الكتاب: منتقى الأصول
المؤلف: تقرير بحث الروحاني ، للحكيم
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٦
المطبعة: الهادي
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني

منتقى الأصول
تقريرا لأبحاث آية الله العظمى
السيد محمد الحسيني الروحاني
الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
الجزء الثاني
1

اسم الكتاب منتقى الأصول ج 2
المؤلف: الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم
المطبعة: الهادي
الطبعة: الثانية 1416 ه‍
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 7000 ريال
حقوق الطبعة محفوظة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

الاجزاء
4

مبحث الاجزاء
وهو من المباحث الجليلة القدر علما وعملا.
وموضوعه كما حرره في الكفاية ان الاتيان بالمأمور به على وجهه هل
يقتضي الاجزاء أو لا (1)؟. وعمدة البحث فيه هو الكلام عن إجزاء المأمور به بالأمر
الواقعي الثانوي - الاضطراري - عن الامر الواقعي الأولي، وإجزاء المأمور به
بالأمر الظاهري عن الامر الواقعي.
ولكن صاحب الكفاية تعرض في بدء بحثه إلى الكلام عن بعض الجهات
غير الدخيلة في أساس البحث المذكور والتي لا تغني ولا تسمن من جوع، ناهجا
في ذلك ما يعتاده القدماء من محاولة بيان المراد من موضوع الكلام بشرح
ألفاظه (2).
فمن هنا تعرض صاحب الكفاية إلى بيان المراد من كلمة: " وجهه ". والمراد
من كلمة: " يقتضي ". وكلمة: " الاجزاء ". ونحن نقتصر في المقام على توضيح ما جاء

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 81 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) ذكر سيدنا الأستاذ (دام ظله): ان بعض الاعلام أسهب في شرح ألفاظ قاعدة: " الجمع مهما أمكن
أولى " بحيث يقرب عشرين صفحة بذكر احتمالات معاني الألفاظ ودفعها ونحو ذلك. (منه عفى عنه).
5

في الكفاية - تبعا - فنقول:
اما: " وجهه ". قد ذكر: ان المراد منه هو الكيفية المعتبرة في المأمور به
شرعا وعقلا، وليس المراد منه الكيفية المعتبرة شرعا، ولا المراد منه قصد الوجه
الذي قيل باعتباره في العبادة.
اما عدم إرادة الكيفية المعتبرة شرعا فلوجهين:
الأول: انه يلزم أن يكون قيدا توضيحيا، لان الكيفية المعتبرة شرعا يدل
عليها عنوان المأمور به، فلا يكون: " على وجهه " قيدا احترازيا بل توضيحا
لعنوان: " المأمور به ".
الثاني: انه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع لدى من لا يرى
امكان أخذ قصد القربة ونحوه شرعا، إذ لا اشكال لديه في أن الاتيان بالمور
به العبادي على الكيفية المعتبرة شرعا. يعني بدون قصد القربة - لا يقتضي
الاجزاء ولا نزاع في ذلك فيختص النزاع في التوصليات.
واما عدم إرادة قصد الوجه فلوجهين أيضا:
الأول: عدم اعتباره إلا من القليل، فلا معنى لإرادته في عنوان يشترك
في تحريره الجميع.
الثاني: خروج الواجبات التوصلية عن حريم النزاع، لعدم اعتبار قصد
الوجه - عند من يعتبره - في غير العباديات.
هذا مضافا إلى عدم الوجه في تخصيصه بالذكر دون سائر القيود المعتبرة
لا ميزة له على غيره.
واما: " الاقتضاء "، فقد ذكر: ان المراد منه هو العلية والتأثير لا الكشف
والدلالة، ولا يخفى ان الاقتضاء مطلقا بمعنى العلية والتأثير، إلا أنه تارة: يكون
التأثير في الوجود الواقعي للشئ فيصطلح عليه بالعلية. وأخرى: يكون في
الشئ بوجوده العلمي فيصطلح عليه بالكشف والدلالة. والا فهو في مقام
6

الكشف بمعنى التأثير حقيقة لكنه تأثير في الوجود العلمي لا الواقعي.
وعلى كل المراد منه ههنا هو العلية والتأثير لا الكشف والدلالة، وأيد ما
ذكره بأنه قد نسب في موضوع النزاع إلى الاتيان لا الامر، فإنها تتناسب مع
إرادة العلية منه، إذ الكشف من شؤون الألفاظ والأدلة لا من شؤون الأفعال
فإنها موثرة واقعا.
وقد يورد عليه بوجهين:
أحدهما: بأنه لم يرد الاقتضاء في كلام القوم منسوبا إلى الاتيان، بل ورد
منسوبا إلى الامر - وهو يتناسب مع إرادة الكشف والدلالة منه -. وعليه
فالاستشهاد على ما ادعاه من إرادة العلية منه بنسبة الاقتضاء إلى الاتيان في
غير محله، لان النسبة المذكورة لم يذكرها غيره ولا معنى لاستشهاده على إرادة
شئ من كلام القوم أو من كلامه بما جاء في كلامه بخصوصه كما هو واضح.
وأجيب عن هذا الوجه: بأنه (قدس سره) ليس في مقام بيان كون المراد
من الاقتضاء في كلام القوم هو العلية، بل في مقام بيان ان الأنسب في تحرير
البحث هو جعل الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير لا بمعنى الكشف والدلالة (1).
نعم يبقى سؤال وهو: انه إذا كان الملحوظ في كلامه هذه الجهة، فما هو
معنى التعليل بنسبة الاقتضاء إلى الاتيان مع أنه وارد في كلامه بالخصوص؟.
ويمكن الجواب عنه: بأنه يمكن أن يكون نظر صاحب الكفاية إلى
تصحيح نسبة الاقتضاء إلى الاتيان بهذه الجهة، فيكون المعنى انه من أجل ان
البحث ينبغي أن يكون عن الاقتضاء بمعنى العلية نسبنا الاقتضاء إلى الاتيان
لملائمته معه. وليس نظره - كما قد يظهر بدوا - إلى تعليل كون البحث عن
الاقتضاء بمعنى العلية بنسبة الاقتضاء إلى الاتيان كي يرد عليه ما ذكر.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 146 - الطبعة الأولى.
7

وبالجملة: النظر إلى تعليل نسبة الاقتضاء إلى الاتيان بإرادة العلية من
الاقتضاء، لا إلى تعليل إرادة العلية من الاقتضاء بنسبته إلى الاتيان. فتدبر.
الثاني: وهو الذي أشار إليه تحت عنوان: " ان قلت ". وتوضيحه: ان
الكلام لا ينحصر في اقتضاء الاتيان بالمأمور به للاجزاء، بل يقع النزاع في بعض
الصور في دلالة الدليل على الاجزاء، فلا معنى لفرض النزاع مطلقا في الاقتضاء
بمعنى العلية. بيان ذلك: ان موضوع الكلام تارة: يكون إجزاء المأمور به عن
امره كاجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الأولي عن امره، وإجزاء المأمور به بالأمر
الاضطراري عن أمره، واجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن امره. وأخرى:
يكون في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الامر الواقعي.
فالكلام في الأول - لو فرض - يكون في الاقتضاء بمعنى العلية، إذ لا
تلحظ دلالة الدليل في هذا المقام.
واما في الثاني: فالنزاع في الحقيقة في دلالة الدليل على إجزاء المأمور به
بالأمر الاضطراري أو الظاهري - كل بحسب دليله - عن الامر الواقعي،
فالمناسب في هذا النحو إرادة الكشف والدلالة من الاقتضاء.
وأجاب عنه (قدس سره): بان وقوع النزاع في هذا النحو في دلالة
الدليل مسلم لا ينكر، لكنه لا يتنافى مع كون النزاع الأساسي في أن نفس
الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يؤثر في الاجزاء، بلحاظ
وفائه بالملاك وعدم وفائه، وينضم إليه النزاع المزبور - أعني النزاع فيما هو
مقتضى الدليل -، وهو منشأ الخلاف في النزاع الأول، بمعنى ان النزاع في
الاجزاء الاتيان وعدمه للخلاف في دلالة الدليل على الوفاء بالملاك وعدمه أو
مقدار الوفاء. فيكون هناك نزاعان كبروي وصغروي، كما أنه في النحو الأول
يكون نزاع واحد كبروي لو فرض نزاع، إذ لا كلام في إجزاء المأمور به عن
نفس امره لوفائه بملاك أمره وتحصيله غرضه.
8

وقد استشكل في الجواب: بان فرض وقوع النزاع في الصغرى - أعني
في دلالة الدليل - لا يتناسب مع المسألة الأصولية، إذ من شرائط المسألة
الأصولية كما تقدم ان تكون نتيجتها كلية جارية في جميع الموارد، ولذا قيل
بخروج قاعدة الطهارة عن الأصول لاختصاصها بباب الطهارة، مع كون
مفادها مفاد قاعدة الحل والبراءة. ولا يخفى ان الكلام في دلالة كل دليل كدليل:
" التراب أحد الطهورين " (1) ونحوه لا ينتهي بنا إلى نتيجة عامة، بل نتيجتها
خاصة بمورد الدليل كالطهارة أو الصلاة أو غيرهما.
هذا مضافا إلى أنه إذا كان منشأ الخلاف الكبروي هو النزاع في دلالة
الدليل، فالمناسب هو تحرير النزاع في دلالة الدليل وتشخيص مفاده لتحسم به
مادة النزاع الكبروي وينتهى منه إلى النتيجة الكبروية، لان الأولى هو تحرير
الكلام فيما هو سر الخلاف وتنقيحه فيه كما لا يخفى.
مع أن فرض تحقق النزاع الكبروي مشكل، كالاشكال في فرضه بالنسبة
إلى إجزاء المأمور به عن أمره، إذ إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو
الظاهري عن الامر الواقعي وعدمه يبتني على أمور توجب التسليم به لو ثبتت،
وهي الوفاء بالملاك، أو عدم وفائه، أو عدم امكان تدارك المصلحة الفائتة كما
سيجئ انشاء الله تعالى، وعليه فالنزاع في الحقيقة ليس في أصل الكبرى وانما
في ما تثبت به وهي مقدار الوفاء بالملاك وتحديده، وهذا يستكشف من دليل الحكم
الاضطراري أو الظاهري.
وبالجملة: لا نزاع في أصل الكبرى بما هي هي، بل بما تبتني عليه الكبرى
فيرجع النزاع صغرويا فينبغي أن يكون في دلالة الدليل ومقتضاه (2).

(1) عن أبي جعفر عليه السلام: " فان التيمم أحد الطهورين ".
وسايل الشيعة 2 / 991 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 146 - الطبعة الأولى.
9

وقد يجاب: بان النزاع ليس في دلالة كل دليل في مورده الخاص كي
يدعى ان نتيجة ذلك النزاع خاصة بمورد الدليل ولا تتعداه إلى غيره، وانما
يفرض في أمر كلي ينطبق على جميع الأدلة، وهو ان الدليل - أي دليل كان - في
أي حال وعلى أي نحو يكون دالا على وفاء المأمور به بالملاك الواقعي فيكون
مجزيا. وعدم وفائه به فلا يكون مجزيا؟. فهل اطلاقه يقتضي وفاء المأمور به
بالملاك أولا؟. فالبحث إنما هو في الملازمة بين الاطلاق ووفاء المأمور به بالملاك.
ولا يخفى ان نتيجتها قاعدة كلية تنطبق على كل مورد من دون خصوصية لمورد
على آخر.
وعلى هذا فالبحث فيها يتلائم مع كون المسالة أصولية.
ولا يخفى ان هذا الجواب تصحيح لأصولية البحث في الاجزاء وكون
مسألته من المسائل الأصولية، ولا يصحح كلام الكفاية، فان الاقتضاء عليه وإن لم
يكن بمعنى الدلالة والكشف. ولكنه ليس بمعنى العلية والتأثير أيضا، بل
البحث أجنبي عن الاقتضاء، فإنه عن الملازمة بين الاطلاق والوفاء بالملاك.
وعلى كل فالأمر سهل.
واما: " الاجزاء " فقد أفاد: بان المراد به معناه اللغوي والعرفي، وهو
الكفاية، غاية الامر ان المكفي عنه يختلف، فتارة: يكون اسقاط القضاء.
وأخرى: يكون اسقاط الإعادة. ومع امكان حمله على المراد العرفي اللغوي لا
يتجه جعل معناه اصطلاحيا، بمعنى اسقاط القضاء أو اسقاط الإعادة.
وبعد ان فرغ من ذلك تعرض إلى جهة الفرق بين هذه المسالة وبين
مسالة دلالة الامر على المرة أو التكرار، إذ قد يتوهم عدم الفرق بينهما، حيث إنه
على القول بعدم الاجزاء لا بد من تكرار الفعل، كما أنه بناء على دلالته على
التكرار لا بد من تكرار العمل. ببيان: ان المبحوث عنه في تلك المسالة يختلف
عنه في هذه المسالة، فان المبحوث عنه في تلك هو تشخيص المأمور به وتعيينه،
10

وانه هل الوجودات المتعددة أو الوجود الواحد، والبحث في هذه عن أن الاتيان
بما هو المأمور به هل يجزي أو لا، فهو في طول تعيين المأمور به؟.
كما تعرض إلى بيان الفرق بين هذه المسالة وبين مسالة تبعية القضاء
للأداء التي يبحث فيها عن أن القضاء هل هو بامر جديد أو يثبت بنفس الامر
الأدائي؟، ولكن لم يظهر الوجه في تعرضه لذلك بعد عدم وجود القدر الجامع بين
المسألتين الموجب لتوهم كونهما راجعتين إلى بحث واحد، كيف؟ وموضوع تبعية
القضاء للأداء عدم الاتيان بالفعل المأمور به، وموضوع هذه المسالة هو الاتيان
بالمأمور به، وكان عليه قبل بيان الفرق الإشارة إلى ما به الاشتراك الموهم
للاتحاد، لا التعرض رأسا إلى بيان ما به الامتياز. فلاحظ. وعلى كل فالفرق
واضح بين جهة البحث في هذه المسالة وجهة البحث في مسالة التبعية.
وبعد ان أنهى الكلام في هذه المقدمات تطرق إلى البحث فيما هو موضوع
الكلام - أعني اجزاء الاتيان بالمأمور به وعدمه -. وأوقع الكلام في مقامين:
المقام الأول: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالنسبة إلى امره، كاجزاء
الاتيان المأمور به بالأمر الواقعي عن الامر الواقعي، أو المأمور به بالأمر
الظاهري بالنسبة إلى الامر الظاهري، والمأمور به بالأمر الاضطراري بالنسبة
إلى الامر الاضطراري.
وهو مما لا اشكال فيه، وذلك لان المأمور به المأتي به اما أن يكون وافيا
بالملاك الباعث نحو الامر. أو لا يكون وافيا به.
فالثاني خلف كونه مأمورا به، لان الامر لا يتعلق إلا بما هو واف بملاكه،
ولزم أن يكون غيره هو المأمور به لا هو لعدم وفائه بملاك الامر.
والأول يلزمه سقوط الامر لحصول الغرض، والامر تابع لحصول الغرض،
فإذا حصل سقط الامر والا لم يكن تحصيله غرضا للامر وغاية له.
وبالجملة: تحقق امتثال الامر باتيان المأمور به بذلك الامر لا كلام فيه
11

ولا خلاف.
انما الكلام في جواز تبديل الامتثال بالاتيان بفرد آخر للمأمور به يكون
هو امتثالا للامر وعدم جوازه.
ادعى صاحب الكفاية جوازه في بعض الموارد، وهي ما إذا لم يكن المأمور
به علة تامة لحصول الغرض.
بيان ذلك: ان المأمور به تارة: يكون علة تامة لحصول الغرض، كما لو
امر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لاجل رفع العطش، فأهرق العبد الماء في
فيه، فان المأمور به علة تامة لحصول الغرض وهو رفع العطش، ففي هذا الفرض
لا يجوز تبديل الامتثال عقلا لسقوط الامر بمجرد الاتيان بالفعل، فلا يبقى
مجال لامتثاله ثانيا. وأخرى: لا يكون علة تامة لحصول الغرض، بل تكون
نسبته إليه نسبة المقتضي أو المعد، كما لو كان حصول الغرض يتوقف على فعل
اختياري للمولى نفسه مثل ما لو أمره باحضار الماء لرفع العطش، فان مجرد
احضار الماء لا يحصل الغرض، بل يتوقف حصوله على انضمام شرب المولى للماء،
ففي هذا الفرض يجوز عقلا تبديل الامتثال والاتيان بفرد آخر أفضل منه - مثلا
- ليكون هو امتثالا عن الامر، لعدم حصول الغرض بالفعل الأول كما هو
الفرض.
وأيد هذه الدعوى، بل دلل عليها بما جاء في النصوص (1) من الامر
بالصلاة جماعة لمن كان قد صلى فرادى وان الله يختار أحبهما إليه (2).
وقد استشكل في هذه الدعوى: بأنه يستحيل أن لا يكون المأمور به علة

(1) الكافي: 3 / 379 - باب الرجل يصلي وحده من كتاب الصلاة.
تهذيب الأحكام: 3 / 269 - الحديث: 94.
الفقيه: 1 / 251 - الحديث: 41 إلى 43.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 83 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
12

تامة لحصول الغرض لتبعية الامر لتحصيل الغرض من المأمور به: فيستحيل ان
يتوسط بين الفعل وحصول الغرض مقدمة غير اختيارية للمكلف، بل المأمور به
لا ينفك عن الغرض من الامر، واما ما ذكر من مثال الامر باحضار الماء للشرب،
فالغرض من الامر ههنا ليس هو نفس الشرب، فإنه امر اختياري للمولى لا
يرتبط بالعبد، فلا معنى لانبعاث الامر عنه، بل الغرض منه هو التمكن من
الشرب وهو لا ينفك عن المأمور به كما لا يخفى.
وعليه، فالاتيان بالفعل مطلقا يكون موجبا لحصول الغرض لأنه علة
تامة له المستلزم لسقوط الامر المانع من جواز تبديل الامتثال (1).
والعجيب من صاحب الكفاية استدلاله على المدعى بالنصوص المزبورة،
مع أن الكلام في تبديل الامتثال ثبوتي يحرر لاجل معرفة المراد بهذه النصوص.
ولا يخفى ان الكلام يدور بين الجواز عقلا والمنع عقلا، فلا معنى
للاستدلال على الجواز بالروايات وبالدليل في مقام الاثبات، إذ لو ثبت المنع
عقلا يعلم بعدم إرادة ما هو ظاهر الدليل الاثباتي وان المراد به خلاف ظاهره،
فيصرف عن ظاهره، فلا يتوصل إلى إثبات الجواز بالدليل في مقام الاثبات. نعم
لو وصلت المرحلة إلى التشكيك في الجواز والامتناع أمكن التمسك بالدليل
الاثباتي في اثبات الجواز ويكون دليل الوقوع دليلا على الامكان، ولكن النوبة
لا تصل إلى ذلك بل الامر دائر بين النفي والاثبات.
فلا معنى للاستدلال بالدليل الاثباتي على عدم المنع.
وبالجملة: الكلام فيما نحن فيه انما هو في مرحلة الثبوت لمعرفة امتناع
تبديل الامتثال وجوازه تمهيدا وتوطئة لتشخيص المراد من هذه النصوص
ونظائرها. فلا يتجه الاستدلال بها على أحد الطرفين ثبوتا كما هو ظاهر جدا.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 148 - الطبعة الأولى.
13

وعلى أي حال فهذا نقاش باللفظي، فلا أثر لتطويل الكلام فيه،
وانما المهم تحقيق أصل الدعوى. فنقول: الكلام..
تارة: يقع في تحقيق جواز تبديل الامتثال وعدم جوازه بالمعنى اللفظي
لتبديل الامتثال، الراجع إلى البحث في جواز رفع عنوان الامتثال الصادق على
فعل وتطبيقه على فعل آخر وجعله هو الامتثال دون ذلك الفعل الأول.
وأخرى: لا يقع في مؤدى هذا اللفظ، بل يبحث في جواز الاتيان بفرد
آخر - بعد الاتيان بما يكون امتثالا لو اكتفى به - بنحو عبادي قربي يقصد به
تحصيل ما هو ملاك الامر الأقصى فيكون امتثالا واقعيا. ولا يتعين الأول لان
يكون امتثالا وان تعين على تقدير الاكتفاء به.
ولا يخفى ان البحث فيما لم يكن الفعل علة تامة لحصول الغرض كما لو
كان هناك غرض أقصى من الفعل يحصل باختيار المولى، إذ لو كان الفعل علة
تامة لحصول الغرض يسقط به الامر ويحصل به الغرض فلا مجال للتعبد بالفعل
ثانيا ولا تجري فيه وجوه الجواز الآتية كما سيتضح انشاء الله تعالى.
ويتضح الفرق جليا بين نحوي الكلام في ضمن البحث.
ولنوقع البحث على النحو الثاني. فنقول: انه قد يذكر لجواز الاتيان
بالفعل ثانيا بنحو عبادي وقابل لانطباق عنوان الامتثال الواقعي عليه وانصرافه
عن الآخر وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: الالتزام بان الواجب - فيما لو كان هناك غرض أقصى
يتوسط بينه وبين الفعل ما لا اختيار للمكلف فيه كفعل المولى - هو الحصة
المقارنة لترتب الغرض الأقصى عليها، فما لم يترتب عليها الغرض الأقصى لا
تكون واجبة ولا يشملها الوجوب، كما يقال في أن الوجوب المقدمي إنما يترشح
على المقدمة الموصلة دون غيرها، بمعنى ان الواجب من المقدمات هو المقدمة
التي يترتب عليها الواجب دون مالا يترتب عليه، وفي مقابله القول بان الواجب
14

مطلق المقدمة الموصلة وغيرها.
وبالجملة: إذا التزم بمبنى المقدمة الموصلة فيما نحن فيه وقيل إن الوجوب
المترشح عن تحصيل الغرض والناشئ عنه انما يثبت للفعل الموصل للغرض
بمعنى الحصة الملازمة لترتب الغرض فغيرها لا تتصف بالوجوب المقدمي
للغرض، أمكن الاتيان بفعل آخر بعد الاتيان بأول مع فرض عدم حصول
الغرض الأقصى بالأول فعلا، فيمكن الاتيان بفعل آخر برجاء تحصيل غرض
المولى به ليكون مصداقا للامتثال، فإذا حصل غرض المولى به كان هو الواجب
وما به الامتثال لأنه هو الموصل دون الأول.
وبعبارة أخرى: حيث إنه بعد لم يسقط الامر بالأول وعدم العلم بكونه
هو الامتثال، أمكن الاتيان بفرد برجاء الامر وتحصيل غرض المولى، فيكون
امتثالا وواجبا لو حصل به غرض المولى. فالاتيان بفرد آخر يمكن أن يكون
امتثالا وبرجاء الامر جائز بلا كلام على الالتزام بالمقدمة الموصلة.
الوجه الثاني: انه لو لم يلتزم بالمقدمة الموصلة وان الواجب ما يصلح
للايصال ومطلق ما هو مقدمة موصلا كان أولا، فيكون الفعل الأول امتثالا
جزميا ويسقط به الامر للامتثال به لكنه مع هذا يمكن الاتيان بفرد آخر بداعي
تحصيل ما هو محبوب للمولى والوصول إلى ما هو ملاك الامر. فإنه إذا كان
للمولى غرض أقصى مرغوب فيه - كالشرب في مثال الامر باحضار الماء - ولم
يتحقق بالفرد الأول وان سقط به الامر، أمكن ان يؤتى بفرد آخر برجاء تحصيل
ما هو محبوب المولى به وهو الشرب، فإذا جاء باناء ثان بهذا القصد كان الفعل
عباديا صحيحا - نظير الاحتياط -، فإذا تحقق الغرض الأقصى به كان موضوع
آثار الامتثال، بمعنى يكون حاويا لملاك الامتثال فيكون امتثالا واقعيا يترتب
عليه أثر الامتثال دون الأول.
الوجه الثالث: - وهو المنسوب إلى المرحوم المحقق الشيخ كاظم
15

الشيرازي (قدس سره) - وهو وجه عرفي محصله: انه إذا كان للمولى غرض
أقصى لا يحصل بمجرد الاتيان بالفعل، فالعرف يرى في مثل الحال ان المكلف
مخير بين ابقاء الفرد الأول وبين اتلافه والاتيان بفرد جديد آخر، فهناك وجوب
تخييري متعلق بابقاء الفرد الأول والاتيان بفرد آخر بنحو التخيير.
ولا يخفى انه من المقرر في مورد الوجوب التخييري جواز الاتيان بكلا
فردي الوجوب دفعة ويكون كل منهما امتثالا للامر.
وعليه، فيمكن للمكلف أن يأتي بفرد آخر جديد في عرض ابقاء الفرد
الأول الذي هو طرف التخيير، فيأتي - في مثال الامر بالماء - باناء ثان في حال
إبقاء الاناء الأول، فيكون كل من الابقاء والاتيان باناء ثان امتثالا للامر
التخييري، فالفرد الثاني يقع امتثالا للامر. وهذا امر عرفي واضح.
ومن الظاهر أن هذا الوجه إنما يتم في المورد الذي يكون الابقاء اختياريا
للمكلف كما في الاتيان بالاناء الذي فيه ماء، إذ يتمكن المكلف من إراقة الماء
فينعدم الفرد. واما المورد الذي لا يكون الابقاء اختياريا للمكلف، فلا يتم ذلك،
إذ لا يكون الابقاء حينئذ طرف الوجوب التخييري كما في مورد الامر بالصلاة،
فان ابقاء المكلف للصلاة التي جاء بها ليس اختياريا له، إذ لا يتمكن من رفعها
واعدامها بأي طريقة، فان الفعل قد وقع فلا يرتفع كما هو ظاهر جدا.
وعلى أي حال فهو وجه لا بأس به.
والمتحصل: ان هذا المعنى من تبديل الامتثال أمر معقول ولا محذور فيه.
وقد ذهب المحقق العراقي - كما في تقريرات بحثه - إلى عدم معقولية
تبديل الامتثال، ببيان: انه ان التزمنا بالمقدمة الموصلة صح الاتيان بفرد آخر
برجاء امتثال الامر به وتحصيل غرض المولى، وحينئذ إذا اختاره المولى في
تحصيل غرضه كان هو مصداق الامتثال دون الأول، فلا يكون من باب تبديل
الامتثال، لان الفرد الأول غير امتثال. وإن لم نلتزم بالمقدمة الموصلة كان الاتيان
16

بالفرد الأول مسقطا للامر لكونه امتثالا، فلا مجال للاتيان بفرد آخر ثانيا ليصير
امتثالا لعدم الامر (1).
وهو كما لا يخفى يبتني على إرادة تبديل الامتثال بالمعنى الأول، فيرجع
النقاش لفظيا، لا بالمعنى الذي عرفت معقوليته، وعليه يمكن حمل النصوص
الواردة في أمر من صلى فرادى بالصلاة جماعة. اما بناء على المقدمة الموصلة
فواضح، فإنه يستكشف من هذا الدليل ان للصلاة غرضا أقصى يمكن ان
يحصل بكلا الفردين، فما هو الأفضل لدى الله هو الذي يكون محصلا للغرض
باختياره، فيقع امتثالا دون الآخر. وهكذا بناء على الوجه الثاني، إذ للمولى ان
يختار في تحصيل غرضه ما هو الأفضل منهما فيكون في الحقيقة هو مصداق
الامتثال وإن لم يكن أمر بعد الاتيان بالفرد الأول. واما بناء على الوجه الثالث،
فالامر فيه كذلك، فإنه وان وقع كل من الفردين امتثالا للامر، لكن يمكن ان
يختار أحبهما في مقام استحقاق الثواب باعتبار تحصيل الغرض الأقصى به، ولا
يتعدد الثواب لوحدة الملاك والغرض الباعث للامر التخييري، إلا أنه يلزم
الاقتصار على مورده، أعني الصلاة جماعة أو مطلق الصلاة، إذ لا بد في جواز
تبديل الامتثال بالمعنى الذي عرفته من احراز وجود غرض أقصى للمولى، فمع
عدم الدليل عليه لا يتجه الاتيان بالفعل ثانيا لعدم وجود ملاك المقربية
والامتثال فيه. والدليل فيما نحن فيه مختص بالصلاة، فيستكشف منه وجود
غرض أقصى في الصلاة فقط اما بنحو العموم، أو في خصوص صلاة الجماعة.
ولا يخفى انه مع عدم الالتزام بجواز تبديل الامتثال بأي معنى كان
والالتزام بمنعه عقلا يشكل الامر في هذه النصوص من حيث مفادها. وتقريب
الاشكال: انه اما ان يلتزم بان الصلاة الأخرى متعلقة للامر - الوجوبي

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 263 - الطبعة الأولى.
17

أو الاستحبابي - أو لا يلتزم بذلك. فعلى الأول تكون امتثالا آخرا لامر آخر فلا
معنى لاختيار إحداهما، إذ كل منهما مأمور به وقد وقعت امتثالا لأمرها فيستحق
العبد ثوابين. وإن لم يلتزم بوجود امر آخر متعلق بها، فيشكل الاتيان بها مع عدم
الامر بها وسقوط الامر الأول وعدم جواز تبديل الامتثال.
والتخلص من هذا الاشكال: بان اختيار أحبهما إليه انما هو راجع إلى
مقام الثواب الذي هو تفضل منه سبحانه، أجنبي بالمرة عن مفاد الاشكال كما
لا يخفى بأدنى تأمل.
وقد التزم المحقق الأصفهاني بتعدد الامر، ووجه وحدة الثواب باختيار
أحبهما بوجهين:
الأول: ان الثواب حيث إنه من توابع القرب فإذا اجتمع مؤثران في
القرب وكان تأثير أحدهما أكثر من الآخر، كانا مشتركين في القدر المشترك
بمعنى انه لا يحسب لكل منهما القدر المشترك بينهما، بل القدر المشترك يجعل لهما
كليهما ويضاف إليه الزائد الذي يؤثر فيه أحدهما خاصة وهو معنى اختيار
أحبهما.
الثاني: ان اجتماع المثلين في شئ واحد ممتنع كاجتماع الضدين، فإذا كان
هناك مؤثران في القرب لم يؤثر كل منهما على حدة، لاستلزامه اجتماع فردين من
القرب وهو من اجتماع المثلين، بل المؤثر أحدهما فيمكن ان يختار الله في مقام
التأثير ما هو الأكثر تأثيرا (1).
ولا يخفى عليك ان كلا الوجهين مخدوشان:
اما الأول: فدعوى اتحاد المؤثرين في القدر المشترك دعوى بلا دليل،
فان العقل يحكم باستحقاق الثواب - بأي معنى كان الثواب بفعل ما يوجبه،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 148 - الطبعة الأولى.
18

فإذا تعدد الموجب تعدد الثواب بحكم العقل، ولا وجه لاتحاد التأثير بعد
كون كل منهما قابلا في نفسه وذاته للمؤثرية.
واما الثاني: فهو أجنبي بالمرة عن مقام اتحاد المثلين، فان مقامه
الوجودات الخارجية لا النفس، والقرب والبعد من صفات النفس. وقد تكرر
منه إمكان اجتماع المتضادين في النفس كالكراهة والإرادة.
وعلى كل، فما ذكره لم يتضح وجهه، فإنه لا يمتنع ان يأتي العبد في حين
واحد بفعلين مقر بين يكون كل منهما موجبا للقرب ومستلزما للثواب، والا لجرى
ما ذكره في جميع الواجبات والمستحبات ولا يلتزم به.
والمتحصل: انه مع تعدد الامر لم يظهر وجه اتحاد الثواب واختيار أحدهما
في مقام الثواب، فمع عدم الالتزام بامكان تبديل الامتثال بالمعنى الذي ذكرناه،
يبقى الاشكال في مفاد الرواية على حاله. فلا حظ.
المقام الثاني: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو
الظاهري عن الامر الواقعي
والكلام في موقعين:
الموقع الأول: في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الامر
الواقعي، كما لو كان مأمورا بالصلاة مع التيمم ثم ارتفع العذر، فهل يجب عليه
الاتيان بالصلاة مع الوضوء أو لا يجب، بل يكون الاتيان بالصلاة مع التيمم
مجزيا عنه؟.
ولا بد قبل الخوض في البحث من التعرض إلى جهتين:
الجهة الأولى: في بيان موضوع الكلام، وهو ما كان موضوع الامر
الاضطراري متحققا في الواقع بحيث يكون للامر الاضطراري ثبوت واقعي في
حين الاتيان بالعمل، وذلك كما إذا اخذ في موضوعه الاضطرار آنا ما، فتحقق
كذلك، أو كان موضوعه الاضطرار المستمر إلى نهاية الوقت فتحقق كذلك أيضا.
19

فإنه في كلا الفرضين يكون للامر الاضطراري ثبوت واقعي.
واما إذا لم يكن الامر الاضطراري ثابتا واقعا لعدم تحقق موضوعه واقعا.
وانما جئ بالعمل استنادا إلى احراز تحقق الموضوع وجدانا، أو بالاستصحاب
- لو سلم جريانه في مثل الفرض -، ثم انكشف الخلاف وعدم تحققه واقعا - كما
لو كان موضوع الامر هو الاضطرار تمام الوقت، فتخيل انه يستمر الاضطرار
معه إلى نهاية الوقت، أو قيل بصحة اجراء الاستصحاب في أمر استقبالي.
فاستصحب بقاء الاضطرار إلى نهاية الوقت، فجاء بالعمل الاضطراري ثم
انكشف الخلاف بارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت -.
فليس هذا الفرض موضوع الكلام، إذ لا مأمور بالأمر الاضطراري
لعدم وجود الامر الاضطراري، كي يقع الكلام في إجزائه، بل فرض
الاستصحاب يكون من باب الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري، والكلام في
إجزائه يقع في الموقع الثاني.
وجملة القول: ان موضوع الكلام انما هو الاتيان بما هو مأمور به بالأمر
الاضطراري واقعا، بحيث يكون الملاك وموضوع الامر الاضطراري ثابتا في
الواقع فيثبت الامر بتبعه.
الجهة الثانية: في تأسيس الأصل ومعرفة القاعدة الأولية في الكلام،
بمعنى انه لا بد من معرفة ان مقتضى القاعدة والأصل الأولي - لو لم يتكفل دليل
الامر الاضطراري الاجزاء - هل هو الاجزاء أو عدمه؟، بحيث يرجع اليد مع
قصور الدليل المتكفل للامر الاضطراري للاجزاء. ولا يخفى انه إذا كان
مقتضى الأصل الأولي هو الاجزاء، لم يكن البحث في تكفل دليل الامر
الاضطراري الاجزاء وعدمه بذي أهمية وأثر عملي مهم، إذ الاجزاء ثابت على
كلا التقديرين اما باعتبار دلالة الامر الاضطراري أو باعتبار الأصل
20

والقاعدة الأولية. فأثر البحث في مقتضى دليل الامر الاضطراري انما يظهر لو
كان مقتضى الأصل هو عدم الاجزاء كما لا يخفى.
والكلام في الأصل تارة: في الأصل اللفظي. وأخرى: في الأصل العملي.
والذي نحققه فعلا هو الأصل اللفظي، فنقول: ان مقتضى اطلاق دليل الامر
الواقعي الأولي لزوم الفعل مطلقا وفي جميع آنات الوقت سواء جاء بالمأمور به
الاضطراري أولا، خرج عنه زمان الاضطرار باعتبار عدم القدرة عليه فيتقيد
الحكم عقلا لاشتراط القدرة على متعلقه في تحققه، فإذا ارتفع الاضطرار وعدم
القدرة في أثناء الوقت كان اطلاق دليله محكما لعدم المانع، وشموله لما إذا جاء
بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو لم يجئ.
وبالجملة: مقتضى الاطلاق لزوم إعادة الفعل وعدم الاجزاء. هذا بالنسبة
إلى لزوم الإعادة.
اما بالنسبة إلى لزوم القضاء، فان قلنا بان القضاء تابع للأداء، وأن دليل
الأداء هو الذي يتكفل ايجاب القضاء، كان الأمر فيه كالاعادة، فان اطلاق
دليل الأمر الواقعي يتكفل لزوم الفعل سواء جئ بالمأمور به الاضطراري أو
لم يجئ، وهو يقتضي لزوم الفعل مطلقا إلى آخر العمر، فيجب القضاء بمقتضى
اطلاق الدليل. وان قلنا بأنه بامر جديد لم يكن هناك اطلاق يتكفل وجوبه كما
لا يخفى، لارتفاع الامر الأولي بخروج الوقت والشك في شمول دليل القضاء
للمورد، فالمرجع هو الأصل العملي.
والامر الغريب ان صاحب الكفاية بعد أن يتكلم في تحقيق المطلب ثبوتا
بنحو مفصل ثم يتعرض لمقام الاثبات، وان اطلاق دليل الامر الاضطراري
يقتضي الاجزاء، يذكر أمرا يقتضي عدم وجود ثمرة للبحث، وهو: انه مع عدم
اطلاق دليل الامر الاضطراري، فمقتضى الأصل العملي - الذي هو المرجع
21

حينئذ - هو عدم وجوب الإعادة. لأنه شك في التكليف (1).
ولا يخفى ان هذا يقتضي الاجزاء سواء من جهة الدليل المتكفل للامر
الاضطراري أو من جهة الأصل، فلا ثمرة في البحث عن دلالة الدليل ومقتضاه
كما لا يخفى.
إلا أن يكون مراده (قدس سره) من قوله: " فالمتبع هو اطلاق " اطلاق
دليل الامر الواقعي أو الاضطراري لا خصوص اطلاق دليل الامر
الاضطراري. وقد عرفت أن مقتضى اطلاق دليل الامر الواقعي هو عدم
الاجزاء فتظهر الثمرة العملية في البحث.
ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من يلاحظه.
وبعد هاتين المقدمتين يقع الكلام في أصل البحث، وهو إجزاء الاتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري.
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان انحاء ما يمكن ان يقع عليه المأمور
به الاضطراري ثبوتا وأنها أربعة: لأنه اما أن يكون وافيا بملاك الامر الواقعي
بتمامه، أو لا يكون وافيا بتمامه. والثاني اما أن يكون المقدار الباقي من المصلحة
والملاك مما لا يمكن تداركه، أو يكون مما يمكن تداركه، والثاني اما أن يكون
ذلك المقدار مصلحة ملزمة، أو لا يكون كذلك. فالصور أربعة:
الأولى: أن يكون وافيا بتمام ملاك الامر الواقعي.
الثانية: أن يكون وافيا ببعض الملاك ويكون المقدار الباقي مما لا يمكن
تداركه.
الثالثة: أن يكون وافيا ببعض الملاك وأمكن تدارك الباقي وكان ملزما.
الرابعة: أن لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزما، بل بنحو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 85 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
22

يوجب الاستحباب.
والكلام في كل صورة يقع من جهات ثلاثة:
الأولى: في اقتضائه الاجزاء.
الثانية: في جواز البدار بمعنى الاتيان به في أول الوقت.
الثالثة: في جواز تعجيز النفس وايجاد الاضطرار اختياريا.
اما الصورة الأولى: فهي تقتضي الاجزاء بلا كلام، لحصول تمام ملاك
الامر الواقعي بالمأمور به الاضطراري، فلا مجال لوجود الامر الواقعي حينئذ.
واما جواز البدار، فهو يتوقف على احراز وفاء المأمور به الاضطراري
بملاك الامر الواقعي بمجرد الاضطرار، إذ لا اشكال في جوازه لعدم فوات
مصلحة الواقع به.
واما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيدا باليأس عن
ارتفاع الاضطرار أو بالانتظار إلى آخر الوقت، فلا يجوز البدار بدون الياس
لعدم وفاء المأتي به بملاك الامر الواقعي ولا يتحقق الاجزاء.
واما الاضطرار اختيارا فقد يدعى جوازه، إذ لا قبح فيه بعد عدم فوات
مصلحة الواقع به.
ولكنه يتوقف على احراز ان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك بمطلق
الاضطرار سواء حصل اختيارا، أو قهرا وبدون اختيار.
ومع عدم احراز ذلك، واحراز أو احتمال كون وفائه بالملاك يختص بصورة
ما إذا كان حصول الاضطرار قهريا وبدون اختيار فلا يجوز التعجيز وايجاد
الاضطرار اختيارا، إذ فيه تفويت لمصلحة الواقع الملزمة أو احتمال تفويتها مع
حكم العقل بتحصيلها الموجب للعلم باشتغال الذمة بتحصيلها، فلا يكفي
الاتيان بالمأمور به الاضطراري لعدم احراز فراغ الذمة.
واما الصورة الثانية: فلا إشكال في تحقيق الاجزاء فيها، لعدم وجود الامر
23

الواقعي بعد أن كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك، إذ لا ينشأ عنها أمر
بالفعل لعدم امكان تحصيلها.
واما البدار. فلا بد من ملاحظة ان المصلحة الفائتة التي لا يمكن تداركها
هل هي بنحو ملزم بعد ملاحظة ما في البدار من ادراك مصلحة أول الوقت
ووقوع الكسر والانكسار؟ أو لا، فان كانت بنحو ملزم أشكل جوازه، لان فيه
تفويتا لمصلحة لازمة الحصول. وإن لم تكن بنحو ملزم جاز البدار بلا اشكال ولم
يتعرض صاحب الكفاية إلى التفصيل المزبور.
واما تعجيز النفس والاضطرار اختيارا - بعد فرض وفاء الفعل بمقدار
من المصلحة في هذا الحال أيضا بلحاظ ان مطلق الاضطرار كاف في تحصيل
الفعل لبعض الملاك - فهو مشكل الجواز لو كانت المصلحة الفائتة بنحو ملزم
دون ما لم تكن كذلك كما هو واضح.
واما الصورة الثالثة: فالحق عدم الاجزاء، لوجود المصلحة الملزمة التي
يمكن تداركها فتكون منشئا للامر.
واما البدار، فلا مانع منه، إذ ليس فيه تفويت لمصلحة الواقع بعد فرض
لزوم الاتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر كما أنه يجوز له تأخير العمل إلى ما بعد
العذر فيأتي بعمل واحد لا غير. فيكون المكلف مخيرا بين الاتيان بالعمل
الاضطراري هذا الاضطرار والاختياري بعد ارتفاع الاضطرار وبين الاتيان
بالعمل الاختياري فقط عند ارتفاع الاضطراري.
واما الاضطرار اختيارا، فهو مما لا مانع منه بعد عدم استلزامه للتفويت
لعدم الاجزاء، لكنه ليس عملا عقلائيا - عادة - لفرض عدم الاجزاء ولزوم
الاتيان بالعمل الاختياري لا محالة.
واما الصورة الرابعة: فالحق فيها الاجزاء لعدم كون المصلحة الفائتة
بنحو تكون منشئا للامر الالزامي. نعم تكون منشأ للامر الاستحبابي، كما أنه لا
24

اشكال في جواز البدار والاضطرار اختيارا لان ما يفوت من المصلحة بسببهما
غير لازم التحصيل، فلا مانع من تفويته عقلا. هذا توضيح ما ذكره صاحب
الكفاية في مرحلة الثبوت - وان كان (قدس سره) لم يتعرض للاضطرار اختيارا -
ثم ذكر (قدس سره) مرحلة الاثبات وأفاد ان مقتضى اطلاق دليل الامر
بالتيمم هو الاجزاء (1).
وقد لا يتضح بدوا الارتباط بين ما ذكره في مقام الثبوت من التفصيل
وبين ما إنتهى إليه بحسب الدليل الاثباتي، بحيث يرى ان ما ذكره في مقام
الثبوت تطويل بلا طائل، بعد أن كان اطلاق الدليل يقتضي الاجزاء، فلا بد من
بيان جهة الارتباط بنحو يخرج كلامه الثبوتي عن اللغوية والتطويل. ثم بيان
تقريب دلالة الاطلاق على الاجزاء.
وقبل ذلك لا بد من التنبيه على شئ وهو ان البحث عن الاجزاء بالنسبة
إلى الإعادة موضوعه ما إذا كان موضوع الامر الاضطراري حصول الاضطرار
في بعض الوقت لا جميعه بحيث يكون ارتفاع العذر في الأثناء غير مناف لوجود
الامر الاضطراري في حين العذر، لأنه لو كان موضوع الامر الاضطراري هو
الاضطرار في تمام وقت - كما عليه المحقق النائيني والأغلب -، فلا مجال للبحث
عن الاجزاء من حيث الإعادة، لان ارتفاع العذر في أثناء الوقت يكشف عن
عدم وجود امر اضطراري واقعا وبالمرة كي يتكلم في اجزاء اتيان المأمور به
بامره، بل البحث عن الاجزاء على هذا البناء ينحصر في البحث عنه من حيث
اسقاط القضاء لا غير، وموضوع البحث فعلا هو الاجزاء من حيث الإعادة أو
القضاء، فالمفروض على هذا كون الاضطرار في بعض الوقت موضوعا واقعا
للحكم الاضطراري لا الاضطرار في تمامه فلا تغفل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 85 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
25

وبعد هذا نقول: انه حيث أفاد في مرحلة الثبوت ان جميع الصور الثبوتية
تقتضي الاجزاء ما عدا الصورة الثالثة وبين ان مقتضاها ثبوت الامر التخييري
بالفعل الاضطراري حال الاضطرار والاختياري بعد ارتفاعه أو خصوص الفعل
الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار، لما كان الحال كذلك كان مقتضي الاطلاق هو
نفي كون الامر الاضطراري على الصورة الثالثة، فمقتضاه الاجزاء حينئذ، إذ
ما عدا هذه الصورة من الصور يقتضي الاجزاء، فجهة الارتباط بين مرحلة
الثبوت ومرحلة الاثبات واضحة، فان المقصود بدلالة الدليل على الاجزاء هو
نفيه الصورة الثالثة.
واما وجه اقتضاء اطلاق الدليل نفي هذه الصورة الملازم لدلالته على
الاجزاء، فهو ان الصورة الثالثة - كما عرفت - تقتضي التخيير في الواجب بين
الفعل الاضطراري عند الاضطرار والاختياري بعده وبين خصوص الفعل
الاختياري بعد ارتفاع العذر، فيكون الواجب الاضطراري في هذه الصورة
مشتملا على خصوصيتين خصوصية التقييد بالفعل الآخر الاختياري التي هي
مفاد " الواو ". وخصوصية التخيير بينه وبين الفعل الاختياري التي هي مفاد " أو ".
ولا يخفى ان كلتا هاتين الخصوصيتين منافيتان لمفاد الاطلاق، لان كلا
منهما جهة زائدة على أصل الوجوب في الواجب. فيكون مقتضى الاطلاق المنعقد
لدليل الامر الاضطراري نفي كلتا الخصوصيتين وان الواجب هو خصوص
الفعل الاضطراري لا هو وغيره ولا هو أو غيره الملازم لنفي الصورة الثالثة
المستلزم للاجزاء، فمقتضى الاطلاق في النتيجة هو الاجزاء.
وهذا البيان واضح في مثل قوله تعالى: (فتيمموا صعيدا) (1) مما اشتمل
على الامر.

(1) سورة النساء الآية: 43. سورة المائدة الآية: 6.
26

واما في مثل: " التراب أحد الطهورين " (1) مما لا يشتمل على الامر فلا
يتأتى فيه هذا التقريب، إذ لا يتكفل بيان الوجوب ولا الواجب كي يتمسك
باطلاقه في نفي تقييده والتخيير بينه وبين غيره.
وقد يقرب التمسك باطلاقه في الدلالة على الاجزاء بان ظاهر الدليل
تنزيل البدل الاضطراري - كالتراب - منزلة المبدل منه - كالماء -، فيتمسك
باطلاق التنزيل في اثبات كونه بمنزلته في الوفاء بتمام الغرض، فيكون مجزيا كما
عرفت.
ولكنه لا يخلو من نظر، فان دليل التنزيل ليس ناظرا إلى جميع جهات
المنزل عليه في مقام التنزيل، فليس المتكلم في مقام البيان من جهة الوفاء
بالغرض وعدم وفائه، بل النظر إلى التنزيل في مقام التكليف والامر وتعيين
الواجب فهو أجنبي عن مقام الوفاء بالغرض.
ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر وهو ان يقال: ان الدليل يتكفل تنزيل
التيمم منزلة الوضوء في تعلق التكليف به وبيان ان الصلاة مع التيمم كالصلاة
مع الوضوء في كونها متعلقة للوجوب.
وبما أن وجوب الصلاة مع الوضوء في ظرف الاختيار وجوب تعييني غير
تخييري، فيكون مقتضي دليل التنزيل هو تنزيل الصلاة مع التيمم منزلة الصلاة
مع الوضوء في هذه الجهة وهي كون وجوبها تعيينيا لاطلاق دليل التنزيل من جهة
الوجوب وتعلق الامر في التنزيل من هذه الخصوصية الراجعة إلى الوجوب.
وبالجملة: دليل البدل الاضطراري سواء كان بلسان الامر أو التنزيل
يقتضي نفي التخيير بينه وبين غيره كما هو الحال في الصورة الثالثة. وعليه

(1) عن أبي جعفر عليه السلام: " فان التيمم أحد الطهورين ".
وسائل الشيعة 2 / 991 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.
27

فيكون مقتضى اطلاق الدليل الاجزاء.
فمرجع كلام صاحب الكفاية إلى أن التخيير ملازم لعدم الاجزاء فإذا
نفي بالاطلاق كان مقتضاه الاجزاء كما لا يخفى.
وقد يورد على التمسك بالاطلاق في نفي التخيير والتقييد بما بيانه: ان
التمسك باطلاق الدليل في نفي القيد المشكوك انما يتم في مورد تمامية موضوعه
وثبوته، فالتمسك باطلاق كل دليل انما يصح في ظرف ثبوت موضوعه لتفرع
ثبوت أصل الحكم على ثبوت الموضوع، فمع عدم ثبوت موضوعه يعلم بعدم
ثبوت الحكم.
وعليه، فموضوع الامر الاضطراري هو العذر والاضطرار، فلا يصح
التمسك باطلاقه في نفي التخيير والتقييد في غير ظرف ثبوت موضوعه وهو ظرف
ارتفاع الاضطرار، بل التمسك باطلاقه انما يصح بالنسبة إلى القيود المشكوكة
في ظرف الموضوع.
ولكنه يندفع: بتصور الاطلاق والتقييد في ظرف غير موضوعه، مثلا: إذا
ورد حكم بوجوب التصدق على المسافر، فإنه يمكن تقييد هذا الحكم ثبوتا بما
إذا لم يتصدق في حال الحضر، فمع الشك في ذلك يمكن التمسك باطلاق: " يجب
التصدق على المسافر " - مثلا - في اثبات وجوب التصدق عليه مطلقا. سواء كان
قد تصدق في الحضر، أو لم يتصدق في حال الحضر وعدم السفر. وذلك لان عدم
الوجوب على المسافر لو كان قد تصدق في الحضر يرجع في الحقيقة واللب إلى
تقييد الوجوب عليه بصورة عدم التصدق في حال الحضر.
ومن هذا القبيل ما نحن فيه فان نفي وجوب المأمور به الاضطراري عند
الاتيان بالفعل الاختياري في حال الاختيار يرجع إلى تقييد دليل الامر
الاضطراري لبا بصورة عدم الاتيان بالفعل الاختياري في ظرف الاختيار،
فينفي مع الشك باطلاق الدليل.
28

وبالجملة: فالايراد بمنع التمسك بالاطلاق من حيث توقفه على فرض
ثبوت موضوعه وعدم صحته في ظرف عدم موضوع الحكم غير تام.
فالأولى في مقام الايراد ان يقال:
أولا: انه يختص بالاجزاء من حيث اسقاط الإعادة فقط ولا يقتضي
الاجزاء من حيث القضاء، كما هو بخصوصه موضوع البحث عند من يرى
موضوعية الاضطرار تمام الوقت للحكم الاضطراري. فلا يشمل ما إذا تحقق
الاضطرار تمام الوقت.
والوجه فيه هو انه مع استمرار العذر إلى آخر الوقت لا تكون خصوصية
التعيينية ملازمة للقول بالاجزاء كي يكون مقتضي الاطلاق الاجزاء - بلحاظ
انه ينفي التخيير -، بل القائل بعدم الاجزاء يرى تعين الفعل الاضطراري في
الوقت وعدم جواز تركه والاتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت. فتعين الفعل
الاضطراري في الوقت وعدم الترخيص في تركه والاتيان بالفعل الاختياري
خارج الوقت امر يشترك فيه القائل بالاجزاء وعدمه، فليس نفي التخيير ملازما
للاجزاء.
ودعوى: ان الصورة الثبوتية الثالثة تقتضي اشتمال الواجب
الاضطراري على خصوصيتين إحداهما تقيده بالفعل الاختياري بعد العذر.
والأخرى التخيير بينه وبين الفعل الاختياري بعد العذر. والامر الثابت - مع
استمرار العذر إلى آخر الوقت - هو انتفاء خصوصية التخيير التي هي بمفاد
" أو " سواء على القول بالاجزاء أو القول بعدمه.
واما تقيده بالفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر الذي هو الخصوصية
بمفاد " الواو " فهذا لازم القول بعدم الاجزاء فقط، إذ القائل بالاجزاء لا يرى
لزوم الاتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت بعد ارتفاع العذر. وقد تقدم ان
الاطلاق ينفي كلتا الخصوصيتين فهو ينفي خصوصية التقيد بالفعل الاختياري
29

بعد العذر خارج الوقت الملازم لنفي القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.
وإن لم يكن انتفاء خصوصية التخيير ملازمة لعدم الاجزاء في الفرض كما
عرفت.
مندفعة: بان لزوم الاتيان بالفعل الاختياري بعد العذر خارج الوقت أو
في أثنائه، لا يرجع إلى تقييد الحكم الاضطراري ولا متعلقه، بل هو حكم آخر
استقلالي ناشئ عن المصلحة الفائتة اللزومية، فلا يصح التمسك باطلاق
الدليل لنفيه، لان التمسك باطلاق الدليل انما يصح في مورد يرجع القيد
المشكوك إلى الواجب أو الوجوب، وهذا القيد كما عرفت لا يرجع إلى الوجوب
ولا الواجب. إذ كل منهما امر مستقل بذاته واف بمقدار من المصلحة اللزومية،
وليس وجوب أحدهما ولا الواجب فيه معلقا على امتثال الآخر. فهذا نظير
التمسك باطلاق دليل وجوب الصلاة الخاصة في نفي الامر بالفرد الخاص من
الصوم.
وبالجملة: ما قرره من التمسك بالاطلاق في نفي وجوب الفعل
الاختياري مع الاضطراري لا نسلمه لعدم تماميته، وانما الصحيح تمسكه
بالاطلاق في نفي التخيير بينه وبين الفعل الاختياري، وقد عرفت عدم إجدائه
في مورد استمرار الاضطرار إلى آخر الوقت لعدم اختصاص القول بالاجزاء في
نفي التخيير، إذ يتعين الفعل في الوقت على كلا القولين.
وثانيا: ان ما ذكره لا يجدي في اثبات الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة، وذلك
لان القول بالتخيير بين الفعل الاضطراري حال الاضطرار والفعل الاختياري
بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت ليس لازما للقول بعدم الاجزاء فحسب، بل
القائل بالاجزاء يلتزم بالتخيير أيضا، إذ من الظاهر أنه لا يقول أحد بلزوم
الفعل الاضطراري معينا ولو مع ارتفاع العذر في أثناء الوقت وامكان الفعل
الاختياري.
30

بل الفعل الاضطراري يجوز تركه والاتيان بالفعل الاختياري بعد العذر
عند الكل فالتخيير لازم أعم للقول بالاجزاء والقول بعدمه.
وعليه، فالتمسك بالاطلاق في نفي التخيير لاثبات الاجزاء لا وجه له
بعد أن كان التخيير مما يلتزم به القائل بالاجزاء.
واما خصوصية تقيد الفعل الاضطراري الواجب بالاتيان بالفعل
الاختياري بعد العذر وهي الخصوصية الثانية في الصورة الثالثة الثبوتية، فقد
عرفت عدم صلاحية الاطلاق لنفيها، لعدم رجوع الخصوصية إلى الواجب ولا
إلى الوجوب، وعرفت ان ما هو المسلم في نفسه هو التمسك بالاطلاق في نفي
خصوصية التخيير.
وهذا غير ثابت فيما نحن فيه لاشتراك القولين في الالتزام بالتخيير.
وخلاصة القول: ان ما افاده المحقق صاحب الكفاية بعد توجيهه، بما
عرفت امر لا يجدي في اثبات إجزاء الأوامر الاضطرارية لا عن الإعادة لان
التخيير لازم أعم للقولين. ولا عن القضاء - في موضوعه وهو استمرار العذر إلى
نهاية الوقت -، لان التعيين لازم أعم للقولين. فلاحظ.
الوجه الثاني: مما قيل في إجزاء الامر الاضطراري عن الامر الواقعي
وعدمه: ان هذه المسالة من صغريات مسالة التمسك باطلاق العام بعد انتهاء
زمان التخصيص التي تحرر في باب الاستصحاب من الأصول وموضوعها ما إذا
ورد عام ثم ورد تخصيصه بفرد في ظرف معين وشك في استمرار حكم المخصص
بعد ذلك الظرف المعين أو ثبوت حكم العام. فيقع الكلام في امكان استصحاب
حكم الخاص أو التمسك باطلاق دليل العام في اثبات حكم العام للفرد؟ فان
الحال فيما نحن فيه كذلك. وذلك لو ورد دليل مطلق يتكفل بيان وجوب الفعل
بالطهارة المائية على جميع الافراد، ثم خرج منه الفرد المضطر غير المتمكن في
حال اضطراره وعذره، فإذا زال اضطراره يشك في ثبوت حكم العام له وشمول
31

دليل العام له.
فما يقال هناك من امكان التمسك باطلاق دليل العام وعدمه يقال هنا
لأنه من صغريات تلك المسالة.
نعم، احتمال استصحاب حكم المخصص منتف هنا للعلم بعدم وجوب
الفعل الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار.
وبالجملة: هذه المسالة من صغريات تلك المسالة فلا حاجة لاتعاب
النفس في الاجزاء وعدمه.
والتحقيق: ان هذا الوجه باطل وان مسالة الاجزاء لا ترتبط بتلك المسالة
وليست من صغرياتها، إذ يرد على هذا الوجه أمور:
الأول: انه لو سلم، يتناول حل مشكلة الاجزاء وعدمه من حيث الإعادة
فقط، ولا يشمل الاجزاء من حيث القضاء الذي هو بخصوصه موضوع بحث
الكثيرين بلحاظ اختيارهم كون الموضوع للامر الاضطراري هو الاضطرار في
تمام الوقت، فلا يتصور الاجزاء إلا بلحاظ القضاء كما أشرنا إليه.
وذلك لان التخصيص بالفرد المعذور انما كان لاطلاق دليل الفعل في
الوقت.
اما دليل القضاء فلم يخصص لأنه مستقل وليس البحث في شموله لمن
أتى بالمأمور به الاضطراري من صغريات البحث في التمسك بدليل العام بعد
زمان التخصيص.
وبالجملة: حيث وقع البحث من الكثيرين في الاجزاء من حيث القضاء
فقط لم يتجه بناء المسالة على مسالة التمسك باطلاق العام بعد انتهاء زمان
التخصيص، لعدم شموله للاجزاء من حيث القضاء، فلا بد من أن يكون نظر
الباحثين جهة عامة لفروع المسالة.
الثاني: انه عليه لا بد ان يختص النزاع في مسالة الاجزاء بما إذا كان
32

الاضطرار في أثناء الوقت لا من اوله. وذلك لما تقرر في تلك المسالة من أن خروج
الفرد بالتخصيص إذا كان من أول أزمنة الحكم كان التمسك باطلاق العام بعد
انتهاء زمان التخصيص مما لا اشكال فيه ولا خلاف ولذا يلتزم بجواز التمسك
باطلاق (أوفوا بالعقود) (1) في نفي الشك بعد انتهاء زمان خيار المجلس لان
دليله اقتضى التخصيص من أول أزمنة الحكم. نعم إذا كان التخصيص بعد
شمول حكم العام للفرد المخصص بعض الوقت كان التمسك باطلاق العام بعد
زمان التخصيص محل كلام.
وعليه، فإذا كان الاضطرار من أول الحكم، وفي أول الوقت بحيث
خرج الفرد عن الحكم من أول زمان الامر بان كان فاقدا للماء من حين الزوال
كان التمسك باطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر من المسلمات فلا كلام فيه فيختص
الكلام بما إذا كان الاضطرار في الأثناء، مع أن الحال في الاجزاء وعدمه لا يفرق
فيه - في كلمات القوم - بين كون الاضطرار من الأول أو في الأثناء.
الثالث: - وهو عمدة الاشكال على الوجه المزبور - ان شمول اطلاق
دليل العام بعد ارتفاع العذر - فيما نحن فيه - امر مسلم لا ينكره أحد وشاهدنا
على ذلك، انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري يجب عليه الفعل الاختياري بعد
ارتفاع العذر بمقتضى الاطلاق، فلو كان مجرد التخصيص بالفرد المضطر في
بعض الوقت مانعا عن شمول الاطلاق له فيما بعد الاضطرار لم يفترق فيه
صورة الاتيان بالفعل الاضطراري وعدمه، ومقتضاه عدم وجوب الفعل
الاختياري لو عصى الامر الاضطراري، مع أنه لا قائل به. فهذا مما يكشف
عن أن شكول الاطلاق لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم لا كلام فيه وانما الكلام
في جهة أخرى وهي ان دليل الامر الاضطراري هل يقتضي الصد من شمول

(1) - سورة المائدة الآية: 1.
33

الاطلاق لو أتى بالمأمور به الاضطراري.
فالبحث ليس في أن التخصيص هل يقتضي نفي شمول الاطلاق لما بعد
زمان التخصيص أو لا يقتضي؟، فان شموله في نفسه ثابت ولا يمنع عنه
التخصيص، والا لم يجب الفعل الاختياري ولو لم يأت بالفعل الاضطراري
عصيانا، لعدم الدليل عليه. وانما البحث في أن الاتيان بالمأمور به الاضطراري
بمقتضى دليله هل يمنع من شمول الاطلاق أو لا يمنع؟.
فالكلام في مانعية الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن الاطلاق -
بمقتضي دليل الامر الاضطراري - لا في مانعية نفس تخصيص الامر الواقعي
لشمول الاطلاق.
فلا تبتني هذه المسالة على تلك وليست من صغرياتها، لان جهة البحث
في تلك المسالة مفروغ عنها هنا ولا كلام فيها، للجزم بأحد طرفيها والبحث في
جهة أخرى. فلا حظ.
الوجه الثالث: ما قرره المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في
بيان الاجزاء من حيث الإعادة ومحصله: انه اما أن يكون موضوع الامر
الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت، فإذا انتفى الاضطرار في الأثناء كشف
عن عدم ثبوت الامر الاضطراري بالمرة، فإذا كان احراز الاضطرار تمام الوقت
- المتوقف عليه الاتيان بالعمل في أول الوقت - بالاستصحاب الاستقبالي، ابتنى
الكلام في الاجزاء هنا على إجزاء الامر الظاهري، إذ يتحقق بالاستصحاب أمر
ظاهري ثم يظهر كون الواقع خلافه. وان كان موضوع الامر الاضطراري هو
الاضطرار بعض الوقت، كان الاتيان بالمأمور به الاضطراري مجزيا لو ارتفع
العذر في الأثناء للاجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد. والمفروض انه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 196 - الطبعة الأولى.
34

جاء بصلاة واجبة، فلا تجب الأخرى جزما.
وهذا الوجه واضح المنع فإنه يختص بباب الصلاة، إذ موضوع الاجماع
هو عدم تعدد الواجب الصلاتي في وقت واحد، فهو غاية ما يثبت الاجزاء في
باب الصلاة، ولا يخفى ان الأوامر الاضطرارية لا تختص بباب الصلاة بل
تتعدى إلى غيرها من الواجبات ولم يثبت قيام الاجماع على عدم تعدد الواجب
مطلقا في الوقت الواحد.
وبالجملة: هذا الوجه أخص من المدعى.
والعجيب من السيد الخوئي " دام ظله " انه بعد أن قرر الاشكال على
المحقق النائيني في تعليقته على التقريرات وذكر أنه لا دليل على الاجزاء في غير
باب الصلاة قال: " فإن كان لدليل الامر بالفعل الاضطراري اطلاق يقتضي
جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو كان الاضطرار مرتفعا بعده فهو المرجع،
والا فأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الإعادة، فمقتضى القاعدة هو الاجزاء
في موارد الامر الاضطراري مطلقا " (1).
ووجه الغرابة فيه هو: رجوعه إلى إصالة البراءة لنفي وجوب الإعادة، مع أن
شمول اطلاق دليل الواجب الاختياري في نفسه لما بعد ارتفاع العذر امر
مسلم مفروغ عنه. والكلام فيما يمنع عنه، والشاهد على شموله ما عرفت من انه
لو لم يأت بالفعل الاضطراري في حال الاضطرار لا يستشكل أحد في وجوب
الفعل الاختياري عليه بعد ارتفاع الاضطرار بدليل الواجب، فالتمسك بأصالة
البراءة في قبال اطلاق الدليل لا يعرف وجهه.
مضافا إلى أن ما ذكره من الرجوع إلى اطلاق دليل الامر الاضطراري
إذا اقتضى جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو ارتفع الاضطرار في الأثناء،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 196 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
35

وكونه هو المحكم المرجع، وان كان تاما في نفسه، إلا أن الذي ينبغي ذكره بيان
تقريب اقتضاء اطلاق دليل الامر الاضطراري للاجزاء وجهة دلالته عليه، فإنه
هو الذي ينبغي ان يحرر، لا بيان الرجوع إلى الاطلاق لو اقتضى الاجزاء،
فلاحظ.
وقد قرب الاجزاء في بحثه - كما في مصابيح الأصول (1) - بنحو آخر
يختلف عما جاء في التعليقة. وبيانه: ان الامر الاضطراري ملازم للاجزاء وذلك
لان الصور الثبوتية للامر الاضطراري كما جاء في الكفاية أربعة، ثلاثة منها تلازم
الاجزاء وواحدة وهي الصورة الثالثة - حسب ترتيب الكفاية - تقتضي عدم
الاجزاء كما عرفت بيانه.
والامر الاضطراري في هذه الصورة - أعني الثالثة - غير معقول، وذلك
لرجوع الامر فيه إلى التخيير بين الأقل والأكثر، فان الفعل الاختياري مأمور
به، اما وحده أو مع الفعل الاضطراري وهو - اي التخيير بين الأقل والأكثر -
محال كما يحقق في محله انشاء الله تعالى. وإذا ثبت انه في الصورة الثالثة ليس هناك
امر اضطراري وانه إذا وجد فهو لا ينفك عن أن يكون بأحد الانحاء الثلاثة
الأخرى، وقد عرفت أنه ملازم للاجزاء فيها جميعها فيمكن على هذا دعوى
ملازمة الامر الاضطراري للاجزاء بلا احتياج إلى تقريب اطلاق أو قيام ضرورة
واجماع.
وفيه: ان التخيير بين الأقل والأكثر بعنوانه غير معقول كما ذكر، لكن
سيأتي انشاء الله تعالى ارجاع ما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير
بين المتباينين بدعوى أن طرف التخيير هو الأقل بحده وبشرط لا وهو مباين
للأقل بشرط شئ الذي يتحقق بالأكثر.

(1) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 263 - الطبعة الأولى.
36

وبالجملة: قد تقرر في محله تصوير التخيير بين الأقل والأكثر بنحو
معقول وهو ارجاعه إلى التخيير بين المتباينين، فيرتفع المحذور الذي يذكر في
التخيير بين الأقل والأكثر كما يجاب في محله عن الايراد بعدم الأثر في التخيير.
فانتظر.
وخلاصة الايراد عليه: ان التخيير بين الأقل والأكثر بارجاعه إلى
التخيير بين المتباينين كما سيجئ لا محذور فيه، فيمكن ارجاع ما نحن فيه إلى
ذلك النحو من التخيير. فالتفت.
الوجه الرابع لتقريب الاجزاء - وهو يختص بالأوامر الضمنية كما
سيتضح -: ان دليل الفعل الاضطراري..
تارة: يكون متكفلا لبيان محققية الفعل لما هو الشرط أو الجزء في المأمور
به الواقعي. غاية الامر أنه يقيد بصورة الاضطرار والعذر. مثلا إذا اخذ في المأمور
به الواقعي شرط خاص كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ثم بين بدليل آخر أن
الفعل الكذائي محقق لهذا الشرط وسبب له، كالدليل الدال على سببية الوضوء
للطهارة، فمقتضى اطلاق هذا الدليل سببية الوضوء للطهارة في مطلق حالات
وآنات المكلف.
فإذا جاء دليل يبين فيه بان التيمم كالوضوء في محققيته للطهارة ووجودها
به كقوله (عليه السلام): " التراب أحد الطهورين " ولكنه في ظرف خاص وهو
ظرف الاضطرار، لم يكن منافيا لدليل سببية الوضوء، بل كان الاتيان به في ظرفه
إتيانا للفعل واجدا لشرطه الواقعي، نظير ما لو دل دليل على سببية غسل الجمعة
للطهارة في يوم معين وهو يوم الجمعة، فإنه لا تنافي بين دليل الغسل والوضوء.
فإذا كان دليل الفعل الاضطراري يتكفل بيان محققية الفعل للشرط
الواقعي للمأمور به كدليل: " التراب أحد الطهورين " بالنسبة إلى دليل شرطية
37

الطهارة وهو: " لا صلاة إلا بطهور " (1)، غاية الامر انه يقيد بصورة العذر وحاله،
فإذا جاء بالتيمم في حال العذر فقد تحقق منه الشرط للمأمور به الواقعي وهو
الطهارة، فيكون قد جاء بالصلاة المأمور بها واقعا، وهي الصلاة مع الطهارة، فلا
كلام في الاجزاء لأنه في الحقيقة يكون من الاتيان بالمأمور به الواقعي ولا اشكال
في إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره.
وبالجملة: ليس لدينا في هذا الفرض مأمور به بالأمر الاضطراري،
بل ليس إلا الامر الواقعي. غاية الامر دليل الاضطرار يتكفل التوسعة فيما هو
المحقق للشرط فيضيف إلى الوضوء - مثلا - التيمم في سببيته للطهارة. ومن هنا
يقال إنه لو توضأ في مواضع جواز التيمم للعذر صح الوضوء لاطلاق دليله
الشامل لصورة العذر، وعدم منافاة دليل التيمم له، إذ هو يتكفل سببية التيمم
ولا ينفي سببية الوضوء.
وعليه، فالمأتي به مع التيمم يكون هو المأمور به الواقعي لأنه صلاة مع
الطهارة، فلا اشكال في إجزائه، فيخرج الفرض نتيجة عن محل الكلام في
الاجزاء وعدمه، إذ لا تعدد للامر في المقام.
وأخرى: يكون دليل الاضطرار متكفلا للامر بالفعل الاضطراري مع
العذر - لا بيان اشتراك الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في الأثر المعتبر
في المأمور به - كالامر بالجلوس في الصلاة مع العجز عن القيام، وكالأمر بالتيمم
مع العذر لو قيل بان الشرط هو الوضوء لا الطهارة الحاصلة بأحدهما ونحو ذلك.
فلا اشكال في إجزاء الفعل الاضطراري عن الامر الواقعي أيضا.
بيان ذلك: ان دليل الشرطية لا تكليفا والزاما بالفعل - حتى
يختص بصورة التمكن -، بل انما يتكفل بيان دخالة هذا الفعل في حصول

(1) وسائل الشيعة 1 / 256، باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 1 و 6.
38

المركب وتوقفه على وجود الشرط، بمعنى انه مع عدم الاتيان به لا يتحقق
المركب المأمور به، فحقيقة الامر بالشرط الارشاد إلى إعتبار هذا الفعل في تحقق
المأمور به، ومعه لا يختص الاشتراط بصورة التمكن، بل مقتضى اطلاق الدليل
هو كونه شرطا في حال التمكن وعدمه، إذ عدم التمكن من الشرط لا ينافي
شرطيته ودخالته في تحقق المركب، نظير الشروط في الأمور التكوينية، فان
دخالتها في تحقق المركب وتوقف وجوده عليها لا يختص بحال دون حال. فان
توقف " إلا سكنجبين " على السكر لا يرتفع في حال عدم التمكن من السكر أو
توقفه على الطبخ الخاص للاجزاء المعينة.
وبالجملة: مقتضى دليل الشرطية هو كونه شرطا مطلقا تمكن أو لم
يتمكن، إذا جاء دليل يتكفل بيان شرطية شئ في حال عدم التمكن..
فتارة: يكون لسانه لسان جعل شرط مستقل غير الشروط المعتبرة،
بمعنى انه لا يتعرض بمفاده إلى الشروط الأخرى، بل يتكفل جعل شرط آخر
في هذا الحال، فهو خارج عما نحن فيه. إذ الشرط الاختياري بعد على اعتباره
في حال العذر. وانما أضيف إليه شرط آخر، فلا يكون من باب الامر
الاضطراري، بل لا بد من الاتيان بكلا الشرطين مع التمكن عقلا - ولا ملازمة
بين التمكن وانتفاء الشرط الاضطراري، إذ يمكن أن يكون موضوعه الاضطرار
الشرعي كالحرج لا العقلي.
وأخرى: لا يكون مفاده ذلك، بل يكون ناظرا إلى الشرط المعتبر غير
المتمكن منه فعلا، فيتكفل بيان ان الشرط في هذا الحال هو هذا الفعل،
كالجلوس، فينفي شرطية القيام. فيكون دليل شرطية الجلوس حاكما على دليل
شرطية القيام وموجبا لتقييد شرطيته في حال التمكن، ومتكفلا لجعل شرطية
الجلوس في حال العذر، مع بقاء الامر الأول بالمركب على حاله وانما تبدل
الشرط.
39

وعليه، فيكون الشرط الواقعي للمأمور به بالأمر الصلاتي الواقعي هو
الجلوس - مثلا - في حال العذر، فيكون الاتيان بالصلاة من جلوس اتيانا
بالمأمور به الواقعي، وهو ملازم للاجزاء، لاجزاء اتيان المأمور به بالنسبة إلى
أمره.
بتعبير آخر نقول: ان دليل شرطية الجلوس لا يتعرض إلى الامر بأصل
الصلاة مع القيام، بل يتعرض إلى دليل شرطية القيام المتكفل لاطلاق شرطيته،
فيتكفل بمقتضى الحكومة تقييد دليله بحال التمكن، ويكون الشرط للصلاة في
حال الاضطرار هو الجلوس، فالساقط في حال الاضطرار هو شرطية القيام لا
الامر بالصلاة، بل هو باق كما كان. لكن قيد المأمور به بشرط آخر وهو
الجلوس، فالاتيان بالصلاة من جلوس اتيان بالمأمور به الواقعي، وهو يقتضي
الاجزاء وسقوط الامر بالصلاة، للاتيان بما هو المأمور به بشرطه.
وخلاصة القول: ان إجزاء الفعل الاضطراري عن الامر الواقعي
واستلزامه لسقوطه في مورد تكفل دليل الاضطرار بيان سببية ومحققية الفعل لما
هو الشرط في المأمور به، ومورد تكفله بيان شرطية الفعل في حال عدم التمكن
ونفي شرطية غيره في هذه الحال أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تكلف بيان ومزيد
برهان، كما جاء في التقريبات الأخرى للاجزاء. ولعله لاجل وضوحه وكونه على
طبق القاعدة كان الاجزاء في فتاوى الاعلام أمرا مفروغا عنه ولا يتردد فيه
أحد، بل إن الفقيه الهمداني (رحمه الله) التزم بطرح رواية موثقة مفادها لزوم
القضاء في مورد الاتيان بالفعل الاضطراري، لجهات منها مخالفتها للقاعدة
العقلية المسلمة وهي الاجزاء، ومنافاتها لها.
ولكن الذي ينبغي التنبيه عليه - كما أشرنا إليه - هو ان هذا التقريب
الذي ذكرناه يتكفل بيان الاجزاء في الأوامر الضمنية الاضطرارية كالأوامر
المتعلقة بالشروط والاجزاء.
40

واما بالنسبة إلى الامر الاضطراري بمركب آخر غير المركب المأمور به
في حال الاختيار، فلا يتكفل هذا التقريب بيان إجزاء الاتيان بالمأمور به عنه،
فلو فرض وجود مثل ذلك في الشرع لم يصح تطبيق هذا التقريب عليه،
واستنتاج إجزاء المأتي به الاضطراري عن الامر الواقعي.
فان أساس ثبوت الاجزاء - على التقريب الذي ذكرناه - هو ارجاع
الفعل الاضطراري إلى كونه فردا للمأمور به الواقعي في عرض الفرد
الاختياري، فيكون مسقطا للامر بلا كلام، لاجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره.
وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا تعدد الامر كما لا يخفى. هذا كله بالنسبة إلى
الاجزاء من حيث الإعادة.
واما الاجزاء من حيث القضاء الذي عرفت أن محل الكلام فيه ما إذا
اخذ الاضطرار تمام الوقت موضوعا للامر الاضطراري، إذ لا يتصور في المقام
الاجزاء من حيث الإعادة، لان ارتفاع العذر في الأثناء يكشف عن عدم ثبوت
الامر الاضطراري.
ثم لا يخفى ان الكلام في الاجزاء من حيث القضاء إنما يقع في ما إذا كان
مقتضى القاعدة الأولية ثبوت القضاء، لقيام الدليل عليه. فيتكلم في أن الفعل
الاضطراري يكفي عن القضاء أو لا يكفي، إذ لو لم يثبت القضاء بدليل في نفسه
لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وكفايته، لعدم ثبوته. والبحث
في الاجزاء والكفاية يقتضي ثبوت كلا الطرفين المجزي والمجزي عنه والكافي
والمكفي.
وطريق معرفة ثبوت القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات عند عدم الاتيان
بما هو المأمور به الواقعي في الوقت. أحد وجوه:
الأول: أن يكون هناك اطلاق يقتضي وجوب الفعل مطلقا في الوقت
وخارجه إلى آخر العمر، ثم يأتي دليل منفصل يدل على التوقيت بوقت معين،
41

ولكن يستكشف من مجموع الدليلين أو من دليل التوقيت ان التوقيت لا يرجع
إلى أصل المطلوب بل إلى تمامه. وبعبارة أوضح: يفهم من قرينة داخلية أو
خارجية ان التوقيت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته، أو يرجع إلى دخالة
الوقت في ملاك أقوى ملزم، فإذا فات الفعل في الوقت كان مقتضى الاطلاق
ثبوت وجوب الفعل خارجه، إذ لم يقيد أصل الواجب بالوقت. وانما كان هناك
مطلوب آخر لم يؤت به، وهو الاتيان بالواجب وايقاعه في الوقت، أو يكون
مقتضى عموم الملاك ثبوت الحكم خارج الوقت لفوات بعضه بخروج الوقت،
والمفروض كون الباقي ملزما بالفعل.
وعلى هذا الأساس يقال بتبعية القضاء للأداء وان دليل الأداء نفسه
يتكفل ايجاب القضاء.
الثاني: أن لا يلتزم باطلاق دليل الفعل الواجب وشموله إلى ما بعد
الوقت، بل ما يدل عليه هو وجوب الفعل في الوقت لا أكثر، لكن يرد دليل
خارجي يدل على أن التوقيت المأخوذ في الدليل انما هو على نحو تعدد المطلوب
لا وحدته، وان في المقام مطلوبين أحدهما الفعل. والآخر ايقاعه في الوقت، فإذا
فات الثاني بخروج الوقت بقي الأول أعني طلب الفعل على حاله.
الثالث: أن لا يكون مقتضى الاطلاق تعدد المطلوب، ولا ذلك مقتضى
دليل خارجي، بل يكون الوقت والواجب بنحو وحدة المطلوب، ولكن يثبت
دليل خارجي على لزوم الاتيان بالفعل مع عدم الاتيان بالواجب الواقعي في
الوقت، فيثبت لزوم القضاء.
والحاصل: أنه بأحد هذه الوجوه الثلاثة يمكن اثبات لزوم القضاء بقول
مطلق في جميع الواجبات، فيتكلم في هذا الفرض في كفاية الفعل الاضطراري
عنه، واستلزامه لسقوط وعدم كفايته.
ومع هذا لا وجه للتمسك في نفي وجوب القضاء باجراء إصالة البراءة
42

باعتبار الشك فيه، وهو شك في التكليف الذي تجري فيه أصالة البراءة، لان
فرض الكلام وجود دليل يدل على لزوم القضاء وهو شامل في نفسه لما نحن فيه.
والكلام في إجزاء الفعل الاضطراري عنه، اما مع الشك فيه فليس هو محل
الكلام، إذ لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وعدم إجزائه - كما
لا يخفى -
ثم إن الوجه في إجزاء الفعل الاضطراري عن القضاء بناء على ما قر بناه
من الاجزاء عن الإعادة واضح، إذ موضوع لزوم القضاء هو عدم الاتيان
بالواجب الواقعي في الوقت. وقد عرفت بمقتضى التقريب المزبور - ان الفعل
الاضطراري يكون فردا للمأمور به الواقعي، لان دليله اما ان يتكفل بيان
محققية الفعل في حال الاضطرار لما هو الشرط الواقعي، أو يتكفل بيان شرطية
الفعل للمأمور به الواقعي في حال العذر، بحيث ينفى بالملازمة شرطية الفعل
الاختياري، ويستلزم تقييد اطلاقه بحال الاختيار وعدم العذر. وعلى كلا
التقديرين يكون إتيان الفعل الاضطراري إتيانا لما هو المأمور به واقعا، ومعه
يسقط الامر بالفعل، فلا يبقى ثابتا إلى ما بعد خروج الوقت، بل الحال فيه ههنا
عين الحال في الإعادة، كما أنه لا يتحقق موضوع القضاء ليشمله دليل القضاء
المنفصل، لعدم ترك الواجب الواقعي في وقته.
وبالجملة: نفس التقريب السابق في نفي الإعادة يتأتى في نفي
القضاء بلا زيادة ولا نقصان، فالتفت.
وقد قرب نفي القضاء في الكفاية بما تقدم بيانه، من التمسك باطلاق
دليل الفعل الاضطراري في نفي التخيير الملازم للاجزاء عن الإعادة - بالبيان
المتقدم -، فيستلزم الاجزاء عن القضاء، إذ مع سقوط الامر بالإعادة في ظرف
الإعادة يسقط الامر بالقضاء جزما، لتفرعه على الامر بالفعل في الوقت. فبيانه
(قدس سره) وان اختص بنفي الإعادة لكنه يلازم نفي القضاء.
43

ولكن عرفت الاشكال عليه بان هذا لا يشمل الاجزاء عن القضاء فيما
لو كان موضوع الامر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت، لان تعيين الفعل
في الوقت الثابت بالاطلاق ليس لازما للقول بالاجزاء. بل القائل بعدم الاجزاء
يقول بتعيين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه، فالتمسك بالاطلاق
في نفي التخيير واثبات التعيين لا يلازم الاجزاء، بل هو لازم أعم للاجزاء
وعدمه، فلا يتكفل تقريبه اثبات الاجزاء عن القضاء.
وجاء في تقريرات المحقق النائيني (رحمه الله) تقرير الاجزاء عن القضاء
بما محصله: ان القيد المتعذر في تمام الوقت اما أن يكون دخيلا في ملاك الواجب
مطلقا، حتى في حال التعذر، كالطهور. فلا يمكن الامر بفاقده في الوقت لعدم
كون الفاقد ذا مصلحة، واما أن لا يكون دخيلا في ملاك الواجب حين تعذره،
كالطهارة المائية، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها لحصوله بالفعل مع التيمم،
فلا يجب القضاء لان القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها. فالامر
بالفاقد في الوقت يكشف عن تحقق الملاك به - وإلا لما أمر به - ومعه لا معنى
لايجاب القضاء (1).
وقد أورد عليه: بان هذا انما يتم في ما لو فرض وحدة المصلحة والملاك في
الامر الاضطراري والواقعي وهو غير مفروض، إذ يمكن أن يكون الامر
الاضطراري بملاك آخر ومصلحة أخرى - مع فوات مصلحة الواجب الواقعي
في حال التعذر -، فيتكلم في أن هذه المصلحة هل يتدارك بها ما فات من مصلحة
الواقع أو لا؟.
وعليه، فالامر الاضطراري لا يكشف عن وفاء الفعل بمصلحة الواقع،
لامكان أن يكون ناشئا عن مصلحة أخرى في الفعل، دون أن يكون فيه مصلحة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 195 - الطبعة الأولى.
44

الواقع لدخالة القيد المتعذر في تحققها.
والذي يظهر بعد كل هذا ان الوجه التام والقريب إلى الأذهان في اثبات
الاجزاء من حيث الإعادة والقضاء هو ما ذكرناه. فتدبر.
الموقع الثاني: في اجزاء الامر الظاهري عن الامر الواقعي، كما لو قام
أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة، فصلى بدون سورة، ثم
انكشف ان السورة واجبة، فهل تكون الصلاة بدون سورة مجزية عن الواقع
أولا؟.
وقبل الخوض في محل الكلام لا بد من التنبيه على ما هو موضوع البحث،
فنقول: موضوع البحث ما إذا استند عمله إلى حجة شرعية في الواقع، بحيث
لا تنسلب حجتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع على خلافها.
وبتعبير آخر: ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي انقطع بانكشاف
الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع، فلا يشمل ما إذا كان له وجود تخيلي يتضح
انتفاؤه من أول الامر بانكشاف الواقع، كما إذا استند إلى ما تخيل انه حجة
شرعية، كخبر فاسق تخيل انه خبر عادل فإنه وان كان في حين العمل معذورا
لجهله المركب، ولكن لم يثبت في حقه حكم ظاهري واقعا بل تخيلا، إذ لم تقم
الحجة الواقعية في حقه، بل ما تخيل انه حجة، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم
الظاهري.
والسر في عدم دخول مثل هذا الحكم الظاهري في موضوع البحث، ما
يشير إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الاجزاء (1) من عدم اجزاء الحكم
المقطوع به عن الواقع، وذلك لان جميع ما يقال في تقريب الاجزاء في الأوامر
الظاهرية بنحو التعميم أو التفصيل لا يتأتى في مثل هذا، إذ لا وجود للحكم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 88 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
45

الظاهري كي يبحث عن اجزاء العمل على طبقة عن الواقع. فهو خارج عن
موضوع البحث في الاجزاء وعدمه. فموضوع البحث ما إذا كان للحكم
الظاهري ثبوت واقعي في زمان محدود يتحدد بانكشاف الخلاف، بحيث يكون
انكشاف الخلاف رافعا للحكم الظاهري من حينه لا من أول الامر، فهو لا
يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهري وانما يقتضي ارتفاعه. كما إذا استند في
عمله إلى قول المجتهد المفروض انه حجة في حقه، ثم بعد حين انكشف له
باجتهاده ان الواقع على خلاف رأي المجتهد الذي كان يقلده، فان انكشاف
الخلاف لا يسلب حجية القول المجتهد في ظرفها ولا يكشف عن عدم حجيته،
فلا يقتضي الا رفع الحكم الظاهري لا نفيه من أول الامر، فللحكم الظاهري
ثبوت واقعي، فيبحث في أنه يقتضي اجزاء العمل المأتي به على طبقه عن
الواقع أولا.
ومن هذا البيان يظهر ان تبدل الرأي الحاصل للمجتهد وانكشاف كون
الحكم الواقعي خلاف ما كان يرتأيه أولا لا يدخل في موضوع البحث - بالنسبة
إلى عمل نفسه دون مقلديه كما سيظهر -، وذلك لان الحكم الظاهري الثابت في
نظره أولا بواسطة الاستناد إلى حجة حكم تخيلي، فإنه ينكشف لديه انه قد اشتبه
في استفادة الحكم المذكور، اما لاشتباهه في دلالة الدليل فكان يتخيل ظهوره في
شئ ثم يظهر له انه ظاهر في غيره، أو لاشتباهه في سند الدليل بتخيل ان الخبر
لعادل فظهر انه لغير عادل.
وبالجملة: الذي يتبين للمجتهد في أغلب الموارد انه لم يكن ما استند إليه
في مقام العمل وابداء الرأي حجة شرعية - فلم يكن ما تخيل انه ظاهر بظاهر
فلا يكون حجة، وما تخيل انه خبر عادل بخبر عادل وهو غير حجة وهكذا -،
فليس للحكم الظاهري السابق وجود واقعي في حقه، إذ ليس هناك ما يقتضيه،
لأنه ينشأ عن قيام الحجة، بل كان له وجود تخيلي انكشف عدمه من أول الامر
46

بانكشاف عدم حجية ما استند إليه في مقام الحكم من ظهور ونحوه. فيشكل
الاجزاء في حقه بالنسبة إلى عمل نفسه.
نعم يتأتى بحث الاجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلديه، إذ قول
المجتهد بالنسبة إليهم حجة واقعا، فيكون الحكم الأول ثابت في حقهم في مرحلة
الظاهر واقعا، وان ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيرا، لكنه ارتفع من حين
الرأي الثاني لا من أول الامر. فتدبر.
وبعد هذا نقول: ان البحث يقع في اجزاء الحكم الظاهري أعم من ثبوته
بأصل أو أمارة، واعم من كون انكشاف خلافه بامارة ظنية أو بعلم وجداني. وفي
المسالة أقوال كثيرة، ولا يهمنا سطرها، وانما المهم بيان ما يحتمل من وجوه
الاجزاء.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى الاجزاء في بعض الأصول دون الامارات
إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية - ولا يخفى ان الفرق بين الامارة والأصل، ان
الشك وعدم العلم مأخوذ في موضوع الأصل دون الامارة، فان عدم العلم مأخوذ
فيها بنحو الظرفية لا بنحو الموضوعية، وتحقيق الفرق بين اخذه موضوعا واخذه
ظرفا يأتي في محله انشاء الله تعالى من مباحث الأصول العملية -
اما ما ذكره بالنسبة إلى اجزاء بعض الأصول وهو ما كان متكفلا لتنقيح
ما هو موضوع التكليف وبلسان جعله وايجاده، كأصالة الطهارة وأصالة الحلية
واستصحاب الطهارة والحلية، بناء على كون المجعول في الاستصحاب حكما
ظاهريا مماثلا للحكم الواقعي الذي قواه صاحب الكفاية (1).
فقد أفاد: ان أصالة الحل والطهارة بما انهما يتكفلان جعل الموضوع
وايجاده في ظرف الشك، كان مقتضى ذلك ترتب الشرطية على ما هو المجعول

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 392 و 414 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
47

بهما، فيكون دليلهما متكفلا لتوسعة صدق موضوع الشرطية المأخوذ في دليل
الاشتراط، فيكون حاكما على أدلة اشتراط الطهارة والحلية لتكفله بيان أحد
افراد الموضوع، ويكون المأتي به مع الطهارة أو الحلية الظاهرية واجدا لشرطه
واقعا، لان الشرط الواقعي هو الأعم. فتكون الطهارة المجعولة في ظرف الشك
نظير الطهارة الأصلية الثابتة لمطلق الأشياء - غير ما استثني من الأعيان
النجسة - أو الطهارة المتحققة بعد التطهير بالكر. وعليه فيكون العمل مجزيا عن
الواقع للاتيان بما هو المأمور به بشرطه، ولا يكون العلم بالنجاسة من باب
انكشاف فقدان الشرط، بل من باب ارتفاع الشرط كطرو النجاسة على ما كان
طاهرا حسب اصله، لتحقق الشرط سابقا وهو الطهارة الظاهرية وقد ارتفعت
بالعلم لتحديدها به.
وبالجملة: فأصالة الطهارة تكون حاكمة على أدلة الاشتراط، فتثبت
الشرطية للطهارة الثابتة بها (1).
وقد أورد على ما افاده (قدس سره) بالنقض والحل ولا بد قبل التعرض
لبيان الايرادات من ايضاح كلام الكفاية وسبر مراده، كي يتضح الحال في ما
أورد عليه نقضا وحلا. وايضاحه يتوقف على بيان مقدمتين:
المقدمة الأولى: ان الحكومة - كما ذكره في محله - عبارة عن نظر أحد
الدليلين إلى الدليل الآخر وتصرفه فيه في مرحلة دلالته، اما في عقد الوضع أو
الحمل.
وهذا يتصور بأنحاء ثلاثة:
الأول: أن يكون الدليل المحكوم متكفلا لجعل حكم على موضوع
اعتباري جعلي، فيأتي دليل آخر يتكفل ايجاد فرد من افراد ذلك الموضوع وجعله

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 86 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
48

اعتبارا في مورد ما، فيترتب عليه الحكم الثابت بالدليل المحكوم قهرا. مثلا: لدينا
دليل يتكفل جواز بيع المملوك، كما لدينا دليل يتكفل جعل الملكية واعتبارها في
مورد الحيازة. فان هذا الدليل يتكفل ايجاد الموضوع فيتسع صدق الموضوع به.
ويثبت الحكم له بالدليل الأول المتكفل لجواز بيع المملوك. ومثله ما إذا
استصحبت الملكية، فإنه - على بعض المباني - يتكفل ايجاد الملكية، نظير دليل
من حاز ملك. غاية الأمران موارد الاعتبار تختلف، فهذا يتكفل الاعتبار في مورد
الحيازة، وذلك في مورد الشك. فالدليل المتكفل لايجاد الموضوع ليس له نظر إلى
ترتب الحكم عليه الثابت بالدليل الآخر، بل الحكم ثابت قهرا بمقتضى الدليل
الآخر بعد تحقق الموضوع في عالمه - نعم لا بد من الالتفات إلى ترتب الحكم
عليه كي يخرج الاعتبار عن اللغوية بلا أن يكون الاعتبار بلحاظ ثبوت الأثر
بدليل الاعتبار، بل دليل الاعتبار لا يتكفل سوى الايجاد والاعتبار لا غير -
ومن هنا خرج هذا النحو عن الحكومة الاصطلاحية المتقومة بنظر أحد
الدليلين إلى الآخر، لعدم كون دليل الاعتبار ناظرا لدليل ثبوت الحكم على
الموضوع الاصطلاحي وانما يشترك مع الحكومة في الأثر، وهو تقدم الدليل
المتكفل لايجاد الموضوع على ما يتكفل ترتيب الحكم على الموضوع، بل لا تنافي
بينهما كما عرفت تقريبه.
الثاني: أن يكون الدليل المحكوم بحسب ظاهره متكفلا لجعل الحكم على
الموضوع الواقعي، فيتكفل دليل آخر اعتبار كون هذا الفرد فردا للموضوع مع
عدم كونه كذلك حقيقة، فان هذا الدليل يكون ناظرا إلى ترتيب الأثر الثابت
بالدليل المحكوم على الموضوع الاعتباري بتكفله التوسعة في موضوع الحكم
وجعله أعم من الحقيقي والاعتباري، فيثبت الأثر للموضوع الاعتباري بالدليل
المحكوم. فالدليل الحاكم يكون ناظرا إلى ترتب الحكم على موضوعه ومتكفلا
بنفسه إلى اثباته بالدليل المحكوم، باعتبار انه يتكفل التوسعة في موضوعه.
49

فالفرق بين هذا النحو وسابقه: ان الحكم يترتب على الموضوع
الاعتباري في الأول بنفس الدليل المحكوم بلا أن يكون الدليل الحاكم دخيلا
في هذا الامر، بخلافه في النحو الثاني فان الامر وان كان يثبت بالدليل المحكوم
لكن بواسطة الدليل الحاكم ونظره في الاعتبار إلى ترتب الأثر الذي يتكفله
الدليل المحكوم.
الثالث: أن يكون الدليل الحاكم متكفلا لاثبات حكم مماثل على
موضوعه، لا اثبات نفس الحكم الثابت بالدليل المحكوم - كما في بعض أدلة
التنزيل -، ولعل قوله: " الطواف في البيت صلاة " (1) يرجع إلى هذا النحو، فإنه
بهذا اللسان ناظر إلى اثبات شرطية الطهارة ونحوها للطواف، ولكن يثبت به
حكم مماثل لحكم الصلاة، لا ان نفس الشرطية المنشأة في قوله مثلا: " لا صلاة
الا بطهور " (2) تثبت للطواف، بل يثبت المماثل لها.
المقدمة الثانية: ان الدليل المتكفل لاثبات موضوع ظاهري بلحاظ
ترتب أثر معين له، تارة: يكون لهذا الأثر أثر مناقض ثابت لضد موضوعه، نظير
استصحاب الملكية لزيد، فإنه يترتب عليه أثر الملكية لجواز النقل والانتقال،
وللملكية ضد وهو الوقف، له اثر مناقض لاثر الملكية، وهو عدم جواز النقل
والانتقال. وأخرى: لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضد ذو أثر
مناقض لاثره، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة، فإنه ليس للنجاسة اثر
يناقض الشرطية وهو المانعية عن الصلاة، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا، بل المأخوذ
هو الطهارة في موضوع الشرطية - وقد تقرر ان أحد الضدين إذا اخذ شرطا
امتنع اخذ الضد الآخر مانعا لتساوي الضدين رتبة واختلاف الشرط والمانع في

(1) كنز العمال 3 / 10 الفصل الرابع في السعي والطواف. حديث: 206.
(2) وسائل الشيعة 1 / 365. أبواب الوضوء حديث: 1.
50

الرتبة -، نعم للنجاسة آثار لا تناقض الأثر المرغوب، كنجاسة الملاقي ونحوها.
وهذان النحوان يشتركان في جهة ويمتازان في جهة أخرى.
اما اشتراكهما: ففي انه بقيام الدليل على ثبوت الموضوع يحكم ظاهرا
بنفي جميع آثار الضد الآخر المناقضة لاثر الموضوع وغيرها.
اما في النحو الأول: فواضح، فإنه بعد أن ترتب على استصحاب الملكية
- مثلا - جواز النقل والانتقال يحكم ظاهرا بنفي عدم جواز النقل والانتقال، ولا
يمكن الالتزام بهما للتناقض.
واما في النحو الثاني: فان الأثر المترتب على الضد وإن لم يكن مناقضا
للأثر المترتب على الموضوع الظاهري، لكن الحكم بثبوته ظاهرا ملازم لنفي
ضده في مرحلة الظاهر المستلزم لنفي آثار الضد، فبعد ان حكم بطهارة الماء -
مثلا - المستلزم لنفي نجاسته فعلا وفي مرحلة الظاهر لا يعقل ترتيب آثار
النجاسة وإن لم تكن مناقضة لاثر الطهارة، إذ لا يعقل الحكم بالطهارة ونفي
النجاسة وترتيب آثار النجاسة، فيحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا ونحوه.
واما امتيازهما: ففي ان الدليل المتكفل لايجاد فرد ظاهري لموضوع
الحكم حقيقة إذا لم يكن للأثر المترتب عليه اثر مناقض له ثابتا لضده، كان
ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتا واقعيا، بمعنى انه يثبت له في مرحلة
الواقع ونفس الامر، إذ هو فرد من افراد موضوعه ولو في ظرف معين، فيثبت له
واقعا بمقتضي دليله الخاص. ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في
الصلاة، فان الدليل الذي يثبت الطهارة ويكونها ويعتبرها في مرحلة الشك
يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعا، لان موضوعها هو الطهارة وهي امر
اعتباري، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها، فتثبت له
واقعا من دون مانع، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة
إذا طهر النجس في الكر في ثبوت الشرطية لها واقعا لأنه فرد للموضوع.
51

واما إذا كان لضده اثر مناقض للأثر المترتب عليه، فبما ان الدليل لا
يتكفل نفي الضد الآخر واقعا وتكوينا حتى تنتفي آثاره الواقعية واقعا بل يتكفل
نفي الضد ظاهرا، فلا يمتنع أن يكون ثابتا في الواقع وتثبت له آثاره بدليلها.
فحينئذ يتعارض الدليلان الدليل المتكفل لاعتبار الموضوع الذي يترتب عليه
اثر خاص، والدليل المتكفل لاثبات اثر - للموضوع الواقعي المفروض تحققه -
مناقض لذلك الأثر، إذا لا يمكن اجتماع هذين الحكمين المتناقضين معا على
موضوع واحد. ومن هذا القبيل: الملكية لزيد الثابتة بالاستصحاب التي يترتب
عليها جواز النقل والانتقال. فإنه إذا كانت العين في الواقع وقفا كان أثرها
مناقضا للأثر الثابت بالاستصحاب، وذلك لعدم جواز بيع الوقف ولا يقبل النقل
والانتقال: فاستصحاب ملكية زيد يقتضي جواز البيع والنقل والانتقال. والوقفية
الواقعية - بمقتضى الدليل الواقعي - تقتضي عدم جواز ذلك. فيتعارض
الدليلان لعدم امكان اجتماع الحكمين.
ففي الحال هذه اما ان يلتزم بتخصيص الأدلة الواقعية وتقييدها بحال
الشك وجريان الاستصحاب، بان يقال: ان عدم جواز بيع الوقف الثابت بدليله
الواقعي انما هو في غير حال الشك وقيام الأصل على عدم الوقفية، واما مع ذلك
فهو جائز واقعا ولا يحكم بعدم الجواز واقعا. أو لا يلتزم بذلك لوصمة التصويب
فيه بتقيد الأحكام الواقعية على الموضوع بحال العلم به.
وانما يلتزم بان الجواز ظاهري والحكم بعدمه واقعي، فيجمع بين الدليلين
بذلك. فإذا زال الشك وعلم بالوقفية يرتفع الحكم الظاهري بجواز البيع لارتفاع
موضوعه، ويتأتى فيه حديث الاجزاء.
وهذا بخلاف الصورة الأولى، فإنه حيث لا مانع من ثبوت الحكم واقعا
للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثر المناقض على ضده لو كان ثابتا في الواقع،
مع وجود المقتضي لذلك، وهو كونه فردا للموضوع تكوينا، كان ثبوت الحكم له
52

ثبوتا واقعيا لا يتصور فيه انكشاف خلاف، بل يرتفع بارتفاع موضوعه
لانكشاف الخلاف في موضوعه.
وإذا تبين هذا فنقول: ان أدلة الاشتراط تتكفل اثبات الشرطية للطهارة
ودخل وجودها في العمل الصلاتي - مثلا -، فالدليل المتكفل لجعل الطهارة
وايجادها في عالمها الواقعي لها - أعني العالم الاعتباري - يكون موجبا لترتب
الشرطية عليها بالدليل الأول، لأنه قد حقق أحد مصاديق الموضوع، فيترتب عليه
الحكم قهرا، فيكون حاكما على أدلة الاشتراط بالمعنى الأول للحكومة التي
عرفت انها ليست من أنواع الحكومة الاصطلاحية، لعدم النظر في الدليل الحاكم
إلى الدليل المحكوم أصلا، لأنه لا يتكفل سوى جعل فرد وايجاده من دون ان
ينظر إلى ترتب الحكم الثابت بذلك الدليل عليه مما تقدم.
وبالجملة: حال أصالة الطهارة بالنسبة إلى دليل الاشتراط حال ما
يتكفل تكوين " عالم " حقيقة بالنسبة إلى دليل: " أكرم العلماء " ولما لم يكن
للشرطية أثر مناقض مترتب على النجاسة الواقعية، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا
لامتناع ذلك كما عرفت الإشارة إليه، كان ثبوت الشرطية للطهارة الظاهرية -
بمعنى المجعولة في حال الشك بالطهارة والنجاسة الواقعيتين - ثبوتا واقعيا.
فالطهارة الظاهرية شرط واقعا. فيكون العمل الذي جاء به مع الطهارة
الظاهرية واجدا لما هو الشرط واقعا، فإذا زال الشك وعلم بالنجاسة وزالت
الطهارة الظاهرية لم يكن في العمل بالنسبة إلى الشرط انكشاف خلاف الواقع
لوجدانه للشرط واقعا، وانما يكون من باب تبدل الموضوع فتزول الشرطية
قهرا، لارتفاع موضوعها كما لو تنجس الطاهر.
وعليه، فالمقصود من حكومة أصالة الحل والطهارة على أدلة الاشتراط
هذا المعنى من الحكومة - أعني حكومة ما يتكفل ايجاد ما هو الموضوع واقعا
وتكوينه -، فيترتب عليه الأثر واقعا بأدلة الاشتراط.
53

نعم أصالة الطهارة بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار التي ثبت ضدها
للنجاسة كجواز الشرب، إذ لا يجوز شرب النجس، لا تتكفل ثبوتها الواقعي،
وذلك لان الموضوع الذي تكفلت بيان طهارته في حال الشك إذا كان نجسا واقعا
تثبت له آثار النجاسة الواقعية في الواقع كعدم جواز الشرب، ودليل الطهارة
يتكفل جواز شربه، فيتعارضان، وقد عرفت أن مقتضى الجمع الصحيح هو
الالتزام بان الحكم الثابت بالأصل حكم ظاهري والثابت للنجس الواقعي حكم
واقعي ويتقرر فيهما ما قرر في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.
وهكذا الحال بالنسبة إلى آثار النجاسة الخاصة غير المناقضة لاثر
الطهارة، كتنجيس الملاقي - إذ ليس عدم تنجيس الملاقي من آثار الطهارة
المجعولة، بل المجعول هو تنجيس الملاقي للنجاسة -، فان أصالة الطهارة
تتكفل نفيها ظاهرا لاستلزامها نفي النجاسة ظاهرا كما عرفت.
وعليه، فإذا زال الشك وانكشف الخلاف انكشف خلاف الحكم الظاهري
الثابت، وزال الحكم الظاهري من حين انكشاف الخلاف.
وخلاصة الكلام: ان أصالة الطهارة بضميمة دليل الاشتراط تتكفل
اثبات الشرطية واقعا، فيكون زوال الطهارة ظاهرا موجبا لارتفاع موضوع
الشرطية وهو الطهارة، ولا يتصور في الشرطية كشف خلاف الواقع، لعدم المانع
من ثبوت الشرطية واقعا مع وجود المقتضي وهو دليل الشرطية.
واما بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار المترتب ضدها على النجاسة
فهي تتكفل ثبوته ظاهرا لأنه مقتضي الجمع بين الدليلين.
ومن هنا خص صاحب الكفاية بالاجزاء مورد حكومة أصالة الطهارة على
أدلة الاشتراط وبالنسبة إلى الشرطية والشطرية. فالتفت جيدا.
وبوضوح ما ذكرنا يتضح عدم الوجه فيما أورد على صاحب الكفاية
نقضا: بان أصالة الطهارة إذا كانت تتكفل التوسعة الواقعية في موضوع له.
54

لزم أن لا يحكم بتنجس ما يلاقي النجس واقعا المحكوم بطهارته ظاهرا،
ويحكم بطهارته بعد انكشاف الخلاف لأنه لاقى الطاهر في حينه.
كما لزم ان يحكم بصحة الوضوء أو الغسل بالماء الثابتة طهارته بأصالة
الطهارة أو استصحابها، مع كونه نجسا واقعا - لو انكشف ذلك -، لان شرط
صحة الوضوء والغسل طهارة الماء وقد تحققت.
وبأنه لو كان الاستصحاب كأصالة الطهارة يتكفل التوسعة في الموضوع
واقعا.
لزم ان نحكم بصحة البيع المترتب على استصحاب ملكية زيد للمال مع
انكشاف انه وقف واقعا أو انه ملك لعمرو، لتحقق موضوع صحة البيع وجواز
النقل والانتقال وهو ملكية زيد.
والحال انه لا يلتزم أحد بهذه اللوازم حتى صاحب الكفاية نفسه (1).
ووضوح عدم ورود هذه النقوض: ان نجاسة الملاقي من احكام النجس،
إذ لم يؤخذ عدم النجاسة حكما للطهارة شرعا. وبما أن الطهارة تضاد النجاسة
كان الحكم بطهارة الماء ظاهرا ملازما لنفي النجاسة ظاهرا الملازم لنفي نجاسة
ملاقيه ظاهرا لا واقعا. وعليه إذا انكشف نجاسة الماء واقعا زال الحكم الظاهري،
وعلم بان الملاقي قد لاقى ما هو نجس فيترتب عليه حكم ملاقاة النجس وهو
النجاسة.
وبالجملة: الحكم بطهارة الملاقي حكم ظاهري لا واقعي كالشرطية،
للفرق الواضح كما أشرنا إليه في أصل التقريب.
وهكذا الحال في عدم صحة الوضوء والغسل، لأنه لم يثبت أخذ الطهارة
في الوضوء والغسل شرطا كي تثبت للماء واقعا لعدم المانع، بل يمكن ان يدعى

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 200 - الطبعة الأولى.
55

أخذ النجاسة فيهما مانعا، فالذي يتكفله دليل الطهارة حينئذ نفي المانعية ظاهرا
بالملازمة العقلية، فإذا انكشف الخلاف بالعلم بنجاسة الماء فقد انكشف كون
الوضوء مع المانع الواقعي، لعدم نفي المانعية واقعا بأصالة الطهارة.
وبالجملة: لا يعلم ان أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل تتكفل
حكما واقعيا يقتضي صحتهما، لاحتمال أخذ النجاسة مانعا فيهما وعدم أخذ
الطهارة شرطا، وقد عرفت أن اعتبار أخذ الضدين ظاهرا انما ينفي آثار الضد
الآخر - ولو لم تكن مناقضة لآثاره - ظاهرا لا واقعا.
واما النقض باستصحاب الملكية لزيد، فعدم وروده لاجل ان للملكية
ضدا، له أثر يناقض أثرها، وذلك الأثر هو عدم جواز النقل والانتقال. فجواز
النقل والانتقال الثابت باستصحاب ملكية زيد بمقتضى الجمع بين الدليلين
جواز ظاهري يرتفع بانكشاف خلافه، فتكون المعاملة واقعة على ما هو وقف أو
ملك عمرو واقعا وحكمها عدم جواز الصحة واقعا.
ولعل النقض المذكور قد جاء في ذهن صاحب الكفاية فخص حكومة
الاستصحاب باستصحاب الطهارة لا مطلق الاستصحاب، فقال:
" واستصحابهما... ".
والحاصل: ان موارد النقوض يختلف فيها الحال عن مورد الشرطية
فلا يلزم بهما صاحب الكفاية.
وقد أورد المحقق النائيني على صاحب الكفاية مضافا إلى بعض النقوض
بالحل وهو أربعة وجوه:
الأول: ان الحكومة بنظر صاحب الكفاية تتقوم بان يكون الدليل الحاكم
مفسرا وشارحا للدليل المحكوم، بتضمنه ألفاظ الشرح كلفظ: " أعني " وما شابهه،
ولأجل ذلك لم يلتزم بحكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية.
56

وعليه، فلا تتجه دعوى حكومة أصالة الطهارة وأصالة الحل
والاستصحاب على أدلة الاشتراك لعدم كون لسانهما لسان الشرح والتفسير (1).
وفيه:
أولا: انه لم يثبت من صاحب الكفاية هذا الالتزام في باب الحكومة وان
كان له شاهد في بعض عباراته في الكفاية - كما بينا ذلك في محله -، لصراحة
متابعته الشيخ في حاشيته على الرسائل في تفسير الحكومة في نفي ذلك (2).
ومقتضى القاعدة وان كان نسبة ما تتضمنه الكفاية إليه دون التعليقة مع
الاختلاف، لتأخر الكفاية، الا انه حيث لم يكن لما ذكره في الكفاية ظهور جزمي
فيما نسب إليه لم يمكن نسبة المعنى المذكور إليه.
وثانيا: ان المهم فيما نحن فيه هو بيان تقدم أصالة الطهارة على أدلة
الاشتراط، وتكفلها التوسعة الواقعية في مصاديق الشرط، وقد عرفت وجهه، اما
كون جهة هذا التقديم هي الحكومة أو غيرها فهذا لا يهم فيما نحن بصدده،
فالايراد المذكور ايراد لفظي صرف يرجع إلى بيان عدم صحة تسمية جهة
التقديم بالحكومة، وهو غير مهم في أصل الدعوى وتحقيق الاجزاء.
الثاني: ان أصالة الطهارة يستحيل ان تكون متكفلة للتوسعة الواقعية
للشرط، لأنها تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ومورد الشك بالواقع،
فكيف تكون بنفسها موجبة لثبوت حكم واقعي لها وهو الشرطية؟ (3).
وفيه: انها انما تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر، وذلك لا ينافي ان
يثبت للطهارة الظاهرية المجعولة حكم واقعي، وقد عرفت أن أصالة الطهارة انما
تتكفل التوسعة الواقعية في الشرط، وهو لا ينافي كون المجعول بها حكما ظاهريا.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 198 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول / 257 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 198 - الطبعة الأولى.
57

وبتعبير آخر: ما ذكره (قدس سره) انما يتجه لو ادعى اتحاد ما تتكفل
جعله أصالة الطهارة وما تستلزم توسعته واقعا، إذ بعد فرض ان المجعول بها امر
ظاهري قد لوحظ الجهل بالواقع فيه لا يمكن فرض تكفلها توسعة المجعول بها
واقعا وايجاد فرد واقعي، فإنه خلف فرض كون المجعول بها امرا ظاهريا.
واما مع اختلاف المجعول بها وما تستلزم توسعته فلا محذور فيه، والامر
كذلك، فان أصالة الطهارة لا تتكفل التوسعة الواقعية في نفس الطهارة، بل
تتكفل التوسعة في الشرط الواقعي وما هو موضوع الشرطية واقعا، وهذا لا ينافي
كون المجعول بها الطهارة الظاهرية، إذ لا امتناع في كون الطهارة الظاهرية
شرطا واقعا.
الثالث: ان الحكومة على نحوين: نحو يكون الدليل الحاكم في رتبة
الدليل المحكوم، بان لا يكون الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في موضوع
الدليل الحاكم، نظير دليل: " لا شك لكثير الشك " بالنسبة إلى أدلة الشكوك في
الصلاة، فإنهما في رتبة واحدة لاتحاد موضوعيهما رتبة، وهذا النحو يعبر عنه
بالحكومة الواقعية والدليل الحاكم فيه يكون معمما واقعا للدليل المحكوم أو
مخصصا بلسان الحكومة. ونحو يكون الدليل الحاكم متأخرا في المرتبة عن الدليل
المحكوم، بان كان الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم، فيتأخر
موضوعه المستلزم للتأخر الرتبي، يعبر عن هذا النحو بالحكومة الظاهرية، لان
الدليل الحاكم فيه لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الدليل المحكوم واقعا لفرض
ثبوته في مرحلة الشك بالواقع، بل يتكفل التوسعة أو التضييق في مرحلة الظاهر
والاحراز، فيترتب عليه آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، ومع انكشافه ينكشف
عدم ثبوت الأثر الواقعي، لعدم تحقق موضوعه، فيكون مقتضى القاعدة عدم
الاجزاء. والحكومة فيما نحن فيه من هذا القبيل، لكون المفروض أخذ الشك في
الواقع في موضوع أدلة الأصول، فلا تكون الأصول في رتبة الدليل الواقعي، بل
58

يكون نظرها إلى ترتب الحكم على المجعول بها ظاهرا وفي ظرف الشك.
وعليه، فمع انكشاف الخلاف يتضح عدم وجدان العمل لشرطه الواقعي،
فلا وجه للحكم بالاجزاء حينئذ (1).
وفيه: ان ما ذكره يتم لو كانت الحكومة بأحد النحوين الأخيرين الذين
يتكفل الدليل الحاكم فيها ترتيب الحكم والنظر فيه إلى ترتب الأثر، فيتكفل
بنفسه التوسعة فيما هو موضوع الحكم، فإنه يقال عليه: انه إذا فرض انه يتكفل
جعل الموضوع في مرحلة الظاهر فلا محالة جعل الحكم له ظاهرا أيضا
فيتأتى فيه انكشاف الخلاف.
واما إذا كان المراد من الحكومة هو المعنى الأول لها الذي قد عرفت أن
الدليل الحاكم فيه لا يتكفل سوى ايجاد الموضوع بلا أن يكون ناظرا إلى ترتيب
الحكم عليه، بل الحكم يثبت له بدليله الخاص، فلا يتكفل سوى التوسعة في
مقدار صدق ما هو الموضوع وانطباقه، لا التوسعة في الموضوع، فلا يتأتى فيه ما
ذكره لان ثبوت الحكم للمجعول يكون ثبوتا واقعيا، لا معنى لانكشاف الخلاف فيه.
وقد عرفت أن حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط التي ادعاها
صاحب الكفاية من النحو الأول، لان موضوع الشرطية أمر اعتباري ينوجد
بالاعتبار والجعل وهو الطهارة، وأصالة الطهارة تتكفل ايجاد فرد للموضوع في
ظرف خاص بلا ان تتكفل هي جعل الحكم وترتيب الأثر، بل تثبت الشرطية
بدليلها للطهارة باعتبار انطباق الموضوع عليها وكونها فردا من افراده كالطهارة
المجعولة للأشياء بحسب اصلها أو بعد التطهير بالكر، فهي انما تتكفل التوسعة
في دائرة انطباق الموضوع لا في دائر نفس الموضوع. فتدبر.
الرابع: ان حكومة أصالة الطهارة إذا كانت بلحاظ انها تتكفل ايجاد

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 199 - الطبعة الأولى.
59

الموضوع وجعل ما هو المماثل، وبتعبير آخر: إذا كانت جهة حكومة أصالة
الطهارة واستصحابها هو تكفلهما ايجاد حكم ظاهري، لزم ان يلتزم بالحكومة في
موارد الامارات، لأنها تتكفل جعل حكم الظاهري مماثل للمؤدى، فالامارة القائمة
على طهارة الماء تتكفل بدليل اعتبارها جعل الطهارة واعتبارها ظاهرا، فتثبت
لها الشرطية واقعا لأنها فرد للموضوع الاعتباري، فلا يتصور فيه كشف الخلاف
أيضا، فلا يتجه التفصيل بين الأصول والامارات، مع أن ملاك الحكومة والاجزاء
في كليهما متحقق (1).
ولا يخفى ان هذا الايراد - وان كان لا يخلو عن وجه في نفسه - لكنه من
مثل المحقق النائيني (قدس سره) غير وجيه، لأنه (قدس سره) لا يلتزم بكون
المجعول في باب الامارات حكما ظاهريا، بل ما يلتزم به كون دليل الاعتبار متكفلا
لجعل الطريقية وتتميم الكشف - كما سيجئ توضيحه في محله -، فالنقض على
صاحب الكفاية بالامارات غير وجيه، كما أن لا يصلح أن يكون ايرادا جدليا
يذكر لالزام صاحب الكفاية بالنقض، لان صاحب الكفاية يتفق مع المحقق
النائيني في عدم كون المجعول حكما ظاهريا بدليل الامارة، وان كانت يختلف معه
في كون المجعول بدليل الامارة المنجزية والمعذرية التي يدعي المحقق النائيني
عدم معقولية جعلها.
فهذا الايراد انما يورد على من يلتزم بان المجعول في باب الامارة حكم
ظاهري مماثل، إذ يتجه النقض بالامارة حينئذ وطلب الفارق بين الموردين.
وقد تصدى المحقق الأصفهاني للإجابة عنه وبيان الفرق الفارق بين
الأصل والامارة بما بيانه: ان لسان دليل الأصل يختلف عن لسان دليل الامارة
فان لسان الأصل مفاده جعل فرد ظاهري للطهارة في مقابل الفرد الواقعي، مع

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 199 - الطبعة الأولى.
60

غض النظر عن الواقع، فيتكفل قهرا ثبوت الحكم لهذا الفرد يوجب التوسعة في
موضوع الحكم، فيكون أعم من الفرد الواقعي والظاهري، فلا يتصور فيه كشف
خلاف. ولسان الامارة مفاده جعل الفرد الواقعي واعتباره وبيان ان مفاد الامارة
هو الواقع، فلا تتكفل جعل شئ في قبال الواقع بل تتكفل اعتبار هذا هو
الواقع، فلا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم، بل تتكفل ثبوت آثار الواقع لما
اعتبر بها، فإذا تبين انه غير الواقع كان من باب انكشاف الخلاف، إذ لم تثبت
الآثار الواقعية له، بل تثبت آثار الواقع للبناء على أنه الواقع، فيتصور فيه
انكشاف الخلاف بخلاف الأصل، فإنه لما لم يكن الاعتبار فيه بلحاظ الواقع كان
متكفلا للتوسعة في الموضوع وثبوت الآثار الواقعية، فلا معنى لانكشاف الخلاف،
بل يزول الحكم بزوال موضوعه (1).
ولا يخفى ان هذا الجواب لا يدفع الاشكال على ما قربنا به عبارة
الكفاية، لأنه لم نلتزم بتكفل دليل الأصل التوسعة في الموضوع وترتيب الحكم
على الفرد الظاهري، كي يفرق بين الأصل والامارة في كيفية المفاد ونحو
اللسان، بل قد عرفت تقريبه، بان الأصل لا يتكفل سوى جعل الموضوع
الظاهري من دون لحاظ ترتب الحكم عليه، فيترتب عليه الحكم الثابت بدليله
الخاص على طبيعي الموضوع الاعتباري، فهو انما يوجب التوسعة في دائرة
صدق الموضوع لا دائرة نفس الموضوع. وهذا المعنى يتأتى في مفاد الامارة، فإنها
تتكفل جعل الموضوع الاعتباري ظاهرا فتحقق فردا للموضوع فيثبت له الحكم
قهرا بدليله لأنه أحد افراد الموضوع، واختلاف اللسان وكون النظر في الامارة
إلى جعل الموضوع بلحاظ الواقع لا يكون فارقا بعد أن كانا مشتركين فيما هو
ملاك ثبوت الأثر الواقعي واقعا وهو تكفلها ايجاد فرد للموضوع الاعتباري،

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 153 - الطبعة الأولى.
61

ولا نظر لهما إلى ترتب الآثار، كي يقال: ان نظر الأصل إلى ترتب الأثر الواقعي
واقعا، ونظر الامارة إلى ترتب أثر الواقع ظاهرا.
فالحق في الجواب ان يقال: ان الفرق الفارق بين الأصل والامارة لا يرجع
إلى اختلاف لسانيهما، بل إلى اختلاف المجعول بهما، فالمجعول بالأصل غير
المجعول بالامارة، بيان ذلك: ان المجعول بالأصل هو الطهارة بلا نظر إلى
الواقع أصلا، بل تعتبر الطهارة بالأصل مع غض النظر عن الواقع وباسدال
الستار عليه، فيكون الطهارة الثابتة بالأصل فردا لطبيعي الطهارة الاعتبارية
الثابت لها الأثر بالدليل المعين، في مقابل الفرد الواقعي وفي عرضه فيثبت لها
الأثر الواقعي كما يثبت للطهارة الواقعية، لكون كل منهما فردا تكوينيا لما هو
موضوع الأثر. وهذا بخلاف الجعل في الامارة، فإنه بلحاظ الوصول إلى الواقع،
فالمجعول بالامارة هو الطهارة بما انها الطهارة الواقعية وبما هي ثابتة واقعا - ولذا
يصح نسبة مفاد الامارة إلى الله على أنه الواقع، والالتزام به على أنه كذلك،
بخلاف مفاد الأصل فإنه لا يصح الالتزام به على أنه الواقع، وهذا امر تشترك
فيه جميع الالتزامات في المجعول في باب الامارة من المنجزية أو الطريقية أو
الحجية أو الحكم المماثل، فان الجميع يلتزمون بهذا المعنى وانه عند قيام الامارة
يصح الالتزام بمفادها بما أنه الواقع ويصح نسبته إليه تعالى كذلك فيقال حكم
الله الواقعي كذا -.
وعليه، فالفرد الثابت بالامارة لا يكون في عرض الواقع، بل في طوله
فترتب عليه آثار الواقع ظاهرا لا الأثر الواقعي، فيتصور فيه كشف الخلاف
بانكشاف انه غير الواقع دون ما هو مفاد الأصل.
ولايضاح هذا المعنى جيدا ورفع الابهام فيه كاملا نقول: انه إذا ثبت
حكم على طبيعي موضوع، كما إذا ثبت الحكم على طبيعي العالم، فكان له فرد
تكويني حقيقي، وثبت بالدليل فرد اعتباري - وإن لم يكن حقيقة كذلك - ثبت
62

ذلك الحكم لكلا الفردين الحقيقي والاعتباري، لان كلا منهما فرد للطبيعي، فإذا
اعتبر الفرد الاعتباري - بلحاظ جهة ما كالشك فيه - ثابتا متحققا، بان ورد
الاعتبار على الفرد لا على الطبيعي، كان دليل الاعتبار بمقتضى ذلك متكفلا
لثبوت آثار الفرد الاعتباري عليه في مرحلة الشك، فإذا تبين انه ليس الفرد
الاعتباري كان من باب انكشاف الخلاف ويزول الحكم حينئذ، ويتبين أن لا
موضوع لترتيب الآثار، إذ لم يكن ذلك الفرد الاعتباري ثابتا في الواقع، إذ
الاعتبار الثاني في طول الاعتبار الأول فتترتب عليه آثاره لا في عرضه، كي
تترتب عليه الآثار الواقعية.
إذا عرفت هذا فما نحن كذلك، فان الأثر وهو الشرطية قد ترتب
على طبيعي الطهارة التي هي امر اعتباري، فلها فرد واقعي لم يؤخذ في موضوعه
الشك كالطهارة المعتبرة عند التطهير بالكر أو كالطهارة الأصلية.
وقد ثبت لها فردا آخر ظاهرا وهو الطهارة المعتبرة بالأصل، لكنه ثابت
في عرض الفرد الواقعي، ولذا كان الاعتبار واردا على المفهوم الطهارة وكليها.
فثبت له الشرطية كما تثبت للفرد الواقعي.
ولكن الطهارة الثابتة بالامارة ليست كذلك، فإنه لم يعتبر بها مفهوم
الطهارة وطبيعيها، وانما المعتبر هو الطهارة الواقعية، أعني الفرد الواقعي للطهارة
الاعتبارية - وهو غير المأخوذ في موضوعه الشك -، فظهر: ان المعتبر في الامارة
هو الطهارة بما انها الواقع.
وعليه، فلا تثبت لها آثار طبيعي الطهارة المأخوذ في الموضوع، بل تثبت
لها آثار الواقع، إذ هي فرد اعتباري للواقع، فهي في طوله، فتترتب عليه آثاره،
والا لما اتجه اعتبار الواقع، بل كان اللازم ان يعتبر أصل الطهارة ويتحقق كليهما
في عالم الاعتبار والجعل كي تترتب عليه الآثار الواقعية، ومعه يتصور انكشاف
الخلاف بظهور عدم ثبوت الطهارة الواقعية والفرد الواقعي المعتبر للطهارة،
63

