للقطع بصدور المشهور فإنما هو في الشهرة
رواية وعملا، لا الأولى
179



فقط. وأما الوثوق الفعلي بصدوره فلا يمنع عن الوثوق الفعلي بصدور
ما يقابله، بل لا يمنع القطع بصدوره عن القطع بصدور ما يقابله،
ولذا فرض الراوي الشهرة في الخبرين. مع أن فرض القطع بالصدور أو
الوثوق به في الطرفين يمنع عن إعمال مميزات الصدور عن
عدمه بموافقة الكتاب ومخالفة العامة).
نعم مقتضى ارتكازية العلة وهي (أن المجمع عليه لا ريب فيه) هو
إرادة الشهرة الفتوائية والروائية معا، لان مجرد كثرة نقل الرواية في
كتب الحديث مع الاعراض عنها وعدم العمل بها لا يناسب التعليل
بعدم الريب فيه، بل فيه مع الاعراض كل الريب والخلل، فلا بد أن
يراد
بكون الخبر مشهورا شهرته من حيث الفتوى أيضا، فإن المناط في
اعتبار الرواية استنادهم إليها في الفتوى وعدم إعراض القدماء
عنها، وإلا كان ذلك كاشفا عن خلل في صدورها أو دلالتها أو جهتها.
هذا بعض الكلام في مرجحية الشهرة.
وأما موافقة الكتاب ومخالفة العامة فهما - كما سيظهر إن شاء الله
تعالى - مرجحان طوليان، وقد حكم عليه السلام بتقديم حكم
الحاكم المستند إلى خبر موافق للكتاب ومخالف للقوم، وحيث إن
الترجيح بهما واقع بعد فرض الراوي شهرة كلا الخبرين، فالتعدي
منهما إلى مطلق الخبرين المتعارضين حتى الآحاد يتوقف على إلقاء
خصوصية المورد.
لكن يسهل الامر من جهة اشتمال النصوص على هذين المرجحين
بنحو الانفراد والانضمام، ولتوضيحه نقول: إن الاخبار المشتملة على
تقديم الخبر الموافق للكتاب على طائفتين:
الأولى: ما ورد لتمييز الحق عن الباطل، كالاخبار المتقدمة في (ص
142) مما اشتمل على أن المخالف للقرآن زخرف وباطل ونحوهما،
فإن المخالفة بقول مطلق يراد بها التباينية، وهذا المعنى لا تعلق له
بباب ترجيح أحد المتعارضين على الاخر، بل الخبر لو كان بلا
معارض لوجب طرحه إذا كان مخالفا للكتاب.
هذا بناء على الغض عما استظهره المصنف من هذه الأخبار في
تخصيص عموم الكتاب بالخبر الواحد، ثم أمر بالفهم فيه من إرادة
المخالفة ثبوتا لا إثباتا، حيث قال: (مع قوة احتمال أن يكون المراد
أنهم عليهم السلام لا يقولان بغير ما هو قول الله (تبارك وتعالى)
واقعا وإن كان على خلافه ظاهرا شرحا لمرامه وبيانا لمراده من كلامه
تعالى، فافهم). لما في هذا الحمل من الإحالة على المجهول، مع
أن موافقة الكتاب جعلت معيارا لصدق الخبر بعد عرضه على
الكتاب، ومخالفته مناطا لكذبه
180



وأن الذي جاء به أولى به، فلا بد أن تكون العبرة بظاهر الكتاب، فإنه
القابل للعرض عليه، دون ما يخالف واقعا ما هو المراد الواقعي
من الكتاب، إذ لا علم بهذا المراد الواقعي حتى تعرض الاخبار عليه.
الثانية: ما ورد في باب ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الاخر،
من الامر بأخذ ما يوافق الكتاب وطرح ما يخالفه كمصحح عبد
الرحمن وغيره مما تقدم في (ص 140)، فإن الظاهر من هذه الطائفة
كون موردها الخبرين المفروض اعتبارهما لولا التعارض،
خصوصا ما اشتمل منها على كونهما خبري ثقتين، فهذه الطائفة تعد
من المرجحات، ويكون المراد بمرجحية الموافقة موافقة أحد
الخبرين لظاهر الكتاب، وهذا يلتئم مع فرض موافقة الخبرين له في
مورد الترجيح بالمرجح المتأخر عنه رتبة وهو مخالفة القوم، إذ لا
مانع من موافقة الخبرين لظاهرين يمكن التصرف فيهما أو في أحدهما.
وعلى كل فمثال الترجيح بموافقة الكتاب ما إذا ورد حديث يدل على
حرمة سمك خاص، وآخر يدل على حليته، ودل الكتاب الشريف
بمقتضى إطلاق الآية الكريمة (أحل لكم صيد البحر) على حليته، أخذ
بما يدل على الحلية، لموافقته لاطلاق الكتاب المجيد.
هذا ما يتعلق بالترجيح بموافقة الكتاب في الجملة. وفي بعض الاخبار
ضم (السنة) إلى الكتاب كما في المقبولة، وفي بعضها الترجيح
بمخالفة العامة أيضا، وسيأتي وجه الجمع بينهما في التنبيه الثاني.
وأما الاخبار الراجعة إلى مخالفة العامة فهي أيضا على طائفتين:
إحداهما: ما ورد في لزوم مخالفتهم وترك موافقتهم، سواء كان هناك
خبر آخر مخالف لهم أم لا، كخبر العيون عن علي بن أسباط،
قال: (قلت للرضا - عليه السلام: يحدث الامر لا أجد بدا من معرفته، و
ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال، فقال: ائت
فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشئ فخذ بخلافه، فإن الحق
فيه). ومفروض سؤال الراوي إعواز النصوص وانسداد طريق
السؤال من فضلا الأصحاب، فأمر عليه السلام بالاستفتاء من فقيه
البلد ومخالفة فتواه مهما كانت، معللا مطلوبية مخالفتهم بأن الحق في
خلافهم.
ونحوه خبر عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام، قال: (ما سمعت
مني يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول
الناس فلا تقية فيه). ولم يفرض في هذه الرواية وجود خبر
181



موافق للعامة وآخر مخالف لهم حتى يقدم المخالف عند التعارض،
بل أمر عليه السلام - بنحو الضابطة الكلية - بحمل ما يسمعه من
الإمام عليه السلام
عند شباهته ب آراء العامة على التقية، وعدم صدوره
بداعي بيان الحكم الواقعي.
ومن المعلوم أن مفاد هذين الخبرين ونحوهما أجنبي عن باب ترجيح
أحد الحديثين على الاخر، بحيث كان كل منهما حجة لولا
المعارضة حتى إذا كان موافقا للعامة. ولا بد أن يراد بالامر بمخالفة
فتوى فقيه البلد، أو حمل ما يشبه قول العامة على التقية إما فرض
تفرد العامة بشئ واتخاذهم له طريقا وشعارا لهم بحيث يعرفون به،
وكان ما عند الخاصة غيره - كما اختاره المحقق الأصفهاني
(قده) - وفي مثله لا ريب في عدم حجية الخبر الموافق لهم. وإما
فرض احتفاف الخبر بقرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه
صدر تقية كما استفادة المحقق النائيني (قده). وإن كان الأول أولى،
إذ ربما تختفي القرائن مع كون مضمون الخبر مطابقا لما
تفردت العامة به.
ثانيتهما: ما ورد في علاج المتعارضين من تقديم ما خالف العامة على
ما وافقهم، كما تقدم في مصحح عبد الرحمن: (فإن لم تجدوهما في
كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، و
ما خالف أخبارهم فخذوه) وكذا في خبر الحسن بن الجهم عن
العبد الصالح (عليه السلام) المتقدم في (ص 140)، وفي غيرهما من
الاخبار. ومورد الترجيح بهذه الاخبار هو أن يكون هناك خبران
متكافئان في أصل ملاك الحجية صدورا وظهورا وجهة، غير أن
أحدهما موافق للعامة والاخر مخالف لهم، فتكون كثرة الاحكام
المشتركة بيننا وبينهم موجبة لاحتمال صدور كل من الخبر الموافق و
المخالف بداعي بيان الحكم الواقعي وجريان أصالة الجد في كل
منهما، فينحصر المانع عن الحجية الفعلية في التعارض، وقد حكم
عليه السلام بترجيح الخبر المخالف، وأن الموافق منهما مشتمل على
ما
يوجب ضعف الملاك، والمخالف مشتمل على ما يوجب قوته،
فيرجح.
وقد تحصل من هذا البحث الطويل الذيل: أن المرجح هو موافقة
الكتاب ومخالفة العامة كما هو مقتضى كثير من أخبار الباب،
فالمرجحات المنصوصة منحصرة بهذين المرجحين مع الترتيب
بينهما بتقديم موافقة الكتاب والسنة على مخالفة العامة، بمعنى
وجوب
العرض أولا على الكتاب والسنة، ومع عدم وجدان الحكم فيهما
يرجع إلى الترجيح بمخالفة العامة كما هو ظاهر مصحح عبد الرحمن.
ويتعين تقييد إطلاقات التخيير بهما، ولا محذور في هذا التقييد، إذ لا
يلزم حمل تلك المطلقات
182



على الفرد النادر بعد تقييدها بهذين المرجحين. نعم يلزم ذلك لو قيل
بالتعدي عنهما إلى مرجحات أخرى، أو إلى مطلق ما يوجب القرب
إلى الواقع على ما استفاده جمع من الأجلة من تلويحات أخبار الباب.
وإلا فمع الاقتصار في الترجيح على الامرين المذكورين تبقى
موارد كثيرة لاخبار التخيير.
ومنه ظهر عدم الوجه في حمل الأخبار الآمرة بالترجيح بهما على
الاستحباب. مضافا إلى إباء بعض الألسنة عن هذا الحمل كالتعليل بأن
ما خالفهم فيه الرشاد.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أن الترجيح في الجملة - مما عليه الأصحاب وإن اختلفت
كلماتهم في الترجيح ببعض الوجوه أو في ترتيبها، وسيأتي كلام ثقة
الاسلام في الترجيح بالشهرة وبموافقة الكتاب ومخالفة العامة في
التوضيح من (ص 193). وقال الشيخ في العدة: (وأما الاخبار إذا
تعارضت وتقابلت، فإنه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح، و
الترجيح، يكون بأشياء، منها: أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو
السنة المقطوع بها والاخر مخالفا، فإنه يجب العمل بما وافقهما وترك
ما خالفهما.) ثم رجح بموافقة إجماع الفرقة وبصفات الراوي.
إلى أن قال: (فإن كان رواتهما ثم متساويين في العدد والعدالة عمل
بأبعدهما من قول العامة وترك العمل بما يوافقهم.).
واعترض عليه المحقق بأن الترجيح بمخالفة العامة مستند إلى رواية
رويت عن الصادق (عليه السلام) (وهو إثبات لمسألة علمية بخبر
الواحد).
وأورد عليه بعدم انحصار المدرك في رواية واحدة، لاستفاضة
الاخبار، بل تواترها على الترجيح بمخالفة العامة.
وقد يوجه كلام المحقق بأن أخبار الترجيح بهذا المرجح كلها منقولة
عن رسالة القطب الراوندي - التي صنفها في بيان أحوال أحاديث
أصحابنا وصحتها - عن الإمام الصادق عليه السلام بسند معتبر. إلا أن
هذه الرسالة لم تثبت نسبتها إلى القطب ثبوتا شائعا كما ادعاه
الفاضل النراقي في المناهج، فلا حجية فيما نقل عنها، وينحصر
مستند الترجيح بمخالفة العامة في المقبولة، ومرسل الاحتجاج عن
سماعة بن مهران، وحيث لا اعتبار بالثانية فيتجه مدعى المحقق -
بناء على مبناه - من قصور خبر الواحد عن إثبات مسألة علمية.
أقول: لا تخلو الشبهة التي أبداها الفاضل النراقي من وجه، فإن هذه
الرسالة وإن روى عنها المحدثان المجلسيان في الروضة و
البحار، وكذا صاحب الوسائل. لكنها ليست في اشتهار النسبة
183



إلى مؤلفها الجليل على حد سائر الأصول المنسوبة إلى مؤلفيها، بل
ليست كسائر مصنفات القطب الراوندي في تواتر النسبة أو
اشتهارها كالخرائج وفقه القرآن. لكن الظاهر كفاية وجود سند معتبر
متصل بين أرباب الجوامع الثلاثة المتأخرة - وهي الوسائل و
البحار والوافي - وبين مؤلف هذه الرسالة، ولا يعتبر شيوع النسبة
حتى يكون عدمه قادحا في الاستناد إليها.
وقد شهد المحدث الحر العاملي بأن الكتب التي روى عنها في
الوسائل إما متواترة عن مؤلفيها، وإما قامت القرائن على صحتها، قال
في الفائدة الرابعة من الخاتمة: (في ذكر الكتب المعتمدة التي نقلت
منها أحاديث هذا الكتاب، وشهد بصحتها مؤلفوها وغيرهم، وقامت
القرائن على ثبوتها، وتواترت عن مؤلفيها أو علمت صحة نسبتها إليهم
بحيث لم يبق فيها شك ولا ريب. ثم عد كثيرا من المصادر. إلى
أن قال: وغير ذلك من الكتب التي صرحنا بأسمائها عند النقل منها)
ثم قال في الفائدة الخامسة: (في بيان بعض الطرق التي نروي بها
الكتب المذكورة عن مؤلفيها، وإنما ذكرنا ذلك تيمنا وتبركا باتصال
السلسلة بأصحاب العصمة عليهم السلام، لا لتوقف العمل عليه،
لتواتر تلك الكتب، وقيام القرائن على صحتها وثبوتها.).
وظاهر هذه الكلمات يوجب الوثوق بوجود طريق معتبر للشيخ الحر
(ره) إلى كل كتاب نقل منه في الوسائل خصوصا مع دعوى قيام
القرائن على صحتها وثبوتها.
لكن في النفس دغدغة من ذلك بالنسبة إلى رسالة القطب الراوندي،
لعدم كونها من الكتب المتواترة عن مؤلفيها قطعا، والقرينة التي
ادعاها صاحب الوسائل مجهولة الكنه عندنا، إذ ربما لا تكشف بنظرنا
- لو ظفرنا بها - عن حجة شرعية خصوصا مع خلو إجازة العلامة
لبني زهرة وكلمات جمع آخرين من عنوان هذه الرسالة ونسبتها إلى
الشيخ الجليل القطب الراوندي كما نسبوا كتاب الخرائج وقصص
الأنبياء إليه، وإن كان عدم التصريح بهذه الرسالة غير كاشف عن عدم
تأليفها، لعدم كون العلامة ولا ابن شهرآشوب بصدد استقصاء
جميع مؤلفات القطب.
والنتيجة: أن المدار في حجية الخبر هو الوثوق الشخصي، والظاهر
حصوله من اعتماد الأجلة كالمجلسيين والمحدث الحر العاملي على
(رسالة الفقهاء) المنسوبة إلى القطب الراوندي، وبهذه الملاحظة عبرنا
عن رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله بالمصحح لا بالصحيح
كما هو المتداول على الألسن.
وبذلك ظهر عدم تمامية توقف المحقق في الترجيح بمخالفة العامة،
مع أنه لو فرض انحصار المدرك بمقبولة، عمر بن حنظلة، أمكن
إثبات مسألة علمية بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية.
184



الامر الثاني: أن أخبار الترجيح - كما تقدمت في توضيح المتن -
مختلفة المضامين.
فمنها: ما اشتمل على الترجيح بموافقة الكتاب ثم بمخالفة العامة
كمصحح عبد الرحمن.
ومنها: ما اقتصر فيه على الترجيح بموافقة الكتاب والسنة كما في خبر
الميثمي المروي عن العيون - بناء على كونه من أخبار الترجيح -
في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
الشئ الواحد: (فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما
على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتبعوا
ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن
رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومنها: ما اقتصر فيه على الترجيح بمخالفة العامة كخبر الحسن بن
الجهم.
ونسبة أخبار الترجيح بكل منهما على الانفراد مع مصحح عبد
الرحمن هي نسبة المطلق إلى المقيد، ومن المعلوم اقتضاء الصناعة
التقييد،
كاقتضائها تقييد مرجحية الكتاب بما دل على العرض على الكتاب و
السنة، فيكون نتيجة التقييد العرض أولا على الكتاب والسنة، و
ثانيا على أخبار العامة أو آرائهم على حسب اختلاف الروايات.
الثالث: اختلف أخبار الترجيح بمخالفة العامة في كون المناط مخالفة
أخبارهم أم مخالفة العامة بقول مطلق الشامل لرأيهم وروايتهم،
ففي مصحح عبد الرحمن: (فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف
أخبارهم فخذوه). وفي خبر الحسن بن الجهم: (خذ بما خالف القوم،
و
ما وافق القوم فاجتنبه) فمدار الترجيح بمقتضى مصحح عبد الرحمن
هو مخالفة أخبارهم، كما أنه بمقتضى خبر الحسن بن الجهم مخالفة
القوم، الظاهر في رعاية ديدن القوم في المسألة بحيث يصح أن يقال:
(مسلك القوم كذا وكذا). ومن المعلوم أن النسبة بين المصححة وخبر
الحسن بن الجهم عموم من وجه، لاجتماعهما في كثير من الأحكام الشرعية
التي تطابقت آراؤهم مع أخبارهم فيها، فكل من الخبرين
يرجح الخبر المخالف لهم، وافتراقهما فيما إذا كان الحكم في
أخبارهم أمرا، وكانت فتاواهم مخالفة لها، وفيما إذا أفتى مفتيهم
بشئ مع خلو أخبارهم عنه، لعدم وفاء أخبارهم بجميع أبواب الفقه.
كما يظهر من تصريح أبي حنيفة في محاورته مع أبي عبد الله عليه
السلام بالافتاء بما أدى إليه رأيه والقياس فيما لا يعثر عليه في
الكتاب والسنة.
وعلى كل فمقتضى مصحح عبد الرحمن الاخذ بما خالف أخبارهم
سواء أفتى به فقهاؤهم أم لا، ومقتضى خبر الحسن بن الجهم ترجيح
الخبر المخالف لآرائهم سواء طابقت أخبارهم أم لا، فيتعارض الخبران
فيما إذا كان هناك خبران متعارضان أحدهما موافق لأخبارهم
والثاني موافق
185



لآرائهم، وذلك عند مخالفة آرائهم لرواياتهم.
ويرتفع الاشكال بأن أخبار العلاج ناظرة إلى طرح الخبر الموافق للقوم
من جهة عدم جريان أصالة الجد فيه، فالمناط هو ملاحظة ما
يتقى ويخاف من مخالفته سواء أكان رأيا أم رواية، وإن كان شيوع
فتاوى أبي حنيفة وغيره في عصر الإمام الصادق عليه السلام و
من بعده من الأئمة عليهم السلام يستفاد منه موضوعية مخالفة آرائهم
لا رواياتهم.
وأما مصحح عبد الرحمن المتكفل للاخذ بما خالف أخبارهم فالظاهر
أن المقصود منه التنبيه على طرح الاخبار التي يروونها عن النبي
صلى الله عليه وآله، لكونها موضوعة مجعولة كما يستفاد من مرفوعة
أبي إسحاق الأرجاني، قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: أ تدري
لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا أدري، فقال: إن عليا
عليه السلام لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره
إرادة لابطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن
الشئ الذي لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم
ليلتبسوا
على الناس).
وعليه فالامر بطرح ما وافق من أخبارنا أخبارهم والاخذ بخلافه يكون
للتنبيه على أن أخبارهم غالبا غير صادرة عن النبي صلى الله
عليه وآله، بل هي مجعولة وضعها مرتزقة الحديث إبطالا لما تقوله
العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين).
والحاصل: أن اللازم في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على
الاخر عرضهما على أخبار العامة وآراء فقهائهم، فإن كانت آراؤهم
مطابقة لأخبارهم أخذ بالخبر المخالف. وإن كانت مخالفة لها فالظاهر
لزوم مراعاة زمان صدور الرواية، وأن الرائج فيه هو عملهم
بالخبر الذي يروونه أم برأيهم الفاسد المستند إلى القياس و
الاستحسان ونحوهما، فإن كان المعمول به هو الخبر كان مناط
الترجيح
عرض المتعارضين على أخبارهم، وإن كان هو الرأي كان الترجيح بما
يخالف آراءهم.
وكيف كان فتقديم أحد الخبرين المتعارضين بمخالفة العامة يحتاج
إلى تفحص تام في آراء علمائهم ورواياتهم، لان أعصار أئمة
الجور مختلفة من حيث ترويج مذهب من مذاهبهم دون آخر، و
كذلك أحكام قضاتهم مختلفة باختلاف علماء كل عصر من
أعصارهم، و
الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) كانوا معهم في أدوار متفاوتة، فربما
كان الحكم مشهورا في عصر دون آخر، فحمل أحد الخبرين
المتعارضين على التقية يتوقف على ملاحظة الرأي السائد المتداول
في عصر الامام المعصوم عليه السلام الذي صدر منه الحكم الشرعي،
فلو كان رأي أبي ليلى مثلا رائجا في عصر
186



الإمام الصادق عليه السلام كما يظهر من رواية خالد بن بكير في باب
الوصية، وكان الشائع في عصر إمام آخر رأيا آخر لم تقتض
روايات الترجيح بمخالفة العامة أن يعامل مع الخبر المروي عن ذلك
الإمام عليه السلام معاملة الخبر المروي عن الصادق عليه السلام
الموافق لروايات العامة أو لرأيهم.
قال شيخنا الأعظم (قده): (فقد حكي عن تواريخهم: أن عامة أهل
الكوفة كان عملهم على فتوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر،
وأهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح، وأهل المدينة على فتاوى
مالك، وأهل البصرة على فتاوى عمارة وسوادة، وأهل الشام على
فتاوى الأوزاعي والوليد، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد، و
أهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهري، وكان فيهم
أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد بن المسيب وعكرمة وربيعة الرأي
ومحمد بن شهاب الزهري، إلى أن استقر رأيهم بحصر المذاهب
في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة كما حكي).
والحاصل: أن كون مخالفة العامة مرجحة لاحد المتعارضين أو مميزة
للحجة عن غير الحجة يتوقف على تتبع آرائهم وأخبارهم و
ملاحظة عصر صدور الخبرين حتى يظهر أن الامام المعصوم عليه
السلام كان مستطيعا على بيان الحكم الواقعي أم مضطرا إلى موافقة
القوم.
الرابع: قد عرفت أن المرجحين المنصوصين هما موافقة الكتاب و
السنة ومخالفة العامة مع الترتيب بينهما، وكل منهما مرجح مستقل. و
هذا هو ظاهر مصحح عبد الرحمن. نعم جمع الإمام عليه السلام في
المقبولة في الترجيح بهما بعد الترجيح بالشهرة، وهذا ربما يستفاد
منه كون المجموع مرجحا واحدا، فلا بد من اجتماعهما في أحد
الخبرين المتعارضين كي يقدم على غيره، فلو كان أحدهما في أحد
الخبرين لم ينفع في مقام الترجيح.
لكن الظاهر عدم قرينية ذكرهما معا على كونهما مرجحا واحدا، و
ذلك لأنه عليه السلام بعد قول عمر بن حنظلة: (جعلت فداك إن
رأيت
إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين
موافقا للعامة والاخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما
خالف العامة ففيه الرشاد) ومن المعلوم أنه عليه السلام جعل مخالفة
العامة - بعد موافقة الخبرين للكتاب والسنة - مرجحا مستقلا، فلا
بد أن تكون موافقة الكتاب والسنة مرجحة مستقلة أيضا، ولو لم تكن
هذه مرجحة مستقلة لكان انضمامها إلى مخالفة العامة من باب ضم
الحجر إلى جنب الانسان، غاية الامر أنه عليه السلام فرض أحد
الخبرين جامعا لكلا المرجحين والاخر فاقدا لهما، وبعد سؤال
الراوي
عن الواجد لاحد
187



المرجحين أمر عليه السلام بالأخذ بما يخالف العامة.
الخامس: ورد في الاخبار العلاجية طائفة تتضمن الترجيح بالأحدثية،
فإذا تعارض خبران قدم المتأخر منهما صدورا، ومن المعلوم أن
هذه الطائفة معارضة لما تقدم من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة
العامة ثم التخيير عند تكافئهما، ضرورة أن النسبة بين رواية
الترجيح بالأحدثية وتلك الروايات هي العموم من وجه، إذ الأحدثية
ترجح الخبر المتأخر سواء كان موافقا للعامة أم مخالفا لهم، و
مخالفة العامة أيضا ترجح الخبر المخالف لهم سواء أكان متقدما أم
متأخرا، فإذا كان الخبر السابق مخالفا للعامة والحادث موافقا لهم
فمقتضى الترجيح بالأحدثية هو الاخذ بالحادث، ومقتضى الترجيح
بمخالفة العامة هو الاخذ بالسابق وعدم الاعتناء بالحادث. وعليه
فاللازم علاج التعارض بعد بيان تلك الأخبار.
فمن هذه الطائفة خبر المعلى بن خنيس، قال: (قلت لأبي عبد الله
عليه السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما
نأخذ؟
فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي، فإن بلغكم عن الحي فخذوا
بقوله. قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: إنا والله لا ندخلكم إلا
فيما
يسعكم).
والظاهر من مورد السؤال صورة اختلاف الأحاديث وتعارضهما كما
هو صريح مرسل الحسين بن المختار، وقد حكم عليه السلام
بالأخذ بالخبر المتأخر صدورا، وعلل ذلك ب (أنا لا ندخلكم إلا فيما
يسعكم).
ومنها: موثق محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: قلت
له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى الله
عليه وآله لا يتهمون بالكذب، فيجئ منكم خلافه؟ قال: إن الحديث
ينسخ كما ينسخ القرآن). ودلالة قوله عليه السلام: (إن الحديث
ينسخ كما ينسخ القرآن) على لزوم الاخذ بالأحدث وترك الحديث
المتقدم صدورا واضحة، خصوصا مع التعليل بجريان النسخ في
الأحاديث كما في آيات الذكر الحكيم. وظاهر سؤال محمد بن مسلم:
(لا يتهمون بالكذب) عدم القطع بصدور الخبرين عن رسول الله
صلى الله عليه وآله، إذ الخبر القطعي لا يحتمل فيه الكذب حتى يتهم
راويه به، فالموثقة تدل على تعين الاخذ بالأحدث عند تعارض
الخبرين في الاخبار الآحاد الظنية.
ومنها: خبر أبي عمرو الكناني، قال: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام:
يا أبا عمرو أ رأيت لو
188



حدثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه
فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك، أو أفتيتك بخلاف ذلك، بأيهما
كنت
تأخذ؟ قلت بأحدثهما وأدع الاخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى
الله إلا أن يعبد سرا، أما والله لئن فعلتم ذلك، إنه لخير لي ولكم، أبى
الله عز وجل لنا في دينه إلا التقية). ودلالته على العمل بالأحدث
ظاهرة، فإنه عليه السلام قرر قول الراوي: (قلت:
بأحدثهما وأدع الاخر) بأنه مصيب، ومورد الخبر ما إذا كان الحديث
المتأخر موافقا للعامة، بقرينة تعليله عليه السلام للزوم الاخذ
بالأحدث بقوله: (أبى الله إلا أن يعبد سرا) وقوله: (أبى الله عز وجل
لنا في دينه إلا التقية).
هذه عمدة ما دل على تعيين العمل بأحدث الخبرين المتعارضين.
والجواب العام عن هذه الأخبار - بعد الغض عما سيأتي من قصور
بعضها سندا وبعضها دلالة - هو إعراض الأصحاب عنها وعدم كون
الأحدثية موجبة لترجيح أحد الخبرين المتعارضين على الاخر، إلا ما
يظهر من الصدوق في وصية الفقيه في باب (أن الرجلين يوصى
إليهما، فينفرد كل واحد منهما بنصف التركة) وذكر فيه حديثين، ثم
قال: (لست أفتي بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن
علي عليهما السلام ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الاخذ
بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه السلام، وذلك أن الاخبار لها
وجوه
ومعان، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس، وبالله
التوفيق).
وتفصيل الكلام أما الخبر الأول - وهو خبر المعلى - فلا يخلو من
إشكال في سنده ودلالته. أما السند فلعدم ثبوت وثاقة إسماعيل بن
مرار إلا كونه من رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي. وأما الدلالة
فالظاهر من قوله عليه السلام: (فإن بلغكم) هو البلوغ بوجه معتبر
كما قويناه في أخبار (من بلغ) لا مطلق وصول الحديث وإن كان ظنيا
حتى يعم الاخبار الآحاد التي بأيدينا. وعليه يختص تقديم الأحدث
بالقطعيين.
مضافا إلى: أن التعليل ب (انا والله لا ندخلكم إلا فيما يسعكم)
يحتمل فيه أمران:
أحدهما: ما أفاده العلامة المجلسي: من إرادة الجواز من السعة، قال
(قده): (قوله عليه السلام فيما يسعكم، أي: يجوز لكم القول والعمل
به
تقية أو لمصلحة أخرى).
وثانيهما: ما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) بقوله: (وهي بقرينة
امتداد الحكم إلى أن يبلغ عن
189



الحي ظاهر في أن الحكم الفعلي أيا ما كان هو الثاني إلى أن ينكشف
حاله، لا أن وظيفة عامة المكلفين ذلك ولو في غير زمان الحضور
الذي يتفاوت حال الأئمة عليهم السلام وشيعتهم من حيث الاتقاء من
الأعداء) ومحصله: أن المقصود من السعة هو التقية، فهو عليه
السلام يلاحظ التوسعة عند بيان فتوى مخالفة لفتوى سابقة كي لا يقع
الشيعة في الضيق، وهذا حكم التقية، ولا ربط له بباب الخبرين
المتعارضين. وحيث إنه لا تقية في مثل زماننا فلا معنى للترجيح
بالأحدث، ولا تكون الرواية معارضة لما دل على الترجيح بموافقة
الكتاب ومخالفة العامة.
لكن يشكل اختصاص لزوم الاخذ بالأحدث بزمان الحضور، لاباء
أخبار الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة عن التخصيص، لأنها
علاج لحكم الخبرين المتعارضين، وكان السؤال لأجل التحير و
العمل، فكيف يقيد الترجيح بهما بالأخذ بالأحدث في عصر
الحضور؟
فالأولى في رد خبر معلى ما تقدم من إعراض الأصحاب عن العمل به
بناء على دلالته على أصل الترجيح بالأحدثية.
وأما الخبر الثاني: - وهو موثق محمد بن مسلم فجوابه: أن في قوله
عليه السلام: (ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن) احتمالين، الأول:
أن يكون المراد من النسخ معناه الاصطلاحي، وهو بيان أمد الحكم، لا
ارتفاع الحكم المستمر. الثاني: أن يكون المراد منه معناه اللغوي -
وهو الإزالة مثل نسخت الشمس الظل - فيشمل موارد الجمع العرفي
كالتخصيص والتقييد كما أطلق عليهما في بعض الاخبار، فالمقصود
بالنسخ تخصيص العموم المروي عن النبي صلى الله عليه وآله
بالمخصص المروي عن الإمام عليه السلام أو تقييده به.
فعلى الثاني يخرج النسخ الوارد في الموثق عن محل الكلام من لزوم
الاخذ بالمتأخر من الخبرين المتعارضين، إذ لا تعارض بين العام و
خاصه وغيرهما من موارد الجمع العرفي حتى يتعين العمل
بالأحدث.
وعلى الأول فلا يبعد الحمل على التقية كما احتمله العلامة المجلسي
بقوله: (ويحتمل أن يكون ذلك للتقية من المخالفين في نسبة
الصحابة إلى النفاق والكذب والوهم، فإنهم يتحاشون عنها).
وعليه فلا مجال للاستدلال به على لزوم العمل بأحدث الخبرين، لأنه
فرع صدورهما، والمفروض عدم إحرازه بنقل فلان وفلان حتى
يكون منسوخا بما ورد من الامام المتأخر عصره عنه صلى الله عليه و
آله وسلم.
وأما الجواب عنه (بأن الموثق أجنبي عن النسخ بالمعنى المصطلح،
فإنه - على تقدير إمكانه بعد
190



انقطاع الوحي - يتوقف على كون الحديث الناسخ للحديث النبوي
مقطوع الصدور، فإن ضرورة المذهب قاضية بعدم نسخ الكتاب و
السنة بالخبر الظني، بل هذا مما اتفق عليه الفريقان) فلا يخلو من
تأمل، إذ المناط في الترجيح بالأحدثية هو قوله عليه السلام: (ان
الحديث ينسخ) وتنزيل إطلاقه على السنة القطعية المروية عن النبي
صلى الله عليه وآله بلا مقيد، ومن المعلوم توقف شمول معقد
الاجماع - على تقدير تحققه وتعبديته - لمورد الموثق على إرادة
خصوص السنة النبوية القطعية الصدور من جملة (الحديث ينسخ) و
أصالة الاطلاق تدفعه، فمقتضى الموثق الحكم بمنسوخية ما روي عنه
صلى الله عليه وآله - بخبر واحد ونحوه مما لا يوجب القطع
بالصدور - بما روي عنهم (عليهم السلام) بخلافه، وهذا المعنى ليس
مخالفا للاجماع، بل في كلمات الأصحاب التصريح بجوازه.
قال الشيخ في مسألة نسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة: (وأما السنة
فإنما تنسخ بالسنة أيضا إذا تساويا في الدلالة، فإن كانت الأولى
من أخبار الآحاد فعلى مذهبنا ذلك ساقط، لأنا لا نعمل بها.
وعلى مذهب الفقهاء يجوز نسخها بمثلها، لأنها إذا كان طريقهما العلم
فحكمهما حكم الكتاب. وإن كانا مما طريقهما العمل فحالهما
أيضا متساوية، فيجب صحة نسخ إحداهما بالأخرى، وقد وقع
ذلك).
وقال المحقق: (نسخ الكتاب بالكتاب جائز، والسنة المتواترة بمثلها،
والآحاد بالآحاد، كما قيل في ادخار لحوم الأضاحي وزيارة
القبور) ونحوه في المعالم.
والغرض أن نسخ السنة المتواترة بالخبر الواحد الظني وإن لم يكن
جائزا، إلا أن قوله عليه السلام:
(الحديث ينسخ) بمقتضي إطلاقه يدل على وقوع النسخ في
الأحاديث النبوية أيضا، ولا ريب في كثرة هذه الأخبار وعدم تواتر
جميعها.
والظاهر لزوم حمل الموثق على النسخ بمعنى آخر يعم التخصيص و
التقييد أو على التقية. وبهذا يجاب عن الاستدلال به على ترجيح
الأحدث من الخبرين، كما يجاب عن معتبرة منصور بن حازم التي ورد
فيها: (فنسخت الأحاديث بعضها بعضا).
وأما الثالث وهو خبر الكناني، فيرده أولا: ضعفه سندا، لعدم ثبوت
وثاقة أبي عمرو الكناني، فالتعبير عنه بالصحيح كما في بعض
الكلمات لعله من جهة الاعتماد على سند آخر رواه البرقي في
المحاسن عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي
عبد
الله عليه السلام وهذا السند
191



صحيح، ولا بد أن يكون هشام حاضرا في مجلس المخاطبة فسمع
ألفاظ الإمام عليه السلام مخاطبا لأبي عمرو، وإلا فلو كان المخاطب
هو الكناني خاصة - كما يظهر من ألفاظ الرواية - كان هشام راويا عن
الكناني ويعود الاشكال.
وثانيا: ان هذا الخبر أجنبي عن ترجيح أحد الخبرين المتعارضين على
الاخر بالأحدثية، لوجهين:
أحدهما: كون موضوع الترجيح الحكمين المقطوع صدورهما، لقوله
عليه السلام: (أ رأيت لو حدثتك) وهذا غير قوله عليه السلام في
خبر معلى: (بلغكم عن الحي) الشامل بإطلاقه لوصول الخبر إلى
الشيعة سواء أوجب القطع بكلام الإمام عليه السلام أم لا. وأما قوله:
(حدثتك) فظاهره السماع من المعصوم عليه السلام بلا واسطة، فلا
يشمل ما إذا كان الخبران المتعارضان ظنيين.
ثانيهما: إن الخبر بقرينة تحسين الإمام عليه السلام لقول الراوي: (قلت
بأحدثهما وأدع الاخر) دليل على أن من ألقي إليه الكلام الأخير
حكمه الفعلي ذلك سواء أكان واقعيا أم ظاهريا لأجل التقية، بل لا
يبعد قرينية التعليل بقوله عليه السلام: (أبى الله إلا أن يعبد سرا.)
على
أن الأخير صدر تقية، لورود هذا المضمون في روايات التقية أيضا. و
عليه يختص مدلول الخبر بزمان التقية وهو زمان خلفاء الجور، و
لا ربط له بوظيفة الشيعة في جميع الأعصار حتى يجب الاخذ بأحدث
الخبرين مطلقا.
والمتحصل من جميع ما تقدم: أنه لا دليل على الترجيح بالأحدثية
بالنسبة إلى هذه الاعصار مما يختلف حال الشيعة فيها عن أزمنة
الحضور، والابتلاء بخلفاء الجور.
192

نعم (1) قد استدل على تقييدها ووجوب الترجيح في المتفاضلين
بوجوه (2) اخر:
منها: دعوى الاجماع (3) على الاخذ بأقوى الدليلين.
وفيه (4): أن دعوى الاجماع مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو
في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء، قال في ديباجة
الكافي (5): (ولا نجد شيئا أوسع ولا أحوط من
193

التخيير) (1) مجازفة (. [1 [2

[1] أقول: لم يظهر من الكليني (قده) ذهابه إلى عدم وجوب الترجيح،
كما لم نعثر على من نسب هذا الخلاف إليه، كما عثرنا على نسبته
إلى السيد الصدر من أصحابنا والجبائيين من العامة، بل في عبارته
التي نقلناها دلالة واضحة على لزوم الترجيح، فإنه (قده) تعرض أولا
لما تضمنته المقبولة من المرجحات ليستند إليها في مقام الترجيح،
فاللازم في الخبرين المتعارضين إعمال المرجحات أولا، فمع العلم
بها يجب العمل بالخبر الواجد لها، وبدونه لا بد من العمل بإطلاقات
التخيير ثانيا، وعدم الاعتناء بالظن بوجود المرجح، لأصالة عدم
حجية الظن، وكون الاخذ به تشريعا محرما. بخلاف
194

ومنها (1): أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح
على الراجح، وهو (2) قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا.
وفيه (3): أنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية

إطلاقات التخيير، فإنه ما لم يحرز مقيدها يؤخذ بها، لكونها حجة. و
عليه فعد الكليني مخالفا لوجوب الترجيح غير ظاهر، بل اللازم عده
من القائلين بوجوب الترجيح.
نعم لا بأس بالمناقشة في الاجماع من جهة أخرى، وهي احتمال
مدركيته، لقوة احتمال كون مدرك المجمعين الروايات والوجوه
العقلية
التي استندوا إليها في وجوب الترجيح، وتقييد إطلاقات التخيير بها. و
عليه فليس من الاجماعات الكاشفة المعتبرة.
195

موجبة لتأكد ملاك الحجية (1) في نظر الشارع، ضرورة (2) إمكان أن
تكون تلك المزية بالإضافة إلى ملاكها (3) من قبيل الحجر في
جنب الانسان [1]

[1] لكن المقام ليس كذلك، لأنه بناء على حجية الامارات من باب
الطريقية وبناء العقلاء كما هو مبنى المصنف (قده) تكون المرجحات
المنصوصة موجبة لأشدية ملاك الحجية الذي هو
197

وكان [1 [1 الترجيح بها (2) بلا مرجح، وهو قبيح كما هو واضح،
هذا.
مضافا (3) إلى ما هو في الاضراب من الحكم بالقبح إلى الامتناع (4)
من (5)

الكشف والطريقية، فإن العلم والعدالة ونحوهما كلها توجب أقوائية
الملاك المزبور، وليست من قبيل الحجر في جنب الانسان، فيكون
الترجيح بها مع المرجح، لا بدونه.
[1] الأولى تبديل الواو بالفاء، بأن يقال: (فكان الترجيح بها بلا مرجح)
لان كون الترجيح بها بلا مرجح نتيجة إمكان عدم دخل المزية
في ملاك الحجية، فالتفريع أولى من العطف، أي: عطف (كان) على
(تكون).
198

أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية - ومنها الأحكام الشرعية
- لا يكون (1) إلا قبيحا، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم
تعالى، وإلا فهو (2) بمكان من الامكان، لكفاية (3) إرادة المختار علة
لفعله، وإنما الممتنع وجود الممكن بلا علة، فلا استحالة (4) في
ترجيحه (5) لما هو مرجوح مما باختياره.
وبالجملة: الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال (6)، وبمعنى بلا
داع عقلائي (7) قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.
199

ومنها (1): غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن (2) فالصفح عنه أولى و
أحسن.
200

ثم إنه (1) لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين في عمل نفسه و
عمل مقلديه (2).
ولا وجه (3) للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية،
201

لعدم (1) الدليل عليه (2) فيها. [1]
نعم (3) له الافتاء به في المسألة الأصولية [2]

[1] بل يكون التخيير في المسألة الفرعية في بعض الموارد موجبا
لسقوط كلا الخبرين المتعارضين عن الاعتبار مطلقا حتى في المدلول
الالتزامي وهو نفي الثالث، كما إذا دل أحد الخبرين على وجوب شئ
والاخر على حرمته، فإن التخيير في المسألة الفقهية يوجب إباحة
ذلك الشئ، وهذه الإباحة منفية بمقتضى دلالة الخبرين التزاما على
نفيها، فالخبران المتعارضان سقطا عن الحجية في كل من الدلالة
المطابقية والالتزامية، وهو ينافي الاخذ بأحدهما من باب التسليم.
[2] لكن لا بد من تقييده بغير باب القضاء ورفع الخصومات، كما إذا
تنازعا في إرث الزوجة ذات الولد من الأرض، أو في مقدار الحبوة،
أو في خروج منجزات المريض من الأصل أو الثلث، أو نحو ذلك من
الشبهات الحكمية، مع فرض اختلاف الروايات فيها، فإن الافتاء
بالتخيير في المسألة الأصولية لا يحسم الخصومة ولا يرفعها، بل لا بد
من الاخذ بإحدى الروايتين تعيينا والافتاء بمضمونها.
202

فلا بأس حينئذ (1) باختيار المقلد غير ما اختاره المفتي، فيعمل (2)
بما يفهم منه (3) بصريحه أو بظهوره (4) الذي لا شبهة فيه (5).
203

وهل التخيير (1) بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب (2) لو لم
نقل بأنه (3) قضية الاطلاقات
204

أيضا (1) كونه استمراريا. وتوهم (2) (أن التحير كان محكوما بالتخيير،
ولا تحير له بعد الاختيار (3)، فلا يكون الاطلاق ولا
الاستصحاب مقتضيا للاستمرار، لاختلاف (4) الموضوع فيهما (5)
فاسد (6)، فإن التحير بمعنى
205

تعارض الخبرين باق على حاله، وبمعنى آخر (1) لم يقع في خطاب
موضوعا للتخيير أصلا كما لا يخفى. [1]

[1] أقول: الظاهر كون التخيير في المسألة الأصولية بدويا كما أفاده
الشيخ، لا استمراريا كما اختاره المصنف، وذلك لان تعلق الامر
بطبيعة ظاهر في مطلوبية صرف وجودها، إذ المطلوب في الامر
بحسب الظاهر هو طرد العدم ونقضه بالوجود، ومن المعلوم تحقق
هذا المطلوب بصرف الوجود من الطبيعة، ولذا يحصل به الامتثال، و
مطلوبية سائر وجودات الطبيعة محتاجة ثبوتا وإثباتا إلى مئونة
زائدة، حيث إن الامر بالطبيعة سقط بالامتثال، لانطباق الطبيعة المأمور
بها على أول وجوداتها قهرا الموجب للامتثال عقلا.
وعليه فالامر بالأخذ بأحد الخبرين تخييرا يسقط بمجرد الاخذ
بأحدهما، والتخيير الثاني والثالث وهكذا يحتاج إلى أوامر اخر غير
الامر الأول، إذ المفروض سقوطه بالأخذ الأول. ولعل كلام الشيخ
(قده) في وجه عدم استمرار التخيير يرجع إلى ما ذكرنا، وإلا فلا بد
من التأمل والنظر فيه.
والحاصل: أن بقاء موضوع التخيير - وهو من تعارض عنده الخبران -
حتى بعد الاخذ بأحدهما لا يوجب استمرار التخيير، بعد اقتضاء
الامر مطلوبية صرف الوجود من الطبيعة المأمور بها، وهو صالح للمنع
عن تحقق الاطلاق الموقوف على عدم ما يصلح للقرينية. وقد
تقدم في مسألة الدوران بين المحذورين بعض الكلام حول بدوية
التخيير واستمراريته، فراجع (ج 5، ص 583).
206

فصل (1)
هل على القول بالترجيح يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة
207

المنصوصة (1) أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي (2)، لما (3) في
الترجيح
208

بمثل (1) الأصدقية والأوثقية ونحوهما مما (2) فيه
209

من (1) الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها (2) موجبة
للأقربية إلى الواقع (. [1 [3

[1] بنى شيخنا الأعظم التعدي عن المرجحات المنصوصة على أحد
أمرين على سبيل منع الخلو، فقال: (فلا بد للتعدي من المرجحات
الخاصة المنصوصة من أحد أمرين، إما أن يستنبط من النصوص ولو
بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكل مزية توجب أقربية ذيها إلى
الواقع، وإما أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة
التكافؤ من جميع الوجوه. والحق أن تدقيق النظر في أخبار الترجيح
يقتضي الالتزام الأول، كما أن التأمل الصادق في أخبار التخيير يقتضي
الالتزام الثاني.) ثم أخذ في الوجوه الثلاثة - المذكورة في المتن
- المستفادة من الاخبار.
لكن يمكن أن يقال: بمنع كلا الامرين. أما استنباط وجوب العمل بكل
مزية من أخبار الترجيح فموقوف على قرينة تدل على عدم
خصوصية للمرجحات المنصوصة. وهذه القرينة إن كانت هي
التلويحات الواردة فيها فسيأتي من المصنف مناقشتها. وأما قوله: (ولو
بمعونة الفتاوى) فلا يخلو من مسامحة، إذ ليست الشهرة الفتوائية
جابرة لضعف دلالة أخبار الترجيح على فرض قصورها عن إثبات
التعدي إلى كل مزية.
وأما اختصاص إطلاقات التخيير بالمتكافئين من جميع الوجوه فغير
ظاهر، لما عرفت في الفصل المتقدم من أن بعض تلك الأخبار صدر
لبيان وظيفة المتحير الذي جاءه الخبران
210

ولما (1) في التعليل (بأن المشهور مما لا ريب فيه)

المتعارضان، بلا استفصال عن تكافئهما وتفاضلهما، فاستظهار
اختصاصها بالمتعادلين دعوى عهدتها على مدعيها. بل لا وجه
لحملها
على المتكافئين من ناحية المرجحات المنصوصة خاصة أيضا كما
التزم به المحقق الآشتياني (قده) فان تقييد تلك الاطلاقات بدليل
خارجي أمر واستظهار الاختصاص بصورة التكافؤ أمر آخر.
211

من (1) استظهار أن العلة (2) هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر
الاخر ولو كان فيه ألف ريب. [1]
ولما (3) في التعليل بأن الرشد في خلافهم.

[1] كما عن الشيخ (قده) ولعل الداعي له إلى جعل الريب إضافيا حتى
يصح التعدي منه إلى كل ما يكون كذلك هو: أن نفي الريب مطلقا
صدورا ودلالة وجهة ممتنع هنا، لعدم تعقل فرض الشهرة في
الخبرين، مع أنه مفروض في المقبولة والمرفوعة.
212

ولا يخفى (1) ما في الاستدلال بها. أما الأول (2) فلان [فإن] [1] جعل

لكنه ليس كذلك، إذ المراد بنفي الريب مطلقا نفيه من حيث الصدور،
لأنه الأثر المترتب على الشهرة من حيث الرواية. وأما النفي بقول
مطلق - ومن جميع الجهات الثلاث - فهو أثر شهرة الخبر رواية و
فتوى، وهذا غير الشهرة من حيث الرواية فقط، فإن شهرة الخبرين
حينئذ لا مانع منها. كما أنه لا مانع من دعوى نفي الريب حقيقة من
ناحية الصدور، والتعدي إلى كل ما يوجب نفي الريب صدورا.
[1] كما في أكثر النسخ حتى النسخة المطبوعة على النسخة الأصلية
المخطوطة. لكن الأولى أن يكون (فلان) - كما في حاشية العلامة
الرشتي (قده) - ولأن يكون مطابقا لقرينة في قوله: (أما الثاني فلتوقفه،
أما الثالث فلاحتمال).
213

خصوص شئ فيه (1) جهة الاراءة والطريقية حجة أو مرجحا لا دلالة
فيه على أن الملاك فيه بتمامه (2) جهة إراءته، بل لا إشعار (3) فيه
كما لا يخفى، لاحتمال [1 [4 دخل خصوصيته

[1] هذا التعليل لا يلائم عدم الاشعار بل يلائم الاشعار. نعم ذلك
يناسب عدم الدلالة، حيث إن
214

في مرجحيته (1) أو حجيته (2). لا سيما (3) قد ذكر

قوة احتمال دخل خصوصية المورد تمنع الظهور العرفي، ولا تمنع
الاشعار. فالأولى تعليل عدم الاشعار بعدم تكفل الدليل إلا لجعل
الحكم على موضوعه. وأما ملاك الجعل فبيانه أجنبي عن الجعل و
شأن الجاعل، لأنه خارج عن حيطة التشريع، وبيانه إخبار عن أمر
خارجي أجنبي عن التشريع.
وعليه فليس مدلول الخطاب إلا إنشاء الحكم لموضوعه من دون
دلالة له على ملاكه ولا إشعار به، وفهم الملاك أحيانا بأفهامنا القاصرة
لوجوه استحسانية يكون من العلة المستنبطة التي لا عبرة بها،
لخروجها عن المدلول العرفي للخطاب.
إلا أن يقال: إن إنشاء الحكم لموضوعه غير مانع عن الاشعار الذي هو
أجنبي عن الظهور العرفي المعتبر عند أبناء المحاورة، فإنكار
الاشعار مكابرة، فالأولى منع حجيته، لا إنكار أصله الذي وجوده
كعدمه في عدم الاعتبار.
215

فيها (1) ما لا يحتمل الترجيح به إلا تعبدا، فافهم (2).
216

وأما الثاني (1) فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما
217

لا ريب فيها، مع (1) أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة
218

عليهم السلام موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها بحيث يصح
أن يقال عرفا: (انها مما لا ريب فيها) (1) كما لا يخفى، ولا بأس (2)
بالتعدي منه إلى مثله (3) مما يوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور، لا
إلى (4) كل مزية ولو لم توجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع من
المعارض (5) الفاقد لها.
219

وأما الثالث (1) فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة،
220

لحسنها (1). ولو سلم (2) أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف فلا
شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر الموافق (3) المعارض
بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة، ولا بأس (4) بالتعدي
منه إلى مثله (5) كما مر آنفا (6).
ومنه (7) انقدح حال ما إذا كان التعليل لأجل انفتاح باب التقية
221

فيه (1)، ضرورة (2) كمال الوثوق بصدوره كذلك (3) مع الوثوق
بصدورهما (4) لولا القطع به (5) في الصدر الأول، لقلة (6) الوسائط
ومعرفتها [1] هذا.

