الكتاب: جواهر الأصول
المؤلف: تقرير بحث السيد الخميني ، للنگرودي
الجزء: ١
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني
الطبعة: الاولى
سنة الطبع: محرم الحرام ١٤١٨ - خرداد ١٣٧٦
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسه تنظيم ونشر آثار الامام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

جواهر الأصولية
الجزء الأول
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم والعلامي الأفخم
آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي
الإمام الخميني (قدس سره)
تأليف
آية الله السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي (دام ظله)
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
1

هوية الكتاب
* اسم الكتاب: جواهر الأصولية / ج 1 *
* المؤلف: السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي *
* تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) *
* سنة الطبع: خرداد 1376 - محرم الحرام 1418 *
* الطبعة: الأولى *
* المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
* الكمية: 3000 نسخة *
* السعر: 700 تومانا *
بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل
القائد الكبير للثورة الاسلامية
ومؤسس الجمهورية الاسلامية في
إيران الإمام الخميني (س)
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

مقدمة الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على سوابغ النعماء، وترادف الآلاء، وصلى الله على سيد الأنبياء،
محمد المصطفى وعترته الأصفياء، صلاة تملأ أقطار الأرض وآفاق السماء.
العارفون بمؤسسة نشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)، يعلمون جيدا أنها دائبة على
تقديم الآثار العلمية الراقية، والمآثر الخالدة، التي خلفها سماحة آية الله العظمى الإمام
السيد الخميني الكبير قدس الله نفسه الزكية، فكم له من تصانيف رائقة، وتآليف
فائقة، وحكم زاهرة، وخطب باهرة، ومحاضرات دقيقة، وبحوث عميقة.
والذي يريد الاطلاع والتعرف على فكر الإمام وآثاره بصورة شاملة عليه ألا
يقصر تفحصه وتأمله على ما حررته أنامله الشريفة، بل عليه أن يلم كذلك بما كتبه
أكابر تلامذته الأعلام من تقريرات بحوثه المتنوعة فقها وأصولا وفلسفة وغيرها،
التي كان يلقيها سماحة السيد الإمام الخميني (قدس سره) على طلاب الحوزة العلمية في قم
المقدسة والنجف الأشرف.
ومن أنعم النظر في هذه التقريرات يجدها شرحا مبسوطا لما كتبه الإمام
ودبجته براعته الشريفة في الحقول العلمية المختلفة.
ولقد كان من جملة المهام التي قامت بأعبائها مؤسستنا المباركة، هو تحقيق
وطبع هذه التقريرات العلمية النافعة، وكان باكورة عملنا في ذلك هو إصدار الجزء
5

الأول من كتاب «تنقيح الأصولية»، الذي يمثل الدورة الأصولية الثانية لسماحة سيدنا
الإمام الخميني (قدس سره)، والتي ألقاها في حوزة قم العلمية وجامعتها الكبرى. وستصدر
- إن شاء الله تعالى - بقية أجزاء هذه الموسوعة تباعا.
وأما الكتاب الذي نقدم له الآن، والموسوم ب‍ «جواهر الأصولية»، والذي يضم
بين دفتيه أبحاث علم الأصولية، التي خاض غمارها سماحة السيد الإمام الخميني (قدس سره) في
الدورة الثالثة من بحوث الخارج، التي ألقاها على طلابه الكرام، فهو بقلم علم من
أعلام الحوزة العلمية في مدينة قم المشرفة، وجهبذ من جهابذة الفضل والعلم
والتحقيق، ذلك هو سماحة آية الله المحقق السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي
أطال الله عمره الشريف.
نبذة من حياة المؤلف:
كانت ولادته المباركة في مدينة النجف الأشرف سنة 1350 ه‍. ق.
قرأ المقدمات والسطوح في طهران على جملة وافرة من فضلاء عصره،
كالشيخ مهدي الإلهي القمشه اي، والشيخ أبي الحسن الشعراني وآخرين.
انتقل في عام 1373 ه‍. ق. إلى مدينة قم المقدسة، فحضر الدروس العليا
لأساطين العلماء، أمثال المرحوم والده العلامة سماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني
اللنگرودي، وآية الله السيد حسين البروجردي، والعلامة السيد محمد حسين
الطباطبائي، وآية الله السيد محمد المحقق الداماد، وآية الله ميرزا هاشم الآملي، وآية
الله الشيخ محمد علي الأراكي قدس الله تعالى أسرارهم.
حضر بحوث السيد الإمام الخميني (قدس سره) في علم الأصولية قرابة دورة كاملة
ونصف، وكتب تلك البحوث القيمة تحت عنوان «جواهر الأصولية»، وهو هذا
الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ.
6

الصلاة، وتقريرات أبحاث آية الله العظمى السيد البروجردي، وتقريرات بحث آية
الله العظمى السيد الداماد، وتعليقة على كفاية الأصولية، ولب اللباب في طهارة أهل
الكتاب، والفوائد الرجالية، وغيرها.
حول تحقيق الكتاب
اختص هذا الكتاب من بين تقريرات دروس الإمام (قدس سره) بمزية هي تدقيق مؤلفه
ثانيا في العبائر، بل تغيير بعض العبارات وإيراد ما فات من نقل كلمات القوم، فقد
أوردها بتمامها عند المراجعة وتكميل التقرير، مع أنه دام ظله قد علق على بعض
الصفحات ما هو الصحيح على رأيه الشريف من توضيح أو نقد، وحيث إن بعض
هذه التعليقات أيضا وقع عند المراجعة له، يرى القارئ الكريم اختلاف التعبيرات
عن المشايخ والأساتيد من الدعاء له تارة والاسترحام له أخرى.
أما المؤسسة فبعد مراجعة الأستاذ حاولت تصحيح المتن وتقويم نص الكتاب
وجعلت له عناوين وزينته بعلامات الترقيم وأضافت اليه تخريج الآيات القرآنية
والأحاديث الشريفة وأقوال العلماء، بحيث يسهل للقارئ المراجعة إلى مصادر
البحث.
هذا، ونحن نرجو أن يكون نشر هذا الكتاب باعثا لنشر آراء الإمام القيمة في
الحوزة العلمية الشيعية، بحول الله وقوته.
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
فرع قم المقدسة - قسم التحقيق
ذو الحجة 1417 هجري قمري
فروردين 1376 هجري شمسي
7

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك
عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل
ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا
حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا
9

تمهيد من المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونحمده على ما
هدانا إلى شرائع الاسلام بتمهيد قواعد الأحكام، وأرشدنا إلى غاية المرام باتباع
مسالك الأفهام، ووفقنا لتحصيل معالم الدين، وقوانين شريعة سيد المرسلين، وبلغنا
إلى معرفة فصول الدين بإتقان ضوابط أحكام خير النبيين وشرفنا بنهاية المسؤول
إلى فرائد الأصولية.
ونصلي ونسلم على المبعوث لتتميم مكارم الأخلاق وإحكام دعائم الإسلام،
وإعلان معالم الحلال والحرام وإحياء ما درس من شرائع المرسلين، وإبطال أفكار
الكفار والملحدين، وقمع بدع أهل الضلال والمشركين، وعلى آله الأئمة الغر الميامين،
مفاتيح الرحمة، ومصابيح الهداية، لا سيما خاتمهم وقائمهم المدخر لتجديد ما درس من
الفرائض والسنن، والمدخر لإعادة الملة والشريعة، المؤمل لإحياء الكتاب وحدوده،
ومحيي معالم الدين وأهله، قاصم شوكة المعتدين، وقاطع حبائل الكذابين والمنحرفين
، معز الأولياء، ومذل الأعداء، جامع الكلمة على التقوى، اللهم عجل فرجه،
وسهل مخرجه، واجعلنا من أنصاره والذابين عنه، واجعلنا من المستشهدين بين يديه
11

آمين يا رب العالمين.
واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم وغاصبي حقوقهم ومنكري فضائلهم
ومناقبهم.
وبعد: فإنه من البديهي أن علم الفقه من أشرف العلوم الإسلامية، إذ به يعرف
معالم الدين وقوانينه وأحكامه، حلاله وحرامه، رخصه وعزائمه، بل جميع ما يرتبط
بتكاليف العباد، ونظام المجتمع، والأمة الإسلامية، لتأمين سعادتهم ومصالحهم في
النشأتين.
وغير خفي على من له إلمام بالفقه والفقاهة واستنباط الأحكام الشرعية، أن
كثيرا من الأحكام الشرعية والوظائف المقررة - بل جلها - غير ضرورية وغير
يقينية، وتحتاج معرفتها إلى مبادئ ومقدمات. ومن أهم ما يحتاج إليها ومن مبادئها
القريبة، وما يكون دخيلا في معرفة الأحكام الشرعية والوظائف العملية،
وتشخيصها في كل مورد، قواعد تعرف بأصول الاستنباط وأصول الفقه.
وليس للمتدرب في الفقه ومستنبط الأحكام عن مصادرها عدم معرفتها،
وعدم تنقيح مجاريها. ويكون لمعرفة قواعده موقفا عظيما لاستنباط الأحكام
الشرعية، والوظائف المقررة للشاك، بل تدور رحى الاستنباط عليها.
وذلك لأن جل الأحكام - لو لم تكن كلها - مستفادة من الكتاب العزيز، وما
صدر عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فلابد من إثبات حجية
ظاهر الكتاب والسنة، وحجية خبر الثقة، ومعرفة الأوامر الصادرة في الشريعة
ومعانيها، والنواهي الواردة في مطاويها، ومنطوق ما فيها ومفهومها، عمومها
وخصوصها، مطلقها ومقيدها، مجملها ومبينها، ناسخها ومنسوخها، ومعرفة كيفية
الجمع بين الدليلين عند تعارض النص والظاهر، والأظهر مع الظاهر، والعام مع
خاصه، والمطلق مع مقيده، والمجمل مع المبين. ومعرفة مجرى الأصل والوظيفة
12

الفعلية عند الشك في أصل الوظيفة، أو مع ثبوتها والشك في بقائها، أو مع العلم
بالوظيفة والشك في المتعلق، إلى غير ذلك من المسائل المعنونة في علم الأصولية.
فلابد من معرفة كل ذلك على نحو الاستدلال اجتهادا، حسبما يسوقه الدليل لا
على نحو التقليد.
وبعبارة أخرى لابد لاستنباط الأحكام عن أدلتها التفصيلية، من معرفة
حجية خبر الثقة، والظاهر، والأوامر، والنواهي، والمطلقات والمقيدات، والعمومات
والخصوصات، والتعادل والتراجيح، واجتماع الأوامر والنواهي، ومجاري الأصول
العملية من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب، إلى غير ذلك مما هي دارجة
في الفقه وهي من مهمات مسائل أصول الفقه.
ولا يسوغ لمريد الاستنباط الاستغناء عن تنقيح هذه المباحث وما شاكلها، كما
لا يسوغ للأخباري الخبير دعوى الاستغناء عنها، ولو أنكرها فإنما هو بلسانه فقط
وقلبه مطمئن بما ذكرنا.
وتوهم عدم ملائمة تدوين كتاب مستقل في الأصول حاو لتلك المسائل، بل
لابد من التعرض لها خلال عنوان المسائل الفقهية كما عن صاحب الحدائق (رحمه الله)، غير
وجيه، لا يصغى إليه، كما لا يخفى على البصير الخبير.
فظهر أنه لابد في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية من الإحاطة
بمهمات مسائل أصول الفقه مما هي دخيلة في فهمها، ولا يسوغ للأخباري الاستغناء
عن تنقيح هذه المسائل والمباحث القيمة.
وحيث إن شرافة علم أصول الفقه ومعرفة أصول الاستنباط بشرافة علم الفقه
وكرامته بكرامته، فمن الحري جدا أن يكون نظر الباحث والمتدرب في هذا العلم نظرا
آليا تبعيا لا استقلاليا أصليا، فلابد وأن يكون ذلك على وجه الاقتصاد والاعتدال،
فلا يكون على نحو الإفراط الذي ابتليت به الحوزات العلمية، ولا على طريق
13

التفريط الذي ذهب إليه الأخباريون، فان كلا منهما انحراف عن الجادة، وقد أمرنا
بالطريقة الوسطى والصراط المستقيم.
وقد ألف وصنف أصحابنا الإمامية رضوان الله تعالى عليهم في أصول الفقه
كتبا وزبرا مفصلة، ومتوسطة، ومختصرة - قديما وحديثا - فشكر الله مساعيهم
الجميلة فرتبوا فصوله، ونقحوا مسائله، وشيدوا أركانه.
ولكن في كثير منها بعض مسائل لا يكاد ينفع المفتي في فتواه، والمجتهد في
استنباطه، والحاكم في قضائه، بل ربما يقع المتدرب في الاجتهاد في الحيرة والضلالة،
فكم قد سهر رواد العلم ليال فيها، وصرفوا أوقاتهم الشريفة في معرفتها كالبحث عن
مقدمات الانسداد مثلا، فكم حققوا في مقدماتها؟!!، وبحثوا في مجراها بحيث يصعب
فهمها إلا للأوحدي من المشتغلين من طلاب العلوم الإسلامية.
ثم بحثوا في أن مقتضى مقدماتها هل هي حكم العقل بحجية الظن مطلقا، أو
كشفه عن حجية الظن شرعا؟
ثم تكلفوا في بيان الثمرات المترتبة على حجية الظن على الحكومة أو على
الكشف، مع أن بابي العلم والعلمي بمصراعيهما مفتوحان فنحن في غنى عن جريان
مقدمات الانسداد وثمراتها.
وكالبحث عن المعاني الحرفية بأدق معانيها، والبحث عن مباحث المشتق
بتفاصيلها غير النافعة... إلى غير ذلك من المباحث.
ومن المؤسف جدا ما يشاهد في زماننا وعصرنا هذا أن بعض أساتذة علم
الأصولية يطنب في المباحث الأصولية، بحيث يستوعب درسه سنين متمادية من أوقات
رواد العلم والمحصلين في مباحث الألفاظ، بل سنين في مقدمات المباحث الأصولية
مع أنه كما أشرنا أن علم الأصولية من العلوم الآلية لا الأصلية، فلابد من الاقتصاد في
طرح مسائلها، والاقتصار على ما ينفع الباحث في الفقه منها، وما يتوقف استنباط
14

الأحكام عليها، التي هي الغاية القصوى من علم أصول الفقه، ثم حذف الزوائد
والمطالب غير النافعة حول المسائل المطروحة.
وأرى وأعتقد أن التوغل في المسائل الأصولية، ربما يوجب انحراف الذهن
عن الاستقامة المطلوبة في فهم الكتاب والسنة; كما أن التوغل في العلوم العقلية
وإعمالها في القواعد الأصولية ربما لا يسلم عن اعوجاج السليقة في معرفة الكتاب
والسنة كما لا يخفى، وقد شاهدنا من مشايخ العصر ومن قارب عصرنا بل من كانوا في
الأعصار المتقدمة أيضا ما يؤيد المقال.
نعم كان من الجهابذة وأساطين الفن من لم يطرحوا تلك المسائل غير النافعة
بل غير الدخيلة في استنباط الأحكام، ولم يتعرضوا للمباحث غير الدخيلة حول
الموضوعات المعنونة، بل اقتصروا على طرح مهام المسائل المبتلى بها، وترك غير
المهم وغير النافع منها فاعتنوا بذكر لباب ما قيل في تلك المسائل، ورفض كل ما قيل
فيها والحواشي والفضول فشكر الله مساعيهم الجميلة.
فاذا من الحري جدا أن يكون نظر الباحث والمتدرب في مسائل علم الأصولية
نظرا آليا تبعيا لا استقلاليا أصليا، فيقتصر فيه على البحث والتنقيب عن مسائل ما
يحتاج إليها في معرفة الأحكام الشرعية، ويصرف تمام همه وحده ويشمر ذيله إلى
ذي الآلة والغاية القصوى - وهو علم الفقه - الذي كما أشرنا انه قانون المعاش والمعاد
، ونظام الأمة الاسلامية المحتاج إليه في العمل ليلا ونهارا، ويوجب معرفته والعمل به
الوصول إلى قرب من الحق تعالى والفوز بالجنة.
وإياك أن تتوهم أن علم أصول الفقه علم شريف في نفسه، وتحصيله كمال
للنفس والعاقلة، وصرف العمر في مسائله ومباحثه - عدم المحتاج إليها - كمال للنفس
ويوجب تشحيذ الذهن وأنسه بدقائق الفن وهو كمال للعاقلة، لأنه موجب لصرف
العمر في غير ما هو المهم، بل كما أشرنا أنه ربما يوجب الغور في دقائق مسائله غير
15

المحتاج إليها إخلالا في فهم ما يرتبط بالغاية القصوى، وتشويشا في استنباط
الأحكام، وانحرافا عما هو المتفاهم عرفا في معرفة الكتاب والسنة.
فلابد للمتدرب في علم أصول الفقه من عطف النظر إلى ما هو المهم في
استنباط الأحكام وتشخيص ما هو الأصل في استخراج الوظائف المقررة، وتدقيق
النظر وإعمال الفكر والروية فيها حتى يكون ذا نظر ثاقب واجتهاد صحيح، ورفض ما
ليس بمهم فيها، وعطف النظر إلى علم الفقه واستنباط الأحكام الشرعية ومعرفة
الوظائف المقررة. عصمنا الله وإياكم من الخطأ والزلل بحق محمد وآله الطاهرين.
وكيف كان لعل ما بين يديك من جملة متوسطات ما قرر وألف في هذا العلم،
وقد أسقطت فيه ثلة من مباحث غير هامة، كمسألة الانسداد مع مقدماتها بعرضها
العريض لأن بابي العلم والعلمي بمصراعيهما مفتوحان، وبعض مباحث المشتق،
والمعاني الحرفية، وغيرها من المباحث غير الضرورية، يجدها المتدرب بمقايسة هذا
الكتاب مع المفصلات المؤلفة في هذا الفن.
وعلى كل حال فمما أنعم الله على هذا العبد ان وفقت لإدراك ما يقرب من دورة
كاملة ونصف من المباحث الأصولية التي كان يلقيها من ألقي إليه سنام الأمة
الإسلامية، قائد الثورة الإسلامية في إيران الإسلامية، جامع المعقول والمنقول، آية
الله العظمى نائب الإمام (عليه السلام) سماحة الحاج السيد روح الله الموسوي الإمام
الخميني (قدس سره).
ولشخصية سماحة الأستاذ (قدس سره) أبعاد مختلفة يندر اجتماعها في شخص واحد إلا
للأوحدي من العلماء في طول التاريخ، فقد كان فقيها أصوليا، حكيما بارعا، عارفا
كاملا، مفسرا خبيرا، أخلاقيا فريدا، سياسيا متضلعا، مديرا مدبرا، شجاعا بطلا،
فقد جمعت فيه الفضائل والمآثر، فجدير أن يقال في حقه ما قاله أبو العلاء المعري في
حق علم الهدى السيد الأجل المرتضى (قدس سره):
16

يا سائلي عنه فيما جئت تسأله * ألا هو الرجل العاري من العار
لو جئته لرأيت الناس في رجل * والدهر في ساعة والأرض في دار
وحيث إن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله، وإن
المقدمة حيث تكون مرتبطة بأصول الفقه ينبغي الإشارة الإجمالية إلى منهجه الشريف
في علم الأصولية وإلى بعض مبانيه فأقول وأجمل:
إنه (قدس سره) كان سلس البيان، طلق اللسان، يبين ويحرر المسائل ببيان واضح
يعرفه المتوسطون من رواد العلم، والعالمون منهم، بل المبتدؤون، كل على حسب
استعداده وكفاءته، وكان يتعرض لكلمات مشايخ عصره فيلقي حاصل ما هو الدخيل
في فهمها، ويحذف الزوائد وفضول الكلام ثم يرد عليه ما ساقه نظره الشريف،
فأصوله مع احتوائه لكلمات أساطين الفن وكبراء القوم كان أصولا في حد الاعتدال،
لا مختصر مخل، ولا مبسوط ممل، ومع ذلك حاو لعمد أفكار أساطين الفن بحيث
يستغني المتدرب فيه عن المراجعة إلى كتب المفصلات.
وينبغي الإشارة الإجمالية إلى بعض آرائه المقدسة، فهو (قدس سره) مع كونه حكيما
متضلعا، وعارفا كاملا، لا يخلط مباحثه الأصولية بشيء من الدقائق الفلسفية
واللطائف العرفانية، بل كان يحذر حاضري بحثه أن يدخلوا المباحث العقلية الدقيقة
في المسائل الأصولية المبتنية غالبا على الأنظار والأفهام العرفية، وبناء العقلاء
وسيرتهم، وكثيرا ما يوبخ إدخال المسائل العقلية في المسائل الأصولية:
1 - كقاعدة الواحد ويرى أن إدخالها فيها ممن لعله لا خبروية له في علم
الحكمة والمعارف الإلهية، ولا يدري أن مجرى القاعدة عند مثبتيها إنما هو في الواحد
البسيط الحقيقي من جميع الجهات الذي لا تشوبه شائبة الكثرة لا خارجا ولا ذهنا
ولا عقلا، لا في الواحد والبسيط الخارجي فضلا عن الواحد الاعتباري وموضوعية
الشيء للحكم.
17

2 - وكان (قدس سره) يقول:
إن مراد الحكماء بقولهم: «إن المهية من حيث هي هي ليست إلا هي لا
موجودة ولا معدومة» أن المهية في مرتبة ذاتها ليست إلا نفس ذاتها من جنسها
وفصلها، ولا يكون في مرتبة ذاتها أمر آخر حتى الوجود أو العدم; لا ما يظهر من
المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره:
أن مرادهم بذلك أن المهية من حيث هي هي ليست إلا هي موجودة، ولا
معدومة، ولا مطلوبة، ولا غير مطلوبة، حتى يتوجه عليهم أن مقتضى ذلك عدم
إمكان تعلق الأحكام التكليفية بنفس الصانع والمهيات كما لا يخفى.
فاذا على ما أفاده سماحة الأستاد (قدس سره) في مرادهم يمكن توجه الخطاب
والتكاليف بنفس المهيات، فيمكن انحدار والتكاليف بنفس المهيات فيصح انحدار
الخطاب إلى مهية الصلاة مثلا فتكون مهية الصلاة واجبة، لا بحيث يكون الوجوب
جزءا لمهيتها، بل بمعنى كونها معروضة للوجوب فتدبر.
3 - وكان يرى مقتبسا من أستاذه العلامة الإصفهاني صاحب الوقاية (قدس سره) معنى
لطيفا في الاستعمالات المجازية يقبله الطبع السليم يشبه ما يقوله السكاكي في
خصوص باب الاستعارة لا عينه حاصله:
أنه في جميع الاستعمالات المجازية يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي ولكن مع
ادعاء في البين وتطبيق المعنى الحقيقي على المدعى.
وبالجملة يرى باب المجاز باب التلاعب بالمعاني ووضع معنى مكان معنى، وهذا
هو الذي يورث الكلام ملاحة ويصيره بليغا فصيحا، لا وضع اللفظ مكان لفظ آخر،
لأن الألفاظ متكافئة غالبا في إفادة معانيها، وظاهر أن اللطافة والملاحة التي في قوله
18

تعالى (واسئل القرية) (1) وهي ادعاء أن القضية بمرتبة من الوضوح يعرفه كل
موجود حتى القرية التي من الجمادات فكيف ينكره العاقل الذي له شعور وإدراك لا
تراها ولا تجدها إذا قيل واسأل أهل القرية كما لا يخفى.
وكذا ترى اللطافة والبلاغة في قول الفرزدق شاعر أهل البيت في مدح الإمام
السجاد (عليه السلام) بقوله:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
إلى آخر أبياته الأنيفة، حيث يريد إثبات أنه (عليه السلام) بمرتبة من الشهرة
والمعروفية بحيث يعرفه أرض البطحاء، وبيت الله الحرام، والحل والحرم، فكيف لا
تعرفه أنت يا هشام؟!
وكذا في الاستعمالات التي يصرح فيها بنفي معنى وإثبات معنى آخر كقوله في
قصة يوسف على نبينا وآله وعليه السلام: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (2)
وكقولك لوجه حسن: ما هذا بشر بل هو بدر، إلى غير ذلك من الاستعمالات التي
يعدونها استعمالات مجازية، ففي جميعها لم تستعمل الألفاظ إلا في معانيها الموضوع لها،
ولكن مع ادعاء في البين وتطبيق المعنى الحقيقي على المدعى (3).
4 - وكان (قدس سره) يرى أن شرائط الخطابات القانونية مخالف لشرائط الخطابات
الشخصية، وأنه لا يشترط في صحة توجه الخطاب القانوني انبعاث جميع آحاد
المكلفين، وقدرتهم، بل إذا تمكنت وانبعثت جملة معتدة بهم، وكان لهم قدرة على
الانبعاث يصلح توجه الخطاب القانوني، كما هو الشأن في جعل القوانين العالمية،
ومن أجل ذلك أنكر (قدس سره) الخطاب الترتبي وأن الخطاب المهم لم يكن مشروطا بعصيان

1 - يوسف: 82.
2 - يوسف: 31.
3 - وإن كنت في ريب مما ذكرنا فلاحظ ما فصلناه في جواهر الأصولية.
19

خطاب الأهم، وتفصيله يطلب من محله من هذا الكتاب وغيره.
5 - وكان (قدس سره) يرى أن الأحكام الشرعية غير مقيدة بقدرة المكلف لا عقلا ولا
شرعا، وإن كان حكم العقل بالإطاعة والعصيان في صورة القدرة.
وذلك لأن الأحكام الشرعية عارية بحكم الإطلاق عن التقييد بالقدرة شرعا،
ولا سبيل إلى التقييد بالقدرة فتشمل العاجزين بإطلاقها، ولا يعقل التقييد بها لا من
قبل الشرع ولا من قبل العقل، لأنه على التقييد من قبل الشرع يلزم القول بالبراءة
عند الشك في القدرة. وهم لا يلتزمون به، بل قائلون بالاشتغال عند ذلك، ولا يلزم
جواز إحداث ما يعذر به اختيارا، ولا يلتزمون به، ومنه يعلم عدم استكشاف
التقييد بالقدرة شرعا من ناحية العقل.
مضافا إلى أن التقييد بالقدرة لا يجامع ما اتفقوا عليه من بطلان اختصاص
الأحكام بالعالمين، بل يشترك كل من العالمين والجاهلين فيها; لأن التفكيك بين العلم
والقدرة غير صحيح. فلو كشف العقل التقييد بالقدرة شرعا، فلابد وأن يكشف عن
التقييد بالعلم; لأنهما يرتضعان من ثدي واحد; لأن المناط فيهما واحد وهو قبح
خطاب العاجز والجاهل.
وأما عدم التقييد من قبل العقل مستقلا، فلأن تصرف العقل بالتقييد في حكم
الغير وإرادته مع كون المتشرع غيره باطل; ضرورة أنه لا معنى لأن يتصرف أحد في
حكم غيره ويضيقه.
وبالجملة تصرف العقل في إطلاق الأدلة لا يرجع إلى محصل، بل تصرفه في
إرادة الشارع وجعله غير معقول; لأن التقييد والتصرف لا يعقل إلا لجاهل الحكم،
لا لغيره، وهو غير العقل فتدبر.
نعم للعقل في مقام الإطاعة والعصيان، وتشخيص أن مخالفة الحكم في أي
مورد يوجب استحقاق العقوبة وفي مورد آخر لا يوجب ذلك.
20

فغاية ما يقتضيه حكم العقل هو تشخيص أن الجاهل، أو العاجز، أو الساهي
والغافل ونظرائهم معذورون في ترك الواجب، أو إتيان الحرام من غير أن يتصرف في
دليل الحكم أو إرادة الشارع فتدبر.
6 - وكان (قدس سره) ينكر على المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره حيث يرون أن للأحكام
مراتب أربعة:
1 - مرتبة الاقتضاء.
2 - مرتبة الإنشاء.
3 - مرتبة الفعلية.
4 - مرتبة التنجز.
ويرى أنه ليس للأحكام إلا مرتبتين. وإن شئت قلت ليس لها إلا قسمين:
1 - الحكم الإنشائي.
2 - الحكم الفعلي.
كما هو الشأن في الأحكام المجعولة في الملل الراقية، فإنه قد ينشأ القانون
ويصوب ولكن ليس بحيث يكون عليه العمل في الخارج، وقد يصير بحيث يكون بيد
الإجراء والعمل فلك أن تقول إن للأحكام الشرعية أيضا مرتبتين:
1 - مرتبة الإنشاء.
2 - مرتبة الفعلية.
لأنه قد تكون الأحكام المجعولة فعلية واقعة في جريان العمل ولزوم تطبيق
العمل عليها - وهو جل الأحكام -.
وقد تكون باقية في مرحلة الإنشاء ولم تصل بعد إلى المرتبة الفعلية، بل تكون
باقية في مرتبة الإنشاء إلى أن تطلع شمس فلك الهداية صاحب العصر والزمان عجل
الله فرجه الشريف وجعلنا من كل مكروه فداه، والاقتضاء والتنجيز حاشيتا الحكم،
21

ذاك من مبادئ الحكم وسببا ومقتضيا له، والأخير حكم العقل بعد فعلية الحكم
وصيرورته لازم الإجراء من غير أن تمس كرامة الحكم.
7 - وكان (قدس سره) يرى أنه إذا تعلق النذر وشبهه بعبادة كصلاة الليل - مثلا - لا
تصير صلاة الليل واجبة كما هو المعروف. بل تكون صلاة الليل بعد النذر وشبهه
كقبلها مستحبة، فلو قلنا باعتبار قصد الوجه في صحة العبادة فلابد له من قصدها
ندبا، لأن غاية ما يقتضيه النذر - مثلا - هو وجوب الوفاء بعنوان النذر، والوفاء
بالنذر يتحقق بصلاة الليل المستحبة فتدبر.
8 - وكان (قدس سره) يورد على المحقق النائيني (قدس سره) حيث كان يرى أن النذر واجب
توصلي، فإذا تعلق بأمر عبادي فيكتسب العبادية من متعلقه، كما أن متعلقه يكتسب
الوجوب من النذر بما حاصله:
ما هذا الكسب والاكتساب؟!! ويرى أن هذه المقالة أشبه بالخطاب من
البرهان، لأن النذر بعد تعلقه بأمر عبادي باق على توصليته كما أن الأمر العبادي
باق على ما هو عليه.
هذا إجمال المقال، والإشارة الإجمالية إلى بعض مباني سماحة الأستاذ (قدس سره)
وتفصيلها يطلب من محالها من هذا الكتاب وغيره.
كما يجد المتدرب فيما صدر من قلمه الشريف وما قرر من أبحاثه أفكاره القيمة
وأنظاره السديدة في المسائل الأصولية.
وكيف كان فما بين يديك نتيجة ما ألقاه سماحة الأستاذ على جم غفير من
الأفاضل وعدة من الأعلام في الدورة الأخيرة في المسائل الأصولية، وكان تاريخ
شروع سماحته يوم الأربعاء عاشر ربيع المولود من سنة ألف وثلاثمائة وثمان وسبعون
(1378) هجرية قمرية فلما تم نظامه سميته ب‍ «جواهر الأصولية».
وقد كان رأيي حفظ المطالب في مجالس الدرس ثم البحث والمذاكرة حولها، ثم
22

تحريرها، وربما لم أكن حاضرا مجلس البحث، ولم أحصل على ما أفاد سماحة الأستاذ
فاقتبست المطلب من بعض أجلاء تلامذة الأستاد دامت بركاته، ومع ذلك لا آمن
السهو والنسيان والاشتباه، فإن كان فيها نحو قصور واضطراب ونقص، فرده
واستناده إلى المقرر أولى من أن ينسب إلى سماحته، والتمس من الناظر فيها أن يكون
نظره بعين الإنصاف والرضا، لا بعين الإشكال والاعتراض والسخط، لأن الإنسان
محل الخطأ والنسيان، والعصمة لأهلها.
وليعلم القارئ الكريم أن ما بين يديه صحف لم يقدر لها أن تنشر قبل اليوم،
لأنها قد حررت وخرجت من السواد إلى البياض منذ عهد بعيد لا يقل عن ست
وثلاثين سنة، ولم تسع الفرصة طبعها ونشرها بين رواد العلم ومحبي أفكار سماحة
الأستاد (قدس سره)، وإن التمس منا ثلة من الأجلاء وطلبة العلم طبعها ونشرها; ليعم نفعها
ويكثر فيضها، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها، وجارية على ما تقتضيه مصالحها. إلى
أن من الله تعالى علينا في هذا الزمان، وهيأ لنا وسيلة طبعها ونشرها حيث أشار
بعض عمد مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) فرع قم - دامت إفاضاته - إلى
طبعها ونشرها، وألح علينا في ذلك، فلم يكن في وسعي مخالفته في هذا المشروع
المقدس، فأجبت مسؤوله، فشكر الله مساعيهم الجميلة. ولله در المؤسسة الجليلة
حيث قامت بنشر الآثار والتآليف والتصانيف القيمة الراجعة إلى سماحة الأستاذ (قدس سره)
تصنيفا وتأليفا وتقريرا.
وحيث إنه مرت على هذا التقرير أعوام وعهود بعيدة; فربما يوجب ذلك تغييرا
في الأسلوب والعبارة، أو تقديم ما حقه التأخير أو بالعكس، وكان من الحري تجديد
النظر فيها، كما لا يخفى، ولكن من المؤسف جدا أنه لم يساعدني الحال ولم يتسع لي
المجال; لانحراف المزاج والابتلاء بعوارض قلبية وغيرها، واضطراب الفكر،
والاشتغال بالبحث والمذاكرة، إلى غير ذلك من الشواغل.
23

ولكن حيث إن الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله،
فبمقدار الميسور أجدد النظر فيها إجمالا، ومن الطبيعي أن ذلك يوجب تغييرا في
بعض ألفاظ الكتاب، وتقديما وتأخيرا في بعض المطالب، بل ربما يوجب ذلك إضافة
بعض ما سقط عنه مما يكون دخيلا في المطلب، أو مخلا بالمقصود، أو إسقاط ما
لا يكون محتاجا إليه.
عصمنا الله وإياكم من الخطأ والزلل بحق محمد وآله الطاهرين.
وكان الفراغ من تحرير المقدمة في مدينة قم المحمية، عش آل محمد وحرم أهل
البيت (عليهم السلام) صانها الله عن الحوادث والتهاجم، ليلة الأربعاء لتسع عشر من شهر
رمضان المبارك، إحدى ليالي القدر، وهي الليلة التي ضرب فرق جدي مولى
الكونين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في محراب عبادته ضربه أشقى الأشقياء، الموافقة
لسنة ألف وأربعمائة وسبعة عشر (1417) هجرية قمرية.
حرره العبد الفاني السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي الجيلاني ابن فقيه
أهل البيت آية الله العظمى الحاج السيد مرتضى الحسيني اللنگرودي (قدس سره)
والحمد لله أولا وآخرا.
24

المقدمة
في بيان أمور جرى بناء القوم على ذكرها
قبل الورود في مسائل الأصولية، ولها نحو
ارتباط بالمسائل المعنونة في علم الأصولية،
مع اختلافها في الارتباط بها شدة وضعفا.
25

الأمر الأول
في موضوع العلم
قد يقال: إن كل علم لابد له من موضوع; ويبحث في ذلك العلم عن عوارضه
الذاتية، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات مسائله اتحاد الكلي مع مصاديقه، وأن
وحدة العلم بوحدة موضوعه، وأن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات أو بالأغراض،
ويبحث فيه عن تعريف أصول الفقه وبيان موضوعه.
وتوضيح ذلك يستدعي البحث في جهات:
الجهة الأولى
في وحدة موضوع العلم
قد اشتهر عند أهل الفن: أن كل علم لابد له من موضوع واحد، متحد مع
موضوعات مسائله اتحاد الكلي مع مصاديقه (1) وربما يتشبث لوحدة موضوع العلم
بقاعدة الواحد; من ناحية وحدة الغرض المترتب على ذلك العلم; بأن الواحد
لا يصدر إلا من الواحد، فإذا كان الغرض المترتب على علم أمرا واحدا، فيستكشف

1 - كفاية الأصول: 21، فوائد الأصول 1: 22.
27

من ذلك وحدة موضوع العلم وإن لم نكن نعرفه بعينه (1).
ولكن الذي يقتضيه النظر عدم تمامية شيء منها; لأنه لم يقم دليل على لزوم
وجود موضوع واحد لكل علم; حتى يتكلف في إثباته إلى تمحلات شديدة وتكلفات
شاقة والتقول بما لا ينبغي، كما سيتلى عليك.
وغاية ما يقتضيه الاعتبار، ويجب الالتزام به في كل علم، هو وجود سنخية
وارتباط بين أكثر مسائل العلم بعضها مع بعض في ترتب الأثر الواحد السنخي عليها
وإن كان بين موضوعاتها أو محمولاتها اختلاف، مثلا: المسائل الفقهية تشترك في أنه
يبحث فيها عن القوانين والمقررات الإلهية مع اختلاف مسألة «الصلاة واجبة» مع
مسألة «الخمر حرام» من حيث الموضوع والمحمول، وكلتا المسألتين مع مسألة «الماء
طاهر»... وهكذا.
نعم: بين تلك المسائل المتشتتة نحو ارتباط وسنخية; حيث تكون راجعة إلى
القوانين والأحكام الإلهية وبيان وظائف العباد، فلأجلها دون علم الفقه.
يشهد لما ذكرنا: ملاحظة بدء تأسيس العلوم المتعارفة، فإذا تأملت فيها ترى
أن مسائل كل علم في بدء تأسيسه، كانت قليلة غاية القلة - لعلها لا تتجاوز عدد
الأصابع - تجمعها خصوصية كامنة في نفس المسائل، بها تمتاز عن مسائل سائر العلوم،
ثم إنه جاء الخلف بعد السلف في الأعصار المتأخرة، فأضافوا عليها مسائل ومباحث
لم تكن معهودة ولم تكن معنونة، حتى بلغت - بحسب الكثرة - حدا يصعب حفظها
والإحاطة بها، بل ربما لا يتمكن من الإحاطة بجلها، فضلا عن الإحاطة بها جميعا.
مثلا: مسائل علم الطب في بدء تأسيسه في الأدوار المتقدمة، كانت قليلة لعلها
لا تتجاوز عدد الأصابع، راجعة إلى صحة البدن وفساده; بحيث يمكن أن يعرفها

1 - كفاية الأصول: 21 - 22.
28

شخص واحد، وكان يداوي الرجل الواحد المرضى مع ما هم عليه من أنواع
الأمراض والعلل، وقد كان بينهم طبيب دوار بطبه، وهو الطبيب الذي يدور في
البلدان والقرى لمعالجة المرضى على اختلاف أمراضهم وعللهم، ثم كثرت مسائله;
بحيث صارت نسبة المسائل المدونة والمنتشرة في بدء تأسيسه، بالنسبة إلى ما دون في
الأعصار المتأخرة، نسبة الواحد إلى الألف بل أكثر، بل قد تشعبت وتكثرت مسائل
علم الطب ومباحثه; بحيث لا يتمكن الرجل الواحد الإحاطة بجل مسائله; فضلا عن
الإحاطة بها جميعا، بل لابد من التخصص في بعض نواحيه، فترى المسائل المرتبطة
بمعالجة العين - مثلا - كانت قليلة جدا، فصارت كثيرة بحيث لا يتمكن معرفتها إلا بعد
الدراسة والتعلم لها في مدة لا يستهان بها.
بل قد يقال: إن لمعرفة الأمور والأمراض المتعلقة بالعين نواحي متعددة، قد
الف في كل ناحية منها كتاب أو كتب تدرس إلى الطلاب المتخصصين في هذه الناحية.
ولكن مع ذلك كله تشترك جميع تلك المسائل، وتكون بينها نحو سنخية
وارتباط بلحاظ أنها راجعة إلى صحة البدن وفساده، وعلى هذا فلا حاجة إلى تجشم
إدخالها في موضوع واحد.
وإن كان مع ذلك في خاطرك شيء فيما ذكرنا، فلاحظ علم الجغرافيا فإنه
أصدق شاهد على ما ذكرنا، فإنه في بدء تأسيسه لم تكن أوضاع تمام الأرض معنونة
فيه، بل المعنون فيه أوضاع بلدة أو ناحية منها، بل لم يمكن أن يطلع ويقف رجل واحد
على أوضاع أحوال جميع الأرض; سهلها وجبلها، برها وبحرها، مدنها وقراها... إلى
غير ذلك في الأعصار السابقة الفاقدة للوسائل الحديثة المتداولة في أعصارنا، بل لا بد
وأن يجاهد في ذلك رجال أذكياء.
فيكون مقصود قدمائهم بعلم الجغرافيا هو البحث عن أوضاع نواحيهم وبقاعهم
- لا البحث عن أوضاع جميع الأرض - إلى أن كمل علم الجغرافيا تدريجا; وذلك حين
29

تمكنوا من الاطلاع على جميع بقاع الأرض، فصار علم الجغرافيا عبارة عن معرفة
أوضاع جميع أنحاء الأرض، بعد أن كان عبارة عن معرفة بلدة أو ناحية منها، ولكن
مع ذلك كله يصدق علم الجغرافيا على كل ما الف في سابق الأيام وحاضرها.
وبالجملة: لا وجه للالتزام بوجود موضوع واحد لكل علم; حتى يتكلف
لتعينه ويتحمل أمورا غير تامة، مثل أنه لابد وأن يكون البحث في العلم عن عوارضه
الذاتية حتى يقعوا في حيص وبيص في المراد بالعرض الذاتي، فيختلفوا في المراد منه (1).
بل يكفي لوحدة العلم مسانخة عدة قضايا متشتتة ووجود ارتباط خاص بينها
وإن لم يكن موضوعها واحدا.
إذا فلا وجه لالتزامهم بأن موضوع علم الفقه عمل المكلف (2) مع أنه لا ينطبق
على كثير من مسائل الفقه، مثل مسائل النجاسات والمطهرات، وكثير من أحكام
الضمانات والإرث، والأحكام الوضعية... إلى غير ذلك; بداهة أن مسألة «الكلب
نجس» حكم برأسه وجد هناك مكلف أم لا، وكذا «الشمس مطهرة» حكم برأسه،
وكذا مسألة «من مات - مكلفا كان أم لا - فبعض تركته لابنه - مكلفا كان أم لا -
ومقدار آخر لبنته كذلك، وحصة لزوجته» وهكذا... إلى غير ذلك من الأمثلة التي
لا ينبغي الإشكال في كونها مسائل فقهية، مع أنه لم يكن الموضوع فيها عمل
المكلف (3).
وربما يتشبث في ذلك بأن المقصد الأصلي في تلك المسائل ونحوها، إنما هو
ترتيب المكلف آثار النجاسة على ما باشره الكلب، أو ترتيب المكلف آثار الطهارة

1 - بدائع الأفكار: 27 سطر 30، كفاية الأصول: 21.
2 - معالم الدين: 25.
3 - الفصول الغروية: 4 سطر 4.
30

على ما طهرته الشمس... وهكذا، فتكون تلك المسائل مما يتعلق بعمل المكلف (1).
ولا يخفى أن تعلق أمثال هذه المسائل بعمل المكلف إنما هو من جهة الأغراض
والفوائد المترتبة، والملاك كل الملاك في كون مسألة من مسائل علم الفقه هو أن تتعلق
بعمل المكلف نفسه، لا أن تكون نتيجة المسألة والغرض منها المكلف، وكم فرق بينهما،
وإلا يمكن أن يقال: إن موضوع جميع العلوم أمر واحد، وهو انكشاف الأشياء لدى
الشخص; لكونه غاية كل علم، وهو كما ترى، فتأمل.
ولعل سر تعبيرهم عن موضوع علم الفقه بعمل المكلف: هو ما رأوا من أن
أكثر مسائل علم الفقه تتعلق بعمل المكلف، كالصلاة والصوم والزكاة والحج... إلى
غير ذلك، ولم يتفطنوا إلى أن الالتزام بذلك يوجب خروج كثير من المسائل - التي
أشرنا إلى بعضها - من علم الفقه، والالتزام بكونها مسائل استطرادية غير وجيه;
بداهة كونها من مسائل علم الفقه.
وبما ذكرنا تعرف: أن التزامهم في موضوع علم الفقه - بلحاظ إدخال بعض
المسائل فيه - أنه عبارة عن عمل المكلف من حيث الاقتضاء والتخيير (2)، غير وجيه
أيضا; لاستلزامه خروج كثير من المسائل الفقهية عنه، ككثير من مسائل الضمانات
والأحكام الوضعية... إلى غير ذلك.
فتحصل: أنه لا موجب للالتزام بوجود موضوع واحد لكل علم، حتى
يتكلف في إثباته، ويلتزم بكون جملة من مسائله استطرادية، وغاية ما يجب الالتزام
به: هو وجود ارتباط وسنخية في أكثر مسائل العلم بعضها من بعض في تحصيل
غرض واحد سنخي لا شخصي; من دون احتياج إلى وجود موضوع للعلم، فضلا
عن وحدته.

1 - انظر بدائع الأفكار: 12 سطر 25.
2 - معالم الدين: 25.
31

فإذا مسائل علم الفقه تشترك في أنها يبحث فيها عن قوانين إلهية ووظائف
مقررة للشاك، سواء كان لها موضوع واحد أو محمول كذلك، يتحد مع موضوعات
مسائله ومحمولاته، أم لا.
وهم ودفع
ربما يتشبث لإثبات وحدة موضوع العلم، من طريق وحدة الغرض المترتب
عليه بقاعدة الواحد; بتقريب: أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد، وهذه القاعدة
وقاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد قاعدتان مبرهن عليهما في محله (1).
والقاعدة الأولى تجري في ناحية وحدة المعلول; بمعنى أنه إذا كان المعلول
واحدا يستكشف منه أن علته واحدة، كما أن القاعدة الثانية تجري في ناحية وحدة
العلة; بمعنى أنه إذا كانت العلة واحدة يستكشف منها أن معلولها واحد.
وعليه فحيث إن الغرض المترتب على كل علم أمر واحد - كصون اللسان عن
الخطأ في المقال في علم النحو، وصون العقل عن الخطأ في الفكر في علم المنطق...
وهكذا في غيرهما، فلما كانت موضوعات مسائل العلم متعددة - فيستكشف من
وحدة المعلول وجود جامع بين موضوعات المسائل وإن لم نعلمه بعنوانه.
وبعبارة أخرى: الغرض من المسائل المتشتتة - المعدودة علما واحدا - واحد،
وموضوعات المسائل كثيرة، فمع ملاحظة عدم جواز صدور الواحد عن الكثير، فلابد
من تصوير جامع في البين; ليترتب عليه الغرض الواحد، وهو موضوع العلم (2).
وفيه: أنه لا يستقيم الاستدلال بالقاعدتين في أمثال المقام، كما لا يخفى على من
له إلمام بعلم المعقول، فإن القاعدتين مأخوذتان من الحكماء، وهما قاعدتان عقليتان،

1 - الحكمة المتعالية 2: 204 - 212، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 133 - 134.
2 - كفاية الأصول: 21 - 22.
32

لا شرعيتان حتى يؤخذ بعمومهما أو إطلاقهما، فلابد لفهم القاعدتين من الرجوع إليهم،
وأخذ تفسيرهما وحدودهما منهم، ومن لاحظ كلماتهم، وتدبر في تقرير القاعدتين،
يرى بوضوح أن البرهان العقلي - الذي يدعونه - إنما يدل على عدم صدور الواحد
البسيط بالصدور الوجودي الشخصي، إلا عن واحد بسيط من جميع الجهات; من
دون شائبة تركيب فيه من جهة من الجهات; لا في الخارج، ولا في الذهن والوهم،
ولا في العقل.
كما يدل البرهان على عدم الصدور بالصدور الوجودي عن الواحد البسيط من
جميع الجهات، إلا واحدا بسيطا من جميع الجهات، إلا من حيث المادة والصورة، وأما
في غير ذلك فلم تثبت القاعدتان عندهم أصلا (1).
فإذا موضوع علم النحو - مثلا - لم يكن مصدرا لصدور أمر واحد، وهو صون
اللسان عن الخطأ في المقال.
ولو سلم الصدور لم يكن الصدور وجوديا; بداهة أن صون اللسان عن الخطأ
في المقال: عنوان انتزاعي ينتزع من صون اللسان عن الخطأ في هذا المقال وذاك
المقال... وهكذا، فلم يكن له تأصل وواقعية في الخارج، فضلا عن صدوره، ولو
فرض أن حفظ اللسان عن الخطأ في المقال لم يكن عنوانا انتزاعيا، بل أمرا واقعيا
وماهية أصلية، فلا يخفى أنه خارج عن موضوع القاعدة أيضا; لما أشرنا من أنها في
الواحد البسيط الحقيقي، وهذا واحد نوعي; لصدقه على كثيرين، ولا مضايقة في أن
يصدر الواحد النوعي عن الكثيرين كما لا يخفى على أهله.
مع أنه لا معنى للصدور والإصدار والمصدرية في الماهيات والعناوين الكلية
وما في معناهما; لأن الصدور من باب، والماهية لا تصدر من شيء أصلا، فتدبر.

1 - انظر الحكمة المتعالية 2: 204 - 212، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 133 - 134.
33

ولو سلم الصدور والمصدرية في ذلك، فلو كان الغرض مترتبا على الجامع بين
موضوعات المسائل، فلازمه أن تكون الكلمة والكلام أو القول أو اللفظ العربي في
موضوع علم النحو، محصلا لعلم النحو، فمن عرف الكلمة والكلام أو اللفظ أو القول
العربي كان نحويا، ومن عرف عنوان عمل المكلف في موضوع علم الفقه كان فقيها،
وضرورة الوجدان على خلافه، والتفوه بذلك لعله مما يضحك الثكلى.
بل الغرض من كل علم إنما يترتب على مسائل كثيرة.
وتقريب آخر: لو كان الغرض من كل علم مترتبا على أمر واحد ومعلولا عنه،
فلا يخلو الأمر الواحد: إما أن يكون هو الجامع بين موضوعات مسائل العلم، كفعل
المكلف في علم الفقه، أو الجامع بين محمولات المسائل، وهي حكم الشارع ومقرراته،
أو الجامع بين القضايا، وهو ثبوت الحكم الشرعي لموضوع في ذلك العلم، وواضح
أنه بمجرد معرفة الشخص عنوان فعل المكلف، أو حكم الشارع، أو ثبوت الحكم
الشرعي للموضوع، لا يترتب عليه غرض وفائدة أصلا، وإلا يلزم أن يكون جميع
الناس فقهاء وعلماء إذا عرفوا تلك العناوين، بل الغرض إنما يترتب على معرفة كل
مسألة مسألة من المسائل الفقهية.
فظهر مما ذكرنا: أن قاعدتي الواحد أجنبيتان عن أمثال المقام، فالأولى
للمتدرب في تحصيل علم الفقه وأصوله، الإعراض عن إجراء القاعدتين والتجنب
عنهما في إثبات المقاصد الأصولية والفقهية.
ومن المؤسف جدا إجراء بعض الأعلام (1) القاعدتين في إثبات بعض المقاصد
الأصولية، وتبعه في ذلك من لا خبرة له بفن المعقول.
والله الهادي إلى الصواب.

1 - كفاية الأصول: 21 - 22 و 239.
34

الجهة الثانية
في الأعراض الذاتية والغريبة
المعروف بين أصحابنا الأصوليين مقتبسا من أهل المعقول: أن موضوع كل علم
ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية (1).
وقد حكي عن القدماء تفسير العرض الذاتي بشيء يخالفه ما عن بعض
المتأخرين (2).
ولتوضيح المقال ينبغي الإشارة إلى معنى العارض وأقسامه وأقسام الواسطة،
فنقول:
المراد بالعارض هنا مطلق الخارج عن الشيء المحمول عليه، فيشمل ما يقابل
الذاتي (3) في باب الكليات الخمس، المعبر عنه في لسان أهل المعقول بالعرضي (4)،
المنقسم إلى الخاصة والعرض العام، كما يشمل غيره، مثل كل من الجنس والفصل
بالإضافة إلى الآخر، والنوع بالنسبة إليهما.
ثم إن العارض: إما يكون عارضا لشيء بلا واسطة أصلا أو مع الواسطة.
وعلى الأول: إما أن يكون:
1 - مساويا للشيء، كالتعجب العارض للإنسان على ما مثلوا له، فتأمل.
2 - أو أعم منه، كالجنس العارض للفصل.

1 - شرح الشمسية: 14 سطر 14، الحكمة المتعالية 1: 30، شوارق الإلهام 1: 5 سطر 27،
الشواهد الربوبية: 19، هداية المسترشدين: 14 سطر 10، الفصول الغروية: 10 سطر 23،
كفاية الأصول: 21.
2 - حقائق الأصول 1: 7.
3 - والذاتي ما لم يكن خارجا عن الشيء، وهو ثلاثة: 1 - الجنس 2 - والنوع 3 - والفصل.
المقرر
4 - شرح المطالع: 64 سطر 16، شرح الشمسية: 34 سطر 11.
35

3 - أو أخص منه، كالفصل العارض للجنس.
وعلى الثاني: إما تكون الواسطة داخلية، أو خارجية.
فعلى كون الواسطة داخلية:
4 - إما أن تكون الواسطة مساوية للمعروض كالتكلم العارض للإنسان
بواسطة الناطق.
5 - أو أعم منه، كالحركة الإرادية العارضة للإنسان بواسطة الحيوان، ولا ثالث
له; لأن جزء الشيء لا يكون أخص منه.
وإن كانت الواسطة خارجية:
6 - فإما أن تكون مساوية للمعروض، كعروض الضحك للإنسان بواسطة
التعجب.
7 - أو تكون أعم منه، كعروض التحيز للأبيض بواسطة الجسم، الذي هو أعم
من الأبيض.
أو يكون أخص منه، كعروض الضحك للحيوان بواسطة الإنسان، الذي هو
أخص من الحيوان.
9 - أو مباينة له، كعروض الحرارة للماء بواسطة النار. فهذه أقسام تسعة.
ثم إن القوم اتفقوا على كون بعض هذه الأقسام عرضا ذاتيا، كما اتفقوا على
كون بعضها الآخر غريبا، واختلفوا في ثالث.
أما ما اتفق على كونه عرضا ذاتيا: فهو ما يكون عارضا للشيء لذاته
بلا واسطة، وكان مساويا له، أو ما يكون عارضا للشيء بواسطة جزء مساو له;
أو خارج مساو، ولذا اشتهر بينهم تعريف العرض الذاتي: بأنه ما يلحق الشيء لذاته
أو لما يساويه (1).

1 - الحكمة المتعالية 1: 30، شوارق الإلهام 1: 5 سطر 28، شرح الشمسية: 14 سطر 13.
36

وأما ما اتفق على كونه عرضا غريبا: فهو ما يكون بواسطة أمر خارج أعم، أو
أخص، أو مباين (1).
وأما ما اختلف فيه: فهو ما يكون عارضا بواسطة جزء أعم، ونسب إلى
مشهور المتأخرين أنه من الأعراض الذاتية، وعن جماعة من المتأخرين - وفاقا
للقدماء - أنه من الأعراض الغريبة (2).
وأما ما يعرض للشيء بلا واسطة، وكان أعم من المعروض أو أخص منه، فلم
يلتفتوا إلى كونهما من العوارض، فصار ذلك منشأ لاستيحاش بعضهم من عدهما من
العوارض الذاتية (3).
وقد أشير إلى دفعه بقولهم: إن العرض الذاتي هو ما لم تكن له واسطة في
العروض; سواء لم تكن له واسطة أصلا أو كان له واسطة في الثبوت; فيدخلان في
العرض الذاتي (4).
فينبغي الإشارة إلى انقسام الواسطة إلى أقسامها الثلاثة توضيحا للأمر: فهي
إما واسطة في العروض، أو واسطة في الثبوت، أو واسطة في الإثبات.
أما الواسطة في العروض: فهي التي يقوم بها العرض حقيقة، وينسب إلى ذيها
عناية ومسامحة من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه، كالحركة التي هي الواسطة في
نسبة السرعة إلى الجسم، فإن السرعة تقوم بالحركة، وانتسابها إلى الجسم بالعناية;
بلحاظ اتصاف الحركة بها، وهي قد تكون جلية على نحو تكون نسبة العرض إلى
ذيها مجازا عرفا، كالمثال المذكور، وقد تكون خفية; بحيث لا يخرج التوصيف عن كونه

1 - شرح الشمسية: 15 سطر 13، حاشية المشكيني 1: 2.
2 - شرح المطالع: 19، حاشية تهذيب المنطق: 185 تعليقة ميرزا محمد علي.
3 - حاشية المشكيني 1: 2.
4 - نفس المصدر 1: 3.
37

حقيقة في نظر العرف، وإن كان مجازا بتأمل من العقل، كالسطح الذي هو واسطة في
نسبة البياض إلى الجسم، فإن البياض إنما يقوم حقيقة بالسطح، لا بالجسم، لكنه
ينسب إلى الجسم حقيقة بنظر العرف، وإن كان مجازا بالنظر الدقيق.
وأما الواسطة في الثبوت: فهي علة ثبوت العرض حقيقة لمعروضه; سواء كان
العرض قائما بها أيضا، كالنار الشمس اللتين هما علتان لثبوت الحرارة للماء، أم
لا كالحركة التي هي علة لعروض الحرارة على الجسم.
وأما الواسطة في الإثبات: فهي التي يكون العلم بها علة للعلم بالثبوت كالحد
الأوسط في القياس (1).
فخلاصة المقال في العرض الذاتي والعرض الغريب: هو أنه نسب إلى القدماء:
أن العرض الذاتي: هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء لذاته، أو لأمر يساويه (2).
ولكن عدل عنه المتأخرون، وقالوا: إن الحق في العرض الذاتي أن يقال: إنه
ما يكون عارضا للشيء ووصفا له بلا شائبة مجاز أو كذب; أي ما يكون من قبيل
الوصف بحال الشيء نفسه، لا الوصف بحال متعلقه (3).
وبعبارة أخرى: العرض الذاتي: ما لا يكون له واسطة في العروض; سواء كان
له واسطة في الإثبات أم لا، فالحرارة العارضة للماء - حيث تعرضه حقيقة - عرض
ذاتي وإن كان بواسطة النار.
وبعدما اشتهر بينهم: أن العرض الذاتي هو الخارج المحمول الذي يلحق الشيء
لذاته أو لأمر يساويه، أشكل عليهم الأمر; حيث رأوا أن أكثر محمولات العلوم
عارضة لنوع من الموضوع أو صنف منه، فتكون هذه المحمولات عوارض غريبة

1 - حقائق الأصول 1: 6 - 7.
2 - نفس المصدر 1: 6 - 7.
3 - الحكمة المتعالية 1: 32 (حاشية المحقق السبزواري)، كفاية الأصول: 21.
38

بالنسبة إلى موضوع العلم; لأنها لم تعرض لموضوع العلم نفسه، بل عرضت لنوع منه
أو صنف منه.
وقد ذهب القوم للتفصي عن الإشكال يمينا وشمالا في تعريف العرض الذاتي،
إلى أن اضطروا: تارة إلى إسناد المسامحة إلى رؤساء العلم في تعريف العرض الذاتي،
وأخرى إلى الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة (1)... إلى غير ذلك من المطالب
التي لا تشفي العليل ولا تروي الغليل.
وأحسن ما قيل في مقام الدفع عن الإشكال ما أفاده صدر المتألهين (قدس سره) - في
أوائل السفر الأول من أسفاره الأربعة (2) - وحاصله على ما أفيد: أن ما يختص بنوع
من أنواع الموضوع ربما يعرض لذات الموضوع بما هو هو، وأخصية شيء من شيء
لا تنافي عروضه لذلك الشيء، كالفصول المنوعة للأجناس، فإن الفصل المقسم عارض
لذات الجنس من حيث ذاته مع أنه أخص منها، والملاك كل الملاك في الذاتي
والغريب: هو أنه كلما يلحق الشيء لأمر أخص، وكان ذلك الشيء مفتقرا في لحوقه
له إلى أن يصير الأخص نوعا متهيئا لقبوله، فهو عرض غريب، مثل لحوق الضحك
للحيوان، فإنه يعرضه بعد تخصصه بالنفس الإنسانية تخصصا وجوديا.
وأما إذا كان بنفس عروضه يتخصص بخصوصية، فهو عرض ذاتي، مثل
عروض الفصل للحيوان، فإنه بنفس عروضه له يتخصص، ويصير نوعا خاصا.
وموضوع علم الفلسفة حقيقة الوجود، وهو مثل النور، له عرض عريض،
يشمل جميع الماهيات المتلبسة بالوجود، في عرض واحد; أي شمول الوجود للموجود
النفساني لم يكن بعد تخصص الوجود بالوجود العقلاني، وكذا شموله للموجود المادي
لم يكن بعد تخصصه بالوجود العقلاني والنفساني، بل تتحد تلك الحقيقة مع الموجود

1 و 2 - الحكمة المتعالية 1: 30 - 34.
39

العقلاني، ويتخصص بالوجود العقلاني، وهكذا يتحد مع الوجود النفساني،
ويتخصص به; من دون تخصيصه أولا بالعقلاني، ثم بالنفساني، وهكذا بالنسبة إلى
جميع الماهيات الثابتة بالوجود، حتى الواقعة في أدنى مراتب الوجود.
وبالجملة: يتخصص الوجود بالتخصص العقلي والنفسي والنباتي والجمادي في
عرض واحد; أي لم يكن تخصص أحدهما بالوجود مسبوقا بتخصص الآخر، بل نفس
حقيقة الوجود تعرض العقل والنفس والنبات والجماد في عرض واحد، وتتخصص به.
فالبحث عن تلك الأمور بحث عن عوارض الوجود، والحكيم الإلهي يبحث
عن تلك الأمور من جهة أنها تعينات الوجود، وتكون أشياء موجودة، بخلاف الحكيم
الطبيعي، فإنه يبحث عن تخصيص الوجود بمرتبة من المراتب، وهي مرتبة الجسمية.
وبالجملة: محط نظر الحكيم الإلهي هو حقيقة الوجود، والبحث في فلسفته عن
تعينات الوجود بتعين كذا وكذا، فأبحاثه كلها عوارض ذاتية للوجود.
وأما الحكيم الطبيعي فمحط بحثه لم يكن الوجود بما هو هو، بل الوجود بعد
تخصصه بخصوصية الجسمية.
فبحث الحكيم الإلهي عن أحوال الجسم - بما هي أحوال الجسم، وبعد تخصصه
بخصوصية الجسمية - في فلسفته، بحث عن العوارض الغريبة، وأما بحثه عن أحواله -
بما أنه موجود - بحث عن عوارضه الذاتية.
وبالجملة: فرق بين الحكيم الإلهي والحكيم الطبيعي، فإن الإلهي يبحث عن
تعينات الوجود وحقيقته من مبدأ وجوده إلى منتهاه، فكل ما في صفحة الوجود يصح
أن يبحث حوله الحكيم الإلهي بما هو موجود، ولذا يقال: إن موضوع علم الفلسفة
أعم موضوعات العلوم (1); بحيث يشمل علم الفقه أيضا، وتنطوي فيه موضوعات

1 - تعليقات صدر المتألهين على إلهيات الشفاء: 8 سطر 25.
40

جميع العلوم.
فبحث الحكيم الإلهي عن الجسم المعدني غير بحث الحكيم الطبيعي عنه، فإن
الإلهي يبحث عنه من جهة وجوده، لا من جهة معدنيته والأمر العارض للجسم، كما
يبحث عن العقل كذلك، بخلاف الطبيعي، فإنه يبحث عن معدنيته وعن الأمر
الطارئ على الجسم.
فتحصل: أن جهة البحث عندهما مختلفة، فإن الحكيم الإلهي يبحث فيه عن
حيثية وجوده، والحكيم الطبيعي يبحث فيه عن حيثية جسميته.
وما ذكرناه هو مراد صدر المتألهين (قدس سره) في الفرق بين العرض الذاتي والعرض
الغريب (1).
وحاصله: أن البحث حول الوجود بما هو موجود بحث عن العوارض
الذاتية للوجود، وأما البحث عنه بعد تخصص الوجود بتخصص فهو بحث عن
عوارضه الغريبة.
فما يظهر من بعض الأعلام في مراده - كما سنشير إليه وإلى دفعه - غير وجيه،
فاحفظ ما ذكرناه، وكن من الشاكرين.
ذكر وتعقيب
يظهر من تقريرات المحقق العراقي (قدس سره): أن مراد صدر المتألهين في العرض الذاتي
والعرض الغريب هو: أن ما يكون واسطة لعروض العارض على الشيء: تارة يكون
حيثية تقييدية، وأخرى حيثية تعليلية، فإن عرض بواسطة الحيثية التعليلية يكون
عرضا ذاتيا، وأما إذا كان بواسطة الحيثية التقييدية يكون عرضا غريبا.

1 - الحكمة المتعالية 1: 33 - 34.
41

ومثال ما كانت الواسطة حيثية تعليلية عروض الرفع على الكلمة بواسطة
الفاعلية، والنصب عليها بواسطة المفعولية... وهكذا، فإن المعروض في الحقيقة فيهما
ذات الكلمة والفاعلية والمفعولية من علل مرفوعيتها ومنصوبيتها، لا الكلمة
المتخصصة بالفاعلية معروضة للرفع والمتخصصة بالمفعولية معروضة للنصب (1).
أقول: هذا اشتباه منه، فإنه لو سلم ما ذكره فإنما هو في مثل النحو; حيث يمكن
أن يفرض ذات الكلمة والرفع وشئ ثالث تكون مرفوعية الكلمة به، وهي الفاعلية.
وأما في العلم الذي يريد به صدر المتألهين (قدس سره) إعطاء ضابطة في تمييز أعراضه
الذاتية عن أعراضه الغريبة، فلا; ضرورة أنه لم يكن - ولا يقول به حكيم - أن غير
الوجود وماهية العقل شيء ثالث - وهو عقلية العقل - يكون علة لترشح الوجود
على ماهية العقل.
والحق: أن مراد صدر المتألهين بتلك العبارة هو ما ذكرنا، فلاحظ وتأمل.
ذكر وإشكال:
قال المحقق الإصفهاني (قدس سره) ما حاصله: إن ما أجاب به صدر المتألهين (قدس سره) وجيه
بالنسبة إلى علم المعقول، وتطبيقه على سائر الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلف،
فإن موضوع علم الفقه - مثلا - هو فعل المكلف، وموضوعات مسائله الصلاة،
والصوم، والحج... إلى غير ذلك، ونسبة هذه العناوين إلى موضوع العلم كنسبة
الأنواع إلى الجنس، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له، إلا أن البحث في الفقه ليس عن
ثبوتها له، بل يبحث فيه عن أحكام كل واحد من الأنواع، والحكم المضاف إلى كل
منها غير الحكم المضاف إلى الآخر، فالبحث في الفقه عن أحكام ماهيات وعناوين

1 - بدائع الأفكار 1: 11 - 12.
42

متباينة، وهي المتصفة بالأحكام الخمسة، وكذا الأمر في النحو والصرف.
ويمكن الجواب عن موضوعات سائر العلوم بما محصله: أن موضوع علم
الفقه - مثلا - ليس فعل المكلف بما هو هو، بل من حيث الاقتضاء والتخيير،
وموضوع علم النحو ليس الكلمة والكلام بما هما، بل من حيث الإعراب والبناء،
والمراد بالحيثية الحيثية الشأنية والاستعدادية، لا الحيثية الفعلية، وإلا لزم أخذ عقد
الحمل في عقد الوضع.
مثلا: فعل المكلف - من حيث الصلاتية - مستعد للحوق التكليف الاقتضائي
أو التخييري، والكلمة من حيث الفاعلية مستعدة للحوق المرفوعية، ومن حيث
المفعولية مستعدة للحوق المنصوبية... وهكذا، ومعلوم أن فعل المكلف المتحيث
بالحيثيات المتقدمة، عنوان انتزاعي من الصلاة والصوم والحج وغيرها، لا كلي
يتخصص في مراتب تنزله بخصوصيات تكون واسطة في عروض لواحقه له، ومن
الواضح أن المحمولات الطلبية والإباحية تحمل على معنون هذا العنوان الانتزاعي
بلا توسط شيء في اللحوق والصدق، انتهى كلامه ملخصا (1).
أقول: يشكل عليه: بأن فعل المكلف من حيث الصلاتية يباين فعل المكلف
من حيث الشتمية، واستعداد الفعل الأول المتحيث بالحيث بالوجوب غير استعداد
الفعل الثاني المتحيث بالحرمة، ولا جامع بينهما، فلم يكن لنا موضوع واحد.
وإن قلت: إن الجامع هو فعل المكلف.
فنقول: هذا كر على ما فر، فيرد الإشكال الأول، وهو أن البحث في الفقه لم يكن
من حيث ثبوت تلك العناوين، بل البحث فيه عن أحكام كل واحد منها.
ثم إنه أجاب بعض عن الإشكال: بأنها إنما تصير متباينات لو كانت الجهات

1 - نهاية الدراية في شرح الكفاية 1: 21.
43

حيثيات تقييدية; لأنها مكثرة للموضوع، وأما لو كانت الجهات حيثيات تعليلية،
فلا يتكثر بتكثرها، فيرجع الأمر إلى أن فعل المكلف واجب بواسطة الصلاة - مثلا -
وحرام بواسطة الشتم... وهكذا (1).
ولكن فيه: أن هذا لا يطابق الواقع، ولم يلتزم قائله به; وذلك لأن لازمه أن
الواجب والحرام هو المعنى الجنسي الجامع بين الصلاة والشتم وغيرهما، لا عنوان
الصلاة وعنوان الشتم، وإنما هما واسطتان لتعلق الوجوب أو الحرمة بالمعنى الجنسي،
مع أن ضرورة الفقه قاضية بأن الصلاة - مثلا - بعنوانها واجبة، والشتم بعنوانه حرام،
وأخذ الموضوع لابد وأن يكون بعد ملاحظة كون هذه العناوين بأنفسها متعلقات
للتكاليف.
والذي يسهل الخطب عدم لزوم الالتزام بهذه الأمور، ولم يدل دليل على أن
لكل علم موضوعا واحدا، يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية، وتكون نسبته
إلى موضوعات مسائله نسبة الكلي إلى مصاديقه.
نعم: قد يكون كذلك كعلم الفلسفة، فإن موضوعه الوجود، ونسبته إلى
موضوعات مسائله نسبة الكلي إلى مصاديقه، وقد تكون نسبة موضوعه إلى موضوعات
مسائله نسبة الكل إلى أجزائه كعلم الجغرافيا، فإن موضوعه أوضاع الأرض،
والبحث عن أوضاع إيران أو العراق - مثلا - بحث عن قطعة منها وجزء من أجزائها.
ولا يبعد أن يكون من هذا القبيل علم الطب، فإن موضوعه بدن الإنسان من
حيث الصحة والفساد، وموضوعات أكثر مسائله أعضاء بدن الإنسان.
وواضح أن البحث عن الجزء غير البحث عن الكل، والقول بأن البحث عن
الجزء في الحقيقة بحث عن الكل، فيكون البحث عن الجزء من العوارض الذاتية

1 - مقالات الأصول 1: 7 سطر 20، نهاية الأفكار 1: 17.
44

للكل (1)، لا يخلو عن مسامحة وتأمل.
وقد يكون موضوع علم عين موضوعات مسائله كعلم العرفان فإن موضوعه
هو الله تعالى، وموضوع كل مسألة من مسائله أيضا هو الله تعالى; لأنه يبحث في
علم العرفان عن شؤونه تعالى، وتجلياته وجلواته.
فتحصل: أن القول بأن نسبة موضوع كل علم بالنسبة إلى موضوعات مسائله،
نسبة الكلي إلى مصاديقه (2)، لا يتم في جميع العلوم، والذي يجب الالتزام به في جميع
العلوم هو تسانخ أكثر مسائل كل علم وارتباط بعضها ببعض في ترتب غرض واحد
سنخي، وهذا التسانخ والارتباط يصير منشأ لوحدة العلم وحدة اعتبارية، لا وحدة
حقيقية - كما ربما توهم (3) - لامتناع الوحدة الحقيقية من الكثرات بما هي كثرات; لأن
المركب من أجزاء ليس هو غير أجزائه.
نعم: إذا حصل الكسر والانكسار في الأجزاء، وانعدمت صورها، يحصل
المركب الحقيقي، وأنى له بوحدة العلم الذي هو مركب اعتباري؟!
مثلا: يشترك علم الفقه في أنه يبحث فيه عن القوانين الإلهية والأحكام
الشرعية، وجميع مسائله تشترك في هذا الأمر الانتزاعي، مع اختلاف في موضوعاتها
ومحمولاتها حسبما أشرنا إليه، فتدبر واغتنم.
ذكر وتعقيب
قال بعض أعاظم العصر دام ظله (4) ما حاصله: أن المراد بالعرض الذاتي في

1 - انظر الفصول الغروية: 12 سطر 1، حاشية المشكيني 1: 3.
2 - كفاية الأصول: 21، فوائد الأصول 1: 22.
3 - كفاية الأصول: 21 - 22، درر الفوائد: 241.
4 - عنى به أستاذنا الأعظم السيد البروجردي (قدس سره).
45

قولهم: «موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» (1) هو العرض
باصطلاح المنطقي لا الفلسفي، فإن العرض باصطلاح الفلسفي: عبارة عن ماهية شأن
وجودها في الخارج أن يكون في موضوع، ويقابله الجوهر (2)، والعرض باصطلاح
المنطقي: هو الخارج من ذات الشيء المتحد معه في الخارج، والذاتي عندهم ما ليس
كذلك (3)، وبين الاصطلاحين بون بعيد.
والعرض باصطلاح المنطقي: قد يكون جوهرا، كالناطق بالنسبة إلى الحيوان،
وبالعكس; حيث إن كلا منهما خارج عن ذات الآخر ويحمل عليه، كأنه قد يكون
عرضا من الأعراض، فالعرض باصطلاح المنطقي أمر نسبي، فإن الفصل، كالناطق -
مثلا - بالنسبة إلى الجنس عرض خاص، وبالنسبة إلى النوع - المؤلف منه - ذاتي.
وأما العرض باصطلاح الفلسفي: فهو أمر ثابت حقيقي منحصر في المقولات
التسع العرضية.
ويشهد على كون المراد بالعرض هنا العرض باصطلاح المنطقي: هو أن
الفيلسوف الإلهي يرى أن موضوع علمه هو الوجود بما هو موجود، ويبحث في
فلسفته عن أن الله تعالى موجود، والجوهر موجود، والجسم موجود... وهكذا، ويرى
أن هذه الأبحاث عوارض ذاتية للوجود، ومن المعلوم أنه لم تكن محمولات تلك
المسائل ولا موضوعاتها أعراضا باصطلاح الفلسفي، فتكون أعراضا باصطلاح المنطقي.
فعلى هذا يكون كل واحد من الموضوع والمحمول في المسائل الفلسفية عرضا
بالنسبة إلى الآخر، مثلا في مسألة «الجسم موجود» يكون كل واحد من الجسمية
والوجود، خارجا من ذات الآخر مفهوما; أي لا يكون عينه ولا جزءا له ومتحدا مع

1 - شرح الشمسية: 15 سطر 1، شرح المطالع: 18 سطر 8.
2 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 137.
3 - شرح المطالع: 61، شرح الشمسية: 34 و 43.
46

الآخر وجودا.
فإذن: موضوعات مسائل كل علم أعراض ذاتية لما هو الجامع بين محمولات
مسائله وبالعكس، لكن شاع في عقد القضية جعل الأخص موضوعا، والأعم
محمولا، مع أن النظم الطبيعي يقتضي جعل ما هو المعلوم من الأمرين موضوعا،
والمجهول منهما محمولا، فالموضوع - في الحقيقة - ما هو المعلوم منهما; سواء كان مساويا
لما هو المحمول في عقد القضية أو أخص، والمحمول هو تعينه المجهول الذي أريد في
القضية إثباته.
فعلى هذا يكون موضوع كل علم: عبارة عن جامع محمولات المسائل; لأنه
الذي ينسبق أولا إلى الذهن، ويكون معلوما عنده، فيضعه في وعاء الذهن، ويطلب في
العلم تعيناته وتشخصاته التي تعرض له.
مثلا: الوجود - الذي هو جامع محمولات مسائل علم الفلسفة - معلوم عند
المتدرب في الفلسفة، فيطلب في الفلسفة عن تعيناته وانقساماته اللاحقة له من
الوجوب والإمكان والجوهرية والعرضية والجسمية وهكذا.
فمحصل مسائل ذلك العلم هو أن الوجود المعلوم من خصوصياته وتعيناته
وصف الوجوب والإمكان والجوهر والعرض وهكذا، فالوجود في مسائل ذلك العلم
وإن كان محمولا في صورة القضية كقولك: الجسم موجود، والجوهر موجود، والكم
موجود... وهكذا، إلا أن الموضوع في الحقيقة هو عنوان الموجودية، ولذا تراهم
يقولون: إن موضوع ذلك العلم هو الوجود (1).
وكذا ما تكون وجهة نظر الأصولي هي عنوان الحجة في الفقه، وهو موضوع
علم الأصول، ويطلب في ذلك العلم عن تعينات الحجة وتشخصاتها من الخبر الواحد

1 - الحكمة المتعالية 1: 24.
47

والشهرة والإجماع والظواهر... إلى غير ذلك، فيقال: الخبر الواحد حجة، والشهرة
حجة، والإجماع حجة... وهكذا، ووصف الحجية في تلك المسائل وإن كان محمولا،
لكنها هي الموضوع حقيقة; لأنها المعلوم، والمجهول تعيناته، فجميع مسائل علم
الأصول يرجع البحث فيها إلى تعيين مصداق الحجة في الفقه.
وليست الحجة في اصطلاح الأصولي عبارة عن الحد الوسط - كما توهم (1) -
بل بمعناه اللغوي (2); أي: ما يحتج العبد به على مولاه وبالعكس في مقام إثبات الحكم
الشرعي وامتثاله; أي الحجة بالحمل الشائع، فعلى هذا تكون مسألة القطع بقسميه
- من التفصيلي والإجمالي - من مسائل الأصول، وكذلك مبحث الاستصحاب، بل
ومبحث البراءة من المسائل الأصولية; إذ محصل البحث فيها: هو أن صرف احتمال
التكليف هل يكفي لتنجز الواقع، ويصلح احتجاج المولى ومؤاخذته أم لا؟ وهكذا غيرها.
وبالجملة: كل مسألة تكون حيثية البحث فيها حجية أمر من الأمور التي
تصلح للحجية، أو يتوهم حجيتها، فهي مسألة أصولية (3).
أقول: لا يخفى أن الماهيات على قسمين:
قسم منها: ماهية أصلية تتحقق بالوجود وتكون مصداقا لحمل الموجود عليه
حقيقة، ويتحد معه خارجيا، كماهية الإنسان، فيقال: «الإنسان موجود».
وقسم آخر: ماهية انتزاعية لا وجود لها في الخارج، وإنما الوجود لمنشئه،
كمفهوم العرض، فإنه لم يكن له واقعية متأصلة في الخارج، بل ينتزع من قيام كل
واحد من المقولات التسع العرضية بموضوعاتها; بداهة أنه لو كان له واقعية وحقيقة
في الخارج، يلزم أن تنحصر المقولات العشر في مقولتين:

1 - فرائد الأصول: 2 سطر 13.
2 - المفردات للراغب: 107.
3 - نهاية الأصول 1: 11 - 16.
48

1 - مقولة الجوهر.
2 - مقولة العرض.
والجامع بين محمولات المسائل من قبيل الثاني، فإنه لم يكن ما وراء محمولات
كل واحد من المسائل شيء موجود متأصل في الخارج، بل هو أمر انتزاعي ينتزع من
حمل محمول كل مسألة على موضوعها، وكذا لم يكن بين الأحكام الشرعية جامع
ذاتي; ضرورة أن البعث والزجر معنيان حرفيان، وكل منهما يباين الآخر، والجامع
بينهما بالمعنى الاسمي لا يمكن أن يكون ذاتيا للمعاني الحرفية، والجامع بالمعنى الحرفي
لا تحقق له في الخارج. فإذن الجامع بين الأحكام الخمسة التكليفية، وكذا بينها وبين
الأحكام الوضعية، جامع انتزاعي ينتزع من عدة أمور متباينة، والأمر الانتزاعي
لا يكون له خارجية ولا واقعية، بل الواقعية والتحقق والوجود لمنشئه.
وبالجملة: حقيقة الحكم هي الإنشاء المجعول على الشخص، وهذا معنى جزئي،
والجامع بين الإنشاءات بالمعنى الحرفي غير معقول، وبالمعنى الاسمي لا يكون جامعا
ذاتيا للمعاني الحرفية، فإذن الجامع بين الأحكام التكليفية، وبينها وبين الأحكام
الوضعية، جامع انتزاعي لا وجود له في الخارج، وإنما ينتزعه العقل.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: الشيء العارض لشيء لابد وأن يتحد مع ذلك
الشيء بنحو من الاتحاد في نشأة من النشآت، وواضح أن الأمر الانتزاعي لا وجود له
في الخارج حتى يتحد مع معروضه، فالجامع بين محمولات المسائل حيث إنه أمر
انتزاعي اقتراحي، فلا وجود له; فلا معنى لجعله معروضا لشيء أو عارضا له،
والجامع بين المحمولات لا وجود له، فلا ينطبق ما أفاده دام ظله على شيء من
الاصطلاحين في باب العرض، فتدبر جيدا.
49

الجهة الثالثة
في تمايز العلوم
إن القوم بعد ما تسالموا على لزوم وجود موضوع واحد لكل علم (1)، قال
أكثرهم: إن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات، وموضوع كل علم يختلف عن موضوع
علم آخر (2)، وحين رأوا أن موضوعا واحدا يذكر في علمين - كاللفظ العربي أو الكلمة
والكلام، حيث يكون موضوع علمي الصرف والنحو - أضافوا قيد الحيثية، وقالوا:
إن موضوع علم النحو لم يكن اللفظ العربي من حيث هو هو، بل من حيث الإعراب
والبناء، وموضوع علم الصرف اللفظ العربي من حيث الصحة والاعتلال (3).
وحين التفتوا إلى أن لازم أخذ الحيثية الفعلية في اللفظ العربي أخذ عقد المحمول
في عقد الوضع - فيكون المعنى: أن اللفظ العربي المعرب فعلا يعرب بإعراب كذا،
واللفظ العربي المعتل فعلا معتل بكذا... وهكذا - قالوا: إن المراد بالحيثية الحيثية
الشأنية، وهي صلاحية اللفظ العربي واستعداده لأن يكون معربا موضوع علم النحو،
وشأنيته لأن يصير صحيحا أو معتلا موضوع علم الصرف (4).
ولكن خالفهم في ذلك المحقق الخراساني (قدس سره)، وقال: إن تمايز العلوم بتمايز
الأغراض، وإلا فإن كان بالموضوعات يلزم أن يكون كل باب بل كل مسألة علما على
حدة، وحيث إن تمايز العلوم بتمايز الأغراض، فقد يتداخل بعض العلوم في بعض
المسائل في ترتب الأثر، وأما في جميع المسائل فلا، ولا مانع من تداخل بعض المسائل

1 - شروح الشمسية 1: 49 و 2: 252، شرح المقاصد 1: 168.
2 - شوارق الإلهام: 6 سطر 18، شروح الشمسية 1: 48، شرح المطالع 18 سطر 5.
3 - شرح الشمسية: 15 سطر 2، الفصول الغروية: 11 سطر 19، فوائد الأصول 1: 24 - 26.
4 - فوائد الأصول: 23 - 24، نهاية الدراية 1: 25.
50

في علمين (1) انتهى.
ولا يخفى أن هذه المطالب إنما يأتي بعد لزوم وجود الموضوع لكل علم، وقد
عرفت آنفا عدم لزوم ذلك، وحاصله عدم دليل وبرهان على ذلك; لإمكان أن يبحث
في علم عن موضوعات متعددة ومحمولات مختلفة تشترك في أمر واحد انتزاعي.
مثلا: مسائل علم الفقه تشتمل على أحكام تكليفية ووضعية، يختلف بعضها
عن بعض في الموضوع والمحمول، وفي الفقه قضايا سلبية، مثل عدم نجاسة بعض
الأشياء، وعدم طهارة بعض آخر، وعدم الضمان، وعدم صحة بعض الأمور، وعدم
ولاية بعض على بعض... إلى غير ذلك.
والحق - كما سيجيء في محله -: أن القضية السالبة المحصلة لسلب الربط وقطع
النسبة، ولا تحتاج القضية السالبة إلى الموضوع ولا إلى القاعدة الفرعية، ومعلوم أنه
لا يصدق الغرض بكلا الاصطلاحين - المنطقي (2) والفلسفي (3) - على السلب.
وبالجملة: لا دليل على لزوم وجود الموضوع لكل علم، فضلا عن وحدته،
فالالتزام به في جميع العلوم لا معنى له.
نعم: يمكن أن يكون التمايز في بعض العلوم بالموضوع، كما يمكن أن يكون في
بعضها الآخر بالمحمول وفي ثالث بغيرهما.
والذي يجب الالتزام به، ويكون معتبرا في جميع العلوم، إنما هو وجود التسانخ
التناسب بين مسائل كل علم في جهة من الجهات، مثل كون مسائل علم الفقه راجعة
إلى عمل المكلف، ومسائل علم الفلسفة راجعة إلى حقائق الأشياء، وواضح أن هذه
الوحدة ليست وحدة حقيقية; لامتناع حصول الواحد الحقيقي من الكثرات بما هي

1 - انظر كفاية الأصول: 21 - 22.
2 - شروح الشمسية 1: 44 - 47.
3 - الحكمة المتعالية 2: 128 - 130 و 250، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 123 - 124.
51

كثرات، بل ولا وحدة نوعية أصلية، بل ولا وحدة جنسية كذلك، بل الوحدة وحدة
انتزاعية، وهي لم تكن علما، بل منتزعة من عدة أمور متكثرة تكون هي العلم.
وبالجملة: تمايز علم عن علم واقعا لابد وأن يكون بتمام الذات أو بعض الذات،
وهذا غير تعريف العلم، فإنه تارة يكون بالذات والذاتيات، وأخرى بالعوارض
والمشخصات، وثالثة بالأمور الاعتبارية، والكلام في تمايز العلوم بعضها عن بعض،
فتمييزها بترتب الغرض فقط - كما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره) (1) - لاوجه له، بل
محال أن يمتاز علم عن علم باختلاف الغرض مع عدم الاختلاف في نفس القضية;
ضرورة أن ترتب غرض على علم دون آخر، إذا لم يكن لجهة وحيثية في نفس
القضية، للزم ترتبه من كل قضية، وهو واضح البطلان، فالامتياز في الغرض مسبوق
بالامتياز في نفس القضية، ولا يمكن انتزاع شيء واحد من أمور مختلفة بما هي مختلفة،
وإلا يصير الانتزاع جزافيا.
فتحصل: أن تمايز العلوم لا يمكن أن يكون بالأغراض المتأخرة عن مقام ذات
العلم، بل لابد وأن يكون في ذاته بنحو من الأنحاء ولو بالحيثية، فلا يمكن أن تذكر
مسألة في علمين بلحاظ اختلاف الغرض المترتب عليه فقط; من دون أن يكون
اختلاف في نفس المسألتين، فالامتياز بالغرض إنما هو في الرتبة اللاحقة لذات
الشيء، فتدبر.
ثم إنه يتوجه على مقال المحقق الخراساني (قدس سره) - من أنه لو كان تمايز العلوم
بالموضوعات لا بالأغراض، لزم أن يكون كل باب بل كل مسألة علما على حدة (2) -
النقض عليه: بأنه ماذا تعنون بالغرض؟
إما تعنون به الغرض الجامع المترتب على جميع المسائل، أو الغرض المترتب

1 - كفاية الأصول: 21 - 22.
2 - نفس المصدر: 22.
52

على كل باب أو مسألة; لأن الغرض المترتب على معرفة باب المرفوعات، غير
الغرض المترتب على معرفة باب المنصوبات، والغرض المترتب على معرفتها غير
الغرض المترتب على معرفة المجرورات، كما أن الغرض المترتب على معرفة مرفوعية
الفاعل، غير الغرض المترتب على معرفة منصوبية المفعول... وهكذا.
فإن عنيتم الغرض الجامع المترتب على جميع المسائل، فليفرض الموضوع
موضوعا جامعا بين موضوعات المسائل، وإن عنيتم الغرض الخاص المترتب على كل
باب أو مسألة، فليفرض الموضوع الخاص بكل باب ومسألة.
وبالجملة: وزان الغرض وزان الموضوع من هذه الجهة، ويرتضعان من ثدي
واحد، فإذا لزم من أخذ الموضوع موضوعا جزئيا كون كل باب أو مسألة علما على
حدة، فيلزم من أخذ الغرض المترتب على كل باب أو مسألة علما على حدة، وإن
لوحظ الغرض الجامع بين جميع المسائل، فليلاحظ الموضوع الجامع بين موضوعات
المسائل، فإذا كان العلم واحدا بلحاظ ترتب الغرض الجامع فليكن العلم واحدا
بلحاظ الموضوع الجامع.
فتحصل: أن اختلاف العلوم بذاتها لا بالأغراض، ووحدة العلم أمر اعتباري
بلحاظ تسانخ مسائل ذلك العلم وتناسب بعضها مع بعض; بحيث تخالف مسائل
غيرها من حيث المجموع، وتمتاز عنها، ولا يضر بوحدة العلم تداخل بعض مسائل
علم في علم آخر، ولا يوجب ذلك أن يكون الامتياز بالأغراض.
وبالجملة: وحدة العلم أمر اعتباري، وهي عبارة عن مجموع مسائل مختلفة
متجانسة متناسبة، وبهذا تختلف عن مسائل علم آخر، وتمتاز عنه، ولا يضر بتلك
الوحدة الاعتبارية تداخل العلمين أو العلوم في بعض المسائل، خصوصا إذا كان
قليلا; لأن المجموع المركب من هذه المسائل وباقي مسائل هذا العلم غير المجموع
المركب من هذه المسائل وباقي مسائل العلم الآخر، وذلك كبعض مباحث الألفاظ
53

كلفظة «كل» و «جميع» للاستغراق، ولفظة: «ما» و «إلا» و «إنما» للحصر، ولفظة:
«لا» لنفي الجنس... إلى غير ذلك، فالأصولي والأديب يشتركان في البحث فيها،
ولكن يكون بحث الأصولي بلحاظ فهم كلام الشارع; لتعيين وظيفة العباد، والأديب
بلحاظ ما يرتبط بالأدب.
فقد ظهر مما ذكرنا في هذا الجهات أمور:
منها: عدم احتياج كل علم إلى موضوع، فضلا عن كون الأبحاث الواقعة في
ذلك العلم عن عوارضه الذاتية.
ومنها: عدم كون نسبة موضوع كل علم إلى موضوعات مسائله نسبة الطبيعي
إلى أفراده، وإنما يكون ذلك في بعض العلوم.
ومنها: عدم كون امتياز العلوم بتمايز الموضوعات مطلقا ولا بالأغراض مطلقا.
إلى غير ذلك من الأمور.
الجهة الرابعة
في موضوع علم الأصول
بعدما أحطت خبرا بما ذكرنا عرفت: أنه لا دليل على لزوم وجود موضوع
واحد لكل علم، وأما نفي وجود موضوع واحد عن كل علم فلا، فمن الممكن أن يكون
لبعض العلوم موضوع واحد، فعلى هذا يقع البحث: في أنه هل يكون لعلم أصول
الفقه أو علم أصول الاستنباط موضوع واحد يبحث فيه عن عوارضه الذاتية أم لا؟
فنقول: المشهور على أن موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة: - الكتاب
العزيز، والسنة، والعقل، والإجماع - بما هي أدلة (1)، واختاره المحقق القمي (قدس سره) (2)، ولعل

1 - حقائق الأصول 1: 12.
2 - قوانين الأصول 1: 8 حاشية المصنف في أسفل الصفحة.
54

هذا هو مراد الشافعي حيث يبحث في رسالته عن حجية الحجج الشرعية.
فأورد عليهم:
أولا: بأن مقتضى ذلك خروج كثير من المسائل المعنونة في علم الأصول من
المسائل الأصولية، ودخولها في المبادئ; لأن البحث فيها راجع إلى تعيين الحجة، مثل
أن الظاهر حجة أم لا؟ وأن خبر الواحد حجة أم لا؟ وأن الإجماع حجة أم لا؟ وأن
الشهرة حجة أم لا؟ والبحث عن حجية الأصول العملية، وعن الاستلزامات
العقلية... إلى غير ذلك من المباحث الراجعة إلى تعيين الحجة، فتكون من المبادئ
التصديقية، وهو كما ترى (1).
نعم: البحث عن مثل التعادل والترجيح - حيث يبحث فيه عن تقدم إحدى
الحجتين على الاخرى - من المسائل الأصولية (2).
وبالجملة: البحث عن العوارض بحث عن مفاد «كان» الناقصة، فلو كان
موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بوصف دليليتها، لزم أن يكون البحث عن حجية
الأدلة الأربعة بحثا عن وجود الحجة التي هي مفاد «كان» التامة، فيندرج البحث فيها
في المبادئ التصديقية لعلم الأصول، والالتزام بذلك كما ترى.
وثانيا: أن موضوع أكثر تلك المباحث لم يكن خصوص الأدلة الأربعة; وإن
كان المهم معرفة أحوال خصوصها، فإن البحث عن حجية الظاهر - مثلا - هو أنه
هل الظاهر حجة مطلقا - كان من الأدلة أو غيرها - أم لا؟ والبحث عن خبر الثقة هو
أنه هل خبر الثقة حجة مطلقا أم لا؟ وكذا سائر مباحث الألفاظ لم تكن مخصوصة
بذوات الأدلة بما هي أدلة، بل هي مباحث كلية، لا بما هي أدلة، فتكون أبحاثها من
عوارض ذلك الكلي، لا الأدلة الأربعة (3).