فينكشف عدم تحقق ما هو موضوع الأثر - وهو الشرطية - فيكون العمل فاقدا
للشرط الواقعي. وذلك لا يثبت في مفاد الأصل، لان المعتبر هو المفهوم - وهو
ثابت في عالم الاعتبار لا ينكشف عدم تحققه - وليس المعتبر به الفرد الواقعي.
وعليه فترتب عليه آثار المفهوم ومنها الشرطية واقعا، فيكون العمل واجدا للشرط
الواقعي في ظرفه. ولم ينكشف عدم تحقق الشرط لتحقق موضوع الشرطية، بل
يزول الشرط وينعدم بزوال الشك فتدبر.
وخلاصة القول: ان الفرق الفارق هو الاختلاف في ما هو المجعول فيهما
واقعا وثبوتا فلاحظ.
وبهذا البيان يتضح ان ما افاده في الكفاية من الاجزاء في موارد الأصول
الجارية في تحقيق ما هو موضوع التكليف أو متعلقه، لا مانع عن الالتزام به، بل
لا محيص عنه لسلامته عن أي محذور قيل فيه.
ثم إنه (قدس سره) التزم بعدم الاجزاء في موارد الامارات الجارية في
تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلق بناء على الطريقية، وبالاجزاء بناء على السببية.
واما الأصول والامارات الجارية في نفس الأحكام الشرعية، فقد التزم
بعدم الاجزاء في مواردها مطلقا، قيل بالطريقية أو السببية (1).
اما عدم التزامه بعدم الاجزاء في مورد الامارة الجارية في تحقيق الموضوع
أو متعلق الحكم بناء على الطريقية فقد بين سره بما تقدم من المحقق الأصفهاني
(قدس سره) في بيان الفرق بين الأصل والامارة - ولعله استخلصه من ظاهر
عبارة الكفاية -، من أن لسان دليل الامارة جعل الموضوع بما أنه الواقع،
فتتكفل جعل آثار الواقع عليه، فالامارة القائمة على الطهارة تتكفل بيان تحقق
ما هو الشرط واقعا، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف عدم ثبوت الطهارة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 87 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
64

الواقعية، وقد تقدم بيان عدم وفاء هذا المعنى بالمطلوب، وبيان ما هو التحقيق في
الفرق الفارق من انه اختلاف المجعول واقعا وثبوتا فلا نعيد.
واما التزامه بالاجزاء في مورد الامارة الجارية في تحقيق الموضوع أو
المتعلق بناء على السببية، فقد بينة بأنه حيث يكون مؤدى الامارة بقيام الامارة
ذا مصلحة واقعية، فيتأتى فيه الاحتمالات الثبوتية المتأتية في المأمور به
الاضطراري، من أن المصلحة اما ان تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها،
ولم يمكن تدارك الباقي أو أمكن، وكان لازم التدارك أو غير لازم التدارك، وقد
تقدم ان جميع الاحتمالات الثبوتية غير الاحتمال الثابت ملازم للاجزاء، كما
عرفت أن مقتضى الاطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم الاجزاء.
وقد أورد عليه: بان هذا انما يتم بناء على السببية التي يلتزم بها المصوبة
وأهل الخلاف، دون التي يلتزم بها أهل الحق المخطئة (1).
ولا بد لنا في وضوح كلام الكفاية نفيا أو اثباتا في هذه الجهة والجهة
الأخرى - أعني التزامه بعدم الاجزاء مطلقا في الأصول والامارات القائمة على
الحكم - وما ذكره في الأصل العملي عند الشك في اعتبار الامارة من باب
الطريقية أو السببية، واختلاف الحال فيه عن الأصل العملي في باب الأوامر
الاضطرارية أو الظاهرية بناء على السببية. من البحث في الاجزاء مستقلا بنحو
كلي، وبه تتضح كل جهة من جهات كلامه. فنقول: ان الأصل أو الامارة التي
يثبت بها حكم ظاهري، تارة تكون جارية في الموضوع. وأخرى في نفس الحكم.
فالأولى: كما إذا قامت البينة أو الاستصحاب على موت زيد الذي يترتب
عليه آثار شرعية.
والثانية: كالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 202 - الطبعة الأولى.
65

وانكشاف الخلاف وان الواقع على خلاف مؤدى الامارة، تارة يحصل
بالعلم الوجداني التكويني. واخر يحصل بحجة وأمارة أخرى بحيث تمنع من
نفوذ الأولى.
ولا يخفى انه قد يشتبه الامر على بعض، فلا يتصور دخول صورة قيام
الحجة الأخرى على خلاف الأولى في موضوع الكلام، ويخصص الكلام فيما إذا
حصل الانكشاف بالعلم.
وجهة ذلك: ان قيام الامارة الأخرى والحجة الثانية المتأخرة لا يمنع من
حجية الامارة الأولى في ظرفها، ولا ينفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة العملية
الفعلية للمكلف في حينه، وعليه فلا يتصور فيه كشف خلاف الأولى من أول
الامر وان الواقع على خلاف مفادها، إذا لا تنفى حجيتها في ظرف قيامها وعدم
وجود الحجة الأقوى المتأخرة.
ولا يخفى انه توهم فاسد ينشأ من عدم الالتفات إلى ما هو محل الكلام
وموضوع النزاع.
وذلك لان موضوع الكلام: ما إذا قامت أمارة على تعيين الوظيفة الفعلية
الظاهرية استمر ذلك، ثم انكشف ان هذه الوظيفة الظاهرية لم تكن على طبق
الواقع.
وهذا كما يتصور في العلم كذلك يتصور بقيام حجة أخرى.
اما صورة قيام العلم فواضحة. واما صورة قيام الحجة، فلان الحجة
الأخرى وإن لم تمنع من حجية الأولى في حينها ولا تنفي كون مفاد الأولى هو
الوظيفة الظاهرية الفعلية في ظرفها، لكن مفادها ان الواقع هو مؤداها وان غيره
ليس بواقع، فيكون مفادها ان الوظيفة الظاهرية السابقة على خلاف الواقع،
فالعلم والامارة الأخرى يشتركان في عدم نفي حجية الامارة السابقة وكون
مؤداها في حينها هو الوظيفة الفعلية - إذ بالعلم ينكشف الواقع، وذلك لا يمنع
66

من كون الامارة القائمة على خلافه حجة قبل حصوله -، الا انهما يتكفلان
الكشف عن أن تلك الوظيفة الفعلية لم تكن على طبق الوظيفة الواقعية، فيقع
الكلام في أن تلك الوظيفة الفعلية الظاهرية مع العلم بمخالفتها للواقع وجدانا
أو تعبدا وبالامارة، هل تجزي عن الواقع ولا يلزم الاتيان بالوظيفة الواقعية فعلا،
أو بما يترتب الآثار الشرعية على فوات الواقع - لو فرض فواته - أو لا تجزي؟.
وبالجملة: بعد العلم بعدم الاتيان بالوظيفة الواقعية، يتكلم في أن ما جاء
به من الوظيفة الظاهرية هل يكفي فلا يلزم الاتيان بالواقع أو بما يترتب على
فواته شرعا، أو لا يكفي فلا بد من ترتيب آثار عدم الاتيان بالواقع من الاتيان
به لو لم يفت وقته أو قضائه لو فات الوقت ونحو ذلك من الآثار الشرعية؟.
والمتحصل: ان عدم تكفل الامارة الأخرى نفي حجية الأولى، بل تتكفل
تحديدها زمانا لا يكون ملاكا لخروج المورد عن محل الكلام، إذ مورد العلم
الوجداني بالخلاف كذلك، إذ لا ينكشف بالعلم عدم حجية الامارة القائمة، بل
هي حجة في ظرفها. فالملاك في موضوع الكلام هو انكشاف كون مؤدى الامارة
على خلاف الواقع، وهذا كما يحصل بالعلم يحصل بامارة أخرى لأنها تنفي مفاد
الأولى - وإن لم تنفي حجيتها - فيقع الكلام - كما عرفت - في اجزاء الوظيفة
الظاهرية عن الواقع وعدمه.
وأنت خبير بأنه بعد وضوح ما هو محل النزاع لا يبقى مجال لتوهم
الاجزاء بناء على الطريقية، بل عدم الاجزاء بملاحظة ما هو محل الكلام من
القضايا التي قياساتها معها، إذ بعد العلم - وجدانا أو تعبد - بعدم الاتيان بما هو
الوظيفة في الواقع لا وجه عقلائيا ولا عقليا في الالتزام بعدم ترتيب آثار عدم
الاتيان بالواقع وكفاية فعل أجنبي عن الواقع عنه.
نعم غاية ما تتكفله الامارة الأولى هو المعذرية وعدم استحقاق المؤاخذة
على مخالفة الواقع للجهل به مع العذر الموجب لقبح العقاب. ولكن الجهل لا
67

يرفع الآثار المترتبة على مخالفة الواقع، فلا بد من ترتيبها بعد العلم بالمخالفة.
وبالجملة: اطلاق أدلة الآثار المترتبة على عدم الاتيان بالواقع كاطلاق
دليل القضاء ونحوه محكم، ولم يثبت ان الاتيان بالوظيفة الظاهرية مانع عن
شموله.
ومع هذا فقد ذكر للاجزاء وجوه:
الأول: ما تقدم ذكره من أن قيام الحجة الأخرى لا يمنع من حجية
الأولى في ظرفها، فيكون لدينا حجتان، إحداهما تقضي بالاجزاء وهي الأولى
التي تحدد أمدها بالأخرى. والثانية تقضي بعدمه وهي الأخرى الفعلية، ولا وجه
لترجيح الأخرى على الأولى والالتزام بمقتضاها من عدم الاجزاء.
ووضوح وهن هذا الوجه لا يخفى على من له أقل فضل، فان الحجة
الأخرى وإن لم تنف حجية الأولى في حينها، الا انها تمنع من حجيتها فعلا وبقاء،
فالحجة الثابتة فعلا على الواقع هي الثانية، وهي تقتضي بان الحكم الواقعي غير
ما أدت إليه الحجة السابقة، وانه لا بد من ترتيب الآثار الواقعية لعدم الاتيان
بالواقع، فلا بد من العمل بها لأنها حجة في حقنا فعلا، وغيرها ليس حجة فعلا،
بل كان حجة وانقطعت حجيته بقيامه.
وبعبارة أخرى: انه لا بد علينا من العمل بالامارة الفعلية والالتزام
بمقتضاها، ومقتضاها ترتيب آثار عدم الاتيان بالواقع في ظرفه، وليس هناك حجة
فعلية تعارضها، لانقطاع حجية الأولى بقيام الامارة الثانية.
الثاني: ان الاتيان بالوظيفة الظاهرية المخالفة للوظيفة الواقعية كان عن
استناد إلى حجة في حينه، ومرجع الحجية إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع
وعدم المؤاخذة عليه، وقيام الحجة الأخرى لا ينفي حجية الأولى في ظرفها، بل
يمنع من حجيتها بقاء، فلا يكون مقتضاها عدم الاستناد في مقام العمل إلى
الحجة.
68

وهذا الوجه وإن لم يكن كسابقه في الوهن، لكنه غير سديد، فإنه لا يخلو
عن نوع مغالطة، وذلك لان معنى الحجية الثابتة للامارة هو المنجزية والمعذرية،
أعني ما يصح به احتجاج المولى على العبد لو صادف الواقع، واحتجاج العبد
على المولى لو خالف، والأول المقصود بالمنجزية والثاني هو المقصود بالمعذرية،
فيكون العبد موظفا بما توديه الامارة ما دامت قائمة ويكتفي به عن الواقع في
حال قيامها. فإذا انقطعت حجيتها وانكشف ان الواقع على خلاف ما أدلة لزم
ترتيب الآثار الواقعية على عدم اتيانه، ولا مجال للاكتفاء بالوظيفة الظاهرية عن
الواقع بعد فرض انكشاف الخلاف والعلم بأنها على خلاف الواقع بالحجة
الأخرى، لان الاكتفاء بمؤداها عن الواقع - بمعنى المعذور عنه - انما يثبت
ما دامت قائمة وحجة، فإذا انتفت حجيتها لم يثبت الاكتفاء بها عن الواقع.
وهكذا الحال لو التزم بان المجعول في الامارة هو الحكم المماثل، فإنه بلحاظ ترتب
المنجزية والمعذرية عليه، والمعذرية مستمرة باستمرار الحجية، فإذا انقطعت
الحجية انقطعت المعذرية ولزم العمل بالواقع الذي قامت عليه الحجة المخالفة.
وبالجملة: الاكتفاء بمؤدى الامارة عن الواقع انما هو ما دامت الامارة
حجة، فإذا انتفت حجيتها بقيام حجة أخرى أقوى منها امتنع الاكتفاء بمؤداها،
إذ لا وجه له، لان غاية ما تتكفله الامارة الأولى هو المعذرية عن الواقع، بمعنى
عدم صحة المؤاخذة على الواقع، وهي ثابتة، ولكنها انقطعت بقيام الامارة
الأخرى فلا بد من ترتيب الآثار الواقعية التي تقضي بها الأخرى، ومنها وجوب
القضاء أو الإعادة ونحوهما. فلاحظ.
الثالث: ان الالتزام بعدم الاجزاء مستلزم للعسر والحرج، وذلك فان
إعادة الصلاة أربعين سنة على من قلد مجتهدا لا يقول بوجوب السورة هذه المدة،
ثم قلد من يقول بوجوبها، وكان قد أتى بالصلاة بدون سورة، موجب للحرج
الشديد بلا كلام، وهكذا الالتزام ببطلان جميع معاملات من قلد مجتهدا يذهب
69

إلى جواز العقد بالفارسية وعمل على قوله، ثم قلد من يذهب إلى بطلان العقد
بالفارسية، فإنه موجب للعسر، ونحو ذلك من موارد البناء على بطلان الاعمال
السابقة وعدم ترتيب الأثر عليها. وعليه فينفي عدم الاجزاء بأدلة نفي العسر
والحرج فيثبت الاجزاء.
وفيه: انه لو تم الدليل على نفي الحرج في الشريعة - فإنه أول الكلام -،
فموضوعه الحرج الشخصي لا النوعي. ولذا لا يجوز ترك الوضوء بالماء البارد
لمن لا يكون عليه حرجيا بلحاظ انه موجب للحرج نوعا. ومعه لا بد من ملاحظة
كل مورد بخصوصه، فإذا كان عدم الاجزاء فيه موجبا للحرج بنى على الاجزاء
بمقدار ما يرتفع به الحرج لا مطلقا وفي جميع الاعمال. ومن الطبيعي ان أصل
الحرج ومقداره يختلف باختلاف الاشخاص، فلا يمكن الحكم لاجله بالاجزاء
بقول مطلق، بل يحكم بالاجزاء في مورد الحرج خاصة.
ولا يخفى ان هذا يرجع إلى تسليم كون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء،
ورفع اليد منها بلحاظ العنوان الثانوي، كرفع اليد عن سائر الأحكام الثابتة
بلحاظه.
والمتحصل: انه لا دليل على الاجزاء والقاعدة تقتضي عدمه.
وبعد هذا يقع الكلام في جهات كلام صاحب الكفاية الثلاث:
الجهة الأولى: في التزامه بالاجزاء في موارد الامارات القائمة على
الموضوع أو المتعلق بناء على السببية. وقد عرفت توجيهه بان مؤدى الامارة
يكون ذا مصلحة واقعية، فتاتي فيها الاحتمالات الثبوتية في المأمور به
الاضطراري الذي عرفت انها تنتهي إلى الالتزام بالاجزاء (1).
وقد أورد عليه المحقق النائيني (رحمه الله): بان هذا انما يتم بناء على

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 86 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
70

السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف. لا السببية التي يلتزم بها اهل الحق
والمخطئة المعبر عنها ب‍: " المصلحة السلوكية ". فان ما ذكره لا يصح مطلقا بناء
عليها، وذلك: لان الواقع يبقى على ما هو عليه من المصلحة بعد قيام الامارة،
ولا يكون مؤدى الامارة ذا مصلحة بنفسه، نعم لا بد أن يكون في العمل على طبق
الامارة مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، فلا وجه للاجزاء بالنسبة
إلى الإعادة ولا بالنسبة إلى القضاء.
اما الإعادة فواضح، إذ لم تفت مصلحة العمل بعد لبقاء الوقت وامكان
الاتيان به واستيفاء مصلحته، فلا يكون هناك مصلحة متداركة لمصلحة الواقع،
نعم إذا كان انكشاف الخلاف بعد فوات أول الوقت في مثل الصلاة، لزم أن يكون
في سلوك طريق الامارة مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت لا أكثر،
لأنها هي الفائتة دون غيرها.
واما القضاء، فلان الفائت ليس إلا مصلحة الوقت دون المجموع من
العمل والوقت، إذ يمكن استيفاء مصلحة ذات العمل بالاتيان به بذاته خارج
الوقت، فالثابت من المصلحة في العمل على طبق الامارة ليس إلا ما يتدارك به
مصلحة الوقت الفائتة دون مصلحة ذات العمل، لامكان الاستيفاء، فيجب
القضاء لان مصلحة ذات العمل ملزمة يلزم استيفاؤها. نعم إذا استمر الاشتباه
إلى آخر العمر كان للاجزاء وجه لفوات مصلحة العمل على المكلف أيضا، فلا بد
من أن تكون هناك مصلحة يتدارك بها تلك المصلحة. فتدبر (1).
وأورد عليه: بان ما ذكر من عدم الاجزاء وجيه بالنسبة إلى الإعادة دون
القضاء، وذلك...
اما بالنسبة إلى الإعادة، فلان غاية ما يفوت من المصلحة مصلحة أول

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 202 - الطبعة الأولى.
71

الوقت، وهي مما يمكن تداركها مستقلا، لان مصلحة ايقاع الصلاة أول الوقت
ليست مصلحة مرتبطة بمصلحة أصل الصلاة، بل هي مصلحة استقلالية ظرفها
الصلاة، مثل مصلحة القنوت ونحوه من المستحبات - هذا يبتني على ما يلتزم
المورد من عدم معقولية الجزء أو الشرط المستحب، بل مرجع الكل إلى المستحب
في الواجب فيكون ذا مصلحة مستقلة -، اما مصلحة نفس الصلاة فهي غير
فائتة لامكان استيفائها بفعل الصلاة لعدم فوات الوقت.
واما بالنسبة إلى القضاء، فلانه بخروج الوقت وانكشاف الخلاف بعد
مضيه تفوت مصلحة الوقت الملزمة، وهي مصلحة ارتباطية بمصلحة أصل الصلاة،
بمعنى انه لا يمكن تداركها واستيفاؤها الا في ضمن الصلاة. نظير حسن طعم
الطعام، في التكوينيات، فإنه لا يمكن استيفاؤه بدون نفس الطعام كما لا يخفى.
وعليه بعد فرض تدارك ما فات من المصلحة يلزم تدارك مصلحة الوقت الفائتة،
وقد عرفت أن تداركها لا يكون الا في ضمن مصلحة الصلاة، ففرض تدارك
مصلحة الوقت يلزمه فرض تدارك مصلحة الصلاة، ومعه لا مجال لايجاب القضاء
لحصول مصلحة العمل بدونه.
وبالجملة: فلا بد من التفصيل - بناء على السببية الحقة - بين الإعادة
والقضاء، فيلتزم بالاجزاء في الثاني دون الأول (1).
ولكن هذا الايراد لا يخلوا من بحث، وذلك لأنه انما يتم لو كان اللازم -
في صورة خطاء الامارة - تدارك نفس المصلحة الفائتة وايجاد فرد مماثل لها. واما
لو كان اللازم هو جبران المصلحة الفائتة بما يرفع الفوات والخسارة، سواء كان
بتدارك نفس المصلحة الفائتة أو بمصلحة أخرى تجبر فوات تلك المصلحة كما

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 274 - الطبعة الأولى.
بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 276 - الطبعة الأولى.
72

هو الحق فلا يتم هذا الايراد.
وتوضيح ذلك: ان وجه الالتزام بالمصلحة السلوكية هو ان الامارة كثيرا
ما لا تصادف الواقع، فيكون العمل عليها مفوتا لمصلحة الواقع، وعليه فايجاب
العمل عليها من قبل المولى الحكيم يلزمه عقلا ان يجبر فوات مصلحة الواقع
بجعل مصلحة في سلوك الامارة والعمل عليها، وإلا لكان الالتزام بالعمل بها
قبيحا، لان فيه تفويتا للمصالح الواقعية الملزمة. ومن الواضح ان العقل لا يحكم
- رفعا للقبح - بلزوم تدارك نفس المصلحة الفائتة، بل غاية ما يحكم به هو لزوم
الجبران، بحيث لا يفوت العبد شيئا من آثار المصلحة سواء كان يتدارك نفس
المصلحة أو بايجاد مصلحة أخرى جابرة، فان القبح يرتفع بذلك كما لا يخفى.
وإذا ثبت انه يمكن أن يكون الجبران بمصلحة ليست من سنخ المصلحة الفائتة،
فيمكن أن يكون تدارك مصلحة الوقت بمصلحة أخرى غير مرتبطة بمصلحة
الصلاة فتبقى مصلحة الصلاة بلا تدارك فيجب القضاء، ومع الشك في ذلك
فاللازم هو الاحتياط، للعلم أولا بعدم استيفاء مصلحة الصلاة والشك في
تداركها، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم تحصيل العلم باستيفائها وهو لا يكون
الا بالقضاء.
فالمتحصل: ان ايراد المحقق النائيني (رحمه الله) على صاحب الكفاية
وجيه.
الجهة الثانية: في تفصيله - بناء على السببية - بين الامارات القائمة على
الموضوع أو المتعلق، كالأمارت القائمة على جزئية السورة للصلاة والامارات
القائمة على الحكم، فالتزم بالاجزاء في الأولى وبعدمه في الثانية، فإنه قد يتسأل
عن وجه الفرق والسر في التفصيل (1).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 87 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
73

ولتوضيح جهة الفرق: لا بد أولا من الإشارة إلى جهة ثبوت المصلحة في
المؤدي الذي هو مفاد الالتزام بالسببية، فنقول: ان الوجه فيه أحد امرين:
الأول: ان الامر الذي تتكفله الامارة كسائر الأوامر الشرعية الواقعية
لا بد أن يكون بملاك وجود المصلحة في متعلقه، والا لم يتجه البعث نحو متعلقه
من الحكيم العادل. ولا خصوصية للامر الواقعي في كونه تابعا للمصلحة في متعلقه
دون غيره، فما تقوم عليه الامارة من امر يكون متعلقه ذا مصلحة.
الثاني: ان ايجاب العمل على طبق الامارة كثيرا ما يفوت مصلحة الواقع
على المكلف، لكثرة خطاء الامارة، وعليه فلا بد أن يكون مؤداها مشتملا على
مصلحة تجبر بها فوات مصلحة الواقع.
إذا عرفت هذا فاعلم أن سر الفرق يرجع إلى كون الوجه في الالتزام
بالسببية هو الأول.
وذلك: لان الامارة القائمة على الموضوع أو المتعلق مرجعها إلى بيان
كون الامر الواقعي متعلقه كذا، والامر بالاتيان بهذا المتعلق، ومقتضى ذلك
ثبوت المصلحة الباعثة للامر الواقعي في ما هو مؤدى الامارة - كالصلاة بدون
السورة مثلا -، فيكون امتثاله سببا للاجزاء لاستيفاء مصلحة الامر الواقعي
وصيرورته بعد العمل بلا ملاك فيسقط، ولا يمكن ان يتعلق بنفسه بالمتعلق
الواقعي لتعلقه واقعا بما هو مؤدى الامارة لثبوت الملاك فيه، وهو لا يتعلق واقعا
بأمرين. واما الامارة القائمة على الحكم، كالامارة القائمة على وجوب الجمعة،
فهي لا تنفي وجوب صلاة الظهر واقعا، لان غاية ما تتكفله احداث مصلحة في
وجوب الجمعة، فيكون وجوبها واقعيا، وهو لا ينافي وجوب الظهر، لان مفاد
الامارة وجوب هذا العمل، ولا تتكفل نفي وجوب غيره فيبقى وجوب غيره على
ما هو عليه من المصلحة. ولا تفي مصلحة مؤدى الامارة بها لأنها مصلحة أخرى
74

وكل منهما ملزمة. نعم لو كان مفاد الامارة كون الواجب الواقعي هو الجمعة كان
للاجزاء وجه لانقلاب مصلحة الواقع من الظهر إلى الجمعة، ولكنه خلاف
الفرض، لأنه من مورد قيام الامارة على المتعلق وان الواجب هذا، لا على أصل
الحكم وان هذا واجب من دون تعرض لاثبات ونفي غيره.
وبالجملة: مع قيام الامارة على أصل الحكم يكون كل من الواقع ومؤدى
الامارة واجبا واقعيا ذا مصلحة في متعلقه ولا يجزى أحدهما عن الاخر، الا ان
يدل دليل خارجي على عدم وجوب عملين واقعيين من سنخ واحد كصلاتين في
وقت واحد، فإنه كلام آخر غير مقتضي القاعدة.
ومحصل الفرق: ان الامارة القائمة على المتعلق أو الموضوع بما أن لها
نظرا إلى الواقع الثابت المتقرر، فهي تقلبه عما كان عليه وتجعل المصلحة الباعثة
نحوه في مؤداها، فيسقط بالاتيان بمؤداها. واما القائمة على الحكم، فغاية ما تثبته
تحقيق مؤداها واقعا لصيرورته بها ذا مصلحة، واما الواقع الثابت فلا تقلبه عما
هو عليه من المصلحة لعدم نظرها إليه أصلا.
واما بناء على الوجه الثاني، فلا يفترق الحال بين الامارة القائمة على
الحكم وغيرها في الاجزاء مطلقا، إذ بقيام الامارة على الحكم أو غيره لا بد أن يكون
فيه مصلحة تسد عن مصلحة الواقع وتفي به، وهذا ملازم للاجزاء لاستيفاء
مصلحة الواقع بما هو مؤدى الامارة، لان المصلحة الثابتة فيه قد لوحظ فيها
تدارك مصلحة الواقع مطلقا، وهو يقتضي الاجزاء.
الجهة الثالثة: فيما ذكره عند الشك في كون حجية الامارات بنحو
الطريقية أو بنحو السببية، من أن القاعدة تقتضي عدم الاجزاء ولزوم الإعادة
في الوقت للعلم باشتغال ذمته بما يشك في فراغها منه بما أتى به بضميمة أصالة
عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف، ولا يعارض هذا الأصل استصحاب عدم
75

فعلية التكليف، لأنه لا يثبت مسقطية ما أتى به الا بنحو الأصل المثبت (1).
فان هذا الكلام لا يخلو عن اجمال وغموض، ولا بد في توضيحه من
الإشارة إلى مواضع الغموض والتساؤل. فنقول: ما المراد من العلم باشتغال
الذمة وثبوت التكليف؟ هل العلم التفصيلي بثبوت التكليف الواقعي بعد كشف
الخلاف، أو المراد العلم الاجمالي؟.
فإن كان المراد من العلم العلم التفصيلي، ففيه: ان مجرد العلم التفصيلي
بثبوت التكليف لا يكفي في لزوم افراغ الذمة ما لم يعلم فعلية ذلك التكليف
الثابت، وهي غير معلومة، لان حجية الامارة إذا كانت بنحو الطريقية كان
التكليف فعليا، وإذا كانت بنحو السببية لا يكون التكليف الواقعي فعليا، بل
التكليف الفعلي على طبق مؤدى الامارة، وقد أتى به دون الواقع، وبذلك يحصل
له الشك في ثبوت التكليف الواقعي واصل البراءة ينفيه. ولو تنزلنا وقلنا: بكون
التكليف الواقعي المعلوم فعليا، كان ذلك بنفسه موجبا للزوم امتثاله جزما بحكم
العقل، لعدم الاتيان بمتعلقه، فاجراء أصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف
وضمه إليه لم يعرف وجهه الصناعي.
وان كان المراد به العلم الاجمالي، فاما ان يراد به العلم الاجمالي في مرحلة
الحدوث، فيقال: انه يعلم قبل العمل وبعد قيام الامارة بثبوت تكليف فعلي عليه
اما على طبق مؤدى الامارة - لو كانت حجيتها بنحو السببية -، أو بالواقع - لو
كانت حجيتها بنحو الطريقية - واما ان يراد به العلم الاجمالي في مرحلة البقاء،
فيقال: انه يعلم بعد العمل وانكشاف الخلاف بأنه مكلف بالواقع المنكشف فعلا
أو بمؤدى الامارة الذي جاء به.
فان أريد به العلم الاجمالي في مرحلة الحدوث، الذي يقتضي بدوا الاتيان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 87 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
76

بكل من مؤدى الامارة والواقع بمقتضى تنجيز العلم الاجمالي، لاحتمال فعلية
كل من التكليفين فتجب موافقته قطعا، فهو منحل حكما بقيام الامارة على كون
التكليف الفعلي على طبق مؤداها ونفي فعلية غيره بالملازمة، إذ قد تقرر في محله
انه إذا قامت امارة معينة لما هو المعلوم بالاجمال في أحد الأطراف ينحل العلم
الاجمالي ولا يكون منجرا، كما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد هذين الإنائين،
فقامت البينة على أن النجس هو هذا الاناء فإنها تنفي نجاسة الآخر بالملازمة،
ومعه لا يجب الاجتناب الا عما قامت البينة على نجاسته دون الآخر، لانحلال
العلم الاجمالي حكما. وما نحن فيه من هذا القبيل، لان مفاد الامارة كون
التكليف الفعلي هو مؤداها، فتنفي بالملازمة فعلية الواقع، وعليه فلا يجب الاتيان
بغير مؤداها، لعدم كون الواقع فعليا بمقتضى الامارة وانحلال العلم الاجمالي.
ولو فرض التنزل والالتزام بعدم انحلال العلم الاجمالي وكونه منجزا في المقام،
فهو بنفسه يقتضي بالاتيان بالفرد المشكوك الآخر، أعني الواقع بعد الاتيان
بمؤدى الامارة بلا احتياج للتمسك بأصالة عدم الاتيان بما هو مسقط للتكليف،
لان مقتضى تنجيز العلم الاجمالي لزوم الاتيان بجميع افراده تحصيلا للموافقة
القطعية، فأي ميزة لهذا العلم أوجبت الاحتياج إلى ضم أصالة عدم الاتيان بما
يسقط معه التكليف؟.
وان كان المراد به العلم الاجمالي في مرحلة البقاء، فمرجعه إلى العلم
باشتغال الذمة اما بتكليف ساقط - لو كان مؤدى الامارة -، أو بتكليف باق -
لو كان هو الواقع -، ومثل هذا العلم لاحظ له من التنجيز لخروج أحد طرفيه
عن محل الابتلاء وعدم كون التكليف المعلوم على جميع تقاديره فعليا فلا يكون
منجزا.
وبعد هذا كله ننقل الكلام إلى جهة أخرى من كلامه، وهي ما ذكره من أن
استصحاب عدم فعلية الواقع لا تثبت مسقطية المأتي به الا على القول
77

بالأصل المثبت (1).
فإنه قد يتسائل: بان مجرد اثبات عدم فعلية الواقع تكفي في نفي التكليف
فعلا، سواء كان ما أتى به مسقطا أو لم يكن، فما هي جهة الاهتمام بهذا الامر مع
فرض ثبوت عدم فعلية الواقع بالأصل؟.
هذه هي مواضع الغموض في كلامه وقد تبين انها في جهتين:
الجهة الأولى: في تشخيص المراد من العلم، وبيان جهة الحاجة إلى أصالة
عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف.
ويمكن رفع الغموض في هذه الجهة بان يقال: ان المقصود بالعلم هو العلم
التفصيلي، وبالأصل الاستصحاب الموضوعي الذي يثبت به بقاء التكليف، لا
الاستصحاب الحكمي - أعني استصحاب نفس بقاء التكليف -. بيان ذلك: انا
نعلم تفصيلا بثبوت الحكم الواقعي قبل الاتيان بمؤدى الامارة، سواء كانت
حجية الامارة من باب الطريقية أو من باب السببية، فان الحكم الواقعي له نحو
تقرر على كلا التقديرين، وقد وقع الكلام في كيفية ثبوته وتقرره. وقد ذهب
صاحب الكفاية في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إلى أنه يكون
في مورد الطرق والامارات حكما انشائيا لو علم به يصير فعليا ويتنجز (2).
وعليه، فبعد الاتيان بمؤدى الامارة وانكشاف الخلاف نعلم تفصيلا بان
الحكم الواقعي كان ثابتا بثبوت انشائي، لكنا نشك في بقائه وارتفاعه من جهة
الشك في كون المأتي به مسقطا وعدمه، فيستصحب عدم الاتيان بما هو مسقط
للتكليف، فيترتب عليه بقاء التكليف - ولا يجري استصحاب بقاء التكليف،
لامكان اجراء الأصل في الموضوع، معه لا تصل النوبة إلى اجرائه في المسبب -،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 87 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 277 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
78

وبمقتضى ان الاستصحاب يكون بمنزلة العلم الموضوعي الطريقي، يكون
الحكم الواقعي الثابت بالاستصحاب الموضوعي معلوما تعبدا لا تكوينا، فتثبت
فعليته، لان المفروض ان ثبوته كان بنحو لو علم به كان فعليا. وإذا ثبتت فعليته
وجب امتثاله بالاتيان بمتعلقه.
وقد يستشكل على هذا الاستصحاب بلزوم الدور، وذلك لان جريانه
متوقف على ثبوت الأثر المتوقف على فعلية الحكم، وفعلية الحكم تتوقف على
جريان الاستصحاب، فيلزم الدور، ولا يخفى ان هذا الاشكال سار في جميع
الموارد التي يجري فيها الأصل لاثبات الأثر المأخوذ في موضوعه العلم بالحكم
الواقعي كالفعلية ونحوها. وجوابه في محله وليس محله ههنا.
الجهة الثانية: جهة الارتباط بين أصالة عدم كون الواقع فعليا واثبات
مسقطية المأتي به.
ولرفع الغموض من هذه الجهة نقول: ان النظر في اجراء استصحاب
عدم فعلية الواقع هو ايجاد المعارض لأصالة عدم كون الاتيان بما يسقط معه
التكليف، كي تسقط عن العمل، والمعارضة تتوقف على كون استصحاب عدم
فعليه الواقع مثبتا، لكون المأتي به مسقطا، فإذا كان اثباته بالملازمة العقلية،
يكون من الأصل المثبت فلا يكون حجة، فلا يعارض أصالة عدم الاتيان بما
يسقط معه التكليف، بل يكون هذا مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع
بملاك تقدم الأصل السببي على المسببي. بيان ذلك: ان التنافي بين الأصلين وان
كان موجودا، لان الغرض من أصالة عدم الاتيان بمسقط التكليف اثبات فعلية
الواقع واستصحاب عدم فعليته ينفيه، الا ان الأصل المثبت للفعلية لما لم يكن
مثبتا لها رأسا - بمعنى ان موضوعه ليس هو بقاء الفعلية - وانما يثبتها بتوسط
اثبات عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف، واستصحاب عدم فعلية الواقع لا
يثبت الاتيان بالمسقط الا بنحو الملازمة، كان استصحاب عدم الاتيان بالمسقط
79

مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع، لأنه يتكفل نفي مفاد استصحاب عدم
الفعلية باثباتها، واستصحاب عدم الفعلية لا ينفي مفاده ومجراه الا بالملازمة غير
المعتبرة شرعا، فيكون رفع اليد عن استصحاب عدم فعلية الواقع بوجه - وهو
استصحاب عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف لأنه ينفيه -، ولا يكون رفع اليد
عن استصحاب عدم الاتيان بما هو المسقط بوجه، إذ الأصل الآخر لا ينفيه كما
هو الفرض، أو بوجه دائر، وهو نفي جريان استصحاب عدم الاتيان بما يسقط
معه التكليف بأصالة عدم الفعلية المتوقفة على عدم جريان استصحاب عدم
الاتيان بالمسقط.
وبالجملة: الوجه في تقديم استصحاب عدم المسقط على استصحاب
الفعلية هو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسببي، فإنهما من قبيلهما وإن لم
يكونا من مصاديقهما.
ومثل هذا يقال في الجواب عما يدعى من معارضة الاستصحاب التعليقي
بالاستصحاب المنجز دائما بتقريب: ان المستصحب حرمته تعليقا كان حلالا
جزما قبل حصول المعلق عليه، فتستصحب حليته بعد حصوله، فيتعارض
الأصلان. مثلا: بعد قيام الدليل على حرمة العنب إذا غلى، وشك في سراية هذا
الحكم إلى الزبيب وعدمها، فتستصحب هذه الحرمة التعليقية، فيقال: ان الزبيب
حين كان عنبا كان إذا غلى يحرم والآن بعد أن صار زبيبا يشك في ذلك
فيستصحب كونه كذلك وبقاؤه على ما كان. ولكن هذا الاستصحاب معارض
باستصحاب فعلي منجز، وهو استصحاب حلية الزبيب الثابتة له قبل الغليان،
فيقال: ان الزبيب كان حلالا قبل الغليان، وبعد الغليان، وبعد الغليان يشك في حليته وحرمته
فيبنى على أنه حلال بالاستصحاب.
فإنه يقال في مقام رد هذه الدعوى: ان استصحاب الحلية الفعلية لا ينفي
الحرمة التعليقية التي هي مؤدى الاستصحاب الآخر الا بالملازمة العقلية، لان
80

عدم الحرمة التعليقية ليس من آثار الحلية الفعلية شرعا كما لا يخفى. بخلاف استصحاب
الحرمة التعليقية فإنه ينفي الحلية الفعلية بعد الغليان شرعا وبالملازمة الشرعية،
لان عدم الحلية من أثار الحرمة التعليقية شرعا.
وعليه، فعدم العمل باستصحاب الحلية يكون بوجه، وعدم العمل
باستصحاب الحرمة التعليقية يكون بدون وجه أو على وجه دوري، فيتعين العمل
باستصحاب الحرمة التعليقية، وهذا الوجه أحسن ما يقال في جواب دعوى
المعارضة. فقد قيل في جوابها وجوه لا تخلو عن مناقشة ظاهرة، فراجع مبحث
الاستصحاب التعليقي في الأصول.
وبعد جميع هذا يحسن التعرض لتنبيهات المسالة، وهي ثلاثة:
التنبيه الأول: - وقد ذكره في الكفاية (1) - كما أشرنا إليه فيما تقدم (2)، ان
موضوع الكلام في الاجزاء ما إذا كان هناك حكم ثابت ظاهري أو اضطراري،
فيبحث عن كونه مجزيا عن الواقع وعدمه.
اما إذا لم يكن هناك حكم متقرر له ثبوت، وانما تخيل ثبوته، فهو أجنبي
عن بحث الاجزاء، إذ لا حكم كي يبحث عن اجزائه وعدمه، بل عدم الاجزاء
في مثله مما لا كلام فيه، إذ لا يتجه الاجزاء بوجه من الوجوه المذكورة له لعدم
انطباقها عليه. ومن هنا يظهر عدم الاشكال في عدم الاجزاء فيما إذا قطع بحكم
ثم انكشف خلافه، إذ القطع لا يوجب تحقق الامر لا واقعا ولا ظاهرا، فلا يكون
في البين الا تخيل لثبوت الحكم. فلا وجه لاجزاء المأتي به مع عدم كونه الواقع.
نعم قد يكون ما أتى به مشتملا على مقدار من المصلحة، بحيث لا يمكن
معه تدارك الباقي من مصلحة الواقع، فلا يجب الاتيان بالواقع حينئذ، لكنه ليس

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 88 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) راجع 2 / 45 من هذا الكتاب.
81

من جهة اجزاء المقطوع به عن الواقع، بل من باب عدم امكان تدارك مصلحة
الواقع الباقية، ولكن هذا اثباتا يحتاج إلى دليل خاص، وقد ثبت في بعض الموارد
كما إذا صلى جهرا في مورد الاخفات وبالعكس، وكما إذا صلى تماما في السفر مع
الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به، فان الدليل دل على الاكتفاء بالعمل وعدم
لزوم الإعادة مع معاقبته على تقصيره في السؤال والتعلم، مما يكشف عن عدم
كون ما أتى به متعلقا للحكم، وانما هو محصل لبعض المصلحة بحيث لا يمكن
تدارك الباقي، ولذا لا تجب الإعادة ولكن يعاقب على ذلك باعتبار انه فوت على
نفسه مصلحة الواقع الملزمة.
التنبيه الثاني: - وقد ذكره في الكفاية أيضا (1) - وموضوعه، بيان عدم
الملازمة بين الاجزاء والتصويب، فإنه قد يتوهم ملازمة القول بالاجزاء
للتصويب، لان مرجع الاجزاء إلى كون الواقع هو مؤدى الامارة الذي هو
التصويب. وانه كان من الجدير بالذكر ان يذكر هذا الامر وجها لابطال
الاجزاء، فيقال: ان الاجزاء ملازم للتصويب، وهو - أي التصويب - باطل
بالاجماع، فكذلك ما هو لازم وهو الاجزاء.
والذي ادعاه في الكفاية نفي ملازمة القول بالاجزاء القول بالاجزاء للتصويب، بل عدم
معقوليته، لاستلزامه لزوم عدم الشئ من وجوده.
وبيان ذلك: ان الحكم له في نظر صاحب الكفاية مراتب أربع، مرتبة
الاقتضاء ومرتبة الانشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجيز - وشرح المراد من كل
منها ليس محله ههنا، وانما المقصود هنا الإشارة إليها -، والذي يرتبط بمحل
الكلام فعلا من هذه المراتب هو مرتبة الفعلية والانشاء دون مرتبي الاقتضاء
والتنجز، ثم إن الذي ذهب إليه صاحب الكفاية في الجمع بين الأحكام الظاهرية

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 88 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
82

والواقعية، كما أشرنا إليه، هو كون الحكم الواقعي في موارد الطرق والامارات
انشائيا، بحيث لو حصل العلم به يصير فعليا، سواء في ذلك القول بالطريقية
والقول بالسببية، فان الواقع يكون انشائيا والامارة مانعة عن فعليته لا أكثر.
ولا يخفى ان الحكم الذي دلت الأدلة على اشتراك العالم والجاهل فيه انما
هو الحكم الانشائي، فان أدلة الاشتراك لا تقتضي أكثر من ذلك، اما الحكم
الفعلي فهو يختص بالعالم لان موضوعه العلم بالحكم الانشائي.
وبهذا البيان ظهران القول بالاجزاء الذي هو فرع الالتزام بالسببية في
حجية الامارة، لا يلازم التصويب بمعنى ارتفاع الحكم الواقعي، لبقاء الحكم
الواقعي على ما هو عليه، ولكنه بمرتبة الانشاء والامارة المخالفة مانعة عن
فعليته. وهكذا الحال لو التزم بالاجزاء بناء على الطريقية. بل لا يعقل التصويب
في مورد الامارة والحكم الظاهري، لان الجهل بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع
الحكم الظاهري، فلا بد ان يفوض ثبوت واقع يتعلق به الجهل والعلم، فلو فرض
ارتفاع الحكم الواقعي بقيام الامارة يرتفع الشك في الواقع فيلزم ارتفاع موضوع
الحكم الظاهري، فيلزم من وجود الحكم الظاهري عدمه وذلك محال. هذا ايضاح
ما ذكره في الكفاية.
والتحقيق ان يقال: إنه ان التزمنا في الجمع بين الأحكام الظاهرية
والأحكام الواقعية بما يلتزم به صاحب الكفاية، من أن الأحكام الواقعية احكام
انشائية، كان الحق ما ذهب إليه صاحب الكفاية في المقام من عدم الملازمة بين
الاجزاء والتصويب. وإن لم نلتزم بذلك اما من جهة ان المرتبة الانشائية للحكم
بالمعنى الذي يفرضه لها صاحب الكفاية، لا يمكن تعقله، وبمعنى آخر معقول
- يذكر في محله - ترجع إلى المرتبة الفعلية، والحكم الذي يكون مشتركا بين العالم
والجاهل هو الحكم الفعلي، وهو الذي يقع البحث في ارتفاعه وبقائه في موارد
الامارات والطرق. واما من جهة ان المرتبة الانشائية بالنحو الذي يصورها
83

صاحب الكفاية وان كان امرا معقولا في نفسه الا ان الحكم الذي يشترك فيه
العالم والجاهل هو الحكم الفعلي لا الانشائي، لان الحكم الفعلي هو الذي فيه
جهة البعث دون الانشائي، فإنه لا بعث فيه، بل هو في الحقيقة ليس حكما.
وبالجملة: لو لم نلتزم بمذهب صاحب الكفاية والتزمنا بان الحكم الواقعي
في مورد الطرق والامارات فعلي لا انشائي، فهل الالتزام بالاجزاء يلازم
التصويب وارتفاع الحكم الواقعي أولا؟. نقول: انه حيث عرفت ابتناء القول
بالاجزاء على القول بالسببية، فإن كان شان السببية ومرجعها إلى رفع الحكم
الواقعي بلحاظ ثبوت المصلحة المعادلة لمصلحة الواقع في مؤدى الامارة، فيوجب
ذلك تخيير الشارع بين العمل بالواقع والعمل على طبق الامارة، فيرتفع الوجوب
التعييني الواقعي ويصير الوجوب الثابت تخييريا، وعلى هذا الأساس يقال
بالاجزاء، لان الواجب أحدهما وقد جاء به فيتحقق الامتثال - إذا كان مرجع
السببية إلى ذلك -، فالقول بالاجزاء ملازم للتصويب، لارتفاع الحكم الواقعي
الثابت، فان الحكم الواقعي كان هو الوجوب التعييني وقد فرض تبدله إلى
الوجوب التخييري بقيام الامارة. وان كان مرجع السببية إلى رفع موضوع الحكم
الواقعي بقاء لا حدوثا، فيسقط امتثاله في مرحلة البقاء لارتفاع موضوعه، وذلك
ببيان: ان الحكم الواقعي يبقى فعليا على ما هو عليه، إلا أنه بعد الاتيان بمؤدى
الامارة المشتمل على مصلحة يستوفى بها مصلحة الواقع لا يبقى مجال بعد ذلك
لامتثال الواقع لسقوطه باستيفاء مصلحته، فيكون نظير ما لو وفى عمرو الدين
الذي في ذمة زيد، فان المأمور بالوفاء وان كان زيدا لكنه بأداء عمرو يرتفع
موضوع الامر فيسقط بعد أن كان. فالحكم الواقعي لا يرتفع بقيام الامارة، بل
يبقى لكنه يسقط بامتثال الامر الظاهري، لارتفاع موضوعه في مرحلة البقاء لا
الحدوث والا لزم ارتفاعه بقيام الامارة. ان كان مرجع السببية ذلك لم يكن القول
بالاجزاء ملازما للتصويب، لبقاء الامر الواقعي على ما كان عليه وعدم ارتفاعه
84

بقيام الامارة.
والذي يتحصل: ان القوم بالاجزاء لا يلازم التصويب بقول مطلق،
حتى بناء على السببية التي يلتزم بها اهل الخلاف، فيكون ذلك جهة ايراد على
القائلين بالاجزاء. والذي كان بناؤنا عليه في الدورة السابقة هو ملازمة القول
بالاجزاء للتصويب حتى بناء على السببية بمعنى المصلحة السلوكية، فانتبه
وتدبر.
التنبيه الثالث: - وقد ذكره المحقق النائيني (قدس سره) - انه لا فرق
في عدم الاجزاء وكونه مقتضى القاعدة الأولية بين اختلاف الحجة بالنسبة إلى
شخص واحد أو شخصين، فكما لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما كان يبني عليه
أولا من الحكم تبعا للحجة كذلك لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه
الحجة إذا كانت الحجة لديه على خلافه، فلا يجوز لمن لا يرى صحة العقد
بالفارسية أن يكون أحد طرفي العقد مع من يرى صحة العقد بالفارسية وأجراه
بذلك. وهكذا لمن يرى نجاسة العصير العنبي لا يجوز ان يعامل مع من يرى
طهارته معاملة الطاهر إذا علم بملاقاته للعصير. ولا يجوز لمن يرى جزئية السورة
ان يقتدي بمن لا يرى جزئيتها إذا ترك السورة. وغير ذلك من موارد العبادات
والمعاملات. نعم قد يستثنى من ذلك باب الطهارة والنجاسة ويحكم فيها
بالاجزاء، وذلك لما جرت عليه السيرة المتشرعة التي يعلم بانتهائها إلى زمان
الأئمة (عليهم السلام) بلا ردع منهم، على معاملة الناس معاملة الطهارة وان
اختلفوا معهم في الرأي في كيفية التطهير واعداد النجاسات، بل ويشهد لذلك
صريحا معاملتهم مع اهل الخلاف معاملة الطاهرين مع اختلافنا معهم في تعيين
النجاسات وكيفية التطهير منها، فهم قد لا يرون الدم نجسا أو يرون التطهير
منه بمجرد زواله عن البدن أو الثوب، ومع هذا يعاملون معاملة الطاهرين بلا
85

توقف أحد مما يكشف عن انخرام قاعدة عدم الاجزاء في هذا الباب (1).
وأضاف السيد الخوئي إلى هذا الاستثناء استثناء باب آخر، وهو باب
النكاح متمسكا بما ورد من أن لكل قوم نكاحا، فإنه يدل على البناء على صحة
نكاح كل من يرى عقده نكاحا وإن لم يكن ثابتا عند الغير، فيلزم ترتيب آثار
الصحة على النكاح بالفارسية على من لا يرى صحته وهكذا (2).
وتحقيق الحال يقتضي التكلم في جهات ثلاثة:
الجهة الأولى: فيما قرره من عدم الفرق في حكم عدم الاجزاء بين
شخص واحد أو شخصين، مرجعه إلى تفريع عدم امضاء عمل شخص في حق الآخر
إذا كان على خلافه في الرأي تفريعه على عدم الاجزاء. وهو غير وجيه، فان هذا
البحث لا يرتبط ببحث الاجزاء أصلا، إذ عدم امضاء عمل شخص في حق
الآخر المخالف له في الرأي لا يختص بالبناء على عدم الاجزاء، بل الحاكم أعم
من القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.
واما على القول بعدم الاجزاء فواضح.
واما على القول بالاجزاء، فلان أساسه على ما عرفت هو الالتزام
بالسببية التي مرجعها إلى كون مؤدى الامارة ذا مصلحة فعلية ملزمة، فيكون
التكليف الفعلي على طبق مؤدى الامارة، ومن الواضح ان هذا المعنى يختص بمن
قامت لديه الامارة، اما من قامت عنده الامارة على خلاف ذلك أو علم بالواقع
فالحكم الفعلي في حقه هو ما قامت عليه الامارة لديه أو ما علم به، ولا ينقلب
الواقع إلى ما قامت عليه الامارة لدى الشخص الآخر لفرض انكشاف الواقع
لديه اما تكوينا بالعلم أو تعبدا بالامارة، وتلك الامارة لدى غيره ليست حجة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 208 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 286 - الطبعة الأولى.
86

عليه كي يكون متعلقها ومؤداها ذا مصلحة واقعية مجزية عن الواقع. فالبحث
في هذا الامر لا يرتبط بالاجزاء وعدمه، بل موضوع البحث فيها هو ما بينة الشيخ
في مكاسبه (1)، وأشار إليه في رسائله (2) وهو ان الحكم الظاهري في حق شخص
هل يكون حكما واقعيا في حق غيره أولا؟ ومن الواضح ان صيرورته واقعيا في
حق غيره مجرد وهم ولفظ لا أكثر.
الجهة الثانية: في كون استثناء باب الطهارة من جهة الحكم بالاجزاء
فيها. وقد عرفت أن ذلك لا يبتني على الاجزاء، فلا يجوز لمن يرى لزوم التعدد
في التطهير من البول ترتيب آثار الطهارة على الصب مرة واحدة ممن يرى عدم
لزوم التعدد، لو قلنا بالاجزاء، والا لزم ترتيب آثار الطهارة على مجرد زوال الدم
عن بدن المخالف لأنه يرى الطهارة بذلك ولو علمنا بعدم وصول الماء إليه أصلا
وهو مما لا يلتزم به أحد، فالذي توجه به السيرة القطعية على معاملة الناس
معاملة الطاهرين وان اختلفوا رأيا في باب الطهارة والنجاسة، مع عدم العلم ببقاء
النجاسة وعدم التطهير، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية هو أحد وجهين:
الأول: البناء على أن غيبة المسلم مطهرة مطلقا ولا تختص بمورد دون
آخر، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية لبدن المسلم أو ثوبه في غيبته يبني
على طهارته وان اختلف رأيا في كيفية التطهير.
الثاني: البناء على جريان أصالة الصحة في عمل الغير مطلقا ولو مع
الاختلاف تقليدا أو اجتهادا في العمل الصحيح، وذلك بترتيب آثار الصحيح
الواقعي على العمل المأتي به إذا احتمل أن يكون قد جئ به على ذلك النحو
ولو عفوا بدون اختيار وقصد، فيرتب على تطهير من يرى اجزاء المرة آثار

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب / 101 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 29 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
87

الصحة الواقعية لا الصحة عند الفاعل. وهذه المسألة خلافية، وقد التزم بها
بعض، وتحقيق أحد الطرفين فيها يكون في بعض جهات الكلام في أصالة الصحة،
وموضوعها ان دليل أصالة الصحة هل هو يقتضى ترتيب آثار الصحة الواقعية
على العمل أو الصحة الفاعل؟ فراجع.
الجهة الثالثة: فيما استثناه السيد الخوئي (حفظه الله) - أعني باب النكاح
- مستدلا بما ورد من أن لكل قوم نكاحا. ومن الواضح ان هذا النص أجنبي
عما نحن فيه، فإنه وارد لبيان إلغاء اعتبار الشروط المأخوذة في النكاح شرعا
بالنسبة إلى نكاح غير المسلمين، وان صحة النكاح بالنسبة إليهم مترتبة على
ملاحظة الشروط المعتبرة لدينهم في النكاح، وذلك لان مقتضى عموم أدلة اعتبار
الشروط هو اعتبارها في صحة كل نكاح سواء صدر من مسلم أو من غيره، فهذا
النص ورد لتخصيص اعتبار تلك الشروط الواقعية في نكاح المسلمين فقط،
فصحة نكاح المسلم تتوقف على توفره على الشروط المعتبرة فيه، فإذا اختلف
شخصان في ذلك وبنى أحدهما على فقدان نكاح الآخر لبعض الشروط لا يجوز
ترتيب آثار الصحة عليه، إذ النص المذكور لا يشمل مثل ذلك، وانما هو ناظر
إلى نكاح غير المسلمين من أقوام الكفر، فلا يلغي اعتبار الشرط الواقعي
بالنسبة إلى نكاح المسلم إذا كان يرى عدم اعتباره، بل هو يؤكد اعتبارها
ويخصصه بنكاح المسلمين.
هذا تمام الكلام في هذا التنبيه. وبه يتم الكلام في الاجزاء (1) (*).

(1) وقد تم تدريسا في يوم 14 / ع 1 / 85 وكتابة في يوم 2 / ع 2 / 85،، إذ لم أكن في المباحث الأخيرة
في النجف الأشرف، وقد كرر تقريرها علي سيدنا الأستاذ (دام ظله)، فلا زال متفضلا.
(*) ملخص ما أفيد في الدورة المتأخرة في النجف الأشرف حول إجزاء الامر الظاهري
الوجه الثالث: من وجوه الاشكال على صاحب الكفاية هو: ان دليل التوسعة لا بد وأن يأخذ الطهارة
مفروغا عنها، ثم يثبت سعة الشرطية، مع أنه في مقام جعل الشرطية.
والجواب: إنه بمقتضى الحكومة يتكفل التوسعة بالمدلول الالتزامي، فهو بالمطابقة يتكفل جعل الطهارة
المستلزم لترتب الأثر وهو الشرطية، فتكون دلالته على التوسعة بالالتزام نظير سائر موارد الحكومة المتكفلة
للتوسعة. فتدبر.
كما إن إشكال: إن المورد من موارد الحكومة الظاهرية، يمكن دفعه: مضافا إلى ما في المتن، من إن الدليل
يتكفل التوسعة الواقعية لدليل الشرطية ولا ينافي ذلك كونه متكفلا لحكم ظاهري، إذ الحكم الظاهري لا
يمتنع أن يكون له أثر واقعي.
ثم إن جريان مطلب الكفاية في إصالة الحل يبتني على أمرين: الأول: كون المراد من محرم الأكل هو
هذا العنوان لا جعله طريقا إلى مصاديقه الخارجية كالأسد والهر. الثاني: كون الشرط هو كون الملبوس مما
يؤكل لحمه لا أن المانع هو لبس محرم الأكل فلاحظ.
ثم إن الفرق بين الامارة والأصل: ان مرجع التعبد بالامارة إلى التعبد بوجود الشرط لأنه هو مؤدي
الامارة وهو لا اثر له الا الدخول في الصلاة، فإذا انكشف الخلاف فلا وجه للاجزاء، بخلاف الأصل فإنه
يتعبد بنفس الطهارة ويجعلها ويوجدها ويترتب عليه صحة الصلاة لوجدان الشرط.
ثم إن ما ذكره في الكفاية من التمسك باطلاق دليل الحجية بناء على السببية لاثبات الاجزاء غير
واضح.
أما أولا: فلان عمدة الدليل هو بناء العقلاء، وهو دليل لبي لا إطلاق له.
وإما ثانيا: فلان دليل الحجية ولو كان لفظيا لا يتكفل الامر.
وأما ما ذكره في مورد الشك من الرجوع إلى إصالة عدم سقوط التكليف مع العلم الاجمالي، فقد يورد
عليه: بأنه لا تنجيز للعلم الاجمالي ها هنا لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء. والجواب: إنه لم يتمسك بالعلم
الاجمالي وإنما تمسك بأصالة عدم اتيان ما يسقط به التكليف فتدبر. هذا ما يرتبط بمطلب الكفاية.
وأما تحقيق المقام: فلا بد من تحديد محل الكلام، فقد يقال: إن عمدة البحث في الشبهات الحكمية لا
الموضوعية، ولكن الامر بالعكس، لان جميع موارد الشبهة الحكمية أو أكثرها يرجع إلى تبديل الرأي لاجل
انكشاف عدم الحجية واقعا، وهذا راجع إلى الامر الظاهري التخيلي لا الامر الظاهري الحقيقي، وهو
خلاف محل الكلام.
والحق في المقام اجزاء الامر الظاهري الموضوعي أصلا كان أم إمارة في العبادات دون المعاملات. والسر
فيه: إن الشارع حين يتحقق منه التعبد الظاهري المؤمن - مثلا - يكون قد تصدى للمنع عن حكم العقل
بالاشتغال حين الشك أو استصحاب التكليف لو كان وقلنا بجريانه. ومع هذا يسقط الحكم الواقعي جزما
بعدم قابليته للداعوية مع حكم العقل بالأمان إذ قوام التكليف بالداعوية، وهي تتقوم بالخوف والرجاء،
فإذا أتى المكلف بالعمل ثم انكشف الخلاف فالموجب لثبوت التكليف الواقعي إما قاعدة الاشتغال أو
الاستصحاب أو إطلاق دليل الامر الواقعي.
أما قاعدة الاشتغال فلا تجري، لان الشك في حدوث التكليف.
واما إطلاق الأدلة، فقد يقرب جريانه بان المورد كموارد الغفلة التي يسقط فيها التكليف ثم يعود
بالالتفاف. ولكن الحق عدم جريانه، لان المورد من مصاديق المسألة المعروفة وهي دوران الامر بين عموم
العام واستصحاب حكم المخصص، وهو من موارد عدم العام لان الثابت حكم واحد مستمر، وقد انقطع
استمراره، فلا مجال للتمسك بالدليل لاثبات الحكم بعد الانقطاع، كما في الامر بالوفاء بالعقد فلاحظ.
وأما الحكم في موارد الغفلة، فثبوته بعد الغفلة إنما هو للقطع بثبوت التكليف، وعدم الفرق بين صورة
عروض الغفلة من أول الامر التي يكون للاطلاق فيها مجال، وصورة العروض في الأثناء. ومن هنا يمكن
أن يقرب ثبوت الحكم بعد الغفلة بان الاطلاق المثبت للحكم بعد الغفلة مع كونها من أول الامر يثبت
الحكم بعد الغفلة في الأثناء بالملازمة، والقطع بعدم الفرق. ومن هنا يتضح إن قيام الامارة لو كان من أول
الامر لم يجر البيان السابق، لأنه يمكن التمسك بالاطلاق بعد زوال الجهل. ولكن هذا يقتضي ثبوت
الحكم في الامارة القائمة في الأثناء بالملازمة، كما أشير إليه في صورة الغفلة.
وعلى هذا فيختص هذا البيان بخصوص الامارة أو الأصل الذي لا يمكن ان يقوم من الأول، كقاعدة
الفراغ، أو التجاوز، والظن في الركعات أو الأفعال - على تقدير اعتباره -، ثم إنه لو تم هذا البيان لا يعارض
بحديث لا تعاد لان ظاهره ثبوت الإعادة في مورد قيام المقتضي لها وقد عرفت عدم تمامية المقتضي للإعادة
في موارد قاعدة الفراغ، فيختص مدلولها بخصوص النسيان. فتأمل.
ويمكن أن يقرب الاجزاء بوجهين آخرين: أحدهما: إنه عند قيام الامارة أو الأصل يثبت جواز الاكتفاء
بالعمل في مقام الامتثال، وبعد الانكشاف يستصحب ذلك. ودعوى: إن الاطلاق حاكم على الاستصحاب.
تندفع: بان الاطلاق يثبت الحكم الواقعي، وهو لا ينافي جواز الاكتفاء الثابت بالاستصحاب، لأنه متفرع
على الحكم الواقعي. ولكن هذا الوجه انما يتم في موارد يكون جواز الاكتفاء ثابتا شرعا، كموارد قاعدة
الفراغ والتجاوز. أما موارد البينة ونحوها فلا، إذ جواز الاكتفاء فيها عقلي لا شرعي، فلا معنى
لاستصحابه. واستصحاب الطبيعي يكون من القسم الثالث وهو لا نلتزم به.
والاخر: إنه عند قيام الامارة يثبت الترخيص في ترك الواقع، فيستصحب ذلك بعد الانكشاف، وهو
ينفي الوجوب بناء على ما تقدم من إن الوجوب بحكم العقل الثابت بلحاظ الطلب وعدم الترخيص، وإذا
ثبت الترخيص فلا وجوب ولو كان هذا الترخيص بواسطة الأصل.
وقد يقال: إن مقتضي ذلك عدم ثبوت الوجوب مطلقا في موارد الامر الاستصحاب الترخيص قبل
التشريع. وهذا خلاف ما يبني عليه القوم من الاخذ بالدليل وإثبات الوجوب، إلا إذا أثبت الاستحباب
بالدليل.
وفيه إن الترخيص قبل الشرع ثابت في ضمن الإباحة وقد انتفت قطعا هنا بوجود الطلب ولو
استحبابا. واستصحاب طبيعي الترخيص من القسم الثالث من استصحاب الكلي وهو ممنوع وهذا بخلاف
ما نحن فيه فان المستصحب هو الترخيص الظاهري الثابت سابقا الذي يجتمع مع الطلب الواقعي، وهو
غير معلوم الزوال.
ثم إن البيان وسوابقه للاجزاء يتأتى حتى في الامارات القائمة على الحكم. ولا يختص بالموضوع
فلاحظ.
ثم إنه لو تم الاجزاء على القول بالطريقية، فلا إشكال في ثبوته على السببية لنفس البيانات. ولو فرض
عدم الاجزاء والرجوع إلى اطلاق الأدلة الدالة على لزوم الإعادة أو القضاء. فهل يحكم بالاجزاء على
السببية أو لا؟.
التحقيق: ان للسببية مسالك ثلاثة:
الأول: السببية بمعنى عدم الواقع إلا ما قامت عليه الامارة، وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة ومقتضاه
هو الاجزاء، بل لا موضوع للاجزاء وعدمه لأنه لا واقع هنا غير ما أدت إليه الامارة حتى يقال إنه مجز عنه.
الثاني: المصلحة السلوكية التي بنى عليها الشيخ، ومقتضاها التفصيل بين الالتزام بتبعية القضاء للأداء
وكون التوقيت بنحو تعدد المطلوب، والالتزام بعدم التبعية وانه بامر جديد وان التوقيت بنحو وحدة
المطلوب. فعلى الأول لا وجه للاجزاء من حيث القضاء، إذ لم تفت الا مصلحة الوقت، وأما مصلحة الفعل
فهي قابلة للتدارك، وعلى الثاني يلتزم بالاجزاء لفوات مصلحة الواجب السابق، فلا بد من تداركه ومع
تداركه لا يصدق الفوت الموضوع للقضاء.
الثالث: السببية المعتزلية الراجعة إلى انقلاب الواقع عما أولا، ومقتضاها عدم الاجزاء، إذ غاية ما
يقرب الاجزاء عليها بان المورد عليها يكون كموارد الأوامر الاضطرارية. لكن بيان الاجزاء في الأوامر
الاضطرارية - الراجع إلى أن أدلة الأوامر الاضطرارية تقتضي تصنيف المكلفين - لا يجري ههنا، إذ لا
يقتضي دليل الحجة ولا نفس الامارة تصنيف المكلفين. كما أن الوجه كما أن الوجه الاخر الراجع إلى تكفل دليل الامر
الاضطراري تحقيق الشرط كالطهارة بالتيمم لا يجري ههنا، فلاحظ وتدبر.
يبقى الكلام في بعض خصوصيات كلام الكفاية كتفصيله على السببية بين إمارة الموضوع وإمارة الحكم
وقد أوضحنا الفرق في المتن فلاحظ. وأما رجوعه مع الشك إلى إصالة عدم المسقط بضميمة العلم بالشغل
فالمراد به كما تقدم ليس التمسك بالعلم الاجمالي بل بالعلم الاجمالي ولضميمة استصحاب ما يثبت بقاء
التكليف، فالتنجز بقاء بواسطة الاستصحاب. وهذا أحسن ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ولا يرد عليه
سوى إن هذا الاستصحاب من استصحاب الفرد المردد لا الكلي القسم الثاني، لان الوجوب لا يتعلق
بطبيعي الصلاة الجامعة بين الظهر والجمعة - مثلا - فليس المستصحب كلي الوجوب بل الفرد المردد بين
فرديه، وليس نظير الحدث مما كان المجعول أمرا كليا لا تعلق له بشئ: وتحقيق ذلك الامر في محله، مع أنه
لو رجع إلى استصحاب القسم الثاني فنحن لا نقول به أيضا. فلاحظ.
88

مقدمة الواجب
93

مقدمة الواجب
قبل الخوض في المهم لا بد من التنبيه على جهة وهي: انه قد يتساءل عن
جهة اطناب صاحب الكفاية في مبحث المقدمة. والبحث في أمور دقيقة نظرية،
مع اعترافه أخيرا بعدم الثمرة العملية لهذا البحث وان ما ذكر له من الثمرات
ليس بثمرة له.
والجواب: ان موضوع هذا البحث الطويل وان كان بحسب العنوان
والمدخل هو وجوب المقدمة، لكن الواقع انه يشتمل على أبحاث دقيقة نظرية لا
ترتبط في حقيقتها بوجوب المقدمة وعدمه، وكل منها ذو آثار عملية في الفقه ومقام
الفتوى. اما أصل وجوب المقدمة فالبحث عنه نفيا واثباتا مختصر جدا مع أنه
غير خال عن الثمرة العملية كما سنشير إليه.
اما تلك الأبحاث الاستطرادية غير المرتبطة بوجوب المقدمة.
فمنها: البحث عن امكان الشرط المتأخر ومعقوليته وعدمه، فإنه بحث
دقيق طويل يستهلك قسما كبيرا من مبحث وجوب المقدمة، مع أنه لا علاقة له
بوجوبها وعدمه، فسواء كانت المقدمة واجبة أو غير واجبة يبحث عن امكان
الشرط المتأخر، وتترتب عليه آثار عملية فقهية، كامكان الالتزام بالكشف في
95

المعاملة الفضولية المتعقبة للإجازة بناء على امكانه، واما بناء على عدم امكانه فلا
مناص عن الالتزام بالنقل، وثمرة كلا الالتزامين تظهر في النماء المتجدد الحاصل
بين زمان العقد والإجازة، فإنه بناء على الكشف يكون للمشتري واما بناء على
النقل فيكون للبائع لأنه نماء حدث في ملكه.
ومنها: بعض صغريات بحث المقدمة الموصلة، وهو البحث عن كون
المشروع من المقدمات العبادية هل هو الموصل منها أو الأعم؟ مع قطع النظر
عن وجوبه وعدمه وثمرة هذا البحث ظاهرة، فان الايصال إذا كان دخيلا في
مشروعية الوضوء للصلاة مثلا، فلازمه عدم صحة الوضوء إذا لم يترتب عليه
الواجب، بخلاف ما إذا لم يعتبر في المشروعية وكان المشروع مطلق المقدمة.
ومنها: البحث في امكان الواجب المعلق وعدمه، فإنه مما لا يرتبط بوجوب
المقدمة وعدمه وله آثار مهمة في الفقه، كلزوم الاتيان بالمقدمة عقلا إذا لم يبنى
على وجوبها شرعا، وعلم المكلف انه لا يقدر على الاتيان بها عند دخول وقت
الواجب.
وغير ذلك من المباحث التي لا تخفى على النبية.
واما الثمرة العملية للبحث في وجوب المقدمة، فهو كون المورد من موارد
التعارض بناء على وجوب المقدمة لو كانت المقدمة محرمة وكونه من موارد
التزاحم بناء على عدم وجوبها. بيان ذلك: انه إذا وجب شئ كانقاذ الغريق
وكانت له مقدمة محرمة، وهي الاجتياز في ملك الغير بدون اذنه، فلو قلنا بوجوب
المقدمة كان المورد من موارد التعارض، لعدم امكان تعلق الحرمة والوجوب
بشئ واحد، فيتعارض دليل التحريم مع دليل الوجوب بخلاف ما إذا التزمنا
بعدم وجوب المقدمة، فإنه يكون من موارد التزاحم، لاختلاف متعلق الحكمين،
وعدم المحذور في جعل الحرمة والوجوب لكل من متعلقيهما في نفسه، لكن
الحكمين لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة فيقع التزاحم بينهما، ومن الواضح
96

اختلاف الأثر العملي بين ما إذا كان المورد من موارد التعارض أو من موارد
التزاحم.
وجملة القول: ان هذا الاطناب ليس موضوعه وجوب المقدمة، بل
موضوعه كثير من المباحث التي يتعرض لها بالمناسبة، مع أن بحث وجوب المقدمة
لا يخلو عن ثمرة عملية كما عرفت.
وبعد هذا يقع الكلام في أمور:
الامر الأول: والبحث فيه من جهتين:
الجهة الأولى: في أن هذه المسالة أصولية أو فقهية أو غيرهما.
والذي افاده صاحب الكفاية (رحمه الله) هو: انه يمكن فرض المسالة
بنحو تكون من المسائل الفقهية، كان يفرض البحث عن وجوب المقدمة وعدمه.
كما يمكن فرضها بنحو تكون من المسائل الأصولية، كان يفرض البحث عن
ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، فإنها بذلك تكون من المسائل
الأصولية، لان نتيجتها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي، وهو وجوب
المقدمة المعينة كالوضوء - كما يشير إليه في أواخر المبحث -، وبهذا الاعتبار لا بد من
تحرير المسالة بهذا النحو كي تندرج في مسائل علم الأصول ولا تكون من
المسائل الاستطرادية في هذا العلم، إذ مع امكان فرض البحث بنحو تكون من
المسائل لا وجه لفرضه بنحو تكون خارجة عن العلم ويلتزم بان ذكرها بنحو
الاستطراد. هذا مما افاده في الكفاية (1).
وقد أفيد - خلافا له - بان المسألة لا يمكن ان تكون من المسائل
الفقهية، وذكر لذلك وجوه ثلاثة:
الأول: - ما افاده المحقق النائيني (رحمه الله) - ان المسالة الفقهية ما كان

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 89 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
97

موضوعها امرا خاصا كوجوب الصلاة أو الصوم أو نحوهما. اما ما كان
موضوعها عنوانا عاما ينطبق على عناوين خاصة فليست بمسألة فقهية، وذلك
كمسألة وجوب المقدمة، فان المقدمة عنوان عام ينطبق على عناوين خاصة في
الأبواب المختلفة كالوضوء ونحوه. فلا تكون من المسائل الفقهية وان كان
محمول المسالة هو الوجوب وعدمه (1).
وأورد عليه المحقق العراقي (رحمه الله): بالنقض ببعض المسائل الفقهية
مما كان موضوعها عاما لا يختص بباب دون آخر، كمسألة وجوب الوفاء بالنذر،
فإنه يشمل كل منذور سواء كان صلاة أو حجا أو صوما أو غيرها. ومسالة ما
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وعكسها - أي ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفاسده - فان الموصول يعم جميع العقود التي تنطبق عليها الصلة كالبيع والإجارة
وغيرهما (2).
الثاني: - ما افاده المحقق العراقي (قدس سره) - ان المسالة الفقهية ما
كان الحكم المبحوث عنه فيها ناشئا عن ملاك واحد، ووجوب المقدمة ليس
كذلك، لان وجوب كل مقدمة بوجوب ذيها، فملاكه يكون ملاك وجوب ذيها، ولا
يخفى اختلاف الاحكام في الملاكات فملاك وجوب الصلاة غير ملاك وجوب
الصوم وهكذا، فوجوب المقدمة يختلف ملاكه باختلاف موارده فلا تكون المسالة
من المسائل الفقهية (3).
وفيه:
أولا: ان تعيين الضابط لمسائل العلم امرا يرجع إلى اختيار كل
أحد، والا لم صح الايراد بعدم الطرف والعكس على أحد، بل الملحوظ فيه أحد

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 213 - الطبعة الأولى.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 313 - الطبعة الأولى.
(3) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 312 - الطبعة الأولى.
98

امرين: اما ان تكون هناك مسائل مجموعة اصطلح عليها باسم خاص، فيلحظ
الجامع بينها ويفرض كونه هو الضابط لمسائل العلم، واما ان يلحظ الغرض
والملاك في تدوين العلم وتحرير مسائله، فينتزع الضابط للمسائل بلحاظه. واما
فرض الضابط بلا لحاظ أحد هذين الامرين، بل بالاختيار، فكذلك ما لا وجه له.
ولا يخفى ان الضابط للمسألة الأصولية بلحاظ غرض علم الفقه، انما
هو كل ما يبحث فيه عن عوارض فعل المكلف الشرعية، سواء تعدد ملاكه أو
اتحد، فمسألة وجوب المقدمة على هذا من المسائل الفقهية، وزيادة قيد اتحاد
الملاك بلا وجه ظاهر.
وثانيا: ان وجوب المقدمة بعنوان انها مقدمة يكون بملاك واحد في جميع
موارده وهو ملاك المقدمية، فإنه هو الذي يوجب ترشح الوجوب على المقدمة في
كل الموارد وليس له ملاك آخر غيره.
الثالث: - وهو ما افاده السيد الخوئي (حفظه الله) - ان البحث ليس عن
خصوص وجوب مقدمة الواجب أو استحباب مقدمة المستحب وانما البحث في
الحقيقة يرجع إلى مطلوبية مقدمة المطلوب بقول مطلق بلا خصوصية للوجوب
والاستحباب، وذكر الوجوب في العنوان ليس إلا لأهميته لا لخصوصية فيه، ومعه
لا تكون المسالة فقهية، لان جامع الطلب ليس من الأحكام الشرعية والعوارض
التي تفرض لفعل المكلف، إذ ما يعرض على فعل المكلف هو خصوصيات
الطلب، بل تكون المسالة مما يستنبط بواسطتها حكم شرعي وهو وجوب المقدمة
أو استحبابها كما لا يخفى (1).
وفيه: ان جامع الطلب لو كان امرا متقررا في قبال الوجوب أو
الاستحباب، أو لم يكن كذلك ولكن كان البحث عن مطلوبية المقدمة بكلي

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 293 - الطبعة الأولى.
99

الطلب بلا نظر إلى خصوصية الوجوب والاستحباب، كان ما ذكر في محله، لكنه
ليس كذلك، بل الطلب المأخوذ في العنوان قد أخذ عنوانا ومرآتا للوجوب
والاستحباب، فالبحث يرجع في الحقيقة إلى وجوب مقدمة الواجب واستحباب
مقدمة المستحب، غاية الامر انه يشار إليهما بلفظ وعنوان واحد.
وبعبارة أخرى: ان لكل من خصوصيتي الوجوب والاستحباب دخل في
وجوب المقدمة واستحبابها، وليس الترشح من جهة أصل الإرادة والطلب فقط،
والا لما اتجه وجوب مقدمة الواجب دون المستحب، بل غاية ما يثبت مطلوبيتها،
اما كون الطلب وجوبيا فلا دليل عليه. فالانتهاء إلى وجوب مقدمة الواجب
واستحباب مقدمة المستحب من البحث كاشف عن تعلق النظر في البحث
بخصوصيتي الوجوب والاستحباب، غاية الامر انه عبر عنهما بعنوان واحد وهو
لا يعني إلغاء الخصوصية، وبذلك لا تخرج المسالة عن الفقه لان البحث عن
مطلوبية المقدمة عنوانا لا حقيقة. فتدبر.
والانصاف: ان المسالة ليست من المسائل الأصولية ولا الفقهية، وانما هي
من مبادئ الأصول.
اما عدم كونها من مسائل الأصول: فلما عرفت في مبحث ضابط المسالة
الأصولية من أن المسالة الأصولية ما كانت نتيجتها رافعة لتحير المكلف في مقام
العمل، اما تكوينا كمباحث الملازمات العقلية، أو تعبدا، كمباحث الامارات. ولا
يخفى ان هذه المسالة لا تتكفل هذه الجهة، إذ لا تحير للمكلف في مقام العمل
وأداء الوظيفة، إذ لا بد عليه من الاتيان بالمقدمة تحصيلا لامتثال ذيها وجبت
شرعا أو لم تجب، فوجوب المقدمة وعدمه لا يؤثر في عمل المكلف أصلا.
واما عدم كونها من مسائل الفقه: فلان المسائل الفقهية ما يبحث فيها
عن عوارض الفعل الشرعية العملية لا مطلق العوارض الشرعية. ولا يخفى ان
وجوب المقدمة شرعا لا أثر عمليا له، إذ لا إطاعة له ولا عصيان ولا ثواب عليه
100

ولا عقاب ولا بعث فيه ولا زجر وقد عرفت أن المكلف يلزمه الاتيان بالمقدمة
سواء كانت واجبة شرعا أو لم تكن.
واما كونها من المبادئ: فلما عرفت من أن ثمرتها العملية تحقيق صغرى
لمسألة التعارض بناء على الوجوب، أو صغرى لمسألة التزاحم بناء على عدم
الوجوب، وكل من مسألتي التزاحم والتعارض من مسائل الأصول، فهي بذلك
تكون من مبادئ المسألة الأصولية فلا حظ.
الجهة الثانية: في أن المسألة عقلية أو لفظية.
ذهب صاحب الكفاية إلى كونها عقلية لا لفظية - كما قد يظهر من
صاحب المعالم (1) - والوجه فيه: ان أصل الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب
مقدمته محل اشكال، فلا بد من ايقاع البحث فيه، ولا معنى لايقاع البحث في
مقام الاثبات وكون وجوب المقدمة مدلولا للفظ بأي الدلالات، أو عدم كونه
مدلولا له بأحدها (2).
ولا يرد على صاحب الكفاية: ان موضوع البحث لا يتحمل البحث في
مقامين الثبوت والاثبات - كما هو ظاهر الكفاية -، لان مرجع البحث الاثباتي
في ثبوت الدلالة الالتزامية على وجوب المقدمة إلى تحقيق وجود الملازمة ثبوتا
وعدمه، فالبحث في مقام الاثبات ينتهي إلى تحقيق مقام الثبوت (3).
وجه عدم ورود هذا الايراد: ان الملازمة التي هي ملاك الدلالة الالتزامية
هي الملازمة العرفية، والمبحوث عنه ثبوتا هو كلي الملازمة، ومع كون أصل الملازمة
محل الاشكال لا تصل النوبة إلى مرحلة الاثبات، وتحقيق أي نوع ثابت من
أنواع الملازمة وعلى أي حال فالأمر سهل.

(1) العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول / 61 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 89 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 261 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
101

الامر الثاني: في تقسيمات المقدمة.
وقد تعرض في الكفاية إلى ذكر تقسيمات متعددة لها:
التقسيم الأول: انقسامها إلى المقدمة الداخلية، وهي: الاجزاء المأخوذة
في المأمور به. والمقدمة الخارجية، وهي: الأمور الخارجة عن الماهية التي يتوقف
وجود المأمور به عليها.
وقد تعرض صاحب الكفاية إلى البحث عن المقدمة الداخلية من جهتين:
الجهة الأولى: في صحة اطلاق المقدمة عليها، إذ قد يستشكل (1) في ذلك:
بان المقدمية تتوقف على كون المقدمة سابقة على ذي المقدمة، والاجزاء غير
سابقة على المركب، لان الكل هو عين الاجزاء، ونفس الشئ لا يكون سابقا
عليه. والجواب الذي أشار إليه في الكفاية عن هذا الاشكال هو: ان الاجزاء
بالاسر فيها جهتان واقعيتان إحداها مترتبة على الأخرى، فان في كل جزء جهة
ذاته وجهة اجتماعه مع غيره من الاجزاء. ولا يخفى ان جهة الذات متقدمة على
جهة اجتماع الذات مع الذات الأخرى تقدم المعروض على العارض، لان جهة
الاجتماع عارضة على الذوات.
وعليه فنقول: إذا لوحظت الاجزاء بجهة ذاتها كانت المقدمة، وإذا
لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكل، فالمقدمة سابقة على الكل وذي
المقدمة سبق المعروض على العارض، وهذا السبق يصحح اطلاق المقدمية عليها.
ويمكن التعبير عن الفرق بين الاجزاء والكل بحسب اصطلاح المعقول:
بان الاجزاء ما لوحظت لا بشرط، والكل ما لوحظ بشرط شئ (1).
وقد نبه عليه في الكفاية تمهيدا للإشارة إلى الاشكال على جواب صاحب
التقريرات عن الاستشكال في مقدمية الاجزاء: بان الجزء ما لوحظ بشرط لا (2)،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 90 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 40 - الطبعة الأولى.
102

وانه ناشئ عما قيل في بيان جهة الفرق بين الاجزاء الخارجية كالمادة والصورة
المعبر عنهما في الانسان بالنفس والبدن، والاجزاء التحليلية كالجنس والفصل
المعبر عنهما بالحيوان والناطق الموجبة لعدم صحة حمل المادة على الصورة
وبالعكس في ظرف صحة حمل كل من الجنس والفصل على الآخر، فقد قيل في
بيان جهة الفرق: ان الاجزاء الخارجية مأخوذة بشرط لا فلا يصح حملها،
والاجزاء التحليلية مأخوذة لا بشرط، فكان ذلك منشأ لان يكون جواب صاحب
التقريرات في بيان الفرق بين الجزء والكل بان الجزء مأخوذ بشرط لا، غفلة منه
بان ذلك لا يتلاءم مع كونه جزء للكل لان الكلية والجزئية متضائفان.
واخذ الجزء الخارجي بشرط لا بلحاظ الحمل لا بلحاظ الجزئية والكلية.
الجهة الثانية: في دخولها في محل النزاع، والذي قرره في الكفاية عدم
دخولها في محل النزاع لوجهين:
الأول: وهو ما أشار إليه في حاشية له في المقام: ومرجعه إلى عدم المقتضي
للوجوب الغيري فيها، وذلك لان ما يدل على وجوب المقدمة وترشح الوجوب
عليها، انما هو الارتكاز العقلائي العرفي، وهو غاية ما يدل على ثبوت الوجوب
والترشح في مورد تعدد الوجود ومغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها، اما مع عدم
مغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها واتحادهما في الوجود، وتصحيح المقدمية بوجه من
الوجوه الدقيقة العقلية، كما في الجزء والكل، فالدليل قاصر عن اثبات وجوبها
وترشح الوجوب من ذيها عليها (1).
الثاني: وهو ما ذكره في متن الكفاية، ومرجعه إلى وجود المانع من تعلق
الوجوب الغيري بها، وبيان ذلك: ان الاجزاء لما كانت عين الكل في الوجود كان
الامر النفسي المتعلق بالكل متعلق بها حقيقة، فهي متعلقة للوجوب النفسي،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 91 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
103

وعليه فيلزم من تعلق الوجوب الغيري بناء على ثبوت مقتضيه اجتماع حكمين
على موضوع واحد وهو محال، لأنه من باب اجتماع المثلين وهو في المنع كاجتماع
الضدين، فالاجزاء لا تكون متعلقة للوجوب الغيري وان ثبت مقتضيه فيها
لوجود المانع وهو استلزامه للمحال (1).
وقد ذكر للتفصي عن هذا المحذور وجهان:
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) من: انه لا مانع من تعلق
الوجوب الغيري بالاجزاء مع تعلق الوجوب النفسي بها إذا رجع إلى تعلق حكم
واحد بها مؤكد لا حكمين مستقلين كي يستلزم اجتماع المثلين، فمحذور اجتماع
المثلين يرتفع بالالتزام بالتأكيد في الوجوب، كما يلتزم به في غير الاجزاء من
الواجبات النفسية إذا كانت مقدمة لواجب آخر، نظير صلاة الظهر فإنها مقدمة
لصلاة العصر فهي واجبة بوجوب مؤكد لثبوت ملاك الوجوب الغيري فيها
بضميمة تعلق الوجوب النفسي.
ولكنه استشكل في هذا الوجه بدعوى: ان التأكد انما يتصور في غير
المورد الذي يكون الوجوب الغيري معلولا للوجوب النفسي، نظير مثال صلاة
الظهر. واما إذا كان الوجوب الغيري معلولا لنفس الوجوب النفسي كالاجزاء،
فان وجوبها الغيري المفروض يترشح من وجوبها النفسي، فيمتنع فرض التأكد
فيه (2).
وأورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله): بان امتناع التأكد انما يتم لو كان
أحدهما سابقا على الآخر زمانا، بمعنى ان وجود أحدهما بعد وجود الآخر، لا ما
كان أحدهما متقدما على الآخر رتبة مع تقاربهما في الوجود كما فيما نحن فيه، إذ

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 90 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 218 - الطبعة الأولى.
104

العلة لا تنفك عن المعلول وجودا والسبق واللحوق بينهما رتبي لا زماني فلا
مانع من التأكد (1).
وفيه: ان جهة استحالة التأكد لا يفترق فيها الحال بين النحوين. فان
الوجه في امتناع تأكد المعلول مع العلة: ان ترشح الوجوب الغيري لما كان
معلولا للوجوب النفسي لا يمكن فرضه إلا بفرض تحقق الوجوب النفسي
خارجا ووجوده كي يترشح منه الوجوب الغيري ويكون مؤثرا في وجوده تأثير
العلة بالمعلول، ولا يخفى ان لكل وجود حد خاص معين، وعليه فإذا فرض ترشح
الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي مقارنا لوجوده، فاما أن يكون لكل منهما
وجود مستقل فيلزم اجتماع المثلين. واما ان ينعدم الوجوب النفسي بحده الخاص
ويحدث فرد جديد للوجوب مؤكد فيلزم انعدام علة الوجوب الغيري - إذ قد
عرفت أنه الوجوب النفسي بحده الوجودي -، وهو مساوق لعدم وجود الوجوب
الغيري لانعدام المعلول بانعدام علته، ففرض التأكد بين المعلول والعلة ملازم
لفرض انعدام العلة بحدها الوجودي الذي به قوام التأثير، وهو مستلزم لانعدام
المعلول وهو خلف فرض التأكد، ولا يخفى ان هذا الوجه لا يرتفع بدعوى
المقارنة بين وجود المعلول ووجود العلة زمانا والاختلاف رتبة، فان ملاكه أعم،
فكما يمتنع التأكد مع التقدم الزماني لعين الوجه، فكذلك يمتنع مع التقدم الرتبي
والعلية وان تقارن زمان العلة والمعلول. فلاحظ.
الثاني: ما ذكره في الكفاية من انه قد تقرر في مبحث اجتماع الأمر والنهي
ان اختلاف الوجه والعنوان يجدي في رفع غائلة امتناع اجتماع الحكمين
المتضادين، فلا بد أن يكون كافيا في رفع غائلة اجتماع الحكمين المتماثلين لأنه
موجب لتعدد المعنون، ولا يخفى ان العنوان الذي يثبت له الوجوب الغيري في

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 300 - الطبعة الأولى.
105

الاجزاء غير العنوان الذي يثبت له الوجوب النفسي فيها، فان الوجوب
النفسي طارئ على عنوان المركب الخاص من صلاة وصوم وغيرهما، والغيري
طارئ على الاجزاء بعنوان المقدمية، فيختلف العنوان وبه ترتفع غائلة اجتماع
الحكمين المتماثلين.
وأورد عليه في الكفاية: ان عنوان المقدمية لم يؤخذ جهة تقييدية، فليس
الوجوب بعارض على عنوان المقدمة، بل هو عارض على ذات المقدمة وما هي
بالحمل الشائع مقدمة، فعنوان المقدمية مأخوذ بنحو الجهة التعليلية، فتكون
ذوات الاجزاء متعلقة للوجوب النفسي باعتبار انها عين المركب، ومتعلقة
للوجوب الغيري لأنها مقدمة فيجتمع المثلان في واحد (1).
فتحصل من مجموع ما ذكرنا خروج الاجزاء عن موضوع الكلام،
فموضوع الكلام هو المقدمات الخارجية التي لا ينبسط عليها الوجوب النفسي.
التقسيم الثاني: انقسامها إلى المقدمة العقلية والشرعية والعادية.
فالعقلية: ما توقف وجود الشئ عليها عقلا.
والشرعية: ما توقف وجود الشئ عليها شرعا.
والعادية: ما توقف وجو الشئ عليها عادة.
وقد أفاد صاحب الكفاية: بان التحقيق يقضي برجوع الكل إلى العقلية،
وانه ليس لدينا مقدمة غير عقلية.
اما الشرعية: فلان توقف وجود الشئ عليها شرعا لا يكون الا باخذها
شرطا في الواجب والمأمور به، ولا يخفى ان استحالة المشروط بدون شرطه
عقلية.
وبعبارة أخرى: توقف وجود الواجب - بما أنه واجب - على وجود الشرط

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 90 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
106

مما يحكم به العقل بعد أخذه شرطا.
واما العادية: فهي بمعنى خارجة عن المقسم، ولا تكون مقدمة حقيقة.
وبمعنى آخر ترجع إلى العقلية، فإنها بمعنى كون التوقف عليها بحسب الاعتياد
والتعارف مع امكان وجود ذيها بدونها نظير لبس الحذاء أو الرداء عند الخروج
إلى السوق، لا تكون مقدمة حقيقة لان معنى المقدمية مساوق للتوقف، والفرض
انه لا توقف هنا، واطلاق المقدمة على مثله مسامحي. وبمعنى ان التوقف، والفرض
انه لا توقف هنا، واطلاق المقدمة على مثله مسامحي. وبمعنى ان التوقف عليها
فعلا واقعي لكنه باعتبار عدم امكان غيره عادة لا عقلا، كتوقف الصعود على
السطح على نصب السلم تكون مقدمة عقلية، لان العقل يحكم باستحالة
الصعود بدون مثل النصب فعلا وان كان ممكنا في نفسه وذاته، لان العقل انما
يحكم باستحالة الطفرة لا بعدم امكان الصعود بدون مثل النصب ذاتا كما لا
يخفى (1).
التقسيم الثالث: انقسامها إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ومقدمة
الوجوب ومقدمة العلم.
وقد التزم ان موضوع البحث هو مقدمة الوجود دون غيرها، لرجوع
مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود، لان مفروض الكلام هو مقدمة الواجب، ولا
يخفى ان مقدمة صحة العمل وما عليه يتوقف صحة العمل يرجع إلى كونه مقدمة
لوجود الواجب، إذ الواجب انما هو الصحيح دون الأعم، كي يتوهم انفراد
مقدمة وجوده عن مقدمة صحته.
واما مقدمة الوجوب: فلان الوجوب النفسي لا يتحقق إلا بعد تحققها،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 91 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
لا يظهر من كلامه رجوع الكل إلى العقلية إذ لم ينكر وجود المقدمة العادية بأحد معنييها، وعدم رجوعها
إلى العقلية، وانما التزم بخروجها عن محل النزاع لعدم وجود ملاك الوجوب الغيري فيها وهو التوقف.
وهو لا ينافي كونها مقدمة عادة وعرفا. (المقرر).
107

نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، ومعه لا يعقل فرض ترشح الوجوب
من ذيها عليها، للزوم طلب الحاصل.
واما مقدمة العلم: مما لا يتوقف وجود الواجب عليها واقعا، فان
الصلاة إلى كل جهة من الجهات المحتملة للقبلة لا تكون دخيلة في حصول نفس
الواجب الواقعي، نعم هي دخيلة في حصول ما هو واجب عقلا وهو حصول
العلم بالامتثال، فتكون واجبة بالوجوب العقلي الارشادي من باب وجوب
الإطاعة لا الوجوب الشرعي المولوي من باب الملازمة، لعدم كونها مقدمة له.
واعلم: ان هذين التقسيمين لا يستدعيان أكثر من ايضاح مطلب
الكفاية، إذ لا يتكفلان بحثا علميا ومطلبا دقيقا، ولذلك اقتصرنا في الكلام عنهما
على مطلب الكفاية. وانما المهم هو البحث في الشرط المتأخر الذي يجئ ذكره
في التقسيم الاخر فلاحظه.
التقسيم الرابع: انقسامها إلى المقدمة المتقدمة والمقدمة المقارنة والمقدمة
المتأخرة.
فإنها ان كانت سابقة زمانا على ذيها كانت متقدمة. وان كانت مقارنة في
وجودها لوجود ذي المقدمة كانت مقارنة. وان كانت لاحقة له في الوجود كانت
متأخرة.
وقد وقع الكلام في معقولية المقدمة المتأخرة، وبتعبير آخر: " الشرط
المتأخر "، كالأغسال الليلية المعتبرة عند بعض في صحة صوم المستحاضة في اليوم
السابق.
وجهة الاشكال في معقولية الشرط المتأخر هي: ان معنى كونه شرطا
ومقدمة انه دخيل في وجود المشروط وتحققه، بحيث يكون من اجزاء علته، وعليه
فإذا فرض وجود المشروط في زمان سابق على زمان وجود الشرط المفروض أنه
دخيل في التأثير لزم ان يؤثر المعدوم - وهو الشرط - في الموجود - وهو المشروط -،
108

وتأثير المعدوم في الموجود محال.
وقد أسرى صاحب الكفاية هذا الاشكال إلى الشرط المتقدم
وجوده عند وجود المشروط: كالعقد في الصرف والسلم، فان حصول الملكية انما
يكون بعد القبض، ولا يخفى انه لا وجود للعقد حينه فيلزم تأثير المعدوم في
الموجود، إذ لا كلام في دخالة العقد في تحقق الملكية. بل في كل عقد بالنسبة إلى
غالب أجزائه ما عدا الجزء الأخير منه، لان الانشاء بألفاظه دخيل في تحقق الأثر
المنشأ مع أنه لا وجود لغالب الألفاظ حال تحقق الأثر (1).
وبهذه التسرية ألزم صاحب الكفاية نفسه والاعلام بحل الاشكال، إذ
الالتزام به في هذه الموارد ونظائرها يستلزم تأسيس فقه جديد وأحكام غريبة، لان
الاشكال لو كان يقتصر على الشرط المتأخر خاصة، لأمكن الالتزام به ونفى
الشرط المتأخر وتوجيه ما ورد مما ظاهره ذلك لقلة موارده، اما بعد أن صار
الاشكال ساريا في موارد كثيرة جدا فالالتزام به مشكل جدا فلا بد من حله.
والذي افاده في الكفاية في مقام الحل هو: ان الشرط والمؤثر في الحقيقة
ليس ما يصطلح عليه الشرط ويسمى به، وانما هو امر آخر مقارن للمشروط،
وهذا الامر ثابت بالنسبة إلى الشرط المقارن أيضا. بيان ذلك: ان الشرط اما أن يكون
شرطا للحكم، سواء كان حكما تكليفيا أو وضعيا. واما أن يكون شرطا
للمأمور به.
اما الحكم، فقد ادعى: ان الشرط الحقيقي المؤثر فيه هو الوجود العلمي
للشرط لا الخارجي، والوجود العلمي مقارن للحكم مطلقا. بتقريب: أنه قد تقرر
في محله ان العلة باجزائها لا بد ان تكون من سنخ المعلول - وهو المعبر عنه
بقانون السنخية -، فلا بد ان يتحد أفق العلة مع أفق المعلول، ويمتنع أن يكون

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 92 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
109

أفق العلة غير أفق المعلول، فإذا كان المعلول من الأمور الذهنية امتنع ان تكون
علته من الأمور الخارجية لامتناع تأثير الخارجي في الذهنيات، والا لزم وجود
الخارجي بما أنه كذلك في الذهن وهو محال.
وعليه، فبما ان الحكم الشرعي - تكليفيا كان أو وضعيا - من أفعال المولى
الاختيارية، فهي صادرة عن إرادة المولى ومنبعثة عنها، فلا معنى لتأثير الأمور
الخارجية فيه، وانما ينقل الكلام إلى مصدر نشوء الإرادة وتحقيقها، فبما ان أفق
الإرادة ليس هو الخارج وانما هو النفس امتنع ان يؤثر فيها شئ من الخارجيات،
ولذا كانت مقدماتها ذهنية، ومنها تصور الشرط الخارجي فإنه يوجب إرادة الحكم
ويؤثر فيها، فالمؤثر هو العلم بالشرط وتصوره لا نفس الشرط بوجوده الخارجي
لامتناع تأثيره في الإرادة كما عرفت، وهذا المعنى كما يتأتى في الشرط المتقدم
والمتأخر يتأتى في الشرط المقارن أيضا، فان المؤثر في الحقيقة هو تصور وجوده
لا نفس وجود الخارجي، لامتناع تأثير الخارجيات في الإرادة.
وبالجملة: في مورد ثبوت الشرط للحكم، يكون الشرط في الحقيقة هو
الوجود العلمي التصوري لذلك الامر لا نفس ذلك الامر الخارجي، فإنه هو
الذي يصلح للتأثير في الإرادة دون المطابق الخارجي. ومن الواضح ان تصور
الشرط يكون مقارنا للمعلول، أعني الإرادة، وان كان مطابقة متأخرا أو متقدما،
فلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود. واما تسمية الأمور الخارجية بالشروط فهي
بلحاظ كونها مطابقا لما هو الشرط في الحقيقة: أعني الوجود الذهني لها.
واما المأمور به فقد أدعى: ان الشرط في الحقيقة ليس ما يصطلح عليه
بالشرط، وانما هو إضافة خاصة للمأمور به طرفها ذلك الامر، والإضافة مقارنة
مطلقا للمأمور به. بتقريب: ان الشئ لا يكون متعلقا للامر وموردا له الا إذا
كان معنونا بعنوان حسن يستلزم تعلق الامر به، ومن الواضح الذي لا اشكال
فيه اختلاف الحسن والقبح باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من
110

الإضافات، فالشئ باعتبار إضافة خاصة يكون ذا وجه به يتصف بالحسن.
وعليه، فالذي يكون دخيلا في تعلق الامر وصيرورة الشئ مأمورا به
نفس إضافة ذات المأمور به إلى أمر آخر بإضافة خاصة لا نفس الامر الآخر
الذي يكون طرف الإضافة.
وعلى هذا فشرطية شئ للمأمور به مرجعها إلى كون إضافة المأمور به
إليه محصلة لوجه يوجب اتصافه بالحسن، فمرجعها إلى دخالة إضافة المأمور به
في تعلق الامر وتأثيرها فيه. ومن الظاهر أنه كما تكون إضافة شئ إلى أمر مقارن
له موجبة لتعنونه بعنوان حسن به يكون متعلقا للامر، كذلك يمكن ان تكون
اضافته إلى أمر متقدم عليه أو متأخر عنه موجبة لذلك، فالتأثير في الحقيقة في
جميع ذلك إلى الإضافة وهي الشرط حقيقة، وهي مقارنة للمأمور به مطلقا. اما
نفس الامر المقارن أو المتقدم أو المتأخر فاطلاق الشرط عليه باعتبار أنه طرف
الإضافة لا غير، لا باعتبار انه الشرط حقيقة كي يتوهم استلزام ذلك تأثير
المعدوم في الموجود في مورد الشرط المتأخر.
والمتحصل: ان الشرط في الحقيقة أمر مقارن للمشروط - سواء كان
الحكم أو المأمور به -، واطلاق الشرط على الأمور المتأخرة والمتقدمة، بل المقارنة
بلحاظ نوع من العلاقة والارتباط بينها وبين ما هو الشرط حقيقة والمؤثر في
الواقع.
هذا ايضاح ما ورد في الكفاية في التفصي عن الاشكال المذكور (1).
وقد قيل في التفصي عنه: ان اجزاء العلة على نحوين: نحو يكون دخيلا
في نفس تأثير المقتضي في المعلول. ونحو لا يكون دخيلا في التأثير وانما يكون
مقربا للمعلول من علته، ويعبر عنه في الاصطلاح بالمعد، نظير الخطوات

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 93 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
111

التدريجية غير الخطوة الأخيرة المنتهية إلى المكان الذي يراد الوصول إليه، فان
الخطوة الأولى والثانية وهكذا - وان كانت مما يتوقف عليها الكون في المكان
لكنها - غير موثرة في نفس الكون في ذلك المكان، وانما أثرها مقربية ذلك المكان
للمؤثر وهو الخطوة الأخيرة.
وهذا النحو من الاجزاء - أعني المعدات - لا يمتنع تقدمها على المعلول
بحيث تكون معدومة عند حصوله كما في المثال المزبور، فان الخطوات السابقة
منعدمة عند الكون في المكان الخاص، وانما الذي تلزم مقارنته للمعلول هو
الاجزاء المؤثرة فيه.
وعليه، فحيث إن الشرائط الشرعية كلها من قبيل المعدات المقربة لم
يمتنع تقدمها على المشروط وكونها منعدمة عند وجوده (1).
وهذا الجواب مضافا إلى أنه يرفع الاشكال في خصوص الشرط المتقدم
لا المتأخر - إذ ليس هو من قبيل المعد - يبتني على استظهار كون الشروط
الشرعية من قبيل المعدات، وهو لا يخلو من جزاف، ولعلنا نعود إلى هذا الجواب
وما حوله من الكلام مرة أخرى.
ثم إن المحقق الأصفهاني ذكر امرا - في تعليقته على مطلب الكفاية في
شرائط الحكم - بعنوان الايراد على صاحب الكفاية، ثم تصدى إلى جوابه،
وتوجيه كلام صاحب الكفاية وتصحيحه في بعض أنحائه.
اما ما ذكره بعنوان الايراد فهو: ان للبعث والتحريك الاعتباريين الذين
هما من أفعال المولى الآمر جهتين: جهة تعلق إرادة الآمر بهما. وجهة ذاتيهما
ووجوديهما الحقيقيين. فهما بلحاظ الجهة الأولى كسائر مرادات المولى لا يتأثر ان

(1) تعرض إليه في نهاية الدراية 1 / 170 وادعى ان الالتزام بكون جميع الأسباب والشرايط الشرعية
معدات، جزاف.
112

بالأمور الخارجية، لان الإرادة من الكيفيات النفسانية فلا يؤثر فيها ما هو
خارج عن أفق النفس. ولكنهما بلحاظ هذه الجهة خارجان عن محل الكلام، فان
محل الكلام جهة وجودهما الحقيقي، وبهذا اللحاظ يبقى الاشكال في محله ولا
ينحل بما أفيد، لامكان توقف وجود البعث الحقيقي على الأمور الخارجية، وعليه
فيقع الكلام في صحة توقفه على ما هو متأخر عنه وجودا. هذا ما ذكره بنص.
العبارة - تقريبا - وهو لا يخلو عن اجمال (1). وسيتضح في طي ذكر كلمات
الاعلام وما يدور حولها، لذلك سنترك الكلام فيه وننتقل إلى كلام علم آخر وهو
المحقق النائيني...
فقد أورد على ما افاده صاحب الكفاية من ارجاع الشروط إلى التصور
وعلم الآمر: بأنه نقل للكلام إلى غير موضعه، وناشئ عن الخلط بين القضايا
الحقيقية والقضايا الخارجية.
بيان ذلك: ان انشاء الحكم يتصور على نحوين:
الأول: أن يكون بنحو القضية الخارجية، وذلك بان ينشأ الحكم على
موضوع متحقق ثابت خارجي، كما يقال - مثلا - " أكرم زيدا "، فان الحكم قد رتب
على موضوع خارجي موجود ولم يعلق على شئ، وهذا النحو من الاحكام يكون
الدخيل في ملاكه وموضوعه علم المولى بلا تأثير للأمور الخارجية ومطابقات
العلم فيه، فيعلم المولى بان زيدا صديق له فيوجب اكرامه ويثبت الحكم بذلك،
وإن لم يكن زيد في الواقع صديقا له. ومن الواضح ان فعلية الحكم ههنا لا تنفك
عن انشائه وجودا، إذ الفرض انه لم يعلق على شئ، بل ثبت على موضوع
موجود خارجا. نعم هي متأخرة عن إنشائه رتبة.
الثاني: أن يكون بنحو القضية الحقيقية، وذلك بان ينشأ الحكم على

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 170 - الطبعة الأولى.
113

موضوع مقدر الوجود، ولا يلحظ فيه مقام الخارج وانه ثابت خارجا أو لا، بل
الحكم ينشأ بنحو التعليق على وجود الموضوع خارجا بلا نظر للمولى إلى الخارج
أصلا، فيقال مثلا: " يجب الحج على من يستطيع " اما تشخيص المستطيع خارجا
والحكم عليه فهو أجنبي عن المولى وليس من وظيفته، بخلاف القضية الخارجية
فان المولى في حكمه ناظر إلى الخارج ومرجع حكمه إلى تشخيص الموضوع
وتعيينه بنفسه.
ولا يخفى ان فعلية الحكم يمكن أن تنفك عن إنشائه - في القضايا
الحقيقية - فيتحقق انشاؤه فعلا بلا أن يكون فعليا، إذ فعليته تدور مدار ثبوت
موضوعه، فقد لا يكون الموضوع حال الانشاء متحققا، فلا يكون الحكم فعليا
وثابتا أيضا. ومن هنا التزم (قدس سره) بامكان انفكاك الجعل عن المجعول وان
للمجعول عالما غير عالم الجعل. ونظر له بالوصية التمليكية، فان إنشاء التمليك
يكون في حال الحياة مع أن الملكية لا تتحقق إلا بعد الموت بالانشاء السابق،
لان موضوعها هو الموت وهو لم يكن متحققا حال الانشاء.
وكما تفترق القضايا الحقيقية عن الخارجية في هذه الجهة - أعني انفكاك
الحكم المجعول عن الجعل والانشاء زمانا - كذلك تفترق عنها في جهة أخرى،
وهي ان المؤثر في ثبوت الحكم في القضايا الخارجية على ما عرفت هو علم المولى
بتحقق الموضوع وتشخيصه ذلك، وإن لم يكن في الواقع ثابتا. اما القضايا
الحقيقية فليس الحال فيها كذلك، فان المؤثر في ثبوت الحكم من حيث الموضوع
هو وجود الموضوع خارجا علم به المولى أو لم يعلم، لان الفرض كون الحكم
منشأ على تقدير ثبوت الموضوع فيدور مدار ثبوته الواقعي لا مدار علم المولى،
بخلاف القضية الخارجية، لان الحكم لم ينشأ على تقدير الموضوع، بل أنشئ
فعلا على الموضوع الخارجي، فترجع جهة ثبوته إلى علم المولى بتوفر جهات
الموضوع فيما حكم عليه وإن لم يكن كذلك واقعا.
114

وإذا تبين هذا يعلم ان ما ذكره صاحب الكفاية من رجوع شرائط الحكم
إلى التصور والعلم انما يتم في ما إذا كانت الاحكام بنحو القضايا الخارجية، لا
ما إذا كان الحكم بنحو القضية الحقيقية، لما عرفت في انحصار التأثير في الأولى
في نفس العلم لا إلى الخارجيات. وعليه فلا يمتنع أن يكون مطابق العلم متقدما
أو متأخرا، لان التأثير لصورته وهي مقارنة لا لوجوده الخارجي. اما القضايا
الحقيقية فقد عرفت أن فعلية الحكم فيها لا ترجع إلى علم المولى وعدم علمه،
بل ترتبط بوجود الموضوع وتحققه وعدمه. ومحل الكلام في الشرط المتأخر هو
هذا النحو من الاحكام لا النحو الأول، فما جاء في الكفاية يكون نقلا للكلام
إلى غير موضعه وخلطا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية (1).
وعلى اي حال فمحل الكلام وموضع البحث في نظر المحقق النائيني هو
الاحكام المنشأة بنحو القضية الحقيقية، لأنها التي يتصور دخل الأمور الخارجية
فيها، فيقع البحث في أنه هل يمكن ان يفرض امرا متأخرا عن الحكم وجودا
دخيلا في وجود الحكم وتحققه أو لا؟، دون المنشأة بنحو القضية الخارجية لعدم
تأثير الأمور الخارجية فيها، بل المؤثر فيها ليس إلا علم المولى وهو مقارن، وان
كان المعلوم متأخرا أو متقدما لعدم تأثيره. اما الحكم المنشأ بنحو القضية
الحقيقية فلما لم يكن لعلم المولى تأثير في تحققه وفعليته، بل التأثير لوجود
موضوعه، فيتصور ان يؤثر فيه ما هو متأخر عنه، فيتكلم في أنه هل يمكن ان
يؤثر في وجود الحكم ما هو متأخر زمانا عنه أو لا؟. والذي بنى عليه المحقق
المذكور عدم امكان ذلك وامتناعه عقلا. ببيان: ان تعليق الحكم على امر مرجعه
إلى أخذ ذلك الامر في موضوع الحكم، ومرجع ذلك إلى اخذه مفروض الوجود
في مرحلة سابقة على الحكم في ثبوت الحكم، بمعنى ان ثبوت الحكم متفرع على

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 222 - الطبعة الأولى.
115

تحققه وثبوته، فلا بد ان يفرض وجوده في مرحلة ثبوت الحكم فان هذا هو معنى
فرض وجود الموضوع الذي عرفت توقف فعلية الحكم عليه.
وعليه، فيمتنع ان يعلق الحكم على امر متأخر عنه، ويكون الامر المتأخر
شرطا له، إذ الحكم - على هذا - يوجد قبل وجود الامر المتأخر، وهذا يستلزم
الخلف، لان معنى كونه شرطا اخذه مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم،
وثبوت الحكم على تقدير تحققه، فثبوت الحكم مع عدم تحققه يرجع إلى وجود
الحكم قبل وجود موضوعه وهو خلف محال. بهذا التقريب انتهى المحقق النائيني
إلى امتناع الشرط المتأخر.
وأورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله): بان أخذه شرطا ومفروض
الوجود وربط الحكم به بنحو ارتباط امر بيد الشارع الجاعل، فيتبع كيفية الجعل
والتقدير والفرض، فإذا فرض ان الجاعل فرض الارتباط بينه وبين الحكم
بوجوده المتأخر عن الحكم، بمعنى انه أخذه مفروض الوجود في زمان متأخر
وتأثيره في ثبوت الحكم بهذا النحو، فلا يمتنع ان يوجد الحكم قبله، إذ لم يؤخذ
مفروض الوجود حال الحكم، بل أخذ مفروض الوجود في الزمان المتأخر، فلا
يستلزم ثبوت الحكم قبله الخلف المحال، بل يكون ذلك مطابقا لما هو المفروض
والمجعول من قبل الشارع. وعلى هذا فلا يمتنع الشرط المتأخر من هذه
الجهة (1).
ولا بد في تحقيق الحال في كلام المحقق النائيني وما يدور حوله من كلام
من تحقيق بعض الأمور:
الامر الأول: في أنه هل يكون وراء انشاء المولى وجعله امرا يكون
مرتبطا بالأمور الخارجية؟، وبتعبير آخر: هل ان للمجعول - بتعبير - والمعتبر

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 313 - الطبعة الأولى.
116

والامر الاعتباري - بتعبير آخر - عالما غير عالم الجعل والاعتبار، ويكون مرتبطا
بالأمور الخارجية أو لا؟.
وتحقيق الحال: ان في هذا الامر مسالك ثلاثة:
المسلك الأول: - وهو مسلك المحقق النائيني (رحمه الله) - ان المجعول
والمعتبر له عالم غير عالم الجعل والاعتبار، فيمكن ان ينفك عنه، فيتحقق الجعل
دون المجعول لارتباط المجعول بأمور خارجية تتحقق فيما بعد، وقد نظر لذلك
بباب الوصية التمليكية، فان الموصي ينشئ التمليك حال الحياة مع عدم
حصول الملكية في تلك الحال، بل تحصل بعد الموت، فالاعتبار منفك عن المعتبر.
وبالجملة: الذي يدعيه ان فعلية المجعول لا تلازم فعلية الجعل، بل هي
ترتبط بالأمور الخارجية فتدور مدارها وجودا وعدما. ومن هذه الجهة يقع البحث
في الشرط المتأخر كما تقدم تقريبه. وهذا أصل قرره وبنى عليه كثير من الآراء
الأصولية كامتناع الشرط المتأخر والواجب المعلق وغير ذلك (1).
وقد نوقش هذا الوجه:
أولا: بان المعتبر لا تقرر له ولا عالم سوى عالم الجعل والاعتبار،
فيستحيل ان ينفك عن الاعتبار ويوجد متأخرا عنه، فإنه نظير الماهية المتصورة
في الذهن، فإنها كما لا يمكن انفكاكها عن التصور، فيوجد التصور بدون الماهية
المتصورة، لان واقعها هو التصور، كذلك لا يمكن انفكاك المعتبر عن الاعتبار
والمجعول عن الجعل لتمحض واقعه في الجعل والاعتبار، وليس له واقع وراء
ذلك، فلا يمكن تخلفه عنه.
وثانيا: - أو بتقريب آخر - ان نسبة الاعتبار إلى المعتبر نسبة الايجاد إلى
الوجود، وقد تقرر ان الايجاد والوجود متحدان ذاتا، والتغاير بينهما اعتباري فلا

(1) المحقق الخوئي أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 127 و 145 - الطبعة الأولى.
117

يمكن تصور الانفكاك بينهما.
المسلك الثاني: - وهو ما يظهر من كلمات المحقق الأصفهاني - ان
الاعتبار بحسب ذاته وواقعه يرجع إلى الفرض والبناء، نظير التخيل والادعاء
كأنياب الأغوال، الا ان يختلف عنه بان الفرض إذا كان متعنونا بعنوان حسن،
كما إذا كان ذا مصلحة سمي اعتبارا وخرج عن مجرد الفرض كالتخيل. والتعنون
بالعنوان الحسن المقوم لتحقق الاعتبار والمعتبر قد يكون مرتبطا بأمور خارجية
بحيث تكون دخيلة في ذلك. فالاعتبار والمعتبر لا ينفكان إلا أنهما يتحققان
بلحاظ تعنون القرار بعنوان حسن، ولكنهما قد يتأخران تحققا عن الفرض لتأخر
التعنون بالحسن، باعتبار ارتباطه بالأمور الخارجية. وعلى هذا الأساس يقع
البحث في الشرط المتأخر، وذلك بان يقال: إنه هل يمكن أن يكون من الأمور
الخارجية المؤثرة في حصول العنوان الحسن وتحقق الاعتبار والمعتبر، ما هو متأخر
وجودا عن ترتب الأثر أولا؟.
وهذا المسلك باطل كما أشار إليه المحقق الأصفهاني نفسه فان الاعتبار
هو عبارة عن الانشاء والجعل بداع عقلائي لا لصرف الفرض والبناء - كي
يكون نظير أنياب الأغوال - وعليه فهو لا يتأخر عن نفس القرار والجعل، ولا
ينفك عنه المجعول والمعتبر - كما هو المفروض - ولا يتوقف ثبوته على نفس ترتب
الآثار.
المسلك الثالث: - ما يظهر من المحقق العراقي - وهو ان الجعل والمجعول
لا ينفكان وليس للجعل عالم غير عالم المجعول بل عالمهما واحد، وفعلية المجعول
لا تنفك عن الجعل. الا ان تأثير المجعول وترتب الآثار العقلائية عليه قد تنفصل
عن فعلية المجعول فلا تترتب عليه الباعثية والمحركية بمجرد وجوده، بل يكون
ترتبها بلحاظ ثبوت بعض الأمور الخارجية وبتعبير آخر: ان فعلية المجعول وان
كانت ثابتة بالجعل، لكن فاعليته قد تنفصل عنها، فيحصل الانفكاك بين
118

الفاعلية والفعلية لتوقف الفاعلية على حصول بعض الأمور الخارجية. ومن هذه
الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر فيقال: انه هل يمكن تأثير أمر في فاعلية
الحكم وترتب الأثر عليه يكون متأخرا عنه أو لا يمكن؟. والا فنفس الحكم ثابت
بنفس الجعل غير معلق على شئ بالمرة.
وهذا المسلك مخدوش من وجهين:
الأول: انه غير تام في نفسه، فإنه مع البناء والالتزام بان الحكم ثابت
بنحو الفعلية وغير مقيد بأي امر من الأمور، يمتنع الالتزام بعدم ترتب الباعثية
والمحركية عليه، وانه غير واجب الإطاعة فعلا، فإنه مما لا محصل له، إذ يرجع
إلى تخصيص الحكم العقلي بلزوم الإطاعة وهو ممتنع حتى من قبل الشارع.
وبالجملة: بعد تمامية الحكم بجميع جهاته لا وجه لعدم ترتب الأثر عليه
وتوقفه على امر لا يرتبط بالحكم.
الثاني: ان المورد بذلك يخرج عن موضع البحث، إذ موضع البحث هو
تقييد نفس الحكم وتعليقه على شرط متأخر، لا تقييد الأثر عليه بشرط
متأخر مع كون نفس الحكم ثابتا بقول مطلق. وبنحو أوضح نقول: ان الغرض
هو البحث عما يرى بالبداهة شرطا متأخرا للحكم وتصحيحه بنحو يرفع
الاشكال، فارجاع ذلك إلى كونه شرطا لغير الحكم وهو ترتب الأثر عليه وكون
الحكم ثابتا بلا تعليق مما يخالف الظهور البديهي للشرط، خروج عن محل الكلام
ونقل الكلام إلى موضع آخر لا يهمنا البحث عنه فعلا. وبانتفاء كل من المسالك
الثلاثة يشكل البحث في الشرط المتأخر، إذ لا يتحدد موضعه ومحله كي يدور
النفي والاثبات والنقض والابرام حوله.
فالتحقيق ان يقال: ان الانشاء ليس عبارة عن اعتبار المعنى المنشأ من
قبل المنشئ، بل هو - كما حقق في محله على ما تقدم - التسبيب إلى تحقق
الاعتبار العقلائي للمعنى المنشأ الموجد باللفظ، بمعنى ان المنشأ
119

يتسبب بانشائه إلى تحقق اعتبار العقلاء لما أنشأه باللفظ، اما لاجل تحقق
الاعتبار العقلائي في نفسه فيكون بعمله وانشائه متسببا لتطبيق الاعتبار الكلي
على المورد أو لاجل أنه بانشائه يحدث الاعتبار العقلائي بعد أن لم يكن ثابتا
قبل الانشاء. وببيان أوضح: أنه تارة: يكون للعقلاء اعتبار كلي بنحو القضية
الحقيقية، كأن اعتبروا الملكية عند انشائها - مثلا -، فإذا انشاء المنشئ يكون
مسببا إلى تطبيق ذلك الاعتبار الكلي على مورد انشائها لايجاده ما هو موضوع
الحكم العقلائي واعتبار العقلاء. وأخرى: لا يكون لهم اعتبار كلي. بل يتحقق
اعتبارهم عند تحقق كل إنشاء، فالمنشئ يتسبب بانشائه إلى احداث اعتبار
العقلاء.
وعلى أي حال: فالاعتبار انما هو من قبل العقلاء لا نفس المنشئ، نعم
يمكن تسمية الانشاء بالجعل، لكنه لا بالمعنى الحقيقي للجعل، لما عرفت من انه
لا يتكفل سوى التسبيب لجعل العقلاء.
ثم إن الاعتبار العقلائي قد يكون مرتبطا بالأمور الخارجية، وذلك لأنه
يتبع قصد المنشئ وكيفية انشائه. فتارة ينشئ المعنى مطلقا بمعنى انه يقصد
تحقق اعتباره حال إنشائه فيكون الاعتبار على طبق قصده. وأخرى ينشؤه
مقيدا، بمعنى انه يقصد تحققه في ظرف خاص أو عند وجود أمر معين. فيكون
الاعتبار على نحو قصده فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف وعلى النحو
الذي قصده وأنشأه.
وبذلك يتضح ان للمجعول عالما غير عالم الانشاء والجعل - بالمعنى
المسامحي -، وإن لم ينفك عن الجعل العقلائي، ويمكن أن يكون مرتبطا بالأمور
الخارجية ولا يتمحض ارتباطه بالموجودات الذهنية كنفس الانشاء، فيقع الكلام
حينئذ في أنه هل يمكن أن يكون مرتبطا بما يكون متأخرا عنه في وجوده أو لا؟.
فيتجه الكلام في الشرط المتأخر ويتحدد موضعه، وبعد هذا ننقل الكلام إلى...
120

الامر الثاني: الذي يدور البحث فيه حول تشخيص نوع الارتباط
الموجود بين المجعول والأمور الخارجية.
وقد عرفت أن مرجع الارتباط بالأمور الخارجية هو كيفية الانشاء والجعل،
لان الاعتبار العقلائي تابع لقصد المنشئ، فقد يقصد تحقق المعنى في ظرف
معين، فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف، وهذا هو المعنى الارتباط، فيعلم
بذلك بان الارتباط بين الامر الخارجي المفروض والمجعول ليس من قبيل ارتباط
العلة بالمعلول، بمعنى أن يكون الامر الخارجي دخيلا في تحقق الاعتبار ومؤثرا
فيه، كي يستشكل بان الاعتبار فعل من أفعال العقلاء تابع للإرادة فلا يمكن
ان يؤثر فيه ما هو خارج أن أفق النفس من الخارجيات. وانما الارتباط بينهما
ناشئ عن كيفية الانشاء والجعل، فإنه كما عرفت تابع لقصد المنشئ، فإذا
انشاء المعنى وقصد تحققه في فرض وتقدير خاص كان الاعتبار في ذلك الظرف
الخاص وعلى ذلك التقدير المعين، ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا من أفعال
العقلاء تابعا لتحقق الإرادة بلا تأثير للخارجيات فيها أصلا.
الامر الثالث: في تحقيق معنى الفرض والتقدير الذي ورد في كلام
المحقق النائيني في مقام بيان المراد من القضية الحقيقية من أن موضوعها مأخوذ
بنحو فرض الوجود، وانه هل يمكن أن يكون الامر المتأخر مأخوذا بنحو
الفرض والتقدير أو لا يمكن؟. ولا بد قبل ذلك من البحث في أن هذه القيود
المأخوذة في القضية الحقيقية بنحو فرض الوجود هل هي من قبيل قيود متعلق
التكليف أو لا، بل تكون من قبيل آخر؟. بيان ذلك: ان قسما من القيود يكون
راجعا إلى متعلق التكليف ولا يجب تحصيله، كما إذا كان من الأمور غير
الاختيارية كالوقت في مثل: " صل في الوقت الكذائي "، أو كان من الأمور
الاختيارية ولكن أخذ قيدا بوجوده - لا بذاته كي يجب تحصيله نظير أخذ
الطهارة في الصلاة -، وذلك كالمسجد في مثل: " صل في المسجد "، فان كلا من
121

المسجد والوقت مما لا يلزم تحصيله مع رجوعه إلى المتعلق، فان متعلق التكليف
هو الحصة الخاصة كالصلاة في الوقت أو في المسجد. وقسما من القيود لا يكون
راجعا إلى المتعلق مع كونه قيدا للحكم - بمعنى تقيد الحكم به - كظرف الحكم،
فان الحكم إذا تحقق في زمان خاص كان متقيدا به واقعا مع أن ذلك الزمان لم
يؤخذ قيدا في المتعلق، بل المتعلق في حيز الخطاب مطلق من جهته وان كان لا
ينفك عنه حقيقة.
إذا عرفت ذلك، نقول: ان قيود الحكم في القضية الحقيقية المفروضة
الوجود - والقدر المتيقن منها الأمور غير الاختيارية - هل هي راجعة إلى المتعلق
فتكون من قيوده ويكون المتعلق هو الحصة المتقيدة بها وإن لم يلزم تحصيلها، أو
انها لا ترجع إلى المتعلق؟.
والثمرة انه إذا كانت راجعة إلى المتعلق ومن قيوده كان فرض وجود
الامر المتأخر بمكان من الامكان، لان مرجع ذلك إلى تقييد متعلق الحكم بالقيد
واضافته إليه بجعله الحصة المضافة إليه بنحو من أنحاء الإضافة. ومن الواضح
ان كيفية التقييد والإضافة بيد الجاعل، فيمكن ان يقيد المتعلق بالمتأخر بجعله
الحصة المتعقبة بذلك الامر كتقييده بالمقارن وجعله الحصة المقارنة له.
وهذا بخلاف ما إذا لم تكن راجعة إلى المتعلق، فإنه لا يمكن يؤخذ منها ما
هو متأخر من الحكم قيدا له.
والتحقيق: انها لا ترجع إلى متعلق التكليف، وذلك لوجوه:
الأول: الوجدان الشاهد على عدم رجوع بعض تلك القيود في بعض
مواردها إلى متعلق الحكم نظير الحيازة أو البيع الذي يكون سببا لملكية العين
المحازة أو المباحة. فان من الظاهر أن متعلق الحكم - وهو الملكية - هو ذات العين
كالأرض والكتاب من دون ان تتقيد في مقام طرؤ الحكم عليها بالحيازة والبيع،
مع أن كلا من الحيازة والبيع مأخوذ بنحو فرض الوجود، إذ تحقق الملكية انما
122

يكون عند تحققهما، فهما من قيود تحقق الملكية لكنهما لا يرجعان إلى المتعلق، فان
اعتبار الملكية موضوعه نفس العين بذاتها، لا العين بقيد الحيازة أو البيع، نعم لا
يتحقق الاعتبار إلا عند تحقق الحيازة أو البيع، لكنه لا يعنى رجوعه إلى المتعلق.
الثاني: ان تحقق الحكم تابع لتحقق ملاكه ودواعيه، ومن الواضح أنه تابع
لثبوت المصلحة في متعلقه، والفعل بلحاظ المصلحة المترتبة عليه له مرحلتان:
مرحلة اتصافه بالمصلحة بان يكون ذا مصلحة، ومرحلة فعلية مصلحته بمعنى
مرحلة الترتب الفعلي للمصلحة عليه، فمن القيود ما يكون دخيلا في اتصاف
الفعل بالمصلحة، وهذا النحو لا يكون واجب التحصيل. ومنها ما يكون دخيلا
في فعلية مصلحة الفعل وترتبها عليه، وهذا يكون لازم التحصيل. ومثاله في
التكوينيات: شرب الدواء، فإنه قبل تحقق المرض لا يكون ذا مصلحة أصلا،
فالمرض دخيل في اتصاف الدواء بالمصلحة، بمعين ان شربه يكون ذا مصلحة،
ولكن قد يشرب الدواء ولا تترتب عليه المصلحة وهي الشفاء، لفقد بعض
الشروط الدخيلة في ترتبها نظير الاعداد بالنحو الخاص من حرارة خاصة وكمية
خاصة وغيرهما، فمثل الوضع على النار للحرارة يكون دخيلا في ترتب المصلحة
على الدواء المشروب ولذا يكون لازم التحصيل.
وعليه، فما يكون دخيلا في أصل الاتصاف بالمصلحة يكون دخيلا في
تحقق الإرادة التي ينبعث عنها الحكم، فتحقق الإرادة مترتب على تحققه
- وإن لم يكن بنفسه مؤثرا بالمباشرة لمعلولية الإرادة للصور الذهنية بلا تأثير
للخارجيات -، إذ بعد تحققه يتصور الامر مصلحة الفعل فيبعث نحوه لحصول
الشوق إليه عندئذ، ومثل هذا لا يكون مأخوذا في متعلق الإرادة والحكم لفرض
تحققه حين تعلق الإرادة بالفعل، فلا يتجه إضافة، المتعلق إليه. إذا تم هذا فاعلم:
ان الشروط المأخوذة بنحو فرض الوجود كلها تكون دخيلة في اتصاف الفعل
بالمصلحة، فتكون سابقة على الإرادة والحكم فلا يتجه أخذها في متعلق الحكم.
123

الثالث: ان ارتباط قيود المتعلق به ينشأ من تقييد طبيعي المأمور به
بوجود القيد الخاص، بمعنى ان المأمور به يكون هو الحصة المضافة إلى وجود
القيد الخاص بإضافة معينة خاصة، وذلك يكون بتوسيط بين مفهوم المأمور به
ومفهوم القيد بلحاظ المرآتية عن الواقع والنظر إلى الخارج والحكاية عنه. وهذا
المعنى غير ثابت في فرض الوجود، فان فرض الوجود مرجعه إلى فعل نفسي
محصله الاتيان بهذا العمل حين وجود ذلك العمل، فالارتباط الثابت بفرض
الوجود ارتباط بين الواقعين والخارجين، وليس ذلك بمعنى تقييد أحدهما بالاخر
واضافته إليه وكونه الحصة المتقيدة به، بل بمعنى تحقق ذلك خارجا عند تحقق
هذا، وهذا ينافي البناء النفسي على ذلك. فسنخ الارتباط بينهما يختلف عن سنخ
ارتباط المتعلق بقيوده، فالارتباط بينهما ناشئ من الاتحاد في التحقق والمقارنة في
الوجود بفرض الجاعل وبنائه على هذا العمل. والارتباط بين المتعلق وقيوده
ناشئ من تقييده بها واضافته إليها.
وعليه، فلا مجال لرجوع الشروط المفروضة الوجود إلى قيود المتعلق،
فيقع الكلام بعد هذا في صحة كون مفروض الوجود متأخرا عن الحكم.
والتحقيق: انه ممنوع، وذلك لان فرض الوجود الذي هو عبارة عن ربط
مخصوص لا محصل له ولا معنى سوى الربط بنحو الترتب، بمعنى كون وجود
الحكم مترتبا على ما فرض وجوده فإنه معنى فرض الوجود ومن المعلوم أنه
لا يعقل ترتب وجود الحكم على وجود الشرط المتأخر عنه، بل لا بد من مقارنته
للحكم، لان الترتب لازم لمقارنة المترتب على المترتب عليه أو تأخره عنه زمانا
ولا يعقل تقدمه عليه، ومن هنا يتعين القول باستحالة الشرط المتأخر
بالتقريب الذي قرره المحقق النائيني من لزوم الخلف منه.
ومن هذا البيان يظهر أن ما افاده السيد الخوئي (حفظه الله) في مقام
الايراد على المحقق النائيني (قدس سره): بان الفرض والربط بين الحكم
124

والشرط تابع لكيفية الجعل وفرض الجاعل، فيمكن ان يفرض الارتباط بين
الحكم والامر المتأخر كما مر تفصيله. غير وجيه، لأنك قد عرفت أن واقع الفرض
والتقدير ترتيب وجود الحكم على وجود الشرط من قبل الجاعل، فترتيبه، على أمر
متأخر غير معقول.
واما ما افاده صاحب الكفاية من تصحيح الشرط المتأخر بارجاع
الشرط حقيقة إلى أمر مقارن، وهو الوجود العلمي، وان اختلف مطابقه الخارجي
من جهة المقارنة والتقدم والتأخر. فقد عرفت الايراد عليه من قبل المحقق
النائيني من أنه خلط بين القضايا الخارجية التي يتبع الحكم فيها علم المولى
وتشخيصه الموضوع والقضايا الحقيقية التي يؤخذ فيها الموضوع مفروض الوجود
بلا دخل لعلم المولى وتصوره في البين.
واما ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني في مقام الايراد على صاحب
الكفاية من: ان للبعث اعتبارين: اعتبار أنه فعل من أفعال المولى، واعتبار انه
موجود حقيقي. وانه بالاعتبار الأخير يتأثر بالخارجيات. فقد عرفت أنه لا يخلو
عن غموض، وغاية ما يمكن توضيحه به هو ما تقدم من المسلك الثاني في باب
الاعتبار الذي عرفت ظهوره من كلماته (قدس سره)، من أن الاعتبار عبارة
عن الفرض، ولكنه يختلف عنه بأنه الفرض المتعنون بعنوان حسن أو المترتب
عليه أثر عقلائي - على اختلاف تعبيراته - وبذلك يتأثر بالأمور الخارجية
الموجبة للتعنون بالحسن، فنفس الفعل وان كان من أفعال المولى إلا أن وجود
الاعتبار والمعتبر حقيقة يرتبط بالتعنون بالحسن الذي يتأثر بالأمور الخارجية.
ولكنك عرفت الخدشة في نفس المسلك منه (قدس سره) وأن الاعتبار
ليس إلا البناء والقرار بداع عقلائي. كما يرد عليه: إن توقف الاعتبار على
التعنون بالعنوان الحسن لا يخرجه عن حقيقته وهي الفرض الذي هو فعل من أفعال
المولى المستلزم لامتناع تأثره بالخارجيات، واختلاف الاعتبار واللحاظ في البعث
125

لا يستلزم تغيير حقيقته.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) حاول تصحيح الشرط المتأخر في
الشرعيات والتكوينيات ببيان: ان حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنه المتمم
لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخر، لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود. وانما حقيقته
هو كونه طرفا لإضافة المقتضي إليه فيتحدد بها ويتحصص بواسطتها، فيكون
بهذه الإضافة مؤثرا من دون أن يكون لنفس الشرط تأثير في وجود المعلول، بل
المؤثر ليس إلا المقتضي، لكنه هو الحصة الخاصة منه، فالمؤثر في الاحراق ليس هو
مطلق النار، بل الحصة الخاصة منها وهي النار المجاورة للشئ، أو يكون طرفا
لإضافة المعلول إليه، فيكون بتلك الإضافة قابلا للانوجاد والتأثير، فليس
الشرط كما يدعى هو المتمم لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل، بل هو طرف
إضافة وتحديد بها تحصل الفاعلية للفاعل والقابلية للقابل، ومن الواضح انه لا
يمتنع أن يكون طرف الإضافة من الأمور المتأخرة بعد أن كانت الإضافة مقارنة
ولم يكن للامر المتأخر أي تأثير (1).
ولا يخفى ما فيه: لأنه إن أريد من الإضافة الخاصة التي بها يكون المعلول
قابلا للانوجاد أو المقتضي قابلا للإيجاد الإضافة الاعتبارية اللحاظية، لم يتجه
الالتزام بتأثيرها في قابلية العلة أو المعلول، فإنها لا تعدو التصور والبناء، فلا معنى
لدخالتها في تأثيرها في قبول المعلول للانوجاد والعلة للإيجاد، فإنه من الواضح
إن تأثير النار في الاحراق وقابلية الشئ للحرق لا يرتبط بعالم اللحاظ
والإضافات بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجية، وهذا أمر لا
يشك فيه أحد، فدعوى تأثير نفس الإضافة في القابلية بحيث لا يكون المضاف
قبل اللحاظ الخاص قابلا للتأثر أو التأثير لا ترجع إلى محصل.