[1] قد يمنع التمسك بالتعليل المزبور للتعدي إلى المرجحات غير
المنصوصة بما أفاده
222



المحقق النائيني (قده) من (عدم انطباق ضابط منصوص العلة على
قوله عليه السلام: فان الرشد في خلافهم، ولا يصلح أن يكون كبرى
كلية، لان ضابط منصوص العلة هو أن تكون العلة على وجه يصح
إلقاؤها على المكلفين ابتدأ بلا ضم المورد إليها، كما في قوله: الخمر
حرام لأنه مسكر، فإنه يصح أن يقال: كل مسكر حرام بلا ذكر الخمر. و
كما في قوله عليه السلام: فان المجمع عليه مما لا ريب فيه، فإنه
يصح أن يقال: خذ بكل ما لا ريب فيه. وهذا بخلاف قوله عليه السلام:
فإن الرشد في خلافهم، فإنه لا يصح أن يقال: خذ بكل ما خالف
العامة، لما عرفت من أن كثيرا من الاحكام الحقة توافق العامة، فلا
يمكن أن يرد قوله عليه السلام: فان الرشد في خلافهم دستورا كليا
للمكلفين بحيث يكون بمنزلة كبرى كلية، بل لا بد وأن يكون التعليل
بذلك لبيان حكمة التشريع، وليس من العلة المنصوصة، فلا يجوز
التعدي منها إلى كل مزية مقربة لاحد المضمونين إلى الواقع).
لكن يمكن أن يقال: إن ما عبر به في المقبولة بعد السؤال عن كون أحد
الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا لهم هو قوله عليه السلام:
(ما خالف العامة ففيه الرشاد) وهذه الجملة تنحل إلى صغرى و
كبرى، فالصغرى كون الرشاد في مخالفة العامة، والكبرى لزوم متابعة
الرشاد والحق. وأما جملة (فان الرشد في خلافهم) فهي مذكورة في
ديباجة الكافي.
وكيف كان، فإن منصوص العلة وإن كان يعتبر فيه كليته حتى يحسن
التعليل به، لكن المدعى
223

مع (1) ما في عدم بيان الإمام عليه السلام للكلية

انطباقه على المقام، لما عرفت من دلالة (فيه الرشاد) على كلية الكبرى
وكونها ارتكازيا، ولا يعتبر في إفادة التعليل إلا ظهور العبارة
عرفا فيه، ولا يلزم تصدير الكلام بلام التعليل ونحوه من الأداة. ولعل
تعبير الكليني (قده) استظهاره من المقبولة، لا لظفره على رواية
بهذا اللفظ.
وأما ما أفاده المحقق النائيني (قده) في منع كلية الكبرى من الاشتراك
في كثير من الاحكام فهو غير قادح في كليتها، لان مفروض
الكلام جعل مخالفة العامة مرجحة لا مميزة للحجة عن غيرها، ولا
ريب في أن الرشد في خلافهم في خصوص باب التعارض، وإلا فلا
يفرض الموافق والمخالف لهم.
وعليه فغرض الشيخ (قده) هو أنه في صورة موافقة أحد الخبرين
للعامة يكون الخبر المخالف لهم أقرب إلى الواقع، لا أن المخالف لهم
يكون قطعي الصدور، فمعنى كون الرشد في خلافهم أن الرشد الذي
يكون في الخبر المخالف مفقود في الخبر الموافق، لاحتمال
صدوره تقية، وهذا الاحتمال مفقود في الخبر المخالف، فيكون أقرب
منه إلى الواقع. وعلى هذا تستقيم دعوى كلية العلة وجواز التعدي.
والاشكال المتجه على كلام الشيخ هو ما أفاده الماتن.
224

كي (1) لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا، وما (2) في أمره
عليه السلام (3) بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا
المنصوصة من (4) الظهور في أن المدار في الترجيح على المزايا
المخصوصة كما لا يخفى.
225

ثم إنه (1) بناء على التعدي حيث (2) كان في المزايا المنصوصة
226

ما لا يوجب الظن بذي المزية (1)، ولا أقربيته كبعض صفات الراوي
مثل (2) الأورعية أو الأفقهية إذا كان موجبهما (3) مما لا يوجب
الظن (4) أو الأقربية [1]

(كالتورع، كثرة التتبع): بيان ل (موجبهما) وقوله: (مما) خبر (إذا كان).
[1] كيف يمكن منع مرجحيتهما من حيث الظن والكشف؟ مع أن
إيجابهما للظن دائمي أو غالبي، ضرورة أن الأورعية توجب شدة
الاهتمام في تشخيص الواقع ونقله بمثابة يكون الاطمئنان الحاصل
منه أشد بمراتب من الاطمئنان الحاصل من اهتمام الورع. وكذا
الأفقهية الموجبة لأكثرية الممارسة في مبادئ الاستنباط - من
الروايات والقواعد والأقوال والتدبر التام فيها - من ممارسة غير
الأفقه
بحيث يحصل من تلك الأكثرية شدة الاطمئنان بصحة الاستنباط، ولا
تحصل من غيرها، وحصول هذا الاطمئنان من الأورعية والأفقهية
مما لا سبيل إلى إنكاره، فكيف يصح - مع ترتب هذا الاطمئنان أو
الظن عليهما - حمل الترجيح بهما على التعبد؟ والاغماض عن
كونهما
موجبين للاطمئنان أو الظن.
227

كالتورع من الشبهات، والجهد في العبادات (1) وكثرة التتبع في
المسائل الفقهية، أو المهارة في القواعد الأصولية (2)، فلا وجه (3)
للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية (4)،
بل إلى كل مزية ولو لم تكن موجبة لأحدهما (5) كما لا يخفى. [1]
وتوهم (6) (أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون

[1] يمكن أن يدفع هذا الاشكال بأن التعدي إن كان مستندا إلى إلقاء
خصوصية المزايا المنصوصة وحملها على المثال كان الاشكال في
محله، لان مقتضى ذلك هو التعدي إلى كل مزية وإن لم توجب الظن
بالصدور أو الأقربية إلى الواقع، لكون بعض تلك المرجحات
كذلك، والتعدي عنه إلى مثله يقتضي الذهاب إلى الترجيح بما لا
يوجب الظن بالصدور أو الأقربية.
وإن كان مستندا إلى التعليلات فلا يرد على هذا الاشكال، بداهة أنها
تقتضي الترجيح بكل مزية فيها حيثية الكشف والطريقية، دون
غيرها مما لا يكون كذلك. وعليه فالمتجه التعدي إلى خصوص
المزايا الموجبة للظن بالصدور أو الأقربية، لا إلى كل مزية وإن لم
توجب ذلك.
228

بمرجح (1) بل موجب السقوط الاخر عن الحجية، للظن (2) بكذبه
حينئذ (3) فاسد (4)،
229

فإن الظن (1) بالكذب لا يضر بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا، و
إنما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن بخلافه (2)،
230

ولم يؤخذ (1) في اعتبار الاخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك
(2)، هذا.
مضافا (3) إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب
أحدهما (4) صدورا، وإلا (5) فلا يوجب (6) الظن بصدور أحدهما،
231

لامكان (1) صدورهما مع عدم إرادة الظهور في أحدهما (2) أو فيهما
(3)، أو إرادته (4) تقية كما لا يخفى. [1]
نعم (5) لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين

[1] لا يخفى أن منع حصول الظن بالصدور مساوق لانكار المرجحات
السندية الموجبة للظن بالصدور، فالأولى في الجواب هو الوجه
الأول أعني به عدم قادحية الظن بالكذب في الحجية بناء على اعتبار
الاخبار من باب الظن النوعي غير المشروط بعدم قيام ظن على
خلافه، وإن كان في نفس هذا المبنى كلام لا يسعه المقام.
232

لوجب الاقتصار على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته و
طريقيته (1) من دون التعدي إلى مالا يوجب ذلك (2) وإن كان
موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا كالشهرة الفتوائية، أو الأولوية الظنية و
نحوهما (3)، فإن (4) المنساق من قاعدة (أقوى الدليلين) أو
المتيقن منها إنما هو الأقوى دلالة (5) كما لا يخفى، فافهم (6).
233

فصل (1)
قد عرفت
234

سابقا (1) أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمها
ما يقتضيه الأصل في المتعارضين من (2) سقوط أحدهما رأسا، و
سقوط (3) كل منهما في خصوص مضمونه، كما إذا لم يكونا في البين،
فهل التخيير أو الترجيح (4) يختص أيضا (5) بغير مواردها (6) أو
يعمها (7)؟ قولان:
235

أولهما المشهور (1). وقصارى ما يقال في وجهه (2): ان الظاهر من
الاخبار العلاجية سؤالا وجوابا هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير مما
236

لا يكاد يستفاد المراد هناك (1) عرفا، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق
(2)، فإنه (3) من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.
ويشكل (4): بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق
237

وارتكازه (1) في أذهانهم على وجه وثيق (2) لا يوجب (3)
اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحة (4) السؤال بملاحظة
التحير في
الحال (5) لأجل (6) ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا
بحسب ألم آل. أو للتحير (7)
238

في الحكم واقعا [1] وإن لم يتحير فيه (1) ظاهرا، وهو (2) كاف في
صحته قطعا. مع (3) إمكان

[1] لكن هذا التخيير لا يصلح لان يصير داعيا للسائل إلى السؤال،
ضرورة أن شيئا من المتعارضين لا يكشف عن الواقع، حيث إن
مقتضى
الاخبار العلاجية هو التعبد بكونه مرادا واقعا، لا العلم بكونه حكما
واقعيا حتى يرتفع به تحير السائل في الحكم الواقعي.
239

أن يكون (1) لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء
المحاورة، وجل العناوين المأخوذة في الأسئلة (2) - لولا كلها (3) -
240

يعمها (1) كما لا يخفى. ودعوى (2) (أن المتيقن

[1] إلا أن يمنع هذا الاستظهار بما محصله: أما رواية سماعة فلا دلالة
لها على كون الموارد من قبيل النص والظاهر، بل ظاهرها أن
مورد أحد الخبرين حقيقة الامر ومورد الاخر حقيقة النهي، وهما
متباينان، ولا قرينة على أن الامر في أحدهما بصيغة (افعل) والنهي
بصيغة (لا تفعل) ليكونا من النص والظاهر.
وعليه فمورد السؤال فيها مما ليس فيه جمع دلالي بين الخبرين، و
ليس فيها إطلاق لصورة الجمع العرفي بينهما.
وأما المكاتبة فظاهر السؤال: (فاعلمني كيف تصنع أنت لاقتدي بك)
هو طلب الواقع، لا علاج التعبد بالظاهر، وحيث كان الواقع موافقا
للظاهر من حيث كون الصلاة مستحبة في نفسها من غير اشتراط
استحبابها بإيقاعها على وجه الأرض، فلذا أجاب عليه السلام
بالتوسعة،
وهذه توسعة واقعية هي لازم كون المستحب ذا مراتب، لا توسعة
تعبدية بين الحجتين المتعارضتين، وليس في الجواب عنوان التسليم
للخبر كي يعينه في التخيير التعبدي.
241

منها (1) غيرها) مجازفة (2)
242

غايته أنه (1) كان كذلك خارجا، لا بحسب مقام التخاطب (2).
وبذلك (3) ينقدح وجه القول الثاني (4).
243

اللهم إلا أن يقال (1): إن التوفيق في مثل الخاص والعام والمقيد
245

والمطلق كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان الأئمة عليهم السلام،
وهي (1) كاشفة [1] إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير
موارد التوفيق العرفي، لولا (2) دعوى اختصاصها به (3)، وأنها (4)
سؤالا وجوابا

[1] يرد عليه: أنه مع كثرة الاهتمام والابتلاء بالمقام تقتضي العادة عدم
خفاء القرينة التي تخصص عموم أخبار العلاج، فالقرينة اللفظية
لا كاشف عنها لا من السيرة ولا غيرها، وكذا القرينة الحالية، إذ مع
اختلاف المعنى من وجودها وعدمها لا بد من إظهارها حتى لا يقع
المتأخرون عن
246

بصدد الاستعلاج والعلاج (1) في موارد التحير والاحتياج. أو دعوى
(2) الاجمال وتساوي (3) احتمال العموم مع احتمال الاختصاص. و
لا ينافيها [) 4 ولا ينافيهما] مجرد صحة السؤال لما (5) لا ينافي

ذلك الزمان في خلاف الواقع. فدعوى السيرة القطعية الكاشفة إجمالا
عن المخصص على كلا التقديرين غير ثابتة، نعم لا بأس بدعوى
قرينية هذه السيرة على اختصاص الأسئلة بما يتحير العرف في فهم
المراد منه، وهو باب التعارض، دون موارد التوفيق العرفي، إذ لا
يتحير العرف في فهم المراد منها، فإلحاق موارد الجمع العرفي بباب
التعارض محتاج إلى الدليل.
247

العموم [1] ما لم يكن (1) هناك ظهور (2) أنه لذلك، فلم يثبت (3)
بأخبار العلاج ردع عما هو (4) عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء من
(5)
التوفيق، وحمل (6) الظاهر على الأظهر، والتصرف فيما يكون
صدورهما قرينة عليه (7)، فتأمل (8).

[1] الأولى سوق العبارة هكذا: (مجرد صحة السؤال عن مطلق التعارض
حتى إذا كان هناك جمع عرفي ما لم يكن.).
248

فصل (1)
قد عرفت (2) حكم تعارض الظاهر والأظهر، وحمل (3) الأول على
الاخر، فلا إشكال (4) فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر، و
قد ذكر فيما اشتبه
249

الحال لتمييز ذلك (1) ما لا عبرة به أصلا، فلا بأس بالإشارة إلى جملة
منها (2) وبيان (3) ضعفها.
منها (4): ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق،
وتقديم التقييد
250

على التخصيص فيما دار الامر بينهما: (من (1) كون ظهور العام في
العموم تنجيزيا (2)، بخلاف ظهور المطلق في الاطلاق، فإنه (3) معلق
على عدم البيان، والعام يصلح (4) بيانا، فتقديم العام حينئذ (5) لعدم
تمامية مقتضي الاطلاق معه. بخلاف العكس (6)،
251

فإنه (1) موجب لتخصيصه بلا وجه إلا (2) على نحو دائر.
ومن (3) أن التقييد أغلب من التخصيص).
252

وفيه: أن عدم البيان الذي هو جز المقتضي (2) في مقدمات الحكمة
إنما هو البيان في مقام التخاطب، لا إلى الأبد (3).
253

وأغلبية (1) التقييد مع كثرة التخصيص (2) بمثابة قد قيل: (ما من عام
إلا وقد خص) غير مفيد (3)، فلا بد (4) في كل قضية من ملاحظة
خصوصياتها (5) الموجبة لأظهرية أحدهما من الاخر، فتدبر (6).
254

ومنها (1): ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ،
كما إذا ورد عام (2) بعد (3) حضور وقت العمل بالخاص، حيث يدور
بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون العام ناسخا، أو ورد (4)
الخاص بعد حضور وقت العمل
255

بالعام، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا له و
رافعا (1) لاستمراره ودوامه - في وجه (2) تقديم التخصيص على
النسخ من (3): غلبة التخصيص وندرة النسخ.
256

ولا يخفى (1) أن دلالة الخاص (2)
257

أو العام (1) على الاستمرار والدوام إنما هو بالاطلاق لا بالوضع،
فعلى الوجه العقلي (2) في تقديم التقييد على التخصيص كان (3)
اللازم
في هذا الدوران (4) تقديم النسخ على التخصيص أيضا (5)، وأن (6)
غلبة التخصيص إنما توجب أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار و
الدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل
المحاورة بمثابة (7) تعد من القرائن المكتنفة
258

بالكلام (1)، وإلا (2) فهي وإن أنت مفيدة للظن بالتخصيص، إلا أنها
غير موجبة لها (3) كما لا يخفى. [1]
ثم (4) إنه بناء على اعتبار عدم حضور وقت العمل (5) في التخصيص
- لئلا (6) يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة - يشكل (7) الامر في
تخصيص

[1] لكن المصنف (قده) في العام والخاص قبيل البحث في معنى
النسخ قدم التخصيص على النسخ، حيث قال: (إلا أن الأظهر كونه
مخصصا مع ذلك. إلخ) فلاحظ.
259

الكتاب أو السنة (1) بالخصوصات الصادرة عن الأئمة عليهم السلام،
فإنها (2) صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما [بعموماتها] و
التزام نسخهما [نسخها] بها (3)
260

ولو قيل (1) بجواز نسخهما بالرواية عنهم كما ترى (2).
فلا محيص (3) في حله من أن يقال: إن اعتبار
261

ذلك (1) حيث كان لأجل قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة - وكان
من الواضح أن ذلك (2) فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء
الخصوصات أو مفسدة في إبدائها كإخفاء (3) غير واحد من التكاليف
في الصدر الأول - لم يكن (4) بأس بتخصيص عموماتهما بها،

[1] ثالثها: أن العمومات كانت مقرونة بقرائن تدل على الحكم الواقعي
الذي هو مقتضى الخصوصات، وكان عمل السابقين على طبق
الخصوصات، لكن خفيت تلك القرائن على أهالي الاعصار المتأخرة،
ولذا بين لهم الأئمة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين) تلك
الخصوصات.
فمرجع هذا الوجه إلى كشف تلك الخصوصات عن عمل السابقين
بمقتضياتها، وعدم عملهم بالعام، فلا يلزم النسخ ولا تأخير البيان عن
وقت الحاجة حتى يوجه ذلك بعدم لزوم القبح من هذا
262

واستكشاف (1) أن موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان
داخلا

التأخير لأجل المصلحة في إخفاء الخصوصات أو المفسدة في
إبدائها.
لكن يبعد هذا الوجه ما تقدم سابقا من: أن اختفاء القرائن مع كثرة
الابتلاء بها وشدة الاهتمام بضبطها بعيد جدا.
وكذا يبعد الوجه الثاني - وهو نسخ الحكم الظاهري الذي يقتضيه
الأصل اللفظي أعني أصالة العموم - أن النسخ هو رفع اليد عن الحكم
الفعلي الثابت واقعا، لا رفع اليد عن الحكم الظاهري الذي يقتضيه
الأصل اللفظي، فلا بد أن يراد به النسخ الحقيقي الذي قد عرفت في
التوضيح بعده.
فأوجه الوجوه الثلاثة التي ذكرت في دفع الاشكال هو الوجه الأول
أعني التخصيص، ودفع محذور قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة
بمصلحة الاخفاء أو مفسدة الاظهار. وهذا الوجه هو الذي ارتضاه
الشيخ (قده)، حيث قال: (فالأوجه هو الاحتمال الثالث أعني كون
المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص
واقعا) إلى أن قال: (والحاصل: أن المستفاد من التتبع في الاخبار -
والظاهر من خلو العمومات والمطلقات عن القرينة - أن النبي صلى
الله عليه وآله جعل الوصي عليه السلام مبينا لجميع ما أطلقه وأطلق
في كتاب الله الكريم، وأودعه علم ذلك وغيره. وكذلك الوصي
بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين)، فبينوا
ما
رأوا فيه المصلحة، وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه).
ويؤيد هذا الوجه: بيان الاحكام تدريجا في صدر الاسلام، وعدم
اقتضاء المصلحة بيانها دفعة حتى ورد: أن المسلمين في أول ظهور
الاسلام لم يكلفوا إلا بالتوحيد واعتقاد الرسالة إلى عشر سنين.
وبالجملة: فالالتزام بوجود المصلحة في إخفاء الخصوصات كإخفاء
كثير من الاحكام مما يساعده النقل والاعتبار، والله تعالى هو
العالم.
263

فيه ظاهرا، ولأجله (1) لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها (2)
عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار (3) والدوام
أيضا (4)، فتفطن (5).
264

فصل (1)
لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين
الاثنين. وأما إذا كان بين الزائد عليهما، فتعينه (2) ربما لا يخلو من
خفاء،
265

ولذا (1) وقع بعض الاعلام في اشتباه وخطأ، حيث (2) توهم أنه إذا
كان هناك
268

عام وخصوصات، وقد خصص ببعضها،
269

كان (1) اللازم ملاحظة النسبة بينه [1] وبين سائر الخصوصات بعد

[1] الأولى أن يقال: (بينه بعد تخصيصه به وبين سائر الخصوصات) إذ
طرفا النسبة العام
270

تخصيصه (1) به، فربما (2) تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من
وجه، فلا بد من رعاية هذه النسبة (4)، وتقديم (4) الراجح منه (5) و
منها، أو التخيير (6) بينه (7) وبينها لو لم يكن هناك راجح،

المخصص ببعض الخصوصات، وسائر الخصوصات، فينبغي أولا ذكر
الطرف الأول، وهو العام المخصص ببعض الخصوصات حتى
يناسب التعبير بسائر الخصوصات، إذا المناسب ذكر السائر بعد بيان
شئ من سنخه كما هو المعهود من استعمال هذه الكلمة في
الموارد.
271

لا تقديمها (1) عليه، إلا إذا كانت النسبة بعده (2) على حالها.
وفيه (3): أن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العام
272

بمخصص منفصل - ولو كان قطعيا - لا ينثلم (1) به ظهوره وإن انثلم
به حجيته، ولذلك (2) يكون بعد التخصيص حجة في الباقي،
273

لأصالة عمومه (1) بالنسبة إليه.
لا يقال (2): إن العام بعد تخصيصه بالقطعي [1] لا يكون مستعملا في

[1] هذه الكلمة غير موجودة في عبارة الفاضل النراقي المتقدمة، بل
صرح (قده) بعدم الفرق بين كون المخصص إجماعا أو أمارة
اعتبرها الشارع، والظاهر أن المصنف (قده) اعتمد على ما في
274

العموم قطعا (1)، فكيف (2) يكون ظاهرا فيه؟ فإنه يقال (3): إن
المعلوم عدم إرادة العموم،

كلام شيخنا الأعظم (قده) في حكاية مطلب الفاضل، حيث قال: (وقد
توهم بعض من عاصرناه، فلاحظ العام بعد تخصيصه ببعض الافراد
بإجماع ونحوه مع الخاص المطلق الاخر). وقال أيضا:
(ولا أظن يلتزم بذلك فيما إذا كان الخاصان دليلين لفظيين. وإنما
يتوهم ذلك في العام المخصص بالاجماع والعقل.).
وعلق عليه المصنف في حاشية الرسائل بما محصله: أما الاجماع فهو
كالدليل اللفظي المنفصل غير مصادم لظهور الكلام وإن كان
مانعا عن حجيته. وأما العقل ففيه تفصيل، فإن كان مركوزا في الأذهان
بحيث يعتمد أهل اللسان في محاوراتهم عليه في استعمال
الألفاظ في غير ما وضعت له فهو كالقرينة المتصلة مانع عن انعقاد
ظهور العام في ذلك الفرد المخرج. وإن لم يكن الحكم العقلي كذلك
فهو كالاجماع دليل منفصل يمنع عن حجية ظهور العام لا عن أصل
ظهوره، فلا وجه لملاحظة العام مع ذلك الحكم العقلي، ثم لحاظه بعد
انقلاب نسبته مع ساير الخصوصات.
275



وهذه التعليقة وإن كانت في محلها، لكن أصل تفرقة الشيخ بين
الاجماع والعقل وبين الأدلة اللفظية لا أثر منه في كلام الفاضل، ولعل
الشيخ استفادها من قوله في المناهج: (فقد يكون الخبران متعارضين
بالتساوي مثلا، وبملاحظة تخصيص أحدهما بمخصص آخر من
إجماع أو غيره يرجع التعارض إلى العموم والخصوص المطلقين أو
من وجه أو المتباينين.) ولكن كلمة (غيره) لا ظهور لها في كل ما
يكون قطعيا. ولو سلم فذيل عبارة العوائد المتقدمة كافية لنفي
التفصيل بين الاجماع وغيره، وهو قوله: (ولا يخفى أيضا أنه لا
يتفاوت الحال فيما إذا كان أحد المتعارضين قطعيا كالاجماع والاخر
غير قطعي بعد ثبوت حجيته). وعليه فأخذ كلمة (القطعي) هنا
غير مناسب.
ثم إنه قد يورد على الشيخ والمصنف (قدهما) بعدم كفاية بقاء الظهور
الاستعمالي في العام المخصص لانكار انقلاب النسبة بينه وبين
الخاص الاخر أو غيره مما يعارضه، وذلك لان القائل بالانقلاب
يعترف أيضا ببقاء هذا الظهور الاستعمالي، لكنه يدعي سقوطه عن
الحجية الفعلية بسبب التخصيص، ومن المعلوم أن تعارض الدليلين أو
الأدلة ليس للتنافي بين ظاهريهما أو ظهوراتها بأنفسها، بل هي
بوصف كونها حجة بسبب شمول دليل الاعتبار للكل.
وعليه فلا بد أن يجاب عن الاشكال بأن مقصود المصنف أيضا ليس
هو بقاء ذات الظهور ولو كان ساقطا عن الاعتبار، بل الظهور
الكاشف عن المؤدى، لكن المناط هو الحجية النوعية - التي هي
المقصودة في باب التعارض - لا الفعلية، وسيأتي مزيد بيان له في
التعليقة الملحقة ب آخر الفصل إن شاء الله تعالى.
276

لا عدم (1) استعماله فيه لإفادة (2) القاعدة الكلية، فيعمل (3)
بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها،
277

وإلا (1) لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي، لجواز (2) استعماله
حينئذ (3) فيه وفي غيره (4) من (5) من المراتب التي يجوز أن
ينتهي إليها التخصيص.
وأصالة (6) عدم مخصص آخر لا يوجب (7) انعقاد ظهور له، لا فيه ولا في

[1] جعل شيخنا الأعظم (قده) مانعية الخاص القطعي عن العام مرددة
بين فرضين، وهما:
المانعية عن الظهور والمانعية عن المراد الجدي، وقال: إن الدليل
اللفظي والخاص القطعي يمنعان عن ظهور العام على حد سواء، ثم
قال: (وإن لو حظ - أي العام - بالنسبة إلى المراد منه بعد التخصيص
278

غيره من (1) المراتب، لعدم (2) الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها
(3) كما لا يخفى، لجواز (4) إرادتها وعدم نصب قرينة عليها (5).

بذلك الدليل، فلا ظهور له في إرادة العموم باستثناء ما خرج بذلك
الدليل إلا بعد إثبات كونه تمام المراد، وهو غير معلوم إلا بعد نفي
احتمال مخصص آخر ولو بأصالة عدمه، وإلا فهو مجمل مردد بين
تمام المراد وبعضه، لان الدليل المذكور قرينة صارفة عن العموم لا
معينة لتمام الباقي.).
أما الشق الأول فقد ناقشه جمع من أجلة تلامذته - كالمصنف في
الحاشية - بأن الخاص المنفصل - سواء أكان قطعيا أم ظنيا - لا
يتصرف في ظهور العام، بل في حجيته، فالتعبير بالمانعية عن الظهور
لا يخلو من مسامحة.
وأما الشق الثاني فالظاهر اعتراف الشيخ فيه بتوقف الاخذ بتمام الباقي
من العام - بعد التخصيص بالقطعي - على إجراء أصالة عدم
مخصص آخر، وهي لا تجري في خصوص المقام، لورود المخصص
الثاني حسب الفرض.
وناقشه المصنف بأن أصالة عدم المخصص من الأصول المرادية، و
هي لا تنفع لاثبات ظهور العام الاستعمالي في تمام الباقي بعد
سقوط ظهوره بالمخصص القطعي، والمفروض أن مدار
279

نعم (1) ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام (2) في مقام البيان
قرينة على إرادة التمام، وهو (3) غير ظهور العام فيه (4) في كل مقام.
فانقدح بذلك (5) أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من

التعارض على ملاحظة ظهورات الأدلة من جهة كاشفيتها النوعية عن
المرادات، ولازم عدم جريان الأصل هو الحكم بإجمال العام.
280

الخصوصات مطلقا ولو كان (1) بعضها مقدما أو قطعيا (2) ما لم يلزم
منه (3) محذور انتهائه إلى مالا يجوز الانتهاء إليه عرفا (4) ولو
لم يكن (5) مستوعبة
281

لافراده فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها، فلا بد حينئذ (1) من معاملة
التباين بينه (2) وبين مجموعها، ومن (3) ملاحظة الترجيح بينهما
وعدمه (4)، فلو (5) رجح جانبها أو اختير - فيما لم يكن هناك
ترجيح - فلا مجال
282

للعمل به أصلا. بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا، فلا يطرح منها
(1) إلا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور (2) من (3)
التخصيص بغيره، فإن (4)
283

التباين إنما كان بينه (1) وبين مجموعها لا جميعها (2)، وحينئذ (3)
فربما يقع
284

التعارض بين الخصوصات، فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا (1)،
فلا تغفل. هذا (2) فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (3).
وقد ظهر منه (4) حالها فيما كانت النسبة بينها (5) متعددة، كما (6)
إذا ورد
285

هناك عامان من وجه (1) مع ما هو أخص مطلقا من أحدهما (2)، وأنه
(3) لا بد من تقديم الخاص على العام (4) ومعاملة (5) العموم من
وجه بين العامين (6) من (7) الترجيح والتخيير بينهما وإن (8)
انقلبت النسبة بينهما إلى العموم
286

المطلق بعد تخصيص أحدهما (1)، لما (2) عرفت من أنه لا وجه إلا
لملاحظة النسبة قبل العلاج.
نعم (3) لو لم يكن الباقي
287

تحته (1) بعد تخصيصه إلا إلى ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص، أو
كان (2) بعيدا جدا لقدم (3) على العام الاخر،
289

لا لانقلاب (1) النسبة بينهما (2)، لكونه (3) كالنص فيه، فيقدم (4)
على الاخر (5) الظاهر فيه بعمومه كما لا يخفى. [1]

[1] هذا ما اختاره المصنف (قده) هنا وفي الحاشية، ووافقه في أصل
إنكار الانقلاب تلميذاه المحققان العراقي والأصفهاني، خلافا
للمحقق الميرزا النائيني وجمع من أجلة تلامذته كسيدنا الأستاذ
(قدس سرهم) على ما حررته عنه في مجلس الدرس، حيث التزموا
بانقلاب نسبة المتعارضات، بل في تقرير بحثه الشريف كفاية أدنى
تأمل للتصديق به.
والمستفاد من كلامه ابتناء القول بالانقلاب على أمور مسلمة:
الأول: أن لكل لفظ دلالات ثلاثا:
الأولى: الدلالة التصورية، وهي كون اللفظ بمقتضى قالبيته للمعنى
موجبا لانتقال الذهن إليه بمجرد الاستماع، وهذه الدلالة لا تتوقف
على إرادة المتكلم، بل تتحقق حتى مع العلم بعدم إرادته له.
الثانية: الدلالة التصديقية الاستعمالية، بمعنى ظهور الكلام فيما قاله
المتكلم، وأنه أراد تفهيم
290



هذا المعنى المتحصل من الهيئة التركيبية، واستعمل اللفظ فيه، وهذه
الدلالة تتوقف على إحراز كون المتكلم بصدد بيان مراده، وعدم
احتفاف كلامه بقرينة على خلاف ظاهر الألفاظ. ولا ينافي هذا الظهور
الاستعمالي وجود قرينة منفصلة على خلاف ما استقر للفظ من
الظهور فيه.
الثالثة: الدلالة التصديقية فيما أراد بالإرادة الجدية، وهي موضوع
الحجية ببناء العقلاء، وهذه الدلالة تتوقف على عدم نصب قرينة على
إرادة خلاف هذا الظاهر ولو كانت منفصلة، فإن القرينة المنفصلة وإن
لم تهدم الظهور الاستعمالي، إلا أنها مزاحمة لأصالة التطابق بين
الإرادتين الاستعمالية والجدية.
الثاني: أن التعارض لا بد أن يلاحظ بين الحجتين، لأنه التنافي في مقام
الجعل والتشريع، فلا بد أن يكون كل منهما حجة لولا التعارض،
إذ لا معنى لمعارضة الحجة مع اللا حجة، والمفروض إناطة الحجية
بالكاشفية عن المرادات النفس الامرية، لا بمجرد الظهور الاستعمالي
حتى لو بان عدم إرادته جدا.
الثالث: أن وجه تقديم الخاص على العام هو حكومة أصالة الظهور في
الخاص على أصالة الظهور في العام، وهذا يقتضي قرينية كل حجة
أخص كاشفة عن المراد الجدي على الحجة الأعم وتخصيصها لها.
ونتيجة هذه المقدمات الالتزام بانقلاب النسبة فيما إذا ورد عامان
متعارضان بالتباين مثلا، وورد مخصص على أحدهما، فإنه يقدم
على عامه، وبعد التخصيص تنقلب النسبة من التباين إلى العموم و
الخصوص المطلق.
والوجه في الانقلاب واضح. أما أصل تخصيص العام بالخاص
المنافي له فلقرينية كل خاص على المراد النفس الأمري من العام، و
عدم
كون مجمع العنوانين محكوما بحكم العام.
وأما انقلاب نسبة التباين - في مثل أخبار إرث الزوجة من العقار مما
دل بعضها على حرمانها مطلقا من العقار، ودل بعضها على إرثها
منها كذلك، ودل بعضها على أنها ترث من العقار إن كانت ذات ولد -
فلان الظهور الاستعمالي في عموم دليل الحرمان وإن لم ينثلم
بورود المخصص المنفصل عليه، لأجل الانفصال، إلا أن ظهور
الكاشف عن إرادة العموم جدا قد ارتفع قطعا بعد كون المراد من العام
ما
عدا مقدار الخاص.
وحيث كان موضوع أصالة الظهور في الدلالة التصديقية الثانية دائرا
مدار ما أراده المتكلم لا
291



مجرد ما قاله - كما تقدم في الامر الأول - وكان التعارض ملحوظا بين
حجتين لا بين الحجة واللا حجة كما تقرر في الامر الثاني، و
كان تقديم كل خاص على عامه بمناط القرينية العرفية والجمع
الدلالي كما أشير إليه في الامر الثالث، فلا بد من الالتزام بانقلاب
النسبة
بين المتعارضين بالتباين في المثال إلى نسبة العموم والخصوص
المطلق، هذا.
أقول: أما المقدمة الأولى فلا ريب في تماميتها. وأما الثانية فإن أريد
بتوقف التعارض على حجية كل منهما - لولا التعارض - الكشف
النوعي عن المراد فالمفروض تحققه في العام المخصص بالمنفصل،
لعدم انثلام كشفه النوعي العمومي بالتخصيص. وإن أريد كشفه
الشخصي الفعلي، فالعام المخصص وإن لم يكن له ظهور بهذا النحو،
إلا أنه لا سبيل للالتزام باعتبار هذا السنخ من الظهور، وذلك
لصيرورة العام مجملا بمجرد ورود مخصص منفصل عليه بحيث لا
يمكن حكايته عن المراد الجدي بأصالة العموم كما تقدم في كلام
الماتن.
وأما المقدمة الثالثة فاللازم البحث فيها من جهتين، الأولى: في أن
الجمع الدلالي بين العام والخاص يستند إلى قرينية الخاص على
المراد الجدي من العام.
الثانية: في اطراد هذا الملاك في جميع موارد التخصيص سواء كان
أحد الدليلين أخص من الاخر ذاتا أم عرصا بسبب العلاج.
والذي صرح به المحقق النائيني (قده) أن تقديم الخاص على العام
يكون لقرينيته عليه، كما أن مقتضى حكمه بانقلاب النسبة - لتقدم كل
خاص على عامه - هو التسوية في القرينية بين الخاص الذاتي و
العلاجي.
لكن يمكن منع كلتا الجهتين: أما الأولى فدعوى القرينية كما في (رأيت
أسدا يرمي) ونحوه من القرائن المكتنفة بالكلام في محلها، ولذا
لا تلاحظ أقوائية ظهور القرينة من ظهور ذيها، بل يقدم الظهور
الاطلاقي على الوضعي، إذ لا يستقر ظهور ل (أسد) في الحيوان
المفترس
إلا بعد فراغ المتكلم من كلامه وعدم إلحاق قرينة صارفة به.
وهذا بخلاف المخصص المنفصل، إذ العبرة في تقديمه على العام
في مجمع تصادق العنوانين هو قوة دلالة الخاص عليه بالقياس إلى
العام، فمناط التخصيص هو أخصية الخاص المستندة إلى
292



ذات المدلول، لا إلى حجيته.
وبعبارة أخرى: لا ريب في أن لسان التخصيص لسان المعارضة مع
العام لا الملامة معه - كما هو الحال في الحكومة - واللازم ملاحظة
بناء العقلاء في تحكيم الخاص على العام مع فرض كشف كل منهما
عن الواقع، وأماريته عليه. والظاهر أن منشأ هذا التقديم أظهرية
الخاص نوعا من العام، لا قرينيته - مطلقا - على ما يراد جدا من العام
كي يلزم تقديم الخاص حتى فيما كان أضعف ظهورا من العام.
ويشهد لما ذكرناه ما تقدم في أخبار الترجيح - لا أخبار طرح المخالف
للكتاب والسنة - من الامر بأخذ الخبر الموافق للكتاب دون
المخالف له، مع وضوح صدق المخالفة هناك على ما يغاير عموم
الكتاب أو إطلاقه، ومن المعلوم أن إطلاق (المخالف) على
المخصص
المنفصل كاشف عن عدم صدق القرينية العرفية هنا، فإن شأن القرينة
الشرح والتعرض لما يراد من ذي القرينة لا المعارضة والمخالفة.
والمتحصل: أن التخصيص بالمنفصل يستند إلى الأظهرية النوعية، و
لذا تأمل شيخنا الأعظم (قده) في تحكيم الخاص على العام عند
استوائهما في الدلالة كما سبق بيانه في الفصل الأول من هذا المقصد.
وحيث كان المدار في التخصيص على ملاحظة قوة دلالة الخاص ذاتا
وأظهريته من العام، فلا وجه للحكم (بتقديم الخاص أينما وجد على
العام ولو كان ظهوره مساويا له أو أضعف منه) وذلك لان العام
المخصص - في المتعارضين بالعموم من وجه مع ورود مخصص
على
أحد العامين - وإن كان بلحاظ حجيته أضيق دائرة في الكشف عن
المراد الجدي، إلا أن قصر حجيته ببعض مدلوله غير موجب لقلب
دلالته النوعية على العموم، ولا لأقوائية دلالته في مقدار حجيته، لان
ظهوره ودلالته في مقدار حجيته إنما هو بعين ظهوره ودلالته على
تمام مدلوله قوة وضعفا، لا بظهور آخر غيره، لوضوح كون قوة الدلالة
وضعفها ناشئا من قالبية اللفظ للمعنى وكونه وجها له، فتلك
المرتبة من الدلالة الحاصلة باستعمال العام - في أفراده - مجردا عن
القرائن المكتنفة بالكلام لا تصير أشد وأقوى في الافراد الباقية
بعد ورود الدليل المخصص، لاستحالة انقلاب الشئ عما وقع عليه.
وعليه ففرق بين الخاص الحقيقي الذي يقدم بقوة ظهوره على العام و
بين الخاص العلاجي
293



الناشئة خصوصيته من طروء حد اعتباري على بعض مدلول العام
لأجل قصر الحجية عليه، فإن الصالح للتخصيص بمناط الأظهرية أو
تقديم أقوى المقتضيين المتزاحمين هو الأول دون الثاني.
وبعبارة أخرى: القرينة المنفصلة غير كاسرة لظهور العام في العموم،
بل هي حجة على قصر كاشفيته المعتبرة على ما عدا مدلول
الخاص، لكن هذا المقدار لا يقتضي التصرف في المتعارضين ما لم
يكن من شؤون دلالة اللفظ. ولذا كان التعارض بين مثل (ثمن العذرة
سحت، ولا بأس ببيع العذرة) مستقرا، مع أن القدر المتيقن من الأول
عذرة ما لا يؤكل لحمه، ومن الثاني عذرة ما يؤكل لحمه. إلا أن هذا
التيقن لا يجعل كل واحد من الدليلين نصا فيه وظاهرا فيما عداه كي
يجمع بينهما بالأخذ بنص كل منهما والتصرف به في ظاهريهما.
نعم لو كان القدر المتيقن في مقام التخاطب كان مانعا عن انعقاد الظهور
الاطلاقي للكلام على ما تقرر في محله. وأما القدر المتيقن
الخارجي فلا يوجب الانصراف ولا تقييد المطلق.
هذا ما أفاده شيخنا المحقق العراقي بتوضيح منا. وهو كاف لمنع
مبنى انقلاب النسبة. وتقديم الخاص على العام بالأظهرية أو
بالقرينية وإن كان مبنائيا، إلا أن الظاهر عدم خلو دعوى القرينية عن
الغموض، ومعه فاللازم ملاحظة ظهور الأدلة المتعارضة وتقديم
الأقوى دلالة على غيره.
ثم إنه ينبغي تتميم البحث في مسألة انقلاب النسبة بالإشارة إلى ما
فرعوه عليه من بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية من جهة اختلافها
في كون المضمون مطلق المتخذ من الذهب والفضة - سواء أكان
مسكوكا أم مصوغا أم سبيكة - أو هو خصوص المسكوك منهما، و
منشأ الاختلاف كيفية الجمع الدلالي بين النصوص كما سيظهر إن شاء
الله تعالى.
وكيف كان فالمشهور - بل المدعى عليه الاجماع - ضمان عارية
الجنسين مطلقا، خلافا لجمع آخرين منهم فخر المحققين والفاضل
السبزواري. والعلامة الطباطبائي صاحب الرياض، حيث خصصوا
الضمان بعارية الدرهم والدينار.
قال في الجواهر - بعد قول المحقق بضمان عارية الذهب والفضة وإن
لم يشترطه المعير - ما لفظه: (بلا خلاف أجده فيه في الدراهم و
الدنانير منهما، بل الاجماع بقسميه عليه، والنصوص. إنما
294



الكلام في غيرهما المصوغ وغيره الذي هو كذلك في صريح اللمعة و
المهذب وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومجمع البرهان
على ما حكي عن بعضها، وفي ظاهر المتن والنافع وغيرهما ممن
عبر كعبارته، كما عن المقنع والنهاية والمبسوط وفقه الراوندي و
التحرير والارشاد والمختلف وقواعد الشهيد، بل لعل ظاهر الوسيلة
والتبصرة المعبر فيهما بالثمن المراد منه مطلق الذهب و
الفضة.).
والأولى الاقتصار على ذكر الاخبار بمضامينها المتعددة، واستكشاف
الحكم منها، لا من الاجماع المدعى، لبعد كونه إجماعا تعبديا
كاشفا عن السنة مع تظافر النصوص، وهي - كما قيل - على طوائف:
فمنها: ما دل نفي ضمان المستعير، لكون يده أمانية، وإطلاقه أو
عمومه يشمل ما إذا كان المستعار ذهبا أو فضة أو غيرهما، كصحيح
الحلبي عن الصادق عليه السلام: (ليس على مستعير عارية ضمان، و
صاحب العارية والوديعة مؤتمن) والظاهر أن نفي الضمان في
العقدين ناظر إلى اقتضائهما ذلك أولا، فلا ينافيه ما سيأتي من
ضمانهما بالشرط الضمني.
ومنها: ما دل على ضمان العارية باشتراط الضمان على المستعير أو
بكون العين المستعارة من الذهب والفضة، كرواية إسحاق بن
عمار عن أبي عبد الله أو أبي إبراهيم عليهما السلام قال: (العارية ليس
على مستعيرها ضمان إلا ما كان من ذهب أو فضة، فإنهما
مضمونان اشترطا أو لم يشترطا).
ونحوها صحيح زرارة: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: العارية
مضمونة؟ فقال: جميع ما استعرته فتوى فلا يلزمك تواه إلا الذهب و
الفضة، فإنهما يلزمان، إلا أن تشترط أنه متى توي لم يلزمك تواه، و
كذلك جميع ما استعرت فاشترط عليك ولزمك، والذهب والفضة
لازم لك وإن لم يشترطا).
ومنها: ما دل على ضمان العارية بالشرط أو بكون المستعار من
الدنانير، كصحيح عبد الله بن سنان أو ابن مسكان، قال: (قال أبو عبد
الله عليه السلام: لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها ضمان،
إلا الدنانير، فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا). ولهذا
الخبر عقد إثباتي وسلبي، فالأول يثبت الضمان في موردين:
الاشتراط، وكون المستعار من الدنانير. والثاني - أي العقد السلبي
295



الناشئ من تحديد الضمان بالموردين - ينفي ضمان العارية عند عدم
الاشتراط مهما كان المستعار. والمستثنى منه ليس خصوص
الذهب والفضة، لعدم القرينة عليه، بل هو كل ما يصح إعارته للانتفاع
به مع بقاء عينه.
ومنها: ما دل على ضمان العارية بالاشتراط أو بكون المستعار من
الدراهم، كخبر عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: (ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها، إلا
الدراهم، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط). وهذا الخبر
كسابقه في انعقاد عقد سلبي له أيضا، والفارق بينهما في العقد
الايجابي، حيث إن موضوع الضمان فيه هو عارية الدراهم لا الدنانير.
وهذه المضامين الأربعة متوافقة في عدم ضمان العارية في غير
الذهب والفضة، ومتخالفة بدوا في جهات:
الأولى: أن ما عدا الطائفة الأولى متفقة على ضمان العارية بالاشتراط،
والطائفة الأولى بعمومها أو إطلاقها تنفي ضمان العارية.
الثانية: أن العقد السلبي في رواية الدنانير تعارض العقد الايجابي في
رواية الدراهم، وبالعكس، فمدلول الأولى: (لا ضمان في شئ من
موارد العارية وإن كان من الدراهم، إلا في موردين أحدهما الاشتراط،
والاخر عارية الدنانير).
ومدلول خبر عارية الدراهم (لا ضمان في شئ من الأعيان المستعارة
ولو كانت من الدنانير، إلا بالاشتراط أو كون المستعار من
الدراهم).
الثالثة: أن العقد السلبي في خبري الدراهم والدنانير ينفي بإطلاقه أو
عمومه ضمان الذهب والفضة غير المسكوكين كالحلي والسبائك،
وهذا معارض للعقد الايجابي في الخبر الدال على ضمان مطلق
الجنسين وان لم يكونا مسكوكين.
أما تعارض الطائفة الأولى مع الطوائف الثلاث المثبتة للضمان مع
الاشتراط فهو تعارض غير مستقر، فيخصص عموم صحيح الحلبي أو
إطلاقه، ويحكم بالضمان مع الاشتراط.
وأما تعارض إطلاق العقد السلبي أو عمومه في خبري الدراهم و
الدنانير مع العقد الايجابي في
296



الاخر فيرتفع أيضا، إذ يخصص أو يقيد ذلك العقد السلبي بنصوصية
عقد الاثبات، وتصير الروايتان بمنزلة رواية واحدة دلت على نفي
الضمان في العارية إلا مع الشرط أو كون المستعار من الدراهم أو
الدنانير.
والكلام كله في حل تعارض عقد الايجاب في ضمان الذهب والفضة
مع عموم العقد السلبي أو إطلاقه في روايتي الدراهم والدينار، فإن
الظاهر كون النسبة بينهما هي العموم من وجه، لدلالة العقد السلبي في
الخبرين على نفي ضمان عارية مثل الكتب والفرش، ودلالة
العقد الاثباتي في رواية الذهب والفضة على ضمان عاريتهما، و
تعارضهما التبايني في مادة الاجتماع وهو عارية المصوغ من الجنسين
كحلي النساء والسبائك، فإن أمكن علاج التعارض بما سيأتي بيانه
فهو، وإلا فبعد تنافي المخصصات بعضها مع بعض لا بد من الاقتصار
في تخصيص عموم نفي الضمان بقدر ما قامت الحجة عليه وهو
عارية الدراهم والدنانير خاصة.
وقد استدل للمشهور بوجهين:
أحدهما: مبني على ملاحظة كل واحد من الخصوصات مع عموم
صحيح الحلبي، وكون النسبة العموم والخصوص المطلق.
وثانيهما: مبني على كون النسبة بين المخصصات عموما من وجه،
لكن يتعين تقديم عقد الايجاب في رواية الذهب والفضة لخصوصية
في المقام.
أما الوجه الأول: فقد اعتمد عليه جمع من أساطين الفقه منهم صاحب
الجواهر (قده)، حيث قال بعد ذكر جملة من الاخبار - وأن الأقوى
هو الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة - ما لفظه:
(بعد ظهور اتحاد المستثنى منه في جميعها في كون المراد تعدد
الاخراج من العام، فهي مخصصات متعددة من عام متحد لا يقدح
أخصية
بعضها من بعض، إذ جميع المخصصات متحدة في الحكم الايجابي
الذي هو الضمان، فلا يحمل بعضها على بعض بعد عدم التنافي
بينها.
إلى أن قال: فهو بمنزلة أن يقول: أكرم الرجال، ثم يقول: لا تكرم زيدا
منهم، وأخرى: لا تكرم عمرا، وثالثة: لا تكرم الجهال، وفي
الواقع كان زيد وعمرو من أفراد الجهال، فإنه لا يشك من له أدنى فهم
بالخطابات العرفية إرادة إخراج الجهال من الحكم الأول، ولكن
نص على زيد وعمرو للتأكيد ونحوه).
297



لكنه غير ظاهر، فإن مقتضى القاعدة وإن كان تخصيص العام بكلا
الخاصين اللذين يكون أحدهما أخص من الاخر ما لم يخرج عن الحد
المتعارف، فيخصص العموم القاضي بعدم ضمان العارية بكل من
الطوائف الثلاث الاخر، فتكون النتيجة عدم ضمان العارية إلا في
الذهب والفضة سواء كانا مسكوكين أم مصوغين. إلا أن في أدلة العارية
خصوصية يقع بها التعارض بين عموم دليل النفي وبين
الخصوصات المستثنية للذهب والفضة والدرهم والدينار، وتلك
الخصوصية اشتمال كل من أدلة التخصيص على عقدين إيجابي و
سلبي، وقد عرفت معارضة العقد السلبي في روايتي الدرهم والدينار
مع العقد الايجابي في رواية الذهب والفضة.
فما أفاده (قده) من تنظير أخبار الباب بمثل عموم (أكرم الرجال)
المخصص بأمور بعضها أخص من بعض، فيخصص العام بجميعها في
مرتبة واحدة لا يخلو من شئ، لوضوح الفرق بين المثال وأدلة العارية
بأن تلك الخصوصات لكل منها عقد إيجابي فحسب، فتقتضي
صناعة الجمع العرفي تحكيم الكل على العام ما لم ينته الامر إلى
التخصيص المستهجن، ولكن الخصوصات في المقام متعارضة من
جهة
اشتمالها على العقد السلبي، ولا ريب في أن تقديم الخاص على عامه
متفرع على حجيته الفعلية، فلا بد من علاج تعارض نفس
الخصوصات أولا ثم تخصيص العام بالمقدار المعتبر منها.
نعم لو كان التخصيص بمثل (في عارية الدينار ضمان) كانت الروايات
والمثال من باب واحد.
بل هنا جهة افتراق أخرى، وهي: أن كلا من الخصوصات قد صدر
بنفس العام، لتكرر (لا تضمن العارية) وما بمضمونه في جميعها،
فالمقام أشبه بالتخصيص بالمتصل من التخصيص بالمنفصل، مع أن
محط الكلام في مسألة انقلاب النسبة ملاحظة الظهورات المستقلة
بعضها عن بعض.
الثاني: ما أفاده بعض أعاظم العصر (مد ظله) من أن النسبة بين
الخاصين - وهما: عقد الاثبات في ضمان عارية الذهب والفضة، و
عقد
السلب في روايتي ضمان النقدين - وإن كانت عموما من وجه على ما
تقدم تقريبه، ومقتضى القاعدة تساقطهما في عارية الحلي
المصوغة من الجنسين والرجوع إلى العام الفوق، إلا أن في المقام
خصوصية تقتضي تقديم تخصيص عموم العقد السلبي في روايتي
الدراهم والدنانير على تقييد إطلاق العقد الايجابي في خبر ضمان
الجنسين، لان حمل ما يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب و
الفضة على خصوص النقدين حمل للمطلق على الفرد
298



النادر، لندرة استعارة النقدين جدا، حيث إن استيفاء المنفعة
المقصودة منهما غالبا يتوقف على التصرف في عينهما، والمعتبر في
العارية إمكان الانتفاع به مع بقاء عينه، كما هو الحال في الوقف.
وعليه يؤخذ بإيجاب ما يدل على ثبوت الضمان في عارية مطلق
الجنسين ويخصص به العام الفوق.
لكن يمكن أن يقال - بعد تسليم ندرة الوجود في عارية الدرهم و
الدينار -: ان مجرد الغلبة الوجودية في عارية الحلي المصوغة لا
يوجب
الانصراف الصالح للتقييد، إن كان المقصود دعوى انصراف إطلاق
عارية الذهب والفضة إلى عارية غير المسكوك منهما، إذ المجدي
من الانصراف القابل لتقييد المطلق هو الموجب للتشكيك في
الصدق، ولا ريب في أن صدق الذهب والفضة على المسكوك و
الحلي
المصوغة منهما على وزان واحد.
هذا ما استدل به للمشهور، وقد عرفت عدم وفاء كلا الوجهين بإثبات
الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة.
وقد يقال: انتصارا للقول غير المشهور بأولوية تقييد إطلاق العقد
الايجابي من تخصيص عموم العقد السلبي في روايتي الدرهم و
الدينار، وعدم وصول النوبة إلى التساقط، لما تقرر في محله من أنه إذا
دار الامر بين تقييد المطلق الشمولي وتخصيص العام به كان
الأول أولى، وحيث إن شمول الذهب والفضة لحالاتهما من
المسكوكية وغيرها بالاطلاق الشمولي، وعموم العقد السلبي في
روايتي
الدرهم والدينار بالوضع، لدلالة النكرة في سياق النفي عليه، كان
تقييد إطلاق الذهب والفضة بالمسكوك منهما أولى من تخصيص
عموم العقد السلبي في روايتي الدرهم والدينار بغير المسكوك
منهما، ونتيجة هذا التقييد في دليل ضمان عارية الذهب والفضة هي
الضمان في عارية الدرهم والدينار دون غيرهما من الحلي والسبائك.
وبه يتجه قول فخر المحققين ومن اقتصر في ضمان العارية على
الدرهم والدينار، ولا تصل النوبة إلى رعاية المرجحات في المجمع
كندرة أفراد أحد العامين بعد بيانية العموم لما يراد من الاطلاق، و
مانعيته عن تمامية مقدمات الحكمة فيه.
لكنه أيضا لا يخلو من تأمل، لكون التعارض في المقام بين الاطلاقين،
لا بين العموم والاطلاق، فإن النكرة في سياق النفي وإن أفادت
العموم، إلا أنه قد تقرر في محله: أن شمول العام لحالات
299