1 - بحر الفوائد: 142 السطر ما قبل الأخير، فوائد الأصول 1: 25 - 26، درر الفوائد: 33.
2 - بدائع الأفكار 1: 20.
3 - ضوابط الأصول: 9 السطر الأول، كفاية الأصول: 22.
55

ولأجل توجه الإشكال على مقال المشهور عدل صاحب الفصول (قدس سره) عن
مقالهم، وقال: إن موضوع علم الأصول ذوات الأدلة بما هي هي، فيكون البحث عن
حجية الأدلة بحثا عن عوارض الأدلة، فيكون البحث فيها من المسائل الأصولية (1).
ولا يخفى أن ما أفاده (قدس سره) وإن كان سليما عن الإشكال الأول; لأن البحث عن
تلك المسائل على هذا يكون بحثا عن عوارض الأدلة، إلا أن الإشكال الثاني وارد
عليه; لعدم اختصاص تلك المباحث بالأدلة الأربعة، فيكون البحث حولها من
عوارض ذلك الكلي.
ثم إنه أشكل على مقال المشهور وظاهر ما في «الفصول» بأن السنة عبارة عن
نفس قول المعصوم وفعله وتقريره، ومن الواضح أن البحث في خبر الواحد وجملة من
مسائل باب التعارض - مثلا - لا يكون بحثا عن عوارض الأدلة; لا بما هي هي، ولا بما
هي أدلة:
أما عدم كون البحث فيها عن الكتاب والإجماع والعقل فواضح، ولم يكن
البحث فيها عن السنة أيضا; بداهة أن خبر الواحد أو أحد الخبرين المتعارضين ليس
نفس السنة: حتى يكون البحث عن عوارضها، بل حاك عن السنة، فلا يرجع البحث
في حجية خبر الواحد، أو أحد الخبرين المتعارضين، إلى عوارض السنة (2).
تصدى شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) لدفع الإشكال عن مقال المشهور: بأنه
يمكن إرجاع البحث في هاتين المسألتين وما شابههما، إلى البحث عن أحوال السنة
وعوارضها; لأن مرجع البحث فيهما - حقيقة - إلى البحث عن ثبوت قول المعصوم أو
فعله أو تقريره بخبر الواحد في مسألة حجية خبر الواحد، أو بأحد الخبرين
المتعارضين في الخبرين المتعارضين، فيكون الموضوع في المسألة - حقيقة - نفس

1 - الفصول الغروية: 12 سطر 10.
2 - كفاية الأصول: 22 - 23.
56

السنة (1).
وجعل (قدس سره) ما أفاده مغنيا عن تجشم صاحب الفصول (قدس سره); بجعل الموضوع ذوات
الأدلة (2); ليكون البحث عن حجية الخبر بحثا عن عوارض ذات السنة (3).
هذا، ولكن لم يرتض المحقق الخراساني (قدس سره) ما أفاده الشيخ (قدس سره)، ورده بما حاصله:
أن المراد بثبوت السنة: إما الثبوت الحقيقي، وما هو مفاد «كان» التامة،
فليس البحث فيه عن العوارض الذاتية; لأن البحث عن العوارض لابد وأن يكون
بحثا عما هو مفاد «كان» الناقصة، فلا يكون البحث فيه من المسائل الأصولية، بل من
المبادئ التصديقية.
وإن أريد به الثبوت التعبدي، الذي مرجعه إلى حجية خبر الواحد الحاكي
للسنة، أو حجية أحد الخبرين الحاكيين للسنة، فالبحث وإن كان عن العوارض - وما
يكون مفاد «كان» الناقصة - إلا أنه عن عوارض الحاكي للسنة، لا السنة نفسها. هذا
كله إن أريد بالسنة ما هو المصطلح عليها، وهو قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
وإن أريد بالسنة ما هو الأعم منها ومن الطريق الحاكي عنها كخبر الواحد
ونحوه، فالبحث في تلك المباحث وإن كان في أحوال السنة بهذا المعنى، إلا أنه يلزم أن
يكون البحث في غير واحد من المسائل الأصولية - كمباحث الألفاظ وجملة من
غيرها - خارجا عن كونها مسائل أصولية; لأن البحث فيها لم يكن مخصوصا بالأدلة
الأربعة; بل يعم غيرها (4)، كما أشرنا في الإشكال الثاني على مقال الشهرة، فلاحظ.
ولأجل التفصي عن هذه الإشكالات قد يقال: إن موضوع علم الأصول هو

1 - فرائد الأصول: 67 سطر 6.
2 - الفصول الغروية: 12 سطر 10.
3 - فرائد الأصول: 67 سطر 7.
4 - كفاية الأصول: 23.
57

الجامع بين محمولات مسائله، ولعله الظاهر مما حكي عن الشافعي; حيث قال: إن
موضوع علم الأصول الحجة في الفقه (1).
ويظهر من الحكيم السبزواري رحمه الله: أن موضوع العلم هو الجامع بين
محمولات المسائل; لأنه قال في فن الطبيعيات من «شرح المنظومة»: إن مسألة
«الجسم موجود» في الحقيقة: «الموجود جسم» (2).
واختار بعض أعاظم العصر دام ظله كون موضوع علم الأصول هو الجامع
بين محمولات المسائل وشيد مبناه بما لا مزيد عليه، وقد ذكرنا حاصل مقاله في
الجهة الثانية.
ومجمله: أن المراد بموضوع علم الأصول - مثلا - ما يكون وجهة نظر
الأصولي ومحط نظره إليه وليس هو إلا الحجة في الفقه، والأصولي بصدد تعينات
الحجة ومصاديقها، وما من مسألة من المسائل الأصولية - سواء كانت متعلقة بأمارية
شيء أو أصليته - إلا ويبحث فيها عن الحجة في الفقه، فجميع المسائل الأصولية
عوارض ذاتية لموضوع علم الأصول (3).
وفيه: أنه كما أشرنا في الجهة الثانية أنه لم يكن لنا في العرض غير اصطلاحين:
الأول: ما يذكر في كتاب «قاطيقورياس» - المقولات العشر - والمراد به ماهية
شأن وجودها في الخارج أن يكون في موضوع (4).
والثاني: ما يذكر في صناعة «إيساغوجي» - الكليات الخمس - وهو الخارج
عن ذات الشيء المتحد معه (5).

1 - انظر نهاية الأصول 1: 16.
2 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 206 سطر 9.
3 - نهاية الأصول 1: 12 - 16.
4 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 137.
5 - شرح المطالع: 61 سطر 9، شرح الشمسية: 34 و 43.
58

ولا يكون لهم اصطلاح ثالث في العرض، وما ذكره دام ظله لا ينطبق على
مذاق القوم بشيء من الاصطلاحين; ضرورة أن حجية خبر الواحد - مثلا - لو كانت
من المجعولات التأسيسية الشرعية، فبعد حجيته لا يتصف خبر الواحد في الخارج
بشيء كان فاقدا إياه، وعرض عليه شيء لم يكن واجدا له، بل هي أمر انتزاعي،
ينتزع من أمر الشارع العمل به، فالحجية أمر انتزاعي، لا وجود لها في الخارج، فلا
يصدق عليه العرض بشيء من الاصطلاحين.
وإن تصرفت في العرض، وعممته بما يشمل الأمر الانتزاعي الذي لا يكون له
وجود في الخارج، وإنما الوجود لمنشئه، فهو اصطلاح لم يقل به أحد من القوم، فحمل
كلماتهم على أمر غير معهود عندهم ليس كما ينبغي.
فلم يتحصل لنا وجود أمر واحد وموضوع فارد، يكون البحث في علم
الأصول عن عوارض الذاتية، وغاية ما تحصل لنا: هو اشتراك جميع مسائل علم
الأصول في أنها يستفاد منها أحكام الله تعالى ووظائفه المقررة، والله الهادي.
الجهة الخامسة
في تعريف أصول الفقه
وليعلم أولا: أن ظاهر من يورد على تعريف من حيث عدم الاطراد، أو عدم
الانعكاس، ثم يأتي تعريف آخر، هو أن يكون تعريفه جامعا للأفراد، مطردا فيها،
مانعا لدخول غيرها; من غير فرق في ذلك بين كون المعرف ماهية حقيقية أو اعتبارية.
وجامعية التعريف لأفراده ومانعيته عن الأغيار لابد وأن يكون بظاهر
التعريف، لا بمراد شخص المعرف ولو لم يكن ظاهرا من اللفظ.
وبالجملة: لابد لمن يعرف ماهية ولو اعتبارية أن يذكر في تعريفه جميع القيود
الدخيلة; حتى يسلم من إشكالات عدم الاطراد وعدم الانعكاس.
59

إذا عرفت هذا، فنقول: اشتهر تعريف علم الأصول بأنه العلم بالقواعد الممهدة
لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية (1).
فأورد عليه:
أولا: بأن لازم ذلك خروج الظن على الحكومة عن المسائل الأصولية، مع أنه
منها (2); وذلك لأن مقدمات الانسداد تقرر: تارة بنحو تكون نتيجتها الكشف عن
حكم الشارع بحجية الظن، وأخرى بنحو تكون نتيجتها حكم العقل بوجوب العمل
على طبق الظن، فالظن على الكشف من الحجج الشرعية، غاية الأمر طريق ثبوته
هي المقدمات، وأما طريق إثبات سائر الحجج الشرعية فهو الكتاب والسنة وغيرهما.
ويترتب على هذا أن مؤداه حكم شرعي ظاهري، كسائر الحجج الشرعية.
وأما على الحكومة فيكون الظن من الحجج العقلية كالقطع، فكما أن حجية
القطع عقلية فكذلك حجية الظن على الحكومة عقلية.
فعلى هذا لا يقع الظن على الحكومة في طريق استنباط الحكم الشرعي،
فيخرج الظن على الحكومة على تعريف المشهور عن كونه مسألة أصولية.
وبالجملة: الظن على الحكومة هو حكم العقل بأن الوظيفة في ذلك الحال هو
العمل بالظن من دون كشف عن حكم الشارع هناك.
وثانيا: خروج الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية على هذا
التعريف من المسائل الأصولية أيضا; لأنها لا تقع في طريق الأحكام الشرعية،
وذلك كأصل البراءة - مثلا - فإن العقلي منها - وهو قبح العقاب بلا بيان - وكذا
الشرعي منها، لا يكون طريقا لاستنباط الحكم الشرعي، وإنما هي وظيفة مقررة

1 - زبدة الأصول: 8، قوانين الأصول 1: 5، هداية المسترشدين: 12 سطر 26، الفصول
الغروية: 9 السطر ما قبل الأخير.
2 - كفاية الأصول: 23، نهاية الأفكار 1: 20، درر الفوائد: 32.
60

للشاك في مقام العمل (1).
وثالثا: باشتمال تعريف المشهور على أخذ العلم في التعريف، مع أن علم
الأصول هو القواعد الكذائية التي تكون موضوعا للعلم تارة وللجهل أخرى، لا العلم
بتلك القواعد وإدراكها (2) (3).
قال شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) - على ما حكي عنه (4) - في بيان المسألة
الأصولية والفرق بينها وبين القاعدة الفقهية، فإن كلما كان أمر تطبيقه على موارده
منحصرا بنظر المجتهد يكون مسألة أصولية، وما ليس كذلك تكون قاعدة فقهية،
فمسألة: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» - حيث يكون تشخيص مواردها بيد
المكلف - قاعدة فقهية، بخلاف مسألة الاستصحاب في الشبهات الحكمية، فإنها لابد
فيه من اليقين السابق والشك اللاحق، والشك اللاحق إنما هو بعد عدم الظفر بالدليل
أو الأمارة - على خلاف اليقين السابق - بعد الفحص عنه في مظانه، وليس هذا إلا
شأن المجتهد، ولا حظ لغيره فيه، فهي مسألة أصولية (5).
فأورد عليه: بأن مقتضاه دخول غير واحد من القواعد الفقهية في المسألة
الأصولية; لأن أمر تطبيقها أيضا بيد المجتهد (6)، وذلك كقاعدة «ما يضمن بصحيحه

1 - انظر كفاية الأصول: 24، ونهاية الأفكار 1: 20، ودرر الفوائد: 32.
2 - نهاية الأفكار 1: 19.
3 - لعل السبب في ذكر العلم في تعريفه، هو كون العلم بالقواعد منشأ للأثر، دون نفس القواعد،
والمصحح لهذا الاستعمال وحدة العلم والمعلوم حقيقة وإن اختلفا بالاعتبار. وبالجملة: حيث
إن الغرض من العلم لا يترتب إلا على العلم بالقواعد ومسائله، لا على نفسها بوجودها
الواقعي، أخذ العلم في تعريفه. المقرر
4 - بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 295 سطر 16.
5 - انظر فرائد الأصول: 320 سطر 5.
6 - بحر الفوائد (مبحث الاستصحاب): 9 سطر 11، نهاية الأفكار 4: 7.
61

يضمن بفاسده» وعكسها (1)، فإنها إذا القيت إلى غير المجتهد، لا يمكن أن يستفيد منهما
أن صحيح أي معاملة يقتضي الضمان; حتى يحكم بأن فاسده أيضا يقتضي الضمان، أو أن
صحيح أي معاملة لا يقتضي الضمان; حتى يحكم بأن فاسده لا يقتضي الضمان.
ومثل قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، فإن إجراء قاعدة الطهارة - مثلا -
في المتولد من الكلب والشاة إذا لم يمكن إلحاقه بأحدهما يتوقف على عدم ورود دليل
من الشارع عليه، ولا سبيل لغير المجتهد في ذلك.
ومثل إعمال قاعدة نفوذ الصلح أو الشرط، فإنهما فيما إذا لم يكن الصلح أو
الشرط مخالفا للكتاب أو السنة... إلى غير ذلك من القواعد التي لاحظ للمقلد فيها.
وبالجملة: هذه المسائل قواعد فقهية، ومقتضى الضابط الذي أفاده (قدس سره) دخولها
في المسائل الأصولية.
ولأجل المناقشة في تعريف المشهور (2) وما أفاده الشيخ (قدس سره)، قال المحقق
الخراساني (قدس سره):
الأولى تعريفه: بأنه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق
استنباط الأحكام أو التي ينتهى إليها في مقام العمل (3).
ولعل التعبير بالصناعة للإشارة إلى أن أصول الفقه علم آلي بالنسبة إلى علم
الفقه، كالمنطق بالنسبة إلى العلوم العقلية.
وهذا التعريف وإن كان سليما من بعض ما يرد على تعريف المشهور، وعلى

1 - اشتهر بينهم أن قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» (أ) عكس قاعدة «ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده»، مع أنه لم تكن عكسها، بل شبيهة بنقيضها فتدبر. المقرر.
2 - زبدة الأصول: 80، قوانين الأصول: 5 سطر 4.
3 - كفاية الأصول: 23.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - المكاسب: 101 سطر 31، منية الطالب 1: 118 سطر 10.
62

ضابط الشيخ (قدس سره)، إلا أنه مع ذلك أسوأ تعاريف القوم; وذلك لأن كل علم عبارة عن
عدة قضايا متشتتة متجانسة، يناسب بعضها بعضا في جهة من الجهات، واختلفوا في
أن العلم: إما نفس مسائل العلم فقط (1)، أو هي مع المبادئ (2)، وأما كون العلم هو
المبادئ فقط فلم يقل به أحد.
ولازم هذا التعريف: أن ما يعرف به القواعد الكذائية مسائل أصولية، لا نفس
تلك القواعد، مع أن قاعدة الاستصحاب - مثلا - مسألة أصولية، لا دليل اعتبارها.
وبالجملة: تعريفه لا ينطبق إلا على المبادئ; لأنها التي يعرف بها القواعد التي
يمكن أن تقع في طريق الاستنباط، هذا أولا.
وثانيا: أنه لم يقيد الأحكام بالشرعية، فيشمل المسائل النجومية والطبية;
حيث يستنبط منهما أحكام نجومية وطبية، وكذا قوله في ذيل التعريف: «في مقام
العمل» فإنه يشمل المسائل الطبية; لأنها أيضا ينتهى إليها في مقام العمل.
والقول: بأن اللام للعهد، وهو الأحكام الشرعية (3)، غير مسموع; لما أشرنا:
من أنه لابد وأن تكون جامعية التعريف للأفراد ومانعيته للأغيار بظاهر التعريف،
لا بمراد المعرف فتدبر.
وثالثا: أنه ينتقض ببعض القواعد الفقهية، فإنه يستنبط منه أحكام شرعية،
كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، وقاعدة «ما لا يضمن بصحيحه
لا يضمن بفاسده»، فإنه يستفاد منهما قواعد كلية، مثل: أن البيع يضمن بصحيحه
فيضمن بفاسده، وأن الصلح يضمن بصحيحه فيضمن بفاسده، وأن العارية لا تضمن
بصحيحها فلا تضمن بفاسدها إلى غير ذلك من القواعد الكلية.

1 - شرح الشمسية: 13 سطر 6 - 7.
2 - شروح الشمسية 2: 251.
3 - حقائق الأصول 1: 16.
63

ورابعا: أنه لم يقيد الأحكام بالكلية، فتشمل القاعدة الفقهية، التي يستنبط
منها أحكام جزئية.
والقول: بأن اللام فيها للعهد، وهو الأحكام الكلية غير مسموع; لما أشرنا
إليه: من أنه لابد وأن تؤخذ في ظاهر التعريف.
قال المحقق النائيني (قدس سره): ينبغي تعريف علم الأصول: بأنه العلم بالكبريات التي
لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم كلي (1).
ولا يخفى أن هذا التعريف هو تعريف المشهور، لكنه بعبارة أخرى; حيث بدل
القواعد بالكبريات، والاستنباط بالاستنتاج، فما كان يرد على تعريف المشهور: من
خروج الظن على الحكومة، وخروج الأصول العملية في الشبهات الحكمية عن
المسائل الأصولية، يتوجه على هذا التعريف أيضا، كما يتوجه على هذا التعريف أيضا
ما أورد على تعريف المشهور: بأن علم الأصول نفس الكبريات لا العلم بها (2).
ويتوجه على هذا التعريف دخول بعض القواعد الفقهية في المسائل الأصولية
كقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، وعكسها.
والعجب منه (قدس سره) كيف عرفه بذلك، مع أن إشكال المحقق الخراساني (قدس سره) على
تعريف المشهور (3)، كان بمرأى منه ومسمع؟!
وقال (قدس سره) - في أوائل الاستصحاب - في الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة
الفقهية كلاما لا يخلو عن غرابة، فليراجع (4).

1 - فوائد الأصول 1: 29.
2 - نهاية الأفكار 1: 19، حقائق الأصول 1: 15.
3 - كفاية الأصول: 23 - 24.
4 - قلت: وإليك حاصل ما أفاده (قدس سره) هناك في الفرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية: وهو
أن المسألة الأصولية هي ما تقع كبرى لقياس استنباط الحكم الشرعي الكلي - سواء كان
واقعيا أو ظاهريا - ولا يتعلق بعمل آحاد المكلفين ابتداء إلا بعد تطبيق النتيجة على الموارد
الخاصة الجزئية.
وأما القاعدة الفقهية فهي وإن تقع كبرى لقياس الاستنباط، إلا أن النتيجة فيها إنما تكون
جزئية; تتعلق بعمل آحاد المكلفين بلا واسطة; أي لا تحتاج في تعلقها بالعمل إلى مؤنة
أخرى، كما هو الشأن في نتيجة المسألة الأصولية (أ). انتهى كلامه ملخصا.
ولعل وجه الغرابة هو ما تقدم: من أن بعض المسائل الفقهية لم يكن وظيفة للمكلف في
مقام العمل، كمسألة طهارة الماء والأرض، ونجاسة الكلب والخنزير، ومسألة الضمان
والنصاب... إلى غير ذلك من الأحكام الكلية الإلهية التي لم تكن من وظائف المكلف في
مقام العمل.
وما تقدم من أن قاعدة «ما يضمن» وعكسها قاعدة فقهية، ولو انضم صغراهما إليهما
لاستفيد منه الحكم الكلي.
وقد ذكر (قدس سره) هناك في آخر كلامه - في الفرق بين المسألتين - ما يرجع إلى ما حكيناه عن
الشيخ (قدس سره)، فقال: إن نتيجة المسألة الأصولية إنما تنفع المجتهد، ولا حظ للمقلد فيها، ومن هنا
ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة، وأما النتيجة في القاعدة الفقهية فهي تنفع المقلد،
ويجوز للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة، ويكون أمر تطبيقها بيد المقلد (ب). فيتوجه عليه ما
يرد على مقال الشيخ (قدس سره)، فلاحظ. المقرر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - فوائد الأصول 4: 308 - 310.
ب - نفس المصدر السابق.
64

وقال المحقق العراقي (قدس سره) - على ما في «بدائع الأفكار» -: الأجود أن يقال في
تعريف علم الأصول: إنه هي القواعد التي يمكن أن تقع في طريق تحصيل وظيفة كلية
للمكلف في مقام العمل، فكل مسألة يمكن أن تجعل نتيجتها كبرى قياس تستكشف
بها وظيفة كلية للمكلف في مقام العمل، فهي مسألة أصولية، ولا فرق في ذلك بين كون
الوظيفة المستكشفة حكما واقعيا، كما هو مفاد الأمارات بناء على تتميم الكشف، أو
حكما ظاهريا، كما هو مفادها بناء على تنزيل المؤدى منزلة الواقع، أم وظيفة للمتحير
بما هو متحير، كما هو نتيجة الأصول العملية الشرعية، أم حكما عقليا، كما هو نتيجة
65

الأصول العملية العقلية (1) انتهى.
وفيه أولا: أنه - كما أشرنا غير مرة - أن بعض المسائل الفقهية لم تكن وظيفة
للمكلف في مقام العمل، كمسألة طهارة الماء أو الشمس أو الأرض... وهكذا، ومسألة
نجاسة الكلب أو الخنزير أو الكافر... وهكذا، ومسألة الضمان أو النصاب أو الخمس...
إلى غير ذلك، فإن هذه المسائل ونحوها وإن كانت أحكاما كلية إلهية، إلا أنها لم تكن
من وظائف المكلف في مقام العمل.
إن قلت: إن تلك الأحكام بلحاظ عمل المكلف، فتنتهي - بالأخرة - إلى عمل
المكلف.
قلت: فرق بين أن تكون نفس نتيجة المسألة عملا للمكلف، وبين أن ينتهي
بالأخرة إلى عمله، والمراد الأول لا الثاني، وإلا يلزم أن تكون المسائل الرجالية
وغيرها - بلحاظ انتهائها إلى عمل المكلف - مسائل فقهية، فعلى هذا يكون مقتضى
ما أفاده (قدس سره): أنه كل ما يقع في طريق تحصيل تلك الأحكام، يلزم أن لا يكون مسألة
أصولية، وهو كما ترى.
وثانيا: أنه لم يقيد الوظيفة في تعريفه بالكلية، مع أنه لو انتهينا بمسألة إلى
الحكم الجزئي الذي يكون وظيفة للمكلف لا يكون محصله مسألة أصولية، وهو ظاهر.
وثالثا: أن ظاهر قوله: يمكن أن يقع في طريق تحصيل وظيفة كلية... إلى آخره،
يعطي أن لنا طريقا وذا الطريق، وذلك واضح في مثل خبر الواحد بالنسبة إلى وجوب
صلاة الجمعة فعلا، فإنه طريق إلى استكشاف الحكم الشرعي، وواضح أن وجوب
صلاة الجمعة المثبت بخبر الواحد غير الخبر الواحد، ولم يكن من مصاديقه بل خبر
الواحد طريق إلى كشفه.

1 - بدائع الأفكار 1: 24.
66

والاستصحاب أيضا مثل خبر الواحد، مع خفاء فيه، فإن المتيقن بطهارة ثوبه
سابقا، الشاك في بقائه لاحقا - مثلا - لم يكن من المصاديق الحقيقية ل‍ (لا تنقض اليقين
بالشك) (1)، بل (لا تنقض...) إلى آخره، طريق إلى إثباته.
وأما البراءة الشرعية - مثلا - فلم تكن طريقا لاستكشاف حكم شرعي آخر،
بل هي نفس الحكم المتعلق بموضوع المتحير.
وبالجملة: فرق بين خبر الواحد والبراءة، فالأول طريق إلى إثبات حكم
لموضوع، بخلاف الثاني، فإنه يثبت البراءة على عنوان المتحير بما هو متحير،
والشخص الشاك من مصاديقه، فعلى هذا يلزم خروج مثل البراءة عن مسائل علم
الأصول على مقياسه; لعدم كونها طريقا لاستكشاف الحكم الشرعي لموضوع، بل
هي نفس الحكم الشرعي، فتدبر.
ورابعا: أنه كما يظهر من جوابه عن الإشكال الثاني (2) - الوارد على مقياس
المسألة الأصولية، كما سنشير إليه -: أن المسألة الأصولية عنده لابد وأن تكون مطردة
في جميع أبواب الفقه، بخلاف المسألة الفقهية، فإنها مخصوصة بكتاب أو باب دون
كتاب أو باب آخر، وذلك مثل قاعدة الطهارة، فإنها مخصوصة بكتاب الطهارة وقاعدة
لا تعاد...، فإنها مخصوصة بالصلاة... وهكذا، فعلى هذا لابد وأن يأخذ في تعريف علم
الأصول، وقوعها في جميع أبواب الفقه، وإلا تدخل جملة من القواعد الفقهية في
المسائل الأصولية.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) - بعد ما ذكر مقياسا للمسألة الأصولية - قال: إن هنا
إشكالين مشهورين على مقياس المسألة الأصولية:

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء،
الباب 4، حديث 1.
2 - بدائع الأفكار 1: 26.
67

وحاصل ما ذكره في الإشكال الأول: هو أن المراد بوقوع نتيجة المسألة
الأصولية في طريق استكشاف وظيفة عملية للمكلف، إن كان وقوعها كذلك
بلا واسطة فيلزم خروج مباحث الألفاظ عن علم الأصول; لأن نتيجة تلك المباحث
هو تعيين ظهور الألفاظ فيما يذكر لها من المعاني، فتجعل هذه النتيجة صغرى لكبرى
حجية الظهور المبحوث عنها في الأصول العقلية، ونتيجة القياس المركب منهما تقع
كبرى قياس يستكشف بها وظيفة المكلف، وإن كان المراد وقوعها كذلك ولو مع
الواسطة، يلزم دخول ماله دخل - ولو بعيدا - في الإستشكاف الكذائي، كالعلوم
الأدبية في علم الأصول (1).
فأجاب عن الإشكال بما حاصله: أ نا نختار الثاني، ولا يلزم أن يكون التعريف
غير مانع للأغيار; لأن المسألة الأصولية: هي التي يكون لها دخل في استكشاف أصل
الوظيفة العملية، أو مقدارها، وكيفية تعلقها بفعل المكلف.
وما توهم دخوله (2) أما لا يرجع إلى استكشاف الوظيفة وموضوعها أصلا،
مثل رفع الفاعل ونصب المفعول، وكون «الياء» إذا تحركت وانفتح ما قبلها قلبت
«ألفا»... وهكذا; إذ يكون لتشخيص موضوع الوظيفة فقط، كعلم الرجال واللغة;
حيث إن في الأول يبحث عن تشخيص المفاهيم، ومنها موضوعات بعض الأحكام
الشرعية، كالصعيد الذي هو موضوع التيمم.
وفرق واضح بين علم الرجال واللغة وبعض مباحث مقدمة علم الأصول،
كمبحث المشتق والصحيح والأعم، وبين مباحث المفاهيم والعموم والخصوص
والمطلق والمقيد، وخروج علم الرجال وما بعده عن الأصول لا يلازم خروج
مباحث المفاهيم وما بعدها عنه; لأن هذه المباحث مما يستكشف بها مقدار الوظيفة

1 - نفس المصدر 1: 25.
2 - ضوابط الأصول: 8 سطر 37.
68

العملية وكيفية تعلقها بفعل المكلف، والبحث عنهما من المباحث الأصولية، بخلاف
غيرهما من علم الرجال وما بعده، فإن تلك متمحضة للبحث عن تشخيص الموضوع،
كما لا يخفى (1).
أقول: ليت شعري أي فرق بين البحث عن كون الصعيد - مثلا - مطلق وجه
الأرض أو التراب الخالص، وبين دلالة الألف واللام على الاستغراق - مثلا - فكما
أنه لا يستكشف من البحث في مسألة الصعيد وظيفة عملية بلا واسطة، وإنما يستفاد
منها وظيفة عملية مع الواسطة، فكذلك لا يستفاد من دلالة الألف واللام على
الاستغراق، فإن كانت المسألة الأصولية لابد وأن تقع في طريق استكشاف الوظيفة
بلا واسطة، لزم خروج المسألتين عن علم الأصول، وإن كانت مطلق ما يقع في
طريق الاستكشاف ولو مع الواسطة لزم دخول المسألتين في علم الأصول، فإنه كما
يستفاد من دلالة الألف واللام على الاستغراق، مقدار الوظيفة وكيفية تعلقها بفعل
المكلف، فكذلك يستفاد من مسألة كون الصعيد مطلق وجه الأرض أو التراب
الخالص ذلك، فتدبر.
وأما ما ذكره في الإشكال الثاني: من أنه قد ينتقض مقياس المسألة الأصولية
بجملة من القواعد الفقهية، مثل قاعدتي ما يضمن بصحيحه وما لا يضمن، وقاعدة
الطهارة، وقاعدتي لا ضرر ولا حرج... إلى غير ذلك; إذ كل واحد من هذه القواعد
مما يمكن أن تقع في طريق استكشاف الوظيفة العملية (2).
فأجاب عنه بما محصله: أن نتيجة كل مسألة لابد وأن تكون مستعدة بذاتها لأن
تقع في طريق استكشاف كل وظيفة عملية من أي باب من أبواب الفقه، كخبر
الواحد، فإنه يمكن أن يستند إليه في استنباط الحكم الشرعي في أي باب من أبواب

1 - بدائع الأفكار 1: 25 - 26.
2 - انظر المصدر السابق 1: 26.
69

الفقه، وتلك القواعد لا تكون بهذه المثابة، بل كل واحدة منها مختصة بباب من أبواب
الفقه لا تتجاوزه إلى غيره، كقاعدة الطهارة; فإنها مختصة بباب الطهارة، ولا يمكن أن
يستفاد منها في باب الصلاة... وهكذا غيرها من القواعد.
وتوهم: أن هذا إنما يتم في غير قاعدتي الضرر والحرج، وأما هما فيمكن أن
تقعا في طريق استكشاف أي وظيفة عملية تفرض في أي باب من أبواب الفقه، فيلزم
أن تكونا من المسائل الأصولية.
مدفوع: بأنهما لا تقعان إلا لتشخيص الحكم الجزئي منهما، ولا يقع شيء منهما
في طريق استكشاف الوظيفة الكلية، كما هو شأن المسألة الأصولية.
نعم في موردين يستند إليهما في تحديد الحكم الكلي: وهما مسألة لزوم الفحص
عن دليل الحكم للرجوع إلى الأصول العملية، ومسألة الانسداد، فإنه يحدد بهما الحكم
الكلي من وجوب الفحص ولزوم الاحتياط، وأما في غير تينك المسألتين فإنما يحدد
بهما الحكم الجزئي في مورده (1).
وفيه: أن الضابط الذي ذكره إنما ينطبق على بعض المسائل الأصولية; لأن جملة
من المسائل الأصولية لم تكن بتلك المثابة، مثل مسألة أن النهي في العبادة موجب
لفسادها أم لا؟ مسألة أصولية، مع أنها لا تقع في غير باب العبادات، وكذا مسألة أن
الأمر بشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا؟ مسألة أصولية، مع أنها لا تجري فيما إذا
كان هناك نهي، ومسألة اجتماع الأمر والنهي مسألة أصولية، ولا تجري في باب
الضمانات والديات، ومسألة مقدمة الواجب لا تجري فيما لم يكن هناك أمر، أو كان
هناك أحكام وضعية، مثل كتاب الإرث إلى غير ذلك، فالفرق بين المسألة الأصولية
والقاعدة الفقهية بما ذكره لا يرجع إلى محصل (2).

1 - المصدر السابق 1: 26 - 27.
2 - قلت: المراد بوقوع مسألة في جميع أبواب الفقه هو صلاحيتها وشأنيتها لجريانها فيها.
وبعبارة أخرى: مصاديقها لم تكن منحصرة ومخصوصة بباب من أبواب الفقه، مثلا: مسألة مقدمة
الواجب لم تختص بباب دون باب، فكما تجري في كتاب الطهارة تجري في كتاب الصلاة،
وكما تجري فيهما تجري في كتاب الصوم وهكذا.
وبالجملة: تجري مسألة مقدمة الواجب في جميع أبواب الفقه، ولكن فيما إذا كان هناك
أمر، وإلا فلازم ما أفاده - دام ظله - أن لا توجد مسألة أصولية; ضرورة أن الخبر الواحد مما
تسالموا على كونه مسألة أصولية، ومع ذلك لا يجري في مورد ثبت حكمه بالكتاب أو
الإجماع أو دليل العقل، والضابط في جريان مسألة في أبواب الفقه هو ما ذكرنا. المقرر
70

وأما ما ذكره في جواب إشكال دخول قاعدتي الضرر والحرج في المسألة
الأصولية، ففيه: أنه ليته عكس الأمر فقال: إن في غير تينك المسألتين يحدد الحكم
الشرعي والوظيفة الكلية الإلهية أحيانا، وأما في ذينك الأمرين فلم يحدد الحكم
الشرعي والوظيفة الإلهية، وإنما حدد حكم العقل فقط، فتدبر.
تعريف سماحة الأستاذ - دام ظله - لعلم الأصول
هذا ما وصل إلينا من كلمات القوم في تعريف علم الأصول، والضوابط التي
ذكروها في تمييز المسائل الأصولية عن غيرها، وقد عرفت عدم اطرادها أو عدم
انعكاسها، فحان التنبه إلى تعريف علم الأصول مما لعله يخلو عن المناقشة، أو تقل
المناقشة فيه، فنقول:
الأولى تعريف علم الأصول: بأنه القواعد الآلية التي يمكن أن تقع في كبرى
استنتاج الأحكام الكلية الفرعية الإلهية أو الوظيفة العملية.
وهذا التعريف كأنه تعريف جامع مانع; لا يشذ عنه ما يكون داخلا في حقيقة
المسألة الأصولية، ولا يدخل فيه ما يكون خارجا عنها.
وكيف كان، القواعد بمنزلة الجنس، وسائر الأمور المأخوذة في التعريف بمنزلة
الفصول قيود التعريف.
71

والمراد بالقواعد الآلية: هي القواعد التي لا يبحث فيها لأجل أنفسها،
ولا يكون النظر فيها استقلاليا، بل يبحث فيها للغير، ويكون منظورا بها، لا منظورا
فيها، فيخرج القواعد الفقهية; لأنه ينظر فيها استقلالا، لا آلة لملاحظة غيرها، فقواعد
العسر والحرج والضرر - مثلا - قواعد فقهية; لأنها مقيدات للأحكام الأولية على
نحو الحكومة، وكل ما يقيد الأحكام الأولية - تضييقا أو توسعة ولو في مقام الظاهر -
لا يكون مسألة أصولية، وكذا قاعدتا ما يضمن ونقيضها - بناء على ثبوتهما - حكمان
فرعيان إلهيان منظور فيهما.
وتقييد القواعد بإمكان وقوعها كبرى الاستنتاج، لإدخال مباحث القياس
والإجماع المنقول والشهرة وغيرها في المسائل الأصولية، مع أنها لعدم اعتبارها لم
تقع فعلا في كبرى الاستنتاج.
وخرج بوقوعها كبرى الاستنتاج مسائل سائر العلوم، فإنها لا تقع إلا صغرى
القياس، كما لا يخفى.
ولم تقيد الأحكام بالعملية لعدم اختصاص الأحكام بها، كالأحكام الوضعية
وجملة من مباحث الطهارة كطهارة الماء أو الشمس ونجاسة الأشياء النجسة ذاتا (1).
وتقييد الأحكام بالفرعية لإخراج الأحكام الشرعية العقلية، كمسألة وجوب
المعاد.
وإضافة الوظيفة لإدخال مثل الظن على الحكومة، وعدم الاكتفاء بوقوعها
كبرى استنتاج الوظيفة فقط; لعدم كون النتيجة دائما في المسائل الأصولية وظيفة
عملية، كالأحكام الوضعية، وجملة من مباحث الطهارة والنجاسات.

1 - لعل تقييد الأحكام بالكلية في التعريف مستدرك، لأن ذكرها إما لإخراج المسائل الفقهية،
أو لإخراج سائر العلوم، والأولى خرجت بتقييد القواعد بالآلية، والثانية خرجت لكونها كبرى
الاستنتاج فتدبر. المقرر
72

إن قلت: إنها بالأخرة تنتهي إلى الوظيفة العملية، فيشملها التعريف.
قلنا: انتهاؤها إلى الوظيفة غير كونها نفس الوظيفة.
ولا غرو في خروج بعض الأصول العملية، كأصالة الحل ونحوها من مسائل
علم الأصول، ولا تستوحش منه; لأنه فرق بينها وبين أصالة البراءة في الشبهة
الحكمية بقسميها - العقلية والشرعية - فإن أصالة الحل مسألة فقهية، وأصالة البراءة
مسألة أصولية; وذلك لأن مدرك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان، ومعناه أنه
في صورة الشك في التكليف لم تكن للمولى حجة عليك، وأنت في سعة من ذلك،
وتقبح مؤاخذته عليك، ولا حكم للعقل بانتفاء الحكم هناك في الواقع.
ولا يبعد أن تكون أدلة اعتبار البراءة شرعا هو هذا المعنى أيضا، فكأنها إرشاد
إلى حكم العقل، كقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (1)، وقول
الصادق (عليه السلام): (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (2)، وقوله (عليه السلام):
(الناس في سعة ما لا يعلمون) (3)، وحديث الرفع لو كان مفاده رفع المؤاخذة، وإلا فإن
كان مفاده رفع الجزئية أو الشرطية أو المانعية، يكون مفاده مسألة فقهية.
وتعرض الشيخ الأعظم (قدس سره) لحديث الرفع في «الفرائد» (4) بلحاظ أنه فهم منه

1 - الطلاق: 7.
2 - التوحيد: 413 باب 64 في التعريف والبيان، وسائل الشيعة 18: 119، كتاب القضاء، أبواب
صفات القاضي، الباب 12، الحديث 28.
3 - الكافي 6: 297 / 2 باب نوادر، وسائل الشيعة 16: 373، كتاب الصيد والذبائح، أبواب
الذبائح، الباب 38، الحديث 2، وقد وردت في كلا المصدرين هكذا «هم في سعة حتى
يعلموا» لكنه ورد في العوالي ما هو قريب لما في المتن راجع عوالي اللآلي 1: 424 / 109
وفيه «إن الناس في سعة ما لم يعلموا».
4 - فرائد الأصول: 199 سطر 13.
73

رفع المؤاخذة، وإلا فأي فرق بين قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع ما لا يعلمون) (1) ورفع ما اضطروا
عليه مثلا، ولم يشك أحد في كونه مسألة فقهية.
وبالجملة: ماهية البراءة - بقسميها - هي أنه في مورد الشك في التكليف
لم تكن للمولى حجة على العبد، ولا يكون في ارتكابه ضيق وكلفة، لم تكن حقيقة
البراءة جعل حكم ظاهري على عنوان الشك وأما أصالة الحل فماهيتها جعل الحكم
الظاهري، وهو الحلية الظاهرية على عنوان المشكوك.
فظهر الفرق بين أصالة البراءة وأصالة الحل، وحاصله: أنه لم يجعل في أصل
البراءة حكم ظاهري على عنوان المتحير والشاك، وغاية ما هناك أنه في فسحة من
ارتكابه، بخلاف أصالة الحل، فقد جعل فيها الحلية الظاهرية على عنوان المشكوك،
وما يبحث في الأصول عنه أصالة البراءة المقابلة لأصالة الاشتغال، لا أصالة الحل،
ولذا لم يستدل للبراءة بما يستدل به لأصالة الحل، كقوله (عليه السلام): (كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (2) إلا بعضهم (3); أخذا
من الشهيد (قدس سره) في «الذكرى» (4)، وقد أشكل عليه الشيخ الأعظم (قدس سره): بأنه لا يدل على
البراءة، فلاحظ «الفرائد» (5).
فتحصل: أن أصالة البراءة في الشبهات الحكمية مسألة أصولية، يستفاد منها

1 - الكافي 2: 335 / 1 باب ما رفع عن الأمة، التوحيد: 353 / 24 باب 56 في الاستطاعة،
وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56،
الحديث 1.
2 - الكافي 5: 313 / 39 باب النوادر من كتاب المعيشة، وسائل الشيعة 12: 59، كتاب
التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 1.
3 - هذا البعض هو السيد الصدر في شرح الوافية كما صرح بذلك الشيخ في الفرائد: 200.
4 - ذكرى الشيعة: 5 سطر 10.
5 - فرائد الأصول: 200 - 201 السطر الأخير.
74

وظيفة كلية في مقام العمل، وهي أن من شك في حكم، فحيث إنه مما حجب الله علمه
عنه، فهو موضوع عنه، فهو في فسحة من ارتكابه.
وأما أصالة الحل فإنه يستفاد منه حكم ظاهري ووظيفة جزئية; لأنه يقال:
هذا مشكوك الحلية والحرمة، وكل ما شك في حليته فهو حلال، فينتج نتيجة جزئية:
بأن هذا حلال.
ثم إن المباحث الراجعة إلى الأوضاع اللغوية، كدلالة الأمر على الوجوب،
والنهي على الحرمة، ودلالة أداة العموم على معانيها، وأداة الحصر على مدلولها... إلى
غير ذلك، والمباحث الراجعة إلى تشخيص مفاهيم الجمل والألفاظ، ومداليل
المفردات والمركبات، وتشخيص الظهورات... إلى غير ذلك من المباحث المدرجة في
مباحث الألفاظ وغيرها، خارجة عن المسائل الأصولية، وداخلة في علم اللغة
والأدب، كما يظهر ذلك من شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) في باب ما يعمل لتشخيص
الظاهر (1)، فلاحظ.
وإنما يبحث عنها الأصولي لكونها كثيرة الدوران في الفقه، وتسهيلا للأمر على
طلاب الفقه، ولذا ربما لا يقنع الأصولي الفقيه بالبحث عنها في بعض مباحث الفقه،
فكان المناسب للأصولي الذي يريد استنباط الأحكام أن ينقح تلك المباحث العامة في
الأصول ولو لم تكن مسائل أصولية.

1 - درر الفوائد: 368 - 369.
75

الأمر الثاني
في الوضع
والكلام فيه يقع في جهات:
الجهة الأولى: في الواضع
والمحقق النائيني (قدس سره) بعد أن نفى كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع، كما
ينسب (1) إلى عباد بن سليمان، واستحال أن يكون ذلك بالتعهد من شخص واحد
كيعرب بن قحطان أو غيره; لعدم تناهي الألفاظ والمعاني، فيستحيل إحاطة البشر
بها، قال: إن حكمته تعالى لما اقتضت تكلم البشر لإبراز مقاصدهم بالألفاظ، فلابد
من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى، الذي هو على كل شيء قدير وبكل شيء
محيط، ولكن وضعه للألفاظ على معانيها ليس كوضعه تعالى الأحكام على متعلقاتها
وضعا تشريعيا، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا، بل أمرا متوسطا وبرزخا بين
الجعل التشريعي والجعل التكويني.
وبالجملة: لابد من انتهاء دلالة الألفاظ على معانيها إليه تعالى: إما بوحي منه
إلى نبي من الأنبياء، أو بإلهام منه إلى البشر، أو بإيداع ذلك في طباعهم; بحيث أصبحوا

1 - المحصول في علم الأصول 1: 57.
77

يتكلمون ويبرزون مقاصدهم بالألفاظ (1).
وقد أشار إلى وجه آخر في رجوع الوضع إليه تعالى: وهو أن دلالة لفظ خاص
على معنى مخصوص ليس باقتراح صرف وبلا موجب، بل لابد وأن تكون لمناسبة
وحيثية بينهما; حذرا من الترجيح بلا مرجح، ولا يلزم أن تكون تلك الجهة راجعة إلى
ذات اللفظ; حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية، كما ينسب ذلك إلى عباد بن
سليمان، بل لابد وأن تكون جهة اقتضت تأدية معنى الإنسان بلفظ «الإنسان» مثلا،
ومعنى الحيوان بلفظ «الحيوان»، ولا يعلم تلك الجهة إلا الله تعالى، فوضع غيره تعالى
اللفظ لمعنى يوجب الترجيح بلا مرجح، أو ترجيح المرجوح على الراجح (2).
وفيه أولا: أنه لو تم ما ذكره، فإنما هو فيما لو كان واضع جميع الألفاظ
لمعانيها شخصا واحدا في برهة محدودة من الزمان، ولكن التأمل الصادق يفيد عدم
كون واضع ألفاظ كل لغة شخصا واحدا، بل أشخاصا ورجالا كثيرة; وذلك لأن
الناس في بدء حياتهم كانوا يسكنون البوادي والصحاري وكانوا في غاية البساطة من
حيث الحياة والمعيشة والروابط الاجتماعية، وبحسبها كان احتياجهم إلى إبراز
مقاصدهم محدودا محصورا; ولذا ترى أن معرفة البدوي باللغات أقل من القروي،
والقروي أقل ممن يسكن البلدان، والساكنين في البلاد الصغيرة أقل من ساكني البلاد
الكبيرة، وهكذا... وليس ذلك إلا لقلة الاحتياج وكثرته، فكلما تشعبت وانبسطت
طلبات البشر وحوائجهم في طي القرون والأعصار كثرت الأوضاع واللغات، وكلما
اتسع التمدن البشري، وتكامل في أطواره وشؤونه - مدى الأعوام والقرون - تكاملت
واتسعت لغاته.
وبالجملة: كلما كثرت حوائج البشر، وتنامت أفراده بمرور الزمان، وتنوعت

1 - فوائد الأصول 1: 30.
2 - انظر المصدر السابق 1: 30 - 31.
78

مصنوعاته ومخترعاته، كثرت لغاته; وذلك لما نرى بالعيان في عصرنا الحاضر من
كثرة الاختراعات الجوية والبحرية والبرية بعرضها العريض بحيث لم ينقدح في ذهن
من كان في القرن السابق، فضلا عن القرون السابقة; وطبعا وضعت لتلك المخترعات
ألفاظا، ومن الواضح أن الواضع لها لم يكن شخصا واحدا، بل أشخاصا متعددة
يضعون الألفاظ لها بحسب المناسبات، مثلا من يخترع شيئا يضع اسمه أو اسم من يحبه
مثلا، ومن أ لف كتابا يسميه بأي اسم شاء، ومن أحدث شارعا أو سوقا أو حيا
يسميها بما يريد، ومن يولد له ولد فيضع له اسما يحبه... إلى غير ذلك.
وهكذا كان حال البشر في القرون السابقة، خصوصا في حياته الأولى
الساذجة التي كانت حوائجه فيها قليلة وارتباطاته يسيرة; لذا كانت الألفاظ التي
يحتاجها في استعمالاته قليلة جدا، يمكن أن يضعها شخص واحد.
ولكن مع ذلك يمكن أن يقال: إن في العصر الحجري أيضا لم يكن واضع
الألفاظ المتداولة بينهم شخصا واحدا، بل أشخاصا ورجالا متعددين حسب
احتياجاتهم.
وثانيا: أن لازم ما ذكره - من عدم تناهي الألفاظ والمعاني - هو أن يكون
وحيه تعالى للنبي أمورا غير متناهية، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبلغ أمور غير متناهية إلى
البشر، وهو كما ترى.
وثالثا: أن لازم وجود المناسبة بين الألفاظ ومعانيها، يقتضي التركيب في ذاته
المقدسة البسيطة من جميع الجهات، التي لا تشوبها شائبة التركيب أصلا، فإن له تعالى
الأسماء الحسنى، فإن كان لكل من أسمائه الحسنى رابطة ومناسبة بين اللفظ والمعنى،
يلزم تحقق الجهات المختلفة في ذاته المقدسة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ورابعا: أنه يتوجه على الوجه الآخر الذي ذكره: بأن غاية ما تقتضيه هي
لزوم خصوصية ومناسبة في البين، ولا يلزم أن تكون الخصوصية في ذاتي اللفظ
79

والمعنى، فقد تحصل بأمور أخر، كسهولة أداء وحسن تركيب... إلى غير ذلك.
الجهة الثانية
في حقيقة الوضع
قد ظهر لك في الجهة السابقة: أنه لم يكن بين اللفظ والمعنى قبل الوضع رابطة
وخصوصية، فهل تكون بعد الوضع رابطة واقعية بينهما; بحيث تتحقق بينهما ملازمة
واقعية، نظير لازم الماهية; بحيث لا يكون بينها وبين لازم الماهية فرق، إلا من جهة أن
لازم الماهية ذاتي، وما بين اللفظ ومعناه جعلي، أو لا تكون بعد الوضع أيضا رابطة
وخصوصية بينهما، ولا يمس الوضع كرامة الواقع؟ وجهان، بل قولان.
يظهر من المحقق العراقي (قدس سره): أنه يتحقق الربط بين اللفظ والمعنى بعد الوضع له،
أو بعد كثرة الاستعمال الموجبة له، نحو تحقق الملازمة بين الماهيتين المتلازمتين وإن
لم يوجد شيء منهما في الخارج، كالحرارة اللازمة لماهية النار في الواقع وإن لم توجد في
الخارج نار، والزوجية اللازمة لماهية الأربعة، فكما أن العاقل إذا تصور النار والحرارة
أو الزوجية والأربعة، حكم بالملازمة بينهما فعلا وإن جزم فعلا بعدمهما في الخارج،
فكذلك الربط الوضعي بين اللفظ والمعنى في ذهن العالم بالوضع، فإن الملتفت إلى
الوضع يحكم فعلا بهذه الملازمة عند تصور اللفظ والمعنى وإن لم يوجد لفظ في
الخارج، غاية الأمر أن الملازمة الأولى ذاتية، والملازمة الوضعية جعلية، وجعليتها
لا تنافي تحققها في لوح الواقع، كما أن جميع العلوم المخترعة - بعد جعلها واختراعها -
كذلك وإن لم يوجد في الخارج من يعلم شيئا منها; لأن نظر من يحيط بها علما
- أو بشيء منها - طريق إليه، لا محقق وجاعل له بعد أن لم يكن.
وبهذا ظهر لك: أن الربط الوضعي بعد جعله ليس من منشآت نفس العالم به،
ومن علومها الفعلية التي لا يكون لها تحقق أصلا قبل إنشاء النفس إياها، كأنياب
80

الغول، أو يكون لها منشأ انتزاع، ولكن ليس لها وجود تفصيلا، كالأجناس والفصول.
وبالجملة: وزان الملازمة الوضعية بعد الجعل وزان لوازم الطبيعة، فما يجري فيها
يجري في الملازمة الوضعية أيضا (1).
وفيه أولا: أنه اشتبه عليه (قدس سره) لوازم الوجود بلوازم الماهية; لأن الحرارة من
لوازم وجود النار خارجا، لا من لوازم ماهيته، وإلا يلزم أن توجد الحرارة في الذهن
عند وجود ماهية النار وتصورها، وهل يعقل أن لا توجد النار في الذهن، ولا في
الخارج، ومع ذلك تكون الحرارة موجودة؟!
ولا يخفى أن هذا مناقشة في المثال.
وثانيا: أن واقعية التلازم بواقعية المتلازمين، فمع عدمهما لا تحقق له.
وبعبارة أخرى: التلازم بين أمرين موجودين، فبانعدام أحد الطرفين كيف يعقل
أن يكون الربط والمعنى الحرفي موجودا؟!
وثالثا: أنه لو كان للتلازم بين الزوجية والأربعة تحقق خارجي، يلزم وجود
أمور غير متناهية مترتب بعضها على بعض في الخارج; بداهة أن لكل عدد من
الأعداد - من حيث إضافة الصحاح عليه ونقص الكسور منه - مراتب غير متناهية;
ضرورة أن لكل عدد نصفا، ولنصفه نصفا... وهكذا، ولكل عدد مرتبة فوقه، وفوقها
مرتبة... إلى غير النهاية، فلو كانت لهذه الملازمات واقعيات وتحقق في الخارج فعلا،
للزم تحقق أعداد غير متناهية - من حيث الكسر والصحاح - في الخارج، وبرهان
إبطال التسلسل يبطله (2).
والحق: أن الملازمة موجودة بتصور الأربعة مثلا، وبمجرد قطع التصور عنها
تنعدم، وكذلك الحال في الأمور الاعتبارية كالعلوم، فإنه إذا انقرض البشر، وانعدمت

1 - بدائع الأفكار 1: 29.
2 - الحكمة المتعالية 2: 144 - 167.
81

الكتب، لا تكون لها واقعية خارجية.
وبالجملة: العلوم وسائر الأمور الاعتبارية، لم يكن لها وجود وتحقق إلا في
الأذهان والكتب، وبعد انعدامهما لا يبقى لها وجود في الخارج.
فظهر: أن الأمر في المقيس عليه من كلامه (قدس سره) لا يتم فما ظنك في المقيس، فتدبر.
ورابعا: أنه لو سلم أن الأمر في الماهيات ولوازمها هو ما ذكره، لكن لا يتم فيما
نحن فيه; ضرورة أن وضع لفظ لمعنى لا يوجب له خاصية واقعية بحيث لا يمكن رفعها،
ولا يتصرف الجعل في الواقع; بحيث توجد خاصية واقعية لم تكن قبل الوضع، ولعل
إنكاره كاد أن يكون إنكارا للضروري، فهل لا يمكن تغيير الرجل اسمه مثلا، أو اسم
من يتعلق به بنحو من الأنحاء؟! وبعد تغييره هل يكون ذلك تصرفا في التكوين
والواقع؟! حاشا ثم حاشا.
وخامسا: أنه لو كان الأمر كما ذكره: من أن الوضع: عبارة عن جعل رابطة
واقعية بين اللفظ والمعنى، فيلزم أن يكون الواجب تعالى محلا للحوادث، وذاته
المقدسة منفعلة من وضع الألفاظ لذاته، (ولله الأسماء الحسنى) (1)، فالواضع
متصرف في ذاته المقدسة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وسادسا: أنه لو كانت الرابطة بين اللفظ والمعنى موجودة، فلابد وأن تكون: إما
في الأذهان أو في الكتب، ولم يكن لنا شيء ثالث في الخارج، حتى نسميه بلوح الواقع،
فحديث لوح الواقع لا محصل له.
ثم إن ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره): من أن الوضع نحو اختصاص للفظ
بالمعنى وارتباط خاص بينهما (2).
غير وجيه; لأن هذا الارتباط والاختصاص أمر مترتب على الوضع وأثر له،

1 - الأعراف: 180.
2 - كفاية الأصول: 24.
82

لا الوضع نفسه (1).
ثم إن شيخنا العلامة الحائري - وفاقا للمحقق الرشتي (قدس سرهما) (2) - قال: إن الألفاظ
ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النظر عن الوضع، وبه يوجد نحو ارتباط بينهما،
ولا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين اللذين لا علاقة بينهما أصلا، وإنما المعقول تعهد
الواضع والتزامه، بأنه متى أراد معنى وتعقله، وأراد إفهام الغير تكلم بلفظ كذا، فإذا
التفت المخاطب لهذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استعمال ذلك اللفظ فيه،
فالعلاقة بين اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام.
ثم قال (قدس سره): وليكن على ذكر منك، ينفعك في بعض المباحث الآتية إن شاء الله.
انتهى (3).
وفيه أولا: أنه إنما يتم إذا قلنا: بأن الوضع إيجاد علقة تكوينية بين اللفظ
والمعنى، وقد عرفت خلافه; لأن الحق - كما سنشير إليه - أن الوضع: عبارة عن
جعل لفظ علامة للمعنى، فكثيرا ما لا تلاحظ بين اللفظ والمعنى مناسبة، فترى أنه
يوضع لفظ «بحر العلوم» - مثلا - لمن لا علم له أصلا، بل جاهل محض، وبعد وضعه
له يتبعه الناس في التسمية، إذا كان للواضع نفوذ وموقعية في الأهل أو المجتمع، وهكذا
ربما يوضع لفظ «علم الهدى» لمن لا موقف له في الهداية، فضلا عن أن يكون علما
لها... وهكذا.
وثانيا: أنه ربما يكون الواضع غافلا عن هذا التعهد والالتزام، ومع ذلك تكون

1 - قلت مضافا إلى ما أفيد: إنه لم يتبين بهذا التعريف ماهية الوضع، بل هو نحو فرار من
تعريفه; بداهة أنه يمكن أن يقال بمثل ما ذكره في تعريف كل مجهول، مثلا يمكن أن يقال:
إن العقل نحو موجود في الخارج، والإنسان نحو موجود كذلك... وهكذا، والتعريف الحقيقي
للوضع عبارة عما يعرف به حقيقة العلقة الحاصلة بين اللفظ ومعناه. المقرر
2 - درر الفوائد: 35.
3 - نفس المصدر.
83

دلالة اللفظ على معناه ثابتة.
وثالثا: أنه ربما يكون الواضع غير المستعمل، بأن يضع اللفظ لمعنى لكي
يستعمله غيره، ولم ينقدح في ذهن المستعمل تعهد الواضع والتزامه، فحديث التعهد
والالتزام كما ترى.
فتحصل: أن القول: بأن الوضع تعهد الواضع والتزامه، كما يراه العلامة الحائري،
وفاقا للمحقق الرشتي (قدس سرهما)، أو القول: بأنه نحو اختصاص اللفظ بالمعنى، كما يراه
المحقق الخراساني (قدس سره)، أو الربط الواقعي بينهما، كما يراه المحقق العراقي (قدس سره)، كلها خارجة
عن حريم وضع الألفاظ لمعانيها، وجل ما ذكر أمور لاحقة للوضع; لأن الوضع - كما
أشرنا - عبارة عن تعيين اللفظ للمعنى وجعله علامة لها; من دون أن يتحقق في
الخارج شيء من ربط وعلاقة واقعية بينهما، بل حال اللفظ والمعنى بعد الوضع حالهما
قبل الوضع، نعم يوجد بينهما ربط اعتباري.
وبالجملة: إذا كان للواضع نحو اختصاص بالموضوع له، كما إذا كان مخترعه أو
مصنفه أو ولده، أو له نفوذ وموقعية في الأهل والمجتمع... إلى غير ذلك من المناسبات،
فإذا وضع لفظ لمعنى يتبعونه في التسمية بتلك اللفظة; من دون أن يتحقق بينهما ربط
واقعي، ولا فرق في ذلك بين الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس.
بقي في المقام شيء - ربما يختلج بالبال، بل ربما قيل -: وهو أنه إذا كانت
حقيقة الوضع علقة اعتبارية، ودائرا مدار الاعتبار، يلزم انعدام هذه العلقة بانعدام
المعتبرين وانقراض الواضعين أو هلاك المستعملين، وهذا مما يأباه العقل السليم
والذوق المستقيم (1).
ولكن يمكن دفعه: بأنه يقبله العقل السليم والذوق المستقيم بلا ريب، بل لابد

1 - مقالات الأصول 1: 14 سطر 20.
84

من الالتزام بذلك; ضرورة أن القوانين والأحكام المجعولة للزواج والملك والأنظمة
وغيرها، باقية ببقاء الاعتبار، فمع انعدام المعتبرين ومناشئ اعتبارها لم يكن لها تحقق،
كما أن اللغات والألسنة المتروكة البائد أهلها منقرضة معدومة، وليس لها أثر في
الخارج والذهن، نعم القوانين العلمية التي لها موازين واقعية كشف عنها العلم، كقانون
الجاذبة وأوزان الأجسام ومسير النور... إلى غير ذلك، لا تنعدم بانعدام المستكشفين،
كما لم يكن وجودها رهن استكشافهم.
وبالجملة: فرق بين مثل قانون الجاذبة وبين الأمور المجعولة، فقانون الجاذبة له
واقع كشف عنه أم لم يكشف، بخلاف المجعولات، كما لا يخفى على الفطن.
ثم إنه بعدما أحطت خبرا بما ذكرنا: من أن الوضع: عبارة عن جعل اللفظ
علامة للمعنى، يظهر لك أنه لا معنى لتقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني (1)، بل له
قسم واحد وهو الذي جعله الواضع علامة; لدوران الوضع مدار الجعل، وهو مفقود
في الوضع التعيني.
نعم، يمكن تقسيم الربط الاعتباري واختصاص اللفظ بالمعنى; لأن الربط
واختصاص اللفظ بالمعنى: تارة يحصل بالوضع والتعيين وأخرى بكثرة الاستعمال
والتعين، فإذا للارتباط والاختصاص سببان: إما الوضع، أو كثرة الاستعمال.
الجهة الثالثة: في أثر الوضع
هل الواضع بوضعه اللفظ للمعنى يوجد صفة حقيقية للفظ، أو أمرا قائما بنفس
اعتبار الواضع، أو شيئا ثالثا متوسطا بينهما؟ وجوه:
قد عرفت في الجهة السابقة: أن الوضع عبارة عن جعل لفظ علامة للمعنى،

1 - بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 38 سطر 20، كفاية الأصول: 24.
85

ومن الواضح أنه لا يحصل للفظ بوضع الواضع صفة حقيقية خارجية له، نظير
عروض اللون للجسم، كما تقدم، كما أنه لا يكون أمرا متقوما باعتبار المعتبر وجودا
وعدما; أي لا يكون الوضع أمرا ذهنيا قائما باعتبار المعتبر فقط; بداهة أنه يلزم على
هذا أن تنعدم صفه اللفظ في صورة غفلة الواضع عن الاعتبار، وفي صورة موته،
والوجدان بخلافه، بل العقلاء يرون في صورة غفلة الواضع أو موته أن اللفظ لفظ
المعنى، والمعنى معنى اللفظ، فكأنهم يرون أنه صفة خارجية له، ولكن لا كعروض
اللون على الجسم، بل بنحو آخر; لأن بالوضع تحصل حالة اعتبارية للفظ، والأمر
الاعتباري أمر متوسط بين اللحاظ الذهني الصرف والصفة الخارجية.
وذلك لأن العقلاء يعتبرون أمورا دارجة بينهم - من غير فرق بين كونهم
منتحلين لنحلة أو شريعة، أو لا - كالملكية، والزوجية، والولاية، والحكومة،
والاعتبارات الدارجة بين أفراد الجيش; من كون بعضهم جنديا، والآخر ضابطا،
وثالث قائدا... إلى غير ذلك، ويرون تلك الأمور أمورا متحققة في الخارج، ولكن في
عالم الاعتبار، ومعنى وجود الشيء اعتبارا أنه قائم بيد من بيده الاعتبار، ويكون
زمام أمره بيده، مثلا: إذا جعل الشارع الفقيه الجامع للشرائط واليا وحاكما، ترى الأمة
الإسلامية أنه له الحكومة والولاية على الناس من قبل الشارع، وترى الولاية
والحكومة أمرا ثابتا له في الخارج والفقيه حاكما، لا بمعنى أن الحكومة أمر واقع
في الخارج، واتصف الفقيه بها واقعا، بل اتصف بالحكومة، والحكومة أمر جعلي
اعتباري له، ومعنى اعتباريتها أنها بيد الشارع، فمتى اعتبرها تكن باقية، ومتى لم
يعتبرها تكن زائلة.
فظهر مما ذكرناه: أن لدينا أمورا ثلاثة:
أحدها: ما يكون له تحقق ووجود في الخارج حقيقة وواقعا، كالأعيان الموجودة
في الخارج.
86

ثانيها: ما لا تحقق له في الخارج أصلا، وإنما هو قائم بنفس اعتبار المعتبر،
كتخيل الأنياب للغول، ونتائج الأقيسة المبتنية على الفرض، أو كون مقدماتها كاذبة.
ثالثها: ما لا يكون له تحقق في الخارج، إلا أنه صفة اعتبارية عند العقلاء، فإذا
الأمر الاعتباري أمر متوسط وبرزخ بين القسمين، ووضع اللفظ للمعنى من هذا
القبيل، فمن كان له نحو اختصاص بالموضوع له إما لكونه مخترعا له أو مصنفا ومؤلفا
لكتاب، أو مؤسسا لأساس، أو له نفوذ وتأثير في المجتمع ونحو ذلك، فله أن يضع لفظا
لمعنى، فبوضعه أوجد حقيقة اعتبارية عقلائية في الخارج، فيتبعونه في التسمية، فكلما
يريدون إحضار ذلك المعنى في ذهن أحد يعبرون عنه بتلك اللفظة.
فظهر: أن الأمر الاعتباري ليس اعتبارا صرفا قائما بنفس المعتبر; حتى ينعدم
بموته، ولا أمرا واقعيا خارجيا، نظير لون الجسم، بل أمرا برزخا بينهما، وهو أمر حقيقي
اعتباري يعتبره العقلاء.
الجهة الرابعة: في أقسام الوضع
قسموا الوضع على حسب التصور إلى أقسام أربعة (1):
الأول: أن يكون الوضع والموضوع له عاما.
والثاني: أن يكون الوضع والموضوع له خاصا.
والثالث: أن يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما.
والرابع: أن يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا.
وهذا اصطلاح منهم، وإلا فلا معنى لكون الوضع عاما حسبما ذكرنا: من أن

1 - هداية المسترشدين: 29 سطر 4، بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 39 سطر 31، كفاية
الأصول: 24.
87

الوضع: عبارة عن جعل اللفظ للمعنى، فإنه يكون جزئيا، نعم كون الموضوع له عاما
لا غبار عليه.
تفسير الأقسام بحسب مذاق القوم:
هو أن الواضع عند وضع اللفظ للمعنى لابد وأن يتصور معنى، فالمعنى المتصور
حال الوضع: إما يكون مفهوما كليا قابلا للصدق على كثيرين، أو جزئيا غير قابل
للصدق عليها.
فعلى الأول: إذا وضع اللفظ لذلك المعنى الكلي فيعبرون عنه بالوضع
والموضوع له العامين، وأما إذا وضع اللفظ لمصاديق ذلك المعنى فعندهم كون الوضع
عاما والموضوع له خاصا.
وعلى الثاني: إما يوضع اللفظ لمعنى جزئي، فيكون الوضع والموضوع له
خاصا، أو يوضع اللفظ للجامع الموجود في هذا الفرد وسائر الأفراد، فيكون الوضع
خاصا والموضوع له عاما.
وكيف كان، تنقيح الكلام فيه يستدعي البحث في مقامين: الأول في إمكان
تصوير الأقسام، والثاني في إثباتها وتحققها في الخارج.
المقام الأول
فوقع الكلام في إمكان تصويرها، فرأى بعضهم إمكان تصويرها جميعا (1)،
ولكن نفى الأكثرون إمكان أن يكون الوضع خاصا والموضوع له عاما، مع إثباتهم
إمكان الصور الثلاث، حتى صورة كون الوضع عاما والموضوع خاصا، زاعمين: أن

1 - بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 40 سطر 17 - 22، درر الفوائد: 36.
88

الفرد ينحل إلى جهة كلية وخصوصيات فردية، فتصوير الجهة الكلية يوجب
تصوير الخاص بوجه، فلحاظ العام بنفسه لحاظ لمصاديقه بوجه، فيصلح تصوير كون
الوضع عاما والموضوع له خاصا، ولكن لا يمكن أن يحكي الخاص بما هو خاص عن
معنى كلي، ولا يصير وجها ومرآة للعام; للتباين بينهما في عالم المفهومية وإن اتحدا
وجودا في الخارج (1).
إن قلت: يمكن لحاظ الخاص بحيثيته الذاتية والجهة الخاصة مع قطع النظر عن
الخصوصيات، فيمكن أن يوضع اللفظ للمعنى العام.
قلنا: على هذا يكون الوضع عاما كالموضوع له، كما لا يخفى.
فظهر: أنه يمكن تصوير كون الوضع عاما والموضوع له خاصا، وأما عكسه
- وهو كون الوضع خاصا والموضوع له عاما - فلا.
وربما أشكل على ذلك بعدم إمكان تصوير كون الوضع عاما والموضوع له
خاصا، كصورة العكس; لأن تصوير العام والجامع بما هو هو لا يكون وجها ومرآة
للخصوصيات الفردية، لأن كل مفهوم لا يحكي إلا عما هو بحذائه، ومفهوم العام يغاير
مفهوم الفرد وإن اتحدا وجودا في الخارج، ولذا لا يمكن أن يكون الخاص بما هو خاص
- ومشوب بالخصوصيات - مرآة للعام، فإن كان تصوير العام مما يوجب الانتقال إلى
الخصوصيات بوجه، ففي صورة العكس أيضا كذلك; إذ قد يكون الخاص موجبا
للانتقال إلى الجامع، وهو عند الغفلة عن الجامع (2).
وبالجملة: وزان كون الوضع عاما والموضوع له خاصا وزان عكسه جوازا
ومنعا، فكما لا يحكي، ولا يكون الخاص بما هو خاص - مشوبا بالخصوصيات - مرآة
للعام; لاختلافهما مفهوما، فكذلك لا يحكي، ولا يكون العام - بما هو عام - حاكيا

1 - انظر كفاية الأصول: 24، وفوائد الأصول 1: 31، ونهاية الأفكار 1: 32 - 38.
2 - حاشية المشكيني 1: 12.
89

ومرآة للخاص، فإن كفى في لحاظ الخصوصيات - في الوضع العام والموضوع له
الخاص - لحاظ ما يوجب الانتقال إليها، فليكف في لحاظ الجامع - في الوضع الخاص
والموضوع له العام - لحاظ ما يوجب الانتقال إليه، وهو الخاص.
فعلى هذا فما يمكن تصويره من الأقسام صورتان:
1 - كون الوضع والموضوع له عاما.
2 - كون الوضع والموضوع له خاصا.
ذكر وتعقيب
تصدى المحقق العراقي (قدس سره) على ما في تقرير بحثه لدفع هذا الإشكال، فإنه بعد أن
ذكر: أن حقيقة كون الوضع عاما والموضوع له خاصا عبارة عن تصور الواضع - حين
إرادته الوضع - معنى عاما - أي معنى لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين - ثم يضع
اللفظ بإزاء أفراد ذلك العام ومصاديقه.
قال ما حاصله: إن العناوين العامة المنتزعة على أنواع:
فمنها: عنوان ينتزع من جهة ذاتية مشتركة بين الأفراد المتحدة وجودا معها،
كعنوان الإنسان المنتزع عن الجامع الذاتي المشترك بين أفراده، كزيد وعمرو وبكر...
وهكذا، المتحد معها وجودا.
ومنها: عنوان ينتزع من جهة خارجة عن ذات الأفراد وذاتياتها; سواء كان لها
ما بحذاء في الخارج كالأبيض; حيث إنه ينتزع عنوان الأبيض من البياض الموجود في
الجسم، أو لم يكن كذلك كالممكن; حيث إنه ينتزع عنوان الإمكان ولم يكن له ما بحذاء
في الخارج.
ولا يخفى أنه في هذين النوعين لا يحكي شيء منهما عن خصوصيات الأفراد،
بل متمحضان للحكاية عن الجامع الساري في الأفراد.
90

ومنها: عنوان يحكي عن الخصوصيات:
وهو تارة يحكي عن جهات قليلة، كعنوان الشخص والفرد; حيث يحكي عن
بعض الجهات، ويسمى هذا بالعنوان الإجمالي.
وأخرى عن جهات كثيرة، كعنوان الشبح لما يتراءى من بعيد، ويسمى هذا
بالعنوان المبهم.
والفرق بين العنوان الثالث والعنوانين الأولين من وجهين:
الأول: أن العنوان الثالث يحكي عن الخصوصيات الفردية بالإجمال والإهمال،
ولذا لو تصورنا فردا مبهما بتوسط هذا العنوان، ثم انكشف الفرد المبهم، لوجدنا ذلك
العنوان المبهم منطبقا عليه، انطباق العنوان التفصيلي الجامع لخصوصيات الفرد عليه،
بخلاف العنوانين الأولين; إذ هما لا يحكيان عن الفرد بما هو عليه من الخصوصيات، بل
يحكيان عن معنون هما الموجود في الفرد.
ويتفرع على هذا: صحة التقرب بالخصوصيات الفردية وتعلق الأمر بشيء
بعنوان مبهم، كما لو قال: «صل في أحد هذه المساجد»، فإنه يصح أن يتقرب المكلف
بإتيان الصلاة في مسجد معين بخصوصه، بخلاف ما لو تعلق الأمر بها مطلقة; بأن
قال: «صل»، فإنه لا يصح منه التقرب بخصوصية المكان الذي توقع الصلاة فيه; لعدم
تعلق الأمر به تفصيلا أو إجمالا، كما هو شأن العنوانين.
والثاني: هو أن العنوانين ينتزعان من الموجود الخارجي بما أنه مشتمل على
مطابق ذلك العنوان، بخلاف العنوان الثالث فإنه من أنحاء المعاني الاختراعية التي
تنشئها النفس، وتشير إلى بعض الوجودات الخاصة الخارجية.
إذا عرفت حال هذه العناوين اتضح لك: أنه لا يمكن تصوير الوضع العام
والموضوع له الخاص بأحد العنوانين الأولين: لعدم حكاية شيء منهما - ولو بنحو
الإجمال - عن خصوصيات الموضوع له ليتمكن من الوضع له بعد تصوره، نعم يتأتى
91

ذلك للواضع بنحو العنوان المجمل أو المبهم المخترع للنفس، المطابق لما تحاول الحكاية
به عن الأمور الخاصة بما هي خاصة ولو إجمالا (1).
وفيه أولا: أن عد النوع الثالث عنوانا اختراعيا قبال العنوانين الأولين
- حيث يكونان منتزعين: إما من جهة ذاتية مشتركة بين ذوات الأفراد، أو جهة
خارجة عن ذواتها - لا يلائم ما صرح به في صدر كلامه; حيث قال: إن العناوين
المنتزعة على أنواع.
وثانيا: أن تصوير الوضع العام والموضوع له الخاص بالعنوان المبهم
الاختراعي، فرار عن عنوان البحث الذي ذكره أساطين الفن، وما فسره (قدس سره) به; وذلك
لأن عنوان البحث: هو أن يتصور الواضع حين الوضع معنى لا يمتنع صدقه على
كثيرين، ثم يضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك المعنى (2)، ومن الواضح أن اختراع العنوان
المبهم المشار به إلى بعض الوجودات غير العنوان الكلي ومصاديقه، فإن تم الوضع
العام والموضوع له الخاص باختراع العنوان المشير، فهو شيء آخر غير عنوان البحث
الذي صرح به أساطين الفن، وهذا المحقق، كما لا يخفى، فتدبر.
وثالثا: أن عنوان الشخص أو الفرد أو الشبح من العناوين المنتزعة، لا العناوين
المخترعة، والأولى أن يمثل لذلك بلفظ «كل»; حيث يدل على الكثرة الإجمالية،
ولا يخفى أن هذا مناقشة في المثال.
ورابعا: أنه (قدس سره) مثل للعنوان الإجمالي بالشخص أو الفرد، وللعنوان المبهم
بالشبح، ولا يخفى أنه معنى واحد، فيصدق عنوان الشبح - مثلا - على هذا الشخص
وذاك الشخص... وهكذا، وهذا العنوان إما يشير إلى الجامع بين الأفراد أو إلى
الخصوصيات، فعلى الأول يلزم كون الوضع والموضوع له عاما، وعلى الثاني يستحيل

1 - بدائع الأفكار 1: 37 - 39.
2 - هداية المسترشدين: 30 سطر 17، كفاية الأصول: 24.
92

الوضع كذلك، ومجرد كونه عنوانا اختراعيا لا يصححه; لأن ملاك عدم الجواز هو
عدم حكاية العام بما هو عام عن الخصوصيات، والعنوان الاختراعي والانتزاعي في
هذا سيان.
وبالجملة: لو كان العنوان المشير عنوانا واحدا اختراعيا جامعا للأفراد،
فلا يمكن أن يشير إلى الخصوصيات الفردية، وإن أمكن ذلك فليجز في الانتزاعيات
أيضا، فالتفرقة بين العنوان الاختراعي والانتزاعي; بالجواز في الأول دون الثاني
لا يرجع إلى محصل.
فتحصل مما ذكرنا بطوله: أن المشهور (1) قائلون بإمكان تصوير الوضع العام
والموضع له الخاص.
ودليلهم: أن العام وجه للخاص وتصوير الشيء بوجه يكفي لوضع اللفظ له.
وأشكل عليهم: أنه غير تام، ولو تم فليجز في عكسه، وهو كون الوضع
خاصا والموضوع له عاما، وما تكلف به المحقق العراقي (قدس سره) لدفع الإشكال، لا يسمن
ولا يغني شيئا.
تتميم وإرشاد
تقدم أن المشهور بينهم: امتناع كون الوضع خاصا والموضوع له عاما، فقال
المحقق الخراساني والمحقق العراقي (قدس سرهما) في وجه الامتناع، ما حاصله:
إن الخصوصية المقومة للخاص تناقض العموم وتنافيه، والشيء لا يحكي
ولا يكون مرآة لما يباينه.
نعم، ربما يوجب الخاص انتقال الذهن إلى العام، كما قد يكون لحاظ الضد سببا

1 - هداية المسترشدين: 30 سطر 17، كفاية الأصول: 24، فوائد الأصول 1: 31.
93

لانتقال الذهن إلى ضد آخر، ولكنه حينئذ يكون الوضع كالموضوع له عاما.
وبالجملة: تصور المصداق بما له من الخصوصية المقومة له - حيث يكون
مباينا للكلي - لا يكون مرآة وحاكيا عنه، وسببية انتقال الذهن إلى الكلي أحيانا
لا توجب كونه خاصا، بل الملحوظ عند ذلك حال الوضع هو المعنى الثاني المنتقل
إليه، وهو عام (1).
وقال المحقق النائيني (قدس سره) في وجه امتناع تصوير هذا القسم: بأن الخاص جزئي،
ومن هنا قيل: إن الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا (2).
أقول: لا يخفى أن ما ذكروه لا يخلو عن نظر:
أما ما ذكره العلمان ففيه: أنه - كما أشرنا إليه آنفا - أن وزان الوضع الخاص
والموضوع له العام وزان عكسه في الامتناع والإمكان، ويرتضعان من ثدي واحد،
وذلك: إن كان عدم الحكاية لمباينة الخاص بخصوصيته الفردية مع العام في عالم
المفهومية، ومباينة المصداق - لما له من الخصوصيات - مع الكلي، فليكن في عكسه
كذلك; بداهة أن لحاظ الإنسان - مثلا - وتصوره مجردا عن الخصوصيات لا يحكي إلا
عن نفس الطبيعة، فيمتنع وضع اللفظ لمصاديقه; لكونها مجهولة حال الوضع، ولابد
لوضع اللفظ لشيء أن يكون ملحوظا ولو بوجه، والمفروض أنه لم تلحظ
الخصوصيات بوجه.
إن قلت: إن لحاظ الطبيعة وإن لم يكن وجها للحاظ مصاديقه، إلا أنه آلة
لانتقال الذهن منها إليها، دون العكس.
ففيه أولا: أنه لو كفى ذلك في وضع العام والموضوع له الخاص، فليكن لحاظ
الخاص كافيا لانتقال الذهن منه إلى العام، فيوضع اللفظ للعام.

1 - كفاية الأصول: 24، بدائع الأفكار 1: 39 - 40.
2 - فوائد الأصول 1: 31.
94

وثانيا: أن العام كما يكون آلة ووجها للخاص بوجه، فأمكن وضع اللفظ
للخاص، فكذلك ربما يكون الخاص آلة ووجها للعام ولو بوجه، كما في صورة
الغفلة عنه.
وبالجملة: الوضع العام والموضوع له الخاص وعكسه، يشتركان في إمكان
الوضع وامتناعه، فالتفريق بينهما بإمكان أحدهما دون الآخر لا يرجع إلى محصل.
وأما ما ذكره العلم الثالث ففيه:
أولا: أن قاعدة عدم كون الجزئي كاسبا ولا مكتسبا (1)، أجنبية عن باب الوضع،
بل جارية في باب المعرف والمعرف.
وحاصلها: أن الجزئي حيث يكون مقرونا ومشوبا بالخصوصيات، فلا يحكي
عما وراء نفسه، فلا يصلح أن يكون معرفا وقولا شارحا لأمر، ولا معرفا ومكتسبا من
شيء، فأنى لها ولباب الوضع؟!
وثانيا: لو انطبقت القاعدة على باب الوضع، فلابد وأن يمنع عكس الفرض -
وهو ما إذا كان الوضع عاما والموضوع له خاصا - فإنه على زعمه (قدس سره) يكون الجزئي
مكتسبا، مع أنه لا يقول به، فتدبر.
تذكرة:
ثم إن الوضع العام والموضوع له الخاص يتصور على نحوين:
الأول: أن يتصور ويلاحظ مفهوما عاما في الذهن، ويضع اللفظ لمصداقه بجميع
خصوصياته ولوازمه المكتنفة به، فالموضوع له الطبيعة الملازمة للخصوصيات، ولازم
هذا النحو من الوضع - لو كان موجودا - هو حضور الخصوصيات واللوازم بمجرد

1 - شروح الشمسية 1: 241.
95

إلقاء اللفظ.
والثاني: ما سنذكره في المعاني الحرفية، وهو أن يوضع اللفظ - بعد تصور
المفهوم العام - لما يكون مصداقا حقيقيا لذلك المفهوم.
مثلا: يلاحظ الإنسان ويوضع اللفظ لما يكون مصداقا ذاتيا لهذه الطبيعة، وأما
الخصوصيات الأخر، مثل كونه ذا حجم كذا، ولون كذا وشكل كذا... وهكذا، فلا;
لأنها لم تكن مصداقا حقيقيا لطبيعة الإنسان، بل مصاديق لطبائع مختلفة، ومصداقها
الحقيقي هو وجود الإنسان مجردا عن الخصوصيات الكذائية، كرب النوع عند مثبتيه.
وبالجملة: فعند تصور المفهوم الكلي: تارة يوضع اللفظ لما يكون مصداقا
لأمور كثيرة; أي يوضع اللفظ لما لا يكون دخيلا في مصداقيته له بالذات، وأخرى
يوضع اللفظ لما يكون مصداقه الحقيقي.
فليكن هذا على ذكر منك ينفعك - إن شاء الله - في باب وضع الحروف.
ذكر وتعقيب
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) تصور نحوين للوضع والموضوع له العامين:
النحو الأول: وحاصل ما ذكره في ذلك: هو أنه عبارة عن تصور الواضع معنى
وحدانيا منتزعا من أمور مختلفة ذاتا أو عرضا تشترك فيه، كمفهوم الإنسان، ثم وضعه
اللفظ: إما للماهية المتقيدة بالإطلاق والسريان - أي الماهية بشرط شيء - وهي
الماهية المقيدة بالشيوع والسريان، أو للماهية اللا بشرط القسمي، وهو الجامع بين
الشيوع البدلي والسرياني، أو للماهية المهملة; أي الماهية اللا بشرط المقسمي.
والحق هو الأخير.
وعلى الأول: حيث يكون الموضوع له ماهية مشروطة بالسريان، يكون
استعماله في بعض أفراده مجازا مرسلا; لكونه بعض ما وضع له، بخلاف الثالث،
96

فلا يكون الاستعمال مجازيا، ولكن يحتاج إحراز السريان والشيوع إلى مقدمات
الحكمة، وكل من القسمين الأولين - الماهية المقيدة بالسريان، والماهية اللا بشرط
القسمي - يحتمل أن يكون مراد المشهور منه الوضع والموضوع له العامين (1).
وفيه: أن المراد بالطبيعة المقيدة بالسريان والشيوع - التي هي موضوع اللفظ -:
إما الموجودة في الخارج، أو في الذهن.
أما على الأول فظاهر أن الطبيعة بقيد السريان لا وجود لها في الخارج،
وما يكون موجودا في الخارج هو نفس الطبيعة.
وعلى الثاني يكون الموضوع له الطبيعة العقلية، وواضح أنها لا توجد في
الخارج، وما يوجد في الخارج هو نفس الطبيعة، لا الطبيعة المقيدة بالسريان، فإذن
حمل كلام الأساطين (2) على أمر ممتنع لا وجه له، ولم أجد في كلام أحد على ما أظن
تفسيره به.
وأما احتمال أن يكون مراد المشهور الماهية اللا بشرط القسمي، فسيظهر لك في
محله - إن شاء الله - أنه أيضا غير مراد لهم، بل الذي يدل عليه مقال المشهور في
الوضع والموضوع له العامين هو المعنى الثالث - أي الماهية المهملة - كما لا يخفى،
فلاحظ مقالهم.
النحو الثاني: هو عبارة عن تصور الجامع بين الأفراد الموجودة المختلفة
الممتزجة بالخصوصيات المفردة.
وحاصل ما ذكره في توضيح ذلك: هو أن الحق أن الوجود أصيل، والماهية
اعتبارية، ومعنى أصالة الوجود هو أن الحقيقة ذات الأثر هو الوجود، وهو ذو مراتب

1 - بدائع الأفكار 1: 34 - 35.
2 - هداية المسترشدين: 29 سطر 13، مناهج الأحكام والأصول: 4 سطر 36، كفاية
الأصول: 24.
97

لا تكاد تتناهي قوة وضعفا، ومعنى اعتبارية الماهية: هو أنها أمر انتزاعي ينتزعه
العقل من كل مرتبة من تلك المراتب.
مثلا: الوجود يسير في الجوهر المحسوس، فيتكون الجسم قبل أن يصل سيره
إلى النمو، وينتزع العقل من مقدار ذلك الوجود المحدود بعدم النمو، أنه جسم جامد،
وإذا سار الموجود، واستكمل مرتبة النمو فقط، انتزع العقل من هذه المرتبة عنوانا
خاصا بها يسمى النبات، وهكذا كلما سار الوجود وترقى من مرتبة إلى مرتبة أعلى
وأكمل من الأولى، انتزع العقل من تلك المرتبة عنوانا خاصا بها يسمى باسم من
أسماء الماهيات المعروفة، فالحقيقة ذات الأثر هو الوجود، والماهية عنوان يشار به إلى
مرتبة ذلك الوجود، لا أنها شيء في قبال الوجود.
وبهذا اتضح لك معنى الكلي الطبيعي، وأنه هو العنوان المنتزع من مرتبة
خاصة من الوجود السعي، المتحقق في ضمن الوجودات الشخصية المقترنة
بالمشخصات الجزئية، ومنشأ انتزاع الكلي الطبيعي هو الموجود في الخارج، ويكون له
إضافة إلى كل فرد من الأفراد والخصوصيات الخارجية، وباعتبار كل من
الخصوصيات يقال له: الحصص، مثلا بالإضافة إلى خصوصية الزيدية والعمرية
وغيرهما، حصة من الطبيعي، فنسبة الإنسان إلى أفراده نسبة أب واحد إلى أولاده
الكثيرين.
وبالجملة: لنا شيئان في الخارج:
1 - الطبيعة المنقطعة الإضافة عن الخصوصيات الفردية، وهي تكون منشأ
انتزاع الكلي الطبيعي، وتكون نسبته إلى أفراده نسبة الأب الواحد إلى الولد الواحد.
2 - الطبيعة المضافة إلى الخصوصيات الفردية، وبهذا تكون منشأ لانتزاع
الحصة، وتكون نسبته إلى الحصة نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء المتعددين، وهذا هو
المراد من الكلمة الدارجة بين أهل الفن من «أن نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء
98

إلى الأبناء، لا نسبة الأب الواحد إلى أولاده الكثيرين» (1)، فنسبة كل حصة إلى الفرد
الذي ينتزع منه، نسبة الأب الواحد إلى الولد الواحد.
ولا يخفى أنه على هذا لا يلزم أن لا يكون الفرد فردا للطبيعي، بل فردا للحصة;
حتى يقال: كيف يكون كذلك مع أن الفرد فرد للطبيعي، والطبيعي لا ينطبق إلا على
فرده؟! ومحال أن يصدق وينطبق مفهوم على موجود خارجي مع عدم احتواء
المصداق على المعنى الصادق عليه، وإذا استلزم الصدق تحقق المعنى الصادق في وجود
المصداق، لزم تحقق الطبيعي في ضمن الفرد، فتكون نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة
الأب الواحد إلى أولاده الكثيرين; وذلك لأنه لا معنى لأن يقال: هذا فرد لحصة من
الطبيعي; لأن الوجود الشخصي إنما يكون فردا للطبيعي باعتبار احتوائه على حصة
من الطبيعي، فإذا كان مصحح الفردية احتوائه على حصة من الطبيعي، فكيف يعقل
أن يكون فردا لنفس تلك الحصة؟! وإلا لزم أحد المحذورين: إما التسلسل أو كون
الوجود الخاص فردا لمعنى بلا مصحح للفردية، فصدق الطبيعي على أحد أفراده في
عرض صدقه على سائر الأفراد; لأن مصحح الصدق في جميعها واحد، وهو احتواء
الوجود على مطابق ذلك الطبيعي المنتزع منه، وتكون نسبة الطبيعي إلى الأفراد
- بلحاظ ذلك المصحح - نسبة الأب الواحد إلى الولد الواحد.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه إذا لاحظنا كل مرتبة من مراتب الوجود السعي
بآثارها وحدودها - مع قطع النظر عن اقترانها بالمشخصات الخارجية - يمكن انتزاع
عنوان خاص بتلك المرتبة، ويعبر عنه بالكلي الطبيعي، وهي طريقة المشهور في تصوره.
وأما إذا لاحظنا كل مرتبة من ذلك; بما أنها سارية في الوجودات الشخصية
واقترانها بالمشخصات الجزئية، فمطابق هذا العنوان - المسمى بالكلي الطبيعي - يكون

1 - الحكمة المتعالية 2: 8، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 99.
99

ساريا في الوجودات الشخصية أيضا.
فتحصل: أنه يمكن ملاحظة تلك المرتبة من الوجود السعي في حال سريانها
في الوجودات الشخصية وتعانقها بالمشخصات الجزئية; بحصول تلك المرتبة في الذهن
مع ما يلزمها من المشخصات التفصيلية، فيوضع اللفظ لها.
ولا يتوجه على ما ذكرنا: من استلزام تصور المرتبة المتعانقة مع الخصوصيات
أن تتصور الوجودات الجزئية التي لا نهاية لها; وذلك لأنه يلزم ذلك في كل مسألة بني
الحكم فيها على ما لا نهاية له، كالقضية الحقيقية، التي يكون العنوان فيها مرآة لملاحظة
تلك المرتبة; من الوجود السعي وما سرى فيه من الأفراد (1).
أقول: يستفاد من مقالته: أن المفهوم الواحد الانتزاعي لابد وأن ينتزع من
موجود واحد خارجي، ولا يمكن أن ينتزع من اثنين بما هما اثنان، فعلى مقالته يلزم
أن يكون لانتزاع مفهوم الإنسان - مثلا - من منشأ انتزاع واحد موجود في الخارج.
وقد يقال انتصارا لمقالته: إن العلتين المستقلتين إذا تواردتا على معلول واحد
لا يمكن استناد الأثر الواحد إلى كل واحد منهما مستقلا، بل ينسب إلى الجامع بينهما;
حذرا من صدور الواحد من الكثير، ويمثل لذلك بأمثلة عرفية، مثل: أن كلا من
الرمحين إذا ورد على قلب شخص يكون سببا لهلاكه، فإذا وردا معا يستند الهلاك إلى
الجامع بينهما.
ومثل: أنه إذا قدر كل واحد من الرجال على رفع حجر، فإذا اجتمعوا لرفعه
فالعلة مجموعهم... إلى غير ذلك من الأمثلة العرفية.
وبالجملة: على مبناه لا يمكن انتزاع مفهوم واحد من الكثرات، بل لابد وأن
ينتزع من الجامع بين الأفراد الموجودة في الخارج.

