الكتاب: تهذيب الأصول
المؤلف: تقرير بحث السيد الخميني ، للسبحاني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: انتشارات دار الفكر - قم
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لبحث آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني

الجزء الثاني
تهذيب الأصول
تقرير البحث سيدنا
العلامة الأكبر والأستاذ الأعظم آية الله العظمى
مولانا الامام الحاج آقا روح الله الموسوي الخميني
أدام الله ظله العالي
بقلم
الشيخ جعفر السبحاني التبريزي
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق العباد، وساطع المهاد، حمدا كلما وقب ليل وغسق، أو لاح
نجم وخفق، والصلاة والسلام على سفيره ونبيه، وأمينه على وحيه وتنزيله وصفيه و
بعيثه " محمد " وعلى أئمة الحق من بعده الذين أضاءت بهم البلاد بعد الضلالة المظلمة
والجهالة الغالبة، صلاة دائمة ما دامت السماوات ذات أبراج والأرض ذات فجاج
اما بعد: فهذه عقود درية تزين المعاصم، وأقراط تشف المسامع لابل هي
غرر وطرائف، ودرر وظرائف، التقطتها من بحث سيدنا العلامة الحجة،
كعبة العلم ومناره ولجة الفضل وتياره مولانا الأفخم والمحقق الأعظم الأستاذ الأكبر
آية الله: الحاج آغا روح الله الخميني دامت اظلاله على رؤس المسلمين.
هذه الصحائف والأوراق، تحتوى لب ما افاده في مجلس درسه الشريف، وتشير
إلى آرائه وانظاره. قديمها وحديثها بعبائر وجيزة وتراكيب غير مملة غير أنه
دام ظله الوارف طلبا للاطمئنان، قد أشرف على عامة ما حبرته يراعتي اشرافا تاما،
وأعاد النظر ودقق حتى جاءت صحيفة مكرمة واقعة مورد القبول حافلة لما بقى
من المباحث اللفظية وما سيوافيك من الأصول العقلية
ولما تم نظامه وتمسك بحمد الله ختامه أهديته إلى أخي وصديقي في الله، العلامة
المفضال، رجل العلم والفضيلة: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي دامت معاليه (1)

(1): وشيخنا هذا من الأساتذة الأفاضل في الحوزة العلمية وفى الطليعة من المؤلفين
العظام ممن حقت له العبقرية والنبوغ يتجلى الابتكار في تأليفه القيمة ضع يدك على أي
واحد منها في الفقه وأصوله والعقائد والمذاهب والتفسير وأخص بالذكر كتابه القيم القواعد
الفقهية فقد اطرح فيها القواعد الدارجة في الفقه، وبحث عنها بحثا ضافا وسوف يخرج الجزء
الأول منها من الطبع. المؤلف
4

المقصد الرابع في العام والخاص
وفيه فصول وقبل الخوض فيها نقدم البحث عن أمور:
الأول ان القوم عرفه بتعاريف عديدة، وجاء عدة منهم ناقش في عكسه
وطرده ولكن لا طائل في البحث عنها، ولننبه على أمر يتضح في خلاله حال العام و
تعريفه، وهو ان القوم رضوان الله عليهم، لا يزالون على خلط دائر بين كلماتهم حيث
قسموا العموم إلى وضعي واطلاقي مع أن باب الاطلاق غير مربوط بالعموم.
توضيحه ان الطبيعة الصرفة كما لا يوجب تصورها الا الانتقال إلي ذاتها
اللا بشرط من دون إرائة مشخصاتها وقيودها الصنفية، كذلك اللفظ الموضوع
مقابل هذه الطبيعة لا يدل الا على ذات، الماهية المجردة من كل قيد لان الحكاية
الاعتبارية الوضعية دائر مدار الوضع سعة وضيقا، والمفروض ان الوضع لم ينحدر
الا على ذات الطبيعة بلا انضمام قيوده وعوارضه، فلا محالة ينحصر دلالته عليها فقط
ولا يحكى ولا يكشف عن الافراد وعوارضها ولوازمها أصلا.
5

وبعبارة أوضح: كما أن نفس الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة وكاشفة عن
الافراد (سواء كان التشخص بالوجود والعوارض اماراته أو كان بالعوارض)، ضرورة
ان نفس الطبيعة تخالف الوجود والتشخص وسائر عوارضها، ذهنية كانت أو
خارجية، ولا يمكن كاشفية الشئ عما يخالفه، فالماهية لا تكون مرآة للوجود
الخارجي والعوارض الحافة به (فكذلك) الألفاظ الموضوعة للطبايع بلا شرط، كأسماء
الأجناس وغيرها لا تكون حاكية الا عن نفس الطبايع الموضوعة لها، فالانسان لا يدل
الا على الطبيعة بلا شرط وخصوصيات المصاديق لا تكون محكية به.
فان قلت: ان الطبيعة كما يمكن ان تلاحظ مهملة جامدة، فهكذا يمكن
ان تلاحظ سارية في افرادها دارجة في مصاديقها كما هو الحال في القضية الحقيقية فهي على
فرض السريان عين كل فرد في الخارج ومتحدة معه في وعائه فتصور هذه عين تصور
ذاك لأن المفروض ان الطبيعة لوحظت لا بما هي هي بل بما هي موجودة في الخارج
وانها عين الافراد.
قلت: ان ذا من العجب وهو خلط بين الانتقال والحكاية، إذ مجرد الاتحاد
لا يوجب الحكاية والمرآتية والا كانت الاعراض حاكية عن جواهرها لان وجود
العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه، والمتحدات في الخارج حاكية بعضها عن بعض و
الحاصل ان مفهوم الانسان مع قطع النظر عن عالم اللفظ والوضع عبارة عن طبيعة منحلة
إلى جنسه وفصله عند التحليل لا غير، فلنفس المفهوم ضيق ذاتي لا يكشف عن
العوارض والخصوصيات، فلو فرضنا وضع لفظ لتلك الطبيعة فهو لا يمكن ان يحكى
الا عما وضع بازائه لا غير واتحاد الانسان خارجا مع الافراد لا يقتضى حكايتها لان
مقام الدلالة التابعة للوضع غير الاتحاد خارجا إذا عرفت ذلك فنقول:
ان حقيقة الاطلاق انما يتقوم بوقوع الشئ كالطبيعة موضوعا للحكم بلا قيد واما
العموم فهو يتقوم بشيئين (أحدهما) نفس الطبيعة و (ثانيهما) ما يدل على العموم والشمول
مثل لفظة كل والجميع والألف واللام مما وضعت للكثرات أو تستفاد منه الكثرة
لجهة أخرى، فإذا أضيفت هذه المذكورات إلى الطبايع أو دخل بها وصارتا ككلمة
6

واحدة كما في الألف واللام تستفاد منهما الكثرة بتعدد الدال والمدلول، فإذا قلت كل
انسان ناطق فلفظة انسان تدل على الطبيعة الصرفة من دون أن تكون حاكية عن الكثرة
والافراد، أو تكون الطبيعة المحكية به مرآة لها، وكلمة " كل " تدل على نفس الكثرة
والتعدد، واضافتها إليها تدل علي ان هذه الكثرة، هو كثرة الانسان لا كثرة طبيعة
أخرى وهى الافراد بالحمل الشايع، وقس عليه العام المجموعي أو البدلي، إذ كل ذلك انما
يستفاد من دوال اخر غير ما يدل على الطبيعة كلفظة (مجموع) كما تقدم ذكر منه في
بحث الواجب المشروط ويأتي انشاء الله بيانه.
فظهر: مما ذكرنا امران (الأول) ان باب الاطلاق غير مربوط بباب العموم
وانه لا جامع بينهما حتى نلتمس في وجه الافتراق، إذ الغاية من اثبات الاطلاق احراز
كون الطبيعة مثلا تمام الموضوع للحكم من غير قيد واما الاستغراق والبدل و
نحوهما فلا يمكن استفادتها من الاطلاق إذ الاطلاق لا يتعرض للكثرة حتى يبحث
عن كيفيتها، واما العموم فهو المقيد للكثرة وكيفيتها، وعلى هذا يصح ان يعرف
العام بأنه ما دل على تمام مصاديق مدخوله مما يصح ان ينطبق عليه، (واما) تعريفه بأنه
ما دل على شمول مفهوم لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه، فلا يخلوا من مسامحة ضرورة
ان الكل لا يدل على شمول الانسان لجميع افراده (والخطب بعد سهل).
الثاني: إذا أمعنت النظر فيما ذكرناه من أنه لا جامع قريب بين باب الاطلاق
والعموم، يظهر النظر فيما افاده شيخنا العلامة وبعض الأعاظم (قدس سرهما) من أن
العموم قد يستفاد من دليل لفظي كلفظة كل، وقد يستفاد من مقدمات الحكمة،
والمقصود بالبحث في هذا الباب هو الأول والمتكفل للثاني هو مبحث المطلق والمقيد
(انتهى ملخصا) وهو صريح في أن العام على قسمين، قسم يسمى عاما وفى مقابله الخاص
ويبحث عنه في هذا المقام وقسم يسمى مطلقا وفى مقابله المقيد ويبحث عنه في باب المطلق
والمقيد.
أقول ما أفاداه لا يخلو من غرابة لان ملاك العام غير ملاك المطلق والمستفاد
من الأول غير المستفاد من الاخر، إذ حقيقة العام وكيفية دلالته قد عرفت بما يسعه
7

المجال، واما المطلق فهو وقوع الطبيعة تمام الموضوع للحكم باعتبار كون المقنن
عاقلا غير ناقض لغرضه في مقام اعطاء الدستور، وان شئت قلت: كون الطبيعة موضوعا
للحكم بصرافتها واطلاقها من دون ان يقيد بوقت دون وقت أو بأمر دون أمر،
فموضوع الحكم في العام هو افراد الطبيعة وفى المطلق هو نفسها بلا قيد ولم تكن الافراد
بما هي موضوعا للحكم، وان شئت فاستوضح الفرق بين العام والمطلق من قوله
سبحانه. (أوفوا بالعقود) وقوله عز وجل (أحل الله البيع) فان مفاد الأول هو التصريح
بوجوب الوفاء بكل مصداق من العقد فمصب الحكم هو الافراد بآلية الجمع
المحلى بالألف واللام مثلا، ومفاد الثاني بناء على الاطلاق وتمامية المقدمات،
اثبات النفوذ والحلية لنفس طبيعة البيع من غير أن يكون للموضوع كثرة، واما
استكشاف صحة هذا الفرد الخارجي من البيع فإنما هو لأجل انطباق ما هو تمام
الموضوع للحلية عليه من دون ان يتعرض نفس الدليل للكثرة وسيوافيك
مزيد بيان لذلك عن قريب باذنه تعالى.
الثالث: ربما يقال: إن استفادة العموم في جميع المقامات يتوقف على اجراء
مقدمات الحكمة لان الألفاظ المقيدة للعموم تابعة لمدخولها فإذا اخذ المدخول مطلقا
يدل علي تمام افراده بنحو الاطلاق، وإذا اخذ مهملا أو مقيدا يدل على استيعابه
كذلك، ومثلها " لا " النافية إذ هي موضوعة لنفى الطبيعة سواء كان مطلقة أو مهملة
واحراز كونها نافية بصرافتها يحتاج إلى اجراء مقدمات الحكمة.
وفيه انه غير متين جدا لو أريد من اجراء المقدمات اثبات كون كل فرد موضوع
للحكم لان الاحتياج إلى الاطلاق ومقدماته فيما إذا لم يكن في الكلام دلالة لفظية على أن
كل واحد، موضوع للحكم حتى يثبت الاطلاق كون كل فرد موضوعا على مبنى القوم في
باب الاطلاق، واما إذا توصل إليه المتكلم بالأدوات الموضوعة له فلا حاجة إليه، (وبعبارة -
ثانية): ان موضوع الاطلاق هو الطبيعة وإذا جرت مقدماته يستكشف ان تمام الموضوع هي
نفسها دون قيد معها، وموضوع العام هو افراد الطبيعة لا نفسها كما عرفت من قوله سبحانه
8

والحاصل ان عد شئ من ألفاظ العموم يتوقف على وضع اللفظ لما يفيد
الشمول بالدلالة اللفظية لا لأجل دلالة من العقل أو كون الارتكاز عليه كما في
المقام (فح) فرق واضح بين " لا " النافية وبين لفظ (كل) إذ الثاني موضوع بحسب
التبادر لاستيعاب الافراد فهو بدلالته اللفظية دال على الشمول، والأولى موضوعة
لنفى المدخول، ومدخولها اما يدل على نفس الطبيعة أو عليها مع قيد الوحدة إذا
كان المدخول نكرة و (بعد هذا التحليل) ليس هنا لفظ يدل علي الكثرة سوى حكم
العرف بان عدم الطبيعة بعدم جميع الافراد، وليس هذا مفاد اللفظ حتى يعد من ألفاظ
العموم (هذا) مع أنه غير مستغن عن اجراء المقدمات، (واما الألف واللام) فهو
في المفرد يفيد تعريف الجنس فقط دون الاستغراق فيحتاج إلى مقدمات الحكمة
لاثبات الاطلاق.
(نعم) الجمع المحلى باللام يفيد العموم، وليس الدال عليه هو اللام ولا نفس
الجمع، ولذا لا يستفاد ذلك من المفرد المحلى والجمع غير المحلى بل انما يستفاد
من تعريف الجمع، ووجه دلالتها هو ان الجمع له عرض عريض، واللام وضعت
لتعريفه، وما هو معين ومعرف انما هو اقصى المراتب وغيره لا تعيين فيه حتى أدنى
المراتب، و (بما ذكرنا) ظهر عدم احتياجه إلى مقدمات الحكمة.
في أن التخصيص لا يوجب
مجازية العام
لا ريب في أن تخصيص العام لا يوجب مجازيته مطلقا، متصلا كان المخصص
أم منفصلا ويتفرع عليه انه حجة فيما بقى بعد التخصيص وعلى القول بالمجازية لازمه
سقوطه عن الحجية وصيرورة الكلام مجملا.
وتوضيح ذلك ان حقيقة المجاز كما تقدم ليس عبارة عن استعمال اللفظ في غير
9

ما وضع له، إذا لتلاعب بالألفاظ لا حسن فيه وكون زيد أسدا لفظا لا بلاغة فيه، بل كل
المجازات من مرسل واستعارة لا يستعمل لفظها الا فيما وضع له، لكن بادعاء ان المورد
وما سبق لأجله الكلام من مصاديقه، وإن كانت العامة غافلين عنه، كما في قوله سبحانه:
ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم (وتقدم تفصيله فراجع) والقائل بان العام المخصص
مجاز لابد ان يصحح مقالته بالادعاء إذ قوام المجاز في جميع الأقسام والأمثلة انما
هو بالادعاء وان ما قصده أيضا هو نفسه أو من مصاديقه فانظر إلى قول الشاعر
جددت يوم الأربعين عزائي * والنوح نوحي والبكاء بكائي
ترى ان حسن كلامه وجمال مقاله انما هو في ادعائه بان النوح والبكاء
منحصران في نوحه وبكائه وليس غيرهما نوحا وبكاء (وعليه) لا يجوز أن يكون
العام المخصص من قبيل المجاز ضرورة عدم ادعاء وتأول فيه، فليس في قوله
أوفوا بالعقود، ادعاء كون جميع العقود هي العقود التي لم تخرج من تحته وان
الباقي بعد التخصيص عين الكل قبله، إذ ليس المقام مقام مبالغة واغراق حتى يتمسك
بهذه الذوقيات، وكذلك قوله سبحانه أحل الله البيع في المطلق الوارد عليه التقييد
، و (الحاصل) ان حمل العام المخصص على باب المجاز مع أن مداره الادعاء وهو
غير مناسب في هذه العمومات التي لم يقصد منها الا ضرب القانون، ضعيف جدا مع
امكان كونه حقيقة على وجه صحيح، واليك بيانه.
ان الدواعي لانشاء الحكم والقاء الامر على المخاطب كثيرة جدا قد أشرنا إلى
بعضها في باب الأوامر، ومن تلك الدواعي هو ضرب القانون واعطاء القاعدة
الكلية للعبيد بجعل حكم على عنوان كلي نحو (أكرم العلماء) وللموضوع آلاف
من المصاديق، ولكن بعضها محكوم بالاكرام بالإرادة الجدية، وبعضها
محكوم بعدم الاكرام كذلك، و (ح) فالقائل يستعمل قوله أكرم العلماء في تمام
افراده الذي هو المعنى الحقيقي، بالإرادة الاستعمالية، ثم يشير بدليل منفصل أو
متصل علي ان الفساق منهم وان تعلقت بهم الإرادة الاستعمالية وشملهم عموم
القانون، الا ان الإرادة الجدية في هذا المورد على خلافه وانهم يحرم اكرامهم
10

أو لا يجب، وهذا الجعل بهذه الكيفية ربما يفيد العبد فيما إذا شك في خروج غير
الفساق أو في المخصص المجمل المنفصل الدائر بين الأقل والأكثر فالجعل على
عنوان كلي، يصير ضابطة وتكون حجة في الموارد المشكوكة إذ الأصل الدائر
بين العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدة الا ما قام الدليل من
جانب المولى على خلافه، فهذا الظهور بنحو العموم حجة عليه في كل فرد من افراده
حتى يقوم حجة أقوى على خلافه، فظهر ان العام مستعمل في معناه الأول، وان
التضييق والتخصيص في الإرادة الجدية، ومدار كون الشئ حقيقة أو مجازا على
الأولى من الإرادتين دون الثانية ويصير حجة في الباقي لما عرفت من أن الأصل الدائر
بين العقلاء هو تطابق الإرادتين حتى يقوم دليل أقوى على خلافه.
وان شئت قلت: ان قوله تعالى أوفوا بالعقود استعمل جميع ألفاظه فيما وضعت
له لكن البعث المستفاد من الهيئة لم يكن في مورد التخصيص لداعى الانبعاث بل
انشائه على نحو الكلية مع عدم إرادة الانبعاث في مورد التخصيص، انما هو لداع
آخر وهو اعطاء القاعدة ليتمسك بها العبد في الموارد المشكوكة فالإرادة
الاستعمالية التي هي في مقابل الجدية قد تكون بالنسبة إلى الحكم بنحو الكلية
انشائيا وقد تكون جديا لغرض الانبعاث، و (قوله) سبحانه أوفوا بالعقود، انشاء
البعث إلى الوفاء بجميع العقود وهو حجة ما لم تدفعها حجة أقوى منها، فإذا ورد
مخصص يكشف عن عدم مطابقة الجد للاستعمال في مورده، ولا ترفع اليد عن العام
في غير مورده، لظهور الكلام وعدم انثلامه بورود المخصص، وأصالة الجد التي
هي من الأصول العقلائية حجة في غير ما قامت الحجة على خلافها.
لا يقال: إذا لم يكن البعث حقيقيا بالإضافة إلى بعض الافراد مع كونه متعلقا
به في مرحلة الانشاء فلازمه صدور الواحد عن داعيين بلا جهة جامعة تكون هو
الداعي.
لأنا نقول: إن التمسك بالقاعدة المعروفة في هاتيك المباحث ضعيف جدا
كما هو غير خفى على أهله وكفى في ابطال ما ذكر ان الدواعي المختلفة ربما تدعو
11

الانسان إلى شئ واحد، أضعف إلى ذلك ان الدواعي المختلفة ليست علة فاعلية لشئ
بل الدواعي غايات لصدور الافعال، وما قرع سمعك ان الغايات علل فاعلية الفاعل
ليس معناه انها مصدر فاعليته بحيث تكون علة فاعلية لها ويصدر حركة الفاعل
منها بل معناه ان الفاعل لا يصير مبدأ الا لأجلها، فالغاية ما لأجلها الحركة لا فاعل
التحريك والحركة.
فان قلت: ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه والألفاظ مغفول عنها
حينه لأنها قنطرة ومرآة للمعاني، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي
والمستعمل ان أراد من لفظ العام المعنى الواقعي فهو والا كان هازلا.
قلت: فيما ذكر خلط واضح وان صدر عن بعض الأعاظم إذ ليس الإرادة الاستعمالية
والجدية متعلقتين بلفظ العام بحيث يكون المراد الاستعمالي جميع العلماء والجدي
بعضهم، حتى يرد عليه ما ذكر، بل الاستعمالية والجدية انما هي بالنسبة إلى الحكم
فما ذكر من الاشكال أجنبي عن مقصودهم. ولعل ما افاده شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه)
يبين ما افاده القوم وراموه حيث قال: إن هذا الظهور الذي يتمسك به لحمل العام
على الباقي ليس راجعا إلى تعيين المراد من اللفظ في مرحلة الاستعمال بل هو
راجع إلى تعيين الموضوع للحكم فراجع.
ثم إن بعض أهل التحقيق قد أجاب في مقالاته عن هذا الاشكال بان دلالة العام
وإن كانت واحدة، لكن هذه الدلالة الواحدة إذا كانت حاكية عن مصاديق متعددة
فلا شبهة في أن هذه الحكاية بملاحظة تعدد محكيها بمنزلة خطابات متعددة نظرا
إلى أن الحاكي يتلون بلون محكيه ويقتضيه في آثاره فمع تعدده يكون الحاكي
كأنه متعدد (فحينئذ) مجرد رفع اليد عن حجية الحكاية المزبورة بالنسبة إلى فرد
لا يوجب رفع اليد عن حجيته العليا، (وأيد كلامه) بالمخصص المتصل (مدعيا) ان
الظهور في الباقي مستند إلى وضعه الأول غاية الأمر تمنع القرينة عن إفادة الوضع لاعلى
المراتب من الظهور فيبقى اقتضائه للمرتبة الأخرى دونها بحاله (انتهى).
ولا يخفى ان ما ذكره من حديث جذب الألفاظ لون محكيها أشبه بالخطابة و
12

مبنى على ما اشتهر من أن احكام المعاني ربما تسرى إلى الألفاظ مستشهدا بأسماء
ما يستقبح ذكره، غافلا عن أن قبحه لأجل ان التلفظ به يوجب الانتقال إلى معناه
ولذا لا يدرك الجاهل باللغة قبحه وشينه، و (عليه) فتعدد المحكى لا يوجب تعدد
الحكاية بعد كون الحاكي عنوانا واحدا، فلفظ العام بعنوان واحد وحكاية واحدة
يحكى عن الكثير، فإذا علم أن اللفظ لم يستعمل في معناه بدليل منفصل (كما هو
المفروض) لم تبق حكاية بالنسبة إلى غيره، وما ذكره في المخصص المتصل من مراتب
الظهور ممنوع، ضرورة ان كل لفظ في المخصص المتصل مستعمل في معناه، وان
إفادة المحدودية انما هو لأجل القيود والاخراج بالاستثناء، فلفظ كل موضوع لاستغراق
مدخوله، فإذا كان مدخوله قولنا (العالم الا الفاسق) يستغرق ذلك المدخول المركب
من المستثنى منه والمستثنى، من دون أن يكون الاستثناء مانعا من ظهوره لعدم ظهوره الا
في استغراق المدخول أي شئ كان، ولو فرض ان القيد أو الاستثناء يمنعان عن ظهوره،
صار الكلام مجملا لعدم مراتب للظهور، وما ذكرنا من اجراء التطابق بين الإرادتين
في كل فرد فرد غير مربوط بهذا الفرض، لان العام على ما ذكرنا قد انعقد له الظهور فيما
وضع له، وهذا العام مع هذا الأصل حجتان حتى يرد حجة أقوى منهما، ولو أمعنت النظر
فيه يسهل لك التصديق.
في سراية اجمال المخصص
إلى العام وعدمها
ان المخصص قد يكون مبين المفهوم وقد يكون غير مبينه وعلى الثاني (تارة)
يكون دائرا بين الأقل والأكثر و (أخرى) بين المتبائنين وعلى (جميع التقادير)
فهو اما متصل أو منفصل (ثم) انه اما لبى أو غير لبى. وأيضا الشبهة اما مفهومية أو مصداقية
فهذه صور المسألة ولنقدم البحث عن المفهومية على البحث عن المصداقية
13

فنقول: يقع البحث في الشبهة المفهومية في مقامين:
المقام الأول في المخصص المتصل المجمل من حيث المفهوم وهو على قسمين
الأول: ما كان امره دائرا بين الأقل والأكثر كما إذا شك في أن الفاسق هو خصوص
مرتكب الكبيرة أو الأعم منها والصغيرة، فالحق سريان اجماله إلى العام ولا يكون
العام المخصص حجة في موارد الشك، لان اتصال المخصص المجمل، يوجب عدم
انعقاد ظهوره من أول القائه الا في العالم غير الفاسق أو العالم العادل، وليس لكل من
الموصوف والصفة ظهور مستقل حتى يتشبث بظهور العام في الموارد المشكوكة
فيشبه المقام بباب المقيد إذا شك في حصول قيده أعني العدالة أو عدم الفسق فيمن كان
مرتكبا للصغيرة،
و (بعبارة ثانية): ان الحكم في العام الذي استثنى منه أو اتصف بصفة مجملة
، متعلق بموضوع وحداني عرفا فكما ان الموضوع في قولنا أكرم العالم العادل هو
الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا: أكرم العلماء الا الفساق منهم، ولذا لا ينقدح
التعارض حتى التعارض البدئي بين العام والمخصص كما ينقدح بينه وبين منفصله (فح)
كما لا يجوز التمسك بالعام كقولنا: لا تكرم الفساق إذا كان مجمل الصدق بالنسبة
إلى مورد كذلك لا يجوز في العام المتصف أو المستثنى منه بشئ مجمل بلا
فرق بينهما.
الثاني ما إذا دار مفهومه بين المتبائنين مع كونه متصلا كما إذا استثنى منه زيدا
واحتمل أن يكون المراد هو زيد بن عمرو وأن يكون هو زيد بن بكر، والحق سريان
اجماله أيضا بالبيان المتقدم في الأقل والأكثر لان الموضوع يصير بعد الاستثناء
(العالم الذي هو غير زيد وهو أمر وحداني) لا يكون حجة الا فيما ينطبق عليه يقينا،
والمفروض انه مجمل من حيث المفهوم فكيف يمكن الاحتجاج بشئ يشك في انطباقه
على المشكوك.
واما المقام الثاني أعني المخصص المنفصل المجمل من حيث المفهوم فهو
أيضا على قسمين.
14

الأول: ما إذا دار بين الأقل والأكثر فلا يسرى أصلا ويتمسك به في موارد
الشك لان الخاص المجمل ليس بحجة في موارد الاجمال فلا ترفع اليد عن الحجة
بما ليس بحجة، ولا يصير العام معنونا بعنوان خاص في المنفصلات، (وبعبارة أوضح)
ان الحكم قد تعلق بعنوان الكل والجميع، فلا محالة يتعلق الحكم على الافراد
المتصورة اجمالا، والأصل العقلائي حاكم على التطابق بين الإرادتين في عامة الافراد
فلا يرفع اليد عن هذا الظهور المنعقد الا بمقدار قامت عليه الحجة، والمفروض ان
الحجة لم تقم الا على مرتكب الكبائر وغيرها مشكوك فيه، و (لا يقاس) ذلك
بالمتصل المردد بين الأقل والأكثر، إذ لم ينعقد للعام هناك ظهور قط، الا في المعنون
بالعنوان المجمل، والمرتكب بالصغائر مشكوك الدخول في العام هناك من أول الأمر
بخلافه هنا فان ظهور العام يشمله قطعا.
كيف فلو كان المخصص المجمل حكما ابتدائيا من دون ان يسبقه العام
لما كان حجة الا في مقدار المتيقن دون المشكوك، فكيف مع ظهور العام في اكرام
المشكوك واما ما افاده شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) من أنه يمكن ان يقال إنه بعد
ما صارت عادة المتكلم على ذكر المخصص منفصلا فحال المنفصل في كلامه حال المتصل
في كلام غيره (لا يخلو عن نظر) فان وجوب الفحص عن المخصص باب، وسراية اجمال
المخصص إليه باب آخر، ومقتضى ما ذكره عدم جواز العمل بالعام قبل
الفحص لا سراية الاجمال لان ظهور العام لا ينثلم لأجل جريان تلك العادة كما أن
الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجد حجة بعد الفحص عن المخصص و
عدم العثور الا على المجمل منه لكنه قدس سره رجع في الدورة الأخيرة عما افاده
في متن كتابه، (نعم) لو كان الخاص المجمل المردد بين الأقل والأكثر واردا
بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرع كما في بعض انحاء الحكومات، فسراية
اجماله وصيرورة العام معنونا غير بعيدة كما إذا قال المراد من العلماء هو
غير الفساق، أو ان الوجوب لم يجعل على الفاسق منهم، ومع ذلك فالمسألة بعد
محل اشكال.
15

القسم الثاني ما إذا دار المخصص المنفصل بين المتباينين، فالحق انه يسرى
الاجمال إليه حكما بمعنى عدم جواز التمسك به في واحد منهما وإن كان العام
حجة في واحد معين واقعا ولازمه اعمال قواعد العلم الاجمالي، وان شئت قلت إن
العلم الاجمالي بخروج واحد منهما يوجب تساوى العام في الشمول لكل واحد
منهما ولا يتمسك به في اثبات واحد منهما الا بمرجح وهو منتف بالغرض،
وبتعبير آخر: انه بعد الاطلاع بالمخصص لا متيقن في البين حتى يؤخذ به و
يترك المشكوك كما في الأقل والأكثر بل كلاهما في الاحتمال متساويان فلا
محيص عن اجراء قواعد العلم الاجمالي، فلو كان المخصص رافعا لكلفة الوجوب
عن مورد التخصيص وكان مقتضى العام هو الوجوب، فلازمه اكرام كلا الرجلين حتى
يستيقن بالبرائة، ولو كان المخصص ظاهرا في حرمة مورده فيكون المقام من قبيل
دوران الامر بين المحذورين ولكل حكمه.
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
محط البحث في الاشتباه المصداقي لأجل الشبهة الخارجية، انما هو فيما إذا
أحرز كون فرد مصداقا لعنوان العام أعني العالم قطعا ولكن شك في انطباق عنوان
المخصص أعني الفاسق عليه وبعبارة أخرى: البحث فيما إذا خص العام، ولم يتعنون
ظهور العام بقيد زائد سوى نفسه لا في تقييد المطلق الذي يوجب تقييده بقيد زائد
سوى ما اخذ في لسان الدليل، وبما ذكرنا يظهر الخلط فيما افاده بعض الأعاظم
حيث قال (ان تمام الموضوع في العام قبل التخصيص هو طبيعة العالم، وإذا ورد
المخصص يكشف عن أن العالم بعض الموضوع وبعضه الاخر هو العادل فيكون الموضوع
واقعا هو العالم العادل فالتمسك في الشبهة المصداقية للخاص يرجع إلى التمسك فيها
لنفس العام من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها)، (وجه الخلط) ان ما افاده صحيح
في المطلق والمقيد واما العام فالحكم فيه متعلق بافراد مدخول أداته لا على عنوان
16

الطبيعة، والمخصص يخرج طائفة من افراد العام كافراد الفساق منهم، وما ربما
يتكرر في كلامه من أن الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق
عليه، غير تام لان العنوان لا يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات الفردية، مع أن
لازم ما ذكره أن يكون الافراد موضوعا للحكم لان المحكوم عليه
هو المرئي دون المرآة فلا يصح قوله: ان تمام الموضوع في العام قبل التخصيص هو
طبيعة العالم الخ بل التحقيق كما تقدم ان العنوان لم يكن مرآة الا لنفس الطبيعة
الموضوع لها، وأداة العموم تفيد افرادها، والقضية الحقيقية متعرضة للافراد فتحصل:
ان الكلام انما هو في العام المخصص لا المطلق المقيد
وكيف كان فقد استدل لجواز التمسك بان العام بعمومه شامل لكل فرد من
الطبيعة وحجة فيه، والفرد المشكوك فيه لا يكون الخاص حجة بالنسبة إليه للشك في
فرديته، فمع القطع بفرديته للعام والشك في فرديته للخاص يكون رفع اليد عن العام
رفع اليد عن الحجة بغير حجة و (الجواب) ان مجرد ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة لا
يوجب تمامية الاحتجاج ما لم تحرز أصالة الجد، " توضيحه ": ان صحة الاحتجاج
لا تتم الا بعد ان يسلم أمور: من احراز ظهوره، وعدم اجماله مفهوما، وعدم قيام قرينة
على خلافه حتى يختتم الامر باحراز ان المراد استعمالا هو المراد جدا، ولذلك
لا يمكن الاحتجاج بكلام من دأبه وعادته الدعابة، وان أحرز ظهوره وجرت أصالة
الحقيقة، لعدم جريان أصالة الجد مع أن ديدنه على خلافه (فعليه) ما مر من أصالة
التطابق بين الإرادتين، انما هو فيما إذا شك في أصل التخصيص وان هذا الفرد بخصوصه
أو بعنوان آخر هل خرج عن حكم العام أو لا، واما إذا علم خروج عدة افراد بعنوان
معين، وشك في أن هذا العنوان هل هو مصداق جدي لهذا العنوان أو ذاك العنوان،
فلا يجرى أصلا، ولا يرتفع به الشك عندهم. و " بالجملة " إذ ورود المخصص
نستكشف عن أن انشائه في مورد التخصيص لم يكن بنحو الجد، ويدور أمر المشتبه
بين كونه مصداقا للمخصص حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم المخصص، و
بين عدم كونه مصداقا له حتى يكون تحت الإرادة الجدية لحكم العام المخصص، و
17

مع هذه الشبهة لا أصل لاحراز أحد الطرفين فإنها كالشبهة المصداقية لأصالة الجد بالنسبة
إلى العام والخاص كليهما
ولعله إلى ما ذكرنا يرجع ما افاده الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني (قدس
الله روحهما)، نعم بعض أهل التحقيق فسر كلام الشيخ بما لا يخلو عن اشكال قال في
(مقالاته) الذي ينبغي ان يقال إن الحجية بعدما كان منحصرا في الظهور التصديقي
المبنى على كون المتكلم في مقام الإفادة والاستفادة، فإنما يتحقق هذا المعنى في
فرض تعلق قصد المتكلم بابراز مرامه باللفظ، وهو فرع التفات المتكلم بما تعلق به
مرامه، والا فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه، كيف يتعلق قصده بلفظه على
كشفه وابرازه، ومن المعلوم ان الشبهات الموضوعية طرا من هذا القبيل، ولقد أجاد
شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ومرجع هذا الوجه إلى منع كون
المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبها فيه، فلا يكون
الظهور (ح) تصديقيا كي يكون واجدا لشرائط الحجية (انتهى)
ولا يخفى انه لا يلزم على المتكلم في الاخبار عن موضوع واقعي الفحص
عن كل فرد فرد حتى يعلم مقطوعه ومشكوكه بل ما يلزم عليه في جعل
الحكم على عنوان كليا، احراز ان كل فرد واقعي منه محكوم بهذا الحكم كما
في قولك النار حارة واما تشخيص كون شئ نارا فليس متعلقا بمرامه ولا
مربوطا بمقامه وببيان أوضح أو الحجية وإن كانت منحصرة في الظاهر الذي صدر
من المتكلم لأجل الإفادة ولابد له أن يكون على تيقن فيما تعلق به مرامه
لكن ذلك في مقام جعل الكبريات لا في تشخيص الصغريات، فلو قال المولى (أكرم
كل عالم) فالذي لابد له انما هو تشخيص ان كل فرد من العلماء فيه ملاك الوجوب
وان اشتبه عليه الافراد، ولو قال بعد ذلك لا تكرم الفساق من العلماء، لابد له من
تشخيص كون ملاك الوجوب في عدولهم واما كون فرد عادلا في الخارج أو لا فليس
داخلا في مرامه حتى يكون بصدد بيانه.
ويرشدك إليه انه لو صح ما افاده (ان المولى لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة
18

إلى ما كان بنفسه مشتبها فيه)، لابد من التزامه بعدم وجوب اكرام من اشتبه عند
المولى انه عادل أو لا ولكن العبد أحرز كونه عالما عادلا، مع أن العبد لا يعد
معذورا في ترك اكرامه وان اعتذر بان المولى لم يكن في مقام البيان بالنسبة إلى
المشكوك واما نسبة ما افاده إلى الشيخ الأعظم ففي غير محله فان كلامه في
تقريراته آب عن ذلك، و (ملخصه) ان العام الواقع في كلام المتكلم غير صالح
لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه أيضا قد يكون مثل العبد فيها، فالعام مرجع
لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية وأنت ترى ان كلامه آب عما نسب إليه، بل
يرجع إلى ما فصلناه وأوضحناه، ولولا تشويش عبائر القائل واغلاقها لجاز حملها
على ما افاده الشيخ الأعظم قدس سره كما قد يظهر من ذيل كلامه
ثم: ان شيخنا العلامة أعلى الله مقامه نقل تقريبا لجواز التمسك عن المحقق
النهاوندي (طيب الله رمسه)، وهو ان قول القائل أكرم العلماء يدل بعمومه الافرادي
على وجوب اكرام كل واحد من العلماء، ويدل باطلاقه على سراية الحكم إلى
كل حالة من الحالات ومن جملة حالات الموضوع كونه مشكوك الفسق والعدالة
وقد علم من قوله (لا تكرم الفساق من العلماء) خروج معلوم الفسق منهم فمقتضى
أصالة العموم والاطلاق بقاء المشكوك تحته (انتهى)
والجواب. أولا ان ما فسر به الاطلاق غير صحيح لان الاطلاق ليس الا كون
الشئ تمام الموضوع كما تقدم لا اخذ جميع الحالات والعناوين في الموضوع فان
ذلك معنى العموم، فما اصطلح به من الاطلاق الأحوالي باطل من رأس، و (ثانيا) ان البحث
انما هو في العام المتضمن لبيان الحكم الواقعي، والمفروض ان الموضوع له انما هو
العالم بقيد كونه غير الفاسق لبا فكيف يحكم بوجوب اكرام المشتبه مع كونه فاسقا
واقعيا، وما ذكره من أن العام وإن كان غير شامل له باطلاقه الافرادي الا انه شامل له
باطلاقه الأحوالي بمعنى ان العالم واجب الاكرام في جميع الحالات ومنها كونه
مشكوك الفسق يستلزم اجماع حكمين في موضوع واحد بعنوان واحد، لان ما
ذكره من الاطلاق الأحوالي موجود في الخاص أيضا فان قوله لا تكرم الفساق شامل
19

لمشتبه الفسق ومعلومه إذا كان فاسقا واقعيا، فهذا الفرد بما انه مشتبه الفسق واجب
الاكرام ومحرمه، ولو التجأ قدس سره إلى أن العام متكفل للحكم الواقعي والظاهري
يلزمه اخذ الشك في الحكم في جانب موضوع نفس ذلك الحكم وفيه مضافا إلى أن
اخذ الشك في الموضوع لا يصحح الحكم الظاهر، ان مجرد اخذه فيه لا يرفع الاشكال إذ
كيف يمكن تكفل العام بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي وللحكم
الظاهري على مشتبه الحكم مع ترتبهما، وهل هذا الا الجمع بين عدم لحاظ الشك
موضوعا ولحاظه كذلك.
القول في المخصص اللبي
ما ذكرناه في المخصص اللفظي جار في اللبي لكن بعد تمحيض المقام في الشبهة
المصداقية للمخصص اللبي كما إذا خرج عنوان عن تحت العام بالاجماع أو العقل و
شك في مصداقه فلا محالة يكون الحكم الجدي في العام على افراد المخصص دون المخصص
بالكسر ومعه لا مجال للتمسك بالعام لرفع الشبهة الموضوعية لما مر ومنه يظهر
النظر في كلام المحقق الخراساني رحمه الله حيث فصل بين اللبي الذي يكون
كالمخصص المتصل وغيره مع أن الفارق بين اللفظي واللبي من هذه الجهة بلا وجه
ودعوى بناء العقلاء على التمسك في اللبيات عهدتها عليه كما يظهر النظر فيما
يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين كالعالم الفاسق
والعالم غير الفاسق فلا يجوز، وغيره كما إذا لم يعتبر المتكلم صفة في موضوع الحكم
غير ما اخذه عنوانا في العام وان علمنا بأنه لو فرض في افراد العام من هو فاسق لا يريد
اكرامه فيجوز التمسك بالعام واحراز حال الفرد أيضا، ثم فصل في بيانه بما لا مزيد
عليه ولكن يظهر من مجموعه خروجه عن محط البحث ووروده في واد الشك في أصل
التخصيص مع أن الكلام في الشك في مصداق المخصص فراجع كلامه
واما توجيه كلامه بان المخصص ربما لا يكون معنونا بعنوان بل يكون مخرجا
لذوات الافراد لكن بحيثية تعليلية وعلة سارية فإذا شك في مصداق انه محيث بالحيثية
20

التعليلية يتمسك بالعام (فغير صحيح) لما تقرر في محله من أن الحيثيات التعليلية جهات
تقييدية في الأحكام العقلية بحيث تصير تلك الجهات موضوعا لها (وعليه) فالخارج
انما هو العنوان مع حكمه عن تحته لا نفس الافراد لان الفرض ان المخصص لبى عقلي،
ولو سلمنا ان الخارج هو نفس الافراد وذواتها دون عنوانها، يخرج الكلام عن الشبهة
المصداقية للمخصص والنزاع هنا فيها.
وأوضح حالا مما ذكراه ما عن بعض أعاظم العصر من الفرق بين ما إذا كان
المخصص صالحا لان يؤخذ قيدا للموضوع ولم يكن احراز انطباق ذلك العنوان على
مصاديقه من وظيفة الامر كقيام الاجماع على اعتبار العدالة في المجتهد، وبين ما
إذ لم يكن كذلك كما في قوله عليه السلام اللهم العن بنى أمية قاطبة، حيث يعلم أن الحكم لا يعم من
كان مؤمنا منهم، ولكن احراز ان لا مؤمن في بنى أمية من وظيفة المتكلم حيث لا يصح
له القاء مثل هذا العموم الا بعد احرازه، ولو فرض انا علمنا من الخارج ان خالد بن
سعيد كان مؤمنا كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم، فلو شككنا في ايمان
أحد فاللازم جواز لعنه استكشافا من العموم وان المتكلم أحرز ذلك حيث إنه وظيفته
(انتهى) و (فيه) ان خروج ابن خالد إن كان لخصوصية قائمة بشخصه، لا لأجل انطباق
عنوان عليه، فالشك في غيره يرجع إلى الشك في تخصيص زايد فيخرج عن محل
البحث لان البحث في الشبهة المصداقية للمخصص، وإن كان لأجل انطباق عنوان
المؤمن عليه، فالكلام فيه هو الكلام في غيره من سقوط أصالة الجد في المؤمن،
لأجل تردد الفرد بين كونه مصداقا جديا للعام أو لغيره.
تنبيهات
(الأول) لو قال المولى أكرم كل عالم، ثم قال منفصلا عنه لا تكرم زيدا وعمروا
وبكرا لانهم فساق، فهل يجوز التمسك هنا بالعام في الفرد المشكوك أولا،
الظاهر بل التحقيق هو الثاني لان تعليله بكونهم فساقا يعطى ان المخرج هو العنوان
دون الاشخاص مستقلة ويأتي فيه ما قدمناه وما ربما يقال من جواز التمسك بالعام
21

فيه لأنه من قبيل التخصيص الزائد لا الشبهة المصداقية غير تام كما مر وجهه.
الثاني: إذا تعلق الحكم علي عنوانين بينهما عموم من وجه فتارة يكون أحدهما
حاكما على الاخر فلا شبهة في كونه من قبيل المخصص فلا يجوز التمسك بالعام
المحكوم في الشبهة المصداقية في دليل الحاكم لعين ما مر، مع عدم الحكومة، فان
قلنا بان العامين من وجه يشملهما أدلة التعارض وقواعد الترجيح وقدمنا أحدهما مع
الترجيح أو قلنا إنهما من قبيل المتزاحمين وقلنا إن المولى ناظر إلى مقام التزاحم وكان
حكمه انشائيا بالنسبة إلى المرجوح يكون حاله أيضا حال المخصص في عدم جواز
التمسك مع الشبهة المصداقية في الراجح واما ان قلنا بان الحكمين في المتزاحمين
فعليان على موضوعهما والتزاحم الخارجي وعدم قدرة العبد على اطاعتهما لا يوجب شأنية
الحكم في المرجوح بل العقل يحكم بكونه معذورا في امتثال كليهما من غير تغيير في
ناحية الحكم فالظاهر جواز التمسك في مورد الشك في انطباق الدليل المزاحم الذي هو
أقوى ملاكا لان الحكم الفعلي على موضوعه حجة على المكلف ما لم يحرز العذر القاطع ولا
يجوز عقلا رفع اليد عن الحكم الفعلي بلا حجة نظير الشك في القدرة حيث لا يجوز
التقاعد عن التكليف الفعلي مع احتمال العجز.
الثالث: بعد البناء على عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية يقع
الكلام في أنه هل يمكن احراز المصداق بالأصل واجراء حكم العام عليه مطلقا أو لا
مطلقا أو تفصيل بين المقامات أقوال.
حجة النافي، ان شأن المخصص هو اخراج الفرد الخاص مع بقاء العام على
تمامية موضوعه بالنسبة إلى الباقي من دون انقلاب الموضوع عما هو عليه، إذ اخراج
الفرد نظير موته (فح) لا يبقى مجال لجريان الأصل، إذ الأصل السلبي ليس شأنه الا
نفى حكم الخاص عنه لا اثبات حكم العام له، ونفى أحد الحكمين لا يثبت الاخر
(نعم) في مثل الشك في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى انه من الشبهة
المصداقية الناشئة عن الجهل بالمفاد لغة، الذي كان أمر رفعه بيد المولى، وفى مثله
لا باس بالتمسك بالعام من غير احتياج إلى الأصل (انتهى) وفيه انه ان أراد من قوله إن
22

التخصيص لا يعطى عنوانا زائدا على الموجود في نفس العام عدم حدوث انقلاب في
موضوع العام بحسب الظهور، فهو حق لا غبار عليه إذ هذا هو الفرق بين التخصيص
بالمنفصل وبين المتصل منها والتقييد، فان شان الأخيرين اعطاء قيد زائد على الموجود
في الدليل الأول، و (لكن) ذلك لا يمنع عن جريان الأصل، وان أراد ان الموضوع
باق على سعته بحسب الواقع والإرادة الجدية أيضا، فهو ممنوع جدا إذ التخصيص
يكشف عن أن الحكم الجدي تعلق بالعالم غير الفاسق أو العادل، وقياس المقام بموت
الفرد، غريب لعدم كون الدليل ناظرا إلى حالات الافراد الخارجية، واخترام المنية
لبعض الافراد لا يوجب تقييدا أو تخصيصا في الأدلة بخلاف اخراج بعض الافراد، و
(أغرب منه) ما ذكره في ذيل كلامه من جواز التمسك في الشبهة المصداقية لمخالفة
الكتاب مستدلا بان رفعها بيد المولى، إذ لو كان الشك راجعا إلى الشبهة المصداقية
فليس رفعها بيد المولى لان الشبهة عرضت من الأمور الخارجية (أضف) إليه ان
المثالين من باب المخصص المتصل لاتصال المخصص في قوله صلى الله عليه وآله: المؤمنون عند
شروطهم صلى الله عليه وآله الا ما حرم حلالا أو أحل حراما، ولا يجوز التمسك فيه بالعام بلا اشكال
حجة القائل بجريانه مطلقا ان القرشية والنبطية من أوصاف الشئ في الوجود
الخارجي لأنها التولد من ماء من هو منتسب إليهم، فلك ان تشير إلى ماهية المرأة
وتقول ان هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها فيستصحب عدمها ويترتب عليه
حكم العام لان الخارج من العام: المرأة التي من قريش، والتي لم تكن منه بقيت
تحته فيحرز موضوع حكم العام بالأصل (انتهى)، وعن بعض آخر في تقريبه أيضا،
ان العام شامل لجميع العناوين وما خرج منه هو عنوان الخاص وبقى سايرها تحته،
فمع استصحاب عدم انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقح موضوع العام
انتهى.
وربما يقال في تقريبه أيضا ما (هذا ملخصه) ان اخذ عرض في موضوع
الحكم بنحو النعتية ومفاد كان الناقصة، لا يقتضى اخذ عدمه نعتا في موضوع
عدم ذلك الحكم، ضرورة ان ارتفاع الموضوع المقيد بما هو مفاد كان الناقصة انما
23

يكون بعدم اتصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصلة لا على نحو ليس
الناقص، فمفاد قضية (المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية) هو ان المرأة التي لا
تكون متصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين، لا المرأة المتصفة بان لا تكون
من قريش والفرق بينهما ان القضية الأولى سالبة محصلة والثانية مفاد ليس الناقص،
فلا مانع من جريان الأصل لاحراز موضوع العام - هذا
ولكن التعرض لكل ما قيل في المقام اوجله يوجب السأمة والملال والأولى صرف
عنان الكلام إلى ما هو المختار على وجه يظهر الخلل في كثير من التقريبات التي أفادها
الاعلام الكبار، وسيوافيك تفصيل القول في مباحث البراءة والاشتغال باذنه وتوفيقه
سبحانه. فنقول تمحيص الحق يتوقف على بيان مقدمات نافعة في استنتاجه.
الأولى: تقدم القول في أن القوم قد أرسلوا اشتمال القضايا على النسبة في
الموجبات والسوالب باقسامها، ارسال المسلمات وبنوا عليه ما بنوا، ولكن التحقيق، كما
مر خلافه إذا الحملية كما سلف على قسمين حملية حقيقية غير مأولة وهى ما يحمل
فيها المحمول على موضوعه بلا أدات تتوسط بينهما نحو: (الانسان حيوان ناطق)
وقولك: (زيد قائم) وحملية مأوله وهى على خلاف الأولى تتوسط بينهما الأدات نحو
(زيد في الدار)، والقسم الأول لا يشتمل على النسبة مطلقا لا على الكلامية ولا على
الخارجية ولا فرق بين أن يكون الحمل أوليا أو شايعا صناعيا أو يكون الحمل على
المصداق بالذات أو بالعرض كما لا فرق بين الموجبات والسوالب، غير أن الهيئة تدل
في الموجبة على الهوهوية التصديقية وفى السالبة على سلب الهوهوية كذلك و
قد تقدم براهين ذلك كله (عند البحث عن الهيئات) واما القسم الثاني فلا محالة يشتمل
على النسبة، خارجية وكلامية وذهنية، (لكن) في الموجبات تدل على تحقق النسبة
خارجا نحو قولك زيد على السطح، أو زيد في الدار، فإنهما من الحمليات المأولة
كما أن السوالب منها باعتبار تخلل أدات النسبة وورود حرف السلب عليها تدل على
سلب النسبة وتحكى عن عدم تحققها واقعا
فظهر ان الكون الرابط أو النسبة يختص من بين القضايا بموجبات هذا القسم
24

أعني الحملية المأولة، واما السوالب من هذا القسم، والقسم الأول بكلا نوعيه فلا
تشتمل عليها لما تقدم في محله من امتناع تحقق النسبة بين الشيئ ونفسه والشيئ و
ذاتياته كما في الأوليات والشيئ وما يتحد معه كما في الصناعيات واما السوالب
فهي لسلب النسبة أو نفى الهوهوية بناء على التحقيق فلا محالة تكون خالية عنها
كما لا يخفى.
الثانية: وفيها نتعرض لامرين (الأول) بيان ما هو مناط احتمال الصدق
والكذب، وما يوجب كون الكلام محتملا لهما: فنقول ان المناط في ذلك هو
الحكاية التصديقية لا التصورية، سواء تعلقت بالهوهوية اثباتا ونفيا أم بالكون الرابط
كذلك، توضيحه: ان الحكاية التصديقية التي تفيد فائدة تامه (تارة) تتعلق بالهوهوية
وان هذا ذاك تصديقا، أو سلب الهوهوية ونفى ان هذا ذاك بنحو التصديق و (أخرى)
تتعلق بالكون الرابط بنحو الاثبات نحو زيد له البياض، أو زيد في الدار أو بنحو
النفي نحو ليس زيد في الدار، فالمناط في احتمال الصدق والكذب هذه الحكاية
واما إذا خلى الكلام عن تلك الحكاية التصديقية، فينتفى مناط الاحتمال سواء دل على
الاتحاد التصوري نحو زيد العالم أو على النسبة التصورية كما في الإضافات
الثاني من الامرين بيان مناط صدق القضايا وكذبها فنقول ليس مناطه ما دارج
بينهم من تطابق النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية ضرورة عدم امكان اشتمال
الحمليات غير المأولة على النسبة مطلقا وكذا السوالب من المأولة مع وجود الصدق
والكذب فيهما، بل مناطه هو مطابقة الحكاية لنفس الامر وعدمها، فلابد ان يلاحظ
الواقع بمراتبه وعرضه العريض، فان طابق المحكى فهو صادق والا فهو كاذب
فقولنا الله تعالى موجود صادق، وقولنا: الله تعالى له الوجود كاذب، فان الأول
يحكى حكاية تصديقية عن الهوهوية بينهما، والمحكى أيضا كذلك، والثاني
يحكى تصديقا عن عروض الوجود، ونفس الامر على خلافه، و (اما السوالب)
فبما انها ليس للاعدام مصداق واقعي فمناط الصدق والكذب مطابقة الحكاية
التصديقية لنفس الامر بمعنى لزوم كون الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب الكون
25

الرابط، مطابقا للواقع، لا بمعنى ان لمحكيها نحو واقعية بحسب نفس الامر
ضرورة عدم واقعية للاعدام بل بمعنى خلو صحيفة الوجود عن الهوهوية والنسبة
وعدم وجود لواحد منهما في مراتب نفس الامر، فعدم مصداق واقعي للهوهوية والنسبة
مناط لصدقها، واشتمال الوجود على واحد منها مناط كذب ما يدل على نفيه، فلو
قلت: ليس شريك الباري بموجود لكان صادقا لخلو صحيفة الوجود عنه والمفروض
ان الحكاية عن خلوه عنه فالحكاية مطابقة لنفس الامر ولو قلت شريك الباري غير
موجود، أو لا موجود بنحو الايجاب العدولي لصار كاذبا، لان الموجبة محصلة كانت
أو معدولة تحتاج في صدقها إلى وجود موضوع في ظرف الاخبار وهو هنا مفقود، الا
ان يؤول بالسالبة المحصلة كما أنه لا محيص عن التأويل في قولنا شريك الباري معدوم
أو ممتنع، واما مناط الصدق والكذب في لوازم الماهية فليس معناه ان لكل من اللازم
والملزوم محصلا مع قطع النظر عن الوجود، بل معناه ان الانسان عند تصور الأربعة
يجد معه في تلك المرتبة زوجيتها مع الغفلة عن وجود الأربعة في الذهن ويرى بينهما
التلازم مع الغفلة عن التحصل الذهني، فيستكشف من ذلك ان الوجود الذهني
دخيل في ظهور الملازمة لا في لزومها حتى يكون من قبيل لازم الوجودين.
المقدمة الثالثة وهى من أهم المقدمات: ان القضية تنقسم إلى الموجبة والسالبة
وكل واحدة منهما إلى البسيطة والمركبة، والكل إلى المحصلة والمعدولة و (ح)
فبما ان ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فلا محيص في الموجبة من وجود موضوع
في ظرف ثبوت الحكم حتى يصح الحكم ويحكم بالصدق، وما ذكرنا من القاعدة
الفرعية حكم بتي لا يقبل التخصيص، فلا فرق بين أن يكون الثابت أمرا وجوديا
كما في الموجبة المحصلة، أو أمرا غير وجودي كما في الموجبة المعدولة نحو
(زيد لا قائم) والموجبة السالبة المحمول وهو ما يجعل فيه السالبة المحصلة
نعتا للموضوع نحو زيد هو الذي ليس بقائم (وجه عدم الفرق) هو انه كما
اعتبر الاتحاد والهوهوية بين زيد وقائم في الموجبة المحصلة، كذلك اعتبرت
الهوهوية بين زيد وعنوان اللا قيام إذ لابد من نحو تحقق للمتحدين في طرف الاتحاد
26

ولهذا قلنا في محله ان القضية المعدولة لا تعتبر الا إذا كانت الاعدام فيما من قبيل اعدام
الملكات حتى يكون لملكاتها نحو تحقق، فيقال زيد لأبصر أو أعمى، ولا يقال الجدار
لا بصير أو أعمى لتحقق ما به الاتحاد في الأول دون الثاني، وقس عليه الموجبة السالبة
المحمول، إذ هي ترجع إلى نحو اتحاد أو توصيف وله نحو ثبوت، فلابد من نحو وجود
حتى يصح ذلك، فظهر ان الموجبات تفتقر في صدقها إلى وجود الموضوع في جميع
أقسامها، وهو واضح.
المقدمة الرابعة: ان موضوع الحكم في الجملة الخبرية والانشائية، لابد
أن يكون مفردا أو في حكم المفرد، حتى أن الشرطية التي تتألف من قضيتين تخرجان
بذلك عن التمامية وتصيران كالجمل الناقصة، والسر في ذلك ان الحكاية عن موضوع
الحكم فقط أو محموله كذلك لابد أن تكون حكاية تصورية، كما أن الحكاية عن
اتحادهما أو حصول أحدهما في الاخر لابد أن تكون حكاية تصديقية، وهى الملاك
لكون الجملة قضية تامة، والحكاية التصورية متقدمة على التصديقية أعني جعل
الحكم على الموضوع، و (عليه) لا محيص عن كون الموضوع أمرا مفردا أو مأولا به،
إذ لا تجتمع الحكاية التصورية مع التصديقية، ولا يجتمع النقص والتمام في جملة واحدة
وفى حال واحد ولو بتكرر الاعتبار، فلو قلت: (زيد قائم غير عمرو قاعد) لا تكون الحكاية
التصديقية فيه الا عن مغايرة جملتين لا عن قيام زيد وقعود عمرو، فلو قال المتكلم (ليس
زيد بقائم غير ليس عمرو بقاعد) فكل من الموضوع والمحمول جملة ناقصة بالفعل، و
إذا انحلت القضية خرج كل واحدة منهما من النقص وصار قضية تامة موجبة محصلة أو
سالبة محصلة كما في المثالين وربما صار سالبة معدولة أو موجبة سالبة
المحمول مثل (المرأة غير القرشية، حكمها كذا) أو (المرأة التي ليست بقرشية
حكمها كذا)
الخامسة: انه قد مر سابقا ان التخصيص سواء كان متصلا أم منفصلا يكشف عن
تضيق ما هو موضوع للعام بحسب الإرادة الجدية، ولا يمكن تعلق الحكم الجدي على
جميع الافراد مع أنه خصصه بالإرادة الجدية على افراد مقيدة بالعدالة، وليس ذلك
27

الامتناع لأجل تضاد الحكمين حتى يقال إن الغائلة ترتفع بتكثر العنوان، بل لأجل
ان الإرادة الجدية إذا تعلقت بحرمة اكرام كل واحد من الفساق منهم، يمتنع تعلق
إرادة أخرى على اكرام كل واحد من العلماء جدا بلا تخصيص، مع العلم بان بعض
العلماء فاسق، ويؤول ذلك الامتناع، إلى امتناع نفس التكليف.
وان شئت قلت: ان المولى الملتفت بموضوع حكمه لا تتعلق ارادته الجدية
على الحكم به الا بعد تحقق المقتضى وعدم المانع، فإذا رأى أن في اكرام عدول
العلماء مصلحة بلا مفسدة وفى اكرام فساق العلماء مفسدة ملزمة أو ليست فيه مصلحة،
فلا محالة تتضيق ارادته وتتعلق باكرام عدولهم أو ما عدى فساقهم، ولا يقاس المقام
بباب التزاحم إذ المولى لم يحرز في الافراد المخصصة مصلحة بل ربما أحرز مفسدة
في اكرامهم، فلا يعقل (ح) فعلية الحكم في حقهم بخلاف باب المتزاحمين و (ح) يسقط
ما ربما يقال من أن المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه،
و (كيف كان) ان موضوع العام بحسب الإرادة الجدية بعد التخصيص يتصور على وجوه
ثلثة، (الأول أن يكون علي نحو العدم النعتي على حذو لفظ العدول (كالعلماء غير
الفساق) وكالمرأة غير القرشية و (الثاني) أن يكون العدم النعتي على حذو السالبة
المحمول " كالعلماء الذين لا يكونون فساقا أكرمهم " والمرأة التي لا تكون قرشية -
ترى الدم إلى خمسين، و (الثالث) أن يكون موضوع العام على حذو السالبة المحصلة
التي تصدق مع عدم موضوعها، كما إذا قلت: " إذا لم يكن العالم فاسقا فأكرمه "،
فالموضوع أعني السالبة المحصلة مع قطع النظر عن حكمه الايجابي أي (أكرم)
يصدق فيما إذا لم يكن للعالم وجود أصلا، كما إذا قلت: إذا لم تكن المرأة قرشية
ترى الدم إلى خمسين، فيصدق موضوعه مع قطع النظر عن حكمه أعني ترى، فيما
إذا لم تكن المرأة موجودة رأسا، هذه هي الوجوه المتصورة. ولكن لا سبيل إلى
الثالث إذ جعل الحكم الايجابي على المعدوم بما هو معدوم غير معقول، والحكاية
بالايجاب عن موضوع معدوم، حكاية عن أمر محال، فالسالبة المحصلة بما انها
تصدق بانتفاء الموضوع أيضا يمتنع ان يقع موضوعا لحكم ايجابي، إذ قولنا: إذا لم
28

تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين، لو كان بنحو السلب التحصيلي الصادق
مع سلب موضوعه، يرجع مغزاه إلى أن المرأة التي لم توجد أيضا ترى الدم، فلا
محيص عن فرض وجود الموضوع فيكون الحكم متعلقا بالمرئة الموجودة إذا لم تكن
من قريش، فالاعتبارات التي يمكن اخذها قيدا لموضوع العام المخصص أحد هذه الأمور
(العدم النعتي العدولي) و (السالبة المحمول) و (السالبة المحصلة) بشرط أمرين:
اعتبار وجود الموضوع والا يلزم جعل الحكم على المعدوم - وعدم ارجاعه إلى
التقييد والنعت والا يرجع إلى السالبة المحمول.
إذا عرفت ما مهدناه: فاعلم: انه إذا كان الفرد الموجود متصفا بعنوان العام
وغير متصف بعنوان الخاص سابقا بحيث كان عالما غير فاسق فشك بعد برهة عن
الزمن في انقلاب أحد القيدين إلى ضده، فلا اشكال في أنه يجرى الأصل ويحرز
به عنوان العام بما هو حجة أعني (العالم العادل) أو (العالم غير الفاسق) وهذا فيما
إذا كان العلم بعدالته مقارنا للعلم بأنه عالم، بان نعلم أنه كان قبل سنة عالما وعادلا
و (اما) لو علمنا أن زيدا كان غير فاسق وشككنا في بقاء عدمه النعتي ولكن لم يكن
علمه في حال عدم فسقه متيقنا حتى يكون المعلوم عندنا كونه (العالم غير الفاسق)،
بل علم أنه عالم في الحال، فلا يمكن (ح) احراز موضوع العام بالأصل والوجدان الا
على القول بحجية الأصول المثبتة، لأن استصحاب عدم كون زيد فاسقا، أو كونه
غير فاسق، مع العلم بأنه عالم في الحال، يلزمه عقلا ان زيدا العالم غير فاسق على
نحو النعت والتقييد، (وبعبارة أخرى) ان موضوعه هو العالم المتصف بعدم كونه
فاسقا، فجزئه عدم نعتي للعالم بما هو عالم وهو غير مسبوق باليقين، وما هو مسبوق
به هو زيد المتصف بعدم الفسق لا العالم وهو ليس جزئه، واستصحاب العدم النعتي
لعنوان، لا يثبت العدم النعتي لعنوان متحد معه، الا بحكم العقل وهو أصل مثبت،
وتعلق العلم بان زيدا العالم في الحال لم يكن فاسقا بنحو السلب التحصيلي لا يفيد،
29

لعدم كونه بهذا الاعتبار موضوعا للحكم و (من هذا) ظهر عدم لمكان احراز جزئي
الموضوع بالأصل إذا شك في علمه وعدالته مع العلم باتصافه بهما سابقا في الجملة لو
لم يعلم اتصافه بهما في زمان واحد، حتى يكون العالم غير الفاسق، مسبوقا باليقين
فالمناط في صحة الاحراز هو مسبوقية العدم النعتي لعنوان العالم، لا العدم النعتي
مطلقا فتدبر.
هذا: كله في الأوصاف العرضية، المفارقة وقد عرفت مناط جريانه، ولعا
إذا كان الاتصاف واللا اتصاف من العناوين التي تلزم وجود المعنون، كالقابلية واللا -
قابلية للذبح في الحيوان، والقرشية واللا قرشية في المرأة، والمخالفة وعدمها
للكتاب في الشرط، فهل يجرى فيه الأصل لاحراز مصداق العام أو لا، الحق امتناع
جريانه على جميع الوجوه المتصورة بيان ذلك.
اما إذا كان الوصف من قبيل العدم النعتي بنحو العدول أو بنحو الموجبة
السالبة المحمول، فواضح لان كلا منهما يعد من أوصاف الموضوع وقيوده بحيث
تتصف الموضوع بهذه الصفة، والاتصاف والصفة فرع كون الموضوع موجودا في
الخارج لما مر من القاعدة الفرعية، حتى تتقيد بأمر وجودي و (عليه) فلو قلنا إن
الموضوع بعد التخصيص، عبارة عن المرأة غير القرشية والشرط غير المخالف على
نحو الايجاب العدولي، أو عبارة عن المرأة التي ليست بالقرشية، والشرط الذي
ليس مخالفا للكتاب بنحو السالبة المحمول، فلا محيص عن فرض وجود للموضوع
حتى يصح في حقه هذه الأوصاف و (لكنه) مع هذا الفرض غير مسبوق باليقين،
إذا الفرد المشكوك كونها قرشية أو لا، أو مخالفا للكتاب أو لا، لم تتعلق به اليقين
في زمان بأنه متصف بغير القرشية، أو بأنها ليست بقرشية، كي يجر إلى حالة الشك، لأن هذه
الأوصاف ملازمة لوجود الفرد من بدء نشوه، لا ينفك عنه أصلا فهي اما تولدت قرشية
أو غير قرشية
والحاصل: انك لو تأملت في أمرين يسهل لك التصديق للحق أحدهما ان
30

الايجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول، مع كونهما جملة ناقصة لأجل اخذهما
قيدا للموضوع، يحتاج إلى الموضوع فإنه في كل منهما يكون الموضوع متصفا
بوصف، فكما ان المرأة غير القرشية، تتصف بهذه الصفة، كذلك المرأة التي
لم تتصف بالقرشية، أو لم تكن قرشية، موصوفة بوصف انها لم تتصف بذلك أو لم تكن
كذلك والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه، إذ المرأة قبل وجودها
كما لا تتصف بأنها غير قرشية لان الاتصاف بشئ فرع وجود الموصوف، كذلك لا تتصف
بأنها - هي التي لا تتصف بها - لعين ما ذكر، وتوهم ان الثاني من قبيل السلب التحصيلي
ناش من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصلة، والقيد في
العام بعد التخصيص يتردد بين التقييد بنحو الايجاب العدولي والموجبة السالبة
المحمول، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي لأنه لا يوجب تقييدا في الموضوع
والمفروض ورود تقييد على العام بحسب الجد.
ثانيهما عدم حالة سابقة لهذا الموضوع المقيد بأحد القيدين لأن هذه المرأة
المشكوك فيها لم يتعلق بها العلم بكونها غير قرشية في زمان بدء وجودها حتى
نشك في بقائه بل من أول وجودها مجهولة الحال عندنا،
و (اما) إذا كان القيد من قبيل السلب التحصيلي الذي لا يوجب تقييدا في الموضوع
فهو وإن كان لا يحتاج في صدقه إلى وجود الموضوع لعدم التقييد والاتصاف حتى
يحتاج إلى المقيد والموصوف الا انه يمتنع ان يقع موضوعا لحكم ايجابي أعني
حكم العام وهو قوله (ترى) لان السلب التحصيلي يصدق بلا وجود موضوعه، فلا يعقل
جعله موضوعا لحكم اثباتي، ولا معنى لتعلق الحكم الايجابي على العالم مسلوبا
عنه الفسق بالسلب التحصيلي الذي يصدق بلا وجود للعالم، فلابد من اخذ الموضوع
مفروض الوجود، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقا، موضوعا، ويرد عليه ما
ورد على القسمين الأولين من انتفاء حالة سابقة.
أضف إلى ذلك. ان القول بان هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها قول
كاذب، إذ لا ماهية قبل الوجود، والمعدوم المطلق لا يمكن الإشارة إليه لا حسا
31

عقلا، فلا تكون هذه المرأة قبل وجودها هذه المرأة، بل تلك الإشارة من مخترعات الخيال
وأكاذيبها، فلا تتحد القضية المتيقنة مع القضية المشكوك فيها وصحة الاستصحاب منوطة
بوحدتهما، و (هذا) الشرط مفقودة في المقام لأن المرأة المشار إليها في حال الوجود
ليست موضوعة للقضية المتيقنة الحاكية عن ظرف العدم، لما عرفت ان القضايا السالبة لا
تحكى عن النسبة والوجود الرابط، ولا عن الهوهوية بوجه، فلا تكون للنسبة
السلبية واقعية حتى تكون القضية حاكية عنها، فانتساب هذه المرأة إلى قريش
مسلوب أزلا، بمعنى مسلوبية كل واحد من اجزاء القضية أعني هذه المرأة وقريش و
الانتساب، لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة إلى قريش، والا يلزم كون
الاعدام متمايزة حال عدمها وان شئت قلت: فالقضية المتيقنة غير المشكوك فيها بل لو سلم
وحدتهما يكون الأصل مثبتا وبالجملة فالقضيتان مختلفتان فما هو المتيقن قولنا:
لم تكن هذه المرأة قرشية ولو باعتبار عدم وجودها والمشكوك قولنا: هذه المرأة
كانت متصفة بأنها لم تكن قرشية وكم فرق بينهما: وان شئت قلت إن المتيقن هو عدم كون
هذه المرأة قرشية باعتبار سلب الموضوع أو الأعم منه ومن سلب المحمول، واستصحاب ذلك
واثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخص مثبت لان انطباق العام على الخاص في ظرف
الوجود عقلي، وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار واثبات حكم قسم منه بواسطة
العلم بالانحصار (فظهر) ان السالبة المتقيدة بالوجود، أخص من السالبة المحصلة
المطلقة واستصحاب السلب المطلق العام الذي يلائم مع عدم الوجود لا يثبت
الخاص المقيد بالوجود ويعد من لوازمه.
وأنت إذا أمعنت النظر في احكام القضايا الثلاث من المعدولة والسالبة المحمول
والسالبة المحصلة، وفى ان الأولين باعتبار وقوعهما وصفين لموضوع العام، لابد فيهما
من وجود الموضوع لقاعدة ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، وان الثالث باعتبار
صدقه بلا وجود موضوعه، لا يمكن اخذه موضوعا لحكم ايجابي وهو حكم العام،
يسهل لك التصديق بعدم جريان استصحاب الاعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقا لعدم
الحالة السابقة لهذا الأصل تارة وكونه مثبتا أخرى وبما ذكرنا يظهر الاشكال فيما افاده
بعض الأجلة في تعاليقه على تقريراته فراجع
32

الرابع: لا يجوز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شك في صحة
الوضوء بمايع مضاف فضلا عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحته مطلقا، لان
اطلاقات أدلة النذر أو عموماتها مقيدة بأنه لا نذر الا في طاعة الله، أو لا نذر في معصية الله
(فح) يصير متعلق الإرادة الجدية مقيدة بعنوان الطاعة أو بكون النذر في غير المعصية
، فالتمسك بأدلة النذر مع الشك في أن التوضي بمايع مضاف هل هو طاعة أو غيرها،
تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، واغرب منه كشف حال الموضوع أي اطلاق الماء
به، والعجب من المحقق الخراساني، حيث أيد تلك الدعوى بما ورد من صحة الاحرام
قبل الميقات والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر، وأضاف إليه شيخنا العلامة قدس
سره نذر الناقلة قبل الفريضة و (لكنك خبير) بان الأمثلة غير مربوطة بالدعوى لان
المدعى هو التمسك بالعام المخصص للكشف حال الفرد وهى ليست من هذا القبيل
فان الاحرام قبل الميقات حرام وبعد النذر يصير واجبا لدلالة الأدلة وكذا الصوم
في السفر، وصيرورة الشئ بالنذر واجبا بدليل خاص غير التمسك بالعام للكشف
حال الفرد.
الخامس: إذا دار الامر بين التخصيص والتخصص فهل يمكن التمسك بأصالة العموم
لكشف حال الفرد، وان حرمة اكرامه لأجل كونه غير عالم، لا لخروجه عن حكم العلماء
مع كونه دخلا فيهم موضوعا (ربما يقال) بجواز التمسك وهو ظاهر كلام الشيخ الأعظم
أيضا في باب الاستنجاء لاثبات طهارة مائه، متمسكا بأصالة عموم كل نجس منجس والمفروض
ان ماء الاستنجاء ليس بمنجس، فهو ليس بنجس، والالزم التخصيص وربما يتمسك به لاثبات ان
ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح بطريق عكس النقيض بدعوى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء و
المنكر، وان ما لا تنهى عن الفحشاء ليست بصلاة لأصالة عموم الدليل. و (لكن الحق) عدم
صحته لان المتيقن من حجية تلك الأصول وجريانها انما هو إذا جعلت عبرة لتشخيص
المراد مع الشك فيه لا في مثل المقام، فلو علمنا مراد المتكلم وعلمنا ان زيدا عنده
محرم الاكرام وشككنا في أن خروجه من العام أهو بنحو التخصص أو التخصيص
33

فلا أصل عند العقلاء لاثباته، وهذا نظير أصالة الحقيقة الجارية لكشف المراد
لا لكشف الوضع بعد العلم بالمراد والسر فيه ان هذه الأصول للاحتجاج بين العبيد
والموالي لا لكشف حال الوضع والاستعمال مطلقا
واما ما قرره بعض أهل التحقيق مؤيدا مقالة أستاذه المحقق الخراساني من أن
أصالة العموم وإن كانت حجة لكنها غير قابلة لاثبات اللوازم ومثبتات هذا الأصل
كسائر الأصول المثبتة في عدم الحجية مع كونه امارة في نفسه فلا مجال للتمسك
بعكس نقيض القضية الذي يعد من لوازم الموجبة الكلية عقلا، لان ذلك اللازم انما
يترتب في فرض حجية أصالة العموم لاثبات لازم المدلول، و (وجه التفكيك) بين
اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم نفيا واثباتا وانما نظره
إلى اثبات الكبرى، كما هو المبنى في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
وما نحن فيه أيضا مبنى على هذه الجهة (انتهى) بأدنى تصرف وتوضيح
قلت: ان عكس النقيض لازم لكون الكبرى حكما كليا ولا يلزم أن يكون
العام ناظرا إلى تعيين الصغرى في لزومه له، فلو سلم ان أصالة العموم جارية
وانها كالامارات بالنسبة إلى لوازمها فلا مجال لانكار حجيتها بالنسبة إلى لازمها
الذي لا ينفك عنها، فلا يصح ان يقال إن العقلاء يحكمون بان كل فرد محكوم بحكم
العام واقعا ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه الا ان يلتزم
بأنها أصل تعبدي لا امارة وهو خلاف مفروضه
السادس: لو دل الدليل على اكرام العلماء، ودل دليل منفصل على عدم وجوب
اكرام زيد لكنه تردد بين زيد العالم والجاهل، فالظاهر جواز التمسك بأصالة
العموم هنا، للفرق الواضح بين هذا المقام والمقام السابق لان الغرض من جريانها
هناك لأجل تشخيص كيفية الإرادة دون تعيين المراد، و (هيهنا) الامر على العكس
إذ هو لأجل تشخيص المراد وكشف ان الإرادة الاستعمالية هل هي في زيد العالم
مطابقة للجد أو لا، و (بتقريب آخر) ان المجمل المردد ليس بحجة بالنسبة إلى العالم
ولكن العام حجة بلا دافع (فح) لو كان الخاص حكما الزاميا كحرمة الاكرام يمكن
34

حل اجماله بأصالة العموم، لأنها حاكمة على أن زيدا العالم يجب اكرامه ولازمه
عدم حرمة اكرامه، ولازم ذلك اللازم حرمة اكرام زيد الجاهل بناء على حجية
مثبتات الأصول اللفظية فينحل بذلك حكما الحجة الاجمالية التي لولا العام يجب
بحكم العقل متابعتها، وعدم جواز اكرام واحد منهما، واما الشيخ
فقد سوى بين القسمين قائلا بان ديدن العلماء التمسك بالعام في المباحث الفقهية في مثله
التمسك بالعام قبل الفحص
لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ولنقدم امام المقصود أمرا
الأول: جعل المحقق الخراساني محل النزاع ما إذا فرضنا حجية الظواهر
للمشافه وغيره من باب الظن النوعي لا الظن الشخصي وفرضنا عدم العلم الاجمالي
بالتخصيص، والسر هو انه لو كان المناط في حجية الظواهر هو الظن الشخصي
لما كان للفحص وعدمه دخل بل كانت الحجية دائرة مداره سواء حصل قبله أم بعده،
وهكذا لو كان هناك علم بورود التخصيص اجمالا، لما كان لانكار الفحص مجال
بعد القول بتنجيزه إلى أن ينحل، (هذا) ولكن ظاهرهم أعمية البحث عن ذلك
ويشهد بذلك تمسكهم في اثبات وجوب الفحص بالعلم الاجمالي فالأولى البحث على
فرض العلم وعدمه
الثاني الظاهر أن البحث معقود لاثبات لزوم الفحص عن المخصص المنفصل دون المتصل
لان احتمال عدم وصول المتصل لأجل اسقاط الراوي عمدا أو خطأ أو نسيانا، غير
معتنى به عند العقلاء لأن المفروض ان الراوي ثقة غير خائن في روايته، فاحتمال
العمد خلاف الفرض، وأصالة عدم خطائه ونسيانه ترد الأخيرين، فيتمحض البحث
للمنفصل، وسيوافيك ان مناط الفحص ليس في المتصل
الثالث يظهر من المحقق الخراساني الفرق بين المقام والأصول العملية
وان الفحص هيهنا عما يزاحم الحجية بخلافه هناك فإنه بدونه لا حجة ويصير البحث
عن متمماتها (قلت) يظهر مما سيمر عليك ان البابين يرتضعان من ثدي واحد، و
35

البحث في كل واحد من متممات الحجية لا عن مزاحماتها: فانتظر.
الرابع: كما لا يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص، كذلك
لا يجوز التمسك بالمطلق قبل الفحص عن المقيد، وبالظاهر قبل الفحص عن معاوضه
وبالأصول العقلية قبل الفحص عن الأدلة الاجتهادية وملاك لزوم الفحص في الجميع
واحد كما سيتضح لك
إذا عرفت هذه الأمور: فنقول: الحق في اثبات لزوم الفحص ما سلكه المحقق
الخراساني من أن معرضية العام للتخصيص يوجب سقوط الاحتجاج به عندهم، و
لا أقل من الشك في ذلك وهو كاف في الثبوت (انتهى)
وتوضيحه: انك إذا تدبرت في المحاورات العقلائية والخطابات الدائرة
بينهم، تجد أن ديدنهم في المحاورات الشخصية بين الموالى والعبيد وغيرهم من
آحاد الناس، تختلف مع وضع القوانين وتشريع الشرايع من عند أنفسهم، فتجد -
هم يعملون بالعمومات والمطلقات الصادرة منهم في محيط المحاورات بلا ترقب
منهم لمخصصها ومقيدها ولا انتظار لمخالفها بل يأخذون بالظاهر عاما كان أو مطلقا
أو غيره، و (السر) في ذلك هو جريان العادة في تلك الخطابات بذكر مخصصها بعد
عمومها ومقيدها عقيب مطلقها بلا تفكيك منهم بينهما، بحيث لو لم يجدوها في
متصل كلامه لاحتجوا بظواهرها وعمومها ومطلقها، و (لكن) تجد ديدنهم في وضع
القوانين مدنيا كانت أو عالميا على خلاف ذلك فتراهم واقفين امام كل عام ومطلق
باذلين جهدهم في التفتيش عما يصرفهما عن ظاهرهما و (السر) هنا هو قضاء العادة خلاف
ما كان يجرى في المحاورات الشخصية بل ديدنهم جرى في وضع القوانين على التفكيك بين
العام ومخصصه والمطلق ومقيده، فتراهم يذكرون العمومات والمطلقات في فصل ومادة،
ومخصصاتها ومقيداتها وحدودها، تدريجا ونجوما، في فصول اخر، وربما يذكر الخصوص
في كتاب وعمومه في كتاب آخر، وقد يتقدم الخاص على العام إلى غير ذلك من رسومهم
وعاداتهم، التي يقف عليها المتضلع في الحقوق
هذا ديدن العقلاء، واما الشارع الصادع بالحق، فلم يسلك غير ما سلكه
36

العقلاء في وضع قوانينهم، فترى ان قوانينه الكلية مذكورة في الكتاب
والسنة منفصلة عن مخصصاتها ومقيداتها، وتكون تلك الأحكام المدونة فيهما في
معرض التخصيص والتقييد كما هو الحال في القوانين السياسية والمدنية عند العقلاء
و (ما هذا حاله) لا يمكن التمسك فيها بالأصول بمجرد العثور على عمومات أو مطلقات
من غير فحص، لما تقدم من أن مجرد ظهور الكلام واجراء أصالة الحقيقة وعدم القرينة
لا يفيد شيئا، حتى يحرز ان الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدية، بحيث لولا
هذا الاحراز لاختل نظام الحجية وكون العام في معرض التدافع والتعارض، يمنعهم
عن اجراء أصالة التطابق بين الاستعمال والجد، وقد عرفت ان رحى الحجة بعد تمام
بعض مباديها، تدور مداره، ولا يصير الشئ حجة ولا يطلق عليه الحجة الا بعد جريان
هذا الأصل العقلائي، (والحاصل) ان مجرى هذا الأصل (أصالة التطابق بين الإرادتين)
انما هو بعد الفحص لعلمهم بعادة مواليهم من تفرق البيان وتشتته، ولا فرق في ذلك
بين القوانين الاسلامية الغراء وسائر القوانين العقلائية
وبما ذكرنا يتضح لك ان مناط الفحص هو المعرضية لا العلم الاجمالي بل مع
عدمه أيضا لو فرض انحلاله كان الفحص واجبا لعدم تمامية الحجية العقلائية (كما
اتضح) عدم الفرق بين المقام والأصول العملية، وان البحث فيهما عن متمم الحجة لا
عن مزاحمها، لأنه كما لا يجرى قاعدة العقاب بلا بيان قبل الفحص، بل لا يتحقق كونه
بلا بيان قبله، لان التبليغ قد تم من قبل الشارع وعلماء الأمة قد جمعوها في جوامعهم،
فلا عذر في تركه، (فكذلك) الاحتجاج بالعمومات والمطلقات، لأنه قبل الفحص
لا يمكن الاعتماد على أصالة التطابق التي به تتم الحجة، (فظهر) ان العمل بها لا يجوز
الا بعد الفحص حتى يجعل ذلك مقدمة لاجراء الأصل (أصالة التطابق) لتمامية الحجة
(فان قلت) ما ذكرت هنا من أنه لولا الفحص لما تم الحجة، ينافي لما هو المختار عندك
في باب التعادل والترجيح، من أن المطلقات حجة فعلية غير معلقة على المفيدات الواقعية
بل هي بعد وصولها من قبيل المزاحم وينقضى بها أمد الحجية، (قلت) ان البحث هنا حيثي
فان الكلام ههنا في لزوم الفحص، وقد عرفت عدم حجية عام ولا مطلق الا بعده،
37

والكلام هناك بعد الفحص، والمختار هناك ان الفقيه إذا تفحص قدر ما كان يلزمه،
يصير كل واحد من العام والمطلق حجة فعلية في حقه، ولو عثر على مقيد أو مخصص
بعده، لا يكون المطلق معلقا بعدم البيان الواقعي بحيث يكون العثور عليه كاشفا
عن عدم حجيته، بل ينتهى به أمد الحجية، وقس عليه العام، (كل ذلك على ما
سلكناه تبعا للمحقق الخراساني من كون المستند لوجوب الفحص هو المعرضية)
واما على القول بان المستند هو العلم الاجمالي، فربما يقال في تقريره بانا
نعلم اجمالا ان هنا مخصصات ومقيدات يلزم العمل بها، فلا محيص عن الفحص عنها،
(هذا) واستشكل عليه بأمرين.
(الأول) ان هذا العلم الاجمالي لا ينحل وان بلغ الفحص غايته، لان المخصصات
المعلوم وجودها ليست منحصرة فيما بأيدينا من الكتب، بل هي أكثر من ذلك
لان الجوامع الأولية مفقودة، والأصول المدونة في عهد الصادقين كانت تحتوى اخبارا
واحكاما على خلاف العمومات، ولازم ذلك ان لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من
الكتب، و (أجيب عنه) بان العلم الاجمالي لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب،
(ويؤيده)، ان ذلك مجرد احتمال فإنه لا علم وجداني لنا بوجود أصول ضايعة غير
واصلة فضلا عن اشتمالها على مخصصات يوجب العمل عليها على فرض العثور، بل
يحتمل أن يكون المفقود على فرض قبوله غير الاحكام ولو سلمنا كونه احكاما فمن
أين حصل العلم بأنها غير ما بأيدينا ولو سلم فمن أين حصل العلم لنا بوجوب العمل
بها لو عثرنا بها، ولعل اسنادها كانت ضعيفة غير صحيحة.
الثاني ان العلم الاجمالي بورود مخصصات فيما بأيدينا من الكتب، وان
اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية قبل الفحص، الا انه بعد الفحص والعثور على
المقدار المتيقن منها، يوجب انحلاله، ومقتضاه جريانها في سائر الموارد بلا فحص
مع أنهم يوجبون الفحص عند كل شبهة، (وأجاب) عنه بعض أهل التحقيق بان المقدار
المتيقن بعدما كان مرددا بين محتملات منتشرات في أبواب الفقه، يصير جميع ما
شك فيه في تمام الأبواب طرف هذا العلم فيمنع عن الاخذ به قبل فحصه، ولا يفيد
38

الظفر بمقدار المعلوم، إذ هذه العلوم نظير العلوم الجديدة الحاصلة بعد العلم
الاجمالي ولا يكون سببا لانحلالها، انتهى.
قلت: مجرد كون أطراف العلم منتشرة لا يفيد شيئا وقياسه بالعلم الجديد
قياس مع الفارق، وذلك لان قوله إن المقدار المتيقن كان مرددا بين محتملات منتشرات
الخ، يشعر بان هنا علمين، علما بأصل وجود المخصصات بمقدار محدود، وعلما
بانتشارها بين الأبواب، (فح) فالعثور بالمقدار المتيقن إن كان بعد الفحص في جميع
الأبواب، فلا محيص عن الانحلال ولو حكما، لاحتمال انطباق ما هو المعلوم اجمالا
على المعلوم تفصيلا من الأول، وبعد هذا الاحتمال، لا علم لنا أصلا، وإن كان العثور
عليه لأجل الفحص في بعض الأبواب دون بعض، فلا محالة يحصل القطع بان أحد
العلمين خطأ، (اما) علمه بانحصار المخصص في المقدار المحدود المتيقن فيتجدد
له علم آخر بان المخصص أزيد مما أحصاه أولا، (ولكنه) خلاف الفرض، لان الفرض
انه لا علم له الا بالمقدار المحدود الذي عدده أو لا مطلقا، قبل الفحص وبعده، و (اما
علمه) بان المخصصات منتشرة في جميع الأبواب فلا محيص عن الانحلال
هذا: وقد أجاب عنه بعض الأعاظم في كلام وما يلي (ملخصه) ان المعلوم
بالاجمال (تارة (يكون مرسلا غير معلم بعلامة، (واخرى) معلما بعلامة وانحلال
العلم الاجمالي بالعثور بالمقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول لان منشأ العلم
فيه هو ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة، كما إذا علم بأنه مديون لزيد وتردد
الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، واما القسم الثاني فلا ينحل به بل
حاله حال دوران الامر بين المتبائنين ولا انحلال في مثله لعدم الرجوع إلى العلم
بالأقل، والشك في الأكثر من أول الأمر بل يتعلق العلم بجميع الأطراف بحيث لو
كان الأكثر واجبا لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه وليس الأكثر مشكوكا فيه
من أول الأمر وذلك كما إذا علمت بأنك مديون لزيد بما في الدفتر، وتردد الدين
بين خمسة وعشرة، فلو كان دين زيد عشرة فقد تعلق العلم به أيضا والمقام من هذا
القبيل لان العلم تعلق بان في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات، فكل
39

مخصص على فرض وجوده فيما بأيدينا من الكتب، قد اصابه العلم ومثل هذا لا ينحل
بالعثور على المقدار المتيقن (انتهى كلامه)
ولا يخفى عليك انه غير تام: لان العلم بالاجمال (تارة) يكون نفسه دائرا بين
الأقل والأكثر كما مثله (قدس سره -) وحقيقته ما عرفت من أنه مركب من قضية
علمية وقضية شكية فالاجمال بدوي يرتفع بأدنى التفات واخرى هذا الفرض لكن
تعلق العلم الاجمالي بعنوان غير ذي اثر كما إذا علم بان الدنانير الموجودة في كيس
زيد قد تلفت وهى مرددة بين الخمسة والعشرة، فان تعلقه مع هذا العنوان لا يوجب
تنجز الأكثر، بل لابد من لحاظ ما هو منشأ اثر، ومع هذا الحال لو دار امره بين
الأقل والأكثر ينحل علمه بلا ريب، والا فلا يمكن اثبات الانحلال في مورد من الموارد
إذ ما من معلوم اجمالي الا وقد يقترن بعدة عنوانات ولوازم فلما تنفك عنه مثل ما
في الكيس، ما في الدار، ما اقرضني إلى غير ذلك، وما ادعاه (قده) من أن العلم إذا
تعلق بما في الدفتر يوجب إصابة العلم بالأكثر، (لم يعلم) له وجه، لان تعلق علمه
بما في الدفتر، نظير تعلق علمه بان ما في الكيس صار مضمونا عليه، قل أو كثر،
فكما ان مجرد ذلك لا يوجب إصابة العلم بالأكثر، بل لا يزيد عن الدوران بين الأقل
والأكثر بالضرورة، فهكذا علمه بأنه مديون بما في الدفتر المردد بين الأقل والأكثر
و (عليه) لا يعقل صيرورة الأكثر منجزا به ولا متعلقا للعلم.
وكيف كان فالمقام نظير ما مثله من كونه مديونا بما في الدفتر، لان الكون في الكتب
كالكون في الدفتر، لا يترتب عليه اثر، إذ ليس هذا الكون موضوعا للحكم ولا جزء
موضوع وما هو موضوع له للأثر نفس المخصصات، والكتب ظرفها بلا دخالة في
التأثير.
بل يمكن ان يقال إن العنوان المتعلق للعلم لو كان ذا أثر مثل عنوان الموطوء و
(لكن) كان منحلا إلى التكاليف الدائرة بين الأقل والأكثر، فهو أيضا لا يوجب تنجيز غير
ما هو المتقين (أي) الأقل نعم لو كان العنوان بسيطا وكان الأقل والأكثر من محصلاته
وجب الاحتياط لكنه أجنبي عما نحن فيه.
40

واما مقدار الفحص: فيختلف باختلاف المباني، فلو كان المبنى في ايجاب
الفحص هو العلم الاجمالي، فغايته انحلال علمه، وعلى المختار فلابد من التفحص
التام حتى يخرج عن المعرضية ويحصل اليأس عن المخصص والمعارض، وسيوافيك
في باب الاجتهاد والتقليد ما ينفع في المقام فانتظر
في الخطابات الشفاهية
هل الخطابات الشفاهية تعم غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين أو لا، ولا
بأس بذكر أمور الأول: ان النزاع يمكن ان يقع بحسب التصور في مقامين (الأول) أن يكون
النزاع في جواز خطاب المعدوم والغائب ومرجعه إلى امكان هذه المسألة العقلية
وعدمه، وهو مع أنه غير مناسب لمبحث العام لان امكان مخاطبتهما وعدمه غير مربوط
به، بعيد جدا لأنه ضروري البطلان، نعم لا يبعد عن مثل بعض الحنابلة حيث جعل
محط البحث ما حررناه مستدلا بخطاب الله على المعدومين بقوله - كن فيكون - وخطابه
في عالم الذر، إلى غير ذلك من الاستدلالات الواهية (الثاني) أن يكون خطاب المعدوم
مسلم البطلان عندهم، ولكن البحث في أن استفادة احكام الغائبين والمعدومين من نفس
الخطابات هل يستلزم خطابهما، أو لا، وان شئت قلت: ان النزاع في أن تعميم ألفاظ العموم
التي جيئت تلو أداة النداء وأشباهها مما تكون خطابا بالنسبة إليهما هل يستلزم مخاطبتهما
حتى يمتنع أو لا، فيكون النزاع في الملازمة وعدمها، وهذا انسب إذ المناسب للبحث
عنه في هذا المقام هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه إذا وقعت تلو الخطابات
الشفاهية.
الثاني: الظاهر أن ملاك النزاع علي ما حررناه كما هو موجود في الخطابات
الشفاهية، كذلك موجود في أمثال قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت، وقوله تعالى
للرجال نصيب مما ترك الوالدان مما لم يصدر بألفاظ النداء وأداة الخطاب فيمكن ان
يقال: هل يلزم من شمول أمثال تلك العناوين والاحكام لغير الموجودين، تعلق التكليف
الفعلي بهم في حال العدم وصدق العناوين عليهم في هذا الحال، أو لا، فلو قلنا باستلزامه
41

فلا محالة تختص تلك الأحكام بالموجودين، والا فتعمهم والغائبين والمعدومين نعم
يظهر من الشيخ الأعظم ادعاء الاتفاق في شمول ما لم يصدر بأدات النداء وانه لم يعهد من أحد
انكار شموله لهما، وتبعه بعض الأعاظم قائلا بان أسماء الأجناس يشمل المعدومين بلا ريب
و (فيه) ان القائل بالاختصاص يمكن ان يدعى ان المعدوم لا يطلق عليه الناس عقلا، و
لا يمكن عقد الاخوة بين المعدومين في قوله انما المؤمنون اخوة، لا بمعنى ان الألفاظ موضوعة
للموجودين حتى يدفع بأنها موضوعة للماهية اللا بشرط بل بمعنى ان الشئ ما لم يوجد
ولم يتشخص ليس له ماهية كما ليس لها وجود، فالانسان انسان بالوجود ولولاه
لا انسان ولا مهية ولا غير ذلك، فالقصور من ناحية نفس العناوين لا من جانب الوضع،
وحينئذ لو كان المراد من شمول أسماء الأجناس لهم، هو شمولها حال عدمهم فهو
ضروري البطلان كما تقدم وإن كان المراد انطباقها عليهم في ظرف الوجود بنحو
القضية الحقيقية فهو جواب عن الاشكال ولا يوجب خروج هذا القسم عن محط
البحث.
الثالث: ان حل الشبهة في بعض الصور مبنى على القضية الحقيقية فلا بأس
بتوضيح حالها وحال القضية الخارجية والفرق بينهما فنقول ان هذا التقسيم للقضايا
الكلية واما الشخصية مثل زيد قائم مما لا تعتبر في العلوم فخارجة عن المقسم فقد
يكون الحكم في القضايا الكلية على الافراد الموجودة للعنوان بحيث يختص
الحكم على ما وجد فقط من غير أن يشمل الموجودين في الماضي والمستقبل وذلك بان
يتقيد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق الا عليها مثل كل عالم موجود في الحال
كذا أو كل من في هذا العسكر كذا، سواء كان الحكم على افراد عنوان ذاتي،
أو عرضي، أو انتزاعي، فلفظ الكل لاستغراق افراد مدخوله والعنوان المتلو له بعد
التقييد المذكور لا يصلح الا للانطباق على الافراد المحققة، واما القضية الحقيقية
فهو ما يكون الحكم فيها على افراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال وغيره
مثل كل نار حارة فلفظة نار تدل على نفس الطبيعة وهى قابلة للصدق على كل فرد
لا بمعنى وضعها للافراد ولا بمعنى كونها حاكية عنها أو كون الطبيعة حاكية عنها
42

بل بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الافراد الموجودة وما سيوجد في
ظرف وجوده.
ولفظ الكل دال على استغراق افراد مدخوله من دون ان يدل على الوجود
والعدم ولهذا يقع مقسما للموجود والمعدوم ويصح ان يقال كل فرد من الطبيعة اما
موجود أو معدوم بلا تجوز وتأول، وإضافة الكل إلي الطبيعة تدل على تعلق الاستغراق
بما يتلوه ولما لم تتقيد بما يجعلها منحصرة الانطباق على الافراد المحققة فلا مح
تكون منطبقة عليها وعلى غيرها، كل في موطنه، لا في حال العدم لامتناع صدقها
على المعدوم لان الطبيعة لم تكن طبيعة في حال العدم ولا افرادها افرادا في حاله،
فكل نار حارة اخبار عن مصاديق النار دلالة تصديقية والمعدوم ليس مصداقا للنار ولا
لشئ آخر كما أن الموجود الذهني ليس نارا بالحمل الشايع فينحصر الصدق على
الافراد الموجودة في ظرف وجودها من غير أن يكون الوجود قيدا، أو ان يفرض للمعدوم
وجود أو ينزل منزلة الوجود، ومن غير أن يكون القضية متضمنة للشرط كما تمور
بها الألسن مورا، فان تلك التكلفات مع كونها خلاف الوجدان في اخباراتنا بداهة ان
كل من أخبر بان النار مثلا حارة لا يخطر بباله الافراد المعدومة فضلا عن تنزيلها
منزلة الموجود أو الاشتراط بأنه إذا وجدت كانت كذلك، ناشية من عدم تعقل القضية
الحقيقية وتخيل ان للطبيعة افرادا معدومة وتكون الطبيعة صادقة عليها حقيقة حال
عدمها ولما لم يصدق عليها الحكم في ظرفه لابد من ارتكاب تأول وتكلف.
وأنت خبير بان ذلك في غاية السقوط لان العدم ليس بشئ كالمعدوم فلا تكون
القضية الحقيقية اخبارا عن الافراد المعدومة بل اخبار عن افراد الطبيعة بلا قيد و
هي لا تصدق الا على الافراد الموجودة في ظرف وجودها فيكون الاخبار وكذلك
بحكم العقل بلا قيد واشتراط وتأول.
(وليعلم) ان الحكم في الحقيقية على الافراد المتصورة بالوجه الاجمالي، وهو
عنوان كل فردا وجميع الافراد فعنوان الكل والجميع متعلق للحكم، ولما كان هذا
العنوان موضوعا للكثرات بنحو الاجمال، فباضافته إلى الطبيعة يفيد افرادها بنحو
43

الاجمالي وهو عنوان كل فرد أو جميع الافراد فعنوان الكل والجميع متعلق للحكم ولما
كان هذا العنوان موضوعا للكثرات بنحو الاجمال فباضافته إلى الطبيعة يفيد افرادها
بنحو الاجمال فالحكم في المحصورة على افراد الطبيعة بنحو الاجمال لا على نفس الطبيعة
ولا على الافراد تفصيلا، فما اشتهر من أن الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للافراد ليس
بشئ وبما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده بعض الأعاظم في الفرق بين الحقيقية والخارجية
من القضايا حيث حكم في عدة مواضع من كلامه بان الحكم في الخارجية على الافراد
والاشخاص بلا توسط عنوان حتى لو فرض هنا عنوان، فهو أمر اتفاقي، مع أنك قد عرفت
ان التقسيم وارد على القضايا المعتبرة في العلوم وهى تحتاج إلى عنوان ذاتي أو عرضي،
وكانه (قدس سره) خلط بين الجزئية والخارجية
كما ظهر الضعف فيما أفاد: " ان الطبيعة في الحقيقة تؤخذ عنوانا ومرأة للافراد "
مع أنك عرفت امتناع اخذها مرآة لها، وان الدال على الافراد، هو لفظ كل وأشباهه
من ألفاظ العموم.
واغرب منه ما أفاد من التقدير وتنزيل المعدوم منزلة الموجود حيث تقدم
ان ذلك كله خلاف الارتكاز وخلاف ما يقتضيه الذوق السليم. وبقى في كلامه مواقع للنظر
تركنا الكلام فيه.
إذا عرفت ذلك. فاعلم: ان الكلام يقع في مقامين، (الأول) فيما إذا كان الجعل
على نهج القانون الكلى بلا لفظ خطاب أو نداء سواء كان الجعل متعلقا على نحو القضية
الحقيقية، على مصاديق العناوين بنحو الاجمال كما في القضية المحصورة أم كان الجعل
على نفس العناوين كما في غيرها والاشكال المتوهم فيه هو ان التكليف الفعلي لا يمكن
ان يتوجه إلى المعدوم وتعميم الأدلة أو ما يستلزم ذلك، و " الجواب " عنه واضح بعد
ما عرفت الحال فيما تقدم، إذ المعدوم في حال العدم لم يتوجه إليه التكليف حتى يرد
ما ذكرت بل يتوجه إليه إذا صار موجودا وتحقق مصداق المستطيع في ظرفه، فإذا
44

رأى المكلف ان كتاب الله تعالى ينادى بأنه يجب الحج على كل مستطيع من دون ان
يقيد بما يخصه بالموجودين ورأى نفسه مستطيعا عليه، فلا محالة يرى نفسه مأمورا
بالحج لا لأجل جعل الحكم على المعدوم بل لأجل جعله على العنوان بلا قيد وهو
قبل وجوده واستطاعته ليس من الناس ولا من افراد المستطيع بالضرورة وبعد
وجوده واستطاعته يصدق عليه هذان العنوانان ولازم جعله كذلك، شمول الحكم
له، و (بالجملة) هذا القسم لا يستلزم جعل الحكم على المعدوم بل على العنوان الذي لا
ينطبق الا على الموجود فاتضح وجه شمول قوله تعالى الرجال قوامون على النساء و
اشباهه الواردة في الذكر الحكيم وغيره.
المقام الثاني: ما إذا كان من قبيل توجيه الكلام إلى المخاطب سواء كان التوجيه
بكلام مشتمل على كاف الخطاب أو أداة النداء أم لغيرهما مما يعد توجيها بالحمل الشايع
وان لم يكن فيه ما يدل وضعا على التخاطب والاشكال في هذا المقام استلزام التعميم
للغائب والمعدوم، لزوم مخاطبة المعدوم والغائب، و (اما حله) فربما يتمسك هنا
أيضا بالقضية الحقيقية لكن ستعرف ضعفه.
والتحقيق في دفع الاشكال عن هذا القسم، ان الخطابات القرآنية ليست خطابات
شفاهية لفظية بحيث يقابل فيها الشخص الشخص، بل كخطابات كتبية، ومثلها
القوانين العرفية الدائرة بين العقلاء، اما كون الثاني من هذا القبيل فواضح فلان
المقنن في القوانين العرفية والسياسية (سواء كان شخصا واحدا أم هيئة وجماعة)
بعدما أحكمها وأثبتها، يتشبث في ابلاغه واعلانه، بالنشر في الكتب والجرائد،
وسائر الآلات المستحدثة في هذه الأزمنة من المذياع وغيره، و (ح) فالفرد الحائز
للشرائط من الشعب المأمور بالعمل بها إذا عطف نظره إلى كتاب القانون لأهل وطنه
لا يشك انه مأمور بالعمل به وان تأخر عن زمان الجعل بكثير
بل لم يكن موجودا في ظرف الوضع، ولكن جعل الحكم بصورة الخطاب على الناس
45

في قول القائل (يا أيها الناس)، كاف في شموله له وان وجد بعد زمن الخطاب، بمدة
متراخية وما ذلك الا لأجل كون الخطاب كتبيا أو شبيها بذلك، وهو ليس بخطاب
لفظي حقيقة، ولا يحتاج إلى مخاطب حاضر، و (اما) الأول أعني خطابات الذكر الحكيم
فلان مشكلة الوحي وإن كانت عويصة عظيمة قلما يتفق لبشر ان يكشف مغزاه (1) لكنا
مهما شككنا في شئ لا نشك في أن خطابات الله تعالى النازلة إلى رسوله لم تكن متوجهة
إلى العباد، لا إلى الحاضرين في مجلس الوحي ولا الغائبين عنه ولا غيرهم كمخاطبة
بعضنا بعضا ضرورة ان الوحي بنص الذكر الحكيم أعني قوله سبحانه نزل به الروح
الأمين على قلبك لتكون من المنذرين انما نزل على شخص رسوله صلى الله عليه وآله وكلام
الله وخطاباته لم تكن مسموعة لاحد من الأمة، بل يمكن ان يقال بعدم وصول
خطاب لفظي منه تعالى بلا واسطة إلى رسوله غالبا صلى الله عليه وآله أيضا، لأن الظاهر من الا -
يأت والروايات ان نزول الوحي كان بتوسط امين الوحي جبريل وهو كان حاكيا
لتلك الخطابات منه سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وآله فليس هنا خطاب لفظي حقيقي إذ
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يكن طرف المخاطبة له تعالى، ولا المؤمنون المقتفون به،
بل حال الحاضرين في زمن النبي ومجلس الوحي كحال غيرهم من حيث عدم توجه
خطاب لفظي من الله سبحانه إليهم.
وبالجملة لو تأملت في أن خطابات الله وكلامه لم تكن مسموعة لاحد من
الأمة، وان الوحي كان بتوسط أمينه بنحو الحكاية لرسوله صلى الله عليه وآله تعرف عدم
خطاب لفظي من الله لا إلى نبيه ولا إلى عباده بل تلك الخطابات القرآنية كسائر الاحكام
الذي لم يصدر بألفاظ الخطاب من غير فرق بينهما وتكون أشبه بالخطابات الكتابية،

(1) الا انك لو أخفيت الحقيقة من كتاب مصباح الهداية في الولاية والخلافة لسيدنا
الأستاذ " دام ظله "، يسهل لك حل بعض مشاكله، وهو من أنفس ما الف في هذا المقام، فحيا
الله سيدنا الأستاذ وبياه.
" المؤلف "
46

مثل قول القائل (فاعلموا اخواني) و (ح) بما ان تلك الخطابات المحكية باقية إلى زماننا،
ونسبة الأولين والآخرين إليها سواء، فلا محالة يكون اختصاصها إليهم بلا وجه،
بل اختصاصها إليهم ثم تعميمها إلى غيرهم لغو، إذ لا وجه لهذا الجعل الثانوي من قوله
مثلا - ان حكمي على الآخرين حكمي على الأولين - بعد امكان الشمول للجميع على
نسق واحد.
بل عدم الدليل على الاختصاص كاف في بطلانه بعد كون العنوان عاما أو مطلقا
وبعد كون الخطاب الكتبي إلى كل من يراه أمرا متعارفا كما هو المعمول من
أصحاب التأليف من الخطابات الكثيرة، فظهر ان خطابات القرآن كغيرها في أنها
ليست خطابات حقيقية.
واما التخلص عن هذا الاشكال بالتمسك بالقضية الحقيقية، فضعيف جدا لان
الحكم في القضية الحقيقية على عنوان للافراد قابل للصدق على كل مصداق موجود
فعلا أو ما يوجد في القابل، ومثل ذلك لا يتصور في الخطاب، إذ لا يمكن ان يتعلق
الخطاب بعنوان أو افراد له ولو لم تكن حاضرة في مجلس التخاطب والخطاب نحو
توجه تكويني نحو المخاطب لغرض التفهيم، ومثل ذلك يتوقف على حاضر ملتفت
، والمعدوم والغائب ليسا حاضرين ولا ملتفتين، و (بالجملة) ما سلكناه من التمسك
بالقضية الحقيقية، في غير الخطابات لا يجر فيها، إذ الخطاب الحقيقي يستلزم
وجودا للمخاطب، ووجودا واقعيا للمخاطب، والقول بان الخطاب متوجه إلى
العنوان كجعل الحكم عليه، مغالطة محضة، لان تصور الخطاب بالحمل الشايع
يأبى عن التفوه بذلك، و (لو اشتهى) أحد اصلاح هذا القسم من هذا الطريق أيضا
فلابد ان يتمسك في اثبات شمول الخطاب للمعدوم والغائب، بان المعدوم نزل
منزلة الموجود، أو غير الشاعر منزلة الشاعر الملتفت كما هو المشهور في مخاطبة
الجمادات كما في الشعر:
47

أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف
وفى قول القائل:
الا أيها الليل الطويل الا انجلى * بصبح وما الاصباح منك بأمثل
مع أنك قد عرفت ان هذا التنزيل ليس لازم القضية الحقيقية وان زعمه
بعض الأعاظم، فلا وجه لارتكاب التكلف والتعسف بالتمسك بالقضية الحقيقية،
ثم الالتزام بتكلف آخر من حديث التنزيل، وهى بذاتها غير محتاج إليها، و
الحاصل ان الانشائيات بنحو الخطاب ليست من القضايا الحقيقية، لان الخطاب
العمومي مثل يا أيها الذين آمنوا، لا يمكن ان يتوجه بنحو الخطاب الحقيقي
إلى افراد العنوان حتى يكون كل فرد مخاطبا بالخطاب اللفظي
في ظرف وجوده لان أدوات النداء وضعت لإيجاد النداء لا لمفهومه، والمخاطبة نحو
توجه إلى المخاطب توجها جزئيا مشخصا، وهو يتوقف على وجود المخاطب الملتفت،
فلو التزمنا على خلاف المختار وقلنا إن خطابات الذكر الحكيم متوجهة نحو
المخلوق، وان مثل رسول الله صلى الله عليه وآله مثل شجرة موسى عليه السلام فلا محيص (ح) في شمول
الخطابات إلى غير الحاضرين، من الالتزام بتنزيل المعدوم وغير الحاضر منزلة
الموجود والحاضر، و (لكن) لا يصار إليه الا بدليل خارج بعد عدم كونه لازم القضية
الحقيقية. فتدبر
في ثمره البحث
واما ثمرة البحث: فتظهر في موضعين: الأول في ظواهر خطابات الكتاب
فعلى القول بالتعميم يكون المشافه وغيره سواء في الاخذ بظواهر الخطاب ويصير حجة
للمشافه وغيره، و (اورد) عليه المحقق الخراساني بان هذه الثمرة مبنية على اختصاص
48

حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام وهو باطل، مع أن غير المخاطبين أيضا مقصودون
بها، و (أجاب) عنه بعض الأعاظم بان الثمرة لا تبتنى على مقالة القمي (ره) فان
الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولم تعم غيرهم فلا معنى للرجوع
إليها وحجيتها في حق الغير سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل فلا ابتناء للثمرة
على ذلك أصلا (انتهى) وفيه ان تسرية ما تضمنته تلك الخطابات إلى الغائبين و
المعدومين ليست بنفس تلك الخطابات فقط على القول باختصاصها بالمشافهين
الحاضرين، بل بقاعدة الاشتراك في التكليف الذي انعقد عليه الاجماع والضرورة (فح)
لو لم نقل بمقالة المحقق القمي (قده) تكون الظواهر قابلة للرجوع إليها لتعيين تكليف
المخاطبين وإن كانت مخصوصة بالمشافهين لرفض مقالة القمي (ره) فيتمسك في اثباته
في حقنا بدليل الاشتراك و " هذا " بخلاف ما لو قلنا بمقالته فظهور الثمرة موقوف على
مقالة القمي، وكانه (قدس سره) تخيل ان اختصاص الخطاب لجماعة يوجب انحطاطه عن
جميع المزايا، حتى لو لم نقل بمقالة القمي كما هو صريح كلامه
" الثاني " صحة التمسك باطلاق الكتاب بناء على التعميم وإن كان غير
المشافه مخالفا في الصنف مع تمام المشافهين، وعدم صحته بناء على الاختصاص، و
(السر) في ذلك هو انه لو قلنا بعدم اختصاصها بهم يكون المشافه وغيره سواء، و
يكون نفس الاطلاق يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الاطلاقات من
الاحكام ولو مع اختلاف الصنف، و (هذا) بخلاف ما لو خصصناها بهم لفقدان الضرورة
والاجماع الدالين على الاشتراك في التكليف، في مورد الاختلاف، بل لابد عند
التمسك بدليل الاشتراك على القول بالاختصاص، من احراز كل ماله دخل في التكليف
المتوجه إليهم.
وأورد عليه المحقق الخراساني بأنه يجوز التمسك بأصالة الاطلاق لرفع
الشك فيما يمكن ان يتطرق إليه الففدان، وإن كان لا يجوز ذلك بالنسبة إلى الامر
الموجود الذي لا يتطرق الفقدان إليه، لأنه على تقدير شرطيته لا يحتاج إلى البيان،
49

لأن عدم بيانه لا يوجب نقضا للغرض (هذا) ووافقه شيخنا العلامة في انكار أصل الثمرة
ولكن من طريق آخر وحاصله: انه ليس في الخارج أمر يشترك فيه جميع المشافهين
إلى آخر أعمارهم ولا يوجد عندنا و (ح) لو احتملنا اشتراط شئ يوجد في بعضهم
دون اخرا وفى بعض الحالات دون بعض، يدفعه أصالة الاطلاق (انتهى) قلت: يمكن
ان يقال بظهور الثمرة في التمسك بالآية لاثبات وجوب صلاة الجمعة علينا فلو
احتملنا ان وجود الامام وحضوره شرط لوجوبها أو جوازها يدفعه أصالة الاطلاق في
الآية على القول بالتعميم، ولو كان شرطا كان عليه البيان واما لو قلنا باختصاصه
بالمشافهين أو الحاضرين في زمن الخطاب لما كان يضر الاطلاق بالمقصود وعدم ذكر
شرطية الامام أصلا، لتحقق الشرط وهو حضوره عليه السلام إلى آخر اعمار الحاضرين
ضرورة عدم بقائهم إلى غيبة ولى العصر (عجل الله فرجه) فتذكر.
العام المتعقب بالضمير الراجع
إلى البعض
إذا تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده، هل يوجب ذلك تخصيصه به
أولا، وهذا التعبير لا يخلو من مسامحة، لان عود الضمير إلى بعضها ليس مفروغا
عنه بل المسلم كون الحكم في مورد الضمير يختص ببعض الافراد جدا، لا ان الضمير
يرجع إلى بعضها والأولى ان يقال: إن تخصيص الضمير بدليل متصل أو منفصل هل
يوجب تخصيص المرجع العام أو لا، ثم إن الظاهر من الشيخ الأعظم (قده) ان محط
البحث ما إذا كان الحكم الثابت للضمير مغايرا للثابت لنفس المرجع سواء كانا في
كلام واحد كما إذا قال أكرم العلماء وخدامهم، وعلم من الخارج ان المراد هو
عدول الخدام وقد يكون في كلامين كما في الآية الشريفة، وسواء كان الحكمان
من سنخ واحد كالمثال الأول أو لا، كالآية الشريفة، واما إذا كان الحكم واحدا مثل
قوله تعالى والمطلقات يتربصن حيث إن حكم التربص ليس لجميعهن فلا نزاع
(انتهى).
50

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الحق هو التفصيل (بينما) إذا دل دليل منفصل على أن الحكم
غير عام لجميع افراد المرجع بحيث لولا هذا الدليل المنفصل لكنا حاكمين على التطابق
بين العام ومفاد الضمير بحسب الجد، كما في الآية فان السنة دلت على أن حق الرجوع
ليس الا للرجعيات دون غيرها و (بينما) إذا علم ذلك بقرينة عقلية أو لفظية حافة بالكلام
مثل قوله أهن الفساق واقتلهم، حيث علم المتكلم بضرورة الشرع ان مطلق الفساق لا يجوز
قتلهم فكيف وجوبه، فالحكم مخصوص بالمرتد أو الحربي فهي قرينة متصلة أو
تشبهها، (هذا) ويحتمل أن يكون النزاع مخصوصا بالأول، كما يشعر به التمثيل،
وظاهر كلام المحقق الخراساني في ذيله يشهد على التعميم،.
وخلاصة التفصيل بينهما هو انه يوجب الاجمال في الثاني دون الأول وتوضيحه
ان الامر في الأول دائر بين تخصيص واحد وأزيد ولا ريب ان الثاني هو المتعين،
إذ الدليل المنفصل دل على أن الحكم في ناحية الضمير مختص ببعض افراد المرجع
بحسب الجد، وهو لا يوجب تخصيص المرجع واختصاص حكمه ببعض افراده جدا
وبالجملة: كل من الضمير في قوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن وكذلك
المرجع قد استعملا في معانيهما، بمعنى انه اطلق المطلقات وأريد منها جميعها، و
اطلق لفظة " بردهن " وأريد منها تمام افراد المرجع، ثم دل الدليل على أن الإرادة
الاستعمالية في ناحية الضمير لا توافق الإرادة الجدية، فخصص بالبائنات وبقيت
الرجعيات بحسب الجد، و (ح) لا معنى لرفع اليد عن ظهور المرجع لكون المخصص
لا يزاحم سوى الضمير دون مرجعه، فرفع اليد عنه رفع عن الحجة بلا حجة، وبما
ذكرنا يظهر ضعف ما يظهر في بعض الكلمات من أن الامر دائر بين تخصيص المرجع
والاستخدام في الضمير، لان ذلك يخالف ما عليه المحققون من المتأخرين من أن
التخصيص لا يوجب مجازية المخصص (بالفتح) فالضمير لم يستعمل الا في الإشارة إلى
تمام افراد المرجع، والتخصيص وارد على الإرادة الجدية وانه لا يوجب التصرف في
ظهور العام، (أضف) إلى ذلك ان حديث الاستخدام والمجازية في الاسناد أو اللفظ، لو صح في
العمومات، فهو غير صحيح في المقام لان الضماير كما تقدم وضعت لنفس الإشارة الخارجية
51

فلابد لها من مشار إليه وهو هنا مفقود، لان المذكور هو المطلقات وهى ليست مشارا إليها
وما هو المشار إليه أعني - الرجعيات - فغير مذكورة، فكيف يشار بالضمير إليها و
القول بعهوديتها، كما ترى، (هذا) كما أن المجاز على تفصيل قد عرفته، متقوم بالادعاء
وهو لا يناسب هذه المقامات إذ ليس المقام مقام مبالغة حتى يدعى ان الرجعيات تمام
المطلقات فالبحث عن الاستخدام والمجاز وتخصيص المرجع وبيان الترجيح بينها،
ساقط من أصله، وما في كلام المحقق الخراساني في وجه الترجيح من أن أصالة
العموم حجة إذا شك في أصل المراد، لا فيما إذا شك في أنه كيف أراد (وإن كان متينا)
في نفسه الا انه أجنبي عن المقام، إذ الشك هنا في أصل المراد، لأنا نشك في أن تخصيص
الضمير هل يوجب تخصيص المرجع أو لا، وقد اعترف (قدس سره) بجريانها في هذه
الموارد على أن الدوران على فرضه (قدس سره) بين الظهور السياقي والتخصيص،
فراجع تمام كلامه.
واما الاجمال في القسم الثاني فلان المخصص (بالفتح) من أول الالقاء محفوف بما
يصلح أن يكون قرينة على تخصيصه، فلا يجرى التمسك بالأصل لعدم احراز بناء
العقلاء بالعمل بهذه الأصول واجراء التطابق بين الإرادتين في مثل ما حف الكلام بما
يصلح للاعتماد عليه، فصحة الاحتجاج بمثل أهن الفساق واقتلهم علي وجوب إهانة
الفساق من غير الكفار مشكلة.
تخصيص العام بالمفهوم
قد نقل غير واحد الاتفاق على جواز تخصيص العام بالمفهوم الموافق، واختلافهم
في جوازه بالمخالف، ولكن هذا الاجماع لا يسمن ولا يغنى من جوع، فلابد في تمحيص
الحق من افراد كل واحد للبحث، و (عليه) يقع الكلام في مقامين، (الأول) في تفسير
الموافق من المفهوم وجواز التخصيص به، فنقول: اختلفت فيه تعبيراتهم، ونحن نذكر
الأقوال والاحتمالات في تفسيره، (الأول) ما يعبر عنه في لسان المتأخرين بالغاء
الخصوصية واسراء الحكم لفاقدها كقول زرارة أصاب ثوبي دم رعاف، وقول القائل
52

رجل شك بين الثلث والأربع ولا شك في أن العرف يرى أن الموضوع هو الدم وذات
الشك، ولا دخالة لثوب زرارة أو دم الرعاف كما لا دخل للرجولية، (الثاني) المعنى
الكنائي الذي سيق الكلام لأجله، مع عدم ثبوت الحكم للمنطوق، ولا يبعد أن يكون
منه قوله سبحانه - ولا تقل لهما اف - فهو كناية عن حرمة الايذاء من الشتم و
الضرب، ولكن آلاف غير محرم (الثالث) هذه الصورة، ولكن المنطوق أيضا محكوم
بحكم المفهوم، كالآية المتقدمة على وجه وهو فرض كون آلاف محرما أيضا فأتى
المتكلم بأخف المصاديق مثلا للانتقال إلى سائرها (الرابع) الأولوية القطعية، وهو
الحكم الذي لم يذكر لكن يقطع به العقل بالمناط القطعي من الحكم المذكور
كما في قول القائل (أكرم) خدام العلماء حيث يقطع منه لوجوب اكرام العلماء
وهذا ما يعبر عنه بالمناسبات العقلية بين الموضوع ومحموله، وهو رائج بين المتأخرين،
(الخامس) الحكم المستفاد من العلة الواردة في الاخبار كقوله مثلا لا تشرب الخمر
لأنه مسكر، وكيف كان فالجامع بين هذه الاحتمالات هو ان المفهوم الموافق حكم
غير مذكور في محل النطق، موافق للحكم في محل النطق على فرضه في الايجاب
والسلب، ولا يبعد أن يكون محط البحث فيما إذا كان المفهوم أخص مطلق من العام،
لا ما إذا كان بينهما عموم من وجه وإن كان الظاهر من بعضهم خلافه وسيأتى بيانه.
واما جواز التخصيص به وعدمه، فالظاهر جواز التخصيص به فيما عدى
الرابع إذا كان المفهوم أخص منه مطلقا ضرورة ان المفهوم على فرض وجوده حجة بلا
اشكال فيكون حكمه حكم المنطوق ويكون حاله حال اللفظ الملقى إلى المخاطب
فيخصص به العام بلا ريب، واما إذا كان بينهما عموم من وجه فيعامل معهما حكمهما
المقرر في محله، ولعل وضوح الحكم في تقديم الخاص على العام، أوجب كون
المسألة اتفاقية، و " اما الرابع " أعني ما يكون فيه مدار الاستفادة هو المناط العقلي
القطعي فربما يقال بتقدم المفهوم على العام، وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه إذا
كان المعارض نفس المفهوم مستدلا بان الامر دائر بين رفع اليد عن العام وبين رفعها
عن المفهوم فقط أو عنه وعن المنطوق لا سبيل إلى الثالث لان المنطوق لا يزاحم
53

العام على الفرض، والثاني ممتنع عقلا، لأنه كيف يمكن رفع اليد عن الأقوى مع
اثباتها على الأضعف على أن رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرف في المنطوق غير
ممكن للزوم التفكيك بين اللازم والملزوم فان المفروض لزومه له بنحو الأولوية، فح يتعين
التصرف في العموم وتخصيصه بغير مورد المفهوم، (انتهى).
قلت: لو فرضنا ان مقتضى القواعد هو لزوم تقديم العام على المفهوم لكونه
في عمومه أظهر من اشتمال القضية على المفهوم لا يكون رفع اليد عن المفهوم والمنطوق
بلا وجه، اما رفعها عن المفهوم فواضح لأن المفروض انه مقتضى القواعد لكونه في
عمومه أظهر، وإن كانت النسبة عموما من وجه، واما رفع اليد عن حكم المنطوق
بمقداره فلان تقديم العام على المفهوم يكشف عن عدم تعلق الحكم بالمنطوق والا
يلزم التفكيك بين المتلازمين.
وبالجملة ان رفع اليد عن المفهوم لأجل اقوائية العام يوجب رفع اليد عن
المنطوق بمقداره لحديث الملازمة، والمعارضة وإن كانت بين العام والمفهوم أو لا
وبالذات، لكن تتحقق أيضا بينه وبين المنطوق ثانيا وبالعرض، ورفع المحذور العقلي
كما يمكن بتخصيص العام كذلك يمكن برفع اليد عن حكم المنطوق والمفهوم،
وقد يقال كما عن بعض الأعاظم قدس الله روحه بعدم امكان كون المفهوم معارضا
للعام دون منطوقه، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وانه سيق لأجل الدلالة
عليه، ومعه كيف يعقل أن يكون المنطوق غير معارض للعام مع كون المفهوم معارضا
له، فالتعارض في المفهوم الموافق يقع ابتداء بين المنطوق والعام، ويتبعه وقوعه
بين المفهوم والعام، ولابد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام، ويلزمه
العلاج بين المفهوم والعام، (انتهى).
وفيه: انه ربما يكون بين المنطوق والعام تباين كلي كما إذا قال أكرم الجهال
من خدام النحويين، ثم قال لا تكرم الصرفيين فان المستفاد من الأول وجوب اكرام
النحويين بالأولوية فبين المنطوق وهو وجوب اكرام الجهال من خدام النحويين و
العام أعني وجوب اكرام علماء الصرف تباين، مع أن بين مفهومه الموافق وهو
54