الافراد مستند إلى الاطلاق، لا إلى لفظ العام، ومن المعلوم أن (الذهب
والفضة) من أفراد العام في العقد السلبي، لكن حالاتهما الطارئة
عليهما لا تستفاد من العموم بل من الاطلاق، فيقع التعارض بين هذا
الاطلاق الثابت لفرد العام وبين إطلاق الذهب والفضة في العقد
الايجابي من رواية ضمان الذهب والفضة، فيتساقطان في حلي
النساء، فيرجع إما إلى العام الفوق القاضي بعدم الضمان في العارية
مطلقا، وإما إلى أصالة البراءة عنه، وإن كان الثاني أولى، لتعنون العام
بقيد عدمي وهو عدم كون العارية - التي لا ضمان فيها - من
النقدين.
هذا مجمل الكلام في المسألة، والتفصيل موكول إلى الفقه الشريف.
300

فصل (1)
لا يخفى ان المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به
301

وطرح الاخر بناء (1) على وجوب الترجيح وإن كانت (2) على أنحاء
مختلفة، ومواردها (3) متعددة من راوي الخبر ونفسه ووجه
صدوره ومتنه ومضمونه، مثل الوثاقة والفقاهة (4) والشهرة (5) و
مخالفة العامة (6) والفصاحة (7) وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى
الأصحاب [1] 8 إلى غير ذلك (9)

[1] كان الأولى ذكر الفصاحة والموافقة لفتوى الأصحاب بعد قوله:
(خصوصا لو قيل بالتعدي)، وذلك لعدم ذكرهما في الاخبار
العلاجية، وإنما هما معدودان من المزايا بناء على التعدي عن المزايا
المنصوصة إلى غيرها، بل وكذا الأعدلية والأفقهية والأصدقية
المذكورة في المقبولة، وكذا الأوثقية المذكورة في المرفوعة، لأنها و
إن كانت منصوصة، لكنها من مرجحات الحكمين المتعارضين
دون الخبرين المتعارضين، كما لا يخفى.
304

مما يوجب مزية في طرف من أطرافه (1)، خصوصا (2) لو قيل
بالتعدي من المزايا المنصوصة، إلا أنها (3) موجبة لتقديم أحد
السندين و
ترجيحه (4) وطرح الاخر، فإن (5) أخبار العلاج دلت على تقديم
رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها (6)، فجميع هذه من
مرجحات (7) السند حتى (8) موافقة [1]

[1] الصواب (مخالفة الخبر للتقية) لأنها من المرجحات، لا موافقة
الخبر للتقية، كما لا يخفى.
305

الخبر للتقية، فإنها أيضا (1) مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته
فعلا وطرح الاخر رأسا. وكونها (2) في مقطوعي الصدور
متمحضة في
306

ترجيح الجهة لا يوجب (1) كونها كذلك (2) في غيرهما، ضرورة (3)
أنه لا معنى للتعبد بسند ما يتعين حمله على التقية، فكيف (4) يقاس
على ما لا تعبد فيه، للقطع بصدوره؟
ثم (5) إنه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة
307

الترجيح بالظن أو بالأقربية إلى الواقع، ضرورة (1) أن قضية ذلك
تقديم الخبر الذي ظن (2) صدقه أو كان (3) أقرب إلى الواقع منهما، و
التخيير (4) بينهما إذا تساويا، فلا وجه (5)
308

لاتعاب النفس (1) في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلا (2) تعيين أن أيها
يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها (3) مع الاخر.
وأما (4) لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة
309

فله (1) وجه، لما يتراءى من ذكرها مرتبا في المقبولة والمرفوعة.
مع إمكان (2) أن يقال: إن الظاهر كونهما كسائر أخبار الترجيح بصدد
بيان أن هذا مرجح وذاك مرجح (3)، ولذا (4) اقتصر في غير
واحد منها على
310

ذكر مرجح واحد، وإلا (1) لزم تقييد جميعها - على كثرتها - بما في
المقبولة [1] وهو (2) بعيد جدا [2]

[1] ينبغي ذكر المرفوعة أيضا كما ذكرهما معا قبل ذلك، وإن كان نظره
في عدم ذكرها إلى عدم اعتبارها فهو يقتضي إهمالها قبل
ذلك أيضا.
[2] بل ممتنع في بعضها مثل قولهم عليهم السلام: (ما خالف قول ربنا
لم نقله) فإنه لا يمكن
311

وعليه (1) فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الاخر آخر منها (2)
كان (3) المرجع هو إطلاقات التخيير، ولا كذلك (4)

تقييده بما إذا لم يكن فيه مزية من حيث السند، وإلا فيقدم على
معارضه الموافق للكتاب. ومن المعلوم إباء هذا الكلام عن التقييد،
لأنه
بمنزلة أن يقال: (لم نقله إلا إذا كان ذا مزية سندية فحينئذ يقدم على ما
يوافق الكتاب) وبشاعته غنية عن البيان، إذ لازم ترتيب
المرجحات وكون موافقة الكتاب مرجحة بعد المرجح السندي هو
هذا المحذور الذي لا يمكن الالتزام به، ولهذا ادعى المصنف في
الاخبار العلاجية إباء بعض الاخبار عن التقييد، قال: (ثم إنه لولا
التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات، وهي آبية عنه).
ثم إنه بناء على عرضية المرجحات وعدم الترتيب بينها يقع التعارض
بين المرجحات إذا كان بعضها في خبر وبعضها الاخر في خبر
آخر، والمرجع حينئذ إطلاقات التخيير. وبناء على ترتيب
المرجحات يرجع إلى أخبار الترجيح، ولازمه كثرة تقييد إطلاقات
التخيير.
وبالجملة: يلزم قلة تقييد إطلاقات التخيير بناء على عدم ترتيب
المرجحات، وكثرة تقييدها بناء على الترتيب.
312

على الأول (1)، بل لا بد من ملاحظة الترتيب إلا (2) إذا كانا في عرض
واحد.
وانقدح بذلك (3): أن حال المرجح الجهتي (4) حال سائر
المرجحات في أنه (5) لا بد في صورة مزاحمته مع بعضها (6) من
ملاحظة أن
أيهما فعلا (7) موجب للظن بصدق ذيه
313

بمضمونه (1) أو الأقربية (2) كذلك إلى الواقع، فيوجب (3) ترجيحه
وطرح الاخر، أو أنه (4) لا مزية لأحدهما على الاخر، كما إذا كان
الخبر الموافق للتقية بماله من المزية (5) مساويا للخبر المخالف لها
بحسب (6) المناطين (7)، فلا بد حينئذ (8)
314

من التخيير بين الخبرين، فلا وجه (1) لتقديمه على غيره (2) كما عن
الوحيد البهبهاني قدس سره، وبالغ فيه (3) بعض أعاظم
المعاصرين أعلى الله درجته.
ولا (4) لتقديم غيره عليه كما يظهر من شيخنا العلامة أعلى الله
مقامه، قال:
(أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن
كان
315

الأرجح صدورا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه (1) على غيره وإن كان
مخالفا للعامة، بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال
التقية في الموافق (2)، لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد
فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين، أو تعبدا كما في الخبرين
بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الاخر. و
فيما نحن فيه يمكن ذلك (3) بمقتضى أدلة الترجيح من حيث
الصدور (4).
إن قلت (5). ان الأصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما
اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم
بإرادة
316

خلاف الظاهر في أضعفهما، فيكون هذا المرجح (1) نظير الترجيح
بحسب الدلالة مقدما على الترجيح بحسب الصدور.
قلت (2): لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما
المعين على التقية، لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة).
وقال بعد جملة من الكلام: (فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من
حيث الصدور إما علما كما في المتواترين، أو تعبدا كما في
المتكافئين
317

من الاخبار. وأما ما وجب فيه التعبد (1) بصدور أحدهما المعين دون
الاخر، فلا وجه لأعمال هذا المرجح (2) فيه (3)، لان (4) جهة
الصدور متفرع على أصل الصدور) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد
في علو مقامه.
وفيه (5): - مضافا إلى ما عرفت - أن (6) حديث فرعية جهة الصدور
على أصله إنما يفيد إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل
الصدور،
318

بل من مرجحاتها. وأما (1) إذا كان من مرجحاته (2) بأحد المناطين
فأي فرق بينه (3) وبين سائر المرجحات، ولم يقم دليل (4) بعد في
الخبرين
319

المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير
(1) الجهة مع كون الاخر راجحا بحسبها (2)، بل هو (3) أول الكلام
كما لا يخفى.
فلا محيص (4) من ملاحظة الراجح من المرجحين (5) بحسب أحد
المناطين (6)، أو من (7) دلالة أخبار العلاج على الترجيح بينهما (8)
مع
المزاحمة، ومع عدم الدلالة (9) - ولو لعدم
320

التعرض لهذه الصورة (1) - فالحكم (2) هو إطلاق التخيير، فلا تغفل (3).
وقد أورد بعض (4) أعاظم تلاميذه عليه: بانتقاضه بالمتكافئين من حيث
321

الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث (1) الصدور (2)
322

مع حمل أحدهما على التقية لم يعقل (1) التعبد بصدورهما (2) مع
حمل أحدهما عليها (3)، لأنه (4) إلغاء لأحدهما أيضا (5) في
الحقيقة.
وفيه (6): ما لا يخفى
323

من (1) الغفلة وحسبان أنه التزم قدس سره في مورد الترجيح بحسب
الجهة باعتبار (2) تساويهما من حيث الصدور، إما للعلم
بصدورهما، وإما للتعبد به فعلا. مع (3) بداهة أن غرضه من التساوي
من حيث الصدور تعبدا تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور و
قطعا، ضرورة (4) أن دليل
324

حجية الخبر (1) لا يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين (2)، بل ولا
بأحدهما (3).
وقضية (4) دليل العلاج ليس إلا التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.
325

والعجب كل العجب أنه (1) رحمه الله لم يكتف بما أورده من النقض
حتى ادعى استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح (2) على
الترجيح به، وبرهن (3) عليه بما حاصله: (امتناع التعبد بصدور
الموافق، لدوران (4) أمره بين عدم صدوره من أصله، وبين صدوره
(5)
تقية، ولا يعقل التعبد به على التقديرين (6) بداهة،
326

كما أنه لا يعقل التعبد (1) بالقطعي الصدور الموافق، بل الامر في
الظني الصدور (2) أهون، لاحتمال عدم صدوره (3) بخلافه (4). ثم
قال
(5): (فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة - مع
نص الإمام عليه السلام على طرح موافقهم (6) - من العجائب و
الغرائب
التي لم يعهد صدورها من ذي مسكة فضلا عمن هو تال العصمة علما
وعملا). ثم قال:
(وليت شعري أن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنه في
جودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر).
وأنت خبير بوضوح فساد برهانه (7)،
327

ضرورة (1) عدم دوران أمر الموافق بين الصدور تقية وعدم الصدور
رأسا، لاحتمال (2) صدوره لبيان حكم الله واقعا، وعدم (3)
صدور المخالف المعارض له أصلا، ولا يكاد (4) يحتاج في التعبد
إلى أزيد من احتمال صدور الخبر لبيان ذلك (5) بداهة (6).
328

وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين (1) إذا كان المخالف قطعيا
صدورا وجهة ودلالة، ضرورة (2) دوران معارضه (3) حينئذ (4) بين
عدم صدوره وصدوره تقية، وفي غير هذه الصورة (5) كان دوران
أمره بين (6) الثلاثة (7) لا محالة، لاحتمال (8) صدوره (9) لبيان
الحكم الواقعي حينئذ (10) أيضا (11).
ومنه (12) قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم
329

الواقعي أيضا (1)، وإنما لم يكن التعبد بصدوره (2) لذلك (3) إذا كان معارضه

[1] بل الظاهر أنه لا يلزم محذور من التعبد بالخبر الموافق للعامة من
اللغوية أو الامتناع العقلي، وهو لزوم عدم حجيته من وجود
حجيته. وجه عدم اللزوم هو: أن الخبر الموافق حجة شأنية يتضمن
حكما واقعيا اضطراريا ثانويا، والخبر المخالف يتضمن حكما واقعيا
أوليا، ولا تنافي بينهما في الحجية. غاية الامر أن الحكم في الخبر
المخالف فعلي وفي الموافق شأني، فلا يلزم من شمول دليل حجية
الخبر الموافق العامة طرحه.
و عليه يندرج الخبر المخالف الموافق في الخبرين المتعارضين اللذين
يشملهما دليل اعتبار الخبر، غاية الامر أن الموافق يبين الحكم
الواقعي الثانوي، والمخالف يبين الحكم الواقعي الأولي.
330

المخالف قطعيا بحسب السند والدلالة [1] لتعيين [2] حمله على التقية
حينئذ (1) لا محالة. ولعمري أن ما ذكرناه (2) أوضح من أن يخفى
(3) على مثله، إلا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان، عصمنا
الله من زلل الاقدام والأقلام في كل ورطة ومقام. [3]

[1] الأولى إضافة الجهة إلى الدلالة أيضا، إذ مع ظنية الجهة لا يتعين
حمل الموافق على التقية، لدوران أمره بين الثلاثة: عدم الصدور، و
الصدور تقية، والصدور لبيان الحكم الواقعي، إذ من المحتمل صدور
المخالف لمصلحة أخرى غير بيان الواقع.
[2] كيف يتعين حمله على التقية مع احتمال صدوره وعدم إرادة
ظاهره، لمصلحة هناك؟
[3] الظاهر سلامة ما أفاده المحقق الرشتي عما أورده المصنف (قدهما)
عليه. أما اعتراضه على كلام الشيخ - من تقديمه المرجع
الصدوري على المرجح الجهتي - فلا يندفع بما أفاده الماتن من
دوران أمر الخبر الموافق للعامة بين احتمالات ثلاثة، وذلك بعد
الامعان
في جملة من كلام الميرزا الرشتي، وهو قوله: (وتوضيح المقام: أن
موافقة العامة إما هي من المرجحات الخارجية بناء على غلبة الباطل
في أخبارهم وأحكامهم، أو من المرجحات الجهتية الباعثة على حمل
الكلام الصادر من الامام على التقية، ولا إشكال في تقديمها على
الصفات بناء على الأول، كما هو (قده) معترف بذلك، حيث صرح في
غير موضع بأن المرجحات الخارجية مقدمة على الصفات، وأن هذا
المرجح أيضا على الوجه المذكور حكمه حكم المرجحات الخارجية،
فانحصر تقديم الصفات عليها على الوجه الثاني، وهو غير معقول،
لان مورد هذا المرجح هو الخبر المقطوع، لاختصاص دليله به، و
مقتضاه
331

ثم إن هذا (1) كله إنما هو بملاحظة

عدم العمل بموافق العامة مطلقا قطعيا كان أو ظنيا، إذ لا فرق بينهما إلا
احتمال عدم الصدور في الثاني دون الأول، وبداهة العقل قاضية
بأن احتمال عدم الصدور لو لم يكن منشأ لعدم التعبد فلا يصلح منشأ
للتعبد، سواء كان راويه جامعا للصفات المرجحة، أو كان سنده
كذلك أو لم تكن، فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة
العامة. إلخ).
ومحصله: أن مخالفة العامة لا تخلو إما أن تكون من المرجحات
الخارجية، وإما من المرجحات الداخلية. فإن كانت كموافقة الكتاب
مرجحا خارجيا فالمفروض اعتراف شيخنا الأعظم بتقديمها على
المرجح الصدوري. وإن كانت مرجحا داخليا كشهرة الرواية فالخبر
الموافق للعامة بالنظر إلى أدلة الترجيح - لا الأدلة الأولية على حجية
الخبر، لعدم شمولها لحال التعارض كما مر - يدور بين عدم
الصدور أصلا والصدور بداعي الجد، وهو ساقط عن الاعتبار،
لاندراجه في قوله عليه السلام: (إذا سمعت مني ما يشبه قول الناس
ففيه
التقية) بعد وضوح عدم إرادة مطلق الشباهة، للاشتراك في كثير من
الاحكام، وانحصار مورد الرواية بالمتعارضين.
نعم تطرق الاحتمالات الثلاثة - المذكورة في المتن - في الخبر
الموافق للعامة إنما يتجه بالنظر إلى الدوران الواقعي مع قطع النظر عن
أخبار الترجيح، إذ كما يحتمل عدم صدور الموافق أصلا وصدوره،
تقية، كذلك يحتمل صدوره لبيان الحكم الواقعي، إلا أن مفروض
الكلام سقوط الأدلة الأولية، واستناد حجية أحد الخبرين تعيينا أو
تخييرا إلى الاخبار العلاجية، وهي تقتضي ترجيح أصالة الجهة في
الخبر المخالف للعامة على أصالة الجهة في الخبر الموافق لهم، وأنه
على تقدير صدوره واقعا محمول على التقية، ومعه لا يحتمل صدوره
لبيان الحكم الواقعي حتى يسلم كلام الشيخ عما أورده المحقق
الرشتي عليه.
وأما ما أفاده المصنف - من حمل كلام الشيخ في المتكافئين على
الحجية الانشائية لا الفعلية، لأنه لا دليل عليها لا من الأدلة الأولية ولا
من
أدلة العلاج، فكيف يلتزم بها الشيخ حتى ينتفض بما أورده المحقق
الرشتي عليه؟ - فهو حمل له على خلاف ظاهره، إذ لو كان غرضه
أصل الانشاء لم يكن إطلاق دليل الحجية بالنسبة إلى تلك المرتبة
مستلزما للخلف في المتفاضلين أيضا.
332

أن هذا المرجح (1) مرجح من حيث الجهة.
333

وأما (1) بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه (2) من معارضه - لاحتمال
التورية في المعارض المحتمل فيه (3) التقية دونه - فهو (4) مقدم
على جميع مرجحات الصدور بناء على ما هو المشهور [1] من تقدم
التوفيق بحمل الظاهر على (5) الأظهر على الترجيح بها (6).

[1] وذهب المحقق النائيني (قده) إلى تقديم المرجح الصدوري على
المرجح الجهتي
334



والمضموني، فيقدم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامة أو
الموافق للكتاب مستدلا عليه بما حاصله: أن استنباط الحكم الشرعي
من الخبر الواحد يتوقف على أمور أربعة مترتبة:
الأول: كون الخبر صادرا عن الإمام عليه السلام.
الثاني: كونه ظاهرا في المعنى.
الثالث: كونه صادرا لبيان الحكم الواقعي، لا لجهة أخرى من تقية و
نحوها.
الرابع: كون مضمونه تمام المراد لا جزه.
والمتكفل لاثبات الامر الأول أدلة حجية الخبر، وللثاني العرف و
اللغة، وللثالث بناء العقلاء على حمل الكلام على كونه صادرا بداعي
إفادة المراد النفس الأمري، وللرابع الأصول اللفظية العقلائية كأصالة
عدم التخصيص وقرينة المجاز ونحوهما.
ولا يخفى أن التعبد بجهة الصدور فرع التعبد بالصدور والظهور، كما
أن التعبد بكون المضمون تمام المراد فرع التعبد بجهة
الصدور، بداهة أنه لا بد من فرض صدور الخبر لبيان حكم الله الواقعي
حتى يتعبد بكون مضمونه تمام المراد لا جزه. ولا وجه لارجاع
جميع المرجحات إلى الصدور، فإن المرجح الجهتي والمضموني
يرجعان إلى تخصيص الأصول العقلائية المقتضية لكون الكلام صادرا
لبيان المراد وكونه تمام المراد. والمرجح السندي كالشهرة يرجع إلى
تخصيص أدلة حجية خبر الواحد المقتضية لصدور الخبر،
فإرجاع جميع المرجحات إلى الصدور بمعنى كونها مخصصة لأدلة
حجية الخبر الواحد مما لا سبيل إليه، لاستلزامه جعل مخصص دليل
مخصصا لدليل آخر، وهو كما ترى.
وما أفاده صاحب الكفاية من - أنه لا معنى للتعبد بصدور الخبر الذي
لا بد من حمله على التقية، بل لا بد من الحكم بعدم صدور الخبر
الموافق للعامة - فيه: أن الحمل على التقية على قسمين، فتارة يكون
في الخبر الموافق لهم قرائن الصدور تقية وإن لم يكن له معارض، و
أخرى لا يكون فيه ذلك، بحيث لو لم يكن له معارض كان حجة و
مشمولا لأدلة الاعتبار كما هو مفروض البحث في تعارض الخبرين، و
لم يكن مجرد موافقته للعامة موهنا له. وما يكون مرجحا لاحد
الخبرين هو هذا القسم الثاني، ومن المعلوم أن مجرد الموافقة لهم لا
يوجب عدم صدور الخبر الموافق لهم، فيقع التعارض بين الموافق
للعامة وبين المخالف لهم، ومن البديهي أن التعارض فرع شمول
دليل الاعتبار، هذا.
335



وأورد عليه المحقق العراقي (قده) بما محصله: أن نفس الترتيب بين
الأمور المعتبرة في حجية الخبر تقتضي كون المرجحات الجهتية
راجعه إلى المرجحات السندية، وذلك لان مفروض الكلام في
الخبرين المتعارضين اللذين لا دليل - بعد - على حجية شئ منهما
بعد
سقوط الأدلة الأولية، بل تتوقف حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا على
عناية أخرى تتكفلها أخبار العلاج، ومن المعلوم أن الترجيح بمخالفة
العامة ونحوه من مرجحات الجهة يتوقف على إحراز موضوعه الذي
هو كلام الإمام عليه السلام، فإن المحمول على التقية كلامه عليه
السلام المحرز صدوره منه، لا كلام غيره، والمفروض في باب
التعارض عدم إحراز هذا الموضوع لا وجدانا ولا تعبدا حتى يرجح
الخبر المخالف للعامة على الخبر الموافق.
أما عدم إحراز كلام المعصوم وجدانا فواضح، وأما عدم إحرازه تعبدا
فلسقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية، وعدم شمول عموم
دليل السند - فعلا - لواحد منهما ولا مرجح لسند أحدهما على
الاخر حتى يتعبد بصدور المخالف منه عليه السلام.
وبعبارة أخرى: جعل الترجيح بمخالفة العامة في طول المرجح
السندي موقوف على إحراز صدور الخبر من الإمام عليه السلام - ولو
تعبدا - حتى يرجح الخبر المخالف للعامة على الموافق لهم، وإحراز
هذا الامر ممتنع في المتعارضين الظنيين، لان أدلة اعتبار السند إما
هي الأدلة الأولية على حجية خبر الواحد، وإما الأدلة الثانوية وهي
أخبار العلاج.
وشئ منهما غير جار في المقام، أما الأدلة الأولية فلامتناع شمولها
للمتعارضين كما مر مرارا.
وأما الأدلة الثانوية فلفرض عدم مرجح سندي يقتضي التعبد الفعلي
بصدور المخالف حتى يسند مضمونه إلى الامام، ويحكم بترجيحه
على الموافق من جهة مرجحية المخالفة للعامة على الموافقة لهم.
فإن قلت: إن عمومات أدلة اعتبار خبر الواحد شاملة لكل واحد من
الخبرين المتعارضين مع قطع النظر عن معارضه، فتكون الحجية
الاقتضائية موضوعا للترجيح بالجهة في الخبر المخالف للعامة.
قلت: لا تجدي هذه الحجية الشأنية للتعبد الفعلي بالمرجح الجهتي،
فإن موضوعه هو كلام الإمام عليه السلام، ولا يحرز هذا الموضوع
بحجية الخبرين اقتضاء، حتى يترتب عليه أثره الذي هو التعبد
336

اللهم (1) إلا أن يقال: إن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما
احتمل فيه التقية، إلا أنه (2) حيث كان بالتأمل والنظر

بترجيح أصالة الجهة فيه على أصالة الجهة في الخبر الاخر الموافق
للعامة.
وعلى فرض كفاية مجرد اقتضاء الحجية لذلك نقول: إن أصالة الجهة
بعد أن كانت من آثار الكلام الواقعي للامام لا من آثار التعبد به
فلازم الترجيح بها هو تقديم هذا المرجح على المرجح السندي،
لاقتضاء دليل الترجيح بها في الخبر المخالف للعامة للعلم الاجمالي
في
الخبر الموافق لهم إما بعدم صدوره أو بوجوب حمله على التقية، ومع
هذا العلم الاجمالي لا مجال لترجيح سنده في فرض وجود مرجح
سندي فيه.
وعليه فالحق ما في المتن بناء على التعدي عن المرجحات
المنصوصة. وأما بناء على الاقتصار عليها فالظاهر رعاية الترتيب بينها
من
شهرة الرواية وموافقة الكتاب ومخالفة العامة. وان كان المعتمد في
الترجيح مصحح عبد الرحمن فالمرجح منحصر في موافقة الكتاب
ثم مخالفة العامة.
337

لم يوجب (1) أن يكون معارضه أظهر بحيث يكون قرينة على
التصرف عرفا في الاخر، فتدبر (2).
338

فصل (1)
339



[1] لا يخلو هذا التعبير عن المسامحة، إذ المرجوح الداخلي - كصفات
الراوي من الأعدلية وغيرها وفصاحة متن الرواية - ليس له منشأ
انتزاع، بل نفسه مرجح. فلعل الأولى تعريف المرجح الداخلي: بأنه ما
يتعلق بنفس الرواية من صفات راويها ومتنها ووجه صدورها. نعم
يصح التعبير بمنشأ الانتزاع في المرجح الخارجي، حيث إن المرجح
عبارة عن موافقة الخبر لما هو دليل مستقل في نفسه كالكتاب،
فالمرجح وهو موافقة الخبر ينشأ من ذلك الدليل، فهو منشأ انتزاع
المرجحية، فمرجحية الكتاب إنما هي اعتبار منشئيته لما هو مرجح،
لا
أنه بنفسه مرجح.
340

موافقة الخبر (1) لما يوجب الظن بمضمونه (2) ولو نوعا (3) من
المرجحات في الجملة (4) بناء (5) على لزوم الترجيح لو قيل التعدي
من المرجحات المنصوصة، أو قيل [1] 6 بدخوله في القاعدة لمجمع عليها

[1] مقتضى هذا العطف ابتناء مرجحية الظن - بعد البناء على لزوم
الترجيح بالمرجحات - على
341

كما ادعي (1)، وهي (لزوم العمل بأقوى الدليلين).
وقد عرفت (2) أن التعدي محل نظر بل منع، وأن (3) الظاهر من
القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليلية والكشفية.

أحد أمرين: إما التعدي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها، وإما اندراج
الخبر الموافق للظن غير المعتبر في قاعدة (أقوى الدليلين). و
ظاهر هذا الكلام أنه مع المنع عن التعدي ولزوم الاقتصار على تلك
المرجحات يصير الخبر الموافق للظن غير المعتبر من صغريات
أقوى الدليلين.
وهذا غريب جدا، إذ مع المنع عن التعدي ولزوم الاقتصار على
المرجحات المنصوصة كيف يصير الخبر الموافق للظن - الذي لا
يصلح
لان يكون مرجحا وفرض وجوده كعدمه - أقوى من معارضه؟ إلا أن
يدعي حصول الأقوائية قهرا بمجرد موافقة الخبر للظن غير
المعتبر من الخبر المعارض له.
342

وكون (1) مضمون [ومضمون [1]] أحدهما (2) مظنونا لأجل
مساعدة أمارة ظنية عليه لا يوجب قوة فيه من هذه الحيثية (3)، بل هو (4)
على ما هو عليه من القوة لولا مساعدتها (5) كما لا يخفى. ومطابقة
(6) أحد الخبرين

[1] لعل الأولى إبدال العبارة هكذا: (والظن بمضمون أحدهما
لمساعدة أمارة غير معتبرة عليه لا يوجب قوة في دليليته).
343

لها (1) لا يكون (2) لازمه الظن بوجود خلل في الاخر إما من حيث
الصدور أو من حيث جهته، كيف (3)؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود
جميع ما اعتبر
344

في حجية المخالف لولا (1) معارضة الموافق. والصدق (2) واقعا لا
يكاد يعتبر في الحجية، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك (3)، فافهم (4).
هذا (5) حال الامارة غير المعتبرة، لعدم الدليل على اعتبارها.

[1] لكنه بعيد جدا، لبعد حصول العلم الاجمالي، بل الحاصل مجرد
الاحتمال. فالحق عدم الترجيح بالامارة غير المعتبرة إلا إذا أوجبت
الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع بناء على التعدي، وإلا فلا.
345

أما (1) ما ليس بمعتبر بالخصوص - لأجل الدليل على عدم اعتباره
بالخصوص كالقياس - فهو وإن كان (2) كالغير (3) المعتبر لعدم
(4) الدليل بحسب (5) ما يقتضي الترجيح به من (6) الاخبار بناء على
التعدي، والقاعدة (7)
346

بناء (1) على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين، إلا (2) أن
الأخبار الناهية عن القياس و (أن السنة إذا قيست محق الدين) [1 [3
مانعة عن الترجيح به، ضرورة (4) أن استعماله في ترجيح أحد
الخبرين استعمال له

[1] هذا قاصم ظهر الفقيه وينبهه على خطر عظيم وهو سرعة الجزم
بملاكات الاحكام والافتاء بمقتضياتها كما يظهر من متن هذه
الرواية، لعدم إحاطة غير المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين)
بملاكات الاحكام، وعدم إمكان حصول العلم لنا بملاكاتها إلا ببيانهم
عليهم السلام لها. ومن هنا يظهر امتناع تنقيح المناط القطعي لنا.
347

في المسألة الشرعية الأصولية، وخطره ليس بأقل (1) من استعماله
في المسألة الفرعية.
وتوهم (2) أن حال القياس هاهنا (3) ليس في تحقق الأقوائية به إلا كحاله

[1] الظاهر أنه السيد العلامة الطباطبائي صاحب المفاتيح، وقد نقل
المحقق الآشتياني جملة من كلامه، فقال بعد الترجيح بالاعتضاد
بالقياس المنصوص العلة أو الأولوية القطعية ما لفظه: (وإن كان من
القياس المستنبط العلة الذي ليس بحجة شرعا، فلا يخلو إما أن لا
يقتضي الظن بصدق
348

فيما ينقح به موضوع آخر ذو حكم - من دون اعتماد عليه (1) في
مسألة أصولية ولا فرعية - قياس (2) مع الفارق، لوضوح الفرق بين
المقام والقياس

مضمون الخبر الذي يوافقه، أو يقتضيه. فإن كان الأول، فلا إشكال في
عدم صحة الترجيح به، للأصل السليم عن المعارض، وما سيأتي
إليه الإشارة.
وإن كان الثاني ففي صحة الترجيح به إشكال من الأصل، وعموم كثير
من الأخبار الواردة في المنع من العمل بالقياس، فإن الترجيح
عمل به.، ومن أصالة حجية الظن خصوصا في مقام الترجيح، و
فحوى ما دل على اعتبار كثير من المرجحات المنصوصة، وغلبة
حجية
مرجحات ظنية غير منصوصة، فيلحق بها محل الشك، وهو محل
البحث. ولا يعارض ما ذكر عموم الأخبار المانعة عن العمل بالقياس،
لامكان دعوى انصرافه إلى المنع من التمسك به على حكم شرعي)
إلى أن قال:
(وكيف كان فالأحوط الاخذ بالخبر الموافق له، حيث يدور الامر بينه و
بين التخيير [و] بينه وبين معارضه. وأما إذا وجد للمعارض
مرجح معتبر، فان كان القياس أضعف منه فلا إشكال، وكذا إن كان
مساويا، فتأمل. وأما إذا كان القياس أقوى ففيه إشكال عظيم،
فتأمل).
349

في الموضوعات الخارجية الصرفة (1)، فإن (2) القياس المعمول فيها
(3) ليس في الدين، فيكون (4) إفساده أكثر من إصلاحه. [1] وهذا
بخلاف المعمول في المقام (5)، فإنه (6) نحو إعمال له في الدين،
ضرورة (7) أنه (8) لولاه لما تعين الخبر الموافق له للحجية بعد
سقوطه
(9) عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار، والتخيير (10) بينه وبين

[1] ولعل هذا التوهم نشأ من اعتقاد كون الدين خصوص الاحكام
الفرعية، فالمنهي عنه حينئذ إعمال القياس في خصوص الحكم
الفرعي،
ولذا قاس الحكم الأصولي - أعني الحجية - على الموضوع الصرف.
لكن لا يخفى أن الحكم في المقيس عليه - وهو تنقيح الموضوع
الذي
يترتب عليه حكم شرعي باستعمال القياس فيه - أيضا محل منع،
لصدق استعمال في الدين، إذ بدون استعماله لا ينقح الموضوع الذي
يترتب عليه الحكم الشرعي، فترتب الحكم على موضوعه منوط
بتنقيحه المفروض توقفه على إعمال القياس فيه.
350

معارضه (1) بمقتضى أدلة العلاج، فتأمل جيدا.
وأما (2) إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه كالكتاب والسنة
القطعية، فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته (3)
بالمباينة
351

الكلية، فهذه الصورة (1) خارجة عن مورد الترجيح، لعدم (2) حجية
الخبر المخالف كذلك (3) من أصله ولو مع عدم المعارض، فإنه (4)
المتيقن من الأخبار الدالة على أنه (5) (زخرف) أو (باطل) أو أنه (لم
نقله) أو غير ذلك (6).
وإن (7) كانت مخالفة بالعموم والخصوص المطلق فقضية القاعدة
352

فيها (1) وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق، و
تخصيص (2) الكتاب به تعيينا أو تخييرا لو لم (3) يكن الترجيح في
الموافق
بناء (4) على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، إلا (5) أن الأخبار الدالة
على أخذ
353

الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة (1) لو
قيل (2) بأنها في مقام ترجيح أحدهما، لا تعيين الحجية عن اللا حجة
كما نزلناها عليه (3). ويؤيده (4) أخبار العرض على الكتاب الدالة
على عدم حجية المخالف من أصله، فإنهما (5) تفرغان عن لسان
واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في
الأخرى، كما لا يخفى.
354

اللهم (1) إلا أن يقال: نعم، إلا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة (2) بما
إذا كانت المخالفة بالمباينة، بقرينة (3) القطع بصدور المخالف
غير المباين عنهم عليهم السلام كثيرا، وإباء (4) مثل (ما خالف قول
ربنا لم أقله) أو (زخرف) أو (باطل) عن التخصيص غير (5) بعيدة.
355

وإن (1) كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه فالظاهر أنها
كالمخالفة في الصورة الأولى (2) كما لا يخفى.
وأما (3) الترجيح بمثل الاستصحاب - كما وقع في كلام غير واحد من
356

الأصحاب - فالظاهر أنه (1) لأجل اعتباره من باب الظن والطريقية
عندهم، وأما بناء على اعتباره (2) تعبدا من باب الاخبار وظيفة
للشاك - كما هو المختار كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك (3)
عقلا أو نقلا - فلا (4) وجه للترجيح به أصلا، لعدم (5) تقوية
مضمون الخبر بموافقته (6) ولو بملاحظة دليل اعتباره (7)
357

كما لا يخفى. [1]
هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد الله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا.
358

وأما الخاتمة (1) فهي فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد
359

فصل (1) الاجتهاد لغة (2) تحمل المشقة،
361

والعلامة (1) - (استفراغ الوسع (2) في تحصيل الظن بالحكم
364

الشرعي) (1). وعن غيرهما (2) (ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم
(3) الشرعي الفرعي من الأصل (4) فعلا أو قوة قريبة (5).
ولا يخفى (6) أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا ليس من
365

جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته، لوضوح (1) أنهم ليسوا في مقام
بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه
بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه، كاللغوي (2) في
بيان معاني الألفاظ بتبديل (3) لفظ بلفظ آخر ولو كان أخص (4) منه
مفهوما، أو أعم (5).
ومن هنا (6) انقدح أنه لا وقع للايراد على تعريفاته
366

بعدم الانعكاس (1) أو الاطراد (2)،
367

كما هو (1) الحال في تعريف جل الأشياء لولا الكل، ضرورة (2) عدم
الإحاطة بها بكنهها أو بخواصها (3) الموجبة (4) لامتيازها عما
عداها لغير علام (5) الغيوب، فافهم.
وكيف كان (6)، فالأولى تبديل (الظن بالحكم) بالحجة عليه (7).
368

فإن (1) المناط فيه (2) هو تحصيلها قوة أو فعلا (3)، لا الظن (4)،
حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا [1] 5 أو بعض (6) الخاصة
القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحكام، فإنه (7) مطلقا عندهم -
أو عند الانسداد عنده - من أفراد الحجة،

[1] هذه النسبة لا تخلو من تأمل، فإن المعدود حجة عند أكثرهم هو
القياس، لا خصوص ما أفاد الظن، مضافا إلى حكاية حرمة العمل به
عن بعضهم. نعم لا ريب في أن أكثر ما يستندون إليه يفيد الظن المنهي عن
العمل به كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وعمل
الصحابة وغيرها.
369

ولذا (1) لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل
370

غيره (1) من أفرادها من العلم بالحكم أو غيره (2) مما اعتبر من (3)
الطرق التعبدية غير المفيدة للظن - ولو نوعا (4) - اجتهادا (5)
أيضا (6).
ومنه (7) انقدح: أنه لا وجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد
371

بهذا المعنى (1)، فإنه لا محيص عنه (2) كما لا يخفى. غاية الامر له
(3) أن ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره، ويمنع (4)
عنها، وهو (5) غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى
(6)، ضرورة (7) أنه ربما يقع
372

بين الأخباريين كما وقع بينهم (1) وبين الأصوليين. [1]

[1] ما أفاده المصنف (قده) هنا من إرجاع النزاع في تحديد الاجتهاد
إلى البحث الصغروي - أعني به حجية بعض القواعد - وأولوية
تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه وإن كان متينا، لكنه لا يكفي في دفع
إشكال عدم جامعية التعريف ومانعيته، مع أنه (قده) بصدد بيان
حد تجتمع فيه شتات المباني في مباحث الحجج. وذلك لوضوح أن
المقصود من هذه التعاريف تفسير الاجتهاد في الفقه بمعنى استنباط
الاحكام الفرعية، ومن المعلوم أن تحديده ب (تحصيل الحجة على
الحكم الشرعي) أو بما يقرب منه يناسب الاجتهاد في علم الأصول
المعد لتمهيد القواعد وبيان الأدلة على الاحكام.
فالباحث عن مسألة حجية خبر الثقة أو العدل - بإقامة الأدلة القطعية
عليه من الأخبار المتواترة إجمالا وسيرة العقلاء وغيرهما -
يستفرغ وسعه في تحصيل الحجة - كخبر الشقة - على الحكم
الشرعي، وقد عرف علم الأصول بأنه: (علم بالقواعد الممهدة
لاستنباط
الأحكام الشرعية) والمراد بالقواعد هو الحجج على الأحكام الشرعية
، مع أن الاجتهاد في الفقه هو تحصيل الحكم الفرعي من
الدليل بعد
الفراغ عن إثبات دليليته في علم الأصول، وليس هو تحصيل الدليل
على الحكم.
ففرق واضح بين تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الذي يتكفله
علم الأصول، وبين تحصيل الحكم أو الوظيفة من الحجة الذي هو
شأن
علم الفقه الشريف. وحيث إن المقصود تعريف الاجتهاد في الفقه فلا
بد من تحديده بوجه آخر.
وعليه فما في تقرير بعض أعاظم العصر (دامت بركاته)، من كون
(الاجتهاد بمعنى تحصيل الحجة على الحكم الشرعي أمرا مقبولا عند
الكل، ولا استيحاش للمحدثين عن الاجتهاد بهذا المعنى) لا يخلو
من خفاء، فإن المحدثين وإن اختلفوا في حجية بعض القواعد، لكن
الاجتهاد عندهم ليس
373



بمعنى تحصيل الحجة على الحكم، بل تحصيل الحكم من الحجة.
هذا ما يتعلق بتعريف المصنف ومن وافقه من الاعلام. ولا بأس بالنظر
الاجمالي إلى بعض تحديدات الاجتهاد مما أطلق فيها الاجتهاد
على الملكة المتوقف عليها الاستنباط، أو على فعل المجتهد أعني به
عملية استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة.
فمنها: ما تقدم عن الحاجبي من أنه (استفراغ الوسع في تحصيل الظن
بالحكم الشرعي). وقد عرفت في التوضيح إخلال أخذ الظن فيه،
إذ لو أريد به خصوص ما قام دليل على اعتباره انتقض التعريف بما إذا
أدى الاستنباط إلى العلم بالحكم، وبما إذا لم يحصل ظن بالواقع
كما في مثل البراءة الشرعية. ولو أريد به الأعلم من الظن المعتبر و
غيره انتقض بما إذا حصل له ظن بالحكم من طريق غير معتبر، إذ لا
عبرة به مع كونه ظنا بالحكم وجدانا.
وتوجيه هذا التعريف (بتماميته على مذهب العامة المستدلين
بالظنون القياسية والاستقرائية وغيرهما حيث إنهم يعملون بها،
لكونها
ظنونا، لا لكونها معتبرة بالخصوص) لا يخلو من شئ، فإن الحجة
عندهم هو القياس لا خصوص ما أفاد الظن، ولا تدور حجية بعض
الأمور عندهم مدار إفادة الظن حتى يلتئم أخذ الظن في التعريف مع
مبانيهم، وتحقيق هذا موكول إلى محله، ولا جدوى في البحث عنه
بعد فساد الأصل والفرع.
ولا يخفى أن هذا التعريف أو ما يقرب منه مذكور في بعض كتب
أصحابنا أيضا كالعلامة وصاحب المعالم (قدهما) على ما تقديم في
التوضيح. ولا ريب في أن أخذ الظن في الحد يكون مجرد موافقة لهم
في اللفظ لا في موجبات الظن بالأحكام الشرعية، فكان ديدن
العامة على العمل بالاستنباطات الظنية من الأقيسة والاستحسانات و
المصالح المرسلة ونحوها، فإنهم لانحرافهم عن باب مدينة علم
الرسول وأولاده الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)
التجئوا إلى الاجتهاد بمعنى الاخذ بالآراء الظنية، ومن المعلوم بطلان
هذا الاجتهاد بضرورة المذهب. وعليه يكون أخذ الظن في تعريف
أصحابنا (رضوان الله عليهم) بمعنى آخر وهو الظن المعتبر بدليل
خاص، ويشهد له استدلال العلامة على حرمة العمل بالقياس بعموم
الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم.
وكيف كان فتعريف العلامة للاجتهاد لا يخلو من مسامحة أيضا،
لتصريحه بعدم كون الاستنباط المؤدي إلى العلم بالأحكام اجتهادا
مصطلحا، وهو ممنوع، إذ لا وجه لاخراج العلم بالأحكام - المبتنية
على مباحث الاستلزامات - عن التعريف، لصدق الاجتهاد وتحصيل
الحجة على الحكم
374



عليها قطعا.
نعم إن كان مراده من الاحكام القطعية ما هو معلوم بضرورة الدين أو
المذهب بحيث لا حاجة فيها إلى إعمال النظر واستفراغ الوسع
فالتقييد في محله.
مضافا إلى: إخلال أخذ (الفقيه) في التعريف، لتوقف صدق هذا
العنوان على معرفة جملة معتد بها من الاحكام، ولازمه عدم كون
استفراغ الوسع في المرة الأولى والثانية اجتهادا، لعدم كونه فقيها بعد.
مع أنه لا ريب في صدق الاجتهاد على استفراغ الوسع في
المسألة الأولى والثانية بعد حصول ملكة الاستنباط له.
وقد أورد على هذا الحد بوجوه أخرى مذكورة في المطولات لا سيما
حاشية المعالم، فلتطلب منها.
ومنها: ما تقدم عن الشيخ البهائي (قده) من تعريف الاجتهاد بالملكة.
لكنه أيضا لا يخلو من تأمل، لامتناع تعريف ما يكون من مقولة
بمقولة أخرى، إذ الاجتهاد (افتعال) وهو نفس استنباط الحكم من
دليله، وليس ملكة حتى يكون استخراج الاحكام من أدلتها أثرا لها
كما في مثل ملكة العدالة والسخاوة. واستخراج الاحكام من الأدلة و
إن كان منوطا بتلك القوة التي يتمكن بها من تطبيق القواعد الكلية
- بعد إتقانها - على مواردها. إلا أن الموضوع للآثار الشرعية هو
العارف بالأحكام، لا مجرد من يقتدر على الاستنباط، لظهور هذه
المواد المأخوذة في الهيئات في فعليتها.
وحيث إنك عرفت كون الاجتهاد من مقولة الفعل، والملكة من مقولة
الكيف النفساني أو غيرها، فلا وجه لتعريفه بالملكة، إذ لا معنى
لتعريف شئ بمباينه، بعد وضوح تباين المقولات وكونها أجناسا
عالية.
ومنها: ما في مقالات شيخنا المحقق العراقي (قده) من تعريف
الاجتهاد (بأنه تحصيل الوظيفة الفعلية العملية). وهذا التعريف
سليم عن
جملة من المناقشات، فعنوان (تحصيل الوظيفة) شامل لما إذا استلزم
الاستنباط استفراغ الوسع وعدمه، بعد اختلاف الفروع الفقهية
وضوحا وغموضا. كما أن تبديل الحكم الشرعي ب (الوظيفة) يعم
جميع موارد الاستنباط سواء أدى إلى معرفة الحكم الواقعي أم
الظاهري، الشرعي أم العقلي كالاحتياط والتخيير وحجية الظن
الانسدادي على الحكومة.
ولعل الأولى تعريف الاجتهاد بأنه (إحراز المؤمن عقلا أو شرعا من
أدلة الفقه) لالتئامه مع
375



جميع المباني المتشتتة في المسائل الأصولية من إنكار حجية الظن
رأسا، أو القول بالظنون الخاصة، أو الظن الانسدادي كشفا أو
حكومة، وغير ذلك. وبيانه: أن عنوان (إحراز المؤمن) شامل للاجتهاد
المؤدي إلى معرفة الحكم الواقعي والظاهري، وتبديل
(الوظيفة) ب (المؤمن) أولى، لشموله لموارد الأصول العملية بناء على
إنكار الحكم الظاهري، وظهور (الوظيفة) في الحكم مطلقا من
الواقعي والظاهري، فلا يشمل الاجتهاد في الأصول العملية الشرعية
عند من ينكر جعل الحكم الظاهري فيها.
مع أنه لو صح أخذ (الوظيفة) في التعريف أغنى ذلك عن قيد (الفعلية)
لان المقصود بالوظيفة هو الحكم البالغ مرتبة البعث والزجر،
لعدم كون الالتفات إلى الحكم الاقتضائي والانشائي موضوعا لحكم
العقل بلزوم تفريغ الذمة عنه وتحصيل المؤمن عليه، ومن المعلوم
أن الكلام في الاجتهاد المعدود عدلا للاحتياط والتقليد.
كما أن عنوان (إحراز المؤمن) جامع للقول بالانسداد - كشفا أو
حكومة - والقول بالانفتاح. لان مطلوب الكل من الاجتهاد إحراز
المؤمن - بعد تنجز الاحكام بالعلم الاجمالي أو الاحتمال - مهما
كانت كيفيته.
وبقيد (عقلا) يندرج فيه الظن بالحكم الشرعي على الحكومة بناء
على الانسداد، وكذا موارد الأصول العملية المستندة إلى حكم العقل
كقاعدة القبح، والاحتياط في أطراف المعلوم بالاجمال، وأصالة
التخيير.
وبقيد (شرعا) يندرج في التعريف استنباط جل الاحكام، إذ عمدة
الأدلة هي الكتاب والسنة.
وبقيد (من أدلة الفقه) يخرج الاحتياط والتقليد عن الحد، أما
الاحتياط فلانه محرز عملي للواقع، وأما التقليد فلوضوح أن إحراز
العامي
للمؤمن مستند إلى فتوى مقلده، لا إلى أدلة الفقه.
وكيف كان فلا ريب في توقف استنباط الاحكام من أدلتها على ملكة
راسخة يقتدر بها على إرجاع الفروع إلى الأصول، وهي لا تحصل
إلا بمعرفة العلوم النظرية التي يتوقف عليها الاستنباط، والجز الأخير
لعلة حصول هذه القوة إتقان علم الأصول المعد لتحصيل الحجة
على الحكم. فإذا أتقن الباحث المجد العلوم النظرية الدخيلة في
تحصيل الحجة واستخرج أحكاما من الأدلة كانت مستنبطاته حجة
في حقه
وحرم عليه الرجوع إلى مجتهد آخر، فإنه عارف فعلا بالحرام و
الحلال.
سواء أكان عادلا أم فاسقا، بشهادة اشتراط العدالة في المفتي المرجع
للتقليد والقاضي.
376



فالاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع ونحوه لا يتوقف على قوة قدسية و
موهبة إلهية وقذف نور منه تعالى شأنه في قلب المستنبط وإن
كان كل كمال علمي وعملي منه تعالى. فما في القوانين والفصول من
(اعتبار القوة القدسية) إن أريد به مجرد ملكة الاستنباط كان في
محله، لما تقدم من استحالة الاجتهاد بدون هذه الملكة. وإن أريد به
أمر آخر وهو إشراق الفيوضات الربانية على قلب المجتهد، فلا
ريب في عدم اعتباره في أصل الاجتهاد، لحصول ملكة الاستنباط
للعادل والفاسق والمؤمن والمنافق بمجرد إتقان المبادئ الدخيلة في
تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.
نعم لا شك في أن المجتهد الموضوع لجميع الآثار كنفوذ قضائه و
ولايته على القصر والجهات وغيرهما هو المجتهد العادل، بل فوق
العدالة بناء على ما هو المحتمل من رواية التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري
عليه السلام. وحصول هذه الملكة القدسية يتوقف على
الالتزام العملي بأوامر الشارع ونواهيه وتخلية النفس من الرذائل و
تحليتها بالفضائل والمراقبة في الخلوة والجلوة، فإنه لا يعزب عن
علمه وساوس النفس فضلا عن أعمال الجوارح، ولا ريب في أن
حصول هذه القوة القدسية في مثل هذه الأزمنة كاد أن يلحق
بالمحالات
إلا من شملته العناية الإلهية، عصمنا الله جميعا من الخطأ والزلل في
القول والعمل.
وفي ختام الكلام لا بأس بذكر أمر تعرض له بعض المحققين، وهو:
أن ملكة الاجتهاد تفترق عن الملكات الخلقية كالشجاعة و
السخاوة ونحوهما بأن هذه الملكات تحصل من الافعال المسانخة
لاثارها، فالشجاع لا بد أن تتكرر منه منازلة الابطال، والاقدام في
المخاوف حتى تحصل له ملكة الشجاعة ويصح إطلاق الشجاع عليه،
وبعد حصولها تكون الافعال الصادرة منه آثارا لتلك القوة الراسخة
في نفسه، ومسانخة للأفعال السابقة على حصول الملكة، فالافعال
السابقة على حصولها واللاحقة له متماثلة.
وهذا بخلاف ملكة الاستنباط، فإن حصولها منوط بإتقان مبادئ
الاجتهاد خصوصا علم الأصول، وبعد حصول هذه الملكة تكون
نتيجتها
القدرة على استنباط الاحكام الفرعية، ومن المعلوم مغايرة الاستنباط
المتوقف على الملكة للمبادئ التي يتوقف حصول الملكة عليها.
وحيث كانت ملكة الاستنباط مقدمة على نفس العمل - لاستحالته بلا
قوة عليه - تعرف إمكان انفكاكها عن الاستنباط الخارجي، فقد
تحصل هذه القدرة بسبب إتقان مبادئ حصول الملكة،
377