1 - بدائع الأفكار 1: 35 - 37.
100

لكن يتوجه عليه - بعد إيكال أمر أصالة الوجود واعتبارية الماهية إلى فنه (1)
وأهله - أن النزاع المعروف (2) بين الحكماء - القائلين: بأن الطبيعي يتكثر بتكثر
الأفراد، وأن نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد، وبين الحكيم الذي رآه
الشيخ الرئيس رحمه الله في بلدة همدان القائل: بعدم تكثر الطبيعة في الخارج، وإنما
الموجود منها في الخارج جامع وحداني يكون منشأ لانتزاع الكلي والطبيعي، وأن نسبة
الطبيعي إلى أفراده نسبة أب واحد إلى أولاد متكثرة ليس نزاعا لفظيا، بل نزاعا
معنويا حقيقيا، يفرون الحكماء - وفي طليعتهم الشيخ الرئيس (3) - عن مقالته، ويرون
أن الالتزام بمقالته يستلزم محالات، مثل أنه لو كان الطبيعي واحدا في الخارج يلزم أن
يتخلل العدم بين الشيء ونفسه، وأنه لو كان موجودا في الخارج لكان واحدا
شخصيا، لا طبيعة واحدة، والطبيعة في حد ذاتها غير مقيدة بالوحدة والكثرة،
فاتصافها بالوحدة في قولهم: «طبيعة واحدة» لم يرد بها الوحدة الشخصية، بل المراد
الوحدة النوعية، يقال ذلك قبال الطبائع الأخر.
فإذا الطبيعي موجود في الخارج بوجود الفرد، ومتكثر بتكثر أفراده، ولذا يقال:
الحق أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أفراده (4).
ولا يكاد ينتزع الجامع من الأفراد الخارجية; لعدم نيل الذهن للخارج، ومعنى
تعقل الجامع وتصويره: هو أن النفس تتصور مفهوما من زيد الموجود في الخارج -
مثلا - ولها أن تجرد ذلك المفهوم عن الخصوصيات، ثم إذا لاحظت عمرا تأخذ منه
أيضا مفهوما، فإذا جردته عن الخصوصيات ترى أن المفهوم من عمرو - بعد التجريد -

1 - الحكمة المتعالية 1: 38 - 44، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 10 - 15.
2 - الحكمة المتعالية 1: 273، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 99.
3 - رسائل ابن سينا: 462.
4 - الحكمة المتعالية 4: 213.
101

عين ما فهمته من زيد بعد التجريد، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأفراد، فترى أن الجامع
بين الأفراد هو طبيعة الإنسانية، وهي الموجودة في الذهن، والوحدة النوعية في صقع
الذهن لا تنافي الكثرة العددية في ظرف الخارج.
فإذا للماهية والطبيعة نشأتان:
1 - نشأة عقلية ذهنية هي نشأة الوحدة النوعية.
2 - نشأة خارجية هي نشأة الكثرة والتعدد.
وإجمال المقال: هو أن الشيخ الرئيس رحمه الله بعد أن رأى مقالة الحكيم
الهمداني كتب رسالة في الرد على مقالته (1)، وقال: إن إنسانية زيد - مثلا - غير إنسانية
عمرو، ولا معنى لوجود الجامع في الخارج; لوضوح أن الوجود مساوق للتشخص
والجزئية، فإذا كان الجامع بما هو جامع في الخارج، يلزم أن يكون جميع الأفراد إنسانا
واحدا، وهو باطل.
ومعنى كون طبيعة الإنسان كلية أنها غير مرهونة بالكلية والجزئية، فتصدق
على أفرادها. فليس معنى قولهم: إن نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء (2)،
أنه معنى واحد في الخارج كذلك، بل معناه أن الطبيعي الملحوظ في الذهن مجردا عن
الخصوصيات إذا وجد في الخارج يتكثر بتكثر الأفراد ويكون كل فرد منها مشتمل
على تمام الطبيعة فيتحقق في كل فرد الطبيعي بتمام ذاته.
إذا تمهد لك ما ذكرنا، فنقول: إن هذا المحقق وإن قال: بأن الحصص متكثرة
الوجود - وهي غير مقالة الرجل الهمداني - إلا أن التزامه بالجامع الموجود في الخارج
بالوجود السعي، يكون من قبيل الفرار من المطر إلى الميزاب، وينطبق على ما قاله
الهمداني، القائل بوجود الطبيعي في الخارج بالوحدة العددية.

1 - رسائل ابن سينا: 462.
2 - انظر الحكمة المتعالية 2: 8، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 99.
102

فما توهمه: من أن الشيء الواحد لا ينتزع من الكثير بما هو كثير، فلابد من
وجود جامع في الخارج.
مدفوع: بما أشرنا إليه: من أن الذهن لا ينتقل إلى الخارج، ولا ينتقل الموجود
الخارجي إلى الذهن، بل للماهية في الخارج كثرة حقيقية عددية، وللعقل أن ينتزع من
كل واحد من الكثرات الموجودة في الخارج مفهوما، ثم يجرده عن الخصوصيات،
فيرى أن المفهوم من زيد المجرد عن الخصوصيات، غير المفهوم من عمرو بعد
التجريد... وهكذا، فلم يكن للجامع بما هو جامع وجود خارجي مصب للكثرة.
وأظن أن محط البحث بين الشيخ الرئيس رحمه الله وبين الحكيم الهمداني، غير
منقح عند هذا المحقق، والله العالم.
وأما حديث أن العلة في توارد العلتين على أمر واحد هو الجامع، فتنقيح المسألة
موكول إلى محله، وليعلم أن الأمر ليس كما توهم; لأن العلة في الأمثلة الجزئية لم تكن
الجامع; لأن العلة في هلاك الشخص - عند توارد السهمين على قلبه - هي خروج
مقدار من الدم، وفي رفع الحجر هي القوة الكذائية... إلى غير ذلك.
ثم يرد على قوله: إن الملحوظ الطبيعة السارية في الخارج.
أن اللفظ إما يوضع لنفس الطبيعة السارية بحسب الوجود، أو الطبيعة المضافة
إلى هذا أو ذاك، أو يوضع لنفس الطبيعة.
فعلى الأول: يكون الموضوع له خاصا; لأنه لا يكون قابلا للصدق على
الكثيرين.
وعلى الثاني: يكون الوضع والموضوع له عامين، ومجرد تصور أمر عند لحاظ
معنى عام لا يوجب أن يكون اللفظ موضوعا له أيضا.
فإذا تصور عند لحاظ مفهوم كلي صورة دار - مثلا - ووضع اللفظ لذاك
المفهوم، لا يدل اللفظ الموضوع لذلك على صورة الدار أيضا.
103

والسر في ذلك: هو أنه بعدما لم تكن دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية، فلابد
وأن يكون لإحضار اللفظ معنى بأحد وجهين: إما أن يكون المعنى موضوعا له اللفظ،
أو لازما بينا للموضوع له; بحيث ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى الموضوع له، ثم
ينتقل الذهن من المعنى الموضوع له إلى اللازم، كلفظة النار حيث إنها وضعت لموجود
معروف، وحيث إن بين النار والحرارة تلازما، تحضر الحرارة في الذهن عند إلقاء لفظة
النار، فيعد هذا أيضا من دلالة الألفاظ، على إشكال ذكرناه في محله: أنه في الحقيقة
من دلالة المعنى على المعنى، لا من دلالة الألفاظ.
وفي غير ذينك الوجهين لا يحضر اللفظ المعنى; ولو كان بين المعنى الموضوع له
وذلك المعنى تلازم خارجي، كالتلازم بين الإنسان وبين قابليته للصنعة والكتابة، أو
التلازم بين زاويتين قائمتين وبين الزوايا الثلاث للمثلث; حيث إن التلازم في الموردين
- مثلا - إنما هو واقعي وخارجي لا ذهني; لأنه يحتاج في إحضار طبيعة الإنسان
لقابلية الصنعة والكتابة، إلى استقراء وتتبع في أفراد هذه الطبيعة، وفي إحضار الزاويتين
للزوايا إلى إقامة برهان هندسي عليه. ومن الواضح أن للماهية - في وجودها
الخارجي - سعة وجودية متعانقة مع الخصوصيات، سواء علم بها أو لا، ولم يكن بين
الماهية وخصوصياتها تلازم ذهني، ومجرد لحاظ الخصوصيات لا يوجب أن تكون
موضوعة لها، فبإلقاء اللفظ لا تحضر الماهية المعتنقة مع الخصوصيات، وإنما يحضر
نفس المعنى والطبيعة.
والحاصل: أنه إذا وضع اللفظ للطبيعة المضافة يكون الوضع والموضوع له
خاصين، وإن لوحظ السريان حال الوضع لنفس الطبيعة، ووضع اللفظ لنفس
الطبيعة، فلا يحضرها إلا إذا كان بينهما تلازم بين بالمعنى الأخص، وواضح أنه لم يكن
التلازم بينهما كذلك، بل الموجود بينهما هو التلازم بحسب الوجود والخارج فتدبر.
104

تنبيهات
التنبيه الأول:
ربما يتوهم (1) امتناع تصوير الوضع العام مطلقا; لأن الشيء ما لم يتشخص لم
يوجد - سواء في الخارج، أو في الذهن - وتصور الشيء حضوره ووجوده في الذهن:
إما بإيجاد النفس إياه، أو بانطباع من الخارج، فالمتصور لابد وأن يكون جزئيا،
والطبيعة القابلة للصدق على الكثيرين غير قابلة للتصور، فلا يمكن تصور المعنى
العام; لأنه بالتصور يصير جزئيا، وتجريد المعنى عن الخصوصيات، أو كون
الخصوصيات مغفولا عنها، لا يؤثر في الواقع ونفس الأمر، ولا يغير الواقع عما هو
عليه، بل كلما جردت المفهوم عنها فقد حليته، فعلى هذا يمتنع تصوير قسمين من
أقسام الوضع، وهما:
1 - كون الوضع والموضوع له عامين.
2 - كون الوضع عاما والموضوع له خاصا.
وفيه أولا: بالنقض في محمولات القضايا; حيث إنها أعم من الموضوعات.
مثلا: المحمول في قضية «زيد إنسان» أعم من الموضوع، فهل يتصور مفهوم
الإنسان الأعم، ثم يحمل على زيد أم لا؟
فإن لم يتصور فلا معنى لحمله عليه، وإن تصور فيصير جزئيا، فما تستريحون
إليه في محمولات القضايا نستريح إليه في الوضع.
وثانيا: بالحل، وهو أن تصور شيء قد يكون وسيلة لتصور غيره عرضا،
فيوضع اللفظ للمتصور بالعرض، فكما أن الموجود الخارجي نحو وجود للشيء،
فكذلك تصوره أيضا نحو وجود له وباللحاظ، وإن يصير المفهوم الكلي جزئيا

1 - انظر الحكمة المتعالية 2: 8 - 9.
105

ومتشخصا أيضا، إلا أنه يكون المتصور معبرا عنه بوجه، فيوضع اللفظ لنفس الطبيعة
المتصورة بالعرض.
وبالجملة: المحمول في قولك: «زيد إنسان»، و «عمرو إنسان»... وهكذا، لم يكن
متصورا ومعلوما بالذات، بل معلوما بالعرض; بمعنى أنه يتصور مفهوم الإنسان في
الذهن، ويجعل هذا المفهوم وسيلة ومعبرا لأن يحكم على زيد، ب‍ «أنه إنسان» وهكذا
في الوضع ذاته; يتصور المعنى، وبتوسط ذلك يوضع اللفظ لنفس الطبيعة، أو لما ينطبق
عليه المعنى في الخارج.
تكرار فيه زيادة تنوير
تعرض سماحة الأستاذ - دام ظله - للإشكال والجواب - في اليوم التالي بنحو
آخر، وحيث إنه لا يخلو عن الفائدة أحببنا ذكرهما:
أما الإشكال: فهو أنه لابد لمن يضع لفظا لمعنى كلي أو لمصاديقه أن يتصور ذلك
المعنى ويلحظه، وكلما يوجد في الذهن ويتصور فهو جزئي غير قابل للصدق على
كثيرين، كما هو الشأن في الوجود الخارجي، فالكلي لا يكون موجودا في كلتا
النشأتين.
والسر في ذلك: هو أن الوجود - سواء كان ذهنيا أو خارجيا - مساوق
للتشخص، والمتشخص لا يقبل الصدق على الكثيرين، فلا يمكن تصوير الوضع
والموضوع له العامين أو الوضع العام والموضوع له الخاص.
بل يمكن أن يقال: إن الموجود الخارجي لا ينقلب عما هو عليه، ولا يصير
موجودا ذهنيا، وبالعكس الموجود الذهني، لا ينقلب عما هو عليه، ولا يصير موجودا
خارجيا، فالمعنى الملحوظ هو الموجود الذهني، والموجود الخارجي غير متصور
أصلا، فوضع اللفظ للموجود الخارجي غير معقول; لعدم تصوره، والموجود المتصور
غير مسمى اللفظ، فعلى هذا لا يمكن الوضع بجميع أقسامه; حتى الوضع والموضوع له
106

الخاصين; لأن هذا القسم عبارة عن تصوير موجود شخصي، ولا يمكن أن يضع اللفظ
لما لا يكون متصورا، وهو الموجود الخارجي أو الأعم منه ومن الموجود في الذهن،
والذي يمكن أن يوضع له اللفظ هو المعنى المتصور، وهو غير المسمى.
وهذا نظير ما يقال (1): «إن المعدوم المطلق لا يخبر عنه»; لأن نفس هذه القضية
إخبار، وموضوعها: إما الوجود الخارجي أو الذهني، لا سبيل إلى الأول; لأن واقع
المعدوم المطلق غير موجود وباطل لا يعقل تصوره، ولا إلى الثاني; لأن الحكم في
القضية يقتضي وجود الموضوع، وحيث إنه لم يكن في الخارج، فهو في الذهن، وواضح
أن الموضوع - وهو المعدوم المطلق - موجود في الذهن ويخبر عنه.
وهكذا يقال في قضية «شريك البارئ ممتنع»: بأن المتصور من شريك البارئ
لا يكون شريكا للبارئ، ولا يكون ممتنع الوجود، بل ممكن مخلوق للمتصور، وواقع
شريك البارئ غير متصور، فكيف يخبر عنه (2)؟!
وأما الدفع: فهو أن منشأ هذه الإشكالات هو الشبهة في مسألة المعدوم المطلق.
وحل الإشكال فيها: هو أن الحكم في القضية لا يمكن إلا بعد تصور الموضوع
ولو من وجه، فإذا وجد مفهوم شيء في الذهن، فيمكن أن يجعل هذا المفهوم وسيلة
وقنطرة للحكم على ما يكون هذا المفهوم مفهوما له، فيلاحظ مفهوم المعدوم المطلق،
ويحكم بأنه لا مصداق له في الخارج، فيجعل الحمل الأولي وسيلة للحكم على الحمل
الشائع.
وبعبارة أخرى: إخبار شيء عن شيء غير ثبوت شيء لشيء، وثبوت شيء
لشيء يتوقف على ثبوت المثبت له، وأما الإخبار عنه فيتوقف على تصور الموضوع
ولو لم يكن له وجود في الخارج، ولذا ترى أن الحكم في القضايا السالبة المحصلة

1 - الحكمة المتعالية 1: 347، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 51 - 52.
2 - ذكر هذا الإشكال ورد عليه صدر المتألهين في الحكمة المتعالية 1: 239 - 240.
107

موجود وصحيح، مع أنه كثيرا ما لم يكن لها موضوع في الخارج.
وبالجملة: تصور مفهوم المعدوم المطلق يكون وسيلة لأن يحكم بأنه
لا مصداق له في الخارج.
والأمر في شريك البارئ أيضا كذلك، فإن الممتنع منه هو وجود شريك له
تعالى في الخارج، وأما مفهوم شريك البارئ فهو أمر ممكن معقول للذهن، فيجعل
مفهوم شريك البارئ وسيلة لأن يحكم بالامتناع على مصداقه، فيقال: إنه لا يكون
لشريك البارئ مصداق في الخارج.
إذا تمهد لك ما ذكرنا فنقول: إن الأمر في الوضع كذلك، فإنه يتصور معنى
ومفهوما، وبتوسط ذلك التصور يوضع اللفظ لما ينطبق عليه ذاك المفهوم في الخارج;
أي للمتصور بالعرض.
وإن شئت قلت: تصور الشيء هو إيجاد الشيء بوجه، وتصور الشيء بوجه
يكفي في وضع اللفظ له.
فتحصل: أنه كما يتصور مفهوم المعدوم المطلق، ويحكم بأنه لا مصداق له في
الخارج، مع أن الموضوع لم يكن موجودا في الخارج أصلا، فكذلك بعد ملاحظة مفهوم
الشيء وتصوره يضع اللفظ لمصداق هذا الموجود، بل الأمر في الوضع أسهل; لأنه
يكون للمفهوم المتصور مصداق في الخارج، وأما في قضية المعدوم المطلق فلم يكن لها
موضوع في الخارج أصلا، فتدبر.
التنبيه الثاني:
لأرباب الفن اصطلاحان في العام والخاص في بابي العام والخاص والوضع:
أما ما اصطلح عليه في باب العام والخاص: فهو أن يطلق العام ويراد به ما يدل
على الكثرات، كلفظة «كل» و «جميع» وغيرهما، فإنها تدل على كثرة مدخوله، ويعبر
108

عنه بالعام الأصولي، ويقابله الخاص، وهو ما يدل على كثرات أقل مما دل عليه العام
وإن كان هو في نفسه كليا، مثلا: يقال: إن «أكرم كل عالم» عام; لأنه يدل على إكرام
كل فرد من أفراد العلماء، و «لا تكرم فساقهم» خاص; لأن الكثرة التي تدل عليها
هذه الجملة أقل من «كل عالم»، مع أنه أيضا كلي (1).
وأما ما اصطلح عليه في باب الوضع: فهو أن يراد بالوضع العام: هو أن يتصور
الواضع معنى كليا قابلا للصدق على كثيرين، كمفهوم الإنسان، فإنه مفهوم قابل
للصدق على كثيرين، ويقابله الوضع الخاص، وهو المعنى غير القابل للصدق على
كثيرين (2)، فالعام في باب الوضع لا يدل على الكثرات، والذي يدل على الكثرات هو
العام في باب العام والخاص، فما يدل على الكثرات الذي هو عام في اصطلاح باب
العام والخاص، خاص باصطلاح باب الوضع.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك وقوع الخلط من بعض الأعاظم بينهما;
حيث قال: إن لحاظ الطبيعة السارية في الأفراد والمضافة إليها من باب الوضع العام (3).
وبالجملة: العام باصطلاح باب الوضع هو نفس الطبيعة القابلة للصدق على
كثيرين، وواضح أن نفس الطبيعة لم تكن عامة، ويقابله الخاص، وهو ما لا يقبل ذلك،
والعام باصطلاح باب العام والخاص هو ما يدل على الكثرات، مثل لفظة «كل»،
والألف واللام، و «جميع»، وغيرها، ويعبر عنه بالعام الأصولي، فهو في الحقيقة من
القضايا المحصورة، فالعام والخاص باصطلاح باب الوضع هو الكلي والجزئي المبحوث

1 - انظر العدة للشيخ الطوسي: 103 سطر 15، وزبدة الأصول: 108 - 109، وقوانين
الأصول 1: 192 سطر 21.
2 - هداية المسترشدين: 29 سطر 6، مناهج الأحكام والأصول: 4 سطر 37، بدائع الأفكار
(للمحقق الرشتي (قدس سره)) 39 سطر 30.
3 - بدائع الأفكار: 37.
109

عنهما في كتاب المنطق (1)، وأما هما باصطلاح باب العام والخاص، فعبارة عن القضية
المحصورة المسورة بأداة العموم.
التنبيه الثالث:
يمكن أن يتصور للوضع والموضوع له الخاصين قسم آخر غير ما هو المشهور
بينهم (2)، وهو أن يلاحظ معنى خاص، ولكن يوضع اللفظ لكل ما يكون مثله، وألفاظ
العموم ك‍ «الكل» و «الجميع» وغيرهما - على ما عرفت في التنبيه السابق باصطلاح
أرباب الوضع - خاص; لأن الموضوع له يكون أفراد الطبيعة، لا نفس الطبيعة القابلة
للصدق على الكثيرين، ونفس الطبيعة لا كثرة فيها.
ويؤيد ما ذكرناه: أنه إذا لوحظت نفس الطبيعة، ووضع اللفظ لأفرادها
ومصاديقها، يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا، مع أن الموضوع له يدل على
الكثرات، فإذا لوحظت الأفراد - لا نفس الطبيعة - يكون الوضع أيضا خاصا.
فبعد ما عرفت الاصطلاحين في العام والخاص، فنقول: قد يكون العام في باب
العام والخاص خاصا باصطلاح باب الوضع، فإن في الوضع والموضوع له الخاص: إما
يلاحظ معنى جزئي وشخص واحد، ويضع اللفظ له بخصوصه، كالأعلام الشخصية
- على تأمل فيه، كما سنشير إليه - أو يلاحظ جميع الأفراد، ويضع اللفظ للجميع.

1 - شرح المطالع: 48 سطر 4، شرح الشمسية: 33 سطر 2.
2 - هداية المسترشدين: 29 سطر 6، مناهج الأحكام والأصول: 4 سطر 37، بدائع الأفكار:
39 سطر 30.
110

المقام الثاني
في تحقق أقسام الوضع وعدمه في الخارج:
والكلام فيه يقع في جهات:
الجهة الأولى
في طريق تشخيص كيفية الوضع والموضوع له
ظهر لك مما تقدم إمكان تصوير الأقسام الأربعة، للوضع، بل ظهر لك إمكان
تصوير الوضع والموضوع له الخاصين بنحوين.
وأما في مقام الإثبات والاستظهار فلابد وأن يعلم أولا: أن الطريق إلى معرفة
كيفية الوضع والموضوع له لابد وأن يكون بحسب الغالب إما بالتبادر أو صحة السلب
- بناء على تماميتها - ونحوهما، وواضح أن هذه الأمور أمارات لتعيين أن الموضوع له
عام أو خاص، وأما تعيين كون الوضع عاما فيما إذا أدى التبادر - مثلا - إلى كون
الموضوع له عاما، أو كون الوضع خاصا فيما إذا أدى التبادر إلى كون الموضوع له
خاصا، فلا; لإمكان أن يكون الموضوع له عاما والوضع خاصا، أو كون الموضوع له
خاصا والوضع عاما.
نعم: من لا يرى إمكان تصوير كون الوضع خاصا والموضوع له عاما - كالمحقق
الخراساني (قدس سره) (1) ومن على مقالته (2) - يمكنه بمعونة هذا الأمر العقلي - وهو امتناع
كون الوضع خاصا والموضوع له عاما - كشف كون الوضع عاما فيما إذا علم كون

1 - كفاية الأصول: 24.
2 - فوائد الأصول: 31، نهاية الأفكار 1: 37، نهاية الأصول 1: 18.
111

الموضوع له عاما.
وأما من يرى إمكان هذا القسم أيضا - كشيخنا العلامة الحائري (1) وفاقا للمحقق
الرشتي (قدس سره) (2) - فلا يمكنه أن يستكشف من عموم الموضوع له كون الوضع عاما.
فقول شيخنا العلامة (قدس سره): إنه لا ريب في ثبوت كون الوضع والموضوع له
عامين، كوضع أعلام الأجناس (3)، ليس في محله لإمكان أن يكون الوضع فيها خاصا،
نعم للمحقق الخراساني (قدس سره) استكشاف ذلك بمعونة ذلك الأمر العقلي.
ولكن يتوجه عليه: أنه لا طريق له إلى إثبات كون الوضع عاما فيما إذا قامت
الأمارة على كون الموضوع له خاصا; لإمكان أن يكون الوضع أيضا خاصا، فإذا
أمكن تصوير قسم آخر في الوضع والموضوع له الخاصين - كما تصورناه - فالأمر
أشكل; لاحتمال أن يكون الوضع خاصا بذلك المعنى.
وبالجملة: إن مجرد العلم بكون الموضوع له في الحروف - مثلا - خاصا،
لا يكون دليلا على كيفية الوضع عموما أو خصوصا، وكذا العلم بكون الموضوع له
عاما، لا يكون دليلا على كون الوضع عاما أو خاصا، فتدبر.
ولكن المترائي في مثل المخترعات والمصنوعات وأسماء الأجناس، هو كون
الوضع خاصا والموضوع له عاما; وذلك لأن من يخترع شيئا يلاحظه، فيضع اللفظ
لطبيعة ما اخترعه، وكذا من يظفر بالحنطة - مثلا - يلاحظها ويضع اللفظ لطبيعة
الحنطة (4).

1 - درر الفوائد: 36.
2 - بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 40 سطر 20.
3 - درر الفوائد: 36.
4 - قلت: يمكن أن يقال: إن ما ذكره من باب الوضع والموضوع له الخاصين; بالاصطلاح الذي
ذكره سماحة الأستاذ - دام ظله - كما تقدم آنفا، وهو أنه بعد ملاحظة ما اخترعه وصنعه
وضع اللفظ لكل ما يكون مثلا له، فتدبر. المقرر
112

وأما من تكون وظيفته تعيين الألفاظ ومداليلها - كأرباب اللغة والأدب -
فلا يبعد أن يكون عندهم الوضع والموضوع له عامين، فإنه يلاحظ في الضارب - مثلا -
معنى قيام الضرب بفاعل ما، ويضع لفظ «الضارب» لذلك المعنى الكلي، والله العالم.
الجهة الثانية
في وضع الأعلام الشخصية
إن المشهور مثلوا للوضع والموضوع له الخاصين بالأعلام الشخصية، زاعمين
بأن الموضوع له فيها هو الموجود المتشخص (1).
ولكن المتراءى في النظر أنه لا يكون كذلك; بداهة أنه لو كان الموضوع له هو
الموجود المتشخص، لزم أن تكون قضية «زيد موجود» - مثلا - قضية ضرورية; لأن
ثبوت ذات الشيء وذاتياته له بديهي، مع أنه لم يكن كذلك، ولزم أن تكون قضية
«زيد معدوم» تناقض; لأن الموجود قد أخذ جزءا للموضوع حسب الفرض،
فالموضوع بجزئه يطرد العدم، فكيف يحمل عليه؟! ولزم أن تكون قضية «زيد: إما
موجود أو معدوم» محمولة على التسامح والمجاز; لاحتياجها بالفرض إلى عناية
التجريد، مع أن الوجدان حاكم بعدم الفرق بين هذه القضية وقضية «زيد قائم».
والذي يناسب الذوق السليم والارتكاز المستقيم، هو أن يقال: إن الموضوع له
في الأعلام الشخصية هو الماهية المتشخصة، مثلا: لفظة «زيد» وضعت لماهية هذا
الموجود الخارجي، وواضح أن ماهية «هذا» كلية لا تنطبق إلا على هذا الفرد، وماهية
الوجود غير حقيقة الوجود، فهي قابلة للوجود أو العدم، فيقال: «ماهية زيد لم تكن

1 - هداية المسترشدين: 29 سطر 10، بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 39 سطر 33،
كفاية الأصول: 25.
113

موجودة فوجدت»، «وماهية زيد: إما موجودة أو معدومة».
وبالجملة: الموضوع له - ولو ارتكازا - في الأعلام الشخصية، الماهية
المتخصصة بالخصوصيات التي لا تنطبق إلا على فرد معين.
الجهة الثالثة
في كيفية وضع الحروف
قد يقال: إن الوضع في الحروف عام والموضوع له خاص (1)، كما أنه قد يقال:
إن الوضع والموضوع له فيها عامان، ولكن المستعمل فيه فيها خاص (2)، فلابد لنا أولا
من ملاحظة معنى الحروف; حتى تظهر كيفية وضعها.
وليعلم أنه لابد لكل باحث في مسألة أن لا ينسى وجدانياته، ولا يحرف
المسألة عن مسيرها الوجداني إلى اصطلاحات ومطالب غير وجدانية، فإنه ربما كثيرا
وقع أو يقع في خلاف الواقع، فنقول وبالله الاستعانة:
اختلفت الآراء في المعنى الحرفي، فأفرط بعض، وقال: بأنه لا فرق بين الحروف
والأسماء في الماهية والحقيقة، بل يكون كل من لفظتي «من» و «الابتداء» متحدتين
بالهوية والحقيقة، والاستقلالية المأخوذة في الأسماء وعدمها في الحروف ليستا من
مقومات المعنى الاسمي والمعنى الحرفي، بل مأخوذة في مقام الاستعمال; بمعنى أن الواضع
وضع لفظة «الابتداء» - مثلا - لأن تستعمل فيما يستقل، ووضع لفظة «من» لما
لا يستقل (3)، نظير الشرط الخارج عن حريم العقد، فكما أنه لا يجب الوفاء بذلك

1 - حاشية السيد الشريف على المطول: 70 و 372 - 373، الفصول الغروية: 16 سطر 6.
2 - المطول: 57 سطر 5، حاشية السيد الشريف على المطول: 70، هداية المسترشدين: 31
سطر 16.
3 - انظر كفاية الأصول: 26 - 27، وقرره في فوائد الأصول 1: 33 - 34.
114

الشرط، فكذلك لا يجب اتباع الواضع فيما شرطه في كيفية الوضع، فإذا كل من لفظتي
«الابتداء» و «من»، موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية وما لا يستقل.
وفرط آخرون، وقالوا: بأنه ليس للحروف معنى أصلا، بل هي علامات
صرفة، فكما أن الضمة أو الفتحة - مثلا - في «ضرب زيد عمرا» علامة كون «زيد»
فاعلا و «عمرو» مفعولا، فكذلك لفظة «من» و «إلى» مثلا - لمجرد العلامة لما أريد
من مدخول هما (1).
وقبل الشروع في ذكر الأقوال وجرحها، ينبغي تقديم مقدمة:
وهي أن الموجودات الخارجية على أصناف ثلاث:
فمنها: ما هو مستقل ماهية ووجودا.
ومعنى استقلاله بالمفهومية: هو أن العقل يستقل في تعقله من دون أن يحتاج في
ذلك إلى أمر آخر.
ومعنى استقلاله في الوجود: هو أن في وجوده الخارجي لا يحتاج إلى أمر آخر
غير علته.
وبعبارة أخرى: يوجد لا في موضوع، وهذا مثل الجواهر بأقسامها.
ومنها: ما يكون تاما ماهية فقط; أي يتحقق في عالم التعقل والذهن مستقلا
بحياله; من دون احتياج لتعقله إلى أمر آخر، وأما بحسب الوجود فيحتاج إلى
الموضوع، وهذا مثل الأعراض، فإن مفاهيمها مستقلة، ولكنها لا تتحقق ولا توجد في
الخارج إلا بالحصول في الموضوع.
فالفرق بين الجواهر والأعراض - بعد اشتراكهما في الاستقلال بالمفهومية وعدم
احتياجهما في التعقل إلى أمر آخر -: إنما هو في الخارج والوجود، فإن الجوهر في

1 - الكافية في النحو 1: 10 سطر 15.
115

الخارج أيضا مستقل وإن كان مكتنفا بالعوارض والمشخصات، بخلاف الأعراض،
فإنها تتوقف على وجود الموضوع.
ومنها: ما يكون قاصرا في كلتا النشأتين; أي لا يوجد في الذهن ولا في الخارج
إلا تبعا ومندكا في الغير، كالنسب والوجودات الرابطة.
وسيظهر لك الفرق بينهما، فإن قيام زيد في الخارج - مثلا - شيء موجود، وله
حظ من الوجود، ولكنه وجود مندك في وجود القيام وزيد.
وبعبارة أخرى: لا تحقق للقيام المضاف لزيد في الخارج وراء تحقق زيد والقيام،
فظهر أن في الخارج أمورا ثلاثة:
1 - زيد، وهو من الجواهر.
2 - القيام، وهو من قبيل الأعراض.
3 - حصول القيام لزيد، وحصول القيام غير نفس زيد، والقيام.
هذا حال وجود هذا القسم في الخارج، وأما لحاظ هذا القسم وتعقله فهو أيضا
فرع تعقل الطرفين.
فقد ظهر لك: أن الموجودات الخارجية على طوائف ثلاث، وأنها لا تخلو من
واحدة منها: إما تكون من الجواهر، أو من الأعراض، أومن النسب والإضافات.
والبحث في حقيقة وجودها موكول إلى محله (1)، ولا يهمنا البحث عنها، وإنما
المهم هو بيان أنه كما نحتاج في مقام التفهيم والتفهم إلى المعاني المستقلة مفهوما
ووجودا، فكذلك نحتاج إلى إفهام وتفهم المعاني النسبية والإضافات، بل احتياجنا
إليها أكثر من الاحتياج إلى غيرها، كما لا يخفى، فلابد وأن يكون لنا ألفاظ تدل على
الطوائف الثلاث، والألفاظ الدالة على الجواهر والأعراض معلومة واضحة لا إشكال

1 - الحكمة المتعالية 1: 79 - 82 و 4: 235 - 246.
116

فيها، وإنما الإشكال والخلاف فيما يدل على النسب والإضافات الجزئية (1).
فهل هي الحروف أم لا؟
قد وقع الخلاف في معاني الحروف:
فقال بعض: إنها لا تدل على معنى، بل هي علامات صرفة (2).
وقال آخر: إن معناها معنى الأسماء، ولا فرق بينها وبين الأسماء في المعاني
الموضوع لها (3).
وقال ثالث: إن لها معاني غير ما للأسماء، لكنها لا تحكي عن الواقعيات، بل
معناها إيجادي صرف (4).
وقال رابع: إن لها معاني غير ما للأسماء، ولكن لا تنحصر معانيها في الإيجادية،
بل ربما تحكي عن نفس الأمر والواقع (5).
إلى غير ذلك من الأقوال (6).
الحق أن يقال: إن مفاد بعض الحروف حكائي (7)، كلفظة «من» و «إلى» في

1 - ولا يخفى أن النفس قد تعقل المعنى النسبي والإضافي على ما هو عليه في الخارج، فتتعقل
القيام الحاصل لزيد مثلا، وقد تنتزع عنوانا كليا من النسبة والإضافة فتتعقله، وواضح أن هذا
المعنى كلي مستقل بالمفهومية، وبعبارة أخرى: معنى اسمي. المقرر
2 - تقدم تخريجه.
3 - تقدم تخريجه.
4 - فوائد الأصول 1: 34 - 38.
5 - هداية المسترشدين: 23 سطر 1.
6 - راجع نهاية الأصول 1: 18 - 20 فقد ذكر المحقق السيد البروجردي (قدس سره) هناك عدة أقوال في
هذا المجال.
7 - المراد بالحكائي هو الإخطاري الذي وقع في كلام العلمين - النائيني والعراقي (قدس سرهما) - كما
سنتعرض لمقالتهما - والتعبير بالحكائي أولى مما عبرا به لأن ما عبرا به يصدق على
الإنشائي والإيجادي (أ); لأنه أيضا يوجب إخطار المعنى والمنشأ وحضوره، والأمر سهل.
المقرر.
117

قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة»، وبعضها إيجادية، مثل «يا» النداء و «واو» القسم
وأداة التمني والترجي والاستفهام والتشبيه والتنبيه ونحوها، وبعضها علامة صرفة
لا تدل على معنى أصلا، ك‍ «كاف» الخطاب، فإنها لا تدل على معنى، وإنما هي علامة
لكون المخاطب مذكرا... إلى غير ذلك.
وذلك لأن باب دلالة الألفاظ من باب التبادر ونحوه، وواضح أن المتبادر من
قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة» هو الحكاية، وواضح أنه لا تكون حكاية
واحدة; بحيث لا تحكي «البصرة» عن شيء، كما لا تحكي «الزاء» من لفظة «زيد» عن
جزء منه، بل هي حكايات; لأنه يحكي «السير» عن معنى غير ما تحكيه «البصرة»،
وما تحكيه «البصرة» غير ما تحكيه «الكوفة» و «السير»... وهكذا.
وواضح أن المحكي لم يكن مطلق السير، بل السير الصادر من زيد المحدود
بالبصرة والكوفة ابتداء وانقطاعا.
فهذه الجملة تحكي عن أن سيري كان مبتدئا من البصرة، ومنتهيا بالكوفة،
والتجريد والتحليل يعطي: بأن الذي يدل على تلك النسبة والربط إنما هما لفظتا «من»
و «إلى»، ولم يكن في الجملة ما يدل على النسبة غيرهما كما لا يخفى، ولو لم يكن فرق
بين الحرف والاسم في المعنى - كما ادعى (1) - لصح استعمال كل منهما في موضع الآخر،
ويجوز استعمال الابتداء فيما يستعمل فيه لفظة «من»، واستعمال الانتهاء فيما يستعمل فيه
لفظة «إلى» وبالعكس، والضرورة قاضية بعدم دلالة الابتداء والانتهاء على الإضافة

1 - كفاية الأصول 25 - 27.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - انظر فوائد الأصول 1: 37، وبدائع الأفكار 1: 43
118

والربط; ألا ترى أن قولنا: «سرت الابتداء البصرة والانتهاء الكوفة» لا تدل على
ما يدل عليه قولنا: «سرت من البصرة إلى الكوفة».
وبالجملة: ما يتبادر وينسبق إلى الذهن من قولنا: «سرت من البصرة إلى
الكوفة»، هو أن ما يدل على أن ابتداء السير كان من البصرة هي لفظة «من»، وما يدل
على أن انتهاء سيره إلى الكوفة هي لفظة «إلى».
وواضح أن المتبادر من قولنا: «يا زيد» هو إيجاد النداء، ويصير «زيد» بذلك
منادى، ولم يكن لمعنى هذه الجملة تقرر وثبوت مع قطع النظر عن هذا الاستعمال، بل
توجد في موطن الاستعمال، فواقعية هذا المعنى وحقيقته تتوقف على الاستعمال، وبه
يكون قوامه، بخلاف «زيد» فإن له نحو تقرر وثبوت في وعاء الذهن والخارج مع قطع
النظر عن الاستعمال.
والمتبادر من بعض الحروف أنها مثل علامات الإعراب من الرفع والنصب
والجر، ك‍ «كاف» الخطاب في قوله تعالى حكاية عن زليخا: (فذلكن الذي لمتنني
فيه) (1)، فإن الكاف لا تدل ولا تحكي عن معنى، وإنما هي علامة لكون المخاطب
مذكرا.
فظهر مما ذكرنا: أن الحروف على طوائف مختلفة، ولم يدل دليل من العقل أو من
الشرع أو من غيرهما على أن جميعها إيجادي، كما يراه المحقق النائيني (قدس سره) (2) أو حكائي
وإخطاري، كما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره) (3)، فالذي ندعيه غير ما ادعاه العلمان،
فلابد لنا من بيان الخلل الواقع في كلامهما، ليتضح الحال، فنقول:

1 - يوسف: 32.
2 - فوائد الأصول 1: 37.
3 - بدائع الأفكار 1: 42 - 43.
119

ذكر وتعقيب
ذكر المحقق النائيني (قدس سره) لإثبات أن الحروف كلها إيجادية أمورا لا يرتبط بعضها
بالمقصود:
أنكر في الأمر الأول كون المعاني والمفاهيم مركبة، بل قال: إن الحقيقة التي
يدركها العقل - سواء كان لها خارج يشار إليه، أم لا - مجردة عن كل شيء وبسيطة
غاية البساطة; بحيث لا تكون فيها شأنية التركيب، بل لا تركيب في الأوعية السابقة
على وعاء العقل; من الواهمة والمتخيلة، بل الحس المشترك أيضا; إذ ليس في الحس
المشترك إلا صورة الشيء مجردة عن المادة، ثم يرقى إلى القوة الواهمة، ثم يصعد إلى
المدركة العقلائية، ويكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة.
وما يقال: من أن الجنس والفصل عبارة عن الأجزاء العقلية (1)، فليس المراد أن
المدركات العقلية مركبة من ذلك، بل المراد أن العقل - بالنظر الثانوي إلى الشيء
- يحكم بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي وما به الامتياز
الفصلي، وإلا فالمدرك العقلائي لا يكون فيه شائبة التركيب أصلا، فمرادنا من المعنى
والمفهوم في كل مقام هو ذلك المدرك العقلي.
ثم ورد في تفسير قولهم في رسم الاسم والحرف فقال: إن مرادهم بأن الاسم ما
دل على معنى في نفسه، أو قائم بنفسه (2): هو أن المعنى الاسمي له تقرر وثبوت في وعاء
العقل من دون أن يتوقف إدراكه على إدراك أمر آخر; سواء كان المعنى من مقولة
الجواهر أو الأعراض، فإن الأعراض أيضا مستقلة بحسب المفهوم والهوية حتى
الأعراض النسبية كالأبوة والبنوة; لأن تصور العرض النسبي وإن كان يتوقف على
تصور طرفيها، إلا أنه مع ذلك له معنى متحصل في حد نفسه عند العقل.

1 - شرح المواقف 3: 33، كشف المراد: 91.
2 - شذور الذهب: 14، شرح الكافية 1: 7 سطر 11.
120

ثم قال: إن معنى قولهم: إن الحرف ما دل على معنى في غيره، أو قائم بغيره (1).
هو أن المعنى الحرفي ليس له تقرر وثبوت في حد نفسه، كما كان للاسم، بل معناه قائم
بغيره، نظير قيام العرض بمعروضه في وجوده الخارجي لا في هويته.
هذا مرادهم بدلالة الحرف على معنى في غيره، لا أنه ليس له معنى، بل هي
علامة صرفة.
والفرق بين كون الحرف علامة صرفة وبين كون معناه قائما بغيره: هو أنه بناء
على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه، نظير حكاية
الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه مع قطع النظر عن الاستعمال.
وأما بناء على كون معناه قائما بغيره هو أنه موجد لمعنى في الغير لا حكاية
المعنى القائم بالغير على ما سيجيء توضيحه (2).
وفيه: أنه لو كانت المدركات العقلية بسائط، فكيف يصح الإخبار عن مثل
زيد قائم، فإنها قضية، والتصديق والحكم في القضايا يتوقف على تصور الأطراف، فلم
تكن بسائط؟!
وواضح أن ماهية الإنسان مركبة من الجنس والفصل، ويدرك هما العقل
بالتحليل العقلي، بل غالب الأمور إضافات ومركبات، فإنكار التركيب في جميع
المدركات العقلية إنكار للأمر الوجداني.
ولعل منشأ توهم ذلك: هو قول أرباب المعقول: إن المعقولات مجردة عن المادة
والصورة (3)، فتوهم أن مرادهم بذلك أنها مجردة بسيطة، مع أن مرادهم بذلك هو أن
المعقولات مجردة عن المادة والصورة الخارجيتين، لا إنكار المادة والصورة العقليتين

1 - نفس المصدر السابق.
2 - فوائد الأصول 1: 35 - 37.
3 - انظر الحكمة المتعالية 3: 284 - 290.
121

أيضا، فتدبر.
والعجب منه (قدس سره) أنه قال في بعض كلامه في هذا المقام: إن كون الإنسان حيوان
ناطق مبني على التجريد (1); لأنه لو كان شأن العقل التجريد والتحليل فقبل التجريد
لابد وأن يكون المتصور مركبا.
ثم إنه يرد على ما ذكره (قدس سره) أخيرا في معنى العلامة - من أنه بناء على كون
الحرف علامة هي حكايتها عن معنى في الغير متقرر في وعائه، كحكاية الرفع عن
الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه مع قطع النظر عن الاستعمال (2) -: بأن معنى كون
شيء علامة هو أن وجودها وعدمها لا يضر بالمعنى المقصود، لا أنها تحكي عن معنى
في الغير مستقر وفي وعائه مع قطع النظر عن الاستعمال، وذلك من الوضوح بمكان،
فمعنى كون الضمة - مثلا - علامة هي أنها تحكي عن كون لفظة «زيد» الواقعة في
«ضرب زيد» مثلا فاعل، لا أنها تحكي عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه مع قطع
النظر عن الاستعمال، فتدبر.
وكيف كان، فأنت خبير بأن ما ذكره في هذا الأمر غير مربوط بكون معاني
الحروف إيجادية، نعم ما ذكره في الأمر الثاني متكفل له، لكن مع اشتماله على غير ما هو
دخيل في المقصود، مثل بيان حال الأعراض وبيان تعلقها بموضوعاتها، وذكر أقسام
النسب، وأن أول نسبة توجد في الخارج هي نسبة الفعل إلى الفاعل، ثم بعدها تحدث
نسبة المشتق، ثم تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة، وذكر الظرف
المستقر واللغو، والفرق بينهما... إلى غير ذلك.
وحاصل ما أفاده (قدس سره) في كون معاني الحروف إيجادية:
هو أنه لا إشكال في أن استعمال «كاف» الخطاب و «يا» النداء وما شابه ذلك،

1 - انظر فوائد الأصول 1: 35.
2 - نفس المصدر 1: 37.
122

موجب لإيجاد معانيها; من دون أن يكون لمعانيها: نحو تقرر وثبوت في الخارج مع
قطع النظر عن الاستعمال، بل يوجد في موطن الاستعمال; ضرورة أنه لا يكاد توجد
حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك.
وهذا - في الجملة - مما لا إشكال فيه.
وإنما الإشكال في أنه هل جميع معاني الحروف كذلك أو لا؟
ظاهر كلام المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) (1) هو اختصاص ذلك ببعض الحروف،
وكان منشأ توهمه لذلك تخيل: أن مثل «من» و «إلى» و «على» و «في» وغير ذلك من
الحروف تكون معانيها إخطارية; حيث يكون استعمالها موجبا لإخطار ما وقع في
الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء - مثلا - في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة»،
وتكون لفظة «من» و «إلى» حاكية عما وقع في الخارج، كحكاية لفظة «زيد» عن معناه.
وبالجملة: منشأ توهم ذلك هو تخيل: أن هذه الحروف إنما تكون حاكية عن
النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها، ولذا يتصف بالصدق
والكذب; إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك، بل تتصف
بالوجود والعدم، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي.
ولكن التحقيق أن جميع معاني الحروف إيجادية حتى ما أفاد منها النسبة; وذلك
لأن شأن أداة النسبة إنما هي إيجاد الربط بين جزئي الكلام، فإن الألفاظ بما لها من
المفاهيم متباينة بالهوية والذات; لوضوح مباينة لفظ «زيد» بما له من المعنى للفظ
«القائم» بما له من المعنى، وكذا لفظ «السير» مباين للفظ «الكوفة» و «البصرة» بما لهما
من المعنى، وأدوات النسبة إنما وضعت لإيجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من
المفهوم; على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها، فكلمة «من»

1 - هداية المسترشدين: 23 سطر 8 و 32 سطر 38 و 34 سطر 11.
123

و «إلى» - مثلا - إنما جيء بهما لإيجاد الربط وإحداث العلقة بين «السير» و «البصرة»
و «الكوفة» الواقعة في الكلام; بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط
وعلاقة أصلا.
ثم بعد ذلك يلاحظ مجموع الجملة بما لها من النسبة بين أجزائها، فإن كان له
خارج تطابقه فالكلام صادق، وإن لم تطابق النسبة الخارج فالكلام كاذب.
فظهر لك: أن ملاك الصدق والكذب هو ملاحظة المجموع المتحصل من جزئي
الكلام - بعد إيجاد الربط بينهما - للخارج، لا ملاحظة النسبة الكلامية للنسبة
الخارجية، وكم فرق واضح بينهما كما لا يخفى (1)؟! انتهى محررا.
وفيه: أنه (قدس سره) لم يقم على دعواه - من كون جميع معاني الحروف إيجادية - دليلا،
فما ذكره دعوى بلا بينة، ومع ذلك فقد وقع الخلط والاشتباه في كلامه من وجوه:
فأولا: هو أن الإيجادية التي ذكرها في ابتداء الأمر الثاني - عند تقسيم المعاني
إلى الإخطارية والإيجادية - غير ما قاله في آخر كلامه.
فقال أولا: إن معنى كون «كاف» الخطاب و «يا» النداء إيجادية: هو أنه قبل
الخطاب والنداء لم يكن خطاب ولا نداء تحكيان عنهما، بل يوجدان بلفظة «كاف»
الخطاب و «يا» النداء، وهذا المعنى من الإيجادي هو الذي يدعيه في قسم من الحروف.
وأما ما ذكره أخيرا: فهو أنه لا شأن للحروف أصلا إلا إيجاد الربط بين أجزاء
الكلام، فيدل قوله هذا على أن الحروف لا تدل أصلا على غير إيجادية النسبة بين
أجزاء الكلام حتى إيجاد المعنى، مع أنه ذكر في ابتداء الأمر أنه بنفس «كاف» الخطاب
و «يا» النداء يوجد معنى الخطاب والنداء، لا أن «الكاف» و «يا» النداء توجدان
النسبة بين الجملتين (2).

1 - فوائد الأصول 1: 37 - 42.
2 - قلت: لعل مراده (قدس سره) مما ذكره أخيرا هو بيان شأن غير كاف الخطاب وحرف النداء وما
شابههما; لأنه قد اعترف أولا: بأنه لا إشكال في كونهما إيجادية بالمعنى الذي ذكره، وإنما
الإشكال في أن غيرهما من الحروف، هل هي إيجادية أم لا؟ فتصدى لبيان كونها أيضا
إيجادية، فلا تنافي بين الصدر والذيل إلا أن يقال: إن ظاهر - بل صريح - قوله: إن التحقيق أن
معاني الحروف كلها إيجادية; حتى ما أفادت منها النسبة... إلى آخره في أن جميع الحروف
- حتى ما يكون نظير «كاف» الخطاب و «يا» النداء - كذلك، فتدبر. المقرر
124

وثانيا: أن ما ذكره أخيرا - من عدم إفادة الحروف معنى غير إيجاد النسبة بين
أجزاء الكلام - ينافي ما ذكره في الأمر الثاني في بيان النسب، فإنه قال هناك: إنه
لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب، فإن الحروف - ك‍ «من» و «إلى» و «في»
وغير ذلك من الحروف الجارة - أيضا تفيد النسبة، فإن «من» في قولك: «سرت من
البصرة إلى الكوفة» يفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسار عنه - وهو
البصرة - و «إلى» تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه - وهو الكوفة - فلولا كلمتا
«من» و «إلى» لما كانت هناك نسبة بين السير والبصرة والكوفة، وكذا الكلام في كلمة
«في»; حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف، فيقال: «زيد في الدار»، و «ضرب
زيد في الدار» (1).
فنقول: إذا لم تكن للحروف شأن إلا إيقاع الربط بين ألفاظ الجملة، والحكاية
عن الخارج شأن الجملة - كما هو صريح كلامه أخيرا - فكيف يقال: إن «من» تحكي
عن نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسار عنه و «إلى» تدل على النسبة إلى
المكان الذي يسير إليه... وهكذا.
وثالثا: إن كان مراده (قدس سره) بقوله أخيرا: إن مجموع المتحصل من جزئي الكلام
- بما لهما من النسبة - يحكي عن الخارج، إن مجموع الجملة يحكي عن مجموع الخارج
دلالة واحدة وضعية; بحيث لا تدل أبعاض الجملة على أبعاض المعنى الخارجي.
مثلا: لا تدل لفظتا «البصرة» و «الكوفة» في قولك: «سرت من البصرة إلى

1 - فوائد الأصول 1: 42.
125

الكوفة» على معنى غير ما تدل عليه لفظة «السير»، كما لا تدل «الزاء» من «زيد» على
جزء من ذات «زيد».
فواضح أنه خلاف التبادر والوجدان، ولا أظن أنه (قدس سره) يلتزم به، بل لكل من
«السير» و «الكوفة» و «البصرة» دلالة على معنى غير ما يدل عليه الآخر; وذلك لأن
«سرت» له مادة وهيئة، ومادته تدل على المعنى الحدثي، وهيئته تدل على صدور
الحدث عن الفاعل، والهيئة معناها حرفي، ومع ذلك تحكي معنى واقعيا، وهو صدور
السير مني، وكذا لم يكن لمجموع «من البصرة» دلالة واحدة على معنى واحد، بل
«البصرة» تدل على البلد المعروف، وظاهر أنه يفهم من اللفظ أن السير كان مبتدأ من
البصرة، وليس له في العبارة ما يدل عليه سوى لفظة «من»، وكذا حال «إلى الكوفة».
وبالجملة: إن من الحروف - كلفظة «من» و «إلى» - ما يحكي عن ربط ومعنى
واقعي والارتباط في الحمل تابع للارتباط في الواقع، ولا يوجد شيئا.
وما ذكره (قدس سره) خلاف المتبادر الذي هو الأساس في أمثال هذه المباحث،
وخلاف ما يفهمه العرف واللغة.
إشكالات وإيرادات
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) أنكر كون معاني الحروف إيجادية، في قبال المحقق
النائيني (قدس سره) القائل بكون جميعها إيجادية، وأقام وجوها لامتناع إرادة الإيجادية منها،
وحيث إنا - كما أشرنا - نرى أن بعض الحروف إيجادية، فلابد لنا من دفع الوجوه
والإشكالات، التي تمسك بها لامتناع إرادة الإيجادية من الحروف:
الإشكال الأول:
حاصله: أن المعاني التي تتصورها النفس: إما تكون مرتبطة بعضها ببعض، أو
126

غير مرتبطة، ولا يعقل إحداث الربط في الصورتين; لأنه في الصورة الأولى تحصيل
للحاصل، وفي الصورة الثانية يوجب انقلاب الموجود عما هو عليه.
ولكن يمكن أن ينفي هذا التصور، ويحدث في نفسه وجودا آخر بخصوصية
أخرى، فإذا تصورت مفهوم «زيد» في قولنا: «زيد في الدار» مستقلا - أي لا في ضمن
تصورها للمعنى المركب - فلا يعقل أن يحدث الربط بينه وبين مفهوم «الدار» ثانيا، نعم
يمكن أن يفني هذا التصور، ويتصوره ثانيا مرتبطا بمفهوم «الدار» في ضمن تصورها
لمفهوم «زيد في الدار»... إلى آخر ما ذكره (1).
وفيه: أن هذا الإشكال غير وارد على الإيجادية بالمعنى الذي ذكرناه، كما أشرنا
في «كاف» الخطاب و «يا» النداء، وهو ظاهر.
ولا على ما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) القائل: بأن الحروف شأنها إيقاع الربط
بين أجزاء الكلام (2); وذلك لأن من تصور زيدا، وأراد أن يقول: إنه في الدار، فقال:
«زيد»، ثم بعد لحظة بدا له، فقال: «في السوق»، فأمكنه إيقاع الربط بينهما، وهذا غير
الربط الحاصل بين زيد والدار، والمعنى المرتبط الموجود في الذهن هو كون زيد في
الدار، ولم يرد إيجاد ذلك الربط; ليكون تحصيلا للحاصل، بل أوجد ربطا آخر غير
موجود، وهو كونه في السوق، ولا يوجب ذلك انقلاب الشيء عما هو عليه; لأن زيدا
لم يتصور غير مرتبط، ثم إن الاستقلالية لم تؤخذ بشرط شيء; حتى توجب لحاظه
مرتبطا انقلاب الشيء عما وقع عليه، بل مأخوذ بعنوان اللا بشرط، فلا توجب
الانقلاب، كما أن الموجودات الخارجية أيضا كذلك; ضرورة أن الجسم الخارجي
يتزايد في أقطاره، ويتركب مع شيء آخر وينقص عنه.
وبالجملة: وزان الموجود في الذهن وزان الموجود في الخارج، فكما أن الموجود

1 - بدائع الأفكار 1: 43.
2 - فوائد الأصول 1: 42.
127

الخارجي ينقلب عما هو عليه، ويزيد عليه، وينقص منه، فليكن الموجود في الذهن
كذلك، فللنفس إعدام الربط الموجود بين «زيد» و «الدار» وإيقاع الربط بينه وبين
السوق.
الإشكال الثاني:
وحاصله: أن الهيئة الدالة على معنى لابد وأن يكون مدلولها معنى حرفيا، وعلى
فرض كون المعنى الحرفي إيجاديا، يلزم أن يكون معنى الهيئة متقدما في حال كونه
متأخرا، وبالعكس، وهذا خلف.
وذلك لأن مادة الجملة تدل على معنى اسمي، فتكون متأخرة عن مدلوله طبعا
تأخر الدال عن مدلوله، والهيئة العارضة على المادة متأخرة عنها تأخر العارض عن
معروضه، ومعنى الهيئة متأخر عن الهيئة تأخر المعلول عن علته; لأن الماهية موجدة
للمعنى، فالمعنى الحرفي متأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب; لأنه:
1 - متأخر عن الهيئة.
2 - المتأخرة عن المادة.
3 - المتأخرة عن المعنى.
وواضح أن مدلول الهيئة معنى حرفيا، فإذا كان ذلك المعنى الحرفي إيجاديا يلزم
أن توجد الهيئة معناها الحرفي - المتأخر عن المعنى الاسمي بثلاث رتب - في المعنى
الاسمي، فيتقدم على علته بثلاث رتب (1).
أقول: ينبغي الإشارة أولا إلى أمر ربما يكون مغفولا عنه، وقد أورثت الغفلة
عنه اشتباهات كثيرة: وهو أنه ليس كل ما مع المتقدم على الشيء متقدما على ذلك

1 - بدائع الأفكار 1: 44.
128

الشيء، وكذا ليس كل ما مع المتأخر عن شيء متأخرا عن ذلك الشيء، وإنما يتم ذلك
في التقدم والتأخر الزماني والمكاني ونحوهما، وأما في التقدم والتأخر الرتبي غير
الفكي، فلا يلزم أن يكون مع المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء، بل لا وجه
له، وكذلك لا يلزم ولا وجه لأن يكون مع المتأخر عن شيء متأخر عن ذلك الشيء.
وذلك لأنه إذا كان هناك شيئان معا في رتبة واحدة; بأن كانا معلولي علة
واحدة، فإن كان أحدهما علة لأمر فتكون متقدمة على ذلك الأمر تقدم العلة على
معلولها، وذلك الأمر متأخر عنه تأخر المعلول عن علته، ولا يوجب ذلك تقدم
ما يكون مع العلة عليه وتأخره عنه; لأن تقدم العلة إنما هو بحسب تقدم وجود
المعلول بها; من دون أن يكون بين وجود العلة ووجود معلولها انفكاك وفصل،
فالتقدم والتأخر عقليان لا خارجيان، فالذي مع العلة لا وجه لتقدمه على ذلك
الشيء; لعدم وجود الملاك فيه.
وكذا أجزاء المركب متقدمة على المركب تقدما جوهريا، فإذا كان شيء في رتبة
جزء من أجزاء المركب; من دون أن يكون دخيلا في حصول المركب، لا يكون مقدما
على المركب تقدما جوهريا.
وبما ذكرنا يظهر لك وجه اختصاص ما ذكرنا بالتقدم والتأخر غير الفكيين;
بداهة أنه لو كان شيء مع المتقدم بالتقدم المكاني أو الزماني، لصح أن يقال: إن ما مع
المتقدم متقدم، وبالعكس: ما مع المتأخر متأخر; لحصول الفصل بين المتقدم والمتأخر
بالزمان أو المكان، فما كان معه يكون متقدما بحسب الزمان أو المكان أيضا.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إن هيئة: «ضرب» - مثلا - متأخرة عن ذات مادته
- أعني: الضاد والراء والباء - تأخر العارض عن معروضه، ولا يلزم من تأخر الهيئة
عن المادة تأخر الهيئة عن مادته بوصف دلالتها على المعنى، بل هي في عرضها; لأن
وصف دليليتها - لو سلم تأخرها عن مدلولها ومعناه - لا تكون دلالته على المعنى
129

بالذات، بل بالوضع، ففي الحقيقة يكون للمادة وصفان: أحدهما الهيئة العارضة عليها،
والثاني وصف كونها دالة الحاصل بالوضع، وهما في رتبة واحدة في العروض على
المادة، فقوله (قدس سره): إن الهيئة متأخرة عن المادة المتأخرة عن معناها، من اشتباه ما
بالعرض بما بالذات، وهو نوع من المغالطة; لأن الهيئة إنما تأخرت عن ذات المادة بجهة
عروضها عليها، لا بوصف دلالتها على المعنى بالوضع، فتدبر. هذا أولا.
وثانيا: أنه لم نفهم المراد من قوله (قدس سره): إن الدال متأخر عن مدلوله، هل مراده
أنه متأخر عنه ذاتا؟ فالضرورة قاضية بعدمه.
وإن أراد أن المادة بما أنها دالة متأخرة، فنقول: إن المتضايفين متكافئان قوة
وفعلا حتى في العلية والمعلولية; لأن المتقدم هنا ذات العلة، وأما ذات العلة بوصف
عليتها، فلا تقدم لها على ذات المعلول بوصف المعلولية، فإذا لا تقدم للمادة - بما هي
دالة - على المدلول بما هو مدلول، بل هما في رتبة واحدة.
وثالثا: أن المتخيل والمترائي في النظر بدوا هو أن الدال مقدم على المدلول;
لأنه باللفظ الدال على المعنى ينتقل الذهن إلى المعنى والمدلول دون العكس، ومجرد
كون وضع اللفظ بعد وجود المعنى والماهية، لا يوجب تقدم المعنى والمدلول على اللفظ
الدال عليه، ولا يرتبط ذلك بباب الدلالة التي هي محل البحث، ولكن مع ذلك
لا يوجب تقدم ذلك عليه رتبة.
وبالجملة: المترائي في باب الدلالة وإن كان تقدم اللفظ الدال على المعنى
المدلول; بلحاظ أن اللفظ هو الذي يدل على المعنى، وبإدراك اللفظ يدرك المعنى،
دون العكس.
ولكن مجرد حضور المعنى بعد حضور اللفظ لا يوجب التقدمة; لأن ذلك باب
الانتقال، ومجرد انتقال الذهن إلى أمر لأجل توجهه إلى شيء، لا يوجب تقدم رتبة
ذلك الأمر على ذلك الشيء.
130

ورابعا: لو تم ما ذكره (قدس سره) فإنه لا يوجب تقدم المعنى على علته بثلاث رتب، بل
برتبتين، كما لا يخفى، وإن كان المحذور مشكوك الورود على التقديرين.
وخامسا: أنه يمكن أن يقال - من قبل المحقق النائيني (قدس سره) -: إن الحروف
لا توجد الربط بين المعنيين، وإنما شأنها إيقاع الربط بين أجزاء الكلام، فالهيئة - مثلا -
توقع الربط بين أجزاء الكلام، فتكون متأخرة عن أجزاء الكلام، والارتباط من
أوصافه.
وبالجملة: الباب باب إيقاع الربط بين الجزئين، فالحرف متأخر عنهما، يوقع
الربط بينهما، من دون أن يقع في رتبة المعنى.
الإشكال الثالث:
حاصله: أنه لو كان المعنى الحرفي إيجاديا، لزم أن يكون المعنى الحرفي - الذي
هو من حدود المطلوب المتقدم رتبة - في رتبة الطلب; وذلك لأن لفظتي «من» و «إلى»
في قولك: «سر من البصرة إلى الكوفة» من حدود المطلوب، والمطلوب متقدم طبعا
على الطلب، فلو كان معنى الحرف إيجاديا لزم أن يكون معنى «من» و «إلى» - في
المثال المذكور - موجودا حين الطلب وفي رتبته، وباعتبار أن الطلب متأخر عن
المطلوب طبعا، ولفظتي «من» و «إلى» من حدود المطلوب، فتكون في رتبة المطلوب،
فيلزم أن يكون معنى «من» و «إلى» - بملاحظة كونهما في رتبة الطلب - متأخرا عن
المطلوب، وبملاحظة كونها من قيود المطلوب متقدما على الطلب. هذا خلف (1).
وفيه: أن مجرد كون المعنى الحرفي متحققا حين تحقق الطلب، لا يوجب أن
يكون في رتبة الطلب، فإن مجرد وجود شيء حين وجود أمر غير كونه موجودا في

1 - بدائع الأفكار 1: 44.
131

رتبته; وذلك لأن المعلول موجود حين وجود علته، ومع ذلك لا يكون في رتبتها.
وبالجملة: لابد وأن يتصور أولا متعلق الطلب وحدوده، ثم يبعث الآمر نحوه،
ف‍ «من» و «إلى» الرابطتان لسير السائر من البصرة إلى الكوفة، يتصوره الآمر أولا،
ثم يوجه البعث نحوه، فهو مقدم على الطلب، ولازم كون «من» و «إلى» إيجادية إنما هو
مقارنتهما مع الطلب، ولكن لا يدل ذلك على أنهما في رتبة واحدة، فالمولى عند قوله:
«أطلب منك السير من البصرة إلى الكوفة»، أوجد الربط بين ألفاظ هذه الجملة بلفظة
«من» و «إلى» قبل تعلق الطلب وفي الرتبة السابقة، والسير من البصرة إلى الكوفة
متعلق الطلب وحدوده، ولا يلزم من كون «من» و «إلى» إيجادية أن يقع في مفاد
الطلب ورتبته; لأنه أوجد الربط في الرتبة السابقة على الطلب، ومجرد مقارنتهما
بحسب الزمان لا يوجب ذلك ف‍ «من» و «إلى» أوجدا المعنى في حدود المطلوب من
دون أن يتحرك من مرتبته وصقع المطلوب إلى صقع الطلب، فكأنه قال: «السير من
البصرة إلى الكوفة مطلوبي»، فتدبر.
الإشكال الرابع:
حاصله: أن كل لفظ له مدلول بالذات، وهو المفهوم الذي يحضر في الذهن عند
سماعه، ومدلول بالعرض، وهو الخارج عن الذهن، الذي يكون المفهوم الذاتي فانيا
فيه، والغرض من الوضع وتأليف الكلام والمحاورة هو المدلول بالعرض.
وعلى تقدير كون معاني الحروف إيجادية، يلزم أن لا يكون لها إلا مدلول
بالذات، فلا تكون لها دلالة يصح السكوت عليها.
وذلك لأن كل كلام لابد له من نسبة، بها يحصل الربط بين مفرداته، وحيث إن
لمفردات الكلام معاني اسمية إخطارية تكون لها مداليل بالذات، وهي مفهوماتها،
ومداليل بالعرض، وهي الخارج عن الذهن الذي يفنى فيه ذلك المفهوم، وأما النسبة
132

الرابطة بين المفردات فلو كانت إيجادية - حسب الفرض - لا يكون لها إلا مدلول
بالذات، وهو الوجود الخاص الرابط بين المفردات، فعلى هذا لا يكون لشيء من الكلام
دلالة يصح السكوت عليها، ويحصل بها التفاهم أصلا، وهو خلاف الضرورة والوجدان.
وتوهم: أن المعتبر في حكاية الكلام عن الخارج إنما هو حكاية مجموعه - بما
هو مجموع - عن الخارج، لا حكاية كل لفظ من مفرداته عما يقابله; حتى يقال: بأن
الحروف ليس لها مداليل بالعرض، والوجدان حاكم بأن مجموع الكلام - المؤلف من
الأسماء والحروف - يفهم منه معنى تركيبي غير ما يفهم من مفرداته.
مدفوع: بأن تركب الكلام تركب اعتباري، لا حقيقي; ليحدث من امتزاج بعض
أجزائه مع بعض حقيقة ثالثة غير حقائق أجزائه، ومعنى اعتبارية التركيب: هو أن
أجزاءه موجودات مستقلة، يمتاز كل منها عن الآخر بالماهية والهوية، فلكل من
أجزاء الكلام وجود مستقل وحكاية خاصة، به يحكي عما سيق له من المعاني
الخارجية، فلازم إيجادية الحروف هو أن لا يكون لها في الكلام دلالة يصح السكوت
عليها، ويحصل بها التفاهم، وهو خلاف الضرورة والوجدان (1).
وفيه: ليته (قدس سره) قال هذا الكلام من أول الأمر، من دون أن يتعب نفسه الزكية
بذكر الإشكالات والتكلفات; لأن الباب باب التبادر والظهور، لا باب البراهين
العقلية، وواضح أن المتبادر عند العرف والعقلاء من جملة «سرت من البصرة إلى
الكوفة» - مثلا - هو الربط الواقعي بين السير والسائر من البصرة إلى الكوفة،
وواضح أن لفظتي «الكوفة» و «البصرة» لا تدلان على الربط، وهو واضح، ومجموع
الكلام - بما هو مجموع - لم يكن له وضع على حدة، فإذا الدال على الربط ليس إلا
لفظتي «من» و «إلى».

1 - نفس المصدر 1: 44 - 45.
133

وجهان لعدم إمكان إرادة الإيجادية من الحروف
ظهر لك بما ذكرنا: أنه لا تنحصر معاني الحروف في الإيجاديات، كما يراه
المحقق النائيني (قدس سره)، ولا في الحاكيات والإخطاريات، كما يراه المحقق العراقي (قدس سره)،
بل بعضها إيجادية، ك‍ «واو» القسم والنداء والتعجب وأمثالها، وبعضها حاكيات،
وبعضها غيرهما.
ولكن المحقق العراقي (قدس سره) يرى عدم إمكان إرادة الإيجادية في شيء من الحروف
أصلا، وقال: إن جميع معاني الحروف إخطارية، حتى مثل حروف النداء والتشبيه
والتمني والترجي ونحوها، غاية الأمر يكون المدلول عليه بالذات وبالعرض واضحا
تشخيصه، ك‍ «زيد في الدار»، و «سرت من البصرة»، وفي بعضها الآخر خفيا، مثل
النداء والتشبيه ونحوهما، فإن كان مراد القائلين بإيجادية مثل حروف النداء ونحوه: أن
استعمال حروف النداء يوجب حدوث فرد من النداء، فالإيجادية بهذا المعنى لا شبهة
فيها، ولكن لا يمكن أن يكون هذا الوجود الخارجي الجزئي معنى هذه الأدوات
والمدلول عليه بالذات.
واستدل لذلك بوجوه، نذكر وجهين منها هنا، ونشير إلى الوجه الثالث في باب
الحقيقة والمجاز:
الوجه الأول:
حاصل ما أفاده (قدس سره) في الوجه الأول: هو أن اللفظ يدل بالذات على المعنى الذي
يحضر في الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له، أو حين تصوره، وبالعرض على الخارج
ونفس الأمر، فكل لفظ له معنيان:
1 - ما يدل عليه اللفظ ذاتا، وهو الذي يحصل في الذهن.
2 - المعنى الواقعي الذي يكون مدلولا عليه بالعرض، ولا يعقل أن يحضر
134

الموجود الخارجي في الذهن، فلو كانت الحروف إيجادية، لزم أن يكون المتصور
والموجود في الذهن، هو الموجود الخارجي الحرفي، وقد ظهر امتناعه (1).
وفيه وجوه من الإشكال:
منها: النقض بوضع الأعلام الشخصية، فإنهم يرون أن الموضوع له في الأعلام
الشخصية خاص وأن لفظة «زيد» موضوعة لهذا الموجود المتشخص (2)، فكيف
يتصورونه؟ فما يستريحون إليه هناك، نستريح إليه هنا وفيما نحن فيه.
ومنها: أنه لا دليل على كون الموضوع له لابد وأن يكون المعنى الذي يحضر في
الذهن والمعلوم بالذات، فمن الممكن - بعد لحاظ المعنى - أن يوضع اللفظ لما هو
الموجود في الخارج والمعلوم بالعرض.
وبالجملة: لا دليل على لزوم كون المعنى الملحوظ موضوعا له، فمن الممكن أن
يكون الموضوع له أحيانا الموجود الخارجي والمعلوم بالعرض.
ومنها: أن المعلوم بالذات - وما يحضر في الذهن - لا يكون موضوعا له أصلا;
لأنه مغفول عنه عند المتكلم والمخاطب، وبالألفاظ ينتقل إلى المعاني الواقعية المعلومة
بالعرض، لا المعاني الذاتية والمتصورة، والمعاني الواقعية هي الموضوع له، فلم تكن
الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنية، لا في المشتقات وأسماء الأجناس، ولا في الأعلام
الشخصية، وإنما هي آلة ومرآة لما تكون موضوعا له. فظهر: أن المعلوم بالذات لم يكن
مدلولا عليه بالذات، والمدلول عليه بالذات هو المعلوم بالعرض، فتدبر.
الوجه الثاني:
حاصله: أن الموجود الخارجي الذي يكون بالحمل الشائع نداء - مثلا -

1 - بدائع الأفكار 1: 46.
2 - هداية المسترشدين: 26 سطر 19، الفصول الغروية: 16 سطر 2، بدائع الأفكار 1: 37.
135

لا يتحقق في الخارج إلا بنفس استعمال اللفظ فيه، فيتأخر عن الاستعمال فيه طبعا، أو
بملاك العلية والمعلولية، ولا ريب في أن المستعمل فيه تقدم على الاستعمال بالطبع، فإذا
كان هذا الموجود الناشئ من نفس الاستعمال هو المستعمل فيه، لزم أن يكون هذا
الوجود الجزئي - في آن واحد - متقدما رتبة على الاستعمال، ومتأخرا عنه رتبة،
وهو خلف.
وبالجملة: يلزم تقدم الشيء على نفسه (1).
وفيه: أن تحقق المعنى الخارجي بالاستعمال مسلم، ولكن لا دليل على أن
استعمال اللفظ في المعنى لابد وأن يكون متأخرا عن المعنى، وأظن أن منشأ توهم ذلك
هو قولهم: استعمال اللفظ في المعنى (2)، فتوهم أنه يلزم أن يكون المعنى شيئا ليستعمل
فيه; قضاء لحق الظرفية، مع أن الاستعمال طلب عمل اللفظ في المعنى، وإلقاء اللفظ
لإفهام المعنى، والمعنى لا يخلو: إما أن يكون حكائيا، أو إيجاديا.
ذكر وتعقيب:
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) ذهب إلى أن جميع معاني الحروف إخطارية موضوعة
للأعراض النسبية.
وحاصل ما أفاده: هو أن العرض على قسمين: قسم غير نسبي، وهو الكم
والكيف، والآخر نسبي، ومعنى العرض النسبي هو أن يتوقف على وجود الطرفين،
كالأعراض السبعة الباقية، فللحرف وجود رابطي - أي محمولي - وهيئة الجملة تدل
على ربط العرض بموضوعه; أي وجود رابط، مثلا: لفظة «في» تدل على العرض
الأيني العارض على زيد في قولك: «زيد في الدار»، وهيئة هذه الجملة تدل على ربط

1 - بدائع الأفكار 1: 46.
2 - هداية المسترشدين: 22 سطر 32، الفصول الغروية: 12 سطر 28، كفاية الأصول: 24.
136

هذا العرض الأيني بموضوعه; أعني «زيدا».
وهكذا تدل ألفاظ «من» و «على» و «عن» و «إلى» - وما رادفها من الحروف
- على أصناف مقولة الأين: من الأين الابتدائي، والأين الاستعلائي، والأين
التجاوزي، والأين الانتهائي.
وتوهم: أنه لو كان مدلول الحرف عرضا نسبيا فهو بذاته مرتبط بموضوعه،
فنفس الحرف يدل على الربط، فلا تبقى حاجة إلى وضع الجملة للدلالة على ربط
العرض بموضوعه، بل تكون دلالة الهيئة على الربط، تكرارا في الدلالة على ارتباط
العرض بموضوعه في الجملة المشتملة على الحرف; لتعدد الدال، وهو الحرف والهيئة
وهو خلاف الوجدان.
مدفوع: بأن الحرف إنما يدل على العرض المنتسب إلى موضوع ما، والهيئة تدل
على ربط ذلك العرض بموضوع بعينه مفصلا، فلفظة «في» في جملة «زيد في الدار»
- مثلا - تدل على عرض الأين منتسبا إلى موضوع ما، وهيئة الجملة تدل على ربط
ذلك العرض بزيد نفسه، ومدلول الأول غير الثاني، فلم يلزم التكرار المخالف للوجدان.
والإشكال: بأن ما ذكر إنما يتم في بعض الحروف، كلفظة «من» و «على» و
«عن» و «إلى» وما رادفها، وأما باقي الحروف، وما أكثرها - كحرف النداء والتشبيه
والتعجب ونظائرها - فيشكل جدا تشخيص كون مدلولها عرضا من الأعراض.
مدفوع: بأن معنى الحرف - كما عرفت - ينحصر في الجوهر أو العرض أو ربطه
بمحله، ولا شبهة في عدم كون معناه من الجواهر.
ولا مجال لتوهم كون معاني الحروف في الموارد المذكورة هي ربط الأعراض
بمحالها; لشهادة الاستقراء بأن حال الحروف المذكورة حال سائر الحروف في الدلالة
على الأعراض، والهيئات دالة على ربطها بمحالها، نعم تشخيص كون معنى الحروف
137

من أي أنواع العرض أمر آخر غير مهم في المقام (1).
وفيه مواقع للنظر:
وقبل التعرض لها ينبغي الإشارة إلى الفرق بين الوجود الرابطي والوجود
الرابط، وهو أن العرض النسبي: عبارة عن الوجود الرابطي، الذي يقال له أحيانا
الوجود المحمولي (2)، واصطلح «الوجود الرابطي» لما يقع طرف الربط (3)، مثلا: البياض
وجود رابطي محمولي، وما يربط البياض إلى زيد - مثلا - وجود رابط.
وبالجملة: فرق بين الوجود الرابط وبين الوجود الرابطي، فإن الأول نفس
الربط، والثاني له استقلال في المفهومية يقع طرفا للربط، ويقال: «اللون بياض».
إذا تمهد لك ما ذكرنا، يتوجه على ما أتعب فيه نفسه (قدس سره):
أولا: بأن لفظة «من» تدل على الوجود الرابط، لا على الوجود الرابطي; لأنه
لو دلت على العرض النسبي والوجود الرابطي، فلابد وأن يكون معناها مستقلا
بالمفهومية وتصح أن تقع محمولا، مع أن الوجدان حاكم بخلافه، فإنه يحكم بأن لفظة
«من» لها وجود رابط، تربط بين الأشياء، لا وجود رابطي، فتدبر.
وثانيا: أن «زيدا في الدار» - مثلا - لا يدل على المقولة; لأن لفظتي «زيد» و
«الدار» تدلان على الجوهر، وهو واضح، ولفظة «في» تدل على حصول وجوده في
الدار، وهذا المعنى هو الوجود الرابط، فلا تكون هذه مقولة; لأن المقولة - حتى مقولة
الإضافة التي هي أضعف المقولات - وجود رابطي مستقل بالمفهومية، ومقولة «الأين»
هي هيئة كون الشيء في المكان، ومقولة «متى» هيئة حصول الشيء في الزمان،
ومقولة الوضع هي الهيئة الحاصلة من نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض، ومن نسبة

1 - بدائع الأفكار 1: 49 - 51.
2 - الحكمة المتعالية 1: 79 و 81، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 61 - 62.
3 - نفس المصدر.
138

مجموع الأجزاء إلى الخارج، ومقولة الإضافة هي النسبة المتكررة... وهكذا.
وبالجملة: كون شيء في هذا، أو عن هذا، أو على هذا، أو إلى هذا، ونحوها
- اللاتي تدل عليها الحروف - وجودات رابطة، لا وجودات رابطية مقولية، والمقولة
المعنى المتحصل منها.
وثالثا: ما يقول (قدس سره) في مثل «يا» النداء و «واو» القسم ونحوهما؟! هل تحكي
عن المقولة؟! حاشا; بداهة أن «يا» النداء - مثلا - لا تحكي عن نداء خارجي أو ذهني
بل توجد فردا منه حين الاستعمال، فمعناها - حيث تكون إيجادية - لا يدخل تحت
مقولة أصلا.
وليت هذا المحقق يعين أنها من أي مقولة من الأعراض، والمقولات معلومة
معدودة، وإثبات مقولية شيء لا يتم إلا بإثبات أنه من أي مقولة، فتدبر.
ورابعا: أنه لا معنى محصل للأين الابتدائي، والأين الانتهائي، والأين
الاستقلالي، والأين التجاوزي، كما لا يخفى.
حصيلة البحث:
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف: أنه لا طريق لنا إلى إحراز كيفية وضع
الحروف، والذي يمكن إثباته، وقامت الأمارة عليه، هو أن الموضوع له خاص،
ولا يكاد يمكن أن يكون عاما; لأن المعنى الحرفي جزئي، وهو الربط الخاص بين هذا
وذاك، وهو غير قابل للصدق على الكثيرين.
نعم، مفهوم الربط وإن كان يقبل الصدق على الكثيرين، إلا أنه لا يكون جامعا
ذاتيا للمعنى الحرفي، بل يكون صدقه على الارتباطات الخاصة صدق العنوان
الانتزاعي على مصاديقه.
وبالجملة: لفظتا «من» و «إلى» - مثلا - تحكيان عن ابتداء السير الصادر من
139

شخص وانتهائه منه، فمعناهما جزئيان، وإلا فلو كان معناهما كليين إسميين لا يمكن
أن يقع بهما الربط، ولا يكون المعنى الاسمي جامعا ذاتيا للمعنى الحرفي، وهو واضح
إلى النهاية.
والحاصل: لنا مفاهيم كلية، كمفهوم الربط ومفهوم الابتداء والانتهاء... إلى
غير ذلك، وهذه مفاهيم اسمية لا يقع بها الربط، ومفهوم الربط بين هذا وذاك لا يكون
كليا، ولم يكن للحرف جامع ذاتي موجود.
ولكن قد ظهر - إن شاء الله تعالى - مما ذكرناه في الوضع العام والموضوع له
الخاص: أنه عند تصور المفهوم العام - القابل للصدق على الكثيرين - قد يوضع
اللفظ: تارة لما يكون مصداقا بجميع خصوصياته ولوازمه، فيكون الموضوع له الطبيعة
الملازمة للخصوصيات وبإلقاء اللفظ تحضر تلك الخصوصيات، وأخرى يوضع
اللفظ لما يكون مصداقا ذاتيا للطبيعة، وأما الخصوصيات الأخر فخارجة عن
مصداقيتها لها، بل هي مصاديق طبائع أخرى.
كما أنه قد ظهر لك أيضا - بحول الله وقوته -: أنه لا يحتاج في الوضع إلا تصور
الموضوع له بوجه، فتصور الجامع الانتزاعي الاسمي يكفي لوضع اللفظ للمعنى الحرفي.
فعلى هذا يمكن أن يتصور الواضع مفهوم الربط والابتداء والانتهاء - مثلا -
ويضع لفظتي «من» أو «إلى» لما ينطبق عليه هذا العنوان العرضي ذاتا، دون خصوصية
أخرى، وهو حيثية الابتداء والانتهاء، ف‍ «من» تدل على الابتداء الجزئي، و «إلى»
تدل على الانتهاء الجزئي.
فإذا «من» في كل من «سرت من البصرة» و «سرت من المدينة» و «سرت
من طهران»... وهكذا، له معنى واحد، وهو حيثية الابتدائية، والاختلاف والفرق بينها
إنما هو بالوجود.
فظهر لك جليا: أن تصوير الوضع العام والموضوع له الخاص في الحروف، هو
140

تصوير عنوان انتزاعي غير ذاتي، نظير عنوان العرض بالنسبة إلى المقولات التسع
العرضية، فكما أن عنوان العرض لم يكن عنوانا ذاتيا للأعراض، وإلا يلزم انحصار
المقولات العرضية، في مقولة واحدة، بل عنوانا انتزاعيا، وهو معنى العروض، فكذلك
مفهوم الابتداء والانتهاء - مثلا - لم يكونا عنوانين ذاتيين للفظتي «من» و «إلى» وإلا
يلزم تقومهما بذاتين:
1 - المعنى الاسمي.
2 - والربط بين هذا وذاك.
وإن أبيت عن كون الوضع في الحروف عاما - ولا ضير فيه - فنقول: إن الوضع
والموضوع له خاصان; بمعنى أن الواضع لاحظ معنى جزئيا، فوضع اللفظ لكل
ما يكون مثلا له، فتدبر.
الجهة الرابعة
في دفع توهم كون المستعمل فيه في الحروف عاما
ربما توهم: أن كثيرا ما يكون المستعمل فيه في الحروف عاما.
وقد ساقهم هذا التوهم إلى القول: بأن الموضوع له في الحروف عام أو جزئي
إضافي، صرح بذلك المحقق الخراساني (قدس سره)، فقال: التحقيق حسبما يؤدي إليه النظر
الدقيق: أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء (1).
وذلك لأن الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص
بها جزئيا خارجيا، فمن الواضح أن كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه كذلك، بل كليا

1 - يعني أسماء الأجناس في كون الموضوع له والمستعمل فيه عامين.
141

ولذا التجأ بعض الفحول (1) إلى جعله جزئيا إضافيا (2).
أقول: ينبغي الإشارة إلى ثلاثة موارد مما توهم كون المستعمل فيه فيها كليا، ثم
نعقب كلا منها بالإشارة إلى ما اشتبه عليهم الأمر فيه بين الاستعمال في الطبيعي
الجامع، وبين الاستعمال في الكثير، وبين الاستعمال في الجزئي الحقيقي المنحل بنظر
العرف إلى الكثير.
المورد الأول:
في مثل: «يا أيها الناس» و «يا أيها الذين آمنوا» و «يا أيها القوم» ونحوها;
حيث استعملت «يا» النداء فيها في طبيعي النداء الجامع بين كل واحد من أفراد النداء
القائم بالمنادى «بالعلم»، وهم هؤلاء الكثيرون (3).
وفيه: أنه لا يخفى أن الوجدان والعرف حاكمان بعدم استعمال «يا» النداء فيما
ذكر في الكلي والجامع; وذلك لما عرفت من أن معنى حرف النداء إيجادي، ولا يعقل
إيجاد الجامع والأمر الكلي في الخارج، مع أن النداء أمر واحد قائم بشخص واحد،
وهو المنادي «بالكسر» نعم متعلق المنادى كثير، وأنى له وللإستعمال في الكثير؟!
وإن شئت مزيد توضيح لذلك، فنقول:
إن الإشارة باليد ونحوها قد تقع إلى شخص واحد، وقد تقع إلى كثيرين،
ولم يتوهم أحد الكلية والجامع في الإشارة باليد إلى الكثيرين، بل المتبادر منها إشارة
شخصية متعلقة بأكثر من واحد، والنداء حاله حال الإشارة، فتارة ينادى به شخص

1 - قد يقال: إنه المحقق صاحب الحاشية أو صاحب الفصول (قدس سرهما)، هداية المسترشدين: 30
سطر 17.
2 - كفاية الأصول: 25.
3 - انظر درر الفوائد: 38 - 39، وفوائد الأصول 1: 57.
142