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 275 - الطبعة الأولى.
126

واما إذا أريد من الإضافة الحقيقة المقولية التي لها تقرر واقعي،
فهي تتوقف على تحقق طرفيها فعلا، والمفروض أنه بصدد تصحيح كون طرفها
غير متحقق فعلا، فلاحظ جيدا.
وملخص ما حررناه: هو امتناع الشرط المتأخر بناء على كون الاحكام
مجعولة بنحو القضية الحقيقة، وما قيل في تصحيحه من الوجوه التي عرفتها لا
تغني ولا تسمن من جوع. وعليه فلو ورد ما ظاهره شرطية الامر المتأخر، كما لو
ورد ما يدل على حصول الملكية من حين العقد إذا أجاز المالك بعد حين - في
عقد الفضولي -، فلا بد من الالتزام بخلاف ظاهره بحمله على كون الشرط
عنوانا انتزاعيا عن وجود الامر المتأخر في زمانه، كعنوان التعقب به، فالمؤثر هو
العقد المتعقب بالإجازة، فالشرط هو عنوان التعقب وهو أمر مقارن دون طرف
الإضافة أعني الإجازة. فلا يتحقق المحذور.
فعلى هذا يمكننا أن ندعي: بان الشرط المتأخر بمعنى ممتنع وبمعنى آخر
معقول، لكنه بالمعنى المعقول خلاف الظاهر، لان الظاهر من الدليل كون
الشرط هو نفس الامر المتأخر، وقد عرفت أن معقوليته تكون بارجاع الشرط
إلى العنوان الانتزاعي.
وقد اشترط المحقق النائيني في الالتزام بان الشرط هو العنوان الانتزاعي
كعنوان التعقب امرين:
الأول: قيام الدليل على شرطية الامر المتأخر بحيث لا يمكن توجيهه
الا بذلك.
الثاني: مساعدة العرف والعقل على كون الشرط هو العنوان الانتزاعي
في خصوص المورد لا مطلقا لفرض تجويز العقل لذلك في نفسه (1).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 228 - الطبعة الأولى.
127

وقد استشكل المحقق الخوئي في الشرط الثاني: بأنه فرض معقولية
هذا المعنى ثبوتا وامكان حمل الدليل الاثباتي عليه - بل انحصار محمله به -. فلا
معنى لتقييد ذلك بمساعدة العرف والعقل، إذ ليس للعرف والعقل مجال تشريع
في قبال الشارع المقدس (1).
والظاهر أن هذا الاستشكال ناشئ عن عدم التدقيق في معرفة مراد
المحقق النائيني (قدس سره)، فان مراده ليس ان للعرف والعقل جهة تشريعية
في قبال الشارع، وانما نظره إلى أن هذا المعنى وان كان في نفسه معقولا لكن قد
لا يساعد العقل في خصوص مورد لخصوصية فيه على كون الشرط هو المعنى
الانتزاعي، بان كان يرى عدم دخالة هذا المعنى في الحكم، كأن يرى أن المؤثر
في ملكية - لو كان غير العقد مؤثر - هو نفس الرضا دون عنوان التعقب. أو
لا يساعد العرف عليه بحسب مرتكزاته بحيث لم يمكنه توجيه الدليل إلى الوجه
العقلي المعقول وحمله عليه. ففي مثل هاتين الحالتين لا يحمل الدليل على ذلك
المعنى الثبوتي، لأنه مناف للفهم العرفي أو الادراك العقلي كمنافاة ظاهره للحكم
العلقي بامتناع الشرط المتأخر. فلا بد من طرحه وما افاده ههنا نظير لما يقال في
باب الاستصحاب من أن المحكم في تعيين موضوع الحكم الوارد في الدليل هل
هو العقل أو العرف أو المتبع لسان الدليل؟، فإنه لا يعني ان العقل والعرف يحكم
في قبال الشارع بتعيين الموضوع، بل النظر إلى أن العقل هل يحكم نظره في
دخالة هذا الوصف - مثلا - في الموضوع الشرعي أو عدم دخالته بان كان يراه
من الجهات التعليلية؟، أو انه هل يتبع العرف بحسب مرتكزاته وفهمه، فما يراه
موضوعا شرعيا للحكم الشرعي يؤخذ به أولا؟. وبتعبير آخر: وظيفة العقل
والعرف تعيين ما هو الموضوع عند الشارع بحسب القواعد المقررة لكل منهما

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 316 - الطبعة الأولى.
128

لا تعيين موضوع الحكم قبالا للشرع وحكمه به. فالاستشكال لا مجال له.
يبقى الكلام في شئ وإن لم يكن مرتبطا بمحل كلامنا، وهو ما أفاده
المحقق النائيني (قدس سره): من أن كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم
التحصيل لا بد أن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود (1)، وقد التزم بذلك وكرر
التنبيه عليه. فلا بد من معرفة مقدار وجاهة هذا المفاد.
والتحقيق انه غير وجيه.
وذلك لان القيود التي تؤخذ في الخطاب على انحاء ثلاثة:
الأول: قيود المتعلق.
الثاني: ما يكون مرتبطا بالحكم بنفسه، كالزمان فان نسبته إلى الحكم
نسبة الظرف إلى المظروف.
الثالث: ما لا يكون بنفسه وبلحاظه خاصة ارتباط مع الحكم أصلا.
ومن الواضح ان الذي يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو
الثالث الذي لا ارتباط له بنفسه مع الحكم أصلا، فمع لحاظ المولى كلا من الحكم
والقيد لا يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شئ آخر إلا بنحو فرض
الوجود. وهذا بخلاف مثل الزمان فإنه يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط
شئ آخر بدون فرض الوجود، فيقول مثلا: " أوجبت التصدق في يوم الجمعة "،
لان الزمان يكون مرتبطا بالشئ لو وجد فيه بلا توسط شئ، بخلاف مجئ
زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق، فإنه لا ارتباط بينهما بغير الفرض والتقدير إذا توسط
بينهما شئ آخر كالزمان، فإنه يقال: " يجب التصدق في زمان مجئ زيد "، لكنه
خلاف الفرض، إذ المفروض ان المولى لا يلحظ شيئا غير الحكم والقيد، ومعه

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 132 - الطبعة الأولى.
129

لا يمكن الربط بينهما إلا بالفرض والتقدير، وهو - أعني فرض الوجود - ليس
شيئا آخر زائدا كالزمان، بل هو فعل نفسي مرجعه إلى ايجاد أحد الشيئين مترتبا
على وجود الآخر كما عرفت.
ومن هنا يتضح الحال في قيود المتعلق، إذ بعد تقيد المتعلق بها وكونه الحصة
الخاصة، لا حاجة إلى ربطه بالحكم بأخذه مفروض الوجود لتحقق ارتباطه به
بتوسط ارتباط الحكم بالمتعلق بلا احتياج إلى فرض وجوده. فتدبر.
هذا كله بالنسبة إلى ما يرجع إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.
واما ما يرجع إلى شرائط المأمور به المتأخرة، فالاشكال فيها من جهتين:
الجهة الأولى: - وهي تعم جميع موارد الشرط المتأخر للمأمور به -: ان
الأثر المترتب على المأمور به والذي بلحاظه يتعلق به الامر - أعني المصلحة
الواقعية - اما أن يكون مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط. أو يكون
مترتبا بعد حصول الشرط، إذ المفروض تخلل العدم بين الشرط والمشروط، فإن كان
مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط لزم ان يؤثر المعدوم في الموجود،
لان مقتضي شرطية المتأخر تأثيره فيه، والفرض انه - أي الشرط المتأخر -
معدوم عند حصول الأثر. وان ترتب بعد حصول الشرط كان المشروط حينئذ
منعدما، فيلزم أيضا تأثير المعدوم في الموجود. فعلى كلا التقديرين يلزم ما هو
المحال من تأثير المعدوم في الموجود.
ورفع الاشكال من هذه الجهة بأحد وجهين:
الأول: ان يلتزم بترتب الأثر عند حصول الشرط مع عدم كون المشروط
دخيلا في التأثير، بل هو يكون من قبيل المعد للأثر، بمعنى أنه يقرب المعلول
من العلة - كما مر - وقد عرفت أن المعد يمكن أن يكون سابقا، إذ لا يستلزم
سبقه تأثير المعدوم في الموجود لعدم كونه من اجزاء المؤثر.
الثاني: ان يجاب بما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره)، وذلك بعد انكار
130

تبعية الحكم للمصلحة الواقعية في متعلقه، وانما هو تابع للحسن المتعنون به
المأمور به، فيقال حينئذ: بان الحسن يختلف بالوجوه والاعتبارات الناشئة من
اختلاف الإضافات، فالحسن ينشأ من إضافة خاصة، وعليه فالدخيل في تحقق
المأمور به هو نفس الإضافة إلى الامر المتأخر أو غيره. وتسمية الامر المتأخر
شرطا ليس إلا بلحاظ كونه طرف الإضافة من دون أن يكون دخيلا في تحقق
المأمور به. ومن الواضح أن الإضافة من الأمور المقارنة وان كان طرفها متأخرا.
فشرط المأمور به في الحقيقة أمر مقارن وهو الإضافة الخاصة، لأنها هي الموجبة
لتعنون العمل بالحسن دون طرفها، إذ وجود الامر المتأخر لا يوجب تعنون
المأمور به بالحسن ما لم يلحظ المأمور به مضافا إليه ومتقيدا به (1).
وقد بنى المحقق النائيني (قدس سره) ارتفاع الاشكال ههنا على الالتزام
بتعلق الامر الضمني كالاجزاء، ثم قرر هذا المعنى وهو: ان الامر الضمني متعلق
بالشرائط، ومعه يرتفع الاشكال (2).
ولكنا لم نعلم الربط بين تعلق الامر الضمني بالشرط وارتفاع الاشكال،
لان الاشكال إن كان من جهة ان تحقق المأمور به فعلا يتوقف على وجود الامر
المتأخر، فيكفي في دفعة تعلق الامر بنفس التقيد ولو لم يتعلق بنفس القيد، لأنه
- أي التقيد - مقارن للمأمور به. وان كان من جهة ترتب الأثر، فلا بد من
الإجابة عنه بما عرفت من الوجهين، ولا يندفع بتعلق الامر بالشرط، لأنه متأخر
وجودا عن المشروط، فارتفاع الاشكال لا يرتبط بتعلق الامر الضمني بالشرط
أصلا.
الجهة الثانية: - وهي خاصة بمورد المثال الذي يذكر لشرط المأمور به

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 93 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 221 - الطبعة الأولى.
131

المتأخر ويتصدون لتصحيحه، وهي تقيد صحة صوم المستحاضة بغسل الليلة
الآتية - فان الاشكال فيه ليس من جهة تأخر الشرط عن المشروط، كي يدفع
بما عرفت، بل الاشكال فيه من جهة ان من يلتزم باعتبار الغسل يلتزم به من
باب أنه دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الاعمال السابقة كالصوم، فيقع
الاشكال في صحة تأثير المتأخر في تحقق الشرط المتقدم الذي هو الطهارة
المفروض مقارنته للعمل، إذ الطهارة اما أن تحدث في ظرف العمل - كما هو
المفروض - أو بعده، فان حدثت في ظرف العمل لزم تأثير المعدوم - وهو الغسل
- في الموجود. وإن لم تحدث في ظرف العمل، بل حدثت في زمان الغسل لزم وقوع
العمل بلا طهارة. فالعمدة في الاشكال في هذا المورد هو هذه الجهة، ولكن
الاعلام لم يتعرضوا لها ولا لحلها، بل تابعوا صاحب الكفاية، سوى المحقق
النائيني فإنه تعرض لبيان جهة الاشكال فيها فقط.
والوجه ان يقال: إنه حيث يرجع الغسل إلى شرطية الحكم الوضعي وهو
الطهارة، فمن يلتزم بامكان شرطية المتأخر للحكم الوضعي كصاحب الكفاية
ينحل الاشكال هنا لديه. ومن لا يلتزم بامكان ذلك كما هو المختار تبعا للمحقق
النائيني يشكل الامر في الموارد، فلو دل دليل قطعي على اعتبار الغسل في صحة
العمل السابق لا بد من توجيهه: إما بان يلتزم بان الشرط نفس الغسل لا بلحاظ
تأثيره في الطهارة. أو يلتزم بان الشرط هو العنوان الانتزاعي المقارن للعمل
كعنوان التعقب، كما قد ألتزم بذلك في باب عقد الفضولي، لكن الامر ههنا
أشكل، لان ما يتعنون بعنوان التعقب في مورد العقد موجود وهو نفس العقد
الذي هو المقتضي للملكية.
اما ما نحن فيه فقد لا يوجد ذلك، بل لا يكون المؤثر في الطهارة سوى
الغسل المتأخر، فليس هناك ما يتعنون بعنوان التعقب يكون هو المؤثر، بل ليس
لدينا سوى نفس العنوان، والالتزام بتأثيره نفسه مشكل جدا. وذلك كما لو
132

استحاضت قبل الفجر بقليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر، إذ المعتبر هو الغسل
للصلاة وهو لا يعتبر إلا حال الصلاة ولا يلزم أن يكون قبل الفجر، فيمضي
مقدار من الصوم قبل الغسل، وليس غيره ما يؤثر في الطهارة كي يقال ان ذلك
الشئ بعنوان تعقبه بالغسل مؤثر في الطهارة. فالتفت.
والغريب من السيد الخوئي اغفاله التعرض إلى هذه الجهة من الاشكال
في المورد، والاكتفاء بما جاء في الكفاية مع تنبيه المحقق النائيني على الاشكال
كما عرفت.
والى هنا ينتهي الكلام فيما يرجع إلى شرائط المأمور به. ولا بأس بالتنبيه
على أمر وهو: انه قد وقع في عبارات بعض الاعلام - كالسيد الخوئي والمحقق
العراقي - في هذا المقام التعبير عن المأمور به: بأنه الحصة الخاصة (1) وهذا المعنى
قد يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين، لان أساس
الالتزام بها هو كون المأمور به نفس الاجزاء وذاتها، فينحل العلم الاجمالي بالعلم
التفصيلي بوجوب الأقل. اما إذا لم يكن المأمور به نفس الاجزاء فقط، بل كانت
فيه جهة إضافية خارجة عن دائرة الامر وهي عنوان الحصة الخاصة أشكل
التمسك بالبراءة عند الشك في شرطية شئ أو جزئيته، للشك في تحقق الحصة
الخاصة بدون المشكوك. فليكن هذا على ذكر منك حتى نصل إلى محله ونرى ما
هو الحق فيه.
هذا تمام الكلام في الشرط المتأخر. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في...
الامر الثالث: والكلام فيه في تقسيمات الواجب، وهي متعددة:
التقسيم الأول: انقسامه إلى المطلق والمشروط.
وقد ذكر صاحب الكفاية: انه قد عرف كل منهما بتعريفات أورد عليها

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 315 - الطبعة الأولى.
البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 275 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
133

بعدم الطرد والعكس، ولكن الحق انه لا وجه للايراد عليها بذلك، لأنها تعريفات
لفظية يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن، لا تعريفات حقيقية يقصد منها بيان
الحقيقة والماهية، كي يورد عليها بأنها غير مطردة أو غير منعكسة.
ثم أفاد بعد ذلك: أن الاطلاق والاشتراك وصفان إضافيان، فان الواجب
قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شئ ومشروطا بالإضافة إلى آخر، إذ الاطلاق من
جميع الجهات وبقول مطلق غير متحقق في واجب من الواجبات، إذ كل واجب
لا بد أن يكون وجوبه مشروطا بشرط ولا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة
من البلوغ والعقل. فعلى هذا يقال: إن كل واجب لوحظ بالإضافة إلى أمر، فاما
أن يكون وجوبه متقيدا به أو لا يكون، فالأول هو الواجب المشروط. والثاني هو
الواجب المطلق (1).
وقد وقع الكلام بين الاعلام في امكان الواجب المشروط، بمعنى إمكان
رجوع القيد إلى الوجوب وتقييد الوجوب به، بحيث لا يتحقق إلا بعد تحققه.
والآراء فيه ثلاثة:
الأول: ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري - على ما في التقريرات - من عدم
امكان رجوع القيد إلى الوجوب، وانما هو راجع إلى الواجب والوجوب فعلي
مطلق (2).
الثاني: ما التزم به صاحب الكفاية خلافا لما نسب إلى الشيخ، من امكان
رجوع القيد إلى الوجوب وتعليق تحققه على الشرط (3).
الثالث: ما التزم به المحقق النائيني، من أن القيد راجع إلى المادة المنتسبة،
واليه ارجع كلام الشيخ لا إلى الأول، مدعيا استحالة الأول لرجوعه إلى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 95 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 45 - 46 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 95 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
134

الواجب المعلق وهو محال (1).
وقد استدل الشيخ على رأيه، مع اعترافه بان مقتضى القواعد العربية
رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا المادة بوجهين:
الأول: ان مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للاطلاق والتقييد، لان
التقييد من شان المفاهيم القابلة للسعة والضيق، والحرف موضوع للافراد الجزئية
وهي غير قابلة للتقييد، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة لعدم قابليته للتقييد.
الثاني: - وهو وجه وجداني - ان الانسان إذا توجه إلى شئ إما ان يتعلق
به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للامر أو لا يتعلق به طلبه، أما
الفرض الثاني فهو خارج عن محل الكلام. وأما الفرض الأول، فالمصلحة التي
تترتب عليه إما أن تترتب عليه بقول مطلق بلا تعليق على شئ فيتعلق به طلبه
على جميع تقاديره. واما ان تكون تترتب عليه على تقدير خاص، فيكون ذو
المصلحة هو الفعل على ذلك التقدير، فيتعلق الطلب والشوق بذلك الفعل على
ذلك التقدير. فالشوق فعلي متعلق بما هو استقبالي، لان الآمر إذا علم بترتب
المصلحة عليه في المستقبل يتعلق به شوقه فعلا ويطلبه في نفس الحين بلا تعليق.
وهذا أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد ويجده من نفسه.
بهذين الوجهين استدل الشيخ على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد
إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة.
وقد تنكر صحة نسبة هذا الالتزام إلى الشيخ باعتبار ما يقرره في مكاسبه
في مبحث جواز التعليق في العقود من: ان الوجه في بطلان التعليق هو قيام
الاجماع على عدم صحته، وبطلان العقد به، مما يظهر منه انه لولا الاجماع لكان
مقتضى القواعد صحة التعليق في العقد، مع أن هذا يتنافى مع الالتزام بعدم صحة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 132 - الطبعة الأولى.
135

تقييد مفاد الهيئة، لان الانشاء مدلول الهيئة أيضا فكيف يصح تعليقه وتقييده
ثبوتا (1).
وبالجملة: الالتزام بصحة نسبة الالتزام المذكور إلى الشيخ لازمه الالتزام
بوقوع التهافت في كلماته، وهو مما يجل عنه مثل الشيخ في مثل هذا المطلب
الواضح.
والانصاف: انه لا مناقضة بين الالتزام بعدم صحة رجوع القيد إلى الهيئة
والالتزام بصحة التعليق في العقود، وذلك لان ما يدور البحث حول صحة تعليقه
وعدمها ليس نفس الانشاء، وانما هو المنشأ كالتمليك. ومن الواضح أن المنشأ
مدلول اسمي، فالتمليك مدلول للمادة في قول المنشئ: " ملكت "، وهي من
الأسماء الموضوعة للمفاهيم. وهكذا سائر المنشآت فإنها مداليل المواد.
والمفاهيم الاسمية قابلة للتعليق والتقييد ثبوتا، فلو لا الاجماع لصح أن يلتزم
بصحة التعليق في العقود، ولا ينافي ذلك التزامه بعدم صحة تقييد مفاد الهيئة لأنه
معنى حرفي غير قابل للتقييد.
وقد تفصى صاحب الكفاية عن الوجه الأول بما قرره من: ان المعنى
الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما عاما، وان إختلف معه في
كيفية الوضع ونحوه، وعليه فكما أن المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة
والضيق كذلك المعنى الحرفي لاشتراكهما في المفهومية التي هي موضوع الاطلاق
والتقييد (2).
وتحقيق الكلام في المقام: ان عمدة الاشكال وأساسه امر مغفول عنه في
عبارات الاعلام، وان اعترف به المحقق النائيني في بعض كلماته وهو: ان الجملة

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب / 100 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 97 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
136

الشرطية تفيد تعليق الجزاء على الشرط، وربط أحدهما بالآخر بنحو من انحاء
الربط، سواء قلنا أن ذلك مفاد نفس الأداة كان، أو قلنا بان مفاد الأداة ليس
إلا كون تاليها واقعا موقع الفرض والتقدير، والتعليق يستفاد من " الفاء " أو " ثم "
أو غيرهما من الأدوات الداخلة على الجزاء، أو من نفس ترتيب الجزاء على
الشرط والهيئة التركيبية الخاصة - فان تحقيق أحد الوجهين الذين ذهب إلى أولهما
اهل الميزان والى ثانيهما اهل العربية، وليس بمهم في المقام -، إذ لا اختلاف بينهم
في النتيجة، فان القدر المسلم لدى الطرفين هو أن مفاد الجملة الشرطية تعليق
الجزاء على الشرط، اما سببه فهو محل الاختلاف.
ومن البديهي ان الربط الموجود في الجملة الشرطية انما هو ربط بين
المفاهيم التركيبية، أعني المفهوم التركيبي لجملة الشرط والمفهوم التركيبي لجملة
الجزاء، لا بين المفاهيم الافرادية. فمفاد: " إذا جاء زيد يجئ عمرو " تعليق مجئ
عمرو على مجئ زيد وترتيب نسبة مجئ عمرو على نسبة مجئ زيد، وليس
مفادها تعليق نفس المجئ في الجزاء على مجئ زيد، إذ مرجع ذلك إلى الحكم
الفعلي على عمرو بالمجئ الخاص وهو المترتب على مجئ زيد، نظير: " عمرو
جاء بالمجئ المترتب على مجئ زيد ".
وهذا امر لا يجده المخبر بالجملة الشرطية من نفسه، فإنه لا يعلم بمجئ
زيد فكيف يحكم بثبوت المجئ المقدر عليه؟. كما أنه ليس مفادها الحكم
بالمجئ على عمرو على تقدير مجئ زيد برجوع القيد إلى الموضوع لا الحكم،
لوضوح انه يصح إطلاق الجملة الشرطية مع التصريح بأخذ موضوع الجزاء
بنحو مطلق بلا تقييده بشئ. فمن البديهي ان المخبر بالجملة الشرطية لا يجد
في نفسه إلا أنه يخبر عن الربط بين المفهومين التركيبين - أعني مفهومي جملتي
الشرط والجزاء -، بحيث إذا سئل عن قصد لأجاب بذلك. ومن هنا يأتي
الاشكال، فان المفاهيم التركيبية من المعاني الحرفية لأنها مداليل هيئات الجمل
137

أو الإضافة أو غيرهما. فيشكل تحقق الربط بين المفهومين التركيبيين لامتناع
تحقق الربط بين المعاني الحرفية وتقييد أحدهما بالآخر على جميع المذاهب في
المعنى الحرفي.
بيان ذلك: ان الآراء في وضع الحروف مختلفة، وعمدتها أقوال عديدة:
الأول: ان الموضوع له الحرف هو الافراد الخاصة الخارجية أو الذهنية
للمفاهيم العامة (1).
الثاني: ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أن الحروف موضوعة للمفاهيم
العامة كالأسماء، ف‍: " من " ولفظ الابتداء موضوعان إلى مفهوم الابتداء (2).
الثالث: ما ذهب إليه المحقق النائيني من أن الموضوع له الحرف هو
النسبة الكلامية التي عرفت أن المراد منها هي النسبة الذهنية بين المفاهيم
الاسمية، لاحتياج المفاهيم الاسمية إلى رابط يربطها لعدم الارتباط بينها في
أنفسها، فشأن الحرف الربط بين المفاهيم الاسمية (3).
الرابع: ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من أن المعني الحرفي هو الوجود
الرابط الذي هو نوع رابع من أنواع الوجود (4). وقد عرفت رجوع هذا الوجه
إلى اختيار المحقق النائيني.
الخامس: ما ذهب إليه السيد الخوئي من أن الحروف موضوعة لتضييق
المعاني الاسمية، لأنها واسعة النطاق في الصدق فاحتيج إلى تفهيم الحصة الخاصة
منه إلى وضع شئ فكان هو الحروف (5). وقد تقدم انه لا محصل له إلا أن يرجع

(1) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 16 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 12 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 18 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 16 - الطبعة الأولى.
(5) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 1 / 79 - الطبعة الأولى.
138

إلى اختيار العلمين النائيني والأصفهاني (1).
وعلى كل: فتقييد المعنى الحرفي وربطه. وتعبير آخر ورود معنى حرفي
على معنى حرفي آخر ممتنع على جميع هذه الأقوال الخمسة.
اما على القول الأول: فواضح، لان التقييد انما يطرء على المفاهيم القابلة
للسعة والضيق دون الافراد التي لا تقبل السعة والضيق أصلا.
واما على القول الثاني: فلانه وان كان المعنى الحرفي من سنخ المفاهيم
التي تقبل السعة والضيق، إلا أنه لا يمكن تقييده أيضا، لان صاحب الكفاية
وان التزم بان الموضوع له الحرف هو المفهوم العام، لكنه أخذ في وضع الحرف
كون المعنى ملحوظا آليا، وبه افترق عن المعنى الاسمي. وبهذا القيد يمتنع
تقييد المفاهيم الحرفية، وذلك لان لازم كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة للغير كون
الغير ملحوظا بالاستقلال.
وعليه، فإذا كان الربط الثابت بين المعنيين الحرفيين ملحوظا آلة - لكونه
معنى حرفيا - كان ملازمه لحاظ ذيه وهو المعنى الحر في المقيد استقلالا، والمفروض
انه معنى حرفي ملحوظ باللحاظ الآلي، فيلزم أن يكون المعنى الحرفي ملحوظا في
حين واحد بلحاظين، وهو ممتنع كما يقرره صاحب الكفاية. ومن هنا يظهر ان ما
أفاده في دفع اشكال الشيخ من كون المعنى الحرفي عاما غير مجد في ما نحن فيه،
إذ الاشكال يتأتى من ناحية أخرى لم يتعرض لدفعها في كلامه، وهي استلزام
التقييد اجتماع اللحاظين.
واما على القول الثالث: فلان الربط انما يكون بين المفاهيم الاسمية،
والمعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم، بل هو من سنخ الوجود غير القابل
للربط لأنه على ما تقدم من شؤون الوجود وكيفية من كيفياته.

(1) راجع 1 / 114 من هذا الكتاب.
139

واما على القول الرابع: فالامر فيه كالامر على الثالث، فان التقييد انما
يطرء على المفاهيم دون ما هو من سنخ الوجود وهو الوجود الرابط، الذي هو
كيفية من كيفيات وجود الشئ.
واما على القول الخامس: فلان القائل لا يدعي الوضع لمفهوم التضييق،
لأنه من المعاني الاسمية، وانما يدعي الوضع لواقع التضييق وهو غير قابل
للتقييد والربط، لعدم كونه قابلا للسعة والضيق.
فتحصل ان تقييد أحد المفهومين التركيبيين وربط أحدهما بالآخر مما قام
البرهان على استحالته ولا اشكال فيه، كما أن مفاد الجملة الشرطية هو الربط
بين المفاهيم التركيبية بالبداهة، فكيف يجتمع الأمر البديهي الواضح مع الامر
البرهاني الثابت.
ولا يخفى ان ما افاده الشيخ (رحمه الله) من رجوع القيد إلى المادة لا
يجدي في رفع الاشكال، لان مرجعه إلى تحقق الربط بين المفاهيم الافرادية الذي
قد عرفت أنه خلاف الوجدان، فان الشخص المخبر بالجملة الشرطية لا يرى
من نفسه إلا أنه يخبر بالربط بين المعاني التركيبية، وهذه البداهة وإن لم تكن
واضحة في الجملة الانشائية، ولا سبيل لنا إلى انكاره بالبداهة
والبرهان السابق على عدم كون المعلق هو المفهوم الافرادي، إلا أنه
من المعلوم أن حال الجملة الشرطية في كلتا الصورتين واحد لا يختلف، وقد ثبت
ان الربط في الجملة الشرطية الخبرية بين المفاهيم التركيبية وجدانا بل برهانا،
فيثبت ذلك في الانشائية أيضا.
كما أنه يجدي في رفع الاشكال ما أفاده السيد الخوئي من: ان الانشاء
عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني، فليس ثمة معنى حرفي يكون مدلولا للهيئة،
بل مدلولها فعل من أفعال النفس تبرزه (1).

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 323 - الطبعة الأولى.
140

وذلك: لان التعليق لا يرد على نفس الابزار والاعتبار لأنه فعلي، وانما
يرد على المعتبر وهو كون الفعل في عهدة المكلف. ومن الواضح أن هذا من
المفاهيم التركيبية الحرفية، لأنه مدلول هيئة الإضافة، فيأتي الكلام في صحة
تعليقه وتقييده بالشرط.
والتحقيق في رفع هذا الاشكال ان يقال:
ان الاخبار والانشاء - كما مر سابقا (1) - خارجان عن مدلول الجملة
الخبرية والانشائية، وانما هما أمران نفسيان قصديان، والجملة لا تدل إلا على
النسبة بين الموضوع والمحمول لا أكثر. وهذه النسبة تارة تكون متعلقة للاخبار، كما
إذا قصد الحكاية عن ثبوتها. وأخرى متعلقة للانشاء كما إذا قصد تحققها. وقد
استشهدنا على ذلك بان من الجمل الخبرية ما لا يسمى اخبارا قطعا، كما إذا قال:
" علمت ان زيدا قائم "، فان: " زيدا قائم " جملة خبرية ذات موضوع ومحمول،
مع أنها لا تسمى خبرا، إذ ليس القصد الحكاية عن تحقق
مضمونها، بل القصد الحكاية عن تحقق العلم بتحقق مضمونها
فالجملة الخبرية الاسمية لا تدل إلا على النسبة الاتحادية بين الموضوع
والمحمول، بمعنى ان الموضوع والمحمول أمر واحد، والاخبار ليس جزء مدلولها،
وانما يطرء عليها، وهو عبارة عن قصد الحكاية عن ثبوت هذه النسبة أولا ثبوتها.
ومن هنا يعلم ان ثبوت النسبة أولا ثبوتها خارجان عن مدلول الجملة أيضا، فلا
دلالة لها على الثبوت وعدمه، بل هي انما تدل على خصوص النسبة. اما ثبوتها
فيعلم من دال آخر وهو القرينة العامة عند عدم أداة النفي، وعدم ثبوتها يعلم
من أداة النفي كليس ولا نحوهما. فكل من الاخبار والثبوت خارجان عن
مدلول الهيئة وليس مدلولها سوى النسبة. وهكذا الحال في الانشاء، فإنه عبارة

(1) راجع 1 / 148 من هذا الكتاب.
141

عن قصد تحقق النسبة - لا الحكاية عن ثبوتها - فتحقق النسبة خارج عن
مدلول الهيئة كنفس القصد. وإذا اتضح ذلك يتضح اندفاع الاشكال، فان مفاد
الجملة الشرطية ليس تعليق احدى النسبتين على الأخرى وتقييدها بها، كي
يدعى أن ذلك يستلزم تقييد المعنى الحرفي وهو ممتنع. وانما مفادها تعليق ثبوت
إحدى النسبتين على ثبوت هذه النسبة على ثبوت الأخرى، فالجملة الشرطية الاخبارية تتكفل
الاخبار بترتب ثبوت هذه النسبة على ثبوت تلك. وقد عرفت أن ثبوت النسبة
خارج عن مدلول الهيئة فلا يكون من المعاني الحرفية وانما هو معنى اسمي قابل
للتقييد. وهكذا الحال في الجملة الانشائية فإنها تتكفل تعليق تحقق الجزاء على
ثبوت الشرط. وقد عرفت أن التحقق خارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني
الاسمية القابلة للتقييد والتعليق، فما هو المعلق على ثبوت الشرط غير المعنى
الحرفي، بل أمر خارج عن مدلول الكلام الحرفي، وبذلك نجمع بين امتناع تقييد
المعاني الحرفية وبداهة كون الربط في الجملة الشرطية بين المفاهيم التركيبية.
ومن هنا يظهر امكان الواجب المشروط وعدم استحالته عقلا كما ادعاه
الشيخ في الوجه الأول، لان القيد لا يطرء على مدلول الهيئة وانما يطرء على ما هو
خارج عن مدلولها - أعني ثبوت النسبة -، فالمقيد ليس نفس النسبة الطلبية
المدلولة للهيئة، وانما هو ثبوت النسبة، وهو معنى اسمي قابل للتقييد، ونتيجة ذلك
عدم تحقق الوجوب إلا عند تحقق الشرط. فالتفت.
وبما ذكرناه يتضح انه يمكن التفصي عن الاشكال المزبور بما افاده
السيد الخوئي من: ان مدلول الهيئة الانشائية ابراز الاعتبار النفساني. ببيان:
انه وان كان الاعتبار فعليا لكن المعتبر هو ثبوت الفعل في الذمة، فالمقيد هو
الثبوت الخارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية كما تقدم. فالتفت.
ثم إنه حفظه الله تعرض إلى ذكر بعض الاشكالات الواردة على الواجب
المشروط والإجابة عنها.
142

الاشكال الأول: ما أشير إليه من أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية وهي
غير قابلة للتقييد.
وأجاب عنه: بان المعنى الحرفي انما لا يقبل التقييد بمعنى التضييق، واما
التقييد بمعنى التعليق الذي هو مفاد أداة الجملة الشرطية فلا مانع منه (1).
وفيه:
أولا: أنه ظاهر في الالتزام بان معنى الهيئة من المعاني الحرفية، وهو خلاف
ما قرره أولا من خروج مدلولها عن المعاني الحرفية وانه إبراز الاعتبار النفساني.
وثانيا: أنه مناف لما قرره في مبحث المعنى الحرفي من أن الحروف موضوعة
للتضييق بما فيها أدوات الشرط، فدعوى أن أداة الشرط لم توضع للتضييق لم
يظهر لها وجه منه.
وبالجملة: ما افاده هنا يستظهر منه اغفال عما قرره في مبحث المعنى
الحرفي من رأي.
الاشكال الثاني: ما أفاده المحقق النائيني من أن معنى الهيئة من المعاني
الحرفية غير القابلة للحاظ الاستقلالي الذي يقتضيه التقييد، فلا يصح تقييدها
لأنها ملحوظة آلة.
وأجاب عنه: بأنه يمكن ان يلحظ المعنى استقلالا فيقيد، ثم يلحظ المقيد
آلة في حال الاستعمال، فالقيد يطرء على ما هو ملحوظا استقلالا ثم المقيد يلحظ
آلة في حال الاستعمال (2).
وفيه: انه وان أشار إليه في الكفاية لكنه بلحاظ مقام الانشاء لا مقام
اللحاظ، ان المعنى المقيد عند لحاظه بقيد التقيد آليا إما أن يكون ملحوظا

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 320 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 129 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
143

بالاستقلال المقوم للتقييد أولا يكون. فإن كان ملحوظا بالاستقلال لزم أن يجتمع
اللحاظان فيه الآلي والاستقلالي. وإن لم يكن ملحوظا بالاستقلال امتنع طرو
القيد عليه ولحاظه مقيدا حال الاستعمال، لتقوم القيد بان يكون ذوه ملحوظا
استقلالا.
وبالجملة: لا يجتمع تقيد المعنى الحرفي مع كونه ملحوظا آليا.
ثم إنه قد تكرر في كلام السيد الخوئي التعبير بكون الاعتبار متعلقا بامر
على تقدير (1).
ولا بد من تحقيق هذا الامر ومدى صحته وسقمه، فإنه مما يترتب عليه آثار
عملية، كصحة الالتزام بالكشف الانقلابي في عقد الفضولي. بيان ذلك: أنه وقع
الكلام في عقد الفضولي المتعقب بالإجازة في أن الإجازة هل تكون موجبة
لحدوث الملكية مثلا من حينها المصطلح عليه بالنقل، أو كاشفة عن تحققها من
حين العقد المصطلح عليه بالكشف؟. وهناك قول ثالث، وهو أن الإجازة تكون
موجبة لتحقق الملكية وترتب آثارها من حين العقد إلا أن حدوث الملكية السابقة
يكون بالإجازة لا أنه كان من حين العقد، ويعبر عن هذا المعنى بالانقلاب، وبه
تصحح الروايات الدالة على ترتب آثار المنشأ من حين العقد مع عدم معقولية
الكشف الحقيقي.
وقد تبنى المحقق الإيرواني هذا الرأي، وعبر عنه بالبرزخ بين الكشف
والنقل، وحاول تصحيحه ينحو يكون حكما على طبق القاعدة لا حكما تعبديا (2).
وتابعه السيد الخوئي في ذلك (3). ولا يخفى ان صحة هذا المبنى تتوقف على الالتزام
بامكان تعلق الاعتبار الفعلي بالملكية أو نحوها في الزمان اللاحق، وعلى تقدير

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 323 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا على. حاشية المكاسب / 127 - الطبعة الأولى.
(3) التوحيدي محمد علي. مصباح الفقاهة 4 / 142 - الطبعة الأولى.
144

شئ آت أو تعلقه بالملكية في الزمان السابق، وبتعبير أخصر: امكان اعتبار
الملكية اللاحقة أو الملكية السابقة وعدمه. فلو تم بطلان هذا الامر وامتناعه لم
يثبت للانقلاب أساس.
فموضوع الكلام: هو تعلق الاعتبار فعلا بالملكية السابقة أو اللاحقة.
والذي يبدو النظر عدم امكان ذلك عقلا، وذلك: لان اعتبار الفعلي
يتعلق بالملكية في الزمان المعين الخاص أو غيره من التقديرات، بحيث تلحظ
الملكية مرتبطة بالزمان الخاص. ومن الوضح ان كلا من الملكية والزمان مفهوم
مستقل لا ارتباط بالآخر بما هو كذلك، لان كل مفهوم له تقرر خاص بحد
واقعي ثابت.
وعليه، فارتباط أحد المفهومين بالآخر بالنحو الذي يصحح استعمال
الحرف بينهما فيقال: " الملكية في الزمان المعين الكذائي " انما يكون بلحاظ وجود
أحد المفهومين مرتبطا بوجود الآخر بنحو ارتباط، كارتباط الظرفية بالنسبة إلى
زمان المصحح لاستعمال " فيه " بمعنى أن يكون بين وجود كل منهما ووجود الآخر
نحو إضافة ونسبة. وقد تقرر ان مدلول الحرف ومعناه هو النسبة الذهنية بين
المفهومين الناشئة عن لحاظ كل منهما مرتبطا بالآخر، بحيث تكون النسبة من
كيفيات اللحاظ، فلحاظ زيد قائما يحقق النسبة الذهنية بين زيد والقيام. كما تقرر
أن النسبة الذهنية بين المفهومين وضع لها الحرف لتكون مرآتا للخارج والنسبة
الخارجية بين الوجودين الخارجيين، فتحكى عنها حكاية المماثل عن المماثل، لا
بمعنى استلزامها لانتقال النسبة الخارجية إلى الذهن كما هو شأن سائر
الاستعمالات لامتناع ذلك. فالنسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ولو لم تكن
متحققة حقيقة، ولكن تؤخذ في عين الحال بنحو الفرض. فالنسبة بين القيام
وزيد قد تتحقق في الذهن بلا أن يكون لها مطابق خارجي متحقق، ولكنها تتحقق
بالنحو الذي يفرض به تحقق النسبة الخارجية وبكيفيته وهذا هو معنى المطابقة.
145

وبتعبير آخر: النسبة الذهنية بين زيد والقيام عبارة عن الصورة الذهنية
لوجود زيد قائما. فالنسبة الذهنية صورة للنسبة الخارجية.
وإذا تقرر هذا، فالملكية في الزمان الكذائي التي يراد اعتبارها فعلا قد
لوحظ وجودها مرتبطا بوجود الزمان بنحو الظرفية، فقولنا: " الملكية في يوم
الجمعة " معناه الملكية المتحققة والموجودة في يوم الجمعة، ومعه يمتنع اعتبارها، إذ
لا معنى لايجاد الملكية الموجودة في يوم الجمعة. فمرجع اعتبار وايجاد الملكية في
الزمان اللاحق إلى ايجاد الملكية الموجودة في الزمان اللاحق لعدم امكان فرض
هذا العنوان، أعني الملكية في الزمان اللاحق، إلا بأخذ قيد الوجود في الملكية،
فيقال: " الملكية الموجودة في الزمان اللاحق " وبذلك يمتنع اعتبارها وايجادها فعلا
للخلف.
وبتعبير آخر: إذا توقف الاعتبار والايجاد على أخذ قيد في المعتبر ناش
منه ومعلول له وبلحاظ تحققه كان ذلك ممتنعا لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة
سابقة عليه، إذ المفروض أن الملكية في الزمان اللاحق يراد ايجادها فعلا، فكيف
يؤخذ وجودها في موضوع الاعتبار والايجاد؟. فبذلك يتضح امتناع كون الاعتبار
متعلقا بامر على تقدير الذي ورد مكررا في عبارات السيد الخوئي، كما يتضح
امتناع القول بالكشف الانقلابي، وتمام تحقيق ذلك في محله من مبحث التجارة
والبيع.
ثم إن المحقق النائيني تصحيحا للواجب المشروط التزم برجوع القيد
إلى المادة المنتسبة، ببيان: ان القيد يرجع إلى المادة، ولكن لا بمعنى كون القيد
من قيود الواجب والوجوب يكون فعليا، لأنه يرجع إلى الواجب المعلق الذي
التزم به صاحب الفصول (1) وهو باطل، بل بمعنى ان القيد يطرء على المادة من

(1) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 79 - الطبعة الأولى.
146

حيث ورود النسبة عليها، بتقريب: ان الشئ قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية
مطلقا من غير تقييد. وقد يكون متعلقا للنسبة الطلبية حين اتصافه بقيد في الخارج،
مثلا الحج المطلق لا يتصف بالوجوب، بل المتصف به وهو الحج المقيد بالاستطاعة
الخارجية، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب به وكونه طرفا للنسبة
الطلبية، فالقيد راجع إلى المادة ولكن لا بما هي، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.
هذا ما افاده المحقق النائيني بنص عبارة التقريرات تقريبا (1).
ولكن الذي يتوجه عليه: أن تقيد المادة بالقيد بحيث يكون الواجب هو
الحصة الخاصة - أعني الفعل على تقدير القيد الخاص - أو مشترك بين الواجب المعلق
والواجب المشروط، وانما الاختلاف في أن فعلية الوجوب في المعلق متحققة قبل
تحقق القيد، بخلاف الوجوب في الواجب المشروط، فيقال: بأنه ما الوجه في هذا
الامر؟ ان كان وجهه رجوع القيد في الوجوب المشروط في الحقيقة إلى النسبة،
عاد المحذور الذي يحاول الفرار منه، وهو لزوم تقييد المعنى الحرفي غير القابل
للتقييد. وإن لم يرجع القيد إلى النسبة، فلا وجه لتوقف فعلية الوجوب على
حصول القيد.
والحقيقة ان ما ذكرناه لا يعد اشكالا على مطلب المحقق النائيني، بل هو
أشبه بالسؤال عن مراده فيما افاده، فإنه لم يوضح بأكثر مما عرفت كما انتهى
بمجرد الادعاء. فالذي ينبغي هو التساؤل عن مراده لا الايراد عليه كما قد
يظهر من السيد الخوئي (2).
هذا كله في المرحلة الأولى من البحث التي أشار إليها صاحب التقريرات
بوجهه الأول - أعني مرحلة معرفة امكان الواجب المشروط ورجوع القيد إلى

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 130 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 130 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
147

الهيئة وعدمه - وقد عرفت تصور رجوع القيد إلى أصل الوجوب.
يبقى الكلام في المرحلة الثانية التي أشار إليها بالوجه الثاني، وهي رجوع
القيد إلى المادة لبا وان سلمنا امكان رجوعه إلى الهيئة عقلا.
وقد عرفت تقريب ذلك: بأن الشئ إما أن لا يكون ذا مصلحة بجميع
تقاديره، فلا يتعلق به الإرادة. واما أن يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره،
فيتعلق به الإرادة الفعلي على ذلك التقدير، لان العلم بتحقق المصلحة فيه في
ذلك التقدير موجب لانقداح الشوق فعلا إليه، أي إلى الفعل على ذلك التقدير.
فلا يتصور التعليق في الإرادة، بل أمرها دائر بين الوجود والعدم أصلا.
وقد تصدى صاحب الكفاية (رحمه الله) إلى منع ذلك، ببيان: ان الفعل
قد يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره فيتعلق به الإرادة الفعلية، إلا أنه يكون
هناك مانع من طلبه فلا يبعث نحوه فعلا، بل يبعث نحوه على تقدير زوال
المانع (1).
ولا يخفى انه مرجع ايراد صاحب الكفاية إلى: أن الإرادة التشريعية هي
الإرادة المستتبعة للبعث والطلب، فمع وجود المانع عن البعث لا تكون الإرادة
إرادة تشريعية التي هي ملاك الحكم، بل الموجود ليس إلا الشوق وهو غير كاف
في الحكم.
وبدون هذا الارجاع لا يظهر لايراد صاحب الكفاية ربط بكلام الشيخ،
بل ظاهره أنه من واد آخر.
وعلى كل فالتحقيق ان يقال: إنه إذا التزمنا بان حقيقة الحكم ليس إلا
الإرادة وابرازها لا أكثر - كما قد يلتزم به المحقق العراقي (2) كان ما افاده

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 97 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول / 106 - الطبعة الأولى.
148

الشيخ هو المتعين (1)، إذ مع كون الفعل ذا مصلحة على تقدير خاص أو مطلقا،
لا تتعلق به الإرادة ولا يتصور التعليق فيها، لأنها فعل نفسي غير اختياري ينشأ
عن العلم بالمصلحة، فمع تصور المصلحة في الفعل يتحقق الشوق إليه فعلا بلا
تعليق على شئ، واما الابزار فالمفروض تحققه بالانشاء. فالحكم بحقيقته
ووجوده الواقعي ثابت متحقق بدون تعليق.
وان التزمنا بان حقيقة الحكم تختلف عن حقيقة الإرادة وانه أمر اعتباري
مجعول مستتبع للإرادة كان ما ذكره صاحب الكفاية هو المتعين، لان الإرادة وان
تحققت في النفس بتصور المصلحة إلا أن الاعتبار والجعل يمكن أن يكون له
مانع عن تحققه فيعلق تحققه على زوال المانع، لأنه فعل اختياري قابل للتعليق،
فلا يتحقق الحكم الا عند تحقق القيد، وان كانت الإرادة متحققة من السابق
لعدم تصور التعليق في تحققها، بل تتعلق بالأمر اللاحق لتصور المصلحة فيه فعلا
الذي هو ملاك تحقق الإرادة.
إذا عرفت التحقيق، يبقى لدينا تشخيص أي الوجهين أصح، وان
حقيقة الحكم هل هي عين الإرادة وابرازها، أو أنه امر جعلي اعتباري؟. الحق
هو الثاني وانه أمر مجعول اعتباري، فإنه المرتكز بين الأصوليين، بل بين الناس،
فان الايجاب يرونه امرا غير محض الإرادة، بل عبارة عن الزم اعتباري.
ويدل عليه ورود الأدلة الرافعة للاحكام بلحاظ بعض العناوين الثانوية،
كالجهل والضرر والعسر والحرج وغيرها، بضميمة ظهورها في الامتنان، فان ذلك
ظاهر في كون الحكم شيئا بيد الشارع يستطيع وضعه ويستطيع رفعه، فرفعه
امتناعا، إذ لو كان الحكم عبارة عن الإرادة لم يكون رفعه ووضعه بيد الشارع
لأنها غير اختيارية.

(1) سيأتي منه (دام ظله) في مبحث استصحاب الحكم التعليقي العدول عن ذلك، الالتزام بان الإرادة لا
تحصل الا عند حصول القيد. (منه عفي عنه).
149

ولا معنى للتعبير: بان الرفع كان لاجل الامتنان، بل الارتفاع يكون
لعدم تحقق مبادئها خارجا.
نعم لو لم يكن لسان هذه الأدلة لسان امتنان لم يكن لها دلالة على المدعى
إذ يمكن أن يكون الرفع لعدم الإرادة لا لاجل الامتنان، وانه كان يتمكن من
الوضع فرفعه منة، الظاهر في كونه امرا اختيارا بيد الشارع.
وبالجملة: كون الحكم من المجعولات لا يمكن لنا انكاره وجدانا ودليلا.
ثم إن صاحب الكفاية أشار إلى سؤال قد يتجه، محصله: ان تصور المانع
عن الحكم أمر معقول لو كان الحكم تابعا للمصلحة فيه، فإنه يمكن ان يفرض
وجود المانع عن تحقق المصلحة فيه واما بناء على أن الحكم تابع لوجود المصلحة
في متعلقه فيشكل وجود المانع منه، لفرض تحقق المصلحة في متعلقه، ولذا تعلقت
به الإرادة، كما أن المفروض تبعيته للمصلحة، فمقتضى ذلك تحققه بلا تعليق على
شئ.
وأجاب عنه: بان تبعية الاحكام للمصالح في متعلقاتها إنما يلتزم به في
الأحكام الانشائية. اما الاحكام الفعلية والبعث الفعلي، فهو تابع للمصالح فيه،
ومعه يتصور المانع عن تحقق المصلحة فيه فيعلق على تقدير زواله (1).
ولكنه لاجل عدم وضوح وجود مرتبة انشائية للحكم يكون له فيها وجود
حقيقي، لان الانشاء لا بداعي البعث لا يكون وجودا حقيقيا له، والانشاء بداعي
البعث هو معنى الحكم الفعلي إذ لا يتصور إلا فرض يمكن تحقق البعث بدون
مانع.
لاجل ذلك، عدل المحقق الأصفهاني إلى الإجابة عن السؤال، بان
المقصود من تبعية الحكم للمصلحة في متعلقه ليس تبعيته بنحو تبعية المعلول

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 98 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
150

للعلة، بل بنحو تبعية المقتضى للمقتضي، وعليه فيمكن فرض المانع مع وجود
المصلحة في المتعلق. فلاحظ وتدبر (1).
هذا تمام الكلام في الواجب المشروط، وقد عرفت أنه لا دليل على امتناعه
ثبوتا ولا اثباتا.
ويبقى الكلام في بعض الجهات المرتبطة بالبحث:
الجهة الأولى: فيما أفادوه - لغرض ربط البحث بمبحث وجوب المقدمة - من أن
وجوب المقدمة بما أنه مترشح عن وجوب ذيها، فهو تابع في الاطلاق والاشتراط
لوجوب ذيها، فإذا كان وجوب ذي المقدمة مشروطا بشرط كان وجوبها كذلك (2).
ويتوجه على هذا: ان ما ينتهي إليه بعد اثبات الملازمة ليس وجوب
المقدمة، بمعنى ان يثبت لها وجوب مجعول مترشح عن وجوب ذيها، بل ما ينتهي
إليه هو كون المقدمة متعلقة للإرادة كذيها.
فالثابت هو الملازمة بين إرادة ذيها وارادتها لا بين تعلق الحكم بذيها وتعلقه
بها، فوجوب المقدمة ليس امرا مجعولا. بل بمعنى تعلق الإرادة بها، وحقيقته ذلك
لا غير - وبذلك يفر عن اشكال لغوية جعل الوجوب لها - وإذا كان الامر كذلك
فلا يكون وجوب المقدمة تابعا في الاشتراط لوجوب ذيها، إذ عرفت أن وجوب
المقدمة حقيقته إرادة المقدمة، وقد عرفت أن الإرادة غير قابلة للتعليق، بل إما أن
توجد أو لا توجد، والوجوب المشروط في ذي المقدمة هو الحكم الجعلي لا الإرادة
المتعلقة به، بل هي مطلقة فتتعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة وان كان وجوب ذي
المقدمة مشروطا.
وهذا الايراد قد كان يجول في الذهن منذ القديم ولم نر له حلا.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 183 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 95 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 148 - الطبعة الأولى.
151

الجهة الثانية: فيما تعرض صاحب الكفاية في بيان الثمرة بين اختياره في
الواجب المشروط واختيار الشيخ (رحمه الله).
ومحصل ما افاده (قدس سره): ان الشرط الذي يعلق عليه الوجوب في
الخطاب خارج عن محل النزاع على المختار من رجوعه إلى الوجوب، لأنه يكون
مقدمة وجوبية، وقد عرفت عدم تأتي النزاع فيها فلا نعيد.
واما على مختار الشيخ: فهو وان كان من قيود الواجب الا انه أخذ بنحو لا
يكون قابلا لترشح الوجوب عليه، وذلك لان الواجب هو الشئ على ذلك
التقدير، فالوجوب متعلق بذلك الشئ على تقدير الشرط، فتعلق الوجوب به
يكون من باب طلب الحاصل (1).
وتوضيح ذلك: أن الشرط قد أخذ قيدا للواجب على أن يكون حصوله
طبعيا ومن دون تسبيب من المولى، فالوجوب متعلق بالفعل على تقدير حصول ذلك
الشرط من نفسه وبطبعه، حينئذ قبل حصوله يمتنع أن يتعلق به طلب المولى
وبعثه لأنه خلف أخذه قيدا على أن يتحقق طبعيا، وبعد حصوله يمتنع ان يتعلق
به الطلب لأنه طلب الحاصل. فالضمير في قوله: " فمعه " يرجع إلى حصول ذلك
الشرط.
ومن هنا يندفع الايراد على صاحب الكفاية: بأنه إذا كان الوجوب فعليا
والواجب بقيده استقباليا، فتعلقه بالقيد لا يكون من طلب الحاصل لأنك
عرفت أن مراد صاحب الكفاية ان تعلق الوجوب بالشرط بعد حصوله يكون من
طلب الحاصل كما لو كان مقدمة وجوبية، لا أنه كذلك قبل حصوله، بل
المحذور في تعلقه به قبل حصوله أمر آخر يعلم من طئ الكلام. فالتفت.
واما المقدمات الوجودية للواجب المشروط غير المعلق عليها وجوبه:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 99 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
152

فهي على مختار صاحب الكفاية لا تكون متعلقة للطلب الا بعد حصول الشرط،
لتبعية وجوبها في الاشتراط لوجوب ذيها، إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل حصول
الشرط كي يترشح منه وجوب المقدمة.
واما على مختار الشيخ فهي تكون متعلقة للطلب قبل حصول الشرط،
لكون وجوب ذي المقدمة حاليا قابلا لان يترشح منه وجوب المقدمات.
نعم، الامر في المعرفة والتعلم يختلف عنه في غيرها من مقدمات الوجود،
فإنه لا يبعد دعوى وجوبها قبل حصول الشرط حتى على المختار في الواجب
المشروط، ولكن لا من باب الملازمة، بل من باب آخر ليس التعرض له محله
ها هنا. هذا ملخص ما افاده في الكفاية وقد ظهرت بذلك الثمرة بين القولين (1).
الجهة الثالثة: وهي ما أشار إليه في الكفاية تحت عنوان: " تذنيب " من أن
اطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجاز على المختار،
لعدم التلبس فعلا بالوجوب. نعم إذا كان بلحاظ حال التلبس يكون حقيقة (2).
وهكذا بناء على مختار الشيخ، ولو بدون لحاظ حال حصوله لفعلية التلبس على
اختياره (3).
واما الصيغة مع الشرط: فاستعمالها حقيقي على القولين، لأنها مستعملة
على مختار الشيخ في الطلب المعلق أعني شخص الطلب الموضوعة له. وعلى
المختار في الطلب المقيد، ولكن نحو تعدد الدال والمدلول، إذ الدلالة على التقيد
بدال آخر وهو القيد.
وأنت إذا لاحظت ما جاء في الكفاية مما عرفته، تعرف انه بيان لامر لا
أثر له أصلا لا عمليا ولا علميا، فسواء كان الاستعمال حقيقيا أو مجازيا لا يختلف

(1) الخراساني المحقق محمد كاظم. كفاية الأصول / 99 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 100 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 45 - 46 - الطبعة الأولى.
153

الأثر، وليس هذا البحث ببحث علمي. فتدبر.
التقسيم الثاني: انقسامه إلى المعلق والمنجز.
وهو الذي ابتكره صاحب الفصول، والذي افاده في بيان المراد من كل
منهما هو: ان المنجز ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ولا يتوقف حصوله على امر غير
مقدور، كالمعرفة. والمعلق ما يتعلق وجوبه بالمكلف، ويتوقف حصوله على امر غير
مقدور له، كالحج، فان الوجوب يتعلق به في أول أزمنة الاستطاعة أو خروج
الرفقة، لكن فعله يتوقف على مجئ وقته وهو غير مقدور للمكلف كما هو
واضح (1).
وقد أنكر الشيخ (رحمه الله) هذا التقسيم (2).
ووجه صاحب الكفاية انكاره: بان الواجب المعلق الذي ذكره صاحب
الفصول هو بعينه الواجب المشروط بالمعنى الذي اختاره الشيخ، فليس لمعلق
معنى معقول في قبال المشروط، ثم ذكر (قدس سره): ان انكار الشيخ في الحقيقة
يرجع إلى انكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له الذي اختاره صاحب
الكفاية، لا إلى انكار الواجب المعلق بالمعنى الذي فرضه صاحب الفصول.
وبتعبير آخر: انه لم ينكر واقع الواجب المعلق الذي فرضه صاحب
الفصول، وانما أنكر تسميته بالمعلق بعد أن أطلق عليه المشروط (3).
وقد تصدى البعض إلى بيان ان انكار الشيخ يرجع واقعه إلى انكار
الواجب المعلق بواقعه لا بلفظه، وأن ما ذهب إليه الشيخ من معنى الواجب
المشروط يختلف عن معنى الواجب المعلق الذي فرضه صاحب الفصول (4).

(1) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 79 - الطبعة الأولى.
(2) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 51 - 52 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 101 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(4) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 130 - الطبعة الأولى.
154

وحيث إنه لا يرجع إلى ثمرة عملية فلا ملزم لنا للبحث عن ذلك.
وانما نوقع الكلام في أصل الواجب المعلق، وانه هل يمكن تحققه أولا
يمكن.
وقبل ذلك لا بد ان تعرف ثمرة هذا التقسيم، لأنه في الحقيقة تقسيم
للواجب المطلق.
والذي ادعاه صاحب الكفاية: عدم الثمرة، وذلك لان ما رتبه على وجود
الواجب المعلق من فعلية وجوب المقدمة من آثار اطلاق الوجوب وحاليته لا من
آثار استقبالية الواجب. وعليه فلا وقع لهذا التقسيم بعد أن كان بكلا قسميه من
الواجب المطلق، واختلاف انحاء الواجب لا توجب التقسيم ما لم توجب
الاختلاف في الأثر، والا لكثرت تقسيماته إلى عدد كبير. وقد عرفت عدم
الاختلاف في الأثر (1).
وأورد على صاحب الكفاية: بوجود الأثر المترتب على التقسيم، وذلك
تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب، إذ قد يستشكل في ذلك،
فبدعوى وجود الواجب المعلق يصحح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان ذيها، إذ
مع امتناعه يمتنع وجوبها قبل زمان ذيها، فالتقسيم لا يخلو من ثمرة تصحح
التعرض لذكره والبحث عن خصوصيات أقسامه.
وبعد ذلك علينا ان نعرف امتناع الواجب المعلق وعدمه. فقد ادعي
امتناعه عقلا، وذكر له وجوه:
الوجه الأول: - ما عن المحقق النهاوندي وقد ذكره في الكفاية - ان
الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات والآثار، غير أن
الأولى تتعلق بفعل الغير، والثانية بفعل نفس الشخص، وبما أن الإرادة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 101 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
155

التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد، لأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك
العضلات، فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل
الغير.
وعليه، فيمتنع الواجب المعلق لامتناع تعلق الإرادة الفعلية بامر متأخر،
لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة، وهو ممتنع.
وقد تقصى عنه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة: -
الأول: انكار امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية، وعدم امتناع
تعلق الإرادة التكوينية بامر استقبالي، فإنه من الواضح انه قد يكون ما تعلق
به الشوق مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة كطي المسافات ونحوه، ولا يخفى ان فعل
هذه المقدمات لا يكون له إرادة استقلالية، بل يتبع إرادة الوصول إلى المكان
المقصود، بحيث لولا ارادته لما تعلقت بالمقدمات إرادة، فقد تعلقت الإرادة بالأمر
الاستقبالي بدليل الانبعاث نحو فعل المقدمات بلا أن تتعلق بها إرادة استقلالية،
بل إرادة تبعية مترشحة عن إرادة ذيها فعلا.
الثاني: ان المقصود من تعريف الإرادة بأنها الشوق المؤكد المستتبع
لتحريك العضلات نحو المراد الموهم لامتناع تعلقها بالمتأخر زمانا لامتناع
تحريك العضلات نحوه، ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعلي، بل المراد
منه تحديد مرتبة الشوق الذي يسمى بالإرادة، وانه هو الحد الخاص الذي يستتبع
التحريك شانا لا فعلا، لامكان ان يتعلق الشوق فعلا بامر استقبالي غير محتاج
إلى تمهيد مقدمة، ويكون الشوق المتعلق به أقوى وآكد مما تعلق بامر فعلي، بحيث
يستتبع التحريك فعلا.
الثالث: انه لو سلم عدم امكان انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد،
فالحال في الإرادة التشريعية يختلف عنه في التكوينية، إذ الطلب لا بد وان يتعلق
بما هو متأخر، وذلك لان الطلب والامر انما يكون لجعل الداعي واحداثه في نفس
156

المكلف نحو المأمور به، ولا يخفى ان حدوث الداعي يتوقف على بعض
المقدمات، كتصور العمل بما يترتب عليه من مثوبة وعلى مخالفته من عقوبة، وهذا
مما لا يمكن أن يتحقق إلا بعد البعث بزمان ولو قليلا جدا، فالبعث يتعلق بالأمر
المتأخر عنه دائما، وإذا لم يستحل ذلك مع قصر الزمان فلا يستحيل أيضا مع
طوله، وذلك لان ملاك الاستحالة والامكان لا يختلف فيه الحال بين قصر المدة
وطولها بعد انطباق الموضوع عليها، وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعية،
فإذا فرض ان الانفكاك قهري ولا يرى العقل مانعا فيه فطول الزمان وقصره
لا يوجب اختلاف الحال فيه فتدبر (1).
وقد نوقش في الوجه الأول: بان ما ذكر شاهدا لتعلق الإرادة بما هو
متأخر لا يصلح للاستشهاد به. وذلك لان الشوق إلى المقدمة بما أنها مقدمة وإن لم
يحصل إلا بتبع الشوق المتعلق بذيها، إلا أن الشوق المتعلق بذيها لم يبلغ حد
الإرادة لعدم وصوله حد التحريك والباعثية لتوقف حصوله على المقدمات،
بخلاف الشوق إلى المقدمة فإنه لا مانع من وصوله إلى حد التحريك والباعثية
ولذا يكون إرادة، فإرادة المقدمة غير تابعة لإرادة ذي المقدمة، كيف؟ وإرادة ذي
المقدمة غير متحققة، بل الشوق إلى المقدمة تابع للشوق إلى ذي المقدمة، وهو
كاف في التحريك لعدم المانع. فالتبعية في أصل تعلق الشوق لا في حده ووصوله
إلى مرحلة الباعثية (2).
كما أنه نوقش الوجه الثاني: بان (3) المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد
المحرك للعضلات ليس ما استظهره صاحب الكفاية، من انه بيان لمرتبة الشوق
وإن لم يكن محركا بالفعل، بل المراد هو الشوق المحرك فعلا وغيره لا يسمى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 102 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 186 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 185 - الطبعة الأولى.
157

إرادة وان بلغ ما بلغ، وقد أقيم على ذلك البرهان من كلام اهل الفن، والبحث
فيه ومعرفة الحقيقة من كلامهم وأدلتهم خارج عن الأصول، وانما الذي نقوله
دليلا على عدم تمامية كلام صاحب الكفاية، وان الإرادة هي الشوق المحرك
للعضلات فعلا هو ما يلمسه وجدان كل أحد من أنه قد يحصل الشوق إلى شئ
فيستتبع تحريك عضلاته نحوه ويعد إرادة، ويحصل شوق أكد منه بمراتب إلى
شئ آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المال الكافي آكد
بمراتب من الشوق إلى قراءة كلمة يستتبع تحريك العضلات. ومن الواضح أن
الثاني يعد إرادة دون الأول، وهذا دليل على عدم كون أخذ تحريك العضلات في
تعريف الإرادة لتحديد مرتبة الشوق الذي يكون إرادة، ولا لكان اطلاق الإرادة
على الشوق الأول أولى. فلاحظ.
واما الوجه الثالث: فقد نوقش بوجهين: أحدهما: ذكره المحقق
الأصفهاني (1). والآخر: ذكره المحقق النائيني (2)، إلا أن ما ذكراه لا يرجع في
الحقيقة إلى منع ما افاده صاحب الكفاية في نفسه، وعدم توجهه على المحقق
النهاوندي، بل مرجع ما ذكراه إلى منع ورود كلام صاحب الكفاية وعدم تماميته
على كل من الوجه الذي أفاده كل منهما في بيان استحالة الواجب المعلق. فهو
ليس في الحقيقة منعا لكلام صاحب الكفاية، بل هو منع لتوجهه عليهما في ما
يفيده كل منهما في بيان الاستحالة، وانه أجنبي عن منع الاستحالة بالوجه الذي
يفيده كل منهما.
ولأجل ذلك نؤجل بيانه إلى أن تصل النوبة إلى ذكر ما أفاده كل منهما

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 186 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 136 - الطبعة الأولى.
158

في وجه استحالة الواجب المعلق.
هذا ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.
اما ما يربط بأصل الوجه الذي ذكره المحقق النهاوندي في منع الواجب
المعلق، فالحق عدم تماميته فان الإرادة التشريعية ليس كالإرادة التكوينية مما
يستحيل انفكاكها عن متعلقها، لان متعلقها فعل الغير وهو ليس بإرادي للمريد
بل للغير، وانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر متحقق بالبداهة كموارد
العصيان وعدم الإطاعة، نعم الإرادة التشريعية إنما تستتبع طلب الفعل من الغير
- الذي هو فعل المريد - وهو غير منفك في الواجب المعلق لصدور الطلب
والايجاب من المولى.
وبالجملة: ما يمتنع انفكاكه عن الإرادة التشريعية إنما هو الطلب لا
نفس فعل الغير، فان انفكاكه بديهي التحقق، والمفروض تحقق الطلب بلا
انفكاك عن الإرادة التشريعية. فلا يتجه ما أفاده المحقق النهاوندي في وجه المنع.
الوجه الثاني: - وهو ما أفاده المحقق الأصفهاني - ان الامر والطلب انما
هو جعل ما يمكن أن يكون باعثا وداعيا ومحركا للمكلف نحو الفعل، بحيث
يصدر الفعل عن المكلف باختياره بداعي البعث الصادر من المولى، إذ ما يترتب
عليه المصلحة هو الفعل الاختياري للعبد والحصة الخاصة لا مطلق الفعل ولو
كان بالقهر والجبر وإذا كانت حقيقة الطلب هو ما يمكن أن يكون باعثا امتنع
تعلقه بالأمر الاستقبالي، إذ مع تمامية جميع المقدمات وانقياد المكلف لامر المولى
لا يمكن انبعاثه نحو الفعل، فلا يتحقق البعث بنحو الامكان بالأمر أيضا.
وبتقريب آخر: نقول: ان البعث والانبعاث متضائفان - كالعلة والمعلول
- فلا يصدق أحدهما بدون الآخر، فلا بعث بدون انبعاث، كما لا انبعاث بدون
بعث، وقد تقرر إن المتضائفين متكافئان في القوة والفعلية، فإذا كان أحدهما فعلي
التحقق كان الآخر كذلك، ويمتنع أن يكون أحدهما متحققا بالفعل والآخر
159

بالقوة، وعليه فإذا كان الامر عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون باعثا فهو بعث
بالامكان، فلا يتحقق واقعا إلا فيما يمكن تحقق الانبعاث.
وبتعبير آخر: أن الامر إذا كان بعثا بالامكان لزم تحقق الانبعاث
بالامكان عند تحققه لمكان التضائف. ففي المورد الذي لا يتحقق الانبعاث
الإمكاني لا يصدق البعث الإمكاني أيضا المساوق لعدم الامر. وموردنا من هذا
القبيل، فإنه مع تعلق الامر بالفعل الاستقبالي لا يمكن الانبعاث نحوه في فرض
حصول جميع مقدماته، وإذا لم يتحقق الانبعاث امكانا لم يتحقق البعث بالامكان،
وهذا يرجع إلى عدم تحقق الامر لان حقيقته ليس إلا جعل ما يمكن أن يكون
باعثا.
ومن هنا ينقدح: ان ما أورده صاحب الكفاية على المحقق النهاوندي من
تحقق انفكاك المأمور به عن الامر وتأخره في الوجود في مطلق الأوامر، فلا
محيص عن الالتزام بالواجب المعلق.
ليس بوارد على ما بين من وجه الاستحالة، إذ ليس المحذور انفكاك
تحقق الفعل خارجا عن الامر، بل المحذور هو انفكاك الانبعاث عن البعث،
وقد عرفت أن المراد من الانبعاث هو الانبعاث امكانا لا خارجا، فإنه هو طرف
التضايف لا الانبعاث الخارجي.
وعليه، فإذا كان الامر متعلقا بامر فعلي كان الانبعاث ممكنا في كل وقت
يفرض الانقياد فيه دون ما إذا تعلق بامر استقبالي على ما عرفت، وتأخر
الانبعاث الخارجي عن الامر غير ضائر، لأنه ليس بطرف التضايف.
وعليه، فلا يشترك الامر بالفعل الحالي والامر بالفعل الاستقبالي فيما هو
ملاك الاستحالة، لحصول الانبعاث امكانا في الأول دون الثاني. فلا يتجه ايراد
صاحب الكفاية (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 186 - الطبعة الأولى.
160

ومن هنا يظهر ما ذكرناه سابقا من: أن مناقشة المحقق الأصفهاني
لصاحب الكفاية في الوجه الثالث لا ترجع في الحقيقة إلى منعه في نفسه، بل إلى
بيان أنه غير مصحح ورافع لمحذور الواجب المعلق الذي ذكره هو (قدس سره)،
لابتنائه على الالتزام بالتضائف بين البعث والانبعاث، وكلام الكفاية أجنبي
عنه.
والانصاف ان ما التزم به من أن حقيقة الامر جعل ما يمكن أن يكون
باعثا وداعيا، بلا وجه ملزم - وان تم ما رتبه عليه من استحالة الواجب المعلق -،
بل يمكننا الالتزام بان حقيقة الامر إنما هي جعل ما يقتضي الداعوية والبعث،
بمعنى جعل ما يمكن له اقتضاء الداعوية والتأثير فيها. ومن الواضح أن وجود
المانع من تأثير المقتضي في مقتضاه سواء كان المانع من الخارج، أو لاجل عدم
قبول المحل، لا ينافي كونه مقتضيا، فالنار مقتض للاحراق ولو لم تكن فعلا
مؤثرة فيه باعتبار وجود المانع. لان معنى المقتضي هو ما يكون مؤثرا لو حصلت
باقي اجزاء العلة من الشرط وعدم المانع، فوجود المانع لا يرفع اقتضاء المقتضي
ولا ينافيه.
وعليه، فعدم امكان الدعوة فعلا والانبعاث عن الامر في الواجب المعلق
لا ينافي كون الامر مقتضيا للبعث والدعوة، لان عدم التمكن ناشئ من وجود
المانع، وعدم قابلية المورد للانبعاث، وهذا لا يضير في اقتضاء الامر فليس في
مورد الواجب المعلق ما يتنافى مع حقيقة الامر كي يلتزم بعدم الامر.
ولعل نظر المحقق العراقي في ما ذكره في مقام الإجابة عن هذا الوجه:
بان الامر وان كانت حقيقته جعل ما يمكن أن يكون داعيا، لكنه لا يشترط أن يكون
ممكن الدعوة فعلا، بل يكفي فيه امكانه ولو في المستقبل (1)، لعل نظره في

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 310 - الطبعة الأولى.
161

ذلك إلى ما ذكرناه. فلا حظ.
وبالجملة: الذي يبدو لنا هو عدم تمامية الوجه الذي أفاده المحقق
الأصفهاني في بيان استحالة الواجب المعلق.
الوجه الثالث: - وهو ما افاده المحقق النائيني - ان كل قيد لا يكون
واجب التحصيل لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم، بمعنى أن
يكون وجود الحكم مترتبا على وجوده كما مر تقريبه في مبحث الشرط المتأخر.
وعليه فإذا لم يكن قيد الواجب غير الاختياري كالزمان بواجب التحصيل فهو
لا محالة يكون قيدا للحكم بنحو فرض الوجود - لأنه يكون دخيلا في اتصاف
الفعل بالمصلحة -، وإذا ثبت ذلك امتنع تحقق الوجوب فعلا قبل حصول ذلك
القيد، لكون المفروض ترتب ثبوت الحكم وتحققه على تحقق ذلك القيد - كما هو
مقتضى فرض الوجود - فوجوده قبل وجود القيد يستلزم الخلف.
ويمكن تقريب امتناع الواجب المعلق على بناء المحقق النائيني في باب
جعل الاحكام، وانها مجعولة بنحو القضية الحقيقية، وان جميع القيود التي لا يجب
تحصيلها تؤخذ بنحو فرض الوجود - يمكن تقريبه - بوجه آخر وهو ان يقال:
ان القدرة على المأمور به من شرائط التكليف عقلا، فإذا فرض تقيد الواجب
بقيد غير مقدور كالزمان، امتنع تعلق الوجوب به قبل حصول قيده، لان وجود
الحكم يترتب على وجود القدرة على متعلقه لأنها شرطه فتكون مأخوذة بنحو
فرض الوجود الذي عرفت استلزامه لتأخر الحكم عن قيده. فقبل حصول قيد
المتعلق وهو الزمان لا قدرة عليه، ومعه يمتنع تعلق الوجوب به لاستلزامه تقدم
الحكم على موضوعه وهو خلف باطل.
ثم إنه تصدى لدفع ايراد صاحب الكفاية (قدس سره) السالف الذكر
بعد بيانه بما محصله: ان تأخر الفعل عن الحكم انما هو في الحكم المجعول بنحو
القضية الخارجية، إذ جعله يكون ابتدائيا وبلا سابقة، لأنه يرتبط بتشخيص
162

المولى تحقق موضوع الحكم، فعند جعل الحكم الفعلي يتصور المكلف ما يترتب
على إطاعة الحكم ومعصيته من ثواب وعقاب، وذلك يستلزم انفكاك الواجب
عن الوجوب.
اما بالنسبة إلى الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية - الذي عرفت أن
جعل الأحكام الشرعية كلها بهذا النحو - فتأخر الفعل عن الحكم ليس من
الأمور القهرية الضرورية - كي يدعى ان الالتزام بالواجب المعلق ليس بالشئ
الجديد المستحدث، فان الاحكام كلها تتعلق بامر متأخر -، وذلك لان إنشاء
الحكم بنحو القضية الحقيقية يكون سابقا على فعليته، لتوقف فعليته على حصول
شرائطها وقيودها المأخوذة بنحو فرض الوجود، فيمكن ان يهيئ المكلف نفسه
للامتثال قبل فعلية الحكم، وذلك بتصور ما يترتب على إطاعة الحكم الذي
سيتحقق عند تحقق شرطه من الثواب وعلى معصيته من العقاب إلى غير ذلك
مما يكون مقربا للامتثال، فلا ينتظر العبد بعد ذلك إلا صيرورة الحكم فعليا
لينبعث نحو متعلقه بلا تأخر.
وبالجملة: ما يدعى: من أن انفكاك الفعل عن الحكم أمر سار في جميع
الاحكام، وانه امر تقتضيه طبيعة الحكم وواقعه، فلا خصوصية للمتعلق من هذه
الجهة كي يدعى امتناعه. مندفع: بما عرفت من عدم سرايته بعد فرض كون
جعل الاحكام بنحو القضية الحقيقية، لامكان اتصال الحكم مع الفعل بلا
انفكاك.
لا نقول: بان عدم الانفكاك بين الحكم ومتعلقه لا يتحقق دائما بناء على
جعل الاحكام بنحو القضية الحقيقية، إذ يمكن ان يتحقق الانفكاك بداهة، إذ
قد لا يكون الشخص عالما بالحكم قبل حصول الشرط وانما يعلم به بعد ذلك،
فيحدث في نفسه التهيؤ للامتثال بعد حصول الحكم وفعليته.
وانما الذي نريد ان نقوله: هو ان الانفكاك الحاصل ليس امرا دائميا
163

تقتضيه طبيعة الحكم وملاك جعله، بتقريب انه لجعل الداعي وهو متأخر قهرا
عن جعل الحكم لكي ينتهي من ذلك إلى جواز الواجب المعلق. فالحكم بطبيعته
لا يتعلق بالأمر المتأخر دائما، بل التأخر ينشأ من العوارض الخارجية، وهذا لا
يعني تعلق الحكم بامر متأخر عنه الذي يحاول المدعي اثباته كي يصل إلى اثبات
دعواه من عدم استحالة الواجب المعلق. فلا حظ (1).
ومن هنا يتضح لك ان ما أفاده لدفع الوجه الثالث الذي ذكره صاحب
الكفاية، وان رجع إلى منعه في نفسه وبيان عدم تماميته، وبه يختلف عن نحو
مناقشة المحقق الأصفهاني فيه، لأنها لا ترجع إلى منعه في نفسه بتاتا، لكنه إنما
يدفعه في نفسه مبنيا على تقدير خاص وبناء معين، وهو تقدير الالتزام بكون
جعل الاحكام بنحو القضايا الحقيقية ولا يرجع إلى منعه بتاتا على جميع التقادير.
وبتعبير آخر: ان هذا المنع لا يلزم به صاحب الكفاية، لامكان ان يدعي
نفي كون الاحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية.
والذي يتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية ايرادا على الوجه الذي ذكره
المحقق النهاوندي لم تظهر الخدشة فيه من كلام هذين العلمين، فوروده محكم.
هذا بالنسبة إلى ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.
واما نفس الوجه الذي أفاده في بيان استحالة الواجب المعلق من رجوع
قيد المتعلق الذي لا يجب تحصيله إلى الموضوع المأخوذ بنحو فرض الوجود،
فيمتنع وجود الحكم قبله.
فالخدشة فيه تظهر مما تقدم منا من إنكار هذه الكلية التي يتكرر ذكرها
في كلامه، فليس كل ما لا يجب تحصيله يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود، بل
قد عرفت أن القيود على أنحاء ثلاثة: منها: ما يرجع إلى المتعلق. ومنها: ما يكون

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 136 - الطبعة الأولى.
164

مرتبطا بالحكم بنفسه، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف
ومنها: مالا ارتباط له بالحكم بنفسه أصلا. وعرفت ان ما يحتاج إلى أخذه
مفروض الوجود هو النحو الثالث فقط دون مثل الزمان وقيود المتعلق، إذ لا وجه
يقتضي فرض الوجود فيهما، وليس فرض الوجود امرا مدلولا لدليل شرعي كي
يتمسك باطلاقه.
وعليه، فالقيد الذي علق عليه الواجب - في الواجب المعلق - وإن لم يجب
تحصيله إلا أنه ليس مأخوذا في الموضوع بنحو فرض الوجود، لأنه من قيود
المتعلق التي لا تؤخذ كذلك، على ما تحقق، وإذا لم يتقيد بها الوجوب لم يمتنع أن
يوجد قبلها، فيكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا.
ودعوى: ان ما لا يجب تحصيله يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة،
فيكون ذلك ملاكا لاخذه في موضوع الحكم ومفروض الوجود (1).
مندفعة: فإنه لا ملازمة بين ما لا يجب تحصيله وبين دخالته في الاتصاف
بالمصلحة، بل يمكن أن يكون الامر غير الاختياري الذي لا يجب تحصيله في
وجود المصلحة وفعليتها، كما لو كان الدواء غير نافع للمريض إلا في استعماله في
وقت خاص كوقت النوم ونحوه. فان الوقت الخاص غير دخيل في الاتصاف
بالمصلحة، بل في وجودها وفعليتها، فيكون ما تترتب عليه المصلحة هو الحصة
المقيدة به، فيتعلق به التكليف فعلا، فالطبيب يأمر فعلا بشرب الدواء ليلا وعند
النوم.
وعليه، فيمكن أن يكون القيد المأخوذ في الواجب المعلق من هذا القبيل،
ويكون ما يترتب عليه المصلحة هو الحصة الخاصة المقيدة به، مع عدم لزوم تحصيله
لعدم اختياريته. فيتعلق به الوجوب فعلا لتحقق ملاكه. فلاحظ جيدا.

(1) كما عن المحقق النائيني (قدس سره).
165

الوجه الرابع: وهو ما أشار إليه في الكفاية ان القدرة على العمل من
شرائط التكليف عقلا، فيكون الوجوب معلقا على تحققها، وهي في الواجب
المعلق غير متحققة في ظرف الوجوب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه، فيكون
الوجوب قد تحقق قبل تحقق شرطه، واخذ الشرط القدرة في وقت الامتثال
مرجعه إلى أخذها بنحو الشرط المتأخر. وهو ممنوع (1).
ومن هنا يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الوجه:
بان القدرة وان كان شرطا للتكليف، لكنها القدرة في ظرف الامتثال لا في ظرف
الامر، غاية الامر تكون مأخوذة بنحو الشرط المتأخر.
لا يفي بالمطلوب على جميع التقادير، لانكار الشرط المتأخر من قبل
بعض كما قرر في نفس الوجه، فالالتزام بالشرط المتأخر لا يدفع الايراد.
فالتحقيق ان يقال: ان اطلاق الشرط على القدرة لا يراد منه شرطية
القدرة بالمعنى الفلسفي للشرط، وهو ما كان دخيلا في تحقق المشروط ومن اجزاء
العلة، بل يراد منه شرطيتها بمعنى مصحح التكليف والموجب لخروجه عن
اللغوية فلا يمتنع تأخرها عن الحكم، نظير ما يقال: ان ترتب الأثر على الأصل
شرط اعتباره وجريانه، مع أن ترتب الأثر عليه متأخر رتبة عنه لا سابق عليه.
وقد ذكرنا - هذا المعنى في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع (2) -.
وعليه، فإذا لم تكن القدرة دخيلة في التأثير كي تؤخذ في الموضوع ويمتنع
تأخرها عن الحكم، بل كانت دخيلة في تصحيح العمل من الحكيم بحيث يخرج
عن اللغوية - ولذا كانت شرطا في التكليف الصادر من الحكيم لا غيره - يكتفى
منها بالقدرة على الواجب في ظرف الامتثال ليمكن الانبعاث نحوه واتيانه، ولا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 103 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) راجع 1 / 416 من هذا الكتاب.
166

يضير تأخرها عن أصل الوجوب لعدم أخذها في موضوعه، وليست نسبتها إليه
نسبة جزء العلة إلى المعلول.
والذي يتحصل ان ما ذكر من الوجوه لبيان استحالة الواجب المعلق غير
واف في اثبات استحالته، فهو أمر ممكن ثبوتا ولا محذور فيه ظاهر. بل قيل: انه
بالإضافة إلى إمكانه ثبوتا واقع إثباتا، فلا يتجه انكاره، وذلك في موارد ثلاثة:
الأول: الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان كالصوم، فان الوجوب متعلق
بالجزء الأخير من الامساك، وهو الامساك في الجزء الأخير من النهار - متعلق به
- من أول الفجر. ونظير الصلاة من أول الوقت، فان الوجوب متعلق بآخر جزء
منها المقيد بمضي زمان جميع الاجزاء السابقة عليه - متعلق به - من حين دخول
الوقت، لان المفروض وحدة الوجوب والواجب في كلا الموردين فيلزم الفصل
بين الوجوب والواجب.
الثاني: الواجبات التدريجية غير المقيدة بزمان معين كالصلاة أثناء
الوقت، فان الوجوب يتعلق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها.
الثالث: الواجبات التي يكون لها مقدمات يتوقف عليها حصولها، إذ
الوجوب متعلق بالواجب قبل الاتيان بمقدماته، مع أنه لا يمكن الاتيان به
قبلها، فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب وهو الواجب المعلق الذي يدعي
امتناعه.
وهذه الأمور كما تذكر لبيان تحقق الواجب المعلق خارجا، تذكر في مقام
النقض على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ببيان: ان وقوع مثل ذلك خارجا
ينافي دعوى استحالة الواجب المعلق.
وقد تصدى المحقق النائيني إلى التفصي عن هذه النقوض، وبيان عدم
المنافاة بين دعوى استحالة الواجب المعلق وتحقق مثل هذه الموارد، بعد أن
أوردها نقضا على دعوى استحالة الشرط المتأخر أيضا. ببيان: ان وجوب
167

الامساك في أول الفجر مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى آخر الوقت، فإذا
انتفى أحدها في الأثناء يكشف عن عدم تحقق الوجوب من أول الوقت.
وعليه، فالتكليف بالامساك من أول الوقت مشروط ببقاء شرائط
التكليف إلى الغروب. فتحقق الشرائط في آخر الوقت متأخر زمانا عن تحقق
التكليف مع أنه شرطه، وهكذا الحال في الصلاة أول الوقت، لان وجوبها أول
الوقت مشروط ببقاء شروطها إلى مقدار أربع ركعات بعد أول الوقت، وهو شرط
متأخر.
هذا بالنسبة إلى النقض بالمورد الأول.
واما ما أفاده في مقام التفصي عن كلا النقضين فتوضيحه:
اما النقض بالمورد الأول على دعوى امتناع الشرط المتأخر، فحله: انه
بعد أن عرفت استحالة الشرط المتأخر عقلا، فلا بد من الالتزام بان الشرط في
مثل المورد الذي دل الدليل فيه على أخذ المتأخر شرطا ليس هو نفس الامر
المتأخر، بل العنوان المنتزع عن وجوده في ظرفه كعنوان التعقب، إذ قد عرفت أن
الالتزام بذلك في بعض الموارد لا محيص عنه، فان فيه جمعا بين الحكم العقلي
باستحالة الشرط المتأخر وظاهر الدليل الذي أخذ فيه المتأخر شرطا، فيكون
الشرط في الحقيقة في المورد هو بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء العمل التدريجي
هو الحياة المقارنة المسبوقة والملحوقة بمثلها، فان عنوان السبق واللحوق أمر
مقارن للجزء.
واما النقض به على دعوى امتناع الواجب المعلق فحله: ان الواجب
وشرطه إذا كانا تدريجيين كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضا، وذلك لان فعلية
الحكم بفعلية موضوعه، فبعد ان كان الشرط تدريجي الحصول كانت فعلية
الحكم تدريجية أيضا بتدريجية الشرط، وعليه فلا يكون التكليف المتعلق بالجزء
الأخير فعليا من أول الوقت، بل يصير فعليا عند حصول الشرط في ظرفه، ولا
168

منافاة بين تدريجية الحكم ووحدته، كسائر الأمور التدريجية التي تتصف
بالوحدة (1).
ثم إنه قد يتساءل عن شئ وهو: ان المحقق النائيني (رحمه الله) ذهب
إلى استحالة الواجب المعلق من جهة رجوعه في الحقيقة إلى الشرط المتأخر
الذي بنى على امتناعه.
وعليه، فكان من السهل عليه ان يدفع النقض المذكور على كلتا دعوييه -
أعني دعواه امتناع الشرط المتأخر، ودعواه امتناع الواجب المعلق - بوجه واحد
وهو: الالتزام بكون الشرط وما علق عليه الوجوب هو العنوان المنتزع، فتنحل
كلتا جهتي النقض. فما هو الوجه في العدول في مقام حل النقض على دعوى
امتناع الواجب المعلق عن الوجه الذي ذكره في حل النقض عن دعوى امتناع
الشرط المتأخر وهو الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب المنتزع؟!.
والجواب عن هذا السؤال: بان الشرط المأخوذ في موضوع التكليف
بالجزء الأخير، بل غيره من الاجزاء، هو القدرة عليه، ومن الواضح ان العقل
إنما يحكم بشرطيتها نفسها بملاك تقوم التكليف بها، لأنه تحريك لقدرة العبد على
الفعل، دون العنوان المنتزع عن وجودها في ظرفها، فوجوب الامساك في آخر
النهار مقيد بنفس القدرة عليه لا بالقدرة على غيره من الاجزاء اللاحقة للقدرة
عليه. فان العقل يحكم بان متعلق الحكم لا بد وأن يكون مقدورا، فنفس القدرة
مما يحكم بشرطيتها العقل.
فلا محيص في حل النقض إلا بما عرفت من دعوى عدم فعلية الحكم
قبل فعلية القدرة على الجزء.
نعم القدرة على الاجزاء السابقة أو اللاحقة ليس مما يحكم العقل

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 145 - الطبعة الأولى.
169

بشرطيتها، لتعلق التكليف بالجزء المسبوق والملحوق، بل هي من الشرائط
الشرعية - بمقتضى وحدة الواجب وارتباطيته -، فيمكن أن يفرض كون الشرط
هو العنوان المنتزع كما عرفت، فيتخلص به عن محذور امتناع الشرط المتأخر.
وهكذا الحال في شرطية الحياة للتكليف بالجزء، فان الحياة في وقت العمل
شرط للتكليف لتقوم التكليف بها لأنه توجه الخطاب إلى الحي، فلا يكفي فيها
العنوان المنتزع عن وجودها في الزمان اللاحق، بل نفس الحياة في ظرف الجزء
الأخير شرط تعلق التكليف.
واما ما ذكره في مقام التخلص عن النقض بالمورد الثاني فهو: ان العمل
إذا لم يكن مقيدا بقيد غير مقدور كالزمان يكون مقدورا ولو بالواسطة، وعليه
فالجزء الأخير وان كان متأخرا في وجوده، الا انه لما كان مقدورا عليه فعلا
بالقدرة على الاتيان بالاجزاء السابقة صح تعلق التكليف به فعلا لأنه مقدور
عليه بالواسطة، فمحذور الواجب المعلق وهو تعلق التكليف بما هو مقيد بغير
المقدور كالزمان المستلزم لاخذ القدرة بنحو الشرط المتأخر غير متحقق ههنا،
لان التكليف متعلق بالمقدور فعلا.
ومن هنا يظهر التفصي عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة، فإنها
مقدورة فعلا بالقدرة على مقدماتها، فلا مانع من تعلق التكليف فعلا بها، إذ
الشرط وهو القدرة متحقق فعلا. كما أنه لم يقيد الواجب بقيد لا بد وأن يكون
مأخوذا بنحو فرض الوجود كالزمان - كما هو المفروض - فكلا المحذورين
في الواجب المعلق منتفيان في كلا الموردين.
وقد تفصى المحقق الأصفهاني (قدس سره) عن النقض بالواجبات
التدريجية مطلقا - المقيدة بالزمان وغيرها - بعين ما تفصى به المحقق النائيني عن
النقض بالواجبات التدريجية المقيدة بالزمان من: الالتزام بتدريجية فعلية الحكم
بتدريجية حصول الشرط من دون منافاة ذلك لوحدة الحكم والشرط، كما هو
170

الحال في سائر الأمور التدريجية المتصفة بالوحدة.
ولكنه تفصى عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة بوجه آخر وهو:
الالتزام بان التكليف بذي المقدمة قبل الاتيان بالمقدمة لا يكون فعليا وان تعلق
به الشوق، لوجود المانع عن فعليته ومحركيته. واما التكليف بالمقدمة فهو فعلي
لترشح الشوق عليها من الشوق المتعلق بذيها، والمفروض انه لا مانع من محركية
الشوق المتعلق بها فيتعلق بها الطلب الفعلي.
وبالجملة: يلتزم المحقق الأصفهاني بفعلية البعث نحو المقدمة دون البعث
نحو ذيها، وانما التلازم بينهما في تعلق الشوق، فان تعلقه بذي المقدمة ملازم لتعلقه
بها (1).
والذي يتحصل: ان هذه الموارد الثلاثة لا تصلح نقضا على من يلتزم
باستحالة الواجب المعلق، لامكان حله بوجه معقول ثبوتا، فيلتزم به اثباتا، جمعا
بين الحكم العقلي باستحالة الواجب المعلق ودلالة الدليل الشرعي على هذه
الموارد.
ثم إن صاحب الكفاية بعد أن انهى الكلام عن امكان الواجب المعلق،
تعرض إلى تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات - بيانا لثمرة
الواجب المعلق -، وهذا كما لا يخفى يبتني على مقدمتين:
الأولى: بيان نحو الوجوب النفسي الذي يكون قابلا لان يترشح منه
الوجوب الغيري فعلا.
الثانية: بيان المقدمة القابلة لترشح الوجوب.
فقوله (قدس سره): " ثم لا وجه لتخصيص المعلق... " لتحقيق المقدمة
الأولى، وتوضيح ما أفاده: ان الملاك في الواجب المعلق حيث كان فعلية الوجوب

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 187 - الطبعة الأولى.
171

وحاليته مع استقبالية الواجب الذي يقصد منه ثبوت وجوب المقدمات فعلا، لم
يتجه تخصيص الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور، كما جاء في الفصول،
بل ينبغي تعميمه إلى كلما علق على أمر متأخر، سواء كان مقدورا أو غير مقدور،
وسواء كان المقدور المتأخر مما يقبل لترشح الوجوب عليه في ظرف الواجب أولا
يقبل لاشتراك الجميع في كون الوجوب فعليا والواجب استقباليا.
وبذلك يختلف المعلق عن المشروط، لعدم فعلية الوجوب في المشروط قبل
وجود الشرط إلا في صورة واحدة، وهي أن يكون الشرط مأخوذا بنحو الشرط
المتأخر وفرض حصوله في ظرفه، فيعلم بتحقق الوجوب فعلا فيترشح منه
الوجوب الغيري (1).
وبذلك يكون الوجوب القابل لان يترشح منه الوجوب الغيري فعلا
أنواع ثلاثة:
الأول: الوجوب المنجز.
الثاني: الوجوب المعلق بالنحو الذي عممه صاحب الكفاية.
الثالث: الوجوب المشروط بالشرط المتأخر مع فرض حصول الشرط.
ولا يخفى أن ما ذكره استدراكا على تخصيص صاحب الفصول الواجب
المعلق بما علق على أمر غير مقدور بتعميمه إلى كل ما يؤخذ قيدا للواجب في
ظرف متأخر ولو كان مقدورا. لا وجه له.
وذلك لان الامر المقدور الذي علق عليه الواجب اما أن يعلق عليه
الواجب بلا قيد تأخره، بل مطلقا ولو كان فعلا، فهذا لا يرجع إلى الواجب
المعلق بل يكون واجبا منجزا. واما ان يقيد الامر بالزمان المتأخر ويؤخذ قيدا
للواجب بهذا القيد - كما هو ظاهر العبارة -، فيخرج عن كونه مقدورا لتقيده بما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 103 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
172

هو غير مقدور وهو الزمان، فيندرج في ما أفاده صاحب الفصول من أن الواجب
المعلق ما علق على أمر غير مقدور إلا أن يكون الايراد على صاحب الفصول
لفظيا بان يقال له: بأنه ينبغي تعميم الواجب المعلق لما علق على أمر غير مقدور
بنفسه أو بالواسطة، والا فكل ما يعلق عليه الواجب بقيد التأخر يكون غير
مقدور لتقيده بما هو مقدور. فتدبر.
واما ما أفاده في الواجب المشروط من أنه إذا علق على شرط متأخر
وفرض حصوله في ظرفه كان الوجوب فعليا قبل حصول الشرط. فقد يدعى
عدم خلوه من المسامحة، وذلك ببيان: ان صاحب الكفاية التزم بان حقيقة شرط
الحكم ليس إلا الوجود العلمي للامر الخارجي من دون دخل لنفس الخارج في
ثبوت الحكم، لاستحالة ذلك بعد أن كان الحكم فعلا إراديا للحاكم.
وعليه، فالحكم يدور مدار تصور المولى واحرازه وجود الشرط خارجا،
سواء طابق احرازه الواقع أو لم يطابق. فلا وجه حينئذ لتوقيف فعلية الوجوب
المشروط على حصول الشرط المتأخر في ظرفه، بل فعليته تدور مدار لحاظ المولى
للشرط سواء تحقق خارجا أو لم يتحقق، نعم في مثل شرائط المأمور به يتجه هذا
الامر، باعتبار أنه جعل الامر الخارجي طرفا للإضافة والتقيد، فلا بد من فرض
وجوده خارجا كي يعلم بتحقق الإضافة والتقيد.
وبالجملة: لما كان شرط الحكم حقيقة هو الوجود العلمي، وهذا لا يتوقف
على تحقق مطابقة خارجا، لم يكن وجه لما افاده صاحب الكفاية في المقام.
والانصاف ان هذا لا يرد على صاحب الكفاية. كما لا يرد عليه ان الالتزام
بالواجب المشروط مطلقا ينافي ما قرره من أن شرط الحكم هو الاحراز لا نفس
المحرز، إذ بعد تبعية الحكم للصور الذهنية فلا معنى لتعليقه على تحقق شئ خارجا،
بل الاحكام اما موجودة من الأزل لتحقق لحاظ الشرط أزلا أو غير موجودة
173

من الأزل لعدم تحققه من الأزل. كما أشار إليه الشيخ (1) في تقريب رجوع
الشرط إلى المادة لا الهيئة، إذ امر الإرادة دائر بين الوجود والعدم لتبعيته للصور
الذهنية واللحاظات.
وجه عدم ورود الايراد الأول: أن الحكم المترتب على موضوع معين لا بد
وان يحرز في موضوعه المعين وجود ملاكه والمصلحة الداعية إليه.
وعليه، فإذا كان الحكم شخصيا مرتبا على فرد معين من الافراد كان جعل
الحكم منوطا باحراز المولى وجود الملاك في هذا الفرد الموضوع، فإذا أحرز
المولى ان زيدا محصل لما هو ملاك الحكم أمر بالشئ الكذائي، ولا يضير في ذلك
عدم مطابقة احرازه لما هو الواقع، إذ الحكم يناط بالاحراز والعلم بوجود شرط
الملاك، سواء طابق الواقع الخارجي أو لم يطابق. واما إذا كان الحكم كليا مرتبا
على طبيعة بلا لحاظ خصوصية افرادها، كان جعل الحكم منوطا باحراز المولي
وجود الملاك في الموضوع الكلي لا غير، فعليه أن يحرز أن هذا الكلي مما يترتب
عليه الملاك وليس عليه أن يحرز تحقق الملاك في افراده، إذ الحكم ليس على كل
فرد بعنوانه الخاص، بل على كل فرد بعنوانه الكلي. ولا فرق بين الحكم
الشخصي والكلي في لزوم إحراز الملاك في موضوعه، وانما الفرق ان الحكم
الشخصي يستدعي احراز تحققه في الفرد - لأنه موضوع الحكم -، والحكم الكلي
لا يستدعي احراز تحققه في الفرد، بل في الكلي فقط.
فعلى هذا فإذا أحرز المولى ان وجود شئ بعد حين دخيل في ثبوت الملاك
فعلا في الشئ وكان هناك جماعة افراد أحرز المولى تحقق الشرط فيهم وجه
إليهم الخطاب شخصيا، فيقول مثلا: " يجب عليكم كذا ". واما إذا لم يحرز وجود
الملاك فيهم أجمع، بل أحرزه في بعضهم ولم يحرزه في بعض آخر واحرز عدمه في

(1) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 52 - الطبعة الأولى.
174

بعض ثالث، فلا يمكن توجيه الخطاب إليهم شخصيا بانشاء واحد، بل لا يسعه
إلا أن ينشئ الحكم على الموضوع الكلي، وقد عرفت أنه لا يستدعي سوى إحراز
كون العنوان محصلا للغرض وملاك الحكم بلا نظر إلى الافراد، فإذا أحرز ان
الاستطاعة بوجودها المتأخر محصلة للملاك، ولم يحرز تحقق الاستطاعة في بعض
الاشخاص، أنشأ الحكم على الموضوع الكلي فيقول: " يجب الحج فعلا على
المستطيع بعد حين "، وبعد هذا يكون أمر تطبيق الموضوع على المكلفين بيدهم
لا بيد المولى، فان وظيفته ليس إلا جعل الحكم على موضوعه، فمن علم أنه
يتحقق منه هذا الشرط فقد أحرز انه فرد الموضوع الكلي، فيحرز ثبوت الحكم
له، وبدونه لا يحرز كونه فردا للموضوع كي يحرز ثبوت الحكم له.
فلا يقال: إنه بعد أخذ الاحراز شرطا لا معنى لتقييد ثبوت الحكم بوجود
الشرط في ظرفه.
فان هذا إنما يتم في الاحكام الشخصية دون الكلية، لأنها لا تناط باحراز
تحقق الشرط خارجا، إذ لأنظر للمولى إلى عالم الخارج، بل تناط باحراز دخالة
الشرط في الملاك، فالخطأ انما يتصور في هذا الفرض في دخالة الشرط في الملاك
لا في أصل وجود الشرط.
ولا ينافي هذا الالتزام بكون الاحكام منشأة بنحو القضية الخارجية لا
الحقيقية، إذ المنفي هو أخذ الشرط بنحو فرض الوجود وترتيب وجود الحكم على
وجوده اما جعل الحكم فعلا على الموضوع الكلي، وكون أمر تطبيقه بيد المكلف
لا بيد المولى، فلا مانع من الالتزام به، وهو لا ينافي القضية الخارجية كما في قول
القائل: " كل من في الدار عالم "، ولكنه إذا سئل عن: " أن زيدا كان في الدار
أولا " يجيب لا أدري. مع أن حكمه بنحو القضية الخارجية.
وبالجملة: كون الأحكام الشرعية بنحو الحكم الكلي لا الشخصي، فلا
يكون أمر تطبيق الموضوع بيد المولى بل بيد العبد، مما يلتزم به صاحب الكفاية
175

وان رجع إلى القضية الحقيقية، فإنها بهذا المعنى لا ينكرها صاحب الكفاية، بل
المنكر هو أخذ الشئ مفروض الوجود.
ويشهد لما ذكرنا نفس التزامه بالواجب المشروط، فإنه لا يتلاءم الا مع
ما ذكرناه.
ومن هنا يتضح الجواب عن الايراد الثاني، فان مقدمات الإرادة وان
كانت تامة، الا انه قد يمنع مانع من جعل الحكم، فإذا أحرز المولى تمامية
المصلحة بعدم المانع ينشئ الحكم معلقا على عدم المانع بنحو كلي ويكون التطبيق
بيد المكلفين. وقد أشار صاحب الكفاية فيما تقدم إلى هذا الجواب، وانه قد تتحقق
الإرادة بتحقق مقدماتها، لكن يمنع مانع من جعل الحكم فيعلقه على زوال المانع،
ولا يخفى انه إنما يتم بالتوجيه الذي عرفته من الحكم على الموضوع الكلي
المفروض فيه زوال المانع والا فمجرد مانعية المانع لا تكفي في رفع الاشكال، إذ
للمستشكل ان يدعي بأنه كما كان احراز الشرط دخيلا بنفسه دون نفس وجود
الشرط، فكذلك احراز عدم المانع دون نفس عدم المانع، لأنه من الخارجيات
التي يمتنع تأثيرها في الإرادة، فإذا أحرز المولى عدم المانع في المستقبل أنشأ
الحكم فعلا بلا وجه لتعليقه على زواله.
فالجواب الصحيح ما عرفت من أن ما هو مرتبط بالمولى احراز تمامية
المصلحة بعدم المانع، لا احراز تحققه وعدم تحققه، والملاك في إنشاء الحكم هو
الأول دون الثاني. فتدبر جيدا.
هذا كله بالنسبة إلى المقدمة الأولى.
واما المقدمة الثانية: فقد تعرض إليها بقوله: " قد انقدح من مطاوي... "،
وتوضيح ما أفاده: ان المقدمات بجميعها قابلة لترشح الوجوب عليها إلا أنواع
ثلاثة:
الأول: مقدمة الوجوب، والوجه في عدم قابليتها لترشح الوجوب عليها
176

ما عرفت من توقف حصول الوجوب على حصولها، فلو ترشح الوجوب عليها
والحال هذه لزم طلب الحاصل وهو محال.
الثاني: المقدمة الوجودية المأخوذة عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر، فان
السفر وان كان مقدمة وجودية لصلاة القصر، لكنه يمتنع ترشح التكليف عليه،
لان تعلق التكليف بالفعل لا يتحقق إلا عند تحققه، لأنه أخذ في موضوع الحكم
فلا بد من وجوده في وجود الحكم، ومع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه
طلب الحاصل أيضا.
الثالث: المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقا،
بمعنى أن يكون الواجب هو الفعل المقيد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق عن
اختياره أو غير اختيار، لا بالبعث والتحريك نحوه. فان ترشح التكليف عليه
قبل حصوله خلف فرض أخذه قيدا إذا حصل بنحو الاتفاق. وبعد حصوله
يكون طلبا للحاصل.
فغير هذه الأنواع الثلاثة من المقدمات الوجودية لا مانع من تعلق
الوجوب به إذا كان فعليا.
* * *
177

المقدمة المفوتة
وبعد هذا كله يقع الكلام في ثمرة الواجب المعلق، فقد أدعي: ان ثمرته
تصحيح وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان الواجب (1).
ولأجل ذلك ننقل الكلام إلى أصل المقدمات المفوتة وما دار من البحث
حولها، ولو كان أجنبيا عن مبحث الواجب المعلق، ولكنه يذكر في ذيله لمناسبة
له معه ستعرفه من طيات الحديث فيها.
فنقول: أنه وقع التسالم على وجوب بعض المقدمات قبل تحقق وقت ذيها
إذا لم يتمكن على الاتيان بها بعد حلول وقت ذيها، وهي موارد:
منها: التسالم على وجوب حفظ الماء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يجده بعد
الوقت، بل قد أفتى البعض بلزوم تحصيل الماء قبل الوقت لو علم أنه لا يتمكن
منه بعد الوقت.
منها: التسالم على لزوم الغسل للصوم قبل الفجر. فان وقت الواجب
متأخر عن وقت وجوب المقدمة.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 104 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
179

ومنها: الحكم بوجوب حفظ الاستطاعة في أشهر الحج، مع أنها مقدمة
وجوبية، بل أفتى البعض بلزوم حفظها مطلقا ولو قبل أشهر الحج، فلا يجوز
صرف المال مثلا في غير الحج، وهكذا الحكم بلزوم تحصيل المقدمات الوجودية
قبل وقت الحج، كالسير مع الرفقة ونحوه.
ومنها: الحكم بلزوم التعلم على الصبي قبل بلوغه إذا علم بفوت الواجب
بعد البلوغ لو تركه.
وجهة الاستشكال في هذه الموارد ونظائرها هي: ان الوجوب المقدمي
حيث إنه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسي، فإذا فرض تأخر فعلية
الوجوب النفسي لتأخر زمان الواجب، فبأي ملاك تجب المقدمات قبل ذلك مع
عدم فعلية الوجوب؟. خصوصا في مثل المقدمات الوجوبية كالاستطاعة.
وبتقريب آخر نقول: ان هذه المقدمات لا بد وان لا تكون واجبة أبدا،
لأنه في حال تمكن منها قبل زمان ذيها لا تجب لعدم فعلية الوجوب النفسي، وبعد
زمان ذيها لا يتمكن عليها، فيسقط الوجوب النفسي لعدم القدرة على الواجب.
فباي وجه تصحح الفتوى ويوجه التسالم على وجوب المقدمات في الموارد
المذكورة؟.
وقد أطلق على هذا النحو من المقدمات ب‍: " المقدمات المفوتة " بلحاظ
فوات الواجب بتركها.
وقد تصدى صاحب الكفاية (قدس سره) إلى تصحيح الفتوى بالوجوب
قبل الوقت بوجوه ثلاثة:
الوجه الأول: الالتزام بالواجب المعلق في هذه الموارد، فيكون الوجوب
فعليا قبل وقت الواجب، ويكون الواجب استقباليا.
وعليه، فيصح الحكم بوجوب المقدمة المفوتة قبل الوقت لفعلية الوجوب
النفسي الذي هو المناط في الترشح ووجوب المقدمة وان تأخر زمان الواجب.
180

الوجه الثاني: الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر، فيلتزم بان
الوقت أو غير الوقت من الشروط شرط للوجوب ولكن بنحو الشرط المتأخر،
فإذا علم بحصوله في ظرفه يعلم بفعلية الحكم فعلا قبل حصول الشرط، فلا مانع
من ترشح الوجوب على المقدمات لفعلية الوجوب النفسي قبل
حصول الشرط ووقت الواجب، فلا يلزم على كلا الوجهين وجوب المقدمة قبل
وجوب ذيها، بل اللازم ليس إلا الاتيان بالمقدمة قبل الاتيان بذيها وهو ليس
بمحذور. كيف؟ وذلك شان غالب المقدمات فإنه يؤتى بها قبل ذيها.
وبالالتزام بالوجه الثاني أنكر ثمرة الواجب المعلق، لان الثمرة منه ليس إلا
امكان التفصي عن الاشكال المزبور والتخلص عن محذور وجوب المقدمة
قبل وجوب ذيها، وقد عرفت أنه ينحل الاشكال بالالتزام بالواجب المشروط
بنحو الشرط المتأخر، وينتفي المحذور به فلا ملزم للالتزام بالواجب المعلق كما
هو نظر صاحب الفصول، فلو التزم باستحالة الواجب المعلق لم يترتب عليه
الحيرة في التخلص عن محذور وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.
ثم إنه وان كان الالتزام بكل من الواجب المعلق والواجب المشروط
بالشرط المتأخر ممكنا ثبوتا، الا انه يحتاج إلى دليل في مقام الاثبات، بل قد
يكون ظاهر الدليل هو تعليق فعلية الوجوب على حصول الشرط الذي ينافي
كلا من الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، نظير قوله عليه السلام: " إذا
زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور " (1).
وقد تنبه صاحب الكفاية إلى هذه الجهة، وتصدى لحلها بما محصله: انه
إذا تم الدليل على وجوب المقدمة قبل زمان ذيها نستكشف من ذلك بطريق الآن

(1) عن أبي جعفر عليه السلام: إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.
وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء، حديث 1.
181

سبق وجوب ذي المقدمة وكون المتأخر زمان اتيانه لا وجوبه، لعدم طريق
للتخلص الا بذلك، لان وجوب المقدمة يستحيل أن يكون قبل وجوب ذيها.
الوجه الثالث: وهو الالتزام بوجوب هذه المقدمات بالوجوب النفسي
التهيئي، وذلك بعد العلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة اما لعدم تصوره ثبوتا أو
لعدم مساعدة الدليل عليه اثباتا، فإنه لا محيص عن الالتزام بذلك إذ الوجوب
الغيري محال لعدم وجوب ذي المقدمة. فيلتزم بالوجوب النفسي غاية الامر انه
ليس لغرض في نفس المقدمة، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيؤ للاتيان به
في ظرفه (1).
هذا ما افاده صاحب الكفاية في التخلص عن اشكال وجوب المقدمات
المفوتة قبل زمان ذيها.
وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الثاني الذي أدعى صاحب
الكفاية أنه طريق للتخلص عن الاشكال غير طريق الالتزام بالواجب المعلق،
وانه ظهر به عدم انحصار التفصي عن العويصة بالتعلق بالتعليق.
وجهة الاشكال أنه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخر ما لم يلتزم بتأخر
زمان الواجب. ببيان: ان الغرض تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذيها، فلا بد
من فرض تأخر زمان الواجب وتقيده بوقت معين متأخر، فالالتزام بالشرط
المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلا إنما يتعقل بناء على
الالتزام بالواجب المعلق، فحالية الوجوب وفعليته لتحقق شرطه في ظرفه لا
تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلق، لكون المفروض تأخر زمان الواجب عن زمان
وجوبه.
وبالجملة: الفرض ان الواجب مقيد بزمان معين، فالالتزام بفعلية

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 105 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
182

الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدماته التزام بالواجب المعلق أيضا، لأنه التزم
بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب، فلا محيص عن الالتزام به وان التزم
باشتراط الوجوب بالشرط المتأخر وحصول الشرط في ظرفه (1).
وعلى اي حال فالتفصي بالوجهين الأولين، أعني الالتزام بالجواب المعلق
وبالجواب المشروط المتأخر، يبتني على القول بامكانها ثبوتا، واما مع
القول باستحالتهما فلا يتجه التفصي بهما عن الاشكال.
ومن هنا استشكل المحقق النائيني (قدس سره) في التفصي بهما لما عرفت
من التزامه باستحالة كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر، كما أضاف إلى
وجه الاستشكال: ان الالتزام بهما لا ينفع في اثبات ايجاب التعلم قبل البلوغ
وقبل الاستطاعة، لعدم تحقق التكليف بذي المقدمة قبلهما جزما، مع أنه لو التزم
بتحقق الوجوب قبلهما فلازمه ايجاب سائر المقدمات لا خصوص التعلم، مع أنه
لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحج على من يعلم بتحقق الاستطاعة فيما بعد. فما
هو الفرق بينه وبين سائر المقدمات الوجودية؟ (2).
ولأجل ذلك سلك طريقا آخر للتفصي عن الاشكال.
وقد أشار أولا إلى وجه آخر للتفصي وهو: الالتزام بمتمم الجعل.
وبيانه: ان مصلحة الواجب إذا كانت تامة فعلا قبل فعلية الوجوب،
بحيث كان عدم التكليف به فعلا لعدم القدرة عليه لا لعدم تمامية ملاكه، تعلق
التكليف بمقدماته التي لا يتمكن منها بعد حصول زمانه، ويعبر عنه بمتمم الجعل.
وضابطه: أن يكون غرض المولى يتحقق بفعل بنحو خاص لا يمكنه
الامر به كذلك، كالفعل بقصد الامر، فيتصدى لانشاء حكمين يتوصل بهما إلى

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 191 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 148 - الطبعة الأولى.
183

تحصيل غرضه. فما نحن فيه كذلك، لان التكليف مثلا بالصوم قبل الفجر ممتنع،
والمفروض انه بترك الغسل تفوت مصلحة الصوم لعدم القدرة عليه بدونه، فيتعلق
تكليف مستقل بالغسل فعلا يكون متمما للجعل وتكليف الصوم نفسه (1).
ولكنه لم يبن عليه في المقام، لعدم اطراده في سائر الموارد، إذ الالتزام
بتمامية المصلحة قبل البلوغ أو قبل الاستطاعة مما لا يمكن، فلا وجه حينئذ
للامر بالتعلم، وعلى تقدير الالتزام بذلك فلازمه عدم التفريق بين التعليم وغيره
من المقدمات الوجودية وهو مما لا يلتزم به أحد.
واما ما سلكه من الطريق للتفصي، فهو يتضح ببيان جهات ثلاث:
الأولى: انه قد تقرر ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه
خطابا وان خالف في ذلك بعض، فذهب إلى عدم منافاته عقابا وخطابا - كما
ينسب إلى أبي هاشم (2) - وذهب بعض إلى منافاته خطابا وعقابا. ولكن الحق
ما عرفته من منافاته خطابا وعدم منافاته عقابا.
وذلك اما منافاته خطابا: فلان التكليف انما هو بلحاظ جعل الداعي
للمكلف نحو الفعل - اما بان نلتزم ان حقيقته ذلك، أو ان ذلك لازمه الأخص
وان حقيقته هو نفس الإرادة التشريعية، أو جعل الفعل في العهدة، فان إبراز
الإرادة أو جعل الفعل في العهدة إنما هو بلحاظ ترتب الداعوية عليه -، وفي مورد
الامتناع يمتنع حصول الداعي نحو الفعل وتحقق التحرك والانبعاث إليه، وهذا
لا ينافي كونه اختياريا باختيارية سببه، فان قوام صحة التكليف ليس اختيارية
الفعل فقط، بل امكان الانبعاث وحصول الداعي نحوه.
نعم من يلتزم بان حقيقة التكليف ليس إلا جعل الفعل في عهدة المكلف

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 149 - الطبعة الأولى.
(2) شرح مختصر الأصول / 96.
184

بلا شرط تحقق الداعوية نحوه - كما قد يظهر من بعض عبارات السيد
الخوئي - (1) له ان يلتزم ههنا بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا،
لان التكليف يكون كسائر الأحكام الوضعية التي لا يعتبر فيها امكان الانبعاث،
بل تتعلق بذمة المكلف وإن لم يكن قادرا أصلا.
واما عدم منافاته عقابا: فلان الفعل وان خرج عن القدرة، لكنه حيث
كان ذلك بالاختيار كان امتناعه اختياريا، فيستحق العقاب على تركه، لان ملاك
العقاب اختيارية العمل، ولأجل ذلك يتحقق العقاب على قتل شخص نفسه لو
رمى جسمه من السطح، فان الاصطدام بالأرض المحقق للموت لا يكون
اختياريا بعد الرمي، ولذا يمتنع التكليف بتركه في تلك الحال، ولكنه حيث إن كان
منشؤه الاختيار لم يمتنع عقابه إذ يعد ذلك قتلا للنفس اختياريا وان كان حين
حصوله غير اختياري.
الثانية: ان العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكن
من ايجاد الامر على طبقة لعدم التفاته أو لغير ذلك، كما لو رأى العبد ابن سيده
في الحوض بحيث لو تركه يغرق، ولم يكن سيده حاضرا، فإنه يجب عليه انقاذه
تحصيلا لغرض مولاه الملزم، لأنه يعلم لو كان سيده حاضرا لا وجب عليه إنقاذ
ابنه.
نعم لو كان المولى متمكنا من الامر ولم يأمر لم يجب على العبد تحصيل
غرضه في هذه الحال، لان عدم امره مع تمكنه يكشف عن عدم ارادته تحصيل هذا
الغرض ولو كان ملزما في نفسه.
الثالثة: ان القدرة على العمل تارة: لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون
شرطا عقليا لتصحيح التكليف، والا فالملاك بدونها حاصل وأخرى: تكون دخيلة

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2 / 108 - الطبعة الأولى.
185

في الملاك، فتكون شرطا شرعيا، وهي في هذه الفرض تارة: تكون دخيلة في الملاك
مطلقا في أي ظرف تحققت. وأخرى: تكون دخيلة فيه على تقدير خاص وظرف
معين لا مطلقا. والثانية: تارة: تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب، ولو
قبل تحقق زمان الواجب. وأخرى: تكون دخيلة فيه بعد تحقق زمان الواجب،
فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصلة للملاك أصلا. فالاحتمالات أربعة. اما
الأول والثاني: فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة
الامكان. واما الثالث: فيفرق فيه بين المقدمات المفوتة قبل حصول شرط
الوجوب والمقدمات المفوتة بعد حصوله، فلا يحرم تفويتها على الأول دون الثاني.
واما الرابع: فلا يجب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب.
هذا محصل ما افاده (قدس سره) وقد أطال فيه الكلام (1).
والتحقيق ان يقال: ان قاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار "
تذكر لدفع توهم: عدم اختيارية الأفعال، لان كل فعل إرادي حين تعلق الإرادة
به يكون واجبا، وحين عدم تعلقها به يكون ممتنعا، وذلك لان الإرادة لما كانت
هي الجزء الأخير للعلة التامة، فعند تحققها يكون تحقق المعلول قهريا بحكم
استحالة تخلف المعلول عن العلة - ومن هنا قيل: ما لم يجب لم يوجد -، وعند عدم
تحققها يكون انتفاء المعلول ضروريا، لان المعلول لا يوجد بدون علته، فالفعل
الإرادي يدور أمره بين الضرورة والامتناع فلا يكون اختياريا، لأنه اما ان تتعلق
به الإرادة فيكون ضروريا، أو لا تتعلق به الإرادة فيكون ممتنعا، لان المعلول
ضروري الوجود عند وجود علته كما أنه عدم عند عدم علته.
انه يقال في رده: ان الوجوب الناشئ عن الإرادة الذي يعبر عنه
واجب بالغير لا بالذات، لا يتنافى مع اختيارية الفعل، كما أن الامتناع الناشئ