ولكن لا يتصدى صاحبها لاستخراج الاحكام ومعرفتها، بل يحتاط
في أعماله الشخصية. وعليه فلا وجه لدعوى الملازمة بين حصول
الملكة وبين الاستنباط الفعلي بزعم (عدم انفكاكها عن سائر الملكات
في توقفها على صدور أفعال توجب رسوخ تلك الصفة في
النفس) وذلك لما تقدم من الفرق بين هذه الملكة وسائر الملكات في
اختلاف سنخ الأعمال اللاحقة والسابقة على حصولها.
378

فصل (1) ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجز،
فالاجتهاد المطلق هو
379

ما يقتدر به (1) على استنباط
380

الاحكام الفعلية (1) من أمارة
381

معتبرة (1)، أو أصل معتبر (2) عقلا (3) أو نقلا (4) في (5) الموارد
التي لم يظفر فيها (6) بها. والتجزي هو ما يقتدر به على استنباط
بعض الأحكام (7).
ثم إنه (8) لا إشكال في إمكان
382

المطلق (1)، وحصوله للاعلام. وعدم (2) التمكن من الترجيح في
المسألة وتعيين حكمها، والتردد (3) منهم في بعض المسائل إنما هو
بالنسبة إلى
383

حكمها الواقعي لأجل (1) عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه، أو
(2) عدم الظفر به بعد الفحص عنه (3) بالمقدار اللازم (4)، لا (5) لقلة
الاطلاع أو قصور الباع (6). وأما (7) بالنسبة إلى حكمها الفعلي فلا
تردد لهم أصلا.
كما لا إشكال (8) في
384

جواز (1) العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به (2).
وأما لغيره (3) فكذا لا إشكال
385

فيه (1) إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالأحكام
مفتوحا له، على (2) ما يأتي من الأدلة على جواز التقليد. بخلاف ما إذا
انسد عليه بابهما (3)، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الاشكال،
386

فإن (1) رجوعه (2) إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم (3)، بل
(4) إلى
387

الجاهل، وأدلة (1) جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم
إلى العالم، كما لا يخفى. وقضية (2) مقدمات الانسداد ليست إلا
حجية الظن عليه، لا على غيره، فلا بد في حجية اجتهاد مثله على
غيره (3) من التماس دليل آخر غير (4) دليل التقليد (5) وغير دليل
الانسداد الجاري في حق
388

المجتهد من (1) إجماع، أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه،
بحيث تكون منتجة لحجية [بحجية] الظن الثابت حجيته بمقدماته له
(2) أيضا.
ولا مجال (3) لدعوى الاجماع. ومقدماته (4) كذلك غير جارية في
حقه (5)،
389

لعدم (1) انحصار المجتهد به (2)، أو (3) عدم لزوم محذور عقلي من
عمله بالاحتياط وإن (4) لزم منه العسر إذا لم يكن له سبيل إلى
إثبات عدم وجوبه مع عسرة (5).
نعم (6) لو جرت المقدمات
390

كذلك (1) بأن (2) انحصر المجتهد، ولزم من الاحتياط المحذور (3)،
أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه (4) حينئذ (5) كانت
(6) منتجة لحجيته في حقه أيضا، لكن دونه (7) خرط القتاد. هذا (8)
على تقدير الحكومة.
وأما على تقدير الكشف وصحته، فجواز الرجوع إليه في غاية
الاشكال، لعدم (9) مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص
391

حجية ظنه به (1). وقضية (2) مقدمات الانسداد اختصاص حجية
الظن بمن جرت في حقه دون غيره، ولو (3) سلم أن قضيتها كون
[يكون] الظن المطلق معتبرا شرعا كالظنون الخاصة (4) التي دل
الدليل على اعتبارها
392

بالخصوص، فتأمل (1).
إن قلت (2): حجية الشئ شرعا مطلقا (3) لا توجب القطع
393

بما أدى (1) إليه من الحكم ولو ظاهرا كما مر تحقيقه (2)، وأنه (3)
ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الإصابة والعذر (4) مع عدمها، فيكون
رجوعه (5) إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا (6) رجوعا إلى
الجاهل فضلا عما إذا انسد عليه (7).
قلت (8):
394



[1] هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني في تحقيق مراد المصنف (قدهما)
بتوضيح منا.
395



وقد أوضح المحقق المشكيني (قده) كلام الماتن بقوله: (وحاصله:
منع كون موضوع الأدلة العالم بالحكم الفرعي، بل مطلق العالم بالحكم
فرعيا أو أصوليا، وفي الفرض يكون الثاني محققا.).
والظاهر عدم وفاء هذا البيان بما رامه المصنف (قده) لوجهين:
أحدهما: أن مجرد علم المجتهد بالحكم الأصولي - أي الحجية - لا
يوجب أهليته لرجوع العامي إليه ما لم تكن حجية الامارات شاملة له
أيضا، إذ بدون هذه الضميمة لا ينفع العلم بالحكم الأصولي إلا لصحة
عمل المجتهد، ولا كلام فيه، والاشكال كله في جواز رجوع العامي
إليه، وهو لا يندفع إلا بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من عدم
اختصاص أدلة حجية الامارات بالمجتهد، بل تعم المقلد أيضا وإن لم
يكن المقلد أهلا للاستفادة منها.
ثانيهما: أن مقصود المصنف من قوله: (قلت: نعم.) إبدأ الفرق بين
المجتهد الانفتاحي والانسدادي الكشفي، ولو كان مقصوده كفاية
علم المجتهد بالحكم الأصولي في صحة رجوع العامي إليه لا تنقض
بأن الانسدادي - على الكشف - له الحجة الشرعية على الحكم، و
مقتضاها علمه بالحكم الظاهري، وحينئذ فهو أولى بالرجوع إليه من
المجتهد الانفتاحي الذي لا علم له بالحكم لا واقعا ولا ظاهرا. ولا
يندفع هذا الاشكال إلا بما تقدم من أن علم الانسدادي بالحكم
الظاهري مختص به، بخلاف علم الانفتاحي بحجية الحجج، فإنه يعم
المقلد
أيضا.
وكيف كان فقد أورد المحقق الأصفهاني على الماتن بالنقض والحل،
قال: (والجواب - بعد النقض بالاستصحاب المتقوم باليقين و
الشك القائمين بالمجتهد مع أنه لم يستشكل فيه - هو: أن المقدمات
تقتضي حجية الظن المتعلق بالحكم، فإذا تعلق الظن بحكم الغير وكان
على طبقه حكم مماثل مجعول، فلا مانع من شمول أدلة التقليد له، و
مع تمامية المقدمات بالإضافة إلى هذا الظن لا موجب لعدم حجيته، و
الاقتصار على الظن المتعلق بحكم نفسه ملاحظة قيام الظن به، فإن
قيامه به لا يقتضي عدم كونه حجة على حكم الله تعالى في حق
الغير).
أقول: يبتني هذا الاشكال على دخل مقدمات الانسداد في حجية
الظن كشفا بنحو الحيثية التعليلية، إذ عليه يمكن تسريتها إلى المقلد
بمعونة أدلة التقليد، وأما إذا كانت دخيلة فيه بنحو الحيثية التقييدية
فاللازم الاقتصار في حجية الظن كشفا على من تمت المقدمات عنده،
ولا تجدي أدلة
396

نعم (1)، إلا أنه (2) عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام [1 [3

التقليد في تسرية حجية ظنون المجتهد إلى المقلد. وظاهر قول
المصنف قبل أسطر: (لعدم مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى
من اختص حجية ظنه به، وقضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية
الظن بمن جرت في حقه، دون غيره) هو الثاني، وعليه فيشكل تعميم
حجية هذا الظن بأدلة التقليد، لفرض دلالة المقدمات على قصر
حجيته بمن قامت عنده خاصة.
نعم في كلام المصنف تأمل آخر سيأتي التعرض له (إن شاء الله
تعالى).
[1] هذا متين، إذ لا ريب في أن المجتهد الانفتاحي عالم بموارد قيام
الحجة على الأحكام الشرعية، إلا أنه لا تصل النوبة إلى هذا التوجيه
بعد إطلاق (معرفة الاحكام) على استفادة الحكم الشرعي من الطرق
المتعارفة كخبر الثقة وظواهر الألفاظ، فإن هذا الاطلاق يشهد بأن
المعرفة
397

فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم.
398

إن قلت (1):

الحجة القاطعة للعذر عليه سواء كانت حجة من قبلهم عليهم السلام أو
من العرف أو من العقلاء.
لكن يمكن أن يقال: إن إطلاق المعرفة على استفادة الحكم من الخبر و
الظاهر وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس بمناط قطع العذر حتى
يتعدى منهما إلى كل حجة عقلية أو شرعية منجزة للواقع أو معذرة
عنه، بل بمناط طريقيتها النوعية والكشف الغالبي عن الواقع، فإن
عمدة الدليل على اعتبار ظواهر الألفاظ والخبر هي السيرة الممضاة، و
من المعلوم أن عمل العقلاء بظاهر الكلام إنما هو لحكايته عن
المراد الجدي عند عدم نصب قرينة على خلافه، فحيثية الكشف عن
الواقع ملحوظة في عملهم بظاهر الكلام قطعا، ولأجلها يصح
الاحتجاج به تنجيزا وتعذيرا، فصحة الاحتجاج به متفرعة على
طريقيته للواقع، وليست مجردة عنها حتى يتعدى إلى كل حجة قاطعة
للعذر.
وكذا الحال في بنائهم على العمل بخبر الثقة، فإنه بنظرهم طريق إلى
الواقع وكاشف عنه.
والاخبار الارجاعية التي هي إمضاء لهذا البناء العقلائي وافية بهذا
المعنى، ففي سؤال عبد العزيز بن المهتدي عن الرضا عليه السلام: (أ
فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟) يكون المقصود
منه الوصول إلى نفس الاحكام الواقعية التي يخبر بها يونس عن
الامام المعصوم عليه السلام، فإن معالم الدين لا تنطبق على إخبار
يونس بشئ ليس من الدين بمجرد كونه معذرا عنه، للفرق بين السؤال
عن معالم الدين وبين ما يكون معذرا عنه.
وعليه فلا سبيل للتعدي عن ظهور (عرف أحكامنا) إلى كل حجة
قاطعة للعذر حتى الظن الانسدادي على الحكومة.
نعم لا بد من الاخذ بعموم (أحكامنا) بإرادة الأعم من الحكم الظاهري
والواقعي، فالافتاء بأحد الخبرين المتعارضين اعتمادا على أدلة
التخيير معرفة بالحكم الظاهري، وكذا في موارد الأصول العملية.
والمتحصل: أنه كما لا حاجة إلى تكلف إرادة العلم بموارد قيام الحجة
على أحكامهم من العلم بها، كذلك لا موجب لحمل المعرفة على
مطلق الحجة القاطعة للعذر حتى إذا كان فاقدا لحيثية الكشف عن
الواقع.
399

رجوعه (1) إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده (2) التي يكون
المرجع فيها الأصول العقلية ليس إلا الرجوع إلى الجاهل.
قلت (3):
400

رجوعه (1) إليه فيها إنما هو لأجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية
فيها، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك، وأما تعيين ما هو حكم
العقل، وأنه (2) مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط فهو (3) إنما يرجع
إليه، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده،
فافهم (. [1 [4

[1] فان قلت: يمكن الاستدلال على جواز تقليد المجتهد الانسدادي
بوجه آخر، وهو عدم القول بالفصل، كما استدل به المصنف فيما
سيأتي من نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي على الحكومة، وأي فارق
بين المقامين؟ فليكن دليل نفوذ حكمه دليلا على جواز تقليده أيضا.
قلت: فرق بين المقامين، إذ المناط في باب التقليد على ما يقتضيه
سيرة العقلاء هو صدق رجوع الجاهل إلى العالم، والمفروض عدم
كون الانسدادي على الحكومة عالما، والأدلة اللفظية لا تدل
401

وكذلك (1) لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان

على أزيد من هذا البناء العقلائي، وبعد فقد المناط لا معنى لالحاق
غير العالم بالعالم بالاجماع المركب. وهذا بخلاف نفوذ الحكم، فإن
ثبوت الولايات - ومنها منصب القضاء - إنما هو بجعل تعبدي
شرعي ولا ربط له ببناء العقلاء، وقد جعل المنصب في مثل المقبولة
لعنوان (العارف بالحرام والحلال) وهذا العنوان وإن لم يصدق على
الانسدادي على الحكومة، إلا أن التوسعة والتضييق في عنوان
(العارف بالأحكام) بمكان من الامكان، ومن المعلوم أن الاجماع
المركب - لو تم في نفسه - كان كاشفا عن عدم موضوعية خصوص
العارف بالأحكام، وأن الموضوع أعم منه وممن لا تحير له في
وظيفته.
وعليه فالفرق بين باب التقليد والحكومة هو كون الأول إمضائيا
متوقفا على وجود موضوعه والثاني تعبديا قابلا للتوسعة والتضييق.
402

باب العلم والعلمي [أو العلمي] له مفتوحا.
403

وأما إذا انسد عليه (1) بابهما، ففيه إشكال على الصحيح (2) من
تقرير المقدمات على نحو الحكومة، فإن (3) مثله - كما أشرت آنفا -
ليس ممن يعرف الاحكام، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم كما في المقبولة.
404

إلا أن يدعي (1)
405

عدم القول بالفصل (1)، وهو (2) وإن كان غير بعيد، إلا أنه ليس
بمثابة يكون حجة على عدم الفصل (3).
إلا أن يقال (4): بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات و
الضروريات من الدين أو المذهب، والمتواترات، إذا كانت (5) جملة
407

يعتد بها وإن انسد باب العلم بمعظم الفقه، فإنه يصدق عليه (1)
حينئذ: أنه ممن روى حديثهم عليهم السلام ونظر في حلالهم و
حرامهم و
عرف أحكامهم عرفا حقيقة (. [1 [2
وأما قوله (3) عليه السلام في المقبولة: (فإذا حكم بحكمنا)

[1] أو يقال: إن ضيق المعرفة يضيق دائرة الاحكام، لاختصاصها بالعلم،
ومن المعلوم عدم حصول العلم بجميع الاحكام لاحد غير الإمام عليه السلام
. وقرينية ضيق المحمول على تضيق الموضوع عقلية، و
هي توجب إرادة خصوص الاحكام التي يمكن العلم بها، وهي قليلة،
فمن علم جملة من الاحكام جاز له التصدي للقضاء، ولا يعتبر في
نفوذ قضائه العلم بجميع الاحكام، فتأمل.
408

فالمراد (1) أن مثله (2) إذا حكم كان
410

بحكمهم (1) حكم، حيث كان منصوبا منهم، كيف (2)؟ وحكمه
غالبا يكون في الموضوعات الخارجية، وليس مثل ملكية دار لزيد أو
زوجية امرأة له من (3) أحكامهم، فصحة (4) إسناد حكمه إليهم
عليهم السلام إنما هو لأجل كونه من المنصوب من قبلهم. [1]

[1] لا يخلو من خفاء، فإن هذا المعنى يقتضي إرادة نفس الحكم و
القضاء من مدخول الباء، لكونه منصوبا من قبلهم عليهم السلام، لا
إرادة المقضي به وهو الحكم الجزئي في مورد الترافع، مع أن
411



الظاهر من (بحكمنا) هو: أن ما يقضي به الحاكم في الواقعة لا بد أن
يكون حكمنا حتى يشمله دليل جعل المنصب.
وبعبارة أخرى: فرق بين أن يقال: (قضاء العارف بالأحكام قضاؤهم
عليهم السلام، لأنه منصوب من قبلهم) وأن يقال: (ما قضى به
المجتهد يكون منهم عليهم السلام) فإن كونه منهم منوط بمعرفة
أحكامهم التي وقع عليها القضاء.
والظاهر أن المقبولة تكون في مقام تشريع نفوذ حكم القاضي الشيعي
الذي صدر عن الموازين المقررة عندهم عليهم السلام في باب
القضاء، بأن لا يصدر عن القياس والاستحسانات المعول عليها عند
العامة. وربما يؤيد هذا الاستظهار ما ذكر بعده من الجمل لتفريع
حرمة نقضه ورده على قوله:
(فإذا حكم بحكمنا). فمحصله: (أن الراوي لحديثنا إذا عرف أحكامنا
بالنظر فيها، فحكم بالموازين التي عندنا، فذلك حكمنا الذي لا
يجوز رده والاستخفاف به) وهذا المعنى ينطبق على حكم المجتهد
في الشبهات الحكمية والموضوعية.
واستشهاد المصنف (بأن حكم الحاكم في الشبهات الموضوعية
كملكية دار لزيد على أن المراد من - بحكمنا - هو أنه منصوب من
قبلنا)
لا يشهد له، لالتئام هذا الكلام مع ما ذكرناه أيضا، فإن المجتهد إذا
حكم في شبهة موضوعية على طبق الموازين المقررة في كتاب القضاء
كان حكمه حكمهم عليهم السلام، لانبعاثه عن رواياتهم وموازينهم
صلوات الله عليهم) في باب القضاء.
هذا تمام الكلام في المجتهد المطلق الذي استنباط جملة وافية من
الاحكام.
وأما من لم يستنبط شيئا من الاحكام ففي ثبوت الاحكام المتقدمة له
وعدمه خلاف، لا بأس بالإشارة إليه في طي جهات:
الجهة الأولى: في جواز رجوعه إلى الغير في عمل نفسه، والمنسوب
إلى المشهور العدم، وإلى السيد المجاهد في المناهل الجواز. و
الصحيح هو الأول، لان مقتضى تنجز الاحكام الواقعية عليه بالعلم
الاجمالي بها أو الاحتمال هو لزوم الخروج عن تبعة العقوبة على
مخالفة تلك التكاليف المنجزة، ولا محيص حينئذ عن تحصيل العلم
بالمؤمن وهو الوظيفة العملية، ومن المعلوم توقف العلم المزبور على
الاجتهاد الفعلي وعدم حصوله بمجرد وجود الملكة، فإذا لم يجتهد
فعلا فهل يجوز أن يقلد الغير في أعماله أم لا؟ فعن الشيخ الأعظم
(قده) دعوى الاتفاق على عدم جواز تقليد غيره،
412



لان حجية رأي الغير في حقه أول الكلام، والأصل عدم الحجية، و
ذلك لانصراف أدلة حجية الرأي على الغير عمن له ملكة الاجتهاد. و
لان
الجزم بالامتثال يتوقف على اجتهاده والعمل برأي نفسه، ولا يحصل
بالتقليد، لاحتمال تخطئته للغير في فتواه.
فلا يصغى إلى ما قيل: (من جواز رجوعه إلى الغير، لان مجرد وجود
الملكة لا يجعل المتصف بها عالما بالأحكام، فهو بعد جاهل بها،
فيجوز له تقليد غيره، لكونه من رجوع الجاهل إلى العالم) وذلك لما
عرفت من الشك في حجية فتوى الغير بعد التمكن من العلم بالمؤمن
الواجب عقلا تحصيله، والمفروض كون رأي الغير في حقه مشكوك
المؤمنية.
فان قيل: إن مقتضى عدم حجية رأي الغير بالنسبة إلى واجد الملكة هو
عدم حجيته لفاقدها أيضا مع التمكن من تحصيلها ولو بعد سنين
بالدراسات الممتدة في أزمنة متمادية، وهذا مما لا يلتزم به.
قلنا: إن القياس مع الفارق، لان واجد الملكة قادر فعلا على تحصيل
العلم بالوظيفة الفعلية، بخلاف فاقدها، فإن إيجاب ذلك عليه مساوق
لوجوب الاجتهاد عينا مع وضوح كونه كفائيا كما هو مقتضى آية النفر.
كما لا يشمله الامر بالسؤال من أهل الذكر، فإن المخاطب
بالسؤال هو الجاهل، وذو الملكة لا يصدق عليه الجاهل حتى يطلب
منه السؤال، لاحتمال كونه مخطئا للعالم الذي يرجع هو إليه، بل قد لا
يكون المسؤول عالما بنظره، فيكون من رجوع العالم إلى الجاهل.
والمقام نظير من يكون مديونا جاهلا بمقدار الدين، لكنه مضبوط في
دفتره، بحيث إذا رجع إليه علم مقداره تفصيلا، فهل يجوز له عقلا
أن يقتصر في معرفة مقداره على إخبار من يحتمل كذبه ولا يطمئن
بصدقة مع التمكن من العلم تفصيلا بمقداره؟ فان من المعلوم عدم
حكم العقل بفراغ ذمته عن ذلك الدين إلا بمراجعة الدفتر المزبور.
وإن شئت فقل: إن رجوعه إلى غيره إما من رجوع الجاهل إلى الجاهل
في نظره، وإما من رجوع العالم إلى الجاهل، فالتمسك بأدلة
التقليد على جواز رجوع واجد الملكة إلى غيره تمسك بالدليل في
الشبهة المصداقية، إذ المفروض احتمال تخطئة واجد الملكة لغيره
في
الفتوى، فلا يكون ذلك الغير عالما بنظره.
ولا وجه أيضا لاستصحاب جواز رجوعه إلى الغير الذي كان ثابتا قبل
حصول الملكة له، وذلك لعدم حجيته في تبدل الحال الموجب
للشك في بقاء الموضوع.
413

وأما التجزي في الاجتهاد،
ففيه مواضع من الكلام (1):
الأول: في إمكانه (2)،
415

وهو (1) وإن كان محل الخلاف بين الاعلام، إلا أنه لا ينبغي الارتياب
فيه (2) حيث (3) كان أبواب الفقه مختلفة مدركا، والمدارك (4)
متفاوتة سهولة
416

وصعوبة عقلية ونقلية، مع (1) اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها،
وفي طول (2) الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير
الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته (3) في النقليات أو
العقليات (4)، وليس (5) كذلك في آخر، لعدم (6) مهارته فيها و
ابتنائه
عليها. وهذا (7) بالضرورة ربما يوجب
417

حصول القدرة على الاستنباط في بعضها (1)، لسهولة مدركه، أو
لمهارة الشخص فيه (2) مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس
كذلك
(3). بل يستحيل (4) حصول اجتهاد مطلق عادة (5) غير مسبوق
بالتجزي،
418

للزوم (1) الطفرة. وبساطة الملكة (2)

[1] قال (قده): (وأما أنهما متفاوتتان بالزيادة والنقصان فلان معرفة كل
علم من العلوم النظرية توجب قدرة على استنباط طائفة من
الاحكام المناسبة لتلك المبادئ - كالأحكام المتوقفة على المبادئ
العقلية أو المتوقفة على المبادئ اللفظية - فالقدرة الحاصلة على
استنباط طائفة غير القدرة الحاصلة على استنباط طائفة أخرى. لا أن
معرفة بعض المبادئ توجب اشتداد القدرة الحاصلة بسبب مباد
اخر. والأقوائية كما تكون بالشدة والضعف كذلك بالزيادة والنقص،
فإن التشكيك غير الاشتداد. وما يختص بالشدة والضعف هو
الاشتداد الذي هو الحركة من حد إلى حد.
وعليه فليس التجزي منافيا لبساطة الملكة، بتوهم: أن البسيط لا يتجزأ
ولا يتبعض. فان كل قدرة بسيطة، وزيادتها توجب تعدد
البسيط لا تبعض البسيط) فراجع كلامه متدبرا فيه
419

وعدم (1) قبولها التجزئة، لا يمنع (2) من حصولها بالنسبة إلى بعض
الأبواب بحيث يتمكن بها من الإحاطة بمداركه (3)، كما (4) إذا
كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها. ويقطع (5) بعدم دخل ما في
421

سائرها (1) به أصلا، أو (2) لا يعتني باحتماله، لأجل الفحص بالمقدار
اللازم الموجب للاطمئنان بعد دخله (3) كما في الملكة المطلقة (4)،
بداهة (5) أنه
422

لا يعتبر في استنباط مسألة معها (1) من الاطلاع فعلا على مدارك
جميع المسائل، كما لا يخفى.
الثاني (2): في حجية ما يؤدي إليه
423

على المتصف به (1)، وهو (2) أيضا محل الخلاف إلا أن (3) قضية
أدلة المدارك حجيته (4)، لعدم اختصاصها (5) بالمتصف بالاجتهاد
المطلق، ضرورة (6)
424

أن بناء العقلاء على (1) حجية الظواهر مطلقا، وكذا (2) ما دل على
حجية خبر الواحد، غايته تقييده (3) بما إذا تمكن من دفع معارضاته
كما هو (4) المفروض.
الثالث (5): في جواز (6) رجوع غير المتصف
425

به (1) إليه في كل مسألة اجتهد فيها، وهو (2) أيضا محل الاشكال من
(3) أنه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمه (4) أدلة جواز التقليد. و
من دعوى (5)
426

عدم إطلاق فيها (1)، وعدم (2) إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة
المتشرعة على الرجوع إلى مثله (3) أيضا (4)، وستعرف (5) إن شاء الله
تعالى ما هو قضية الأدلة.
427

وأما جواز حكومته (1) ونفوذ فصل خصومته (2) فأشكل (3). نعم
(4) لا يبعد نفوذه فيما إذا عرف جملة معتدا بها واجتهد فيها، بحيث
يصح أن يقال في حقه عرفا: (انه ممن عرف أحكامهم) كما مر (5) في
المجتهد المطلق
428

المنسد عليه باب العلم والعلمي في معظم الاحكام. [1]

[1] وتوضيح الكلام في هذا الموضع الثالث: أنه قد ادعي الاجماع
على عدم جواز تقليد المتجزي، وقد أفتى به جمع منهم السيد الفقيه
صاحب العروة، حيث قال في عداد شرائط مرجع التقليد: (وكونه
مجتهدا مطلقا، فلا يجوز تقليد المتجزي) فإن تم الاجماع المدعي
فهو،
وإلا فمقتضيات أدلة وجوب التقليد مختلفة كما سيظهر.
وينبغي تحرير محل النزاع أولا، فنقول: إن التجزي في الاجتهاد في
قبال المطلق منه لا يراد به إلا ملكة الاستنباط لا استخراج الاحكام
فعلا من الأدلة، فمن يتمكن من استنباط جميع الأحكام حقيقة أو عرفا
فهو مجتهد مطلق، ومن ليس كذلك فهو متجز. وللملكة المتجزية
مراتب بلحاظ إتقان المبادئ النظرية الدخيلة في الاستنباط، فرب
متجز. يقارب المجتهد المطلق في الفضل، ورب متجز لا يقدر على
استنباط عشر مسائل، وبين الحدين مراتب متفاوتة جدا.
وليس محل الكلام هو القادر على استخراج حكم مسألة أو مسألتين
قطعا، فإن العنوان المأخوذ في أدلة حجية الفتوى ونفوذ القضاء -
على ما مر - هو الفقيه والعالم بالأحكام، وهذا وإن لم يكن مرادفا
للمجتهد المطلق كما أنه لا يقابل المتجزي، إذ النسبة بين الفقيه وكل
من قسمي الاجتهاد هو العموم من وجه، فالفقيه من استخراج جملة
وافية من أحكام أكثر أبواب الفقه بحيث يصدق على (العالم بالأحكام)
بقول مطلق، وصدقه كذلك منوط بمعرفتها بنحو الاستغراق العرفي،
وهذا قد يتصادق عليه المجتهد المطلق والمتجزي، وإن كان
بينهما فرق من جهة قدرة الأول على استنباط بقية الاحكام وعجز
الثاني عنه.
وليكن محل الكلام هو المتجزي القادر على استنباط أحكام باب أو
بابين من أبواب الفقه كمن استخرج أحكام كتاب القضاء فقط، أو هي
مع أحكام الشهادات، كما يظهر من الاستدلال بمعتبرة أبي خديجة
الآتية.
إذا عرفت محل النزاع، فاعلم: أن مقتضى بعض أدلة وجوب التقليد
تعين الرجوع إلى المجتهد المطلق، ومقتضى بعضها جواز الرجوع
إلى المتجزي، وبيانه: أنه بناء على الانسداد واقتضائه بطلان غير
التقليد من الطرق يجب على العامي الرجوع إلى عالم ما، لكون النتيجة
جزئية، والمتيقن حينئذ
429



هو الرجوع إلى المجتهد المطلق لا المتجزي. هذا مع الغض عما حقق
في محله من أن نتيجة المقدمات هي التبعيض في الاحتياط لا حجية
قول الفقيه.
وبناء على الانفتاح يكون مقتضى الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة -
على فرض صحة الاستدلال بها على وجوب التقليد - اعتبار
الاجتهاد المطلق في مرجع التقليد، لظهور آية النفر في وجوب الحذر
عقيب إنذار الفقيه، لا وجوبه عند إنذار كل منذر، والفقيه هو العالم
بجل الاحكام. وهذا ظاهر رواية التفسير أيضا من قوله عليه السلام:
(فللعوام أن يقلدوه). وظهور آية السؤال من أهل الذكر في
موضوعية (أهل الذكر) للحكم بوجوب السؤال منه مقدمة للعلم ثم
الاعتقاد أو العمل به. وأما ظهور المقبولة (وعرف أحكامنا) في
الاستغراق وعدم كفاية معرفة اليسير من أحكامهم فقد تقدم مشروحا.
وهكذا الحال في الاخبار الارجاعية، فإنها تدل أيضا على اعتبار كون
المرجع محيطا بجل الأحكام الشرعية، وعدم كفاية العلم ببعضها،
ولفظ (الفقيه والعالم) وإن لم يرد في هذه الأخبار لكون السؤال في
جملة منها عن وثاقة المرجع وأمانته في النقل، إلا أن اعتبار فقاهة
المرجع إما لكونه من المرتكزات التي قررها الإمام عليه السلام وإما
لكونه مما يدل عليه مناسبة الحكم والموضوع، وعدم كون تمام
الموضوع هو الوثاقة في نقل ألفاظ الرواية إلى السائل، بل ورد في
السؤال عن وثاقة يونس سن عبد الرحمن (آخذ عنه معالم ديني)
فمفروض سؤال عبد العزيز بن المهتدي أن يونس عالم بمعالم الدين،
ومن المعلوم توقف صدق العالم بالدين على معرفة معظم أحكامه.
ويشهد لهذا أيضا أمره عليه السلام أبان بن تغلب بالجلوس في
المسجد والافتاء، فإن الافتاء في ذلك العصر وإن لم يكن بهذا الحد
من
الصعوبة والأعضال، إلا أنه ليس مجرد قراءة ألفاظ الروايات على عوام
الشيعة، مع ما فيها من المتعارضات والعام والخاص والمطلق و
المقيد وغير ذلك مما يتوقف استفادة الحكم الشرعي منها على
إعمال نظر فيها، خصوصا وأن الافتاء المأمور به لم يقيد بباب دون
باب، وهذا طبعا منوط بالعلم بأكثر الأحكام الشرعية وبالفقاهة في
الدين.
وبهذا يظهر أن المقصود من الارجاع إلى رواة الأحاديث في المقبولة و
غيرها ليس الارجاع إلى من روى صرف الوجود من أحاديثهم
عليهم السلام حتى يستأنس منه حجية فتوى المتجزي، كيف؟
430



والمفروض في المقبولة اختلاف الحاكمين في الشبهة الحكمية وهي
الدين أو الميراث، ومن المعلوم أن المنصوب في هذا الموارد لفصل
الخصومة والنزاع هو المجتهد المطلق خصوصا بقرينة (عرف
أحكامنا). ولا إطلاق في قوله عليه السلام: (روى حديثنا، وإنما كان
ذكره للتنبيه على استناد القاضي إلى روايتهم عليهم السلام في قبال
قضاة العامة الذين أوجب انحرافهم عن باب مدينة علم الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم استنادهم إلى غير رواياتهم عليهم السلام
الموجب لوقوعهم في التيه والحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى على
نبيه و
آل بيته المعصومين عليهم السلام.
فالمتحصل: أن الأدلة اللفظية تقتضي اعتبار الاجتهاد المطلق في
مرجع التقليد. نعم في خصوص معتبرة أبي خديجة كلام سيأتي
التعرض
له (إن شاء الله) هذا كله حال الأدلة اللفظية.
وأما بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم فقيل: إنه استقر على
عدم الفرق في الرجوع إلى المجتهد بين المطلق والمتجزي، لوحدة
المناط وهو الخبروية، (لوضوح أن جاهلهم بشئ يرجع إلى العالم به
وإن لم يكن له معرفة بغيره من الأمور، فتراهم يراجعون الطبيب
الأخصائي بالعيون مثلا وإن لم يكن له خبرة بغيرها من الجهات، و
كذلك من له معرفة ببعض المسائل دون بعض وإن كان قليلا. بل
قد يقدمون نظر المجتهد المتجزي على قول المجتهد المطلق عند
المعارضة، كما إذا كان المتجزي أعلم من المجتهد المطلق، لممارسته
و
دقته في العلوم العقلية، وكونه أقوى استنباطا منه فيما يرجع إلى تلك
المباحث من المسائل كوجوب مقدمة الواجب وبحثي الضد و
الترتب وغيرها، وإن لم يكن له قوة بتلك المثابة في المسائل الراجعة
إلى مباحث الألفاظ كغيرها).
ويدل على كفاية مطلق الاجتهاد في مرجع التقليد وعدم اعتبار
الاجتهاد المطلق فيه معتبرة أبي خديجة عن الصادق عليه السلام:
(إياكم
أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم
يعلم شيئا من قضائنا [قضايانا] فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته
قاضيا، فتحاكموا إليه). وتقريبه هو ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) بقوله:
(وكونها في القضاء لا يمنع من الاستدلال بها في المقام، لان
منصب القضاء منصب الفتوى، ولا عكس، فما دل على عدم اعتبار
شئ في القاضي يدل على عدم اعتباره في المفتي). وعليه تكون
هذه الرواية المعتبرة إمضاء للسيرة الجارية على جواز رجوع الجاهل
إلى العالم من دون اعتبار كونه عالما مطلقا.
431



أقول: لا ريب في بناء العقلاء على مراجعة الخبير المتجزي في
الجملة، وتقديم قوله - في ظرف المخالفة - على قول من له إحاطة
بأبواب
أخرى من الفن، ومثاله المعروف هو الطبيب الأخصائي بالقياس إلى
العالم بالطبابة العامة، إذ لا شك في تقديم رأي الأول على الثاني
عند المعارضة. لكن التنظير به لما نحن فيه من مساواة قول المتجزي
للمجتهد المطلق أو تقديم قوله عليه لا يخلو من شئ، إذ مورد
البحث في المقام وجود مجتهدين مثلا أحدهما متجز في باب القضاء،
والاخر مطلق له القدرة على استنباط تمام أبواب الفقه، وفي
خصوص كتاب القضاء تتوفر القدرة اللازمة لاستخراج أحكامه لكل
منهما، وإن أمكن كون أحدهما أكثر مهارة من الاخر في استنباط
ذلك الباب.
وهذا بخلاف الطبيب، فإن الطبيب الأخصائي - في عضو أو جهاز من
أجهزة البدن - له الخبرة بأمراض مورد اختصاصه بما يكون
الطبيب العام فاقدا لتلك الخبرة قطعا، وفي مثله يقدم قول المتجزي
بلا شك، وأين هذا من المجتهد المطلق والمتجزي في باب من
أبواب الفقه؟ فان مفروض البحث قدرة المتجزي على استنباط أحكام
مورد اجتهاده من إعمال قواعد عامة أو جمع بين المتعارضات و
نحوها كما يقتدر المجتهد المطلق على استنباطها.
والواقع أن إحراز سيرة العقلاء والمتشرعة على العمل بقول المتجزي
في الأحكام الشرعية مع وجود المجتهد المطلق مشكل، خصوصا
مع ما فيها من الاهتمام الذي ليس في الشؤون الدنيوية، فان المهم في
باب التقليد تحصيل المؤمن من العقاب المحتمل بعد العلم الاجمالي
بالتكاليف الالتزامية في الشريعة المقدسة، فلو كان المتجزي أعلم في
بابه من المطلق أمكن دعوى بنائهم على مراجعته، وإلا فمع فرض
المساواة لا تخلو دعوى بنائهم على الرجوع إليه من تردد.
هذا كله بناء على ثبوت صغرى رجوعهم إلى المتجزي من أهل الخبرة
في الدين، والمهم حينئذ إمضاء هذا البناء العملي، وقد عرفت أن
سيدنا الأستاذ (قده) اعتمد على ظهور معتبرة أبي خديجة في كفاية
التجزي في الاجتهاد للتصدي لمنصب القضاء، وما ثبت له ثبت
للفتوى أيضا، ولا عكس.
وتحقيق هذا الامر منوط بالنظر في جهتين، الأولى: في ما يستفاد من
متن المعتبرة، الثانية: في النسبة بينها وبين سائر الأدلة اللفظية
الظاهرة في اعتبار الاجتهاد المطلق.
أما الجهة الأولى فمحصلها: أن هذه المشهورة رواها ثقة الاسلام
الكليني بلفظ (من قضائنا)
432



ورواها الشيخ - كما في الوسائل - بلفظ (من قضايانا) وعلى كل
منهما فإما أن تكون حرف الجر للتبعيض أو للبيان، والاستدلال بها
على كفاية الاجتهاد في باب القضاء للتصدي لهذا المنصب الشامخ
منوط بدلالة الرواية على كفاية معرفة جملة من أحكام القضاء، إما بأن
يقال في مدلولها:
(يعلم شيئا هو قضاؤنا) أي يعلم خصوص ما ورد عنهم عليهم السلام
في باب القضاء من موازين الحكم. وإما أن يقال: (يعلم شيئا من
طبيعة قضائهم عليهم السلام ويكون حرف الجر للتبعيض بناء على
صحته في المقام، لعدم كون الافراد أبعاض الطبيعة.
وعلى كل منهما يكفي كون القاضي مجتهدا في باب القضاء، وحيث
إن منصب القضاء هو منصب الفتوى أمكن القول بجواز العمل بفتوى
المتجزي.
أقول: لا بد من ملاحظة مدلول الرواية بناء على كلتا النسختين، فبناء
على نسخة الكافي (من قضائنا) قد يتجه ما تقدم من نفوذ قضاء
المتجزي في كتاب القضاء، نعم لا تصدق معرفة طبيعة قضائهم عليهم
السلام على معرفة مسألة أو مسألتين مثلا، كما أن العارف بمسألتين
من علم النحو أو الطب لا يصدق عليه أنه نحوي أو طبيب، بل ظاهره
معرفة جميع الأحكام.
وبناء على نسخة التهذيب (من قضايانا) فقد يشكل الامر، لان الجمع
المضاف من ألفاظ العموم، فتعتبر معرفة جميع الأحكام بحيث
يصدق الاستغراق العرفي، ويتحد هذا المضمون مع مثل المقبولة
الظاهرة في اعتبار الفقاهة والاجتهاد المطلق. ولا يجدي كون حرف
الجر للتبعيض، فان بعض الكثير كثيرا أيضا، فإن علومهم عليهم السلام
بحار ليس لها ساحل ولا يحيط بها بشر، فلا بد من كون بعضها
كثيرا أيضا، فإن القطرة وإن كانت بعض البحر حقيقة، إذ كل جز من
أجزأ المركب بعضه وإن كان قليلا، إلا أن صحة النسبة البعضية
عرفا أمر آخر غير الصدق اللغوي والدقي العقلي، فهي متقومة بكون
البعض كثيرا في نفسه وبالنسبة إلينا، وقد حكي أنه قيل لصاحب
الجواهر أعلى الله مقامه الشريف عند احتضاره وانكشاف الغطاء عنه:
(عنده شئ من علم جعفر عليه السلام مع أنه من أعاظم الفقهاء و
أعمدتهم وممن وفقه الله تعالى لتحرير دورة كاملة من أمهات
المباحث الفقهية.
وعلى هذا الاحتمال تكون معتبرة أبي خديجة موافقة للمقبولة و
نحوها.
إلا أنه قد يعول على نقل الكليني باعتبار أضبطيته في مقام النقل، و
تقع المعارضة بينها وبين سائر الأدلة اللفظية، إذ الاحكام الواصلة
عنهم عليهم السلام في باب الخصومات ليست بكثيرة في نفسها.
هذا بعض الكلام في الجهة الأولى.
433



وأما الجهة الثانية وهي بيان النسبة بين المشهورة - على فرض دلالتها
على كفاية معرفة أحكام القضاء وفصل المرافعات - والمقبولة
ونحوها مما ظاهره اعتبار الاجتهاد المطلق، فنقول: بناء على ظهور
المشهورة بدوا في نفوذ قضاء المتجزي تقع المعارضة بينها وما
بمضمونها كما في صحيحته الأخرى: (اجعلوا بينكم رجلا قد عرف
حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا) وغيرها مما استدل به
على كفاية التجزي في الاجتهاد، وبين المقبولة: (وعرف أحكامنا)
الظاهرة في معرفة مقدار معتد به من الاحكام.
والظاهر لزوم تقييد المشهورة بالمقبولة، فإن معتبرة أبي خديجة وإن
دلت على كفاية العلم بشئ من قضائهم عليهم السلام في جواز
التصدي لهذا المنصب، إلا أن مقتضى قوله عليه السلام في المقبولة:
(وعرف أحكامنا) عدم كفاية العلم بمطلق الشئ من قضائهم في
مشروعية القضاء في المرافعات، وأن اللازم معرفة كثير من أحكامهم
عليهم السلام، خصوصا مع كونه عليه السلام في مقام نصب القاضي
لفصل النزاع في الشبهة الحكمية التي تعارضت الروايات فيها كما هو
مفروض سؤال عمر بن حنظلة من الاختلاف في الدين والميراث،
فلا يكفي في التصدي لهذا المنصب التلبس بصرف الوجود من رواية
الحديث، ما لم يبلغ مرتبة صدق (العالم والعارف بالأحكام) عليه.
هذا كله بناء على كون المشهورة كالمقبولة ناظرة إلى القاضي
المنصوب بالنصب العام، وإلا فبناء على كون مفادها نصب قاضي
التحكيم فلا معارضة لها مع المقبولة، لتعدد المورد.
والاجماع على عدم اعتبار رواية جميع أحاديثهم عليهم السلام ولا
النظر في جميع حلالهم وحرامهم - لكفاية النظر في الجملة المعتد
بها - وإن كان صحيحا، كما أن حمل المعرفة على الملكة خلاف
ظهور المعرفة في الفعلية وتفكيك بين فقرات الرواية يأباه سياقها، إلا
أن ذلك كله لا يوجب حمل (عرف أحكامنا) على الجنس الصادق
على القليل والكثير، حتى يقال بكفاية التجزي في مقام القضاء، و
ذلك
لان تعذر إرادة الاستغراق الحقيقي من معرفة أحكامهم وتعذر حمل
المعرفة على الملكة لا يوجبان التنزل إلى كفاية مطلق المعرفة
الفعلية ببعض الاحكام، بل يتعين الحمل على الجملة المعتد بها كما
ذكرنا، فما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في المستمسك عقيب كلامه
المتقدم لا يخلو من خفاء.
وكيف كان فلو فرض سقوط المقبولة بالتعارض تعين القول باعتبار
معرفة جملة وافية من أحكام
434



الفقه، وعدم كفاية التجزي في خصوص باب القضاء فضلا عن التقليد
فيه - كما ذهب بعض إلى ثبوته له تمسكا بالاطلاقات - والوجه
فيه: أن منصب القضاء على ما يظهر من جملة من الاخبار لم يثبت
بالأصالة إلا لنبي أو وصي نبي كما في صحيحة سليمان بن خالد عن
أبي
عبد الله عليه السلام فلا يشرع لغيرهما إلا بالاذن منهما (عليهما
الصلاة والسلام) خصوصا أو عموما كنواب الغيبة، فإن المأذون من
قبلهما ينطبق عليه عنوان الوصي ولو عناية كوكيل الوصي، غايته أن
عهده في طول عهد الوصي ومن فروعه. وظاهر الصحيحة نفي
الولاية العرضية عن غير النبي والوصي صلوات الله عليهما) لا نفى
الولاية الطولية الحاصلة بالاذن، والمتيقن ممن أذن له في القضاء هو
المجتهد المطلق الجامع للشرائط، ويشك في نفوذ قضاء غيره، و
الأصل الأولي وإن اقتضى إباحته لكل مكلف، إلا أن مقتضى الأصل
الثانوي المستفاد من النصوص عدم مشروعيته لمن لا أهلية له.
هذا بعض الكلام في قضاء المتجزي، وقد عرفت أن الأقوى عدم
ثبوت هذا المنصب لمطلق مراتب التجزي، لإناطته بصدق (الفقيه و
العارف بالأحكام) وهو مما يتوقف على استخراج الكثير من أبواب
الفقه الشريف، ولذلك لا يثبت للمجتهد المطلق الذي لم يستنبط
الجملة المعتد بها.
وأما مسألة تقليد المتجزي وحجية فتواه على غيره فقد عرفت
استدلال سيدنا الأستاذ (قده) عليه (بأن منصب القضاء منصب للفتوى
ولا
عكس) والحكم في الأصل - أعني جواز تصدي المتجزي لمنصب
القضاء - وإن لم يكن واضحا عندنا، إلا أنه على فرض تسليمه لم
يتضح
لنا التلازم بين منصب القضاء والفتوى دون العكس، فان كلا منهما
لكونه نيابة عن المعصوم عليه السلام يتوقف على الاذن الخاص أو
العام، مع ما بين أحكام البابين من تفاوت.
وعليه يكون الأحوط - لو لم يكن أقوى - اعتبار الاجتهاد المطلق في
مرجع التقليد، والله أعلم بحقيقة الحال.
435

فصل (1)
لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية (2)
436

في الجملة (1) ولو (2) بأن يقدر على معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد
(3) في المسألة بالرجوع إلى ما دون فيه، ومعرفة (4) التفسير كذلك.
437

وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول (1)، ضرورة أنه ما من مسألة إلا
ويحتاج في استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في
438

الأصول، أو برهن عليها مقدمة في نفس المسألة الفرعية، كما هو
طريقة الاخباري (1). وتدوين (2) تلك القواعد المحتاج إليها على
حدة (3) لا يوجب كونها بدعة (4)،
439

وعدم (1) تدوينها في زمانهم عليهم السلام لا يوجب ذلك، وإلا (2)
كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة.
وبالجملة (3): لا محيص لاحد في استنباط الاحكام الفرعية من أدلتها
440

إلا (1) الرجوع إلى ما بني عليه (2) في المسائل الأصولية، وبدونه
(3) لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد، مجتهدا (4) كان أو أخباريا.
نعم (5) يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة
441

والأشخاص، ضرورة (1) خفة مئونة الاجتهاد في الصدر الأول، و
عدم حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة، مما لا يكاد
يحقق (2) ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دون فيه من الكتب
الأصولية. [1]

[1] كما يلزم الاطلاع على شئ من المباحث المنطقية كشرائط
البرهان، وكيفية تراكيب البراهين وامتيازها عن سائر مواد الأقيسة من
الصناعات الخمس من الجدل والخطابة والشعر والسفسطة، لتوقف
استنباط الاحكام من م آخذها على الاستدلال، وذلك لا يتم إلا
بالمنطق، بل هو من مبادئ علم الأصول أيضا، لأنه من العلوم النظرية
التي يكثر فيها الاختلاف، فلا بد من معرفة مواد الأقيسة لتمييز
البرهان عما يكون مصادرة على المطلوب أو مغالطة.
ومما يتوقف عليه الاستنباط علم الرجال، لان عمدة أدلة الأحكام الشرعية
لما كانت أخبار
442



الآحاد، لعدم وفاء الأخبار المتواترة والاجماعات القطعية بجل الفقه،
فاللازم إحراز صدورها بوجه حتى يصح الاستناد إليها في
الاستنباط، وإلا كان الاستناد إلى غير الحجة، وكان الافتاء حينئذ بغير
علم. وحيث إن تحصيل العلم الوجداني بصدورها غير متيسر
فلا بد من تحصيل الوثوق بصدورها، وهو منوط بالاطلاع على تراجم
رجال السند ومعرفة حالهم وأنهم متحرزون عن الكذب في
المقال أولا، فلا محيص عن التحري عما يوجب الوثوق بصدور
الرواية من وثاقة الراوي أو عمل المشهور بها أو غير ذلك من موجبات
الوثوق بالصدور، وما لم يحصل هذا الوثوق لا يصح الاستناد إلى
الرواية.
وعلى هذا فتكون الحجة هي الخبر الموثوق الصدور وإن لم يكن
مخبره ثقة، فنحتاج إلى علم الرجال لتشخيص خبر الثقة عن غيره، كما
نحتاج إلى مراجعة كلمات الأصحاب للاطلاع على أنهم أعرضوا عنه
أم لا، حيث إن إعراضهم إما رافع للوثوق بصدوره أو لإرادة طاهرة،
فيعلم إجمالا باختلال أصالة الظهور أو الصدور فيه، ومع هذا العلم لا
وجه لحجية الخبر والاعتماد عليه.
نعم إذا أعرض الأصحاب عن خبر معتبر سندا مع العلم بوجه
إعراضهم كانت العبرة بذلك الوجه لا بنفس الاعراض، كما إذا علم
أنهم
أعرضوا عن الخبر لزعمهم ضعف سنده، لوقوع رجل فيه حسبوه
ضعيفا، أو زعموا اعتبار عدالة الراوي في حجية خبره، أو كون الراوي
إماميا أو غير ذلك مما يعتبر عندهم في حجية الخبر ولا يعتبر عندنا،
أو زعموا معارضة الخبر المعرض عنه لخبر آخر فأخذوا بأحدهما
وتركوا الاخر لمجرد الاخذ بأخبار التخيير، لا لخلل في الخبر الذي لم
يعولوا عليه، أو غير ذلك، فان هذا الاعراض لا يكون كاسرا
لسورة حجية الخبر المعرض عنه مع الوثوق بصدوره من ناحية سنده.
والاعراض الموهن لحجية السند والرافع للوثوق بصدوره هو ما إذا لم
يعلم وجه الاعراض مع فرض موافقة المشهور لهذا المجتهد في
شرائط حجية الخبر.
فالمتحصل: أن المجتهد لا يستغني عن علم الرجال، فلا بد من
الخوض فيه حتى يظهر له أن إعراضهم عن خبر هل هو لأجل المبنى
الذي لا
يكون صحيحا عنده أم لخلل فيه لم يظهر له. كما أن عملهم بخبر
ضعيف هل هو لتوثيق الراوي أم لاحتفافه بقرائن تدل على حصته،
فإذا
ثبت أن إعراضهم لم يكن من ناحية ضعف السند، أو أن عملهم بخبر
ضعيف لم يكن لتوثيق السند - مع فرض
443



عدم موافقتنا لهم في ذلك - لم يكن إعراضهم كاسرا ولا عملهم
جابرا.
ومع ما عرفت: من أن المناط عندنا هو الوثوق بالصدور خبريا كان أم
مخبريا - تعرف مسيس الحاجة إلى علم الرجال لتحقيق صغرى
خبر العدل والثقة والحسن والقوي.
ولكن ذهب جمع إلى الاستغناء عنه وعدم توقف الاستنباط عليه،
لوجوه، منها: دعوى قطعية أخبار الكتب الأربعة لقرائن زعموا وفائها
بإثبات دعواهم، ومنها: كفاية حصول الظن بالصدور من عمل علمائنا
بكل ما حصل لهم الظن بأنه مراد المعصوم عليه السلام. ومنها:
غير ذلك.
ولكن الكل مخدوش، ونقتصر من الكلام بإرجاع الطالب العزيز إلى ما
أفاده بعض أجلة العصر في مدخل معجم رجال الحديث لابطال
هذه الدعاوي، وضرورة المراجعة إلى علم الرجال في مقام
الاستنباط.
444

فصل (1)
اتفقت الكلمة على التخطئة في
445

العقليات (1)،
446

واختلفت في الشرعيات، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا، وأن (1)
له تبارك وتعالى في كل مسألة حكم يؤدي إليه الاجتهاد تارة و
إلى غيره أخرى. وقال مخالفونا بالتصويب، وأن (2) له تعالى أحكاما
447

بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك و
تعالى.
ولا يخفى أنه (1) لا يكاد يعقل الاجتهاد في حكم المسألة إلا إذا كان لها
448

حكم واقعا، حتى (1) صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته، و
تعيينه بحسبها (2) ظاهرا.
فلو كان (3) غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع
بعدد الآراء - بأن (4) تكون الاحكام المؤدي (5) إليها الاجتهادات
أحكاما واقعية (6) كما هي ظاهرية - فهو (7) وإن كان خطأ من جهة
تواتر الاخبار، وإجماع أصحابنا الأخيار على أن له تبارك وتعالى
في كل واقعة
451

حكما يشترك فيه الكل (1)، إلا أنه (2) غير محال.
ولو كان غرضهم منه (3) الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء
الاعلام بعد الاجتهاد، فهو (4) مما لا يكاد يعقل، فكيف يتفحص (5)
عما
لا يكون له عين ولا أثر؟ أو يستظهر (6) من الآية أو الخبر؟ إلا أن يراد
(7) التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي،
452

وأن (1) المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء (2)،
إلا (3) أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، وهو
(4) مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة، ولا يشترك (5) فيه الجاهل
والعالم بداهة، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة (6) بل إنشاء،
فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى (7)، بل لا محيص عنه في
الجملة (8) بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية كما
لا يخفى. [1] وربما يشير

[1] لا يخفى أنه اختلفت كلمات المصنف في أن الحكم المشترك بين
الجاهل والعالم هل هو
453

إليه (1) ما اشتهرت بيننا (أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم).