واحد، وأخرى أشخاص كثيرون، ولم يستعمل في الصورة الثانية في الجامع والكلي، كما
لم يستعمل في الصورة الأولى فيه، بل المستعمل فيه فيهما شخص النداء. نعم في الصورة
الثانية يكون متعلق النداء أكثر من واحد، وكم فرق بينهما، كما لا يخفى؟!
ويشهد لما ذكرنا أن الراعي لقطيع من الغنم - مثلا - يحركها برمتها، أو يوقفها
كذلك بصوت ونداء واحد، كما لا يخفى.
وبالجملة: لم يكن المستعمل فيه في مثل: «يا أيها الناس» هو الجامع بين الأفراد
والكلي، بل فرد منها ينحل بنظر العرف إلى الأفراد، نظير انحلال الحكم الواحد
- المنشأ بإنشاء واحد - إلى أحكام عديدة; لما سيجيء في محله: من أن الخطاب
الواحد المتوجه إلى العموم لا ينحل إلى خطابات كثيرة حسب تعدد المخاطبين، كما ربما
توهم (1)، بل خطاب واحد إلى الكثيرين.
وإن أبيت عما ذكرنا فنقول: إن المستعمل فيه في تلك الموارد هو نفس الأفراد;
من باب استعمال اللفظ الواحد في الأكثر من معنى واحد; لما سيجيء قريبا من جواز
استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فارتقب.
المورد الثاني:
في مثل قولنا: «كل عالم في الدار» حيث استعملت لفظة «في» في طبيعة
الإضافة الظرفية القائمة بالدار وهؤلاء الكثيرين، وواضح أن هذا ليس إلا كليا (2).
وفيه: أن التأمل الصادق في مثل ما ذكر أيضا يعطي بأن لفظة «في» لم تستعمل
في الكلي، بل استعملت في فرد ينحل بنظر العرف إلى الأفراد; وذلك لأن لفظة «العالم»
تدل على المتلبس بالمبدأ، ولفظة «كل» تدل على الكثرة الإجمالية، وإضافة «الكل» إلى

1 - كفاية الأصول: 253.
2 - هداية المسترشدين: 30 سطر 19.
143

«العالم» تفيد كثرة مدخوله، ومن الواضح أن «الدار» تدل على المكان المعهود، فلفظة
«في» لم تستعمل في الجامع بين الكثيرين، بل في فرد ينحل بنظر العرف إلى الكثيرين،
وكم فرق بينهما!
وإن شئت قلت: إن ذلك من باب استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد، وهو
غير استعمال اللفظ في الجامع بين الكثيرين، وكم فرق بينهما!
ولتوضيح ذلك نقول: إنه إذا بدلت قولنا: «كل عالم في الدار» ب‍ «زيد في الدار»
ترى أنه لا فرق بين القضيتين إلا بوجود كلمة تدل على الكثرة الإجمالية، وهي
لفظة «كل» في القضية الأولى، وعدمها في الاخرى، فلم تستعمل لفظة «في» في الأولى
في الجامع، كما لم تستعمل في الثانية فيهما، بل استعملت في فرد ينحل - بنظر العرف -
إلى الأفراد.
وبعبارة أخرى: استعملت في أكثر من معنى واحد.
نعم: لو كانت «في الدار» - في القضية - قيدا للموضوع، ومن متعلقات المسند
إليه، وكان الخبر شيئا آخر كالقاعد مثلا; فأن تقول: «كل عالم في الدار قاعد»، كان
لتوهم الاستعمال في الجامع مجال، مع أن الحق فيه أيضا خلافه; ضرورة أن الربط
مطلقا وإن كان ربطا ناقصا، - كما في المثال الجامع المنقطع عن الأطراف - لا يعقل أن
يكون رابطا بين شيئين، فلا يمكن أن يربط بين الموصوف وصفته، فتدبر.
المورد الثالث:
في نحو قولنا: «سر من البصرة إلى الكوفة»; حيث يكون الشخص مأمورا
بابتداء السير من أي نقطة من البصرة، وانتهاء مسيره إلى أي نقطة من الكوفة، فتكون
لفظتا «من» و «إلى» مستعملتين في طبيعة الابتداء والانتهاء القابلتين للصدق على
الكثيرين، ولذا يجوز للمأمور الابتداء بالسير من أي نقطة من نقاط البصرة والانتهاء
144

بالسير إلى أي نقطة من نقاط الكوفة، فتكون لفظتا «من» و «إلى» - في مثل تلك
الموارد - مستعملتين في الطبيعي القابل للصدق على الكثيرين (1).
أقول: ولا يخفى أن هذا المورد هو عمدة ما يمكن أن يستدل به لاستعمال
الحروف في العموم والجامع; بلحاظ أن السير المتعلق للأمر قابل للانطباق على أكثر
من واحد، وللبصرة والكوفة نقاط مختلفة يجوز للمأمور الابتداء من أي نقطة من نقاط
البصرة، والانتهاء به إلى أي نقطة من الكوفة.
ولكن التحقيق: أن حال الحروف في مثل هذا المورد أيضا حال الموردين
المتقدمين لم يستعمل في الجامع والعموم; وذلك لأنه لا استقلال للفظتي «من» و
«إلى»; لا في الوجود، ولا في الماهية، ولا في أصل الدلالة، بل في كل ذلك تبع للغير،
فلاحظ لهما من الوحدة والكثرة إلا تبعا، فلفظة «من» تفيد الربط بين طبيعة السير -
الجامعة بين الأفراد - وبين البصرة والكوفة بأي جزء من أجزائهما، فحكايتها عن
الارتباطات الكثيرة من باب استعمال اللفظ في الأكثر من تعلق واحد لا استعماله في
الجامع بينها، فتدبر.
الجهة الخامسة
في هيئات الجمل التامة
ظهر لك مما ذكرنا: أنه لم يكن ضابط كلي في باب الحروف في أن جميعها
إيجادية أو إخطارية، بل بعضها إيجادية، وبعضها إخطارية، بل بعضها مجرد علامة،
فكذلك لا يكون لنا ضابط كلي في باب الهيئات، ولم يقم برهان ولا دليل على أن
جميعها على وتيرة واحدة، فلابد من ملاحظة كل نوع وصنف من الهيئات; ليظهر

1 - حاشية المشكيني 1: 13.
145

حالها، ويظهر لك من خلالها الفرق بين معاني الهيئات ومعاني الحروف.
قد اشتهر بين القوم; بل تسالموا على أن تركيب القضايا برمتها - موجباتها
وسوالبها ومعدولاتها - على أجزاء ثلاثة:
1 - الموضوع.
2 - والمحمول.
3 - والنسبة.
ويرون أن لجميعها محكيات في الخارج، والإخبار بأن الموضوع هو المحمول
بلا تخلل أداة في حمل المحمول على الموضوع، كقولنا: «زيد قائم»، و «الإنسان
حيوان ناطق».
والقسم الآخر: حملية مؤولة، وهي التي لم يكن مفادها ذلك، فتخلل وتتوسط
بين المحمول والموضوع الأدوات، نحو: «زيد على السطح» و «زيد له القيام» (1).
فنقول: لا يكون في جميع القضايا الخبرية غير المؤولة نسبة أصلا; سواء كانت
القضية حملية أولية، ك‍ «الإنسان حيوان ناطق»، أو حملا شائعا، ك‍ «زيد إنسان»، وأن
القضية المعقولة واللفظية حاكيتان عنها، فالمتحصل من مدلول القضية أيضا هو ذلك.
ولكن الذي يقتضيه دقيق النظر عدم تمامية ما ذكروه في جميع القضايا، وإنما يتم
ذلك في بعضها; لعدم كون القضايا والهيئات على وتيرة واحدة; لأن في الهيئات هيئة
الجملة الخبرية، وهي إما موجبة أو سالبة، وكل منهما على قسمين:
فقسم منها: حملية غير مؤولة، وهي التي يكون مفادها الهوهوية (2) وسواء
كانت هلية بسيطة، ك‍ «زيد موجود»، أو هلية مركبة، ك‍ «زيد أبيض»، وسواء كان
حمل الشيء على نفسه، ك‍ «زيد زيد» أو لا، وسواء كان الحمل ذاتيا، ك‍ «الوجود

1 - انظر شرح الشمسية: 68 - 69 سطر 14، والجوهر النضيد: 38 - 39، والمطول: 30 سطر 19.
2 - الهوهوية: كلمة مركبة من «هو هو» معناها أن المحمول عين الموضوع.
146

موجود»، أو عرضيا ك‍ «زيد أبيض».
وبالجملة: لم يكن في القضايا الخبرية التي لم تتخلل فيها الحروف - بل كان
مفادها الهوهوية - نسبة أصلا; لا في موجباتها، ولا في سوالبها (1).
أما موجباتها: فيظهر حالها بملاحظة الخارج، ثم المعقول منه، ثم ملاحظة
القضية اللفظية الحاكية عنها، ثم ملاحظة مدلول القضية اللفظية.
والوجدان أصدق شاهد على خلو متن الخارج وصحيفة الوجود عن النسبة
والربط والإضافة في جميع تلك القضايا; ضرورة أن محكي «الإنسان حيوان ناطق»
هو اتحاد الحيوان الناطق مع الإنسان والهوهوية بينهما، ولا يعقل وجود نسبة وإضافة
واقعية بين الحد والمحدود، بل الإنسان عبارة أخرى عن الحيوان الناطق، وهي تفصيل
ذلك، كما أن «الإنسان» إجمال ذلك.
وكذا في الهلية البسيطة، ك‍ «زيد موجود»، فإنه لم يكن بين ماهيته ووجوده
ربط، وإلا يلزم أن يكون في الخارج ونفس الأمر ماهية متحققة عرض لها الوجود،
فتلزم زيادة الوجود على الماهية في الخارج، وقد ثبت في محله (2) أن الوجود أصيل
والماهية عارضة له تصورا، مع اتحادهما في الخارج، لم يكن بين الوجود والماهية في
الخارج اثنينية ليربط أحدهما بالآخر.
وكذا في قضية «الوجود موجود»; لأنه لم يكن في حمل المفهوم على مصداقه
الذاتي في الواقع ونفس الأمر ربط، وكذا في قضية «الله تعالى موجود»، فإنه لم تكن

1 - كذا أفاد سماحة الأستاذ دام ظله، ولكن هذه التقسيمات قد يتداخل بعضها في بعض.
والأولى أن يقال: تقسم الحملية - بلحاظ الاتحاد في الوجود والاتحاد في الماهية - إلى
الحمل الشائع والحمل الأولي، ويقسم الحمل الشائع - بلحاظ كون الموضوع مصداقا حقيقيا
للمحمول أو مصداقا عرضيا - إلى الحمل الذاتي والحمل العرضي، فتدبر. المقرر
2 - انظر شرح المنظومة (قسم الحكمة): 9 وما بعدها، الحكمة المتعالية 1: 39 - 44.
147

موجودية الوجود وموجوديته تعالى عارضة له، بل عينه، وهل ترى في قولك: «الله
تعالى موجود» أن في الخارج ذاتا مقدسة، فتثبت له تعالى الوجود، تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا، ولذا يكون قولك: «الله تعالى له الوجود» قضية كاذبة، بل إذا قيل به مع
الالتفات إلى ما يتضمنه فلعله يوجب الكفر فتأمل.
وبالجملة: لم تكن في صحيفة الوجود والخارج في تلك القضايا أثر من الربط
والنسبة أصلا.
أما في مثل «الإنسان إنسان» فلامتناع جعل الربط بين الشيء ونفسه، ولا في
مثل «الإنسان حيوان ناطق»; لأن الحد عين المحدود، ولا يفترقان إلا بالإجمال
والتفصيل; ولا في «زيد موجود»; لاستلزامه وقوع الماهية طرفا للنسبة، مع أنها
ليست شيئا في الخارج، وكذا في «الله تعالى موجود»; لأنه تعالى وجود بحت بسيط
لا يدانيه شأنية التركيب أصلا، ولا يقرب منه وهم الاثنينية بتاتا.
فإذا كان هذا حال متن الواقع في هذا القضايا، وأنه لم يكن في نفس الأمر
والخارج بين موضوع هذه القضايا ومحمولاتها ربط ونسبة فمن الواضح أن المتعقل من
نفس الأمر والخارج لا يعقل أن يكون فيه ربط ونسبة; لأن المعقول والمتعقل من
الخارج عينه ونفسه، فإذا لم تكن في متن الواقع نسبة فما ظنك في المتعقل منه.
نعم، العقل يتصور شيئين ك‍ «زيد» و «الإنسان»، ولكن يحكم بأن زيدا ينطبق
عليه الإنسان، ويتحد معه خارجا.
وأما القضية اللفظية الحاكية عن القضية العقلية الحاكية عن نفس الأمر
فأوضح; لأنه إذا لم يكن في متن الواقع ونفس الأمر وفي القضية العقلية ربط ونسبة -
بل هو هوية واتحاد - فكيف تحكي القضية اللفظية عن النسبة؟! فلو فرض اشتمال
القضية اللفظية على النسبة تكون القضية كاذبة; لعدم مطابقتها لمتن الخارج والذهن،
فإذا لم تشتمل القضية اللفظية على النسبة حال مدلول القضية اللفظية; بداهة أنه إذا
148

لم تكن في القضية اللفظية نسبة فما ظنك بما يفهم منها؟!
وبما ذكرنا ظهر: عدم استقامة أمور مشهورة بينهم:
منها: أن العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق، وإلا فتصور (1).
ومنها: إن كان للنسبة خارج تطابقه فصادقة، وإلا فكاذبة (2).
ومنها: أن جميع القضايا مشتملة على الموضوع والمحمول والنسبة (3).
هذا كله في القسم الأول، وهي القضايا الحملية الخبرية غير المؤولة.
وأما القسم الثاني، وهي القضايا الحملية المؤولة التي يتخللها الحرف ك‍ «زيد
على السطح» فمشتملة على النسبة; لأنه كما يكون لكل من «زيد» و «السطح» وجود
في الخارج، فكذلك لكونه وحصوله على السطح نحو وجود وتحقق في الخارج; وكذا
في قولنا: «زيد له البياض» يكون في الواقع ثلاثة أشياء:
1 - زيد.
2 - والبياض.
3 - وثبوت البياض لزيد.
فإذا كان في الواقع ونفس الأمر في القضايا المتخللة فيها الأداة نسبة، فيعلم
حال المعقولة منها، فإنها مشتملة على النسبة; لتطابق الذهن مع الخارج، وكذا القضية
اللفظية الحاكية عن القضية المعقولة مشتملة على النسبة، وبذلك يعلم حال المدركة من
القضية اللفظية، كما لا يخفى.
وبالجملة: اشتمال القضية اللفظية في القضايا المؤولة على نسبة مما لا ينكر، فهي
تحكي عن النسبة والإضافة الخارجية، ففي مثل هذه القضايا تكون لكل من القضية

1 - شرح المقاصد 1: 198، حاشية المولى عبد الله: 14 - 15.
2 - المطول: 31 سطر 22، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 53 - 54.
3 - تقدم تخريجهما قريبا.
149

الذهنية واللفظية نسبة، كما لا يخفى.
فتحصل: أن الهيئة في القضايا الحملية غير المؤولة وضعت للدلالة على
الهوهوية التصديقية، قبال الهوهوية التصورية الموجودة في المركبات الناقصة، التي
مفادها أن المحمول عين الموضوع، كما أن الهيئة في القضايا المؤولة وضعت للدلالة على
تحقق النسبة دلالة تصديقية، فعلى كل تشتمل القضية الحملية على التصديق لا محالة
على اختلاف في المتعلق في الهوهوية، أو ثبوت النسبة.
هذا حال موجبات القضايا الحملية بقسميها.
وأما في السوالب مطلقا - سواء كانت من الحملية غير المؤولة، أو الحملية
المؤولة - فلا تشتمل على النسبة أصلا; لأن حرف السلب إنما يدل على سلب الحمل
ونفي الهوهوية التصديقية في الحمليات غير المؤولة، كقولنا: «زيد ليس حجرا»، وعلى
سلب الحصول ونفي النسبة والكينونة التصديقية في الحمليات المؤولة، كقولنا: «ليس
زيد على السطح»، فالحمليات السالبة لا تشتمل على النسبة أصلا.
نعم، ظاهر القضية السالبة المؤولة وإن كان مشتملا على الحرف الدال على
النسبة، إلا أنه جيء به لسلب النسبة وقطعها، فالنسبة وإن كانت بمعنى موجودة، إلا
أنها جيء بها لتسليط حرف السلب عليها.
ولا يخفى أن القضية المؤولة وإن كانت مشتملة على النسبة والإضافة إلا أن
القضية لا تتقوم بهما، بل في جميع القضايا لا تفيد الإضافة والنسبة - اللتان هما
مدلولا الحرف - إلا معنى تصوريا، ولا تكونان دخيلتين في صيرورة القضية قضية،
وتمامية القضية إنما هي بهيئة القضية والجملة، وهي مختلفة باختلاف الهيئات، ولذا
ترى أن الإضافة والنسبة موجودتان في قولنا: «زيد في الدار»، وقولنا: «إن كان زيد
في الدار فعمرو على السطح»، مع أن الجملة في المثال الأول تامة: وفي المثال الثاني
ناقصة، وليس ذلك إلا لاختلاف الهيئة، فإن هيئة «زيد في الدار» في المثال الأول تدل
150

على المعنى التصديقي، وقد أخذت هذه الجملة شرطا في المثال الثاني، ودلالة هيئة
الجملة الشرطية تخالفها، فإنها تدل على أنه إن كان زيد في الدار فعمرو على السطح.
فتحصل: أن هيئات الجمل التامة على اختلافها - موجباتها وسوالبها - وهي
التي تصير القضية قضية، وتكون مدار الصدق والكذب، تحكي حكاية تصديقية عن
ثبوت الشيء أو لا ثبوته في الحمليات غير المؤولة، وعن ثبوت شيء لشيء أو لا ثبوته
كذلك في الحمليات المؤولة.
الجهة السادسة
في هيئات الجمل الناقصة
قد عرفت أن الجمل الخبرية على قسمين:
قسم منها وضعت للدلالة على الهوهوية التصديقية.
والقسم الآخر - وهو الذي تخللت فيه الأداة - يحكي عن تحقق الإضافة والنسبة.
فينبغي التنبيه على أن الجمل الناقصة أيضا على وزان الجمل التامة، تنقسم
إلى قسمين:
فقسم منها: يحكي عن الهوهوية التصورية، كجملة الموصوف والصفة ك‍ «زيد
العالم»، ولذا يصلح حمل الصفة على موصوفها بدون تخلل الحرف.
والقسم الآخر: يحكي عن الانتساب والإضافة، كجملة المضاف والمضاف إليه
ك‍ «غلام زيد»، ولذا لا يصلح الحمل فيها، ولا تصير القضية فيها قضية إلا بتخلل
الحرف; بأن يقال: «زيد له غلام» (1).

1 - كذا أفاد سماحة الأستاذ دام ظله، ولكن يمكن أن يقال: إن هذا في غير الإضافة البيانية،
وإلا ففي الإضافة البيانية - مثل قولنا: «خاتم فضة» - تكون مثل جملة الموصوف والصفة في
الحكاية عن الهوهوية التصورية، فتدبر. المقرر
151

ولكن لا ينبغي الإشكال في أن الجمل الناقصة بقسميها في حكم المفردات
لا تحكي إلا حكاية تصورية، ولذا لا تتصف بالصدق والكذب ولا تحتملهما.
فإذا الفرق بين هيئة الجملة التامة وبين هيئة الجملة الناقصة: هو أن الهيئة في
التامة وضعت لتحكي عن ثبوت النسبة أو لا ثبوتها حكاية تصديقية، على اختلاف
في متعلقها من الهوهوية أو ثبوت النسبة والإضافة; وأما هيئة الجملة الناقصة فتدل
على الهوهوية التصورية ونفس الربط والإضافة، لا على ثبوتها وتحققها في الخارج،
والشاهد على جميع ما ذكرنا هو التبادر، وهو الدليل الوحيد في أمثال هذه المباحث،
ولا يصغى إلى المطالب العقلية والبراهين الفلسفية.
ذكر وتعقيب
بما ذكرنا يظهر الإشكال في الفرق الذي ذكره المحقق العراقي (قدس سره) بين المركب التام
وبين المركب الناقص، فإنه - بعد أن قال: إن الهيئة قد تطرأ على المركب الناقص،
كالهيئة الطارئة على الصفة والموصوف، ك‍ «زيد العالم»، وعلى المضاف والمضاف إليه،
ك‍ «غلام زيد»، كما تطرأ على المركب التام، كالجمل الخبرية والإنشائية - قال: إن
الفرق بينهما: هو أن الهيئة الطارئة على المركب الناقص، تحكي عن النسبة الثابتة التي
تعتبر قيدا مقوما للموضوع ك‍ «غلام زيد قائم»، أو المحمول ك‍ «زيد غلام عمرو» (1).
وأما الهيئة الطارئة على المركب التام، فتحكي عن إيقاع النسبة; سواء كانت في
القضية الخبرية ك‍ «زيد قائم»، أو في الإنشائية ك‍ «عبدي حر» فإن المتكلم يرى
بالوجدان أن الموضوع عار عن النسبة التي يريد إثباتها إخبارا أو إنشاء، وهو بالحمل
أو بالإنشاء يوقعها بين الموضوع أو المحمول، ولهذا يكون مفاد التركيب الناقص في

1 - قلت: كما أنه قد تكون النسبة قيدا مقوما للموضوع والمحمول معا، ك‍ «زيد العالم غلام
عمرو». المقرر
152

طول مفاد التركيب التام، ومتأخرا عنه تأخر الوقوع عن الإيقاع (1).
وفيه: أنه إن أراد بالنسبة الثابتة التي يحكيها المركب الناقص هي النسبة
النفس الأمرية، كما هو الظاهر من العبارة; بقرينة قوله في المركب التام: من أن هيئتها
تدل على إيقاع النسبة.
ففيه: أن الحكاية عن النسبة الثابتة أمر تصديقي، ولا شأن للمركب الناقص
إلا إفادة معنى تصوريا، وإلا يلزم أن يحتمل المركب الناقص الصدق والكذب.
ومن القريب أن يكون منشأ توهمه، هو ملاحظة المركب الناقص في ضمن
المركب التام; بقرينة الأمثلة التي ذكرها للمركب الناقص، مثل: «غلام زيد قائم» أو
«زيد غلام عمرو»... إلى غير ذلك، مع أنه لابد من ملاحظته بحياله ومستقلا; لأن
صدق القضية الثابتة يتوقف على ثبوت أطرافها، فكما أن صدق «زيد قائم» يتوقف
على ثبوت طرفيه، فكذلك يتوقف صدق «غلام زيد قائم» - مثلا - على ثبوت الغلام
لزيد، وثبوت الغلام لزيد في هذه القضية من مقتضيات دلالة المركب، وهو كما
يتوقف على ثبوت الغلام لزيد، كذلك يتوقف على كونه قائما، فأنى للمركب الناقص
- لو لوحظ بحياله - من الدلالة على النسبة الثابتة.
وإن أراد بالنسبة الثابتة النسبة الذهنية والكلامية، فكل من المركب الناقص
والتام يشتركان فيه، وليس من شأن المركب الناقص فقط; لأنه كما يلاحظ «الغلام»
و «زيد»، ثم يوقع الربط بينهما، فكذلك يلاحظ «زيد» و «قائم»، ثم يوقع الربط بينهما.
مضافا: إلى أن المركب التام إنما يحكي عن النسبة الثابتة الواقعية تارة، وعن
الهوهوية التصديقية أخرى، ولا معنى لحكايته عن إيقاع النسبة الذهنية أو الكلامية
التي أوقعها المتكلم; لأنه يكون لحاظ المتكلم مغفولا عنه، ولذا لا ينتقل السامع إلا

1 - بدائع الأفكار 1: 60.
153

إلى الثبوت الواقعي أولا وبالذات، نعم، ينتقل إلى إيقاع المتكلم ثانيا وبالعرض.
ثم إن مراده بقوله أخيرا: - إن مفاد النسبة الناقصة متأخر عن مفاد النسبة
التامة تأخر الوقوع عن الإيقاع - إن كان النسبة الواقعية فظاهر أنها لم تكن بيد المخبر.
وإن كانت النسبة الذهنية والكلامية; بمعنى أنه بإيقاع المتكلم النسبة التامة
تقع النسبة الناقصة.
ففيه: أن النسبة الناقصة لم تكن معلولة لإيقاع النسبة التامة، بل المعلول إنما هو
وقوع النسبة التامة، فإذا إيقاع النسبة التامة يتقدم على وقوعها، ووقوع ذلك الشيء
يتأخر عنه.
مضافا إلى أن ما ذكره خلاف التبادر، كما لا يخفى.
الجهة السابعة
في الإنشاء والإخبار
تفترق الجملة الإنشائية عن الجملة الخبرية مطلقا - سواء في الجملة التي
تكون شبيهة بالجملة الخبرية، ك‍ «بعت» الإنشائية الشبيهة ب‍ «بعت» الإخبارية، أو
مختلفا معها، كلفظة «قم»، و «قمت» - وذلك لأن هيئة الجملة الإنشائية وضعت
للإيقاع والإيجاد، وهيئة الجملة الخبرية وضعت للإخبار عن نفس الأمر، مثلا:
الموجب بهيئة «بعت» الإنشائية يوجد ماهية البيع، التي تكون من الحقائق الاعتبارية
ذات الإضافة إلى الثمن والمثمن والبائع والمشتري، والتاء تدل على كون الصدور
منتسبا إلى المتكلم، والقابل بقوله: «قبلت» يقبلها، فيكون معنى هيئة «بعت»
الإنشائية، نفس الإيجاد الذي هو محض التعلق بالفاعل، وصرف الإضافة بينه وبين
الفعل بإزاء الإيجاد التكويني.
وهيئة «بعت» الإخبارية تحكي عن نفس المفاد الحرفي، الذي كان لهيئة «بعت»
154

الإنشائية، وهو إيجاد البيع، كما تحكي هيئة «ضربت» و «قتلت» عن الإيجاد التكويني.
فهيئة «بعت» الإنشائية موجدة للبيع، وهيئة «بعت» الإخبارية تحكي عن هذا
الإيجاد، فلكل من الإنشاء والإخبار معنى غير ما للآخر، والموضوع له في «بعت»
الإنشائية غير الموضوع له في «بعت» الإخبارية، ومعناهما متباينان، وقس عليه جميع
الهيئات في أبواب العقود والإيقاعات.
فبعد ما عرفت حقيقة الإنشاء فنقول: كما أن الجمل الخبرية كانت على قسمين:
1 - قسم منها يحكي عن الهوهوية والاتحاد.
2 - والقسم الآخر يحكي عن الكون الرابط والإضافة.
فكذلك الجمل الإنشائية على قسمين: فإن القصد في الإنشاء تارة إلى إيجاد
الهوهوية في وعاء الاعتبار، كقوله: (الفقاع خمر استصغره الناس) (1)، وكقوله: «أنت
طالق» و «هو ضامن» في مقام الإنشاء... إلى غير ذلك، فإنه قصد معنى هو هويا،
وأوقعه في عالم الاعتبار بإنشائه مصداقا اعتباريا للخمر في قوله (عليه السلام): (الفقاع خمر)،
فيترتب عليه ما يترتب على الخمر من الآثار.
وبالجملة: الاعتبار في أمثالها هو إنشاء الهوهوية وجعل الموضوع مصداق
المحمول في وعاء الاعتبار، فيصير بهذا الجعل مصداقا للمحمول لدى العقلاء، فتترتب
عليه الآثار.
وأخرى: إلى إيجاد الإضافة والكون الرابط، كقوله: «وهبت هذا المال لزيد»،
فإنه لم يوقع بقوله هذه الهوهوية، وإنما أوقع الإضافة والكون الرابط، وهو كون هذا
المال لزيد هبة.

1 - انظر الكافي 6: 423، وتهذيب الأحكام 9: 125 / 540، والاستبصار 4: 95 / 369،
ووسائل الشيعة 17: 292، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، الباب 28،
الحديث 1.
155

ومن هذا القبيل قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) (1).
ففي هذا القسم يوقع أمرا إضافيا في عالم الاعتبار.
وفي الجمل الإنشائية قسم ثالث: وهو أن يوقع ماهية اعتبارية ذات إضافة إلى
مضايفاتها، كنوع العقود، مثل قوله: «بعتك داري»، و «آجرتكها» ونحوهما، فإنه بقوله:
«بعتك داري» أوجد طبيعة البيع ذات الإضافة إلى مضايفاتها (2).
والنظر في جميع هذه الأقسام وإن كان إلى تحقق الأمر الاعتباري الذي يترتب
عليه الأثر، وهو أمر واحد، إلا أن لسان الاعتبار مختلف فيه، فإن لسان اعتبار
الهوهوية وإنشائها يغاير لسان اعتبار الإضافة والكون الرابط، كما أنهما يغايران لسان
إنشاء الماهية ذات الإضافة، فتدبر.
نعم: قد يترتب أثر على إنشاء الهوهوية غير ما يترتب على إنشاء الإضافة
والكون الرابط، ولذا يفرق بين قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) (3) وبين قوله: «إن استطعت فحج»، فإنه ربما يستفاد من التعبير الأول
أنه بمجرد الاستطاعة للرجل يجب عليه الحج، وإن زالت عنه الاستطاعة في الأعوام
التالية، بخلاف التعبير الثاني (4)، كما أنه ربما استفيد من قوله تعالى أن وزان إيجاب

1 - آل عمران: 97.
2 - أضاف في تهذيب الأصول قسما رابعا: وهو إنشاء كون شيء على عهدته، كما في النذر
والعهد (أ)، ولكن لم يتعرض له سماحة الأستاذ دام ظله في هذه الدورة ولعله إضافة من
المقرر دام بقاؤه اشتباها; لأن هذا من قبيل القسم الثاني، وهو إيجاد الإضافة والكون الرابط،
لا قسم آخر; لأنه بقوله: «لله علي كذا» - مثلا - يوجد كون هذا الشيء على عهدته، فتدبر.
3 - آل عمران: 97.
4 - انظر مستمسك العروة الوثقى 10: 106 - 107.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - تهذيب الأصول 1: 27.
156

الحج على المستطيع وزان الدين الواجب (1)، بخلاف ما إذا قيل: «إن استطعت فحج»،
ولذا قد يفرق بين من ترك الحج وبين من ترك الصلاة، فيقضى الحج من أصل التركة،
كما يقضى الدين من أصله، بخلاف الصلاة، والتفصيل يطلب من محله.
هذا كله في الجمل الإنشائية المستعملة في أبواب العقود والإيقاعات.
وأما هيئة الأمر والنهي وسائر المشتقات فسيأتي إن شاء الله كل في محله.
الجهة الثامنة
في ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة
اشتهر بين الأدباء وغيرهم: أن ألفاظ الإشارة موضوعة لنفس المشار إليه،
فلفظة «هذا» - مثلا - موضوعة للفرد المذكر، وهكذا غيرها من ألفاظ الإشارة (2)،
وكذا ضمائر الغيبة، فإنها عندهم لأفراد الغائب، كلفظة «هو» - مثلا - فإنها موضوعة
للمفرد المذكر الغائب، وهكذا غيرها من الضمائر (3)، فعلى ما ذكروه يكون مفاد ألفاظ
الإشارة والضمائر معاني اسمية مستقلة.
ولكن حقيق النظر يقضي بخلافه; وذلك لأنه إذا تأملت في قوله: «هذا زيد»
- مثلا - فهناك أمور:
1 - المشير.
2 - والمشار إليه.
3 - والإشارة، وهي الامتداد الموهوم المتوسط بين المشير والمشار إليه.
4 - وآلة الإشارة.

1 - نفس المصدر 10: 242 - 243.
2 - شرح الكافية 2: 29 سطر 19، المطول: 62 سطر 2، هداية المسترشدين: 32 سطر 4.
3 - شرح الكافية 2: 3 سطر 15، المطول: 57 سطر 5، هداية المسترشدين: 32 سطر 24.
157

وبلفظة «هذا» يشير إلى زيد المشار إليه، فلفظة «هذا» آلة لإيجاد الإشارة،
نظير إشارة الأخرس، وبكل منهما يحضر المشار إليه في الذهن من دون أن يكون
المشار داخلا في معناهما أصلا، غاية الأمر يكون إحضار المشار إليه في الذهن بإشارة
الأخرس بغير الوضع، بخلاف إحضاره بلفظة «هذا»، فإنه بالوضع.
وهكذا الأمر في ضمائر الغيبة، فإنها موضوعة للإشارة إلى الغائب، ولذا يشترط
فيها أن يكون مرجعها مذكورا أو معهودا; لتصح الإشارة إليه، ومرجع الضمير هو
المشار إليه، ونسبته إليه كنسبة المشار إليه إلى اسم الإشارة.
وبالجملة: ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة موضوعة لنفس الإشارة وإيجادها: إما
للحاضر، كما في ألفاظ الإشارة - على اختلاف فيها من القريب والمتوسط والبعيد -
فإنه بلفظة «ذا» تشير إلى المذكر الحاضر القريب، وب‍ «ذاك» للمتوسط منه،
وب‍ «ذلك» للبعيد... وهكذا.
أو للغائب، كضمائر الغيبة ك‍ «هو»، فإنه يشار بها إلى المذكر الغائب، وهكذا
الأمر في «هما»، و «هم».
وإحضار المشار إليه في ذهن السامع تبعي من دون أن يكون دخيلا فيه.
وبعبارة أوضح: هذه الألفاظ وضعت لنفس الإشارة، ولازمها إحضار المشار
إليه في ذهن السامع.
ففرق بين قولنا: «زيد قائم»، وبين قولنا: «هذا - أو - هو قائم»، فإن «زيدا»
يحكي عن المحكوم عليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له، بخلاف لفظتي «هذا» و
«هو» فإنهما يحضران المحكوم عليه في ذهن السامع، نظير إحضار الإشارة بالإصبع
إياه في ذهنه; من دون أن تكون موضوعة له، ومن غير أن تكون حكاية للفظ عن
معناه، وإلى ما ذكرنا يشير ابن مالك في ألفيته بقوله:
158

بذا لمفرد مذكر أشر * بذي وذه، تي تا على الأنثى اقتصر (1)
... إلى آخر ما ذكره.
ولعل هذا هو مراد الأدباء، فما يظهر من بعضهم (2): من أن ألفاظ الإشارة
موضوعة لنفس المشار إليه، مثلا لفظة «هذا» موضوعة للمفرد المذكر المشار إليه،
وضمائر الغيبة موضوعة لأفراد الغائب; بعيد عما يراه العرف والوجدان.
والعرف ببابك فاختبر هم، ووجدانك والتبادر أصدقا شاهد على كل ما ذكرنا:
من كون ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة ومرادفاتها من أي لغة - كلفظتي «أين» و «او»
في لغة الفرس - من سنخ واحد، وأنها موضوعة لنفس الإشارة، لا للمشار إليه،
ومرجع الضمير نظير إشارة الأخرس، والفرق بينهما إنما هو بالحضور والغيبة.
فعلى هذا تندرج ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة في باب الحروف، وتدخل في
عداد مفاهيمها; من حيث عدم استقلالها في المفهومية والوجود.
ثم إنه ربما يرد في المقام - مضافا إلى ما أورد على إيجادية الحروف - أمران:
الأمر الأول: أن لفظتي «هذا» و «هو» في قولك: «هذا زيد» أو «هو قائم»
- مثلا - مبتدأ، ولو كانت حرفا لما صح أن تخبر عنها وتجعلها مبتدأ ومسندا إليها،
فوقوعها مبتدأ ومسندا إليها دليل على عدم كون «هذا» أو «هو» للإشارة التي يكون
معناها حرفيا (3).
وفيه: أن المسند إليه أو المبتدأ في مثل ذلك، إنما هو المشار إليه بالمعنى الأعم
الشامل لمرجع الضمير، ولفظة «هذا» أو «هو» للإشارة إليه، نظير إشارة الأخرس،
فكما أن إشارة الأخرس - عند الإشارة إلى شيء والإخبار عنه - لم تكن مسند إليه،

1 - شرح ابن عقيل 1: 130.
2 - تقدم تخريجه.
3 - مقالات الأصول 1: 28 سطر 21، نهاية الأفكار 1: 59.
159

بل المسند إليه هو المشار إليه، فكذلك المسند إليه في قولك: «هذا زيد»، و «هو قائم»،
لم يكن لفظة «هذا» أو «هو» بل المشار إليه بهما، وتقدم آنفا الفرق بين إحضار «هذا»
أو «هو» المشار إليه، وبين حكاية لفظة «زيد» عن الشخص الخارجي، فإن في الأول
يحضران المسند إليه في ذهن السامع من دون أن يكونا موضوعين له، وفي الثاني تحكي
عن المسند إليه حكاية اللفظ عن معناه الموضوع له.
ونحن وإن لا ننكر إجراء بعض أحكام المبتدأ والمسند إليه على ألفاظ الإشارة
وضمائر الغيبة في محيط الأدب وفي عبارات الأدباء، ولكن لا يوجب ذلك كونها أسماء،
كما لا يخفى، كما أنهم يجرون أحكام العلم على بعض النكرات ك‍ «أسامة»، مع أنها
ليست علما; لأنه لا فرق بينها وبين «الأسد» في الدلالة على المعنى المبهم، ومع ذلك
تراهم يجرون أحكام العلم على «أسامة» دون «الأسد» (1).
والقول بأن «أسامة» علم للجنس دون «الأسد» (2) أمر لا يقبله الطبع السليم،
ولم يمكنهم إثباته بدون ورود الإشكال، كما لا يخفى، فتدبر.
الأمر الثاني: أنه لو كانت معاني ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة معاني جزئية
فلا يمكن تقييدها، وما لا يمكن تقييده لا يمكن إطلاقه; لأنهما متقابلان، فإذا لا تقبل
الإشارة لأن تثنى وتجمع; لأن تثنيتها وجمعها عبارة عن تكريرها وتقييدها، مع أنا
نرى بالوجدان صحة أن يقال: «هذا، هذان، هؤلاء، هو، هما، هم...» إلى غير ذلك.
مضافا إلى عدم معهودية لحوق علامتي التثنية والجمع للحرف.
وفيه: أن هذا الإشكال ينحل إلى أمرين:
أحدهما: عدم إمكان تقييد المعنى الحرفي (3).

1 - أوضح المسالك 1: 132 - 133، شرح الكافية 2: 132 - 133.
2 - نفس المصدر.
3 - مطارح الأنظار: 45 السطر الأخير.
160

والثاني: عدم معهودية لحوق علامتي التثنية والجمع للحرف (1).
أما الأول: فسيجئ مفصلا - في باب الواجب المشروط - إمكان تقييد
الوجوب الذي يكون معناه جزئيا، فارتقب.
ولو سلم عدم إمكان تقييد المعنى الحرفي، فنقول: إنه في المفروض لم تتعدد
الإشارة، بل المتعدد إنما هو المشار إليه ومرجع الضمير، ومجرد لحوق علامتي التثنية
والجمع لها لا يوجب تعدد الإشارة; لأنهما يلحقان الفعل، بل يمكن أن يقال: إنهما
يلحقان هيئة الفعل، كقولنا: «اضربا، اضربوا» ومع ذلك لا يفيدان تعدد البعث والفعل،
بل يدلان على تعدد الفاعل.
ألا ترى أنه فيما يمتنع تعدد الفعل كالقتل تلحقه علامتا التثنية والجمع، فنقول:
«اقتلا، واقتلوا زيدا»، فعلامتا التثنية والجمع لحقتا الفعل، ولكن لا تدلان على تعدد
الفعل، بل إنما تدلان على تعدد الفاعل.
وبالجملة: حتى لو قلنا بامتناع تقييد المعنى الحرفي نستطيع أن نقول: لا مانع من
لحوق علامتي التثنية والجمع لألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة، لأنهما تدلان على تعدد
المشار إليه ومرجع الضمير.
وأما إشكال عدم معهودية لحوق علامتي التثنية والجمع للحروف.
ففيه: أنه اتفقت كلمة النحاة على أن كاف الخطاب حرف (2)، ومع ذلك تلحقه
علامتا التثنية والجمع; لقولهم: ذلك، ذلكما، ذلكم (3).

1 - شرح الكافية 1: 15 سطر 8.
2 - لسان العرب 5: 9.
3 - مغني اللبيب: 93 سطر 24 في حرف الكاف.
161

الجهة التاسعة
في ضمائر المتكلم والمخاطب
ما ذكرنا كله في ضمائر الغيبة، وأما ضمائر المتكلم والمخاطب، فالظاهر أن سنخها
يغاير ضمائر الغيبة متصلها ومنفصل ها، ك‍ «ضربت، وضربت، وأنا، وأنت»، فإنها لم
توضع للإشارة حتما، بل ضمير التكلم وضع لنفس المتكلم بهويته الشخصية، وضمير
المخاطب وضع لنفس المخاطب بهويته الشخصية، والدليل الوحيد في أمثال المقام
التبادر، وهو الذي أشرنا إليه.
ثم ليعلم أنه فرق بين «كاف» الخطاب و «كاف» المخاطب، فالأول حرف،
والثاني اسم وضع لهوية المخاطب - كما أشرنا - كقولك: «ضربك»، فلا تغفل.
ذكر وتعقيب
قال المحقق العراقي (قدس سره) ما محصله: إن كلية المبهمات من أسماء الإشارة، والضمائر
والموصولات تشترك في أمر، وتفترق في أمور:
فأما ما تشترك فيه: فهو أنها موضوعة لمعان مبهمة تنطبق على مصاديقها
المفصلة بما هي عليه من الخصوصيات، لا على نحو انطباق الطبيعي على فرده; لأن
انطباق الطبيعي على الفرد باعتبار وجود حصة منه فيه، وأما المبهمات فلتوغلها في
الإبهام - من جميع الجهات ذاتا وعرضا - لا معنى لتحصصها بالحصة، بل يكون
صدقها على الفرد نظير صدق المعنى المتصور من الشبح المرئي من بعيد على المنطبق
عليه; بما عليه من الخصوصيات المشخصة، ومن خصوصيات كونها مبهمة استعدادها
للانطباق والصدق على كل ما يصلح لها من الموجودات الذهنية أو الخارجية
الشخصية، فكما أنها تحتاج في المحاورة - من حيث الإفادة والاستفادة - إلى ما يرفع
162

إبهامها، فكذلك المبهمات تحتاج إلى ذلك; لأن اسم الإشارة يحتاج إلى ذكر المشار إليه،
والموصول يحتاج إلى الصلة، وضمير الغيبة إلى مرجع يرجع إليه.
وأما الأمور التي تفترق فيها فبيان كل منها في بحث يختص به.
فما يرتبط باسم الإشارة: هو أنها موضوعة لمعنى مبهم، قابل للانطباق
والصدق على مورده; بجميع ما يشتمل عليه ذلك المورد من الخصوصيات المفصلة،
ومعنى اسم الإشارة مبهم من جميع الجهات، إلا من ناحية الإشارة، وتكون الإشارة
دخيلة فيه نحو دخالة، لا نحو دخالة القيد والتقيد، أو التقيد فقط، بل لكون معنى اسم
الإشارة لا ينتزع مما استعمل فيه إلا حين اقترانه بالإشارة، فدخل الإشارة في معنى
الإشارة إنما هو باعتبار تعيين ذلك المعنى المبهم بها، الموجب لكون الموضوع له حصة
من ذلك المعنى المبهم، ولذا يدل اسم الإشارة على الإشارة; لأن مدلوله هي الحصة
المتعينة بالإشارة (1).
إلى أن قال: إن دلالة اسم الإشارة على الإشارة إنما هي بالالتزام، نحو دلالة
لفظ العمى على البصر، فكما أن البصر خارج عن معنى لفظ العمى قيدا وتقيدا،
فكذلك ما نحن فيه.
وهذا القول الذي اخترناه جامع بين التبادر والقواعد العربية; من دون ورود
شيء من المحاذير العقلية (2).
وفيه أولا: أنه لو كان الموضوع له في اسم الإشارة معنى مبهما ذاتا وصفة،
فلا يمكن أن يوجد له في الخارج مصداق; لأن الموجود في الخارج لابد وأن يكون متعينا
ومتشخصا، فالفرد المبهم بما هو مبهم لا وجود له في الخارج، وفرق بين الماهية المبهمة
ذاتا وصفة، وبين ماهية الإنسان - مثلا - المعلومة ذاتا القابلة للصدق على الخارج،

1 - بدائع الأفكار 1: 70 - 71.
2 - نفس المصدر 1: 74.
163

فإنها ماهية لا بشرط، والماهية اللا بشرط قابلة للصدق على الموجود الخارجي،
ومعنى كلية ماهية الإنسان أنها غير رهينة بالكلية والجزئية، ولأجل أنها كلي
وجزئي كلي، كما قرر في محله (1).
وتوهم: أن مراده (قدس سره) بإبهام المشار إليه هو كونه مبهما عند المتكلم، نظير الشبح،
وهو قابل للصدق في الخارج.
مدفوع: بأنه خلاف صريح قوله: «المبهم ذاتا وصفة»، وواضح أن الشبح ليس
كذلك; لأنه معلوم في الواقع مبهم عند المتكلم.
وبالجملة: فرق بين اللاتعين الذاتي والصفتي، وبين العنوان اللا بشرط، فالأول
لا يمكن أن يتحقق في الخارج، بخلاف الثاني، فتدبر.
وثانيا: أنه لو لم تكن الإشارة دخيلة في اسم الإشارة; لا على نحو دخالة القيد
والتقيد، ولا على نحو التقيد فقط، بل من باب الاتفاق، فيكون وزان الإشارة وزان
سائر المقارنات; من الزمان والمكان والوضع... إلى غير ذلك، فما الدليل والسبب في
حضور هذا المقارن دون سائر المقارنات، فلا تكون الإشارة دخيلة في معنى اسم
الإشارة قيدا وتقيدا أو تقيدا فقط.
وثالثا: أن دلالة العمى على البصر إنما هي من أجل التعاند والتضاد بلحاظ
الأنس الذهني بينهما، لا على نحو التلازم، كما لا يخفى، وهل يكون بين الإشارة والمعنى
المبهم دلالة كذلك؟! حاشا.
ثم إنه إذا أحطت خبرا بما ذكرنا - في مقابل هذا المحقق - يظهر لك الكلام في
مقال المحقق الإصفهاني (قدس سره)، فإنه قريب من مقال هذا المحقق (قدس سره); لأنه قال: إن أسماء
الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى; عند تعلق الإشارة به خارجا أو ذهنا بنحو

1 - الحكمة المتعالية 2: 3 - 4.
164

من الأنحاء، فقولك: «هذا» لا يصدق على زيد - مثلا - إلا إذا صار مشارا إليه باليد أو
العين مثلا... إلى آخره (1).
فيتوجه عليه - مضافا إلى بعض ما ذكرناه على مقال المحقق العراقي (قدس سره) -: بأن
لفظة «هذا» لو كانت موضوعة لنفس المعنى عند تعلق الإشارة به خارجا أو ذهنا،
لزم أن لا يفهم منها معناها إذا قالها النائم أو الساهي، كما لا يخفى، وهو كما ترى.
فتحصل: أن الحق في ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة أن يقال: أنها موضوعة
لنفس الإشارة وإيقاع الإشارة نظير إشارة الأخرس، غاية الأمر ألفاظ الإشارة
وضعت للإشارة إلى الحاضر بمراتبه; من القريب أو المتوسط أو البعيد، ك‍ «ذا وذاك»،
وضمائر الغيبة وضعت للإشارة إلى الغائب بأقسامه; من المفرد والتثنية والجمع،
ك‍ «هو، وهما، وهم».
وأما كيفية وضعها: فأما بالنسبة إلى المعنى الملحوظ حال الوضع فقد ظهر لك
أنه لا طريق لنا إلى إحرازه، وأما بالنسبة إلى كون الموضوع له خاصا أو عاما،
فالظاهر أنه خاص حتى فيما كان منها اسما، كضمائر: «أنا»، و «أنت»، و «كاف»
المخاطب; لأنها وإن كان معناها اسما، لكنها لم توضع لكلي المخاطب أو المتكلم، بل
للمخاطب بهويته الشخصية، وللمتكلم بهويته الشخصية، فتدبر.
الجهة العاشرة: في الموصولات
الظاهر أنه لم يكن في اللغة الفارسية لفظ بسيط، يفهم منه الإشارة إلى معنى
مبهم يتوقع رفع إبهامه بالصلة.
وأما لغة العرب فما يفهم منه ذلك هو الموصولات، ك‍ «الذي»، و «التي»

1 - نهاية الدراية 1: 63.
165

ونحوهما; لأن ما يكون بإزاء «الذي» - مثلا - في اللغة الفارسية «كسى كه»، وهي
لفظة مركبة.
وكيف كان، هل وزان الموصولات وزان ألفاظ الإشارة وضمائر الغيبة
الموضوعة لنفس الإشارة، غاية الأمر تفترق عنها: بأن المشار إليه في الموصولات
عنوان مبهم يتوقع رفع إبهامه بالصلة، بخلافهما. كما أنه تفترق أسماء الإشارة عن
ضمائر الغيبة: بأن المشار إليه في ألفاظ الإشارة يكون حاضرا، وفي ضمائر الغيبة
يكون غائبا.
أو أن الموصولات تدل على إيجاد الإشارة إلى مبهم يتوقع رفع إبهامه بالصلة;
بحيث تدل لفظة «الذي» ونحوها على معنين:
1 - أصل الإشارة.
2 - المعنى المشار إليه المتوقع رفع إبهامه بالتوصيف.
فيكون معنى «الذي» - مثلا - معنى مبهما مشارا إليه بإيجاد الإشارة إليه؟
وجهان.
والوجه الثاني وإن يشكل تصوره من جهة أنه من باب استعمال اللفظ في أكثر
من معنى واحد، وهم لا يرون جوازه، خصوصا على مسلك المحقق الخراساني (قدس سره) (1)
ومن يحذو حذوه (2); حيث يرون أن الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، ولكن سيجيء -
إن شاء الله - جواز ذلك، وبناء على جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، يكون
تصديقه بعد تصوره أمرا سهلا، كما لعله يشهد بذلك الوجدان، ويكون متبادرا.
ولك أن تقول: إن لفظة «ال‍» في «الذي» ونحوه تدل على معنى مبهم، يتوقع رفع
إبهامه بالتوصيف، و «ذي» مثلا على الإشارة، فلا يلزم محذور استعمال اللفظ في أكثر

1 - كفاية الأصول: 53.
2 - مقالات الأصول 1: 48 سطر 3، أجود التقريرات 1: 51.
166

من معنى واحد، فتدبر.
ثم إنه فرق بين «الذي» و «التي» ونحوهما، وبين «من» و «ما» و «أي» ونحوها،
فإن المنساق إلى الذهن والمتبادر في النظر أن كلا من «من» و «ما» و «أي» وضعت
للعنوان المبهم، بخلاف «الذي»، و «التي» ونحوهما التي عرفت حالها.
ولا يخفى حالها أنه لا مضايقة في كون الموصولات حروفا، ومع ذلك تعامل
معها معاملة الأسماء، كما أشرنا إليها في ألفاظ الإشارة، فلاحظ.
وأما حديث كيفية وضع الموصولات، فالكلام فيها الكلام فيما ذكرناه في ألفاظ
الإشارة وضمائر الغيبة حتى ما كان منها اسما موضوعا للعنوان المبهم، فتدبر.
الجهة الحادية عشر
في موقف الحروف من حيث الإخبار عنها وبها
اشتهر بين الأدباء، وتبعهم غيرهم: أن الحروف لا تصلح لأن يخبر عنها ولا بها،
بخلاف الأسماء والأفعال، فإن الأفعال تصلح لأن يخبر بها، والأسماء تصلح لأن يخبر
بها وعنها (1).
وقد يقال في وجه ذلك: إن المعنى الحرفي حيث إنه آلة لملاحظة الغير، وغير
مستقل بالمفهومية، ويكون معناه مغفولا عنه في الذهن، فلا يعقل أن يلحظ ويترتب
عليه امتناع وقوع الحرف مخبرا عنه أو مخبرا به (2).
ولكن لا يخفى ما فيه; لأن غالب الإفادات والاستفادات إنما هو بإفهام المعاني

1 - شرح الكافية 1: 8 سطر 31، حاشية السيد الشريف على المطول: 372، هداية
المسترشدين: 34 سطر 14، بدائع الأفكار: 36 سطر 24.
2 - انظر حاشية السيد الشريف على المطول: 372 - 373، وهداية المسترشدين: 34 سطر 14،
وبدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 36 سطر 24.
167

الحرفية وتفهمها، وذكر المعاني الاسمية غالبا لأجل تفهيم المعاني الحرفية وتفهمها;
ألا ترى أن المقصود في قولك: «زيد موجود» بيان الهوهوية، وفي قولك: «زيد في
الدار» إفادة الكون الرابط، وهما معنيان حرفيان، لا إفهام زيد، ولا تفهيم الموجود،
ولا الدار، كما لا يخفى.
وإن كنت في شك فيما ذكرنا فاختبر نفسك في قولك: «ضربت زيدا أمام الأمير
يوم الجمعة عند زوال الشمس»، فهل ترى من نفسك إلا إفهام معنى حرفي، وهو
الكون الرابط، أعني حدوث الضرب في مكان كذا وفي يوم كذا وفي ساعة كذا، فهذه
القيود كلها قيود المعنى الحرفي، وهو النسبة الكلامية، كما لا يخفى، لا إفهام «الضرب»،
و «زيد» و «أمام الأمير» و «يوم الجمعة» و «زوال الشمس»، بل ذكر هذه الأمور إنما
هو تبعي واستطرادي لإفهام المعنى الحرفي.
وبالجملة: غالب احتياجات البشر في يومه وليلته، إنما هو إفادة المعاني الحرفية
واستفادتها، فكيف تكون مغفولا عنها، والاشتباه نشأ من عدم إمكان ملاحظتها
مستقلا وبدون الطرفين، وكم فرق بين كون الشيء مغفولا عنه، وآلة للحاظ غيره،
وبين كونه تبعا لغيره وغير مستقل في التعقل، والحروف إنما هي من قبيل الثاني،
لا الأول; لأنها لم تكن مغفولا عنها، بل لا يمكن أن تلاحظ وتعقل مستقلا وبدون
لحاظ الطرفين، كما أن وجودها في الخارج أيضا مندك في وجود الطرفين.
فإذا تبين لك ما ذكرنا، فنقول: كما يصح أن يخبر عن معنى مستقل في الوجود
والتعقل، فكذلك يصح أن يخبر عن معنى مندك في الطرفين في الوجود والتعقل، فكما
يتعلق القصد تارة بالإخبار بأن الضرب واقع، فكذلك يتعلق أخرى بالإخبار بأن
الضرب واقع في زمان أو مكان كذا.
فلعل مراد الأدباء المحققين بقولهم: إن الحروف لا يخبر عنها ولا بها هو، أن
الحروف لا تقع مبتدأ ولا خبرا في اللفظ والعبارة، وهذا مسلم، ولكن لا يدل ذلك على
168

عدم صحة الإخبار عنها أو بها بقول مطلق، كما لا يخفى، فتدبر واغتنم.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك: ضعف ما بنوا (1) على كون المعاني الحرفية
مغفولا عنها وآلة لملاحظة غيرها; من إنكار الواجب المشروط ومفهوم الشرط;
بتوهم امتناع تقييد معنى الهيئة التي يكون معناها حرفيا، وإرجاع القيود الواقعة في
الكلام - الظاهرة في الرجوع إلى الهيئة - إلى المادة (2).
وتوضيح الضعف لائح مما عرفت بما لا مزيد عليه; من إمكان تقييد المعاني
الحرفية، بل غالب التقييدات راجع إليها، فتدبر.

1 - نفس المصدر السابق.
2 - مطارح الأنظار: 45 السطر الأخير.
169

الأمر الثالث
في الحقيقة المسماة بالمجاز
هل المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له مطلقا (1)، أو يفصل بين المجاز الذي
ادعاه السكاكي في الاستعارة، وبين المجازات الأخر، ففي الأول لم يستعمل اللفظ في
غير ما وضع له اللفظ، بخلاف الثاني (2)، أو يفصل بين المجاز المرسل - وهو ما تكون
العلاقة فيه غير التشبيه - وبين مجاز الحذف، أو أن في جميع المجازات يستعمل اللفظ فيما
وضع له (3)؟
وجوه، بل أقوال:
والأقرب في النظر - وفاقا لما أفاده شيخنا العلامة أبو المجد الشيخ محمد رضا
الإصفهاني (قدس سره) في «وقاية الأذهان» (4) - هو الأخير، وسيظهر لك جليا - إن شاء الله - حاله.

1 - المطول: 278 سطر 21، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 77، وقوانين الأصول 1: 13
سطر 5، والفصول الغروية: 14 سطر 12.
2 - مفتاح العلوم: 156.
3 - وقاية الأذهان: 103 - 108.
4 - نفس المصدر: 103 - 108.
171

ثم إنه وقع الخلاف في أن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، هل هو بالوضع
ولو نوعا، أو بالطبع؟ على وجهين، بل قولين:
ذهب المحقق الخراساني (قدس سره): إلى أنه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال
فيما يناسب ما وضع له وإن فرض منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما
لا يناسب معناه الموضوع له ولو فرض ترخيصه في ذلك، ولا معنى لصحته إلا حسنه،
فلو كانت صحة الاستعمال المجازي منوطة بالوضع، لم يكن وجه لاستهجان الاستعمال
فيما لا يناسب المعنى الموضوع له مع فرض ترخيص الواضع له (1).
ولكن أشكل عليه المحقق العراقي (قدس سره): بأنه لا يجوز ذلك، بل لابد من إحراز
ترخيص أهل اللسان - في التصرف في لغتهم - لمن أراد الجري على طريقتهم في
المحاورات، وإلا يكون الكلام خارجا عن طريقتهم، نظير خروج كلام من يخالف
طريقة العرب; من حيث قواعد النحو والصرف عن طريقة أهل اللسان العربي
وخروج كلامه عن اللغة العربية.
فإذا يكون استعمال اللفظ فيما يناسب معناه الحقيقي - الذي لم يسلكه أهل
اللسان - مخالفا لهم في طريق المحاورة، ويكون كلامه المتجوز فيه غير عربي (2).
وفيه: أنه - كما سيظهر لك جليا إن شاء الله - أن المختار عندنا في الاستعمالات
المجازية عندهم: أن الألفاظ فيها مستعملة في المعاني الموضوعة لها.
ولكن لو تنزلنا عما هو المختار، ودار الأمر بين نظرية العلمين، فالحق مع المحقق
الخراساني (قدس سره)، القائل بجواز استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له اللفظ; لأن الوجدان
أصدق شاهد على جواز ذلك، ولا يرون أن استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له
استعمالا له على خلاف طريقتهم، وإلا لما صح من العرب المعاصرين استعمال اللفظ في

1 - انظر كفاية الأصول: 28.
2 - بدائع الأفكار 1: 87.
172

غير الموارد التي وصلت إليهم من أسلافهم، وإنكاره بمثابة إنكار البديهي، فكل ما
ناسب استعمال اللفظ فيه صح وحسن ولو منع الوضع عنه، وكل ما لا يناسب ذلك
لا يصح، بل يستهجن وإن فرض ترخيص الواضع.
مثلا: استعمال اللفظ الموضوع للمحل في الحال ربما يكون مستهجنا، كاستعمال
لفظ «الحمار» في زيد إذا فرض ركوبه على الحمار دائما أو غالبا، مع وجود علاقة
الحال والمحل.
ذكر وتنقيح
اشتهر عن العلامة السكاكي: أنه قال في غير الاستعارة بمقالة المشهور: من
أنه عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له.
وأما في الاستعارة فقال: إنها مجاز عقلي; بمعنى أن التصرف في أمر عقلي
لا لغوي.
وبالجملة: يرى أن الاستعارة حقيقة لغوية، وأن التصرف إنما هو في أمر عقلي،
وهو جعل ما ليس بفرد فردا; لأنه لا معنى لإطلاق المشبه به على المشبه، إلا بعد
ادعاء دخوله في جنس المشبه به، وهو بعد جعل الرجل الشجاع - مثلا - فردا من
الأسد، فاستعمال المشبه به في المشبه استعمال للفظ فيما وضع له، فالاستعارة حقيقة
لغوية عنده (1).
واستدل: بأنه لولا ذلك لما صح التعجب في قول العميد:
قامت تظللني ومن عجب * شمس تظللني من الشمس
بداهة أنه لولا ادعاء معنى الشمس في المرأة المنظورة، وجعلها شمسا حقيقة، لما

1 - مفتاح العلوم: 156 - 158.
173

كان وجه لتعجبه; إذ لا تعجب في أن تظلل المرأة الحسناء من الشمس.
وكذا لما صح النهي عن التعجب في قول أبي الحسن بن طباطبا:
لا تعجبوا من بلى غلالته (1) * قد زر أزراره (2) على القمر
لأنه لولا أنه جعل مورد نظره قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى;
لأن الكتان إنما يسرع إليه البلى بسبب ملابسة القمر الحقيقي، لا بملابسة إنسان كالقمر
في الحسن والوجاهة (3).
أضف إلى ذلك - انتصارا لمقالته - قوله تعالى في قصة يوسف على نبينا وآله
وعليه السلام: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (4)، فإنه إنما يحسن ويكون بليغا
لو نفى البشرية عنه حقيقة، وإثبات كونه ملكا، لا أنه مثل الملك.
وما ربما يقال في رد مقال السكاكي: من أن التعجب والنهي في البيتين - مثلا -
مبنيان على تناسي التشبيه - أي إظهار نسيان التشبيه - قضاء لحق المبالغة ودلالة على
أن المشبه بحيث لا يتميز عن المشبه به أصلا; حتى أن كل ما يترتب على المشبه به
- من التعجب أو النهي عنه - يترتب على المشبه أيضا (5).
مدفوع: بأن نسيان التشبيه إنما هو لأجل الادعاء، وهو الذي قضى حق
المبالغة، وإلا فلولا الادعاء لما كان لنسيان التشبيه معنى، ولا يقتضي حق المبالغة.
ولا يخفى أن هذا الذي ذكرناه هو المعروف من السكاكي في الاستعارة،

1 - قلت: «البلى» بكسر الباء مقصورا من بلي الثوب يبلى إذا فسد، والغلالة ككفاية: ثوب رقيق
يلبس تحت الثياب.
2 - قلت: زر بالزاء المعجمة وتشديد الراء المهملة ماض من الزر، وهو بالكسر ما يوضع في
القميص لشده، ويقال له بالفارسية «تكمه»، وجمعه أزرار. المقرر
3 - انظر مفتاح العلوم: 157، وشروح التلخيص 4: 63 - 64.
4 - يوسف: 31.
5 - المطول: 290 سطر 8.
174

لا ما نسبه المحقق العراقي (قدس سره) (1) إليه، فإن ما أسنده إليه هو مقالة شيخنا العلامة الشيخ
محمد رضا الإصفهاني (قدس سره) في «الوقاية» (2) الذي يطابق التحقيق، وهو ما ذهبنا إليه، كما
سيتضح لك قريبا، فارتقب.
وبالجملة: ما ذهب إليه السكاكي أقرب من غيره إلى الذوق السليم، إلا أنه مع
ذلك فيه إشكالات وتناقض نشير إليها:
الأول: أن هذا القول يشترك مع قول المشهور (3) في كون الاستعمال في غير
الموضوع له; لأن استعمال اللفظ في المصداق الحقيقي للموضوع له بخصوصه مجاز،
فكيف بالفرد الادعائي؟! فيكون استعمال اللفظ فيما يكون فردا ادعائيا له مجازا
لغويا، كما عليه المشهور، فما ذهب إليه: من أن الادعاء المزبور يجعله حقيقة لغوية،
غير وجيه.
وبعبارة أوضح: استعمال اللفظ الموضوع للطبيعة في مصاديقها الواقعية مجاز، فما
ظنك في المصاديق الادعائية، فالادعاء لا يخرج الكلام عن المجاز اللغوي، ولا يخفى
أنه في مثل «زيد إنسان» لم يستعمل الإنسان إلا في نفس الطبيعة، وغاية ما يقتضيه
الحمل هو اتحادهما خارجا، لا استعمال الطبيعة في الفرد، فتدبر.
وثانيا: أن ما ذكره السكاكي إنما يجري في الطبائع الكلية، وأما في الأعلام
الشخصية - كما إذا أردت تشبيه زيد بحاتم في السخاوة - فلا سبيل إلى الادعاء
واعتبار ما ليس بفرد فردا، كما كان له سبيل في الطبائع الكلية إلا بتأويل بارد، فهل
يقول في ذلك بالمجاز المرسل أو شيء آخر؟!

1 - بدائع الأفكار 1: 87.
2 - تقدم تخريجه.
3 - المطول: 278 سطر 21، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 77، قوانين الأصول 1: 13
سطر 5، الفصول الغروية: 14 سطر 12.
175

والأولى تبديل ما ذكره وإصلاحه بما نقوله; حتى لا يتوجه عليه ما يتوجه على
مقال المشهور، وحاصله:
أن اللفظ في مطلق المجاز - مرسلا كان، أو استعارة، أو مجازا في الحذف، مفردا
كان أو مركبا - استعمل في معناه الحقيقي الموضوع له، فاستعمل لفظ «الأسد» في قولنا:
«زيد أسد» - مثلا - في الحيوان المفترس حقيقة من دون ادعاء، والادعاء إنما هو بعد
الاستعمال فيما وضع له; في تطبيق المعنى الموضوع له على هذا الفرد; إما بادعاء كونه
مصداقا له، كما في الطبائع الكلية، أو كونه عينه، كما في الأعلام الشخصية.
وعليه فالفرق بين ما ذهب إليه السكاكي وما هو المختار: هو أن الادعاء على
مذهبه وقع قبل الإطلاق، فأطلق اللفظ على المصداق الادعائي، بخلاف ما هو المختار،
فإنه بعد الاستعمال; وحين إجراء الطبيعة - الموضوع لها اللفظ - على المصداق
الادعائي في مثل «زيد أسد»، وفي مثل «زيد حاتم»، أريد بحاتم الشخص المعروف،
وادعي أن زيدا هو هو، فالادعاء لتصحيح إجراء المعنى على المعنى.
ومن الواضح: أن حسن الكلام وبلاغته في باب المجازات، إنما هو بتبادل المعاني
والتلاعب بها; ووضع معنى مكان معنى، لا بتلاعب الألفاظ وتبادلها; لأن الألفاظ
غالبا متكافئة في إفادة معانيها. فقوله تعالى: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (1)
استعمل «الملك» في معناه المعهود، وإنما حمله على يوسف - على نبينا وآله وعليه
السلام - بادعاء كونه من مصاديقه.
وإذا أحطت خبرا بما ذكرنا تتفطن إلى توجه إشكال آخر على مقال السكاكي:
وهو أنه لا وجه لتخصيص ما ذكره بالاستعارة، بل هو جار في المجاز المرسل أيضا;
وذلك لأنه في جميع المجازات لابد وأن يكون فيها ادعاء، ولا دعائه مصحح، وإلا

1 - يوسف: 31.
176

لما كان لكلامه حسن وبلاغة.
مثلا: في إطلاق «العين» على الربيئة استعملت لفظة «العين» فيما وضع له، ولكن
حيث إن شأن الربيئة المراقبة والنظارة التامة فكأن تمام وجوده عين، فيدعي أنه
مصداق لها، فلم يكن إطلاقها عليها بمجرد علاقة الجزئية والكلية.
وكذا في إطلاق الميت على المريض الذي يئس من حياته، وأشرف على
الموت، ليس إلا بادعاء كونه ميتا، ومصحح الادعاء إشرافه على الموت، وانقطاع
أسباب الصحة عنه، ولذا لا يطلق على المريض الذي لم يكن بتلك المثابة; لعدم
المصحح للادعاء.
ولذا لا يجوزون استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل، إلا فيما يصح فيه ادعاء
أنه الكل، وذلك في خصوص الأجزاء الرئيسية (1).
وهكذا الكلام في سائر أنواع المجازات، فتراهم يصرحون بوجود العلاقة
المعتبرة في استعمال اللفظ في غير ما وضع له (2)، ومعنى اعتبارها هو صحة الادعاء،
ومع صحة الادعاء يصح الإطلاق، وإلا يكون غلطا.
وبالجملة: باب المجاز مطلقا - أي سائر أنواع المجازات; من غير اختصاص
بباب الاستعارة - باب التلاعب بالمعاني; وتبادل معنى مكان معنى، وهذا هو الذي
يورث الكلام ملاحة، ويصيره بليغا وفصيحا، لا وضع لفظ مكان لفظ آخر; لأن
الألفاظ - كما أشرنا - متكافئة غالبا في إفادة معانيها.
والظاهر أن اللطافة والملاحة التي تكمن في قوله: (واسأل القرية) (3)، وهي
ادعاء أن القضية بمرتبة من الوضوح يعرفها كل موجود، حتى القرية التي من

1 - مفتاح العلوم: 155 سطر 20، المطول: 285، شروح التلخيص 4: 35.
2 - مفتاح العلوم: 155 سطر 13، المطول: 282 سطر 24، شروح التلخيص 4: 25.
3 - يوسف: 82.
177

الجمادات، فكيف ينكرها العاقل الذي له شعور وإدراك، لا تراها ولا تجدها إذا قيل:
«واسأل أهل القرية».
وكذا ترى: اللطافة والبلاغة في قول الفرزدق - شاعر أهل البيت (عليهم السلام) - في
مدح الإمام السجاد (عليه السلام):
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم (1)
إلى آخر الأبيات; حيث يريد إثبات أنه (عليه السلام) بمرتبة من الشهرة والمعروفية;
بحيث تعرفه أرض بطحاء وبيت الله الحرام والحل والحرم، وهذا مالا تراه إذا قيل: هذا
الذي يعرفه أهل البطحاء وأهل البيت وأهل الحل وأهل الحرم.
وكذا في الاستعمالات التي يصرح فيها بنفي معنى وإثبات معنى آخر، كقوله
تعالى: (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (2)، وكقوله: «ليس هذا بوجه، بل هو
بدر»... إلى غير ذلك من العبائر، وما ذكرناه هو جمل يسيرة من كلماتهم، وعليك
بالتتبع التام في حكم البلغاء والفصحاء وعباراتهم، فإن كان لك ذوق سليم تصدق ما
ذكرنا أحسن تصديق، وقد اقتبسنا ما ذكرناه من شيخنا العلامة أبي المجد
الإصفهاني (قدس سره) صاحب «وقاية الأذهان» (3)، وقد أتى (قدس سره) في هذا الميدان بما لا مزيد
عليه، وأتى بأمر بكر، وصدقه كل من عكف على كلامه أو على مقالته; بشرط أن
يكون له ذوق وطبع سليم وذهن مستقيم، وقد قال (قدس سره):
«إني لما ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة - كانوا يقرؤون علي كتاب
«الفصول» في النجف الأشرف سنة 1316 - لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية
العلم ومجالس البحث، فتلقته الأذهان بالحكم بالفساد، وتناولته الألسن بالاستبعاد،

1 - رجال الكشي 1: 343، المناقب 4: 169، شرح شواهد المغني للسيوطي 1: 14.
2 - يوسف: 31.
3 - وقاية الأذهان: 103 - 108.
178

وعهدي بصاحبي الصفي وصديقي الوفي وحيد عصره في دقة الفهم واستقامة السليقة
العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني - رحم الله شبابه وأجزل ثوابه - سمع
بعض الكلام علي، فأدركته شفقة الأخوة، وأخذته عصبية الصداقة، فأتى داري بعد
هزيع من الليل، وكنت على السطح، فلم يملك نفسه حتى شرع بالعتاب، وهو بعد
واقف على الباب، وقال: ما هذا الذي ينقل عنك، ويعزى إليك؟!
فقلت: نعم، وقد أصبت الواقع، وصدق القائل.
فقال: إذا قلت: في شجاع أنه أسد، فهل له ذنب؟!
فقلت له مداعبا: تقوله في مقام المدح، ولا خير في أسد أبتر.
ثم صعد إلي، وبعدما أسمعني أمض الملام ألقيت عليه طرفا من هذا الكلام،
فقبله طبعه السليم وذهنه المستقيم، فقال: هذا حق لا معدل عنه، ولا شك فيه، ثم كتب
في ذلك رسالة سماها: «فصل القضا في الانتصار للرضا»، ومن ذلك اشتهر القول به،
وقبلته الأذهان الصافية، ورفضته الأفهام السقيمة» (1). انتهى.
هذا حال المجازات المفردة.
وكذا الحال في المجازات المركبة، بل لعل الأمر فيها أوضح، وذلك كقولك
للمتردد المتحير في أمر: «أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى»، فإنه لم تستعمل ألفاظه
المفردة إلا في معانيها الحقيقية، لكن ادعي أن المتحير شخص متمثل كذلك، ولم يكن
للمجموع المركب وضع على حدة; بحيث تكون أجزاؤه بمنزلة حروف الهجاء في
المفردات; لتستعمل في معنى لم يوضع له، فليس للهيئة العارضة للمركب معنى غير
ما يكون لمفرداته.
فإذا مفردات تلك الجملة وهيئتها استعملت فيما وضع له.

1 - نفس المصدر: 114 - 115.
179

نعم: قولك ذلك إنما هو بعد ادعائك: أن هذا الرجل المتحير المتردد في أمره،
كأنه يقدم إحدى رجليه ويؤخر أخرى، ومتمثل كذلك، وأن حاله وأمره يتجلى في
هذا المثال كأنه هو.
فتحصل مما ذكرنا: أنه في جميع الاستعمالات التي يرونها استعمالات مجازية
- سواء كانت في المفردات بأقسامها، أو في المركبات بأنواعها - استعملت الألفاظ فيما
وضعت له، والتصرف والادعاء إنما هو في تطبيق المعاني الموضوع لها على غيرها،
ولم تستعمل الألفاظ في غير ما وضعت له.
وبعدما عرفت ما ذكرنا، وتفحصت وتدبرت في لطافة محاورات الخطباء
والأدباء والشعراء، تذعن بما ذكرنا إن كان لك ذوق سليم ووجدان صحيح، وترى
أنه لا مخلص إلا بهذا القول ولا مفر عنه، فلك أن تتفطن مما ذكرنا إلى سقوط بعض
المباحث الدارجة بين الأدباء، والمندرجة في كتب القوم: من أن المجاز هل يحتاج إلى
رخصة الواضع أم لا (1)؟ والبحث في أن العلاقة المجوزة هل هي نوعية أو صنفية أو
شخصية (2) وعدد أنواع العلائق (3)... إلى غير ذلك.
والسر في ذلك: هو أنه استعمل اللفظ في جميع المجازات فيما وضع له، نعم - كما
أشرنا - لابد من صحة الادعاء وحسنه، وهما مرتبطان بحسن السليقة والذوق
السليم.
ثم إنه غير خفي على المتدرب أنه على كلا المبنيين - المبنى المشهور والمبنى
المختار - في المجاز لابد من الادعاء، وإلا لا يكون الاستعمال مجازيا، بل إما غلط، أو
لغرض آخر، مثل استعمال اللفظ في اللفظ، كما سنذكره قريبا، فإنه لم يستعمل اللفظ فيه

1 - شروح التلخيص 4: 22 سطر 25، الفصول الغروية: 25 سطر 33.
2 - المطول: 282، قوانين الأصول: 64 سطر 3.
3 - شروح التلخيص 4: 42 - 43، الفصول الغروية: 24 سطر 17.
180

فيما وضع له، وهو ظاهر، ولم يكن في مقام الادعاء والتنزيل; حتى يكون مجازا على
كلا المبنيين، فاستعمال اللفظ في اللفظ لم يكن استعمالا حقيقيا ولا مجازيا، بل شيئا آخر،
كما سيظهر لك قريبا.
وبالجملة: لابد في الاستعمالات المجازية من الادعاء، وإلا يكون الاستعمال
غلطا أو لغرض آخر، ولذا ترى ذلك في كلمات الخطباء والبلغاء والشعراء، وفي كلمات
أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، عند كونهم في مقام إنشاء الخطب وإلقاء الكلمات البليغة
والاستعارات، وأما إذا كانوا في مقام بيان الأحكام ووظائف العباد، فهم كسائر الناس،
لا يعتنون بالمجازات والكنايات والاستعارات، بل يلقون صراح المطالب ومخها إلى
الناس، فتدبر.
181

الأمر الرابع
في استعمال اللفظ في اللفظ (1)
يستعمل اللفظ تارة في المعنى إما حقيقة أو مجازا، وأخرى في غير المعنى; بأن
يستعمل اللفظ ويراد به الأحكام العارضة لنفسه بأنه مبتدأ أو مسند إليه أو مرفوع أو
كيف مسموع... إلى غير ذلك، فإن إطلاق اللفظ في مثل هذه الموارد ليس استعمالا له
في المعنى الحقيقي، ولا المجازي، بل من باب إيجاد صورة الموضوع في نفس السامع;
لينتقل منه إلى نفس الموضوع، وذلك على أقسام: لأنه طورا يستعمل اللفظ ويراد به
شخص اللفظ المتلفظ به، كما إذا قيل: «زيد» في «ضرب زيد» - مثلا - فاعل، إذا أريد
شخص لفظه، وأخرى يطلق ويراد به مثله، كما في المثال المذكور إذا لم يرد شخص
لفظه، وثالثة يستعمل ويراد به صنفه، كما إذا قيل: «زيد» في «ضرب زيد» مرفوع، أو
نوعه، كما إذا قيل: إن «ضرب» كلمة.
وتنقيح الكلام يستدعي البحث في جهات:

1 - كان تاريخ الشروع في هذا الأمر يوم السبت 15 جمادى الأولى من سنة 1378 هجري
قمري.
183

الجهة الأولى
في استعمال اللفظ وإرادة شخصه
استعمال اللفظ في اللفظ هو أن يقال مثلا: «زيد لفظ، أو اسم»، أو «زيد» في
«ضرب زيد» فاعل، إذا أريد شخص لفظه - كما أشرنا - ونحوها من المحمولات
المترتبة على نفس ذلك اللفظ بعينه.
قد يقال بامتناعه; نظرا إلى أن استعمال شيء في شيء ودلالة شيء على شيء،
يقتضي الاثنينية والتعدد، واستعمال اللفظ وإطلاقه وإرادة شخص لفظه يوجب اتحاد
الدال والمدلول، فلا يجوز (1).
ولكن دفعه المحقق الخراساني (قدس سره): بأنه لا يحتاج في تعدد الدال والمدلول إلى
التعدد الحقيقي، بل يكفي التعدد الاعتباري وإن اتحدا ذاتا.
وبالجملة: لا يحتاج في تعدد الدال والمدلول تغايرهما ذاتا، بل يكفي التعدد
الاعتباري; وذلك لأن المتضايفين قد يختلفان وجودا، كالعلية والمعلولية، وقد
لا يكونان مختلفين كذلك، وإنما يختلفان اعتبارا كالعالمية والمعلومية والدال والمدلول
من قبيل الثاني، ولا يخفى تحقق التغاير الاعتباري بينهما في المفروض; لأن للفظة
«زيد» في - المثال - حيثيتين: حيثية صدوره من اللافظ، وحيثية خطوره في نفس
السامع، فبلحاظ كونه صادرا من لافظه يكون دالا، وبلحاظ أن نفسه وشخصه مراده
يكون مدلولا (2).
وقال بعض الأعلام (قدس سره) إنه لا يحتاج في الدال والمدلول إلى التغاير الاعتباري

1 - الفصول الغروية: 22 السطر ما قبل الأخير.
2 - كفاية الأصول: 29.
184

أيضا، بل يمكن أن يكون شيء واحد دالا ومدلولا، كاتحاد العالم والمعلوم، وهذا نظير
قول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في دعاء الصباح: (يا من دل على ذاته بذاته) (1)،
وقول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: (وأنت دللتني عليك) (2)، فإن
الدال هو ذاته المقدسة، والمدلول أيضا هو عز اسمه، فاتحد الدال والمدلول، ولم يكن
هناك اثنينية ولو اعتبارا، فليكن ما نحن فيه كذلك (3).
أقول: يتوجه على ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره):
أولا: بأن استعمال شيء في شيء لابد وأن يكونا قبل الاستعمال موجودين حتى
يستعملا، ويطلب عمل أحدهما في الآخر، والتعدد الاعتباري الذي يراه (قدس سره) إنما يجيء
بعد الاستعمال، كما لا يخفى.
وبالجملة: لابد من تحقق التعدد ولو اعتبارا - المصحح للاستعمال - في الرتبة
السابقة على الاستعمال، لا ما هو الحاصل بالاستعمال.
وثانيا: لا يخفى أن عنوان كون اللفظ مرادا أمر مغفول عنه حين التلفظ به،
فكيف يكون مدلولا مع أنه لابد وأن يكون المدلول متوجها إليه؟!
وثالثا: وهو العمدة في الإشكال: أن الاستعمال عبارة عن إلقاء اللفظ وإرادة
المعنى، فحقيقة الاستعمال إلقاء المرآة وإرادة المرئي، فاللفظ مرآة وملحوظ آلي، والمعنى
ملحوظ استقلالي، واللحاظان - الآلي للمستعمل، والاستقلالي للمستعمل فيه -
يوجبان التعدد الحقيقي بينهما، ولا يكفي التعدد الاعتباري مع كون الوجود واحدا
شخصيا، فتدبر.
وبما ذكرنا يظهر لك: أن المتضايفين وإن كانا قد لا يوجبان التعدد، إلا أن

1 - بحار الأنوار 91: 243.
2 - مصباح المتهجد: 525، بحار الأنوار 95: 82.
3 - نهاية الدراية 1: 64.
185

الوحدة والتعدد فيهما تابعان للموارد، فقد يوجب ذلك التعدد، كما في العلة والمعلول،
وقد لا يلزم التعدد، كما في العاقل والمعقول، إلا أن ما نحن فيه من قبيل الأول; لأن
الدلالة: عبارة عن الانكشاف والهداية، ولا يعقل أن يكون شيء واحد كاشفا وهاديا
لنفسه; للزومه كشف المنكشف، فاللفظ الذي ينطبق به المتكلم لابد وأن يكون كاشفا،
فلو اعتبر هداية نفسه إلى نفسه لزم ذلك; أي كشف المنكشف، وهو غير معقول، نظير
إيجاد الشيء نفسه في العلة والمعلول، فلابد من التغاير الحقيقي، فضلا عن الاعتباري.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك ضعف ما ذكره بعض الأعلام.
ولعل المراد بقوله (عليه السلام): (يا من دل على ذاته بذاته)، ونحوه من الكلمات المروية
عنهم (عليهم السلام) ما قاله الشيخ الصدوق (قدس سره): من أن الاستدلال بكل طريق إليه تعالى إنما
بمنه وفضله، فالدال غير المدلول، إلا أن المدلول دل على نفسه بإيجاد ما يهدي إليه،
وبهذا الاعتبار يقال: إنه تعالى دل على نفسه، وإلا فالدال هو الأثر، والمدلول هنا هو
المؤثر (1) (2).
ذكر وتعقيب
ثم إن المحقق الإصفهاني (قدس سره) تصدى لتوجيه ما في «الكفاية» بوجه دقيق، ولكنه
مع ذلك لا يخلو عن تكلف وإشكال.
وإليك حاصل ما أفاده: وهو أن الإرادة والشوق لا يتعلقان بما هو خارج عن
صقع النفس; لأن الشوق المطلق لا يوجد في النفس، بل يوجد متقوما بمتعلقه،
ولا يعقل أن يكون الخارج عن أفق النفس مقوما لما في النفس، وكذلك لا يتعلقان

1 - انظر التوحيد: 290 باب أنه عز وجل لا يعرف إلا به.
2 - قلت: هم (عليهم السلام) والله تعالى عالم بحقائق مرادهم وأسرار مقاصدهم، ولأرباب المعقول هنا
مطالب ودقائق ولطائف لا يهمنا ذكرها هنا، ومن أراد فليراجعه في مظانها. المقرر
186

بالموجود الذهني والصورة الذهنية بما هي كذلك; لأن الصورة الذهنية معلومة بالذات،
وهي تباين العقلية الاخرى - وهي المرادية والمشتاقية إليها - لأن كل فعلية تأبى عن
فعلية أخرى، بل المتعلق والمقوم لصفة الشوق نفس الماهية الموجودة، فالماهية
موجودة في النفس بثبوت شوقي، كما توجد في الخارج بثبوت خارجي، فللمتكلم أن
يقصد إحضار المعنى بما له من الثبوت في موطن الشوق; بتوسطه بماله من الثبوت في
موطن الخارج، فالماهية الشخصية الموجودة خارجا دالة بثبوتها الخارجي على نفسها
الثابتة بالثبوت الشوقي (1).
أقول: في كلامه (قدس سره) مواقع للنظر، إلا أن المهم فعلا التعرض لكلامه بما يناسب
المقام.
فنقول: إن ما أفاده لا يطابق لما في «الكفاية» ولا للوجدان ولا للبرهان; وذلك
لأن صريح «الكفاية»: أن اللفظ الواحد خارجا باعتبار صدوره من اللافظ دال، وهو
باعتبار كونه مرادا مدلول، وأما على ما حققه (قدس سره) فهما شيئان حقيقة، كما عرفت، وأين
التغاير الحقيقي من التغاير الاعتباري؟!
وأما أن ما أفاده في نفسه لا يطابق الوجدان، فلأن التبادر وغيره أقوى شاهد
على أن من يقول: «زيد لفظ» لا يريد إلا أن نفس هذا - أي «زيد» - لفظ، ولم يتخيل
الماهية الموجودة خارجا; حتى يجعلها دالة على الصورة الذهنية من تلك الماهية، بل
هذا الكلام أشبه شيء بالبحث الدرسي من الرجوع إلى باب العرف الذي لابد منه في
أمثال المقام.
وأما عدم مطابقة ما أفاده للبرهان فلأن الدال والمدلول: إما يقيدان بالوجود،
أو لا يقيدان به، أو يقيد أحدهما به دون الآخر.
وعلى الأول: لا دلالة للموجود الخارجي - بما هو كذلك - على الموجود

1 - نهاية الدراية 1: 51.
187

الذهني بما هو كذلك.
وبعبارة أخرى: لو حفظ الوجودان فلا تكون هناك ماهية واحدة دالة
ومدلولة، فإن ما يصدق على الخارج والذهن نفس الماهية لا الماهية الموجودة في
الذهن أو في الخارج.
وعلى الثاني: لا تعدد في البين، فلم يكن هناك دال ومدلول، بل نفس الماهية
ليس إلا.
وعلى الثالث: أيضا تنتفي الدلالة; لأن المقيد بما هو مقيد لا يدل على المطلق بما
هو مطلق، كما أن المطلق بما هو كذلك لا يدل على المقيد بما هو مقيد.
والتحقيق أن يقال: إن باب دلالة اللفظ على المعنى غير باب إلقاء اللفظ وإرادة
شخصه.
وذلك لأن دلالة اللفظ عبارة عن أنه إذا خرج اللفظ من مقاطع فم المتكلم،
يحصل منه صورة في ذهن السامع من قرع الهواء وتموجه في ناحية صماخه، ثم ينتقل
السامع من تلك الصورة الحاصلة في ذهنه إلى الموضوع له اللفظ ومعناه، ولو ارتسم
هذا الأمر برسم هندسي لكان أشبه شيء بالشكل المثلث، الذي يكون مبدأ أحد
أطرافه مقاطع فم المتكلم، منتهيا إلى الصورة الحاصلة في ذهن السامع من سماع اللفظ،
المنتهية إلى المعنى الخارجي الموضوع له، فهناك أمور ثلاثة:
1 - اللفظ الخارج من مقاطع الفم.
2 - والصورة والمعنى الحاصل في ذهن السامع.
3 - والمعنى الخارجي الموضوع له.
فإن كان هناك حكم فإنما هو على المعنى الخارجي الموضوع له; بإحضار لفظه
الدال عليه في الذهن.
وأما إلقاء اللفظ وإرادة شخصه فعبارة عن إيجاد صورة الموضوع في ذهن
السامع; لينتقل منه إلى نفس الموضوع له; وذلك لأنه بعد خروج اللفظ عن مقاطع فم
188

المتكلم وتموج الهواء به، يحصل منه في ذهن السامع ما هو الكاشف عن نفسه، ويكون
من قبيل الحركة الانعطافية، ويكون أشبه شيء بالحركة القسرية التي تحصل للحجر
الصاعد مستقيما والهابط كذلك، فبسماع اللفظ ينتقل السامع إلى ذلك اللفظ نفسه.
ولا يخفى أنه فرق بين استعمال اللفظ الموضوع وإرادة شخصه، وبين استعمال
غيره من المهملات والأصوات، فإن الذهن في الأول إذا لم تكن هناك قرينة على عدم
إرادة المعنى الموضوع له لينتقل إليه، ينعطف الذهن إلى اللفظ نفسه، بخلاف الثاني; لأن
المهملات ونحوها لا معنى لها حتى ينتقل الذهن إليه بسماعه.
وبالجملة: وزان اللفظ الموضوع - بعد تلك القرينة - وزان الصوت الخارج عن
ذي الصوت، كالذبابة تهدي إلى نفسها.
فبعدما أحطت خبرا بما ذكرنا عرفت: أن باب إلقاء اللفظ وإرادة شخصه غير
باب دلالة اللفظ على معناه; حتى يشكل أحد بلزوم اتحاد الدال والمدلول; لكي يدفع
بعضهم الإشكال: بكفاية التغاير الاعتباري، ويدفع آخر: بعدم الاحتياج إلى التغاير
الاعتباري أيضا.
وبعد ما عرفت حقيقة الأمر والفرق بين البابين، لو أردت إطلاق الدلالة على
إلقاء اللفظ وإرادة شخصه فلا مشاحة فيه; لأن النزاع لم يكن في الإطلاق اللفظي ولو
مسامحة، بل في الفرق الواقعي بين البابين، فتدبر.
الجهة الثانية
في استعمال اللفظ وإرادة مثله
وذلك بأن يقال: «زيد» في «ضرب زيد» - الواقع في كلامي سابقا أو كلامك -
فاعل، أو لفظ... إلى غير ذلك من الأحكام.
ولا يخفى أن المستعمل فيه هنا إنما هو مماثل للمستعمل، ودلالة هذا تشبه أن
189

تكون من باب دلالة الألفاظ، فإنه كما أنه بسماع اللفظ في الدلالة اللفظية توجد
صورة منه في المدركة، فينتقل السامع منها إلى المعنى الموضوع له، فكذلك فيما نحن فيه
يوجد سماع اللفظ صورة عنه في المدركة، فينعطف بذلك إلى اللفظ الموجود في كلامه
السابق أو في كلام المخاطب، فالحركة هنا نظير الحركة في باب الدلالة اللفظية، نعم
فرق بينهما: وهو أن في باب الدلالة اللفظية ينتقل السامع إلى المعنى الموضوع له، وفي
المقام إلى اللفظ المماثل لذلك اللفظ، فتدبر.
الجهة الثالثة
في استعمال اللفظ وإرادة صنفه أو نوعه
والظاهر أن الاستعمال فيه كالاستعمال في المثل، يشبه أن يكون من باب الدلالة
اللفظية مع الفرق الذي ذكرناه هناك، وهو أن الانتقال هنا - بعد الاستعمال - من
صورة اللفظ المسموع إلى صنفه أو نوعه، وأما في باب الدلالة اللفظية فمن الصورة
الذهنية من اللفظ إلى المعنى الموضوع له.
إشكال ودفع
ثم إن للمحقق العراقي (قدس سره) إشكالا:
وهو أن المستعمل في نوعه كقولهم: «زيد ثلاثي» إما أن يكون طبيعي اللفظ، أو
شخصه، فعلى الأول يلزم اتحاد الدال والمدلول، وعلى الثاني يلزم عدم صحة
الاستعمال; لعدم المسانخة بين المستعمل - أي اللفظ - وبين المستعمل فيه; لأنه
شخص اللفظ مركب من الطبيعي والخصوصية الشخصية، وهي مباينة للطبيعي
المستعمل فيه والمركب من المباين وغيره مباين.
190

مضافا إلى أنه يلزم من شمول الحكم لموضوع القضية الملفوظة اتحاد الدال
والمدلول.
هذا حال استعمال اللفظ في نوعه، وبه يظهر حال استعمال اللفظ في صنفه
ومثله (1).
وفيه: أن المراد بالمستعمل شخص اللفظ، ولا يلزم منه الإشكالان:
أما عدم صحة الاستعمال... إلى آخره، فلأن استعمال اللفظ في غير ما وضع له
وإن كان يباين ما وضع له، إلا أنه لابد من الاستعمال كذلك من مصحح، والتناسب
هنا موجود، وهو أنه مصداقه أو مشابه له، وهو كاف في صحة الاستعمال، بل قلما
توجد سنخية مصححة أقوى مما بين الطبيعي وفرده، مع تشاركهما في اللفظ.
وأما قوله: مضافا إلى أنه... إلى آخره، فإن المتراءى منه أنه اختلط لديه (قدس سره)
باب الدلالة على نفس الطبيعة بباب صدق الطبيعة على مصاديقها، مثلا: الإنسان
لا يدل إلا على نفس الطبيعة، لا على أفرادها، وإلا لا يكون كليا.
نعم: إن الطبيعة المدلول عليها تنطبق على الأفراد قهرا، فاللفظ لا يدل على ما
يدل عليه أيضا، بل يدل على ما يشمله، كما هو واضح، فأين الاتحاد؟! فتدبر.
ومما ذكرنا ظهر: أنه لا إشكال في جواز استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه وإن
كان الحكم المترتب عليهما شاملا له.
وهم ودفع:
أما الوهم فقد يقال: إن باب استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه بل في مثله، لم
يكن من باب الدلالة اللفظية بل من باب إلقاء نفس الشيء إلى السامع; لأن السامع

1 - بدائع الأفكار 1: 89.
191

باستماعه ينتقل إلى ما هو الجامع غافلا عن الخصوصيات من كونه صادرا في زمان
معين، أو مكان كذا، أو... أو... فهو بمنزلة إلقاء نفس الجامع، فلو ألقى اللفظ من دون
تقييده بقيد، ثم أثبت له الحكم المناسب لنفس الطبيعة، فهو استعمال اللفظ في نوعه،
وإن القيت الطبيعة مع قيد يكون استعمالا له في صنفه، وإن القيت مع قيود فهو استعمال
اللفظ في مثله، ففي جميعها ألقي نفس اللفظ، لا أنه استعمل اللفظ في شيء (1).
وأما الدفع: فهو أن الملقى إنما هو المرآة، وما يدركه السامع هو المرئي; لامتناع
إلقاء نفس الشيء الخارجي في الذهن، فعلى هذا لا يدرك السامع من اللفظ الخارجي
إلا صورته الحاضرة لديه، وينتقل منها إلى النوع أو الصنف أو المثل، مع أن غفلة
السامع عن الخصوصيات والمشخصات لا توجب خروجه عن الشخصية، ودخوله في
الجامع والكلي مع ما عليه واقعا من التعين الوجودي.
فظهر مما ذكرنا في هذا الأمر: أن باب استعمال اللفظ في شخصه أو مثله أو
صنفه أو نوعه، غير باب استعمال اللفظ في معناه الحقيقي أو المجازي:
أما الأول: فواضح; لعدم الاستعمال فيما وضع له.
وأما الثاني: فلعدم الادعاء والتأويل، بل ولا العلائق المقررة لديهم - لو قيل بها
- لأنها إنما تعتبر بين المعاني.
ولا يتوهم: لزوم رعاية كون الاستعمال منحصرا في الحقيقة والمجاز; حتى يكون
الاستعمال في غيرهما غلطا (2); لعدم نزول وحي به، ولا دلت آية أو رواية أو دليل
عقلي عليه.
نعم: لو كان المقسم للحقيقة والمجاز هو استعمال اللفظ في المعنى لكان للحصر
وجه، فتدبر.