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 150 - الطبعة الأولى.
186

عن عدم الإرادة الذي يقال عنه انه ممتنع بالغير، لا يتنافى مع كون عدم الفعل
كوجوده اختياريا، فان الضرورة والامتناع الذين يتنافيان مع اختيارية الفعل هما
الضرورة والامتناع السابقان على مرتبة الإرادة لا اللاحقان لها الناشئان منها.
فالفعل وان كان ضروريا بالإرادة لكنه اختياري، لاجل ان ضروريته بالإرادة.
فالقاعدة المذكورة أساس بيانها والتنبيه عليها هو دفع هذا الوهم، وقد طبقت
على موارد:
المورد الأول: ما أشرنا إليه من كون الامتناع - في الفعل الإرادي -
ناشئا من عدم الإرادة، فإنه قيل عنه: ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
واما تحقيق صحة تعلق الخطاب بالفعل الممتنع لعدم الإرادة وعدم صحته
فليس محله ههنا، وان كان الحق عدم صحته، فلا يصح ان يتعلق الخطاب بعثا أو
زجرا بالفعل على تقدير عدم تعلق الإرادة به، لان الفعل على هذا التقدير ممتنع
الحصول، والمفروض ان التكليف انما هو لايجاد الداعي والمورد غير قابل لذلك.
المورد الثاني: المسببات التوليدية بعد حصول السبب، فإنها بعد حصول
السبب وقبل تحققها لا تكون إرادية، بل تكون ضرورية الحصول، كما هو
المقصود من المسبب التوليدي، نظير القتل الحاصل بعد رمي السهم أو بعد إلقاء
الشخص بدنه من شاهق.
فقد يتوهم: انه يمتنع تحقق العقاب عليها، لأنها في ظرف تحققها ليست
اختيارية.
لكنه يندفع بالقاعدة المذكورة، فان الامتناع في المسببات التوليدية إنما
نشأ عن الإرادة والاختيار لتعلقها بالسبب، وهذا يصحح ترتب آثار الفعل
الاختياري على المسبب من صحة المؤاخذة عليه ونحوها، لان إرادة السبب إرادة
للمسبب بنظر بنظر العقلاء، فالفعل اختياري بنظرهم.
نعم يمتنع تعلق التكليف به في الحال المفروضة، إذ التكليف لا يتقوم
187

بصدق اختيارية الفعل كصحة العقاب عليه، بل يتوقف على امكان التحريك
والدعوة، وهو غير متحقق لعدم القدرة على الفعل ولا على الترك بعد حصول
السبب، فلا يكون المورد موردا لا يجاد الداعي والبعث لعدم قابليته لذلك.
المورد الثالث: أن يكون الفعل في نفسه من الأفعال الإرادية التي تتعلق
بها الإرادة بنفسها مباشرة - لا كالمسببات التوليدية -، فيفعل المكلف فعلا
يستلزم سلب إرادية ذلك الفعل، فيكون ضروريا بلا ان تتعلق به الإرادة. نظير
حركة المرتعش، فإنه من الموارد التي تطبق عليها القاعدة المزبورة، فيدعي فيه
بصحة العقاب على الفعل غير الإرادي، لأنه وان كان فعلا غير اختياري إلا أن
عدم الاختيار لما كان ناشئا عن الاختيار كان ذلك مصححا لترتب آثار الفعل
الاختياري عليه - من صحة المؤاخذة عليه - بنظر العقلاء.
نعم يمتنع والحال هذه تعلق التكليف به، لأنه ليس بمقدور، فلا يتحقق
الداعي المقصود ايجاده بالتكليف. فالامتناع بالاختيار في هذه الموارد لا ينافي
الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا. لكنه ينبغي أن يقال: إنه ان كان الفعل
المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى بجميع افراده وأحواله كان تطبيق القاعدة
على المورد في محله، لأنه فعل باختياره ما ينتهي إلى فعل مبغوض للمولى وان
كان غير مقدور عليه في ظرفه، لكن عدم القدرة بعد أن كانت ناشئة عن
الاختيار لا تنافي الاختيار. واما إذا كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا
للمولى في بعض افراده وهو الفرد الإرادي، بمعنى ما تتعلق به الإرادة مباشرة
وما يقع عن اختيار في ظرفه فلا وجه للحكم بصحة العقاب على الفعل المزبور
بمقتضى القاعدة، لأنه فعل غير مبغوض للمولى، إذ هو ليس بإرادي فعلا.
فالوجه التفصيل بين الصورتين، وتشخيص كل منهما يتبع ما يستظهر من
لسان دليل الحكم والحرمة والمبغوضية.
ولا يخفى ان الذي يتناسب مع ما نحن فيه هو هذا المورد دون مورد
188

المسببات التوليدية، إذ الواجب ذو المقدمة المفوتة من الأفعال الإرادية في نفسه،
وليست نسبة المقدمة المفوتة إليه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه. وقد عرفت أن
الحكم بصحة العقاب مطلقا في هذا المورد غير وجيه.
لكن المورد يختلف عما نحن فيه أيضا من جهتين:
الأولى: ان المورد الذي نحن فيه يختص بالواجبات العبادية كالحج
والصلاة والصوم مما يعتبر فيها الإرادة والقصد إليها، فلا كلام فيها من هذه الجهة
كما هو الحال في المورد الثالث.
الثانية: ان الاشكال فيما نحن فيه ليس من جهة مخالفة التكليف الفعلي
المتعلق بالعمل، كي يقال إنه هل أخذ الفعل الإرادي في متعلق الحكم أو مطلق
الفعل، بنحو ينسب إلى اختيار الفاعل ولو بالواسطة؟، فان الفرض ان الواجب
مقيد بزمان متأخر فلا يتمكن منه فعلا، لعدم اختيارية قيده. وانما الكلام في سلب
القدرة عليه في ظرفه بترك بعض مقدماته، فليس فيما نحن فيه تكليف بالفعل
يتكلم بان مخالفته تتحقق بالنسبة إليه مع انسلاب الإرادة عنه بذلك، أو لا
تتحقق إلا باعمال الإرادة فيه بخصوصه، كما هو الحال في مورد الثالث.
وعليه، فأساس الاشكال والبحث فيما نحن فيه هو التساؤل عن الملزم
للاتيان بالمقدمات المفوتة، لأنه قبل حصول زمان الواجب لا وجوب يترشح
عليها، وبعد حصول زمانه لا تكليف بالواجب لعدم القدرة عليه بتركها، فحالها
من هذه الجهة حال المقدمات الوجوبية من عدم تعلق الالزام بها.
وقد ذكر للجواب عنه - غير ما جاء في الكفاية (1) - وجهان:
الأول: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) من أن الملاك في ظرفه إذا
كان تاما لا قصور فيه يحكم العقل بحرمة تفويته ولزوم المحافظة عليه في زمانه،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 104 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
189

وعليه فهو يحكم بلزوم المقدمة المفوتة، لان بالاتيان بها محافظة على الغرض
وبفواتها تفويت للغرض، وبالملازمة بين حكم العقل والشرع يتعلق وجوب
شرعي بالمقدمة ويعبر عنه بمتمم الجعل.
واستشهد على هذا المعنى بموارد الإرادة التكوينية، فان الشخص إذا
علم بأنه سيبتلي في سفره بالعطش، وانه لا يجد الماء في الطريق، يرى نفسه
ملزما بحكم العقلاء بتهيئة الماء واستصحابه معه قبل الابتلاء به محافظة على
تحصيل الغرض الملزم في ظرفه وهو رفع العطش، ويعد مذموما عند العقلاء لو
ترك أخذ الماء معه. والإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في سائر الجهات كما
حقق في محله.
وبالجملة: وجوب المقدمة شرعا انما هو كحكم العقل بلزوم المحافظة على
غرض المولى الملزم وقبح تفويته بترك مقدماته (1).
الثاني: ما افاده السيد الخوئي (حفظه الله) من أن لزوم المقدمة المفوتة من
باب وجوب المقدمة العلمية. بيان ذلك: ان العقل كما يحكم بصحة العقاب على
مخالفة التكليف الذي سيتحقق في المستقبل ولو بترك بعض ما يستلزم تركه
مخالفته في ظرفه، كذلك يحكم بصحة العقاب على تفويت غرض المولى الملزم
للزوم تحصيله. فإذا علم المكلف ان للمولى غرضا ملزما يتحقق بالفعل في الزمان
المستقبل، حكم العقل بلزوم المحافظة عليه وصحة العقاب على تفويته في ظرفه،
فإذا توقف تحققه على الاتيان بفعل في هذا الزمان لزم ذلك بحكم العقل لأنه
مقدمة علمية (2).
وهذان الوجهان وان كانا تامين في أنفسهما، إلا أن ربطهما بقاعدة:

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 151 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 361 - الطبعة الأولى.
190

" الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " لا وجه له محصل.
اما ما افاده المحقق النائيني: فقد عرفت أن العقل والشرع يحكمان بلزوم
المقدمة بملاك حرمة تفويت الغرض ولزوم المحافظة عليه. ومن الواضح ان
تفويت الغرض وعدم المحافظة عليه يحصلان بمجرد ترك المقدمة المفوتة، فتحقق
المخالفة للتكليف بترك المقدمة نفسها، فيكون العقاب عليه وهو فعل اختياري
كما لا يخفى.
وعليه فتطبيق قاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " ناشئ عن
المسامحة، إذ العقاب على ترك المقدمة وتفويت الغرض به لا على ترك الواجب،
كي يقال إنه ممتنع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وقد عرفت أن ترك المقدمة
أمر اختياري لتعلق الإرادة به مباشرة، فالعقاب عليه عقاب على ما هو بالاختيار.
واما ما افاده السيد الخوئي: فهو وان ارتبط بالقاعدة المذكورة بنحو
ارتباط، لان لزوم المقدمة كان بحكم العقل بصحة العقاب على تفويت الغرض
الملزم في ظرفه، وترك الواجب الذي يترتب عليه الغرض وان كان استقباليا.
فلقائل أن يقول: ان الواجب في ظرفه ممتنع، فلا يصح العقاب عليه. فيجاب:
بالقاعدة المزبورة، وان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فالوجه مرتبط
بالقاعدة بنحو ارتباط. إلا أن التنصيص عليها في خصوص المورد وجعلها من
متممات الحكم بلزوم المقدمة غير وجيه، لان المفروض ان الحكم بلزوم المقدمة
كان من باب حكم العقل بلزوم المقدمة العلمية فهو تام في نفسه، والاشكال بان
الواجب في ظرفه ممتنع اشكال عام يسري في كثير من الموارد، ويدفع بما تكرر
من أن اختيارية الامتناع لا تنافي الامتناع، وليس هو ايرادا خاصا بالمورد حتى
يفرض كون القاعدة من متممات وجه الحكم بلزوم المقدمة. والا كان اللازم
التنصيص عليه فيما إذا التزم بالواجب المعلق في دفع الاشكال، لأنه يقال أيضا:
انه لا يصحح العقاب على ترك الواجب في ظرفه لأنه ممتنع بترك المقدمة،
191

فلا بد من بيان هذه القاعدة.
وبالجملة: الحكم باللزوم لا بد وان يفرض مفروغا عنه لوجه من الوجوه
المذكورة التامة في نفسها، ويكون ذكر القاعدة لدفع توهم يقال، لا ان تكون
القاعدة قواما لوجه الحكم باللزوم ومتمما له فتدبر ولاحظ.
ثم إنه بعد أن تبين أن أساس الحكم بلزوم المقدمة المفوتة، هو حرمة
تفويت الغرض الملزم فقد يتوهم: ان هذا انما يتم فيما لم تكن القدرة دخيلة في
تحقق الملاك، بل كان الفعل بنفسه واجدا للملاك ولو لم يكن مقدورا نظير ترتب
الغرض على الدواء عند تحقق المرض ولو لم يكن مقدورا، إذ لو كانت القدرة
دخيلة في تحقق الملاك لم يكن تحصيل القدرة لازما، إذ قبل القدرة ليس هناك
غرض ملزم يلزم المحافظة عليه ويحرم تفويته. ولا يلزم تحقيق هذا الامر، أعني
واجدية الفعل للملاك.
الا انه يندفع: بما مر من تصوير دخالة القدرة في الملاك بأنحاء ثلاثة الذي
ورد في كلام المحقق النائيني:
النحو الأول: ان تكون القدرة دخيلة في الملاك بوجودها المطلق، بمعنى
ان الملاك يتحقق بتحققها في أي ظرف كان. ومن الواضح ان المقدمة تجب في
أول أزمنة امكانها، لحصول القدرة على الواجب بواسطتها، فيكون الفعل واجدا
للملاك في ظرفه، فيحرم تفويته بترك المقدمة. فالقدرة وان كانت دخيلة في تحقق
الملاك، لكن دخالتها بنحو لا يمنع من وجوب المقدمة المفوتة.
النحو الثاني: ان تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة على
الواجب بعد حصول بعض مقدمات الوجوب التي يتوقف عليها الملاك،
كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.
والحكم في هذا الفرض هو لزوم المقدمة الوجودية المفوتة بعد حصول
شرط الوجوب، لكون الفعل في ذلك الحين واجدا للملاك فيحرم تفويته، وعدم
192

لزومها قبل حصول شرط الوجوب، لعدم تمامية ملاك الواجب فلا يحرم تفويته،
إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم.
النحو الثالث: ان تكون القدرة الدخيلة هي القدرة على الواجب بعد
دخول وقته، ولا اشكال في عدم لزوم المقدمة المفوتة، إذ الفعل وان كان مقدورا
عليه في زمانه قبل زمانه، لكنه غير واجد للملاك. فلا يحرم ترك المقدمة، إذ ليس
فيه تفويت للغرض الملزم. وقد عرفت عدم لزوم جعل الفعل واجدا للملاك في
ظرفه، وانما اللازم هو المحافظة على الملاك الفعلي الملزم.
فيتحصل: ان أخذ القدرة في الملاك لا يلازم عدم وجوب المقدمة االمفوتة
بقول مطلق، بل هو ملازم له في الجملة.
والتحقيق: ما عرفته، وقد افاده المحقق النائيني (قدس سره).
ثم إنه قد يشكل: بأنه إذا فرض وجوب الملزم للاتيان بالمقدمات المفوتة،
لم يختلف الحال في مطلق المقدمات، بل مقتضي ذلك وجوبها، إذ ملاك الالزام هو
المقدمية وحصول التفويت بتركها، وهو أمر مطرد في جميع المقدمات المفوتة، مع أنه
لا يلتزم بذلك في مطلق المقدمات، ولذا يفتى بجواز اجناب الشخص نفسه
قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.
والجواب عن الاشكال: ما أفاده صاحب الكفاية: من انه يمكن اختلاف
المقدمات في نحو دخالتها في الملاك فتارة: تكون القدرة على المقدمة دخيلة في
الملاك بقول مطلق، فيلزم تحصيل المقدمة قبل زمان ذيها. وأخرى: لا يكون الامر
كذلك، بل يكون الدخيل في الملاك هي القدرة على المقدمة في زمان ذيها، بحيث
لا يكون للقدرة عليها قبل زمان ذيها أي تأثير في الملاك. فلا يلزم تحصيلها قبل
زمان ذيها، لعدم الملزم حينئذ (1) حتى على فرض كون وجوب المقدمة وجوبا

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 105 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
193

شرعيا مترشحا من وجوب ذيها، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق أو نحوه كما عليه
صاحب الكفاية، وذلك لان القدرة على الواجب من قبل المقدمة في زمانه إذا
كانت دخيلة في الملاك كانت شرطا للوجوب، فلا يلزم تحصيلها قطعا، إذ المقدمة
الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي فالتفت.
هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة غير التعلم.
ولا بأس بالتعرض إلى أمرين أفادهما المحقق النائيني (قدس سره):
الامر الأول: ان اشتراط القدرة على الواجب في زمانه ودخالتها
بخصوصها في الملاك دون مطلق القدرة، انما يصح في التكليف العام إذا كان
العجز عن المقدمة في زمانه اتفاقيا وفي بعض الأحيان. كالوضوء بالنسبة إلى
الصلاة، فان الغالب هو تمكن المكلفين من الوضوء بعد الوقت، وتحقق العجز عنه
في أثناء الوقت اتفاقي لا غالبي. واما إذا كان العجز من المقدمة في زمانه وتوقفه
على تحققها قبل زمانه غالبيا أو دائميا. نظير المسير بالنسبة إلى الحج، فان القدرة
على الحج في زمانه تتوقف على المسير إليه قبل زمانه غالبا، وعدم توقفه على ذلك
وامكان المسير إليه بعد زمانه اتفاقي ونادر جدا، فلو كان الامر كذلك، ودل دليل
بظاهره على كون الدخيل في الملاك هو القدرة على الواجب في زمانه، فاللازم
حمل الدليل على خلاف ظاهره، اما بجعل الدخيل في الملاك هو القدرة المطلقة،
أو القدرة عليه بعد حصول شرط الوجوب، وذلك لان التزام بظاهره يستلزم
تخصيص التكليف العام بالفرد النادر، وهذا قبيح ومستهجن، إذ قد عرفت أن
المكلف القادر على الاتيان بالحج بعد زمانه بدون المسير إليه قبله نادر جدا.
نعم إذا جاء دليل يدل على اشتراط القدرة بعد زمان الواجب، وكان نصا
في مدلوله، كان المتعين الالتزام به ولو استلزم اختصاص التكليف بالفرد النادر (1)

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 153 - الطبعة الأولى.
194

وأورد على التفرقة بين النص والظاهر: بان تخصيص التكليف العام بالفرد
النادر، اما أن يكون مستهجنا وقبيحا أولا، فإن كان قبيحا لم يتجه الالتزام
بالدليل المستلزم لذلك ولو كان نصا بل المتعين طرحه. وإن لم يكن قبيحا لم يتجه
التصرف بظاهر الدليل المستلزم لذلك، إذ لا مانع من ابقائه على ظاهره. فالتفرقة
بين النص والظاهر لم يظهر لها وجه (1).
والتحقيق: ان للتفصيل وجها وجيها وهو: ان تقدم ظهور المخصص
على ظهور العام انما هو باعتبار أقوائية ظهوره من ظهور العام، ففي المورد الذي
يكون فيه استبعاد للتخصيص أو استهجان وقبح يضعف ظهور المخصص ولا
يكون مع ذلك مفيدا للظن النوعي الذي هو الملاك في حجية الظهور عند
العقلاء، فلا يصلح ظهوره للتصرف في العام حجيته. اما إذا كان المخصص
قطعيا لا يحتمل الخلاف، فيكون قرينة - بعد فرض عدم امكان الالتزام بالعموم
لانتهائه إلى التخصيص بالأكثر المستهجن - على وجود قرينة لفظية أو نحوها
على تعلق الحكم من أول الامر بالعنوان الخاص النادر وهو غير مستهجن.
وبالجملة: الفرق هو ان المخصص القطعي يكون دليلا على كون بيان
الحكم من أول الامر على العنوان الخاص، وليس كذلك الحال في المخصص
الظني، فإنه ترتفع حجيته لضعف ظهوره وعدم صلاحيته لمزاحمة ظهور العام
بواسطته للاستبعاد والاستهجان.
وهذا المعنى ثابت متقرر وينص عليه في مسالة تخصيص الأكثر، فإنه
يلتزم بعدم الالتزام بالمخصص الظني المستلزم لخروج أكثر الافراد. بخلاف ما
إذا كان المخصص قطعيا كالاجماع، فإنه يكون محكما ولو استلزم خروج أكثر
الافراد، لكن يلتزم رفعا للاستهجان بكون ذلك قرينة على كون بيان الحكم من

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 153 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
195

أول الامر على الموضوع الخاص النادر، وهو مما لا استهجان فيه.
الامر الثاني: ان القيود المأخوذة في واجب واحد قد تختلف، فيكون
الشرط في بعضها القدرة عليه في زمان الواجب فلا يجب فعله قبل الوقت، وان
ترتب على تركه فوات الواجب في ظرفه، ويكون في بعضها الآخر هو مطلق
القدرة عليه ولو قبل زمان الواجب، فيلزم الاتيان به وتحقيقه قبل الوقت إذا علم
بتفويت الواجب في ظرفه بتركه. وتعين أحد النحوين يتبع فيه دلالة الدليل
الخاص.
وقد مثل للأول: بالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، فان ظاهر الآية الشريفة:
" فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا.. " الآية (1). هو تعليق وجوب الوضوء على
القيام إلى الصلاة، ومن الواضح ان المراد بالقيام دخول الوقت بنحو الاستعمال
الكنائي، لا نفس القيام، إذ لا يقيد وجوب الوضوء بحال القيام إلى الصلاة.
وعليه، فتكون مصلحة الوضوء اللزومية مقيدة بدخول الوقت. وعليه
فيكون الشرط هو القدرة عليه بعد الوقت.
ومثل للثاني: بالماء الذي هو مقدمة إعدادية، فإنه يستكشف من الرواية
الصحيحة الدالة على لزوم ابقائه قبل الوقت، ان الشرط هو القدرة المطلقة ولو
قبل الوقت (2).
ولا يخفى انه قد أورد على المحقق النائيني (قدس سره) في المثال للثاني
بالماء واستشهاده بوجود النص الصحيح - أورد عليه -: بأنه لا رواية صحيحة
تتضمن هذا المعنى، وقد نقل عنه ان أقر أخيرا بذلك واعترف (3).
واما تمثيله للأول بالوضوء واستشهاده بالآية، ففيه ما لا يخفى: لأنه لو

(1) سورة المائدة، الآية: 5.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 153 - 154 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 154 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
196

سلم كون القيام كناية عن دخول الوقت، فغاية ما تدل عليه دخالة الوقت في
تحقق الملاك الملزم للوضوء، وان وجوبه مقيد بدخول الوقت كالواجب، واما
دخالة القدرة عليه بالنحو الخاص في تحقق الملاك فهو مما لا تتكفل الآية بيانه،
إذ لا تعرض لها إلى أصل دخالة القدرة وعدم دخالتها أو كيفية دخالتها في
الملاك، بل الآية ليست بأصرح من قوله (عليه السلام): " إذا زالت الشمس فقد
وجبت الصلاة والطهور " (1) في تقييد الوجوب بالزوال.
وبالجملة: الكلام في دخالة القدرة ونحوها، والآية إنما تتكلف دخالة
الوقت في المصلحة، وهو لا يدل على كون الدخيل هو القدرة بعد الوقت، بل
يمكن ان تكون القدرة المطلقة دخيلة في تحقق الملاك وان كان الوجوب بعد
الوقت، لان الوقت دخيل أيضا في الملاك. فالتفت.
واما التعلم ومعرفة الاحكام: فقد ادعى المحقق النائيني: عدم اندراجها
في المقدمات المفوتة، لعدم انسلاب القدرة على الاتيان بالواجب بترك التعلم، بل
الواجب يكون مقدورا، ولذا يصح تعلق التكليف به في حال الجهل كتعلقه به في
حال العلم. وعلى هذا فلا يكون الوجه في ايجاب التعلم هو قاعدة: " عدم منافاة
الامتناع بالاختيار للاختيار " لعدم تحقق موضوعها، إذ لا يمتنع الفعل بترك
التعلم.
وعليه، ففي فرض ترك التعلم..
تارة: يكون المكلف متمكنا من الاحتياط واحراز الاتيان بالواجب في
ظرفه، فلا اشكال في عدم وجوب التعلم حينئذ، لعدم الوجه فيه بعد امكان
الاتيان بالواجب واحراز الامتثال.

(1) عن أبي جعفر (عليه السلام): إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.
وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء: حديث: 1.
197

وأخرى: لا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط في ظرف الامتثال واحراز
الامتثال، بل غاية ما هنالك هو احتماله موافقة ما جاء به لما هو المأمور به واقعا
ومصادفته للواقع، كما في بعض موارد حصول السهو والشك، وعدم العلم بحكمه،
فإنه قد لا يتمكن من الاحتياط فيأتي بالعمل بنحو يحتمل موافقته للواقع كما
يحتمل مخالفته للواقع. ففي مثل هذه الحال يجب التعلم بحكم العقل بلزوم دفع
الضرر المحتمل، وذلك لان التكليف وان كان مجهولا إلا أنه لا يكون مجرى
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كي يطمئن العبد بعدم العقاب، وذلك لان العقل
انما يحكم بمعذورية الجاهل وقبح عقابه فيما لم يكن هناك بيان أصلا، أو كان
ولكن لم يتمكن المكلف من العثور عليه وتحصيله بعد التصدي لذلك، اما مع
وجود البيان وعدم الفحص عنه واهمال التصدي لمعرفة ما بينه المولى وانه هل
يتكفل حكما إلزاميا أولا؟ فلا يستقل العقل بقبح العقاب مع مخالفته الواقع جهلا.
وعليه، فإذا استحق العبد - فيما نحن فيه - العقاب على المخالفة، فمع
احتمالها يحتمل العقاب، فلا بد من دفعه لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، ودفعه
انما يكون بالتعلم. فلزوم التعلم ملاكه حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل،
لا قاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار " أو لزوم تحصيل غرض المولى.
وبهذا البيان يتضح انفراد التعلم عن المقدمات المفوتة انما يثبت في المورد الذي
يعلم بثبوت التكليف المتوقف على المقدمة في ظرفه علما وجدانيا أو تعبديا أو
عاديا، إذ بدون ذلك لا يعلم بوجود الملزم كي يجب تحصيله. وليس الامر كذلك
في وجوب التعلم، فإنه يثبت مع احتمال التكليف احتمالا عقلائيا، وإن لم يتحقق
العلم، إذ باحتمال التكليف يحتمل العقاب بمخالفته، فيحكم العقل بلزوم دفع
الضرر المحتمل.
الثانية: ان استحقاق العقاب على المقدمات المفوتة يثبت من حين تركها،
198

لان فوات الواجب يكون بتركها.
واما العقاب في صورة ترك التعلم فهو منوط بالاتيان بالواجب فان
خالف الواقع ثبت استحقاق العقاب في ذلك الحين، لان العقاب على ترك
الواجب وهو لا يفوت بمجرد ترك التعلم.
هذا محصل ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) في المقام (1).
وهو - مع غض النظر عما افاده أخيرا من ثبوت استحقاق العقاب بترك
المقدمات المفوتة من حين تركها، فإنه لا يخلو من بحث ليس المقام محله فقد
ناقشه المحقق الأصفهاني (2) - وجيه وتام. فان التعلم ليس من المقدمات المفوتة،
وملاك وجوبه يختلف عن ملاك وجوبها بالتقريب الذي بيناه.
إلا أن السيد الخوئي (حفظه الله) ناقش في هذا الكلام على اطلاقه،
وذكر: ان ترك التعلم في بعض موارده يلازم سلب القدرة على الواجب في ظرفه،
فيندرج بذلك في المقدمات المفوتة ويترتب عليه حكمها من لزومه بملاك لزوم
تحصيل غرض المولى وقاعدة: " الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار "، لو لم تؤخذ
القدرة في ظرف الواجب دخيلة في الملاك.
وذلك لان ترك التعلم قد يستلزم الغفلة وعدم الالتفات إلى وجوب بعض
الاجزاء أو الشرائط المعتبرة في الواجب، فالاتيان بها مع الغفلة عنها خارج عن
حيز القدرة، فيستلزم ترك التعلم عدم التمكن من الواجب وعدم توجه الخطاب
به إلى المكلف. كما أنه قد يستلزم عدم تمكنه منه، لتوقف القدرة عليه على تعلمه،
كترك تعلم القراءة أو الذكر لمن لا يعرف النطق بالعربية أصلا، فإنه بترك التعلم
تنسلب القدرة على الواجب.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 154 - 157 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 198 - الطبعة الأولى.
199

وبالجملة: دعوى خروج التعلم عن المقدمات المفوتة ممنوعة على
اطلاقها. نعم هي مسلمة في الجملة، كما في موارد امكان الاحتياط أو احتمال
ادراك الواقع (1).
ولكن يمكن الدفاع عن المحقق النائيني: بان كلا من الموردين - اللذين
ذكرهما السيد الخوئي - لا يصلح شاهدا على اندراج التعلم - في بعض موارده -
في المقدمة المفوتة.
اما مورد ترك تعلم مثل القراءة ونحوها من متعلقات الاحكام لا نفس
الاحكام، فتحقيق المناقشة فيه موكول إلى محله، وانما نشير إلى جهة المناقشة
فقط فنقول: ان تعلم القراءة ونحوها يكون دخيلا في ايجاد القدرة لا المحافظة
على القدرة الموجودة، وملاك وجوب المقدمات المفوتة موضوعه المحافظة على
القدرة، واما الحاق ايجاد القدرة بالمحافظة عليها فتحقيقه موكول إلى محله كما
عرفت.
واما مورد استلزام ترك التعلم لحصول الغفلة عن الحكم الملازم لامتناع
امتثاله، فمناقشته تظهر ببيان شئ: وهو انه قد استشكل في رفع المؤاخذة في
حال النسيان الوارد في حديث الرفع، بان الحكم مرتفع في حال النسيان جزما
لاستحالة تكليف الناسي عقلا لغفلته، فارتفاع الحكم ليس امرا مربوطا بيد
الشارع كي يكون رفعه امتنانا على العباد.
وقد أجيب عنه: بان الغرض رفع المؤاخذة على ترك المقدمات الموجبة
لعدم النسيان، وذلك لان الحكم وان ارتفع بالنسيان، إلا أن النسيان قد ينشأ
من أمر اختياري للعبد، وهو ترك التحفظ، فيمكن تصور ثبوت المؤاخذة على
ترك التحفظ المؤدي للنسيان لا على مخالفة الحكم المنسأ. فحديث الرفع

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 367 - الطبعة الأولى.
200

يتكفل رفع هذه المؤاخذة منة وتفضلا على العباد. فترك التحفظ المؤدي للغفلة لا
يوجب العقاب وان إنتهى إلى ترك الواجب الواقعي (1).
إذا عرفت هذا نقول: إن ترك التعلم المؤدي إلى الغفلة وان أوجب امتناع
الواجب بالاختيار، إلا أنه قام الدليل على عدم تحقق المؤاخذة عليه، وهو حديث
الرفع، فلا يكون التعلم واجبا في هذا الفرض لرفع المؤاخذة على تركه الكاشف
عن عدم لزوم تحصيله شرعا. وإن شئت قلت: إن حديث الرفع يكشف عن دخل
القدرة على الواجب من جهة التعلم في ظرف الواجب، فالقدرة عليه من جهة
التعلم قبل زمانه غير دخيلة في ملاك الواجب، فلا يجب تحصيلها أو المحافظة
عليها أصلا.
فالتعلم وان كان من المقدمات المفوتة في بعض موارده، لكنه لا يشترك
معها حكما لقيام الدليل الخاص على عدم لزوم تحصيله.
وبذلك يظهر: ان ما افاده المحقق النائيني من خروج التعلم - الذي
يكون واجبا - عن المقدمات المفوتة، لان تركه لا يستلزم امتناع الواجب، وانما
يستلزم امتناع إحراز الواجب، متين. فلاحظ وتدبر.
هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة.
يبقى الكلام في أمر تعرض له صاحب الكفاية بعنوان: " تتمة "، وهو انه
أو دار الامر في القيد الوارد في الخطاب بين رجوعه إلى الهيئة، فيكون قيدا
للوجوب. ورجوعه إلى المادة فيكون قيدا للواجب. فهل هناك قاعدة مطردة
تعين رجوعه إلى خصوص أحدهما المعين أولا توجد قاعدة مطردة، فلا بد من
ملاحظة كل مورد بخصوصه والحكم بما تقتضيه القرائن والمناسبات لو كانت؟.

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 197 - الطبعة الأولى.
201

ذهب الشيخ إلى تعيين رجوعه إلى المادة (1). وخالفه صاحب الكفاية بذهابه
إلى عدم الوجه في رجوعه إلى أحدهما، بل المرجع القرائن الخاصة لو كانت والا
فالأصول العملية (2).
وقبل الشروع في تحقيق المطلب لا بد من ذكر امرين:
الامر الأول: في ثمرة البحث، وهي واضحة، وذلك لان القيد إذا كان
راجعا إلى الهيئة لم يجب تحصيله لأنه شرط للوجوب، بخلاف ما إذا كان راجعا
إلى المادة فإنه يكون من القيود الوجودية للواجب فيجب تحصيله، بل للبحث
ثمرة ولو كان القيد مما لا يجب تحصيله لو رجع إلى الواجب، كما لو اخذ قيدا
إذا حصل من باب الصدفة والاتفاق، وهي: وجوب المقدمات الوجودية للواجب
التي يجب تحصيلها قبل حصول القيد لفعلية الوجوب قبله، بخلاف ما لو كان
راجعا إلى الهيئة، فان الوجوب لا يكون فعليا قبل حصوله فلا يجب الاتيان
بسائر المقدمات الوجودية، ومن هنا صح ما جاء في الكفاية من قوله: " وأن يكون
راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب " فلا حظ.
الامر الثاني: انه قد تقدم من الشيخ انكار امكان رجوع القيد إلى الهيئة،
وبيان امتناع الواجب المشروط، ومع ذلك لا يتجه له تحرير النزاع والحكم
برجوع القيد إلى المادة من جهة الترجيح اللفظي. مع أنه على مذهبه متعين
عقلا.
ويندفع هذا الايراد بوجهين:
الأول: انه يمكن أن يكون تحرير الشيخ للكلام في هذا الموضوع مبني
على التنزل عن مذهبه مجاراة للخصم، وهذا امر مألوف في طريقة المحققين مثل

(1) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 49 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 105 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
202

الشيخ (رحمه الله).
الثاني: ما أدعي من أن الشيخ لم ينكر الواجب المشروط ببعض المعاني في
قبال رجوع القيد إلى صرف المادة، كرجوعه إلى المادة المنتسبة كما نسبه إليه
المحقق النائيني (1). أو كون الوجوب المشروط عبارة عن سنخ إرادة غير الإرادة
المطلقة وهي الإرادة على تقدير، كما ادعاه المحقق العراقي، فإنها كما ذكر سنخ
إرادة تختلف بها عن الإرادة المطلقة حتى بعد حصول التقدير والقيد (2). فللكلام
على هذه المباني مجال، إذ يتكلم في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة أو الإرادة
فتكون الإرادة الثابتة سنخ إرادة خاصة، أو إلى ذات المادة.
وعلى كل حال فقد ادعى الشيخ رجحان تقييد المادة على تقييد الهيئة،
وان اللازم في مثل الفرض الالتزام برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة، وقد ذكر
لذلك وجهين:
الوجه الأول: ان اطلاق الهيئة يكون شموليا، كما في شمول العام
لافراده، فان وجوب الاكرام على تقدير الاطلاق يشمل جميع التقادير التي
يمكن أن يكون تقديرا له، واطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في
حالة واحدة (3).
وقد أوقع الكلام في هذا الوجه في مقامين:
المقام الأول: في تحقيق الكبرى الكلية التي فرضها الشيخ، وهي ترجيح
الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي، عند دوران الامر بين رفع اليد عن
إحداهما.
فقد أنكرها صاحب الكفاية بدعوى: انه لا وجه لترجيح أحدهما على

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 130 - الطبعة الأولى.
(2) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 296 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(3) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 49 - الطبعة الأولى.
203

الآخر بعد أن كان كل منهما ثابتا بمقدمات الحكمة والاطلاق، فان مفاد مقدمات
الحكمة يختلف باختلاف الموارد، فكما تقتضي الشمولية في مورد قد تقتضي
البدلية في غيره، كما انها قد تقتضي التعيين في بعض الموارد، وإذا كان منشأ ثبوت
كل منهما متحدا لم يكن وجه لتقدم أحدهما على الآخر لتساويهما ظهورا، ولعل
منشأ الترجيح ما رأي من تقدم عموم العام على إطلاق المطلق وترجيحه عليه،
والغفلة عن أن مرد ذلك لا يرجع إلى شمولية العام، بل إلى كون شموله بالوضع
وشمول المطلق بالاطلاق، فيكون العام أظهر منه، لان ظهوره وضعي وظهور
المطلق اطلاقي (1).
ولكن خالفه المحقق النائيني ووافق الشيخ في لزوم ترجيح المطلق
الشمولي على الاطلاق البدلي عند دوران الامر بينهما، فإذا ورد مثلا: " أكرم
العالم " ثم ورد: " لا تكرم فاسقا "، فإنه يقيد المطلق البدلي بغير العالم ويبقى
الاطلاق الشمولي على اطلاقه (2).
وقد تعرضنا لبيان وجه ما افاده في الاستدلال على هذه الدعوى، وبيان
ما ذكر من المناقشة فيه، كما ذكرنا وجها للدعوى بعنوان توجيه ما أفاده (قدس
سره) أثبتنا به صحة الدعوى، وان المتعين موافقته فيما ذهب إليه من أن الاطلاق
الشمولي يرجح على الاطلاق البدلي، كل ذلك ذكرناه في مبحث التعادل
والترجيح (3).
فقد كانت النتيجة: هو أن المعارضة في باب الاطلاق الشمولي والاطلاق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 106 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 160 - الطبعة الأولى.
(3) وقد أعاده سيدنا الأستاذ (دام ظله) بتفصيله اتماما للفائدة، وحيث إنه وافق التقرير المحرر سابقا كان
إعادة تحريره تطويلا بلا طائل، وانما المهم الإشارة إلى نتيجة الدعوى بعد توجيهها. فراجع ما
أوضحناه تعرف. (منه عفي عنه).
204

البدلي، بين الشمول في طرف المطلق الشمولي ونفس الاطلاق في طرف المطلق
البدلي.
وبما أن الشمولية ليست من مفاد الاطلاق ومقدمات الحكمة، بل مفاد
دليل خارجي يختلف باختلاف الموارد، كان الشمول مقدما على الاطلاق، اما
لاجل انهدام مقدمات الحكمة فيه، بناء على كون مجراها هو المراد الجدي الملازم
لان تكون إحدى مقدماته عدم البيان إلى الأبد المنتفية بورود البيان بالشمول.
أو لاجل أقوائية ظهور المطلق في الاطلاق، بناء على كون
مجراها هو المراد الاستعمالي، فقد تقرر ان كل دليل يصادم الاطلاق ولم يكن من
سنخه يكون مقدما عليه بلا كلام لاحد الوجهين المشار إليهما فعلا، وبهذا الوجه
الذي أوضحناه بمقدمات ثلاث تعين علينا موافقة المحقق النائيني في أصل
الكبرى الكلية، وهي ترجيح الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي فان نسبة
دليل الشمول إلى مقدمات الحكمة نسبة الوارد إلى المورود.
المقام الثاني: في انطباق هذه الكبرى على موردنا الذي نحن فيه،
وكون المقام من صغرياتها، والذي يظهر من الشيخ وصاحب الكفاية المفروغية
عن هذه الجهة وانما الكلام في الكبرى فقط.
الا انه استشكل في ذلك: بأنه لو سلمت الكبرى الكلية - أعني ترجيح
الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي - فلا تنطبق على ما نحن فيه، وعليه فلا
تصلح دليلا على تعيين رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.
وبيان ذلك: ان القيد الذي يدور أمره بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة اما
أن يكون متصلا أو منفصلا.
فإن كان متصلا: لم ينعقد للهيئة ظهور في الاطلاق وكذا المادة، لاحتقاف
الكلام بما يصلح للقرينية الموجب لا جماله فلا يبقى موضوع للترجيح، إذ ليس
هناك اطلاق شمولي واطلاق بدلي كي يرجح أحدهما على الاخر.
205

وان كان منفصلا: فلانه وان انعقد لكل من الدليلين ظهور في الاطلاق،
الا ان تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي من جهة أقوائية ظهوره
انما يكون فيما إذا كان التنافي بين الاطلاقين بحسب ذاتيهما، بان كان مدلول
كل منهما ينافي الآخر في نفسه. واما إذا لم يكن بينهما تناف، بل علم بخطأ أحدهما
من الخارج، لم يكن وجه لتقديم الأقوى ظهورا على غيره. وما نحن فيه كذلك،
إذ ليس بين كل من الاطلاقين منافاة ذاتية، الا انه بعد ورود التقييد وتردد أمره
بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة يعلم اجمالا بعدم موافقة أحدهما للواقع (1).
وفيه ما لا يخفى: اما حكمه باجمال الدليلين فيما لو كان القيد متصلا،
فوجه الخدشة فيه: انه قد عرفت أن التصادم انما هو بين شمول أحد الاطلاقين
والاطلاق الاخر، ومن الواضح ان القيد المتصل إنما يوجب اجمال الاطلاق
البدلي، لأنه يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، وبوجودها يصلح للقرينية فلا تتم
المقدمات ولكنه لا يوجب اجمال الشمول، لأنه ليس بمدلول للدليل اللفظي كي
يوجب اجماله وجود القيد المتصل المجمل، بل هو مفاد قرينة عقلية لا ترتبط
بعالم اللفظ، فلا يوجب القيد المجمل اجمالها.
واما حكمه بعدم الترجيح في صورة انفصال القيد، فلا يظهر وجهه: لان
التعارض البدوي بين الدليلين الذي يرتفع بالجمع العرفي بينهما بما عرفت، إنما
هو عبارة عن تنافيهما وعدم امكان اجتماعهما معا تحت دليل الحجية، وهذا كما
يتحقق بالتنافي الذاتي بين الدليلين كذلك يتحقق بالتنافي العرضي المتحقق بالعلم
الخارجي بكذب أحدهما. وكما يجري وجه الجمع الذي عرفته في صورة التنافي
وبحسب ذاتهما كذلك يجري في صورة التنافي بالعرض، ولا وجه للتفكيك بين
الصورتين.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 338 - الطبعة الأولى.
206

فالتحقيق ان يقال في وجه عدم انطباق الكبرى الكلية على المورد: ان
أساس تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي على ما عرفت، هو بيان
ان لكل من الاطلاقين دالين ومدلولين، اطلاق وشمول واطلاق وبدلية، والدال
على الاطلاق غير الدال على الشمول أو البدلية بضميمة ان المعارضة بين شمول
أحدهما واطلاق الآخر، وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه، فان الشمول
بالمعنى المصطلح ليس هو مفاد الهيئة، والا لما ثبت ذلك بالاطلاق ومقدمات
الحكمة، بل كان في ثبوته محتاجا إلى جريان مقدمات عقلية أخرى غير مقدمات
الحكمة. ولذلك عبر عنه صاحب الكفاية بقوله: " فان وجوب الاكرام على تقدير
الاطلاق يشمل جميع التقادير... " (1)، فإنه إشارة إلى أن الشمول ليس بمعناه
المصطلح، المراد به شمول افراد الطبيعة.
الوجه الثاني: ان تقييد اطلاق الهيئة يستلزم تقييد اطلاق المادة والتصرف
فيه، إذ يمتنع أخذ المادة بدون قيد الوجوب، وتقييد المادة لا يستلزم تقييد اطلاق
الهيئة وهو واضح. ومن الواضح انه إذا دار الامر بين تقييد وتقييدين كان
الترجيح للتقييد الواحد، إذ الالتزام بالتقييدين ارتكاب لمخالفة الظاهر بأكثر
من الالتزام بالتقييد الواحد، لان التقييد على خلاف الأصل. وعليه فيتعين
ارجاع القيد إلى المادة لأنه يستلزم تقييدا واحدا (2).
وقد ناقش فيه صاحب الكفاية، والتزم بلزوم الالتزام بالتفصيل بين القيد
المتصل والقيد المنفصل. ببيان: انه إذا كان القيد متصلا ورجع إلى الهيئة كان
ذلك مانعا عن انعقاد الظهور الاطلاقي في المادة، لانتفاء محل الاطلاق فيها بعد
امتناع ثبوتها بدون قيد الوجوب، فلا ظهور للمادة في الاطلاق كي يكون

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 106 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 49 - الطبعة الأولى.
207

التصرف فيه مخالفة للظاهر، بل تقييد الهيئة يرفع موضوع الظهور الاطلاقي، لا
انه يتصرف في الظهور الثابت، والأول ليس فيه مخالفة للأصل، إذ مخالفة التقييد
للأصل باعتبار انه مناف لظهور الاطلاق وموجب لرفع اليد عنه والتقييد ههنا
ليس كذلك. واما إذا كان منفصلا، فحيث أنه قد أنعقد ظهور للمادة في الاطلاق،
فرجوع القيد إلى الهيئة يوجب رفع اليد عن هذا الظهور وهو خلاف الأصل.
وبالجملة: الوجه انما يتجه في ما كان القيد منفصلا، اما إذا كان متصلا
فلا يدور الامر بين تقييد وتقييدين، بل بين تقييد وتقييد، لان تقييد الهيئة يمنع
من انعقاد ظهور المادة في الاطلاق، لا انه يرفع ظهورها المنعقد، كما هو الحال في
القيد المنفصل، والمخالف للأصل هو الثاني دون الأول (1).
ولكن المحقق النائيني (قدس سره) وافق الشيخ (رحمه الله) وخالف
صاحب الكفاية في تفصيله، بدعوى: انه مع دوران الامر في رجوع القيد المتصل
إلى الهيئة أو المادة، يكون تقييد المادة وعدم تمامية الاطلاق فيها متيقنا، اما
لرجوعه إليها واقعا أو لرجوعه إلى الهيئة.
وعليه، فيكون تقييد الهيئة مشكوكا بدوا فينفي بأصالة الاطلاق فيها.
وبالجملة: انه مع وجود القدر المتيقن في التقييد يكون الباقي مشكوكا
ينفى بأصالة الظهور في المطلق. فأصالة الظهور في طرف الهيئة بلا معارض
لكون المتيقن تقييد المادة، واما تقييدها فهو مشكوك ينفي بالأصل (2).
هذا، ولكن حيث إن أساس هذه المناقشات والدعاوي هو استلزام تقييد
الهيئة لتقييد المادة دون العكس التي أخذ في الكلمات مفروغا عنه، لا بد لنا من
معرفة مقدار صحة ذلك.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 107 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 165 - الطبعة الأولى.
208

فقد أدعي: عدم الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادة.
وقرب المحقق الأصفهاني ذلك بوجهين (1). ذكر ثانيهما السيد الخوئي كما
في تقريرات بحثه..
وهو: أن تقيد الهيئة معناه أخذ القيد مفروض الوجود غير داخل تحت
الطلب، سواء كان اختياريا أولا، فيكون تحقق الحكم معلقا على تحققه. واما
تقييد المادة فمعناه اخذ المتقيد تحت الطلب الملازم لوجوب تحصيل القيد إذا كان
اختياريا. ولا يخفى ان النسبة بين هذين التقييدين عموم من وجه، فهما يجتمعان
في مورد، فيكون القيد قيدا للمادة والهيئة، ويفترقان في مورد. اما اجتماعهما ففي
مثل الوقت الخاص بالنسبة إلى الصلاة، فإنه قيد لوجوب الصلاة كما أنه قيد
لصحة الصلاة. واما مورد افتراق تقييد المادة عن تقييد الهيئة فكتقيد الصلاة
بالطهارة، فان وجوبها غير مقيد بها. واما مورد افتراق تقيد الهيئة عن تقيد المادة
فكاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة، فإنه وجوبه لا يتحقق بدون الاستطاعة،
مع أنه لا يعتبر في صحة الحج تحقق الاستطاعة، فإنه لو استطاع شخص ثم أزال
الاستطاعة وحج متسكعا كان حجه صحيحا. وإذا تبين ان بين التقييدين عموما
من وجه لم يكن وجه لدعوى استلزم تقييد الهيئة لتقيد المادة، لوجود بعض
الموارد التي تتقيد فيها الهيئة دون المادة (2).
ولا يخفى ما فيه: فان القيد إذا أخذ قيدا للوجوب كان تقيد الواجب به
بما أنه واجب قهريا، إذ يستحيل تحقق الواجب بدون الوجوب، والمفروض
توقف الوجوب على تحقق القيد. وعليه فيمتنع ان يؤخذ مع كونه قيدا للوجوب
قيدا للواجب، بحيث يكون التقيد به مطلوبا الملازم لطلب تحصيله - اي نفس

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 193 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 343 - الطبعة الأولى.
209

التقيد - لو كان اختياريا، وذلك لأنه بعد أن أخذ قيدا للوجوب كان التقيد به
قهريا لا ينفك عن الواجب فلا يتجه تعلق الطلب به وأخذه في حيز الطلب.
وبالجملة: ما يؤخذ قيدا للوجوب يستحيل ترشح الطلب عليه وعلى
التقيد به، وهذا امر واضح لا سترة عليه، وعلى هذا فيمتنع ما ذكره من امكان أن يكون
القيد قيدا للوجوب والواجب، وما ذكره من امكان أن يكون القيد قيدا
للوجوب بلا ان يتقيد به الواجب، لما عرفت من قهرية التقييد واستحالة
انفكاكه عن أخذ القيد قيدا للوجوب، ومعه يمتنع تعلق الطلب به لأنه طلب
الحاصل.
واما ما ذكره من المثال على الأول، من قيدية الوقت الخاص للصلاة
ولوجوبها، إذ لا كلام في كون الوقت الخاص شرطا في الصحة، كما أنه قيد
للوجوب، فيمكن التفصي عنه بعد أن عرفت امتناع مثل هذا عقلا، بان يقال:
ان الوقت الخاص قيد للواجب فقط دون الوجوب، وما يكون قيد الوجوب هو
ما به ابتداء ذلك الوقت كالزوال والغروب ونحوهما. فحدوث الوجوب المتعلق
بصلاة الظهر واستمراره قد أخذ الزوال شرطا له ولم يؤخذ الزوال قيدا للواجب،
واما الوقت من بعد الزوال إلى الغروب فهو قيد للواجب، بمعنى ان تقيد الصلاة
به قد أخذ في حيز الطلب، فالصلاة الواجبة هي الصلاة المأتي بها في الوقت
الخاص المعين. وليس في هذا المعنى كبير مخالفة لظواهر الأدلة، بل تمكن دعوى أنه
ظاهر الأدلة، لان الظاهر قيدية الزوال ونحوه للوجوب كما هو ظاهر الآية
والرواية، اما الآية فقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) (1)، واما الرواية
فقوله عليه السلام: " إذا زالت الشمس فقد وجب الصلاة والطهور " (2).

(1) سورة الإسراء، الآية: 78.
(2) عن أبي جعفر (عليه السلام): إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.
وسائل الشيعة 1 / 291 باب: 4 من أبواب الوضوء، حديث: 1.
210

واما ما ذكره شاهدا على الثاني، من عدم قيدية الاستطاعة للحج مع
كونها قيدا للوجوب، ففيه مالا يخفى: فان الاستطاعة التي تكون شرطا للوجوب
هو مطلق الاستطاعة ولو حصلت في آن واحد لا الاستطاعة المستمرة. وبعبارة
أخرى: الاستطاعة حدوثا شرط للوجوب لا الاستطاعة بقاء، ومن الواضح ان
تقيد الحج بالاستطاعة الحادثة المرتفعة أمر لا كلام فيه، فالواجب قد تقيد قهرا
بما هو شرط للوجوب وهو الاستطاعة الحدوثية، والاستطاعة في حال العمل ليس
شرطا للوجوب كي يكون عدم اعتبارها في صحة العمل كاشفا عن امكان
انفكاك الواجب عن قيد الوجوب، والا امتنع صحة العمل بدونها لعدم تحقق
الوجوب في حال العمل لعدم شرطه.
وبالجملة: ما أخذ من الاستطاعة شرطا للوجوب قد تقيد به الواجب
قهرا، وغيره لم يؤخذ شرطا للوجوب، فتقيد الواجب به وعدمه يحتاج إلى دليل
خاص، وعدم تقيده لا يكون دليلا وشاهدا على ما أدعاه. فلا حظ.
واما الوجه الأول فهو: ان للمادة جهتين: إحداهما: جهة المطلوبية،
والأخرى: جهة الوفاء بالملاك والمصلحة مع غض النظر عن تعلق الطلب بها،
ورجوع القيد إلى الهيئة وان أوجب تقيد المادة من الجهة الأولى، إذ يمتنع تحقق
مطلوبية المادة بدون تحقق قيد الطلب لعدم الطلب بدونه. ولكنه لا نظر له إلى
الجهة الثانية، فان الوفاء بالملاك لا يلازم الطلب.
وعليه، فاطلاق المادة من جهة الوفاء بالمصلحة وتحقق الملاك بها بدون
القيد لا ينثلم بتقييد الهيئة، إذ النظر في التقييد إلى جهة الطلب لا غير. ونظير
هذا ثابت في موارد التزاحم، فإنه يتمسك باطلاق المادة لاثبات تحقق الملاك بها في
صورة المزاحمة مع عدم تعلق الطلب بها للمزاحمة بما هو أهم (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 193 - الطبعة الأولى.
211

وهذا الوجه متين، لكنه يبتني على صحة التمسك باطلاق المادة في اثبات
تحقق الملاك في غير صورة الطلب. ولكن سيأتي ان شاء الله تعالى بيان عدم
تمامية هذا الوجه في اثبات الملاك في غير صورة الطلب. وان هناك وجها آخر
لاثباته وهو التمسك بالدلالة الالتزامية للظهور الاطلاقي. فانتظر.
والذي يتحصل: ان الكبرى المذكورة في كلام الشيخ، وهي ملازمة تقييد
الهيئة لتقييد المادة مسلمة.
واما تحقيق المقام بعد تسليمها فقد عرفته مما تقدم، وان ما ذكره المحقق
النائيني هو المتجه. فلا حظ.
التقسيم الثالث: انقسامه إلى الواجب النفسي والغيري.
وقد اختلف في تعريفهما وبيان حقيقتهما.
فعرفهما المشهور: بان النفسي ما كان ايجابه لا لداعي التوصل به إلى
واجب آخر. والغيري ما كان الداعي فيه هو التوصل إلى واجب آخر. وهو المراد
من أن النفسي ما وجب لنفسه والغيري ما وجب لغيره.
ولكن أورد على هذا التعريف: بأنه يستلزم ان تكون أكثر الواجبات، بل
كلها سوى المعرفة بالله، واجبات غيرية، لان الامر بها انما يكون لاجل ما
يترتب عليها من الأثر والفائدة، فان تحصيل هذا الأثر اما أن يكون لازما أو
غير لازم، فعلى الثاني لا وجه لايجاب العمل الذي يترتب عليه الأثر لاجله، لعدم
كون المصلحة لزومية، وعلى الأول كان الواجب واجبا غيريا لأنه وجب للتوصل
به إلى واجب آخر. نعم المعرفة بالله واجبة لنفسها، لأنها محبوبة بذاتها.
والايراد عليه: بان الأثر المترتب لما كان خارجا عن قدرة المكلف، لأنه
من خواص العمل امتنع تعلق الوجوب به، وان كانت محبوبيته بحد اللزوم.
مندفع - كما جاء في الكفاية -: بأنها داخلة تحت قدرة المكلف بالقدرة على
أسبابها، فتكون كسائر المسببات التوليدية التي يتعلق بها التكليف بلحاظ القدرة
212

عليها بالقدرة على أسبابها. كالتمليك والتطهير ونحوهما من المسببات التوليدية
المتعلقة للتكاليف.
وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الايراد: بان الفعل وان كان يترتب
عليه الأثر، إلا أنه معنون حسن في نفسه، والايجاب متعلق به بما أنه
كذلك، وان كان في الواقع مقدمة لامر مطلوب واقعا. وهذا بخلاف الوجوب
الغيري، فان جهة الوجوب متمحضة في كونها التوصل إلى واجب نفسي.
فالواجب النفسي بنظر صاحب الكفاية ما امر به لتعنونه بعنوان حسن وان كان
مقدمة لغيره. والواجب الغيري ما امر به لاجل المقدمية والتوصل إلى الغير وان
كان معنونا بعنوان حسن في نفسه. وقد ذكر أنه يمكن أن يكون هذا المعنى مراد
المشهور من أن الواجب النفسي ما أمر به لنفسه والغيري ما أمر به لاجل
غيره (1).
وقد تصدى المحقق النائيني لدفع الايراد المذكور: بان نسبة الفعل
الواجب إلى الأثر ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه كي يكون مقدورا
بالواسطة، بل نسبته إليه نسبة المعد له، لان الأثر لا يترتب على الفعل
مباشرة أو بتوسط أمور اختيارية، بل يتوسط بينه وبين الفعل أمر غير اختياري،
فيمتنع تعلق التكليف به، لكونه غير مقدور حتى بالواسطة، كما لو امره بشرب
الدواء لاجل رفع المرض، فان رفع المرض لا يترتب على شرب الدواء مباشرة،
بل تتوسط بينه وبين الشرط أمور غير اختبارية، كمصادفة الدواء محل المرض
ونحوها. وكما لو أمره بالاتيان بالماء ليشرب، فان شرب المولى يتوقف على ارادته،
ولا يترتب على الاتيان بالماء فقط.
وبالجملة: الغايات المترتبة على الواجبات النفسية غير مقدورة، ونسبة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 107 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
213

الواجب إليها نسبة المعد إلى المعد له.
ثم استشكل فيما افاده صاحب الكفاية في دفع الايراد: بأنه يستلزم أن يكون
في الواجب النفسي ملاكان ملاك الوجوب النفسي وملاك الوجوب
الغيري وهو ممتنع (1).
وبما أن تحقيق هذا الامر ليس بذي اثر عملي في المسالة أصلا لا يتجه
لنا إطالة الكلام في سبر كلمات الاعلام وتحقيقها، فالاكتفاء بهذا المقدار لمجرد
الإشارة متعين، والقدر المتيقن هو ان الواجب النفسي ما وجب من دون تقيد
بوجوب شئ آخر أصلا، وليس كذلك الغيري فإنه مقيد بوجوب شئ آخر.
واما حقيقة كل منهما فلا يهمنا معرفتها.
وانما المهم تحقيق الأصل عند الشك في كون واجب معلوم نفسيا أو
غيريا.
والكلام يقع في مقامين:
المقام الأول: في تحقيق مقتضى الأصل اللفظي.
وقد ادعى صاحب الكفاية: امكان التمسك باطلاق الهيئة لاثبات كون
الواجب نفسيا لا غيريا. (2) خلافا للشيخ حيث أنكر صحة التمسك بالاطلاق.
ببيان: ان مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه، وهو لا يقبل الاطلاق والتقييد،
لان الاطلاق والتقييد من شان المفاهيم القابلة للسعة والضيق، اما الواقع فهو
غير قابل للسعة والضيق كما لا يخفى، فيمتنع فيه الاطلاق والتقييد.
اما سر كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه، فيتبين في أن الفعل
يتصف بالمطلوبية بمجرد الانشاء والامر، فيقال عنه انه مطلوب. ومن الواضح

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 167 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 108 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
214

ان اتصاف الشئ بالعرض انما يكون بطرو واقع العرض عليه لا مفهومه،
فالجسم لا يتصف بالبياض الا بعروض حقيقة البياض عليه. وعليه فاتصاف
الفعل بالمطلوبية بمجرد الامر يكشف عن كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا
مفهومه، إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية (1).
وقد ناقش فيه صاحب الكفاية: بان واقع الطلب يمتنع أن يكون مدلولا
للصيغة، فان وجود واقع الطلب تابع لا سبابه التكوينية الخارجية، لأنه من
الصفات النفسانية الخارجية، ولا يتحقق بالانشاء، فلا وجه لانشائه لعدم وجوده
بالانشاء. فالمتعين أن يكون مدلول الصيغة مفهوم الطلب القابل لتعلق الانشاء
به، فإنه أحد أسباب وجوده، فيوجد بوجود انشائي وهو غير الوجود الخارجي
والذهني كما تقدم تحقيقه.
واما وجه اتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الامر والانشاء: فهو لاجل
تعلق الطلب الانشائي به، والمقصود بوصف المطلوبية هو المطلوبية الانشائية،
التي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها.
وبالجملة: الطلب العارض على الفعل والذي يوصف به العمل المطلوب
هو الطلب الانشائي المتحقق بالانشاء.
وإذا تبين ان مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب، فهو قابل للاطلاق
والتقييد. وتقريب التمسك بالاطلاق في اثبات النفسية: هو ان مدلول الصيغة
وان كان يعم الطلب النفسي والغيري، لكنه قد تقدم ان الوجوب النفسي
الوجوب الثابت سواء وجب شئ آخر أو لا، والغيري هو الثابت عند وجوب
شئ آخر فالذي يحتاج إلى التنبيه عرفا والمؤنة الزائدة على أصل مدلول الكلام
هو الوجوب الغيري لأنه مقيد، فمع عدم التقييد يتمسك باطلاق الهيئة في ثبوت

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 68 - الطبعة الأولى.
215

الوجوب مطلقا، سواء وجب شئ آخر أو لم يجب في قبال تقييده بثبوته عند وجوب
غيره. وعليه فيثبت بالاطلاق كون الواجب نفسيا (1).
وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما افاده صاحب الكفاية إيرادات ثلاثة:
الأول: ان التفاوت بين النفسي والغيري لما كان من جهة ان النفسي ما
كان الداعي إلى وجوبه حسن ذاته والغيري ما كان الداعي إلى وجوبه التوصل
به إلى واجب نفسي، وكان المحتاج إلى التنبيه عرفا هو المعنى الثاني - أعني ما
كان الداعي فيه التوصل إلى واجب آخر - كان اللازم جعل الاطلاق بمعنى عدم
تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الواجب، لا بمعنى عدم تقييده بوجوب
شئ آخر كما هو ظاهر صاحب الكفاية، فان الاطلاق بالمعنى الذي ذكرناه هو
المتناسب مع واقع النفسية دون ما افاده صاحب الكفاية، فإنه ليس بمعنى
النفسية، بل هو لازم لها.
الثاني: ان التقييد بالمعنى الذي عرفته، أعني كونه منبعثا عن داع غير
الواجب لا يتنافى مع كون البعث المنشأ جزئيا حقيقيا. وعليه فلا مانع من
التمسك باطلاق الصيغة في نفيه وان التزم بان الموضوع له هو واقع الطلب، إذ
مرجع التمسك بالاطلاق إلى التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذلك،
لاحتياج أحدهما إلى مؤونة دون الآخر.
الثالث: ان القيود تارة تكون من الشؤون والأطوار. وأخرى تكون من
قبيل الدواعي والأسباب، فإذا كان من الأول أوجب تضييق المعنى المقيد،
بخلاف ما إذا كان من قبيل الثاني، فان تقييد الشئ بداع خاص لا يوجب
تضييق معناه، وعليه فالتقييد بالداعي لا يوجب التضييق.
وعلى هذا فلا مانع من تقييد مدلول الصيغة بداع خاص، وان التزم بأنه

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 109 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
216

فرد الطلب وواقعه، لعدم منافاة هذا التقييد للفردية، لأنه لا يوجب التضييق، كي
يقال: ان التضييق من شان المفاهيم لا الافراد، ومع ذلك فلا مانع من التمسك
باطلاق الهيئة لاثبات الفرد الخاص، لأنه لا يحتاج إلى مزيد بيان (1).
وقد ذكر هذا المطلب في مبحث الواجب المشروط، في مقام بيان امكان
رجوع القيد إلى الهيئة، ولو التزم بان مدلولها الفرد لا المفهوم، بتقرير: ان التقييد
بمعنى التعليق لا يستلزم التضييق الممتنع في الافراد (2). وقد وافقه السيد الخوئي
في ذلك، وأورد هذا الامر في مقام ايراده على المحقق النائيني كما تقدم ذكره
فراجع.
والانصاف ان هذه الوجوه مخدوشة كلها:
اما الأول: فلان ارجاع الاطلاق إلى نفي التقييد بكون الداعي في
البعث هو واجب آخر، واثبات التقييد بانبعاث الوجوب عن حسن ذات
الواجب يتنافى مع التمسك بالاطلاق، لان كلا من خصوصيتي النفسية والغيرية
بالمعنى الذي ذكره قيد زائد على أصل الوجوب، سواء قلنا بان النفسية عبارة
عن انبعاث الوجوب عن حسن نفسه فتكون قيدا وجوديا. أو انبعاثه لا عن
داعي غيره فتكون قيدا عدميا. فالنفسية من هذه الجهة قيد زائد على أصل
الوجوب يحتاج إلى بيان كالغيرية، ولا وجه لدعوى أنه لا يحتاج إلى بيان زائد
بعد أن كان قيدا كسائر القيود العدمية أو الوجودية. فالتمسك بالاطلاق من هذه
الجهة غير صحيح. نعم في الواجب النفسي جهة أخرى تتلائم مع الاطلاق، وهي
ثبوت وجوبه مطلقا وفي سائر الأحوال وجب هناك شئ آخر أولا، بخلاف الغيري
فان وجوبه يكون في ظرف وجوب غيره، والتمسك بالاطلاق من هذه الجهة لا

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 196 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 181 - الطبعة الأولى.
217

محذور فيه ويثبت به الوجوب النفسي، فما أفاده صاحب الكفاية في جهة التمسك
بالاطلاق مما لا محيص عنه.
وبالجملة: في الواجب النفسي جهتان:
إحداهما: كونه منبعثا عن حسن نفسه، أولا عن غيره.
ثانيتهما: كونه ثابتا على جميع التقادير وفي جميع الأحوال، ولا يمكن
التمسك بالاطلاق من الجهة الأولى، لأنها قيد زائد تحتاج إلى بيان وان كان
عدميا، لان ما لا يحتاج إلى البيان الزائد هو عدم القيد لا التقيد بالعدم، فان
التقيد بالعدم كالتقيد بالوجود قسيم الاطلاق وينفى به. نعم يمكن التمسك
بالاطلاق من الجهة الثانية، وبها يثبت الوجوب النفسي، واليها نظر صاحب
الكفاية في كلامه، فما أفاده متجه.
واما الثاني: فقد اتضحت الخدشة فيه، لأنه متفرع على تمامية الأول، فبعد
ان عرفت أن موضوع الاطلاق لا يرتبط بداعي الوجوب، بل بثبوت الوجوب
مطلقا، لا يبقى مجال لدعوى أن التقييد بالغيرية بهذا المعنى - أي بمعنى
الانبعاث عن داع غير الواجب - لا يتنافى مع الجزئية الحقيقية، إذ الاطلاق لا
يثبت النفسية من هذه الجهة كي يدعى عدم منافاتها للجزئية الحقيقية، والبحث
أجنبي عنها.
واما الثالث: فلان موضوع التقييد بالداعي وما هو من قبيلة مما كان في
مرحلة سابقة عن وجود الشئ أو لا حقة له، اما ان يفرض المفهوم أو المصداق.
فان فرض المفهوم فاستلزامه لتضييق دائرته أمر بديهي غير قابل للانكار، فان
المفهوم بعد تقييده بداع خاص يتحدد صدقه على الافراد وتتضيق دائرة انطباقه،
فمفهوم الاحتراق - مثلا - ينطبق على كل فرد من افراده، فإذا قيد بما كان ناشئا
عن السبب الخاص كالنار تضيقت دائرة صدقه فلا ينطبق حينئذ على ما حصل
من الكهرباء. وان فرض المصداق، فهو غير قابل للتضييق، كما هو المفروض،
218

سواء كان القيد من قبيل الدواعي أو كان من الشؤون والأطوار. فالتفريق بين
القيود في استلزام نحو منها التضييق وعدم استلزام نحو آخر منه لا وجه له، بل
هي جميعها مستلزمه للتضييق ان قيد بها المفهوم، وغير مستلزمه له ان قيد بها
المصداق لعدم قابليته للتضييق.
وبعبارة أخرى: انه إذا كان الغرض من التفريق بين نحوي القيود هو
بيان قابلية مدلول الهيئة التي هو الفرد الحقيقي للطلب للتقيد بالداعي الخاص،
لعدم كون التقييد به موجبا للتضييق الممتنع في الفرد كالتقييد بما هو من شؤون
الشئ، فإنه يمتنع طروه على الفرد، لان مفاده التضييق وهو ممتنع في الفرد، إذا
كان الغرض ذلك فهو منتف، لان التقييد بكلا نحويه يؤدي إلى تضييق دائرة
المقيد فيمتنع ان يتحقق فيما هو غير قابل للضيق.
وخلاصة الكلام: ان ما افاده صاحب الكفاية في تقريب التمسك
بالاطلاق، وفي دفع ما قيل في منع الاطلاق، وجيه من الجهة التي ينظر إليها
صاحب الكفاية، أعني عموم الموضوع له وخصوصه.
والذي يتحصل: انه ان التزم بكون مدلول الهيئة واقع الطلب، أو انه
النسبة الخاصة الطلبية، كما هو التحقيق، امتنع التمسك باطلاق الهيئة في اثبات
الوجوب النفسي لعدم قابليتها للتقييد.
واما بناء على ما التزم به صاحب الكفاية من كون مدلول الهيئة مفهوم
الطلب القابل للتقييد، كان التمسك باطلاق الهيئة باعتبار هذه الجهة ممكنا.
إلا أنه يشكل من جهة أخرى تقدم ذكرها فيما مر، وهي ان مدلول الهيئة
بنظر صاحب الكفاية وان كان معنى عاما، إلا أنه ملحوظ باللحاظ الآلي، فإنه
هو الفارق بين معاني الأسماء والحروف في نظره (قدس سره)، ولا يخفى ان
الاطلاق يتنافى مع هذا الفرض، إذ هو يستدعي تعلق اللحاظ الاستقلالي
بالمطلق، كيف؟ والمفروض أنه يكون في مقام البيان الملازم لتوجه المتكلم إلى
219

المعنى استقلالا.
وعليه، فالتمسك باطلاق الهيئة ممتنع، لان معناها ملحوظ آليا وهو لا يتلائم
مع الاطلاق. وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الاشكال في مبحث مفهوم
الشرط (1)، ولذا عد ما ذكره هناك مناقضا لما ذكره هنا، وما ذكره في مبحث
الواجب المشروط من صحة رجوع القيد إلى الهيئة.
وقد عرفت فيما تقدم التخلص عن اشكال التناقض: بأنه لم يصرح هنا
بالتمسك باطلاق الهيئة في اثبات الوجوب النفسي، بل التزم بالتمسك باطلاق
الصيغة، وهي كما لا يخفى تتألف من الهيئة والمادة، فلعل مراده هو التمسك
باطلاق المادة - أعني نفس الواجب - في اثبات الوجوب النفسي، وهي معنى
اسمي ملحوظ بالاستقلال قابل للاطلاق والقيد. وقد تقدم تقريب اطلاق
المادة. وكلامه وان كان يظهر منه في بعض عباراته التمسك باطلاق الهيئة، لكنه
يمكن أن يكون نظره إلى بيان نفي المانع من جهة خصوص الموضوع له لا في
مقام اختيار هذا المعنى في نفسه والالتزام به، بل في مقام دفع الاشكال فيه من
بعض جهاته. فتأمل.
نعم، ما جاء منه في الواجب المشروط من امكان رجوع القيد إلى الهيئة
يتنافى بحسب النظر الأولي مع ما أفاده في مبحث مفهوم الشرط من عدم قابلية
المعنى الحرفي للاطلاق لكونه ملحوظا آليا، إذ التقييد أيضا يستدعي لحاظ المقيد
استقلالا لأنه حكم على المقيد، فيمتنع طروؤه على المعنى الحرفي لمنافاته لحرفيته.
ولكن قد أشرنا فيما تقدم إلى حل هذا التنافي البدوي. فلا حظ.
والنتيجة: ان التمسك باطلاق الهيئة ممتنع، لان مدلولها هو النسبة غير
القابلة للتضييق لأنه شان المفاهيم. مضافا إلى تعلق اللحاظ الآلي بها المنافي

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 195 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
220

للاطلاق.
نعم، لا مانع من التمسك باطلاق المادة ومتعلق النسبة الطلبية، فإنها
مفهوم اسمي ملحوظ استقلالا. فلا حظ.
المقام الثاني: في مقتضي الأصل العملي بعد عدم تمامية الأصل اللفظي.
والتحقيق: انه يختلف باختلاف الموارد، فقد تتفق نتيجته مع النفسية في
مورد ومع الغيرية في مورد آخر.
وقد ذكر المحقق النائيني لموارد الشك ثلاث صور:
الصورة الأولى: ان يعلم بوجوب أمرين تفصيلا وكان الوجوبان متماثلين
في الاطلاق والاشتراط، لكنه شك في كون أحدهما مقيدا بالآخر. كما لو علم
بوجوب كل من الوضوء والصلاة بعد الزوال وشك في تقيد الصلاة بالوضوء
فيكون وجوبه غيريا وعدم تقيده فيكون وجوبه نفسيا.
وبما أن الشك في هذه الصورة يتمحض في تقيد الصلاة بالوضوء، إذ أصل
وجوب كل منهما معلوم، ولا بد من الاتيان بكل منهما، فليس المشكوك الا تقيد
الصلاة بالوضوء، ومقتضى إصالة البراءة نفيه، وعليه فيكون المكلف في سعة في
اتيان الوضوء قبل الصلاة وبعدها. وهذا بالنتيجة يتفق مع كون وجوب الوضوء
نفسيا فلا حظ (1).
واستشكل فيه السيد الخوئي (حفظه الله): بان جريان أصالة البراءة في
تقيد الصلاة بالوضوء معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسي للعلم،
الاجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا، فلا وجه لاجراء البراءة
في طرف مع امكان جريانها في الآخر. ولأجل ذلك لا بد من الاحتياط باتيان
الوضوء قبل الصلاة (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 170 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 170 - [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
221

ولا يخفى ان هذا المعنى الذي ذكره السيد الخوئي مما يلتفت إليه من له
قليل علم فضلا عن مثل المحقق النائيني (قدس سره)، اذن فما هو الوجه في
اجراءه البراءة في التقيد مع أنه طرف العلم الاجمالي؟.
والإجابة عن هذا السؤال هي: ان المحقق النائيني يذهب إلى إنحلال
العلم الاجمالي المزبور، وعدم امكان اجراء البراءة في أحد البراءة في أحد الطرفين، فتكون
البراءة في الآخر بلا معارض. بيان ذلك: ان وجوب الوضوء معلوم على كل حال
نفسيا كان أو غيريا فهو لا يكون مجرى البراءة، ووجوب التقيد محتمل، فيكون
مجرى البراءة، لان أصل البراءة فيه بلا معارض بعد أن امتنع جريانه في طرف
الوضوء.
وعلى هذا فتمامية ما ذكره السيد الخوئي تتوقف على مقدمتين:
المقدمة الأولى: هو الالتزام بعدم جريان أصل البراءة في الوجوب
الغيري، باعتبار أنه ليس من المجعولات الشرعية، بل هو من الأمور اللازمة
للوجوب النفسي، فهو كالأمور التكوينية غير قابل للوضع ولا للرفع، فلا معنى
لاجراء البراءة الشرعية فيه. فالوجوب القابل لجريان البراءة هو الوجوب
النفسي لأنه حكم مجعول قابل للرفع والجعل.
وعليه، فتكون البراءة من وجوب التقيد معارضة بمثلها، لجريان البراءة
من الوجوب النفسي لأنه مشكوك، واما أصل الوجوب فهو ليس بموضوع
البراءة على تقديريه - كما هو المفروض -، وما هو موضوع البراءة مشكوك وهو
الوجوب النفسي، فجريان البراءة فيه يعارض جريانها في وجوب التقيد.
المقدمة الثانية: انه قد يقال - في تقريب مدعى النائيني -: بان لزوم
الوضوء واستحقاق العقاب على تركه معلوم على كل حال، اما على تركه بنفسه
لو كان واجبا نفسيا، أو على ترك الواجب النفسي المقيد به لو كان واجبا غيريا،
فلا يكون العقاب عليه عقابا بدون بيان، بخلاف التقيد فإنه لا يعلم لزومه ولا
222

يعلم بثبوت العقاب على تركه، فيكون مجرى البراءة العقلية. وإن لم يكن مجرى
للبراءة الشرعية بمقتضى ما قرر في المقدمة الأولى.
ويشكل: بان ترتب العقاب على ترك الوضوء اما لتركه نفسه أو ترك
الواجب المقيد به بتركه، مرجعه إلى تقرير العلم الاجمالي المدعى
المانع من اجراء البراءة في طرف التقيد، فان تحقق العقاب على ترك الوضوء
لترك الواجب المقيد به يرجع إلى تحقق العقاب على ترك التقيد الواجب، فليس
ترك التقيد طرفا لترك الوضوء بكلا احتماليه كي يكون مجرى البراءة، بل هو
أحد احتمالي ترك الوضوء، ففي الحقيقة انه يعلم اجمالا بلزوم الوضوء نفسيا لو
لزوم التقيد، وان العقاب ثابت على ترك الوضوء اما من جهة وجوبه النفسي أو
من جهة استلزامه لترك الواجب. وبعبارة أخرى: يعلم اجمالا بثبوت العقاب
على ترك الوضوء أو ترك الصلاة المقيدة به، واجراء البراءة في كل طرف معارض
باجرائها في الطرف الآخر، لان كل طرف موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والحاصل: ان وجوب التقيد لا يكون مجرى للبراءة الشرعية كما هو
مقتضى المقدمة الأولى، ولا مجرى للبراءة العقلية كما هو مقتضى المقدمة الثانية.
ولكن التحقيق عدم تمامية كلتا المقدمتين، وما ذكره المحقق النائيني من
دعوى الانحلال وجيه، وذلك:
اما المقدمة الأولى: فلان أساسها هو عدم قابلية الوجوب الغيري
لجريان البراءة فيه. وهذا مسلم في الجملة لا مطلقا، وذلك لان الوجوب الغيري
المستفاد من الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة أمر ذاتي لازم له غير قابل
للوضع والرفع، ولكن قد يلتفت الآمر إلى المقدمات فينشئ حكما خاصا بها، كما
لو قال: " ادخل السوق واشتر اللحم "، فان الامر بالمقدمة في مثل الحال أمر
مجعول قابل للجعل والرفع، فيمكن إجراء البراءة فيه مع الشك.
وبالجملة: عدم جريان البراءة فيما لا انشاء له مستقلا من الوجوبات
223

الغيرية مسلم، لعدم كونه مجعولا شرعيا، بل هو لازم تكويني - كما يأتي تحقيقه
- واما ماله انشاء مستقل وجعل خاص، فلا مانع من اجراء البراءة فيه، لأنه
حكم مجعول قابل للوضع والرفع. وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ المفروض تعلق
الامر بالوضوء المردد بين كونه نفسيا أو غيريا، فعلى تقدير كونه غيريا يكون
من النحو الذي تجري فيه البراءة. وعليه فوجوب الوضوء - فيما نحن فيه - قابل
لجريان البراءة بكلا نحويه، لكنه لا يكون مجرى البراءة بعد العلم به على كل
حال، فينحل العلم الاجمالي ويكون أصل البراءة في طرف التقيد في طرف التقيد بلا معارض.
واما المقدمة الثانية: فنورد عليها فعلا بأنه لم يلتزم بعدم الانحلال في مثل
هذه الصورة حكما، بل التزم بالانحلال، فالايراد عليه فعلا جدلي.
هذا كله حول ما ذكره في تعليقته على: " أجود التقريرات " من تقريب
عدم جريان البراءة بتشكيل العلم الاجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب
التقيد نفسيا، فطرفا العلم الاجمالي هما وجوب الوضوء النفسي ووجوب التقيد
النفسي. ولكنه في تقريرات بحثه قرر العلم الاجمالي بنحو آخر، وقد أشار إليه
في ذيل تعليقته على أجود التقريرات، وهو: انا نعلم اجمالا بوجوب الوضوء
نفسيا، أو وجوبه غيريا، وجريان البراءة في الوجوب الغيري معارض بجريانها
في الوجوب النفسي (1).
ومن الواضح ان هذا المقدار من البيان لا يرتبط بما هو محل الكلام، من
لزوم التقيد وعدمه، فان مورد الشك هو لزوم تقيد الصلاة بالوضوء وعدمه، وقد
عرفت أن المحقق النائيني ادعى جريان البراءة فيه ولم يرتض السيد الخوئي
ذلك، وتقرير الاشكال بما عرفته لا ينفع في الالزام بالاتيان بالتقيد، وذلك لان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 170 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 392 - الطبعة الأولى.
224

مقتضى العلم المذكور ليس إلا الاتيان بالوضوء، اما الاتيان بالصلاة مقيدة به
فلا، إذ ليس ذلك من آثار الوجوب الغيري - كي يلزم ترتيبه بمقتضى العلم
الاجمالي -، وانما هو من ملازماته والمفروض أنه غير معلوم كي يعلم بلازمه، فهو
نظير عدم ترتب نجاسة الملاقي لما هو محتمل النجاسة الذي يكون طرفا للعلم
الاجمالي.
فلا بد من تتميم هذا البيان بان يقال: ان هناك علما اجماليا آخر متعلق
بالوجوب النفسي المردد بين الوضوء والتقيد، فلدينا علمان اجماليان ذوا أطراف
ثلاثة لاشتراك أحد الطرفين فيهما، لان أحدهما متعلق بوجوب الوضوء المردد بين النفسي
والغيري، والآخر متعلق بوجوب النفسي المردد بين الوضوء والتقيد. فوجوب
الوضوء النفسي طرف لكلا العلمين.
وعليه، فيقال: ان جريان البراءة في كل من أطراف هذين العلمين
معارض بجريانه في الطرف الآخر، فيمتنع جريان البراءة في طرف التقيد
لمعارضة بجريانها في الوجوب النفسي للوضوء. فلا ينحل العلم الاجمالي - كما
ادعي -.
وأنت خبير: بان هذا الوجه إنما يجدي في اثبات الاحتياط والاتيان
بالصلاة مقيدة بالوضوء لو فرض ان لكل من خصوصيتي النفسية والغيرية أثرا
خاصا بها غير أصل الالزام الذي هو مقتضى أصل الوجوب الجامع. كي يكون
إجراء البراءة فيه بلحاظ نفي ذلك الأثر. ولكن الامر ليس كذلك، إذ ليس
لكل منهما أي أثر إلزامي. وعليه فليست النفسية والغيرية موضوعا لأصل
البراءة كي يدعى معارضتها بالبراءة في الطرف الآخر. واما أصل وجوب التقيد بلا
معارض، إذ البراءة لا تجري في أصل وجوب الوضوء للعلم به، ولا تجري في
خصوصية النفسية والغيرية لعدم الأثر فيها. فلاحظ.
225

هذا ولكن الانصاف: ان الاحتياط بالاتيان بالوضوء قبل الصلاة
ليتحقق التقيد هو المتعين، بيان ذلك: انه وقع الكلام في جريان البراءة الشرعية
التي يتكفلها حديث الرفع في نفي الوجوب الغيري المشكوك.
والسر في ذلك هو: الخلاف في كون المرفوع في حديث الرفع هل هو
الحكم الشرعي المجعول، أو أنه المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي؟ فعلى تقدير
كون المرفوع نفس الحكم المجعول أمكن القول بجريان البراءة في الوجوب
الغيري إذا كان مجعولا، لا الوجوب الغيري المبحوث عنه في علم الأصول وهو
الملازم للوجوب النفسي، لان هذا غير قابل للوضع والرفع، لأنه من الأمور
التكوينية غير المجعولة شرعا.
نعم قد يتفق إنشاء البعث الغيري - كما ذكرنا ذلك -، فهو المورد القابل
لجريان البراءة لو التزم بان المرفوع هو الحكم المجعول، فان مقتضى اطلاق
حديث الرفع هو رفع الحكم المجعول مطلقا نفسيا كان أو غيريا.
وعلى تقدير كون المرفوع رأسا هو المؤاخذة لا الحكم نفسه - كما هو رأي
الشيخ - فاما ان يقصد رفع المؤاخذة المترتبة على نفس العمل لاجل مخالفة
الحكم المتعلق به، أو يقصد به رفع المؤاخذة المتأتية منه ولو كانت على غيره
مباشرة. وبعبارة أخرى: المؤاخذة على العمل اما ان تكون على نفسه مباشرة،
أو تكون على غيره ولكن كانت بواسطته وكان هو سببا لتحقق مخالفة الحكم الثابت
على غيره، فالكلام في حديث الرفع في أنه يرفع المؤاخذة المترتبة على العمل
مباشرة أو الأعم منها ومن المؤاخذة المترتبة بواسطة هذا العمل. وبتعبير أوضح:
هل حديث الرفع يرفع المؤاخذة على العمل، أو المؤاخذة من جهة العمل ولو لم
تكن عليه بل على غيره؟.
فعلى الأول: يمتنع جريان البراءة في نفي الوجوب الغيري، إذ من
الواضح انه لا مؤاخذة على ترك الواجب الغيري بما أنه كذلك، بل تتحقق
226

المؤاخذة عند تركه لترك الواجب النفسي بتركه، فالمؤاخذة على ترك الواجب
النفسي لا ترك الواجب الغيري. وعليه فلا معنى لشمول حديث الرفع للوجوب
الغيري.
واما على الثاني: فالوجوب الغيري مشمول لحديث الرفع، إذ بترك
الواجب الغيري يترتب العقاب على ترك الواجب النفسي بتركه.
وبما أن المختار - كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى - هو كون
المرفوع هو المؤاخذة على نفس العمل، لا الحكم المجعول، ولا المؤاخذة المترتبة
عند تحقق العمل أعم من أن تكون على نفس العمل أو على غيره، كان القول بعدم
جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري هو المتعين.
واما البراءة العقلية: فهي غير جارية بلا اشكال، لان ملاكها هو قبح
العقاب بلا بيان، ومرجع ذلك إلى أنه لو كان في الواقعة حكم واقعي تترتب على
مخالفته في نفسه المؤاخذة، بحيث يكون مقتضيا لها، فلا تصح المؤاخذة على
مخالفته بدون الوصول إلى المكلف والعلم به. فموضوع القاعدة وجود المقتضي
للعقاب، ولكنه لا يؤثر بدون البيان. ومن الواضح ان الوجوب الغيري لا يقتضي
العقاب والمؤاخذة، إذ ليس على مخالفته بنفسه عقاب، فهو خارج عن موضوع
ثبوت البراءة العقلية.
فالمتحصل: ان الوجوب الغيري غير قابل للبراءة العقلية ولا الشرعية.
وعليه، فحيث يعلم اجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا،
كان جريان البراءة من وجوب التقيد النفسي معارض بجريانها في وجوب
الوضوء النفسي.
ودعوى: الانحلال بالعلم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسي والغيري،
فلا يكون مورد البراءة.
مندفعة: بان كلي الوجوب وطبيعية ليس مجرى البراءة، لأنه ليس بكلا
227

نحويه قابل لجريانها، وما هو مجرى البراءة وهو خصوص الوجوب النفسي
مشكوك وليس بمعلوم، فالمقتضي للبراءة فيه ثابت، فيعارض البراءة من وجوب
التقيد. فالوجه في عدم جريان البراءة هو: عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان
البراءة فيه.
ولأجل ذلك لا يتجه من السيد الخوئي انكار الانحلال، ودعوى لزوم
الاحتياط، لان كلامه صريح في جريان البراءة في الوجوب الغيري، ومعه تتجه
دعوى الانحلال، لان وجوب الوضوء معلوم وغير قابل لجريان البراءة، فتكون
البراءة من وجوب التقيد بلا معارض. الا ان يشكل العلم الاجمالي بوجوب
الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا، فان البراءة في كل منهما معارضة للآخر،
لكنه خلاف ظاهر كلامه في تعليقته وتقريرات بحثه كما أشرنا إليه. فتدبر.
الصورة الثانية: ان يعلم بوجوب شئ فعلا مردد بين كونه نفسيا أو
غيريا، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان وجوب ذي المقدمة فعليا، لكن لم يصل
الينا، نظير ما لو علم بأنه نذر اما الاتيان بالوضوء أو الصلاة، بحيث لو كان هو
الوضوء كان وجوبه نفسيا، وان كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا، فهو
يعلم اما بوجوب الوضوء بخصوصه أو بوجوبه مع الصلاة.
وقد اختار المحقق النائيني لزوم الاتيان بالوضوء للعلم بترتب العقاب
على تركه، اما لاجل تركه نفسه أو لاجل ترك ذي المقدمة من ناحيته. واما ترك
ذي المقدمة من ناحية غير الوضوء، فهو مما لا يعلم بترتب العقاب عليه، فاصل
البراءة من الفعل لا مانع منه.
وقد نسب إلى صاحب الكفاية في هذه الصورة: القول بالبراءة بالنسبة
إلى الوضوء أيضا، واستشكل فيه: بأنه لا يتم بناء على امكان التفكيك في تنجز
المركب، فيكون منجزا من جهة غير منجز من جهة أخرى، إذ المقام من هذا
القبيل، فان وجوب الصلاة من جهة الوضوء منجز ومن جهة غيره ليس بمنجز،
228

فجريان البراءة فيه من غير ناحية الوضوء لا ينافي عدم جريانها من ناحيته (1).
وبالجملة: مرجع كلام المحقق النائيني إلى دعوى انحلال العلم الاجمالي
إلى العلم التفصيلي بلزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه، وشك بدوي في
لزوم الصلاة بسائر اجزائها وشرائطها، فتكون مجرى البراءة بلا معارض.
وقد وافقه السيد الخوئي على ذلك، فذهب إلى انحلال العلم الاجمالي إلى
علم تفصيلي بلزوم الوضوء، وشك بدوي في وجوب الصلاة، فيكون وجوبها مجرى
البراءة بلا معارض لعدم جريانها في الوضوء بعد العلم بوجوبه (2).
وما افاده المحقق النائيني مخدوش من جهات:
الأولى: ما افاده من دعوى الانحلال للعلم التفصيلي بوجوب الوضوء
والشك في وجوب الصلاة.
وجهة الخدشة في ذلك: قد عرفتها بما تقدم من عدم قابلية الوجوب
الغيري لجريان البراءة، فلا يكون طبيعي الوجوب مجرى البراءة، بل مجراه
خصوص الوجوب النفسي وهو مشكوك في الفرض، فتكون البراءة من وجوب
الصلاة معارضة بالبراءة من وجوب الوضوء نفسيا. فلا ينحل العلم الاجمالي بما
ذكر، لفرض تعارض الأصلين الذي هو قوام منجزية العلم الاجمالي.
اللهم إلا أن يقال ان المحقق النائيني يلتزم بكون الشرائط متعلقة للامر
النفسي الضمني كالاجزاء. وعليه فيكون الوجوب النفسي للوضوء معلوما على
التقديرين إلا أنه على تقدير استقلالي وعلى آخر ضمني. ومن الواضح قابلية
الامر الضمني لجريان البراءة. وعليه فيمتنع جريان البراءة من وجوب الوضوء
حينئذ للعلم بكلية المانع منها، فتكون البراءة من وجوب الصلاة بلا معارض

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 171 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 389 - الطبعة الأولى.
229

فالتفت.
الثانية: ما أفاده من تطبيق الالتزام بالتفكيك في تنجيز المركب على
ما نحن فيه.
ولايضاح وجه الخدشة فيه لا بأس بالإشارة إلى المقصود بالتفكيك في
مقام التنجيز فنقول: ان المركب بما أنه عين اجزائه كان ترك كل جزء موجبا لترك
المركب، فترك المركب يمكن أن يكون بترك كل جزء على حده، وإذا كان المركب
واجبا كان تركه بترك أي جزء من اجزائه موجبا للمؤاخذة والعقاب. وقد ذكر
في مبحث الأقل والأكثر انه يمكن عقلا التفكيك في اجزاء المركب، فيكون ترك
المركب بترك بعضها موجبا للمؤاخذة وتركه البعض الآخر غير موجب
للمؤاخذة.
وعلى هذا الأساس بني على اجراء البراءة العقلية من الزائد على الأقل
المتيقن، وانحلال العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين الأقل والأكثر. بتقريب: ان
المؤاخذة على ترك الواجب من جهة ترك الأقل معلومة فلا تجري فيها البراءة.
واما المؤاخذة على تركه من ترك الزائد المشكوك فهي غير معلومة فيكون الزائد
مجرى البراءة وان استلزم نفي المؤاخذة على ترك الواجب - لو كان المشكوك
جزء واقعا -، إذ لا امتناع من نفي العقاب على ترك الواجب من جهة واثباته
من جهة أخرى.
وصاحب الكفاية حين أنكر جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر انما
هو لاجل انكاره امكان التفكيك، فلا ينحل العلم الاجمالي (1).
إذا عرفت هذا نقول: ان نظر المحقق النائيني إلى تطبيق هذه القاعدة
على ما نحن فيه، فان العقاب على ترك الصلاة من جهة ترك الوضوء معلوم،

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 364 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
230

والعقاب على تركها من غير ناحيته غير معلوم فتجري فيه البراءة بلا معارض.
ولكن الانصاف ان هذا الوجه إنما يتم بالنسبة إلى خصوص اجزاء
المركب دون الشرائط، لأنها لا يتقوم بها المركب فلا يكون تركها تركا للمركب
كالاجزاء، بل يكون تركها سببا وملازما لترك المركب، فليس هناك تروك متعددة
للمركب بتعدد الشرائط كي يتصور التفكيك بينها في المؤاخذة وعدمها، ووضوح
هذا المعنى موكول إلى محله، وانما القصد هو الإشارة إلى جهة الاشكال في كلامه
من هذه الجهة، وان إقحام ذلك المبحث فيما نحن فيه وتطبيقه عليه في غير محله.
الثالثة: ما افاده من حمل كلام صاحب الكفاية على هذه الصورة
واستشكاله في اجرائه البراءة من الوضوء.
وجهة الخدشة فيه: ان نظر صاحب الكفاية إلى صورة أخرى غير هذه
الصورة، وهي ما إذا علم اجمالا بوجوب شئ مردد بين كونه نفسيا أو غيريا مع
العلم بأنه لو كان غيريا فذي المقدمة ليس بفعلي، كما إذا علمت الحائض
بوجوب الوضوء عليها، لكنها ترددت في كونه نفسيا أو غيريا لاجل الصلاة،
والمفروض - بحكم كونها حائضا - عدم وجوب الصلاة عليها فعلا. ومن الواضح
ان اجراء البراءة في هذه الصورة لا اشكال فيه، إذ مع العلم بعدم فعلية الواجب
النفسي الذي يحتمل كون الواجب المعلوم قيدا له، لا يكون العلم الاجمالي
بوجوب الشئ المردد بين كونه نفسيا وغيريا منجزا، لأنه لو كان غيريا لا
يكون فعليا، فلا يكون أحد طرفيه فعليا، فهو ليس بمنجز على كل تقدير، فلا
مانع من جريان البراءة فيه. فلاحظ.
ونتيجة الكلام: ان المتعين في هذه الصورة هو الاحتياط باتيان الوضوء
والصلاة المقيدة به للعلم الاجمالي بالوجوب النفسي المردد بينهما، ولا وجه
لانحلاله بناء على ما عرفت من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة،
231

لتعارض الأصلين حينئذ.
ولكنه انما يؤاخذ به من يلتزم بكون الشروط متعلقة للامر الغيري - كما
هو الحق - واما من يلتزم بكونها متعلقة للامر الضمني كالاجزاء كالمحقق
النائيني، فالعلم الاجمالي منحل لجريان البراءة في طرف دون آخر كما عرفت.
الصورة الثالثة: ان يعلم تفصيلا بوجوب أمرين وشك في كون أحدهما
المعين شرطا للآخر، مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيهما من حيث الشرائط، كما
إذا علمنا بوجوب الصلاة نفسيا في الوقت الخاص، وعلمنا بوجوب الوضوء
وشك في أنه نفسي أو غيري، وإذا كان نفسيا فهو غير مقيد بالوقت الخاص،
وإذا كان غيريا فهو مقيد به لتبعيته لوجوب ذي المقدمة.
وقد ذكر المحقق النائيني ان الشك في هذه الجهة يتصور من جهات، وهو
في جميعها مجرى البراءة:
الأولى: الشك في وجوب تقيد الصلاة بالوضوء، وقد تقدم ان الأصل فيه
هو البراءة من وجوبه.
الثانية: الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت، لاحتمال كونه نفسيا أو انه
يختص بما بعد الوقت، فتجري البراءة من وجوبه قبل الوقت.
الثالثة: الشك في أن الوضوء قبل الوقت هل يسقط وجوب الوضوء بعد
الوقت أولا؟ ومرجع هذا الشك إلى الشك في أن وجوب الوضوء بعد الوقت هل
هو مطلق أو مختص بمن لم يتوضأ قبله، ومقتضى البراءة عدم وجوبه بالنسبة
إلى من توضأ قبل الوقت، فأصالة البراءة عن تقيد الصلاة بالوضوء وعن
وجوبه قبل الوقت وعن وجوبه لمن توضأ قبل الوقت بلا معارض.
وقد ذكر ان نتيجة البراءة في الجهة الأولى والثالثة نتيجة النفسية،
ونتيجتها في الجهة الثانية نتيجة الغيرية في تقيد الوجوب بما بعد الوقت، لأنه
232

شرط لوجوب الصلاة أيضا (1).
وقد ذكر السيد الخوئي في مقام تحقيق هذه الصورة: انه يمكن ان تتصور
على وجهين:
الأول: أن يكون هناك علم اجمالي بوجوب الوضوء المردد بين النفسي
والغيري من دون علم بالتماثل مع الصلاة في الاطلاق والاشتراط، لكن يعلم انه
ان كان وجوب الوضوء نفسيا فهو ثابت قبل الوقت فقط، وان كان غيريا فهو
ثابت بعد الوقت، فهنا علم اجمالي بوجوب الوضوء قبل الوقت أو وجوبه بعده،
وقد تقرر في محله ان العلم الاجمالي في التدريجيات منجز كغيره. وعليه فيمتنع
اجراء البراءة من وجوب الوضوء النفسي قبل الوقت واجرائها من تقيد
الصلاة بالوضوء بعد الوقت، لأنه يستلزم عدم لزوم الاتيان بالوضوء بالمرة. وهو
مخالفة عملية قطعية للعلم الاجمالي.
وعليه فمقتضى العلم الاجمالي الاتيان بالوضوء قبل الوقت والاتيان
بالصلاة متقيدة به. نعم لا يلزم الوضوء بعد الوقت إذا أتى به قبله لكفاية الوضوء
قبله وإن لم يكن واجبا.
الثاني: ان يعلم اجمالا بوجوب الوضوء المردد بين النفسي والغيري بلا
علم بالتماثل، لكنه يعلم انه ان كان غيريا فهو مقيد بالوقت وان كان نفسيا فهو
غير مقيد به، بل مطلق بالنسبة إلى ما قبل الوقت وبعده.
وما افاده المحقق النائيني في الجهات الثلاث لا يخلو من خدشة:
اما ما افاده من جريان البراءة في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء. فجهة
الخدشة فيه: ما مر من عدم انحلال العلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو التقيد،
والبراءة في أحدهما معارضة بالبراءة في الآخر.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 171 - الطبعة الأولى.
233

واما ما افاده من جريان البراءة في الشك في الوجوب النفسي للوضوء
قبل الوقت فيخدش: بعدم امكان البراءة، لأنها مستلزمة لتضييق دائرة الواجب
وتقليل افراده التخييرية، وهذا ينافي الامتنان المفروض انه ملاك البراءة. ولذا
يمنع من جريان البراءة في كل مورد يوجب جريانها للتضييق على المكلف
والكلفة عليه لا السعة.
واما ما افاده من جريان البراءة من الوضوء بعد الوقت لو أتى به قبله
على تقدير كونه غيريا. فهو في نفسه وان كان تاما، الا ان الذي ينبغي ان يذكر
في وجهه علميا هو: ان المعلوم على تقدير الغيرية هو أصل تقيد الواجب
بالوضوء، واما تقيده به على أن يؤتى به بعد دخول الوقت فهو غير معلوم، فتنفى
الخصوصية المذكورة بالبراءة.
واما ما ذكره في وجه ذلك: من كون المعلوم لزوم الاتيان بالوضوء لمن لم
يأت به قبل الوقت، اما من أتى به قبله فلا يعلم لزوم الاتيان به بعد الوقت،
فينفي وجوبه عليه بأصالة البراءة. فهو وجه ليس بعلمي (1).
والتحقيق: ان الوجه الأول الذي ذكره السيد الخوئي وان كان وجها
علميا لا خدشة فيه، إلا أنه لا يرتبط بما هو نظر المحقق النائيني، فان نظره في
كلامه إلى الوجه الثاني كما لا يخفى.
واما الاشكال على المحقق النائيني في ما أفاده من جريان البراءة في
الجهات الثلاث للشك. فيتحقق الحال فيه:
اما لزوم الاحتياط في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء، وان كان تاما في
نفسه، إلا أنه قد عرفت أن المحقق النائيني لا بد له من الذهاب إلى البراءة،
لالتزامه بتعلق الامر الضمني بالشرائط الموجب لانحلال العلم الاجمالي، لكون

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 393 - الطبعة الأولى.
234

جريان البراءة في طرف التقيد بدون معارض، كما تقدم بيانه وتوضيحه، وقد
عرفت أن التحقيق عدم الانحلال ولزوم الاحتياط لتعلق الامر الغيري
بالشرائط وعدم قابليته للبراءة.
واما الاشكال عليه بعدم صحة نفي الوجوب قبل الوقت مع الشك فيه،
لكون البراءة موجبة للتضييق، وهو ينافي الامتنان ففيه:
أولا: ان هذا المعنى وان كان اشكالا على المحقق النائيني، لكنه مما لا
يتجه الالتزام به من قبل المستشكل، لان دليل البراءة في نظره لا يختص بحديث
الرفع - كما يرى الشيخ ذلك -، كي يقال باختصاص مجراها بما يكون في جريانها
امتنانا على العباد، لأنه لسان حديث الرفع. بل أنه ألتزم بان استصحاب عدم
التكليف من أدلة البراءة أيضا، وخالف في ذلك الشيخ (رحمه الله) حيث
استشكل في تماميته دليلا على البراءة. ومن الواضح ان دليل الاستصحاب لا
يختص بمورد الامتنان، وعليه فحديث الرفع إن لم يشمل الشك في الصورة
المزبورة فاستصحاب عدم التكليف يكفي في اجراء البراءة فيه بنظر المستشكل.
وثانيا: ان ما ذكره لا يصلح اشكالا على المحقق النائيني أيضا، وذلك لان
نفي الوجوب قبل الوقت إن لم يمكن بأدلة البراءة لمنافاتها الامتنان، فهو ممكن
بالاستصحاب، إذ يمكن استصحاب عدم الوجوب إلى الوقت ولا مانع منه.
ولنا ان ندافع عن المحقق النائيني فنقول: ان نظره هو نفي التكليف قبل
الوقت، ولم يثبت أنه التزم به لجريان أصل البراءة، وصدور التعبير بالبراءة لا
صراحة فيه في كون الدليل هو أصل البراءة، بل يمكن أن يكون تعبيرا عن
نتيجة الاستصحاب المحكم في المقام. فتأمل.
واما ما افاده من عدم علمية الوجه الذي ساقه المحقق النائيني لبيان
عدم وجوب الوضوء بعد الوقت لمن أتى به بعده، وان الوجه العلمي ان يحرر
بنحو آخر، وهو ما تقدم. فهو غير سديد لأنه إنما يتم إذا التزم بلزوم الاتيان
235

بالتقيد لمكان العلم الاجمالي، فإنه يقال - كما افاده المحقق الخوئي - ان أصل
التقيد معلوم، اما التقيد بالوضوء بالخصوصية المعينة - أعني كونه بعد الوقت -
فهو غير معلوم فتجري فيه البراءة. ولكن المحقق النائيني لم يلتزم بلزوم التقيد،
بل عرفت أنه أجرى البراءة منه، فلا معنى أن يقال إن أصل التقيد معلوم
والشك في خصوصية زائدة عليه، بل المتعين هو تحرير الوجه بالنحو الذي ذكره
من أن المعلوم هو لزوم الوضوء على من لم يأت به قبل الوقت، اما من أتى به
قبله فلزومه عليه بعده غير معلوم فتجري فيه البراءة.
هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وتحقيقه بمقامه.
وههنا تنبيهان ذكرهما صاحب الكفاية، وتابعه في التعرض إليهما الاعلام،
وتبعا للاعلام ولما يترتب عليهما من أثر علمي وعملي نتعرض إليهما بالتفصيل.
التنبيه الأول: وموضوعه استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الامر
الغيري وموافقته.
وقد تعرض صاحب الكفاية فيه إلى جهات ثلاث:
الجهة الأولى: بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الامر
الغيري وموافقته (1).
وقد ذكر لتقريبه وجوه:
الأول: ما جاء في الكفاية من: بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب
والثواب على المقدمات، ولذا لا يرون من يترك واجبا ذا مقدمات متعددة انه
مستحق لعقابات متعددة بعدد المقدمات، كما لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب
بمقدماته مستحقا لثوابات متعددة، بل لا يرونه مستحقا لغير عقاب واحد أو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 110 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
236

ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله (1).
الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية، وهو وجه برهاني
لا عرفي كالأول، ومحصله: ان الوجوب المقدمي بما أنه معلول لوجوب ذي
المقدمة، لكون الغرض منه غرض تبعي لا استقلالي، كانت محركيته وباعثيته
تبعية أيضا بتبع باعثية ومحركية الامر النفسي، فان انبعاث نحو الامتثال الامر
النفسي لازم للانبعاث نحو امتثال الامر الغيري، كملازمة البعث الغيري للبعث
النفسي، وإذا كان الانبعاث عن الامر الغيري تابعا للانبعاث عن الامر النفسي
كان أمرا ارتكازيا كنفس البعث الغيري قد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل، وكما
أنه غير مستقل في مقام البعث والانبعاث كذلك هو غير مستقل في مقام عدم
الانبعاث، فان عدم الانبعاث عنه بتبع عدم الانبعاث عن الامر النفسي، وعليه
فلا يكون الانبعاث عنه موجبا للقرب، ولا عدمه موجبا للبعد، فلا يكون امتثاله
موجبا للثواب ولا عدمه موجبا للعقاب (2).
الثالث: وهو وجه برهاني آخر، فان ما ذكره المحقق الأصفهاني بهذا
المقدار لا يخرج عن كونه وجها صوريا لا يخلو عن خدشة عند التأمل.
ومحصل ما نريد ان نقوله بيانا لهذا الوجه هو: ان الثواب انما ينشأ عن
اتيان العمل مرتبطا بالمولى بالاتيان به بداعي الامر - الذي هو معنى الامتثال -،
فترتب الثواب على موافقة الامر الغيري انما تتصور بالاتيان بالمقدمة بداعي
الامر الغيري، ومن الواضح ان الامر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 110 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
هذا ما افاده سيدنا - دام ظله - في مجلس الدرس، لكن ظاهر الكفاية ان الوجه برهاني لا عرفي، لتعبيره
باستقلال العقل، وإن لم يبين جهته. وعلى كل فهو وجه في نفسه وإن لم يكن مراد صاحب الكفاية. هكذا
تفضل سيدنا الأستاذ - دام ظله - أخيرا بعد عرض الامر عليه. (منه عفي عنه).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 197 - الطبعة الأولى.
237

أصلا فلا يمكن الاتيان بالعمل بداعي امتثال الامر الغيري. أما انه لا يصلح
للداعوية والتحريك، فلان المكلف عند الاتيان بالمقدمة اما أن يكون مصمما وعازما
على الاتيان بذي المقدمة أو يكون عازما على عدم الاتيان به، فإن كان عازما
على الاتيان به، فاتيانه المقدمة - مع التفاته إلى مقدميتها كما هو المفروض -
قهري لتوقف ذي المقدمة عليها، سواء تعلق بها الامر الغيري كي يدعى دعوته
إليها أو لا، فالاتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الامر الغيري،
بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وان كان عازما على عدم الاتيان
بذي المقدمة، فلا يمكنه قصد الامر الغيري بالاتيان بالمقدمة، إذ ملاك تعلق
الامر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسي، لو
لم نقل - إذ وقع الكلام في أن المقدمية جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة
تقييدية -: بان موضوع الامر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة.
ومن الواضح أنه مع قصد عدم الاتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية
وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند الاتيان بالمقدمة، ومعه لا معنى لقصد امتثال
الامر الغيري، بالعمل، إذا جهة تعلق الامر الغيري غير ملحوظة أصلا.
ويتضح هذا الامر على القول بكون الامر الغيري متعلقا بالمقدمة
الموصلة، فإنه مع القصد إلى ترك الواجب النفسي لا يكون المأتي به واجبا
بالوجوب الغيري، فلا معنى لقصد امتثاله فيه لأنه ليس بمتعلق الوجوب.
وخلاصة الكلام: ان البرهان والعمل العرفي قائمان على عدم استحقاق
العقاب والثواب على مخالفة الامر الغيري وموافقته.
الجهة الثانية: انه بناء على عدم كون ترك الواجب الغيري موجبا
لاستحقاق العقاب، فلو ترك مقدمة لواجب استقبالي بحيث لا يتمكن من
الواجب في ظرفه عند تركها، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوتة كالغسل قبل
238

الفجر للصوم، إذ بتركه لا يتمكن من الصوم في ظرفه (1).
فهل يستحق العقاب على ترك الواجب النفسي من حين ترك المقدمة أو
من زمان الواجب نفسه؟. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لكل من الاحتمالين:
اما وجه استحقاق العقاب من حين ترك المقدمة فهو: ان ملاك الثواب
هو انقياد العبد للمولى وكونه بصدد امتثاله أمره، كما أن مناط العقاب هو طغيان
العبد وخروجه عن وظيفة العبودية والرقية، فإنها هي الجهة التي يترتب عليها
العقاب عند ترك الواجب أو فعل المحرم، لكشف ذلك عن عدم كون العبد في
مقام الانقياد إلى المولى وطغيانه على المولى. ومن الواضح ان هذا المعنى ينكشف
ويحصل بترك المقدمة، إذ يتحقق الخروج عن مقام العبودية بتركها الملازم لترك
ذيها في ظرفه، فملاك العقاب متحقق بترك المقدمة.
واما وجه عدم استحقاقه العقاب قبل مجئ زمان الواجب وانتهائه فهو:
ان الانقياد للامر النفسي انما يكون في ظرفه، ولا يعقل تحققه قبل ظرفه، فعدم
الانقياد الذي يكون عصيانا وموجبا للعقاب هو عدمه في ظرفه أيضا، لأنه هو
نقيض الانقياد والإطاعة - للزوم اتحاد الزمان في المتناقضين -، وعليه فملاك
العقاب لا يتحقق قبل ظرف الواجب (2).
والانصاف ان ما ذكره المحقق الأصفهاني تبعيد للمسافة ونقل للبحث
إلى جهة غير ما ينبغي تحريره.
فالذي ينبغي ان يقال هو: إحالة الالتزام بأحد الوجهين على ما يلتزم به
في مسالة التجري من استحقاق المتجري للعقاب وعدمه، فان البحث هناك يقع
في أن ملاك الثواب والعقاب هل هو نفس مخالفة التكليف وموافقته. وبتعبير

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 110 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 198 - الطبعة الأولى.
239

آخر: ان العقاب يكون على نفس العمل الذي يكون مخالفا للتكليف امرا أو
نهيا، أو ان ملاك الثواب والعقاب هو ما يتصف به العبد من كونه في مقام الإطاعة
والامتثال، أو كونه في مقام المعصية والمخالفة وإن لم يتحقق منه المخالفة فعلا، نعم
يشترط فيه إظهار هذه الصفة النفسية، فلا يتحقق العقاب على مجرد كون العبد
في مقام المعصية - لو اطلع عليه المولى - مع عدم إظهار ذلك بمظهر.
فموضوع النزاع هو: ان العقاب والثواب يترتب على نفس المخالفة
والموافقة للتكليف أو يترتب على الانقياد والتجري، والأول كون العبد في مقام
الإطاعة مع إظهار ذلك. والثاني كونه في مقام المعصية مع إظهاره أيضا، لا مجرد
الصفة النفسانية فإنها لا تقضي فإنها لا تقتضي ثوابا ولا عقابا.
فمع الالتزام بان العقاب يترتب على نفس التجري ولو لم تحصل المخالفة
للتكليف، لان ملاك العقاب هو طغيان العبد على المولى الموجب لبعده عنه
والحاصل بالتجري - كما عليه المحقق الخراساني (1) -، لا بد من الالتزام بان
العقاب يتحقق عند ترك المقدمة لتحقق التجري به، واظهار عدم المبالاة بامر
المولى، ولأجل ذلك التزم صاحب الكفاية ههنا بترتب العقاب عند ترك المقدمة.
ومع عدم الالتزام بذلك، والالتزام بان موضوع العقاب نفس المخالفة فلا
عقاب على التجري ما لم يصادف الواقع - كما يظهر من الشيخ (رحمه الله) (2) -،
كان الوجه الالتزام - فيما نحن فيه - بترتب العقاب في ظرف الواجب، إذ لا
يتحقق ترك الواجب ومخالفته بمجرد ترك المقدمة، لتقيده بظرف خاص وهو بعد
لم يأت.
وبالجملة: لا بد من بناء الحق في المقام على ما يحقق في مسالة التجري من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 259 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 5 - الطبعة الحجرية.
240

أحد الوجهين.
واما ما يظهر من المحقق الأصفهاني من نفي ترتب العقاب عند ترك
المقدمة، ولو التزم بان موضوع الثواب والعقاب هو الانقياد وعدمه، فهو لا يخلو
عن مسامحة.
الجهة الثالثة: في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتب الثواب على
بعض المقدمات، كما روي أن في كل خطوة في زيارة الحسين (عليه السلام) كذا
من الثواب (1)، فإنه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدمة الذي قرر في الجهة
الأولى (2).
وقد ذكر لذلك وجوه:
منها: انه من باب التفضل لا الاستحقاق.
ومنها: ان الثواب يكون على ذي المقدمة لكنه بزيادة المقدمات أو
بمشقتها يزيد الثواب عليه من باب ان أفضل الاعمال أحمزها، فليس الثواب
على نفس المقدمة، بل على ذي المقدمة، فإنه يثاب عليه بثواب عظيم على قدر
مقدماته المذكورة في النص. وبتعبير آخر: ان للواجب - ذي المقدمة - حصصا
يكون مقتضى الروايات المزبورة زيادة الثواب على هذه الحصة المعينة وعدمه في
غيرها.
وتوهم: ان الوعد بالثواب على المقدمات يكشف عن استحباب هذه
المقدمات في أنفسها كما يستظهر ذلك من روايات: " من بلغ " (3)، ويبنى على
التسامح في أدلة السنن.
يندفع: بأنه - لو تم في نفسه - إنما يلتزم به لو لم يكن هناك وجه آخر

(1) كامل الزيارات / 133 فيما ورد في زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 110 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) المحاسن / 25 والكافي 2 / 87.
241

يوجه به الوعد بالثواب بحيث يحافظ على كونها واجبات غيرية ويجمع بين كلتا
الجهتين، اما مع امكان حمل النصوص على ما لا ينافي المقدمية فلا تصل النوبة
إلى الحمل على الاستحباب النفسي فلاحظ.
هذا تمام الكلام في جهات هذا الامر الثلاثة.
يبقى الكلام في أمر تعرض إليه الاعلام جميعا، وهو البحث في عبادية
الطهارات الثلاث وترتب الثواب عليها، فان فيها اشكالا، وقد قرره الشيخ
(قدس سره) في كتاب الطهارة بلزوم الدور (1). وتقريبه يتوقف على مقدمتين:
الأولى: ان رفع الحدث المانع من الصلاة، - وإن شئت فقل: الطهارة -
انما يتحقق بالوضوء إذا وقع الوضوء على وجه العبادية المتوقف على تعلق الامر
به كي يقصد الاتيان به بداعي ذلك الامر فيكون عبادة. إذ من الواضح انه إذا
جاء بأفعال الوضوء من دون ان تتعنون بعنوان العبادية وبلا ان تكون على
وجه العبادة لم يتحقق بها رفع الحدث ولا استباحه الصلاة.
الثانية: انه لا أمر بالوضوء لاجل الصلاة إلا الامر الغيري الثابت له
بملاك المقدمية.
وإذا تمت هاتان المقدمتان يأتي الاشكال، وذلك لان الامر الغيري انما
يتعلق بالوضوء بما أنه مقدمة - باعتبار أنه رافع للحدث المانع، ورفع المانع من
المقدمات -، ومقدميته متوقفة على الاتيان به على وجه العبادة - إذ عرفت أن
رفع الحدث المانع يتوقف على إتيانه بنحو العبادة -، والاتيان به على وجه العبادة
يتوقف على الامر به، فعليه يكون الامر الغيري متوقف على مقدميته ومقدميته
متوقفة على الامر الغيري به فيلزم الدور. وعبر عن هذا الاشكال بعبارة أخرى
ومحصلها: ان ايجاب الوضوء الغيري يتوقف على كون الوضوء مقدمة في نفسه،

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة / 87 - الطبعة الأولى.
242

وهذا يتنافى مع فرض كون مقدمية الوضوء تتوقف على الاتيان به بداعي امتثال
الامر، إذ لا أمر هنا غير الامر الغيري.
ومن هنا لا بد من رفع اليد عن إحدى المقدمتين، فيلتزم:
اما بوجود أمر آخر متعلق بالوضوء غير الامر الغيري، يكون قصده
مصححا لعبادية ومحصلا لمقدميته فيتعلق به بما هو كذلك الامر الغيري، فلا دور،
إذ الامر الغيري وان توقف على عبادية الوضوء، لكن عبادية الوضوء غير
متقومة به، بل بالأمر الآخر المفروض.
واما بتحقيق رفع الحدث من دون التعبد بالوضوء ووقوعه بنحو العبادية،
بل يكون من لوازم الفعل كرفع الخبث، فيرد الامر الغيري على الوضوء لأنه
مقدمة في نفسه.
ولكن الالتزام الأول خلاف فرض عدم وجود أمر غير الامر الغيري.
والثاني مناف للاجماع المنعقد على توقف رفع الحدث بالوضوء على
الاتيان به بنحو العبادة.
فالاشكال وارد، الا انه تصدي لدفعه بوجهين:
الوجه الأول: ان الوضوء في نفسه معنون بعنوان واقعي راجح في ذاته،
بذلك العنوان يكون الوضوء رافعا للحدث، إلا أن العنوان من العناوين
القصدية التي لا تتحقق إلا بالقصد إليها - نظير عنوان التعظيم -.
وعليه، فالوضوء مع قطع النظر عن الامر الغيري مقدمة لتحقق رفع
الحدث به بدونه بقصد ذلك العنوان الراجح في ذاته الموجب لوقوعه بنحو
العبادة. فيتعلق به الامر الغيري من دون اشكال، لان عبادية الوضوء لا تتوقف
على الامر الغيري - كي يلزم الدور -، بل هو عبادة مع قطع النظر عن الامر
الغيري. نعم هناك شئ، وهو انه لما كان العنوان القصدي الذي يتعنون به
الوضوء مجهولا لدينا فلا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الامر الغيري
243

بالعمل، إذ الامر الغيري متعلق بالوضوء بلحاظ العنوان المتعنون به، فيكون
العنوان بذلك مقصودا اجمالا، ويكون قصد امتثال الامر الغيري طريقا إلى
قصد العنوان القصدي.
وبالجملة: التقرب والعبادية الحاصلة بالوضوء ناشئة من رجحانه الذاتي
بلحاظ العنوان المنطبق عليه، وليست ناشئة من قصد الامر الغيري.
ومن هنا يظهر ان استحقاق الثواب ليس من جهة قصد الامر، كي يقال
بان الامر الغيري مما لا يستحق على موافقته المثوبة، بل من جهة رجحانه
الذاتي ولكونه في نفسه عبادة.
هذا توضيح ما افاده الشيخ من الاشكال، والوجه الأول من الجواب.
ومنه تعرف ما في الكفاية من المسامحات وذلك بأمور ثلاثة:
الأول: ذكره هذا الوجه جوابا عما قرره من الاشكال في الطهارات
الثلاث، ببيان انه قد أجيب به عنه، وما قرره من الاشكال يختلف عما - قرره
الشيخ من اشكال الدور - كما ستعرفه ان شاء الله تعالى -، فالجواب المذكور لم
يذكر جوابا عن اشكال صاحب الكفاية، بل ذكر جوابا عن اشكال الدور الذي
ذكره الشيخ.
الثاني: ذكر الجواب بنحو ناقص، فإنه لم يذكر فيه كون العنوان الذي
يتعنون به الوضوء من العناوين الراجحة في ذاتها الذي صرح به الشيخ، بل
غاية ما جاء في الكفاية انه من العناوين القصدية، فتقصد اجمالا بقصد امتثال
الامر الغيري. وهذا التصرف مخل بالمقصود كما سيتضح.
الثالث: الايراد عليه بأنه لا يفي برد اشكال ترتب المثوبة على الوضوء.
ووضوح هذه المسامحة مما لا يخفى على من لاحظ جواب الشيخ، فإنه كيف لا
يفي برد الاشكال المزبور؟ مع فرض أنه راجح في ذاته، فتكون المثوبة على
رجحانه ذاتا لا على امتثال الامر الغيري، وقد أشار الشيخ (رحمه الله) إلى هذا
244

الاشكال واندفاعه، فلم يعلم وجه ذكره، ولعله لاجل عدم فرض العنوان راجحا
في ذاته في تقرير الجواب الذي ذكره.
وخلاصة القول: ان ما جاء في الكفاية من المسامحات الغريبة التي كون
صدورها من مثل صاحب الكفاية مورد العجب، وغاية ما لدينا من الاعتذار عنه
أنه لم يكن يحضره حين تحرير هذا المطلب كتاب طهارة الشيخ ليطلع على
خصوصيات ما جاء فيها اشكالا وجوابا، بل كان مطلب كتاب الطهارة في ذهنه
فكان ذلك منشأ لفوات بعض خصوصياته عليه.
وبعد ذلك نعود إلى أصل المبحث، فنذكر ما ذكر من الاشكالات على
عبادية الطهارات الثلاث وما قيل في الجواب عنها.
والذي يحضرنا من الاشكالات خمسة:
الأول: ما جاء في الكفاية من أن موافقة الامر الغيري قد فرض انها لا
تستلزم القرب، والمفروض حصول التقرب بالاتيان بالطهارات الثلاث لاجل
الصلاة.
الثاني: ما جاء في الكفاية - أيضا - من أن موافقة الامر الغيري لا
تستوجب ثوابا كما فرض، مع ترتب الثواب على الاتيان بالطهارات الثلاث
لاجل الصلاة بلا إشكال.
الثالث: ما جاء في الكفاية - أيضا - من أن الامر الغيري أمر توصلي
يسقط بمجرد الاتيان بمتعلقه، مع أنه في الطهارات الثلاث ليس كذلك، إذ لا بد من
الاتيان بها بنحو العبادة وقصد امتثال الامر الغيري (1).
الرابع: ما ذكره الشيخ من اشكال الدور، وان الامر الغيري يتوقف على
عبادية الوضوء وأخويه، فإذا كانت عبادية الوضوء تتوقف على الامر الغيري

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 111 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
245

لزم الدور. وقد مر توضيحه.
الخامس: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) من أن الامر الغيري
يتعلق بما هو عبادة، والعبادية تحتاج إلى الامر، فاما ان تكون عبادية الوضوء
ناشئة من تعلق الامر الغيري به، أو من تعلق أمر نفسي آخر به استحبابي.
فعلى الأول يلزم الدور.
والثاني ممتنع من وجوه:
الأول: انه لو تم، فهو إنما يتم بالنسبة إلى الوضوء والغسل مما قام الدليل
على استحبابهما في أنفسهما، واما التيمم فلا دليل على استحبابه في نفسه.
الثاني: ان الامر النفسي الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب، لامتناع
اجتماع المثلين.
الثالث: انه لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الامر النفسي بها لما صح
الاتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلى أمرها النفسي الاستحبابي،
مع أنه لا اشكال في صحتها لو أتي بها بداعي الامر الغيري المترشح عن الامر
بذي المقدمة بلا التفات إلى الامر النفسي المتعلق بها، ويشهد لما ذكر عدم صحة
الاتيان بصلاة الظهر بداعي الامر الغيري المتعلق بها المترشح من الامر
النفسي المتعلق بصلاة العصر، من دون قصد الامر النفسي المتعلق بها بذاتها.
وهكذا الاتيان بالصوم الذي هو مقدمة للاعتكاف بداعي أمره الغيري المترشح
عن الامر بالاعتكاف بلا قصد الامر النفسي المتعلق به بخصوصه. وهذا يكشف
عن أن الطهارات الثلاث ليست كالصوم للاعتكاف وصلاة الظهر من كونها
متعلقة للامر النفسي مع كونها مقدمة، والا لجرى فيها ما جرى فيها من لزوم
قصد الامر النفسي في صحة العمل (1).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 174 - الطبعة الأولى.
246

هذا مجموع ما ذكر من الاشكالات، واما ما ذكر من وجوه الجواب فهو:
الوجه الأول: ما افاده صاحب الكفاية (رحمه الله) من أن هذه الطهارات
الثلاث مستحبة في أنفسها. وهي بما عبادة مقدمة للصلاة، فالامر الغيري
متعلق بما هو عبادة في نفسه (1).
وبهذا الوجه تندفع الوجوه الأربعة الأولى للاشكال.
اما الأول: فلان التقرب لم يحصل من جهة موافقة الامر الغيري، كي
يقال ان موافقته لا تستلزم القرب، بل من جهة ان الفعل في نفسه عبادة ومأمور
به نفسيا، فالتقرب يحصل بلحاظ موافقته للامر الاستحبابي.
واما الثاني: فلان استحقاق الثواب ليس لاجل موافقة الامر الغيري،
بل من جهة موافقة الامر الاستحبابي، ولكون الفعل راجح في ذاته.
واما الثالث: فلان الامر الغيري ههنا لا يختلف عنه في سائر المقدمات
في كونه توصليا، إلا أن متعلقه ههنا ما هو عبادة في نفسه، فلا يتحقق الاتيان
بمتعلقه إلا بالاتيان به بنحو العبادية، إذ قد عرفت أن المقدمة ما هو عبادة،
فالعبادية ليست من جهة كون الامر الغيري عباديا كي يتجه سؤال الفرق بينه
هنا وبين غيره في سائر المقدمات، بل من جهة ان الواجب النفسي يتوقف على
ما هو عبادة، فمتعلق الامر الغيري ما هو عبادة في نفسه.
واما الرابع: فلان العبادية إذا كانت ناشئة من جهة الامر النفسي المتعلق
بها يرتفع الدور، إذ الامر الغيري وان توقف على العبادية لقوام المقدمية بها، إلا أن
العبادية لا تتوقف على الامر الغيري فلا دور.
واما ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) من وجوه الاشكال على هذا
الوجه فهي مندفعة:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 111 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
247

اما الوجه الأول: فلانه وإن لم يقم دليل خارجي على استحباب التيمم
في نفسه، الا ان الاجماع القائم على لزوم التعبد به مع عدم تعلق غير الامر
الغيري به، إذا كان بنحو يصح الاعتماد عليه ودليلا على ما قام عليه كان بنفسه
كاشفا عن استحبابه في نفسه، إذ ذلك يلازم لزوم الاتيان به عبادة، لان لا طريق
إلى ذلك غير هذا الوجه. وإذا لم يكن بنحو يصح الاستناد إليه لم يكن وجه
للالتزام بلزوم الاتيان بالتيمم بنحو العبادية، إذ لا وجه له غير الاجماع
والمفروض انه غير صالح للنهوض على اثبات ما قام عليه.
واما الوجه الثاني: فلان الاستحباب وان كان يندك بالوجوب الغيري،
الا ان المرتفع هو الامر والإرادة بحدها، لاستلزام بقائه اجتماع المثلين، اما واقع
الإرادة الاستحبابية وذاتها فهي لا ترتفع بالوجوب الغيري، بل تتداخل
الإرادتان وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة كتداخل النورين، وذلك يكفي في
امكان الاتيان به بنحو العبادة وفي تحقق التقرب كما سيتضح.
واما الوجه الثالث: فلوجود الفرق بين الطهارات ومثل الصلاة الظهر
والصوم للاعتكاف بحيث يصح قصد الامر الغيري في الطهارات ولا يصح في
مثل صلاة الظهر، فلنا دعويان:
إحداهما: صحة قصد الامر الغيري في الطهارات وتحقق التقرب بذلك.
وثانيتهما: عدم صحة قصد الامر الغيري في مثل صلاة الظهر مما يكون
واجبا نفسيا.
وتقريب الأولى: ان الطهارات وان كانت مستحبة في ذاتها، الا أنها إذا
كانت مقدمة لا تكون موردا إلا للامر الغيري، سواء قلنا بان الامر الغيري
عبارة عن الإرادة الشديدة التبعية أو أنه عبارة حكم مجعول، كما يقال في
مثل: " أدخل السوق واشتر اللحم ".
248

اما إذا قلنا بأنه عبارة عن نفس الإرادة، فتعلقها بالطهارات بحدها مع
تعلق الإرادة الاستحبابية بها يستلزم اجتماع المثلين وهو محال، بل الواقع هو
اندكاك الإرادة الاستحبابية بالإرادة الوجوبية وخروج كل منهما عن حده
الخاص، وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة، نظير اندكاك النور الضعيف بالنور
القوي وانصهار أحدهما بالآخر، فينشأ منهما نور واحد أقوى، ولكن لا يكون
لكل منهما وجود منحاز عن الآخر أصلا، بل ليس هناك إلا وجود واحد للنور
وهو النور الأقوى. فالحال في الإرادة كذلك فإنه تنشأ من الإرادتين المندكتين
إرادة واحدة مؤكدة يعبر عنها بالوجوب الغيري، إذ هو يغلب الاستحباب،
والمفروض ان الإرادة الزامية. كما أنه لا تكون إرادة نفسية كما لا يخفى، فلا
محيص عن أن تكون هذه الإرادة المؤكدة إرادة غيرية، إلا أنها ليست كسائر
الإرادات الغيرية لأنها مشوبة بجهة راجحة نفسية، ولأجل ذلك صح قصد الامر
الغيري دون الاستحبابي، لعدم بقاء الامر الاستحبابي، بل لا يتصور سوى
قصد الامر الغيري، إذ لا أمر غيره. ويحصل بقصده التقرب، إذ هو يشتمل على
جهة رجحان في ذاته، فهو ليس على حد سائر الأوامر الغيرية كي يقال ان
حصول التقرب به ينافي فرض عدم مقربية الامر الغيري، بل هو أمر غيري،
لكنه يختلف عن سائر الأوامر الغيرية، لعدم تمحضه في الغيرية، بل هو مشوب
بجهة راجحة ذاتية، فان الجهة الاستحبابية مؤثرة في تحقق التقرب وإن لم يكن
لها وجود بحدها. نظير النور الضعيف فإنه مؤثر في ذاته، لكنه لا تميز له ولا
انحياز.
وبالجملة: لا منافاة بين الالتزام بحصول التقرب بقصد الامر الغيري
ههنا، وبين ما تقدم من عدم مقربية الامر الغيري، إذ الامر الغيري ههنا يختلف
عن سائر الأوامر الغيرية لاشتماله على جهة رجحان في ذاته.
واما إذا كان الامر الغيري حكما مجعولا، فالامر فيه بالنسبة إلى
249

الاندكاك كذلك، إذ بعد فرض حصول الاندكاك في منشاء الجعل وعدم وجود
إرادتين، بل ليس هناك إلا إرادة واحدة لا يعقل فرض تحقق حكمين مجعولين
لخلوهما عن منشاء الجعل، فليس لدينا أيضا سوى حكم واحد مجعول هو الحكم
الغيري المشوب بجهة رجحان نفسية.
وتقريب الدعوى الثانية: ان صلاة الظهر ونحوها مما كان واجبا في نفسه
لم يثبت تعلق الامر الغيري بها، إذ هناك من يرى عدم صحة تعلقه لوجود المانع
وهو الامر النفسي، فيرتفع موضوع الايراد على هذا ولو سلم تعلق الامر
الغيري بها، فهو مندك بالأمر النفسي. ومن الواضح ان المغلب هو جانب
الإرادة النفسية، والامر النفسي لأقوائيته، فيمتنع قصد الامر الغيري حينئذ
لعدم وجوده، فلا بد من قصد الامر النفسي المتعلق بها.
واما الصوم للاعتكاف، فموضوع البحث منه ما إذا كان الاعتكاف واجبا
ولم يكن الصوم واجبا، فيكون حاله حال الطهارات المشتملة على جهة استحباب
نفسي ووجوب غيري.
ولا يخفى ان الالتزام بصحة قصد الامر الغيري فيه وصحته بذلك لا
محذور فيه، ولم يثبت قيام الاجماع بنحو يكون حجة على خلافه، إذ لا تصريح
للكل بذلك، فدعوى الاجماع ترجع إلى نسبة الحكم إليهم اجتهادا.
وبذلك تعرف اندفاع ما افاده المحقق النائيني بحذافيره.
وقد تصدى صاحب الكفاية للجواب عن اشكال الاكتفاء بقصد الامر
الغيري وصحة الفعل بالاتيان به بهذا القصد، بما توضيحه: ان الامر الغيري
حيث إنه متعلق بالفعل العبادي، فهو انما يدعو إليه، لان الامر يدعو إلى ما
تعلق به فيقصد التقرب بالفعل بتوسط قصد الامر الغيري، فمعنى الاتيان
بالعمل بداعي أمره الغيري هو الاتيان به بالنحو العبادي، لأنه هو الذي يدعو
250

إليه الامر الغيري (1).
وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الجواب: بان الامر النفسي
الاستحبابي أو الجهة الراجحة النفسية، اما أن يكون ملتفتا إليها عند العمل،
أو مغفولا عنها بالمرة، فان كانت ملتفتا إليها كانت هي الداعية إلى العمل، لا
الامر الغيري، إذ لا حاجة حينئذ إلى توسيط دعوة الامر الغيري. وان كانت
مغفولا عنها لم يتحقق القصد إليها ولو اجمالا، فلا تتحقق العبادية، لكون
المفروض قوامها بقصد الامر النفسي (2).
وهذا الاشكال بظاهره سديد، إلا أنه قد يخدش فيه عند التأمل.
فالأولى ان يقال: - اشكالا على صاحب الكفاية -: ان المقصود..
اما أن يكون قصد الامر الغيري بنحو داعي الداعي، بلحاظ أنه يدعو
إلى الاتيان بالفعل بداعي الاستحباب النفسي لأنه متعلقه، فيكون الامر
الغيري داعيا إلى داعوية الامر النفسي، فيؤتى بالفعل بداعي الامر النفسي،
والمجموع بداعي الامر الغيري. فإذا كان المقصود هذا المعنى، فهذا مما لا
يستشكل فيه أحد، لفرض قصد الامر النفسي، وكون الامر الغيري بنحو داعي
الداعي أمر لا محذور فيه، بل له نظائر وأشباه في كثير من الفروع.
وبالجملة: هذا النحو خارج عن المفروض، إذ المفروض كون المقصود
خصوص الامر الغيري.
واما أن يكون مقصوده قصد الامر الغيري فقط بمعنى انه يؤتى بالعمل
كالوضوء بداعي الامر الغيري لا غير، فهذا يتوقف على تعلق الامر الغيري
بذات الوضوء. وهو يتصور على نحوين:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 111 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 201 - الطبعة الأولى.
251

أحدهما: ان يتعلق به أمر غيري استقلالي، باعتبار ان المقدمة إذا كانت
هي العمل بقصد القربة، فكل من العمل وقصد القربة جزء المقدمة، وجزء
المقدمة يكون مقدمة أيضا، فيكون العمل بنفسه مقدمة ويتعلق به الامر الغيري
بذاته.
ثانيهما: ان يتعلق به أمر غيري ضمني، باعتبار تعلق أمر استقلالي واحد
بالمركب من الوضوء وقصد القربة، وهو ينحل إلى أمرين ضمنيين غيريين يتعلق
أحدهما بذات الوضوء.
وعلى أي حال فالوضوء متعلق لامر غيري يقصد امتثاله عند الاتيان به.
وهذا المعنى لم تم، فهو لا يستلزم تحقق العبادية بالقصد الاجمالي، بلحاظ
أن الامر الغيري يدعو إلى ما تعلق به، فان المفروض انه إنما تعلق بذات
الوضوء، فهو أنما يدعو إلى ذات الوضوء لا إلى الوضوء بقصد القربة، فمن أين
تتحقق عبادية الوضوء؟
فالمتعين في جواب اشكال الاكتفاء بقصد الامر الغيري ما ذكرناه.
ونتيجة ما تقدم هو: ان الوجه الذي ذكره صاحب الكفاية في رفع اشكال
عبادية الطهارات وجه خال عن المحذور، فهو ممكن ثبوتا.
إلا أنه انما يتعين الالتزام به إثباتا لو لم يتم وجه آخر من الوجوه المذكورة
في دفع الاشكال، إذ ينحصر حل العويصة به، ويكون هو طريق الجمع بين
الاجماع على عبادية الطهارات وما يرد على العبادية من إيراد.
واما لو فرض تمامية بعض الوجوه الآتية، فلا يتعين الالتزام بهذا الوجه،
إذ لا معين له في مقام الاثبات دون غيره.
ثم إنه لا بد من التعرض - بعد إنهاء هذا المبحث - إلى بيان صحة قصد
الامر الاستحبابي في مورد تعلق الامر الغيري بالوضوء ونحوه، كما لو دخل
الوقت أو عدمها، فان الظاهر من تعبير صاحب الكفاية ب‍: " الاكتفاء بقصد
252

امرها الغيري " هو عدم تعين قصده وجواز قصده الاستحباب كما لا يخفى، مع أنه
قد يدعي عدم صحة قصد غير الامر الغيري في مورده.
وهذا بحث تعرض إليه الاعلام (قدس سرهم)، وان كان بحثا فقهيا
وليس من مباحث الأصول. فانتظر.
الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) وقد تقدم بيانه وبعض الكلام
حول عبارة الكفاية بالنسبة إليه، ومحصله: الالتزام بان الوضوء معنون بعنوان
قصدي راجح في ذاته، يكون قصد الامر الغيري طريقا إلى قصد ذلك العنوان
اجمالا، لان الامر الغيري يدعو إلى ما تعلق به.
ومن الواضح انه تندفع به جميع الاشكالات، فان المقربية والثواب انما
يكونان بلحاظ كون العمل بنفسه راجحا لتعنونه بالعنوان الراجح، لامن جهة
اقتضاء امتثال الامر الغيري لذلك، كما أن الامر الغيري ليس تعبديا، بل هو
توصلي، وقصده انما هو لاجل طريقيته إلى قصد العنوان الراجح.
كما أن محذور الدور يرتفع به - كما تقدم بيانه - إذ العبادية لم تنشأ من
الامر الغيري فتوقف الامر الغيري على عباديته لا تستلزم الدور.
واما الاشكالات المذكورة في كلام المحقق النائيني، فقد عرفت اندفاعها،
إذ هذا الوجه كالوجه الذي ذكره صاحب الكفاية في النتيجة لكنه يؤاخذ:
أولا: بأنه لا ملزم للالتزام بان الوضوء متعنون بعنوان قصدي راجح في
ذاته، إذ ينحل الاشكال بالالتزام برجحان الوضوء بنفسه واستحبابه بذاته - كما
ذكره صاحب الكفاية - بلا حاجة إلى فرض عنوان مجهول قصدي، فان ذلك
تبعيد للمسافة.
وثانيا: بما جاء في الكفاية من الايراد على توجيه قصد الامر الغيري، بأنه
لاجل تحقق قصد العنوان اجمالا للجهل به.
وتوضيحه: ان قصد العنوان المجهول بتوسط الامر الغيري لا ينحصر
253

بأخذ الامر الغيري داعيا إلى العمل، بل يتحقق مع أخذه بنحو التوصيف،
وكون الداعي شيئا آخر، فيقصد المكلف الاتيان بالوضوء المأمور به لا الوضوء
بداعي الامر. فان الوصف إشارة أيضا إلى ذلك العنوان (1).
وبمثل هذا الايراد أورد الشيخ (رحمه الله) نفسه على من التزم بلزوم قصد
الوجه في العبادات بتقريب: ان الامر انما تعلق بهذه الأفعال بلحاظ انطباق
عناوين واقعية راجحة عليها، ولا يمكن قصد تلك العناوين تفضيلا للجهل بها،
فلا طريق إلا الاتيان بالفعل بداعي الوجوب، لأنه متعلق بالفعل المعنون بذلك
العنوان، فيكون العنوان مقصودا اجمالا، فقد أورد الشيخ على هذا التقريب، انه
لا يستلزم تعين قصد الوجه، بحيث يكون الوجوب داعيا، إذ قصد العنوان
الواقعي الراجح يتحقق بالاتيان بالفعل المتصف بالوجوب، بحيث يؤخذ
الوجوب بنحو التوصيف لا الداعي. فتدبر.
الوجه الثالث: ما نسب صاحب الكفاية إلى الشيخ أيضا، وهو: ان
الغرض من ذي المقدمة كما لا يتحقق إلا بالاتيان به بنحو عبادي، فكذلك
بتوقف تحقق الغرض من الغاية - ذي المقدمة - على تحقق المقدمة، والاتيان بها
بنحو عبادي. فعبادية الطهارات لاجل توقف حصول الغرض من غاياتها
عليها (2).
ومن الواضح: ان هذا لا يصلح حلا لاي اشكال من الاشكالات
السابقة كيف؟ وهو بيان لموضوع الاشكال، فان نتيجته ليست إلا اثبات ان
الطهارات لا بد من الاتيان بها بنحو عبادي، وهذه الجهة قد أخذت مفروغا
عنها، والمفروض ان الاشكالات مترتبة على الاعتراف بهذه الجهة، فكيف تصلح

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 111 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 112 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
254

حلا للاشكالات ودفعا لها؟ فان موضوع البحث هو معرفة منشاء عبادية
الطهارات الثلاث والسر فيه، بحيث تندفع به الايرادات، لا معرفة ان الطهارات
عبادية أو غير عبادية.
ومن العجيب نسبته هذا الوجه إلى الشيخ (رحمه الله) مع أن الوجه
المذكور في كلام الشيخ لا يرتبط به بالمرة.
فان الشيخ في مقام دفع اشكال الدور المتقدم ذكره ذكر وجهين: أحدهما
ما تقدم وتقدم الكلام حوله. وثانيهما هو: ان المقدمية إذا كانت متقومة بكون
الفعل عباديا، فلا محيص عن أن يلتجئ المولى إلى الامر بذات العمل - بدون
أخذ قصد الامر فيه، بناء على امتناع أخذه في متعلق الامر كما تقدم البحث فيه
-، ثم اعلام المكلف بلزوم الاتيان بالفعل بداعي أمره، وان الغرض منه لا يتحقق
بدون ذلك، وبذلك لا يحتاج إلى أمر آخر لتحقق غرض المولى بذلك، فيكون
الامر مقوما للمقدمية ومغن عن أمر آخر، وبذلك يرتفع الدور، إذ عبادية الفعل
وان نشأت من تعلق الامر به، لكن الامر تعلق بذات العمل، فهو لا يتوقف على
الفعل العبادي كي يتحقق الدور (1).
ومن الواضح ان ما جاء في الكفاية لا ربط له بما ذكرناه عن كتاب
الطهارة، فان ما جاء في كتاب الطهارة حل للاشكال، ومن العجيب ان المشكيني
ادعى ان الوجه المذكور في الكفاية هو مختار التقريرات (2)، فإنه كما عرفت لا
يحل اشكال الدور أصلا، بل هو يمهد موضوع الاشكال، وقد عرفت أن
الاشكال الذي ذكره الشيخ هو اشكال الدور فقط، فكيف يجعل هذا الوجه
جوابا له وردا عليه؟ وبذلك نستطيع الجزم بعدم كونه مراد التقريرات وإن لم

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة / 88 - الطبعة الأولى.
(2) كما في حاشية كفاية الأصول 1 / 179 - طبعة المحشاة بحاشية المشكيني.
255

تحضرنا التقريرات فعلا (1).
واعجب منه ما ذكره المحقق الأصفهاني من: ان الوجه الذي في الكفاية
هو نفس الوجه المذكور في كتاب الطهارة بأدنى تغيير (2)، فإنك قد عرفت البون
الشاسع بينهما وعدم ارتباط أحدهما بالآخر.
ومجمل الكلام: ان الانسان يقف موقف الحيرة والاستغراب تجاه هذه
الاشتباهات المتكررة. فلا حظ.
الوجه الرابع - وهو ما نقله صاحب الكفاية -: انه يلتزم بوجود أمرين:
أحدهما يتعلق بذات العمل. وثانيهما يتعلق بالعمل بقصد الامر الأول، فيتمكن
المولى بهذه الطريقة من تحقيق عبادية الطهارات، إذ بدون ذلك لا يتمكن منه،
لعدم كون الطهارات بنفسها عبادة، وعدم إمكان أخذ قصد الامر في متعلق
الامر الأول.
وأورد عليه في الكفاية بوجهين:
الأول: ان ذات العمل ليست بمقدمة، إذ المفروض كون المقدمة هو
العمل العبادي لا مجرد الحركات الخاصة. وعليه فيمتنع ان يتعلق بها أمر غيري
مترشح من الامر النفسي، إذ ملاك تعلق الامر الغيري بالعمل كونه مقدمة
للواجب النفسي، فلا يتعلق بما ليس بمقدمة.
الثاني: انه قد مر امتناع تصحيح أخذ قصد الامر في متعلق الامر شرعا
بالالتزام بأمرين، وانه لا محيص عن كونه مما يحكم به العقل لا الشرع.
فتصحيح عبادية الطهارات بأمرين لا يخلو عن المحذور (3).