إنشائي أم فعلي تعليقي؟ فيظهر من حاشيته على الرسائل في مقام منع
التصويب أنه إنشائي، قال:
(وكما يكون بالاجماع بل الضرورة من المذهب في كل واقعة حكم
يشترك فيه الأمة لا يختلف باختلاف الآراء، كذلك يمكن دعوى
الاجماع بل الضرورة على عدم كونه فعليا بالنسبة إلى كل من يشترك
فيه بمعنى أن يكون بالفعل بعثا أو زجرا أو ترخيصا، بل يختلف
بحسب الأزمان والأحوال، فربما يصير كذلك في حق واحد في زمان
أو حال دون آخر، كما أنه بالبداهة كذلك في المرتبة الرابعة).
وكذا كلامه في بحث الاجزاء، لكنه ناظر إلى حجية الاخبار من باب
الطريقية لا الموضوعية كما أراد هنا توجيه التصويب به، قال: (فان
الحكم المشترك بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ليس إلا
الحكم الانشائي. وإنما المنفي فيها ليس إلا الحكم الفعلي البعثي، و
هو
منفي في غير موارد الإصابة).
ولكنه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من الكفاية التزام بأن
الحكم الواقعي المشترك بين من قامت عنده الامارة ومن لم تقم
عنده هو الفعلي من جهة، والمختص بالعالم هو الفعلي من جميع
الجهات، حيث قال: (فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون
الحكم الواقعي في مورد الأصول والامارات فعليا)، وأفاد نحوه في
الامر الرابع من مباحث القطع، وفي أول بحث الاشتغال،
454



فلاحظ.
واختار المحقق الأصفهاني (قده) أن الصحيح هو الجميع بالفعلية من
وجه والفعلية من جميع الجهات، وأن الجمع بحمل الاحكام الواقعية
على مرتبة الانشاء لا يخلو من محذور (وذلك لان الانشاء بلا داع
محال، والانشاء بداع آخر - غير جعل الداعي - ليس من مقولة
الحكم،
ولا يترقب منه الفعلية البعثية والزجرية، بل فعلية ذلك الانشاء فعلية
ما يدعو إليه من إرشاد أو امتحان أو جعل القانون، فلا محالة لا بد
من أن يكون الانشاء المترقب منه البعث والزجر هو الانشاء بداعي
جعل الداعي وهو الفعلي من قبل المولى. والمراد من الفعلي من
وجه
في قبال ما إذا وصل، فإنه فعلي بقول مطلق، وذلك لان الانشاء
بداعي جعل الداعي قبل وصوله - بنحو من أنحاء الوصول - يستحيل
أن
يكون في نفسه صالحا للدعوة وإن بلغ من القوة ما بلغ، فهو عقلا
متقيد بالوصول).
وهذا هو مبناه المتكرر في كلماته من أن فعلية الحكم متوقفة على
وصوله، لتوقف الانبعاث عنه عليه، وهذا هو مرتبة التنجز بنظر
المصنف وغيره.
وما أفاده (قده) وإن كان متينا، فان الانشاءات لما كانت منبعثة عن
المصالح والمفاسد الواقعية فلا بد أن تكون بداعي جعل الداعي و
لو بعد تحقق شرط فعليته، فالأولى القول بالفعلية من وجه والفعلية
من جميع الجهات.
إلا أن توجيه الفعلية بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) لا يخلو من
شئ، فإن الحكم الذي يتوقف فعليته التامة على وصوله بأحد أنحاء
الوصول يكون العلم به دخيلا في نفس الملاك ومتمما له، لا أنه تام
المصلحة من قبل المولى حتى يتوقف تنجزه خاصة على الوصول.
وبالجملة: فرق بين الفعلي من وجه ومن جميع الجهات بنظر
المصنف والمحقق الأصفهاني، فلا يكون بيانه (قده) توجيها الكلام
الماتن
بعد تصريحه بدخل العلم بالحكم الفعلي التعليقي في بلوغه الفعلية
التامة والتنجز معا، فلاحظ كلمات المصنف في التنبيه الرابع من
مباحث القطع، وفي أوائل التعبد بالامارات، وأول بحث الاشتغال،
هذا بعض ما يتعلق بالقسم الثالث من أقسام التصويب.
ولا بأس بالنظر الاجمالي إلى القسمين الأولين منه وإن لم يستحقا
البحث بعد قيام الاجماع والتواتر على بطلانه.
455



أما الأول وهو إنشاء أحكام بعدد آراء المجتهدين بعد أدائها وهو أحد
الوجهين بنظر المصنف في التصويب المعتزلي، فيكفي في
بطلانه في نفسه مخالفته لمبناهم في التحسين والتقبيح العقليين، إذ
مع الالتزام بكون الملاكات أمورا واقعية لا اعتبارية كيف يفرض
القائل بهذا التصويب جعل أحكام متضادة لفعل واحد لمجرد
اختلاف آراء المجتهدين؟ والمفروض فعلية كل واحد منها لأداء رأي
المجتهد إليه، فمثل شرب الخمر مما فيه المفسدة الملزمة المقتضية
لانشاء الحرمة كي ينزجر عنها المكلفون كيف ينشأ له الأحكام الخمسة
؟ وهل تتمشى الإرادة والكراهة الجديتان في المبادي
العالية؟ وهل المفسدة الذاتية المعترف بها تصير اعتبارية حتى تتغير
باختلاف الآراء؟ وعليه فأصل هذا النحو من التصويب لا يمكن
الاذعان به بناء على مبنى العدلية حتى تصل النوبة إلى إبطاله
بالاجماع و
الأخبار المتواترة.
وهذا بخلاف الوجه الثالث، إذ المفروض أن الحكم المشترك بين
العالم والجاهل إنشائي، لان قيام الامارة على الخلاف يزاحم الملاك
الواقعي ويمنع فعليته، ولا مزاحم للمصلحة والمفسدة الواقعيتين
المقتضيتين لانشاء الاحكام هذا مع الغض عن الاشكال المتقدم عن
المحقق الأصفهاني.
وما أفاده المصنف في تقريره من كون الاحكام واقعية وظاهرية لا
يخلو من شئ، لتعدد الحكمين رتبة ووجودا فكيف يكون كل
منهما فعليا؟ وأما الثاني - وهو التصويب الأشعري - فقد عرفت
استحالته، لبرهان الدور والخلف.
وللمحقق الأصفهاني (قده) إيراد آخر عليه بعد مناقشته في
المحذورين المتقدمين، قال: (وأما بالإضافة إلى الملتفت إلى أنه لا
حكم قبل
العلم والظن ففيه محذور، فان من يعتقد أنه لا حكم له قبل اعتقاده به
كيف يعقل منه اعتقاد الحكم؟ لأنه من اجتماع النقيضين، وجعل
الحكم المبني عليه محال، لان المبني على المحال محال).
ومحصله: أن التصويب بمعنى تبعية جعل الحكم للاعتقاد محال،
لترتبه على اجتماع النقيضين المستحيل، حيث إن هذا القائل إما لا
يعتقد
بالحكم لا علما ولا ظنا، وإما يعتقد بعدم الحكم قبل الاعتقاد، فعلى
الأول لا موضوع للحكم - وهو الاعتقاد بالحكم - كما لا حكم أيضا
تبعا له، ولا كلام على هذا الفرض.
456

نعم (1) بناء على اعتبارها من باب الطريقية

وعلى الثاني - وهو فرض الالتفات إلى أنه لا حكم قبل الاعتقاد -
ففي تحقق الاعتقاد بالحكم محذور، وذلك لأنه مع اعتقاده بعدم
الحكم كيف يعتقد بنفس الحكم، إذ المفروض أن موضوع جعل الحكم هو الاعتقاد بالحكم، والمفروض أيضا أنه يعتقد بعدم الحكم،
لتأخر رتبة الحكم عن الاعتقاد بالحكم، وتبعيته للاعتقاد. وعليه فمع اعتقاده بعدم الحكم - لالتفاته إلى تأخر الحكم عن الاعتقاد به -
كيف يعتقد بنفس الحكم؟ وهل هو إلا اجتماع النقيضين؟ وبتقرير آخر: مفروض الكلام في هذا التصويب تبعية الحكم للاعتقاد، فلا
حكم في ظرف الاعتقاد بالعدم، لكون الحكم وليدا للاعتقاد بالحكم ومترتبا عليه، فقبل الاعتقاد بنفس الحكم يعتقد بعدم الحكم، فكيف
يحصل الاعتقاد بالحكم في ظرف الاعتقاد بعدم الحكم؟ لأنهما اعتقادان متناقضان، هذا.
وهذا البيان مع دقته في نفسه يمكن أن يجاب عنه بعدم لزوم محذور اجتماع النقيضين في هذا التصويب، لتعدد متعلق الاعتقاد، فان
الحكم الذي يعتقد بعدمه قبل الفحص في الامارات هو الحكم الواقعي، لخلو صفحة التشريع عنه بحسب اعتقاده. ولكن الحكم الذي يعتقد
بوجوده بعد قيام الامارة عنده هو الحكم الحاصل بجعل الشارع عند أداء الامارة ورأي المجتهد إليه، وحينئذ يغاير اعتقاد وجود الحكم
اعتقاد عدمه، لتعدد نفس الحكمين.
وعلى كل يكفي لرد هذا التصويب محذور الدور والخلف على ما تقدم.
ولا يخفى أنهما لا يردان على التصويب بالمعنى الأول. فما أفاده المحقق المتقدم (قده) من ورود المحاذير الثلاثة على كلا التصويبين لا
يخلو من شئ.
وحيث إنك قد عرفت بطلان جميع أنحاء التصويب فالحق مع ما عليه الأصحاب (قدس الله أسرارهم) من القول بالطريقية، وعدم كون
قيام الامارة مغيرا للواقع، وأن الامارة تنجز الواقع عند الإصابة وتعذر عنه عند المخالفة. واختلاف العالم والجاهل إنما يكون في
مرتبة التنجز على المشهور، وفي الفعلية التامة على مختار المحقق الأصفهاني وإن لم يخل عن كلام سبق التنبيه عليه في مباحث أصالة
البراءة.
457

كما هو كذلك (1)، فمؤديات الطرق والامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقية نفسية (2)، ولو قيل بكونها أحكاما طريقية (3). وقد مر
غير مرة (4) إمكان منع كونها أحكاما كذلك (5) أيضا (6)، وأن (7) قضية حجيتها ليس إلا تنجز [تنجيز] مؤدياتها عند إصابتها، والعذر
عند خطئها، فلا يكون (8)
458

حكم أصلا إلا الحكم الواقعي، فيصير (1) منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر، ويكون غير منجز بل غير فعلي (2) فيما لم
تكن هناك حجة مصيبة (3)، فتأمل جيدا (4).
459

فصل (1) إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبديل الرأي الأول
460

بالآخر (1) أو بزواله (2) بدونه، فلا شبهة (3) في عدم العبرة به في الأعمال اللاحقة ولزوم (4) اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا (5) أو
الاحتياط فيها (6) وأما الأعمال السابقة (7) الواقعة على
462

وفقه (1) المختل فيها (2) ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد (3)، فلا بد من معاملة البطلان معها (4) فيما لم ينهض دليل على صحة
العمل فيما إذا اختل (5) فيه لعذر كما نهض في الصلاة
464

وغيرها (1)، مثل (2)
465

(لا تعاد) (1) وحديث الرفع (2)، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات.
وذلك (3) فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم (4) وقد اضمحل واضح، بداهة أنه (5) لا حكم معه (6) شرعا،
466

غايته (1) المعذورية في المخالفة عقلا.
وكذلك (2) فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه (3)، وقد ظهر
467

خلافه بالظفر (1) بالمقيد أو المخصص (2) أو قرينة المجاز (3) أو المعارض (4) بناء (5) على ما هو التحقيق من اعتبار الامارات من باب
الطريقية، قيل (6)
468

بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية أم لا، على (1) ما مر منا غير مرة، من (2) غير فرق بين تعلقه (3) بالأحكام أو بمتعلقاتها،
ضرورة (4) أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد (5).
469

ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما (1) كما في الفصول (2)
470

(وأن (1) المتعلقات لا تتحمل اجتهادين، بخلاف الاحكام) إلا (2) حسبان أن الاحكام قابلة للتغير والتبدل، بخلاف المتعلقات و
الموضوعات (3).
وأنت خبير بأن الواقع واحد فيهما (4)، وقد عين أولا بما (5) ظهر خطؤه ثانيا.
472

ولزوم (1) العسر والحرج والهرج والمرج (2) المخل بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام، لو قيل (3) بعدم صحة العقود (4) و
الايقاعات (5) والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأول الفاسدة (6) بحسب الاجتهاد الثاني، ووجوب (7) العمل على طبق الثاني من
(8) عدم ترتيب الأثر على المعاملة أو (9) إعادة العبادة
473

لا يكون (1) إلا أحيانا.
474

وأدلة (1) نفي العسر لا ينفي إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا (2)، مع (3) عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات، ولزوم (4) العسر في
الاحكام كذلك أيضا (5) لو قيل بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الأعمال السابقة، وباب الهرج والمرج (6) ينسد
بالحكومة وفصل الخصومة.
وبالجملة (7): لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها،
475

بتحمل (1) الاجتهادين وعدم التحمل بينا (2) ولا مبينا بما يرجع إلى محصل في كلامه، زيد في علو مقامه، فراجع وتأمل. [1]

[1] ما أفاده (قده) من الاشكال على الوجهين المتقدمين في عبارة الفصول متين، إلا أن الكلام في صحة النسبة وتمامية ما استظهره
المصنف منها من التفصيل بين الحكم ومتعلقه، وقد نفي سيدنا الفقيه صاحب الوسيلة (قده) هذا الاستظهار، واستفاد هو من عبارة
الفصول التفصيل بين العقود والايقاعات والعبادات مما يتوقف وقوعه صحيحا على الاستناد بحجة فتجزي، وبين غيرها من الاحكام
التي لا يتوقف وقوعه صحيحا على الاستناد بحجة فلا تجزي.
وينبغي البحث في مقامين، أحدهما: فيما يمكن أن يستظهر من كلام صاحب الفصول.
وثانيهما: في تحقيق أدلته على مدعاه.
أما المقام الأول، فمحصله: أنه لا يخلو كلام الاستظهارين المتقدمين من تأمل، أما التفصيل بين الاحكام ومتعلقاتها، فلانه يرده عموم
عنوان كلامه وهو قوله: (فان كانت الواقعة مما يتعين في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى، فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق)
وقوله: (ولو كانت الواقعة مما لا يتعين أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغير الحكم بتغير الاجتهاد) وليس هذا موهما للتفصيل بين
الحكم والمتعلق كما قيل.
476



مضافا إلى تصريحه قبل سطرين من هذا الكلام في بيان موارد العدول عن رأي إلى آخر بعدم الفرق بين الحكم ومتعلقه بقوله: (ولا
فرق في ذلك بين الحكم وغيره).
وأما التفصيل بين العبادات والعقود والايقاعات وبين الاحكام كما استظهره سيدنا الفقيه الأصفهاني فهو وإن كان مقتضى الأمثلة
التي ذكرها صاحب الفصول لكل من القسمين، إلا أن عموم العنوان لا يلائمه.
وتحقيق مراد صاحب الفصول من التفصيل منوط بالنظر في تقسيم الوقائع إلى ما يتعين أخذه بمقتضى الفتوى وما لا يتعين أخذه
بمقتضاها، وقد فسر بوجهين:
الأول: ما أفاده سيدنا الفقيه صاحب الوسيلة من: أن الأعمال الصادرة من المكلفين على قسمين، قسم يتوقف صحته على الاستناد إلى
حجة من اجتهاد أو تقليد أو احتياط، وذلك كالعبادات والعقود والايقاعات. وقسم لا يتوقف وقوعه على الاستناد إلى حجة، بل هو
بحيث لو وقع يصير موضوعا لحكم شرعي يترتب عليه كقطع حلقوم حيوان قابل للتذكية، فإن هذا القطع يتحقق كيف ما كان، لكنه
يكون موضوعات للحكم بالتذكية عند من تكون التذكية بنظره قطع الحلقوم، ولا يكون موضوعا لها عند من يعتبر فيها قطع الأوداج
الأربعة.
الثاني: ما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) ببيان أبسط، وهو: (أن المراد مما وقع في العنوان من تعين الوقوع شرعا بأخذه بمقتضى
الفتوى وعدم تعينه بأخذه بها: أن الواقعة التي لا بقاء لها لا تقع صحيحة إلا بمقتضى الفتوى، فهذا الوجود الوجداني لا يقع شرعا إلا
صحيحا على الفرض، فلا ينقلب.
بخلاف ما له بقاء، فإنه لا يتعين، لامكان الانقلاب فيه بتجدد الرأي. وليس المراد أن وقوعه شرعا لا يكون منوطا بالفتوى ليحمل على
إرادة الموضوعات الواقعية، بل عدم تعين وقوعها وتمحضها في الصحة، بل لها تعين آخر بتجدد الرأي، وإلا فلو فرض عدم تبدل الرأي
فيها وقعت صحيحة نافذة) أقول: الظاهر أن البيان الثاني أقرب إلى مقصود صاحب الفصول من البيان الأول، فإن ظاهر عنوان
الفصول وإن كان موافقا للاستظهار الأول، إلا أن قوله بعده: (كما لو بنى على حلية حيوان فذكاه ثم رجع بنى على تحريم المذكى منه)
يدل على لزوم الاستناد في كلا القسمين إلى حجة ثم يرجع عنها.
وعليه فيكون الفارق بين القسمين في بقاء مصب الرأي ومتعلق الحكم تارة وانتفائه أخرى.
477



والفرق بينهما كما أفاده المحقق الأصفهاني هو: أن الأول ما لا يقتضي بانقضاء الزمان، بل له بقاء وإن تغير حكمه، كالحيوان الذي بنى
على حليته فذكاه، فإنه باق، والمفروض أن حكم هذا الموضوع الباقي هي الحرمة. وأما التذكية فهي مبنية على حليته، وهو على الفرض
فعلا محرم. وكعرق الجنب من الحرام وملاقيه، فإنهما موضوعان مر عليهما الزمان مرتين، وحكمهما فعلا النجاسة، فكيف يعامل معهما
معاملة الطاهر؟ وكالمرأة المرتضعة بعشر رضعات، فإنها باقية وحكمها فعلا الحرمة.
والثاني: ما ينقضي بانقضاء الزمان، وليس للزمان عليه مروران كالصلاة بلا سورة، أو الواقعة في شعر الأرانب والثعالب، أو الواقعة
فيما بنى على طهارته. وكذا العقد الفارسي والايقاع كذلك مثلا، فحيث لا بقاء لها بل لها ثبوت واحد، وهي على الفرض وقعت صحيحة
فلا دليل على انقلابها فاسدة بعد فرض وقوعها صحيحة. وهذا معنى أن الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين.
والفرق بين العقد الفارسي والعقد على المرتضعة بعشر رضعات هو: أن محط الفتوى هو العقد في الأول، وقد مضى صحيحا فلا ينقلب
فاسدا، ومحط الفتوى في الثاني هي المرأة المرتضعة - إذ النقص فيها لا في العقد - ومصب الرأي باق فعلا، والمفروض تغير حكمها،
فلا انقلاب، بل انتهاء أمد حكمها الأول، فهي بالإضافة إلى الرأي الثاني موضوع آخر.
وهذا البيان المستفاد من عبارة صاحب الفصول يشهد بعدم كون مقصوده من الاستدلال على مدعاه (بعدم تحمل الواقعة الواحدة
لاجتهادين) التفصيل بين الاحكام والمتعلقات حتى يرد عليه ما في المتن من عدم الفرق في هذه الجهة بين الاحكام ومتعلقاتها على
الطريقية. فإن الايراد وإن كان صحيحا في نفسه، إذ لا تفاوت بين الاجتهاد في الحكم والموضوع على الطريقية، إلا أن صاحب الفصول
لم يقصد به هذا التفصيل، وإنما يقصد به التفرقة بين نفس الوقائع من حيث بقاء المتعلق في عمود الزمان وعدمه. هذا مجمل الكلام في
المقام الأول.
وأما المقام الثاني: فنقول فيه: إن أدلة صاحب الفصول على هذا التفصيل لا تخلو من نظر.
أما الأول - وهو عدم تحمل الواقعة الواحدة لاجتهادين - فهو مجمل جدا، فإنه بناء على الطريقية في الامارات - كما هو مختاره أيضا -
ينكشف فساد الأعمال التي رتبها على الاجتهاد الأول، غايته كونه معذورا في مخالفة الواقع. نعم بناء على موضوعية قيام الامارة
لحدوث مصلحة في قبال الواقع
478

وأما بناء (1) على اعتبارها (2) من باب السببية والموضوعية فلا محيص عن

يتجه ترتيب آثار الصحة على الأعمال السابقة المطابقة للرأي المعدول عنه.
وأما قياس تبدل الاجتهاد بباب النسخ فليس بشئ، لكونه مع الفارق، إذ في النسخ يرتفع الحكم الواقعي المنسوخ من حين ورود الناسخ،
ولا يمس كرامة حال قبل وروده، فامتثال الحكم المنسوخ قبل زمان الناسخ إطاعة لما هو حكمه واقعا لا ظاهرا، ومن حين ورود،
الناسخ تتبدل الوظيفة الواقعية بغيرها. ولا يجري هذا الكلام في تبدل الاجتهاد، فلو أفتى باعتبار خمس عشرة رضعة في نشر التحريم،
وتزوج امرأة ارتضعت معه عشر رضعات، ثم رجع إلى نشر الحرمة بعشر رضعات، لزم ترتيب آثار البطلان من حين وقوع العقد لا من
حين العدول.
وكذا الحال في العقد بالفارسي، فإن العقد وإن لم يكن له بقاء، إلا أن نفس العدول عنه إلى اعتبار العربية يوجب الحكم ببطلان ما بنى
عليه، إلا مع قيام الدليل على الاجزاء، ولذا لم يظهر الفارق بين العقد الفارسي وبين العقد على المرتضعة بعشر رضعات في الحكم
بإجزاء الأول دون الثاني، فان العقد وإن تصرم، إلا أن المعقود عليه بذلك العقد الفاسد باق حسب الفرض، فهو كالمرتضعة بعشر
رضعات في الحكم.
وأما الثاني وهو لزوم العسر والحرج فقد تقدم جوابه في المتن بأنه أخص من المدعى.
وأما الثالث وهو وثوق المقلد في مقام العمل بفتوى المجتهد ففيه: أنه وجه استحساني كما صرح به بعده، لوضوح لزوم تبعية المقلد
لفتوى المجتهد، واحتمال عدوله عنها لا يكفي في ترك العمل بها، لمخالفته لأصالة عدم العدول.
وأما الرابع - وهو استصحاب آثار الواقعة - ففيه ما لا يخفى، إذ لا مجال له مع الدليل الحاكم مخالفا كان أم موافقا، والمفروض اقتضاء
طريقية الامارات لعدم الاجزاء، عند انكشاف الخلاف، فإن المأتي به سابقا لم يكن هو الواقع بل تخيل الواقع، ولا عبرة به.
هذا، وفي كلامه مناقشات أخرى تعرض لها سيدنا الفقيه الأصفهاني (قده) فراجع تقرير بحثه الشريف.
479

القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأول، عبادة كان أو معاملة، وكون (1) مؤداه - ما لم يضمحل - حكما حقيقة (2).
وكذلك (3) الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على
الخلاف، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، وقد مر في بحث الاجزاء تحقيق
480

المقال، فراجع هناك (1).
481

فصل (1) في التقليد (2)، وهو
483

أخذ (1) قول الغير
484

ورأيه (1) للعمل به في (2) الفرعيات، أو للالتزام (3) به في الاعتقاديات (4) تعبدا بلا مطالبة (5) دليل
486

على رأيه (1).
ولا يخفى أنه (2) لا وجه لتفسيره بنفس العمل،
487

ضرورة (1) سبقه عليه،

[1]
ويترتب على كون التقليد العمل المستند إلى فتوى مجتهد أمران:
الأول: عدم صدق التقليد فيما لم يتفق له العمل، بناء على عدم جواز الرجوع عن مجتهد إلى مساويه بعد التقليد، فيجوز الرجوع إلى
الثاني، لعدم تحقق العمل المستند إلى فتوى الأول حتى يحرم العدول عنه.
الثاني: عدم صدق البقاء على تقليد الميت فيما لم يتفق له العمل في حياة مجتهده، فلا يجوز له العمل بفتواه بعد موته، بناء على جواز تقليد
الميت بقاء، إذ المفروض عدم العمل به في حال حياته حتى يصدق عليه التقليد البقائي، ويصير موضوعا لجواز البقاء. بخلاف ما إذا كان
التقليد الالتزام، فإنه لا يجوز العدول إلى المساوي، ويجوز البقاء على تقليد الميت، لتحقق التقليد في الصورتين.
وأنت خبير بأن مفهوم التقليد واحد في جميع الموارد، ولا داعي إلى التفكيك بين الموارد وجعل التقليد في بعضها العمل، وفي بعضها
الاخر الالتزام كمسألتي البقاء والعدول من الحي إلى الحي كما مر.
488

وإلا (1) كان بلا تقليد [1] فافهم (2).

[1]
ظاهر العبارة كما أوضحناها أو محذور تفسير التقليد بالعمل هو وقوع أول الأعمال بلا تقليد، وهو مما لا يلتزم به.
وقد يجعل المانع من تفسيره بالعمل محذور الدور (ضرورة سبق كل متوقف عليه على ما يتوقف عليه، فلو توقفت صحة العمل على
التقليد لم يعقل أن يكون هو بنفسه محققا لعنوان التقليد، وإلا لزم توقف الشئ على ما ينتزع عنه المتأخر عنه، وهو محال). وهذا و
إن كان وجها للقائل بالالتزام، إلا أن الظاهر من تعليل الماتن بقوله: (وإلا لكان بلا تقليد) النظر إلى محذور خلو العمل الأول عن تقليد،
لا هذا، وإلا كان عليه أن ينبه عليه بقوله: (وإلا لدار) أو ما يقرب منه. فتأمل في الكلام حقه.
[2]
والوجه الثاني ما أفاده بقوله: (ولئلا يلزم الدور في العبادات، من حيث إن وقوعها يتوقف
489



على قصد القربة، وهو يتوقف على العلم بكونها عبادة، فلو توقف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دورا).
والوجهان المزبوران أوجبا اقتراحه مبنى الالتزام، فإنه (قده) وإن عرفه بالأخذ، لكنه في حكم التقليد في أصول الدين قال: (ومعنى
الاخذ بقوله هنا الالتزام به) ولعل هذا منشأ تفسير الماتن له بالأخذ في الفرعيات، وبالالتزام في الاعتقاديات.
إلا أن الظاهر إرادة صاحب الفصول معنى جامعا للاخذ وهو الالتزام سواء في الفروع والأصول، إذ لا يراد بالأخذ العمل، للزوم
محذورين من جعل التقليد بمعنى العمل، فالمراد به هو القبول وذلك أمر نفساني.
وكيف كان ففي كلا الوجهين ما لا يخفى.
أما الأول فبما تقدم في توضيح المتن من أنه لا دليل على اعتبار تقدم التقليد على العمل حتى يقع عن تقليد.
وببيان آخر: ان التقليد - بناء على كونه العمل المستند إلى فتوى الفقيه كما سيأتي بيانه - يتوقف على الاستناد إلى فتوى المفتي،
كتوقف صحة عمل المجتهد على الاستناد إلى رأيه، فتعلم الفتوى مما يتوقف عليه التقليد قطعا، إلا أن هذا العلم له دخل مقدمي في العلم
بتحقق التقليد، لا في نفسه، إذ هو العمل المستند إلى رأي الغير، أو تطبيق العمل على رأيه، وحينئذ فلا موجب لانبعاث العمل عن عنوان
التقليد، حتى يلزمه السبق، بل التقليد وصف مقارن للعمل ولون له.
والاستناد في لزوم تقدم التقليد زمانا على نفس العمل إلى تقابله مع الاجتهاد، لتقدم الاستنباط على العمل على طبقه، فليكن التقليد
كذلك، فيه: (أنه لا تقابل بينهما تقابل العدم والملكة، ولا السلب والايجاب، فإن الاجتهاد تحصيل الحكم من مدركه، وليس عدمه المقابل
له تقليدا، لان من لم يحصل الحكم من مدركه ليس مقلدا مع عدم العمل أو عدم الاخذ للعمل).
وكذا لا تقابل بينهما بتقابل التضاد (نظرا إلى أن الاجتهاد هو أخذ الحكم عن مدركه، والتقليد أخذ الحكم عن الغير لا عن مدركه. إذ فيه:
أن الاخذ بمعنى الالتزام والعمل - الذي هو مورد النزاع في التقليد - أجنبي عن حقيقة الاجتهاد، إذ ليس معنى الاجتهاد التزام المجتهد
بالحكم ولا عمله به.
والاخذ بمعنى التعلم الراجع إلى تحصيل العلم بالحكم وإن كان مشتركا بين المجتهد والمقلد،
490



والاخذ عن مدرك وعن الغير متقابلان، الا أنه لا دليل على أن الاجتهاد والتقليد متقابلان حتى يتعين كون التقليد بمعنى التعلم تحقيقا
للتقابل، بل التقليد في قبال كل من الاجتهاد والاحتياط، مع أن الاحتياط عنوان للعمل، فالتقابل حقيقة يكون بين العمل استنادا إلى
المدرك أو إلى رأي الغير أو بنحو يوافق الواقع).
وأما الثاني - وهو شبهة الدور في العبادات - فيرده: أن التقليد وإن كان متوقفا على العمل، لكن العلم بكونها عبادة لا يتوقف على
وقوعها، بل على قيام الدليل على عباديتها ولو كان فتوى المجتهد.
وعليه فليس العلم بعبادية الفعل متوقفا على وقوعها خارجا حتى يلزم الدور، بل يتوقف على الحجة على العبادية، وهي مثل فتوى
الفقيه الجامع للشرائط، ولا يترتب محذور على كون التقليد هو العمل المستند إلى فتوى المجتهد حتى نلتجئ إلى تفسيره بالالتزام أو
الاخذ.
هذا ما يتعلق بما أفاده صاحب الفصول من وجهين على كون التقليد بمعنى الالتزام والاخذ مطلقا.
وقد يقال: بامتناع كونه بمعنى العمل عند اختلاف المجتهدين في الفتوى، كاختلافهم في غسل الجمعة على الوجوب والاستحباب، فلو
كان التقليد هو العمل امتنع أن يقع على صفة الوجوب أو الندب، لان وقوعه على صفة الوجوب متوقف على التقليد، فلو كان التقليد هو
نفس العمل توقف وقوع العمل على وقوع العمل، وهو محال.
والجواب عنه ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) من أنه (إذا اختلف المجتهدون في الفتوى فلما امتنع أن يكون الجميع حجة، للتكاذب الموجب
للتناقض، ولا واحد معين، لأنه بلا مرجح، ولا التساقط والرجوع إلى غير الفتوى، لأنه خلاف الاجماع والسيرة، تعين أن يكون الحجة
هو ما يختاره، فيجب عليه الاختيار مقدمة لتحصيل الحجة، وليس الاختيار إلا الالتزام بالعمل على طبق إحدى الفتويين أو الفتاوى
بعينها، وحينئذ يكون الالتزام مقدمة للتقليد لا أنه عينه).
والمناقشة فيه (بأن الحجة التخييرية - بأي معنى فسرت - لا معنى لها، وأن الوظيفة عند تعارض الفتاوى الموجب لسقوطها هو
الاحتياط، إذا لا توقف للتقليد على الالتزام فضلا عن أن يكون نفس الالتزام) غير ظاهرة، فإن الكلام في مقدمية الاختيار والالتزام
للتقليد الذي هو بمعنى العمل،
491



وهذا الالتزام مما لا بد منه بناء على كون الحجة في حق العامي عند تعدد المجتهدين هي صرف الوجود من الفتوى، سواء اختلفوا في
الرأي أم اتفقوا عليه.
وأما بناء على إنكار الحجية التخييرية وتعين الاحتياط على العامي في ظرف اختلاف المجتهدين، فعدم وجوب الاختيار ليس لعدم
توقف تقليد - بمعين العمل - عليه، بل لأنه من السالبة بانتفاء الموضوع، لتصريح المعترض بانتقال الوظيفة إلى الاحتياط، ولا تقليد
لأحدهما حتى يبحث عن اعتبار الاختيار وعدمه فيه.
وإن شئت فقل: إن مقدمية الالتزام للتقليد تدور مدار صدق عنوان التقليد المتقوم بوجود رأي متصف بالحجية شرعا، فلو كان الواجب
هو الاحتياط دون التقليد، كان عدم دخل الالتزام لأجل انتفاء موضوعه.
وعليه فالالتزام وإن كان متمما للحجية، إلا أنه أجنبي عن التقليد وخارج عن حريمه، فهو حينئذ بمنزلة تعلم الفتوى في كونه من مبادئ
التقليد، لتوقف الاستناد في مقام العمل على إحراز رأي المجتهد.
وقد تحصل: أنه لا داعي إلى جعل التقليد بمعنى الالتزام، لشبهة الدور، أو صدور أول الأعمال لا عن تقليد، وكذا تعريفه بالأخذ إن كان
المراد به الالتزام للعمل به، أو قبوله كذلك، بعد اعتراف صاحب الفصول بأن معناه اللغوي هو العمل، حيث قال بعد تقرير شبهة الدور
في العبادات: (وقول العلامة في النهاية: - بأن التقليد هو العمل بقول الغير من غير حجة معلومة - بيان لمعناه اللغوي كما يظهر من ذيل
كلامه، وإطلاقه على هذا شائع في العرف العام) فهو معترف بعدم كون الاخذ والالتزام معنى لغويا ولا عرفيا للتقليد.
والمناسب له جعل المعنى الاصطلاحي نفس العمل بقول الغير، لان قلادة دين الجاهل لا تجعل على عنق المجتهد إلا بالعمل برأيه، إذ
تحمله لمسؤولية أعمال العامي تتوقف على العمل، فالتقليد في الاحكام كالتقليد في الموضوعات منوط بالعمل، فكما أن الأعمي - العامل
بإخبار البصير بالوقت والقبلة - لا ينطبق عليه عنوان المقلد إلا إذا طبق عمله على قوله، لا بمجرد الالتزام به وإن لم ينته إلى العمل،
فكذلك الحال في التقليد في الاحكام.
ولا داعي إلى رفع اليد عن المعنى اللغوي مع كمال ملائمته لما نحن فيه لو لم يكن المقام من
492



مصاديقه. ولو شك في النقل عن اللغوي والعرفي العامي إلى الالتزام ونحوه فأصالة عدم النقل تقضي بالعدم. وعليه فلا بد من الاخذ
بمعناه اللغوي الذي هو أيضا معنى عرفي، لشهادة موارد استعماله في الاخبار بكون التقليد هو العمل.
فمنها: معتبرة عبد الرحمن بن الحجاج، قال: (كان أبو عبد الله عليه السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي
من مسألة فأجابه، فلما سكت قال له الأعرابي: أ هو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة، ولم يرد عليه شيئا، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل
ذلك، فقال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: هو في عنقه، قال أو لم يقل، وكل مفت ضامن).
ومنها: ما دل على أن من أفتى بغير علم فعليه وزر من عمل به، كمعتبرة أبي عبيدة، قال: (قال أبو جعفر عليه السلام: من أفتى الناس
بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه).
ومنها: ما ورد في الحج من أن كفارة تقليم الأظافر على من أفتى به، لا على المباشر، مثل رواية استحقاق الصيرفي، قال: (قلت لأبي
إبراهيم عليه السلام: إن رجلا أحرم فقلم أظفاره وكانت له إصبع عليلة، فترك ظفرها لم يقصه، فأفتاه رجل بعد ما أحرم، فقصه فأدماه،
فقال: على الذي أفتى شاة).
ودلالة هذه الأخبار على كون المناط في تحمل مسؤولية الغير هو العمل بفتياه - لا مجرد أخذها مقدمة للعمل أو التزامه بها - واضحة.
وعلى هذا المعنى جرى الاصطلاح في العرفيات مثل قوله: (قلدتك الدعاء والزيارة) أي:
جعلت عليك الدعاء لي والزيارة عني.
والمتحصل: أنه لا داعي إلى العدول عن معنى التقليد لغة وعرفا إلى الالتزام بالعمل، بل هو نفس العمل، لكونه أنسب بمعناه اللغوي،
فيكون التقليد صبغة ولونا للعمل، لا تعلما للفتوى، ولا التزاما بها، ولا مجرد موافقة العمل لها قهرا وصدفة، لفقدان معنى مصدر باب
التفعيل فيه، فالتقليد بمعناه المصدري هو تطبيق العمل على رأي الغير، لا مطلق المطابقة له ولو تصادفا.
والظاهر أن مقصود جمع ممن فسروه بالأخذ تارة والقبول أخرى هو العمل أيضا، لشيوع
493



إطلاقهما عليه، كما في الاخذ بأحد الخبرين المتعارضين في قوله عليه السلام: (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) و (الاخذ بما
اشتهر بين أصحابك وبقول الأفقه والأصدق والأوثق من الحاكمين) كما في المقبولة، وما ورد في الرجوع إلى بعض أجلة الأصحاب.
وكذا الحال في لفظ القبول كقوله عليه السلام في المقبولة: (فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه.) فان القبول هو العمل بالحكم في مقابل
الرد الذي هو ترك العمل به وفرضه كالعدم، مثلا إذا حكم الحاكم بكون يوم الجمعة أول شوال ولم يفطر الناس فيه اعتمادا عليه، فقد
نقضوا حكمه، فقبول الحكم هو الافطار استناد إليه، لا إلى السفر ونحوه، فالافطار المستند إلى السفر أجنبي عن الحكم ونقض له، ولذا
يشكل قصر الصلاة فيه، لكون هذا السفر مصداقا للسفر المحرم.
وعليه فلا ينبغي إنكار ظهور القبول - كالاخذ - في العمل. ولو سلمنا عدم ظهورهما فيه وكونهما أعم من الالتزام والعمل فاللازم
إرادة خصوص العمل منهما حملا للظاهر على النص أو الأظهر، وهو العمل الذي فسر به التقليد، أو حملا للمطلق على المقيد بعد التنافي
المتحقق لأجل قبوله للزيادة والنقيصة.
هذا كله ما يتعلق بمفهوم التقليد مع الغض عن الأدلة على جوازه أو وجوبه. وإن كان مثل سيرة العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم
مقتضيا لكونه بمعنى العمل، إذ ليس بناؤهم على الالتزام القلبي بقول أهل الخبرة، ولعله سيأتي التعرض له.
ومما ذكرنا ظهر الغموض في بعض الكلمات.
فمنها: تفسير التقليد بالالتزام كما في العروة والوسيلة. مع أن سيدنا الفقيه الأصفهاني (قده) قد أجاب عن شبهة الدور، وصرح مقرر
بحثه الشريف بأن التقليد هو العمل المستند ونحوه فلاحظ، فالتقرير لا يخلو من تهافت مع الفتوى، فتدبر.
ومنها: تفصيل شيخنا المحقق العراقي (قده) من جعل حقيقة التقليد عرفا الالتزام بقول المجتهد.
إلا أن متعلق الوجوب في حق العامي هو العمل بقوله، فالالتزام لأجل صدق التقليد على غير المستطيع بمجرد التزامه بالعمل بفتاوى
مجتهده إذا استطاع، والعمل لأجل أن المطلوب هنا كما في باب الخبر وجوب المعاملة مع الفتوى معاملة الواقع عملا.
494



وهو لا يخلو من شئ بعد ما عرفت من موارد الاستعمالات لغة وعرفا ورواية من كونه بمعنى العمل، وليس متعلق الامر معنى آخر من
التزام ونحوه.
ومنها: ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) من أن التقليد بمعنى الاخذ للعمل أوفق بمفهومه اللغوي.
وقد عرفت أن التقليد بمعنى العمل أوفق بمعناه اللغوي من الاخذ للعمل.
ومنها: ما في بعض الحواشي من توجيه تفسيره بالالتزام بأن المقلد وهو العامي يجعل فتاوى مجتهده في عنق نفسه ويلتزم بها، ويصح
حينئذ إطلاق التقليد عليه كما يصح في (قلدت السيف) فالمقلد - بالكسر وبالفتح - شخص واحد باعتبارين، والسيف ما به التقليد، و
المقلد - بالفتح - هو العنق ومعناه (التزمت السيف أي جعلته لازما لي).
ويندفع هذا بما تقدم من جريان الاصطلاح على تسمية المجتهد مقلدا - بالفتح - وهذا يناسب العمل بفتواه حتى يحتمل مسؤوليتها، وقد
اعتبروا فيه أمورا كالعدالة والرجولية ونحوهما، وهذا لا يلتئم مع التزام العامي بفتاوى المجتهد، ففرق بين تقليد السيف والدين، و
حيث إنه يصح في الأول اتحاد المقلد بالفتح والكسر، بخلاف الثاني، لاعتبار التعدد فيه.
وفي ختام البحث لا بأس بالتنبيه على أمر، وهو: أن التقليد - كالايقاع - يتحقق بفعل العامي فقط من دون حاجة إلى قبول المجتهد، بل
ومع عدم رضاه بذلك، فهو كالايتمام يتحقق ببناء المأموم ولو مع عدم رضى المؤتم به بذلك. والوجه في ذلك إطلاق أدلة رجوع
الجاهل إلى العالم. وعليه فليس التقليد من باب البيعة المتقومة برضاء الطرفين.
ودعوى (توقف التقليد على قبول المجتهد، لان ثقل تكليف المقلد وتبعاته على ذمته، فله قبول هذا الثقل ورده، فيكون التقليد كالعقد
في توقفه على إيجاب وقبول، فكأن المقلد - بالكسر - موجب، لأنه جاعل قلادة دينه على رقبة المجتهد، وهو يقبل هذا الجعل) غير
مسموعة، إذ لم يثبت ثقل على المجتهد غير ما عليه من بذل الوسع والطاقة في استنباط الحكم، ومسؤوليته إنما هي من تقصيره في
مقدمات الاستنباط، وإلا فبعد بذل الجهد واستقرار رأيه على أمر لا تتوجه إليه مسؤولية أخرى، سواء عمل العامي بفتواه أم لا، بل كثرة
العمل بفتواه توجب مزيد الأجر والثواب كما في الروايات.
495

ثم إنه لا يذهب عليك (1)

وعليه فلا معنى لاعتبار رضى المجتهد في جواز التقليد، إذ الواجب عليه ليس إلا استنباط الحكم الشرعي على النحو المألوف بين الاعلام
والاخبار به، وليس وجوب التقليد أو جوازه مشروطا برضاه، ولو شك في شرطيته فإطلاق أدلة التقليد يدفعه.
والحاصل: أن وظيفة المجتهد استنباط الحكم، ووظيفة العامي العمل به مقتضى أدلة التقليد، من دون اشتراطه برضاء المجتهد، فلو نهى
عن التقليد كان نهيا عن المعروف، وهو حرام. والمراد بضمان المفتي في بعض الروايات هو ضمانه لصحة الاستنباط ورعاية موازينه
المقررة عند أهله، ولم يثبت لضمانه معنى آخر.
496

أن جواز (1) التقليد ورجوع (2) الجاهل إلى العالم في الجملة (3) يكون بديهيا
498

جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل، وإلا (1) لزم سد باب العلم به (2) على العامي مطلقا (3) غالبا (4)، لعجزه (5) عن معرفة ما دل عليه كتابا
وسنة، ولا يجوز التقليد فيه أيضا (6)،
499

وإلا (1) لدار أو تسلسل. [1]

[1] ينبغي بيان أمرين، أحدهما: في مستند العامي الحامل له على التقليد والعمل برأي المفتي.
ثانيهما: في تمامية ما أفاده الماتن من كون جواز التقليد بديهيا جبليا فطريا.
أما الامر الأول فيحتمل فيه أحد أمور ثلاثة، فإما أن يكون مستند العامي في هذا الامر الارتكازي دليل انسداد يجريه في حق نفسه، وإما
أن يكون مستنده إلقاء احتمال الخلاف في قول أهل الخبرة، وإما أن يكون الفطرة والجبلة التي أودعها فيها بارئهم جل وعلا هو
الموجب لجريهم عليه طبعا وإذعانهم بالحكم بلا التفات منهم إلى وجه عملهم.
ذهب جمع منهم المحقق القمي وسيدنا الفقيه الأصفهاني صاحب الوسيلة وغيرهما إلى أن مناط استقلال العقل بجواز الرجوع إلى
المجتهد هو الانسداد، فتعرض الميرزا القمي في القوانين - بعد دعوى الاجماع والضرورة الرجوع على حجية ظن المجتهد - لاشكال
بعض الأصحاب، ثم أجاب عنه إلى أن قال في توجيه دعوى الضرورة: (وأما ثانيا، فبإمكان إرادة بديهة العقل بعد ملاحظة الوسائط
500



أعني بقاء التكليف، وانسداد باب العلم وقبح تكليف ما لا يطاق).
وقال مقرر بحث سيدنا الفقيه الأصفهاني في توضيح المتن: (وهذا الدليل يرجع إلى دليل انسداد يجريه المقلد بسبب ارتكازه، بلا علم
منه لكيفية بسط مقدماته، وضم بعضها إلى بعض لكي يستنتج كما يصنعه أهل النظر والاستدلال، لكنها مغروسة في ذهنه مرتكزة عنده
بجبلته بحيث لو سئل عن آحادها عنه يصدق تصديقا فطريا بصحته. وتقريره على وجه الصناعة أنه مركب من مقدمات:
الأولى: أن الشارع ما جعلنا بالنسبة إلى أحكامه مهملين كالبهائم.
الثانية: تحقق العجز عن تحصيلها بالعلم.
الثالثة: انسداد الطرق للعمل بها غير التقليد من الرجوع إلى الوظائف وبطلان الاحتياط وعسريته. وبعد تمامية تلك المقدمات يحكم
العقل بلزوم الرجوع إلى العالم.).
وجعل شيخنا الأعظم (قده) حكم العقل بجواز التقليد بلحاظ دليل الانسداد فراجع.
وكذا المحقق الأصفهاني (قده) فإنه بعد أن ناقش في اقتضاء الفطرة - بالمعنى الذي استظهره من المتن وأشكل عليه بما سيأتي بيانه -
جعل مستند العامي في جواز التقليد هو الانسداد، وقرر المقدمات بنحو يستكشف منها أن الشارع جعل فتوى المجتهد طريقا للعامي.
وما أفادوه وإن كان حقا، فإن لانسداد باب العلم وسائر المقدمات حيثية تعليلية في إذعانه عقله بلزوم الرجوع إلى الفقيه، ولولاها
لما استقل عقله به.
إلا أنه يشكل الاعتماد عليه بما أوردوه على التمسك بالانسداد الكبير، فإن العامي كيف يستقل عقله بجواز التقليد ما لم يتمكن من إبطال
العمل بالاحتياط مطلقا حتى إذا لم يكن مستلزما للعسر؟ فلا وجه لاستكشاف خطاب بجواز التقليد عقلا - كما يظهر من تقرير الشيخ
الأعظم للمقدمات - أو شرعا كما هو صريح كلام المحقق الأصفهاني في المقام لو التفت العامي إلى أن في العمل بالفتوى وترك
الاحتياط قد تفوت المصالح الواقعية اللازمة الاستيفاء، ولا سبيل لاحراز عدم إرادة الشارع العمل بالاحتياط من العامي إلا بالتقليد، أو
استعلام كونه ضروريا في هذه الاعصار، لاتفاق أرباب النظر على عدم وجوب الاحتياط عليه.
501



لكن لو وصلت النوبة إلى هذه الضرورة جاز له التقليد من جهة كونه ضروريا في هذه الأزمنة، فقاطبة الفقهاء - لا المتفقهين - يقولون
بجواز عمل العامي بفتوى المجتهد. وحيث كان هذا الحكم ضروريا كان اعتماد العامي عليه في إقناع النفس بالتقليد وإلزامها به سليما
عن شبهة الدور التي جعلها الماتن تاليا فاسدا للحكم ببداهة التقليد.
هذا مضافا إلى: أن في التمسك بالانسداد إشكالا آخر نبه عليه بعض الأجلة وهو كونه أخص من المدعى، إذ لو كان للعامي ظن بالحكم
بخلاف فتوى المجتهد لم يقتض دليل الانسداد قبول رأي المجتهد تعبدا، بل اللازم مراعاة مراتب الظن، وعلى فرض التساقط فاللازم
الاحتياط، مع أن القائل بجواز التقليد - بمناط الانسداد - يقول به مطلقا.
وعليه يكون نفس بناء العقلاء على الرجوع إلى فتوى المجتهد وعدم اعتنائهم بظنونهم الحاصلة لهم أحيانا على خلاف رأيه - من غير
نكير من أحد - كاشفا عن أن الحامل لهم على التقليد هو الامر الجبلي الفطري السليم القاضي بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم.
وأما احتمال كون العمل بقول أهل الخبرة لأجل إلقاء احتمال الخلاف، نظير ما نسب إلى شيخنا الأعظم في التعبد بالامارات، ففيه: أنه
فرض نادر، ولا سبيل لحمل تقليد عامة المكلفين عليه، فإن إلقاء احتمال الخلاف منوط بالغفلة عن كثرة الاختلاف الواقعة بين فتاوى
الفقهاء، إذ مع الالتفات إليها - ولو إجمالا - لا معنى لالقاء احتمال الخلاف فيها.
هذا بعض الكلام في الامر الأول، والظاهر أن العامي الغافل عن كل شئ يرى في ارتكاز نفسه الرجوع إلى المجتهد بما أنه من أهل
الخبرة بالأحكام الشرعية والوظائف العملية، وكفى بهذا الارتكاز حاملا له على التقليد.
وأما الامر الثاني، فنقول فيه: انه أورد المحقق الأصفهاني (قده) على المتن بعدم كون جواز التقليد فطريا بديهيا جبليا، وذلك لوجهين:
الأول: أن المقصود بالفطري إما أن يكون القضية الفطرية المعدودة في كتاب البرهان من القضايا الست البديهية، وإما أن يكون
الفطري بمعنى الجبلة والطبع كما يقال: الانسان مفطور على كذا أي مجبول عليه. وعلى كل من المعنيين لا يكون جواز التقليد فطريا.
502



أما على الأول فلان القضية الفطرية هي التي يكون قياسها معها كقولهم: (الأربعة زوج) فإنها قضية فطرية، لاستغنائها - كسائر
البديهيات - عن الاستدلال، بل العقل يذعن بزوجية الأربعة بمجرد التفاته إلى (انقسامها بمتساويين، وكل منقسم بمتساويين زوج) و
من المعلوم أن الفطري بهذا المعنى هو كون العلم نورا وكمالا للعاقلة في قبال الجهل، لا لزوم التقليد عند الشارع أو عند العقلاء، ولا
نفس رفع الجهل بعلم العالم.
وأما على الثاني فلان الفطري الجبلي لكل إنسان هو شوق النفس إلى رفع نقص الجهل، وكمال ذاتها أو كمال قواها، لا لزوم التقليد
شرعا أو عند العقلاء. نعم ثبوت الشوق إلى رفع الجهل وجداني لا جبلي ولا فطري. وعليه فرفع الجهل بعلم العالم جبلي، لكنه أجنبي عن
التقليد المبحوث عنه وهو أخذ قول الغير تعبدا. ومجرد دعوة الجبلة والطبع إلى رفع الجهل لا يجدي في جعل التقليد - بمعنى الانقياد
للعالم تعبدا - جبليا ولو لم يحصل العلم بالواقع.
وعليه فلا لزوم التقليد فطري بأحد المعنيين كما لا يكون جبليا، ولا نفس التقليد فطري.
الثاني: أن الجمع بين البداهة والفطرة والجبلة لاثبات جواز التقليد لا يخلو من شئ، فإن الفطري بالمعنى الأول وإن كان يناسب
البداهة، لكون القضايا الفطرية من أقسام البديهيات، لكنه لا يناسب الجبلي، لمقابلة الفطري بالمعنى الأول مع الجبلي كما عرفت. و
الفطري بالمعنى الثاني وإن كان مناسبا للجبلة، لأنهما بمعنى واحد، لكنه لا يناسب البداهة، إذ ليست الجبليات من أقسام البديهيات
الست.
هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) بتوضيح منا، وقال في آخر كلامه: (ولقد خرجنا بذلك عن مرحلة الأدب، والله تعالى مقيل
العثرات).
والظاهر ورود ما أفاده على المتن بناء على إرادة الفطري بأحد المعنيين المتقدمين.
لكن يمكن أن يكون مقصود المصنف من الفطرة والبداهة غير ما هو مصطلح أهل الميزان، بل هو الحكم العقلي المستقل المغروس في
نفس كل عاقل وشاعر، فالحكم الفطري حينئذ هو الحكم الارتكازي الراسخ في نفوس العقلاء، كسائر أعمالهم المنبعثة عن
ارتكازياتهم كالعمل بخبر الثقة وظاهر الكلام ونحوهما من موارد السير العقلائية التي لا منشأ إلا الارتكاز.
وتعبير المصنف بالحكم الفطري والعقلي وإن تكرر منه هنا وفي مسألة تقليد الميت الآتية، إلا
503