1 - نهاية الأصول: 32 - 35.
2 - انظر المطول: 282 السطر الأخير.
192

الأمر الخامس
في أن ما وضعت له الألفاظ
هل هي المعاني الواقعية، أو المعاني المرادة؟
ويقع في هذا الأمر: البحث عن أن الدلالة هل هي تابعة للإرادة أم لا؟ وهل
يكون بين كون الدلالة تابعة للإرادة، وبين كون الموضوع له المعاني المرادة تلازم;
بحيث لو قيل بتبعية الدلالة للإرادة للزم القول بكون الموضوع له المعنى المراد أم لا؟
فالكلام يقع في جهات:
الجهة الأولى
في أن الموضوع له
هل المعاني الواقعية للألفاظ أو المعاني المرادة؟
والكلام فيه في مقامين: المقام الأول في مقام الثبوت، وهو إمكان كون المعاني
الواقعية موضوعة لها، والمقام الثاني في وقوع ذلك.
فلو ذهبنا إلى الامتناع في المقام الأول فالبحث في المقام الثاني ساقط، كما أنه
لو أمكننا إثبات وقوعه فهو أدل دليل على إمكانه، ولا يحتاج إلى تكلف إثبات إمكانه،
193

وسيمر بك إثبات وقوعه، فلا يهمنا إثبات إمكانه.
ولكن يظهر من المحقق العراقي (قدس سره) وجوب كون الموضوع له المعاني الواقعية،
وتمتنع دخالة الإرادة في الموضوع له بنحو من الأنحاء; سواء كان التقيد داخلا والقيد
خارجا، أم كلاهما خارجين; بأن يكون الموضوع له هي الحصة التي يوجبها اقتران
المعنى بالإرادة; سواء كانت الإرادة إرادة استعمالية، وهي إرادة استعمال اللفظ في
المعنى وإرادة إفنائه في مطابقه، أم إرادة تفهيمية، وهي إرادة تفهيم المعنى الذي
استعمل اللفظ فيه للمخاطب، أم لا، أم إرادة جدية، وهي إرادة المعنى المستعمل فيه
اللفظ جدا وحقيقة سواء كان في مقام الإخبار عنه أو به، أم في مقام الإنشاء بأي
نحو كان إنشاؤه (1).
استدل (قدس سره) لعدم إمكان أخذ الإرادة ثبوتا بوجوه (2)، ولكن ما يمكن أن يستدل
به لمزعمته هو أحدها، وهو أن لازم أخذ الإرادة في المستعمل فيه، كون شيء واحد في
آن واحد متقدما ومتأخرا بالطبع بالإضافة إلى شيء واحد.
وأما غيره من الوجوه التي ذكرها: 1 - من لزوم عدم صحة الحمل في القضايا
الحملية إلا بتجريد المحمول عن التقيد المزبور، 2 - وكون الموضوع له خاصا في جميع
المعاني، حتى مثل أسماء الأجناس لغرض تقيد المعنى الموضوع له بإرادة المتكلم، وهي
جزئي حقيقي، 3 - ولزوم مخالفة طريق الوضع المستفاد من الاستقراء، فأجنبية عن
مقام الثبوت، وغاية ما يمكن أن يستند بها لو تمت، فإنما هي راجعة إلى مرحلة
الإثبات لا مرحلة الثبوت، كما لا يخفى.
وكيف كان، حاصل ما أفاده من المحذور العقلي في أخذ الإرادة في الموضوع له:
وهو أن لازم ذلك كون شيء واحد - في آن واحد - متقدما ومتأخرا بالطبع بالإضافة

1 - بدائع الأفكار 1: 91.
2 - نفس المصدر السابق 1: 92.
194

إلى شيء; وذلك لأن الاستعمال متأخر عن المستعمل فيه، فلو أخذت الإرادة التي هي
من قوام الاستعمال - أي الإرادة الاستعمالية - في المستعمل فيه لزم أن يكون المستعمل
فيه متقدما على الاستعمال ومتأخرا عنه، وهذا خلف.
وهكذا الأمر لو كان التقييد بنحو آخر من أنحاء الإرادة التي أشرنا إليها; لاتحاد
الملاك فيها جميعا (1).
ولكن يتوجه على هذا الوجه وجوه من الإشكال.
منها: أنه - كما ذكرنا في المعاني الحرفية - أن رتبة المستعمل فيه لم تكن متقدمة
على الاستعمال، بل في رتبته; لأنه قد يستعمل الشيء بإيجاده من دون أن يكون له
وجود فعلي، ومنشأ القول بالتقدم هو تخيل كون المستعمل فيه ظرفا للاستعمال،
والاستعمال مظروفه قضاء للفظة «في»، وقد عرفت فساده.
ومنها: أن مقصود القائل بدخالة الإرادة في المعنى: هو أن إيجاد اللفظ مثل سائر
الأفعال الاختيارية معللة بالغرض، وله غاية، وهي التفهيم والتفهم، فإرادة تفهيم
المعاني والمقاصد أوجبت على المتكلم أن يتكلم بما يفهم مراده ومقصوده، فهي علة
غائية للتكلم، كما أن البرء من المرض علة غائية لشرب الدواء، فإرادة تفهيم الغير
أوجبت إيجاد مقدماته ومنها إيجاد اللفظ المفهم لذلك.
فلنا إرادتان:
إحداهما: إرادة تفهيم المقاصد والمطالب، ومتعلقها تفهيم المعنى للغير، والإرادة
قائمة بالنفس، ومرادها غاية بالذات.
وثانيتها: إرادة استعمال اللفظ في المعنى، وهذه متأخرة عن تلك الإرادة، وتلك
الإرادة أوجبت إيجاد هذه الإرادة عن مبادئها، فالإرادة المقومة للاستعمال هي هذه

1 - نفس المصدر.
195

الإرادة، لا الإرادة الأولى، فالموضوع له عنده مقيد بإرادة تفهيم المقاصد للغير،
لا الإرادة الاستعمالية، فلا يلزم من القول به محذور عقلي، وهو كون شيء واحد
متقدما ومتأخرا.
نعم، يرد عليه إشكال آخر - نشير إليه - في مقام الإثبات: وهو أن دخالة
الإرادة في المعنى الموضوع له خلاف التبادر، بل التبادر يعطي بأن الموضوع له نفس
المعاني من حيث هي هي.
والحاصل: أنه قد تطلق الألفاظ ويراد بها المعاني المقصودة، وقد تطلق ويراد
بها ما يفهم من الألفاظ، والقائل بكون الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، يعني بها
المعاني بالمعنى الأول; أي لم توضع الألفاظ لنفس المقاصد، بل وضعت لها من جهة
تعلق الإرادة بها، وإرادة تفهيم المقاصد سابقة على الوضع، فضلا عن الاستعمال،
فلا يلزم تقدم ما هو المتأخر وبالعكس، فتدبر واغتنم.
ومنها: أن ما أفاده هنا - من امتناع أخذ الإرادة - يناقض ما سيذكره بعد قليل
عند قوله: وإن أريد من كون الموضوع له هو المعنى... إلى آخره (1); حيث يصرح هناك
بإمكان تعلق إرادة المتكلم بالموضوع على نحو خروج القيد والتقيد معا، وهذا
عجيب منه (2).
فظهر لك مما ذكرنا: أن القول بدخالة الإرادة في المستعمل فيه لا يوجب محذورا
عقليا.
نعم، يتوجه على القائل به: بأن غاية ما يمكن أن يستدل به على مقالته - كما

1 - نفس المصدر 1: 93.
2 - قلت: لعل هذا الإيراد غير وارد عليه (قدس سره); لأن قوله: وإن أريد... إلى آخره في مقام تحليل
دليل القائل بدخالة الإرادة في الموضوع له، والمحقق العراقي (قدس سره) لم يدع برهانا على عدم
إمكان أخذ الإرادة مطلقا، بل كان بصدد رد القائلين بأخذ الإرادة، فلاحظ وتأمل. المقرر
196

أشار إليه المحقق (قدس سره) أيضا -: هو أن وضع الألفاظ لغاية، وهي تفهيم المقاصد، والعلة
الغائية علة فاعلية الفاعل، وهي التي أوجبت وضع الألفاظ لما يكون موجبا للتفهيم
والتفهم، ولا يدل هذا على كون المعاني مقيدة بالإرادة، بل غايته هو أنه لابد وأن
لا تخلو الألفاظ عن الإفادة والاستفادة، وهما موجودتان في وضع الألفاظ لنفس
معانيها النفس الأمرية، فتدبر.
هذا كله فيما يتعلق بمقام الثبوت.
وأما مقام الإثبات: فنقول: إن التبادر قاض بإنسباق نفس المعنى من اللفظ
الموضوع عند سماعه من المتكلم; من دون أن تكون للإرادة - سواء أخذت بمعناه
الاسمي أو بالمعنى الحرفي - دخالة في ذلك أصلا، والتبادر هو الركن الوثيق، بل الركن
الوحيد في المسألة، لأن غير التبادر من الوجوه التي يستدل بها لذلك - وقد أشار إليها
المحقق العراقي (قدس سره) (1) - مرجعها إلى التبادر، وذلك مثل أنه لو قلنا بأخذ الإرادة في
الموضوع له، يلزم عدم صحة الحمل في القضايا الحملية، إلا بتجريد المحمول عن
التقييد المزبور، وأنه يستلزم أخذ الإرادة فيه كون الموضوع له خاصا في جميع المعاني;
لفرض تقييد المعنى الموضوع له بإرادة المتكلم، وهي جزئي حقيقي، وأنه يستلزم ذلك
مخالفة طريقة الوضع المستفادة من الاستقراء... إلى غير ذلك من الوجوه.
ولو أنكرنا التبادر في المسألة لم يكن التجريد أو كون الموضوع له خاصا
أو مخالفة الوضع، وجها ومحذورا للمنع; لإمكان التزام الخصم به، كما لا يخفى، فتدبر.

1 - بدائع الأفكار 1: 92.
197

الجهة الثانية
في أن دلالة الألفاظ على المعاني
هل تابعة للإرادة أم لا؟
حكي (1) عن العلمين الشيخ الرئيس أبي علي سينا والشيخ نصير الدين المحقق
الطوسي (قدس سرهما): أنهما قالا: إن الدلالة تابعة للإرادة (2).
فاختلفوا في مرادهما: فعن صاحب الفصول (قدس سره): أن مرادهما بتبعية الدلالة
للإرادة هو أن الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة; بحيث تكون الإرادة دخيلة في
المعنى الموضوع له شطرا أو شرطا (3).
ولكن دفعه المحقق الخراساني (قدس سره)، وقال: بأن مرادهما غير ذلك، هو أن الدلالة
التصديقية للألفاظ على معانيها تابعة للإرادة.
وحاصل ما أفاده: أن للكلام الصادر من المتكلم دلالتين:
إحداهما: الدلالة التصورية: وهي دلالة اللفظ على معناه، وبعبارة أخرى:
حضور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ، وهذه الدلالة قهرية تحصل في ذهن السامع
بمجرد علمه بالوضع وشعوره به وإن علم بغفلة المتكلم أو عدم إرادته.
والثانية: الدلالة التصديقية: وهي كون المعنى المتحصل من الكلام - بعد فهم
بعض أجزائه ببعض - مرادا للمتكلم، وهذه الدلالة تتوقف على إرادة المتكلم وشعوره
والتفاته إلى مضمون الكلام، فإذا قال: «الصلح نافذ» لا يصلح أن يسند إليه مضمون
الجملة، وأنه مراد له، إلا إذا كان في مقام بيان مراده، وإلا لا يصلح إسناده إليه، نعم

1 - الحاكي هو الشيخ محمد حسين الإصفهاني في فصوله: 17 - 18 السطر الأخير.
2 - الشفاء (قسم المنطق): 25 - 26، شرح الإشارات 1: 32.
3 - الفصول الغروية: 17 - 18 السطر الأخير.
198

يصح أن يسند إليه أنه قال وتكلم: بأن «الصلح نافذ».
وبالجملة: دلالته التصديقية تتوقف على إرادة المتكلم توقف العلم على المعلوم،
ويتبعه تبعية مقام الإثبات للثبوت (1).
وقال المحقق العراقي (قدس سره) ما ملخصه: إنه يمكن أن يكون مراد العلمين ومن تبعهما
- القائلين بتبعية الدلالة للإرادة - هو أن الوضع حيث إنه اعتبار خاص قائم بنفس
معتبره، وبما أن الاعتبار من الأفعال النفسية الاختيارية، فجاز للمعتبر أن يقيد
اعتباره بما شاء من القيود; سواء كانت من الأحوال أو من الأزمان أم من غيرهما،
فيصلح له اعتبار الربط الوضعي بين طبيعي اللفظ ومعنى ما في حال خاص بالمتكلم
أو زمان كذلك; دون بقية الأحوال والأزمان، وإذا اعتبر الواضع الربط الوضعي بين
اللفظ والمعنى في حال إرادة المتكلم المعنى، يكون اللفظ مرتبطا بالمعنى في ذلك الحال
فقط، فلو نطق باللفظ وأراد به معناه، يكون اللفظ دالا على معناه دلالة وضعية;
لارتباطه به في هذا الحال، وأما لو نطق به في حال السهو والغلط، فبما أنه لم يرد به
ذلك المعنى في هذا الحال، لا يكون هذا اللفظ مرتبطا بذلك المعنى، ومع انتفاء الربط
الوضعي في هذا الحال تنتفي الدلالة الوضعية طبعا، وتصور المعنى وحضوره في ذهن
السامع في ذلك الحال مستند إلى الاستيناس المذكور (2).
أقول: ولعمر الحق إن تفسير مقالة العلمين بما ذكره صاحب الفصول والمحقق
العراقي (قدس سرهما) أجنبي عن كلامهما، بل كلامهما صريح في خلاف ما ذكراه، والوجه الذي
ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) توجيه مبتذل لا يليق بساحة العلمين، ومع ذلك فهو أجنبي
عن مقالتهما، وكأنهم لم يلاحظوا مقالتهما، فاللازم ذكر مقالتهما حتى يظهر حقيقة
مرادهما، ثم عطف النظر إلى مقالتهما، فنقول:

1 - كفاية الأصول: 32.
2 - بدائع الأفكار 1: 94 - 95.
199

إن كلام العلمين في باب دلالة الألفاظ، وسماحة الأستاذ - دام ظله - وإن حكى
عبارة الشيخ الرئيس في «الإشارات» (1)، إلا أن العبارة المحكية عن «الشفاء» حيث
كانت أدل وأوضح، أحببنا إيرادها، فقال في محكي الفصل الخامس من المقالة الأولى
من فن «إيساغوجي الشفاء»:
إن اللفظ بنفسه لا يدل البتة، ولولا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى
لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ، فكما أن اللافظ يطلقه دالا على معنى، كالعين
على الدينار، فيكون ذلك دلالته، كذلك إذا خلاه في إطلاقه عن الدلالة بقي غير دال،
وعند كثير من أهل النظر غير لفظ، فإن الحرف والصوت فيما أظن لا يكون - بحسب
المتعارف عند كثير من المنطقيين - لفظا أو يشتمل على دلالة، وإذا كان ذلك كذلك
فالمتكلم باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا - أيضا -
يريد أن يدل به عليه، فقد انعقد الاصطلاح على ذلك، فلا يكون جزؤه البتة دالا على
شيء حين هو جزؤه بالفعل، اللهم إلا بالقوة حين نجد الإضافة المشار إليها، وهى
مقارنة إرادة القائل دلالة بها.
وبالجملة: فإنه إن دل فإنما يدل لا حين ما يكون جزءا من اللفظ المفرد، بل إذا
كان لفظا قائما بنفسه، فأما وهو جزء فلا يدل على معنى البتة (2).
وقال المحقق الطوسي (قدس سره) في «شرح الإشارات» في بيان معنى المفرد والمركب
ما نصه:
قيل في التعليم الأول: إن المفرد هو الذي ليس لجزئه دلالة أصلا.
واعترض عليه بعض المتأخرين ب‍ «عبد الله» وأمثاله إذا جعل علما لشخص،
فإنه مفرد مع أنه لأجزائه دلالة ما.

1 - شرح الإشارات 1: 32.
2 - الشفاء (قسم المنطق) 1: من الفصل الخامس 25 - 26.
200

ثم استدركه، فجعل المفرد ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، وأدى ذلك إلى أن
ثلث القسمة بعض من جاء بعده، وجعل اللفظ: إما أن لا يدل جزؤه على شيء أصلا،
وهو المفرد، أو يدل علي شيء غير جزء معناه، وهو معناه المركب، أو على جزء معناه،
وهو المؤلف، والسبب في ذلك سوء الفهم وقلة الاعتبار لما ينبغي أن يفهم ويعتبر;
وذلك لأن دلالة اللفظ لما كانت وضعية، كانت متعلقة بإرادة التلفظ الجارية على
قانون الوضع، فما يتلفظ به، ويراد به معنى ما، ويفهم عنه ذلك المعنى، يقال له: إنه دال
على ذلك المعنى، وما سوى ذلك المعنى مما لا تتعلق به إرادة التلفظ وإن كان ذلك اللفظ
أو جزء منه - بحسب تلك اللغة أو لغة أخرى أو بإرادة أخرى - يصلح لأن يدل به
عليه، فلا يقال له: إنه دال عليه... إلى آخره (1). انتهى.
وقريب من ذلك كلام صاحب «حكمة الإشراق».
قلت: لا بأس بإيراد ما أفاده آية الله على الإطلاق العلامة الحلي (قدس سره) في «شرح
منطق التجريد»; ليتضح المقال وضوحا لا يشوبه ريب، قال - في مقام انتقاض تعريف
الدلالات الثلاث «المطابقة والتضمن والالتزام» بعضها ببعض - ما نصه:
لقد أوردت عليه - يعني المحقق الطوسي (قدس سره) - هذا الإشكال، وأجاب: بأن اللفظ
لا يدل بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد، واللفظ حين ما يراد منه المعنى
المطابقي لا يراد منه المعنى التضمني، فهو إنما يدل على معنى واحد لا غير، وفيه
نظر (2) انتهى.
ولا يخفى أن من لاحظ هذه الكلمات وسبرها، يظهر له جليا أنها بصدد بيان
أن الألفاظ التي يضعها الواضع للمعاني النفس الأمرية إنما هي لغرض الإفادة
والاستفادة، فدلالة الألفاظ على تلك المعاني النفس الأمرية مرهونة بإرادة المتكلم;

1 - شرح الإشارات 1: 32.
2 - الجوهر النضيد: 8.
201

لأن باب الدلالة باب الهداية، وهداية المتكلم المخاطب إنما تتحقق إذا أراد المتكلم معنى
اللفظ، وإلا لو صدر منه كلام سهوا أو في حال النوم، لا يقال: إنه أهدى المخاطب إلى
واقع ذلك الكلام.
وبالجملة: كلام العلمين بصدد بيان أن دلالة الألفاظ على معانيها الموضوعة
لها، إنما تتوقف على إرادة المتكلم إياها، وعند إرادة المتكلم وفهم المخاطب إياها يصدق
عليها الدلالة الفعلية، ويقال: إنها دالة فعلا، وإلا يقال: إنها تصلح للدلالة والهداية،
فكلامهما خارج عن بيان حدود الموضوع له، بل في مقام بيان دلالة اللفظ الموضوع
لمعنى، وقد صرح المحقق الطوسي (قدس سره) في عبارته المتقدمة; حيث قال: إن دلالة اللفظ لما
كانت وضعية، كانت متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع... إلى آخره.
وظاهر أنه لو كان بصدد تحديد المعنى الموضوع له، لوجب أن يقول: الموضوع
مقيد بإرادة المعنى وفهم المخاطب، ومراده بالجري على قانون الوضع هو أن المستعمل
لابد وأن يريد معنى اللفظ على طبق ما وضعه الواضع، فهذا أقوى شاهد على أن
كلامهما لم يكن بصدد تحديد المعنى الموضوع له، ويشهد لما ذكرناه أيضا تقييد دلالة
اللفظ بفهم المخاطب، وهل ترى من نفسك أن يتفوه فاضل - فضلا عمن يكون بدرا
بل شمسا في سماء الفضل والتحقيق -: بأن فهم المخاطب دخيل في المعنى الموضوع له،
فهذا صريح في أن مرادهما بذلك: هو أن اتصاف اللفظ الموضوع لمعنى بالدلالة الفعلية،
إنما يتوقف على إرادة المتكلم وفهم المخاطب، وإلا يكون للفظ شأنية الدلالة، فكما أن
اتصاف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بكونه هاديا مرشدا، إنما هو بعد تبليغه وإرشاد الناس
وهداية الناس بتبليغه، وإلا لو لم يقصد هدايتهم، أو قصد ولكن لم يرشدوا، لم يصدق
عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان هاديا فعلا لهم.
فإذا إن ألقى المتكلم كلاما مفهما لمعنى، وأراد ذلك، وفهم المخاطب ذلك المعنى منه
يصدق فعلا على كلامه أنه دال، وباب الدلالات باب التحويل والتحول، وفهم المعنى
202

المراد من اللفظ هو مقوم الدلالة الفعلية للفظ، وإلا يكون اللفظ صالحا للهداية،
لا هاديا فعلا، ولا يخفى أن ما ذكره العلمان بهذا التقريب الذي ذكرنا لم يكن بعيدا عن
الذوق، بل يقبله; لأن لفظة «عبد الله» مثلا; حيث إنها مشتركة بين «عبد الله» العلمي
والوصفي، فبمجرد إلقائها لا يفهم منها المعنى إلا بالقرينة، فإن أريد منها معناها الوصفي
يقال: «فلان عبد الله» مثلا، وإن أريد معناها الاسمي يقال: «عبد الله جاءني» مثلا.
هذا في اللفظ المشترك، وكذا في غير المشترك، فالمتكلم ب‍ «زيد قائم» مثلا قد
يريد منه معناه الحقيقي، وقد يتلفظ به لمجرد تصفية الذهن والحلقوم، أو أراد معنى آخر،
فبمجرد التلفظ ب‍ «زيد قائم» لا يدل إلا إذا أريد منه; ألا ترى أن الألفاظ في المعاني
المجازية، تدل على غير المعاني الموضوعة لها بالإرادة (1).
إذا تحقق لك ما ذكرنا ظهر لك وجه الضعف فيما ذكره صاحب الفصول (قدس سره): من
أن مراد العلمين تحديد المعنى الموضوع له (2)، وكذا مقالة المحقق العراقي (قدس سره); حيث قال:
إن الواضع اعتبر الربط بين اللفظ والمعنى حال إرادة المتكلم; لما عرفت أنهما لم يريدا
بيان الموضوع له، بل قصدا بيان دلالة اللفظ الموضوع (3).
وأما ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) (4)، فمضافا إلى أنه توجيه مبتذل يعرفه كل
أحد لا يليق أن ينسب إلى جناب العلمين، أجنبي عما هو صريح كلامهما; لأن كلامهما
في مقام انتقاض الدلالات الثلاث بعضها ببعض، لا أن كل دلالة تكشف عن معنى
واقعي، وهو المعنى المراد، فتدبر.

1 - قلت: كذا أفاد سماحة الأستاذ دام ظله، ولكن لا يخفى أن دلالة اللفظ على غير معناه
الموضوع له، إنما هو بتوسيط نصب القرينة ولو لم يرده المتكلم، لا على إرادته، فتدبر. المقرر
2 - الفصول الغروية: 18 سطر 1.
3 - انظر بدائع الأفكار 1: 93 - 94.
4 - كفاية الأصول 1: 32.
203

هذا كله في تصوير كلام العلمين، وحاصله: أن دلالة اللفظ دلالة فعلية على
معناه، إنما تتوقف على إرادة المتكلم معناه، وفهم المخاطب إياه، فعند ذلك يصح أن
يقال: إن المتكلم هاد، واللفظ ما اهتدي به، والمخاطب مهدي.
عدم تمامية كلام العلمين
ولكن نقول: إن ما ذكره العلمان لا يخلو عن النظر; لأن محط البحث في دلالة
الكلام وهدايته، وأن الكلمة والكلام إذا دلا على معنى، هل تتوقف دلالتهما على
الإرادة أم لا؟ لا في دلاة المتكلم وهدايته، وكلامهما على تقدير تماميته - كما لا يبعد -
فإنما يفيد لهداية المتكلم، وهي خارجة عن محط البحث.
وكيف كان، لا يخفى أن اللفظ بنفسه يدل على معناه ولو لم يرده المتكلم، بل ولو
أراد خلافه، وذلك لأنه - بعد الاعتراف بأن دلالة الألفاظ على معانيها لم تكن ذاتية،
بل بمعونة الوضع - يكون الموضوع له للألفاظ هو نفس المعاني النفس الأمرية،
لا المرادة منهما، فمعنى قولنا: «إن اللفظ الكذائي دال» لا يفهم منه أزيد من المعنى الذي
وضع له اللفظ، لا المعنى الذي أراده المتكلم، بل إرادته أجنبية عن دلالة اللفظ.
وبالجملة: فرق بين دلالة اللفظ على المعنى وبين دلالة المتكلم المخاطب على
المعنى، وتوقف الدلالة على إرادة المتكلم إنما هي في دلالة المتكلم، وهو خارج عن
محط البحث، لا في دلالة اللفظ; لأنه لا يعقل تقييد دلالة اللفظ بالإرادة، مع كون
الموضوع له للألفاظ نفس المعاني النفس الأمرية، ودلالة الألفاظ على معانيها مرهونة
بالوضع، ولو فرض دخل غير الوضع فيه فالأولى دخل فهم المخاطب، لا إرادة
المتكلم; لأنه بفهم المخاطب يصدق أن اللفظ دل فعلا على المعنى ولو لم يرده المتكلم،
دون العكس، فلا تصدق الدلالة لو لم يفهم المخاطب ولو أراده المتكلم، فتدبر.
204

الجهة الثالثة
في عدم التلازم بين كون تبعية الدلالة للإرادة
وبين كون الموضوع له المعاني المرادة
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا في الجهة الثانية عرفت: أنه لا تلازم بين كون الدلالة
تابعة للإرادة وبين كون الموضوع له المعاني المرادة، فإن العلمين مع ذهابهما إلى تبعية
الدلالة للإرادة يريان أن الموضوع له للألفاظ المعاني النفس الأمرية، لا المعاني المرادة.
205

الأمر السادس
في أن للمجموع المركب
من المادة والهيئة وضعا أم لا؟
لا إشكال ولا ريب في أنه كما يحتاج أبناء النوع الإنساني - من أي لغة ولسان -
إلى تفهيم المعاني المفردة وتفهمها، فكذلك يحتاجون إلى تفهيم المعاني المركبة وتفهمها،
بل احتياجهم إليها في إبراز مقاصدهم أكثر من احتياجهم إلى المعاني المفردة; لأن أكثر
مقاصدهم واحتياجات هم تدور حول المعاني المركبة، من حصول شيء لشيء، أو إيجاد
شيء مع شيء، أو كون شيء في شيء، أو على شيء... إلى غير ذلك من النسب
والإضافات.
فإذا كما أن دلالة الألفاظ المفردة على معانيها - بعد ما لم تكن ذاتية - مرهونة
بالوضع والمواضعة، فكذلك لابد وأن تكون دلالة ما يفهم منها المعاني التصديقية
بالوضع والمواضعة، واللغة التي يهمنها عجالة التكلم فيها هي اللغة العربية; لأن
الكتاب والسنة منزلان عليها، فنعطف عنان البحث إليها، ونقول:
قد وقع الخلاف بينهم فيما يدل على المعنى التصديقي في اللغة العربية; بأنه هل
هي هيئة الجملة، أو المجموع المركب من المادة والهيئة; بأنه هل يكون للمجموع وضع
207

على حدة مضافا إلى وضع مفرداتها، أم لا؟
فذهب المشهور إلى أن الدال على المعنى التصديقي هي هيئة الجملة بالوضع
النوعي، وخالفهم في ذلك بعض، فقال: إن ما يدل عليها هو مجموع المادة والهيئة.
ولا يخفى أن طرح محط البحث على ما ذكرنا، أولى وأحسن مما طرحه المحقق
الخراساني (قدس سره) وغيره; لأنه يظهر منه (قدس سره) أن محط البحث: في أنه - مضافا إلى وضع
الجمل بموادها بالوضع الشخصي، وهيئاتها بالوضع النوعي لإفادة المعنى التصديقي -
هل وضع مجموع المركب من المواد والهيئات لذلك، أم لا؟
فالمشهور على العدم، وذهب بعض إلى وضع المجموع أيضا (1).
وذلك لأن طرح البحث على ما ذكرنا مما يعقل أن يقع محل الخلاف، ويمكن
استناد القول المخالف للمشهور إلى عالم، وأما طرح البحث على ما ذكره (قدس سره)، فلا يليق
أن ينسب إلى فاضل; لأن مرجع النزاع - على ما ذكره - إلى أن في جملة «زيد قائم» -
مثلا - هل يكون وضعان أو أوضاع ثلاثة؟، فالمشهور على أنه فيها وضعان:
1 - وضع مفرداتها بالوضع الشخصي لإفادة المعنى التصوري.
2 - وضع هيئتها بالوضع النوعي لإفادة المعنى التصديقي (2).
ومقابل المشهور هو أن هناك أوضاعا ثلاثة، ثالثها وضع مجموع المادة والهيئة
على ذلك، فهل يتفوه فاضل: بأن يوضع المجموع لا لإفادة غرض وفائدة; حتى يتوجه
عليه ما أورده المحقق الخراساني (قدس سره): من أنه لا احتياج إلى هذا الوضع بعد وضع الهيئة
لذلك، ويلزم التكرار في الدلالة: تارة من جهة الهيئة، وأخرى من جهة المجموع منها
ومن المادة، وهو خلاف الوجدان؟!

1 - انظر كفاية الأصول: 32 - 33.
2 - انظر الفصول الغروية: 28 سطر 5، ودرر الفوائد: 43 - 44، ونهاية الأفكار 1: 65.
208

فقد ظهر لك مما ذكرنا: أن مقابل المشهور قائل: بأن مجموع المادة والهيئة يدل
على المعنى التصديقي، والمشهور قائلون بأن الهيئة تدل عليه، وما يقبل أن يقع محل
النزاع هو أن يقال: إن الدال على المعنى التصديقي، هل هو الهيئة، أو المجموع منها
ومن المادة؟
هذا ما ينبغي أن يقع محط البحث، وأما لو صرح أحد: بأن للمجموع المركب
وضعا على حدة على المعنى التصديقي، غير وضع الهيئة له، فلابد وأن يكون مراده أنه
كما يوجد في المفردات ألفاظ مترادفة، فكذلك يوجد في الجمل مترادفات، فكل من
الهيئة ومجموع المادة والهيئة يدل على المعنى التصديقي، فلا يرد عليه لزوم التكرار في
الدلالة، كما لا يخفى.
والحاصل: أن مخالف المشهور: إما يريد بأن الهيئة لم توضع لإفادة المعنى
التصديقي، وما وضع له هو مجموع المادة والهيئة، وهذا هو الظاهر من مقالته، أو يريد
بأن مجموع المادة والهيئة يرادف ما تدل عليه الهيئة، ولا مانع من وقوع الترادف في
الجمل، كما هو المأنوس في المفردات.
وكيف كان، يرد على مقالة مقابل المشهور ما أورده عليه الأديب المتضلع ابن
مالك في شرح المفصل، فإنه قال على ما حكي عنه:
إنه لو كان للمركبات وضع لما كان لنا أن نتكلم بكلام لم نسبق إليه; وحيث أن
المركب الذي أحدثناه لم يسبقنا إليه أحد، وكذلك هذا الكتاب لم يكن موجودا عند
الواضع، فكيف وضعه الواضع (1)؟!
وحاصل ما أفاده هذا الأديب: هو أن ما يمكن أن يدل على المعنى التصديقي إنما
هو الهيئة - سواء في هيئة المفردات أو المركبات - لا المجموع منها ومن المواد; لإمكان

1 - نقل حكاية ذلك عن ابن مالك في نهاية الدراية 1: 76.
209

تصوير الوضع النوعي في الهيئة، دون المادة، فإنه يمكن أن يقال في هيئة المركب: إن
تقدم المسند إليه على المسند - مثلا - يدل على معنى من دون لحاظ مادة من المواد،
ويصلح للانطباق على كل مادة من المواد; موجودة كانت أم معدومة، وكذا في هيئة
المفرد يمكن أن يقال: إن هيئة «فعل» - مثلا - تدل على النسبة التحققية في ضمن أي
مادة تحققت أو تتحقق، وأما المادة فلا يمكن تصوير الوضع النوعي فيها; لأن كل مادة
تباين المادة الاخرى، وما يمكن فيها إنما هو الوضع الشخصي، ولازم ذلك عدم إفادة
الجملة - التي حدثت مادتها - للمعنى التصديقي; مثلا: لا تدل جملة «الكهرباء موجود»
- إذا لم يكن للفظ «الكهرباء» معنى معهود في الخارج - على المعنى التصديقي; لعدم
وجود هذه الجملة المركبة من المادة لتضع لإفادة ذلك المعنى.
وبعبارة أخرى: ما يمكن أن يتصور فيه الوضع النوعي إنما هو هيئة القضية، مثل
هيئة الجملة الاسمية وهيئة الجملية الفعلية; حيث تنطبقان على كل مادة متهيئة بهما،
وأما مواد القضايا فلا يمكن أن يتصور فيها ذلك; لاختلاف المواد، وما يمكن فيه إنما هو
الوضع الشخصي، فعلى هذا لابد لمن يقول: بأن مجموع المادة والهيئة يدل على المعنى
التصديقي - قبال المشهور القائلين: بأن ما يدل عليه هو الهيئة - أن يلتزم بالوضع
الشخصي; مثلا: يلزم أن تكون جملة «زيد قائم» بخصوصها وضعت لإفادة المعنى
التصديقي، وكذا جملة «عمرو قاعد» و «بكر قائم»... وهكذا.
ويترتب على هذا القول عدم جواز استعمال جملة لم يسبق إليها الواضع بأن
كانت لها مادة حادثة ولم يفهم منها معنى، ك‍ «الكهرباء موجود» - مثلا - مع أن
الضرورة حاكمة بجواز استعمالها، وفهم المعنى التصديقي منها ولو لم نفهم معنى
«الكهرباء»، فهذا أصدق شاهد على أن ما وضع للدلالة على المعنى التصديقي هو
الهيئة; لأنها القابلة للوضع النوعي.
هذا هو مراد ابن مالك، وكأن المحقق الإصفهاني (قدس سره) لم يلاحظ مقالة هذا
210

الأديب، ولذا قال: «أنه يظهر من كلام ابن مالك: أن محل النزاع في أمر بديهي
البطلان، وهو دعوى الوضع للمركب بعد الوضع للمفردات منفردة ومنضمة، ثم قال:
إنه لا يخفى على مثل ابن مالك أن الوضع نوعي لا شخصي» (1).
وهو عجيب منه (قدس سره); لما عرفت: من أن محط البحث هو أن الدال على المعنى
التصديقي، هل هو الهيئة، أو المجموع منها ومن المادة؟ وابن مالك يريد دفع كون
المجموع موضوعا لذلك، فلاحظ، وتدبر.
هذا كله لو كان النزاع في أن وضع مجموع المادة والهيئة نوعي أو شخصي - كما
هو الظاهر منه - ويكون الحق مع ابن مالك القائل: بأنه لا يمكن تصوير الوضع
النوعي في مجموع المادة والهيئة، وما يمكن فيه إنما هو الوضع الشخصي، فيرد عليه
ما أورده عليه.
وأما لو كان النزاع في أنه هل يمكن أن يكون الوضع في المجموع المركب - من
المادة والهيئة - عاما والموضوع له خاصا، فلا يتوجه عليه إيراد ابن مالك.
وذلك لأنه كما ذكرنا في مبحث الوضع: أن لنا قسما آخر من وضع العام
والموضوع له الخاص: وهو أن تتصور طبيعة قابلة للصدق على الأفراد، ثم يوضع
اللفظ لكل فرد من أفراد تلك الطبيعة، مثلا: يتصور الإنسان، ثم يوضع لفظ
«الإنسان» لكل ما يكون مصداقا له.
فنقول: إنه يمكن أن يتصور فيما نحن فيه أن يكون الوضع في المجموع المركب -
من المادة والهيئة - عاما والموضوع له خاصا بهذا المعنى; بأن يلاحظ هيئة المجملة
الاسمية - مثلا - الطارئة على المادة المشتركة بين المواد; وحيث إن المواد وإن
كانت مختلفة الذوات، لكنها في كونها مادة، مشتركة فيوضع لكل هيئة متهيئة بمادة

1 - نهاية الدراية 1: 76.
211

من المواد.
فظهر لك: أنه يمكن للقائل (1) بأن الدال على المعنى التصديقي هو المجموع
المركب من المادة والهيئة بعنوان الوضع العام والموضوع له الخاص، فلا يتوجه عليه
إيراد ابن مالك (2).
ولا يخفى أنه - مع ذلك كله - الحق في المسألة هو الذي ذهب إليه المشهور (3):
من أن الدال على المعنى التصديقي هو الهيئة; لمطابقة ما ذكروه للذوق والطبع السليمين.

1 - محاضرات 1: 111.
2 - نهاية الدراية 1: 76.
3 - الفصول الغروية: 28 سطر 5، كفاية الأصول: 32 - 33، نهاية الأفكار 1: 65.
212

الأمر السابع
في أن الموضوع له للألفاظ
هل هي المعاني النفس الأمرية
أو المعاني الذهنية بما هي هي
أو المعاني الذهنية بلحاظ كشفها عن الواقع؟
ثم إنه هل الألفاظ مطلقا - سواء كانت مفردة أم مركبة، تامة أو ناقصة،
إنشائية أو إخبارية - وضعت للمعاني النفس الأمرية، أو وضعت للمعاني والنسب
الذهنية من حيث هي هي، أو من حيث كشفها عن النسب الواقعية، أو فرق بين
الجمل الخبرية وبين غيرها - مفردة كانت، أو جملة إنشائية - بوضع الجمل الخبرية
للنسب الذهنية الكاشفة عن النسب الواقعية، وأما غيرها فوضعت للمعاني النفس
الأمرية؟
وجوه بل أقوال في بعضها:
فعن صاحب الفصول (قدس سره): أن الجمل الخبرية وضعت للنسب الذهنية الكاشفة
عن النسب الواقعية، وأما مفرداتها فوضعت للمعاني النفس الأمرية، فالنسبة اللفظية
في جملة «زيد قائم» - مثلا - وضعت للنسبة التصديقية الموجودة في الذهن من حيث
213

كشفها عن النسبة الواقعية - سواء طابقت ها أم لا - وأما مفرداتها من «زيد» و «قائم»
فوضعت للمعاني الواقعية.
استدل على مقالته:
أولا: بالتبادر.
وثانيا: بأنه لو دلت النسبة اللفظية على النسبة الواقعية، فلابد وأن يلتزم في
القضايا الكاذبة أن لا تدل على معنى; لعدم وجود نسبة واقعية في الكواذب، مع أن
الضرورة حاكمة بدلالة القضايا الكاذبة على المعاني، وأما لو كانت موضوعة للنسبة
الذهنية الكاشفة فلا يستلزم ذلك (1).
وفيه: أما حديث التبادر فالظاهر أنه على خلاف ما ادعاه، والظاهر أن من
لم يقرع سمعه كلام صاحب الفصول (قدس سره) هذا، لا ينقدح في ذهنه ما ذكره أصلا; لأن
الوجدان أصدق شاهد على أنه بمجرد سماع جملة «زيد قائم»، لا ينتقل الذهن إلا إلى
المعاني الواقعية، كما ينتقل من مفرداته إليها.
وأما ما استدل به ثانيا - الذي هو عمدة ما استدل به - على مقالته، فينتقض:
أولا: ببعض المفردات التي لا وجود لها في الخارج، أو وجد وانعدم; لأن لازم
ما ذكره - لو تم - هو أنه لابد وأن لا ينتقل من اللفظ الكذائي إلى معناه; لعدم وجوده
في الخارج حسب الفرض، مع أن البداهة قاضية بإنفهام المعنى بمجرد إلقائه، فما يستريح
به هنا نستريح به هناك.
وثانيا: بالنقض أيضا، وحاصله: أنه لو سلم أن الموضوع له هو المعاني الذهنية
بلحاظ كشفها عن الواقعيات، فظاهر أنه لا يمتنع استعمال النسبة اللفظية في القضايا
الكاذبة في النسبة الواقعية ولو مجازا، بل يجوز استعمالها فيها، ولا أقل بعنوان المجاز، فلو

1 - انظر الفصول الغروية: 28 سطر 6 و 29 سطر 21.
214

استعملت في المعاني الواقعية فظاهر أنه يفهم منها معنى، مع أن لازم ما ذكره هو أن
لا يفهم منه معنى.
وثالثا: أنه يلزم على ما ذكره أن يكون أمر جميع الاستعمالات مرددا بين كونها
استعمالا مجازيا أو غلطا، ولا يلتزم به; وذلك لأنه بعد أن يرى أن كلا من «زيد» و
«قائم» - مثلا - وضع للمعنى النفس الأمري، فاستعمال هما في جملة «زيد قائم»: إما في
المعاني الواقعية، أو لم يستعملا في ذلك.
فعلى الأول: يلزم أن تكون النسبة التي وعاؤها الذهن، موجودة في الخارج
بتبع الطرفين ومتقومة بالخارج، وذلك غير معقول، ولو استعملت النسبة في النسبة
الواقعية، لكان استعمالا في غير ما وضع له من غير تأول وادعاء، فيكون الاستعمال
غلطيا، ويترتب عليه المحذور الذي ذكره.
وعلى الثاني: - أي على تقدير عدم استعمال المفردات في المعاني الواقعية - يلزم
في جميع الاستعمالات: أن تكون استعمالا في غير ما وضع له ومجازا، ولم يلتزم (قدس سره) به.
نعم يمكن أن يقال: إن النسبة الموجودة في القضية إنما هي بين لفظي المسند
والمسند إليه المتلفظين، فيصح قيامها بالصورة الموجودة في الذهن، لا المسند والمسند
إليه الواقعيين.
لكنه يرد عليه:
أولا: أن هذا خلاف البداهة والوجدان، فإن من يقول: «زيد قائم» يريد
حكاية كل من الطرفين والنسبة عن الواقعيات.
وثانيا: أنه يلزم لغوية وضع الألفاظ للمعاني الواقعية، فإنه على هذا لم تستعمل
الألفاظ في معانيها الواقعية أصلا، مع أن الوضع لغرض الإفادة والاستفادة.
والذي يمكن أن يقال في حل المسألة: هو أن منشأ ما توهمه هو تخيل أنه لابد
في استعمال اللفظ في المعنى من وجود معنى أولا; ليلصق اللفظ به، أو يقع فيه; قضاء
215

لحق الظرفية، كما يقال: «زيد في البيت» و «عمرو في الدار»... وهكذا.
وهذا اشتباه منه (قدس سره); لأن الاستعمال: عبارة عن إلقاء اللفظ الموضوع لمعنى;
لينتقل السامع إليه انتقالا بالعرض، مثلا: بإلقاء لفظ «زيد» يتصوره السامع، ويفهم
منه: فينتقل منه بالعرض إلى المعنى الخارج الذي يكون هو الموضوع له، ولا يلزم
وجود المعنى وتحققه في هذا الانتقال العرضي.
وبالجملة: لو ألقي لفظ الإنسان فيتموج الهواء منه، فيقع في صماخ المخاطب، فيقع
في ذهنه، وذلك المعنى غير قابل للصدق على الكثيرين; لأنه جزئي متصور، لكن
ينتقل منه إلى ما يقبل الصدق على الكثيرين انتقالا بالعرض لا بالذات; لأن الإنسان
لا ينتقل إلى الخارج ولا يناله; لا أولا ولا ثانيا، كما يتوهم، ولا ينقلب الخارج عما هو
عليه، ولكن حيث إن المعنى المتصور وجه للمعنى الموضوع له، الذي هو عبارة عن
طبيعي الإنسان القابل للصدق على الكثيرين، فينتقل السامع بواسطة سماعه لفظ
«الإنسان» إلى ذلك المعنى الموضوع له عرضا، ولا يخفى أن إدراك السامع اللفظ ومعناه
يكون مغفولا عنه; لأنه بمجرد سماع اللفظ ينتقل عرضا إلى الهوية الخارجية التي
تكون موضوعة له.
وما ذكرناه نظير ما ذكرناه في المعدوم المطلق، فإنه لا يمكن تصوير حقيقة
المعدوم المطلق، لكن يمكن أن يدرك مفهوم منه، وهذا المفهوم وجه لذلك، فتنتقل
النفس بواسطة معلومه الذاتي إلى المعلوم بالعرض.
فتحصل مما ذكرنا: أن الموضوع للنسبة اللفظية هي النسبة الواقعية، ولا يحتاج
استعمال اللفظ في المعنى إلى وجود واقع ليوقع هذا اللفظ فيه; لأن الاستعمال عبارة عن
عمل اللفظ في المعنى العرضي، ويوجب ذلك انتقال النفس إليه - سواء كان له معنى
خارجي أم لا - لأن تحقق المعنى وعدم تحققه خارجا لا ربط له بباب الاستعمال
والدلالة، بل هي عبارة عن أن اللفظ يهدي إلى المعنى ويريه للمخاطب، وهذا القدر
تشترك فيه القضايا الصادقة والكاذبة، فافهم وتدبر.
216

الأمر الثامن
في العلائم التي يمتاز بها
المعنى الحقيقي عن المجازي
لتنقيح موضوع البحث ينبغي تقديم أمرين:
الأمر الأول: أن غالب العلائم التي تذكر لم تكن علامة كون اللفظ موضوعا
للمعنى الحقيقي، بل علامة أن بين اللفظ والمعنى رابطة; بحيث لو ألقي اللفظ لفهم منه
ذلك المعنى بدون القرينة; وذلك لأنه كما يحصل المعنى الحقيقي بالوضع - وهو كما
ذكرنا جعل اللفظ للمعنى - فكذلك يحصل بكثرة الاستعمال، وقد أشرنا: أن ما يحصل
بكثرة الاستعمال الكذائي هو مقابل الوضع; لأن الوضع لا يعتريه التعين، بل هو قسم
واحد، وهو التعيين، فمعنى كون التبادر - مثلا - علامة: هو أنه علامة للرابطة
الاعتبارية بين اللفظ والمعنى - سواء كانت الرابطة حاصلة بالوضع، أو بكثرة
الاستعمال إلى أن استغنت عن القرينة - لا علامة كون اللفظ موضوعا للمعنى.
نعم لو كان تنصيص أهل اللغة من العلائم - بأن قال أهل اللغة: إن اللفظ
الفلاني وضع تعيينا لذلك المعنى - يصح أن يكون ذلك من علائم كون اللفظ موضوعا
له، فتدبر واغتنم.
217

الأمر الثاني: أن البحث لم يكن مقصورا على تشخيص المعنى الحقيقي من
المجازي; فيما إذا كان هناك علم بالمراد وشك في كون المراد معنى حقيقيا أو مجازيا; حتى
يقال: إن اللفظ في المجاز أيضا - بناء على ما تقدم - مستعمل في معناه الحقيقي، فإن
السامع إذا استقر ذهنه في المعنى المراد، ولم يتجاوز منه إلى غيره، حكم بأنه حقيقة،
وإن تجاوزه إلى غيره حكم بأن ذلك الغير مجاز - كما قيل (1) - بل البحث أعم منه ومما
لم يكن هناك استعمال، أو لم يكن بصدد تشخيص استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي أو
المجازي، فلو شككنا في كون لفظ الماء - مثلا - موضوعا للجسم السيال المعروف، كان
التبادر طريقا إلى إثباته استعمل أو لم يستعمل، بل ربما يكون الاستعمال مرددا بين
الحقيقة والغلط، لا بين الحقيقة والمجاز، فتأمل.
فإذا البحث في علامة المعنى الحقيقي والمجازي بالأعم فيما كان هناك استعمال أم
لا، بل إذا تصور وفهم منه المعنى بلا قرينة فهو معنى حقيقي، وإن فهم المعنى بمعونة
القرينة فهو معنى مجازي بل قد يدور أمر الاستعمال بين كونه استعمالا حقيقيا وغلطا،
لا بين الحقيقة والمجاز.
فتحصل مما ذكرنا في الأمرين: أن محط البحث في تشخيص المعنى الحقيقي من
المعنى المجازي، لا المعنى الموضوع له من غيره، وأنه لا يخص البحث في كون العلائم
علائم استعمال اللفظ في المعنى، بل أعم منه ومما لم يستعمل.
إذا تمهد لك ما ذكرنا: فقد ذكروا (2) لتشخيص المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي
علائم لا تخلو أكثرها - بل جميعها غير واحد منها، وهو التبادر - من المناقشة.
1 - نهاية الأصول 28 - 29.
2 - زبدة الأصول: 28 سطر 1، الوافية: 60، هداية المسترشدين: 41 سطر 13، الفصول الغروية:
32 سطر 26، بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 71 سطر 7، كفاية الأصول: 33، نهاية
الأفكار 1: 66، درر الفوائد: 44، نهاية الأصول: 39.
218

التبادر
وكيف كان، من علائم تشخيص المعنى الحقيقي عن المجازي التبادر، والمراد من
التبادر تبادر المعنى وظهوره من حاق اللفظ; من دون قرينة ولو كانت القرينة عامة،
لا انسباق المعنى بالنسبة إلى المعنى الآخر، أو سرعة حصوله في الذهن بالقياس إلى
الآخر.
والكلام فيه يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في إمكان كون التبادر علامة للحقيقة
فهناك إشكال مشهور على كون التبادر علامة: وهو أن التبادر عبارة عن فهم
المعنى من اللفظ، وهو يتوقف على العلم بأن المعنى حقيقي للفظ، وإلا لا يفهم المعنى من
حاق اللفظ، فإذا فرض أن علمه بالمعنى الحقيقي متوقف على التبادر يلزم الدور (1).
وقد أجاب عنه المحقق العراقي (قدس سره): بأنه لا وجه للإشكال بالدور، ولا يحتاج في
دفعه إلى تجشم مغايرة الموقوف مع الموقوف عليه بالإجمال والتفصيل، كما عن
المشهور (2); لأن العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر، حتى لو
قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي; لأنه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف
عليه بالشخص، لا بالنوع ولا بالصنف، ولا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل

1 - هداية المسترشدين: 44 - 45 السطر الأخير، الفصول الغروية: 33 سطر 22، تقريرات
الشيرازي 1: 74، كفاية الأصول: 33، بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 71 السطر ما قبل
الأخير، نهاية الأفكار 1: 66.
2 - انظر هداية المسترشدين: 45 سطر 7، والفصول الغروية: 33 سطر 28، وتقريرات الشيرازي
1: 75، وكفاية الأصول: 33.
219

بالتبادر مع العلم الشخصي الذي يتوقف عليه التبادر (1).
ولا يخفى ما فيه، فكأنه خلط بين المعلوم بالذات والصورة الحاصلة في الذهن،
وبين المعلوم بالعرض والكشف عن الواقع، فإن ما هو الممكن هو حصول صور
متكررة في الذهن من شيء واحد، وأما الانكشاف بعد الانكشاف، فلا يعقل إلا بتعدد
متعلق العلم خارجا، أو تخلل الذهول والنسيان المفقودين في المقام.
وبعبارة أخرى: يمكن أن يوجد مصداقان من العلم التفصيلي أو الإجمالي مع
وحدة المعلوم، فمع العلم التفصيلي بأن اللفظ الكذائي معناه كذا قبل التبادر، لا يعقل أن
يحصل مصداق وعلم تفصيلي آخر بالتبادر.
ولو غفلت عن العلم السابق على التبادر وإن كان لا إشكال فيه، إلا أنه يرجع
إلى الارتكاز الذي يقول به المشهور.
وبالجملة: لا يمكن تعلق علمين وإنكشافين في حال واحد بشيء واحد مرتين.
نعم، يمكن تكرر الصور الذهنية لشيء واحد، ولكنه لا يلزم منه الانكشاف
عقيب الانكشاف بشيء واحد.
فما أجاب به (قدس سره) عن الإشكال ساقط.
والحق في الجواب عن الإشكال هو الذي أجاب به المشهور، وهو مغايرة
الموقوف مع الموقوف عليه بالإجمال والتفصيل، فإن العلم التفصيلي بأن معنى اللفظ
الفلاني هو ذلك المعنى، يتوقف على التبادر وظهور المعنى من حاق اللفظ، وأما التبادر
فلا يتوقف على هذا العلم التصديقي المحتاج إلى تصور الموضوع والمحمول، بل يتوقف
على العلم الإجمالي الارتكازي بمعنى اللفظ الحاصل من مبادئه وعلله، والموقوف غير
الموقوف عليه.

1 - بدائع الأفكار 1: 97.
220

توضيح ذلك: هو أن كل من انتحل لغة ولسانا، ارتكزت في ذهنه معان وأمور
بسيطة إجمالية; بحيث لو سبرها وتأمل فيها لإنبسطت وانكشفت لديه، وتصير مفصلة
مبينة، وربما يقع الخلاف والإجمال في فهم تلكم المعاني الإجمالية الارتكازية، فليس
كل ما يحصل في الذهن أمرا واضحا مبينا، بل ربما يحتاج إلى الاستعلام والاستحضار
من خزانة الخاطر والذهن.
فإذا نقول: إن تبادر المعنى الكذائي من اللفظ الفلاني يتوقف على ارتكاز كذا،
فلولا هذا الارتكاز لم يتبادر ذلك المعنى من اللفظ الفلاني، ولكن التصديق والعلم
التفصيلي بأن هذا اللفظ معناه الحقيقي ذلك المعنى، يحتاج إلى لطف قريحة
واستفسار من خزانة الخاطر، فالعلم التفصيلي بمعنى اللفظ يتوقف على تبادر المعنى
من حاق اللفظ، وأما التبادر فيتوقف على العلم الارتكازي، فالموقوف غير الموقوف
عليه، فلا دور.
وهذا نظير من حصلت له ملكة علمية بالنسبة إلى علم - سواء كانت مسبوقة
بتعلم المسائل وتفاصيلها، أو كانت ملكة قدسية وهبها الله تعالى - فإن الشخص يكون
عالما بمسائل ذلك العلم، ولكن لا بنحو التفصيل، بل بنحو الإجمال والبساطة، فإذا
سئل عن مسألة من مسائل ذلك العلم يرجع إلى نفسه، فربما يستحضر الجواب من
نفس ذاته بلا روية وفكر، وربما يحتاج إلى الفحص والتجسس عن المعنى الذي علمه،
فيرفع الحجاب عنه وينكشف لديه، وربما يذهل المعنى من خاطره، ولا يمكنه
استحضاره.
وإلى هذا ينظر كلام الشيخ الرئيس (قدس سره) حيث قال: إنه إذا عرضت عليك
مسائل كثيرة وأردت الجواب عنها، فعندما تريد الجواب عنها تكون تلك المسائل
حاضرة لديك لا تفصيلا بل إجمالا، فكلما تتوجه إلى الجواب عن خصوص مسألة
فيها تحضر لديك مفصلا.
221

فقد ظهر لك مما ذكرنا: إمكان كون التبادر من حاق اللفظ علامة للمعنى الحقيقي.
الجهة الثانية: في بيان إحراز أن التبادر من حاق اللفظ، لا من القرينة
فلابد وأن يحرز كون انسباق المعنى من اللفظ وتبادره منه من حاق اللفظة،
لكن حيث إنه قد يوجب كثرة الأنس والاحتفاف بالقرينة العامة تبادر المعنى من
اللفظ، فيحتمل أن لا يكون التبادر من حاق اللفظ، فيشكل إحراز كون التبادر علامة
لكون المعنى ظاهرا من حاق اللفظ.
فيقع الكلام: في أنه هل يمكن إحراز كون التبادر من حاق اللفظ بأصالة عدم
القرينة، كما عن صاحب القوانين (قدس سره) (1)، أو بالظن بكون ذلك معناه الحقيقي، كما عن
صاحب الفصول (2)، ولعل هذا يرجع إلى أصالة عدم القرينة، أو باطراد المعنى من
اللفظ، كما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره)؟ وجوه.
ربما يتشبث لإحراز كون التبادر من حاق اللفظ بأصالة عدم القرينة.
ولكن رده المحقق الخراساني (قدس سره)، وقال: إن أصالة عدم القرينة لا تجدي في
إحراز كون الاستناد إلى حاق اللفظ، وقال في بيانه كلاما لا غبار عليه (3).
تقريبه ببيان منا: أن أصالة عدم القرينة من الأصول المرادية، والعقلاء إنما
يعتنون بها في الشك في المراد، بعد علم المتكلم والمخاطب بالمعنى الحقيقي والمجازي; فيما
إذا احتمل اتكال المتكلم على قرينة خفيت على المخاطب، وأما إذا علم المراد، وشك في
كون المراد حقيقيا أو مجازيا، أو أريد الاستفسار من حاق اللفظ فلا بناء لهم على
أصالة عدم القرينة، ولا أقل من الشك في البناء.

1 - قوانين الأصول 1: 14 سطر 18.
2 - الفصول الغروية: 33 سطر 34.
3 - كفاية الأصول: 33 - 34.
222

وبالجملة: أصالة عدم القرينة لتشخيص المراد بعد العلم بالمعنى الحقيقي
والمجازي، فلا يمكن أن يستند إليها لإحراز أن المعنى المراد مستند إلى حاق اللفظ.
وإلى ما ذكرنا يشير كلاما السيد المرتضى (قدس سره)، حيث قال في مورد: إن الأصل
في الاستعمال علامة كونه حقيقيا، وقال في مورد آخر: إن الاستعمال أعم من الحقيقة (1).
فإن كلامه الأول في مورد لم يعلم المعنى المراد، واحتمل إرادة المتكلم معناه
المجازي، والثاني في مورد علم المراد، وشك في كونه معناه الحقيقي أو المجازي، فلا تنافي
بين كلاميه، كما توهم.
ثم إنه في اعتبار أصالة عدم القرينة; من جهة أنها أمارة عقلائية لتشخيص
المراد، أو أصل عقلائي في مقام الاحتجاج، فكلام آخر نذكره في محله - إن شاء الله -
لا يبعد أن يكون الثاني، فتشخيص كون الانسباق من حاق اللفظ من أصالة عدم
القرينة بناء على كونها أصلا عقلائيا، كما ترى، فارتقب حتى حين.
وأما ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره): من أنه يمكن إحراز كون التبادر مستندا إلى
حاق اللفظ بالاطراد; بتقريب: أن فهم المعنى من اللفظ في جميع الأحوال - سواء كان
في النثر، أو في الشعر، أو المكالمات العرفية، أو غيرها - بدون القرينة يكشف عن أن
معناه الحقيقي والتبادر مستند إلى حاق اللفظ، وأما إن فهم المعنى من اللفظ في
بعض الأحوال، أو في بعض المقامات، نستكشف منه أن التبادر غير مستند إلى نفس
اللفظ وحده (2).
ففيه: أن مجرد انسباق المعنى مطردا، لا يوجب القطع بكون التبادر والانسباق
مستندا إلى حاق اللفظ; لاحتمال أن يكون مستندا إلى قرينة عامة، فلا يكاد يعلم

1 - الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 13، 19، 183، وقد أكد (قدس سره) على ذلك في أماكن متعددة من
هذا الكتاب وقد أعرضنا عن درج جميعها خوفا من التطويل.
2 - بدائع الأفكار 1: 97.
223

بالاطراد معناه الحقيقي.
فإن أراد أن الإطراد دليل شرعي على المعنى الحقيقي فظاهر أنه غير ثابت
شرعا، وإن أراد أن العقلاء فيما إذا اطرد كذلك يرون أنه معناه الحقيقي، فلم يثبت لنا
بناء منهم كذلك وترتيبهم آثار المعنى الحقيقي عليه (1).
ومن تلك العلائم صحة الحمل:
وليعلم أولا: أنه في الحمل لابد من الاتحاد بين الموضوع والمحمول من جهة،
كما أنه لابد من التغاير بينهما من جهة أخرى.
أما في الحمل الأولي فاعتبر فيه الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما، فالتغاير
بينهما لابد وأن يكون بالاعتبار، كالإنسان والحيوان الناطق، فإنه لا فرق بينهما
إلا بالإجمال والتفصيل.
وأما في الحمل الشائع الصناعي، فحيث فرض الاختلاف بينهما فيه فلابد وأن
يكون الاتحاد بينهما بالوجود، ك‍ «زيد إنسان».
والحمل الشائع على نحوين:
الأول: ما يكون الموضوع مصداقا حقيقيا للمحمول، ويعبر عنه بالحمل الشائع
بالذات، وهو حمل الطبيعي على مصداقه الذاتي، كحمل الإنسان على زيد بحيثيته
الذاتية.
والثاني: ما لم يكن مصداقا ذاتيا له، ولكنه اتحد معه بالعرض، ويعبر عنه
بالحمل الشائع بالعرض ك‍ «زيد أبيض»، فإن زيدا لم يكن مصداقا حقيقيا للأبيض،
إلا أن حمله عليه باعتبار عروض البياض له في الوجود، وللحمل أنحاء أخر لا يهمنا
فعلا ذكرها.

1 - قلت: الإنصاف أن ادعاء بنائهم عليه كأنه في محله، كما لا يخفى. المقرر
224

إذا تمهد لك ما ذكرنا: فغاية تقريب كون صحة الحمل علامة للمعنى الحقيقي في
الحمل الأولي هو أن يقال: إنه إذا لم يعلم بوضع لفظ لمعنى، فبعد العلم بمعنى يجعله
موضوعا، ويجعل اللفظ المشكوك وضعه بما له من المعنى الارتكازي محمولا، ويحمله
بما له من المعنى الارتكازي على الموضوع، فإن صلح حمله عليه يستكشف منه أنه
معناه الحقيقي، وإن لم يصلح حمل اللفظ بما له من المعنى، فيستكشف منه أنه لم يكن
معناه الموضوع له. هذا في صحة الحمل عند نفسه.
وكذلك في صحة الحمل عند غيره، فإنه إذا رأى أن أهل اللسان يحملون اللفظ
بما له من المعنى على معنى يستكشف منه أنه موضوع لذلك المعنى، وإلا فلا، هذا في
الحمل الأولي.
وأما في الحمل الشائع فحيث إنه - كما تقدم - على نحوين، فإذا شك في لفظ
كالإنسان - مثلا - أنه موضوع لطبيعي يكون زيد - مثلا - مصداقه الحقيقي أم لا،
فيجعل زيد موضوعا، والإنسان بما له من المعنى الارتكازي محمولا، ثم يحمله عليه،
فإن صح حمله عليه بما له من المعنى الارتكازي مجردا عن الخصوصيات، فيعلم أنه
مصداقه الحقيقي، وإن لم يصح الحمل كذلك، بل صح سلبه عنه، فيكشف عن أنه لم
يكن موضوعا له.
هذا حال الحمل الشائع الذي يكون بين الطبيعي وفرده.
وقد يكون بين الكليين والمفهومين كالماشي والحيوان، فقال بعض: إنه وإن
لا يمكن فهم المعنى الحقيقي من صحة حمل أحد المفهومين على الآخر، لكن حيث إنه
لابد وأن يتحدا وجودا; حتى يصح حمل أحدهما على الآخر، فيعلم - بصحة الحمل -
أن أحدهما مصداق للآخر.
وبعبارة أخرى: مفهوما الماشي والحيوان حيث يكونان متغايرين مفهوما
لا يصح الحمل مفهوما، فلابد وأن يكونا متحدين وجودا، فالموجود الخارجي يكون
225

مصداقا لأحد المفهومين، فيحمل عليه المفهوم الآخر.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق: هو عدم إمكان استفادة المعنى الحقيقي من صحة
الحمل بكلا نحويه.
وذلك لأنه في الحمل الأولي: إما يريد صحة الحمل عند أهل العرف والعقلاء،
أو عند نفسه.
فعلى الأول: لا يمكن أن يفهم ويستكشف - بمجرد صحة حمل مفهوم الإنسان
مثلا على مفهوم الحيوان الناطق عندهم - كون الحمل ذاتيا أوليا; لاحتمال أن يكون
الحمل مثل «الإنسان ماشي مستقيم القامة» باعتبار الحمل الشائع.
فإن قلت: فنسأل منهم: أن حملهم هذا من أي قسم؟
قلت: فيرجع هذا إلى تنصيص أهل اللغة واللسان، وهذا أمارة أخرى غير
صحة الحمل، والمقصود إثبات أن صحة الحمل بنفسها هي علامة.
كما أنه لا يفهم من صحة سلب معنى عن معنى أن السلب بلحاظ المفهوم;
لاحتمال أن يكون السلب باعتبار التحقق الخارجي.
فتحصل: أنه لا يمكن أن يفهم من مجرد صحة حمل أحد المفهومين على الآخر
عندهم كون الحمل أوليا، ولا من سلب أحدهما عن الآخر كون السلب بلحاظ
المفهوم فقط، والأمر في السلب وإن كان فيه خفاء، إلا أن في صحة الحمل ظاهرا
مشهودا.
وأما على الثاني: وهو صحة الحمل عند نفسه، فلا يخفى أن صحة الحمل عنده
تتوقف على تصور الموضوع والمحمول تفصيلا والعلم بملاك الحمل; لأنه لو لم يعلم
ملاك الحمل، لا يمكن التصديق بأن هذا اللفظ بما له من المعنى الارتكازي يصح حمله.
وملاك الحمل في الحمل الأولي هو الاتحاد في المفهوم، فلابد من إحرازه،
والتصديق بملاك الحمل هو التصديق بمعنى الموضوع له، فقبل الحمل وفي الرتبة
226

السابقة عليه علم بالمعنى الحقيقي، فلم يبق لتأثير صحة الحمل في فهم المعنى
الحقيقي أثر.
إذا تمهد لك ما ذكرنا: ظهر لك الفرق بين صحة الحمل والتبادر، فإن في التبادر
يصح أن يقال: إنه بإلقاء اللفظ يفهم معنى ارتكازي إجمالي، والتصديق والعلم
التفصيلي بمعنى اللفظ متوقف على العلم بالوضع، ولا يتمشى ذلك في صحة الحمل;
لأنه لا يصح أن يقال: إن صحة الحمل تتوقف على ما له من المعنى الارتكازي
الإجمالي، بل تتوقف صحة الحمل على تصور الموضوع والمحمول تفصيلا، والاتحاد
كذلك، وإلا لا يصح الحمل، فلا يصح أن يقال: إن إشكال ورود الدور هنا مثل وروده
في التبادر، وأن الجواب هنا عنه هو الجواب عنه هناك، كما يظهر من المحقق
الخراساني (قدس سره) (1)، فلاحظ هذا في الحمل الأولي.
وأما في الحمل الشائع: فصحة الحمل كذلك عند الغير، فلا يفيد بعد ما عرفت:
أن الحمل الشائع على نحوين: تارة يكون من قبيل حمل الطبيعي على مصداقه الحقيقي،
وأخرى يكون من قبيل حمل الطبيعي على مصداقه العرضي، فلا يفهم من مجرد الحمل
أن الفرد مصداق حقيقي له، والحمل كذلك إنما يكون علامة للمعنى الحقيقي إذا كان
المصداق مصداقا حقيقيا.
وأما صحة الحمل الشائع عند نفسه، فالأمر فيه يظهر مما ذكرناه في صحة
الحمل الأولي، وحاصله:
أن الحمل الشائع إنما يكون علامة إذا كان الحمل ذاتيا، وذلك يتوقف على
تصور الموضوع والمحمول، ك‍ «زيد» و «الإنسان» - مثلا - والتصديق بأن زيدا
مصداق حقيقي للإنسان، والإنسان متحد معه، وظاهر أن التصديق بذلك هو التصديق

1 - كفاية الأصول: 34.
227

بالمعنى الموضوع له، ففي الرتبة السابقة على الحمل عرف الموضوع له.
وبالجملة: لو كان الحمل الشائع علامة فإنما هو التصديق بالحمل الشائع
الذاتي، لا الحمل الشائع الواقعي، وهو يتوقف على تصور الموضوع والمحمول،
والتصديق بأن المحمول بما له من المعنى متحد مع الموضوع اتحادا بالذات، وبذلك
التصديق يرتفع غيم الجهالة، ويعرف الموضوع له، فلا تصل النوبة إلى أن يستفاد ذلك
من صحة الحمل، فتدبر.
نقل وتعقيب
للمحقق العراقي (قدس سره) كلام في كل من الحمل الأولي والشائع الصناعي، لا يخلو
عن النظر، ولعله يظهر ضعفه مما تلوناه عليك، ولكن مع ذلك لا بأس بذكر مقالته، ثم
الإشارة إلى ما فيه من الخلل.
قال ما حاصله: إن الحمل - سواء كان ذاتيا أو شائعا صناعيا - ملاك صحته هو
الاتحاد في الجملة: أما في الحمل الذاتي فهو عبارة عن حمل أحد المفهومين على الآخر،
وهو على قسمين: فتارة يكون أحد المفهومين مجملا، والآخر مفصلا، كما هو شأن
التعريفات والحدود، كقولهم: «الإنسان حيوان ناطق»، وأخرى يكون كلاهما مجملين،
كما هو شأن اللغويين غالبا، مثل قولهم: «الحسام هو السيف القاطع» (1)، و «الغيث هو
المطر».
ثم قال: إن ما يمكن أن يكون علامة إنما هو القسم الأخير المتداول بين
اللغويين، وأما القسم الأول المستعمل في الحدود المشتمل على حمل الذاتيات على
الذات، كقولهم: «الإنسان حيوان ناطق»، فلا يمكن أن يستكشف بصحته وضع اللفظ

1 - قلت: هذا المثال داخل في القسم الأول; لأن السيف القاطع مفهوم مفصل، والحسام مجمله.
228

للمعنى المعلوم عند من استعمل هذا الحمل; لأن مفهوم «حيوان ناطق» مفهوم مركب
مفصل، ويمتنع أن يكون مفهوم الإنسان الذي يكون بسيطا مجملا.
ثم قال: وأما في الحمل الشائع فهو أيضا على قسمين: فتارة يحمل الطبيعي على
فرده حملا بالذات، ك‍ «زيد إنسان»، وأخرى يحمل أحد المفهومين المختلفين، سواء كانا
متساويين، نحو «الضاحك إنسان»، أم كان أحدهما أعم من الآخر، نحو «الضاحك
حيوان»، ويمكن أن يستكشف الوضع بالنحو الأول، فإنه لو حمل أهل العرف
«الإنسان» - بما له من المعنى - على «زيد» حمل الطبيعي على فرده، يستكشف من
صحة الحمل عندهم كون «الإنسان» موضوعا لطبيعي «زيد» المعلوم لديه، وهو
«الحيوان الناطق»، وأما الحمل بالنحو الثاني فلا يمكن استكشاف الوضع منه،
إلا بإرجاعه إلى النحو الأول; لأن حمل أحد الكليين المختلفين مفهوما على الآخر إنما
يصح بالحمل الشائع، ولابد فيه من الاتحاد وجودا بينهما، وهو لا محالة يكون فردا
لأحد الكليين، ويكون أحدهما طبيعية، فيستكشف بالتقريب الأول وضع اللفظ
لطبيعي ذلك الفرد الذي اتحد فيه الكليان; مثلا: «الضاحك إنسان» متحدان في وجود
زيد وعمرو وغيرهما (1). انتهى.
أقول: في كلا كلاميه نظر، مضافا إلى الإشكال في أمارية صحة الحمل، وذلك:
أما كلامه الأول: ففيه أن غاية ما تقتضيه صحة حمل «الإنسان» مثلا - بما له
من المعنى الارتكازي - على «الحيوان الناطق»، هي أن الإنسان موضوع لماهية
بسيطة تفصيلها «الحيوان الناطق»، لا أن الإنسان موضوع للحيوان الناطق.
وبعبارة أخرى: الغرض من حمل «الإنسان» على «الحيوان الناطق» - مثلا -
ليس إثبات أن لفظ «الإنسان» موضوع لهما، بل موضوع لماهية بسيطة يكونا حدا لها،

1 - بدائع الأفكار 1: 98 - 100.
229

فالمشكوك هو وضع «الإنسان» لتلك الماهية البسيطة التي يكون «الحيوان الناطق»
حاكيا عنها.
وأما كلامه الثاني: ففيه أنه بمجرد حمل أحد المفهومين على الآخر، لا يمكن أن
يستفاد ذلك، بل لابد وأن يحرز من الخارج أن صدق العنوان على الفرد ذاتي; لأن
صدق أحد المفهومين على الآخر، كما يمكن أن يكون ذاتيا، فكذلك يمكن أن يكون
عرضيا، وملاك الصدق فيه هو الصدق بالعرض، كقولك: «الإنسان حساس».
والحاصل: أنه بمجرد صدق أحد العنوانين على الآخر حملا شائعا، لا يمكن أن
يستفاد كون الحمل حملا شائعا ذاتيا كما عرفت.
نعم، لو أراد ملاحظة كل واحد واحد ليعرف كونه ذاتيا له، فيمكن استفادة
ذلك، لكن هذا رجوع في الحقيقة إلى القسم الأول، وهو الحمل الأولي، والمفروض
إثبات الوضع من طريق الحمل الشائع، فتدبر.
ومن العلائم المذكورة (1) عدم صحة السلب لفهم المعنى الحقيقي، وصحة السلب
لفهم المعنى المجازي:
والكلام فيهما يظهر مما ذكرناه في صحة الحمل وعدمها، فإن التصديق بصحة
سلب مفهوم - بما له من المعنى - عن مفهوم، كالتصديق بصحة سلب الحمارية - بما لها
من المعنى - عن الإنسان، يتوقف على إحراز الموضوع والمحمول والتصديق بالمباينة
بينهما، وإلا لا يصح السلب، ففي الرتبة السابقة على السلب علم الحال، فلا تصل النوبة
إلى معرفة ذلك بصحة السلب قدام الحمل الأولي، وكذا الحال في السلب الشائع،
ولا يخفى أن وزان الأمر في عدم صحة السلب بقسميه، وزان صحة السلب، كما لا يخفى.
فلا يهم التفصيل.

1 - قوانين الأصول 1: 17 السطر ما قبل الأخير، هداية المسترشدين: 48 سطر 27، كفاية
الأصول: 34.
230

ومن تلك العلائم
الاطراد
ويقرر ذلك بوجوه:
التقريب الأول:
أنه إذا رأينا إطلاق لفظ - بما له من المعنى الارتكازي - واستعماله في شيء
وأمر بحيثية، مثل أنه أطلق لفظ «الإنسان» على زيد بحيثية، ثم لاحظنا صدقه على
عمرو بتلك الحيثية... وهكذا في جميع الموارد، يستكشف من ذلك أن لفظ «الإنسان» -
مثلا - موضوع لمعنى جامع بين هذه الأفراد (1).
وفيه: أنه إما أن يريد بالإطلاق أن استعمال اللفظ الموضوع لكلي في أفراده، أو
يريد بذلك التطبيق والصدق على الأفراد:
فعلى الأول: يكون استعمال اللفظ الموضوع للماهية والجامع في فرده - بقيد
الخصوصية - مجازا إن كان هناك تأول وادعاء، وإلا كان غلطا، فاستعمال اللفظ
الموضوع للجامع في الفرد يدور أمره بين الغلط والمجاز، لا بين الحقيقة والمجاز.
نعم لو استعمل بعد تجريد الخصوصية الفردية فيخرج عن الفرض، ويكون من
إطلاق اللفظ في الجامع لا الفرد.
وعلى الثاني: أعني التطبيق والصدق، فيرجع هذا إلى صحة الحمل - بالحمل
الشائع - أو ما هو في قوته، فلم يكن الاطراد علامة أخرى غير صحة الحمل، وقد
عرفت حال صحة الحمل أيضا، فتدبر.

1 - انظر تقريرات السيد المجدد الشيرازي 1: 115، ونهاية الدراية 1: 84.
231

التقريب الثاني:
أفاده بعض الأعاظم دام ظله (1)، وأراد بذلك إثبات أن الاطراد وعدمه علامتان
للحقيقة والمجاز; بنحو لا يرد عليه ما أورده المحقق القمي وصاحب الكفاية (قدس سرهما)، فإنهما
أوردا على كون «عدم الاطراد» علامة للمجاز ما حاصله:
أنه إن أريد بعدم الاطراد في المجاز عدم اطراد الاستعمال بالنسبة إلى نوع
العلاقة فتمام; لأن المرخص فيه في باب المجاز ليس هو الاستعمال بالنسبة إلى نوع
العلاقة، بل باعتبار بعض الأصناف منها، فإنه لا يطلق الأب على الابن مع وجود نوع
السببية فيه.
وإن أريد عدم الاطراد بالنسبة إلى الصنف المرخص فيه; بأن كانت العلاقة فيها
من أظهر خواص المعنى الحقيقي، كالشجاعة - مثلا - في الأسد، فالمجاز أيضا مطرد مثل
الحقيقة; لصحة الاستعمال في كل مورد وجد فيه هذا الصنف من العلاقة (2).
فتصدى دام ظله لتصحيح جعل الاطراد وعدمه علامتين; بنحو لا يتوجه عليه
إيراد العلمين بما حاصله:
أن اللفظ - في الاستعمال المجازي - أيضا استعمل فيما وضع له، غاية الأمر يكون
المراد الجدي في الاستعمال الحقيقي عين الموضوع له حقيقة، وفي الاستعمال المجازي
يكون عينه أو فرده ادعاء وتنزيلا، وجميع المجازات ولطافتها مستندة إلى هذا الادعاء،
ف‍ «الأسد» في قولك: «رأيت أسدا يرمي» لم يستعمل إلا في الحيوان المفترس، غاية
الأمر أنه توسط في البين ادعاء كون زيد الشجاع من أفراده، فهذه القضية تنحل إلى
قضيتين يحتاج الإخبار في كل منهما إلى جهة محسنة، مفاد إحداهما: تعلق الرؤية
برجل يرمي، ومفاد الاخرى: كون هذا الرجل بالغا في الشجاعة حدا يصح جعله من

1 - عنى به أستاذنا الأعظم البروجردي دام ظله.
2 - قوانين الأصول 1: 26 - 29 السطر الأخير، كفاية الأصول: 35.
232

أفراد الأسد.
ولا يخفى أن ملاك الحسن في الإخبار في القضية الأولى: هو أن يكون المقام مقام
تعلق الرؤية بالرجل الرامي; بأن يفيد فائدة الخبر أو لازمها.
وأما ملاك الحسن في القضية الثانية فيحتاج إلى أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون المقام مقام الإخبار بتعلق الرؤية به.
والثاني: حسن ادعاء كونه أسدا; بأن كان بالغا أعلى درجات الشجاعة مثلا.
والثالث: كون المقام مقام إظهار الشجاعة; بأن كان المقصود تحريكه إلى
الجهاد، فيقال له: «يا أسد الهيجاء فرق بين الأعداء»، وأما إذا كان في مقام دعوته إلى
الأكل - مثلا - بأن يقال له: «يا أسد تفضل لتناول الطعام» فلا حسن فيه.
وبالجملة: أن الإخبار في قولك: «رأيت رجلا يرمي» - مثلا - يحتاج إلى محسن
واحد، وهو كون المقام مقام الإخبار بوقوع الرؤية على الرجل، وأما في الإخبار
بقولك: «رأيت أسدا يرمي» فيحتاج إلى ثلاثة أمور:
1 - من كون المقام مقام الإخبار بتعلق الرؤية به.
2 - ومن حسن ادعاء كونه أسدا; بأن كان بالغا أعلى درجات الشجاعة.
3 - ومن كون المقام مقام إظهار شجاعته.
فإذا تمهد لك ما ذكرنا فنقول: إن جعل عدم الاطراد علامة للمجاز ليس
بلحاظ نوع العلاقة، بل بلحاظ صنفها، وهي الموارد التي يوجد فيها بين الموضوع له
والمراد الجدي كمال المناسبة; بحيث تكون العلاقة من أظهر خواص الموضوع له،
ولا يطرد الاستعمال المجازي بصرف تحقق صنف العلاقة، بل يتوقف - مضافا إلى تحقق
صنف العلاقة - على كون المقام مقام إظهار شجاعته، وذلك يختلف بحسب الموارد.
233

فتحصل: أن جعل عدم اطراد الاستعمال من علائم المجاز صحيح بلا إشكال (1).
وفيه: أنه بهذا التقريب وإن كان يدفع إشكال العلمين الزاعمين بأن
الاستعمالات المجازية تكون مطردة في صنف العلاقة، إلا أنه لا يصحح أصل المطلب;
لأنه إما يريد دام ظله الاطراد عند نفسه - كما هو الظاهر من كلامه - فلابد فيه من
فهم أمور ثلاثة، وهي:
1 - كون اللفظ موضوعا لمعنى.
2 - وأمكن فيه الادعاء.
3 - وكون المورد موردا للادعاء.
فقبل الاستعمال وفي الرتبة السابقة عليه علمنا حقيقة الحال والمعنى مفصلا،
فلا نحتاج إلى الاطراد في فهم المعنى.
وبالجملة: فقبل استعمال لفظ «الأسد» في معناه - مثلا - يكون عالما بمصحح
الاستعمال، فلا تحتاج معرفته إلى الاطراد، وهذا بخلاف التبادر، فإنه لفظ واحد له
معنى واحد بسيط إجمالي ارتكازي لا تفصيل فيه، يمكن استكشافه بالتبادر.
ولعمر الحق إن الاطراد بهذا التقريب أبعد من جميع العلائم التي ذكرت في
المقام.
وأما لو أراد دام ظله الاطراد عند العرف والعقلاء لا عند نفسه، فيرجع إلى
التقريب الثالث، وسيظهر لك ضعفه قريبا - إن شاء الله - فارتقب.
التقريب الثالث:
نسبه سماحة الأستاذ دام ظله إلى أستاذه العلامة الحائري (قدس سره); بأنه أفاده في
مجلس الدرس، وأشار إليه المحقق العراقي (قدس سره) في أمارية التبادر بما حاصله:
إنا إذا لاحظنا المحاورات العرفية واستعمالاتها، نرى أن بعض الألفاظ يختص

1 - نهاية الأصول 1: 42 - 43.
234

استعماله في معنى في بعض الموارد، كالخطب والأشعار ونحوهما، وبعضا آخر لا يختص
بمورد دون مورد، بل يستعمل في جميع الموارد حتى في المكالمات المتعارفة وإلقاء
المطالب العادية، فإذا اطرد استعمال لفظ في معنى عند أهل المحاورة في جميع الموارد،
يستكشف أن معناه معنى حقيقي، بخلاف ما إذا لم يطرد، بل اختص ببعض الموارد، فإنه
يكشف عن أن معناه مجازي (1).
وفيه: أنه إن أراد بذلك أن اطراد استعمال لفظ في معنى عند أهل العرف،
يوجب العلم بالمعنى الحقيقي، فهو رجم بالغيب، فإنه قد لا يحصل العلم منه لبعض
الأشخاص.
وإن أراد أن الاطراد كذلك أمارة عقلية لكشف المعنى، فلم يكن لنا طريق
لإثباته، ومجرد الظن بكونه معناه الحقيقي لا يفيد; لأن المقام مقام تشخيص الظاهر،
والظن لا يكون حجة في تشخيصه، كما قرر في محله.
مضافا إلى أنه كما لا تطرد الاستعمالات المجازية - كما اعترف به (قدس سره) - فكذلك
ربما لا يطرد استعمال اللفظ في معناه الحقيقي; وذلك لأنه قد يستهجن إلقاء المعاني
الحقيقية.
مثلا: إذا أردت تشجيع زيد الشجاع للحرب مع الأعداء وتهييجه للمقاتلة
معهم، لا يحسن ولا يلائم أن تقول: «يا زيد فرق بين الأعداء وقاتلهم»; بل الحسن
والملائم أن تقول: «يا أسد الهيجاء أو يا أسد الأسود فرق الأعداء» ونحوها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا في هذا الأمر: أن العلامة الوحيدة - لتشخيص
المعاني الحقيقية وتمييزها عن المعاني المجازية - هو التبادر، وغير هذه العلامة إما لا تتم،
أو ترجع إليها، فتدبر.