وجوب اكرام علماء النحو، ونفس العام أعني لا تكرم الصرفيين عموم من وجه،
إذ الصرفي والنحوي قد يجتمعان وقد يفترقان (فح) إذا كان المنطوق أجنبيا عن العام،
وكان التعارض ابتداء بين العام والمفهوم مع كون النسبة بينهما عموما من وجه
(فلا محيص) من علاج التعارض ابتداء بين العام والمفهوم لكون التعارض بينهما بالذات
ويتبعه العلاج بين المنطوق والعام لكون التعارض بينهما بالعرض، إذ ليس بين وجوب
اكرام الجهال من خدام النحويين، وبين حرمة اكرام الصرفيين تعارض بدءا فلو -
فرضنا تقدم العام على المفهوم حسب القواعد يتبعه رفع اليد عن المنطوق لا محالة
بمقداره (هذا حال هذا القسم من المنطوق والمفهوم)
واما إذا كان التعارض بين المنطوق والعام، فإن كان الأول أخص منه مطلقا، فيقدم على
العام بلا اشكال ويتبعه تقدم المفهوم على العام مطلقا سواء كانت نسبة المفهوم إلى
العام عموما مطلقا أو عموما من وجه، و (السر) هنا هو انه يمتنع رفع اليد عن المفهوم بعد
لقطع بالتلازم، فإذا فرضنا تقدم المنطوق على العام لكونه خاصا، يستتبعه تقدم المفهوم عليه
أيضا بأي نسبة اشتملت للقطع بالتلازم بين التقدمين، و (الحاصل) ان عدم تقديم المفهوم
على العام حتى فيما إذا كانت النسبة بينهما عموما من وجه إذا كان المنطوق أخص مطلقا
من العام، يستلزم اما تفكيك أحد المتلازمين عن الآخر إذا خصصنا بالمنطوق دون المفهوم أو
عدم تقديم الخاص على العام، إذا لم نخصصه بالمنطوق أيضا مع أنه بالنسبة إلى العام خاص مطلق
وأظن انك إذا تدبرت تعرف الفرق الواضح بين هذا القسم، وما تقدم بحثه
آنفا، لان البحث هيهنا فيما إذا كان التعارض بين العام والمنطوق وكان الثاني أخص
من الأول مطلقا، فلا محالة يقدم عليه، ولأجل تقدمه يقدم المفهوم لحديث التلازم،
والا يلزم أحد المحذورين المتقدمين، و (لكن) البحث هناك فيما إذا كان التعارض
بين العام والمفهوم ابتداءا وكانت النسبة بينهما عموما من وجه، لا عموما مطلقا،
إذ هو خارج عن محط البحث فقد ذكرنا انه لا وجه لتقديم المفهوم والحال هذه كما
لا وجه للاستدلال على هذا التقديم بمجرد كون المنطوق موافقا له، بل ما لم يرفع
55

التعارض بين العام والمفهوم لا يتعين حكم المنطوق، فلو ألزمنا القواعد تقديم العام
على المفهوم، لقدمناه على المفهوم والمنطوق بلا تصور مانع فتذكر
هذا: ولو كان التعارض بين المنطوق والعام أيضا ولكن كان النسبة عموما
من وجه فيعامل معاملتهما، ومع تقديمه على العام بحسب القواعد أو القرائن يقدم
المفهوم أيضا لما عرفت.
المقام الثاني في المفهوم المخالف، وظاهر عناوين القوم يعطى ان النزاع
فيما إذا فرغنا عن اشتمال القضية على المفهوم كما فرغنا عن وجود عام مخالف
للمفهوم سواء كان النسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا نحو قولك أكرم العلماء، و
إذا جائك زيد لا تهن فساق العلماء أم كانت عموما من وجه كما إذا قلت أكرم العلماء -
وان جائك زيد أكرم الفساق - ولعل جعل محط البحث أعم، لأجل ان اقوائية
عموم العام يضعف ظهور اشتمال القضية على المفهوم وإن كان المفهوم أخص مطلق
منه، وهذا لا ينافي اشتمال القضية في حد ذاتها على المفهوم (هذا) ويظهر من شيخنا
العلامة أعلى الله مقامه، وبعض الأساطين ان البحث هنا عند القدماء هو البحث في
باب الاطلاق والتقييد، والكلام في تخصيص العام بالمفهوم، مرجعه عندهم إلى
تقييد العام بالقيد المذكور في القضية ومثل له بقوله عليه السلام خلق الله الماء طهورا لا ينجسه
شئ وقوله عليه السلام إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ، فان الأول يدل على أن تمام
الموضوع للاعتصام هو نفس الماء، ودل الثاني على أن للكرية دخلا فيه فآل التعارض
إلى تعارض الاطلاق والتقييد، فيحكم القيد على الاطلاق، و (لكن) هذا خروج عن
عنوان للبحث الدائر بلا دليل وكيف كان فالنسبة بينهما (تارة) تكون عموما مطلقا
و (أخرى) عموما من وجه وعلى أي تقدير ربما يقعان في كلام واحد متصل وقد يقعان
في كلامين منفصلين، وخلاصة الكلام هو ان النزاع في تقديم العام على المفهوم
المخالف أو في عكسه انما هو إذا لم يعارض العام نفس المنطوق.
(فح) إذا كانت دلالة القضية على المفهوم بالدلالة الوضعية مثل دلالة العام
على عمومه، فلا محالة يقع التعارض بين الظاهرين، فمع عدم
56

الترجيح يرجع إلى اخبار العلاج أو يحكم بالاجمال، من غير فرق بين
كونهما في كلام واحد أو كلامين، وإن كانت استفادة المفهوم بمقدمات الحكمة
فلو كانا في كلام واحد فلا محيص عن رفع اليد عن المفهوم، لانثلام مقدماتها، فان
جريانها معلق على عدم البيان، والظهور المنجز أعني العام بيان له أو صالح للبيانية،
ولو كانا منفصلين، يصيران متعارضين، ولا ترجيح للظهور الوضعي على الاطلاقي
في مثله.
هذا كله على المختار من كون دلالة اللفظ على العموم وضعية، ولا يستفاد
العموم من الاطلاق، ولو قلنا بامكان استفادة العموم من الاطلاق أيضا، وفرضنا
دلالة القضية على المفهوم أيضا بالاطلاق، فهل المرجع هو التساقط والاجمال، وقعا
في كلام واحد أو لا، أو يقدم المفهوم على العام، وجهان، والمختار عند بعضهم
هو الثاني حيث قال: إن المناط في المفهوم أن يكون التقييد راجعا إلى الحكم لا
إلى الموضوع والقضية الشرطية بعدما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم
لأنها وضعت لتقييد جملة بجملة، تكون حاكمة على مقدمات الحكمة، فظهورها
في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في العام، وكون القضية ذات
مفهوم وإن كانت بمقدمات الحكمة، الا ان المقدمات الجارية في طرف المفهوم
تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص، والعام لا يصلح أن يكون
قرينة على أن الشرطية سيقت لغرض وجود الموضوع فلابد فيه من دليل يدل عليه
هذا إذا كانت المفهوم أخص مطلقا (انتهى).
وفيه: ان إناطة الجزاء بالشرط وإن كانت مستفادة من الوضع الا انها ليست
مناط استفادة المفهوم بل مناطه هو استفادة العلة المنحصرة من الشرط، والمفروض
ان الدال عليها هو الاطلاق كما أن الدال عليه أيضا هو الاطلاق فلا وجه لجعل أحد -
هما بيانا للاخر، وجريان مقدمات الحكمة في العام لا يوجب رجوع القيد إلى
الموضوع حتى يقال إنه لا يصلح لذلك بل يمنع عن جريانها في الشرطية لاثبات
الانحصار، وما ذكره من أن جريانها في المفهوم بمنزلة القرينة للعام لا يرجع إلى محصل
57

تخصيص الكتاب بالآحاد
الحق جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد، بعدما ثبت في محله ان المدرك الوحيد في
حجيته هو بناء العقلاء على ذلك من دون ان يصدر عن الشارع تأسيس ولا اعمال تعبد، و
ما ذكر من البناء لا يأبى عن القول بتقديمه على العموم الكتابي، وإن كان ظني السند،
والاخر قطعي المدرك بعد احراز التوفيق بينهما في محيط القانون ومركز جعل
الاحكام.
ومجرد اختلافهما فيما ذكر لا يوجب رفع اليد عنه والمصير إلى العموم، لعدم
وقوع التعارض بين السندين حتى يتخيل الترجيح، بل بين الدلالتين، وهما سيان،
ولذلك يخصص القائل بالمنع في المقام بخبر الآحاد الأخبار المتواترة مع اشتراكها
في القطعية مع الكتاب الكريم، وما ورد من أن ما خالف كتاب الله زخرف أو لم نقله،
أو باطل وغير ذلك من التعابير لا يمكن الاستشهاد به، إذ لازمه عدم جواز التخصيص
بالخبر المتواتر لكون لسان تلك الأخبار آبية عن التخصيص جدا، والحل هو ان
التعارض بالعموم والخصوص وإن كان يعد من التعارض الحقيقي، إذ الموجبة الكلية
نقيضه السالبة الجزئية، ولكن العارف بأصول الجعل والتشريع وكيفيته، من تقديم
بعض وتأخير آخر وان محيط التشريع يقتضى ذلك بالضرورة، سوف يرجع ويعترف
بالتوافق والجمع في هذه الاختلاف، وقد أقر الأمة جميعا على أن في نفس الآيات
مخصصات ومقيدات تقدم بعضه بعضا من دون ان يختلف فيه اثنان، مع عدم عد ذلك
تناقضا وتهافتا في الكتاب ولا منافيا لقوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا وليس ذلك الا عدم عد التقييد والتخصيص اختلافا وتناقضا في محيط
التشريع والتقنين فلابد من ارجاع تلك الأخبار إلى المخالفات الكلية التي تباين
القرآن وتعارضه وكان باب الافتراء من خصماء الأئمة (ع) مفتوحا عليهم بمصراعيه،
وكانوا يدسون في كتب أصحاب أبي جعفر عليه السلام وكانت الغاية للقالة والجعل هو ان
يثبتوا عند الناس انحطاط مقاماتهم بالأكاذيب الموضوعة حتى يرجع الناس عن
بابهم، وغير ذلك من الهوسات فما قيل إن الدس منهم لم يكن بنحو التباين الكلى والتناقض
في غير محله.
58

الاستثناء المتعقب للجمل
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة هل يرجع إلى الجميع أو إلى خصوص
الأخيرة أو لا ظهور فيه وإن كان الرجوع إلى الأخيرة متيقنا وتفصيل القول فيه يقع
في مقامين.
الأول: في امكان الرجوع إلى الجميع، الظاهر امكان رجوعه إلى الجميع بلا فرق
بين أن يكون آلة الاستثناء حرفا أو اسما، وبلا فرق بين أن يكون المستثنى علما
أو وصفا مشتقا، اما (آلة الاستثناء)، فلو قلنا إن الموضوع في الحروف كالأسماء عام
فلا اشكال أصلا، وإن كان خلاف التحقيق، واما على المختار من أن الموضوع له في
الحروف، خاص فربما يقال من أنها على هذا الفرض موضوعة للاخراج بالحمل
الشايع فيلزم من استعمالها في الاخراجات استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و
هو في الحروف أشكل، لأنها آلات لملاحظة الغير فيلزم أن يكون شئ واحد فانيا في
شيئين أو أكثر، (أقول) ان الامر في الحروف أسهل من الأسماء بحيث لو ثبت الجواز
في الثانية لثبت في الأولى بلا ريب، لما تقدم في مقدمة الكتاب من أن دلالة الحروف
على التكثر والوحدة تبعي كأصل دلالته على معناه، فلو فرضنا صدق المدخول على
أكثر من واحد، لسرى التكثر إلى الحروف تبعا فراجع (أضف إليه) انه يمكن ان يقال إن
أداة الاستثناء باخراج واحد يخرج الكثيرين، فلو قال المتكلم، أكرم العلماء و
أضف التجار الا الفساق منهم، فهو اخراج واحد للفاسق القابل للانطباق على فساق
العلماء والتجار فلا يكون استعمال الأداة في أكثر من معنى فتدبر.
واما المستثنى فربما يستشكل فيما إذا كان المستثنى مثل زيد مشتركا بين اشخاص،
ويكون في كل جملة شخص مسمى بزيد، فاخراج كل منهم بلفظ واحد مستلزم
للمحذور المتقدم.
والجواب قد مر جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد مع عدم لزومه هنا
59

أيضا لامكان استعماله في مثل المسمى الجامع بين الافراد انتزاعا فلا يلزم الاشكال في
الاخراج ولا في المخرج.
المقام الثاني في حاله اثباتا:، فهناك صور وأقسام يختلف الحكم
باختلافها، (منها) ما إذا ذكر الاسم الظاهر في الجملة الأولى، وعطف سائر الجمل
عليها مشتملا على الضمير الراجع إليه، واشتمل المستثنى أيضا على الضمير،
مثل قولك - أكرم العلماء وسلم عليهم والبسهم الا الفساق منهم - فالظاهر رجوع
الاستثناء إلى الجميع، و (وجهه) ان الضماير كأسماء الإشارة، وضعت لنفس الإشارة
إلى الغائب (فح) إذا اشتمل المستثنى على الضمير يكون إشارة إلى شئ، ولم يكن
في الجمل شئ صالح للإشارة إليه الا الاسم الظاهر المذكور في صدرها واما سائر
الجمل فلا تصلح لارجاع الضمير إليها لعدم امكان عود الضمير إلى الضمير فإذا رجع ضمير
المستثنى إلى الاسم الظاهر يخرجه عن تحت جميع الأحكام المتعلقة به، ويؤيده فهم
العرف أيضا
وبالجملة ان الاحكام المتواردة على الضماير، متواردة على الاسم الظاهر
حقيقة، لكون عمل الضماير هو نفس الإشارة إلى الغائب والمثال المذكور يؤل
حقيقة إلى قولنا أضف وأكرم وسلم العلماء والاستثناء ورد على هذا الظاهر، والفساق
من العلماء قد خرجوا عن موضوع الحكم فلا محالة ينسلخ عنهم عامة الاحكام
فان قلت إن اخراج الفساق عن العلماء كما يمكن أن يكون بمالهم من الاحكام،
يمكن أن يكون بمالهم حكم التسليم (قلت) ما ذكرت تدقيق صناعي لا يتوجه إليه العرف
الساذج، وهو لا يفرق بين حكم وحكم بعد التفاته، إلى أن فساق العلماء خرجوا عن
الموضوعية للحكم، (بل ما ذكرنا بيان مناسبة لارجاعه الاستثناء إلى الجميع لا برهان
عليه) فتدبر.
ومنها: هذه الصورة أيضا، ولكن المستثنى غير شامل للضمير العائد إلى الاسم
الظاهر كما إذا قال في المثال المتقدم (الا بنى فلان) والظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع
أيضا اما على القول بان الضمير في مثله منوى فواضح واما إذا لم نقل بتقديره فيه، فلان
الضمائر في سائر الجمل غير صالحة لتعلق الاستثناء بها فإنها بنفسها غير محكومة
60

بشئ، فلا محالة يرجع إلى ما هو صالح له وهو الاسم الظاهر ويأتي فيها
ما تقدم من البيان فتذكر.
ومنها: ما إذا تكرر الاسم الظاهر كما لو قال أكرم العلماء وأضف التجار و
البس الفقراء الا الفساق منهم، والحق انه محتمل غير ظاهر في رجوعه إلى الجميع
أو الأخير فقط، وربما يقال: بان الظاهر رجوعه إلى الأخيرة لان تكرار عقد الوضع
في الجملة الأخيرة مستقلا يوجب اخذ الاستثناء محله من الكلام وأنت خبير بان
ذلك لا يرجع إلى محصل بل التحقيق ان المستثنى ان اشتمل على الضمير يكون
الاستثناء تابعا له في السعة والضيق، وبما ان كل جملة مشتملة على الاسم الظاهر
يكون الضمير قابلا للعود إلى الأخيرة والجميع، من غير تأول ولا تجوز ويتبعه الاستثناء
ولو لم يشتمل فيحتمل الامرين لانطباق عنوان المستثنى على الجميع، (هذا) ولو
لم نقل بان رجوع الضمير وانطباق العنوان على الجميع، أظهر لدى العرف، فلا أقل
من المساواة احتمالا.
ومنها: ما إذا اشتمل بعض الجمل المتوسطة على الاسم الظاهر أيضا وما بعد -
ها على الضمير الراجع إليه مثل قولك - أكرم العلماء وسلم عليهم، وأضف التجار
وأكرمهم الا الفساق منهم، فيحتمل الرجوع إلى الجملة المتوسطة المشتملة على
الاسم الظاهر وما بعده أو إلى الجميع، والظاهر عدم الترجيح بينهما وبقى هنا صور
أخرى يظهر حالها مما قدمناه.
ثم إنه إذا لم يظهر رجوعه إلى الجميع أو الأخيرة بعد اليقين بان الأخيرة من
الجمل مخصصة قطعا لان عودها إلى غيرها وصرفه عنها خلاف قانون المحاورة، ربما
يقال بجواز التمسك بأصالة العموم في سائر الجمل مطلقا، وربما يفصل بين احتياج
العموم إلى مقدمات الحكمة وعدمه فلا يتمسك في الأصل دون الثاني، ولكن الحق
عدم جواز التمسك بأصالة العموم مطلقا، لعدم احراز بناء العقلاء على العدل بها
فيما حف الكلام بما يصلح للقرينية وتقييد مدخول أداة العموم وأصالة العموم بما
هي حجة وكاشفة عن تطابق الإرادتين، لم تحرز في المقام (فح) يصير الكلام مجملا
61

و (ما قيل) ان ذلك مخل بغرض المتكلم مدفوع بامكان تعلق غرضه بالقاء المجملات
والا لوجب عدم صدور المتشابهات والمجملات منه وهو كما ترى وما قيل إنه لا قصور
في الاخذ باطلاق الاستثناء والمستثنى لولا كون ظهور العام وضعيا وواردا على
الاطلاق ومعه لا مجال لقرينية الاطلاق لأنه دوري نعم لو كان العام في دلالته علي العموم
بمؤنة الاطلاق لم يكن وجه للتقديم. (مدفوع)
اما أولا فلان حكم الاستثناء في الرجوع إلى الجميع أو الأخير يتبع ضميره
المشتمل عليه ان اشتمل عليه فالاطلاق في الاستثناء تابع لضميره، ولا يعقل أن يكون
الاطلاق مشخصا لمرجع الضمير والا لزم الدور،
وثانيا ان العموم وإن كان وضعيا لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة لكن
لا يحتج به بمجرده، ما لم يحرز بالأصل العقلائي ان الجد مطابق للاستعمال وقد عرفت
عدم احراز بناء العقلاء على التمسك به في مثل الكلام المحفوف بما يصلح لتقييد
ما دخله أداة العموم (هذا) وكذا الكلام فيما لم يكن المستثنى مشتملا على
الضمير. سواء قلنا إن الضمير منوى أم لا، لعدم كون أصالة الجد محرزة وبقيت هيهنا
أبحاث طفيفة لا يهمنا التعرض لها
المقصد الخامس في المطلق والمقيد
عرف المطلق بأنه ما دل على معنى شايع في جنسه والمقيد بخلافه وهذا التعريف
وان اشتهر بين الاعلام الا انه يرد عليه أمور.
منها ان الظاهر من هذا التعريف ان الاطلاق والتقييد من أوصاف اللفظ
مع أنهما من صفات المعنى ضرورة ان نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد
تكون مطلقة وقد تكون متقيدة وان شئت قلت: ان الداعي لتعلق الاحكام، بعناوينها
هو اشتمالها على مصالح ومفاسد ملزمة أو غير ملزمة، وهى قد تترتب على نفس الطبيعة
وقد تترتب على المقيد بشئ، فيصير الموضوع مع قطع النظر عن اللفظ تارة مطلقا
62

واخرى مقيدا بل مع قطع النظر عن الملاك يمكن تصوير الاطلاق والتقييد، إذا
الانسان الأبيض مقيد والانسان مطلق، مع قصر النظر على المعنى بلا رعاية لفظ
أو ملاك.
ومنها ان الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى، يحتمل وجهين
الأول: أن يكون نفس الشيوع جزء مدلول اللفظ كما أن الذات جزء آخر،
فالمطلق يدل على المعنى والشيوع، ولكنه بعيد غايته بل غير صحيح، إذ لا يدل أسماء
الأجناس على ذات الطبيعة ومفهوم الشيوع، كيف والمطلق مالا قيد فيه بالإضافة
إلى كل قيد يمكن تقييده به من غير دلالة على الخصوصيات والحالات وغير ذلك
الثاني: ان يراد من الشيوع كونه لازم لمعنى بحسب الواقع لا جزء مدلول
منه فالمطلق دال على معنى، لكن المعني في حد ذاته شايع في جنسه أي مجانسه
وافراده و (عليه) يصير المراد من الشيوع في الجنس هو سريانه في افراده الذاتية حتى
يصدق بوجه انه شايع في مجانسه، والا فالجنس بالمعنى المصطلح لا وجه له، و (لكنه)
يوجب خروج بعض المطلقات عن التعريف المزبور، مثل اطلاق افراد العموم في
قوله سبحانه - أوفوا بالعقود وكذا الاطلاق في الاعلام الشخصية كما في قوله تعالى -
وليطوفوا بالبيت العتيق، وكذا الاطلاق في المعاني الحرفية، على أنه غير مطرد
لدخول بعض المقيدات فيه كالرقبة المؤمنة فإنه أيضا شايع في جنسه، وما عن بعض
أهل التحقيق في ادراج الاعلام تحت التعريف المشهور، - من أن المراد سنخ الشئ
المحفوظ في ضمن قيود طارية سواء تحقق بين وجودات متعددة أو في وجود محفوظ في ضمن
الحالات المتبادلة (لا يخلو عن تعسف بين)
فقد ظهر من هذا البيان عدة أمور الأول ان مصب الاطلاق أعم من الطبايع
والاعلام الشخصية، وتجد الثاني في أبواب الحج كثيرا، في الطواف على البيت
واستلام الحجر والوقوف بمنى والمشعر، فمار بما يقال من أن المطلق هو اللا بشرط
المقسمي أو القسمي ليس بشئ وهناك (قسم ثالث) وهو الاطلاق الموجود في
ناحية نفس الحكم كما تقدم في باب الواجب المشروط وتقدم ان القيود بحسب نفس
63

الامر تختلف بالذات بعضها يرجع إلى الحكم ولا يعقل ارجاعها إلى المتعلق وبعض
آخر على العكس، وعرفت ان معاني الحروف قابلة للاطلاق والتقييد، فمصب الاطلاق
قد يكون في الطبايع، وقد يكون في الاعلام، وقد يكون في الاحكام وقد يكون في
الاشخاص والافراد.
الثاني: ان الاطلاق والتقييد من الأمور الإضافية فيمكن أن يكون شئ مطلقا
ومقيدا باعتبارين الثالث ان بين الاطلاق والتقييد شبه تقابل العدم والملكة فالمطلق
ما لا قيد فيه مما شأنه ان يتقيد بذلك، وما ليس من شانه التقييد لا يكون مطلقا كما لا
بكون مقيدا، والتعبير بشبه العدم والملكة لأجل ان التقابل الحقيقي منه ما إذا
كان للشئ قوة واستعداد يمكن له الخروج عن القوة إلى مرتبة الفعلية بحصول ما يستعد
له، والامر هنا ليس كذلك الرابع ان مفاد الاطلاق غير مفاد العموم وانه لا يستفاد
منه السريان والشيوع ولو بعد جريان مقدمات الحكمة، بل الاطلاق ليس الا
الارسال عن القيد وعدم دخالته وهو غير السريان والشيوع.
في اسم الجنس وعلمه وغيرهما
غير خفى على الوفى ان البحث عنهما وعن توضيح الحال في المهية اللا بشرط و
أقسامها ومقسمها والفرق بين القسمي والمقسمي، أجنبي عن مباحث الاطلاق و
التقييد خصوصا على ما عرفت من أن الاطلاق دائما هو الارسال عن القيد وليس المطلق
هو المهية اللا بشرط القسمي أو المقسمي غير انا نقتفي اثر القوم في هذه المباحث
فنقول.
واما أسماء الجنس كالانسان والسواد وأمثالهما فالتحقيق انها موضوعة
لنفس المهيات العارية عن قيد الوجود والعدم وغيرهما حتى التقييد بكونها عارية
عن كل قيد حقيقي أو اعتباري، لان الذات في حد ذاتها مجردة عن كافة القيود وزوائد
الحدود، (نعم)
المهية بما هي وإن كان لا يمكن تصورها وتعقلها مجردة عن كافة الموجودات لكن
64

يمكن تصورها مع الغفلة عن كافة الوجودات واللواحق، واللاحظ في بدء لحاظه
غافل عن لحاظه، غير متوجه الا إلى مراده ومعقوله، إذ لحاظ هذا اللحاظ البدئي يحتاج
إلى لحاظ آخر ولا يمكن أن يكون ملحوظا بهذا اللحاظ (فلا محالة) تصير لحاظ المهية
مغفولا عنه وبما ان غرض الواضع وهدفه إفادة نفس المعاني، يكون الموضوع له
نفس المهية لا بما هي موجودة في الذهن،
هذا واللفظ موضوع لنفس المهية بلا لحاظ السريان والشمول وإن كانت
بنفسها سارية في المصاديق ومتحدة بها لا بمعنى انطباق المهية الذهنية على الخارج
بل بمعنى كون نفس المهية متكثرة الوجود، توجد في الخارج بعين وجود
الافراد.
ومما يقضى منه العجب، ما افاده بعض الأعيان المحققين في (تعليقته) وملخص
كلامه " انه لا منافاة بين كون الماهية في مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللا بشرط
القسمي، وكون الموضوع له هو ذات المعنى فقط، فالموضوع له نفس المعنى، لا
المعنى المطلق بما هو مطلق، وان وجب لحاظه مطلقا تسرية للوضع، ومثله قوله:
أعتق رقبة، فان الرقبة وان لوحظت مرسلة لتسرية الحكم إلى جميع
افراد موضوعه، الا ان الذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة، لا عتق اية
رقبة "
وفيه: ان الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سراية الوضع إلى الافراد،
ويكون لحاظ الواضع لغوا بلا اثر، الا ان يجعل اللفظ بإزاء الافراد، وكذا إذا كان
موضوع الحكم نفس الطبيعة، لا يعقل سرايته إلى خصوصيات الافراد سواء لاحظ الحاكم
افرادها أم لا، فما افاده في كلا المقامين منظور فيه.
في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة
ان من التقسيم الدائر بينهم انقسام الماهية إلى لا بشرط وبشرط شيئي وبشرط لا ثم إنه
اختلف كلمات الأعاظم في تعيين المقسم وان الفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمى
65

ما هو؟ ويظهر من بعضهم: ان المقسم هو نفس الماهية وهذه الاعتبارات واردة عليها
كما يفصح عنه قول الحكيم السبزواري (1) (قدس سره) ومحصل هذا الوجه ان انقسام النوع
والجنس والفصل إلى الثلاثة بالاعتبار، وكذا افتراق الثلاثة باللحاظ أيضا، وان
المهية إذا لوحظت مجردة عما يلحق بها تكون بشرط لا وإذا لوحظت مقترنة بشئ
تكون بشرط شئ، وإذا لوحظت بذاتها لا مقترنة ولا غير مقترنة تكون لا بشرط
شئ والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمى هو كون اللا بشرطية قيدا في الثاني دون
الأول، كما هو الفرق بين الجنس والمادة والنوع فان لوحظ الحيوان لا بشرط
يكون جنسا، وان لوحظ بشرط لا، تكون مادة، وان لوحظ بشرط شئ يكون نوعا
وقد اغتر بظاهر كلماتهم أعاظم فن الأصول ووقعوا في حيص وبيص في أقسام
المهية والفرق بين المقسمي والقسمى حتى ذهب بعضهم إلى أن التقسيم للحاظ المهية
لا لنفسها
هذا لكن حسن ظني باهل الفن في هذه المباحث، يمنعني ان أقول إن ظاهر
هذه الكلمات مرادة لهم، وانهم اقترحوا هذا التقسيم وما شابهه في مباحث الجنس
والفصل من غير نظر إلى عالم الخارج ونظام الكون، وكان غرضهم هو التلاعب
بالمفاهيم والاعتبارات الذهنية من دون أن يكون لهذه الأقسام محكيات في الخارج
أضف إلى ذلك أن ملاك صحة الحمل وعدم صحتها عندهم هو كون الشئ المحمول
لا بشرط وبشرط لا، ولو كان هذا الملاك أمرا اعتباريا لزم - كون اعتبار شئ
لا بشرط مؤثرا في الواقع، ويجعل الشيئ أمرا قابلا للاتحاد والحمل، ولزم
من اعتباره دفعة أخرى بشرط لا، انقلاب الواقع عما هو عليه، والحاصل انه يلزم من
اعتبار شخص واحد شيئا واحدا على نحوين، اختلاف نفس الواقع كما يلزم من اعتبار
اشخاص مختلفة صيرورة الواقع مختلفا بحسب اختلاف اعتبارهم فتكون مهية واحدة
متحدة مع شيئي ولا متحدة معه بعينه، (هذا) مع أن الغرض من هذه التقسيمات وكذا
الحمل هو حكاية الواقع ونفس الامر لا التلاعب بالمفاهيم واختراع أمور ذهنية، ومن
ذلك يظهر ضعف ما ربما يقال من أن المقسم ليس هو نفس المهية بل لحاظ المهية أو
المهية الملحوظة ويقرب عنه، ما افاده بعض الأعيان في تعليقته الشريفة فراجع وليت

(1) مخلوطة، مطلقة، مجردة عند اعتبارات عليها واردة
66

شعري أي فائدة في تقسيم لحاظ اللاحظ، ثم أي ربط بين تقسيمه وصيرورة المهية
باعتباره قابلة للحمل وعدمها والذي يقتضيه النظر الدقيق ولعله مراد القوم هو ان كل
المباحث المعنونة في أبواب المهية من المعقولات الثانية انما هي بلحاظ نفس الامر و
ان المهية بحسب واقعها الأعم من حد الذات أو مرتبة وجودها لها حالات ثلثة، لا تتخلف
عن واقعها ولا يرجع قسم منها إلى قسم آخر وان لوحظ على خلاف واقعه الف مرات
حتى أن الاختلاف الواقع بين المادة والجنس والنوع واقعي لا اعتباري
اما انقسام المهية بحسب نفس الامر إلى أقسام ثلثة فلانها إذا قيست إلى أي شئ
فاما أن يكون ذلك الشيئي لازم الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها كالتحيز بالنسبة
إلى الجسمية والزوجية بالنسبة إلى الأربعة، وهذه هي المهية بشرط شيئي، واما أن يكون
ممتنع الالتحاق بحسب وجودها أو ذاتها كالتجرد عن المكان والزمان بالنسبة
إلى الجسم والفردية إلى الأربعة وهذه هي المهية بشرط لا، واما أن يكون ممكن
الالتحاق كالوجود بالنسبة إلى المهية والبياض إلى الجسم الخارجي فهذه هي الماهية
اللا بشرط فالماهية بحسب نفس الامر لا تخلو عن أحد هذه الأقسام، ولا يتخلف عما هو
عليه بورود الاعتبار على خلافه، وبهذا يخرج الأقسام عن التداخل إذ لكل واحد حد
معين لا ينقلب عنه إلى الاخر ويتضح الفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمى لان المقسم
نفس ذات المهية وهى موجودة في جميع الأقسام، واللا بشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الامر ومضاد لهما، (والحاصل) ان مناط صحة التقسيم هي الواقع لا اعتبار
المعتبر فالماهية ان امتنع تخلفها عن مقارنها في واحد من مراتب الواقع فهي بالنسبة
إليه بشرط شئ وان امتنع لها الاتصاف به فهي بالنسبة إليه بشرط لا، وإن كان له
قابلية الاتصاف واستعداده من غير لزوم ولا امتناع فهي بالنسبة إليه لا بشرط كالأمثلة
المتقدمة، وما ذكرنا وان لم أر التصريح به بل مخالف لظواهر كلماتهم الا انه تقسيم
صحيح دائر في العلوم لا يرد عليه ما أوردناه على ظواهر أقوالهم، (نعم) هذا التقسم
انما هو للماهية بحسب نفسها، ولكن يمكن ان يجرى في المهية الموجودة بل يمكن
67

اجرائه في نفس وجودها وقد اجراه بعض أهل الذوق في بعض العلوم في حقيقة الوجود
ولا يقف على مغزاه الا من له قدم راسخ في المعارف الإلهية
واما كون الاختلاف بين المادة والجنس والنوع أمرا واقعيا فتفصيله وإن كان
موكولا إلى محله وأهله الا ان مجمله ما يلي وهو ان تقسيم المهية إلى الأجناس والفصول
بلحاظ الواقع ونفس الامر وان الاختلاف بين المادة والجنس والنوع واقعي، والمادة
متحدة مع الصورة التي تبدلت إليها والتركيب بينهما إتحادي وتكون المادة
المتحدة بالصورة والصورة المتحدة معها نوعا من الأنواع والمادة التي قابلة لصورة
أخرى تكون منضمة إلى الصورة الموجودة، والتركيب بينهما انضمامي لا إتحادي و
تكون تلك المادة بالنسبة إلى الصورة المتحققة بشرط لا لعدم امكان اتحادها بها و
بالنسبة إلى الصورة التي تستعد لتبدلها إليها لا بشرط شئ لامكان تبدلها بها، مثلا
المادة التي تبدلت بصورة النواة وصارت فعليتها متحدة معها تركيبهما إتحادي بل
اطلاق الاتحاد أيضا باعتبار ظرف التحليل والتكثر والا فبعد صيرورة القوة النواتية
فعلية لا تكون في الخارج الا فعليتها والقوة ليست بحدها موجودة فيها وإن كانت
الفعلية واجدة لها وجدان كل كمال للضعيف والمادة المستعدة في النواة لقبول
صورة الشجر تكون منضمة إلى الصورة النواتية وتركيبهما انضمامي لا إتحادي و
تكون لا بشرط بالنسبة إلى الصورة الشجرية لامكان اتحادها بهما وبشرط لا بالنسبة
إلى تلك الصورة الشخصية النواتية المتحققة لعدم امكان اتحادها معها، فتحصل ان
في النواة مادة متحدة ومادة منضمة ومأخذ الجنس والفصل والنوع هو الواقع المختلف
بحسب نفس الامر، فلا يكون شئ من اعتبارات المهية لا في باب الأجناس والفصول
والمواد والصور ولا في باب الأقسام الثلاثة لها، اعتبارا جزافا وتلاعبا محضا هذا و
لكن تفصيل هذه المباحث يطلب من مقاره وعند أهله هذا وقد مر ما ينفعك في المقام
في بحث المشتق.
68

البحث في علم الجنس
وهو كأسامة وثعالة، فلا اشكال في أنه يعامل معه معاملة المعرفة فيقع مبتدأ
وذا حال ويوصف بالمعرفة والمنقول هنا في اجراء احكام المعرفة عليه، (وجهان)
(الأول) ان تعريفه تعريف لفظي كالتأنيث اللفظي ومفاده عين مفاد اسم الجنس بلا
فرق بينهما، (الثاني) انه موضوع للطبيعة لا بما هي هي بل بما هي متصورة ومتعينة
بالتعين الذهني، وأورد عليه (المحقق الخراساني) من أنه يمتنع (ح) ان ينطبق
على الخارج ويحتاج إلى التجريد عند الاستعمال، ويصير الوضع لغوا، وأجاب عنه
شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بان اللحاظ حرفي لا اسمى وهو لا يوجب امتناع انطباقه
على الخارج، و (فيه) ان كون اللحاظ حرفيا لا يخرجه عن كون موطنه هو الذهن
، فلا محالة يتقيد الطبيعة بأمر ذهني وإن كان مراة للخارج ولكن ما ينطبق على
الخارج هو نفس الطبيعة، لا المتقيدة بأمر ذهني، وكون اللحاظ مرآتيا ليس معناه
عدم تقيدها به أو كون وجوده كعدمه، إذ بأي معنى فسر هذا اللحاظ فلا محالة يكون
علم الجنس متقوما به حتى يفترق عن اسمه، والمتقوم بأمر ذهني لا ينطبق على الخارج
ويمكن ان يقال إن المهية في حد ذاتها لا معرفة ولا نكرة، لا متميزة ولا غير متميزة
، بل تعد هذه من عوارضها كالوجود والعدم لان التعريف في مقابل التنكير عبارة
عن التعين الواقعي المناسب لوعائه والتنكير عبارة عن اللا تعين كذلك، على أن
واحدا من التعريف والتنكر لو كان عين الطبيعة أو جزئها يمتنع عروض الاخر
عليها (فح) لا باس بان يقال إن اسم الجنس موضوعة لنفس المهية التي ليست معرفة
ولا نكرة، وعلم الجنس موضوع للماهية المتعينة بالتعين العارض لها متأخرا عن
ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها و (بالجملة) اسم الجنس موضوع لنفس
المهية، وعلم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متميزة من عند نفسها بين المفاهيم
، وليس هذا التميز والتعين متقوما باللحاظ بل بعض المعاني بحسب الواقع معروف
معين، وبعضها منكور غير معين، وليس المراد من التعين هو التشخص الذي
69

يساوق الوجود حتى يصير كالاعلام الشخصية بل المراد منه التعين المقابل للنكارة
فنفس طبيعة الرجل لا تكون نكرة ولا معرفة فكما ان النكارة واللا تعين تعرضها
كذلك التعريف والتعين، فالتعريف المقابل للتنكير غير التشخص فظهر ان المهية
بذاتها لا معروف ولا منكور، وبما انها معنى معين بين سائر المعاني وطبيعة
معلومة في مقابل غير المعين، معرفة، (فأسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم
الجنس لمرتبة ذاتها)، وتنوين التنكير يفيد نكارتها، واللا تعين ملحق بها كالتعين
ثم الظاهر أن اللام وضعت مطلقا للتعريف وان إفادة العهد وغيره بدال آخر فإذا
دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما وافادت الاستغراق لان غير الاستغراق من
ساير المراتب لم يكن معينا والتعريف هو التعيين وهو حاصل مع استغراق الافراد لا
غير وما ذكرنا في علم الجنس غير بعيد عن الصواب وان لم يقم دليل على كونه
كذلك لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عن الأذهان
الكلام في النكرة
فالظاهر أنها دالة بحكم التبادر على الطبيعة اللا معينة أي المتقيدة بالوحدة
بالحمل الشايع، لكن بتعدد الدال فالمدخول دال على الطبيعة، والتنوين على الوحدة،
و (عليه) فهي كلي قابل للصدق على الكثيرين سواء وقع في مورد الاخبار نحو جائني
رجل أم في مورد الانشاء نحو جئني برجل، وما يقال من أن الأول جزئي لان نسبة
المجيئ إليه قرينة على تعينه في الواقع ضرورة امتناع صدور المجيئ عن الرجل الكلى
غير تام لان المتعين الذي يستفاد عن القرينة الخارجية كما في المقام، لا يخرج النكرة
عن الكلية ومن هنا يظهر النظر في كلمات شيخنا العلامة أعلى الله مقامه.
القول في مقدمات الحكمة
قد عرفت ان الاطلاق في مقام الاثبات عبارة عن كون الشئ تمام الموضوع
70

للحكم، إذا كان مصب الاطلاق نفس المتعلق أو الموضوع أو كون الحكم مرسلا
عن القيد، إذا كان مصبه نفس الحكم وعلى أي حال، لا يحتاج إلى لحاظ السريان و
الشياع، إذ فيه مضافا إلى أنه أمر غير مفيد في حكاية الطبيعة عن الافراد كما مر، انه
لا وجه لهذا اللحاظ، بل الاطلاق ينعقد بدونه، ويتم الحجة وان لم يكن المقنن
لاحظا سريانه فلا مجال لما افاده المحقق الخراساني من أن مقدمات الحكمة تثبت
الشياع والسريان وما ربما يتوهم من لزوم لحاظ حالات الطبيعة بمعنى ثبوت الحكم
عند كل حالة وحالة، لامتناع الاهمال الثبوتي، (مدفوع) بما حققناه في مبحث الترتب
(فراجع) والأولى صرف عنان البحث إلى مقدمات الحكمة المعروفة وهى ثلاثة نبحث
عن كل واحدة مستقلا.
الأولى احراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد، والظاهر لزوم وجود
هذه المقدمة في الاطلاق، ضرورة ان الدواعي لالقاء الحكم مختلفة، فربما يكون
الداعي، هو الاعلان بأصل وجوده، مع اهمال واجمال، فهو (ح) بصدد بيان بعض
المراد ومعه كيف يحتج به على المراد وربما يكون بصدد بيان حكم آخر (وعليه) لابد
من ملاحظة خصوصيات الكلام المحفوف بها، ومحط وروده وانه في صدد بيان أي خصوصية
منها فربما يساق الكلام لبيان إحدى الخصوصيات دون الجهات الأخر، فلابد من
الاقتصار في اخذ الاطلاق على المورد الذي أحرزنا وروده مورد البيان ولذلك يجب
اعمال الدقة في تشخيص مورد البيان (هذا) وقد خالف في لزوم هذه المقدمة شيخنا
العلامة (قده) حيث ذهب إلى عدم لزوم احراز كونه في مقام بيان مراده مستدلا بأنه لو كان
المراد هو المقيد تكون الإرادة متعلقة به بالأصالة وانما ينسب إلى الطبيعة بالتبع وظاهر
قول القائل جئني برجل هو ان الإرادة متعلقة بالطبيعة أولا وبالذات، وليس المراد هو المقيد
(انتهى) وفيه: انه غير تام لان ما ذكره من ظهور الإرادة في الأصلية لا التبعية، مستفاد من هذه
المقدمة إذ لولاها فما الدليل على أن المقيد غير مراد وان المراد بالأصالة الطبيعة، إذ
يحتمل (لولا هذه المقدمة) ان هنا قيدا لم يذكره المولى، فاحراز كون الطبيعة واردا
71

مورد الإرادة بالأصالة فرع احراز كونه في مقام البيان دون الاهمال والاجمال لان هذا
ليس ظهورا لفظيا مستندا إلى الوضع بل هو حكم عقلائي بان ما جعل موضوع الحكم
هو تمام مراده لا بعضه ولا يحكم العقلاء به ولا يتم الحجة الا بعد تمامية هذه
المقدمة فيحتج العقلاء عليه بان المتكلم كان في مقام البيان، فلو كان شئ
دخيلا في موضوعيته له كان عليه البيان فجعل هذا موضوعا فقط يكشف عن
تماميته.
المقدمة الثانية: وهى عدم وجود قرينة معينة للمراد ولا يخفي انها محققة
لمحل البحث، لان التمسك بالاطلاق عند طريان الشك، وهو مع وجود ما يوجب
التعيين مرتفع فلو كان في المقام انصراف أو قرينة لفظية أو غيرها، فالاطلاق
معدوم فيه بموضوعه، و (بالجملة) فهي محققة لموضوع الاطلاق لا من شرائطه
ومقدماته.
المقدمة الثالثة: عدم وجود قدر متيقن في البين حتى يصح اتكال المولى
عليه، و (الظاهر) ان هذه المقدمة غير محتاجة سواء فسرنا الاطلاق بما تقدم ذكره أو بما
عليه المشهور من جعل الطبيعة مرأة لجميع افرادها (اما على المختار) لان القدر المتيقن
انما يضر في مورد يتردد الامر بين الأقل والأكثر بان يتردد بين تعلق الحكم ببعض الافراد
أو جميعها، مع أن الامر في باب الاطلاق ليس كذلك بل هو دائر بين تعلق الحكم بنفس
الموضوع من غير دخالة شئ آخر فيه أو بالمقيد، فيدور الامر بين كون الطبيعة تمام الموضوع
أو المقيد تمامه فإذا كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلا، ومع دخالته
يكون الموضوع هو المقيد بما هو مقيد، ولا يكون ذات الموضوع محكوما والقيد محكوما
آخر حتى يكون من قبيل الأقل والأكثر، وكذا لو جعل المتقيد موضوعا وشك في دخالة
قيد اخر لا يكون من قبيلهما فلا يدور الامر بين الأقل والأكثر في شئ من الموارد
حتى يعتبر انتفاء القدر المتيقن،
هذا كله على المختار في باب الاطلاق من عدم كون الطبيعة مراة للافراد،
ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيات وحالاتها وعوارضها، و (اما) إذا قلنا بمقالة المشهور من
جعلها مرسلة ومرآة لجميع الافراد، والمقيد عبارة عن جعلها مرآتا لبعضها
72

فلاعتبار انتفاته من المقدمات وجه، و (لكنه) أيضا لا يخلو من اشكال
وتوضيحه. ان مبنى الاطلاق، لو كان هو لحاظها مرآتا للكثرات فلا معنى لجعلها
مرآتا لبعض دون بعض مع كون جميع الافراد متساوية الاقدام في الفردية، وعدم قيام
دليل صالح لقصر المرآتية على المتقين من الانصراف القطعي فلو فرضنا سبق السؤال
عن المعاطاة قبل الجواب بان الله أحل البيع، لما يضر هذا المتيقن بالاطلاق، و (بالجملة)
كونها مرآة لبعضها لا يصح الا مع القيد، والا فيحكم لعقلاء بان موضوع حكمه هو
الطبيعة السارية في جميع المصاديق لا المتقيدة، و (لهذا) ترى ان العرف والعقلاء لا -
يعتنون بالقدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره ما لم يصل إلى حد الانصراف فتدبر.
اشكال ودفع
ربما يتوهم ان ورود القيد على المطلق بعد برهة من المزمن، يكشف عن عدم
كون المتكلم في مقام البيان، وانخرام هذه المقدمة التي قد عرفت انها روح
الاطلاق، يوجب عدم جواز التمسك به في سائر القيود المشكوك فيهما،
والجواب ان المطلق كالعام مستعمل في معناه الموضوع له، لأجل ضرب
القانون واعطاء الحجة، والأصل هو التطابق بين الإرادتين، فكما ان خروج فرد
من حكم العام بحسب الجد، لا يوجب بطلان حجية العام في البواقي (فهكذا) باب
المطلق بحسب القيود لان جعل الطبيعة في مقام البيان موضوعا لحكمه، اعطاء
حجة على العبد عند العقلاء على عدم دخالة قيد فيه، لأجل أصالة التطابق بين
الإرادتين " فح " لو عثرنا على قيد، لا يوجب ذلك سقوطه عن الحجية، وكون الكلام
واردا مورد الاجمال والاهمال بالنسبة إلى سائر القيود، ولذلك ترى العقلاء
يتمسكون بالاطلاق وان ظفروا على قيد بعد برهة من الزمن، وانما العثور على
القيد يوجب انتهاء أمد حجية الاطلاق بالنسبة إلى نفى القيد المعثور عليه لا جميع
القيود المشكوك فيها.
73

حل عقدة
ربما يقال: إن التمسك بالاطلاق في نفى دخالة القيود، انما يصح إذا وقع
المطلق في كلام من عادته، الحاق قيود الكلام بأصوله كما هو الحال في الموالى
العرفية، واما المطلقات الواردة في محاورات من استقرت عادته على تفريق اللواحق
عن الأصول وتفكيك المطلق عن مقيده، فساقطة عن مظان الاطمينان، لأنا
علمنا أن دأب قائله جار على حذف ماله دخالة في موضوع الحكم عن مقام البيان،
والجواب: ان ما ذكره لا يوجب الا عدم جواز التمسك بالاطلاق قبل الفحص
عن مقيده، واما التمسك به بعد الفحص بمقدار لازم، فلا يمنع عنه هذا الدليل،
" تتميم "
لا شك ان الأصل في الاحكام كون المتكلم في مقام بيان كل ماله دخل في حكمه
بعد احراز كونه في مقام بيان الحكم وعليه جرت سيرة العقلاء في المحاجات،
(نعم) لو شك انه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر، فلا أصل هنا لاحراز كونه
في مقام هذا الحكم، و (الحاصل) ان الأصل بعد احراز كونه بصدد
بيان الحكم، هو انه بصدد بيان كل ماله دخالة في موضوع حكمه
في مقابل الاجمال والاهمال، و (اما) كونه بصدد بيان هذا الحكم أو غيره، فلا أصل فيه
بل لابد ان يحرز وجدانا أو بدليل آخر كشواهد الحال وكيفية الجواب والسؤال
في حمل المطلق على المقيد
إذا ورد مطلق ومقيد فاما ان يكونا متكفلين للحكم التكليفي أو الوضعي، و
على التقديرين فاما ان يكونا مثبتين أو نافيين أو مختلفين، وعلى التقادير فاما ان يعلم
وحدة التكليف أو لا، وعلى الأول فاما ان يعلم وحدته من الخارج أو من نفس الدليلين،
وعلى التقادير فاما ان يذكر السبب فيهما أو في واحد منهما أو لا يذكر، وعلى الأول
74

فاما أن يكون السبب واحدا، أو لا (ثم) الحكم التكليفي اما الزامي في الدليلين أو
غير الزامي فيهما أو مختلف، وعلى التقادير قد يكون الاطلاق والتقييد في الحكم و
متعلقه وموضوعه، وقد يكونان في اثنين منهما وقد يكون في واحد، فهذه جملة
الصور المتصورة في المقام
وقبل الشروع في احكام الصور نشير إلى نكتة، وهو ان محط البحث في الاطلاق
والتقييد، وحمل أحدهما على الاخر انما هو فيما إذا ورد المقيد منفصلا عن مطلقه، و
اما المتصلين فلا مجال للبحث فيهما، لان القيد المتصل يمنع عن انعقاد الاطلاق حتى
يكون من باب تعارض المطلق والمقيد، لما عرفت: ان عدم القرينة من محققات
موضوع الاطلاق، و (بما ذكرنا) يظهر الخلط في كلام بعض الأعاظم، حيث (عمم)
البحث إلى الوصف والحال، وقال إن ملحقات الكلام كلها قرينة حاكمة على أصالة
الظهور في المطلق وقاس المتصلين بالقرينة وذي القرينة في أن ظهور القرينة حاكمة
على ذي القرينة ثم قاس المقيد المنفصل بالمتصل
قلت وفيه: اما أولا، فلان باب الاطلاق ليس باب الظهور اللفظي، حتى يقع
التعارض بين الظهورين أو يقدم ظهور المقيد على ظهور المطلق، بالحكومة، بل
الاطلاق دلالة عقلية، والحكومة (كما سيوافيك، باذنه تعالى) من حالات لسان الدليل
بان يتعرض لحال دلالة الدليل الآخر،
وثانيا: ان حكومة ظهور القرينة على ذي القرينة مما لا أساس لها، ضرورة
ان الشك في ذي القرينة لا يكون ناشيا من الشك في القرينة، إذ في قوله: رأيت أسدا
يرمى لا يكون الشك في المراد من الأسد ناشيا من الشك في المراد من يرمى كما
ادعى القائل بل الشكان متلازمان فلا حكومة بينهما.
وثالثا: ان قياس المقيد المنفصل بالمتصل، مما لا وجه له، إذ القياس مع الفارق
لان الاطلاق ينعقد مع انفصال القيد إذا أحرز كونه في مقام البيان، واما القيد المتصل
فهو رافع لموضوع الاطلاق، فلا يقاس متصله بمنفصله، واما وجه التقديم في المنفصلين
فليس لأجل الحكومة بل المطلق انما يكون حجة ان لم يرد من المتكلم بيان وبعد
75

ورود البيان ينتهى أمد الحجية لدى العقلاء وان شئت قلت: ظهور القيد في الدخالة
أقوى من المطلق في الاطلاق وهذه الأظهرية ليست لفظية بل أمرا يرجع إلى فعل
المتكلم إذا جعل شيئا موضوعا ثم اتى بقيد منفصل كما أن تقديم ظهور القرينة
على ذي القرينة للأظهرية ان مناسبات المقام لا للحكومة، وسيوافيك حقيقة القول
في هذه المباحث، في التعادل والترجيح، فتربص حتى حين
إذا عرفت ذلك، فنشرع في بيان مهمات الصور واحكامها حتى يتضح حال
غيرها.
الصورة الأولى: ما إذا كانا مختلفين بالنفي والاثبات وكان الحكم تكليفيا،
وهي على قسمين،
الأول: ما إذا كان المطلق نافيا، والمقيد مثبتا نحو قولك لا تعتق رقبة واعتق
رقبة مؤمنة بناء على أن قوله لا تعتق رقبة من قبيل المطلق لا العام كما هو المختار
فلا ريب في حمله على المقيد لتحقق التنافي بينهما عرفا، وذلك لما عرفت ان ترك
الطبيعة انما يحصل عند العرف بترك جميع افرادها وإن كان النظر الدقيق الفلسفي
يقتضى خلافه كما مر (وعليه) فالتنافي بين حرمة مطلق الرقبة أو كراهتها، وبين
وجوب المؤمنة منها أو استحبابها، ظاهر جدا والجمع العقلائي انما هو حمل مطلقها
على مقيدها،
الثاني: عكس القسم الأول أي يكون المطلق مثبتا، ومتعلقا للامر، والمقيد
نافيا ومتعلقا للنهي (فح) تارة نعلم أن النهى تحريمي أو نعلم أنه تنزيهي و (أخرى)
لا نعلم، فلو علمنا كون النهى تحريميا، فلا ريب في حمله على المقيد لكونه طريقا
وحيدا إلى الجميع في نظر العرف ولو عملنا ان النهى تنزيهي فهل يحمل على المقيد
أو لا (وجهان) أقويهما عدمه، لان الموجب للحمل هو تحقق التنافي في انظار العرف
حتى نحتال في علاجهما، ومع احراز كون النهى تنزيهيا أي مرخصا في اتيان متعلقه
فلا وجه لتوهم التنافي بل غاية الأمر، يكون النهى ارشادا إلى أرجحية الغير أو
مرجوحية متعلقه بالإضافة إلى فرد آخر، فلو قال صل ولا تصل في الحمام وفرضنا ان
76

النهى تنزيهي، فلا شك ان مفاد الثاني هو ترخيص اتيانها فيه وانه راجح ذاتا وصحيح
لمكان الترخيص، لكنه مرجوح بالإضافة إلى سائر الافراد، ولا يلزم من ذلك اجتماع
الراجحية والمرجوحية في مورد واحد لما عرفت ان المرجوحية لأجل قياسها
إلى سائر الافراد وفى المكان الخاص لا في حد ذاته، و (بذلك) يظهر النظر فيما افاده
شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فراجع.
واما إذا كان كيفية دلالته مجهولة ولم نعلم أنه للتنزيه أو للتحريم فللتوقف فيه
مجال فان كل واحد يصلح ان يقع بيانا للاخر إذ النهى كما يمكن أن يكون بيانا
لاطلاق المطلق ويقيد متعلق الأمر بمقتضى النهى، (كذلك) يصلح أن يكون
المطلق بيانا للمراد من النهى وانه تنزيهي، و (الحاصل) ان الامر دائر بين حمل
النهى على الكراهة وحفظ الاطلاق، وبين رفع اليد عن الاطلاق وحمله على المقيد
(هذا) ولكن الاظهر هو حمل المطلق على المقيد وابقاء النهى على ظهوره، لان
التنافي كما هو عرفي كذلك الجمع عرفي أيضا، ولا شك ان لحاظ محيط التشريع
يوجب الاستيناس والانتقال إلى كونهما من باب المطلق والمقيد، لشيوع ذلك
الجمع وتعارفه بينهم، واما جعل المطلق بيانا للنهي وان المراد منه هو الكراهة
فهو جمع عقلي لا يختلج بباله لعدم معهودية هذا التصرف ويمكى ان يقال إن الهيأت
بما هي معان حرفية لا يلتفت إليها الذهن حين التفاته إلى المطلق والمقيد والجمع
بينهما وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة.
واما ما ربما يقال (في ترجيح ما اخترناه) من أن ظهور النهى في التحريم وضعي
مقدم على الظهور الاطلاقي، (غير تام) لما عرفت ان الوجوب والتحريم خارجان
عن الموضوع له، وان الهيئة لم توضع فيهما الا للبعث والزجر، فأين الظهور
اللفظي.
فان قلت إن هنا وجها آخر للجمع بينهما وقد أشار إليه بعض الأعاظم وجعل
المقام من باب اجتماع الامر والنهى على القول بكون المطلق والمقيد داخلين في
ذاك الباب فلو قلنا بالجواز هناك يرفع التعارض بين المطلق والمقيد
77

قلت: الفرق بين المقامين واضح، فان التعارض هنا عرفي كجمعه، والتعارض هناك
عقلي، وجمعه أيضا كذلك و (الحاصل) ان مسألة اجتماع الامر والنهى عقلية غير
مربوطة بالجمع بين الأدلة، لان مناط الجمع بينها هو فهم العرف، ولا شبهة في
وقوع التعارض بين المطلق والمقيد عرفا، وطريق الجمع عرفي لا عقلي فلا يكون
أحد وجوه الجمع بين الأدلة، الجمع العقلي وهذا واضح.
الصورة الثانية: ما إذا كان الدليلان مثبتين إلزاميين، نحو قولك أعتق
رقبة واعتق رقبة مؤمنة (فح) إذا أحرزت وحدة الحكم فلا محيص عن الحمل لاحراز
التنافي باحراز وحدة الحكم، ووجود الجمع العرفي " نعم "، إذا كانت وحدة الحكم
غير محرزة (فتارة) يحرز كون الحكم في المطلق على نفس الطبيعة، ولا نحتمل
دخالة قيد آخر في الموضوع، غير القيد الذي في دليل المقيد، و (أخرى) نحتمل
دخالة قيد اخر، فعلى الأول يحمل المطلق على المقيد لا لما ربما يترائى في بعض
الكلمات من أن احراز التنافي لأجل ان الحكم في المقيد إذا كان الزاميا متعلقا
بصرف الوجود فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق، ومفاد دليل المطلق هو الترخيص
بعتقه وبعبارة أخرى ان مفاد دليل المقيد دخالة القيد في الحكم ومفاد دليل المطلق
عدم دخالته فيقع التنافي بينهما (انتهى)، لان التنافي بين الترخيص واللا ترخيص
، ودخالة القيد ولا دخالته، فرع كون الحكم في المقام واحدا، فلو توقف احراز
وحدته عليه، لدار (بل وجه التقديم)، هو ان ملاحظة محيط التشريع وورود
الدليلين في طريق التقنين، توجب الاطمينان بكونهما من هذا القبيل، خصوصا
تكرر تقييد المطلقات من الشارع، (نعم) الامر في المستحبات على العكس، فان
الغالب فيها كون المطلوب متعددا وذا مراتب، و (هناك) وجه آخر، وهو ان احراز
عدم دخالة قيد آخر غير هذا القيد، عين احراز الوحدة عقلا لامتناع تعلق الإرادتين
على المطلق والمقيد، لان المقيد هو نفس الطبيعة مع قيد، عينية اللا بشرط مع
بشرط شئ، فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع فيقع التنافي بينهما فيحمل
المطلق على المقيد ولا ينافي ذلك ما مر من أن ميزان الجمع بين الأدلة هو العرف
78

لان احراز وحدة الحكم انما هو بالعقل لا الجمع بين الدليلين والفرق بينهما ظاهر
واما على الثاني أي ما لم نحرز عدم دخالة قيد آخر، فيدور الامر بين حمل
المطلق علي المقيد، ورفع اليد عن ظهور الامر في استقلال البعث وبين حفظ ظهور
الامر وكشف قيد آخر في المطلق حتى يجعله قابلا لتعلق حكم مستقل به، (هذا) و
لكن الصحيح هو الأول لضعف ظهور الامر في الاستقلال ولا يمكن الاعتماد عليه
لكشف قيد اخر، (نعم) لو أحرز تعدد الحكم واستقلال البعثين لا محيص عن كشف
قيد اخر لامتناع تعلق الإرادتين بالمطلق والمقيد، وقد تقدم شرحه في مبحث
النواهي.
الصورة الثالثة: ما إذا كان الدليلان نافيين كقوله لا تشرب الخمر ولا
تشرب المسكر ولا ريب في عدم حمل مطلقه على المقيد، لعدم التنافي بينهما عرفا على -
القول بعدم المفهوم والحجة لا يرفع اليد عنها الا بحجة مثلها ولكن يمكن ان يقال
بأنه يأتي فيها ما ذكرناه في الصورة السابقة فتدبر
هذه الصور تشترك في أن الوارد إلينا، ذات المطلق والمقيد بلا ذكر سبب
واما إذا كان السبب مذكورا فلا يخلوا، اما ان يذكر في واحد منهما أو كليهما، و
على الثاني، اما ان يتحد السببان مهية أو يختلفا كذلك وعلى جميع التقادير فالحكم
فيهما اما ايجابي، أو غير ايجابي، أو مختلف، فهنا صور نشير إلى مهماتها
(منها) ما إذا كان السبب مذكورا في كلا الدليلين وكان سبب كل، غير سبب
الاخر مهية نحو قوله إن ظاهرت أعتق رقبة، وان أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة، فلا
شك انه لا يحمل لعدم التنافي بينهما، لامكان وجوب عتق مطلق الرقبة لأجل سبب، و
وجوب مقيدها لأجل بسبب آخر، (نعم) لو أعتق رقبة مؤمنة ففي كفايتها، عنهما أو عدم
كفايتها كلام مر تحقيقه في مباحث تداخل المسببات والأسباب.
و (منها) ما إذا ذكر السبب في كل واحد أيضا ولكن سبب المطلق عين سبب
المقيد مهية، فيحمل لاستكشاف العرف من وحدة السبب وحدة مسببه، و (منها)
79

ما إذا كان السبب مذكورا في واحد منهما فالتحقيق عدم الحمل، وعلله (بعض الأعاظم)
بان الحمل يستلزم الدور لان حمل المطلق على المقيد يتوقف على وحدة الحكم ففي
المثال تقييد الوجوب يتوقف على وحدة المتعلق إذ مع تعددهما لا موجب للتقييد، ووحدة
المتعلق تتوقف على حمل أحد التكليفين على الاخر، إذ مع عدم وحدة التكليف لم تتحقق
وحدة المتعلق، لان أحد المتعلقين عتق الرقبة المطلقة، والاخر عتق الرقبة المؤمنة (انتهى)
و (فيه) ان وحدة الحكم وإن كانت تتوقف على وحدة المتعلق لكن وحدة
المتعلق لا تتوقف على وحدة الحكم لا ثبوتا ولا اثباتا، اما الأول فلان وحدة الشئ
وكثرته أمر واقعي في حد نفسه تعلق به الحكم أو لا، وبما ان المقيد في المقام هو
المطلق مع قيد (فلا محالة) لا يمكن ان يقع متعلقا للإرادتين وموضوعا للحكمين
و (اما الثاني) فلان تعلق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام
الموضوع للحكم فإذا تعلق حكم بالمقيد والفرض انه نفس الطبيعة مع قيد يكشف ذلك عن
كون النسبة بين الموضوعين بالاطلاق والتقييد من غير أن يتوقف على احراز وحدة
الحكم.
بل التحقيق، ان عدم الحمل، انما هو لأجل ان المطلق حجة في موارد عدم
تحقق سبب المقيد، فقوله، أعتق رقبة، حجة على العبد على ايجاد العتق مطلقا،
ولا يجوز رفع اليد عنها بفعلية حكم قوله إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة عند تحقق
سببه وبعبارة أخرى ان العرف يرى أن هنا واجبا لأجل الظهار، وواجبا آخر من
غير سبب ولا شرط، حصل الظهار أم لا (هذا) كله راجع إلى الحكم التكليفي (واما)
الوضعي فيظهر حاله من التدبر فيه فربما يحمل مطلقه على مقيده نحو قوله لا تصل
في وبر ما لا يؤكل لحمه، ثم قال: صل في وبر السباع مما لا يؤكل، وقوله: اغسل
ثوبك من البول، وقوله: اغسله من البولين مرتين، وقد لا يحمل كما إذا قال لا تصل
فيما لا يؤكل لحمه، ثم قال: منفصلا لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه، لعدم المنافات
بين مانعية مطلق اجزائه، ومانعية خصوص وبره، بعد القول بعدم المفهوم في القيد
80

المأخوذ فيه حتى يجئ التنافي من قبله، وعليك بالتأمل في الصور الأخرى واستخراج
حكمها مما ذكر، هذا كله في الالزاميين واما غيرهما فيختلف بحسب الموارد، ولا
يهمنا تفصيله (1)
المقصد السادس
في الامارات المعتبرة عقلا أو شرعا
وينبغي تقديم الكلام في القطع إذ هو حجة عقلية وامارة بتية، والبحث عن
احكامه ليس كلاميا، بل بحث أصولي لان الملاك في كون الشيئ مسألة أصولية،
هو كونها موجبة لاثبات الحكم الشرعي الفرعي بحيث يصير حجة عليه ولا يلزم ان
يقع وسطا للاثبات بعنوانه بل يكفي كونه موجبا لاستنباط الحكم كسائر الأمارات العقلائية
والشرعية، وان شئت فاستوضح المقام بالظن، فإنه لا يقع وسطا بعنوانه
بل هو واسطة لاثبات الحكم وحجة عليه، إذ الاحكام تتعلق بالعناوين الواقعية لا
المقيدة بالظن، فما هو الحرام هو الخمر دون مظنونها، والقطع والظن تشتركان في
كون كل واحد منهما امارة على الحكم وموجبا لتنجزه وصحة العقوبة عليه مع
المخالفة إذا صادف الواقع. (أضف إلى ذلك) ان عده من مسائل الكلام لا يصح على
بعض تعاريفه: من أنه البحث عن الاعراض الذاتية للموجود بما هو هو على نهج قانون
الاسلام. إذا عرفت ذلك فلنقدم أمرين
الأول: قسم الشيخ الأعظم المكلف الملتفت إلى أقسام ومحصله: انه اما ان
يحصل له القطع أو يحصل له الظن، أو لا يحصل واحد منهما والمرجع على الأخير أي
الشك هو الأصول المقررة للشاك

(1) نجز الكلام في البحث عن مباحث الألفاظ، ونحمد الله على اتمامها وقد لاح بدر
تمامه في ليلة الرابع عشر من شهر شعبان المعظم من شهور سنة 1373 من الهجرة النبوية
وكتبه بأنامله الداثرة مؤلفه الفقير الميرزا جعفر السبحاني التبريزي ابن الفقيه الحاج
ميرزا محمد حسين عاملهما الله بلطفه يوم المساق يوم تلتف الساق بالساق آمين
81

وأورد عليه المحقق الخراساني: بان الظن ان قام دليل على اعتباره فهو ملحق
بالعلم، وان لم يقم فهو ملحق بالشك فلا يصح التثليث.
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر: بان عقد البحث في الظن انما هو لأجل تمييز
الظن المعتبر الملحق بالعلم عن غير معتبره الملحق بالشك، فلا مناص عن التثليث
حتى يبحث عن حكم الظن من حيث الاعتبار وعدمه " انتهى " ومحصله: ان التثليث توطئة
لبيان المختار. و (فيه) انه أي فرق بين هذا التقسيم، ان تثليث حالات المكلف، وما
أوضحه في مجارى الأصول فإنهما من باب واحد، فلأي وجه كان هذا التقسيم توطئيا
لبيان الحق دون ذاك؟! مع أنه لا شك ان التقسيم الثاني حقيقي لا توطئة فيه، و
الشاهد عليه تحفظ الشيخ الأعظم على قيود الأصول حيث قيد الاستصحاب بكون الحالة
السابقة ملحوظة.
على أن المجيب صنع ما صنعه الشيخ حيث قال: وانما قيدنا الاستصحاب بلحاظ
الحالة السابقة ولم نكتف بوجودها بلا لحاظها، لان مجرد وجودها لا يكفي في
كونها مجرى الاستصحاب.
ثم إن المحقق الخراساني عدل عما افاده الشيخ الأعظم فقال: فاعلم أن البالغ
الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلى واقعي أو ظاهري متعلق به أو بمقلديه
فاما ان يحصل له القطع أو لا إلى آخر ما افاده.
ويرد عليه: ان المراد إن كان هو القطع التفصيلي فالبحث عن الاجمالي منه
في المقام يصير استطراديا، ولا يرضى به القائل، وإن كان أعم، يلزم دخول مسائل الظن
والشك في المقام حتى الظن على الحكومة فإنه من مسائل العلم الاجمالي الا ان دائرته
أوسع من العلم الاجمالي المذكور في مبحث القطع، وكون دائرته أوسع غير دخيل
في جهة البحث، واما مسائل الشك فلوجود العلم بالحكم الظاهري في الأصول
الشرعية، بل بناءا عليه يمكن ادراج عامة المباحث في مبحث القطع حتى الأصول
العقلية بان نجعل متعلق القطع وظيفة المكلف فيصير المباحث مبحثا واحدا ولا
يرضى به القائل
82

والأولى ان يقال: إذ التفت المكلف إلى حكم كلي فاما ان يحصل له القطع
به ولو اجمالا أو لا والأول مبحث القطع ويدخل فيه مبحث الانسداد بناء على أن وجوب
العمل بالظن في حال الانسداد لأجل العلم الاجمالي بالحكم وكون دائرة المعلوم
بالاجمال فيه أوسع لا يضر بالمطلوب، وكذا يدخل فيه أصل الاشتغال والتخيير في غير
الدوران بين المحذورين، فإنهما أيضا من وادى العلم الاجمالي إذا تعلق العلم الاجمالي
بالحكم نعم في الدوران بين المحذورين يكون التخيير للأبدية العقلية لا العلم الاجمالي
الا إذا قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها.
وعلى الثاني فاما ان يقوم عليه امارة معتبرة أو لا فالأول مبحث الظن ويدخل
فيه ساير مباحث الاشتغال والتخيير أي فيما تعلق العلم الاجمالي بالحجة لا بالحكم
كما إذا علم بقيام حجة كخبر الثقة ونحوه اما بوجوب هذا أو ذاك وعليه يكون
أصل الاشتغال والتخيير خارجان عن مبحث الشك وداخلان في مبحث القطع والظن وعلى
الثاني اما أن يكون له حالة سابقة ملحوظة أو لا فالأول مجرى الاستصحاب والثاني
مجرى البراءة
وعلى هذا التقسيم يجب البحث عن الانسداد في مبحث القطع إن كان من
مقدماته العلم الاجمالي بالأحكام الواقعية وفى مبحث الامارات إن كان من مقدماته
العلم الاجمالي بالحجة
ويمكن المناقشة في هذا التقسيم أيضا بان الأولى أن يكون التقسيم في صدر
الكتاب اجمال ما يبحث فيه في الكتاب تفصيلا وعليه لا يناسب التقسيم حسب المختار
في مجارى الأصول وغيرها والامر سهل
ثم إن احكام القطع الاجمالي المتعلق بالحكم أو الحجة مختلفة لكونه علة تامة
أولا وجواز الترخيص في الأطراف أو بعضها أولا يأتي الكلام فيه انشاء الله وقد استقصينا
الكلام في الفرق بين تعلق العلم الاجمالي بالحكم وتعلقه بالحجة في مبحث الاشتغال
وطوينا الكلام فيما افاده سيدنا الأستاذ في المقام روما للاختصار فراجع
الأمر الثاني: قال الشيخ الأعظم: لا اشكال في وجوب متابعة القطع والعمل
83

عليه ما دام موجودا " انتهى " ولا يخفى ان للمناقشة فيما ذكره مجال، لان المكلف
إذا قطع بحكم سواء حصل القطع به من المبادى البرهانية أم غيرها يحصل في نفسه امران
الصفة النفسانية القائمة بها، وانكشاف الواقع انكشافا تاما، فإن كان المراد
من لزوم العمل على طبق القطع، العمل على طبق الحالة النفسانية، فلا يعقل له معني
محصل، وإن كان المراد العمل على طبق المقطوع والواقع المنكشف، فليس هو من
احكام القطع بل مآله إلى لزوم إطاعة المولى الذي يبحث عنه في الكلام (أضف إليه)
ان الوجوب الشرعي غير متعلق بالإطاعة، للزوم العقوبات غير المتناهية
والذي ينبغي ان يقع محط البحث وان يعد من آثار القطع ان يقال: إن القطع
موجب لتنجز الحكم وقطع العذر، لأنه كاشف في نظر القاطع بلا احتمال الخلاف، و
هذا كاف في حكم العقل والعقلاء بالتنجز وصحة الاحتجاج وهذا أعني: انقطاع العذر
وصحة الاحتجاج من آثار القطع نفسه يترتب عليه بلا جعل جاعل
واما ما يقال: إن الطريقية والكاشفية من ذاتيات القطع لا بجعل جاعل إذ
لا يتوسط الجعل التأليفي الحقيقي بين الشئ وذاتياته كما أنه يمتنع المنع عن العمل
به لاستلزامه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا وحقيقة في صورة الإصابة ففيه،: ان
الذاتي في باب البرهان أو الايساغوجى، ما لا ينفك عن ملزومه ولا يفترق عنه والقطع
قد يصيب وقد لا يصيب، ومعه كيف يمكن عد الكاشفية والطريقية من ذاتياته، والقول
بأنه في نظر القاطع كذلك، لا يثبت كونها من لوازمه الذاتية لان الذاتي لا يختلف في
نظر دون نظر، واما احتجاج العقلاء فليس لأجل كونه كاشفا على الاطلاق، بل لأجل
ان القاطع لا يحتمل خلاف ما قطع به وقس عليه الحجية فان صحة الاحتجاج، من الاحكام
العقلائية لا من الواقعيات الثابتة للشيئ جزءا أو خارجا.
فتلخص: ان الطريقية والكاشفية ليست عين القطع ولا من لوازمه واما
الحجية فلا تقصر عنهما، في خروجها عن حريم الذاتية، غير أن الحجية تفترق عن
الطريقية بأنها من الأحكام العقلية الثابتة له عند العقلاء، ولأجل ذلك تستغنى عن الجعل
واما ما ذكر من قيام البرهان على امتناع الجعل التأليفي الخ فيحتاج إلى التفصيل
84

وهو ان الكشف من آثار وجود القطع لا من لوازم مهيته، وآثار الوجود مطلقا مجهولة
لان مناط الافتقار إلى الجعل موجود في الوجود وآثاره وعليه فان أريد من
امتناع الجعل، هو الجعل التكويني فلا نسلم امتناعه بل لا يصح بدونه بناءا على أصالة
الوجود ومجعوليته، وان أريد الجعل التشريعي فلو سلمنا كون هذه العناوين الثلاثة
من لوازم وجوده، فهو صحيح فان الجعل التشريعي لا يتعلق بما هو لازم وجود
الشيئ فلا معنى لجعل النار حارة تشريعا لا لان الحرارة من لوازم ذاتها، بل لأنها من لوازم
وجودها المحققة تكوينا بوجود الملزوم، والقطع حسب الفرض طريق تكويني
وكاشف بحسب وجوده، ولا يتعلق الجعل التشريعي به للزوم اللغوية، نعم الحجية و
قاطعية العذر ليستأمن الآثار التكوينية المتعلقة للجعل، ولا من لوازم الماهية بل من الأحكام العقلية
الثابتة بوجوده
ثم إن الردع عن العمل بالقطع كسلب الحجية غير ممكن، لا للزوم اجتماع
الضدين لما قررناه في محله من عدم الضدية بين الاحكام، لأنها أمور اعتبارية لا
حقايق خارجية، بل للزوم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد، لان
الإرادة الحتمية الايجابية بالنسبة إلى صلاة الجمعة مثلا لا تجتمع مع الإرادة التحريمية
بالنسبة إليها، وكذا لا تجتمع مع المنع عن العمل بالقطع اللازم منه المنع عن
العمل بالمقطوع به فيلزم اجتماع الإرادتين المتضادتين على شئ واحد مع فرض
حصول سائر الوحدات.
القول في التجري
والبحث فيه عن جهات: الأولى: ربما يتوهم ان المسألة أصولية بتقريب
ان البحث إذا وقع في أن ارتكاب الشئ المقطوع حرمته، هل هو قبيح أو لا، فإذا
حكم بقبحه، يحكم بالملازمة بحرمة عمله شرعا فيصير نتيجة البحث كبرى لمسألة
فرعية. وفيه: اما أولا: ان هذه القاعدة لو تمت انما تصح في سلسلة علل الاحكام
85

ومباديها كالمصالح والمفاسد، لا في سلسلة معاليلها، كالإطاعة والعصيان، وقبح
مخالفة القاطع لقطعه انما هي في سلسلة المعاليل والنتائج دون العلل والمقدمات
واختصاص القاعدة لما ذكر واضح، إذ لو كان حكم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة
العصيان كاشفا عن حكم مولوي شرعي لزم عدم انتهاء الاحكام إلى حد ولزم تسلسل
العقوبات في معصية واحدة.
وبالجملة: ان لازم شمول القاعدة لموارد المعاليل، القول باشتمال معصية
واحدة على معصيتين، والا طاعة على طاعتين، إحديهما لأجل مخالفة نهى المول و
امره أو موافقته وثانيهما لأجل موافقة الامر المستكشف من حكم العقل بإطاعة
المولى أو مخالفته، وبما ان العقل يحكم بوجوب إطاعة الامر المستكشف وحرمة
مخالفته كالأول فله إطاعة وعصيان وهكذا فلا يقف عند حد.
ومثله المقام فان قبحه لا يستلزم حكما شرعيا، لأنه لو كان فهو بملاك
الجرئة على المولى المحققة في المعصية أيضا: فيلزم عدم تناهى الاحكام والعقوبات
في التجري
واما ثانيا: فلان المسألة الأصولية هي الملازمة بين القبح العقلي والحرمة
الشرعية، واما البحث عن أن التجري هل هو قبيح أو لا، فهو بحث عن مبادئ المسألة
الأصولية.
ومن ذلك يظهر: عدم صحة عدها مسألة فقهية، لعدم صحة تعلق حكم شرعي بحرمته
لكونه على فرض صحته بمناط الجرئة الحاصلة في المعصية، فيلزم ما تقدم من عدم
التناهى وذلك لان التجري إذا كان حراما يكون مخالفة هذا الحرام تجريا حراما
ومخالفة ذلك كذلك، فلا ينتهى عدد التجري والحرام إلى حد وهذا نظير ما يقال إن
الإطاعة لو وجبت يكون إطاعة هذا الواجب واجبا وهكذا
ثم إن بعض أعاظم العصر أفاد وجها آخر لعقد المسألة أصولية وهو: ان البحث
إذا وفع في أن الخطابات الشرعية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته تصير
المسألة أصولية. و (فيه) ان لازمه ادراج جل المسائل الفقهية في الأصولية إذ قلما
86

يتفق في مسألة من المسائل الفقهية ان لا يرجع البحث عن الاطلاق والعموم إلى شمولهما
لبعض الموضوعات المشكوكة فيها.
والحاصل ان المسألة الأصولية هو ان العموم أو الاطلاق حجة أو لا مثلا واما
البحث عن وجودهما فليس مسألة أصولية.
ثم إنه يظهر من المحقق الخراساني امتناع تعلق الحرمة على المقطوع به
بما هو مقطوع وخلاصة ما افاده في حاشية الفرائد وكفايته: ان الفعل المتجرى به
أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون فعلا اختياريا. فان القاطع
لا يقصده، الا بما قطع انه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطاري الالى
بل لا يكون غالبا بهذا العنوان ملتفتا إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح
عقلا، ومن مناطات الوجوب والحرمة شرعا " انتهى "
وهو بما ذكره بصدد نفى الحرمة عن الفعل المتجرى به بما هو مقطوع ويستفاد
منه بالملازمة حكم ما نحن بصدده من عدم الملاك لجعل المسألة فقهية وأوضح
مرامه في حاشيته بان المتجرى قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلا لان ما وقع لم يقصد و
ما قصد لم يقع
وفيه أولا: ان انكار صدور الفعل الاختياري منه واضح الايراد، إذ ليس الفعل الارادي
الا كون الفعل مسبوقا بالعلم والإرادة، وثانيا ان ما ذكره من عدم الالتفات إلى العلم
والقطع، لا يخلو عن اشكال، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر من أن الالتفات إلى
العلم من أتم الالتفاتات، فإنه أشبه بالخطابة، لان الضرورة قاضية بان القاطع
لا يتوجه حين قطعه الا إلى المقطوع به وليس القطع موردا للالتفات الا آليا، بل
الاشكال فيه ان العناوين المغفول عنها على قسمين.
أحدهما ما لا يمكن الالتفات إليها ولو بالنظرة الثانية كعنوان النسيان
والتجري،
وثانيهما ما يمكن الالتفات إليها كذلك كعنوان القصد والعلم، فالأول لا يمكن
اختصاص الخطاب به، فلا يمكن ان يقال أيها الناسي الجزء الفلاني افعل كذا، فإنه
87

بنفس هذا الخطاب يخرج عن العنوان ويندرج في العنوان المضاد له
نعم يمكن الخطاب بالعناوين الملازمة مع وجوده واما ما كان من قبيل الثاني
فلا مانع من تعلق الخطاب به، فان العالم بالخمر بعدما التفت إلى أن معلومه بما
هو معلوم، له حكم كذا، يتوجه بالنظرة الثانية إلى علمه توجها استقلاليا وناهيك
وقوع القصد وأشباهه موضوعا للأحكام، فان قاصد الإقامة في مكان معين
له بحسب الشرع، احكام مع أن نسبة القصد إلى المقصود كنسبة العلم إلى
المعلوم.
ثم إنه يظهر عن بعض أعاظم العصر وجها آخر بل وجهين لامتناع عمومية
الخطاب صورة المصادفة والمخالفة بان يقال لا تشرب معلوم الخمر مع تعلق خطاب
بالخمر الواقعي أيضا ولكن المقرر (ره) قد خلط بينهما، وحاصل الوجه الأول ان
تعلق الحكم بالمقطوع به موجب لاجتماع المثلين في نظر العالم دائما وان لم يلزم في
الواقع لان النسبة بين الخمر ومقطوعه هي العموم من وجه فيتأكد الوجهان في صورة
الاجتماع.
وحاصل الوجه الثاني لغوية الخطاب لعدم صلاحية ذلك الامر للباعثية بحيال
ذاته لعدم افتراق لعنوانين وذلك لان حكم الخمر إن كان محركا فلا نحتاج
لمحرك آخر والا فلا ينبعث من ذلك الامر أيضا.
ولا يخفى ان في كلامه مجالا للنظر اما الأول فلانه لا مجال لجعل المقام من
قبيل اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما، بعدما اعترف ان النسبة بين العنوانين
هي العموم من وجه، فان القاطع قديري اجتماع العنوانين عنده مع تصديقه بأنهما
عامان من وجه، لان مقطوع الخمرية قد يكون خمرا وقد لا يكون، ولو بالنسبة
إلى سائر القاطعين، فعدم احتمال تخلف قطعه لا يوجب اعتقاد اجتماع المثلين على
العنوانين، بل يوجب اعتقاد تصادق العنوانين حال قطعه
اما الثاني، فلان المراد ليس انبعاث كل فرد من المكلفين من هذا الخطاب، بل
88

المراد انبعاث عدة منهم، ومن المعلوم ان العبد ربما لا ينبعث عن أمر واحد،
وينبعث عن أمرين أو أكثر، لما يرى من شدة تبعاته، وصعوبة لوازمه، لما يرى،
ان تخلف الامرين يورث عقابين فيصير ذلك داعيا لاطاعته أو اجتنابه، فتخلص بما مر
ان المسألة عقلية صرفة
الجهة الثانية: في استحقاق المتجرى العقوبة وعدمه. ولا يخفى ان مجرد قبحه
عقلا لا يستتبع الحرمة، إذ لا ملازمة بين قبح شئ واستلزامه العقوبة، فان ترجيح
المرجوح قبيح ولا يوجب العقاب، وكذا كثير من القبايح العقلية أو العقلائية،
إذا لم يرد فيها نهى أو لم ينطبق عليها عناوين محرمة أو لم يدرك العقل صحة عقوبة
مخالفته.
فان قلت يمكن ادعاء الملازمة بين القبح والعقاب، فيما إذا ارتكب قبيحا
يرجع إلى دائرة المولوية والعبودية، ولا شك في أن ارتكاب ما لا يجوز ارتكابه العقل
في تلك الدائرة ويعد تركه من شؤون العبودية، يستلزم العقوبة
قلت غاية الأمر كون ذلك موجبا للوم والكشف عن سوء السريرة واما العقاب
فلا ولهذا لم يحكم العقلاء بصحة العقاب على مقدمات الحرام زائدا على نفس الحرام ولا
على الحرام مرتين تارة للتجري واخرى للمخالفة كما يأتي الكلام فيه والالتزام
بالتفكيك بان يقال مع الإصابة لا يستحق الا على المخالفة ولا ينظر إلى تجريه
ومع التخلف يستحق على التجري لصرورته منظورا فيه غير وجيه لأن عدم كون الشئ
منظورا فيه لا يوجب رفع القبح واستحقاق الواقعيين وعلى أي حال فلابد من لحاظ حكم
العقل من حيث استحقاقه للعقوبة لأجل ارتكاب ذلك الفعل مستقلا من غير قناعة
على حكمه بالقبح، كما لابد من لحاظه مجردا عن كل العناوين الخارجة عن ذاته حتى
لا يختلط الامر فنقول:
ان بين التجري والمعصية جهة اشتراك، وجهة امتياز، اما الثاني فيمتاز التجري
عنها في انطباق عنوان المخالفة عليها دونه ولا اشكال في حكم العقل بقبح مخالفة
أمر المولى ونهيه مع الاختيار، والعقلاء مطبقون على صحة بالمؤاخذة على مخالفة
89

المولى بترك ما امره، وارتكاب ما نهى عنه، ولا ريب ان تمام الموضوع في التقبيح
هو المخالفة فقط من غير نظر إلى عناوين اخر، كهتكه وظلمه وخروجه عن رسم
العبودية إلى غير ذلك، كما انها تمام الموضوع أيضا عند العقلاء الذين أطبقوا على صحة
مؤاخذة المخالف من غير فرق فيما ذكرنا بين أن يكون نفس العمل مما يحكم العقل
بقبحه مستقلا كالفواحش أو لا كصوم يوم العيد والاحرام قبل الميقات، (والحاصل) ان
العقل إذا لاحظ نفس مخالفة المولى عن اختيار يحكم بقبحه مجردة عن كافة العناوين
من الجرأة وأشباهها
واما الأول أعني الجهة المشتركة بينهما فهي الجرأة على المولى والخروج من
رسم العبودية وزي الرقية والعزم والبناء على العصيان وأمثالها
واما الهتك فليس من لوازم التجري ولا المعصية فان مجرد المخالفة أو التجري
ليس عند العقلاء هتكا للمولى وظلما عليه
وعند ذلك يقع البحث في أن التجري هل هو قبيح عقلا أو لا، وعلى فرض قبحه هل
هو مستلزم للعقاب أو لا لما عرفت من عدم الملازمة بين كون الشئ قبيحا وكونه
مستلزما للعقوبة والذي يقوى في النفس سالفا وعاجلا عدم استلزامه للعقوبة، سواء
قلنا بقبحه أم لا، والشاهد عليه، انه لو فرض حكم العقل بقبح التجري واستحقاق العقوبة
عليه فليس هذا الحكم بملاك يختص بالتجري ولا يوجد في المعصية، بل لو فرض حكمه
بالقبح وصحة المؤاخذة، فلابد أن يكون بملاك مشترك بينه وبين المعصية كأحد العناوين
المتقدمة المشتركة، ولو كانت الجهة المشتركة بينهما ملاكا مستقلا للقبح واستحقاق
العقوبة، لزم القول بتعدد الاستحقاق في صورة المصادفة، لما عرفت ان مخالفة المولى علة
مستقلة للقبح والاستحقاق، فيصير الجهة المشتركة ملاكا مغايرا، موجبا لاستحقاق آخر
واما ما افاده بعض محققي العصر فرارا عن الالتزام بتعدد الاستحقاق، من أن
الموضوع لحكم العقل في العصيان ليس مخالفة المولى، بل الهتك والجرئة
عليه أو العزم على العصيان أو الطغيان وغيرها مما هي جهات مشتركة وعند وحدة
90

الملاك، يصير العقاب واحدا، غير مفيد: لما عرفت من أن العقل إذا جرد النظر عن
تمام القيود والملاكات، ونظر إلى نفس ذاك العنوان أعني مخالفة المولى عن
اختيار، لحكم بالقبح وصحة العقوبة، فلو كان هذا عنوانا مستقلا وذاك أعني أحد
هذه العناوين المشتركه بين المقامين، عنوانا مستقلا آخر لزم القول باستحقاق
عقابين، مع أن العقل والعقلاء يحكمان على خلافه، فان العاصي لا يستحق الا عقابا
واحدا لأنه لم يرتكب الا قبيحا واحدا وهو ارتكاب المنهى عنه مع العمد والاختيار
واما العزم على العصيان والجرئة على المولى فهما واشباههما من الافعال
الجنانية التي لا تستلزم الا الذم واللوم، ولو فرضنا قبح التجري، فقد عرفت في
صدر البحث، ان مجرد كونه أمرا قبيحا لا يستلزم الاستحقاق للعقوبة واما حديث
التداخل، فهو لا يرجع إلى محصل.
الجهة الثالثة الظاهر أن الفعل المتجرى به لا يخرج عما هو عليه، ولا يصير فعلا
قبيحا ولو قلنا بقبح التجري، فان توهم قبحه لو كان بحسب عنوانه الواقعي فواضح -
الفساد فان الفعل الخارجي أعني شرب الماء ليس بقبيح، وإن كان لأجل انطباق
عنوان قبيح عليه، فليس هنا عنوان ينطبق عليه حتى يصير لأجل ذلك الانطباق متصفا
بالقبح فان ما يتصور هنا من العناوين فإنما هي التجري والطغيان والعزم وأمثالها،
ولكن التجري وأخويه من العناوين القائمة بالفاعل والمتصف بالجرئة انما هو النفس
والعمل يكشف عن كون الفاعل جريئا، وليس ارتكاب مقطوع الخمرية نفس
الجرئة على المولى بل هو كاشف عن وجود المبدء في النفس وقس عليه الطغيان والعزم
فإنهما من صفات الفاعل لا الفعل الخارجي.
واما الهتك والظلم، فهما وان كانا، ينطبقان على الخارج، الا انك قد عرفت
عدم الملازمة بينهما وبين التجري، فتحصل ان الفعل المتجرى به باق على عنوانه
الواقعي، ولا يعرض له عنوان قبيح.
نعم لو قلنا بسراية القبح إلى العمل الخارجي، الكاشف عن وجود هذه المبادى
في النفس فلا باس بالقول باجتماع الحكمين لأجل اختلاف العناوين، ولا يصير المقام
91

من باب اجتماع الضدين، فان امتناع اجتماع الضدين، يرتفع باختلاف المورد، وقد
وافاك بما لا مزيد عليه، ان مصب الاحكام وموضوعاتها انما هي العناوين والحيثيات
فلا اشكال لو قلنا بإباحة هذا الفعل أعني شرب الماء بما انه شرب وحرمته من أجل
الهتك والتجري والطغيان، فالعنوانان منطبقان على مصداق خارجي، والخارجي،
مصداق لكلا العنوانين، وهما مصبان للأحكام على ما أوضحناه في مبحث
الاجتماع.
واما ما ربما يقال في دفع التضاد: من أن العناوين المنتزعة عن مرتبة الذات مقدمة
على العناوين المنتزعة عن الشئ بعدما يقع معروضة للإرادة فان المقام من هذا القبيل
فان شرب الماء ينتزع عن مرتبة الذات للفعل، واما التجري فإنما ينتزع عن الذات
المعروضة للإرادة، ونظير المقام، الإطاعة، فإنها متأخرة عن ذات العمل. فغير
مفيد لان القياس مع الفارق، فان الإرادة لم تتعلق الا باتيان ما هو مقطوع
الحرمة، والتجري منتزع عن إرادة اتيان ما هو مقطوع الحرمة أو منتزع من اتيانه،
وإرادة اتيانه أو نفس اتيانه الذي ينتزع منهما التجري، ليسا متأخرين عن عنوان
شرب الماء بحسب الرتبة، (والحاصل) ان الإرادة لم تتعلق بشرب الماء حتى تتأخر
عن الشرب، ويتأخر عنوان التجري عن هذه الإرادة، تأخر المنتزع عن منشأ
انتزاعه، وهذا بخلاف الطاعة المتأخرة عن الإرادة والامر، وهما متأخران عن عنوان
الذات أعني الصلاة والصوم.
ثم إن القوم فتحوا هنا بابا واسعا للبحث عن الإرادة وملاك اختياريتها واختيار
الافعال الصادرة عنها، وبما انا قد استوفينا حق المقال فيهما عند البحث عن اتحاد
الطلب والإرادة فالأولى ترك الكلام روما للاختصار. (1)

(1) فقد أفردنا لما افاده سيدنا الأستاذ في هذه المباحث من الحقايق الراهنة و
الكنوز العلمية، رسالة مفردة، وعلقنا عليها بعض التعاليق وهى جاهزة للطبع.
92

في أقسام القطع
فهيهنا مطالب:
الأول في أقسام القطع. نقول إن القطع قد يتعلق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم
أو حكم شرعي متعلق بموضوع مع قطع النظر عن القطع.
ويشترك الكل في أن القطع كاشف دائما في نظر القاطع، واما توضيح
الأقسام فيحتاج إلى تقديم أمر. وهو ان العلم من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة
فله قيام بالنفس قيام صدورا وحلول على المسلكين، وإضافة إلى المعلوم بالذات
الذي هو في صقع النفس إضافة ايجاد، وإضافة إلى المعلوم بالعرض المحقق في الخارج
وما ذكرنا من قيام العلم بالنفس وان الصورة المعلومة بالذات فيها أيضا،
انما يصح على عامة الآراء المذكورة في الوجود الذهني، نعم على القول المنسوب
إلى الإمام الرازي، من أن حقيقة العلم، هو إضافة النفس إلى الخارج بلا وساطة صورة
أخرى، لا يصح القول، بقيام الصورة المعلومة بالنفس، إذ ليس هنا شيئا وراء
الصورة المحققة في الخارج، حتى نسميه علما ومعلوما بالذات، بل حقيقة العلم
على هذا المسلك، ليس الا نيل النفس الأمور الخارجية بالإضافة إليها لا بالحصول فيها
وبذلك يظهر ان ما افاده بعض أعاظم العصر: من قيام العلم بالنفس من دون
فرق بين ان نقول إن العلم من مقولة الكيف أو مقولته الفعل أو الانفعال أو الإضافة، لا يخلو عن
مناقشة.
ثم إن للقطع جهات ثلثة جهة قيامه بالنفس وصدوره منها أو حلوله فيها
، وعلى الجملة كونه من الأوصاف النفسانية مثل القدرة والإرادة، والبخل وأمثالها
وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الامارات، وجهة كمال الكشف و
تمامية الارائة المختصة به المميزة إياه عن الامارات.
ثم هذه الجهات، ليست جهات حقيقية حتى يستلزم تركب العلم من هذه
الجهات، وانما هي تحليلات عقلانية، وجهات يعتبرها العقل بالمقايسات،
93

كتحليل البسائط إلى جهات مشتركة وجهات مميزة، مع أنه ليس في الخارج
الا شئ واحد بسيط، وتجد نظير ذلك في حقيقة التشكيك الموجود في أصل الوجود
فان الوجود مع كونه بسيطا، ينقسم إلي شديد وضعيف، ولكن الشديد ليس
مؤلفا من أصل الوجود والشدة، ولا الضعيف من الوجود والضعف بل حقيقة الوجود
في عامة الموارد بسيطة لا جزء لها، الا ان المقايسة بين مراتبه، موجبة لانتزاع
مفاهيم مختلفة عنه ثم إن القطع قد يكون طريقا محضا، وقد يؤخذ في الموضوع، و
المأخوذ في الموضوع تربو إلى أقسام ستة.
الأول والثاني، اخذه تمام الموضوع أو جزئه بنحو الوصفية أي بما انه شئ
قائم بالنفس ومن نعوتها وأوصافها مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع، الثالث و
الرابع اخذه في الموضوع على أن يكون تمام الموضوع أو جزئه بنحو الطريقية
التامة والكشف الكامل، الخامس والسادس، جعله تمام الموضوع أو جزئه، على
نحو أصل الكشف الموجود في الامارات أيضا.
ثم إن بعض الأعاظم أنكر جواز اخذ القطع الطريقي تمام الموضوع قائلا: ان
اخذه تمام الموضوع يستدعى عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه،
واخذه على وجه الطريقية يستدعى لحاظ ذي الصورة وذي الطريق ويكون النظر في
الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم.
قلت: الظاهر أن نظره في كلامه هذا إلى امتناع اجتماع هذين اللحاظين فان
الطريقية يستدعى أن يكون القطع ملحوظا آليا غير استقلالي، بل الملحوظ استقلالا
هو الواقع المقطوع به واخذه تمام الموضوع، يستدعى لحاظ القطع استقلالا غير آلى
وهذا ان اللحاظان لا يجتمعان.
أقول يرد عليه، مضافا إلى عدم اختصاص الاشكال (ح) بما إذا كان القطع تمام
الموضوع بل يعم صورة اخذه بعض الموضوع، لامتناع الجمع بين اللحاظين المتغايرين
ان الامتناع على فرض تسليمه انما يلزم لو جعل الجاعل قطعه الطريقي تمام الموضوع
لحكمه، واما لو جعل قطع الغير، الذي هو طريقي، تمام الموضوع لحكمه، فلا يلزم ما
94

ما ادعاه من المحال، وهل هذا الا خلط بين اللاحظين
فان قلت لعل مراده من الامتناع هو ان الجمع بين الطريقية وتمام الموضوع
يستلزم كون الواقع دخيلا، وعدم كونه دخيلا، فان لازم الطريقية، دخالة الواقع
في حدوث الحكم، وكون القطع تمام الموضوع يستلزم دوران الحكم مداره
من دون دخالة للواقع
قلت مضافا إلى أنه خلاف ظاهر كلامه ان اخذ القطع تمام الموضوع على وجه
الطريقية، ينافي دخالة الواقع حتى يلزم ما ذكره، بل المراد لحاظ القطع بما ان له
وصف الطريقية والمرأتية من بين عامة أوصافه ولا يستلزم هذا دخالة الواقع كما
هو واضح.
الثاني: انك قد عرفت ان القطع قد يتعلق بموضوع خارجي فيأتي فيه الأقسام
المذكورة، وقد يتعلق بحكم شرعي فيقع الكلام تارة في اخذه موضوعا لحكم
غير ما تعلق به العلم مما يخالفه أو يماثله أو يضاده، واخرى في اخذه موضوعا لنفس الحكم
الذي تعلق به، فنقول: اما الأول.
لا اشكال في امكان اخذه تمام الموضوع وجزئه في حكم يخالفه كما إذا رتب
على العلم بوجوب صلاة الجمعة وجوب التصدق انما الاشكال في اخذه كذلك لما يماثله
أو يضاده، والذي يمكن أن يكون مانعا أمور نشير إليها.
منها: كونه مستلزما لاجتماع الضدين أو المثلين
وفيه انه قد مر بما لا مزيد عليه في مبحث النواهي ان الاحكام ليست من الأمور
الوجودية الواقعية، بل من الاعتباريات، وقد عرف الضدان بأنهما الأمران الوجوديان
غير المتضائفين المتعاقبان على موضوع واحد لا يتصور اجتماعهما فيه، بينهما غاية
الخلاف، فما لا وجود لها الا في وعاء الاعتبار لا ضدية بينها، كما لا ضدية بين أشياء
لا حلول لها في موضوع ولا قيام لها به قيام حلول وعروض.
ومن ذلك الباب عدم تضاد الاحكام لأجل ان تعلق الاحكام بموضوعاتها و
متعلقاتها، ليس حلوليا، عروضيا، نحو قيام الاعراض بالموضوعات، بل قيامها بها
95

قيام اعتباري لا تحقق لها أصلا فلا يمتنع اجتماعها في محل واحد، ولذا يجوز الامر و
النهى بشئ واحد من جهة واحدة من شخصين أو شخص واحد مع الغفلة، ولو كان بينها تضاد،
لما صار ممكنا مع حال الغفلة، وما ذكرنا يظهر حال المثلية.
ومنها: اجتماع المصلحة والمفسدة، وفيه: لا مانع من كون موضوع
ذا مصلحة من جهة، وذا مفسدة من جهة أخرى، والجهتان متحققتان في المقام، فيمكن
أن يكون ذا مصلحة حسب عنوانه الذاتي، وذا مفسدة عند كونه مقطوعا
أو مظنونا.
ومنها: انه يستلزم اجتماع الكراهة والإرادة، والحب والبغض، وفيه ان
هذا انما يرد، لو كان الموضوع للحكمين المتضادين، صورة وحدانية، له صورة
واحدة في النفس، واما مع اختلاف العناوين، تكون صورها مختلفة، ولأجل اختلافها
تتعلق الإرادة بواحدة منها، والكراهة بصورة أخرى، وليست الصور الذهنية مثل
الموضوعات الخارجية حيث إن ذات الموضوع الخارجي محفوظة مع اختلاف
العناوين بخلاف الصور الذهنية، فان الموضوع مع كل عنوان، له صورة على حدة
(فتأمل لما سيجئ من التفصيل).
ومنها: لزوم اللغوية في بعض الموارد أعني إذا أحرز ان المكلف ينبعث
عند حصول القطع بحكم من احكام المولى، فجعل حكم آخر مثله، لغو لا يترتب
عليه الانبعاث في هذه الصورة نعم لو أحرز ان المكلف لا ينبعث الا إذا تعلق أمر آخر
على المحرز المقطوع فلا يلزم اللغوية، بل يكون لازما
وفيه: ان ما ذكره صحيح في الاحكام الجزئية والخطابات الشخصية، دون
الاحكام الكلية، فتعلقها مطلقا لا يكون لغوا لعدم احراز الاتيان أو عدمه، بل المحقق
اختلاف المكلفين في ذلك المقام، فرب مكلف لا ينبعث الا عن أمرين أو أزيد،
وعليه لا باس لجعل آخر مماثل لما تعلق به، لأجل حصول الانبعاث في بعض
المكلفين.
ومنها: لزوم الامر بالمحال، فإنه مضافا إلى أنه يستلزم لغوية جعل الحرمة للخمر
96

، إذا فرضنا ان الخمر حرام فإذا قطع بحرمة الخمر يصير مقطوع الحرمة مرخصا
فيه، يستلزم ذلك الامر بالمحال، فان الامتثال في هذه الصورة، غير ممكن (و
سيجئ دفعه في آخر البحث)،
ومع ذلك كله فالحق التفصيل بين كونه تمام الموضوع للحكم المضاد والمماثل
، وبين كونه بعض الموضوع، بالجواز في الأول والامتناع في الثاني، لان مصب
الحكم المضاد الثانوي، انما هو عنوان المقطوع بلا دخالة الواقع فيه، وهو مع
عنوان الواقع عموم من وجه، ويتصادق على الموضوع الخارجي أحيانا وقد أوضحنا
في مبحث النواهي ان اجتماع الحكمين المتضادين (حسب اصطلاح القوم) في
عنوانين مختلفين متصادقين علي مورد واحد، مما لا اشكال فيه.
والحاصل: انه إذا جعل الشارع القطع تمام الموضوع لحكم من الاحكام،
سواء ماثل حكم المتعلق أو ضاده، بان قال: الخمر المقطوع الحرمة حرام شربها، أو واجب
الارتكاب، فلا يلزم اجتماع المثلين، لان النسبة بين مقطوع الخمرية، أو مقطوع
الحرمة، والخمر الواقعي، أو الحرمة الواقعية عموم من وجه، وإذا انطبق كل واحد
من العنوانين على المايع الخارجي، فقد انطبق، كل عنوان على مصداقه أعني
المجمع، وكل عنوان يترتب عليه حكمه، بلا تجاوز الحكم عن عنوانه إلى عنوان
آخر، فإذا قال أكرم العالم، ثم قال أكرم الهاشمي، وأنطبق العنوانان على رجل
عالم هاشمي، فالحكمان ثابتان على عنوانهما، وعلى ما هو مصب الاحكام، من غير أن
يتجاوز عن موضوعه وعنوانه المأخوذ في لسان الدليل، إلى عنوان آخر، حتى يصير
الموضوع واحدا، وتحصل غائلة الاجتماع، ولا يسرى الاحكام من عناوينها إلى مصاديقها
الخارجية، لما حققناه من أن الخارج ظرف السقوط دون العروض، فلا مناص
عن القول بثبوت الحكم على عنوانه، وعدم سرايته إلى عنوان آخر، ولا إلى
الخارج.
هذا إذا كان القطع تمام الموضوع، واما إذا كان جزء الموضوع فينقلب النسبة
وتصير النسبة بيس الموضوعين الحاملين لحكمين متماثلين أو متضادين، عموما وخصوصا
97

مطلقا، وقد قرر في محله خروجه عن مصب البحث في مبحث الاجتماع والامتناع، وان الحق
فيه الامتناع فراجع.
لا يقال: المفروض ان العنوانين مختلفان في هذا القسم أيضا، فلو كان التغاير
المفهومي كافيا في رفع الغائلة فليمكن مجديا مطلقا،
لأنا نقول: فكم فرق بين التغايرين، فان التغاير في العموم من وجه حقيقي،
والتقارن مصداقي، واما الاخر، فالمطلق عين المقيد، متحد معه، اتحاد اللابشرط
مع بشرط شئ كما أن المقيد عين المطلق زيد عليه قيد، فلو قال أكرم هاشميا، ثم قال أكرم
هاشميا عالما، فلو لم يحمل مطلقه على مقيده، لزم كون الشئ الواحد موردا
للطلبين والإرادتين، إذ الهاشمي، عين الهاشمي العالم.
نعم قد ذكرنا وجها لصحة جعله مورد النزاع، ولكن قد زيفناه في محله.
وبذلك يظهر دفع عامة المحذورات فيما جوزناه، وقد عرفت دفع بعض منها وبقى
لزوم اللغوية في الحكم المماثل، والامر بالمحال في الحكم المضاد
فنقول اما الأول، فلان الطرق إلى اثبات الحكم أو موضوعه كثيرة، فجعل
الحرمة على الخمر، والترخيص على معلوم الخمرية أو معلوم الحرمة لا توجب اللغوية
لامكان العمل بالحكم الأول لأجل قيام طرق اخر،
واما لزوم الامر بالمحال، فلان أمر الامر ونهيه، لا يتعلق الا بالممكن وعروض
الامتثال في مرتبة الامتثال كباب التزاحم لا يوجب الامر بالمحال كما حقق في محله
وبذلك يظهر حال الظن جوازا وامتناعا.
بقى الكلام في التفصيل المستفاد من كلام بعض أعاظم العصر، فإنه بعد بيان
الأقسام المذكورة للظن وامكان اخذه موضوعا لحكم آخر مطلقا، الا فيما اخذ تمام
الموضوع على وجه الطريقية كما تقدم منه في القطع اشكالا وجوابا، قال ما هذا
ملخصه: واما اخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه، فلا يمكن مطلقا من غير فرق بين
الظن المعتبر وغيره للزوم اجتماع الضدين ولو في بعض الموارد، ولا يندرج في مسألة
اجتماع الامر والنهى، بل يلزم منه الاجتماع في محل واحد واما اخذه موضوعا
98

لحكم المماثل، فإن لم يكن الظن حجة، فلا مانع منه، فان في صورة المصادفة يتأكد
الحكمان فان اجتماع المثلين انما يلزم لو تعلق الحكمان بموضوع واحد وعنوان
فارد، واما مع تعلقهما بالعنوانين فلا يلزم الا التأكد، واما الظن الحجة فلا يمكن
اخذه موضوعا للمماثل فان الواقع في طريق احراز الشئ لا يكون من طواريه بحيث
يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك لان الحكم
الثاني، لا يصلح لان يكون محركا وباعثا لإرادة العبد، فان الانبعاث انما يتحقق بنفس
احراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر، فلا معنى لجعل حكم آخر إلى ذلك المحرز
كما لا يعقل ذلك في العلم أيضا
وقال قدس سره في فذلكة المقام: ان الظن الغير المعتبر لا يصح اخذه موضوعا
على وجه الطريقية لا للمماثل ولا للمخالف، فان اخذه على وجه الطريقية، هو معنى
اعتباره، إذ لا معنى له الا لحاظه طريقا.
واما اخذه موضوعا لنفس متعلقه، إذا كان حكما، فلا مانع منه بنتيجة التقييد
مطلقا بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد، فان اخذ الظن حجة محرزا
لمتعلقه معناه انه لا دخل له في المتعلق، إذ لو كان له دخل لما اخذ طريقا، فاخذه
محرزا مع اخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد وذلك واضح (انتهى كلامه)
وفيه مواقع للنظر نذكر منها ما يلي فنقول اما أولا
ان اختلاف العنوانين إن كان رافعا لاجتماع المثلين، فهو رافع لاجتماع
الضدين فان محط الامر والنهى إذا كانا عنوانين مختلفين، وفرضنا اتفاقهما في موضوع
واحد، فتعدد العنوان كما يرفع اجتماع المثلين، فكذلك يرفع اجتماع الضدين
واما إذا كان أحد العنوانين محفوظا مع الاخر، كما في المقام، فان الخمر محفوظ
بعنوانه مع مظنون الخمرية، فكما لا يرفع معه التضاد، فكذلك لا يرفع به اجتماع
المثلين.
وثانيا ان ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكد مما لا أساس له
أصلا فان التأكد انما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحدا، (لا ما إذا كان العنوان
99

متعددا كما ذكره قدس سره)، وكان تعلق الأوامر به لأجل التأكيد، ثم التأكيد
قد يحصل بأداته، وقد يحصل بتكرر الامر والنهى، كالأوامر الكثيرة المتعلقة بعناوين
الصلاة والزكاة والحج، وعناوين الخمر والميسر والربوا، كما تجده في الشريعة
المقدسة
فهذه كلها من قبيل التأكيد لا اجتماع المثلين، ويحكى هذه الأوامر المتظافرة
عن اهتمام الآمر والناهي وعن إرادة واحدة مؤكدة، لا عن إرادات، فان تعلق
إرادتين بشئ واحد مما لا يمكن، لان تشخص الإرادة بالمراد، هذا حال العنوان
الواحد.
واما مع اختلاف العنوانين، فلا يكون من التأكيد أصلا، وان اتفق اجتماعهما
في موضوع واحد، فان لكل واحد من العنوانين حكمه، ويكون الموضوع مجمعا
لعنوانين ولحكمين، ويكون لهما اطاعتان وعصيانان، ولا بأس به وما اشتهر بينهم
ان قوله أكرم العالم وأكرم الهاشمي يفيد التأكيد إذا اجتمعا في مصداق واحد
مما لا أصل له.
وثالثا ان ما افاده من أن الظن المعتبر لا يمكن اخذه موضوعا للحكم المماثل
، معللا تارة بان المحرز للشئ ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث الملاك
، واخرى بان الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث، (وان خلط المقرر بينهما) فيرد على
الأول، ان عدم كون الظن المحرز من العناوين الثانوية، التي توجب الملاك هي
هو من جهة كون الظن مختلفا مع الواقع المظنون في الرتبة، أو من جهة الاعتبار
الشرعي، فعلى الأول يلزم أن يكون الظن غير المعتبر أيضا كذلك، فعلى الثاني
فنحن لا نقبله حتى يقوم الدليل على أن الاعتبار الشرعي مما ينافي الملاكات الواقعية
ويرفعها
والحاصل: - لا فرق بين الظن المعتبر وغيره الا في الجعل الشرعي و
هو مما لا يضاد الملاكات النفس الامرية، مع أن الظن والقطع كسائر العناوين يمكن
ان يكونا موجبين لملاك آخر و (يرد) على التعليل الثاني انه يمكن ان لا ينبعث العبد
100

بأمر واحد وينبعث بأمرين أو أوامر، وامكان الانبعات يكفي في الامر، ولولا ذلك
لزم لغوية التأكيدات، مع أن المظنون بما انه مظنون، يمكن أن يكون له ملاك
مستقل في مقابل الواقع كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا باس عن تعلق أمر
مستقل
واما ما افاده في فذلكته: من أن اخذ الظن على وجه الطريقية هو معنى
اعتباره ففيه انه ممنوع، فان الظن لما كان له طريقية ناقصة، وكاشفية ضعيفة ذاتا
يمكن ان يؤخذ على هذا الوجه موضوعا في مقابل الوصفية التي معناها ان يؤخذ
مقطوع النظر عن كاشفيته
واما معنى اعتباره، فهو ان يجعله الشارع معتبرا وواجب العمل بالجعل
التشريعي فمجرد لحاظ الشارع طريقيته، لا يلازم اعتباره شرعا فضلا عن أن يكون
معناه. وان شئت قلت إن لحاظ الطريقية من مقولة التصور، وجعل الاعتبار من
الانشاء والحكم ولا ربط بينهما، أضف إلى ذلك ان لحاظ الطريقية لو كان ملازما
للاعتبار، لزم ان يلتزم بامتناعه في القطع، لان جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع
، فلحاظ القطع الطريقي موضوعا مطلقا يصير ممتنعا
اللهم الا ان يدعى ان ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعم من الذاتي أو الجعلي
، وهو كما ترى
واماما أفاد من أن اخذ الظن بالحكم موضوعا لنفسه لا مانع منه بنتيجة التقييد
فقد يظهر ما فيه عند البحث عن اخذ العلم كذلك من لزوم الدور
واما ما افاده أخيرا من عدم جواز اخذ الظن المعتبر موضوعا لحكم متعلقه
، معللا بان اخذ الظن محرزا لمتعلقه معناه انه لا دخل له فيه، وهو ينافي الموضوعية
ففيه ان ذلك ممنوع جدا، فان الملاك يمكن أن يكون في الواقع المحرز بهذا الظن
بعنوان المحرزية، فلابد من جعل المحرزية للتوصل بالغرض، لكن اخذ الظن
كذلك محال من رأس للزوم الدور
والذي يسهل الخطب ان ما ذكره من الأقسام متصورات محضة لا واقع لها -
101

في اخذ القطع تمام الموضوع لحكمه
قد يقال بعدم امكانه للزوم الدور منه، ويمكن ان يدفع بعدم لزومه، فيما إذا
كان القطع المأخوذ في الموضوع، تمام الموضوع، لان الحكم (ح) على عنوان المقطوع
بما انه كذلك، من غير دخالة التطابق وعدمه ولا الواقع المقطوع به، (فح) لا يتوقف
تحقق القطع بالحكم، على وجود الحكم لأنه قد يكون جهلا، مركبا، وليس
معنى الاطلاق لحاظ القيدين حتى يكون الاخذ بلحاظ قيديه ممتنعا، بل معناه عدم
القيدية، وكون الطبيعة تمام الموضوع، وهو لا يتوقف على الحكم، وانما يتوقف
الحكم عليه فلا دور.
وبعبارة أوضح: ان الدور المذكور في المقام أعني توقف القطع بالحكم
على وجود الحكم، وتوقف الحكم على الموضوع الذي هو القطع سواء كان تمام
الموضوع أو جزئه - انما يلزم لو كان القطع مأخوذا على نحو الجزئية، ومعنى ذلك
عدم كون القطع موضوعا برأسه بل هو مع نفس الواقع أعني الحكم الشرعي،
فالقطع يتوقف على وجود الحكم، ولو توقف الحكم على القطع يلزم الدور، واما
إذا كان القطع تمام الموضوع لحكم نفسه، فلا يلزم الدور، لان ما هو الموضوع هو
القطع سواءا وافق الواقع أم خالفه، لان الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع
و (عليه) فلا يتوقف حصول القطع على الواقع المقطوع به وان توقف على المقطوع
بالذات أعني: الصورة الذهنية من الحكم واما المقطوع بالعرض الذي هو المقطوع به
في الخارج، فلا يتوقف القطع على وجوده واما المأخوذ جزء موضوع فلا يمكن دفع
الدور بالبيان المتقدم لان معنى جزئيته للموضوع ان الجزء الآخر هو الواقع، و
توهم امكان جعل الجزء هو المعلوم بالذات كما ترى
ثم إنه أجاب بعض الأعاظم عن الدور بما يلي: ان العلم بالحكم لما كان من
الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيه الاطلاق ولا التقييد اللحاظي كما هو الشأن
في الانقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به كقصد التعبد والتقرب
102

بالعبادات، فإذا امتنع التقييد، امتنع الاطلاق، لان التقابل بينهما تقابل العدم و
الملكة
لكن الاهمال الثبوتي لا يعقل، فان ملاك تشريع الحكم اما محفوظ في حالتي
الجهل والعلم، فلابد من نتيجة الاطلاق، واما في حالة العلم، فلابد من نتيجة التقييد
فحيث لا يمكن بالجعل الأولى، فلابد من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان: وهو متمم
الجعل، وقد ادعى تواتر الأدلة علي اشتراك العالم، والجاهل في الاحكام، وان لم نعثر
الا على بعض اخبار الآحاد لكن الظاهر قيام الاجماع والضرورة، فيستفاد من ذلك
نتيجة الاطلاق، وان الحكم مشترك بين العالم والجاهل، لكن تلك الأدلة قابلة
للتخصيص كما خصصت بالجهر والاخفات والقصر والاتمام. انتهى كلامه
وفيه مواقع للاشكال الأول ان الانقسامات اللاحقة على ضربين، أحدهما ما
لا يمكن تقييد الأدلة به، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد، مثل اخذ القطع موضوعا
بالنسبة إلى نفس الحكم فإنه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة
التقييد، فان حاصل التقييد ونتيجته ان الحكم مختص بالعالم بالحكم وهذا
دور، وحاصله توقف الحكم على العلم به، وهو متوقف على وجود الحكم، وهذا
الامتناع لا يرتفع لا بالتقييد اللحاظي، ولا بنتيجة التقييد.
وهذا، غير ما ربما يورد على الأشاعرة القائلين بان احكام الله تابعة لآراء المجتهدين
، فإنه يورد عليهم باستلزامه الدور. إذ يمكن الذب عنه، بان الشارع أظهر
احكاما صورية بلا جعل أصلا لمصلحة في نفس الاظهار، حتى يجتهد المجتهدون،
ويصلوا إلى هذه الأحكام الغير الحقيقية، فإذا أدى اجتهادهم إلى حكم، سواء وافق
الحكم الصوري أم خالف، أنشأ الشارع حكما مطابقا لرأيه، تابعا له ولكنه مجرد
تصوير ربما لا يرضى به المصوبة.
واما عدم الإعادة فيما لو خافت في موضع الجهر، أو جهر في موضع
المخافات، أو أتم في موضع القصر، أو قصر في موضع التمام، فلا يتوقف الذب عنه
103

بالالتزام بما ذكره من الاختصاص بل يحتمل أن يكون عدم الإعادة من باب التقبل
والتخفيف، كما ربما يحتمل ذلك في قاعدة لا تعاد لو قلنا بعموميته للسهو وغيره، و
يمكن أن يكون لأجل عدم قابلية المحل للقضاء والإعادة، بعد الاتيان بما كان خلاف
الوظيفة وله نظائر في التكوين.
واما القسم الثاني من الانقسامات اللاحقة ما يمكن التقييد به بدليل
آخر كقصد القربة والتعبد والامر فان هذا القسم يمكن تقييد المتعلق
بالتقييد اللحاظي، كما يمكن بنتيجة التقييد، فان الآمر يمكن ان
يلاحظ متعلق امره وماله من قيود وحدود، ويلاحظ حالة تعلق امره به في
المستقبل ويلاحظ قصد المأمور للتقرب والتعبد، بما انها من قيود المتعلق، ويأمر
به مقيدا بهذه القيود كسائر قيوده. وقد وافاك خلاصة القول في ذلك في مباحث
الألفاظ.
ثم إن نفس تعلق الامر يمكن على اتيان المتعلق فان قبل تعلقه لا يمكن له الاتيان
بالصلاة مثلا مع تلك القيود وبالتعلق يصير ممكنا فان قلت بناء على ذلك لم يكن
الموضوع المجرد من قصد الامر مأمورا به فكيف يمكن الامر به بقصد امره قلت هذا
اشكال آخر غير الدور ويمكن دفعه بان الموضوع متعلق للامر الضمني وقصده كاف في
الصحة وقد أوضحنا حاله في الجزء الأول فراجع.
الثاني: من الاشكالات على كلامه ان توصيف الاطلاق والتقييد باللحاظي مع
القول بان تقابلهما تقابل العدم والملكة، جمع بين أمرين متنافيين، لان الاطلاق
على هذا متقوم باللحاظ، كالتقييد، واللحاظان امران وجوديان لا يجتمعان في مورد
واحد، فيصير التقابل تقابل التضاد، لا العدم والملكة.
نعم لو قلنا بما أوضحناه في محله من عدم تقوم الاطلاق باللحاظ وانه لا يحتاج
إلى لحاظ السريان، بل هو متقوم بعدم لحاظ شئ، في موضوع الحكم، مع كون
المتكلم في مقام البيان، يرد عليه اشكال آخر وهو ان امتناع الاطلاق حينئذ ممنوع،
فيصير ما ادعاه من أنه كلما امتنع التقييد، امتنع الاطلاق قولا بلا برهان.
104

والحق: ان بين الاطلاق والتقييد، كما ذكره تقابل العدم والملكة أو
شبه ذلك التقابل، لكن لا يرتب عليه ما رتبه (قدس سره) من انكار مطلق الاطلاق
في الأدلة الشرعية، حتى احتاج إلى دعوى الاجماع والضرورة، لاشتراك التكليف
بين العالم والجاهل.
وخلاصة الكلام: ان عدم التقييد، قد يكون لأجل عدم قابلية المتعلق له
وقصوره عن ذلك، ففي مثله لا يمكن الاطلاق، ولا يطلق على مثل ذلك التجرد عن
القيد، انه مطلق، كمالا يطلق على الجدار، انه أعمى، فان الأعمى هو اللا بصير
الذي من شأنه أن يكون بصيرا وليس الجدار كذلك، ونظير، الاعلام الشخصية،
فلا يطلق لزيد انه مطلق افرادي كما لا يطلق انه مقيدا
وقد يكون لا لأجل قصوره وعدم قابليته، بل لأجل أمر خارجي كلزوم الدور في
التقييد اللحاظي، فان امتناع التقييد في هذا المورد ونظائره لا يلازم امتناع
الاطلاق، إذ المحذور مختص به ولا يجرى في الاطلاق، فان المفروض ان وجه الامتناع
، لزوم الدور عند التقييد: ان تخصيص الاحكام بالعالمين بها، واما الاطلاق فليس
فيه أي محذور من الدور وغيره، فلا باس (ح) في الاطلاق، وإن كان التقييد ممتنعا
لأجل محذور خارجي
والشاهد على صحة الاطلاق ووجوده، هو جواز تصريح الولي بان الخمر
حرام شربه على العالم والجاهل، وصلاة الجمعة واجبة عليهما بلا محذور.
بل التحقيق: ان الاطلاق في المقام لازم ولو لم تتم مقدماته، لان الاخصاص
بالعالمين بالحكم مستلزم للمحال، والاختصاص بالجهال وخروج العالمين به خلاف
الضرورة، فلا محيص عن الاشتراك والاطلاق، (نعم) هذا غير الاطلاق الذي يحتاج
إلى المقدمات ويكون بعد تمامها حجة.
ولعل ما ذكرناه من الوجه سند دعوى الاجماع والضرورة.
ثم إن بعض محققي العصر قدس سره أراد التفصي بوجه آخر فقال ما هذا تلخيصه:
يمكن التفصي عن الدور على نحو نتيجة التقييد الراجع إلى جعل الحكم لحصة
105

من الذات في المرتبة السابقة، التوأمة، مع العلم بحكمه في المرتبة المتأخرة،
لا مقيدا به، على نحو يكون عنوان التوأمية مع العلم المزبور معرفا محضا لما هو
الموضوع، وكان الموضوع هو الحصة الخاصة، بلا تعنونه بعنوان التوأمية أيضا فضلا
عن العلم بحكمه، ونحوه من العناوين المتأخرة كما هو الشأن في كل معروض
بالنسبة إلى عارضه، المتحفظ في الرتبة المتأخرة، وكما في كل علة
لمعلولها، من دون اقتضاء التلازم والتوئمية اتحاد الرتبة بينهما، أصلا انتهى
وفيه ان نفس الطبايع لا تتخصص بالحصص لا في الذهن، ولا في الخارج، وانما
تتقوم الحصة بأمر خارج عنها لاحق بها لحاظا في الذهن لا في الخارج كالكليات المقيدة
مثل الانسان الأبيض، والانسان الأسود، واما الخارج فاطلاق الحصة على الفرد
الخارجي لا يخلو عن اشكال وعلى ذلك، فالطبيعة لا تتحصص بحصص، الا بإضافة قيود
لها عند جعلها موضوعا لحكم من الاحكام و (ح) فالحكم اما يتعلق على الطبيعة مع
قطع النظر عن العلم بحكمها، فلا تكون الحصة موضوعا، لأنها مع قطع النظر عن
القيود، ليست الا نفس الطبيعة، واما ان يتعلق على الحصة الملازمة للعلم بحكمها
ولو في الرتبة المتأخرة فلا تكون الحصة حصة، الا بعروض القيد للطبيعة في الذهن
فلا محيص الا عن لحاظ الموضوع توأما مع العلم بحكمه، وهذا الموضوع بهذا الوصف
يتوقف على الحكم، والحكم على العلم به فعاد الدور.
واما المعروض، بالنسبة إلى عارضه، فليس كما أفاد، لان العارض لا يعرض
الحصة بل يعرض نفس الطبيعة، ويصير الطبيعة بنفس العروض متخصصا، فلا يكون قبل
العروض وفى الرتبة المتقدمة حصة، واما التوأمية بين العلة والمعلول مع حفظ
التقدم الرتبي بينهما، فهو حق لو أراد ما ذكرنا.
هذا كله في اخذه تمام الموضوع في نفس حكمه، وهكذا إذا جعل بعض الموضوع
لحكم نفسه، فمحال، للدور المتقدم - فتدبر.
في قيام الأصول والامارات مقام القطع
واشباع الكلام في قيام الامارات والأصول بنفس أدلتها مقام القطع يتوقف
106