أن قوله في مناقشة الاجماع على جواز التقليد بقوله: (بأنه من الأمور الفطرية الارتكازية) ربما يستفاد منه أن مقصوده من قوله: (بديهيا
جبليا فطريا) هو رسوخ مسألة جواز رجوع الجاهل إلى العالم في النفوس بحيث لا يحتاج إلى إمعان النظر وإقامة الدليل، بل الالتفات
إلى تلك المقدمات البديهية الضرورية كاف في إذعان العقل بجواز التقليد، ويكون ارتكاز كل واحد من العقلاء هو منشأ انعقاد سيرتهم
على قبول قول الفقيه تعبدا وبلا مطالبة حجة عليه.
ولعله لأجل هذا الحكم الفطري الارتكازي أهمل المصنف (قده) هنا الاستدلال ببناء العقلاء على جواز التقليد، مع أنه جعله من أدلته في
تقليد المتجزي، حيث قال: (وعدم إحراز أن بناء العقلاء وسيرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله) ولا بد أن يكون قوله: (من الأمور
الفطرية الارتكازية) قرينة على مراده من البديهي الجبلي الفطري، كما أنه إشارة إلى دلالة بناء العقلاء على رجوع العامي إلى المجتهد.
والحاصل: أن المستفاد من مجموع كلمات المصنف الإشارة إلى دليلين على جواز التقليد:
أحدهما: حكم العقل المستقل، وهو الذي عبر عنه صاحب القوانين ببديهة العقل، لكنه قال بذلك بتوسيط مقدمات الانسداد.
ثانيهما: بناء العقلاء، إذ الرجوع إلى العارف والخبير من الارتكازيات المغروسة في نفوسهم.
ولو نوقش في الوجه الأول أمكن الاعتماد على السيرة العقلائية بضميمة تقرير الشارع لها، فإنه بما هو عاقل بل رئيس العقلاء متحد
المسلك معهم في كيفية إيصال أحكامه إلى المكلفين، وعدم إبداع طريقة أخرى لذلك. وسيأتي في الاستدلال بالاخبار ما يدل على
الامضاء. هذا لو قلنا بتوقف اعتبار هذه السيرة على الامضاء، ولو قيل بعدم توقفه عليه، لفرض رسوخها في النفوس وإنما يتوقف
الردع عنها على التصريح به، فالامر أوضح كما لا يخفى.
ثم إن في عبارة المتن تأملا آخر، وهو: أن ظاهر قوله: (ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة يكون بديهيا جبليا و
فطريا) دعوى شهادة الفطرة بجواز التقليد في الأحكام الشرعية، ويكون قوله: (في الجملة) إشارة إلى اجتماع الشرائط في المجتهد
كما ذكرناه في التوضيح تبعا لبعض أعاظم المحشين.
وهذا لا يخلو من شئ، فإن ارتكاز العقلاء وفطرتهم ليس قبول قول الغير تعبدا أي فيما لم
504

بل هذه (1) هي العمدة في أدلته، وأغلب ما عداه (2) قابل للمناقشة، لبعد (3)

يحصل لهم وثوق بما يقول، ومن المعلوم أن أساس التقليد في الأحكام الشرعية - خصوصا مع التفات العامي إلى اختلاف الفقهاء في
الفتاوي - على قبولها تعبدا، وإنما يعمل بها لكونها حجة منجزة أو معذرة، وحينئذ ينهدم أساس الاستدلال بالفطرة.
وأما إرادة حصول الوثوق من قوله: (في الجملة) فهو حمل له على مورد نادر.
وإن كان مقصوده (قده) إدراج المقام في الكبرى الكلية وهي رجوع الجاهل بكل شئ إلى العارف به، فهذه الكبرى وإن كانت مسلمة،
إلا أنها تختص بموارد إفادة إخبار العالم الوثوق والاطمئنان، إذ لا تعبد في عمل العقلاء بما هم عقلا، ولذا تراهم يعملون بخبر الثقة و
لا يعتنون بخبر العدل لولا الوثوق به. وحيث إن أصل التقليد في الاحكام مبني على قبول فتوى المجتهد تعبدا فإدراجه تحت كبرى
الرجوع إلى العالم لا يخلو من شئ.
نعم لا بأس بهذا الاستدلال في الجملة أي بالنسبة إلى الجاهل الغافل عن اختلاف الفقهاء في الفتوى، فإنه لا يبعد حصول الاطمئنان له
برأيه بل القطع بالواقع أحيانا.
وبهذا يشكل الفرار عن محذور الدور الذي أفاده الماتن بما قد يقال: من درج المقام في كبرى سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل
الخبرة، للفرق بين البابين. والظاهر انحصار الطريق في كون مسألة جواز التقليد في هذه الأزمنة من الضروريات التي لا حاجة فيها إلى
التقليد ولا الاستدلال حتى يتجه هذا البحث العريض.
505

تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة
506

مما (1) يمكن أن يكون القول فيه لأجل كونه (2) من الأمور الفطرية الارتكازية (3). والمنقول منه غير حجة في مثلها (4)
507

- ولو قيل (1) بحجيتها في غيرها - لوهنه بذلك (2).
ومنه (3) قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين، لاحتمال (4) أن يكون من ضروريات العقل
508

وفطرياته (1) لا من ضرورياته.
وكذا القدح (2) في دعوى سيرة المتدينين.
وأما الآيات (3)، فلعدم دلالة آية النفر والسؤال
509

على جواز (1)، لقوة (2) احتمال أن يكون الارجاع لتحصيل العلم، لا الاخذ
511

تعبدا. [1 [1 مع (2) أن المسؤول في آية السؤال هم أهل الكتاب

[1] أورد المحقق الأصفهاني (قده) على الاستدلال ب آية النفر على حجية فتوى الفقيه ب (ان التفقه
512



إن كان موقوفا على إعمال النظر كانت الآية دليلا على حجية الفتوى. وإن لم يكن كذلك، بل كان مجرد العلم بالحكم بالسماع من
المعصوم عليه السلام تفقها فلا دلالة لها على حجية الفتوى، بل على حجية خبر الفقيه، والانذار بحكاية ما سمعوه من الإمام عليه السلام
من بيان ترتب العقاب على شئ فعلا أو تركا مما لا ينبغي الريب فيه. بل كان في الصدر الأول الافتاء والقضاء بنقل الخبر).
لكن يمكن أن يقال: ان التفقه المأمور به - بناء على أن يكون المراد به العلم بالأحكام الشرعية كما هو مبنى الاستدلال بهذه الآية على
حجية فتاوى الفقهاء - معناه تحصيل العلم بالأحكام، وهذا العلم يحصل للنافرين بسماع معالم الدين من المعصوم عليه السلام كما أنه
بالنسبة للمختلفين يكون طريق علمهم بالأحكام سماعها من النافرين، وبالنسبة إلى غيرهم ممن لم يكن في عصر الحضور يكون
طريق علمهم بالأحكام الفحص عنها في الكتاب والسنة، وهذا هو الاجتهاد الذي لم يكن التفقه في الصدر الأول متوقفا عليه، بل كان
بسماع الحديث، لكن لا خصوصية في السماع، بل اللازم التفقه في الدين بمعنى تحصيل العلم بالشريعة، وهو معنى عام قابل للانطباق
على كل من سماع الآية والحديث، ومن العلم به عن الاجتهاد والنظر في الأدلة.
نعم لا ريب في تفاوت معرفة الاحكام في عصر الحضور مع معرفتها في أمثال زماننا سهولة وصعوبة، فان التفقه في الصدر الأول كان
بسماع الحديث من دون توقفه على شئ من العلوم حتى علم اللغة لكونهم من أهل اللسان، وهذا بخلاف الاعصار المتأخرة، لتوقف
التفقه في الدين على
513



مقدمات كثيرة. لكنه لا يوجب اختلافا في معنى الاجتهاد والتفقه.
لكن قد يشكل الاستدلال بهذه الكريمة على حجية الفتوى بامتناع إرادة القبول تعبدا، لوجهين:
أحدهما: استناد الأئمة الطاهرين عليهم السلام إليها في مسألة وجوب الفحص عن الامام بعد أن حدث بالامام حدث، ومن المعلوم
مطلوبية العلم بإمامة الامام اللاحق، لئلا يندرج في قوله (عليه السلام): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) والروايات
كثيرة مذكورة ذيل الآية الشريفة في تفسير البرهان، ونقتصر على ذكر واحدة منها تبركا، وهي ما رواه عن ثقة الاسلام عن محمد
ابن يحيى عن محمد بن الحسين عن صفوان عن يعقوب بن شعيب، قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا أحدث على الامام حدث كيف
يصنع الناس؟ قال: أين قول الله عز وجل: فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون؟ قال: هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم).
ثانيهما: أن المأمور به في الآية الشريفة هو التفقه في الدين، وليس التفقه فيها إحراز الأحكام الشرعية الالزامية خاصة، فإن تعريف الفقه
بالعلم بالأحكام الفرعية اصطلاح من الأصحاب، وإلا فللتفقه في الدين معنى أوسع من معرفة الحلال والحرام، وقد أطلق في الاخبار
(الفقه الأكبر) على طور آخر من المباحث، فالفقه بمعنى (العلم بالأحكام) شئ من التفقه في الدين وليس بتمامه، لان المعارف المتعلقة
بالمبدأ والمعاد والسنن والأخلاق وغيرها كلها من الدين، وقد أمر سبحانه وتعالى بالتفقه بهذا المعنى الواسع. ويشهد له الخبر
المتقدم المتضمن لاستدلال الإمام الصادق عليه السلام بالآية المباركة على وجوب الفحص عن الامام، وعدم كون العباد في سعة من
ترك الطلب والفحص عنه عليه السلام.
وعليه نقول: إن وجوب قبول إنذار الفقيه تعبدا لا يلتئم مع الامر بالتفقه بهذا المعنى، لفرض اعتبار العلم بالأصول الاعتقادية، وعدم
كفاية إنذار المتفقه في وجوب قبولها ولو لم يفد اليقين.
ولا بد من التصرف إما في إطلاق (الفقه) بإرادة معناه المصطلح عند الفقهاء، حتى يتجه الاستدلال بها على حجية الفتوى، لوجوب قبول
العامي لها سواء حصل له العلم بالواقع أم لا. وإما في وجوب التحذر بحمله على التحذر عند حصول العلم، والتصرف في الفقه بإخراج
الاحكام الفرعية التي لا يتوقف إذعانها والعمل بها على معرفتها، لوضوح امتناع إرادة الوجوب الارشادي والمولوي من
514

كما هو ظاهرها (1)، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسر به (2) في الاخبار (3).

(يحذرون) فيكون الأول لموارد اعتبار العلم، والثاني للقبول التعبدي، ولو لم يكن التصرف في الحذر أولى من التصرف في التفقه فلا
أقل من الاجمال، وتسقط دلالة الآية على اعتبار فتوى المجتهد تعبدا.
515

نعم (1) لا بأس بدلالة الاخبار عليه (2) بالمطابقة أو الملازمة، حيث (3) دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء (4)،
516

وبعضها (1) على أن للعوام تقليد العلماء،
520

وبعضها (1) على جواز الافتاء مفهوما، مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم، أو منطوقا (2)، مثل ما دل على إظهاره عليه السلام
المحبة لان يرى
521

في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام.
522

لا يقال (1): إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه
523

واتباعه (1).
فإنه يقال (2): إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه

[1] وبتقرير آخر أفاده المحقق الأصفهاني (قده): (ان الاظهار والظهور كالايجاد والوجود متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار، فلا
يعقل أن يكون له إطلاق لصورة عدم العلم، لان عدم الظهور لا ينفك عن عدم الاظهار. ومنه يعلم أنه لا موقع لدلالة الاقتضاء على وجوب
القبول تعبدا، لان الواجب - وهو الاظهار - لا يتحقق إلا مع الظهور الذي لا يبقى معه مجال للقبول تعبدا، بخلاف إظهار الفتوى، فإنه
يلازم ظهور الفتوى المجامع مع عدم ظهور الواقع، فيبقى مجال التعبد بالقبول. ومن الواضح أن الافتاء بمفهومه لا يقتضي إلا إظهار
الفتوى، لا الواقع، ولم يتقيد وجوبه بغاية مخصوصة، وهي إظهار الواقع به حتى يكون بمنزلة إيجاب إظهار الواقع.)
524

واضحة، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع (1)، حيث (2) لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا، فافهم وتأمل (3).
وهذه الأخبار (4) على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها لا يبعد

وهذا البيان ناظر إلى الفرق الموضوعي بين إظهار الحق وإظهار الفتوى من جهة أن المتعلق في الأول ظهور الحق، وهذا يتوقف على
حصول العلم بالواقع للمخاطب، ولا إطلاق له لصورة عدم العلم به. وأن المتعلق في الثاني مجرد إظهار الفتوى، وإظهارها لا ينفك عن
ظهورها، ولم يتوقف وجوب القبول في أدلة اعتبار الفتوى على إفادة العلم بمطابقتها للواقع حتى تكون المسألتان من باب واحد.
ومنه يظهر عدم الحاجة إلى بيان الملازمة العرفية بين جواز الفتوى ووجوب القبول لئلا تلزم لغوية الافتاء. لما عرفت من أن متعلق
الامر نفس الفتوى، فيجب قبولها مطلقا سواء حصل العلم بالواقع أم لم يحصل.
525

دعوى القطع بصدور بعضها، فيكون (1) دليلا قاطعا على جواز التقليد وإن لم يكن كل واحد منها بحجة (2)، فيكون (3) مخصصا لما دل
على عدم جواز
526

اتباع غير العلم (1)، والذم (2) على التقليد من (3) الآيات والروايات، قال الله
528

تبارك وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1) وقوله تعالى: (قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (2).
مع احتمال (3) أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل، أو في الأصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين (4).
529

وأما قياس (1) المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية في (2) أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها (3)، كذلك لا يجوز فيها (4)
بالطريق الأولى، لسهولتها، فباطل. [1] 5
530

مع أنه (1) مع الفارق، ضرورة (2) أن الأصول الاعتقادية (3) مسائل معدودة بخلافها، فإنها (4) مما لا تعد ولا تحصى،

الاقتصار على بطلان القياس.
فالأولى أن يقال: إن أريد بالتقليد الممنوع في أصول الدين التعبد برأي المجتهد فيها فهو في محله، لكن لا مجال لمقايسة التقليد في
الفروع عليه، لفرض قيام الدليل على جواز التقليد - بمعنى التعبد - في الفروع، وقيام الدليل على عدم كفايته في الأصول.
وأولوية الأصول من الفروع ممنوعة، إذ المعتبر من الدليل في الأصول الاعتقادية ليس هو الدليل العقلي النظري الذي يعتمد عليه
الفلاسفة والمتكلمون كبرهان الصديقين كي يكون عامة المكلفين قاصرين عن إقامته، بل هو مطلق الدليل ولو على نحو الاجمال حتى
مع العجز عن بسط مقدماته بالنحو المقرر في علم الميزان، ومثله ميسور لكل أحد حتى العجائز والصبيان. وهذا بخلاف الاجتهاد في
الفروع، فإنه بذل الوسع في تحصيل الحجة على الحكم، وهو عند أهله أشق من طول الجهاد.
وإن أريد بالتقليد الممنوع في أصول الدين اتباع قول الغير فيما إذا اطمأن به وحصل الوثوق بقوله فأصل هذا المنع في غير محله،
لكفاية الاطمئنان بالمعارف الحقة ولو لم يكن مستندا إلى الاستدلال المنتج للعلم القطعي به.
531

ولا يكاد يتيسر [1] من الاجتهاد فيها فعلا طول (1) العمر إلا للأوحدي في كلياتها (2)، كما لا يخفى.

[1] لا تقتضي قاعدة نفي العسر والحرج رفع وجوب الاجتهاد عن العامي مطلقا، بل تقتضي التبعيض في مراتبه. لكن لا تصل النوبة إليه
بعد السيرة الممضاة بالاخبار المتقدمة.
532

فصل (1)
إذا علم المقلد اختلاف الاحياء في
تقليد الأعلم
533

الفتوى (1) مع اختلافهم في العلم والفقاهة (2)، فلا بد (3) من الرجوع إلى
534

الأفضل إذا احتمل تعينه (1)، للقطع بحجيته (2) والشك في حجية
535

غيره (1)، ولا وجه لرجوعه (2) إلى الغير في تقليده إلا على نحو دائر (3) نعم (4) لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله (5) بالتساوي و
جواز الرجوع إليه أيضا (6)، أو جوز (7) له الأفضل بعد رجوعه إليه (8). هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية الأدلة في
هذه المسألة (9).
536

وأما غيره (1) فقد اختلفوا في جواز تقديم المفضول وعدم جوازه، ذهب بعضهم إلى الجواز (2)، والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل
(3) -
537

عدمه (1). وهو الأقوى، للأصل (2) وعدم دليل على خلافه (3).
538

ولا إطلاق في أدلة التقليد (1)
539

- بعد الغض عن نهوضها (1) على مشروعية أصله - [1]
لوضوح (2) أنها (3) إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ بقول العالم، لا في كل
حال (4)، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل، كما (5) هو شأن الطرق

[1] إن كان مقصوده (قده) من منع نهوض الأدلة اللفظية منع خصوص دلالة آيتي النفر والسؤال - دون الأخبار الدالة على حجية الفتوى،
كما سيأتي في الفصل الآتي (إن شاء الله تعالى)، حيث أجاب عن الاستدلال بالآيات بوجه وعن الروايات ب آخر - فما أفاده متين، فيكون
المناقشة في دلالة الآيتين
541

والامارات على ما لا يخفى

مقصورة على أجنبيتهما عن باب قبول فتوى المجتهد تعبدا.
وإن كان مقصوده منع دلالة الآيات والروايات معا، فما أفاده لا يخلو من غموض، لمنافاته مع تصريحه في الفصل السابق بدلالة الاخبار
بطوائفها العديدة على جواز التقليد.
وأما توجيه هذا المنع بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من (أن الافتاء في الصدر الأول في مقام نشر الاحكام كان بنقل الروايات، لا
بإظهار الرأي والنظر. فالاطلاقات غير متكفلة لحال الفتوى حتى يتمسك بإطلاقها، وإليه يؤول الجواب الأول في المتن. لكنه
بالتقريب المزبور لا بما أفاده عند المناقشة في دلالتها على لزوم التقليد أو جوازه.) فلا يخلو من غموض، فإنه (قده) معترف بمخالفة
استظهاره من تلك الروايات لما استظهره الماتن منها، فإن المصنف اعتمد عليها في حجية الفتوى شرعا، ومعه كيف يكون مبنى
الاشكال في الاستدلال بها ما استفاده المحقق الأصفهاني منها.
مضافا إلى ما في قوله: (لا بما أفاده عند المناقشة فيها) فإن المصنف إنما منع - في الاستدلال على جواز التقليد - من دلالة آيتي النفر و
السؤال، واعترف بدلالة الاخبار عليه، فلم يتقدم مناقشة في دلالة الاخبار من المصنف حتى يكون قوله في المتن: (بعد الغض عن
نهوضها) إشارة إلى مناقشة أخرى استظهرها المحقق الأصفهاني، لا المناقشة المتقدمة من المصنف. ولعل الأولى الاعتراف بعدم
الوقوف على مقصوده، والله أعلم بحقيقة الحال.
542

ودعوى (1) السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من
543

دون فحص عن [على] أعلميته (1) مع العلم (2) بأعلمية أحدهما ممنوعة (3). ولا عسر (4) في تقليد الأعلم،
544

لا عليه (1)، لاخذ فتاواه من رسائله وكتبه،
546

ولا (1) لمقلديه، لذلك (2) أيضا (3). وليس (4) تشخيص الأعلمية بأشكل (5) من تشخيص أصل الاجتهاد. مع أن (6) قضية نفي العسر
الاقتصار على موضع
547

العسر، فيجب (1) فيما لا يلزم منه العسر، فتأمل جيدا.
وقد استدل للمنع أيضا (2) بوجوه (3):
أحدها: نقل الاجماع على تعين تقليد الأفضل (4).
ثانيها: الاخبار (5) الدالة
548

على ترجيحه (1) مع المعارضة (2) كما في المقبولة (3)
549

وغيرها (1)، أو على (2) اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه (3) المنقول عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اختر للحكم بين الناس
أفضل رعيتك) (4).
550

ثالثها (1): أن قول الأفضل أقرب من غيره جزما، فيجب الاخذ به (2) عند المعارضة عقلا (3).
551

ولا يخفى ضعفها (1). أما الأول (2) فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو الأصل (3)، فلا مجال (4) لتحصيل
الاجماع (5) مع الظفر بالاتفاق (6)،
552

فيكون (1) نقله موهونا، مع عدم حجية نقله (2) ولو مع عدم وهنه (3).
وأما الثاني (4) فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة لأجل رفع
553

الخصومة - التي لا تكاد ترتفع إلا به (1) - لا يستلزم (2) الترجيح في مقام الفتوى كما لا يخفى.
وأما الثالث (3) فممنوع صغرى وكبرى.
554

أما الصغرى (1) فلأجل أن فتوى غير الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه (2)، لموافقتها لفتوى من هو أفضل منه ممن (3) مات. ولا يصغى
(4) إلى أن فتوى
555

الأفضل أقرب في نفسه (1)، فإنه (2) لو سلم (3) أنه
556

كذلك (1)، إلا (2) أنه (3) ليس بصغرى لما ادعي عقلا من الكبرى، بداهة (4) أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن يكون الأقربية في الامارة
لنفسها أو لأجل موافقتها لامارة أخرى كما لا يخفى.
وأما الكبرى (5) فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية (6) لم يعلم أنه القرب
557

من الواقع (1)، فلعله يكون ما (2) هو في الأفضل وغيره سيان، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا.
نعم (3) لو كان تمام الملاك هو القرب - كما إذا كان حجة بنظر العقل - لتعين الأقرب (4) قطعا (5)،
558

فافهم. [1 [1

[1] لا يخفى أن في مسألة تقليد الأعلم مباحث مهمة لا يسعنا التعرض لها في هذا الوجيزة، وقد تعرضنا لها في شرح تقليد العروة الوثقى،
ونذكر بعضها هنا بنحو الاختصار، فتقول وبه نستعين: أنه ينبغي قبل ذكر أدلة المجوزين والمانعين تأسيس الأصل في المسألة حتى
يرجع إليه على تقدير عدم تمامية أدلة الطرفين.
تأسيس الأصل لا إشكال في أن كلا من التقليد وأخويه طريق إلى امتثال الاحكام الفعلية الالزامية المنجزة بالعلم الاجمالي وسقوطها، و
مؤمن من العقوبة كالقواعد الجارية في وادي الفراغ كقاعدتي التجاوز والفراغ، ومن المعلوم أن المؤمن العقلي - بناء على عدم ثبوت
مؤمنية فتوى المفضول لا ارتكازا ولا شرعا ولا عقلا - منحصر في العمل بفتوى الأفضل أو الاحتياط، لكون كل منهما مؤمنا عقلا من
559



العقوبة، فإن الاحتياط محرز عملي للواقع، وفتوى الأعلم حجة عليه قطعا بعد البناء على جواز أصل التقليد، فإن فتوى الأعلم حينئذ معلومة
الحجية إما تعيينا بناء على وجوب تقليد الأعلم، وإما تخييرا بناء على عدم وجوبه تعيينا، فأصالة التعيينية محكمة، ومقتضاها وجوب
تقليد الأعلم، وعدم الاكتفاء في سقوط التكليف الإلزامي بالعمل بقول المفضول، لكونه إطاعة احتمالية لم ينهض على جواز الاكتفاء بها
دليل.
وهذا الأصل - أي أصالة التعيينية - مرجع مطلقا أي سواء أكان الشاك في اعتبار قول المفضول نفس المجتهد أم العامي، لان مرجع
الشك في الفراغ وبراءة الذمة هو قاعدة الاشتغال المقتضية للزوم العمل بفتوى الأفضل.
والاشكال في أصالة التعيينية تارة بما عن المحقق القمي (قده) في القوانين من قوله: (لا يقال إن الأصل حرمة العمل بالظن، خرج الأقوى
بالاجماع، ولا دليل على العمل بالأضعف، لأنا نقول:
قد بينا سابقا أنه لا أصل لهذا الأصل، فلا نعيد. واشتغال الذمة أيضا لم يثبت إلا بالقدر المشترك المتحقق في ضمن الأدون، والأصل عدم
لزوم الزيادة).
وأخرى: بمعارضة هذا الأصل بالاحتياط في المسألة الفرعية، كما إذا أفتى المفضول بما يوافق الاحتياط كوجوب جلسة الاستراحة على
خلاف فتوى الأفضل بعدم وجوبها.
مندفع، إذ في الاشكال الأول: أن إنكار حرمة العمل بالظن إن كان لأجل عدم الدليل على حرمة العمل به، ففيه منع واضح، لدلالة الآيات و
الروايات الناهية عن العمل بالظن بوضوح على ذلك، وإن كان لأجل الأصل الثانوي المستنتج من دليل الانسداد القاضي باعتبار الظن و
جواز العمل به ففيه:
أن دليل الانسداد يجري في حق من تمت له مقدماته، وليس العامي ممن تمت له مقدمات الانسداد، فلا يجري في حقه، إذ من مقدماته
انسداد باب العلمي أي الظن الخاص، وذلك غير منسد على العامي، لوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلا إشكال في حرمة العمل بالظن
إلا ما خرج، ومن المعلوم أن الخارج قطعا هو فتوى الأفضل. وخروج فتوى المفضول مشكوك فيه، فيبقى تحت أصالة حرمة العمل
بالظن.
لا يقال: إن مقتضى إطلاق دليل التخصيص - وهو ما دل على جواز التقليد - خروج فتوى الفقيه مطلقا سواء أكان فاضلا أم مفضولا عن
عموم حرمة العمل بالظن، ومقتضى هذا الاطلاق جواز العمل
560



بفتوى المفضول.
فإنه يقال: إن أدلة التقليد لا تشمل الفتويين المتعارضتين، فمقتضى القاعدة تساقطهما. إلا أن الاجماع المدعى على عدم تساقطهما
يقتضي لزوم الاخذ بإحداهما. وحينئذ فإن كان المجتهدان متساويين في الفضيلة حكم العقل بالتخيير بين الفتويين. وإن كانا
متفاضلين فيها حكم العقل بلزوم الاخذ بفتوى الأفضل، دون التخيير، لفقدان ملاكه وهو التساوي.
وبالجملة: فلا دليل على التخيير بين فتويي الفاضل والمفضول، لا من العقل، لتقبيحه الاخذ بالمرجوح مع وجود الراجح، ولا من النقل،
لعدم شمول أدلة التقليد للفتويين المتعارضتين كما مر آنفا.
وفي الاشكال الثاني: أن أصالة التعيينية التي هي جارية في المسألة الأصولية حاكمة على الاحتياط الجاري في المسألة الفقهية، لأنهما
كالشك السببي والمسببي، حيث إن الأصل الجاري في المسألة الأصولية يزيل الشك في المسألة الفقهية.
وبالجملة: فشي من الاشكالين المزبورين لا يوجب الخدشة في أصالة التعيينية الموجبة لتعين العمل بفتوى الأفضل، والله العالم.
إذا اتضح الأصل الذي يعول عليه في المسألة يقع الكلام في أدلة المانعين والمجوزين.
اعلم: أن المسألة ذات قولين: أحدهما تعين تقليد الأفضل، وعدم جواز تقليد المفضول، وهذا القول هو المعروف بين الأصحاب وجماعة
من العامة، وفي تقريرات شيخنا الأعظم (قده): (بل هو قول من وصل إلينا كلامه من الأصوليين كما عن النهاية) وفي المعالم: (هو قول
الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم). وعن المحقق الثاني (قده) (دعوى الاجماع صريحا على ذلك) وعن التقريرات: (ويظهر من السيد
في الذريعة كونه من مسلمات الشيعة).
وثانيهما: الجواز أي التخيير بين الفاضل والمفضول، وعدم تعين تقليد الفاضل، وهو المنسوب في التقريرات المشار إليها (إلى جماعة
ممن تأخر عن الشهيد الثاني (قده) تبعا للحاجبي والعضدي والقاضي وجماعة من الأصوليين والفقهاء، وصار إليه جملة من متأخري
أصحابنا حتى صار في هذا الزمان قولا معتدا به، والأقرب ما هو المعروف بين أصحابنا).
وكيف كان ففي المسألة قولان: الأول جواز تقليد المفضول كما عليه جماعة، والثاني المنع كما عليه المشهور، فهنا مبحثان أحدهما في
المنع، والاخر في الجواز.
561



أدلة جواز تقليد المفضول أما الأول فمحصله: أنه قد استدل على القول بالجواز تارة بالأصل، وأخرى بالدليل، فيقع الكلام في مقامين.
القسم الأول: الاستدلال بالأصل العملي، وتقريبه بوجوه: أ - الاستصحاب الأول: في بيان تمسكهم بالأصل، وقد ذكروا في تقريبه
وجوها:
الأول: استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين في العلم، ثم صار أحدهما أفضل من الاخر، ويتم في غير هذا المورد بالاجماع
المركب.
وفيه: أنه لا مجال هنا للتخيير لا واقعا ولا ظاهرا. أما الأول فواضح، لعدم جعل التخيير الواقعي بين الفتويين اللتين هما طريقان إلى
الواقع، وليس فيهما ملاك إلا الطريقية، وعليه فالمجعول واقعا إحداهما أو ثالث.
وأما الثاني فلعدم جريان الاستصحاب فيه، إذ مناط التخيير في حال تساوي المجتهدين - وهو القطع بعدم المرجح - مفقود في صورة
أفضلية أحدهما من الاخر، وذلك لاحتمال مرجحية الأعلمية، ومعه لا يحكم العقل بالتساوي، لارتفاع مناط حكمه.
وإن شئت فقل: أن موضوع التخيير كان تساوي المجتهدين في العلم، وقد ارتفع التساوي، لصيرورة أحدهما أعلم من الاخر، وقد قرر
في محله عدم جريان الاستصحاب مع زوال وصف من أوصاف الموضوع، لكونه موجبا للشك في بقاء الموضوع مع احتمال دخل الزائل
فيه، ومع الشك في بقاء الموضوع لا يجري الاستصحاب كالعلم بارتفاعه.
وتوهم أن هذا الاشكال متجه على الاستصحاب إن كان المستصحب هو التخيير، وأما إذا كان ذلك جواز الرجوع إلى المفضول قبل
أعلمية الاخر منه مع كون موضوعه الاجتهاد والعدالة - اللذين هما باقيان بعد حصول الأعلمية قطعا - فلا إشكال في بقاء جواز الرجوع
إليه، لتبعية الحكم لموضوعه حدوثا وبقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب، للقطع ببقاء الموضوع المترتب عليه القطع ببقاء حكمه فاسد،
لان المراد بهذا الجواز ليس هو الإباحة بالمعنى الأخص التي هي من الأحكام الخمسة التكليفية، بل المراد بالجواز هو الوجوب التخييري
بتطبيق العمل على إحدى الفتويين، و
562



تسمية هذا الوجوب بالجواز إنما هي للرخصة في تركه إلى بدل، فلا يندفع الاشكال بهذا التوهم، هذا.
ب - أصالة البراءة الثاني: أصالة البراءة عن وجوب تقليد خصوص الأعلم، لكونه كلفة زائدة، فيكون مخيرا في العمل بإحدى الفتويين،
حيث إن إيجاب العمل بفتوى خصوص الأفضل يوجب الضيق على العامي، فينفي بأصالة البراءة، نظير الشك في أن الواجب عتق مطلق
الرقبة أو خصوص المؤمنة، مع عدم إطلاق دليل ينفي اعتبار هذه الخصوصية كما إذا كان لبيا أو مجملا لفظيا، فإنه ينفي التكليف بهذه
الخصوصية بأصل البراءة.
وبالجملة: فالمقام من صغريات التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة عن التعيينية، هذا.
وفيه: منع صغروية المقام لكبرى التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة.
وتوضيح ذلك منوط بالإشارة إلى أقسام التخيير حتى يتضح حال المقام، فنقول:
أقسام التعيين والتخيير القسم الأول: التخيير العقلي الثابت في تعلق التكليف بطبيعة ذات أفراد، فإن التخيير بين أفرادها يكون بحكم
العقل، والشك في هذا التخيير ينشأ من احتمال دخل خصوصية بعض الافراد في الحكم بحيث يختص حكم الطبيعة به، دون غيره من
الافراد، كاحتمال دخل الايمان في وجوب عتق الرقبة. فان كان لدليل الحكم المتعلق بالطبيعة إطلاق يدفع به احتمال دخل خصوصية
الايمان في الحكم، ويثبت به إطلاق الحكم لجميع أفراد الطبيعة على حد سواء. وإن لم يكن لدليل الحكم إطلاق يدفع الشك في دخل
خصوصية الايمان بأصل البراءة، لان قيدية الايمان مما تناله يد التشريع، وفي رفعها منة، فتجري فيها البراءة، وبها يرتفع الشك في
التعيينية.
القسم الثاني: التخيير الشرعي الذي يتكفله الخطاب كخصال الكفارة، فإن التخيير فيها شرعي واقعي، وليس للعقل فيه دخل أصلا، فإذا
شك في وجوب إحداها جرت فيها البراءة.
القسم الثالث: التخيير العقلي الثابت في باب التزاحم، فإن الواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريقين وإطفاء الحريقين يشتمل كل منهما على
مصلحة موجبة لجعل الوجوب لكل واحد منهما تعيينا، إلا أن عدم قدرة المكلف على امتثالهما معا أوجب حكم العقل بالتخيير بينهما مع
تساوي
563



ملاكيهما، وبتعيين أحدهما مع أهمية ملاكه من ملاك الاخر. ومرجع الشك في التعيين والتخيير في هذا القسم إلى الشك في ترجيح أحد
المتزاحمين على الاخر وعدمه، فالتخيير حينئذ عقلي عارضي ناش من التزاحم في مقام الامتثال، مع عدم مزاحمتهما في مقام الجعل، و
ليس هنا مورد للبراءة، إذ المفروض العلم بوجوب المتزاحمين واقعا.
القسم الرابع: التخيير بين فعل شئ وتركه، لدوران حكمه بين الوجوب والحرمة مع عدم مرجح لأحدهما، فإن التخيير في موارد
دوران الامر بين المحذورين ليس شرعيا ولا عقليا. أما عدم كونه شرعيا فواضح، إذ حكم الفعل واقعا واحد معين وهو الوجوب أو
الحرمة. وأما عدم كونه عقليا فلعدم ملاك في كل من الفعل والترك حتى يحكم العقل - حفظا لاحد الملاكين - بالتخيير كما في
الواجبين المتزاحمين، فالتخيير في هذا القسم تكويني، حيث إن المكلف بحسب طبعه إما فاعل وإما تارك، ولا تجري البراءة في هذا
القسم أيضا، لعدم الشك في الحكم.
والحاصل: أن التخيير إما عقلي وإما شرعي وإما تكويني، والأول يكون في موردين أحدهما:
أفراد الكلي المتعلق للحكم الشرعي كالرقبة، والاخر: الواجبان المتزاحمان الواجد كل منهما لملاك الوجوب التعييني.
والثاني يكون فيما قام الدليل الشرعي على التخيير بين شيئين أو أشياء كالخصال.
والثالث يكون في دوران الامر بين المحذورين.
ثم إنه بعد الإحاطة بأقسام التخيير الأربعة يظهر مغايرتها للتخيير بين الفتويين المتعارضتين، حيث إنه - بعد عدم شمول إطلاقات
التقليد للفتاوى المتعارضة، وقيام الاجماع على عدم تساقطها - يحكم العقل بالتخيير بينها مع التساوي في العلم، وبالتعيين مع المزية،
لكونه إطاعة ظنية، بخلاف الاخذ بفتوى المفضول، فإن الإطاعة فيه احتمالية، فلو عمل بفتوى المفضول مع التمكن من العمل بفتوى
الأفضل فقد أخل بمراتب الإطاعة، إذ العقل لا يتنزل عن المرتبة السابقة إلى اللاحقة إلا بالتعذر.
فعلى هذا لا يتنزل العقل عن العمل بفتوى الأفضل مع التمكن، ومنه لا يعد الاخذ بفتوى المفضول إطاعة موجبة للاجزاء، فتعين العمل
بفتوى الأفضل يكون بحكم العقل من باب الإطاعة، ورعاية ما فيها من المراتب، ولا يكون بحكم الشرع حتى تجري فيه البراءة. بخلاف
تعين بعض أفراد المطلق كالرقبة، فإن تعين المؤمنة مثلا يكون بحكم الشارع، فإذا شك في هذا التعين جرت فيه
564



أصالة البراءة. وكذا تجري البراءة في الشك في وجوب الصوم أو العتق، لكونه شكا في التكليف.
وأما عدم جريان البراءة في تعين أحد الواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريقين فيما إذا كان أحدهما عالما والاخر جاهلا، وشك في
رجحان إنقاذ العالم، فإنما هو لعدم كون الشك في وجوبه التعييني حتى ينفي بالأصل، إذ المفروض وجوب إنقاذ كل منهما تعيينا كما
هو مقتضى ملاك كل منهما، بل الشك في بقاء التخيير بين المتزاحمين مع فرض مرجح في أحدهما، فالعقل حينئذ لا يحكم بالتخيير،
لإناطة هذا الحكم بتساويهما، ومع وجود مزية في أحدهما يرتفع التساوي، فلا يحكم العقل حينئذ بالتخيير.
وكذا الحال في دوران الامر بين المحذورين فيما إذا اقترن أحد الاحتمالين من الوجوب أو الحرمة بما يحتمل مرجحيته كالشهرة مثلا،
فإن العقل لا يحكم حينئذ بالتخيير، لان الاخذ بالاحتمال الموهوم إطاعة احتمالية، وبالاحتمال المقرون بما يحتمل مرجحيته إطاعة
ظنية، وهذا يقدم عقلا على الإطاعة الاحتمالية.
والحاصل: أن الشك في التعيينية في المزاحمين وفي دوران الامر بين المحذورين ليس شكا في الحكم الشرعي حتى تجري فيه البراءة،
وفي تعين أحد أفراد الطبيعة المتعلقة للحكم كالرقبة يكون شكا في التكليف، فتجري فيه البراءة.
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا: أن الشك في التعيينية في المقام - وهو الشك في تعين الاخذ بفتوى الأعلم - ليس من موارد أصالة البراءة،
لعدم كون الشك في ثبوت التكليف، بل في سقوطه وامتثاله الذي هو مجرى قاعدة الاشتغال، فلا وجه لجعل ما نحن فيه من صغريات
التعيين والتخيير التي تجري فيها البراءة.
ج - أصالة عدم مرجحية الأعلمية الثالث من وجوه تقرير الأصل هو: أنه لما كان مناط تقديم فتوى الأفضل على غيره مرجحية الأعلمية،
ومن المعلوم أن المرجحية كالحجية توقيفية، ومع الشك فيها يجري الأصل في عدمها المقتضي للتخيير بين الفتويين، إذ المفروض
حجية قول المفضول ذاتا، لشمول دليل حجية الفتوى لها كانت النتيجة حجية قول المفضول كالفاضل، هذا.
565



وفيه: أن الأصل عدم حجية فتوى المفضول، لما تقدم من أن المتيقن خروجه عن عموم ما دل على حرمة العمل بالظن هو قول الأفضل،
لتعينه بنظر العقل في مقام الإطاعة وتفريغ الذمة، دون قول المفضول، لان العمل به إطاعة احتمالية لا يكتفي بها في حصول الامتثال.
ودعوى خروج فتوى المفضول أيضا عن عموم حرمة العمل بالظن، لأنه مقتضى حكومة إطلاق دليل الخاص على عموم العام، فالنتيجة
التخيير بين الفتويين، غير مسموعة، لان أدلة التقليد لا تشمل الفتويين المتعارضتين حتى يكون إطلاقها حاكما على عموم أدلة حرمة
العمل بالظن، وإنما الدليل على اعتبارهما هو ما ادعي من الاجماع على عدم سقوطهما، والعقل حينئذ يحكم بالتخيير مع تساوي
المجتهدين في العلم، وبالترجيح مع تفاضلهما، فلا دليل لا عقلا ولا نقلا على حجية فتوى المفضول المخالفة لفتوى الأفضل. أما الأول
فلقبح ترجيح المرجوح على الراجح، وأما الثاني فلما مر آنفا من سقوط أدلة التقليد وعدم شمولها للمتعارضين.
وأما ما ذكره المستدل - من توقيفية المرجحية كالحجية، ومع الشك فيها يجري الأصل في عدمها - ففيه: أنه متجه في التخيير الشرعي
الثابت بالدليل كالتخيير بين الخبرين المتعارضين، ضرورة أن رفع اليد عن الحجية - وهي دليل التخيير الشرعي - لا مسوغ له إلا
الدليل، فإن إطلاق دليل التخيير حجة، وهو ينفي كل مشكوك المرجحية، ولا نرفع اليد عن هذا الاطلاق إلا بما دل الدليل على مرجحيته
الموجبة لتقيد إطلاق أدلة التخيير. وهذا بخلاف التخيير العقلي، فإن ملاكه هو التساوي المفقود فيما إذا كان لاحد المتعارضين مزية و
إن لم تثبت مرجحيته شرعا.
فصارت النتيجة: أن الأصل في المسألة عدم حجية قول المفضول، وأن شيئا من الوجوه التي قرر بها الأصل لا يجدي في إثبات جواز
تقليد المفضول في صورة معارضة فتواه لفتوى الأفضل، بل الأصل كما تقدم يقتضي عدم الجواز، والله العالم.
القسم الثاني: الأدلة الاجتهادية 1 - إطلاقات أدلة التقليد المقام الثاني: في استدلال المجوزين لتقليد المفضول مع معارضة فتواه
لفتوى الأفضل بالأدلة الاجتهادية، وهي كثيرة:
الأول: إطلاقات أدلة مشروعية التقليد من الآيات والروايات، بتقريب: أنها وإن كانت ظاهرة
566



في حجية كل واحدة من الفتاوى تعيينا بنحو العام الاستغراقي، لكن لا بد من صرفها في تعارض الفتويين إلى الحجية التخييرية
بقرينتين خارجية وعقلية.
أما الخارجية فهي كثرة الاختلاف في الفتاوى مع التفاوت في العلم والفضيلة، وندرة الاتفاق بين جمع كثير من المجتهدين في الفتوى،
حيث إنه مع هذه الكثرة من الاختلاف في الفتوى لم يقيد الأئمة المعصومون (عليهم الصلاة والسلام) حجية قول الفقيه بعدم مخالفته
لفتوى غيره من الفقهاء. فهذه قرينة قطعية على إطلاق أدلة التقليد الذي مقتضاه حجية فتوى كل من الفاضل والمفضول سواء أكانتا
متوافقتين أم متخالفتين، وسواء علم بتوافقهما وتخالفهما أم لا، وسواء علم بتساوي المجتهدين في العلم أم لا، فإن الاطلاق المزبور
يقتضي هذا التعميم.
وأما القرينة العقلية، فهي: أن القاعدة في الدليلين المتعارضين تقتضي الجمع بينهما مهما أمكن، وعدم طرحهما رأسا، وهذا الجمع ينتج
التخيير بينهما.
توضيحه: أنه إذا ورد دليل على وجوب القصر في المسافة التلفيقية وإن كان الذهاب أقل من أربعة فراسخ، ودليل آخر على وجوب
الاتمام فيها، فلا سبيل إلى طرح كليهما، والحكم بعدم وجوب شئ من صلاتي التمام والقصر، بل لا بد من الاخذ بأحدهما تخييرا بأن
يقيد إطلاق كل من الدليلين بالآخر، فيقال: يجب إتمام الصلاة إلا مع الاتيان بالصلاة المقصورة، وكذا تجب المقصورة إلا مع الاتيان
بالتامة، فالنتيجة الوجوب التخييري بينهما.
وبالجملة: فمع إمكان الجمع بين المتعارضين بتقييد الاطلاق فيهما لا وجه لطرحهما، ففي المقام يقيد إطلاق حجية فتوى كل من الفاضل
والمفضول، ويقال: إن فتوى كل منهما حجة في ظرف عدم الاخذ بالأخرى، ففتوى المفضول حجة في ظرف عدم الاخذ بفتوى الأفضل،
وبالعكس، وهذا معنى التخيير، هذا.
وأنت خبير بما في كلتا القرينتين.
إذ في الأولى أولا: منع غلبة الاختلاف في الفتوى بين المفتين في تلك الاعصار مع تمكنهم من الرجوع إلى الأئمة المعصومين صلوات الله
عليهم أجمعين)، وأخذ الاحكام ومداركها منهم (عليهم السلام). وغلبة الاختلاف في الفتاوي إنما حدثت في الاعصار المتأخرة عن
زمانهم عليهم السلام، لضياع جملة من كتب الحديث، وغيره من الحوادث. وعليه فإطلاقات حجية الفتاوى لا تشمل
567



الفتويين المتعارضتين، فأصالة عدم الحجية تقتضي عدم حجيتهما معا.
وثانيا: منع صلاحية الغلبة - بعد تسليمها - لصرف الاطلاقات عن ظاهرها من الحجية التعيينية إلى التخييرية الشاملة لصورة اختلاف
الفتاوي، وذلك لقصور أدلة اعتبار الفتاوى كالروايات عن شمولها للفتاوى المتعارضة، حتى تصل النوبة إلى صرفها عن الحجية
التعيينية إلى التخييرية، فهي لا تدل على اعتبار كلتا الفتويين المتعارضتين ولا واحدة معينة منهما، لعدم الترجيح، ولا مخيرة منهما
لعدم فرديتها لدليل حجية الفتاوى. فإثبات حجية إحداهما منوط بدليل آخر كالاجماع المدعى على عدم سقوط كلتا الفتويين
المتعارضتين، كإثبات حجية أحد الخبرين المتعارضين بالاخبار العلاجية هذا.
وفي الثانية - وهي القرينة العقلية - أن قياس تعارض الفتويين بموارد الجمع العرفي في غير محله، لعدم التعارض فيها مع إمكان
الجمع بينها عرفا، وعدم تحيرهم في تشخيص المراد منها، ففرق واضح بين الفتويين اللتين تكون إحداهما وجوب السورة مثلا و
الأخرى عدمه، وبين قوله:
(من أفطر متعمدا في شهر رمضان فعليه صوم شهرين متتابعين) وقوله: (من أفطر فعليه إطعام ستين مسكينا) فإنه لا يمكن الجمع بين
وجوب السورة وعدمه مع هذا التعارض التناقضي، بخلاف مسألة تعمد الافطار، فإن لكل من هذين الكلامين نصا وظاهرا، والعرف
يجمع بينهما برفع اليد عن ظهور كل منهما في التعيينية بنص الاخر، فإن ما يدل على (وجوب إطعام ستين مسكينا) نص في وجوب
الاطعام وظاهر في تعينه وعدم وجوب عدل له، ويرفع اليد عن هذا الظاهر بنص ما يدل على وجوب صوم شهرين، وبالعكس، و
يكون نتيجة هذا الجمع وجوب كل من الاطعام والصوم تخييرا، لان مقتضى ارتفاع ظهور كل منهما في التعيينية بنص الاخر هو التخيير
بين الصوم والاطعام.
فالمتحصل: أن إطلاقات أدلة التقليد لا تدل على المدعى وهو التخيير بين الفتويين المتعارضتين، بل هي ساقطة عن الاعتبار، فلا بد في
إثبات حجية إحدى الفتويين تخييرا من التماس دليل آخر، فالاستدلال بتلك الاطلاقات على جواز تقليد غير الأعلم مع الاختلاف في
الفتوى في غير محله.
2 - استلزام وجوب تقليد الأعلم للعسر الثاني: أن وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين، لتعسر تشخيص مفهومه ومصداقه، وكذا
568



تعسر تعلم فتاواه على أهالي البلدان فضلا عن سكان القرى والبوادي، وكل حكم عسري مرفوع، فوجوب تقليد الأعلم مرفوع، فيجوز
تقليد المفضول مع مخالفة فتواه لفتوى الأعلم، هذا.
وفيه: أنه لا يلزم الحرج في شئ مما ذكر. أما من ناحية المفهوم فلان مفهوم الأعلم من المفاهيم العرفية، وسيأتي توضيحه (إن شاء الله
تعالى) وكذا مصداقه، فإنه لا يزيد مئونة تشخيصه على مئونة تشخيص مفهومه في سائر الموارد كالأعلم في علم الطب وغيره من
العلوم، فكما يتحقق تشخيصه هناك بالعلم والاطمئنان والشياع، فكذلك يحصل ذلك هنا بها بإضافة البينة إليها. وأما من ناحية تعلم
فتاواه فلامكان ذلك بأخذ رسالته أو السؤال عمن يحيط بفتاوى المجتهدين وينقلها لمقلديهم.
والحاصل: أنه لا يلزم حرج في شئ من هذه المراحل الثلاث أصلا خصوصا بعد ملاحظة اختصاص وجوب الرجوع إلى الأعلم بالمسائل
التي علم بمخالفة فتوى المفضول لفتوى الأفضل فيها، ومن المعلوم انتفاء الحرج في العلم بموارد الخلاف، هذا.
مضافا إلى: أنه أخص من المدعي، إذ لا حرج على الكل في تقليد الأعلم، بل يختص الحرج ببعض المكلفين.
3 - سيرة المتشرعة الثالث: استقرار سيرة المتشرعة على الرجوع إلى كل مجتهد من دون فحص عن أعلميته مع اختلاف العلماء في
الفقاهة والفتوى، فعدم فحصهم دليل على عدم وجوب تقليد الأعلم.
وفيه: أن دعوى السيرة في غير صورة العلم بالمخالفة غير بعيدة. لكنه أجنبي عن المدعى، وهو استقرار السيرة على عدم الفحص في
صورة العلم بالمخالفة، فإن دعوى السيرة في هذه الصورة ممنوعة جدا، بل السيرة على خلافه، لما ترى من عدم استعمال المريض دواء
الطبيب الذي خالفه في ذلك طبيب أعلم منه، فإن المريض يترك ذلك الدواء ويستعمل دواء الطبيب الأعلم.
وبالجملة: فالمتيقن من السيرة هو صورة عدم العلم بالمخالفة، وهي أجنبية عن صورة العلم بالمخالفة التي هي مورد البحث.
4 - الروايات الارجاعية الرابع: إرجاع الأئمة المعصومين عليهم أفضل صلوات المصلين جماعة من العوام إلى عدة من
569