(1) ذكر سيدنا الأستاذ - دام ظله - في اليوم الثاني: بأنه راجع التقريرات، فوجدها غير موافقة لما ذكره
صاحب الكفاية كما جزم به أولا. (منه عفي عنه).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 203 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 112 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
256

والتحقيق ان الوجه الأول لا يخلو عن بحث، وهو: ان الامر الأول الذي
يتعلق بالطهارات الثلاث اما أن يكون غيريا، أو نفسيا تهيئيا، أو نفسيا
استقلاليا.
اما إذا كان غيريا - كما هو مفروض ايراد صاحب الكفاية بحسب ما
فهمه من كلام المستدل - فيصح تعلقه بذات العمل على بعض الوجوه.
بيان ذلك: ان العمل مع قصد القربة اما ان يلتزم بأنهما مأخوذان بنحو
التركيب، فيكون كل منهما جزء المقدمة، أو يلتزم بان الامر متعلق بالعمل القربى
بنحو التوصيف والتقييد.
فعلى الأول: لا امتناع في تعلق الامر الغيري بذات العمل، لأنه يكون
بنفسه مقدمة، فان جزء المقدمة مقدمة، كما لا يخفى.
وعلى الثاني: فاما ان يبنى على انحلال الواجب والمأمور به إلى جزئين،
ذات العمل والتقيد، بحيث يختص كل منهما بامر ضمني.
وعلى هذا الأساس يبنى على جريان البراءة في الأقل والأكثر عند
الشك في شرطية شئ، كما تقدمت الإشارة إليه في أول مبحث التعبدي
والتوصلي.
أو يبنى على عدم انحلال المأمور به، وان الواجب في الحقيقة امر بسيط،
وهو الحصة الخاصة.
وعلى هذا الأساس يبنى على عدم جريان البراءة مع الشك في شرطية
شئ في باب الأقل والأكثر.
فان بني على انحلال المأمور به المقيد إلى جزئين، يكون كل منهما قابلا
لتعلق الامر به، فلا مانع حينئذ من تعلق الامر الغيري بذات العمل لأنه جزء
المأمور به.
نعم إذا لم يبن على الانحلال لم يتجه تعلق الامر بذات العمل، لأنه ليس
257

بمأمور به ولا يمكن أن يكون مأمورا به لعدم توفر الملاك فيه. فاشكال صاحب
الكفاية انما يتوجه على البناء الأخير، والا فهو على البنائين الأولين غير متجه.
وتحقيق أحد هذه المباني ليس محله ههنا، بل له مجال آخر يأتي التعرض
إليه.
فالمتعين من ايرادي الكفاية هو الثاني، فقد مر بيان مراد الكفاية من
الاشكال على تصحيح أخذ الامر في متعلق الامر بالالتزام بأمرين، وانه
مما لا محيص عن الالتزام به فيتوجه على هذا الوجه ويضاف إليه ايرادين
آخرين:
أحدهما: ما تقدم من أن الامر الغيري غير قابل للدعوة والتحريك نحو
العمل المأمور به، فلا وجه لان يدعو الامر الثاني إلى دعوة الامر الأول.
وثانيهما: ان قصد امتثال الامر الغيري الأول بتوسط الامر الثاني لا
يستوجب المقربية وترتب الثواب عليه كما تقدم، وتعدد الامر لا يصحح ترتب
الثواب وحصول القرب كما لا يخفى.
وبعبارة أخرى نقول: ان المقصود من الامر الثاني انما هو الاتيان بالعمل
بقصد الامر الأول ليكون عباديا، وهو غير متحقق، إذ الامر الأول لما كان
غيريا لا يكون قصده محققا للعبادية، إذ لا يوجب القرب، فلا يتوصل إلى
العبادية بتعدد الامر.
هذا إذا كان الامر المتعلق بذات العمل غيريا.
واما إذا كان نفسيا تهيئيا، بمعنى انه أمر مستقل غير تابع لثبوت الامر
بالغاية، ولكن الغرض منه التوصل إلى تحقق الغاية، فهو وسط بين الامر الغيري
والنفسي المحض. وقد التزم بتعلقه بالمقدمات المفوتة عند عدم تمامية الوجوه
المذكورة في تصحيح وجوبها قبل زمان وجوب ذيها.
فيرد عليه: انه يمتنع تعلق الامر النفسي التهيئي في هذا الفرض ونحوه
258

مما كان وجوب ذي المقدمة فعليا، وذلك لما ذكرناه في الامر الغيري من عدم
قابليته للدعوة والتحريك. ببيان: ان المكلف اما أن يكون في مقام امتثال الامر
النفسي بذي المقدمة أو لا يكون، فإن كان في مقام امتثال الامر النفسي، كان
إتيانه بالمقدمة مما لا بد منه، سواء قصد امتثال الامر التهيئي أو لم يقصد. وإن لم
يكن في مقام امتثال الامر النفسي لم يتحقق منه قصد الامر التهيئي، إذ قد
عرفت أنه بملاك التوصل إلى الواجب الآخر، فإذا لم يقصد امتثال الواجب
الآخر لم يتحقق التوصل قهرا، فلا يلحظ ملاك الامر التهيئي عند اتيان العمل،
فيمتنع قصد امتثاله.
نعم الامر التهيئي المتعلق بالعمل قبل زمان الواجب الآخر المقصود
التوصل به إليه، كالمتعلق بالمقدمات المفوتة، له قابلية الدعوة، إذ لولاه لما أتي
بالمقدمة المستلزم لترك الواجب، فيمكن أن يكون الداعي للاتيان بالمقدمة ليس إلا
تعلق الامر به، ولولاه لما أتى به وكان معذورا في ترك الواجب في ظرفه، لعدم
القدرة عليه، وعدم الملزم لايجادها أو المحافظة عليها قبل ظرفه.
واما إذا كان الامر نفسيا محضا وذاتيا بلا ارتباط له بامر آخر. فلا
اشكال فيه، إلا أنه خارج عما هو محل الكلام، فان الغرض من هذا الوجه
تصحيح عبادية الطهارات من طريق غير الامر النفسي، والا رجع هذا الوجه
إلى الوجه الأول الذي التزم فيه باستحباب الطهارات بذاتها. فالتفت.
الوجه الخامس: ما افاده المحقق النائيني (قدس سره) من أن الشرائط
كالاجزاء متعلقة للامر الضمني النفسي، فالاتيان بها بداعي أمرها النفسي
الضمني كما يؤتى بالاجزاء كالركوع. وعليه فعبادية الطهارات باعتبار تعلق
الامر النفسي، وبذلك تندفع الايرادات، إذ المقربية والثواب ناشئان من امتثال
الامر النفسي الضمني، ولا أمر غيري في المقام كي يستشكل في عباديته،
واشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الاشكال على تعلق الامر بنفس العمل
259

وذي المقدمة المفروض كونه عباديا، والمحاذير الأخرى التي ذكرها (قدس سره)
واضحة الاندفاع (1).
وهذا الوجه - مع غض النظر عن صحة ما التزم به من كون الشرائط
كالاجزاء متعلقة للامر الضمني، وعدم صحته، فإنه محل كلام، فقد أدعي امتناعه
- غير سديد، فإنه لو سلم كون الامر الضمني يتعلق بالشرائط، فالشرط في ما
نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء وهي مسببة عن الوضوء، والاشكال في
تصحيح عبادية نفس الاعمال المأتي بها، وهي لا تكون متعلقة للامر الضمني لأنها
ليست شرطا، كما أن الطهارة غير متعلقة للامر الضمني، إذ للشيخ (رحمه الله)
بيان وجيه لعدم امكان تعلق الامر بالطهارة أصلا - يأتي ذكره في محله ان شاء الله
تعالى -، فالطهارة ليست على حد سائر الشرائط في كونها متعلقة للامر الضمني
النفسي. فتدبر.
الوجه السادس: ما ذكره السيد الخوئي (حفظه الله) من انه يمكن
الاتيان باحدى الطهارات بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسي التي هي
مقدمة له، فإنه محقق لعباديتها، إذ يكفي في تحقق العبادية الاتيان بالفعل مضافا إلى
المولى المتحقق بقصد التوصل، وإن لم نقل بوجوب المقدمة غيريا. فعبادية
الطهارات الثلاث تتحقق - بنظر السيد الخوئي - بطريقين:
أحدهما: قصد أمرها النفسي لو دل الدليل الاثباتي على استحبابها في
أنفسها كما هو مختاره.
ثانيهما: قصد التوصل بها إلى الواجب النفسي، وإن لم يلتفت إلى
استحبابها النفسي (2).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 175 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 401 - الطبعة الأولى.
260

ولتحقيق الحال في الطريق الثاني - إذ مر الكلام في الطريق الأول - لا بد
ان نقول: انه مما لا اشكال فيه أن هناك فرقا بنظر العرف والعقلاء بين الاتيان
بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسي، والاتيان بها لا بهذا القصد، بل
بقصد دنيوي في حصول المثوبة والقرب في الأول دون الثاني. فإنه إذا وجب
الوصول إلى الكوفة، وكان المشي مقدمة لتحققه، فان اتيانه بالمشي بداعي
الوصول إلى الكوفة الواجب يختلف أثره في مقام الإطاعة والقرب عما لو مشى
لا بقصد الوصول، بل بقصد الترويج عن النفس أو ترويض الجسد.
فان مثل هذا لا يقبل الخلاف، إلا أن تحقق القرب والثواب عند الاتيان
بالمقدمة بداعي التوصل بها إلى الواجب النفسي يمكن أن يرجع سره إلى
أحد وجوه ثلاثة:
الأول: أنه شروع في إطاعة الامر النفسي المتعلق بذي المقدمة، بلحاظ
توقفه على المقدمة، فالاتيان بالمقدمة شروع في إطاعة الامر النفسي، فيستحق
الثواب على المقدمة من باب أنه إطاعة للامر النفسي لا على ذات الاتيان
بالمقدمة.
الثاني: ان الثواب على نفس العمل، إلا أنه من جهة كشفه عن تحقق
صفة حسنة لدى العبد، وهي صفة الانقياد، وقد تقدم ان حسن الانقياد حسن
فاعلي لا فعلي، فمدح المنقاد لا يكون على فعله بل على الصفة الحسنة التي
يكشف عنها الفعل، إذ قد يكون الفعل في نفسه مبغوضا، كما لو قتل ابن سيده
بتخيل انه عدوه. وبالجملة: التقرب الحاصل في صورة الانقياد انما يتحقق بصفة
الانقياد لا بالفعل المنقاد به.
الثالث: ان الثواب على ذات العمل لمقربيته بنفسه.
ولا يخفى ان العبادية المعتبرة في ما نحن فيه هي الاتيان بالفعل بنحو
مقرب. وبتعبير أوضح: هو التقرب بالفعل بحيث يكون نفس الفعل سببا للقرب
261

لكونه محبوبا للمولى.
وعليه، فقصد التوصل بالمقدمة إنما يجدي لو ثبت ان حكم العقلاء بترتب
الثواب عليه - الذي لا كلام فيه - يرجع سره إلى الوجه الثالث.
واما إذا كان مرجعه إلى أحد الوجهين الأولين، فلا ينفع في العبادية
المعتبرة، إذ لا تقرب بنفس العمل على الوجهين الأولين كما لا يخفى.
ومن الواضح ان الجزم بكون مرجعه هو الوجه الثالث في غاية الاشكال
- إن لم نقل في غاية البعد -، إذ الاحتمال الأول لا دافع له، ولو فرض تنزلا
اندفاعه، فلا نجد في أنفسنا دافعا للاحتمال الثاني، فإنه قريب إن لم نقل أنه
متعين.
ويؤيد نفي كون قصد التوصل موجبا للعبادية: ان أغلب المقدمات في
كثير من الموارد يؤتي بها قصد التوصل، إذ لا يكون غرض للعبد فيها غير الوصول
بها إلى الواجب النفسي، فلازم الوجه المذكور كون جميع هذه المقدمات تعبدية،
وهذا مما لا يلتزم به أحد.
كما يؤيده: انه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداع غير قربي
كالرياء، لزم ان تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها، وهو مستبعد جدا.
ثم إنه قد يورد على قصد التوصل بالطهارات الثلاث وتحقق العبادية به
بلزوم الدور بتقريب: ان التوصل انما يكون بما هو مقدمة، والمفروض ان المقدمة
ما هو عبادة لا ذات العمل، فإذا كانت العبادية ناشئة عن قصد التوصل يلزم
الدور، لان قصد التوصل يتوقف على أن يكون العمل عبادة بنفسه، والعبادية
تتوقف على قصد التوصل، وهو الدور.
والجواب عن هذا الايراد: ان المراد من التوصل المقصود بالعمل ليس
هو التوصل الفعلي المباشر، بمعنى ترتب ذات الواجب على المقدمة مباشرة
وفعلا. بل المراد به التوصل إلى الواجب من جهة هذه المقدمة فقط، باعتبار انها
262

تقع في طريق الوصول إليه فيؤتي بها بقصد التوصل من جهتها ولو لم يتحقق
التوصل الفعلي، لامكان توقف الواجب على مقدمات أخرى. فمثلا لو وجب
الكون في الكوفة، فكل خطوة في المشي مقدمة يمكن قصد التوصل بها إلى
الواجب، ومن الواضح انه لا يتحقق التوصل الفعلي إلا بآخر خطوة، فان ما
قبلها من الخطوات من قبيل المعد.
وبالجملة: المراد هو ايجاد القدرة على الواجب من جهة هذه المقدمة ورفع
المانع من قبلها، بحيث لو انضمت سائر المقدمات تحقق الواجب فعلا، فالمراد
من التوصل التوصل التقديري.
إذا اتضح هذا فنقول: ان المقدمة وان كان العمل العبادي إلا أن ذات
العمل أيضا مقدمة باعتبار انه جزء المقدمة. وعليه فيمكن ان يقصد التوصل
بذات العمل بلحاظ ايجاد القدرة على الواجب من جهته فقط، لا القدرة الفعلية
- كي يقال بتوقفها على العبادية فيمتنع حينئذ قصد التوصل - وتحقق العبادية
فتحقق العبادية به لا يستلزم الدور.
فالعمدة في الايراد على الوجه المزبور ما ذكرناه.
والذي ينتج من مجموع ما تقدم: ان جميع الوجوه المتقدمة غير خالية عن
الاشكال سوى الوجه الذي ذكره صاحب الكفاية الذي يرجع إلى استحباب
الطهارات ذاتا وفي أنفسها. ومن الواضح انه نستطيع بنفس هذا الوجه اثبات
استحباب الطهارات الثلاث النفسي من دون حاجة إلى البحث عن الدليل
الخاص على ذلك، وذلك لان إذا قام الاجماع على لزوم الاتيان بها على نحو
عبادي - كما هو المفروض - ولم يكن وجه مصحح لعباديتها سوى الالتزام بالأمر
النفسي كشف ذلك عن تعلق الامر النفسي بها، فإنه ملازم لتعلق الامر الوجوبي
بالواجب المقيد بها، لعدم التمكن منه بدون تعلق الامر النفسي بها، كي يستطاع
263

الاتيان بها بنحو عبادي فيحصل التعبد المعتبر في الواجب.
وأنت خبير في أن هذا إنما يجدي في اثبات تعلق الامر النفسي بها بعد
دخول وقت الواجب للملازمة بين وجوب الواجب وبين استحبابها بالتقريب
الذي عرفته، اما تعلق الامر النفسي بها قبل دخول الوقت وتعلق الامر
بالواجب النفسي فلا يتكفل هذا الوجه إثباته، فإنه غاية ما يتكفل توقف
عباديتها على الامر النفسي، وهذا انما يثبت الامر النفسي في صورة تعلق الامر
الغيري بها، لتوقف ذي المقدمة على الاتيان بها المتوقف على استحبابها فيكشف
عن تعلق الامر النفسي بها، دون ما لم يتعلق الامر الغيري بها، لأنه لا يقتضي
لزوم الاستحباب، بل غاية ما يقتضي انه عند وجوبها والامر بها لا بد وان يؤتى
بها بنحو عبادي المتوقف على الاستحباب.
ولأجل ذلك وقع البحث من الاعلام في اثبات استحباب الطهارات
النفسي في كل آن من الدليل الخارجي غير هذا الوجه.
والثمرة: انه لو ثبت استحبابها النفسي كان الاتيان بها قبل الوقت
بداعي القربة ممكنا، بخلاف الوجه الأول، فإنه انما يتكفل إثبات استحبابها
النفسي بعد الوقت بالملازمة المذكورة.
وهذا البحث وان كان بحثا فقهيا لا يرتبط بالأصول، إلا أنه يحسن
التعرض إليه لمزيد الفائدة فيه وعدم تنقيحه كما ينبغي.
لا بد قبل التعرض إلى هذا المطلب من التعرض إلى بحث اخر لم ينقح
كما ينبغي..
وهو معرفة كون الشك في اعتبار شئ في الطهارات الثلاث من جزء أو
شرط مجرى للبراءة أو الاشتغال، ويتفرع على ذلك تحقيق كون الطهارة امرا
مسببا عن هذه الأفعال أو أنها عنوان لها.
وتحقيق ذلك: انه قد التزم بان الشك المذكور يكون مجرى للاشتغال لا البراءة
264

وذلك: لان الامر تعلق بالطهارة وهي امر بسيط، وهذه الأفعال محققات
ومحصلات للطهارة، فيكون الشك في اعتبار جزء فيها شكا في المحصل، والمقرر
انه مجرى للاشتغال، لأنه شك في تحقق الامتثال لا في التكليف.
وقد استشكل في هذا الوجه: بان الطهارة ليست امرا مغايرا لهذه
الأفعال، فإنها عنوان لهذه الأفعال، فوجودها عين وجود الأفعال. وعليه فيكون
الشك في الحقيقة شكا في التكليف الزائد، لان الامر متعلق بهذه الأفعال بعنوان
كونها طهارة.
وهذا الوجه مما يشعر به كلام الفقيه الهمداني وحققه المحقق الأصفهاني
وتابعه على ذلك السيد الخوئي (1).
ولتوضيحه نقول: ان الأمور الاعتبارية التي تتحقق بامر من الأمور.
تارة: تكون نسبتها إلى ما يحققها نسبة المسبب إلى المسبب، فيكون لها
وجود منحاز عن وجود سببها في عالم الاعتبار، وتكون مغايرة له نظير الملكية
بالنسبة إلى العقد، فان الملكية غير العقد.
وأخرى: تكون نسبتها إلى المحقق نسبة العنوان إلى المعنون، بحيث
ينطبق الامر الاعتباري على نفس محققه فلا تكون بينهما مغايرة وانفصال، نظير
التعظيم الحاصل بالقيام، فان التعظيم من الأمور الاعتبارية التي تختلف
باختلاف الانظار. ومن الواضح انه ينطبق على نفس القيام، فيقال للقيام انه
تعظيم فليس التعظيم غير القيام وجودا.
إذا عرفت ذلك نقول: ان من يذهب إلى اجراء الاشتغال في الطهارات
الثلاث ينظر إلى أن نسبة الأفعال إلى الطهارة نسبة السبب إلى المسبب، نظير
العقد والملكية الحاصلة به، ومن يذهب إلى اجراء البراءة ينظر إلى أن نسبة

(1) الغروي الميرزا علي. التنقيح في شرح العروة الوثقى 3 / 515 - 517 - الطبعة الأولى.
265

الأفعال إلى الطهارة نسبة المعنون إلى عنوانه نظير القيام والتعظيم الحاصل به،
فلا بد..
أولا: من معرفة ما هو الحق من كون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة
المسبب إلى السبب أو نسبة العنوان إلى المعنون، وان الاحتمال الثاني هل يمكن
تعلقه أو لا؟.
وثانيا: معرفة انه إذا التزم بكون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون،
فهل يجدي ذلك في اجراء أصالة البراءة عند الشك كما ادعي أو لا يجدي؟، بل
لا يختلف الحال في لزوم اجراء قاعدة الاشتغال على كلا التقديرين؟.
والذي نراه هو عدم معقولية التقدير الثاني - أعني كون النسبة بينهما
نسبة العنوان إلى المعنون -، وعلى تقدير معقوليته فهو لا ينفع في اجراء أصالة
البراءة.
اما عدم معقوليته: فلان كون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ترجع إلى
اعتبار العنوان الاعتباري للفعل الخارجي عند تحققه، يعني ان الفعل عند وجوده
يعتبر كونه كذا كالقيام، فإنه عند وجوده يعتبر انه تعظيم، فالتعظيم عنوان
اعتباري للقيام الموجود. وبعبارة أخرى: العنوان يجعل ويعتبر بإزاء المعنون،
فلا بد ان يفرض المعنون موجودا كي يعنون بالعنوان اعتبارا. ومن الواضح انه
ليس للوضوء وأخويه وجود استمراري كي يعتبر كونه طهارة مستمرا، بل وجوده
وقتي منقطع، مع أن الطهارة أمر استمراري، فعليه نقول: ان اعتبار الطهارة في
مرحلة البقاء اما أن يكون مع اعتبار وجود الأفعال، فيعتبر كونها طهارة بعد
ذلك. أو بدون ذلك، بل لا يكون سوى اعتبار الطهارة.
والثاني غير معقول، إذ لازمه اعتبار العنوان بدون معنونه، إذ المفروض
انه لا وجود للأفعال بقاء لا حقيقة ولا اعتبارا، فتكون الطهارة عنوانا لامر
معدوم وهو غير معقول، إذ لا وجود للعنوان بدون المعنون لتقومه به.
266

والأول يستلزم أن يكون هناك اعتباران: أحدهما: اعتبار الأفعال وكون
الانسان غاسلا ماسحا. والآخر: اعتبار كون هذه الأفعال الاعتبارية طهارة.
من الواضح انه لو استطاع أحد ان يتفوه بهذا، فهو لغو محض، لأنه
يتمكن من اعتبار الطهارة بنفسها من دون ملزم للاعتبار الثاني، لكن لا على
وجه تكون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون، بل نسبة المسبب إلى السبب،
فاعتبار وجود الوضوء بقاء لا أثر فيه كما هو واضح.
وبالجملة: الالتزام بكون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة العنوان إلى
المعنون مما لا يساعد عليه التأمل.
واما عدم تأثير الالتزام به في اجراء البراءة: فلان الامر لم يتعلق بنفس
الأفعال، بل بالعنوان البسيط الاعتباري المنطبق عليها، والأفعال تكون محققة لذلك
العنوان البسيط المعلوم، فالشك فيها شك في محصل المأمور به، إذ يشك في تحقق
الطهارة بدون الجزء المشكوك، ولا يكون الشك شكا في التكليف كما تخيل. وعليه
فقاعدة الاشتغال هي المحكمة فيما نحن فيه.
والمتحصل: انه لا بد من اجراء قاعدة الاشتغال سواء التزم بان النسبة
بين الطهارة والأفعال نسبة السبب والمسبب أو نسبة العنوان والمعنون.
ثم إن ههنا مذهب ثالث، وهو ان الامر لم يتعلق بالطهارة حتى يقع
الكلام المتقدم، بل هو متعلق بنفس الأفعال من الغسل والمسح. وعليه فمع
الشك في اعتبار جزء أو شرط زائد يكون من دوران الامر بين الأقل والأكثر،
فإنه شك في تكليف زائد على المتيقن، والمقرر ان ذلك مجرى أصل البراءة.
ولا يخفى ان هذا أيضا لا ينفع في اجراء البراءة لأنه لو سلم فما يثبت به
هو تعلق الامر النفسي الندبي بالأفعال لا الامر النفسي الوجوبي، فإنه لا
يحتمل ذلك، إلا في الغسل وهو احتمال ضعيف لا يلتزم به.
والذي بنينا عليه في بحث البراءة هو عدم جريان البراءة في الأوامر
267

الاستحبابية، فلا فائدة في اثبات تعلق الامر بنفس الأفعال من هذه الجهة.
نعم هناك طريق آخر لاجراء البراءة - على هذا الالتزام - وهو اجراؤها
في تقيد الواجب النفسي بها. بيان ذلك: انه إذا فرض أخذ نفس هذه الأفعال
شرطا وكان تقيد الواجب بها معتبرا والتزم بجريان البراءة في مسالة الأقل والأكثر
، سواء كان المشكوك جزءا أو شرطا أمكن جريان البراءة عند اعتبار
شئ في الوضوء زائد على الأجزاء والشرائط المعلومة، وذلك فإنه إذا التزم
بجريان البراءة عند الشك في أصل الشرطية، فلا بد من اجرائها مع الشك في
اعتبار خصوصية في الشرط المعلوم، لان التقيد بما هو معلوم الجزئية والشرطية
للشرط معلوم الوجوب، والتقيد بالأكثر الزائد غير معلوم، فتجري فيه أصالة
البراءة لرجوع في الحقيقة إلى الشك في الشرطية الزائدة وهو مجرى
البراءة. ففيما نحن فيه حيث يعلم بوجوب التقيد بأفعال الوضوء المعلومة الدخل
فيه، ولا يعلم بوجوب التقيد بالزائد المشكوك دخله كان ذلك مجرى البراءة.
ولا يخفى ان هذا الوجه انما ينفع في اجراء البراءة لو فرض ان الشرط
نفس الأفعال لا الطهارة التي تتعنون بها الأفعال أو تكون مسببة عنها. واما إذا
كان الشرط الذي يعتبر التقيد به هو الطهارة، فلا مجال لاجراء البراءة مع الشك
في دخل شئ في الوضوء أو أحد أخويه، لان الشرط أمر بسيط، وهو معلوم
الشرطية، والشك لا يرجع إلى دخالة شئ في نفس الشرط كي يكون الشك في
الحقيقة شكا في اعتبار التقيد به، بل يرجع إلى دخالة شئ فيما هو محقق ومحصل
لهذا الشرط المعلوم، ومعه لا تجري البراءة، لان الشك لا يكون شكا في تكليف
زائد على ما هو المعلوم. فلاحظ.
وحيث انحصر طريق جريان البراءة عند الشك في دخالة شئ في هذه
الأفعال الخاصة في الالتزام بكونها بذاتها شرطا للواجب النفسي، وليس الشرط
هو الطهارة، فلا بد من معرفة الحق في هذا الامر..
268

وهو: وان كان ظاهر بعض الأدلة حيث ورد فيها الامر بنفس الوضوء
لاجل الصلاة كالآية الشريفة وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم..) الآية (1)، وكبعض الأخبار الواردة
عن أهل البيت (عليهم السلام) (2)، إلا أنه يتعين رفع اليد عن ظاهرها والالتزام
بكون الشرط هو الطهارة لمجموع وجوه:
الأول: ورود التعبير عن الحدث بنقض الوضوء، ومن الواضح ان النقض
لا يتلاءم الا مع الاستمرار، والوضوء بذاته غير قابل للاستمرار، فإنه أفعال
خاصة تتحقق وتتصرم لا استمرار فيه، فلا يناسبه اسناد النقض إليه حقيقة، فلا
بد أن يكون اسناد النقض إليه مسامحيا بلحاظ انتقاض أثره الاستمراري
بالحدث وهو الطهارة، فإنها قابلة للنقض لاستمراريتها.
ودعوى: انه لا ينحصر اثر الوضوء المستمر القابل للنقض بالطهارة، بل
له أثر آخر هو جواز الدخول في الصلاة واستباحة الصلاة به، وهو حكم
اعتباري مستمر يمكن أن يكون النقض بلحاظه، فلا دلالة للتعبير بالنقض
على كون الشرط هو الطهارة.
تندفع: بأنها خلاف الظاهر، فان الظاهر أن التعبير بالنقض لبيان عدم
تحقق الشرط الذي يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة، فالملحوظ في النقض
مقام تحقق الشرط ليترتب عليه عدم جواز الدخول في العمل المشروط به لا
نفس الحكم المترتب على تحقق الشرط ويشهد ما جاء في بعض النصوص
من بيان عدم جواز الدخول في الصلاة مرتبا على انتقاض الوضوء. فلاحظ.

(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) وسائل الشيعة 1 / 256. باب: 1 من أبواب الوضوء، حديث: 4 و 7.
وسائل الشيعة 1 / 256. باب: 2 من أبواب الوضوء، حديث 1 و 2 و 4 /
وسائل الشيعة 1 / 256. باب: 3 من أبواب الوضوء، حديث 2 و 3.
269

الثاني: التعبير عن الوضوء بالطهور الظاهر في كون جهة شرطيته هو
ترتب الطهارة عليه. فتأمل.
الثالث: ما ورد من تعليل الامر بالوضوء للصلاة بأنه مما يترتب عليه
الطهارة.
الرابع: ما ورد من أن ثلت الصلاة الطهور، فإنه ظاهر في أن الشرط هو
الوضوء، ولكن لا بذاته، بل بما أنه مطهر، فجهة ترتب الطهارة عليه ملحوظة في
شرطيته.
الخامس: تسالم الفقهاء في تعبيراتهم عن شرط الصلاة بالطهارة، فإنه
مؤيد لما استظهرناه من شرطية الطهارة.
وبالجملة: من مجموع هذه الوجوه - وان كان بعضها يقبل المناقشة -
يحصل الجزم بان مفاد الأدلة شرطية الطهارة لا شرطية الوضوء بذاته.
وعلى هذا يمتنع اجراء أصالة البراءة في مورد الشك في اعتبار شئ في
الوضوء.
وبعد هذا يقع الكلام في أصل المبحث وهو: معرفة تعلق الامر النفسي
الندبي بالوضوء وعدمه. فقد عرفت أن التفصي عن اشكال اعتبار قصد القربة
في الطهارات الثلاث ينحصر في الالتزام بثبوت الامر النفسي بها، ولذا أورد على
صاحب الكفاية بعدم تمامية ما ذكره بالنسبة إلى التيمم، لعدم استحبابه النفسي.
وقد عرفت الجواب عن هذا الايراد المأخوذ من كلام الشيخ (رحمه الله) بان
استحباب التيمم يستكشف من تعلق الامر بالصلاة بضميمة الاجماع على توقف
حصول الشرط على العبادية المتوقفة على تعلق الامر النفسي بالعمل.
الا ان المحقق العراقي حاول الإجابة على الايراد المزبور ببيان: وجود
الدليل الاثباتي على استحباب التيمم وهو قوله (عليه السلام): " التراب
270

أحد الطهورين " (1)، بضميمة ما دل على استحباب الطهر في نفسه، فإنه يقتضي
استحباب التيمم (2). وتابعه على ذلك السيد الخوئي (3).
والانصاف عدم تمامية ما ذكراه من الجواب لوجهين:
الأول: بان الامر الذي يبحث عن ثبوته وتعلقه بالتيمم وغيره غير الامر
بالطهارة، وذلك لان الامر المبحوث عنه أمر تعبدي، بمعنى ان الغرض منه لا
يتحقق إلا باتيان متعلقه بقصد القربة وبنحو العبادية، فتصحح عبادية هذه
الأفعال به. وأمر الطهارة أمر توصلي لا تعبدي، فان الغرض منه يتحقق بمجرد
تحقق متعلقه ولو لم يأت به بقصد القربة، فان الطهارة إذا تحققت يمتثل الامر
المتعلق به ولو لم يقصد بها القربة. نعم نفس تحقق الطهارة لا يكون إلا بقصد
القربة بالأفعال المحققة لها، وهذا أجنبي عن كون الامر المتعلق بها عباديا، فان
الامر العبادي ما توقف امتثاله على الاتيان بمتعلقه بقصد القربة لا ما توقف
تحقق متعلقه على قصد القربة.
وعليه، فاثبات تعلق الامر الثابت لعموم الطهارة بالتيمم لأنه أحد
افرادها، لا ينفع فيما نحن بصدده واثباته من تعلق الامر التعبدي بالتيمم لا
الامر التوصلي، وقد نبه على هذا المعنى - أعني توصيلة الامر المتعلق بالطهارة -
الشيخ (رحمه الله) في طهارته ولذلك يستغرب وقوع مثل هذا الامر من هذين
العلمين، وبالأخص المحقق العراقي لمزاولته كتاب الطهارة.
الثاني: ان مفاد قوله: " التراب أحد الطهورين " كون التيمم محققا
للطهارة، فاستحباب الطهارة لا يجدي في اثبات استحباب ذات الأفعال، بل

(1) عن أبي جعفر عليه السلام: " فان التيمم أحد الطهورين ".
وسائل الشيعة 2 / 991 باب: 21 من أبواب التيمم حديث: 1.
(2) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 380 - الطبعة الأولى.
(3) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 298 - الطبعة الأولى.
271

غاية ما يقتضي تعلق الامر الغيري بها كاقتضاء الامر بالصلاة. والذي نحن
بصدده اثبات استحباب ذات الأفعال النفسي كي يصحح اعتبار العبادية فيها.
وبالجملة: الطهارة كسائر الغايات المترتبة على العمل لا يقتضي الامر
بها سوى ترشح الامر الغيري على العمل، وهو لا يجدي في العبادية، والكلام في
ثبوت الامر النفسي بذات العمل الذي يتوقف على قصد امتثاله تحقق الطهارة.
والمتحصل: ان ما ذكر لا ينهض دليلا على استحباب التيمم النفسي. ولا
دليل عليه غير هذا.
واما الوضوء، فقد ادعي استحبابه النفسي باستظهار ذلك من الأدلة،
وعمدتها ما ورد من أن: " الوضوء على الوضوء نور على نور " (1).
وجهة الاستدلال به واضحة، فان التعبير عن الوضوء بأنه نور يكشف
عن كونه محبوبا في ذاته.
ولكن يشكل الاستدلال بها لوجهين:
الأول: ان النص لم يرد في مقام تشريع الوضوء وبيان تعلق الامر به، وانما
هو وارد لدفع توهم أنه في فرض مشروعية الوضوء يمنع تعدد الوضوء وتجديده.
ومن الواضح ان توهم امتناع الوضوء التجديدي انما يتلاءم مع كون المشروع هو
الطهارة، والوضوء مقدمة إليه لا ذات الوضوء، وذلك لأنه لو كان ذات الوضوء
مأمورا به فلا مجال لتوهم امتناع التجديد، لأنه فرد آخر من المأمور به غير الفرد
الأول، اما لو كان المأمور به هو الطهارة فللتوهم مجال، لاحتمال ان تكون
الطهارة كالنظافة الخارجية لا تقبل التجديد، إذ النظيف لا يقبل النظافة ثانيا.
فدفع بالنص المذكور ببيان: ان الطهارة ليست كالنظافة، بل كالنور القابل
للشدة، فيمكن ان يتأكد بنور آخر، فالتعبير بان الوضوء نور يلحظ فيه الطهارة

(1) وسائل الشيعة 1 / 265 باب: 8 من أبواب الوضوء، حديث: 8.
272

وما هو نتيجة الوضوء، فلا دلالة على مشروعية الوضوء في نفسه.
الثاني: لو سلم ظهور النص في استحباب الوضوء في ذاته، إلا أنه ترفع
اليد عن هذا الظهور بما ورد من الامر بالطهارة بذاتها، وما ورد من الامر
بالوضوء لاجل الطهارة، فإنه مع ثبوت مثل ذلك لا يبقى ظهور ما ظاهره الامر
بذات الوضوء على حاله.
ويتأكد هذا بملاحظة الأمثلة العرفية، فلو أمر المولى عبده بشرب دواء
ثم أمره بشربه لاجل رفع الحمى ثم أمره برفع الحمى، فان الامر بشرب الدواء
وان كان ظاهرا في الامر بنفسه، إلا أنه بملاحظة الامرين الآخرين لا يبقى
ظهوره على حاله.
فالمتحصل: انه لا دليل على استحباب الوضوء في نفسه، والثابت في
الأدلة استحباب الطهارة.
وعليه، فنقول: ان اكتفي في تحقق الطهارة الاتيان بالوضوء بقصد الكون
على الطهارة بداعي القربة فهو والا كان الدليل الدال على استحباب الطهارة
في كل وقت دالا على استحباب الوضوء أيضا كذلك، إذ لا تتحقق الطهارة الا
بقصد القربة بذات الأفعال، وهو كما عرفت يتوقف على استحبابها النفسي،
فاستحباب الطهارة يلازم استحباب الوضوء بذاته. هذا تمام الكلام في هذه الجهة.
ويقع الكلام في جهات:
الجهة الأولى: وهي:
التنبيه الثاني: الذي ذكره صاحب الكفاية - في اعتبار قصد التوصل بها
إلى ذيها في صحتها. فقد ادعي توقف صحتها وعباديتها على قصد التوصل بها
إلى ذيها. ووجه ذلك بأمور:
الأول: ان عبادية المقدمة لا تتحقق الا بالاتيان بها يقصد التوصل إلى
ذيها. وعليه قصد التوصل في الطهارات باعتبار توقف عباديتها على هذا
273

التوصل بها إلى ذيها، ولا طريق تتحقق به العبادية غيره.
الثاني: ان الأفعال ذات عنوان قصدي راجح في ذاته ولا طريق إلى
قصده إلا بقصد امتثال الامر الغيري، باعتبار انه لا يدعو إلى ما تعلق به، فيكون
العنوان مقصودا اجمالا، وقد تقدم ان قصد امتثال الامر الغيري لا يتصور الا
بقصد التوصل إلى الواجب وقصد امتثاله، إذ بدونه لا داعوية للامر الغيري.
الثالث: ان الامر الغيري متعلق بالمقدمة بما هي مقدمة، وبما أن متعلق
التكليف هو الحصة الاختيارية دون غيرها، فامتثال الامر الغيري يتوقف على
قصد المقدمة بما هي مقدمة، لتحقق اختيارية المتعلق. ومن الواضح ان قصد
المقدمية لا يكون الا بقصد التوصل إلى ذي المقدمة وامتثال أمره.
وقد استشكل المحقق صاحب الكفاية في تصحيح قصد التوصل بهذا
الوجه، بناء على كون المصحح لاعتبار قصد القربة هو الامر الغيري، ووجه
اشكاله: انكار المقدمة الأولى، وهي تعلق الامر بالمقدمة بما انها مقدمة بدعوى:
ان المقدمية جهة تعليلية، والامر متعلق بذات المقدمة، لأنها هي التي يتوقف عليها
الواجب لا عنوان المقدمة، نعم العلة في تعلق الامر بذات العمل كونه مقدمة
للعمل الواجب النفسي.
وقد تقدم هذا المطلب من صاحب الكفاية (1).
وأورد عليه المحقق الأصفهاني: بان الجهات التعليلية تكون في الاحكام
العقلية جهات تقييدية لموضوع أو متعلق الحكم، فالحكم عقلا بوجوب شئ لأنه
كذا يرجع إلى الحكم بوجوب عنوان العلة. نعم يتصور التفكيك بين الجهة
التعليلية والموضوع الذي يرد عليه الحكم في الاحكام العرفية أو الشرعية، وليس
ما نحن فيه من هذا القبيل (2).

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 112 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 204 - الطبعة الأولى.
274

ولم يبين (قدس سره) الوجه في هذه الدعوى، بل أوكله إلى ما تقرر في
محله.
ولكن يرد عليه:
أولا: بان ما افاده من رجوع الجهات التعليلية إلى التقييدية في الاحكام
العقلية ليس من المسلمات في محله، فقد ادعي خلافه، ووجود الجهة التعليلية في
الاحكام العقلية.
وثانيا: لو سلمت أصل الكبرى فانطباقها على ما نحن فيه محل منع
وذلك:
أولا: لأنها تختص بالاحكام العقلية المرتبطة بباب الحسن والقبح - كما
يقال ان مرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن
التأديب، بل في الحقيقة يرجع الحكم بحسن التأديب إلى الحكم بحسن الاحسان
وتشخيص كون التأديب احسانا -، أو بباب الاستحالة والامكان - كما يقال ان
مرجع حكم العقل باستحالة أخذ قصد الامر في متعلق الامر، للزوم الدور إلى
حكمه باستحالة الدور - ولم يثبت عمومها إلى مطلق الادراكات والاحكام
العقلية.
وثانيا: لو سلم عمومها لمطلق الاحكام العقلية، فوجوب المقدمة من باب
الملازمة ليس من الاحكام العقلية التي يفرضها العقل بطريق البرهان، بل هي
من الأمور الوجدانية التي يحسها بالوجدان والارتكاز كل أحد. وبعبارة أخرى:
إرادة المقدمة عند إرادة ذيها من الأمور التكوينية التي يدركها الوجدان كما يدرك
البصر المبصرات، وليست من الاحكام العقلية النظرية أو العملية كما لا يخفى
على المتأمل.
وعليه، فلا طريق لنا إلى معرفة كون عنوان المقدمية مأخوذا بنحو الجهة
التقييدية أو الجهة التعليلية إلا الوجدان، وهو يحكم بالثاني، لأنه يرى ان
275

الوجوب يطرأ على ذات العمل المقدمي لا على المقدمة بما هي كذلك، فان الآمر
الذي يأمر بالمقدمة يرى أنه يأمر العمل كالدخول إلى السوق من دون
ان يأخذ عنوان المقدمية في متعلق الامر. فلا حظ.
كما يرد على كل من المحققين: انه لو سلمنا أصل الكبرى وانطباقها على
ما نحن فيه، فلا يلزم مع ذلك قصد التوصل بالمقدمة - كما هو ظاهر كلاميهما
كما لا يخفى -. بيان ذلك: ان القصد يطلق ويراد به..
تارة: ما يساوق الداعي والمحرك، كما يقول من يأكل: " قصدي من الأكل
الشبع " فان القصد ههنا بمعنى الداعي.
وأخرى: يراد به إرادة العمل واختياره ووقوعه عن التفات في مقابل
وقوعه عن غفلة، كسائر الأفعال الاختيارية.
وافتراق المعنيين خارجا واضح، فمثلا لو رمى شخص سهما وعلم بأنه
يصيب شخصا فيقتله، وكان رميه بداعي تجربة السهم. فإنه من الواضح ان قتل
الشخص واصابته يكون مقصودا للرامي ومرادا له، لكنه ليس الداعي إلى
الرمي، بل داعيه هو تجربة السهم.
ولا يخفى ان المطلوب فيما نحن فيه هو القصد بمعنى الداعي، يعني كون
الداعي إلى الاتيان بالمقدمة هو التوصل إلى ذيها.
والوجه المذكور لا يفي بلزوم ذلك، إذ غاية ما يتكفل - بعد الاعتراف
بان المأمور به المقدمة بما هي مقدمة - هو الاتيان بها بما هي كذلك عن اختيار،
لأنها هي الحصة المأمور بها.
ومن الواضح ان هذا المعنى يتحقق بمجرد الالتفات إلى المقدمية
والتوصل بالعمل إلى الواجب، ولو كان الاتيان بالعمل لداع آخر غير التوصل،
فيصدق قصد التوصل بمعنى ارادته وإرادة الاتيان بما هو مقدمة، وإن لم يكن
الاتيان بداع التوصل.
276

وعلى أي حال، فهذه الوجوه غير مجدية في اثبات لزوم قصد التوصل بعد أن
عرفت أن طريق العبادية ينحصر بالالزام بتعلق الامر النفسي بها، ومعه لا
يلزم قصد التوصل، بل يكفي الاتيان بها بما انها محبوبة في أنفسها.
الجهة الثانية: في أنه بعد الفراغ عن تعلق الامر الاستحبابي النفسي
بالطهارات، فالاتيان بها بداعي الاستحباب قبل دخول وقت الصلاة الواجبة مما
لا اشكال الغيري بها.
وقد ذكر المحقق النائيني: ان ذلك لا محذور فيه ويقع العمل صحيحا،
بتقريب: ان الامر النفسي الاستحبابي وان اندك في الامر النفسي الضمني
المتعلق بها - بناء على ما ذهب إليه من أن الشرائط كالاجزاء تكون متعلقة للامر
الضمني النفسي -، الا ان المنعدم هو حد المرتبة الاستحبابية دون واقع الطلب
والاستحباب، فواقعه على ما هو عليه وإن لم يبق بحده نظير اتصال خيطين
أحدهما بالآخر، فان واقع كل منهما موجود على حاله وانما المنعدم حد وجود كل
منهما، وعليه فيمكن الاتيان بالعمل بقصد المحبوبية بواقعها لا بحدها.
ثم أفاد: ان الاندكاك انما يتحقق بين الاستحباب والوجوب الضمني، اما
الوجوب الغيري فهو على حاله لا يتغير.
وأوضح ذلك ببيان: ان الوضوء ونحوه له بعد دخول وقت الواجب
المشروط به جهات ثلاث:
الأولى: تعلق الطلب الاستحبابي النفسي به.
الثانية: تعلق الطلب الوجوبي النفسي الضمني به.
الثالثة: تعلق الطلب الغيري الوجوبي به.
ولا يخفى ان الاستحباب يندك في الوجوب الضمني، فينشأ منهما حكم
واحد، واما الطلب الغيري فهو يبقى بحده لا يبتدل، وذلك لان الاندكاك
277

والتداخل انما يكون فيما لو كان كل من الحكمين واردا على موضوع واحد،
فيندك أحدهما بالآخر أو الضعيف بالقوي، لان في بقائهما بحديهما اجتماعا
للمثلين أو الضدين في شئ واحد. اما لو اختلف موضوع كل من الحكمين فلا
يتداخلان، لعدم المحذور في بقائهما بحديهما.
وعليه، فحيث إن متعلق الطلب الاستحبابي والطلب الضمني النفسي
ذات الوضوء، كانا واردين على موضوع واحد، فيندك الاستحباب في الوجوب
قهرا. اما الطلب الغيري، فحيث إن موضوعه ليس ذات الوضوء، بل موضوعه
العمل المأتي به بقصد الامر الاستحبابي أو الضمني، كان في طول الامر الأول
ويتعدد موضوعهما فلا يتداخلان نظير الامر المقدمي بصلاة الظهر، فلا يتبدل
أحدهما بالآخر.
هذا ملخص ما افاده (1) وينبغي التنبيه على موارد الكلام والبحث في ما
افاده من دون تحقيق الحال فيه، بل نوكله إلى مجال آخر، وهي جهات ثلاث:
الأولى: التعبير باندكاك الاستحباب في الوجوب الضمني، فإنه قد يكون
مثار الاشكال على مبنى المحقق النائيني، من انه لا فرق بين الوجوب
والاستحباب من جهة واقع الطلب، وكون الطلب الوجوبي والاستحبابي بحد
واحد والاختلاف من ناحية أخرى، وذلك لان الاندكاك ظاهر في أضعفية المندك
في المندك فيه، وأقوائية الثاني من الأول، بحيث يتغلب عليه فلا بد من معرفة
صحة هذا المعنى من بطلانه.
الثانية: ما افاده من كون الشرط موردا لأوامر ثلاثة أحدها الامر
الضمني المنحل من الامر النفسي بالمشروط، فقد أشرنا إلى الخدشة فيه، وسيأتي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 177 - الطبعة الأولى.
278

تحقيق الحال وبيان بطلان هذا المسلك في محل آخر ان شاء الله تعالى. فانتظر.
الثالثة: ما افاده من كون الوجوب الغيري في طول الامر الاستحبابي،
وعدم اندكاكه فيه. فإنه مما يحتاج إلى تحقيق، والذي نراه حقا هو التفصيل بين
ما إذا كان متعلق الامر الغيري العمل المقيد بكونه بداعي الامر بحيث تكون
ذات المقيد متعلقا للامر الغيري، وما إذا لم يكن متعلقه كذلك، بل ما يتعلق به
الامر الغيري هو نفس تقيد العمل بداعوية الامر الأول، من دون أن يؤخذ
ذات العمل في موضوعه - نظير ما تقرب به الكراهة في العبادات من أن متعلق
الامر هو العمل، ومتعلق الكراهة إيقاعه في المكان الخاص أو بالنحو المعين،
فمتعلق كل منهما غير متعلق الآخر -، فيلتزم بحصول الاندكاك في الحالة الأولى دون
الثانية واثبات هذه الدعوى لها مجال آخر. فإنها لا ترتبط بما نحن فيه ارتباطا
كليا. فلا حظ.
الجهة الثالثة: إذا جاء المكلف باحدى الطهارات الثلاث بقصد التوصل
إلى بعض الغايات كالصلاة، ثم لم يأت بالغاية، فهل عدم تحقق الغاية خارجا
يمنع من صحتها وعباديتها أو لا؟ قد يوجه عدم الصحة بعدم ترتيب الغاية
بوجوه:
الأول: انه مع الالتزام بالمقدمة الموصلة، بمعنى ان الواجب الغيري هو
المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة، يكشف عدم حصول الغاية عن عدم كون المأتي
به مأمورا به واقعا - بل تخيلا -. وعليه فلا يكون مقربا لعدم الامر به، فقصده
لا يكون موجبا لمقربية العمل.
الثاني: ان يلتزم بان العبادية لا تتحقق الا بإضافة العمل إلى المولى من
الناحية التي هو مضاف بها إليه حقيقة وواقعا. وعليه فمع القول بالمقدمة الموصلة
والالتزام باستحباب الطهارات، لو قصد التوصل ولم يترتب الواجب لم يقع
عبادة، لان الإضافة المقصودة غير ثابتة واقعا والإضافة الواقعية وهي إضافة
279

الاستحباب لم تقصد، فلا يقع العمل عبادة لعدم قصد اضافته إلى المولى
بالإضافة الواقعية. وهكذا لو لم نقل بالمقدمة الموصلة، ولكن جاء بها قبل الوقت
بتخيل دخوله وتعلق الامر الغيري بها.
الثالث: انه بناء على كون الشرائط متعلقة للامر الضمني، وان عباديتها
تتحقق بقصد امتثاله، فإذا جاء بالعمل بداعي الامر الضمني، ولم يأت بالمشروط
لم يكن العمل امتثالا لامره الضمني، لان الأوامر الضمنية ارتباطية في مقام
الامتثال، فلا يتحقق امتثال أحدها بدون امتثال الآخر، فيكشف عدم الاتيان
بسائر الأجزاء والشرائط عن عدم كون الوضوء متعلقا للامر الضمني.
هذا، ولكن عرفت أن عبادية الطهارات لا تتحقق إلا بقصد الامر
الاستحبابي المتعلق بها. ومن الواضح انه مع قصده تكون صحيحة مطلقا جئ
بالغاية أو لا، لعدم تأتي أحد هذه الوجوه فيه. فلا مجال لهذا الكلام بناء على
انحصار طريق العبادية بقصد الامر النفسي، فلاحظ وتدبر والله ولي التوفيق.
* * *
280

" فصل " لا بد من ايقاع الكلام في جهتين:
الأولى: ان الوجوب الغيري هل يتعلق بمطلق المقدمة، أو يختص
بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلى ذيها؟.
الثانية: ان الوجوب الغيري هل يتعلق بخصوص المقدمة التي يترتب
عليها الواجب، فيكون عدم ترتبه كاشفا عن عدم وقوع المقدمة على صفة
الوجوب، وهي المعبر عنها بالمقدمة الموصلة. أو يتعلق بمطلق المقدمة، ولو لم
يترتب عليها الواجب؟. فالكلام في مقامين:
المقام الأول: في اعتبار قصد التوصل.
وقد نسب إلى الشيخ القول به، وان المقدمة لا تكون واجبة ما لم يقصد
بها التوصل إلى ذيها، بمعنى ان الوجوب يتعلق بالمقدمة التي يقصد بها
التوصل (1). كما وجه كلام صاحب المعالم (2) الظاهر في اعتبار التوصل قيدا
للوجوب لا الواجب بما ذهب إليه الشيخ تصحيحا لكلامه.

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 72 - الطبعة الأولى.
(2) العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول / 74 - الطبعة الأولى.
281

إذ يورد عليه: انه بعد البناء على وجوب المقدمة وترشح الوجوب الغيري
من الوجوب النفسي، لا اشكال في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها اطلاقا
واشتراطا، لعدم انفكاك الوجوبين، وهو أمر وجداني يحسه كل أحد، وعليه فإذا
قيد وجوب المقدمة بإرادة ذيها، فاما ان يقيد وجوب ذيها بإرادته أو لا يقيد، بل
يكون مطلقا من هذه الجهة، فإذا قيد وجوب ذي المقدمة بإرادته - التزاما بعدم
التفكيك - كان ممنوعا لاستحالة حصول الوجوب مع تعلق الإرادة بالعمل
الذي يراد البعث نحوه، فإنه تحصيل الحاصل. وإذا لم يقيد لزم انفكاك وجوب
ذي المقدمة عن وجوب المقدمة وهو باطل كما عرفت.
لاجل ذلك صحح كلام صاحب المعالم اخذه قيدا للواجب، فيكون
وجوب المقدمة فعليا كوجوب ذيها بدون قصد التوصل.
وعلى أي حال: فيقع الكلام في اعتبار قصد التوصل قيدا للواجب
بالوجوب الغيري وعدم اعتباره.
ولا بد قبل ذلك من معرفة ثمرة البحث، إذ قد يدعى عدم الثمرة فيه، إذ
لا اشكال في أنه لو أتى بالعمل المقدمي لا بداعي التوصل بل بداع آخر غيره
يترتب الأثر عليه ولا يلزم اعادته ثانيا بقصد التوصل - حتى على القول باعتباره
-، فلو أمر بشراء اللحم، فذهب إلى السوق بداعي رؤية زيد لا بداعي شراء
اللحم، فإنه يصح منه بعد ذلك شراء اللحم ولا يلزمه الخروج من السوق ثم
العود إليه بداعي التوصل. أذن فما فائدة اعتباره والبحث فيه؟. وقد تعرض في
التقريرات (1) إلى بيان ثمرتين:
إحداهما: وهي تظهر في خصوص المقدمات العبادية، بناء على انحصار
طريق العبادية بقصد الامر الغيري. وذلك ببيان: انه بناء على اعتبار قصد

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 72 - 73 - الطبعة الأولى.
282

التوصل ولزوم الاتيان بالمقدمة عبادة بقصد امتثال الامر الغيري، لو لم يقصد
التوصل بالمقدمة لم تقع على وجه العبادية، إذ يمتنع قصد امتثال الامر الغيري
مع عدم قصد التوصل لكونه قيدا للمتعلق، فقصد التوصل دخيل في تحقق
العبادية لان امتثال الامر يتوقف على الاتيان بمتعلقه وهو لا يكون الا بقصد
التوصل.
وقد فرع على ذلك عدم صحة الصلاة إلى جهة واحدة فقط - في فرض
لزوم الصلاة إلى الجهات الأربع -، إذ لا يقصد بها التوصل إلى الواجب وهو
الصلاة إلى الجهات الأربع.
وأنت خبير بان هذه الثمرة لا تترتب على المسلك الذي اخترناه، وهو
كون عبادية المقدمات بتعلق الامر النفسي بها وقصد امتثاله، كما ذهب إليه
صاحب الكفاية، لان الامر النفسي لم يؤخذ في متعلقه قصد التوصل، فيمكن
قصد امتثال الامر وتحقق العبادية بنفس العمل من دون قصد التوصل.
واما ما ذكره من التفريع فعجيب لوجهين:
الأول: ان الكلام فيما نحن فيه في مقدمة الوجود، والصلاة إلى كل جهة
مقدمة للعلم، وهي ليست واجبة من باب الوجوب الغيري المقدمي، بل من جهة
حكم العقل من باب دفع الضرر المحتمل كما أشرنا إليه في أوائل المبحث،
فالمثال أجبني عما نحن فيه بالمرة.
الثاني: انه لو سلمنا كونها من باب مقدمة الوجود، فعباديتها لا تنحصر
في قصد امتثال أمرها الغيري كي يتوقف على قصد التوصل، لأنها عبادة في
نفسها. وما يدعى من لزوم قصد الامر الغيري انما هو في ما لم تكن المقدمة
بنفسها عبادية لا في مطلق المقدمات العبادية، فإنه من الواضح انه لا يعتبر في
عبادية صلاة الظهر قصد التوصل بها إلى صلاة العصر، فإنها تصح ولو بني على
عدم الاتيان بصلاة العصر مع أنها مقدمة لصلاة العصر.
283

وبالجملة: لا ينحصر طريق العبادية في مطلق المقدمات بقصد الامر
الغيري، بل ينحصر في المقدمات غير العبادية في أنفسها. فلاحظ.
الثانية: - وهي التي تعرض إليها في الكفاية (1)، ولعله لم يتعرض للأولى
لاجل ما ذكرناه - انه إذا كانت المقدمة مع قطع النظر عن الوجوب الغيري
محرمة في نفسها، كالعبور في الأرض المغصوبة مقدمة لانقاذ الغريق، فإنه بناء
على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون العبور في الأرض غير حرام ولو لم
يقصد به التوصل إلى الواجب، لأنه واجب مطلقا فترتفع الحرمة بوجوبه. واما
بناء على القول بوجوب المقدمة التي يقصد بها التوصل، فيكون العبور مع عدم
قصد التوصل حراما، لأنه ليس بواجب فلا حكم يزاحم الحرمة.
إذا اتضح ذلك، فقد استدل على اعتبار قصد التوصل في معروض
الوجوب الغيري بوجهين:
الوجه الأول: ما ذكره في التقريرات وذكره المحقق الأصفهاني ببعض
تغيير: ان الوجوب الغيري متعلق بعنوان المقدمة دون ذوات الاعمال، فليس هو
متعلق بالمشي بذاته، بل بما أنه مقدمة، فعنوان المقدمة مأخوذ في معروض
الوجوب الغيري، لما حقق من أن الجهات التعليلية تكون تقييدية في الاحكام
العقلية، فمرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن
التأديب، وضرب اليتيم من مصاديقه فيكون محكوما بالحسن قهرا. وهكذا مرجع
حكمه باستحالة أخذ الامر في متعلقه للزوم الدور، إلى حكمه باستحالة الدور
وتطبيقه على المورد.
ثم إنه قد تقرر أيضا ان متعلق الامر هو الحصة الاختيارية، إذ غير
الاختيارية غير قابلة للبعث والدعوة. ومن الواضح ان الاختيار يتقوم بتحقق
القصد إلى العمل إذ بدونه لا يكون اختياريا بل قهريا.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 114 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
284

وعليه، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بالقصد إلى المقدمة وقصد المقدمية
لا يفترق عن قصد التوصل حقيقة. فهذا الوجه يبتني على مقدمتين.
إحداهما: تعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة.
والأخرى: توقف تحقق الواجب الغيري إلا يقصد المقدمية، وهو في الحقيقة قصد التوصل بها إلى ذيها.
الوجه الثاني: وهو وجه عرفي، وهو انه لا ريب في إنا نجد أن من يأتي
بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلى ذيها، بل بداع آخر، لا يعد في العرف ممتثلا
للوجوب الغيري وآتيا بمتعلقه، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي
يقصد بها قصد التوصل (1).
بهذين الوجهين استدل في التقريرات على مدعاه، ولكن قد عرفت ما في
الوجه الأول بكلتا مقدمتيه، فقد عرفت عدم تمامية الأولى وعدم اجداء الثانية،
إذ هي لا تستلزم القصد بمعنى الداعي فلا نعيد.
ثم إن المحقق النائيني (قدس سره) حكم بتشوش عبارة التقريرات،
وعدم ظهور المراد منها بوضوح وجلاء، لذلك تصدى لبيان محتملات الكلام،
والبحث فيها، فأفاد: انه..
اما أن يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في تحقق العبادية والامتثال
بالمقدمة فهو حق، وقد تقدم البحث فيه.
واما أن يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب فهو
ممنوع، لعدم دخل قصد التوصل في مقدمية فيستحيل تقيد الواجب به.
ثم ذكر في تقريب اعتباره الوجه الأول بنحو الاختصار، وأورد على المقدمة
الأولى منه: بان جهة المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية.
واما أن يكون نظره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة، بمعنى انه

(1) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 72 - الطبعة الأولى.
285

إذا كانت المقدمة في نفسها محرمة فلا تصير واجبة بالوجوب الغيري إلا بقصد
التوصل. ببيان: ان المقدمة إذا كانت محرمة وتوقف عليها واجب فعلى - كتوقف
انقاذ الغريق على اجتياز ارض الغير بدون إذنه -، فلا ترتفع حرمة المقدمة ما لم
يؤت بها بقصد التوصل، وكون المكلف في مقام امتثال الواجب، والا كانت الحرمة
على حالها باقية، ولا مقتضي لرفع اليد عنها. فيرد عليه: ان المزاحمة انما هي بين
وجوب ذي المقدمة الموقوف على المقدمة المحرمة وبين حرمتها ولو لم نقل بوجوب
المقدمة أصلا، فالتزاحم إنما هو بين واقع الانقاذ والتصرف في الأرض المغصوبة
مثلا، وقصد التوصل أجنبي عن ذلك رأسا. نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي
على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة، ويظهر ذلك عن قريب إن شاء
الله تعالى. هذا محصل ما افاده (قدس سره) (1).
ويقع البحث معه في ما ذكره من الاحتمالات الثالث، أعني اعتبار قصد
التوصل في مقام المزاحمة وما أورده عليه. اما الاحتمالات الآخران فقد عرفت
تحقيق البحث في الأول. واما الثاني فهو محل الكلام وستعرف ما هو الأقرب إلى
الواجدان.
والكلام معه فيما افاده في تقريب الاحتمال الثالث ودفعه من جهات:
الأولى: ما يظهر منه من تسليم كون المقام من باب المزاحمة. فقد تقدم في
أول مبحث المقدمة انه مع الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد
التعارض، لتوارد الحكمين على موضوع واحد. نعم لو لم نقل بوجوب المقدمة
تحقق التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.
الثانية: انه لو سلم كون المقام من موارد التزاحم، فحكمه هو ارتفاع
الحكم المهم وبقاء الحكم الأهم من دون دخل لقصد امتثال الأهم وعدمه، فان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 235 - الطبعة الأولى.
286

التزاحم بين ذات الحكمين، فوجود أحدهما يرفع الآخر قصد امتثاله أو لم يقصد،
فتخصيص ارتفاع الحرمة بخصوص صورة قصد التوصل ما لا يعرف له وجه.
وعليه فلا وجه لإقراره هذه الجهة والايراد عليه من جهة أخرى.
الثالثة: فيما أورد على كلام التقريرات من أن باب التزاحم أجنبي عن
وجوب المقدمة وقصد التوصل.
إذ فيه: ان كون باب التزاحم أجنبيا عن وجوب المقدمة وقصد التوصل،
لا ينافي دعوى اختصاص المزاحمة هنا بصورة قصد التوصل، إذ يمكن ان
يتصادق البابان الأجنبيان في مورد واحد ويرتبط أحدهما بالآخر في ذلك المورد
وان انفصلا في أنفسهما وملاكاتهما، فأجنبية أحدهما عن الآخر لا تمنع من
انطباقهما على المورد الواحد. فتدبر.
الرابعة: فيما أشار إليه من وجود خطاب تحريمي على الترتب، فإنه غير
وجيه، فان الترتب بين المقدمة وذيها غير معقول، فإنه انما يرفع غائلة التزاحم لا
غائلة التضاد. وتحقيق ذلك وتوضيحه يوكل إلى محله. وعليه فلا مكان لمناقشة
فيه بالتطويل كما جاء في تعليقة التقريرات للسيد الخوئي (حفظه الله) (1).
ونعود بعد هذا إلى ما استدل به في التقريرات على مدعاه، وقد عرفت
الاشكال في الوجه الأول البرهاني.
واما الوجه الوجداني، فهو بالمقدار الذي ذكرناه لا يفي بالمطلوب،
ويمكن ايضاحه: بان نفس الوجه الذي يقام دليلا على أصل وجوب المقدمة
يقتضي تعلق الوجوب بخصوص المقدمة التي يقصد بها التوصل. وذلك فان ما
يذكر دليلا على أصل الملازمة هو بناء العرف على وجوب المقدمة، ويكشف عنه
وجود بعض الأوامر العرقية بالمقدمة كما يقول المولى لعبده: " ادخل السوق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 236 - الطبعة الأولى.
287

واشتر اللحم "، ونحن نرى ان العرف يرى ان من يؤمر بالمقدمة هو من كان في
مقام امتثال الامر بذيها، واما من ليس في مقام امتثال الامر النفسي فلا يؤمر
بالمقدمة بنظر العرف، ويعد أمره بها لغوا محضا، إذ الغرض منه تحصيل الواجب،
وهو غير متحقق كما هو الفرض، ولا يرد النقض بصحة تكليف من يعلم
بعصيانه، إذ يمكن أن يكون تكليفه لالقاء الحجة عليه فيترتب عليه عقابه
ومؤاخذته، وهذا غير متحقق بالنسبة إلى الامر الغيري إذ لا عقاب على مخالفته،
فالأثر المصحح له ليس إلا تحصيل الواجب والمفروض انتفاؤه.
وعلى هذا فدعوى اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري قريبة.
واما ما افاده صاحب الكفاية من منع اعتباره وعدم معقوليته بتقريب: ان
ملاك الوجوب الغيري والغرض منه هو توقف الواجب على المقدمة ومقدميتها
له. ومن الواضح ان هذا يتوفر في سائر المقدمات بلا دخل لقصد التوصل فيه
أصلا، فقصد التوصل غير دخيل فيما هو ملاك الوجوب الغيري، ومما يكشف
عن حصول الغرض من مطلق المقدمة ولو لم يقصد بها التوصل هو سقوط
الوجوب الغيري مع الاتيان بالمقدمة من دون قصد التوصل بها إلى ذيها، فلا
يجب عليه الاتيان بها مرة أخرى بقصد التوصل، ولو لم يكن الغرض حاصلا
بمجرد المقدمة من دون دخل قصد التوصل فيه لم يسقط الامر الغيري لعدم
حصول غرضه.
وبالجملة: فالمقتضي للوجوب الغيري وهو المقدمية موجود في مطلق
المقدمات، والمانع من تعلق الوجوب مفقود، إذ المانع الذي يتصور ليس إلا تعلق
الحرمة بالعمل فيمنع من البعث إليه وهو يظهر عدم
صحة النقض بسقوط الوجوب الغيري لو أتى بالفرد المحرم من المقدمة - فيما
كان لها فردان -، مع عدم تعلق الوجوب به، فسقوط الوجوب لا يقتضي كونه
مأمورا به. ووجه عدم الصحة هو: ان عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لمانعية
288

الحرمة من وجوبه، فالمقتضي وان كان موجودا إلا أن تأثيره يتوقف على عدم
المانع وهو غير متحقق لوجود المانع. فتتلخص دعوى الكفاية: بان المقتضي
للوجوب الغيري موجود والمانع مفقود فيتحقق المقتضي - بالفتح - وهو
الوجوب (1).
ففيه:
أولا: النقض عليه بما لو التزم بان عنوان المقدمية مأخوذ في متعلق الوجوب
الغيري الملازم - كما عرفت - لاخذ قصد التوصل في الواجب الغيري - بنظره،
إذ استشكاله انما كان في المقدمة الأولى لا الثانية -، فإنه مما لا اشكال فيه سقوط
الوجوب لو أتى بالمقدمة من دون قصد التوصل، وعدم لزوم الاتيان بها ثانيا، مع أنه
يلتزم بكون الواجب هو المقدمة بقصد التوصل.
وثانيا: الحل، بان المعلول لا يتحقق بمجرد وجود المقتضي وثبوت عدم
المانع، فان للعلة اجزاء أخرى كالشرط والمعد، فلعل قصد التوصل يكون شرطا
لتأثير المقتضي، ولم يثبت بنحو جزمي عدم شرطيته وعدم دخل غير المقدمية في
الواجب، ومجرد احتمال الشرطية تكفي في دفع البرهان على عدم أخذ قصد
التوصل في الواجب الغيري، فان مراد صاحب الكفاية الاستدلال على عدم
أخذه لا بيان عدم الدليل على أخذه. فالاحتمال يكفي في ابطاله، وهو احتمال
عقلائي إن لم يجزم به خصوصا بعد ما عرفت من تقريب الوجه العرفي فتدبر
ولاحظ.
المقام الثاني: في اعتبار ترتب الواجب على المقدمة.
وقد اختاره في الفصول واستدل عليه بوجوه (2). وخالفه في ذلك صاحب

الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 114 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغررية / 86 - الطبعة الأولى.
289

الكفاية، فذهب إلى تعلق الوجوب الغيري بعموم المقدمة ترتب عليها الواجب
- المعبر عنها بالمقدمة الموصلة - أو لم يترتب. واستدل على مختاره بوجوه أربعة:
الأول: ان الملاك والغرض من الوجوب الغيري متوفر في مطلق
المقدمات من دون اختصاص له بصنف دون آخر، وذلك لان الغرض هو حصول
ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، وليس هو ترتب ذي المقدمة، وذلك لان
الغرض هو ما يترتب على الشئ من اثره. ومن الواضح ان الذي يترتب على
المقدمة من أثر هو حصول ما لو لاه لما أمكن حصول ذي المقدمة، اما ترتب
الواجب - ذي المقدمة - فليس من الأمور التي يحصل بالمقدمة، بل لا يحصل
بمجموع المقدمات في غير المسببات التوليدية، لتوقف حصول الواجب في
الأفعال الاختيارية على إرادة المكلف له فلا يحصل بدون ارادته وان حصل جميع
مقدماته. وعليه فلا يمكن ان يفرض ترتب الواجب غرضا من الوجوب الغيري
كي يخصص الوجوب بخصوص ما يترتب عليه الغرض وهو المقدمة الموصلة.
بل الغرض هو ما ذكر من كونه حصول ما بدونه لا يمكن ان يحصل ذو المقدمة.
وبديهي ان هذا يترتب على مطلق المقدمات من دون اختصاص له بقسم خاص
منها. وبما أنه لا يعتبر في الواجب الا ماله دخل في غرضه كان الواجب الغيري
هو مطلق المقدمة لاشتراك الجميع في الدخل في الغرض.
الثاني: انه بعد أن عرفت أن ترتب الواجب يختص بالمقدمة التوليدية،
لأنها التي يحصل بها المسبب من دون توسط إرادة الفاعل، كحصول الاحراق
بالالقاء بالنار، فلو فرض انه هو الغرض من الوجوب الغيري واختصاص
الوجوب بالمقدمة الموصلة لزم انكار وجوب المقدمة في مطلق الواجبات غير
الواجبات التوليدية، فيلتزم بوجوب العلة التامة فيها، لعدم تخلف المعلول عنها،
اما غيرها فقد عرفت أن الواجب لا يحصل بمجموع المقدمات لتوسط الإرادة
بعد أن كان الفعل اختياريا.
290

وقد يورد عليه: ان كل فعل لا بد وأن يكون له علة تامة لا يختلف عنها،
ضرورة ان الممكن لا يوجد بدون علة. وعليه فكما يلتزم في الواجبات التوليدية
بوجوب علتها التامة، كذلك يلتزم بوجوب العلة التامة في سائر الواجبات، لعدم
تخلف الواجب عنها فتكون مما يترتب عليها الغرض.
وفيه: ان وجود العلة التامة لكل واجب مسلم، لكن من اجزاء العلة التامة
في الأفعال الاختيارية إرادة الفاعل الفعل. ومن الواضح ان الإرادة ليست من
الأمور الإرادية الاختيارية - والا لزم التسلسل -، فيمتنع أن يكون متعلقا
للتكليف. وعليه فيمتنع تعلق التكليف بالعلة التامة لان من اجزائها ما لا يقبل
تعلق التكليف به، وهذا بخلاف الأفعال التوليدية فان جميع اجزاء العلة التامة
من الأفعال الاختيارية، لعدم توسط الإرادة، فيصح تعلق الوجوب الغيري
بالعلة التامة في موردها.
الثالث: انه من الواضح ان الوجوب الغيري يسقط بمجرد الاتيان
بالمقدمة بلا انتظار لترتب الواجب عليها، فإنه يكشف عن عدم اعتبار ترتب
ذي المقدمة، والا لما سقط الطلب بمجرد الاتيان بالمقدمة، لعدم العلم بتحقق
الواجب بمجرده.
الرابع: - وقد تخيل انه من الوجه الثالث لكن التحقيق انه وجه مستقل
كما سيأتي بيانه - ان سقوط الامر يكون بأحد أمور أربعة: الموافقة والمخالفة
وارتفاع موضوع التكليف - كغرق الميت الرافع لموضوع التكليف بالتغسيل، أو
التكفين - وحصول الغرض من دون تعلق الامر به لمانع، كما يسقط الامر
التوصلي بفعل الغير للواجب أو بالفرد المحرم. ومن الواضح ان سقوط الامر
بالاتيان بالمقدمة ليس بالمخالفة، كما أنه ليس بارتفاع موضوع التكليف للاتيان
بمتعلقة وليس من جهة حصول الغرض به من دون تعلق الامر به، لأنه لا مانع
من تعلق الامر به، إذ المانع الذي يتصور هو كونه حراما فعليا، وليس ما نحن
291

فيه كذلك، فإذا كانت المقدمة واجدة الملاك تعلق بها الامر كما يتعلق بغيرها لعدم
الفرق بينهما. فيتعين أن يكون السقوط من جهة الموافقة وهو المطلوب.
هذا توضيح ما جاء في الكفاية (1).
وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الأول وذكر: انه لا يمكن أن يكون
الغرض غير ما هو مسلك صاحب الفصول. ببيان: ان الغرض المفروض
لا يخلو..
اما أن يكون هو الملازمة بين عدم المقدمة وعدم امكان ذيها، التي عبر
عنها صاحب الكفاية بما لولاه لما أمكن ذي المقدمة، وقد عبر عنها المحقق
الأصفهاني بالمعني السلبي التعليقي تارة وبالاستلزام العدمي أخرى (2).
واما أن يكون امكان ذي المقدمة ذاتا ووقوعيا.
واما أن يكون التمكن من ذي المقدمة والقدرة عليه.
اما الأول: فهو ليس بأثر لوجود المقدمة، بل هو لازم أثرها، فان أثر
المقدمة انما يكون امرا وجوديا لا عدميا.
واما الثاني: فامكان ذي المقدمة مطلقا، وكذلك التمكن عليه، متحقق
بامكان المقدمة والتمكن عليها لا بوجودها، فهما من آثار امكان المقدمة والتمكن
عليها لا من آثار وجودها.
ثم أخذ في تقريب مسلك صاحب الفصول (3).
والذي يهمنا البحث عنه فعلا هو القسم السلبي من كلامه - أعني ما
نفي به مسلك صاحب الكفاية - لا القسم الايجابي - أعني الذي أثبت به مسلك
صاحب الفصول -. فنقول: انه يمكن ان يفرض كون الغرض هو التمكن من

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 115 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) لاحظ حاشيته على شرحه المقام، قد أوضح الاشكال فيها جيدا. (منه عفي عنه).
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 205 - الطبعة الأولى.
292

ذي المقدمة، ولكن لا بالمعنى الاصطلاحي الفلسفي للتمكن، كي يرد عليه ما
عرفت، بل بمعنى عرفي وبيان ذلك: ان التمكن على الشئ ذي المقدمات
يتصور عرفا على نحوين:
أحدهما: التمكن بالواسطة، وذلك قبل الاتيان بمقدماته التي يتمكن على
الاتيان بها، فإنه يقال عرفا انه يتمكن على ذي المقدمة ولكن بواسطة، لأنه لا
يستطيع اعمال ارادته في ذي المقدمة بلا واسطة.
ثانيهما: التمكن عليه بدون واسطة، بحيث يستطيع اعمال ارادته فيه بلا
واسطة، كما لا جاء بالمقدمة فإنه يتمكن من اعمال ارادته في ذيها بلا واسطة
المقدمة.
وعليه، فيمكن ان يدعى كون الغرض من المقدمة هو حصول التمكن
على الواجب بالمعنى الثاني وهو التمكن بلا واسطة، وهو يتوقف على وجود
المقدمة لا على التمكن منها كما عرفت.
وبالجملة: امكان كون الغرض هو التمكن من ذي المقدمة بالمعنى الذي
ذكرناه ثابت لكن لا يتعين ذلك الا بنفي امكان كون الغرض هو ترتب ذي
المقدمة أو ما يلازمه، والا احتاج ترجيح أحدهما على الآخر إلى دليل إثباتي.
فالتفت.
واما الوجه الثاني: فقد عرفت الاستشكال فيه: بان كل واجب ممكن،
فلا يوجد الا بوجود علته التامة، فالعلة التامة في كل واجب توليدي أو غيره مما
يترتب عليها الواجب، فتكون واجبة، ولا يختص الوجوب الغيري بالأسباب
التوليدية. كما عرفت ما أجاب صاحب الكفاية من أن الإرادة من اجزاء العلة
التامة في الواجبات الاختيارية الإرادية، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها، لأنها
ليست بالاختيار لاستلزام ذلك التسلسل.
وهذا الجواب مخدوش لوجهين:
293

الأول: ان المتقرر في محله - كما سيجئ في مبحث التجري - ان الإرادة
لا يمتنع ان تكون بالاختيار، وانما الذي يمتنع هو تقوم الإرادة بالإرادة
والاختيار، فإنه مما يستلزم التسلسل. وبعبارة أخرى: انه لا يجب ان تكون
الإرادة بالإرادة للزوم التسلسل، لا انه لا يمكن ان تنشأ الإرادة عن إرادة
غيرها، فإنه لا محذور فيه، بل وقوعه يشهد له الوجدان، كما يتضح بملاحظة
بعض الأمثلة العرفية. وعليه فلا يمتنع تعلق التكليف بالإرادة لأنها يمكن ان
تكون اختيارية قابلة للبعث.
الثاني: انه لو تنزلنا وسلمنا امتناع اختيارية الإرادة مطلقا وامتناع تعلق
البعث بها لاجل ذلك، فهو لا يرتبط بما نحن فيه من فرض تعلق الوجوب
الغيري بها، لان الوجوب الغيري الذي يفرض ثبوته وتعلقه بالمقدمة ليس حكما
مجعولا متكفلا للبعث على حد سائر الوجوبات، وانما عبارة عن شوق نفساني
يتعلق بالمقدمة بتبع تعلق الشوق بذيها، فحقيقة الوجوب الغيري ليست الا
شوقا مترشحا عن الشوق النفسي المتعلق بذي المقدمة. ومن الواضح ان متعلق
الشوق لا يعتبر فيه أن يكون اختياريا، فكثيرا ما يتعلق الشوق بامر غير
اختياري، ولا وجه لاعتبار كونه اختياريا كما لا يخفى.
فعليه، لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالإرادة، اما لاجل كونها
اختيارية، أو لاجل عدم اعتبار الاختيار في متعلق الوجوب الغيري.
واما الوجه الثالث: - ويتبعه الوجه الرابع، لأنهما بملاك واحد، ولذا تخيل
وحدتهما وكونهما وجها واحدا لا وجهين - فيمكن دفعه: بان سقوط الامر الغيري
بالمقدمة عند الاتيان بها لا يكشف عن تعلق الامر الغيري بذاتها، فإنه يمكن
أن يكون من قبيل سقوط الامر بالجزء عند الاتيان به، مع أنه لا يقطع بفراغ
الذمة الا عند الاتيان بجميع اجزاء المركب الارتباطي، فمع عدم الاتيان بها
تبقى الذمة مشغولة. فالاتيان بالجزء مسقط لامره - إذ لا يجب الاتيان به فعلا
294

ثانيا -، لكن سقوطه مراعي بالاتيان بباقي الاجزاء وبدونه لا يستقر السقوط.
وعليه فما نحن فيه يمكن أن يكون من هذا القبيل، فان الامر الغيري وان كان
يسقط بمجرد الاتيان بالمقدمة، لكنه سقوط مراعي بالايصال وترتب الواجب،
وبدونه يلزم الاتيان بها ثانيا.
والذي يتحصل من مجموع ما ذكرنا: ان ما ذكره صاحب الكفاية من
الاشكالات على القول بوجوب المقدمة الموصلة والمحاذير فيه غير تام في نفسه،
سوى الاشكال الأول الذي يبتني على أخذ الغرض هو التمكن لا فعلية
الترتب. ولا يخفى انه ليس بمحذور ثبوتي في القول بالمقدمة الموصلة فالقول
بالمقدمة الموصلة ممكن في نفسه، وانما الالتزام به أو بعدمه ينظر فيه ما تقتضيه
الوجوه الاثباتية.
لكن المحقق النائيني (قدس سره) ذهب إلى استحالة الالتزام بوجوب
خصوص المقدمة الموصلة، لأنه يستلزم محاذير ثلاثة. وبيان ذلك - كما جاء في
أجود التقريرات -: ان الايصال المعتبر ليس من الصفات الخارجية التي تتنوع
باعتبارها المقدمة وتنقسم إلى قسمين، نظير الكفر والايمان في الانسان، وانما هو
من الصفات الانتزاعية المنتزعة عن الاتيان بذي المقدمة، فإذا أخذ هذا القيد
الانتزاعي المتوقف تحققه على الاتيان بذي المقدمة في الواجب المقدمي لزم:
أولا: أن يكون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة لتوقف تحقق الايصال
على تحققه، وهو باطل لاستلزامه الدور، لان الواجب النفسي يتوقف على تحقق
المقدمة، فإذا كان مقدمة لها كان تحققها منوطا بتحققه فيلزم الدور.
وثانيا: أن يكون الواجب النفسي واجبا بوجوب ناشئ من المقدمة، لأنه
يكون مقدمة لما هو واجب كما تقرر في الوجه الأول، وهو باطل أيضا لمحذور
الدور، فان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها، فهو معلول لوجوبه، فإذا
كان وجوب ذيها معلولا لوجوبها لزم الدور.
295

وثالثا: ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وهو يستلزم الخلف أو
التسلسل.
اما لزوم كونه مقدمة للمقدمة الواجبة: فلان المقدمة الواجبة على الفرض
هي الذات بقيد الايصال، فكل من الذات والتقيد بالايصال جزء المقدمة، وجزء
الشئ مقدمة لو لتوقفه عليه، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة.
واما لزوم الخلف أو التسلسل: فلانه إذا كانت ذات المقدمة مقدمة
للمقدمة وللواجب الغيري، ترشح عليها الوجوب قهرا. وحينئذ نقول: ان
الوجوب الآخر اما ان يتعلق بذات المقدمة من دون اعتبار الايصال، فهو خلف
المدعى من اعتبار قيد الايصال في الواجب الغيري وكر على ما فر منه، واما ان
يتعلق بالمقدمة الموصلة، فهو يستلزم ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة
الموصلة إلى المقدمة الموصلة، فيترشح عليها الوجوب الغيري، وحينئذ اما ان
يتعلق بها بذاتها فقط وهو خلف. أو بقيد الايصال فيلزم ان تكون ذاتها مقدمة
وهكذا يستمر هذا الكلام في الذات إلى غير نهاية.
والانصاف ان هذه المحاذير الثلاثة غير تامة:
اما الأول: فلان قيد الايصال لم يؤخذ مقوما للمقدمية، وانما أخذ مقوما
للواجب الغيري، اما المقدمة فهي ذات العمل، وعليه فلا دور، لان ما يتوقف
على الواجب النفسي هو الواجب الغيري بما هو كذلك لا المقدمة، وما يتوقف
عليه الواجب النفسي هو ذات العمل بلا حيثية وجوبه الغيري.
واما الثاني: فلان الوجوب المترشح من قبل الواجب الغيري على
الواجب النفسي غير الوجوب الذي يترشح منه الوجوب الغيري، فان ما
يترشح منه الوجوب الغيري هو الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة. واما ما
يترشح من الواجب الغيري فهو وجوب غيري، وهو غير الوجوب النفسي فلا
دور. غاية الامر أنه يلزم أن يترشح من قبل الوجوب النفسي وجوب غيري
296

يتعلق بما تعلق به، وهو لا محذور فيه.
واما الثالث: فلان ذات المقدمة وان كانت مقدمة للمقدمة بقيد الايصال،
باعتبار أنها جزؤها، ولكنها مقدمة داخلية، وقد تقدم أنها غير قابلة لتعلق الوجوب
الغيري بها حتى بنحو التأكد، فلا يتأتى فيها الكلام السابق لعدم موضوعه.
هذا مضافا إلى أنه يمكن أن يدعى: كون الواجب الغيري بنحو يلازم
الايصال وترتب الواجب، لا بان يؤخذ الايصال قيدا في الواجب، ومعه ترتفع
جميع هذه المحاذير، لكونها مبتنية على أخذ قصد الايصال بعنوان في الواجب
الغيري. فلاحظ.
والمتحصل: هو عدم تمامية ما افاده المحقق النائيني من المحاذير.
وتحقيق الكلام: ان البحث يقع في مقامين:
الأول: في بيان معقولية القول بالمقدمة الموصلة وامكانه.
الثاني: - بعد الفراغ عن معقوليته - في بيان الدليل عليه إثباتا، فان مجرد
المعقولية لا يكفي في الالتزام به بعد فرض معقولية القول الآخر. ومجرد دعوى
اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لا يغني ولا يسمن من جوع.
اما المقام الأول، فتحقيقه: انه لا بد من ذكر بعض احتمالات القول
بالمقدمة الموصلة. وبيان ما يدور حولها من كلام. فنقول: انه قد استقرب كون
الواجب الغيري متعلقا بخصوص العلة التامة التي يترتب عليها الواجب قهرا،
فلا بد من النظر إلى ما ذكر من المحاذير المتقدمة، وبيان التفصي عنها إن أمكن.
وهي سبعة، أربعة ذكرها صاحب الكفاية (1)، وثلاثة ذكرها المحقق النائيني (2).
فاما ما ذكره صاحب الكفاية.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 116 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 237 - الطبعة الأولى.
297

فالأول منها: لا يرتبط بالمرة مع القول المزبور، وذلك لان حاصله هو: ان
الغرض من الوجوب لو كان هو الترتب، فهو مما لا يتحقق بمجموع المقدمات
فضلا عن كل واحد منها.
ومن الواضح ان موضوع هذا الايراد هو دعوى تعلق الوجوب بكل
مقدمة، فتنفى بان كل مقدمة مما لا يترتب عليها الغرض، وهذا أجنبي عن القول
المزبور، فان دعواه تعلق الوجوب بالعلة التامة لا بكل مقدمة، فالايراد أجنبي
موضوعا عن هذا القول.
واما الثاني: فحاصله دعوى إختصاص الوجوب الغيري بالأسباب
التوليدية - لو قيل بالمقدمة الموصلة -، ولا يتعلق بالعلة التامة في غير المسببات
التوليدية، لان أحد اجزائها هو الإرادة، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها.
وهذا يرتبط بالقول المزبور، لأنه قول بتعلق الوجوب بالعلة التامة،
وصاحب الكفاية بوجهه الثاني ينفيه، ويدعي اختصاصه بالسبب التوليدي، ولكنك عرفت الخدشة فيه:
أولا: بان الإرادة قابلة لتعلق التكليف بها، لامكان كونها إرادية، والممتنع
برهانا هو لزوم كونها إرادية.
وثانيا: بان الوجوب الغيري قابل لتعلقه بالإرادة وان كانت غير
اختيارية، لأنه ليس عبارة عن بعث وانما هو عبارة عن شوق نفسي. ومن
الواضح إمكان تعلق الشوق النفسي بالأمر غير الاختياري.
ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم اختيارية الإرادة مطلقا، وعدم صحة تعلق
الوجوب الغيري بها. فهذا لا يمنع من القول بالمقدمة الموصلة بهذا المعنى، وذلك
بان يلتزم بان متعلق الوجوب هو سائر المقدمات غير الإرادة، نظير ما يقال في
قصد القربة. فان وجود المانع من تعلق التكليف بقصد القربة لا يمنع من تعلق
التكليف بغيرها مما هو دخيل في الغرض. فالوجوب الغيري متعلق بغير الإرادة
298

من المقدمات، وعدم تعلقه بالإرادة لمانع عدم القدرة وان كانت دخيلة في
الغرض.
وهذا وإن لم يكن قولا بتعلق الوجوب بالعلة التامة لكنه حكما مثله فتدبر.
واما الثالث والرابع: فحاصلهما هو سقوط الوجوب الغيري عند الاتيان
بالمقدمة الكاشف عن تعلقه بها من دون اعتبار الايصال. ولا يخفى أنه ينافي
الالتزام بوجوب خصوص العلة التامة.
لكنك عرفت الاشكال فيه.
وبيانه: أنه كما أنه إذا أتى بجزء المأمور به الارتباطي يسقط الامر
الضمني المتعلق بالجزء، ولكنه مراعى بالاتيان بسائر الاجزاء، لان سقوطه من
دون مراعاة ينافي الارتباطية والامر الضمني، والسر فيه أن الامر الضمني له
جانبان، جانب الداعوية وجانب الامتثال وسقوطه بالموافقة، فعند الاتيان بالجزء
تنتفي داعوية الامر الضمني، ولكنه لا يسقط بمجرد ذلك، بل امتثاله يتوقف
على الاتيان بباقي الاجزاء المرتبطة به، كذلك ما نحن فيه، فإنه إذا فرض وجوب
العلة التامة كانت كل مقدمة واجبة بالوجوب الضمني لأنها جزء الواجب، فعند
الاتيان بها ترتفع داعوية الامر الضمني، ولكنه لا يسقط إلا بالاتيان بسائر
اجزاء العلة التامة الملازم لترتب الواجب.
واما ما ذكره المحقق النائيني، فقد عرفت الاشكال في كل واحد بنفسه.
فلا ترد على هذا القول، كما عرفت أنها جميعها تبتني على أخذ قيد الايصال
بعنوانه في الواجب الغيري، وهذا القول لا يتكفل ذلك، فان واقعه تعلق
الوجوب بذات العلة التامة، من دون أخذ قيد الايصال، نعم هي ملازمة للايصال
لكنه لا يترتب على ذلك آثاره ومحاذيره. فلاحظ.
وإذا ظهر أن القول بالمقدمة الموصلة بهذا المعنى معقول في نفسه، فيقع
الكلام في..
299

المقام الثاني - أعني مرحلة الاثبات -:
وقد نسب صاحب الفصول الاستدلال على دعواه، وهي اختصاص
الوجوب بالمقدمة الموصلة، بأنه الاشكال في صحة منع المولى عن جميع مقدمات الواجب
غير التي يترتب عليها الواجب، فيصرح بتحريم المقدمة غير الموصلة، فإنه
يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها، وإلا لامتنع عنها، فإنه من باب اجتماع
المتضادين (1).
وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين:
الأول: وهو يتكفل منع دلالته على المدعى. وذلك ببيان: ان الملازمة
المدعاة لا تكون علة تامة لتعلق الوجوب الغيري بالمقدمة، وانما هي مؤثرة بنحو
الاقتضاء، وفعلية تأثيرها تتوقف على عدم وجود المانع، فإذا كان هناك مانع من
تعلق الوجوب الغيري كتعلق الحرمة بالمقدمة، فلا يثبت الوجوب لها، فمانعية
المنع لا تكشف عن اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة، إذ تعلق الوجوب
بغيرها يمكن أن يكون لاجل وجود المانع لا لعدم المقتضي.
الثاني: وهو يتكفل نفي الاستدلال وبيان عدم امكان المنع عن المقدمة
غير الموصلة للزوم المحذور من جهتين:
الأولى: انه يلزم أن لا تتحقق مخالفة للواجب في تركه، وذلك لان وجوب
الواجب معلق على القدرة عليه، والقدرة عليه بالقدرة على مقدماته. ومن الواضح
أنه كما تعتبر القدرة على المقدمات عقلا تعتبر القدرة عليها شرعا، بان لا تكون
ممنوعا عنها ومحرمة شرعا، وإلا كانت غير مقدورة، فإذا فرض المنع عن المقدمة
غير الموصلة واختصاص الجواز بالموصلة، كان تحقق القدرة على المقدمة شرعا
منوطا باتيان الواجب، فمع عدم الاتيان به كانت المقدمة محرمة لأنها غير موصلة،

(1) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية / 87 - الطبعة الأولى.
300

فكان غير مقدور فيسقط وجوبه، فلا يكون تركه مخالفة.
الثانية: انه إذا فرض كون ثبوت القدرة على المقدمة منوطا بصورة
الاتيان الواجب، فتكون القدرة عليه منوطة بالاتيان به فيكون وجوبه مختصا
بصورة الاتيان به، وهو محال لأنه من طلب الحاصل (1).
أقول: ورود الايراد الأول يبتني على كون نظر صاحب الفصول في كلامه
إلى الاستدلال على وجوب خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها، فإنه يورد عليه
بان ما ذكر لا دلالة له على ذلك، وهذا المعنى هو الذي فهمه صاحب الكفاية
وتابعه المحقق النائيني (2)، فحملا كلام الفصول على الاستدلال.
اما لو كان نظره - كما فهمه المحقق الأصفهاني (3) - إلى نفي محالية القول
بالمقدمة الموصلة في قبال من أدعى محاليته ووجود المحاذير فيه. فالايراد بعيد عن
محط نظر المدعي، إذ كلام الفصول يتضمن امكان اختصاص الوجوب بالمقدمة
الموصلة كالفرض الذي ذكره، والايراد لا يتكفل منع صحة الفرض، بل غاية ما
يتكفل منع دلالة الفرض على الاختصاص، وهو غير ملحوظ في الاستشهاد
بالفرض إذ الملحوظ فيه دلالته على امكان الاختصاص لا ثبوت الاختصاص.
نعم الايراد الثاني موجه، فإنه يتكفل منع الفرض.
ولكن أورد عليه المحقق النائيني ان جواز المقدمة غير مشروط بالايصال،
ليتوقف تحققه على تحقق الايصال خارجا، بل المتوقف عليه انما هو تحقق ما هو جائر
شرعا، إذ المفروض ان الايصال قيد للواجب لا للوجوب، وبما أن المقدمة
الخاصة وهي الموصلة مقدورة للمكلف، للقدرة على ايجاد قيده وهو الايصال،
والمفروض جوازها شرعا، فهو يكفي في تحقق القدرة على الواجب، لكفاية جواز

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 120 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 237 - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 209 - الطبعة الأولى.
301

المقدمة في الجملة فيها. وعليه فلا يلزم أن لا يكون ترك الواجب مخالفة
وعصيانا (1).
وما ذكره من أن الايصال ليس قيدا للجواز بل هو قيد لتحقق الجائز،
نظير أجزاء الصلاة، فان كلا منها واجب بالوجوب الضمني ولو لم يأت بالاخر،
إلا أن اتصاف المأتي به بالوجوب يتوقف على الاتيان بغيره.
وقد يوجه كلام صاحب الكفاية ويدفع كلام النائيني بوجهين:
الوجه الأول: ان الجواز والمنع لما كانا واردين على ذات واحدة، وهي ذات
المقدمة ولكن أخذ في المنع عدم الايصال كما أخذ في الجواز الايصال، كان ذلك
ملازم قهرا لتقييد أصل الجواز بالايصال، وذلك لأنه عند تحقق المقدمة وقبل
تحقق الايصال لا تكون المقدمة متصفة فعلا بالجواز ولا بالمنع، فإذا تحقق
الايصال اتصفت بالجواز. من الواضح ان تحقق الايصال لا يلازم تحقق
خصوصية تكوينية منوعة للمقدمة، كما لا يكشف عن وجود خصوصية يكون
الفعل بها متصفا بالجواز، فيكون الايصال كاشفا عن سبق ثبوت الجواز للفعل،
إذن لا تأثير له في الفعل إلا اتصافه بالجواز، فالفعل الجائز بما أنه جائز لا يكون
إلا بالايصال فللمكلف أن لا يأتي بالفعل الواجب، فلا تتحقق المقدمة الجائزة
فيتحقق الجواز باختيار المكلف، وليس هناك حصة جائزة منحازة عن الحصة
الممنوعة.
الوجه الثاني: ان الجواز الثابت هنا ليس هو الجواز بمعنى الإباحة، بل
الجواز بالمعنى الأعم - أعني عدم المنع -، وهو ليس بحكم مجعول كي يعلق
على شرط أو يتعلق بحصة خاصة، وانما المجعول ليس إلا المنع، وهو متعلق
بالمقدمة بقيد عدم الايصال. وعليه فإذا تحقق الايصال كان رافعا للمنع ومانعا

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 240 - الطبعة الأولى.
302

منه، فعدم المنع انما يتحقق بالمانع عن المنع، وهو الايصال. وعليه فيكون الجواز
- وهو عدم المنع - مشروطا بالايصال، إذ مع عدم الايصال يثبت المنع لثبوت
قيده. فلاحظ.
والحق ان ايراد. المحقق النائيني وارد، وكلا الوجهين مخدوشان:
اما الأول: فلان الجواز متعلق بالحصة المقيدة، أعني المقدمة بقيد
الايصال، بحيث كان قيد الايصال قيدا للمتعلق لا الحكم. وعليه فقبل تحقق
الايصال لم يثبت متعلق الحكم، لعدم حصول جزئه الاخر وهو التقيد،
فليس الايصال دخيلا في الاتصاف بالجواز، بل دخيل في تحقق متعلق الجواز
ومصداق ما هو الجائز، فإنه محقق لخصوصية التقيد المأخوذة في المتعلق، فالجواز
ثابت من أول الامر على الحصة المقيدة كما أفاد المحقق النائيني، نظير اجزاء
الصلاة كما عرفت.
وعليه، فالواجب مقدور عليه للقدرة على مقدمته فتركه يكون مخالفة، كما
أن وجوبه لا يكون معلقا على الاتيان به كي يكون من طلب الحاصل المحال.
واما الثاني: فلان المنع إذا كان متعلقا بالمقدمة المقيدة بعدم الايصال، كان
عدمه قهرا متعلقا بالمقدمة بقيد الايصال، فيكون الايصال دخيلا في تحقيق
الخصوصية المأخوذة في متعلق عدم المنع، وثبوت الجزء الاخر لغير الممنوع وهو
التقيد بالايصال. لا دخيلا في ثبوت عدم المنع كي يجئ ما تقدم.
وعليه، فيكون الواجب مقدورا للقدرة على مقدمته، فلا يكون وجوبه
معلقا على الاتيان به، فيكون تركه مخالفة وعصيانا كما لا يكون من طلب
الحاصل.
وخلاصة الكلام: ان الايراد الثاني على صاحب الفصول غير صحيح.
واما الأول فهو انما يمنع الاستدلال على ثبوت اختصاص الوجوب
الغيري بالمقدمة الموصلة لا الاستدلال على امكانه الذي يمكن أن يكون نظر
303

القائل إليه.
واما ايراد المحقق النائيني على صاحب الفصول فمحصله: ان جواز المنع
عن بعض المقدمات لا يلازم اختصاص ملاك الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة،
لان التوقف إن لم يكون هو ملاك الوجوب لزم عدم تعلق الوجوب بجميع
المقدمات وانكار وجوب المقدمة وان كان هو الملاك، فاما أن يكون هو الملاك
بقول مطلق من دون تقييده بشئ كان اللازم وجوب جميع المقدمات لاشتمالها
على الملاك. وان كان الملاك هو الحصة الخاصة من التوقف، وهي ما يستحيل
انفكاك الواجب عنه في الخارج، لزم اختصاص الوجوب بالمقدمات التوليدية
وهو مما لا يلتزم به (1).
ويمكن الجواب عنه بتصوير شق آخر للترديد وهو: كون الملاك هو
التوقف على ما يلازم وجود ذي المقدمة، وليس لازمه تعلق الوجوب بالمقدمة
الموصلة، بل يمكن الالتزام بتعلق الوجوب بما يلازم المقدمة الموصلة لا بعنوان
المقدمة الموصلة، فلا يرد عليه أي محذور كما أشرنا إليه. اما هذا العنوان الملازم
فسيأتي تحقيقه.
ومن مجموع ما ذكرناه يتبين أن ما ذكره في الفصول يصلح وجها لبيان
امكان القول بالمقدمة الموصلة.
والغريب من المحقق النائيني ما يظهر من كلامه من الاعتراف بصحة
الفرض الذي ذكره صاحب الفصول، مع أن لازمه اختصاص الوجوب بالمقدمة
الموصلة الذي ذهب إلى محاليته عقلا وثبوت المحاذير فيه.
اما وجه اعترافه بصحة الفرض المزبور، فلما جاء في تقريرات بحثه من
قوله: " ان جواز المنع لا يدل... " فإنه ظاهر في الاعتراف بجواز المنع الذي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 238 - الطبعة الأولى.
304

عرفت أن لازمه اختصاص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة. وفي كون
الاشكال عليه من ناحية أخرى وهي عموم الملاك ونحوه.
وبالجملة: فظاهر كلامه هنا يتنافى مع ما تقدم منه عدم معقولية المقدمة
الموصلة.
والذي صار بأيدينا من مجموع ما تقدم هو: إمكان القول بالمقدمة
الموصلة، وامكان القول بوجوب مطلق المقدمة، فأيها يتعين الالتزام به؟.
استدل صاحب الفصول على الأول بوجوه ثلاثة ذكرها صاحب الكفاية:
الأول: ان طريق ثبوت وجوب المقدمة ليس إلا حكم العقل بالملازمة بين
وجوب شئ ووجوب مقدمته، والقدر المتيقن منه هو الملازمة بين وجوب شئ
ووجوب خصوص مقدمته الموصلة.
الثاني: ان العقل والضرورة قاضيان بصحة تصريح الامر بعدم إرادة
المقدمة غير الموصلة في الوقت الذي يقضيان فيه بقبح تصريحه بعدم إرادة مطلق
المقدمة أو خصوص الموصلة.
الثالث: انه لما كان الغرض من وجوب المقدمة هو التوصل بها إلى
الواجب، فلا بد أن يكون حصوله مأخوذا في مطلوبيتها، فان من يريد شيئا لاجل
التوصل إلى آخر لا يريده إذا تجرد عنه بلا إشكال.
واستشكل في هذه الوجوه صاحب الكفاية ببيان: انه بعد أن تقدم منا
بيان ثبوت حكم العقل بوجوب مطلق المقدمة بلا تخصيص له بخصوص
الموصلة، فلا يبقى مجال لدعوى كون القدر المتيقن منه وجوب الخصوص
الموصلة، وبذلك يندفع الوجه الثاني، فإنه ليس للامر الحكيم التصريح بعد
مطلوبية المقدمة غير الموصلة لثبوت الملاك فيها كغيرها.
نعم، له ان يصرح بعدم حصول المطلوب أصلا - مع حصولها فقط -
لكون نظره الأصلي إلى المطلوب النفسي، فحين عدم حصوله لا نظر له إلى
305

حصول المقدمة وان كانت مطلوبة تبعا وهذا لا يعني عدم وجوبها، لان التصريح
المزبور ناشئ من تبعية الوجوب الغيري لا عدمه.
واما الوجه الثالث، فاندفاعه بما ثبت من أن الغرض والملاك في الوجوب
الغيري ليس هو التوصل، بل التمكن من ذي المقدمة وهو متوفر في جميع
المقدمات (1).
فأساس مناقشة صاحب الكفاية وارتباط كلامه بكلام صاحب الفصول
هو: انه بعد أن تم الاستدلال على كون الغرض هو التمكن وعدم إمكان
اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة، لا وجه لما ذكر من عدم الدليل على
وجوب غير الموصلة أو صحة تصريح الامر بعدم إرادة غير الموصلة ونحو ذلك،
فإنه لا ينهض في قبال الاستدلال المتقدم.
ومناقشته وجيهة لشق استدلاله المتقدم، إلا إنا ناقشنا كلامه المتقدم ولم
يثبت لدينا من كلامه سوى امكان القول بوجوب المقدمة الموصلة لا تعينه، فلا
بد لنا من الوقوف موقف المتأمل في أدلة الفصول لا الوقوف موقف المستظهر
لها كما فهمه صاحب الكفاية.
والانصاف ان الوجه الأول لا مناقشة فيه، فإنه لا طريق لدينا إلى إحراز
حكم العقل، ومع عدم احرازه من حيث المقدار وغيره لا نستطيع الجزم به، وعدم
الجزم في حكم العقل ملازم للجزم بعدم الحكم كما لا يخفى، فالقدر المتيقن من
حكم العقل ليس إلا وجوب خصوص المقدمة الموصلة لا غير.
ومنشأ التردد المذكور وان كان هو التردد في كون الملاك هو التوصل إلى
الواجب والتمكن منه، فكان الأنسب تحقيق ما هو الملاك إلا إنه حيث طريق
لنا إلى ذلك وكان وجوب المقدمة الموصلة محرزا على كل تقدير، فالمحرز من حكم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 118 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
306

العقل هو دون غيره، وإن لم يعلم الملاك فيه تفصيلا، إذ لا
يعتبر حكم العقل معرفة ملاك ما يحكم به بنحو التفصيل، بل يكفي العلم
الاجمالي بثبوت ملاك الحكم في المورد.
وبالجملة: فالوجه الأول يكفي في الحكم بوجوب خصوص المقدمة
الموصلة، ومعه لا نحتاج إلى بعض الاستدلالات المذكورة، فإنه لا تنهض على
المدعى كما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من الاستدلال: بان الغرض من
المقدمة لما كان تبعيا، والغرض الأصلي انما هو في ذي المقدمة فمع حصول المقدمة
وعدم حصول ذي المقدمة لا غرض من هذه المقدمة (1). فإنه لا يخلو عن مصادرة،
فان المتجه هو البحث عن الغرض والملاك في وجوب المقدمة وانه هل هو التوصل
إلى الواجب أو التمكن منه؟. اما تبعية الغرض من المقدمة، فهو لا يعتبر في
وجوبها مطلقا لو كان الغرض من وجوبها هو التمكن من ذيها. فكلامه (قدس
سره) بعيد عن نقطة البحث.
ثم انك قد عرفت تصوير القول بالمقدمة الموصلة بالالتزام بتعلق
الوجوب الغيري بالعلة التامة بلا ورود أي محذور فيه.
وبعد ان تبين نهوض الدليل على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة،
يمكننا القول بكونه متعلقا بالعلة التامة، فلا يكون لدينا إلا وجوب غيري واحد
متعلق بالعلة التامة.
إلا أنه يتنافى مع ما هو المتسالم عليه بين الاعلام، والمفروغ منه لديهم،
من تعلق الوجوب بكل مقدمة بنفسها، بحيث تتعدد الوجوبات الغيرية بتعدد
المقدمات، وانما النزاع في اقتصار الوجوب المقدمات الموصلة أو عمومه

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 206 - الطبعة الأولى.
307

وقد حاول المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه - نفي صحة
القول باختصاص الوجوب الغيري بالعلة التامة على طريق البرهان والوجدان.
اما البرهان فبيانه: ان المقدمات يختلف نحو تأثيرها. فمنها: ما يكون
تأثيره بنحو الاقتضاء والفاعلية، وهو المعبر عنه بالمقتضي. ومنها: ما يكون تأثيره
على نحو الشرطية، وهو الشرط. ومنها: ما يكون تأثيره بنحو الاعداد، وهو المعد.
من الواضح ان اختلاف انحاء المقدمات يستلزم اختلاف نحو تقييد الواجب
النفسي بها، فيتعدد التقيد بتعدد أنحاء التأثير ولا يرجع إلى نحو واحد، وظاهر
ان التقيد متعلق للامر النفسي الضمني، فيترشح منه أمر غيري مستقبل متوجه
إلى كل مقدمة من المقدمات، فيتعدد الامر الغيري بتعدد المقدمات سنخا.
واما الوجدان فتقريبه: انه لا اشكال في امكان الاتيان بكل مقدمة بقصد
أمرها الاستقلالي كالوضوء في باب الصلاة وهذا لا يتلاءم مع كون الامر المتعلق
به ضمنيا، إذ لو كان ذلك لما جاز قصد أمرها الاستقلالي، بل يكون مصداقا
للتشريع (1).
والانصاف: ان محاولة المحقق العراقي فاشلة، للخدشة في برهانه من
وجوه:
الأول: انه أخص من المدعى، فإنه إذا كان تعدد سنخ التأثير في
المقدمات هو الموجب لتعدد التقيدات التي ينشأ منها الوجوب الغيري،
فمقتضى ذلك تعلق وجوب غيري واحد بالمقدمات المتحدة في نحو التأثير
كالمعدات أو الشروط، لان التقيد بها واحد فيترشح منه وجوب غيري واحد.
والمدعى غير ذلك، فان المدعى تعلق الوجوب بكل مقدمة مقدمة.
الثاني: ان الكلام لا يختص بالمقدمة الشرعية التي أخذ التقيد بها جزء

(1) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار 1 / 390 - الطبعة الأولى.
308

للواجب النفسي، بل هو في مطلق المقدمة ولو كانت عقلية، ومن الواضح ان
التقيد بالمقدمة العقلية لم يؤخذ في الواجب النفسي كي يترشح منه وجوب غيري
على المقدمة، فالوجوب الغيري لا يرتبط بالتقيد وإلا لاختص بالمقدمة
الشرعية.
الثالث: ان الوجوب الغيري ليس معلولا للامر الضمني والإرادة
الضمنية المتعلق بالتقيدات، وانما هو معلول للغرض التبعي الناشئ من الغرض
الأصيل، وهو اما التمكن من الواجب أو حصوله، والذي يفرض غرضا على
القول بالمقدمة الموصلة هو حصول الواجب والوصول إليه، وهو غرض واحد
تنشأ ضمن ارادته إرادة المقدمات، وإرادته لا تستلزم ان تتعلق بكل مقدمة
إرادة، بل يمكن ان تنشأ عنه إرادة واحدة تتعلق بمجموع المقدمات. وهذا
الغرض وان كان تبعيا لكنه ناشئ من الغرض الأصيل المتوفر في ذي المقدمة ولا
ارتباط له بالأوامر الضمنية المتعلقة بالتقيدات.
واما ما استشهد به من الوجدان بامكان الاتيان بالوضوء للصلاة بداعي
أمره المستقل، فهو غريب بعد أن عرفت فيما تقدم من النقض والابرام في صحة
قصد الامر الغيري في الوضوء، وان الامر المقصود امتثاله ما هو؟ فكيف يتضح
ذلك سريعا بالوجدان؟!.
والخلاصة ان ما افاده المحقق العراقي لا يخلو عن خدشة. فلا دافع
لدعوى تعلق الوجوب بالعلة التامة، غير أنه خلاف المتسالم والمفروغ عنه بين
الاعلام - ان صح كون هذا دافعا -.
ثم إنه لو لم يلتزم بتعلق الوجوب الغيري بالعلة التامة والتزم بأنه متعلق
بكل مقدمة مستقلا..
فهل يمكن تصوير اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة بنحو معقول
سالم عن كل محذور؟ تصدى الاعلام لتصويره بوجه معقول.
309