البحث في مقامين الأول في امكان قيامها مقامه ثبوتا بجميع أقسامه سواء كان طريقيا
أو موضوعيا، وكان تمام الموضوع أو بعض الموضوع، كان التنزيل بجعل واحد أو
بجعلين والثاني في وقوعه اثباتا وبحسب الدلالة.
اما الأول فالظاهر امكانه، ويستفاد من المحقق الخراساني الامتناع فيما إذا
كان التنزيل بجعل واحد لوجهين.
الأول ما محصله ان الجعل الواحد، لا يمكن ان يتكفل تنزيل الظن منزلة
القطع، وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما اخذ في الموضوع على نحو الكشف،
للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين أي اللحاظ الالى والاستقلالي، حيث لابد
في كل تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه، مع أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة
القطع، آلى طريقي، وفى كونه بمنزلته في دخله في الموضوع، استقلالي موضوعي،
والجمع بينهما محال ذاتا.
وأنت خبير بما فيه يظهر من التأمل فيما ذكرناه جوابا لما استشكله بعض
أعاظم العصر في تصوير القطع الطريقي على نحو تمام الموضوع. وحاصله ان نظر القاطع
والظان إلى المقطوع به وإن كان استقلاليا، والى قطعه وظنه آليا، الا ان الجاعل
والمنزل، ليس نفس القاطع حتى يجتمع ما ادعاه من الامتناع، بل المنزل غير القاطع
فان الشارع ينظر إلى قطع القاطع وظنه، ويلاحظ كل واحد استقلالا، واسميا
وينزل كل واحد منزلة الأخرى، فكل واحد من القطع والظن، وإن كان ملحوظا
في نظر القاطع والظان، على نحو آلية، الا انه في نظر الشارع والحاكم ملحوظ
استقلالا، فالشارع يلاحظ ما هو ملحوظ آلى للغير عند التنزيل على نحو الاسمية و
الاستقلال ويكون نظره إلى الواقع المقطوع به والمظنون بهذا القطع والظن، والى
نفس القطع والظن، في عرض واحد بنحو الاستقلال، فما ذكره (قدس سره) من
الامتناع من باب اشتباه اللاحظين، فان الحاكم المنزل للظن منزلة القطع، لم يكن
نظره إلى القطع والظن آليا، بل نظره استقلالي قضاءا لحق التنزيل، كما أن نظره إلى
المقطوع به والمظنون استقلالي.
107

واما القول بقصور الأدلة، فهو خارج عن المقام، وسوف نستوفي الكلام فيه في
المقام الثاني.
ثم إن بعض أعاظم العصر، أجاب عنه بان المجعول هو الكاشفية والوسطية
في الاثبات، وبنفس هذا الجعل يتم الامرين وسوف يوافيك في محله عدم صحة
تلك المقالة.
ثم إن المحقق الخراساني في تعليقته، أجاب عن هذا الاشكال، بان المجعول في
الامارات هو المؤدى، وان مفاد أدلة الامارات، جعل المؤدى منزلة الواقع،
ولكن بالملازمة العوفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وبين تنزيل الظن منزلة
العلم، يتم المطلب
وعدل عنه في الكفاية بما أوضحه بعض أعاظم العصر: ان ذلك يستلزم الدور
فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فيما كان للعلم دخل، لا يمكن الا بعد تحقق
العلم في عرض ذلك التنزيل، فإنه ليس للواقع اثر يصح بلحاظه التنزيل، بل الأثر
مترتب على الواقع والعلم به، والمفروض ان العلم بالمؤدى، يتحقق بعد تنزيل
المؤدى منزلة الواقع، فيكون التنزيل موقوفا على العلم: والعلم موقوفا على التنزيل
، وهذا دور محال، وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين
وفيه، ان اشتراط ترتب الأثر على التنزيل، انما هو لأجل صون فعل الحكيم
عن اللغوية، واللغوية، كما تندفع بترتب الأثر الفعلي كذلك تندفع بالأثر التعليقي، أي
لو انضم إليه جزئه الاخر، يكون ذا اثر فعلى.
والحاصل: ما هو اللازم في خروج الجعل عن اللغوية، هو كون التنزيل
ذا اثر، بحيث لا يكون التنزيل بلا اثر أصلا، والمفروض ان المؤدى لما نزل منزلة
الواقع فقد أحرز جزء من الموضوع، وان هذا التنزيل يستلزم عرفا في الرتبة
المتأخرة تنزيل الظن منزلة العلم بالملازمة العرفية، وبه يتم ما هو تمام الموضوع للأثر.
بل يمكن ان يقال: إن هيهنا اثرا فعليا، لكن بنفس الجعل، ولا يلزم أن يكون
الأثر سابقا على الجعل، ففيما نحن فيه، لما كان نفس الجعل متمما للموضوع،
108

يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقق في ظرفه، فلا يكون الجعل متوقفا على
الأثر السابق فاللغوية مندفعة اما لأجل الأثر التعليقي، أو بلحاظ الأثر المتحقق بنفس
الجعل
هذا ويمكن ان يقرر الدور بوجه آخر، وهو أقرب مما قرره بعض الأعاظم.
وحاصله: ان تنزيل المؤدى، منزل الواقع، يتوقف على تنزيل الظن منزلة
العلم في عرضه، لان الأثر مترتب على الجزئين، وتنزيل الظن متوقف على تنزيل
المؤدى حسب الفرض أي دعوى الملازمة العرفية، وان شئت قلت: ان تنزيل جزء
من المركب يتوقف على كون الجزء الآخر (غير المنزل) ذا اثر وجدانا أو تنزيلا، و
الأول مفقود قطعا، وعليه تنزيل المؤدى يتوقف على ثبوت الأثر لجزئه الآخر أعني
الظن، والمفروض ان الظن لا يصير ذا اثر الا بالملازمة العرفية وهى لا تتحقق الا بعد
تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيلزم الدور ويظهر جواب هذا التقرير من الدور، مما
ذكرناه جوابا عن التقرير الأول فلاحظ
واما المقام الثاني: أعني مقام الاثبات والدلالة، فلابد في توضيح الحال من
التنبيه على ما سيجيئ منا تفصيله عند البحث عن حجية الخبر الواحد، وملخصه:
ان الامارات المتداولة في أيدينا مما استقر عليها العمل عند العقلاء بلا غمض أحد منهم في واحد منها، ضرورة توقف حياة المجتمع على العمل بها، والانسان المدني
يرى، ان البناء على تحصيل العلم في الحوادث والوقائع اليومية، يوجب اختلال نظام
المدنية، وركود رحاها، فلم يربدا منذ عرف يمينه عن شماله، ووقف على مصالح
الأمور ومفاسدها، عن العمل، بقول الثقة، وبظواهر الكلام الملقى للتفهيم
وغيرها.
جاء نبي الاسلام صلى الله عليه وآله وأظهر احكاما، وأوضح أمورا، ولكن مع ذلك كله
عمل بالامارات من باب انه أحد العقلاء، الذين يديرون حياة المجتمع، من دون ان
يأسس أصلا ويقيم عمادا، أو يحدث امارة، أو يزيد شرطا أو يتمم كشف امارة، أو يجعل
طريقية لواحد من الامارات، إلى غير ذلك من العبارات التي تراها، متظافرة في
109

كلمات القوم.
وبالجملة لم يكن عمل النبي والخلفاء من بعده على الامارات الا جريا على
المسلك المستقر عند العقلاء، بلا تأسيس امارة أو تتميم كشف لها، أو جعل حجية و
طريقية لواحدة منها، بل في نفس روايات خبر الثقة، شواهد واضحة على تسلم العمل
بخبر الثقة ولم يكن الغرض من السؤال الا العلم بالصغرى، وان فلانا هل هو ثقة
أو لا، فراجع مظانها تجد شواهد على ما ادعيناه
ومن ذلك يعلم أن قيام الامارات مقام القطع باقسامه، مما لا معنى له، اما القطع
الطريقي، فان عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم، ليس من باب قيامها
مقام العلم، بل من باب انها إحدى الطرق الموصلة غالبا إلى الواقع، من دون التفات
إلى التنزيل والقيام مقامه
نعم: القطع طريق عقلي مقدم على الطرق العقلائية، والعقلاء انما يعملون
بها عند فقد القطع، وذلك لا يستلزم كون عملهم من باب قيامها مقامه، حتى يكون
الطريق منحصرا بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية التزيل والقيام مقامه، و
ان شئت قلت: ان عمل العقلاء بالطرق، ليس من باب انها منزلة مقام العلم، بل
لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم، كانوا عاملين بها من غير التفات إلى جعل و
تنزيل أصلا.
فما ترى في كلمات المشايخ من القول بان الشارع جعل المؤدى منزلة
الواقع تارة، أو تمم كشفه، أو جعل الظن علما في مقام الشارعية، أو أعطاه مقام
الطريقية، وغيرها لا تخلو عن مسامحة، فإنها أشبه شئ، بالخطابة، فتلخص ان العمل
بالامارات عند فقد القطع الطريقي، ليس الا لكونها إحدى الافراد التي يتوصل بها إلى
احراز الواقع، من دون أن يكون نائبا أو فرعا لشئ أو قائما مقامه
واما القطع الموضوعي: فملخص الكلام ان القطع تارة يؤخذ بما انه أحد
الكواشف واخرى بما انه كاشف تام، وثالثة، بما انه من الأوصاف النفسانية، فلو
كان مأخوذا في الموضوع تماما أو جزءا، على النحو الأول فلا شك انه يعمل بها عند
110

فقد القطع لا لأجل قيامها مقامه، بل لأجل ان الامارات (ح) أحد مصاديق الموضوع
مصداقا حقيقيا، وإذا اخذ بما انه كاشف تام: أو صفة مخصوصة فلا شك عدم
جواز ترتيب الأثر، لفقدان ما هو الموضوع عند الشارع، لان الظن ليس
كشفا تاما، وان عمل العقلاء علي الامارات، ليس الا لأجل كونها كواشف عن
الواقع، من دون ان يلاحظ صفة أخرى، بلا فرق بين تمام الموضوع وجزئه وبذلك
يظهر النظر فيما افاده بعض أعاظم العصر، فإنه قدس سره مع أنه قد اعترف بأنه
ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلا، قد أتى بما لا يناسبه، وحاصله
ان في القطع يجتمع جهات ثلاث، جهة كونه قائمة بنفس العالم من حيث انشاء النفس
في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة، وجهة كشفه عن المعلوم، وارائته
للواقع.
وجهة البناء والجري العملي على وفق العلم، والمجعول في باب الطرق هي
الجهة الثانية، فان المجعول فيها، نفس الطريقية، والمحرزية والكاشفية، وفى
الأصول هي الجهة الثالثة.
ثم قال: إن حكومة الطرق على الأحكام الواقعية، ليست الحكومة الواقعية
مثل قوله الطواف بالبيت صلاة أو لا شك لكثير الشك بل الحكومة ظاهرية، والفرق،
ان الواقعية توجب التوسعة والتضييق في الموضوع الواقعي، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر
واقعي في عرض الموضوع الأولى، وهذا بخلاف الظاهرية، إذ ليس فيها توسعة وتضييق الا
بناء على جعل المؤدى، الذي يرجع إلى التصويب واما بناءا على المختار من جعل
الطريقية، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي، وحكومتها انما يكون باعتبار
وقوعها في طريق احراز الواقع في رتبة الجهل به فيكون المجعول في طول الواقع
لا في عرضه.
ثم أفاد ان مما ذكرنا يظهر قيام الامارات مقام القطع الطريقي مطلقا،
ولو كان مأخوذا في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الوصفي - انتهى
كلامه،
111

أقول: وفيه مواقع للانظار،
منها انك قد عرفت وسيمر تفصيله عند البحث عن حجية الاخبار، انه ليس عن
جعل الحجية والطريقية وتتميم الكشف في الاخبار والآيات خبر ولا اثر، وان العمل
بالاخبار كان أمرا مسلما منذ قرون قبل الاسلام، منذ قام للإنسانية عمود التمدن
وان الشارع الصادع بالحق ترك اتباعه على ما كانوا عليه، قبل ان ينسلكوا في سلك
الاسلام، بلا جعل ولا تأسيس ولا امضاء لفظي، وان كلما ورد من الروايات من
التصريحات انما هو لتشخيص الصغرى وما هو موضوع لهذه الكبرى الكلية
والعجب أنه قدس سره قد اعترف كرارا على أنه ليس للشارع في تلك
الطرق العقلائية تأسيس أصلا. ولكنه قد أسس في تقريراته هذا البنيان الرفيع الذي لا
يخرج عن حيطة التصور إلى مقام آخر الا بأدلة محكمة، وليست منها في الاخبار
عين ولا اثر.
ومنها ان تقسيم الحكومة إلى ظاهرية وواقعية، تقسيم لها باعتبار متعلقها
وهو ليس من التقسيمات المعتبرة والا لكثرت الأقسام حسب كثرة التعلق فان المتصف
بالظاهرية والواقعية انما هي الاحكام، دون الحكومة، فان الحكومة قد تكون
متعلقها، الأدلة الواقعية مثل قوله عليه السلام الصلاة بالبيت طواف، وقد تكون متعلقها
غير الأحكام الواقعية، كما في الأمثلة التي ذكره قدس سره.
في قيام الأصول مقام القطع
اما غير المحرزة منها أعني ما يظهر من أدلتها انها وظايف مقررة للجاهل عند
تحيره وجهله بالواقع كأصالتي الطهارة والحلية واشباههما، فلا معنى لقيامها مقام
القطع مطلقا، لعدم وجه التنزيل بينهما أصلا.
واما المحرزة والأصول التنزيلية أعني الاستصحاب وقاعدة التجاوز واليد وغيرهما
فلا باس لنا ان نتعرض حالها حسب اقتضاء المقام.
112

اما الاستصحاب فيتوقف كونه امارة شرعية على اثبات أمور ثلاثة.
الأول أن يكون له جهة كشف وطريقية، فان مالا يكون له جهة كشف أصلا
لا يصلح للأمارية والكاشفية.
الثاني ان لا يكون بنفسه امارة عقلية أو عقلائية، فان الواجد للأمارية لا
معنى لجعله امارة، فإنه من قبيل تحصيل الحاصل.
الثالث أن يكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية (1)
ولا شك ان الاستصحاب فيه جهة كشف عن الواقع، فان اليقين بالحالة السابقة
له جهة كشف عن البقاء والي ذلك يرجع ما يقال: ما ثبت يدوم، وهو في الان اللاحق
ليس كالشك المحض غير القابل للأمارية
كما أن الجهة الثانية أيضا موجودة، فان عمل بناء العقلاء ليس على كون
الاستصحاب كاشفا عن متعلقه وان ادعى انه لأجل كون شئ له حالة مقطوعة في السابق
الا انه مجرد ادعاء بل من القريب جدا أن يكون ذلك بواسطة احتفافه بأمور اخر
مما توجب الاطمينان والوثوق لا لمجرد القطع بالحالة السابقة، وبالجملة لم يعلم أن
عمل العقلاء بالاستصحاب في معاملاتهم وسياساتهم لأجل كونه ذات كشف عن الواقع
كشفا ضعيفا بلا ملاحظة قرائن محفوفة توجب الوثوق حتى يكون امارة عقلائية
كخبر الثقة، ويكون ذاك مانعا عن تعلق الجعل الشرعي
واما الجهة الثالثة فلو ثبت تلك الجهة، لا نسلك الاستصحاب في عداد الأمارات الشرعية
مقابل الأمارات العقلائية، ويمكن استظهاره، من الكبريات الموجودة
في الاستصحاب فترى ان العناية فيها بابقاء اليقين وانه في عالم التشريع والتعبد
موجود، وانه لا ينبغي ان ينقض بالشك، والحاصل ان الروايات تعطى بظاهرها،
ان الغرض إطالة عمر اليقين السابق، واعطاء صفة اليقين على كل من كان على يقين
كما ينادى به ذلك قوله عليه السلام في مضمرة زرارة، والا فإنه على يقين من وضوئه، ولا
ينقض اليقين بالشك ابدا، لا اعطاء صفة اليقين على الشاك بعنوان انه شاك، ولا جعل
الشك يقينا حتى يقال لا معنى لاعطاء صفة الكاشفية والطريقية على الشك، ولا اعطاء

(1) لا يخفى ان ما حررناه في المقام مما استفدناه عن سيدنا الأستاذ في الدورة
السابقة في مبحث الاستصحاب، وعند البحث عن الاجزاء في الاجتهاد والتقليد " المؤلف "
113

اليقين على الشاك لأن الشك ليس له جهة الكشف، وبالجملة الاستصحاب إطالة
عمر اليقين تعبدا في عالم التشريع، وقد عرفت امارية اليقين السابق بالنسبة إلى
اللاحق.
ثم انا قد أطلنا الكلام سابقا في النقض والابرام بذكر اشكالات وتفصيات في
المقام لكن التحقيق انه ليس امارة شرعية بل هو أصل تعبدي كما عليه المشايخ،
لان الجهة الأولى من الجهات اللازمة في امارية الشئ مفقودة في الاستصحاب لان كون
اليقين السابق كاشفا عن الواقع كشفا ناقصا لا يرجع إلى شئ، لان اليقين لا يعقل أن يكون
كاشفا عن شئ في زمان زواله، والمفروض ان كون المكلف حين الاستصحاب
شاك ليس الا، نعم يمكن أن يكون وجود المستصحب فيما له اقتضاء بقاء كاشفا ناقصا
عن بقائه بمعنى حصول الظن منه بالنسبة إلى بقائه، لكنه أجنبي عن امارية اليقين
السابق.
والجهة الثالثة أيضا منتفية، فلان العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف
والطريقية أي إلى أن الكون السابق كاشفا عن البقاء حتى يصح جعله امارة، لما
عرفت ان الكون السابق يحصل منه مرتبة من الظن، بل العناية إلى أن اليقين لكونه
أمرا مبرما لا ينبغي ان ينقض بالشك، الذي ليس له ابرام، وقد عرفت ان اليقين السابق
ليس له أدنى امارية بالنسبة إلى حالة الشك فما تعرض له الاخبار وكان مورد العناية
فيها ليس له جهة كشف مطلقا وماله جهة كشف موجب للظن يكون أجنبيا عن مفادها
فلا محيص عن الذهاب إلى ما عليه الأساتذة من أنه أصل تعبدي، واما الاستصحاب
العقلائي الذي ينظر إليه كلام الأقدمين فهو غير مفاد الروايات، بل هو عبارة عن
الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن اللاحق، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس
على ترتيب الآثار بمجرد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق بل الظاهر أن بناء العقلاء
على العمل ليس لأجل الاستصحاب أي جر الحالة السابقة، بل لأجل عدم الاعتناء
بالاحتمال الضعيف المقابل للوثوق كما في سائر الطرق العقلائية.
واما قاعدة التجاوز: فالكبرى المجعولة فيها بعد ارجاع الاخبار بعضها
114

إلى بعض، وجوب المضي العملي وعدم الاعتناء بالشك والبناء على الاتيان، و
ما في بعض الأخبار من أن الشك ليس بشئ وإن كان يوهم انها بصدد اسقاط الشك
اللازم منه اعطاء الكاشفية، لكنه اشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به، والظاهر من
مجموع الاخبار ليس الا ما تقدم كما يكشف عنه رواية حماد بن عثمان قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام أشك وانا ساجد فلا أدرى ركعت أم لا فقال قد ركعت، والحاصل ان العناية
في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملا والمضي العملي والبناء على الاتيان وهو
المراد بالأصل. هذا مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز.
واما قيام القاعدتين مقام القطع وعدمه، فنقول قد وافاك ان القطع قد يؤخذ
على نحو الطريقية التامة، وقد يؤخذ على نحو الوصفية، وقد يؤخذ على الطريقية
المشتركة، وعلى التقادير قد يكون المأخوذ تمام الموضوع، وقد يكون
بعضه لا كلام في عدم قيام الطرق العقلائية مقام القطع المأخوذ
على نحو الكاشفية التامة، ولا على نحو وصفية، واما المأخوذ على نحو الكاشف
المطلق، فالامارات تقوم مقامه، لا من جهة النيابة، بل لأنها مصداق واقعي للموضوع
في عرض القطع كما تقدم بيانه.
واما الاستصحاب فعلى القول بأماريته فلا وجه لقيامه مقام القطع الوصفي
إذ لا جامع بين الوسطية في الاثبات والقطع المأخوذ على وجه الوصفية وأدلة
حجية الاستصحاب قاصرة عن هذا التنزيل، بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام
القطع الوصفي لاستلزامه الجمع بين اللحاظين المتبائنين على ما مر بيانه على اشكال منا
واما القطع الطريقي المأخوذ بنحو كمال الطريقية أو المشتركه فيقوم
الاستصحاب بنفس أدلته مقام القطع، فيما إذا كان القطع تمام الموضوع فيما إذا
كان للمقطوع اثر آخر يكون التعبد بلحاظه، فان مفاد أدلة الاستصحاب على الفرض
اعطاء صفة اليقين وإطالة عمره، فالمستصحب (بالكسر) في حاله الاستصحاب ذو يقين
تشريعا
وهكذا الكلام إذا كان مأخوذا بنحو الجزئية، فان نفس الأدلة يكفي لاثبات
115

الجزئين من غير احتياج إلى دليل آخر، فان إطالة عمر اليقين هو الكشف عن
الواقع واحرازه، فالواقع محرز بنفس الجعل، وان شئت قلت: ان المجعول
بالذات هو إطالة عمر اليقين ولازمه العرفي احراز الواقع، لكن اطلاق القيام مقام
القطع (ح) لا يخلو من تسامح بل يكون الاستصحاب مصداقا حقيقيا للموضوع.
واما على القول بكونه أصلا فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقا غير بعيد لان
الكبرى المجعولة فيه اما يكون مفادها التعبد ببقاء اليقين عملا واثرا واما
التعبد بلزوم وترتيب آثاره فعلى الأول تكون حاكمة على ما اخذ القطع الطريقي
موضوعا، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر بل لان مفاده لو كان هو التعبد ببقاء اليقين
يصير حاكما عليه، كحكومة قوله (ع): كل شئ طاهر على قوله: لا صلاة الا
بطهور، وعلى الثاني يقوم مقامه بنتيجة التحكيم كمالا يخفى، واما قيامها مقام
القطع الوصفي فالظاهر قصور أدلتها عن اثبات قيامه مقامه، لأن الظاهر منها اليقين
الطريقي، فلا اطلاق فيها بالنسبة إلى الوصفي، وإن كان لا يمتنع الجمع بينهما
كما تقدم.
قيام قاعدة التجاوز مقام القطع
لا شك ان دليل تلك القاعدة، قاصر عن اقامتها مقام القطع الموضوعي باقسامه
لان مفاده كما عرفت ليس الا المضي تعبدا، والبناء على الوجود كذلك، وهذا أجنبي
عن القيام مقامه، نعم فيما إذا كان القطع طريقا محضا، ويكون نفس الواقع بما
هو هو موضوع الحكم، لا يبعد احرازه بالقاعدة، لا بقيامها مقام القطع الطريقي،
بل بنتيجة القيام.
وقد يقال إن للقطع جهات والجهة الثالثة منها: جهة البناء والجري العملي
على وفق العلم، حيث إن العلم بوجود الأسد يقتضى الفرار عنه والمجعول في الأصول
المحرزة هي هذه الجهة، فهي قائمة مقام القطع الطريقي باقسامه. و (فيه): ان
مجرد البناء على الوجود لا يقتضى القيام مقام القطع، وليس في الأدلة ما يستشم
منها، ان الجعل بعناية التنزيل مقام القطع في هذا الأثر. واشتراك القاعدة والقطع
116

في الأثر لو فرض تسليمه، لا يوجب التنزيل والقيام مقامه، وبالجملة: إن كان المراد
من قيام القاعدة مقام القطع كونها محرزة للواقع كالقطع، غاية الأمر انا محرزة
تعبدا وهو محرز وجدانا، فهو صحيح، لكنه لا يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي
باقسامه، بل اطلاق القيام مقامه في الطريقي المحض أيضا خلاف الواقع وإن كان
المراد هو القيام بمعناه المنظور، ففيها منع منشأه قصور الأدلة فراجعها.
الأمر الخامس في الموافقة الالتزامية
وتوضيحها يتوقف على بيان مطالب
الأول ان الأصول الاعتقادية على أقسام (منها) ما ثبتت بالبرهان العقلي
القطعي ويستقل العقل في اثباتها ونفي غيرها من دون ان يستمد من الكتاب والسنة،
كوجود المبدء وتوحيده وصفاته الكمالية، وتنزيهه من النقائص والحشر والنشر
وكونه جسمانيا على ما هو مبرهن في محله وعند أهله، والنبوة العامة وما
ضاهاها من العقليات المستقلة التي لا يستأهل لنقضه وإبرامه، واثباته ونفيه
غير العقل، حتى لو وجدنا في الكتاب والسنة ما يخالفه ظاهرا فلا محيص عن تأويله
اورد علمه إلى أهله كما امرنا بذلك.
ومنها ما ثبت بضرورة الأديان أو دين الاسلام كالمباحث الراجعة إلى بعض
خصوصيات المعاد، والجنة والنار والخلود فيهما، وما ضاهاها
ومنها ما ثبت بالقران، والروايات المتواترة
ومنها ما لا نجد فيها الا روايات آحاد قد توجب العلم والاطمينان أحيانا و
أخرى لا توجبه هذا كله في الأصول الاعتقادية
واما الاحكام الفرعية، أيضا تارة ثابتة بضرورة الدين أو المذهب واخرى
بظواهر الكتاب والسنة، آحادها أو متواترها وربما تثبت بالعقل إلينا
الثاني: ان العوارض النفسانية كالحب والبغض، والخضوع والخشوع
ليست أمورا اختيارية، حاصلة في النفس بإرادة منها واختيار، بل وجودها في
117

النفس، انما تتبع لوجود مباديها، فان لكل من هذه العوارض مباد وعلل،
تستدعى وجود تلك العوارض مثلا: العلم بوجود الباري وعظمته وقهاريته، يوجب
الخضوع والخشوع لدى حضرته جلت كبريائه، والخوف من مقامه، والعلم برحمته
الواسعة، وجوده الشامل، وقدرته النافذة، يوجب الرجاء والوثوق، والتطلب والتذلل،
وكلما كملت المبادى، كملت النتائج، بلا ريب
فظهر ان تلك العوارض، نتايج قهرية لا تستتبعه إرادة ولا اختيار، وانما يدور
مدار وجود مباديها المقررة في محله وعند أهله
الثالث: وهو أهم المطالب: ان التسليم القلبي، والانقياد الجناني، والاعتقاد
الجزمي لأمر من الأمور، لا تحصل بالإرادة والاختيار، من دون حصول مقدماتها
ومباديها ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها، يمتنع تخلف الالتزام والانقياد القلبي
عند حصول مباديها، ويمتنع الاعتقاد بأضدادها - فتخلفها عن المبادى ممتنع، كما أن
حصولها بدونها أيضا ممتنع.
والفرق بين هذا المطلب، وما تقدمه أوضح من أن يخفى، إذا البحث في المتقدم
عن الكبرى الكلية من أن العوارض القلبية لا تحصل بالإرادة والاختيار، وهنا عن
الصغرى الجزئية لهذه القاعدة، وهى ان التسليم والانقياد من العوارض القلبية،
يمتنع حصولها بلا مباديها، كما يمتنع حصول أضدادها عند حصولها، فمن قام
عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته، لا يمكن له عقد القلب عن
صميمه بعدم وجوده وعدم وحدته: ومن قام عنده البرهان الرياضي على أن زوايا
المثلث مساوية لقائمتيه، يمتنع مع وجود هذه المبادى، عقد القلب على عدم التساوي
فكما لا يمكن الالتزام على ضد أمر تكويني مقطوع به، فكذلك لا يمكن عقد القلب
على ضد أمر تشريعي ثبت بالدليل القطعي.
نعم لا مانع من انكاره ظاهرا، وجحده لسانا لا جنانا واعتقادا، واليه يشير قوله عز وجل
وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلما وعتوا.
وما يقال من أن الكفر الجحودي يرجع إلى الالتزام القلبي على خلاف اليقين
118

الحاصل في نفسه، فاسد جدا.
هذا هو الحق القراح في هذا المطلب من غير فرق بين الأصول الاعتقادية والفروع
العلمية من غير فرق أيضا بين ان يقوم عليها برهان عقلي أو ثبت بضرورة الكتاب
والسنة أو قام عليه الأدلة الثابتة حجيتها بأدلة قطعية من الأدلة الاجتهادية والفقاهية
فلو قام الحجة عند المكلف على نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها، يمتنع عليه ان
يعقد القلب على خلافها، أو يلتزم جدا على طهارته، الا ان يرجع إلى تخطئة شارع
والعياذ بالله وهو خارج عن المقام.
وبذلك يظهر ان وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة التشريع لا يرجع إلى محصل
إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم من الشارع
مع العلم بأنه لم يكن من الشرع، أو لم يعلم كونه منه، ومثله وجوب الموافقة،
وهو عقد القلب اختيارا على الأصول والعقائد والفروع الثابتة بادلتها القطعية الواقعية
(والحاصل) ان التشريع بهذا المعنى أمر غير معقول بل لا يتحقق من القاطع حتى
يتعلق به النهى، كما أن الاعتقاد بكل ما ثبت بالأدلة، أمر قهري تتبع مباديها،
ويوجد غب عللها بلا إرادة واختيار ولا يمكن التخلف عنها وللا للحاصل له مخالفتها
فلا يصح تعلق التكليف لأمر يستحيل وجوده، أو يجب وجوده بلا إرادة واختبار
نعم التظاهر والتدين ظاهرا وعملا بشئ ليس من الدين افتراءا عليه، و
كذبا على الله ورسوله وعترته الطاهرين، أمر ممكن محرم لا كلام فيه
فظهر ان وجوب الموافقة الالتزامية عين وجوب العقد والتصميم اختيارا على
الاحكام والفروع الثابتة من الشرع بعد قيام الحجة أمر غير معقول لا تقع مصب التكليف
وحمل كلامهم على وجوب تحصيل مقدمات الموافقة الالتزامية وحرمة تحصيل مقدمات
خلافها كما ترى، واما إن كان المراد منه، هو البناء القلبي على الالتزام العملي و
إطاعة أمر مولاه، ويقابله البناء على المخالفة العملية، فهو بهذا المعنى أمر معقول
تعدان من شعب الانقياد والتجري
وبذلك يتضح ان ما ذهب إليه سيد الأساتذة المحقق الفشاركي (رحمه الله) من
119

وجود التجزم في القضايا الكاذبة على طبقها، حتى جعله (قدس سره) مناطا لصيرورة
القضايا مما يصح السكوت عليها، وان العقد القلبي عليها يكون جعليا اختياريا،
- لا يخلو من ضعف
وقد أوضحه شيخنا العلامة قدس سره وقال: ان حاصل كلامه: انه كما أن العلم
قد يتحقق في النفس بوجود أسبابه كذلك قد يخلق النفس حالة وصفة على نحو
العلم حاكية عن الخارج، فإذا تحقق هذا المعنى، في الكلام يصير جملة يصح السكوت
عليها، لان تلك الصفة الموجودة يحكى جزما عن تحقق في الخارج
لكن فيه: ان العلم والجزم من الأمور التكوينية التي لا توجد في النفس الا
بعللها وأسبابها التكوينية، وليس من الأمور الجعلية الاعتبارية والالزم جواز
الجزم في النفس بان الاثنين نصف الثلاثة، أو ان الكل أصغر من الجزء وما أشبهه
من القضايا البديهية، وبالجملة ليس الجزم والعلم من الأفعال الاختيارية حتى نوجده
بالإرادة والاختيار
واما ما ذكره من كون الجزم هو المناط في القضايا الصادقة والكاذبة، فهو و
إن كان حقا الا ان الجزم في القضايا الصادقة حقيقي واقعي، وفى الكاذبة ليست الا
صورة الجزم واظهاره وما هو المناط في الصدق والكذب هو الاخبار الجزمي، و
الاخبار عن شئ بصورة الجزم وألبت، واما التجزم القلبي، فلا ربط له لصحة السكوت
وعدمها، ولا للصدق والكذب.
والشاهد عليه انه لو أظهر المتكلم ما هو مقطوع بصورة التردد، فلا يتصف بالصدق و
الكذب ولا يصح السكوت عليه، وتوهم ان المتكلم ينشأ حقيقة التردد في الذهن
ويصير مرددا بلا جعل واختراع - كما ترى
نقل مقال وتوضيح حال
ان بعض الأعيان من المحققين (ره) ذكر وجها لصحة تعلق الأمر والنهي، بالالتزام
120

والتسليم، فقال: ان الفعل القلبي ضرب من الوجود النوري والوجود في قبال المعقولات،
وهو من العلوم الفعلية دون الانفعالية والافعال القلبية أمور يساعدها الوجدان، فان الانسان
كثيرا ما يعلم بأهلية المنصوب من قبل من له النصب، لكنه لا ينقاد له قلبا، ولا يقر به باطنا
لخباثة نفسه أو لجهة أخرى وإن كان في مقام العمل يتحرك بحركته خوفا من سوطه وسطوته
وهكذا كان حال كثير، من الكفار بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وآله حيث إنهم كانوا عالمين
بحقيقته، كما نطق به القرآن ومع ذلك لم يكونوا منقادين، ولو كان ملاك الايمان
الحقيقي نفس العلم لزم ان يكونوا مؤمنين به، أو جعل الايمان الذي هو أشرف الكمالا
مجرد الاقرار باللسان، حتى يلزم كفرهم لأجل عدم الاقرار
وأنت خبير، بأنه قدس سره لم يبرهن على أن الالتزام من العلوم الفعلية
دون الانفعالية بل من القريب كونه من انفعالات النفس ومن الكيفيات الحاصلة لها
من المبادى الموجودة فيها أو حاصلة لها وما قال إن الكيفيات النفسانية محصورة
غير وجيه لعدم قيام برهان على حصرها فالأشبه أن تكون نحو تلك الحالات من
مقولة الكيف ومن الكيفيات النفسانية التي تنفعل بها النفس فما ادعاه من أنه ضرب
من الوجود وهو لا يدخل تحت مقولة غير صحيح، لان الموجود في صقع الامكان لا يمكن
أن يكون موجودا مطلقا، فيلزم وجوب وجوده، وهو خلف، بل يكون موجودا مقرونا
بالحد والحدود، فيتألف من وجود وماهية، ويدخل (على وجه التسامح) تحت إحدى
المقولات، أضف إلى ذلك ما عرفت: ان الالتزام لا ينفك عن العلم بالشئ، وانه يستتبع
الالتزام في كمه وكيفه، في تفصيله واجماله، على مقدار علمه، ويوجد ذلك الالتزام
في لوح النفس غب حصول العلم.
وقد عرفت ان جحد الكفار لم يكن الا جحدا في الظاهر لعنادهم وعدواتهم
وحب الرياسة، والعصبية الجاهلية، والا فكيف يمكن الانكار الباطني مع العلم
الوجداني بالخلاف، فهل يمكن انكار وجود اليوم مع العلم بوجوده، ولا يلزم ما
ذكر أن يكون الايمان هو العلم فقط، حتى يقال: إن الشيطان كان عالما بجميع
121

المعارف مع أنه عد من الكفار، كما لا يلزم من ذلك أيضا كون الانقياد والتسليم
القلبي حاصلين في النفس بالاختيار، بل الايمان عبارة عن مرتبة من العلم الملازم
لخضوع القلب للنبوة. وقد فصلنا حقيقة العلم والايمان في بعض مسفوراتنا وأوضحنا
فيه: ان الايمان ليس مطلق العلم الذي يناله العقل ويعد حظا فريدا له.
وبما ان المقام لا يسع طرح تلك الأبحاث فليرجع من أراد التفصيل إلى محاله:
فظهر انه لا يلزم من عدم كون العلم عين الايمان، كون الالتزام، والانقياد اختياريا
متحققا بالإرادة.
هذا كله: في امكان تعلق الوجوب على الالتزام وعدمه، ثم إنه لو فرضنا
امكان التعلق، فالظاهر عدم وجوبه، لعدم الدليل عليه في الفرعيات نقلا ولا عقلا،
وعدم اقتضاء التكليف الا الموافقة العملية، وحكم الوجدان بعدم استحقاق العبد
للعقوبتين، على فرض مخالفة التكليف عملا والتزاما، وعدم استحقاقه للعقوبة مع
العمل بلا التزام، واستحقاقه لمثوبة واحدة مع العمل والالتزام.
الرابع: انك قد عرفت ان الموافقة الالتزامية من الأمور القهرية التابعة
للعلم بالشئ، وليس من الأمور الجعلية الاختيارية، و (عليه) فتتبع الموافقة
الالتزامية في الخصوصيات للعلم بالأحكام، فان تعلق العلم بالحكم تفصيلا، يتعلق
الالتزام تفصيلا وان تعلق به اجمالا، يصير الالتزام كذلك، ولو تعلق العلم بما يتردد
بين المحذورين، يكون الالتزام مثله
فلو بنينا على جواز جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين، يكون
الالتزام على طبق الحكم الظاهري غير مناف للالتزام بالحكم الواقعي كما لا تنافى
بين الحكم الواقعي المجعول على الذات، والحكم الظاهري المجعول بعنوان
المشكوك فيه، فكما يمكن جعل الحكمين والعلم بهما، يمكن الالتزام بهما
فجريان الأصول لا مانع منه في الأطراف من ناحية لزوم الالتزام بالحكم الواقعي
122

كما أن جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي لمكان الطولية (1)
الأمر السادس: في العلم الاجمالي
يقع الكلام في مرحلتين: الأولى: في ثبوت التكليف، بالعلم الاجمالي،
الثانية، في جواز اسقاطه بالعمل على طبقه، وبما ان هذا البحث طويل الذيل،
مترامي الأطراف، نحيل بعض المباحث إلى مبحث البراءة والاشتغال فنقول:
اما الأولى: فاعلم أنه قد يطلق العلم الاجمالي ويراد منه القطع الوجداني
بالتكليف الذي لا يحتمل فيه الخلاف، ولا يحتمل رضا المولى بتركه، وقد يطلق على
الحجة الاجمالية، كما إذا قامت الدليل الشرعي على حرمة الخمر على نحو الاطلاق
ثم علمنا: ان هذا أو ذاك خمر، فليس في هذه الصورة علم قطعي بالحرمة الشرعية
التي لا يرضى الشارع بتركه، بل العلم تعلق باطلاق الدليل والحجة الشرعية،
والاجمال في مصداق ما هو موضوع للحجة الشرعية، و (حينئذ) فالعلم بالحرمة غير العلم
بالحجة فما هو المناسب للبحث عنه في المقام هو الأول كما أن المناسب لمباحث
الاشتغال هو الثاني.
فنقول المشهور المتداول كون العلم علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة
القطعيتين، وربما يقال بكونه علة، تامة بالنسبة إلى الثانية دون الأولى ونسب
إلى بعضهم جواز المخالفة القطعية فضلا عن احتمالها، ولا يهمنا سرد الأقوال بعد
كون المسألة عقلية محضة غير أن هذه الأقوال يظهر حالها صحة وفسادا بعد ملاحظة ما هو
مصب النزاع في هذا الباب.
قد عرفت ان البحث في المقام انما هو عن القطع الوجداني بالتكليف الفعلي

(1) ثم إن ان سيدنا الأستاذ دام ظله قد استقصى الكلام في الدورة السابقة في توضيح
احكام القطع، فأوضح مقالة الأخباريين في المقام، كما تكلم في حجية قطع القطاع غير أنه
(دام ظله) قد أسقط في هذه الدورة هاتيك المباحث، ونحن قد اقتفيناه اثره، أطال
الله بقاه
123

الذي لا يحتمل الخلاف ويعلم بعدم رضا المولى بتركه لكن اشتبه متعلق التكليف
بحسب المصداق أو غيره كما أن البحث في باب الاشتغال انما هو عن العلم
بالحجة المحتمل صدقها، وكذبها كاطلاق دليل حرمة الخمر الشامل لصورتي العلم
بالتفصيل والاجمال.
وعلى ذلك فلا شك ان العلم والقطع الوجداني بالتكليف علة تامة لحرمة المخالفة
ووجوب الموافقة القطعيين، ولا يجوز الترخيص في بعض أطرافه فضلا عن جميعه
ذ الترخيص كلا أو بعضا ينافي بالضرورة مع ذاك العلم الوجداني فان الترخيص
في تمام الأطراف يوجب التناقض بين الإرادتين في نفس المولى، كما أن الترخيص
في بعضها يناقض ذاك العلم في صورة المصادفة، وان شئت فحاسب في نفسك، فهل يمكن
تعلق الإرادة القطعية على ترك شرب الخمر، الذي يتردد بين الأطراف، مع الترخيص
في تمامها أو بعضها مع احتمال انطباق الواقع.
وبذلك يظهر انه لا مناص عن الاحتياط المحرز للواقع في تمام الأقسام من
الشبهات، محصورة كانت أو غير محصورة، بدوية كانت أو غيرها، فان العلم القطعي
بالتكليف لا يجتمع ابدا مع الترخيص في الشبهات في أي قسم منها، وسيوافيك
في مقام البحث عن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، ان الترخيص في الشبهات
لا ينفك عن رفع اليد عن التكاليف، والتصرف في المعلوم والتكليف وصيرورته شأنيا
والا فمع الفعلية بالمعنى الذي عرفته لا يجوز احتمال الترخيص فضلا عن الترخيص
الفعلي.
والحاصل انه مع العلم القطعي بالتكليف، لا يمكن العلم بالترخيص
لاستلزامه العلم بالمتناقضين، كما لا يجوز العلم به مع احتمال التكليف القطعي،
لان الترخيص الفعلي مع احتمال التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين ويعد من
اجتماعهما على فرض المصادفة.
وبهذا يعلم أن وجه الامتناع هو لزوم اجتماع النقيضين مع التصادف واحتماله
مع الجهل بالواقع، وانه لا فرق في عدم جواز الترخيص بين العلم القطعي بالتكليف
124

أو احتمال ذلك التكليف، وانه ليس ذلك لأجل كون العلم علة تامة للتنجيز أو مقتضيا
له، فان وجه الامتناع مقدم رتبة على منجزية العلم، فالامتناع حاصل، سواء كان العلم
منجزا أم لا كان علة تامة أم لا، فوجه الامتناع هو لزوم التناقض أو احتماله وقد عرفت
انه مشترك بين العلم الاجمالي والشبهة البدوية مع أن فيها لا يكون التكليف
منجزا فملخص الكلام ان احتمال الترخيص مع احتمال التكليف الفعلي مستلزم
لاحتمال اجتماع النقيضين فضلا عن احتماله مع العلم بالتكليف كذلك
ومما ذكر يظهر حال الأقوال المذكورة في الباب، فان كل ذلك ناش عن خلط
ما هو مصب البحث مع ما هو مصبه في باب الاشتغال، فما يقال من أن للشارع الاكتفاء
بالإطاعة الاحتمالية عند العلم بالتكليف التفصيلي كما في مجارى الأصول فكيف
مع العلم الاجمالي صحيح لو أراد بها ما هو مصب البحث في باب الاشتغال، فان الاكتفاء يكشف
عن التصرف في المعلوم، وتقبل الناقص مقام الكامل أو ما أشبهه من التوسعة في مصداق الطبيعة
، واما لو تعلق العلم الوجداني بان الطهور شرط للصلاة فمع هذا العلم، لا يعقل
الترخيص والمضي
اشكال وجواب
اما الأول: فيمكن ان يقال: إن بين عنواني المحرم الواقعي والمشتبه عموم
من وجه فهل يمكن ان يتعلق بهما حكمان فعليان كما في باب الاجتماع، و
التصادق في الخارج لا يوجب التضاد
وبعبارة أوضح: انه قد مر الكلام في أن مصب الاحكام هو العناوين الطبيعية
وان المصاديق الخارجية لا يعقل تعلق الإرادة بها، فان الخارج ظرف السقوط
لا الثبوت وعلى ذلك بنينا جواز تعلق الوجوب بالصلاة، والحرمة بالغصب لانفكاكهما
في لحاظ تعلق الاحكام، وان اجتماعهما في الخارج أحيانا لا يستلزم الامر والنهى
بشئ واحد وعليه فيمكن ان يقال: إن الحرمة القطعية قد تعلقت بالخمر الواقعي
، والترخيص بالمشتبه بما هو مشتبه، والتصادف في الخارج لا يستلزم جعل الترخيص
125

في محل النهى
واما الثاني: ان الكلام في المقام انما هو في مقدار تنجيز القطع ثبوتا،
وانه إذا تعلق بشئ اجمالا، فهل يجوز الترخيص في بعض الأطراف أو تمامها،
أو لا فتعلق الترخيص بعنوان آخر خارج عن محط البحث فان قلت الظاهر أن هذا
ينافي ما مر: (من أن وجه الامتناع مقدم رتبة على منجزية العلم فالامتناع حاصل
كان العلم منجزا أو لا)
قلت: لا تنافى ذلك ما مر لان ما مر في وجه امتناع الترخيص فقلنا إن علة
الامتناع مقدم رتبة والكلام هيهنا في مقدار تنجيز العلم لا وجه الامتناع فافهم
هذا أولا وثانيا ان جعل الترخيص بعنوان مشتبه الحرام ناظر إلى
ترخيص الحرام الواقعي على فرض التصادف، وهو لا يجتمع مع الحرمة
الفعلية وان قلنا بجواز الاجتماع، لان الحكمين في باب الاجتماع متعلقان بعنوانين
غير ناظرين إلى الاخر واما فيما نحن فيه يكون الترخيص ناظرا إلى ترخيص
الواقع بعنوان التوسعة، وهو محال مع الحكم الفعلي، فلا يرتبط بباب الاجتماع
والحاصل: ان قول الشارع أقم الصلاة ليس ناظرا إلى قوله الآخر لا تغصب
واجتماعهما صدفة في مورد، لا يرتبط بمقام الجعل، واما المقام، فالمولى إذا علم
بان بعض تكاليفه القطعية ربما يخفى على المكلف من حيث الاجمال، فلو رخص
في مقام الامتثال وقال رفع عن أمتي مالا يعلمون يكون ناظرا إلى ما أوجبه على
المكلف، فمع الإرادة القطعية على الامتثال مطلقا، لا يصح الترخيص منه قطعا
فتدبر.
المقام الثاني
وهذا المقام راجع إلى سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي فنقول: هل يجزى
الامتثال الاجمالي إذا اتى المأمور به بجميع شرائطه وقيوده، مع التمكن من الامتثال
التفصيلي أو لا، ومحل النزاع انما إذا كان الاختلاف بين الامتثالين من جهة الاجمال
126

والتفصيل لا غير فالمسألة عقلية محضة، وبذلك يظهر النظر ما عن بعض محققي العصر
قدس سره حيث إنه بنى جواز الاكتفاء وعدمه على اعتبار قصد الوجه والتميز
في المأمور به شرعا وعدم حصولهما الا بالعلم التفصيلي، أو عدم اعتبارهما، وان
أصالة الاطلاق أو أصالة البراءة، هل يرجع إليهما عند الشك في اعتبار هذه
الأمور أو لا
وجه النظر ان هذا خروج عن محط البحث ومصب النزاع، فإنه ممحض
في المسألة العقلية البحتة، وهى ان الامتثال الاجمالي هل هو كالامتثال التفصيلي مع
اشتراكهما في الاتيان بالمأمور به على ما هو عليه بشراشر شرائطه، واجزائه،
أو لا، واما القول بان الامتثال الاجمالي مستلزم لعدم الاتيان بالمأمور به على ما هو
عليه، فخروج عن البحث كما أن البحث عن لزوم قصد الوجه والتميز وعدمهما و
ابتناء المقام عليه، كلها بحث فقهي لا يرتبط بالمقام لأنه لو احتمل، دخالة ما ذكرنا
لا يكون الموافقة علمية اجمالية، بل احتمالية خارجة عن مصب البحث.
وان شئت قلت: ان البحث في أن العقل في مقام الامتثال هل يحكم بلزوم العلم
التفصيلي عند الاتيان بالمأمور به حال الاتيان به، وان الموافقة الاجمالية القطعية
لا تفيد مع الاتيان بالمأمور به بجميع قيوده - أو لا -، فالقول باحتمال دخالة قيد شرعا
في المأمور به وانه لا يحصل الا بالعلم التفصيلي، أجنبي عن المقام.
إذا عرفت ذلك: ان القائلين بعدم الاكتفاء يرجع محصل مقالهم إلى أمرين
الأول: ان التكرار لعب بأمر المولى وان العقل يحكم بان اللاعب بأمره
لا يمكن ان يتقرب به ولو اتى بجميع ما أمر به.
الثاني: ان الامتثال التفصيلي مقدم على الامتثال الاجمالي ومع التمكن منه
لا تصل النوبة إليه - فنقول اما الأول ففيه انه ربما يترتب الغرض العقلائي على التكرار
فلا نسلم ان الاحتياط لعب بأمر المولى وتلاعب به. بل يمكن القول بالصحة إذا كان
مطيعا في أصل الاتيان وإن كان لاعبا في كيفية الامتثال، فالصلاة على سطح المنارة أو
على أمكنة غير معروفة تجزى عن الواجب وإن كان لاعبا في ضمائمه.
127

واما الثاني فقد قرره بعض أعاظم العصر، وملخص ما افاده: ان حقيقة الإطاعة
عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون المحرك له، نحو العمل هو
تعلق الامر به وهذا الاحتمال لا يتحقق في الامتثال الاجمالي، فان الداعي في كل واحد
من الطرفين هو احتمال الامر، فالانبعاث، انما يكون عن احتمال البعث، وهذا وإن كان
قسما من الإطاعة الا انهما متأخرة رتبة عن الامتثال التفصيلي فالانصاف ان مدعى
القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الاجمالي مع التمكن عن التفصيلي في
الشبهات الموضوعية والحكمية، لا يكون مجازفا ومع الشك يكون مقتضى القاعدة
هو الاشتغال.
ثم نقل الفاضل المقرر (رحمه الله) وجها آخر وهو ان اعتبار الامتثال التفصيلي
من القيود الشرعية ولو بنتيجة التقييد.
وفيه: منع انحصار الإطاعة في الانبعاث عن البعث، بل يشمل للانبعاث عن
احتمال الامر أيضا، بل الآتي بالمأمور به بداعي اهتمال الامر أطوع ممن اتى به لأجل
الانبعاث القطعي فان الانبعاث عن احتمال الامر، كاشف عن قوة المبادى الباعثة إلى الإطاعة
في نفس المطيع، من الاقرار بعظمته، والخضوع لديه.
على أن الباعث ليس هو الامر الواقعي والالزم الالجاء، وعدم صدور العصيان
من أحد، بل الباعث هو تصور أمر الآمر وما يترتب عليه من العواقب والآثار، فينبعث
عن تلك المقدمات رجاء للثواب، أو خوفا من العقاب وهذا المعنى موجود عند
الانبعاث عن الاحتمال، و (الحاصل) ان الباعث هو المبادى الموجودة في نفس المطيع
من الخوف والخضوع، وهو موجود في كلا الامتثالين، أعني عند القطع بالامر أو
احتماله.
على أن الباعث للاتيان بالاطراف انما هو العلم بالبعث المردد بين الأطراف
فالانبعاث انما هو عن البعث في الموافقة الاجمالية أيضا والاجمال انما هو في المتعلق
أضف إلى ذلك ان ما ادعاه من كون الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية على فرض
امكان اعتباره شرعا بنتيجة التقييد، فهو مما لا دليل عليه، والاجماع في المقام مما
128

لا اعتبار لمحصله فضلا عن منقوله، لان المسألة عقلية يمكن أن يكون المستند هو
الحكم العقلي دون غيره
فتلخص ان دعوى تقدم الامتثال التفصيلي على الاجمالي ممنوع بعد كون
الحاكم في باب الإطاعات هو العقل، وهو لا يشك في أن الآتي بالمأمور به على ما هو عليه
بقصد إطاعة امره ولو احتمالا محكوم عمله بالصحة، ولو لم يعلم عين الاتيان ان ما اتى به
هو المأمور به، لان العلم طريق إلى حصول المطلوب لا انه دخيل فيه، وعليه فدعوى دخالة
العلم التفصيلي في حصول المطلوب دعوى بلا شاهد، فلا تصل النوبة إلى الشك حتى نتمسك
بالقواعد المقررة للشاك
هذا كله فيما إذا كان مستلزما للتكرار، واما إذا لم يستلزم، فقد قال رحمه الله بعدم
وجوب إزالة الشبهة، وان تمكن منها لامكان قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة
العمل، للعلم بتعلق الامر به، وان لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك الا إذا قلنا باعتبار
قصد الوجه في الاجزاء (انتهى)
وأنت خبير انه لو قلنا بلزوم كون الانبعاث عن البعث في صدق الإطاعة، لابد من
القول بعدم كفاية الامتثال الاجمالي في الاجزاء أيضا، فان الاجزاء وان لم يكن
متعلقة للامر مستقلة، لكن الانبعاث نحوها يكون بواسطة بعث المولى إلى الطبيعة،
فما لم يعلم أن السورة جزء من الواجب، لا يمكن ان يصير الامر المتعلق بالطبيعة، باعثا
إلى الجزء فالاتيان بالجزء المشكوك فيه ليس انبعاثا عن البعث القطعي، وهذا لا ينافي
ما ذكرناه في مقدمة الواجب من أن البعث إلى الاجزاء لابد وأن يكون بعين
البعث نحو الطبيعة، ولكن هذا البعث لا يتحقق الا مع العلم بالجزئية (وقد أسقط
سيدنا الأستاذ في هذه الدورة كثيرا من المباحث التي بحث عنها في الدورة السابقة و
نحن قد أسقطنا بعض المباحث روما للاختصار، وسيأتى في مبحث الاشتغال فتربص
حتى يأتيك البيان)
129

القول في الظن
ولابد من الكلام في مقامين: الأول في امكان التعبد بالظن والثاني في وقوع
التعبد به، وقد حكى عن ابن قبة امتناع التعبد وانكار امكانه، الا ان ما استدل به ليس
على نسق واحد فان قوله: التعبد بالخبر الواحد يستلزم اجتماع الحلال والحرام و
المفسدة والمصلحة، وإن كان ظاهرا في نفى الامكان، الا ان قوله الاخر: لو جاز
الاخبار عن النبي لجاز الاخبار عن الله يلوح منه نفى الوقوع مع قبول امكانه، وعليه
لا يكفي في رده اثبات الامكان حتى يثبت وقوعه
ثم إن الاستحالة التي ادعيت انما هي الذاتي أو الوقوعي، واما الامكان فليس
المراد منه الامكان الذاتي قطعا فإنه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه ولا برهان عليه
بل المراد الامكان الاحتمالي الواقع في كلام الشيخ: رئيس الصناعة من: انه كلما
قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان. و
الامكان الاحتمالي معناه تجويز وقوعه في مقابل ردعه وطرحه بلا برهان، وان شئت
قلت: عدم الاخذ بأحد طرفي القضية والجزم بامكانه أو امتناعه كما هو ديدن غير
أصحاب البرهان. وهذا من الأحكام العقلية يحكم به العقل السليم، ولو جرى عليه
العقلاء في اجتماعهم، فلأجل حكم عقولهم الصحيحة، وليس بناء منهم على الامكان
لمصلحة من المصالح الاجتماعية كما هو الحال في سائر أصولهم العقلائية
ثم إن ما هو المحتاج إليه في هذا المقام هو الامكان الاحتمالي فلو دل دليل
على حجية الظنون وجواز العمل بآحاد الاخبار، لا يجوز رفع اليد عن ظواهر تلك
الأدلة ما لم يدل دليل قطعي علي امتناعه، نعم لو دل دليل قطعي على امتناعه يأول ما دل
على حجيتها بظواهره: فاللازم رد ما استدل به القائل على الامتناع، حتى ينتج
الامكان الاحتمالي فيؤخذ بظواهر أدلة الحجية
وبذلك يظهر ان تفسير الامكان بالذاتي والوقوعي في غير محلة إذ مع أنه لا
طريق إليه، غير محتاج إليه، نعم الاستحالة المدعاة هي الذاتي والوقوعي على بعض
130

تقاديرها، فالأولى ان يقال في عنوان البحث هكذا: القول في عدم وجدان الدليل
على امتناع التعبد بالامارات واما ما أفاد بعض أعاظم العصر: من أن الامكان هو
الامكان التشريعي لا التكويني فان للتوالي المتوهمة هي المفاسد التشريعية لا
التكوينية، فلا يخلو عن اشكال فان الامكان التشريعي قسم من الوقوعي، وليس
قسيما له، ولو صح تقسيمه حسب المورد لصح تقسيمه إلى أنه قد يكون فلكيا و
عنصريا، ملكيا، ملكوتيا، وهكذا. أضف إلى ذلك ان المحذورات المتوهمة، مثل اجتماع
الحب والبغض والمصلحة والمفسدة والكراهة والإرادة في مورد واحد. محذورات
تكوينية لا غير
المحذورات المتوهمة في التعبد بالظن
لما كان المنقول عن ابن قبة مما بحث عنه الأصحاب كثيرا: فنرى المقام غنيا
عن ذكر عبارته وجوابه فنبحث في المقام مثل ما بحث عنه الأعاظم من المتأخرين
ويتضح في ضمنه خلل ما استدل به ابن قبة، وإن كان كلامه أساسا لبعض ما ذكر.
فنقول: ان المحذورات المتوهمة اما راجعة إلى ملاكات الاحكام كاجتماع
المصلحة والمفسدة، الملزمتين بلا كسر وانكسار واما إلى مبادئ الخطابات
كاجتماع الكراهة والإرادة، والحب والبغض، أو إلي نفس الخطابات كاجتماع الضدين
والنقيضين والمثلين، واما إلى لازم الخطابات كالالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة
فهذه أقسام أربعة من المحذورات، وعلى ذلك فحصر ملاك الامتناع في الملاكي و
الخطابي لا وجه له، كما أن عد الأخير من المحذورات الملاكية، لا يخلو عن خلل
فنقول:
المحذور الأول تفويت المصلحة والمفسدة الذي هو رابع المحاذير، فلان
المفروض ان الظن ليس دائم المطابقة، فالامر بالعمل على طبقه تفويت للمصالح من
الشارع على المكلف والقاء للمفاسد، إذ لولا امره لكان عليه السؤال وتحصيل العلم
عند الانفتاح، والعمل بالاحتياط عند انسداده.
وبذلك يظهر ان هذا المحذور لا يختص بصورة الانفتاح كما ادعاه بعض أعاظم
131

العصر (قدس سره) قائلا بان العمل على طبق الامارة لو صادف خير جاء من قبلها، بل
يجرى في صورة الانسداد أيضا، إذ لولا امره، وترخيصه ترك الاحتياط، كان عليه
العمل بما هو مبرئ للذمة قطعا، وما استدل به مسلم لو كان الامر دائرا بين العمل
به وبين ترك العمل به وبغيره مطلقا، لكنه دائر بين العمل به وبين العمل بالاحتياط
أو التجزي فيه، فلا يختص الاشكال بصورة الانفتاح بل يعم.
وقد يذب عن الاشكال بان الامارات غير العلمية، ربما يمكن أن تكون أكثر
إصابة عن العلم والاعتقاد الجازم، أو مساوية لها فالشارع الواقف على السرائر لأجل
وقوفه على هذه الجهة أمر بالعمل على طبق الامارات، وترك تحصيل العلوم المساوية
للامارات من حيث الصدق أو أدون، فلا يكون القاءا في المفسدة، أو تفويتا للمصلحة
كان باب العلم مفتوحا أو منسدا الظاهر عدم صحة الجواب، فإنه ان أراد من الانفتاح
حال حضور الامام مع امكان نيل حضوره والسؤال عنه، فلا اشكال ان المسموع عنه
عليه السلام أقل خطاءا من هذه الروايات المنقولة بوسائط، فان احتمال مخالفة الواقع فيما
سمعه عن الامام ليس الا لأجل التقية أو أمر أندر منه. وهذا بخلاف الروايات المعنعنة
المنقولة عن رجال يختلفون في الحفظ والوثاقة، وحسن التعبير، وجودة
الفهم.
وان أراد منه، حضوره عليه السلام مع تعسر السؤال عنه لبعد بلد المكلف،
أو كونه محبوسا، أو محصورا من ناحية الأشرار، ففيه ان تحصيل العلم التفصيلي غير
ممكن عادة، حتى يقال بان الامارات أكثر مطابقة منه، وما هو الممكن هو العلم
بالموافقة الاجمالية ولكنه دائم المطابقة للواقع، إذ لو اتى المكلف بمؤدى الامارة
وسائر المحتملات، فلا يعقل أصوبية مؤدى الامارة عن العلم، ولو صدق ذلك
لكان الاحتياط في موارد تحقق الامارة خلاف الاحتياط مع الضرورة بخلافه ويظهر
منه حال الانسداد.
فان قلت إن أمر الشارع بالتعبد باخبار الآحاد علة لانتشار الأحاديث في الأقطار
132

والامصار، فلو لم يقع من الشارع ايجاب التعبد بها لم يتحقق الدواعي إلى نقلها أصلا
ولو ترك نقلها، صارت الاحكام منسية غير معلومة لا اجمالا ولا تفصيلا، ومعه لا يتمكن
الانسان من الإطاعة الاجمالية والاحتياط في العمل لان طريقه صار مغفولا عنه لعدم انقداح
الاحتمال في الأذهان الا ببركة ما وصل إلينا منهم (ع).
قلت مع أن الدواعي إلى نقل الاخبار كثيرة، ان الشارع يمكن ان يتوصل إلى
غرضه (الاحتياط عند عدم العلم) بايجاب نشر الروايات ونقلها وبثها، حتى يحصل بذلك
موضوع للعمل بالاحتياط.
ويمكن ان يذب عن الاشكال: بان في ايجاب تحصيل العلم التفصيلي في زمان
الحضور وفى ايجاب الاحتياط في زمن الغيبة أو الحضور مع عدم امكان الوصول إليه عليه السلام مفسدة
غالبة توضيحه: اما في زمان الانفتاح، فلان السؤال عن الأئمة عليهم السلام وإن كان أمرا
ممكنا غير معسور، الا ان الزام الناس في ذلك الزمان على العمل بالعلم، كان
يوجب ازدحام الشيعة على بابهم، وتجمعهم حول دارهم وكان التجمع حول الامام
أبغض شئ عند الخلفاء، وكان موجبا للقتل والهدم وغيرهما فلو فرض وجوب
العلم التفصيلي في زمن الصادقين (ع) كان ذلك موجبا لتجمع الناس حول دارهم وديارهم
بين سائل وكاتب، وقارئ ومستفسر، وكان نتيجة ذلك تسلط الخلفاء على
الشيعة وردعهم، وقطع أصولهم عن أديم الأرض، وعدم وصول شئ من الأحكام الشرعية
موجودة بأيدينا. فدار الامر بين العمل بالأخبار الواردة عنهم (ع) بطريق الثقات
الموصلة إلى الواقع غالبا وان خالفت أحيانا، وبين ايجاب العلم، حتى يصل بعض
الشيعة إلى الواقع ويحرم آلاف من الناس عن الاحكام والفروع العملية، لما عرفت
ان الالزام على تحصيل العلم كان ذلك مستلزما للتجمع على باب الأئمة، وكان
نتيجة ذلك صدور الحكم من الخلفاء باخذهم وشدهم وضربهم وقتلهم واضطهادهم
تحت كل حجر ومدر.
واما الاحتياط في هذه الأزمان، أو زمن الحضور لمن لم يمكن له الوصول إليهم
(ع) ففساده أظهر من أن يخفى، فإنه مستلزم للحرج الشديد، واختلال النظام، و
133

رغبة الناس عن الدين الحنيف، بل موجب للخروج من الدين، فان الحكيم الشارع
لابد له ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم في تحمل الاحكام والعمل بها، ومثله التبعيض
في الاحتياط فإنه لو لم يوجب حرجا شديدا، لكنه موجب رغبة جمهرة الناس عن
الدين.
وبالجملة: البناء على الاحتياط المطلق، أو بمقدار ميسور، في جميع التكاليف
من العبادات والمعاملات والمناكحات، وغيرها يستلزم الحرج الشديد في بعض
الأحوال، ورغبة الناس عن الدين، وقلة العاملين من العبد للأحكام في بعض آخر
فلأجل هذا كله، امضى عمل العقلاء وبنائهم في العمل بالظنون واخبار الآحاد بمقدار
يؤسس لهم نظاما صحيحا، وهذا وان استلزم فسادا وتفويتا غير أنه في مقابل
اعراض الناس عنه، وخروجهم منه وقلة المتدينين به، لا يعد الا شيئا طفيفا يستهان به
ثم إن الشيخ الأعظم (قدس سره) التزم بقبح التعبد بالظنون في حال الانفتاح
واما حال الانسداد فقد ذهب إلى أن التفويت متدارك بالمصلحة السلوكية، وأوضحه
بعض أعاظم العصر بما حاصله: ان قيام الامارة يمكن أن يكون سببا لحدوث مصلحة
في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من
دون ان يحدث في المؤدى مصلحة بسبب قيام الامارة، غير ما كان عليه من المصلحة
بل المصلحة في تطرق الطريق، وسلوك الامارة، وتطبيق العمل على مؤداها والبناء
على أنه هو الواقع، بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى وبهذه المصلحة
السلوكية يتدارك ما فات من المكلف. انتهى
أقول وفيه مواقع للنظر منها ان حجية الامارة في الشرع ليس الا امضاء
ما كان في يد العقلاء في معاشهم ومعادهم، من غير أن يزيد عليه شيئا أو ينقص منه
شيئا ومن المعلوم ان اعتبار الامارات لأجل كونها طريقا للواقع فقط من دون ان يترتب
على العمل بها مصلحة وراء ايصالها إلى الواقع، فليس قيام الامارة عند العقلاء محدثا
للمصلحة لا في المؤدى ولا في العمل بها وسلوكها. وعليه فالمصلحة السلوكية لا
أساس لها.
134

ومنها: انه لا يتصور لسلوك الامارة وتطرق الطريق معنى وراء العمل على
طبق مؤداها فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة، فليس سلوكها الا العمل على
مؤداها والاتيان به: فلا يتصور للسلوك وتطرق الطريق مصلحة وراء المصلحة الموجودة
في الاتيان بالمؤدى وان شئت قلت: الاتيان بالمؤدى، مع المؤدى المحقق في
الخارج غير متغايرين الا في عالم الاعتبار، كتغاير الايجاد والوجود، فهذه المفاهيم
المصدرية النسبية لا يعقل ان تصير متصفة بالمصلحة والمفسدة، بل المفسدة والمصلحة قائمة
بنفس الخمر والصلاة.
وبعبارة أوضح: كون شرب الخمر واتيان الصلاة متعلقا للحرمة والوجوب.
وموصوفا بالمصلحة والمفسدة. لا ينافي كون تطريق الطريق محلا للحكم وموضوعا
له، فان تطرق الطريق عين ترك شرب الخمر وعين الاتيان بالصلاة
ومنها: ان ظاهر عبارة الشيخ وشارح مراده، ان المصلحة قائمة بالتطرق و
السلوك بلا دخالة للواقع في حدوث تلك المصلحة، وعليه فلو أخبر العادل عن الأمور
العادية لزم العمل على قوله في هذه الموارد أيضا لأنه إذا مصلحة سلوكية وهو
كما ترى.
ومنها: ان لازم تدارك المصلحة الواقعية، بالمصلحة السلوكية هو الاجزاء
وعدم لزوم الإعادة، والقضاء، إذ لو لم يتدارك مصلحة الواقع لزم قبح الامر بالتطرق
ولو تدارك سقط الامر، والمفروض ان المصلحة القائمة بتطرق الطريق ليست مقيدة
بعدم كشف الخلاف، فما يظهر من التفصيل من الشيخ الأعظم وبعض أعاظم العصر
ليس في محله ثم إن البحث عن الاجزاء قد فرغنا عنه في الأوامر فراجع وسيوافيك لباب
القول فيه في مبحث الاجتهاد والتقليد.
المحذور الثاني: " محذور اجتماع الضدين والنقيضين والمثلين "
اما هذا المحذور الذي كان ثالث المحاذير: فهو مبنى على ما هو المسلم عندهم:
من أن الأحكام الخمسة متضادة بأسرها يمتنع اجتماعها في موضوع واحد، والمراد
من الاحكام (على ما صرحوا به في بحث اجتماع الامر والنهى وفى باب الجمع بين
135

الحكم الواقعي والظاهري) هو الاحكام البعثية والزجرية وغيرهما. فلو فرضنا
كون صلاة الجمعة محرمة في نفس الامر وقامت الامارة على وجوبها، تصير صلاة
الجمعة مهبطا لحكمين متضادين.
ولا يخفى عليك: ان ما اشتهر بينهم من أن الاحكام متضادة بأسرها، ليس له
أساس صحيح، وقد استوفينا بعض الكلام في ذلك عند البحث عن جواز اجتماع الامر
والنهى ولكن نعيده هنا حذرا عن الإحالة
فنقول: انهم عرفوا الضدين بأنهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين،
المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصور اجتماعهما فيه بينهما غاية الخلاف، و
(عليه) فما لا وجود له لا ضدية بينه وبين شئ آخر، كما لا ضدية بين أشياء لا وجود لهما
كالاعتباريات التي ليس لها وجود الا في وعاء الاعتبار.
وعلى هذا التعريف لا ضدية أيضا بين أشياء لا حلول لها في موضوع ولا قيام
لهما به قيام حلول وعروض
إذا عرفت هذا: فاعلم: ان الانشائيات كلها من الأمور الاعتبارية لا تحقق
لها الا في وعاء الاعتبار، فان دلالة الألفاظ المنشأ بها على معانيها انما هي
بالمواضعة والوضع الاعتباريين. فلا يعقل ان يوجد بها معنى حقيقي تكويني أصيل
، فهيئة الامر والنهى وضعت للبعث والزجر الاعتباريين في مقابل البعث والزجر
التكوينيين، فقول القائل: صل، مستعمل في ايجاد البعث والحث والتحريك
الاعتباري، فالعلة اعتباري والمعلول مثله، وما ربما يقال من أن الانشاء قول
قصد به ثبوت المعنى في نفس الامر يراد به ان نفس الانشاء يكون منشئا للمعنى
في وعاء الاعتبار، بحيث يكون الألفاظ التي بها يقع الانشاء كهيئتي الامر والنهى
، مصاديق ذاتية للفظ، وعرضية للمعنى المنشأ لا انهما علل المعاني المنشئة فان
العلية والمعلولية الحقيقيتين لا يعقل بينهما
وان شئت قلت: ان التكلم بصيغة الامر، بما هو تكلم وصوت معتمد علي
مقطع الفم أمر تكويني من مراتب التكوين، واما جعل هذا التكلم دليلا علي
136

على إرادة البعث والتحريك، بلا آلة تكوينية، فإنما هو بالجعل والمواضعة التي هو
الموجب الوحيد لانفهام الامر المنشأ (البعث) فإذا كان المبدء أمرا اعتباريا
فالاخر مثله.
وعلى هذا الأساس، فالاحكام التكليفية، كلها من الأمور الاعتبارية لا وجود
حقيقي لها الا في وعاء الاعتبار، ومن ذلك يعلم أن الإضافات المتصورة عند الامر
بالشئ ليست الا إضافات اعتبارية فان للامر إضافة إلى الآمر إضافة صدور، وإضافة
إلى المأمور إضافة انبعات، وإضافة إلى المتعلق إضافة تعليقية، أولية، والى
الموضوع إضافة تعليقية ثانوية، وهكذا، فهذه الإضافات ليست من مراتب التكوين
، وانما هي أمور اعتبارية يستتبع بعضها بعضا. وبذلك يظهر ان الأحكام التكليفية
ليست اعراضا بالنسبة إلى متعلقاتها فليس قيام المعاني الاعتبارية (الاحكام)
بمتعلقاتها أو موضوعاتها، قيام حلول وعروض فيهما، بل كل ذلك
تشبيهات وتنزيلات، للمعقولات على المحسوسات، فان الأمور الاعتبارية انزل
من ذلك كله.
إذا عرفت ذلك تقف على بطلان القول بان الأحكام الخمسة أمور متضادة
كما اشتهر عنهم في باب الترتب واجتماع الامر والنهى، والجمع بين الأحكام الواقعية
والظاهرية وغيرها وأظن انك بعد الوقوف على ما ذكرنا تقف على أن بطلان
الضدية فيها ليس لأجل انتفاء شرط الضدية أو قيدها فيها، بل البطلان لأجل ان التضاد
والتماثل والتخالف من مراتب الحقيقة، أي المهية الموجودة، في المادة الخارجية فالاحكام
لاحظ لها من الوجود الخارجي، حتى يتحمل احكامه، وقس عليه سائر القيود، فإنها
أيضا منتفية، كما ذكرنا.
واما امتناع الامر والنهى بشئ واحد بجهة واحدة من شخص واحد، فليس لأجل
تضاد الاحكام بل لأجل مباديهما كالمصالح والمفاسد، والإرادة والكراهة وهما
لا تجتمعان، على أن الامر بالشئ جدا. والنهى عنه كذلك من آمر عالم ممتنع لأنه
يرجع إلى التكليف بالمحال، ومرجعه إلى التكليف المحال كما مر وجهه في مبحث
137

الاجتماع والامتناع.
وليعذرني اخواني من الإطالة وهو أولى من الإحالة
المحذور الثالث " محذور اجتماع الإرادة الوجوبية والتحريمية
حاصل الاشكال ان الإرادة القطعية قد تعلقت بالعمل على الأحكام الواقعية و
المفروض ان الامارات قد تؤدى إلى خلاف الواقع، فايجاب التعبد بها والترخيص
بالعمل بها مع فعلية الإرادة المتعلقة بالأحكام الواقعية مما لا يجتمعان
وهذا الاشكال سيال في الاحكام الظاهرية كلها، امارة كانت أو أصلا، فان إرادة
العمل على طبق العمارة والاستصحاب، أو قاعدة الفراغ، وأصالة الإباحة وهكذا
، مما لا يجتمع مع الإرادة الحتمية بالنسبة إلى الأحكام الواقعية، بعدما علم أن
الأصول والامارات قد تؤديان إلى خلاف الواقع
اما الجواب فنقول: اعلم أن للحكم الشرعي مرتبتين ليس غير " الأولى "
مرتبة الانشاء وجعل الحكم، على موضوعه كالاحكام الكلية القانونية قبل ملاحظة
مخصصاتها ومقيداتها نحو قوله تعالى. أوفوا بالعقود، أو أحل الله البيع، وكالاحكام
الشرعية التي نزل به الروح الأمين على قلب نبيه، ولكن لم يأن وقت اجرائها
لمصالح اقتضته السياسة الاسلامية، وترك اجرائها إلى ظهور الدولة الحقة (عجل الله تعالى
فرجه) الثانية مرتبة الفعلية وهى تقابل الأ ولي من كلتا الجهتين، فالاحكام
الفعلية، عبارة عن الاحكام الباقية تحت العموم والمطلق بعد ورود التخصيصات و
التقييدات حسب الإرادة الجدية، أو ما، آن وقت اجرائها، فالذي قام الاجماع على أنه
بين العالم والجاهل سواسية، انما هو الاحكام الانشائية المجعولة على موضوعاتها
سواء قامت عليه الامارة أم لا، وقف به المكلف أم لا وهكذا وهى لا يتغير عما هي
عليه، واما الفعلية، فيختلف فيها الأحوال كما سيوضح
واما توضيح الجواب وحسم الاشكال فهو ما مر منا،: ان مفاسد ايجاب
الاحتياط كلا أو تبعيضا صارت موجبة لرفع اليد في مقام الفعلية عن الأحكام الواقعية
في حق من قامت الامارة أو الأصول على خلافها، وليس هذا أمرا غريبا منه، بل
138

هذا نظام كل مقنن إذ في التحفظ التام على الواقعيات من الاحكام مفسدة عظيمة
لا تجبر بشئ أيسرها خروج الناس من الدين، ورغبتهم عنه، وتبدد نظام معاشهم
ومعادهم فلأجل هذا كله، رفع اليد عن اجراء الاحكام في الموارد التي قام الامارة أو الأصل
على خلافها، وليس هذا من قبيل قصور مقتضيات الاحكام وملاكاتها في موارد قيام الامارات
والأصول على خلافها، حتى يتقيد الأحكام الواقعية بعدم القيام بل من قبيل رفع اليد
لجهة اللابدية ومزاحمة الفاسد والافسد في مقام الاجراء
فالاحكام الواقعية تنشأ على موضوعاتها من غير تقييد وتوهم لغوية تلك الأحكام
الانشائية، إذا فرض قيام الامارة أو الأصل على خلافها من أول زمن تشريعها
مندفعة بأنه لا محالة ينكشف الخطاء ولو عند ظهور الدولة الحقة ولو كانت عاطلة
غير منشأة من رأس، صارت مهملة إلى الأبد حتى بعد قيام القائم عليه السلام لانسداد الوحي
وتشريع الاحكام بعدما رفع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الاعلى، وبذلك يندفع
الاشكال كله.
فان قلت: انه ليس في الواقع احكام انشائية، بل الموجود في نفس الامر، هو
انشاء الاحكام أي تشريعها على موضاعاتها المقدر وجودها بجميع ما اعتبر فيها
من القيود والشرائط وعدم الموانع على نهج القضايا الحقيقية، وفعلية الحكم عبارة
عن تحقق موضوعه بجميع ما اعتبر فيه، ولا يعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك فالاحكام
الواقعية اما مقيدة بعدم قيام الامارة على الخلاف أو لا، فعلى الأول يلزم التصويب، و
على الثاني يلزم اجتماع الضدين.
قلت: يكفي في صحة ما ذكرنا ملاحظة القوانين العالمية أو المختصة بجيل
دون جيل وطائفة دون آخر، فان الاحكام ينشأ على وجه الانشاء على موضوعاتها العارية
من كل قيد وشرط، ثم إذا آن وقت اجرائه، يذكر في لوح آخر قيوده ومخصصاته،
فالمنشأ على الموضوعات قبل ورود التخصيص والتقييد هو الحكم الانشائي، والحكم
الفعلي اللازم الاجراء، ما يبقى تحت العموم والمطلق، بعد ورودهما عليه، هذا أولا
139

وثانيا انه لو صح ما ذكر، من أن الاحكام مجعولة على موضوعاتها من أول الأمر
، بجميع قيوده، لما جاز التمسك بالاطلاق والعموم، فان مبنى التمسك، هو ان
الحكم مجعولة على المهية المجردة وان الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجدية
الا ما قام الدليل على خلافه، فلو كان اللازم انشاء الحكم على موضوعه بعامة قيوده،
لما صار للتمسك بأصالة الاطلاق معنى فان الاطلاق متقوم بان الواقع تحت دائرة الحكم
هو تمام الموضوع للحكم، ومثله أصالة العموم، فإنها متقومة بظهور الكلام في
كون الحكم على العموم، وان التخصيص كالتقييد أمر خارجي لا يتصرف في اللفظ بل
يكشف عن ضيق الإرادة الجدية
والحاصل، ان ملاحظة تقنين القوانين العرفية كافية في اثبات ما قلناه، فان
الدائر بينهم هو وضع الاحكام أولا بنحو العموم والاطلاق، ثم بيان مخصصاتها و
مقيداتها منفصلا عنها، من دون اخذ ما هو الملاك بحسب الإرادة الجدية في موضوع
الاحكام من أول الأمر، وأنت إذا تدبرت تعرف ان هذا الجواب سيال في موارد
الامارات والأصول إذا كانت مخالفة للواقع
المحذور الرابع: " محذور التدافع بين ملاكات الاحكام "
وهذا المحذور أعني ما يرجع إلى التدافع بين ملاكات الاحكام كاجتماع المصلحة
والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار، أول المحاذير: فقد ظهر الجواب عنه مما تقدم
ومحصله أرجحية ملاكات تجويز العمل على طبق الامارات والأصول من العمل بالاحتياط
للتحفظ على الواقع. وقد ظهر مما تقدم عدم اجتماع الملاكين في موضوع واحد على
ما سبق من لزوم المفاسد الخارجية أو السياسية لو الزم العمل بالاحتياط
جولة فيما ذكر من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
ثم إن الاعلام قد مالوا يمينا ويسارا في هذا الباب، فكل اختار مهربا للجمع
بين الاحكام الظاهرية والواقعية، فلا باس بالإشارة إلى بعضها فنقول:
قد ذكر بعض أعاظم العصر جوابا لتخلف الطرق والامارات، وجوابا آخر،
140

للأصول المحرزة، وثالثا لغير المحرزة منها، فأفاد (قدس سره) في الجمع عند تخلف
الطرق ما هذا حاصله: ان المجعول فيها ليس حكما تكليفيا، حتى يتوهم التضاد بينها
وبين الواقعيات، بل الحق ان المجعول فيها هو الحجية والطريقية، وهما من الأحكام الوضعية
المتأصلة في الجعل، خلافا للشيخ (قدس سره) حيث ذهب إلى أن الأحكام الوضعية
كلها منتزعة من الأحكام التكليفية، والانصاف عدم تصور انتزاع بعض الأحكام
الوضعية من الأحكام التكليفية مثل الزوجية. فإنها وضعية ويتبعها
جملة من الاحكام كوجوب الانفاق على الزوجة وحرمة تزويج الغير لها، و
حرمة ترك وطيها، أكثر من أربعة أشهر إلى غير ذلك، وقد يتخلف
بعضها مع بقاء الزوجية، فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منها، وأي
جامع بين هذه الأحكام التكليفية، ليكون منشئا لانتزاع الزوجية، فلا محيص من
أمثالها عن القول بتأصل الجعل، ومنها الطريقية والوسطية في الاثبات، فإنها
متأصلة بالجعل ولو امضاء لما تقدمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا
يعتمدون عليها العقلاء في مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها
للواقع، فنفس الحجية والوسطية في الاثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار، من
دون أن يكون هناك حكم تكليفي منشأ لانتزاعه.
إذا عرفت حقيقة المجعول فيها، ظهر لك انه ليس فيها حكم حتى ينافي
الواقع فلا تضاد ولا تصويب، وليس حال الامارات المخالفة، الا كحال العلم المخالف
فلا يكون في البين الا الحكم الواقعي فقط مطلقا، فعند الإصابة يكون المؤدى
هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيزه. وعند الخطاء يوجب المعذورية
وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول
انتهى.
وفيما افاده مواقع للنظر: اما أولا: فقد أشرنا إليه وسيوافيك تفصيله
عند البحث عن حجية الأمارات العقلائية، ومحصله انه ليس في باب الطرق والامارات
، حكم وضعي ولا تكليفي وانما عمل بها الشارع كما يعمل بها العقلاء في مجارى
141

أمورهم من معاملاتهم وسياساتهم، وليس امضاء الشارع العمل بالامارات مستتبعا لانشاء
حكم، بل مآله إلى عدم الردع وعدم التصرف في بناء العقلاء، وما ورد من الروايات
كلها ارشاد إلى ما عليه العقلاء، وقد اعترف به قدس سره فيما سبق، ولكنه
أفاد هنا ما ينافيه.
وثانيا: لو كان المستند للقول بجعل الوسطية والطريقية، من جانب الشارع
هو الأخبار الواردة في شان الآحاد من الاخبار أو شان مخبريها، كقوله عليه السلام إذا أردت حديثا
فعليك بهذا الجالس وأشار إلى زرارة، ومثل قوله عليه السلام واما الحوادث الواقعة
فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، ومثل قوله عليه السلام عليك بالأسدي يعنى أبا بصير،
وقوله عليه السلام العمرى ثقة، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون، إلى غير ذلك من
الروايات الكثيرة التي سيجئ كثير منها في بابه - فلا شك انه لو كان المستند هذه الأخبار
، فالمجعول فيها - مع قطع النظر عما قلنا من أنها ارشاد إلى ما عليه العقلاء
- هو وجوب العمل على طبقها تعبدا على انها هو الواقع، وترتيب آثار الواقع على
مؤداها، وليس فيها أي اثر من حديث جعل الوسطية والطريقية، نعم لو كان المدرك
مفهوم آية النبأ، يمكن ان يقال: إنها بصدد جعل الكاشفية لخبر العادل، ولكنه
مع قطع النظر عن الاشكالات المقررة في محله، وعما احتملناه في الاخبار من كونها
ارشادا إلى عمل العقلاء، مدفوع بأنها بصدد جعل وجوب العمل على طبق قول
العادل، لا جعل المبينية والكاشفية، وانما المبينية جهة تعليلية لجعل وجوب العمل،
وليست موردة للجعل
وثالثا: ان ما هو القابل للجعل في المقام انما هو وجوب العمل على طبق
الاخبار، ووجوب ترتيب الأثر على مؤداها، واما الطريقية والكاشفية، فليس مما
تنالها يد الجعل فلان الشئ لو كان واجدا لهذه الصفة تكوينا، فلا معنى لاعطائها
لها، وإن كان فاقدا له كالشك، فلا يعقل ان يصير ما ليس بكاشف كاشفا، وما ليس طريقا
، طريقا، فان الطريقية والكاشفية، ليست أمرا اعتباريا كالملكية، حتى يصح جعلها
بالاعتبار، وقس عليه تتميم الكشف، واكمال الطريقية، فكما ان اللا كاشفية ذاتية
142

للشك، لا يصح سلبه، فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتي للامارات لا يمكن
سلبها فما يناله الجعل ليس الا ايجاب العمل بمفادها والعمل على طبقها، وترتيب آثار
الواقع عليها، ولما كان ذاك التعبد بلسان تحقق الواقع، والغاء احتمال الخلاف
تعبدا، صح انتزاع الوسطية والكاشفية
وقس عليه الحجية، فلان معناها كون الشئ قاطعا للعذر في ترك ما أمر بفعله
وفعل ما أمر بتركه ومعلوم انه متأخر عن أي جعل، تكليفا أو وضعا، فلو لم
يأمر الشارع بوجوب العمل بالشئ، تأسيسا أو امضاءا فلا يتحقق الحجية، ولا يقطع
به العذر.
ورابعا: ان عدم امكان انتزاع الزوجية عما ذكره من الاحكام، لا لعدم
الجامع بينها، بل لأجل كونها آثارا متأخرة عن الزوجية، وهى بعد يعد موضوعا
لهذه الأحكام المتأخرة، فلا معنى، لانتزاع ما هو المتقدم طبعا، عما هو متأخر
كذلك
نعم، ههنا احكام تكليفية، يمكن ان يتوهم امكان انتزاع الزوجية منها
كالأوامر الواردة بالنكاح في الآيات أو قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلك، ومع
ذلك كله، فالتحقيق ان الزوجية ليست من المخترعات الشرعية، بل من الاعتبارات
العقلائية، التي يدور عليها فلك الحياة الانسانية فيما ان الزوجية مما يتوقف عليه
نظام الاجتماع، ويترتب عليه آثار ومنافع لا تحصى، قام العقلاء على اعتبارها
، نعم الشرايع السماوية قد تصرف فيها تصرفا يرجع إلى اصلاحها وبيان
حدودها.
وخامسا: فبعد هذا الاطناب، فالاشكال باق بعد بحاله، فان جعل الوسطية
والطريقية والحجية للطرق والامارات مع العلم بأنها ينجر أحيانا إلى المخالفة و
المناقضة للواقع، لا يجتمع مع بقاء الأحكام الواقعية على ما عليها من الفعلية
التامة.
وبالحملة، ان الإرادة الجدية الحتمية بالأحكام الواقعية، لا تجتمع مع تعلق
143

مثل تلك الإرادة على جعل الوسطية للطرق التي ربما يوجب تفويت الواقع، فان
ذلك الجعل يلازم الترخيص الفعلي في مخالفة الأحكام الواقعية
وقياس جعل الوسطية في الاثبات، بالعلم المخالف للواقع أحيانا، قياس مع
الفارق فان العمل بالعلم المخالف، ليس ترخيصا من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعية، و
انما هو ضرورة ابتلى به المكلف لا من جانب الشارع، بل لقصور منه، وهذا بخلاف، جعل
الحجية على الامارة المؤدية إلى خلاف الواقع.
هذا كله إذا قلنا ببقاء الواقع على ما عليه من الفعلية، أي باعثا وزاجرا، واما
إذا قلنا بأنه يصير انشائيا، أو فعليا بمرتبة دون مرتبة، وان الشارع قد رفع اليد لأجل
مصالح اجتماعية عن تلك الواقعيات، فلا مضادة ولا منافاة بين الواقعي والظاهري، و
لا يحتاج إلى اتعاب النفس، وعقد هذه المباحث.
وبذلك يظهر ما في كلام المحقق الخراساني: حيث تخلص عن كافة الاشكالات
بان الحجية غير مستتبعة لانشاء احكام تكليفية، فان هذا التقريب لا يحسم مادة
الاشكال كالقول بان أحدهما طريقي والاخر واقعي، فان جعل الحجية والطريقية لما
كان ينتهى أحيانا إلى مخالفة الواقع ومناقضته، لا تجتمع مع فعلية الأحكام الواقعية
.
ما افاده في الأصول المحرزة
ثم إنه أفاد فيها ما هذا حاصله: ان المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي
الشك على أنه الواقع، والغاء الطرف الآخر، وجعله كالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام
القطع الطريقي، فالمجعول فيها ليس أمرا مغايرا للواقع، بل الجعل الشرعي
تعلق بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع، كما يرشدنا إليه قوله
عليه السلام في بعض اخبار قاعدة التجاوز: بأنه قد ركع، فإن كان المؤدى هو الواقع
فهو، والا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون ان يتعلق بالمؤدى
حكم على خلاف ما هو عليه، فلا يكون ما وراء الحكم الواقعي حكم آخر حتى
يناقضه ويضاده انتهى.
144

وفيه: ان الجري العملي والبناء العملي علي أحد طرفي الشك كما هو ظاهر كلامه.
مما لا تناله يد الجعل لأنه فعل للمكلف، وما يصح جعله انه هو ايجاب الجري العملي، فهو لا يفيد،
ولا يرفع غائلة التضاد بين الواقعية والظاهرية، فان ايجاب الجري العملي على اتيان
الشرط أو الجزء بعد تجاوز محله، مع أنه أحيانا يؤدى إلى ترك الواقع، لا يجتمع
مع فعلية حكم الجزئية والشرطية، ولا يعقل جعل الهوهوية بين الواقع وما يخالفه
أحيانا أضف إلى ذلك أنه ليس من حديث الهوهوية عين ولا اثر في الأصول التنزيلية
كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الاستصحاب وقاعدة التجاوز.
كلامه قدس سره في غير المحرزة من الأصول
ثم إنه قدس سره قد أفاد في هذا الباب ما هذا ملخصه: ان للشك في الحكم
الواقعي اعتبارين " أحدهما " كونه من الحالات والطواري اللاحقة للحكم الواقعي
أو موضوعه كحالة العلم والظن، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن اخذه موضوعا لحكم
يضاد الحكم الواقعي لانحفاظ الحكم الواقعي عنده (ثانيهما) اعتبار كونه موجبا
للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له، وهو بهذا الاعتبار، يمكن
اخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل، ومنجزا للواقع وموصلا إليه، كما أنه يمكن
اخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس
الامرية، فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم
كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه، فإنه أهم من مفسدة حفظ نفس الكافر، فيقتضى
جعل حكم طريقي لوجوب الاحتياط في موارد الشك، وهذا الحكم الاحتياطي انما
هو في طول الواقع لحفظ مصلحته، ولذا كان خطابه نفسيا لا مقدميا لان الخطاب المقدمي
مالا مصلحة فيه أصلا، والاحتياط ليس كذلك لان أهمية الواقع دعت إلى وجوبه، فهو
واجب نفسي للغير، لا واجب بالغير، ولذا كان العقاب على مخالفته، لا على مخالفة الواقع لقبح
العقاب عليه مع الجهل
فان قلت: فعليه يصح العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو لا، لكونه
145

واجبا نفسيا، قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الاحكام، والذي لا يدور الحكم
مداره هو الأول دون الثاني، ولا اشكال في أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن
علة للحكم بالاحتياط، ولا يمكن ان يبقى في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما
يجب حفظه ولكن لمكان جهل المكلف كان اللازم عليه، الاحتياط تحرزا عن مخالفة
الواقع.
ومن ذلك يظهر: انه لا مضادة بين ايجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي،
فان المشتبه، إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب
الواقعي ويكون هو هو، والا فلا لانتفاء علته، والمكلف يتخيل وجوبه لجهله
بالحال، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدمي، وإن كان من جهة
أخرى يغايره.
والحاصل: انه لما كان ايجاب الاحتياط من متممات الجعل الأولى فوجوبه
يدور مداره ولا يعقل بقاء المتمم (بالكسر) مع عدم المتمم، فإذا كان وجوب
الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضاد بينهما لاتحادهما في مورد
المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة، فأين التضاد هذا إذا كانت
المصلحة مقتضية لجعل المتمم، واما مع عدم الأهمية، فللشارع جعل المؤمن بلسان
الرفع، كما في قوله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي ما لا يعلمون، وبلسان الوضع: مثل قوله
عليه السلام كل شئ حلال، فان رفع التكليف ليس من موطنه ليلزم التناقض، بل رفع
التكليف عما يستتبعه من التبعات وايجاب الاحتياط، فالرخصة المستفادة من دليل
الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل لقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافات
للواقع، والسر فيه انها تكون في طول الواقع لتأخر رتبته عنه، لان الموضوع
فيها هو الشك في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع، وغير موصل
إليه ولا منجز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف
يعقل ان تضاده، و (بالجملة) الرخصة والحلية المستفادة من حديث الرفع وأصالة
الحل، تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من ايجاب الاحتياط. وقد عرفت
146

ان ايجاب الاحتياط يكون في طول الواقع فما يكون في عرضه، يكون في
طول الواقع أيضا، والا يلزم أن يكون ما في طول الشيئ في عرضه انتهى كلامه
رفع مقامه
ولا يخفى ان في كلامه قدس سره مواقع للنظر. نشير إلى مهماتها
1 - ان اخذ الشك تارة بما انه من الحالات والطواري اللاحقة للحكم
الواقعي، واخرى بما انه موجب للحيرة فيه، لا يرجع إلى محصل، لأنه تفنن في التعبير
وتغيير في اللفظ، ولو سلمنا ذلك حكما يرتفع غائلة التضاد بالاعتبار الثاني أعني
جعله موضوعا بما انه موجب للتحير لكون المجعول والموضوع في طول الواقع،
كذلك يرتفع الغائلة بجعل الحكم على الشك بالاعتبار الأول، لكون الشك في
الشئ متأخر عن الشئ، فجعل أحدهما رافعا دون الاخر لا محصل له، والحق
عدم ارتفاعها بكلا الاعتبارين، لكون الحكم الواقعي محفوظا مع الشك
والحيرة.
2 - ان الحكم الواقعي ان بقى على فعليته، وباعثيته، فجعل المؤمن كاصالة
البراءة مستلزم لترخيص ترك الواقع الذي هو فعلى ومطلوب للمولى، ومع هذا
فكيف يرتفع غائلة التضاد، وان لم يبق على فعليته وباعثيته (كما اخترناه من أن
الأحكام الواقعية لا تصلح للداعوية) فالجمع بين الواقعي والظاهري حاصل بهذا الوجه
بلا احتياج إلى ما أتعب به نفسه الزكية
3 - ان ما اورده على نفسه: من أن لازم كون الاحتياط واجبا نفسيا، هو صحة العقوبة
على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو لا، بعد باق على حاله، وما تفصى به عنه: من
عدم وجوب الاحتياط واقعا في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظه
لكون وجوب حفظ المؤمن علة للحكم بالاحتياط لا علة للتشريع - لا يدفع
الاشكال فان خلاصة كلامه (قدس سره) يرجع إلى أن وجوب الاحتياط دائر مدار وجود
الحكم الواقعي (وعليه) فالعلم بوجود الحكم الواقعي يلازم العلم بلزوم الاحتياط
كما أن العلم بعدمه يلازم العلم بعدم وجوب الاحتياط، ويترتب عليه ان الشك في
147

الحكم الواقعي يستلزم الشك في وجوب الاحتياط. فكما ان الحكم الواقعي لا
داعويه له في صورة الشك في وجوده، فهكذا وجوب الاحتياط، فلا يصلح للباعثية
في صورة الشك، ولو تعلق وجوب الاحتياط بمورد الشك الذي ينطبق على الواجب
الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمم آخر، ويصير ايجاب الاحتياط (ح) لغوا، فان
موارد الاحتياط كافة مما يكون وجود الحكم الواقعي مشكوكا (كما في الاحتياط
في الدماء والاعراض والأموال)
وبذلك يظهر ان ما ذكره من أن المكلف لما لم يعلم كون المشكوك مما
يجب حفظ نفسه أو لا يجب كان اللازم هو الاحتياط تحرزا عن مخالفة الواقع، غير
واضح، فان وجوب الاحتياط على النحو الذي قرره، لا يقصر عن الأحكام الواقعية،
فكما لا داعوية له في ظرف الشك في وجوده، فهكذا ما هو مثلها أعني وجوب
الاحتياط على ما التزم به (وعليه) يصير الاحتياط في عامة الموارد اللازمة في الشبهات
البدوية لغوا باطلا، فان الاحتياط في كافة الموارد انما هو في صورة الشك في الحكم
الواقعي لا غير.
والتحقيق ما هو المشهور، من أن الاحتياط ليس محبوبا وواجبا نفسيا، و
متعلقا لغرض المولى، والغرض من ايجابه هو حفظ الواقع لا غير، ولاجله لا يستلزم
ترك الاحتياط عقوبة وراء ترك الواقع.
4 -: ان ما ذكره في بعض كلامه: من أن متمم الجعل (أصالة الاحتياط)
فيما نحن فيه يتكفل بيان وجود الحكم في زمان الشك فيه، لا يخلو من ضعف،
لأنه مضافا إلى مخالفته لما قال سابقا من أن الاحتياط أصل غير محرز، يستلزم
كون الاحتياط أو ايجابه امارة لوجود الحكم في زمان الشك، وهو خلاف الواقع
، فان ايجاب الاحتياط مع الشك لغرض الوصول إلى الواقع، غير كونه كاشفا
عن الواقع
5 - ما ذكره: من أن أصالة البراءة والحلية في طول الواقع، لأنهما في عرض
الاحتياط الذي هو في طول الواقع، غير واضح: فان التقدم الرتبي غير التقدم الزماني
148

والمكاني فان ما ذكره صحيح فيهما، واما الرتبي فالتقدم والتأخر تابع لوجود
الملاك في الموصوف فان مجرد كون الشئ في عرض المتأخر رتبة عن الشئ
لا يستلزم تأخره عنه أيضا، فان المعلول متأخر رتبة عن علته، واما ما هو في رتبة
المعلول من المقارنات الخارجية، فليس محكوما بالتأخر الرتبي عن تلك العلة
- كما هو واضح في محله وعند أهله، واما حديث قياس المساواة، فقد ذكر
المحققون ان مجراها انما هو المسائل الهندسية فراجع إلى مظانها وأهلها.
تقريب آخر للجمع بين الواقعي والظاهري من الاحكام
وهو ما افاده بعض محققي العصر (قدس سره) وخلاصة ما افاده لرفع التضاد
هو ان الاحكام متعلقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى
بالنظر التصوري كونها غير الخارج، وإن كانت بالنظر التصديقي غيره، مع وقوف
الحكم على نفس العنوان وعدم سرايته إلى المعنون وانه قد ينتزع من وجود
واحد عنوانان طوليان بحيث يكون الذات ملحوظة في رتبتين تارة في رتبة سابقة
على الوصف، واخرى في رتبة لاحقة نظير الذات المعروضة للامر التي يستلزم
تقدم الذات عليه، والذات المعلولة لدعوته، المنتزع عنها عنوان الإطاعة التي يستلزم تأخر
الذات عنها وكالجهات التعليلية التي أنيط بها الحكم فإنه لابد فيها من فرض وجود الوصف
قائما بموصوفه والحكم في هذا الظرف على نفس الذات الملحوظة في الرتبة المتأخرة عن
الوصف بلا اخذ الوصف قيدا للموضوع كالجهات التقييدية، ومن هذا القبيل صفة
المشكوكية لأنها جهة تعليلية لتعلق الحكم بالموضوع حسب ظاهر أدلتها لا تقييدية
لموضوعاتها ولازم ذلك اعتبار الذات في رتبتين، تارة في الرتبة السابقة على الوصف، واخرى
في الرتبة اللاحقة، فيختلف موضوع الحكم الظاهري والواقعي رتبة بحيث لا يكاد
يتصور الجمع لهما في عالم عروض الحكم، بخلاف الطولية الناشئة من الجهات
التقييدية. لعدم طولية الذات رتبة، ومحفوظيتها في رتبة واحدة فلا يمكن رفع التضاد
كما أفيد (انتهى) ومن أراد التوضيح فليرجع إلى كتابه.
149

وفيما ذكره جهات من الخلل
منها ان ما ذكره في المقدمة الأولى من أن كل حكم لا يتجاوز عن عنوان إلى
عنوان آخر وان اتحدا وجودا صحيح جدا الا ان ما ذكره من أن الاحكام متعلقة على
العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوري كونها غير
الخارج وإن كانت بالنظر التصديقي غيره - غير صحيح، فإنه إن كان المراد ان الحاكم
يختلف نظره التصوري والتصديقي عند الحكم، فهو واضح الفساد، وان أراد ان الحاكم
لا يرى الاثنينية حين الحكم، وإن كانت المغايرة موجودة في نفس الامر، أو في نظرة
أخرى فهو يستلزم تعلق الامر بالموجود، وهو مساوق لتحصيل الحاصل بنظره وبالجملة
ان مآله إلى تعلق البعث إلى الأمر الخارجي فان القاء الصورة الذهنية من رأس وعدم التوجه
إليها عند الحكم يستلزم تعلق البعث على الطبيعة الموجودة، والظاهر أن منشأ
ما ذكره هو ما اشتهر بينهم من أنه لو تعلق الاحكام بالطبايع بما هي هي بلا لحاظ
كونها مرآة للخارج، يلزم كون الطبيعة مطلوبة من حيث هي هي وقد ذكرنا ما
هو الحق في مباحث الألفاظ
منها ان ما ذكره (قدس سره) من أن الذات في الجهات التعليلية والقضايا الطلبية
الشرطية يلاحظ مرتين متقدما تارة ومتأخرا أخرى كما في باب الأوامر غير
صحيح لا في المقيس ولا في المقيس عليه.
اما الثاني، فان الأوامر والاحكام التي يعبر عنها بالزجر والبعث الزاميا أو غير
الزامي، ليست من قبيل الاعراض بالنسبة إلى موضوعاتها حتى يكون فيها مناط
التأخر الرتبي، بل لها قيام صدورى بالامر، كما أن لها إضافة اعتبارية بالنسبة إلى
المأمور والمأمور به والآمر، وانما قلنا اعتبارية لأنها تحليلات ذهنية، لا يقابلها
شئ في الخارج، بحيث لولاه، فهي ليست عرضا لا في الذهن ولا في
الخارج.
واما الداعوية، فلو كانت داعوية الامر، أمرا تكوينيا حقيقيا، كان لما ذكره وجه
لأنه (ح) يتأخر الانبعاث عن البعث تأخر المعلول عن علته.
150

ولكن داعويته ليس الا ايقاعيا، أي مبينا لموضوع الإطاعة فقط، لا محركا
للمأمور نحو الامر، ضرورة ان العبد انما ينبعث عن المبادى الحاصلة في نفسه من
الخوف والرجاء، واما مجرد الامر فليس محركا ولو مع العلم به، و (على هذا)
فانبعاث العبد ليس من البعث حتى يقال إن الانبعاث متأخر عن البعث رتبة لعدم ملاك
التأخر الرتبي
واما تأخر الانبعاث عن البعث زمانا وتصورا، فهو لا يستلزم التأخر الرتبي
الذي لا يتحقق الا بين العلل والمعاليل.
واما المقيس: فلو سلم في المقيس عليه لأجل ان الذات تارة يلاحظ معروضة
فيصير متقدمة واخرى معلولة لدعوته، فتصير متأخرة، فلا نسلم في المقيس فان
الجهات التعليلية، ليست الا علة لتعلق الحكم بالموضوع فهي مقدمة على الحكم
وتعلقه بالموضوع، واما تقدمها علي الذات فلا وجه له، فلو قلنا: العصير العنبي يحرم
لغليانه فهنا موضوع وحكم وعلة، فلا شك ان الذات مقدم على الغليان لكونه وصفا
له، والحكم متأخر عن الوصف لكونه علة له
(وعلى ذلك) فتقدم العلة على الحكم، تقدم رتبي، وتأخره عنها أيضا كذلك، و
اما تقدمها على الذات، فليس له وجه، ولا ملاك،
هذا مع أن القول بارتفاع التضاد بالجهات التقييدية أولى بارتفاعه من
التشبث بالجهات التعليلية، فإنه يمكن ان يقال: إن بين عنواني الخمر والمشكوك
فيه عموما من وجه، لتصادقهما في الخمر المشكوك فيه مع كونه خمرا في الواقع
وتفارقهما في الخمر المعلومة، والمشكوك فيه إذا كان خلا، فيمكن أن يكون
أحد العنوانين مصبا للحلية، واخرى للحرمة، كما في عنواني الصلاة والغصب
لكن قد مر منا في مباحث القطع ما يرده أيضا، للفرق بين المقامين، فان الدليل
الدال على وجوب الصلاة، غير ناظر إلى ما يدل على حرمة الغصب وهذا بخلاف المقام
فان الأدلة المرخصة ناظرة إلى العناوين المحرمة، والشاهد عليه تحديد الحلية
إلى زمن العلم بالخلاف، ولأجل ذلك، لا يجتمع الإرادة الحتمية التحريمية علي
151

نحو الاطلاق مع الترخيص الفعلي لأجل الاشتباه، أو جعل الطرق وامضائها التي
يؤدى أحيانا إلى خلاف الواقع
ومنها: ان ما ادعاه من أن صفة المشكوكية والمشتبهية، جهات تعليلية
خلاف ظاهر أدلة الباب، فان الظاهر من حديث الرفع وروايات الحل والطهارة
وأدلة الاستصحاب والشك بعد تجاوز المحل، ان الاحكام متعلقة، بالمشكوك بما
انه مشكوك، وغير المعلوم بما انه كذلك.
جولة فيما ذكره شيخنا العلامة
ان شيخنا العلامة قد نقل وجوها للجمع، ونقل وجها عن السيد الجليل الأستاذ
السيد محمد الفشاركي، ومحصله: عدم المنافات بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع
الاخر، الشك في الأول.
وتوضيحه ان الاحكام تتعلق بالمفاهيم الذهنية من حيث إنها حاكية عن
الخارج فالشئ ما لم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية، ثم المفهوم
المتصور تارة يكون مطلوبا على نحو الاطلاق، واخرى على نحو التقييد، وعلى
الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في غير ذلك المقيد، وقد يكون لوجود المانع وهذا
الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقا، الا ان عتق الرقبة الكافرة مناف
لغرضه الاخر الأهم فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيد الرقبة بالمؤمنة لا لعدم المقتضى
بل لمزاحمة المانع وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب مع العنوان الآخر
المتحد معه، المخرج له عن المطلوبية الفعلية فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن
بحيث يكون تعقل أحدهما لا مع الاخر دائما لا يتحقق الكسر والانكسار بين الجهتين
فاللازم منه انه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية، يكون مطلوبا مطلقا
لعدم تعقل منافيه، ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضا
كذلك، لعدم تعقل منافيه، والعنوان المتعلق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلق
للأحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني ابدا لان الحالات اللاحقة
152

للموضوع بعد تحقق الحكم، وفى الرتبة المتأخرة عنه لا يمكن ادراجها في موضوعه،
فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق جهة المبغوضية
فيه، ويصير مبغوضا بهذه الملاحظة، لا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته، لان
الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقلا فعلا، لان تلك الملاحظة ملاحظة ذات
الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم
ان قلت: العنوان المتأخر وان لم يكن متعقلا في مرتبة تعقل الذات، ولكن
الذات ملحوظة في مرتبة تعلق العنوان المتأخر فيجتمع العنوانان، وعاد الاشكال
قلت: كلا فان تصور موضوع الحكم الواقعي مبنى على تجرده عن الحكم، و
تصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن
الجمع بين لحاظي التجرد واللا تجرد " انتهى كلامه رفع مقامه "
وفيه أولا: ان ذلك مبنى على امتناع اخذ ما يأتي من قبل الامر في دائرة
موضوع الحكم، كالشك في الحكم والعلم به، وقد قدمنا صحة الاخذ في باب التعبدي
والتوصلي واعترف (قدس سره) بصحته فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه
الجهة ممنوع
وثانيا: ان تأخر الشك عن الحكم وتحققه بعد تعلقه بالموضوع ممنوع فان
الشك في الشيئ لا يستلزم تحقق المشكوك في الخارج كما هو واضح، والالزم انقلاب
الشك علما لو علم بهذه الملازمة ومع الغفلة ينقلب إذا توجه، مضافا إلى أن تعلقه مع
الغفلة دليل على بطلان ما ذكروا ما لغوية جعل الحكم على المشكوك من دون سبق
حكم من الحاكم على الطبيعة المحضة، فإنما يلزم لو لم يكن للحاكم حكم أصلا، و
هو لا يستلزم تأخر جعل الحكم على المشكوك، عن نفس الحكم على الذات
الواقعي.
وثالثا: ان ما افاده (قدس سره) من مزاحمة جهة المبغوضية، مع جهة المحبوبية
مرجعها إلى التصويب الباطل، فان تلك المزاحمة، يستلزم تضيق الحكم في المزاحم
153

(بالفتح) بحسب اللب، وما ذكره من اطلاق الحكم بسبب الغفلة عن المزاحم غير
مفيد، فان الاهمال في الثبوت غير متصور، فان الصلاة وإن كانت واجبة في نفس
الامر، الا ان الصلاة المشكوك حكمها، لأجل ابتلائها بالمزاحم الأقوى، و
مزاحمة الجهة المبغوضية الموجود فيها في حال الشك، مع المحبوبية الكامنة
في ذاتها، يستلزم تقيد الوجوب في ناحية الوجوب المتعلق بالصلاة، و
يختص الوجوب بغير هذه الصورة وينحصر بالصلاة المعلومة الوجوب، فعاد
الاشكال
ورابعا: ان ما افاده في دفع الاشكال من أن موضوع الحكم الواقعي هو
الذات المجرد عن الحكم، غير واضح، فإنه ان أراد من التجرد، لحاظ الماهية
مقيدة بالتجرد عن الحكم حتى يصير الموضوع هو الطبيعة بشرط لا، فهو خلاف
التحقيق، فان متعلق الأوامر انما هو نفس الطبايع، غير مقيدة بشئ من القيود
حتى التجريد، على أنه أي لحاظ تجرد الموضوع عن الحكم يستلزم تصور الحكم
في مرتبة الموضوع، مع أنه حكم بامتناعه وجعل الحالات اللاحقة للموضوع كالحكم
والشك فيه، مما يمتنع لحاظه في ذات الموضوع، وان أراد من التجرد عدم اللحاظ أعني
اللا بشرط، فهو محفوظ في كل مرتبة، مرتبة الحكم الواقعي والظاهري، فيصير
مقسما لمعلوم الحكم ومشكوكه، فعاد المحذور.
وبقى في المقام تقريبات، ضربنا عنها صفحا، وفيما ذكرنا غنى وكفاية
تأسيس الأصل في التعبد بالظنون
ولنقدم أمورا
الأول: اعلم أن للحجية معنيين،
الأول: الوسطية في الاثبات والطريقية إلى الواقع، وبهذا المعنى تطلق
الحجة على المعلومات التصديقية الموصلة إلى المجهولات وعلى الأمارات العقلائية
أو الشرعية باعتبار كونها برهانا عقلائيا أو شرعيا على الواقع لا باعتبار صيرورتها
154

بعناوينها وسطا في الاثبات الثاني الغلبة على الخصم وقاطعية العذر واطلاق الحجة
بهذا المعنى على الامارات انسب، ثم إن الحجية بالمعنى الأول تستلزم وجودا وعدما
جواز الانتساب إلى الشارع وعدمه، إذ ليس للطريقية والوسطية في الاثبات معنى
سوى ذلك، واما بالمعنى الثاني فلا تلازم بينهما أصلا، فان الظن على الحكومة حجة
بالمعنى الثاني. لكونه قاطعا للعذر، ومع ذلك لا يصح معه الانتساب إليه.
الثاني ربما وقع الخلط بين عنواني التشريع والقول بغير علم، فاستدل بما
يدل علي حرمة القول بغير علم على حرمة التشريع، مع أن بينهما فرقا فان التشريع
عبارة عن ادخال ما ليس في الشريعة فيها وان شئت قلت: تغيير القوانين الإلهية، و
الأحكام الإلهية بادخال ما ليس في الدين فيه، واخراج ما هو منه عنه، وهذا ما يسمى
بدعة فلا كلام في حرمته ومبغوضيته، واما تفسير التشريع بالتعبد بما لا يعلم جواز
التعبد به من قبل الشارع فان أريد منه التعبد الحقيقي جدا، فلا شك انه أمر غير
ممكن خارج عن اختيار المكلف، إذ كيف يمكن التعبد الحقيقي بما لا يعلم أنه
عبادي، فان الالتزامات النفسانية ليست واقعة تحت اختيار النفس حتى توجدها
في أي وقت شاء، وان أريد منه اسناد ما لم يعلم كونه من الشريعة إليها، فهو أمر ممكن
لكنه غير التشريع بل عنوان آخر محرم أيضا، ويدل على حرمته ما ورد من حرمة
القول بغير علم، وما ورد من أدلة حرمة الافتاء والقضاء بغير علم (على اشكال في
دلالة القسم الثاني بلحاظ ان الحكم انشاء لا اسناد إلى الشرع)
ومما ذكرنا يظهر الخلط فيما افاده بعض الأعاظم (قدس سره) حيث جعل
العنوانين واحدا.
الثالث: الظاهر أن للتشريع واقعا قد يصيبه المكلف وقد لا يصيبه، فان تغيير
القوانين الشرعية كسائر المحرمات، مبغوض واقعي، قد يتعلق بها العلم وقد لا يتعلق
فهو مبغوض بمناطها الواقعي، كما أن القول بغير علم واسناد شئ إلى الشارع بلا
حجة مبغوض بماله من المناط.
155

وما افاده بعض أعاظم العصر (قدس سره) من أنه ليس للتشريع واقع يمكن ان
يصيبه أو لا يصيبه بل واقع التشريع هو اسناد الشئ إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه
إياه سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع
أو لم يكن - غير واضح إذ قد عرفت ان التشريع غير الاسناد من غير علم ولا حجة، و
ان الأول عبارة عن تغيير القوانين الإلهية، والتلاعب باحكام الله تعالى، وهو من العناوين
الواقعية متصفة بالقبح كالظلم بل هو منه، فلو جهل المكلف به لما اتصف بالقبح الفاعلي
مع كون الفعل حراما واقعا.
الرابع ان التشريع بأي معنى فسر، لا يسرى قبحه إلى الفعل الخارجي، إذ
لا وجه لتسرية القبح من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، كما هو المطرد في
الأحكام العقلية، و (على ذلك) فعلى القول بالملازمة فلا نستكشف من كون التشريع
قبيحا عقلا، الا حرمة ذلك العنوان شرعا، لا حرمة عنوان آخر مغاير معه، وهذا
واضح جدا.
فما افاده بعض الأعاظم (قدس سره) من امكان كون القصد والداعي من الجهات
والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون التعبد بعمل لا يعلم التعبد
به من الشارع موجبا لانقلاب العمل عما هو عليه. ويشهد على ذلك قوله عليه السلام رجل
قضى بالحق وهو لا يعلم لدلالته على حرمة القضاء، واستحقاق العقوبة عليه، فيدل
على حرمة نفس العمل غير واضح جدا، فان امكان كون القصد من الجهات المغيرة
لا يدل على فعلية ما ادعاه من النتيجة، إذ هي تابعة لأخس المقدمتين، أضف إليه، ان
كون بعض العناوين مغيرا، فما الدليل على أن هذه العناوين كذلك، فالاشكال في
كلية ما ادعاه، وما استدل من الرواية. ضعيف، فان حرمة القضاء مما لا كلام فيه، و
انما الكلام في حرمة العمل.
إذا عرفت ذلك: فنقول الحق في تقرير الأصل ما افاده في الكفاية فإنه الأنسب بالبحث
الأصولي حيث قال: إن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا، ولا يحرز التعبد به واقعا
156

عدم حجيته جزما بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا. وما افاده
شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فكأنه خارج عن محط الكلام فراجع هذا
ثم إن ما أفاد الشيخ الأعظم (قدس سره) في تأسيس الأصل: من حرمة التعبد
بالظن الذي لم يدل دليل على وقوع التعبد به، إذا تعبدنا على أنه من الشارع والالتزام
به كذلك، لا إذا اتى به رجاء ادراك الواقع، فإنه ليس بمحرم الا إذا استلزم طرح
ما يقابله من الأصول والأدلة، ثم استدل على مختاره بالأدلة الأربعة، فيه
مواقع للنظر.
منها: ان البحث عن الحرمة التكليفية للتعبد بالظن لا يناسب مع تقرير الأصل
في المسألة الأصولية اللهم الا ان يرجع إلى نفى الحجية باثبات الحرمة، استدلالا
على الملزوم (عدم الحجية) بوجود اللازم بناء على الملازمة بينهما والذي دعاه إلى
ذلك بنائه على عدم كون الحجية مجعولة وفيه منع الملازمة بينهما ولم يقم برهان
عليه بل قام على خلافه وأورد عليه (قدس سره) نقوض. منها ما عن المحقق الخراساني
(قدس سره) قائلا بنفي الملازمة بين الحجية وصحة الاستناد، مستشهدا، بان حجية
الظن عقلا على الحكومة في حال الانسداد، لا توجب صحة الاستناد و " منها " ما عن
بعض محققي العصر (قدس سره): من أن الشك حجة في الشبهات البدوية قبل الفحص
مع أنه لا يجوز الانتساب إليه تعالى و " منها " ما عنه (قدس سره) من أن جعل الاحتياط
في الشبهات البدوية كلها أو بعضها حجة على الواقع، مع أنه لا يصح معه الانتساب.
ويمكن ان يجاب عن الأول: بان الحجة في حال الانسداد هو العلم الاجمالي
فيكون الحجة هو العلم لا الظن وسيوافيك لو ساعدنا الحال لبيان ما هو الحق في الانسداد
ان ما يدعى من عدم كون العلم مقدمة، ضعيف، فان العلم الاجمالي بالأحكام
مع عدم جواز الاحتياط والاهمال، يوجب حكومة العقل بان أقرب الطرق إلى الواقع
هو الظن، فالظن ليس حجة بما هو ظن، بل الحجة هو العلم الاجمالي،
واما الجواب عن ثاني النقوض، ان الحجة ليس نفس الشك لان قاعدة قبح العقاب
بلا بيان غير محكمة مع وجود البيان في الكتب المعدة للبيان فالحجة الواصلة الواردة
157

في الكتب حجة على الواقع دون الشك نعم يمكن ان يجعل ذلك نقضا عليه إن كان محط
البحث أعم من قبل الفحص وقس عليه ثالث النقوض فان ايجاب الاحتياط رافع لموضوع
حكم العقل، فليس الشك حجة بل الحجة هو الواقع أو ايجاب الاحتياط وهذا أيضا
نقض عليه لا الشك البدوي.
ومنها ان ما استدل به من الأدلة غير حكم العقل مخدوش جدا بعد الغض عما
تقدم منا من أن الالتزام الجزمي بما شك كونه من المولى أو لا، أمر ممتنع لاحرام، و
اما ضعف الأدلة اللفظية فلان الافتراء في قوله تعالى: " آلله أذن لكم أم على الله
تفترون ".
عبارة عن الانتساب إلى الله تعالى عمدا وكذبا إذ الافتراء لغة هو الكذب
لا انتساب المشكوك فيه إليه، وما ذكره صاحب المصباح من أن الافتراء وإن كان لغة
هو الكذب الا انه لوقوعه في مقابل قوله: اذن لكم يعم المقام أيضا ضعيف، فان المراد
من الاذن هو الاذن الواقعي لا الاذن الواصل حتى يقال بان عدم وصول الاذن يلازم كونه
افتراءا كما لا يخفى
والأولى الاستدلال على حرمة الانتساب بقوله تعالى قل انما حرم ربى الفواحش
ما ظهر منها وما بطن... إلى أن قال عز اسمه وان تقولوا على الله مالا تعلمون -،
وبالأخبار الواردة في القول بغير علم، لو لم نقل بكونها ارشادا إلى حكم العقل
واما الآية السابقة: آلله اذن لكم الخ فظاهرها يأبى عن الارشاد، واما الاجماع
فموهون بالعلم بمستنده نعم حكم العقل بقبح الانتساب بغير علم لا سترة فيه خصوصا
إلى الله تعالى.
ومنها: ان ما افاده من حرمة العمل بالظن إذا استلزم طرح ما يقابله
من الأصول والامارات، لا يصح على مختاره، لان المحرم هو مخالفة الواقع لا الامارات
والأصول، والامر دائر بين التجري والمعصية
تقرير الأصول في العمل بالظن
وربما يقرر الأصل الأولى بالتمسك بالاستصحاب أعني أصالة عدم حجية الظن
158

وأورد عليه الشيخ بعدم ترتب الأثر العملي على مقتضى الاستصحاب لان نفس الشك في
الحجية موضوع لحرمة التعبد ولا يحتاج إلى احراز عدم ورود التعبد بالامارة و
استشكل عليه المحقق الخراساني (قدس سره) بوجهين:
أحدهما ان الحجية من الأحكام الوضعية وجريان الاستصحاب وجودا وعدما
لا يحتاج فيها إلى اثر آخر ورائها كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة.
ثانيهما لو سلم الاحتياج إلى الأثر فحرمة التعبد كما تكون اثرا للشك في
الحجية كذلك تكون اثرا لعدم الحجية واقعا فيكون الشك في الحجية موردا لكل
من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك، ويقدم الاستصحاب على القاعدة
لحكومتها عليها، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها. وأورد على الوجهين
بعض أعاظم العصر بعدما لخص كلامه كما ذكرنا بما ملخصه.
اما الأول فلان الاستصحاب من الأصول العملية ولا يجرى الا إذا كان في البين
عمل، وما اشتهر ان الأصول الحكمية لا تتوقف على الأثر، انما هو فيما إذا
كان المؤدى بنفسه من الآثار العملية لا مطلقا، والحجية وإن كانت
من الأحكام الوضعية المجعولة الا انها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها اثر عملي، و
الآثار المترتبة عليها: (منها) ما يترتب عليها بوجودها العلمي ككونها منجزة
للواقع عند الإصابة، وعذرا عند المخالفة و (منها) ما يترتب على نفس الشك في
حجيتها كحرمة التعبد بها وعدم جواز اسنادها إلى الشارع، فليس لاثبات عدم
الحجية اثرا لا حرمة التعبد بها، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا فجريان
الأصل لاثبات هذا الأثر أسوء حالا من تحصيل الحاصل للزوم احراز ما هو محرز
وجدانا بالتعبد.
واما الوجه الثاني فلان ما افاده: يعنى (المحقق الخراساني) من أن حرمة التعبد
بالامارة تكون ائرا للشك في الحجية ولعدم الحجية واقعا، وفى ظرف الشك
يكون الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة له ففيه: انه لا يعقل أن يكون الشك
في الواقع موضوعا للأثر الشرعي في عرض الواقع، مع عدم جريان الاستصحاب على
159

هذا الفرض أيضا، لان الأثر يترتب بمجرد الشك لتحقق موضوعه، فلا يبقى مجال
لجريان الاستصحاب ولا تصل النوبة إلى اثبات الواقع ليجرى الاستصحاب فإنه في
الرتبة السابقة على هذا الاثبات، تحقق موضوع الأثر، وترتب عليه الأثر، فأي فائدة
في جريان الاستصحاب، وحكومته على القاعدة: انما تكون فيما إذا كان ما يثبته
الاستصحاب غير ما يثبته القاعدة كقاعدتي الطهارة والحل واستصحابهما، فان القاعدة
لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية بل مفادهما حكم ظاهري بخلاف الاستصحاب -
وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الاكل، و
على ذلك يبتنى جواز الصلاة في اجزاء الحيوان الذي شك في حليته، إذا كان استصحاب
الحلية جاريا، كما إذا كان الحيوان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب وعدم جواز الصلاة
في اجزائه إذا لم يجر الاستصحاب وان جرت فيه أصالة الحل، فإنها لا تثبت الحلية
الواقعية وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب، فإنه في مورد جريان القاعدة
لا يجرى الاستصحاب وبالعكس، فالقاعدة تجرى في مورد العلم الاجمالي عند خروج
بعض الأطراف عن محل الابتلاء بالامتثال ونحوه، والاستصحاب يجرى عند الشك في
فعل المأمور به، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عين الأثر
المترتب على الشك. فالانصاف انه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية
عند الشك فيها (انتهى)
أقول قد عرفت سابقا ان التشريع وادخال شئ في الشريعة وتبديل الاحكام
عنوان برأسه ومبغوض شرعا ومحرم واقعي علم المكلف أو لا كما أن القول بغير العلم
وانتساب شئ إلى الشارع بلا حجة قبيح عقلا ومحرم شرعي غير التشريع وبمناط
مستقل خاص به فالشك في الحجية كما أنه موضوع لحرمة التعبد وحرمة الانتساب
إلى الشارع موضوع لاستصحاب عدم الحجية وحرمة التشريع وادخال ما ليس في
الدين فيه وعليه يكون الاستصحاب حاكما على القاعدة المضروبة للشك بمعنى انه مع
استصحاب عدم جعل الحجية وعدم كون شئ من الدين يخرج الموضوع عن القول
160