1 - نهاية الأفكار 1: 68. والمحقق العراقي لم يتعرض لذلك بهذا التفصيل بل ذكره بصورة
مقتضبة جدا.
235

الأمر التاسع
في تعارض الأحوال
لا ينبغي الإشكال في أن للفظ أحوالا مختلفة; لأن اللفظ باعتبار وضعه لمعنى ما
وملاحظة تعدد وضعه وعدمه، ينقسم إلى مشترك وغيره، وبملاحظة ما يوجب تقييد
معناه بخصوصية ما وعدمه إلى المطلق والمقيد، وبملاحظة استعماله فيما وضع له أو غيره
ينقسم إلى الحقيقة والمجاز، وبملاحظة بقائه على وضعه الأول ونقله إلى معنى آخر
بوضع آخر، ينقسم إلى المنقول وغير المنقول... إلى غير ذلك من الأحوال الطارئة
للفظ في مقام استعماله.
وقد ذكروا (1) في ترجيح بعضها على بعض مرجحات ظنية لا يصح التعويل
عليها; لعدم دليل على اعتبارها.
نعم: ذكر من بينها ما يصح الإتكال عليه ودارت عليه رحى عيش أبناء النوع
الإنساني، وهو الظهور; لأنه إن كان للفظ ظهور في معنى يحتج المولى على عبده

1 - شرح العضدي: 49، قوانين الأصول 1: 32 سطر 9، هداية المسترشدين: 61 - 73
سطر 37، الفصول الغروية: 40 - 42 سطر 10، تقريرات السيد المجدد الشيرازي 1: 175.
237

والعبد على مولاه، وهذا في الجملة مما لا إشكال فيه.
ولكن وقع الكلام في أن الركن القويم والحجر الأساس في الاحتجاج وكشف
المراد، هل هو خصوص أصالة الظهور، وغيرها يرجع إليها، أو أصالة عدم القرينة
كذلك، أو أصالة الحقيقة، أو أصالة عدم الخطأ والنسيان، أو غيرها؟
وبالجملة: اختلفوا في أنه هل هناك أصول متعددة عند العقلاء في مقام
الاحتجاج وكشف المراد، أو أصل واحد وغيره يرجع إليه (1)؟
ولا يخفى أنه ربما تختلف الآثار باختلاف كل منها; لأنه إن كان المرجع هو
أصالة الظهور، فيتمسك بالظهور، ولو احتمل في الكلام قرينة الخلاف، بل ولو احتمل
احتفاف الكلام بقرينية الموجود.
وبالجملة: لا يصادم الظهور احتمال وجود القرينة، بل ولا احتمال قرينية
الموجود، وكذا لو كان المرجع هو أصالة الحقيقة تعبدا.
وأما لو كان المرجع أصالة عدم القرينة، فتكون مرجعا فيما لو احتمل وجود
القرينة، لا في قرينية الموجود; لأن العقلاء لا يتمسكون لنفي ما احتمل قرينيته بأصالة
عدم القرينة. هذا كله في مقام الثبوت.
وأما مقام الإثبات; وأن أي أصل منها يكون مرجعا، فتفصيله يطلب من محله،
ولا بأس بالإشارة الإجمالية إليه هنا.
فنقول: أنه لا يبعد الترجيح بالظهور، دون سائر المرجحات، مثلا: إذا دار
الأمر بين الاشتراك والمجاز، فترجيح المجاز على الاشتراك بلحاظ غلبة المجاز بالنسبة
إلى الاشتراك، لم يعتن به العقلاء (2).

1 - فرائد الأصول: 34 سطر 2، حاشية الآخوند على الرسائل: 45 - 46 سطر 20، كفاية
الأصول: 329، نهاية الأفكار 3: 86 - 87، درر الفوائد: 360 - 361.
2 - قلت: ولا يتوهم أن قوله (عليه السلام) في خبر محمد بن هارون الجلاب: (إذا كان أهل الجور أغلب
من الحق لا يحل أن يظن بأحد خيرا يعرف ذلك منه) يثبت اعتبار الغلبة; لأن غاية ما يستفاد
من قوله (عليه السلام)، هو ترك ترتيب آثار الغلبة في صورة غلبة أهل الجور على أهل الحق، لا ترتيب
آثار الجور والفساد، كما هو المفروض، فتدبر.
238

نعم: لو وصلت الغلبة إلى حد لا يرون خلافه شيئا، ويكون الاحتمال فيه
صرف احتمال عقلي، فيمكن أن يقال: إنهم يرون الغلبة الكذائية في طرف أمارة على
العدم في الطرف المرجوح، نظير الشبهة غير المحصورة، فإن دوران الأمر في احتمال
واحد بين ألوف، لا يرون له حيثية وشأنية أصلا; ألا ترى أنك إذا أخبرت بموت صبي
في بلد يكون ولدك فيه، لا تستوحش مثل ما تستوحش فيما لو أخبرت بموت صبي في
محلة يكون فيها ولدك، وكذا استيحا شك من هذا أقل من استيحا شك عند سماعك
بموته في شارع هو فيه، وهو أقل منه عند سماعك بموته في البيت الذي يكون فيه ولدك،
وليس هذا إلا من جهة قلة الاحتمال وكثرته.
والحاصل: أن مجرد الغلبة والأكثرية ما لم يبلغ بتلك المثابة لا يعتنى بها،
ولا يكون قول: «إن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب» معولا عليه عند العقلاء، وإن
أبيت عما ذكرنا، فلا أقل من الشك في اعتباره عندهم.
فظهر لك مما تلوناه عليك: أن التكلم في هذه المرجحات لا يسمن ولا يغني،
والملاك - كل الملاك - هو الظهور، فكل ما أوجب الظهور والأظهرية يؤخذ به، وذلك
يختلف باختلاف الموارد.
نعم تعرضوا خلال ذكر هذه المرجحات لأمر لا بأس بذكره، ولا يخلو عن
فائدة:
وهو دوران الأمر بين النقل وعدمه (1): ويتصور ذلك على صورتين: صورة
الشك في نقل اللفظ من معناه الحقيقي، والثانية صورة العلم بنقل اللفظ من معناه

1 - الفصول الغروية: 40 سطر 4.
239

الحقيقي، لكن شك في تقدم الاستعمال على النقل وعدمه.
وهذه تتحقق في موارد:
فتارة: يعلم تأريخ الاستعمال دون النقل.
وأخرى: يعلم تأريخ النقل دون الاستعمال.
وثالثة: لا يعلم شيء منهما.
وتنقيح الكلام فيها يستدعي بسط المقال في الصورتين:
الصورة الأولى
صورة الشك في نقل اللفظ عن معناه الحقيقي
وهي على قسمين:
فتارة: يعلم المعنى الحقيقي، لكن يشك في نقله عنه إلى غيره، مثل أنه علم أن
«الصلاة» موضوعة للدعاء، واستعملت لفظة «الصلاة» في معنى، ولكنه لم يعلم أنه
نقل اللفظ من معنى الدعاء إلى غيره، كالأركان المخصوصة.
وأخرى: يعلم ظهور اللفظ في معنى فعلا، لكنه يشك أنه حين الاستعمال أيضا
كان ظاهرا في هذا المعنى أم لا، مثلا: يرى أن للفظة «الصعيد» - مثلا - في هذا الزمان
ظهورا في مطلق وجه الأرض، لكنه يشك في أنه حين نزول قوله تعالى: (فتيمموا
صعيدا طيبا) (1) أيضا كان ظاهرا في هذا المعنى، أو في التراب الخالص.
فنقول: أما الكلام في القسم الأول: فلا إشكال في عدم اعتناء العقلاء بالشك في
النقل بعد القطع بمعناه، وهل المدرك لذلك هو استصحاب عدم النقل عندهم، نظير
الاستصحاب في الموضوعات والأحكام في الشريعة، أو بلحاظ عدم رفعهم اليد عن

1 - النساء: 43.
240

الظهور الثابت بمجرد احتمال الخلاف؟
وجهان، لا يبعد الثاني.
وغاية ما يستدل به للوجه الأول: هو أنه كما يكون الاستصحاب حجة في
الشريعة المقدسة فكذلك يكون حجة عند العقلاء، وهم يعتنون بالاستصحاب في
أمورهم، ففي المقام حيث يشك في نقل اللفظ من معناه الحقيقي، فمقتضى الاستصحاب
العقلائي الأخذ بالمتيقن وعدم الاعتناء بالشك باليقين السابق.
ولكن - كما سيوافيك في محله - أن الاستصحاب في الشريعة المقدسة لم يكن
أمارة، ولم يكن اليقين السابق أمارة على مورد الشك ومتعلقه، وغاية ما في الباب هو
ترتيب آثار اليقين في ظرف الشك; سواء كان شاكا أو ظانا بالوجود أو بالعدم.
وبالجملة: الاستصحاب أصل تعبدي معتبر فيما لم يعلم بالخلاف، والظاهر أنه
لم يكن عند العقلاء أصل كذلك وتعبد في حياتهم وتعيشهم، بل لم يكن عندهم مجرد
العلم واليقين بأمر أمارة في مورد الشك.
وتوهم: أنه عندهم: أن «ما ثبت يدوم» فهو دليل على ذلك (1).
مدفوع: بأنه لم يثبت هذا الأمر كليا.
نعم، في بعض الموارد لا يعتنون باحتمال الخلاف إذا كان احتمال الخلاف ضعيفا
غايته; بحيث تطمئن النفس ببقائه.
فتحصل: أن جر اليقين السابق والتعبد بالبقاء عند العقلاء، أو كون اليقين
السابق أمارة عقلائية في مورد الشك، لا أصل له، والتفصيل يطلب من محله.
وعليه فلا يبعد أن يقال: إن عدم اعتنائهم بالشك في النقل بلحاظ أنه إذا كان
للفظ ظهور في معنى، لا يرفعون اليد عنه بمجرد احتمال النقل، وهو غير الاستصحاب،

1 - انظر ما قرره في كفاية الأصول: 440.
241

ولو أريد ذلك فلا مشاحة.
وليعلم: أنه لم يثبت ذلك كليا، بل فيما إذا كان النقل في اللغة نادرا غير مأنوس،
كما هو كذلك، فلو كان النقل في لغة وموقف شائعا فلا يعتنون بالظهور، بل يصادم
الاحتمال الأكثري في النقل الظهور، فتدبر.
هذا هو القسم الأول.
وأما القسم الثاني: فالظاهر أن العقلاء يرتبون الأثر على ما يكون اللفظ
ظاهرا فيه فعلا، ولا يرفعون اليد عما تكون لفظة «الصعيد» - مثلا - ظاهرة فيه فعلا;
باحتمال كون معناه عند نزول الآية الشريفة غيره، بل يحتجون بظاهره، ولعل عدم
اعتنائهم باحتمال الخلاف في هذا القسم أظهر من القسم الأول، وهو ما إذا علم بوضع
اللفظ لمعنى، ثم شك في نقله من ذلك المعنى إلى المعنى الآخر.
نعم، لو كان احتمال الخلاف بمثابة يصادم ظهوره في معناه; بأن ذهب العقلاء إلى
خلاف ما استظهره، فيشكل إعتناؤهم بظاهر اللفظ، ولكن الكلام في مورد صرف
احتمال الخلاف، وقد عرفت أن العقلاء يحتجون بما هو الظاهر منه، ولا يرفعون اليد
عنه بمجرد احتمال الخلاف.
ثم إن ذلك هل من جهة استصحاب بقاء الظهور قهقريا إلى زمان يعلم
بالخلاف، أو استصحاب عدم انتقال اللفظ من معنى إلى هذا المعنى، أو مجرد احتمال
الخلاف لا يصادم الظهور المنعقد في معنى، أو يكون هناك أمارة عقلائية على خلاف
الاحتمال؟
وجوه، يظهر الحال مما ذكرناه في القسم الأول، وتفصيله يطلب من محله.
فتحصل: أنه لا إشكال ولا كلام في حكم هذين القسمين; وإن وقع الكلام في
وجه مستند الحكم، وهو لا يهم.
242

الصورة الثانية
صورة العلم بنقل اللفظ من معناه الحقيقي
وهي على قسمين أيضا:
فتارة: يعلم أن اللفظ في السابق كان موضوعا لمعنى، ثم نقل اللفظ من ذلك
المعنى إلى معنى آخر، وشك في تقدم الاستعمال على النقل أو تأخره عنه.
وأخرى: يكون اللفظ ظاهرا في معنى فعلا، ولكنه يعلم أن هذا المعنى لم يكن
معناه في السابق، ووقع استعمال، ولكنه لم يعلم أنه استعمل في وقت كان اللفظ ظاهرا
في المعنى المنقول عنه، أو كان ظاهرا في المعنى المنقول إليه.
وفي القسمين: إما يكون تاريخ النقل والاستعمال كلاهما مجهولين، أو تاريخ
الاستعمال معلوما دون النقل، أو بالعكس، فهناك ست صور.
فهل يصلح أن يقال: إن بناءهم في جميع هذه الصور على الأخذ بما يكون
ظاهرا فيه فعلا، إلا إذا ثبت خلافه وحيث لم يعلم أن الاستعمال كان على خلاف هذا
الظاهر، فيؤخذ به.
أو يقال: إن بناء العقلاء دليل لبي، لا لفظي ليؤخذ بعمومه أو إطلاقه، والقدر
الثابت من بنائهم هي صورة الشك في أصل النقل، فإذا لم يعلم أنه حين الاستعمال
كان اللفظ ظاهرا في هذا المعنى أو ذلك المعنى، فتكون شبهة مصداقية له، فلا يؤخذ
به؟ وجهان.
والظاهر عدم ثبوت بناء منهم على التعويل على أصالة عدم النقل والأخذ
بالظهور ولو مع العلم بتاريخ الاستعمال، وإن أبيت ذلك فلا أقل من الشك في بنائهم
على الأخذ به، فلم يحرز بناؤهم فيها; لأن هذه الصور المفروضة صور نادرة قلما تتفق
في الخارج; حتى يمكن الاطلاع عليه بالتبادر ونحوه.
243

فتحصل من جميع ما ذكرنا: أن المقدار الثابت من بناء العقلاء، إنما هو فيما إذا
شك في أصل نقل اللفظ من معنى معلوم إلى غيره، أو فيما إذا كان للكلام ظهور فعلي في
معنى، ولكن يحتمل ظهوره قبلا في معنى آخر; وأما إذا علم النقل، وشك في كون
الاستعمال بعد النقل أو قبله - بجميع صوره - فلم يثبت من العقلاء بناء في ذلك.
ذكر وتعقيب
بقي هناك كلامان من العلمين الحائري والعراقي (قدس سرهما)، لا بأس بذكرهما والإشارة
إلى ما فيهما:
استدرك شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) في مبحث الحقيقة الشرعية - بعد ذكر
الأقسام الثلاثة: من أنه تارة يعلم تاريخ الاستعمال دون النقل، وأخرى بالعكس،
وثالثة يجهل كلاهما، وإشكال المثبتية في جريان أصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان
الوضع - فقال: بأنه إذا علم تاريخ الاستعمال، وجهل تاريخ النقل، يمكن إجراء أصالة
عدم النقل إلى زمان الاستعمال، ولازمه وقوع الاستعمال في المعنى الأول وتأخر النقل
عن الاستعمال; لأن أصالة عدم النقل من الأصول العقلائية، ولم يكن بناء العقلاء في
عدم النقل مخصوصا بصورة الجهل بالنقل رأسا، بل يعم ما إذا علم إجمالا بالتقدم
وشك في تاريخ; لظهور أن بناءهم على هذا من جهة أن الوضع السابق عندهم حجة،
فلا يرفعون اليد عنها إلا بعد العلم بالوضع الثاني... إلى آخره (1).
وفيه أولا: أن ما يكون حجة عند العقلاء هو الظهور لا الوضع، ولا معنى
لحجية الوضع بما هو وضع، بل الظهور حجة، فإذا كان الظهور عندهم حجة فيمكن
أن يقال: إن القضية متعاكسة، فإنهم يأخذون بما يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا - وهو

1 - انظر درر الفوائد: 46 - 47.
244

المعنى المنقول إليه - إلى أن يعلم خلافه، ولا يخفى أن هذا الجواب جار مجرى الجدل; لما
عرفت من أن بناء العقلاء لم يثبت في صورة العلم بالنقل، والمقدار الثابت من بنائهم
إنما هو في صورة الشك في أصل النقل.
وبالجملة: مع العلم بالنقل والشك في تقدم النقل على الاستعمال، لا ينعقد
للكلام ظهور، فالأصل المذكور لا يوجب انعقاده.
وثانيا: أن قوله (قدس سره): إن الوضع السابق حجة إلى أن يعلم بالوضع الثاني غير
ملائم، والأولى أن يقول: إلى أن يعلم أن اللفظ استعمل في المعنى الثاني; لأن
المفروض أنا عالمون بالوضع الثاني، فلازم مقاله: هو أن نعلم بالحجة على خلاف
السابق، فتدبر.
والمحقق العراقي (قدس سره) تمسك في صورة من الصور الثلاثة - وهي ما إذا كان تاريخ
الاستعمال معلوما، وكان تاريخ النقل مشكوكا - بذيل أصالة عدم النقل، وتوقف في
الصورتين: وهما ما إذا كان تاريخ الوضع معلوما دون الاستعمال، أو كلاهما مجهولين.
وحاصل ما أفاده (قدس سره) في ذلك: هو أنه في صورة العلم بتاريخ الاستعمال والشك
بتاريخ النقل، تجري أصالة عدم النقل واستصحابه، وحيث إنها من الأصول العقلائية
تثبت اللوازم العقلية، ولازمه استعمال اللفظ في المعنى الأول المنقول منه، وأما عكس
هذه الصورة - وهو ما إذا كان تاريخ النقل معلوما دون الاستعمال - فحيث إنه لا تجري
أصالة عدم الاستعمال; لعدم بناء العقلاء عملا على عدم الاستعمال في هذا المورد،
ولا يمكن التمسك بالأصل الشرعي لكونه مثبتا، فاللازم حينئذ التوقف، فإن ما هو
موضوع الأثر غير موجود، وما هو الموجود غير موضوع الأثر.
وأما في صورة كون كل من تاريخ الاستعمال والنقل مجهولا ففيها أيضا التوقف،
ولكن لا لتساقط الأصلين بالمعارضة; لأن ذلك فيما إذا جرى الأصلان، وما نحن فيه
245

لم يكن كذلك; لعدم جريان أصالة عدم الاستعمال; إما لكونه مثبتا، أو لعدم كونه أصلا
عقلائيا.
ولا لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره): من سقوط الأصلين في العلم الإجمالي في
صورة الجهل بتاريخهما; لاحتمال انطباق اليقين الإجمالي على المشكوك فيه، فيحتمل
انتقاض اليقين السابق باليقين اللاحق (1).
لما قلنا في دفعه: من أن المعلوم بالإجمال وصف معلوميته، فيستحيل انطباقه
على المشكوك، فيستحيل احتمال الانتقاض في كل من الطرفين بالعلم الإجمالي بخلافه.
بل النكتة في التوقف: هو أن في توارد الحالتين المجهولتين في جميع صورها - التي
منها صورة كون الأثر مترتبا على عدم وجود إحدى الحالتين في ظرف وجود
الاخرى، كما فيما نحن فيه - أن الأثر مترتب على عدم وجود إحدى الحالتين في ظرف
الاستعمال، فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل; لأن غاية ما يثبته الأصل العدمي
مطلقا - سواء كان أصلا عقلائيا، أو أصلا تعبديا - هو جر العدم في عمود الزمان وفي
جميع أجزائه، لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر، فعليه لا يمكن إثبات عدم الوضع في
حال الاستعمال وإن كان الأصل عقلائيا، وذلك ليس لأجل عدم إمكان التقيد
والمقارنة بالأصل; حتى يقال: إن الأصل عقلائي، بل لأجل أن القيد - وهو الاستعمال
كالوضع - مشكوك فيه حين إجراء الأصل، فلا يمكن إحراز موضوع الأثر بالأصل
المزبور، ولذا تمسكنا بالأصل المزبور في صورة كون تاريخ الاستعمال معلوما; لتحقق
موضوع الأثر بالأصل والوجدان (2).
وفي كلامه مواقع للنظر:

1 - انظر كفاية الأصول: 37.
2 - بدائع الأفكار 1: 103 - 104.
246

فأولا: أنه يظهر من كلامه (قدس سره): أنه يريد إثبات الأمر في الصورة الأولى - وهي
ما إذا علم بتاريخ الاستعمال، وشك بتاريخ النقل - بالاستصحاب العقلائي; بدعوى أنه
كما يكون الاستصحاب في محيط الشريعة، فكذلك يكون في محيط العرف والعقلاء،
غاية الأمر أن ما عند العقلاء تكون مثبتاته حجة، دون ما يكون في الشريعة.
وقد ظهر مما تلوناه عليك: أنه لم يثبت لنا بناء من العقلاء في ذلك، بل يمكن
ادعاء أن بناءهم على خلاف ذلك.
ولو ثبت الاستصحاب العقلائي في المقام فحيث إن مفاده: أن «ما ثبت يدوم»
ونحوه، فلو علموا بوجود شيء في زمان، ثم شكوا في بقائه في الزمان اللاحق، فلابد
وأن يبنوا على بقائه معللا بوجوده في الزمان السابق، والحال أنه ليس كذلك في
المقام; بداهة أنهم في صورة الشك في النقل وعدمه، لا يلتفتون إلى أنه حيث لم يوجد
سابقا فمقتضى الاستصحاب عدمه، بل يرون الظاهر من الكلام، فإن كان له ظهور في
معنى لا يرفعون اليد عنه، بل يحتجون به، كما يحتج العبد على المولى بالظاهر الملقى إليه
ولو لم يرده المولى، ولا يعتنون باحتمال الخلاف، كما يحتج المولى على عبده بما هو
الظاهر من كلامه.
والشاهد على ما ذكرنا: أنه في صورة ما إذا كان للكلام ظهور في معنى، وشك
في نقله عنه، لا يكون ذلك عندهم لأجل الاستصحاب، بل لأجل أن كل كلام يكون
له ظهور في معنى، لا يرفعون اليد عنه باحتمال إرادة الخلاف، ولذا تراهم في صورة
ما إذا كان للفظ ظهور في معنى فعلا، واحتمل ظهوره سابقا في معنى آخر، يرتبون الأثر
على ما يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا، ويحتجون بظاهره، مع أنه لا يجري استصحاب
عدم النقل.
نعم: يمكن أن يقال بجريان الاستصحاب القهقري، ولكنه تصوير مدرسي
247

لا يتجاوز حريم المدرسة وأهلها، بل احتجاجهم بما هو الظاهر فعلا في هذه الصورة
لعله أقوى من سابقتها.
فتحصل: أن الملاك كل الملاك عند العقلاء هو ظهور الكلام في المعنى،
لا الاستصحاب.
نعم: قد يكون وجود شيء في زمان - مع قرائن - أمارة على وجوده في زمان
آخر، ولكن لا يكون ذلك لأجل الاستصحاب، بل لأجل أن احتمال عدمه احتمال
ضعيف يكاد يلحق بالعدم، نظير الاحتمال في أطراف الشبهة غير المحصورة، فتدبر.
فظهر من جميع ما ذكرنا: سقوط الاستدلال بالاستصحاب، وقد عرفت أخيرا:
أن المقدار الثابت من بنائهم إنما هو في بعض الموارد - وهو صورة الشك في أصل
النقل - وأما فيما لو علم بالاستعمال وشك في النقل فلا، فتدبر.
وثانيا: أنه لو تم المطلب في الصورة الأولى بالاستصحاب - كما زعم - فليتم في
الصورة الثانية أيضا بالاستصحاب; لوجود أركانه فيها أيضا، حسبما يزعمه في الصورة
الأولى، فكيف يفرق بين الصورتين; فيقال بجريان الاستصحاب في الأولى دون
الثانية؟! ووجود بناء العقلاء في مورد - وهي الصورة الأولى - دون مورد، يكشف
عن عدم استنادهم إلى الاستصحاب، بل مستندهم في ذلك: هو أن احتمال المخالف
لطبع التقية وظاهرها لا يعتنى به، وذلك إنما هو فيما إذا شك في أصل النقل، وأما فيما لو
علم النقل وشك في التقدم والتأخر فلا، فتدبر.
وثالثا: أنه يرد على ما ذكره في مجهولي التاريخ: أن مفاد الأصل العدمي هو
جر العدم في عمود الزمان وجميع أجزائه، لا إثباته بالإضافة إلى أمر آخر، فإن
استصحاب عدم النقل إلى زمان الاستعمال - لا بالإضافة إليه - بأن يكون ذكر زمان
الاستعمال لبيان تحديد زمان عدم النقل، مثل قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس
248

إلى غسق الليل) (1) - مثلا - حيث إن ذكر (إلى غسق...) لبيان تحديد زمان تصلح
فيه الصلاة، ولازم استصحاب عدم النقل إلى زمان الاستعمال كذلك - عقلا - هو أن
الاستعمال وقع في المعنى المنقول عنه.
وكان لسماحة الأستاذ دام ظله بعض الكلام في رد مقالة المحقق العراقي (قدس سره)،
ولكنه فات منا ضبطه، فمن أراد فليراجع «مناهج الوصول» المطبوع أخيرا (2).

1 - الإسراء: 78.
2 - مناهج الوصول إلى علم الأصول 1: 134.
249

الأمر العاشر
في الحقيقة الشرعية
اختلفوا (1) في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمها على أقوال، ثالثها التفصيل بين
ألفاظ العبادات وغيرها، فقيل بثبوتها في ألفاظ العبادات، وبعدمها في غيرها، وقد
يفصل بين الألفاظ الكثيرة الدوران وبين غيرها; بالثبوت في الأول دون الثاني (2).
ومعنى ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه: هو أن الشارع الأقدس هل وضع
ألفاظا للمعاني والحقائق الموجودة في الشريعة المقدسة أم لا؟
والظاهر أنه يمكن دعوى القطع بعدم الوضع التعييني من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)
لهذه الألفاظ للمعاني المعهودة في الشريعة; لأنه لو فعل صلى الله عليه وآله ذلك
لوصل إلينا، بعد وصول جميع سيرته وسننه - الراجعة إلى الشريعة - إلى الأمة
الإسلامية، بل وصل إلينا ما لا يرتبط بالشريعة أيضا، كوصف شمائله وهيكله المقدس

1 - معالم الدين: 26 سطر 6، هداية المسترشدين: 93 سطر 28، الفصول الغروية: 42 سطر 33،
كفاية الأصول: 35، غاية المسؤول في علم الأصول: 109 سطر 15، نهاية الأفكار 1: 69.
2 - قرره في الفصول الغروية: 42 سطر 37 ونسبه إلى بعض المتأخرين، وهداية المسترشدين:
93 سطر 34.
251

وأفعاله العادية; لتوفر الدواعي لنقل كل ما يرتبط بساحته صلى الله عليه وآله، مع أن
الكتب التي ألفت في سيرته وحياته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يكن فيها من ذلك عين ولا أثر.
نعم لو لم يتوجه إشكال عقلي، يمكن تصوير الوضع التعييني لتلك الألفاظ بنحو
آخر: بأن استعمل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة، وقصد
بذلك وضعها لها; بأن يتحقق الوضع بنفس الاستعمال - الذي هو من قبيل الإنشاء
الفعلي، نظير المعاطاة في المعاملات - كما في قولك في مقام تسميتك ولدك: «جئني
بولدي محمد» قاصدا تحقق العلقة الوضعية بنفس هذا الاستعمال.
وبالجملة: فكما يمكنك أن تصرح وتقول: «إني سميته محمدا»، فكذلك يمكنك أن
تطلق عليه لفظ «محمد»; بحيث يفهم بالقرينة أنك تريد أن يكون هذا اللفظ اسما له،
فبنفس قولك في المرة الأولى - بعد أن رزقك الله تعالى ولدا -: «أعطني ولدي محمدا»،
تضع ذلك اللفظ لولدك، فتدبر.
ولكن قد يقال: إنه لا يمكن الوضع كذلك; لأن استعمال اللفظ في المعنى إفناؤه في
المعنى، وبعد إفناء اللفظ يكون النظر إليه آليا، وإلى المعنى استقلاليا، فلو أريد وضعه
وتخصيصه لمعنى لابد وأن يلاحظ كل من اللفظ والمعنى مستقلا; ليتخصص اللفظ به،
فلازم وضع اللفظ للمعنى باستعمال واحد، الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي،
وهو محال.
ولكن الذي يقتضيه النظر إمكان الوضع كذلك; لما عرفت منا: أن الاستعمال
عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى، فحديث كون الاستعمال عبارة عن إفناء اللفظ
في المعنى (1)، ساقط.
ولو سلم كون الاستعمال إفناء، فلا نسلم أنه في جميع موارد استعمال اللفظ

1 - كفاية الأصول: 53.
252

في المعنى يكون اللفظ فانيا فيه، بل إنما يكون في غالب الموارد بالنسبة إلى
العارف باللغة; وذلك لأن من يريد تعلم لسان ولغة، فعندما يتلفظ بلفظ يتوجه إلى
كل من اللفظ والمعنى في عرض واحد; من دون أن يكون فناء للفظ في معناه، كما
لا يخفى على الخبير.
وإن كان مع ذلك في خاطرك ريب وشك، فلاحظ نفسك في جعلك اسما لولدك
- الذي رزقك الله تعالى - بنفس الاستعمال في المرة الأولى، كما أشرنا إليه آنفا، فلعله
يكفيك، ويزول الريب من خاطرك.
فظهر: أنه لو سلم كون الاستعمال إفناء اللفظ في المعنى، فإنما هو في غالب
الاستعمالات والأكثري منها.
ولكن قد لا يكون كذلك، فمن الممكن أن يكون الشارع الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضع
لفظة «الصلاة» - مثلا - في قوله: (صلوا كما رأيتموني اصلي) (1) لنفس الأركان
المخصوصة بتلك الكيفية.
وإن لم تتعقل ما ذكرنا، ورأيت فناء اللفظ في المعنى في جميع الاستعمالات،
فيمكن أن يقال بالفناء الذي أفاده المحقق العراقي (قدس سره)، كما سبق منه في استعمال اللفظ
ثانيا في المعنى، ويجعل هذا وسيلة وكناية لإفهام لازمه، وهو طبيعي اللفظ، ولا محذور
فيه عقلا، فلاحظ.
ولكن هذا إنما يتم، ويمكن إثبات الوضع شرعا ولو بهذا النحو، إذا لم تكن لتلك
المعاني في الشرائع المتقدمة عين ولا أثر، ولم تستعمل تلك الألفاظ في تلك المعاني في
عرف العرب قبل ظهور الإسلام.
وأما إذا كان العرب متشرعا بها، وكانوا يستعملون تلك الألفاظ فيها، وإن كان

1 - بحار الأنوار 82: 279، جامع الأصول في أحاديث الرسول 5: 576 / 3820.
253

الشارع الأقدس زاد على ما ندبوا به أو نقص عنه، بل لو احتمل وجود ذلك بينهم،
فلا يمكن إثبات الحقيقة الشرعية في الألفاظ المستعملة في تلك المعاني.
ولا يبعد دعوى وجود هذه المعاني بينهم; لأن الحج شرع في زمن إبراهيم (عليه السلام)،
وكان أمرا دارجا بينهم، يرشد إلى ذلك قوله تعالى - حكاية عنه (عليه السلام) -: (وأذن في
الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) (1)، وعنه أيضا:
(ربنا ليقيموا الصلاة) (2).
وكان في العرب اليهود والنصارى، وقد قال تعالى - حكاية عن عيسى (عليه السلام) -:
(وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) (3).
وعن إسماعيل صادق الوعد على نبينا وآله وعليه السلام: (يأمر أهله بالصلاة
والزكاة) (4).
وعن لقمان لابنه: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر) (5).
وعن قوم شعيب على نبينا وآله وعليه السلام: (قالوا يا شعيب أصلاتك
تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا) (6).
وعن الأنبياء (عليهم السلام): (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة) (7).

1 - الحج: 27.
2 - إبراهيم: 37.
3 - مريم: 31.
4 - مريم: 55.
5 - لقمان: 17.
6 - هود: 87.
7 - الأنبياء: 73.
254

وقال تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) (1).
إلى غير ذلك من الآيات والأخبار، الدالة على وجود الصلاة والصوم والزكاة
والحج وغيرها بين العرب قبل ظهور الإسلام، وإن زاد عليها الإسلام أو نقص منها.
ومن الواضح أنه لابد لهم في إبراز هذه المقاصد وتفهيمها وتفهمها من ألفاظ،
والظاهر أن تكون الألفاظ الدارجة بينهم في إبراز هذه المعاني، هي هذه الألفاظ
الدارجة; لأنه لو كانت غير هذه الألفاظ فمقتضى طبع القضية وجريان العادة نقلها
إلينا; لتوفر الدواعي إلى ذلك، ولم ينقل إلينا من ذلك شيء أصلا، مع أنهم ذكروا
قصصا وأمورا لا طائل تحتها، ولا تنفع لا في أمر الدين ولا الدنيا، فعدم ذكر ألفاظ أخر
في مقام التعبير عن تلك الماهيات - غير هذه الألفاظ - شاهد صدق على أنهم كانوا
يعبرون عن تلك الماهيات بهذه الألفاظ، فتدبر.
ومما يشهد لذلك الآيات القرآنية النازلة في أوائل البعثة، مثل قوله تعالى في
سورة «المزمل» المكية: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا) (2).
وقوله تعالى في سورة «المدثر» المكية: (قالوا لم نك من المصلين) (3).
وقوله تعالى في سورة «القيامة» المكية: (فلا صدق ولا صلى) (4).
وفي سورة «الأعلى» المكية: (وذكر اسم ربه فصلى) (5).
إلى غير ذلك من الآيات المكية، فضلا عن الآيات المدنية، فإنها تنادي بأعلى
صوتها: بأن هذه الألفاظ - من لدن نزول القرآن المجيد - استعملت في تلك المعاني

1 - البقرة: 183.
2 - المزمل: 20.
3 - المدثر: 43.
4 - القيامة: 31.
5 - الأعلى: 15.
255

بلا قرينة مقالية ولا حالية (1) وكانت تلك المعاني معلومة المفهوم من تلك الألفاظ لدى
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاصريه; من المشركين واليهود والنصارى، وكانوا يفهمون
معانيها بلا قرينة، وأما في لسان العرب التابعين ومن بعدهم فالأمر أوضح من أن يذكر.
فإن لم تطمئن بما ذكرنا، فلا أقل من احتمال معهودية ذلك في عصر نزول القرآن
المجيد، ومع ذلك لا يمكن إثبات كونها حقيقة شرعية، كما لا يخفى.
وعلى كل حال لا يترتب على القول بثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه ثمرة
عملية; لأن الثمرة إنما تظهر فيما لو استعملت تلك الألفاظ ولم يعلم المراد منها; حيث
يحمل على الماهيات المخترعة على القول بثبوت الحقيقة الشرعية، وعلى معانيها
اللغوية على القول بعدمه، وأما إذا علم المراد منها فلا، ومن المعلوم - كما أشرنا - أن
النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يستعمل تلك الألفاظ - من لدن بعثته - إلا في هذه المعاني
المعهودة بيننا بدون القرينة، وهي المتبادرة منها، مثلا: المراد من «الصلاة» و «الزكاة»
في قوله تعالى في سورة «المزمل» النازلة في أوائل البعثة: (أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة) (2)، وفي سورة «المدثر»: (قالوا لم نك من المصلين) (3) إلى غير ذلك من
الآيات، إستعلمتا في هذه المعاني التي عندنا بلا إشكال; كانت حقيقة شرعية فيها أم لا.
ولو احتمل أنهم في أوائل البعثة كانوا يفهمون هذه المعاني من تلك الألفاظ،
ولكن احتمال ذلك في أواسط البعثة - فضلا عن أواخرها - مما ينبو عنه الفكر السليم

1 - قلت: ودعوى وجود القرينة الحالية، كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (صلوا كما رأيتموني أصلي).
مدفوعة: فإن ذلك بلحاظ بيان كيفية الصلاة وحدودها التي يريد إيجابها على الأمة،
لا أصل إطلاق الصلاة، كما لا يخفى. مع أنه لو سلم وجود القرينة فإنما هي في مورد، فلا
يدل على وجودها في غيره، فتدبر. المقرر
2 - المزمل: 20.
3 - المدثر: 43.
256

والذوق المستقيم، وأما بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) - في زمان التابعين وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) - فلا
إشكال ولا ريب في أن معاني تلك الألفاظ بلا قرينة، هي هذه المعاني التي عندنا.
فظهر أن النزاع لا ثمرة له.
257

الأمر الحادي عشر (1)
في البحث المعروف ب‍ «الصحيح والأعم»
عنونوا البحث في أن ألفاظ العبادات والمعاملات هل هي أسام موضوعة
للصحيح أو للأعم (2)؟
ولكن سيظهر لك أن عنوان البحث كذلك غير ملائم، والأولى أن يعنون بغير
ذلك فارتقبه.
وكيف كان، تنقيح الكلام في هذا الأمر مع استيفاء مباحثه المهمة يقع في جهات.
الجهة الأولى
في عدم تفرع هذه المسألة على ثبوت الحقيقة الشرعية
قد يقال: إن هذه المسألة متفرعة على ثبوت الحقيقة الشرعية، فإذا لم تثبت
الحقيقة الشرعية فالبحث فيها غير جار (3).

1 - كان تاريخ الشروع في هذا الأمر 9 جمادى الثانية من سنة 1378 ه‍. ق.
2 - هداية المسترشدين: 99 سطر 15، الفصول الغروية: 46 سطر 14، قوانين الأصول: 43
سطر 2، كفاية الأصول: 38، فوائد الأصول 1: 59، نهاية الأفكار 1: 72، درر الفوائد: 47.
3 - كفاية الأصول: 38.
259

ولكن فيه: أنها لا تتوقف على ثبوتها، بل يجري البحث فيها وإن قلنا بثبوت
هذه المعاني في الأمم السابقة، وعند العرب في ابتداء البعثة; لأنه يصح أن يقال: إنهم
هل وضعوا ألفاظ «الصلاة»، و «الصيام»، و «الزكاة»، و «الحج»، وغيرها لما تكون
صحيحة عندهم، أو للأعم منها ومن الفاسدة، والشارع الأقدس أمضى ما هم عليه؟
وبهذا يظهر: أن هذا البحث غير مخصوص بما يرتبط بالشريعة والدين، بل يعم
الأشياء والأمور العادية; لأنه يمكن أن يبحث أن لفظة «البطيخ» - مثلا - هل وضعت
للصحيح منها أو للأعم منها ومن فاسدها؟ وعدم تعرضهم لغير ما يرتبط بالشريعة
المقدسة، إنما هو لأجل أنه لا يترتب عليه ثمرة مهمة.
بل يمكن البحث في هذه المسألة ولو لم تثبت الحقيقة اللغوية; بأن يقال: إن
ما استعملت فيه تلك الألفاظ مجازا هل هي الصحيحة أو الفاسدة، فتدبر.
الجهة الثانية
في عقد عنوان المبحث على مذاق القوم
بعدما عرفت عدم تفرع هذه المسألة على مسألة ثبوت الحقيقة الشرعية، بل
ولا على ثبوت الحقيقة اللغوية.
نقول: قد عنون بعضهم - كشيخنا العلامة الحائري (قدس سره) - المبحث: بأنه هل
ألفاظ العبادات موضوعة بإزاء خصوص الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة (1)؟
لكنه تقدم منا: أن الوضع لا يكون إلا تعيينيا، وأما الارتباط الحاصل بين اللفظ
والمعنى بكثرة الاستعمال - إلى أن استغنى عن القرينة - فلم يكن وضعا.
وبالجملة: الوضع التعيني ليس بوضع حقيقة، فعلى هذا يخرج عن محل البحث

1 - درر الفوائد: 47.
260

ما إذا كان استعمال الشارع الأقدس هذه الألفاظ في تلك المعاني بعنوان المجاز، أو كانت
بعد كثرة الاستعمال المستغنية عن القرينة، وينحصر البحث فيما لو كانت هذه الألفاظ
موضوعة لمعانيها بالوضع التعييني (1).
مضافا إلى أنه ظهر لك مما تقدم: أنه لم يكن لنا طريق إلى إثبات الوضع
التعييني غالبا إلا عن طريق تصريح الواضع، وهو متعذر، وما يمكن إثباته ولو من أهل
اللغة، فإنما هو أن تلك الألفاظ لتلك المعاني، وأسام لها، وأما إثبات أن تلك الألفاظ
موضوعة لها، فلا يمكن إثباته حتى من أهل اللغة، والتبادر إنما يدل على أن هذه
الألفاظ لهذه المعاني، وهى معان لها حقيقة، وأما أن ذلك بلحاظ الوضع، أو كثرة
الاستعمال البالغة إلى حد استغنت عن القرينة، فلا.
وقد يعنون البحث - كما هو المتراءى من أكثرهم - بأنه هل الألفاظ أسام
للصحيح أو الفاسد (2)؟
ولا يخفى أنه - بناء على هذا العنوان - يدخل كل من الوضع التعييني والتعيني
في موضوع البحث، ولكن يخرج ما لو كان استعمال تلك الألفاظ في تلك المعاني
بعنوان المجاز عن حريم البحث; لأنه - على المجازية - لم تكن الألفاظ أسامي لهذه
المعاني.
فإذا الحري لمن يريد عنونة البحث - بنحو يشمل جميع الأقوال والمذاهب في
المسألة - أن يقول: إن أصل استعمالات الشارع لألفاظ العبادات والمعاملات الصحيح
أو الأعم منه ومن الفاسد; وذلك لأنه على هذا لا يشذ عن عنوان البحث شيء من

1 - قلت: إلا أن يدخلها في البحث بتنقيح الملاك.
2 - هداية المسترشدين: 99 سطر 15، الفصول الغروية: 46 سطر 14، قوانين الأصول 1: 43
سطر 2، مطارح الأنظار: 3 سطر 2، بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 128 سطر 6، كفاية
الأصول: 38، نهاية الأفكار: 72.
261

الأقوال، حتى القول بكون الاستعمال مجازيا ولو على مذهبنا في المجاز; لأنه يصح أن
يقال: إن الأصل في تطبيق المستعمل فيه على المصداق المجازي، هل هو الصحيح
أو الأعم؟ بل يجري البحث حتى على مذهب الباقلاني (1) القائل: بأن تلك الألفاظ
الشرعية لم تستعمل إلا في معانيها اللغوية، ولا يهمنا التعرض لكلامه ورده.
يظهر من المحقق العراقي (قدس سره): أنه يمكن إجراء هذا البحث فيما لو كان المجاز مجازا
على مذهب من يرى أن قرينة المجاز لتعيين المستعمل فيه، كما يراه المشهور، وأما
على مذهب من يرى أن القرينة لتعيين المراد الجدي - كما قويناه تبعا لصاحب
الوقاية (قدس سره) (2) - فلا يجري; للزوم لغوية البحث (3).
ولكن التأمل الصادق يعطي بصحة جريان البحث فيه أيضا، فإنه كما يصح أن
يبحث أن الأصل في الاستعمال الجاري هل هو الصحيح أو الأعم؟ فكذلك يمكن أن
يبحث: أن الأصل في تطبيق المعنى المستعمل فيه على المصداق الادعائي، هل هو
الصحيح أو الأعم؟
فتحصل: أن عقد البحث: بأنه هل الأصل في الاستعمال الصحيح أو الأعم؟
لا إشكال فيه، ويعم جميع أقوال المسألة.
نعم: يتوجه عليه إشكال وهو أنه لو ثبت أن الأصل في الاستعمال المجازي
الصحيح، فاستعماله في الأعم إن لوحظت العلاقة بينه وبين المعنى الصحيح، لزم سبك
المجاز من المجاز، ولم يعهد ذلك في الاستعمالات.
ولكن تصدى الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) لدفعه - على ما في تقريرات بحثه -:
بأنه لا تلاحظ العلاقة بين المعنى الأعم والصحيح، ولا بينه وبين المعنى الحقيقي، بل

1 - شرح العضدي: 51 - 52.
2 - وقاية الأذهان: 103.
3 - انظر بدائع الأفكار: 109.
262

ينزل الجزء المعدوم أو الشرط كذلك منزلة الموجود، وينزل المانع الموجود منزلة
المعدوم; مثلا: يستعمل اللفظ الموضوع لعشرة أجزاء في تسعة، وينزله منزلة الموجود،
وكذلك في الشرط، وفي المانع ينزل وجود المانع منزلة المعدوم (1).
ولكن لا يخفى أن الإشكال إنما يتوجه على تقدير كون المراد بالأصل في
الاستعمال الأصل المقابل للفرع، ويدفع بما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره).
وأما إن كان المراد بالأصل الغلبة وكثرة الاستعمال، فلا يتوجه الإشكال حتى
يحتاج في دفعه إلى كلام الشيخ (قدس سره); لأن معنى الأصل بناء عليه: هو أنه لو لم يدل
دليل وقرينة على أن العلاقة الملحوظة إنما هي بين المعنى الموضوع له والمعنى الصحيح;
بلحاظ أنه المطابق للطريقة والسيرة المعهودة، وأما إن دل الدليل والقرينة على أنه
أريد المعنى الأعم، فتلاحظ العلاقة بين المعنى الموضوع له والمعنى الأعم، فعليه يكون
لنا مجازان في عرض واحد:
1 - المجاز الراجح: وهو الذي يعتمد عليه العقلاء، وهو استعمال اللفظ في المعنى
الصحيح.
2 - المجاز المرجوح: وهو الذي لا يعتمد عليه العقلاء إلا إذا دل عليه دليل،
وهو المعنى الأعم.
فتحصل: أن عنوان البحث: بأن الأصل في الاستعمال الصحيح أو الفاسد، عنوان
جامع للأقاويل، فتدبر.

1 - انظر مطارح الأنظار: 3 سطر 18.
263

الجهة الثالثة
فيما ينبغي عقد عنوان البحث
لا يخفى أن عنوان البحث بأي من العناوين المذكورة في الجهة الثانية، غير خال
عن النظر والإشكال; لأنهم إما عنوا بالصحيح ما يكون صحيحا بالحمل الأولي، أو
ما يكون كذلك بالحمل الشائع; وعلى كلا التقديرين لا يصح; وذلك لأنه لو أريد أن
لفظة «الصلاة» - مثلا - موضوعة أو اسم أو استعملت فيما يصدق عليه مفهوم
الصحيح، فيلزم أن يكون مفهوم الصلاة عين مفهوم الصحة (1) وهو كما ترى، والظاهر
أنهم لم يريدوا الصحيح بهذا المعنى، وإن أرادوا بالصحيح ما يحمل عليه الصحة
بالحمل الشائع - والحمل الشائع كما سبق هو اتحاد المحمول مع الموضوع بحسب
الوجود; بأن يكون الموضوع فرده ومصداقه - ففيه وجوه من الإشكال:
منها: أنه يلزم أن يكون الوضع والموضوع له خاصين، أو الموضوع له فقط
خاصا; بلحاظ عدم الاطلاع على كيفية الوضع من خصوصه أو عمومه، كما تقدم منا
مكررا، وظاهر أن الالتزام بهذا اللازم وإن لم يكن فيه محذور عقلي، لكنه مما لم يلتزم
به أحد.
ومنها: أنه يلزم لغوية البحث; لأن موضوع الحمل الشائع هو الفرد الخارجي،
وهو لا يقبل الكلية والشمول، فلا يمكن الأخذ بإطلاقه على القول الأعمي، كما
لا يخفى.
ومنها: أنه يلزم أن يكون جل الاستعمالات لولا كلها استعمالات مجازية مع

1 - قلت: ويلزم أن تكون الصلاة والصوم والزكاة وغيرها مفاهيم مترادفة; وذلك لأنه لو كان
مفهوم الصلاة - مثلا - عبارة عن مفهوم الصحة، ومفهوم الزكاة أيضا عين مفهومها، فيكون
مفهوم الصلاة عين ما يكون هو عين مفهوم الصحة، وهو مفهوم الزكاة..، وهكذا.
264

العناية لأنها قد استعملت غالبا في الجامع ونفس الطبيعة مثل قوله تعالى: (الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر) (1).
وقوله (عليه السلام): (الصلاة معراج المؤمن) (2).
و (الصلاة قربان كل تقي) (3).
إلى غير ذلك، وما وقع تلو الأوامر والنواهي، فإنه لم يرد بها الفرد، بل أريد
منها الطبيعة والجامع; لأن الخارج هو ظرف السقوط لا الثبوت، كما لا يخفى.
ومنها: أن المصداق الخارجي للصحيح هو الفرد الواجد لجميع ما يعتبر فيه
جزءا وشرطا، حتى ما يأتي من قبل الأمر، مع أن المتراءى من كلام أكثرهم، أن
مرادهم بالصحة هو ما يكون صحيحا قبل تعلق الأمر، فالشرائط الآتية من قبل
الأمر كقصد الأمر خارجة عنه، وكذا شرائط عدم كون المأمور به مزاحما بالضد
الأهم، أو كونه غير منهي عنه بالفعل، خارجان عن محل النزاع.
وبالجملة: محل النزاع عند أكثرهم في الصحيح هو هذا المعنى من الصحة،
لا ما هو الصحيح حقيقة الحائز لجميع ما يعتبر فيه حتى الآتية من قبل الأمر، فالقول
بأنها أسام (4)، أو موضوعة (5)، أو استعملت في الصحيح (6)، غير صحيح.
نعم: يصح على أحد الوجهين:
الأول: أن يراد بالصحة التام المقابل للناقص.
والثاني: أن يكون للأصوليين اصطلاح خاص في ذلك.

1 - العنكبوت: 45.
2 - كتاب الاعتقادات للمجلسي: 39.
3 - الكافي 3: 265 / 6، الفقيه 1: 136 / 16، دعائم الإسلام 1: 133 باب 30.
4 - تقدم تخريجه.
5 - درر الفوائد: 47.
6 - انظر تقريرات الميرزا المجدد الشيرازي 1: 315.
265

ولكن سنشير إلى حال الوجه الأول في الجهة التالية، وأنه لا يتم، وأما الوجه
الثاني فالظاهر أنه لم يكن لهم اصطلاح خاص، ومعنى مخصوص في ذلك، ولو كان
فلا مشاحة فيه.
فالأولى عقد البحث في أن المسمى بهذه الألفاظ أو المستعمل فيه فيها التام أو
الناقص كما سيجيء الإشارة إليه.
وبعبارة أخرى: الأولى عقد البحث في تعيين الموضوع له في الألفاظ المتداولة في
الشريعة المقدسة، أو في تعيين المسمى لها، أو في تعيين الأصل في الاستعمال فيها على
اختلاف المشارب والآراء.
الجهة الرابعة
في معنى الصحيح والفاسد
قد يقال: إن معنى الصحيح والفاسد - لغة وعرفا - هما التام والناقص (1)، ولكن
العرف واللغة - اللذين ببابك - يناديان بخلافه; وذلك لأن الصحيح تارة يطلق في قبال
الفاسد، وأخرى في قبال المعيب، وثالثة في قبال الباطل، ورابعة في قبال السقيم...
إلى غير ذلك، ومحل البحث هنا الصحيح المقابل للفاسد.
فنقول: الظاهر أن بين مفهوم الصحيح تقابل التضاد; لأن الصحيح والفاسد
كيفيتان عارضتان للشيء بحسب وجوده الخارجي; بلحاظ اتصافه بما يلائم طبيعته
النوعية أو منافرته إياها; مثلا يقال: «بطيخ صحيح» إذا كان مكيفا بكيفية تتوقع من
نوعه; بأن كان حلوا، وإن كان مكيفا بكيفية لا تلائم ما يتوقع من نوعه، يقال: إنه
فاسد، كما لو كان مرا، فقد اتضح لديك أن التقابل بين الصحيح والفاسد تقابل التضاد.

1 - نهاية الأفكار 1: 73.
266

وأما التام والناقص فالظاهر أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، ويستعملان
في مورد يكون له أجزاء، فيطلق عليه التام باعتبار جامعيته للأجزاء، والناقص
باعتبار عدمها; مثلا يقال لزيد باعتبار جامعيته للأجزاء: إنه تام، ولعمرو باعتبار عدم
وجود يد أو رجل له مثلا: إنه ناقص، ولا يقال: إنه فاسد إلا مسامحة.
فتحصل مما ذكرنا: أن مفهومي الصحيح والفاسد غير مفهومي التام والناقص،
نعم ربما يتصادقان في بعض الموارد.
وإطلاق الصحيح والفاسد في مثل الصلاة المركبة من أجزاء وشرائط، مع أن
القاعدة - كما أشرنا - تقتضي إطلاق التام والناقص عليها، إنما هو توسع باعتبار
ملاحظة تلك الماهية أمرا وحدانيا وهيئة اتصالية، ولذا يقال فيما إذا أتى بما ينافيها: إنه
قد قطع الصلاة، فكأنه قد قرض الصلاة، كالهيئة الخارجية كيفية مزاجية بلحاظ
ترتب الأثر، فعند فقدان بعض ما يعتبر فيها - شرطا أو شطرا - كأنه ترتب عليها
كيفية منافرة، فإذا لم يعتبر تلك العناية فلا يصح الإطلاق، بل لابد وأن يطلق عليها
الناقص إذا نقص منه بعض ما يعتبر فيه، والتام بلحاظ جامعيته للأجزاء والشرائط.
ذكر وتنقيح
ينبغي الإشارة إلى نظر العلمين - العراقي والنائيني (قدس سرهما) - في الصحيح والفاسد
وما يتبعهما.
فنقول: يظهر من المحقق العراقي (قدس سره) - بعد إرجاع الصحيح والفاسد إلى التام
والناقص - أن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، وأن الفرق بينهما اعتباري.
فقال: إن مفهوم الصحة في جميع الموارد شيء واحد، وهو كون الشيء تاما
باعتبار من يعتبر له صفة التمام والنقص وبلحاظ ما يهمه من الآثار، ونقيضها الفساد،
ولذا قد يكون شيء واحد صحيحا باعتبار فاسدا باعتبار آخر; مثلا المركب من عدة
267

أمور لتحصيل بعض الآثار المخصوصة به إذا نقص منه بعض أجزائه الذي يخل ببعض
آثاره دون بعض، فالذي يحاول تحصيل الأثر الباقي فيه بعد النقص المزبور يعتبره
صحيحا; لأنه يراه تاما بالنسبة إلى ذلك الأثر، والذي يحاول به تحصيل جميع الآثار
المترتبة عليه عند اجتماع جميع الأجزاء، أو يحاول به خصوص الأثر الذي فقده
بالنقص المزبور، يعتبره فاسدا.
فظهر: أن شيئا واحدا يتصف بالصحة تارة بلحاظ ترتب بعض الآثار،
وبالفساد أخرى بلحاظ عدم ترتب جميع الآثار.
ويتضح لك أن تفسير الصحة والفساد وتارة بإسقاط الإعادة والقضاء وعدمه
في لسان الفقيه، وأخرى بموافقة المأتي به للشريعة وعدمها في لسان المتكلم، لا يكشف
عن كونها من متعدد المعنى، بل معناهما ما أشرنا إليه، ولكن اختلف تطبيقه على وجود
واحد باختلاف الآثار المترتبة عليه; لأن الأثر المهم في مثل العبادة في نظر الفقيه هو
سقوط الإعادة والقضاء، فعبر عن صحته بكونه مسقطا لهما، وعن فساده بعدم ذلك،
وكذلك الأثر المهم في العمل في نظر المتكلم، هي موافقة الشريعة وعدمها باعتبار
استحقاق العقاب وعدمه (1).
وفيه: أنه إن أراد (قدس سره) بذلك أنه اصطلاح خاص في تفسير الصحيح والفاسد
فلا مشاحة فيه.
وإن أراد بذلك تفسير معناهما المتفاهم عند العرف واللغة، فنقول: إنهما عندهما
- كما أشرنا - أمران واقعيان لا يختلفان باختلاف الاعتبار، ولا يقال لفاقد بعض
ما يعتبر فيه إذا رتب عليه الأثر: إنه صحيح، بل يرون أن الأثر غير مخصوص بما
اجتمع فيه جميع ما يعتبر فيه; مثلا الأثر المرغوب في البطيخ هو الحلاوة والنزاهة،

1 - بدائع الأفكار 1: 110.
268

وهذا أثر البطيخ الصحيح، ولكن لو لم يكن حلوا ولم ينزه الخواطر يقال: إنه فاسد،
ومع ذلك يرتبون عليه الأثر في الجملة، ولذا يعطونه لدوابهم.
ثم إنه يظهر من المحقق النائيني (قدس سره): أن الصحة والفساد أمران إضافيان; لأنه
قال: إن الشيء قد يتصف بالصحة والفساد تارة باعتبار الأجزاء، وأخرى باعتبار
الشرائط; مثلا الصلاة تارة تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على تمام ما لها من الأجزاء
وإن كانت فاقدة للشرائط، وأخرى تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على الشرائط وإن
كانت فاقدة للأجزاء; إذ الصحة من جهة لا تنافي الفساد من جهة أخرى; لأن الصحة
والفساد من الأمور الإضافية، ومن هنا ذهب بعض إلى وضع ألفاظ العبادات
للصحيح بالنسبة إلى الأجزاء، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط (1).
وفيه: أنه قد عرفت أن معنى الصحيح والفاسد غير معنى التام والناقص، وأن
الصحيح والفاسد أمران واقعيان في الأشياء الخارجية التكوينية، عارضان للشيء
بحسب وجوده الخارجي; لاتصافه بما يلائم طبيعته النوعية أو بما ينافرها، وإطلاقهما
على مثل «الصلاة» إنما هو بضرب من العناية والتأويل، فالصحة والفساد في الصلاة -
التي تكون أمرا اعتباريا - أمر واقعي اعتباري، فعدهما أمرين إضافيين أو اعتباريين;
حتى يختلفا باعتبار الإضافة إلى جهة دون جهة أو أمر دون أمر، كما ترى.
والحاصل: أن الصحة والفساد كيفيتان عارضتان للموجود الخارجي باعتبار
اعتدال المزاج وانحرافه، فإن كان معتدلا يقال: إنه صحيح، وإذا انحرف يقال: إنه فاسد،
وهذا أمر واقعي لا إضافي، وإطلاقهما على مثل الصلاة إنما هو على سبيل العناية;
باعتبار أنها لوحظت لها هيئة اتصالية، ولها وحدة في عالم الاعتبار، فكان لها كيفية
مزاجية، فإن كانت معتدلة; بأن كانت مطابقة للمأمور به، فيقال: إنها صحيحة، وإن

1 - فوائد الأصول 1: 60.
269

كانت منحرفة; بأن فقدت بعض ما يعتبر فيها شرطا أو شطرا، فيقال: إنها فاسدة.
وكذا تطلق الصحة والفساد على البيع والإجارة والصلح ونحوها على سبيل
العناية; بلحاظ وقوعها على قانون الشريعة وعدمه بعدما تحقق لك: أن الصحيح
والفاسد أمران واقعيان، لا أمران إضافيان يختلفان باعتبار الإضافة إلى جهة دون
جهة، نعم لا مضايقة في عدهما إضافيين بالمعنى الذي أفاده المحقق الخراساني (قدس سره): وهو
أنه يختلف شيء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات، فيكون تاما بحسب حالة،
وناقصا بحسب أخرى (1)، انتهى.
ولا ينافي ما ذكرنا كما لا يخفى، ولكن الكلام في أن إطلاقهما في الصلاة ونحوها
لم يكن بمعناها الحقيقي، ولا يصح بذلك الاعتبار، وما يصح إطلاقه عليها إنما هو التام
والناقص، وعقد البحث بالصحيح والفاسد لا يصح، إلا إذا أريد منهما التام والناقص،
وهو تكلف بارد لا نظير له في الاستعمالات الجارية; لعدم وجود علاقة بينهما.
فالحري في عقد البحث أن يقال: في التام والناقص، أو يقال: إن البحث في تعيين
مسميات الألفاظ الواردة في الشريعة، أو في تعيين الموضوع له لتلك الألفاظ، أو تعيين
المستعمل فيه، فتدبر.
إزاحة وهم
قد يتوهم أن مقتضى ما ذكر عدم صحة إطلاق الصحة والفساد بغير معنى التمام
والنقص على الصلاة إلا بالعناية، مع أن الوجدان قاض بصحة حملهما عليها في الخارج
بلا عناية ولا مجاز، فيقال: صلاة صحيحة أو فاسدة.
ولكنه يندفع: بأن صحة إطلاقهما عليها إنما هو بلحاظ وجودها الخارجي

1 - كفاية الأصول: 39.
270

ومطابقتها للمأمور به وعدمه، فيقال للصلاة الموجودة في الخارج بلحاظ مطابقتها
للمأمور به: إنها صحيحة، وبلحاظ عدم مطابقتها له: إنها فاسدة.
ولا يخفى أنه خارج عن محل البحث، الذي هو عبارة عن مسميات الألفاظ
الواردة في الشريعة، أو تعيين الموضوع له لتلك الألفاظ، أو تعيين المستعمل فيه، وهذا
خارج عن محل البحث، لأن الخارج ظرف السقوط وامتثال التكليف، ومحل البحث
ظرف تعلق التكليف، وهو ليس إلا في المفهوم، ولا يصح إطلاقهما في هذا الظرف،
فالإطلاق المفيد - وهو الإطلاق في ظرف تعلق التكليف والتسمية - غير جار،
والإطلاق الجاري - وهو الإطلاق في ظرف الخارج ومقام الامتثال - غير مفيد،
فتدبر.
الجهة الخامسة
في تعيين محل النزاع
اختلفت كلمات الأصحاب في تحرير محط النزاع، وأنه هل هو خصوص
الأجزاء، وخروج الشرائط مطلقا عن حريم النزاع; بأن يرى الصحيحي أنه عبارة
عن جميع الأجزاء، والأعمي يرى الأعم من ذلك وما يكون فاقدا لبعض الأجزاء غير
الدخيلة في ماهية المأمور به (1)، أو محط البحث أعم من الأجزاء برمتها وخصوص
الشرائط التي أخذت في متعلق الأمر، وفي الرتبة السابقة على الأمر، كالطهور والستر
والاستقبال في الصلاة (2)، أو أعم منه ومن الشرائط التي يمكن أن تؤخذ في المأمور به
وإن لم تؤخذ فعلا، كالشرائط العقلية المحضة، مثل اشتراط كون المأمور به غير منهي
عنه بالفعل، أو غير مزاحم بضده الأهم، أو جميع الشرائط - مثل جميع الأجزاء -

1 - نهاية الأفكار 1: 76، تقريرات الميرزا المجدد الشيرازي 1: 316 و 318.
2 - فوائد الأصول 1: 60 - 61.
271

داخلا في محط البحث حتى الشرائط الجائية من قبل الأمر، كقصده وقصد الوجه
والتمييز وقصد المطلوبية بما هو مطلوب؟
وجوه، بل أقوال في بعضها.
والمتحصل من هذه الوجوه والأقوال: أن الأجزاء داخلة في محط البحث،
وأما الشرائط فمختلف فيها كلا أو بعضا.
وتنقيح البحث في ذلك يستدعي التكلم في إمكان دخول الشرائط - كلا
أو بعضا - في محط البحث أو عدمه، وفيما يظهر من الأصحاب في ذلك فالكلام يقع
في مقامين:
المقام الأول: في إمكان دخول الشرائط في محط البحث
يظهر من بعضهم: أن الشرائط مطلقا - حتى الشرائط التي تؤخذ في متعلق
الأمر - خارجة عن محط البحث; بتقريب: أن أجزاء الماهية في رتبة تقرر الماهية،
ولا تقرر للماهية إلا بها، والشرائط مطلقا تكون في الرتبة المتأخرة عن تقرر الماهية.
وبعبارة أخرى: رتبة الأجزاء رتبة المقتضي، ورتبة الشرائط متأخرة عن رتبة
المقتضي، ولا يسوغ إدخالها في المسمى لتستوي مع الأجزاء; للزومه دخل ما هو
المتأخر في المتقدم، وهو محال (1).
ويظهر من المحقق النائيني (قدس سره): اختصاص محط النزاع بالشرائط التي يمكن
لحاظها في مرحلة الجعل وتعيين المسمى، التي يجمعها ما يمكن فرض الانقسام إليها
قبل تعيين المسمى، ويمكن الانقسام إليها قبل تعلق الطلب، كالطهور والاستقبال
والستر ونحوها، ويمتنع كون البحث في الشرائط التي لا يمكن لحاظها في مرحلة تعيين

1 - انظر هداية المسترشدين: 100 سطر 6.
272

المسمى، بل من الانقسامات اللاحقة لمرحلة تعلق الطلب بها، كقصد القربة، واشتراط
عدم كون المأمور به منهيا عنه، أو مأمورا به، أو غير مزاحم بضده الأهم.
قال (قدس سره) في بيان ذلك: إن الشرائط الجائية من قبل الأمر ومن قبل المزاحمات،
متأخرة عن الطلب، وهو متأخر عن المسمى، فما يكون متأخرا عن المسمى برتبتين
لا يعقل أخذه في المسمى، بل لا يمكن أخذ ما يكون في مرتبة الطلب أيضا، فضلا عما
يكون مأخوذا في المسمى.
والحاصل: أن الشرائط الكذائية خارجة عن محط البحث; لأنها متأخرة عن
تعيين المسمى رتبة، وما يكون متأخرا عن شيء لا يمكن أخذه فيه، فما ينبغي أن يقع
النزاع فيه، هو خصوص الأجزاء والشرائط الملحوظة عند مرحلة الجعل وتعيين
المسمى، التي يجمعها ما يمكن فرض الانقسام إليه قبل تعيين المسمى (1). انتهى محررا.
وأجاب المحقق العراقي (قدس سره) عن مقالة المحقق النائيني (قدس سره) وذلك البعض: بأن
الموضوع له هو نفس الأجزاء المقترنة بالشرائط - أعني تلك الحصة من مطلق
الأجزاء - ومعه يمكن جريان النزاع وترتب الثمرة له عليه; بمعنى أن الصحيحي يدعي
أن اللفظ موضوع للحصة المقترنة ببعض الشرائط، فعلى الصحيح لا يصدق مفهوم
الصلاة - مثلا - على المأتي به مع فقد بعض الشرائط، وعلى الأعم يمكن الصدق مع
فقد بعضها، فالنزاع بالنسبة إلى الشرائط يصح ويمكن، ولا يلزم منه إشكال تقدم
ما هو المتأخر (2).
ولكنه يرد على مقالة المحقق العراقي (قدس سره): بأنه إما أراد بقوله: «بوضعها مقترنة»
أنها مأخوذة بنحو الشرطية أو الحينية، فإن أخذت بنحو الشرطية فيعود الإشكال;
لأن الإشكال لم يكن مخصوصا بأخذ الشرائط فقط، بل مع أخذ الأجزاء، فيكون

1 - فوائد الأصول 1: 61.
2 - بدائع الأفكار 1: 111.
273

الموضوع له أو المسمى الأجزاء المقيدة بالشرائط، فيرد إشكال المحقق النائيني (قدس سره): من
أن الشرائط متأخرة عن الطلب، وإن أخذت بنحو الحينية، كحال الوحدة الذي يقوله
المحقق القمي (قدس سره) (1) في وضع الألفاظ، فلم تكن الشرائط دخيلة في الموضوع له، بل
الموضوع له هو نفس الأجزاء من دون اختصاص بمقارنتها للشرائط وعدمها،
ولا تصدق عليه الحصة; لأن في الحصة اصطلاحين:
الأول: هو الذي اصطلحه هذا المحقق في الحصة، وهي الطبيعة الموجودة في
الخارج بلحاظ كونها حينئذ مصداقا للطبيعة.
والثاني: هو معنى الحصة حقيقة، وهي الطبيعة المتصورة في الذهن.
وعلى كل: إذا لم توجد الطبيعة - لا في الخارج ولا في الذهن - ولكن لوحظت
الشرائط مقارنة للأجزاء بنحو الحينية، فلا يصيرها حصة، كما لا يخفى.
والتحقيق: هو إمكان أخذ جميع الشرائط في محط البحث، ولا يلزم منه محذور
أصلا، فتدبر.
أما إشكال ذلك البعض فساقط من أصله; لأن الإشكال إنما يتم إذا أريد جعل
ما هو المتأخر متقدما، ولكنه غير مراد وغير مقصود; لأن المقصود هو جعل اسم
واحد لمجموع الأجزاء والشرائط، وهو غير ممتنع، كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى: التسوية في التسمية غير التسوية الواقعية بين الأجزاء
والشرائط، والمحال هو جعل ما هو المتأخر واقعا متقدما كذلك وبالعكس، وأما تصور
المتأخر والمتقدم دفعة واحدة، ثم وضع لفظ واحد لهما فلا يكون محالا، فتدبر.
وأما الإشكال الذي تفطن إليه المحقق النائيني (قدس سره)، فإشكال متين في نفسه،
ولكن يمكن أن يقال في جوابه: إن القيود الجائية من قبل الأمر: إما نقول بإمكان

1 - قوانين الأصول 1: 63 سطر 14.
274

أخذها في المأمور به أو لا.
فإن قلنا بإمكان الأخذ - كما نقوله، وسنوافيك به في محله إن شاء الله -
فلا يتوجه الإشكال; لأن الإشكال فيما لا يمكن أخذه وإن لم يمكن الأخذ فنقول: إن
الإشكال إنما يتم لو قلنا بأن المأمور به هو عين المسمى، وأما إن قلنا بالمغايرة بينهما;
بأن كان المسمى الهيئة بجميع أجزائها وشرائطها، والمأمور به الماهية بجميع أجزائها
والشرائط السابقة على تعلق الطلب، فلا يتوجه الإشكال، كما لا يخفى.
وبالجملة: المسمى بما هو مسمى لا يكون متقدما على الأمر والطلب، وما
يكون متقدما عليه هو متعلق الطلب والأمر، فيمكن التفكيك بين المسمى ومتعلق
الطلب، فيقال: إن دائرة المسمى هي الماهية بجميع أجزائها وشرائطها، وأما متعلق
الطلب فعبارة عن الماهية بجميع أجزائها والشرائط السابقة على الطلب، فدائرة
المسمى أوسع من دائرة متعلق الطلب، فمتعلق الأمر غير المسمى الواقعي والموضوع له
الحقيقي، فاستعمل اللفظ الموضوع للمسمى في متعلق الطلب والأمر بعلاقة بينهما.
إن قلت: فعلى هذا يلزم اللغوية في التسمية، ويلزم أن تكون الألفاظ موضوعة
لمعان لم تستعمل فيها أصلا لعدم استعمال اللفظ في الماهية بجميع أجزائها وشرائطها،
كما لا يخفى.
قلت: الكلام إنما هو في إمكان عقد البحث كذلك من دون لزوم محذور عقلي،
لا في وقوع البحث كذلك عقلائيا، وكم فرق بينهما، كما لا يخفى!
ذكر وتنقيح
قال المحقق الإصفهاني (قدس سره): إن المهم في هذا الأمر تحقيق أن الصحة والفساد
المبحوث عنهما في هذا البحث هل التمامية وعدمها من حيث موافقة الأمر، أو من
حيث إسقاط الإعادة والقضاء، أو من حيث استجماع الأجزاء والشرائط، أو من
275

حيث ترتب الثمرة؟ إلى غير ذلك.
وليعلم أولا أن المراد من الوضع للصحيح أو للأعم، هو الوضع لما هو الصحيح
أو للأعم بالحمل الشائع.
والتحقيق: أن التمام فيه من حيث موافقة الأمر، أو من حيث إسقاط الإعادة
والقضاء لم يكن محلا للبحث، لا لأجل أن موافقة الأمر، وإسقاط الإعادة والقضاء،
لا يكونان إلا مع الإتيان بداعي الأمر، فكيف يقع في حيز الأمر; لأن هذا مختص
بالتعبديات، ولا يعم التوصليات، ومحل البحث عام، بل لأجل أن الشيء لا يتصف
بعنوان كونه موافقا للأمر، أو مسقطا للإعادة والقضاء، إلا بعد الأمر به وإتيانه - تعبديا
كان أو توصليا - ومثله لا يمكن أن يقع في حيز الأمر.
وأما التام بمعنى ترتب الأثر فربما يتوهم امتناع الوضع له أيضا; لأن عنوان
التمامية من حيث ترتب الأثر منتزع عن الشيء بعد ترتب الأثر عليه، والأثر أمر
خارج عن حقيقة ذات مؤثره، فلا يعقل أخذه فيه.
ولكن فيه أولا: أن خروج الأثر عن مرتبة ذات المؤثر ووجوده واستحالة
دخله فيه، لا يوجب استحالة دخله في التسمية; بأن يكون اللفظ موضوعا للفعل
القائم به الأثر، كما إذا وضعت لفظة «الصلاة» لما هو ناه عن الفحشاء، بالحمل الشائع.
وثانيا: أن التمامية من حيث ترتب الأثر لا تنتزع عن الشيء المؤثر بما أنه
مؤثر بعد تأثيره، كما ينتزع عنوان المؤثر والكلي عن الشيء، بلحاظ أنه مؤثر وكلي;
لأن التام بالحمل الشائع متقوم بالتمامية بلحاظ ترتب الأثر على المبدأ القائم بذات
التام المصحح لانتزاع عنوان حيثية التمامية، لا حيثية الأثر وإن كانت التمامية من حيث
ترتب الأثر لا تنفك عنه، كالعلة والمعلول، فإن عنوان العلة منتزع عن ذات العلة;
حيث بلغت حدا يجب بها ذات المعلول، لا من العلة المترتب عليها المعلول.
ومنه تبين: أن مصداق الصحيح - بمعنى التام من حيث ترتب الأثر - ذات
276

ما يترتب عليه الأثر; أي هذه الحصة لا بوصف المترتب; حتى يقال: إنه لم يوضع اللفظ
لمصداق الصحيح، بل لما يلازمه.
إذا عرفت هذا فأعلم: أن ما تضاف إليه التمامية مختلف باختلاف الأقوال; فمن
ذهب إلى الوضع للمرتبة العليا والتوسع في البواقي، فغرضه التمامية من حيث استجماع
جميع الأجزاء والشرائط; ومن ذهب إلى الوضع لجامع يجمع جميع المراتب، فغرضه
التمامية من حيث فعلية ترتب الأثر مطلقا إن صح دخول القربة في متعلق الأمر، أو
من حيث الترتب بشرط ضم القربة، ومن ذهب إلى التفصيل بين الأجزاء والشرائط،
فغرضه التمامية من حيث ترتب الأثر بضم الشرائط، والوجه في الجميع واضح،
فلا تغفل (1). انتهى محررا.
وفيه: أن من الواضح أنه لم يرد (قدس سره) أن اللفظ موضوع لمفهوم ما يترتب عليه
الأثر، ولا يمكن الالتزام به; لأنه يلزم أن يكون مفهوم الصلاة هو مفهوم ما يترتب
عليه الأثر، وهو كما ترى، فلو كان موضوعا لما يكون مؤثرا بالحمل الشائع فلا يخلو
إما أن يريد ما يكون مؤثرا فعلا، أو شأنا.
وعلى الأول: يلزم أن يكون الموضوع له خاصا، وهو (قدس سره) غير ملتزم به; لأن
ما يكون مؤثرا فعلا هو الموجود الخارجي، مع أن الموضوع له للفظ ليس إلا نفس
الطبيعة.
هذا أولا.
وثانيا: يتوجه عليه ما أورده على صورة أخذ التمام بمعنى موافقة الأمر، أو
المسقط للقضاء والإعادة; لأن كون الشيء مؤثرا فعلا يتوقف على الإتيان المتوقف
على الأول.

1 - انظر نهاية الدراية 1: 98.
277

وإن أراد ما يكون مؤثرا شأنا فيتوجه عليه الإشكال الأخير، مضافا إلى أنه
على هذا تكون نفس مقالة الشيخ الأعظم (قدس سره) القائل: بأن الصلاة - مثلا - موضوعة
لما يكون مستجمعا لجميع الأجزاء والشرائط (1); من دون احتياج إلى إتعاب النفس
وتبعيد المسافة.
فتحصل من كل ما ذكرنا في المقام الأول: أنه يمكن أن يكون محل النزاع جميع
الأجزاء والشرائط; من دون أن يلزم منه محذور عقلي.
المقام الثاني: فيما يظهر من كلمات الأصحاب في محط البحث
لا يخفى أن كلمات الأصحاب في محط البحث مضطربة: يظهر من بعضهم
اختصاص محط البحث بالأجزاء (2)، ويظهر من بعض آخر خروج الشرائط الجائية
من قبل الأمر عن حريم البحث (3)، ويظهر من كيفية استدلال الصحيحي لإثبات
مرامه ورد الأعمي إياه كون جميع الأجزاء والشرائط حتى الشرائط الجائية من قبل
الأمر داخلة في حريم البحث، فترى الصحيحي - كالمحقق الخراساني (قدس سره) - يتشبث
لإثبات مرامه بقاعدة الواحد; وأن وحدة الأثر كاشفة عن وحدة مؤثره (4).
ومن الواضح أن الأثر إنما يترتب على الصحيح والمؤثر الفعلي، وهو الجامع
لجميع الأجزاء والشرائط; حتى الشرائط الجائية من قبل الأمر، لا على الصحيح
الشأني.
ومثل رد الأعمي على الصحيحي: بأنه لو كان اللفظ موضوعا للصحيح يلزم

1 - مطارح الأنظار: 6 سطر 6.
2 - نهاية الأفكار 1: 76.
3 - فوائد الأصول 1: 111.
4 - كفاية الأصول: 39 - 40.
278

أن يكون مفهوم أطلب منك الصلاة هو «أطلب منك مطلوبي»; لأن الصحيح الفعلي
هو المطلوب (1)، ولم يجب الصحيحي عن الإشكال: بأن الشرائط الجائية من قبل
الأمر خارجة عن محط البحث، وأن المراد بالصحيح هو الصحيح شأنا، بل أجاب
بطريق آخر (2).
وكذا رد الأعمي على الصحيحي: بأنه لو كان موضوعا للصحيح للزم الدور;
لأن الصحة متوقفة على الأمر والطلب، وهو عليها; لأن الطلب متوقف
على موضوعه (3)... إلى غير ذلك من العبارات، فمن أراد فليلاحظ «الفصول» وغيره.
فتحصل مما ذكرنا: أنه لاضطراب كلمات القوم لا يمكن تحرير محط النزاع
والبحث كما هو حقه; بنحو يشمل أقوالهم وآراءهم في ذلك.
ولكن ينبغي تحرير محط النزاع - وإن لم يظهر منهم - في الأجزاء والشرائط
الدخيلة في المسمى; وذلك لأن الشرائط والقيود على قسمين:
قسم منها دخيل في ماهية المسمى، والقسم الآخر شرط في تحقق
المسمى ووجوده في الخارج، ويشبه أن تكون الشرائط الآتية من قبل الأمر ومن قبل
المزاحمات، من شرائط تحقق المسمى.
وكذا يمكن تصوير القسمين في الأجزاء، لكنه بنحو خفي; بأن يقال: إن بعض
الأجزاء دخيل في ماهية المسمى وبعضها من شرائط تحققها، ويشبه أن تكون من
هذا القسم الأجزاء المستحبة بناء على كونها من أجزاء الفرد، لا أجزاء الماهية

1 - انظر بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي (قدس سره)): 151 سطر 30 حيث ذكر أن هذا الوجه محكي
عن العلامة الطباطبائي، وانظر أيضا ما قرر في الفصول الغروية: 48 سطر 14، ومطارح
الأنظار: 16 سطر 35، وتقريرات الميرزا المجدد الشيرازي 1: 347.
2 - نفس المصادر المذكورة.
3 - انظر الفصول الغروية: 48 سطر 17، ومطارح الأنظار: 16 السطر الأخير، وتقريرات الميرزا
المجدد الشيرازي: 1: 347.
279

والمسمى، كما هو أحد الأقوال (1) في الأجزاء المستحبة، فعلى هذا القول تكون أجزاء
المأمور والماهية والمسمى عبارة عن الأجزاء الواجبة، لكن قد ينضم للماهية المأمور
بها في الخارج شيء - مثلا - يكون المأمور به بانضمام ذلك الشيء فردا أفضل، مثلا: لو
قلنا: بأن «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» بعد «السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين» مستحب، فإذا قال: «السلام علينا...» إلى آخره فقد تحققت ماهية الصلاة
المأمور بها، ولكنه لو انضم إليها «السلام عليكم...» إلى آخره فتصير صلاته أفضل
الأفراد.
فبعدما عرفت أن الشرائط والأجزاء على قسمين، فنقول: إن الشرائط الدخيلة
في تحقق المسمى، وكذا أجزاء الفرد، خارجة عن حريم النزاع، فالنزاع في الحقيقة
يرجع إلى أن أي شرط من شرائط المسمى وأيا منها من شرائط تحقق المسمى
وصحته، والصحيحي يرى أن جميعها من شرائط المسمى والماهية، بخلاف الأعمي،
وهكذا بالنسبة إلى الأجزاء.
فتحصل: أن الذي ينبغي تحريره عند البحث فيه هو الذي ذكرنا، وقد عرفت
أنه لم يكن جميع الأجزاء والشرائط داخلة في حريم النزاع، ولكن مع ذلك كله،
لا يمكن إسناد محط النزاع بهذا النحو إلى الأصحاب وأساطين الفن; لأن المتراءى من
كلماتهم وعباراتهم، أخذ جميع الشرائط - حتى الشرائط الآتية من قبل الأمر - وأما
عنونتهم البحث بهذه الصورة: فهو إما لأجل أنه لم يكن عندهم محذور في أخذ
ما يجئ من قبل الأمر في متعلقه، كما نقول به، وسيوافيك وجهه إن شاء الله، أو غفلوا
عن لزوم المحذور في أخذ الشرائط الآتية من قبل الأمر، والله العالم بحقيقة كلماتهم.

1 - انظر بدائع الأفكار (للمحقق الرشتي): 140 سطر 6.
280

الجهة السادسة
في تصوير الجامع في المسألة على كلا القولين
لو قلنا: بأن لفظة «الصلاة» - مثلا - موضوعة بالاشتراك اللفظي لصلاتي
المختار والمضطر بمراتبها حتى صلاة الغرقى، أو قلنا بالاشتراك اللفظي لجميع مراتب
الصحة، فلا نحتاج إلى تصوير الجامع.
نعم: تصوير الجامع لأفراد كل مرتبة لا إشكال فيه.
وكذا لو قيل: بأنه من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص; بأن لوحظت
طبيعة الصلاة - مثلا - فوضعت لفظة «الصلاة» - مثلا - للأفراد الخارجية، فلا يحتاج
إلى تصوير الجامع لكل واحد من الأفراد، وكذا من يرى أن الصلاة موضوعة للصلاة
الثابتة في حق المختار العامد العالم - أي بأن كانت موضوعة للصلاة التامة من جميع
الجهات، وإطلاقها على غيرها بالعناية والتنزيل - لا يحتاج إلى تصوير الجامع بين
المراتب.
لا إشكال في أن لكل من العبادات أفرادا عرضية، وطولية، تختلف باختلاف
حالات المكلفين، فإن الصلاة - مثلا - لها أفراد كثيرة بلحاظ اختلاف حالات
المكلفين; من السفر، والحضر، والصحة، والمرض، والقدرة، والعجز، والخوف،
والأمن... إلى غير ذلك.
ولا ينبغي توهم: أن لفظة «الصلاة» موضوعة بالاشتراك اللفظي لكل من
صلاة المختار والمضطر بمراتبهما; أو جميع مراتب الصحة، فإن ذلك بعيد غاية البعد.
رجح شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) - على ما في تقريرات بحثه -: بأن الصلاة
- مثلا - موضوعة لقسم من الصلاة، وهو الذي يأتي به القادر المختار العالم العامد،
وإطلاق الصلاة على غيره كان مجازا عند الشارع، ولكن المتشرعة توسعوا في
281

تسميتهم إياه صلاة، فصار حقيقة عندهم; لحصول ما هو المقصود من المركب التام من
غيره، وهذا نظير لفظتي «الخمر» و «الإجماع»، فإن الخمر كان في الأول يقال للمسكر
المتخذ من العنب، ثم سموا كل مسكر خمرا وإن لم يكن متخذا من العنب.
والإجماع كان مستعملا في اتفاق الكل، ثم توسعوا في إطلاق الإجماع على اتفاق
البعض الكاشف (1).
وغير خفي - كما أشرنا - أنه على مقالته (قدس سره) لا يحتاج إلى تصوير الجامع بين
المراتب، نعم تصوير الجامع بين أفراد صلاة المختار مما لابد منه.
وقريب من مقالته ما في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره)، فإنه بعد أن ذهب إلى أن
الموضوع له للصلاة، هو خصوص الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط،
وإطلاقها على الفاقد لها بالعناية والتنزيل، قال: إن ذلك لا يتم في جميع الموارد; لأن
التنزيل والادعاء لابد له من مصحح ولو باعتبار الصورة والشكل، ومن المعلوم أن
صلاة الغرقى - التي يكتفى فيها بالإيماء القلبي - مما لا يمكن تنزيلها منزلة الصلاة التامة
الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فالتنزيل والادعاء إنما يصلح حيثما كان هناك
مصحح الادعاء، وهو بأن لا تكون فاقدة لمعظم الأجزاء والشرائط، ففي صورة عدم
وجود مصحح للادعاء - كصلاة الغرقى - يدور إطلاق الصلاة عليها مدار إطلاق
الشارع، وبعد إطلاق الشارع «الصلاة» عليها، يصح إطلاقها على الفاقدة من تلك
الحقيقة بالتنزيل والادعاء، فيقال: إشارة الغريق إذا كانت لله تعالى فصحيحة، وإن
كانت لغيره تعالى ففاسدة، وحينئذ لا يلزم هناك مجاز، ولا سبك مجاز عن مجاز، بل
يكون الإطلاق على نحو الحقيقة، غايته أنه لا حقيقة، بل ادعاء (2).
بعدما أحطت خبرا بما حكيناه عن العلمين علمت: أن ما أفاده المحقق

1 - مطارح الأنظار: 6 - 7 سطر 35.
2 - انظر فوائد الأصول 1: 63.
282

النائيني (قدس سره) ليس هو عين ما أفاده شيخنا الأعظم (قدس سره)، بل قريب منه، فإن الشيخ قال:
إن إطلاق «الصلاة» - مثلا - على غير التامة من حيث الأجزاء والشرائط حقيقة عند
المتشرعة، وهذا المحقق يرى أنه مجاز، بل فصل في غير التامة: بأنها إن كانت واجدة
لمعظم الأجزاء والشرائط يصح التنزيل والادعاء، وفيما لو كانت فائدة لمعظمها لا يصح
التنزيل والادعاء، بل تدور مدار إطلاق الشارع، وإطلاقه لا يكون مجازا ولا حقيقة،
فما قاله العلامة الكاظمي (قدس سره) (1) - من أن ما أفاده أستاذه المحقق النائيني (قدس سره) موافق لما
أفاده الشيخ في تقريراته - كأنه غير مستقيم، ولعله اشتباه من المقرر (2).
وكيف كان: يتوجه على مقالة هذا المحقق (قدس سره): أن وزان إطلاق الصلاة فعلا
على غير تامة الأجزاء والشرائط، وزان إطلاقها على تامة الأجزاء والشرائط; من
حيث إنه على نحو الحقيقة من دون تنزيل وادعاء، مضافا إلى أنه يستفاد من ذيل
كلامه: أنه يريد الفرق بين الحقيقية الادعائية والمجاز، مع أنهما شيء واحد عنده (قدس سره).
نعم: حسبما نقحناه في الحقيقة والمجاز: أن اللفظ يستعمل في معناه الحقيقي
في الإطلاقات المجازية، إلا أنه بعد الاستعمال ينطبق المعنى المستعمل فيه
على الفرد الادعائي.
وعلى أي حال: إن قال هذا المحقق بمقالة الشيخ فيتوجه عليهما، وإلا فيتوجه
على خصوص الشيخ (قدس سره)، وهو أنه ترى وجدانا صحة تقسيم الصلاة في عصرنا
إلى الصلاة التامة والناقصة، والمختار والمضطر، وصحة التقسيم تقتضي وجود الجامع
بينهما، فأطلقت لفظة «الصلاة» على الجامع، وواضح أنه لم ينقدح في ذهن: أن

1 - نفس المصدر.
2 - قلت: لعله (قدس سره) عثر على عبارة التقريرات عند الاستدلال لمقالته، فإن ما ذكره (قدس سره) هناك ملائم
لما ذكره هذا المحقق، وسنذكر العبارة عند ذكر أدلة الطرفين، ونشير إلى التنافي بين كلامي
الشيخ (قدس سره)، فارتقب.
283

إطلاقها على الجامع مجاز (1).
هذا أولا.
وثانيا: أن الشيخ (قدس سره) لم يأت بدليل على مقالته، بل مثل بمثالين، كما أشرنا:
أحدهما: الخمر بأنه كان في الأول يقال للمسكر المتخذ من العنب، ثم سموا كل
مسكر خمرا - وإن لم يكن متخذا من العنب.
والثاني: لفظ «الإجماع» بأنه استعمل أولا في اتفاق الكل، ثم توسعوا في
إطلاقه على اتفاق البعض، ومجرد امتناع تصوير الجامع، لا يثبت كون الموضوع له
الفرد الجامع لجميع الأجزاء والشرائط، مع إمكان تصوير كون الوضع عاما والموضوع
له خاصا.
وبالجملة: لابد للشيخ (قدس سره) ومن يقول بمقالته، من تصوير جامعين (2):
الأول: الجامع بين مراتب الصحة غير صلاة المختار العالم العامد; لأن لغير صلاة
المختار أفرادا كثيرة.
والثاني: الجامع بين أفرادها العرضية; أي الجامع بين صلوات المختار، فإن
صلاة المختار أيضا لها عرض عريض، كالثنائية والثلاثية والرباعية، بل وأزيد، حتى أن

1 - قلت: إلا أن يجاب من قبل الشيخ (قدس سره): بأن غاية ما يقتضيه التقسيم عند المتشرعة هي كونها
حقيقة عند المتشرعة، ولكن لا يستفاد أن ذلك عند الشارع أيضا، والشيخ (قدس سره) يرى أن إطلاق
الشارع «الصلاة» على خصوص الجامع للأجزاء والشرائط حقيقة، وأما عند المتشرعة فهي
حقيقة عندهم. نعم الإشكال متوجه على المحقق النائيني (قدس سره); حيث صرح: بأن إطلاق
«الصلاة» على غير الجامع للأجزاء والشرائط الواجد لمعظم الأجزاء والشرائط، مجاز.
2 - قلت: لا يخفى أن الشيخ (قدس سره) ومن يقول بمقالته - من كون الصلاة موضوعة للصلاة الجامعة
لجميع الأجزاء والشرائط - لا يحتاج إلى تصوير جامعين، كما أشرنا آنفا، بل جامع واحد،
فتدبر.
284

السيد الأجل ابن طاووس ذكر - في كتاب «الإقبال» (1) في أعمال ليلة الغدير - صلاة
بكيفية خاصة تكون اثنتي عشرة ركعة بسلام واحد.
نعم: لو قيل إن الصلاة موضوعة لخصوص الرباعية التامة الأجزاء والشرائط،
واستعمالها في غيرها تكون بنحو من التنزيل والعناية، فلا يحتاج إلى تصوير الجامع;
لابين المراتب العرضية، ولا الطولية.
وكذا لو قيل: بأن الصلاة موضوعة لخصوص الثنائية، واستعمالها في غيرها مجاز
- كما ربما يظهر من بعض أخبار المعراج (2) - أو أن الصلاة كانت ركعة واحدة - كما
يظهر من خبر الصدوق في «العلل» - ولكن حيث إن العباد لا يمكنهم التوجه إليه
تعالى في ركعة، أضاف تعالى ركعة أخرى إرفاقا بهم، ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أضاف ركعة
وركعتين لذلك، كما أنه شرع النوافل أيضا لإمكان التوجه إليه تعالى في تلك
الركعة (3).
ولكن الذي يمكن أن يقال ويناقش فيه: هو أنه لا يثبت الوضع - مضافا
إلى صحة التقسيم - من دون عناية وتنزيل، فتدبر.
ثم إنه من البعيد جدا أن يكون - في الأوضاع التعينية - الوضع عاما والموضوع
له خاصا، كما لا يخفى، وبطلان الاشتراك اللفظي لوضوح أن صحة إطلاق الصلاة
وتقسيمها إلى أقسام كثيرة من دون شائبة المجازية، ولم تنقدح الخصوصية في الذهن،
بل المنقدح فيه هو الجامع بينها، وتبادر الجامع، يكفي للتصديق به، ولا يحتاج إلى تجشم
كيفية تصويره: من أنه بسيط أو مركب. نعم ينفع ذلك لإثبات الاشتغال أو البراءة

1 - إقبال الأعمال: 452 سطر 2.
2 - انظر وسائل الشيعة 3: 35، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 13، الحديث 14.
3 - علل الشرايع: 361 باب 182 ح 9، وسائل الشيعة 3: 38، كتاب الصلاة، أبواب أعداد
الفرائض، الباب 13، الحديث 22.
285

عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته أو مانعيته للمأمور به، فإنه على البساطة
الاشتغال، وعلى التركيب البراءة، كما لا يخفى، وسيجئ في محله.
ثم إنه وقع الكلام: في إمكان تصوير الجامع بين أفراد الصحيح والفاسد، أو بين
مراتب الصحيح، فإن أمكن تصوير الجامع بين الصحيح والفاسد فهو، وإلا فينحصر
تصوير الجامع بين مراتب الصحة.
فنذكر أولا بعض الجوامع التي ذكرت والمناقشة فيها، ثم نعقبها بتصوير الجامع
المختار بين أفراد الصحيح والفاسد إن شاء الله تعالى.
من الجوامع: الجامع الذي ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) على القول بالصحيح،
وحاصله: أنه لا إشكال في وجود الجامع بين الأفراد الصحيحة وإمكان الإشارة إليه
بخواصه وآثاره، فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد، يؤثر
الكل فيه بذلك الجامع; لأن الواحد لا يصدر إلا عن الواحد، فيمكن الإشارة إليه
وتعريفه ولو بنحو الرسم بذلك الأثر المترتب عليه، فيصح تصوير المسمى بلفظة
«الصلاة» - مثلا - بالناهية عن الفحشاء (1)، وما هو معراج المؤمن (2)، ونحوهما ما هو
قربان كل تقي (3)، وما هو خير موضوع (4); مما جعل اسما لذلك الجامع، الذي به يؤثر
جميع أفراده في ذلك الأثر الوحداني (5).