فذهب المحقق العراقي إلى تعلق الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة، لكن
لا بنحو أخذ الايصال قيدا، بل هو مأخوذ بنحو القضية الحينية نظير حمل النوع
على الانسان، فإنه لا يصح إلا عند لحاظ الانسان، مع أن الموضوع ليس هو
الانسان المقيد باللحاظ، لأنه كذلك يكون جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا، وانما
الموضوع هو الانسان في ظرف اللحاظ وحينه، ونظير تقيد الأوامر الضمنية
المتعلقة بالاجزاء بعضها ببعض، فان الامر الضمني المتعلق بكل جزء لا يكون
متعلقا به مستقلا، بل عند تعلق مثله بالجزء الاخر، لكن لا بنحو يكون مقيدا
به فهو غير مقيد ولا مطلق.
وعليه، فالواجب الغيري هو المقدمة في حين الايصال أو الحصة التوأم
كما يعبر بها كثيرا بنحو لا يؤخذ الايصال قيدا، فلا يرد عليه أي محذور (1).
أقول: قد تكرر من المحقق العراقي (2) هذا المعنى في موارد متعددة وأصر
عليه بنحو جدي وجزمي، ولكنا لا نقر تطبيقه فيما نحن فيه.
بيان ذلك: ان القضية الحينية انما تكون معقولة في المورد الذي لا يكون
الاطلاق معقولا، سواء كان التقييد معقولا أو غير معقول، إذ لا لزوم للتقييد في
حصر الحكم بالحصة الخاصة، لأنه بحكم طبعه لا يتعدى عنها - كما عرفت -
والذي يحضرنا بذلك موردان:
أحدهما: ما مثل به من: " الانسان نوع " ونحوه مما يعبر عنه بالمعقولات
الثانوية التي يفرض كون موطن الحمل بها الذهن ولا واقع لها سواه، وحينئذ
فيمتنع أن يكون الموضوع مجردا عن اللحاظ ومطلقا من جهته، إذ لا معنى
للوجود الذهني سوى اللحاظ، كما يمتنع ههنا التقييد به، لان اللحاظ يوجب

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 340 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) قد مر ذلك المعنى الحرفي في تفسير كلام صاحب الكفاية فراجع.
310

جزئية الملحوظ بما هو ملحوظ. وهي ينافي حمل مثل النوع عليه. وعليه فيقال: ان
الموضوع هو ذات الانسان ونفس الماهية لا بقيد اللحاظ، ولكن في حين اللحاظ
وظرفه، فليست الماهية المحمول عليها مطلقة ولا مقيدة.
ثانيهما: ما مثل به من الامر المتعلق باجزاء المركب، وذلك لان الإرادة
المتعلقة بالمركب إرادة واحدة تضم جميع الاجزاء - ويشبهها (قدس سره)
باللحاف - فكل جزء ليس متعلقا للإرادة بنفسه ومستقلا، فالإرادة الضمنية
المتعلقة بكل جزء لا تنفك عن الإرادة الضمنية المتعلقة بالجزء الاخر، فهي ليست
مطلقة من هذه الجهة، وحينئذ يمكن أن يقال ان عدم انفكاك كل إرادة عن
الأخرى لا يلازم تقييد متعلق كل منها بمتعلق الأخرى، بل يقال أنه لغو
محض، لحصول نتيجة التقييد وعدم انفكاك متعلق كل منها عن الاخر. فتحقق
كل جزء مأخوذ في متعلق كل أمر ضمني بنحو القضية الحينية.
اما في المورد الذي يمكن تصور الاطلاق فيه من جهة القيد، فتصور أخذ
القيد بنحو القضية الحينية محل اشكال. وذلك كسائر قضايا الاحكام
الاستقلالية بناء على كون الاحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية، إذ
يقال ان المولى إذا لاحظ متعلق الامر ولاحظ القيد فاما ان يقيده به أو لا يقيده
به، اما نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد، فهذا لا يستلزم شيئا، بل
يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الانسان، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد.
وما نحن فيه كذلك، فان الامر الذي يتعلق بالمقدمة يتعلق بها استقلالا
لا ضمنا والدعوى انه يتعلق بالحصة التي تلازم الايصال. فنقول نفس لحاظ المقدمة
في ظرف الايصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها ما لم ينص المولى على تقييد
متعلق الامر، وإلا فالامر متعلق بذات المقدمة، ولحاظ ظرف الايصال معها
لحاظ أجنبي لا أثر له في أي شئ ما دام لا يغير من واقع الامر وكيفية الإرادة،
كما هو الحال في الأوامر الضمنية.
311

وبعبارة أخرى: ان الامر إذا لم يكن بنحو يستلزم اختصاص متعلقه
بحصة معينة، فنفس لحاظ الحصة حال الامر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى
التقييد وانشاء الحكم على المقيد، بل يكون اللحاظ المزبور من قبيل ضم الحجر
إلى جنب الانسان لا ربط له بالأمر، ومتعلقه بما هو متعلق الامر.
بل عدم تصور القضية الحينية في قضايا الاحكام لا يختص بالبناء على
كون جعل الاحكام بنحو القضية الحقيقية، بل هو ثابت ولو كان جعلها بنحو
القضية الخارجية، إذ غاية ما يدعى في تصورها: ان المولى إذا جعل الحكم على
الموضوع الخارجي فهو غير مطلق بالإضافة إلى صفاته الفعلية كالقيام مثلا، كما
لا داعي إلى التقييد، فان نتيجته حاصلة فيكون القيام مأخوذا بنحو القضية
الحينية.
ومن الواضح: إن هذا إنما يتم في الصفات اللازمة غير القابلة للتغير
كاللون الخاص، اما القابلة للتغيير كالأفعال، نظير القيام، فيأتي فيها الكلام
السابق، فان الاطلاق من جهتها غير ممتنع كما إذا زال القيام، فيسأل عن
موضوع أمر المولى وأنه هل هو زيد مطلقا قائما كان أو قاعدا، أو خصوص زيد
القائم، ولحاظ قيام زيد أو وجوده خارجا حال الحكم لا يستلزم تعلق الحكم به
بنحو يختص بحال القيام، إذ للامر ان يصرح بالاطلاق، فلا يختص الحكم بحال
القيام إلا بالتقييد. وهذا بخلاف الموردين السابقين، فان نحو الحكم فيهما يتنافى
مع التصريح بالاطلاق، فنتيجة التقييد حاصلة، فلا وجه للتقييد ويمكن عدمه
ولا منافاة لغرضه. فتدبر.
والمتحصل: ان تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة بنحو القضية الحينية
لا نعرف له توجيها سديدا.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تصوير المقدمة الموصلة بلا أخذ
الايصال قيدا، بدعوى: ان الواجب هو المقدمة بالفعل.
312

وتوضيح ذلك: ان المقدمات بأنحائها لا تكون مقدمات فعلية، إلا إذا
ترتب الواجب عليها، وبدون ذلك تكون مقدمات بالقوة، فالمقتضي الموجود
وحده من دون وجود سائر اجزاء العلة فاعل بالقوة، والموجود مع سائر اجزاء
العلة فاعل بالفعل، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحح
للفاعل بالقوة. واما الموجود مع المقتضي فهو مصحح بالفعل، وهكذا الحال في
غيرهما من انحاء اجزاء العلة، فكل منها ان وجد من دون انضمام جميع اجزاء
العلة ينسب إليه أثره بالقوة، ومع انضمام الاجزاء الأخرى ينسب إليه الأثر
بالفعل.
وحينئذ يقال: ان متعلق الوجوب الغيري هو المقدمات الفعلية لا مطلق
المقدمات ولو كانت بالقوة، وهذا المعنى ملازم للايصال، لان الفعلية لا تتحقق
إلا بتحقق الواجب، من دون أن يؤخذ الايصال قيدا (1).
وتابع السيد الخوئي الحقق الأصفهاني في هذا التصوير (2).
ولكنه تصوير قابل للمناقشة من جهتين:
الأولى: ان الفرق الذي جعله بين المقدمة الموصلة وغير الموصلة هو تأثير
المقدمة في أثرها المترقب على اختلاف أنحائها، فلا بد ان نلاحظ ان هذا التأثير هل
يوجب فرقا واقعيا بين المقدمات، بحيث تختلف واقعا، فيقال الحكم متعلق بهذا
الصنف دون الأعم، أو أنه لا يوجب الفرق الواقعي أصلا؟ فيشكل التقريب
المزبور.
والحق انه لا يوجب فرقا واقعيا، فالمقتضي في حال تأثيره عين المقتضي
في حال عدم تأثيره من دن أي اختلاف بينهما ذاتا أصلا وانما الاختلاف في أمر

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 206 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 420 - الطبعة الأولى.
313

خارج، وهو تحقق التأثير بهذا الفرد دون ذلك. ومن الواضح ان التأثير ليس إلا
عين وجود الأثر كما يصرح بذلك (قدس سره)، فإنه كثيرا ما ينص على أن
الايجاد والوجود امر واحد لا أمران، فاخذ التأثير في متعلق الامر الغيري اخذ
لوجود الواجب فيه، وهو ما قصد الفرار منه، وأما المؤثرية فهي عنوان انتزاعي
عن تحقق التأثير والأثر نظير عنوان الايصال، فاخذه لا يختلف عن اخذ قيد
الايصال.
الثانية: - وهي المهمة في المقام - ان المهم من المقدمات الذي يدور الكلام
حوله، لا يرتبط ترتب أثره فعلا بوجود سائر اجزاء العلة وهو المعدات.
بيان ذلك: ان الواجب تارة يكون من المسببات التوليدية التي لا يتوسط
بينه وبين مقدماته الإرادة، نظير الاحراق المترتب على النار. وأخرى يكون من
الأفعال الإرادية الاختيارية التي لا تتحقق إلا بالإرادة المباشرة. ولا يخفى ان
البحث انما هو في القسم الثاني من الواجبات، للمفروغية عن وجوب السبب
التوليدي، بل ذهب البعض إلى كونه متعلق الامر النفسي حقيقة.
ومن الواضح ان المقدمات التي تسبق الإرادة في الأفعال الاختيارية كلها
من قبيل المعد، إذ المقتضي لتحقق الفعل ليس سوى الإرادة، والفعل لا يتخلف
عنها، وما يؤثر في فاعلية الإرادة وتأثيرها بحيث يكون دخيلا في حصول الفعل
بنحو المباشرة فهو لا يعدو أفق النفس بمقتضى قانون السنخية، إذ الإرادة من
أفعال النفس، فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النفس. اما المقدمات
الخارجية، فكلها من قبيل المعد شأنها تقريب المعلول لعلته من دون أي تأثير
مباشر في نفس حصول المعلول.
وعليه، فنقول: إذا كان اثر المعد هو المقربية لا غير، فهي متحققة بتحققه
مطلقا، وجد المعلول أو لم يوجد، فالقرب من المكان المطلوب الكون فيه يحصل
بنقل الخطى سواء أراد المكلف تحقيق الفعل أو لم يرد. فلا يختلف الحال في المعد
314

من جهة ترتب أثره بين تحقق ذي المقدمة وعدمه، والمهم من المقدمات التي يقع
البحث عنها هي من هذا القبيل، فالاتيان بالماء للوضوء بل ونفس الوضوء ونحوه
معد للصلاة مع الطهارة.
اما نفس الإرادة، فالمفروض أنه لا يتخلف عنها الواجب المراد، ولو
فرض تخلفه عنها فليس البحث في وجوبها وعدمه بذي أهمية أصلا.
وبالجملة: المقدمات المرغوبة لا يختلف حالها من حيث ترتب الأثر بين
تحقق ذي المقدمة وعدمه، فالقول بان الواجب خصوص ما ترتب عليه أثره لا
يلزمه اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.
ومن الغريب ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من أن المعد الذي لا
ينضم إليه سائر المقدمات مقرب بالقوة لا بالفعل.
وعلى هذا فما افاده المحقق الأصفهاني في تصوير القول بالمقدمة الموصلة
لا يعرف له وجه سديد.
ونهاية الكلام: ان أخذ عنوان المؤثرية أو الايصال أو نحوهما في متعلق
الوجوب الغيري ليس بمعقول، لا لاجل ما تقدم ذكره من المحاذير، فقد عرفت
دفعه، بل لاجل ان هذه العناوين لا تنتزع إلا عن ترتب الواجب وحصوله،
والمفروض ان أخذها انما هو لاجل كون الغرض حصول ذي المقدمة، فاخذ ما
ينتزع عن حصوله فيما كان الغرض من وجوبه حصوله بديهي البطلان.
واما اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لا بنحو أخذ قيد الايصال، بل
بنحو يلازمه بالتقريبين اللذين عرفت أحدهما من المحقق العراقي والاخر من
المحقق الأصفهاني، فهو مما لا محصل له.
يبقى تصوير واحد، وهو ما تقدم الكلام فيه، وهو أن يكون متعلق الحكم
هو العلة التامة بمجموع أجزائها.
وهذا التصوير وان استحسناه فيما تقدم، إلا أنه يمكن المناقشة فيه مما
315

عرفت من مناقشة كلام المحقق الأصفهاني.
وبيان ذلك: ان العلة التامة في الأفعال الاختيارية بمعنى ما يكون مؤثرا
في حصول الواجب، بحيث يكون حصول الواجب به، ليس إلا الإرادة
وتوابعها. اما المقدمات الخارجية فوظيفتها ليس إلا الاعداد ومقربية الواجب
للفاعل من دون أن يكون لها أي تأثير مباشر في حصول الواجب، فإنها قد
تحصل ولا يحصل الواجب أصلا.
وعليه، فإذا فرض الالتزام بكون متعلق الوجوب هو العلة التامة لزم
اختصاص الوجوب بالإرادة وشرائطها، لان المعد وان كان اصطلاحا من اجزاء
العلة التامة، ومقتضاه دخوله في ضمن الواجب الغيري، إلا أنه حيث كان
الالتزام بوجوب العلة التامة انما هو لاجل كون ملاك الوجوب الغيري حصول
الواجب، وقد عرفت أن ما هو المحصل للواجب ليس إلا الإرادة وليس شأن
المعد تحصيل الواجب وانما شأنه مقربية الواجب، فلا محالة يكون متعلق
الوجوب ما به يحصل الغرض وهو الإرادة وشؤونها.
ولا يخفى انه لا يترتب أي أثر على وجوب الإرادة وعدمها، وانما الآثار
العملية المفروضة انما تفرض على تقدير وجوب المقدمات الخارجية، وهي بهذا
البيان خارجة عن دائرة متعلق الوجوب الغيري.
ومن هذا البيان تعرف السر في إصرار صاحب الكفاية على أن ما يترتب
على المقدمة ليس إلا التمكن من الواجب دون حصول الواجب، وان الغرض
من وجوبها - على تقديره - لا بد وان يفرض التمكن لا الحصول لأنه لا يترتب
عليها.
فإنه قد اتضح ان جميع المقدمات لا تؤثر سوى المقربية والتمكن على
الواجب لا غير.
316

وعليه، فالمتعين الالتزام بوجوب مطلق المقدمة.
وبهذا ينتهي تحقيق الحق في المقدمة الموصلة.
يبقى شئ لا بأس بالإشارة إليه وهو: ما تعرض إليه المحقق النائيني
(قدس سره) من بيان كلام صاحب الحاشية في المقدمة الموصلة، فإنه ذكر: انه
أنكر على صاحب الفصول الالتزام بأخذ قيد الايصال في الوجوب الغيري، وسلك
طريقا آخر في تخصيص الوجوب بالمقدمة الموصلة، وهو الالتزام بان الواجب هو
المقدمة من حيث الايصال.
وقد أوضحه (قدس سره) بما ملخصه: ان الغرض من المقدمة وملاك
الوجوب الغيري لما كان التوصل إلى الواجب، كان وجوب المقدمة لاجل
الايصال، وحينئذ فيختص الوجوب بصورة ترتب الواجب ووقوع المقدمة في
سلسلة العلة التامة، لعدم توفر الملاك في غيرها، ولكن لا بان يؤخذ قيد الايصال
قيدا فيها لامتناعه كما عرفت. وأن يكون الواجب هو المقدمة في حال الايصال.
وبتعبير آخر: الواجب هو الحصة التوامة مع ذيها. فيكون القيد والتقييد خارجين.
كما أنه لا يكون مطلقا من جهته، لان امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق،
لان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والايجاب، كما ذهب إليه
الشيخ (رحمه الله). فالتزم بتعين الاطلاق في المورد الذي يمتنع فيه التقييد. وانما
يكون مهملا ثبوتا من هذه الناحية، لامتناع كلا الامرين، كما يمتنع ان تؤخذ
الحيثية المزبورة بنحو نتيجة التقييد، لان الوجوب الغيري تابع للوجوب النفسي
في شؤونه وخصوصياته، فكما لا يكون الوجوب النفسي بالنسبة إلى متعلقه إلا
مهملا ولا تعرض لخطابه إلى حالتي وجوده وعدمه اطلاقا ولا تقييدا ولا بنحو
نتيجة التقييد، فكذلك الوجوب الغيري بالنسبة إلى ذي المقدمة لا بد أن يكون
مهملا كما هو مقتضى التبعية. (*)
317

وهذا ملخص ما جاء في تقريرات الكاظمي (1). وقريب منه ما في أجود
التقريرات (2).
والامر الذي لا بد من التنبيه عليه هو: ان الظاهر من هذا البيان - مع
غض النظر عما في بعض جهاته من الاشكال - هو تصحيح كلام صاحب
الحاشية فيه. وهذا يتنافى مع التزامه بامتناع القول بالمقدمة الموصلة، وان
الوجوب يتعلق بمطلق المقدمة. فلا حظ.
ثمرة القول بالمقدمة الموصلة:
ثم إنه قد ذكر للنزاع المزبور ثمرة وهي: حرمة العبادة التي تكون ضدا
لواجب أهم، لان تركها يكون مقدمة للواجب فيكون واجبا فيحرم الفعل. هذا
بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة. واما بناء على القول بوجوب المقدمة
الموصلة فلا يكون الفعل حراما، لان الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق
الترك، والفعل ليس نقيضا للترك الموصل لجواز ارتفاعهما معا والنقيضان لا
يرتفعان.
وقد استشكل في هذه الثمرة بان الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا
للواجب لان نقيض كل شئ رفعه فنقيض مطلق الترك هو عدمه، وهو ينطبق
على الفعل، كما أن نقيض الترك الموصل عدمه، وهو ينطبق على الفعل وعلى
الترك غير الموصل.
وعليه، فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك، مع أنه

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 293 - طيعة مؤسسة النشر الاسلامي.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 240 - الطبعة الأولى.
318

ليس بنقيض. وانما هو مصداق ما هو النقيض، كذلك كونه حراما على القول بوجوب
المقدمة الموصلة، لأنه مصداق النقيض أيضا. وانما النقيض على هذا القول له
فردان، وعلى القول الأول له فرد واحد، وهو فرق غير فارق، فالعبادة محرمة
على كلا القولين في الفرض المزبور.
وقد أجاب عنه صاحب الكفاية بقوله: " وأنت خبير بما بينهما من الفرق،
فان الفعل في الأول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع
معه تارة ومع الترك المجرد أخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشئ إلى ما يلازمه
فضلا عما يقارنه أحيانا، نعم لا بد أن لا يكون محكوما فعلا بحكم آخر خلاف
حكمه، لا أن يكون محكوما بحكمه، وهذا بخلاف الفعل في الثاني، فإنه بنفسه
يعاند الترك المطلق وينافيه، لا ملازم لمعانده ومنافيه، فان لم يكن عين ما يناقضه
بحسب الاصطلاح مفهوما، لكنه متحد معه عينا وخارجا، فإذا كان الترك واجبا
فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا. فتدبر جيدا " (1).
هذا محصل ما يذكر في ايضاح الثمرة، ويقع الكلام في امرين:
الأول: في بيان مراد صاحب الكفاية من كلامه الذي ساقه في تقريب
الثمرة.
الثاني: في تحقيق الحال في صحة الثمرة وعدمها.
اما كلام الكفاية، فهو يختلف بتقريبه الثمرة عن التقريب الذي أشرنا
إليه باجمال. كما أنه يبدو غامضا لأول وهلة فقد قال (قدس سره): " ان ثمرة
القول بالمقدمة الموصلة هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل
الواجب، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده، فان تركها على
هذا القول لا يكون مطلقا واجبا، ليكون فعلها محرما، فتكون فاسدة، بل فيما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 121 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
319

يترتب عليه الضد الواجب، ومع الاتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب، فلا يكون
تركها مع ذلك واجبا، فلا يكون فعلها منهيا عنه فلا تكون فاسدة " (1).
والذي يظهر منه بدوا هو: كون قيد الايصال مأخوذا للوجوب، فبدونه
لا وجوب. وعليه فمع الفعل لا يتحقق شرط الوجوب فلا يجب الترك.
ولكن هذا المعنى لا يمكن عادة ان ينسب إلى مثل صاحب الكفاية الذي
صرح بان القائل بالمقدمة الموصلة لا يقول بان الايصال قيد الوجوب بل هو
قيد الواجب وهو بعد لم يبعد عن هذا المطلب كي يدعى امكان الغفلة في حقه
عن هذا الشئ. كما أنه لا يبقى مجال للايراد وجوابه على هذا المعنى، فإنه
أجنبي عنه بالمرة كما لا يخفى على من له أدنى التفات.
وقد حمل المحقق الأصفهاني (قدس سره) عبارته على أخذ قيد الترتب
والايصال في النقيض، فنقيض الترك الموصل لا بد وان يؤخذ فيه الايصال.
فالفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل لأنه غير موصل.
وأورد عليه: بأنه لا يعتبر في النقيض أخذ القيد المأخوذ في بديله، لان
نقيض كل شئ رفعه، فليس نقيض الجسم الأبيض، بحيث
يكون الأبيض قيدا للغير لا للجسم (2).
والتحقيق: أنه يمكن أن يكون مراد الكفاية معنى غير ما ذكر، خال عن
الاشكال، وهو ان يقال: ان الواجب إذا كان هو المقدمة الموصلة والوجوب يتعلق
بها، فلا كلام ان تأثير الوجوب في المقيد انما يكون عند تحقق قيده، فبدونه لا
يقع على صفة الوجوب، فالصلاة بدون الطهارة لا تقع على صفة الوجوب وان
كانت الطهارة قيدا للواجب.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 121 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 210 - الطبعة الأولى.
320

وعليه، ففي ظرف عدم الايصال وهو ظرف الفعل لا يكون الترك على
تقدير وقوعه واقعا على صفة الوجوب، لعدم حصول قيده الذي به يكون واجبا،
وإذا كان الترك في هذه الحال غير واجب كان نقيضه وهو الفعل غير حرام.
وبالجملة: بلحاظ ظرف عدم الايصال لا يكون نقيض الفعل لو تحقق
مكانه وبدله واجبا فلا يحرم الفعل. وهذا المعنى لا اشكال فيه.
واما تحقيق الحال في صحة الثمرة، فقد استشكل فيها المحقق الأصفهاني
- بعد تقريبها بما عرفته - أولا: بان القول بالمقدمة الموصلة يرجع اما إلى
الالتزام بوجوب العلة التامة، أو بوجوب ذات المقدمة ولكن بقيد تأثيرها.
وعليه، فالواجب على الأول - فيما نحن فيه - هو الترك مع الإرادة فإنه
العلة التامة. ومن الواضح ان نقيض المركب الاعتباري انما يكون عبارة عن
نقيضي الجزئين، لأنه لا واقع له الا الجزئين، إذ الاعتبار نقيضه عدمه. وعليه
فنقيض. الواجب فيما نحن فيه هو الفعل مع عدم الإرادة، فيكون مجموع الفعل
مع عدم الإرادة محرما. ومن الواضح انه مع الفعل لا يمكن تحقق الإرادة،
فيتحقق المحرم فيكون الفعل محرما ضمنا. وبنحو هذا البيان قرب تحريم الفعل
على الالتزام الثاني (1).
وفيه - مع قطع النظر عما أفاده في بيان نقيض المركب الاعتباري -:
أولا: ان هذا انما يتوجه على التقريب الذي ذكره للثمرة. اما التقريب
الذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الذي عرفته فلا يتوجه عليه ما ذكره، فانا
نقول: ان الفعل في ظرف عدم الايصال لا يكون نقيضا لا يكون نقيضا لما هو واجب وهو الترك
فلا يكون محرما.
ودعوى: ان الفعل مع عدم الإرادة نقيض ما هو الواجب فيكون محرما

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 210 - الطبعة الأولى.
321

كما جاء في الاشكال.
تندفع: بان الحرمة المتعلقة بأحد النقيضين من جهة وجوب الاخر -
بتقريب أنها غير وجوب الاخر - انما تثبت في ظرف يكون النقيض فيه متصفا
بالوجوب بحيث يؤثر فيه الحكم، بحيث لو وقع النقيض بموقع الاخر لكان
واجبا، وقد عرفت أن الترك في ظرف عدم الايصال لا يكون متصفا بالوجوب،
فلا يكون الفعل محرما لان بديله في ظرفه غير واجب. فتدبر.
وثانيا: ان نقيض المركب إذا كان عبارة عن نقيضي الجزئين ذاتيهما. كان
مقتضى ذلك تعلق الحرمة بذاتي النقيضين، فاخذ وصف المجموع في متعلق الحرمة
لم يعلم له وجه محصل.
وعلى تقدير تعلق الحرمة بذاتي الجزئين يأتي الكلام الذي عرفته في تقريب
عبارة الكفاية. فلاحظ.
وخلاصة الكلام: ان تقريب الثمرة بما جاء في الكفاية بالبيان الذي
ذكرناه لا نعرف فيه مناقشة.
الا ان أصل الثمرة بجميع انحاء تقريباتها تتوقف على مقدمة أشار إليها
في الكفاية وهي: كون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الاخر حتى يتصف
بالوجوب، والا لم يكن واجبا فلا يكون فعل الضد محرما.
والحق كما سيأتي هو عدم مقدمية ترك أحد الضدين للضد الاخر، لكونهما
في رتبة واحدة، والمقدمية تتوقف على اختلاف الرتبة فانتظر لذلك مزيد تحقيق
والله تعالى هو الموفق.
واعلم أن المحقق النائيني ذكره ثمرة الاختلاف بين مسلك صاحب
الفصول وأخيه صاحب الحاشية في المقدمة الموصلة، وذلك في المقدمة المحرمة:
فإنها تقع محرمة على مسلك صاحب الفصول إذا لم يترتب عليها الواجب
من دون احتياج إلى الالتزام بالترتب، إذ المقدمة على مسلكه تنقسم إلى قسمين:
322

ما يكون موصلا وهو واجب، وما لا يكون موصلا وهو محرما لعدم ما يرفع الحرمة
لأنه ليس بواجب أصلا.
واما بناء على مسلك أخيه فلا تقع المقدمة على صفة الحرمة الا بنحو
الترتب، لان الواجب هو ذات المقدمة من دون تقييد له بقيد الايصال، بل
عرفت أنه مهمل من ناحيته، فليس هناك قسمان للمقدمة يتصف أحدهما
بالوجوب دون الاخر. وعليه فلا تقع محرمة الا بنحو الترتب وهو ان تعلق الحرمة
على عصيان الوجوب، فتكون الحرمة مشروطة بعصيان الوجوب - كما هو
المقرر في باب الترتب من تعليق وجوب أحد الضدين على عصيان وجوب الضد
الاخر الأهم لارتفاع المزاحمة -.
لكنه (قدس سره) استشكل في تقريب الترتب بهذا النحو ببيان: ان
الترتب وان صححناه في بابه، لكنه انما يصح بالنسبة إلى الحكمين الواردين على
موضوعين، فيكون الحكم المتعلق بهذا الموضوع ثابتا عند عصيان الحكم المتعلق
بالموضوع الاخر، كما في مثال مزاحمة وجوب أحد الضدين لوجوب الاخر،
كمزاحمة وجوب الإزالة لوجوب الصلاة، فإنه موضوع الحكمين متعدد.
اما الحكمان المتعلقان بموضوع واحد فلا يصح الترتب فيهما.
وسره هو: ان عصيان أحد الحكمين يلازم الاتيان بمتعلق الاخر، فلا
معنى لثبوت الحكم الاخر لتحقق متعلقه، فان عصيان الوجوب بالترك، فلا
معنى للحرمة حينئذ. كما أن عصيان الحرمة بالفعل، فلا معنى حينئذ للوجوب.
وسيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى. وما نحن فيه كذلك، لان الحرمة
والوجوب يتعلقان بالمقدمة، فلا معنى لفرض الترتب بينهما.
نعم يمكن فرض ترتب حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة،
فتكون حرمة العبور في الأرض المغصوبة مشروطة بعصيان وجوب إنقاذ الغريق،
وهو لا مانع منه، لتعدد متعلق الحكمين فيصح فرض الترتب.
323

هذا ملخص ما افاده المحقق النائيني بتوضيح منا (1).
وقد أورد المحقق الخوئي على ما ذكره أخيرا من فرض الترتب بين وجوب
ذي المقدمة وحرمة المقدمة: بأنه يستلزم أولا طلب الحاصل. وثانيا عدم كون ترك
الواجب مخالفة وعصيانا.
اما استلزامه لطلب الحاصل، فلان وجوب الشئ يتوقف على القدرة
عليه، والقدرة عليه تتوقف على القدرة على مقدماته، وهي تتوقف على جوازها
شرعا، فإذا فرض تعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة فلازمه
فرض جواز المقدمة في صورة عدم عصيان وجوب ذي المقدمة وهي فرض الاتيان
به، وقد عرفت أن الامر به يتوقف على جواز مقدمته، لاعتبار القدرة عليه في
صحة الامر، فيكون الامر به في فرض الاتيان به وهو طلب للحاصل.
واما عدم كون تركه مخالفة وعصيانا، فلانه إذا فرض كون المقدمة محرمة
على تقدير عصيان الامر بذي المقدمة، فمع ترك ذي المقدمة تكون المقدمة محرمة
فيكون ذيها غير مقدور، فلا يكون مأمورا به، فلا يتحقق العصيان بتركه، لعدم
الامر به لاجل عدم القدرة عليه.
والانصاف: ان كلا من الوجهين غير وارد.
واما عدم ورود الوجه الأول، فوضوحه يتوقف على ذكر أمرين:
الأول: ان موضوع الترتب ما إذا كان التنافي بين الحكمين في مقام
امتثالهما، لا ما إذا كان التنافي بينهما في أنفسهما. وذلك لان تصحيح الترتب وفرضه
إنما هو لاجل رفع المنافرة بين الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بثبوتهما معا.
ولأجل ذلك لا يشمل ما إذا كانت المنافرة بين الحكمين ذاتية، كالحرمة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 242 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 424 - الطبعة الأولى.
324

والوجوب الواردين على موضوع واحد، فإنهما ضدان لا يجتمعان، ولا يجدي
الترتب في رفع المنافرة بينهما أصلا.
وهذا أمر مسلم لدى الملتزمين بالترتب، وتحقيقه سيجئ في محله ان شاء
الله تعالى.
الثاني: ان عدم القدرة على نحوين: عدم القدرة على الشئ في نفسه،
وعدم القدرة على الشئ من جهة المزاحم.
فالأولى: نظير عدم قدرة المشلول على الصعود إلى السطح.
والثانية: نظير عدم القدرة على إنقاذ أحد الغريقين، فان القدرة على
الانقاذ في نفسه ثابتة، لكن عدم القدرة عليه لاجل المزاحم، لان كلا من الحكمين
بمقتضى دعوته إلى متعلقه وتحريكه نحوه يحاول صرف القدرة في متعلقه، فيكون
عدم القدرة على انقاذ كل غريق لاجل مزاحمتها بحكم شرعي.
والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة عليه في نفسه لا من جهة
عدم المزاحم، فان أساس الالتزام بالترتب على ذلك. فعدم القدرة لاجل المزاحمة
لا يمنع من الامر.
وهذا أمر مسلم كسابقه، وسيتضح في مبحث الترتب. فانتظر.
إذا عرفت ذلك نقول: ان الامر بذي المقدمة في الفرض لا يتوقف على
جواز مقدمته لأنه وإن لم يكون مقدورا بدون جوازها الا ان عدم القدرة عليه
لاجل المزاحم وهو الحرمة، والا فالقدرة عليه في نفسه حاصلة، وقد عرفت أن
عدم القدرة لاجل المزاحم لا يمنع لا يمنع من الامر والبعث، فما ذكر من أن الامر بذي
المقدمة يتوقف على جواز المقدمة المتوقف على الاتيان بذي المقدمة، غريب جدا
بعد ما عرفت من تسليم عدم مانعية عدم القدرة لاجل المزاحم للامر.
وأشد منه غرابة هو الايراد بالوجه الثاني: فان الحرمة - على الفرض -
معلقة على العصيان، فيستحيل أن يكون ذلك مستلزما لعدم تحقق العصيان،
325

فان وجود الحرمة إذا كان فرع العصيان كان ذلك لازما لوجود الامر، إذ العصيان
فرع وجود الامر، فكيف تكون حرمة المقدمة موجبة لعدم تحقق العصيان وعدم
الامر بالواجب؟، فإنه خلف، بل يستلزم ان يلزم من وجود الحرمة عدمها، لان
وجود الحرمة انما يكون مترتبا على العصيان، فإذا كان وجودها لازمه عدم الامر
فلا عصيان، كان لازم ذلك ارتفاعها لعدم شرطها وهو العصيان، فيلزم من
وجودها عدمها.
ولعل الوجه في ذكر هذا الايراد: ما تقدم من صاحب الكفاية من ذكره
ردا على تجويز المنع عن المقدمة غير الموصلة. ولكنه غفلة عن أن المنع مقيد هناك
بعدم الايصال وهو امر تكويني خارجي لا يرتبط بالأمر، والمنع هنا مقيد
بالعصيان وقد عرفت أنه لا يستلزم ما ذكره فما ذكرناه من الايراد لا يرد على
صاحب الكفاية. فتدبر.
هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة (1). ننتقل بعده إلى الكلام في.
ثمرة المسألة
وقد ذكر لها ثمرات متعددة. كبرء النذر بفعل المقدمة بناء على الوجوب
لو نذر فعل الواجب. وحصول الاصرار على الحرام بترك واجب مع مقدماته
الكثيرة بناء على وجوبها، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة لو قيل بوجوبها
بناء على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات.
وقد نوقش فيها: بأنها لا تصلح ثمرة للمسألة الأصولية، لأنها بذلك لا
تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي. بل في مقام تطبيق الكبرى الكلية

(1) ولم يتعرض سيدنا الأستاذ (دام ظله) إلى البحث عن الأصلي والتبعي، لأنه مما لا اثر له عملي أصلا،
ولم يعرف ربطه بجهة من جهات بحث المقدمة. فالتفت.
326

على مصاديقها.
كما ذكر صاحب الكفاية عن الوحيد البهبهاني (رحمه الله) بيان الثمرة
بنحو آخر وهو: صيرورة المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي في المقدمة المحرمة
بناء على الوجوب. وناقش فيه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة أستشكل في
بعضها (1).
ونحن بعد أن بينا سابقا ثمرة المسالة لا نرى حاجة إلى تحقيق هذه
الثمرات ومعرفة صحتها وعدمها. فقد ذكرنا سابقا ان الثمرة هي صيرورة المورد
من موارد التعارض بناء على الوجوب لو كانت المقدمة محرمة، بمعنى انه يقع
التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة، لان وجوب ذي
المقدمة لما كان لازما ذاتا لوجوب المقدمة المنافي لحرمتها، بحيث لا يمكن
التفكيك بين وجوبيهما، كان دليل الحرمة منافيا لدليل وجوب ذي المقدمة لعدم
امكان الالتزام بهما معا لتنافى مدلوليهما، إذ منافاة الحرمة لوجوب المقدمة ملازمة
لمنافاتها لوجوب ذي المقدمة بعد فرض عدم امكان التفكيك بينهما، فيكون دليل
الحرمة معارضا لدليل الوجوب.
واما بناء على عدم الوجوب، فيكون المورد من موارد التزاحم، بمعنى انه
يقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة، لعدم امكان امتثال كلا
الحكمين من دون منافاة بينهما في أنفسها. فلاحظ وتدبر.
فأثر المبحث، هو: تنقيح صغرى من صغريات باب التزاحم أو باب
التعارض الذي يترتب على كل منهما آثار عملية فقهية مهمة، وسيأتي عن قريب
إن شاء الله تعالى تحديد باب التزاحم وباب التعارض وفصل كل منهما عن
الاخر. فانتظر.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 124 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
327

يبقى الكلام في أمرين:
أحدهما: البحث في الأصل للمسألة الذي يرجع إليه مع الشك.
ثانيهما: البحث عن الدليل على وجوب المقدمة.
تأسيس الأصل في المسالة
اما البحث عن الأصل في المسالة فتحقيقه: ان موضوع الأصل تارة:
يلحظ المسالة الأصولية أعني الملازمة بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته.
وأخرى: يلحظ المسالة الفقهية أعني نفس وجوب المقدمة.
والأصل الذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب.
وهو لا يجري في المسالة الأصولية، وذلك لان الملازمة بين الوجوبين -
بأي معنى فسرت من كونها أمرا واقعيا، أو انتزاعيا ينتزع عن حصول أحد
المتلازمين عند حصول الاخر، أو كونها عبارة عن دوام حصول الجزاء عند
حصول الشرط - ليست لها حالة سابقة لأنها أزلية، فان كانت فهي أزلية
الوجود وإن لم تكن فهي أزلية العدم. وعليه فلا يقين في مرحلة الحدوث بأحد
الطرفين كي يستصحب. ومن الواضح ان جريان الاستصحاب يتوقف على
اليقين بالحدوث.
واما وجوب المقدمة، فهو مسبوق بالعدم لعدم تحققه قبل وجوب ذي
المقدمة، فيستصحب عدمه بعد وجوب ذيها.
وقد أستشكل في هذا الاستصحاب من وجوه:
الأول: ان وجوب المقدمة على تقدير ثبوته ليس مجعولا مستقلا، بل هو
من قبيل لوازم الماهية فلا تناله يد الجعل اثباتا ونفيا.
وأجاب عنه صاحب الكفاية: بأنه وان كان من لوازم الماهية إلا أنه يكون
مجعولا يتبع جعل وجوب ذي المقدمة. وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه
328

أمرا بيد الشارع، إذ لا يعتبر كونه بيده مباشرة (1).
والكلام مع صاحب الكفاية في جوابه من جهتين:
الأولى: ما ذكره من تسليم كون وجوب المقدمة بالإضافة إلى وجوب ذيها
من قبيل لوازم الماهية. فإنه عجيب منه (قدس سره)، فان لازم الماهية لا يكون
له وجود مستقل منحاز عن وجود الماهية، بل يكون امرا انتزاعيا ينتزع عن ذات
الماهية في أي عالم وجدت من ذهن أو خارج. كالزوجية بالإضافة إلى الأربع.
ووجوب المقدمة ليس كذلك، فان له وجودا منحازا عن وجوب ذي المقدمة، غاية
الامر انه ينشأ منه. فان من يدعي وجوب المقدمة يدعي تعلق الإرادة الغيرية
بالمقدمة، فهناك إرادتان وشوقان: أحدهما يتعلق بالمقدمة. والاخر يتعلق بذيها.
الثانية: ما ذكره من كفاية الجعل بالعرض في صحة الاستصحاب.
والكلام في هذه الجهة موكول إلى محله في مبحث الاستصحاب، في مقام
تحقيق صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية والشرطية من الأمور
الانتزاعية التي لا وجود لها الا منشأ انتزاعها، وان نفيها هل يرجع إلى نفي
منشأ انتزاعها أو لا يرجع إلى ذلك؟. فانتظر.
الثاني: ان وجوب المقدمة لو ثبت، فهو غير اختياري للشارع، لأنه لازم
قهري لوجوب ذي المقدمة، وإذا لم يكن اختياريا لم يجر الأصل فيه، لأنه غير
قابل للوضع والرفع.
وفيه: انه وإن لم يكن اختياريا عند حصول وجوب ذي المقدمة، لكنه قبل
حصوله اختياري لأنه مقدور عليه بالواسطة، فهو كالمسبب التوليدي بعد
حصول سببه، فإنه لا مانع من جريان الأصل فيه لأنه اختياري باختيارية سببه.
الثالث: ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه أي اثر عملي، وجريان الأصل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 125 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
329

انما يكون بلحاظ الأثر العملي.
وفيه: ان ما أشير إليه من الثمرات العملية المتعددة للمسألة يكفي في
صحة جريان الأصل، وإن لم تكف في اثبات أصولية المسالة، وهي الجهة التي
يتركز النقاش فيها بلحاظها.
الرابع: ما ذكره في الكفاية من أن جريان الأصل يستلزم احتمال التفكيك
بين المتلازمين، لان احتمال الملازمة موجود، فالحكم بعدم وجوب المقدمة فيه
احتمال التفكيك بين المتلازمين، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك.
واستشكل فيه صاحب الكفاية: بان الدعوى ان كانت هي الملازمة بين
الحكمين الانشائيين فلا ورود للاشكال، لان الأصل لا نظر له إلى الحكم
الانشائي ولا يرتبط بمقام الانشاء. وان كانت هي الملازمة بين الحكمين في
مراتبهما - يعني ولو كانا فعليين - كان الاشكال في محله، وحينئذ لا يصح
التمسك بالأصل وصح التمسك بالاشكال في اثبات بطلان الأصل، كما جاء في
بعض النسخ الأخرى للكتاب (1).
أقول: من الغريب ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد، فان دعوى
كون الملازمة بين الحكمين الفعليين لا مجال للترديد فيها، إذ الفرض ان الملازمة
المدعاة هي الملازمة بين الإرادتين والشوقين الفعليين. وأين هذا من الملازمة بين
الحكمين الانشائيين.
وعلى كل، فيمكن الجواب عن الاشكال المذكور: بان احتمال التفكيك
لا يجدي في منع التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه، فان العقلاء لا
يعتنون بمجرد الاحتمال.
كما أفاد هذا البيان الشيخ (رحمه الله) في دفع الاشكال على جواز التعبد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 126 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
330

بالظن، بأنه وان كان لا طريق إلى الجزم باستحالته الا انه يحتمل ذلك، واحتمال
الاستحالة يكفي في الحكم بالمنع.
فقد دفعه: بان احتمال استحالة التعبد لا يضير ولا يعتني به عقلائيا بعد
مساعدة الدليل الاثباتي على التعبد. فلاحظ (2).
تحقيق أصل المبحث
واما تحقيق أصل المبحث وما هو مدار البحث بين الاعلام من وجوب
المقدمة وعدمه. فقد وصلت النوبة إليه وقد اختلفت الأقوال في وجوب المقدمة
وعدمه والتفصيل بين الواجب منها وغيره.
ولا يهمنا التعرض إلى التفصيلات سوى ما قد يقال من التفصيل بين
السبب التوليدي فلا يجب، وغيره من المقدمات فيجب. بتقرير: ان السبب
التوليدي متعلق للامر النفسي الثابت للمسبب، لان الامر انما يكون لاحداث
الداعي والإرادة للمأمور به، والمسبب التوليدي لا يمكن فيه اعمال الإرادة
مباشرة، لأنه يخرج عن اختيار بحصول سببه، بل الإرادة تتعلق بسببه، فالامر
النفسي في الحقيقة يتعلق بالسبب. فإذا وجب القتل فقد وجب الرمي وهكذا.
وللمحقق النائيني (رحمه الله) كلام في المقام محصله: ان الأسباب
والمسببات التوليدية على قسمين:
الأول: ما يكون لكل منهما وجود منحاز عن الاخر كالرمي والقتل،
والأكل والشبع، فان وجود القتل والشبع غير وجود الرمي والأكل.
الثاني: ما لا يكون للمسبب وجود غير وجود السبب، فلا يكون الا وجود
واحد يعبر عنه بعنوان السبب تارة والمسبب أخرى، كالغسل والتطهير والالقاء

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 24 - الطبعة الأولى.
331

والاحراق. فان كلا منهما متحد وجودا مع مسببه.
اما القسم الأول، فالامر انما يتعلق بالمسبب، لأنه هو المحصل للملاك،
ولا معنى لصرف الامر عنه إلى سببه لأنه اختياري بالواسطة وهو يكفي في صحة
التكليف، فيقع الكلام في وجوب السبب بالوجوب الغيري وعدمه.
واما القسم الثاني، فهو خارج عن محل النزاع، لان الامر إذا تعلق
بأحدهما فقد تعلق بالاخر قهرا، لأنهما واقعا امر واحد متعدد العنوان. وعليه فلا
معنى للنزاع في أنه إذا وجب المسبب هل يجب السبب بالوجوب الغيري أو لا
يجب؟ (1).
أقول: ما ذكره من فصل القسمين وادخال أحدهما في محل النزاع دون
الاخر مسلم كبرويا أفاد (قدس سره)، انما الاشكال فيما ساقه للقسم الثاني
من الأمثلة كالغسل والتطهير والالقاء والاحراق، لان هذه الأمثلة من القسم
الأول، لان التطهير له وجود غير وجود الغسل، كيف والتطهير موجود اعتباري
والغسل موجود حقيقي واقعي؟!، كما أن وجود الاحراق غير وجود الالقاء، لان
الاحراق عبارة عن ايجاد الحرقة، وايجاد الحرقة ووجودها متحدان واقعا وحقيقة
ومتغايران اعتبارا، كما هو شأن كل ايجاد شئ ووجوده. ومن الواضح ان وجود
الحرقة غير وجود الالقاء خارجا وحقيقة.
وبالجملة: لو وجد خارجا وجود واحد ذو عنوانين - كما قد نعثر له على
مثال في مبحث اجتماع الأمر والنهي - تم فيه ما ذكره من خروجه عن محل
الكلام واختصاص محل الكلام في القسم الأول.
وعليه، فالكلام في وجوب المقدمة وعدمه يشمل الأسباب التوليدية كما
يشمل غيرها.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 219 - الطبعة الأولى.
332

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى وجوب المقدمة، واستشهد على ذلك
بالوجدان، فإنه يشهد على أن من أراد شيئا أراد مقدماته، واستشهد على هذا
المعنى بوجود الأوامر الغيرية في الشرع والعرف، كما يقول المولى لعبده: " ادخل
السوق اشتر اللحم " فان الامر بدخول السوق على حد الامر بشراء اللحم،
فيكون امرا مولويا. ومن الواضح انه لا خصوصية لهذه المقدمة، بل باعتبار وجود
الملاك فيها، وليس إلا المقدمية والتوقف. فيكشف ذلك عن وجوب جميع
المقدمات بالوجوب المولوي الغيري. ثم تعرض (قدس سره) إلى ذكر دليل
الحسن البصري على وجوب المقدمة الذي هو كالأصل لأدلة القوم - كما ذكر
(قدس سره) -، وناقشه بعد اصلاحه بتعيين المراد من بعض اصطلاحاته (1).
ولكن الحق عدم وجوب المقدمة، إذ الوجدان لا يشهد بذلك، كما أن ما
استشهد به من الأوامر العرفية المتعلقة بالمقدمة لا يصلح للشهادة على ما يحكم
به الوجدان، إذ ليست هذه الأوامر أوامر مولوية، بل هي ارشادية، وذلك لان
الامر المولوي انما يجعل لجعل الداعي في نفس المكلف إلى العمل وتحريكه
نحوه، والامر الغيري لا صلاحية له لذلك كما تقدم بيان ذلك. فان العبد ان كان
بصدد امتثال امر ذي المقدمة جاء بالمقدمة كان هناك أمر بها أو لم يكن، وإن لم
يكن بصدد امتثاله لم يكن الامر الغيري داعيا للاتيان بها بما هو
أمر غيري، فلا صلاحية للامر الغيري للدعوة والتحريك، فلا بد ان
تكون هذه الأوامر المفروض تعلقها بالمقدمة أوامر إرشادية تتكفل الارشاد
إلى مقدمية الشئ وتوقف الواجب عليه.
وخلاصة الكلام: انه لم يثبت لدينا وجوب المقدمة لعدم الدليل عليه. ولو
ثبت فهو يشمل مطلق المقدمات الموصلة وغيرها والسبب التوليدي وغيره.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 126 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
333

تذنيب: لا يخفى انه لو التزم بوجوب مقدمة الواجب، فلازمه الالتزام
باستحباب مقدمة المستحب بعين الوجه القائم على وجوب مقدمة الواجب.
واما مقدمة الحرام، فقد ادعي ان المحرم منها - على القول بالملازمة بين
حكم الشئ وحكم مقدمته - هو ما لا يتوسط بينهما وبين ذيها اختيار وإرادة،
وهي الأسباب التوليدية في المحرمات التوليدية، كالرمي بالنسبة إلى القتل
المحرم، والإرادة في المحرمات الإرادية - بناء على صحة تعلق التكليف بها -.
اما غير هذا النحو من المقدمات كالمعدات ونحوها فلا يكون محرما.
وقد قرب صاحب الكفاية خروجها عن دائرة التحريم: بان التحريم
عبارة عن طلب الترك، فيكون الترك واجبا، فتكون مقدماته واجبة أيضا، فكل
مقدمة يكون تركها مما يتوقف عليه ترك الحرام تكون واجبة الترك. ومن الواضح
ان ترك الحرام لا يتوقف على ترك سائر المقدمات، إذ الاختيار لا يسلب بفعلها،
فيتحقق الترك مع فعلها، وهو دليل عدم التوقف، فما يتوقف عليه ترك الحرام
ليس إلا الإرادة في الأفعال الاختيارية والسبب التوليدي في الأفعال
التوليدية (1).
ولكن هذا التقريب لا يجدي من يذهب إلى أن النهي ليس طلب الترك،
بل هو الزجر عن الفعل، فلازمه الزجر عن مقدماته، لان متعلق النهي نفس
الفعل.
وغاية ما يقرب به نفي حرمة سائر المقدمات - بناء على هذا المعنى -
ان يقال: ان وجوب المقدمة أو حرمتها بما أنه مترشح عن وجوب ذيها أو حرمته،
فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة بنحو
دخالة ذيها فيهما. وبما أن حرمة الشئ تنشأ عن وجود المفسدة في فعله أو

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 128 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
334

المصلحة الملزمة في تركه، بحيث لولا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة،
فمقدمة الحرام انما إذا كان لها هذا الأثر وهو منحصر بالمقدمة التوليدية. اما
غيرها ففعله لا يلازم وجود الحرام، كي يقال إنه لولا تركه لوجدت المفسدة أو
فاتت المصلحة. وبنظير هذا البيان يثبت وجوب مقدمة الواجب، إذ وجوب
الواجب لاجل اشتماله على مصلحة ملزمة أو لاجل ان في تركه مفسدة ملزمة
بحيث لولا فعله لفاتت المصلحة أو وجدت المفسدة، ومقدماته. جميعها لها هذا
الأثر، إذ لولا فعلها لفاتت المصلحة أو وجدت المفسدة لان تركها يلازم ترك
الواجب. فلاحظ وتدبر فإنه لا يخلو عن دقة.
ثم إن الكلام الجاري في مقدمة الحرام يجري بعينه في مقدمة المكروه حرفا
بحرف. فاعرف.
هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة، وقد انتهى البحث فيه في يوم السبت
المصادف الخامس من ذي القعدة سنة 1385 ه‍. نسأل الله تعالى التوفيق والهداية
إلى سواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
335

الضد
337

مبحث الضد
موضوع البحث هو: أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده أولا
يقتضي؟ وهو من المباحث الأصولية والعقلية، ولا نطيل في بيان ذلك لوضوحه
من ملاحظة نحو البحث ونتيجته.
نعم لا بأس بالتنبيه على ما يراد من الاقتضاء، وما يراد من الضد، كما
فعل صاحب الكفاية لتحديد محل البحث ومدار الكلام. فنقول:
المراد بالاقتضاء - كما ذكره صاحب الكفاية (1) وتابعه عليه غيره -: أعم
من أن يكون بنحو العينية - كما ادعي في بعض الفروض - أو الجزئية - كما
ادعي أيضا ذلك بلحاظ تركب الامر -، والالتزام أعم من كونه لزوما بينا بالمعنى
الأخص وغيره وبتعبير آخر نقول: المراد بالاقتضاء هو اللابدية من أي طريق
كانت.
واما الضد، فالمراد منه: مطلق المنافي والمعاند، سواء كان امرا وجوديا -
وهو المعبر عنه بالضد الخاص - أو كان امرا عدميا - وهو المعبر عنه بالضد

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 129 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
339

العام، ويعبر عنه أيضا بالترك - وليس المراد منه هو الضد بالمعنى الفلسفي
المختص بالأمر الوجودي المعاند لغيره تمام المعاندة، فلا يشمل الضد العام.
وهناك معنى آخر للضد العام، وهو الامر الوجودي الجامع للأضداد الوجودية.
وهذا لا كلام لنا فيه، بل هو خارج عن موضوع الكلام.
وعلى هذا، فينبغي ايقاع الكلام في مسألتين:
الأولى: اقتضاء الامر بالشئ النهي عن الضد الخاص.
والثانية: اقتضاء الامر بالشئ النهي عن ضده العام وهو الترك.
المسالة الأولى: في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده الخاص
أولا؟.
وقد أدعي اقتضائه النهي عن ضده الخاص لوجوه:
أهمها وعمدتها - ما ذكره صاحب الكفاية -: من دعوى مقدمية ترك أحد
الضدين لفعل الاخر.
بيان ذلك: ان عدم أحد الضدين مقدمة للضد الاخر، ومما يتوقف عليه
الضد الاخر، فإذا وجب أحدهما وجبت مقدماته ومنها عدم ضده، فإذا وجب ترك
ضده فقد حرم ضده قهرا.
اما تقريب مقدمية ترك أحد الضدين للاخر: فبان التمانع والتنافر بين
الضدين مما لا شبهة فيه، وإذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الاخر
كان عدم كل منهما من أجزاء علة الاخر، لان عدم المانع من اجزاء العلة، وقد
فرض مانعية الضد فعدمه من اجزاء علة ضده، وإذا كان من اجزاء العلة كان
من المقدمات.
فهاتان المقدمتان هما أساس دعوى مقدمية عدم الضد للضد الاخر.
وعلى هذا فينبغي أن يكون البحث في مقدمية ترك أحد الضدين للضد
الاخر. وقد ذكر فيها وجوه:
340

الأول: مقدمية عدم كل منهما للاخر مطلقا.
والثاني: عدم المقدمية مطلقا.
والثالث: التفصيل بين الضد الموجود والضد المعدوم، فعدم الأول مقدمة
دون عدم الثاني.
والرابع: مقدمية العدم للوجود دون مقدمية الوجود للعدم.
والخامس: مقدمية الوجود للعدم دون العكس.
والذي ذهب إليه المتأخرون تبعا لسلطان العلماء هو عدم المقدمية بقول
مطلق.
وقد ناقش صاحب الكفاية (قدس سره) القول بالمقدمية بوجوه ثلاثة:
الأول: انه يستلزم الدور، وذلك لان عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة
للاخر من باب انه عدم المانع يكون من اجزاء علته، كان وجود أحد الضدين
مقدمة لعدم الاخر أيضا، لتوقف عدم الشئ على مانعه كما يتوقف نفس الشئ
على عدم مانعه، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الاخر، كما أن وجود
الاخر يتوقف على عدم ضده، فيلزم الدور الباطل.
الثاني: النقض بالمتناقضين، وبيانه: انه لا اشكال في أن بين المتناقضين
منافرة ومعاندة شديدة وأكيدة، مع أنه من المسلم كون أحدهما في رتبة عدم
الاخر، وليس عدم أحدهما مقدمة للاخر، كيف؟ وهو يستلزم أن يكون الشئ
مقدمة لنفسه، لان عدم أحدهما نفس الاخر.
وعليه، فمجرد وجود المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للاخر،
وإلا لكان انطباق ذلك على المتناقضين أنسب لما بينهما من شدة المعاندة والممانعة.
الثالث: - وهو ما ذكره في الكفاية أولا، وعبارة الكفاية لا تخلو عن تشويش،
وقد حملها المحقق الأصفهاني على إرادة ما بيانه: - انه لا اشكال في كون كل
من الضدين مع الاخر في رتبة واحدة، فليس أحدهما متقدما على الاخر، ومن
341

المسلمات أيضا ان وجود كل ضد وعدمه في رتبة واحدة، فإنهما يتواردان على محل
واحد، فعدم الشئ في رتبة وجوده بلا اشكال. وعليه فيكون عدم كل ضد في رتبة
الضد الاخر قهرا، لأنه في رتبة نفس الضد، والمفروض بالمقدمة الأولى ان نفس
الضد في رتبة ضده الاخر (1).
وهذا الوجه لا يصلح أن يكون بيانا لعبارة الكفاية، فإنها بعيدة جدا، بل
أجنبية عن هذا المعنى وتأبى الحمل عليه بأي وجه من الوجوه، وهو يظهر بأدنى
ملاحظة. وعليه فكان الأولى ان يذكر وجها مستقلا في دفع دعوى المقدمية، ينظر
في صحته وسقمه، لا ان يذكر ويسند لصاحب الكفاية ثم يستشكل فيه.
والذي يبدو لنا ان مراد صاحب الكفاية من عبارته هو: انه ليس بين
الضدين الا التمانع والمعاندة في مقام التحقق، فكل منهما يمنع الاخر عن
التحقق، فالتمانع في مرتبة وجوديهما لا في مرتبة عليتهما.
وعليه، فهما متحدان رتبة من دون أن يكون أحدهما سابقا على الاخر،
وإذا كان كذلك فالشئ الذي يرفع هذا التمانع، بمعنى يرفع المانع عن وجود
أحد الضدين من جهة الضد الاخر، لا بد أن يكون في رتبة الضد، لأنه يرفع
المانع في مرحلة وجوده ورتبته لا في مرحلة علته ورتبتها. وعدم الضد له هذا
الشأن، فإنه انما يرفع المانع في هذا المقام فهو في رتبة الضد الاخر وليس سابقا
عليه. فنظر صاحب الكفاية إلى أن العدم لا يؤثر الا في رفع ما أثر فيه الوجود،
والمفروض ان ما يؤثر فيه الوجود هو المانعية في رتبة نفس الشئ لا في رتبة علته
واجزائها.
وهذا المعنى يمكن تطبيقه على عبارة الكفاية، وان كانت العبارة لا تخلو
من تشويش، فيمكن أن يكون مقصوده: " وحيث لا منافاة أصلا بين أحد

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 219 - الطبعة الأولى.
342

العينين وما هو نقيض الاخر وبديله، بل بينهما كمال الملائمة... " هو ان العدم لما
كان يرفع التمانع الثابت بالضد وكان بينه وبين الضد كمال الملائمة، فبه يرتفع
تلك الممانعة، فكان في رتبة الضد قهرا.
وبالجملة: فما يريده صاحب الكفاية هو ما ذكرناه، وسيتضح ذلك جدا
من كلامه في ضمن البحث، فتدبر.
وقد أورد على الدور: بان توقف كل من الضدين على عدم الضد الاخر
فعلي، وتوقف عدم الضد على الضد الاخر تقديري، فيرتفع الدور.
بيان ذلك: ان عدم الشئ لا يستند إلى وجود المانع عن الشئ الا في
صورة وجود المقتضي والشرط، والا فلو لم يكن المقتضي موجودا استند العدم
إليه، فيعلل عدم تحقق الحرقة - عند عدم وجود النار - بعدم وجود النار لا
بوجود الرطوبة، كما يعلل أيضا بعدم الملاقاة عند وجود النار، والرطوبة بدون
الملاقاة، نعم يعلل بوجود الرطوبة لو تحققت ملاقاة النار للجسم.
واما وجود الشئ فهو يستند إلى جميع اجزاء علته فعلا.
وعليه، فوجود الضد يستند فعلا إلى عدم الضد الاخر لأنه من اجزاء
علته. واما عدم الضد فهو لا يستند إلى وجود الضد الاخر الا في صورة وجود
مقتضيه وشرطه فاستناده إليه تقديري، بمعنى أنه معلق على وجود المقتضي
والشرط، وهو لا يتحقق دائما. وذلك لان وجود الضدين اما ان يلحظا بالإضافة
إلى إرادة شخص واحد أو بالإضافة إلى شخصين.
فعلى الأول: لا يمكن تحقق المقتضي، وذلك لأنه مع إرادة المانع عن الضد
وهو الضد الاخر - كما هو الفرض - لا يمكن ان تكون هناك إرادة أخرى
متعلقة بالضد، فمع إرادة السواد لا يمكن إرادة البياض. وعليه ففي فرض
وجود أحد الضدين لا بد ان يفرض انتفاء مقتضي الضد الاخر - وهو الإرادة -،
فيستند عدم الضد الاخر إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد المانع.
343

وعلى الثاني: فالمقتضي لكلا الضدين وان أمكن فرض وجوده، لعدم
امتناع تعلق إرادة أحد الشخصين بايجاد أحد الضدين وتعلق إرادة الشخص
الاخر بايجاد الضد الاخر، الا ان وجود أحدهما يستند إلى أقوائية قدرة أحد
الشخصين على الاخر بحيث يتغلب عليه. فيكون عدم الضد الاخر لاجل عدم
حصول شرطه، وهو القدرة لا لاجل وجود المانع وهو الضد. فلا يستند عدم
الضد إلى وجود الضد الاخر الا بنحو التعليق والتقدير.
وقد أجاب عنه صاحب الكفاية: بأنه وان رفع اشكال الدور ونفي التوقف
الفعلي من الطرفين، الا ان محذور الدور موجود بحاله وهو لزوم الخلف، لان
الاعتراف بصلاحية استناد العدم إلى وجود الضد - عند فرض وجود المقتضي
والشرط - اعتراف بكون وجود الضد في رتبة سابقة على عدم الضد الاخر -
لأنه في رتبة المانع - فيمتنع ان يستند وجود الضد إلى عدم الاخر، لأنه يستلزم
تقدم ما هو المتأخر وهو خلف.
وربما يقال: بان استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الاخر معلق على
وجود المقتضي والشرط، فالاستناد إليه مأخوذ بنحو القضية الشرطية. ومن
الواضح ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها، كما يشهد له قوله
تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (1)، وقد عرفت امتناع تحقق المقتضي
أو الشرط لاحد الضدين مع الضد الاخر. ومعه لا يكون وجود أحد الضدين
صالحا للمانعية في حال من الأحوال لامتناع صدق المقدم. فينتفي محذور الخلف
أيضا.
واستشكل فيه صاحب الكفاية: بان هذا القول يساوق نفي مانعية كل
من الضدين للاخر، ومعه لا يكون عدم أحدهما مقدمة للاخر، لان أساس ذلك

(1) سورة الأنبياء، الآية: 22.
344

هو مانعية كل منهما للاخر.
ومن هنا يثار سؤال أو اشكال: بان نفي التمانع بين الضدين ينافي
الوجدان والبديهة، فان التمانع بينهما كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار - كما
قال في الكفاية - كما أن عدم المانع من المقدمات بلا اشكال، فما قيل مما ينافي
ذلك شبهة في مقابل البديهة، وهي لا تكون مورد القبول.
وأجاب عنه في الكفاية: ان التمانع بين الضدين وان سلم بلا تردد، لكنه
بمعنى يختلف عن المعنى الذي يكون عدمه من المقدمات، فدعوى المقدمية
ناشئة من الخلط بين المعنيين.
بيان ذلك: ان التمانع بين الامرين تارة: يكون في مرتبة الوجود، بمعنى
انه لا يمكن اجتماعهما في الوجود. وأخرى: يكون في مقام التأثير بمعنى أن يكون
أحد الامرين مانعا عن تأثير مقتضي الاخر فيه، فالمانع الذي يكون
عدمه من المقدمات هو المانع بالمعنى الثاني نظير الرطوبة المانعة من تأثير النار
في الحرقة. ومانعية الضد الاخر من قبيل الأول. فان التمانع بينهما ليس إلا بمعنى
التمانع في الوجود وعدم امكان وجود أحدهما مع وجود الاخر من دون أن يؤثر
أحدهما في مقتضي الضد الاخر ويمنع من تأثيره، فلا يكون عدمه من المقدمات.
وهذا المعنى هو الذي كان ينظر إليه صاحب الكفاية في الوجه الثالث
من وجوه اشكاله على المقدمية (1). وسيتضح جيدا في مطاوي البحث.
هذا خلاصة ما افاده في الكفاية بتوضيح (2).
ولكن المحقق الأصفهاني (قدس سره) لم يرتض انكار المقدمية، وحاول
تصحيحها بلا ورود أي اشكال.

(1) أعني: بالترتيب الذي ذكرناه، اما بالترتيب الكفاية فهو الوجه الأول. (منه عفي عنه).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 130 - 132 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
345

وقد أوضح قبل الدخول في أصل المبحث المقصود بالتقدم الرتبي بالطبع،
ببيان: ان ملاك التقدم والتأخر بالطبع هو أن يكون لاحد الشيئين وجود الا
وللاخر وجود ولا عكس، بمعنى انه يمكن فرض وجود الاخر بدون وجود ذلك
الشئ كالواحد والكثير فإنه لا يمكن ان يفرض للكثير وجود الا ويكون
للواحد وجود، مع أنه يمكن ان يوجد الواحد بدون وجود الكثير، فالمتقدم هو
الواحد والمتأخر هو الكثير.
ثم ذكر ان منشأ هذا التقدم أحد أمور أربعة:
الأول: أن يكون الشئ المتقدم عن علل قوام الاخر كالجزء والكل، فان
الكل يتقوم باجزائه، ولذا لا يمكن ان يفرض له وجود الا ويكون لاجزائه
وجود، مع أنه يمكن ان يفرض لجزئه وجود بلا أن يكون له وجود.
الثاني: أن يكون المتقدم مؤثرا في المتأخر كالمقتضي والمقتضى.
الثالث: أن يكون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل وهو المعبر عنه
بالشرط.
الرابع: أن يكون المتقدم متمما لقابلية القابل، وهو المعبر عنه بعدم المانع
أو الشرط العدمي، كعدم الرطوبة المتمم لقابلية المحل للاحتراق.
وبعد هذا البيان أفاد: ان عدم الضد متقدم بالطبع على الضد الاخر، لأنه
لا يمكن ان يفرض للضد وجود الا ويكون الضد الاخر غير موجود، بخلاف
العكس فإنه يمكن أن يكون أحد الضدين غير موجود وليس للاخر وجود،
لامكان عدم كلا الضدين، فمثلا لا يمكن فرض السواد الا ويثبت عدم البياض،
ولكن يمكن ان يفرض عدم البياض من دون ثبوت السواد.
ومنشأ التقدم الطبعي لعدم الضد على الضد الاخر هو: كون عدم الضد
متمما لقابلية المحل لعروض الضد الاخر عليه، إذ بدونه لا يكون المحل قابلا،
فلا يكون المحل قابلا للبياض إلا في صورة عدم السواد.
346

اما دعوى: توقف عدم أحد الضدين على الضد الاخر، التي هي أساس
الدور الذي ذكره صاحب الكفاية.
فقد دفعها (قدس سره): بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل، فليس هو
شيئا قابلا للتأثر وعليه فلا يحتاج إلى ما يكون مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما
لقابلية القابل بالنسبة إليه، فينتفي توقف عدم أحد الضدين على وجود الاخر.
هذا مجمل ما يتعلق بالمقام ونخبة كلامه الذي أسس عليه مقدمية عدم الضد
للضد الاخر بلا ورود إشكال الدور (1).
والكلام معه ينبغي أن يكون في جهتين:
الجهة الأولى: فيما ذكره ملاكا للتقدم بالطبع مع حصر منشئه بالأمور
الأربعة المزبورة. فإنه مما لا نعرف له وجها صحيحا، إذ يرد عليه: انه اما أن يكون
المقصود من ملاك التقدم بالطبع هو عدم تحقق نفس وجود التأخر الا
والمتقدم موجود دون العكس، أو عدم امكان وجود المتأخر الا وللمتقدم وجود
ولا عكس.
فعلى الأول: لا يصح هذا ملاكا للتقدم بالطبع، لتخلفه في بعض الموارد،
كما لو كان هناك ماءان أحدهما كثير والاخر قليل وجعل أحدهما في عرض
الاخر وجنبه، ولم يكن هناك إلا ماكنتان للحرارة إحداهما ضعيفة النار لا تؤثر
إلا في حرارة القليل والأخرى قوية تؤثر في حرارة كليهما، ووضع الماء بنحو ينحصر ايجاد
حرارتهما من غير طريق هاتين الماكنتين، فإنه حينئذ لا توجد حرارة الماء الكثير
الا وحرارة القليل موجودة دون العكس إذ قد توجد حرارة القليل بالماكنة
الضعيفة النار ولا توجد بها حرارة الكثيرة.
ومن الواضح جدا انه لا تقدم وتأخر بين حرارة القليل والكثير.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 219 - 220 - الطبعة الأولى.
347

وبالجملة: يتخلف المورد فيما لو كانت هناك علتان إحداهما تؤثر في شيئين
والأخرى تؤثر في شئ واحد، وفرض انحصار العلتين صدفة. فإنه لا يوجد أحد
الشيئين المعين إلا والاخر موجود دون العكس. وبدون أن يكون في البين تقدم
وتأخر رتبي.
وعلى الثاني: فكذلك لتخلفه أيضا في بعض الموارد، كما لو فرض ان علة
شئ منحصرة تكوينا في أمر واحد، وهذه العلة كما تؤثر في ذلك الشئ تؤثر في
شئ آخر، وكان لذلك الشئ الاخر علة أخرى تؤثر فيه وحده. فحينئذ لا
يمكن وجود ذلك الشئ الا وللاخر وجود، لأنه لا يوجد الا بالعلة المشتركة وهي
تؤثر في كلا الشيئين، ولكن يمكن أن يوجد الاخر بدون أن يوجد ذلك الشئ
كما وجد بعلته الخاصة لا بالعلة المشتركة.
فضابط النقض: أن يكون هناك معلولان لعلة واحدة وكان لأحدهما علة
تؤثر فيه خاصة وليس للاخر مثل ذلك.
ومن الواضح: انه لا يكون بين هذين الشيئين تقدم وتأخر.
وعلى هذا فما ذكر ضابطا للتقدم بالتقدم بالطبع غير وجيه.
الجهة الثانية: فيما ذكره من نفي الدور بان العدم لا يحتاج إلى فاعل
وقابل، إذ فيه:
أولا: انه يتنافى مع ما عليه الوجدان والعرف من تعليل عدم الشئ
بوجود المانع، بحيث يكون المانع موردا للمناقشة ونحو ذلك، فيقال لمن لم يحرق
الجسم: " لم لم يحترق ". فيجيب: ان عدم الاحراق لوجود الرطوبة. ومن الواضح
إن لم سؤال عن العلة.
وثانيا: انه يتنافى مع تصريح أهل الفن بان عدم العلة علة العدم، فيسند
العدم إلى عدم العلة في كلماتهم.
وعليه، نقول: إذا كان علة العدم عدم العلة. فعدم السواد إذا كان علة
348

لوجود البياض فعدمه علة عدم البياض. ومن الواضح ان عدمه لس الا
السواد - لان نفي النفي اثبات - فيكون السواد علة عدم البياض،
والمفروض ان عدم البياض علة للسواد بملاك المقدمية فيلزم الدور، ويكون
وجود أحد الضدين علة لعدم الاخر في الوقت الذي يكون عدم الاخر علة
لوجود ذلك الضد.
وقد يدفع هذا التقريب للدور بما ذكره (قدس سره) دفعا لتقريب آخر
للدور ذكره هو. وهو وجهان:
الأول: ان العدم لا علة له لأنه غير قابل للتأثر فلا يحتاج إلى فاعل
وقابل.
الثاني: انه لو سلم ان العدم علة، فعلة عدم الضد عدم عدم الضد
الاخر، وهو ليس نفس الضد، إذ عدم العدم مفهوم سلبي لا يصلح للانطباق
على الامر الوجودي، والا لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلى ما ليس
كذلك (1).
والتحقيق ان كلا الوجهين لا ينهضان على رفع الدور.
اما الأول: فلما عرفت من انه يتنافى مع ما عليه الوجدان وتصريحات أهل
الفن من تعليل العدم بوجود المانع. بل هو (قدس سره) اعترف بذلك، لكنه
أدعى ان هذا علة تقريبية لا علة واقعية حقيقية، لان العدم لا يقبل التأثر.
فاستناد العدم إلى عدم العلة استناد حقيقي لا تشوبه شائبة المسامحة والتجوز،
لكنه لا بنحو استناد المعلول إلى العلة، فليكن كذلك فإنه يكفينا صحة كون
منشأ العدم عدم العلة ولو لم يكن بنحو العلية، لأنه يكفي في تحقق التقدم الرتبي
لعدم العلة على عدم المعلول. فيلزم الدور.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 220 - الطبعة الأولى.
349

واما الثاني: فلان ما ذكره وان كان له صورة برهان وتحقيق، لكنه يتنافى
مع البداهة، وذلك لان عدم العدم اما أن يكون صرف مفهوم لا واقع له أصلا أو
يكون له واقع. فإن كان صرف مفهوم لا واقع له أصلا، فهو لا يصلح للتأثير في
عدم المعلوم، إذ المفهوم ليس له قابلية التأثير والسببية، بل ذلك من شأن
الوجودات. وان كان له واقع، فلا بد من فرضه هو الوجود، والا للزم ان يفرض
واقع ثالث غير واقع المتناقضين وهما الوجود والعدم، وهذا مما يحيله الوجدان
والبرهان، إذ ليس هناك واقع ثالث ليس هو بواقع لاحد المتناقضين.
وهذا مضافا إلى أن مقدمية عدم المانع ليست من جهة ان له نحو تأثير
في المعلول أو في قابلية المحل لعروض المعلول، بل انما هو لاجل ارتفاع ما يكون
سببا في عدم قابلية المحل ومنشئا لمنع تأثير المقتضي في مقتضاه، فليس لعدم
الرطوبة خصوصية الا كونه ارتفاعا لما يكون موجبا لحجز النار عن التأثير
والوقوف في قبال تأثيرها في الاحتراق لسلبه قابلية المحل له.
فعلى هذا يكون فرض عدم الضد من المقدمات مساوقا لفرض نفس
الضد مانعا عن التأثير وسببا في عدم تأثير المقتضي، لان مرجع مقدمية عدم
الشئ ليس إلا إلى مانعية نفس ذلك الشئ.
وعليه، فلا نحتاج في اثبات الدور إلى أن نقول إن عدم العدم هو نفس
الوجود، فيكون هو المانع، بل نفس فرض مقدمية عدم الضد مساوق لفرض
مانعية نفس الضد، فيلزم الدور. وهذا هو الذي ينظر إليه صاحب الكفاية في
كلامه في تقريب اشكال الدور.
وخلاصة الكلام: ان ما افاده المحقق الأصفهاني في المقام لا يمكن
الالتزام به، فيتعين القول بإنكار المقدمية. كما اعترف (قدس سره) أخيرا بعدمها
وقرب انكارها.
وهذا كله بالنسبة إلى اشكال الدور.
350

واما اشكال النقض بالمتناقضين، فقد خدش فيه المحقق الأصفهاني
وتابعه السد الخوئي: بارتفاع الوجود لما كان عين العدم البديل له لم يعقل
أن يكون عدم الوجود مقدمة للعدم، لأنه يلزم أن يكون الشئ مقدمة لنفسه،
فعدم المقدمية لعدم المتناقضين للاخر من جهة المحذور المزبور، فلا يقاس عليه
الضدان لأنه قياس مع الفارق (1).
ومن العجيب جدا ان تصدر من المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي هذه
المناقشة، فقد عرفت تقريب كلام الكفاية بما لا يبقى مجال لورود هذا الاشكال،
كيف؟ وهذه المناقشة مأخوذة متممة لاشكال صاحب الكفاية.
وليس نظر صاحب الكفاية الا إلى بيان ان مجرد المعاندة والمنافرة بين
الشيئين لا تستلزم مقدمية عدم أحدهما للاخر، والا لجرى ذلك في المتناقضين مع أنه
محال، فيكشف ذلك أن مجرد المعاندة غير مستلزمة للمقدمية. فمحالية مقدمية
عدم النقيض لنقيضه قد اخذت في ايراد صاحب الكفاية فلا يحسن ان تكون
ردا عليه.
واما الاشكال الأول فقد عرفت تقريبه.
وملخص ما يريد أن يقوله صاحب الكفاية: ان التمانع بين الضدين لما
كان بمعنى عدم جواز اجتماعهما وامتناع وجودهما معا في محل واحد وآن واحد،
ففي مرتبة وجود الضد يمتنع ان يوجد الضد الاخر، فالعقل لا يحكم بأزيد من
لزوم ثبوت عدم الضد في مرتبة وجود الاخر، من دون ان يقتضي ذلك تقدم العدم
على الوجود. وليست مانعية الضد بمعنى مزاحمتها لتأثير المقتضي للضد الاخر
كي يلزم عدمها في مرحلة المؤثر ورتبته وهي سابقة على الأثر.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 224 - الطبعة الأولى.
الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 24 - الطبعة الأولى.
351

وبالجملة: لما كان التمانع بين الضدين بمعنى امتناع اجتماعهما، فالعقل
لا يرى سوى لزوم ثبوت عدم أحدهما عند وجود الاخر كي لا يلزم المحال،
وهذا لا يستدعي تقدم عدم على الاخر.
وخلاصة الكلام: ان الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية في المقدمية
خالية عن الاشكال، فيتعين بها نفي المقدمية.
ثم إن المحقق النائيني نفي المقدمية بوجه استله من الاشكال الذي ذكره
الكفاية على الدور. ومحصل ما أفاده (قدس سره): ان مانعية المانع في رتبة
متأخرة عن وجود المقتضي بشرطه، فما لم يوجد المقتضي لا تتحقق المانعية، لان
معنى المانعية هي المانعية عن تأثير المقتضي، فيلزم أن يكون المقتضي موجودا.
وبما أن المقتضي بشرطه لا يمكن ان يتحقق لكلا الضدين - كما مر تقريبه - لم
يكن الضد مانعا عن ضده أصلا. وعلى هذا البيان بنى انه لو كان أحد الضدين
مأخوذا شرطا في المأمور به امتنع اخذ الاخر مانعا. وبذلك حل مشكلة اللباس
المشكوك التي تضاربت النصوص في نحوه اعتباره. فمنها ما ظاهره كون لبس ما
يؤكل لحمه شرطا. ومنها ما ظاهره كون لبس مالا يوكل لحمه مانعا. وبيانه في
محله من الفقه (1).
وقد أورد على هذا الوجه، ولا نرى ملزما لذكر الايراد ودفعه بعد تقريب
نفي المقدمية بما عرفت. فلاحظ.
ثم إنه قد أشرنا إلى وجود القول بالتفصيل بين عدم الضد المعدوم وعدم
الضد الموجود، فالثاني مقدمة دون الأول. وهو المنسوب إلى المحقق الخونساري
(قدس سره).

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 255 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 307 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
352

وتقريبه: - كما قرره المحقق النائيني (قدس سره) -: ان وجود أحد
الضدين يمنع من قابلية المحل لعروض الضد الاخر، فيكون عدمه وارتفاعه
دخيلا في تحقق قابلية المحل، بخلاف ما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا، فان
المحل قابل لعروض كلا الضدين من دون توقف على عدم أحدهما الاخر.
وناقشه المحقق النائيني: بان هذا إنما يتم لو التزم بقاء الأكوان لا
يحتاج إلى مؤثر، فالضد الموجود لا مؤثر فيه في مرحلة بقائه، وهو مانع من تحقق
الضد الاخر لسلبه قابلية المحل.
اما لو التزم كما هو الحق باحتياج البقاء إلى مؤثر كالحدوث لاشتراكهما
في ملاك الاحتياج إلى المؤثر وهو الامكان، فان الشئ الممكن في بقائه كما
هو ممكن في حدوثه. لم يتم ما ذكره فان المحل بقاء وفي الآن الاخر قابل لعروض
كلا الضدين، وبما أنه يمتنع تحقق مقتضي كلا الضدين لان اجتماعهما لما كان
محالا كان تحقق مقتضيهما محالا أيضا، لان اقتضاء المحال محال. وعليه ففي فرض
وجود أحد الضدين، يكون عدم الاخر مستندا إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود
المانع فلا تصل النوبة إلى مانعية الضد الموجود أصلا كي يكون عدمه مقدمة، إذ
عدم ضده يستند مع وجوده إلى عدم مقتضيه (1).
وخدش في هذا الكلام السيد الخوئي (حفظه الله) بان تحقق مقتضي كلا
الضدين في نفسه لا محالية فيه، فيجوز ان يتحقق لكل من الضدين مقتضيه في
نفسه ولكن الممتنع تأثير كلا المقتضيين.
وحديث " اقتضاء المحال محال " لا يتأتى فيما نحن فيه، وانما يتأتى فيما إذا
تعلق المقتضي الواحد بالمتنافيين.

(1) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 310 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 259 - الطبعة الأولى.
353

ولكنه لم يسلم للمحقق الخونساري التفصيل المزبور، فقد ناقشه: بأنه لا
يخلو الحال اما أن لا يكون مقتضي الضد المعدوم موجودا، أو يكون مقتضي كلا
الضدين موجودا، فعلى الأول يستند عدم الضد إلى عدم مقتضيه لا إلى المانع
وعلى الثاني يستند عدم الضد إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضيه وغلبته
عليه لأقوائيته، فيرجع العدم إلى ضعف مقتضيه وقصوره عن التأثير لوجود
المزاحم الأقوى، فلا يستند عدم الضد في كلتا الحالتين إلى نفس وجود ضده، بل
اما ان يستند إلى عدم مقتضيه أو إلى مزاحمة مقتضي الضد الاخر الموجود
لمقتضيه، فلا يكون الضد الموجود مانعا في حال من الأحوال كي يكون عدمه
مقدمة (1).
أقول: الذي يقتضيه الانصاف هو تسليم القول بالتفصيل.
واما ما ذكره السيد الخوئي من استناد عدم الضد - عند وجود كلا
المقتضيين - إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضي الضد المعدوم وغلبته عليه،
فهو أمر يتنافى مع ما عليه البديهة والوجدان من أن المزاحم والمانع هو نفس
الضد الموجود، فلا يتوقف أحد من الحكم باستناد عدم وجود الماء في الاناء الذي
فيه الثلج بعد اجرائه فيه، إلى نفس وجود الثلج وانه لولا الثلج لدخل الماء في
الاناء. فالمانع بنظر كل أحد هو نفس الضد فيقال انه لو لاه لتحقق الضد الاخر.
والسر فيه هو: ان وجود الضد يسلب قابلية المحل لعروض الضد الاخر
عليه، فيمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه، فبارتفاعه تتحقق قابلية المحل
لعروض الضد الاخر عليه، وهذا هو المقصود بعدم المانع، نظير عدم الرطوبة
الرافع لتأثير الرطوبة في عدم مؤثرية النار في الاحراق.
الا ان هذا التفصيل لا ينفع في ما نحن فيه من متعلقات الاحكام

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 30 - الطبعة الأولى.
354

الشرعية.
بيان ذلك: ان الضدين:
تارة: يكونان من الأعيان التي لها وجود قار بحيث لا ترتفع بعد وجودها
بعدم الإرادة فقط.
وأخرى: يكون من الأفعال التي يكون لها وجود تدريجي فتنعدم بمجرد
عدم الإرادة، لان المقتضي المباشر لها هو إرادة الفاعل المختار.
اما النحو الأول، وهو ما كان من الموجودات القارة فيتصور فيه الحدوث
والبقاء، فيدعى ان الضد بقاء مانع عن ضده الاخر كما قربناه. ولا يكون عدم
الإرادة رافعا له، لان المقتضي المباشر له بقاء ليس هو الإرادة، فالسواد إذا وجد
يبقي ولو لم تستمر إرادة بقائه.
واما النحو الثاني، وهو ما كان الأفعال التي هي موجودات تدريجية لا
قرار لها، بل ما يتحقق منها يتصرم وينعدم بانعدام اجزاء الزمان الذي تحقق فيها،
فبقاؤه منوط بالإرادة، فان المختار إذا أراد فعل وإذا لم تتحقق منه الإرادة لا
يتحقق منه الفعل قهرا. وعليه نقول: ان الفعل الموجود بالنسبة إلى ضده المأمور
به لا يكون من قبيل الضد الموجود، بل من قبيل الضد المعدوم، لان الجزء الذي
تحقق منه قد انعدم وما سيتحقق منه معدوم فعلا ولا يتحقق الا بإرادة فعله. فمثلا
إذا شرع المكلف في الصلاة ثم تنجس المسجد، فليس هنا شئ قار له وجود
يكون مضادا للتطهير وإزالة النجاسة، وانما الذي يمنع من الإزالة ولا يجتمع معها
هو الجزء الذي سيتحقق وهو معدوم فعلا، فيكون من الضد المعدوم لا الموجود،
اما ما تحقق فقد انعدم وتصرم.
وبالجملة: لما كانت متعلقات الاحكام من الأفعال التدريجية الحصول بلا
أن يكون لها وجود قار لم ينفع التفصيل الزبور، لأنها دائما تكون من الضد
المعدوم بالبيان الذي عرفته، وقد عرفت عدم المقدمية في الضد المعدوم. فلا يكون
355

التفصيل سوى تفصيل علمي خال عن الثمرة العملية.
وخلاصة البحث: ان تقريب اقتضاء الامر بشئ للنهي عن ضده
بدعوى المقدمية لا محصل له.
وهناك تقريب آخر للاقتضاء ذكره صاحب الكفاية وهو: يتقوم بدعوى
الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الاخر فيستلزم النهي عنه ببيانين:
البيان الأول: ان المتلازمين لا يصح اختلافهما في الحكم، فلا يجوز أن يكون
أحدهما واجبا والاخر محرما، لعدم امكان امتثال الحكمين بعد فرض تلازم
متعلقيهما وجوا. وعليه فلما كان وجود الضد ملازما لعدم ضده كان طلبه ملازما
لطلب ترك ضده لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.
والاشكال في هذا البيان واضح كما جاء في الكفاية: فان عدم جواز
اختلاف المتلازمين في الحكم لا يستلزم توافقها فيه، بمعنى أن يكون كل منهما
محكوما بما يحكم به الاخر. بل هناك شق ثالث وهو خلو أحد المتلازمين من
الحكم، وهو يحقق عدم اختلاف المتلازمين في الحكم من باب السالبة بانتفاء
الموضوع، فليكن ما نحن فيه كذلك، فيكون أحد الضدين واجبا من دون أن يكون
ترك ضده محكوما بحكم من وجوب أو غيره.
البيان الثاني: - وقد أشار إليه صاحب الكفاية - ما تقدم من عدم جواز
اختلاف المتلازمين في الحكم بضميمة ما هو المسلم من عدم خلو الواقعة من
الحكم، فيلزم أن يكون ترك الضد محكوما بحكم غير مخالف لحكم ضده وليس
هو الا الوجوب (1).
ولا يرد الاشكال السابق على هذا البيان كما لا يخفى.
ولكن يرد عليه: ان عدم خلو الواقعة عن الحكم انما يسلم بالنسبة إلى

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 132 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
356

الأشياء بلحاظ عناوينها الأولية، بملاك ان المكلف لا بد ان تعين وظيفته العملية
ولا يبقى متحيرا في مقام العمل، اما إذا طرأ على الشئ ما يوجب ارتفاع هذا
الملاك، فلا يلزم أن يكون له حكم مجعول شرعا، كما فيما نحن فيه، فإنه بعد
وجوب أحد المتلازمين لا يبقى المكلف متحيرا بالنسبة إلى الاخر لتحققه قهرا
بتحقق الواجب ونظيره مقدمة الواجب.
وبالجملة: إذا طرأ على الشئ عنوان ثانوي يوجب ارتفاع تحير المكلف
بلحاظ وظيفته العملية بالنسبة إليه، لا دليل على امتناع خلو الواقعة المذكورة
عن حكم شرعي. إذ الملاك المزبور مرتفع كما هو الفرض، وليس غيره ملاك
للزوم وجود الحكم في الواقعة.
المسألة الثانية: في اقتضاء الامر بالشئ النهي عن ضده العام، أعني
الترك.
وقد يتوهم اقتضاؤه بالدلالة التضمنية، لان حقيقة الوجوب مركبة من
طلب الشئ والمنع من تركه، فالمنع عن الترك جزء الوجوب فيقتضيه الامر بنحو
التضمن كما لا يخفى.
ويندفع هذا التوهم بما ذكره صاحب الكفاية من: ان حقيقة الوجوب
ليست مركبة من جزئين، وانما هي عبارة عن مرتبة أكيدة من الإرادة الملازمة
للمنع من الترك، فالتعبير عن الوجوب بأنه المنع من الترك تعبير عنه بلازمه،
لاجل تحديد تلك المرتبة الأكيدة من الإرادة، وليس هو لاجل كونه جزء حقيقة
الوجوب. ومن هذا البيان توصل صاحب الكفاية إلى نفي دعوى العينية، فإنه
بعد أن كان المنع من الترك من لوازم الامر امتنع أن يكون عينه، لان الملازمة
بين الشيئين تقتضي المغايرة الاثنينية وهو يتنافى مع دعوى العينية. الا ان يراد
من العينية هو وجود طلب واحد منسوب حقيقة إلى الوجود، فيكون بعثا إليه
وينسب مجازا وبالعرض إلى الترك فيكون زجرا عنه.
357

وبالجملة: الذي يظهر من كلام صاحب الكفاية هو دعوى الملازمة بين
الامر بالشئ والنهي عن الترك (1).
وللمحقق النائيني في المقام كلام محصله: انه إذا فسرنا النهي بطلب الترك،
فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعا
وان تغاير عنه مفهوما، لان ترك الترك لا واقع له غير الفعل والا لزم أن يكون
هناك واقع وراء المتناقضين وهو محال، ولأجل ذلك أشتهر ان نفي النفي اثبات.
فعليه، يكون الامر بالشئ عين النهي عن الترك.
الا ان هذا لا يرتبط بما نحن فيه، فإنه انما يرتبط بما إذا كان هناك
انشاءان أحدهما بتضمن طلب الفعل والآخر يتضمن النهي عن الترك، فنقول:
ان أحدهما يرجع إلى الآخر وكل منهما عين الآخر حقيقة. اما إذا كان هناك
انشاء واحد يتضمن طلب الفعل فلا يتأتى فيه ما ذكر، إذ قد يغفل الآمر عن
ترك تركه كي يطلبه، فيقال انه عين طلب الفعل، وما نحن فيه من هذا القبيل.
هذا ملخص كلامه (2).
وفيه: ما لا يخفى، فإنه إن أريد من الأمر والنهي نفس الانشاء اللفظي
بان كانا اسمين للفظ الذي ينشأ به المفهوم، كان من الواضح تغاير الامر بالفعل
والنهي عن الترك، فإنه قوله: " صل " - مثلا - يغاير قوله: " لا تترك الصلاة "
بالبداهة، سواء ذلك في صورة وجود الأمر والنهي خارجا وصورة وجود أحدهما.
وان أريد من الأمر والنهي واقع الانشاء، أعني به الطلب النفسي، كان طلب
الشئ عين النهي عن ضده العام بعد أن كان المنهي عبارة عن طلب الترك،
سواء تعدد الانشاء فكان انشاء للنهي وانشاء للامر أم أتحد الانشاء فكان للامر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 133 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 251 - الطبعة الأولى.
358

فقط، لان حقيقة الامر لا تختلف عن حقيقة النهي، فاللفظ الكاشف عن أحدهما
يكشف عن كليهما، بل هو يكشف عن حقيقة واحدة هي امر بلحاظ الفعل ونهي
بلحاظ الترك.
ومن العجيب جدا ما أورده السيد الخوئي من: ان النهي إذا كان عبارة
عن طلب الترك وكان الامر بالشئ عين النهي عن تركه، لا معنى لان يقال ان
الامر بالشئ يقتضي النهي عن الترك، فإنه عينه، فلا محصل له، فإنه بمثابة ان
يقال ان الامر بالشئ يقتضي الامر بالشئ (1).
ووجه الغرابة: ان كلامه ان كان يرجع إلى بيان ان المراد بالاقتضاء ما
يساوق العلية لا ما هو أعم منها ومن العينية والتضمن، فلا يصح التعبير
بالاقتضاء في مورد العينية، فيكون اشكالا على أخذ الاقتضاء بمعنى أعم،
فليس محله ههنا، وقد سبق منه تقرير ما فرضه النائيني من عموم المراد
بالاقتضاء، بل صرح به في تقريرات بحثه للفياض (2).
وان كان يرجع إلى عدم صحة التعبير بالاقتضاء في مورد العينية مع غض
النظر عما سبق. فهو لا يتوجه على المحقق النائيني بعد ما فرض هو وغيره من
الاعلام عموم المراد بالاقتضاء، وانه بمعنى يصح اطلاقه في مورد العينية. فالمراد
بان الامر بالشئ يقتضي النهي عن تركه مع أنه عينه هو ان أحدهما يرجع إلى
الاخر، لا بمعنى علية الامر للنهي الذي يتنافى مع فرض العينية.
وبالجملة: لم يظهر محصل لهذا الايراد.
وتحقيق المقال في هذه المسالة:
ان الأمر والنهي ان كانا اسمين للفظ الذي يتحقق به انشاء الطلب،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 251 - [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 8 - الطبعة الأولى.
359

فالامر اسم لصيغة: " افعل " والنهي اسم لصيغة: " لا تفعل " - ان كانا كذلك -
فلا يكون الامر بشئ مقتضيا للنهي عن تركه بنحو من انحاء الاقتضاء لا بنحو
العينية ولا التضمن ولا الملازمة. فان كلا منهما وجود مستقل حقيقي فلا يكون
عين الاخر، كما أنه لا يلزم عن تحقق الامر بشئ بهذا المعنى تحقق النهي عن
تركه كذلك لا باللزوم البين بالمعنى الأخص ولا البين بالمنى الأعم.
وان كانا اسمين لواقع الانشاء، فان قلنا إن النهي عبارة عن طلب الترك
فيكون النهي عن الترك عبارة عن طلب تركه، كان الامر بالشئ عين النهي
عن تركه، لان طلب ترك الترك يرجع في واقعه إلى طلب الفعل. وان قلنا إن
النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ومبغوضية المنهي عنه، لم يكن الامر بالشئ
عين النهي عن تركه، لان محبوبية العمل وإرادته تغاير مبغوضية الترك وكراهته،
فان كلا منهما وجود مستقل وصفة من صفات النفس تغاير في واقعها الأخرى.
كما أنه لم يكن الامر ملازما للنهي عن الترك، لان المحبوبية تنشأ من وجود
المصلحة، والمبغوضية تنشأ من وجود المفسدة، فتعلق المحبوبية بالفعل لوجود
مصلحة فيه لا تلازم تعلق المبغوضية في الترك، إذ لا يلزم أن يكون في الترك
مفسدة إذا كان في الفعل مصلحة، بل غاية ما يكون في الترك هو عدم المصلحة
وهو لا يكون منشئا للمبغوضية.
ثمرة المسألة
ذكر صاحب الكفاية: ان ثمرة البحث تظهر فيما كان ضد المأمور به
عباديا كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة، فإنه بناء على اقتضاء الامر بشئ النهي
عن ضده بضميمة ان النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي
عنها، وبناء على عدم اقتضاء الامر بشئ النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم
النهي عنها.
360

وأنكر البهائي (قدس سره) هذه الثمرة، والذي ذكره صاحب الكفاية
عنه في تقريب الانكار هو: ان العبادية والتقرب يتوقف على تعلق الامر بالعمل.
ومن الواضح ان الضد العبادي لا امر به لارتفاع الامر به بمزاحمته مع الواجب
الأهم، فلا يقع صحيحا سواء قلنا بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك. فلا يترتب على
الالتزام بتعلق النهي بالضد الأثر المذكور - أعني فساد العبادة -.
وأورد عليه صاحب الكفاية: بان الامر وان ارتفع بالمزاحمة الا ان ملاك
الامر ثابت وموجود وهو المحبوبية الذاتية، إذ لا مقتضي لارتفاعه. والمزاحمة انما
تقتضي ارتفاع الامر لا غير. وعليه فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية ولا
يتوقف على وجود الامر، وهو انما يصح لو لم يكن منهيا عنه، لان النهي يستلزم
الفساد، فتظهر الثمرة (1).
لكن المحقق النائيني قرب دعوى البهائي بنحو لا يكون لما أورده
صاحب الكفاية مجال.
ومحصل ما افاده: انه اما ان يشترط في صحة العبادة تعلق الامر بها فعلا.
أولا يشترط ذلك ويلتزم بكفاية الملاك في صحة العبادة.
فعلى الأول: يقع الضد العبادي فاسدا، سواء قلنا باقتضاء الامر بالشئ
النهي عن ضده أو بعدم اقتضائه، لان الامر بالضد مرتفع لاجل مزاحمته للامر
بالأهم، لأنه يستحيل طلب الضدين.
وعلى الثاني: يقع صحيحا على القولين اما بناء على عدم الاقتضاء
فواضح.
واما بناء على الاقتضاء، فان العبادة وان كانت منهيا عنها الا ان النهي
المتعلق بها نهي غيري ناشئ عن مقدمية تركها للمأمور به أو ملازمته له، وليس

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 133 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
361

هو ناشئا عن مفسدة في نفس متعلقه كي يكون مزاحما لما فيه من المصلحة وموجبا
لاضمحلالها. فيرتفع موجب التقرب، فالمصلحة في الضد العبادي تصحح التقرب
ولا رافع لها ولا مزاحم (1).
ولا يخفى ان هذا التقريب أوجه علميا مما ذكره صاحب الكفاية، كما أنه
لا يرد عليه ايراد صاحب الكفاية من كفاية التقرب بالملاك، فان التقريب يشير
إلى هذه الجهة ويعطيها حكمها فتدبر.
وتحقيق الحال فيه، ان المقصود بالملاك بالملاك تارة يكون هو المحبوبية الذاتية.
وأخرى يكون هو المصلحة المترتبة على المتعلق. والظاهر أن مقصود المحقق
النائيني بالملاك المصحح للعبادية هو المصلحة، ويدل عليه وجهان:
الأول: تصريحه بعدم نشوء النهي عن المفسدة في المتعلق كي تزاحم ملاك
الامر وتوجب اضمحلاله، فإنه ظاهر في كون نظره بالملاك إلى المصلحة.
الثاني: انه لو كان المنظور بالملاك هو المحبوبية لما صح التقرب بالعمل
بناء على النهي عنه ولو كان نهيا غيريا، لان النهي يستلزم مبغوضية العمل ولو
لمفسدة في غيره، ومع كونه مبغوضا كيف يصح التقرب به لامتناع كونه محبوبا
حينئذ؟ فكلامه لا يتم الا بفرض كون مراده من الملاك هو المصلحة، الذي لا
يرتفع بالمبغوضية الغيرية.
الا انه يرد عليه:
أولا: ان قصد المصلحة لا يمكن تحققه هنا.
وذلك: لان العمل إذا فرض كونه عباديا كانت المصلحة مما يترتب على
العمل بقيد كونه عباديا. اما ذات العمل فلا تترتب عليه المصلحة.
وعليه، فلا يصلح ترتب المصلحة لان يكون داعيا إلى الاتيان بالعمل،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 262 - الطبعة الأولى.
362

لعدم ترتبه عليه، والداعي ما كان بوجوده العلمي سابقا وبوجوده العيني لاحقا.
وبالجملة: لا يمكن ان يؤتى بالعمل بداعي المصلحة، إذ لا مصلحة فيه،
بل المصلحة تترتب على العمل العبادي فقصد المصلحة في طول تحقق العبادية
لا محقق لها، فهو نظير الاتيان بالعمل بداعي ترتب الثواب أو الفرار من
العقاب، فإنه في طول العبادة لا محقق لها، كما تقدم بيان ذلك في مبحث التعبدي
والتوصلي.
وثانيا: لو فرض امكان تحقق قصد المصلحة، فهو لا يكون مقربا، لما تقدم
من انه يعتبر في المقربية ارتباط العمل بالمولى بنحو ارتباط، والاتيان بالعمل
لاجل ترتب المصلحة عليه لا يرتبط بالمولى فلا يكون العمل مقربا لعدم ربطه
بالمولى.
وعلى هذا لا يستقيم ما افاده المحقق النائيني من انكار الثمرة، إذا الملاك
المصحح ليس إلا المحبوبية، وهو لا يتحقق مع تعلق النهي بالعمل.
ولكن الذي يسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الامر
بشئ النهي عن ضده، اما لاجل انكار دعوى المقدمية التي هي عمدة أساس
القول بالاقتضاء. واما من جهة انكار وجوب المقدمة.
هذا مع أن النهي على تقدير الالتزام به بمعنى طلب ترك الضد، أعني
وجوب تركه اما لاجل المقدمية أو لاجل التلازم، ووجوب الترك لا يتنافى مع
محبوبية الفعل في نفسه، إذ ليس النهي الذي ينافيها الا الزجر عن العمل وليس
هو طلب الترك، فالنهي الثابت ههنا على تقديره لا يتنافى مع مقربية الفعل
لامكان أن يكون كل من الترك والفعل محبوبا في نفسه، الا ان محبوبية أحدهما
تغلب الأخرى فتكون منشئا للامر، وهو لا يلازم مبغوضية غير المأمور به، ولذلك
قلنا إن الامر بالشئ لا يقتضي النهي عن ضده العام. فلاحظ.
363

ثم إنه بناء على عدم الاقتضاء لا شبهة في ارتفاع الامر بالضد عند تعلق
الامر بضده الاخر، لعدم امكان الجمع بين الضدين فالامر بكليهما محال، فإذا
تعلق الامر بالضد الأهم ارتفع الامر بضده ولو لم يكن منهيا عنه.
وعليه، فيقع البحث في مصحح الضد العبادي مع ارتفاع الامر به، وهو
أحد وجوه يقع البحث في كل منها وهي:
أولا: الالتزام بتعلق الامر به بنحو الترتب.
وثانيا: الالتزام بمصححية قصد الملاك. والمهم في البحث عن هذا الوجه
هو البحث عن طريقة احراز الملاك بعد ارتفاع الامر.
وثالثا: الالتزام بصحة قصد الامر بالضد المزاحم، ولو لم يكن مأمورا به
كما ذهب إليه المحقق الكركي (وهو المحقق الثاني) في خصوص تزاحم العبادة
الموسعة مع واجب مضيق كتزاحم صلاة الظهر مع إزالة النجاسة.
ولنبدأ بالوجه الأخير، فنقول: حكي عن المحقق الثاني صحة الاتيان
بالفرد المزاحم بداعي الامر في الواجب الموسع المزاحم لواجب مضيق.
وقد اختلف في تقريب كلامه صاحب الكفاية مع المحقق النائيني.
فالذي ذكره صاحب الكفاية في تقريب كلامه هو: ان هذا الفرد المزاحم
بالواجب الأهم وان كان خارجا بالمزاحمة عن دائرة الامر وليس مصداقا للمأمور
به، وانما هو مصداق للطبيعة بما هي لا بما هي مأمور به، الا انه حيث يكون
كسائر الافراد في الوفاء بالغرض الباعث للامر، وعدم افتراقه معها في ذلك، لم
ير العقل المحكم في باب الامتثال، فرقا بينه وبين غيره من الافراد في تحقق
الامتثال به، فإذا جاء به العبد قاصدا امتثال الامر يتحقق الامتثال به ويسقط
الامر بالامتثال ويعد العبد ممتثلا ومطيعا بنظر العقل.
هذا ما جاء في الكفاية في مقام تقريب الوجه المذكور، وقد قرره صاحب
364

الكفاية (1).
والذي ذكره المحقق النائيني هو: ان الفرد المزاحم لا يكون مأمورا به،
لأنه لا يكون مقدورا.
الا انه لما كان الامر متعلقا بصرف وجود الطبيعة لا بخصوصية الافراد،
ولذلك كان التخيير بين الافراد عقليا لا شرعيا. وبما أن القدرة على بعض افراد
الطبيعة تحقق القدرة على نفس الطبيعة.
وعليه، فالامر فيما نحن فيه متعلق بصرف وجود الطبيعة للقدرة على
بعض افرادها وهي غير المزاحمة للواجب.
ومن الواضح ان انطباق الطبيعة على الفرد المزاحم قهري، فإذا جاء به
العبد تحقق به الامتثال، لان ملاك الامتثال انطباق المأمور به على المأتي به، فكما
يتحقق الامتثال بغير المزاحم من الافراد للانطباق، كذلك يتحقق بالفرد المزاحم
للانطباق. فالفرد المزاحم وإن لم يكن مأمورا به بنفسه لكنه مصداق المأمور به.
هذا محصل ما جاء في تقريرات المحقق النائيني (قدس سره) (1).
وجهة الفرق بين التقريبين: ان الفرد المزاحم في تقريب صاحب الكفاية
قد فرض كونه خارجا عن دائرة المأمور به، وانه ليس فردا للطبيعة بما هي مأمور
به.
واما في تقريب المحقق النائيني فقد فرض كونه مصداقا للطبيعة بما هي
مأمور بها.
وعلى اي حال فنحن نوقع الكلام في كلا التقريبين.
اما تقريب الكفاية فقد أورد عليه - كما أشار إليه في الكفاية - بان الامر

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 136 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 313 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 263 - الطبعة الأولى.
365

لا يدعو الا إلى ما تعلق به، فيستحيل أن يؤتى بالفرد المزاحم بداعي الامر، مع أنه
خارج عن دائرة المأمور به، إذ الامر لا يدعو إليه والحال هذه (1).
وتحقيق الكلام ان يقال: ان المقصود من داعي الامر ليس ما هو ظاهره
وهو داعي نفس الامر لان الداعي ما يكون بوجوده الخارجي متأخرا عن العمل
وهو المعبر عنه بالعلة الغائية. ومن الواضح ان الامر لا يترتب في الخارج على
العمل بل هو سابق عليه. فالمقصود من داعي الامر هو داعي موافقه الامر، لا
بمعنى موافقة نفس الامر فإنه تعبير مسامحي، بل موافقة المأمور به، أو المقصود
داعي الجري على طبق الامر وامتثاله.
ومن الواضح انه بهذا المعنى الأخير يمكن الاتيان بالفرد المزاحم بداعي
الامر، لان الامر لما كان ناشئا عن ثبوت غرض ملزم في متعلقه وكان الامر لاجل
تحصيل هذا الغرض، وبما أن الفرد المزاحم محصل للغرض الباعث نحو الامر،
صح أن يؤتى به بداعي الجري على طبق الامر. وبتعبير آخر يؤتى بالفرد المزاحم
بداعي تحصيل الغرض الداعي إلى الامر لغرض اسقاط ذلك الامر، بحيث لو
لم يكن الامر ثابتا لما جئ بالعمل.
وبهذا التقريب يصح ان يقال: إنه يمكن الاتيان بالفرد المزاحم بداعي
الامر.
الا انه - كما عرفت - يبتني على أن يكون الفرد المزاحم محصلا للغرض،
وطريق معرفة ذلك سيأتي تحقيقه في الكلام على الوجه الثاني، الذي نبحث فيه
عن طريق احراز الملاك بعد ارتفاع الامر.
واما تقريب المحقق النائيني فقد أورد عليه (قدس سره): بأنه انما يتم
بناء على كون أخذ القدرة شرطا للتكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 136 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
366

العاجز.
وذلك لان الطبيعة لما كانت مقدورة بالقدرة على بعض افرادها، صح
تعلق التكليف بها من دون تقييد، لان الجامع بما هو جامع مقدور فيصح تعلق
الحكم به.
واما بناء على كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك
وهو الحق، فان التكليف انما هو لاجل اعمال إرادة المكلف في الفعل، وتحريك
العبد نحو الاتيان بالعمل بإرادته، فطبيعة التكليف تقتضي تعلقه رأسا بما هو
مقدور، إذ لا قابلية لغير المقدور لتعلق التكليف في نفسه.
بناء على هذا البناء لا يتم ما ذكره المحقق الكركي، لان متعلق التكليف
ليس هو الطبيعة بما هي هي، بل الطبيعة المقدورة، ومن الواضح ان الفرد المزاحم
ليس فردا لطبيعة المقدورة فلا يكون فردا للطبيعة بما هي مأمور به بل بما هي هي،
وهو لا ينفع في صحة الاتيان بها بداعي الامر. هذا محصل ما أورده المحقق
النائيني (1).
وهو لا يخلو عن ضعف بكلا شقيه..
أعني: ما ذكره من عدم تقيد المتعلق بالقدرة بناء على كون اشتراط
التكليف بالقدرة بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز.
وما ذكره من كون الحق تقيد المتعلق بالقدرة لاجل كون اشتراط القدرة
مما يقتضيه نفس التكليف وطبيعته.
اما ما اختاره من كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء طبيعة التكليف
ذلك، سواء حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو لم يحكم. فالحق فيه: انه لا وجه
لاشتراط القدرة سوى حكم العقل بقبح تكليف العاجز وكون التكليف انما هو

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 263 - الطبعة الأولى.
367

لجعل الداعي لا ينافي ذلك.
بيان ذلك: ان ارتباط التكليف بإرادة المكلف يتصور على أنحاء ثلاثة:
لأنه..
اما أن يكون ارتباطا تكوينيا، نظير ارتباط تحريك الآلة في تشغيل الماكنة
المنتجة لبعض المصنوعات كالأسباب التوليدية لمسبباتها، فيكون حدوث
التكليف محركا للإرادة وموجدا لها فينتج العمل المطلوب.
واما أن يكون ارتباط جعليا يتوقف على الاعتبار والبناء.
ثم إن هذا يتصور على نحوين:
الأول: أن يكون التكليف عبارة عن اعتبار الداعوية الفعلية وجعل ما
يكون داعيا بالفعل نحو العمل.
الثاني: أن يكون عبارة عن اعتبار ما يمكن أن يكون داعيا وجعل ما له
اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعيا بالفعل.
وما ذكره المحقق النائيني انما يتم بناء على الوجهين الأولين، فإنه لا يكون
قابلا في نفسه لتعلقه بغير المقدور، إذ المفروض انه مرتبط تكوينا بالإرادة، فلا
يتصور تعلقه بغير المقدور، أو انه يدعو فعلا نحو الفعل، والدعوة الفعلية لا
تتصور لغير المقدور.
واما بناء على الوجه الثالث، فالتكليف قابل في نفسه للتعلق بغير
المقدور، لان حقيقته جعل ما يقتضي الداعوية، ولا يمتنع وجود المقتضي مع عدم
حصول شرطه أو مع وجود مانعه. وبعبارة أخرى: لا يمتنع وجود المقتضي مع
عدم فعلية تأثيره، فيمكن ان يتعلق التكليف في نفسه بغير المقدور - فيكون نظير
وجود النار بدون الاحراق -، إلا أنه حيث كان جعل مقتضى الداعوية لغوا
بالنسبة إلى غير المقدور لعدم ترتب الأثر عليه، كان ذلك قبيحا. فمرجع اشتراط
القدرة على هذا الوجه إلى قبح تكليف العاجز لاجل كونه لغوا لا إلى عدم
368

امكانه.
ومن الواضح ان حقيقة التكليف ليست الا جعل ما يمكن أن يكون
داعيا، وهي أجنبية عن الوجهين الأولين.
وعليه، فاشتراط القدرة لا يكون الا من باب حكم العقل بقبح تكليف
العاجز لأنه لغو محض، وكون التكليف انما هو لجعل الداعي لا ينافي ذلك بعد أن
عرفت أن المقصود جعل ما يمكن أن يكون داعيا، وقد عرفت أنه قابل في
نفسه لان يتعلق بغير المقدور، ولكن المانع منه ليس إلا كونه عملا لغوا لا يصدر
من الحكيم.
واما ما التزم به - بناء على كون اشتراط القدرة من باب حكم العقل
بقبح تكليف العاجز - من تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور، لان
الجامع مقدور بالقدرة على بعض افراده.
فالحق انه لا يمكن الالتزام به، وذلك لان تعلق الامر بالجامع بحيث
يسري إلى جميع افراده المقدور منها وغير المقدور انما يتم بالاطلاق، فينطبق
المأمور به على غير المقدور لأنه أخذ بنحو يشمله. وتعلقه بالجامع المطلق بحيث
يسري إلى جميع افراده غير معقول، لأنه مر بيان ان استحالة التقييد تارة
تلازم استحالة الاطلاق وأخرى تلازم ضرورة الاطلاق، لان امتناع التقييد تارة
يكون لاجل استحالة الحكم على المقيد، فيستحيل الاطلاق أيضا، لان معنى
الاطلاق يرجع إلى الحكم على جميع افراد المطلق ومنها المقيد، والمفروض
استحالة ثبوت الحكم له. وأخرى يكون لاجل استحالة نفس التقييد وقصر
الحكم على بعض الافراد، فيجب الاطلاق لامتناع ثبوت الحكم لخصوص بعض
الافراد.
وما نحن فيه من قبيل الأول، فان استحالة ثبوت الحكم لغير المقدور
ليس لاجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد، بل لاجل امتناع ثبوت
369

الحكم له بخصوصه، وإذا استحال ثبوت الحكم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقا،
سواء كان بعنوانه الخاص أو بعنوان مطلق. فالاطلاق ممتنع كالتقييد.
وبالجملة: الجامع وان كان مقدورا، الا ان هذا لا أثر له بعد أن كان الملاك
الموجب لامتناع ثبوت التكليف بغير المقدور بعنوانه الخاص - وهو قبح تكليف
العاجز - موجودا في ثبوت الحكم لمطلق الافراد، بحيث تندرج الافراد غير
المقدورة فيه.
وعلى هذا، فالفرد غير المقدور وان كان فردا للطبيعة بما هي هي، الا انه
ليس فردا لها بما هي مأمور به.
والمتحصل ان التقريب الذي ذكره المحقق النائيني لا يسلم عن
الاشكال، بخلاف التقريب الذي ذكره صاحب الكفاية، لكنه كما عرفت يتوقف
على احراز وجود الملاك في الفرد المزاحم.
ثم إن المحقق الأصفهاني أورد على المحقق النائيني - وأوضح الايراد
مفصلا السيد الخوئي (1) -.
وخلاصة الايراد: ان الواجب الموسع، له نحوان من الافراد، طولية
وعرضية.
والالتزام بكون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف
العاجز، انما ينفع في تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فيما لو كان التزاحم
بين بعض الافراد العرضية للموسع ونفس الواجب المضيق، إذ يقال حينئذ: ان
الجامع مقدور للقدرة على بعض افراده، وهي الافراد العرضية الأخرى، فيصح
تعلق الوجوب بالجامع.
اما لو كان التزاحم بين الفرد الطولي والواجب المضيق، بحيث كانت

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 58 - الطبعة الأولى.
370

جميع الافراد العرضية في آن من الآنات مزاحمة لواجب مضيق، نظير مزاحمة
الإزالة للصلاة، فلا ينفع ما ذكره الا بالالتزام بالواجب المعلق، وذلك لان الجامع
في آن المزاحمة غير مقدور لعدم القدرة على أي فرد من افراده، لكون المفروض
مزاحمة كل منها للواجب الأهم. فإذا كان الجامع غير مقدور امتنع تعلق التكليف
بالجامع فعلا. نعم بناء على الواجب المعلق يلتزم بأنه فعلا متعلق بالجامع في الآن
الذي يلي آن المزاحمة، لأنه مقدور في ذلك الآن، لكنه (قدس سره) لا يلتزم
بالواجب المعلق ويرى أنه مستحيل كما تقدم. هذا ايضاح ما افاده المحقق
الأصفهاني (1) وهو وجه لطيف. لكنه لا يخلو عن مناقشة سيأتي التعرض لها في
غير هذا المقام فانتظر.
وقد ذهب السيد الخوئي (حفظه الله) إلى: ان القدرة ليست شرطا
للتكليف وانما هي شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.
وقد قرب هذه الدعوى: بان الانشاء لما لم يكن عبارة عن ايجاد المعنى
باللفظ، إذ اللفظ ليس وجودا تكوينيا للمعنى، كما أنه لا يصلح أن يكون وجودا
اعتباريا له، لان الاعتبار فعل نفساني يقوم بالنفس، ولا يحتاج فيه إلى اللفظ،
وانما كان عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني واظهاره، لم يكن التكليف عبارة عن
انشاء البعث والتحريك نحو العمل، وانما كان عبارة عن جعل الفعل في عهدة
المكلف، وهذا يستتبع حكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة.
وإذا كانت حقيقة التكليف ذلك لم يمتنع تعلقها بغير المقدور، إذ هو
كسائر الأحكام الوضعية التي لاشك في صحة تعلقها بغير المقدور. فيصح جعل
الفعل في عهدة المكلف غير القادر.
نعم هي شرط في حكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 247 - الطبعة الأولى.
371

موضوعه، فحكمه بوجوب الإطاعة لا يتعلق بغير القادر.
وعلى هذا، فلا يمتنع تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره، لان
حقيقة التكليف لا تتنافى مع عدم القدرة، بل تعلق التكليف بالجامع ضروري،
لان التقييد إذا كان ممتنعا كان الاطلاق ضروريا، لان التقابل بينهما تقابل
السلب والايجاب - لا تقابل العدم والملكة -، فإذا امتنع أحدهما وجب الاخر.
وتوهم: ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يسري إلى غير المقدور يستلزم
اللغوية، لان المفروض ان حكم العقل بلزوم الإطاعة قد اخذ في موضوعه
القدرة، فلا فرق في لغوية التكليف بين تعلقه بغير المقدور منفردا أو في ضمن
الجامع.
يندفع: بأنه يكفي في رفع لغوية تعلق التكليف بالجامع صحة الاتيان
بالفرد المزاحم بداعي الامر لو بنى على عصيان الامر بالأهم ولولاه لما صح،
وهذا المقدار من الأثر رافع للغوية ومصحح للعمل (1).
ويتخلص مما افاده أمور:
الأول: كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف والانتهاء
إلى هذا الرأي بواسطة نفي كون الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى باللفظ.
الثاني: ان القدرة ليست شرطا للتكليف، وانما هي شرط لمنجزيته أو
بعبارة أخرى: شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.
الثالث: ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الاطلاق.
الرابع: ارتفاع اللغوية بقصد الامر بالفرد المزاحم.
ولنا في جميع هذه الأمور كلام ومؤاخذات:
اما الامر الأول: فالكلام الذي لنا فيه ليس في بيان حقيقة التكليف وانها

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 66 - الطبعة الأولى.
372

ما هي فلهذا مجال آخر، وانما الكلام في طريقة استدلاله على ذلك وانتهائه إليه،
فان صدوره منه غريب جدا.
بيان ذلك: ان هناك أمرين وقع كل منهما محل النزاع.
أحدهما: حقيقة التكليف، وانها هل هي جعل الفعل في عهدة المكلف، أو
انها انشاء التحريك والبعث وجعل الداعي.
ثانيهما: حقيقة الانشاء، وانها هل هي ايجاد المعنى باللفظ أو ابراز
الاعتبار النفساني.
ومن الواضح ان النزاع في الثاني يجري على كلا القولين في الأول، فيقع
الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في العهدة في أن الانشاء
هل هو ايجاد المعنى باللفظ أو ابراز الاعتبار النفساني. وهكذا يقع نفس الكلام
بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الداعي.
كما أن النزاع في الأول يجري على كلا القولين في الثاني فيقع النزاع في
حقيقة التكليف وانها ما هي، بناء على كون الانشاء عبارة عن ايجاد المعنى
باللفظ، كما يقع بناء على كون الانشاء عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني، إذ
يقال ان المبرز هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف أو جعل البعث والداعي؟
وبالجملة: كل من الامرين يقع فيه البحث مستقلا عن الآخر، ويجري
فيه النزاع بناء على كلا القولين في الآخر، فلا يكون اختيار أحد القولين في
أحدهما مستلزما لاختيار أحدهما المعين في الآخر، إذ انه يتلاءم مع كليهما في الآخر.
وعليه، فالالتزام بان الانشاء عبارة عن ابراز الاعتبار النفساني لا ينتهي
منه رأسا إلى كون التكليف جعل الفعل في عهدة المكلف.
وكلام السيد الخوئي ظاهر في ذلك بل صريح، فلا وجه له.
واما الامر الثاني: فليس الوجه فيه الا ما ذكره من أن حقيقة التكليف
انما هي جعل الفعل في عهدة المكلف، فتعلقه بغير المقدور لا مانع عنه، ولا
373

يشترط بلحاظ حقيقته ان يتعلق بالحصة المقدورة.
وهذا لا ينفع فيما اراده، وذلك لأنه..
ان أراد أن حقيقة التكليف لا تختلف عن سائر الأحكام الوضعية أصلا،
فجعل الفعل في العهدة الناشئ من التكليف نظير صيرورة الفعل في العهدة
الناشئ من الإجارة، فكما يصح تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور يصح تعلق
التكليف به.
ففيه: ان لازم ذلك صحة تعلق التكليف بغير المقدور رأسا وبنفسه فقط،
إذ من الواضح امكان تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور كالنائم ونحوه. وهذا مما
لا يقول به أحد ولا يلتزم به القائل، إذ لا يلتزم القائل ولا غيره بصحة تكليف
العاجز عن القيام بالصلاة قائما. مع أن الكل يلتزمون بصحة الحكم باشتغال
ذمة من لا يجد عند عروض بعض أسباب اشتغالها.
وان أراد انها تختلف عن سائر الأحكام الوضعية، فليس اختلافها الا من
ناحية الغرض من جعل التكليف، فان الغرض منه ايجاد الداعي نحو الفعل.
فحقيقته: جعل الفعل في العهدة بغرض ايجاد الداعي نحو العمل.
بخلاف سائر الأحكام الوضعية، فليس الغرض منها ذلك. وإذا كان الغرض من
التكليف ذلك امتنع شموله لغير المقدور، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز
للغويته، فالقدرة شرط لنفس التكليف، ولو التزم بان حقيقته جعل الفعل في
العهدة. وليست شرطا لحكم العقل بلزوم الامتثال.
واما حديث رفع اللغوية بتحقق الامتثال وسقوط الامر لو جئ بالعمل
من دون إرادة، لأنه أحد افراد المأمور به.
فيدفعه: ان لغوية العمل انما هي بلحاظ عدم ترتب الأثر المرغوب عليه،
لا بلحاظ عدم ترتب مطلق الأثر. وبما انك عرفت أن الأثر المرغوب من
التكليف انما هو ايجاد الداعي نحو العمل، كان التكليف بغير المقدور ممتنعا، لأنه
374

لغو عدم ترتب الأثر المرغوب عليه.
ثم إن الذي يظهر منه (حفظه الله) - بناء على أن حقيقة التكليف جعل
الداعي وانشاء البعث هو - تسليم ما ذكره المحقق النائيني من أن اشتراط
القدرة في التكليف إذا كان من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز صح تعلق
التكليف بالجامع.
وهذا وإن لم يصرح به، لكنه يستفاد من طي كلماته.
وأنت قد عرفت الاشكال في ذلك، وبيان امتناع سراية الحكم للحصة
غير المقدورة، وان الملاك في منع تعلق التكليف بالحصة غير المقدور رأسا موجود
في سراية التكليف إلى الحصة غير المقدورة. فالتفت.
واما الامر الثالث: ففيه:
أولا: ما عرفت من أن امتناع التقييد إذا كان لاجل امتناع ثبوت الحكم
للمقيد - كما هو الحال فيما نحن فيه - كان الاطلاق ممتنعا لاستلزامه ثبوت الحكم
للمقيد وقد فرض امتناعه. نعم إذا كان امتناع التقييد لاجل امتناع قصر الحكم
على بعض الافراد كان الاطلاق ضروريا، ولكن الامر فيما نحن فيه ليس
كذلك، بل هو من القسم الأول.
وثانيا: ان امتناع التقييد انما يستلزم ضرورة الاطلاق إذا كان الممتنع
تقييد الحكم بأي حصة كانت، اما إذا امتنع تقييد الحكم بخصوص هذه الحصة
لم يجب الاطلاق، إذ هناك شق ثالث غير ممتنع، وهو تقييد الحكم بخصوص
الحصة الأخرى المعاكسة للحصة الممتنعة
وما نحن فيه كذلك: فان الممتنع ثبوت الحكم للحصة غير المقدورة، اما
خصوص الحصة المقدورة فلا يمتنع ثبوت الحكم لها. فامتناع تقييد الحكم بالحصة
غير المقدورة لا يلازم ثبوت الاطلاق، إذ يمكن ثبوت الحكم لخصوص الحصة
المقدورة وهو مما لا محذور فيه.
375

وثالثا: - وهو العمدة - ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يشمل المقدور
وغير المقدور يتنافى مع فرض التزاحم، لان التزاحم يكون لاجل تنافي الحكمين
بحيث لا يمكن اجتماعهما، فيرتفع أحدهما ويبقى الآخر وهو الأهم.
وعليه، ففرض ثبوت التزاحم بين فرد الواجب الموسع والواجب المضيق
وتقديم الواجب المضيق لازمه ارتفاع الامر بالفرد المزاحم وعدم شموله له والا
لعاد التزاحم.
وبالجملة: فرض التزاحم ينافي الالتزام بتعلق الامر بالجامع.
وهذا الايراد لم نعرف الوجه في غفلة الاعلام عنه، فإنه لا يرد على
خصوص السيد الخوئي، بل يرد على المحقق النائيني، لأنه قرر تعلق الامر
بالجامع على تقدير دون آخر. بل يرد على أصل تقريب المحقق النائيني
لكلام الكركي، فإنه تقريب غير علمي.
والذي تحصل: ان القدرة شرط للتكليف بحكم العقل من باب قبح
تكليف العاجز على جميع المسالك.
ونتيجة البحث: ان التقريب الذي ذكره المحقق النائيني لكلام المحقق
الكركي لا يخلو عن خدشة واشكال، فلا يمكن الالتزام به.
واما التقريب الذي ذكره صاحب الكفاية، فقد عرفت وجاهته، لكنه
يبتني على احراز الملاك في الفرد المزاحم، فهو لا ينهض وجها مستقلا لتصحيح
العبادة ما لم ينضم إليه الوجه الآخر الذي يبين فيه طريقة احراز الملاك ومع
احرازه لا حاجة إلى ذلك الوجه الا بناء على توقف العبادة على قصد الامر وعدم
كفاية غيره.
ثم إن كلام المحقق الكركي لو تم، فهو انما ينفع في مورد تزاحم الواجب
الموسع والواجب المضيق، دون مورد تزاحم الواجبين المضيقين كما لا يخفى.
هذا مع أنه لا تزاحم بين الواجب الموسع والواجب المضيق لما سيأتي في
376

مبحث التزاحم من بيان ذلك، فقد ذكر المحقق النائيني وجها لتقديم الواجب
المضيق على الواجب الموسع عند تزاحمهما، وهذا الوجه ينتهي إلى بيان عدم
ثبوت التزاحم بينهما بالمرة وسيجئ تحقيق ذلك أن شاء الله تعالى.
وعليه، فالوجه الذي ذكره المحقق الكركي لا ينفع في تصحيح العبادة
فيما نحن فيه أصلا، لان موضوعه خارج عن باب التزاحم.
ويقع الكلام بعد ذلك في الوجه الثاني والبحث فيه عن طريق احراز
الملاك وقد ذكر لذلك وجهان:
الأول: ما التزم به المحقق النائيني (قدس سره)، وهو التمسك باطلاق
المادة. بتقريب: ان متعلق الامر إذا كان مطلقا كشف ذلك عن ثبوت الملاك في
مطلق الافراد لاعتبار وجود الملاك في متعلق الامر.
وقد استشكل (رحمه الله) في ذلك من وجوه عديدة:
الأول: انه بناء على ما ذهب إليه من أن اشتراط القدرة في متعلق
التكليف، انما هو لاجل اقتضاء نفس الخطاب ذلك، فنفس ورود الامر يكون
موجبا لتقييد متعلق الامر بالقدرة فلا يكون مطلقا لوجود الدليل على التقييد.
الثاني: انه لو أنكر استلزام الامر تقييد متعلقه بالقدرة، فلا أقل من كونه
صالحا للقرينية على التقييد، ومع وجود ما يصلح للقرينية لا يصلح التمسك
باطلاق الكلام بل يكون الكلام مجملا من تلك الناحية.
الثالث: ان استكشاف عدم التقييد والاطلاق من عدم ورود القيد، انما
هو لاجل استلزام التقييد مع عدم بيانه نقض الغرض، لامكان ان يأتي العبد
بغير واجد القيد من الافراد اعتمادا على الاطلاق فيستلزم نقض الغرض من
الامر، إذ لا يتوصل بذلك إلى ما هو الغرض من الامر.
وهذا المعنى غير تام فيما نحن فيه، فان عدم التقييد بالقدرة لفظا مع
تقيده واقعا بها لا يستلزم نقض الغرض، إذ لا يمكن الاتيان بغير المقدور كما هو
377

الفرض، فعدم الدليل على التقيد بالقدرة لا يستكشف منه الاطلاق.
الرابع: ان التمسك بالاطلاق في اثبات واجدية المتعلق للملاك
يتوقف على كون الآمر في مقام بيان ما هو واجد للملاك - فان التمسك بالاطلاق
يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان -. ومن الواضح ان الآمر ليس إلا في
مقام بيان ما يرد عليه الامر، وما هو مطلوب من المكلف، دون ما هو واجد
للملاك، فإنه غير منظور في الكلام كما لا يخفى على كل أحد.
وقد أجاب (قدس سره) عن الوجه الأول: بان التقييد بالقدرة إذا كان
في مرتبة سابقة على تعلق الامر، بحيث ورد الامر على المقيد، كان ذلك كاشفا
عن دخل القدرة في الملاك. واما إذا كان المتعلق في المرتبة السابقة مطلقا غير
مقيد، وانما تقيد بعروض الطلب عليه، فالتقييد نشأ من نفس عروض الطلب،
بحيث ورد الطلب على المطلق وانما تقيد في مرحلة عروضه، لم تكن القدرة دخيلة
في الملاك، لان اطلاق المتعلق في المرحلة السابقة هو الكاشف عن وجود الملاك
في مطلق الافراد، والامر لا يقتضي تقييد متعلقه في المرحلة السابقة عليه. فهو
مطلق غير مقيد.
ومن هنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني: فان الامر كما لا يقتضي تقييد
المتعلق لا يصلح لتقييده.
وأجاب عن الوجه الثالث: بان استكشاف الاطلاق من عدم ذكر القيد
ليس من جهة استلزام التقييد بدون ذكر القيد نقض الغرض، بل من جهة لزوم
الخلف، فان المتكلم إذا كان في مقام البيان فلا بد ان يبين التقييد لو كان مراده
واقعا، والا لزم خلف فرض كونه في مقام البيان، وهو يتنافى مع كون المتكلم
حكيما.
وفي هذا لا يختلف الحال بين ما نحن فيه وغيره. وهذا المعنى هو المقصود
من التعبير بتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت. فتدبر.
378

وأجاب عن الوجه الرابع بما نصه: " قلت: التمسك بالاطلاق تارة: يكون
لاجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام، ومن المعلوم أنه يتوقف على احراز
كونه في مقام البيان، والا لما كان الاطلاق كاشفا عن تعلق ارادته بالمطلق.
وأخرى: يكون لاجل كشف المعلول عن علته بطريق الآن، وهذا لا يتوقف على
كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه. وما نحن فيه من هذا
القبيل، فانا إذا فرضنا ان ما يرد عليه طلب المتكلم في ظاهر كلامه هو مطلق
الفعل دون المقدور منه، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب لا بد أن يكون ذا
ملاك ومصلحة على مذهب العدلية، فيكشف ذلك عن أن الواجد للملاك هو
مطلق الفعل، دون المقدور منه، وهذا الكشف قهري لا يدور مدار كون المولى
في مقام بيانه وعدمه... " (1).
أقول: ما ذكره أولا في ابتداء كلامه من أن التمسك بالاطلاق تارة يكون
لاجل الكشف عن مراد المتكلم عن مراد المتكلم من كلامه. وأخرى يكون من باب كشف
المعلول عن علته. والأول هو الذي يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان دون
الثاني، فإنه يصح التمسك به وان كان المتكلم غافلا، فان الذي يقول: " وجدت
الحرارة " يدل كلامه على وجود النار، سواء كان ملتفتا أو غافلا من باب الانتقال
من المعلول إلى العلة.
ما ذكره من ذلك وجيه كبرويا، لكن تطبيقه على ما نحن فيه لم يؤد في
الكلام كما ينبغي، بل كان بيانه بنحو مجمل لا يفي بالمطلوب.
إذ يرد عليه: ان المقصود..
ان كان هو التمسك باطلاق الكلام في اثبات ان المتعلق في المرحلة
السابقة على الامر هو مطلق الفعل، وينتقل من ذلك إلى وجود الملاك في مطلق

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 269 - الطبعة الأولى.
379

الفعل للملازمة، فيكون ذلك من باب كشف المعلول عن العلة، لا ما توهم في
الاشكال من التمسك بالاطلاق في اثبات وجود الملاك في المطلق رأسا. ان كان
المقصود ذلك كما هو ظاهر تقريرات الكاظمي، فيرد عليه: ان اثبات اطلاق
المتعلق في المرحلة السابقة على الامر يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان،
وهو ليس كذلك، إذ ما أثر بيان المتعلق في المرتبة السابقة مع قطع النظر عن
الملاك، كي يكون المتكلم في مقام بيانه، فهو أبعد من كون المتكلم في مقام بيان
ما هو واجد للملاك.
وان كان المقصود هو التمسك باطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال، وانه
لم يرد عليه قيد في ظاهر التعبير. ففيه: ان اطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال لا
يلازم وجود الملاك في المطلق ما لم يحرز ان المراد الواقعي هو مطلق، ولا طريق
إلى احرازه الا مقدمات الحكمة. فيعود الاشكال.
وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام، بحيث يكون له صورة
علمية ويخرج عن بداهة البطلان هو: ان واقع الامر ليس إلا بالخطاب المتكفل
لانشائه، وليس له واقع يكون الكلام حكاية عنه، وانما واقعه وواقع متعلقه ليس إلا
نفس الانشاء والكلام، وحيث إن المتعلق في الكلام خال عن القيد فهو
مطلق، فيكشف ذلك عن توفر الملاك فيه من دون تقييد، فليس هو من باب
التمسك بالاطلاق، بل نفس عدم التقييد لفظا يكشف عن ذلك، لان المتعلق
مطلق لفظا والمفروض ان واقعه هو اللفظ والانشاء.
وهذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشات، لكن لا مجال لذكرها، والعمدة في
المناقشة هو: ان الدليل الدال على تبعية الاحكام للمصالح من اجماع أو عدم
اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفر الملاك في ما انبسط عليه الامر وبعث
نحوه، وان كان قد تعلق في ظاهر الخطاب بالمطلق، ولا ملازمة بين وجود الملاك
واخذ الشئ في متعلق الامر خطابا، والمفروض فيما نحن فيه أن الامر وان كان
380

يرد على المطلق لا على المقيد ولكن انما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصة
المقدورة دون الأعم. فتدبر جيدا.
الثاني: التمسك بالدلالة الالتزامية. ببيان: ان الكلام إذا كان له دلالتان
دلالة مطابقية ودلالة التزامية وسقطت الدلالة المطابقية عن الحجية كانت
الدلالة الالتزامية حجة في مدلولها، لان الدلالة الالتزامية انما تتبع الدلالة
المطابقية في الوجود والتحقق، فلا يمكن حصولها بدون الدلالة المطابقية، ولا
تتبعها في الحجية فيمكن التفكيك بينهما في مقام الحجية.
وهذا المعنى فرضه البعض من الواضحات التي لا تحتاج إلى مزيد برهان،
ولأجل ذلك أطلق الشيخ (رحمه الله) في مبحث تعارض الخبرين ان نفي الثالث
يكون بهما (1). من دون ان يستدل عليه فكأنه من الواضحات.
والوجه فيه هو: ان بناء العقلاء انعقد على حجية الظهور، فكل ظاهر
حجة، فإذا كان الكلام له ظهوران وانتفت حجية أحدهما بقي الآخر مشمولا
لدليل الحجية، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الالتزامية
عنها، لان الكلام ظاهر في المدلول الالتزامي، والظاهر حجة ببناء العرف
والعقلاء.
وإذا تم ذلك نقول: ان الدليل الدال بالمطابقة على ثبوت الامر وتعلقه
بشئ يدل بالالتزام على ثبوت الملاك فيه، لعدم ثبوت الامر بدون ملاك، فإذا
علمنا بعدم تعلق الامر فيه في مورد المزاحمة انتفت حجية الدلالة المطابقية للعلم
بخلافها، ولكن الدلالة الالتزامية تبقى على الحجية لتوفر ملاك الحجية فيها من
دون رافع، والمفروض انها لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية.
هذا محصل ما يقال في تقريب الوجه الثاني، وقد تبين ان أساسه هو

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 441 و 453 - الطبعة الأولى.
381

الالتزام بامكان انفكاك الدلالة الالتزامية عن الدلالة المطابقية في الحجية وهذه
المسالة وقعت محل الكلام ولم تتفق فيها كلمات الاعلام.
وممن لم يلتزم بامكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية، والتزم بتبعية
الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الوجود والحجية، السيد الخوئي (حفظه
الله).
وأورد على الالتزام بالتفكيك بايرادين: أحدهما نقضي، والآخر حلي.
اما النقض: فبموارد لا يلتزم فيها بالمدلول الالتزامي مع سقوط الدلالة
المطابقية عن الحجية، وقد ذكرها أربعة:
الأول: ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول وعلمنا من الخارج
بكذب البينة وعدم الملاقاة، ولكن احتملنا تنجس الثوب من جهة أخرى
لملاقاته للدم، فإنه لا يلتزم أحد بنجاسة الثوب في الفرض أخذا بالمدلول
الالتزامي للبينة - وهو النجاسة، لان الاخبار عن الملاقاة للبول اخبار عن
نجاسته لملازمتها للملاقاة -، إذ الساقط عن الحجية ليس إلا الدلالة المطابقية،
وهي الدلالة على الملاقاة للبول، والمفروض هو امكان التفكيك بين الدلالتين في
مقام الحجية.
الثاني: ما إذا كانت الدار - مثلا - في يد زيد وقامت بينة على أنها لعمرو
وأخرى على أنها لبكر، فتساقطت البينتان في المدلول المطابقي للمعارضة، فإنه
لا يلتزم أحد بمدلولهما الالتزامي الذي تشتركان فيه وهو عدم كون الدار لزيد
بحيث يجري على هذه الدار حكم مجهول المالك.
الثالث: ما إذا شهد واحد على أن هذه الدار - التي في يد زيد - لعمرو
واخر على انها لبكر، فإنه لا تكفي شهادة الواحد في اثبات المدعى، لكنهما
يشكلان بينة على المدلول الالتزامي وهو عدم الدار لزيد، ولكن لا يلتزم
أحد بنزع الدار من زيد واجراء مجهول المالك.
382

الرابع: إذا كانت دار في يد عمرو وقامت بينة على انها لزيد، وأقر زيد
بأنها ليست له، فان البينة تسقط في مدلولها المطابقي لمعارضته للاقرار وهو مقدم
عليها، ولا يلتزم أحد بمدلولها الالتزامي وهو عدم الدار لعمرو مع أنه لا
يعارض الاقرار.
واما الحل: فبتقريبين:
أحدهما: ان الدلالة الالتزامية ترتكز على أمرين: الأول: ثبوت الملزوم،
والثاني: ثبوت الملازمة بينه وبين اللازم، فمع انتفاء أحدهما تنتفي الدلالة
الالتزامية، وعليه فمع عدم ثبوت المدلول المطابقي الذي هو عبارة أخرى عن
عدم ثبوت الملزوم، تنتفي الدلالة الالتزامية، ولا يختلف الحال في ذلك بين مرحلة
الحدوث والبقاء.
ثانيهما: ان ظهور الكلام في المدلول الالتزامي ليس بنحو الاطلاق، وانما هو
الحصة الخاصة الملازمة للمدلول المطابقي، فالاخبار عن ملاقاة الثوب للبول
اخبار عن نجاسته البولية لا مطلق النجاسة. وعليه فمع العلم بانتفاء المدلول
المطابقي يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي وهو الحصة الخاصة، واما احتمال ثبوت
غير الحصة الخاصة فهو مما لا دليل عليه، لأنه خارج عن المدلول الالتزامي، فلا
يكون حجة فيه بارتفاع الدلالة المطابقية لأنه ليس بمدلوله (1).
والتحقيق ان يقال: ان دلالة الكلام على المدلول الالتزامي تارة: تكون
عقلية تنشأ من كون ثبوت الملازمة بمقدمات عقلية برهانية، لا تصل إليها
أذهان العامة والعرف. وأخرى: تكون عرفية بمعنى أن يكون للكلام ظهور
عرفي في المدلول الالتزامي، كما إذا كانت الملازمة عرفية واضحة لدى العرف.
والدلالة الالتزامية العرفية على صور: لان المدلول الالتزامي..