بغير علم لان المراد من القول بغير علم هو القول بغير حجة ضرورة ان الافتاء
بمقتضى الامارات والأصول والانتساب إلى الشارع مقتضاهما غير محرم وغير داخل في
القول بغير علم فعليه لا يكون الانتساب مع استصحاب العدم انتسابا بغير حجة
بل انتساب مع الحجة على العدم وهو كذب وافتراء وبدعة وتكون حرمته لأجل
انطباق تلك العناوين عليه لا عنوان القول بغير علم وتوهم مثبتية الأصل في غير محله
كما لا يخفى على المتأمل.
ثم إنه يرد على ما افاده بعض أعاظم العصر أمور: الأول: ان قوله: جريان
الاستصحاب، تحصيل للحاصل بل أسوء منه - لا يخلو من خلط لما عرفت: ان التشريع
غير التقول بغير علم، وما يحصل حكمه أعني الحرمة بمجرد الشك، انما هو
الثاني، واما الأول فهو يحتاج إلى عناية أخرى كما تقدم
الثاني: ان ما ادعاه: من امتناع كون الشك موضوعا للأثر في عرض الواقع
لم يقم عليه برهان إذا فرضنا وجود جعلين مستقلين.
الثالث: ان ما افاده: من أن الشك في الرتبة السابقة على الاستصحاب يترتب
عليه الأثر فلا يبقى مجال لجريانه غير وجيه، فان الشك في الواقع في رتبة واحدة
موضوع للقاعدة والاستصحاب، فكيف يمكن ان يتقدم على موضوع الاستصحاب
بعدما كان الأثر مترتبا على الواقع كما هو المفروض لا على العلم بعدم الواقع حتى
يقال تحقق هذا العنوان تعبدا في الرتبة المتأخرة عن الاستصحاب فتأمل وتقدمه على
الحكم الاستصحابي ليس الا كتقدمه على الحكم الثابت بالقاعدة، ضرورة تقدم كل
موضوع على حكمه
فان قلت لعل نظره (كما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم أيضا) ان صرف الشك
يترتب عليه الأثر في القاعدة، واما الاستصحاب فهو يحتاج إلى عناية أخرى من لحاظ
الحالة السابقة وجر الثابت سابقا إلى الزمان اللاحق.
قلت: ترتب الأثر على الشك عبارة أخرى عن جعل الحكم عليه كما أن
العناية في الاستصحاب كذلك فالشك فيهما موضوع للحكم في عرض واحد وحكمهما
161

متأخر عنه تأخر الحكم عن موضوعه
الرابع: ان ما افاده: من الفرق بين قاعدة الحلية والطهارة، واستصحابهما
من جواز الصلاة في المحكوم بالطهارة والحلية بالاستصحاب، دون المحكوم بهما
بمعونة القاعدتين، قد فرغنا عن ضعف هذا التفصيل في محله وأوضحنا حكومة
القاعدتين على أدلة الشرائط والاجزاء، وحكمنا بصحة الصلاة فراجع
الخامس: ان ما افاده: من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة الاشتغال،
ضعيف إذا ادعى الكلية، وان ادعى في بعض الموارد كما إذا اختل أركان الاستصحاب
فلا يفيد بحاله، ولعل ما ذكره من المثال من هذا القبيل، كما أن ما ذكره من عدم
جريان القاعدة عند الشك في المأمور به غير صحيح فتدبر
في حجية الظواهر
اعلم أنه قد خرج عن الأصل المذكور أمور:
الأول: الظواهر: وكان الأولى تأخير البحث عنها عن سائر المقامات لان
حجية الظاهر فرع كونه صادرا الا انا نقتفي اثر الشيخ الأعظم (قدس سره)
فنقول:
ان استفادة الحكم الشرعي من الأدلة يتوقف على طي مراحل
منها اثبات صدوره والمتكفل له كبرويا هو البحث عن حجية الخبر الواحد
وصغرويا هو علم الرجال وملاحظة أسانيد الروايات ومنها اثبات أصل الظهور
بالتبادر وعدم صحة السلب، وقول اللغوي ومهرة الفن بعد اثبات حجية قولهم.
ومنها اثبات جهة الصدور وان التكلم لأجل افهام ما هو الحكم الواقعي لا لملاك
آخر من التقية وغيرها ويقال أصالة التطابق بين الإرادتين
منها اثبات حجية الظهورات كتابا وسنة وهذا هو الذي انعقد له البحث
وما ذكرناه جار في عامة التخاطبات العرفية، فان حجية قول الرجل في
اقاريره ووصاياه واخباراته يتوقف على طي تلك المراحل عامة من غير فرق بين الكتاب
162

والسنة وغيرهما ولا ريب لمن له أدنى المام بالمحاورات العرفية، في أن ظواهر الكلام
متبعة في تعيين المراد، وعليه يدور رحى التكلم والخطابات من دون أي غمض منهم أصلا
وانهم يفهمون من قول القائل: زيد قائم بالدلالة العقلية على أن فاعله مريد له،
وان صدوره لغرض الإفادة، وان قائله أراد إفادة مضمون الجملة اخباريا أو انشائيا
لا لغرض أخرى، وبما ان مفردات كلامه موضوعة يحكمون ان المتكلم أراد المعاني
الموضوعة لها، وربما ان له هيئة تركيبية وله ظاهر ومتفاهم عرفي يحملون كلامه على أنه
مستعمل فيما هو ظاهر فيه، وان الظاهر من تلك الهيئة التركيبية مراد استعمالا ثم
يتبعون ذلك ان المراد استعمالا، مراد جدي، وان الإرادة الاستعمالية مطابقة بالإرادة الجدية
كل ذلك أصول وبناء منهم في محاوراتهم العرفية، ولا يصغون إلى قول من أراد الخروج
عن هذه القواعد وهذا واضح.
وانما الكلام في أن حجية الظواهر هل هو لأجل أصالة الحقيقة أو أصالة عدم
القرينة أو أصالة الظهور، أو ان لكل مورد من الشك أصل يخص به التحقيق هو
الأخير وان بنينا في الدورة السابقة على أن المعتبر عندهم أصل واحد وهو أصالة الظهور
ولكن بعد التدبر ظهر لنا ان الحق هو الأخير.
وخلاصته ان الكلام الصادر من المتكلم إذا شك في حجيته فإن كان منشأ الشك
احتمال عدم كونه بصدد التفهيم وان التخاطب لأجل اغراض اخر من الممارسة و
التمرين، فقد عرفت ان الأصل العقلائي على خلافه، وإن كان مبدء الشك، احتمال
استعمال اللفظ في غير ما وضع له غلطا من غير مصحح، فالأصل العقلائي على خلافه
وإن كان الشك لأجل احتمال استعمال المتكلم كلامه في المعنى المجازى على الوجه
الصحيح، فان قلنا إن المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ابتداءا كما هو المشهور
فأصالة الحقيقة هو المتبع، وان قلنا على ما هو التحقيق بان المجاز استعمال اللفظ في
ما وضع له للتجاوز إلى المعنى الجدي كما مر تحقيقه، فالمتبع هو تطابق الإرادة الاستعمالية
163

مع الإرادة الجدية. وإن كان الشك لأجل احتمال ان المتكلم يخرج بعض الموارد الذي
ليس مرادا جديا ببيان آخر كالتخصيص والتقييد بالمنفصل، فمرجعه إلى مخالفة
الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية على ما هو الحق من أن العام بعد التخصيص
حقيقة أيضا، فقد عرفت ان أصالة التطابق بين الإرادتين محكمة أيضا
واما المنقول بالواسطة فان المبدء للشك لو كان احتمال التعمد بحذف القرينة
فعدالة الراوي ووثاقته دافعة لذلك، وإن كان لأجل احتمال السهو والنسيان والاشتباه
والخطاء فكل ذلك منفية بالأصول العقلائية فما هو الحجة هو الظهور لكن مبنى الحجية
الأصول الأخر كما تقدم ذكرها واما أصالة الظهور فليست أصلا معولا بل إضافة الأصل
إلى الظهور لا يرجع إلى محصل الا ان يراد بعض ما تقدم.
حول مقالة المحقق القمي
وقد فصل في حجية الظواهر، ذلك المحقق العظيم حيث ذهب إلى حجية
الظواهر بالنسبة إلى من قصد افهامه، دون من لم يقصد. وهو ضعيف صغرى و
كبرى اما الأول فلان الاخبار الواصلة إلينا عن النبي والأئمة المعصومين (ع) ليس الا
كالكتب المؤلفة التي قال قده بحجية ظواهرها بالنسبة إلى الجميع، وذلك لان
الخطاب وإن كان متوجها إلى مخاطب خاص كزرارة ومحمد بن مسلم وأمثالهما، الا ان
الاحكام لما كانت مشتركة، وشأن الأئمة ليس الا بث الاحكام بين الناس، فلا جرم يجرى
الخطاب الخاص مجرى الخطاب العام في أن الغرض نفس مفاد الكلام من غير دخالة
افهام متكلم خاص
واما الكبرى فلبناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقا ما لم يحرز ان بناء التكلم
على الرمز وحذف القرائن اللازمة لوضوحه عند المخاطب، فلو أراد المفصل هذا القسم
فلما قاله وجه وجيه وان أراد غير ذلك فمدفوع بالبناء منهم على خلافه. هذا وان
من المرسوم الدائر في بعض الأحيان، مراقبة الرسائل الدائرة بين الأصدقاء و
الاخوان من جانب الحكومة ولا شك ان الرسائل الدائرة لم يقصد كاتبها الا افهام من
164

أرسله إليه، الا ان الحكومة والرقابة العسكرية إذا وجدوا فيها ما يستشم منه الخيانة
أو التجمع للفتنة صاروا إلى احضار الكاتب وزجره وحبسه.
مقالة الأخباريين في ظواهر الكتاب
وهم استدلوا على عدم حجية ظواهرها بوجوه منها ادعاء وقوع التحريف في
الكتاب حسب اخبار كثيرة، وهو يوجب عروض الاجمال المانع من التمسك به. و
هو بمعرض من السقوط صغرى وكبرى اما الصغرى: فان الواقف على عناية المسلمين
على جمع الكتاب وحفظه وضبطه قرائة وكتابة يقف علي بطلان تلك المزعمة وانه
لا ينبغي ان يركن إليه ذو مسكة، وما وردت فيه من الاخبار، بين ضعيف لا يستدل به، إلى
مجعول يلوح منها امارات الجعل، إلى غريب يقضى منه العجب. إلى صحيح يدل على أن
مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها
إلى تأليف كتاب حافل ولولا خوف الخروج عن طور الكتاب لأرخينا عنان البيان إلى
بيان تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة تلك القرون (1) وأوضحنا عليك ان الكتاب
هو عين ما بين الدفتين، والاختلاف الناشئة بين القراء ليس الا أمرا حديثا لا ربط له بما
نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين واما الكبرى فالتحريف على فرض
وقوعه انما وقعت في غير الاحكام مما هو مخالف لاعراضهم الفاسدة من التنصيص
على الخلافة والإمامة، وهذا لا يضر بالتمسك في الاحكام
منها العلم الاجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات والمطلقات، و
هو يمنع عن الاستدلال بالظهور، ومنها الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب، إلى غير ذلك
مما أجاب عنه الأساطين ولا حاجة إلى الإطالة

(1) غير أن فيما الفه فقيد العلم والأدب، فقيد التفسير والفلسفة العلامة الحجة: الشيخ
أبو عبد الله الزنجاني (رحمه الله) غنى وكفاية وقد اسما كتابه ب‍ (تاريخ القرآن) وطبع في القاهرة
وعليها مقدمة بقلم الأستاذ: احمد امين
165

البحث عما يتعين به الظاهر
ونكتفي في المقام بالبحث عن حجية قول اللغوي إذا كثر ما يبحث عنه في مباحث
الألفاظ يرجع إلى تشخيص الظاهر. وقد استدل عليه تارة ببناء العقلاء على الرجوع
إلى مهرة الفن من أهل الصناعات لكونهم أهل الخبرة في هذا الامر، واخرى بالاجماع
والانسداد، والمهم هو الأول، وهو مدفوع بان اللغوي مرجع في موارد الاستعمال
لا في تشخيص الحقايق عن المجاز، أضف إلى ذلك ان مجرد بناء العقلاء على الرجوع
في هذه القرون لا يكشف عن وجوده في زمن المعصومين حتى يستكشف من سكوته
رضاه، مثل العمل بخبر الواحد وأصالة الصحة ولم يرد منهم (ع) ما يدل على رجوع
الجاهل بالعالم حتى نتمسك باطلاقه أو عمومه في موارد الشك والحاصل ان موارد
التمسك ببناء العقلاء انما هو فيما إذا أحرز كون بناء العقلاء بمرأى ومسمع من
المعصومين (ع)، ولم يحرز رجوع الناس إلى صناعة اللغة في زمن الأئمة بحيث كان
الرجوع إليهم كالرجوع إلى الطبيب.
فان قلت رجوع الصحابة في معاني مفردات القرآن إلى حملة العلم كابن عباس
ونظرائه مما لا سترة فيه، وكون الرجل عربيا فصيحا لا يوجب احاطته بعامة لغاته
كما في غير العربي من الألسنة: ولا شك انه كان أمة كبيرة من الأصحاب مراجع فيما
يتعلق بالقرآن والحديث في توضيحهما وتفسيرهما وتبيين مفرداتهما على أن اللغة
قد دونت في زمن المعصومين، فان أول من دونه هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عده
الشيخ من أصحاب الصادق (ع)، وبعده ابن دريد صاحب الجمهرة الذي هو من أصحاب
الجواد (ع) والف ابن السكيت اصلاح المنطق الذي قتله المتوكل لتشيعه وهذا يكشف
عن كون التدوين والرجوع إلى معاجم اللغة كان أمرا دائرا.
قلت لم يثبت رجوعهم إلى مثل ابن عباس وغيره في لغة القران ومفرداته بل
الظاهر رجوعهم إلى مثله في تفسير القرآن المدخر عنده من أصحاب الوحي وصرف تدوين
اللغة في عصر الأئمة (ع) لا يدل على اخذ الناس اللغة بصرف التقليد كالرجوع إلى
166

الطبيب والفقيه نعم الرجوع إلى كتب اللغة ربما يوجب تشخيص المعنى بمناسبة
ساير الجمل كما في رجوعنا إليها فصرف تدوين اللغة والرجوع إليها في تلك الاعصار
لا يفيد شيئا
الاجماع المنقول
وتحقيق الحال يتوقف على رسم أمور:
الأول: ان الاجماع عند العامة دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنة لما
نقلوا عن النبي صلى الله عليه وآله لا تجتمع أمتي على الضلالة أو على الخطاء ولذلك اشترطوا
اتفاق الكل وعرفه الغزالي: بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور الدينية،
ولكن لم يكن المرمى من الاجماع وحجيته، وما اختلقوا له من المستند، الا
اثبات خلافة الخلفاء، ولما رأوا ان ما عرف به الغزالي لا ينطبق على مورد الخلافة
ضرورة عدم اجتماع الأمة جميعا عليها لمخالفة كثير من الأصحاب وجمهرة
بني هاشم، عدل الرازي والحاجبي إلى تعريفه بوجه آخر، فعن الأول بأنه اتفاق أهل الحل
والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور، وعن الثاني انه اجماع المجتهدين من هذه
الأمة في عصر على ما مر مع عدم تتميم مقصدهم بأي تعريف عرف لمخالفة جمع من أهل
الحل والعقد والمجتهدين معها واما عند الخاصة فليس حجة بنفسه اتفاقا بل لأجل
انه يستكشف منه قول المعصوم أو رضاه سواء استكشف من الكل أو اتفاق جماعة،
ولعل تسمية ما هو الدليل الحقيقي (السنة) بالاجماع لإفادة ان لهم نصيبا، منها
وليكون الاستدلال على أساس مسلم بين الطرفين، ولعله على ذلك يحمل الاجماعات
الكثيرة الدائرة بين القدماء كالشيخ وابن زهرة واضرابهم كما يظهر من مقدمات
الغنية، والا فقد عرفت ان الاجماع عندنا وعندهم مختلف غاية وملاكا
الثاني: ان البحث في المقام انما هو عن شمول أدلة حجية الخبر الواحد
للاجماع المنقول به وعدم شموله وكان الأولى ارجاء البحث إلى الفراغ عن حجيته
وكيف كان فنقول انه سيوافيك ان الدليل الوحيد على حجية الخبر الواحد، ليس الا بناء
167

العقلاء وما ورد من الآيات والاخبار كلها ارشاد إلى ذلك البناء
وعليه فنقول: لا شك في حجية الخبر الواحد في الاخبار عن المحسوسات
المتعارفة أو غير المحسوس إذا عده العرف لقربه إلى الحس، محسوسا، واما إذا كان
المخبر به محسوسا، غريبا غير عادى أو مستنبطا بالحدس عن مقدمات كثيرة
فللتوقف مجال، لعدم احراز وجود البناء في هذه المقامات فلو ادعى تشرفه أو سماع
كلامه بين المجمعين، فلا يعبأ به،. وان شئت قلت: حجية الاخبار الآحاد
مبنية على أمرين، عدم التعمد في الكذب، وعدم خطائه فيما ينقله، والأول مدفوع
بعدالته ووثاقته سواء كان الاخبار عن حس أو حدس، واما الثاني فأصالة عدم الخطاء
أصل عقلائي، ومورده، ما إذا كان المخبر به أمرا حسيا أو قريبا منه، واما
إذا كان عن حدس أو حس لكن المخبر به كان أمرا غريبا عاديا، فلا يدفع احتمال
الخطا بالأصل بل يمكن ان يقال إن أدلة حجية خبر الثقة غير واف لاثبات مثل الاخبار
بالغرائب الا إذا انضم إلى دعواه قرائن وشواهد
الثالث: ان الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة بالنسبة إلى الكاشف إذا
كان ذا اثر شرعي واما بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجة لأنه ليس اخبارا عن أمر
محسوس، فلا يشمله ما هو الحجة في ذلك الباب، وقياس المقام بالاخبار عن الشجاعة
والعدالة غير مفيد، لان مباديهما محسوسة، فإنهما من المعقولات القريبة إلى
الحس، ولأجل ذلك يقبل الشهادة عليهما، واما قول الإمام فهو مستنبط بمقدمات
وظنون متراكمة كما لا يخفى
الرابع: ان القوم ذكروا لاستكشاف قول الإمام عليه السلام طرقا أوجهها دعوى
الملازمة العادية بين اتفاق المرئوسين على شئ ورضا الرئيس به، وهذا أمر
قريب جدا، ولأجل ذلك لو قدم غريب بلادنا وشاهد اجراء قانون العسكرية في كل
دورة وكورة يحدس قطعا ان هذا قانون قد صوب في مجلس النواب، واستقر عليه رأى
من بيده رتق الأمور وفتقه
واما ما افاده بعض أعاظم العصر: من أن اتفاقهم على أمر إن كان نشأ عن
168

تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين اجماع المرئوسين ورضاء الرئيس
مجال، واما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم فهو مما لا يلازم عادة رضاء الرئيس
ولا يمكن دعوى الملازمة، فضعيف جدا، لان انكار الملازمة في صورة التواطؤ
أولى وأقرب من الاجماع بلا تواطؤ، فان الاتفاق مع عدم الرابط بينهما يكشف عن
وجود ملاك له من نص أو غيره، واما الاتفاق مع التواطؤ فيحتمل أن يكون معلل
بأمر غير ما هو الواقع. فلو ادعى القائل بحجية الاجماع المنقول انه كاشف عن
الدليل المعتبر الذي لم نعثر عليه أو عن رضاه فلا يعد أمرا غريبا
هذا ولكنه موهون من جهة أخرى فان من البعيد جدا ان يقف الكليني أو
الصدوق أو الشيخ ومن بعده على رواية متقنة دالة على المقصود، ومع ذلك تركوا
نقلها والأولى ان يقال إن الشهرة الفتوائية عند قدماء الأصحاب يكشف عن كون الحكم
مشهورا في زمن الأئمة، بحيث صار الحكم في الاشتهار بمنزلة أوجبت عدم الاحتياج
إلى السؤال عنهم (ع) كما نشاهده في بعض المسائل الفقهية وبالجملة ان اشتهار حكم
بين الأصحاب يكشف عن ثبوت الحكم في الشريعة المطهرة، ومعروفيته من لدن
عصر الأئمة (ع)
الشهرة الفتوائية
لا اشكال في عدم حجية الشهرة الفتوائية في التفريعات الفقهية الدائرة بين
المتأخرين من زمن شيخ الطائفة إلى زماننا هذا وما استدلوا به على حجيتها من التمسك
بفحوى أدلة حجية الخبر الواحد أو تنقيح المناط، أو تعليل آية النبأ أو دلالة المقبولة
أو تعليلها، لا يخلو من ضعف غنى عن البيان، وانما الكلام في الشهرة المتقدمة
على الشيخ أعني الشهرة الدائرة بين قدماء أصحابنا الذين كان ديدنهم التحفظ على
الأصول والافتاء بمتون الرواية، إلى أن ينتهى الامر إلى أصحاب الفتوى والاجتهاد،
فالظاهر وجود مناط الاجماع فيه وكونه موجبا للحدس القطعي على وجود نص معتبر دائر
بينهم أو معروفية الحكم من لدن عصر الأئمة كما أشرنا إليه
169

واما ما اشتهر من الشيخ عن مقدمة المبسوط من أن ديدن الأصحاب قد كان جاريا على
الجمود على النصوص من دون أدنى خروج من ظواهرها تكريما لأئمتهم وتعظيما
لهم صلى الله عليه وآله غير أن الشيخ قد نقض تلك الطريقة ببعض تأليفه وأورد المسائل بعبارات
غير دارجة عند أصحاب النصوص، وفرع على الأصول كثيرا من التفريعات غير المذكورة
في الروايات وجاء الأصحاب بعد الشيخ حذوا حذوه، إلى يومنا هذا
فغير ظاهر فانا بعد الفحص لم نجد الكتب المؤلفة في عصره أو في عصر قبله
على ما وصفه فراجع ما بقى بأيدينا من تأليف المفيد والمرتضى وسلار وابن حمزة و
اضرابهم، ممن نقل العلامة في المختلف عبائرهم كابن جنيد وابن أبي عقيل وابن شاذان
لكن الطبقة السابقة على أصحاب الفتوى كان دأبهم على ما وصفه من الجمود على
ذكر الروايات المطابقة لفتويهم أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح والتقييد و
التخصيص، ومن أظهر مصاديقه فقه الرضا، وقريب منه بعض كتب الصدوق وأبيه
(قدس الله اسرارهم).
وعلى ذلك فلو قلنا إن في مثل تلك الشهرة مناط الاجماع بل الاجماع ليس
الا ذاك فليس ببعيد ويمكن ان يستدل على حجيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن
حنظلة حيث قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع
عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك
فان المجمع عليه لا ريب فيه (وجه الاستدلال) ان الاشتهار بين الأصحاب في تلك الأزمنة
بحيث يكون الطرف المقابل شاذا معرضا عنه بينهم ولا يكون مضرا باجماعهم عرفا
بحيث يقال إن القول الشاذ مخالف لاجماع أصحابنا، لا شبهة في كشفه عن رأى
المعصوم وحجيته وهذا هو الاجماع المعتبر الذي يقال في حقه ان المجمع عليه
لا ريب فيه.
ومن ذلك يظهر انه لا دليل على حجية مجرد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس
منها قول الإمام عليه السلام كما هو المناط في الاجماع المحصل والمنقول.
ثم إن بعض أعاظم العصر (قدس سره) قد ضعف هذا الاستدلال وقال: ان الاستدلال
170

بهذا التعليل ضعيف لأنه ليس العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى
عن موردها، فان المراد من قوله عليه السلام فان المجمع عليه لا ريب فيه، إن كان هو الاجماع
المصطلح، فلا يعم الشهرة الفتوائية، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله
مما لا ريب فيه عليه بقول مطلق، بل لابد أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى
ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلية لأنه يعتبر في الكبرى الكلية
صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها كما في قوله: الخمر حرام لأنه مسكر فإنه
يصح ان يقال: لا تشرب المسكر بلا ضم الخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة
لا ينطبق على ذلك لأنه لا يصح يقال: يجب الاخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى
ما يقابله والا لزم الاخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره، وبأقوى الشهرتين وبالظن
المطلق وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها، فالتعليل أجنبي
عن أن يكون من الكبرى الكلية التي يصح التعدي عن موردها (انتهى) وفيه:
ان الكبرى ليست مجرد كون الشئ مسلوبا عنه الريب بالإضافة إلى غيره حتى
يتوهم سعة نطاق الكبرى، بل الكبرى كون الشئ مما لا ريب فيه بقول مطلق
عرفا بحيث يعد طرف الاخر شاذا نادرا لا يعبأ به عند العقلاء، وهذا غير موجود
في الموارد الذي عده (قدس سره) فان ما ذكره من الموارد ليس مما لا ريب فيه عند
العرف بحيث صار الطرف المقابل أمرا غريبا غير معتنى به بل الظاهر أن عدم الريب
ليس من المعاني الإضافية حتى يقال لا ريب فيه بالنسبة إلى مقابله بل من المعاني
النفسية التي لا يصدق الا مع فقد الريب بقول مطلق عن شئ فقوله لا ريب فيه كبرى
كلية وكل ما كان كذلك عرفا يجب الاخذ به ولا يرد عليه ما جعله نقضا لذلك
فتلخص مما ذكر حجية الشهرة الفتوائية الدائرة بين القدماء إذا كان موجبا
للحدس بثبوت الحكم دون غيره من الشهرة في التفريعات الاجتهادية، (وسيوافيك
بعض الكلام في مبحث التعادل والترجيح وان الشهرة الفتوائية على مضمون إحدى
الروايتين يوجب سقوط الأخرى عن الحجية)
171

في حجية الخبر الواحد
وقد وقعت معركة للآراء ولا محيص للفقيه عن الخوض فيها لأنه يدور عليها
رحى الاستنباط في هذه الاعصار فاستدل المنكرون بوجوه، من الآيات قوله تعالى
: ان الظن لا يغنى من الحق شيئا. ولكن المتدبر في سياق الآيات يقف على انها
راجعة إلى الأصول الاعتقادية ومنها قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم أن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا وذيل الآية يوجب تعميمها للفروع
لو لم نقل باختصاصها بها. ولكن صحة الاستدلال بها مستلزمة لعدم جواز الاستدلال
بها، وذلك لأنه يدل على نحو القضية الحقيقية على الزجر عن كل اتباع بغير علم
يوجد في الخارج، مع أن الاخذ بظاهر الآية أيضا اتباع لغير علم ومصداق له، لان
دلالتها على الردع عن غير العلم ظنية لا قطعية، فيلزم من الاخذ بمدلولها عدم
جواز اتباعها لكون دلالتها بالفرض ظنية، والآية شاملة لنفسها لكونها قضية
حقيقية.
وربما يقال: إن الآية غير شاملة لنفسها لأجل المحذور الذي ذكر، وبعبارة
أخرى ان الآية مخصصة عقلا للزوم المحال لولا التخصيص: أقول إن الاستحالة
مندفعة بأحد أمرين الأول ما ذكره القائل من عمومها لكل غير علم الا نفسه، و
الثاني بتخصيصه بما قام الدليل على حجيته ولا ترجيح بل الترجيح للثاني، لان
الآية وردت للزجر عن اتباع غير العلم، ولا يتم الزجر الا إذا كان ظاهرها حجة
عند المخاطبين حتى يحصل لهم التزجر عند الزجر، ولا وجه لخروج ظاهر الآية
عن هذا العموم الا كون الظواهر حجة عند العقلاء كسائر الظنون الخاصة، و (ح)
فخروج ظاهر الآية أو مطلق الظواهر دون سائر الظنون تحكم محض لوجود البناء
من العقلاء في الموردين هذا مع أن هذه الآية قابلة للتخصيص وما لا تقبل له راجعة
إلى الأصول الاعتقادية.
ثم إن بعض أعاظم العصر " قدس سره " قد أجاب عن هذا الاشكال بما هذا حاصله
172

ان نسبة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد إلى الآيات نسبة الحكومة لا التخصيص
، لكي يقال إنها آبية عنه، فان تلك الأدلة تقتضي القاء احتمال الخلاف وجعل الخبر
محرزا للواقع لكون حاله حال العلم في عالم التشريع، هذا في غير السيرة العقلائية
القائمة على العمل بالخبر الواحد، واما السيرة فيمكن ان يقال: إن نسبتها إليها هي
الورود بل التخصيص، لان عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن، لعدم التفاتهم إلى
احتمال المخالفة للواقع فالعمل به خارج بالتخصص عن العمل بالظن، فلا تصلح الآيات
الناهية عن العمل به، لان تكون رادعة عنها، فإنه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات
يلزم منه الدور المحال لان الردع عن السيرة بها يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة
لعمومها، وعدم التخصص يتوقف على الرادعية. وان منعت عن ذلك فلا أقل من كون السيرة
حاكمة على الآيات والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعا للحاكم انتهى
وفيه: ان ما هو آب من التخصيص انما هي الآيات الناهية عن اتباع الظن، واما
قوله سبحانه: ولا تقف ما ليس لك به علم فقد عرفت انه، عام للأصول والفروع وقابل
للتخصيص واما حكومة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد، على الآيات فلا أصل
لها، لان الحكومة تتقوم باللفظ وليس لسان تلك الأدلة من آياتها واخبارها
لسان الحكومة كما لا يخفى، واما قوله عليه السلام العمرى ثقة فما أدى إليك عنى،
فعني يؤدى، وما قال لك عنى، فعني يقول فاسمع له وأطعه فإنه الثقة المأمون فلا
يصلح لاثبات ما رامه (قدس سره)، فان مفاده هو وجوب اتباع قوله لوثاقته واما تنزيل
ما يقوله منزلة العلم، حتى يكون حاكما على ما دل على الزجر عن اتباع غير العلم
فلا يستفاد منه
واما السيرة فالقول بان نسبتها، نسبة الورود أو الحكومة، فلا يخلو عن ضعف
لان ذلك فرع كون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملا بالعلم وهو ممنوع جدا لعدم
حصول العلم من اخبار الآحاد، حتى لو فرضنا غفلتهم عن احتمال الخلاف، فلا يصح أيضا، لان
الورود والتخصص، يدور مدار الخروج الواقعي لا على الخروج عند المخاطب فان الورود
173

ليس الا خروج موضوع أحد الدليلين عن موضوع الدليل الآخر حقيقة بعناية التشريع
كما أن التخصص هو الخروج حقيقة وتكوينا، ومع ذلك كله فهما يدور على الخروج
الواقعي لا عند المخاطب.
والعجب عما افاده أخيرا من حديث حكومة السيرة فان السيرة عمل خارجي
والحكومة من أوصاف دلالة الدليل اللفظي، فكيف يصح حكومة العمل الخارجي
على دليل آخر، مع أنها قائمة بين لساني الدليلين اللفظيين، نعم يمكن ان يقال
بعدم صلاحية تلك الروايات للردع عن السيرة الدائرة بين العقلاء لعدم انتقالهم
من التدبر في هذه الآيات إلى كون الخبر الواحد مصداقا له، وإن كان مصداقا
واقعيا له.
نعم يمكن تقريب ورود السيرة على الآيات بوجهين:
الأول: ان المراد من قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، أي لا تقف ما ليس
لك به حجة، إذ لو أريد منه العلم الوجداني وأريد منه الزجر عن التمسك بغير العلم
الوجداني لزم تعطيل أكثر الاحكام، أو ورود التخصيص الأكثر المستهجن، وهذا
نظير حرمة القول بغير علم أو الافتاء بغير علم، وعليه كل ما يدل على حجية الخبر الواحد
يكون واردا عليه.
الثاني ان نفس الطريق وإن كان ظنيا الا ان ما يدل على حجيته أمر قطعي
لان ما يدل من ظواهر الآيات على حجية الخبر الواحد حجة قطعية عند الخصم كسائر
الظواهر فينسك اتباع الخبر الواحد في عداد اتباع العلم، فيتم ميزان الورود
فتدبر.
واما مشكل الدور في رادعية الآيات عن السيرة ففيه مضافا إلى أنه ليس
دورا اصطلاحيا فان الدور المصطلح ما يقتضى تقدم الموقوف على الموقوف عليه ضرورة
عدم تقدم الرادعية على عدم المخصصية، ان حجية السيرة يتوقف على عدم الرادعية
وعدم الرادعية، يتوقف على عدم مخصص واصل، وهو (أي العدم) حاصل، إذ لا مخصص في
البين،.
174

وبالجملة فان الآيات بعمومها تدل على الزجر عن اتباع كل ظن وما ليس بعلم، ورادعية
هذه الآيات تتوقف على عدم مخصص من الشارع والمفروض انه لم يصل إلينا مخصص،
واما السيرة بما هي هي فلا تصلح أن يكون مخصصة، إذ لا حجية للسيرة بلا امضاء
من الشارع، فالرادع رادع فعلا، والسيرة حجة لو ثبت الامضاء، وهو غير ثابت لا سيما مع
ورود تلك النواهي.
فان قلت: ان العمل بالخبر الواحد كان سيرة جارية قبل نزول تلك الآيات و
سكوت الشارع عنه امضاء لها، واما بعد نزول الآيات، فالمقام من صغريات الخاص
المتقدم (السيرة) والعام المتأخر، فيدور الامر بين تخصيصها بالسيرة المتقدمة،
أو ردعها إياها، وان شئت قلت: الامر يدور بين التخصيص والنسخ، ومع عدم الترجيح
يستصحب حجية السيرة.
قلت: ان التمسك بالاستصحاب من الغرائب، إذ لم يثبت حجيته الا باخبار الآحاد
أضف إلى ذلك: ان السكوت في أوائل البعثة لا يكشف عن رضاه، فان أوائل
البعثة والهجرة لم يكن المفزع والمرجع في اخذ الاحكام الا نفس النبي صلى الله عليه وآله
فلم يكن أكثر الاحكام منقولة بآحاد الرواة، حتى تقع مورد الرضاء والردع واما
العمل بها في الأمور العادية والعرفية، فلا يجب للشارع تحديد العمل والتصرف فيها
بل من الممكن ان الآيات نزلت في أوائل الامر للردع عن العمل بها في العاديات لئلا
يسرى إلى الشرعيات.
استدلال النافين بالسنة
فهي مع كثرتها تنقسم إلى أقسام (منها) ما يدل على عدم جواز العمل بالخبر الا
إذا وجد شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله يصدق مضمون الخبر وهذا
أيضا مضمون ما دل على عدم جواز الاخذ الا بما وافق كتاب الله، وغير خفى على الخبير انه
إذا وجد شاهد أو شاهدان من الكتاب والسنة على حكم مطابق لمضمون الخبر فلا حاجة
عندئذ على الخبر الوارد في المقام.
175

فلا مناص (ح) عن حملها على مورد التعارض، والترجيح بموافقة الكتاب والسنة، فتقع
تلك الطائفة في عداد الاخبار العلاجية، ويكون من أدلة حجية الخبر الواحد في نفسه
عند عدم المعارض، و (منها) ما يدل على طرح الخبر المخالف للكتاب، والتدبر في
هذه الطائفة يعطى كونها آبية عن التخصيص، (وعليه) فلو قلنا بعمومها، وشمولها
لعامة أقسام المخالفة من الخصوص المطلق ومن وجه والتباين الكلى، يلزم خلاف
الضرورة، فان الاخبار المقيدة أو المخصصة للكتاب قد صدرت من النبي والخلفاء من
بعده صلى الله عليه وآله بلا شك، فلابد من حملها على المخالف بالتباين الكلى، و (توهم) ان
الكذب على رسول الله والخلفاء من بعده على وجه التباين الكلى لا يصدر من خصمائهم،
لظهور بطلان مزعمته، مدفوع بان الفرية إذا كان على وجه الدس في كتب أصحابنا
يحصل لهم في هذا الجعل والبهتان كل مقاصدهم، من تضعيف كتب أصحابنا، بادخال
المخالف لقول الله ورسوله فيها حتى يشوهوا سمعة أئمة الدين بين المسلمين، و
غيرهما من المقاصد الفاسدة التي لا تحصل الا بجعل أكاذيب واضحة البطلان
(ومنها) ما دل على طرح غير الموافق وهو يرجع إلى المخالف عرفا ثم إن الاستدلال بهذه
الروايات فرع كونها متواترة الوصول إلينا في تمام الطبقات، فثبوت التواتر في بعض
الطبقات لا يفيد، ولكن التواتر على هذا الوصف غير ثابتة فان عامة الروايات منقولة
عن عدة كتب لم نقطع بعدم وقوع النسيان والاشتباه فيها، ثم لو سلم كونها متواترة
الوصول من قرون الصادقين إلى عصر أصحاب الكتب فلا محالة يصير التواتر اجماليا،
و (عليه) لابد من الاخذ بالقدر المتيقن وهو الأخص من الجميع، والمتيقن من المخالفة
ليس الا التبائن الكلى أو العموم من وجه (على تأمل) واما المخالفة على النحو العموم
المطلق فليست مخالفة في محيط التقنين، على ما عرفت من صدور الاخبار المخصصة
والمقيدة عنهم صلى الله عليه وآله بالضرورة فكيف يحمل عليها هذه الروايات (1)

(1) لا يخفى انه لو أردنا استقصاء مفاد الروايات لطال بنا الكلام، ونحن نذكر
فذلكة الروايات التي اوردها صاحب الوسائل في الباب 9 من أبواب القضاء، وما ذكره (قدس
سره) تحت هذه الأرقام أو 19 و 20 و 24 و 43 راجع إلى علاج الخبرين المتعارضين كما أن
الرواية 11 و 38 و 19 يرجع حاصله إلى رد الخبر المخالف الذي عرفت حالته، كما أن
الخبر 15 و 50 يرجع إلى رد مالا يوافقه وهو أعم من المخالفة، ويمكن رد هذا العنوان إليه
أيضا، فلا يبقى في الباب ما يفيد القطع لعدم حجية الخبر الواحد بنفسه فراجع (منه عفى عنه)
176

أدلة القائلين بالحجية
استدل المثبتون بوجوه من الآيات والاخبار والاجماع وغيرهما، اما
الآيات فمنها، قوله تعالى: في سورة الحجرات يا أيها الذين آمنوا ان جائكم فاسق
بنبأ فتبينوا،. والعمدة في الاستدلال به هو مفهوم الشرط، ودفع كون الشرط
محققا للموضوع، وقد قيل في تقريبه وجوه
منها ما عن المحقق الخراساني: (ان تعليق الحكم بايجاب التبين عن النبأ
الذي جيئ به على كون الجائي به الفاسق يقتضى انتفائه عند افتفائه، وعلى ذلك
لا يكون الشرط مسوقا لتحقق الموضوع ولا يخفى انه مخالف لظاهر الآية ومنها ما عن
بعض محققي العصر من أن الظاهر أن الشرط هو المجيئي مع متعلقه أي مجيئي الفاسق،
فيكون الموضوع نفس النبأ ولمفهومه مصداقان، عدم مجيئ الفاسق، ومجيئي العادل
فلا يكون الشرط محققا للموضوع. واما إذا جعل الشرط نفس المجيئي، يكون
الموضوع نبأ الفاسق، فيصير الشرط محققا للموضوع. وفيه ان الظاهر بقاء الاشكال
على حاله، فان مفهوم قولك: ان جائك الفاسق بنبأ، انه إذا لم يجئك الفاسق بنبأ
واما مجيئي العادل مكانه، فليس مذكورا في المنطوق حتى يعلم حكمه من المفهوم
أضف إليه ان تعدد المصداق للمفهوم لا يتوقف على ما ذكره من كون الشرط هو
مجيئي الفاسق، بل يتم لو كان الشرط هو المجيئي، والموضوع هو نبأ الفاسق،
فلانتفائه في الخارج مصداقان، عدم مجيئ النبأ أصلا، ومجيئي العادل بالنبأ. ومع
ذلك كله، فالمرجع هو العرف وهو لا يساعده
ويمكن تقريب المقام بوجه آخر وهو انه لا فرق في شمول العام لافراده بين كونها
الافراد الذاتية أو العرضية إذا كانت القضية شاملة لها على وجه الحقيقية فكما ان
الأبيض صادق علي نفس البياض لو فرض قيامه بذاته، كذلك صادق على الجسم
المعروض له مع أن صدقه عليه تبعي لدى العقل الدقيق لكنه حقيقية لدى العرف
و (عليه) فلعدم مجئ الفاسق بالخبر فردان، عدم المجئ بالنبأ أصلا، لا من الفاسق
ولا من العادل، ومجئ العادل بالخبر والأول فرد ذاتي له، والاخر عرضي، فيشمل
العام لهما فمفهوم الآية ان لم يجئ الفاسق بالخبر لا يجب التبين سواء جاء به العادل
177

وهو الفرد العرضي أو لم يجئ أصلا وهو الفرد الذاتي والعام يشملهما معا
أضف إلى ذلك ان القضايا السالبة ظاهرة في سلب شئ عن شئ مع وجود
الموضوع، لا في السلب باعتبار عدم الموضوع ولو حمل المفهوم على المصداق الذاتي
وهو عدم الاتيان بالخبر أصلا، تصير السالبة صادقة باعتبار عدم الموضوع، ولو
حمل على اتيان العادل بالخبر تصير من السوالب المنتفى محمولها مع وجود الموضوع
وهو أولى، و (فيه) ان الامر في المثال والممثل متعاكس، وهو ان البياض مصداق
للأبيض عند العقل دون العرف، ولكن عدم اتيان الفاسق بالنبأ مصداق ذاتي
للمفهوم عند العقل والعرف، واما مجئ العادل بالخبر فليس من مصاديق ذلك
المفهوم عندهم، وان فرض ان أحد الضدين ينطبق عليه عدم الضد الاخر، ويكون
مصدوقا عليه (لا مصداقا) حسب ما اصطلحه بعض الأكابر لكنه أمر خارج عن المتفاهم
العرفي الذي هو المرجع في الباب.
واما ما ذكر من ظهور القضايا السالبة في سلب المحمول فإنه يصح لو كانت
القضية، لفظية لا مفهوما من قضية منطوقة، بالدلالة العقلية، على أنه لو فرض صب
هذا المفهوم في قالب اللفظ، لما فهم منه أيضا الا كون الشرط محققا للموضوع وانتفاء
التبين باعتبار انتفاء موضوعه.
ثم إنه لو فرض المفهوم للآية فلا دلالة فيه على حجية قول العادل وكونه تمام
الموضوع للحجية، لان جزاء الشرط ليس هو التبين، فان التبين انما هو بمعنى طلب
بيان الحال، وهو غير مترتب على مجئ الفاسق بنبأ لا عقلا ولا عرفا، والجزاء لابد أن يكون
مترتبا على الشرط، ترتب المعلول على العلة أو نحوه، فلابد من تقدير
الجزاء بان يقال: إن جائكم فاسق بنبأ فاعرضوا عنه أو لا تقبلوه واشباههما، و
انما حذف لقيامه مقامه و (ح) يصير المفهوم على الفرض ان جائكم عادل بنبأ فلا
تعرضوا عنه، واعتنوا به وهو أعم من كونه تمام الموضوع أو بعضه ولعل للعمل به
شرائط اخر إليه كضم آخر إليه أو حصول الظن بالواقع ونحوهما
ثم إن بعض أعاظم العصر (قدس سره) قد أفاد في تقريب الآية ما هذا حاصله:
يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط هو مجئ الفاسق به،
178

من مورد النزول، فان مورده اخبار الوليد بارتداد بنى المصطلق، فقد اجتمع في اخباره
عنوانان. كونه خبرا واحدا، وكون المخبر فاسقا، والآية وردت لإفادة كبرى كلية
ليتميز الاخبار التي يجب التبين عنها عن غيرها. وقد علق وجوب التبين فيها على
كون المخبر فاسقا فيكون هو الشرط لا كون الخبر واحدا. ولو كان الشرط ذلك لعلق
عليه لأنه باطلاقه شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرض لخبر الواحد، وجعل الشرط
خبر الفاسق، كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق، ولا يتوهم ان ذلك يرجع
إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الايماء، فان ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم
الشرط، وبالجملة لا اشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية، ولابد أن يكون
مورد النزول من صغرياتها. والا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح فلابد
من اخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية، فيكون مفاد الآية بعد ضم
المورد إليها: ان الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا. فتصير ذات مفهوم
(انتهى).
وفيه مواقع من النظر (منها): ان كون مورد النزول هو اخبار وليد الفاسق
لا يصحح كون الموضوع هو النبأ وان الشرط هو مجئ الفاسق وانه غير مسوق لتحقق
الموضوع إذ غاية ما يمكن ان يقال إنه مسوق لاعطاء القاعدة الكلية في مورد الفاسق
، واما بيان الضابطة لمطلق الخبر، وظهورها في إفادة الكبرى الكلية ليتميز الاخبار
التي يجب التبين عنها عن غيرها فلا يستفاد منها.
و (منها) ان ما افاده من أنه اجتمع في أخباره عنوانان: كونه خبر الواحد، و
كون المخبر فاسقا بيان لمفهوم الوصف دون الشرط الذي هو بصدد بيانه، ضرورة انه
لم يعلق وجوب التبين في الآية على كون المخبر فاسقا حتى يصح ما ادعاه من كون الموضوع
هو النبأ والشرط كون المخبر فاسقا بل علق على مجئ الفاسق بالخبر ومن المعلوم
ان الشرط (ح) محقق للموضوع ولا مفهوم له، واما التمسك بمفهوم الوصف فمع انه
خارج عن محل الكلام، غير صحيح لبناء المفهوم على استفادة الانحصار من القيود و
هي في جانب الوصف بعيد، على أنه يمكن أن يكون ذكر الوصف (الفاسق) قد سيق
179

لغرض آخر غير المفهوم وهو التنبيه على فسق الوليد، فكون مورد النزول اخبار
لوليد مانع عن دلالة الآية على المفهوم لا موجب له كما أفادوا ما ما افاده من تأييد كون
الآية بمنزلة الكلية: من أن المورد من صغرياتها والا يلزم اخراج المورد فلا يخلو عن
خلط، فان كون المورد من صغرياتها، لا يستلزم كونها بصدد اعطاء الضابطة في
مطلق الخبر، بل يصح لو كانت بصدد اعطاء القاعدة لخبر الفاسق ويصير المورد من مواردها من
غير اخراج المورد، ولا ثبوت مفهوم.
جولة في الاشكالات المختصة بالآية
منها ان المفهوم على تقدير ثبوته معارض لعموم التعليل في ذيل الآية فان
الجهالة هي عدم العلم بالواقع وهو مشترك بين اخبار الفاسق والعادل، فالتعليل
بظاهره يقتضى التبين عن كلا القسمين فيقع التعارض بينهما والتعليل أقوى
في مفاده، خصوصا في مثل هذا التعليل الابى عن التخصيص، فعموم التعليل
لاقوائيته يمنع ظهور القضية في المفهوم فلا يصل النوبة إلى ملاحظة النسبة فإنها
فرع المفهوم وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قدس سره) ان الانصاف انه لا وقع له اما
أولا فلان الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى مالا ينبغي الركون إليه، ولا شبهة
في جواز الركون إلى خبر العادل دون الفاسق، فخبر العادل خارج عن العلة
موضوعا
واما ثانيا. فعلى فرض كونها بمعنى عدم العلم بمطابقة الخبر، للواقع يكون المفهوم
حاكما على عموم التعليل لان اقصى ما يدل عليه التعليل هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، و
المفهوم يقتضى الغاء احتمال الخلاف، وجعل خبر العادل محرزا للواقع، وعلما في
مقام التشريع، فلا يعقل ان يقع التعارض بينهما، لان المحكوم لا يعارض الحاكم، و
لو كان ظهوره أقوى لان الحاكم متعرض لعقد وضع المحكوم اما بالتوسعة أو التضييق
(فان قلت) ان ذلك فرع ثبوت المفهوم، والمدعى ان عموم التعليل مانع عن ظهور
القضية فيه (قلت) المانع منه ليس الا توهم المعارضة بينهما، والا فظهورها الأولى فيه
180

مما لا سبيل لانكاره، وقد عرفت عدم المعارضة بينهما، لان المفهوم لا يقتضى تخصيص
العموم بل هو على حاله من العموم بل انما يقتضى خروج خبر العادل عن موضوع
القضية، لا عن حكمها فلا معارضة بينهما أصلا لعدم تكفل العام لبيان موضوعه وضعا و
رفعا، بل هو متكفل لحكم الموضوع علي فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده
(انتهى)
وفيه: اما أولا فلان التعليل مانع عن المفهوم في المقام بلا اشكال لا لما ذكره
المستشكل من اقوائية التعليل، بل السر ما وافاك من أن دلالة الشرطية على المفهوم واستفادة
ذلك من تلك القضية مبنية على ظهور الشرط في القضية في كونه علة منحصرة بحيث
ينتفى الحكم بانتفائه، واما إذا صرح المتكلم بالعلة الحقيقية، وكان التعليل أعم من الشرط
أو كان غير الشرط فلا معنى لاستفادة العلية فضلا عن انحصارها، فلو قال إن جائك زيد فأكرمه
ثم صرح ان العلة انما هو علمه، فنستكشف ان المجئ ليس علة ولا جزء منها، وهذا
واضح جدا وهو أيضا من الاشكالات التي لا يمكن الذب عنه وقد غفل عنه الاعلام وعليه فلا وقع لما
أفادوه في دفعه
وثانيا: ان جعل الجهالة بمعنى السفاهة أو مالا ينبغي الركون إليه كما
أوضحه تبعا للشيخ الأعظم غير وجيه، بل المراد منها عدم العلم بالواقع، ويدل عليه
جعلها مقابلا للتبين بمعنى تحصيل العلم واحراز الواقع، ومعلوم ان الجهالة بهذا
المعنى مشترك بين خبري العادل والفاسق بل لا يبعد ان يقال إن الآية ليست بصدد
بيان ان خبر الفاسق لا يعتنى به لان مناسبات صدرها وذيلها وتعليلها موجبة لظهورها
في أن النبأ الذي له خطر عظيم وترتيب الأثر عليه موجب لمفاسد عظيمة و
الندامة، كإصابة قوم ومقاتلتهم، لابد من تبينه، والعلم بمفاده ولا يجوز الاقدام على
طبقه بلا تحصيل العلم لا سيما إذا جاء به فاسق (فح) لابد من ابقاء ظاهر الآية على
حاله، فان الظاهر من التبيين، طلب الوضوح، وتحقيق صدق الخبر وكذبه، كما أن
المراد من الجهالة ضد التبيين، أعني عدم العلم بالواقع، لا السفاهة، ولو فرض
انها إحدى معانيها مع امكان منعه لعدم ذكرها في جمله معانيها في المعاجم و
181

مصادر اللغة ويمكن أن يكون اطلاقها كما في بعض كتب اللغة لكونها نحو
جهالة فان السفيه جاهل بعواقب الأمور، لا انها بعنوانها معناها، ثم إنه على ما ذكرناه
في معنى الآية لا تلزم فيها التخصيصات الكثيرة على فرض حملها على العلم الوجداني
كما قيل بلزومها فتدبر جيدا.
وثالثا: ان جعل المفهوم حاكما على عمومه مضافا إلى عدم خلوه من
شبهة الدور فان انعقاد ظهور القضية في المفهوم فرع كونه حاكما على عموم
التعليل، وكون المفهوم حاكما يتوقف على وجوده، ان الحكومة أمر قائم بلسان
الدليل ومعلوم ان غاية ما يستفاد من المفهوم هو جواز العمل بخبر العادل أو وجوبه
واما كونه بمنزلة العلم وانه محرز الواقع وانه علم في عالم التشريع، فلا يدل عليه
المفهوم، نعم لو ادعى ان مفهوم قوله: ان جائكم فاسق الخ هو عدم وجوب التبين
في خبر العادل لكونه متبينا في عالم التشريع لكان للحكومة وجه لكنه غير
متفاهم عرفا
ومن الاشكالات المختصة: لزوم خروج المورد عن المفهوم، فإنه من الموضوعات
الخارجية وهى لا تثبت الا بالبينة، فلابد من رفع اليد عن المفهوم لئلا يلزم التخصيص
البشيع وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قده) بان المورد داخل في عموم المنطوق
وهو غير مخصص، فان خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقا لا في الموضوعات ولا في الاحكام
واما المفهوم، فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود، لأنه لم يرد في مورد اخبار
العادل بالارتداد، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات
الابتدائية فلا مانع من تخصيصه، ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي سوى ان
المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق
من حيث المورد بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق والمفهوم
واحدا (انتهى).
وفيه: ان مبنى استفادة المفهوم من الآية هو القول بان علة التشنيع و
الاعتراض في العمل بقول الفاسق انما هو هو كون المخبر فاسقا، بحيث لولا فسقه،
182

أو كون المخبر غيره من العدول، لما توجه لوم ولا اعتراض مع أن الامر على
خلافه، في المورد إذ لو كان الوليد غير فاسق أو كان المخبر غيره من العدول لتوجه
اللوم أيضا على العاملين، حيث اعتمدوا على قول العادل الواحد، في الموضوعات
مع عدم كفايته في المقام، وبذلك يظهر ان التخصيص في المفهوم بشيع فلابد من رفع
اليد عن المفهوم والالتزام بان الآية سيقت لبيان المنطوق دون المفهوم، وبذلك يظهر
النظر فيما افاده الشيخ الأعظم (قدس سره) فراجعه
جولة حول ما لا يختص بآية النبأ
منها: ان النسبة بين الأدلة الدالة على حجية قول العادل، وبين عموم الآيات الناهية
عن العمل بالظن وما وراء العلم، عموم من وجه، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم
الحجية ولكن عرفت ان من الآيات ما يختص بالأصول الاعتقادية ولسانها آب من التخصيص
ولو كانت النسبة عموما وخصوصا مطلقا، ومنها ما هو قابل للتخصيص لعموميتها للأصول
والفروع مثل قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم والنسبة بينه وبين أدلة الباب هو
العموم والخصوص المطلق، فيخصص عمومها أو يقيد اطلاقها كما مر
وأجاب بعض أعاظم العصر (قدس سره) من أن أدلة الحجية حاكمة على الآيات الناهية،
لان أدلة الحجية تقتضي خروج العمل، بخبر العادل عن كونه عملا بالظن، ثم قال: ولو لم نسلم
الحكومة فالنسبة بين أدلة الباب مع الآيات الناهية، هو العموم والخصوص المطلق، والصناعة
يقتضى تخصيص عمومها بما عدى خبر العادل، وقد عرفت الاشكال في حكومة أدلة الحجية
لان الحكومة قائمة باللسان، وليس هنا ما يتكفل، تنزيل الخبر الواحد منزلة العلم
واما ما افاده من التخصيص، ففيه انه لو كان لسان العام آبيا عن التخصيص، يقع المعارضة بينه
وبين الخاص ولا يجرى صناعة التخصيص في هذا المقام أصلا والجواب ما عرفت
ومنها: ان حجية خبر الواحد، تستلزم عدم حجيته، إذ لو كان حجة، لكان
يعم قول السيد واخباره عن تحقق الاجماع على عدم حجيته، فيلزم من حجية الخبر
عدم حجيته، وهو باطل بالضرورة. وفيه بعد الغض عن انه اجماع منقول،
وأدلة حجيته لا تشمله، وعن ان الاستحالة انما هو ناش من اطلاق دليل
183

الحجية وشموله لخبر السيد لا عن أصل الحجية، ان الامر دائر بين ابقاء عامة الافراد
واخراج قوله بالتخصيص، أو العكس، ولا يخفى ان الأول متعين، إذ مضافا إلى
بشاعة التخصيص الكثير المستهجن، ان التعبير عن عدم حجية الخبر الواحد، بلفظ
يدل على حجية عامة افراده، ثم اخراج ما عدى الفرد الواحد الذي يؤل إلى
القول بعدم الحجية، قبيح لا يصدر من الحكيم،
واما ما افاده المحقق الخراساني: ان من الجائز أن يكون خبر العادل حجة
في زمن صدور الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيد، وبعده يكون هذا الخبر
حجة فقط فيكون شمول العام لخبر السيد مفيدا لانتهاء حكم في هذا الزمان و
ليس هذا بمستهجن. فيرد عليه، ان الاجماع المحكى بقول السيد يدل على عدم
حجية قول العادل من أول البعثة إذ هو يحكى عن حكم إلاهي عام لكل الافراد في
عامة الاعصار والأدوار، فلو كان قوله داخلا تحت العموم، لكشف عن عدم حجية
الخبر الواحد من زمن النبي، وان عمل الناس عليه واستفادتهم على حجيتها بظاهر
الآية، انما هو لأجل جهلهم بالحكم الواقعي. وعلى ذلك فلا معنى لما افاده من انتهاء
زمن الحجية.
ومن ذلك يظهر النظر ان ما افاده شيخنا العلامة (قدس سره) من أن بشاعة الكلام على
تقدير شموله لخبر السيد ليست من جهة خروج تمام الافراد سوى فرد واحد حتى
يدفع بما افاده (أي المحقق الخراساني) بل من جهة التعبير بالحجية في مقام إرادة عدمها، وهذا
لا يدفع بما افاده لا يخلو عن نظر، لما عرفت من أن البشاعة الأولى لا تندفع بما افاده
أيضا، لما عرفت ان مفاد الاجماع حكم اإاهي كاشف عن عدم الحجية من زمن النبي،
فيكون تمام الافراد خارجا، سوى فرد واحد، ولو أغمضنا عما ذكرناه، وسلمنا ان
شمول الأدلة لخبر السيد، يدل على انتهاء أمد الحكم، بعد شموله لهذه الافراد طول
مدة قرون، فالبشاعة الثانية مندفعة بما في كلام المحقق الخراساني، إذ لا مانع من
شمول الاطلاق لفرد من الافراد، يفيد انتهاء أمد الحكم، ويعلن بعدم حجية قول العادل
الواحد بعد هذا الاعلان والاخبار، ولا اشكال فيه
184

وأجاب بعض محققي العصر (قدس سره) عن الاشكال بما هذا حاصله ان شمول
اللاق أدلة الباب لمثل خبر السيد الحاكي عن عدم الحجية ممتنع لاستلزامه شمول
الاطلاق لمرتبة الشك بمضمون نفسه لان التعبد باخبار السيد بعدم الحجية، انما
كان في ظرف الشك في الحجية واللا حجية وهو عين الشك في مضمون أدلة الحجية التي
منها المفهوم، واطلاقه لمثل هذه المراتب المتأخرة غير ممكن. و (فيه) انه مبنى
على امتناع شمول اطلاق الجعل للحالات المتأخرة عنه، كالشك ونحوه، وقد عرفت
بطلانه وان اطلاق الحكم يشمل لبعض الحالات المتأخرة من الشك والعلم، و
بالجملة ان الآية وسائر الأدلة وردت رافعة لعامة الشكوك، والشك في حجية قول
العادل وعدمها، أمر ينقدح في ذهن الانسان، سواء جعل الحجية له أو لا: سواء وقف
عليها أو لا، و (ح) فلو غض عن سائر الاشكالات فلا مانع لو قلنا بان اطلاق الأدلة شامل
لقول السيد، حتى يكون قول السيد رافعة للشك، إذ هو نبأ، والحكم معلق على مطلق
النبأ، ولهذا لو فرض عدم الاجماع، بالفرق بين نبأ السيد، وسائر الانباء، وفرض
أيضا عدم كون اجماع السيد على عدم الحجية مطلقا من أول البعثة لجاز الاخذ
بالمفهوم، وادخال قوله، والحكم بحجية الاخبار إلى زمن السيد، وانتهاء أمد الحكم
كما افاده المحقق الخراساني
وربما يجاب: بان الامر دائر بين التخصيص والتخصص، لان شمول الآية لسائر
الاخبار يجعلها مقطوع الحجية، فيعلم بكذب خبر السيد واما شمولها لخبر السيد و
اخرج غيره يكون من قبيل التخصيص، لعدم العلم بكذب مؤدياتها، ولو مع العلم
بحجية خبر السيد، لان مؤدياتها، غير الحجية واللا حجية، و (فيه) أولا ان مفاد أدلة
الباب ليس هو الحجية وانما لسانها، ومفادها وجوب العمل وينتزع الحجية من
الوجوب الطريقي، كما أن اجماع السيد، ليس مضمونه عدم الحجية، بل مفاده،
حرمة العمل بالاخبار، وينتزع من الحرمة، عدم الحجية، وذلك لان الحجية و
اللا حجية ليستا من الأمور القابلة للجعل فاجماع السيد أيضا يرجع إلى الاجماع على
حرمة العمل المنتزع منها عدم الحجية وعليه يدور الامر بين التخصيصين
185

وثانيا ان مضمون الآية لو كان جعل الحجية للاخبار فلا اشكال في عدم شموله له
قطع بعدم حجيته أو قطعت حجيته فح لو شملت الآية لخبر السيد يصير خبره مقطوع
الحجية وخبر غيره مقطوع عدم الحجية وان لم يكن مقطوع المخالفة للواقع فيصير حال
غيره كحاله في خروجه تخصصا فتدبر.
شمول الأدلة للاخبار بالواسطة
والمهم هنا اشكال شمول الأدلة للاخبار مع الواسطة، وقد قرره الشيخ الأعظم بوجوه
ضرب على بعضها القلم في بعض النسخ، وفصلها وأوضحها بعض أعاظم العصر بوجوه
خمسة ونحن نذكر ما هو المهم، وبما ان بعض تلك الوجوه ليس تقريرا لاشكال
واحد وإن كانت عامة الوجوه راجعة إلى الاخبار بالواسطة، فلا جرم نفصلها
بما يلي.
الأول: انصراف الأدلة عن الاخبار بالواسطة، إذا كانت الوسائط كثيرة كما
في الاخبار الواصلة إلينا من مشايخنا، فان الواسطة بيننا وبين المعصومين
كثيرة جدا، ومثل هذه الأخبار بعيد عن مصب الأدلة اللفظية، واما اللبي منها كبناء
العقلاء الذي هو الدليل الوحيد عندنا، فلم يحرز بناء منهم في هذه الصورة، ولم
يكن الاخبار بالوسائط الكثيرة بمرأى ومسمع من الشارع حتى نكشف من سكوته
رضاه.
ولكنه مدفوع بمنع الانصراف بالنسبة إلى الاخبار الدارجة بيننا فإنه انما
يصح لو كانت الوسائط كثيرة بحيث أسقطه كثرة الوسائط عن الاعتبار واما الاخبار
الدائرة بيننا، فصدورها عن مؤلفيها اما متواترة كالكتب الأربعة أو مستفيضة ولا
نحتاج في اثبات صدورها عن هؤلاء الاعلام إلى أدلة الحجية، واما الوسائط بينهم و
بين أئمة الدين فليست على حد يخرجه عن الاعتبار أو يوجب انصراف الأدلة
واما اللبي من الأدلة فلا وجه للتردد في شموله لما نحن فيه ضرورة ان العقلاء يحتجون
186

بما وصل إليهم بوسائط كثيرة أكثر مما هو الموجود في اخبارنا فكيف بتلك الوسائط
القليلة.
الثاني: ان الأدلة منصرفة عن المصداق التعبدي للخبر الذي أحرز بدليل
الحجية فان من نسمع كلامه ونشافهه، فاخباره أمر وجداني لنا، واما من يحكى
عنهم من الوسائط إلى أن يصل إلى أئمة الدين، فكلها اخبار تعبدية محرزة بدليل الحجية
ويدفعه ان العرف لا يفرق بين فاقد الواسطة وواجدها بحيث لو قلنا بقصور الاطلاق،
لحكم العرف بشمول مناط الحجية لعامة الأقسام، بالغاء الخصوصية أو
بتنقيح المناط
الثالث: ان حجية الخبر الواصل إلينا بالوسائط، تستلزم اثبات الحكم لموضوعه
فان الشيخ إذا أخبر عن المفيد وهو عن الصدوق، فالمصداق الوجداني لنا هو قول الشيخ
فيجب تصديقه واما قول المفيد إلى أن ينتهى إلى الامام، فإنما يصير مصداقا لموضوع
قولنا: صدق العادل، بعد تصديق الشيخ (قدس سره) فيلزم اثبات الموضوع بالحكم
وهو محال
وأجيب عنه تارة بان أدلة الحجية من قبيل القضايا الحقيقية الشاملة للموضوعات
المحققة والمقدرة فلا مانع من تحقق الموضوع بها وشمولها لنفسها فيشمل قولنا
صدق العادل للموضوع المنكشف لنا اثباتا: بنفس التصديق، كشمول قول القائل: كل
خبري صادق لنفسه واخرى بانحلال قولنا صدق العادل إلى قضايا كثيرة، فان
الذي لا يعقل انما هو اثبات الحكم موضوع شخصه، لا اثبات موضوع لحكم آخر،
فان خبر الشيخ المحرز بالوجدان يجب تصديقه وبتصديقه يحصل لنا موضوع آخر و
هو خبر المفيد وله وجوب تصديق آخر وهكذا، فكل حكم متقدم (وجوب التصديق)
يثبت موضوعا مستقلا لحكم آخر.
الرابع: انه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل، نفس
تصديقه من دون يكون في البين اثر آخر، كان وجوب التصديق بلحاظه، وان شئت
قلت: يلزم كون الحكم ناظرا إلى نفسه، فان وجوب التصديق الذي يتعلق بالخبر
187

مع الواسطة، انما يكون بلحاظ الأثر الذي هو وجوب التصديق، وتوضيحه: ان وجوب
التعبد بالشيئ لابد وأن يكون بلحاظ ما يترتب على الشيئ من الآثار الشرعية، فلو
فرضنا خلو الموضوع عن الأثر الشرعي، لما صح ايجاب التعبد الشرعي به، فلزوم
التعبد بعدالة زيد التي قامت البينة على اتصافه بها، لأجل كونها ذات آثار من جواز
الصلاة خلفه، وايقاع الطلاق عنده
وعلى ذلك، فلو كان الراوي حاكيا قول الإمام، فوجوب التصديق بلحاظ ما
يترتب على قول الإمام من الآثار، كحرمة الشيئ ووجوبه، ولو كان المحكى، قول غيره
كحكاية الشيخ قول المفيد، فالأثر المترتب على قول المفيد ليس الا وجوب تصديقه.
و (ح) يجب تصديق الشيخ. فيما يحكيه، لأجل كون محكيه (قول المفيد) ذا اثر
شرعي وهو وجوب التصديق، ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق
بلحاظ نفسه.
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر (قدس سره) بان المجعول عندنا في باب الامارات
نفس الكاشفية والوسطية في الاثبات، لان المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية
أي شئ كان المؤدى، فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد، وهو إلى قول الصدوق و
هكذا إلى أن ينتهي إلى قول الإمام عليه السلام ولا نحتاج في جعل الطريق إلى أن يكون في
نفس المؤدى اثر شرعي بل يكفي الانتهاء إلى الأثر كما في المقام
وفيه: ان الاشكال غير مندفع أيضا حتى على القول بجعل الطريقية، فان
محصل الاشكال لزوم كون الدليل ناظرا إلى نفسه، وكون دليل الجعل باعتبار الأثر
الذي هو نفسه، وهو وارد على مبناه أيضا، فان خبر الشيخ المحرز بالوجدان طريق
إلى خبر المفيد وكاشف عنه بدليل الاعتبار، وهو كاشف عن خبر الصدوق بدليل
الاعتبار أيضا وهكذا فدليل جعل الكاشفية ناظر إلى جعل كاشفية نفسه، ويكون جعل
الكاشفية بلحاظ جعل الكاشفية وهو محال
وبعبارة أخرى ان الحاكم لابد له من لحاظ موضوع حكمه حين الحكم والموضوع
لما لم يثبت الا بهذا الحكم فلابد أن يكون دليل الجعل ناظرا إلى نفسه باعتبار ما عدى الخبر
188

الذي في آخر السلسلة ولابد في الذب عنه ببعض الوجوه المتقدمة أو الآتية.
ثم إن بعض أعاظم العصر قرر الاشكال المتقدم بتقرير آخر، وجعله خامس الوجوه
حيث قال: ويمكن تقرير الاشكال بوجه آخر لعله يأتي حتى بناء علي المختار وهو
انه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة، يلزم أن يكون الدليل حاكما على
نفسه ويتحد الحاكم والمحكوم، لان أدلة الأصول والامارات حاكمة على الأدلة
الأولية الواردة للأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها، هو انها مثبتة لتلك الأحكام
، وفيما نحن فيه يكون الحكم الواقعي هو وجوب التصديق، وأريد اثباته
بدليل وجوب التصديق فيكون دليل وجوب التصديق حاكما على نفسه، أي مثبتا
لنفسه، ونظير هذا الاشكال يأتي في الأصل السببي والمسببي، فان لازمه حكومة
دليل لا تنقض على نفسه
والتحقيق في الجواب: ان دليل الاعتبار قضية حقيقية، ينحل إلى قضايا
فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة، حسب تعدد آحاد السلسلة، ويكون لكل منها
اثر يخصه، غير الأثر المترتب على الاخر، فلا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم،
بل يكون كل قضية حاكمة على غيرها، فان المخبر به، بخبر الصفار الحاكي لقول
العسكري (ع) في مبدء السلسلة لما كان حكما شرعيا من وجوب الشيئ أو حرمته
، وجب تصديق الصفار في اخباره عن العسكري، بمقتضى أدلة خبر الواحد، و
الصدوق الحاكي لقول الصفار حكى موضوعا ذا اثر شرعي، فيعمه دليل الاعتبار،
وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان، فلأجل الانحلال لا يلزم أن يكون
الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه، ولا حكومة الدليل على
نفسه فيرتفع الاشكال
ومن ذلك يظهر دفع الاشكال في حكومة الأصل السببي، على المسببي،
فان انحلال قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك، يقتضى حكومة أحد المصداقين على الاخر
كما في ما نحن فيه، وانما الفرق ان الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي
اخراج الأصل المسببي عن تحت قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك، وحكومة دليل
189

الاعتبار فيما نحن فيه يقتضى ادخال فرد في دليل الاعتبار.
ثم أوضحه مقرر بحثه (رحمه الله) في ذيل الصحيفة بما حاصله: ان طريق حل
الاشكال الثالث يختلف مع طريق حل الاشكال الرابع (الذي جعله خامس الوجوه)، و
إن كان أمرا واحدا وهو انحلال القضية، الا ان حل الاشكال الأول يكون بلحاظ آخر
السلسلة وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان فان وجوب تصديقه يثبت موضوعا آخر
، وحل الاشكال الثاني بلحاظ مبدء السلسلة، وهو الراوي عن الإمام عليه السلام، فان
وجوب تصديقه بلحاظ الأثر الذي هو غير وجوب التصديق ثم يكون وجوب تصديقه
اثر للاخبار الاخر وهكذا إلى آخر السلسلة.
ولا يخفى ان في كلامه مواقع للظر نشير إلى مهماتها منها ان جعل الامارات
حاكمة على الأحكام الواقعية، بمعنى انها مثبتة لتلك الأحكام، لا يخلو عن
ضعف، فان مجرد اثبات الامارات الأحكام الواقعية، لا يصحح الحكومة، لعدم انطباق
ضابطتها على ذلك
ومنها ان أدلة الأصول ليست أيضا حاكمة على الأحكام الواقعية بل هي متكفلة
لبيان الوظائف العملية في ظرف الشك، من غير فرق بين المحرز منها وغير المحرز
(وسيوافيك عدم صحة ما زعمه (قدس سره) من وجود الأصل المحرز)، نعم بعض الأصول
كاصالة الطهارة والاستصحاب حاكمة على أدلة الشرائط كما مر تفصيله في مبحث الاجزاء
وهو أمر آخر أجنبي عما نحن فيه.
ومنها انه يمكن ان يقرر كون الدليل حاكما على نفسه على وجه آخر بان
يقال: إن الدليل المتكفل لبيان الموضوع حاكم على الدليل المتكفل لبيان الحكم
فقولنا: زيد عالم، حاكم على قولنا أكرم العادل، فان الحكومة قد يكون باخراج
فرد واخرى بادخاله
وعلى ذلك: فلو كان الدليل متكفلا لكلتا الحيثيتين كما في المقام، لزم ما ذكرناه
من المحذور، فان أدلة اعتبار الخبر كما هي متكفلة لبيان الحكم من وجوب التصديق
فهكذا مثبتة لموضوعه، على ما عرفت في الجواب عن الاشكال الثالث وهذا ما يقال من
190

كون الدليل حاكما لنفسه وعلى ذلك فيكون هذا التقرير اما اشكالا مستقلا، أو تقريرا
آخر لثالث الاشكالات، لا لرابعها، كما ذكره مقرر بحثه (رحمه الله) وأظن أن المقرر
قد خلط الامر والشاهد ما ذكره في ابداء الفرق بين حكومة السببي على المسببي، وما نحن
فيه: ان الحكومة في باب الأصل السبي والمسببي تقتضي اخراج الأصل المسببي عن
تحت قوله: لا تنقض اليقين بالشك، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه
تقتضي ادخال فرد في دليل الاعتبار فان وجوب تصديق الشيخ في اخباره عن المفيد يقتضى
وجوب تصديق المفيد في اخباره عن الصدوق فوجوب تصديق الشيخ يدخل فردا تحت
عموم وجوب التصديق، بحيث لولاه لما كان داخلا " انتهى " فإنه صريح فيما
ذكرناه.
ومنها ان ما افاده مقرر بحثه، من أن طريق حل الاشكالين وإن كان واحدا،
وهو انحلال القضية إلى القضايا، الا ان حل الاشكال الثالث بلحاظ آخر السلسلة وحل
الرابع انما هو بلحاظ مبدء السلسلة ضعيف جدا فان الرابع لا ينحل بما ذكره فان
محكى قول الصفار وإن كان هو قول الإمام وله اثر شرعي غير وجوب التصديق الا ان
وجوب تصديقه يتوقف على ثبوت موضوع ذي اثر وهو (قول) الصفار المنقول لنا تعبدا
وثبوته يتوقف على وجوب تصديقه، فان قول الصفار لم يصل إلينا من الطرق
العلمية حتى يكون الموضوع محرزا بالوجدان، ولا نحتاج في تحصيل الموضوع إلى
شئ.
وبذلك يظهر، ان الاشكال لا ينحل من طريق مبدء السلسلة، لعدم الموضوع
لوجوب التصديق فلابد من حل الاشكال باعتبار آخر السلسلة، وهو خبر الشيخ المحرز
بالوجدان ولا يتوقف الموضوع فيه على الحكم.
جولة حول الأجوبة الماضية
هذه جملة ما قيل أو يمكن ان يقال حول الاشكالات والأجوبة، غير أن كل ذلك
يتوقف على أن يكون لسان الأدلة لسان جعل الطريقية وأمثالها أو لسان التنزيل
191

، وجعل المصداق، بان يكون خبر الواحد من مصاديق العلم تشريعا وتعبدا أو يكون
لسان الأدلة ناظرا إلى تحقق المخبر به في الخارج سواء كان المخبر به قول الإمام،
أو اخبار المفيد للشيخ مثلا. فلو صح واحد من هذه لصح ما تشبثوا به من احراز الموضوع
بدليل صدق العادل، فان العلم وما هو منزل منزلته أعني خبر الشيخ، يكشف كشفا
تاما تعبديا عن وجود موضوع كان مستورا عنا، فيشمله وجوب التصديق لانحلاله
إلى وجوبات حسب تعدد موضوعه واما إذا قلنا إن لسانها على فرض دلالتها، هو
ايجاب العمل ولزوم التمسك به فلا وجه لهذه الأجوبة لان المحرز بالوجدان هو
خبر الشيخ، وما قبله ليس محرزا لا بالوجدان ولا بالتعبد، لأن المفروض ان لسان
الأدلة، وجوب العمل بها، حسب الوظيفة لا كون قول العادل نازلا منزلة العلم
أو دالا على وقوع المخبر به تعبدا و (عليه) فلا يشمل وجوب التصديق لغير المحرز
بالوجدان واما كون أدلة حجية الخبر كذلك فيظهر بالمراجعة إليها والتأمل
فيها هذا إذا قلنا بان أدلة الحجية تأسيسية والا فلابد من ملاحظة بناء العقلا ويأتي
الكلام فيه.
واما حصول الظن النوعي منه، أو الكشف الظني عن الواقع، فكل ذلك يمكن أن يكون
نكتة التشريع، ليس مصبا للجعل كالقول بان علة التشريع عدم وقوع الناس في
الكلفة وما أشبهه.
أضف إلى ذلك، ان ايجاب التصديق شرعا يتوقف على اثر عملي للمنكشف
وليس لمحكى قول الشيخ (اخبار المفيد له عن الصدوق) أي اثر شرعي، فإنه لا يخبر
عن وجوب صلاة الجمعة بل عن اخبار أستاذه له كما ذكرناه وعليه فلا اثر لقوله بما
هو قوله.
واما ما افاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه: من أنه لو أخبر العادل بشئ
يكون ملازما لشئ له اثر شرعا اما عادة أو عقلا أو بحسب العلم نأخذ به ويكفى في
حجية خبر العادل انتهائه إلى اثر شرعي لا يقال: إن ذلك انما يصح إذا كانت الملازمة
عادية أو عقلية وليس هنا بين المخبر به (حديث المفيد) وصدقه ملازمة لا عادية ولا عقلية
192

" لأنا نقول " ان الملازمة وان لم تكن عقلية ولا عادية ولكن يكفي ثبوت
الملازمة الجعلية بمعنى ان الشارع جعل الملازمة النوعية الواقعية بين اخبار العادل
وتحقق المخبر به.
فلا يخلو عن اشكال فان الملازمة ليست عقلية ولا عادية كما اعترف به والملازمة
الشرعية تحتاج إلى الجعل وليس بين الأدلة ما يتكفل ذلك.
ودعوى دخالة كل واحد من السلسلة في موضوع الحكم غريبة فان ما هو
الموضوع للوجوب ليس الا نفس الصلاة لا الصلاة المحكى وجوبها على أن الانتهاء
إلى الأثر انما هو بالتعبد والتعبد بالشئ فرع تحقق الأثر الشرعي حتى يكون التعبد
بلحاظ ذلك الأثر
وان شئت قلت: ان خبر الشيخ لا عمل له ولا اثر عملي له وليس جزء موضوع
للعمل نعم له اثر عملي بما هو موضوع من الموضوعات وهو جواز انتساب الخبر إلى
المفيد وهو يتوقف علي تعدد المخبر كسائر الموضوعات
واما وجوب صلاة الجمعة فليس مفاد خبر الشيخ، حتى يكون إقامة الصلاة ترتيبا
عمليا له، فان الشيخ لم يخبر عن وجوبها، وانما أخبر عن اخبار المفيد، ولأجل ذلك
يدور صدق قوله أو كذبه، مدار الخبار المفيد له وعدم اخباره، سواء كانت الصلاة
واجبة أم لا.
ومن الغريب ان الأساتذة اعرضوا عن مصب الاشكال أعني آخر السلسلة وهو خبر
الشيخ، وتشبثوا بأول السلسلة أعني خبر الصفار عن العسكري عليه السلام حيث قالوا: إن
قول الصفار له اثر غير وجوب التصديق، فيجب تصديقه لأجل ذاك الأثر المغاير لوجوب
تصديقه، فيصير قوله ذا اثر فإذا أخبر الكليني يكون اخباره موضوعا ذا اثر حتى ينتهى
إلى آخر السلسلة.
وقد عرفت ان ما هو المهم تصحيح الحجية، من جانب الشيخ حيث ليس لقوله
واخباره اثر عملي حتى يجب التصديق بلحاظه، واما اخبار الصفار، فان قوله وإن كان
ذا اثر شرعي غير أن اخبار الصفار للكليني ليس لنا وجدانيا. بل لم يثبت لنا الا بدليل
193

التعبد، فلا يثبت اخباره له. الا ان يثبت قبله اخبار المفيد للشيخ وما بين المفيد و
الصفار من الوسائط. فلا مناص الا التشبث باخر السلسلة واصلاح حاله. وقد
مضى اشكاله.
نظرنا في دفع الاشكالات
والذي يقتضيه النظر ان الاشكالات تندفع بهذا فيرها. بمراجعة بناء العرف و
العقلاء فإنهم لا يفرقون في الاخبار بين ذي الواسطة وعدمه، وسيمر عليك ان الدليل
الوحيد هو البناء القطعي من العقلاء على العمل بخبر الثقة، واما ان عدم كون محكى
قول الشيخ ذا اثر فمدفوع بأنه لا يلزم في صحة التعبد أن يكون له اثر عملي بل
الملاك في صحته عدم لزوم اللغوية في اعمال التعبد أو امضاء بناء العقلاء كما في
المقام فان جعل الحجية لكل واحد من الوسائط أو امضاء بناء العقلاء ليس
أمرا لغوا.
ولعل السر في عدم تفريقهم بين ذي الواسطة وعدمه، وعدهم الخبر المعنعن المسلسل
خبرا واحدا لا اخبارا، لان نظرهم إلى الوسائط طريقي لا موضوعي وليس ههنا اخبارات
عديدة ولكن لا يترتب الأثر العملي الا بواحد منها أعني خبر الصفار بل اخبار واحد،
وعمل فارد، ويشهد على ذلك انصراف ما يدل على احتياج الموضوعات إلى البينة عن
المقام أعني أقوال الوسائط مع كونها موضوعات، نعم لو كان لبعض الوسائط اثر خاص
لا يمكن اثباته الا بالبينة، كما لا يخفى
الاستدلال باية النفر
ومما استدل به قوله تعالى: ما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلو لا نفر من كل
فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم ينذرون (1) و
قد ذكر بعض أعاظم العصر تقريبا زعم أنه يندفع به عامة الاشكالات المتوهمة في
دلالة الآية فقال، ان الاستدلال يتركب من أمور

(1) التوبة - الآية 122
194

الأول ان كلمة لعل مهما تستعمل تدل على أن ما يتلوها يكون من العلل
الغائية لما قبلها سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات والأفعال الاختيارية وغيرها
فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لان يتعلق بها الإرادة الآمرية
كان لا محالة بحكم ما قبلها في الوجوب والاستحباب، وبالجملة لا اشكال في استفادة
الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب علته الغائية، وفى الآية جعل التحذر علة غائية
للانذار، ولما كان الانذار واجبا كان التحذر واجبا " الثاني " ان المراد من المجموع
في الآية هي المجموع الاستغراقية لا المجموعية لوضوح ان المكلف بالتفقه هو كل
فرد فرد من النافرين أو المتخلفين على التفسيرين فالمراد ان يتفقه كل فرد منهم،
وينذر كل واحد منهم، ويتحذر كل واحد منهم، " الثالث " المراد من التحذر هو
التحذر العملي وهو يحصل بالعمل بقول المنذر بل مقتضى الاطلاق والعموم الاستغراقي في
قوله " ولينذروا " هو وجوب الحذر مطلقا، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل،
غايته انه يجب تقييد اطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن أن
يشك أحد في دلالتها على حجية الخبر الواحد وبما ذكرنا من التقريب يمكن دفع
جميع ما ذكر من الاشكالات على التمسك بها " انتهى " ثم تصدى لبيان الاشكالات و
دفعها.
وفى كلامه مواقع للنظر منها ان ما ادعاه من أن ما يقع بعد كلمة لعل انما
يكون دائما علة غائية لما قبلها منقوض بقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم
ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، فان الجملة الشرطية وإن كانت متأخرة ظاهرة
لكنها متقدمة على قوله تعالى فلعلك باخع الخ حسب المعنى، مع أن ما بعد " لعل " ليس
علة غائية لما قبلها أعني الجملة الشرطية، فان بخوع نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله ليس علة غائية لعدم
ايمانهم، وإن كان مترتبا عليه، غير أن الترتب والاستلزام غير العلة الغائية لكن
الامر سهل بعد كون المقام من قبيل ما ذكره رحمه الله
ومنها: ان ما ذكره من وجوب التحذر لكونه غاية للانذار الواجب، غير
195

صحيح بل الظاهر كونه غاية للنفر المستفاد وجوبه من " لولا " التحضيضية الظاهرة في
الوجوب ومع ذلك أيضا ليس للآية ظهور تام في وجوب النفر حتى يترتب عليه
وجوب التحذر فان صدر الآية أعني قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة.
يعطى ان الغرض المسوق له الكلام هو النهى عن النفر العمومي وانه لا يسوغ
للمؤمنين ان ينفروا كافة وابقاء رسول الله وحيدا فريدا، وعلى ذلك فيصير المآل من
الآية هو النهى عن النفر العمومي، لا ايجاب النفر للبعض فالحث انما هو على
لزوم التجزية وعدم النفر العمومي، لا على نفر طائفة من كل فرقة للتفقه
ودعوى ان ذلك خلاف ظاهر الآية، بشهادة انه لو كان الغرض هو المنع عن
النفر العمومي لكان الواجب الاكتفاء على قوله عز شانه فلو لا نفر من كل فرقة
طائفة، من دون ان يعقبه بما ذكره بعده من التفقه والرجوع والانذار والتحذر، فان
التعقيب بما ذكر شاهد على أن الغرض هو الحث على تحصيل هذه المطالب من بدئها
إلى ختامها، أضف إلى ذلك ان قوله تعالى وما كان المؤمنون الخ ليس نهيا ولا منعا
بل اخبارا عن أمر تكويني خارجي، وهو امتناع النفر العمومي، امتناعا واضحا
يحكم به ضرورة العقول لاستلزامه اختلال النظام، ثم اردف ذلك عز شانه بنفر
البعض، لعدم استلزامه هدم النظام وفساد المجتمع.
مدفوعة بان عدم الاكتفاء على الجملة الأولى يمكن أن يكون لدفع ما ربما
ينقدح في الأذهان من بقاء ساير الطوائف على جهالتهم وعدم تفقههم في الدين فقال
عز شانه يكفي لذلك تفقه طائفة فليست الآية في مقام بيان وجوب النفر بل في مقام بيان
لزوم التفرقة بين الطوائف وقوله وما كان المؤمنون اخبار في مقام الانشاء ولو بقرينة
شان نزولها كما قال المفسرون وليس المراد بيان أمر واضح لهم يختلج ببال أحد
لزوم نفر جميع الناس في جميع الأدوار إلى طلب العلم والتفقه حتى لزم التنبه به الا ان يحمل
ذكره لصرف المقدمة لما بعده وهو أيضا بعيد مخالف لشأن نزول الآية وقول
المفسرين.
ومنها ان ما ذكره (قدس سره) من أن المراد من الحذر هو الحذر العملي وهو
196

يحصل بالعمل يقول المنذر، لا يخلو عن ضعف بل الظاهر أن المراد من الحذر هو
الحذر القلبي بعد انذار المنذر، وايعاده وتلاوته ما ورد في ذلك من الآيات والنصوص
والسنن، وعلى ذلك فبعدما أنذر المنذر بما عنده من الآيات والروايات وحصل الحذر
والخوف القلبيان، يقوم المنذرون (بالفتح) بما لهم من الوظائف العملية التي تعلموها
من قبل أو يلزم تعلمها من بعد فليست الآية ظاهرة في اخذ المنذر (بالفتح)
شيئا من الاحكام من المنذر (بالكسر) تعبدا وبالجملة غرض القائل سبحانه
من الآية ليس تعلم المنذر شيئا من المنذر، ولا عمله بقوله، بل غرضه سبحانه،
ان المنذرين بعدما أوعدوا قومهم بتذكار الله، وبيان عظمته، وما أعد للمتقين
من الجنة وللكافرين والفاسقين من النار، وذكروا ذلك كله على سبيل الموعظة
والانذار، يحصل له حذر قلبي، وخوف باطني، يجبر ذلك الخوف على العمل بالوظائف
الشرعية العملية، واما ما هو الوظائف، وانها من أين يلزم تحصيلها والوقوف
عليها، فليس موردا لغرض الآية، كما أن أوصاف المنذر من عدالته وتعدده
ليس مصبا للبيان وعلى ذلك فبين معنى الآية وحجية الخبر الواحد بون بعيد
ومنها وذلك أهم ما في الباب من الاشكال وملخصه، انكار اطلاق
الآية بالنسبة إلى حصول العلم من قول المنذر وعدمه، فان الاطلاق فرع كون المتكلم
في مقام البيان، وليس في الآية ما يشعر بكونه سبحانه في مقام بيان تلك الجهة بعامة
خصوصياتها، فان الآية حسب بعض تفاسيرها، في مقام بيان وجوب أصل النفر، وقيام
عدة به، ورجوعهم وانذارهم وتحذرهم، واما لزوم العمل بقول كل منذر، سواء كان
عادلا أم فاسقا، واحدا أم متعددا، حصل منه الظن أو العلم أم لا، فليس في مقام بيانها حتى يؤخذ
باطلاق الآية، والعجب أنه قدس سره قد صار بصدد دفع الاشكال فقال: بعدما عرفت من أن
المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الاشكال، إذ أي اطلاق يكون
أقوى من اطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (انتهى) و
أنت خبير، ان كون العام استغراقيا، لا يثبت الاطلاق من ناحية الفرد، إذ لا منافاة
بين كون الحكم شاملا لكل أحد، وبين حجية قول كل واحد منها في ظروف خاصة و
197

أوقات معينة.
ومنها: ان بعض الروايات الصادرة عنهم (ع) يستفاد منها ان الأئمة الهداة قد
استشهدوا بها على لزوم النفر إلى تحصيل العلم بالامام المفترض طاعته، بعد فوت
امام قبله، ومعلوم ان الأصول الاعتقادية، لا يعتمد فيها بخبر الثقة، وهذا أيضا يؤيد عدم
الاطلاق الفردي.
هذا وقد استدل القوم بآيات كثيرة، غير أن المهم ما عرفت
الاستدلال على حجية قول الثقة بالاخبار
قد استدل الأصحاب بالروايات الكثيرة الواردة التي جمعها الشيخ الجليل الحر
العاملي في كتاب القضاء من وسائله، ولا حاجة لنا في نقلها وسردها في المقام وعلى
القارئ الكريم، ملاحظة أبواب القضاء من ذاك الكتاب، لعله يقف على أزيد مما وقف
عليه غيره. ولكن نعطف نظره إلى نكتة مرت الإشارة إليه غير مرة وهو انا لاحظنا ما
وقفنا عليه من الاخبار واحدا بعد واحد، وامعنا النظر في مفادها فلم نجد فيها ما
يدل على التأسيس وان الشارع قد جعل الخبر الواحد، أو قول الثقة حجة من عنده، بل
يظهر من كثيرها، ان حجية خبر الثقة كان أمرا مسلما عندهم، وكانت الغاية في هذه الأخبار
تشخيص الثقة عن غيرها، وان فلانا هل يجوز الاخذ منه لوثاقته أو لا يجوز
وان شئت قلت إن الاخبار في مقام بيان الصغرى، وهو تعيين الثقة وان فلانا ثقة
أو غير ثقة واما الكبرى وهو حجية قول الثقة، فقد كانت أمرا ارتكازيا لهم وكان بناء
العقلاء على العمل به وبذلك يظهر ان ما استدلوا به من الكتاب والسنة ما يدل بظاهرها
على حجية قول الثقة، فهي محمولة على الامر العقلائي الدائر بينهم وكان المرمى امضاء
عملهم لا تأسيس أمر لهم
واما ما افاده المحقق الخراساني وتبعه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه من أن لازم
العلم اجمالا بتواترها الاجمالي وإن كان من الاخذ بأخص مضامين تلك الأخبار وهو
حجية قول العدل الذي شهد اثنان من أهل الفن بعدالته، الا انه يوجد في تلك الأخبار
خبر يكون جامعا لعامة الشرايط المحتملة، ويكون مفاده حجية قول مطلق الثقة،
198

فيتعدى منه إلى الأعم، فغير صحيح إذ لا أظن أن يكون بين الاخبار في الباب خبر
يكون جامعا لعامة الشرائط المحتملة التي قد قلنا بها من باب الاخذ بالقدر المتيقن
ومع ذلك يكون من حيث المفاد أعم أي دالا على حجية قول المطلق الثقة فإنه مجرد فرض
فان القدر المتيقن من تلك الأخبار، هو الخبر الحاكي من الامام بلا واسطة، مع كون
الراوي من الفقهاء نظراء زرارة، ومحمد بن مسلم وأبى بصير ومعلوم انه ليس بينها
خبر جامع لتلك الشرائط دال على حجية قول مطلق الثقة.
واما ما افاده بعض أعاظم العصر من أن أغلب الطوائف وان لم يكن متواترا
الا انه لا اشكال في أن مجموعها متواترة للعلم بصدور بعضها عنهم صلوات الله عليهم،
ففيه ان العلم بصدور البعض لا يمكن الاستدلال به على حجية قول الثقة مطلقا، إذ
من المحتمل أن يكون الصادر منهم ما يدل على حجية قول الثقة إذا كان جامعا لشرائط
خاصة وبالجملة العلم بصدور البعض لا يكفي في استنتاج الأعم، على أنه يمكن
منع التواتر لأنها مع كثرتها منقولة عن عدة كتب خاصة لا تبلغ حد التواتر
واشترطوا في تحقق التواتر، كون الطبقات عامتها متواترة والتواتر في جميعها
ممنوع.
نعم هيهنا وجه آخر لاثبات حجية مطلق قول الثقة وحاصله: انه ان ثبت حال
السيرة العقلائية، وظهر ان بناء العقلاء على العمل بمطلق قول الثقة، فهو والا
فالقدر المتيقن، من السيرة هو بنائهم على حجية الخبر العالي السند، الذي يكون
رواته كلهم ثقات عدول، قد زكاهم جمع من العدول، ولا اشكال في أنه يوجد بين
تلك الروايات ما يكون جامعا لتلك الشرائط، مع كونه دالا على حجية قول الثقة
مطلقا فقد روى الكليني عن محمد بن عبد الله الحميري ومحمد بن يحيى جميعا عن عبد الله
بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن قال سئلته وقلت: من أعامل
وعمن آخذ، وقول من اقبل، فقال العمرى ثقتي، فما أدى إليك عنى فعنى يؤدى، و
ما قال لك عنى، فعنى يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون، ونحوها صحيحته
الأخرى، وهذه الرواية مع علوها، رواته كلهم من المشايخ العظام، ممن اتفق
199

الأصحاب على العمل برواياتهم، فتلك الرواية لا اشكال في شمول السيرة العقلائية
عليها، فإذا شملتها نتعدى حسب مضمونها إلى كل ثقة مأمون.
لا يقال: لا يمكن التعدي منها الا إلى نظراء العمرى وابنه الذين هم من الاجلاء
الثقات.
ولا يمكن منه التعدي إلى مطلق الثقة، لأنا نقول: إن التعليل بأنه الثقة المأمون
يرفع هذا الاحتمال، فان التعليل بمطلق الوثاقة والمأمونية، لا الوثاقة المختصة لاضراب
العمرى وابنه، كما أن التعليل في قول القائل: لا تشرب الخمر لأنه مسكر، ظاهر
في أن تمام العلة ذات الاسكار لا الاسكار المختص بالخمر.
ثم هذه الرواية وأمثالها وإن كان لسانه عاريا عن جعل الحجية أو تتميم
الكشف أو جعل الطريقية الا انه يظهر منه ان العمل بقول الثقة المأمون كان رائجا
بين الأصحاب بل بين العقلاء ولذا جاء اخذ الحديث من العمرى وابنه معللا بأنه
الثقة المأمون وبذلك يظهر الفرق بين مقالنا وبين ما ذكره المحقق الخراساني
فراجع لما نقلناه عنه.
نعم لو قلنا بعدم استفادة ايجاب العمل أو جعل الحجية وأمثالها منها يشكل
التمسك بها لكشف حال السيرة لعدم الكشف القطعي وهو واضح وعدم كونه
حكما عمليا فلا معنى للتعبد به وكيف كان فالخطب سهل بعد احراز بناء العقلاء
على الاحتجاج بخبر كل ثقة ثم بناء على انكار بنائهم فالرواية ونحوها تدل على
التشريع ولزوم العمل بقوله وما ذكرناه من عدم الأدلة على التأسيس لأجل احراز
بناء العقلاء فتدبر.
الاستدلال بالسيرة العقلائية
وقد عرفت انها العمدة في الباب، بل لا دليل غيرها، ويقف على وجودها كل من
له المام بالمجتمعات البشرية منذ دون تاريخ البشر، واستقر له التمدن، واتخذ
لنفسه مسلكا اجتماعيا
وما ورد من الآيات الناهية من العمل بغير العلم، أو العمل بالظن، ليست رادعة
200

عن السيرة، إذ لو كانت رادعة لمطلق العمل بالظن أو بغير العلم، شملت نفسها، لأنها
بمنزلة القضايا الحقيقية، الثابت فيها الحكم لموضوعاتها المحققة كل في موطنها،
ومن العمل بالظن، نفس التمسك بهذه الآيات، والاخذ بمفادها فيلزم من جواز
التمسك، عدم جوازه، وأما ما أفاده المحقق الخراساني من أن رادعية تلك الآيات
تستلزم الدور المحال، فضعيف، وقد مر وجهه عند البحث عن استدلال النافين بالآيات
لا يقال: إن المحال انما يلزم من شمولها لنفسها، فيندفع بعدم شمولها لنفسها
و (ح) يصلح للرادعية عن مطلق العمل بالظن " لأنا نقول " لا شك ان هذه الآية انما
نزلت لأجل الإفادة والاستفادة حتى يأخذ الأمة بمضمونها، كما لا شك في أن العمل
بظاهرها ليس الا عملا بالظن وبغير العلم و (ح) فهل المتكلم، اتكل في بيان مراده على
مفروغية حجية الظواهر الظنية كما هو المطلوب، أو اتكل علي عدم شمولها لنفسها
لاستلزامه المحال ولا أظن أحدا يتفوه بالثاني، فإنه خارج عن المتفاهم العرفي و
الطريقة المألوفة بين العقلاء. فإذا كان الاتكال في الافهام على السيرة أعني مفروغية
حجية الظواهر مع عدم إفادتها العلم، يعلم بعد الغاء الخصوصية عدم رادعيتها للسيرة
القطعية في العمل بالظواهر أو بقول الثقة المأمون أو غيرهما مما عليه عمل العقلاء
وان شئت قلت: ان المتكلم قد اعتمد في إفادة المطلوب على السيرة العقلائية الدائرة
بينهم من حجية الظواهر لا على أن هذا الكلام لا يشمل لنفسها لأجل لزوم المحال فإنه
خارج عن المتفاهم العرفي. فإذا كان الاعتماد على السيرة المستمرة من حجية الظواهر
مع عدم إفادتها العلم يعلم بالغاء الخصوصية، ان الآية غير رادعة لما قامت عليه السيرة
من العمل بالظنون في موارد خاصة من الظواهر وحجية قول الثقة وغيرهما
ثم إن بعض الأعاظم أفاد في المقام: انه لا يحتاج في اعتبار الطريقية العقلائية
إلى امضاء صاحب الشرع لها، والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها فان
عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وان لم يصرح بالامضاء، نعم لا يبعد
الحاجة إلى الامضاء في باب المعاملات لأنها من الأمور الاعتبارية التي يتوقف صحتها
على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابد من امضاء ذلك ولو بالعموم و
201

الاطلاق، وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع
كالمعاملات المعروفة في هذا الزمان - " البيمة " (التأمين) فإنها إذا لم يندرج في عموم
أحل الله البيع، أو أوفوا بالعقود، ونحو ذلك فلا يجوز ترتيب آثار الصحة
عليها " انتهى "
وفيه: ان التفريق بين المعاملات وغيرها باحتياج الأولى إلى الامضاء وعدم
كفاية الردع، بخلاف الثاني، غير صحيح لان مجرد كون المعاملات أمورا اعتبارية
لا يستلزم لزوم الامضاء وعدم كفاية عدم الردع، فإذا كانت المعاملة بمرأى
ومسمع من الشارع، وكان متمكنا عن الردع، فسكوته كاشف عن رضاه وهذا كاف في
نفوذ المعاملة.
ثم إنه قدس سره أفاد ثانيا: ان سيرة المسلمين في الأمور التوقيفية التي من
شأنها ان تتلقى من الشارع، تكشف لا محالة عن الجعل الشرعي، واما في غير التوقيفية
التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشرع، فمن المحتمل قريبا رجوع سيرة المسلمين
إلى طريقة العقلاء ولكن ذلك لا يضر جواز الاستدلال بها، فإنه كما أن استمرار طريقة
العقلاء يكشف عن رضاء صاحب الشرع، كذلك سيرة المسلمين تكشف عن
ذلك غايته انه في مورد اجتماع السيرة والطريقة يكونان من قبيل تعدد الدليل
على أمر واحد. انتهى
وفيه: ان عد مورد اجتماع السيرتين، من باب قيام الدليلين على شئ واحد
غير صحيح، فان سيرة المسلمين على جواز العمل بقول الثقة، لو كانت قائمة عليه بما هم
مسلمون فلا وجه لارجاعها إلى طريقة العقلاء وسيرتهم كما ادعاه، وإن كانت قائمة
عليه لا بما هم مسلمون، فهي وإن كانت راجعة إلى سيرة العقلاء، لكن لا تصير السيرة
(ح) دليلا مستقلا بعد اتحاد الحيثيتين في متعلق السيرتين، بل الدليل ينحصر في واحد
وهو سيرة العقلاء (1).

(1) ثم إن القوم قدس الله اسرارهم استدلوا على حجية قول الثقة بالدليل العقلي الذي
نقل الشيخ الأعظم تقريراته المختلفة في فرائده ومرجع الكل إلى الانسداد الصغير و الكبير، وقد بحث سيدنا الأستاذ (دام ظله الوارف) عنه في الدورة السابقة، وغار في عامة
مباحثه وفند أكثر ما افاده بعض أعاظم العصر في هاتيك المباحث غير أنه (دام ظله) رأى البحث
عنه في هذه الدورة ضياعا للوقت وصار بصدد تهذيب الأصول وتنقيحه، ومن أجمل ما أفاد في
هذا المقام قوله. ان البحث عن أصل الانسداد وإن كان له شأن: ليقف القارئ على
حقيقة الحال غير أن البحث عن فروعه من كون النتيجة على فرض صحة الانسداد مهملة أو كلية و
كون الظن حجة على الكشف أو الحكومة ووو ضار جدا، از بعد ابطاله لا مساع للبحث عن
فروعه إذ لا أساس حتى ببحث عما يبنى عليه المؤلف
202

المقصد السابع في الأصول العملية
القول في البراءة
وينبغي تقديم أمور الأول قد اختلفت كلمات الأعاظم في بيان حالات المكلف
وذكر مجارى الأصول، وكلها لا يخلو عن النقض والابرام. فان ما افاده شيخنا العلامة
وإن كان أحسن وأتقن فقال: ان المكلف إذا التفت إلى حكم فاما أن يكون قاطعا
به أو لا وعلى الثاني فاما أن يكون له طريق منسوب من قبل الشارع أو لا وعلى الثاني
اما أن يكون له حالة سابقة ملحوظة أو لا، وعلى الثاني اما أن يكون الشك في
حقيقة التكليف أو في متعلقه، وعلى الثاني اما ان يتمكن من الاحتياط أو لا،
" انتهى ".
لكن يرد عليه مع ذلك أنه لو كان المراد من القطع بالحكم، هو القطع التفصيلي
به ففيه مضافا إلى أنه لا وجه لتخصيصه بالتفصيلي، ان ذلك لا يناسب مع البحث عن
القطع الاجمالي في مبحث القطع، وان أراد الأعم منه ومن الاجمالي فيقع التداخل
بين مباحثه، ومباحث الاشتغال، وعليه لابد ان يبحث عن الشك في المتعلق (الاشتغال)
في أبحاث القطع لا في أبحاث الشك، فان الشك في المتعلق يلازم القطع الاجمالي
بالحكم، ومنه يعلم أنه لو أراد من الطريق المنصوب من الشارع الأعم مما عرضه الاجمال
في متعلقه أو لا، يقع التداخل بينه وبين الشك في المتعلق.
أضف إلى ذلك أنه ليس لنا طريق منصوب من الشارع، وانه ليس هنا امارة
203

تأسيسية: بل كلها امضائية، وعلى ذلك يصير البحث عن تلك الامارات الامضائية،
بحثا استطراديا فيكون عامة مباحث الظن أبحاثا استطراديا الا ان يراد بالطريق
المنصوب أعم من الطرق الامضائية ومع ذلك يرد عليه الظن على الانسداد بناء على
الحكومة ولا محيص عن هذه الاشكالات وأشباهها،
والأولى ان يقال إن هذا التقسيم اجمال المباحث الآتية مفصلا وبيان لسر تنظيم المباحث
فإنه لأجل حالات المكلف بالنسبة إلى الاحكام فإنه لا يخلو بعد الالتفات من القطع
بالحكم أو الظن أو الشك به والشك لا يخلو اما أن يكون له حالة سابقة أو لا والثاني
لا يخلو اما أن يكون الشك في التكليف أو المكلف به والثاني لا يخلو اما أن يكون له
حالة سابقة أو لا فرتبت المباحث حسب حالات المكلف من غير نظر إلى المختار
فيها فلا يرد الاشكال الا التداخل بين القطع والشك في المتعلق فإنه من القطع الاجمالي
ويمكن ان يذب عنه بان ما ذكر في مبحث القطع هو حيث حجية القطع وما يرتبط به
وما ذكر في مبحث الاشتغال جهات أخر مربوطة بالشك فلا يتداخلان لاختلاف اللحاظ
وعلى ما ذكرناه لا يحتاج إلى تقييد الحالة السابقة بالملحوظة حتى يرد عليه انه
من قبيل الضرورة بشرط المحمول.
بل الأولى في تنظيم مباحث الأصول ان يبحث من القطع بقسميه في مبحث وادرج
فيه بعض مباحث الاشتغال مما كان الحكم معلوما اجمالا بالعلم الوجداني كامكان
الترخيص وامتناعه ولو في بعض الأطراف.
ثم اردف بمبحث الامارات سواء كانت الامارة قائمة مفصلا أو اجمالا وادرج
فيه ساير مباحث الاشتغال والتخيير وادرج البحث عن التعادل والتراجيح في ذيل
حجية خبر الثقة ثم اردف بمبحث الاستصحاب ثم مبحث البراءة حتى يكون الترتيب
حسب ترتيب حالات المكلف والامر سهل
الثاني قد عرف المحققون الحكومة بتعاريف ولعل محصلها يرجع إلى كون
الدليل الحاكم متعرضا للمحكوم نحو تعرض وبنحو اللزوم العرفي أو العقلي مما لا
يرجع إلى التصادم في مرحلة الظهور وان شئت قلت كون الدليل متعرضا لحيثية
204

من حيثيات دليل المحكوم مما لا يتكفله دليل المحكوم توسعة وضيقا، وبذلك
(أي تعرض الحاكم لما لم يتعرض به المحكوم مما يرجع إلى حيثية من حيثياتها)
يعلم أن الحكومة قائمة بلسان الدليل الحاكم وكيفية تأديته، فلا يتصور بين اللبية
الصرفة كالاجماع أو الأدلة العقلية، نعم يتصور بينهما الورود أو التخصيص وغيرهما
إذا عرفت ذلك:
المشهور ان الامارات حاكمة على الأصول العملية، والظاهر أن في
هذا التعبير مسامحة فان الحكومة انما هو بين أدلة الامارات وأدلة الأصول لا بينهما
كما لا يخفى، على أن أدلة الامارات ليست على نسق واحد حتى يصير الترجيح
على أدلة الأصول بمثابة واحدة، بل تختلف، وباختلافها يختلف وجه الترجيح،
فان من الامارات قول الثقة، فإن كان المدرك لحجية قوله، آية النبأ فالترجيح
انما هو بالحكومة، فان لسانها ان خبر العدل متين وليس العمل على قوله عملا
بجهالة، فيقدم على الأصول لكون موضوعاتها الجهالة وعدم العلم أو الشك، و
إن كان حجيتها لأجل بعض الأخبار الواردة فيها، فلا يبعد أن يكون التقديم أيضا على
نحو الحكومة (مثل قوله ع ما أديا عنى فعنى يؤديان)، وإن كان المستند، هو بناء
العقلاء على العدل به في أمورهم فلا شك ان التقديم ليس لأجل الحكومة، لتقومها
بلسان الدليل ودلالته اللفظية ولا لسان للدليل اللبي فلابد أن يكون التقديم بنحو
الورود أو غيره ومن ذلك يعلم أن تقديم دليل أصالة الصحة في محل الغير على الاستصحاب
ليس بنحو الحكومة لكونه لبيا وهو بناء العقلاء واما تقديم أدلة قاعدة التجاوز على
دليل الاستصحاب، فالظاهر أنه على نحو الحكومة، بناء على أن الاستصحاب أصل،
فان مفاده عدم نقض اليقين بالشك، ولسان الأدلة في القاعدة هو عدم الشك أو عدم شيئيته
وهذا لسان الحكومة، بل أي حكومة، أقوى من قوله: انما الشك إذا كنت في شئ لم
تجزه أو قوله عليه السلام فشكك ليس بشئ.
ثم إن بعض أعاظم العصر نسب إلى الشيخ الأعظم أنه قال هنا وفى مبحث التعادل و
الترجيح، ان التنافي بين الامارات والأصول هو التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري
205

وان الجمع هو الجمع، ثم اورد عليه بان المقامين مختلفان تنافيا وجمعا وان الجمع بين
الامارات والأصول انما هو بالحكومة لا بما افاده. " انتهى "
وفيه ان الشيخ الأعظم قد صرح بحكومة الامارات على الأصول في كلا المقامين
وليس في كلامه ما يوهم ما نسبه إليه فراجع.
الثالث: ان الشيخ الأعظم (قدس سره) قد بحث عن كل من الشبهات بحثا مستقلا
مع أن المناط في الجميع واحد سواء كانت الشبهة تحريمية أو وجوبية موضوعية
كانت أو حكمية كانت الشبهة في الحكم لأجل فقدان النص أو تعارضه أو اجماله، ومجرد
اختصاص بعض الأقسام بالخلاف دون بعض، أو عمومية بعض الأدلة دون بعض لا يوجب
افراد البحث لكل واحدة من الأقسام
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: استدل على البراءة بالأدلة الأربعة اما
الآيات فمنها قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وجه الاستدلال
على وجه يندفع ما أشكل عليه من الايراد ان يقال: إن المتفاهم عرفا من الآية لأجل
تعليق العذاب على بعث الرسول الذي هو مبلغ لاحكامه تعالى وبمناسبة الحكم والموضوع
هو ان بعث الرسول ليس له موضوعية في انزال العقاب بل هو طريق لايصال التكاليف على
العباد واتمام الحجة به عليهم، وليس المراد من بعث الرسول هو بعث نفس الرسول وان لم يبلغ
احكامه فلو فرض انه تعالى بعث رسولا لكن لم يبلغ الاحكام في شطر من الزمان لمصلحة أو جهة
أخرى لا يصح ان يقال إنه تعالى يعذبهم لأنه بعث الرسول وكذا لو بلغ بعض الأحكام
دون البعض يكون التعذيب بالنسبة إلى ما لم يبلغ مخالفا للوعد في الآية
وكذا لو بلغ إلى بعض الناس دون بعض لا يصح ان يقال إنه يعذب الجميع لأنه
بعث الرسول وكذا لو بلغ جميع الأحكام في عصره ثم انقطع الوصول إلى الأعصار المتأخرة
وهذا أو اشباهه يدل على أن الغاية لاستحقاق العذاب هو التبليغ الواصل، و
ان ذكر بعث الرسول مع انتخاب هذه الكلمة، كناية عن ايصال الاحكام، واتمام
الحجة، وان التبليغ غير الواصل في حكم العدم وانه لا يصحح العذاب، كما أن وجود
الرسول بين الأمة بلا تبليغ، كذلك
206

وعلي ذلك فلو بحث المكلف عن تكليفه ووظيفته بحثا أكيدا فلم يصل إلى ما
هو حجة عليه من علم تفصيلي أو اجمالي وغيرهما من الحجج فلا شك أنه يكون مشمولا
لقوله عز وجل وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لما عرفت من أن الغاية للوعيد بحسب
اللب هو ايصال الاحكام إلى العباد وان بعث الرسل ليس له موضوعية فيما رتب عليه
وان شئت قلت: ان قوله تعالى: وما كنا معذبين تنزيه للحق تعالى شأنه وهو
يريد بهذا البيان ان التعذيب قبل البيان مناف لمقامه الربوبي، وان شأنه تعالى
أجل من أن يرتكب هذا الامر، فلذلك عبر بقوله وما كنا معذبين، دون أن يقول:
وما عذبنا، أو ما أنزلنا العذاب، وذلك للإشارة إلى أن هذا الامر مناف لمقامه الا رفع
وشأنه الاجل
وبعبارة أوضح ان الآية مسوقة اما لإفادة ان التعذيب قبل اليان مناف لعدله
وقسطه، أو مناف لرحمته وعطوفته ولطفه على العباد، فلو أفاد الأول لدل على نفى
الاستحقاق، وان تعذيب العبد حين ذاك أمر قبيح مستنكر يستحيل صدوره منه ولو
أفاد الثاني لدل على نفى الفعلية. وان العذاب مرتفع وان لم يدل على نفى الاستحقاق.
وسيأتي عدم الفرق بين المفادين فيما هو المهم
جولة حول مفاد الآية
وقد اورد على الاستدلال بالآية أمور: منها: ما عن بعض أعاظم العصر: من أن
مفاد الآية أجنبي عن البراءة فان مفادها الاخبار بنفي التعذيب قبل اتمام الحجة فلا
دلالة لها على حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه. (وفيه) ما عرفت في تقرير
الاستدلال من أن بعث الرسل كناية عن ايصال الاحكام، فالمشتبه الحكم داخل في
مفاد الآية اما لما ذكرناه من أن بعث الرسل لأجل كونها واسطة في التبليغ أو بالغاء
الخصوصية والحاق مشتبه الحكم بالموارد التي لم يبلغها الرسل
منها: ان الآية راجعة إلى نفى التعذيب عن الأمم السالفة قبل بعث الرسل
فلا مساس له بالمقام (وفيه) أولا ان التأمل في الآيات المتقدمة عليها يعطى خلاف ذلك
207

فإليك بمراجعة ما تقدمها من الآيات تجد صحة ما ادعيناه
وثانيا: لو فرض ان موردها ما ذكر غير أن التعبير بقوله تعالى وما كنا معذبين
حاك عن كونه سنة جارية لله عز شأنه من دون فرق بين السالفة والقادمة، وان تلك
الطريقة سارية في عامة الأزمان من غير فرق بين السلف والخلف، ولو لم نقل ان ذلك
مفاد الآية حسب المنطوق فلا أقل يفهم العرف من الآية ولو بالغاء الخصوصية ومناسبة
الحكم والموضوع ان التعذيب قبل البيان لم يقع ولن يقع ابدا
منها: ان الاستدلال بها لما نحن فيه متقوم بكونها في مقام نفى الاستحقاق لا
نفى الفعلية لان النزاع في البراءة انما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه
وعدمه لا في فعلية العقاب، (وفيه) ان ذلك أول الكلام، إذ النزاع بين الأصولي و
الاخباري انما هو في ثبوت المؤمن وعدمه في ارتكاب الشبهات وانه هل يلزم
الاحتياط أو لا، وهذا هو مصب النزاع بين الطائفتين واما البحث عن الاستحقاق و
عدمه فهو خارج عما يهم على كلا الفريقين
وبالجملة: ان المرمى للقائل بالبرائة هو تجويز شرب التتن المشتبه الحكم
لأجل وجود مؤمن شرعي أو عقلي حتى يطمئن انه ليس في ارتكابه محذور سواء كان
ذلك لأجل رفع العقوبة الفعلية أو نفى الاستحقاق، والشاهد على ما ذكرنا انك ترى
القوم يستدلون على البراءة بحديث الرفع الظاهر عندهم في رفع المؤاخذة لا
نفى الاستحقاق
وبما ذكرنا يظهر ان الآية أسد الأدلة التي استدل بها للبرائة، وان ما اورد
عليه من الايرادات غير خال عن الضعف، نعم لا يستفاد من الآية أكثر مما يستفاد من
حكم العقل الحاكم على قبح العقاب بلا بيان فلو دل الدليل على لزوم الاحتياط،
أو التوقف لصار ذلك نفسه بيانا فيكون ذاك الدليل واردا على العقل وما
تضمنته الآية
208

الاستدلال على البراءة ببعض الآيات
منها: قوله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما
آتيه الله لا يكلف الله نفسا الا ما آتيها سيجعل الله بعد عسر يسرا بيان الاستدلال ان
المراد من الموصول التكليف ومن الايتاء الايصال والاعلام ومعناها ان الله لا يكلف
نفسا الا تكليفا اوصلها وبلغها، ويمكن بيانه بوجه آخر حتى ينطبق على ما سبقها
من الآيات بان يقال: إن المراد من الموصول هو الأعم من الأمر الخارجي ونفس التكليف
وان المراد من " الايتاء " الأعم من نفس الاقدار والإيصال، ويصير مفادها: ان الله
لا يكلف نفسا تكليفا ولا يكلفه بشئ (كالانفاق) الا بعد الايصال والاقدار.
وفى كلا التقريرين نظر بل منع.
اما الأول فلان إرادة خصوص التكليف منه مخالف لمورد الآية وما قبلها وما بعدها
نعم الظاهر أن قوله لا يكلف الله نفسا الا ما آتيها هو الكبرى الكلية وبمنزلة الدليل على
ما قبلها كما يظهر من استشهاد الإمام عليه السلام بها في رواية عبد الأعلى حيث سئل أبا عبد الله
هل كلف الناس بالمعرفة قال لا على الله البيان لا يكلف الله نفسا الا وسعها ولا يكلف الله نفسا
الا ما آتيها ولعل المراد بالمعرفة هي المعرفة الكاملة التي لا يمكن الا بأقداره تعالى
وتأييده لا مطلق العلم بوجود صانع للعالم الذي هو فطري ثم إن التعبير بالايتاء الذي
بمعنى الاعطاء لا يبعد أن يكون مشاكلة لقوله فلينفق مما آتاه الله
واما ثاني التقريرين فالمنع فيه أوضح لان إرادة الأعم من الموصول مع اسناد
فعل واحد إليه غير ممكن في المقام، إذ لو أريد من الموصول نفس التكليف، ينزل
منزلة المفعول المطلق ولو أريد مع ذلك الأمر الخارجي الذي يقع عليه التكليف
يصير مفعولا به، وتعلق الفعل بالمفعول المطلق سواء كان نوعيا أم غيره يباين نحو
تعلقه بالمفعول به، لعدم الجامع بين التكليف والمكلف به بنحو يتعلق التكليف بهما
على وزان واحد، وان شئت قلت: المفعول المطلق هو المصدر أو ما في معناه
المأخوذ من نفس الفعل، والمفعول به ما يقع عليه الفعل المباين معه، ولا جامع بين
209

الامرين حتى يصح الاسناد
ثم إن بعض محققي الصعر (قدس سره) وجه إرادة الأعم من الموصول والايتاء
ما هذا خلاصته: ان الاشكال انما يرد في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص
الموصول والا فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلى العام وإرادة الخصوصيات
المزبورة من دوال اخر خارجية فلا يتوجه محذور، لا من طرف الموصول، ولا في
لفظ الايتاء، ولا من جهة تعلق الفعل بالموصول، اما من جهة الموصول فلأجل
استعماله في معناه الكلى، وان إفادة الخصوصيات من دوال اخر واما الايتاء
فهو مستعمل في معنى الاعطاء غير أنه يختلف مصاديقه من كونه تارة هو الاعلام
عند اضافته إلى الحكم، واخرى الملكية عند اضافته إلى المال، واما تعلق الفعل
بالموصول حيث لا يكون له الا نحو تعلق واحد به، ومجرد تعدده بالتحليل لا يقتضى
تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول غاية الأمر يحتاج إلى تعدد
الدال والمدلول " انتهى "
قلت: ان كون الشئ مفعولا مطلقا ليس معناه الا كونه ملحوظا عند إضافة
الفعل إليه بأنه من شؤون الفعل وكيفياته على نحو يكون وجوده بعين وجود الفعل كما أن
المفعول المطلق يلاحظ عند إضافة الفعل إليه بأنه أمر موجود في الخارج وقع الفعل عليه
ومع ذلك فكيف يمكن ارادتهما باستعمال واحد وبعبارة أخرى أو نحو تعلق الفعل
بهما مباين لا جامع بينهما، وتعدد الدال والمدلول أو إقامة القرينة على الخصوصيات
فإنما يصح إذا كان في المقام جامع واقعي حتى يكون الخصوصيات من مصاديقه، واما
مع عدمه، وعدم امكان ارادتهما منها، فلا معنى لإقامة القرينة كما لا يخفي، (نعم) لو
صح ما ذكره أخيرا: من امكان كون المراد من التكليف في الآية هو الكلفة والمشقة
لا الحكم الشرعي، لرجع النسبتان إلى نسبة واحدة، إذ يجعل الموصول (ح) عبارة
عن المفعول به أو المفعول النشوي المعبر عنه في كلام بعضهم بالمفعول منه، فيصير
مفاد الآية انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم الا الحكم الذي اوصله إليهم،
لارتفع الاشكال لكنه غير مفيد للمقام كما يأتي الكلام فيه
210

ثم إنه قدس سره بعدما استوجه وجود الجامع استشكل في التمسك بالاطلاق
تارة بوجود القدر المتيقن حيث إن القدر المتيقن حسب سياق الآيات هو المال واخرى
بان المستفاد منها عدم الكلفة من قبيل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلف
لا نفى الكلفة مطلقا ولو من قبل ايجاب الاحتياط، فيكون مفاده مساوفا لحكم
العقل، فلو ثبت ما يدعيه الاخباري لصار واردا عليه " انتهى " وأنت خبير بما فيه، إذ
وجود القدر المتيقن غير مضر في التمسك بالاطلاق كما أوضحناه في مبحث المطلق والمقيد،
كما أن جعل الاحتياط لأجل التحفظ على التكاليف الواقعية لا يناسب مع سوق الآية،
لان مساقها، مساق المنة والامتنان، والاخبار عن لطفه وعنايته، بأنه لا يجعل العباد
في الكلفة والمشقة من جهة التكليف الا مع ايصالها، ومن المعلوم ان جعل الاحتياط
تضييق على المكلف بلا ايصال، لان المرمى من الاحتياط هو التحفظ على الواقع، لا كونه
طريقا موصلا إلى الواقع، فايجاب التحفظ في الشبهات البدوية، كلفة بلا ايصال ولا اعلام
ثم إنه قدس سره استشكل ثالثا في التمسك بالاطلاق ما حاصله: ان مساقها مساق
قوله عليه السلام ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فيكون دلالتها ممحضة في نفى
الكلفة عما لم يوصل علمه إلى العباد لمكان سكوته وعدم بيانه واظهاره، لا نفى
الكلفة مطلقا عما لم يصل علمه إلى العباد لاخفاء الظالمين " انتهى "
وفيه ان ذلك بعيد عن مفاد الآية جدا إذ ح يصير من قبيل توضيح الواضح إذ مآلها
حسب قول القائل إلى أن الله لا يكلف نفسا بما هو ساكت عنه، وهو كما ترى
نعم يمكن منع التمسك بالاطلاق بطريق آخر - بيانه - ان معنى الاطلاق كما
مر هو كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم، فلو احتملنا دخالة شئ غير مذكور
في الحكم، فنحكم به على عدم جزئيته وشرطيته، ولكن الاحتجاج به بعد انعقاد
الظهور لما وقع تحت دائرة الحكم حتى يحتج بعدم تعرضه على قيد آخر، على عدم
دخالته وهذا الشرط منتف في المقام، إذا لم يثبت ان المتكلم أراد المعنى الجامع
الانتزاعي الذي يحتاج في تصور ارادته إلى تكلف أو أراد إحدى المعاني الاخر، ومع
211