1 - كما هو مفاد الآية الشريفة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) سورة العنكبوت: 45.
2 - وذلك إشارة إلى الحديث الشريف «الصلاة معراج المؤمن» المذكور في كتاب الاعتقادات
للمجلسي: 39.
3 - إشارة إلى قوله (عليه السلام): «الصلاة قربان كل تقي» كما في الكافي 3: 265 / 6، الفقيه 1: 136 /
16، دعائم الإسلام 1: 133 باب 30.
4 - معاني الأخبار: 333 / 1، الخصال: 523 / 13، مستدرك الوسائل 3: 13، كتاب الصلاة،
أبواب أعداد الفرائض، الباب 12، الحديث 4.
5 - كفاية الأصول: 39.
286

وفيه أولا: أنه - كما ذكرنا غير مرة - أن القاعدة على تقدير جريانها وعند
مثبتها، مخصوصة بالواحد البحت البسيط، الذي ليس فيه رائحة التركيب ولا شائبة
الكثرة أصلا; لا خارجا ولا ذهنا ووهما ولا عقلا، فلا تجري في البسيط الخارجي
المركب ذهنا وعقلا، فضلا عن المركبات الاعتبارية المركبة من عدة أمور متكثرة
يجمعها وحدة اعتبارية كالصلاة ونحوها.
وثانيا: أنه على تقدير جريان القاعدة في الواحد الاعتباري، فمجراها فيما كان
هناك صادر ومصدر، وواضح أن النهي عن الفحشاء - مثلا - لا يكون صادرا من
الصلاة والصلاة مصدرا له، وغاية ما هناك أن من أتى بالصلاة صحيحة يقال له - عند
العرف والعقلاء -: إنه مطيع، وعمله الصحيح موجب ومقتض لترك الفحشاء
والمنكرات، ومقرب لفاعله إليه تعالى، بخلاف ما لو أتى بها فاسدة.
وبالجملة: لو سلم جريان القاعدة في مثل المقام، فإنما هو فيما إذا كان المؤثر علة
تامة ومصدرا، لا فيما يكون معدا فيه شأنية ذلك، كالصلاة ونحوها من العبادات، فإنها
معدات لآثارها المترتبة عليها، لا علل تامة لها.
وثالثا: أنه لو سلم صدق الصادر والمصدر على مثل ما ذكر - من النهي عن
الفحشاء، وقربان كل تقي، ومعراج المؤمن، وخير الموضوع، ونحوها - لزم صدور أمور
متكثرة، فيلزم أن تكون في الصلاة حيثيات متكثرة حسب تكثر تلك الآثار، ومن
البعيد التزامهم بالجامع الذي له حيثيات متكثرة حسب تكثر ما ذكر.
ودعوى: أن هذه الآثار المذكورة في لسان الأخبار عبارات شتى من قبيل
التفنن في العبارة، ولكنها تشير إلى أمر واحد ومعنى فارد، وهو الكمال الحاصل لنفس
المصلي بسبب عمله القربي (1)، تخرص على الغيب، وخروج عن الاستدلال بها،

1 - انظر نهاية الأفكار 1: 84 - 85.
287

وإيكال الأمر إلى مجهول من غير بينة ولا برهان.
والمتحصل مما ذكرنا: أنه لا يصح ولا يناسب إجراء مثل هذه القواعد -
العقلية الدقيقة - في المباحث الأصولية المبنية على الأفهام العرفية وبناء العقلاء
والوجدانيات ونحوها، وينبغي إيكال تلك القواعد إلى أهلها، مع أن المسألة وجدانية،
وعملية التبادر يمكن تصحيحها بمثل ذلك; من دون أن يحتاج إلى تجشم إثبات ذلك
بقاعدة عقلية، فتدبر.
ذكر وتنقيح
أورد المحقق النائيني (قدس سره) على تصوير المحقق الخراساني (قدس سره) للجامع أربع
إشكالات، ولكنها لا تخلو عن المناقشة:
الإشكال الأول: أن ما أفاده إنما يتم إذا أحرز من وحدة الأثر، على كل من
الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط والفاقدة لبعضها، ولا طريق لنا إلى إثبات
وحدة الأثر، فمن الممكن جدا أن يكون الأثر المترتب على الصلاة الواجدة لجميع
الأجزاء والشرائط، غير الأثر المترتب على الصلاة الفاقدة لبعضها (1).
وفيه: أنه يمكن استفادة وحدة هذا الأثر بإطلاق الدليل، فإذا دل دليل على أن
طبيعة الصلاة - مثلا - منشأ لأثر كذا، فإطلاقه يقتضي أن يكون الأثر - المترتب
على نفس طبيعة الصلاة الصحيحة - واحدا وإن كانت فاقدة لبعضها.
وبالجملة: مقتضى إطلاق إثبات الدليل أثرا على نفس طبيعة الصلاة - مثلا -
يقتضي ترتبه عليها; سواء كانت واجدة لجميع الأجزاء والشرائط، أو لا.

1 - فوائد الأصول 1: 65.
288

إشكال ودفع:
قد استشكل على هذا: بأن غاية ما يقتضيه إطلاق الدليل هو الظن لا اليقين،
والظن لا يثبت موضوع القاعدة العقلية، فلا يمكن أن يستفاد من إطلاق الدليل أن
المؤثر واحد; لأن مع الإطلاق يحتمل - وجدانا - أن يكون الأثر المترتب على الصلاة
الواجدة لجميع الأجزاء، غير الأثر المترتب على الفاقدة لبعضها (1).
ولكن يمكن دفعه: بأنه على فرض جريان القاعدة في أمثال المقام، يكون
مقتضى قاعدة الواحد إثبات التلازم بين وحدتي الصادر والمصدر فقط، فإن لم يحتج في
مورد إلى إحراز وحدة المؤثر وجدانا - كما فيما نحن فيه - لكفى.
وبالجملة: القاعدة إنما تثبت أصل الملازمة، وأنى لها إثبات أن المؤثر لابد
وأن يكون محرزا بالوجدان؟! وفيما نحن فيه لا نحتاج إلى إحراز وحدة المؤثر وجدانا،
بل يكفي إحرازه تعبدا، فإذا دلت الأمارة المعتبرة على ترتب الأثر على طبيعة وماهية،
فمقتضى إطلاقها أن نفس الطبيعة - سواء كانت واجدة لجميع الأجزاء والشرائط، أو
فاقدة لبعضها - منشأ للأثر.
الإشكال الثاني: أن الاشتراك في الأثر لا يقتضي وحدة المؤثر هوية وحقيقة،
ولا دليل على ذلك، بل الوجدان يقتضي خلافه; بداهة اشتراك الشمس مع النار في
الحرارة، ومع ذلك مختلفان بالهوية. نعم لابد وأن يكون بين الشيئين جامع يكون هو
المؤثر لذلك; لامتناع صدور الواحد عن الكثير، ولكن مجرد ثبوت الجامع بينهما
لا يلازم اتحاد هويتهما; لإمكان أن يكونا مختلفي الحقيقة، ومع ذلك بينهما جامع في
بعض المراتب، يقتضي ذلك الجامع حصول ذلك الأثر، فبعدما لم يكن الجامع راجعا

1 - لم أعثر عليه في المصادر المتوفرة لدينا.
289

إلى وحدة الهوية، لم يكن هو المسمى بالصلاة مثلا; لما عرفت من أن الأسماء إنما تكون
بإزاء الحقائق، والمفروض اختلاف حقائق مراتب الصلاة وإن كان بينهما جامع بعيد
يقتضي أثرا واحدا، فتأمل (1).
ثم إنه أورد العلامة المقرر رحمه الله على هذا الوجه: بأن الاشتراك في أثر غير
الاشتراك في جميع الآثار، كما هو المدعى في المقام، فإن الاشتراك في جميع الآثار يلازم
وحدة الحقيقة (2).
وفيه: أنه لو سلم أن الاشتراك في الأثر لا يقتضي وحدة المؤثر - هوية وحقيقة
- في جميع الموارد، إلا أنه يمكن استفادة ذلك فيما نحن فيه; لأن الجامع البعيد الذي
اعترفتم بأنه المنشأ للأثر: إما يكون هو المسمى، أو المسمى غير ذلك الجامع، فإن
كان المسمى غير ذلك الجامع الذي يكون منشأ للأثر، فهو مخالف للأدلة الدالة على أن
نفس الصلاة قربان كل تقي، ومعراج المؤمن... وهكذا.
وإن كان المسمى هو الجامع فيثبت المطلوب، وهو وحدة المؤثر هوية وحقيقة.
ثم إنه يمكن دفع ما أورده العلامة المقرر رحمه الله: بأنه يمكن أن يقال: إنه
لا يعلم أن المدعى هو الاشتراك في جميع الآثار، والمقدار المعلوم - حسبما اقتضاه
إطلاق الدليل - هو ترتب أثر على نفس طبيعة الصلاة مثلا.
الإشكال الثالث: أن الأثر إنما يكون مترتبا على الصلاة المأتي بها في الخارج،
وهو بعد الأمر بها، والأمر بها إنما يكون بعد التسمية، فلا يمكن أن يكون الأثر المتأخر
عن المسمى بمراتب معرفا وكاشفا عنه; بداهة أنه عند تعيين المسمى لم يكن هناك أثر
حتى يكون وجها للمسمى; لأن تصور الشيء بوجهه، إنما هو فيما كان الوجه سابقا في
الوجود على التصور، والمفروض تأخر الأثر في الوجود عن تصور المسمى، فكيف

1 - فوائد الأصول 1: 65 - 66.
2 - نفس المصدر.
290

يمكن جعله معرفا للمسمى؟! فتأمل (1).
وفيه: أنه لم يرد المحقق الخراساني (قدس سره) جعل ما هو المتأخر في رتبة المتقدم، بل
مراده (قدس سره) أنه يكشف بوحدة الأثر - المتأخر عن المؤثر وجودا - عن أن المؤثر واحد،
وهذا لا امتناع فيه، بل إثبات المطلب بطريق الأثر والمعلول أحد قسمي البرهان،
ويعبر عنه بالبرهان الإني; ألا ترى أن الموجودات الممكنة متأخرة عن ذاته تعالى،
ومع ذلك تكون آيات دالة وكاشفة عن وجوده تعالى، ولم يلزم هناك وقوع ما هو
المتأخر في الرتبة السابقة.
فظهر: أنه لا يلزم من القول: بأن العلم بوجود أثر واحد عند وجود شيء
يكشف عن كون المسمى واحدا، محذور أصلا، فتدبر.
الإشكال الرابع: لو أخذ الأثر قيدا للمسمى، لزمه القول بالاشتغال في الشك
بين الأقل والأكثر الارتباطيين; لصيرورة الشك في جزئية شيء للصلاة - مثلا - شكا
في حصول ما هو قيد للمأمور به، ومن المعلوم أنه لا مجال للبراءة في الشك في المحصل،
مع أن المشهور - والمحقق الخراساني (قدس سره) منهم - قائلون بالبراءة في الشك في الأقل
والأكثر الارتباطيين (2).
وفيه: أنه سيوافيك الكلام في هذا الإشكال في القريب العاجل، فارتقب.
ذكر وهداية
ثم إن المحقق النائيني (قدس سره) - بعد أن ذكر إشكالاته الأربع على مقالة المحقق
الخراساني (قدس سره) - قال: إن هذا كله لو أريد استكشاف وحدة الجامع من ناحية المعلول
والأثر، وأما لو أريد استكشافه من ناحية العلل وملاكات الأحكام من المصالح
والمفاسد، ففساده أوضح; لعدم إمكان تعلق التكليف بالملاكات; لا بأنفسها

1 - نفس المصدر 1: 66.
2 - نفس المصدر 1: 66 - 67.
291

ولا بما يكون مقيدا بها، فلا تكون هي المسميات، ولا ما هو مقيد بها، فذكر (قدس سره) - في
توضيح ذلك - مطالب لا ترتبط بما نحن فيه إلا بعضها.
وحاصل ما أفاده مما يرتبط بما نحن فيه: هو أن الفعل الاختياري تارة يكون
علة أو جزءا أخيرا لحصول أثر; بحيث لا يتوسط بين الفعل وبين ذلك الأثر شيء
أصلا، كالإلقاء في النار بالنسبة إلى الإحراق; حيث إن أثر الإحراق يترتب
على الإلقاء في النار; من دون أن يتوسط بينهما شيء أصلا.
وأخرى يكون مقدمة إعدادية لترتب الأثر عليه، ويتوسط بين الفعل
الاختياري وبين الأثر أمور أخرى، كالزرع بالنسبة إلى حصول السنبلة، فإن البذر
والسقي والحرث ليس علة تامة لحصول السنبلة، بل يحتاج مع ذلك إلى توسيط أمور
بين ذلك وبين الفعل الاختياري; من إشراق الشمس، ونزول المطر... وغير ذلك،
وإلى هذا يشير الشاعر بقوله:
أبر وباد ومه وخورشيد وفلك در كارند * تا تو نانى بكف آرى وبه غفلت نخورى (1)
ففي القسم الأول: كما يصح تعلق إرادة الفاعل بالفعل الاختياري الذي يكون
سببا لحصول الأثر، فكذلك يصح تعلقها بالأثر المسبب عنه; لأن قدرته على المسبب
عين قدرته على السبب، ويكون تعلق الإرادة بكل منهما عين الإرادة بالآخر.
وأما في القسم الثاني: فلا يصح تعلق إرادة الفاعل بالأثر; لخروجه عن قدرة
المكلف واختياره، فالإرادة الفاعلية مقصورة التعلق بالفعل الاختياري، وذلك الأثر
لا يكون إلا داعيا للفعل الاختياري.
هذا هو الملاك والضابط الكلي للتمييز بين باب الدواعي وبين باب المسببات

1 - كليات سعدي: 68.
292

التوليدية، فكل مورد يكون الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير لحصول أثر،
فبابه باب المسببات التوليدية، وأما إذا لم يكن كذلك، بل كان حصول الأثر متوقفا
على مقدمات، فيكون من باب الدواعي، وقد عرفت إمكان تعلق إرادة الفاعل بما كان
من المسببات التوليدية، وعدم إمكان تعلقها بما كان من الدواعي.
فبعدما تمهد لك ما ذكرنا نقول: إن ملاكات الأحكام من قبيل الدواعي
- لا المسببات التوليدية - لأفعال العباد، ويدل عليه عدم وقوع التكليف بها في شيء
من الموارد; من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات، وليست الصلاة والصوم
والزكاة بأنفسها، عللا لمعراج المؤمن والجنة من النار ونمو المال، بل تحتاج
إلى مقدمات أخر من تصفية الملائكة وغيرها، حتى تتحقق تلك الآثار، كما يدل على
ذلك بعض الأخبار (1).
وعليه فقد ظهر لك أن ملاكات الأحكام لم تكن من الأسباب التوليدية،
فلا يصح تعلق التكليف بها; لا بأنفسها بأن يقال: «أوجد معراج المؤمن» - مثلا -
ولا بأخذها قيدا لمتعلق التكليف; بأن يقال: «أوجد الصلاة المقيدة بكونها معراج
المؤمن»; إذ يعتبر في التكليف أن يكون المكلف به بتمام قيوده مقدورا عليه، والملاكات
ليست كذلك، فإذا لم يصح التكليف بها بوجه من الوجوه، لم يصح أن تكون هي
الجامع بين الأفراد الصحيحة للصلاة، ولا أخذها معرفة وكاشفة عن الجامع; بداهة
أنه يعتبر في المعرف أن يكون ملازما للمعرف بوجه، وبعد ما لم تكن الملاكات من
المسببات التوليدية، لا يصح أخذ الجامع من ناحية الملاكات (2). انتهى.
وفيه: بعد الغض عن بعض ما يرد على كلامه (قدس سره) - ولكونه خارجا عما نحن
بصدده - أنه لو سلم أنه لا يصح التكليف بملاكات الأحكام; لا بنفسها، ولا بأخذها

1 - انظر وسائل الشيعة 4: 866، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 30، الحديث 4.
2 - فوائد الأصول 1: 67 - 72.
293

قيدا لمتعلق التكليف، ولكن نقول: لم لا يمكن أن تكون معرفة وكاشفة عن الجامع، مع
أنكم اعترفتم بأن صلواتنا معدات لتصفية الملائكة؟!
وبالجملة: يمكن أن يعرف الجامع ويشير إليه: بأنه الذي يصلح للمعراجية -
مثلا - لو انضمت إليه تصفية الملائكة وغيرها، وواضح أن الصلاة لو وقعت صحيحة
علم بتصفية الملائكة إياها للنص، فكما يمكن كشف ذلك لو كانت المعراجية مترتبة
عليها ترتب المعلول على علته التامة، فكذلك يمكن كشف ذلك به لو كانت معدة،
وهكذا في المثال الذي ذكره، فإنه يصح أن يوضع لفظة «الحنطة» و «الأرز» - مثلا -
لما يكون صالحا لإنبات الحنطة والأرز لو انضمت إليها إشراق الشمس ونزول
الأمطار وغير ذلك، فتدبر.
ومن الجوامع: الجامع الذي تصوره المحقق العراقي (قدس سره): فإنه بعد أن ذكر إشكالا
على تصوير الجامع - بأن الجامع لا يخلو: إما أن يكون ذاتيا مقوليا، أو عنوانيا
اعتباريا، والالتزام بكل منهما مشكل (1) - قال: إن الجامع لا ينحصر فيهما، بل هناك

1 - قلت: حاصل الإشكال الذي ذكره: هو أن الوضع بإزاء الجامع العنواني - كعنوان الناهي عن
الفحشاء - وإن كان ممكنا، إلا أن لازمه عدم صحة استعمال لفظة «الصلاة» - مثلا - في
المعنون بهذا العنوان الاعتباري، إلا بالعناية; بلحاظ أن العنوان غير المعنون، وهو خلاف
الضرورة، فصدقها عليه بلا عناية، مع سخافة القول بوضع لفظة «الصلاة» لعنوان الناهي عن
الفحشاء، وأما الوضع بإزاء الجامع الذاتي فممتنع; لأن الصلاة مركبة من مقولات متباينة،
كمقولة الكيف والوضع ونحوهما، والمقولات أجناس عالية ليس فوقها جنس، فلا يمكن
تصوير جامع ذاتي بين المقولات المتباينة.
وبهذا يظهر: أنه فرق بين «الصلاة» وبين «الكلمة والكلام»، ولا وقع لتنظير الجامع في
المقام بالجامع بين أفراد الكلمة والكلام.
فدعوى أنه كما تصدق «الكلمة» على الكلمة المؤلفة من حرفين فصاعدا بجامع واحد،
«والكلام» على الكلام القصير والطويل كذلك، فكذلك تصدق «الصلاة» على صلاة الحاضر
والمسافر وصلاة المختار والمضطر بجامع واحد.
غير وجيهة; لما عرفت من أن الصلاة مركبة من مقولات متباينة، ولا جامع بينها، وأما
الكلمة والكلام فمركبان من مقولة واحدة، وهي مقولة الكيف، فيكون ما به الاشتراك عين ما
به الامتياز، فيصدق على القوي والضعيف والقليل والكثير بجامع واحد، كما هو الشأن في
الأعراض المتأصلة، كالبياض والسواد (أ). المقرر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - بدائع الأفكار 1: 116.
294

جامع آخر، وهو مرتبة خاصة من حقيقة الوجود الجامعة بين المقولات المتباينة ماهية.
وحاصل ما أفاده (قدس سره) في ذلك: هو أن الصلاة - مثلا - وإن كانت مركبة من
مقولات متباينة ماهية، ولكن مع ذلك بينها اشتراك وجودي، فلو فرضنا أن الصلاة
عبارة عن تلك المرتبة الخاصة من الوجود، الجامع بين المقولات المتباينة ماهية،
فتكون الصلاة أمرا بسيطا خاصا تصدق على القليل والكثير والضعيف والقوي; لأن
ما به الاشتراك فيه عين ما به الامتياز، وقد أخذت تلك المرتبة الخاصة من الوجود
بشرط شيء من طرف القلة; بعدد أركان الصلاة - مثلا - ولا بشرط من طرف
الكثرة; بحيث يصح حمله على الفاقد لها والواجد.
ثم أورد (قدس سره) على نفسه: بأنه على هذا يكون مفهوم الصلاة ومفهوم الوجود
مترادفان، وهو واضح الفساد.
فأجاب: بأن هذا إنما يكون إذا كان المقصود أن الوجود على سعته جامعا،
ولكن المقصود أن الجامع - المسمى بلفظة «الصلاة» - هي مرتبة خاصة من الوجود
الساري في وجود تلك المقولات، فمفهوم الصلاة هو مفهوم مرتبة من الوجود،
لا نفس الوجود.
فأورد على نفسه ثانيا: بأنه لو كان الجامع الصلاتي - مثلا - عبارة عن الرتبة
الخاصة من الوجود المحدود بحد مضبوط من المقولات العشر، فيمكن تطبيقها على أي
295

عدة من المقولات راجعا إلى نظر المكلف حسبما يشتهي ويقترح، ولا يخفى فساده.
فأجاب: بأن المقصود هي الحصة من الوجود السارية في المقولات، التي أمر
الشارع المقدس بها في مثل قوله: «صل»، تلك الحصة المقارنة للمقولات المزبورة.
فأورد على نفسه ثالثا: بأنه على هذا يلزم أن يكون مفهوم الصلاة هي الحصة
الكذائية، ولا يخفى فساده.
فأجاب: بأن قولنا: «الصلاة هي الحصة الكذائية» إنما هو بسبب التحليل العقلي،
وإلا فمفهوم الصلاة مفهوم بسيط منتزع عن مطابقة الخارجي، فلا يلزم أن يكون
مفهوم الصلاة مساوقا لمفهوم الحصة الكذائية، وهذا نظير مفهوم المشتق - كالضارب
مثلا - بأنه مفهوم بسيط منتزع عن الذات الصادر منها الحدث، ومع ذلك يحلله العقل
بذات ثبت لها الضرب.
ولا يقال: إن مفهوم الضارب هو نفس مفهوم «ذات لها الضرب»،
«الإنسان
حيوان ناطق»، فإنه ليس المقصود بذلك أن مفهوم الإنسان هو مفهوم الحيوان الناطق;
ضرورة أن مفهوم الإنسان مفهوم بسيط، ومفهوم الحيوان الناطق مركب، بل المقصود
أنه - عند التحليل والتجزئة العقلية - يرجع معنى الإنسان إلى هذين الجزءين.
فاتضح مما تقدم: أنه يمكن تصوير جامع بسيط غير الجامع الذاتي والعنواني،
وهو مرتبة من الوجود الساري في جملة من المقولات، المحدودة من طرف القلة بعدد
الأركان، ومن طرف الزيادة بنحو يصح حمله على الواجد لها والفاقد.
وبهذا ظهرت صحة تنظير الجامع في الصلاة - مثلا - بالجامع في مثل الكلمة أو
الكلام، فكما أن الجامع بين أفراد الكلمة عبارة عن المركب من جزءين فصاعدا; بنحو
يكون ذلك المعنى المركب بشرط شيء من طرف القلة، ولا بشرط من طرف الزيادة،
ولذا يصدق مفهوم الكلمة على المركبة من حرفين، وعلى الثلاثة، وعلى الأكثر من
296

ذلك، فكذلك الجامع بين أفراد الصلاة مثلا (1)، انتهى ملخصا.
أقول: ظاهر كلمات هذا المحقق (قدس سره) مضطربة، فيتراءى من بعضها: أنه يريد
تصوير أن الحصة السارية في الخارج عبارة عن الصلاة.
ويظهر من بعضها الآخر - ولعله الأظهر -: أنه يريد تصوير أن حقيقة الصلاة
- بالحمل الشائع - هو الوجود الساري في المقولات، وأن مفهوم الصلاة هو مفهوم
الحصة الكذائية.
فإن أراد أن الصلاة عبارة عن الوجود الساري في المقولات المتباينة.
فيرد عليه:
أولا: أن قوله: إن المرتبة الخاصة من الوجود سارية في وجود تلك المقولات،
لابد وأن يكون غير وجود كل مقولة; لاعترافه بأن المقولات متباينة الذات، والجامع
غير الذاتي والعنواني لابد وأن يكون وجوديا خارجيا لا مفهوميا; لأن الجامع
المفهومي: إما يرجع إلى الذاتي، أو العنواني، فعلى هذا يلزم أن يكون لكل من المقولات
وجودان:
1 - وجود يخص كل مقولة.
2 - ووجود آخر يسري فيها.
ولعل منشأ القول به هو ما يقوله بعض أرباب المعقول من الوجود المنبسط (2)،
ولعلهم يريدون غير ما ذكره هذا المحقق، فلو أرادوا ما ذكره هذا المحقق لتوجه عليهم
ما أوردنا على هذا المحقق.
وثانيا: لو كانت الصلاة عبارة عن الوجود الساري الموجود في الخارج، لزم أن
تكون أوامر الشارع متعلقة بغير عنوان الصلاة; لأن الخارج ظرف السقوط

1 - بدائع الأفكار 1: 116 - 118.
2 - الحكمة المتعالية 2: 328 - 331، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 110 سطر 3.
297

والامتثال، لا ظرف التكليف والاشتغال، والبداهة قاضية بكون الطبائع متعلقة
للأوامر والنواهي.
وثالثا: لو كانت الصلاة هي الوجود الساري في المقولات، لزم أن تكون الصلاة
نفس الوجود الكذائي، لا التكبير والقراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الأفعال،
وهو خلاف ضرورة الفقه.
ورابعا: لو كانت الصلاة وجودا واحدا ساريا في المقولات، لزم أن يكون
الجامع وجودا شخصيا; لما تقرر في محله: أن الوجود مساوق للتشخص والجزئية (1)،
وهو لا يقبل الصدق على مقولات متكثرة من صلاة واحدة، فضلا عن صدقها
على صلوات متعددة، فلا يمكن أن يكون الوجود الخارجي - المساوق للتشخص -
قابلا للصدق على الكثيرين، والجامع الصدقي ينحصر في الذاتي والعنواني.
وخامسا: لو كان الجامع وجودا ساريا وجامعا بين جميع أفراد الصلاة، لزم أن
لاتصدق الصلاة على ما أتى به كل فرد من أفراد المصلين، ولازمه كون جميع الصلوات
صلاة واحدة، وهو خلاف الضرورة من الدين.
هذا كله لو أراد بالوجود الساري الوجود الخارجي.
وأما إن أراد مفهوم الوجود الساري، فيرد عليه:
أنه لا يخلو: إما أن يكون جامعا ذاتيا، أو عنوانيا، وليس هناك شيئا ثالثا
غيرهما، فيكون قوله (قدس سره) هذا كرا على ما فر منه مع ارتكاب توال فاسدة، سنشير إليها
في بحث المشتق، فارتقب.
ثم إنه يتوجه عليه (قدس سره): أنه لا يلائم مقايسة ما نحن فيه بالمشتق، ولا بقولهم:
«الإنسان حيوان ناطق»، أما حال المشتق فسيوافيك الكلام فيه في بحث المشتق، وأما

1 - الحكمة المتعالية 9: 185 و 1: 413، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 106 - 107.
298

بالنسبة إلى المثال فهو قياس مع الفارق; بداهة أن معنى انحلال ماهية الإنسان
بالحيوان الناطق: هو أنه إذا لوحظت مراتب سير الإنسان من الهيولى الأولى -
والصور العنصرية والجمادية والنباتية والحيوانية - إلى صيرورته إنسانا، فقد يعبر عن
تلك المراتب بالعنوان الإجمالي، فيقال: إنه إنسان، وقد يريد تفصيل تلك المراتب،
فيقال: «حيوان ناطق»، فحقيقة الإنسانية حقيقة واحدة يعبر عنها في عالم الإجمال
بالإنسان، وفي عالم التفصيل بالحيوان الناطق، ومن الواضح أنه لا يمكن تصوير هذا
فيما نحن فيه; لأن انتزاع مفهوم الصلاة: إما عن وجود مطابق لهذا الوجود الخارجي،
أو عن ماهيته، أو عن مجموع ماهيته ووجوده.
لا سبيل إلى الأول: ضرورة أن الوجود لا يصح أن يكون منشأ لانتزاع غير
مفهوم الوجود، ولا يمكن أن ينتزع منه مفهوم صادق على مقولات كثيرة.
ولا يمكن الثاني: لأن انتزاع مفهوم واحد بسيط لا يصح من المتكثرات.
وبعبارة أخرى: المتكثرات - بما هي متكثرات - لا تصح أن تكون منشأ لانتزاع
مفهوم واحد بسيط.
وأما الثالث: فهو أسوأ حالا من الأولين; لأنه يرد عليه المحذوران المذكوران
في الأول والثاني فتدبر.
مضافا إلى أن الوجود الساري في المقولات اللازم للخصوصيات، لو كان منشأ
لانتزاع مفهوم الصلاة، لزم أن يخرج جميع أجزاء الصلاة وشرائطها عن كونها صلاة،
وهو كما ترى.
وبعبارة أخرى: الوجود الساري أو الحصة من الوجود المقارنة لهذه المقولات
محققة لعنوان الصلاتية، لا ماهية التكبير والقراءة والركوع والسجود... وهكذا، مع أن
الضرورة قاضية بخلافه، وأن التكبير وغيره من أجزاء الصلاة.
إن قلت: إن الصلاة عبارة عن الوجود الكذائي، لكنه ينحل ذلك الوجود
299

إلى التكبير والقراءة وغيرهما من أجزاء الصلاة.
قلنا: هذا محال; لأن الوجود الواحد الشخصي لا ينحل إلى ماهيات كثيرة،
فتدبر.
تذنيب
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) - بعد تصويره الجامع بين أفراد صلاة المختار بما أشرنا
إليه، وقد عرفت ضعفه - تصدى (قدس سره) لتصوير الجامع بين أفراد الصلاة مطلقا; ولو
صدرت من المضطر بترك بعض الأجزاء الاختيارية والإتيان ببدله الاضطراري.
فأورد على نفسه:
أولا: بأنه لو كان الجامع مرتبة من الوجود المحدود من طرف القلة; بكونه
مقارنا لمقولات الأركان كلها، والملحوظ من طرف الزيادة بنحو اللا بشرط، وواضح
أن الأركان تختلف بحسب الأشخاص; بحيث يكون الانحناء الخاص ركوعا بالنسبة
إلى شخص، والأقل منه ركوعا بالنسبة إلى آخر، حتى تصل النوبة إلى تغميض العينين
وفتحهما، فيكون ذلك ركوعا بالنسبة إلى ثالث، فلا محيص من توسعة دائرة الجامع
من طرف القلة; بحيث يشمل الوجود الساري في جميع الأركان بجميع مراتبها.
فعلى هذا يتوجه إشكال: وهو أن مقتضى ذلك جواز اقتصار المختار
على بعض مراتب الأركان، التي لا يسوغ شرعا الاقتصار عليها إلا للمضطر، وذلك
ضروري الفساد.
فأجاب عنه: بأن محدودية الجامع من طرف الأقل في مقولات الأركان، على
نحو يشمل الأركان الأصلية والبدلية، وحدد الجامع أيضا بكونه مقرونا
بالخصوصيات والمزايا; على طبق ما بينه الشرع لكل واحد من أصناف المكلفين;
بحيث تكون المزايا من خصوصيات الأفراد، وخارجة عن دائرة الموضوع له، ويكون
300

الموضوع له مضيقا لا يشمل فرض عدم المقارنة لتلك الخصوصيات.
ثم أورد على نفسه: بأنه لو كانت الصلاة - مثلا - صورة خاصة لمرتبة من
الوجود الساري في المقولات المذكورة، لزم أن لا يطرأ عليها الوجود والعدم; لامتناع
اتصاف الشيء بمثله أو بنقيضه، مع أن البداهة قاضية باتصاف الصلاة بالوجود والعدم،
ويتفرع على ذلك عدم صحة الأمر بالصلاة لعدم القدرة عليها; لأن طلب الشيء هو
طلب إيجاده، وطلب إيجاد الوجود تحصيل للحاصل، وهو محال، مع أن الضرورة
قاضية بصحة الأمر بالصلاة.
فأجاب: بأنه فرق بين انتزاع مفهوم الوجود عن حقيقة غير المحدود، وبين
انتزاع مفهوم من الوجود المحدود بحدود عرضية، كمفهوم الصلاة، فإنه منتزع من
مرتبة من الوجود الساري في المقولات الخاصة، ومقترن بخصوصياتها، فيكون مفهوم
الصلاة كسائر المفاهيم مما يمكن أن يطرأ عليه الوجود والعدم، فيصح تعلق الطلب بها
بلا إشكال، والإشكال إنما يجري على الأول، دون الأخير (1).
وفيه أولا: أن لازم ما أفاده (قدس سره): أن الصلاة عبارة عن نفس الوجود في
المقولات، لا نفس تلك المقولات، وهو كما ترى.
وثانيا: أنه (قدس سره) إن أراد بقوله: مقترنا بخصوصيات المقولات الخاصة، اقترانه
بجميع الخصوصيات، يلزم عدم صدقه على صلاة أصلا; لأن كل واحدة من الصلوات
لم تكن واجدة لجميع الخصوصيات، وإن أراد اقترانه بخصوصية خاصة، فيلزم أن
لاتصدق الصلاة على الصلاة الفاقدة لتلك الخصوصية، وإن أراد اقترانه بخصوصية ما،
يلزم صدق الصلاة على جميع أفرادها - مع عرضها العريض - في عرض واحد،
ولازمه جواز إتيان المختار صلاة المضطر.

1 - بدائع الأفكار 1: 119 - 120.
301

وثالثا: أنه لو كان مفهوم الصلاة منتزعا، فإنما هو منتزع من حيث وجود
المرتبة، لا من حيث ماهيتها، فيبقى الإشكال الذي أورده على نفسه بحاله، وهو لزوم
عدم صحة طرو الوجود والعدم على الصلاة، ولا يصح تعلق الأمر بها، ولعل منشأ
توهمه (قدس سره) هو ما رأى في بعض الكلمات: من أنه قد ينتزع من الوجود ما يقبل الصدق
على الوجود والعدم، ولم يتفطن إلى أن مرادهم بذلك هو حد الوجود، الذي هو عبارة
عن الماهية، وهي قابلة للاتصاف بالوجود والعدم، وأنى لها وانتزاع مفهوم من مرتبة
من الوجود; لوضوح أن مفهوم الوجود لا يقبل الصدق على العدم؟! فتدبر واغتنم.
ومن الجوامع: الجامع الذي تصوره المحقق الإصفهاني (قدس سره) لأفراد الصلاة مع
عرضها العريض، وقال في آخر مقالته: إن تصوير الجامع فيما وضع له «الصلاة» بتمام
مراتبها - من دون الالتزام بجامع ذاتي وجامع عنواني، ومن دون الالتزام بالاشتراك
اللفظي - مما لا مناص منه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعينا.
قال (قدس سره) ما حاصله: إن حقيقة الوجود الخارجي - الذي حيثية ذاته حيثية طرد
العدم - تخالف سنخ المعاني والماهيات من حيث السعة والإطلاق، ومتعاكسان، فإن
سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف والإبهام، وسعة الوجود الحقيقي من جهة فرط
الفعلية، فلذا كلما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر،
وكلما كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم; مثلا: ماهية الإنسان;
حيث إنه يشمل بعض الخصوصيات، لا ينطبق إلا على بعض الأفراد والحيوان، يكون
الإبهام فيه أكثر، فشموله للأفراد أوفر، وهكذا...
هذا من جانب الماهية.
وأما جانب الوجود فكوجود النبات بالنسبة إلى وجود الحيوان ضعيف، وهو
ضعيف بالنسبة إلى وجود الإنسان، وهو ضعيف بالنسبة إلى العقول... وهكذا إلى أن
يصل إلى الوجود المطلق، فوجود كل مرتبة بالنسبة إلى ما دونها - لاشتمالها على فرط
302

الفعلية - يكون إطلاقه وسعته أعظم وأتم.
ثم إن الماهية لا تخلو: إما أن تكون من الماهيات الأصلية، أو من الماهيات
الاعتبارية المؤتلفة من عدة أمور; بحيث تزيد وتنقص كما وكيفا.
فإن كانت من الماهيات الأصلية: فذاتها بذاتها متعينة لا إبهام فيها، والإبهام
فيها إنما هو بلحاظ الطوارئ والعوارض مع حفظ نفسها، كالإنسان - مثلا - فإنه
لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقومين لحقيقته، وإنما الإبهام فيه من حيث
الشكل، وشدة القوى وضعفها، وعوارض النفس والبدن، حتى عوارضها اللازمة لها
ماهية ووجودا.
وأما إن كانت من الماهيات الاعتبارية: فمقتضى الوضع لها - بحيث يعمها مع
تفرقها وشتاتها - أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام; بمعرفية بعض العناوين
غير المنفكة عنها، فكما أن الخمر - مثلا - مائع مبهم; من حيث اتخاذه من العنب والتمر
وغيرهما، ومن حيث اللون والطعم والريح، ومن حيث مرتبة الإسكار، ولذا لا يمكن
وصفه بالمائع الخاص إلا بمعرفية المسكرية; من دون لحاظ الخصوصية تفصيلا; بحيث
إذا أراد المتصور تصوره، لم يوجد في ذهنه إلا مصداق مائع مبهم من جميع الجهات، إلا
حيثية المائعية بمعرفية المسكرية، فكذلك لفظة «الصلاة» - مع ما فيها من الاختلاف
الشديد بين مراتبها كما وكيفا - لابد وان توضع لسنخ عمل خاص مبهم من حيث
الكم والكيف بمعرفية النهي عن الفحشاء، أو غيره من المعرفات، بل العرف لا ينتقلون
من سماع لفظة «الصلاة» إلا إلى سنخ عمل خاص مبهم، إلا من حيث كونه مطلوبا في
الأوقات الخاصة، وهذا غير النكرة; لأن خصوصية البدلية مأخوذة في النكرة، ولم
تؤخذ فيما ذكرنا.
وبالجملة: الإبهام غير الترديد.
وقد التزم بنظير ما ذكرنا بعض أكابر فن المعقول - صدر المحققين في
303

الأسفار (1) - في تصحيح التشكيك في الماهية الأصلية; وشمول طبيعة واحدة لتمام
المراتب - التامة والمتوسطة والناقصة - لاشتراك الجميع في سنخ واحد، مبهم غاية
الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ونقصها، وراء الإبهام الناشئ عن الاختلاف في
الأفراد بحسب هوياتها، انتهى.
ولا يخفى أن الأمر فيما ذكرناه حيث إنه في الماهيات الاعتبارية أولى مما ذكره في
الحقائق المتأصلة والماهيات الواقعية، كما لا يخفى (2).
وفيه: أنه لا يمكن تطرق الإبهام في مقام ذات الشيء وذاتياته، ولا يمكن أن
يصير الشيء مبهما بحيث لا يصدق على نفسه، بل لابد وأن يكون متعينا، ولا فرق في
ذلك بين الماهيات الحقيقية والاعتبارية، فالتفريق بينهما - بأن الإبهام في الحقيقية إنما
هو في الطوارئ والعوارض دون نفس الماهية، وأما في الاعتبارية فالإبهام فيها من
حيث الماهية والعوارض - لا وجه له.
وبعبارة أخرى: كون ماهية - ولو كانت اعتبارية - مبهمة في مقام ذاتها; بحيث
تصدق على التام والناقص، لا وجه له، وقد حقق في المعقول وبرهن على امتناع
التشكيك في الماهية، ولم تكن للماهية عرض عريض ومراتب.
وإجمال القول فيه: والتفصيل يطلب من محله: أنه لو كانت لماهية
- كالإنسان - مراتب، فإن كانت المرتبة الكاملة دخيلة في الإنسانية، يلزم عدم صدق
الإنسانية على المرتبة الدانية، وهو واضح البطلان.
ولعل هذه المقالة من هذا المحقق (قدس سره) اشتباه وغفلة عما هو المحقق في فن
المعقول - وهو عارف بقواعده - أو أجرى الكلام على مذهب من يرى جريان
التشكيك في الماهية.

1 - الحكمة المتعالية 1: 431 - 432.
2 - نهاية الدراية 1: 101.
304

ثم الظاهر أن بعض الأكابر (قدس سره) لم يرد إثبات التشكيك في الماهية; كيف وهو
خلاف ما حققه وبينه في الأسفار (1)؟! بل مراده التشكيك في الوجود وإن كان ذلك
خلاف ما يتراءى من كلامه، ومع ذلك فإن كنت في شك مما وجهنا به مقالته، فبرهان
امتناع التشكيك في الماهية يدفع كل شبهة وريب، فتأمل.
وعلى كل حال لا يمكن تطرق الإبهام في ذات الماهية الاعتبارية، فالصلاة -
مثلا - لابد وأن تكون شيئا متحصلا في مقام ذاته; تخلصا عن كونها من قبيل الفرد
المردد، ويعرضها الإبهام باعتبار العوارض والطوارئ، وعليه نسأل عن ذلك الجامع
المتحصل ذاتا; هل هو جامع ذاتي أو عنواني؟ ولا يصار إلى شيء منهما، وقد
اعترف (قدس سره) بفسادهما، مع أنه لم تنحل العقدة بما ذكره (قدس سره)، وقد أوكل الأمر إلى معنى
مبهم وأمر مجهول، ولك أن تقول: إن كلامه لا يخلو عن مصادرة.
وبالجملة: لا سبيل إلى ما ذكره; لأن صدق ماهية الصلاة على أفرادها لابد
وأن يكون لها جامع صادق عليها; بحيث يكون أمرا متعينا في حد ذاته ولو اعتبارا;
لعدم تصور الإبهام في مقام الذات، ويكون عروض الإبهام له بلحاظ الطوارئ، فلابد
وأن يقول بالجامع الذاتي أو العنواني، ولا سبيل إليهما، وقد اعترف (قدس سره) بفسادهما.
نعم: يتصور الإبهام في الفرد المردد، إلا أنه (قدس سره) نفى كونه كذلك، فتدبر.
ومن الجوامع: الجامع الذي اخترناه وهو تصوير جامع أعم لأفراد الصلاة مع
عرضها العريض; لا بالنسبة إلى خصوص الأفراد الصحيحة.
يتوقف بيان ذلك على تقديم أمور:
الأول: أن الجامع الذي نريد تصويره هو الجامع بين أفراد الصلاة ومصاديقها،
التي يطلق عليها اسم «الصلاة» عرفا وإن اتصفت عندهم بالبطلان، فصلاة

1 - الحكمة المتعالية 1: 427.
305

الغرقى - التي أطلق عليها اسم «الصلاة» في لسان الشرع، ولكن لا يطلقه عليها العرف
والعقلاء - خارجة عن الجامع الذي نريد تصويره.
وبالجملة: نريد تصوير الجامع بين مصاديق الصلاة وأفرادها - مع عرضها
العريض - التي تصدق عليها الصلاة في محيط العرف والعقلاء في جميع الأحوال، فمثل
صلاة الغرقى - التي يكتفى فيها بتكبيرة الإحرام - ونحوها، خارجة عن الجامع الذي
نريد تصويره.
الثاني: أنه لا يمكن تعريف الماهيات والمركبات الاعتبارية بالجنس والفصل،
كما يمكن ذلك في الماهيات الحقيقية; وذلك لأن المركب الاعتباري لا يكون له جنس
ولا فصل، فإذا لم يكن له ذلكما فما ظنك بتعريفه بهما، فلا تتوقع منا تعريف المركب
الاعتباري بالجنس والفصل، فإن عرفناه بنحو من الأنحاء ولو بالجامع الاعتباري
فكن من الشاكرين.
الثالث: أنه قد عرفت أن الجامع لابد وأن يكون كليا، قابلا للصدق والانطباق
على الأفراد المختلفة كما وكيفا، فمرتبة الجامع متقدمة على مرتبة عروض الصحة
والفساد عليه; وذلك لما عرفت من أن الصحة والفساد من خصوصيات الوجود
الخارجي، وعوارض وجود العبادة خارجا، فلا نريد تصوير الجامع بين الصلاة
الصحيحة والفاسدة.
وعليه: فالمتحصل من الأمور الثلاثة هو أنا نريد تصوير جامع اعتباري بين
المصاديق والأفراد التي يطلق عليها اسم «الصلاة» عرفا; من دون أن يكون الوضع
والموضوع له عامين ولا بالاشتراك اللفظي.
بعدما تمهد لك ما ذكرنا نقول: إن المركب الاعتباري والماهية الاعتبارية
والمخترع الشرعي - الذي تعرضه وحدة ما - على أنحاء:
فتارة: تكون الكثرة ملحوظة فيه بشرط شيء من طرف المادة والماهية،
306

كلفظي «العشرة» و «المجموع» ونحوهما، فإن «العشرة» - مثلا - وإن لوحظت واحدة
في قبال «العشرتين» و «العشرات»، وتكون مفردها، ولكن لوحظت فيها كثرة معينة;
بحيث يفقد الكل بفقدان جزء منها، فلا تصدق «العشرة» إلا على التام الأجزاء، وكذا
لفظ المجموع، ولا يبعد أن يكون لفظ «الفوج» و «الهنگ» في العرف العسكري كذلك،
فلا يصدق «مجموع العلماء» - مثلا - إلا على جميع العلماء; بحيث لا يشذ منهم فرد،
ولا يصدق لفظ «الفوج» أو «الهنگ» على أقل مما هو عليه في العرف العسكري.
وبالجملة: لوحظ في هذا القسم من الهيئة الاعتبارية والمركب أجزاء معينة
بحيث تنعدم الهيئة والمركب بفقدان جزء منها.
وأخرى: لم تلحظ الكثرة بشرط شيء من ناحية المادة، بل إنما لوحظت كذلك
من ناحية الهيئة فقط، كالقبة والمأذنة - مثلا - فإنهما لوحظتا من ناحية الهيئة; أن تكونا
على هيئة خاصة وشكل مخصوص، وأما من ناحية المادة - من كونهما من ذهب، أو
فضة، أو نحاس، أو جص، أو آجر، أو غيرها - فأخذتا لا بشرط.
وثالثة: لوحظت الكثرة من ناحية المادة والهيئة كلتيهما لا بشرط; بحيث
لا يضرها تغيير المادة أو الهيئة فيها في الجملة.
وغالب المركبات الاعتبارية من هذا القبيل، كالمسجد والمدرسة والبيت
والسيارة ونحوها، فإنها تطلق على ما اختلف فيها من حيث المادة والهيئة، ولذا تطلق
لفظة «السيارة» - مثلا - على سيارات مختلفة من حيث المادة والصورة.
فإذا أخذت الكثرة في المركب الاعتباري لا بشرط من حيث المادة والهيئة،
فلا يمكن تعريف المركب الكذائي; لا من حيث المادة، ولا من حيث الهيئة، فإذا لابد
وأن يكون تعريف هذا النحو من المركبات - والإشارة إلى الجامع - بالآثار
والعوارض، كمعبد المسلمين بالنسبة إلى المسجد، ومحل سكنى الطلاب بالنسبة
إلى المدرسة، والمركوب الخاص بالنسبة إلى السيارة... وهكذا.
307

فإذا أحطت خبرا بما تلونا عليك، فحان التنبه على أن الصلاة يمكن أن تكون
من هذا القسم - أي أخذت لا بشرط من جهة المادة والهيئة - فوضعت لفظة الصلاة
لهيئة خاصة فانية فيها موادها الخاصة، وصورة اتصالية حافظة لموادها حال كونها
مأخوذة لا بشرط من حيث الزيادة والنقيصة.
وبالجملة: لفظة «الصلاة» موضوعة لهيئة خاصة مأخوذة على نحو اللا بشرط،
فانية فيها موادها الخاصة من ذكر وقرآن وركوع وسجود... إلى غير ذلك، تصدق
على الميسور من كل واحد منها، وهيئتها صورة اتصالية خاصة حافظة لموادها أخذت
لا بشرط من بعض الجهات; بحيث يشار إليها بكونها عبادة للمسلمين مثلا، ويكون
وزانها وزان لفظة «السيارة» أو «المدرسة» أو «الدار» أو نحوها، ولكن مع فرق بينها
وبين هؤلاء; حيث أخذت في الصلاة نحو تضيق في المواد من تكبيرة الإحرام... إلى
آخر التسليم، إلا أنه مع ذلك التحديد لها عرض عريض; إذ كل واحد من أجزاء
موادها - كالركوع والسجود مثلا - جزء بعرضه العريض، ولكن الغرض متوجه
إلى الهيئة المخصوصة، التي تصدق على فاقد الحمد والتشهد وغيرها من الأجزاء مع
بقاء ما يحفظ به صورتها.
وبالجملة: تصدق هذه الهيئة الاعتبارية - أي الهيئة الخضوعية - على ما لها من
المادة والهيئة بعرضهما العريض وتتحد معها خارجا.
فبعدما أحطت خبرا بما ذكرنا - في وضع هذا القسم من المركبات الاعتبارية -
يظهر لك: أن الشرائط كلها - سواء كانت آتية من قبل الأمر أو لا - خارجة عن
حقيقة الصلاة مثلا، ويقرب أن تكون الشرائط كلها - خصوصا الآتية من قبل الأمر -
من شرائط صحة الصلاة، لا من قيودها المعتبرة في ماهيتها، فالصلاة - مثلا - اسم
للهيئة الخاصة الحالة في أجزاء خاصة، مأخوذة هي والهيئة لا بشرط، تتحد معها اتحاد
الصورة مع المادة.
308

كما يظهر لك: أن عنواني «الصحيح» و «الأعم» خارجان عن الموضوع له
رأسا، فتدبر.
الجهة السابعة
في ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمي
تذكر ثمرتان للقول بالصحيح والأعم:
إحداهما: جريان أصالة الاشتغال على القول بالصحيح، وأصالة البراءة
على القول بالأعم; إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به (1).
والثانية: جواز التمسك بالإطلاق على القول بالأعم، دون القول بالصحيح (2).
فالكلام يقع في موردين:
المورد الأول: في جريان الاشتغال على قول الصحيحي، والبراءة على قول
الأعمي; إذا شك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به.
قد يقال: إن ثمرة النزاع بين الصحيحي والأعمي، إنما تظهر في جواز التمسك
بالبراءة عند الشك في جزئية شيء للمأمور به وعدمه، فإن الصحيحي لا يمكنه الركون
إلى البراءة عند ذلك، بل يلزمه الرجوع إلى الاشتغال في ذلك، وأما الأعمي فيجوز له
الرجوع إلى البراءة فإن رأى - في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين -
انحلال العلم الإجمالي بالقطع بمقدار الأقل والشك في الزائد، فيقول بالبراءة، وإلا يلزمه
القول بالاشتغال.
وليعلم أولا: أنه لو كان متعلق الأمر عنوانا معلوما، لكن شك في حصوله بترك

1 و 2 - انظر ما ذكروه في هداية المسترشدين: 113 سطر 13، ومطارح الأنظار: 9 سطر 12،
وكفاية الأصول: 43 - 44، وفوائد الأصول 1: 77، ونهاية الأفكار 1: 95 - 96، ودرر
الفوائد: 54، ونهاية الأصول: 55 - 56.
309

ما يحتمل اعتباره أو وجود ما يحتمل أنه منه; بحيث يكون مرجع الشك إلى الشك في
تحقق العنوان المحصل، فالعقل يحكم بالاشتغال; لأنه بعد اشتغال ذمته بالعنوان
البسيط المعلوم، لابد له في مقام الامتثال من إتيان كل ما يحتمل دخله في حصول ذلك
العنوان، وترك ما يحتمل منعه عن تحقق ذلك العنوان.
وأما إن أمكن الصحيحي إرجاع العنوان المأمور به إلى الأقل والأكثر بنحو من
الأنحاء، فلا يلزمه القول بالاشتغال، بل يدور أمره بين انحلال العلم الإجمالي وعدمه،
فإن قال بالانحلال فالبراءة، وإلا فالاشتغال، كما هو الشأن في مقالة الأعمي.
وبالجملة: لو رجع الشك في جزئية شيء للمأمور به - أو مانعيته له - إلى الشك
في كيفية تعلق الأمر والتكليف; وأنه هل هو الناقص أو الزائد؟ فالمرجع البراءة.
وأما إذا رجع الشك إلى انطباق العنوان المأمور به على الموجود الخارجي
والمأتي به، فالمرجع الاشتغال.
إذا تمهد لك هذا فنقول:
يظهر من بعضهم: عدم ابتناء مسألتي الاشتغال والبراءة على القول بالصحيح أو
الأعم، بل مبنيتان على انحلال العلم الإجمالي وعدمه.
للمحقق الخراساني (قدس سره) (1) بيان في ذلك أوضحه تلميذه المحقق العراقي (قدس سره)، ولكن
مع تقريب آخر مخصوص به (2).
أما ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) بتقريب تلميذه المحقق العراقي (قدس سره)، فحاصله:
أنه إذا تعلق الأمر بسنخ عنوان بسيط مباين لما يتولد منه; بحيث لا يصح حمله
عليه، فإذا شك في دخالة شيء - جزءا أو شرطا - في حصول شيء، فالشك في ذلك

1 - كفاية الأصول: 44.
2 - ذكر التقريبان في بدائع الأفكار 1: 123، خلال الإشكال الثالث على التصوير الجامع على
الصحيحي.
310

الأمر، لا يسري إلى الشك في عنوان المأمور به ليسري إلى نفس الأمر; ليكون موردا
للبراءة، بل العنوان المأمور به معلوم مبين، والشك إنما هو في حصوله بدون ذلك
الشيء، فالمرجع الاشتغال.
وأما إذا تعلق الأمر بعنوان غير مباين ذاتا مع ما يتولد منه، بل يتحد معه
ويتحقق بنفس تحققه في الخارج; بحيث يصح حمله عليه، كالطهارة المسببة عن
الغسلات والمسحات في الوضوء، فإن الشك في اعتبار كون شيء دخيلا في الوضوء
- جزءا أو شرطا - يسري إلى الشك بنفس العنوان المتحد معها خارجا; بحيث يسري
إلى الشك بنفس الأمر المتعلق بالوضوء، فيكون موردا للبراءة، فعلى هذا إذا كان
الجامع بين أفراد الصلاة الصحيحة عنوانا بسيطا، منتزعا عن تلك الأفراد المختلفة
زيادة ونقيصة - بحسب اختلاف الحالات المتحدة معها وجودا - كعنوان الناهي عن
الفحشاء مثلا، فالمرجع البراءة، لا الاشتغال (1).
وأما التقريب الذي تفرد به المحقق العراقي (قدس سره): فهو أنه لو كان المأمور به أمرا
بسيطا ذا مراتب; يتحقق بعض مراتبه بتحقق بعض الأمور المحصلة له، فإذا شك
بدخل شيء آخر في تحقق مرتبته العليا، لكان ذلك الشيء موردا للبراءة أيضا; وإن
كان المأمور به مغايرا ومباينا لمحصله بنحو لا يصلح حمله عليه; لأن الشك حينئذ
يسري إلى الأمر بالرتبة العليا من ذلك الشيء البسيط، المعلوم تعلق الأمر بالمرتبة
الضعيفة منه; لدخولها في المرتبة القوية العليا (2).
وفيه: أنه في كلا التقريبين نظر:
أما التقريب الأول: فلأن عنوان الطهارة - مثلا - يغاير عنواني الغسل والمسح
مفهوما ويتحد معهما خارجا، وكذا عنوان الناهي عن الفحشاء، يغاير عناوين التكبير

1 - نفس المصدر 1: 123.
2 - نفس المصدر 1: 123 - 124.
311

والحمد والركوع والسجود وغيرها مفهوما، ويتحد معها وجودا، فإذا تغاير المفهوم
الانتزاعي مع مفهوم أجزائه، فلا تتحد معها في عالم المفهومية; لأن الاتحاد إنما هو في
ظرف الوجود والخارج، ومورد التكليف وتعلق الأمر هو عالم المفهوم لا الوجود،
فلا تعقل سراية الشك في مفهوم «أحدهما» إلى المفهوم الآخر; ألا ترى أن مجرد اتحاد
عنوان «العالم مع الأبيض» في الخارج، لا يوجب سراية إجمال مفهوم أحدهما - لو كان
مجملا - إلى المفهوم الآخر.
فنقول: فيما نحن فيه إذا كان تعلق التكليف بعنوان بسيط منشأ لانتزاع عنوان
«الناهي عن الفحشاء»، وذلك المعنى البسيط متحد مع هذه الأجزاء الخارجية، فإذا
شك في حصول العنوان البسيط بترك ما يحتمل اعتباره فيه شرطا أو جزءا، فلابد من
إتيانه; لأن الشك حينئذ في حصول العنوان البسيط المعلوم.
فظهر لك بهذا البيان: عدم الفرق بين كون العنوان الانتزاعي متحدا مع الأجزاء
والشرائط وجودا; بحيث يصح حمله عليها، أو مباينا لها من حيث الوجود; لاشتراكها
فيما يرجع إلى الاشتغال ملاكا، وما ذكره هذا المحقق (قدس سره) لعله من باب اشتباه الخارج
بباب تعلق الأمر.
فتحصل: أنه على مذهب الصحيحي يلزم القول بالاشتغال; لأنه على هذا
المذهب إذا أتى المكلف بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها مثلا، ولكن أخل بجزء أو
بشرط منها لم يتحقق مسمى الصلاة; لأن المسمى متعلق التكليف، فإذا شك في
حصول العنوان وانطباقه على ما أوله التكبير وآخره التسليم بدون القراءة مثلا، فلابد
له من إتيانها; لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في تحقق المكلف به وتحصله بدونها،
ولافرق في جريان الاشتغال في الشك في المحصل - على الصحيحي - بين أن يكون
البسيط مباينا مع محصلاته خارجا أو متحدا معها.
وأما على مذهب الأعمي فيجوز له إجراء البراءة بالنسبة إلى ذلك; لصدق
312

مسمى الصلاة بدون الجزء أو الشرط المشكوك فيه، فتدبر.
وأما التقريب الذي تفرد به المحقق العراقي (قدس سره) ففيه: أن المرتبة الضعيفة: إما
تكون صحيحة، أو لا، فإن كانت صحيحة فلابد وأن يصح الاكتفاء بها، وترك المرتبة
العالية عمدا; لكونها على ذلك أفضل الأفراد، ويكون المعتبر فيها أمرا زائدا على حقيقة
الصلاة، وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به.
وإن لم تكن صحيحة ولا يصح الاكتفاء بها فلا تصدق الصلاة عليها، وهو
خروج عن الفرض; لأن المفروض تصوير الجامع الصحيحي، وكلما يكون دخيلا في
الصحة على الصحيحي يكون دخيلا في المسمى.
ولو تم ما ذكره: من أنه مثل الخط قابل للشدة والضعف، فلابد له من أن
يتمسك بالإطلاق بوجود أول المرتبة لو شك في اعتبار أمر فيها، مع أنهم
لا يتمسكون به.
هذا كله بالنسبة إلى الجامع الذي تصوره المحقق الخراساني (قدس سره)، وقد عرفت أن
الحق على مذهبه الاشتغال.
وأما على مذهب الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقق النائيني (قدس سرهما) القائلين: بأن
الصلاة اسم للتامة الأجزاء والشرائط - مع اختلاف يسير بينهما، كما أشرنا إليه فيما
تقدم - وهي التي يستحق إطلاق الصلاة عليها حقيقة وبلا عناية، وأما ما عداها
فإطلاقها عليها مجاز وبالعناية.
فالحق أيضا الاشتغال في صورة الشك في الأجزاء والشرائط.
وذلك لأنه على هذا المذهب، تكون الأجزاء والشرائط دخيلة في صدق
عنوان الصلاة ومسماها; ضرورة أن الصحيحي يرى أن المأمور به هو المسمى بالصلاة،
فإذا كان المسمى التامة الأجزاء والشرائط، فترك ما يحتمل اعتباره فيها - جزءا أو
شرطا - ترك لما يحتمل اعتباره في المسمى، فلم يحرز المسمى، فالقاعدة الاشتغال،
313

لا البراءة.
وبالجملة: لو كان المأمور به هي الصلاة التامة الأجزاء والشرائط، فاحتمال
دخالة شيء في المأمور به مرجعه إلى احتمال دخالة ذلك الشيء في المسمى، فعند ترك
الشيء المحتمل يشك في صدق المسمى، ومع الشك في صدق المسمى كيف
يرى البراءة؟!
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك ضعف ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره); لأنه
قال: بناء على ما اخترناه من أن الصلاة تكون إسما للتامة الأجزاء والشرائط،
فجريان البراءة عند الشك في الأجزاء والشرائط واضح; لأن متعلق التكليف يكون
حينئذ نفس الأجزاء (1).
وتوضيح الضعف لائح مما ذكرنا; لأن الصحيحي يرى أن المأمور به هو المسمى
بالصلاة، وهي عبارة عن التامة الأجزاء والشرائط، فالشك في دخالة شيء في المأمور
به - شرطا أو شطرا - شك في تحقق المسمى، فكيف يحكم بالبراءة (2)؟!
هذا كله بالنسبة إلى الصحيح الفعلي، على مذهب العلمين الخراساني والعلامة
الأنصاري (قدس سرهما) ومن يحذو حذوهما.
وهكذا لو قلنا: بأن المراد بالصحيح الصحيح بالنسبة إلى خصوص الأجزاء،
الذي هو عبارة أخرى عن الصحة الاقتضائية، فمقتضى القاعدة أيضا الاشتغال بالنسبة
إلى الشك في دخالة جزء في المأمور به، وأما بالنسبة إلى دخالة شرط فيه فالقاعدة
البراءة; وذلك لأن الصحيحي على هذا المذهب: يرى أن الصلاة - مثلا - موضوعة
للتامة الأجزاء، أو لعنوان لا ينطبق إلا على التامة الأجزاء، فالشك في دخالة جزء

1 - انظر فوائد الأصول 1: 79.
2 - قلت: ولا يخفى أن في تعليله: بأن المكلف به نفس الأجزاء، مع أن المدعى أن المسمى التامة
الأجزاء والشرائط، نوع خفاء. المقرر
314

فيها مرجعه إلى الشك في تحقق المسمى، بخلاف الشك في اعتبار شرط فيها، كما
لا يخفى.
فتحصل مما ذكرنا: أنه إذا تحقق أن محل البحث بين الصحيحي والأعمي; في أن
الصحيحي يرى أن كل ما هو دخيل في المأمور به يكون دخيلا في المسمى، فمرجع
الشك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به إلى الشك في تحقق المسمى، وأما الأعمي
فلا.
نعم: الأعمي بالنسبة إلى الأجزاء الركنية - التي لا تصدق الصلاة على الأقل
منها - يكون كالصحيحي.
ولتوضيح المقال نقول من رأس: إن مقتضى القاعدة - على قول الصحيحي -
الاشتغال في كل ما شك في اعتباره مطلقا; سواء قلنا بأن الصلاة أمر انتزاعي، أو كانت
الصلاة حصة وجودية سارية في المقولات من غير تقييد وقيد بها، أو قلنا: إن الصلاة
أمر آخر، والأجزاء والشرائط محصلات لها، أو قلنا: إن الصلاة اسم للجامع التام
الأجزاء والشرائط، أو قلنا بالصحيح الاقتضائي.
وذلك لأن الصلاة - التي تكون متعلقة للتكليف - إذا كانت أمرا انتزاعيا، فهي
منتزعة من جميع الأجزاء والشرائط المتقررة بالتقرر الذهني، فلو أتى بجميع الأجزاء
والشرائط، ولكن ترك ما يحتمل اعتباره جزءا أو شرطا، أوجب ذلك الشك في أن
ما أتى به في الخارج مصداق للمأمور به، ومنطبق عليه عنوان الصحة، أم لا،
فالقاعدة الاشتغال.
وكذا الكلام على مذهب الشيخ الأعظم الأنصاري والمحقق النائيني (قدس سرهما)،
والقائل بالصحة الاقتضائية; لرجوع الشك في ترك ما يحتمل إعبتاره في الصحة إلى
الشك في تحقق المأمور به بدون ذلك الجزء أو الشرط، فالقاعدة تقتضي الاشتغال.
فظهر وتحقق: أنه على مذهب الصحيحي لابد من القول بالاشتغال، عند
315

الشك في جزئية شيء أو شرطيته.
وأما على مذهب الأعمي: فبالنسبة إلى الأجزاء والشرائط الرئيسة التي ينعدم
المسمى بانعدام واحد منها، فهو والصحيحي سيان في ذلك; لأن مرجع الشك فيها إلى
الشك في تحقق المسمى، وقد عرفت أن القاعدة عند ذلك الاشتغال (1).
وأما بالنسبة إلى غير الأجزاء والشرائط الرئيسة، فجريان البراءة والاشتغال
فيها مبنيان على انحلال العلم الإجمالي وعدمه، فتكون المسألة من صغريات كبرى
مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، وقد اختلفوا فيها: فبعضهم ذهبوا إلى البراءة (2)،
وبعضهم إلى الاشتغال (3).
فإن قلنا في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين بالبراءة - كما هو المختار - نقول
هنا أيضا بالبراءة مطلقا; سواء قال الأعمي: إن الصلاة - مثلا - عبارة عن خصوص
الأركان والزائد عليها غير دخيل في المسمى، أو أن الصلاة أخذت لا بشرط من طرف

1 - قلت: ولا يخفى أن هذا مجرد فرض; لأنه لا يشك إلا بعد تحقق الأجزاء الرئيسة والأركان،
وهي معلومة من الدليل الاجتهادي.
2 - قال الشيخ الأنصاري: الظاهر أنه المشهور بين العامة والخاصة - المتقدمين منهم
والمتأخرين - كما يظهر من تتبع كتب القوم كالخلاف والسرائر وكتب الفاضلين والشهيدين
والمحقق الثاني ومن تأخر عنهم... إلى أن قال: فالمختار جريان أصل البراءة.
انظر فرائد الأصول: 272 - 273 سطر 24، ونهاية الأفكار 3: 382، والحاشية على كفاية
الأصول 2: 285 - 286.
3 - الفصول الغروية: 357 سطر 11، وقد نسب المحقق النائيني والمحقق العراقي على ما في
تقريرات بحثهما إلى صاحب الحاشية على المعالم قوله باشتغال الذمة وعدم جواز إجراء
أصل البراءة لوجود العلم الإجمالي بالتكليف وقد نفى مقرر بحث المحقق النائيني أن يكون
مقصود صاحب الحاشية من كلامه ما فهمه منه المحقق النائيني. فراجع هداية المسترشدين:
449 سطر 19، لكي تطلع على مقالته ثم راجع كلام الشيخ الكاظمي في هامش فوائد
الأصول 4: 154 و 158 لتتعرف على السبب الذي دعاه لنفي ذلك.
316

المادة والهيئة - كما ذكرنا - أو أن الصلاة عنوان بسيط منتزع عن الأجزاء والشرائط،
أو أن الصلاة عنوان بسيط يحصلها هذه الأجزاء والشرائط.
وبالجملة: الأعمي على جميع هذه الوجوه يمكنه إجراء البراءة عند الشك،
فينبغي العنونة للمورد الذي يمكن الخدشة في جريان البراءة فيه، وتبيين جريان
البراءة فيه، فيظهر حال البقية التي ليست كذلك.
فنقول: لو كانت الصلاة عبارة عن الموجود الخارجي البسيط، والأجزاء
والشرائط محصلات لها، فحيث إن الأعمي يرى أن الصلاة تصدق في عرف المتشرعة
على إتيان الأركان والأجزاء الرئيسة.
وبعبارة أخرى: يصدق عنوان «الصلاة» خارجا على أقل المراتب، فيكون
مرجع الشك في اعتبار جزء أو شرط في الصلاة، إلى أن مطلوب الشارع هل يزيد
على مسمى الصلاة أم لا؟ وواضح أن الأصل البراءة.
وبعبارة أخرى: لو كان الموجود الخارجي عنوانا بسيطا فلابد وأن يكون له
مراتب، فمع تحقق طائفة من الأجزاء والشرائط تتحقق هناك المرتبة الدانية، فمرجع
الشك في اعتبار شيء زائد عليها إلى أن مطلوب الشارع، هل يزيد عن تلك المرتبة
الدانية أم لا؟ فالقاعدة تقتضي البراءة من الزائد، وإن لم نقل بالبراءة في دوران الأمر
بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وبالجملة: على مذهب الأعمي لو كانت الصلاة حقيقة بسيطة خارجية، ذات
مراتب وقيود زائدة على المسمى، فالمقدار الثابت والمعلوم هو لزوم إتيان ما علم
اعتباره، وأما الزائد على المسمى فالحق - وفاقا لثلة من المحققين (1) - هو البراءة في كل
جزء أو شرط شك في اعتباره في المأمور به.

1 - تقدم تخريجه.
317

وزبدة الكلام في هذه الثمرة: هي أن من ظهر له محط البحث بين الصحيحي
والأعمي، ولم تختلط لديه العناوين بعضها ببعض، فلابد له من القول بالاشتغال; لو
رأى أن الألفاظ موضوعة للصحيحة إذا شك في اعتبار شرط أو جزء، وأما لو
رأى أنها موضوعة للأعم، فله إجراء البراءة أو الاشتغال فيه; على البنائين في باب
الأقل والأكثر الارتباطيين.
فظهر لك - بحمد الله - ثبوت هذه الثمرة بين القولين، وأنه لا غبار عليها.
المورد الثاني: في جواز التمسك بالإطلاق، عند الشك في جزئية شيء أو
شرطيته للمأمور به على القول الأعمي، وعدم صحته على القول الصحيحي.
وهي الثمرة الثانية المعروفة على القولين.
تقريب الاستدلال: هو أن الخطاب مجمل ولا إطلاق فيه على الصحيحي; فيما
لو شك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به; لدخوله في المسمى، وجواز التمسك
بالإطلاق على الأعمي إذا لم يكن المشكوك فيه دخيلا في المسمى.
وبعبارة أخرى: التمسك بالإطلاق كالتمسك بسائر الأحكام، لابد له من إحراز
الموضوع ليترتب عليه الحكم، فكما إذا لم يحرز موضوع الحكم لا يترتب عليه الحكم،
فكذلك الإطلاق لابد من إحراز موضوعه، فما لم يحرز موضوع الإطلاق لا يصح
التمسك به، ولا يخفى أن مرجع الشك في الجزئية - على الصحيحي - إلى الشك في تحقق
المسمى، فلا يصح التمسك بالإطلاق، بخلاف القول بالأعم بالنسبة إلى غير ما هو
دخيل في المسمى، فإن الشك فيه شك في اعتباره في المأمور به بعد تحقق المسمى.
أورد على هذه الثمرة إشكالان:
الإشكال الأول: ما أورده المحقق النائيني (قدس سره)، وحاصله: أنه لا يمكن التمسك
بالإطلاقات الواردة في الكتاب والسنة; من قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا
318

الزكاة) (1)، (ولله على الناس حج البيت) (2)... إلى غير ذلك; لأن التمسك بها فرع
معرفة الصلاة والزكاة والحج، والعلم بما هو المصطلح عليه شرعا من هذه الألفاظ، ولم
يكن يعرف العرف منها شيئا إلا ببيان من الشرع; لأن هذه الماهيات من المخترعات
الشرعية، وليس في العرف منها عين ولا أثر، فلو خلينا وأنفسنا لم نفهم من قوله
تعالى: (أقيموا الصلاة) - مثلا - شيئا، فلا يمكن أن يكون مثل هذه الإطلاقات
واردة في مقام البيان.
نعم: يمكن للأعمي أن يتمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ما شك في جزئيته أو
شرطيته، بعد معرفة عدة من الأجزاء; بحيث يصدق عليها المسمى في عرف المتشرعة
- الذي هو مرآة للمراد الشرعي - أنها صلاة أو حج، ولكن هذا في الحقيقة ليس
تمسكا بإطلاق قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) مثلا، بل هو تمسك بإطلاق ما دل
على اعتبار تلك الأجزاء والشرائط، كما لا يخفى.
وبالجملة: بناء على الأعم يمكن التمسك بإطلاق قوله: (إنما صلاتنا هذه: ذكر،
ودعاء، وركوع، وسجود، ليس فيها شيء من كلام الآدميين) (3) على نفي جزئية شيء لو
فرض أنه وارد في مقام بيان المسمى للصلاة، وأما لو كان واردا في مقام بيان ما هو
المأمور به، فيمكن التمسك بإطلاقه على كلا القولين، وأما بناء على الصحيح فلا يمكن
التمسك بإطلاق ذلك; لاحتمال أن يكون للمشكوك فيه دخل في الصحة.
نعم: يمكن التمسك بالإطلاق المقامي في مثل صحيحة حماد (4)، الواردة في مقام

1 - البقرة: 43.
2 - آل عمران: 97.
3 - انظر عوالي اللآلي 1: 421 / 97، ومستدرك الوسائل 4: 91، كتاب الصلاة، أبواب أفعال
الصلاة، الباب 1، الحديث 9.
4 - الفقيه 1: 196 / 1، وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1،
الحديث 1.
319

بيان كل ما هو دخيل في الصلاة، ولكن لا يختص ذلك بالأعمي، بل يمكن الصحيحي
أن يتمسك بالإطلاق المقامي أيضا.
وحاصل الكلام: أن الخطابات المتعلقة بالعبادات الواردة في الكتاب والسنة;
حيث لم تصدر في مقام بيان ماهياتها، فلا يصح التمسك بها ولو على القول بالأعم.
نعم: يصح التمسك بالإطلاقات الواردة في مقام بيان ما هو دخيل في المأمور به،
كصحيحة حماد الواردة في مقام بيان الأجزاء والشرائط، ولكن لا يختص ذلك
بالأعمي، بل للصحيحي أن يتمسك بالإطلاق; بالسكوت عن بيان ما شك في
اعتباره; حيث كان في مقام بيان نحو ذلك (1).
وفيه أولا: أنه لا نسلم عدم معلومية هذه الماهيات لدى العرف، الذين كانوا
مخاطبين بتلك الخطابات، بل كانت معلومة لديهم، خصوصا الصلاة والصوم والحج;
يرشدك إلى ما ذكرنا قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم...) (2).
و (وأذن في الناس بالحج...) (3).
و (فويل للمصلين) (4).
إلى غير ذلك من الآيات، لاحظ الآيات النازلة في أوائل البعثة، فإنها أصدق
شاهد على معلومية هذه الماهيات، خصوصا الحج لديهم، فكانوا يحجون في أوقات
خاصة، والظاهر أنهم - كما أشرنا في مبحث الحقيقة الشرعية - كانوا يعبرون عن
ماهية الصلاة والصوم والحج وغيرها بهذه الألفاظ دون غيرها، فلاحظ.

1 - فوائد الأصول 1: 77 - 78.
2 - البقرة: 183.
3 - الحج: 27.
4 - الماعون: 4.
320

فما ذكره (قدس سره): من أنه لم يكن في العرف منها عين ولا أثر، غير مستقيم; لما أشرنا
إليه: من أن العرب في ابتداء البعثة ونزول المطلقات، كانوا يفهمون منها مقاصد الشارع
الأقدس، ولم تكن هذه الماهيات من مخترعات الشريعة، بل كانت معروفة معهودة من
زمن الجاهلية، نعم الشارع الأقدس زاد فيها ونقص (1).
فعلى هذا لا يتم ما ذكره: من أن المطلقات غير واردة في مقام البيان فلا يصح
التمسك بها; بداهة أنه إنما يتم فيما إذا لم يفهم العرب - حال نزول الآيات - منها شيئا
أصلا، وقد عرفت خلافه.
وثانيا: لو سلم عدم معلومية مفاهيم تلك الماهيات في الصدر الأول، إلا أنه
لا ينبغي الإشكال في معلوميتها في الأزمنة المتأخرة وخصوصا في مثل زماننا، فبعد
معلومية ماهية الصوم - مثلا - وأنه عبارة عن الإمساك عن عدة أمور - من طلوع
الفجر إلى ذهاب الحمرة المشرقية - إذا شك في مبطلية مطلق الكذب للصوم - مثلا -
فيمكن للأعمي أن يتمسك لنفيه بقوله تعالى: (كتب عليكم الصيام...) (2).
وأما الصحيحي فلا يمكنه ذلك; لأن مرجع الشك في المبطلية عنده إلى الشك في
تحقق المسمى.
وكذا إذا شك في اعتبار أمر زائد في الصوم الذي يجب على من ارتكب قتلا
خطأ، فيتمسك الأعمي بإطلاق قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين...) (3) دون الصحيحي... إلى غير ذلك.
فتحصل: أن المطلقات الواردة في الكتاب والسنة واردة في مقام البيان، ولذا

1 - قلت: هذا الكلام من هذا المحقق (قدس سره)، ينافي ما سبق منه من عدم ثبوت الحقيقة الشرعية،
كما لا يخفى. المقرر
2 - البقرة: 183.
3 - النساء: 92.
321

لم يزل ولا يزال العلماء يتمسكون بها لنفي ما احتمل اعتباره أو رفع ما احتمل مانعيته.
ويمكن الاستدلال على كونها واردة في مقام البيان، باستدلال الإمام
الصادق (عليه السلام) على كون المسح ببعض الرأس لا تمامه; لمكان الباء (1) في قوله تعالى:
(وامسحوا برءوسكم...) (2).
وهل لا يصح التمسك بإطلاق قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) (3) إذا
شك في كون الطواف - مثلا - من يمين الكعبة أو يسارها، وهل لا يتمسك بقوله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (4) من تحقق له أول مرتبة
الاستطاعة إذا شك في اعتبار قيد آخر، وهكذا غيرها من المطلقات التي يظفر بها
المتتبع في أبواب الفقه، ولا مفر له من التمسك بها.
وليت شعري، أي فرق بين مطلقات الكتاب والسنة، وقول المولى لعبده: «أعتق
رقبة» - مثلا - إذا شك في اعتبار الإيمان فيها مثلا؟! مع أن قوله: «أعتق رقبة»، لم يكن
في مقام بيان ماهية الرقبة وحقيقتها، بل في مقام بيان معرضية الرقبة للحكم ووجوب
العتق، فكما يصح التمسك بإطلاق قوله: «أعتق رقبة» لنفي اعتبار الإيمان، فليكن
ما نحن فيه أيضا كذلك.
وبما ذكرنا يظهر الضعف فيما أجاب به المحقق العراقي (قدس سره): بأنه يكفي في صحة
الثمرة فرض وجود مطلق في مقام البيان، فإنه يكفي في صحة ثمرة المسألة الأصولية
إمكان ترتبها في مقام الاستنباط (5).