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 74 - الطبعة الأولى.
383

تارة: يكون حكما والمدلول المطابقي موضوع الحكم، فالملازمة بينهما
جعلية تعبدية لا عقلية ولا شرعية.
وأخرى: يكون المدلول الالتزامي معلولا والمطابقي علة.
وثالثة: بالعكس، فيكون المدلول الالتزامي علة والمطابقي معلولا.
ورابعة: يكون المدلولان متلازمين من دون أن يكون بينهما علية ومعلولية.
كدلالة ما يدل على وجود زيد في الغرفة على عدم وجوده في صحن الدار.
ولا يخفى ان محل الكلام هو الدلالة الالتزامية العرفية لا العقلية، لان
العقلية وان عبر عنها بالدلالة الا انها خارجة حقيقة عن باب دلالات الألفاظ
الناشئة من الظهور. فليس للكلام ظهور في اللازم العقلي، وانما يحصل العلم به
من العلم بثبوت الملزوم حقيقة أو تعبدا. والكلام انما يقال أنه دال على اللازم
العقلي باعتبار دلالته على ثبوت الملزوم فيثبت اللازم بحكم العقل للملازمة، لا
ان نفس الكلام دال عليه وظاهر فيه. بل لا ظهور للكلام الا في المدلول
المطابقي.
ومن هنا يظهر وجه خروج هذه الدلالة عن موضوع النزاع، لان
موضوع النزاع هو حجية الدلالة الالتزامية وظهور الكلام في المدلول الالتزامي،
بعد سقوط حجية ظهوره في المدلول المطابقي، وقد تبين أن لا ظهور للكلام في
اللازم العقلي فلا دلالة التزامية كي يبحث عن حجيتها وعدمها.
هذا مع أن الدلالة العقلية والحكم العقلي بثبوت اللازم انما يكون مع
احراز ثبوت الملزوم - كما عرفت -، فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي أو
التشكيك في ثبوته لا تكون هناك دلالة عقلية ولا يثبت الحكم العقلي بثبوت
اللازم.
فيتضح بذلك كون موضوع الكلام هو خصوص الدلالة العرفية، وهي
بجميع أقسامها غير داخلة في موضوع الكلام، فان الصورة الأولى والثانية
384

خارجتان عنه.
اما الأولى: فلان الحكم لا جعل له مستقل بنفسه، بل هو مرتبط
بموضوعه، فالمجعول هو الحكم على هذا الموضوع الخاص، فمع العلم بانتفاء
الموضوع يعلم بانتفاء الحكم، كما أنه مع الشك في ثبوت الموضوع وعدم احرازه
ولو تعبدا لا يمكن التعبد بالحكم لعدم امكان جعل الحكم بدون موضوع، فكما
يشك في ثبوت الموضوع يشك في ثبوت الحكم، فنفس ما يقتضي سقوط الدلالة
المطابقية عن الحجية وعدم ثبوت المدلول المطابقي يقتضي سقوط الدلالة
الالتزامية عن الحجية لارتباط المدلول الالتزامي بالمدلول المطابقي في الثبوت.
واما الثانية: فلامكان دعوى أن الاخبار عن العلة إخبار عن الحصة
الخاصة من المعلول، لتحصص المعلول من جهة العلة، فالاحراق من النار غير
الاحراق من غيرها، فالمدلول الالتزامي هو الحصة الخاصة، فمع العلم بعدم العلة
يعلم بعدم المعلول الخاص، فانتفاء المدلول المطابقي يلازم انتفاء المدلول
الالتزامي.
واما الصورة الثالثة والرابعة: فهما موضوع البحث، إذ الاخبار عن
المعلول لا يكون إخبارا عن حصة خاصة من العلة، بل عن العلة بقول مطلق
لعدم تحصص العلة من جهة المعلول، فان النار المحرقة وغيرها واحدة، ولا يختلف
الحال فيها بين صورتي الاحراق وغيرها، فلا يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي عند
العلم بانتفاء المدلول المطابقي، فيبحث في حجية الدلالة الالتزامية في مدلولها
وهكذا الاخبار بالملازم يكون اخبارا عن الملازم بقول مطلق، لأنه لا يتحصص
بوجود ملازمه، كالاخبار عن الوجوب فإنه إخبار بالملازمة عن عدم الإباحة.
ثم إن محل الكلام في هاتين الصورتين صورة عدم احراز ثبوت المدلول
المطابقي وجدانا أو تعبدا، فمع احراز عدم ثبوته واقعا وجدانا أو تعبدا فهي
خارجة عن محل الكلام.
385

والوجه في ذلك هو: ان ثبوت المدلول الالتزامي عند انتفاء المدلول
المطابقي واقعا انما هو باطلاق الدلالة الالتزامية ودلالتها على ثبوت اللازم
مطلقا، سواء وجد المدلول المطابقي أو لم يوجد، والاطلاق ههنا غير ثابت، لان
الدلالة الالتزامية ليست مما يساق لها الكلام، فليس المتكلم في مقام البيان من
جهتها. مع أنه لا يعقل ثبوت الدلالة بقول مطلق لتفرع الدلالة الالتزامية عن
المطابقية. فلا يعقل أن يكون المدلول الالتزامي هو اللازم سواء وجد الملزوم أو
لم يوجد. فالقدر المتيقن من الدلالة الالتزامية هو ثبوت المدلول الالتزامي عند
وجود المطابقي.
إذا عرفت ذلك تعرف الاشكال فيما ذكره السيد الخوئي نقضا وحلا.
اما النقض: فبعض موارده مختص بصورة العلم، كمثال إخبار البينة
بملاقاة الثوب للبول، وقد عرفت خروجه عن محل الكلام.
هذا مع أن المورد من موارد العلم بخطاء المستند في الاخبار، لان المستند
في الاخبار عن المدلول الالتزامي هو العلم بالملاقاة للبول، والمفروض العلم
بعدمه، والعلم بخطاء مستند الاخبار يوجب سقوطه عن الحجية ولو بالنسبة إلى
الدلالة المطابقية. فلو أخبر عن الهلال وعلمنا ان منشأ خبره هو رويته لخيط
في السماء تخيل انه هلال مع احتمال وجود الهلال لم يكن خبره حجة، فسقوط
الدلالة الالتزامية ههنا لا لاجل تبعيتها للدلالة المطابقية بل لاجل العلم بكذب
المستند.
والبعض الاخر كالمورد الثاني لا مانع من الالتزام به وليس فيه مخالفة
لضرورة الفقه، بل هناك من يلتزم بها من دون تردد (1).
هذا مع أن مثال الاخبار عن الملاقاة والنجاسة خارج عن محل الكلام

(1) كالمحقق العراقي (قدس سره) هكذا أفاد سيدنا الأستاذ (دام ظله). (منه عفي عنه).
386

لوجهين آخرين:
الأول: ان الاخبار عن النجاسة ليس من سنخ الدلالة الالتزامية،
والشاهد عليه ثبوت النجاسة لو كان ما يتكفل اثبات الموضوع هو الأصل، مع أن
الأصل لا دلالة له التزامية كما قرر في محله. فتأمل.
الثاني: ان المورد من موارد ما كان المدلول المطابقي موضوعا والمدلول
الالتزامي حكما، وقد عرفت خروجه عن محل البحث، لان الاخبار عن
الموضوع اخبار عن حصة خاصة من الحكم، لان النجاسة - مثلا - لم تجعل بقول
مطلق بل جعلت للملاقي، فالمخبر به التزاما نجاسة الملاقي، فإذا علم بعدم
الملاقاة للبول فقد علم بعدم نجاسة الملاقي، فانتفى المدلول الالتزامي للعلم
بخلافه.
واما الحل: فالوجه الثاني يخدش بوجهين:
أحدهما: أن يكون الاخبار عن الملزوم اخبارا عن حصة خاصة من اللازم
- على تقدير تسليمه -، قد عرفت اختصاصه ببعض الموارد دون بعض.
الثاني: انه ما المانع من دعوى حجية الدلالة الالتزامية في ذات الحصة
الخاصة على تقدير التشكيك في ثبوت المدلول المطابقي لا ثبوت عدمه واحراز
انتفاعه، كي يقال باستلزامه ثبوت عدم المدلول الالتزامي؟.
والوجه الأول انما يتم في الدلالة العقلية، لان الحكم بثبوت اللازم لا
يكون الا بعد العلم بثبوت الملزوم، وقد عرفت خروجها، اما الدلالة العرفية فلا
تتوقف على ثبوت الملزوم، بل منشأ تحققها دلالة الكلام على ثبوت الملزوم، وهي
متحققة، إذ الدلالة المطابقية انما تسقط عن الحجية لا عن الثبوت. ويشهد لما
ذكرنا أن الدلالة الالتزامية تثبت للكلام مع العلم بانتفاء الملزوم وعدم إرادة
المدلول المطابقي جدا، كما في الاستعمالات الكنائية. فتدبر.
فالذي ينبغي ان يقال في نفي حجية الدلالة الالتزامية عند انتفاء حجية
387

الدلالة المطابقية هو: ان الدلالة الالتزامية وان كانت من مصاديق الظهور -
الذي هو ملاك حجيتها -، الا ان حجية الظهور انما هي بعمل العقلاء وبنائهم
على التمسك به وتقرير الشارع لهم، فالطريق إلى احراز حجية الظهور في
المدلول الالتزامي شرعا بعد سقوط الدلالة المطابقية، ليس إلا بناء العقلاء، وهو
لم يثبت على ذلك لعدم توفر شاهد عرفي لدينا، والتشكيك يكفي في نفيه لأنه
دليل لبي لا لفظي كي يتمسك باطلاقه، إذ لم يرد في لسان دليل: " ان الظاهر
حجة "، والدليل اللبي يقتصر فيه على القدر المتيقن. فعدم حجية الدلالة
الالتزامية لعدم الدليل لا لما ذكر.
هذا ولكن الانصاف ان بناء العقلاء قائم على الاخذ بالمدلول الالتزامي
ولو لم يكن المدلول المطابقي حجة، لعدم تعلق أثر عملي به أو نحوه كما يشهد
لذلك ملاحظة سيرتهم في الاقرارات والدعاوي. فتدبر.
هذا ولكن لو سلم ان الدلالة الالتزامية حجة، فهو لا ينفع في محل الكلام
واثبات الملاك بالدلالة الالتزامية لوجهين:
الأول: ان المورد من موارد العلم بانتفاء المدلول المطابقي - الذي هو
المستند للاخبار عن الملاك - للعلم بعدم الامر عند المزاحمة.
الثاني: ان الدلالة ههنا عقلية لا عرفية، لان ملازمة الامر لثبوت الملاك
في متعلقه ليس مما يستوضحه العرف ويدركه، كيف؟ وقد أنكره قسم كبير،
فاكتفوا بوجود الملاك في نفس الحكم دون متعلقه، بل أنكر البعض ضرورة نشوء
الحكم عن مصلحة فيه أو في متعلقه كالأشاعرة.
وقد عرفت خروج كلتا الصورتين عن مبحث حجية الدلالة الالتزامية،
ونتيجة ما تقدم: انه لا دليل على ثبوت الملاك في متعلق الحكم عند ارتفاع
الحكم.
وعلى هذا لم يثبت لدينا فعلا ما يصحح الضد العبادي، لان ما ذكره
388

المحقق الثاني قد عرفت الاشكال فيه، مع أنه يتوقف على احراز الملاك في الفرد
المزاحم، وقد عرفت أنه لا طريق إليه، ودعوى العلم بثبوته فيه وعدم الفرق بينه
وبين سائر الافراد جزافية، لاحتمال أن يكون ارتفاع الحكم لارتفاع المقتضي
بالمزاحمة لا لوجود المانع فقط.
فيقع الكلام في الوجه الثالث المذكور لتصحيح العبادة وهو: الالتزام
بتعلق الامر بها بنحو الترتب. فالكلام فعلا في..
الترتب
ومسالة الترتب ليست من مسائل الأصول العريقة في القدم، بل لم يرد
لها في كتب القدماء ذكر ولا أثر، والمعروف ان أول من انتبه للترتب هو المرحوم
صاحب كشف الغطاء، ولكن جاء في أجود التقريرات نسبة الالتزام به إلى
المحقق الكركي الذي هو أسبق من كاشف الغطاء زمانا (1).
وعلى أي تقدير، فمهمة الترتب هو تصحيح الامر بالضدين المتزاحمين
بنحو يكون كلا الامرين في زمان واحد من دون محذور عليه. وقد اختلف
الاعلام فيه نفيا واثباتا وكثر النقض والابرام فيه، والذي أسس أركانه هو السيد
المجدد الشيرازي (قدس سره). والذي نقح البحث فيه ورتبه من المتأخرين هو
المحقق النائيني (قدس سره).
وقد قدم السيد الخوئي (حفظه الله) على أصل البحث في اثبات الترتب
ونفيه بعض التنبيهات المتعلقة به.
ولكنه يتنافى مع أصول فن ترتيب المباحث، فلا معنى للبحث عن أن
الترتب هل يجري في هذا المورد أو لا؟ قبل البحث عن نفس الترتب ومعرفة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 286 - الطبعة الأولى.
389

حقيقته، فالأولى تأخيرها عن أصل المبحث وأساسه.
وكيف كان، فدعوى الترتب بنحو الاجمال تمهيدا للدخول فيه هي: ان
الضد المهم يكون متعلقا للامر بشرط عصيان الامر بالأهم أو ترك الأهم، بحيث
يجتمعان في زمان واحد.
وقد سلك للاستدلال لصحته مسلكان: أحدهما عرفي والاخر برهاني.
اما الوجه العرفي فتقريبه: ان ثبوت الترتب ووقوعه في الأوامر العرفية
والشرعية مما لا اشكال فيه، فنرى ان الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة، ثم
يقول له إذا لم تذهب إلى المدرسة فابق في البيت، فالامر بالبقاء في البيت
مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الامر به.
ومن المعلوم أنه لا يرى بذلك أي محذور واستحالة. هذا في العرفيات.
واما في الشرعيات، فكما لو وجب على المكلف قصد الإقامة في البلد
الذي سافر إليه، فإنه يجب عليه الافطار والقصر لو لم يقصد الإقامة، فالامر
بالافطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلق الامر بها فعلا، فالأمران يجتمعان
في زمان واحد.
وإذا ثبت وقوع الترتب فهو خير دليل على الامكان وعدم الاستحالة.
والتحقيق: ان هذا المثال العرفي ونحوه وان كان ظاهرا في وقوع الترتب،
الا انه لو فرض قيام الدليل الجزمي على استحالة الترتب وامتناع وقوعه فلا بد من
صرف هذه الموارد عن ظاهرها، بدعوى أن الامر بالبقاء في البيت في المثال
المزبور يرجع في الحقيقة إلى النهي عن الكون خارج الدار والمدرسة، أو أنه يرجع
إلى الارشاد إلى وجود المصلحة في البقاء فيكون امرا ارشاديا، أو انه ثابت بعد
سقوط الامر بالذهاب إلى المدرسة لفوات وقته، فالأمثلة العرفية لا تصلح دليلا
في قبال برهان الاستحالة.
واما المثال الشرعي المذكور والذي فرع عليه فروعا متعددة جعلها
390

شاهدا على الترتب، فهو أجنبي عما نحن فيه وبعيد عنه، فان ما نحن فيه ما
يكون بين متعلق الامرين تضاد في أنفسهما بحيث لا يمكن اجتماعهما معا كانقاذ
غريقين وليس قصد الإقامة والافطار من هذا القبيل، فإنه لا تضاد بينهما في
أنفسهما إذ يمكن الجمع بينهما، وانما لم يمكن الجمع بينهما خارجا لاجل النهي عن
الصوم بدون قصد الإقامة، فالتضاد بينهما عارضي ناشئ من نحو جعل
حكميهما وعدم جعل حكم أحدهما في مورد الآخر، فالمثال المزبور لا يرتبط بما
نحن فيه فلا يصلح شاهدا على وقوع الترتب.
واما المسلك البرهاني: فقد عرفت أن المحقق النائيني هو أفضل من نقح
الاستدلال عليه.
وقد الف استدلاله من مقدمات:
المقدمة الأولى: أوضح فيها أمرين:
الامر الأول: ان منشأ التزاحم والتنافي بين الحكمين هو الذي لا بد من
ارتفاعه دون غيره لعدم الموجب لارتفاع غيره، والسقوط بدون موجب محال،
وعليه فإن كان منشأ التزاحم هو اطلاق كل من الخطابين فيرتفع بتقييد اطلاق
المهم، لارتفاع منشئه. واما إذا كان منشأ التزاحم هو نفس فعلية الخطابين فاللازم
سقوط أصل الخطاب بالمهم لا إطلاقه.
ثم عقب هذا الامر بالتعرض إلى ما جاء من الشيخ الملتزم باستحالة
الترتب وسقوط أصل الخطاب بالمهم - ما جاء منه - من الالتزام في مورد تعارض
الخبرين بناء على السببية بتقييد وجوب العمل بكل منهما بترك العمل بالآخر،
بدعوى أن المحذور ناشئ من اطلاق وجوب العمل بكل منهما فيرتفع برفع
منشئه وهو يكون بالتقييد، وهذا يرجع إلى كون خطاب كل منهما مترتبا على ترك
العمل بالآخر.
واستشكل فيه بما نصه: " وليت شعري إذا كان الالتزام بالترتب من طرف
391

واحد ممتنعا كما فيما نحن فيه، فهل ضم ترتب آخر والالتزام بترتبين يوجب
ارتفاع المحذور؟ " (1).
أقول: لا يخفى ان ما ذكره أولا من الترديد في منشأ التزاحم واثر كل من
طرفي الترديد، ليس دخيلا في تصحيح الترتب، وانما هو بيان لموضوع النزاع
ونقطة الخلاف ومنشئه، فإيراده في مقدمات تصحيح الترتب الظاهر في دخله في
معرفة امكانه ليس بجيد.
واما ايراده على الشيخ (قدس سره) بما عرفت، فيمكن دفعه بما أشار
إليه في الكفاية من الاشكال في الترتب: بان التكليف بالمهم وان كان مشروطا
بعصيان الأهم فلا يطارد الامر بالأهم، الا ان الامر بالأهم مطلق فهو يطارد
الامر بالمهم (2).
ومن الواضح ان هذا الاشكال يرتفع بتقييد كل من الامرين بعصيان
الآخر.
وعليه، فالتزام الشيخ باستحالة الترتب من جانب واحد لا يلازم الالتزام
باستحالته من جانبين، إذ يمكن أن يكون وجه استشكاله في صحة الترتب من
جانب واحد ما ذكره صاحب الكفاية الذي عرفت أنه لا يتأتى في مورد كون
الترتب من الجانبين. فتدبر.
الامر الثاني: ان المحذور من تعلق الامر بكلا الضدين الذي يحاول
تصحيحه بوجه من الوجوه بالترتب، ليس إلا طلب الجمع بين الضدين، وهو
ليس بمقدور، ولا يخفى ان هذا المعنى يرتفع بالترتب، لان التكليف بالمهم يكون
في طول التكليف بالأهم لا في عرضه، ويشهد له انه لو فرض امكان الجمع بين

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 287 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 134 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
392

متعلقي الخطابين المترتب أحدهما على ترك متعلق الآخر لم يقعا على صفة
المطلوبية، فإنه يكشف عن أن المطلوب ليس الجمع بين الضدين والا لوقع كل
من الفعلين على صفة المطلوبية. مثال ذلك: إذا أوجب الكون في المسجد وأوجب
قراءة القرآن عند ترك الكون في المسجد، فإنه إذا دخل المسجد وقرا القران لا
تقع القراءة على صفة المطلوبية، فإنه يكشف ان نفس الترتب يمنع من تحقق
طلب الجمع بين الضدين المحال (1).
أقول: ان هذا الامر كسابقة ليس من مقدمات تصحيح الترتب، وانما هو
وجه مستقل تام اجمالي لتصحيح الترتب، لأنه يتكفل بيان ارتفاع محذور طلب
الضدين بالترتب، وهذا مصحح له بنفسه من دون احتياج إلى ضم مقدمات
أخرى.
هذا مع أن كلامه في نفسه لا يخلو عن مناقشة، فان ما ذكره من أن
المحذور في تعلق الامر بكل من الضدين هو كونه طلبا للجمع بين الضدين، وهذا
المحذور يرتفع بالترتب. ليس بوجيه، بيان ذلك: انه سيأتي ان شاء الله تعالى في
مبحث المطلق والمقيد البحث في أن الاطلاق هل هو عبارة عن الجمع بين القيود
أو هو عبارة عن رفض القيد؟، فهل اطلاق: " العالم " في دليل: " أكرم العالم " معناه
دخالة كل ما يتصور قيديته للطبيعة في الحكم، فالعدالة دخيلة والفسق دخيل
والبياض دخيل والسواد كذلك وهكذا، أو معناه عدم دخالة أي قيد من القيود،
ولم يؤخذ في الموضوع سوى ذات الطبيعة؟. والذي يقتضيه النظر هو الثاني،
وعليه فاطلاق الامر بكل من الضدين يرجع إلى الامر بالضد سواء وجد الضد
الآخر أو لم يوجد، فالمطلوب ليس إلا نفس الضد دون الجمع بينهما.
نعم، لو كان الاطلاق معناه الجمع بين القيود، كان مقتضى اطلاق الامر

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 286 - الطبعة الأولى.
393

بكل من الضدين. إرادة كل من الضدين مع الآخر (1)، إذ وجود الضد الآخر
دخيل في الموضوع فالمطلوب هو الضد مع وجود ضده. ولكن عرفت أن التحقيق
خلافه.
وبالجملة: ليس المطلوب ومتعلق الامر الا ذات الضد، وليس هناك امر
آخر متعلق بكلا الضدين.
نعم طلب الجمع بين الضدين ينتزع من طلب كل منهما لا على أن يكون
هناك طلب حقيقي بالجمع.
وقد يقال: ان غرض القائل ليس وجود طلب متعلق بالجمع بين الضدين،
وانما غرضه تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين لا عنوانه، وهو مستحيل، وقد
نبه المحقق النائيني (قدس سره) على إرادة ذلك في بعض كلماته.
ولكن يرد عليه - بعد توجيهه بان مقتضى الاطلاق ثبوت طلب كل من
الضدين ولو في حال الاشتغال بالضد الآخر، ففي هذه الحال يتحقق واقع طلب
الجمع بين الضدين -: بان هذا المحذور لا يرتفع بالالتزام بالترتب، وذلك لأنه في
حال الاشتغال بفعل الضد المهم اما ان يلتزم بعدم الامر بالأهم، وهو خلف
المفروض، إذ المفروض اجتماع الامرين في زمان واحد. واما ان يلتزم بثبوت
الامر بالأهم كما هو المفروض، فيلزم تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين، فتدبر
جيدا.
واما ما ذكره شاهدا على كون الترتب مانعا من طلب الجمع بين الضدين،
وهو ما لو أتى بكلا المتعلقين لو فرض امكان اجتماعهما، فهو لا يصلح لما اراده.
فإنه انما يصلح لو فرض فعلية كلا الحكمين ومع هذا لا يكون متعلقهما واقعين

(1) ليس ذلك من طلب الجمع، بل من طلب أحد الضدين عند وجود الآخر، لا ان الطلب متوجه لهما معا،
فالفرق ليس إلا في أن وجود الآخر على هذا الاحتمال دخيل في الملاك دون احتمال رفض القيود. والا
فالامر في فرض وجود الآخر ثابت على كلا القولين. فالتفت. (منه عفي عنه).
394

على صفة المطلوبية، فإنه يكشف عن عدم طلب الجمع بين الضدين، وليس الامر
كذلك، لأنه مع الاتيان بالأهم يرتفع الامر بالمهم لفقدان شرطه وهو ترك الأهم،
فعدم وقوع المهم على صفة المطلوبية لاجل عدم الامر، وهذا أجنبي عما نحن
فيه. فلاحظ.
المقدمة الثانية: ان الواجب المشروط لا ينقلب مطلقا عند حصول
شرطه، بل يبقى كما كان قبل حصوله مشروطا به.
والوجه فيه: ان كل شرط يقيد به الحكم يرجع إلى الموضوع ويكون قيدا
لموضوع الحكم فيلزم أخذه مفروض الوجود حين التكليف، بمعنى ان التكليف
يرد عليها بعد تحققها خارجا. فكل شرط موضوع كما أن كل موضوع شرط.
ومن المعلوم ان كل موضوع لا ينسلخ عن موضوعيته عند وجوده، فلا يكون
الحكم بدون موضوع. فدعوى انقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول
شرطه تساوق دعوى خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجا.
ثم أخذ (قدس سره) في بيان منشأ التوهم المزبور، وانه ناشئ عن
الخلط بين ما هو موضوع الحكم وما هو داعي الجعل، بتخيل رجوع الشرط إلى
كونه داعيا للجعل، فلا يتقيد به الجعل ولا المجعول بعد وجوده، بل يكون الحكم
مطلقا وان تخلف الداعي خارجا. فان الحكم يرد باكرام زيد بداعي تشجيعه على
الاشتغال والتحصيل، فلا يتقيد الحكم بالداعي، ولذا يثبت الحكم وإن لم يحصل
التشجيع على الاشتغال.
وذكر (قدس سره) ان هذا التخيل فاسد، إذ رجوع الشرط إلى كونه
داعيا للجعل يستلزم كون الانشاءات المقيدة ببعض الشروط من قبيل الاخبار.
بيان ذلك: ان الشرط إذا كان داعيا للجعل، فمعناه ارتباط الجعل به فلا يتحقق
الجعل الا بعد حصوله لأنه هو الذي يدعو إليه.
وعليه، فمرجع الانشاء المقيد بالشرط إلى الاخبار عن تحقق الجعل لكل
395

مكلف عند تحقق الشرط. وهذا باطل ضرورة.
وبالجملة: ان الشرط قيد الموضوع وليس من دواعي الجعل، والتعبير عنه
بالشرط تارة وبالسبب أخرى ليس إلا اصطلاح صرف يختلف البناء عليه
باختلاف موارده. والا فهما حقيقة من قيود الموضوع. وعليه فلا ينقلب الواجب
المشروط مطلقا عند حصول شرطه، ويترتب على هذا بقاء اشتراط الامر بالمهم
عند حصول شرطه وهو عصيان الامر بالأهم. فارتباط هذه المقدمة بتصحيح
الترتب هو انه التزم بانقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه لزم
أن يكون الامر بالمهم عند عصيان الامر بالأهم مطلقا فيكون في عرضه فيعود
التمانع. بخلاف ما لو التزم بأنه يبقى مقيدا ولا ينقلب عن اشتراطه فإنه يكون
في طوله فلا تمانع.
هذا خلاصة المقدمة الثانية بتوضيح منا (1).
وقد أورد عليها إيرادات متعددة رأينا اهمالها أولى، لعدم ارتباطها بما هو
المهم في المقام.
والذي ينبغي ان نوقع البحث فيه حول هذه المقدمة هو: تفهم المقصود
بما جعل موضوع الخلاف في هذه المقدمة، وهو ان الواجب المشروط هل ينقلب
مطلقا عند حصول شرطه أولا؟ فان ادراك المقصود منه بنحو يكون له صورة
معقولة يبدو لنا صعبا، وذلك لان الشرط المأخوذ قيدا للحكم اما ان يؤخذ قيدا
حدوثا وبقاء. واما ان يؤخذ قيدا حدوثا فقط.
فان اخذ قيدا حدوثا وبقاء، فمعناه ارتباط الحكم به في حدوثه وبقائه،
وهذا يتنافى مع اطلاق الحكم عند حصوله، فإنه خلف فرض تقيد الحكم به بقاء،
الا ان شخصا لا يدعي صيرورته مطلقا بمجرد حصول شرطه سواء كان الشرط

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 287 - الطبعة الأولى.
396

من قيود الموضوع أو لا.
وان اخذ قيدا حدوثا فقط، الذي معناه ثبوت الحكم في مرحلة بقائه ولو
لم يكن هذا الشرط موجودا، فهذا يرجع إلى اطلاق الحكم في مرحلة بقائه وعدم
تقييده، وهو مما لا اشكال فيه ولا يختلف فيه اثنان سواء كان الشرط من قيود
الموضوع أو لا.
فبقاء التقيد في الفرض الأول وعدم بقائه في الفرض الثاني من باب
الضرورة بشرط المحمول ومما لا يختلف فيه أصلا. وليس لدينا فرض ثالث
غيرهما. اذن فما معنى النزاع في أن الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند
حصول شرطه أو لا ينقلب؟، وما هو المقصود منه؟ بعد أن كان الامر دائر بين
فرضين لا ثالث لهما، والالتزام في أحدهما ببقاء التقييد وفي الاخر بارتفاعه بلا
خلاف ولا شبهة، فإنه مقتضى دليل الاشتراط.
ودعوى: انه يمكن أن يكون المقصود هو النزاع في أن الحكم في الآن
الذي يفرض حصول الشرط فيه بوصف كونه شرطا - سواء اخذ شرطا حدوثا
فقط أو حدوثا وبقاء -، هل يبقى مقيدا بذلك الشرط أو يكون مطلقا بالنسبة
إليه؟، فالنزاع بلحاظ زمان حصول الشرط مع فرض شرطيته لا بلحاظ زمان
ما بعد حصوله كي يأتي التشقيق السابق.
غير مجدية في تصحيح النزاع، إذ اطلاق الحكم بالنسبة إلى الشرط عند
حصوله بلحاظ آن حصوله غير معقول، فان الشئ لا ينقلب عما وقع عليه فلا
يتصور الخلو عن الشرط في زمان حصوله. فلا يتصور للاطلاق معنى معقول كي
يكون موضوع النفي والاثبات.
هذا مع أن نفي الاطلاق والالتزام ببقاء التقييد في ذلك الآن يثبت سواء
كان الشرط راجعا إلى الموضوع أو ليس براجع إليه بل حقيقة أخرى غير
الموضوع، لان الحكم مرتبط به على كل تقدير كما هو مقتضى دليل الشرطية،
397

فنفي ارتباطه به ينافي دليل الشرطية.
فلم يظهر الوجه في الاهتمام لاثبات كون الشرط من قيود الموضوع
وراجعا إليه حقيقة.
هذا ان كان المقصود بالاطلاق المعنى المصطلح وهو ثبوت الحكم في
حالتي وجود الشرط وعدمه.
وان أريد بالاطلاق معنى آخر وهو: شمول الحكم للشرط وسرايته إليه
بان يكون داعيا إليه باعثا نحوه، نظير داعوية وجوب الصلاة نحو الطهارة،
فيقصد بالتقييد عدم دعوة الحكم إلى الشرط وانه عند وجوده لا يكون الحكم
مطلقا بمعنى داعيا إليه. فهذا المعنى وان كان معقولا في نفسه إلا أنه سيأتي منه
(قدس سره) بيان عدم نظر الحكم إلى شروطه وانه لا يكون داعيا إليها، فتقديم
الكلام فيه بالعنوان المذكور في المقدمة، وهو عنوان ان المشروط لا ينقلب مطلقا
عند تحقق شرطه، لا وجه له.
مضافا إلى أن عدم الانقلاب وبقائه على التقييد لا يختص بالالتزام برجوع
الشرط إلى الموضوع، بل يتأتى ولو كان للشرط حقيقة أخرى، ولذلك التزم
صاحب الكفاية وغيره بان مقدمة الوجوب لا يترشح عليها الوجوب من
الواجب لأنها شرط الحكم لا الواجب (1)، مع العلم بان صاحب الكفاية لا يلتزم
برجوع الشروط إلى الموضوع.
والمتحصل: ان إهمال ذكر هذه المقدمة هو الذي كان يتعين على المحقق
النائيني (رحمه الله). فالتفت.
المقدمة الثالثة: ان فعلية الحكم مساوقة لحصول الجزء الأخير من
الموضوع، بمعنى انه لا يكون هناك فصل زماني بين الحكم وموضوعه، بل التقدم

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 99 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
398

والتأخر بينهما رتبي، فان الفصل الزماني بين الحكم وموضوعه خلف فرض كون
الموضوع موضوعا، فلو فرض في بعض الواجبات ثبوت لزوم تخلل آن ما بين
الموضوع والحكم يكشف ذلك عن دخل الآن المزبور في الموضوع، بحيث يكون
هو الجزء الأخير لموضوع الحكم. وعلى هذا الأساس بنى على بطلان الشرط
المتأخر لاستلزامه تقدم الحكم على شرطه.
وكما انه لا فصل بين الحكم وموضوعه في الزمان - لان نسبة الموضوع إلى
الحكم نسبة العلة إلى المعلول. ومن الواضح انه لا انفكاك بين العلة والمعلول
زمانا، بل الاختلاف بينهما في المرتبة - كذلك لا فصل بين الحكم وامتثاله زمانا،
بل التقدم والتأخر بينهما بينهما رتبي، لان نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى
المعلول.
واما دعوى لزوم الانفكاك بين الحكم والامتثال زمانا في المضيقات،
واعتبار مضي زمان ما للحكم على وقت الامتثال، بتقريب: ان وجود الامساك -
مثلا - إذا لم يكن متقدما على الامساك أول الفجر آنا ما. فاما أن يكون المكلف
مقارنا لحدوث الخطاب أول الفجر متلبسا بالامساك، أو متلبسا بالافطار، فإن كان
متلبسا بالامساك لزم تعلق الطلب بالحاصل وهو محال. وان كان متلبسا بالافطار
امتنع تعلق الطلب بالامساك في ذلك الحين لأنه غير مقدور، فان الشئ لا ينقلب
عما وقع عليه، والمفروض انه كان متلبسا بالافطار في ذلك الحين فكيف ينقلب
ويصير امساكا؟.
فهي مندفعة:
أولا: بالنقض بالعلة والمعلول التكوينيين، فإنه يقال: إنه عند وجود العلة
اما أن يكون المعلول موجودا أو معدوما فإن كان موجودا لزم ان تكون علة
للحاصل، وان كان معدوما استحال وجوده في زمان عدمه - سواء كان مع عدمه أو
بتبدل العدم إلى الوجود - فتكون العلة علة للمستحيل. وكل من علة الحاصل
399

والمستحيل محال. فعليه يلزم تقدم العلة على المعلول زمانا ولا يلتزم به أحد.
وثانيا: بالحل في الجميع، بان وجود المعلول والامتثال في الآن الذي تتحقق
فيه العلة والخطاب إذا كان من غير ناحيتهما وبسبب آخر غيرهما تأتي ما ذكر،
اما إذا كان من ناحيتهما ومستندا إليهما فلا محذور فيه وان تقارنا في الزمان.
وثالثا: ان تقدم الخطاب على زمان الامتثال لا يترتب عليه الأثر المطلوب،
فيكون لغوا. بيان ذلك: ان المكلف ان كان عالما بأنه يتعلق به الخطاب حال
الفجر كفى ذلك في امتثاله الخطاب حين الفجر، وفرضه قبل الفجر لا أثر له
لان المحرك هو الخطاب المقارن وإن لم يكن عالما بثبوت الخطاب في حقه قبل
الفجر فلا يجدي ألف خطاب في محركيته.
ورابعا: ان الخطاب لو كان متقدما على الامتثال ولو آنا ما لزم تعلق
الفعلي بما هو متأخر، وهذا يرجع إلى الالتزام بالواجب المعلق وهو محال كما حقق
في محله.
وخامسا: ان هذا الاشكال لو تم، فهو يسري إلى الموسعات ولا يختص
بالمضيقات، مع أنهم لا يلتزمون بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله في
الموسعات ولذلك يلتزم بصحة العمل الموسع إذا فرض مقارنة أول جزء منه لآخر
جزء من الموضوع في الوجود.
والمهم من تحرير هذه المقدمة هو بيان ان الامر بالأهم وعصيانه الذي
هو بديل امتثاله والامر بالمهم المشروط بعصيان الأهم متحدة زمانا من دون أن يكون
بينهما سوى التقدم والتأخر الرتبي، وهذا واضح مما تقدم، وبه يندفع جملة
من الاشكالات الموردة على الترتب، وقد ذكر منها اثنين:
أحدهما: ان عصيان الامر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم،
فلا بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله، وهو مستلزم للالتزام
400

بالشرط المتأخر والواجب التعليقي وكلاهما باطلان.
ثانيهما: ان الامر بالمهم إذا كان مترتبا على عصيان الأهم فلا يثبت إلا
بعد تحقق العصيان ومضي زمان امتثال الامر بالأهم، فيكون حدوث الامر بالمهم
بعد سقوط الامر بالأهم، لتأخر الامر بالمهم عن عصيان الأهم، فلا يلزم اجتماع
الامرين في زمان واحد، وهذا خلف فرض الترتب لأنه لتصحيح اجتماع الامرين
في زمان واحد.
وهذا الاشكال وإن لم يذكره بهذا الترتيب، بل ذكره بنحو التشقيق، الا
ان الذي يعنينا أمره هذا المقدار.
وعلى كل، فقد أجاب عن الاشكال الأول بوجهين:
أحدهما: انه قد يتبين بالمقدمة المذكورة ان زمان الامتثال لا ينفك ولا
يتأخر عن زمان الخطاب، فزمان الخطاب بالمهم وزمان امتثاله وزمان عصيان
الامر بالأهم متحد.
ثانيهما: انه اشكال لا يختص بمسألة الترتب، بل يعم جميع الواجبات،
فما يقتضى به عن المحذور فيها يقتضى به عنه فيما نحن فيه.
وأجاب عن الاشكال الثاني: بان الالتزام بتأخر خطاب المهم عن
العصيان زمانا يبتني على القول بلزوم تأخر الحكم عن شرطه. واما على التحقيق
من مقارنة الخطاب بشرطه، فيكون الامر بالمهم في زمان عصيان الأهم، وهو زمان
الامر بالأهم، لما عرفت من اتحاد زمان الامر وزمان عصيانه أو امتثاله -،
فيجتمع الأمران في زمان واحد.
ثم بين غرابة التزام الشيخ (رحمه الله) بلزوم تأخر الخطاب بالمهم عن
العصيان - في المقام -، مع أنه لا يقول بذلك في مطلق الشرائط.
مع أنه لا يعقل الفرق بين ما نحن فيه وبين سائر الشرائط.
401

هذا خلاصة ما حرره في المقدمة الثالثة (1).
وهو لا يخلو عن اشكال. بيان ذلك: ان المستشكل على الترتب باستلزامه
الشرط المتأخر، وانه يبتني على القول بامكانه أخذ جهة انفصال الخطاب عن
امتثاله زمانا امرا مفروغا عنه ومما لا بد منه، وعليه فرع الاشكال المذكور،
فالالتزام بالواجب المعلق عند المستشكل أمر مسلم، وانما الاشكال من جهة
ابتناء امكان الترتب على الالتزام بالشرط المتأخر.
وعليه، فتحرير الاشكال بالنحو الأول الوارد في كلام المحقق النائيني
ليس تحريرا علميا صحيحا، فإنه أخذ انتهاء القول بالترتب إلى الالتزام
بالواجب التعليقي محذورا كانتهائه إلى الالتزام بالشرط المتأخر، وأورد عليه
بسراية هذا الاشكال إلى جميع الواجبات، وقد عرفت أنه ليس محذورا في نظر
المستشكل بل هو أمر مفروغ عنه في محله، وانما هو مبنى الاشكال بالشرط
المتأخر، فليس استشكاله من جهة استلزام الترتب للقول بالواجب التعليقي،
لأنه يقول به بل استشكاله من جهة استلزامه الترتب للشرط المتأخر فيمتنع
عند من يقول به وذلك بتقريبين:
الأول: ان عصيان الامر بالأهم كامتثاله منفصل زمانا عنه، فإذا رتب
الامر بالمهم على عصيان الامر بالأهم لزم أن يكون الامر بالمهم في غير زمان
الامر بالأهم لفرض انفصاله عن عصيانه زمانا. فلا بد ان يؤخذ العصيان بنحو
الشرط المتأخر كي يكون الامر بالمهم سابقا عليه زمانا، فيجتمع الأمران في
زمان واحد الذي هو محط نظر دعوى الترتب.
الثاني: ان زمان الامتثال إذا كان متأخرا عن زمان الامر، فالامر بالمهم
متعلق بفعل متأخر زمانا، ففي حال وجود الامرين - أعني حال العصيان الذي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 288 - الطبعة الأولى.
402

هو شرط المهم - لا مزاحمة، لعدم محركية المهم لمتعلقه في تلك الحال، وبعد
العصيان يسقط الامر بالأهم، فيكون الامر بالمهم وحده من دون مزاحم، وهذا
خلف الترتب، فلا بد من اخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الامر
سابقا عليه، فيكون محركا نحو متعلقه في حال وجود الامر بالأهم.
فالقول بالترتب لا يصح ما لم يلتزم بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر
على القول بكون الواجبات تعليقية - ولأجل ذلك ذكر صاحب الكفاية شرطية
العصيان بنحو الشرط المتأخر، بنحو كأنه مفروغ عنه لو سلم شرطيته فلاحظ
عبارته (1) -.
ويشهد لما ذكرناه - مضافا إلى اعتراف المحقق المزبور به، والتصريح بان
هذين الاشكالين يردان ممن يلتزم بلزوم تقدير آن ما بين الحكم وامتثاله - ان
الاشكال بالشرط المتأخر على الترتب بالنحو الذي عرفته وبالنحو الذي ذكره
هو لا يتأتى إلا على هذا التقدير، فلو لم يلتزم بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله
لم يكن الترتب مبتنيا على القول بالشرط المتأخر، كي تبتني صحته على صحة
الشرط المتأخر.
وبالجملة: فما ذكره في تحرير الاشكال والجواب عنه ليس نحوا علميا.
وخلاصة الجواب عن الاشكال المذكور بتقريبيه هو: انكار مبنى
الاشكال وهو ضرورة انفكاك الحكم عن متعلقه زمانا التي ادعاها صاحب
الكفاية في مبحث الواجب المعلق فينحل الاشكال المزبور.
وكما يرد على ما عرفت على هذه الجهة من كلامه يرد على ما افاده في الجواب
عن الاشكال الثاني الذي ذكره من انه يبتني على القول بلزوم انفكاك الحكم
عن شرطه، بان الالتزام بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ولزوم تقدم الشرط على

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 134 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
403

الحكم زمانا مما لا يقول به أحد، فإنه يرجع إلى انكار الشرط المقارن وارجاع
جميع الشروط إلى الشرط المتقدم، وهذا مما لا يظن التزام أحد به، كيف؟
والمفروض ان الاشكال انما هو في تقدم الشرط وتأخره لا في مقارنته، فنسبة هذا
القول إلى أحد عجيبة جدا، واعجب منها نسبتها إلى الشيخ الأنصاري (قدس
سره) كما يظهر من استشكاله عليه في التزامه بلزوم تقدم العصيان على الحكم
بالمهم بان ملاكه موجود في جميع الشروط فلا وجه للتكليف بين الشرائط، مما
يكشف عن كون ملاكه أمر سار جميع الشرائط، وليس هو الا دعوى لزوم
انفكاك الشرط عن المشروط زمانا وضرورة تقدمه عليه.
وخلاصة ما تقدم: ان كلام المحقق النائيني في هذا المقام خال عن
التنقيح ولا يخلو عن بعض خلط.
واما الايراد على صحة الترتب وانه يبتني على الشرط المتأخر: بان تعليق
الامر بالمهم على عصيان الأهم يستلزم ثبوت الامر بالمهم في حال عصيان الامر
بالأهم، وهو حال سقوطه، لان العصيان علة لسقوط الامر، فلا يجتمع الأمران
في زمان واحد، إذ العصيان كما يكون علة لثبوت الامر بالمهم يكون علة لسقوط
الامر بالأهم، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يسبقه الامر
بالمهم فيجتمع الأمران في زمان واحد.
فقد تعرض له المحقق النائيني وأشار إلى جوابه (1).
وتحقيق الكلام في جوابه - كما أوضحه الأصفهاني - هو: انه لا اشكال في أن
العصيان سبب لسقوط الامر وارتفاعه، والا لم يتحقق العصيان كما في ترك
الواجب الموسع في أول وقته. كما أنه لا اشكال في أن تحقق العصيان يلزم وجود
الامر في حاله كي يضاف إليه العصيان والمخالفة، وإلا فلا موضوع للعصيان كي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 291 - الطبعة الأولى.
404

يقال أنه عصى الامر إذ لا امر. فهو نظير امتثال الامر في لزوم ثبوت الامر في
حاله، وإلا فلا موضوع للامتثال.
والجمع بين هذين الامرين البديهيين وهما سببية العصيان للسقوط
وضرورة وجود الامر حال العصيان هو ان يقال: ان سقوط الامر بالعصيان
المتحقق الذي لا يصدق - أعني العصيان المتحقق - إلا بمضي آن ما عن زمان
الامتثال، والامر انما يثبت في الحال الذي يتحقق فيه العصيان.
وتوضيح ذلك: انه في الآن الذي يتحقق فيه العصيان والمخالفة يكون
الامر ثابتا وهو آن الامتثال، وبمضي آن ما على ذلك الحال وزمان الامتثال
يسقط الامر لعدم امكان امتثاله، فمثلا في الآن الأول من النهار يكون الامر
بالامساك ثابتا، فإذا لم يمسك المكلف ومضى ذلك الآن فقد مضى زمان الامتثال
فيسقط الامر في الآن اللاحق لآن الامتثال.
فإن شئت قلت: المسقط للامر هو مضي زمان الامتثال ولو آنا ما، أو
المسقط له هو العصيان المتحقق، وقد عرفت عدم تحقق هذا العنوان الا بمضي
آن ما من زمان الامتثال. فمن يقول بان العصيان مسقط للامر غرضه هذا
المعنى، لا انه حال العصيان يسقط الامر، فان ذلك محال كما عرفت.
وعليه، ففي حال العصيان يكون الامر بالأهم ثابتا، فيجتمع مع الامر
بالمهم زمانا لثبوته في ذلك الحال أيضا، وبعد مضي زمان العصيان والامتثال يسقط
الامر بالأهم فلا يكون زمان ثبوت الامر بالمهم هو زمان سقوط الامر بالأهم.
فتدبر (1).
ثم إنه قد اتضح ان مهمة هذه المقدمة ليست إلا دفع بعض الاشكالات
على الترتب، فليست هي من مقدمات تصحيح الترتب وبيان صحته من الجهة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 231 - الطبعة الأولى.
405

المقصودة من الترتب، وهي رفع محذور اجتماع الامرين بالضدين في زمن واحد.
فجعلها من مقدمات الترتب لا يخلو عن مسامحة.
واعلم أن السيد الخوئي ذكر جهتين:
إحداهما: ان القول بامكان الترتب وعدمه لا يبتني على القول بامكان
الواجب المعلق وعدمه، لان ملاك أحدهما يختلف عن ملاك الآخر ولا يرتبط به،
فيمكن القول بالترتب على القولين في الواجب المعلق.
ثانيتهما: بيان ان امكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب
المعلق والشرط المتأخر، فمع القول بامكانهما لا يكون الترتب ممكنا (1).
ولا يخفى ما في كلتا الجهتين:
اما الأولى: فالاشكال فيها من وجهين:
الأول: ان أساس الاشكال في الترتب في فرض أخذ العصيان شرطا هو
انتهائه إلى الالتزام بالشرط المتأخر لا الواجب المعلق، فإنه قد عرفت أخذه
مفروغا عنه في مقام الاشكال، فاغفال الاستشكال في الترتب من جهة الشرط
المتأخر وقصر النظر على خصوص جهة الواجب المعلق فيه نحو من المسامحة.
الثاني: ان الاستشكال في الترتب باستلزامه الشرط المتأخر أو الواجب
المعلق ليس استشكالا عليه بقول مطلق وبجميع صوره، بل على خصوص
صورة أخذ العصيان شرطا دون البناء على العصيان أو نفس الترك، فلا يتخيل
أحد بان الترتب بجميع صوره يترتب على امكان الواجب المعلق، حتى يدفع
ذلك ويبين ان الترتب بقول مطلق لا يرتبط بالواجب المعلق امكانا واستحالة.
فتدبر.
واما الثانية: فوجه الغرابة فيها هو انه لم نعهد من يدعي أو يتخيل توقف

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 109 - الطبعة الأولى.
406

القول الترتب على القول باستحالة الشرط المتأخر والواجب المعلق، فالتعرض
لهذا التخيل ودفعه خارج عن حدود البحث العلمي فإنه تطويل بلا طائل.
واما الوجه الذي ذكره للتخيل المزبور: فهو وجه واضح الاشكال لأول
وهلة، وليس له صورة برهان قوية بحيث يولد هذه الشبهة لدى البعض، فلاحظه
في تقريرات الفياض تعرف ما قلناه.
ثم إنه تعرض في بعض كلماته إلى ما يقال: من تأخر الامر بالمهم عن
الامر بالأهم برتبتين، لان الامر بالمهم متأخر عن عصيان الامر بالأهم لأنه
شرطه، وهو - أي العصيان - متأخر رتبة عن نفس الامر بالأهم، فيتأخر الامر
بالمهم عن الامر بالأهم بمرتبتين.
وناقشه: بان التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم
ذات المتقدم أو المتأخر، وليس امرا خارجا عن ذاته، ولذا يختص هذا التقدم أو
التأخر بما فيه ملاكهما فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلا عن
غيره، ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول لوجود ملاك التقدم فيها، واما عدمها
فلا يتقدم عليه مع أنه في مرتبتها. وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وان كان الامر
بالأهم مقدما على عصيانه بملاك أنه علة له، إلا أنه لا يوجب تقدم على الامر
بالمهم لانتفاء ملاكه. " إنتهى " (1).
وأنت خبير بان ما ذكره لا يرجع إلى محصل، فان الملاك الذي يذكر
للتقدم والتأخر الطبعي موجود في الامر بالمهم والامر بالأهم، وهو أن لا يوجد
المتأخر إلا والمتقدم موجود ولا عكس، فان الامر بالمهم لا يوجد إلا والامر
بالأهم موجود ولا عكس. فيكون الامر بالأهم متقدما رتبة قهرا.
وببيان آخر: ان الامر بالأهم إذا كان علة للعصيان وكان العصيان علة

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 111 - الطبعة الأولى.
407

للامر بالمهم لأنه موضوعه أو شرطه، كان الامر بالأهم علة العلة. ومن الواضح
ان علة العلة متقدمة على المعلول رتبة وتقدمها برتبتين. فان الوجه الذي يوجه
به التقدم برتبة أو برتبتين فيما نحن فيه. فتدبر جيدا. وهذا الامر الذي
تعرضنا إليه وان كان أجنبيا عن هذه المقدمة، لكن رأينا التعرض إليه إتماما
للفائدة وتنبيها على بعض موارد التسامح في هذه الكلمات.
المقدمة الرابعة: - وهي أهم مقدمات الترتب وأساسه الذي يرتكز عليه -
ومحصلها بتوضيح: ان ثبوت التكليف وانحفاظه في تقدير من التقديرات يكون
بأحد طرق ثلاثة:
الأول: أن يكون مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه، كثبوت
التكليف بوجود اكرام العالم في ظرف العدالة، لاجل أخذها في موضوعه أو أخذ
الموضوع مطلق العالم الشامل للعادل.
وهذا انما يتصور في الانقسامات السابقة على الخطاب، بمعنى الثابتة من
دون ثبوت الخطاب والحكم.
ويكون كل من التقييد والاطلاق فيها لحاظيا. لان الحكم إما ان يلحظ
بالإضافة إليها مقيدا أو مطلقا.
الثاني: أن يكون الحكم مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه، ولكن
لا بالاطلاق أو التقييد اللحاظيين، بل بنتيجة الاطلاق والتقييد، وهذا انما يكون
في الانقسامات اللاحقة وهي المتفرعة في الثبوت على ثبوت الحكم كالعلم والجهل
بالحكم، فإنه يمتنع فيها التقييد اللحاظي لامتناع تقييد ثبوت الحكم بالعلم به،
لان لحاظ العلم به فرع ثبوت الحكم فلا يتفرع ثبوت الحكم عليه، إلا أن
الغرض إذا فرض تقيده بصورة العلم بالحكم، فيعلم بواسطة الدليل الخارجي،
كما ثبت من الأدلة انحفاظ الخطابات في حال العلم والجهل في غير الجهر
408

والاخفات والقصر والاتمام، واما في موردهما فالخطاب غير محفوظ في ظرف
الجهل. فنفس الخطاب المثبت للحكم يمتنع ان يقيد بالتقييد اللحاظي
بالانقسامات اللاحقة للحكم. نعم يقيد بدليل آخر بذلك المعبر عنه بمتمم
الجعل. ويصطلح على هذا الاطلاق بالاطلاق الذاتي والملاكي في قبال الاطلاق
اللحاظي.
الثالث: أن يكون منشاء انحفاظ الحكم في التقدير هو نفس الحكم،
لاقتضائه وضع هذا التقدير أو رفعه، فيكون محفوظا في كلتا الصورتين لا محالة،
وهذا كما في كل خطاب بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه. فان الاطلاق والتقييد
بقسميهما - يعني الذاتي واللحاظي - مستحيلان بالنسبة إلى تقدير وجود المتعلق
وعدمه.
اما استحالة التقييد اللحاظي، فلان وجوب الفعل بقيد وجوده يستلزم
اختصاص وجوبه بصورة وجوده، وهو يستلزم طلب الحاصل، ووجوبه بقيد عدمه
يستلزم اختصاص وجوبه بصورة عدمه وهو طلب المحال، لان تحقق الفعل في
ظرف الترك محال لانتهائه إلى اجتماع النقيضين. وإذا ثبت امتناع التقييد ثبت
امتناع الاطلاق، لان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
واما استحالة التقييد الذاتي، فلما تقدم أيضا.
ومنه يعلم استحالة الاطلاق الذاتي، لان الاطلاق في قوة التصريح بكلا
التقديرين، فيلزم منه طلب المحال والحاصل.
وعليه، فلا وجه لدعوى أن انقسام المكلف إلى المطيع والعاصي من
الانقسامات اللاحقة، فيثبت الاطلاق بالإضافة إليها بنتيجة الاطلاق.
وذلك لان المفروض إثبات انحفاظ الحكم في تقدير الفعل والترك اللذين
هما منشأ الإطاعة والمعصية. ومن الواضح ان تقدير الفعل والترك ليس من
الانقسامات اللاحقة، لأنه يمكن لحاظ الفعل والترك حال الامر، بل لا بد من
409

لحاظهما كي يكون الامر بعثا نحو الفعل وزجرا عن الترك، فليس منشأ عدم
الاطلاق اللحاظي هو عدم امكان لحاظهما كي يقال بثبوت نتيجته، بل منشؤه
محذور آخر ثابت في كلا القسمين من الاطلاق والتقييد.
ويظهر مما بيناه: ان انحفاظ الحكم في القسم الثالث من جهة انه من
لوازم ذاته، فان ثبوت الحكم وتعلقه بشئ يقتضي وضع تقدير وهدم تقدير آخر،
فالوجوب يقتضي وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم والتحريم بعكسه. واما
انحفاظ الحكم في القسمين الأولين فهو من جهة التقييد بالتقدير أو الاطلاق
بالإضافة إليه، والا فذات الحكم لا يقتضي انحفاظه في ذاك التقدير.
وبذلك يحصل الفرق بين انحفاظ الحكم في القسم الثالث وانحفاظه في
القسمين الأولين من جهتين:
الأولى: ان نسبة الحكم إلى التقدير في القسمين الأولين نسبة المعلول إلى
العلة، لان تقييد الحكم بامر مرجعه إلى أخذه في موضوعه، وقد ثبت ان نسبة
الموضوع إلى حكمه من سنخ نسبة العلة إلى معلولها، هذا في صورة التقييد.
واما في صورة الاطلاق، فإنه في رتبة التقييد، فإذا كانت مرتبة التقييد
مرتبة العلية كانت مرتبة الاطلاق كذلك. واما نسبة الحكم إلى التقدير في القسم
الثالث، فهي نسبة العلة إلى المعلول، لان الخطاب له نحو علية بالإضافة إلى
الامتثال، لأنه يقتضي وضع أحد التقديرين وهدم الآخر، فتكون نسبته إلى
التقدير المحفوظ فيه نسبة العلية.
الثانية: ان الحكم في القسمين الأولين لا يكون متعرضا لحال التقدير
وضعا ولا رفعا، لان نسبته إليه نسبة الموضوع إلى الحكم. ومن الواضح ان الحكم
لا يكون متعرضا لحال موضوعه، بل هو مترتب على وجوده. بخلاف الحكم في
القسم الثالث، فإنه متعرض لحال التقدير المحفوظ فيه وضعا ورفعا، فإنه يقتضي
وضع تقدير وهدم آخر.
410

وعلى ضوء هذا البيان يتضح: عدم التنافي والتزاحم بين الامر بالأهم
والامر بالمهم المقيد بالعصيان، وذلك فان الامر بالأهم محفوظ في تقدير عصيانه
لاقتضائه هدمه، الا انه لا يتعرض لكثر من هدم تقدير العصيان من دون أن يكون
له نظر على تقدير ثبوت هذا التقدير.
والامر بالمهم لا يتعرض لحال هذا التقدير، لأنه مأخوذ في موضوعه، وقد
عرفت استحالة تعرض الحكم لحال موضوعه، نعم هو يقتضي ايجاد متعلقه على
تقدير العصيان. فالامر بالمهم لا يترقى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه
اقتضاء لموضوعه، والامر بالأهم لا يتنزل ويقتضي شيئا ما وراء رفع موضوع
الامر بالمهم حتى يكون في عرض المهم، فالخطابان وان كانا محفوظين في ظرف
العصيان، الا انهما لا يتمانعان لأنهما في مرتبتين طوليتين.
هذا توضيح ما جاء في أجود التقريرات لبيان هذه المقدمة (1).
وقد أشرنا إلى أن على هذه المقدمة يرتكز الترتب وينهض القول به.
الا ان هذا المقدار والنحو من البيان لا يفي بما هو الغرض الأساسي
والنكتة الأصلية منه، بل ظاهره لا يخلو عن إيرادات، ولذا تناولتها أقلام الاعلام
فأورد عليها:
أولا: بان امتناع التقييد لا يستلزم امتناع الاطلاق، بل يستلزم ضرورته،
لان التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب لا العدم والملكة (2).
وثانيا: بان كون الاطلاق في مرتبة التقييد لا يقتضي تأخر الحكم عما
يكون مطلقا بالنسبة إليه، كما كان يقتضي ذلك تقييد الحكم، فان التقديم
والتأخير لا يكون إلا بملاك، وملاك التأخر في التقييد والحكم موجود. واما في

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 293 - الطبعة الأولى.
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 114 - الطبعة الأولى.
411

الاطلاق - المفروض كونه في مرتبة التقييد - والحكم فلا. فان العلة متقدمة رتبة
على المعلول. واما عدم العلة فهو وان كان في رتبة العلة فلا موجب لتقدمه على
المعلول.
وثالثا: بان نسبة الحكم إلى العصيان ليست نسبة العلة إلى المعلول كما
هو واضح، بل نسبة المعروض إلى العارض، لان العصيان يضاف إلى الامر فيقال
عصيان الامر فهو مترتب عليه ومتقدم به، لكن بنحو تقدم العارض بالمعروض
لا المعلول بالعلة، فيختلف العصيان عن الامتثال في ذلك.
ورابعا: بالعجب عن اهماله الاطلاق والتقييد في متعلق الحكم، وقصر
الكلام في الاطلاق والتقييد في موضوعه، مع تأتي ما ذكر من الاطلاق الذاتي
واللحاظي في المتعلق كما يتأتى في الموضوع (1).
وخامسا: بان الأساس الذي من اجله يلتزم بالترتب هو ارتفاع طلب
الجمع بين الضدين بالترتب وهذا لا يتم بالبيان المذكور.
بهذه الايرادات التي نقلناها بنحو مختصر جدا أورد على البيان السابق.
ولكن أعود فأكرر: ان هذه المقدمة هي الأساس الذي يبتني عليه
الترتب وما ذكره المحقق الأصفهاني في تصحيحه نستطيع ان نقول إنه مستقى
منه كما سيتضح. الا ان المنشأ الذي سبب توجه هذه الايرادات هو عدم أداء
النكتة الأساسية المقصودة بيانها في مثل البيان السابق، بل يضاف إلى هذه
الايرادات ايراد آخر وهو التنافي الظاهر بين دعوى عدم اطلاق الامر بالنسبة
إلى وجود متعلقه، مع أن المطلوب به ليس إلا وجود الطبيعة والملحوظ في متعلقه
هو وجودها. وهذا كغيره ناشئ من عدم التنبيه على الغرض الأصلي الذي كان

(1) هذا الايراد وتاليه للمحقق الأصفهاني، وهما أكثر واقعية ومساسا بواقع المطلب من سوابقهما، لأنها
أشبه بالايرادات اللفظية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ (دام ظله). فالتفت (منه عفي عنه).
412

المرحوم النائيني بصدد بيانه.
ولأجل ذلك يلزمنا توضيح المقصود وبيان روح المطلب وحذف ما أضيف
إليها من زوائد. لكي يتضح لك صدق ما قلناه من أن الوجه الذي يصحح به
الترتب هو هذا البيان، فنقول: ان المدعى هو ان الترتب يرفع التنافي بين
الامرين في مرحلة التأثير الفعلي والداعوية الفعلية، فهو يتكفل منع اجتماع
تأثيرهما في زمان واحد، بمعنى أنه بالترتب يمتنع ان يفرض حصول تأثير كل
منهما الفعلي في زمان واحد، وان اجتمع كلاهما في زمان واحد، وهذا المعنى الذي
يقتضيه الترتب ناشئ عن وجود خصوصية تكون حدا لتأثير أحدهما وبداية
لتأثير الآخر. هذه الخصوصية هي العصيان بتعبير، ومخالفة الامر وعدم تأثيره
بتعبير آخر (وهو الذي نواظب على تكراره).
ووضوح ما ادعيناه يكون ببيان ان الامر لا اطلاق له ولا تقييد بالنسبة
إلى عدم مؤثريته، سواء لوحظ الاطلاق أو التقييد في الموضوع أو في المتعلق،
وذلك لان معنى التقييد في الموضوع هو ترتب الحكم على الخصوصية المأخوذة
قيدا واخذها مفروضة الوجود بحيث يكون ثبوت الحكم مرتبطا بتحقق تلك
الحصة المقيدة، واما الاطلاق في الموضوع فمرجعه إلى نفي دخالة الخصوصيات،
وهو يعني ثبوت الحكم بثبوت أي فرد من الافراد، لتعليق الحكم فيه على نفس
الطبيعة الموجودة في ضمن افرادها. والتقييد في المتعلق معناه تعلق الحكم بالحصة
الخاصة وداعويته إليها بالخصوص فلا تتصف الطبيعة بالطلب الا إذا كانت
الخصوصية المأخوذة قيدا منضمة إليها، والاطلاق فيه يعني نفي دخالة الخصوصية
في مرحلة تعلق الحكم، ومرجعه إلى ثبوت الحكم لكل فرد من افراد الطبيعة
واتصاف كل فرد بالطلب.
وجملة القول: ان مرجع التقييد والاطلاق إلى التوسعة والتضييق في
الموضوع الذي يترتب عليه الحكم أو في المتعلق الذي يرد عليه الحكم ويتصف
413

به.
وهما لا يتأتيان بالنسبة إلى خصوصية عدم مؤثرية الامر، فإنه لا يتصور
الاطلاق فيها ولا التقييد لا بلحاظ الموضوع ولا بلحاظ الحكم.
وذلك لان مؤثرية الامر وعدم مؤثريته من الأمور اللاحقة لتحقق الامر
والمتفرعة عليه، بحيث لا يتصور وجودها من دون وجود الامر، ففي الظرف
الذي يفرض فيه وجود المؤثرية أو عدمها لا بد ان يفرض فيه وجود الامر نفسه.
وعليه، فيتضح الحال في نفي امكان الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى عدم
المؤثرية بوجهين.
الأول: ان عدم مؤثرية الامر لا تفرض الا بفرض وجود الامر وتقومه
بالمتعلق وتفرعه على الموضوع المفروض له، فلا معنى لان يؤخذ في متعلق الامر
أو موضوعه، لان فرضها مستلزم لفرض ثبوت الامر ومتعلقه وموضوعه وتمامية
هذه الجهة، لان فرضها مستلزم لفرض ثبوت الامر ومتعلقه وموضوعه وتمامية
هذه الجهة، كما لا معنى لان ينفى أخذه في متعلقه وموضوعه بالاطلاق، لان
مرجعه إلى بيان ان متعلق الامر أو موضوعه هو الطبيعة سواء انضم إليها عدم
المؤثرية أو لم ينضم وقد عرفت أنه لا معنى لذلك بعد فرض ثبوت المتعلق
والموضوع للامر كل بحده، بفرض عدم مؤثرية الامر -. وهذا الوجه عرفي وجداني -
الثاني: ان عدم المؤثرية إذا كان متفرعا على الامر، فاخذه في متعلق الامر
ممتنع للزوم الخلف، مع لزوم داعوية الشئ لداعوية نفسه، لان الامر يدعو إلى
ما تعلق به، وذلك يساوق علية الشئ لعلية نفسه. كما يمتنع اخذه في موضوع
الامر، لان مرجعه إلى فرض تفرع وجود الامر عليه وكون ثبوته منوطا به. وقد
عرفت أن الامر بالعكس. وهكذا الحال في الاطلاق في المتعلق والموضوع، فان
مرجع الاطلاق وان كان إلى نفي دخالة الخصوصية وكون الحكم مرتبا على
الذات أو متعلقا بالذات انضم إليها القيد أو لم ينضم، إلا أنه بعد أن كان فرض
عدم المؤثرية ملازم لفرض ثبوت الحكم كان ثبوت الحكم وتعلقه بالذات أو ترتبه
414

على ذات الموضوع في ظرف عدم المؤثرية امر معلوم لا يحتاج إلى بيان، كي
يتكفله الاطلاق ببيان عدم دخل أي خصوصية في المتعلق أو الموضوع، فاطلاق
الحكم بالنسبة إلى مؤثرية نفسه كاطلاقه بالنسبة إلى نفسه مما لا معنى له.
ويتضح من ذلك: ان الحكم في حال عصيان الامر ومخالفته ثابت، لكنه
لا بالتقييد ولا بالاطلاق، بل نفس فرض عصيان الامر ملازم لفرض الامر في
ذلك الحال، بل نستطيع ان نقول إن اطلاق الموضوع من جهة عدم مؤثرية الامر
غير معقول بعد فرض ان الحصة المقيدة به متفرعة على الامر، وذلك لان معنى
الاطلاق وان كان نفي تأثير الخصوصية إلا أن مرجعه إلى سراية الحكم إلى جميع
الافراد، فالاطلاق في الموضوع مرجعه إلى كون الحكم مترتبا على كل فرد فرد
وإن لم يكن لخصوصية فرديته، بمعنى ان حصول أي فرد موجب لتحقق الحكم،
وقد عرفت أنه لا معنى لان يكون حصول الفرد المقيد بالعصيان موجبا لتحقق
الامر، بل حصوله متفرع على تحقق الامر، فلا يتصور الاطلاق بالإضافة إلى
هذا الفرد.
وبعبارة أخرى: ان الموضوع - بالاطلاق - وان كان هو ذات الطبيعة
السارية في جميع افرادها. الا ان من الواضح ان المأخوذ هو الذات التي يمكن
فرض ترتب الحكم عليها، فهي لا تشمل الذات المقيدة بعدم مؤثرية الامر، لأنها
مما لا يمكن فرض ترتب الحكم عليها، فهي ليست من افراد الموضوع، فلا ينفع
الاطلاق في اثبات تعلق الحكم على عدم مؤثريته.
وإذا تبين ذلك تعرف ما رمينا نحوه من تصحيح الترتب، وذلك لان
المفروض ان الامر بالمهم معلق على عصيان الامر بالأهم، فمرحلة داعويته انما
هي بتحقق عصيان الأهم، وظرف عصيان الأهم ظرف لانتهاء داعوية الأهم،
لما عرفت من عدم كونه ناظرا إلى عصيانه اطلاقا أو تقييدا، ولا يتكفل أمرا وراء
العصيان ومترتبا عليه، فالعصيان نهاية داعوية الأهم وتأثيره، كما أنه ابتداء تأثير
415

المهم، وبذلك لا تتحقق أي مزاحمة بين الامرين في مقام الداعوية والتأثير، فلا
مانع من وجودهما في زمان واحد.
وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا المعنى ببيان مختصر. اجمع، فأفاد
(قدس سره): بان التنافي بين الامرين انما هو ناشئ من تزاحمهما في مقام
المؤثرية الفعلية، لان كلا منهما يحاول التأثير الفعلي لاتيان متعلقه، فان الغرض
من الامر هو ذلك، والمفروض عدم القدرة على أكثر من واحد، وبالترتب ترتفع
هذه المنافاة وينتهي التزاحم في مقام الدعوة الفعلية بحيث لا يتصور فعلية دعوة
أحدهما مع فعلية دعوة الآخر، وذلك لان الامر بالمهم إذا علق على عصيان
الأهم، ففي فرض فعلية تأثير الأهم لا موضوع للامر بالمهم فلا وجود له كي
يتخيل مزاحمته للأهم. وفي فرض فعلية تأثير المهم يستحيل تصور مزاحمته لفعلية
تأثير الأهم ومانعيته عنه، لان المفروض ان اقتضاء المهم منوط بعدم فعلية تأثير
الأهم، فكيف يتصور ان تكون فعلية تأثيره اللاحقة لاقتضائه مانعة عن فعلية
تأثير الأهم؟.
وبالجملة: لا يتصور فعلية تأثير المهم مع وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية
في التأثير، لأنه بوصوله إلى ذلك ترتفع فعلية تأثير المهم بارتفاع نفس الامر، فلا
يعقل ان يصل كلا الامرين الترتبيين إلى مرحلة الفعلية في التأثير في زمان واحد،
بل الفرض الذي يصل فيه أحدهما - أيهما كان - إلى مرحلة الفعلية في التأثير
مساوق لفرض عدم وصول الاخر إلى حد التأثير الفعلي، وإذا تبين ارتفاع
التزاحم في التأثير ظهر صحة الترتب، إذ لا محذور في جعل كلا الامرين ما لم
ينته إلى التزاحم في التأثير الفعلي (1).
وهذا البيان وان كان يختلف بحسب الصورة عن البيان السابق الذي

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 243 - الطبعة الأولى.
416

وجهنا به كلام المحقق النائيني، لكنه في الحقيقة مستقى منه ومستوحى عنه.
والاختلاف بين المحققين في أن المحقق الأصفهاني فرض المحذور في
اجتماع طلب الضدين هو التنافي بينهما في مرحلة تأثيرها الفعلي ومحاولة كل منهما
صرف القدرة إلى متعلقه، وهو يرتفع بالترتب بالتقريب الذي عرفته. واما المحقق
النائيني فقد فرض المحذور هو طلب الجمع بين الضدين، وجعل مصب كلامه
نفي ذلك، ولكن كلامه - على ما قربناه - لا يرتبط برفع هذا المحذور، ولعله عدل
عن ذلك أو ان نظره من أول الامر إلى ما ينظر إليه المحقق الأصفهاني من أن
طلب الجمع يعني تحقيق التزاحم بين الامرين في مقام تأثيرهما الفعلي، ولأجل
ذلك أغفله بالمرة في هذه المقدمة.
وعلى اي حال فقد تحصيل لدينا في تصحيح الترتب وجهان:
أحدهما: ما ذكرناه توجيها لكلام المحقق النائيني من أن داعوية كل منهما
تفترق زمانا عن داعوية الآخر، فداعوية الأهم محدودة بالعصيان لعدم نظر
الامر إلى ما وراء العصيان، لأنه مما لا يقبل النظر لا بالاطلاق ولا بالتقييد،
وداعوية المهم تبتدي بالعصيان لتعليقه عليه، فأي تزاحم بين الامرين حينئذ.
ثانيهما: ما ذكره المحقق الأصفهاني من أن الترتب يستلزم نفي فرض
وصول كل من الامرين إلى مرحلة التأثير الفعلي في ظرف واحد، بل فرض فعلية
تأثير أحدهما مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي، فيرتفع
به أساس المحذور وهو التزاحم في مقام التأثير الفعلي. فإنه انما يتصور لو فرض
امكان وصول كل منهما إلى حد التأثير الفعلي في زمان واحد.
وبكلا هذين الوجهين يرتفع اشكال صاحب الكفاية على الترتب: بان
الامر بالمهم وان كان لا يزاحم الامر بالأهم لأنه في طوله، لكن الامر بالأهم
باطلاقه يطارد المهم ويزاحمه.
فإنه يدفع: بان المقصود ان المحذور ان كان ناشئا عن اطلاق الأهم
417

بخصوصية، فقد عرفت بالوجه الأول ان الامر بالأهم لا اطلاق له بلحاظ ظرف
العصيان. وان كان المقصود ان المحذور في ثبوت الامر بالأهم في زمان المهم
لاستلزامه مطاردته ومزاحمته في مرتبته - أي مرتبة المهم - فقد عرفت اندفاعه
بالوجه الثاني، فان الامر بالأهم وان كان موجودا في زمان الامر بالمهم، الا انه
لا يزاحمه، إذ المزاحمة انما تنشأ من فعلية تأثير كل من الامرين. ومن الواضح
انه مع فعلية تأثير الأهم لا تأثير للمهم، فكيف يتصور وقوع التزاحم بينهما، بعد
تفرعه على وصول كل من الامرين إلى حد التأثير الفعلي؟!.
وغريب من السيد الخوئي أمران:
أحدهما: ان يكرر في عباراته: طلب الجمع، وبيان ارتفاعه بالترتب، مع
ما عرفت من إن المحذور ليس هو إلا الجمع بين التأثيرين الفعليين مع عدم
ارتفاع طلب الجمع بالترتب، لاجتماع الامرين في زمان واحد.
ثانيهما: أن يكون قصده هو نفي مزاحمة المهم للأهم، وليس في كلامه لنفي
مزاحمة الأهم للمهم عين ولا أثر، مع ما عرفت انهما عمدة إشكال الكفاية على
الترتب. فانتبه.
واما ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه الله) في باب تعارض الامارتين من
الالتزام - بناء على السببية - بالترتب من الجانبين، فيجب الاتيان بمؤدى كل
منهما عند ترك الآخر (1)، وأورد عليه المحقق النائيني بما تقدم من أن استحالة
الترتب من جانب واحد تستدعي استحالة من الجانبين بطريق أولى.
فيمكن أن يكون نظره إلى دفع محذور صاحب الكفاية حيث رآه
صحيحا، وهو لا يندفع الا باشتراط الامر بكل منهما بترك الآخر لارتفاع

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 438 - الطبعة الأولى.
418

المطاردة بينهما بذلك، كما لا يطارد المهم الأهم، وقد ذكرنا هذا التوجيه فيما تقدم.
واما ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب - حيث إن ظاهره التخيير بين الضدين -
فهو يظهر عند ترك كل من المتعلقين، إذ لازمه اجتماع الامرين في زمان واحد،
ولا محذور فيه بعد أن كان كل منهما مشروط بترك متعلق الآخر لارتفاع المطاردة
بينهما فلا مانع من اجتماعهما في ظرف واحد.
ومن العجيب ما نقل عن بعض من انكاره ارتباط ما ذكره الشيخ
بالترتب ورجوعه إلى التخيير بين الضدين ولزوم الاتيان بأحدهما، وهو لامساس
له بالترتب. فان هذا ناشئ عن عدم التأمل في نظر الشيخ ومقصده.
ومما ينبغي ان ينتبه إليه ان الوجهين المزبورين المذكورين لتصحيح
الترتب انما يرتبطان ببعض صور الترتب، وهو تعليق الامر بالمهم على عصيان
الامر بالأهم ومخالفته، دون ما لو علق الامر بالمهم على ترك الأهم، إذ حديث
عدم الاطلاق والتقييد بالإضافة إلى عدم مؤثرية الامر وعصيانه أجنبي عنه
بالمرة، كما أن حديث عدم التزاحم بين تأثير الامرين الفعلي لتعليق المهم على
عدم فعلية تأثير الأهم لا يرتبط به كما لا يخفى.
ولأجل ذلك رأينا ان نسلك في تقريب الترتب وتصحيحه مسلكا آخر غير
هذين المسكين، وان كان في الحقيقة مستقى منهما غير مبتكر.
وهو ان نقول: ان ارتفاع التزاحم في مقام التأثير الفعلي يتحقق بمجرد
تعليق الامر بأحدهما على عدم متعلق الاخر، الملازم لصورة كون فعليه تأثير
أحدهما في ظرف عدم تحقق متعلق الاخر، فان الامر إذا كان كذلك امتنع تحقق
التزاحم بين الامرين في مقام فعلية التأثير، إذ مع فعلية الامر بالأهم لا يتحقق
ترك متعلقه فلا يثبت الامر بالمهم لعدم موضوعه، ومع فعلية تأثير الامر بالهم
يمتنع ان تفرض فعلية تأثير الامر بالهم، لان فعلية تأثير المهم مرتبة على ترك
419

متعلق الأهم الملازم لعدم وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير - إذ لو أثر
فعلا لتحقق المتعلق -، فكيف يفرض في هذا الحال - أعني حال الفعلية تأثير
لمهم - وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير؟.
وبالجملة: ارتفاع التزاحم لا يتوقف على تعليق المهم على عدم مؤثرية
الأهم الفعلية، بل يتحقق ارتفاعه بتعليقه على عدم تحقق متعلق الأهم كما
عرفت.
وعليه، فيصح الترتب سواء علق الامر بالمهم على عصيان الامر بالأهم
أو على ترك متعلقه.
بهذه البيانات الثلاثة يصح الترتب في الجملة أو مطلقا.
وقد قرب المحقق العراقي صحة الترتب بوجه آخر يختلف عن الوجه
الذي ذكرناه ببياناته الثلاثة.
وايضاحه - على ما ذكره المحقق الأصفهاني -: هو ان طلب وجود الشئ
مرجعه إلى طلب طرد عدم الشئ من جميع الجهات التي يتحقق بها عدمه، كعدم
مقدماته ووجود أضداده، فطلب البياض مرجعه إلى طلب طرد عدمه من جهة
عدم مقدماته، فيعني ذلك أن له اقتضاء وجودها، ومن جهة وجود السواد، فيعني
ذلك أن له اقتضاء عدمه. ومن الواضح امتناع اجتماع طلب كل من الضدين
لاستلزامه اجتماع المقتضيين المتنافيين في شئ واحد.
ولكن ذلك إذا اخذ الأمر بقول مطلق، وقد تخرج إحدى جهات العدم
عن حيز الامر بحيث لا يكون للامر اقتضاء بالنسبة إليها، كما لو اخذ المطلوب
طرد العدم من جميع جهاته سوى جهة وجود الضد، فإنها اخذت من باب
الاتفاق والمصادفة، ففي الفرض لا يكون للامر اقتضاء لعدم ضد متعلقه.
وعليه، فتقييد الامر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم يرفع التنافي بين
420

الامرين، لان مرجع الامر بالمهم إلى طلب سد باب العدم من جميع الجهات غير
جهة وجود الأهم، لاخذ عدم الامر بالأهم في موضوع الامر بالمهم، ولا تنافي بين
قيام المولى بصدد سد باب العدم في طرف الأهم من جميع الجهات حتى جهة
وجود ضده المهم، وقيامه بصدد سد باب عدم المهم في ظرف انفتاح عدم الأهم
اتفاقا، إذ لا محركية له نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف عدم الأهم من باب
الاتفاق.
وقد أفاد (رحمه الله) بان صحة الترتب - بهذا البيان - لا تتوقف على كونه
بنحو الواجب المشروط، بل يصح بنحو الواجب المعلق، فيكون الامر بالمهم
فعليا، لكنه بالفعل على تقدير العصيان وعدم الأهم اتفاقا، إذ لا اقتضاء له في
هذا الحال نحو عدم الأهم فلا منافاة بين الامرين (1).
ولكن هذا البيان لا يخلو عن مناقشة من وجهين:
الأول: ان تصحيح الترتب بنحو الواجب المعلق يبتني على الالتزام
بالواجب المعلق، وقد عرفت ما فيه من الكلام، فلا يلزم بهذا القول من يرى
امتناع الواجب المعلق.
الثاني: ان الترتب وان رفع اجتماع المقتضيين المتنافيين في طرف الأهم
لتعليق الامر بالمهم على عدم الأهم من باب الاتفاق، فلا اقتضاء له نحو عدمه
كي ينافي الامر بالأهم الذي له اقتضاء نحو وجوده، إلا أنه لا يرتفع به اجتماعهما
في طرف المهم، لان الامر به على تقدير العصيان يكون فعليا، فله اقتضاء نحو
وجوده، والمفروض ان الامر بالأهم في هذا الحال فعلي لاطلاقه، فله اقتضاء
عدمه، فيلزم المحذور من طلب الضدين.
هذا إذا لوحظ ما هو ظاهر البيان من أن المحذور في طلب الضدين هو

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 234 - الطبعة الأولى.
421

اجتماع المقتضيين المتنافيين في شئ واحد، لان الامر بأحدهما يقتضي وجوده
والامر بالاخر يقتضي عدمه، وان هذا المحذور يرتفع بالترتب.
اما إذا كان المقصود كون المحذور هو التنافي في مقام المحركية الفعلية،
وانه يرتفع بالترتب، لان تعليق أحدهما على عصيان الآخر يرفع امكان وصول
الامر معا إلى مرحلة الفعلية في التأثير فلا يقع التزاحم - ان كان المقصود ذلك
-، فهذا راجع إلى ما تقدم وليس وجها مستقلا في قبال ما تقدم.
وبالجملة: هذا البيان ما لم يرجع إلى ما قربناه لا يخلو عن مناقشة.
وعليه، فالوجه الصحيح الذي يقال في تصحيح الترتب ما عرفته،
وحاصله: ان تعليق الامر بأحدهما على عدم فعلية تأثير الآخر، أو عدم متعلق
الآخر، يستحيل معه فرض تنافي الامرين في مقام المحركية الفعلية وهو محذور
طلب الضدين.
وجوه الاشكال على الترتب
وفي قبال هذه الوجوه المذكورة في تصحيح الترتب وجوه أخرى ذكرت
لبيان استحالة الترتب وهي:
أولا: انه من المقرر امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم، بحيث يكون
أحدهما محكوما بغير ما حكم به الآخر، بل اما ان يكونا متوافقين في الحكم أو
يكون الآخر غير محكوم بحكم أصلا. والالتزام بالترتب يتنافى مع هذه القاعدة
المسلمة، وذلك لان ترك الأهم ملازم للفعل المهم. ومن الواضح ان ترك الأهم
حرام، لأنه نقيض الواجب، ووجوب الشئ يستلزم حرمة نقيضه. فيلزم أن يكون
أحد المتلازمين حراما والآخر واجبا. وهو خلاف القاعدة المقررة (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 243 - الطبعة الأولى.
422

وفيه: ان مفروض الكلام الضدان اللذان لهما ثالث، اما الضدان اللذان
لا ثالث لهما كالحركة والسكون، فهما خارجان عن مسالة الترتب لان عدم
أحدهما يلازم وجود الآخر قهرا، فلا معنى للامر به عند عدم الآخر.
وعليه، فالقاعدة المقررة وان كانت مسلمة لكنها لا تتنافى مع الترتب، لان
ملاك امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ليس إلا استحالة امتثال الحكمين بعد
فرض التلازم بين متعلقيهما، بل اما ان يمتثل هذا أو يمتثل ذلك.
وهذا المحذور غير جار فيما نحن فيه، لأنه بعدم ترك الأهم - يعني امتثال
الحرمة - يرتفع موضوع الامر بالمهم، فلا تنافي بينهما في مقام التحريك الفعلي.
وبعبارة جامعة: ليس المحذور في اختلاف المتلازمين في الحكم سوى
محذور طلب الضدين، وقد عرفت ارتفاعه بالترتب، فلا يكون ذلك اشكالا على
الترتب ونفيا لصحته.
وثانيا: - ما ينسب إلى المحقق الشيرازي (قدس سره) - ان المهم إذا
كان واجبا كان نقيضه وهو الترك محرما، وحينئذ نقول: ان المحرم اما أن يكون
هو الترك المطلق حتى الموصل إلى فعل الأهم. أو هو خصوص الترك المقارن
لترك الأهم - وهو غير الموصل -. فإن كان المحرم هو الترك المطلق كان ذلك
منافيا لوجوب الأهم، وفرض أهميته وارتفاع وجوب المهم بوجوده، إذ كيف
يتلائم فرض حرمة ترك المهم عند وجود الأهم، مع فرض ارتفاع وجوب المهم
عند وجود الأهم؟. وان كان المحرم هو خصوص الترك غير الموصل، فليس هذا
نقيض الفعل، بل نقيضه هو تركه، وهو ملازم لامرين أحدهما الفعل والآخر
الترك الموصل.
ومن الواضح ان الحكم لا يسري من الملازم إلى ملازمه، وعلى تقدير
فرض كونه مصداقا للنقيض وسراية الحكم إليه، فهو انما يستلزم ثبوت الوجوب
التخييري له، لفرض ان للنقيض فردين أحدهما الفعل والآخر هو الترك
423

الموصل.
فمحصل الاشكال: ان الالتزام بحرمة الترك غير الموصل من جهة
وجوب الفعل تستلزم اما انكار وجوب الفعل أو كون الوجوب المتعلق بالفعل
وجوبا تخييريا لا تعيينا وهو مما لا يلتزم به، وذلك لان الترك غير الموصل ليس
نقيض الفعل، بل الفعل لازم نقيض الترك غير الموصل. فتدبر (1).
ويرد عليه وجهان:
الأول: هو إنا نلتزم بان متعلق الحرمة هو ذات الترك، الا ان هذه الحرمة
لما كانت ناشئة عن وجوب الفعل وليست بدليل مستقل، والمفروض ان وجوب
الفعل مقيد بصورة ترك الأهم، كانت حرمة الترك مقيدة بحال ترك الأهم،
فمتعلق الحرمة هو ذات الترك، لكن زمان التحريم هو حال ترك الأهم. ومن
الواضح ان ذلك الترك في هذا الحال ينحصر بالترك غير الموصل، فلا يتصور
فيه الاطلاق والسراية للترك الموصل كي يستلزم الخلف المدعى.
الثاني: ان هذا الوجه لو سلم ولم يتمكن من مناقشته، فهو لا يستلزم
انكار الترتب ونفي صحته، بل غاية ما يستلزم أحد أمرين اما دعوى عدم
تشخيص نقيض الفعل الذي يتعلق به التحريم، وامكان أن يكون امرا ثالثا
غير مطلق الترك والترك غير الموصل لا تصل إليه أذهاننا فعلا. واما الالتزام
بعدم تأتي قاعدة استلزام وجوب الشئ حرمة ضده العام في هذا المقام، لان
حرمة الضد يستلزم من وجودها عدمها كما عرفت. وكل من هذين الامرين لا
ينفي صحة الترتب ولا يستلزم انكاره. فتدبر.
وثالثا: ما ذكره في الكفاية بعنوان الجواب عن دعوى عدم المطاردة بين
الامرين، لان الامر بالمهم في طول الامر بالأهم من: انه وان انتفت المطاردة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 244 - الطبعة الأولى.
424

بينهما في مرتبة الأهم، الا انها ثابتة في مرتبة المهم، لان الامر بالمهم فعلي فهو
يقتضي متعلقه، والامر بالأهم فعلي كذلك فهو يقتضي متعلقه أيضا، وليس محذور
طلب الضدين في عرض واحد سوى ان أحدهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر
ومعانده، مع أنه يكفي في المحذور ثبوت المطاردة من طرف الأهم، لأنه على هذا
الحال يكون طاردا للضد كما لو لم يكن ترتب أو عصيان فيلزم المحذور (1).
وفيه: ما تقدم من أن محذور طلب الضدين في عرض واحد ليس هو
اقتضاء أحدهما ما ينافي مقتضي الآخر، كي يدعى عدم ارتفاعه بالترتب، بل
المحذور هو تزاحم المقتضيين في مقام التأثير والمحركية الفعلية ولولاه لما امتنع
طلب الضدين وان اقتضى أحدهما ضد ما يقتضيه الآخر، كما لو يمتنع اجتماع
نارين في آن واحد أحدهما تقتضي ضد ما تقتضيه الأخرى إذا لم يصلا إلى
مرحلة فعلية التأثير.
وقد عرفت أن الترتب يرفع تنافي الامرين في مقام الفعلية، بل يستحيل
تحقق تنافيهما في صورة الترتب.
وقد تعرض السيد الخوئي (حفظه الله) - على ما في المحاضرات - إلى
نقل كلام صاحب الكفاية، والايراد عليه بنحو مفصل (2). ولا موجب لنقل
مناقشته ولكن نشير إلى امرين في كلامه لا يخلوان عن غرابة:
أحدهما: حكمه على صدور اشكال صاحب الكفاية منه بالغرابة. فان ما
ذكره صاحب الكفاية ليس إلا تلخيصا لروح الاشكال على الترتب، وليس
الاشكال على الترتب بذلك قبل تصدي من تأخر لدفعه وحله، امرا يعد غريبا،
فإنه هو الاشكال المتداول المعروف لخصة صاحب الكفاية بما ذكر، فالحكم بغرابة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 135 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 137 - الطبعة الأولى.
425

صدوره عن صاحب الكفاية مساوق لحكمه بغرابة التزامه بعدم صحة الترتب.
ثانيهما: ما ذكره في بيان عدم تحقق الطرد من طرف الأهم فقط، من أن
الامر بالأهم انما يكون طاردا للامر بالمهم لو كان ناظرا إلى متعلقه ومستدعيا
لهدمه، ولكن الفرض أنه غير ناظر إليه وانما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لدفعه.
ووجه غرابته: ان المطاردة لا تتوقف على أن يكون أحدهما مستدعيا لهدم
متعلق الآخر، والا لم يكن بين طلب الضدين في عرض واحد مطاردة لعدم تعرض
أحدهما لمتعلق الآخر، بل كل ناظر إلى متعلقه، وانما هي تتحقق باعتبار مطالبة
كل من الامرين صرف القدرة في متعلقه والمفروض انها قدرة واحدة، فيقع
التزاحم بينهما.
والخلاصة: ليس اشكال صاحب الكفاية سوى الاشكال البدوي
المعهود، فجوابه هو التقريب الذي يقال في تصحيح الترتب، فلا حاجة إلى
تكلف الجواب عنه بنحو آخر. فلا حظ.
ورابعا: ما ذكره في الكفاية أيضا، من أن الالتزام بتعدد الامر بنحو
الترتب هو ترتب العقاب على مخالفة كل من الامرين، فيستحق التارك لكلا
الضدين عقابين لتعدد المعصية بعد فرض تعدد الامر، مع أن استحقاقه عقابين
غير معقول، إذ الجمع بين الضدين ممتنع، فلا معنى لترتب العقاب على ترك
الضدين لأنه عقاب على ما ليس بمقدور.
وبالجملة: فلازم الترتب تعدد العقاب في صورة ترك الضدين وهو
يستلزم العقاب على ترك غير المقدور، وهو عدم فعل الضدين في زمان واحد وهو
محال. فالترتب مما يستلزم المحال (1).
وأجيب عن هذا الاشكال بما ملخصه: ان العقاب ليس على ترك

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 135 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
426

الضدين وعدم فعلهما، فلا يقال له لم لم تفعل الضدين كي يدعى ان فعلهما غير
مقدور فكيف يعاقب على تركه؟، بل العقاب على الجمع بين ترك الضدين،
فيعاقب على تركه كلاهما، بمعنى انه يقال له لم تركت كلا الضدين، ومن الواضح
ان ترك الضدين أمر مقدور له. فان ترك الأهم كان مقدورا له للقدرة على فعله،
فتركه يستلزم استحقاق العقاب، وفي حال تركه يكون فعل المهم مأمورا به وهو
مقدور عليه، فتركه في حال ترك الأهم مقدور، فيصح العقاب عليه.
وبالجملة: فكل من الضدين في حال الامر به مقدور فيكون تركه مستلزما
للعقاب فمع تركه كليهما فقد عصى كلا الامرين فيعاقب على عصيانهما بعقابين
ولا يلزم عن ذلك ترتب العقاب على أمر غير مقدور (1). فالتفت.
هذا تمام الكلام في أصل الترتب اثباتا ونفيا وقد نتج مما ذكرناه صحة
الترتب وعدم ثبوت استحالته.
ويقع الكلام بعد ذلك في بعض ما يتعلق به من مسائل وجهات في ضمن
تنبيهات خمسة.
* * *

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 142 - الطبعة الأولى.
427

تنبيهات الترتب
التنبيه الأول: قد يتساءل متسائل، بان غاية ما ثبت مما تقدم هو صحة وقوع
الترتب وامكانه ثبوتا، ولكنه مما لا دليل عليه إثباتا، إذ لم يرد في لسان أي دليل
ثبوت حكم بنحو الترتب، فلا أثر له لهذا البحث المطنب خارجا.
وقد تنبه لذلك صاحب الكفاية وتابعه غيره، فتصدى للإجابة عن هذا
السؤال بان الترتب لا يحتاج إلى دليل إثباتي خاص، فامكان ثبوته مساوق
لوقوعه لمساعدة مقام الاثبات عليه (1).
وتلخص الدعوى: بان العقدة في مسالة الترتب هو امكانه وتصحيحه
ثبوتا، والا فمقام الاثبات لا يحتاج إلى دليل خاص، بل نفس دليلي الامرين
يكفي في ذلك. بيان ذلك: ان التنافي بين الامرين انما ينشئ من اطلاق دليل كل
منهما، بحيث يثبت الامر في زمان داعوية الآخر. وإذا ثبت ان هذا المعنى غير
معقول فلا بد من علاجه، فاما ان يرفع اليد عن أصل دليل أحدهما، أو يرفع
اليد عن إطلاقه فيقيد ثبوت الامر بحال عصيان الآخر أو ترك متعلقه - كما هي
دعوى الترتب -.
والثاني هو المتعين، إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الدليل مع ارتفاع
التنافي بالتقييد. لان الدليل يتكفل ثبوت الحكم مطلقا. غاية الأمران ذلك غير
معقول، فيرفع اليد عن الاطلاق لا أصل الحكم، إذ دليل أصل الحكم موجود
ولا وجه لرفع اليد عنه.
وبالجملة: الترتب عملية للجمع بين الحكمين اللذين دل الدليل عليهما

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 137 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
428

معا، لعدم امكان الالتزام بهما معا من دون الترتب، فيتعين الالتزام به بمجرد
تصور امكانه، إذ لا وجه لطرح أحد الحكمين مع تصور الوجه المعقول لثبوته
وقيام الدليل على ثبوته.
وبعبارة أخرى: ان دليل الامر بالمهم يتكفل ثبوته مطلقا، وبما أنه ثبت
استحالة ثبوته مع فعلية الأهم يرفع اليد عن الدليل في خصوص ذلك الفرض
للقطع بخلافه، فيبقى الدليل متكفلا للامر بالمهم في غير ذلك الفرض، إذ لا
وجه يقتضي رفع اليد عنه مع حجيته في نفسه. فلا يحتاج الترتب إلى دليل، بل
هو عملية تجري على الدليل الثابت خارجا، ويتعين اجراؤها حيث لا يتصور
غيرها مع المحافظة على نفس الدليل.
التنبيه الثاني: ان الواجبين المتزاحمين يتصوران على انحاء ثلاثة:
الأول: أن يكون كل منهما مضيقا، كالإزالة والصلاة في آخر وقتها.
الثاني: أن يكون كل منهما موسعا، كصلاة اليومية وصلاة الآيات.
الثالث: أن يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا، كصلاة الظهر وإزالة
النجاسة عن المسجد. ولا اشكال في دخول الصورة الأولى في مبحث الترتب،
فإنها محط نظر الأصحاب.
كما لا اشكال في خروج الصورة الثانية عنه، لما سيأتي ان شاء الله تعالى
من بيان خروج هذا النحو عن كبرى التزاحم.
وانما الكلام في الصورة الثالثة:
فقد ذهب المحقق النائيني (رحمه الله) إلى جريان الترتب فيها ودخولها في
مبحثه (1). ووجه هذا الحكم السيد الخوئي (حفظه الله) - كما في المحاضرات -
بأنه مبني على التزامه بان التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة،

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 314 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 373 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
429

فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الاطلاق فيه، وبما أنه يمتنع تقييد الواجب
الموسع بصورة الاتيان بالفرد المزاحم - لمكان التضاد بينهما - امتنع اطلاقه
بالنسبة إليه. وعليه فيقع التزاحم بين اطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب
المضيق، فلا يمكن الجمع بينهما، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما اما اطلاق
الموسع أو خطاب المضيق.
وأورد عليه: بأنه قد عرفت أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من
تقابل العدم والملكة، بل تقابل التضاد، فإذا امتنع التقييد كان الاطلاق ضروريا،
لاستحالة الاهمال في مقام الثبوت.
ويرجع سر ذلك إلى كون الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها
فحقيقته بيان عدم دخل القيد في الموضوع أو المتعلق.
ومن الواضح انه لا مانع من الاطلاق بالنسبة إلى الفرد المزاحم، إذ معناه
عدم دخله في الموضوع كعدم دخل الفرد غير المزاحم وهو مما لا محذور فيه.
وعليه، فلا منافاة بين اطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب.
المضيق (1).
وفي هذا البيان بحث من جهات - مع موافقتنا له في أصل الدعوى، وهو
عدم كون المورد من موارد التزاحم -:
الأولى: في ايراده وبيان ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الاطلاق.
إذ فيه: ما تقدم من أن امتناع التقييد تارة يكون لامتناع الحكم على
الحصة الخاصة. وأخرى يكون لامتناع ثبوت الحكم لخصوصها.
فعلى الأول يمتنع الاطلاق أيضا، لان نتيجته سراية الحكم إلى جميع
الحصص ومنها هذه الحصة.

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 114 - الطبعة الأولى.
430

نعم على الثاني يكون ضروريا. مع أنه يكون ضروريا إذا لم يمكن الحكم
على الحصة المقابلة للحصة التي يمتنع ثبوت الحكم لها، والا لم يكن الاطلاق
ضروريا إذ ثبوت الحكم يتصور على أنحاء ثلاثة: ان يثبت لمطلق الحصص. وان
يثبت لخصوص حصة معينة. وان يثبت لخصوص غير تلك الحصة. فإذا امتنع
ثبوته لخصوص تلك الحصة، كان الامر دائر بين الاحتمالين الآخرين ولم يكن
الاطلاق ضروريا. وما نحن فيه من هذا القبيل، فان تقييد الحكم بصورة غير
الفرد المزاحم لا محذور فيه.
وبالجملة: فما ذكره في الايراد لا يخلو عن خدشة، وهو ناشئ عن تخيل
كون حقيقة الاطلاق مجرد رفض القيود، مع أنه ليس كذلك، بل هو تسرية
الحكم إلى مطلق الافراد وجميعها الملازم لنفي دخالة خصوصية كل فرد في الحكم،
وعليه فلا يكون امتناع التقييد مساوقا لضرورة الاطلاق وشمول الحكم للفرض
الذي يمتنع تقييده به.
الثانية: ان امتناع ثبوت الاطلاق والمحذور فيه ليس إلا عدم توفر القدرة
على متعلقه عند الفرد المزاحم، فالمحذور فيه هو عدم القدرة من جهة المزاحم.
ومن البين انه قد مر الكلام في ذلك مفصلا عند التعرض لكلام المحقق
الكركي، وقد تعرض القائل لحل الاشكال هناك، فلا يظهر لنا الوجه في عدم
تنبيهه هنا على ذلك وعدم إحالة الامر في هذه الصورة إلى ما تقدم.
الثالثة: - وهي المهمة في المقام - ان المحقق النائيني (قدس سره) اكد
مرارا على أن المحذور المستلزم لتزاحم الواجبين إنما هو من اطلاق كل من
الواجبين وهو يرتفع بالترتب، فلا معنى بعد تأكيده على ذلك لتوجيه ذهابه إلى
جريان الترتب في هذه الصورة بكون المحذور في التقييد وهو يستلزم المحذور في
الاطلاق.
وبعبارة أخرى: المقصود تطبيق مسالة الترتب على هذه الصورة،
431

والمفروض ان نظره في اجراء عملية الترتب هو رفع التزاحم بين الحكمين
الناشئ من الاطلاقين، فامتناع الاطلاقين من جهة أدائهما إلى التزاحم، فلا
معنى لتوجيه انطباق الترتب في هذه الصورة بان امتناع الاطلاق من جهة
امتناع التقييد، إذ لو كان نظره إلى هذه الجهة لتأتى نفس البيان بالنسبة إلى
المضيقين، فيقال: انه يمتنع تقييد كل منهما بصورة وجود الآخر، فيمتنع الاطلاق،
فيقع التزاحم بين الاطلاقين.
وبالجملة: لا وجه لتركيز كون المحذور في التقييد. فتدبر.
التنبيه الثالث: ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى عدم جريان
الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا.
ووجهه في بعض كلماته: بان الترتب يتوقف على احراز الملاك في الواجب
المهم حال المزاحمة، وإذا كان أحد الواجبين مقيدا بالقدرة الشرعية - ومعناه
القدرة العرفية على الشئ التي هي أخص من القدرة العقلية، فإنها القدرة على
الشئ من دون مشقة - يرتفع موضوعه بالواجب الآخر، لعدم القدرة عليه
بواسطة المزاحمة، وعليه فلا يكون واجدا للملاك حال المزاحمة لعدم حصول شرط
وجوبه الدخيل في ثبوت ملاكه.
اما وجه لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة، فهو لاجل إثبات الامر
بمجرد ارتفاع المزاحمة بالعصيان، لان المقتضي موجود والمانع وهو المزاحم مفقود.
فلا يحتاج ثبوت الامر إلى دليل آخر. ومن هنا التزم بان امكان الترتب مساوق
لوقوعه من دون احتياج إلى دليل الاثبات، لتمامية جهات ثبوت الامر على
الترتب.
وأورد على هذا الوجه بإنكار لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة إذ
لا وجه له. اما توجيهه بان ذلك لاجل ثبوت الامر بمجرد ارتفاع المزاحمة. فهو
يندفع: بأنه قد عرفت أن طريق ثبوت الامر الترتبي هو نفس دليل كل من
432

الواجبين كما تقدم توضيحه. بل ادعى انه بناء على أنه لا طريق لاحراز الملاك
سوى الامر يمتنع توقف الترتب على وجود الملاك حال المزاحمة لاستلزامه الدور،
لان تعلق الامر يتوقف على ثبوت الملاك وثبوت الملاك يتوقف على تعلق الامر
فيلزم الدور (1).
ولا يخفى انه (قدس سره) وان اقتصر في بعض كلماته على توجيه المقام
بما عرفت، لكنه ذكر في موضع آخر ما يمكن توجيه المقام به بنحو لا يرد عليه
ما عرفت.
بيان ذلك: ان الواجب إذا اخذ في موضوع وجوبه القدرة، فيراد بها
القدرة العرفية - كسائر ما يؤخذ في موضوع الحكم في لسان الدليل، فإنه يراد
به المعنى العرفي - ومن الواضح انه إذا ورد المنع الشرعي عن الفعل لا يكون
مقدورا عرفا، وان كان مقدورا عقلا، إذ القدرة العرفية هي التمكن على الشئ
من دون مشقة ودون منع شرعي. وعليه يكون المنع الشرعي رافعا لموضوع
الوجوب فلا يثبت.
وبما أن أحد الواجبين المتزاحمين - فيما نحن فيه - يكون مقيدا بالقدرة
شرعا، وهو الوضوء عند تزاحمه بوجوب حفظ النفس المحترمة، كان وجوب
الآخر المطلق رافعا لموضوعه ونافيا له بذلك، فلا يبقى موضوع الحكم المقيد عند
وجود الوجوب الآخر كي يدعى التمسك بالاطلاق في اثباته حال العصيان
لوجود الوجوب الآخر.
فملخص البيانين: ان ثبوت الامر بالمهم في حال العصيان اما أن يكون
بالملاك أو بالاطلاق وكلاهما منتف.
لعدم الملاك بعد ارتفاع موضوعه.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 272 - الطبعة الأولى.
433

وتوقف شمول الاطلاق على احراز الموضوع. وهو منتف لان الامر
بوجوده مانع عن القدرة عرفا.
وقد وقع هذا البيان - أعني الثاني - موقع الاشكال، ومحصله: ان الامر
بأحدهما المطلق لا يكون مانعا عن القدرة على الآخر المقيد بها بوجوده، بل انما
يكون مانعا إذا وصل إلى مرحلة الداعوية والتأثير، وهي منتفية في حال العصيان،
فيكون الموضوع حال العصيان موجودا، فيشمله الاطلاق بناء على الترتب فلا
مانع من الالتزام بالترتب ههنا.
ولكنه يمكن المناقشة فيه ومنع جريان الترتب في مثل الفرض وموافقة
المحقق النائيني في ذلك. وذلك بتقريب: ان فرض الترتب يختلف عن هذا
الفرض، فان الترتب انما يفرض فيما إذا كان كل من الواجبين تام الموضوع
بحيث يثبت وجوبه لولا المزاحم، فليس المحذور سوى تزاحم الوجوبين فيعالج
بالترتب، وليس الامر كذلك في الفرض، إذ ليس الموضوع تاما في كلا الوجوبين،
لان وجود الامر بنفسه يكون رافعا للقدرة العرفية - فيكون الامر المطلق رافعا
لموضوع الامر المقيد بالقدرة، فتكون نسبته إليه نسبة الوارد إلى المورود - فلا
يقال عرفا لمن هو منهي عن العمل أنه قادر عليه وان كان عاصيا له بحيث لو
أقدم يقال إنه أقدم مع عدم تمكنه للنهي.
ويشهد لذلك: انه لو جاء بالتيمم قبل أن يصرف الماء في الواجب الآخر
- أعني حفظ النفس المحترمة - كان مشروعا، ولا يلتزم أحد ببطلانه. وهذا يعني
صدق عنوان غير الواجد للماء على المكلف، فلو أريد تصحيح الوضوء والحال
هذه - بالترتب - لزم ان يفرض تحقق عنوان الواجد كي يكون موضوعا
للوجوب.
ومن الواضح ان صدق عنوان الواجد وغير الواجد في زمان واحد غير
معقول.
434

ولعل النكتة في توهم كون المقام كسائر موارد الترتب هو الخلط بين
القدرة على متعلق الحكم والقدرة على استعمال الماء المفروض أنها موضوع
وجوب الوضوء.
ويمكن ان يقرب عدم جريان الترتب في خصوص مسالة الوضوء بنحو
آخر: وهو ان يقال ان موضوع وجوب التيمم غير الواجد. ومن الواضح ان
الوضوء لا يكون واجبا في المورد الذي يجب فيه التيمم، سواء كان موضوعه
الواجد أو لم يكن موضوعه ذلك. وعليه فبالأمر الشرعي باستعمال الماء في غير
الوضوء يصدق عنوان غير الواجد فيثبت وجوب التيمم، وبثبوته يثبت عدم
وجوب الوضوء فالدليل الدال على لزوم استعمال الماء في سبيل حفظ النفس
المحترمة يكشف بالملازمة عن عدم وجوب الوضوء لاثباته وجوب التيمم باثبات
موضوعه، والمفروض ان دليل وجوب الوضوء مقيد بمورد لا يثبت فيه وجوب
التيمم، فلا مزاحمة بين وجوب صرف الماء في سبيل حفظ النفس المحترمة
ووجوب الوضوء، لان دليله دال بالملازمة على نفي وجوب الوضوء، فلا تصل
النوبة إلى المزاحمة بين الوجوبين.
واعلم أن المستشكل على نفي الترتب في الفرض المذكور ذكر فيما لو
تزاحم وجوب الحج مع وجوب أداء الدين: انه لو كان المعتبر في موضوع وجوب
الحج هو التمكن من أداء فريضة الحج كان وجوب الدين رافعا لموضوعه، فلا
يجب الحج لارتفاع موضوعه، كما أنه لا مجال للترتب حينئذ. وان كان المعتبر في
موضوع وجوب الحج هو التمكن من الزاد والراحلة فقط، فيقع التزاحم بين
الوجوبين، لان التمكن من الزاد والراحلة حاصل فعلا فيثبت موضوع وجوب
الحج ويجري الترتب حينئذ. ثم اختار ان الأقوى الثاني لدلالة النصوص عليه.
وهذا الكلام غير واضح، لان التفرقة بين الصورتين غير وجيهة، إذ المعتبر
في كلتا الصورتين هو التمكن، غاية الامر انه معتبر بقول مطلق في إحداهما
435

ومعتبر بخصوص نوع معين - وهو التمكن من الزاد والراحلة - في الأخرى.
وعليه نقول: اما ان يؤخذ التمكن بالمعنى العقلي، فالموضوع في كلا الفرضين
ثابت. واما ان يؤخذ بالمعنى العرفي فهو في كليهما غير ثابت، إذ مع وجوب أداء
الدين لا تمكن عرفا من الزاد والراحلة. ثم لنا سؤال الفرق بين مثال الحج لو
كان موضوع وجوبه التمكن على أداء الفريضة، ومثال الوضوء المأخوذ في
موضوعه وجدان الماء، حيث التزم بعدم جريان الترتب في الأول وجريانه في
الثاني، مع أن نسبة الامر الآخر إلى موضوع كل منهما على حد سواء في كلا
الموردين، فإن كان الامر بوجوده رافعا للموضوع لزم انكار الترتب في مسالة
الوضوء، وان كان بداعويته رافعا للموضوع لزم اثبات الترتب في مسالة الحج.
فالتفت ولا تغفل.
التنبيه الرابع: لا يخفى ان الترتب انما يجري فيما إذا تعلق الأمران
بالضدين اللذين لهما ثالث، كالصلاة وإزالة النجاسة وكانقاذ غريقين. اما إذا
تعلق الأمران بالضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون، فلا يتأتى الترتب
بينهما، لان ترك أو عصيان أحدهما يتحقق بفعل الآخر فلا معنى لتعلق الامر به
في ذلك الحال.
وهذا الامر كبرويا واضح لا غبار عليه ولا شبهة فيه. وانما الاشكال في
بعض الموارد التي وقع الخلاف في أنها من صغريات ذلك أو لا؟ وذلك كمسألة ما
إذا أخفت في موضوع الجهر وجهر في موضع الاخفات، فإنه قد ورد بان ذلك إذا
كان عن جهل تقصيري كان عاصيا وصحت صلاته (1)، فوقع الكلام في الجمع
بين ثبوت العصيان وتعلق الامر بما أتى به من الصلاة، ويحقق الكلام في ذلك في
مسالة البراءة والاشتغال.