ذلك التردد لا مجال للاطلاق، إذ غاية ما ذكرنا من المعاني والوجوه، احتمالات و
امكانات وهو لا ينفع من دون الظهور، على أن الظاهر حسب السياق هو المعنى الأول أعني
جعل المراد من الموصول الأمر الخارجي ومن الايتاء هو الاقدار والاعطاء - فلاحظوا مما
ذكرناه يظهر النظر فيما افاده بعض أعاظم العصر في المقام بما هذا حاصله: ان المراد
من الموصول خصوص المفعول به، ومع ذلك يكون شاملا للتكليف وموضوعه لان إيتاء كل
شئ بحسبه، أضف إلى ذلك ان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به
بنحو من العناية، كما أن الوجوب والتحريم يصح تعلق التكليف بهما باعتبار
ما لهما من المعنى الاسم المصدري " انتهى "
وفيه مضافا إلى عدم امكان شمول الموصول لهما بما مر أو لا ان قوله (قده) ان
المفعول المطلق يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية لا محصل له كقوله ان الوجوب و
التحريم يصلح تعلق التكلف بهما إذ كيف يتصور تعلق البعث بهما على نحو المفعول
به ولو اعتبر النحو الاسم المصدري وثانيا: ان لازم ما أفاد هو الجمع بين الاعتبارين
المتنافين فان المفعول به مقدم في الاعتبار على المصدر لأنه إضافة قائمة به في الاعتبار
واما المفعول المطلق فهو عبارة عن حاصل المصدر، وهو متأخر رتبة عن المصدر
فكيف يجمع بينهما في الاعتبار فيلزم مما ذكره اعتبار المتأخر في الاعتبار متقدما في
الاعتبار في حال كونه متأخرا
ثم إنه استشكل على دلالة الآية بان اقصي ما تدل عليه الآية هو ان المؤاخذة لا
تحسن الا بعد بعث الرسل وتبليغ الاحكام وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في
التكليف بعد البعث والانزال وعروض اختفاء التكليف بمالا يرجع إلى الشارع،
فالآية لا تدل على البراءة بل مفادها مفاد قوله تعالى: ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
" انتهى " وفيه ما عرفت في توضيح دلالة الآية المتقدمة، بان الميزان هو الابلاغ و
الايصال في استحقاق العقاب لا الابلاغ ولو مع عدم الوصول، على أن دلالة تلك بعد
الغض عما ذكرنا من الاشكال أوضح من المتقدمة لوضوح دلالتها في الابلاغ والإيصال
من دون ان نحتاج إلى الغاء الخصوصية كما لا يخفى
212

ثم إن القوم استدلوا ببعض الآيات وحيث إن فيما ذكرنا أو ما نذكره من
السنة والأدلة العقلية غنى عن الخوض فيه طوينا البيان عنه، ونذكر ما استدلوا
به من السنة
الاستدلال على البراءة من طريق السنة
منها حديث الرفع فنقول روى الصدوق في الخصال بسند صحيح عن حريز عن أبي
عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي تسعة الخطاء، والنسيان، و
ما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد والطيرة
والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة - وقد ذكر القوم كيفية دلالتها على
المقام غير أن المهم بيان الأمور
الأول قد استشكل في الاستدلال به للشبهات الحكمية بأمور أولها انه
لا شك ان أكثر ما ذكر في الحديث الشريف موجود في الخارج كثير وجوده
بين الأمة، مع أن ظاهر الاخبار عن نفى وجوده، فلابد من تقدير أمر في الحديث حسب
دلالة الاقتضاء صونا لكلام الحكيم عن اللغوية والكذب، فالظاهر أن المقدر هو
المؤاخذة غير أنه يصح فيما لا يطيقون وما اضطروا عليه وما استكرهوا عليه، واما ما
لا يعلمون فان أريد منه الشبهة الموضوعية والمجهول من ناحية المصداق فيصح التقدير أيضا
فان أريد منه الأعم أو نفس الحكم المجهول، فتقدير المؤاخذة يحتاج إلى العناية
ثم إن بعض أعاظم العصر أجاب عن الاشكال بأنه لا حاجة إلى التقدير فان
التقدير انما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه كما إذا كان الكلام اخبارا
عن أمر خارجي أو كان الرافع رفعا تكوينيا فلابد في تصحيح الكلام من تقدير أمر
يخرجه عن الكذب، واما إذا كان الرفع تشريعيا فالكلام يصح بلا تقدير فان
الرفع التشريعي كالنفي التشريعي ليس اخبارا عن أمر واقع بل انشاء لحكم يكون وجوده
التشريعي بنفس الرفع والنفي كقوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار، وقوله عليه السلام لا شك لكثير
الشك ونحو ذلك مما يكون متلو النفي أمرا ثابتا في الخارج
213

وفيه: ان الفرق بين الانشاء والاخبار في احتياج أحدهما إلى التقدير دون
الاخر كما ترى، فان الكلام في مصحح نسبته إلى المذكورات، فلو كان هناك مصحح بحيث
يخرج الكلام عن الكذب واللغوية تصح النسبة مطلقا اخبارا كان أو انشاءا، وإن كان
غير موجود فلا تصح مطلقا، والحاصل ان اسناد الشئ إلى غير ما هو له يحتاج إلى
مناسبة وادعاء، فلو صح لوجود المناسبة يصح مطلقا بلا فرق بين الانشاء والاخبار
أضف: إلى ذلك ان النبي والأئمة من بعده (عليهم السلام) ليسوا مشرعين
حتى يكون الحديث المنقول عنه انشاءا، بل هو اخبار عن أمر واقع وهو رفع الشارع
الأقدس، مضافا إلى أن الاخبار بداعي الانشاء لا يجعله انشاءا لا يسلخه عن الاخبارية فان
الاخبار بداعي الانشاء لا يجعل الشيئ من قبيل استعمال الاخبار في الانشاء بل هو يبقى
على اخباريته وإن كان الداعي إليه هو البعث والانشاء كما هو الحال في الاستفهام الانكاري و
التقريري، فان كلمة الاستفهام مستعملة في معناها حقيقة وإن كان الغرض أمرا آخر
مخرجا به عن المحذور، على أن الرفع التشريعي مآله إلى رفع الشيئ باعتبار آثاره و
احكامه الشرعية وهو عين التقدير، (نعم) ما ادعاه (قدس سره) من عدم احتياجه إلى التقدير
صحيح لا لما ذكره بل لأجل كون الرفع ادعائيا وسيأتى توضيحه فانتظر.
ثانيها: لا شك ان المراد من الموصول في " ما لا يطيقون، وما استكرهوا
وما اضطروا " هو الموضوع الخارجي لا الحكم الشرعي لأن هذه العناوين الثلاثة لا
تعرض الا للموضوع الخارجي دون الحكم الشرعي، فليكن وحدة السياق قرينة
على المراد من الموصول في " مالا يعلمون " هو الموضوع المشتبه لا الحكم المشتبه
المجهول فيختص الحديث بالشبهات الموضوعية.
الثالث: ان اسناد الرفع إلى الحكم الشرعي المجهول من قبيل الاسناد
إلى ما هو له لان الموصول الذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي
واما الشبهات الموضوعية، فالجهل انما تعلق فيها بالموضوع أولا وبالذات وبالحكم
ثانيا وبالعرض، فيكون اسناد الرفع إلى الموضوع من قبيل اسناد الشئ إلى غير ما
هو له لان الموضوع بنفسه غير قابل للرفع بل باعتبار حكمه الشرعي ولا جامع بين
214

الموضوع والحكم فلابد ان يراد من الموصول هو الموضوع تحفظا على وحدة
السياق.
وأجاب بعض أعاظم العصر (قدس سره) قائلا، بان المرفوع في جميع التسعة
انما هو الحكم الشرعي، وإضافة الرفع في غير مالا يعلمون إلى الافعال الخارجية
لأجل ان الاكراه والاضطرار ونحو ذلك انما يعرض الافعال الخارجية لا الاحكام والا
فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي كما أن المرفوع فيما لا يعلمون أيضا هو الحكم
الشرعي وهو المراد من الموصول،
وهو الجامع بين الشبهات الموضوعية والحكمية ومجرد اختلاف منشأ الشبهة
لا يقتضى الاختلاف فيما أسند الرفع إليه، فان الرفع قد أسند إلى عنوان مالا يعلم ولمكان
ان الرفع التشريعي لابد ان يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي فالمرفوع انما
يكون هو الحكم الشرعي سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية فكما ان قوله
عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك يعم كلا الشبهتين بجامع واحد كذلك قوله صلى الله عليه وآله رفع
عن أمتي تسعة أشياء " انتهى ".
وأنت خبير بان في المقام اشكالين وهو (قدس سره) يريد الجواب عنهما معا اما الأول
فحاصله ان وحدة السياق يقتضى حمل الموصول في مالا يعلمون " على الموضوع حتى
يتحد مع أخواته، فالقول بان رفع تلك العناوين بلحاظ رفع آثارها واحكامها لا يفي
بدفع الاشكال.
ومنه يعلم ما في جوابه عن ثاني الاشكالين لان مناطه انما هو في الاسناد بحسب
الإرادة الاستعمالية فان الاسناد إلى الحكم اسناد إلى ما هو له دون الاسناد إلى
الموضوع فلابد ان يراد في جميعها الموضوع حتى يصح الاسناد المجازى في الجميع
فكون المرفوع بحسب الجد الحكم الشرعي لا يدفع الاشكال.
فالحق في دفع المحذورين ما افاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه اما عن الأول
فلان عدم تحقق الاضرار والاكراه في الاحكام لا يوجب التخصيص في قوله صلى الله عليه وآله
لا يعلمون ولا يقتضى السياق ذلك فان عموم الموصول انما يكون بملاحظة سعة
215

متعلقه وضيقه فقوله ما اضطروا إليه أريد منه كل ما اضطر إليه في الخارج غاية الأمر
لم يتحقق الاضطرار بالنسبة إلى الحكم فيقتضى اتحاد السياق ان يراد من
قوله ما لا يعلمون أيضا كل فرد من افراد هذا العنوان الا ترى. انه إذا قيل ما
يؤكل وما يرى في قضية واحدة لا يوجب انحصار افراد الأول في الخارج ببعض
الأشياء تخصيص الثاني بذلك البعض وبعبارة أوضح: ان الاشكال نشأ من الخلط
بين المستعمل فيه وما ينطبق عليه فان الموصول والصلة في عامة الفقرات مستعمل في
معناهما لا في المصاديق الخارجية والاختلاف بين المصاديق انما يظهر عند تطبيق
العناوين على الخارجيات وهو بمعزل عن مقام الاستعمال، وهذا خلط سيال في أكثر
الأبواب، ومن هذا الباب توهم ان الاطلاق يفيد العموم الشمولي أو البدلي أو غيرهما
مع أن الاطلاق لا يفيد قط العموم بل هو مقابل العموم كما مر تحقيقه في مقامه واما عن
الثاني فان الأحكام الواقعية ان لم تكن قابلة للرفع، وتكون باقية بفعليتها في
حال الجهل يكون الاسناد في كل العناوين اسنادا إلى غير ما هو له، وإن كانت قابلة
للرفع يكون الاسناد إلى مالا يعلمون اسنادا إلى ما هو له، والى غيره إلى غير ما هو له،
ولا يلزم محذور لان المتكلم ادعى قابلية رفع مالا يقبل الرفع تكوينا ثم أسند الرفع
إلى جميعها حقيقة، وبعبارة أخرى جعل كل العناوين بحسب الادعاء في رتبة
واحدة وصف واحد في قبولها الرفع واسند الرفع إليها حقيقة فلا يلزم منه
محذور.
ثم إن بعض محققي العصر أنكر وحدة السياق في الحديث قائلا، بان من
الفقرات في الحديث، الطيرة، والحسد، والوسوسة، ولا يكون المراد منها الفعل
ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبهة
(على) انه لو أريد تلك فهو يقتضى ارتكاب خلاف الظاهر من جهة أخرى فان الظاهر
من الموصول فيما لا يعلمون هو ما كان بنفسه معروض الوصف وهو عدم العلم
كما في غير، من العناوين الأخر كالاضطرار والاكراه ونحوهما حيث كان الموصول
فيها معروضا للأوصاف المزبوره، فتخصيص الموصول بالشبهات الموضوعية ينافي هذا
216

الظهور إذ لا يكون الفعل فيها بنفسه معروضا للجهل وانما المعروض له هو عنوانه
و (ح) يدور الامر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في مالا يعلمون
على الحكم، وبين حفظه من جهة أخرى بحمله على إرادة الفعل، والعرف يرجح
الأول " انتهى "
والجواب عن الأول مضافا إلى أن المدعى وحدة السياق فيما يشتمل على الموصول
لا في عامة الفقرات، ان الفقرات الثلث أيضا فعل من الافعال القلبية، ولأجل ذلك
تقع موردا للتكليف، فان تمنى زوال النعمة عن الغير فعل قلبي محرم، وقس عليه
الوسوسة والطيرة فإنها من الافعال الجوانحية، (وعن الثاني) ان المجهول في الشبهات
الموضوعية انما هو نفس الفعل أيضا لا عنوانه فقط، بل الجهل بالعنوان واسطة لثبوت
الجهل بالنسبة إلى نفس الفعل لا واسطة في العروض فالشرب في المشكوك خمريته،
أيضا مجهول وإن كان الجهل لأجل إضافة العنوان إليه، (أضف إلى ذلك)، انه لو سلم
ما ذكره فلا يختص الحديث بالشبهة الحكمية لان الرفع ادعائي ويجوز تعلقه بنفس
الموضوع، فيه عن رفع الخمر بمالها من الآثار فيعم الحديث كلتا الشبهتين.
وربما يدعى اختصاص الحديث بالشبهة الحكمية لان الموضوعات الخارجية
غير متعلقة للأحكام وانما هي متعلقة بنفس العناوين فرفع الحكم عنها فرع وضعها
لها وقد عرفت منعه، وفيه: أولا بالنقض بالاضطرار ونحوه فإنه يتعلق بالموضوع بلا
اشكال فأي معنى لرفع الحكم فيه فليكن هو المعنى في " مالا يعلمون "
وثانيا: يمكن ان يقال: إن الرفع في الشبهات الموضوعية راجع إلى رفع
الحكم عن العناوين الكلية كما هو الحال في الاضطرار والاكراه، فان الحكم
مرفوع عن البيع المكره والشرب المضطر والخمر المجهول حكما أو موضوعا، وان
شئت قلت: ان رفع الحكم مآله إلى نفى المؤاخذة، أو رفع ايجاب الاحتياط أو رفع
الفعلية، من غير فرق بين الشبهة الحكمية أو الموضوعية.
الأمر الثاني: هل الرفع: في الحديث بمعناه الحقيقي أو هو بمعنى
الدفع استعمل في المقام مجازا التحقيق هو الأول سواء قلنا إن المرفوع هو نفس
217

الموضوعات ادعاء كما هو المختار أو المرفوع آثارها واحكامها بالتزام تقدير في الكلام
اما على الأول، فبيانه ان معنى الرفع الحقيقي هو إزالة الشيئ بعد وجوده وتحققه
وقد أسند إلى نفس هذه العناوين التسعة المتحققة في الخارج فلا بد ان يحمل الرفع
إلى الرفع الادعائي وهو يحتاج إلى وجود المصحح لهذا الادعاء، ثم المصحح كما يمكن
أن يكون رفع الآثار، يمكن أن يكون دفع المقتضيات عن التأثير لان رفع الموضوع
تكوينا كما يوجب رفع الآثار المترتبة عليه، والمتحققة فيه كذلك يوجب عدم ترتب
الآثار عليه بعد رفعه واعدامه وهذا مصحح الدعوى لا سيما مع وجود المقتضى فيجوز
نسبة الرفع إلى الموضوع ادعاء بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع المقتضي عن التأثير
وذلك لا يوجب أن يكون الرفع المنسوب إلى الموضوع بمعنى الدفع، بل لو بدل
الرفع بالدفع ليخرج الكلام عماله من البلاغة إلى الابتذال.
واما على الثاني، أعني كون المرفوع هو الآثار بالتزام تقدير فتوضيحه
ان اطلاق الرفع انما هو لأجل شمول اطلاقات الأدلة أو عمومها لمحالات الاضطرار
والاكراه والنسيان والخطاء وعدم الطاقة، فعمومات الكتاب مثل (السارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما) واضرابه والسنة شاملة حسب الإرادة الاستعمالية هذه الحالات، و
اطلاق الرفع انما هو حسب تلك الإرادة، وإن كان حسب الإرادة الجدية دفعا، لعدم
شمولها لهذه الحالات من أول الأمر، لكن المصحح لاستعمال الرفع، هو الإرادة الاستعمالية
التي مآله إلى ضرب القانون عموما على موضوعات الاحكام بلا تقييد وتخصيص
فيستقر في ذهن المخاطب بدوا ثبوت الحكم للمضطر والناسي واشباههما، ثم إن المتكلم
يخبر برفع الآثار والاحكام عن الموضوعات المضطر إليها والمستكره بها، واطلاق
الرفع لأجل شمول العام القانوني لها، واستقراره في أذهان المخاطبين وهذا كله
بناء على جواز خطاب الناسي واضح واما بناءا على عدم جواز خطابه يكون الرفع في
الأحكام التكليفية في حقه في غير مورده.
واما الطيرة والوسوسة فالمصحح لاستعمال الرفع كونهما محكومين بالأحكام في
الشرائع السابقة، ولم يكن الشرائع السماوية محدودة ظاهرا، بل احكامها حسب الإرادة
218

الاستعمالية كانت ظاهرة في الدوام والبقاء ولهذا يقال إنها منسوخة وان شئت قلت كانت
هناك اطلاق أو عموم يوهم بقاء الحكم في عامة الأزمنة، فاطلاق الرفع لأجل رفع تلك الأحكام
الظاهرة في البقاء والدوام، ويشهد على ذلك قوله صلى الله عليه وآله " عن أمتي " وإن كان
كل ذلك دفعا حسب اللب والجد، الا ان مناط حسن الاستعمال هو الاستعمالية
من الإرادتين لا الجدية، بل لو كان الميزان للرفع هو اطلاق الاحكام في الشرايع السماوية
يمكن أن يكون وجه استعمال الرفع في عامة الموضوعات التسعة لأجل ثبوت الحكم
فيها في الشرائع السابقة على نحو الدوام والاستمرار.
واما " مالا يعلمون " فالرفع فيه لأجل اطلاق الأدلة وظهورها في شمول الحكم
للعالم والجاهل بلا فرق كما هو المختار في الباب، نعم لو لم نقل باطلاق الأدلة فلا
شك في قيام الاجماع علي الاشتراك في التكاليف، فالرفع لأجل ثبوت الحكم حسب
الإرادة الاستعمالية لكل عالم وجاهل وإن كان الجاهل خارجا حسب الإرادة الجدية
غير أن المناط في حسن الاستعمال هو الاستعمالي من الإرادة فتلخص كون الرفع
بمعناها سواء كان الرفع بالحاظ رفع التسعة بما هي هي أو كان رفع تلك الأمور حسب
الآثار الشرعية.
ثم إن بعض أعاظم العصر أفاد ان الرفع بمعنى الدفع حيث قال: إن استعمال
الرفع مكان الدفع ليس مجازا ولا يحتاج إلى عناية أصلا، فان الرفع في الحقيقة
يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق لان بقاء الشئ كحدوثه يحتاج
إلى علة البقاء فالرفع في مرتبة وروده على الشئ انما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة
البقاء وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق فاستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج
إلى علاقة المجاز بل لا يحتاج إلى عناية أصلا بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ
لان غلبة استعمال الرفع فيما يكون له وجود سابق لا يقتضى ظهوره في ذلك " انتهى "
وفى كلامه مواقع للنظر
" منها " ان اللغة والارتكاز قد تطابقا على أن معنى الرفع هو إزالة الشئ عن صفة الوجود
بعد تحققه وتحصله، فعلى هذا فلو استعمل بمعنى الدفع فلا مناص عن العناية وما به
219

يتناسب الاستعمال، وانكار احتياجه إلى العناية، مكابرة ظاهرة " منها " ان
ما افاده (قدس سره) من أن بقاء الشئ يحتاج إلى العلة كحدوثه صحيح لا ريب فيه، الا ان ما افاده
من أن الرفع عبارة عن دفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق، غير صحيح، فان
دفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق لا يطلق عليه الرفع بل يطلق عليه الدفع
، وانما يستعمل الرفع في هذه الحالة لا بهذه الحيثية، بل باعتبار إزالة الشئ عن
صفحة الوجود بعد تحققه، ومجرد تواردهما أحيانا علي مورد واحدا و
حالة واحدة لا يجعلهما مترادفين ولا يرفع احتياج الاستعمال إلى العناية، وان شئت
فاعتبر الحدوث والبقاء فان الأول عبارة عن وجود الشئ بعد عدمه وجودا أوليا،
والثاني عبارة عن استمرار هذا الوجود، وتواردهما على المورد لا يجعل الحدوث
بقاءا ولا بالعكس
منها: ان ما اختاره في المقام، ينافي مع ما افاده في الأمر الخامس في بيان
عموم النتيجة حيث قال: إن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، وان
الرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما وينافي أيضا مع ما افاده في التنبيه الأول
من تنبيهات الاشتغال حيث قال: إن الدفع انما يمنع عن تقرر الشئ خارجا و
تأثير المقتضى في الوجود فهو يساوق المانع، واما الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود
ويقتضي اعدام الشئ الموجود، عن وعائه، نعم قد يستعمل الرفع
في مكان الدفع، وبالعكس، الا ان ذلك بضرب من العناية
والتجوز والذي يقتضيه الحقيقة هو استعمال الدفع في مقام المنع عن تأثير المقتضى
في الوجود واستعمال الرفع في مقام المنع عن بقاء الشئ الموجود " انتهى " وبقى في
كلامه انظارا تركناها مخافة التطويل
الأمر الثالث
لا شك في أنه لا تلاحظ النسبة بين هذه العناوين وما تضمنه الأدلة الواقعية
لحكومتها عليها كحكومة أدلة نفى الضرر والعسر والحرج عليها، الا ان الكلام
220

في كيفية الحكومة وفرقها في هذه الموارد الثلاثة، فقال بعض أعاظم العصر (قدس
سره): انه لا فرق بين أدلة نفى الضرر والعسر والحرج وبين حديث الرفع سوى ان
الحكومة في أدلة نفى الضرر والحرج انما يكون باعتبار عقد الحمل حيث إن الضرر
والعسر والحرج من العناوين الطارية على نفس الاحكام، فان الحكم قد يكون ضرريا
أو حرجيا، وقد لا يكون وفى دليل رفع الاكراه ونحوه انما يكون باعتبار عقد
الوضع فإنه لا يمكن طرو الاكراه والاضطرار والخطاء والنسيان على نفس الاحكام
بل انما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات
الاحكام نظير قوله: لا شك لكثير الشك، ولا سهو مع حفظ الامام " انتهى "
وفيه اما أولا: ان معنى قوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج هو
نفى جعل نفس الحرج لا الامر الحرجي، وكذا قوله صلى الله عليه وآله لا ضرر ولا ضرار
هو نفى نفس الضرر لا الامر الضرري، فعلى ذلك لا يصح ما أفاد ان الحكومة في
أدلة نفى الضرر والحرج باعتبار عقد الحمل، فإنه انما يصح لو كان المنفى الامر
الضرري والحرجي حتى يقال إن الحكم قد يكون ضرريا أو حرجيا
وثانيا: ان الحكومة قائمة بلسان الدليل كما سيوافيك بيانه في محله، ولسان ألد -
ليلين أعني لا ضرر ولا ضرار وما جعل عليكم في الدين من حرج، متغايران فان الأول ينفى
نفس الضرر والثاني ينفى جعل الحرج وبينهما فرق في باب الحكومة ويأتي الكلام من
أقسام الحكومة في بابها
وثالثا: ان الضرر والحرج من العناوين الطارية على الموضوعات التي وقعت تحت
دايرة الحكم، كالصوم والوضوء،، والمعاملة المغبون فيها أحد الطرفين، فان الموصوف
بالضرر والحرج نفس هذه العناوين، نعم قد ينسبان إلى احكامها بنحو من العناية
والمجاز فان الزام الشارع وتكليفه ربما يصير سببا لوقوع المكلف في الضرر والحرج،
وعلى هذا فلا يصح قوله إن الضرر والحرج من العناوين الطارية على نفس الاحكام
اللهم الا ان يريد ما قلنا من المسامحة
ورابعا لا شك ان الخطاء والنسيان قد يعرضان على الموضوع وقد يعرضان على الاحكام
221

فمن العجيب ما افاده (رحمه الله) من أن الخطاء والنسيان لا يمكن طروهما على نفس الاحكام
ولعله سهو من قلم المقرر (رحمه الله)
الأمر الرابع
لا شك ان الرفع تعلق بهذه العناوين في ظاهر الحديث، مع أنها غير مرفوع عن صفحة
الوجود، فيحتاج تعلق الرفع بها إلى عناية ومناسبة، وهل المصحح للدعوى هي رفع المؤاخذة
أو جميع الآثار أو الأثر المناسب ذهب إلى كل فريق فاختار الأول شيخنا العلامة أعلى الله
مقامه حيث أفاد من أن الظاهر لو خلينا وأنفسنا ان نسبة الرفع إلى المذكورات انما
تكون بملاحظة رفع المؤاخدة " انتهى " وفيه مضافا إلى أن المؤاخذة أمر تكويني
لا يناسب رفعه ولا وضعه مع مقام التشريع، ان المؤاخذة ليست من أظهر خواصها،
حتى يصح رفع العناوين لأجل رفعها، مع أن صحيحة البزنطي التي استشهد الإمام عليه السلام
بهذا الحديث على رفع الحلف الاكراهي أوضح دليل على عدم اختصاص الحديث
برفع المؤاخذة فقط، والخصم لم يتلق حكم الامام أمرا غريبا، بل أمرا جاريا مجرى
الأمور العادية.
واما رفع الأثر المناسب، فقد استشكل فيه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه بأنه
يحتاج لملاحظات عديدة، والظاهر أن ما ذكره ليس مانعا عن الذهاب إليه إذ لا
نتصور فيه منعا إذا ناسب الذوق العرفي، بل الوجه في بطلانه، ان رفع الموضوع
برفع بعض آثاره ليس أمرا صحيحا عند العرف الساذج، بل يرى العرف رفع الموضوع
مع ثبوت بعض آثاره أمرا مناقضا، وانما يصح في نظره رفع الموضوع إذا رفع جميع آثاره
تشريعا حتى يصح ادعاء رفعه عن صفحة الوجود.
فان قلت: لو كان الأثر المناسب، من أشهر خواصه وآثاره، بحيث يعد العرف
ارتفاعه مساوقا لارتفاع الموضوع، فمنع عدم توافق العرف على هذا الرفع ممنوع
قلت: رفع الموضوع برفع بعض الآثار الظاهرة انما يصح لو نزل غيره منزلة العدم.
وان شئت قلت، ان رفع الموضوع بلحاظ رفع بعض آثاره، يتوقف على تصحيح
222

ادعائين، الأولى. دعوى ان رفع هذا البعض رفع لجميع آثاره وخواصه الثانية:
دعوى ان رفع جميع الآثار وخلو الموضوع عن كل اثر مساوق لرفع نفس
الموضوع، وهذا بخلاف ما لو قلنا إن المرفوع وهو عامة الآثار فإنه لا يحتاج الا إلى
الدعوى الثانية فقط هذا مع أن اطلاق الدليل أيضا يقتضى رفع الموضوع بجميع
آثاره لا يقال: إن الدعوى الأولى مما لا خلاف فيه ولا اشكال، فان لهذه العناوين آثار
غير شرعية فهي غير مرفوعة جدا فلابد من دعوى ان الآثار غير الشرعية في حكم
العدم، أو ان الآثار الشرعية جميع الآثار، وأي فرق بين ان يقال إن هذا الأثر الشرعي
جميع الآثار الشرعية، أو ان الآثار الشرعية تمام الآثار، لأنا نقول لا حاجة إلى هذه
الدعوى بعدما كان الرفع في محيط التشريع، فان وظيفة الشارع رفع أو وضع ما هو
بيده واما الخارج عن يده فليس له بالنسبة إليهما شأن، فالآثار التكوينية مغفول عنها
فلا يحتاج إلى الدعوى.
لا يقال: إن المرفوع بالحديث عند طرو الخطاء والنسيان الآثار المترتبة
على ذات المعنونات واما الآثار المترتبة على نفس الخطاء والنسيان فغير مرفوع
قطعا فعلى هذا يحتاج إلى الدعوى الأولى.
لأنا نقول إن المرفوع انما هو آثار الخطاء والنسيان المأخوذين طريقا إلى
متعلقاتهما وعنوانا ومرآتا إلى معنونهما، فإنه المتبادر من الحديث عند الالقاء، فعلى
هذا فالآثار المترتبة على نفس الخطاء والنسيان على نحو الموضوعية، مغفولة عنها،
فلا يحتاج إلى الدعوى، وان شئت قلت: ان العرف لا يفهم من رفعهما الا رفع آثار ما
أخطأ ونسي كما هو المتبادر إذا قيل جهالاتهم معفوة، ويدل على ذلك تعبير الامام
في صحيحة البزنطي حيث نقل الحديث بلفظ: " ما أخطأوا " فظهر عدم شمول الحديث
للآثار المترتبة على نفس العناوين وعدم لزوم التفكيك بين فقرات الحديث، فان
أكثر العناوين المذكورة في الحديث مأخوذ على نحو الطريقية خصوصا فيما
نسب فيه الرفع إلى الموصول، فيكون ذلك قرينة على انتقال الذهن عند استماع
اسناد الرفع إليها إلى رفع آثار معنوناتها لا غير.
223

نعم، العناوين الثلاثة الأخيرة " الحسد، والطيرة والوسوسة " عناوين نفسية
لا مناص فيها الا رفع ما هو آثار لانفسها، لعدم قابليتها على الطريقية وان لزم منه
التفكيك الا ان هذا المقدار مما لابد منه، وان أبيت الا عن وحدة السياق، يمكن ان
يقال: إن الرفع قد تعلق في الجميع بعناوين نفسية، حسب الإرادة الجدية، الا ان
ذلك اما بذكر نفس تلك العناوين النفسية أو بذكر ما هو طريق إليها من الخطاء و
النسيان أو بتوسط الموصول من دون تفكيك أو ارتكاب خلاف ظاهر،
(الأمر الخامس)
بعدما أثبتنا ان المرفوع في الحديث هو عموم الآثار، فهل يختص بالأمور
الوجودية، أي رفع آثار أمور موجودة في الخارج إذا انطبق عليها إحدى تلك
العناوين أو يعم، مثلا: لو نذر ان يشرب من ماء الفرات، فأكره على الترك، أو اضطر
إليه أو نسى ان يشربه، فهل يجب عليه الكفارة بناء على عدم اختصاصها بصورة
التعمد أولا، فيظهر عن بعض أعاظم العصر (قدس سره) اختصاصه بالأمور الوجودية
حيث قال: إن شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة
الموجود، لان تنزيل المعدوم منزلة الموجود انما يكون وضعا لا رفعا، والمفروض
ان المكلف قد ترك الفعل عن اكراه أو نسيان، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع،
ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب حتى يقال إنه لم
يتحقق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة، والحاصل انه فرق بين الوضع والرفع فان
الوضع يتوجه إلى المعدوم فيجعله موجودا ويلزمه ترتيب آثار الوجود والرفع
بعكسه، فالفعل الصادر من المكلف عن نسيان أو اكراه يمكن ورود الرفع عليه، واما
الفعل الذي لم يصدر من المكلف عن نسيان أو اكراه فلا محل للرفع فيه لان رفع المعدوم
لا يمكن الا بالوضع والجعل، والحديث حديث رفع لا حديث وضع " انتهى ".
وفيه: ان ترك الشرب بعدما تعلق عليه النذر وصار ذات اثر يكون له ثبوت
في عالم الاعتبار، إذ مالا ثبوت له ولو بهذا النحو من الثبوت لا يقع تحت دائرة الحكم
224

ولا يصير موضوعا للوفاء والحنث، كيف وقد فرضنا ان الكفارة قد تترتب علي ترك
ذاك الترك، وصار ملاكا للحنث وبعد هذا الثبوت الاعتباري لا مانع من تعلق الرفع
عليه، بما له من الآثار، واما ما افاده من أن الرفع لا يمكن الا بالوضع، غريب جدا فان
الرفع قد تعلق بحسب الجد على احكام تلك العناوين وآثارها، فرفع تلك الآثار سواء
كانت اثر الفعل أو الترك لا يستلزم الوضع أصلا
على أن التحقيق انه لا مانع من تعلق الرفع بالأمور العدمية إذ الرفع رفع
ادعائي، لا حقيقي، والمصحح له ليس الا آثار ذلك العدم واحكامها، كما أن المصحح
لرفع الأمور الوجودية هو آثارها واحكامها، أضف إلى ذلك ان مصب الرفع وإن كان
نفس الأشياء، لكن لا بما هي هي، بل بمعرفية العناوين المذكورة في الحديث،
فكل أمر يتعلق عليه الاضطرار، أو يقع مورد النسيان والاكراه، فهو مرفوع الأثر
لأجل تلك العناوين، من غير فرق سواء كان المضطر إليه أمرا وجوديا أو عدميا.
وربما يقال: في مقام جواب المستشكل ان الرفع مطلقا متعلق بموضوعية
الموضوعات للأحكام فمعنى رفع ما اضطروا إليه انه رفع موضوعيته للحكم وكذا في
جانب العدم والترك " انتهى " وفيه: انه لو رجع إلى ما قلناه فنعم الوفاق والاتفاق، وان
أراد ظاهره من تقدير موضوعية كل واحد لأحكامها، فهو ضعيف جدا، لأنه يكون
أسوء حالا من تقدير الآثار، بل لا يصير الرفع ادعائيا مع أنه قد اعترف القائل في بعض
كلماته ان الرفع ادعائي
الأمر السادس
لو نسى شرطا أو جزءا من المأمور به فهل يمكن تصحيحه بالحديث، بناءا على
عموم الآثار أو لا يمكن وإن كان المرفوع هو العموم، واختار الثاني بعض أعاظم العصر
(قدس سره) وأوضحه بوجوه " منها " ان الحديث لا يشمل الأمور العدمية لأنه لا محل
لورود الرفع على الجزء والشرط المنسيين لخلو صفحة الوجود عنهما فلا يمكن ان
يتعلق الرفع بهما " منها " ان الأثر المترتب على الجزء والشرط ليس الا الاجزاء وصحة
225

العبادة وهما ليسا من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع بل من الآثار العقلية،
" منها " انه لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع الأثر الاجزاء والصحة فان ذلك
يقتضى عدم الاجزاء وفساد العبادة وهو ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود فان المقصود
من التمسك بالحديث تصحيح العبادة لا فسادها. هذا كله بالنسبة إلى الاجزاء والشرائط
واما بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسى فهو وإن كان أمرا وجوديا
قابلا لتوجه الرفع إليه الا انه أولا: ليس هو المنسى أو المكره عليه ليتوجه الرفع إليه
وثانيا: لا فائدة في رفعه لان رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركب
الواجد له فان ذلك يكون وضعا لا رفعا، وليس للمركب الفاقد للجزء أو الشرط اثر
يصح رفع المركب بلحاظه فان الصلاة بلا سورة مثلا لا يترتب عليها اثر الا الفساد وعدم
الاجزاء، وهو غير قابل للرفع الشرعي، ولا يمكن ان يقال إن الجزئية والشرطية
مرفوعتان لان جزئية الجزء لم تكن منسية والا كان من نسيان الحكم، ومحل الكلام انما
هو نسيان الموضوع فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بان الجزئية غير قابلة
للرفع فإنها غير مجعولة فيجاب بأنهما مجعولة بجعل منشأ انتزاعها (انتهى)
وقبل الخوض فيما يرد على كلامه نذكر ما هو المختار فنقول ان النسيان قد يتعلق بالجزئية والشرطية فيكون مساوقا لنسيان الحكم الكلي، وقد يتعلق بنسيان نفس الجزء
والشرط مع العلم بحكمهما كما هو المبحوث بالمقام، و (ح) فلا مانع من أن يتعلق
الرفع بنفس ما نسوا حتى يعم الرفع كلام القسمين فان المنسى قد يكون الجزئية وقد
يكون نفس الجزء والشرط، فلو تعلق الرفع بنفس ذات الجزء والشرط بمالهما من
الآثار، يصير المأمور به عندئذ هو المركب الفاقد له ويكون تمام الموضوع للامر
في حق الناسي هو ذلك الفاقد وهو يوجب الاجزاء على ما مر تفصيله في مبحث
الاجزاء.
وان شئت قلت: ان الحديث حاكم على أدلة المركبات أو على أدلة الاجزاء
والشرائط، وبعد الحكومة تصير النتيجة اختصاص الاجزاء والشرائط بغير حالة
226

النسيان، ويكون تمام المأمور به في حق المكلف عامة الاجزاء والشرائط غير
المنسى منها، والقول بحكومتها في حال نسيان الحكم (الجزئية) لا في حال نسيان
نفس الجزء والشرط تحكم محض بعد القول بتعلق الرفع بنفس ما نسوا أي المنسى على
نحو الاطلاق
فان قلت: ان النسيان إذا تعلق بالموضوع ولم يكن الحكم منسيا لا يرتفع جزئية
الجزء للمركب لعدم نسيانها، فلابد من تسليم مصداق واجد للجزء حتى ينطبق
عليه عنوان المأمور به، ولا معنى لرفع الجزء والشرط من مصداق المأمور به،
ولو فرض رفعه لا يكون مصداقا للمأمور به ما لم يدل دليل على رفع الجزئية، وبالجملة
لا يعقل صدق الطبيعة المعتبرة فيها الجزء والشرط على المصداق الفاقد لهما، ولا معنى
لحكومة دليل الرفع على الأدلة الواقعية مع عدم تعلق النسيان بالنسبة إليها، كما أنه
لا معنى لحكومته على مصداق المأمور به
قلت: هذا رجوع عما ذكرناه أساسا لهذا البحث، فان عقد هذا البحث انما
هو بعد القول برفع الآثار عامة، وعليه فمعنى رفع نفس الجزء رفع جميع آثاره
الشرعية التي منها الجزئية، فمرجح رفع الجزء إلى رفع جزئية الجزء للمركب
عند نسيان ذات الجزء، ويتقيد دليل اثبات الجزء بغير حالة النسيان، ومرجع رفع
جزئيته، إلى كون المركب الفاقد تمام المأمور به واتيان ما هو تمام المأمور به
يوجب الاجزاء وسقوط الامر، ويكون بقاء الامر بعد امتثاله بلا جهة
ولا ملاك
فان قلت: لو كان مفاد رفع جزئية المنسى مطلقا حتى بعد التذكر والالتفات
ملازما لتحديد دائرة المأمور به في حال النسيان بما عدا المنسى لكان لاستفادة
الاجزاء وعدم وجوب الإعادة مجال ولكن ذلك خارج عن عهدة حديث الرفع حيث إنه
ليس من شانه اثبات التكليف بالفاقد للمنسى، وانما شأنه مجرد رفع التكليف
عن المنسى ما دام النسيان
227

قلت: قد ذكر ذلك الاشكال بعض محققي العصر، غير أنه يظهر ضعفه بعد
المراجعة بما حررناه في مبحث الاجزاء فان معنى حكومته على الأدلة الواقعية
ليس الا تقييد الدليل الدال على جزئيته بغير حالة النسيان، أو تخصيصه
بغير هذه الحالة، فلو اتى بالمركب الفاقد للجزء فقد امتثل الامر الواقعي، ولا معنى
بعدم الاجزاء بعد امتثاله، وبعد الوقوف على ما ذكرنا يظهر لك انه لا يحتاج إلى
اثبات كون حديث الرفع محددا لدائرة التكليف أو متعرضا إلى بعد حال النسيان
أو غير ذلك مما هو مذكور في كلامه.
إذا عرفت ذلك يظهر لك الخلل فيما نقلناه عن بعض الأعاظم (قدس سره)
إذ فيما افاده مواقع للانظار نشير إلى بعضها (منها) ان ما هو متعلق الرفع انما
هو نفس الجزء المنسى بما له من الآثار وقد مر ان معنى رفعه اخراجه عن حدود
الطبيعة المأمور بها، واما ترك الجزء فليس متعلقا له حتى يرد عليه ما أفاد: من أن
الرفع لا يتعلق بالاعدام
(منها) ان الأثر المرتب على الجزء والشرط انما هو الجزئية، وهى مما تنالها يد
الجعل باعتبار منشأ انتزاعها ولا يحتاج في رفعها إلى اثر آخر حتى يقال إن الاجزاء
وصحة العبادة من الآثار العقلية كما لا يخفى ومنه يظهر النظر في ثالث الوجوه التي
ذكرها قدس سره فراجع
فان قلت: انما يصح عبادة الناسي ويكون المركب الفاقد تمام المأمور به في
حقه، فيما إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب، واما مع عدم امكانه لأجل كون الخطاب
بقيد انه ناس يوجب انقلاب الموضوع إلى الذاكر، فلا يمكن تصحيح عبادته قلت
قد ذكر المشايخ (قدس الله اسرارهم) وجوها صححوا بها تخصيص الناسي بالخطاب وإن كان
كلها غير خال عن التكلف الا ان التصحيح لا يتوقف على تخصيصه بالتكليف، بل الامر
المتعلق بالصلاة في الكتاب والسنة كاف في التصحيح، فان الذاكر والناسي انما
يقصد بقيامه وقعوده امتثال تلك الخطابات المتعلقة بالطبيعة التي منها قوله تعالى
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، والداعي إلى العمل والباعث نحو
228

الفعل في الذاكر والناسي أمر واحد بلا اختلاف في هذه الجهة، وانما الاختلاف في
مصداق الطبيعة، وهو لا يجب اختلافا في الامر، وبالجملة: ان الفرد الكامل والفرد
الناقص كلاهما فردان من الطبيعة المأمور بها، غير أنه يلزم على الذاكر ايجادها
في ضمن ذلك الفرد الكامل، وعلى الناسي ايجادها في ضمن ذلك الناقص، لرفع
جزئية الجزء في حق الناسي لأجل حكومة الحديث، وإيجاد الفرد، ايجاد لنفس
الطبيعة المأمور بها، وايجادها مسقط للامر، محصل للغرض موجب للاجزاء،
وان شئت: فنزل المقام بما دل على الاكتفاء بالطهارة الترابية عند فقدان الماء،
فان باعث الواجد والفاقد انما هو أمر واحد وهو الأوامر المؤكدة في الكتاب و
السنة، والمأمور به هو الطبيعة الواحدة أعني طبيعة الصلاة، غير أنه يجب على الواجد ايجادها
بالطهارة المائية وعلى غير المتمكن ايجادها بالطهارة المائية، والاختلاف في المصداق
لا يوجب تعدد الامر، والخطاب، ولا يوجب وقوع طبيعة الصلاة متعلقا
لامرين وإذا اتضح الحال فيها، فقس المقام عليه فان حديث الرفع يجعل الفاقد
بمصداق الطبيعة، ولا يصير الطبيعة متعلقة لامرين، ولا تحتاج إلى خطابين ولا إلى
توجهه بحاله ولا إلى كون المصداق هو الناقص حتى يبحث عن امكان اختصاص الناسي
بالخطاب فقد اتضح مما ذكر صحة عبادة الناسي بحديث الرفع.
ثم إن بعض أعاظم العصر (قدس سره) قد أيد ما ادعاه (قصور حديث الرفع عن
اثبات صحة عبادة الناسي) بان المدرك لصحة الصلاة الفاقدة للجزء والشرط نسيانا
انما هو قاعدة: " لا تعاد " فلو كان المدرك حديث الرفع كان اللازم صحة الصلاة بمجرد
نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها، فإنه لا يمكن استفادة
التفصيل من حديث الرفع ويؤيد ذلك أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع
لصحة الصلاة وغيرها من سائر المركبات " انتهى " وفيه: ان استفادة التفصيل بين الأركان
وغيرها من قاعدة: " لا تعاد " لا يوجب عدم كون حديث الرفع دليلا لصحة عبادة الناسي
غاية الأمر يلزم من الجمع بين الدليلين تخصيص أحدهما أعني حديث الرفع بما يقتضيه
الاخر من التفصيل، واما ما افاده من عدم معهودية التمسك به في كلمات القوم، فكفاه
229

منعا، تمسك السيدين (علم الهدى وابن زهرة) به عند البحث عن التكلم في الصلاة
نسيانا، وكلامهما وإن كان في خصوص التكلم الا انه يظهر من الذيل عمومية الحديث
لجميع الموارد الا ما قام عليه دليل، قال الأول: في الناصريات: دليلنا على أن كلام
الناسي لا يبطل الصلاة بعد الاجماع المتقدم ما روى عنه صلى الله عليه وآله رفع عن أمتي النسيان
وما استكرهوا عليه ولم يرد رفع الفعل لان ذلك لا يرفع وانما أراد رفع الحكم وذلك
عام في جميع الأحكام الا ما قام عليه دليل ويقرب منه كلام ابن زهرة في الغنية وتبعهما
العلامة والأردبيلي في مواضع وقد نقل الشيخ الأعظم في مسألة ترك غسل موضع النجو
عن المحقق في المعتبر انه تمسك بالحديث لنفى الإعادة في مسألة نأسى النجاسة وقد تمسك
الشيخ الأعظم وغيره في مواضع بحديث الرفع لتصحيح الصلاة فراجع
ثم إن ما ذكرنا من البيان جار في النسيان المستوعب للوقت وغير المستوعب
بلا فرق بينهما أصلا لأن المفروض ان الطبيعة كما يتشخص بالفرد الكامل، كذلك
يوجد بالناقص منه وبعد تحقق الطبيعة التي تعلق بها الامر، لا معنى لبقاء الامر
لحصول الامتثال بعد اتيانها، (والحاصل) ان هنا أمرا واحدا متعلقا بنفس الطبيعة
التي دلت الأدلة الواقعية علي جزئية الشئ الفلاني أو شرطيته لها، والمفروض
حكومة الحديث على تلك الأدلة وتخصيصها بحال الذكر، أو بغير حال النسيان فيبقى
اطلاق الامر المتعلق بالطبيعة بحالها ويصير الاتيان بالفرد الناقص اتيانا بتمام
المأمور به في ذلك الحال، وهو يلازم الاجزاء وسقوط الامر، وكون النسيان مستوعبا
أو غير مستوعب لا يوجب فرقا في الحكم فان حكومة الحديث في جزء من الوقت كاف
في انطباق ما هو عنوان المأمور به عليه، وبانطباقه يسقط الامر بلا اشكال
ومما ذكرنا يظهر الاشكال فيما افاده بعض أعاظم العصر (قدس سره) حيث قال إنه
لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في
بقيته لان المأمور به هو الفرد الكلى الواجد لجميع الاجزاء والشرائط ولو في جزء من
الوقت فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الاتيان بالمأمور به لبقاء وقته لو كان المدرك
حديث الرفع لان الماتى به لا ينطبق على المأمور به فلو لا حديث: لا تعاد كان اللازم هو
230

إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع التذكر في أثناء الوقت انتهى وأنت خبير بمواقع
النظر فيما افاده فلا نطيل بتكرار ما سبق منا
في تعلق النسيان بالأسباب
ان ما ذكرنا كله في ناحية الجزء والشرط جار في السبب حرفا بحرف غير أن
بعض أعاظم العصر قد أفاد في المقام: ان وقوع النسيان والاكراه والاضطرار
في ناحيتها لا يقتضى تأثيرها في المسبب ولا تندرج في حديث الرفع لما تقدم في باب
الاجزاء والشرائط من أن حديث الرفع لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة الواجد، فلو اضطر
إلى ايقاع العقد بالفارسية أو أكره عليه أو نسى العربية كان العقد باطلا بناء على
اشتراط العربية فان رفع العقد الفارسي لا يقتضى وقوع العقد العربي، وليس للعقد
الفارسي اثر يصح رفع اثره وشرطية العربية ليست منسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع
الشرطية " انتهى "
قلت: التحقيق هو التفصيل، فان تعلق النسيان بأصل السبب أو بشرط من
شرائطه العقلائية الذي به قوام العقد عرفا كإرادة تحقق معناه فلا ريب في بطلان المعاملة إذ
ليس هنا عقد عرفي حتى يتصف بالصحة ظاهرا وان تعلق بشرط من الشرائط الشرعية
ككونه عربيا، أو تقدم الايجاب على القبول ونحو ذلك، فلا اشكال في تصحيح
العقد المذكور بحديث الرفع، فان الموضوع أعني نفس العقد محقق قطعا في نظر
العرف غير أنه فاقد للشرط الشرعي، فلو قلنا بحكومة الحديث على الشرائط بمعنى
رفع شرطية العربية أو تقدمه على القبول في هذه الحالة، يصير العقد الصادر من العاقد
عقدا مؤثرا في نظر الشارع أيضا، والنسيان وان تعلق بايجاد الشرط لا بشرطيته
لكن لا قصور في شمول الحديث لذلك، لان معنى رفع الشرط المنسى رفع شرطيته
في هذا الحال، والاكتفاء بالمجرد منه - واما ما افاده من أن رفع العقد الفارسي لا
يقتضى وقوع العقد العربي، فواضح الاشكال، لان النسيان لم يتعلق بالفارسي من
العقد، حتى يترتب عليه ما ذكر، بل انما تعلق بالشرط أعني العربية، فرفعه
231

رفع لشرطيته في المقام، ورفع الشرطية، عين القول بكون ما صدر سببا
تاما.
وتوهم ان القول بصحة العقد المجرد عن الشرط خلاف المنة بل فيه تكليف
المكلف بوجوب الوفاء بالعقد، ولا يعد مثل ذلك امتنانا أصلا، مدفوع بان انفاذ
المعاملة وتصحيحها، حسب ما تراضيا عليه، امتنان جدا، إذ ليس وجوب الوفاء أمرا
على خلاف رضائه، بل هو مما أقدم المتعاقدان عليه بطيب نفسهما فانفاذ ما صدر عن
المكلف بطيب نفسه احسان له، فأي منة أعظم من تصحيح النكاح الذي مضى منه
عشرون سنة، وقد رزق الوالدان طيلة هذه المدة أولادا، فان الحكم ببطلان ما عقده
بالفارسية مع كون الحال كذلك من الأمور الموحشة الغريبة التي يندهش منه المكلف
وهذا بخلاف القول بالصحة.
القول في الاكراه
فان تعلق الاكراه على ترك ايجاد السبب أو ما يعد أمرا مقوما للعقد فهو
كالنسيان، يرتفع به اثر العقد بلا اشكال، واما المانع، فلو تعلق الاكراه بايجاد
مانع شرعي، فإن كان العاقد مضطرا اضطرارا عاديا أو شرعيا لإيجاد العقد والمكره
يكرهه على ايجاده، فالظاهر جواز التمسك به لرفع مانعية المانع في هذا الظرف
على ما سبق تفصيله في مبحث النسيان، وان لم يكن مضطرا للعقد فالظاهر عدم صحة
التمسك، لعدم صدق الاكراه.
واما إذا تعلق الاكراه بترك الجزء والشرط، فقد بنينا سابقا على صحة
التمسك بالحديث على رفع جزئيته أو شرطيته في حال الاكراه إذا كان مضطرا
في أصل العقد عادة أو شرعا، غير أنه عدلنا عنه أخيرا ومحصل المختار فيه عدم
جريان الحديث لرفعهما في هذه الحالة لان الاكراه قد تعلق بترك الجزء والشرط
وليس للترك بما هو هو اثر شرعي قابل للرفع غير البطلان ووجوب الإعادة وهو
ليس اثرا شرعيا بل من الأمور العقلية الواضحة، فان ما يرجع إلى الشارع ليس الا
جعل الجزئية والشرطية تبعا أو استقلالا بناء على صحة جعلهما أو اسقاطهما كما في
232

موارد النسيان، واما ايجاب الإعادة والقضاء بعد عدم انطباق المأمور به للماتى به،
فإنما هو أمر عقلي يدركه هو عند التطبيق وتوهم ان مرجع الرفع عند الاكراه على
ترك جزء أو شرط إلى رفع جزئيته وشرطيته في هذه الحالة كما مر توضيحه في
رافعية النسيان إذا تعلق بنفس الجزء والشرط مدفوع بان المرفوع لابد وأن يكون
ما هو متعلق العنوان ولو باعتبار انه اثر لما تعلق به العنوان كالجزئية عند تعلق نسيان
نفس الجزء، واما المقام فلم يتعلق الاكراه الا بنفس ترك الجزء والشرط، والجزئية
ليست من آثار نفس الترك، نعم لو كان لنفس الترك اثر شرعي يرتفع اثره الشرعي
عند الاكراه.
لا يقال: إن وجوب الإعادة مترتب على بقاء الأمر الأول كترتب عدم وجوبها
على عدم بقائه، فإذا كان بقاء الامر كحدوثه أمرا شرعيا تناله يد الجعل والرفع فلا
محذور في التمسك بالحديث لنفى وجوب الإعادة. " لأنا نقول " ان وجوب الإعادة ليس
اثرا شرعيا في حد نفسه، ولا اثرا مجعولا لبقاء الأمر الأول، بل هو أمر عقلي منتزع
يحكم به إذا أدرك مناط حكمه، وما يرى في الاخبار من الامر بالإعادة، فإنما هو
ارشاد إلى فساد الماتى به، وبطلانه، ويشهد على ذلك ان التارك للإعادة لا يستحق
الا عقابا واحدا لأجل عدم الاتيان بالمأمور به، لا لترك اعادته، واحتمال العقابين
كاحتمال انقلاب التكليف إلى وجوب الإعادة باطل بالضرورة فتلخص من جميع ما ذكر
ان الاكراه ان تعلق بايجاد المانع، فيمكن ان يتمسك بحديث الرفع لتصحيح
الماتى به، واما إذا تعلق بترك الجزء والشرط فلا، كما ظهر الفرق بين نسيان الجزء
والشرط وبين تركهما لأجل الاكراه فلاحظ
واما الاضطرار: فقد ظهر حاله مما فصلناه في حال الاكراه حرفا بحرف، و
حاصله: انه لو تعلق بماله حكم تكليفي، أي باتيان حرام نفسي أو ترك واجب، فلا
اشكال في ارتفاع الحرمة بالاضطرار، أي حرمة فعله في الحرام، ومبغوضية تركه
في الواجب، بناء على الملازمة العرفية بين الامر بالشيئ ومبغوضية تركه، وان تعلق
بايجاد مانع في أثناء المعاملة أو العبادة فلا اشكال في صحة العمل برفع المانعية في
233

ذلك الظرف كما مر بيانه في النسيان والاكراه، وان تعلق بترك جزء أو شرط فلا
يمكن تصحيح العمل به حسب ما أوضحناه في الاكراه فلا نعيده
القول في المسببات
فلنذكر ما افاده بعض أعاظم العصر ثم نعقبه بما هو المختار قال (قدس سره)
المسببات على قسمين فهي تارة تكون من الأمور الاعتبارية التي ليس بحذائها في
وعاء العين شئ كالملكية والزوجية مما أمضاها الشارع فهذا القسم من الأحكام الوضعية
يستقل بالجعل فلو فرض انه أمكن ان يقع المسبب عن اكراه ونحوه كان للتمسك
بحديث الرفع مجال فينزل المسبب منزلة المعدوم في عدم ترتب الآثار المترتبة على
السبب لا أقول إن الرفع تعلق بالآثار بل تعلق بنفس المسبب لأنه بنفسه مما تناله يد
الجعل.
و (أخرى) ما يكون المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع
كالطهارة والنجاسة فإنها غير قابلة للرفع التشريعي ولا تناله يد الجعل والرفع، نعم
يصح ان يتعلق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتب عليها من الآثار الشرعية ولا يتوهم
ان لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على الجنابة أو عدم وجوب التطهير
على من أكره على النجاسة بدعوى ان الجنابة المكره عليها وان لم تقبل الرفع
التشريعي الا انها باعتبار ما لها من الأثر وهو الغسل قابلة للرفع، فان الغسل والتطهير
امران وجوديان قد أمر بهما الشارع عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا من غير فرق بين
الجنابة الاختيارية وغيرها " انتهى كلامه ".
قلت: ان ما تفصى به عن اشكال غير صحيح فان كونهما أمرين وجوديين لا
يوجب عدم صحة رفعهما، كما أن اطلاق الدليل في الجناية الاختيارية وغيرها، لا يمنع
عن الرفع ضرورة ان الغرض حكومة الحديث على الاطلاقات الأولية، بل الاطلاق
مصحح للحكومة كما لا يخفى (والأولى) ان يقال في التفصي عن الاشكال انه قد تحقق
في محله ان الغسل مستحب نفسي قد جعل بهذه الحيثية مقدمة للصلاة وعلى ذلك
234

فالمرفوع بالحديث في الصورة المفروضة لو كان هو الاستحباب النفسي فغير صحيح،
لان الحديث حديث امتنان ولا منة في رفع المستحبات، وإن كان المرفوع شرطيته
للصلاة فلا ريب ان الاكراه انما يتحقق إذا أكره على ترك الغسل للصلاة فح فلو ضاق
الوقت وتمكن المكلف من التيمم فلا اشكال انه يتبدل تكليفه إلى التيمم وان لم يتمكن
منه بان أكره على تركه أيضا صار كفاقد الطهورين والمشهور سقوط التكليف
عن فاقده (هذا كله) في الطهارة الحدثية، واما الخبثية من الطهارة فلو أكرهه المكره
على ترك غسل البدن والساتر إلى أن ضاق الوقت، فلا ريب انه يجب عليه الصلاة
كذلك فيرفع شرطية الطهارة بالحديث ولو أمكن ان يخفف ثوبه ونزعه فيجب عليه
على الأقوى ولو لم يتمكن فعليه الصلاة به ويصير المقام من صغريات الاكراه بايجاد
المانع وقد مر حكمه
بحث وتحقيق
ان بعض محققي العصر (قدس سره) قد قال باختصاص مجرى الرفع في قوله:
ما استكرهوا عليه بباب المعاملات بالمعنى الأخص بعكس الرفع في الاضطرار، فلا
يجرى الاكراه في التكليفيات من الواجبات والمحرمات، (لان) الاكراه على الشئ
يصدق بمجرد عدم الرضاء بايجاده ومع التوعيد اليسير أو اخذ مال كذلك: مع أنه
غير مسوف لترك الواجب، أو الاتيان بالمحرم، نعم لو بلغ ذلك إلى حد الحرج جاز ذلك
ولكنه لأجل الحرج لا الاكراه " انتهى ملخصا ".
وفيه: مضافا إلى عدم اختصاصه بالضرورة للمعاملات بالمعنى الأخص لجريانه
في الطلاق والنكاح والوصية وغيرها من المعاملات بالمعنى الأعم، ان ما ذكره لا يوجب
الاختصاص، بل يوجب اختصاص رافعية الاكراه لبعض مراتبه دون بعض كيف وقد
ورد في بعض الروايات في تفسير قوله صلى الله عليه وآله رفع ما أكرهوا انه إشارة إلى قوله تعالى
الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الذي ورد في شأن عمار، ومن المعلوم ان ما صدر
من عمار من التبري عن الله ورسوله كان حراما تكليفيا قد ارتفع بالاكراه، أضف إلى
235

ذلك ما ورد في حق الزوجة المكرهة على الجماع في يوم رمضان وفى حق المكرهة
على الزنا، انه لا شئ عليهما عند الاكراه، وهذا يدل على عمومية رافعية الاكراه
للوضعي والتكليفي، وما افاده: من أن الاكراه ان وصل إلى الجرح جاز ذلك الا انه
من جهة الحرج لا الاكراه، مدفوع بان التدبر في الروايات والآية يعطى ان علة
ارتفاع الحكم لأجل كون المكلف مكرها أضف إلى ذلك ان الاكراه الشديد لأجل
توعيده بأمر لا يتحمل عادة لا يوجب كون المكره فيه (أي متعلق الاكراه) حرجيا
الا مع التكلف فلو أكرهه المكره على شرب الخمر وأوعده بالضرب والجرح، فما
هو متعلق الاكراه ليس حرجيا، وكون تركه حرجيا لأجل ما يترتب عليه عند الترك
لا يوجب اتصاف متعلق الاكراه بالحرج الا بالتكلف وهذا بخلاف الاكراه فان الشرب
متعلق للاكراه بلا ريب.
وقصارى ما يمكن ان يقال: إن الضرورة قاضية على عدم كفاية الاكراه لارتكاب
بعض المحرمات وهو ليس بأمر غريب، ولها نظائر وشواهد في الفقه، فان بعض
العظايم من المحرمات لا يمكن رفع حكمه بالحديث بعامة عناوينها ولا بعنوان آخر
كالتقية، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الرسالة التي عملناها لبيان حال التقية
فراجع وهذه الرسالة جاهزة للطبع وعلقنا عليها بعض التعاليق.
الأمر السابع
قد فصل شيخنا العلامة أعلى الله مقامه فيما إذا شك في مانعية شئ للصلاة
بين الشبهة الموضوعية والحكمية فاستشكل جريان البراءة في الثانية وقد أفاد
في وجهه: ان الصحة فيها انما يكون ما دام شاكا فإذا قطع بالمانعية يجب عليها
الإعادة، ولا يمكن القول بتخصيص المانع بما علم مانعيته فإنه مستحيل
بخلاف الشبهة الموضوعية لامكان ذلك فيها (أقول) ان المستحيل انما هو جعل المانعية
ابتداءا في حق العالم بالمانعية لاستلزامه الدور، واما جعلها ابتداءا بنحو الاطلاق
ثم اخراج ما هو مشكوك مانعيته ببركة حديث الرفع بان يرفع فعلية مانعيته في
ظرف مخصوص، فليس بمستحيل بل واقع شايع، وقد مر نبذ من الكلام في الاجزاء
236

وفى البحث عن الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، واما الاكتفاء، بما اتى به
المكلف وسقوط الإعادة والقضاء فقد مر بحثه تفصيلا، وخلاصته، ان حكومة الحديث
على الأدلة الأولية يقتضى قصر المانعية على غير هذه الصور التي يوجد فيها إحدى
العناوين المذكورة في الحديث، وعليه فالآتي بالمأمور به مع المانع آت لما هو
تمام المأمور به، ولازمه سقوط الامر، وانتفاء القضاء هذا فيض من غيض: وقليل
من كثير مما ذكره الأساطين حول الحديث
الثاني مما استدل به على البراءة من
السنة حديث الحجب
رواه الصدوق عن أحمد بن محمد بن يحيى عن أبيه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن
ابن فضال عن داود بن فرقد عن أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله: قال
ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم. ورواه الكليني عن محمد بن يحيى
- الوسائل: كتاب القضاء الباب 12 - واما فقه الحديث فيحتمل بادي الامر وجوها
الأول أن يكون المراد ما حجب الله علمه عن مجموع المكلفين، الثاني: ان المراد
ما حجب الله علمه عن كل فرد فرد من افراد المكلفين الثالث: ان المراد كل
من حجب الله علم شئ عنه فهو مرفوع عنه سواء كان معلوما بغيره أو لا. والمطابق
للذوق السليم هو الثالث كما هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله في حديث الرفع: رفع عن
أمتي مالا يعلمون، على أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضى ذلك فان الظاهر أن
المناط للرفع هو الحجب عن المكلف وحجبه عن الغير وعدمه لا دخل له لذلك
كمالا يخفى، وتقرير الاستدلال ان الظاهر من قوله موضوع عنهم، هو رفع ما هو
المجعول بحسب الواقع كما هو المراد في حديث الرفع لا ما لم يجعل وسكت عنه
تعالى من أول الأمر فإنه ما لم يجعل من بدء الامر فكيف يرفع وان الظاهر من الحجب
هو الحجب الخارج من اختيار المكلف، لا الحجب المستند إلى تقصيره وعدم فحصه
237

وعندئذ يعم كل حجب لم يكن مستندا لتقصيره لأجل ضياع الكتب أو طول الزمان
أو قصور البيان أو حدوث حوادث ونزول نوازل وملمات عائقة بحسب الطبع عن
بلوغ الاحكام إلى العباد على ما هي، وعندئذ يكون اسناد الحجب إليه على سبيل
المجاز ومثله كثير في الكتاب والسنة، فان مطلق تلك الأفعال يسند إليه تعالى
بكثير من دون أن يكون خلاف ظاهر في نظر العرف
ومما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده: من أن الظاهر من الحديث ما لم يبينه
للعباد وتعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه لعدم أمر رسله بتبليغه حتى
يصح اسناد الحجب إليه تعالى، فالرواية مساوقة لما ورد من أن الله سكت عن أشياء
لم يسكت عنها نسيانا. (وجه الضعف) ان الظاهر المتبادر من قوله: موضوع
عنهم هو رفع ما هو المجعول، لا رفع ما لم يبين من رأس ولم يبلغ بل لم يأمر الرسل
باظهاره فان ما كان كذلك، غير موضوع بالضرورة ولا يحتاج إلى البيان مع أنه مخالف
لظاهر موضوع عنهم أضف إلى ذلك أنه مخالف للمناسبة المغروسة في ذهن أهل
المحاورة، والداعي لهم لاختيار هذا المعنى تصور ان اسناد الحجب إلى الله تعالى
لا يصح الا في تلك الصورة، واما إذا كان علة الحجب اخفاء الظالمين وضياع
الكتب فالحاجب نفس العباد لا هو تعالى وقد عرفت جوابه فلا نكرره
3 - من الاخبار التي استدلوا بها قوله " ع ": الناس في سعة مالا يعلمون
ودلالته على البراءة وعدم لزوم الاحتياط واضح جدا فإنه لو كان الاحتياط
لازما عند الجهل بالواقع لما كان الناس في سعة مالا يعلمون بل كان عليهم الاحتياط
وهو موجب للضيق بلا اشكال.
(فان قلت) بعد العلم بوجوب الاحتياط يرتفع عدم العلم وينقلب إلى العلم
بالشئ (قلت) ان الظاهر المتبادر هو العلم بالواقع والجهل به وليس العلم بوجوب
الاحتياط علما بالواقع إذ ليس طريقا إليه وان شئت قلت إن العلم المستعمل في
الروايات وإن كان المراد منه المعنى الأعم أي الحجة لا الاعتقاد الجازم المطابق
للواقع، ولكن الحجة عبارة عن الطرق العقلائية والشرعية إلى الواقع التي تكشف
238

كشفا غير تام، والاحتياط ليس منها بلا اشكال، والشاهد على ذلك أنه لو افتى أحد على
الواقع لقيام الامارة عليه، لما يقال إنه افتى بغير علم، واما إذا افتى بوجوب شئ
لأجل الاحتياط فإنه افتى بغير علم، ومن ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن وجوب
الاحتياط إن كان نفسيا يدفع المعارضة بين الحديث وبين أدلة الاحتياط لحصول الغاية بعد
العلم بوجوب الاحتياط
(وجه الضعف) ان مفاد الحديث هو الترخيص للناس فيما ليس لهم طريق ولا علم إلى
الواقع فلو دل دليل على لزوم الاحتياط في الموارد التي لم يقف المكلف على حكم تلك
الموارد لعد ذلك الدليل معارضا للحديث الشريف لا رافعا لموضوعه وان شئت قلت إن
شرب التتن بملاحظة كونه مجهول الحكم مرخص فيه حسب الحديث فلو تم
اخبار الاحتياط ولزم وجوب، الاحتياط لعد ذلك منافيا للترخيص من غير فرق بين أن يكون
لزوم الاحتياط نفسيا أو غيريا
نعم لو أمكن القول بالسعة من حيث مالا يعلمون وإن كان الضيق من حيث
الاحتياط النفسي لأجل مصلحة في ذلك الحكم النفسي لكان لما ادعى وجه لكنه
كما ترى فان جعل السعة (ح) يكون لغوا بعد عدم انفكاك موضوعه عن موضوع
الاحتياط، واما حمل الرواية على الشبهة الموضوعية أو الوجوبية فلا شاهد له، مع أنه
اعتراف على تمامية الدلالة.
4 - من الروايات التي استدل بها للبرائة قوله (ع) كل شئ لك حلال حتى تعرف
انه حرام. ويظهر من الشيخ في المقام بل صريحه في الشبهة الموضوعية انه رواية
مستقلة بهذا اللفظ بلا انضمام كلمة " بعينه "، ولم نجد في مصادر الروايات، بل
الظاهر أنه صدر رواية مسعدة بن صدقة وكيف كان فربما يستشكل في دلالته على
الشبهة الحكمية بان كلمة " بعينه " قرينة على اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية
ولكن يمكن منع قرينية تلك الكلمة فإنه تأكيد لقوله: تعرف، ومفاده كناية عن
وقوف المكلف على الاحكام وقوفا علميا لا يأتيه ريب
نعم يرد على الرواية انها بصدد الترخيص لارتكاب أطراف المعلوم بالاجمال
239

فيكون وزانه وزان قوله (ع) كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام
الحرام بعينه، فان المتبادر منهما هو جواز التصرف في الحلال المختلط بالحرام الذي جمع -
رواياته السيد الفقيه الطباطبائي (قدس سره) في حاشيته على المكاسب عند بحثه عن
جوائز السلطان، فوزان الروايتين وزان قوله عليه السلام في موثقة سماعة: إن كان خلط
الحلال بالحرام فاختلطا جميعا فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس، وصحيحة
الحذاء، لا بأس به حتى يعرف الحرام بعينه، وعلى ذلك فالروايتان راجعتان
إلى الحرام المختلط بالحلال، ولا ترتبطان بالشبهة البدئية،
5 - من الروايات صحيحة عبد الصمد بن بشير التي رواه صاحب الوسائل في
الباب الخامس والأربعين من تروك الاحرام: ان رجلا عجميا دخل المسجد
يلبى وعليه قميصه فقال لأبي عبد الله عليه السلام انى كنت رجلا اعمل بيدي واجتمعت
لي نفقة فحيث أحج لم اسئل أحدا عن شئ وافتوني هؤلاء ان أشق قميصي وانزعه
من قبل رجلي وان حجى فاسد وان على بدنة، فقال له متى لبست قميصك بعد ما لبيت
أم قبل، قال: قبل ان النبي قال: فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة وليس عليك
الحج من قابل أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شئ عليه.
فدلت على أن الآتي بشئ عن جهل بحكمه لا باس به وأورد عليه الشيخ الأعظم:
بان مورد الرواية وظهورها في الجاهل الغافل، وتعميمه إلى الجاهل الملتفت يحوج
إلى اخراج الجاهل المردد المقصر ولسانه يأبى عن التخصيص، وأيده بعضهم بان الباء
في قوله " بجهالة " للسببية، والجهل بالحكم سبب للفعل في الجاهل الغافل دون الملتفت
(أقول) قد أمر الشيخ في آخر كلامه بالتأمل وهو دليل على عدم ارتضائه لما ذكر فان
أمثال هذه التراكيب كثير في الكتاب والسنة، فانظر إلى قوله تعالى: انما التوبة
على الله للذين يعملون السوء بجهالة، وقوله تعالى: ان تصيبوا قوما بجهالة، فهل ترى
اختصاصهما بالجاهل الغافل، ومجرد كون مورد الرواية من هذا القبيل لا يوجب
التخصيص لا سيما في أمثال المقام الذي يترائى ان الامام بصدد القاء القواعد الكلية
العالمية، أضف إلى ذلك ما ورد في أبواب الصوم والحج من روايات تدل على معذورية
240

الجاهل من غير استفصال، واما ما ذكره أخيرا من أن التعميم يحتاج إلى التخصيص
ولسانه آب عنه، فيرد عليه مضافا إلى أن التخصيص لازم على أي وجه فان الجاهل الغافل
المقصر خارج من مصب الرواية، ان ذلك دعوى مجردة، فان لسانه ليس على وجه
يستهجن في نظر العرف ورود التخصيص به كما لا يخفى
وما أيده به بعضهم مقالة الشيخ، فيرد عليه ان الجهل ليس علة للاتيان بالشئ
فان وجود الشئ في الخارج معلول لمباديه، نعم ربما يكون العلم بالحكم مانعا
ورادعا عن حصول تلك المبادى في النفس، وعليه فالمناسب جعل الباء بمعنى " عن "
ولو سلم كونها للسببية، فليس المراد من السببية، المعنى المصطلح (صدور الفعل عنه)
بل بمعنى دخالتها في العمل في الجملة فيصح ان يقال إن الارتكاب يكون لجهالة
مع الفحص عن الحكم وعدم العثور عليه.
6 - ومن الروايات: ما رواه ثقة الاسلام في باب البيان والتعريف عن أحمد
بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن
ابن الطيار عن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم
فدلت علي ان التكليف فرع التعريف، وايتاء القدرة الذي عليه قوله تعالى: لا
يكلف الله نفسا الا ما آتيها، ولا يكلف نفسا الا وسعها، وقد استدل بهما الامام
في رواية عبد الأعلى كما تقدم، والمعنى المتبادر منها حسب مناسبة الحكم و
الموضوع شرطية التعريف والايتاء في كل التكاليف على كل فرد فرد من المكلفين
حتى يتم الحجة بالنسبة إلى كل واحد منهم، وان التعريف للبعض، لا يكفي في
التكليف على الجميع، لان المقصود انما هو اتمام الحجة وهو لا يتم الا إذا حصل
الأمران عند كل واحد واحد منهم، وعلى ذلك فلو بحث المكلف عن تكليفه فحصا تاما
ولم يظفر به، وان صدر من الشارع حكمه غير أن الحوادث عاقت بينه وبين تكليفه
لم يصدق انه عرفه وآتاه
فان قلت: قد رواه ثقة الاسلام أيضا في باب حجج الله عز وجل على خلقه
وهو مذيل بجملة ربما توهم خلاف ما ذكرنا واليك الرواية: عدة من أصحابنا
241

عن أحمد بن محمد بن خالد عن علي بن الحكم عن ابان الأحمر عن حمزة بن
الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال لي اكتب فاملى على أن من قولنا
ان الله يحتج على العباد بما آتيهم وعرفهم ثم ارسل إليهم رسولا وانزل عليهم الكتاب
فامر فيه ونهى الخ.
فان ظاهر الرواية ان التعريف والايتاء كانا قبل ارسال الرسل وانزال الكتب
ومن المعلوم ان المراد من هذا التعريف (عندئذ) هو التوحيد الفطري بالله و
صفاته، لا المعرفة باحكامه فيكون أجنبيا عن المقام، و (ح) فالتقطيع من ناحية
الراوي.
قلت: ما ذكر من الذيل لا يضر بما نحن، بصدده، فان ما بعده شاهد على أن
المقصود هو التكليف بالأحكام الفرعية فإليك الذيل: وامر فيه بالصلاة والصوم فنام
رسول الله صلى الله عليه وآله عن الصلاة فقال انا أنيمك وانا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذ
أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام انا
أمرضك وانا أصحك فإذا شفيتك فاقضه. فعلى هذا فلا يمكن الاخذ بظاهر الرواية
لان ظاهرها ان ارسال الرسل وانزال الكتب بعد الاحتجاج بما آتيهم وعرفهم فلابد
ان يقال: إن المقصود منه ان سنة الله تعالى هو الاحتجاج على العباد بما آتيهم وعرفهم
وهى منشأ لارسال الرسل والتعريف، ولأجل ذلك تخلل لفظة " ثم " بين
الامرين.
فان قلت: ما دل من الاخبار على لزوم الاحتياط وارد على هذه الرواية،
فان التعريف كما يحصل ببيان نفس الاحكام، كذلك يحصل بالزام الاحتياط
في موارد الاحكام.
" قلت " لو لم نقل بحكومتها على اخبار الاحتياط فلا أقل بينهما التعارض،
فان مفاد الرواية ان الاحتجاج لا يتم الا ببيان نفس الاحكام وتعريفها، فلو تم
الاحتجاج بايجاب الاحتياط مع أنه ليس بواجب نفسي، ولا طريق إلى الواقع لزم
اتمام الحجة.
242

بلا تعريف وهو يناقض الرواية وان شئت قلت: ان المعرفة بالأحكام موجبة
للاحتجاج، وبما انه في مقام الامتنان والتحديد تدل على أنه مع عدم المعرفة لا يقع الاحتجاج
ولا يكون الضيق والكلفة كما دل عليه ذيل الرواية الثانية، ولزوم الاحتياط لا يوجب
المعرفة بالأحكام ضرورة عدم طريقيته للواقع لا حكما ولا موضوعا فلو احتج بالاحتياط
لزم الاحتجاج بلا تعريف، بل لا يبعد حكومتها على أدلة الاحتياط لتعرضها لما
لم يتعرض به أدلة الاحتياط، لتعرضها لنفى الاحتجاج ما لم يعرف ولم يبين
كمالا يخفى.
7 - ومن الروايات ما رواه المحدث الكاشاني عن ثقة الاسلام في باب البيان و
التعريف باسناده عن اليماني قال سمعت أبا عبد الله يقول إن أمر الله عجيب الا انه قد
احتج عليكم بما عرفكم من نفسه، وهذه الرواية قريبة مما تقدم، وليس المراد من
قوله: بما عرفكم من نفسه، هو تعريف ذاته وصفاته، بل الظاهر هو تعريف احكامه
وأوامره ونواهيه، فيرجع معنى الحديث إلى أن بيان الاحكام عليه تعالى
دون غيره.
8 - ومن الروايات: ما أرسله الصدوق ورواه الشيخ الحر في كتاب
القضاء في الباب (12) عن محمد بن علي بن الحسين قال قال الصادق كل شئ
مطلق حتى يرد فيه نهى واسناد الصدوق متن الحديث إليه بصورة الجزم والقطع شهادة
منه على صحة الرواية وصدورها عنهم (ع) في نظره (قدس سره)، وهذا الارسال
بهذه الصورة (من دون أن يقول وعن الصادق) حاك عن وجود قرائن كاشفة عن صحة
الحديث ومعلومية صدوره عنده كمالا يخفى.
واما فقه الحديث ففيه احتمالات فان قوله مطلق اما ان يراد منه اللا حرج من قبل
المولى في قبال الحظر العقلي لكونه عبدا مملوكا ينبغي أن يكون صدوره ووروده عن
رأى مالكه، أو يراد الإباحة الشرعية الواقعية، أو الإباحة الظاهرية المجعولة للشاك، (ثم)
المراد من النهى اما النهى المتعلق بالعناوين الأولية أو الأعم منه ومن الظاهري كالمستفاد
من الاحتياط، (ثم) المراد من الورود اما الورود المساوق للصدور واقعا سواء وصل
243

إلى المكلف أم لا أو الورود على المكلف، المساوق للوصول إليه، وتمامية دلالة الحديث
انما يتم لو دل على الإباحة الظاهرية المجعولة للشاك فيما لم يصل إلى المكلف نهى
سواء صدر النهى عن المولى أولا.
ثم إن بعض الأعيان المحققين قد اعتقد بامتناع إرادة بعض الاحتمالات أعني
كون المطلق بمعنى الإباحة الشرعية واقعية كانت أو ظاهرية فيما إذا أريد من الورود
هو الصدور من الشارع، اما الأول (كون المطلق بمعنى الإباحة الواقعية والمراد من الورود
هو الصدور) فأفاد في وجه امتناعه ما هذا ملخصه: ان الإباحة الواقعية ناشئة من
لا اقتضاء الموضوع لخلوه عن المصلحة والمفسدة فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها
للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع، المفروض انه لا اقتضاء وفرض عروض
عنوان آخر مقتض للحرمة مخالف لظاهر الرواية الدالة على أن الحرمة وردت على
نفس ما وردت عليه الإباحة، ولو أريد من ورود النهى تحديد الموضوع وتقييده بان
ما لم يرد فيه نهى مباح فهو مع كونه خلاف الظاهر فاسد لأنه إن كان بنحو المعرفية
فهو كالاخبار بأمر بديهي لا يناسب شأن الامام، وإن كان بنحو التقييد والشرطية
فهو غير معقول لان تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد حدوثا أو بقاء غير معقول
لأن عدم الضد ليس شرطا لوجود ضده.
واما الثاني (كون المطلق بمعنى الإباحة الظاهرية والورود بمعنى الصدور)
فأفاد انه يمتنع لوجوه " منها " لزوم تخلف الحكم عن موضوعه التام فإنه مع فرض
كون الموضوع وهو المشكوك موجودا يرتفع حكمه بصدور النهى المجامع مع
الشك واقعا فلا يعقل ان يتقيد الا بورود النهى على المكلف ليكون مساوقا للعلم
المرتفع به الشك و (منها) ان الإباحة إذا كانت مغياة بصدور النهى واقعا أو محددة
بعدمه والغاية والقيد مشكوك الحصول فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم صدوره
لفعلية الإباحة، واما الأصل فإن كان لمجرد نفى الحرمة فلا مانع منه الا انه ليس
من الاستدلال بالخبر وإن كان للتعبد بالإباحة الشرعية واقعية أو ظاهرية فقد علم
امتناع ذلك مطلقا، وإن كان للتعبد بالإباحة بمعنى اللا حرج فهي ليست من مقولة
244

الحكم ولا هي موضوع ذو حكم، ومنها ان ظاهر الخبر جعل ورود النهى غاية
رافعة للإباحة الظاهرية المفروضة، ومقتضى فرض عدم الحرمة الابقاء، هو فرض
عدم الحرمة حدوثا ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الأمر، فلا
معنى لجعل الإباحة الظاهرية، وليست الغاية غاية للإباحة الانشائية حتى يقال إنه
يحتمل في فرض فعلية الشك صدور النهى واقعا بل غاية لحقيقة الإباحة الفعلية
بفعلية موضوعها وهو المشكوك، وحيث إن المفروض صدور النهى بقاءا في مورد
هذه الإباحة الفعلية فلذا يرد المحذور المزبور.
أقول: في كلامه مواقع للنظر " منها " ما افاده في امتناع الأول من أن الإباحة
الواقعية ناشئة من لا اقتضاء الموضوع فلا يعقل ورود النهى على نفس الموضوع ففيه
ان اللا قتضاء والاقتضاء لو كانا راجعين إلى نفس الموضوع لكان لما ذكره وجه، الا ان الأحكام الشرعية
وإن كانت مجعولة عن مصالح ومفاسد، لكن لا يلزم أن يكون تلك المصالح أو المفاسد
في نفس الموضوعات حتى يكون الاقتضاء واللا اقتضاء راجعا إليه بل الجهات الخارجية
مؤثرة في جعل الاحكام بلا ريب، وأوضح شاهد على ذلك هو نجاسة الكفار والمشركين
فان جعل النجاسة عليهم ليس لأجل وجود قذارة أو كثافة في أبدانهم كما في سائر
الأعيان النجسة بل الملاك لهذا الجعل، الجهات السياسية، فان نظر المشرع تحفظ
المسلمين عن مخالطة الكفار والمعاشرة معهم، حتى تصون بذلك أخلاقهم وآدابهم
ونواميسهم، فلأجل هذه الأمنية حكم على نجاستهم، (فح) فمن الممكن أن يكون
الموضوع مقتضيا للحرمة، لكن الموانع منعت عن جعلها، أو المصالح السياسية
اقتضت جعل الإباحة الواقعية، فلو كان الشارع حاكما بحلية الخمر في دور
الضعف وإن كان تراها ذات مفسدة مقتضية للتحريم وجعل الحرمة، لكان أشبه شئ
بالمقام.
و (منها) انه يمكن جعل ورود النهى تحديدا للموضوع بكلا الوجهين من
المعرفية والشرطية بلا محذور. اما الأول، فلان ما هو كالبديهي انما هو الإباحة بمعنى
اللا حرجي قبال الحظر واما الإباحة الواقعية المجعولة الشرعية فليس كذلك لأنها
245

لا تحصل الا بجعل الجاعل، بخلاف اللا حرجية، (فان قلت) يلزم) اللغوية (ح) إذ بعد
ما حكم العقل باللا حرجية فلا مجال لجعل الإباحة الواقعية (قلت) انه منقوض (أولا)
بالبرائة الشرعية مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، و (ثانيا) نمنع لغوية الجعل
بعد كونها ذات آثار لا تترتب الا بجعل تلك الإباحة الواقعية ولا يغني عنها ما يحكم
به العقل، ضرورة انه مع الشك في ورود النهى من الشارع يمكن استصحاب الحلية
المجعولة بعد الاشكال في جريان أصالة عدم ورود النهى لأجل كونها أصلا مثبتا
وبدونها لا يجوز استصحاب اللا حرجية لعدم كونها حكما شرعيا ولا موضوعا ذا اثر
على أنه يمكن منع اللغوية، بان جعلها لرفع الشبهة المغروسة في الأذهان من أن
الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر حتى يرد منه الترخيص.
واما الثاني أعني اخذ عدم الضد شرطا لوجود الضد الاخر، فالمنع عنه يختص
بالأمور التكوينية كما حقق في محله واما الأمور الاعتبارية التي لا يتحمل احكام
التكويني كالتضاد وغيره فلا، وقد أوضحنا في بعض المباحث انه لا تضاد بين الاحكام
فلأجل ذلك يمكن ان يجعل عدم أحد الضدين شرطا لوجود الضد الاخر.
ومنها ما افاده من امتناع إرادة الإباحة الظاهرية من المطلق مع كون الورود
الواقعي غاية أو تحديدا للموضوع لأجل تخلف الحكم من موضوعه التام ففيه ان
الموضوع على التحديد هو المشكوك الذي لم يرد فيه نهى واقعا، وهو غير المشكوك
الذي ورد فيه نهى (وبالجملة) لو كان الموضوع للإباحة الظاهرية هو المشكوك بما هو
هو المجامع مع ورود النهى واقعا، يلزم تخلف الحكم (الإباحة الظاهرية) عن موضوعه
(المشكوك) فمع كون الموضوع وهو المشكوك موجودا ليس معه الحكم
أعني الإباحة لأجل ورود النهى واقعا، واما لو كان الموضوع المشكوك الذي لم يرد
فيه نهى واقعا، فلو ورد هنا نهى لانتفى ما هو موضوع الإباحة بانتفاء أحد جزئيه فليس
هنا موضوع حتى يلزم انفكاك الحكم عن موضوعه نعم لو كان غاية فالموضوع وإن كان هو
المشكوك بما هو هو وهو محفوظ مع ورود النهى، لكن لا مانع من تخلف الحكم عن
موضوعه إذا اقتضت المصالح الخارجية لذلك وما ذكر من الامتناع ناش من قياس التشريع
246

على التكوين بتخيل ان الموضوعات علل تامة للأحكام كما هو المعروف وهو غير تام
وقد عرفت ان المصالح الخارجية ومفاسدها، لها دخالة في تعلق الاحكام كما مر في
نجاسة الكفار، وطهارة العامة في حال الغيبة لأجل حصول الاتفاق والاتحاد حتى
دلت الاخبار، على رجحان معاشرتهم والحضور في جماعاتهم إلى غير ذلك
وعلى ذلك فالمشكوك يمكن أن يكون حلالا إلى أمد لاقتضاء العصر وحرا
ما إلى زمان آخر، وان شئت أخذت الحوادث المقارنة قيدا محدودا، وبتغيرها
يتغير الحكم
واما اجراء الأصل فنختار انه للتعبد بالإباحة الشرعية واقعية أو ظاهرية
وما أفاد: من أنه قد علم امتناع ذلك مطلقا. قد علمت صحته ومعقوليته أضف إلى
ذلك، ان ما أفاد تحت ذلك العنوان " اجراء الأصل " ظاهر في كونه دليلا مستقلا
مع أنه في الإباحة الظاهرية مصادرة جدا اللهم ان يتشبث بما افاده قبله فلا
يكون ذلك دليلا مستقلا، ثم إن الأصل الجاري في المقام، اما أصالة عدم الحرمة
فسيوافيك الاشكال فيه، وإن كان أصالة عدم ورود النهى حتى يثبت الحلية الواقعية
أو الظاهرية فسيوافيك انه من الأصول المثبتة لان تحقق ذي الغاية مع عدم حصوله
غايته من الأحكام العقلية، والشك في تحقق ذيها وإن كان مسببا عن تحقق نفس
الغاية وعدمها، الا انه ليس مطلق السببية مناطا لحكومة السببي على المسببي ما
لم يكن الترتب شرعيا، وإن كان الأصل أصالة بقاء الإباحة الواقعية أو الظاهرية
، فلا مانع منه، والقول ان الاستصحاب لا يجرى في الاحكام الظاهرية، صحيح،
لكن المقام ليس من افراده لان ذلك فيما إذا كان نفس الشك كافيا في ترتب الاحكام
لان الحكم في المقام ليس مرتبا على نفس الشك، بل عليه مغيا بعدم ورود النهى
الواقعي، وهذا لا يكفي فيه الشك أصلا حتى لا تحتاج إلى الاستصحاب
واما ما افاده في ثالث اشكالاته: فلانا نمنع استلزام عدم الحرمة الا بعد
ورود النهى، عدم تحقق الشك فان تحققه ضروري مع الشك في الورود وعدمه،
فان المكلف إذا التفت إلى حرمة شرب التتن وعدمها محتملا ورود النهى واقعا،
247

فلا محالة يتحقق في نفسه الشك، وهو كاف في جعل الحكم الظاهري، سواء كان
الحكم الظاهري هو ايجاب الاحتياط حتى يرد الترخيص، أو الترخيص حتى
يرد النهى، وقد أوضحنا عدم لغوية هذا الجعل كما تقدم
ثم هذا كله على القول بان موضوع الحلية الظاهرية هو الشك في الحكم
الشرعي المجعول، ويمكن ان يقال: إن موضوعه هو الشك في كون الأشياء على الحظر
وعدمه، أو الشك في الملازمة بين حكم العقل والشرع إذا قلنا بالحظر عقلا فيكون
قوله عليه السلام كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى ناظرا لكلا الشكين فلو شك في أن الأصل
في الأشياء هو الحظر أو عدمه، تفيد الرواية كونها على الإباحة، وكذا لو قلنا بان
الأصل الأولى هو الحظر ولكن شككنا في الملازمة و (الحاصل) يكون قوله عليه السلام
ناظرا إلى ما إذا شك في الحكم الشرعي لأجل الشك في أن الأصل في الأشياء هو
الحظر أو عدمه، أو لأجل الشك في الملازمة، فهذا الشك محقق مطلقا حتى مع
العلم بعدم ورود النهى في الشرع، لان متعلق الشك كون الأصل في الأشياء، قبل
الشرع هل هو الحظر أولا وهذا لا ينافي العلم بعدم ورود النهى من الشارع، وهذا
نحو آخر من الحكم الظاهري المجعول في حق الشاك في الحكم الواقعي، وعلى هذا
يكون عامة اشكالاته واضحة الدفع خصوصا الثالث منها فإنه على فرض تسليمه
لا يرد في هذا الفرض كما لا يخفى.
المختار في معنى الرواية
هذا كله محتملات الرواية حسب الثبوت، واما مفادها حسب الاثبات فلا شك
ان معنى قوله عليه السلام " حتى يرد فيه نهى " ان هذا الاطلاق والارسال باق إلى ورود النهى،
وليس المراد من الورود هو الورود من جانب الشارع لانقطاع الوحي في زمان صدور
الرواية، والحمل على النواهي المخزونة عند ولى العصر بعيد جدا، فإنه على فرض
وجود تلك النواهي عنده فتعين أن يكون المراد من الورود هو الوصول على المكلف
وهذا عرفا عين الحكم الظاهري المجعول في حق الشاك إلى أن يظفر على الدليل
و (الحاصل) ان قوله " يرد " جملة استقبالية، والنهى المتوقع وروده، في زمان الصادق
248

ليست النواهي الأولية الواردة على الموضوعات، لان ذلك بيد الشارع، وقد فعل ذلك
وختم طوماره بموت النبي وانقطاع الوحي، غير أن كل ما يرد من العترة الطاهرة
كلها حاكيات عن التشريع والورود الأولى، وعلى ذلك ينحصر المراد من قوله
" يرد " على الورود على المكلف أي الوصول إليه حتى يرتفع بذلك، الحكم المجعول
للشاك، وهذا عين الحكم الظاهري.
واما احتمال كون الاطلاق بمعنى اللا حظر حتى يكون بصدد بيان حكم عقلي
ومسألة أصولية أو كلامية، أو بمعنى الحلية الواقعية قبل الشرع المستكشف بحكم
العقل الحاكم بكون الأشياء على الإباحة، وبملازمة حكم العقل والشرع، ففي
غاية البعد، فان ظواهر هذه الكلمات كون الامام بصدد بيان الفتوى، ورفع حاجة
المكلفين، لا بيان مسألة أصولية أو كلامية أو عقلية، ولو فرض كونها بصدد بيان الحكم
العقلي، أو بيان التلازم يشكل اثباته بالرواية، لعدم صحة التعبد في الأحكام العقلية
أو ملازماتها كما لا يخفى.
9 - ومن الروايات: صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج المنقولة في أبواب ما
يحرم بالمصاهرة عن أبي إبراهيم (ع) قال: سئلته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها
بجهالة أهي ممن لا تحل له ابدا فقال (ع) اما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعدما تنقضي
عدتها فقد يعذر الناس بما هو أعظم من ذلك، قلت: بأي الجهالتين اعذر بجهالة ان
ذلك تحرم عليه أم بجهالة انها في العدة قال عليه السلام إحدى الجهالتين أهون من الأخرى
الجهالة بان الله تعالى حرم عليه ذلك، وذلك لأنه لا يقدر معه على الاحتياط، قلت فهو
في الأخرى معذور قال: (ع) نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في أن يزوجها.
وجه الدلالة: ان التعبير بالأهونية في جواب الامام، وبالأعذرية، لا يناسب
الأحكام الوضعية، فان كون الجهل عذرا وموجبا لعدم التحريم الأبدي لا مراتب
له فلابد من الحمل على الحكم التكليفي، إذ هو الذي يتفاوت فيه بعض الاعذار،
ويكون بعضها أهون من بعض، فالغافل المرتكب للمحرم، اعذر من الجاهل الملتفت
المرتكب له وإن كان ارتكابه بحكم أصل البراءة، و (عليه) فالرواية دالة على
249

كون الجهل مطلقا عذرا في ارتكاب المحرمات، وإن كان الاعذار ذات مراتب، و
الجهالات ذات درجات.
واما ما عن بعض محققي العصر (قدس سره) من تقريب دلالتها بان قوله (ع) (فقد
يعذر الناس بما هو أعظم) دال على معذورية الجاهل من حيث العقوبة عند الجهل الشامل باطلاقه للمعذورية عن العقوبة والنكال الأخروي، فضعيف جدا لان قوله
(فقد يعذر) لا يستفاد منه الاطلاق، لان " قد " فيه للتقليل لا للتحقيق.
وعلى أي تقدير التمسك بها للمقام محل اشكال لان التعليل بأنه كان غير قادر
على الاحتياط يجعلها مختصة بالغافل وهو غير محل البحث. والغاء الخصوصية مع
التفاوت الفاحش لا يمكن في المقام
10 - ومن الروايات قوله (ع) كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام منه بعينه فتدعه. أقول قد صدر هذه الكبرى عنهم عليهم السلام
في عدة روايات.
منها في صحيحة عبد الله بن سنان المنقولة في أبواب ما يكتسب به عن أبي
عبد الله: كل شئ يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه
بعينه فتدعه
منها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام المنقولة في الأطعمة
المباحة بعد السؤال عن الجبن وغيره: كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى
تعرف الحرام بعينه فتدعه.
منها ما رواه البرقي بسنده عن معوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال كنت
عند أبي جعفر فسئل رجل عن الجبن فقال: أبو جعفر عليه السلام انه لطعام يعجبني
وسأخبرك عن الجبن وغيره كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعلم أنه
حرام فتدعه بعينه و (منها) رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله في الجين قال كل شئ
لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه ميتة، و (منها) موثقة مسعدة بن صدقة "
250

قال سمعته يقول كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك
مثل الثوب الخ.
هذه الجملة من الروايات المذكورة فيها هذه الكبرى، مع اختلاف يسير،
وما يظهر من الشيخ الأعظم من كون قوله (ع) كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام
رواية مستقلة غير هذه الروايات، فلم نقف عليه، والظاهر أن الكبرى المذكورة في رواية
عبد الله بن سليمان عين ما ذكر في صحيحة ابن سنان لوحدة العبارة، وإن كانت
الأولى مصدرة بحكم الجبن، فيكون الأولى مختصة بالشبهات الموضوعية ولأجل ذلك
يشكل تعميم صحيحة ابن سنان على الحكمية، أضف إلى ذلك قوله: بعينه،
ومنه، وفيه ومادة العرفان المستعملة في الأمور الجزئية، فان كل واحد من هذه
الأمور وإن كان في حد نفسه قابلا للمناقشة، الا ان ملاحظة المجموع، ربما تصير
قرينة على الاختصاص أو سلب الاعتماد بمثل هذا الاطلاق ومثل تلك الصحيحة موثقة
مسعدة بن صدقة فان الأمثلة المذكورة كلها من الشبهات الموضوعية وفيها اشكالات
عويسة.
الاستدلال على البراءة بالاجماع والعقل
اما الاجماع: فلا يفيد في المقام أصلا، لكون المسألة مما تظافرت به الأدلة
النقلية، وحكم به العقل، فمن القريب جدا أن يكون المدرك لاجماعهم هو تلك
الأدلة واما دليل العقل، فلا اشكال ان العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، أي بلا حجة
وهذا حكم قطعي للعقل يرتفع موضوع ذاك الحكم بوصول البيان إلى المكلف
بالعنوان الأولى أو بايجاب الاحتياط والتوقف في الشبهات وهذا مما لا اشكال
فيه.
ثم إنه يظهر عن بعضهم انه لا يحتاج الأصولي إلى هذه الكبرى لان الملاك في
استحقاق عقوبة العبد في مخالفة مولاه هو عنوان الظلم، فان مخالفة ما قامت عليه
251

الحجة خروج عن رسم العبودية وهو ظلم من العبد إلى مولاه، يستوجب العقوبة، واما مع
عدم قيام الحجة فلا يكون ظالما فلا يستحق العقوبة وهو كاف في المقام، واما
كون العقاب بلا بيان قبيحا، فغير محتاج إليه فيما يرتأيه الأصولي وإن كان في نفسه
صحيحا.
أقول: إن العقل مستقل بوجوب إطاعة المنعم، وقبح مخالفته، واستحقاق
المتخلف للعقوبة، وهذا الحكم (استحقاقه للعقوبة) ليس بمناط انطباق عنوان
الظلم عليه، بل العقل يستقل بهذا، مع الغفلة عن الظلم، على أن كون مطلق
المخالفة ظلما للمولى محل بحث واشكال هذا أولا - (واما ثانيا)، فلان المرمى في
المقام هو تحصيل المؤمن عن العقاب حتى يتسنى له الارتكاب وهو لا يحصل الا بالتمسك
بهذه الكبرى التي مآلها إلى قبح صدور العقاب من المولى الحكيم العادل، واما
مجرد دفع الاستحقاق بمناط ان الارتكاب ليس بظلم فلا يكفي في ذلك، لان دفع
الاستحقاق عن ناحية الظلم وحصول الطمأنينة من تلك الناحية لا يصير مؤمنا عن عامة
الجهات ما لم ينضم إليه الكبرى المذكورة.
وربما يقال: إن مناط حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واقعي غير مناط حكمه
بقبح العقاب حتى من غير بيان واصل إلى المكلف فإنه لم يحصل في الأول تفويت لمراد
المولى ولم تتم مبادئ الإرادة الآمرية فلا مقتضى لاستحقاق العقاب بخلاف الثاني
فان ملاك عدم الاستحقاق فيه عدم استناد فوت المطلوب إلى العبد " انتهى " وفيه ان
ما ذكر من الفرق غير فارق وما ذكر من الفرق لا يتجاوز عن بيان خصوصية الموردين
واما اختلافهما في المناط فلا يستفاد منه، بل المناط فيهما واحد وهو قبح العقاب
بلا حجة، سواء لم يكن بيان من رأس أو كان ولم يصل إليه فالعقاب في كلا القسمين
عقاب بلا جهة ولا حجة وكلاهما من مصاديق الظلم والمناط في كلا القسمين واحد
كما لا يخفى.
جولة حول وجوب دفع الضرر المحتمل
ربما يتوهم ورود حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل على الحكم العقلي
252

المذكور من قبح العقاب بلا بيان بتوهم ان الأول بيان بلسانه فيصير العقاب مع البيان
وهذا فاسد سواء أريد من الضرر العقاب الأخروي أو أريد غيره، (اما الأول) فلان من
الواضح ان الكبرى بما هي هي لا ينتج شيئا في عامة الموارد، ما لم ينضم إليه الصغرى،
فالعلم بوجوب دفع الضرر كالعلم بقبح العقاب بلا بيان لا ينتجان الا إذا انضم
إلى كل واحد صغراه، فيقال في الأولى: ان العقاب في ارتكاب محتمل الحرمة،
أو ترك محتمل الوجوب، محتمل ويجب دفع الضرر المحتمل، فينتج وجوب
الاحتراز عن محتمل التكليف، ويقال في الثانية، ان العقاب على محتمل التكليف
بعد الفحص التام وعدم العثور عليه، عقاب بلا بيان، والعقاب بلا بيان قبيح أي
يمتنع صدوره عن المولى الحكيم العادل، فينتج ان العقاب على محتمل التكليف
ممتنع إذا عرفت ذلك فنقول: ان القياس الثاني مركب من صغرى وجدانية، و
كبرى برهانية فالنتيجة المتحصلة منهما قطعية بتية، واما الأول فالصغرى فيه ليس
أمرا وجدانيا فعلية، بل صحة صغراه يتوقف على أمور، اما تقصير العبد في الفحص
عن تكاليفه أو كون المولى غير حكيم أو غير عادل أو كون العقاب بلا بيان أمرا
غير قبيح، فلأجل واحد من هذه الأمور يصير العقاب محتملا، والمفروض عدم تحقق
واحد منها، فظهر ان الصغرى في الثاني وجدانية، قطعية فعلية، اما الصغرى في
الأول معلقة على تحقق واحد هذه الأمور والمفروض عدم تحققها، فهذا القياس تام
فعلى غير معلق على شئ وتمامية ذاك مبنية ومعلقة على بطلان القواعد المسلمة،
ولا شك عندئذ حكومة القياس المنظم من المقدمات الفعلية، على المتوقف على أمور
لم يحصل واحد منها بمعنى ان القياس الثاني دافع لصغرى القياس الأول ولعله إلى
ذلك ينظر كلمات القوم، والا فظاهر كلماتهم من ورود إحدى الكبريين على الأخرى
غير صحيح، فان النزاع ليس بين الكبريين، بل صحتهما ممالا اشكال فيه وصدقهما
لا يتوقف على وجود مصداق لصغراه إذ العقاب بلا بيان قبيح، كان بيان في العالم
أولا، كما أن دفع الضرر المحتمل واجب
253

كان الضرر محتملا أو لا، فاحتمال الضرر في بعض الموضوعات وتحقق البيان كذلك
غير مربوط بحكم الكبريين وموضوعهما فلا يكون إحدى الكبريين واردة أو حاكمة
على الأخرى قط بل أحد القياسين بعد تمامية مقدماته وجدانا أو برهانا يدفع صغرى
القياس الاخر بالبيان المتقدم.
واما الثاني أعني ما إذا أريد من الضرر، غير العقاب الأخروي الموعود
جزاء للأعمال، فان أريد منه اللوازم القهرية للأعمال التي يعبر عنه بتجسم
الأعمال وتجسد الافعال بتقريب انها ليست من العقوبات السياسية المجعولة،
حتى يرتفع بحكم الفعل بل صور غيبية لافعال الانسان، وقد استدل أصحاب هذا
الرأي بعدة آيات واخبار ظاهرة فيما قالوه (وعليه) فلابد من دفع هذا الاحتمال
" فنقول " ان ما هو المقرر عند أصحاب هذا القول، ان الأعمال التي تبقى آثارها
في النفس هي الآثار الحسنة النورانية أو السيئة الظلمانية واما مطلق الأعمال
مما هي متصرمة في عالم الطبع فلا يمكن تحققها في عالم آخر، ولا تكون تلك الأفعال
موجبة لخلاقية النفس صورا غيبية تناسب تلك الأفعال، وبالجملة: لوازم الأعمال
هي الصور المتجسدة بتبع فعالية النفس إذا خرجت عن الجسد في البرازخ أو بعد
الرجوع إليه في القيمة الكبرى فالافعال الطبيعية التي لم تورث في النفس صورة لا يمكن
حشرها وتصورها في سائر العوالم، ومناط هذه التصورات هو الإطاعة والعصيان لا
اتيان مطلق الافعال.
وان أريد به الضرر الدنيوي ففيه ان احتمال مطلق الضرر ولو كان دنيويا غير
واجبة الدفع ما لم يوجب احتمال العقاب (فان قلت) ان مع احتمال الضرر يحكم العقل
بقبح الارتكاب، وبالملازمة تثبت الحرمة (قلت): مضافا إلى أن ارتكاب
الضرر ليس قبيحا، بل هو بلا داع عقلائي سفه، ان لازم ذلك البيان، هو العلم بالتكليف
في صورة احتماله (فتأمل) (فان قلت) ان احتمال الضرر مستوجب لاحتمال القبح و
هو مستلزم لاحتمال العقاب وقد علم وجوب دفعه (قلت) مضافا إلى ما اوردنا على الأول
من أن ارتكاب الضرر بلا داع عقلائي سفه لا قبيح ومعه لا سفه ولا قبح يرد عليه ان الضرر بوجوده
254

الواقعي لا يؤثر في القبح بل على فرضه لابد من العلم به، فالعلم به موضوع للقبح
فمع احتمال الضرر لا يكون قبيحا جزما
أضف إلى ذلك ان الشبهة الموضوعية والوجوبية مشتركتان مع الشبهة
التحريمية في هذه التوالي المدعاة، فلو كانت للأفعال لوازم قهرية مؤذية لصاحبها
لكان على الشارع الرؤف الرحيم ايجاب الاحتياط حتى يصون صاحبها عن هذه اللوازم
القهرية، فالترخيص فيها اجماعا بل ضرورة دليل على بطلان تلك المزعمة، وانه
ليس ههنا ضرر أخروي أو دنيوي واجب الدفع كما لا يخفى وأظن أن هذا المقدار
من الأدلة كاف في اثبات البراءة الشرعية، ولنعطف عنان الكلام إلى مقالة
الأخباريين.
استدلال الاخباري على وجوب الاحتياط بوجوه
قد استدلوا: بوجوه: منها الآيات: وهى على وجوه: (منها) ما دل على حرمة
الالقاء في التهلكة كقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، و " فيه " ان
ملاحظة سياق الآيات يرشدنا إلى المرمى منه، فإنها نازلة في مورد الانفاق للفقراء
وسد عيلتهم وأداء حوائجهم باعطاء الزكاة والصدقات حتى يتحفظ بذلك نظم الاجتماع،
ويتوازن اعدال المجتمع ولا ينفصم عروة المعيشة لأرباب الأموال بالثورة على
ذوي الثروة، فان في منعهم عن حقهم القاء لنفوسهم إلى التهلكة، أو في مورد
الانفاق في سبيل الجهاد، لان في ترك الانفاق مظنة غلبة الخصم إلى غير ذلك من
محتملات و (اما مورد الشبهة) فليس ها هنا اية هلكة لا أخروية بمعنى العقاب
لقيام الأدلة على جواز الارتكاب، ولا دنيوية، إذ لا يكون في غالب مواردها
هلكة دنيوية
ومنها: ما دل على حرمة القول بغير علم: كقوله تعالى: وتقولون بأفواهكم
ما ليس لكم به علم وتحسبون هينا وهو عند الله أعظم (النور - الآية 15) وقوله
تعالى أتقولون على الله مالا تعلمون (الأعراف - الآية 27) وجه الدلالة ان الحكم
255

بجواز الارتكاب تقول بلا علم وافتراء عليه تعالى قال الشيخ الأعظم ولا يرد على أهل
الاحتياط لانهم لا يحكمون بالحرمة بل يتركون لاحتمالها وهذا بخلاف الارتكاب
فإنه لا يكون الا بعد العلم بالرخصة والعمل على الإباحة، والظاهر منه ارتضائه بهذا
الفرق ولهذا أجاب عن الاشكال بان فعل الشئ المشتبه حكمه، اتكالا على قبح
العقاب بلا بيان ليس من ذلك.
وأنت خبير: بان النزاع بين الاخباري والأصولي في وجوب الاحتياط وعدمه لا في
الترك وعدمه فالاخباري يدعى وجوب الاحتياط ويحكم به، والأصولي ينكر وجوبه، ويقول
بالبرائة والإباحة فكل واحد يدعى أمرا ويقيم عليه أدلة، والجواب عن أصل الاستدلال، انه
سيوافيك في مباحث الاستصحاب ان المراد من العلم واليقين في الكتاب والسنة الا ما شذ، هو
الحجة، لا العلم الوجداني، والمنظور من الآيات هو حرمة الفتوى بلا حجة، والتقول
بلا دليل، من الكتاب والسنة والعقل، (وعليه) فليس الأصولي في قوله بالبرائة
متقولا بغير الدليل، لما سمعت من الأدلة المحكمة الواضحة
ومن الآيات: ما دل على وجوب الاتقاء حسب الاستطاعة والتورع بمقدار القدرة
مثل قوله سبحانه: فاتقوا الله ما استطعتم وقوله: عز اسمه وجاهدوا في الله حق جهاده
(الآية) وقوله عز شانه: فاتقوا الله حق تقاته
وأجاب عنه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه: بان الاتقاء يشمل المندوبات وترك
المكروهات، ولا اشكال في عدم وجوبهما فيدور الامر بين تقييد المادة بغيرهما وبين
التصرف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان حتى لا ينافي فعل المندوب و
ترك المكروه، ولا اشكال في عدم أولوية الأول ان لم نقل بأولوية الثاني من جهة
كثرة استعمالها في غير الوجوب حتى قيل إنه من المجازات الراجحة المساوى
احتمالها مع الحقيقة " انتهى " وفيه اما أولا: فان شمول الاتقاء لفعل المندوب و
ترك المكروه مورد منع، فان التقوى عبارة عن الاحتراز عما يوجب الضرر، أو يحتمل
في فعله أو تركه الضرر، وليس المندوب والمكروه بهذه المثابة، واما شموله لمشتبه
256

الحرمة أو الوجوب، فلاحتمال الضرر في فعله أو تركه ويشهد على المعنى المختار
الاستعمالات الرائجة في الكتاب والسنة، واما ثانيا، فلو سلم كون استعمال الهيئة
في غير الوجوب كثيرا الا ان تقييد المادة أكثر، بل قلما تجد اطلاقا باقيا على اطلاقه
وهذا بخلاف هيئة الامر فهي مستعملة في الوجوب واللزوم في الكتاب والسنة إلى
ما شاء الله (أضف) إلى ذلك ان ترجيح التصرف في الهيئة على التصرف في المادة يوجب
تأسيس فقه جديد، ولا أظن أنه (قدس سره) كان عاملا بهذه الطريقة في
الفروع الفقهية، وان تكرر منه القول بترجيح التصرف في الهيئة على المادة
في مجلس درسه.
نعم يتعين في المقام التصرف في الهيئة دون المادة لا لكون ذلك قاعدة كلية
بل لخصوصية في المقام، لان الآية شاملة للشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية
ولو حملنا الآية على الوجوب بلا تصرف في مفاد الهيئة، يستلزم تقييد الآية، واخراج
بعض الأقسام. مع أن لسانها آبية عن التقييد. بل التقييد يعد أمرا بشيعا، وكيف
يقبل الطبع ان يقال اتقوا الله حق تقاته الا في مورد كذا وكذا. فلا مناص عن التصرف
في مفاد الهيئة بحمل الطلب على مطلق الرجحان. حتى يتم اطلاقه. ولا يرد عليها
تقييد أو تخصيص. وليس الأصولي منكرا لرجحان الاحتياط ابدا (أضف) إلى ذلك ان
الآيات شاملة للمحرمات والواجبات المعلومة ولا اشكال في امتناع تعلق الامر التعبدي
بوجوب اطاعتهما فيجب حمل الأوامر فيها على الارشاد فتصير تابعة للمرشد إليه. فلو
حكم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته يتعين العمل على طبق المرشد إليه: وان لم
يثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه. لابد من العمل أيضا على طبقه.
احتجاج الاخباري بالسنة
وهى على طوائف: الأولى ما دل على حرمة القول أو الافتاء بغير علم وقد
أوضحنا المراد من تلك الطائفة عند البحث عن الآيات الدالة على حرمة القول بغير
علم فراجع
257

الثانية ما دلت على الرد على الله ورسوله والأئمة من بعده واليك نماذج من تلك
الطائفة منها رواية حمزة الطيار: انه عرض على أبى عبد الله " ع " بعض خطب أبيه
حتى إذا بلغ موضعها منها قال له كف واسكت ثم قال أبو عبد الله انه لا يسعكم فيما
ينزل بكم مما لا تعلمون الا الكف عنه والتثبت والرد على أئمة الهدى حتى
يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق قال الله تعالى
فاسألوا أهل الذكر ان كنم لا تعلمون. و (فيه) ان الظاهر من الامر بالكف اشتمال
الخطبة على المطالب الاعتقادية " فاذن " النهى راجع إلى التقول فيها بلا رجوع إلى
أهل الذكر ولو سلم كونها أعم من الاعتقادية، فالنهي حقيقة راجع إلى الافتاء
فيها بلا رجوع إلى أهل الذكر، فلا ترتبط بالمقام، فان الأصولي انما افتى بالبرائة
بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
منها: رواية جميل بن صالح عن الصادق ع قال قال رسول الله في كلام طويل
إلى أن قال: وامر اختلف فيه فرده إلى الله.
ومنها: رواية الميثمي عن الرضا (ع) في اختلاف الأحاديث: قال: وما لم تجدوه في شئ
من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكف و
التثبت الوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا.
و (منها) رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه: ان علي بن الحسين عليه السلام قال
لابان بن عياش يا أخا عبد قيس ان صح لك أمر فاقبله، والا فاسكت تسلم ورد علمه
إلى الله فإنه أوسع مما بين السماء والأرض.
و (منها): رواية جابر: عن أبي جعفر عليه السلام في وصية له لأصحابه قال: إذا اشتبه
الامر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا
(ومنها): رواية عبد الله بن جندب عن الرضا: في حديث: ان هؤلاء القوم سنح
لهم شيطان اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم (إلى أن قال) والواجب لهم من
ذلك الوقوف عند التحير ورد ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه.
والجواب عن الكل: بان شيئا منها غير مربوط بالمقام بل اما مربوط بالتقول
258

بلا رجوع إلى أئمة الدين، أو مربوط بالفتوى بالآراء والأهواء من غير الرجوع إليهم
والأصولي لا يفتى في اية واقعة من دون الرجوع إلى أئمة الحق و (بالجملة) أدلة
الحل مستندة للأصولي في الفتوى بالحكم الظاهري: وأدلة البراءة المؤيدة بحكم
العقل بقبح العقاب بلا بيان مستند له في الفتوى بعدم وجوب الاحتياط فتلك الأدلة
واردة على تلك الروايات.
الثالثة: ما دل على التوقف بلا تعليل (منها): مرسلة موسى بن بكر قال:
أبو جعفر لزيد بن علي: ان الله أحل حلالا وحرم حراما (إلى أن قال) فان كنت على
بينة من ربك ويقين من امرك وتبيان من شأنك فشأنك والا فلا ترو من أمرا و (منها)
رواية زرارة عن أبي عبد الله: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا
(وفيه) ان الرواية ناظرة إلى الانكار بلا دليل، وستر الحق بلا جهة، وأين هي من الدلالة
على رد البراءة المستفادة من الكتاب والسنة، وهذه الرواية مربوطة بالأصول و
شبهات أهل الضلال.
و (منها): كتاب أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف: فانظر إلى ما تقضمه من
هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه (وفيه
انها راجعة إلى الشبهة الموضوعية كما هو غير خفى على من لاحظ الكتاب و (منها)
كتابه إلى مالك الأشتر: اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا
تضيق به الأمور (إلى أن قال) أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة
الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور (وفيه) انه راجع إلى أدب القاضي
في المرافعات التي لا تخرج عن حدود الشبهة الموضوعية، فكيف يستدل على
المقام - مع أنه سوف يوافيك عن الجميع جوابا آخر فانتظر و (منها) خطبة منه
عليه السلام فيا عجبا ومالي لا أعجب من خطأ الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتفون
اثر نبي ولا يقتدون بعمل وصى (إلى أن قال) ويعملون في الشبهات (وفيه) انها راجعة
إلى المارقين أو القاسطين من الطغاة الخارجين عن بيعته، المحاربين لامام عصره و
(منها): وصيته عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: يا بنى دع القول فيما لا تعرف و (منها) وصية
259

آخر له لا تخرج عن حدود الأولى.
وملخص الجواب عن هذه الطائفة مع ما عرفت المناقشة في أكثرها انها مما
تلوح منها الاستحباب فان كلمات الأئمة لا سيما أمير المؤمنين مشحونة بالترغيب
إلى الاجتناب عن الشبهات، وبهذه الطائفة ينسلك في الروايات التي يستشم منها
الوجوب مثل ما رواه الشهيد في الذكرى قال: قال النبي صلى الله عليه وآله دع ما يريبك إلى
مالا يريبك، مع احتمال أن يكون المراد منه رد ما يريبك (أي المشتبه) إلى غيره حتى
يتضح معناه: وفى وزان ما تقدم من تلك الطائفة قوله عليه السلام أورع الناس من وقف عند
الشبهة وقوله عليه السلام لا ورع كالوقوف عند الشبهة، فان الروايتين وما قارنهما من
الروايات في المعنى أقوى شاهد على الحمل على الاستحباب.
الرابعة: اخبار التثليث (منها) رواية النعمان بن بشير: قال سمعت رسول الله
يقول: إن لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو أن راعيا
رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات و (منها) رواية
سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال جدي رسول الله: أيها الناس حلالي
حلال إلى يوم القيمة، وحرامي حرام إلى يوم القيمة (إلى أن قال) وبينهما شبهات
من الشيطان وبدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه، وصلحت له مروته وعرضه
ومن تلبس بها وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ومن رعى ماشيته
قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى أقول هذه الروايات صريحة في الاستحباب
ضرورة ان الرعى حول الحمى لم يكن ممنوعا، غير أن الرعى حوله، ربما تستوجب
الرعى في نفس الحمى فهكذا الشبهات، فإنها ليست محرمة غير أن التعود بها كالقعود
بالمكروهات ربما يوجب تجرى النفس وجسارته لارتكاب المحرمات بل في هذه الروايات
شهادة على التصرف في غيرها لو سلمت دلالتها،
الخامسة ما دل على التوقف معللا بان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام
في الهلكات كما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال الوقوف في الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة، وفى رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام الوقوف
260

عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ان على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نور
فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه، ولا يقصر عنها مقبولة عمر بن
حنظلة التي سيوافيك بطولها في التعادل والترجيح وفيها: بعد ذكر المرجحات:
إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى. امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في
الهلكات، واليك الجواب
ان في تلك الروايات آثار الارشاد ولو كان فيها ما يتوهم فيه الدلالة على الوجوب يجب
التصرف فيه بالشواهد التي في غيرها بل الظاهر عدم استعمال هذا التعليل في شئ
من الموارد في الوجوب وان ذهب الشيخ وتبعه غيره في استعماله في رواية جميل
والمقبولة في الوجوب لكنه غير تام فان الكبرى المذكورة في رواية جميل بن دراج
(أعني قوله: الوقوف عنه الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) لا تنطبق على ما
ذكره بعده: أعني قوله: وما خالف كتاب الله فدعوه، لان مخالف الكتاب ليس مما
يجب فيه الوقف، أو يستحب فيه التوقف، بل يحب طرحه، وسلب اسناده إلي الأئمة
(و ح) فلابد ان تحمل الكبرى المذكورة على غير هذا المورد، بل تحمل على الاخبار
التي ليس مضامينها في القرآن لا على نحو العموم ولا الخصوص، ولو لم تحمل على هذا،
فلابد ان يحمل اما على الموافق للقرآن أو مخالفه صريحا، وكلاهما خارجان عنها
اما الموافق فيجب الاخذ به، واما المخالف فيجب طرحه لا التوقف فيه، فانحصر حمله
على الروايات التي لا تخالف القرآن ولا توافقه، و (على هذا) فلو حملنا الامر بالوقوف
على الاستحباب في مورد الشبهة ثبت المطلوب، وان حملناه على الوجوب فلا تجد
له قائلا، فان الاخباري والأصولي سيان في العمل بالاخبار التي لا تخالف القرآن ولا
وافقه، ولم يقل أحد بوجوب الوقوف أصلا، وإن كان التوقف والعمل على طبق
الاحتياط اولي وأحسن.
جولة حول المقبولة
سيوافيك الكلام في مفادها عند نقل الروايات الواردة في مرجحات الاخبار
261

عند التعارض وما نذكره هنا قليل من كثير، فنقول بعدما فرض الراوي تساوى
الحكمين في العدالة، وكونهما مرضيين عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الاخر
قال (ع): ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك
فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع
عليه لا ريب فيه، وانما الأمور ثلثة، أمر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، و
أمر مشكل يرد حكمه إلى الله... الخ، وحاصل الجواب هو ارجاع الراوي عند
تساوى الحكمين إلى النظر في مدرك الحكمين فما كان مجمعا عليه بين الأصحاب
يؤخذ به، لكونه لا ريب فيه وما كان شاذا متروكا، لا يعمل به ويترك، و (عليه)
فليس المراد من الشهرة في المقام هو الشهرة الروائية المجردة بين أصحاب الجوامع
والحديث وان لم يكن موردا للفتوى بينهم، إذ أي ريب ووهن أولى وأقوى من نقل
الحديث وعدم الافتاء، بمضمونه، فان هذا يوجب وهنا في الرواية بمالا يسد بشئ،
بل المراد هو الشهرة الفتوائية، بان يكون الرواية موردا للفتوى وقد اعتمد
عليه أكابر القوم من المحدثين والفقهاء، مذعنين بمضمونه، وهذا هو الذي يجعل
الرواية مما لا ريب فيه (لان أهل البيت أدرى بما في البيت) كما تجعل تلك الشهرة
ما يقابلها من الرواية الشاذة ممالا ريب في بطلانها، وبذلك تقف على أن الرواية المشهورة
بالمعنى المختار داخلة في الأمور التي هي بين الرشد، كما أن الشاذة مما هي بين الغى لكون
المشهور مما لا ريب فيه، كما أن الشاذ مما لا ريب في بطلانه، فيدخل كل فيما يناسبه، و
احتمال ان الشاذ مما فيه ريب، لا مما لا ريب في بطلانه، فلا يدخل تحت بين الغى
بل يكون مثالا للامر المشكل الذي يرد حكمه إلى الله مدفوع بان لازم كون
إحدى الروايتين المتضادتين مما لا ريب في صحتها، كون الأخرى مما لا ريب في بطلانها
ضرورة عدم امكان كون خبرين مخالفين " أحدهما " لا ريب فيه والاخر مما فيه ريب
ويعد مشتبها، فان وجوب صلاة الجمعة إذا كان مما لا ريب فيه، فلا يمكن أن يكون
عدم وجوبها مما فيه ريب بل لا ريب في بطلانه وفساده، لان الحق واحد
ليس غير، و (على ذلك) فلم يذكر الإمام عليه السلام، مثالا للامر المشكل الذي
262

ذكره عند تثليث الأمور لكن يعلم من التدبر فيما سبق من المثالين فان غير المجمع عليه
وغير الشاذ، من الأمور هو المشكل الذي يرد حكمه إلى الله ورسوله، وهذا هو الذي
عبر عنه الإمام (ع) في رواية جميل بن صالح بأمر اختلف فيه، حيث نقل الراوي عن
الصادق (ع) عن آبائه (ع) أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الأمور ثلثة أمر بين لك
رشده فاتبعه، وامر بين لك غيه، فأجتنبه، وامر اختلف فيه فرده إلى الله
عز وجل.
لا يقال: لو كان المراد من الشهرة، هي الفتوائية أعني الفتوى على
طبقها، فما معنى قول الراوي بعد الفقرات الماضية: قال قلت: فإن كان الخبر ان عنكم
مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال: ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة
... الخ، إذ لا معنى لكون كل واحد من الخبرين مشهورا مجمعا عليه بحسب الفتوى
فان كون أحدهما مجمعا عليه يستلزم اتصاف الاخر بالشذوذ والندرة، وهذا بخلاف
ما إذا حملناها على الشهرة الروائية، فيمكن أن يكون كل واحد مشهور حسب النقل بل
نقلهما الثقات وأصحاب الجوامع وان لم يكن الفتوى الا على طبق واحد منهما (لأنا
نقول)، ان المراد من المجمع عليه هو مقابل الشاذ النادر مما يطلق عليه " المجمع
عليه " عرفا، وبذلك يتضح معنى قوله فإن كان الخبران عنكم مشهورين... الخ،
لامكان اشتهار فتوائين بين الأصحاب، لكن لا بمعنى كون أحدهما شاذا نادرا، بل
بعد عرفان حكم المشهور والشاذ، ان إحدى الروايتين ليست نادرة بحسب الفتوى
بل مساوية مع صاحبها في أن كليهما مورد فتوى لجمع كثير منهم، وان الحكمين
معروفان بينهم، هذا فقه الحديث.
واما عدم دلالته على مدعى الأخباريين، فلما علم أن المراد من الامر المشكل
الذي أمر فيه بالرد إلى الله ورسوله، هو القسم الثالث الذي ليس بمجمع عليه ولا شاذ
بل مما اختلف فيه الرأي، ولا أظن أن الاخباري مما يلتزم فيه بوجوب التوقف والرد
إلى الله تعالى، فان الاخباري لا يجتنب عن الرأي والافتاء في المسائل التي اختلفت
فيها كلمة الأصحاب، بل نراه ذات رأى ونظر في هذه المسائل من دون ان يتوقف
263