1 - الفقيه 1: 56 / 1، وسائل الشيعة 1: 290، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23،
الحديث 1.
2 - المائدة: 6.
3 - الحج: 29.
4 - آل عمران: 97.
5 - بدائع الأفكار 1: 129.
322

وجه الضعف: هوما عرفت من وجود مطلقات في الكتاب والسنة، والاستدلال
بها من الصدر الأول إلى زماننا (1).
الإشكال الثاني: وقد أشار إليه المحقق العراقي (قدس سره)، وحاصله:
أن الصحيحي وإن لا يمكنه التمسك بالإطلاق لما ذكر، إلا أن الأعمي في النتيجة
مثله; لأنه لا ريب في أن المأمور به ومتعلق الطلب هو العمل الصحيح، ولا يصح
التمسك بالإطلاق لنفي اعتبار ما شك بدخله في صحة العبادة; لكون الشبهة على هذا
شبهة مصداقية، ولا يصح التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية (2).
وفيه: أن مرجع الشك في اعتبار شيء في المأمور به - على الصحيحي - إلى
الشك في تحقق المسمى وتحقق العنوان، فلا يصح التمسك بالإطلاق عند ذلك; لكونه
تمسكا بالإطلاق في الشبهة المصداقية.
وأما على الأعمي فإذا كان غير دخيل في المسمى، فلابد له من الإتيان
بالعنوان المأخوذ في لسان الدليل، وله دفع اعتبار قيد زائد; ولذا ترى أن العقلاء
يحتجون - بعضهم على بعض - بالعناوين المأخوذة في عباراتهم، فإذا تعلقت الإرادة
الاستعمالية بعنوان، فمقتضى تطابق الإرادة الجدية مع الاستعمالية دفع كل ما احتمل
إرادة المولى إياه، ولم يأخذه في عنوان الدليل; ألا ترى أنه إذا قال المولى لعبده: «أعتق
رقبة»، فلو شك في اعتبار الإيمان - مثلا - فيها فينفى بالأصل العقلائي، وهو تطابق
الجد مع الاستعمال، وليس للمولى بالنسبة إلى اعتبار الإيمان حجة على عبده، بل

1 - قلت: ولا يخفى أن هذا الذي ذكره المحقق العراقي (قدس سره) جوابه الثاني عن الإشكال، وجوابه
الأول الذي هو الأصل في الجواب: هو كون الخطابات الواردة في الكتاب والسنة واردة في
مقام بيان المشروع، فيصح التمسك بها، ولذا تمسك الفقهاء بالإطلاقات الواردة فيهما،
فلاحظ. المقرر
2 - بدائع الأفكار 1: 130.
323

يصح للعبد الاحتجاج على مولاه بما أخذ في ظاهر كلامه، بعد الفحص واليأس من
اعتبار قيد زائد على العنوان المأخوذ، وحيث لم يكن للمولى بيان بالنسبة إلى اعتبار
القيد الزائد، فالأصل يقتضي عدم اعتباره.
وبالجملة: أن الأوامر - على الأعمي - متعلقة بنفس العناوين، ولا ينافيها
تقييدها بقيود منفصلة، كما قرر في محله، فإذا ورد مطلق في مقام البيان نأخذ بإطلاقه
ما لم يرد مقيد، ونحكم بصحة المأتي به عند الشك في اعتبار قيد فيه.
ومما ذكرنا ظهر ضعف ما توهم: من أن المطلوب هو عنوان الصحيح أو
ما يلازمه، فلابد من إحرازه ولو على الأعمي.
توضيح الضعف: هو أنه وإن لم يتعلق جد المولى بغير الصحيح، ولكن لا حجة
للمولى على عبده بالنسبة إلى القيد الزائد، بل للعبد حجة عليه.
وبعبارة أخرى: الأمر والبعث على الأعمي لم يتعلق ولم ينحدر إلى عنوان
الصحيح أو ما يلازمه، بل بنفس العنوان، فمع تحقق العنوان - إذا كان المولى في مقام
البيان - نأخذ بإطلاقه ما لم يرد له قيد.
هذا في الموضوعات العرفية مسلم لا إشكال فيه، فكذلك في الموضوعات
الشرعية، فللأعمي أن يتمسك بما أخذه الشارع في لسان الدليل لنفي ما لم يكن دخيلا
في تحقق المسمى.
مثلا: إن علم أن الصوم - مثلا - هو الإمساك عن عدة أمور من زمان إلى زمان
مع قصد القربة، ولكن شك في مفطرية مطلق الكذب - مثلا - إياه، فيمكنه التمسك
بإطلاق قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام...) (1) لنفيه.
وأما الصحيحي فلا يمكنه ذلك; لأن احتمال اعتبار أمر فيه يؤدي إلى الشك في

1 - البقرة: 183.
324

تحقق المسمى، والتمسك به عند ذلك تمسك به في الشبهة المصداقية.
والحاصل: أن للأعمي طريقا إلى إحراز المأمور به، وأما الصحيحي فلا طريق
له إلى ذلك، فلابد له من إتيان كل ما يحتمل اعتباره فيه، فتدبر.
تنبيهان
الأول: يظهر من خلال كلام المحقق النائيني (قدس سره)، بل صريح كلامه: أن الصحيح
عنده عبارة عما قام الدليل على اعتباره.
وبعبارة أخرى: الصحيح هو ما أحرز صحته (1)، مع أن الصحيح أمر واقعي
يحرز بالدليل، فتدبر.
الثاني: يظهر من المحقق العراقي (قدس سره)، بل صريح كلامه أيضا: أن الصحيحي
والأعمي يشتركان في أن متعلق الطلب هي الحصة المقارنة للصحة; من دون دخالة
للصحة في متعلق الطلب قيدا وتقييدا; لاستحالة الأمر بالفاسد، واستحالة الإهمال في
متعلق الطلب، ولكن يختص الصحيحي بكون الموضوع له عنده خصوص الحصة
المقارنة للصحة، والأعمي لا يرى كون الموضوع له خصوص ذلك، وقال: إن مثل هذا
الفرق لا أثر له في جواز التمسك بالإطلاق وعدمه (2).
وفيه: أنه إن أراد (قدس سره) أن متعلق الطلب والإرادة الحصة المقارنة لمفهوم الصحة
فلا نسلمه.
وإن أراد تعلق الطلب والإرادة بواقع الصحة فنسلمه، ومعناه: أن ما يكون
دخيلا في غرضه ومحصلا إياه يكون مراده.
فحينئذ نقول: إن الصحيحي لا يمكنه إحراز ما يكون دخيلا في غرضه إلا

1 - فوائد الأصول 1: 78.
2 - بدائع الأفكار 1: 130.
325

بإتيان ما يشك في اعتباره، بخلاف الأعمي، فحيث إنه أحرز الموضوع فينفي الزائد
بالأصل، فتدبر.
الجهة الثامنة
فيما وضعت له ألفاظ العبادات (1)
بعد ما أحطت خبرا بما تلونا عليك: من إمكان تصوير الجامع بين الأفراد
الصحيحة، وإمكانه بين الصحيح والفاسد، يقع الكلام في مقام الإثبات، ومقام
التصديق، وأنه هل وضعت ألفاظ العبادات لخصوص العبادات الصحيحة، أو للأعم
منها والفاسدة؟
وليعلم أولا: أن القائلين بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة منها على طائفتين:
فطائفة كشيخنا العلامة الأنصاري والمحقق النائيني (قدس سرهما) وأتباعهما; حيث ذهبوا بوضعها
لخصوص الماهية الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط (2)، والطائفة الاخرى كالمحقق
الخراساني (قدس سره) وأتباعه; حيث تصدوا لتصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة وإمكان
الإشارة إليه بخواصه وآثاره (3).
ولكل من الطائفتين دعوى تخصه وتقريب يتكل عليه، فمن يزعم ويعتقد بأن
الألفاظ موضوعة للأعم، لابد له من إبطال دعوى كلتا الطائفتين وتقريبهما.
فنقول: استدل شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) على كون الألفاظ موضوعة
للمركب التام بوجوه عمدتها وجه واحد:
حاصله: أن الوجدان حاكم على أن ديدن الواضعين للألفاظ للمعاني المخترعة،

1 - قلت: كان الأولى - كما يقتضيه الترتيب الطبيعي - ذكر هذه الجهة عقيب الجهة السادسة،
وذكر ثمرة القولين بعدها، كما لا يخفى. المقرر
2 - مطارح الأنظار: 11 سطر 29، فوائد الأصول 1: 63.
3 - كفاية الأصول: 39.
326

هو وضعها لما هو المركب التام، ولم يتخطوا هذه الطريقة في الوضع، وهو الذي تقتضيه
حكمة الوضع، وهي أساس الحاجة إلى التعبير عنها كثيرا، والحكم عليها بما هو من
لوازمه وآثاره، وأما استعمالها في الناقص فلا نجده إلا مسامحة; تنزيلا للمعدوم منزلة
الموجود; لمساس الحاجة إلى التعبير عنه أيضا، فليس هناك إلا مجاز في أمر عقلي.
ثم إن الناقص الذي يستعمل فيه اللفظ - بعد المسامحة - على وجهين:
الأول: أن يترتب على الناقص الأثر المترتب على التام، وذلك كلفظة
«الإجماع»، فإن خاصية اتفاق الكل موجودة في اتفاق البعض الكاشف عن قول الحجة.
الثاني: أن لا يترتب عليه أثر التام، كما هو قضية الجزئية غالبا.
والقسم الأول: في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة; بحيث لا يلتفتون
إلى التسامح في إطلاقه عليه، فلا حاجة إلى ملاحظة القرينة الصارفة في الاستعمال،
ولذا يتراءى في الأنظار: أن اللفظ موضوع للقدر المشترك بين القليل والكثير، مع أنه
غير معقول، أو الاشتراك اللفظي، حتى أنه لو شك في تعيين مراد المتكلم - إذا دار
الأمر بين التام والناقص الكذائي - فلا وجه لتعيينه بالأصل.
وأما القسم الثاني: فاستعمال اللفظ الموضوع للتام فيه لا يكون إلا بواسطة
التسامح والالتفات إليه، فهو مجاز عقلي.
وتوهم: أن ما ذكر - على تقدير تسليمه - لا يثبت كون وضع الشارع أيضا
كذلك.
مدفوع: بأنا نقطع أن الشارع لم يسلك في أوضاعه - على تقدير ثبوته -
مسلكا غير ما هو المعهود بين الواضعين.
وبهذا يندفع ما ربما يتوهم: من أن مقتضى هذا إثبات اللغة بالاستحسان;
وذلك لأن المحصل هو أنا نجد أنفسنا مقتصرين - عند إرادة الوضع لهذه المعاني
المختلفة المركبة - على ما هو التام، وليس فيه شائبة استحسان، كما هو ظاهر لمن
327

تدرب، كما أنا نجد من أنفسنا أن العلاقة المصححة لاستعمال اللفظ في الناقص هو
التنزيل والمسامحة، دون سائر العلائق المجوزة للتجوز (1).
وفيه: أولا: أن الوجدان على خلاف ما ادعاه; بداهة أن كتاب «المكاسب»
أو «الرسائل» الذي صنفه الشيخ الأعظم - مثلا - اسم لمركب اعتباري مشتمل على
عدة مسائل ومطالب، فإذا فقدت من «المكاسب» مسألة، أو كتبت منهما عبارة
مغلوطة، فإنه مع ذلك يطلق اسم «المكاسب» على البقية على نحو إطلاقه في صورة
تمامه; من دون أن يكون في الإطلاق تجوز وتأول.
والسر في ذلك: هو أن «المكاسب» وضع لمعنى لا بشرط; بحيث لو فقد بعض
مسائله، أو كتب غلطا، يصدق عليه اسم «المكاسب»، وإليك لفظة «السيارة»، فإنها
لم توضع للسيارة التامة من جميع الجهات; حتى يكون استعمالها في غير التام مجازا، بل
تطلق لفظة «السيارة» على التام وما نقص منها جزء أو أجزاء بعنوان الحقيقة.
وثانيا: أن وضع الألفاظ - كما اعترف (قدس سره) - لأجل الاحتياج إلى التعبير عنها
كثيرا، وهذا كما يكون في التام فكذلك يكون في الناقص أيضا، بل احتياج الناس
إلى تفهيم الناقص أكثر منه إلى تفهيم التام، كما لا يخفى، فعلى هذا حكمة الوضع تقتضي
أن توضع الألفاظ للجامع بين التام والناقص، وشيخنا الأعظم (قدس سره) وإن أنكر تصوير
الجامع، إلا أن ظاهر عبارته يعطي: بأن ديدن الواضعين على وضع اللفظ للمركب
التام; سواء أمكن تصوير الجامع أم لا.
وثالثا: أنه لو سلم مقالة شيخنا الأعظم (قدس سره) بالنسبة إلى العرف والعقلاء، ولكن
نقول: إن الشارع الأقدس لم يتبعهم في ذلك، ولم يضع لفظة «الصلاة» - مثلا - بناء على
ثبوت الحقيقة الشرعية لما يأتيه المختار من جميع الجهات; وذلك لأن الشارع - بل وكل

1 - مطارح الأنظار: 11، 12 سطر 27.
328

مقنن - يريد شمول قانونه لكل من يكون في حيطة تصرفه ونفوذه، مع اختلاف
حالاتهم ووجود أصناف مختلفة بينهم، فحكمة الوضع تقتضي أن لا يضع لفظة
«الصلاة» - مثلا - للتام الجامع من حيث الأجزاء والشرائط، بل للجامع بينه وبين
الفاقد لها; لئلا يتوهم اختصاص أحكامها بالواجد لها حتى يثبت خلافه، فلو كانت
لفظة «الصلاة» - مثلا - موضوعة لما يأتيه المختار من جميع الجهات، فيتوهم من
قوله (عليه السلام): (لا صلاة إلا بطهور) (1) - مثلا - اعتبار الطهارة في صلاة المختار فقط، إلا أن
يثبت بدليل - من إجماع أو غيره - اعتبارها في غير الجامع أيضا، وأنت خبير بأنه
طريق صعب يشبه الأكل من القفاء، بخلاف ما إذا وضعت لفظة «الصلاة» للجامع فإنه
سهل لا تكلف فيه، والشارع الحكيم - بل كل مقنن خبير - لا يختار ما يكون صعبا مع
وجود ما يكون سهلا.
وبالجملة: حكمة الوضع تقتضي وضع التكاليف والقوانين لجميع آحاد المكلفين
مع ما لهم من الحالات المختلفة، وبدليل آخر - مثل (رفع ما لا يعلمون وما اضطروا
عليه...) (2) إلى غير ذلك - يسقط اعتبار بعض الشرائط والأجزاء عن بعضهم.
ولا تتوهم مما ذكرنا: أنا نريد بهذا البيان إثبات كون الوضع للجامع، بل نريد
بذلك المناقشة في مقالة الشيخ وأتباعه: بأن حكمة الوضع للجامع، أولى وأحسن من
الوضع للتام من حيث الأجزاء والشرائط والمختار من جميع الجهات.
ورابعا: أنا لم نفهم مراده (قدس سره) من قوله: إن إطلاق اللفظ على الناقص - الذي
يترتب عليه أثر التام - إطلاق تسامحي مغفول عنه; لأنه إذا وضع للتام - كما هو
المفروض - ونزل الناقص منزلته، يكون مجازا عقليا لا حقيقة، فهل يريد إثبات أمر

1 - الفقيه 1: 35 / 1، دعائم الإسلام 1: 100، وسائل الشيعة 1: 256، كتاب الطهارة، أبواب
الوضوء، الباب 1، الحديث 1 و 6.
2 - التوحيد: 353 / 24، الخصال: 147 / 9.
329

وسط بين المجاز والحقيقة؟ وهو كما ترى.
وبالجملة: لا نفهم المراد من المجاز العقلي المغفول عنه، ولعله استفاد ذلك مما قد
يقال: إن اللون الباقي على الثياب بعد غسله مع أنه مشتمل على أجزاء جوهرية،
ولكن لا يرى العرف له أجزاء كذلك; مع أنه فرق بينهما; لأن المفروض أن الصلاة
بدون السورة - مثلا - لم تكن موضوعة لها لفظة «الصلاة»، بل إطلاق «الصلاة» عليها
إطلاق تسامحي عرفي.
وخامسا: لا معنى محصل لقوله (قدس سره): إنه لو شك في تعيين مراد المتكلم; إذا دار
الأمر بين إرادة المركب التام والمركب الناقص المترتب عليه الأثر، لا وجه لتعيينه
بالأصل; وذلك لأن مقتضاه أنه لو دار الأمر بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي،
لا يحمل على المعنى الحقيقي، وهو كما ترى.
مضافا إلى أن ما ذكره (قدس سره) هنا: بأنه مجاز عقلي تسامحي، مخالف لما أفاده في
مقام تصوير الجامع: بأنه استعمل مجازا في الناقص، ثم توسع العرف في تسميتهم إياه،
فصار حقيقة عندهم (1)، فلاحظ.
ولعل ما ذكر هنا اشتباه من العلامة المقرر رحمه الله، والله العالم.
ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) استدل لإثبات مدعاه بالتبادر وصحة السلب (2)،
فقال في بيان التبادر: إن المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هو الصحيح منها،
وقال: لا منافاة بين دعوى ذلك وبين كون الألفاظ على هذا مجملات، فإن المنافاة إنما
تكون فيما إذا لم تكن معانيها - على هذا القول - مبينة بوجه من الوجوه; حتى باعتبار
كون الصلاة - مثلا - ناهية عن الفحشاء، وكونها قربان كل تقي، وكونها معراجا

1 - مطارح الأنظار: 8 سطر 25.
2 - قلت: وليعلم أنه استدل كل من الصحيحي والأعمي لاثبات مدعاه بالتبادر وصحة السلب،
ولكل وجهة هو موليها. المقرر
330

للمؤمن... إلى غير ذلك، وقد عرفت أنها مبينة بغير وجه واحد، بل بوجوه: من
كونها ناهية عن الفحشاء، وأنها قربان كل تقي، وأنها معراج المؤمن.
وقال في صحة السلب: إنه يصح سلب الصلاة - مثلا - عن الفاسد بسبب
الإخلال ببعض أجزائه وشرائطه حقيقة وبالدقة العقلية، وإن لم يصح ذلك بالمسامحة
والعناية.
وبالجملة: إن لفظة «الصلاة» - مثلا - لو كانت موضوعة للجامع بين الصحيحة
والفاسدة لم يصح سلبها عن الفاسدة، مع أنه يصح قطعا; لصحة سلب «الصلاة» عن
صلاة الحائض مثلا، فإطلاق لفظة «الصلاة» على الفاسدة ليس على سبيل الحقيقة، بل
يكون بالمسامحة والعناية; لرعاية المشابهة في الصورة أو غيرها (1).
وفيه: أما دعوى التبادر فيتوجه إشكال - على دعواه ومن يحذو حذوه: بأنه
لا يمكن للصحيحي دعوى تبادر الصحيح ثبوتا - حاصله:
هو أنه إذا وضع لفظ لمعنى، وكان لنفس المعنى لوازم أو عوارض، أو لوجود
المعنى لوازم وعوارض، فلا يحكي اللفظ عن لوازم المعنى وعوارضه بكلا قسميها; في
عرض حكايته عن المعنى الموضوع له، بل حكايته عن اللوازم والعوارض إنما هو
بتوسط المعنى، مثلا: بعد وضع لفظة «الشمس» للجرم المعلوم لو القيت لفظة
«الشمس» وإن كان ينتقل الذهن إلى الحرارة والضوء اللازمتين لها، ولكن ذلك إنما هو
بتوسط معنى الشمس، فالدال في الحقيقة المعنى الموضوع له، والمدلول لوازمه، ولذا
أنكرنا كونها من قبيل دلالة اللفظ.
نعم: حيث إن الانتقال من المعنى الموضوع له إلى لازمه سريع، فكأنه فهم
اللازم من حاق اللفظ; ولذا قد لا يكون شيء لازما لأمر في الواقع لو خلي وطبعه،

1 - انظر كفاية الأصول: 44 - 45.
331

لكن بانضمام شيء له يكون لازما بينا له، وقد يكون بالعكس، وسره أن اللزوم المعتبر
هو اللزوم الذهني، والتلازم في الفهم، لا التلازم الواقعي.
وبالجملة: معنى اللفظ هو الذي وضع اللفظ بإزائه، ولوازم المعنى وعوارضه -
بكلا قسميها - لم تكن محكية، واللفظ حاك عنها، والانتقال إليها إنما هو بعد الانتقال
من اللفظ إلى المعنى، فالانتقال طولي، فإذا انتقال الذهن - في بعض الموارد - من اللفظ
الموضوع للمعنى اللا بشرط إلى مصاديقه، ومن مصاديق المعنى إلى لوازمها، وهكذا -
بواسطة أنس الذهن وكثرة وروده على مشاعر النفس - انتقال طولي; لأن باللفظ
ينتقل إلى المعنى الموضوع له، ثم من المعنى الموضوع له - بلحاظ كثرة أنس الذهن به -
إلى المصاديق، ومن المصاديق إلى لوازمها.
بعد ما تمهد لك ما ذكرنا نقول:
إن المحقق الخراساني (قدس سره) إما يقول: بأن لفظة «الصلاة» - مثلا - موضوعة
للطبيعة المتقيدة بمفهوم الصحة، أو يقول: بوضعها لطبيعة إذا وجدت في الخارج تصير
صحيحة، وتحمل عليها.
ولا أظن التزامه (قدس سره) بالأول، بل صرح أساطين الفن: بأن المراد بالصحيح ما هو
الصحيح بالحمل الشائع، فالصلاة عند الصحيحي هي الماهية المتصفة خارجا
بالصحة (1)، فإذا لو كانت الصلاة موضوعة لماهية بسيطة مجهولة الكنه بمعرفية بعض
العناوين، فلا يمكن دعوى تبادر هذه العناوين، إلا بعد تبادر نفس ذلك المعنى مقدمة
على فهمه تلك العناوين; لأن تلك العناوين لا تخلو: إما أن تكون من لوازم ذات
الصلاة، أو عوارضها، أو لوازم وجودها، أو من عوارض وجودها.
فعلى الأولين تكون تلك العناوين متأخرة عن الذات برتبة، وعن الأخيرتين

1 - هداية المسترشدين: 111 سطر 10، الفصول الغروية: 48 سطر 17، نهاية الأفكار 1: 74.
332

برتبتين، فإنسباق تلك العناوين بواسطة نفس انسباق المعنى الموضوع له، فلا يعقل
تبادرها حال كون المعنى مجهولا.
وبالجملة: مدعي التبادر: إما يرى تبادر نفس المعنى إلى الذهن ثم العناوين، أو
بالعكس، أو تبادرهما معا.
لا وجه للأول; لأن المفروض أن نفس المعنى مجهول، وأريد تعريفه بتلك
العناوين المتأخرة.
ولا وجه للثاني أيضا; لأن تبادر تلك العناوين حيث إنها متأخرة عن
المعنى برتبة أو رتبتين، فلا يعقل تبادرها قبل تبادر المعنى; لأن التبادر: هو انسباق
المعنى من نفس اللفظ، فإذا لم يكن المعنى الموضوع له متبادرا، فما ظنك بما يكون جائيا
من قبله.
وبما ذكرنا يظهر عدم استقامة الوجه الثالث، وهو تبادر المعنى وتلك العناوين
معا، فتدبر.
وإياك أن تتوهم: أن ما ذكرناه مخالف لما هو المعروف بينهم: من أن الشيء كما
يمكن تعريفه من ناحية علله، فكذلك يمكن تعريفه من ناحية معاليله وعوارضه (1);
وذلك لأنه كم فرق بين باب دلالة اللفظ على المعنى وباب المعرفية، والتبادر من باب
دلالة اللفظ; لأنه عبارة عن انسباق المعنى من نفس اللفظ، فإذا أريد فهم شيء من
اللفظ، فلابد أولا من أن ينتقل من اللفظ إلى المعنى الموضوع له، ثم من المعنى إلى
لوازمه وعوارضه، وهذا غير تعريف الشيء بلوازمه وعوارضه، كما لا يخفى على
المتأمل.
وبالجملة: إذا كان أحد الشيئين ملازما للآخر، فعند تصور أحدهما ينتقل إلى

1 - انظر شرح المنظومة (قسم المنطق): 40 سطر 1.
333

الآخر، ويعتبر في الدلالة الالتزامية اللزوم بين المعنى الموضوع له وذلك اللازم،
ودلالة اللفظ على المعنى الالتزامي بعد دلالة اللفظ على المعنى المطابقي; لأن دلالة
الالتزامي من باب دلالة المعنى على المعنى; بدلالة اللفظ على المعنى، فلا يعقل بمجرد
ذكر اللفظ فهم اللازم - سواء كان اللازم لازما بينا أو لا - والملزوم في عرض واحد;
أو فهم اللازم منه مقدما على الملزوم، بل فهم ذلك اللازم بعد فهم المعنى من اللفظ;
وهكذا الحال في عوارض الشيء.
وهذا غير باب انتقال الذهن من اللازم إلى الملزوم; وذلك لأن من البرهان
برهان الإن، والانتقال فيه من ناحية المعلول إلى العلة، فيمكن تصوير اللازم أو
المعلول أولا، ثم الانتقال منه إلى الملزوم والعلة.
نعم: قد يوجب أنس الذهن وتكرر وقوعه على مشاعر النفس غفلة عن
الوسط، مثل أنه ينتقل من لفظة «الشمس» الموضوعة لجرم مخصوص إلى الحرارة أو
الضوء الملازمين لها مع الغفلة عن الشمس.
وكذا بالنسبة إلى مصاديق المعنى، فإن لفظ «الإنسان» - مثلا - وضع للطبيعة
اللابشرط، ومع ذلك لو ألقي ذلك اللفظ ينتقل الذهن منه إلى مصاديق تلك الطبيعة،
ولكن لا يضر ذلك بما نحن بصدده، من أنه لابد في انتقال الذهن من اللفظ إلى
اللوازم، وإلى مصاديق الطبيعة; من توسط المعنى الملزوم ونفس الطبيعة، وكذا بالنسبة
إلى لوازم وجود الهيئة.
والسر في ذلك: هو أن دلالة اللفظ على المعنى - بعد ما لم تكن ذاتية - لم تكن
جزافية، بل هي مرهونة بالوضع، والمفروض أن اللفظ لم يوضع إلا للمعنى الملزوم،
لا اللازم.
فعلى هذا إذا كان الموضوع له للفظة «الصلاة» - مثلا - معنى مبهما، فلا يمكن أن
يعرف ويبين بما يكون من لوازم ذلك المعنى المبهم، أو لوازم وجوده; لأن فهم المعنى
334

الموضوع له من اللفظ مقدم على فهم اللازم من اللفظ، فكيف يكون معرفا بما يكون
معرفا به؟! للزوم الدور.
فظهر من جميع ما ذكرنا: أنه يصح دعوى انسباق العناوين المتأخرة عن المعنى
الموضوع له، ولا يمكن تبادرها في رتبة الجهل بالمعنى الموضوع له.
فتحصل مما ذكرنا: أن ما قاله المحقق الخراساني (قدس سره): من عدم منافاة تبادر
المعاني الصحيحة من ألفاظ العبادات مع كونها مجملات، غير وجيه; لما أشرنا: من أنه
لا يصح أن تبين معانيها بالعناوين المتأخرة عنها.
هذا كله في التبادر.
وأما صحة السلب: فكذلك; لأن سلب شيء عن شيء يحتاج إلى تصور
الموضوع، كما يحتاج إليه في ثبوت شيء لشيء، ولا يمكن سلب نفس الصلاة وذاتها
عن الصلاة الفاسدة، مع كونها حسب الفرض مجهولة الكنه غير معلومة المعنى، وأما
سلبها عنها بمعرفية بعض تلك العناوين - كعنوان الناهي عن الفحشاء - وإن كان
يصح، إلا أنها غير مفيدة; لأن معناها أن الصلاة الناهية عن الفحشاء ليست بفاسدة،
وهذا واضح لا يقبل الإنكار، والأعمي أيضا يقول به.
وبالجملة: يدور أمر صحة السلب بين كونها غير ممكنة وبين كونها غير مفيدة;
لأنه لو أريد نفي ماهية الصلاة ومعناها فلا يمكن; لكون المعنى حسب الفرض
مجهولا، فما لم يتصور الشيء لا يمكن سلبه عن شيء ولا إثباته له، وإن أريد نفي الماهية
بمعرفية أحد العناوين فلا يفيد; لأن الأعمي أيضا يعترف بأن الصلاة المعرفة بتلك
العناوين مسلوبة عن الفاسدة، بل يصح أن يقال: إن الصلاة الفاسدة مسلوبة عن
الصلاة الصحيحة.
هذا كله في أصل الإشكال.
ولكن قد تفصينا عن الإشكال في تبادر الصحيح وصحة السلب عن الفاسد في
335

السابق; بما لم يتم عندنا في هذه الدورة.
وحاصل ما ذكرناه سابقا: هو أنه يمكن تصوير التبادر وصحة السلب بأن
الوضع في مثل أسماء الأجناس يمكن أن يكون خاصا والموضوع له عاما، وذلك فإن
من عثر على حنطة خاصة - مثلا - يضع اللفظة لطبيعي تلك الحنطة، وكذا من اخترع
شيئا يضع اللفظ لطبيعي ذلك الشيء، وهكذا جرى ديدن العقلاء في تسميتهم عند
وقوفهم على الأشياء، أو اختراعهم الصنائع تدريجا.
وبالجملة: حيث يكون وضع اللغات في جميع الألسنة - كما أشرنا في محله (1) -
تدريجيا حسب احتياجاتهم، يقرب أن يكون ذلك من قبيل الوضع الخاص والموضوع
له العام; بالمعنى الذي أشرنا إليه; ولعله يذعن لذلك اللبيب إذا تأمل واستعلم باطن
سره ووجدانه.
فإذا كما يصح وضع لفظة «الحنطة» لطبيعيها عند الظفر بحنطة، فكذلك يصح
وضع تلك اللفظة لصنف خاص من تلك الطبيعة، وواضح أن وضعهم الألفاظ لطبائع
الأشياء عند الظفر بها، لم يكن بعد معرفتهم بحقائق تلك الطبائع بأجناسها وفصولها;
لأنها لم تتيسر إلا للأوحدي منهم، بل يكفي في وضع لفظ لطبيعة ونفس الجامع
تصوره إجمالا وارتكازا، فعلى هذا فلنا أن نقول: يمكن الصحيحي ادعاء أن المتبادر من
لفظة «الصلاة» - مثلا - معنى ارتكازيا إجماليا لا ينطبق إلا على الأفراد الصحيحة،
ويصح سلبها عن الفاسدة.
ولكن الذي اختلج ببالنا في هذه الدورة: هو أنه لا يكاد ينفع ذلك في دفع
الإشكال; لأن انطباق الطبيعة على تمام أفرادها قهري، فلو أريد عدم انطباق الطبيعة
إلا على بعض الأفراد، فلابد له إما أن تقيد الطبيعة بقيد أو قيود; بأن تقيد ماهية

1 - تقدم في أول الكتاب فلاحظ.
336

الصلاة - مثلا - بالصحة، أو بكونها ناهية عن الفحشاء مثلا، أو نلاحظ نفس الطبيعة
ولكن بوضع اللفظ للأفراد الصحيحة، وواضح أن الصحيحي لا يلتزم بتقييد الطبيعة
بمفهوم الصحة، ولا يكون الوضع عنده من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص.
وبالجملة: لابد لمدعي تبادر معنى لا ينطبق إلا على الأفراد الصحيحة من
أحد نحوين:
1 - إما من تقييد الطبيعة بمفهوم الصحة، أو مفهوم الناهي عن الفحشاء،
ونحو ذلك.
2 - أو من وضع اللفظ للأفراد الصحيحة بعد لحاظ الطبيعة من باب الوضع
العام والموضوع له الخاص، والصحيحي لا يلتزم بشيء منهما، فلا سبيل له لادعاء
تبادر الصحيح، وصحة السلب عن الفاسد، فتدبر.
هذا على تقدير كون الصحيح كيفية عارضة للشيء في وجوده الخارجي.
وكذا الكلام لو كان الصحيح بمعنى التام; وذلك لأن الصلاة - مثلا - لو كانت
موضوعة للتام، فإن جعل عنوان التام قيدا بالحمل الأولي فيكون مفهوم الصلاة عبارة
عن التام، ولا يلتزم به أحد; ضرورة أنه لم يقل أحد بأن الصلاة موضوعة لمفهوم
التام، وإن أريد التام بالحمل الشائع فكذلك لا يلتزم أحد بوضع لفظة «الصلاة»
لمصاديق التام; بحيث يكون الموضوع له خاصا.
فتحصل مما تلوناه عليك: عدم إمكان ادعاء الصحيحي تبادر الصحيح بأحد
معنييه، وكذا صحة السلب، فتدبر.
وربما يستدل الصحيحي لإثبات مقالته: بما كان بلسان إثبات بعض الخواص
والآثار للمسميات، مثل قوله (عليه السلام): (الصلاة عمود الدين) (1) و أنها (معراج

1 - المحاسن 1: 116 / 66 باب 44 من أبواب ثواب الأعمال، وسائل الشيعة 3: 17، كتاب
الصلاة، أبواب أعداد الفرائض، الباب 6، الحديث 12.
337

المؤمن) (1)، وأن (الصوم جنة من النار) (2)... إلى غير ذلك (3) مما أثبت بعض الخواص
والآثار على المسميات; بتقريب: أنه بمقتضى عكس النقيض يستفاد: أنه ما ليس
بعمود الدين، وليس بمعراج المؤمن، لا يكون صلاة، وما ليس بجنة من النار لا يكون
صوما، وهكذا.
ولكن فيه: أنه لا تتجاوز عن حريم الاستعمال، وقد قرر في محله: أنه أعم من
الحقيقة، ولا يستفاد من قول المحقق العراقي (قدس سره): - إن الظاهر أن الاستعمال بما لها من
المعنى الارتكازي إنما هو بلا عناية - إلا دعوى التبادر، وقد عرفت حاله مما تقدم.
ثم إن الذي يقتضيه الوجدان، وعليه التبادر، هو وضع الألفاظ للأعم من
الصحيح والفاسد; بداهة أن شخصين لو صليا معا، فلحن أحدهما في قراءته - مثلا -
يصدق عنوان الصلاة على ما أتيا به من دون عناية وتأول، مع أن إحدى الصلاتين
كانت باطلة، ولعل هذا مما لا يقبل الإنكار في زماننا هذا، فتبادر المعنى في زماننا هذا
بضميمة أصالة عدم النقل - الذي يكون من الأصول العقلائية المحكمة - يثبت وضع
الألفاظ للأعم في الصدر الأول، وفي الأخبار الصادرة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
- خصوصا الصادقين (عليهما السلام) عصر نشر الأحكام - بل من النبي الأعظم صلوات الله
عليه وآله، شواهد قوية على ما ادعيناه، فلاحظها.
وبالجملة: لا يسوغ إنكار تبادر الأعم عند التأمل، وأظن أن قول الشيخ
الأعظم (قدس سره) ومن يحذو حذوه: بأن الصلاة - مثلا - موضوعة للتام الأجزاء والشرائط،

1 - كتاب الاعتقادات للمجلسي: 39.
2 - المحاسن 1: 436 / 436، بحار الأنوار 96: 255 / 35، وسائل الشيعة 7: 289، كتاب
الصوم، أبواب الصوم المندوب، الباب 1، الحديث 1.
3 - وقد تقدم ذكر بعضها، كقوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت:
45.
338

وكذا قول المحقق الخراساني (قدس سره) وتابعيه: بأنها وضعت للصحيح، إنما هما لأجل عدم
تمكنهم من تصوير الجامع الأعمي فالتجؤوا إلى ما قالوا، وإلا لو أمكنهم تصوير
الجامع لم يكن لهم بد من التصديق به، كما لا يخفى، وقد عرفت منا إمكان تصوير
الجامع.
وربما يستدل الأعمي لإثبات مدعاه بروايات (1)، ولكنها لا تزيد عن الاستعمال

1 - قلت: كقوله (عليه السلام): (دعي الصلاة أيام أقرائك) (أ)، فإنه لو كانت موضوعة للصحيحة لزم عدم
صحة النهي; لاعتبار القدرة في متعلق النهي، والمفروض عدم تمشي الصلاة الصحيحة من
الحائض، فلا تقدر عليها، وأما لو كانت موضوعة للأعم فيصح النهي عنها، كما لا يخفى.
وكقوله (عليه السلام): (بني الإسلام على خمس: الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، ولم يناد
أحد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع، وتركوا هذه، فلو أن أحدا صام نهاره، وقام
ليله، ومات بغير ولاية، لم يقبل له صوم ولا صلاة) (ب).
فإن الأخذ بالأربع مع اعتبار الولاية في صحة العبادات - كما هو الحق - لا يكون إلا إذا
كانت ألفاظ العبادات للأعم، وإلا فلو كانت أسامي للصحيح لم يكونوا آخذين بها بعد فرض
فساد عباداتهم، وصريح الرواية هو أخذهم بها.
وقوله (عليه السلام): (لا تعاد الصلاة إلا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع،
والسجود) (ج‍)، فإن متعلق الإعادة - نفيا أو إثباتا - هي الصلاة، فلو كان معنى الصلاة هي
الصحيحة لما كان وجه للأمر بإعادتها عند الإخلال بالخمسة المستثناة.
وكقوله (عليه السلام): (من زاد في صلاته فعليه الإعادة) (د)، فقد استعملت لفظة «الصلاة» فيما زاد
المصلي فيها، وصارت فاسدة... إلى غير ذلك من الروايات.
أ - الكافي 3: 88 / 1، تهذيب الأحكام 1: 384 / 6، عوالي اللآلي 2: 207 / 124.
ب - انظر الكافي 2: 15 / 1 - 2، عوالي اللآلي 3: 64 / 2، وسائل الشيعة 1: 10، كتاب الطهارة،
أبواب مقدمات العبادات، الباب 1، الحديث 10.
ج‍ - الفقيه 1: 181 / 17، التهذيب 2: 152 / 55، وسائل الشيعة 4: 934، كتاب الصلاة، أبواب
الركوع، الباب 10، الحديث 5.
د - الكافي 3: 355 / 5، وسائل الشيعة 5: 33، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة،
الباب 19، الحديث 2.
339

الذي هو أعم من الحقيقة، ولا يهم ذكرها.
نعم ينبغي ذكر مسألة استدل بها الأعمي لإثبات مقالته; لاشتمالها على بعض
مطالب نافعة، حاصلها:
أنه لو كانت الصلاة - مثلا - موضوعة لخصوص الصحيحة، للزم من وجود
الشيء عدمه; فيما لو حلف أو نذر أن لا يصلي في مكان مكروه - كالحمام مثلا - وما
يلزم من وجوده عدمه يكون باطلا; لأن النذر والحلف حسب الفرض قد تعلق
بالصحيح، ولا تكاد تكون مع النذر صحيحة، وما يلزم من وجوده عدمه محال، ولكن
إذا كانت الصلاة موضوعة للأعم فلا يلزم منه ذلك، كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى: فتوى الفقهاء (1) بصحة النذر أو الحلف على ترك الصلاة في
المواضع التي كره الشارع إيقاع الصلاة فيها، وبحنث الناذر أو الحالف بفعل الصلاة
فيها، ولو كانت الصلاة موضوعة لخصوص الصحيحة لما كان وجه لصحة النذر أو
الحلف المزبور; لعدم القدرة على فعل متعلقه في ظرفه; لأن كل ما يأتي به الناذر أو
الحالف من الصلاة في تلك المواضع تقع فاسدة، وإذا كان متعلق النذر أو الحلف غير
مقدور في ظرفه - ولو بسبب نفس النذر أو الحلف - فلا وجه لصحته وانعقاده مع
اشتراطهم القدرة عليه في صحته وانعقاده، وما يلزم من وجوده عدمه يكون باطلا.
ومنه يعلم: أنه على ذلك لا وجه لحنث الناذر أو الحالف أيضا لو صلى في تلك
المواضع; لعدم فعله ما نذر تركه فيها، فعلى هذا يعلم من إصرار الفقهاء (قدس سرهم) على صحة
النذر أو الحلف المزبور والحنث بمخالفته: أن المسمى هو المعنى الأعم; لأنه هو

1 - وذلك يظهر من كل من تعرض لهذا الدليل أو نقله عن الأعميين فلقد انصبت الجهود
والمحاولات على رد هذا الدليل من عدة طرق من دون التشكيك في أصل مشروعية الحلف
أو النذر في هذا المورد وهو يدل على اتفاقهم وتسليمهم بذلك. راجع الهامش رقم 1 من
صفحة 313 الآتية التي نقلنا فيها المصادر التي تعرضت لهذا الدليل.
340

المقدور عليه فعلا أو نوعا لا الصحيح.
وبعبارة ثالثة: لازم تسالم الأصحاب على انعقاد النذر أو الحلف بترك الصلاة
في مكان مكروه، والحنث بفعلها في ذلك المكان، هو كون المسمى بالصلاة هو الأعم
لا الصحيح; لأن مقتضى كون الصلاة موضوعة لخصوص الصحيحة، عدم تحقق
الحنث بإتيان الناذر أو الحالف الصلاة في ذلك المكان; لأن الصلاة في ذلك المكان منهي
عنها، فلا يكون قادرا على إيجاد الصحيحة فيه، فيلزم من صحة النذر أو الحف عدم
صحته; لأن صحة الحنث تتوقف على قدرته على إتيانه، وبعد النذر أو الحلف يمتنع
إيجاده (1).
ولا يخفى أن هذه التقريبات قريبة المأخذ، وإن كنت متدبرا فيها يظهر لك عدم
اختصاص الإشكال بمقالة الصحيحي، بل يتوجه على مقالة الأعمي أيضا; لأن
الأعمي أيضا يرى كراهية إتيان الصلاة الصحيحة في الحمام مثلا; بداهة أن إيقاع
صورة الصلاة في الحمام لم تكن مكروهة، فهذا إشكال عقلي بالنذر والحلف ونحوهما
غير مرتبط بخصوص مقالة الصحيحي، فلابد لكل من الصحيحي والأعمي التخلص
عن الإشكال.
أجاب شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) عن الإشكال: بأن الحلف والنذر إنما
يقتضيان صحة متعلقهما لو خليا وأنفسهما مع قطع النظر عن الحلف والنذر، فلا يضر
انعقادهما لو كان متعلقهما فاسدا من قبلهما.
وبالجملة: لا ينعقد النذر والحلف لو أريد إيقاع الصلاة الصحيحة من جميع
الجهات; لعدم القدرة عليها، وإنما ينعقدان لو أريد بمتعلقهما الصحيحة من غير ناحية

1 - قوانين الأصول 1: 51 سطر 4، وانظر الفصول الغروية: 48 سطر 28، ومطارح الأنظار: 16
سطر 1، وكفاية الأصول: 48، ودرر الفوائد: 52، وحاشية المشكيني على الكفاية: 48 سطر 3
من جهة اليمين حيث ذكر هناك ثلاثة تقريبات للدليل.
341

النذر والحلف (1).
وقال ما يقرب من ذلك المحقق الإصفهاني (قدس سره); حيث قال ما حاصله:
إن الإشكال إنما يتوجه إذا تعلق النذر بترك الصلاة المطلوبة بعد النذر والنهي;
بحيث تكون مقربة فعلية بعدهما; لأنه الذي يلزم من وجوده عدمه، ولم يذهب إلى
انعقاد هذا النذر ذو مسكة... إلى آخر ما ذكره (2).
ولكن تحقيق البحث في مثل هذه الموارد يقتضي التكلم في مقامين:
المقام الأول: في انعقاد الحلف أو
النذر بترك الصلاة في الأمكنة المكروهة
لا إشكال في أن للصلاة عرضا عريضا، ولها مراتب متفاوتة في الفضيلة; بداهة
أن لصلاة الجماعة شأنا من الفضيلة لا يكون في صلاة الفرادى، مع الاختلاف في
الفضيلة في أفراد كل منهما; لأن للصلاة خلف العالم فضيلة لا تكون في الصلاة خلف
غير العالم، والصلاة خلف الهاشمي تزيد على الصلاة خلف من لم يكن كذلك... وهكذا،
وكذا الصلاة في المسجد أفضل من الصلاة في البيت، والصلاة في المسجد الجامع أفضل
من غيره، والصلاة عند علي (عليه السلام) أفضل منها عند غيره... وهكذا.
وبالجملة: للصلاة المكتوبة أفراد متفاوتة في الفضيلة والشرافة، ومن أفرادها
الصلاة في الحمام، غايته أن الصلاة فيه أقل ثوابا من غيره، فمكروهية الصلاة في الحمام
ليس هي المكروهية المصطلحة، بل بمعنى أقلية الثواب; وقد ثبت من الأدلة: أنه يعتبر
في متعلق النذر أن يكون أمرا راجحا فلا ينعقد النذر إذا كان متعلقه ترك واجب أو

1 - مطارح الأنظار: 16 سطر 5.
2 - نهاية الدراية: 1: 132.
342

فعل حرام.
فإذا غاية تقريب الإشكال: هو أن يقال: إن الصلاة في الحمام من أفراد الصلاة
الواجبة، غايته أنها من أفرادها الذاتية، واعتبر في متعلق النذر أن يكون راجحا،
فلا ينعقد النذر بترك الصلاة في الحمام; لأن ترك الصلاة فيه راجح، ففعلها فيه مرجوح،
ولا يكون مجرد كون الصلاة فيه أقل ثوابا من إتيانها في غيره مجوزا لصحة انعقاد النذر
بتركها فيه، وإلا لصح النذر بترك الصلاة في مسجد السوق - مثلا - بلحاظ أن الصلاة
فيه أقل ثوابا من الصلاة في المسجد الجامع، بل لازم ذلك انعقاد النذر بترك جميع أفراد
الصلاة بعرضها العريض، إلا الذي لا يكون فوقه فرد أفضل منه، وهو - كما ترى -
خلاف الضرورة من الفقه.
أجاب شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) عن الإشكال - في مجلس الدرس - بما
حاصله بتقريب منا: هو أنه كما إذا تعلق تكليف بطبيعة لا يتجاوزها إلى طبيعة
أخرى، فكذلك لا يتجاوزها ولا يسري إلى الخصوصيات الفردية المشخصة، فمن
الممكن أن يكون شيء راجحا في نفسه، ولكن بلحاظ احتفافه ببعض الخصوصيات
الفردية مرجوحا; ألا ترى أن العطشان - مثلا - يحب الماء الصافي، ولكن يكره إيقاعه
في آنية قذرة كجراب النورة، ففيما نحن فيه تكون نفس طبيعة الصلاة راجحة ومأمورا
بها، والأمر بها لا يكاد يسري إلى الخصوصيات الفردية من وقوعها في زمان كذا،
ومكان كذا، فتلك الخصوصيات خارجة عن حريم الطلب والمطلوبية، فالصلاة في
الحمام تنحل إلى حيثيتين:
1 - حيثية نفس طبيعة الصلاة، وهي حيثية راجحة.
2 - حيثية وقوعها في الحمام - أي الكون الرابط - وهي خصوصية فردية،
وإلا فلو كانت هذه من خصوصيات الطبيعة، للزم أن لا يصح إتيان الصلاة في غير
الحمام، وهو كما ترى.
343

فظهر مما ذكرنا: أن متعلق الأمر غير متعلق النهي التنزيهي، فإن الأمر تعلق
بنفس طبيعة الصلاة، وهي طبيعة راجحة، والنهي تعلق بإيقاعها في الحمام، فعلى هذا
لا مانع من صحة الصلاة في الحمام - مثلا - فبإتيان ها فيه يمتثل الأمر المتعلق بنفس
الصلاة، فيحنث النذر بها.
هذا غاية التقريب في كلام شيخنا العلامة (قدس سره).
وقريب منه ما يظهر من المحقق العراقي (قدس سره); حيث قال: لو تعلق النذر بترك
الخصوصية المشخصة للفرد، أو الموجبة لكون الحصة فردا للصلاة مثلا; أعني بها
تشخصها بالوقوع في الحمام - مثلا - لكان حينئذ لانعقاد النذر وجه معقول وسر
مقبول; إذ عليه يكون متعلق النذر غير ترك العبادة، وهو أمر لا إشكال برجحانه في
نظر الشرع، وقد يكون ذلك هو سر فتوى الفقهاء بانعقاد النذر المزبور (1).
ويمكن الجواب عن الإشكال بنحو آخر; لعله أحسن من جواب العلمين، وبه
يمكن تصحيح الأمر ولو كان متعلق النذر الصحيح من جميع الجهات; حتى الجهة
الجائية من قبل النذر، خلافا لشيخنا الأعظم الأنصاري والمحقق الإصفهاني (قدس سرهما)، وقد
أشرنا إلى مقالتهما آنفا.
وحاصل ذلك: هو أنه لعل منشأ أكثر ما يقال في أمثال المقام، الخلط بين
العناوين بعضها ببعض، وقد حققنا البحث في ذلك في باب اجتماع الأمر والنهي،
واستقصينا الكلام فيه هناك، ولكن لا بأس بالإشارة الإجمالية إليه هنا حذرا من
الإحالة.
وهو أن الأوامر والنواهي تتعلق بنفس الطبائع والعناوين، وأما الوجود
الخارجي، فلم يكن متعلقا لأمر ولا نهي; لأن الخارج ظرف سقوط التكليف وامتثاله،

1 - بدائع الأفكار 1: 134 - 135.
344

لا ظرف ثبوت التكليف وتعلقه، فالصلاة - مثلا - بوجودها الخارجي لم تكن متعلقة
للأمر أو النهي، بل نفس طبيعة الصلاة متعلقة للأمر، والأمر يبعث المكلف نحو إتيان
الطبيعة ليس إلا.
ولا يخفى أن المأمور به ومتعلق الأمر في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك
الشمس) (1) الآية، هي نفس طبيعة الصلاة، وهي غير المأمور به ومتعلق الأمر في
قوله تعالى: (وليوفوا نذورهم) (2); لأن متعلقه عنوان الوفاء بالنذر، ويتولد من
الأمر بوفاء النذر - لو قلنا: بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده - نهي يتعلق
بعنوان التخلف عن النذر، فهناك عناوين متعددة لا يرتبط أحدها بالآخر:
1 - عنوان الصلاة.
2 - عنوان الوفاء بالنذر.
3 - عنوان التخلف عن النذر.
نعم ما يوجده في الخارج يكون مجمع العناوين، فإن الصلاة المنذور تركها في
الحمام تكون مصداقا حقيقيا لعنوان الصلاة، والصلاة عنوان ذاتي له، وتكون مصداقا
عرضيا لعنوان الكون في الحمام، وهو عنوان عرضي للفرد الخارجي، وهكذا عنوان
التخلف عن النذر يصدق على الموجود الخارجي صدقا عرضيا، ويكون الموجود
الخارجي مصداقا عرضيا له.
فظهر لك: أن الموجود الخارجي مصداق ذاتي لعنوان الصلاة، ومصداق عرضي
لعنواني الكون في الحمام، والتخلف عن النذر، فمن حيث إنه مصداق ذاتي لعنوان
الصلاة لا حزازة فيه، بل مطلوب حقيقة، وحزازته إنما هي من حيث عنوان الكون في
الحمام والتخلف عن النذر عليه عرضا، فبالفرض لو نذر ترك الصلاة، وفرض صحته،

1 - الإسراء: 78.
2 - الحج: 29.
345

لا تصير ذات الصلاة محرمة، بل المحرم هو عنوان تخلف النذر المنطبق عليه عرضا.
والحاصل: أن الأمر في (أقم الصلاة) تعلق بذات الصلاة، والأمر بالوفاء
تعلق بعنوان الوفاء، وهما متغايران في ظرف تعلق التكليف، وإنما يتحدان في موجود
خارجي، وهو لا يضر بعد ما لم يكن متعلقا للتكليف، فلم يجتمع البعث والزجر - في
موضوع البحث - في شيء واحد لاختلاف متعلقهما.
وبما ذكرنا يرتفع إشكال اجتماع المثلين إذا نذر إتيان صلاة واجبة; أما الإشكال
فحاصله: أن المسلم عندهم صحة نذر الواجب، فيجتمع هناك وجوبان في موضوع
واحد، والمثلان - كالضدين - لا يجتمعان في موضوع واحد.
وأما الدفع فحاصله: تغاير متعلق الوجوبين، فإن متعلق قوله تعالى: (أقم
الصلاة لدلوك الشمس) - مثلا - هو ذات طبيعة صلاة الظهر، ومتعلق قوله تعالى:
(وليوفوا نذورهم) هو الوفاء بالنذر، فلم يجتمع حكمان مثليان في موضوع واحد،
وقد وقع الأصحاب في الجواب عن الإشكال في حيص وبيص، وذكروا مطالب نشير
إليها وإلى ضعفها في باب اجتماع الأمر والنهي، فارتقب حتى حين.
ذكر وتعقيب
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا يظهر لك الضعف فيما قد يقال (1): من أن لازم ذلك
كون شيء واحد مقربا ومبعدا، والمبعد كيف يكون مقربا؟! وذلك لأنه لو كانت
الصلاة في الحمام منهيا عنها كانت مبعدة، فكيف يمكن التقرب بها (2)؟!
توضيح الضعف ما نذكره في محله مستوفى إن شاء الله.
حاصله: أن المقربية والمبعدية لم يكونا من الأمور الخارجية العارضة

1 - قلت: إن القائل بذلك هو سماحة أستاذنا الأعظم السيد البروجردي دام ظله.
2 - انظر نهاية الأصول: 56 - 57.
346

للموضوع، نظير عروض السواد والبياض للجسم حتى لا يمكن اجتماعهما في موضوع
واحد، كما لا يمكن اجتماع السواد والبياض في موضوع واحد; بداهة أنه لا يمكن
أن يقال: إن الجسم أبيض من حيث وجهة، وأسود من حيث وجهة أخرى، بل إذا كان
أبيض لا يكون أسود، وكذا بالعكس، وأما المقربية والمبعدية فحيث إنهما من الأمور
الاعتبارية فيختلفان بالحيثية والاعتبار، ويصح أن يكون شيء واحد محبوبا من
حيث وجهة، ومبغوضا من حيث وجهة أخرى كما يصح أن يكون محبوبا ومبغوضا
من جهتين، بل من جهات; وذلك لأنه لو دخل رجلان - مثلا - في دار عدوانا ففعل
أحدهما فيها عملا محبوبا لصاحب الدار; بأن أنقذ ولده المشرف على الموت دون
الآخر، فهو من حيث دخوله الدار والتصرف فيها عدوانا مبغوض لصاحب
الدار، ولكنه من حيث إتيانه العمل المرغوب فيه لصاحب الدار محبوب له، فكونه في
الدار نفسه مبعد من حيث، وهو من حيث اشتغاله بإنقاذ ولده مقرب.
وأما الرجل الآخر فدخوله فيها مبغوض صرف، ومبعد ليس إلا، وكذا
لو خلص رجلان امرأة أجنبية من الغرق، ولكن أحدهما أخذ بردائها وأنقذها، والآخر
أخذ بيديها مع إمكان أخذ ردائها، فالأول مقرب من جهتين، والثاني مقرب من جهة
ومبعد من جهة أخرى... وهكذا.
فتحصل مما ذكرنا: صحة انعقاد النذر أو الحلف بترك الصلاة في الأمكنة
المكروهة; لاختلاف متعلقهما.
المقام الثاني: في تحقق الحنث بالصلاة في الأمكنة المكروهة
وبما ذكرنا في المقام الأول يظهر لك الحال في المقام الثاني: وهو تحقق الحنث
بإتيان الصلاة في الأمكنة المكروهة كالحمام، فإنه بفعله الصلاة في الحمام يمتثل الأمر
المتعلق بطبيعة الصلاة; لأن ما أتى به مصداق لها، وبنفس ذلك يتحقق عنوان الحنث،
347

والتخلف عن النذر والحلف.
وبالجملة: العمل الخارجي والصلاة في الحمام مجمع العنوانين، والآتي به ممتثل
من جهة، ومتخلف من جهة أخرى.
الجهة التاسعة
في ألفاظ المعاملات
تنقيح الكلام فيها يقع في موارد:
المورد الأول: في عدم جريان النزاع لو كانت ألفاظ المعاملات أسامي
للمسببات:
قد اشتهر بينهم: أن النزاع بين الصحيحي والأعمي إنما يتصور في المعاملات إذا
كانت ألفاظ المعاملات أسماء للأسباب; لتطرق الصحة والفساد في ناحية السبب، فإنه
يمكن أن يقال: إن الإيجاب - مثلا - إن تعقبه القبول، وكان واجدا للشرائط الأخر
يكون صحيحا ويترتب عليه الأثر، وإلا يكون باطلا غير منشأ للأثر، وأما لو قلنا
بأن ألفاظ المعاملات أسماء للمسببات - أي النقل والانتقال - فلا مورد للنزاع; لدوران
أمر المسبب بين الوجود والعدم، لا الصحة والفساد.
وبعبارة أخرى: السبب الموجب للنقل والانتقال لا يخلو: إما أن يكون مؤثرا،
فتحصل الملكية، وإلا فلا تحصل، ولا معنى لأن يكون شخص مالكا لشيء ملكية
فاسدة (1).

1 - قلت: وربما يوجه ذلك: بأن المسببات - كالملكية والزوجية وغيرها - بسائط، فأمرها يدور
مدار الوجود والعدم، لا الصحة والفساد، فالملكية - مثلا - إما موجودة أو معدومة، ولا معنى
لاتصافها بالصحة والفساد، وأما الأسباب فحيث إنها مركبة - كالبيع المركب من الإيجاب
والقبول - فيمكن اتصافها بالصحة تارة إذا استجمعت جميع الشرائط، وبالفساد أخرى إذا لم
يكن كذلك. المقرر
348

وبالجملة: ماهيات المعاملات أمور اعتبارية متقومة باعتبار العرف والعقلاء،
فالشرع إن وافقهم في ذلك فتكون المعاملة العرفية محققة معتبرة عرفا وشرعا، وإن
خالفهم في ذلك - كما في نكاح بعض المحارم، والبيع الربوي - فمرجع مخالفته إياهم إلى
إعدام الموضوع ونفي الاعتبار، لا إلى الفساد ونفي الآثار مع اعتبار الموضوع; لأنه
لا معنى له.
ولو سلم جوازه فمخالف لارتكاز المتشرعة; لأن نكاح المحارم والبيع الربوي
غير واقع، ولا مؤثر رأسا.
وبالجملة: لا معنى لاعتبار وجود المسبب مع عدم ترتب الآثار المطلوبة منه،
ولا يعتبره العقلاء; بداهة أنهم لا يرون وقوع النكاح والبيع مع عدم ترتب الآثار
المطلوبة عليه أصلا، بل يرون عدم تحقق النكاح والبيع أصلا، فإذا يدور أمر المعاملات
المسببة بين الوجود والعدم، لا الصحة والفساد.
نعم: يمكن اعتبار الصحة والفساد بلحاظ المحيطين، وذلك فيما إذا ساعد العرف
على تحققها خارجا، والشارع إن رتب عليها آثار الصحة - كأكثر المعاملات العرفية -
فيطلق عليها الصحة، وإن لم يرتب آثار الصحة عليها - كبيع الخمر أو الخنزير - فيطلق
عليها الفساد، ولكنه مع ذلك كله لم يخرج عن محيط المدرسة إلى محيط العرف
والعقلاء، واعتبارهم دائر بين الوجود والعدم، ولا يفهمون ما ذكرنا، فالحق ما عليه
المشهور.
وأما ما قد يقال: من أن الملكية والزوجية ونحوهما من المسببات أمور واقعية
وحقائق تكوينية لا يمكننا الاطلاع عليها - كحقيقة الجن والشيطان - إلا أن الشارع
كشف عنها، فكما أن الأمور التكوينية الخارجية على نحوين - صحيح وفاسد -
349

فكذلك المقام، فيمكن تطرق الصحة والفساد لها، فيرجع ردع الشارع إلى عدم ترتب
الآثار - أي التخصيص الحكمي - بعد تحقق الأمر الواقعي، فهو أيضا كلام مدرسي;
لا يتجاوز حريم المدرسة إلى محيط العرف والعقلاء.
وذلك لأن الملكية والزوجية ونحوهما أمور اعتبارية; اعتبرها العقلاء على مدى
الأعوام والقرون حسب احتياجهم إليها، وإلا فمن القريب جدا عدم وجود هذه
المعاملات - الدارجة بين العقلاء على كثرتها - في بدء حياة التمدن البشري، ولم يكن
بينهم إلا القليل منها مع بساطتها، ثم حدثت وزادت عصرا بعد عصر ونسلا بعد
نسل; لكثرة الدواعي ووفور الاحتياجات، بل ربما أضيفت شرائط ومقررات على
ما كانت عليه من البساطة.
يرشدك إلى ما ذكرنا حدوث بعض المعاملات في عصرنا هذا; من دون أن
يكون لها في الأعصار السابقة عين ولا أثر.
وإن كنت مع ذلك في شك مما ذكرنا، فاختبر من نفسك حال ساكني البوادي
والصحاري، فإنهم حيث لا يحتاجون إلى إجارة المساكن، لم ينقدح في ذهنهم اعتبارها
بخلاف ساكني القرى والمدن.
ولعمر الحق إن ما نبهناك عليه أمر لا سترة فيه عند أهله.
فإذا القول بكون المسببات أمورا واقعية كشف عنها الشارع، واضح البطلان.
فإذا الحق كما عليه المشهور (1): أنه لو قلنا بأن ألفاظ المعاملات أسماء
للمسببات لا يجري فيه النزاع، نعم إن قلنا بكونها أسامي للأسباب فللنزاع فيه مجال
كالعبادات.
المورد الثاني: في عدم الفرق في جريان النزاع بين ثبوت الحقيقة الشرعية

1 - كفاية الأصول: 49، درر الفوائد: 54، نهاية الدراية 1: 133.
350

وعدمها.
تقدم: أنه لو كانت ألفاظ المعاملات موضوعة للأسباب الناقلة يصح النزاع في
أنها وضعت لخصوص الصحيحة أو الأعم منها.
ولا فرق في ذلك بين القول بثبوت الحقيقة الشرعية فيها وعدمه; وذلك لأنه
لو قلنا بثبوت الحقيقة الشرعية فيها، فيكون البحث في أن الشارع هل وضع ألفاظ
المعاملات للصحيحة الواقعية عنده، أو للأعم منها ومن الفاسدة؟
وإن لم نقل بثبوت الحقيقة الشرعية، فيقع النزاع في أنها هل وضعت للصحيحة
عند العرف، أو للأعم منها ومن الفاسدة؟
فحينئذ: لو شك في اعتبار قيد وشرط، فعلى تقدير ثبوت الحقيقة الشرعية
يصح التمسك بإطلاق قوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) - مثلا - لدفع الشك في اعتبار
شيء فيه.
وكذا يصح التمسك بالإطلاق على الأعم لو لم نقل بثبوت الحقيقة الشرعية،
وأما على الصحيح فلا يصح التمسك.
ولا يخفى أن المتبادر من ألفاظ المعاملات - على تقدير كونها موضوعة
للأسباب - هو الأعم.
المورد الثالث: في أن اختلاف الشرع والعرف في المقام ليس في التخطئة في
المصداق فقط:
صرح المحقق الخراساني (قدس سره) في الأمر الأول: أن أسامي المعاملات إن كانت
موضوعة للأسباب فللنزاع - في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم - مجال، ولكن
لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضا، وأن الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر

1 - البقرة: 275.
351

كذا شرعا وعرفا، والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد، لا يوجب
كون مفهوم العقد مختلفا فيه مفهوما عندهما، بل مفهومه عندهما واحد، والاختلاف
إنما هو في المحققات والمصاديق وتخطئة الشرع العرف في تخيل كون العقد بدون
ما اعتبره في تأثيره محققا لما هو المؤثر (1).
وقال (قدس سره) في الأمر الثاني: إنه على تقدير كون ألفاظ المعاملات أسامي
للصحيحة لا يوجب إجمال ألفاظ المعاملات والخطابات، بل يصح التمسك بإطلاقها
عند الشك في اعتبار شيء في تأثيرها; لأن إطلاقها لو كان مسوقا في مقام البيان،
ينزل على أن المؤثر عند الشارع هو المؤثر عند العرف، ولم يعتبر في تأثيره عنده غير
ما اعتبر فيه عندهم، كما ينزل على المؤثر عند العرف إطلاق كلام غير الشارع; حيث
إن الشارع من العرف، فينزل كلامه على ما هو عند العرف، ولو اعتبر الشارع ما شك
في اعتباره فيما هو المؤثر عرفا، كان عليه البيان ونصب القرينة; لأنه في مقام البيان،
وحيث لم ينصب القرينة بان وظهر عدم اعتباره عنده أيضا (2).
وفيه: أن التخطئة في المصداق مع وحدة المفهوم عند الشارع والعرف، إنما
تتصور فيما إذا كان هناك مفهوم مبين عندهما، ولكن في بعض المصاديق خطأ الشارع
الأقدس العرف في تطبيق المفهوم على المصداق، وذلك مثل ما لو تعلق وجوب الإكرام
- مثلا - على عنوان «العالم» المبين مفهوما، ولكن شك في زيد أنه منطبق عليه ذلك
العنوان المبين; حيث قال بعض: إنه عالم، ونفى بعض عنه العلم، فعند ذلك يمكن
التخطئة في المصداق; وأن زيدا عالم، أو ليس بعالم.
وفيما نحن فيه لو كان لفظ «البيع» - مثلا - اسما لعنوان السبب المؤثر للملكية،
أو السبب الناقل، أو السبب الصحيح عند الشرع والعرف، فيمكن أن يكون الاختلاف

1 - تقدم تخريجه.
2 - انظر كفاية الأصول: 49 - 50.
352

في المصداق، ويجري فيه التخطئة في المصداق، فيقال: إن العرف - مثلا - يرى أن البيع
الربوي مصداق للسبب المؤثر، أو السبب الناقل، أو السبب الصحيح، والشارع
الأقدس خطأهم في ذلك، ولا فرق في ذلك بين القول بكونه موجبا للتأثير والتأثر
الواقعيين، والشارع والعرف كشفا عن ذلك، أو لا يكون كذلك.
ولكن الالتزام بذلك مشكل، ولم يلتزم (قدس سره) أيضا بكون البيع - مثلا - موضوعا
للبيع المتقيد بالمؤثر، أو الناقل، أو الصحيح، كما لم يلتزم (قدس سره) بكون الصلاة - مثلا -
موضوعة للصلاة المتقيدة بالتمام، فحيث لم يصح الالتزام بذلك فلابد وأن يقال: إن
البيع - مثلا - موضوع لمعنى واقعي، أو اعتباري; بحيث لو وجد في الخارج ينطبق
عليه المؤثرية، أو الناقلية، أو الصحيح; من دون أن يكون قيدا في المعنى والمفهوم.
فعلى هذا يكون مرجع اختلاف الشرع والعرف إلى الاختلاف في المفهوم،
لا التخطئة في المصداق بعد معلومية المفهوم; لأنه يرى العرف - مثلا - عدم دخالة
البلوغ، وتعقب القبول للإيجاب، والعربية، والقبض في المجلس في بعض العقود... إلى
غير ذلك، في مفهوم البيع الصحيح، وأما الشارع الأقدس فيرى دخلها في مفهوم البيع
الصحيح، فالبيع عند العرف له مفهوم موسع، وعند الشرع له مفهوم مضيق، فلا محيص
عن كون الاختلاف بينهما في نفس معنى البيع ومفهومه، لا في المصداق، فعلى هذا
يكون العقد الصحيح العرفي أعم من العقد الصحيح الشرعي; بناء على كون ألفاظ
المعاملات أسامي لخصوص الصحيح، كما يراه هذا المحقق (قدس سره).
وكيف كان: سواء كان مرجع اختلاف الشرع والعرف إلى الاختلاف في
المفهوم، أو إلى التخطئة في المصداق، يقع الكلام في جواز التمسك بإطلاقات الأدلة - إن
كانت لها إطلاق - وعدمه، فنقول:
أما على ما ذكرنا من كون الاختلاف بين الشرع والعرف في المفهوم، ولم يكن
البيع الصحيح عند الشرع مجرد تعقب القبول للإيجاب كيف اتفق - كما كان كذلك عند
353

العرف - بل مع قيود أخر، فلا يمكن الصحيحي أن يتمسك بالإطلاق لرفع الشك عن
دخالة قيد في عقد البيع مثلا; لأن مرجع الشك في صحة إجراء العقد بالفارسي
- مثلا - إلى صدق عنوان المعاملة.
وبعبارة أخرى: يرجع الشك إلى الشك في تحقق ما هو المؤثر شرعا، فتصير
الشبهة مصداقية، وقد حرر في محله: عدم جواز التمسك بالعام أو المطلق عند ذلك (1).
وكذا لو قلنا بعدم اختلاف الشرع والعرف في المفهوم، وأن البيع - مثلا -
موضوع لعنوان ما هو المؤثر فعلا - كما يقوله المحقق الخراساني (قدس سره) - لا يمكن الصحيحي
أيضا التمسك بالإطلاق في رفع الشك عن مؤثرية المصداق الخارجي; لأن مرجع
الشك في كون المصداق الخارجي مصداقا لما هو المؤثر فعلا شك في تحقق الموضوع،
فتكون الشبهة مصداقية، وقد أشرنا إلى عدم جواز التمسك بإطلاق الدليل أو عمومه
عند ذلك.
هذا كله إذا كانت ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيحة.
وأما إن كانت موضوعة للأعم مطلقا، أو عند العرف، فيصح التمسك بالإطلاق
بعد الصدق، ويرفع به الشك عما احتمل اعتباره.
وأما إن كانت موضوعة للصحيحة عند العرف الأعم عند الشرع، فلابد أولا
من إحراز الصحة عند العرف، وبعد إحراز الموضوع العرفي يصح التمسك بالإطلاق
لرفع الشك عن الشرائط الشرعية.
فما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) في المقام لا يمكن المساعدة عليه، فلاحظ وتدبر.
هذا بالنسبة إلى الإطلاقات اللفظية.
ثم إنه إذا لم يثبت إطلاق لفظي، فهل يصح التمسك بالإطلاق المقامي لكشف

1 - مناهج الوصول 2: 248.
354

حال الموضوع، أم لا؟ وجهان، بل قولان:
قد يقال في تقريبه في المقام: بأنه بعد ما كانت بين العرف والعقلاء معاملات
وعقود دارجة، يرتبون عليها آثار النقل والانتقال، وعليها تدور رحى معاشهم ونظام
حياتهم، وكانت بمرأى من الشارع ومسمع منه، ولم يردعهم عنها، بل أمضاهم على
ما هم عليه بقوله تعالى: (أحل الله البيع) (1)، وقوله (عليه السلام): (والصلح جائز) (2)... إلى غير
ذلك، فيكشف ذلك - مع كونه في مقام البيان - عن أن ما يكون بيعا أو صلحا - مثلا -
عندهم هو المؤثر عنده أيضا، وإلا لو لم يكن عنده ما هو المؤثر عندهم، لكان عليه
التنبيه على ذلك وردعهم عما هم عليه، وحيث إنه لم يردعهم عن ذلك، بل أمضاهم
على ما هم عليه بالسكوت، يستكشف من ذلك: أن ما هو المؤثر عندهم هو المؤثر
لدى الشارع إلا ما خرج بدليل، كالبيع الربوي، وبيع الخمر والخنزير، والصلح المحلل
للحرام، أو المحرم للحلال... إلى غير ذلك، ويصح الاستناد إلى هذا الإطلاق المعبر عنه
بالإطلاق المقامي لكشف حال الموضوع ونفي اعتبار ما شك في اعتباره، كما كان يصح
الاستناد إلى الإطلاق اللفظي لكشف حال الموضوع.
ولكن يرد على هذا التقريب: بأن الإطلاق المقامي - في المقام - إنما يتم ويصح
التمسك به إذا لم يكن هناك من الشارع قواعد يصح الاتكال عليها في مدخلية شيء
واعتباره فيه، ومن الواضح وجود قواعد ثانوية يصح اتكال الشارع الأقدس عليها،
كاستصحاب عدم النقل والانتقال، وغيره، ومع ذلك لا يمكن نفي ما شك في اعتباره
بالإطلاق المقامي.
وبالجملة: التمسك بالإطلاق المقامي في المقام أو في غيره، إنما يتم إذا لم يكن من

1 - البقرة: 275.
2 - الكافي 5: 259 / 5، الفقيه 3: 20 / 1، وسائل الشيعة 13: 164، كتاب الصلح، أبواب
كتاب الصلح، الباب 3، الحديث 2.
355

الشارع الأقدس بيان أصلا، فمع وجود بيان له في ذلك فلا يكاد ينفع ذلك، فتدبر.
ولكن الذي يسهل الخطب أن هذا كله مباحث مدرسية لا تتجاوز حريمها;
لأنه لم يكن للشارع اصطلاح خاص به في المعاملات، بل الذي عنده هو الذي يكون
عند العرف والعقلاء، والقيود التي اعتبرها أحيانا لم تكن قيود المسمى، بل قيودا زائدة
على المسمى، وظاهر أن ما عندهم إنما هو وضع تلك الألفاظ للأعم من الصحيحة
والفاسدة.
فذلكة فيها تأييد لما سبق
ثم إن سماحة الأستاذ دام ظله أفاده في اليوم التالي، لكنه ببيان آخر وإن كان
لا يخلو عن تكرار، إلا أنه لا يخلو عن فائدة أحببت ذكره تتميما للفائدة، فأفاد
ما حاصله:
أنه لو كانت ألفاظ المعاملات موضوعة - عند الشرع الأقدس والعرف -
للصحيحة، واختلفت الصحيحة عندهما، فمرجع هذا الاختلاف لابد وأن يكون إلى
المفهوم، لا إلى المصداق بعد الاتفاق في المفهوم; بداهة أنه لا معنى للاختلاف في
المصداق بعد الاتفاق في المفهوم والماهية، فإذا مرجع الاختلاف إلى أن ما عند الشارع
قيود واقعية لا تنطبق على ما عند العرف، فلا تكون التخطئة في المصداق بعد الاتفاق
في المفهوم.
فإذا كان المفهوم والماهية عند الشرع الأقدس غير ما عند العرف والعقلاء،
فالألفاظ الواردة من قبل الشارع: إما تكون موضوعة واسما للصحيحة عندهم،
فمرجعه إلى كون الألفاظ موضوعة للأعم، فيصح التمسك بالإطلاق اللفظي لو شك في
قيد زائد على ما يعتبره العرف.
وأما لو كانت موضوعة لما تكون صحيحة عند الشارع نفسه - والمراد
356

بالصحيحة عنده هي ما إذا وجدت في الخارج تكون منشأ للأثر عنده - فالإطلاقات
الواردة في لسان الشرع منزلة على مصطلحه، فكلما شك في صدق عنوان البيع
الشرعي عليه، لا يصح التمسك بالإطلاق اللفظي; لأنه من باب التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، وقد حرر في محله (1) منعه.
وأما التمسك بالإطلاق المقامي; بتقريب: أن قول الله تعالى: (أحل الله البيع)
- مثلا - حيث إنه في مقام البيان، يكون إمضاء لما عليه بناء العرف، ولم يكن له في
ذلك اصطلاح خاص، فيصح التمسك بالإطلاق المقامي لرفع الشك عن اعتبار القيد،
ولو كانت الألفاظ موضوعة للصحيحة فهو خروج عن الفرض; لأن المفروض هو
حلية البيع الشرعي، ولا يصدق البيع الشرعي على فاقد القيد.
وبعبارة أخرى: لا موقع لهذا الكلام بعد فرض الصحيحي موضوع الصحة
بحسب الشرع، كما لا يخفى، ومورد الإطلاق الحالي والمقالي هو في غير مثل هذه
الموارد، فإنه فيما يكون حدود الماهية وأجزاؤها معلومة ببيان من الشرع، كالاطلاق
في صحيحة حماد (2) الواردة في بيان أفعال الصلاة وحدودها، فإنه بعد ذلك لو شك في
اعتبار قيد وشرط، وكان المشكوك فيه من القيود والشرائط غير الملتفت إليها، فيمكن
أن يقال عند ذلك: إنه لو كان الشيء الذي لم يلتفت إليه الناس ومغفولا عنه، معتبرا
عند الشرع فلابد له من بيانه، وحيث لم يبينه يؤخذ بالإطلاق لنفيه، وأما لو كان
المشكوك فيه من القيود المرتكزة في الأذهان المعلومة لدى كل أحد، فلا يمكن رفعه
بالتمسك بالإطلاق.
المورد الرابع: في حال التمسك بالإطلاق لو كانت الأسامي للمسببات:

1 - تقدم تخريجه.
2 - الفقيه 1: 196 / 1، وسائل الشيعة 4: 673، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 1،
الحديث 1.
357

تقدم الكلام على تقدير كون ألفاظ المعاملات أسامي للأسباب، وأما لو كانت
أسامي للمسببات - أعني النقل والانتقال - سواء أريد بهما النقل والانتقال
الاعتباري، كما هو الحق عندنا، أو الحقيقي كما عليه المحقق صاحب الحاشية (قدس سره) (1)، فهل
يمكن التمسك بالعموم أو الإطلاق في رفع اعتبار شيء شطرا أو شرطا، أو لا؟
وجهان، بل قولان.
قد يقال: بأنه لو كانت الألفاظ موضوعة للمسببات فأمرها يدور بين الوجود
والعدم، ولا معنى للصحة والفساد فيها إلا على وجه مدرسي - وقد تقدم بيانه في
المورد الأول - فردع الشارع الأقدس عما يكون معتبرا عند العقلاء، كبيع الخمر
والخنزير - مثلا - بعد إمضائه عموما أو إطلاقا بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (2)
و (أحل الله البيع) (3)، لو كان معناه عدم ترتب الآثار المطلوبة عليه، الذي مرجعه
إلى التخصيص الحكمي، فلا مانع من التمسك بعموم دليل الإمضاء أو إطلاقه فيما شك
في اعتباره; لأن مقتضى دليل الإنفاذ إنفاذ كل ما يكون معتبرا عند العرف والعقلاء،
فيركن إليه فيما لم يعلم ردعه عنه، وأما فيما علم ردع الشارع عنه فيرفع اليد عنه
بخصوصه.
ولكن عرفت - في المورد الأول أيضا - أنه لا معنى لنفي الآثار المطلوبة مع
إمضاء الموضوع; للزوم اللغوية وعدم اعتبار أحد من العقلاء ذلك، فمرجع ردع
الشارع لابد وأن يرجع إلى إعدام الموضوع، وعدم حصول المعاملة التي تكون عبارة
عن النقل والانتقال، فإخراجه عن أدلة الإمضاء يكون بنحو التخصص; فعلى هذا
لا يمكن التمسك بالعموم والإطلاق في موارد الشك; لصيرورة الشبهة على هذا

1 - انظر هداية المسترشدين: 115 سطر 26.
2 - المائدة: 1.
3 - البقرة: 275.
358

مصداقية، ولا يمكن التسمك بهما عند ذلك; لأن مرجع الشك على هذا إلى الشك في
حصول المعاملة وعدمه، والتمسك بالعموم والإطلاق إنما هو بعد تحقق الموضوع.
وبالجملة: لو كان ردع الشارع الأقدس عبارة عن الردع عن الموضوع
وإعدامه، ففي صورة الشك في ردعه يشك في تحقق الموضوع، ولا يصح التمسك بالعام
أو المطلق عند الشك في تحقق الموضوع.
وقد يجاب عنه: بأنه لو كانت الألفاظ موضوعة للمسببات، فلا يوجب ردع
الشارع عما يعتبره العقلاء أن يكون الاختلاف بينهما من حيث المفهوم، كما كان يرجع
إليه لو كانت موضوعة للأسباب; بداهة أن مفهوم البيع - مثلا - عبارة عن تمليك عين
بعوض، قبال الإجارة التي هي عبارة عن تمليك المنفعة كذلك، وهذا أمر لا ينكره
الشرع والعرف، فإذا كان المفهوم من البيع عندهما واحدا، وواضح أن العمومات
والمطلقات أحكام ثابتة على المفاهيم، فمرجع ردع الشارع إلى إعدام الموضوع وعدم
اعتبار المصداق، بعد صدق البيع على البيع الربوي مثلا، وليس لأجل تضييق في
مفهوم المسبب، بل لعدم تحقق المصداق بعد التخصيص الراجع إلى التخصص، فحينئذ
لو شك في ردع الشارع مصداقا فلا مانع من التمسك بالعموم أو الإطلاق; لعدم جواز
رفع اليد عن الحجة إلا بالدليل.
وبالجملة: لو كان مفهوم البيع - مثلا - عند الشرع والعرف واحدا، والحكم في
قوله تعالى: (أحل الله البيع) تعلق بعنوان البيع، وردع الشارع عن البيع الربوي
- مثلا - لعدم اعتبار المصداق بعد التخصيص الراجع إلى التخصص، فيكون قوله
تعالى: (أحل الله البيع) حجة في مورد الشك في الردع.
ولكن نقول: إن التمسك بالعموم أو الإطلاق، إنما يجري فيما إذا صدق العنوان
على الموجود الخارجي; من دون أن يكون إجمال في التطبيق، ولكن شك في اعتبار أمر
زائد، وأما فيما لو شك في صدق العنوان على الموجود الخارجي، فلا يصح التمسك
359

بالإطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يكون منشأ الشك، الشك في صدق العنوان عليه
عرفا، وبين أن يكون كذلك شرعا الراجع إلى إعدام الموضوع; فكما لا يصح التمسك
بالإطلاق عند الشك في صدق العنوان عرفا; لكون الشبهة مصداقية، فكذلك في الشك
في صدق العنوان عليه شرعا، ومجرد تعلق الحكم بالعنوان لا يجدي في ذلك.
وبعبارة أخرى: لو كان ردع الشارع الأقدس عبارة عن إعدام الموضوع،
فلا يصح التسمك بالإطلاق; من غير فرق بين أن يكون ردعه عبارة عن نفي الموضوع
تكوينا، وبين أن يكون عبارة عن نفي الموضوع في محيطه، فكما لا يصح التمسك
بالإطلاق في الصورة الأولى; لرجوع الشك إلى تحقق الموضوع، فكذلك في الصورة
الثانية; لرجوعه أيضا إلى الشك في تحققه في محيطه; بداهة أن مرجع الشك - على
هذا - إلى الشك في تطبيق العنوان على هذا الموجود الخارجي، فتكون الشبهة
مصداقية.
هذا: ولكن الذي يقتضيه التحقيق - كما أشرنا إليه - هو إمكان التمسك
بالعمومات والمطلقات الواردة في مقام إمضاء ما عليه العرف والعقلاء; وذلك لأن
الحكم في العموم متعلق بكل فرد فرد على نعت الإجمال، ففي قوله تعالى: (أوفوا
بالعقود) - مثلا - تعلق وجوب الوفاء بكل فرد من أفراد العقود، فكل ما صدق عليه
عنوان العقد عرفا فهو نافذ عند الشرع، ويجب الوفاء به.
وكذا الحكم في المطلق، كقوله تعالى: (أحل الله البيع) - مثلا - لأن الشارع
الأقدس لا يريد بذلك إثبات الحكم بنفس طبيعة البيع من حيث هي، بل بلحاظ
وجودها وتحققها في الخارج، فكل ما تحقق في الخارج بيع عرفا يشمله حلية البيع.
فظهر: أن كلا من (أوفوا بالعقود) و (أحل الله البيع) أنفذ ما عليه العرف
والعقلاء، فالعموم أو الإطلاق محكم بالنسبة إلى جميع أفراد العقود والبيوع، ولا يصح
رفع اليد عنها إلا ما علم خروجه عنها، فلو شك في إخراج الشارع مصداقا عما يكون
360

نافذا ومعتبرا عند العرف والعقلاء، فيصح التمسك بالعموم أو الإطلاق، كما يتمسك بهما
في صورة الشك في أصل التخصيص والتقييد.
وبعبارة أخرى: بعدما لم يكن للشارع اصطلاح خاص به، ومعنى مخصوص في
المسببات، فإمضاؤه المسببات ليس إلا تصديقا لتلك المعاني المركوزة في أذهان العرف
والعقلاء، فمعنى (أوفوا بالعقود) - مثلا - الوفاء بالنقل والانتقال المتداول بينكم
فإخراج الشارع ما يصدق عليه البيع المسببي عرفا - مثلا - تخصيص حكمي بالنسبة
إلى أدلة الإمضاء، ومقتضاه إعدام موضوعها شرعا، فلو شك في إخراج معاملة شرعا
فيتمسك بعمومات أدلة الإمضاء وإطلاقها، فتدبر واغتنم.
المورد الخامس: لا ينبغي الإشكال بشهادة التبادر وارتكاز عرف المتشرعة
على أن ألفاظ المعاملات - كالبيع، والتجارة، والإجارة، والصلح، وغيرها، حتى لفظ
«العقد» - أسام للمسببات; - أعني بها ما تحصل بالأسباب وتوجد بها - لا الأسباب
المحصلة لها، ولا النتيجة الحاصلة من الأسباب والمسببات.
وبالجملة: ألفاظ المعاملات بحكم التبادر أسام للمسببات، مثلا: لفظ «البيع»
اسم لتبادل المالين الحاصل ب‍ «بعت واشتريت»، لا لنفس الإيجاب والقبول،
ولا للنتيجة الحاصلة من السبب والمسبب من صيرورة المبيع ملكا للمشتري والثمن
ملكا للبائع.
أما الأول: وإن كان محتملا إلا أن التبادر وارتكاز المتشرعة على خلافه.
وأما الثاني: فلعدم صدق عنوان البيع على النتيجة، فتدبر.
ولكن يظهر من المحقق العراقي (قدس سره) تفصيل في ذلك; حيث قال: إن ظاهر بعض
الأدلة إمضاء للأسباب، كقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (1)، وظاهر بعضها الآخر

1 - المائدة: 1.
361

إمضاء للمسببات، كقوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) و (تجارة عن تراض) (2) (3).
وفيه: أن العقد مأخوذ من العقدة المعبر عنها بالفارسية ب‍ «گره» بمعنى المعاهدة،
وهي معنى حاصل بالإيجاب والقبول، فالإيجاب والقبول مما يعقد بهما لا أنهما نفس
ذلك، ولعمر الحق إنه واضح لا ارتياب منه.
ثم إنه بعدما عرفت: أن العمومات والمطلقات منزلة على إمضاء المسببات،
فمقتضى عمومها وإطلاقها إمضاء كل فرد من أفراد المسبب في العرف والعقلاء،
فلو شك في اعتبار شيء فيه، فيرفع اليد عنه بالعموم والإطلاق، ومقتضى إمضاء
المسبب مطلقا، إمضاء كل سبب يتسبب به في العرف إليه; بداهة أن إنفاذ المسبب أينما
وجد، مرجعه إلى إنفاذ كل سبب يتسبب به إليه في العرف، وإلا كان إطلاق دليل
المسبب مقيدا بغير ذلك السبب الذي يدعى عدم إمضائه، وبذلك يرفع اليد عن اعتبار
شيء في ناحية السبب.
وبالجملة: لا إشكال في أن إمضاء المسبب مطلقا إمضاء للسبب كذلك، فكما
أنه لو شك في اعتبار شيء في ناحية المسبب ترفع اليد عنه بإطلاق الدليل، فكذلك
ترفع اليد بذلك الدليل; لو شك في اعتبار شيء في ناحية السبب، فإطلاق الدليل في
ناحية المسبب يكفي لدفع الشك في ناحية السبب.
وهذا مما لا إشكال فيه، كما قربه المحقق العراقي أيضا (4)، فلاحظ.

1 - البقرة: 275.
2 - النساء: 29.
3 - بدائع الأفكار 1: 141.
4 - قلت: فإنه (قدس سره) بعد أن صرح: أن التحقيق يقتضي أن إمضاء كل من السبب والمسبب يرفع
الشك من الناحية الاخرى، قال: أما كون إمضاء المسبب يستلزم إمضاء السبب، فتقريبه من
وجوه، فقال في الوجه الذي عول عليه: إن الدليل الذي دل على إمضاء المسبب، مثل قوله
تعالى: (أحل الله البيع) - بما أنه قد دل بإطلاقه على إمضاء كل فرد من أفراد المسبب في
العرف - يكون دالا بالملازمة والاقتضاء على إمضاء كل سبب يتسبب به في العرف إليه، وإلا
كان إطلاق دليل المسبب مقيدا بغير ذلك السبب، الذي يدعى عدم إمضائه، أو لا يكون له
إطلاق فيما لو شك في إمضاء سبب من أسباب ذلك المسبب، وهو على كلا طرفي الترديد
خلاف الفرض (أ)، انتهى. المقرر
362

خاتمة
في تصوير جزء الفرد وشرطه في المركبات الاعتبارية
والكلام حولهما كان ينبغي أن يكون عند تحرير محل النزاع بين الصحيحي
والأعمي: في أنه هل هو خصوص الأجزاء الدخيلة في ماهية المأمور به، أو مطلق
الأجزاء حتى ما بها يتشخص المأمور به، وحتى ما ندب إليها فيه، أو الأجزاء مع
الشرائط المقومة للماهية، أو مطلقا حتى ما بها يتشخص المأمور به، وما ندب إليها فيه،
ولكن حيث تعرض لهما المحقق الخراساني (قدس سره) (1) هنا فاقتفينا أثره، فنقول:
لا إشكال في إمكان تصوير الأجزاء المقومة للماهية المأمور بها، والشرائط
المقومة كذلك.
أما الأول: ففيما إذا كان مجموع عدة أجزاء محصلة لغرض المولى; بحيث لو فقد
جزء منها لا يحصل غرضه، فيلاحظ المولى مجموع الأجزاء جملة واحدة، فيبعث
المكلف نحوها.
وأما الثاني: ففيما لا تكون نفس الأجزاء محصلة لغرضه، بل بما هي متقيدة
- بأمر مقارن أو سابق أو لاحق - محصلة للغرض، فيلاحظ الأجزاء متقيدة بذلك
الأمر، فيبعث المكلف نحو الأجزاء المتقيدة بذلك الأمر.

1 - كفاية الأصول: 50 - 51.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - بدائع الأفكار 1: 142.
363

فظهر: أن تصوير الأجزاء والشرائط المقومة للماهية المأمور بها بمكان من
الإمكان، لا إشكال فيه (1).
وأما جزء الفرد وشرطه - أعني بهما ما لم يكونا جزء الماهية المأمور بها،
ولا شرطها، بل من كمالات الموجود المتحدة معه خارجا - فقد وقع الإشكال في
تصويرهما في المركبات والماهية الاعتبارية، بعد إمكان تصويرهما في المركبات
والماهيات الحقيقية.
أما إمكان تصويرهما في الماهيات الحقيقية، فلأن الماهية وإن كانت مغايرة مع
أجزائها ولوازمها، وعوارضها وعوارض وجودها; مفهوما وفي عالم التصور، ولكن
يمكن تحققها وتجمعها مع كثرتها في محل واحد بوجود واحد; من غير أن تنثلم
وحدتها، وذلك فإن ماهية الإنسان - مثلا - عبارة عن الحيوان الناطق، وهي حقيقة
بسيطة خارجية تغاير العوارض والخصوصيات مفهوما، إلا أنها لا تنفك عنها
خارجا، بل متعانقة الوجود معها في الخارج; بحيث لا يكون لها وجود منحاز عن
وجود العوارض والخصوصيات، بل وجود واحد شخصي حقيقي على نحو البساطة
لا تكثر فيه، فالفرد والشخص الخارجي بجميع خصوصياته عين ماهية الإنسان
وجودا، فيصح فيها تصور مقومات الماهية وأجزاء الفرد وشرائطه.
ولتوضيح ذلك نقول: إن المولود - مثلا - من حين ولادته إلى أن يبلغ، ثم

1 - قلت: يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره): أن العدمي قد يكون دخيلا في المأمور به جزءا أو
شرطا (أ)، وحيث إن العدم لا شيء، فكيف يكون دخيلا ومؤثرا في المأمور به جزءا أو شرطا؟!
وقع الكلام في كيفية دخالة الأمر العدمي في الماهية المأمور بها; وأنه من العدم المضاف،
لا العدم المحض، أو بعد إرجاعه إلى الأمر الوجودي، وتفصيله يطلب من باب الأقل والأكثر،
فارتقب حتى حين. المقرر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - كفاية الأصول: 50.
364

يشيب ويهرم إلى أن يموت، يتحول ويتبدل عرفا، بل حقيقة، ومع ذلك تكون له هوية
ثابتة، يقال: إنه كان صغيرا، ثم صار شابا، ثم شيخا إلى أن مات، فللعقل تحليل
الموجود الخارجي الذي هذا حاله إلى ما يكون دخيلا في قوامه وماهيته، وما يكون
من عوارض وجوده وتحققه، وهو تحيثه بأين كذا، وكم كذا...
فتحصل مما ذكرنا: إمكان تصوير جزء الفرد في الماهيات الحقيقية.
وأما تصويرهما في الماهيات والمركبات الاعتبارية فقد وقع الإشكال فيه:
بلحاظ أنه لم يكن للمجموع المركب وجود وتشخص خارجي وراء الأجزاء
وتشخصها، بل لكل جزء منه وجود مستقل بحياله، بل ربما يكون كل جزء مقولة،
ومحال أن توجد مقولات متعددة بوجود واحد شخصي، كما قرر في محله (1)، فالهيئة
التركيبية لا وجود لها إلا بالاعتبار - أي اعتبار مجموعها أمرا واحدا - واعتبار المجموع
بدون ذلك الجزء غير الدخيل في الماهية، غير اعتبار المجموع مع ذلك الجزء، فبالطبع
البعث المتوجه إلى نفس الطبيعة غير باعث لذلك الجزء.
نعم: يمكن البعث إليه إذا لاحظه مع المجموع مرة أخرى، وتوجه البعث إلى
المجموع مع هذا الجزء، ولكنه أمر مستأنف متعلق بطبيعة أخرى، فلا يتصور فيه جزء
الفرد.
وبالجملة: يشكل تصوير جزء الفرد أو شرطه في الماهيات الاعتبارية في قبال
الجزء أو الشرط المقوم للماهية، فإن القنوت - مثلا - لا يخلو: إما أن يكون مأمورا به
مستقلا، لكن ظرف إتيانه ومحله الصلاة، أو يكون جزءا واجبا للصلاة، أو يقال: يتعلق
أمر آخر بالصلاة مع القنوت، وراء الأمر المتعلق بنفس طبيعة الصلاة.
وواضح أنه على شيء من الوجوه لا يكون القنوت جزءا للفرد.

1 - انظر المباحث المشرقية 1: 165 - 167.
365

أما على الأول: فواضح أن الصلاة لا شأن لها بالنسبة إلى القنوت حسب
الفرض، إلا كونها ظرفا، وهو مظروف لها، وأنى لجزء الفرد وهذا؟!
وكذا على الثاني: لصيرورته على هذا من أجزاء ماهية الصلاة كالقراءة.
وعلى الثالث: تكون هناك ماهيتان: يكون الموجود الخارجي منها بدون
القنوت مصداقا لإحداهما، ومع القنوت مصداقا للأخرى، فتدبر.
وربما يتصور جزء الفرد وشرطه من جهة أن الصلاة حقيقة بسيطة منتزعة، لها
مراتب متفاضلة بعضها على بعض، وذلك المعنى الانتزاعي ينتزع من كل مرتبة من
المراتب، فهي حقيقة مشككة متحدة مع تلك المراتب، فكما يصح انتزاعها من الأجزاء
والشرائط المقومة للماهية، فكذلك يصح انتزاعها من المرتبة الواجدة للمزايا.
ولكنه مدفوع: بأنه لو كانت الصلاة حقيقة خارجية واحدة ذات مراتب تتحد
مع كل مرتبة، أمكن تصوير التشكيك فيها، وأما لو كانت أمرا انتزاعيا فلا معنى
لتصوير التشكيك فيها، كما لا يصح التشكيك في الماهية; بداهة أن انتزاع حقيقة بسيطة
- كالصلاة مثلا - من تسعة أجزاء لو صحت، فإنما هي غير ما ينتزع من عشرة أجزاء.
مضافا إلى أن القول: بأن الصلاة عبارة عن شيء آخر غير ما أوله التكبير
وآخره التسليم، كأنه خلاف الضرورة، والضرورة قاضية بأنه لا يكون لها حقيقة ما
وراء ذلك.
ولكن الذي يقتضيه التحقيق في تصوير الجزء الفرد أو شرطه - وهو غاية
ما يمكن أن يتشبث به لذلك - هو أن يقال:
إن الماهيات الاعتبارية على قسمين: فقسم منها ما لا يعتبر فيه إلا مجرد اجتماع
الأجزاء كالعشرة، فاعتبرت الأجزاء واحدا فقط.
وقسم آخر اعتبر فيه هيئة خاصة وشكل مخصوص، وذلك كالدار والمدرسة
366

مثلا (1)، فإنه لم يكن لهما وجود خارجي وتشخص مستقل وراء وجود الأجزاء
وتشخصها، ولكن مع ذلك لكل منهما هيئة مخصوصة لا بشرط - غير نفس اجتماع
الأجزاء - بها تتصف بالحسن تارة وبالقبح أخرى، فيقال: للبيت الذي يكون لمرافقة
وغرفة تناسب مخصوص: إنه بيت حسن وإن بنيت من خزف وطين، وأما البيت الذي
لم تكن لمرافقة وغرفة ذلك التناسب إنه قبيح أو غير حسن وإن بنيت من ذهب
وفضة، ففي هذا القسم من الماهية الاعتبارية - التي تكون لها هيئة خاصة - يكون
بعض الأجزاء والشرائط دخيل في تحقق الماهية الاعتبارية; بحيث لو لم تكن لم تتحقق
الماهية، وبعضها دخيل في حسن الهيئة; بحيث لو لم تكن لما اتصفت بالحسن.
إذا تمهد لك هذا، فنقول: إنه قد عرفت في مقام تصوير الجامع: أنه لوحظت
المادة والهيئة كلتاهما لا بشرط، فإذا روعي تناسب بين الأجزاء والمواد يتصف المركب
الاعتباري بالحسن، وإلا بالقبح، أو بعدم الحسن.
والصلاة - مثلا - من المركبات الاعتبارية التي لها هيئة مخصوصة - كالبيت
والدار - يشهد لذلك ارتكاز المتشرعة، وتعبيرهم عن مبطل الصلاة بالقاطع، فكأنه
بتخلل المبطل تقطع الهيئة الاتصالية.
وعليه يمكن أن يقال: إنه لا يكون للقنوت - مثلا - دخالة في ماهية الصلاة،
ولكن له دخالة في حسن الهيئة الصلاتية، ويكون المصداق من الصلاة بلحاظ وقوع
القنوت بعد الركوع الثاني، أحسن صورة من فاقده.
وبالجملة: الصلاة - مثلا - كالمسجد مركب وماهية اعتبارية، فكما أن للمسجد

1 - قلت: إياك أن تتوهم: أن للدار أو المدرسة وجودا واحدا حقيقيا مع تشخص أجزائهما; للزوم
ذلك تشخص الماهية بتشخصين، وهو محال، كما قرر في محله (أ). المقرر
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
أ - انظر الحكمة المتعالية 2: 10 - 13، وشرح المنظومة (قسم الحكمة): 107 - 108 سطر 5.
367

هيئة خاصة تتصف بالحسن بلحاظ وقوع المنارة - مثلا - في موضع، وبيت الخلاء في
موضع آخر، والباب في موضع ثالث... وهكذا، فكذلك الصلاة تتصف بالحسن بلحاظ
وقوع القنوت - مثلا - في موضع من الصلاة، والتكبيرة ورفع اليد حال التكبيرة عند
الانتقال من فعل إلى آخر... وهكذا.
ثم إن ما صدر من المحقق الخراساني (قدس سره); من عقد عنوان محل النزاع في آخر
البحث (1): من أنه هل هو عبارة عن خصوص الأجزاء غير الدخيلة في تشخصها،
أوما يكون دخيلا فيما ندب إليه، أو هي مع الشرائط الكذائية، أو مطلق الأجزاء
والشرائط، أو غير ذلك؟ لا وجه له، بعدما سبق منا الكلام فيه مستقصى، فلاحظ.

1 - كفاية الأصول: 50.
368

هذا آخر ما أفاده سماحة أستاذنا الأكبر دام
ظله في مبحث الصحيح والأعم، وبه قد تم الجزء
الأول من كتاب «جواهر الأصول»، ويتلوه الجزء
الثاني - إن شاء الله تعالى - مبتدئا ببحث الاشتراك.
وقد وقع الفراغ منه تحريره للمرة الثانية
حال تهيئته للطبع، ليلة الأربعاء 15 محرم الحرام
من سنة 1416 (ه‍. ق) في قم المحمية عش
آل محمد وحرم أهل البيت صلوات الله عليهم، بيد
الراجي رحمة ربه السيد محمد حسن المرتضوي
اللنگرودي، والحمد لله أولا وآخرا،
رب اغفر وارحم، وتجاوز عما تعلم.
369