أصحابهم كزرارة ويونس بن عبد الرحمن ومحمد بن مسلم وزكريا بن آدم وغيرهم مع حضور الإمام عليه السلام، فإن تقليد الأعلم لو
كان واجبا ولم تكن فتوى المفضول حجة لم يكن وجه للارجاع إلى هؤلاء، إذ المفروض وجود الأعلم - وهو الإمام عليه السلام - بينهم،
فحجية فتاواهم مع وجوده عليه السلام فيهم تدل على حجية فتوى المفضول مع وجود الأفضل، هذا.
وفيه أولا: أنه لا إطلاق في أدلة الارجاع إلى جملة من الأصحاب، وإنما هو إرجاع في موارد إلى أشخاص معينين، فلا إطلاق في البين
حتى يتمسك به لاثبات حجية فتوى المفضول وإن كانت مخالفة لفتوى الأفضل.
وثانيا: أنا نقطع بخروج صورة العلم بالمخالفة عن مورد الروايات الارجاعية، ضرورة أنهم (عليهم السلام) لا يرجعون شيعتهم إلى
الأشخاص الذين يفتون بخلاف قولهم صلوات الله عليهم)، لكونه إرجاعا إلى الباطل الذي يحرم اتباعه.
فالمتحصل: أن الاستدلال بالاخبار الارجاعية عن حجية فتوى المفضول مع العلم بمخالفتها لفتوى الأفضل غير سديد.
5 - دليل الانسداد الخامس: ما عن المحقق القمي (قده) من أن دليل الانسداد يقتضي وجوب الاخذ بقول العالم مطلقا من غير فرق بين
الأعلم وغيره، لوجود المناط - وهو الظن - في كليهما.
وفيه أولا: عدم تمامية دليل الانسداد، إذ من مقدماته انسداد باب العلمي، وقد ثبت في محله انفتاحه.
وثانيا: - بعد تسليم تمامية مقدماته - أن النتيجة حجية قول خصوص الأعلم، لأقربيته إلى الواقع كما سيأتي في أدلة المانعين (إن شاء الله
تعالى).
6 - التمسك ب آية نفي مساواة العالم للجاهل السادس: أنه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل، وقد قال الله تعالى:
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ونفي الاستواء يستلزم حجية فتوى المفضول، إذ لو لم تكن حجة كان المجتهد المفضول
مساويا للجاهل، والمفروض أنه بمقتضى الآية الشريفة ليس مساويا
570



للجاهل.
وفيه: أن الآية الشريفة على خلاف المطلوب أدل، لان المفضول جاهل في مقدار من العلم الذي يكون الأفضل واجدا، له، فلو جاز تقليد
المفضول لزم تساويهما، وهذا خلاف ما دلت عليه الآية الشريفة من نفي استوائهما.
وقد نوقش فيه بأن المراد نفي المساواة بين العالم المطلق والجاهل المطلق، لا نفي المساواة بين العالم بالكل والجاهل بالبعض
كالمفضول بالنسبة إلى الفاضل، فلم يثبت نفي المساواة بينهما حتى تدل الآية المباركة على عدم حجية فتوى المفضول، فيجوز تساوي
الفاضل والمفضول في حجية قوليهما، إذ المنفي في الآية الشريفة تساوي العالم والجاهل المطلقين، لا تساوي العالم المطلق والجاهل
بالبعض، فلا تكون الآية دليلا على عدم جواز تقليد المفضول كما هو المقصود من المناقشة.
لكن الانصاف اندفاع هذه المناقشة، لان الحمل على العالم والجاهل المطلقين حمل على الفرض المعدوم أو النادر، فلا يمكن تنزيل الآية
على نفي المساواة بينهما، بل لا بد من حملها على العالم والجاهل الإضافيين، فيتم الجواب المزبور وهو دلالة الآية على نفي التساوي
بين العالم والجاهل الإضافيين، فإن المفضول جاهل بالنسبة إلى الأفضل، فنفي التساوي بينهما يقتضي حجية قول الأفضل وعدم حجية
قول المفضول.
7 - جواز تقليد عوام الشيعة لأصحاب الأئمة السابع: ما أشار إليه صاحب الفصول (قده) من: أن تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما
جاز لمعاصري الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين) تقليد أصحابهم، بل كان عليهم أخذ الاحكام من الأئمة عليهم السلام دون
أصحابهم، ومن المسلم رجوع عوام الشيعة في زمان حضورهم عليهم السلام إلى الصحابة في مسائل الحلال والحرام، واستقرار
سيرتهم على ذلك، ويشهد بذلك رواية أبان بن تغلب وغيره من الاخبار الارجاعية المتقدمة في الفصل المتقدم (ص 518 إلى ص 522).
وفيه: أن رجوع عوام الشيعة إلى الصحابة في الجملة قطعي ولا يعتريه ريب، لكنه مع ذلك لا يجدي في إثبات جواز تقليد المفضول مع
العلم بالاختلاف، ضرورة أنه يعلم ببطلان الفتوى
571



المخالفة للإمام عليه السلام وعدم صحة الاخذ بها.
وبالجملة: فهذه السيرة لا تصلح لاثبات جواز تقليد المفضول مع مخالفتها لفتوى الأفضل كما هو مورد البحث.
فتلخص من جميع ما ذكرنا: أن شيئا من الوجوه المتقدمة لا يثبت جواز تقليد المفضول مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى الأفضل.
أدلة وجوب تقليد الأعلم: وأما المبحث الثاني فتفصيله: أنه قد استدل على عدم جواز تقليد المفضول مع العلم بالمخالفة بوجوه:
1 - الاجماعات المنقولة الأول: الاجماعات المنقولة صريحا في كلام المحقق الثاني (قده) كما حكاه المحقق الأردبيلي (قده) أيضا عن
بعضهم، وظاهرا في كلام الشهيد الثاني (قده) المؤيد بنقل عدم الخلاف عند أصحابنا كما يظهر من السيد في الذريعة وشيخنا البهائي،
حيث قال: (وتقليد الأفضل معين عندنا). وعن المعالم (وهو قول الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم المعتضد بالشهرة المحققة بين
الأصحاب، وهو الحجية في المقام).
وفيه أولا: أنه لا إجماع في المسألة، لما مر آنفا من كون المسألة ذات قولين.
وثانيا: أنه بعد تسليم الاتفاق لا يمكن الاعتماد عليه، لقوة احتمال مدركيته، لاستدلال المجمعين عليه ببعض الوجوه التي سيأتي التعرض
لها (إن شاء الله تعالى)، فلا نطمئن بكونه إجماعا تعبديا كاشفا عن قول المعصوم (عليه السلام).
2 - الاخبار الثاني: الروايات الدالة على ترجيح الأعلم على غيره:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة (قدس سرهم)، قال: (سألت أبا عبد الله
572



عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما. إلى أن قال: فان كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا
فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم، فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما و
أصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الاخر).
تقريب الاستدلال بها: أنها دلت على وجوب تقديم الأفقه على غيره.
وقد أورد على الاستدلال بها بوجوه:
أحدها: ضعف سند الرواية بعمر بن حنظلة، لعدم ورود توثيق ولا جرح في حقه، فيكون مجهولا، فيشكل الاعتماد على روايته. لكن قد
سبق في بحث الاخبار العلاجية الإشارة إلى مستند القوم في قبول روايته، والمعتمد من تلك الوجوه توصيفها بالمقبولة، فلاحظ ما
ذكرناه هناك.
إلا أن الاشكال في دلالة المقبولة على المدعي وهو تقديم فتوى الأفضل على فتوى المفضول عند المعارضة كما سيأتي (إن شاء الله
تعالى).
ثانيها: أن مورد الترجيح في المقبولة بالأفقهية وغيرها من الصفات هو الحكمان اللذان اختلفا في الحكم، ومن المعلوم توقف فصل
الخصومة الذي لا بد منه على ترجيح أحد الحكمين على الاخر، إذ الحكم بالتخيير لا يقطع الخصومة، بل يوجب بقاءها واستمرارها.
بخلاف المقام، فإن التخيير بين الفتويين لا محذور فيه، فلا وجه للتعدي عن مورد الرواية - وهو الحكم - إلى ما نحن فيه من تعارض
الفتويين، مع وضوح الفرق بينهما.
والحاصل: أن مورد الرواية هو القضاء، دون الفتوى، ولا ملازمة بينهما كما لا يخفى.
ثالثها: أن الأعلمية المرجحة للقاضي في باب القضاء غير الأعلمية المرجحة للمفتي في باب الفتوى، وذلك لان الأعلمية في باب القضاء
إضافية، لكونها ملحوظة بالإضافة إلى حاكم آخر، لا إلى كل مجتهد، لا حقيقية. وفي باب الفتوى حقيقية لا إضافية، لان الأعلمية في باب
الفتوى ملحوظة بالإضافة إلى جميع الفقهاء، فإذا كان فقيهان في بلد وكان أحدهما. أفقه من الاخر تعين ذلك الأفقه للقضاء وإن كان من
في بلد آخر أفقه منه. بخلاف الفتوى، فإنه إذا كان من في بلد آخر أفقه تعين ذلك للمرجعية. ففرق واضح بين الأعلمية المعتبرة في باب
القضاء وبين الأعلمية المعتبرة في باب الفتوى، فإنها في الأول إضافية، وفي الثاني حقيقية أي مطلقة.
573



فالمتحصل: أنه لا وجه للتعدي. الأعلمية المرجحة لاحد الحاكمين إلى الأعلمية المرجحة لاحد المجتهدين في مقام الفتوى.
ومما ذكرنا يظهر غموض ما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) من أنه يتم المطلوب - وهو مرجحية الأعلمية في باب الفتوى كباب
القضاء - بالاجماع المركب، حيث إنه لا قائل بالفصل بين وجوب قضاء الأعلم وتقليده.
وجه الغموض ما مر آنفا: من كون الأعلمية في باب القضاء مضافة، وفي باب الفتوى مطلقة والمجدي هو القول بعدم الفصل لا عدم القول
بالفصل.
ومنها: ما عن مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه) في عهده لمالك الأشتر: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك).
ومنها: ما رواه الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه السلام: (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما
خلاف، واختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال عليه السلام: ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا).
وتقريب الاستدلال بمثل هذه الروايات واضح، لدلالتها على تقديم قول الأفقه والأعلم على غيره، مع التصريح في رواية داود بتقديم
قوله عند العلم بالمعارضة والاختلاف.
وفيه: ما عرفت من مغايرة الأعلمية في باب القضاء للأعلمية في باب الفتوى، فالتعدي من الأول إلى الثاني في غير محله، وليس المراد
بقوله عليه السلام: (أفضل رعيتك) الأعلمية، بل معنى آخر تقدم بيانه في التوضيح (ص 554) فلاحظ.
ومنها: ما عن البحار نقلا عن كتاب الاختصاص، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(من تعلم علما ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس إلى نفسه، يقول: أنا رئيسكم، فليتبوأ مقعده من النار، إن
الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة).
ومنها: ما عن البحار أيضا عن مولانا الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام): (انه قال مخاطبا عمه:
يا عم انه عظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه، فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك؟).
574



وفي كلتا الروايتين أولا: ضعف السند، وثانيا: ضعف الدلالة، لان ظاهرهما هو التصدي للخلافة التي هي منصب شامخ إلهي لا تحصل
لاحد بإتعاب النفس، بل هي موهبة إلهية لا يتقمصها إلا من شملته العناية الربانية. والإمام عليه السلام ردع عمه عن التصدي للخلافة بأن
الخليفة لا بد أن يكون أعلم من جميع الأمة ليقتدر على حل جميع مشاكلهم، وتعليم مسائلهم، وقضاء حوائجهم، وجلب مصالحهم، ودفع
مفاسدهم.
ولو كان المراد إفتاء الفقيه لزم منه عدم جواز الافتاء للمفضول أصلا، لانحصار جواز الافتاء بمن هو أعلم من جميع الأمة. وهذا كما
ترى، لوضوح حجية فتوى المفضول ما لم يعارضها فتوى الأفضل.
فتلخص: أنه لا سبيل إلى الاستدلال بالروايات على وجوب تقليد الأعلم تعيينا.
3 - أقربية فتوى الأعلم إلى الواقع الوجه الثالث من الوجوه المحتج بها على وجوب تقليد الأعلم تعيينا عند التعارض: أن فتوى الأعلم
أقرب إلى الواقع من فتوى غيره. وقد تقدم في التوضيح (ص 555) تقريب الاستدلال به، والاشكال الصغروي والكبروي عليه.
و كان على المصنف (قده) الذي وافق جماعة من المحققين الذين تقدم ذكرهم في منع الصغرى - وهي أقربية فتوى الأفضل مطلقا من
فتوى المفضول - أن يناقش فيما أفاده الشيخ الأعظم (قده) من صحة الصغرى المذكورة، وبطلان ما أفادوه من منع صحتها، ضرورة
توقف تسليم الاشكال الصغروي على رد ما أفيد في صحتها، وإلا فلا بد من الاعتراف بصحتها.
وكيف كان فلا بأس بالإشارة إلى ما عن الشيخ (قده) في التقريرات من تصحيح الصغرى، وهي أقربية فتوى الأفضل من فتوى
المفضول وإن كانت موافقة للمشهور أو للاحتياط أو لفتوى أعلم الاحياء والأموات.
ومحصل ما في التقريرات بطوله هو: أن من منع الصغرى إن أراد بذلك إثبات التسوية بين الأعلم والعالم من حيث الظن في حد ذاتهما
مع الغض عن الأمور الخارجية، ففيه: أنه خلاف الضرورة والوجدان، إذ لا ينبغي الارتياب في أن لزيادة العلم والبصيرة بمدارك المسألة
ومعارضاتها
575



وغير ذلك زيادة تأثير في إصابة الواقع كما اعترف به المحقق الأردبيلي (قده).
وإن أراد أن قول المفضول - لانضمام بعض الظنون المستندة إلى الأمور الخارجية إليه - يصير الظن الناشئ منه أقوى من الظن
الحاصل من قول الأعلم أو مساويا له، ففيه: أن الظنون الحاصلة للمقلد بملاحظة الأمور الخارجية مما لا عبرة به أصلا، بناء على كون
التقليد من الظنون الخاصة الثابتة حجيتها بالأدلة الشرعية، وذلك لوجوه:
الأول: عدم الدليل على اعتبار هذه الظنون في مقام تقوية الامارة وترجيحها على معارضها، بعد اقتضاء الأصل عدم اعتبارها، فإن قوة
الامارة لا تحصل إلا بمرجح داخلي كالأعلمية والأورعية والأوثقية ونحوها، أو بمرجح خارجي كتعاضدها بمثلها أو بأقواها من
الامارات المعتبرة الثابتة حجيتها بدليل قاطع. وشئ من هذين السببين لقوة الامارة غير موجود في المقام.
أما الأول فواضح، إذ المفروض عدم كون هذه الظنون من الظنون الحاصلة بمرجح داخلي.
وأما الثاني فلانه لا أثر للمرجح الخارجي كالشهرة الموافقة لفتوى المفضول، إذ من المعلوم أن وظيفة المقلد هي التقليد دون العمل
بمطلق الظن حتى يترجح ظن المقلد المتعاضد بالشهرة أو غيرها، فمن أين يحصل ظن قوي يتكافأ قوة الظن الموجود في قول الأعلم.
وأما ما ذكره النراقي والقمي (قد هما) من أن موافقة قول المفضول لقول المجتهد الاخر ربما توجب قوة الظن الحاصل من قوله، ففيه:
أنه إن كان فيهم من يكون أعلم ممن فرض أعلميته من هذا العالم أولا تعين عليه تقليده، وإلا فلا أثر لهذه الموافقة، لوضوح الفرق بين
توافق أقوال المجتهدين وبين تعاضد الاخبار في الترجيح على المعارض، وذلك لاختلاف مناط القوة والضعف في كل منهما، إذ المدار
في قوة الأقوال حسن نظر أربابها ومهارتهم في تمييز الصواب والخطأ في الأمور الاجتهادية، والمدار في قوة الرواية تحرز الراوي
عن الكذب، فتوافق المفضولين في الرأي لا يوجب الظن، لان هذا التوافق يحصل من أمر حدسي، وهو تقارب أنظارهم وتوافق أفهامهم
في اجتهاد حكم من الاحكام. والظن الحاصل من أمور حدسية لا يعبأ به، فالظن الشأني الثابت في قول الأعلم لا معارض له.
ومن هنا يتضح الفرق بين تعاضد الاخبار وتوافق الأقوال، فإن الأول يوجب تقديم الخبر المتعاضد بأخبار على الخبر المخالف له،
بخلاف الثاني، فإن وجود المعاضد وعدمه سيان في
576



وجوب الاخذ بقول غيرهما إذا كان أقوى.
لا يقال: أن ما ذكرته هنا ينافي ما تقدم من أن الأصل في التخييرات العقلية الاخذ بكل ما يحتمل كونه مرجحا، فلا وجه لعدم الاخذ بما
يحتمل كونه مرجحا لقول المفضول.
فإنه يقال: ما ذكرناه من الاخذ بمحتمل المرجحية - وإن لم يقم دليل على مرجحيته - إنما هو في دوران الامر بين التعيين والتخيير، لا
بين المتباينين كما في المقام.
لا يقال: بناء الأصحاب في التعادل والترجيح على ترجيح الاخبار بالمرجحات الخارجية التي لم يقم دليل على حجيتها إذا لم تكن مما قام
الدليل الخاص على عدم حجيتها كالقياس، وقول المجتهد أيضا طريق ظني للمقلد، فما الفارق بينهما؟ فإنه يقال أولا: إن ترجيح الاخبار
بمطلق المرجحات من الداخلية والخارجية على القول به يستفاد من أخبار الترجيح، ومن المعلوم فقدان مثل هذه الأخبار في المقام.
وثانيا: ان حجية الاخبار إنما هي لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها، وهم المجتهدون، وحيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق
الظني اعتبر نظرهم أيضا في طلب المرجحات عند التعارض.
وأما حجية أقوال العلماء للعوام فليست لأجل إفادتها الظن في نظر القاصرين وهم العوام، بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا، فلا وجه
لاعتبار نظرهم في طلب المرجحات.
والحاصل: أن الشارع لما وجد العوام قاصري النظر في الأمور العلمية جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبديا باعتبار ما فيها من غلبة
المطابقة للواقع، وأمرهم بالرجوع إليهم، من غير النظر والفحص عن شئ، فكأنه صار نظرهم عند الشارع ساقطا عن الاعتبار في
جميع المقامات.
الوجه الثاني: من وجوه عدم اعتبار ظنون المقلد الحاصلة من غير الطريق الشرعي المعين له هو: أن تلك الظنون مما لا يكاد ينضبط
بضابط، فربما يحصل له الظن من قول عامي آخر أو من الرمل والجفر والنجوم ونحوها، وربما يترجح في نظرهم المفضول بملاحظة
حسبه ونسبه واشتهاره بين العوام، ولا سبيل إلى الاعتماد على كل ظن حاصل من غير الطريق الشرعي، لأدائه إلى مفاسد عظيمة في
هذا الدين، فلا بد من المنع عن الاعتماد عليها مطلقا.
فالنتيجة: أن الظن الموجود في طرف الأعلم لا يعارضه شئ من الظنون الداخلية، لان الكلام إنما هو بعد فرض تساوي الفاضل و
المفضول في جميع الجهات غير الفضل، فيجب اتباعه بحكم
577



العقل القاطع بوجوب العمل بأقوى الامارتين.
الوجه الثالث: إمكان دعوى الاتفاق على سقوط أفكار العوام والمقلدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات حتى الترجيح. نعم مقتضى
الأصل الذي أسسه المحقق القمي (قده) هو كون المقلد كالمجتهد في الاخذ بكل أمارة، ولكنه لم نظفر بمن وافقه في ذلك، إذ كل من
جوز التقليد جعله من الظنون الخاصة.
هذا محصل ما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) وفي كلماته مواضع لا تخلو من غموض، نتعرض لاثنين منها:
الأول: قوله في الوجه الأول على عدم حجية الظنون الحاصلة للمقلد بملاحظة الأمور الخارجية: (أما الأول فواضح، إذ المفروض عدم كون
هذه الظنون من الظنون الحاصلة بمرجح داخلي) وجه الغموض: أنه ربما ينافي ما سيذكره بعد ذلك من قوله: (نعم يمكن المناقشة في
الصغرى بوجه آخر، لان قول المفضول ربما يكون مفيدا للظن الأقوى من حيث الأمور الداخلية، مثل أن يكون قوة الظن مستندة إلى
فحصه وبذل جهده زيادة عما يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص) فإن هذا الكلام لا يلائم ما أفاده قبيل هذا بقوله: (من المرجحات
الداخلية، والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك) فإن هذه العبارة تدل على نفي المرجح الداخلي الموجب لحصول الظن القوي من
قول المفضول.
ومقصود من قال بحصول هذا الظن بقول المفضول المساوي للظن الحاصل من قول الأفضل أو الأرجح منه هو الظن الحاصل من مرجح
داخلي أو خارجي. فنفي المرجح الداخلي بقوله:
(والمفروض عدم كون هذه الظنون كذلك) ينافي ما أثبته بقوله: (نعم يمكن المناقشة في الصغرى).
ولعل وجه عدم تعرض المصنف لرد ما أفاده الشيخ (قد هما) هو اعتراف الشيخ بعد كلام طويل بعدم صحة الصغرى بقوله: (نعم يمكن
المناقشة في الصغرى. إلخ).
الثاني: قوله في الوجه الثالث: (إمكان دعوى الاتفاق على سقوط أفكار العوام والمقلدين عن درجة الاعتبار في جميع المقامات حتى
الترجيح) إذ فيه: أنه كيف يمكن دعوى هذا الاتفاق مع بنائهم على تقديم مظنون الأعلمية في التقليد؟
578



إلا أن يقال: إن ظن غير العامي يوجب التقديم، دون ظن العامي، فإن وجوده وعدمه سيان.
لكن فيه: أن مطلق الظن معتبر عقلا في دوران الحجة بين التعيين والتخيير، والمفروض أن حجية فتوى الأعلم من صغريات كبرى
التعيين والتخيير كما أشرنا إليه سابقا، وإن كانت النسبة بين نفس فتويي الأعلم والعالم هي التباين كطهارة الغسالة ونجاستها.
4 - قبح ترجيح المرجوح على الراجح الوجه الرابع: ما عن كشف اللثام وشرح الزبدة للفاضل الصالح من: أن تقليد المفضول مع وجود
الفاضل يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا، فيتعين تقليد الفاضل.
وفيه أولا: أنه لو تم هذا الوجه كان دليلا على الكبرى المتقدمة، وهي كون قول الأعلم أرجح وأقرب إلى الواقع من قول المفضول.
وثانيا: أنه أخص من المدعى الذي هو تقديم فتوى الأعلم على فتوى المفضول مطلقا سواء أكان الظنان متساويين أم كان الحاصل من
فتوى المفضول أرجح، وهذا الدليل لا يشمل هاتين الصورتين، لاختصاصه بصورة أرجحية الظن الحاصل من فتوى الأفضل من الظن
الحاصل من فتوى المفضول.
إلا أن يقال: بسقوط الظنون الخارجية الحاصلة للمقلد عن الاعتبار كموافقة فتوى المفضول للمشهور، أو الميت الأعلم من هذا الحي الأعلم،
أو الاحتياط الموجبة لأرجحية فتوى المفضول من فتوى الفاضل، لوجوه تقدمت آنفا في الوجه الثالث، فلاحظها.
5 - وجود مزية للأعلم تقتضي تقديمه على غيره الوجه الخامس: ما عن العلامة في النهاية من أن الأعلم له مزية ورجحان على
المفضول، فيقدم كما قدم في الصلاة.
وفيه أولا: أن تنظيره بالصلاة يدل على استحباب تقديم قول الأعلم على غيره، كتقديم ذي المزية على فاقدها في الإمامة لأجل النص.
وثانيا: أن نظر المستدل إن كان إلى الاخذ بأقوى الامارتين، ففيه: أن مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الامارتين بناء على الطريقية
هو التساقط، لا ترجيح إحداهما على الأخرى، ولذا لا يقدم
579



أوثق البينتين على الأخرى، وتقديم ذي المزية في الخبرين المتعارضين إنما هو بالدليل الثانوي وهو الاخبار العلاجية.
وثالثا: أن هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثالث الذي تقدم منعه صغرى وكبرى، لانحلاله إلى صغرى وهي كون فتوى الأعلم ذات مزية و
رجحان، وكبرى وهي تقدم كل ذي مزية على فاقدها.
6 - سيرة العقلاء على الرجوع إلى الأعلم الوجه السادس: بناء العقلاء على الرجوع إلى الأعلم عند مخالفة فتوى المفضول له، فإنه بعد
البناء على عدم وجوب الاحتياط على العامي قد استقرت السيرة العقلائية على الرجوع إلى الأعلم، وعدم العمل بفتوى المفضول، كما هو
كذلك في غير الأحكام الشرعية من العلوم والفنون، ولم يردع الشارع عن هذه السيرة مع كونها بمنظره ومرأى منه، وعدم الردع في
مثل المقام دليل الامضاء.
وهذا الوجه أمتن الوجوه وأقواها، ثم الأصل الذي قد تقدم أن مقتضاه وجوب الاخذ بفتوى الأعلم تعيينا.
لا يقال: إن الأصل في دوران الامر بين الحجية التعيينية والتخييرية يقتضي التخييرية، قياسا على دوران الامر بينهما في الاحكام، كما
إذا دار حكم صلاة الجمعة مثلا بين الوجوب التعييني والتخييري، فإنه يدفع احتمال وجوبها التعييني بأصالة البراءة، إذ المعلوم وجوب
الجامع دون الخصوصية، لكونها مشكوكة. وكذا الحال في المقام، فإن المعلوم هو الحجية الجامعة بين التعيينية والتخييرية، إذ خصوصية
إحداهما مشكوكة، فتجري فيها البراءة، ومقتضى جريانها هو التخيير بين الاخذ بفتوى الأفضل والفاضل.
فإنه يقال: إن الحجة تارة تكون منجزة للواقع بحيث لو لم تقم على الواقع كان المرجع في صورة الشك فيه الأصل النافي له كأصالتي
البراءة والطهارة ونحوهما، كما إذا فرض قيام الدليل على حرمة شرب التتن، بحيث لو لم يقم هذا الدليل على حرمته كان المرجع في
الشك فيه أصالة البراءة، وهذا الدليل القائم على الحرمة حجية منجزة، إذ لا منجز للواقع إلا هذا الدليل، فلو لم يكن في الواقع حرمة لم
يكن هذا الدليل معذرا له، إذ لم يفت بهذا الدليل شئ من الواقع حتى يكون معذرا له.
وأخرى تكون معذرة، كما إذا تنجز الواقع قبل نهوض هذه الحجة عليه بعلم إجمالي كبير كعلمه
580



بأن في الشريعة أحكاما إلزامية يجب الخروج عن عهدتها عقلا، أو بعلم إجمالي صغير في بعض الموارد، كالعلم الاجمالي بوجوب صلاة
الجمعة أو الظهر يوم الجمعة، فإذا قام دليل على وجوب صلاة الجمعة مثلا وكان الواجب واقعا صلاة الظهر كان هذا الدليل حجة معذرة،
لكونه موجبا للعذر عن فوت الواقع، وليس حجة منجزة، إذ المفروض تنجزه بمنجز سابق.
إذا عرفت هذين القسمين من الحجة فاعلم: أن الحجج القائمة على الاحكام الواقعية ومنها فتاوى المجتهدين - معذرة فقط، لتنجزها قبل
قيام هذه الحجج بالعلم الاجمالي الكبير، فإذا دار أمر هذه الحجة بين التعيينية والتخييرية، فالمرجع فيه قاعد الاشتغال دون البراءة،
لكون الشك في الخروج عن عهدة التكليف المنجز.
فالنتيجة: الاخذ بما يقطع معه ببراءة الذمة، وهو في المقام العمل بفتوى الأعلم.
نعم في دوران الحجة التنجيزية بين التعيينية والتخييرية يرجع في تعيينيتها إلى البراءة، لكون الشك في تعلق الطلب بالخصوصية، وهو
مجرى البراءة كالشك في تعلق الطلب بالمطلق كعتق الرقبة أو بالمقيد كعتق خصوص المؤمنة، فتنفى الخصوصية بالاطلاق إن كان، وإلا
فبأصالة البراءة.
فالمتحصل: أن وجوب تقليد الأعلم إما يكون من باب الاحتياط أي قاعدة الاشتغال بناء على عدم تمامية الأدلة الاجتهادية القائمة على
وجوب تقليد الأعلم تعيينا، وإما يكون حكما اجتهاديا بناء على تمامية السيرة العقلائية على وجوب تقليده كذلك، كما عرفت أنها أقوى
الأدلة وأمتنها.
تكملة: توافق فتوى الأفضل والفاضل، واختلافهما اعلم أن فتويي الأفضل والفاضل تارة متوافقتان كوجوب تثليث التسبيحات
الأربع في الركعتين الأخيرتين، وأخرى متخالفتان كوجوب التسبيحات مرة عند الأفضل، وثلاث مرات عند الفاضل، والمقلد تارة يعلم
بالموافقة، وأخرى يعلم بالمخالفة، وثالثة لا يعلم شيئا من الموافقة والمخالفة، بل يحتمل كلا منهما.
فإن كان عالما بالموافقة فليس هذا مورد النزاع في وجوب تقليد الأعلم وعدمه، لان حجية
581



فتوى الفقيه تكون بنحو صرف الوجود، ومع اتفاق الفتويين يكون الجامع بينهما حجة، نظير الخبرين القائمين على حكم واحد، فكما أنه
لا يجب على المجتهد أن يستند إلى أحدهما بعينه في استنباط الحكم، بل يكفيه الاستناد في ذلك إلى الجامع بينهما، فكذا في الفتويين
المتوافقتين بالنسبة إلى العامي. وعليه فالبحث عن موافقة الفتويين قليل الجدوى.
وإن كان المقلد عالما بمخالفة الفتويين في المسائل المبتلى بها كإفتاء أحدهما بوجوب السورة والاخر بعدمه، وبطهارة الغسالة و
نجاستها، واعتبار العربية في العقد وعدمه، وهكذا، فالمعروف في هذا الفرض - بل المدعى عليه الاجماع - هو وجوب تقليد الأعلم
عليه، وقد اختاره الشيخ الأعظم (قده) كما تقدم في صدر المسألة.
ولعل الأولى التفصيل بين موافقة فتوى المفضول للاحتياط أو لمن هو أعلم من الاحياء والأموات أو للمشهور بين الأصحاب، وعدم
موافقتها لذلك، بوجوب العمل بفتوى المفضول في الصورة الأولى، إلا بناء على سقوط حجية فتوى الميت من جميع الجهات حتى من جهة
المرجحية، فتبقى الموافقة للاحتياط مرجحة أو موجبة لعرضية فتويي الفاضل والمفضول، لكون الاحتياط مؤمنا، بل لا يبعد حينئذ أن
يكون بناء العقلاء على تقديم فتوى المفضول على فتوى الفاضل، فيصير التقديم اجتهاديا لا احتياطيا.
وإن كان المقلد جاهلا بمخالفة الفتويين في المسائل الابتلائية، بأن يحتمل كلا من الموافقة والمخالفة، فينبغي لتوضيح حكمه التعرض
لجهتين: إحداهما: ما يقتضيه الأصل العملي، وثانيتهما:
ما يقتضيه الدليل الاجتهادي.
أما الجهة الأولى فمحصل الكلام فيها: أن مقتضى ما تقدم من تنجز الاحكام الواقعية بالعلم الاجمالي - وكون حجية فتاوى المجتهدين من
باب التعذير دون التنجيز - هو معذرية فتوى الأعلم قطعا، دون فتوى المفضول، للشك في معذريتها الموجب لعدم حكم العقل بالاجتزاء
بها في فراغ الذمة وسقوط التكليف، بل حكمه بذلك مختص بالعمل بفتوى الأعلم، فهي حجة تعيينية لا تخييرية.
وليس المقام من دوران الامر بين المطلق والمقيد حتى يجري الأصل في عدم وجوب المقيد كما تقدم مفصلا في (ص 580).
وأما الجهة الثانية فملخص البحث فيها: أنه قيل بعدم الجواز، استنادا إلى ما استدلوا به على عدم
582



الجواز في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى من عدم شمول الأدلة - من الاجماع والأقربية ومقبولة ابن حنظلة وغير ذلك - لفتوى
المفضول.
لكن فيه ما لا يخفى، لان عدم شمول الأدلة لصورة العلم بالمخالفة إنما هو للتعارض المانع عن شمولها للمتعارضين، بخلاف صورة
الجهل بالمخالفة، لعدم العلم بالتعارض.
نعم بناء على شرطية أعلمية المرجع في جواز التقليد اتجه الاستدلال المزبور، إذ لا بد حينئذ في جواز تقليد المجتهد من إحراز أعلميته، و
مع الشك فيها لا يجوز تقليده. لكن استفادة شرطية الأعلمية من الأدلة في غاية الاشكال، إذ المستفاد منها اعتبار عدم مخالفة فتواه
لفتوى من هو أفضل منه، لوضوح شمول دليل الاعتبار لفتوى المفضول كشموله لفتوى الأفضل، والمانع عن حجيتها الفعلية هي المخالفة
لفتوى الأفضل.
فالمتحصل: جواز تقليد المجتهد في صورة عدم العلم بمخالفة فتواه لفتوى من هو أعلم منه.
وهنا أبحاث كثيرة لا يسعنا التعرض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع ما علقناه على تقليد العروة الوثقى.
وينبغي التنبيه على أمور 1 - عدم جواز الرجوع إلى المفضول ابتدأ الأول: أنه بعد فرض تمامية أدلة المجوزين هل يجوز للعامي
تقليد المفضول بدون الرجوع إلى الأفضل أم لا؟ لان هذه المسألة من المسائل الخلافية التي لا بد فيها من الاجتهاد أو التقليد، فلا بد
للعامي العاجز عن الاجتهاد في هذه المسألة من الرجوع فيها إلى الأفضل، فإن أفتى بجواز تقليد المفضول جاز له تقليده، وإلا فالرجوع
إليه تشبث بمشكوك الحجية.
نعم إذا رجع إلى المفضول غفلة عن كون المسألة خلافية وكانت فتواه موافقة لفتوى الأفضل، أو كانت فتوى الأفضل جواز تقليد
المفضول صح عمله، بل يصح أيضا مع الالتفات إلى الخلاف في مسألة وجوب تقليد الأعلم، وتمشي قصد القربة منه ولو رجأ مع المطابقة
المزبورة، لموافقة عمله في هذه الصور للحجة.
583



2 - تعين تقليد الأعلم وان كان المفضول أوثق في الاستنباط الثاني: أنه إذا كان المفضول أوثق من الأفضل في الفتوى بحسب
الأمور الراجعة إلى الاستنباط، نظير كونه أكثر فحصا من الأفضل وأبذل جهدا منه، فهل يتعين حينئذ أيضا تقليد الأفضل أم يتخير؟
وجوه، من مزاحمة الزيادة العلمية للأوثقية، فيتخير. ومن وجود الوثوق المعتبر في الاجتهاد في الأعلم، وعدم ثبوت مرجحية أزيد منه،
فيتعين العمل بقول الأعلم. ومن أن الأوثقية في الفتوى توجب الأقربية إلى الواقع، فيتعين العمل بقول المفضول.
والأوجه هو الثاني، لان زيادة الفحص إن كانت دخيلة في الاستنباط وكان الأعلم فاقدا لها فلا يجوز تقليده، لتقصيره في الاستنباط، و
هو خلاف الفرض. وإن لم تكن دخيلة في الاستنباط فوجودها وعدمها سيان، ولا تزاحم الأعلمية.
وإن شئت فقل: ان مرجحية الأعلمية معلومة، ومرجحية الأوثقية مشكوكة، ولا وجه لرفع اليد عن المعلوم بالمشكوك.
نعم بناء على كون مناط تقديم فتوى الأعلم على فتوى المفضول أقربيتها إلى الواقع من فتوى غيره، وكون الأوثقية في الفتوى موجبة
للأقربية تقدم فتوى المفضول. لكنه غير ثابت.
3 - جواز تقليد المفضول إذا أفتى الأعلم به الثالث: إذا أفتى الأعلم بعدم جواز تقليد المفضول، فلا إشكال في عدم جواز تقليده، وإذا
أفتى بجواز تقليده فالظاهر جواز تقليده، ولكن في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) حكاية عدم جوازه عن بعض معاصريه. ولم يظهر له
وجه وجيه.
فإن كان نظره في ذلك إلى: أنه يلزم من وجود تقليد الأعلم عدمه، ففيه: أن مورد التقليد مسألة أصولية وهي حجية فتوى المفضول، و
ليس مورده نفس الفروع الفقهية حتى يلزم ذلك، كإفتاء الأعلم بوجوب تثليث التسبيحات الأربع، وإفتاء المفضول بوجوبها مرة
واحدة، فهذا التقليد نظير التقليد في مسألة البقاء على تقليد الميت في أن مورد تقليد الحي هناك أيضا حجية قول الميت، لا نفس الاحكام
الفرعية.
584



وإن كان نظره إلى: أن الرجوع إلى المفضول خلاف حكم العقل بلزوم الرجوع إلى الأعلم، ففيه:
أن هذا الحكم العقلي إنما هو لأجل مؤمنية فتوى الأفضل من العقوبة، ومن المعلوم مؤمنية فتواه مطلقا وإن كانت هي حجية فتوى
المفضول.
واحتمال كون ملاك حكم العقل أقربية فتوى الأفضل، وهو ينافي حجية فتوى المفضول، مندفع أولا بأنه لم يثبت كون الأقربية ملاك
حكم العقل بالحجية وثانيا بعد تسليمه لا طريق إلى إحرازها في خصوص المقام.
فالمتحصل: جواز تقليد المفضول إذا أفتى الأفضل بجوازه.
4 - إذا قلد أحد المتساويين ثم صار غيره أعلم الرابع: إذا قلد أحد المجتهدين المتساويين أو قلد أعلم الموجودين ثم صار غيره أعلم،
فهل يجب العدول إلى هذا الأعلم، أم يجب البقاء على تقليد الأول، أم يتخير بينهما؟ وجوه، فعن الشيخ (قده) في التقريرات ابتناء المسألة
على جواز العدول وعدمه، فعلى الأول يجب العدول، لوجود المقتضي وهو الأعلمية، وعدم المانع، إذ لا مانع منه إلا احتمال حرمة
العدول، والمفروض جوازه، فيجري فيه ما يدل على وجوب تقليد الأعلم.
وعلى الثاني يشكل الامر، لتعارض أدلة الطرفين، فيحكم بالتخيير بينهما.
لكن الأقوى الرجوع إلى الأعلم، لوجهين:
أحدهما: أن الدليل المعتد به على حرمة العدول - وهو الاجماع المحكي عن العلامة والعميدي - لما كان لبيا، والمتيقن منه غير المقام،
فلا يصلح للمنع عن العدول، فيجب الرجوع إلى الأعلم بلا مانع. ولا مجال لاستصحاب حرمة العدول أيضا، لاحتمال دخل التساوي في
موضوع الحرمة، وهو يوجب الشك في بقاء الموضوع المانع عن جريان الاستصحاب، نظير احتمال دخل الحياة في جواز التقليد المانع
عن جريان استصحاب جواز البقاء على تقليد الميت.
ثانيهما: كون المقام من صغريات التعيين والتخيير في الحجية المعذرية، وقد عرفت أن مؤمنية فتوى الأفضل ومعذريتها قطعية،
بخلاف فتوى المفضول، فإنها مشكوكة الحجية والمعذرية.
والحاصل: أنه يجب العدول إلى تقليد من صار أعلم ممن قلده، إذ بناء على وجوب تقليد الأعلم
585



لا فرق في وجوبه بين الحدوث والبقاء.
وقد تبين مما ذكرنا: أنه إذا قلد المفضول لتعذر الوصول إلى الأفضل، ثم تمكن منه وجب العدول إليه، من غير فرق فيه بين ما عمل به
من المسائل وما لم يعمل به منها.
ثم إن هذا كله بناء على وجوب تقليد الأعلم بحسب الدليل الاجتهادي.
وأما بناء على كونه أحوط فالظاهر وجوب الاخذ بالاحتياط في المسألة الفقهية، وذلك لسقوط الاحتياطين في المسألة الأصولية.
توضيحه: أن جواز العدول مخالف للاحتياط، للقول بحرمته، وجواز البقاء أيضا مخالف للاحتياط، للقول بعدم جوازه، فكل من جواز
البقاء والعدول مخالف للاحتياط، فيسقط الاحتياطان، وتصل النوبة إلى الاحتياط في المسألة الفقهية إن أمكن، كوجوب التسبيحات
الأربع ثلاثا ومرة واحدة، وإلا كما إذا دار الامر بين المحذورين كدوران حكم الاستعاذة مثلا بين الوجوب والحرمة فهو مخير بين
العدول والبقاء.
5 - تقديم الأعلم عند تعارض الأعلمية والأورعية الخامس: إذا تعارضت الأعلمية والأورعية ففي التخيير بينهما أو تقديم الأعلم أو
الأورع؟ وجوه، أقواها الثاني، وذلك لان الأورعية إن كانت في الاستنباط، بأن لا يكون سريع الجزم بالحكم، بل كان بطيئا متثبتا،
فمرجعه إلى الأوثقية في الفتوى، وقد تقدم في التنبيه الثاني حكمه وهو الترجيح بالأعلمية.
وإن كانت في العمل بأن يكون تاركا للشبهات والمكروهات وفاعلا للمندوبات فلا دخل لهذه الأورعية في حجية الفتوى التي لا
تتوقف إلا على العدالة، ومعرفة ما له دخل في الاستنباط.
6 - العبرة بالأفقهية في كل مسألة لا في جميع المسائل السادس: هل العبرة في الأفقه بكونه أفقه في جميع المسائل الشرعية أو
غالبها، أم يكفي كونه أفقه ولو في المسألة التي يرجع فيها؟ وجهان، ففي الفصول: (أظهر هما في كلامهم الأول، وقضية بعض الوجوه
السابقة هو الثاني، وعلى تقديره فالظاهر تعيين الأفقه في البعض بالنسبة إلى البعض الذي هو أفقه فيه حتى أنه لو كان أحدهما أفضل
في بعض العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد كالعلوم
586



العربية وعلم الأصول والرجال فلا يبعد إلحاقه بالأفقه من هذه الجهة، لما فيه من مزيد بصيرة في الفقه. ولو كان الاخر أفضل منه في
علم آخر من تلك العلوم، لم يبعد الترجيح بزيادة الأفضلية، ويكون ما فيه الأفضلية أدخل في الفقه كالأصول بالنسبة إلى النحو و
الصرف. والتحقيق: أن المرجع في ذلك كله إلى ما يعد صاحبه أفقه عرفا، وضبطه على وجه يستغنى معه من الرجوع إليه متعذر على
الظاهر).
أقول: إن كان المستند في وجوب تقليد الأعلم الأدلة اللفظية المشتملة على ألفاظ (الأفقه والأفضل والأعلم) فحيث إنه ليس لهذه الألفاظ
حقيقة شرعية كان المنساق منها عرفا هو الأفقهية في جميع المسائل أو أكثرها. وعليه فيخرج عن موضوع أدلة وجوب تقليد الأعلم
المجتهدان اللذان يكون أحدهما أعلم من الاخر في العبادات مثلا، والاخر أعلم من صاحبه في المعاملات، إذ ليس واحد منهما أعلم في
جميع المسائل أو أكثرها من الاخر حتى ينطبق عليه عنوان الأعلم، وتشمله أدلة وجوب تقليده، فالعامي مخير في تقليد أيهما شاء، وإن
كان الأحوط التبعيض في التقليد بأن يقلد كلا منهما فيما هو أعلم فيه من الاخر.
وإن كان المستند في وجوب تقليد الأعلم بناء العقلاء والأصل العقلي - أعني به أصالة التعيينية في الحجية المعذرية - كان مقتضاهما
لزوم تقليد المجتهد الذي يكون أعلم من غيره في المسائل الابتلائية ولو مسألة واحدة، فضلا عن أعلميته في باب من أبواب الفقه
كالعبادات أو المعاملات، للعلم بحجية فتواه تعيينا أو تخييرا، بخلاف فتوى غيره، فإنها مشكوكة الحجية، فلا يكتفي بها عقلا في مقام
الامتثال.
7 - المراد بالأعلم هو الأجود استنباطا السابع: أن المراد بالأعلم هل هو أقدر من غيره على تنقيح القواعد التي يستنبط منها الاحكام
الفرعية كالقواعد الأصولية، فإذا كان أحد المجتهدين أكثر اقتدارا من غيره على تشييد القواعد الأصولية فهو أعلم ممن لا يكون مثله في
الاقتدار المزبور؟ أم المراد بالأعلم من يحصل له الجزم بالحكم بأن يستنبط الحكم من الأدلة بنحو الجزم واليقين، بخلاف غيره ممن
يستنبطه من تلك الأدلة بنحو الظن، فكيفية الاستنباط لا تختلف، والاختلاف إنما
587



هو في الادراك، لأنه في أحدهما قطعي وفي الاخر ظني.
أم المراد بالأعلم من هو أسرع استنباطا من غيره، كما إذا فرض أن الأعلم يستنبط حكم مسألة في نصف ساعة، وغيره يستنبطه في
ساعة مثلا، فالمراد بالأعلم حينئذ هو أسرع استنباطا من غيره.
أم المراد به من هو أكثر استنباطا من غيره، كما إذا فرض أنه استنبط حكم ألف مسألة، وغيره استنبط حكم تسعمائة مسألة، فمن
استنبط الألف فهو أعلم ممن استنبط أقل من ذلك، فالمدار في الأعلمية حينئذ على أكثرية عدد الاحكام المستنبطة فعلا.
أم المراد به من يكون أشد مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وتشخيص موارد الأصول حتى لا يجري أصل البراءة
مثلا في مورد قاعدة الاشتغال وبالعكس. ولا يجري الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي، وهكذا.
لا سبيل إلى ما عدا الأخير، إذ في الأول: أن المدار في الاجتهاد إنما هو على الاستنباط الفعلي من الأدلة، دون تشييد المباني وتنقيح
القواعد مع عدم الاقتدار على تطبيقها على الفروع، فإنه اجتهاد في مقدمات الاستنباط، وليس اجتهادا في نفس الفروع، فالأصولي الذي
يستفرغ وسعه في تحرير القواعد الأصولية وتهذيبها - ولكنه قاصر عن تطبيقها على الفروع - ليس بأعلم ممن يقدر على التطبيق
المزبور وإن لم يكن مثله في تحرير القواعد الأصولية.
وفي الثاني: أن الجزم بالحكم المستنبط ليس مناطا للأعلمية، بل المناط هو القدرة على إقامة الحجة على الحكم، فمن اقتدر على إقامة
الحجة على الحكم دون غيره فهو أعلم، سواء حصل له الجزم بالحكم أم الظن به، فلا عبرة بشدة الانكشاف وضعفه.
وفي الثالث: أنه لا عبرة بأسرعية الاستنباط مع فرض تساويهما في كيفيته واستخراج الفروع من الأصول، إذ لا دخل لسرعة
الاستنباط لا عقلا ولا ببناء العقلاء في أمر التقليد.
وفي الرابع: أن كثرة عدد الاحكام المستنبطة ليست مناطا للأعلمية مع فرض كون غيره أجود استنباطا منه، وإن كان عدد ما استنبطه
من الاحكام قليلا، فان مجرد كثرة الاستنباط مع أجودية استنباط غيره لا توجب العذر والامن من العقوبة عقلا بحيث يحكم بالاجزاء، بل
الموجب لهما في نظره هو الأجودية.
فالمتعين هو الاحتمال الأخير، فإن الأعلم في سائر الفنون أيضا من يكون أشد مهارة في تطبيق
588



الكبريات على صغرياتها، فإن الطبيب الأعلم من سائر الأطباء عند العرف هو أشد مهارة في تطبيق القواعد والكليات الطبية على
صغرياتها، لا من هو أعلم بالكليات مع قصوره عن تطبيقها على مصاديقها، فإن الناس لا يرجع إلى طبيب لا يقدر على تشخيص المرض و
لو مع كونه أعلم من غيره في كليات الطب. وهذا المعنى يراد في المقام أيضا، لكونه مؤمنا من العقاب بنظر العقل والعقلاء دون غيره من
المعاني المحتملة في الأعلم.
ولعل ما عن الشيخ الأعظم (قده) يرجع إلى هذا المعنى الذي جعلناه متعينا، قال في التقريرات:
(الأعلم من كان أقوى ملكة وأشد استنباطا بحسب القواعد المقررة، ونعني به من أجاد في فهم الاخبار مطابقة والتزاما، إشارة و
تلويحا، وفي فهم أنواع التعارض، وتميز بعضها عن بعض، وفي الجمع بينهما بإعمال القواعد المقررة لذلك مراعيا للتقريبات العرفية
ونكاتها، وفي تشخيص مظان الأصول اللفظية والعملية، وهكذا إلى سائر وجوه الاجتهاد. وأما أكثر الاستنباط وزيادة الاستخراج
الفعلي مما لا مدخلية له).
589

فصل (1)
اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط (2)، وبين العامة
590

عدمه (1)، وهو (2) خيرة الأخباريين وبعض المجتهدين من أصحابنا، وربما نقل تفاصيل (3):
591

منها: التفصيل بين البدوي، فيشترط، والاستمراري فلا يشترط (1).
والمختار ما هو المعروف من الأصحاب (2)، للشك في جواز تقليد الميت، والأصل عدم جوازه (3)، ولا مخرج عن هذا الأصل إلا ما
استدل به المجوز على الجواز من وجوه ضعيفة:
592

منها: استصحاب (1) جواز تقليده
593

في حال حياته (1) ولا يذهب عليك أنه (2) لا مجال
595

له (1)، لعدم بقاء موضوعه (2) عرفا، لعدم (3) بقاء الرأي معه، فإنه (4) متقوم بالحياة
596

بنظر العرف - وإن لم يكن كذلك (1) واقعا - حيث (2) إن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه.
ولا ينافي ذلك (3) صحة استصحاب بعض أحكام حياته كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه (4)، فإن (5) ذلك إنما يكون فيما لا
يتقوم بحياته عرفا بحسبان (6) بقائه ببدنه الباقي بعد موته، وإن احتمل (7) أن يكون
597

للحياة دخل في عروضه (1) واقعا. وبقاء (2) الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا، ولذا (3) لا يجوز التقليد فيما إذا تبدل الرأي أو
ارتفع لمرض أو هرم
598

إجماعا (1).
وبالجملة (2): يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه (3)، ويكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم
(4) وإن لم يكن (5)
599

كذلك حقيقة، لبقاء موضوعه وهو النفس الناطقة (1) الباقية حال الموت، لتجرده. وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء
الموضوع وعدمه هو العرف، فلا يجدي (2) بقاء النفس عقلا في صحة الاستصحاب
600

مع عدم مساعدة العرف عليه (1)، وحسبان (2) أهله أنها غير باقية، وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمل (3) جيدا.
لا يقال (4): نعم، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت، لانعدام موضوعه (5)، إلا أن حدوثه (6) في حال حياته كاف في جواز تقليده
في حال موته كما هو الحال في الرواية (7).
601

فإنه يقال (1): لا شبهة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد، ولذا لو زال بجنون وتبدل ونحوهما لما جاز (2) قطعا (3) كما
أشير إليه آنفا.
هذا (4) بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.
وأما الاستمراري فربما يقال: بأنه (5) قضية استصحاب الاحكام
602

التي قلده فيها (1)، فإن (2) رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها، إلا أنه (3)
603

عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض.
ولكنه لا يخفى أنه (1) لا يقين بالحكم شرعا سابقا،
604

فإن (1) جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت (2) فواضح (3)،
605

فإنه (1) لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ، وهو واضح. وإن كان (2) بالنقل فكذلك على ما هو التحقيق
من أن قضية الحجية شرعا ليست إلا ذلك (3)، لا (4) إنشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها، فلا (5) مجال لاستصحاب ما قلده، لعدم (6)
القطع به سابقا، إلا على ما
606

تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب (1)، فراجع. ولا دليل (2) على حجية رأيه السابق في اللاحق.
607

وأما (1) بناء على ما هو المعروف بينهم من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل ما أدت إليه من الاحكام الواقعية التكليفية (2) أو
الوضعية شرعا في (3) الظاهر، فلاستصحاب (4) ما قلده من الاحكام وإن كان مجال [1]

[1] ما أفاده (قده) من تمامية ركن اليقين بالحدوث بناء على الالتزام بجعل المماثل لا يخلو من
608

بدعوى (1) بقاء الموضوع عرفا، لأجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض (2)، لا من مقومات المعروض (3).