ويرد حكمها إلى الله ورسوله، وإن كان الأرجح عقلا هو التوقف والاحتياط فيما
ليس بين الرشد المجمع عليه، ولا بين الغى الشاذ النادر، وارجاع الامر فيه
إلى الله.
وبما ذكرنا يظهر حال التثليث الواقع في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حيث استشهد
الامام به حيث قال، حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك فمن اجتنب الشبهات
نجى عن المحرمات الخ، فان الحلال البين والحرام البين، ما اجتمعت الأمة على
حليته وحرمته والمشتبه ليس كذلك، فهي مما يترجح فيه الاحتياط بالاجتناب
ويشهد على أن الاحتياط مما هو راجح في المقام تعليله عليه السلام بان الاخذ بالشبهات،
اخذ بالمحرمات بمعنى ان النفس مهما تعودت على ارتكاب المشتبه، فلا محالة تحصل
فيه جرأة الارتكاب بالمحرمات، فارتكاب الشبهات، مظنة الوقوع في المحرمات
والهلاك من حيث لا يعلم سره، وما أحسن وأبلغ قوله عليه السلام في بعض الروايات
حيث شبه مرتكب الشبهات، بالراعي حول الحمى لا يطمئن عن هجوم القطيعة
على نفس الحمى، والا فالرعاية حول الحمى من دون تجاوز إليه ليس أمرا محرما
بلا اشكال، (وبذلك) يظهر ان مفاد قوله عليه السلام في آخر المقبولة: فارجه حتى تلقى
امامك، هو الرجحان والاستحباب لصيرورة الصدر قرينة على الذيل كما هو واضح،
ولو سلم ظهوره في الوجوب يقع التعارض بينه وبين ما دل على التخيير في الخبرين
المتعارضين كرواية ابن جهم والحارث بن مغيرة، والجمع العرفي يقتضى حمل الامر
على الاستحباب تحكيما للنص على الظاهر، مع ما مر من القرائن المتقدمة وغيرها
مما سيوافيك بيانه في التعادل والترجيح.
ولو أغمضنا النظر عن كل ما ذكر فالامر دائر بين حمل الامر على الاستحباب
أو تخصيص قوله: الوقوف عند الشبهات بالشبهة الموضوعية ولا اشكال ان الأول هو
المتعين، لإباء الكبرى المذكورة عن التخصيص، كما تقدم بيانه، واما ما افاده شيخنا
العلامة من ترجيح حمل الامر على الاستحباب، معللا بان التصرف في الهيئة أهون من
التصرف في المادة، فقد مر عدم وجاهته، فتبين مما ذكرنا عدم دلالة هذه الطائفة
264

من الاخبار على مقالة الأخباريين.
السادسة: ما دلت على الاحتياط، واليك نبذ من تلك الطائفة (منها) صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج قال: سئلت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان
الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال بل عليهما ان يجزى كل واحد
جزاء الصيد، فقلت: ان بعض أصحابنا سئلني من ذلك فلم ادر ما عليه قال إذا أصبتم
بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتى تسئلوا عنه وتعلموا.
(قلت): الاحتمالات في الرواية كثيرة لان قوله: إذا أصبتم بمثل هذا، اما
إشارة إلى حكم الواقعة أو إلى نفس الواقعة، وعلى كلا الفرضين، فاما ان يراد من
المثل، مطلق المماثلة، أو المماثل في كون الشبهة وجوبية مطلقا أو كونها وجوبية
دائرة بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ان قلنا بلزوم القيمة في جزاء الصيد، أو
الارتباطيين. بناء على وجوب البدنة، فمع هذه الاحتمالات يستدل بها على لزوم
الاحتياط في خصوص الشبهة التحريمية مع كونها بمراحل عن مورد الرواية.
ثم إنه لو قلنا بكون المشار إليه هو حكم الواقعة، اما ان يراد من قوله:
فعليكم الاحتياط، الاحتياط في الفتوى، أو الفتوى بالاحتياط، أو الفتوى بالطرف
الذي هو موافق للاحتياط، و (مع ذلك) فبما انه (ع) ذيل قوله: فعليكم بالاحتياط،
بقوله عليه السلام فلم تدروا، وقوله عليه السلام حتى تسئلوا عنه فتعلموا، فالمتبادر من الامر
بالاحتياط، هو الاحتياط في الفتوى وعدم التقول على الله تعالى، ولأجل ذلك يترجح
حمل الرواية على الفتوى قبل الفحص، مع امكان التفحص عن مورده، كما هو مفروضها
ودلالتها على مقالة الاخباري يتوقف على حملها على مطلق الشبهات تحريمية أو
وجوبية، ثم اخراج الوجوبية منها لقيام الاجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها،
مع أنه من قبيل اخراج المورد المستهجن كمالا يخفى.
و (منها) رواية عبد الله بن وضاح قال: كتبت إلى العبد الصالح يتوارى عنا القرص و
يقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا، ويستر عنا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة، و
يؤذن عندنا المؤذنون، فاصلي (ح) وأفطر ان كنت صائما أو انتظر حتى تذهب الحمرة
265

التي فوق الجبل، فكتب أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائط
لدينك ووصفها الشيخ الأعظم بالموثقة، مع اشتمال سنده على سليمان بن داود،
المردد بين الخفاف والمروزي المجهولين، والمنقري الذي وثقه النجاشي، و
المظنون انه المنقري، وعلى أي حال، فالظاهر أن السؤال عن الحمرة المشرقية
إذ هي التي ترتفع فوق الجبل، واما المغربية، فلا ترتفع، بل تنخفض إلى أن ينتهى
إلى فوق الجبل و (على ذلك) فالرواية واردة مورد التقية، فان المشهور هو لزوم
زوال الحمرة المشرقية فتوى ودليلا، وعليه فالامر بالانتظار والاخذ بالحائط للدين
لأجل إفادة الحكم الواقعي بهذه العبارة، وعلى ذلك فلا يدل على لزوم الاحتياط مطلقا
وفى عامة الشبهات، كما لا يخفى
وبقى في المقام روايات كثيرة تلوح منها الاستحباب، كقوله عليه السلام أخوك
دينك فاحتط لدينك، وقس عليه كلما مررت عليه، فان مفادها الاستحباب
بلا اشكال.
تمسك الاخباري بالدليل العقلي
استدل الاخباري على لزوم الاحتياط بالعلم الاجمالي قائلا بانا نعلم بوجود
محرمات كثيرة في الشريعة الغراء: فيجب علينا الخروج عن تبعاتها ولا يحصل الا
بترك كل ما علم أو شك حرمته حتى يحصل العلم القطعي بالامتثال أو يرد من الشارع
الترخيص ومعه يحصل الامن بالعقاب، وخلاصة هذا البرهان ادعاء قطعين " الأول "
القطع بوجود محرمات كثيرة في الشريعة " الثاني " القطع بعدم رضاء الشارع
بارتكابها كائنة ما كانت، ومن المعلوم (ح) لزوم الاجتناب إلى أن يحصل اليقين بالبرائة
وهذا اليقين لا يحصل الا بترك معلوم الحرمة ومشكوكها
قلت: وبما ان الأجوبة المذكورة في المقام يدور حول القول بانحلال العلم
الاجمالي بالمراجعة إلى الأدلة، فلا بأس من التعرض لميزان الانحلال وأقسامه، حتى
يكون كالضابط لعامة الأجوبة فنقول: ان ما به ينحل العلم الاجمالي تارة يكون
266

قطعا، واخرى يكون غيره من الامارات والأصول الشرعية كالاستصحاب أو العقلية كالاشتغال
وعلى التقادير تارة يكون العلم الاجمالي مقارنا لقيام الطريق واخرى مؤخرا و
ثالثة مقارنا وعلى التقادير تارة يكون المؤدى بالعلم الاجمالي مقدما على المؤدى
بالطريق التفصيلي واخرى مؤخرا وثالثة مقارنا وعلى التقادير ان ما به ينحل اما أن يكون
أمرا تفصيليا سواء كان علما أو حجة، واما يكون أمرا اجماليا كما لو علم
اجمالا بتكاليف بين جميع الشبهات، وعلم بوجود تكاليف أيضا بين الطرق والامارات
مع امكان انطباقهما.
ثم إنه لو علم أن ما هو المعلوم تفصيلا عين ما هو المعلوم بالاجمال، ووقف على
على انطباق المعلومين انطباقا قطعيا، فلا اشكال في الانحلال، ومثله ما إذا قطع
بان ما في دائرة العلم الاجمالي الكبير، عين ما هو في دائرة الصغير، إذ مع هذا
ينحل العلم في الكبير ويبقى في الصغير فقط واما إذا احتمل الانطباق فهل ينحل العلم
الاجمالي (ح) حقيقة أو حكما، أو لا ينحل مطلقا،
فيظهر من بعضهم انه ينحل حقيقة وأفاد في وجهه: بان العلم الاجمالي قد
تعلق بأمر غير معنون ولا متعين، والتفصيلي تعلق بالمعين، وانطباق اللا معين على
المعين قهري لأن عدم الانطباق اما لأجل زيادة الواقعيات المعلومة بالاجمال عن
المعلوم بالتفصيل، أو من جهة تعين الواقعيات المعلومة بالاجمال بنحو تأبى عن
الانطباق، أو تنجز غير الواقعيات بالامارات والكل خلف " انتهى " (قلت): ان وجه
عدم الانحلال لأجل احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على غير المعلوم بالتفصيل و
ما ادعى (قدس سره) من أن انطباق المعلوم بالاجمال علي المعلوم بالتفصيل غير
مسموغ فان المعلوم بالاجمال لما كان أمرا غير متعين، فيحتمل أن يكون عين ما
تعين بالعلم التفصيلي، ويمكن أن يكون غيره، ومع هذا فكيف يمكن ان يقال
بالانطباق القهري، (والحاصل) ان لازم الانطباق القهري العلم بان المعلوم
بالاجمال هو عين ما علم بالتفصيل، ولكنه مفقود لقيام الاحتمال بالمغايرة بعد
والتحقيق ان يقال: إن ميزان الانحلال لو كان قائما باتحاد المعلومين مقدارا
مع العلم بان المعلوم بالتفصيل هو عين ما علم بالاجمال، لكان لعدم الانحلال وجها
267

الا ان الميزان هو عدم بقاء العلم الاجمالي في لوح النفس، وانقلاب القضية المنفصلة
الحقيقية أو المانعة الخلو إلى قضية بتية، ومشكوكة فيها، أو إلى قضايا بتية، وقضايا
مشكوكة فيها فلو علم بوجود واجب بين أمرين بحيث لا يحتمل الزيادة حتى يكون
القضية منفصلة حقيقية أو مع احتمال الزيادة حتى يكون مانعة الخلو، فمع العلم
التفصيلي بوجوب بعض الأطراف أو واحد من الطرفين، ينقلب القضية إلى قضية
بتية، أي إلى وجوب واحد معينا، والى مشكوكة فيها، فلا يصح ان يقال: اما هذا
واجب أو ذاك، بل لابد ان يقال: هذا واجب بلا كلام، والاخر مشكوك الوجوب،
وهذا ما ذكرنا من ارتفاع الاجمال الموجود في لوح النفس، وان شئت قلت: لا يصح
عقد قضية منفصلة على نحو الحقيقية ولا على نحو المانعة الخلو ولو قيل إن القضية
المنفصلة لا تنافى مع كون أحد الطرفين جزمي الحكم فلا مشاحة في الاصطلاح، ولكن
لا يحكى عن تردد في النفس، واجمال في الذهن، بل ينحل المعلوم بالاجمال إلى علم تفصيلي
وشك بدئي لا يعد طرفا للعلم، واحتمال كون المعلوم بالاجمال عين المشكوك فيه
الذي خرج عن الطرفية غير مضر، لان المعلوم بنعت المعلومية الفعلية غير
محتمل الانطباق، وانما المحتمل انطباق ما كان معلوما سابقا مع زوال وصف
العلم بالفعل على الطرف الآخر، لان المعلومية الاجمالية الفعلية ملازم للعلم الاجمالي.
ومع زوال العلم لا معنى لوجود المعلوم بالفعل فتدبر.
ثم إن بعض محققي العصر (قدس سره) قد حكم ببقاء العلم الاجمالي وعدم انحلاله
حقيقتا وحاصل ما أفاد: ان احتمال المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل، وعلى
الطرف الآخر، كاشف قطعي عن بقاء العلم الاجمالي لكونه من لوازمه، ودعوى انه
يستلزم محذور تعلق العلمين بشئ واحد بتوسيط العنوانين الاجمالي والتفصيلي، و
هو من قبيل اجتماع المثلين، مدفوعة بأنه لا يزيد عن التضاد الموجود بين الشك و
العلم مع أنه يمكن ان يتعلق العلم والشك بشئ واحد بعنوانين كما في أطراف العلم
الاجمالي، و (عليه) فلا مجال للاشكال في تعلق العلمين بشئ بتوسيط عنوانين
268

الاجمالي والتفصيلي " انتهى "،
و (فيه) ان ما ذكره خلط بين احتمال انطباق المعلوم بالاجمال فعلا واحتمال انطباق
المعلوم بالاجمال سابقا وقد زال عنه العلم فعلا، والمفيد لما ادعاه هو الأول مع أنه غير واقع
ضرورة ارتفاع العلم الاجمالي عن مركزه، فان العلم يكون هذا واجبا، أو خمرا لا يجتمع مع
التردد في كونه واجبا أوعد له، أو كونه خمرا أو الاخر، فان الاجمال متقوم بالتردد وهو
ينافي العلم التفصيلي ولا يجتمع معه، واما ما ذب به عن الدعوى في قياس اجتماع العلم
الاجمالي والتفصيلي، باجتماع الشك والعلم الاجمالي: ففي غاية الضعف، إذ لا مانع
من اجتماع العلم الاجمالي والشك بل هو متقوم به ابدا، إذ لا منافاة بين تعلق العلم بكون
أحدهما خمرا، والشك انما هو في كون الاخر معينا خمرا، وهذا بخلاف المقام، فان تعلق
العلم الاجمالي والتفصيلي بشئ واحد بتوسيط عنوانين، معناه كون هذا معينا خمرا
والشك في كونه خمرا، وهما لا يجتمعان أصلا، وان شئت قلت: فرض تعلق العلم
الاجمالي بكون أحدهما خمرا فرض الترديد في كل واحد بعينه، وفرض العلم التفصيلي
بكون واحد منهما بعينه خمرا فرض اللا ترديد، وهذا اجتماع النقيضين
فتحصل ان الانحلال إلى علم تفصيلي وشك بدئي في الموارد المزبورة هو الحق
القراح غير أنه يمكن ان يقال إن اطلاق الانحلال في هذه الموارد لا يخلو عن مسامحة
لان الانحلال فرع مقارنة العلم التفصيلي والاجمالي، وهما غير مجتمعان، وكيف
كان فالحق ما مر
وربما يقال بالانحلال الحكمي بمعنى بقاء العلم الاجمالي مع وجود العلم
التفصيلي أو قيام الامارة أو الأصل على بعض الأطراف بمقدار المعلوم بالاجمال مما
يحتمل انطباق مؤداه على المعلوم بالاجمال، وقد أفيد في تقريره وجوه
منها ما أشار إليه بعض محققي العصر حيث أفاد انه مع قيام المنجز في أحد
طرفي العلم الاجمالي علما كان أو امارة أو أصلا، يخرج العلم الاجمالي عن تمام
المؤثرية في هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمل تكليف واحد للتنجيزين،
269

وبالجملة: معنى منجزية العلم الاجمالي كونه مؤثرا مستقلا في المعلوم على
الاطلاق، وهذا المعنى غير معقول بعد خروج الأطراف عن قابلية التأثر فلا يبقى في
البين الا تأثره على تقدير خاص وهو أيضا مشكوك من الأول، والحاصل ان الجامع
المطلق القابل للانطباق على كل واحد غير قابل التأثر من قبل العلم الاجمالي
والجامع المقيد بانطباقه على الطرف الآخر لا يكون معلوما من الأول " وفيه "
انه يظهر النظر فيه مما يأتي في الجواب عن المحقق الخراساني من الخلط بين العلم
الوجداني وغيره.
(منها) ما افاده المحقق الخراساني (قدس سره) من انحلال العلم الاجمالي
بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبته لتكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال أو أزيد وان
حجية الامارات شرعا وإن كانت بتنجيز ما اصابه والعذر عما أخطأ عنه كما في الطرق
العقلية الا ان نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف
يكون عقلا بحكم الانحلال، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر إذا
كان في سائر الأطراف " انتهى " وفيه: انه خلط بين العلم الوجداني الاجمالي بوجود
تكاليف في البين بحيث لا يرضى المولى بتركه أصلا، والعلم بالخطاب أو العلم
بقيام الامارة اجمالا، فلو كان من قبيل الأول أعني العلم بالتكليف الفعلي، فلا يعقل
عدم تنجزه في أي طرف كان، ولا يعقل صرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف
والعذر إذا كان في سائر الأطراف، كمالا يعقل الترخيص، فان ترخيص بعض الأطراف
المحتمل كونه هو المعلوم بالاجمال أو غيره، لا يجتمع مع بقاء العلم بفعليته، بل لو
قامت الامارة على كون المؤدى هو المعلوم بالاجمال يجب عقلا رفع اليد عن الامارة
والعمل بما هو مقتضى العلم الوجداني الفعلي، وان شئت قلت: ان الترخيص بل
احتماله مع العلم الوجداني الفعلي بالتكليف من الأمور المتنافية لا يجتمعان أصلا لان
احتمال الترخيص مع احتمال كون التكليف في طرفه مع القطع بالتكليف الفعلي
مطلقا متناقضان، (نعم) يصح ما ذكره وكل ما ذكره الشيخ الأعظم (قدس سره) في
العلم بالخطاب، أو العلم بقيام الامارة اجمالا، كما تقدم اجمالا وسيجيئ توضيحه
270

في مباحث الاشتغال
(ومنها): ما افاده بعض الأعيان المحققين في تعليقته: من أن العلم الاجمالي
يتعلق بوجوب مالا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردد، فلا ينجز الا بمقداره و
تنجز الخصوصية المرددة به محال، ففي كل طرف يحتمل الحكم المنجز لا انه
منجز، وذاك الاحتمال هو الحامل علي فعل كل من المحتملين لاحتمال العقاب، واما
الحجة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجزة للخاص بما هو خاص، وليس
لها في تنجز الخاص مزاحم فلا محالة تستقل الحجة في تنجيز الخاص، وتنجيز الخاص
الذي لا مزاحم له يمنع عن تنجيز الوجوب الواحد المتعلق بمالا يخرج عن الطرفين
إذ ليس للواحد الا تنجيز واحد، وإذا دار الامر بين منجزين أحدهما يزاحم الاخر
بتنجيزه ولو بقاء، والاخر لا يزاحمه في تنجيزه ولو بقاء لعدم تعلقه بالخاص حتى
تنجزه فلا محالة يكون التأثير للأول (انتهى ملخصا)
وفى ما ذكره مواقع للنظر اما أولا: فلان القول بان العلم قد تعلق بوجوب
مالا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردد، خلاف الوجدان
فان الوجدان أقوى شاهد على أن العلم متعلق بوجوب أحدهما بمعنى ان
الشخص واقف على أن الواجب هو الجمعة بمالها من الخصوصية أو الظهر كذلك
وتأويل ذلك العلم إلى أنه متعلق بمالا يخرج عن الطرفين تأويل بعد تعلق العلم،
ولا يلتفت على ذلك التأويل الا عند التوجه الثانوي (1)

(1) فان قلت: الظاهر أن مراده هو الفرق بين طرف العلم ومتعلقه، فان مالا يقبل
الاجمال والتردد انما هو الطرف ضرورة ان العلم سواء كانت داخلة تحت مقولة
أو لا من الأمور العامة التي لها نحو إضافة إلى المعلوم، وله نحو تشخص معه فلا
يعقل ان يتشخص بأمر مردد، والمراد من الطرف هنا هو الوجوب وقد تعلق به
العلم وتطرف بذلك، واما ما يقبل التردد، فإنما هو متعلقه وحواشيه أعني الظهر
العصر وعلى هذا فلا باس ان يقال: إن العلم مطلقا يتعلق بأمر معين وهو الوجوب مثلا المردد تعلقه بالظهر أو الجمعة. ولا مانع من كون تعلق الوجوب أمرا مرددا
لكونه أمرا اعتباريا
قلت: نعم العلم بما انه متشخص في النفس لا يعقل تعلقه وتشخصه بالمردد
الواقعي وبالحمل الشايع، ضرورة انه لا تشخص ولا تحقق له لا خارجا ولا ذهنا
لكن في العلم الاجمالي تعلق على عنوان أحد الخاصين القابل للانطباق على كل
منهما بخصوصية لا على عنوان مالا يخرج عنهما كما هو الموافق للوجدان - المؤلف.
271

وثانيا: ان معنى منجزية الامارة ليس الا ان المؤدى على فرض كونه تكليفا
واقعيا، وموافقته للواقع، يكون تخلفها موجبا لاستحقاق العقوبة، فلا تكون
الامارة منجزة للتكليف الا على سبيل الاحتمال كما أن العلم الاجمالي كذلك،
فأي فرق بينه وبين الامارة، وما أفاد: من أن طرف العلم الاجمالي يحتمل
وجود الحكم المنجز فيه لا انه منجز بخلاف الامارة فإنها منجزة، للخاص في غير
محله لان التنجيز في كليهما بمعنى واحد وحكم العقل في كليهما على نسق واحد
وهو لزوم الاتباع لاحتمال التكليف المنجز الموجب لاستحقاق العقوبة
لا يقال: إن لسان أدلة حجية الامارات أو لسان نفسها هو ان المؤدى نفس الواقع
وانه منجز عليك، لا ان المؤدى على فرض مطابقته للواقع منجز وموجب للعقوبة
وكم فرق بينهما وعليه يحصل الفرق بين تنجيز الامارة والعلم الاجمالي.
لأنا نقول والامارة وان قامت على الخصوصية لكن لم تكن منجزة على أي حال بل
على فرض المطابقة للواقع والعلم الاجمالي أيضا منجز للتكليف بخصوصيته في أي طرف
كان بمعنى انه مع الاجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة إذا تركها المكلف وكان الظهر
واجبا بحسب الواقع يستحق العقوبة على الظهر بخصوصيته
وثالثا سلمنا ان متعلق العلم انما هو وجوب مالا يخرج عن الطرفين ولكنه
يستلزم تنجيز ما هو المنطبق (بالفتح) لهذا العنوان أعني نفس التكليف الواقعي
(وعلى هذا) فلو فرض صحة الامارة وتطابقها للواقع يكون مؤداها نفس التكلي
272

الواقعي، فلا محالة يقع التنجيز على شئ واحد معين واقعي، ويكون التنجيز مستندا
إلى العلم الاجمالي والامارة لا إلي الامارة فقط، لو لم نقل باستناده إلى العلم الاجمالي
فقط لسبقه وتقدمه، و (عليه) فما أفاد من أن الامارة في تنجيزها بلا مزاحم غير صحيح
- فظهر انه لا صحة للقول بالانحلال الحكمي، مع حفظ العلم الاجمالي كما تقدم
خلاصة الجواب عن استدلال الاخباري
التحقيق في الجواب ما تقدم منا على الوجه الكلى من أن الميزان لانحلال
العلم هو ارتفاع الترديد، وانقلاب القضية المنفصلة الحقيقية أو المانعة الخلو إلى
قضية بتية ومشكوكة، ولا يلزم العلم بكون المعلوم تفصيلا هو المعلوم اجمالا وعلى
هذا فما أشار إليه المحقق الخراساني في بعض كلماته يمكن أن يكون وجها لانحلال
الحقيقي وحاصله: تحقق العلم الوجداني بوجود تكاليف واقعية في مؤدى الطرق و
الامارات والأصول المعتبرة بمقدار المعلوم بالاجمال، ومعه ينحل العلم الاجمالي
الكبير في دائرة العلم الاجمالي الصغير وبعبارة أوضح: ان العلم بوجود تكاليف بسبب
الامارات والأصول يرفع الترديد الموجود في دائرة العلم الاجمالي الكبير
وان شئت فأوضح المقام بما يلي: لو علم اجمالا بكون واحد من الامارات الثلاثة
خمرا واحتمل الزيادة، ثم علم جزما بان واحد من الإنائين معينا خمرا، فلا يعقل
بقاء العلم الأول لعدم امكان الترديد بين أحد الإنائين وبين الاخر فإنه ينافي العلم
الاجمالي، فلا يمكن تعلق علمين بواحد من الإنائين، وواحد من الثلاثة، نعم يمكن
تعلق العلمين بسببين للتكليف أو الوضع، كما لو علم اجمالا بوقوع قطرة من
الدم في واحد من الإنائين، وعلم بوقوع قطرة أخرى مقارنا لوقوع الأول في أحدهما
أو اناء آخر، فان العلمين تعلقا بالقطرتين والسببين، لا بالنجاسة، وهذا نظير
العلم بوقوع قطرة بول أو دم في اناء معين، فان العلم تعلق بوقوع القطرتين فكل
منهما معلوم، واما النجاسة المسببة فلم تكن معلومة مرتين لعدم تعقل ذلك.
وههنا وجه آخر في رد مقالة الاخباري وحاصله: منع تعلق العلم الاجمالي على
273

وجود تكاليف فعلية لا يرضى الشارع بتركها كيف وجعل الحجية للامارات و
الأصول أو امضى حجيتها، مع امكان مخالفتها للواقع أدل دليل على عدم فعليتها
مطلقا ورضاء الشارع بتركها في موارد قيام الامارة على الخلاف إذ فعليتها مطلقا
تستلزم وجوب العمل بالاحتياط حتى في موارد قيام الامارات والأصول، و (على هذا)
لا معنى لتنجيز ما عدى مؤديات الامارات والأصول لعدم تعلق العلم بالتكليف الفعلي
بل انما تعلق بخطابات قابلة للانطباق على مؤدياتها، ولهذا لا يلتزم الاخباري بلزوم
الاحتياط عند قيام الامارة على نفى التكليف في مورد، فلو صح ما يدعيه من العلم
الفعلي بالتكاليف الفعلية التي لا يرضى الشارع بتركها على أي حال لزم عليه الاحتياط
في ذلك المورد، مع أنه لا يلتزم به، وهذا (أي التعبد بالامارات والأصول) أوضح
دليل على عدم كون الاحكام بمثابة لا يرضى بتركها وان الشارع قد رفع اليد
عنها في غير موارد الامارات والأصول من الشبهات.
استدلال آخر للاخباري
وهو مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر، وان العالم كله من سمائه وارضه
مملوك لله، كما أن المكلف عبد له تعالى، فلابد أن يكون عامة أفعاله من حركة
وسكون برضى منه، ودستور صادر عنه، وليس لاحد ان يتصرف في العالم بغير
اذنه، لكون المتصرف (بالكسر) والمتصرف مملوكان لله وفيه: انه ان أريد من
كون المكلف والعالم مملوكان لله بالملكية الاعتبارية الدائرة في سوق العقلاء فلا نسلمه
بل لا وجه لاعتبار ملكية اعتبارية لله عز وجل فان اعتبارها لابد وأن يكون لأغراض
حتى يقوم به المعيشة الاجتماعية، وهو سبحانه أعز وأعلى منه، وان أريد منه المالكية
التكوينية، بمعنى ان الموجودات والكائنات صغيرها وكبيرها اثيرها وفلكيها كلها
قائمة بإرادته، مخلوقة بمشيته، واقعة تحت قبضته تكوينا، فلا يمكن للعبد ان
يتصرف في شئ الا باذنه التكويني وارادته وان العالم تحت قدرته قبضا وبسطا تصرفا
274

ووجودا فهو غير مربوط بالمقام ولا يقيد الاخباري شيئا على أن الآيات والسنة كاف في رد تلك
المزعمة حيث يدل على وجود الاذن من الله بالنسبة إلى تصرفات عبيده قال: عز من قائل
، وخلق لكم ما في الأرض جميعا، والأرض وضعها للأنام إلى غير ذلك،
هذا آخر ما أردنا ايراده في المقام
وينبغي التنبيه على أمور
الأول - من شروط التمسك بالأصول الحكمية مطلقا عدم وجود أصل موضوعي
ينقح حال الموضوع ويرفع الشك عنه، والا فلو كان في المقام أصل جار في ناحية الموضوع
لكان حاكما على الأصل في ناحية الحكم حكومة الأصل السببي على المسببي سواء كان
الأصل الحكمي موافقا أو مخالفا، فلو شك في حلية حيوان أو حرمته لأجل الشك
في قبوله التذكية أو طهارته ونجاسته، حكم عليه بالحرمة والنجاسة، ولا تصل
النوبة إلى أصالتي الحل والطهارة، لحكومة الأصل الموضوعي أعني أصالة عدم
ورود التذكية (بناء على جريانه) عليهما، فان الشك في الحلية والطهارة ناش عن
ورود التذكية عليه، فإذا حكم بالعدم، لما بقى الشك تشريعا في هاتين الناحيتين
ثم إنه لا باس برفع النقاب عن حاك ذاك الأصل الدائر بين السنة الفقهاء المعروف
جريانه في اللحوم والجلود، غير أن استيفاء البحث موكول إلى مبحث الاستصحاب
كما أن التصديق الفقهي موكول إلى محله.
فنقول: توضيح المقام يتوقف على رسم أمور الأول ان الشبهة تارة تكون
حكمية واخرى موضوعية، اما الأولى فالشك تارة لأجل الشك في قابلية الحيوان
للتذكية، و (أخرى) لأجل الشك في شرطية شئ أو جزئيته لها و (ثالثة) لأجل
الشك في مانعية شئ عنها، (ثم) الشك في القابلية اما من جهة الشبهة المفهومية
لاجمال المفهوم الواقع موضوعا للحكم كالشك في الكلب البحري هل هو كلب في
نظر العرف، وانه هل يعمه موضوع الدليل أو لا واما من جهة أخرى، كما ربما يشك
في الحيوان المتولد من حيوانين مع عدم دخوله في عنوان أحدهما، مما يقبل التذكية
275

أولا، (ثم) الشك في المانعية اما لأجل وصف لازم واما لأجل حدوث وصف غير لازم كالجلل
هذا كله في الشبهة الحكمية، (واما الشبهة الموضوعية) فتارة يكون سبب الشك
كون الحيوان مرددا بينما يقبل التذكية ومالا يقبله، كتردده بين الغنم والكلب
لأجل الشبة الخارجية، و (أخرى) يكون سببه تردد الجزء بين كونه من الغنم أو من
الكلب أو تردده بين كونه من معلوم التذكية، أو من مشكوكها، أو تردده بين كونه
جزءا لما علم تذكيته أو مما علم عدم تذكيته، و (ثالثة) يكون الشك لأجل الشك في
تحقق التذكية خارجا مع عدم كونه مسبوقا بيد مسلم أو سوقه أو لم يكن في يده و
سوقه بالفعل و (رابعة) يكون الشك لأجل طرو المانع بعد احراز المانعية، كما إذا
قلنا بان الجلل مانع وشككنا في حصوله
الثاني: ان التذكية التي تعد موجبة للحلية والطهارة فيها احتمالات فيحتمل
أن يكون أمرا بسيطا، أو مركبا خارجيا، أو أمرا تقييديا، فعلى الأول فيحتمل
أحد أمرين (أحدهما) أن يكون بسيطا متحصلا ومسببا من أمور ستة أي فرى الأوداج
بالحديد إلى القبلة مع التسمية وكون الذابح مسلما والحيوان قابلا (ثانيهما) أن يكون
أمرا منتزعا منها موجودا بعين وجود منشأ انتزاعها، و (على الثاني) أعني
كونه مركبا خارجيا فليس هنا الا احتمال واحد وهو أن يكون التذكية عبارة عن
الأمور الستة الماضية كما تقدم، و (على الثالث) أعني كون التذكية أمرا
متقيدا بأمر آخر، فيحتمل أحد أمور ثلاثة، لأنه اما ان بجعل التذكية نفس
الامر المتحصل من الأمور الخمسة متقيدا بقابلية المحل، أو يجعل أمرا
منتزعا منها متقيدا بالقابلية، أو بجعل نفس الأمور الخارجية الخمسة متقيدا
بها، ففي هذه الصور الثلاث، يكون التذكية أمرا تقييديا، سواء كانت أمرا متحصلا
أو منتزعا أو مركبا خارجيا
الثالث كل ما ذكرنا من الوجوه محتملات بادي النظر واما التصديق الفقهي
فهو يحتاج إلى امعان النظر في أدلة الباب، فلو دل دليل على تعيين أحد المحتملات
ورفع الشبهة من جهة أو جهات فهو والا فالمرجع هو الأصول الموضوعية أو الحكمية
276

على اختلاف الموارد في جريانها، فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان الأصل في
كل محتمل فنقول: لو كان الشك في كون الحيوان مذكى أولا، لأجل الشك في
كونه قابلا للتذكية أولا سواء كانت الشبهة لأجل الشبهة المفهومية أم لا، ولم يدل
دليل على كون كل حيوان قابلا للتذكية (فعلى ذلك) فهل يجرى أصالة عدم
القابلية أو لا يجرى.
ولقد بنى شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) على جريانها وكان (رحمه الله)
مصرا عليه، وخلاصة مرامه مع توضيح منا، ان المحققين قد قسموا العرض إلى
عارض الوجود وعارض المهية، وكل منهما إلى اللازم والمفارق، فصارت الأقسام
أربعة واليك توضيحها بالمثال فنقول الزوجية عارضة لماهية الأربعة على وجه اللزوم
كما أن عروض الوجود للماهية، يعد من الاعراض المفارقة لها على اشكال فيه، و
اما القسمان الآخران أعني عارض الوجود اللازم، كموجودية الوجود بالمعنى
المصدري، ونورانيته ومنشائيته للآثار، وعارضه المفارق كالسواد والبياض بالنسبة
إلى الجسم، " واما القابلية " فلا شك انها من العوارض اللازمة للوجود أو الموجود
وليست من العوارض اللازمة للماهية، نعم يمكن ان يقال إنه من العوارض المفارقة بالنسبة
إلى الماهية لكن بتبع الوجود حيث إنه يفارق عن الماهية، فيفارقها لكن كل يعرضها
ببركة الوجود كما هو الشأن في عامة العوارض الوجودية، إذا عرفت هذا فيمكن
ان يقرر الأصل هكذا: ان القابلية كالقرشية من عوارض الوجود فان القرشية عبارة
عن الانتساب في الوجود الخارجي إلى القريش، كما أن القابلية عبارة عن خصوصية
في الحيوان بها يصلح لورود التزكية عليه، وبها يترتب الحلية والطهارة وعليه
فلنا ان نشير إلى ماهية المرأة المشكوكة فيها ونقول ان ماهية تلك المرأة قبل
وجودها لم تكن متصفة بالقرشية، ولكن علمنا انتقاض اليقين لعدم وجودها إلى
العلم بوجودها ولكن نشك في انتقاض العدم في ناحية القرشية، وهكذا يمكن ان يقال في
ناحية القابلية فنقول: ان الحيوان الكذائي (مشيرا إلى ماهيته) لم يكن قابلا للتذكية
قبل وجوده، ونشك في أنه حين تلبس بالوجود هل عرض له القابلية أو لا فالأصل عدم
277

عروضها نعم لو كان الموضوع هو الوجود أو كانت القابلية من لوازم الماهية لم يكن
وجه لهذا الاستصحاب لعدم الحالة السابقة، لكن الموضوع هو الماهية، والقابلية
عارضة لها بعد وجودها فهذه الماهية قبل تحققها لم يكن متصفة بالقابلية بنحو
السالبة المحصلة والأصل بقائها على ما هي عليه ولو صح جريانه لأغنانا عن استصحاب
عدم التزكية لحكومته عليه حكومة الأصل السببي على المسببي ويكون حاكما على
الأصول الحكمية عامة
هذا غاية ما يمكن ان يقال في توضيح مقاله ويمكن الاشكال فيه بأنه لو سلم
جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية على فرض غير صحيح، لا يصح التمسك بأصالة
عدم القابلية في المقام لان ما هو الموضوع للأثر الشرعي هو المذكى وغير المذكى، و
اما القابلية وعدمها فليس كل واحد مصبا للحكم، واستصحاب كونه غير قابل لا يثبت
كونه غير مذكى وإن كان الشك في أحدهما مسببا عن الاخر ولا يكفي مجرد كون
الشك في أحدهما مسببا عن الاخر بل يحتاج كون الترتب شرعيا واما المقام فليس
الترتب شرعيا بل عقلي محض فان التعبد بانتفاء الجزء أعني القابلية يلازمه عقلا
انتفاء الكل أعني التذكية لان القابلية لها دخالة في التذكية على أحد الوجوه المتقدمة
وسيوافيك في مبحث الاستصحاب ان الميزان في حكومة الأصل السببي على المسببي
كون الأصل في ناحية السبب منقحا للموضوع بالنسبة إلى الكبرى الشرعية ولا يتم
ذلك الا إذا كان الترتب بينهما شرعيا لا عقليا وسيأتي توضيح المقال في الاستصحاب
فظهر ان الاستصحاب الأزلي لو كان صحيحا في حد نفسه لا يجرى في المقام لكونه من
الأصول المثبتة.
جولة حول العدم الأزلي عند الشك في القابلية والتذكية
توضيح هذا الأصل الذي لا أصل له يحتاج إلى بيان اعتبارات القضايا السالبة وقد
استوفينا الكلام في الدورة السابقة في بيان مطلق القضايا موجبتها وسالبتها
اهتماما لتوضيح المقصود غير انا لا نتعرض في هذه الدورة الا لبعض أقسامها المتصورة في المقام
روما للاختصار، فنقول: ان الوجوه المتصورة في مجارى الأصول الأزلية لا تتجاوز عن أربعة
278

الأول: السالبة المحصلة على نحو الهلية البسيطة كقولنا زيد ليس بموجود
فمفادها سلب الموضوع، ففي مثل هذه القضية ليست حكاية حقيقية ولا كشف
واقعي عن أمر أصلا وليس لها محكى بوجه لكن العقل يدرك بنحو من الادراك
بطلان الموضوع وقولنا المعدوم المطلق لا يمكن الاخبار عنه لا يحكى عن أمر واقعي
بل ينبه على بطلان المعدوم وعدم شيئيته أصلا
الثاني: القضية السالبة المحصلة بنحو الهلية المركبة كقولنا زيد ليس بقائم
ففي مثلها قد يكون الموضوع محققا يسلب عنه المحمول، وقد يكون السلب بسلب
الموضوع فلو كان لموضوعه وجودا، فله نحو حكاية لا لمحمولها، فيحكم العقل
ان موضوعها غير متصف بالمحمول فيحكم به من دون أن يكون لعدم الاتصاف حقيقة
خارجية، ومناط صدقه عدم اتصاف الموضوع بالمعنى المقابل للمعنى العدمي، واما
إذا لم يكن لموضوعها تحقق، فليس للقضية حقيقة واقعية أصلا لا موضوعا ولا محمولا
ولا هيئة وإن كان ادراك هذا الامر بتبع أمر وجودي ذهني يخترعه العقل، ولكنه يعد
وسيلة لهذا الادراك أي ادراك ان الموضوع لم يكن متصفا بالمحمول
الثالث: القضية الموجبة المعدولة والميزان في اعتبارها أن يكون للمعنى العدمي
المنتسب إلى الموضوع نحو حصول في الموضوع كاعدام الملكات نحو: زيد
لا بصير المساوق لقولنا: زيد أعمى، فمناط صدقه هو نحو تحقق للمعنى السلبي في الموضوع
وثبوته له بنحو من الثبوت وهذا الاعتبار ليس في القضية السالبة المحصلة للفرق الواضح
بين سلب شئ عن موضوع واثبات السلب له فان معنى الاثبات هو حصول الامر
العدمي له، ومعنى السلب، سلب هذا الثبوت عنه، ولأجل ذلك يكون المعتبر
من المعدولة، ما إذا كان للسلب نحو ثبوت بنحو العدم والملكة، كما مر، فيخرج
قولنا: زيد لا عمرو، أو الجدار غير بصير -
الرابع: الموجبة السالبة المحمول والميزان في اعتبارها توصيف الموضوع
بما يدل على سلب الربط وهو من القضايا المعتبرة كما تحقق في محله.
هذه هي الوجوه المتصورة في المقام وهناك وجه آخر سيوافيك بيانه أيضا
279

(فعلى ذلك) فما هو الموضوع لحرمة اكله، أو لما تراه المرأة بعد خمسين فهو غير
حيض لا يخلو عن هذه الأقسام الماضية ولا بأس لبيان حال كل واحد منهما فنقول بعد
مالا يكون المورد من قبيل الهليات البسيطة كما هو واضح إن كان سلب القرشية
عن المرأة والقابلية عن الحيوان من قبيل السالبة المحصلة المركبة فح لابد أن يكون
الموضوع للحرمة هو الحيوان سالبا عنه القابلية على نحو السلب التحصيلي
الذي يجتمع مع عدم الحيوان، وهو غير صحيح جدا ومقطوع على بطلانه لوجهين
(الأول) ان من المبرهن في محله توقف صدق الموجبات على وجود موضوعاتها
خارجا أو ذهنا حسب احكامها ومحمولاتها (وعليه) فالحكم بالحرمة أو بقوله عليه السلام
ما تراه المرأة الخ حكم ايجابي يمتنع أن يكون موضوعها شئ سلب عنه شئ بنحو
قضية سالبة محصلة مع صدقها أحيانا مع عدم موضوع لها، فقولنا الحيوان مسلوبا
عنه القابلية أو المرأة مسلوبا عنها القرشية بنحو السلب التحصيلي المطلق يمتنع
أن يكون موضوعا ليحرم أو لما تراه المرأة لصدق الموضوع مع عدم حيوان أو مرئة
وعدم صدق المحمول الا مع وجود الحيوان والمرأة، فكيف يصلح للموضوعية، إذ
كيف يحكم على الحيوان المعدوم بالحرمة أو على المرأة المعدومة بالرؤية، و
(بالجملة) ان الحيوان الموجود إذا لم يكن قابلا كما يصدق عليه قولنا. إذا لم يكن
الحيوان قابلا، كذلك يصدق هذه القضية على المعدوم من رأس، فان عدم القابلية
تارة يكون بانتفاء الموضوع واخرى بانتفاء المحمول، فالأعم صدقا من حيث
وجود الموضوع وعدمه كيف يقع موضوعا لحكم ايجابي (الحرمة والرؤية) مع أنه لا يصدق
الا مع بعض حالات الموضوع وان شئت قلت إن سلب شئ عن شئ قبل تحقق الموضوع
ليس له واقع وانما هو من اختراع العقل لا كاشفية ولا مكشوفية في البين فقولنا
هذه المرأة قبل تحققها لم تكن قرشية أو ان هذا الحيوان قبل تحققه لم يكن
قابلا للتذكية والآن كما كان، ممالا معنى له لأن هذه المرأة قبل تحققها لم تكن
هذه وهذا الحيوان لم يكن هذا لا وجودا ولا مهية، ولا يمكن ان يشار إليهما حسا
أو عقلا وانما يتوهم الواهمة ان لهذا المشار إليه هذية قبل تحققها فهذه المرأة قبل
280

وجودها لم تكن مشارا إليها ولا مسلوبا عنها شئ على نعت سلب شئ عن شئ،
فالقضية المشكوكة فيها ليست لها حالة سابقة، وانما سابقتها في عالم الاختراع
بتبع أمور وجودية
فان قلت: ان المرأة الكذائية قبل تحققها اما قرشية أو ليست بقرشية و
هكذا الحيوان، لامتناع ارتفاع النقيضين، فإذا كذب كونها قرشية أو كونه قابلا،
صدق انها ليست بقرشية، (قلت) فيه مضافا إلي ان نقيض قولنا: انها قرشية ليس
قولنا: انها ليست بقرشية على نعت سلب شئ عن شئ له واقعية، بل نقيضه أعم من
ذلك ومن بطلان الموضوع وهو يلازم بطلان المحمول، ومفاد الهيئة، ان القرشية
والقابلية من لوازم الوجود، أي يتصف به الموضوع بعد وجوده، فهي قبل وجوده
لا قرشية، ولا ليست قرشية والحيوان لا قابل ولا ليس يقابل على معنى سلب شئ عن شئ
وان صدق سلب المحصل بسلب الموضوع فسلب القرشية عن المرأة ليس سلبا حقيقيا
بمعنى كونه حاكيا أو كاشفا عن واقعيته كما تقدم حتى يجئ حديث امتناع ارتقاع
النقيضين الثاني: ان اخذ السالبة المحصلة جزءا للموضوع يستلزم التناقض في نفس جعل
الموضوع موضوعا فان قولنا: المرأة مسلوبة عنها القرشية، مؤلف من موضوع
(المرأة) ومن قضية سالبة محصلة التي يصدق مع عدم الموضوع، ومع ذلك كيف
يمكن ان يقيد الموضوع بقيد يصدق حتى مع عدم وجوده، فان عدم القابلية يصدق
مع عدم الحيوان كما تقدم، وما هذا الا تناقض في ناحية الموضوع.
فان قلت: ان ما هو المنشأ للأثر انما هو السالبة المحصلة لكن في حال وجود
الموضوع فاستصحاب عدم القابلية على نحو الأعم وان لم يترتب عليه الأثر حدوثا
الا انه يترتب عليه الأثر بقاءا، واستصحاب ذلك العدم وإن كان لا يترتب عليه الأثر
حال عدم الحيوان، الا انه بعد العلم بوجود الحيوان وانتقاض العدم من ناحيته،
ترتب الأثر عليه منضما إلى وجوده (قلت) مضافا إلى ما عرفت من عدم قضية حاكية
عن نفس الامر قبل وجود الموضوع وانما يخترع الواهمة قضية كذائية وعليه لا يعقل
وحدة القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة فيها ان المستصحب إذا كان عنوانا عاما، وكان
281

أحد الفردين قطعي الارتفاع، فاستصحابه وانطباقه على الفرد المحتمل الاخر
لا يصح الا على القول بالأصول المثبتة، فان عدم القابلية كما يتحقق في ضمن انتفاء
الموضوع، كذلك يتحقق مع ارتفاع المحمول فإذا علمنا انتقاض العدم في ناحية
الموضوع، فبقاء ذلك العدم بعد ذاك، يستلزم عقلا صدقه مع الفرد الآخر أعني
السالبة بانتفاء المحمول، وما هذا الا اثبات للفرد الخاص باستصحاب العام وهو
من الأصول المثبتة نظير استصحاب بقاء الحيوان الجامع بين الفيل والبق واثبات
آثار الفيل وبالجملة لو كان موضوع الحكم المرأة الموجودة أو في حال وجودها وكانت
القضية المتيقنة المرأة الغير الموجودة أو في حال عدم الوجود مع الغض عن بطلان
ذلك كما مر كان اجراء الأصل لاثبات الحكم لها في حال الوجود مثبتا واما لو كان
الموضوع المرأة الموجودة سالبة عنها القرشية سلبا محصلا بمعنى ان الموضوع أحد
قسمي السالبة المحصلة وأريد استصحابه فلا حالة سابقة له لان القرشية واللا قرشية
من لوازم الوجود ولم يكن في زمان وجود المرأة معلوما مسلوبا عنه القرشية.
واما الوجه الثالث أعني اخذ القضية جزءا على نحو الموجبة المعدولة كقولنا
الحيوان الغير القابل للتذكية، أو المرأة القرشية على نحو التوصيف أو الوجه
الرابع أعني كون القضية جزءا للموضوع على نحو الموجبة السالبة المحمول أعني
المرأة التي لم تكن قرشية، أو الحيوان الذي ليس قابلا للتذكية وقد تقدم ملاك
اعتبار ذاك القسم وحاصله: اعتبار قضية سالبة محصلة نعتا لموضوع، حتى يصير ما يدل
على سلب الربط نعتا له ويصير المفاد أخيرا ربط السلب - فعدم جريان الاستصحاب
على هذين الوجهين أوضح لعدم الحالة السابقة، فلان اتصاف شئ بشئ فرع ثبوته
فاتصاف الحيوان بغير القابلية، أو بأنه الذي لم يكن قابلا فرع وجود للموصوف،
والحيوان الذي نشك في قابليته، لم يكن بقيد الوجود موردا لليقين السابق، بل هو
من أول حدوثه مشكوك القابلية وعدمها، و (بالجملة) فما هو معلوم هو عدم قابليته على نحو
(السالبة المحصلة) وهو ليس موضوعا للحكم، وما هو موضوع لم يتعلق به العلم إذ الحيوان
282

الواقع بأيدينا لم يكن في زمان من أزمنة وجوده موردا للعلم بأنه غير قابل حتى
نستصحبه، أضف إلى ذلك ما تقدم ان استصحاب العنوان العام الذي يلائم مع عدم
وجود الموضوع لا يثبت كون هذا الحيوان غير قابل الا على القول بالأصل المثبت،
فان استصحاب العام بعد العلم بانتفاء أحد فرديه لا يثبت به بقائه في ضمن الفرد الآخر
، فلا يمكن اثبات الأثر المترتب على الفرد، (نعم) لو كان لنفس العام اثر،
يترتب به كما لا يخفى
فظهر ان أصالة عدم القابلية في الحيوان كاصالة عدم القرشية في المرأة ليس
لها أساس من غير فرق بين كون الشك في القابلية لأجل الشبهة المفهومية أو غيرها
كما تقدم ومع عدم جريانها يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية (1)
جولة حول أصالة عدم التذكية
ان التذكية إن كانت أمرا مركبا خارجيا ككونها نفس الأمور الستة
الخارجية فأصالة عدمها غير جارية، بعد وقوع الأمور الخمسة على حيوان شك في
في قابليته، لسقوط أصالة عدم القابلية، وعدم كون التذكية أمرا مسبوقا بالعدم
لكونها عبارة عن الأمور الخارجية، والمفروض حصول خمسة، وعدم جريان الأصل
في السادس منها (فح) يكون المرجع أصالة الحل والطهارة، هذا كله إذا كانت أمرا
مركبا واما إذا كانت أمرا بسيطا محضا متحصلا من ذلك الأمور أو اعتبارا قائما بها،
أو بسيطا مقيدا أو مركبا تقييديا، فأصالة عدم التذكية جارية مع الغض عن الاشكال
المشترك، اما إذا كانت أمرا بسيطا متحصلا من الأمور الخارجية فواضح لأنه مسبوق
بالعدم قبل تحقق الأمور الخارجية والآن كما كان، واختلاف منشأ الشك واليقين
لا يضر به، وكذلك إذا كانت أمرا بسيطا منتزعا، لان هذا الامر الانتزاعي الموضوع
للحكم وإن كان على فرض وجوده يتحقق بعين منشأ انتزاعه لكنه مسبوق بالتحقق، واما

(1) وههنا وجه آخر وان شئت فاجعله خامس الوجوه، وهو اخذ السالبة المحصلة
جزءا للموضوع مع تقييدها بوجود الموضوع، ويعلم حكمه عما أوضحه الأستاذ (دام ظله)
في الوجوه السابقة - المؤلف
283

إذا كانت أمرا مركبا تقييديا سواء كانت بسيطة متحصلة مقيدة أو منتزعة من الأمور
الخمسة متقيدة بقابلية المحل أو مركبة منها ومتقيدة بالقابلية فجريان أصالة
عدم التذكية لا مانع لها لان المتقيد بما انه متقيد مسبوق بالعدم ومشكوك تحققه
والفرض ان موضوع الحكم متقيد.
وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض أعاظم العصر (قدس سره) من أن التذكية إذا
كانت نفس الأمور الخمسة وكانت قابلية المحل شرطا للتأثير ولها دخالة في تأثير
الخمسة لا تجرى أصالة عدم التذكية بل المرجع هي أصالة الحل والطهارة (وجه
الضعف) ان دخالة القابلية في التأثير عبارة أخرى عن تقييد موضوع الحكم به، فالموضوع
للحلية والطهارة الواقعيتين، هو الأمور الخمسة المشترط بالقابلية، وهذا المعنى
المتقيد المشترط مسبوق بالعدم، واختلاف منشأ الشك واليقين ممالا يمنع عن جريان
الاستصحاب
وهذا ممالا اشكال فيه انما الاشكال في جريان أصالة عدم التذكية مطلقا بسيطة
كانت أو لا، وهو ان حقيقة التذكية التي هي فعل المذكى عبارة عن ازهاق الروح
بكيفية خاصة وشرائط مقررة وهى فرى الأوداج الأربعة مع كون الذابح مسلما، و
كون الذبح عن تسمية والى القبلة مع آلة خاصة وكون المذبوح قابلا للتذكية (1)
وعدم هذه الحقيقة بعدم الازهاق بالكيفية الخاصة والشرائط المقررة، ولا اشكال في أن
هذا الامر العدمي على نحو " ليس " التام ليس موضوعا للحكم الشرعي، فان هذا
المعنى العدمي متحقق قبل تحقق الحيوان وفى زمان حياته، ولم يكن موضوعا للحكم
وما هو الموضوع عبارة عن الميتة وهى الحيوان الذي زهق روحه بغير الكيفية
الخاصة بنحو الايجاب العدولي، أو زهوقا لم يكن بكيفية خاصة على نحو " ليس " الناقص

(1) ثم إن سيدنا الأستاذ ذكر احتمالات عديدة للتذكية ومقابلها، وأوضح ما هو
الموضوع للحل والطهارة ومقابليه، ولما كان التصديق الفقهي محتاجا إلى تنقيح هذه
الوجوه بالمراجعة إلى مصادرها، أسقطنا كل ما افاده عند طبع هذه الأوراق روما
للاختصار - المؤلف
284

أو الموجبة السالبة المحمول، وهما غير مسبوقين بالعدم فان زهوق الروح لم يكن
في زمان محققا بلا كيفية خاصة، أو مسلوبا عنه الكيفية الخاصة فما هو موضوع غير
مسبوق بالعدم، وما هو مسبوق به ليس موضوعا له، واستصحاب النفي التام لا يثبت
زهوق الروح بالكيفية الخاصة الا على الأصل المثبت، هذا مضافا إلى الاشكال في مثل
تلك القضايا السالبة.
ثم إن المحقق صاحب المصباح فصل في تعليقته ومصاحه بين الاحكام في المقام
فقال: ان مقتضى القاعدة هو التفكيك بين الآثار، فما كان منها مترتبا على عدم كون
اللحم مذكى كعدم الحلية، وعدم جواز الصلاة فيه، وعدم طهارته وغير ذلك من
الاحكام العدمية التي تنتزع من الاحكام الوجودية التي تكون التذكية شرطا في
ثبوتها، فيترتب عليه فيقال: الأصل عدم تعلق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه
فلا يحل اكله ولا الصلاة فيه، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة، واما الآثار المترتبة
على كونه غير مذكى كالاحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات، كحرمة اكله أو
نجاسته، أو تنجيس ملاقيه، أو حرمة الانتفاع ببيعه أو استعماله في سائر الأشياء الغير
المشروطة بالطهارة كسقي البساتين وغير ذلك من الاحكام المتعلقة بعنوان الميتة أو
كونه غير مذكى، فلا " انتهى " ولا يخفى ما فيه لان موضوع جواز الصلاة والحلية و
غيرهما هو المذكى أي الحيوان الذي زهق روحه، بالأسباب المقررة الشرعية فح ان
أراد بالأصل المذكور استصحاب نفى تعلق التذكية على نحو السلب التحصيلي الأعم
من وجود الموضوع فهو غير مفيد لأنه بهذا المعنى العام ليس موضوعا لحكم من الاحكام
وان أراد به أصالة عدم تعلقها على الحيوان الموجود الذي زهق روحه بنحو السلب
التحصيلي عن الموضوع المحقق فيقال ان الأصل في الحيوان الذي زهق روحه أن يكون
بلا تعلق أسباب شرعية فلا حالة سابقة له وان أراد استصحاب عدم تحقق التذكية
بنحو السلب الأعم التحصيلي لنفى الأحكام المذكورة بعد زهوق روحه
فيرد عليه: ان استصحاب العنوان العام الذي يتحقق في ضمن افراد طولية أو
عرضية، لا يوجب الا ترتيب آثار ذلك العنوان، دون آثار الفرد الذي من مصاديق ذلك
285

العنوان، فإنه بالنسبة إلى آثار الفرد من الأصول المثبتة، الا ترى ان استصحاب بقاء
الحيوان المردد بين البق والفيل بعد سنة، لا يثبت الا آثار ذلك العنوان، لا ما هو اثر
للفرد الطويل العمر من الحيوان، ومثله المقام فان عدم تحقق التذكية يصدق تارة
مع ما إذا لم يكن حيوان في البين، واخرى ما إذا كان ولكنه بعد حي يأكل ويمشى، و
ثالثة إذا زهق روحه ولكن لا بالأسباب المعينة المقررة في شريعة الاسلام، فهو صادق
مع عدم الحيوان، ومع وجوده، بوصف الحياة، ومع زهوق روحه لا بالأسباب
المقررة (فح) فما هو الموضوع لتلك الأحكام الوجودية التي نريد رفعها برفع
أسبابها، ليس مطلق عدم التذكية بقول مطلق حتى مع عدم وجوده، أو كونه حيا
لعدم الموضوع في الأول وكونه طاهرا في زمن الحياة، وعدم الدليل على عدم الحلية
في حالها بل الموضوع هو الفرد الثالث، فما هو الموجب لعدم الحلية والطهارة انما
هو زهوق الروح لا بالآلات والشرائط المقررة، كما أن الموجب لهما هو وجود
التذكية بالنحو المذكور. (فح) فانطباق ذلك المستصحب على الفرد الثالث عقلي
محض، للعلم بوجوده وزهوقه فيتعين الثالث، وهذا هو المراد بالمثبتية
وان شئت قلت: جر العدم المحمولي الذي يجتمع مع عدم الموضوع إلى،
زمان حياته لا يثبت العدم الرابط أعني كون هذا الحيوان لم يتعلق به التذكية مع
شرائطها و (توهم) ان العدم المحمولي وان لم يكن ذا اثر حدوثا، أي فيما إذا تحقق
في ضمن الفردين الأولين (على مسامحة في عدمها فردا للعدم) الا انه ذو اثر بقاءا أي
فيما إذا تحقق في ضمن الفرد الثالث، (مدفوع) بأنه خلط بين اثر نفس العام واثر
الفرد فان الحلية والطهارة من آثار الحيوان الذي وردت عليه التذكية بشرائطها
والغرض من الاستصحاب هو رفع تلك الآثار برفع أسبابها، والعدم المحمولي ان أريد
منه رفع الآثار ولو مع عدم موضوعه أو لعدم زهوق روحه فليس بمفيد، لما تقدم و
ان أريد رفعها باعتبار الفرد الثالث فانطباقه عليه بعد العلم بانتفاء الأولين
عقلي محض.
هذا كله فيما إذا كان منشأ الشك، الشك في قابلية الحيوان للتذكية، سواء كانت
286

الشبهة من جهة الاشتباه المفهومي أو لا - ولنختم البحث ببيان الشبهة الموضوعية
أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية
اما الشبهة الموضوعية سواء كان مصب الشك نفس الحيوان بان يشك في أن
هذا الحيوان هل ذكى أو لا، أو كان اجزائه كما لو شك في أن الجزء الفلاني (الجلد)
هل هو مأخوذ من المذكى أو غيره أو من مشكوكه مما هو محل الابتلاء على القول
بشرطية الابتلاء في تأثير العلم الاجمالي ففي جريان أصالة عدم التزكية مطلقا أو
التفصيل بين الصور اشكال، وما نذكره من النقض والابرام مع قطع النظر عن الاشكال
السيال الذي يعم عامة الصور حكمية كانت أو موضوعية، ولا باس ان نشير إلى
صورها
الأولى: لو ذبح الحيوان وشككنا في وقوع التذكية عليه أولا أو اللحم
المطروح في الطريق المأخوذ من حيوان شك في تذكيته، وهذا ما تسالم فيه القوم
على جريان الأصل، والحق معهم إذا أغمضنا النظر عن الاشكال السيال.
الثانية الجزء المأخوذ من أحد حيوانين نعلم أن أحدهما المعين مذكى، و
الاخر غير مذكى ولكن نشك في أن هذا الجزء هل هو مأخوذ من هذا أو ذاك، فان
قلنا إن التذكية من أوصاف الحيوان وعوارضه وان الموصوف بها وبعدمها، انما
هو نفس الحيوان وانما تنسب إلى الاجزاء بتبع الحيوان، فالجزء بما هو هو لا مذكى
ولا غير مذكى فلا شك في خروج الجزء من مصب الأصل، فيسقط أصالة عدم
التذكية في الجلود واللحوم المتخذة من أحد حيوانين نعلم حالهما تعينا، ويرجع
إلى أصالتي الحلية والطهارة، وان قلنا باتصاف الجزء بالتذكية حقيقة، وان التذكية
يرد على الجزء والكل عرضا لا تبعا، فأصالة عدم التذكية محكمة في الجزء مع
لغض عن الاشكال السيال.
الثالثة: تلك الصورة ولكن اشتبه المذكى بغيره، ولم يكن في المقام طريق
إلى تشخيصهما ويتصور ذلك على وجوه: فان الحيوانين اما ان يكونا في مورد
الابتلاء أو كان كل واحد خارجا عن محل الابتلاء أو كان المتخذ منه داخلا والاخر
287

خارجا، أو بالعكس فهنا صور أربع.
الأول: إذا كان الحيوانان في محل الابتلاء، فان قلنا بان المانع من جريان
الأصل في أطراف العلم الاجمالي هو المخالفة العملية، وانه لولا المخالفة، لما كان
مانع من جريانه فيجرى الأصل في الحيوانين، ويحكم بالجزء أيضا بعدم التذكية
لعدم لزوم مخالفة عملية في المقام من اجتناب كلا الحيوانين، واما لو قلنا بعدم
جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي لانصراف الأدلة أو لأجل تناقض الصدر مع
الذيل، أو قلنا بأنه يجرى ولكنه يسقط بالتعارض (فح) لو اخترنا ان الشك في
تذكية الجزء ناش ومسبب عن تذكية الكل، بحيث يكون الأصل الجاري في ناحية
الجزء في طول الأصل الجاري في جانب الكل كالملاقي (بالكسر) بالنسبة إلى الملاقى
فلا شك ان حكم الجزء هنا كحكم الملاقى (بالكسر) فيخرج السبب عن مصب
الأصل (سواء كان الأصل عدم التذكية، أو الطهارة والحلية)، اما لعدم جريانه أو
لسقوطه بالتعارض، فيصل النوبة إلى الأصل الجاري في ناحية المسبب و (بما) ان التذكية
وعدمها وصفان للحيوان لا لاجزائه، فما هو غير المذكى (زهق روحه بلا كيفية
خاصة) عبارة عن الحيوان، كما أن المذكى عبارة عن الحيوان المذبوح بالشرائط الشرعية
واما الحكم بنجاسة الاجزاء وحرمتها أو طهارتها وحليتها انما هو من جهة انما اجزاء للمذكي
أو لغير المذكى (فح) يسقط أصالة عدم التذكية في ناحية المسبب (الجزء) فيصل
النوبة إلى أصول حكمية من أصالتي الطهارة والحلية لولا منجزية العلم الاجمالي و
معها لابد من الاجتناب.
الثاني: إذا كان الحيوانان خارجين من محل الابتلاء فان قلنا إن الخروج
عن محل الابتلاء يوجب عدم فعلية الحكم وعدم صحة جريان الأصل فيه كما هو المشهور
بين المتأخرين وسيوافيك في محله كونه خلاف التحقيق، فالأصل وإن كان غير جار
في الحيوان الذي لم يتخذ منه لعدم ترتب اثر عليه، الا ان الحيوان المتخذ منه
هذا الجزء وإن كان خارجا عن محل الابتلاء الا انه يجرى الأصل فيه لأنه غير خال عن
الأثر باعتبار جزئه الداخل في محل الابتلاء
288

الثالث: ما لو كان المأخوذ منه خارجا وغير المأخوذ داخلا في محل الابتلاء
فيجرى الأصل في غير المأخوذ بلا اشكال لوقوعه في محل الابتلاء، وكذا في المأخوذ
الخارج عن الابتلاء، لوقوع جزئه موردا للتكليف والابتلاء، فالأصل الجاري في
ناحية الكل غير خال عن الأثر، وان شئت قلت: ان التفصيل الجاري في الشق المتقدم
حسب اختلاف المباني في جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي جار في المقام لان
خروج المأخوذ منه عن محل الابتلاء غير مؤثر بل خروجه كلا خروجه لكون
جزئه واقعا موردا للابتلاء، فيتصور فيه التفصيل المتقدم بين المباني فتذكر
الرابع: عكس الشق المتقدم بان كان المأخوذ منه داخلا في محل الابتلاء
وغير المأخوذ خارجا، فحكمه واضح لما مر بل لا علم اجمالي بالتكليف الفعلي أصلا
لخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء، فصار الداخل كالشبهة البدئية، فيجرى فيه
الأصل ويحكم الجزء بالحرمة والنجاسة، هذا كله مع الغض عن الاشكال السيال
(هذه هي الأقسام الأربعة التي كلها من شقوق الصورة الثالثة فبقى في المقام صورة رابعة لا باس
بالإشارة إليها تكميلا للغرض)
الصورة الرابعة: الشك في جزء من الحيوان بأنه مأخوذ من الحيوان المشكوك
تذكيته أو من المعلوم تذكيته أو المعلوم عدم تذكيته كالجلود التي صنعت في بلاد
الكفر مما هي مشتبهة بين الجلود التي نقلت من بلاد المسلمين إليهم، فصنعوا ما
صنعوا ثم ردت إليهم بضاعتهم، وبين غيرها مما هو من جلود ذبائحهم أو مما هو مشكوك
تذكيته، ففي هذه الصورة لا تجرى أصالة عدم التذكية على القول بان التذكية و
اللا تذكية انما تعرضان الحيوان لا اجزائه فلا يجرى الأصل بالنسبة إليها، واما
بالنسبة إلى الحيوان المأخوذ منه بعنوانه المبهم بان يقال الأصل عدم تذكية ما اخذ
الجزء منه فلا يجرى أيضا لكونه من قبيل الشبهة المصداقية لدليل الأصل فان المأخوذ
منه امره دائر بين المعلوم والمشكوك، فان اخذ من المعلوم تذكيته، فيكون من
قبيل نقض اليقين باليقين والا فيكون من نقض اليقين بالشك مضافا إلى أن جريان
الأصل فيه لا يثبت كون الجزء منه
289

هذا تمام الكلام في توضيح هذا الأصل وقد عرفت ان المهم في المقام رفع
غائلة الاشكال السيال وهو بعد باق بحاله، ثم انا قد ذيلنا البحث في الدورة السابقة
بالبحث عن التفصيل الظاهر من بعض الأساطين بين الطهارة والحلية وأردفناه بنقل
بعض التوجيهات المنقولة عن شارح الروضة، وعن بعض الأعاظم (قدس سره) وما
فيه، ولكن الأولى عطف عنان البحث إلى بقية التنبيهات
التنبيه الثاني
لا اشكال في حسن الاحتياط ومحبوبيته عند العقل المدرك لحسن الأشياء وقبحها
من غير فرق بين العبادات وغيرها ضرورة اتحاد الملاك فيهما.
(نعم) ربما يقال بعدم امكان الاحتياط في العبادات بوجهين (الأول): ما افاده الشيخ
(رحمه الله) من أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع
تفصيلا أو اجمالا، مع أنه لا علم في الشبهات البدئية فلا يمكن الاحتياط.
وان شئت قلت: انه يشترط في صدور الشئ عن الشخص على وجه العبادة،
هو اتيانها متقربا إلى الله على وجه القطع واليقين، فان قصد الامر والانبعاث عن بعث
المولى، وان لم نقل بشرطيته، الا انه لا مناص عن القول بان عبادية الشئ يتقوم
باتيانه متقربا إليه تعالى، وهو لا يحصل الا بالجزم بأنه عبادة وبعبارة أوضح: ان
العبادة متقومة بقصد التقرب، وفى الشبهات البدئية اما ان يقصد ذات الشئ بلا
قصد التقرب، أو ذات الشئ مع قصد التقرب، أو ذات الشئ مع احتمال التقرب، و
الأول خلف، والثاني ممتنع لان القصد الحقيقي لا يتعلق بالامر المجهول المشكوك
فيه، والثالث غير مفيد لان الاتيان باحتمال التقرب غير الاتيان بقصده، والذي يعتبر
فيها قصده لا احتماله.
والجواب: ان ذلك يرجع إلى اعتبار الجزم في النية ولا دليل على اعتباره
لا من العقل ولا من النقل، (اما الأول) فلانه لا يعقل ان يتجاوزه الامر عما تعلق به
ويبعث إلى غير ما تعلق به، والمفروض ان ما وقع تحت دائرة الطلب ليس الا ذات العمل
ونفس الفعل فشرطية أمر آخر يحتاج إلى دليل و (اما الثاني) فالدليل الوحيد هو
290

الاجماع على أنه يشترط في العبادات الاتيان بالعمل لله تعالى، واما العلم بأنه عبادة
والجزم في النية فليس مصبا للاجماع، (والحاصل) ان ما دل عليه ضرورة الفقه و
المسلمين، انه يشترط ان يأتي المكلف باعماله. لوجه الله، وهو حاصل عند
اتيانه بعنوان الاحتياط، ضرورة ان داعي المحتاط في أعماله كلها هو طلب رضاء
الله ومرضاته.
الثاني: ان المطلوب في باب العبادات هو تحصيل عنوان الإطاعة والامتثال
والبعث عن انبعاث المولى، إذ لو اتاه بدواعي اخر لما أطاع وامتثل وان اتى بمتعلق
الامر و (عليه) فصدق هذا العنوان يتوقف على العلم بالامر حتى ينبعث بأمره واما
إذا احتملنا وجود الامر فهو غير منبعث عن بعث المولى بل عن احتمال البعث وهو
غير كاف في صدق الإطاعة، ويرشدك إلى أن الباعث (ح) هو الاحتمال الموجود في
الذهن لا عن الامر الواقعي، هو ان الاحتمال قد يطابق الواقع وقد يخالفه والرجل
المحتاط يأتي بالمحتمل في كلتا الصورتين، فليس الباعث سوى الاحتمال لعدم
الامر فيما إذا لم يطابق الاحتمال.
فان قلت: ان الباعث دائما انما هو الصورة المتصورة في الذهن، لا نفس الامر
الواقعي، ضرورة ان انبعاث القاطع ليس عن نفس البعث، بل عن القطع بالامر،
بدليل انه ربما يخالف قطعه الواقع مع أنه يأتي بالمقطوع، فلو كان علة الانبعاث
هو الوجود الواقعي للامر، لكان لازمه عدم الانبعاث عند كون القطع جهلا
مركبا
قلت: فيه خلط واضح ضرورة ان القطع مرآة للواقع وطريق إليه،
فلو طابق الواقع يصير الواقع معلوما لغرض ويناله المكلف نيلا بالعرض، وبذلك
يصح انتزاع الإطاعة والامتثال للامر الواقعي و (هذا) بخلاف ما إذا خالف، فبما
انه تخيل يكون الانبعاث عن نفس القطع، ولا يعد عمله عند العقلاء عملا اطاعيا
والاطاعة والعصيان امران عقلائيان، ونحن نرى انهم يفرقون بين تطابق القطع و
تخالفه، (اما صورة الاحتمال) فليسا فيه انكشاف ولا دلالة ولا هداية فلا يمكن انتزاع
291

الإطاعة. عن الانبعاث، الناشئ من الاحتمالات، ولا يقال إنه أطاع أمر المولى وامتثله وانبعث
عنه مع جهله بأصل وجوده وثبوته:
هذا غاية تقرير منا بهذا الوجه، ومع ذلك فغير وجيه إذ لم يدل دليل على
لزوم الانبعاث عن البعث، ولا لزوم قصد الامر المتعلق به سوى الاجماع المحكى
عن بعض المتكلمين، مع عدم حجية الاجماع، محصله ومنقوله، في هذه المسائل العقلية
(وان شئت قلت) ان الإطاعة أمر عقلائي ولا اشكال عند العقلاء من أن العبد إذا
اتى بالمحتمل يكون مطيعا للمولى إذا طابق الواقع ويعد ذلك نحو إطاعة و
امتثال أضف إلى ذلك ان الانبعاث مطلقا ليس من البعث بل البعث التشريعي له دعوة
تشريعية وبعث ايقاعي إلى العمل.
واما الانبعاث بها والتحرك حسب تحريكه فلا يحصل الا بعد تحقق أمور في النفس
كحب المولى أو معرفته أو الخوف من عقابه أو الطمع في ثوابه إلى غير ذلك من المبادى
حسب اختلاف العباد.
تصحيح عبادية الشئ بأوامر الاحتياط
لو قلنا بعدم امكان الاحتياط مع احتمال الامر، فهل، يمكن تصحيح
عبادية الشئ لأجل أوامر الاحتياط، فيقصد المكلف الامر الاحتياطي المتعلق أبا
العبادة، أولا " التحقيق " هو الثاني، لان احتمال شمول أدلة الاحتياط للشبهات الوجوبية
فرع امكان الاحتياط فيها وقد فرضنا امتناع الاحتياط فيها، ومع ذلك فكيف يحتمل
اطلاق أدلة الاحتياط لها ولغيرها و (الحاصل) ان قصد الامر الاحتياطي جزما عند
الاتيان بالشبهات الوجوبية فرع صدق الاحتياط فيها قبل الامر، مع أن امكان الاحتياط
فيها موقوف على قصد امره، بحيث لولا هذا القصد لما صح ان يقال إن هذا العمل احتياط
في العبادة و (بعبارة أوضح) تعلق أوامر الاحتياط بالعبادات المحتملة يتوقف على
امكانه فيها، ولو توقف امكانه عليه يلزم توقف الشئ على نفسه.
فان قلت: انما يتعلق أوامر الاحتياط بذات العمل مع قطع النظر عن قصد التقرب
292

أو مع قطع النظر عن الاتيان بداعي احتمال الامر (قلت): ان انطباق عنوان الاحتياط
على ذات العمل، لا يوجب كون ذات العمل متعلقا للامر، لما مر مرارا من أن انطباق عنوان
على شئ لا يوجب تعدى الامر عن متعلقه، إلى عنوان آخر يعد منطبقا (بالفتح) له و
تجد تفصيل هذا الموضوع في مبحث الترتب، (وعليه) فلا يعقل تعلق الامر الاحتياطي
المفروض تعلقه في لسان الدليل بعنوان الاحتياط، بنفس الفعل المشكوك وجوبه
، والالزم تجافى الامر عن متعلقه بلا ملاك، وتخلف الإرادة عن المراد
ويشهد لما ذكرنا: اختلافات كيفية الاحتياط في الواجبات والمحرمات فالاحتياط
في الأول بالاتيان، وفى الثاني بالترك، فلو تعلق الامر المتعلق بعنوان الاحتياط بذات العمل
لزم أن يكون قوله: فاحتط لدينك، تارة بعثا إلى الفعل واخرى زجرا عنه لأن المفروض وقوع
نفس هذه الأفعال محطا للخطاب دون عنوان الاحتياط، و (هذا) بخلاف القول بان
الامر متعلق بنفس عنوان الاحتياط، (غاية الأمر) ان امتثال الامر الاحتياطي يختلف
عند العقل في الواجبات والمحرمات مع أن تعلق الامر بالاحتياط بذات العمل خروج عن
الاحتياط فان الاحتياط في التعبديات اتيانها بعنوان احتمال التعبدية
ثم إن بعض أعاظم العصر (قدس سره) تصدى لتصحيح العبادات بأوامر الاحتياط
، ونحن قد اوردنا مثل هذا البيان عنه (قدس سره) عند البحث عن اجتماع الامر والنهى
وعليه فلا ملزم لذكره مع ما فيه فراجع
القول في مفاد اخبار من بلغ (1)
ومما يؤيد امكان الاحتياط في التعبديات بل من أدلته، اخبار هذا الباب، فان
تلك الأخبار تدل على أن تمام الموضوع للثواب هو البلوغ كما في صحيحة هشام أو
السماع كما في بعض آخر منها، و (عليه) فمهما بلغه أو سمعه وعمل على وزانه رجاء
ان رسول الله قد قاله فيثاب وإن كان رسول الله لم يقله، فهذه الأخبار أقوى شاهد على أنه
لا يشترط في تحقق الإطاعة، الجزم بالنية ولا قصد الامر في تحقق الإطاعة، إذ
الثواب الذي يصل إليه عند المطابقة، ليس الا نفس الثواب المقرر على العمل كما هو ظاهر
الصحيحة وبالجملة ان الظاهر منها ان العمل المأتى به رجاء ادراك الواقع والتوصل إلى

(1) قد جمع الشيخ المحدث الأكبر عامة روايات الباب في مقدمات الوسائل
(المؤلف)
293

الثواب إذا صادف الواقع يكون عين ما هو الواقع، ويستوفى المكلف نفس الثواب الواقعي،
وان لم يصادف الواقع يعطى له مثل ثواب الواقع تفضلا، ولو كان الاتيان باحتمال الامر
لغوا أو تشريعا، لما كان له وجه، و (الحاصل) ان مقتضى اطلاق البلوغ والسماع
امكان الاحتياط وعدم لزوم الجزم واليقين بالصدور أو الحجية، والا فلو كان شرطا
لما كان جهة لاعطاء ثواب نفسي، لعدم الاتيان بالعمل الصحيح
القول في مفاد تلك الأخبار
ومجمل القول فيه، ان الظاهر من اخباره ان وزانها وزان الجعالة، بمعنى
وضع الحكم على العنوان العام ليتعقبه كل من أراد، فكما ان تلك، جعل معلق
على رد الضالة فهذا أيضا جعل متعلق على الاتيان بالعمل بعد البلوغ برجاء
الثواب.
توضيحه: ان غرض الشارع لما تعلق على التحفظ بعامة السنن والمستحبات
ويرى ان الاكتفاء في طريق تحصيلها على الطرق المألوفة، ربما يوجب تفويت
بعضها، فلأجل ذلك توصل إلى مراده بالحث والترغيب إلى اتيان كل ما سمع عن الغير
الذي يحتمل كونه مما أمر به رسول الله، وأردف حثه باستحقاق الثواب وترتب المثوبة علي
نفس العمل، حتى يحدث في نفس المكلف شوقا إلى الاتيان، لعلمه بأنه يثاب بعمله
طابق الواقع أو خالف، فهذا الخطاب والترغيب وجعل الثواب على مطلق العمل -
خالف أو وافق، ليس الا لأجل التحفظ على المستحبات الواقعية، كما أن الغرض في
باب الجعالة متعلق برد الضالة، لكن يرى المولى ان الخطاب الشخصي والخطاب
الخصوصي بين فرد وفردين. ربما لا يحصل الهدف، فلأجله يخاطب العموم تحفظا
علي الواقع.
وان شئت فعبر: كما أن قول القائل من رد ضالتي فله كذا جعل معلق علي
رد الضالة، فهذا جعل معلق علي اتيان العمل بعد البلوغ أو السماع برجاء الثواب
وانما جعل الثواب على ذلك حثا على اتيان كلية مؤديات الأخبار الدالة على السنن
294

لعلم الشارع بان فيها كثيرا من السنن الواقعية، فلأجل التحفظ عليها جعل الثواب
على مطلق ما بلغ عنه صلى الله عليه وآله نظير قوله تعالى ما جاء بالحسنة فله عشر أمثالها حيث
جعل تضاعف الاجر للحث على الاتيان بالحسنات، فلأدلة الباب اطلاق بالنسبة إلى
كل ما بلغ بسند معتبر أو غيره.
ومما ذكرنا يظهر ان استفادة الاستحباب الشرعي منها مشكل غايته للفرق
الواضح بين ترتب الثواب على عمل له خصوصية ورجحان ذاتي فيه كما في المستحبات
وبين ترتب الثواب على الشئ لأجل ادراك المكلف ما هو الواقع المجهول كما
في المقام كما أن جعل الثواب على المقدمات العلمية لأجل ادراك الواقع لا يلازم
كونها أمورا استحبابية، وكما أن جعل الثواب على المشي في طريق الوفود إلى الله
أو إلى زيارة الامام الطاهر (الحسين بن علي) (عليهما السلام) لأجل الحث إلي زيارة
بيته أو امامه، لا يلازم كون المشي مستحبا نفسيا، وقس عليه كل ما يقع في ذهنك من
أمثال ذلك نعم يمكن المناقشة في المثالين بان في المشي خصوصية زيادة التخشع
والتواضع لله تعالى زائدة على المقدمية وأظنك إذا لاحظت روايات الباب من أولها
إلى آخرها تقف على أن الهدف منها هو التحفظ على الواقع بجعل الثواب على كل ما بلغ
أو سمع من دون صيرورته مستحبا نفسيا مع كونه غير مستحب واقعا ولو قلنا بان
مفادها التفضل على العامل لئلا يضيع عمله وتعبد لما دلت على الاستحباب كما
لا يخفى.
واما ما افاده المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار
على استحباب ما بلغ عليه الثواب لظهوره في أن الاجر كان مترتبا على
نفس العمل الذي بلغ عن النبي صلى الله عليه وآله انه ذو ثواب، فغير تام، لان ترتب الثواب
على الشئ (تارة) لأجل كونه محبوبا نفسيا، و (أخرى) لأجل التحفظ على ما هو
محبوب واقعا وفى مثله لا يصير العمل مستحبا بذاته ولا يسمى مستحبا اصطلاحا
ويليه في الضعف بل أضعف منه ما افاده بعض أعاظم العصر (رحمه الله) فإنه
بعدما ذكر الاحتمالات الموجودة في مفاد الاخبار، اختار ثانيها فقال: ان الجملة
295

الخبرية بمعنى الانشاء وفى مقام بيان استحباب العمل، ويمكن أن يكون ذلك على
أحد وجهين (أحدهما) أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته
سواء كان واجدا لشرائط الحجية أولا كما هو الظاهر فيكون مفاد الاخبار مسألة
أصولية هي حجية الخبر الضعيف، ومخصصة لما دل على اعتبار الوثاقة والعدالة في
الراوي.
ان قلت: ان النسبة بينهما عموم من وجه حيث إن ما دل على اعتبار الشرائط
يعم القائم على الوجوب والاستحباب، واخبار من بلغ تعم الواجد للشرائط وغيره
وتختص بالمستحبات فيقع التعارض بينهما (قلت) مع امكان ان يقال: إن اخبار من
بلغ ناظرة إلى الغاء الشرائط فتكون حاكمة على ما دل على اعتبارها، ان الترجيح
لها بعمل المشهور بها، مع أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط عليها لم يبق لها مورد
بخلاف تقديمها عليها فان الواجبات والمحرمات تبقى مشمولة لها بل يظهر من الشيخ
اختصاص ما دل على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرمات ولكن
الانصاف خلافه، إلى أن قال ولا يبعد أن يكون هذا أقرب كما عليه المشهور
(انتهى كلامه)
وفى كلامه مواقع للنظر اما أولا: فلان مساق الاخبار كما هو غير خفى على
من لاحظه ليس اعطاء الحجية،، فان لسان الحجية انما هو الغاء احتمال الخلاف
وان المؤدى هو الواقع، وهو ينافي مع فرض عدم صدور الحديث كما هو صريح قوله (ع)
وإن كان رسول الله لم يقله، وان شئت ان تعرف التنافي فعليك بالجمع بين لسان الاخبار
ولسان الحجية فتراه أمرا باردا غير متناسب فلو قال القائل: ما أدى عنى فعنى يؤدى
وان لم يكن المؤدى عنى ولم يصدر عنى كان كلاما مستهجنا متناقضا وهذا شاهد
على عدم كون الحديث في هذه المقامات وثانيا ان ما افاده: من أن اخبار الباب معارضة
أو مخصصة لما دل على حجية قول الثقة في غير محله جدا لعدم التنافي بينهما حتى
ينجر الامر إلى التعارض أو التخصيص، إذ لا منافاة بين أن يكون خبر الثقة حجة، ومطلق
الخبر حجة في المستحبات وما دل على حجية قول الثقة سوى آية النبأ غير دال على
296

عدم حجية قول غيره، وان شئت فلاحظ آية النفر، والسؤال، والأخبار الواردة في
المقام، وما دل على عدم اعتبار قول خبر الفاسق أو غير الثقة، قابل للمناقشة و (بالجملة
فالنسبة وإن كانت عموما وخصوصا من وجه الا انهما متوافقان، و (ثالثا) ان ما ادعى من
حكومة اخبار الباب على غيرها فيه مالا يخفى، لفقدان مناط الحكومة نعم لو صح ما أفاد
من كون اخبار الباب، ناظرة إلى الغاء الشرائط لكان له وجه صحيح ولكنه بعد غير تام و
(بالجملة) مفاد اخبار المقام حجية قول المخبر مطلقا في المستحبات ومفاد أدلة اعتبار قول
الثقة مطلقا وليس لأحدى الطائفتين تعرض لحال الدليل الآخر من تفسير أو توضيح أو
تصرف من جهة من جهاتها مما به قوام الحكومة و (رابعا) ان جعل عمل المشهور
مرجحا لتقديم اخبار الباب على غيرها غير تام، لان وجه عملهم بها غير معلوم
إذ من المحتمل انهم فهموا منها معنى لا ينافي مع غيرها (على ما فسرناه) أو فهموا ان
نفس البلوغ من أي مخبر موضوع للاستحباب، وموجب لحدوث المصلحة فيه إلى
غير ذلك من الوجوه التي يجتمع مع غيرها، وما اشتهر بينهم من التسامح في أدلة
السنن لا يدل على أن مفاد الاخبار عندهم هو الغاء شرائط الحجية في المستحبات،
فان التسامح كما يمكن أن يكون لأجل الغائها، كذلك يمكن أن يكون لأجل المعنى
الذي ذكرناه، وبالجملة: الترجيح بعملهم فرع انقداح التعارض بينهما عندهم و
هو غير معلوم و (خامسا) ان ما أفاد: من أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط لم
يبق لتلك الأخبار مورد بخلاف العكس ممنوع صغرى وكبرى، اما الصغرى فلان
اخبار الباب لا تختص بخبر غير الثقة بل لها اطلاق يعم الثقة وغيرها، فلو خرج
مورد التعارض بقى الفرد الآخر تحته، ولا يلزم أن يكون المورد الباقي مختصا بها
(نعم) لو كان مضمونها الغاء اعتبار الشرائط أو حجية الخبر الضعيف بالخصوص لكان
لما ذكره وجه، واما لو كان مفاده حجية قول المخبر في المستحبات، وكان لها اطلاق
يعم الثقة وغيرها، فلو خرج مورد التعارض عن الاطلاق لكان مفادها حجية قول
الثقة في المستحبات، واما الكبرى، فلان عدم بقاء المورد ليس من المرجحات بعد
فرض التعارض كما لا يخفى.
297

واما ما اورده على الشيخ الأعظم فبما انه لم يحضرني رسالة الشيخ وان اوردها صاحب
الأوثق بتمامه في تعليقته فلأجل ذلك نكتفي بما ذكرنا من الملاحظات. (1)
التنبيه الثالث
إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته ففي جريان البراءة عقلا وشرعا خلاف
وقبل الخوض في المقصود نذكر الصور المتصورة، فنقول ان الدوران قد يتحقق في
واقعة واحدة، واخرى في وقائع، وعلى كان تقدير فقد يمكن المخالفة القطعية وقد
لا يمكن، وعلى جميع الوجوه قد يكونان متساويين من جهة الأهمية، وقد يحتمل أهمية
واحد منهما، و (ثالثة) يعلم أهمية واحد منهما، كما إذا تردد الشخص بين كونه نبيا
أو ساب النبي، ومن المعلوم ان حفظ وجود النبي أهم من قتل سابه
ثم إنه لا اشكال في امتناع الموافقة القطعية الا في الجملة واما المخالفة القطعية
فلا يتحقق إذا كانت الواقعة واحدة، (اللهم) إذا كان أحد الحكمين أمرا تعبديا كما
إذا علمت الحائض بحرمة الصلاة أو وجوبها وجوبا تعبديا، فصلت بلا قصد التقرب،
فإنه يتحقق (ح) العلم بالمخالفة القطعية (واما إذا تعددت الوقائع)، وكان
الشخص فاعلا في واقعة، وتاركا في أخرى، فكما ان عمله يعد مخالفة قطعية، كذلك
يعد موافقة قطعية، هذه هي الوجوه المتصورة، واليك تفصيلها في ضمن أمور.
الأول: إذا كان كل من الحكمين متساويين، ولم يقم دليل على ترجيح واحد
منهما، فهل يجرى أصالة التخيير أو البراءة العقلية أو الشرعية أولا، (اما التخيير
العقلي) فلا شك ان العقل يحكم بالتخيير، لأنه بعدما أدرك ان العلم الاجمالي غير
مؤثر في المقام، وان الموافقة القطعية غير ممكنة حتى يحكم بالاحتياط، كما أن
المخالفة القطعية غير ممكنة حتى يمنع عنها العلم الاجمالي، وأدرك أيضا عدم
مرجح لواحد منهما حتى يحكم بالأخذ به، بل يرى الاخذ بأحدهما معينا ترجيحا

(1) ثم إن سيدنا الأستاذ دام ظله بحث في الدورة السابقة في المقام عن عدة مسائل،
منها مفاد النهى وجريان الأصل فيما إذا تركه مرة (منها) دوران الامر بين التعيين و
التخيير وان الأصل مع أيهما (منها) دوران الامر بين الواجب العيني أو الكفائي، وان
مقتضى الأصل ما هو ولكنه دام ظله أسقط في هذه الدورة كلها روما للاختصار، ولما حققه
في الجزء الأول حول هذه المسائل الثلاثة
298

بلا مرجح و (عندئذ) يحكم بلا تأمل على التخيير وان زمام الواقعة في الارتكاب و
عدمه بيد المكلف، وليس حكمه بالتخيير سوى ادراكه هذه المعاني، لا انه شئ آخر
حتى يستبعد وجوده، هذا حكم العقل في المقام وان شئت قلت إذا كان طرفا الفعل والترك مساويا
في نظر العقل يحكم بالتخيير بقبح الترجيح بلا مرجح فلا يبقى مترددا وبالجملة ادراك
قبح الترجيح بلا مرجح ملازم لادراك التخيير وهذا هو حكمه بالتخيير ومجرد عدم خلو
الانسان من إحدى النقيضين لا يوجب عدم حكم العقل بعدم التعيين الذي هو ادراك التخيير.
ثم إن بعض أعاظم العصر منع جريان الأصل العقلي قائلا بأنه انما يجرى فيما
إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكن المكلف من الجمع بين الطرفين
فالتخيير العقلي فيه انما هو من التخيير التكويني حيث إن الشخص لا يخلو بحسب
الخلقة من الأكوان الأربعة، لا التخيير الناشئ عن الملاك، فأصالة التخيير عند
الدوران بين المحذورين ساقطة، (واما البراءة العقلية) فغير جارية لعدم الموضوع
لها فان مدركها قبح العقاب بلا بيان، وفي دوران الامر بين المحذورين يقطع بعدم
العقاب، لان وجود العلم الاجمالي كعدمه لا يقتضى التخيير والتأثير فالقطع بالمؤمن
حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان (انتهى).
وفيه مالا يخفى اما أولا فلانه ما من واقعة من الوقائع الا وللعقل فيه حكم وادراك
(إذا أحاط المورد بعامة خصوصياته وكان المورد قابلا لحكم العقل) ففي هذا الموضع
اما ان يرى لاحد الطرفين ترجيحا أولا، فعلى الأول يحكم بتعين الاخذ به، وعلى الثاني
يحكم بالتساوي والتخيير، كما تقدم آنفا أضف إلى ذلك ان كون الانسان غير خال
عن الأكوان الأربعة أجنبي عن المقام، و (ثانيا) ان تخصيص أصالة التخيير على المتزاحمين
الذي يشتمل كل واحد على ملاك، لا وجه له، فان العقل يدرك التخيير ويحكم به
في أطراف العلم الاجمالي عند الاضطرار لترك واحد منهما أو فعله، مع أن الملاك
قائم لواحد منهما فقط ولو نوقش فيه أقول لو وصل الضال إلى طريقين يعلم أن أحدهما
طريق البلد ولا يكون ترجيح بينهما يدرك العقل التخيير ويحكم به من غير أن يكون
في كليهما ملاك، واما ما افاده في جريان البراءة العقلية من أن كون
العلم الاجمالي كعدمه، غير مفيد فان المؤمن مطلقا انما هو قاعدة قبح العقاب بلا
299

بيان، لا كون العلم الاجمالي كعدمه، إذ لولا هذه القاعدة وانه يقبح للحكيم العقاب
بلا بيان لما نرى مانعا للمولى ان يعاقب عبيده على تكاليفه الواقعية وجوبا كان أو
حراما وان شئت قلت: ان مورد القاعدة في المقام انما هو نوع التكليف لأنه غير
معلوم واما الجنس المردد بين النوعين فهو وإن كان معلوما ولا يجرى فيه أصالة
البراءة ولكن لا يجوز العقاب عليه لعدم قدرة المكلف على الموافقة القطعية،
فاتضح ان المؤمن عن العقاب بالنسبة إلى النوع انما هو القاعدة والمؤمن عن العقاب
على عدم تحصيل الموافقة القطعية انما هو العجز وعدم قدرة المكلف.
واما ما افاده بعض محققي العصر (قدس سره) في وجه عدم جريان الأصول
عقلية وشرعية من أن الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان انما هو في ظرف سقوط
العلم الاجمالي عن التأثير، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار
فلا يبقى مجال لجريان البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص (ح)
في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك، (فغير تام)
لان حكم العقل بالتخيير بعد اجراء قاعدة قبح العقاب بلا بيان في طرفي الفعل و
الترك والا فلو احتمل عدم قبحه بالنسبة إلى خصوص أحد الطرفين لم يحكم بالتخيير قطعا
وان شئت قلت: ان مجرى الاضطرار غير مجرى القاعدة، فان ما هو المضطر إليه، هو
أحدهما، واما خصوص الفعل، أو الترك فليس موردا للاضطرار، فلو فرض كون
الفعل واجبا، ومع ذلك فقد تركه المكلف فليس عدم العقاب لأجل الاضطرار إليه
لكون الفعل مقدورا بلا اشكال بل لقبح العقاب بلا بيان، ومثله الترك حرفا
بحرف.
في جريان أصالة الإباحة
وفى جريان الأصل عند دوران الامر بين المحذورين كلام فقد أفاد بعض أعاظم العصر في عدم
جريانها وجوها الأول عدم شمول دليلها للمقام، فإنه يختص بما إذا كان طرف الحرمة الحل
أو الإباحة لا الوجوب كدوران الامر بين المحذورين كما هو ظاهر قوله (ع) كل شئ فيه حلال
وحرام فهو لك حلال (الثاني) ما مر من دليل ان أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية
300

ولا يعم الشبهات الحكمية (الثالث) ان جعل الإباحة الظاهرية لا يمكن مع العلم بجنس
الالزام، فان أصالة الحل بمدلولها المطابقي تنافى المعلوم بالاجمال، لأن مفادها
الرخصة في الفعل والترك، وذلك يناقض العلم بالالزام، وان لم يكن لهذا العلم اثر
عملي، الا ان العلم بثبوت الالزام لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا فان الحكم
الظاهري انما هو في مورد الجهل بالحكم الواقعي، (أضف) إلى ذلك أنه فرق بين
أصالة الإباحة، والبرائة والاستصحاب، لان جريان أصالة الإباحة في كل واحد من
الفعل والترك يغنى عن الجريان في الآخر، لان معنى إباحة الفعل هو الرخصة في
الفعل والترك، ولذلك يناقض مفادها مطابقة لجنس الالزام، دون الاستصحاب و
البراءة فان جريانه في واحد من الطرفين لا يغنى عن الاخر لأن استصحاب عدم الوجوب
غير استصحاب عدم الحرمة (انتهى كلامه)
وفى كلامه مواقع للنظر منها ان ما ذكره أخيرا مناف لما افاده أو لا
من اختصاص دليل أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الحلية لا الوجوب، لان
جعل الرخصة في الفعل والترك انما يكون فيما إذا كانت الشبهة في الوجوب و
الحرمة جميعا، واما مع مفروضية عدم الوجوب وكون الشك في الحرمة والحلية لا
معنى لجعل الرخصة في الترك، فان جعل الرخصة الظاهرية تكون لغوا للعلم بالرخصة
الواقعية، فمفاد دليله الأول ان طرف الحرمة لابد أن يكون الحلية لا الوجوب، و
لازم دليله الثالث من جعل الرخصة في الفعل والترك ان طرف الشبهة يكون الوجوب أيضا و
هما متنافيان
وان شئت قلت: لو كانت الإباحة بالمعنى الذي ذكره ثابتا، أعني جعل
الترخيص في جانب الفعل والترك معا بحيث يكون متعلق الترخيص المجعول هو
كل من الفعل والترك، لانحصر مجريها بصورة دوران الامر بين المحذورين، إذ لو
دار الامر بين الحل والحرمة، يكون جعل الترخيص بالنسبة إلى الفعل والترك أمرا
لغوا، لأنه قاطع بالترخيص في جانب الترك لدوران امره بين الحل والحرمة، بحيث يكون
جواز الترك مقطوعا به، (وكذا) لو دار الامر بين الحل والوجوب فان جعل الترخيص
301

في الجانبين أمر لغو لأنه قاطع بالترخيص في جانب الفعل، وبالجملة لا يصلح لإضالة
الإباحة (ح) مورد سوى دوران الامر بين المحذورين.
و (منها) ان ماد؟ ره من أن مفاد دليل الحل والإباحة مناف بمدلوله المطابقي مع
العلم بالالزام، غير تام، لأنه مبنى على ورود أصالة الإباحة بالمعنى الذي أفاد حتى يكون
لازمه طرح الالزام الموجود في البين ولكن الموجود في لسان الأدلة هو أصالة الحل
المستفاد من قوله (ع) كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى، فالحلية (ح) انما هو في مقابل الحرمة،
لا الحرمة والوجوب (وعليه) فالحكم بالحلية لازمه رفع الحرمة التي هو أحد
الطرفين، لا رفع الالزام الموجود في البين، فما هو مرتفع لم يعلم وجدانا، وما هو
معلوم لا ينافيه الحلية و (الحاصل) ان الدليل الحل لا يكون مفاده الرخصة في الفعل
والترك ضرورة ان الحلية انما هي في مقابل الحرمة لا الوجوب فدليل أصالة الإباحة
يختص بالشبهات التحريمية، وليس في الأدلة ما يظهر منه الرخصة في الفعل
والترك الا قوله كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى أو أمر، على رواية الشيخ ومضى
الاشكال فيه.
(ومنها) ان مناقضة الترخيص الظاهري مع الزام الواقعي ليس الا كمناقضة
الأحكام الواقعية والظاهرية، والجمع بينهما هو الجمع بينهما.
فان قلت: ان جعل الرخصة انما هي مع الجهل بالالزام ومع العلم به يكون
غايتها حاصلة قلت: لعل هذا مراده (قدس سره) من عدم انحفاظ رتبة أصالة الإباحة
وان خلط الفاضل المقرر (رحمه الله)، الا ان الشأن في كون أصالة الإباحة كما ذكره
فإنه لا دليل عليها بهذا المعنى أضف إلى ذلك ان ما افاده من اختصاص دليل الحل بالشبهات
الموضوعية لا يخلو عن نظر وقد قدمنا ما هو الحق عندنا بل من المحتمل أن يكون مفاده متحدا
مع البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع وغيره فتأمل
في جريان البراءة الشرعية في المقام
فقد منع بعض أعاظم العصر جريانها مستدلا، بان الرفع فرع امكان الوضع
وفى مورد دوران الامر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما
302

لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير، ومع عدم امكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع
فأدلة البراءة الشرعية لا تعم المقام أيضا، و (فيه) ان الممتنع رفعه ووضعه انما هو
مجموع الحرمة والوجوب،، ولا يكون المجموع من حيث المجموع مفاد دليل
الرفع، واما رفع كل واحد، فلا اشكال فيه فيقال ان الوجوب غير معلوم فيرتفع
والحرمة غير معلومة أيضا فيرتفع فالتحقيق انه لا مانع من شمول حديث الرفع للمقام
لعدم لزوم المخالفة العملية والالتزامية منه والتنافي بين الرفع والالزام الجامع بين
الوجوب والحرمة مما لا اشكال فيه لأنه ليس بحكم شرعي بل أمر انتزاعي غير مجعول
وما هو المجعول نوع التكليف وهو مشكوك فيه ومثله في الضعف
ما افاده في منع جريان الاستصحاب من أن الاستصحاب من الأصول
التنزيلية، وهى لا تجرى في أطراف العلم الاجمالي مطلقا فان البناء على مؤدى
الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية، فان البناء على عدم الوجوب والحرمة
واقعا لا يجتمع مع التدين بان لله في هذه الواقعة حكما الزاميا - و (فيه) منع
كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية بالمعنى الذي ادعاه، فان مفاد قوله (ع) في
صحيحة زرارة الثالثة ولكنه ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين ويبنى عليه،
ليس الا البناء على تحقق اليقين الطريقي وبقائه عملا أو تحقق المتيقن كذلك،
واما البناء القلبي على كون الواقع متحققا فلا، فراجع كبريات الباب، فإنك
لا تجد فيها دلالة على ما ذكره من البناء القلبي و (بالجملة) ان البناء في الاستصحاب
عملي لا قلبي حتى ينافي الالزام المعلوم في البين.
الأمر الثاني: إذا كان لاحد الحكمين في دوران الامر بين المحذورين مزية
على الاخر احتمالا كما إذا كان الوجوب أقوى في نظر العالم من الحرمة، أو محتملا
كما إذا كان متعلق الوجوب أقوى أهمية في نظره على فرض مطابقته للواقع، فهل
يوجب تلك الأهمية تعين الاخذ به لان المقام من قبيل دوران الامر بين التعيين
والتخيير كما عن المحقق الخراساني أولا يقتضى ذلك، التحقيق جريان البراءة
عن التعيينية ولو قلنا بأصالة التعين عند الشك في التعيين والتخيير، لان أصل
303

التكليف مشكوك فيه يجرى فيه البراءة فضلا عن خصوصياته نعم لو كان ذات المزية
مما له أهمية عند العقل والشرع على فرض صدقه بحيث يحكم بالاحتياط وإن كانت
الشبهة بدئية كما لو تردد الشخص بين كونه نبيا أو مرتدا، فيحكم العقل بالتعيين
وان لم يكن في المقام علم، ومثله إذا ترددت المرأة بين كونها واجبة الوطي،
أو محرمتها محرمة ذاتية مثل المحارم.
وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض الأعاظم من أن وجود المزية كعدمها حتى لو كان
المحتمل من أقوى الواجبات الشرعية وأهمها
الأمر الثالث: إذا تعددت الوقائع فهل التغيير بدئي أو استمراري الأقوى هو
الثاني لان المكلف إذا اتى في الواقعة الثانية بخلاف الأولى يعلم بمخالفة قطعية و
موافقة قطعية، وليس في نظر العقل ترجيح بينهما، فصرف لزوم مخالفة قطعية لا
يمنع عن التخيير بعد حكم العقل بعدم الفرق بين تحصيل تكليف قطعا وترك تكليف
قطعا، و (توضيحه) ان كل واقعة اما ان تلاحظ مستقلا بلا لحاظها منضمة إلى واقعة
أخرى فيدور أمر المكلف في كل جمعة أو كل واقعة بين المحذورين، أو تلاحظ منضمة
إلى واقعة أخرى، فيحصل له علمان: العلم بان صلاة الجمعة اما محرمة في هذا اليوم
أو واجبة في الجمعة الآتية، والعلم بأنها واجبة في هذا اليوم، ومحرمة في الجمعة
الآتية، فامتثال كل علم على وجه القطع مخالفة قطعية للعلم الاخر، مثلا لو ترك
الجمعة في الحاضرة وصلى في القادمة فهو وان امتثل العلم الأول (العلم بأنها اما
محرمة في اليوم أو واجبة في القادمة) الا انه خالف العلم الثاني (العلم بأنها اما
واجبة في هذا اليوم، أو محرمة في القادمة)، كما أنه لو عكس، انعكس القضية إذا
عرفت هذا فنقول.
لو كان كل واقعة موضوعا مستقلا، فلا شك انه يجرى البراءة سواء كان ما يختاره
عين ما اختاره أو ما يختاره في القادمة، أولا كما هو واضح، واما إذا لوحظ الوقائع مجتمعة و
منضمة فلو كان التخيير بدئيا كان يكون فاعلا في كل الوقايع أو تاركا، فلا يتحقق مخالفة
قطعية كما لا يتحقق موافقة قطعية بل يكون محتمل الموافقة والمخالفة،
304

واما إذا كان التخيير استمراريا وكان المكلف فاعلا في واقعة وتاركا في
أخرى فيتحقق موافقة قطعية، ومخالفة قطعية، و (بما) انه لا دليل على ترجيح
الموافقة والمخالفة الاحتماليين على الموافقة والمخالفة القطعيين، فلا جرم لم يكن وجه
للزوم كون التخيير بدئيا لا استمراريا، وترجيح الأولى بانتفاء المخالفة القطعية
فيها، معارض بوجود المخالفة القطعية في الثاني.
واما ما افاده بعض أعاظم العصر (قدس سره) ما محصله: ان المخالفة القطعية
لم تكن محرمة شرعا بل هي قبيحة عقلا، وقبحها فرع تنجز التكليف، فان
مخالفة التكليف الغير المنجز لا قبح فيها، كما لو اضطر إلى أحد الأطراف المعلوم
بالاجمال فصادف الواقع فإنه مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا، وليس
ذلك الا لعدم تنجز التكليف وفيما نحن فيه لا يكون التكليف منجزا في كل واقعة
لان في كل منها يكون الامر دائرا بين المحذورين، وكون الواقعة مما تتكرر
لا يوجب تبدل المعلوم بالاجمال ولا خروج المورد عن الدوران بين المحذورين
(انتهى كلامه).
ففيه: ان عدم تنجز التكليف في المقام ليس لقصور فيه ضرورة كونه تاما
من جميع الجهات، وانما لم يتنجز لعدم قدرة المكلف على الموافقة القطعية
ولا المخالفة القطعية بحيث لو فرضنا محالا امكان الموافقة القطعية يحكم العقل
بلزومها، ولو فرض عدم امكان الموافقة القطعية لكن أمكن مخالفة القطعية
يحكم بحرمتها، لتمامية التكليف.
و (بالجملة) التنجيز فيما نحن فيه فرع امكان المخالفة لا ان حرمة المخالفة فرع
التنجيز، فإذا أمكن المخالفة يصير التكليف منجزا، لرفع المانع، وهو امتناع المخالفة
القطعية والشاهد عليه انه لو فرضنا قدرة المكلف علي رفع النقيضين في الواقعة الواحدة
يحكم العقل بحرمته، وليس ذلك الا لعدم القصور في ناحية التكليف، وانما
305

القصور في قدرة العبد، وفى الوقائع المتعددة يكون العبد قادرا على المخالفة
فيتنجز التكليف.
تتميم: لو كان الطرفان تعبديين أو أحدهما المعين تعبديا فلا اشكال في
امتناع الموافقة القطعية، واما المخالفة القطعية فتحصل بالاتيان بأحد الطرفين
أو المعين كونه تعبديا، بلا تقرب. واما إذا كان أحد الطرفين تعبديا لا بعينه، فهل
يحكم العقل بالأخذ بأحد الطرفين والعمل على طبقه بنية الرجاء أو لا، يحتمل الثاني لان
الاخذ بأحد الطرفين والعمل علي طبقه بلا رجاء يوجب احتمال المخالفة من جهتين، جهة
احتمال ان حكم الله هو الاخر، وجهة ان حكم الله لو كان ما عمل على طبقه، اتاه بلا شرطه،
وهذا بخلاف ما لو اتى به رجاءا فان احتمال المخالفة من الجهة الثانية منتفية،
ولعل الثاني هو الأقوى لان العبد في المخالفة من الجهة الثانية غير معذور، وليس في يده
حجة مقبولة، وبذلك يظهر النظر فيما ربما يقال من أن أصل التكليف لم يقم عليه دليل فما
ظنك بتعبديتها (انتهى) وقد عرفت في الأمر الثاني ما يوضح ضعفه - والحمد لله أولا وآخرا.
في الشك في المكلف به
نجز الكلام بحمد الله في البحث عن الشك في التكليف، وحان وقت البحث
عن الشك في المكلف به، واما الميزان فيه فهو انه إذا علم المكلف بجنس
التكليف أو نوعه وتردد متعلقه بين شيئين أو أزيد وأمكن له الاحتياط، يصير الشك
(ح) شكا في المكلف به، فخرج مالا علم فيه رأسا كالشبهة البدوية، وما علم جنسه و
لكن لم يمكن الاحتياط فيه، كما إذا علم بكون أحد الشيئين اما واجب أو حرام
فالعلم بالالزام والتردد في المتعلق وإن كان حاصلا الا ان الاحتياط على وجه الموافقة
القطعية غير ممكن، سواء اتى بهما أو تركهما، أو اتى بواحد، وترك آخر،
واما الشك في المحصل، فهو وإن كان يلزم فيه الاحتياط، الا انه لا ضير في خروجه
، لعدم الملازمة بين لزوم الاحتياط وكون الشك فيه شكا في المكلف به، بل هو
باب برأسه يدخل فيه الشك في المحصل والشك في الاتيان بالمأمور مع بقاء الوقت
306

إلى غير ذلك، وما يقال في الميزان في المقام: إن كان الشك في الثبوت فهو الشك
في التكليف وهو مرجع البراءة، وإن كان الشك في السقوط فهو الشك في المكلف
به ومحل الاحتياط، غير صحيح، لان كون الشك في السقوط وإن كان محلا
للاشتغال الا انه أعم من الشك في المكلف به كما لا يخفى إذا عرفت هذا فنقول:
اختلفت الآراء في كون العلم بالحكم اجمالا هل هو علة تامة لوجوب الموافقة
وحرمة المخالفة، أو مقتض بالنسبة إليهما، أو علة تامة بالنسبة إلى أحدهما دون
الاخر، يظهر الثمرة في امكان الترخيص بالنسبة إلى بعض الأطراف أو كلها، وبما
ان محل النزاع غير منقح في كلام الأجلة، حتى أن الشيخ الأعظم لا يخلو كلامه عن
اختلاط، فنقول: ان تنقيح البحث يحتاج إلى البحث في مقامين (الأول) إذا علم
علما وجدانيا لا يحتمل الخلاف بالتكليف الفعلي الذي لا يرضى المولى بتركه،
فلا شك انه يجب تحصيل الموافقة القطعية، وتحرم المخالفة قطعيها أو محتملها،
ولا مجال للبحث عن جواز الترخيص في بعضها أو جميعها كانت الشبهة محصورة أو غير
محصورة لا لأجل كون القطع منجزا، أو كون تحصيل الموافقة واجبا، أو تحصيل
المخالفة حراما، بل لأجل لزوم اجتماع النقيضين قطعا أو احتمالا، ضرورة ان
القطع بالإرادة الالزامية لا يجتمع مع احتمال الترخيص فضلا عن القطع به، فان
الترخيص في بعض الأطراف ولو كانت الشبهة غير محصورة مع احتمال انطباق الواقع
على المورد المرخص فيه وإن كان ضعيفا، لا يجتمع مع الإرادة الالزامية الحتمية،
ولا أظن أن العلمين (الخوانساري والقمي)، جوزا الترخيص في هذه الصورة واما الشيخ
الأعظم (قدس سره) فيظهر من بعض كلماته كون النزاع عاما يشمل المقام الأول حيث
جعل المانع عن جريان الأصول لزوم الاذن في المعصية ووجود المانع عن جريانه
في عالم الثبوت وإن كان يظهر من بعض كلماته كون النزاع في غير هذا المقام،
وهذا هو الذي يصلح ان يبحث عنه في باب القطع
المقام الثاني: إذا علمنا حرمة شئ أو وجوبه لا بعلم وجداني
بل بشمول اطلاق الدليل أو عمومه على المورد كما إذا قال لا تشرب الخمر
307

وشمل بالاطلاق على الخمر المردد بين الإنائين، فهل يمكن الترخيص بأدلة الأصول
بتقييد اطلاق الدليل أولا، وهذا هو الذي ينبغي ان يبحث عنه في المقام، ومثله
إذا علم اجمالا بقيام حجة على هذا الموضوع أو ذاك، كما إذا علم بقيام امارة معتبرة
اما بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة إلى غير ذلك مما يعد من أقسام المتباينين ويظهر
من بعض كلمات الشيخ الأعظم انه محط البحث حيث استدل على حرمة المخالفة
القطعية بوجود المقتضى للحرمة وعدم المانع عنها اما ثبوت المقتضى فلعموم دليل
تحريم ذلك العنوان المشتبه فان قول الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر
الموجود المعلوم بين الإنائين إلى آخر ما افاده ومن ذلك ما افاده في ذيل المطلب الثاني حيث
قال: الكلام يقع في مقام ما ذكرنا في أول الباب أي الشبهة التحريمية في الشك في المكلف
به لأنه اما يشتبه الواجب بغير الحرام من جهة عدم النص المعتبر أو اجماله أو تعارض
النصين أو من جهة اشتباه الموضوع اما الأولى فالكلام فيه اما في جواز المخالفة
القطعية في غير ما علم باجماع أو ضرورة حرمتها إلى آخر ما افاده فهذه الكلمات واضرابه
يعين محط البحث وان البحث في غير ما علم وجدانا وجود تكليف قطعي لا يرضى
المولى بتركه.
ثم إن للمقام الثاني صورتين، الأولى: إذا علم المكلف علما جازما بان التكليف
الواقعي على فرض تحققه فعلى لا يرضى المولى بتركه، وهذه الصورة أيضا خارجة عن
محط البحث لأنه مع العلم بفعلية التكليف على فرض تصادف الامارة للواقع، وتصادف
المحتمل للامارة لا يمكن الترخيص الفعلي بجميع الأطراف أو بعضهما، لان العلم
بالترخيص مع العلم بفعلية التكليف على فرض المصادفة غير ممكن الاجتماع فمع
العلم الثاني لا يمكن الاخذ بالأدلة المرخصة
الثانية تلك الصورة ولكن يحتمل ذلك ويحتمل مزاحمته لما هو أقوى
ملاكا كما سنشير إليه فيرفع اليد عنه في مقام التزاحم فانحصر محط البحث بالصورة الثانية
من المقام الثاني وهى صورة عدم العلم الوجداني بالتكليف الفعلي لا فعلا ولا تقديرا
وعلى فرض تصادف الامارة يحتمل فعلية الواقع ويحتمل عدمها ويصير مآل البحث إلى
308

انه بعدما قامت الحجة الفعلية على التكليف من اطلاق أو عموم: هل هيهنا حجة أخرى
أقوى أعني أدلة الأصول حتى ترفع اليد عن الحجة الأولى ويكون من قبيل دفع الحجة
بالحجة أولا -
تنبيه
اعلم: انه لو قلنا بجواز الترخيص في أطراف العلم الاجمالي، لا يوجب
ذلك تقييدا في الأدلة الواقعية بوجه، بل يكون حالها حال قيام الامارات على
خلافها، وحال جريان الأصول في الشبهات البدئية، إذا كانت مخالفة للواقع،
فكما ان الواقع لم يتقيد بمؤديات الامارات، ولا بحال العلم فكذلك في المقام، و
الفرق ان هيهنا ترخيص في مخالفة الامارة ويحتمل انطباق الامارة على الواقع، و
هناك ترخيص في العمل بها مع امكان تخلفها عنه، وفى الشبهات البدئية ترخيص
مع احتمال تحقق الواقع، و (بالجملة) ان البحث في المقام كالبحث في الامارات و
الأصول في الشبهات البدئية إذا خالفت الواقع، فكما ان في الامر بالعمل بالامارات
أو امضاء الطرق العقلائية، احتمال تفويت الواقع، والمصالح والاغراض بما ان
تلك الطرق والأصول ربما تؤدى المكلف إلى خلاف المطلوب، فهكذا الامر في العمل
بالأصول وفى جعل الترخيص فيما إذا قامت الحجة على وجوب الشئ أو حرمته وتردد بين
أمرين وكما أن المجوز لهذا التفويت والاغراض ليس الا التحفظ على الغرض
الأهم من حفظ نظام العباد، وصيانتهم عن الاعراض عن الدين ورغبتهم عن الشريعة
كما مر توضيحه في بابه فهكذا لو فرض في جعل الترخيص مصلحة أولى وأهم من
التحفظ على الواقع، لا يكون ضير في المقام في جعله وتشريعه، فالمولى الحكيم لوقوفه
على الاعراض الهامة وغيرها يقدم بعضها على بعض ويعرض عن بعض ويرفع اليد
عنه للتحفظ بما هو أولى وأقدم.
وان شئت قلت: ان التخصيص والتقييد في الأدلة الواقعية لقصور الاقتضاء وفى
المقام (أي امضاء الطرق العقلائية، والترخيص في أطراف العلم الاجمالي) لا يكون
309

الا قضاء قاصرا ولهذا يجب العلم بالتكاليف في الشبهات الحكمية ويجب تتبع الاحكام
ونشرها، ولكن الجهات الأخر لما كانت أهم من مراعاة الواقع، صارت تلك الأهمية سببا
للترخيص في الشبهات البدئية ولتنفيذ الامارات وايجاب العمل على طبقها، وفى المقام
أيضا على فرض امكانه فلا تكون الواقعيات مخصصة ولا مقيدة بشئ من تلك الموارد بل
متروكة مع كمال مطلوبيتها لأجل اغراض أهم.
إذا عرفت ما ذكر فاعلم: ان البحث يقع في جهتين (الأولى) في امكان الترخيص
ثبوتا، و (ثانيتهما) في وقوعه فنقول: اما الجهة الأولى فلا اشكال ان العقل (مع قطع
النظر عن الأدلة المرخصة على فرض وجودها) يحكم بوجوب موافقة الامارات و
عدم جواز مخالفتها سواء علم قيامها على أمر تفصيلا أو اجمالا، ويحكم مع العلم
الاجمالي بقيام امارة اما على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو على وجوبه عند غروب
الشمس، على لزوم المطابقة القطعية وحرمة مخالفتها القطعية لكن لا بملاك المعصية
والاطاعة لعدم احراز موضوعها لعدم العلم بتصادف الامارة للواقع بل بملاك قطع
العذر واستحقاق العقوبة على فرض مطابقتها للواقع أو بملاك المعصية التقديرية
أي على فرض المصادفة فلو ارتكب أحد أطراف المعلوم بالاجمال فيحتمل قيام
الامارة عليه وعدمه وعلى فرضه يحتمل تصادف الامارة للواقع وعدمه لكن على
فرض تصادف الاحتمالين للواقع لا عذر له في ترك المأمور به الواقعي فيستحق
العقوبة عليه.
و (الحاصل) ان العلم بالحجة الاجمالية كالعلم بالحجة التفصيلية في نظر العقل
لان العمل بها واتباعها مؤمن عن العقاب صادف أو خالف، والاعراض عنها يحتمل
معه العقاب، فيجب دفعه، والعلم بالحجة وان لم يكن ملازما مع العلم بالحكم لكنه
يجب العمل به عقلا لحصول الامن معه، فان المكلف يعد إذا صادفت الامارة
للواقع، غير معذور إذا لم يعمل به هذا حكم إذا قصر نظره إلى أدلة الامارات
ومع ذلك كله لا مانع هنا للشارع عن جعل الترخيص، وليس حكم العقل
310

بلزوم اتباع الحجة الاجمالية مانعا عن جعل الترخيص كما ليس ههنا مانع من ناحية
الخطابات الأولية ولا من غيرها،
توضيحه: ان ما هو القبيح على المولى انما هو الاذن في معصيته ومخالفته فلو
وقف المكلف بعلم وجداني على كونه مطلوبا فالترخيص في تركه يعد لدى العقل
قبيحا بالنسبة إلى المولى الذي لا يتلاعب باحكامه وأغراضه، فالعلم بالمطلوب و
الالزام به ثم الترخيص فيه مع بقائه على المطلوبية التامة التي لا يرضى بتركه نقض
في الغرض لا يليق بساحة الحكيم - بل يمكن ان يقال: إن امتناعه ليس لأجل كونه
أمرا قبيحا بل هو أمر ممتنع بالذات لامتناع اجتماع إرادتين متعلقتين على فعله
وتركه، فالترخيص في المعصية مع كونه قبيحا محال ذاتا.
ولكن كون الترخيص، اذنا في المعصية فرع العلم بكونه محبوبا ومطلوبا
تاما، والمفروض ان الموجود في المقام ليس الا العلم بالحجة ولا نعلم كونها مطابقة
للواقع أولا، فالترخيص في مخالفتها (لحفظ غرض أهم على فرض المطابقة للواقع)
ليس ترخيصا في المعصية، لعدم العلم بالحكم بل هو ترخيص في مخالفة الامارة،
وإجازة في مخالفة الحجة، فما يدعى من الامتناع والاستقباح غير آت في المقام،
واما توهم المانع من ناحية الخطابات الأولية واستلزام ذلك الترخيص، تقييدا أو
تخصيصا في أدلة الواقعية فقد مر توضيحه ودفعه.
والحاصل: انى لا أظن بقاء المجال للتشكيك في امكان الترخيص حتى
بالنسبة إلى جميع الأطراف بعد تصور محط البحث لعدم لزوم شئ مما ذكر كلزوم الاذن في
المعصية ضرورة ان الاذن في مخالفة الامارة لا يلازم الاذن في المعصية بل قد يلزم منه الاذن في
مخالفة الواقع ولا اشكال فيه، لجواز رفع اليد عن الواقع لأجل تزاحم جهات أهم
منه، وان شئت فاعطف نظرك إلى اشباهه ونظائره، فان الشك بعد تجاوز المحل
أو خروج الوقت، لا يترتب عليه الأثر مع امكان كون المضي موجبا لتفويت الواقع
ومثله الاذن بالعمل بالاستصحاب أو ايجاب العمل به، فان الترخيص والاذن والامر
في هاتيك الموارد يكشف عن عدم فعلية الأحكام الواقعية بمعنى رفع
311

اليد عنها للمزاحم الأقوى من غير تقييد لها أو تخصيص، فلو فرغنا من دلالة الأدلة
المرخصة اثباتا ولم يكن محذور في مقام الاستفادة عن الاخذ بمفادها، فلا نتصور مانعا
في المقام، فما ربما يترائى في كلمات الأعاظم من تصور المحاذير الثبوتية من أن
الترخيص في جميع الأطراف مستلزم للاذن في المعصية وهو قبيح عقلا، أو ان حكم
العقل بالنسبة إلي المخالفة القطعية على نحو العلية التامة، وبالنسبة إلى الموافقة القطعية
كذلك أو بنحو الاقتضاء، كل ذلك ناش من خلط محل البحث بما هو خارج عنه
فإذا تبين امكان الترخيص فلو دلت الأدلة على الترخيص فلا مانع من القول بمقالة
المحققين (الخوانساري والقمي) (قدس سرهما)
الجهة الثانية: في وقوع الترخيص: وتنقيح البحث يتوقف علي سرد الروا -
يأت فنقول: ان الروايات الواردة في المقام على طائفتين الأولى: ما يظهر منها
التعرض لخصوص أطراف العلم الاجمالي أو الأعم منه ومن غيره واليك بيانه
1 - صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال كل شئ فيه حرام وحلال
فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه.
2 - ما رواه عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان قال سألت: أبا جعفر
عن الجبن فقال لقد سئلتني عن طعام يعجبني ثم اعطى الغلام درهما فقال:
يا غلام ابتع لنا جبنا ثم دعى بالغذاء فتغذينا معه فاتى بالجبن فاكل
فأكلنا فلما فرغنا من الغذاء قلت ما تقول في الجبن قال أو لم ترني آكله قلت بلى
ولكني أحب ان أسمعه منك فقال سأخبرك عن الجبن وغيره كلما كان فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (والكبرى الواقعة فيه قريب
مما وقع في الصحيحة السابقة.
3 - رواية معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسئله
رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره:
كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
ثم إن الشيخ الأعظم نقل هذه الرواية بزيادة " منه " فلم نجد له إلى الان مدركا،
312

ويحتمل اتحاد الثانية والثالثة من الروايتين لقرب الفاظهما وعدم اختلافهما الا في تنكير
الحلال والحرام وتعريفهما ويحتمل اتحاد الأولى مع الثانية أيضا لكون الراوي في
الثانية انما هو عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان فمن الممكن انه نقله تارة
مع الواسطة واخرى مع حذفها وليس ببعيد مع ملاحظة الروايات الا انا نتكلم فيها
على كل تقدير
فنقول: ان في تلك الروايات احتمالات الأول: اختصاصها بالشبهة البدئية
بان يقال: إن كل طبيعة فيه الحرام والحلال وينقسم إليهما تقسيما فعليا واشتبه
فرد منها من أنه من أي القسمين فهو لك حلال. ولكنك خبير بأنه أردى الاحتمالات
لان التعبير عن الشبهة البدئية بهذه العبارة بعيد غايته مع امكان أن يقول
كل ما شككت فهو لك حلال أو الناس في سعة مالا يعلمون.
الثاني: اختصاصها بالعلم الاجمالي فقط فان الظاهر أن قوله كل شئ فيه حلال و
حرام فهو لك حلال، ان ما فيه الحلال والحرام حلال بحسب الشبهة الموضوعية كما هو مورد
الثانية والثالثة، ولا يبعد أن يكون مورد الصحيحة هو الموضوعية، أيضا فيصدق قوله
فيه الحلال والحرام على المال المختلف فإذا كان عنده خمسون دينارا بعضها معلوم
الحرمة وبعضها معلوم الحلية يقال إنه شئ فيه حلال وحرام، والظاهر من قوله فهو لك
حلال، وان ما فيه الحلال والحرام لك حلال (فح) فالغاية هي العلم التفصيلي وهذا
أقرب الاحتمالات.
الثالث: كونها أعم من العلم الاجمالي والشبهة البدئية بان يقال: إن كل
طبيعة فيه حلال معين وحرام معين، وفرد مشتبه، فالمشتبه لك حلال حتى تعرف
الحرام، وان شئت قلت: إذا علم تفصيلا حرمة بعض افراد الطبيعة، وعلم حلية بعض
آخر وشك في ثالث فيقال: ان المهية الكذائية التي فيها حلال وحرام فهي حلال مع الشبهة
حتى تعرف الحرام، ولكن ادخال هذا الفرد يحتاج إلى تكلف خارج عن محور المخاطبة
وعلى أي فرض فلا محيص في الاحتمالين الأخيرين الا بجعل الغاية علما تفصيليا، لا
لكون مادة المعرفة ظاهرة في مقام التشخيص في المميزات الشخصية التي لا تنطبق الا على
313

العلم التفصيلي، ولا لان قوله: تعرف. ظاهر في ذلك، وإن كان كل ذلك وجيها بل لأنه
على فرض كونه متعرضا لخصوص العلم الاجمالي لا معنى لجعل الغاية أعم من العلم التفصيلي و
على فرض كونه أعم، لا معنى لجعل الغاية أعم أيضا لان لازمه ان المشتبه البدوي حلال
حتى يعلم اجمالا أو تفصيلا انه حرام والمعلوم الاجمالي حلال حتى يعلم تفصيلا انه حرام مع أنه
باطل بالضرورة لان لازم جعل الغاية أعم تارة والعلم التفصيلي أخرى التناقض أي
حلية المعلوم بالاجمال وحرمته وإن كان المراد المشتبه البدئي حلال حتى يعلم
اجمالا وجود الحرام فيه (فح) يرتفع حكمه ثم يندرج في صغرى المشتبه بالعلم
الاجمالي فهو حلال إلى أن تعرف الحرام تفصيلا، فهو وإن كان مفيدا للمقصود لكنه
أشبه شئ بالا حجية واللغز أضف إلى ذلك ان الظاهر أن قوله (بعينه) قيد للمعرفة وهو
يؤيد كون العرفان لابد وأن يكون بالعلم التفصيلي، ويؤيده أيضا الفرق المعروف بين
العرفان والعلم فان الأول لا يستعمل الا في الجزئي المشخص، فعليه فالغاية للصدر الشامل
للعلم الاجمالي ليس الا العلم تفصيلا بكون الحرام هذا الشئ المعين.
هذا حال الروايات والانصاف قوة الاحتمال الثاني كما هو غير
بعيد عن روايات الجبن فان الظاهر أن الاشتباه في الجبن لأجل جعل الميتة في
بعضها كما هو الظاهر في بعضها مثل ما رواه أبو الجارود قال سئلت: أبا جعفر عن
الجبن فقلت اخبرني ما رأى أنه يجعل فيه الميتة فقال امن أجل مكان واحد يجعل
فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله وان لم تعلم فاشتر وبع
(وما) رواه منصور بن حازم عن بكر بن حبيب قال سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الجبن
وانه توضع فيه الإنفحة من الميتة قال لا تصلح ثم ارسل بدرهم فقال اشتر من رجل مسلم
ولا تسئل عن شئ.
وملخص الكلام في هذه الروايات: ان اشتراك عبد الله بن سليمان بين ضعيف
وموثق يسقط الرواية عن الحجية، أضف إلى ذلك ان المراد من الحرام فيها
الإنفحة كما هو المنصوص في بعض روايات الباب مع أن ضرورة فقه الامامية قاضية على
حليتها وطهارتها، وبذلك يظهر الجواب عن رواية ابن " عمار " مضافا إلى ارسالها،
314

فلم يبق في الباب الا صحيحة عبد الله بن سنان، فبما ان ما رواه من الكبرى موافقة
مع رواية عبد الله بن سليمان التي رواه نفس عبد الله بن سنان عنه أيضا، فلا بعد لو قلنا
باتحادهما حقيقة وان ما استقل به عبد الله بن سنان قطعة منها نقلها بحذف خصوصياتها،
و (عليه) فيشتركان فيما ذكرناه من الوهن.
نعم يمكن دفع الوهن بان التقية، ليست في الكبرى، بل في تطبيقها على
تلك الصغرى لا بمعنى ان حلية الإنفحة لأجل التقية، بل بمعنى ان الكبرى لما
كان أمرا مسلما عند الامام، كطهارة الإنفحة وحليتها على خلاف العامة القائلين
بنجاستها، فبين الإمام عليه السلام الحكم الواقعي في ظرف خاص (صورة الشبهة) بتطبيق
كبرى على مورد ليس من صغرياته الزاما للخصم، وتقية منه، ونجد له في الفقه
اشباها كما في صحيحة البزنطي حيث تمسك الامام على بطلان الحلف على العتق
والطلاق إذا كان مكرها، بحديث الرفع، مع أن الحلف عليهما باطل من رأس سواء
كان عن اكراه أو لا فتدبر، ويأتي بعض الكلام حول هذه الروايات عند البحث عن
الموافقة القطعية لكنه أيضا محل اشكال لاحتمال تمسكه بالأصل لتسلمه عندهم لا عند
الطائفة الثانية من الروايات: ما لا اختصاص له بأطراف العلم الاجمالي واليك بيانها
1 - موثقة مسعدة بن صدقة: قال سمعته يقول: كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه
حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعله سرقة أو
العبد يكون عبدك ولعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع أو امرأة تحتك و
هي أختك أو رضيعتك إلى آخرها
2 - كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى.
3 - رفع عن أمتي تسعة، مالا يعلمون واستكرهوا عليه الخ إلى غير ذلك من
أحاديث البراءة ومع ذلك كله لا يصح الاعتماد عليها في ارتكاب أطراف العلم اما
الموثقة فان الظاهر من الصدر وإن كان عموميته للبدئية والعلم الاجمالي ولأجل ذلك
لا مناص من تخصيص الصدر بالعلم التفصيلي دفعا للاشكال المتقدم مضافا إلى ما عرفت من أن
العلم بكون هذا أو هذا حراما ليس من معرفة الحرام بعينه، الا ان الاشكال في
315

تطبيق الكبرى المذكورة على ما ذكر في ذيل الحديث، فان الحل فيها مستند على امارات
وقواعد متقدمة على أصالة الحل، لان اليد في الثوب امارة الملكية كما كان ان أصالة الصحة
في العقد هي المحكم في المرأة واستصحاب عدم كونها رضيعة عند الشك في كونها رضيعة إلي
غير ذلك من قواعد مما يوهن انطباق الكبرى على الصغريات المذكورة، ولأجل ذلك لابد
من صرفها عن مورد القاعدة بان يقال إنها بصدد بيان الحل ولو بامارة شرعية مع
الجهل الوجداني بالواقع وكيف كان فالاستناد بها في المقام مشكل.
واما أحاديث البراءة، فالظاهر عدم شمولها لأطراف العلم لان المراد من العلم
فيها هو الحجة أعم من العقلية والشرعية لا العلم الوجداني وقد شاع اطلاق العلم و
اليقين على الحجة في الاخبار كثيرا كما سيوافيك بيانه في اخبار الاستصحاب، و
المفروض انه قامت الحجة في أطراف العلم على لزوم الاجتناب، على أن المنصرف
أو الظاهر من قوله: مالا يعلمون كونه غير معلوم من رأس بمعنى المجهول المطلق
لا ما علم وشك في انطباق المعلوم على هذا وهذا.
أضف إلى ذلك ان هنا اشكالا آخر يعم جميع الروايات عمومها وخصوصها وهو
ان الترخيص في أطراف العلم الاجمالي الذي ثبت الحكم فيه بالحجة، يعد عند
ارتكاز العقلاء ترخيصا في المعصية وتفويتا للغرض وهذا الارتكاز وإن كان على خلاف
الواقع ما عرفت من أنه ترخيص في مخالفة الامارة لا ترخيص في المعصية لكنه تدقيق
عقلي منا، والعرف لا يقف عليه بفهمه الساذج، وهذا الارتكاز يوجب انصراف الاجبار
عامة عن العلم الاجمالي المنجز، فان ردع هذا الارتكاز يحتاج إلى نصوص وتنبيه
حتى يرتدع عنه، والمراد منها (ح) اما الشبهات الغير المحصورة كما هو مورد بعض
الروايات المقدمة أو غيرها مما لا يكون اذنا في ارتكاب الحرام، ويؤيد ذلك حكم
الأعاظم من المتأخرين بان الترخيص في أطراف العلم اذن في ارتكاب المعصية،
فان حكمهم هذا ناش من الارتكاز الصحيح، وبالجملة فالعرف لا يرتدع عن فطرته
بهذه الروايات حتى يرد عليه بيان أوضح وأصرح.
أضف إلى ذلك ما افاده صاحب الجواهر في باب الرباء: من أن ظاهر هذه الروايات
316

حل الجميع ولكن لم يعمل بها الا نادر من الطائفة مضافا إلى أن روايات الحل
مختصة بالشبهة الموضوعية والبحث في الأعم منها.
ثم إن الظاهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) ان المانع عن الشمول هو لزوم
تعارض الصدر والذيل في أدلة الأصول وكلامه هذا حاك على أن المانع اثباتي لا ثبوتي
وقد تقدم ان كلماته مختلفة، قال في مبحث تعارض الاستصحابين: إذا لم يكن لاحد
الاستصحابين مرجح فالحق التساقط دون التخيير لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض
أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول لا تنقض، لان قوله: لا تنقض اليقين بالشك
ولكن تنقضه بيقين مثله، يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين،
فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز ابقاء كل
منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله،
ولا أحدهما المعين لكونه ترجيحا بلا مرجح، ولا أحدهما المخير لأنه ليس من افراد
العام " انتهى كلامه "
والاشكال عليه بان الذيل غير وارد الا في بعض الروايات غير صحيح ضرورة
تقديم المشتمل على خصوصية على العاري منها على ما هو مقرر في محله، (نعم) يمكن
ان يورد عليه، ان المراد من اليقين وإن كان الحجة على ما سيوافيك في محله من أن
المراد من قوله عليه السلام لا تنقض اليقين بالشك أي لا تنقض الحجة باللا حجة،
لكن المراد من الذيل هو العلم التفصيلي، لا الأعم منه ومن الاجمالي، لأن الظاهر أن
متعلق اليقين الواقع في الذيل عين ما تعلق به اليقين الأول، ولكن اليقين الأول قد
تعلق بطهارة كل واحد بالخصوص كما أن الشك قد تعلق بطهارتهما كذلك، فلابد
ان يحصل يقين آخر ضد اليقين الأول، ويتعلق بنجاسة واحد منهما معينا، واما
اليقين في العلم الاجمالي فلم يتعلق بنجاسة اناء معين، بل بأمر مردد وجودا بين
الإنائين و (عليه) فالذيل غير شامل لليقين الاجمالي لعدم اتحاد متعلقي اليقينين، و
يبقى المورد تحت حكم الصدر فقط فتدبر.
نعم يأتي في المقام ما ذكرناه من المبعدات في جريان الأصول في أطراف العلم
317

الاجمالي، من كونه ترخيصا في المعصية في نظر العرف فلاحظ.
ثم إن بعض أعاظم العصر (رحمه الله) فصل في دوران الامر بين المحذورين بين
أصالة الإباحة وبين الأصول التنزيلية وغيرها وجعل محذور كل واحد منها أمرا غير
الاخر، وقد نقلنا شطرا منه في دوران الامر بين المحذورين، وذكرنا هناك بعض
المناقشات في كلامه، ومع ذلك فلا باس بنقل شطر آخر من كلامه حسب ما يرتبط
بالمقام فأفاد (قدس سره): اما أصالة الإباحة في غير هذا المورد (مورد الدوران) أو
مطلق الأصول في هذا المورد وفى غيره فالوجه في عدم جريانها ليس هو عدم انحفاظ
الرتبة وانتفاء موضوع الحكم الظاهري بل أمر آخر يختلف فيه الأصول التنزيلية
مع غيره، اما غيره فالوجه هو لزوم المخالفة القطعية للتكليف المعلوم في البين، و
اما التنزيلية فالسر فيه هو قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الاجمالي
لان المجعول فيها هو الاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع، وهذا المعنى من
الحكم الظاهري لا يمكن جعله بالنسبة إلى جميع الافراد للعلم بانتقاض الحالة
السابقة في بعض الأطراف، فالاحراز التعبدي لا يجتمع مع الاحراز الوجداني
بالخلاف، ولا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كل من الإنائين مع العلم بنجاسة
أحدهما " انتهى "
وأنت إذا أحطت خبرا بما ذكرناه تقف على ضعف ما افاده حول الأصول غير
التنزيلية من استلزامه المخالفة القطعية للتكليف لما عرفت من أن محل البحث هو
العلم بالحجة، لا العلم بالتكليف القطعي واما ما جعله وجها للمنع في الأصول
التنزيلية فيرد عليه اما أولا، فلمنع كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية، وذلك لان
المجعول في الأصول التنزيلية على ما اعترف به انما هو البناء العملي والاخذ بأحد
طرفي الشك على أنه هو الواقع والقاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع
كقاعدة التجاوز حيث إن مفاد اخبارها ان الشك ليس بشئ وانما الشك إذا كان في شئ
لم يجزه وفى رواية بلى قد ركعت فامثال هذه التعابير يستفاد منها كون القاعدة من
الأصول المحرزة التنزيلية بخلاف اخبار الاستصحاب فان الظاهر منها لحاظ الشك و
318

اعتباره كما تنادى به التعابير التي فيها كقوله لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا ضرورة ان الظاهر منه ان
الشك ملحوظ فيه لكنه ليس له معه نقض اليقين به ولابد عنه الشك ترتيب آثار اليقين
الطريقي ومعه لا يكون من الأصول المحرزة
واما ثانيا فلمنع عدم جريانه لو فرض كونه أصلا محرزا كما سيأتي بيانه.
تقريب لكون الاستصحاب أصلا محرزا
ثم إن هنا وجها لكون الاستصحاب أصلا محرزا ذكرناه في الدورة السابقة ومحصله
ان الكبرى المجعولة فيه تدل على حرمة نقض اليقين أي السابق بالشك عملا، ووجوب
ترتيب آثار اليقين الطريقي في ظرف الشك، ولما كان اليقين الطريقي كاشفا عن الواقع
كان العامل بيقينه يعمل به على أنه هو الواقع لكونه منكشفا لديه فالعالم بوجوب
صلاة الجمعة يأتي بها في زمن اليقين بما انه الواقع فإذا قيل له لا تنقض اليقين بالشك عملا،
يكون معناه عامل معاملة اليقين ورتب آثاره في ظرف الشك، ومعنى ترتيب آثاره، ان
يأتي بالمشكوك فيه في زمان الشك مبنيا على أنه هو الواقع وان شئت قلت إن هذا الأصل
انما اعتبر لأجل التحفظ على الواقع في ظرف الشك.
وفيه ان المتيقن انما يعمل على طبق يقينه من غير توجه على أنه هو الواقع توجها
اسميا، يأتي بالواقع بالحمل الشايع، بلا توجه بأنه معنون بهذا العنوان، (نعم) لو
سئل عنه بماذا تفعل، وان ما تعمل هل هو الواقع أو لا، لأجابك بأنه الواقع متبدلا توجهه
الحرفي إلى الأسمى، و (عليه) فمعنى لا تنقض اليقين بالشك عملا، هو ترتيب آثار القطع
الطريقي أي الترتيب آثار المتيقن، لا ترتيب آثاره على أنه الواقع، واما حديث
جعل الاستصحاب لأجل التحفظ على الواقع فإن كان المراد منه ان جعله بلحاظ حفظ
الواقع كالاحتياط في الشبهات البدئية فهو صحيح لكن لا يوجب ذلك أن يكون التعبد
بالمتيقن على أنه الواقع كالاحتياط فإنه أيضا بلحاظ الواقع لا على أن المشتبه هو الواقع
وإن كان المراد منه هو التعبد على أنه الواقع فهو مما لا شاهد له في الأدلة، لان المراد
من حرمة النقض بالشك، اما إطالة عمر اليقين (على وجه ضعيف)، أو حرمة النقض
319

عملا أي ترتيب آثار اليقين أو المتيقن (على المختار) واما كونه بصدد بيان وجوب
البناء على أنه الواقع فلا
ثم لو سلم كونه أصلا محرزا فما جعله مانعا من جريان الاستصحاب في الأطراف
من أن معنى الاستصحاب هو الاخذ بأحد طرفي الشك وهو لا يجتمع مع العلم بانتقاض
الحالة السابقة في بعضها، ليس بصحيح، لان الجمع بين الحكم الظاهري والواقع قد
فرغنا عنه، كما فرغ هو (قدس سره) فهذا الاشكال ليس شيئا غير الاشكال المتوهم فيه
(فعليه) فلو علمنا بوقوع نجاسة في واحد من الإنائين، فالتعبد بكون كل واحد ظاهرا
واقعا لا ينافي العلم الاجمالي بكون واحد منهما نجسا يقينا، لان المنافات ان رجع إلى جهة
الاعتقاد وان الاعتقادين لا يجتمعان، ففيه: ان الحديث في باب
الاستصحاب، حديث تعبد لا اعتقاد واقعي وهو يجتمع مع العلم بالخلاف اجمالا
إذا كان للتعبد في المقام اثر عملي (لو سلم عن بقية الاشكالات من كونه ترخيصا في
المعصية أو موجبا للمخالفة القطعية فان المانع عنده، (قدس سره) هو قصور المجعول
لا ما ذكر) وان رجع إلى أن هذا التعبد لا يصدر من الحكيم مع العلم الوجداني ففيه ان
الممتنع هو التعبد بشئ في عرض التعبد على خلافه، واما التعبد في ظرف الشك على
خلاف العلم الاجمالي الوجداني فلا، وان شئت قلت: ان كل طرف من الأطراف يكون
مشكوكا فيه، فيتم أركان الاستصحاب ومخالفة أحد الأصلين للواقع لا يوجب عدم
جريانه لولا المخالفة العملية كاستصحاب طهارة الماء ونجاسة اليد إذا غسل بالماء
المشكوك الكرية، فان للشارع التعبد بوجود ما ليس بموجود، والتعبد بتفكيك
المتلازمين وتلازم المنفكين، و (بالجملة) لا مانع من اجتماع الاحراز التعبدي مع
الاحراز الوجداني بالضد.
ثم إنه (قدس سره) لما تنبه على هذا الاشكال وان لازم كلامه (عدم جريان الأصول
المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وان لم يلزم مخالفة عملية) هو عدم جواز
التفكيك بين المتلازمين الشرعيين، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع
مردد بين البول والماء لأن استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني
320

بعدم بقاء الواقع في أحدهما، ومن المعلوم اتفاقهم على الجريان، أجاب عن الاشكال
في آخر مبحث الاستصحاب فقال ما هذا محصله: انه فرق بين كون مفاد الأصلين متفقين
على مخالفة ما يعلم تفصيلا كاستصحاب نجاسة الإنائين أو طهارتهما مع العلم بانتقاض
الحالة السابقة فان الاستصحابين يتوافقان في نفى ما يعلم تفصيلا، وبين مالا يلزم من
التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه بل يعلم اجمالا بعدم
مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون ان يتوافقا في مخالفة المعلوم تفصيلا وما منعنا
عن جريانه في أطراف العلم الاجمالي هو الأول دون الثاني لأنه لا يمكن التعبد بالجمع
بين الاستصحابين الذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالاجمال،
واما لزوم التفكيك بين المتلازمين الواقعيين فلا مانع منه لان التلازم بحسب الواقع
لا يلازم التلازم بحسب الظاهر " انتهى ".
وفيه أولا ان ما ذكره ليس فارقا بين البابين، لان جريان الأصل في هذا
الاناء ليس مصادما للعلم الوجداني، وكذا جريانه في تلك الاناء ليس مصادما له
أيضا.
(نعم) جريانهما في كلتيهما مخالف للعلم الاجمالي فيعلم مخالفة أحدهما
للواقع كما أن استصحاب طهارة البدن من الماء غير مناف للعلم واستصحاب الحدث
كذلك لكن جريانهما مناف للعلم الاجمالي فيعلم بكذب أحدهما، فما هو ملاك
الجريان واللا جريان في البابين واحد، ومجرد توافق الاستصحابين لا يوجب الفرق
مع أن توافقهما، أيضا ممنوع، فان مفاد أحدهما نجاسة أحد الإنائين، ومفاد الاخر
نجاسة الاناء الاخر، وانما توافقهما نوعي ومورد الموافقة ليس مجرى الأصل،
وما هو مجراه وهو النجاسة الشخصية لا يكون موافق المضمون مع صاحبه بحيث ينافي
العلم التفصيلي.
وثانيا: ان لازم ما جعله مناط الجريان وعدمه، هو جريان الأصل فيما لا يكون
الأصلان متوافقي المضمون كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب التتن
سابقا وعلم بانتقاض أحدهما، وجريانه فيهما بناءا على ما ذكره من الملاك لا غبار فيه، إذ
321

لا يلزم منه سوى ما يلزم في استصحاب الحدث وطهارة البدن إذا توضأ بمايع مردد
بين الماء والبول مع أنه من البعيد ان يلتزم بجريان الأصل في هذا المثال هذا كله في
المخالفة القطعية وأظن أن هذا المقدار كاف في تحقيق الحال
وجوب الموافقة القطعية وعدمه
والكلام فيها كالكلام في عديله يقع في الثبوت والاثبات اما الأول فقد تقدم
ان العلم الجازم بوجود تكليف في البين خارج عن محط البحث وان خلط بعض محققي
العصر بينه وبين العلم بالحجة و (ح) فلو وقف على قيام الحجة بالتكليف فلا اشكال
في حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية بعد قيامها، لوجوب تحصيل المؤمن عن
العقاب وهو لا يحصل الا بالموافقة القطعية، واما حكم العقل الدقيق فهو في البابين
واحد يعنى لا يرى الترخيص في واحد من الأطراف أو جميعها، اذنا في المعصية، لأن المفروض
هو العلم بالحجة لا بالتكليف الواقعي، واما في حكم العقلاء فيمكن ابداء
الفرق بين البابين، فان العقلاء لا يرون الاذن في بعض الأطراف اذنا في مخالفة الواقع و
ارتكاب الحرام بل اذنا في المشتبه بما هو مشتبه، وهو غير مستنكر عند العقلاء حتى
يوجب انصراف الأدلة أو صرفها، فلو فرض دليل على بعض الأطراف فلا موجب لرفع
اليد عنه في المقام بخلاف الاذن في الأطراف عامة فإنه عندهم مستنكر قبيح يرونه اذنا في
المعصية كما تقدم
وبذلك تعرف ان القول بكون العلم الاجمالي علة تامة أو مقتضيا بالنسبة إلى حرمة
المخالفة أو وجوب الموافقة انما يصح في هذا القسم (العلم بالحجة) وعليه فلا مانع
من أن يقال إن العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية في نظر العقلاء بحيث
يرى العقلاء الاذن في الأطراف ترخيصا في المعصية، لكنه مقتضى لوجوب الموافقة
أي يحكم بلزومها مع عدم ورود رخصة من المولى ولا يستنكر ورودها كملا يستنكر
ورودها في بعض موارد الاشتغال مع العلم التفصيلي، كالشك بعد الفراغ ومضى
الوقت.
322

واما الكلام في الاثبات، اما أدلة البراءة كحديث الرفع والسعة فالظاهر عدم
شمولها للمقام لما وافاك من أن المراد من العلم في المقام ليس العلم الوجداني بل المراد هو
الحجة والمفروض ان الحجة قائمة على الحرمة، وقد تقدم انه لا يقال للرجل الذي قامت الحجة
عنده، على التكليف انه ممن لا يعلم، وان شئت قلت إن هنا حجة أخرى وراء الامارة
وهو حكم العقل بوجوب الاجتناب ومن هنا يعلم حال الاستصحاب. فان المراد
من اليقين الواقع في كبريات الاستصحاب هو الحجة، فمعنى قوله عليه السلام: لا تنقض اليقين
بالشك الخ لا تنقض الحجة باللا حجة، بل انقضه بحجة أخرى والمفروض حصول
الغاية وهى حكم العقل بوجوب الاجتناب فلا مجرى له لتحقق الغاية ولو قيل إن
الحجة في أطراف العلم قامت على الواقع في البين لا على الأطراف قلنا إن الامارة
قامت على الواقع في البين وهى حجة على كل من الأطراف لو صادفت الواقع
ومعه يكون كل من الأطراف من الشبهة المصداقية لأدلة الأصول بل يمكن دعوى
انصراف أدلتها لا سيما أدلة الاستصحاب إلى الشك الساذج لا المقرون بالعلم الاجمالي
واما موثقة " مسعدة " فقد تقدم انها مشتمله على أمثلة ليست من صغرياتها
فعلى ذلك لا يبقى للكبرى المذكورة فيها ظهور في كونها ضابطا فقهيا مطردا في
الأبواب، واما روايات الحل فقد عرفت ان غير صحيحة " عبد الله بن سنان " مخدوش
من حيث السند، بل لا يبعد ورودها في الشبهة الغير المحصورة كما يشهد به بعضها
واما الصحيحة فظاهرها حل ما اختلط الحلال بالحرام جميعا، ولو رفع اليد عنه لكون
مفاده غير معمول به فلا يبقى لها مفاد بالنسبة إلى الترخيص في بعض الأطراف، واما
تقريب دلالتها على الترخيص في بعض الأطراف ببيان ان لها عموم افرادي واطلاق
أحوالي بالنسبة إلى حال ترك الاخر وفعله فيقتصر في التقييد على القدر المتيقن
فيصير النتيجة هي الترخيص في أحدهما، فغير صحيح جدا، لان هذا التقريب
انما يجرى (كما سيوافيك بيانه) في قوله (ع) كل شئ حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه
لا في المقام لان مصاديق العموم الافرادي في الصحيحة انما هو كل مختلط أي كل فرد
فرد من افراد الاجتماع الذي فيه الحلال والحرام، واما أطراف المعلوم بالاجمال،
323

فليس في كل واحد منها الحلال والحرام، فموضوع الحكم فيها هو كل مختلط،
فجعل الحل لها واطلاقها الأحوالي يقتضى الحلية في كل مختلط، ارتكب المختلط
الاخر أولا، ومقتضى التقييد هو الإجازة في المخالفة القطعية في بعض المصاديق
حال ترك البعض وهو خلاف المقصود، واما بالنسبة إلى اجزاء كل مختلط فلا حكم
مستقلا حتى يؤخذ باطلاقه بل حكم واحد مجعول لكل مجتمع فيه الحلال والحرام
والاجزاء محكوم بهذا الحكم الوحداني، فلا معنى للاطلاق المتقدم فيها.
ثم إنه على القول بعدم انصراف أدلة الأصول عن العلم الاجمالي وقع
الكلام في كيفية استفادة الترخيص عن أدلة العامة في بعض الأطراف، وقد قيل
في بيانها وجوه ربما اعتمد عليها المشايخ العظام واليك بيانها وأجوبتها
تقريبات من المشايخ العظام
الأول - ما نقله شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) ان مقتضى عموم الأدلة،
الترخيص في كل من الأطراف غاية ما هنا وجوب التخصيص بحكم العقل بمقدار
يلزم منه الاذن في المعصية وحيث لا ترجيح لاخراج واحد معين من عموم الأدلة نحكم
بخروج البعض لا بعينه وبقاء الباقي كذلك حفظا لأصالة العموم فيما لم يدل دليل
على التخصيص وأورد عليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه: ان البعض الغير المعين
لا يكون موضوعا للعام من أول الأمر حتى يحفظ العموم بالنسبة إليه لان موضوعه
هو المعينات فالحكم بالترخيص في المبهم يحتاج إلى دليل آخر.
الثاني: ما نقله أيضا وأوضحه هو (قدس سره) وبما انه مذكور بطوله في
كتابه الشريف فليرجع إليه من شاء، وان أوضحناه في الدورة السابقة.
الثالث: ما افاده بعض محشي الفرائد وأوضحه عدة من المشايخ منهم شيخنا
العلامة وبعض أعاظم العصر (قدس الله أرواحهم) وملخصه ان نسبة أدلة الأصول
إلى كل واحد من الأطراف وإن كانت على حد سواء لكن لا يقتضى ذلك سقوطها
عن جميع الأطراف توضيحه: ان الأدلة المرخصة كما يكون لها عموم افرادي
بالنسبة إلى كل مشتبه كذلك يكون لهما اطلاق أحوالي بالنسبة إلى حالات المشتبه
324

فكل مشتبه مأذون فيه اتى المكلف بالآخر أو تركه، وانما يقع التزاحم بين
اطلاقهما لا اصلهما فان الترخيص في كل واحد منهما في حال ترك الاخر ممالا مانع
منه، فالمخالفة العملية انما نشأت من اطلاق الحجية فلابد من رفع اليد عن
اطلاقهما لا اصلهما، فتصير النتيجة الاذن في كل واحد مشروطا بترك الاخر، وهذا
مساوق للترخيص التخييري، وهذا نظير باب التزاحم وحجية الامارات على السببية
و (فيه) ما قد عرفت ان ما يصح الاعتماد به من الأدلة انما هو صحيحة عبد الله بن سنان،
واما الباقي فقد عرفت فيه الضعف في السند أو في الدلالة، واما الصحيحة فقد تقدم ان
الموضوع فيها غير الموضوع في قوله عليه السلام كل شئ حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه
فان الموضوع في الثاني انما هو كل فرد فرد أو كل جزء جزء فيقال في الحرام
المختلط بالحلال بحلية كل جزء فلو صح ما ذكر من التقريب لصح تقييده بما ذكر
من ترك الاخر، واما الصحيحة فما هو الموضوع ليس الا كون الشئ فيه الحلال والحرام
بالفعل وهو ليس الا مجموع المختلط، والضمير في قوله (منه) راجع إلى الشئ
المقيد بان فيه الحلال والحرام و (بالجملة) فالموضوع في غير الصحيحة هو كل جزء
جزء مستقلا، واما فيها فليس كل جزء محكوما بالحلية بالاستقلال بل الموضوع
هو نفس المجموع بما هو هو، فلو صح الاطلاق فيها فلابد أن يكون مصبه ما هو الموضوع
بان يقال إن هذا المختلط محكوم بالحلية سواء كان المختلط الاخر محكوما بها أو لا
فلو قيد بحكم العقل يصير نتيجة التقييد هو حلية هذا المختلط عند ترك المختلط
الاخر وهو خلاف المطلوب، ولا يصح ان يقال: إن هذا الجزء محكوم بالحلية سواء
كان الجزء الآخر محكوما أو لا حتى يصير نتيجة التقييد بحكم العقل ما ادعى من جواز
ارتكاب هذا الجزء عند ترك الاخر، لان الجزء ليس محكوما بحكم حتى يقع
مصب الاطلاق والتقييد ولو صح جريان الصحيحة في الإنائين المشتبهين، فالمحكوم
بالحلية انما هو الكل، لا كل واحد منهما، حتى يؤخذ باطلاقه الأحوالي ويقيد بمقدار
ما دل عليه حكم العقل مضافا إلى أن في اطلاق الأدلة بنحو ما ذكر كلاما واشكالا
واشكالا
325

ثم إن بعض أعاظم العصر قد أجاب عنه بكلام طويل ونحن نذكر خلاصة مرماه
فنقول قال قدس سره، ان الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص
لا تخلو عن أحد أمرين اما لاقتضاء الدليل الدال على الحكم، التخيير في العمل، واما اقتضاء
المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضى التعيينية فمن الأول ما إذا ورد عام كقوله:
أكرم العلماء وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام وشك في أن خروجهما هل هو على وجه
طلاق، أو ان خروج كل واحد مشروط بحال الاكرام الآخر بحيث يلزم من خروج أحدهما
دخول الاخر فيدور الامر بين كون المخصص افراديا وأحواليا، أو احواليا فقط فلابد من
القول بالتخيير، وانما نشأ ذلك من اجتماع دليل العام واجمال المخصص ووجوب الاقتصار
على القدر المتيقن في التخصيص وليس التخيير لأجل اقتضاء المجعول بل المجعول في كل من
العام والخاص هو الحكم التعييني، والتخيير نشأ من ناحية الدليل لا المدلول، ومن الثاني ما
إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما فان التخيير في باب
التزاحم انما هو لأجل ان المجعول في باب التكاليف معنى يقتضى التخيير لاعتبار القدرة في
امتثالها، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك الاخر وحيث لا
ترجيح في البين وكل تكليف يستدعى نفى الموانع عن متعلقه، وحفظ القدرة عليه، فالعقل
يستقل (ح) بصرف القدرة في أحدهما تخييرا، اما لأجل تقييد التكليف في كل منهما
بحال عدم امتثال الاخر، واما لأجل سقوط التكليفين واستكشاف العقل حكما تخييريا
لوجود الملاك التام (واما الأصول) فلا شاهد على التخيير فيها إذا تعارضت، لا من
ناحية الدليل فان دليل اعتبار كل أصل انما يقتضى جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لا،
ولا من ناحية المدلول فلان المجعول فيها ليس الا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل
مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة، وهى الجهل بالواقع، و
امكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع، وعدم لزوم المخالفة العملية، وحيث انه يلزم
من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جميعا،
وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان ممكنا الا انه لا دليل عليه " انتهى كلامه "
326

وفيه مواقع للنظر نذكر مهماتها الأول ما افاده من أن التخيير في الصورة الأولى
من ناحية الكاشف لا المنكشف، قائلا بان المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم
التعييني ليس في محله، إذ لو كان المجعول في المخصص أمرا تعيينيا، لم يبق مجال
للشك، بان المفروض ان زيدا وعمروا قد خرجا عن تحت العام بنحو التعيين فلا وجه
للشك ولا مناص الا ان يقال إن الباعث للشك هو احتمال كون المجعول في المخصص أمرا
ينطبق على التخيير، بان يتردد المجعول بين خروج كل فرد مستقلا، أو خروج كل
واحد مشروطا بعدم خروج الاخر (على مبناه في الواجب التخييري وبما ان العام
حجة في افراد العام وأحواله، فلازم ذلك، الاكتفاء بما هو القدر المتيقن أعني خروج
كل عند عدم خروج الاخر، والحاصل ان الموجب للتخيير انما هو دوران الامر في
المخصص بين التعيين والتخيير أي خروج الفردين مطلقا أو خروج كل منهما مشروطا
بدخول الاخر، والثاني هو القدر المتيقن من التصرف في العام نعم لو علمنا بخروج زيد
وتردد بين كونه زيد بن عمرو أو زيد بن بكر، نحكم بالتخيير لا من جهة الكاشف
ولا المنكشف بل من جهة حكم العقل به
الثاني ان جعل التخيير بين المتزاحمين في الصورة الثانية من ناحية المجعول
غير صحيح بل التخيير من ناحية الكاشف والدليل، ضرورة ان المجعول في المتزاحمين
هو التعيين لتعلق الإرادة بكل واحد كذلك غير أن عجز العبد عن القيام بكلتا الوظيفتين
أوجب حكم العقل بالتخيير لملاحظة ان العام له اطلاق أحوالي، وكون
المكلف عاجزا عن القيام بكلا المتزاحمين يوجب الاقتصار على القدر المتيقن في
التصرف فيه، فالتخيير نشأ من اطلاق الدليل وعدم الدليل على التصرف فيه، الا بمقدار
يحكم العقل بامتناع العمل بالعام وهو الاخذ بالاطلاق الأحوالي في كلا الفردين
فلابد من التصرف فيه من تلك الجهة وما افاده: من أن الاحكام متقيدة بالقدرة، فان
أريد منه تقييدها بالقدرة شرعا حتى يصير عامة الواجبات تكليفا مشروطا فهو كما
ترى، وان أريد ان التنجز انما هو في ظرف القدرة كما أن تبعاته من الثواب و
327

العقاب في هذا الظرف فهو متين، غير أن ذلك لا يوجب أن يكون المجعول في رتبة
الجعل أمرا تخييريا ضرورة ان المقنن، لا نظر له إلى مقام الامتثال، بل هو أمر
خارج عن حيطة الشارع المقنن، بل هو من الأمور التي زمامها بيد العقل، ولو
فرض ورود خطاب من الشارع في مقام الامتثال فهو خطاب لا بما هو مشرع، بل يتكلم
من جانب العقلاء مع قطع النظر عن كونه مشرعا ومقننا وبالجملة: لا فرق بين الصورة
الأولى والثانية الا من ناحية المخصص فان المخصص في الأولى دليل لفظي مجمل دائر
بين الأقل والأكثر، وفى الثانية عقلي يحكم بخروج القدر المتيقن من العام (نعم)
لو بنينا على أن التكليفين يسقطان معا ويستكشف العقل لأجل الملاك التام حكما
تخييريا يمكن ان يقال: إن التخيير بينهما انما يكون لأجل المدلول لا الدليل على
اشكال فيه لكنه على خلاف مسلكه.
الثالث: ان لنا ان نقول إن التخيير بين الأصلين المتعارضين من مقتضيات
الدليل والكاشف، ومن مقتضيات المنكشف والمدلول (اما الأول): فبأن يقال إن
قوله عليه السلام كل شئ فيه حلال وحرام الخ يدل على حلية كل مشتبه، وله عموم افرادي
واطلاق أحوالي ولكن الاذن في حلية كل واحد يوجب الاذن في المعصية والترخيص
في مخالفة المولى، وبما ان الموجب لذلك هو اطلاق دليل الأصلين لا عمومه فيقتصر
في مقام العلاج إلى تقييده وهو حلية ذاك عند عدم حلية الاخر حتى لا يلزم خروج كل
فرد على نحو الاطلاق، فيكون مرجع الشك إلى الجهل بمقدار الخارج، فالعموم
حجة حتى يجيئ الامر البين على خلافه و (الحاصل) كما أن الموجب للتخيير في
الصورة الأولى هو اجتماع دليل العام واجمال دليل الخاص بضميمة وجوب الاقتصار
على القدر المتيقن في التخصيص، كذلك اجتماع دليل الأصول مع لزوم التخصيص
(حذرا من المخالفة العملية) ودورانه بين خروج الفردين مطلقا وفى جميع الأحوال
أو خروج كل منهما في حال عدم ارتكاب الاخر، موجب للتخيير في المقام، بل ما نحن
فيه أولى منه لان المخصص هنا عقلي والعقل يحكم بان ما يوجب الامتناع هو اطلاق الدليل
لا عمومه الافرادي فليس المخصص (حكم العقل) مجملا دائرا بين الأقل والأكثر كما في
328

المثال، فيحكم العقل حكما باتا بان ملاك التصرف في أدلة الحلية ليس الا تقييد
الاطلاق لا تخصيص الافراد.
واما الثاني فلان الحلية المستفادة من أدلة الأصول مقيدة بكون المكلف قادرا
حسب التشريع أي عدم استلزامه المخالفة العملية والترخيص في المعصية وان شئت
قلت: مقيدة عقلا بعدم استلزامها الاذن في المعصية القطعية (فح) يجرى فيه ما
ذكره (قدس سره) طابق النعل بالنعل من أن كل واحد من المتعارضين يقتضى صرف
قدرة المكلف في متعلقه، ونفى الموانع عن وجوده، فلما لم يكن للعبد الا صرف قدرته
في واحد منهما فيقع التعارض بينهما (فح) فاما ان نقول بسقوط التكليفين واستكشاف
العقل تكليفا تخييريا أو نقول بتقييد اطلاق كل منهما بحال امتثال الاخر، فيكون
حال الأصول المتعارضة حال المتزاحمين حرفا بحرف.
هذا حال ما افاده الاعلام وقد طوينا الكلام عن بعض الوجوه روما للاختصار و
قد عرفت التحقيق في جريان الأصول في أطراف العلم كلا أو بعضا فراجع
ثم إنه يظهر من الشيخ الأنصاري وتبعه بعض آخر بان الترخيص في بعض
الأطراف يرجع في الحقيقة إلى جعل الطرف الآخر بدلا عن الواقع وهذا بمكان من الغرابة
لعدم ملاك البدلية في الطرف بوجه فلو كان الطرف مباحا فليس في تركه ملاك
البدلية حتى يكون بدلا عنه وأسوء منه لو كان الطرف مستحبا في الشبهة التحريمية
أو مكروها في الشبهة الوجوبية وليس لترخيص الشارع سببية لحصول الملاك لا سيما
بالنسبة إلى الطرف الآخر والتحقيق ان الترخيص على فرضه انما هو لمصلحة التسهيل
أو مفسدة التضييق من غير تغيير في الواقعيات بوجه فهو راجع إلى الغمض عن التكليف
الواقعي على بعض الفروض لأغراض أهم من حفظ الواقع في هذا الحال.
في تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات
ثم إن التحقيق في منجزية العلم الاجمالي وساير ما يقع الكلام فيه عدم الفرق
بين كون الأطراف حاصلا فعلا وبين التدريجيات في عمود الزمان كان التكليف مطلقا
أو معلقا أو مشروطا اما في الأولين فواضح لعدم الفرق لدى العقل بين حرمة مخالفة المولى
329

قطعا أو احتمالا في ارتكاب الأطراف المحققة فعلا أو في ارتكابها مع تحققها تدريجا
فلو علم بحرمة شئ عليه اما في الحال أو في زمان مستقبل يحكم العقل بوجوب
تركها في كلا الحالين فالتكليف الواقعي منجز عليه بل وكذا الامر في الواجب
المشروط فإنه مع العلم بتحقق شرطه في محله كالواجب المطلق من هذه
الحيثية فتدبر.
وينبغي التنبيه على أمور
الأول: فيما إذا اضطر إلى أحد الأطراف.
اعلم: انه يشترط في تنجيز العلم الاجمالي كونه متعلقا بتكليف فعلى صالح
للاحتجاج في أي طرف اتفق وجود المعلوم بالاجمال ولأجل ذلك لو دار أمر المعلوم
بالاجمال بين كونه فعليا إذا كان في طرف وانشائيا في طرف آخر أو غير صالح للاحتجاج
به، لما يوجب تنجيزا أصلا: ولهذا يقع البحث في تنجزه إذا كان المكلف مضطرا إلى
بعض الأطراف ولابد من بيان أقسامه ثم توضيح احكامها فنقول: قد يكون الاضطرار
قبل تعلق التكليف بأحدها وقبل تعلق العلم به، واخرى يكون بعد تعلقه وقبل
العلم به، وثالثة بعد تعلق التكليف والعلم به، ورابعة يكون مقارنا لهما أو
لأحدهما، وخامسة بعد العلم بالخطاب وقبل تنجز التكليف، كما في العلم بواجب
مشروط قبل حصول شرطه ثم حصل الاضطرار إلى بعض الأطراف، ثم تحقق الشرط
، وعلى التقادير الخمسة قد يكون الاضطرار إلى أحدها المعين واخرى إلى غيره،
وعلى جميع التقادير قد يكون الاضطرار عقليا، ونتكلم فيه مع قطع النظر عن
حديث الرفع وقد يكون عاديا مشمولا للحديث ونتكلم مع النظر إليه والمفروض في
جميع التقادير ما إذا كان الاضطرار بمقدار المعلوم أو الزائد منه والا فلا تأثير له في
سقوط العلم عن التأثير، فلنذكر من تلك الأقسام ما هو الأهم حكما والزم بيانا و
توضيحا فنقول:
منها انه لو كان الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا قبل تعلق التكليف أو
بعده وقبل العلم به فلا اشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الاخر سواء كان الاضطرار
330

عقليا أو عاديا، اما على مسلك المشهور من أن الاعذار العقلية أو الشرعية يوجب سقوط
الاحكام عن الفعلية فواضح، لان العلم بتكليف دائر امره بين كونه انشائيا
لو صادف مورد الاضطرار، وفعليا لو كان في الطرف الآخر، لا يوجب علما بالتكليف
الفعلي على أي تقدير فلا معنى للتنجيز واما على المختار في باب الاعذار من بقاء الاحكام
على فعلياتها (كان المكلف عاجزا أو قادرا مختارا كان أو مضطرا) من دون أن يكون
الاضطرار موجبا لتحديد التكليف وتقييد فعليته غاية الأمر يكون المكلف معذورا في
ترك الواجب أو ارتكاب الحرام (ولأجل ذلك قلنا بلزوم الاحتياط عند الشك في القدرة إلى أن
يقف على عذر مسلم) - فيمكن القول بلزوم الاجتناب عن الطرف الآخر لحصول العلم
بالتكليف الفعلي بعد الاضطرار، والمفروض عدم ارتفاعه بحدوث الاضطرار، فلو كان الخمر
في ذاك الطرف غير المضطر إليه، لزم الاجتناب عنه قطعا، فارتكاب عامة الأطراف
مخالفة عملية بلا عذر للتكليف على فرض وجوده في ذاك الطرف، فيجب الاجتناب
عنه مقدمة وان شئت نزلت المقام بما لو علم العبد بالتكليف الفعلي وشك في قدرته،
وقد تقدم انه ليس معذورا في ذلك بل لابد من العلم بالعذر وليس له الاكتفاء بالشك
مع العلم بالتكليف الفعلي، ومثله المقام فان العلم الاجمالي قد تعلق بالتكليف
الفعلي، والمكلف شاك في كونه مضطرا إلى الاتيان بمتعلق التكليف فيكون من
قبيل الشك في القدرة فيجب له الاحتياط من غير فرق في ذلك بين العلم التفصيلي
والاجمالي.
ولكن الانصاف وضوح الفرق بين المقامين، فان التكليف هناك قطعي،
والشك في وجود العذر، واما المقام فالتكليف وإن كان محققا الا ان العذر مقطوع
الوجود (توضيحه): ان المكلف بعدما وقف على التكليف الفعلي أي غير المقيد بالقدرة
يجب له الاحتياط وترك المساهلة حتى يجيب أمر المولى بامتثال قطعي، أو عذر
كذلك، فلو أجاب أمر المولى بالشك في القدرة فقد اجابه بما يشك كونه عذرا عند
العقل والعقلاء و (هذا) بخلاف المقام فان العذر وهو الاضطرار حاصل في المقام قطعا
331

و (ما أسمعناك) من الاضطرار عذر في الطرف المضطر إليه، دون الطرف الآخر وان مرجع
ذلك إلى الشك في العذرية لان التكليف لو كان في الطرف المضطر إليه فهو عذر قطعا ولو كان
في الطرف الآخر فهو غير معذور قطعا، فالشك في أن الحرام في أي الطرفين يلازم الشك في
وجود العذر في ذلك الطرف (مدفوع) بما عرفت في صدر المسألة من أن الميزان في تنجيز
العلم الاجمالي ان يتعلق العلم بشئ لو تعلق به العلم التفصيلي لتنجز عليه التكليف، فلو تعلق
العلم الاجمالي على أمر مردد بين الانشائي والفعلي، فلا يكون منجزا واما المقام
فمتعلق العلم وإن كان حكما فعليا، الا ان مجرد كونه فعليا لا يثمر، بل لابد ان يتعلق
بحكم فعلى صالح للاحتجاج مطلقا عند العقلاء وهذا القيد مفقود في المقام حيث إنه
لم يتعلق بما هو صالح له مطلقا بحيث لو ارتفع الاجمال لتنجز التكليف بل هو صالح
للاحتجاج على وجه، وغير صالح على وجه آخر ومرجعه إلى عدم العلم بالصالح
مطلقا ومعه لا يوجب تنجيزا أصلا وان شئت قلت: فرق واضح بين الشك في القدرة
أو الاضطرار مع العلم بالتكليف وبين العلم بالعجز أو الاضطرار مع الشك في انطباقه
على مورد التكليف أو غيره فان العلم بالعجز والاضطرار يكون عذرا وجدانيا فلم
يتعلق علم العبد بتكليف فعلى لا يكون معذورا فيه، ولكن الشك في العجز لا يكون
عذرا عند العقلاء مع فعلية التكليف وهذا هو الفارق بين البابين.
منها: إذا اضطر إلى المعين مقارنا لحصول التكليف أو العلم به فلا تأثير
أيضا، لان العلم الاجمالي المقارن للعذر لا يمكن ان يصير حجة وان شئت قلت بعد
عدم العلم بتكليف فعلى على مبنى القوم وعدم العلم بتكليف فعلى صالح للاحتجاج
على ما حققنا لا وجه للتنجيز.
منها انه لو حصل الاضطرار بعد العلم بالتكليف، كما إذا اضطر إلى أحد
الإنائين معينا بعد العلم بنجاسة أحدهما فلا اشكال في لزوم الاجتناب، ولا يقاس
بالصورة الأولى، حيث إن التكليف الفعلي الصالح للاحتجاج لم يكن موجودا فيها
من أول ثم شك في حصوله واما المقام فقد تعلق العلم بتكليف صالح للاحتجاج قبل
332

حدوث الاضطرار، والاجتناب عن غير مورد الاضطرار انما هو من آثار ذلك العلم
، و (بالجملة) هذا العلم كان علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بالاجتناب من الطرفين
فإذا حدث الاضطرار وارتفع حكم العقل في واحد من الطرفين لأجله بقى حكمه
بوجوب الموافقة الاحتمالية فالحكم بلزوم الاجتناب عن الباقي انما هو من آثار
ذلك العلم المتقدم فالاضطرار إلى واحد من الطرفين كاراقته أو مخالفته في ذاك الطرف
بشربه وارتكابه، كما لا يوجب هذان جواز ارتكاب الطرف الآخر فهكذا الاضطرار
في هذه الصورة، وان شئت قلت: ان الاضطرار لا يكون عذرا الا بمقداره والاشتغال
اليقيني يقتضى البراءة اليقينية، ومع عدم امكانها يحكم العقل بلزوم الموافقة
الاحتمالية، واما ما افاده المحقق الخراساني من أن الاضطرار من قيود التكليف و
حدوده فيرتفع عند الوصول إلى حده فيوافيك بيانه ونقده فانتظر
ومما ذكرنا يظهر حال الواجب المشروط لو تعلق العلم به قبل تحقق شرطه
واضطر إليه قبل حصوله، فإنه ان قلنا بان الواجب المشروط قبل تحقق شرطه لم
يكن حكما فعليا، يكون حاله حال الاضطرار قبل العلم بالتكليف، وان قلنا بأنه
تكليف فعلى وان الشرط قيد للمادة أو ظرف لتعلق التكليف يكون حاله حال
الاضطرار بعد العلم
منها: إذا اضطر إلى غير المعين فالتحقيق وجوب الاجتناب مطلقا عن الطرف الآخر
لعدم الاضطرار إلى مخالفة التكليف الواقعي، بل ما تعلق به الاضطرار غير ما
تعلق به التكليف، بخلاف ما إذا اضطر إلى مخالفة واحد من الأطراف معينا (توضيحه)
ان متعلق التكليف عند الاضطرار إلى الواحد المعين يحتمل أن يكون عين ما
تعلق به التكليف ومع هذا الاحتمال لا يبقى علم بالتكليف المنجز الصالح للاحتجاج
بل الامر يدور بين التكليف الصالح له، وغير الصالح له، ومرجع ذلك إلى الشك
في التكليف واما المقام فالمفروض ان الاضطرار لم يتعلق بواحد معين حتى يكون
مضطرا في ارتكابه ولا يمكن له العدول إلى غيره، وان فرضنا انكشاف الواقع، بل
متعلق الاضطرار انما هو إحدى الإنائين بحيث لو كشف الواقع عليه يجب العدول إلى
333

غير المحرم، لكون الاخر غير المحرم يندفع به الاضطرار بلا محذور و (عليه) فمتعلق
الاضطرار في نفس الامر غير ما تعلق به التكليف، وهذا بخلاف الاضطرار
إلى المعين.
وبالجملة: ما هو متعلق التكليف غير ما اضطر إليه وإن كان ربما ينطبق عليه
الا انه من آثار الجهل لا الاضطرار بحيث لو ارتفع الجهل لما وقع في ارتكابه أصلا و
هذا بخلاف الاضطرار إلى المعين إذ لو تبين كونه خمرا لما كان له مناص عن
ارتكابه، (وعليه) فلابد من التفكيك أي تفكيك ما هو من لوازم الجهل، وما هو
من لوازم الاضطرار فشرب الخمر عند الاضطرار إلى الواحد المعين لو صادف المحرم
من آثار الاضطرار إليه، كما أن شربها عند الاضطرار إلى غير المعين من آثار الجهل،
لامكان دفعه بالاناء الاخر
و (بما ذكرنا) يندفع ما ربما يقال من أنه لو اختار ما هو الخمر واقعا مع الجهل
كشف ذلك كون متعلق الاضطرار في نفس الامر هو متعلق الحرمة، (وجه الاندفاع)
ان ما ذكر راجع إلى مقام الامتثال واختيار ما هو الخمر واقعا لا يوجب تعلق الاضطرار
به واقعا وقد عرفت ان متعلقه انما هو واقع أحدهما لا بعينه.
وبتقريب آخر (وقد مر توضيحه عند الاضطرار إلى الواحد المعين
بعد تنجز التكليف) ان العلم علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ومع عدم امكانها
يحكم بوجوب الموافقة الاحتمالية ولذا لا يجوز شرب الاناء الأخرى عند إراقة
أحدهما أو شربها عمدا، حفظا لاثار العلم فلا يرفع اليد الا بمقدار الاضطرار، والشك
في فعلية التكليف بعد اختيار واحد من الأطراف لامكان كون المأتى به مورد الاضطرار،
كالشك الحاصل بعد فقد أحدهما أو ارتكابه بلا اضطرار، فالعلم الاجمالي بعد الاضطرار
صالح للاحتجاج بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية كان الاضطرار سابقا أو مسبوقا.
مختار المحقق الخراساني في الكتاب وهامشه
ان المحقق الخراساني رحمه الله اختار سقوط العلم عن التأثير مطلقا معللا
بان جواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا ينافي العلم بحرمة المعلوم أو
بوجوبه بينهما فعلا ونفى (قدس سره) الفرق بين سبق الاضطرار على العلم ولحوقه
334

معللا بان التكليف المعلوم بينهما يكون محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه
من أول الأمر، وبهذا فرق بين فقد بعض الأطراف بعد تعلق العلم والاضطرار إليه
بعده حيث أوجب الاحتياط في الأول دون الثاني، ثم إنه رجع عما ذكره في هامش
الكتاب وفصل بين الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه والاضطرار إلى المعين وأوجب
الاحتياط في الثاني دون الأول معللا بان العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي المحدود
في هذا الطرف أو المطلق في الطرف الآخر يكون منجزا، واما إذا عرض الاضطرار
إلى أحدهما لا بعينه فإنه يمنع عن فعلية التكليف مطلقا " انتهى ملخصا "
وفيه مواقع للنظر: (منها): منع كون الاضطرار العقلي من حدود
التكاليف وقيوده، فان الاضطرار العقلي بمعنى عجز المكلف عن القيام بوظايفه
يوجب معذورية المكلف بترك المأمور به فلا يكون للمولى حجة عليه بل له الحجة
عليه، وهذا أمر آخر غير محدودية التكليف وتقيده وان أراد الاضطرار العرفي الذي
إليه مآل حديث الرفع فهو وإن كان من حدوده الشرعية الا انك قد عرفت ان ما هو متعلق
التكليف عند الاضطرار، إلى غير المعين غير ما هو متعلق الاضطرار ولا مصادمة بين
حديث الرفع وأدلة التكاليف لعدم عروض الاضطرار إلى متعلق التكليف.
منها: ان التفريق بين فقد المكلف به، عروض الاضطرار فيما نحن فيه لا يرجع
إلى محصل، فان الكبريات الكلية انما تحتج بها عند وجود موضوعاتها ولا يصح ان
يحتج بالكبرى على الصغرى، و (عليه) فلو فقد بعض الأطراف قبل حدوث العلم الاجمالي.
ثم علم اجمالا بان الخمر اما هو المفقود واما هو الموجود، فلا يؤثر
العلم أصلا، نظير الاضطرار إلى المعين قبل حدوث العلم ولو فقد بعض الأطراف
بعد حدوث العلم، يكون العلم حجة على الطرف الموجود، لأجل احتمال
انطباق التكليف المنجز سابقا عليه، وهذا التفصيل يجئ بعينه عند
الاضطرار إلى المعين. ومنها: ان ما اختاره من عدم وجوب الاجتناب
عن الطرف الآخر عند الاضطرار إلى غير المعين قائلا بمنافاته مع التكليف في البين،
335

غير صحيح إذ لا مزاحمة بينهما كما عرفت، وكون مختار المكلف منطبقا على المحرم
الواقعي أحيانا، لا يوجب كون التكاليف الواقعية متقيدا باختيار المكلف وعدمه
و (عليه) فلا مانع من أن يرخص في أحدهما لا بعينه، ويحرم الخمر الواقعي لتبائن
المتعلقين في مقام الانشاء ورتبة التكاليف، الا ترى انه لو وقف المكلف في مقام
دفع الاضطرار على الخمر الواقعي لوجب عليه دفع الاضطرار بغير مورد التكليف
وهذا أوضح دليل على عدم المزاحمة في رتبة التكليف وكان الأليق عدوله إلى ما ذكرنا
في هامش الكفاية كمالا يخفى.
التنبيه الثاني
قد استقر آراء جل المتأخرين من أهل التحقيق على عدم لزوم الاجتناب عن الأطراف
إذا خرج بعضها عن محل الابتلاء في الجملة، و (توضيحه) ان الامر والنهى لداعى
البحث والزجر، ولأجل ذلك يتوقف صحة البحث والزجر على تحقق أمور: الأول
كون المكلف قادرا على الامتثال فان خطاب غير القادر أمر قبيح بل لا ينقدح الإرادة
الجدية في لوح النفس وهو من الوضوح بمكان.
الثاني: أن يكون مورد التكليف مورد الابتلاء نوعا، بحيث لا يعد من المحالات
النوعية، حتى لا يكون البعث إليه، والزجر عنه لغوا كجعل الحرمة للخمر الموجود
في إحدى الكرات السماوية، التي كان يعد من المحالات العادية، ابتلاء المكلف بها
والحاصل ان التكاليف انما تتوجه إلى المكلفين لأجل ايجاد الداعي إلى الفعل
أو الترك فما لا يمكن عادة تركها لا مجال لتعلق التكليف به فالنهي المطلق عن شرب
الخمر الموجود في أقاصي بلاد المغرب أو ترك وطى، جارية سلطان الصين يكون
مستهجنا فإذا كان هذا حال خطاب التفصيلي فالحال في الاجمالي منه واضح جدا
الثالث: ان لا يكون الدواعي عنه مصروفة نوعا، كالنهي عن عض رأس
336

الشجرة وفوق المنارة كما مثل بهما سيد المحققين السيد محمد الفشاركي على ما
حكاه عنه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، فإنك لا تجد أحدا أحس أمرا، وعرف يمينه
عن يساره يفعل هذا حسب العادة النوعية، ولا يبعد شمول عنوان المبحث لهذا الشرط
أيضا فان مرادهم من الخروج عن محل الابتلاء بمورد التكليف أعم مما لا يكون غير
مقدورة عادة أو يرغب عنه الناس ويكون الدواعي مصروفة عنها، والميزان في كل
الموارد هو استهجان الخطاب عند العقلاء وان شئت قلت: ان الغرض من الامر و
النهى ليس الا حصول ما اشتمل على المصلحة أو عدم حصول ما اشتمل على المفسدة،
ومع عدم التمكن العادي على الترك أو الفعل أو صرف الدواعي عن الارتكاب لا تكاد
تفوت المصلحة أو تحصل المفسدة فلا موجب للتكليف بل لا يصح لاستهجانه.
واما ما افاده بعض أعاظم العصر (قدس سره) من التفصيل بين عدم القدرة العادية
وعدم الإرادة عادة بتقريب ان القدرة من شرائط حسن الخطاب ولابد من اخذها
قيدا في التكليف واما إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب، ولا يعقل اخذها
قيدا فيه وجودا وعدما، لأنه من الانقسامات اللاحقة للتكليف، فلا يخلو من اشكال
فان التفريق بين عدم القدرة العقلية أو العادية ووجود الداعي الطبيعي إلى العمل أو
الانزجار الفطري عنه، بعدم صحة الخطاب في الأولين، والصحة في الآخرين في
غاية الغرابة، فان خطاب من يريد الفعل طبعا أو يترك الشئ مستهجن، لعدم الملاك
لاظهار الإرادة، كخطاب من لا يقدر، فكما لا يصح النهى عن فعل غير مقدور عادة
كذلك يقبح النهى عن شئ لا ينقدح في الأذهان احتمال ارتكابه، كالنهي عن كشف
العورة بين الناس موجها ذلك الخطاب إلى صاحب المروة والنهى عن اكل القاذورات
واما ما عن بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من كفاية الامكان الذاتي أو
الامكان الوقوعي في صحة الخطاب وهذا تمام الملاك لصحة الخطاب.
و (عليه) يصح الخطاب في موارد الابتلاء وعدمه ضعيف فان كفاية الامكان
الذاتي في هذا الباب غريب، فان خطاب من لا ينبعث عن أمر المولى خطابا
حقيقيا مستهجن جدا؟ فان الإرادة التشريعية لا تنقدح الا بعد حصول مباديها
337

وقس عليه الخطاب القانوني، فان مقنن الحكم لو وقف على أن ما يشرعه لا يكاد
يعمل به أصلا، ولا ينبعث منه أحد، صار جعله وتقنينه مستهجنا جدا، وان جاز الامكان
الذاتي أو الوقوعي
واعجب منه ما نقله (قدس سره) عن بعض أجلة عصره من أن التكليف ليس زجرا
ولا بعثا، بل التزام من المولى بالنسبة إلى العبد فيعم عامة الموارد، أي موارد الابتلاء
وعدمه، فان ما هو المستهجن انما هو البعث أو الزجر المتضمنين للخطاب دون الالزام
و (فيه) ان غاية ما أفيد لا يخرج التكليف عن دائرة الأحكام الوضعية أو أشبه شئ به و
مع ذلك فهي من مقولة الجعل والاعتبار، لا يصح الا إذا كان له اثر عقلائي، ومع
عدمه كما في الموارد التي لم يوجد فيها بعض الشروط المتقدمة كان الجعل والاعتبار و
الالزام لغوا محضا مضافا إلى أن الالزام بالفعل والترك كأنه عبارة أخرى عن البعث والزجر
المنتزع منهما الوجوب والحرمة مع أن انكار كون التكاليف عبارة عن البعث و
الزجر كأنه انكار الضروري
الخطابات القانونية الشخصية
التحقيق في المقام ان يقال: إنه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلية المتوجهة
إلى عامة المكلفين، والخطاب الشخصي إلى آحادهم فان الخطاب الشخصي إلى خصوص
العاجز وغير المتمكن عادة أو عقلا مما لا يصح كما أوضحناه ولكن الخطاب الكلى
إلي المكلفين المختلفين حسب الحالات والعوارض مما لا استهجان فيه، و (بالجملة)
استهجان الخطاب الخاص غير استهجان الخطاب الكلى فان ملاك الاستهجان في الأول ما
إذا كان المخاطب غير متمكن والثاني فيما إذا كان العموم أو الغالب الذي يكون غيره
كالمعدوم غير متمكن عادة مصروفة عنه دواعيهم
والحاصل: ان التكاليف الشرعية ليست الا كالقوانين العرفية المجعولة لحفظ
الاجتماع وتنظيم الأمور، فكما انه ليس فيها خطابات ودعايات، بل هو بما هو خطاب
واحد متعلق بعنوان عام، حجة على عامة المكلفين فكذلك ما نجده في الشرع من
الخطابات المتعلقة بالمؤمنين أو الناس، فليس هنا الا خطاب واحد قانوني يعم الجميع
338

وان شئت قلت إن ما هو الموضوع في دائرة التشريع هو عنوان المؤمنين، أو الناس
فلو قال يا أيها الناس اجتنبوا عن الخمر، أو يجب عليكم الفعل الكذائي فليس الموضوع
الا الناس، أعم من العاجز والقادر، والجاهل والعالم، ولأجل ذلك يكون الحكم
فعليا في حق الجميع، غير أن العجز والجهل عذر عقلي عن تنجز التكليف والملاك
بصحة هذا الخطاب وعدم استهجانه هو صلوحه لبعث عدد معتد به من المكلفين فالاستهجان
بالنسبة إلى الخطاب العام انما يلزم لو علم المتكلم لعدم تأثر ذلك الخطاب العام
في كل المكلفين واما مع احتمال التأثير في عدد معتد به غير مضبوط تحت عنوان خاص
فلا محيص عن الخطاب العمومي ولا استهجان فيه أصلا كما أن الامر كذلك في القوانين
العرفية العامة وبما ذكرنا يظهر الكلام في الخارج عن محل الابتلاء.
و (القول) بان خطاب العاجز والجاهل وغير المبتلى بمورد التكليف قبيح
أو غير ممكن (صحيح) لو كان الخطاب شخصيا، واما إذا كان بصورة التقنين، فيكفي
في خطاب الجميع، كون عدد معتد به من المكلفين واجدا لما ذكرنا من الشرائط
واما الفاقد لها فهو معذور عقلا مع فعلية التكليف كالعجز والجهل،
وبالجملة: ليس هنا الا إرادة واحدة تشريعية متعلقة بخطاب واحد وليس
الموضوع الا أحد العناوين العامة، من دون ان يقيد بقيد أصلا، والخطاب بما هو خطاب
وحداني متعلق لعنوان عام حجة على الجميع والملاك في صحة الخطاب ما عرفت،
والحكم فعلى مطلقا من دون ان يصير الحكم فعليا تارة وانشائيا أخرى، أو مريدا
في حالة وغير مريد في حالة أخرى، وما أوضحناه هو حال القوانين الدارجة في العالم
والاسلام لم يتخذ مسلكا غيرها، ولم يطرق بابا سوى ما طرقه العقلاء من الناس،
وسيوافيك مفاسد الخطاب الشخصي.
لا يقال: ما معنى الحكم المشترك فيه الناس، وما معنى كون كل واحد منا
مكلفا بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، وظاهر هذا تعدد الخطاب وكثرة التكليف،
فلا يعقل كثرة التكاليف مع وحدة الخطاب، وان شئت قلت إن الخطابات الشرعية
منحلة بعدد نفوس المكلفين، ولا يكاد يخفى ان الخطاب المنحل المتوجه إلى غير
339

المتمكن، أو غير المبتلى مستهجن.
لأنا نقول: إن أريد من الانحلال كون كل خطاب خطابات بعدد المكلفين
حتى يكون كل مكلف مخصوصا بخطاب خاص به، وتكليف مستقل متوجه
إليه فهو ضروري البطلان، فان قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
خطاب واحد لعموم المؤمنين، فالخطاب واحد والمخاطب كثير، كما أن الاخبار
بان كل نار حارة. اخبار واحد والمخبر عنه كثير، فلو قال أحد: كل نار بارد، فلم
يكذب الا كذبا واحدا لا أكاذيب متعددة حسب افراد النار، فلو قال: لا تقربوا الزنا
فهو خطاب واحد، متوجه إلى كل مكلف، ويكون الزنا تمام الموضوع للحرمة،
والمكلف تمام الموضوع لتوجه الخطاب إليه، وهذا الخطاب الوحداني يكون
حجة على كل مكلف من غير انشاء تكاليف مستقلة أو توجه خطابات عديدة ليست
أقول إن المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلفين فإنه ضروري الفساد: بل أقول إن
الخطاب واحد والانشاء واحد والمنشأ هو حرمة الزنا على كل مكلف من غير توجه خطاب
خاص، أو تكليف مستقل إلى كل واحد، ولا استهجان في هذا الخطاب العمومي إذا كان
المكلف في بعض الأحوال أو بالنسبة إلى بعض غير متمكن عقلا أو عادتا، فالخمر
حرام على كل أحد تمكن من شربها أولا وليس جعل الحرمة لغير المتمكن بالخصوص
حتى يقال إنه يستهجن الخطاب فليس للمولى الا خطاب واحد لعنوان واحد، وهو
حجة على الناس كلهم ولا اشكال في عدم استهجان الخطاب العمومي، فكما لا اشكال
في أن التكاليف الشرعية ليست مقيدة بالقدرة والعلم، كما سيوافيك بيانه فكذلك
غير مقيدة بالدخول محل الابتلاء.
ثم إنه يترتب على القول بكون الخطابات شخصية أي منحلة إلى خطابات يلاحظ
فيها عدم الاستهجان مفاسد (منها) عدم صحة خطاب العصاة من المسلمين، فان
خطاب من لا ينبعث به قبيح أو غير ممكن، فان الإرادة الجزمية لا تحصل في لوح النفس
الا بعد حصول مبادئ قبلها التي منها احتمال حصول المراد، والمفروض القطع بعدم
حصوله، و (منها) عدم صحة تكليف الكفار بالأصول والفروع بالملاك الذي قررناه
340

و (منها) قبح تكليف صاحب المروة بستر العورة فان الدواعي مصروفة عن كشف العورة
، فلا يصح الخطاب، إذ أي فرق بين النهى عن شرب الخمر الموجود في أقاصي الدنيا، و
بين نهى صاحب المروة عن كشف سوئته بين ملا من الناس، ونظيره نهى المكلفين
عن شرب البول واكل القاذورات مما يكون الدواعي عن الاتيان بها مصروفة، إذ
أي فرق بين عدم القدرة العادية أو العقلية على العمل، وكون الدواعي مصروفة عنها،
وما افاده بعض الأعاظم من أن التكليف غير مقيد بالإرادة لان التقييد بها غير معقول،
بخلاف القدرة العقلية والعادية، قد وافاك جوابه، فان التكليف لأجل ايجاد الداعي
ولو لأجل الخوف والطمع في الثواب، والتارك للشئ بالطبع، سواء نهى المولى عنه
أو لم ينهه عنه، تارك له مطلقا، فالزجر لغو أو غير ممكن لعدم تحقق ما هو المبادى
للإرادة الجدية كما أوضحناه.
و (منها) يلزم على كون الخطاب شخصيا، عدم وجوب الاحتياط عند الشك في القدرة
، لكون الشك في تحقق ما هو جزء للموضوع، لان خطاب العاجز قبيح، والشك
في حصول القدرة وعدمها، شك في المصداق وهو خلاف السيرة الموجودة بين
الفقهاء من لزوم الاحتياط عند الشك في القدرة، ومنها لزوم الالتزام بان الخطابات
واحكام الوضعية مختصة بما هو محل الابتلاء لان جعل الحكم الوضعي إن كان طبعا
للتكليف فواضح ومع عدم التبعية والاستقلال بالجعل فالجعل انما هو بلحاظ الآثار و
لهذا لا يمكن جعل حكم وضعي لا يترتب عليه اثر مطلقا فجعل النجاسة للخمر والبول
للآثار المتربة عليها كحرمة الشرب وبطلان الصلاة مع تلوث اللباس بها ومع
الخروج عن محل الابتلاء لا يترتب عليها آثار فلابد من الالتزام بان النجاسة والحلية
وغيرهما من الوضعيات من الأمور النسبية بلحاظ المكلفين فيكون الخمر والبول
نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما ولا أظن التزامهم بذلك للزوم
الاختلال في الفقه والدليل العقلي غير قابل للتخصيص يكشف ذلك عن بطلان المبنى
وعلى ما حققناه، فكلها مندفعة، فان الخطايات الإلهية فعلية في حق الجميع، كان
المكلف عاجزا أو جاهلا أو مصروفا عنه دواعيه، أو لم يكن، وإن كان العجز والجهل
341

عذرا عقليا، وقس عليه الخروج عن محل الابتلاء، فهو لا يوجب نقصانا في التكليف
، ولابد من الخروج عن عهدته بترك ما يكون في محل الابتلاء وقد عرفت ان ما هو
الشرط في صحة الخطاب القانوني غير ما هو الشرط في صحة الخطاب الشخصي،
من غير فرق بين التكليف المعلوم بالتفصيل أو بالاجمال، فالتكليف المعلوم لابد
من الخروج عن عهدته بالموافقة القطعية، والاجتناب عن مخالفة القطعية والاحتمالية
ومجرد كون أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أو مصروفة عنه الدواعي لا يوجب
نقصانا في التكليف القانوني وإن كان موجبا له في الشخص.
واما صحيحة علي بن جعفر عن أخيه: فيمن رعفت فامتخط فصار الدم قطعا
صغارا فأصاب انائه الخ فقد حمله الشيخ الأعظم (قدس سره) على العلم الاجمالي
بإصابة ظهر الاناء أو باطنه المحتوى للماء ثم علل عدم وجوب الاجتناب عن ألما؟
بخروج ظهر الاناء عن محل الابتلاء، وهو بمكان من الغرابة إذ كيف
يكون ظهر الاناء الذي بين يدي المكلف خارجا عن ابتلائه، واما الحديث
فلابد من تأويله، وحمله اما على الأجزاء الصغار التي لا يدركه الطرف، وإن كانت
مرئية بالنظارات، الا ان الدم المرئي بها ليست موضوعة للحكم الشرعي، ولا
ينافي هذا الحمل بالعلم بإصابة الاناء فان العلم بها غير ادراك الطرف، واما على
ابداء الشك في أصل الإصابة مطلقا، وعلى أي حال فهي بظاهرها مما عرض عنها
الأصحاب
بحث وتنقيح
ثم إنه على القول بكون الخروج عن محل الابتلاء مانعا عن تأثير العلم الاجمالي يقع
البحث فيما إذا شك في خروجه عن محل الابتلاء لا من جهة الأمور الخارجية بل من جهة
اجمال ما هو خارج عن مورد التكليف الفعلي، فهل الأصل يقتضى الاحتياط أو البراءة واختار
الأول شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) حيث قال: إن البيان المصحح للعقاب عند العقل و
هو العلم بوجود مبغوض المولى بين أمور حاصل، وان شك في الخطاب الفعلي
من جهة الشك في حسن التكليف وعدمه، وهذا المقدار يكفي حجة عليه نظير
342

ما إذا شك في قدرته على اتيان المأمور به وعدمها بعد احراز كون ذلك الفعل
موافقا لغرض المولى ومطلوبا له ذاتا، وهل له ان يقدم على الفعل. بمجرد الشك
في الخطاب الفعلي الناشئ من الشك في قدرته، و (الحاصل) ان العقل بعد احراز
المطلوب الواقعي للمولى أو مبغوضه لا يرى عذرا للعبد في ترك الامتثال هذا،
وفيه ان التحقيق هو البراءة لأنه بعد القول بكون الابتلاء من قيود التكليف
يرجع الشك إلى أصل التكليف، ومجرد احتمال كون المبغوض هو المبتلى به
لا يوجب تمامية الحجة على العبد بل له الحجة لاحتمال كون المبغوض في الطرف الآخر
، واما الشك في القدرة، فلو قلنا بمقالة القوم فلا مناص عن البراءة، لان فعلية
التكليف على مباني القوم من حدود التكليف وقيوده فالشك فيها شك في أصل التكليف
نعم على ما قلنا من كون الخطابات القانونية فعلية في حق القادر والعاجز، غير أن
العاجز، معذور في ترك امتثاله، فعند الشك فيها لا مناص عن الاحتياط الا مع
احراز العذر وإقامة الحجة بعد تمامية الحجة من المولى، فالشك في القدرة مصب
البراءة على مباني القوم كالشك في الابتلاء لا على المختار فتدبر واما القول باستكشاف
الملاك من اطلاق المادة ففيه ان احراز الملاك من تبعات تعلق التكليف على مسلك
العدلية ومع كون القدرة والابتلاء من قيوده وحدوده لا طريق لاستكشافه الا في بعض
الأحيان المستكشف ذلك من الأمور الخارجية وهو لا يفيد لكونه أخص من المدعى
كما أن القول بان القدرة العقلية والعادية غير دخيلة في الملاكات النفس
الامرية بل هي من شرايط حسن الخطاب تخرص على الغيب لعدم العلم بالحركات الواقعية
ومن المحتل دخالة القدرة فيها ولا يدفع هذا الاحتمال الا باطلاق الدليل وهو مفقود فرضا
الا على ما اخترناه
ثم إن بعض أعاظم العصر (قدس سره) استدل على وجوب الاحتياط تبعا للشيخ
الأعظم (قدس سره) باطلاق أدلة المحرمات وحاصل ما أفاد ما يلي، ان القدر المسلم
من التقييد ما هو إذا كان الخمر خارجا عن محل الابتلاء بحيث يلزم استهجان الخطاب
في نظر العرف، فإذا شك في استهجانه وعدمه للشك في امكان الابتلاء بموضوعه أو
343

عدمه فالمرجع هو اطلاق الدليل، لان المخصص المجمل بين الأقل والأكثر مفهوما لا
يمنع عن التمسك بالعام فيما عدا القدر المتيقن من التخصيص وهو الأقل خصوصا
اللبيات، فإنه يجوز التمسك بالعام فيها في الشبهات المصداقية فضلا عن الشبهات المفهومية
والسر في ذلك هو ان العقل لا يخرج العنوان عن تحت العموم بل يخرج ذوات المصاديق،
الخارجية فالشك يكون شكا في التخصيص الزائد، ولا يكون الشبهة مصداقية
كالمخصصات اللبية (فان قلت) المخصصات اللبية الحافة بالكلام كما فيما نحن فيه
يسرى اجمالها إلى العام كالمخصصات اللفظية المتصلة المجملة
(قلت): مضافا إلى أنه يمكن منع كون المخصص هنا من الضروريات المرتكزة
من الأذهان ان هذا مسلم إذا كان الخارج عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب كالفسق
المردد بين مرتكب الكبيرة أو الأعم واما إذا كان عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج
بعض مراتبه عن العام وشك في بعض آخر فلا، لأن الشك يرجع إلى التخصيص
لزائد.
(فان قلت): التمسك بالاطلاق فرع امكان الاطلاق الواقعي وفيما نحن فيه يكون
الشك في صحة الاطلاق النفس الامرى لاحتمال استهجان التكليف (قلت): هذا ممنوع
لان التمسك بالاطلاق لو كان فرع الامكان الواقعي لما جاز التمسك به مطلقا لان كلية
الموارد يصير الشك فيه من قبيل امكان الاطلاق النفس الامرى خصوصا على مذهب
العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد، فان الشك يرجع إلى الشك في وجود
مصلحة أو مفسدة، ويمتنع الاطلاق مع عدمهما، فكما ان الاطلاق يكشف عن المصلحة
النفس الامرية، فكذلك يكشف عن عدم الاستهجان " انتهى كلامه "،
ولا يخفى ان في كلامه: انظارا نشير إلى مهماتها " منها " ان المخصص اللبي
يسرى اجماله إلى العام مطلقا ضروريا كان أو نظريا، اما الأول، فلانه بحكم المتصل
اللفظي، يمنع عن انعقاد الظهور الا في العام المقيد بالعنوان المردد بين الأقل والأكثر
كالعلماء العدول، فلا يثبت حجيته الا في المتيقن لا المشكوك، واما الثاني، فلانه بعد
الانتقال إلى حكم العقل ولو بعد برهة من الدهر يستكشف عن أن ما تخيله من العموم
344

كان أمرا غير صحيح، بل كان الكلام من أول الأمر مقيدا بغير عنوان المخصص لوجود
حكم العقل في زمن الصدور وإن كان المكلف غير ملتفت، فما يظهر من كلامه من
حصر سراية الاجمال بما إذا كان ضروريا لا نظريا غير سديد، فان العقل يكشف عن أن
الخطاب لم يكن متوجها إلى الخارج عن محل الابتلاء، ففرق بين ورود المخصص منفصلا، وبين الغفلة عن الواقع، وحصول العلم بعد برهة بمحدودية الخطاب وتقييده
من أول الأمر، وان شئت قلت: ان المقام نظير كشف القرينة اللفظية الحافة بالكلام
بعد حين، فكما انها يسقط العام عن الحجية في غير القدر المتيقن، فهكذا المخصص
العقلي أضف إلى ذلك: ان منع كون المخصص هنا ضروريا مرتكزا في الأذهان،
قابل للمنع.
ومنها: ان اجمال المخصص الحاف بالكلام سواء كانت لفظيا متصلا به أو
لبيا يسرى إلى العام، نعم لو كان لفظيا منفصلا فلا يسرى، لانعقاد ظهوره، في جميع
الافراد وحجيته في العموم إلى أن يقوم دليل آخر أقوى منه، حتى يصح رفع اليد عن
الحجة بالحجة، والمفروض عدم قيامها الا في الأقل دون الأكثر، واما الحاف بالكلام
سواء كان لفظيا أو لبيا، فيسرى اجماله إليه لعدم انعقاد ظهور له الا في المقدار
المتقيد، والمفروض دوران الامر في المخصص بين الأقل والأكثر، فلا يكون العام
حجة الا في القدر المتيقن، ولأجل ذلك لا يجوز التمسك في الشبهات المصداقية في
المخصص اللبي أيضا، بلا فرق بينه والمخصص اللفظي (والحاصل) ان العام المحفوف
بالعنوان المجمل المردد بين الأقل والأكثر، ليس له ظهور الا في العام المقيد بالمجمل
المردد بين الأقل والأكثر فلا يثبت حجيته الا في المتيقن لا المشكوك.
فان قلت: يمكن أن يكون سر عدم سرايته هو ان العقل يخرج ذوات المصاديق
لا العنوان حتى يصير الشبهة مصداقية بل يصير من قبيل التخصيص الزائد، (قلت) هذا
ما افاده بعض أعاظم العصر (قدس سره) تبعا لما افاده الشيخ الأعظم (طيب الله رمسه)
الا ان ذلك ممنوع، فان الافراد تخرج عن تحت العام عند العقل بملاك واحد، وقد
يخرج كل فرد بملاك يخصه، فلو كان من قبيل الثاني كان لما ذكره من التوجيه
345

وجه كما هو الحال في المخصص اللفظي إذا كان خروج كل فرد بعنوان يخصه واما إذا
كان من قبيل الأول فلا، لان الاخراج كله بملاك واحد، فخروج الفرد المشكوك
خروجه لا يستلزم تخصيصا زائدا، فلو قال المولى أكرم جيراني، وحكم العقل
بحرمة اكرام أعداء المولى، فلا اشكال ان المخرج هو العنوان الوحداني، والمخصص
واحد لا كثير، والشبهة مصداقية، وخروج الفرد المشكوك لا يستلزم تخصيصا آخر،
فلا يجوز التمسك فيه بعين ما ذكر في المخصص اللفظي المتصل
فان قلت: ان ما ذكر انما يصح لو كانت الجهات تقييدية فيصير المخرج هو العنوان المقيد
واما إذا كانت تعليلية فالخارج هي الافراد لأجل تلك العلة (قلت): قد حقق في محله
ان الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية، فلو قيل لا تشرب
الخمر لأنه مسكر، فالموضوع في القضية اللفظية انما هو الخمر لكونها مسكرا لكن ما
هو المحرم لبا في ادراك العقل انما هو المسكر لا غير، فظهر انه لا فرق بين المخصص اللفظي
واللبي.
ومنها: ان ما افاده من الفرق بين المخصص الذي هو ذات مراتب كالخروج
عن محل الابتلاء وما ليس كذلك كالفاسق فيجوز التمسك بالعام في الأول
في اللفظي واللبي معا، من غرائب الآراء إذ أي فرق بين الفسق والخروج عن
محل الابتلاء حيث جعل الثاني مختلف المراتب دون الأول، مع أن الخروج عن
طاعة الله له مراتب مختلفة، فان مرتبة ارتكاب الصغائر، غير مرتبة ارتكاب الكبائر
واضعف منها، وهو يباين مع ارتكاب الموبقات من الذنوب مرتبة، (وعلى ذلك)
فربما يشك في أن الخارج عن العام هل هو مطلق من خرج عن طاعة الله، أو الخارج
عنه مرتبة خاصة منه، كما ربما يقال: إن البلاد مختلفة،، فالواقع في أقاصي العالم
يعد خارجا عن محل الابتلاء، وانما الشك في الأواسط والأداني، ولعل كون الفاسق
ذات مراتب أولى من كونه ذات مراتب كما لا يخفى
أضف إلى ذلك ان ما ادعاه من الكبرى غير مسلم فان الاجمال يسرى إلى العام
إذا كان المخصص متصلا، وإن كان مقولا بالتشكيك، فلو قال المولى أكرم العلماء
346

الا الأبيض منهم وشككنا في أن الخارج هل هو الأبيض الشديد أو الأعم منه فلا يجوز
التمسك به في غير المتيقن خروجه، لأنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
بالنسبة إلى نفس العام لا المخصص، إذ ليس للكلام الا ظهور واحد، فمع اجمال القيد
لا يعقل عدم السراية.
ومع ذلك كله، فعد المقام من قبيل الشبهة المفهومية غير صحيح لان معناها
ان المفهوم مجمل في دائرة المفهومية فلا يعلم انطباقه على موضوع حسب الوضع
اللغوي أو العرفي (كالفاسق) إذ هو مجمل حسب المعنى الموضوع له، فلا نعلم أن معناه
هو مرتكب الكبائر، أو الأعم فيكون الشك في انطباق مفهوم الفاسق على مرتكب
الصغيرة، واما إذا علم أن له مفهوما معينا ذات مراتب، وشك في أن الخارج أي مرتبة
منه، فهو داخل في اجمال المراد وخارج عن الشبهة المفهومية لكون المفهوم
مبينا.
ثم إن ما افاده: من أن التمسك بالعموم لو كان مشروطا باحراز امكان
الاطلاق النفس الامرى لا نسد باب التمسك بها لا سيما على مذهب العدلية
ففيه انه فرق واضح بين قضية استهجان الخطاب وغيره فان البحث عن تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد بحث عقلي محض، فقد تضاربت فيه آراء العدلية والأشاعرة
وليس العلم باشتمال الموضوع على المفاسد والمصالح من مبادئ الاحتجاج في
محيط العقلاء، بل الخطاب عند الشك في التقييد والتخصيص تام متوجه إلى المكلف
والأصل العقلائي الدائر عندهم يحكم بمطابقة الإرادة الاستعمالية والجدية،
فعند الشك في دخالة قيد، أو خروج فرد تصير أصالتي العموم والاطلاق محكمة،
لتمامية ما هو ملاك الحجاج عندهم، فحديث المصالح والمفاسد مما يغفل عنه العامة
وانما يبحث عنهما العلماء الباحثون عن دقائق المسائل، فلو سمع العبد في محيط
العقلاء قول المولى أكرم العلماء يقف على أن تمام الموضوع هو العلماء ولو شك
في دخول فرد أو دخالة شئ يحكم بالعموم والاطلاق على عدم دخالة شئ أو عدم خروجه من
347

غير التفات إلى امكان اطلاق النفس الامرى على مسلك العدلية، واما المقام، فاستهجان
الخطاب في الموارد الخارجة عن محل الابتلاء ليس مخفيا على أحد، فلو شك في استهجان
الخطاب لأجل الشك في كونه مورد الابتلاء أولا، لما صح التمسك بالاطلاق لكشف
حاله، إذ التمسك بالاطلاق فرع احراز امكانه بهذا المعني.
هذا كله على مباني القوم وقد عرفت انه لا مناص عن البراءة واما على المختار
فلزوم الاحتياط مما لا غبار عليه، ويعلم وجهه مما قدمناه.
القول في الشبهة غير المحصورة
وتوضيح حالها في ضمن أمور - الأول: لو وقف المكلف على تكليف فعلى
قطعي وجداني بحيث لا يرضى المولى بتركه مطلقا فلا اشكال في لزوم اتباعه وقبح
مخالفته سواء كان الأطراف محصورة أو غير محصورة، نعم لو وقف على الحكم لأجل
اطلاق الدليل أو عمومه، فللترخيص فيه مجال فلابد، من ملاحظة دلالة ما يدل على
الترخيص وتمامية دلالته كأدلة الحل وغيرها، وقد وافاك في المحصور من الشبهة ان
شمول أدلة الحل على أطراف المحصور، وإن كان لا يعد ترخيصا في المعصية في نظر
العقل، الا انه ترخيص في نظر العرف الذي هو المحكم في هذه الميادين، واما
أطراف غير المحصور فسيأتي بيان الحال فيه، وليعلم انه لابد ان يتمحض البعث في
الشبهة غير المحصورة من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر العناوين المجوزة
كالاضطرار والخروج عن محل الابتلاء أو العسر والحرج، وما يظهر من الشيخ الأعظم
من الاستدلال على الجواز بخروج بعض الأطراف أو أكثرها من محل الابتلاء
ليس بسديد.
الثاني: قد اضطرب كلام القوم في ميزان الشبهة غير المحصورة، كما اضطرب
في بيان سر عدم وجوب الاجتناب عن بعض اطرافها أو جميعها وأسد ما قيل في المقام
ما افاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ان كثرة الأطراف توجب ضعف احتمال كون
الحرام مثلا في طرف خاص بحيث لا يعتنى به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي فيكون
في كل طرف يريد الفاعل ارتكابه، طريق عقلائي على عدم كون الحرام فيه
348

وان شئت توضيحه: فلاحظ حال العقلاء تريهم لا يعتنون ويعدون المعتنى
ضعيف القلب، فلو سمع الرجل ان واحدا من بيوت بلده التي فيها آلاف بيت قد اغرقه
الماء، أو وقع فيه حريق، أو قرء في جريدة ان واحدا من أهل بلده التي فيها مأة
الف نسمة، قد قتل تراه لا يبالي بما سمعه، ولو صار بصدد التفتيش، وأظهر الاضطرار
والوحشة، لاحتمال كون البيت بيته، والمقتول ولده، لعد، ضعيف العقل أو عديمة
والسر فيه هو ان كثرة الاحتمال يوجب موهومية المحتمل.
ثم إن شيخنا العلامة قد استشكل فيما ذكره بان الاطمينان بعدم الحرام في
كل واحد من الأطراف لا يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها، و (فيه) ان الايجاب
الجزئي وإن كان لا يجتمع مع السلب الكلى، الا ان المنافات انما يتحقق في المقام
إذا لوحظت الافراد في عرض واحد لا إذا لوحظت كل واحد في مقابل الباقي، فكل
واحد من الأطراف إذا لوحظ في مقابل الباقي يكون فيه احتمال واحد في مقابل الاحتمالات
الكثيرة، ولا اشكال في ضعف احتمال واحد في مقابل مأة الف احتمال، لا يقال
انا نعلم بان واحدا من هذه الامارات مخالف للواقع، ومعها كيف يجوز العمل بها معه
لأنا نقول: إن العلم بكذب واحد من الامارات غير المحصورة كالعلم بنجاسة
اناء بين عدة غير محصورة حرفا بحرف ثم إنه يمكن الاستدلال على حكم الشبهة
غير المحصورة بروايات كثيرة.
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله: قال كل شئ فيه حلال وحرام
فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام بعينه، فان ظهورها في العلم الاجمالي لا يكاد يشك
غير أنه خرج المحصورة بالاجماع أو بالعقل وبقى ما بقى.
والقول بان الشبهة غير المحصورة نادرة، ضعيف جدا بل غالب الشبهات غير
محصورة، وقد يتفق كونها محصورة.
ومنها: الروايات الواردة في باب الجبن وقد مضي بعض القول في مداليله و
إليك ما يناسب هنا، منها مرسلة معوية بن عمار عن أبي جعفر بعدما سئله عن الجبن
فأجاب عليه السلام سأخبرك عن الجبن وغيره، كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال
349

حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه، وقريب منها رواية عبد الله بن سليمان، ولا
يخفى ظهورها في الشبهة غير المحصورة، ويؤيده بل يشهد عليه رواية أبى الجارود
قال سئلت أبا جعفر عن الجبن فقلت: اخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة فقال امن
أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين، إذا علمت أنه ميتة فلا
تأكل، وان لم تعلم فاشتر وبع وكل والله انى لاعترض السوق فاشترى بها اللحم و
الجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان.
وأورد على الاستدلال بها الشيخ الأعظم، بإبداء الاحتمال بان جعل الميتة في
الجبن في مكان واحد، لا يوجب الاجتناب عن جبن غيره الذي هو مشكوك بدوي
وبان المراد من قوله: ما أظن كلهم يسمون، عدم وجوب الظن أو القطع بالتسمية و
الحلية بل يكفي اخذها من سوق المسلمين بناء على أن السوق امارة شرعية للحل و
لو اخذ من يد مجهول الحال الا ان يقال: إن سوق المسلمين غير معتبر مع العلم
الاجمالي فلا مسوغ للارتكاب غير كون الشبهة غير محصورة، ثم أمر بالتأمل
وأنت خبير بضعف ما اورده، لان حملها على الشبهة البدئية بعيد عن مساقها
إذ هي كالنص في العلم الاجمالي خصوصا مع ملاحظة ذيلها ومعلوم ان ذيلها ليس أجنبيا
عن الصدر، وما احتمله في معنى قوله عليه السلام ما أظن الخ بعيد، لان قوله هذا ظاهر في
حصول القطع بعدم التسمية، لكون الطائفتين ليستا من الطوائف الاسلامية، وعلى
أي حال فدلالة المرسلة لا غبار عليها لولا ضعفها سندا، ومثلها رواية " عبد الله بن
سليمان " وفيها احتمال التقية لكون الميتة عبارة عن الانفخة وهى طاهرة باجماع
الطائفة، وقد أوضحنا حالها في محله.
ومنها: موثقة سماعة عن أبي عبد الله في بعض عمال بنى أمية وفيها: إن كان
خلط الحرام حلالا فاختلطا جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا باس، ولا يبعد
حملها على غير المحصورة
ومنها صحيحة الحلبي لو أن رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف ان في ذلك المال
ربا ولكن اختلط في التجارة بغيره حلالا، كان حلالا طيبا فليأكله وان عرف منه شيئا
350

معزولا انه ربا فليأخذ رأس ماله ويرد الربوا
ومنها صحيحة أخرى له، وغيرها من الروايات التي قد جمع بعضها السيد
الفقيه اليزدي في حاشيته على المكاسب عند البحث عن جوائز السلطان، ولا يبعد
كون مورد أكثرها من قبيل الشبهة غير المحصورة، وفى مقابلها روايات أخر محمولة
على المحصورة كروايات التخميس فإنها محمولة على ما جهل المقدار واحتمل كون
الحرام مقدار الخمس والزيادة والنقيصة واما لو علم أن في ماله الذي بلغ خمسين
ألف دينار، دينارا من الحرام فلا اشكال في عدم وجوب الخمس، وبالجملة دلالة
الروايات على الشبهة غير المحصورة واضحة، نعم يخرج منها بعض الموارد كما لو
عرف صاحب المال فيجب له التخلص من ماله، وتفصيل الكلام في باقي الأقسام
في محله.
في بيان ما هو الميزان في الباب
وقد ظهر مما أوضحنا من مقالة شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ان ما هو الضابط
في الشبهة غير المحصورة، أن تكون كثرة الأطراف بمثابة لا يعتنى العقلاء باحتمال
كون الواقع في بعض الأطراف في مقابل البقية لضعف الاحتمال لأجل الكثرة
وقد نقل شيخنا الأعظم (قدس سره) كلمات في ضابطها عن الاعلام غير أنه لا يهم
الباحث، لان الدليل الوحيد ما عرفت من بناء العقلاء ودلالة الاخبار، وليس عنوان
غير المحصور واقعا في مصب رواية حتى نتكلف لبيان حده
ثم إنه يظهر من بعض أعاظم العصر ضابطا آخر فقال ما هذا حاصله: ان ضابطها
ان تبلغ الأطراف حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من اكل وشرب فخرج العلم
بنجاسة حبة من حقة، لامكان استعمال الحقة مع أن نسبتها إلى الحقة تزيد عن نسبة
الواحد إلى الألف، فليس العبرة بكثرة العدد فقط إذ رب كثير تكون الشبهة فيه
محصورة كالنحطة من الحقة، كما لا عبرة بعدم تمكن الجمع فقط إذ ربما لا يتمكن
عادة مع أن الشبهة محصورة ككون أحد الأطراف في اقصى بلاد المغرب، بل لابد
من الامرين - كثرة الأطراف، وعدم التمكن العادي من الجمع، وبهذا تمتاز
351

الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في المحصورة من أنه يعتبر فيها امكان الابتلاء بكل
واحد من اطرافها، فان امكان الابتلاء بكل واحد غير امكان الابتلاء بالمجموع
، فالشبهة الغير المحصورة ما تكون كثرة الأطراف بحد يكون عدم التمكن في الجمع
في الاستعمال مستندا إليها، ومن ذلك يظهر حكمها، وهو عدم حرمة المخالفة
القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية، اما عدم الحرمة فلان المفروض عدم التمكن
العادي منها، واما عدم وجوب الموافقة القطعية فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة
القطعية لأنها هي الأصل في باب العلم الاجمالي لان وجوب الموافقة القطعية يتوقف
على تعارض الأصول في الأطراف، وتعارضها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية
فيلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف، فإذا لم تحرم المخالفة
القطعية لم يقع التعارض بين الأصول ومعه لا يجب الموافقة القطعية.
وفيه اما أولا فان المراد من عدم التمكن من الجمع في الاستعمال إن كان هو
الجمع دفعة، فيلزم أن يكون أكثر الشبهات المحصورة، غير محصورة واما أن يكون
أعم منها ومن التدريج ولو في مدة طويلة من سنين متمادية فلابد من تعيين ذلك الزمان
الذي لا يمكن الجمع التدريجي بين الأطراف فيه بل يلزم أن يكون أكثر الشبهات محصورة
إذ قلما يتفق ان لا يمكن الجمع بين الأطراف ولو في ظرف سنين، فتكون الشبهة على هذا
الضابط محصورة وهذا لا يمكن الالتزام به، " فان قلت ": ان ارتكاب جميع الأطراف مما لا
يمكن غالبا ولو تدريجا في سنين متمادية لفقدان بعض الأطراف على أن تأثير العلم
الاجمالي في التدريجيات محل بحث، " قلت " ان خروج بعض الأطراف بعد تنجيز العلم
غير مؤثر، ولا يضر بتنجيز العلم الاجمالي في بقية الأطراف، مع أنك قد عرفت ان البحث
ممحض في كون الشبهة غير محصورة مع قطع النظر عن الجهات الأخر من فقدان
بعض الأطراف، على أن تأثير العلم في التدريجي من حيث الاستعمال مما لا اشكال فيه
وفى التدريجي من حيث الوجود أيضا مؤثر على الأقوى.
واما ثانيا فلان مورد التكليف انما هو كل فرد فرد، والمفروض قدرته عليه
352

لا الجمع بين الأطراف حتى يقال بعدم قدرته على الجمع وما هو مورد للتكليف
فالمكلف متمكن من الاتيان به لتمكنه من كل واحد، والمكلف به غير خارج عن
محل ابتلائه ومالا يكون متمكنا منه أعني الجمع فهو غير مكلف به، واما حكم
العقل بالجمع أحيانا فهو لأجل التحفظ على الواقع لا انه حكم شرعي، وبالجملة:
ان الميزان في تنجيز العلم الاجمالي هو فعلية التكليف وعدم استهجان
الخطاب، والمفروض ان مورد التكليف عن الأطراف واقع في محله لتمكنه من
استعمال كل واحد، وان لم يتمكن من الجمع في استعمال، وبذلك يظهر حرمة
المخالفة الاحتمالية بارتكاب بعض الأطراف فضلا عن القطعية، لفعلية الحكم، وعدم
استهجان الخطاب لكون مورد التكليف موردا للابتلاء، وبذلك يظهر النظر
فيما افاده: من عدم حرمة المخالفة القطعية، وعدم وجوب الموافقة القطعية لأجل
تفرع الثانية على الأولى.
الثالث: هل يجوز ارتكاب الجميع أو يجب ابقاء مقدار الحرام وقد فصل الشيخ
الأعظم (قدس سره) فقال بعدم العقاب إذ لم يقصد ارتكاب الجميع من أول الأمر ولكن
انجر الامر إليه، وبالعقاب فيما إذا قصد الجميع من أوله أو توصل به إلى ارتكاب
الحرام، والتحقيق ان يقال: إن العمدة في المقام هو اخبار الباب وقد عرفت ان الظاهر
منها جواز ارتكاب الجميع، نعم مقتضى ما اعتمد به شيخنا العلامة أعلى الله مقامه
التفصيل، فلو شرع المكلف في الأطراف قاصدا ارتكاب جميعها ولو في طول سنين
لم يكن معذورا، لان التكليف بعد باق على فعليته، وكذا لو قسم الأطراف باقسام
معدودة محصورة وأراد ارتكاب بعض الأقسام الذي يكون نسبته إلى البقية نسبة
محصورة كان تكون الأطراف عشرة آلاف وقسمها عشرة أقسام، وأراد ارتكاب
قسم منها فإنه غير معذور فيه لأنه من قبيل الشبهة المحصورة، لعدم كون احتمال
الواقع في القسم الذي أراد ارتكابه ضعيفا بحيث لا يعتنى به العقلاء.
الرابع بناء على ما ذكرناه من أن العقلاء لا يعتنون بالعلم بل الامارة العقلائية قامت
على عدم المعلوم في كل واحد منفردا عن غيره يسقط حكم الشك البدوي أيضا عن
353

بعض الأطراف بعد سقوط العلم الاجمالي فلو علم بان مايعا مضافا بين الأواني المحصورة
من الماء يجوز التوضي ببعض الأطراف لقيام الطريق العقلائي على عدم كونه مضافا
مع أنه لو شك في كونه مضافا بدوا لا يصح الاكتفاء بالوضوء به فحكم الشك البدوي
يسقط عن بعض الأطراف واما على ما افاده بعض الأعاظم من الضابط كما تقدم فلا يسقط
حكم الشك لأن عدم حرمة المخالفة القطعية الجائية من قبل عدم امكان الجمع في
الاستعمال اللازم منه عدم وجوب الموافقة القطعية، لا يلازم سقوط حكم الشك كما
لا يخفى لكن الفاضل المقرر رحمة الله قال إنه (رحمه الله) كان يميل إلى سقوط حكم
الشبهة أيضا وهو لا يتجه على مختاره ومتجه على مختارنا
الخامس: في حكم الشبهة الوجوبية إذا كانت وجوبية فلو كان المدرك لعدم
التنجيز هو الأخبار الواردة في المقام فالظاهر جواز المخالفة القطعية، حتى يقف
على الواجب أو الحرام بعينه، واما على ما افاده شيخنا العلامة من قيام الامارة العقلائية
فلو تمكن المكلف من الاتيان بمقدار نسبته إلى غير المتمكن نسبة محصور إلى
محصور فيجب الاحتياط، كما لو تمكن من الاتيان بالمأة من بين الألف، فان نسبتها
إلى الألف كنسبة الواحد إلى العشرة، فالظاهر (ح) وجوب الموافقة الاحتمالية، و
اما إذا لم يوجب ذلك انقلاب النسبة، كما لو نذر شرب كأس واشتبه من بين غير محصور
وتمكن من شرب الواحد منه، فلا يجب الاحتياط لقيام الامارة العقلائية على عدم كونه
الواقع، ولا يعتنى العقلاء بمثل هذا الاحتمال الضعيف.
في ملاقي الشبهة المحصورة
وتحقيق الحال فيه في ضمن أبحاث.
الأول: بعدما علم من ضرورة الفقه وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس القطعي وقع
البحث في كيفية جعل هذا الوجوب فمن قائل وهو ابن زهرة ومن تبعه بان وجوب
الاجتناب عن الملاقى النجس من شؤون وجوب الاجتناب عن نفس النجس وليس وجوب
الاجتناب عن الملاقى لأجل تعبد آخر وراء التعبد بوجوب الاجتناب عن النجس،
ويكون المرتكب للملاقى معاقبا على ارتكاب النجس لا على ارتكاب ملاقيه، لعدم
354

الحكم للملاقى مستقلا، وبالجملة ليس هنا الا وجوب اجتناب واحد وهو وجوب
الاجتناب عن النجس ولا يتحقق ذلك الا بالاجتناب عنه وعن حواشيه وملاقياته.
ومن قائل - وهو المشهور المنصور - بان الملاقى يختص بجعل مستقل في عرض
وجوب الاجتناب عن النجس وهذا الوجوب مجعول على عنوان ملاقي النجس، من دون أن يكون
وجوبه عين وجوبه ومن شؤونه فالاجتناب عن الملاقى امتثال مستقل كما أن
الاجتناب عن النجس امتثال آخر، وقس عليه العقاب والعصيان.
استدل ابن زهرة بقوله تعالى: والرجز فاهجر ولا يخفى عدم دلالته إذ
هو يدل على وجوب الاجتناب عن الرجز ولا يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقي
الرجز، فان الرجز عبارة عن نفس النجس على ما عليه جملة من المفسرين ولا
يدل على حكم ملاقيه.
وربما يستدل بما رواه عمر بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام: انه
اتاه رجل فقال له: وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في اكله فقال أبو جعفر:
لا تأكله فقال الرجل: الفارة أهون على من أن اترك طعامي لأجلها، فقال له أبو جعفر:
انك لم تستخف بالفارة وانما استخففت بدينك ان الله حرم الميتة من كل شئ
(وجه دلالته) انه جعل عدم الاجتناب من الطعام الذي وقعت فيه الفارة استخفافا
للدين وبينه بان الله حرم الميتة من كل شئ ولولا كون الاجتناب من الملاقى
(بالكسر) من شؤون الاجتناب من الملاقى لم يكن عدم الاجتناب من الطعام استخفافا
بتحريم الميتة.
وفيه: مع ضعف سند الرواية، واحتمال تفسخ الميتة في السمن بحيث حصل
الامتزاج والاختلاط وصارا بحكم واحد في الاستعمال والاجتناب، ان الاستدلال
مبنى على أن قوله عليه السلام ان الله حرم الميتة من كل شئ مسوق لبيان نجاسة الملاقى
للفارة وهو خلاف الظاهر بل سيق لبيان رد قول السائل (ان الفارة أهون على من أن
اترك طعامي لأجلها) بان ذلك استخفاف لحكم الله تعالى لتعلق حكمه على كل ميتة
355

ويمكن الاستدلال على القول المشهور (ان وجوب الاجتناب عن الملاقى
مجعول مستقلا) بمفهوم قوله عليه السلام إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ فان مفهومه
ان الماء إذا لم يبلغ حد الكر ينجسه بعض النجاسات، أي يجعله نجسا ومصداقا مستقلا
منه، وظاهره ان الأعيان النجسة واسطة لثبوت النجاسة للماء فيصير الماء لأجل
الملاقاة للنجس فردا من النجس مختصا بالجعل.
ويمكن ان يستدل أيضا بقوله: الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر أي حتى
تعلم أنه صار قذرا بواسطة الملاقاة واعطف عليه ما دل من الروايات والفتاوى ان
الماء والأرض والشمس مطهرات للأشياء، فان الظاهر منها ان الأشياء صارت نجسة
فتطهر بالمذكورات. وبالجملة: لا اشكال في أن نجاسة الملاقى من ناحية نجاسة
الأعيان النجسة التي يلاقيها لأجل السراية والسببية كما أن الظاهر منها كون الملاقي
مختص بجعل آخر ووجوب مستقل.
ومن ذلك يعلم حكم الملاقى لاحد أطراف العلم الاجمالي فعلى القول الأول
يجب الاجتناب لأجل تحصيل البراءة اليقينية عن الاشتغال اليقيني، للشك في
حصول الامتثال، بالاجتناب عن الأطراف دون الملاقى، لان وجوب الاجتناب عن
الملاقى على فرض نجاسة الملاقى (بالفتح) ليس وجوبا وتكليفا، مستقلا بل وجب
الاجتناب عنه بنفس الوجوب المتعلق بالملاقى (بالفتح) فيجب الاجتناب عن الكل
تحصيلا للبرائة، وعلى القول المختار فالحكم هو البراءة لكن على تفصيل
سيوافيك بيانه.
الثاني: ان العلم بالملاقات قد يكون بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحد
الأطراف وقد يكون قبله، وقد يكون مقارنا له وعلى أي حال قد يكون الملاقى خارجا
عن محل الابتلاء رأسا ولا يعود إليه، وقد يكون عائدا إليه بعد خروجه حين العلم
بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف، والأمثلة واضحة.
مقتضى الأصل العقلي في ملاقي الأطراف
الثالث في بيان مقتضى الأصل العقلي في هذه الصور، قد اخترنا في الدورة
356

السابقة البراءة في هذه الصور مطلقا، ولكن عدلنا في هذه الدورة إلى تفصيل يوافق
مختار المحقق الخراساقى (رحمه الله) واليك بيان ما أوضحناه في الدورة السابقة على
نحو الاجمال.
ان العلم الاجمالي بنجاسة بعض الأطراف منجز لها فإذا علم بالملاقات أو
بكون نجاسة الملاقى على فرض كونه نجسا من الملاقى (بالفتح) فهذا العلم الثاني
لا يؤثر شيئا، لان العلم بنجاسة بعض الأطراف متقدم رتبة على العلم بنجاسة الملاقى
(بالكسر) أو الطرف، سواء كان بحسب الزمان مقارنا له أو متقدما عليه أو متأخرا
عنه، وبالجملة: ان العلم الأول المتعلق بنجاسة أحد الظرفين منجز في الرتبة السابقة على
تأثير العلم الاجمالي، ومعه لا ينجز العلم الثاني لعدم امكان تنجيز المنجز للزوم تحصيل
الحاصل، فإذا علم بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف ثم علم نجاسة الملاقى
(بالفتح) أو الطرف وان نجاسة الملاقى (بالكسر) على فرضها تكون من الملاقى،
فالعلم الثاني مع كونه متأخرا زمانا، ينجز أطرافه في الرتبة السابقة، لان معلومه
يكون متقدما على المعلوم الأول والمناط في التنجيز هو تقدم المعلوم زمانا أو رتبة
لا العلم، كما لو علمنا بوقوع قطرة من الدم في إحدى الأواني الثلاثة ثم علمنا بوقوع
قطرة منه قبله في إحدى الإنائين منها، (فح) يكون العلم الأول بلا اثر، ولا يجب
الاجتناب عن الطرف المختص به لان العلم الثاني يؤثر في تنجيز معلومه في الزمان
السابق على العلم الأول، و (الحاصل) بعد تقدم تنجز الملاقى (بالفتح) على الملاقى بالرتبة
يكون العلم المتعلق بالملاقى (بالكسر) والطرف في جميع الصور بلا اثر، ولا معنى
للتنجيز فوق التنجيز فيكون الملاقى بحكم الشبهة البدئية.
هذا ملخص ما أوضحناه في الدورة السابقة، وقد لخصناه بحذف ما تكرر بيانه
في الأبحاث المتقدمة ويظهر ضعفه في طي المباحث الآتية والتحقيق هو ما اختاره
المحقق الخراساني من التفصيل فإنه أوجب تارة الاجتناب عن الطرف والملاقى
357

(بالفتح) دون الملاقى واخرى عن الطرف والملاقى والملاقى جميعا وثالثة
عن الطرف والملاقى (بالكسر) دون الملاقى بالفتح فنقول توضيحا وتحقيقا لما افاده
قدس سره.
اما الصورة الأولى: فهي ما إذا كان العلم بالملاقات متأخرا عن العلم بنجاسة
أحد الأطراف، وعلله هو قدس سره بأنه إذا اجتنب عن الملاقى (بالفتح) والطرف فقد
اجتنب عن النجس في البين، ولو لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسته، فرد آخر
من النجس قد شك في وجوده.
وتوضيحه وإن كان فيما مر كفاية بالنسبة إلى هذه الصورة - ان يقال: إن
الكشف والتنجيز من الأمور التي لا يقبل التعدد والاثنينية، فلا يعقل ان ينكشف
الشئ الواحد لدى العالم مرتين ما لم ينفصل بينهما ذهول أو نسيان، ومثله التنجيز
فان معناه، تمامية الحجة، وانقطاع العذر على العبد وهو لا يقبل التكرر، فإذا تم
الحجة بالنسبة إلى الطرف في العلم المتقدم أو حصل الانكشاف، فلا معنى لان يتم
الحجة بالنسبة إليه أيضا في العلم الثاني الذي تعلق بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو
الطرف، كما لا معنى لتعدد الانكشاف وان شئت قلت: ان من شرائط تنجيز العلم
الاجمالي كونه متعلقا بالتكليف الفعلي في أي طرف اتفق وموجبا للالزام على
أي تقدير، وهو مفقود في المقام فان القول بأنه يجب الاجتناب اما عن الملاقى
(بالكسر) أو الطرف قول صوري فان الطرف يجب الاجتناب عنه على أي تقدير للعلم السابق
سواء وجب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) أو لا، ولأجل ذلك لو تعلق العلم الاجمالي
بأمور قد سبق التكليف إلى بعضها معينا، لم يحدث شيئا ولم يوجب تنجزا، لأنه تعلق
بأمر وجب الاجتناب عنه سابقا بلا ترديد، والباقي مشكوك من رأس.
والحاصل: انا إذا سلمنا ان ههنا علما ثانيا دائرا بين الطرف والملاقى، لكنه
تعلق بمعلوم مردد بين ما هو محكوم بالاجتناب قبل حدوث هذا العلم وما ليس
كذلك، ومعه كيف يحدث العلم الثاني تنجيزا على كل تقدير، أو كشفا على كل
تقدير، مع أن الظرف كان منجزا ومنكشفا من قبل بركة العلم الأول، والمنجز
358

لا يتنجز، والمنكشف لا ينكشف (هذا) وحكم هذه الصورة واضحة جدا قد اتفقت
كلمتنا فيها في كلتا الدورتين وانما البحث في غيرها.
الصورة الثانية: أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الجميع فهي فيما إذا حصل
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) والطرف بعد العلم بالملاقات مع كون الجميع
موردا للابتلاء، فان السر في وجوب الاجتناب عن الجميع، ان العلم بالملاقات وإن كان
متقدما الا انه لا يحدث تكليفا، فان الملاقاة الخارجي ليس موضوعا للحكم
ما لم يعلم نجاسة الملاقى (بالفتح)، وما هو الموجب للتكليف انما هو العلم
بنجاسة الملاقى أو الطرف وهو قد تعلق بالجميع في عرض واحد، لان
العلم بالملاقات المتقدم، قد جعل الملاقى والملاقى عدلا واحدا، فإذا تعلق العلم
بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف ففي الحقيقة تعلق ببركة العلم بالملاقات من
قبل بنجاستها أو الطرف وسيأتي الكلام عن قريب في حال التقدم الرتبي فانتظر.
والى ذلك يشير (قدس سره) بأنه يتنجز التكليف بالاجتناب عن البين، وهو
الواحد أو الاثنين.
الصورة الثالثة أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الطرف والملاقى بالكسر دون
الملاقى فقد ذكر (رحمه الله) لها موردين (الأول) ما إذا تأخر العلم بنجاسة الملاقى بالفتح
أو الطرف، عن العلم بالملاقات، وعن العلم بنجاسة الملاقى بالكسر أو الطرف كما إذا
علم أولا بنجاسة ملاقيه بالكسر أو الطرف من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقى، ثم،
حدث العلم بالملاقات وحدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف، و
العلم بأنه ليس لنجاسة الملاقى بالكسر على تقدير أن يكون هو النجس الذي تعلق
العلم به أولا، سبب الا جهة ملاقاته لأن المفروض انه ليس الا نجاسة واحدة
في البين.
والسر في ذلك هو ما مر من أن شرط تنجيز العلم الاجمالي أن يكون متعلقا
بالتكليف الفعلي على أي تقدير منجزا كذلك وقد عرفت انه لو سبق التكليف إلى
بعض الأطراف قبل تعلق العلم الثاني لما يؤثر المتأخر أصلا لتردد متعلقه بينما كان
واجب الاجتناب لولا هذا العلم، وما ليس كذلك فينحل العلم الثاني إلى قطعي الاجتناب
359

ومحتمله، ولا يصح ان يقال إن هذا واجب أو ذاك، بل أحدهما واجب الاجتناب
قطعا وهو الذي سبق إليه التكليف، والاخر مشكوك الوجوب
وقس عليه المقام: فان العلم الأول قد نجز حكم كل واحد من الملاقى بالكسر
والطرف والعلم الثاني قد تعلق بنجاسة الملاقى بالفتح والطرف، والمفروض ان
الطرف كان في ظرف حدوث العلم الثاني واجب الاجتناب وقد تم حجة المولى فيه
إلى العبد، ومعه لا يحدث العلم الثاني تكليفا على أي تقدير، وبالجملة: ليس البحث
في الملاقى بالكسر حتى يقال إن العدل في العلم الثاني هو الملاقى بالفتح، بل البحث
في الطرف الذي هو عدل في كلا العلمين وقد ثبت تنجيزه قبل حدوث العلم الثاني
فلا معنى للتنجيز بعده فينحل علم الثاني إلى قطعي الاجتناب وهو الطرف ومشكوكه
وهو الملاقى بالفتح
وان شئت قلت: ان شرطية منجزية العلم الاجمالي هو أن يكون كاشفا
فعليا ومنجزا فعليا على جميع التقادير ومع العلم الأول بنجاسة الملاقى (بالكسر)
أو الطرف يكون العلم كاشفا فعليا عن التكليف بينهما ومنجزا فعليا على جميع
التقادير، فإذا حصل العلم بان نجاسة الملاقى (بالكسر) على فرض كونه نجسا
فمن جانب الملاقى يحدث علم اجمالي، لكنه لا يمكن ان يتصف بالكاشفية الفعلية
ولا بالمنجزية الفعلية على جميع التقادير، فإنه على تقدير كون النجس هو
الطرف يكون فعليا بالعلم الأول ومنجزا فعليا به، ولا يعقل تعلق كشف فوق الكشف
، ولا تنجيز فوق التنجيز.
فان قلت: العلم الثاني يوجب بطلان العلم الأول وفساد زعم التنجيز، لان
التنجيز فرع مطابقة العلم لنفس الامر وقد كشف خلافه، لأنه بعد حصول الثاني من
العلمين الكاشف عن أن النجس اما هو الملاقى (بالفتح) أو الطرف نستكشف بطلان
الأول الذي تعلق بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف وعلمنا ان الذي يليق ان يقع
عدلا للطرف انما هو الملاقى (بالفتح) لا الملاقى.
وان شئت قلت: ان الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) فرع ثبوت وجوب الاجتناب
360

عن الملاقى (بالفتح) والسر في ذلك ان ما يجب الاجتناب عنه هو ملاقي النجس القطعي
فيجب الاجتناب عنه وان صار الملاقى غير واجب الاجتناب لأجل الاضطرار إليه
أو لخروجه عن محل الابتلاء أو لغير ذلك واما المقام فليس ملاقيا للنجس بل ملاقي
لشئ لم يحرز نجاسته ولم يثبت وجوب الاجتناب عنه عند حصول العلم الأول كما هو
المفروض، و (بالجملة) بعدما حدث العلم الثاني، كشفنا عن أن العلم الأول الذي
تعلق بوجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) أو الطرف كان وهنا محضا ولم يكن ملاك
وجوب الاجتناب موجودا فيه، فيبطل ما يقال: إن الطرف كان واجب الاجتناب
من أول الأمر ولم يحدث العلم الثاني تكليفا آخر بالنسبة إليه، ويصير الملاقى (بالفتح)
مشكوكا بدئيا.
قلت: ان العلم الثاني لم يكشف الا عن سبب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر)
لا عن بطلان العلم الأول، والشاهد عليه انه بعد حصول العلم الثاني، ان لنا ان نقول
الطرف واجب الاجتناب أو الملاقى (بالكسر) لكونه ملاقيا للنجس واقعا، غاية الأمر
كان وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) مجهولا سببه وكان المكلف معتقدا ان
علة نجاسته على فرضها هو وقوع النجس فيه بلا واسطة ثم بان بان سببها هو الملاقاة
لما هو نجس على فرض نجاسة الملاقى (بالفتح) وهذا مثل ما إذا وقفنا على وجوب أحد
الشيئين ثم وقفنا على ضعف الطريق مع العثور على طريق صحيح فالتغاير في السبب لا يوجب
التغاير في المسبب
ههنا اشكالان
ربما يقال بانحلال العلم الأول بالثاني قائلا بأنه أي فرق بين المقام وما إذا
علم بوقوع قطرة من الدم في واحد من الإنائين ثم علم بعد ذلك بوقوع قطرة سابقا اما
في هذا الاناء المعين من الإنائين أو في اناء ثالث، فلا ينبغي التأمل في أن الثاني من
العلمين يوجب انحلال الأول منهما لسبق معلومه عليه، وان الأول منهما وإن كان
متقدما حسب الوجود الا ان معلومه متقدم، وان شئت قلت: ان العلم الأول لم يحدث
361

تكليفا بالنسبة إلى الاناء الذي وقع عدلا للإناء الثالث في العلم الثاني لان العلم الثاني
كشف عن كونه كان واجب الاجتناب من قبل في نفس الامر وإن كان مجهولا لنا و
قد علمت ما هو الشرط في تنجيز العلم الاجمالي.
وفيه: مع أنه يرجع إلى الاشكال المتقدم مآلا وإن كان يفترق عنه تقريرا و
تمثيلا، ان الفرق بين المقامين واضح، لأنه إذا علم (بعد العلم بوقوع قطرة في إحدى
الإنائين) بأنه وقعت قطرة قبل تلك القطرة المعلومة، في واحد معين من الإنائين
أو الثالث، يكشف ذلك عن أن علمه بالتكليف على أي تقدير كان جهلا مركبا
لان القطرة الثانية المعلومة أولا إذا كانت واقعة فيما وقعت فيه القطرة قبلا لم
يحدث تكليفا، فالعلم الثاني يكشف عن بطلان العلم الأول وينحل العلم الأول،
واما المقام فليس كذلك فان العلم الأول باق على ما هو عليه ومانع عن وقوع
كشف وتنجيز بالنسبة إلى الطرف بالعلم الثاني، فالعلم الأول المتعلق بنجاسة
الملاقى (بالكسر) أو الطرف باق على حاله ولا ينحل بحدوث العلم الثاني المتعلق
بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف
الثاني: ما اورده بعض أعاظم العصر " قدس سره " ردا على هذا التفصيل وحاصله
: ان هذا التفصيل مبنى على كون حدوث العلم الاجمالي بما انه وصف في النفس
تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وان تبدلت صورته لأنه (ح) يكون
المدار على حال حدوث العلم ومن المعلوم انه قد يكون متعلق العلم الاجمالي حال
حدوثه هو نجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف وقد يكون هو نجاسة الملاقى (بالفتح)
أو الطرف وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف ولكن الانصاف فساد المبنى،
لان المدار في تأثر العلم انما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف،
وفى جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)
والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالكسر) وان تقدم
زمان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى (بالكسر) أو الطرف على العلم الاجمالي بنجاسة
الملاقى " بالفتح " أو الطرف لان التكليف في الملاقى انما جاء من قبل التكليف
362

بالملاقى فلا اثر لتقدم زمان العلم وتأخره، بعدما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا
رتبة أو زمانا على المعلوم بالآخر " انتهى ما يتعلق بالمقام " ويأتي باقي كلامه عند
البحث عن المورد الثاني للصورة الثالثة
وفيه: ان التنجز من آثار العلم المتقدم وجودا في الزمان على الاخر، لا من
آثار المتقدم رتبة، وان تأخر زمان وجوده، فالعلم بنجاسة الطرف أو الملاقى " بالفتح "
وإن كان متقدما رتبة، الا انه حادث ومتأخر وجودا عن العلم الأول وما هو الملاك
في باب الاحتجاج وقطع الاعذار انما هو وجود الحجة على التكليف المتقدم بوجوده
على الاخر، والرتب العقلية ليست مناطا في المقام
وان شئت قلت: انه لا تأثير لتقدم الرتبة عقلا في تقدم التنجيز كما اشتهر في
الألسن ضرورة ان التنجيز انما هو اثر العلم في الوجود الخارجي وتقدم السبب على
المسبب ليس تقدما خارجيا بل هو معنى يدركه العقل وينتزع من نشوء أحدهما عن
الاخر، فالعلم الاجمالي المتعلق بالملاقى (بالفتح) والطرف وإن كان متقدما على
العلم الاجمالي بالملاقى (بالكسر) والطرف في الرتبة العقلية، لكنه لا يوجب تقدمه
في التنجيز حتى يصير مانعا من تنجز المتأخر رتبة ولأجل ذلك يجب الاجتناب عن
الجميع فيما إذا تعلق العلم بالاطراف بعد العلم بالملاقات وبعد العلم بأنه ليس للملاقى
نجاسة غير ما اكتسب من الملاقى " بالفتح " لكن حصل العلم الاجمالي بنجاسة الطرف
والملاقى " بالفتح " في زمان حدوث العلم بنجاسة الملاقى " بالكسر " والطرف، فان
العلم (ح) يكون منجزا ويجب الاجتناب عن الأطراف عامة نظير الصورة الثانية التي
تقدم وجوب الاجتناب فيها عن الأطراف عامة
وسيوافيك في بحث السببي والمسببي وفى هذا البحث عند بيان الأصل الشرعي
في الملاقى ان القول بالرتب العقلي في الاحكام العرفية والشرعية لا يرجع إلى شئ
وان جعل الشيخ الأعظم ذلك التقدم علة لتقدم السببي على المسببي وتبعه شيخنا
العلامة أعلى الله مقامه فانتظر.
المورد الثاني للصورة الثالثة أعني ما يجب فيه الاجتناب عن الملاقى
363