شئ، تقدم التعرض له في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب، ومحصله: أن الحكم الظاهري المماثل المجعول إن كان فعليا مطلقا
سواء أصابت الامارة أم أخطأت فالعلم بالحكم الفعلي وإن كان حاصلا وموجبا لصحة استصحابه بعد الموت بلا إشكال. لكنه مساوق
للتصويب الذي لا نقول به.
وإن كان فعليا مقيدا بصورة الإصابة - لا مطلقا - فهو وإن كان حكما ظاهريا مماثلا للواقع ومنجزا له على تقدير الإصابة، لكنه حيث لا
يعلم مطابقته للواقع فلا يقين بأصل حدوثه كي يستصحب.
وعليه فالقائل بطريقية الامارات - ومنها فتوى الفقيه - لا يجديه القول بالحكم المماثل في تصحيح جريان الاستصحاب، إذ لا تفاوت
بين مبنى الطريقية المحضة وبين هذا المسلك، فإن تم توجيهه المذكور في التنبيه الثاني لاستصحاب مؤديات الامارات جرى
الاستصحاب في الحكم المستفتى فيه سواء أكانت الحجة الشرعية بمعنى التنجيز أم بمعنى جعل المماثل، وإلا فلا.
وكان المناسب التعرض للوجهين لجعل المماثل في التوضيح استيفاء لشقوق المسألة، لكن حيث إن المصنف أجمل الكلام ولم يفصل بين
الوجهين تعرضنا له في التعليقة.
609

إلا أن الانصاف عدم كون الدعوى (1) خالية عن الجزاف،
610

فإنه (1) من المحتمل - لولا المقطوع (2) - أن الاحكام التقليدية (3) عندهم أيضا (4) ليست أحكاما لموضوعاتها بقول مطلق بحيث (5) عد
من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدل الرأي ونحوه، بل (6) إنما كانت
611

أحكاما لها (1) بحسب رأيه، بحيث عد (2) من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدل (3). ومجرد (4) احتمال ذلك يكفي في عدم صحة
استصحابها، لاعتبار (5) إحراز بقاء الموضوع ولو (6) عرفا، فتأمل جيدا.
هذا كله مع إمكان (7) دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال
612

الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا، فتأمل (1).
613

ومنها (1): إطلاق الآيات الدالة على التقليد.

[1] إلا على القول بكون التقليد مجرد الالتزام، إذ التقليد حينئذ استمراري لا بدوي.
614

وفيه: - مضافا إلى ما أشرنا إليه (1) من عدم دلالتها عليه - منع (2) إطلاقها على تقدير دلالتها (3)، وإنما هو (4) مسوق لبيان أصل
تشريعه (5) كما لا يخفى.
ومنه (6) قد انقدح حال إطلاق ما دل من الروايات على التقليد.
615

مع إمكان (1) دعوى الانسباق إلى حال الحياة فيها (2).
616

ومنها (1): دعوى أنه لا دليل على التقليد إلا دليل الانسداد، وقضيته (2) جواز تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا كما لا يخفى.
وفيه: أنه لا تكاد تصل النوبة إليه (3)، لما عرفت من دليل العقل والنقل
617

عليه [فيه.]
ومنها (1): دعوى السيرة على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة عليهم السلام عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.
618

وفيه: منع السيرة فيما هو محل الكلام (1). وأصحابهم (2) عليهم السلام إنما لم يرجعوا عما أخذوه من الاحكام لأجل أنهم (3) غالبا إنما
كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم عليهم السلام بلا واسطة أحد (4)
619

أو معها (1)، من دون دخل رأي الناقل فيه أصلا. وهو (2) ليس بتقليد كما لا يخفى، ولم يعلم (3) إلى الان حال من تعبد بقول غيره ورأيه
أنه (4) كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.
[ومنها (5): غير ذلك مما لا يليق أن يسطر أو يذكر.]
620



[1] لا يخفى أن مسألة اشتراط الحياة في مرجع التقليد كانت ذات قولين عند القدماء، وهما اشتراطها فيه مطلقا من غير فرق فيه بين
التقليد الابتدائي والاستمراري، وعدم اشتراطها فيه كذلك.
وأما القول بالتفصيل بين الابتدائي والاستمراري باشتراطها في الأول وعدمه في الثاني فهو لم يكن مصرحا به في كلمات القدماء، و
إنما حدث لبعض المتأخرين من الأصوليين كصاحب الفصول،
622



بزعم أن التقليد الاستمراري غير مندرج تحت إطلاق كلمات المانعين، لاختصاصها بالتقليد الابتدائي.
لكنه ليس كذلك، لوضوح صدق تقليد الميت على الاستمراري كصدقه على الابتدائي بوزان واحد، فإن كان هذا وجه الاختصاص فلا وجه
له، وإن كان غيره، فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه.
وكيف كان فالمشهور بينهم شهرة دعت جماعة من أجلا الأصحاب - كما في التقريرات - إلى نفي الخلاف، أو دعوى الاجماع عليه هو
الاشتراط، فعن شرح الألفية للمحقق الثاني: (لا يجوز الاخذ عن الميت مع وجود المجتهد الحي بلا خلاف بين علماء الإمامية). وإن شئت
الوقوف على كلمات الأصحاب في هذا الباب فراجع تقريرات شيخنا الأعظم (قده).
لكن دعوى عدم ثبوت كون هذا الاجماع من الاجماعات التعبدية الكاشفة - لاحتمال مدركيته - غير بعيدة.
وعليه فلا بد في تحقيق المقام من التكلم فيما تقتضيه الأدلة من اشتراط الحياة وعدمه، فنقول وبه نستعين: أنه ينبغي البحث في مقامات
ثلاثة: الأول في الأدلة اللفظية، والثاني في الدليل العقلي والثالث في الأصل العملي.
أما المقام الأول، فملخص الكلام فيه: أنه يحتمل في الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة وجوه:
الأول: دلالتها على اعتبار الحياة مطلقا، من غير فرق فيه بين التقليد البدوي والاستمراري.
الثاني: دلالتها على عدم اعتبارها كذلك.
الثالث: دلالتها على اعتبارها في الجملة أي إهمالها بالنسبة إلى كيفية شرطية الحياة.
فعلى الأول: لا إشكال في عدم جواز تقليد المجتهد الميت مطلقا، لا ابتدأ ولا استدامة، فإذا قلد مجتهدا مدة ثم مات ذلك المجتهد بطل
تقليده، ووجب عليه العدول إلى الحي، إذ المفروض انتفاء الحياة التي هي شرط جواز التقليد.
وعلى الثاني: يجوز له تقليد الميت مطلقا أي ابتدأ واستدامة كما عن العامة. وأصحابنا المحدثين إن أرادوا التقليد عند الأصوليين،
فيجوز للعامي في هذا العصر أن يقلد الشيخ الطوسي (قده) مثلا ابتدأ كما يجوز له البقاء على تقليد من مات من المجتهدين، فإن نفس
الدليل الدال على عدم اعتبار الحياة في جواز تقليد المجتهد يدل على جواز البقاء على تقليد المجتهد الذي مات بعد
623



أن قلده العامي مدة من دون حاجة إلى التماس دليل آخر من أصل أو غيره. وإن أرادوا نقل الروايات فليسوا مخالفين للمجتهدين،
ضرورة أن نقل الرواية عن الراوي ليس مشروطا بحياة الراوي عند المجتهدين أيضا.
وعلى الثالث: - وهو دلالة الأدلة على شرطية الحياة في الجملة - يشك في حجية فتوى المجتهد بعد وفاته، إذ المتيقن خروجه عن دليل
حرمة العمل بغير العلم هو فتوى الحي، وأما فتوى الميت - ولو استدامة - فهي مشكوكة الحجية، ومقتضى الأصل عدم حجيتها.
لا يقال: إن مقتضى استصحاب حجيتها الثابتة حال حياة المجتهد هو حجيتها بعد مماته.
فإنه يقال: إن الشك في حجية الفتوى بعد وفات المجتهد لما كان مسببا عن الشك في كيفية شرطية الحياة من كونها شرطا لخصوص
التقليد الابتدائي أو الأعم منه ومن التقليد الاستمراري جرى استصحاب شرطيتها، ومعه لا مجال لاستصحاب حجية الفتوى، لعدم شك
فيها، إذ مقتضى حكومة الأصل السببي على المسببي عدم حجيتها.
ومن هنا ظهر: أنه بناء على هذا الاحتمال الثالث - الذي يجري فيه استصحاب شرطية الحياة الذي هو متمم دلالة دليل شرطيتها - لا
يجري استصحاب حجية الرأي، أو نفس الحكم كوجوب تثليث التسبيحات الأربع وغيره، لأن الشك فيها مسببي، إذ لا منشأ له إلا الشك
في شرطية الحياة، وبعد ثبوت شرطيتها لجواز التقليد مطلقا سواء أكان ابتدائيا أم استمراريا بسبب جريان الاستصحاب في الشرطية
لا يبقى شك في الحجية، لاحراز عدم الحجية بالأصل.
هذا كله مع الغض عن مرجعية العام مع إجمال المخصص مفهوما، وإلا فلا تصل النوبة إلى استصحاب الشرطية، لدلالة نفس عموم النهي
عن العمل بغير العلم على عدم حجية قول الميت.
هذا ما يقتضيه مقام الثبوت.
دلالة الأدلة اللفظية على اعتبار الحياة مطلقا وأما مقام الاثبات فلا ينبغي الارتياب في ظهور أدلة التقليد كرواية الاحتجاج - بناء
على اعتبارها - في اعتبار الحياة في جواز التقليد، فإن ظهور (وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه.) في الفقيه المتصف فعلا حين
التقليد، بهذه الصفات مما لا ينكر، وليس ذلك إلا الحي، فإن صيانة النفس وغيرها من الصفات ظاهرة في اعتبار الحياة في المتصف بها
حين التقليد، لان الميت الذي هو جماد لا يعقل أن يتصف بها.
624



مضافا إلى ظهور ترتب الجزاء - وهو (فللعوام أن يقلدوه) - على الشرط وهو (وأما من كان من الفقهاء. إلخ) في كون موضوع جواز
التقليد هو المتصف بتلك الصفات فعلا، وليس ذلك إلا المجتهد الحي.
فالمتحصل: أنه لا بد أن يكون رجوع العامي إلى مجتهد واجد لتلك الصفات حين رجوعه إليه.
بل هو ظاهر في اعتبار الحياة في التقليد مطلقا أي: ما دام العامي يقلده، من غير فرق بين الابتدائي والاستمراري.
وكذا الاخبار الارجاعية، فإن المأمور بالافتاء للناس ومرجعهم من ناحية الإمام عليه السلام كأبان والأسدي وزكريا بن آدم و
أضرابهم نفس الأشخاص الذين هم أحياء، لا رواياتهم، والارجاع إلى الحي لا يدل على اعتبار قوله بعد موته، بل هو يتوقف على دليل
آخر.
والحاصل: أن ظاهر الأدلة اللفظية - أو متيقنها - كون موضوع جواز التقليد هو المجتهد الحي، فموضوعية المجتهد الميت له محتاجة إلى
الدليل.
وإن شئت الوقوف على جميع طوائف الأدلة من الآيات والروايات، وتقريب الاستدلال بها على التقليد، والمناقشات التي أوردوها على
الاحتجاج بها، فراجع تقريرات شيخنا الأعظم قدس سره وجزاه الله تعالى عن العلم وأهله خير الجزاء.
وإن أبيت عن ظهور الأدلة في اعتبار الحياة في كل من التقليد الابتدائي والبقائي وسلمت ظهورها في خصوص الابتدائي، فلا مانع من
جريان استصحاب شرطية الحياة بعد الموت، ومعه لا يجري استصحاب حجية الفتوى كما أشير إليه سابقا، هذا.
وأما توهم دلالتها على عدم اعتبار الحياة مطلقا لا في التقليد البدوي ولا في البقائي فلا وجه له أصلا، لقصور الأدلة عن الدلالة على
ذلك.
وغاية ما يمكن دعواه هي عدم دلالتها على اعتبار الحياة وعدمه وإهمالها من هذه الجهة. وعلى فرض دلالتها على ذلك لا بد من رفع
اليد عن هذه الدلالة، لتكرر دعوى الاتفاق في كلماتهم على اعتبار الحياة الكاشف عن إعراضهم عن تلك الدلالة.
ويتلوه في الضعف دعوى إهمال الأدلة وعدم دلالتها إلا على موضوعية المجتهد لجواز التقليد، من دون تعرض لدخل الحياة فيه و
عدمه. مع أن الاهمال - بعد تسليمه - لا يجدي في إثبات حجية قول المجتهد بعد موته، لأنه مع الاهمال لا بد من الاخذ في مقام تخصيص
العام بالقدر المتيقن من
625



المخصص، وهو قول المجتهد الحي الذي ادعي الاتفاق عليه، والبناء على بقاء تقليد الميت مطلقا من البدوي والبقائي تحت عموم النهي
عن العمل بغير العلم، ومع هذا العموم - الذي هو دليل لفظي اجتهادي - لا تصل النوبة إلى استصحاب الحجية، أو الحكم الفرعي، أو
غيرهما أصلا كما لا يخفى.
ويظهر مما ذكرنا عدم الحاجة في عدم جواز تقليد الميت إلى دليل خاص عليه، وإنما المحتاج إلى الدليل هو جواز تقليده وحجية رأيه.
فصار المتحصل مما ذكرنا: أن المستفاد من الأدلة اللفظية - سواء أكان هو اعتبار مطلقا أو في خصوص التقليد البدوي، أم كان ذلك
موضوعية المجتهد لجواز التقليد مع الاهمال من حيث اعتبار الحياة فيه وعدمه - هو: عدم جواز الاكتفاء بتقليد الميت في فراغ الذمة، من
غير فرق فيه بين ابتدأ التقليد واستمراره. وعدم المجال لاجراء الاستصحاب بتقاريبه المختلفة المتقدمة لتصحيح العمل المستند إلى
فتوى الميت، إما لعموم ما دل على حرمة العمل بغير العلم، وإما لاستصحاب شرطية الحياة الحاكم على استصحاب الحجية، أو نفس
الحكم الشرعي الفرعي، أو غيرهما كما مر آنفا.
دلالة دليل الانسداد على اعتبار الحياة وأما المقام الثاني - وهو الدليل العقلي الذي احتج به المحقق القمي (قده) على مختاره من جواز
تقليد الميت أو وجوبه - فتقريبه: أن قول الميت مفيد للظن، وكل ما يفيد الظن فهو حجة في حق المقلد. أما الصغرى فوجدانية، وأما
الكبرى فلدليل الانسداد المؤلف من أمور:
أحدها: بقاء التكاليف.
ثانيها: انسداد باب العلم بها في حق المقلد.
ثالثها: فقدان الظن الخاص، لان الدليل على جواز الاخذ بقول المجتهد تعبدا مفقود، إذ الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة غير واضحة
الدلالة، لما فيها من المناقشات، وعلى فرض التسليم لا يحصل منها إلا الظن المعلوم عدم حجية في إثبات الطريق الشرعي والأدلة اللبية
من الاجماع والضرورة والسيرة غير ثابتة، لان السلف المعاصرين للإمام عليه السلام كان باب العلم لهم مفتوحا، وكانوا يعملون به، و
الاجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء الحلب والأخباريين، فلا
626



مناص للعامي إلا الاعتماد على الظن كالمجتهد، لان الاقتصار على القدر المعلوم من الضرورة والاجماع من التكاليف يوجب الخروج
عن الدين، لكونه في غاية القلة، وإلزام الاحتياط يستلزم العسر والحرج، هذا ما حكي في التقريرات عن المحقق القمي (قده).
وفيه أولا: أن هذا الدليل مبني على دليل الانسداد، وقد ثبت في محله عدم تماميته.
وثانيا - بعد تسليمه -: أن مقتضى هذا الدليل حجية قول الميت إذا كان الظن الحاصل منه أقوى من الظن الحاصل من قول الحي، فالدليل
أخص من المدعي الذي هو حجية قول الميت مطلقا، بل مقتضى هذا الدليل حجية كل ظن يكون أقوى من الظن الحاصل من قول الميت وإن
حصل من الأسباب غير المتعارفة، إذ مقتضى دليل الانسداد حجية كل ظن قوي وإن لم يحصل من قول الميت.
وثالثا: أن لازم هذا الدليل وجوب العمل بالظن على العامي، ومن المعلوم أن الظن الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميت و
من الاجماعات والشهرة والاخبار والآيات مانع من حصول الظن الشخصي من قول الميت في خصوص المسألة الفرعية، فيلزم أن يكون
هذا الدليل - بناء على ما اشتهر عند الأصوليين من تقدم الظن المانع على الظن الممنوع عند التعارض وإن كان أضعف من الظن
الممنوع - دليلا على عدم حجية فتوى الميت، فينتج نقيض المطلوب.
ورابعا: أن دوران الحجية مدار ظن العامي أجنبي عن المدعي وهو حجية قول الميت في باب التقليد تعبدا، لا في خصوص ما كان للعامي
مفيدا للظن.
فالمتحصل: أن هذا الدليل العقلي لا يجدي في إثبات جواز تقليد الميت أصلا.
مقتضى الأصل العملي اعتبار الحياة وأما المقام الثالث - وهو الأصل العملي الذي قد يتمسك به لجواز تقليد الميت - فملخص الكلام
فيه: أنه - بناء على ما قيل من قصور الأدلة الاجتهادية عن إثبات إطلاق الحياة في جواز التقليد، ووصول النوبة إلى الأصل العملي -
يكون الأصل في المقام استصحاب شرطية الحياة، ومعه لا يجري استصحاب الحجية وغيرها مما ذكر في المقام، لحكومة استصحاب
الشرطية عليه، لما مرت الإشارة إليه من تسبب الشك في الحجية ونحوها عن الشك في شرطية الحياة، إذ مع فرض ثبوت شرطيتها في
ابتدأ التقليد، لكونه ظاهر أدلته أو متيقنها الخارج عن عموم حرمة العمل بغير العلم.
627



ومع الغض عن شمول دليل حرمة العمل بغير العلم للتقليد الذي هو دليل اجتهادي - لخروج التقليد في الجملة عن حيز عموم دليل الحرمة
- يحرز باستصحاب شرطيتها عدم حجية قول الميت.
ومعه لا يبقى شك في الحجية حتى يجري فيها الاستصحاب.
لكنه مع ذلك لا بأس بالتعرض إجمالا لما أفادوه من جريان الاستصحاب تبعا لهم، فنقول وبه نستعين: إن الكلام يقع في مقامين:
أحدهما: الاستصحاب الذي يراد به إثبات جواز تقليد الميت ابتدأ.
ثانيهما: إثبات جواز تقليده بقاء.
تقريب الاستصحاب في تقليد الميت ابتدأ بوجوه: أما المقام الأول فتقريبه: أن الاستصحاب يقرر بوجوه:
الأول: إجراؤه في نفس الحكم الشرعي، بأن يقال: إن وجوب تثليث التسبيحات الأربع في الأخيرتين كان فتوى شيخ الطائفة مثلا، وبعد
وفاته يشك في بقاء هذا الوجوب، فيستصحب. وهذا الاستصحاب تنجيزي.
الثاني: إجراؤه في حكم المستفتي، بأن يقال: إن جواز أخذ فتوى المجتهد في زمان حياته والعمل بها للعامي كان معلوما، وبعد وفاته
يشك في بقائه فيستصحب. وهذا الاستصحاب تنجيزي أيضا إذا أدرك العامي حياة المجتهد واجدا لشرائط التكليف، وتعليقي إذا لم
يدركه كذلك بأن صار مكلفا بعد موت ذلك المجتهد.
الثالث: إجراؤه في حكم المفتي، بأن يقال: إن ذلك المجتهد الميت كان حال حياته جائز التقليد، وبعد وفاته يشك في بقاء هذا الجواز،
فيستصحب. وهذا الاستصحاب أيضا تنجيزي كما لا يخفى.
الرابع: إجراؤه في الظن بالحكم، بأن يقال: إن الظن بالحكم الشرعي الحاصل للمجتهد حال حياته يشك في بقائه بعد وفاته، فيستصحب
استصحابا تنجيزيا.
فإن هذه الاستصحابات - على تقدير سلامتها - تنتج جواز تقليد الميت ابتدأ.
لكنها غير سليمة من الاشكال، لما ثبت في محله من عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان منشأ
628



الشك زوال وصف من أوصاف الموضوع مع احتمال دخله في الحكم، إذ مع هذا الاحتمال يرجع الشك إلى الشك في بقاء الموضوع، ومن
المعلوم عدم جريان الاستصحاب فيه، كعدم جريانه في العلم بارتفاع الموضوع.
ففي المقام لما كانت الحياة مما يحتمل دخله في الأحكام المذكورة، إذ لم يقم دليل على عدم دخل الحياة فيها، لما مر سابقا من عدم
إطلاق في أدلة التقليد يشمل حياة المجتهد ومماته، لصلاحية الاجماعات المدعاة على عدم جواز تقليد الميت لمنع انعقاد الاطلاق في أدلته
أولا. ولعدم تعرض شئ من الأدلة لشروط التقليد ثانيا، فإنه أيضا يكشف عن الاهمال، وعدم كونها في مقام البيان من جميع الجهات،
فلا ينعقد لها إطلاق، بل ظاهرها أو متيقنها اختصاص جواز التقليد بمن له الرأي حين رجوع العامي إليه، وليس ذلك إلا المجتهد الحي،
إذ الميت جماد لا رأي له كما لا يخفى.
وعليه فلا مجال لدعوى حكومة إطلاق الدليل المقيد - أعني به أدلة التقليد - على إطلاق ما دل على حرمة العمل بغير العلم حتى يقال:
بجواز تقليد المجتهد مطلقا سواء أكان حيا أم ميتا.
وكيف كان فنفس احتمال الدخل كاف في المنع عن جريان الاستصحاب.
وببيان أخصر: لا مجال لجريان الاستصحاب أصلا، لأنه إن ثبت دخل الحياة في تلك الأحكام، فيعلم بارتفاعها بعد الموت، وإن ثبت
عدم دخلها فيها فيعلم ببقائها بعد الموت، كالعلم بوجودها حال الحياة. ففي هاتين الصورتين لا مجال للاستصحاب، لوجود العلم فيهما.
وإن لم يثبت شئ من الدخل وعدمه للحياة فلا يجري أيضا، لكون الشك حينئذ في بقاء الموضوع.
ومما ذكرنا في وجه عدم جريان الاستصحاب - من رجوع الشك فيه إلى الشك في بقاء الموضوع - يظهر: أنه لا أثر للبحث عن بقاء
الظن بالحكم للمجتهد بعد موته وعدمه، بأن يقال في وجه بقائه كما عن صاحب الفصول (قده): إن الموت يوجب تكامل الظن، و
انكشاف حقائق الأمور بعد الموت.
ويقال في وجه عدم بقائه وزواله بالموت: إن الظن قائم بالذهن المتقوم بتركيب الأخلاط الأربعة التي تترتب عليها آثار كسرعة
الانتقال، والادراك، وجودة الذهن التي هي من آثار الصفراء، وكالبلادة وسوء الفهم وبط الانتقال التي هي من آثار البلغم، وهكذا،
والموت يفني هذه الأخلاط كلها، فلا يبقى محل للادراك الذي هو من آثار بعض الأخلاط. وبالجملة: يزول الظن بزوال الحياة.
629



توضيح وجه عدم الأثر للبحث عن بقاء الظن وعدمه بعد الموت هو: أنه مع احتمال شرطية الحياة في جواز تقليد المجتهد لا وجه
للاستصحاب حتى مع العلم ببقاء الظن بعد الموت، لأنه مع احتمال شرطية الحياة يشك في بقاء الموضوع بعد الموت، ومع هذا الشك لا
يجري الاستصحاب، هذا.
مضافا إلى إمكان أن يقال - بعد الغض عن احتمال شرطية الحياة - إن أدلة التقليد قاصرة عن شمولها للظن الحاصل من الكشف و
الشهود، لظهور أدلته - ولو انصرافا - في الظن الكسبي الحاصل من الأدلة المعهودة، كما يؤيده تعريف الفقه (بأنه العلم بالأحكام الشرعية
الفرعية عن أدلتها التفصيلية) دون الظن الكشفي الحاصل من المكاشفة والشهود، فإنه ليس موضوعا لأدلة التقليد. ولو شك
في حجية الظن الكشفي فمقتضى الأصل عدمها، لعدم دليل على حجيته بعد ما مر آنفا من قصور شمول أدلة التقليد للظن الكشفي. هذا
بعض الكلام في المقام الأول.
تقريب الاستصحاب في التقليد البقائي بوجوه وأما المقام الثاني فمحصله: أن الاستصحاب يقرر بوجوه عديدة:
أحدها: جريانه في الامر الارتكازي العقلائي، وهو رجوع الجاهل إلى العالم، فإذا شك في بقاء هذا الامر العقلائي بعد موت العالم فلا
مانع من استصحابه.
ثانيها: جريانه في الحكم الشرعي الأصولي، وهي حجية رأي المجتهد حال حياته، فيجري استصحاب الحجية بعد مماته.
ثالثها: جريانه في الحكم الشرعي الظاهري كوجوب السورة مثلا ظاهرا بمقتضى رأي المجتهد حال حياته، فيستصحب هذا الوجوب بعد
مماته.
رابعها: جريانه في الحكم الشرعي الفرعي الواقعي، بأن يقال: ان السورة كانت واجبة واقعا حال حياة المجتهد، وبعد وفاته يشك في
بقائه، فيستصحب وجوبها.
خامسها: جريانه في نفس الرأي، بأن يقال: إن بقاء الرأي بعد الموت مشكوك فيه، لاحتمال ارتفاعه، فيستصحب.
سادسها: جريانه في عدم تبدل رأيه، لاحتمال عدوله بعد الموت، لانكشاف خطائه، فيستصحب عدم عدوله عن رأيه الذي حصل له حال
حياته.
630



والجواب العام عن الاستصحاب بجميع تقاريبه المتقدمة: ما تقدمت الإشارة إليه من عدم جريان الاستصحاب مع زوال وصف من
أوصاف الموضوع فيما إذا احتمل دخله في موضوعيته، لأنه مع هذا الاحتمال لا يحرز بقاء الموضوع، واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة
الذي هو مقوم الاستصحاب. وقد مر أن الحياة لو لم تكن شرطيتها معلومة فلا أقل من كونها محتملة، ومع هذا الاحتمال لا يجري
الاستصحاب بشئ من تقاريبه المذكورة، لعدم إحراز ما هو مقومة من وحدة القضيتين، هذا.
وأما الجواب المختص بكل من التقريبات المذكورة فبيانه:
أن في التقريب الأول أولا: منع صدق الرجوع إلى العالم على الرجوع إلى المجتهد الميت، وذلك لما مر من أن الميت لا رأي له حتى يتبعه
العامي، إذ ليس الرجوع إلى المجتهد كالرجوع إلى الأموات من الأطباء مثلا، لان المناط في الرجوع إليهم، بعد كثرة الممارسة الموجبة
للقطع بإصابة معالجاتهم للواقع أو الاطمئنان بها هو هذا القطع أو الاطمئنان، لا مجرد رأيه، لعدم بناء العقلاء على العمل بالظن أو الشك.
وهذا المناط مفقود في العامي، إذ ليس مناط رجوعه إلى المجتهد علمه أو اطمئنانه بإصابة رأيه للواقع، بل على العامي العمل برأيه تعبدا
من دون إناطة بعلمه أو اطمئنانه بمطابقة رأيه للواقع، فموضوع جواز التقليد نفس الرأي من دون اعتبار علم العامي أو ظنه بإصابته
للواقع.
وثانيا - بعد تسليمه -: أن هذا الامر الارتكازي العقلائي ليس أثرا شرعيا ولا موضوعا له حتى يجري فيه الاستصحاب. أما الأول فواضح.
وأما الثاني فلان الأثر المترتب عليه - وهو التنجيز أو التعذير - أثر عقلي لا شرعي.
وفي التقريب الثاني أولا: أن الحجية - بعد تسليم كونها حكما مجعولا شرعيا - لا موضوع لها هنا، لفناء موضوعها وهو الرأي بالموت
كما تقدم سابقا.
ودعوى كفاية حدوث الرأي في الحجية حدوثا وبقاء وإن كانت ممكنة، لكنها ليست من شأن الاستصحاب المتقوم ببقاء موضوعه، بل
إثبات هذه الدعوى منوط بقيام دليل اجتهادي عليه، وهو مفقود، إذ لو كان هناك دليل على ذلك لكان الرأي الزائل حجة على نفس
المجتهد، مع أنه ليس كذلك مع زوال الرأي بهرم أو مرض.
631



وثانيا - بعد تسليم بقاء الرأي بعد الموت - أن مقتضى عموم ما دل على حرمة العمل بالظن على ما ثبت في محله من مرجعية العام فيما
عدا القدر المتيقن من المخصص المجمل هو عدم جواز تقليد الميت، إذ المفروض أن المتيقن من المخصص - أي ما دل على مشروعية
التقليد - هو تقليد خصوص المجتهد الحي. وأما تقليد الميت - بعد تسليم بقاء رأيه بعد الموت - فهو باق تحت عموم دليل الحرمة، فالدليل
الاجتهادي يقتضي حرمة تقليد الميت، ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب.
وثالثا - بعد الغض عن ذلك -: أنه لا يجري استصحاب الحجية أيضا، لأنه محكوم باستصحاب شرطية الحياة، لتسبب الشك في الحجية
عن الشك في شرطية الحياة، وحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي من الواضحات. إلا أنه مع عموم النهي عن العمل بالظن لا تصل
النوبة إلى استصحاب شرطية الحياة أيضا كما أشرنا إليه غير مرة في الأبحاث السابقة، فجريانه منوط بالغض عن هذا العموم وإن كان
موافقا له كما هو شأن الحكومة.
وفي التقريب الثالث: أن الحكم الظاهري متقوم في الأدلة الظنية التي تكون حجيتها بعناية التعبد - لا باقتضاء ذاتها كالقطع - بوجود
الظن الذي هو كحد الوسط في سائر الأقيسة، وإن كان الظن ملحوظا فيها بنحو الطريقية لاثبات متعلقة بحيث يكون واسطة في
الاثبات دون الثبوت، فإن جميع الامارات غير العلمية القائمة على الأحكام الشرعية كذلك، فإذا ظن المجتهد من خبر الواحد مثلا بوجوب
السورة، فلا يمكن استصحاب وجوبها بعد وفاته، لارتفاع الظن بوجوبها بالموت كما تقدم سابقا، إلا إذا قام دليل على كون الظن في
حال الحياة علة للحجية حدوثا وبقاء. ولكن لم نظفر إلى الان بهذا الدليل.
هذا مع الغض عن طريقية الامارات غير العلمية، إذ مع النظر إليها لا حكم أصلا، إذ لا يترتب على الطريقية إلا التنجيز مع الإصابة و
التعذير مع الخطأ.
وفي التقريب الرابع - بعد البناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية -: أن الركن الأول المعتبر في الاستصحاب وهو اليقين
السابق مفقود هنا، لان الدليل الدال على الحكم - كوجوب السورة - ليس هو العلم حتى يحرز به الواقع ويكون معلوما كي يجري فيه
الاستصحاب عند الشك في بقائه، بل هو حكم ظاهري مستند إلى دليل تعبدي متقوم بالظن الذي قد انعدم بالموت، فالاشكال على
الاستصحاب بتقريبه الرابع إنما هو من ناحية اختلال الركن الأول
632



وهو اليقين بالحدوث.
وفي التقريب الخامس أولا: أن الرأي ليس إلا ما استنبطه المجتهد واستخرجه من أدلة الفقه من الاعتقاد بوجوب شئ أو حرمته، وقد
مر آنفا زوال هذا الاعتقاد بالموت، والمنكشف بعد الموت من العلم بالوفاق أو الخلاف ليس ناشئا من الاجتهاد في الأدلة، بل هو علم
آخر ناش من المكاشفة، وذلك ليس موضوعا لجواز التقليد، لما تقدم من أن موضوعه هو الاعتقاد الناشئ من الاجتهاد في أدلة الفقه، و
لذا لا يكون العلم الحاصل بالرمل والجفر مثلا موضوعا لجواز التقليد.
ومن هنا يظهر فساد توهم كون الاستصحاب في المقام من القسم الثاني من ثالث أقسام استصحاب الكلي، ببيان: أنه يحتمل حدوث فرد
مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم الزوال، فيستصحب الكلي الجامع بينهما.
توضيح وجه الفساد: ما تقدم من كون الأثر الشرعي هنا مترتبا على الفرد، وهو خصوص الاعتقاد الناشئ عن الاجتهاد في الأدلة
المعهودة، دون كلي الاعتقاد وإن كان ناشئا من الكشف والشهود، فيندرج هذا الاستصحاب في استصحاب الموضوعات التي لا أثر
لها، ويكون أجنبيا عن استصحاب الكلي.
وثانيا - بعد تسليم بقاء الرأي بعد الموت، لبقاء موضوعه وهي النفس الناطقة وإن كان خلاف الفهم العرفي الذي هو المعتبر في
تشخيص موضوع الاستصحاب، إذ الموضوع بنظرهم هو الحياة، دون النفس الناطقة التي هي موضوع الرأي بالنظر العقلي -: أن
شرطية الحياة الثابتة بعموم دليل حرمة العمل بالظن أو بالأصل - وهو استصحاب الشرطية - تمنع حجية رأي الميت، فلا يجدي
استصحاب الرأي، بل القطع به، إذ الموضوع لجواز التقليد حينئذ هو رأي المجتهد الحي، فمع القطع ببقاء الرأي بعد الموت - فضلا عن
استصحابه - لا يجوز البقاء على تقليد الميت إلا بعد إلغاء شرطية الحياة.
وفي التقريب السادس أولا: أن مورد العدول وتبدل الرأي هو المجتهد الحي، لأنه هو الذي يحتمل تبدل اجتهاده الأول باجتهاد ثانوي
موجب لعدوله عما اجتهد فيه أولا، وهذا أجنبي عن المجتهد الميت، ضرورة أنه ليس له اجتهاد ثان في أدلة الفقه. وإن حصل له علم في
تلك النشأة فليس ذلك ناشئا من الاجتهاد في أدلة الفقه، بل هو ناش من المكاشفة، وليس هذا العلم موضوعا
633



لأدلة جواز التقليد حتى يكون استصحابه ذا أثر، إذ مع فرض العلم بتبدل رأيه في تلك النشأة البرزخية لا يترتب عليه أثر شرعي فضلا
عن الشك في التبدل.
وثانيا: أن استصحاب عدم العدول لا يجدي في إثبات جواز البقاء على تقليد الميت إلا بعد إثبات عدم شرطية الحياة، إذ مع فرض
شرطيتها لا أثر لاستصحاب عدم العدول عن رأيه الأول كما لا يخفى.
وثالثا: أنه لا مجال لاستصحاب بقاء الرأي، للعلم بزواله وتبدله بالعلم بالوفاق أو الخلاف الحاصل بعد الموت بالمكاشفة، فلا شك في
البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب.
فتلخص من جميع ما ذكرناه في تقليد الميت: أن الأوفق بالقواعد عدم جوازه مطلقا من غير فرق فيه بين التقليد الابتدائي والاستمراري.
الأقوال في التقليد البقائي تذنيب: لا يخفى أن التقليد الاستمراري صار عند متأخري المتأخرين ذا أقوال وتفاصيل لا بأس بالإشارة
إليها.
1 - عدم الجواز مطلقا منها: عدم الجواز مطلقا، وهو المشهور كما في تقريرات شيخنا الأعظم (قده) وقد عرفت أنه مقتضى القواعد، و
مختار جمع من المعاصرين كالسيدين الفقيهين السيد البروجردي قبل مهاجرته إلى بلدة قم المقدسة، وأستاذنا الشاهرودي (قدس
سرهما).
2 - جواز البقاء مطلقا ومنها: الجواز مطلقا أي في جميع المسائل، لا في خصوص المسائل التي عمل بها، فإنه بعد تحقق التقليد بسبب
العمل بفتوى المجتهد الحي في بعض المسائل يجوز للعامي البقاء على تقليده بعد وفاته في كل مسألة وإن لم يعمل بها في زمان حياة
ذلك المجتهد كما في تحرير الوسيلة: في المسألة (3) 1) من مسائل التقليد: (نعم يجوز البقاء على تقليده بعد تحققه بالعمل ببعض
المسائل، مطلقا ولو في المسائل التي لم يعمل بها على الظاهر).
634



وإطلاق هذه العبارة يشمل صورتي أعلمية الميت من الاحياء، وأعلمية الاحياء من الميت، وصورة التساوي في العلم) والتقليد ب (بعد
تحققه بالعمل) إشارة إلى: أن التقليد عنده هو العمل، لا الالتزام، أو التعلم بقصد العمل، فهو من قبيل الشرط المسوق لبيان تحقق
الموضوع.
أقول: - بعد الغض عن إشكالات جواز أصل تقليد الميت - إن فيه إشكالين:
أحدهما: أن مقتضى ما أفاده (في المسألة: 5) بقوله: (يجب تقليد الأعلم مع الامكان على الأحوط) لزوم تقييد جواز البقاء على تقليد الميت
بعدم أعلمية أحد الاحياء منه، وإلا وجب العدول إلى ذلك الحي الأعلم، لا أنه يجوز العدول إليه على الأحوط الاستحبابي. كما أنه إذا كان
الميت أعلم الاحياء وجب البقاء، لا أنه يجوز البقاء، ضرورة أنه بعد البناء على إلغاء شرطية الحياة في التقليد - وعلى جواز تقليد الميت
كتقليد الحي - لا بد من مراعاة الأعلمية، بأن يقال: وجب البقاء إن كان الميت أعلم من الاحياء، ووجب العدول إن كان الحي أعلم من
الميت.
ثانيهما: أن مقتضى كون التقليد هو العمل - لا الالتزام ولا التعلم بقصد العمل - هو الاقتصار على ما يصدق عليه البقاء، وليس ذلك إلا
خصوص المسائل التي عمل بها في زمان حياة المجتهد، لصدق التقليد عليها، دون غيرها مما لم يعمل بها، وصدق التقليد في جميع
المسائل مع عدم تحققه حقيقة إلا في بعضها من المسامحة في التطبيق التي لا عبرة بها، ويكون التقليد فيما لم يعمل به حال حياة المجتهد
من التقليد الابتدائي للميت الذي هو قائل بعدم جوازه، لا من التقليد البقائي الذي هو موضوع البحث. نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام
دون العمل يكون صدقه في جميع المسائل على نحو الحقيقة كما لا يخفى.
3 - التفصيل بين ما عمل بها وما لم يعمل ومنها: ما في وسيلة سيدنا الفقيه الأعظم (قده): (نعم يجوز البقاء على تقليده في المسائل
التي عمل بها في زمان حياته أو الرجوع إلى الحي الأعلم، والرجوع أحوط).
أقول: الظاهر أن وجه تقييد جواز البقاء بالعمل ليس لأجل تحقق التقليد في تلك المسائل التي عمل بها، إذ التقليد عنده (قدس سره) ليس
هو العمل، بل الالتزام، لقوله (قده) في المسألة الثانية:
(التقليد المصحح للعمل هو الالتزام بالعمل بفتوى مجتهد معين، ويتحقق بأخذ المسائل منه للعمل
635



بها وإن لم يعمل بعد بها).
فلعل وجه هذا التقييد هو: أن متمم حجية الفتاوي هو العمل بها، بحيث تتوقف حجيتها على العامي - وصيرورتها أحكاما له - على العمل،
فالفتاوي التي لم يعمل بها ليست أحكاما للعامي حتى يجوز العمل بها بعد وفات المجتهد.
فإن كان كذلك لزم منه الدور، لتوقف حجية الفتوى على الجاهل على العمل بها، وتوقف صحة العمل وإجزاؤه على حجية الفتوى، إذ لا
بد في الاجزاء من كون العمل مستندا إلى الحجة.
وإن كان للتقييد وجه آخر فلم يظهر إلى الان حتى ننظر فيه، هذا.
وأما التخيير بين البقاء والرجوع إلى الحي الأعلم مطلقا فلا يلائم مبناه من وجوب تقليد الأعلم، حيث إنه إن كان الميت أعلم من الحي
وجب البقاء، وإن كان الحي أعلم منه وجب الرجوع إليه. إلا أن يراد بقوله (قده): (أو الرجوع إلى الحي الأعلم) أعلم الاحياء فقط مع كونه
مساويا للميت في العلم. لكنه خلاف الظاهر.
فالتخيير حينئذ منحصر بصورة واحدة، وهي تساوي الحي والميت في الفضيلة، إذ بعد إلغاء شرطية الحياة في التقليد الاستمراري لا بد
من مراعاة شرطية الأعلمية فيه، إذ لا وجه لاهمالها مع إطلاق شرطيتها للحدوث والبقاء.
4 - التفصيل بين أعلمية الميت من الحي وعدمها ومنها: ما أفاده سيدنا الفقيه الحكيم (قده) في رسالة المنهاج بقوله: (إذا قلد مجتهدا
فمات، فإن كان أعلم من الحي وجب البقاء على تقليده فيما عمل به من المسائل وفيما لم يعمل. وإن كان الحي أعلم وجب العدول إليه. و
إن تساويا في العلم تخير بين العدول والبقاء، والعدول أولى، والاخذ بأحوط القولين أحوط استحبابا).
أقول: ويتوجه عليه - مضافا إلى ما تقدم من إشكالات تقليد الميت - إشكالات:
الأول: أن تعميم جواز البقاء لجميع المسائل مما عمل بها في زمان حياة المجتهد ومما لم يعمل بها مبني على كون التقليد هو الالتزام أو
التعلم للعمل حتى يتحقق التقليد في جميع المسائل، ويكون التقليد فيها بعد وفات المجتهد تقليدا بقائيا. لكن التقليد عنده (قده) هو العمل
اعتمادا على فتوى المجتهد كما صرح بذلك في المسألة الرابعة.
636



وعليه فيكون عمله في غير المسائل التي عمل بها برأي المجتهد حال حياته تقليدا ابتدائيا للميت لا بقائيا، وهو (قده) لا يجوزه كما صرح
به في المسألة الخامسة بقوله: (فلا يجوز تقليد الميت ابتدأ) فلا بد من الاقتصار في جواز البقاء على خصوص المسائل التي عمل بها في
زمان حياة المجتهد.
نعم بناء على إلغاء شرطية الحياة لاحكام التقليد - وجعل الموت كالعدم - يتجه القول بجواز البقاء في جميع المسائل، سواء كان الميت
أعلم من الحي أم مساويا له، لان الميت حينئذ كالحي. إلا أن صدق البقاء لا يخلو من مسامحة.
الثاني: أن التخيير مع التساوي إن كان مستندا إلى استصحاب التخيير الثابت قبل الرجوع إلى الميت فهو مبني على جريان الاستصحاب
مع زوال حال من حالات الموضوع، فإن ذلك التخيير كان ثابتا بين المجتهدين حال حياتهما، فلا يجري الاستصحاب مع تغير وصف من
أوصاف الموضوع، هذا.
مضافا إلى: أن التخيير إنما هو لرفع التحير، وبعد الاخذ بقول الميت يرتفع التحير، فلا مورد للاستصحاب كما لا يخفى.
الثالث: أن جعل العدول إلى الحي أولى لا يلائم القول بحرمة العدول عن الميت، بل مع الغض عن القول بحرمته نقول: إن مورد البحث من
صغريات العدول عن مجتهد إلى مثله في العلم والفضيلة بعد إلغاء شرطية الحياة، وكون المجتهد الميت كالحي في أحكام التقليد. و
الظاهر أن جل الأصحاب لا يجوزون العدول إلا إلى الأعلم، فمع تساوي الميت والحي في العلم كيف يكون العدول إلى الحي أحوط؟ مع
أن الأكثر لا يجوزون العدول إلى المساوي. نعم الاحتياط في المسألة هو العمل بأحوط القولين مع الامكان مطلقا سواء أكان الميت أعلم
من الحي أم العكس أم كانا متساويين.
5 - التفصيل بين ما يعلمها المقلد مما توافق الاحتياط وعدمه ومنها: ما عن السيد الفقيه القمي (قده) في تعليقته على العروة: (بل
الأقوى الرجوع إلى الحي في جميع المسائل إلا فيما يعلمه فعلا من فتاوى الميت التي توافق الاحتياط، فيعمل بها، ولا يلزم الفحص عنها
مع عدم العلم فعلا). والظاهر أن مراده بقوله: (مع عدم العلم فعلا) أي: عدم العلم
637



بموافقة تلك الفتاوى لفتاوى المجتهد الحي، إذ مع موافقتها للاحتياط لا وجه للزوم الفحص، إذ لزومه إنما هو للعلم بالعدول إلى الحي،
وإحراز فتاواه لتطبيق عمله عليها.
أقول: الظاهر أنه (قده) من منكري جواز البقاء مطلقا لا من المفصلين، وأن الاستثناء في قوله:
(إلا فيما يعلمه فعلا) منقطع، إذ العمل بفتاوى الميت المطابقة للاحتياط ليس تقليدا بقائيا للميت، بل هو عمل بالاحتياط الذي هو مقابل
التقليد وقسيمه، ولذا يصح العمل بتلك الفتاوى مطلقا وإن لم يكن عاملا بها في زمان حياة المجتهد، فلا يرد عليه إشكالات البقاء على
تقليد الميت، لمغايرة العمل الاحتياطي للعمل التقليدي البقائي.
6 - التفصيل بين تذكر فتاوى الميت وعدمه ومنها: ما عن سيدنا المحقق الخوئي دامت بركاته في حاشية العروة: (بل الأقوى وجوبه
فيما تعين تقليد الميت على تقدير حياته) وفي مسائله المنتخبة: (المسألة 14: الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت في المسائل التي تعلمها
العامي من فتاواه حال حكايته ولم ينسها وإن لم يكن قد عمل بها، بل الأظهر وجوبه إذا كان المجتهد الميت أعلم من المجتهد الحي).
وفي رسالة المنهاج: (مسألة 7: إذا قلد مجتهدا فمات، فإن كان أعلم من الحي وجب البقاء على تقليده فيما إذا كان ذاكرا لما تعلمه من
المسائل، وإن كان الحي أعلم وجب العدول إليه مع العلم بالمخالفة بينهما ولو إجمالا. وإن تساويا في العلم أو لم يحرز الأعلم منهما
جاز له البقاء في المسائل التي تعلمها ولم ينسها، ما لم يعلم بمخالفة فتوى الحي لفتوى الميت، وإلا وجب الاخذ بأحوط القولين. وأما
المسائل التي لم يتعلمها أو تعلمها ثم نسيها فإنه يجب أن يرجع فيها إلى الحي).
ومحصل ما يستفاد من هذه العبارات: أنه (دامت بركاته) من القائلين بالبقاء وجوبا في صورة أعلمية الميت من الاحياء، وجوازا في
صورة التساوي بشرط تعلم الفتاوى حال حياة المجتهد وعدم نسيانها، من غير فرق في وجوب البقاء وجوازه بين المسائل التي عمل
بها في زمان حياة المجتهد وبين المسائل التي لم يعمل بها في زمان حياته.
أقول: يتوجه عليه أولا: ما تقدم من إشكالات أصل تقليد الميت.
وثانيا: أن اعتبار تعلم فتاوى المجتهد حال حياته وعدم نسيانه لها إن كان وجهه توقف عنوان
638



التقليد على تعلمها فهو خلاف ما صرح (دامت بركاته) به في مسائل تقليد المنهاج: (المسألة 4:
التقليد هو العمل اعتمادا على فتوى المجتهد. إلخ). فالتعلم خارج عن حقيقة التقليد الذي هو العمل ومقدمة له، لتوقف تطبيق العمل على
رأي المجتهد على العلم به غالبا، ومن المعلوم خروج المقدمة عن حقيقة ذيها.
وإن كان وجه إناطة حجية الفتوى على العامي بتعلمها بحيث يكون تعلمه لها متمما لحجيتها، فهو وإن كان ممكنا، إذ لا محذور في
إناطة حجية الفتوى على العامي بعلمه بها، كإناطة المانعية بالعلم بعدم المأكولية، لكنه لا دليل عليه لا عقلا ولا نقلا، فإن وجوب البقاء على
تقليد الميت إنما هو لصغرويته لكبرى وجوب تقليد الأعلم، ولذا يجب العمل بفتاواه التي لم يعمل بها حال حياته. ومن المعلوم أن حجية
فتوى الأعلم ليست مشروطة بتعلم العامي لها، بل حجيتها تقتضي لزوم تعلمها والفحص عنها. ولو شك في شرطية التعلم لحجية الفتوى
على الجاهل يرجع في نفي شرطيته إلى إطلاق أدلة التقليد.
والحاصل: أنه لم يثبت شرطية التعلم لا في نفس التقليد الاستمراري ولا في حجية الفتوى على العامي. وعمدة الكلام في مسألة البقاء
على تقليد الميت إنما هي في مانعية الموت عن تقليده بقاء وعدمها، وبعد البناء على عدم مانعيته يكون وزان تقليد الميت الأعلم وزان
تقليد الحي الأعلم في عدم الاشتراط بالتعلم.
وإن كان وجهه ما نسب إليه دام بقاؤه في تقريرات بحثه الشريف من أن (الصحيح اعتبار الذكر في البقاء، وذلك لان بالنسيان ينعدم
أخذه السابق ورجوعه إلى الميت قبل موته). فإن كان المراد بانعدام أخذه السابق ارتفاع العلم بالفتوى فهو من الواضحات. لكنه غير
ضائر ببقاء التقليد، ضرورة أنه أجنبي عن التقليد الذي هو عنده نفس العمل بفتوى المجتهد، ولازم ذلك أن يكون سؤال العامي عن
مسألة قلد فيها المجتهد الحي سنين عديدة - ونسي فتواه في تلك المسألة - تقليدا جديدا، وهو كما ترى.
وإن كان المراد بانعدام أخذه السابق انعدام العمل بفتوى الميت، فمن الواضح أن نسيان الفتوى - وهي الحكم - لا يرفع العمل الذي هو
التقليد.
639



وإن كان وجهه عدم صدق السؤال عن (أهل الذكر) على الرجوع إلى المجتهد الميت مع نسيان فتواه، ومقتضى آية السؤال هو اعتبار
صدق هذا العنوان في الرجوع إلى أهل الذكر، وهذا العنوان صادق مع العلم بالفتوى الحاصل له في زمان حياة المجتهد وعدم نسيانها.
فيتوجه عليه أولا: أن المقصود من الامر بسؤال أهل الذكر إثبات حجية أقوال أهل العلم، من دون اعتبار سبق السؤال عنهم، ولذا تكون
أقوالهم حجة وإن لم تكن مسبوقة به. وعليه فذكر السؤال للتنبيه على أمر متعارف في التعلم من دون خصوصية فيه.
وثانيا: أن الدليل ليس منحصرا ب آية السؤال، ومقتضى سائر أدلة التقليد هو لزوم التعلم للعمل، سواء حصل بسؤال أهل الذكر، أم
بمراجعة كتبهم، أم بالاستماع من الثقات الناقلين لآرائهم. ولا وجه لتقليد سائر الأدلة ب آية السؤال، لكونهما من المثبتين اللذين لا تنافي
بينهما.
وثالثا: أن ظاهر الامر بالسؤال هو الامر بتحصيل العلم، لا العمل بقول الغير تعبدا كما هو المقصود في باب التقليد، كأنه قال سبحانه و
تعالى: (أيها الناس إن كنتم جاهلين فاسألوا أهل العلم حتى تعلموا) فالآية أجنبية عن مورد التقليد، هذا.
مضافا إلى ما في بعض التفاسير من أن المراد بأهل الذكر هم الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين.
هذا بعض الأبحاث المتعلقة بتقليد الميت، وقد عرفت أن الأوفق بالقواعد عدم جوازه مطلقا من الابتدائي والاستمراري بتفاصيله
المتقدمة، والله تعالى هو الهادي إلى الصواب.
640

هذا آخر ما ساعدنا التوفيق له من توضيح كفاية شيخ مشايخنا المحقق الخراساني أعلى الله مقامه، وقد فرغ من تأليفه مؤلفه العبد
الفاني محمد جعفر بن محمد علي الموسوي الجزائري المدعو بالمروج، في النجف الأشرف على من حل به في كل آن أفضل الصلوات و
التحف، في الساعة الخامسة والنصف من الليلة السادسة من شهر رجب الأصب من شهور السنة الثانية والستين بعد الألف والثلاثمائة
هجرية على هاجرها أفضل الصلاة والتحية، وإن كنت قد جددت النظر فيه حين إعداد كل واحد من الاجزاء للطبع، فأسقطت بعض
الجمل التوضيحية وأضفت إليه التعاليق التي هي غالبا أجنبية عن شرح مرام الماتن قدس سره الشريف، وأسأله سبحانه وتعالى أن
ينفع به إخواننا المتقين من المجدين في تحصيل علوم الدين، ويجعله وسيلة لنجاتي يوم الدين، وأرجو من الطلاب الكرام كثرهم الله
تعالى وأيدهم لأداء وظائفهم أن لا ينسوني من الدعوات سيما عقيب الصلوات في حياتي وبعد الممات. والحمد لله على آلائه والصلاة و
السلام على سيد أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
641