(بالكسر) والطرف دون الملاقى. ما إذا علم بالملاقات ثم حدث العلم الاجمالي
بنجاسة الملاقى " بالفتح " أو الطرف ولكن كان الملاقى حال حدوث العلم داخلا في
مورد الابتلاء والملاقى " بالفتح " خارجا عنه ثم عاد إلى محل الابتلاء وأورد عليه بعض الأعاظم
" رحمه الله " بأنه لا اثر لخروج الملاقى " بالفتح " عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم
مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم، نعم لو فرض ان الملاقى (بالفتح) كان في
ظرف حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو بالأصل
فالعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا اثر له ويبقى الملاقى " بالكسر " طرفا للعلم
الاجمالي فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف " انتهى ".
التحقيق ما عرفت من عدم الاعتبار بالخروج عن محل الابتلاء لان الحكام
الشرعية مجعولة على الطرق الكلى الذي عبرنا عنه بأنه احكام قانونية أو خطابات
قانونية، ولو سلم فهو فيما إذا لم يكن للخارج اثر فعلى داخل في الابتلاء، و
اما إذا كان له اثر فعلى فلا نسلم قبح الخطاب ولا قبح الحكم الوضعي، فان جعل
النجاسة على الحيوان الخارج عن محل الابتلاء ببركة أصالة التذكية إذا كان بعض
اجزائه داخلا في محل الابتلاء، مما لا قبح فيه، إذا قلنا بان التذكية ترد على الحيوان
فقط، والاجزاء تصير ذات تذكية بواسطة عروضها على الحيوان، ومثله المقام فان
جعل النجاسة للإناء الخارج عن محل الابتلاء مع كون ملاقيه داخلا فيه، ليس
بقبيح لان اثر نجاسة الملاقى (بالفتح) الخارج عن محل الابتلاء انما هو نجاسة الملاقى
(بالكسر) الذي داخل فيه، و (عليه) فيجرى أصالة الطهارة في الملاقى (بالفتح) بلحاظ
اثره الذي داخل في محل الابتلاء أي نجاسة ملاقيه، فظهر ان عود الملاقى (بالفتح) إلى
محل الابتلاء وعدم عوده سيان فما فصله بعض الأعاظم من تسليم ما ذكره المحقق
الخراساني فيما عاد الملاقى (بالفتح) إلى محل الابتلاء، دون ما لم يعد، لا يرجع
إلى محصل، لما عرفت من أن خروج الملاقى (بالفتح) كلا خروجه لوجود اثره
364

القول في الأصل الشرعي في الملاقى
هذا كله في مفاد الأصل العقلي في المقام واما بيان الأصل الشرعي فعلى المختار
من عدم جريان أدلة الأصول في الأطراف على الوجوه التي حررناه في محلها، فلا
يبقى اشكال في جريان الأصل في الملاقى (بالكسر) في الصورة الأولى كما يجرى الأصل
في الملاقى (بالفتح) في المورد الأول من الصورة الثالثة، بصيرورتهما كالشبهة البدئيه
على ما عرفت.
واما على جريانها فيها وسقوطها بالمعارضة فقد تصدى المحققون لرفع التعارض
بان الأصل في الملاقى (بالفتح) حاكم على الأصول في الملاقى لكون الشك في طهارته
ونجاسته ناش من الشك في الملاقى (بالفتح) فجريان الأصل فيه يرفع الشك عن ملاقيه
، فلا مجرى للأصل في الملاقى (بالكسر) في رتبة جريان الأصل في الملاقى، فأصالة
الطهارة في الملاقى (بالفتح) معارض لمثلها في الطرف وبعد سقوطهما يبقى الأصل
في الملاقى جاريا بلا معارض من غير فرق بين الصور المتقدمة لان رتبة السبب مقدم
على المسبب والأصل الجاري فيه يرفع الشك عن المسبب كلما تحقق حتى في المورد
الأول من الصورة الثالثة أعني ما إذا علم اجمالا بنجاسة الملاقى (بالكسر) والطرف ثم
علم بأنه لو كان نجسا فإنما هو من الملاقى (بالفتح) يكون الأصل فيه رافعا للشك
في ملاقيه ويصير معارضا للأصل في الطرف ويصير الأصل في الملاقى (بالكسر)
جاريا بلا معارض.
أقول: سيوافيك بيانه في خاتمة الاستصحاب ان مجرد كون الشك في أحدهما
متقدما على الاخر رتبة لا يوجوب حكومة أصله على الاخر ولا يصير رافعا لشكه،
لان ما هو الموضوع للدليل الشرعي " لا تنقض اليقين بالشك " انما هو المشكوك فيه
الواقع في عمود الزمان، لا المشكوك فيه الواقع في الرتب العقلية، وبما ان الشك في
السبب والمسبب حادثان في عمود الزمان دفعة بلا تقدم وتأخر فيشملهما الدليل الشرعي
دفعة واحدة في عرض واحد، فلا يعقل (ح) حكومة أحد الأصلين على الاخر مع
عرضيتها في الموضوع.
365

بل السبب الوحيد لتقدم السببي على المسببي، هو ان الأصل في السببي
ينقح موضوع الدليل الاجتهادي ويؤسس موضوعا تعبديا له والحاكم (ح) عدى
الأصل المسببي انما هو الدليل الاجتهادي فان شئت فلاحظ المثال المعروف (إذا غسل
الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة) فان استصحاب طهارة الماء أو كريته ينقح
موضوعا تعبديا لدليل اجتهادي، وهو ان كل متنجس غسل بماء طاهر فهو طاهر،.
و (على هذا) فالشك في الملاقى (بالكسر) في طهارته ونجاسته، وإن كان مسببا
عن الملاقى، الا ان الميزان المذكور هو غير موجود في المقام. فان الشك في طهارة
الملاقى ونجاسته وإن كان مسببا من الملاقى (بالفتح) الا ان استصحاب طهارة الملاقى
(بالفتح) لا ينقح معه موضوع الدليل الاجتهادي، فان غايته انما هو طهارة الملاقى
(بالفتح) الا انه لم يقم دليل على أن كل ما لاقى الطاهر فهو طاهر، وتوهم انه وان لم
يقم الدليل على أن ملاقي الطاهر طاهر الا انه قام الدليل على أن ملاقي الطاهر ليس
بنجس، مدفوع بأنه ليس حكما شرعيا بل هو أمر مستنبط من لا اقتضائية الشئ
لتنجيس الشئ كما لا يخفى، ولابد من العلاج من طريق آخر غير طريق سببية الأصل
في أحدهما ومسببيته في الاخر واليك بيانه وخلاصته انه كلما صار الملاقى (بالكسر) أو
الملاقى في حكم الشبهة البدئية يجرى فيه الأصل وكلما صارا طرفا للعلم فلا، وما
اخترناه من التفصيل مبنى على هذا واليك بيانه حتى يتميز حكم ما يجرى فيه الأصل
عما لا يجرى ويكون ما نتلو عليك كالفذلكة مما مر.
فذلكة
قد عرفت ان هذا البحث على مبنى بعضهم من جريان الأصول في الأطراف وتعارضها
لأجل استلزامه مخالفة الحكم المنجز (فح) فلابد ان يلاحظ ويعلم ما يستلزم تلك المخالفة
ومالا يستلزمه فنقول:
اما الصورة الأولى: أعني ما إذا علم بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف
ثم علم بالملاقات فيجرى في الملاقى (بالكسر) كل من أصالتي الطهارة
والحلية، فان العلم الثاني المتعلق بنجاسة الطرف أو الملاقى (بالكسر) ليس علما
366

بالتكليف المنجز، وإن كان علما بوجود الموضوع أعني النجس بينهما، الا ان
الميزان هو العلم بالتكليف المنجز، على كل تقدير لا العلم بالموضوع وان لم يكن
حكمه منجزا والمانع من الجريان هو الأول لا الثاني
توضيحه انه إذا علم الانسان بوقوع قطرة دم اما في اناء زيد أو في اناء عمرو فلا شك في
تنجيز ذاك العلم، ولو وقف بعد ذلك على وقوع قطرة أخرى منه اما في اناء عمرو أو اناء
بكر، فالعلم بوجود الموضوع وإن كان موجودا بين الثاني والثالث، الا انه ليس
علما بتكليف منجز على كل تقدير، فان القطرة الثانية لو وقعت في اناء عمرو لم يحدث
تكليفا جديدا ولم يوجب الزاما على كل تقدير، بل هو كان قبل حدوث هذا العلم
واجب الاجتناب لأجل العلم الأول، و (لذلك) لو شرب الاناء الثاني والثالث وفرضنا
وقوع القطرة الأولى في اناء زيد، فهو وان شرب النجس الا انه لم يخالف التكليف
المنجز على كل تقدير واما الاجتناب عن اناء عمر فهو لأجل العلم الأول دون الثاني ولذلك
يجرى في الثالث عامة الأصول، دون اناء عمرو
وقس عليه المقام، فان العلم الثاني وان تعلق بنجاسة الطرف أو الملاقى
(بالكسر)، الا انه ليس علما بالتكليف الحادث المنجز على كل تقدير لان الطرف
كان واجب الاجتناب لأجل العلم الأول، و (لذلك) لو شرب الطرف والملاقى
(بالكسر) وفرض وقوع النجس في نفس الامر في العلم الأول في الاناء الملاقى
(بالفتح) فهو وان شرب النجس في نفس الامر الا انه لم يخالف التكليف المنجز
فلا يعاقب، على شرب النجس، وإن كان يصح عقابه على شرب الاناء الطرف على
القول بعقاب المتجرى، فالاناء الذي يعد طرفا انما يجب الاجتناب عنه لأجل العلم
الأول لا الثاني.
واما الصورة الثانية: فقد عرفت انه يجب فيه الاجتناب عن الجميع لأنه إذا حصل
العلم الاجمالي بنجاسة الطرف والملاقى (بالفتح) بعد العلم بالملاقات، فيحصل العلم
بنجاسة مرددة بين الطرف وغير الطرف عن الملاقي وملاقيه، ويصير الملاقى
(بالكسر) طرفا للعلم فلا مجال للأصول أصلا
367

واما الصورة الثالثة: فقد عرفت ان لها موردين (الأول) ماذا علم بنجاسة الملاقى
(بالكسر) أو الطرف، ثم علم الملاقاة ووقف على نجاسة الطرف والملاقى (بالفتح)
بحيث لا وجه لنجاسة الملاقى (بالكسر) غير نجاسة الملاقى، فالحكم الشرعي
لا يتخلف عما حكم به العقل من منجزية العلم الأول وان انكشف سبب وجود
النجاسة دون الثاني، لامتناع إفادة العلم
الثاني التنجيز على كل تقدير، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز ويصير الملاقى (بالفتح)
موردا للأصل دون الملاقى، واما المورد الثاني أعني ما إذا علم بالملاقات ثم حدث
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) أو الطرف، ولكن حال حدوث العلم
الاجمالي كان الملاقى خارجا عن الابتلاء، فحكمه، ما أوضحناه من أن الملاقى
(بالكسر) يصير طرفا للعلم غير أن خروج الملاقى (بالفتح) عن محل الابتلاء غير
مؤثر ولذلك لو عاد يجب الاجتناب عنه كما عرفت
ها هنا شبهة
ومحصلها انه يلزم أن يكون الملاقى (بالكسر) على مباني القوم حلالا غير
محرز الطهارة، لان في كل من الملاقى " بالفتح " والطرف والملاقى أصولا ستة،
تحصل من ضرب الأصلين (الطهارة والحلية) في الثلاثة الا انهما مختلفة رتبة فأصالة
الطهارة في كل من الملاقى بالفتح والطرف في رتبة واحدة، كما أن الشك في
حليتهما في رتبة ثانية لأن الشك في حليتهما مسبب عن طهارتهما، واما الملاقى
بالكسر فبما ان الشك في طهارته مسبب عن الشك في طهارة الملاقى بالفتح فيكون
الشك في طهارته في رتبة ثانية أي يتأخر الشك في طهارة الملاقى بالكسر عن
الشك في طهارة الملاقى " بالفتح " والطرف برتبة، ويتحد رتبة ذلك الشك " أي
الشك في طهارته " مع رتبة الشك في حلية الملاقى بالفتح والطرف لأن الشك في
طهارة الملاقى بالكسر وحلية الملاقى والطرف مسبب عن طهارة الطرف والملاقى
بالفتح، و " ح " يتحد هذه الأصول الثلاثة رتبة، واما الشك في حلية الملاقى بالكسر
فهو في رتبة ثالثة.
368

إذا عرفت هذا: فالأصول الموجودة في الرتبة الواحدة تتساقط بالتعارض،
ويبقى الأصل الذي لم يوجد له معارض و (عليه) فيسقط كل من أصالتي الطهارة في
الملاقى (بالفتح) والطرف كما يسقط كل من أصالتي الحلية فيهما مع أصالة الطهارة
في الملاقى " بالكسر "، وتبقى أصالة الحلية في ناحية الملاقى (بالكسر) بلا معارض
فهو حلال لم يحرز طهارته وان شئت قلت: في كل من الطرفين والملاقى أصل
موضوعي وهو أصالة الطهارة، واصل حكمي وهو أصالة الحل، والأصول الحكمية
محكومة بالنسبة إلى الموضوعية، والأصل الموضوعي في الملاقى " بالكسر " محكوم
بالأصل الموضوعي في الملاقى بالفتح، فإذا تعارض الأصلان الموضوعيان في الطرفين تصل
النوبة إلى الأصلين الحكميين فيهما والى الأصل الموضوعي في الملاقى بالكسر فتتعارض
هذه الأصول ويبقى الأصل الحكمي في الملاقى (بالكسر) سليما عن المعارض،
فالملاقي محكوم بالاجتناب من حيث إنه، لم يحرز طهارته، ومحكوم بالحلية
لأصالة الحل.
والجواب بوجهين: الأول: وهو مبنى على المختار من عدم جريان الأصول
في أطراف العلم الاجمالي للوجوه التي عرفتها في محله (فح) يكون الأصول الموضوعية
والحكمية غير جارية في الملاقى (بالفتح) والطرف ويكون جريانها في الملاقى
(بالكسر) بلا مانع، لعدم تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إليه لكونه كالشبهة البدئية
فيجرى فيه الأصلان، الطهارة والحل، الا ما عرفت من بعض الصور الذي يكون
الملاقى فيه طرفا للعلم على ما عرفت.
الثاني: ان ما ذكره (قدس سره) مضافا إلى أنه مبنى على تسليم أمور لم يسلم
أكثرها كما سنشير إليها - مدفوع بان أصالة الطهارة في الملاقى (بالكسر) في الصورة
الأولى التي تقدم العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى (بالفتح) والطرف غير معارضة
لأصالة الحل في الطرف فلا مانع من جريانها لان التعارض بين أصالة الطهارة فيه
واصل الحل في الطرف متقوم بالعلم الاجمالي المنجز حتى يلزم من جريانهما المخالفة
العملية الممنوعة، والمفروض انه لا تأثير للعلم الاجمالي الثاني في الملاقى (بالكسر)
369

كما تقدم، ومخالفة ذلك العلم غير المنجز لا مانع منه، ولا يوجب عدم جريان الأصل
فيه، و (الحاصل) ان ما يجرى فيه الأصل الملاقى بالكسر انما هو طرف للعلم غير المنجز
ومالا يجرى فيه أعني الملاقى والطرف فهما طرفان للمنجز منه، و (عليه) فيجرى في الملاقى
أصالة الطهارة، ولا يعارض ذلك الأصل مع أصالة الحل في الطرف، وإن كان يعارض أصالة الحل
في الطرف مع أصالة الحل في الملاقى (بالفتح) لكونهما طرفين للعلم المنجز هذا
كله في الصورة الأولى.
واما الصورة الثانية أعني ما تعلق العلم بنجاسة الملاقى والملاقى والطرف
في عرض واحد، فلا يجرى الأصل في واحد منها لكون الجميع طرفا للعلم وقد عرفت
قصور الأدلة عن شمولها للأطراف ومع تسليم جريانها، فتجرى وتسقط بالتعارض من
غير تقدم للأصل السببي والمسببي لما سيوافيك من أن الرتب العقلية لا اعتبار بها وما
هو الميزان لتقدمه عليه مفقود في المقام فتأمل.
واما الصورة الثالثة، فلا يجرى في الملاقى (بالكسر) والطرف لكونهما طرفين
للعلم المنجز، واما الملاقى (بالفتح) فقد عرفت انه خارج عن كونه طرفا للعلم فيجرى
فيه الأصول عامة، نعم المورد الثاني من تلك الصورة أعني ما إذا خرج الملاقى (بالفتح) عن
محل الابتلاء فقد عرفت ما هو الحق عندنا على خلاف بيننا وبين القوم، فعلى المختار لا
يجرى فيه أيضا كالملاقي (بالكسر) لعدم الاعتبار بالخروج عن محل الابتلاء فتلخص ان ما
افاده من الشبهة، لا تجرى في الملاقى في الصورة الأولى، لكونه كالشبهة البدئية، فلا تتعارض
أصوله مع غيره، ولا في الملاقى (بالفتح) في الموضع الأول من الصورة الثالثة مطلقا،
ولا فيه أيضا في المورد الثاني منها على مباني القوم، واما الصورة الثانية فالأصول في
الجميع متعارضة، ولا اعتبار بالسببي والمسببي في المقام لما عرفت.
ما افاده شيخنا العلامة من الجواب حول الشبهة
ومحصله: ان الأصول في أطراف العلم غير جارية حكمية كانت أو موضوعية،
اما لأجل التناقض الواقع في مدلول الدليل، واما لأجل ان أصالة الظهور في عمومات
370

الحل والطهارة معلقة بعدم العلم على خلافها، فحيثما تحقق العلم، يصير قرينة
على عدم الظهور فيها من غير فرق بين كون العلم سابقا على مرتبة جريانها
أو مقارنا (فح) نقول: إن العلم الاجمالي المانع من جريان الأصلين
الموضوعيين لأجل التناقض أو لأجل عدم جريان أصالة الظهور في العمومات
مانع عن جريان الأصلين الحكميين أيضا لكونه قرينة على عدم الظهور، غاية الأمر
تكون قرينيته بالنسبة إلى الأصل الموضوعي مقارنة وبالنسبة إلى الأصل الحكمي
مقدمة، ولا فرق من هذه الحيثية فمورد جريان الأصل الحكمي ووجود الشك في
الأصل المحكوم كان حين وجود القرينة على خلافه، فلا يبقى الظهور لأدلة الأصول
فيبقى الأصل الموضوعي في الملاقى (بالكسر) سليما عن المعارض " انتهى "
وفيه: ان مراده (رحمه الله) من التناقض في مدلول الدليل إن كان ما افاده
الشيخ الأعظم في أدلة الاستصحاب وأدلة الحل من تناقض صدرها مع ذيلها فقد أوضحنا
حاله عند البحث عن جريان الأصول في أطراف الشبهة، وإن كان مراده هو العلم
بمخالفة أحدهما للواقع، فهذا ليس تناقضا في مدلول الدليل، بل مآله إلى مناقضة
الحكم الظاهري مع الواقعي، وقد فرغنا عن رفع الغائلة بينهما فراجع، أضف إلى
ذلك ان ما ادعاه من كون العلم قرينة على عدم الظهور في أدلة الأصول، ممنوع
لان كل واحد من الأطراف مشكوك فيه، ومصداق لأدلة الأصول، والعلم بمخالفة
بعضها للواقع لا يوجب صرف ظهورها بعد رفع المناقضة بين مفاد الأصلين و
الحكم الواقعي.
البحث الرابع إذا شككنا في أن الملاقى مخصوص بجعل مستقل أو يكون
وجوب الاجتناب عنه من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح فهل الأصل
يقتضى البراءة أو الاحتياط الظاهر جريان البراءة العقلية والشرعية. فيه لرجوع
الشك إلى الأقل والأكثر فان التكليف بوجوب الاجتناب عن نفس الأعيان
النجس معلوم وشك في كونه بحيث يقتضى وجوب الاجتناب عن ملاقيه أيضا
أولا فيكون الشك في خصوصية زايدة على أصل التكاليف بالاجتناب عن الأعيان
371

موجبة للاجتناب عن ملاقيها أيضا وهى مورد الأصل عقلا وشرعا.
وبعبارة أخرى: ان الاشتغال متقوم بتعلق العلم الاجمالي بتكليف واحد مقتض
للاجتناب عن النجس وملاقيه، فيكون علم اجمالي واحد متعلق بتكليف واحد لكن مع
تلك الخصوصية والاقتضاء، ولو شككنا في أن الحكم على الأعيان النجسة كذلك
أولا، فلا ينجز العلم الاجمالي الأول المتعلق بوجوب الاجتناب عن الطرف أو الملاقى
(بالفتح) وجوب الاجتناب عن الملاقى، لكون تلك الخصوصية مشكوكة فيها والعلم
الاجمالي الثاني على فرضه غير منجز كما مر سابقا، ومع عدم تمامية الحجة من المولى
وعدم تنجيز العلم الاجمالي للخصوصية تجرى البراءة العقلية، والشرعية لعدم المانع
في الثانية بعد جريان الأولى.
وبما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده بعض أعاظم العصر في تقريراته واظنب نفسه
الشريفة وجعل المسألة مبنية على مالا يبتنى عليه أصلا (1) كما يظهر الاشكال فيما افاده بعض
محققي العصر (قدس سره) فراجع.
وينبغي التنبيه على أمور
وقد تعرض لها الشيخ الأعظم وتبعه بعض أعاظم العصر (قدس سره)
الأول: لا اشكال حسب القواعد العقلية في وجوب الاحتياط عند الجهل
بالموضوع، من غير فرق بين الشرايط والموانع، فيجب الصلاة إلى أربعة جهات، أو
في ثوبين يعلم بطهارة أحدهما، أو بخلوه مما لا يؤكل لحمه، ولا وجه لسقوط الشرائط
والموانع بالاجمال، فما حكى عن المحقق القمي من التفصيل بينما يستفاد من قوله
عليه السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه، فذهب إلي السقوط وعدم وجوب الاحتياط وما يستفاد
من قوله عليه السلام لا صلاة الا بطهور، فاختار وجوب الاحتياط لعلة مبنى على ما هو المعروف
منه من عدم تنجيز العلم الاجمالي مطلقا وانه كالشبهة البدئية، و (ح) لابد من الرجوع
إلى الأصول وبما ان المستفاد من الأول هو المانعية فيرجع فيها إلى البراءة لانحلال الحكم
فيه حسب افراد المانع ومصاديقه فيؤخذ بالمعلوم منه، ويرجع في المشكوك فيه إلى

(1) وقد بحث سيدنا الأستاذ في الدورة السابقة حول كلامه وطوى عنه الكلام في
هذه الدورة وعن غيره من المباحث غير الهامة فشكر الله مساعيه الجميلة في تهذيب أصول
الفقه وتنقيحه. المؤلف.
372

البراءة لكون الشك في حكم مستقل، واما المستفاد من الثاني واضرابه هو
الشرطية وهو مما يجب احرازه وطريق احرازه هو تكرار الصلاة على وجه يحصل
اليقين بالبرائة
واما ما افاده بعض الأعاظم من أن المحقق القمي فصل بين الشرائط (لا بين الشرط و
المانع) المستفادة من قوله عليه السلام لا تصل فيما لا يؤكل لحمه والمستفادة من قوله عليه السلام
لا صلاة الا بطهور،
ثم قال: ولم يحضرني كتب المحقق حتى أراجع كلامه وكانه قاس باب العلم
والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز، فغير صحيح احتمالا واشكالا، اما الأول،
فلان القياس المذكور لا يصحح التفصيل المحكى عنه، ضرورة ان العجز عن الشرط و
المانع سواسية فلو كان مفاد الدليل هو الشرطية والمانعية المطلقتين، فلازمه سقوط
الامر لعدم التمكن من الاتيان بالمكلف به، وان لم يكن كذلك فلازمه سقوط الشرط
والمانع مطلقا عن الشرطية والمانعية من غير فرق.
واما اشكالا فلان غرضه الفرق بين العلم والقدرة بان العلم من شرائط التنجيز،
والقدرة من شرائط ثبوت التكليف وفعليته، و (فيه) ما مر من أن العلم والقدرة سواسية
فان القدرة الشخصية من شرائط التنجيز لما مر من أن الأحكام الشرعية احكام قانونية
ولما ذكرنا يجب الاحتياط عند الشك في القدرة، فلو كانت من شرائط ثبوت التكليف
لكانت البراءة محكمة عند الشك فيها.
أضف إلى ذلك ان من البعيد ان يذهب المحقق إلى أن المستفاد من قوله (ع)
لا تصل فيما لا يؤكل لحمه هو الشرطية، فان جمهور الأصحاب الا ما شذ قالوا بالمانعية،
فمن البعيد أن يكون ذلك مختار المحقق القمي قدس سره وبذلك يظهر الخلل
في حكاية مقالة المحقق كمالا يخفى.
التنبيه الثاني
فصل الشيخ الأعظم (قدس سره): بين الشبهات البدئية والمقرونة بالعلم
373

الاجمالي إذا كان المحتمل أو المعلوم بالاجمال من العبادات، فاكتفى في الأولى في
تحقق الامتثال بمجرد قصد احتمال الامر والمحبوبية فإنه هو الذي يمكن في حقه،
واما في المقرونة بالعلم الاجمالي فحكم بعدم كفايته بل رأى لزوم قصد امتثال الامر
المعلوم بالاجمال على كل تقدير وقال: ولازمه أن يكون المكلف حال الاتيان بأحد
المحتملين قاصدا للاتيان بالآخر، إذ مع عدم ذلك لا يتحقق قصد امتثال الامر المعلوم
بالاجمال على كل تقدير، بل يكون قصد امتثال الامر على تقدير تعلقه بالمأتى به،
وهذا لا يكفي في تحقق الامتثال مع العلم بالامر
وأورد عليه بعض أعاظم العصر (قدس سره) بان العلم بتعلق الامر بأحد محتملين
لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات، فان الطاعة في كل من المحتملين ليست
الا احتمالية كالشبهة البدئية، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الامر الاحتمالي
عند الاتيان بكل من المحتملين وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء
حتى يقال: العلم بتعلق التكليف بعمل واحد يقتضى قصد امتثال الامر المعلوم،
فلو اتى المكلف بأحد المحتملين من دون قصد الاتيان بالآخر يحصل الامتثال على
تقدير تعلق الامر بالمأتى به وإن كان متجريا في قصده عدم الامتثال على كل تقدير
" انتهى "
قلت: قد مر في مبحث القطع ما يوضح حال المقام وضعف ما افاده الشيخ
الأعظم (قدس سره) من أن طاعة الامر المعلوم تتوقف على أن يكون المكلف حال
الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالآخر، لما عرفت من عدم الدليل على الجزم
في النية، بل يكفي كون العمل مأتيا لله تعالى وهو حاصل في اتيان كل واحد من العملين
ولا يحتاج إلى الجزم بوجود الامر في البين حتى لا يصح إطاعة المحتمل الأول الا
بالقصد إلى ضم الاخر، " وبالجملة " ان الداعي إلى الاتيان بأحد المحتملين ليس الا
إطاعة المولى فهو على فرض الانطباق مطيع لامره، وكونه قاصدا للاتيان بالآخر أو تركه
لا ينفع ولا يضر بذلك فلا يتوقف امتثال الامر المعلوم على قصد امتثال كلا
المشتبهين.
374

واما ما نقلناه عن بعض أعاظم العصر (رحمه الله) فهو أيضا غير تام
من ناحية أخرى، فان الفرق في الداعي في البدئية والمقرونة بالعلم واضح جدا
فان الداعي في الأولى ليس الا احتمال الامر، وفى الثانية ليس احتماله فقط، بل له
داعيان، داع إلى أصل الاتيان وهو الامر المعلوم، وداع آخر إلى الاتيان بالمحتمل
لأجل احتمال انطباق المعلوم عليه، والداعي الثاني ينشأ من الأول، فهو يأتي
بالمحتمل لداعيين: الامر المعلوم، واحتمال الانطباق وهو منشأ من الداعي
الأول، وان شئت قلت إنه ينبعث في الاتيان بكل واحد من المحتملين عن داعيين
داع لامتثال أمر المولى، وداع الاحتفاظ عليه عند الاشتباه،
التنبيه الثالث
إذا كان المعلوم بالاجمال واجبين مترتبين كالظهر والعصر واشتبه شرط من
شرائطهما كالقبلة أو الستر، فلا اشكال انه لا يجوز استيفاء محتملات العصر قبل استيفاء
محتملات الظهر كما أنه لا يجوز قبل استيفاء محتملات الظهر ان يأتي بالعصر، إلى الجهة
التي لم يصل الظهر إليها بعد انما الكلام في أنه هل يجب استيفاء جميع محتملات الظهر
مثلا قبل الشروع في الاخر، أو يجوز الاتيان بهما مترتبا إلى كل جهة، فيجوز الاتيان بظهر
وعصر إلى جهة، وظهر وعصر إلى أخرى وهكذا حتى يستوفى المحتملات الأقوى هو الثاني
وبنى بعض الأعاظم ما اختاره على ما قواه سابقا من ترتب الامتثال الاجمالي على
الامتثال التفصيلي وان فيما نحن فيه جهتين
إحديهما احراز القبلة فهو مما لا يمكن على الفرض، والاخرى احراز الترتيب بين
الظهر والعصر، وهو بمكان من الامكان، وذلك بالاتيان بجميع محتملات الظهر
ثم الاشتغال بالعصر، وعدم العلم حين الاتيان بكل واحد من محتملات العصر، بأنه
صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر انما هو للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب، وسقوط
اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم امكانه، لا يوجب سقوطه في سائر الشروط
مع الامكان، انتهى ملخصا.
وفيه ان المبنى عليه والمبنى كلاهما ممنوعان، اما الأول فلما عرفت من عدم
375

الدليل علي تقديم الامتثال التفصيلي على الاجمالي ولا طولية بينهما أصلا، فيجوز
الاحتياط مع التمكن من التقليد والاجتهاد، والجمع بين المحتملات مع التمكن من
العلم، إذا كان هنا غرض عقلائي، ولا يعد ذلك تلاعبا بأمر المولى على ما عرفت من
حكم العقل والعقلاء والبرهان ما تقدم، واما الثاني فلان اقصى ما يحصل من الشروع
بمتحملات العصر بعد استيفاء محتملات الظهر، هو العلم بالاتيان بالظهر محققا
على كل تقدير أي سواء كان محتمل العصر عصرا واقعيا أو لا، وهذا بخلاف ما لو شرع
قبل الاستيفاء، ولكن هذا المقدار لا يجدى من الفرق فلان في الاتيان بكل ظهر وعصر
مترتبا إلى كل جهة، موافقة على تقدير، وعدم موافقة رأسا بالنسبة إلى كل واحد
من الظهر والعصر على تقدير آخر، وليس الامر دائرا بين الموافقة الاجمالية
والتفصلية حتى يقال انهما مترتبان، لان كل واحد من محتملات العصر لو صادف
القبلة، فقد اتى قبله بالظهر ويحصل الترتيب واقعا وغير المصادف منها، عمل لا طائل
تحته كغير المصادف من الاخر ولا ترتيب بينهما حتى يقال إنه موافقة اجمالية،
العلم بحصول الترتيب بين الظهر والعصر حين الاتيان بهما لا يمكن على أي حال سواء
شرع في محتملات العصر قبل استيفاء محتملات الاخر أولا، واما ما ادعى: من أن عدم
العلم حين الاتيان بكل عصر بأنه صلاة صحيحة واقعة عقيب الظهر انما هو للجهل
بالقبلة لا الجهل بالترتيب فمن غرائب الكلام، فان الترتيب مجهول على كل تقدير
فان المكلف لا يعلم (ولو استوفى محتملات الظهر) عند الاتيان بكل عصر انها صلاة
واقعية عقيب الظهر أو لا، بل يعلم اجمالا انها اما صلاة واقعية مترتبة على الظهر و
اما ليست بصلاة أصلا فضلا عن أن يكون مترتبا، ولو قلنا بكفايته فهو حاصل على
المختار أي إذا اتى بواحد من محتملات الظهر والعصر إلى جهة، وهكذا حتى يتم
المحتملات، فإنه يعلم اجمالا بان المحتمل الأول من محتملات العصر اما صلاة واقعية
مترتبة على الظهر، واما ليس بصلاة
وان شئت قلت: ان الترتيب بينهما يتقوم بثلث دعائم، وجود الظهر، وجود
العصر، تأخره عنه، فلو لم يأت بالظهور، أو بالعصر أو قدم الثاني على الأول لبطل
376

الترتيب، (فح) فالقول بتحقق العلم بالترتيب عند الاتيان بكل واحد من محتملات
العصر، غريب لأنه عند الشروع بواحد منها لا يعلم أنها صلاة عصر صحيحة أولا، و
مع ذلك فكيف يعلم تفصيلا بوجود الترتيب مع كون الحال ما ذكر فان الترتيب
أمر اضافي بين الصلاتين الصحيحتين، لا ما بين ما هو صلاة محققا، وما هو مشكوك
كونه صلاة أو أمرا باطلا، وان أراد من الترتيب ما ذكرنا فهو حاصل على
كل تقدير.
القول في الأقل والأكثر
قد استوفينا الكلام بحمد الله في البحث عن المتبائنين الذي يعد مقاما أولا
للشك في المكلف به، وحان البحث عن الأقل والأكثر وهو من أنفع المباحث
الأصولية، فلا عتب علينا لو أرخينا عنان الكلام وجعلنا البحث مترامى الأطراف.
فنقول: تنقيح المقام يتوقف على بيان مقدمات.
الأولى: الفرق بين الاستقلاليين منهما والارتباطيين أوضح من أن
يخفى، فان الأقل في الاستقلالي مغاير للأكثر غرضا وملاكا،
وامرا وتكليفا كالفائتة المرددة بين الواحد وما فوقها، والدين المردد
بين الدرهم، والدرهمين، فهنا اغراض وموضوعات وأوامر واحكام على تقدير
وجوب الأكثر ومن هنا يعلم أن اطلاق الأقل والأكثر عليهما بضرب من المسامحة
والمجاز وباعتبار ان الواحد من الدراهم أقل من الدرهمين وهو كثيرة، والا، فلكل
تكليف وبعث بحياله، واما الارتباطي فالغرض قائم بالاجزاء الواقعية، فلو كان الواجب
هو الأكثر فالأقل خال عن الغرض والبعث من رأس، فوزانه في عالم التكوين
كالمعاجين فان الغرض والأثر المطلوب قائم بالصورة الحاصلة من تركيب الاجزاء
الواقعية على ما هي عليها، ولا تحصل الغاية الا باجتماع الاجزاء عامة بلا زيادة ولا نقيصة
كما هو الحال في المركبات الاعتبارية أيضا، فلو تعلق غرض الملك على ارعاب
القوم وخصمائه، يأمر بعرض الجنود والعساكر، فان الغرض لا يحصل الا
بارائة صفوف من العساكر لا إرائة جندي واحد، ومن ذلك يظهر ان ملاك
377

الاستقلالية والارتباطية باعتبار الغرض القائم بالموضوع قبل تعلق الامر، فان الغرض
قد يقوم بعشرة اجزاء، وقد يقوم بأزيد منها، وسيوافيك ضعف ما عن بعضهم من
ملاكهما انما هو وحدة التكليف وكثرته، ضرورة ان وحدته وكثرته باعتبار
الغرض الباعث على التكليف، فلا معنى لجعل المتأخر عن الملاك الواقعي ملاكا
لتمييزهما فتدبر.
الثاني: البحث انما هو في الأقل المأخوذ لا بشرط حتى يكون محفوظا في
ضمن الأكثر، فلو كان مأخوذا بشرط لا، فلا يكون الأقل، أقل الأكثر، بل يكونان
متبائنين، ورتب على هذا بعض محققي العصر (رحمه الله) خروج ما دار الامر فيه
بين الطبيعي والحصة من موضوع الأقل والأكثر، بان تردد الامر بين وجوب اكرام
الانسان أو اكرام زيد لان الطبيعي باعتبار قابليته للانطباق على حصة أخرى منه
المبائنة مع الحصة الأخرى، لا يكون محفوظا بمعناه الاطلاقي في ضمن الأكثر.
و (فيه) أولا: ان تسمية الفرد الخارجي حصة غير موافق لاصطلاح القوم فان الحصة
عبارة عن الكلى المقيد بكلى آخر كالانسان الأبيض واما الهوية المتحققة المتعينة
فهو فرد خارجي لا حصة وثانيا: ان لازم ما ذكره خروج المطلق والمقيد عن مصب
النزاع فان المطلق لم يبق باطلاقه في ضمن المقيد ضرورة سقوط اطلاقه الأولى بعد
تقييده فلو دار الامر بين انه أمر باكرام الانسان أو الانسان الأبيض، فالمطلق على
فرض وجوب الأكثر بطل اطلاقه
وثالثا: ان خروج دوران الامر بين الفرد والطبيعي من البحث، لأجل انه يشترط
في الامر المتعلق بالأكثر (على فرض تعلقه) داعيا إلى الأقل أيضا والفرد والطبيعي
ليسا كذلك، فلو فرضنا تعلق الامر بالأكثر (الفرد لكونه هو الطبيعي مع خصوصيات)
فهو لا يدعو إلى الأقل أعني الانسان، لان الامر لا يتجاوز في مقام الدعوة عن متعلقه إلى
غيره، وتحليل الفرد إلى الطبيعي والمشخصات الحافة به، انما هو تحليل عقلي،
فلسفي، ولا دلالة للفظ عليه أصلا فلو فرضنا وقوع كلمة " زيد " في مصب الامر، فهو لا
يدل دلالة لفظية عرفية على اكرام الانسان، وقس عليه الامر، ما لو دار الامر بين
378

الجنس والنوع، فلو تردد الواجب بين كونه الحيوان أو الانسان فهو خارج عن الأقل
والأكثر المبحوث عنه في المقام، نعم لو دار الامر بين الحيوان، أو الحيوان الناطق
فهو داخل في مورد البحث.
الثالثة: ان الترديد بين الأقل والأكثر تارة يكون في متعلق التكليف واخرى
في موضوعه وثالثة في السبب المحصل الشرعي أو العقلي أو العرفي، وعلى التقادير قد
يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل، وقد يكون من الشرط والمشروط وثالثة
من قبيل الجنس والنوع إلى غير ذلك من التقسميات التي يتضح حالها واحكامها مما
نتلوه عليك.
إذا عرفت ما ذكرنا واعلم أن البراءة هو المرجع في الأقل والأكثر الاستقلاليين،
اتفاقا الا ان الارتباطي منهما مورد اختلاف فهل المرجع هو البراءة أيضا مطلقا
أو الاشتغال كذلك أو يفصل بين العقلي منها والشرعي فيجرى الثاني منها دون
الأول كما اختاره المحقق الخراساني، والتحقيق هو الأول ولنحقق المقام
برسم أمور:
الأول: ان وزان المركبات الاعتبارية في عالم الاعتبار من بعض الجهات
وزان المركبات الحقيقية في الخارج، فان المركب الحقيقي انما يحصل بعد
كسر سورة الاجزاء بواسطة التفاعل الواقع بينها، فتخرج الاجزاء من الاستقلال
لأجل الفعل والانفعال والكسر والانكسار، وتتخذ الاجزاء لنفسها صورة مستقلة
هي صورة المركب، فلها وجود ووحدة غير ما للاجزاء واما المركب الصناعي كالبيت
والمسجد، أو الاعتباري كالقوم والفوج والأعمال العبادية كلها، فان كل جزء منها
وإن كان باقيا على فعليته بحسب التكوين، ولا يكسر عن سورة الاجزاء في الخارج
شئ، الا انها في عالم الاعتبار لما كان شيئا واحدا، ووجودا فاردا، تكسر سورة
الاجزاء وتخرج الاجزاء عن الاستقلال في عالم الاعتبار. وتفنى في الصورة
الحاصلة للمركب في عالم الاعتبار، فما لم يحصل للمركب الصناعي أو الاعتباري
وحدة اعتبارية كصورتها الاعتبارية لم يكن له وجود في ذلك اللحاظ، فان مالا
379

وحدة له لا وجود له تكوينا واعتبارا، وانما تحصل الوحدة بذهاب فعلية الاجزاء
وحصول صورة أخرى مجملة غير صورة الاجزاء المنفصلات
والحاصل: ان النفس بعدما شاهدت ان الغرض قائم بالهيئة الاعتبارية من
الفوج، وبالصورة المجتمعة من الاذكار والافعال، ينتزع عندئذ وحدة اعتبارية و
صورة مثلها تبلغ فعلية الاجزاء واحكامها في عالم الاعتبار، والفرق بين الاجزاء و
الصورة المركبة هو الفرق بين الاجمال والتفصيل، فتلخص ان المركبات الاعتبارية
والصناعية وإن كانت تفارق الحقيقية الا انها من جهة اشتمالها على الصورة
الصناعية أو الاعتبارية، أشبه شئ بالحقيقية من المركبات، والتفصيل في محله
الثاني: ان صورة المركب الاعتباري انما ينتهى إليها الآمر بعد تصور الاجزاء
والشرائط على سبيل الاستقلال فينتزع منها بعد تصورها صورة وحدانية ويأمر بها، على
عكس الاتيان بها في الخارج توضيحه: ان المولى الواقف على أغراضه وآماله يجد من نفسه
تحريكا إلى محصلاته فلو كان محصل غرضه أمرا بسيطا، يوجه امره إليه، واما إذا كان مركبا
فهو يتصور اجزائها وشرائطها ومعداتها وموانعها ويرتبها حسب ما يقتضى المصلحة
والملاك النفس الأمريين ثم يلاحظها على نعت الوحدة بحيث تفنى فيها الكثرات، ثم يجعلها
موضوعا للحكم، ومتعلقا للبعث والإرادة فينتهى الآمر من الكثرة إلى الوحدة غالبا،
واما المأمور الآتي به خارجا فهو ينتهى من الوحدة إلى الكثرة غالبا، فان الانسان
إذا أراد اتيان المركب في الخارج وتعلقت ارادته بايجاده يتصوره بنعت الوحدة أولا
ويجد في نفسه شوقا إليه، ولما رأى أنه لا يحصل في الخارج الا باتيان اجزائها و
شرائطها حسب ما قرره المولى، تجد في نفسه إرادات تبعية متعلقة بها، فالمأمور ينتهى
من الوحدة إلى الكثرة.
الثالث: ان وحدة الأمر تابع لوحدة المتعلق لا غير لان وحدة الإرادة تابع لوحدة المراد
فان تشخصها بتشخصه، فلا يعقل تعلق إرادة واحدة بالاثنين بنعت الاثنينية والكثرة فما لم
يتخذ المتعلق لنفسها وحدة لا يقع في أفق الإرادة الواحدة والبعث الناشر منها حكمه
حكمها، فما لم يلحظ في المبعوث إليه وحدة اعتبارية فانية فبه الكثرات لا يتعلق به
380

البعث الوحداني والا يلزم أن يكون الواحد كثيرا، أو الكثير واحدا، (والحاصل) ان
الاجزاء والشرائط في الاعتبارية من المركبات بما انها باقية على كثراتها وفعلياتها
حسب التكوين، فلا يتعلق بها الإرادة التكوينية الوحدانية مع بقاء المتعلق على نعت
الكثرة، فلابد من سبك تلك الكثرات المنفصلات في قالب الوحدة حتى يقع الكل
تحت عنوان واحد جامع لشتات المركب ومتفرقاتها، ويصح معه تعلق الإرادة الواحدة
ويتبعه تعلق البعث الواحد وبذلك يظهر ضعف ما عن بعض محققي العصر من أن وحدة
المتعلق من وحدة الأمر فلاحظ.
الرابع ان الصور في المركبات الاعتبارية ليست أمرا مغاير للاجزاء بالأسر بل هو
عينها حقيقة إذ ليس المراد من الصورة الا الاجزاء في لحاظ الوحدة كما أن الاجزاء عبارة
عن الأمور المختلفة في لحاظ الكثرة وهذا لا يوجب أن يكون هنا صورة واجزاء متغايرة،
ويكون أحدهما محصلا والاخر محصلا، وان شئت فلاحظ العشرة فإنها عبارة عن هذا الواحد
وذاك الواحد، وذلك وليست أمرا مغايرا لتلك الوحدات، بل هي عبارة عن هذه الكثرات في
لحاظ الوحدة والعنوان يحكى عن وحدة جمعية بين الوحدات، فلو لاحظت كل واحد
من الوحدات فقد لاحظت ذات العشرة، كما انك إذا لاحظت العنوان فقد لاحظت كل واحد
من الوحدات بلحاظ واحد، والفرق بينهما انما هو بالاجمال والتفصيل والوحدة والكثرة
فالعنوان مجمل هذه الكثرات ومعصورها، كما أن الاجزاء مفصل ذلك العنوان
ضرورة ان ضم موجود إلى موجود آخر حتى ينتهى إلى ما شاء، لا يحصل منه موجود آخر
متغاير مع الا جزاه المنضمات.
الخامس: ان دعوة الامر إلى ايجاد الاجزاء انما هو بعين دعوتها إلى الطبيعة
لا بدعوة مستقلة، ولا بدعوة ضمنية، ولا بأمر انحلالي، ولا بحكم العقل الحاكم
بان اتيان الكل لا يحصل الا باتيان ما يتوقف عليه من الاجزاء، وذلك لان الطبيعة
تنحل إلى الاجزاء، انحلال المجمل إلى مفصله، والمفروض انها عين الاجزاء في
لحاظ الوحدة، لا شيئا آخر، فالدعوة إلى الطبيعة الاعتبارية عين الدعوة إلى الاجزاء
والبعث إلى احضار عشرة رجال، بعث إلى احضار هذا وذاك حتى يصدق العنوان، و
381

مع ما ذكرنا لا حاجة إلى التمسك في مقام الدعوة إلى حكم العقل وإن كان حكمه
صحيحا، واما الامر الضمني أو الانحلالي فمما لا طائل تحته.
وان شئت قلت: ان الامر زائد المتعلق بالمركب واحد، متعلق بواحد، وليست
الاجزاء متعلقة للامر لعدم شيئية لها في لحاظ الآمر عند لحاظ المركب، ولا يرى عند البعث
إليه الا صورة وحدانية هي صورة المركب فانيا فيها الاجزاء، فهي تكون مغفولا عنها
ولا تكون متعلقة للامر أصلا، فالآمر لا يرى في تلك اللحاظ الا أمرا واحدا، ولا يأمر
الا بأمر واحد ولكن هذا الامر الوحداني يكون داعيا إلى اتيان الاجزاء بعين دعوته
إلى المركب، وحجة عليها بعين حجيته عليه، لكون المركب هو الاجزاء في
لحاظ الوحدة والاضمحلال،
وما ذكرنا ههنا وفى المقدمة الرابعة لا ينافي مع ما عرفت تحقيقه من وجود
ملاك المقدمية في الاجزاء وان كل جزء مقدمة وهو غير الكل.
السادس
ان مصب الامر، هو العنوان، لا ذات الاجزاء المرددة بين الأقل والأكثر بنعت
الكثرة، وإن كان العنوان عينها في لحاظ الوحدة ومع ذلك فما هو متعلق الأمر انما
هو العنوان،
نعم التعبير بان الامر دائر بين الأقل والأكثر يوهم تعلق الحكم بالاجزاء وان
الواجب بذاته مردد بينهما وهو خلاف المفروض وخلاف التحقيق، بل الحكم تعلق بعنوان
غير مردد في نفسه بين القليل والكثير، وإن كان ما ينحل إليه هذا العنوان مردد بينهما، وهو
لا يوجب تردد الواجب بالذات بينهما وهو لا ينافي قولنا ان العنوان عين الاجزاء لما تقدم ان
العينية مع حفظ عنواني الاجمال والتفصيل،
إذا عرفت ذلك يتضح لك جريان البراءة في المشكوك من الاجزاء لان الحجة
على المركب انما يكون حجة على الاجزاء وداعيا إليها، إذا قامت الحجة على كون
382

المركب مركبا من الاجزاء الكذائية ومنحلا إليها، واما مع عدم قيام الحجة عليه لا
يمكن أن يكون الامر به حجة عليها وداعيا إليها فمع الشك في جزئية شئ للمركب
لا يكون الامر المتعلق به حجة عليه، ضرورة ان تمامية الحجة انما تكون
بالعلم، والعلم بتعلق الامر بالمركب انما يكون حجة على الاجزاء التي علم تركب
المركب منها، لما عرفت من أن السر في داعوية الامر المتعلق به إلى الاجزاء ليس
الا كونه منحلا إليه ومتركبا منها، فمع الشك في دخالة شئ في المركب واعتباره
فيه عند ترتيب اجزائه، لا يكون الامر بالمركب حجة عليه.
فلو بذل العبد جهده في استعلام ما اخذه المولى جزءا للمركب ووقف على
عدة اجزاء دلت عليه الأدلة، وشك في جزئية شئ آخر، فاتى بما قامت الحجة عليه
وترك ما لم يقم عليه، يعد مطيعا لأمر مولاه، فلو عاقبه المولى على ترك الجزء المشكوك
فيه يكون عقابا بلا بيان وبلا برهان.
والحاصل: ان العبد مأخوذ بمقدار ما قامت الحجة عليه لا أزيد ولا انقص،
اما العنوان فقد قامت عليه، واما الاجزاء فما علم انحلاله إليها فقد لزم على العبد،
لان قيام الحجة على العنوان قيام على الاجزاء التي علم انحلاله إليها، واما الاجزاء
المشكوكة فيها فلم يعلم انحلال العنوان عليها، ولا يتم الحجة عليها للشك في دخولها
في العنوان، وهذا نظير ما لو كانت الاجزاء واجبة من أول الأمر بلا توسيط عنوان،
فكما يرجع فيه إلى البراءة، فهكذا فيما إذا كان متوسطا في وجوب الاجزاء، لما
عرفت من العينية مع التحفظ بالفرق بالاجمال والتفصيل.
لا يقال: إن الحجة قد قامت على العنوان الاجمالي، فلابد من الاتيان بالأكثر
حتى يحصل العلم بالاتيان بما قامت الحجة عليه لأنا نقول، كأنك نسيت ما حررنا من
الأمور لما تقدم من أن النسبة بينهما بين العنوان والاجزاء ليست نسبة المحقق إلى
المحقق، (بالفتح) حتى يكون المآل إلى الشك في السقوط بل العنوان عين الاجزاء
في لحاظ الوحدة لا متحصلا منها.
تفصيل مقال وتوضيح حال
هذا التقريب الذي أبدعناه يندفع به أكثر الاشكالات، ومع ذلك لا بأس بالتعرض
383

لبعض المعضلات التي اوردها الأعاظم من الأصحاب
فنقول: ان هنا اشكالات.
الاشكال الأول
وقد حكى عن المحقق صاحب الحاشية وحاصله: ان العلم الاجمالي بوجوب
الأقل والأكثر حجة على التكليف ومنجز له، ولابد من الاحتياط بالاتيان بالجزء
المشكوك فيه، ولا ينحل هذا العلم الاجمالي بالعلم بوجوب الأقل والشك في الأكثر
لتردد وجوبه بين المتبائنين فإنه لا اشكال في مبائنة الماهية بشرط شئ للماهية
لا بشرط لكونهما قسيمين، فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به انما يكون
لا بشرط عن الزيادة ولو كان الأكثر فالتكليف بالأقل يكون بشرط انضمامه مع الزيادة
فوجوب الأقل يكون مرددا بين المتبائنين باعتبار سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط شئ
أو بشرطه، كما أن امتثاله يكون مختلفا أيضا حسب اختلاف الوجوب، فان امتثال
الأقل انما يكون بانضمام الزائد إليه، إذا كان التكليف ملحوظا بشرط شئ، بخلاف
ما إذا كان ملحوظا لا بشرط، فيرجع الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين إلى الشك بين
المتبائنين تكليفا وامتثالا " انتهى كلامه ".
ويرد عليه أولا: ان الموصوف باللا بشرطية وقسيمها، انما هو متعلق التكليف،
لا نفس التكليف والتكليف على سنخ واحد والاختلاف انما هو في المتعلق واما افاده لعله سوء
تعبير والمراد ما ذكرنا، وثانيا: ان متعلق التكليف أيضا ليس امره دائرا بين المهية
لا بشرط شئ، وبشرطه، إذ ليس التكليف متعلقا بالأقل، والمتعلق مرددا بين كونه لا
بشرط عن الزيادة أو بشرط الزيادة، فان لازم ذلك تسليم ان مصب الامر مطلقا هو
الأقل، والشك في اشتراطه بالزيادة وعدمها، مع أنه غير صحيح، لان الاجزاء كلها
في رتبة واحدة، وليس بعضها جزءا، وبعضها شرطا لبعض، بل الامر دائر بين تعلق
التكليف بالأقل أي المركب المنحل إليه أو الأكثر أي المركب المنحل إليه، ولا
تكون الاجزاء متعلقة للتكليف بما انها اجزاء كما تقدم في كيفية تعلق الأوامر
384

بالمركبات الاعتبارية، وثالثا: لا نسلم ان الأقل اللا بشرط أو التكليف اللا بشرط
على تعبيره (رحمه الله) يبائن الأقل بشرط شئ، تبائن القسم مع القسم.
لان معنى كون الأقل لا بشرط، ان الملحوظ نفس الأقل من غير لحاظ انضمام
شئ معه، لا كون عدم لحاظ شئ معه ملحوظا حتى يصير متبائنا مع الملحوظ بشرط
شئ فيكون الأقل متيقنا، والزيادة مشكوكا فيها فينحل العلم إلى علم تفصيلي، و
شك بدئي في وجوب الزيادة (هذا) مع انا نمنع كون الاجزاء متعلقة للحكم، بل
المتعلق انما هو العنوان وهو المركب الواحد الذي تعلق به بعث واحد، وهو يصير
حجة على الاجزاء المعلوم انحلالها إليها، ولا يصير حجة على الزيادة المشكوكة فيها
كما تقدم. ورابعا: ان لازم ما افاده هو الاحتياط على طريق الاحتياط في المتبائنين، أي
الاتيان بالأقل منفصلا عن الزيادة تارة ومعها أخرى، لان المتبائنين غير ممكن
الاجتماع مع أن القائل لا يلتزم به.
ثم إن بعض أعاظم العصر (رحمه الله) أجاب عن الاشكال بان المهية لا بشرط، والماهية
بشرط شئ ليستا من المتبائين الذين لا جامع بينهما، فان التقابل بينهما ليس تقابل
التضاد بل تقابل العدم والملكة فان المهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام
شئ معها بحيث يؤخذ العدم قيدا للماهية، والا رجعت إلى المهية بشرط لا، ويلزم
تداخل أقسامها بل المهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شئ معها، ومن هنا قلنا إن
الاطلاق ليس أمرا وجوديا بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد فالماهية لا بشرط ليست
مباينة بالهوية والحقيقة مع الماهية بشرط شئ بحيث لا يوجد بينهما جامع بل
يجمعهما نفس الماهية، والتقابل بينهما بمجرد الاعتبار واللحاظ، ففي ما نحن فيه
يكون الأقل متيقن الاعتبار على كل حال سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط
شئ، فان التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل من كونه متيقن الاعتبار. انتهى
كلامه.
وفى كلامه اشكالات يشير إليها: " منها ": انه قدس سره جعل الماهية مقسما
وجامعا، وفرض اللا بشرط المطلق والبشرط شئ من أقسامها، وفسر الاطلاق
385

في القسم بما لم يعتبر فيه قيد. فح نقول: إن أراد من قوله في تفسير الاطلاق (ما لم
يعتبر مع الماهية قيد) هو عدم الاعتبار بالسلب البسيط، بحيث يكون اللا بشرط
القسمي هو ذات الماهية مع عدم وجود قيد معها في نفس الامر لا بلحاظ اللحاظ فهو
غير تام، لان هذا هو عين المقسم، فيرجع القسم (ح) إلى المقسم ويتداخل الأقسام،
مع أنه جعل اللا بشرط من أقسام نفس الماهية، وحكم بجامعية ذات الماهية، و
الحاصل ان المهية لا بشرط أي التي لم يلحظ معها شئ هي المهية المقسمية التي هي
نفس المهية ولا يعقل الجامع بين الماهية الكذائية وغيرها، ونفس ذات الماهية
عبارة أخرى عن المهية التي لم يلحظ معها شئ بنحو السلب البسيط لا الايجاب
العدولي. وان أراد من عدم اعتبار القيد، هو عدم اعتباره بالسلب التركيبي أي
الماهية التي لوحظت كونها لا مع قيد على نحو العدول، أو لم يعتبر معها شئ في
اللحاظ على نحو الموجبة السالبة المحمول، فهو أيضا مثل ما تقدم، لأنه
يصير اللا بشرط قسيما مع بشرط شئ ومبائنا وهو بصدد الفرار عن كونهما
متبائنين.
ومنها: ان ما ذكره من عدم الجامع بين المتضادين غير صحيح بل قد عرف
الضدان بأنهما امران وجوديان داخلان تحت جنس قريب، بينهما غاية الخلاف،
فتسليم الجامع، بين العدم والملكة دون المتضادين غريب جدا، ومنها: انه لو سلمنا
ان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فلا يستلزم ذلك عدم وجوب الاحتياط، إذا
كان بين المتعلقين تبائن ولو بنحو العدم والملكة الا ترى انه لو علم اجمالا بوجوب
اكرام شخص مردد بين الملتحى والكوسج، يجب الاحتياط مع أن بينهما تقابل
العدم والملكة ولو علم بوجوب اكرام واحد من الانسان مردد بين مطلق الانسان
أو الانسان الرومي، يكفي اكرام مطلق الانسان روميا كان أو غيره لعدم كون
المتعلق مرددا بين المتبائين وعدم التقابل بينهما.
والحاصل: انه ليس مجرد كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ميزانا
للرجوع إلى البراءة وكون التقابل غيره ميزانا للرجوع إلى الاحتياط كما عرفت،
386

بل الميزان في الاحتياط كون المتعلق مرددا بين المتبائنين وفى البراءة كونه مرددا
بين الأقل والأكثر.
ثم إن تحقيق تقسيم الماهية، إلى الأقسام الثلاثة وان المقسم هل هو نفس الماهية
أو لحاظ الماهية، وتوضيح الفرق بين المطلقين المقسمي والقسمى، موكول إلى محله
وأهله، وذكرنا نبذا من ذلك عند البحث عن المطلق والمقيد فراجع.
الاشكال الثاني
ان متعلق التكليف في باب الأقل والأكثر مردد بين المتبائنين فان المركب
الملتئم من الأقل له صورة وحدانية غير صورة المركب من الأكثر فهما صورتان
متبائنتان ويكون التكليف مرددا بين تعلقه بهذا أو ذاك فيجب الاحتياط.
والجواب: مضافا إلى أنه لو صح الاشكال لزم وجوب الاحتياط
بتكرار الصلاة، لا ضم المشكوك إلى المتيقن، ان فيما مضى كفاية لرد هذا الاشكال لان
نسبة صورة المركب الاعتباري إلى الاجزاء ليست نسبة المحصل إلى المحصل، ولها
حقيقة وراء حقيقة الاجزاء، حتى يكون المتحصل من بعض الاجزاء غير المتحصل
من عدة أخرى، بل العقل تارة يرى الاجزاء في لحاظ الوحدة واخرى في لحاظ
الكثرة، وهذا لا يوجب اختلافا جوهريا بين الملحوظين، (فح) يرجع الاختلاف بين
الصورتين إلى الأقل والأكثر، كما يرجع الاختلاف بين الاجزاء إليهما أيضا.
الاشكال الثالث
ان وجوب الأقل دائر بين كونه نفسيا أصليا توجب مخالفته العقاب، وكونه
نفسيا ضمنيا لا يعاقب على تركه، فان العقاب انما هو على ترك الواجب الأصلي لا
الضمني، فلا يحكم بلزوم اتيان الأقل على أي تقدير، بل يكون امره من هذه الجهة
كالمردد بين الواجب والمستحب، فإذا لم يحكم العقل بوجوب اتيانه كذلك فلا ينحل
به العلم الاجمالي فلابد من الخروج عن عهدته بضم الزيادة عليه.
وفيه أولا: ان حصول المركب في الخارج انما هو بوجود عامة أجزائه
387

بلا نقص واحد منها، واما عدمه فكما يحصل بترك الاجزاء عامة، كذلك يحصل بترك
أي جزء منه، ومن ذلك يعلم أن ليس للمركب اعدام، لان نقيض الواحد واحد،
بل له عدم واحد، ولكنه تارة يستند إلى ترك الكل، واخرى إلى جزء منه، (فح) فلو ترك
المكلف المركب من رأس أو الاجزاء المعلومة أي الأقل فقد ترك المركب فيكون
معاقبا على ترك المأمور به بلا عذر، واما لو اتى بالاجزاء المعلومة (الأقل)، وترك
الجزء المشكوك فيه بعدما فحص واجتهد ولم يعثر على بيان من المولى بالنسبة
إليه وفرضنا وجوب الأكثر في نفس الامر، فقد ترك في هذه الحالة أيضا المأمور به،
ولكن لا عن عصيان بل عن عذر، وبالجملة ان الفرق بين الأولين والثالث واضح جدا،
فان المكلف وان ترك المأمور به في الجميع، الا انه ترك في الأولين (ترك الاجزاء من
رأس، وترك الاجزاء المعلومة عصيانا للمولى، لان تركه للاجزاء عين تركه للمأمور به
فيعاقب على تركه بلا عذر ولا حجة وهذا بخلاف الثالث، فان المأمور به وإن كان متروكا
الا ان الترك عن عذر وهذا المقدار كاف في لزوم الاتيان بالأقل عند العقل على كل حال،
بخلاف المشكوك فيه.
وبعبارة أخرى ان المكلف حين ترك الأقل، واقف على ترك الواجب تفصيلا
اما لان الواجب هو الأقل الذي تركه، أو الأكثر الذي يحصل تركه بترك الأقل، فيجب
الاتيان به على كل حال، وما ذكره القائل من أن ترك الأقل ليس بحرام على كل حال
غير تام، لان ترك الأقل لما كان تركا بلا عذر، يجب الاتيان به للعلم بان في تركه
عقابا على أن جهة كان، وهذا كاف في الانحلال.
وثانيا: ان ما يلزم على العبد، هو تحصيل المؤمن القطعي من العقاب الذي
هو مستند البراءة العقلية، ولا يتحقق المؤمن القطعي الا في مورد يكون العقاب
قبيحا على المولى الحكيم، لامتناع صدور القبيح منه، (فح) فلو علم أو احتمل
العقاب يجب عليه الإطاعة والاحتياط وإن كان الاحتمال ضعيفا لان تمام الموضوع
للاحتياط هو احتمال العقاب لا غير (وعليه) فلو دار التكليف بين كونه مما يعاقب عليه
388

أو لا كما هو شأن الأقل في المقام، يجب عليه الاحتياط بلا كلام.
وان شئت قلت: ان ما يرجع إلى المولى، انما هو بيان الاحكام لا بيان العقوبة
على الاحكام، فلو حكم المولى بحرمة الخمر، واحتمل العبد ان المولى لا يعاقب عليه،
فلا يمكن الاكتفاء به في مقام تحصيل المؤمن عن العقاب، كما أنه إذا حرم شيئا و
علم العبد ان في ارتكابه عقابا، ولكن لم يبين المولى كيفية العقوبة فارتكبه العبد
وقد كان المنهى عنه في نفس الامر مما أعد المولى لمخالفته عتابا شديدا، فلا يعد ذلك
العقاب من المولى عقابا بلا بيان لان ما هو وظيفته انما هو بيان الاحكام لا بيان ما يترتب
عليه من المثوبة والعقوبة
إذا عرفت ذلك: فتقول قد تقدم ان التكليف بالاجزاء عين التكليف بالمركب
وان الأقل دائر امره بين كونه واجبا نفسيا أصليا أي كونه تمام المركب مستوجبا
للعقوبة على تركه أو نفسيا ضمنيا ويكون المركب هو الأكثر، والعقوبة على تركه لا على
ترك الأقل، و (ح) فالأقل يحتمل العقوبة وعدمها، وفى مثله يحكم العقل بالاحتياط
لأنه لو صادف كونه تمام المركب لا يكون العقاب عليه بلا بيان، فان ما لزم على المولى
هو بيان التكليف الالزامي والمفروض انه بينه وليس عليه بيان كون الواجب
مما في تركه العقوبة، كما أنه ليس له بيان ان الأقل تمام الموضوع للامر كما لا يخفى
ولعمر القارئ ان انحلال العلم في المقام أوضح من أن يخفى، لان كون الأقل واجبا
تفصيليا مما لا سترة فيه، فكيف يقع طرفا للعلم الاجمالي وما افاده بعض أعاظم العصر من أن
تفصيله عين اجماله أشبه شئ بالشعر من البرهان.
الاشكال الرابع
ما ذكره بعض أعاظم العصر (رحمه الله) وأوضحه بتقريبين الأول ان العقل
يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة ان العلم بالاشتغال
يستدعى العلم بالفراغ لتنجز التكليف بالعلم به ولو اجمالا ويتم البيان الذي يستقل
العقل بتوقف صحة العقاب عليه، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير
المأتى به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، ففي ما نحن فيه، لا يجوز الاقتصار
389

على الأقل عقلا لأنه يشك معه في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في
البين ولا يحصل العلم بالامتثال الا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة، والعلم
التفصيلي بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شئ، هو عين العلم
الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل
ان يوجب الانحلال، لأنه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه انتهى
كلامه.
وفيه: ان العلم الاجمالي قائم بالتردد والشك أي الشك بان هذا واجب أو
ذاك، وليس المقام كذلك، للعلم بوجوب الأقل على كل حال والشك في وجوب
الزائد، إذ المفروض ان الواجب هو ذات الأقل، على نحو الاطلاق المقسمي ووجوبه
لا ينافي مع وجوب شئ آخر أو عدم وجوبه، إذ الأكثر ليس الا الأقل والزيادة، ولا
يفترق حال الأقل بالنسبة إلى تعلق أصل التكليف به ضمت إليه الزيادة أو لا تضم،
فالقطع التفصيلي حاصل من غير دخول الاجمال بالنسبة إلى وجوب الاجزاء التي يعلم
انحلال المركب إليها وانما الشك في أن الجزء الزائد هل يكون دخيلا فيه حتى
يكون متعلق التكليف بعين تعلقه بالمركب أو لا، وهذا عين ما أوضحناه مرارا
بان هنا علما تفصيليا، وشكا بدئيا، و (ان شئت قلت) ان الاشتغال اليقيني يستدعى
البراءة اليقينية، بمقدار ما قام الدليل على الاشتغال، ولا اشكال في أن الحجة قائمة
على وجوب الأقل، واما الزيادة فليست الا مشكوكا فيها من رأس، ومع ذلك فكيف
يجب الاحتياط.
وما افاده: من أن الأقل المردد بين اللا بشرط وبشرط شئ، هو عين العلم
الاجمالي، فيلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه غير تام لان الأقل
متعلق للعلم التفصيلي ليس الا، والشك انما هو في الزيادة، لا في مقدار الأقل، وان
شئت عبرت: بأنه ليس علم اجمالي من رأس حتى يحتاج إلى الانحلال بل علم
تفصيلي وشك بدئي وليس حاله نظير قيام الامارة على بعض الأطراف الموجب
للانحلال.
390

الثاني من التقريبين اللذين في كلامه (رحمه الله) ومحصله: ان الشك في تعلق
التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان لا يقتضى
التنجيز واستحقاق في العقاب على مخالفته من حيث هو، للجهل بتعلق التكليف به،
الا ان هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على
تقدير تعلقه بها، وهى احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقل، فان هذا الاحتمال
بضميمة العلم الاجمالي، يقتضى التنجيز. فإنه لا رافع لهذا الاحتمال، وليس من
وظيفة العقل وضع القيدية أو رفعها، بل ذلك من وظيفة الشارع ولا حكم للعقل من
هذه الجهة، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله
على حاله فلابد من ضم الخصوصية الزائدة انتهى كلامه.
قلت: ليت شعري أي فرق بين الجزء الزائد واحتمال الارتباطية والقيديه، في أنه
تجرى البراءة العقلية في الأول دون الأخيرين، مع أن الكل من القيود الزائدة
المشكوكة فيها التي لا يكون العقاب عليها الا عقابا بلا بيان، وقد اعترف (قدس سره)
في صدر كلامه بان كل خصوصية مشكوكة فيها يكون العقاب عليها عقابا بلا بيان
واما ما افاده من أنه ليس وظيفة العقل رفع القيدية أو وضعها فهو صحيح
لكن ليس معنى البراءة العقلية رفع التكليف بل مفاد البراءة العقلية هو حكم
العقل على أن العقاب على المشكوك فيه عقاب بلا بيان من غير فرق بين أن يكون
المشكوك فيه ذات الجزء أو الارتباطية، وعلى أي حال: فإذا كان الأقل متعلقا
للعلم التفصيلي من غير كون الخصوصية متعلقة للعلم بل مشكوك فيها من رأس،
فتجرى البراءة في اية خصوصية مشكوكة فيها ولعمر القارئ ان بين صدر كلامه
وذيله تناقضا ظاهرا ولعل التدبر الصحيح يرفع تلك المناقضة فتأمل.
وههنا: تقرير ثالث للاشتغال وهو ان الأقل معلوم الوجوب بالضرورة، ومع
اتيانه يشك في البراءة عن هذا التكليف المعلوم، لان الأكثر لو كان واجبا لا يسقط
التكليف المتوجه إلى الأقل باتيانه بلا ضم القيد الزائد، فلابد للعلم بحصول الفراغ
من ضمه إليه.
391

وان شئت عبرت: بان الاشتغال قد تعلق بالأقل لا بالأكثر لكن الخروج عن
الاشتغال المعلوم تعلقه بالأقل لا يحصل يقينا الا بضم المشكوك، والذي يحمل المكلف
على الاتيان بالزائد، انما هو الاشتغال بالأقل الذي لا يحصل اليقين بالبرائة عنه الا
بالاتيان بالمشكوك.
والجواب: ان وجوب الأقل ليس وجوبا مغايرا لوجوب المركب، بل
هو واجب بعين وجوبه، وقد عرفت ان الوجوب المتعلق بالاجزاء في لحاظ الوحدة
داع بنفسه إلى الاتيان بالاجزاء، وليس الاجزاء واجبا غيريا كما أن نسبتها إلى
المركب ليست كنسبة المحصل إلى المحصل، و (ح) ما قامت الحجة عليه وهو
الأقل يكون المكلف آتيا به وما تركه لم تقم الحجة عليه، فما علم اشتغال
الذمة به، اطاعه وما لم يعلم لم يتحقق الامتثال بالنسبة إليه، فلو كان الواجب هو
الأقل فقد امتثله ولو كان هو مع الزيادة، فقد حصل عنده المؤمن من العقاب وهو كون
العقاب عليه عقابا بلا بيان وان شئت قلت: انه لا يعقل أن يكون للامر بالمركب داعوية
بالنسبة إلى اجزائه مرتين بل له داعوية واحدة إلى الكل وهو يدعو بهذه الدعوة
إلى كل واحد من الاجزاء و (عليه) فلو اتى بالأقل فقد اتى بما يكون الامر داعيا إليه،
وما لم يأت به فهو مشكوك ليس للامر بالنسبة إليه داعوية.
فان قلت: لو كان الواجب هو الأكثر. بكون المأتى به لغوا وباطلا فمع
الشك في أن الوجوب هو الأكثر، يدور أمر الأقل بين كونه إطاعة أو أمرا باطلا، فلابد
من احراز كونه إطاعة ومنطبقا عليه ذلك العنوان. قلت: ان الإطاعة والعصيان
من الأمور العقلية والعقل يحكم بوجوب إطاعة ما أمر به المولى وبينه لا ما اضمره
وكتمه والمفروض ان ما وقع تحت دائرة البيان قد امتثله واطاعه، ومعه لماذا لا ينطبق
عليه عنوان الإطاعة.
فان قلت: ان الصلاة وإن كانت موضوعة للأعم من الصحيح الا ان البعث لا
يتعلق بالصحيح منها، لان الملاك في التسمية غير الملاك في تعلق الطلب، و (عليه)
يلزم الاتيان بالجزء المشكوك حتى يحرز انطباق عنوان الصحيح عليه.
392

قلت: ان الصحة والفساد من عوارض الطبيعة الموجودة وما هو متعلق للامر
انما هو نفس الطبيعة، فمن المستحيل ان يتعلق البعث بأمر موجود، كما أوضحناه
في محله، و (عليه) فالطبيعة صادقة على الأقل والأكثر، فما علم تقييد الطبيعة من
الاجزاء يجب الاتيان به وما لم يعلم يجرى فيه البراءة العقلية
الاشكال الخامس
ما ذكر المحقق صاحب الحاشية، وننقله بعين عبارته عن كتابه المطبوع في آخر
حاشيته على المعالم، وما نسبنا إليه من الاشكال السابق فقد تبعنا في النسبة
على بعض أعاظم العصر (رحمه الله) وهذا التقريب غيره، بل امتن منه واليك نص
عبارته ملخصا:
إذا تعلق الامر بطبيعة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت الاشتغال الا انه يدور
الامر بين الاشتغال بالأقل والأكثر، وليس المشتمل على الأقل مندرجا في الحاصلة
بالأكثر كما في الدين إذا المفروض ارتباطية الاجزاء، ولا يثمر القول بان التكليف
بالكل تكليف بالأقل، لان المتيقن تعلق الوجوب التبعي بالجزء لا انه مورد للتكليف
على الاطلاق، فاشتغال الذمة (ح) دائر امره بين طبيعين وجوديتين لا يندرج
أحدهما في الاخر فلا يجرى الأصل في تعيين أحدهما، لان مورده هو الشك في وجوده
وعدمه، لا ما إذا دار الامر بين الاشتغال بوجود أحد الشيئين.
فان قلت إن التكليف بالأكثر قاض بالتكليف بالأقل، فيصدق ثبوت الاشتغال
به على طريق اللا بشرط فيدور الامر في الزائد بين ثبوت التكليف وعدمه قلت:
ليس التكليف بالأقل ثابتا على طريق اللا بشرط ليكون ثبوت التكليف به على نحو
الاطلاق، بل ثبوته هناك على سبيل الاجمال والدوران بين كونه أصليا أو تبعيا، فعلى
الأول لا حاجة إلى الأصل: وعلى الثاني لا يعقل اجرائه
أقول: قد عرفت ان الأقل ليس مغايرا للأكثر عنوانا ولا طبيعتا، بل الأكثر هو الأقل
مع الزيادة فما افاده من أن الامر دائر بين طبيعتين وجوديتين لا يندرج أحدهما في الاخر
غير تام جدا، كما أن ما يظهر منه من أن الأقل واجب بوجوب التبعي لا بالوجوب المتعلق
393

بالمركب على فرض تعلقه بالأكثر غير صحيح بل الأقل واجب بوجوبه على أي تقدير اما
على تقدير كون الأقل تمام المأمور به فواضح واما على تقدير تعلقه بالأكثر، فالامر
الداعي إلى المركب داع بنفس تلك الدعوة إلى الاجزاء إذ ليست الاجزاء الا نفس
المركب في لحاظ التفصيل كما أنه عينها في لحاظ الوحدة، وبعد منع تلك المقدمتين
يظهر النظر في ما افاده من التقريب ولا نطول بتوضيحه
الاشكال السادس
ما افاده المحقق الخراساني (رحمه الله) بتقريبين ومرجع الأول إلى دعوى
تحقق العلم الاجمالي وامتناع الانحلال للزوم الخلف ومرجع الثاني إلى امتناعه لأجل
كون وجود الانحلال مستلزما لعدمه، اما الأول فتوضيحه، ان تنجز التكليف وتعلقه
بالأكثر لابد وأن يكون مفروضا حتى يحرز وجوب الأقل فعلا على كل تقدير اما لنفسه
واما لغيره، لأنه مع عدم مفروضية تنجزه وتعلقه بالأكثر لا يعقل العلم بفعلية التكليف
بالنسبة إلى الأقل على كل تقدير، فان أحد التقديرين كونه مقدمة للأكثر فلو لزم
من فعلية التكليف بالأقل عدم تنجز الأكثر يكون خلف الفرض، واما (الثاني) فلان
الانحلال يستلزم عدم تنجز التكليف على أي تقدير وهو مستلزم لعدم الانحلال
فلزم من وجود الانحلال عدمه، وهو محال فالعلم الاجمالي منجز بلا كلام.
وههنا تقريب ثالث نبهنا عليه عند البحث عن مقدمة الواجب، وهو انه إذا
تولد من العلم الاجمالي علم تفصيلي لا يعقل أن يكون ذلك العلم مبدءا لانحلال
العلم السابق، لان قوامه بالأول، فلا يتصور بقاء العلم التفصيلي مع زوال ما هو قوام له
فلو علم اجمالا ان واحدا من الوضوء والصلاة واجب له ولكن دار وجوب الوضوء بين
كونه نفسيا أو غيريا، فلا يصح ان يقال: إن الوضوء معلوم الوجوب تفصيلا، لكونه
واجبا اما نفسيا أو مقدميا، واما الصلاة فمشكوكة الوجوب من رأس لان العلم علي
وجوبه على أي تقدير انما نشأ من التحفظ بالعلم الاجمالي، ولو رفع اليد عنه، فلا
علم بوجوبه على أي تقدير.
والجواب: ان روح هذه التقريبات واحدة، وكلها مبنى على أن الاجزاء
394

واجب بالوجوب الغيري الذي يثر شح من الامر بالكل، وان الاجزاء والكل
يختلفان عنوانا وطبيعة، وقد عرفت فساد هذه الأقوال كلها، وان الوجوب المتعلق بالأقل
عين الوجوب المتعلق بالمركب سواء ضم إليه شئ أو لم يضم، وانه لو ضم إليه شئ لا يتغير
حال الأقل في تعلق الامر به غير أنه يكون للامر نحو انبساط لبا، بالنسبة إليه وان لم
يضم إليه شئ يقف على الأقل ولا يتجاوز عنه (هذا على تعابير القوم) وان شئت قلت:
لو انضم إليه شئ ينحل إليه المركب ويحتج بالامر بالمركب بالنسبة إلى الزائد،
وان لم يضم فلا ينحل ولا يحتج.
وعلى المختار (كون الاجزاء واجبا بعين وجوب الكل) فلا يتوقف وجوب
الأقل على أي تقدير على تنجز الأكثر، فان الامر بالمركب معلوم، وهو أمر
بالاجزاء المعلومة أي التي ينحل المركب الذي تنجز الامر بالنسبة إليه، إلى
الاجزاء المعلومة بلا اشكال، سواء كان الجزء الآخر واجبا أو غير واجب فتنجز الامر
بالأقل عين تنجز الامر بالمركب، ولا يتوقف وجوبه على وجوب شئ آخر، فلا اشكال
في وجوب الأقل على كل تقدير، انحل المركب إلى المعلومة من الاجزاء فقط
أو إليها والى أمر آخر.
ثم إن بعض أعاظم العصر (رحمه الله) تفصى عن الاشكال في بعض أجوبته مع تسليم
كون وجوب الاجزاء مقدميا، وأنت إذا أحطت خبرا بما أشرنا إليه هنا (من أنه
إذا كان العلم التفصيلي متولدا من العلم الاجمالي، فلا يعقل أن يكون ذلك التفصيل مبدءا
للانحلال) تقف على صحة مقالنا، وضعف ما افاده (رحمه الله) فلا نطيل المقام.
الاشكال السابع
ما افاده الشيخ الأعظم " رحمه الله " ويستفاد من كلامه تقريبان لا باس بتوضيحهما
الأول: ان المشهور بين العدلية ان الأوامر والنواهي تابعة لمصالح في
المأمور به، ومفاسد في المنهى عنه، وان الواجبات الشرعية الطاف
في الواجبات العقلية، والأحكام الشرعية وان تعلقت بعناوين
395

خاصة كالصلاة والصوم، والسرقة والغيبة، الا ان المأمور به والمنهى عنه حقيقة هو
المصالح، والمفاسد، والامر بالصلاة والنهى عن الغيبة ارشاد إلى ما هو المطلوب
في نفس الامر، والسر في تعلقها بالعناوين، دون نفس المصالح والمفاسد عدم علم
العباد بكيفية تحصيلها أو الاجتناب عنها، ولو اطلع العقل بتلك المصالح والالطاف
لحكم بلزوم الاتيان بها، فالمصالح والالطاف هي المأمور بها بالامر النفسي، و
العناوين التي تعلق بها الامر والنهى في ظاهر الشرع، محصلات (بالكسر)
تلك الغايات وأوامرها ارشادية مقدمية ومع الشك في المحصل لا مناص عن
الاحتياط.
الثاني: ان الأوامر المتعلقة بالعناوين وإن كانت أوامر حقيقية غير ارشادية
الا ان المصالح والمفاسد اغراض وغايات لتلك الأوامر والنواهي، ولا يحرز الغرض
الا بالاتيان بالأكثر، وان شئت قلت إن المصالح والمفاسد والاغراض المولوية علة
البعث نحو العمل وعلة لظهور الإرادة في صورة الامر والزجر، فكما ان وجود الأشياء
وبقائها انما هو بوجود عللها وبقائها، فهكذا انعدامها وسقوطها بسقوط عللها و
فنائها (فح) فالعلم بسقوط الأوامر والنواهي يتوقف على العلم بسقوط الأغراض
وحصول الغايات الداعية إليها، فمع الاتيان بالأقل يشك في احراز المصالح فيشك
في سقوط الأوامر، فمع العلم بالثبوت لابد من العلم بالسقوط وهو لا يحصل الا
بالاتيان بالأكثر.
والفرق بين التقريبين أوضح من أن يخفى، فان المأمور به والمنهى عنه على
الأول هو المصالح والمفاسد، والعناوين محصلات وعلى الثاني فالأوامر النفسية و
ان تعلقت بالعناوين حقيقة، لكنها لأجل اغراض ومقاصد، فما لم تحصل تلك الأغراض
لا تسقط الأوامر والنواهي وقد أشار الشيخ الأعظم إلى التقريبين بقوله: ان اللطف
اما هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف وبذلك يظهر
ان ما افاده بعض أعاظم العصر (رحمه الله) من أن مراده ليس مصلحة الحكم وملاكه، بل
المراد منه التعبد بالامر وقصد امتثاله، ليس بشئ وان أتعب نفسه الشريفة
فراجع.
396

فالجواب عن الأول: ان كون أفعال الله معللة بالاغراض من المسائل
الكلامية وهو أساس لهذه القضية الدائرة من تبعية أوامره ونواهيه لمصالح أو مفاسد
مكنونة في المتعلق ولا شك ان غاية ما قام عليه الدليل هو انه يمتنع عليه تعالى الإرادة
الجزافية للزوم العبث في فعل، والظلم على العباد في تكليفه، فبما ان الأوامر
والنواهي أفعال اختيارية له تعالى فلابد أن تكون معللة بالاغراض في
مقابل ما يدعيه الأشاعرة النافين للأغراض والغايات في مطلق أفعاله، و
(عليه) فدفع العبثية كما يحصل باشتمال نفس تلك العناوين على مصالح ومفاسد قائمة
بها، متحصلة بوجودها، كذلك يحصل يكون المصلحة في نفس البعث والزجر، بل
يمكن ان يقال إن تلك العناوين مطلوبات بالذات، من قبيل نفس الأغراض، أو تكون
الأغراض أمور أخر غير المصالح والمفاسد والحاصل ان الأدلة المذكورة في محله
لا يثبت ما ذكر في وجه الأول.
أضف إليه ان تعلق الامر بالمصالح النفس الامرية التي يستتبعها تلك العنوان
مما يمتنع عليه تعالي، للزوم اللغوية والبعث، لان الامر بالشئ والبعث إليه،
لأجل ايجاد الداعي في نفس المكلف حتى ينبعث ببركة سائر المبادى نحوه، وهو
فرع وصول الامر إليه، ولا يعقل أن تكون الأوامر النفس الامرية الغير الواصلة
إلى المكلفين متعلقة بعناوين واقعية مجهولة لديهم وباعثة نحوها، فان البعث
والتحريك فرع الوصول والاطلاع، و (عليه) فتعلقها بها لا يكون الا لغوا وعبثا ممتنع
عليه تعالى.
واما الجواب عن الثاني فيكفي ما قدمناه عن الأول عنه أيضا فان العلة الغائية
وإن كانت تعد من اجزاء العلة، الا انه لا يلزم أن يكون الغاية مغايرا لنفس العنوان
الذي وقع تحت دائرة الطلب، بل من المحتمل أن يكون الغرض الذي دل الدليل
على امتناع خلو فعله تعالى عنه، هو قائما بنفس الامر، وبالجملة احتمال كون الغرض
هو قائما بنفس الامر أو كونه نفس المأمور به بمعنى كونه محبوبا بالذات من دون
أن يكون محصلا للغرض ينفى الاشتغال.
397

بل التحقيق انه لم يدل دليل على تحصيل الأغراض الواقعية للمولى التي لم
يقم عليها حجة، بل العقل يحكم بلزوم الخروج عن العهدة بمقدار ما قام عليه الحجة
وبما ان الحجة قامت على الأقل فلو كان الغرض حاصلا به فهو، والا ففوت الغرض
مستند إلى قصور بيان المولى لعدم البيان، أو لعدم ايجاب التحفظ والاحتياط، بل
لنا ان نقول إن الغرض يسقط بالأقل ويتبعه سقوط الامر، إذ لو لم يسقط به في نفس
الامر لوجب على المولى الحكيم اما البيان أو جعل الاحتياط تحفظا على أغراضه
والا يلزم التلاعب بالغرض ونقضه وهو قبيح على الحكيم وحيث انه لم يبينه، ولم
يوجب الاحتياط نستكشف من ذلك قيام الغرض بالأقل وسقوطه به.
أضف إلى ذلك ان العلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه مجهول العنوان بحيث لا
ينقدح في ذهن المكلف بعنوانه ابدا لا يكون منجزا فان تنجيزه متوقف على امكان الباعثية
على أي تقدير، أي في أي طرف كان من الأطراف، فإذا كان بعضها مجهول العنوان
لا يمكن البعث إليه، وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ نحتمل أن يكون للصلاة مثلا
اجزاء لم تصل إلينا أصلا ونحتمل دخالته في سقوط الغرض، ومثل هذا العلم غير منجز أصلا
لكون طرف العلم مجهول العنوان فلزوم العلم بسقوط الغرض الواقعي موجب لعدم العلم في
مطلق التكاليف بسقوط الأوامر إذ ما من تكليف الا ويحتمل دخالة شئ في متعلقه دخيل
في حصول الغرض لم يصل إلينا حتى يصح الاحتياط ويلزم منه سد باب الإطاعات فتحصل من
ذلك عدم لزوم شئ على العبد الا الخروج عن عهدة ما قامت الحجة عليه سقط الغرض لبا أم لا
نعم مع العلم بالغرض الملزم لابد من تحصيله كان أمر من المولى أم لا
الاشكال الثامن
هذا الاشكال يختص بالأوامر القربية ولا يجرى في التوصلية، وهو ان أمر الأقل
دائر بين كونه نفسيا صالحا للتقرب وكونه غيريا مقدميا غير صالح له، وما حاله كذلك
لا يمكن ان يتقرب به واما الأكثر، فالامر المتعلق به نفسي صالح للتقرب اما لكونه
بنفسه هو المأمور به، أو كون المأمور به هو الأقل ولكنه يقصد التقرب بما هو واجب
في الواقع فينطبق عليه على كل تقدير
398

وفيه: ان ما هو المعتبر في العبادات هو أن يكون العبد متحركا بتحريك المولى
ويكون الامر باعثا مع مبادي آخر كالخوف والرجاء، ونحوهما نحو المتعلق ولا يكون
الداعي في اتيانه اغراض اخر كالرياء، ونحوه لا بان يكون قصد الامر والامتثال ونحوهما
منظور إليه بل حقيقة الامتثال، ليست الا الاتيان بداعوية الامر وبه يحصل التقرب ويصير
العبد ممتازا عن غيره وقد عرفت ان المركب عبارة عن اجزاء وشرائط في لحاظ الوحدة
ويكون الامر الداعي إلى المركب داعيا إلى الاجزاء لا بداعوية أخرى فح نقول
لا شبهة في أن الآتي، بالأقل القائل بالبرائة والآتي بالأكثر القائل بالاشتغال كل
واحد منهما متحرك بتحريك الامر المتعلق بالمركب فقوله تعالى أقم الصلاة محرك
للآتي بالأقل والآتي بالأكثر من غير فرق بينهما من هذه الجهة وانما يفترقان في أن
القائل بالبرائة لا يرى نفسه مكلفا باتيان الجزء المشكوك فيه بخلاف القائل
بالاشتغال وهذا لا يصير فارقا فيما هما مشتركان فيه وهو الاتيان بالاجزاء المعلومة بداعوية
الامر بالمركب ثم لو فرض الوجوب الغيري للاجزاء فيمكن للآتي بالأقل قصد
التقرب لاحتمال كون الأقل واجبا نفسيا وما لا يمكن له هو الجزم بالنية وهو غير
معتبر في العبادات جزما ولهذا يصح العمل بالاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد
وكما أن الجزم بالنية غير ممكن مع الاتيان بالأقل غير ممكن مع الاتيان بالأكثر
لعدم العلم بمتعلق التكليف فقصد القربة ممكن منهما والجزم غير ممكن منهما
بلا افتراق بينهما.
بيان أصل الشرعي في المقام
ولا يخفى انه بعدما اتضح كون الجزء الزائد مشكوكا فيه من رأس لانحلال
العلم الاجمالي، يقع الجزء المشكوك فيه موردا للبرائة الشرعية ويشمله حديثا
الرفع والحجب وغيرهما من أدلة الباب، لان شان الحديثين، هو الرفع التعبدي فمعنى
الرفع في المقام هو رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه، والبنا، على عدم كون
المشكوك فيه جزءا، فهو يأتي بالاجزاء المعلومة لأجل الامر المتعلق بالمركب
الذي عرفت داعويته إلى نفس الاجزاء بدعوة واحدة وينفى لزوم الجزء المشكوك
399

فيه أو جزئيته، للمركب، ويكون مأمونا من العقاب.
واما اجزاء الأقل عن الأكثر لو فرض انكشاف الواقع فقد أوضحنا حاله بما
لا مزيد عليه في مبحث الاجزاء فلا وجه للإعادة.
دوران الامر بين المطلق والمشروط
تفصيل القول في جريان البراءة في الجزء المشكوك يغنينا عن إفاضة القول
في الشرط المشكوك فان المناط في الجزء والشرط واحد غير انا أفردنا البحث عنه
تبعا للأصحاب.
فنقول: ان منشأ انتزاع الشرطية تارة يكون أمرا مباينا للمشروط في الوجود
، كالطهارة في الصلاة واخرى يكون أمرا متحدا معه كالايمان في الرقبة اما الكلام
في الأول فواضح جدا لان داعوية الامر إلى ذات الصلاة معلوم سواء تعلق الامر بها بلا اشتراط
شئ أو مع اشتراطه، والتقييد والاشتراط، أو القيد والشرط مشكوك فيه، فيجرى
أدلة البراءة عقلية كان أو شرعية واما الثاني أعني إذا كان منشأ الانتزاع متحدا معه
كالايمان في الرقبة فتجرى البراءة فيه أيضا.
وتوضيحه: ان متعلق البعت والزجر انما هو الماهيات والعناوين دون المصاديق
الخارجية وقد أقمنا برهانه فيما سبق، و (عليه) فالمدار في دوران الامر بين الأقل
والأكثر انما هو ملاحظة لسان الدليل الدال على الحكم حسب الدلالة اللفظية
العرفية، لا المصاديق الخارجية، فلو دار متعلق الأمر بين كونه مطلق الرقبة أو الرقبة
المؤمنة فهو من موارد البراءة العقلية والشرعية لانحلال العلم فيه، ودورانه بين
الأقل والأكثر، لان مطلق الرقبة وإن كان غير موجود في الخارج والموجود منه اما
الرقبة الكافرة أو المؤمنة، وهما متبائنان الا ان الميزان في كون الشئ من قبيل
المتبائنين أو الأقل والأكثر ليس المصاديق الخارجية، لان مجرى البراءة هو متعلقات
الاحكام، وهو العناوين المأخوذة في لسان الدليل، لا المصاديق الخارجية، (فح)
نقول إن البعث إلى طبيعة الرقبة معلوم وتعلقه إلى المؤمنة مشكوك فيه فتجرى البراءة
400

على البراهين والمقدمات السابقة، وعدم تحقق الطبيعي في الخارج الا في ضمن
الفردين - الرقبة المؤمنة والرقبة الكافرة - لا يوجب كون المقام من قبيل المتبائنين
فان الميزان هو ما تعلق البعث به، ومن المعلوم ان البعث إلى الطبيعة غير البعث
إلى الطبيعة المقيدة، والنسبة بين المتعلقين هو القلة والكثرة، وإن كان المصاديق
على غير هذا النحو باعتبار العوارض.
ومما ذكرنا يعلم حال المركبات التحليلية سواء كانت بسائط خارجية كالبياض
والسواد المنحلين إلى اللون المفرق لنور البصر أو قابضه أو كالانسان المنحل عقلا
إلى الحيوان الناطق، فان الجنس والفصل وان لم يكونا من الأجزاء الخارجية
للمحدود، لأنهما من اجزاء الحد، وإن كان مأخذهما المادة والصورة بوجه
يعرفه أهله، وقريب منهما بعض الأصناف والاشخاص المنحلان في العقل إلى المهية
والعوارض المصنفة، والى المهية والعوارض المشخصة فإذا دار أمر صبغ ثوب المولى
بمطلق اللون، أو بلون قابض لنور البصر فما قام عليه الحجة يؤخذ به ويترك المشكوك
فيه اعتمادا على البراءة
والحاصل ان البراءة تجرى في الجميع على وزان واحد من غير فرق بينما له
منشأ انتزاع مغائر وما ليس له كذلك، لان الموضوع ينحل عند العقل إلى معلوم
ومشكوك فيه، فالصلاة المشروطة بالطهارة عين ذات الصلاة في الخارج، كما أن
الرقبة المؤمنة عين مطلقها فيه، والانسان عين الحيوان، وهكذا، وانما الافتراق
في التحليل العقلي، وهو في الجميع سواء، فكما تنحل الصلاة المشروطة بالصلاة
والاشتراط كذا ينحل الانسان إلى الحيوان والناطق، ففي جريان البراءة وقيام
الحجة على المتيقن دون المشكوك سواء في الجميع ثم إن بعض أهل العصر (رحمه الله)
نفى الرجوع إلى البراءة عند الترديد بين الجنس والنوع، قائلا بأنهما عند التحليل
العقلي وإن كان يرجع إلى الأقل والأكثر، الا انهما في نظر العرف من الترديد بين
المتبائنين، فلو دار الامر بين اطعام الانسان، أو الحيوان فاللازم هو الاحتياط
باطعام الانسان، لان نسبة الرفع إلى كل منهما على حد سواء فيسقطان بالمعارضة
401

فلابد من العلم بالخروج من العهدة ولا يحصل الا باطعام خصوص الانسان لأنه جمع
بين الامرين واطعامه يستلزم اطعام ذاك انتهى.
وفيه: أو لا ان ما ذكره يرجع إلى المناقشة في المثال، فان الانسان والحيوان
وإن كان في نظر العرف من قبيل المتبائنين الا ان الحيوان والفرس ليسا كذلك
فلو دار الامر في الاطعام بينهما فلا مناص عن البراءة، كما لو دار الامر بين مطلق
اللون واللون الأبيض، أو مطلق الرائحة أو رائحة المسك، فان الجميع من قبيل
الأقل والأكثر، وثانيا: لو كان الدوران بين الانسان والحيوان دورانا بين المتبائنين
فطريق الاحتياط هو الجمع بينهما في الاطعام، لا اطعام خصوص الانسان، وما ذكره
من أن اطعامه يستلزم اطعام الحيوان أشبه شئ بالمناقضة في المقال فان مغزى هذا
التعليل إلى انهما من الأقل والأكثر كما لا يخفى
ومما ذكرنا يظهر ضعف ما افاده المحقق الخراساني (رحمه الله) من أن
الصلاة مثلا في ضمن الصلاة المشروطة موجودة بعين وجودها وفى ضمن صلاة أخرى
فاقدة لشرطها تكون مبائنة للمأمور بها وجه ضعفه فان فيه خلطا واضحا فان التحقيق
ان الكلى الطبيعي موجود في الخارج بنعت الكثرة لا بنعت التبائن فان الطبيعي
لما لم يكن في حد ذاته واحدا، ولا كثيرا فلا محالة يكون مع الواحد واحدا، ومع الكثير
كثيرا فيكون الطبيعي موجودا مع كل فرد بتمام ذاته، ويكون متكثرا بتكثر
الافراد فزيد انسان وعمر انسان، وبكر انسان، لا انهم متباينات في الانسانية بل متكثرات
فيها وانما التبائن من لحوق عوارض مصنفة ومشخصة كما لا يخفى والتبائن في الخصوصيات
لا يجعل المهية المتحدة مع كل فرد وخصوصية متبائنة مع الأخرى، فان الانسان
بحكم كونه مهية بلا شرط شئ غير مرهون بالوحدة والكثرة، وهو مع الكثير كثير فهو
بتمام حقيقته متحد مع كل خصوصية فالانسان متكثر غير متبائن في الكثرة هذا و
لتوضيحه مقام آخر فليطلب من أهله ومحله
أضف إلى ذلك ان كون الفردين متبائنين غير مفيد أصلا لان الميزان انما هو
ما وقع تحت دائرة الطلب، وقد عرفت ان متعلقه انما هو العناوين والماهيات
402

ومن الواضح ان مطلق الصلاة أو الصلاة المشروطة بشئ من الطهارة من قبيل الأقل و
الأكثر. فتدبر.
القول في الأسباب والمحصلات
وهى تنقسم إلى عقلية وعادية وشرعية، اما الأولتين فمركز البحث فيهما ما إذا
تعلق الامر بمفهوم مبين، وكان له سبب عقلي أو عادى ودار أمر السبب بين الأقل
والأكثر كما لو أمر بالقتل، وتردد سببه بين ضربة وضربتين وامر بتنظيف البيت
ودار امره بين كنسه ورشه أو كنسه فقط، ومثله ما لو شك في اشتراط السبب بكيفية
خاصة من تقديم اجزاء على أخرى هذا هو محط البحث، فلا اشكال في عدم جريان البراءة
لان المأمور به مبين وغير دائر بين الأقل والأكثر، وما هو دائر بينها فهو غير مأمور به
والشك بعد في حصول المأمور به وسقوطه وقد قامت الحجة على الشيئ المبين
فلابد من العلم بالخروج عن عهدته
ويظهر من بعض محققي العصر التفصيل بين كون المسبب ذات مراتب ومن
البسائط التدريجية فتجرى البراءة وبين غيره حيث قال: لو كان العنوان البسيط
متدرج الحصول من قبل علته بان يكون كل جزء من اجزاء علته مؤثرا في تحقق
مرتبة منه إلى أن يتم المركب، فيتحقق تلك المرتبة الخاصة التي هي منشأ للآثار
نظير مرتبة خاصة من النور الحاصلة من عدة شموع، ومنه باب الطهارة لقوله (ع)
فما جرى عليه الماء فقد طهر، وقوله (ع) فكلما أمسسته الماء فقد أنقته، فلا
قصور عن جريان البراءة عند دوران الامر في المحقق بالكسر بين الأقل والأكثر
فان مرجع الشك بعد فرض تسليم سعة الامر البسيط في ازدياد اجزاء محققه، إلى
الشك في سعة ذلك الامر البسيط وضيقه، فينتهى الامر إلى الأقل والأكثر في نفس
الامر البسيط فتجرى البراءة و (هذا) بخلاف ما لو كان دفعي الحصول فلا محيص عن
الاحتياط.
قلت: ما ذكره غير صحيح على فرض وخارج عن محط البحث على فرض
آخر لأنه لو كان الشك في أن الواجب هل هو غسل جميع الأجزاء أو يكفي
403

الغالب ولا يضر النادر، فللقول بجريان البراءة مجال، ولكنه خارج عن البحث،
لان مآل البحث (ح) إلى الأقل والأكثر في نفس المأمور به، واما إذا قلنا بان الواجب
هو تحصيل الطهور، ولكن وقع الشك في أن السبب هل هو نفس الغسل، أو هو مع
اشتراط تقديم بعض الاجزاء كالرأس على غيره فلا محيص عن الاحتياط وإن كان
المسبب تدريجي الحصول، فلو علمنا باشتراط صلاة الظهر بالطهارة وشككنا في
حصوله بالغسلتان والمسحتان مطلقا أو مع شرط وكيفية خاصة، ودار الامر في المحصل
(بالكسر) بين الأقل والأكثر فلا اشكال في عدم جريان البراءة من غير فرق بين
كون العنوان البسيط الذي هو المأمور به ذا مراتب متفاوتة متدرج الحصول أو
كونه دفعي الحصول، ولو علمنا بوجوب الطهور وشككنا في أن الحقيقة المتدرجة
الوجود هل يحصل بمطلق الغسل أو بشرط آخر، كقصد الوجه مثلا أو غيره لزم الاحتياط
وبالجملة فهذا التفصيل لا طائل تحته.
واليك تفصيلا آخر ذكره ذلك المحقق في كلامه وهو التفصيل بين كون
العلم مقتضيا قابلا لاجراء الأصول في أطراف العلم أو علة تامة فعلى القول بجريان
الأصول في أطراف العلم ما لم يمنع عنه مانع فيمكن ان يقال: إن الامر البسيط و
إن كان له وجود واحد، الا ان له اعداما على نحو العموم البدلي، بانعدام كل واحد
من اجزاء سببه، و (عليه) فبما ان الامر بالشئ مقتض عن النهى عن ضد، العام أعني
ترك المأمور به واعدامه باعدام سببه (فح) ترك المأمور به عن قبل ترك الأقل مما
يعلم تفصيلا حرمته، وعلم استحقاق العقوبة عليه، واما تركه الناشئ من ترك
المشكوك جزئيته، فلم يعلم حرمته لعدم العلم بافضاء تركه إلى تركه. هذا وقد
أجاب عنه بما هو مذكور في كلامه.
وأنت خبير بان التقريب المذكور لا يسمن ولا يغنى من جوع لان ما هو
المأمور به مبين، والاجمال انما هو في متعلقه ومحققه وقد قامت
الحجة على الواضح المبين ويجب في دائرة الإطاعة العلم بالبرائة عما اشتغل
الذمة به، فكيف يحكم العقل بالاكتفاء مع الشك في الحصول والسقوط و
404

اتيان المأمور به الذي قامت الحجة عليه، ولو قيل بجريان البراءة في مورد فلابد من القول
بجريانها في كل مورد.
واما التقريب: فيرد عليه أولا: انه لو كان المأمور بالذات مرددا بين عنوانين
كالظهر والجمعة، فعلى القول باقتضائية العلم، يمكن للشارع ان يكتفى بأحدهما
في مقام الامتثال، واما إذا كان المأمور به معلوم العنوان، مبين المفهوم، وقد تعلق
الامر به وقامت الحجة على لزوم اتيانه، فالمأمور به معلوم تفصيلا ولا يمكن الترخيص
في العلم التفصيلي وإن كان محصله مرددا بين الأقل والأكثر و (الحاصل) ليس
المقام من قبيل العلم الاجمالي في المأمور به حتى يأتي فيه ما ذكر
والعلم الاجمالي في المحصل (بالكسر) عين الشك في البراءة لا الشك في مقدار
الاشتغال.
وثانيا ان هنا علما واحدا تفصيليا بحرمة ترك المأمور به المعلوم من غير ترديد،
ومن أي طريق حصل ترك المأمور به أي سواء حصل بترك الأقل أو الأكثر، (فح) فالقول بان
حرمة تركه من قبل ترك الأقل واما من قبل ترك الأكثر فمشكوك، أشبه شئ بالشعر فان
حرمة ترك المأمور به معلوم مطلقا من أي سبب حصل سواء حصل بترك الأقل أو الأكثر،
ومعه كيف يقال: من أن حرمة تركه من ناحية الأكثر مشكوك، فان العلم بحرمة
تركه مطلقا يوجب سد باب جميع الاعدام المتيقنة أو المحتملة، وثالثا: ان هنا حجة واحدة
وهو الامر الصادر من المولى القائم على وجوب المأمور به، واما النهى عن ترك
المأمور به فعلى فرض صحة هذا النهى والنقل عن كونه عبثا ولغوا - فهو حجة عقلية
ينتقل إليه العقل بعد التفطن بالملازمة بين الامر بالشئ والنهى عن تركه ولكن
الحجة العقلية تابعة في السعة والضيق للامر المولوي، ولا يمكن أن يكون أوسع منه،
فلو كان لازم أمر المولى، هو سد جميع أبواب الاعدام من قطعياتها ومحتملاتها
فلا يمكن أن يكون مفاد الحجة العقلية مجوزا اعدامه من جانب واحد وهو
ترك الأكثر.
405

ورابعا: لو سلمنا انحلال النهى عن ترك المأمور به إلى نهى مقطوع و
مشكوك، فلا يوجب ذلك انحلال الدليل المولوي القائم على وجوب الامر المبين
إلى ذلك لان اجراء البراءة في النواهي المتعددة المنحلة لا يوجب جريانها في الامر
الواحد المتعلق بالمفهوم الواحد المبين، فان غاية القول بالانحلال لا يزيد عن انكار
اقتضاء الامر بالشئ النهى عن ترك العام، ومعه لا محيص عن الخروج عن
الاشتغال القطعي.
تمحيص الحق في الأسباب الشرعية
وتوضيح الحال في عامة الأسباب سيوافيك بيانه في مبحث الاستصحاب عند البحث
عن جريانه في الأحكام الوضعية، غير انا نشير في المقام إلى أمر هام: وهو ان السببية
والمسببية في الأسباب العقلية والعادية أمور واقعية خارجة عن طوق الاعتبار
فالشموس مضيئة، اعتبرها اللاحظ أولا.
واما الشرعية والعقلائية منهما فمن الأمور الاعتبارية القائمة باعتبار معتبرها شارعا
كان أو عرفا، وليس معنى السببية كون الأسباب مؤثرات حقيقة في وجود المسببات،
بحيث يحصل بعد اعمال الأسباب، وجود حقيقي في عالم التكوين لم يكن موجودا قبله
فان السببية والتأثير والتأثر كلها من باب التشبيه والمجاز لان معنى قولنا: قول
البايع " بعت " سبب لتحقق البيع في الخارج، هو ان المتكلم إذا أنشأ به بداعي الجد
يصير موضوعا عند العقلاء لاثار عقلائية مترتبة على المعنى المنشأ اعتبارا بالصيغة،
فالسبب وإن كان أمرا تكوينيا الا ان سببيته وتأثره وايجاده المعنى المنشأ كلها
قائمة بالاعتبار.
ثم إن لبيان معنى تأثير الأسباب في المسببات في عالم الاعتبار، مقاما آخر،
ولعلنا نستوفي البحث في مبحث الاستصحاب وان أوضحناه في هذا المقام في الدورة
السابقة.
وليعلم ان الأسباب والمسببات الشرعية فيما إذا كانت دائرة بين العقلاء قبل
406

التشريع ليست على وتيرة واحدة فتارة امضاء السبب والمسبب العقلائي، وسببيتهما
ولم يتصرف فيه الا تصرفا طفيفا من زيادة شرط وجزء، واخرى سلب السببية عن
الأسباب العقلائية، وحصر السببية في سبب واحد كما في باب الطلاق، فإنه بمعنى
الهجران عن الزوجة والزوجية أمر عقلائي كسائر الحقايق العقلائية متعارف عند
كل منتحل بدين وغير منتحل، ولكنه سلب السببية عن كل الأسباب وحصرها في
قول القائل: أنت طالق، و (ثالثة) بسط دائرة السببية والسبب، كما في باب الضمان،
فان حصول الضمان بمجرد وضع اليد المستفادة من قاعدة اليد مما ليس منه بين العقلاء
عين ولا اثر، إلى غير ذلك من الأقسام.
اما المخترعات الشرعية المحضة التي ليس لها سابقة عند العقلاء فهل يجب
تعلق الجعل بكل واحد من السبب والمسبب أو يكفي تعلقه بأحدهما فاختار بعض
أعاظم العصر الثاني قائلا بان جعل أحدهما يغنى من الاخر، فبناء على تعلق الجعل
بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العادية غير قابلة للوضع والرفع
أقول: الاشتباه نشأ من مقايسة الأسباب الشرعية بالعلل التكوينية، فان
الجعل في التكويني حقيقة يتعلق بوجود السبب وسببية السبب أو نفس المسبب مجعول
بالعرض، فالجاعل جعل النار، لا جعل النار مؤثرا في الاحراق وهكذا نفس
الاحراق واما المسببات الشرعية المحضة فبما ان أسبابه أيضا اختراعية لا عقلائية فلا
يعقل كفاية تعلق الجعل بالمسببه دون سببه أو سببيته، لأن المفروض ان المسبب
ليس أمرا عقلائيا بل اختراعيا، وما كان كذلك لا يعقل أن يكون له سبب عقلائي أو
عقلي أو عادى، فلابد أن يكون سببه أيضا اختراعيا، فلابد من تعلق الجعل بالسبب
ومسببه سواء تعلق ابتداءا بالسبب أو بالمسبب أو أدى كلاما يتكفل الجعلين
ولا يخفى ان الجعل يتعلق بوصف السببية، أي يجعل ما لم يكن سببا سببا، فلو
فرضنا ان قول القائل: ظهرك كظهر أمي ليس عند العقلاء محرما، وجعله الشارع
سببا لحرمة ظهر زوجته فالجعل لم يتعلق بذات السبب أي الألفاظ بل بوصف السببية
أي صير الشارع ما لم يكن سببا، سببا للتحريم، لان الجعل تعلق بالسبب، والسببية
407

أمر انتزاعي كما هو المشهور، وهذا سيوافيك تفصيل القول في هذه المقامات
في الاستصحاب.
إذ أعرفت ذلك فالتحقيق عدم امكان اجراء البراءة العقلية في الأسباب
الشرعية لتعلق الامر بالمفهوم المبين والشك في سقوطه بالأقل فلا يجرى البراءة
العقلية.
فان قلت: قد تقدم آنفا ان المسبب والسبب بمعني مجعولية سببيته، مجعولان
شرعا، ولا طريق إلى معرفة احراز السبب سوى بيانه ونقله والمفروض ان ما وقع
تحت دائرة البيان انما هو الأقل، والمشكوك لا يمكن العقاب عليه على فرض
دخالته لكون العقاب عليه عقابا بلا بيان قلت: ان المكلف وإن كان في فسحة من ناحية
السبب لجريان البراءة في سببية الجزء المشكوك، لكنه مأخوذ من ناحية تعلق
الامر الشرعي بالمفهوم المبين أعني المسبب، فلا يصح رفع اليد عن الحجة الا بحجة
أخرى وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في ناحية السبب لا يكون حجة على المسبب
واما البراءة الشرعية، فغاية ما يمكن ان يقال: إن الشك في تحقق المسبب
وعدمه ناش من اعتبار أمر زائد في السبب وعدمه وبما ان سببية السبب مجعولة شرعا،
فيرفع جزئية المشكوك للسبب فيرتفع الشك في ناحية المسبب، فيحكم بتحققه
لوجود الأقل وجدانا، ورفع الزيادة بحديث الرفع ويرفع الشك عن تحقق السبب
فيحكم بأنه موجود، وليست السببية عقلية حتى يكون من الأصل المثبت.
و (فيه) ان الشك في تحقق المسبب ليس ناشئا من دخالة الجزء المشكوك و
عدمها بل من كون الأقل تمام المؤثر وتمام السبب، ورفع جزئيته لا يثبت كونه
كذلك الا على القول بالأصل المثبت، والحاصل: ان المسبب يترتب حسب الجعل
على السبب الواقعي التام، وليس رفع الزيادة مثبتا لذلك بالأصل حتى يرتفع
الشك من المسبب وليس عدم الزيادة وحصول الأقل سببا بنحو التركيب، حتى يحرز
أحد الجزئين بالوجدان والاخر بالأصل ويترتب عليه المسبب ضرورة ان تمام السبب
(ح) هو الأقل، والزيادة لا تكون دخيلة في حصول المسبب وجودا وعدما، حتى
408

يؤخذ عدمها جزءا للسبب، نعم لو دل الدليل على أنه كلما تحقق الأقل ولم يتحقق
الزيادة وجد المسبب، كان للتوهم مجال لكنه خارج عن مبحث الأقل والأكثر
في الشبهة الموضوعية من الأقل والأكثر
الارتباطيين
فالأولى ان نذكر الصور المتصورة في المقام ثم نجول حول ما قيل أو يمكن
ان يقال مع بيان ما هو المختار.
ان تعلق الحكم على العناوين الواقعة تحت دائرة الحكم يتصور على وجوه.
أربعة.
الأول: ان يتعلق الحكم على الطبيعة بوجودها الساري والاستغراق الافرادي
ويسمى العام الأصولي، الثاني: ان يتعلق بها بوجودها المجموعي، ويسمى العام
المجموعي والفرق بينهما ان المحكوم بالحكم في الأول كل فرد منها، وفى الثاني
مجموع الافراد وفى الأول عصيانات وامتثالات، بخلاف الاخر فان فيه امتثالا واحدا و
عصيانا كذلك، الثالث: ان يتعلق الحكم بنفس الطبيعة أعني الماهية من حيث
هي هي، الرابع: ان يتعلق الحكم بها على نحو صرف الوجود أعني ناقض العلم عند
البعث إليها، أو ناقض الوجود عند الزجر عنها،
وهناك: قسم خامس نبه عليه بعض الأعاظم، وهو أن يكون متعلق الحكم
القضية المعدولة على وجه الناعتية بان يطلب من المكلف كونه لا شارب الخمر، ولكن
المذكور صرف تمور ولذلك ضربنا عنه صفحا.
ثم إن الحكم قد يتعلق بالموضوع الخارجي كقولك: أكرم العلماء فان
العلماء موضوع لمتعلق الحكم أعني الاكرام، وقد لا يكون كذلك كقوله صل والفرق
بينهما واضح فان المتعلق ما هو مصب الحكم ومتعلقه أعني الاكرام والصلاة والموضوع
متعلق ثم إنه قد يكون الشك في أصل التكليف وقد يكون في جزئه أو شرطه،
أو مانعه أو قاطعه، وهذه هي الأقسام المتصورة وبما ان الموضوع والمتعلق لا يفترقان
409

حسب النتيجة جعلناهما قسما واحدا وعلى أي حال قد يكون التكليف أمرا وقد يكون
نهيا واليك بيان حال الأقسام.
الأول: إذا تعلق الحكم الوجوبي النفسي على الموضوع على نحو العام
الاستغراقي، فالحق فيه البراءة فان مصب الحكم حسب الدليل وإن كان عنوان
الكل وأشباهه الا انه عنوان مشير إلى الافراد وقد جعله المولى وسيلة لبعث المكلف
إلى اكرام كل واحد واحد من الافراد، ولم يتعلق الحكم بعنوان واحد حتى نشك
في انطباقه على الماتى به فان لفظة كل في قوله أكرم كل عالم أوصل مع كل سورة لم يكن له
موضوعية بل واسطة لايصال الحكم إلى الموضوعات الواقعية وهى افراد الطبيعة، وان شئت
قلت: ان هنا احكاما وموضوعات واطاعات وعصيانات، فمن علم كونه من مصاديق
الموضوع فقد علم تعلق الحكم به، وما شك كونه عالما أولا فقد شك في تعلق الحكم عليه
فيقع مصب العقاب بلا بيان، أو البراءة الشرعية
وما يقال إن وظيفة المولى بيان الكبريات، لا الصغريات، فما يرجع إليه انما
هو بيان الحكم الكلى والمفروض انه بينه واما ان هذا فرد أولا فخارج عن وظيفته
فلابد من الاحتياط خروجا عن مخالفته في الافراد الواقعية التي تم بيانه بالنسبة
إليها وان شئت قلت: لابد للمكلف من الخروج عن عهدة تلك الكبرى المعلومة
يقينا وهو لا يحصل الا بالاحتياط - فغير تام، فان الكبرى الكلية ليست بيانا
للفرد المشكوك بالضرورة وتعلقها على الافراد الواقعية، غير كونها بيانا للفرد
المشكوك فيه وما ذكره من أن وظيفة المولى انما هو بيان الكبريات لا المصاديق
وإن كان صحيحا، الا ان العقاب لا يصح الا مع تمام الحجة على العبد، والكبرى
لا يصير حجة على الصغرى بل لابد من عثوره عليه بطريق عقلائي أو علمي وان شئت
قلت إن ما هو موضوع حكمه هو قبح العقاب بلا حجة، وهى مؤلفة من صغرى و
كبرى، فلابد من قيام الحجة على الصغرى والكبرى وان قامت الحجة عليها، الا
ان الصغرى مشكوكة لم تقم الحجة عليها، وتوهم قياس المقام بصورة العلم
410

الاجمالي فان الكبرى فيه حجة على الصغرى المشكوكة، قياس باطل. فان العلم
الاجمالي قد تعلق بالصغرى ولكنه مرددة بين أمرين أو أمور فالحجة بالنسبة إلى
الصغرى تامة، وعروض الاجمال لا تأثير له في تمامية الحجة، بخلاف المقام فان
الصغرى غير معلومة لا تفصيلا ولا اجمالا وان شئت قلت: ان الشك في المقام شك في
التكليف بخلافه في العلم الاجمالي ولا أظن أنه يحتاج إلى بيان أزيد من هذا.
الثاني: تلك الصورة مع كون العام مأخوذا على نحو العام المجموعي بان
أوجب اكرام مجموع العلماء، بحيث يتعلق الحكم على ذلك العنوان لا على ذات
الافراد ولو بتوسيط كل، فلا محيص عن الاشتغال لان ترك اكرام من يشك كونه
عالما والاكتفاء على اكرام من علم كونه عالما يوجب الشك في تحقق هذا العنوان
الذي تعلق به الامر وقامت عليه الحجة نظير الشك في المحصل وإن كان بينهما
فرق من جهة أخرى، وان شئت قلت: ان وصف الاجتماع مأخوذ في موضوع
الحكم فيكون ما هو الموضوع أمرا وحدانيا في الاعتبار وهو المجموع من حيث
المجموع، ومع الشك في الموضوع يكون الشك في انطباق المأمور به على المأتي
به، ومما ذكرنا يظهر ان ما مثله الشيخ الأعظم (رحمه الله) للمقام وحكم فيه بالاحتياط
فيما إذا أمر بالصوم بين الهلالين في غاية الصحة بناء على هذا الفرض، فان ترك
صوم يوم الشك من رمضان، يوجب الشك في تحقق هذا العنوان ومعه لا مناص
من الاشتغال.
واما ما افاده بعض أعاظم العصر (رحمه الله) من الرجوع إلى البراءة عند
تعلق الحكم بالعام المجموعي ففي غاية الضعف وحاصل ما افاده: ان مرجع الشك في
عالمية بعض إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي، فإنه لم يتعلق التكليف الاستقلالي
باكرام ما يشك في كونه من افراد العلماء على تقدير أن يكون من افراد العلماء
واقعا لأنه ليس هناك الا تكليف واحد تعلق باكرام مجموع العلماء من حيث المجموع
فيكون اكرام فرد من العلماء بمنزلة الجزء لاكرام سائر العلماء كجزئية السورة
للصلاة فيرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي غايته ان التكليف بالسورة
411

ليس له تعلق بالموضوع الخارجي فلا يمكن ان يتحقق الشبهة الموضوعية فيها بل
لابد وأن تكون حكمية بخلاف المقام، انتهى (وجه ضعفه) مضافا إلى امكان تصوير
الشبهة الموضوعية في جزئية السورة، كالشك في جزئية بعض السور التي يدعيه الحشوية من
العامة وبعض الامامية انها من القرآن (وإن كان واضح الفساد) الا ان تصويرها ممكن في
حد نفسه، هو وضوح الفرق بين المقامين فان الامر في الأقل والأكثر الارتباطيين
تعلق بالاجزاء في لحاظ الوحدة، وليست الصلاة عنوانا متحصلا منها بحيث يشك في
تحققها مع ترك الجزء أو الشرط، فالشك في جزئية السورة شك في انبساط الامر أو في
داعويته المتعلق بالمركب على ما مر توضيحه، واما المقام فالامر تعلق بعنوان خاص
أعني المجموع بما هو هو، وقد قامت الحجة بما هو هو ومرجع الشك إلى انطباق
المأتى به للمأمور به وبالجملة الشك في المقام شك في تحقق عنوان المأمور به
بخلاف الشك في تقيد الصلاة بشئ أو جزئية شئ لها
الثالث تلك الصورة ولكن تعلق الامر بنفس الطبيعة أو على نحو صرف الوجود
فالاشتغال أوضح، فلا يمكن الاكتفاء بالفرد لمشكوك كونه من افرادها في مقام
ايجادها أو ناقض عدمها فمرجع الشك إلى تحقق المأمور به الطبيعة أو صرف الوجود
بالفرد المشكوك فيه هذا كله في الحكم الوجوبي النفسي باقسامه الأربعة
واما الحكم التحريمي النفسي فلما لم يكن بعثا بل زجرا فلا فرق في جريان
البراءة بين صورها الأربعة، اما الاستغراق منه فواضح لكون مرجع الشك إلى تعلق
الحكم المنحل به ونظيره في الوضوح إذا تعلق بنفس الطبيعة أو بصرف الوجود فان مآل
الشك في الجميع إلى تحقق الفرد المبغوض، فالعقاب عليه عقاب بلا حجة وكذا
إذا تعلق على نحو العام المجموعي فلو قال: لا تكرم مجموع الفساق فله اكرام
من علم فسقه، مع ترك اكرام المشكوك فسقه، للشك في تحقق المبغوض بذلك هذا كله
في الحكم النفسي وجوبا أو تحريما واليك بيان الأوامر والنواهي الغيرية في ضمن
أمر آخر
412

الرابع في حال الغيريات منها اما الشرطية والجزئية فالاستغراقي منها
مورد للبرائة والمجموعي مورد للاشتغال لان مرجع الشك في الأول إلى تعلق الامر
الغيري الانحلالي به أولا كالشك في جزئية الصورة التي تخيلها الحشوية من العامة
وبعض الخاصة كونها جزء من القرآن فلو كان قرائة سور القرآن مأخوذا على نحو
الجزئية فلا يجب قرائة المشكوك ويجوز الاكتفاء بالمعلوم منها كما أن
الشك في الثاني إلى تحقق المأمور به - عنوان المجموع - بترك
السورة المشكوكة فيها فلابد من الاتيان بها، والذي يسهل الخطب كون القسمين من
التصورات المحضة، واما إذا كانت الشرطية أو الجزئية على نحو تعلق الحكم بالطبيعة
أو على نحو صرف الوجود، فالاشتغال محكم فلا يجوز الاكتفاء بسورة مع الشك
في كونها من القرآن.
واما المانعية والقاطعية، فملخص القول في الأول: ان المانعية إن كانت
مرجعها إلى مضادية وجود المانع للمأمور به كما هو كذلك في التكوين، فالظاهر
جريان البراءة مطلقا سواء كانت على نحو العام الاستغراقي، لكون مرجع الشك
إلى تعلق الحكم الغيري به مستقلا على نحو الانحلال المعقول أم على نحو العام
المجموعي، للشك في تحقق هذا العنوان مع ترك المشكوك وارتكاب عامة ما علم
كونه مانعا كما هو الحال في النواهي النفسية، أم على نحو القضية الطبيعية أم على
صرف الوجود، للشك في تحقق المانع بارتكاب الفرد المشكوك (هذا) مع أن
للتأمل في بعضها مجالا
وإن كان مرجع المانعية إلى شرطية عدمه على ما هو خلاف الاعتبار والتحقيق
(فيصير حالها حال الشرط في الانحلال وعدمه) ففي العام الاستغراقي يرجع إلى البراءة
للشك في شرطية عدم هذا اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل شرطا في الصلاة واما
الثلاثة الباقية، فالاشتغال هو المحكم، في العام المجموعي فلان ما هو الشرط مجموع
الاعدام، فلابد من احراز ذلك الشرط بترك المشكوك منه واما إذا كانت بنحو القضية
الطبيعية أو صرف الوجود ففي الرجوع إلى البراءة لان ما هو الشرط هو طبيعة العدم
413

أو ناقضه، وهو يحصل بترك اللباس المعلوم كونها ممالا يؤكل لحمه، أو إلى الاشتغال
تردد وإن كان الأول أوضح.
واما القاطعية فلو قلنا بان اعتبارها باعتبار مضادة الشيئ مع الهيئة الاتصالية
المأخوذة في المركب ومع الشك في عروض القاطع تجرى فيه ما قلنا في المانع بالمعنى
الأول أعني مضادية وجوده للمأمور به ولكنه لا تخلو عن اشكال لو قلنا بان الهيئة
الاتصالية مأخوذة في المأمور به على وجه العنوان وسيأتى تتميم ذلك في استصحاب
الهيئة الاتصالية عن قريب انشاء الله هذا تمام الكلام في الأقل والأكثر
وقد فرغنا عن تسويد هذه الأوراق عام خمس وسبعين بعد ثلاثمأة والف 1375
وقد فرغنا عن تبييض تلك المواضع في قرية " ماهان " من مصائف كرمان صانها الله
عن الحدثان في الرابع عشر من شهر رمضان المبارك من شهور سنة 1379 من الهجرة
النبوية على صاحبها آلاف التحية. حرره أبا نأمله الداثرة مؤلفة الحاج الميرزا جعفر
السبحاني ابن الفقيه الحاج ميرزا محمد حسين التبريزي عاملهما الله بلطفه الخفى
414