(1) وسائل الشيعة باب 26 من أبواب القراءة، حديث: 1.
436

وقد ذكر من جملة وجوه الجمع ما ذكره كاشف الغطاء (رحمه الله) من:
تخريج هذا الحكم على الترتب، فالتزم بان الامر متعلق بالاخفات عند عصيان
الامر بالجهر (1).
ولهذه الجهة تعرضنا للبحث في هذه المسالة، لكن بالمقدار المرتبط بمبحث
الترتب دون سائر الجهات فان تحقيقها موكول إلى محله.
وعلى كل: فقد عرفت أن كاشف الغطاء أفاد ان المسالة من مصاديق
الترتب.
وأورد عليه الشيخ في رسائله: بانا لا نتعقل الترتب. واكتفى بهذا المقدار
من البيان (2).
وأورد المحقق النائيني على الشيخ: بالنقض فيما ذكره في مسالة تعارض
الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب من الطرفين.
وقد تقدم منا الدفاع عن الشيخ، وبيان وجهة نظره في تلك المسالة بنحو
لا يتنافى مع انكاره الترتب في مثل ما نحن فيه فراجع (3).
كما أورد المحقق النائيني (رحمه الله) على كاشف الغطاء بوجوه:
منها: ان المسالة ليست من مصاديق الترتب كي يدعى تقرره فيها، لان
الجهر والاخفات عن الضدين اللذين لا ثالث لهما، إذ القارئ لا يخلو عن
أحدهما، وقد ثبت ان الترتب لا يجري في الواجبين المتضادين اللذين لا ثالث
لهما لامتناعه (4).
وأورد عليه في المحاضرات: بان متعلق الامر ليس هو الجهر أو الاخفات،

(1) كاشف الغطاء الشيخ محمد جعفر. كشف الغطاء / 27 - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 309 - الطبعة الأولى.
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 438 - الطبعة الأولى.
(4) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 311 - الطبعة الأولى.
437

بحيث يفرض في موضوع الامرين هو القراءة كي لا يتخلف القارئ عن
أحدهما، بل متعلق الامر هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية. ومن الواضح
انهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما، إذ المكلف قادر على تركهما معا بترك
أصل القراءة (1).
وهذا الايراد غير متوجه، إذ الفرض الذي يبحث فيه في المقام فرض
معين يقصد إثبات الامر فيه، وهو فرض تحقق القراءة الإخفاتية، فالمأخوذ في
الموضوع هو القارئ بنحو اخفاتي، وليس الموضوع مطلق المكلف فيؤمر
بالصلاة الجهرية والاخفاتية بنحو الترتب، إذ لا يلتزم أحد بلزوم الصلاة
الإخفاتية بمجرد ترك الجهرية، كما لا يلتزم أحد بثبوت عقابين على ترك كلتا
الصلاتين كما أنه ليس الموضوع هو المصلي فيؤمر بالقراءة الجهرية والاخفاتية
بنحو الترتب، إذ لو ترك أصل القراءة في الصلاة لا يلتزم أحد بأنه مكلف
بالقراءة الإخفاتية لتحقق موضوع الامر بها. إذن فالكلام موضوعه القارئ
الذي قرا اخفاتا بدل الجهر. ومن الواضح ان القارئ لا يخلو حاله عن أحد
الوصفين كما اعترف به نفس المستشكل، فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما
فلا يتأتى الترتب.
وبالجملة: المفروض هو الجاهل المقصر الذي جاء بالقراءة الإخفاتية لا
الذي ترك القراءة الجهرية، فقد أخذ في الفرض موضوعية القارئ اخفاتا لا
تارك القراءة جهرا - فتدبر - وليس المقصود تطبيق الترتب بين القراءتين في سائر
الصور كي يتأتى الايراد المذكور.
ومنها: ان الامر انما يصير فعليا باحراز موضوعه وبدونه لا يكون فعليا
كما لا يخفى. وعليه فإذا كان موضوعه مما لا يقبل الاحراز بان كان احرازه

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 167 - الطبعة الأولى.
438

مساوقا لانعدامه لم يعقل ترتيب الحكم عليه للغوية جعله بعد أن كان بما لا يصل
إلى مرحلة الفعلية، ولأجل ذلك يمتنع اخذ النسيان والغفلة موضوعا لحكم من
الاحكام، لان احراز نسيان الشئ والالتفات إليه يلازم ارتفاع النسيان
وانعدامه كما لا يخفى، فلا يصل الحكم المرتب عليه إلى مرحلة الفعلية في حال
من الأحوال فيكون جعله لغوا. وما نحن فيه من هذا القبيل، لان العلم بعصيان
الامر بالجهر مساوق لارتفاع الجهل ومعرفة لزوم الجهر عليه فلا يتحقق منه
العصيان، فيمتنع تعليق الحكم على العصيان في الفرض لعدم صيرورته فعليا
أصلا فيكون لغوا (1).
ويمكن المناقشة في هذا الوجه: بأنه انما يلزم ويتم لو كان المأخوذ في الامر
بالاخفات عصيان الامر بالجهر. اما إذا اخذ في موضوعه ترك الجهر فلا يتم ما
ذكر، لامكان العلم بترك الجهر والالتفات إليه مع الجهل بوجوبه فيكون الحكم
فعليا.
وقد عرفت أن تقييد الامر بالمهم بعصيان الامر بالأهم بلا ملزم، بل
يمكن تقييده بترك الأهم لارتفاع التزاحم به، فليلتزم فيما نحن فيه بذلك.
وعليه، فالايراد الأول هو المتوجه دون الثاني. ونضيف إليه محذورا آخر
في جريان الترتب، وهو: ان عصيان الامر بالجهر أو تركه لا يكون في الفرض
الا بالاتيان بالاخفات. وعليه فيمتنع ان يتعلق به الامر معلقا على عصيان الامر
بالجهر أو تركه، لكون المفروض ان العصيان معلول القراءة الإخفاتية، فكيف
تتفرع القراءة الإخفاتية على العصيان لتفرع الامر بها عليه وهي متفرعة على
الامر؟!.
بيان ذلك: ان توجيه صحة الصلاة الإخفاتية مع تحقق العصيان انما

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 311 - الطبعة الأولى.
439

يكون ببيان ان الصلاة الإخفاتية تفي بمقدار من المصلحة الملزمة بنحو لا مجال
حينئذ لتدارك الباقي من مصلحة الجهر مع لزومه، والا فيؤمر بالجهر حينئذ،
فالحال فيهما نظير أكل الشخص المأمور بالأكل الجيد، للنوع الردئ الموجب
للشبع فلا يبقى معه مجال للأكل الجيد فيسقط الامر به مع مؤاخذته لتفويته
مصلحة الجيد الملزمة.
وعليه، فثبوت الامر بالاخفات انما يكون في الفرض الذي لا يبقى مجال
لاستيفاء مصلحة الجهر، والا فيؤمر به لا بالاخفات. وليس ذلك الا حال الاتيان
بالاخفات، إذ قبل الاتيان به إما ان يترك الجهر آنا ما أو يترك الصلاة بالمرة إلى
آخر الوقت. اما تركه الجهر في بعض الوقت فلا يكون موضوعا لوجوب
الاخفات، إذ لا يلتزم أحد بأنه متى ما اخر المكلف صلاته الجهرية عن أول
الوقت كلف بالاخفات، كما أنه لا معنى للامر به مع امكان استيفاء مصلحة
الجهر. واما لو ترك الصلاة بالمرة فكذلك لا يكون مكلفا بالصلاة الإخفاتية
لخروج الوقت ولا يكشف ذلك عنه، فموضوع الامر بالاخفات هو الترك أو
العصيان المساوق لاستيفاء بعض المصلحة وعدم امكان استيفاء الباقي منها،
وذلك لا يكون إلا بالاتيان بالصلاة اخفاتا. فيلزم ان يعلق الامر بالشئ على
الترك المتحقق بذلك الشئ وهو مما لا اشكال بامتناعه. ومن الواضح ان هذا
المحذور لا يبتني على أن يكون الجهر والاخفات من الضدين اللذين لا ثالث
لهما، إذ هو يتأتى حتى بناء على أن الامر يتعلق بالقراءة الجهرية والاخفاتية، أو
بالصلاة الجهرية والاخفاتية، لأنه ينشأ من تقييد الامر بالاخفات بالترك
الخاص لا بمطلق الترك. فالتفت.
التنبيه الخامس: لا يخفى ان الترتب انما يجري لرفع محذور التزاحم بين
الحكمين، فلو كان في اجتماع الحكمين محذور آخر غير التزاحم فلا يرفعه
الترتب، كما لو لزم من اجتماع الحكمين اجتماع الضدين في شئ واحد. مثاله:
440

ما لو التزم باقتضاء الامر بالشئ للنهي عن ضده الخاص، فيكون الامر بكل
من الضدين مقتضيا لتعلق النهي بالضد الآخر، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في
كل من الضدين. ومن الواضح انه لا يرتفع ذلك بالترتب، لان الامر بكل منهما
في حال عصيان الأهم ثابت، فيثبت منه نهي عن كل منهما. فيجتمع الضدان في
شئ واحد.
الا انه ذكر المثال بنحو آخر وهو: اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهم،
لان الترك مقدمة للواجب الأهم، فهو واجب كما أنه نقيض الواجب فيكون
محرما. وهو غير مهم في المقام. فانتبه.
وقد تعرض إلى بيان هذه الجهة المحقق الأصفهاني (رحمه الله) (1).
وهو في نفسه متين: الا ان لنا مناقشة مع المحقق المذكور ترجع إلى عالم
الاصطلاح والتعبير، فإنها وإن لم تكن أساسية دخيلة في أصل المطلب، الا انه
(قدس سره) لالتزامه بالتعبير عن المطالب بالألفاظ المناسبة لها بنحو الدقة،
ولذا يستشكل كثيرا على التعبير عن بعض المطالب ببعض الألفاظ ويبني على
ابدالها بلفظ آخر - لاجل ذلك - كان موردا لما سنبينه من المناقشة. وبيان ذلك:
ان الثابت أن الاحكام بما انها أمور اعتبارية لا تضاد بينها بأنفسها - مع الغض
عن المبدأ والمنتهى -، لان الاعتبار خفيف المؤنة فلا محذور في اعتبار الأحكام الخمسة
في شئ واحد، الا انه يقع التضاد بين الاحكام من جهة المبدأ، فان
اعتبار الوجوب حيث ينشأ من تعلق الإرادة بالفعل يكون مضادا لاعتبار
الحرمة. حيث إنه ينشأ من تعلق الكراهة بالعمل، فالحرمة والوجوب متضادان
من جهة مبدأهما.
وقد أنكر البعض وقوع التضاد من جهة مبدأ الاحكام وحصره من جهة

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 244 - الطبعة الأولى.
441

مقام الامتثال، فذكر: ان التضاد بين الحرمة والوجوب من جهة ان الحرمة تقتضي
زجر المكلف عن العمل وردعه، والوجوب يقتضي بعثه ومحركيته نحو العمل،
والزجر والبعث لا يجتمعان، فهما إذن ضدان من جهة مقام الامتثال المعبر عنه
بحيثية المنتهى.
وقد ذهب إلى ذلك المحقق الأصفهاني وهو المتفرد بذلك من
الأصوليين (1).
وعليه، فليس محذور اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين سوى
تزاحمهما في مقام الداعوية والمحركية، إلا أن الترتب لا يرفع هذا التزاحم
لامتناعه، لان ترك أو عصيان أحد الامرين مساوق للاتيان بمتعلق الحكم
الآخر، فعصيان الحرمة مساوق لنفس الفعل كما أن عصيان الوجوب مساوق
للترك. فيمتنع الترتب حينئذ لاستلزامه طلب الحاصل.
فكان ينبغي على المحقق الأصفهاني ان يذكر: ان الترتب لا يجري في
مثل هذا التزاحم، وهو التزاحم في فعل واحد بملاك عدم جريانه في مورد
التزاحم في الضدين اللذين لا ثالث لهما، لا ان الترتب انما يرفع محذور التزاحم
دون غيره. فلاحظ وانتبه.
التنبيه السادس: إذا كان أحد المتزاحمين أسبق زمانا من الاخر، كما إذا
فرض عدم قدرة المكلف الا على قيام واحد يصرفه في صلاة الظهر أو صلاة
العصر، فيتزاحم وجوب القيام في كل منهما مع وجوبه في الأخرى.
وقد مثل المحقق النائيني (قدس سره) لذلك بمثال آخر، وهو: فرض عدم
قدرة المكلف الا على القيام في الركعة الأولى أو الثانية (2).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 42 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 318 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد على. فوائد الأصول 1 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
442

وبما أن هذا المثال خارج عن موارد التزاحم كما سيأتي بيانه ان شاء الله
تعالى في ضابط التزاحم، نقتصر في موضوع الحديث على المثال الأول.
فنقول: انه إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب الفعلي، فهل يمكن
الالتزام بالترتب أو لا؟. بمعنى انه يلتزم بكون وجوب القيام في الواجب الفعلي
كالظهر في المثال مترتبا على عصيان الامر بالقيام في الواجب المتأخر كالعصر.
ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى امتناع الترتب في المقام لوجهين:
الأول: ان تعليق الامر الفعلي على عصيان الامر المتأخر لا بد وأن يكون
بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر - كما هو واضح جدا - وهو ممتنع كما قرر في
محله. نعم تعليق الامر الفعلي على تعقب العصيان، فيكون الشرط هو عنوان
التعقب لا نفس العصيان، أمر معقول لكنه يحتاج إلى دليل خاص، والا فنفس
امكان الترتب لا يقتضيه، وليس لدينا ما يدل على شرطية التعقب.
الثاني: ان أساس جواز الترتب هو كون المهم في ظرف عصيان الأهم
مقدورا وقابلا لتعلق الخطاب به، وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه، فان
عصيان الامر المتأخر لا يوجب مقدورية المهم فعلا، لحكم العقل فعلا بحفظ
القدرة للواجب المتأخر الأهم، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدم القدرة بالترتب
بعد وجود حكم العقل الفعلي بحفظ القدرة وهو رافع للقدرة على القيام فعلا
ومزاحم للامر بالمهم.
ويمكننا ان نقول: ان نظر المحقق النائيني (قدس سره) في هذا الوجه
إلى أن طرف المزاحمة في الحقيقة ليس هو الوجوب المتأخر كي تدفع باجراء
عملية الترتب، لان داعويته متأخرة فلا تزاحم داعوية الامر بالمهم الفعلي. وانما
طرف المزاحمة هو الوجوب العقلي الفعلي المتعلق بحفظ القدرة للواجب المتأخر،
فليس مقصوده ان طرف المزاحمة كلا الوجوبين، فاجراء الترتب بين المهم
واحدهما لا ينفع بعد وجود المزاحم الآخر.
443

وقد يقال: باجراء عملية الترتب بين وجوب المهم ووجوب حفظ القدرة،
فيلتزم بتعليق وجوب الظهر قائما - مثلا - على عصيان وجوب حفظ القدرة على
القيام للعصر. فيرتفع التزاحم بين هذين الحكمين
ومنعه (قدس سره): بان المهم - كالقيام للظهر - من افراد عصيان الحكم
بلزوم حفظ القدرة، فيمتنع ان يعلق الخطاب به على عصيان وجوب حفظ القدرة،
لان عصيان وجوب حفظ القدرة انما يتحقق بصرفها، اما في نفس القيام للظهر
أو في فعل وجودي آخر كحمل الثقيل.
وعليه نقول: ان شرط الخطاب بالمهم اما أن يكون صرف القدرة في نفس
القيام، فيلزم منه تعلق الحكم بشئ على تقدير وجوده وهو محال. واما أن يكون
صرف القدرة في فعل آخر، فلا يكون المهم مقدورا حينئذ، فيستحيل تعلق
الطلب به على هذا التقدير.
وهذا الامر مطرد في كل ما كان المهم من افراد عصيان الأهم. فتدبر (1).
فتحصل: ان في اجراء الترتب في ما نحن فيه جهات من الاشكال:
اما الجهة الأولى: وهي كون الترتب مستلزما للشرط المتأخر وهو ممتنع،
وشرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل. فهي قابلة للمناقشة بان
شرطية عنوان التعقب لا تحتاج إلى دليل خاص كشرطية نفس العصيان، فإنه
مقتضي دليل الحكمين، لأنه بعد أن امتنع الالتزام باطلاق كلا الدليلين بالنسبة
إلى حال تعقب أحدهما بعصيان الآخر وعدم تعقبه، وكان تقييد أحدهما بتعقبه
بعصيان الآخر رافعا للمحذور، تعين الالتزام بذلك، إذ لا موجب لطرح الدليل
المطلق رأسا إذا أمكن الالتزام به في بعض موارده.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 318 - 320 - الطبعة الأولى.
الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 380 - 383 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
444

وبالجملة: التقريب الذي يذكر لاخذ العصيان شرطا من دون دليل
خاص عينه يأتي في اخذ عنوان التعقب فلا حاجة بنا إلى الإطالة.
وقد تعرض المحقق النائيني إلى ذلك في بعض كلماته في مكان آخر. وذكره
السيد الخوئي (1) أيضا.
ومن العجيب ما ورد في تعليقة أجود التقريرات للسيد الخوئي من:
انتهائه إلى جواز الترتب في المقام بعد دفعه الجهة الأولى من الاشكال، مما يظهر
منه انه فهم من كلام أستاذه النائيني انحصار المحذور في هذه الجهة، فاندفاعه
يستلزم الالتزام بالجواز، مع انك عرفت أن عمدة المحذور هو الجهة الثانية كما لا
يخفى على من لاحظ " أجود التقريرات " (2).
واما الجهة الثانية: فقد يورد على التقرير الأول لها، بان تقييد الامر
بالمهم بعصيان الأهم يرفع مزاحمة وجوب حفظ القدرة للامر بالمهم، لان وجوب
حفظ القدرة وجوب طريقي للتمكن من امتثال الامر بالأهم، فهو نظير
الوجوب الغيري المقدمي ينشئ بمقتضى وجود الامر بالأهم. وعليه فهو يتبعه
في الداعوية الفعلية، فإذا لم يكن الامر بالأهم ذا داعوية فعلية في ظرفه لم يكن
وجوب حفظ القدرة ذا داعوية فعلية نحو متعلقه، فإذا قيد الامر بالمهم بعصيان
الأهم في وقته، فقد قيد بعدم داعوية الأهم، فإذا علم المكلف بتحقق العصيان
منه لم يكن وجوب حفظ القدرة فعلا ذا داعوية فعلية، فيثبت الامر بالمهم من
دون مزاحم.
وبالجملة: باجراء عملية الترتب بين الامر بالمهم والامر بالأهم ترتفع
المزاحمة بين الامر بالمهم والامر بحفظ القدرة للأهم من دون تقييد للامر بالمهم

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 322 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 318 - الطبعة الأولى.
445

بعصيان الامر بحفظ القدرة، بل يبقى على ما هو عليه من الاطلاق من هذه
الجهة، إلا أن نتيجة تقييده بالعصيان متحققة، لعدم داعويته الفعلية مع عصيان
الامر بالأهم.
ولكنه يخدش بوجهين:
الأول: ان أساس عملية الترتب على أنه مع امتثال الامر الأهم والاتيان
بمتعلقه يرتفع الامر بالمهم، لان ذلك هو الذي يرفع التزاحم بين الامرين. وهذا
المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه بين الامر بحفظ القدرة والامر بالمهم، فان الامر
بالمهم موجود مع الاتيان بمتعلق الامر بحفظ القدرة فيما لو بنى على عصيان
الامر بالأهم لتحقق شرط الامر بالمهم. فيقع التزاحم بينهما، فلا يترتب أثر
الترتب المرغوب ونتيجته المطلوب بين الامر بالمهم والامر بحفظ القدرة، باجراء
عملية الترتب بين الامر بالأهم والامر بالمهم.
نعم لو كان الامر بالمهم يرتفع بالاتيان بمتعلق الامر بحفظ القدرة من
دون تقييده بعصيانه كان لما ذكر وجه، ولكن الامر ليس كذلك كما عرفت.
الثاني: ان ما ذكر من ارتباط وتبعية داعوية الامر بحفظ القدرة لداعوية
الامر بالأهم في ظرفه غير وجيهة، فإنه من الممكن عقلا أن يكون الامر بحفظ
القدرة داعيا مع عدم داعوية الامر بالأهم، نعم ذلك غير واقع لمنافاته لسيرة
العقلاء لأنه عمل غير عقلائي لا انه غير ممكن، وقد عرفت أن ذلك لا يدفع
محذور اجتماع الامرين بالضدين، وانما الذي يدفعه هو فرض داعوية أحدهما
في فرض لا يمكن أن يكون الاخر داعيا، لا انه لا يكون الآخر داعيا مع
امكانه، إذ مع امكان داعويته يمكن ان يصل كل منهما إلى مرحلة الفعلية في مقام
التأثير فيقع التزاحم.
وبالجملة: الامر بالمهم والامر بحفظ القدرة يمكن أن يكون كل منهما
داعيا فعلا إلى متعلقه في زمان واحد، وذلك هو محذور التزاحم.
446

ولا يخفى ان الايراد المذكور لا يتوجه على التقرير الثاني لكلام النائيني
(قدس سره) لعدم فرض المزاحمة فيه بين الامر بالمهم والامر بالأهم، وانما هي
بين الامر بالمهم والامر بحفظ القدرة رأسا، فلا يتجه تقييد الامر بالمهم بعصيان
الامر بالأهم المتأخر.
والذي يظهر من " المحاضرات " - بالنظرة العاجلة - ان نظر المحقق
النائيني في الجهة الثانية من الاشكال هو فرض المحذور في لزوم اجتماع الحكمين
- أعني الحكم بوجوب المهم والحكم بوجوب حفظ القدرة للأهم - في زمان واحد،
فأورد عليه: بان هذا لازم عملية الترتب في سائر الموارد، بل أساس الترتب
لتصحيح اجتماع الحكمين في زمان واحد، فالالتزام بامتناع الترتب هنا لاجل هذا
اللازم يستدعي الالتزام بامتناعه مطلقا لاجل هذا اللازم أيضا (1).
وهذا عجيب جدا، فان نظر المحقق النائيني ليس إلى مجرد اجتماع
الحكمين كي ينقض عليه بمطلق موارد الترتب، بل إلى التزاحم الواقع بينهما
لاطلاق كل منهما بالإضافة إلى الآخر، وهذا المعنى لا يوجد في مطلق موارد
الترتب لارتفاع التزاحم بين الحكمين بواسطة عملية الترتب، وهذا ظاهر بأدنى
ملاحظة لكلام المحقق النائيني. فراجع.
واما الجهة الثالثة: فقد أورد عليها السيد الخوئي كما في " المحاضرات " -
بعد الاسهاب في بيانها -، بأنه إنما يتم ذلك لو فرض ان عدم حفظ القدرة انما
يكون بنفس القيام وعينه، بحيث تكون نسبتهما نسبة المتناقضين، فمع ارتفاع
أحدهما وعدمه يتحقق الآخر ويكون تقدير عدم أحدهما عين تقدير الآخر،
ولكن الامر ليس كذلك، فان عدم حفظ القدرة وتركه يلازم القيام لا عينه،
ومن الواضح صحة الامر بأحد افراد اللازم على تقدير تحقق ملازمه، فيصح

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 348 - الطبعة الأولى.
447

الامر بالقيام بصلاة الظهر على تقدير ترك حفظ القدرة، إذ لا يكون ذلك من
الامر بشئ على تقدير حصوله ووجوده، لما عرفت من أن ترك حفظ القدرة
ليس عين القيام. فحال القيام لصلاة الظهر حال الصلاة على تقدير ترك الإزالة،
إذ المكلف على تقدير تركها لا يخلو عن حال اما فعل الصلاة أو فعل آخر
ولا أقل من السكون. هذا ملخص ما جاء في المحاضرات (1).
وهو غير سديد، فان حفظ القدرة وابقاءها وان كان عنوانا ثبوتيا، لكنه
لا واقع له غير العدم، فواقعه عدم صرف القدرة في شئ آخر، فهو نظير
العصيان الذي واقعه عدم امتثال المأمور به مع أنه عنوان ثبوتي، ونظير الفوت
الذي واقعه عدم الاتيان بالمأمور به مع جهة استقراره عليه، مع أنه عنوان ثبوتي،
ولذلك لا يثبت بالأصل الجاري في عدم الاتيان. فليس واقع هذه العناوين
الثبوتية سوى العدم ليس إلا. وإذا تبين ان حفظ القدرة من الأمور التي واقعها
العدم، وهو عدم صرف القدرة في شئ آخر، لا ان لها واقعا وجوديا كسائر الأمور
الوجودية، ولأجل ذلك لا يعبر عنه الا بالمعنى العدمي الذي عرفته - كما لا يعبر
عن العصيان والفوت إلا به -.
إذا تبين ذلك تعرف ان عدم حفظ القدرة يتحقق بنفس صرفها في فعل
آخر لا انه لازم للعدم، وإذا كان الامر كذلك امتنع تعليق الامر بالقيام لصلاة
الظهر على ترك حفظ القدرة عليه لصلاة العصر، لان مرجع ذلك إلى تعليق
الامر بالقيام على تحقق القيام لصلاة الظهر أو في غيرها من الأفعال، وعلى كلا
الحالين يمتنع تعلق الامر به، فلاحظ.
التنبيه السابع: في جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها. كما لو
كانت هناك مقدمة محرمة لواجب أهم، كالاجتياز في الأرض المغصوبة لانقاذ

(1) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 350 - الطبعة الأولى.
448

الغريق، فإنه لا اشكال في ارتفاع الحرمة لو جاء بالواجب بعد تحقق المقدمة
واتصاف المقدمة بالوجوب الغيري - على القول به -، كما أنه لا إشكال بينهم
فتوى في حرمة المقدمة لو لم يتحقق الواجب بعد المقدمة، فيرون ان الدخول إلى
الأرض المغصوبة محرم إذا لم يكن لاجل ان يترتب الواجب عليه، وقد وقع
البحث في تعليل ذلك، مع أن الدخول في الأرض المغصوبة لا يخرج بذلك عن
كونه مقدمة والمفروض انها واجبة.
فذهب الشيخ إلى: ان حرمتها لاجل اعتبار قصد التوصل إلى الواجب
في وجوب المقدمة، وهو منتف في الفرض فتكون المقدمة على حكمها الأول (1).
كما ذهب صاحب الفصول إلى: اعتبار الايصال في وجوب المقدمة، وهو
منتف فيما نحن فيه، فتكون المقدمة على حكمها الأول.
وقد مر الكلام في كلا القولين مفصلا.
وبما أن المحقق النائيني ممن تبع صاحب الكفاية في الالتزام بوجوب
مطلق المقدمة وعدم اختصاصه بحصة منها دون أخرى، خرج هذا الفرض على
مسالة الترتب، فذهب إلى: ان حرمة المقدمة مترتبة على عصيان وجوب ذي
المقدمة، فعند عدم الاتيان بذي المقدمة تكون المقدمة محرمة بحكم الترتب.
إلا أن اجراء الترتب في المقام يرد عليه لأول وهلة ايرادان:
أحدهما: استلزامه اما الالتزام بالشرط المتأخر الممتنع لو فرض ان
المرتب عليه حرمة المقدمة فعلا هو عصيان وجوب ذي المقدمة. واما الالتزام بما
يحتاج إلى دليل خاص وهو غير موجود لو فرض ان المعلق عليه حرمة المقدمة
هو عنوان التعقب بعصيان وجوب ذيها.
ثانيهما: استلزامه اجتماع الحكمين المتضادين وهما الوجوب والحرمة، لان

(1) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار / 72 - الطبعة الأولى.
449

المقدمة على الفرض محرمة لتحقق المعلق عليه في الخارج وهو التعقب لو فرض
اخذه شرطا، كما انها واجبة بالوجوب الغيري لان الوجوب النفسي قبل تحقق
العصيان موجود فيترشح منه وجوب غيري على المقدمة، فيجتمع الحكمان
المتضادان في المقدمة في زمان واحد. وهو محال.
وقد تخلص المحقق النائيني من هذين الايرادين بعد تقديم مقدمتين:
إحداهما: ان الوجوب الغيري وان كان حكما آخر غير الوجوب
النفسي، الا انه في مرتبة الوجوب النفسي، بمعنى انه يقتضي ما يقتضيه الامر
النفسي، فكما أن الامر النفسي بصدد تحصيل متعلقه في الخارج بوضع تقدير
الطاعة وهدم تقدير المعصية كذلك الامر الغيري، فإنه أيضا بصدد تحصيل
الواجب النفسي فيقتضي تقدير الطاعة ويهدم تقدير المعصية، وهذا المعنى هو
المراد من عبارة صاحب الحاشية بان المقدمة واجبة من حيث الايصال، وليس
مراده تقييد وجوب المقدمة بالايصال كما توهم (1).
ثانيتهما: ان الوجوب الغيري حيث إنه وجوب تبعي مترشح عن
الوجوب النفسي، فهو تابع له اشتراطا واطلاقا، وبما انك قد عرفت عدم
معقولية إطلاق الخطاب النفسي ولا تقييده بالإضافة إلى فرض طاعته ومعصيته،
فلا يعقل أيضا الاطلاق والتقييد في الوجوب الغيري بالإضافة إلى فرض إطاعة
الامر النفسي وعصيانه.
ومن هذين المقدمتين إنتهى إلى دفع المحذورين.
اما المحذور الأول: فقد التزم بان الشرط هو عنوان التعقب، وهو لا
يحتاج إلى دليل خاص، بل هو مقتضى حكم العقل كما في موارد الاشتراط
بالقدرة. ببيان: ان المقدمة بعد أن فرض كونها محرمة في حد ذاتها ورفع اليد عن

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين / 207 - الطبعة الأولى.
450

حرمتها لاجل مقدميتها للواجب، وبما أن خطابها في مرتبة خطاب ذيها - كما هو
مقتضى المقدمة الأولى - فلا محالة يكون وجوبها في تلك المرتبة، فإذا فرض عدم
وقوعها في طريق التوصل إلى ذيها فلا اشكال في تعلق الحرمة بها حينئذ، وهذا في
الحقيقة يعني شرطية التعقب بالعصيان للحرمة.
واما المحذور الثاني فيدفعه: ان عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين انما
هو لاجل وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه،
لان حرمة المقدمة انما هي في فرض عصيان ذي المقدمة، وقد عرفت أن الوجوب
المقدمي لا نظر له إلى ما بعد العصيان والطاعة، فداعوية كل منهما في فرض غير
فرض داعوية الآخر، واحد الخطابين هادم لتقدير أخذه موضوعا للخطاب
الآخر، فلا تزاحم بينهما في مقام الداعوية.
وبالجملة: البيان الذي يصحح به الترتب بين الواجبين النفسيين يصحح
به نفسه الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.
هذا ما افاده المحقق النائيني في المقام (1).
وقد أورد عليه السيد الخوئي (حفظه الله) في تعليقته على التقرير، بما
تعرضنا إليه في مبحث المقدمة الموصلة من استلزام القول بالترتب محذورين
مهمين: أحدهما: طلب الحاصل. وثانيهما: خروج الواجب النفسي عن كونه
واجبا. ببيان: ان وجوب الشئ يتوقف على القدرة عليه، وهي تتوقف على القدرة
على مقدماته المتوقفة على جوازها شرعا، فإذا فرض تعليق الحرمة على عصيان
ذي المقدمة، فلازمه فرض اختصاص جواز المقدمة بتقدير عدم عصيانه وهو
فرض الاتيان به، وقد عرفت أن الامر به يتوقف على جواز مقدميته، فيكون
الامر به متوقفا على الاتيان به وهو طلب الحاصل. هذا مع أن عدم جواز المقدمة

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 321 - الطبعة الأولى.
451

إذا علق عصيان وجوب ذي المقدمة، فمع فرض عصيانه تحرم المقدمة،
فيكون الواجب النفسي غير مقدور فيرتفع وجوبه، إذ التكليف بغير المقدور
ممتنع (1).
وهذا البيان غريب جدا، فان مفروض كلام المحقق النائيني هو الجمع
بين الحكمين في زمان واحد بحيث تكون المقدمة في حال العصيان واجبة كما انها
محرمة - فإنه مقصود الترتب - فكيف يفرض استلزام تعليق الحرمة على العصيان
لتعليق الجواز على عدم العصيان؟!. وهذا البيان أخذه السيد الخوئي من ايراد
صاحب الكفاية (2) على من أدعى جواز تصريح الآمر بحرمة المقدمة غير
الموصلة دون الموصلة. ولكنه فرق كبير بين المقامين، إذ لم يفرض في ذلك المورد
سوى حرمة المقدمة غير الموصلة وجواز الموصلة. والمفروض هنا هو جواز مطلق
المقدمة وانما الغرض تصحيح تعلق الحرمة بنحو الترتب الملازم للمحافظة على
بقاء الجواز في حال الحرمة.
هذا مع ما تقدم من الاشكال على أصل الكلام في نفسه وحل جهة
المغالطة فيه. فراجع.
فالعمدة في الايراد على المحقق النائيني ان يقال: ان ما ذكره يبتني على
عدم الالتزام بتضاد الاحكام، وانما لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد لتزاحمها في
مقام الامتثال وعدم القدرة على امتثال جميعها، لأنه قد عرفت ارتفاع التزاحم
بالترتب، إلا أنه (قدس سره) لا يلتزم بذلك، وقد أشرنا إلى أنه قد تفرد المحقق
الأصفهاني من بين الأصوليين إلى نفي التضاد من حيث المبدأ (3).
اما المحقق النائيني وسائر الأصوليين فهم يلتزمون بتحقق التضاد من

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 236 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 118 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 42 - الطبعة الأولى.
452

جهة المبدأ، فتضاد الحرمة والوجوب لاجل انبعاث الحرمة عن الكراهة
والوجوب عن الإرادة وهما متضادان. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يرتفع
بالترتب كما أشرنا إليه سابقا، فان الترتب انما يرفع محذور التزاحم لا غير.
وعليه، فالالتزام بالترتب هنا يلزمه الالتزام بجواز اجتماع الحكمين في
زمان واحد في مورد واحد، وهو ممتنع لكونه من اجتماع الضدين.
ونتيجة ما ذكرناه هو: انه بناء على الالتزام بوجوب المقدمة يقع التعارض
بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة، لأنه يقتضي وجوب المقدمة،
فيقع التكاذب بينهما، لاقتضاء أحدهما ضد ما يقتضي الآخر، وبناء على عدم
الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد تزاحم حرمة المقدمة ووجوب ذي
المقدمة لعدم امكان الجمع بينهما في مقام الامتثال، ولا مانع من الالتزام
بالترتب حينئذ بتعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذيها. والى هذا المعنى
أشرنا في أول مبحث مقدمة الواجب في بيان ثمرة البحث فراجع.
التنبيه الثامن: في اجراء الترتب بين التدريجيين.
لا يخفى ان الواجبين المتزاحمين..
تارة: يكونان آنيين كانقاذي الغريقين، فلا يكون عصيان أحدهما إلا آنيا،
إذ بمجرده يسقط الامر لفوات موضوعه.
وأخرى: يكون أحدهما تدريجيا والآخر آنيا كانقاذ الغريق والصلاة.
وثالثة: يكون كل منهما تدريجيا، لكن عصيان كل منهما يتحقق بمجرد ترك
جزء منه، فلا يكون عصيانه إلا آنيا، نظير الصوم الذي يتحقق تركه بمجرد تركه
في جزء من النهار فيسقط الامر بذلك، ونظير صلاة الآيات مع صلاة الوقت
المضيقة.
ورابعة: يكون كل منهما تدريجيا، وكان عصيان أحدهما وهو الأهم تدريجيا
أيضا، بمعنى ان الامر به لا يسقط بمجرد العصيان، بل يجب آنا فانا فيستمر
453

عصيانه باستمرار الامر به، نظير الإزالة والصلاة، فان وجوب الإزالة مستمر
فإذا عصاه في الآن الأول وجب في الآن الثاني وهكذا.
ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم دون الأقسام الأخرى،
فيبحث في صحة الترتب فيه بان يؤخذ خطاب الصلاة معلقا على عصيان خطاب
الإزالة.
وجهة الاشكال فيه: ان الامر بالصلاة امر ارتباطي، بمعنى ان امتثاله
انما يتحقق بالاتيان بجميع اجزائه، وإلا فلا يقع أحدها على صفة المطلوبية.
فوقوع التكبيرة على صفة المطلوبية مشروط بالاتيان بالتسليم، فإذا زاحمها
واجب أهم كالإزالة، فحيث إنه لا يكفي مجرد عصيان الامر بالإزالة في الامر
بالصلاة لغرض تجدد الامر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة وعدم
سقوطه بمجرد العصيان كي يبقى الامر بالصلاة بدون مزاحم فلا بد في تصحيح
الامر بالصلاة من تعليقه على عصيان الامر بالإزالة مستقرا، ولازم ذلك الالتزام
بالشرط المتأخر، إذ لازمه تقييد الامر بالصلاة بعصيان الامر بالإزالة في ظرف
التسليم وغيره من أجزاء الصلاة، فيمتنع الترتب في المقام عند من يرى استحالة
الشرط المتأخر.
ودعوى: الالتزام بشرطية التعقب بالعصيان وهو شرط مقارن.
تندفع: بان ذلك يحتاج إلى دليل خاص، وهو غير موجود، ولا يكفي في
الالتزام به بمجرد امكانه كشرطية العصيان.
هذا محصل الاشكال في جريان الترتب في هذا القسم على ما ذكره
المحقق النائيني. ولازمه كما قال: كون مبحث الترتب قليل الجدوى لكثرة هذا
القسم في موارد التزاحم وقلة سائر الأقسام.
وقد دفعه المحقق النائيني (قدس سره) بدعوى: عدم احتياج شرطية
التعقب ههنا إلى دليل خاص، بل مجرد امكانه يكفي بملاك شرطية القدرة. بيان
454

ذلك: انه بعد أن كان اشتراط الامر بالفعل التدريجي الارتباطي بالقدرة على
جميع اجزائه بحيث تكون القدرة على آخر جزء دخيلة في وجوب أول جزء من
الأمور المسلمة، وقد عرفت أن ذلك لا يتوجه إلا بالالتزام بشرطية عنوان
التعقب بالقدرة المتأخرة لامتناع شرطية نفس القدرة المتأخرة لاستلزامه
الشرط المتأخر وهو محال. فشرطية عنوان التعقب مما يفرضها العقل بدلالة
الاقتضاء تصحيحا لتعلق الامر بالفعل التدريجي الارتباطي الذي لا ينكره أحد.
ومن الواضح ان شرطية العصيان في سائر موارد الترتب إنما هي من باب
شرطية القدرة، إذ الواجب المهم لا يكون مقدورا إلا في ظرف عصيان الامر
بالأهم.
وعليه، فدخالة عصيان الامر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب
التكبيرة انما يكون من جهة ان القدرة على التسليم لا تكون إلا بالعصيان
المذكور، وقد عرفت أن دخالة القدرة على الجزء الأخير في وجوب الجزء الأول
لا توجه إلا بأخذ الشرط عنوان التعقب. فالدليل الثابت الذي يقضي بأخذ
الشرط في التدريجيات عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة نفسه يقتضي بأخذ الشرط
عنوان التعقب بالعصيان المتأخر، لان التعقب بالعصيان حقيقته التعقب بالقدرة
وليس شيئا آخر وراء التعقب بالقدرة، فلا يحتاج إلى دليل خاص، لتوفر الدليل
على اشتراط التعقب بالقدرة في التدريجيات.
هذا بيان ما افاده المحقق النائيني في دفع الايراد المزبور (1).
ويرد عليه: ان قياس المقام على شرطية القدرة غير وجيه لوجوه ثلاثة:
الأول: ان موضوع اشتراط القدرة وعدم العجز انما هو الفعل القابل
لطرو العجز والقدرة عليه، بحيث يكون مقسما للعجز والتمكن، ويمكن تحديده

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 315 - الطبعة الأولى.
455

بما يرجع عدم قدرة عليه إلى قصور في المكلف لا في نفسه، وما نحن فيه ليس
من هذا القبيل، فان عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين والاتيان بمتعلق
أحدهما عند الاتيان بمتعلق الآخر من جهة قصور في نفس العمل لان ذلك جمع
بين الضدين وهو محال في نفسه وخارج عن مقسم العجز والتمكن، فالتكليف
فيما نحن فيه من باب التكليف بالمحال - وهو الجمع بين الضدين - لا من باب
التكليف بغير المقدور، فهما يختلفان موضوعا فلا يتجه قياس ما نحن فيه على
باب اشتراط القدرة.
الثاني: لو تنزلنا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وانهما من باب واحد وهو
التكليف بغير المقدور بارجاع التكليف بالمحال إليه فهما يختلفان ملاكا، بمعنى
ان الملاك في استحالة التكليف بما يعجز عنه المكلف في نفسه غير الملاك في
استحالة التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم، وهو ما نحن فيه، لان متعلق
كل منهما مقدور في نفسه لا قصور فيه، وانما ينشأ عدم القدرة من جهة المزاحم.
وذلك لان ملاك عدم التكليف بغير المقدور في نفسه اما قبح تكليف
العاجز - بنظر العقل - كما هو المشهور. واما دعوى اقتضاء التكليف نفسه
الاختصاص بالمقدور، لأنه لايجاد الداعي وتحريك المكلف نحو العمل وهو
يتصور بالنسبة إلى الفعل المقدور كما عليه المحقق النائيني على ما سبق بيانه
مفصلا.
اما ملاك عدم التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم فهو يتقوم بأمرين:
أحدهما: عدم امكان وجود الامرين بالضدين بعد فرض عدم قدرة
المكلف إلا على أحدهما، فبقاء كل من الامرين ممتنع.
ثانيهما: انه مع لزوم رفع اليد عن أحدهما وكان أحدهما أرجح من الآخر،
فرفع اليد عن الأرجح لازمه ترجيح المرجوح على الراجح وهو ممتنع، فيتعين
سقوط المرجوح فسقوط المرجوح ملاكه هذان الأمران وهما أجنبيان عن ملاك
456

سقوط التكليف بغير المقدور في نفسه كما لا يخفى. ومن الواضح عدم تأتي ملاك
الاستحالة في ذلك القسم هنا، لان المفروض ان متعلق كل تكليف مقدور في
نفسه، فلا محذور في محركيته نحوه، ولا قبح في تكليفه به بالنظر إليه خاصة، كما أن
كلا التكليفين لا يرجعان إلى تكليف واحد متعلق بالضدين كي يقبح ذلك
بنظر العقل وتمتنع محركية التكليف نحو متعلقه. فليس المحذور الا في الجمع بين
التكليفين مع لزوم ترجيح المرجوح على الراجح فيسقط المرجوح لذلك، ومع
هذا لا يصح قياس ما نحن فيه بباب اشتراط التكليف بالقدرة وجعلها من واد
واحد ملاكا. فتدبر.
الثالث: لو تنزلنا عن هذا أيضا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وملاكا،
فلا نسلم جريان ما أفاده (قدس سره) فيما نحن فيه مما كان توقف التكليف فيه
على القدرة اتفاقية لا دائميا.
بيان ذلك: ان الالتزام بشرطية التعقب بالقدرة على الجزء المتأخر في
الواجبات التدريجية انما كان من جهة وضوح وجود الواجبات التدريجية
الارتباطية وانحصار المصحح لها بأخذ عنوان التعقب شرطا. ومن الواضح ان
توقف وجوب الجزء السابق على الاتيان بالجزء اللاحق أمر دائمي في الواجبات
الارتباطية لا ينفك عنها لو لم نقل بأنه مقوم لواقع الارتباطية المفروضة، فيلتزم
فيها بشرطية التعقب وان كان ذا مؤونة زائدة. اما توقف وجوب المهم على القدرة
عليه من جهة عدم الأهم المزاحم له فهو امر اتفاقي لا دائمي، وبما أن هذه
القدرة لا تتحقق إلا في ظرف عصيان الأهم، تعين قهرا أخذ العصيان شرطا من
باب أنه ظرف القدرة على العمل، نظير ما لو ورد تكليف بشئ ولم يكن مقدورا
عليه إلا في زمان خاص تعين تقييده بذلك الزمان من باب انه زمان القدرة عليه،
فشرطية العصيان أمر قهري لا محيص عنه، لأنه من باب شرطية نفس القدرة
كما عرفت. اما عنوان التعقب فهو غير مقوم للقدرة كما لا يخفى، فاخذه شرطا
457

يحتاج إلى دليل خاص، والدليل الدال على أخذه في المورد المتوقف فيه الجزء
السابق على القدرة المتأخرة توقفا دائميا لا معنى لاعماله في المورد الذي يكون
التوقف فيه على القدرة المتأخرة اتفاقيا، فان عدم الالتزام به في الواجبات
التدريجية لازمه انكار وجود الواجبات التدريجية مع أنها ضرورية الوجود، وهذا
المحذور لا يلزم بعدم الالتزام بشرطيته فيما نحن فيه كما لا يخفى، إذ غاية ما يلزم
عدم صحة الترتب في الواجبات التدريجية وهو ليس بمحذور. فلا حظ.
فالوجه الذي يصحح به أخذ عنوان التعقب هنا ما أشرنا إليه، ويمكن
استفادته من كلامه (قدس سره) في بعض المواقع، من أن اطلاق الدليل الدال
على وجوب المهم يكفي في اثبات الوجوب مقيدا بعنوان التعقب بالعصيان،
بالبيان الذي ذكرناه لتصحيح أخذ عصيان الأهم شرطا في وجوب المهم - الذي
هو أساس الترتب - من دون حاجة إلى دليل خاص إثباتي، وذلك بان نقول: ان
مقتضى اطلاق دليل المهم ثبوت الحكم مطلقا سواء تعنون متعلقه بعنوان التعقب
بعصيان الأهم في الآن المتأخر أو لم يتعنون بهذا العنوان، وحيث إن ثبوت الحكم
في الصورة الثانية - أعني صورة عدم التعنون بعنوان التعقب - يلزم منه محذور
حصول التزاحم بين الحكمين في الزمان المتأخر الموجب لسقوط الامر بالمهم في
ظرفه الملازم لسقوطه من أول الامر ومن حين الشروع بالعمل، فيرفع اليد عن
الاطلاق في هذه الصورة لامتناع الاخذ به لمحذور التزاحم المانع من الجمع بين
الحكمين. ويبقى دليله بالنسبة إلى صورة التعقب بالعصيان على ما كان عليه
لعدم الموجب لرفع اليد عنه لانحصار محذور التزاحم بتلك الصورة دون هذه.
فالتفت وتدبر والله ولي التوفيق.
إنتهى مبحث الضد والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان
تاريخ الانتهاء منه يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 1386 ه‍.
* * *
458

فصل
أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
هذا البحث مما لا ثمرة له أصلا من حيث العمل، وان ذكرت له ثمرة
وهي تصحيح وجوب الكفارة على من افطر في نهار رمضان ولم يبق على شرائط
الوجوب إلى آخر النهار.
ولكن ناقشها المحقق النائيني (رحمه الله) بظهور عدم ارتباط ذلك بهذا
البحث في باب الصوم من الفقه (1).
ولأجل ذلك نكتفي بنقل ما افاده في الكفاية في هذا المبحث لمجرد
الاطلاع على صورة الخطاب من دون تحقيق وتمحيص.
فنقول: انه وقع الكلام في أنه هل يجوز امر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه
أو لا يجوز. ومن الواضح أنه يراد من الجواز الامكان لا الجواز بمعنى الإباحة
والترخيص.
ذهب صاحب الكفاية إلى عدم الجواز. ويظهر وجه اختياره بوضوح

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 209 - الطبعة الأولى.
459

أمرين أشار إليهما في كتابه.
الأول: ان المراد بالجواز في عنوان البحث هو الامكان الوقوعي لا
الامكان الذاتي.
ومجمل الفرق بينهما هو: ان الامكان الذاتي يرجع إلى كون الذات في حد
نفسها ممكنة غير ممتنعة الوجود من حيث هي، كاجتماع النقيضين الذي يكون
محالا في نفسه. اما الامكان الوقوعي فهو يرجع إلى عدم استلزام وجود الذات
للمحال بحيث لا يترتب على وجودها محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك،
فالامكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال، والذاتي ما ليس بمحال في نفسه،
فالمقصود من الامكان هنا الامكان الوقوعي دون الذاتي، إذ لا يتعلق غرض
للأصولي في تحقيق ذلك، فان غرضه يتعلق بوقوع الأشياء وما يترتب عليها من
أثر، مع بعد انكار الامكان الذاتي فيما نحن فيه، إذ لا يدعى كونه محالا في نفسه
كاجتماع الضدين.
الثاني: ان المراد من الضمير في: " شرطه " هو: تارة يكون مرتبة أخرى
للامر غير المرتبة التي هو فيها، كان يأمر انشاء مع علمه بانتفاء شرط فعلية
الامر. وأخرى: يكون المراد نفس المرتبة فيأمر انشاء مع علمه بانتفاء شرط
الانشاء وهكذا. اما الأول فليس هو موضوع البحث، إذ لا اشكال في جوازه
كالأوامر الامتحانية ونحوها، إذ قد يأمر الآمر من دون أن يكون له داعي للبعث
حقيقة.
وعليه، فموضوع البحث هو الامكان الوقوعي لامر الآمر مع علمه
بانتفاء شرط مرتبة الامر التي يقصدها الآمر من الامر. ومن الواضح أنه غير
جائز وقوعا لاستلزامه حصول المعلول من دون علته وهو خلف، وذلك لان
الشرط من اجزاء العلة فحصول الامر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول
بدون علة وهو خلف فرض العلية.
460

هذا بيان ما افاده في الكفاية (1).
ولا بد من التنبيه إلى لزوم البحث في نقطتين من كلامه:
إحداهما: في بيان وجود الفرق بين الامكان الذاتي والامكان الوقوعي،
وتحقيق ذلك اثباتا أو نفيا في غير هذا المقام. وقد تعرض له المحقق الأصفهاني
مفصلا في مباحث القطع (2).
ثانيتهما: في تصور الامر الانشائي مع علمه بانتفاء شرط الفعلية كالأوامر
الامتحانية، وان مثل ذلك هل هو انشاء للطلب حقيقة أو صورة انشاء وحقيقته
معنى آخر، ولذا لا يطلق عليها لفظ الامر الا مجازا كما اعترف به (قدس سره)؟.
وتحقيق ذلك موكول إلى غير هذا المجال، لعدم الثمرة العلمية في تحقيقه فعلا.
وقد حاول المحقق النائيني انكار الموضوع لهذا المبحث ببيان: ان الحكم
ان كان مجعولا بنحو القضية الحقيقية فهو مرتبط بواقع الشرط وليس لعلم المولى
وعدمه اي أثر في ثبوته وعدمه، وانما التشخيص بيد المكلف. وان كان مجعولا
بنحو القضية الخارجية فلا اشكال في أن الحكم يدور مدار علم الحاكم من دون
دخل لوجود الموضوع خارجا وعدمه، لان الإرادة تنبعث عن الصور الذهنية وما
يكون في أفق النفس دون ما يكون في خارجها. فلا موضوع للنزاع المذكور، إذ
على تقدير لا دخل للعلم وعدمه في ثبوت الحكم لموضوعه، وعلى تقدير لا اشكال
في ارتباط الحكم بالعلم (3).
وتحقيق صحة هذا البيان وعدم صحته مما لا يهمنا كثيرا بعد أن عرفت
انتفاء الثمرة في البحث المذكور، وانما المقصود هو الإشارة لا غير.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 137 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2 / 41 و 1 / 62 - الطبعة الأولى.
(3) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 209 - الطبعة الأولى.
461

فصل
متعلق الأوامر
وقع الكلام بين الاعلام في أن متعلق الأوامر والنواهي هل هو الطبائع أو
الافراد؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى الأول. وقد تعرض في هذا المبحث إلى بيان
جهات أربع:
الأولى: ان متعلق الامر هو وجود الطبيعة لا نفسها.
الثانية: بيان المقصود من الطبيعة والفرد في محل النزاع.
الثالثة: في بيان المقصود من طلب الوجود بعد أن كان الوجود مسقطا
للطلب.
الرابعة: الإشارة إلى عدم ارتباط البحث بمبحث إصالة الماهية أو
الوجود.
اما الجهة الأولى: فتحقيقها، ان الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا تكون
مقسما لتعلق الامر وعدمه، فهي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، ولذا قيل إن ارتفاع
النقيضين جائز في هذه المرتبة، فمتعلق الامر انما هو وجود الطبيعة لا ذات
الطبيعة.
463

واما الجهة الثانية: فالفرق بين الطبيعة والفرد هو: ان المراد بالطبيعة ذات
الماهية مع قطع النظر عن العوارض اللازمة لوجودها من زمان ومكان ونحوهما،
والمراد بالفرد هو الماهية المقيدة بهذه العوارض اللازمة. فمن يدعي ان متعلق
الامر هو الطبيعة يريد أن الامر هو طلب وجود الطبيعة بذاتها من دون نظر إلى
العوارض والمشخصات اللازمة لها في الوجود، بحيث لو تصور - محالا - انفكاكها
عن الطبيعة لم يلزم تحقيقها. ومن يدعي ان متعلق الامر هو الفرد يريد أن متعلق
الامر هو وجود الطبيعة المتقيدة بهذه العوارض، فهي دخيلة في متعلق الامر
ومقومة له.
وقد أوكل صاحب الكفاية معرفة صحة اختياره، وهو تعلق الامر بالطبيعة
لا الفرد إلى مراجعة الوجدان فإنه يقضي بذلك، فان الآمر لا يجد في نفسه الا
إرادة ذات العمل من الغير مع غض النظر عن العوارض اللازمة ومن دون تعلق
غرض له بها أصلا، بل ليس مطلوبه سوى الطبيعة بذاتها.
وبالجملة: فقضايا الاحكام في نظر صاحب الكفاية كالقضايا الطبيعية في
غيرها في كون الحكم على نفس الطبيعة بما هي من دون ملاحظة دخل
الخصوصيات اللازمة لوجودها فيها، بل كالقضايا المحصورة فان الحكم فيها
أيضا على الطبيعة، لكن لوحظ فيها سرايتها في جميع افرادها أو بعضها.
وخلاصة رأي الكفاية هو: ان الامر يتعلق بوجود الطبيعة من دون لحاظ
تقييدها بالعوارض اللازمة من مكان وزمان وغيرهما. واثباته لا يحتاج إلى برهان
بل في مراجعة الوجدان كفاية (1).
ووضوح تمامية هذا الرأي بشؤونه وعدم تماميته تظهر بالتعرض إلى كلمات
غيره من الاعلام وتمييز صحيحها من سقيمها.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 138 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
464

والذي ذكره المحقق النائيني (قدس سره) في هذا المقام بعد أن تعرض
إلى نقل ما ذهب إليه بعض الأعاظم من رجوع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع
في كون التخيير بين الافراد عقليا أو شرعيا، لأنه ان كان متعلق الامر هو
الطبيعة كان التخيير بين افرادها عقليا. وان كان الافراد كان الفرد متعلقا للامر
بنفسه فيكون التخيير فيها شرعيا. ومناقشته: بان التخيير الشرعي يستلزم
تقدير كلمة: " أو " بالنسبة إلى كل فرد، لأنها هي التي تودي التخيير فيكون
الواجب هذا أو ذاك أو ذاك وهكذا. ومن الواضح ان افراد الطبيعة بحسب
الغالب لا نهاية لها فيمتنع التقدير المذكور. هذا مع أن التخيير العقلي في الجملة
مسلم لا نزاع فيه، فلا وجه لتوجيه النزاع وارجاعه إلى ما ذكر للتنافي بين التسالم
المطلق على وقوع التخيير العقلي وذهاب البعض إلى تعلق الأوامر بالافراد
الذي حقيقته هو التخيير الشرعي كما عرفت: الذي افاده (قدس سره) بعد هذا
البيان -: ان أساس النزاع في الحقيقية على النزاع في امكان وجود الطبيعي في
الخارج وعدم وجوده. وتوضيح ذلك: ان المراد من وجود الطبيعي ليس وجوده بما
هو كلي يقبل الانطباق على كثيرين، فان هذا يتنافى مع ما هو مسلم من أن
الشئ ما لم يتشخص لم يوجد. بل المقصود ان الوجود الطارئ هل يطرأ على
ذات الطبيعة مع قطع النظر عن اللوازم القهرية والمشخصات من زمان ومكان
ونحوهما، وانما هي توجد قهرا من باب امتناع وجود الشئ بدون تشخص، أو
انه يطرأ على الطبيعة المتشخصة بهذه المشخصات والمتقيدة بهذه العوارض؟.
وبتعبير آخر: ان المشخصات هل تكون في مرتبة الوجود فيكون معروض
الوجود - كالتشخصات - هو الماهية. أو انها في مرتبة سابقة على الوجود فيكون
معروضه هو الماهية المتشخصة؟. فمن يقول بوجود الطبيعي يقصد الرأي الأول
وان الوجود يتعلق بالطبيعي ذاته. ومن يقول بامتناعه يرى الرأي الثاني وان
الوجود يطرأ على الطبيعة المتشخصة لا نفس الطبيعة.
465

وعليه، فالبحث فيما نحن فيه يبتني على النزاع المذكور، فمن يرى تعلق
الوجود بالطبيعة ذاتها يذهب إلى أن متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية نفس
الطبيعة مع قطع النظر عن التشخصات. ومن يرى تعلق الوجود بالطبيعة
المتشخصة يذهب إلى أن متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية الطبيعة المتقيدة
بالمشخصات.
واختار (قدس سره) الأول مستشهدا عليه بالوجدان، وان متعلق الإرادة
في أفق النفس ليس إلا ذات الطبيعة، وبما أن الإرادة التشريعية على حد الإرادة
التكوينية كان متعلقها نفس الطبيعة.
ثم إنه رتب على هذا المبحث ثمرة عملية مهمة وهي: انه بناء على تعلق
الأوامر بالطبائع واثبات ان نسبة كل من الكليين في مورد الاجتماع إلى الآخر
من قبيل المشخص وهو خارجة عن دائرة الحكم - بناء عليه -، فيكون جواز
الاجتماع من الواضحات.
هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في المقام (1).
ولا يخفى انه يختلف عن التقريب الذي ذكره صاحب الكفاية.
والجهة التي يشتركان فيها معا هي: جعل المقصود بالفرد الطبيعة المتقيدة
باللوازم والمشخصات، فقوام الفردية بنظرهما (قدس سرهما) بالعوارض اللازمة
والمشخصات.
واما الوجه في عدول المحقق النائيني (قدس سره) عن النحو الذي
سلكه صاحب الكفاية في تقريب المطلب ونهجه مسلكا آخر، فيمكن أن يكون
فيما بيانه: ان صاحب الكفاية فرض أمرين مفروغا عنهما وهما:
أولا: كون متعلق الغرض هو ذات الطبيعة مع قطع النظر عن عوارضها

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 210 - الطبعة الأولى.
466

اللازمة.
وثانيا: امكان وجود الطبيعي.
ومن الواضح انه بعد فرض هذين الامرين لا مجال لتحقق النزاع في أن
متعلق الامر هو الطبيعة أو الفرد، بل لا محيص عن الالتزام بتعلقه بالطبيعة
لوجود المقتضي وقابلية المحل. فكلام الكفاية في تحرير النزاع واختيار أحد
القولين أشبه بالقضية بشرط المحمول، وهو لا يتناسب مع النزاع العلمي الذي
لا بد ان يتجه فيه أحد القولين.
وبالجملة: لا وجه لاخذ الامرين المذكورين مفروغا عنهما، ثم تحرير
النزاع، إذ لا نزاع بعد المفروغية عنهما. إذن فيتجه النزاع المذكور لو تحقق النزاع
في أحد الامرين المذكورين، والأول منهما لا يشكك فيه اثنان، بخلاف الثاني،
فيتعين ان يبنى النزاع في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد على النزاع في امكان
وجود الطبيعي فيكون متعلق الطلب لوجود المقتضي وقابلية المحل، وعدم
امكان وجوده فيكون متعلق الطلب هو الفرد لعدم قابلية الطبيعي للوجود كي
يتعلق به الطلب، لان المطلوب هو الوجود. فلا يكتسب النزاع صورة معقولة الا
على هذا الأساس دون النحو الذي سلكه صاحب الكفاية، وهذا هو نظر المحقق
النائيني في تغيير نحو تحرير المبحث وإن لم يصرح به.
اما ما ذكره المحقق النائيني من القول برجوع البحث في المسالة إلى
البحث عن أن التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ومناقشته بوجهين، فسيأتي
التعرض لذلك في آخر المبحث في ضمن تنبيه، وفيه تعرض صحة القول المذكور
وعدمه كما تعرف وجاهة المناقشة التي ذكرها المحقق النائيني وعدمها. كما تعرف
ان النظر في هذا القول هو بيان ثمرة المسالة أو بيان رجوع النزاع إلى ذلك كما
فهمه منه المحقق النائيني فانتظر.
يبقى الكلام في جهتين من كلامه (قدس سره) جهة اختص بها وجهة
467

اشترك فيها مع صاحب الكفاية.
اما ما اختص بذكرها فهي: ما ذكره في بيان المراد من وجود الفرد
والطبيعي من أن المشخصات هل تكون عارضة على الطبيعة في مرتبة الوجود
وفي عرضه - وهو المراد من وجود الطبيعي -، أو تكون عارضة في رتبة سابقة على
الوجود، فيكون الوجود عارضا على الطبيعة المتشخصة - وهو المراد من وجود
الفرد -؟. ولا يخفى ان هذا الترديد لا منشأ له ولا يظهر من كلمات المختلفين في
وجود الطبيعي والفرد، فإنه لا خلاف لديهم ولا اشكال عندهم في أن هذه
المشخصات من آثار الوجود ولوازمه لاحتياجه إلى زمان ومكان ونحوهما، فلا
معنى لان ينسب إليهم كونها في رتبة سابقة على الوجود وان الوجود يطرأ على
الماهية المتشخصة، وتفسير وجود الفرد بذلك. فانتبه.
واما ما اشترك فيه مع صاحب الكفاية فهو: ما عرفته من بيان تقوم
الفردية بالمشخصات والعوارض اللازمة.
وهذا أمر لا يخلو عن مناقشة، فان التفرد إنما يكون بالوجود نفسه لا
باللوازم العارضة، فان كل عارض موجود فرد لطبيعي وفرديته بوجوده، ويمتنع
أن يكون تفرد الطبيعة بالعوارض اللازمة لاجل ذلك.
وعلى هذا فيتحصل لدينا فعلا على صاحب الكفاية ايرادان:
أحدهما: في كيفية تحريره النزاع وفرضه.
ثانيهما: في جعله العوارض اللازمة قوام الفردية وما به تفرد الطبيعة.
ويرد عليه ثالثا: انه خرج عن موضوع النزاع، فان ظاهر النزاع في أن
متعلق الأوامر هو الطبيعة أو الفرد المغايرة بين القولين والتباين بينهما، وليس هذا
ظاهر الكفاية، فقد أفاد ان متعلق الامر هو الطبيعة وليس هو الطبيعة مع
العوارض اللازمة.
وهذا نزاع آخر غير الأول، فان النزاع الأول في أن متعلق الامر ما هو؟.
468

والنزاع الآخر في سراية الامر من الطبيعة إلى العوارض اللازمة ووجهه أحد
الامرين: أحدهما: اتفاق المتلازمين في الحكم. ثانيهما: مقدمية الفرد لوجود
الطبيعي على قول، فيجب بالوجوب المقدمي.
وقد مر البحث في كل من الوجهين وبيان عدم تمامية دعوى وجوب
المقدمة، ودعوى لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم وان الثابت ليس إلا عدم جواز
اختلافهما فيه.
وبالجملة: ما ذكره صاحب الكفاية خروج عن عنوان النزاع المفروض
وانتقال منه إلى معنى آخر. فالتفت.
وعلى أي حال، فقد اتضح ان النزاع في أن متعلق الامر هو الطبيعة أو
الفرد - بعد فرض كون متعلق الغرض هو الطبيعة - يبتني على النزاع في وجود
الطبيعة، فإذا ثبت وجود الطبيعي ثبت تعلق الامر به.
والذي ينبغي ان يقال في تحقيق الكلام: انه مما لا اشكال في أن افراد
الطبيعة الموجودة متباينة، فكل فرد يباين الآخر مباينة تامة، ولذا لا يصح حمل
أحدهما على الآخر، كما أنه مما لا اشكال فيه انتزاع مفهوم الوجود من هذه
الخصوصيات والوجودات المتعددة، ومن المقرر امتناع انتزاع مفهوم واحد من
الأمور المتباينة، فلا بد اذن من وجود جهة مشتركة بين هذه الوجودات تصحح
انتزاع مفهوم واحد منها، فكل وجود يشتمل على جهتين جهة خصوصيته التي
بها يباين غيره. وجهة مشتركة بينه وبين غيره - ولأجل ذلك قيل إن ما به
الامتياز فيها عين ما به الاشتراك وهو الوجود -، فبملاحظة الجهة الخاصة يكون
الوجود وجود الفرد، وبملاحظة الجهة المشتركة يكون وجودا للطبيعي، فهو وجود
واحد يكون وجودا للفرد وللطبيعي من جهتين، فيلتزم بوجود الطبيعي بهذا
التقريب وهو يعين أن يكون متعلق الامر هو الطبيعة لتمامية المقتضي وهو تعلق
الغرض به وتوفقه على قابلية المحل، وقد ثبتت بالبيان المذكور فالمطلوب هو
469

الوجود بلحاظ الجهة المشتركة بين سائر الوجودات من دون إرادة خصوصيات
الوجودات. فالتفت (1).
هذا تمام الكلام في هذه الجهة.
اما الجهة الأولى التي تتكفل بيان ان متعلق الطلب ليس ذات الطبيعة
وانما هو وجودها، وقد عرفت تعليل صاحب الكفاية لذلك بان الطبيعة بما هي
ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، لا موجود ولا غير موجودة فلا تصلح
لتعلق الطلب. وهذا المعنى مسلم في الطبيعة بما هي، ولأجل ذلك قيل إن ارتفاع
النقيضين ممكن في هذه المرحلة، ببيان: ان المقصود بالطبيعة بما هي هي الطبيعة
التي قصر النظر على ذاتها وذاتياتها فقط من دون لحاظ اي أمر خارج عن ذاتها
وذاتياتها، فإذا وصفت بالمطلوبة أو بعدم المطلوبة في هذه الحال لزم ان تكون
المطلوبية أو عدمها من ذاتياتها، وإلا لكان خلف قصر النظر على الذات
والذاتيات. ومن الواضح خروج الطلب وعدمه والوجود وعدمه عن قوام ذات
الطبيعة.
والانصاف ان هذا المعنى لا ينفي صحة تعلق الطلب بالطبيعة بما هي،
ولا يستلزم امتناعه كما حاول صاحب الكفاية به، فان الممتنع بالبيان المزبور انما
هو حمل شئ على الماهية في تلك المرحلة ومع المحافظة على هذه الجهة، اما
عروض شئ خارج عن ذات الماهية على ذاتها بما هي فلا يأباه البرهان المزبور،
لعدم استلزامه فرض ذاتية ما ليس من الذاتيات ولا استلزامه الخلف فالطبيعة
بما هي لا تأبى عروض أمر خارج عليها. والمفروض في ما نحن فيه هو عروض
الطلب على الطبيعة بما هي، وهو لا يرتبط بنفي حمل الطلب عليها. فاستدلال
صاحب الكفاية بذلك منشؤه الخلط بين حمل شئ خارج على الطبيعة بما هي

(1) ذكر سيدنا الأستاذ (دام ظله): ان هذا البيان مبني على الالتزام بأصالة الوجود (منه عفي عنه).
470

وعروض شئ عليها بما هي هي، والممتنع هو الأول، دون الثاني، ومحل الكلام
هو الثاني دون الأول.
فالذي ينبغي ان يقال في توجيه تعلق الامر بوجود الطبيعة لا بذاتها بما
هي هو: ان تعلق الامر يتبع ما فيه تحقق الغرض ووجوده. ومن الواضح ان
الغرض لا يترتب على الماهية بما هي، بل يترتب على وجود الماهية خارجا، فمن
الطبيعي أن يكون هو متعلق الامر دون ذات الماهية.
وهذا أمر واضح لا غبار عليه.
اما الجهة الثالثة من الكلام: وهي البحث عن تصحيح تعلق الامر
بالوجود. فان هذا يبدو مشكلا لأول وهلة.
وبيان الاشكال: ان الوجود يوجب سقوط الامر فكيف يكون متعلقا
للامر، مع أن متعلق الامر ما به قوام الامر ووجوده؟. هذا مع أن تعلق الطلب
بالوجود يلزمه طلب الحاصل وهو محال لكونه لغوا فلا يصدر من الحكيم.
وقد تفصى صاحب الكفاية عن الاشكال: بان المطلوب ليس هو وجود
الفعل، بل متعلق الطلب صدور الوجود وجعله البسيط وإفاضته. وبعبارة أخرى:
المطلوب هو الايجاد لا الوجود (1).
وفي هذا الجواب ما لا يخفى: فإنه قد تقرر ان الايجاد والوجود والجعل
والمجعول شئ واحد في الحقيقة والتغاير بينهما اعتباري، فان الوجود بملاحظة
صدوره من الفاعل يعبر عنه بالايجاد وبملاحظة وروده على الفعل القابل يعبر
عنه بالوجود. وإذا كانا امرا واحدا حقيقة فيمتنع تعلق الطلب بالايجاد لعين
الوجه في امتناع تعلقه بالوجود وهو طلب الحاصل. والتغاير الاعتباري اللحاظي
لا يرفع المحذور، إذ لا يغير الواقع والمحذور بلحاظه كما لا يخفى.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 139 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
471

وهناك وجه آخر لحل هذا الاشكال نقله في الكفاية وهو: الالتزام بان
متعلق الطلب هو نفس الماهية والغاية منه وجودها، فلا يلزم تعلق الطلب بما هو
حاصل كما لا يخفى.
وأورد عليه في الكفاية: ان الطبيعة بما هي هي ليست الا هي فلا يعقل
تعلق الطلب بها (1).
وقد تقدم منا توضيح هذا القول والمناقشة فيه.
فالذي ينبغي ان يقال في الاشكال على هذا الوجه وبيان بطلانه هو: ان
الاشكال المذكور - أعني استلزام تعلق الطلب بالوجود لطلب الحاصل - لا
يختص بالطلب فقط، بل يتأتى في غيره وهو الإرادة التكوينية لسائر الأفعال،
فإنها عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير وعدم وجود الموانع في الخارج،
فتعلق الشوق بالوجود يستلزم تعلقه بما هو حاصل، وهو مما لا معنى له لأنه
يستلزم تحصيل الحاصل.
بل في الحقيقة ان الاشكال في باب الطلب انما هو لاجل تأتي الاشكال
في باب الإرادة والشوق، لان الطلب ينشأ في الحقيقة عن وجود الإرادة
التشريعية وتعلقها بفعل المكلف المستتبعة لطلبه منه، كما أن الطلب انما هو لاجل
دعوة المكلف وتحريكه نحو متعلقه، فهو يستتبع تعلق الإرادة التكوينية من
المكلف بما تعلق به.
وعليه، فالتصدي إلى حل الاشكال في خصوص الطلب لا يجدي بعد أن
كان الاشكال متأتيا في الإرادة والشوق، وهما من مستلزمات وجود الطلب، فان
الطلب تابع للإرادة التشريعية ومستتبع للإرادة التكوينية المتعلقتين بما تعلق به،
فلا بد من بيان الوجه الذي به يصحح تعلق الجميع بالوجود.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 139 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
472

وجملة القول: ان عمدة الاشكال في متعلق الإرادة في مورد الطلب
وغيره، والا فالطلب أمر اعتباري خفيف المؤنة يمكن حل الاشكال فيه بسهولة،
ولكن لا ينفع في دفع الايراد عن تعلق الإرادة. فالمهم هو التصدي لحل الاشكال
في متعلق الإرادة، ومنه يظهر اندفاعه في متعلق نفس الطلب فإنه خفيف المؤنة.
فنقول حينئذ: قد عرفت أن الإرادة عبارة عن الشوق الواصل إلى حد
التأثير في متعلقه دون مطلق الشوق، فلذا لا يعد الشوق إلى الممتنات إرادة.
ومن الواضح انه لا يمكن فرض متعلق الشوق هو الطبيعة بداعي وجودها، إذ
الشوق من الصفات النفسية غير الاختيارية فلا معنى لوجود الداعي لها
وعدمه، بل هي اما ان توجد أو لا توجد. هذا أولا.
وثانيا: ان الشوق قد يتعلق بما يعلم بعدم تحققه عقلا أو عادة كالشوق
إلى اجتماع النقيضين أو الطيران إلى السماء، ولا معنى لان يقال ان متعلق
الشوق هنا هو الطبيعة بداعي وجودها للعلم بعدم وجودها. اذن فالوجه المزبور
وان دفع الايراد من جهة الطلب لتأتيه فيه لأنه خفيف المؤنة بعد كونه اعتباريا،
لكنه لا يدفع الايراد من جهة الإرادة. وقد عرفت أن الاشكال في مورد الطلب
لا يختص بمتعلق الطلب، بل هو ثابت في متعلق الإرادة.
فيتلخص: ان متعلق الإرادة والشوق لا يمكن أن يكون هو الوجود
الخارجي للشئ لأنه تحصيل الحاصل، كما لا يمكن أن يكون هو ذات الفعل
بداعي الوجود لخروج باب تعلق الشوق عن عالم الدواعي، كما أنه قد يتعلق
بما لا يقبل الوجود. وتعلقه بالوجود الذهني لا معنى له، لأنه ليس مورد الأثر
ومصدر الغرض بلا كلام فلا يتعلق به الشوق والإرادة.
وهذا من جهة، ومن جهة أخرى ان وجود الإرادة والشوق في النفس أمر
لا يقبل الانكار والمكابرة. اذن فما هو الحل؟!.
التحقيق ان يقال: ان متعلق الشوق هو الوجود الخارجي، لكن ليس
473

الفعلي بل الفرضي والتقديري. بيان ذلك: ان النفس عند لحاظها وجود الشئ
قد تتعلق به الرغبة والشوق لملائمته للطبع ولترتب بعض الآثار المرغوبة عليه،
ومرجع ذلك ليس إلى تعلق الشوق بالوجود الذهني اللحاظي لعدم كونه مورد
الأثر، ولا إلى تعلقه بالوجود الخارجي الفعلي لامتناعه في بعض الأحيان كتعلق
الشوق بالطيران إلى السماء، وانما مرجعه إلى أن النفس تفرض الوجود الخارجي
وتزعم ثبوته وتخلقه في عالمها، فتراه مورد الأثر فيتعلق به الشوق، فحين يلحظ
الشخص الوجود الخارجي للشئ ويراه مورد الأثر لو ثبت فعلا، تعلق به شوقه
قبل تحققه فعلا ويكون متعلق شوقه هو الوجود الخارجي الفرضي المخلوق
للنفس، وبما أن هذا الوجود له جهة فقدان وهي الفعلية فيتحرك المشتاق إلى
تحقيق الفعلية في فرض امكانها، فالوجود الخارجي بجهة خلقه وفرضه متعلق
الشوق، واعمال الإرادة فيه بلحاظ اخراجه من عالم الفرض إلى عالم الفعلية فله
جهتان: جهة وجدان وهي بالفرض، وبها يكون متعلق الإرادة. وجهة فقدان وهي
الفعلية، وهي مورد اعمال الإرادة وتحريك العضلات وهي مما لا بد منها إذ لا تتعلق
الإرادة بما هو موجود من جميع الجهات وهذا المعنى الذي ذكرناه امر ارتكازي
وان كان مغفولا عنه، فهو مضافا إلى كونه برهاني لانحصار حل الاشكال فيه
امر عرفي.
ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي على ما يحكي عنه من: ان متعلق
الإرادة هو الوجود الزعمي، يعني ما تزعم النفس ثبوته وتحققه بتقريب: ان
النفس لها قوة الخلق والايجاد في عالم النفس. فللشئ انحاء من الوجود،
كالوجود الذهني والوجود الفرضي الزعمي الذي تخلفه النفس والوجود
الخارجي. وهو بنحو الثاني متعلق للشوق ولا محذور فيه (1).

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 383 - طبعة مؤسسة النشر الاسلامي.
474

اما الجهة الرابعة في كلام صاحب الكفاية: فهي ما افاده من نفي ارتباط
الكلام بالقول بأصالة الوجود. وتوضيح ذلك: انه قد تقرر ان كل ممكن مركب
من زوجين أحدهما الذات والآخر الوجود. فزيد الخارجي مركب من أمرين
الزيدية والوجود. وتقرر أيضا امتناع أن يكون كل من هذين الامرين أصيلا في
عالم الثبوت والتقرر وعدم معقولية ذلك، فوقع النزاع في أن الأصيل منهما ما هو؟
هل هو الوجود والماهية امر انتزاعي لا تقرر له واقعا ولا أصالة له؟. أو انه الماهية
والوجود ينتزع عنهما؟. فقد يقال: ان البحث المزبور في تعلق الامر بالوجود وان
المطلوب وجود الطبيعة انما يتأتى بناء على الالتزام بأصالة الوجود. اما بناء على
أصالة الماهية فلا مجال له، إذ لا واقعية للوجود ولا يكون مورد الغرض فلا معنى
لتعلق الامر به بل الامر يتعلق بالطبيعة.
ولكنه يندفع: بأنه بناء على إصالة الماهية وإن لم يكن الموجود متعلقا للامر
لكن الطبيعة بما هي لا تكون أيضا متعلقة للامر وانما متعلق الامر الماهية
الخارجية، لان ما يكون متعلقا للغرض هو الامر الخارجي دون ذات المفهوم، فاما
ان يتعلق الطلب بالوجود ان كان هو الأصيل أو بالماهية الخارجية ان كانت هي
الأصيل. فتدبر.
يبقى شئ في كلام الكفاية وهو: انه بعد أن ذكر ان متعلق الطلب هو
وجود الطبيعة لا الطبيعة بما هي هي، لأنها ليست الا هي غير قابلة لتعلق الطلب
وعدمه. قال: " نعم هي كذلك (يعني الطبيعة بما هي هي) تكون متعلقة للامر لأنه
طلب الوجود، فافهم " (1).
وتوضيح ذلك: انه واقع الكلام في أن حقيقة النهي هل هي غير حقيقة
الامر، أو انها حقيقة واحدة. ولكن الاختلاف في المتعلق - ويأتي التعرض لذلك

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 139 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
475

في أول مبحث النواهي ان شاء الله تعالى -؟ فالأول يراد به ان حقيقة النهي هي
الزجر عن العمل وحقيقة الامر هي البعث نحو العمل، والمتعلق لكليهما واحد
والاختلاف في حقيقتهما. والثاني يراد به ان حقيقة كل من الأمر والنهي
هي الطلب، الا ان الامر طلب الوجود والنهي طلب الترك واخذ الوجود والترك
في حقيقة الأمر والنهي أخذ لهما في مدلول الهيئة، فان مدلول المادة في كليهما واحد
لا يتغير، فان مادة: " صل " و: " لا تصل " يؤديان معنى واحد وهو الصلاة. اذن
فالاختلاف لا بد وان يرجع إلى الهيئة في النهي طلب الترك، كي يحصل التمييز بين
الأمر والنهي. وهذا لا يحتاج إليه القائل بالأول، إذ الاختلاف والتمييزيين
الحقيقتين حاصل بأخذ الامر بمعنى البعث واخذ النهي بمعنى الزجر، فلا يحتاج
إلى تقدير الوجود والترك. وصاحب الكفاية ممن يلتزم بالثاني، فيتعين عليه أن يقول
بان مدلول الهيئة في الامر هو طلب الوجود، وبما أن الهيئة من مصاديق
الامر فالامر على هذا اسم لطلب الوجود، والمفروض ان الوجود وارد على
الطبيعة بما هي فيكون الامر بذلك واردا عليها بما هي هي.
ولكن الذي يظهر من صاحب الكفاية بقوله: " فافهم " انه يتوقف في
صحة هذا البيان. والوجه الذي به يظهر عدم صحة هذا البيان هو: ان مقتضى
هذا البيان ان لفظ الامر اسم للمركب من طلب الوجود، فلا واقع له سوى هذا
المركب. ومن الواضح ان هذا المركب بما هو غير عارض على الماهية بما هي،
فليس متعلق طلب الوجود هو الماهية، بل الماهية متعلق نفس الوجود وهو متعلق
لنفس الطلب. فليس للامر واقع بسيط يكون متعلقا بالطبيعة بما هي، وانما واقعه
المركب المذكور وهو بمجموعه غير عارض على الماهية، بل العارض عليها أحد
جزئيه وهو الوجود. فلا يقال ان طلب الوجود متعلق بالطبيعة بما هي هي.
فلا حظ.
476

واما ما ذكره (قدس سره) في مقام بيان ان متعلق الامر هو الطبيعة من:
ان متعلق الامر هو الطبيعة بوجودها السعي لا وجودها الخاص (1).
فلا يتوجه عليه: ان الوجود يلازم التفرد والتخصص فلا معنى للتعبير
بالوجود السعي فإنه غير معقول، لمنافاة الفردية للسعة.
وذلك لان الفردية في نظر صاحب الكفاية على ما عرفت ليست بالوجود،
بل اللوازم والمشخصات. وعليه فيصح له فرض السعة في الوجود. اما ان هذا
الوجود السعي المتعلق للامر هل يكتفى فيه بواحد أو لا بد من الاتيان بجميع
الوجودات؟ فبيان ذلك محله في أول مبحث النواهي. فانتظر.
تنبيه: قد تقدم ان ذكرنا أن المحقق النائيني نسب إلى بعض الأعاظم
ارجاع النزاع في المسالة إلى أن التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي، وتقدم منه
(قدس سره) الايراد عليه بوجهين:
أحدهما: احتياج التخيير الشرعي إلى تقدير كلمة: " أو " بعدد الافراد
وهي غير متناهية غالبا.
وثانيهما: مسلمية وجود التخيير العقلي في الجملة من قبل الكل، وهو ينافي
الاختلاف في أن متعلق الامر هو الطبيعة أو الفرد لان مرجع دعوى تعلقه إلى
الفرد إلى امتناع تعلقه بالطبيعة وهو ينافي الالتزام بجوازه في بعض الأحيان
الظاهر من الالتزام بالتخيير العقلي (2).
وتحقيق الحال على وجه يرتفع به الغموض عن أصل الدعوى والايراد،
ان التخيير الشرعي:
تارة: يلتزم بأنه تعلق الحكم بكل فرد وخصوصية بنفسها، بمعنى ان كل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 139 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 210 - الطبعة الأولى.
477

خصوصية لوحظت بنفسها واخذت في متعلق الوجوب التخييري.
وأخرى: يلتزم بان مرجعه إلى تعلق الحكم بعنوان انتزاعي ينطبق على كلتا
الخصوصيتين - مثلا -، وهو عنوان: " أحدهما " فيكون الفرق بينه وبين التخيير
العقلي هو ان متعلق الحكم في التخيير العقلي هو الجامع الحقيقي بين الافراد،
وفيه يكون هو الجامع الانتزاعي.
فعلى الأول: لا تكون مسألتنا راجعة إلى ما ادعى من كون التخيير عقليا
أو شرعيا، إذ من يدعي كون متعلق الامر هو الافراد لا يلتزم بملاحظة كل فرد
بخصوصيته المباينة لخصوصية الفرد الآخر، بل يلتزم بملاحظة الجهة الجامعة
والمشتركة بين سائر الافراد بما هي افراد، وهي مثلا الطبيعة المتشخصة أو الطبيعة
الموجودة، فخصوصيات الافراد غير ملحوظة، والمفروض توقف الوجوب
التخييري على هذا المبنى على لحاظ خصوصيات الافراد.
وعلى الثاني: لا يتوقف الوجوب التخييري على ملاحظة الخصوصيات،
كما لا يتوقف على تقدير كلمة: " أو " لكون المتعلق شيئا واحدا ينطبق على
الخصوصيات وهو العنوان الانتزاعي، فيكون القول بكون متعلق الامر هو
الافراد قولا بكون التخيير شرعيا لان الفرد جامع انتزاعي عن الافراد بما هي
افراد لا حقيقي، والقول بكون المتعلق هو الطبيعة قولا بكون التخيير عقليا لان
الطبيعة جامع حقيقي.
فيتلخص: ان رجوع المسالة إلى كون التخيير شرعيا أو عقليا انما يتم
بناء على الالتزام في الوجوب التخييري بان المتعلق هو عنوان انتزاعي عن
الافراد بما هي افراد كعنوان: " أحدهما ". والمحقق النائيني يرى هذا الرأي، فلم
يظهر وجه ايراده باحتياج التخيير إلى تقدير كلمة: " أو ".
اما الوجه الثاني من الايراد فوضوح اندفاعه في مجال آخر. فالتفت وتدبر
والله سبحانه الموفق.
478

فصل
نسخ الوجوب
إذا وجب شئ ثم نسخ وجوبه بدليل، فهل للدليل المنسوخ أو الناسخ
دلالة على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو لا؟.
ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني (1)، وهو والصحيح.
وتقريبه: ان الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو
الوجوب من دون تعرض إلى حال الجواز وغيره، فعدم دلالته واضح جدا. واما
الدليل المنسوخ الدال على الوجوب، فإذا التزمنا بان الوجوب أمر بسيط لا
تركب في حقيقته فعدم دلالته على الجواز واضح، إذ ما كان يدل عليه وهو
الوجوب قد ارتفع بالفرض ولا دلالة له على غيره أصلا. وان التزم بان الوجوب
مركب من جزئين جواز الفعل والمنع من تركه. فقد يدعى دلالة المنسوخ على
الجواز بالدلالة التضمنية، إذ هو قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب
وبالتضمن على الجواز، لأنه جزء الوجوب، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن
الحجية بواسطة الناسخ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 139 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
479

التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية. ولكن هذا غير صحيح:
لانكار المقدمة الأولى أولا. وهي: دعوى تركب الوجوب، فان الوجوب
أمر بسيط لا تركب فيه، والتعبير عنه بالمضمون المركب تعبير عنه باللازم.
وانكار المقدمة الثانية ثانيا، وهي: دعوى عدم تبعية الدلالة التضمنية
للدلالة المطابقية في الحجية، وتحقيق ذلك وان كان ينبغي أن يكون فيما تقدم من
مبحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية، لكن جرت السيرة على
التعرض إليه في مبحث التعادل والترجيح فهو موكول إلى محله. ولو تنزلنا وسلمنا
عدم التبعية فهو انما نسلمه في المركبات الاعتبارية التي يكون لكل جزء منها
وجود مستقل عن وجود الآخر نظير الدار. دون المركبات الحقيقية التي لا يكون
لها الا وجود واحد بسيط.
والسر فيه: ان انتفاء وجود المركب الاعتباري لا يساوق انتفاء وجود
اجزائه، لفرض ان لها وجودا مستقلا، فيمكن ان يقال بقاء دلالة الدليل الدال
على وجود الجزء بالتضمن اما انتفاء وجود المركب الحقيقي فهو مساوق لانتفاء
وجود اجزائه، لفرض ان الوجود واحد فقط فليس هناك وجودان أحدهما للجزء
والآخر للكل، فلا معنى لبقاء الدلالة التضمنية بعد انتفاء الدلالة المطابقية لعدم
المدلول التضمني بعد انتفاء المدلول المطابقي لان المدلول المطابقي هو وجود
المركب الملازم لوجود جزئه. وقد عرفت أنه وجود واحد لا تعدد فيه، فانتفاءه
ملازم لانتفاء وجود جزئه.
وبعبارة أخرى نقول: مع وحدة وجود المركب لا ثبوت للدلالة التضمنية
للجملة، إذ دلالتها التضمنية عبارة عن كشفها عن ثبوت الجزء ووجوده بتبع
كشفها عن وجود الكل، والمفروض انه لا وجود للجزء بنفسه كي يكون مدلولا
للكلام. بخلاف ما إذا كان المركب اعتباريا، فان الجزء له وجود مستقل في نفسه،
فدلالة اللفظ على وجود المركب يكون موجبا للكشف عن وجود الجزء أيضا.
480

نعم هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كلا المقامين، ولكنه لا ينفع، فان
المقصود ثبوت الجزء ووجوده. وقد عرفت أنه لا دلالة تضمنية عليه في المركب
الحقيقي لعدم وجود الجزء مستقلا.
وما نحن فيه من هذا القبيل - أي من قبيل المركب الحقيقي -، إذ لا
يدعي أحد ان الوجوب مركب من أمرين مستقلين وانشاءين متعددين، بحيث
يكون لكل منهما وجود مستقل كي لا ملازمة بين انتفاء وجود الكل وانتفاء وجود
الجزء. بل وجود الوجوب بجزئية وجود واحد. فلا تبقى دلالة الدليل التضمنية
بانتفاء المدلول بالدلالة المطابقية. فلا حظ.
وإذا لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فلا بد من الرجوع إلى الأصل
العملي.
وعليه، فقد يدعى اجراء استصحاب الجواز لليقين به سابقا والشك فيه
لاحقا فيثبت الجواز بالأصل.
وناقشه صاحب الكفاية: بان هذا الاستصحاب من استصحاب الكلي
القسم الثالث، وضابطه الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في
حدوث فرد آخر مساوق لارتفاع الفرد السابق. وهو لا يجري كما حقق في محله.
نعم يستثنى منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول
في نظر العرف كما إذا كان من نظير الشك في بقاء كلي السواد الموجود سابقا في
ضمن مرتبة قوية منه للشك في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة بحيث يعد
في العرف انه من تغير الحالات لا من تعدد الافراد. فإنه لا مانع من اجراء
الاستصحاب هنا، ولكن الاحكام ليست كذلك بل هي متغايرة عرفا.
ومن هنا قد يرد عليه: بان الوجوب والاستحباب من هذا القبيل، لان
الاختلاف بينهما في المرتبة، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستحباب صح
اجراء استصحاب الكلي.
481

ولكنه دفعه: بان الاختلاف بينهما حقيقة وان كان من حيث المرتبة، الا
انهما بنظر العرف فردان متغايران، ومن الواضح ان المحكم في باب الاستصحاب
هو نظر العرف والمدار عليه لا على النظر الدقي (1).
هذا ما افاده في الكفاية. ولكن ناقشه المحقق الأصفهاني: بان المراد من
الوجوب والاستحباب ان كان هو الامر الاعتباري المجعول من قبل الشارع،
فهما متباينان وليس الاختلاف بينهما في الشدة والضعف. وان كان هو الإرادة،
فالاختلاف بينهما من حيث الشدة والضعف، ولا يكون كل منهما بنظر العرف
مغايرا للآخر. ولكن هذا لا يعني الالتزام باجراء الاستصحاب، بل لا بد من
التفصيل بين الالتزام في باب الاستصحاب بان المجعول بادلته الحكم المماثل
للحكم المستصحب أو الحكم المستصحب كما يظهر من صاحب الكفاية (2)
والشيخ (3) (رحمه الله). والالتزام بان المجعول بادلته هو منجزية الواقع أو
الطريقية إليه وفرض الشاك متيقنا بالواقع. فعلى الأول لا يجري استصحاب
الإرادة لأنها ليست من المجعولات الشرعية وليست موضوعا لحكم شرعي فلا
معنى للتعبد ببقائها وجعلها من قبل الشارع. وعلى الثاني يجري استصحاب
الإرادة لأنها قابلة للتنجيز أو يترتب عليها الحكم العقلي بالجري على طبقها كما
لو كان متيقنا بها (4).
هذا ملخص ما افاده المحقق الأصفهاني نقلناه لاجل التنبيه على عدم
كون الإرادة من المجعولات الشرعية وليست من موضوعات الأحكام الشرعية.
فالتفت فإنه ينفعك في بعض الموارد.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 140 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 414 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 383 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 251 - الطبعة الأولى.
482

فصل
الوجوب التخييري
لا اشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرعيات والعرفيات، وانما
الكلام في تصويره بنحو لا يتنافى مع حقيقة الوجوب، فان جهة الاشكال فيه
هي منافاته لحقيقة الوجوب، إذ أساس الوجوب عدم جواز ترك متعلقه،
والوجوب التخييري يجوز ترك متعلقه، والمذكور في تصويره وجوه أشار إلى
بعضها صاحب الكفاية.
الاحتمال الأول: - وقد اختاره صاحب الكفاية - كونه سنخ وجوب
مشوبا بجواز الترك.
ببيان: ان الغرض المترتب على الامرين ان كان واحدا، فيكشف عن
وجود جامع حقيقي بين الفعلين يكون هو المؤثر في ذلك الغرض، لان الواحد لا
يصدر إلا عن واحد، ويكون الجامع هو متعلق الامر واقعا لأنه متعلق الغرض،
ويكون التخيير عقليا لا شرعيا، وان كان الغرض متعددا، فلا بد ان يفرض ان
حصول أحدهما يمنع من حصول الآخر بحيث لا يمكن اجتماع كل من
الغرضين - إذ لو أمكن حصولهما معا تعين الامر التعييني بكل من الفعلين -،
فيتعلق الوجوب بكل منهما. لكن يجوز تركه إلى بدله وهو الآخر لا مطلقا، فهو
483

وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. فملخص دعوى صاحب
الكفاية: ان الوجوب التخييري سنخ وجوب يعرف بآثاره ولوازمه كوحدة
العقاب على ترك الفعلين وعدم جواز ترك كل منهما لا إلى بدل (1).
ويمكن ان نوضحه: بأنه إرادة وسط بين الإرادة الاستحبابية والإرادة
الوجوبية، فهي أقوى من إرادة الاستحباب ولذا لا يجوز ترك متعلقها مطلقا
واضعف من إرادة الوجوب ولذا يجوز ترك متعلقها إلى بدل، بخلاف إرادة
الوجوب فإنه لا يجوز ترك متعلقها أصلا.
وهذا الاختيار وان كنا قد قربناه وقويناه سابقا ودفعنا ما يخدش به، حتى
قيل أنه ناش عن عدم تصور الوجوب التخييري، والا فما هو ذلك السنخ من
الوجوب وما تحديده؟ - ونظير ذلك ما ورد منه (قدس سره) في تعريف الوضع
من انه نحو اختصاص، فكان مورد الاعتراض لعدم تحديده ذلك النحو - لكن
الذي يبدو لنا فعلا انه لا يخلو من مناقشة وذلك لوجهين:
الأول: انه يتنافى مع ما يراه الوجدان في الواجبات التخييرية العرفية من
ثبوت وجوب واحد لا وجوبين.
الثاني: انه لو فرض تعدد الوجوب وانه سنخ خاص منه ينشأ عن مرتبة
معينة من الإرادة، فما هو الوجه في سقوطه عن أحدهما عند الاتيان بالآخر؟.
وبتعبير آخر نقول: انه بعد فرض تعدد الوجوب وتعلقه بكل من الفردين
معينا، فلو جاء المكلف بأحد الامرين اما أن لا يسقط الوجوب المتعلق بالآخر
أو يسقط؟، فان التزم بعدم سقوطه كان ذلك منافيا لما هو الثابت الذي لا اشكال
فيه من سقوط الوجوب وعدم بقائه عند الاتيان بأحد الامرين. وان التزم
بسقوطه كان ذلك التزاما بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر وعدمه، وهو غير

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 140 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
484

خال عن المحذور كما سيأتي بيانه في الاحتمال التالي ان شاء الله تعالى.
فما ذكره صاحب الكفاية لا تمكننا المساعدة عليه، ولولا تصريحه بامتناع
تعلق الوجوب التخييري بالفرد على البدل لاستظهرنا من كلامه إرادة ذلك
بالمعنى الذي سنوضحه فانتظر.
ثم إن ما ذكره في صورة وحدة الغرض المترتب على الامرين من رجوع
التكليف إلى الجامع، لأنه هو المؤثر في الغرض لقاعدة ان الواحد لا يصدر إلا عن
واحد.
لا يخلو من خدشة وان ذكره في غير هذا المقام (1) أيضا، وذلك لان هذه
القاعدة تنطبق على الواحد الشخصي. اما الواحد النوعي فيمكن صدوره عن
متعدد، إذ لا برهان على امتناعه، لاختصاص برهان الامتناع بالواحد
الشخصي، بل الوجدان على خلافه لان صدور الواحد النوعي عن المتعدد لا
شبهة فيه كالحرارة الصادرة عن الشمس وعن الكهرباء وعن الحركة، ولا جامع
حقيقي بين هذه الأمور كما لا يخفى.
وبالجملة: فكلام صاحب الكفاية بجهتيه لا يخلو عن مناقشة فتدبر.
الاحتمال الثاني: ان الوجوب التخييري في الحقيقة وجوب تعييني متعلق
بكل من الفعلين، لكنه مشروط بترك الآخر.
وأورد عليه المحقق النائيني بايرادات أربعة - بعد أن بناه على تعدد
الغرض، ولكن بنحو لا يمكن الجمع بينهما، إذ مع امكان الجمع بينهما يتعين الامر
بكل منهما مطلقا. كما أنه مع وحدة الغرض لا معنى لتعين أحدهما عند ترك الآخر.
ويؤمر به نفسه، بل الامر مطلقا لا بد أن يكون بنحو التخيير -.
الأول: ان فرض تعدد الغرض فرض لا غير كفرض أنياب الأغوال.

(1) راجع ما افاده في تصوير الجامع الصحيحي.
485

ولعله يقصد انه لا شاهد عليه من العرف، فان موارد التخيير في العرف لا تنشأ
عن تعدد الغرض، بل الغرض فيها واحد، فمن أي طريق يعلم تعدده ويبنى
التخيير على فرض التعدد.
الثاني: ان الاطلاق ينفي اشتراط الوجوب على كل منهما بترك الآخر،
إذ التقييد خلاف الأصل.
الثالث: انه يبتني على صحة القول بالترتب لأنه التزام به. وهو مما لا
يمكن فرضه على من يقول بامتناع الترتب، مع أن الوجوب التخييري مما يلتزم
به الجميع.
الرابع: ان المورد خارج عن مورد التزاحم بين الخطابين كي يرفع بالتقييد
المدعى، إذ التزاحم بين الملاكين في الملاكية، فان ملاكية أحد الغرضين انما تفرض
عند ترك الآخر، بمعنى انه لا يمكن أن يكون كل منهما ملاكا للحكم، بل
أحدهما الغالب هو الملاك، لان الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح للداعوية
إلى التكليف، فلا مناص من كون أحد الملاكين على البدل ملاكا فعليا، فينتج
خطابا واحدا بأحد الشيئين على البدل لا خطابين مشروطين (1).
أقول: لا يخفى ان الملتزم بهذا القول تارة يلتزم به من باب انحصار
تصوير الوجوب التخييري بهذا النحو وعدم تعقل غيره، فلا يرد عليه الايراد
الأول والثاني، إذ نفس الدليل الاثباتي على التخيير كاف في تعين الالتزام به،
وأخرى يلتزم به من باب انه وجه من وجوه تصوير الواجب التخييري
فللايرادين مجال، فإنه لا شاهد عرفا عليه كي تحمل عليه الأدلة الشرعية، بل يمكن
ان يدعى ان غالبية وحدة الغرض قرينة عامة على عدم كونه بهذا النحو مع
اندفاعه بالاطلاق. ولكنه انما ينفي بهذين الوجهين لو فرض تصور معنى عرفي

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 185 - الطبعة الأولى.
486

يمكن حمل الأدلة عليه، اما لو لم يتصور إلا معنى بعيد أيضا عن فهم العرف
فيتردد الوجوب التخييري بين الوجهين وتختلف الآثار العملية والعلمية على كلا
القولين، ولا يمكن الجزم بأحدهما.
اما الايراد الثالث، فلا يرد لما عرفت من انه لا تنافي بين الالتزام بالترتب
من كلا الطرفين - كما هو الحال فيما نحن فيه - وبين انكار الترتب من طرف
واحد. وعليه فالالتزام بهذا الوجه لا يتنافى مع انكار الترتب.
واما الايراد الرابع، فلو تم لجرى في مطلق موارد التزاحم، لان استيفاء
أحدهما يمنع من استيفاء الآخر.
والحل في الجميع: انه لا فرق بين هذا المورد وسائر الموارد في تمامية الملاك
والتزاحم بين استيفائي الملاكين لا بين الملاكين في الملاكية، فيكون التزاحم بين
الخطابين لكون المقصود بهما هو استيفاء الملاكين كما لا يخفى.
فالمتوجه من هذه الايرادات هو الايرادان الأولان بالمقدار الذي ينفيان
تعينه لا معقوليته.
ويرد عليه ثالثا ما افاده المحقق الأصفهاني (قدس سره): من أن
الغرضين ان فرض كون استيفاء أحدهما سابقا يمنع من استيفاء الآخر، فاللازم
الامر بالفعلين دفعة لتحصيل كلا الغرضين. وان فرض كون استيفاء أحدهما
مطلقا يمنع من استيفاء الآخر، فاللازم انه مع ايجاد كلا الفعلين لا يترتب كل
من الغرضين، فإنه نظير اجتماع المقتضيين للضدين فإنه لا يتحقق أحدهما كما
لا يخفى، وهذا مما لا يلتزم به أحد. وان فرض كون وجود كليهما موجبا لحصول
غرض ثالث، فاللازم فرض التخيير بين أطراف ثلاثة كل من الفعلين ومجموعهما
وهو خلف الفرض (1).

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 254 - الطبعة الأولى.
487

ونقول: انه ليس خلف الفرض فقط بل غير معقول، لان الأطراف إذا
كانت ثلاثة كان وجوب أحدهما مشروطا بترك كلا العدلين لا أحدهما، إذ مع
ترك أحدها لا يتعين وجوب غيره، بل يجوز الاتيان بكل من الآخرين.
وعليه، ففيما نحن فيه يلزم أن يكون الامر بكلا الفعلين مشروطا بتركهما
- لان كلا منهما عدل كليهما كما هو الفرض -، وهو غير معقول، بل الالتزام
بثبوت التخيير بين الأقل والأكثر يكشف عن عدم كونه بهذا النحو، لأنه لو كان
بهذا النحو لم يكن التخييريين الأقل والأكثر معقولا، إذ لا معنى لتقييد وجوب
الأكثر بترك الأقل. كما لا يخفى.
ويرد عليه رابعا: ان تقييد وجوب أحدهما بترك الآخر يلزمه عدم وقوع
كل منهما على صفة الوجوب لو جاء بهما معا، لعدم تحقق شرطه وهما مما ثبت
خلافه - وهذا الوجه يرد حتى لو فرض وحدة الغرض فهو لا يرتبط بعالم تعدد
الغرض والتضاد بينهما -.
ويرد عليه خامسا: لزوم تعدد العقاب لو ترك كلا الامرين لوجوب كل
منهما في حقه.
ولا يرد عليه: انه لا مانع من الالتزام به إذ لم يثبت خلافه. إذ ثبوت خلافه
في العرفيات مما لا اشكال فيه وهي شاهد على ما نحن فيه.
الاحتمال الثالث: تعلق الوجوب بكل منهما تعيينا مطلقا لكنه يسقط بفعل
الآخر.
وقد ادعى المحقق النائيني: انه مما لا يصح ان يتفوه به أحد، ولذلك حمله
على الوجه السابق. والوجه في ذلك: ان سقوط الوجوب انما يكون باعتبار عدم
امكان استيفاء الغرض الثابت في متعلقه، وهذا انما يتصور في مورد تزاحم
الغرضين بحيث يكون كل منهما مع وجوده مانعا من وجود الآخر، وإذا كان كذلك
رجع إلى الوجه السابق، إذ مع وجود أحدهما لا معنى للامر بالآخر لعدم امكان
488

استيفاء غرضه، فيتقيد الامر بكل منهما بترك الآخر، وقد عرفت الاشكال فيه (1).
ولا يمكن حمله على صورة وحدة الغرض لما ذكرناه من عدم الوجه حينئذ
في وجوب كل منهما تعيينا لعدم ملاك التعيينية فيه.
الاحتمال الرابع: وجوب المعين عند الله تعالى شانه وهو ما يختاره المكلف
في علمه عز وجل.
وفيه:
أولا: ان الوجوب التخييري في العرفيات لا يمكن حمله على ذلك، لعدم
كون المولى العرفي ممن يعلم الغيب كي يتعلق امره بما يختاره المأمور في علمه.
وثانيا: انه إذا فرض تساوي الفعلين في الوفاء بالغرض، فلا وجه للامر
التعييني بأحدهما المعين، فإنه لغو لا يصدر من عاقل الا إذا انحصر تصور
التخيير ومعقوليته بذلك.
وثالثا: انه يلزم اختلاف المكلفين في الواجب لاختلافهم في الاختيار،
فيتعدد الواجب بتعدد الأطراف، وهو مما يعلم خلافه، إذ من المعلوم كون الواجب
في حق جميع المكلفين واحدا لا يختلف.
الاحتمال الخامس: أن يكون الواجب أحدهما. وهو مذهبان:
أحدهما: ان يراد منه مفهوم أحدهما وعنوانه المنطبق على كل من
الامرين في نفسه، فان كلا منهما يصدق عليه انه أحد الامرين، نظير مفهوم: " من
يسكن الدار " المنطبق على كل من زيد وعمرو بخصوصه إذا كانا يسكنانها.
ثانيهما: ان يراد منه واقع أحدهما وهو الصوم والعتق - مثلا - وهو تارة
يقصد به أحدهما المعين كالصوم بعينه وأخرى يقصد به أحدهما غير المعين
كالصوم أو العتق، المعبر عنه بالفرد على سبيل البدل، فالتقسيم إلى المعين وغير

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 182 - الطبعة الأولى.
489

المعين انما هو بلحاظ واقع أحدهما لا مفهومه، فان مفهوم أحدهما لا ينقسم إلى
بعينه والى لا بعينه فإنه معين دائما. ومحل الكلام في أحدهما مصداقا هو أحدهما
لا بعينه فلدينا احتمالان:
الأول: كون الواجب مفهوم أحدهما.
الثاني: كون الواجب واقع أحدهما غير المعين.
ولا يخفى ان أحد الافراد لا بعينه تارة يقصد به عدم دخل الخصوصية
الشخصية، فيساوق الاطلاق. وأخرى يراد به الفرد المردد واحدى الخصوصيتين
من دون تعيين والمقصود ب‍: " لا بعينه " هنا هو المعنى الثاني فانتبه.
اما احتمال وجوب أحدهما مفهوما، فهو تارة يلتجأ إليه بعد ابطال جميع
احتمالات الوجوب التخييري بحيث ينحصر الاحتمال المعقول فيه، فلا محيص
عن الالتزام به وان كان خلاف الظاهر. وأخرى يلتزم به كوجه مستقل في قبال
غيره، فلا اشكال في بطلانه، إذ متعلق الامر ما يكون مورد الأثر والغرض ومن
الواضح ان الغرض لا يترتب على مفهوم أحدهما، بل انما يترتب على كل من
الامرين بواقعه.
واما احتمال وجوب أحدهما لا بعينه - مصداقا -، فقد التزم به المحقق
النائيني (قدس سره) وأطال الكلام في بيانه بما لا أثر له في تحقيق الدعوى.
ومحصل ما جاء من كلامه هو بيان عدم المانع من تعلق الإرادة التشريعية
بأحدهما لا بعينه، والمقتضي موجود لترتب الغرض على كل منهما وتعيين أحدهما
ترجيح بلا مرجح، وبيان انحصار المانع في تعلق الإرادة التكوينية بالمردد (1).
وهذا غريب من مثل المحقق المزبور، فان اللازم عليه كان بيان ما يحتمل
أن يكون محذورا ودفعه لا مجرد دعوى عدم المانع لا أكثر من دون بيان

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 183 - الطبعة الأولى.
490

وجه ذلك فان ذلك لا يتناسب مع علمية البحث.
ثم إنه (قدس سره) أنكر دعوى تعلق الوجوب بأحدهما مفهوما بدعوى أنه
لا حاجة إلى توسيط الجامع بعد امكان تعلق الحكم بالواقع رأسا. ومن
الغريب ما جاء في التعليقة للسيد الخوئي من تقرير تعلق الحكم بأحدهما لا بعينه
واختياره، ثم ارجاعه بعد ذلك إلى القول بكون المطلوب مفهوم أحدهما، مع ما
عرفت من تبيانهما وانكار المحقق النائيني للثاني (1)، فالتفت ولا تغفل.
وعلى كل حال فعلينا ان نذكر ما قيل في وجه امتناع تعلق التكليف
بالفرد المردد أو الفرد على البدل. وهو وجوه:
الأول: ما يذكره الشيخ الأعظم في مسالة بيع الصاع من صبرة - حيث
وقع الاشكال في متعلق البيع والتمليك، فادعى انه الصادع المردد - من: ان الفرد
المردد لا وجود له في الخارج فيمتنع تعلق الملكية به. وأجاب عنه الشيخ: بان
ذلك يتنافى مع تعلق الصفات الواقعية به دون الأمور الاعتبارية كالملكية
ونحوها، لان الاعتبار خفيف المؤنة (2).
الثاني: ما ذكره في الكفاية في حاشية له في المقام من: ان الصفات
الاعتبارية وان تعلقت بالفرد المردد، بل وكذا الصفات الحقيقية كالعلم الاجمالي
المتعلق بنجاسة أحد الإنائين، الا ان في البعث خصوصية تمنع من تعلقه بالفرد
المردد، فان البعث انما هو لايجاد الداعي وتحريك المكلف نحو اتيان العمل المتعلق
للامر اختيارا وعن إرادة. ومن الواضح ان الإرادة لا تتعلق بالفرد على البدل،
إذ لا وجود له ولا واقع، وهي انما تتعلق بالخارجيات فلا يكون التكليف المتعلق
بالفرد المردد قابلا للتحريك فيكون ممتنعا (3).

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 183 [هامش رقم (1)] - الطبعة الأولى.
(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب / 195 - الطبعة الأولى.
(3) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
491

الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره): من أن العرض
حقيقيا كان أو اعتباريا لا بد وان يتقوم بمحل، ومن الواضح ان الفرد على البدل
والمردد لا واقع له أصلا لا خارجا ولا مفهوما، فان كل ما يوجد في الذهن أو في
الخارج معين لا تردد فيه، فان الوجود مساوق للتشخص والتعين ويتنافى مع
التردد - وعلى حد بيان صاحب الكفاية: ان كل موجود هو هو لا هو أو غيره (1) -،
وإذا لم يكن للمردد واقع امتنع أن يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي
كما لا يخفى جدا (2).
الرابع: ما ذكره المحقق الأصفهاني أيضا: من أن الصفات التعلقية كالعلم
والتصور والبعث قوامها بمتعلقها، بمعنى ان وجودها بوجود متعلقها وليس لها
وجود وواقع منحاز عن واقع متعلقها، فوجود التصور عين وجود المتصور بما هو
كذلك.
وعليه، فتعلق البعث بالفرد المردد يلزم منه اما انقلاب المعين - وهو البعث -
إلى المردد. أو انقلاب المردد - وهو المتعلق - إلى المعين لان وجودهما واحد، وكلا
الامرين خلف محال (3).
هذا محصل الايرادات على تعلق التكليف بالفرد المردد وهي في الحقيقة
ثلاثة، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.
وشئ منها لا ينهض مانعا عن تعلق التكليف بالفرد المردد، ولأجل ذلك
يمكننا ان ندعي ان متعلق الوجوب التخييري هو أحد الامرين على سبيل

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 246 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء
الأول - الطبعة الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء
الأول - الطبعة الأولى.
492

البدل في الوقت الذي لا ننكر فيه أن الفرد المردد لا واقع له، وان كل موجود في
الخارج معين لا مردد.
وبتعبير آخر نقول: ان المدعى كون متعلق الحكم مفهوم الفرد على
البدل، أو فقل هذا أو ذاك، بمعنى ان كلا من الامرين يكون مورد الحكم
الواحد، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين، وكلاهما معا بنحو المجموع.
ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين:
الأولى: ان مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الذي يعبر عنه بالتعبير
العرفي ب‍: " هذا أو ذاك " من المفاهيم المتعينة في أنفسها، فان المردد مردد بالحمل
الأولى لكنه معين بالحمل الشائع، نظير مفهوم الجزئي الذي هو جزئي بالحمل الأولي
كلي بالحمل الشائع فالفرد على البدل مفهوم متعين، ولذا نستطيع التعبير
عنه والحكم عليه وتصوره في الذهن كمفهوم من المفاهيم فهو على هذا قابل
لتعلق الصفات الحقيقية والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.
الثانية: ان الصفات النفسية كالعلم ونحوه لا تتعلق بالخارجيات، بل لا بد
وأن يكون معروضها في أفق النفس دون الخارج، والا لزم انقلاب الخارج ذهنا
أو الذهن خارجا وهو خلف فمتعلق العلم ونحوه ليس إلا المفاهيم الذهنية لا
الوجودات الخارجية.
وإذا تمت هاتان المقدمتان تعرف صحة ما ندعيه من كون متعلق العلم
الاجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب
التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك. فإنه مفهوم متعين في نفسه
كسائر المفاهيم المتعينة ولا يلزم منه انقلاب المعين مرددا، إذ المتعلق له تعين وتقرر،
كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوم، إذ المفهوم المذكور له واقع.
يبقى شئ، وهو: ان الصفات المذكورة وان تعلقت بالمفاهيم، لكنها
مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآتا للواقع، والمفروض انه لا
493

واقع لمفهوم الفرد المردد فكيف يتعلق به العلم؟!. وحل هذا الاشكال سهل، فان
ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطا حقيقيا واقعيا،
ويشهد له انه قد لا يكون العلم مطابقا للواقع، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم
والخارج؟، إذ لا وجود له كي طرف الربط، ولأجل ذلك يعبر عن الخارج
بالمعلوم بالعرض. اذن فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي أن يكون له وجود
خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.
ومما يؤيد ما ذكرناه من امكان طرو الصفات على الفرد المردد: مورد
الاخبار بأحد الامرين، كمجئ زيد أو مجئ عمرو، فإنه من الواضح انه خبر
واحد عن المردد، ولذا لو لم يأت كل منهما لا يقال إنه كذب كذبتين، مع أنه لو
رجع إلى الاخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الاخبار الا بذلك.
يبقى اشكال صاحب الكفاية وهو: ان التكليف لتحريك الإرادة،
والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطا تكوينيا، فيمتنع التكليف بالمردد، إذ لا واقع له
كي يكون متعلق الإرادة (1).
والجواب عنه: انه لا ملزم لان نقول بان التكليف لاجل التحريك
والبعث والدعوة نحو متعلقه بجميع خصوصياته وقيوده، بل غاية ما هو ثابت ان
التكليف لاجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور
بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وان اختلف عن متعلقه
بالخصوصيات.
ومن الواضح ان تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كل من
الفعلين على سبيل البدل، فيأتي العبد بأحدهما منبعثا عن التكليف المزبور، وهذا
يكفي في صحة التكليف وكونه عملا صادرا من حكيم عاقل.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 [هامش رقم (1)] - طبعة مؤسسة آل
البيت (ع).
494

ونتيجة ما تقدم: انه لا مانع من تعلق التكليف بالفرد على البدل
وبأحدهما لا بعينه، بمعنى كون كل منهما متعلقا للتكليف الواحد، ولكن على
البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معا. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه
لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حد سواء ومن دون مرجح،
فلا بد من كون الواجب في كل منهما بنحو البدلية والتردد.
وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد ولا وجه للالتزام ببعض
الوجوه في العلم الاجمالي، كدعوى ان المتعلق هو الجامع والترديد في
الخصوصيات. وفي مسالة بيع صاع من صبرة، كدعوى ان المبيع هو الكلي في
الذمة ولكن مع بعض القيود، أو دعوى أخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق
الكلام في كل منهما موكول إلى محله.
فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه،
كما التزم به المحقق النائيني، وان خالفناه في طريقة اثباته.
تتمة في التخيير بين الأقل والأكثر وتصحيحه:
قد ورد في الشريعة التخيير بين الأقل والأكثر، كالتخيير في التسبيح
الواجب في الركعتين الأخيرتين بين التسبيحة الواحدة والثلاث - على قول -.
وهو بظاهره مورد الاشكال، إذ لقائل أن يقول: ان الغرض ان كان
يحصل بالأقل فلا مجال للامتثال بالأكثر أصلا، إذ الغرض إذا كان يحصل بالأقل
فيسقط الامر بمجرد الاتيان به. وان كان لا يحصل بالأقل، فلا وجه لجعله طرف
التخيير والاكتفاء به في مقام الامتثال.
وقد تصدى صاحب الكفاية لدفع هذا الاشكال وتصحيح التخيير بين
الأقل والأكثر ببيان: انه يمكن أن يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر هو
الأكثر دون الأقل الذي في ضمنه وبعبارة أخرى: يكون الأقل محصلا للغرض
495

إذا وجد بحده ولا يكون محصلا للغرض إذا وجد في ضمن الأكثر، بل المحصل
حينئذ للغرض هو الأكثر، وإذا كان الامر كذلك تعين التخيير بين الأقل والأكثر،
لان كلا منهما محصل للغرض ولا مرجح يقتضي تعيين أحدهما دون الآخر.
وقد يشكل: بان هذا انما يتم في المورد الذي لا يكون للأقل وجود مستقل
لو وجد الأكثر نظير الخط الطويل والخط القصير، فإنه لا وجود للقصير مستقل
عند وجود الخط الطويل. اما لو كان للأقل وجود مستقل مع وجود الأكثر نظير
التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث فلا يتم ما ذكر، إذ الأقل موجود بحده
دائما فيتحقق به الغرض فلا تصل النوبة إلى الأكثر أبدا.
وأجاب عنه في الكفاية: بأنه يمكن أن يكون ترتب الغرض على الأقل
بشرط عدم الانضمام، ومع الانضمام يكون الغرض مترتبا على الأكثر، فيكون
الأقل مأخوذا بشرط لا. فيصح التخيير حينئذ. هذا محصل ما جاء في الكفاية (1).
وبه يصحح التخيير بين الأقل والأكثر، وان كانت النتيجة ارجاعه إلى التخيير
بين المتباينين، لارجاعه إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شئ،
فهو تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين لا
التزام بالتخيير بين الأقل والأكثر.
وللمحقق الأصفهاني ههنا كلام طويل في مقام الفرق بين مثالي الكفاية،
والايراد عليه أخيرا، ولكن لا يهمنا التعرض إليه إذ لا جدوى فيه (2).
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 142 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 255 - الطبعة الأولى.
496

فصل
الوجوب الكفائي
قد يظهر من الكفاية ان البحث فيه على حد البحث في الوجوب
التخييري، إلا أن موضوع البحث هناك كان متعلق الحكم، وههنا موضوع
الحكم وهو المكلف (1).
ولكن سيظهر انشاء الله تعالى الاختلاف بينهما من بعض الجهات.
وتحقيق الكلام فيه: انه بناء على كون التكليف عبارة عن إرادة الفعل
وابرازها، يمكن ان يدعى عدم تعلق الوجوب الكفائي بمكلف أصلا - كي
يبحث عن حقيقته - بدعوى امكان عدم تعلق التكليف بمكلف على هذا المبنى،
إذ يمكن ان تتعلق الإرادة بالعمل من دون ان تتوجه النفس إلى الشخص المراد
منه العمل، وانما يلزم على العبد تحصيل مراد المولى بحكم العقل لابراز المولى
ارادته بالانشاء.
اما لو لم يلتزم بذلك، بل التزم بان التكليف عبارة عن البعث، وهو كما
يتقوم بالمبعوث إليه يتقوم بالمبعوث، أو انه إرادة فعل للغير، أو انه اشتغال ذمة

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 143 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
497

الغير بالعمل، فالتكليف لا بد فيه من مكلف، فيقع البحث في تحقيق المراد منه
في الوجوب الكفائي.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنه سنخ وجوب يتعلق بكل مكلف، وهو
يعرف بآثاره ولوازمه من عقاب الكل لو أخلو بامتثاله جميعا وسقوطه بامتثال
البعض (1).
وقد تقدم الاشكال فيه فلا نعيد.
وهناك احتمالات أخرى تعرض إليها المحقق الأصفهاني (2) - بعد أن ابان
عن لزوم وجود موضوع للتكليف ونفي دعوى عدم ضرورة ذلك التي قد عرفتها
- نذكرها وغيرها، وهي: أن يكون الموضوع والمكلف هو الواحد المعين. أو المردد.
أو صرف الوجود. أو المجموع. أو الجميع. أو كل واحد واحد مشروطا بترك
الآخر.
اما كون المكلف هو الواحد المعين فهو خلف الفرض في المقام.
واما كونه الواحد المردد، فقد نفاه المحقق الأصفهاني بما تقدم من
الايرادين على تقوم التكليف بالمردد (3). وقد عرفت اندفاعهما وانه لا محذور في
تقوم التكليف بالمردد.
واما كونه صرف الوجود، فهو يطلق في اصطلاح الأصوليين على أول
الوجود المعبر عنه بناقض العدم الكلي، كما يطلق على الوجود المبهم من حيث
الخصوصيات، كما أنه يطلق أيضا على اللا بشرط القسمي المساوق للاطلاق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 143 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة
الأولى.
(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة
الأولى.
498

الملازم للانطباق على كل فرد فرد. اما اصطلاح الفلسفة، فالمراد به ما لا تكون
فيه جهة عدم فلا ينطبق إلا على الواجب جل اسمه.
فان أريد منه المعنى الأول - أعني أول الوجود - فلا معنى له، إذ مقتضاه
كون المكلف هو أول وجود المكلفين، وهو أسهم - على حد تعبير الأصفهاني (1) -،
وإرادة أول من قام بالعمل غير صحيحة، إذ موضوع التكليف لا بد وان يؤخذ
مفروض الثبوت فيلزم أن يكون الفعل مفروض الثبوت وهو يتنافى مع طلب
تحصيله.
ومن العجيب التزام المحقق النائيني بان المكلف هو صرف الوجود بهذا
المعنى (2). وتقرير السيد الخوئي له (3) مع ما عرفت ما فيه.
وقد ناقش المحقق الأصفهاني في اطلاق صرف الوجود على أول وجود
ونفى صحة هذا الاطلاق ولا يهمنا التعرض إليه (4).
وان أريد منه المعنى الثاني - أعني الوجود المبهم - فهو محال، إذ لا إهمال
في مقام الثبوت والواقع، فإنه ممتنع كما أشير إليه مكررا.
وان أريد منه المعنى الثالث - أعني اللا بشرط القسمي -، فمرجعه إلى
تعلق الحكم بكل فرد فرد، وهو راجع إلى الجميع وسيأتي البحث فيه. ومنه يظهر
انه يمتنع تعلق التكليف بالجامع الانتزاعي بين المكلفين كعنوان أحدهم لان
المراد به ان كان صرف الوجود فقد عرفت ما فيه وان كان مطلق الوجودات
سيأتي ما فيه.
واما كونه مجموع المكلفين:

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 285 - الطبعة الأولى.
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 187 - الطبعة الأولى.
(3) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 203 - الطبعة الأولى.
(4) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 285 - الطبعة الأولى.
499

فأورد عليه المحقق الأصفهاني بايرادين:
أحدهما: ان تعلق التكليف الواحد بمجموع أشخاص غير معقول، لأنه
لجعل الداعي وانقداح الداعي في نفس كل فرد فرد مع وحدة البعث غير
معقول. بل لا بد من تعدد البعث. وليس المجموع شخصا واحدا كي ينقدح
الداعي في نفسه.
ودعوى: حصول ذلك خارجا كامر مجموع اشخاص برفع حجر لا
يرفعه الا المجموع.
مندفعة: بان مرجع ذلك إلى أمر كل واحد باعمال قدرته في رفع الحجر لو
انضم إليه الآخر، إذ اثر قدرته لا يظهر إلا مع الانضمام.
ثانيهما: ان لازمه عدم حصول امتثال الواجب الكفائي بفعل البعض،
بل لا بد من الاتيان به من قبل جميع المكلفين. وهو خلف الفرض في الواجب
الكفائي (1).
واما كونه كل واحد مشروطا بترك الآخر. فيدفعه: ان لازمه عدم امتثال
أحدهم لو جاؤوا به دفعة واحدة لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة إلى كل منهم
وهو ترك الآخر بلا فرق بين الأفعال القابلة للتعدد كالصلاة على الميت أو غير
القابلة كالتكفين والدفن. وهو مما لا يلتزم به أحد، بل يعد الجميع ممتثلين.
واما كونه جميع المكلفين، فقد ذهب إليه المحقق الأصفهاني (2).
ويرد عليه: أولا: - ما ذكره (قدس سره) - من أن لازمه عدم حصول
الامتثال لو اشترك جماعة في الفعل كدفن الميت، إذ لم يتحقق من كل منهم
المأمور به، وهو دفن الميت ولا امر بغيره، مع أن الملتزم به تحقق الامتثال من كل

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 285 - الطبعة الأولى.
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 285 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة
الأولى.
500

منهم.
وثانيا: ان هذا التكليف المنبعث عن غرض واحد لا بد أن لا يكون ذا
غرض عند اتيان الفعل من قبل أحد المكلفين، ولذلك يسقط التكليف به.
وعليه، فلا بد من تقييده بصورة عدم اتيان الغير بالفعل، فيرجع إلى
القول بالاشتراط وقد عرفت ما فيه.
فالمتعين علينا الالتزام بكون المكلف هو الفرد المردد، بمعنى ان الوجوب
تعلق بكل منهم على سبيل البدل.
ومن مجموع ما ذكرناه يظهر لنا: اختلاف الوجوب الكفائي والوجوب
التخييري في موارد:
الأول: تأتي احتمال تعلق الوجوب التخييري بالجامع الانتزاعي وإرادة
صرف الوجود منه، فإنه لا مانع من إرادة أول وجود الطبيعة كما هو الحال في
كثير من متعلقات الأوامر. وعدم تأتي احتمال تعلق الوجوب الكفائي بصرف
وجود المكلفين فإنه مما لا معنى له.
الثاني: الاشكال على الالتزام بان الوجوب بنحو الوجوب المشروط من
جهة واحدة في الواجب الكفائي. ومن جهتين في الوجوب التخييري.
الثالث: امكان دعوى انكار احتياج التكليف إلى موضوع ومكلف - على
بعض المباني -. وعدم امكان هذه الدعوى بالنسبة إلى احتياجه إلى متعلق وهو
الفعل فلاحظ وتدبر.
تذييل: قد عرفت أن المحقق النائيني (قدس سره) التزم بتعلق الوجوب
الكفائي بصرف وجود المكلف، لكنه استثنى من ذلك صورة ما إذا كانت هناك
ملاكات متعددة ولم يمكن استيفائها جميعا، بل كان استيفاء أحدها مانعا من
استيفاء الباقي. ففي مثل هذه الصورة لا مانع من تعلق التكليف بكل منهم
مشروطا بعدم تحقق الفعل من الآخر، كما لو فرض ان شخصين فاقدين للماء
501

وجدا ماء يكفي لأحدهما فقط، فان الامر بحيازة الماء يتوجه إلى كل منهما
مشروطا بعدم حيازة الآخر.
وبعد ان ذكر ذلك تعرض إلى ذكر فرع وهو: ما إذا كان واجدا الماء في
الفرض متيممين، فهل يبطل تيمم كل منهما، أو لا يبطل تيممهما، أو يبطل تيمم
أحدهما على البدل؟. اختار بطلان تيممهما معا مع كون وجوب الحيازة مشروطا
بترك الآخر. ببيان: ان لدينا أمورا ثلاثة، الامر بالوضوء، والامر بالحيازة، والقدرة
على الحيازة. لا اشكال في أن الامر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية. واما
الامر بالحيازة فقد عرفت أنه مشروط بعدم سبق الآخر. واما القدرة على الحيازة
فهي فعلية بالنسبة إلى كلا الشخصين، إذ كل منهما يتمكن في نفسه من حيازة
ماء، وبما أن بطلان التيمم مرتب على القدرة. فهو يتحقق بالنسبة إلى كل منهما.
فيبطل تيمم كل منهما (1).
وأورد عليه السيد الخوئي في الحاشية: بان موضوع بطلان التيمم كما أنه
وجدان الماء كذلك موضوع الامر بالوضوء، فإذا فرض تحقق الموضوع للبطلان
فقد تحقق موضوع الامر بالوضوء. فهناك ملازمة بين بطلان التيمم والامر
بالوضوء، لان موضوع التيمم عدم الوجدان وموضوع الوضوء هو الوجدان. كما أنه
التزم ببطلان تيمم السابق منهما في صورة سبق أحدهما إلى الحيازة دون الآخر
لكشفه عن عدم قدرة الآخر على الوضوء فلا يبطل تيممه (2).
وتحقيق الحال ان يقال: ان الامر بالتيمم لما كان موضوعه عدم وجدان
الماء، فبمجرد القدرة على استعمال الماء يرتفع موضوعه فينتقض التيمم، والقدرة
على استعمال الماء بالنسبة إلى كل منهم موجودة، إذ يتمكن كل منهم من السبق
إليه واستعماله، فيرتفع تيمم كل منهم. اما الامر بالوضوء فموضوعه وان كان

(1) و (2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 189 - الطبعة الأولى.
502

وجدان الماء إلا أنه حيث كان مرجعه إلى إلزام كل منهم بصرف الماء واعمال قدرته
في استعمال الماء، والمفروض ان الجميع لا يتمكنون من صرف قدرتهم دفعة واحدة
وفي عرض واحد في ذلك، كان أمر الكل في عرض واحد محالا لوقوع التزاحم
في مقام الامتثال، فلا محالة من توجه التكليف بالوضوء إلى كل منهم عند ترك
الآخرين استعمال الماء. فلا منافاة بين بطلان تيمم الجميع في عرض واحد وتعلق
الامر بكل منهم مشروطا بترك الآخر، وان كان موضوعهما واحدا وهو وجدان
الماء.
واما ما ذكره المحقق النائيني من حديث الامر بالحيازة، فلا نعلم ارتباطه
بما نحن فيه، فان الحيازة ليست شرطا من شروط الوضوء، بل هي مقدمة من
مقدماته الوجودية فتكون واجبة بالوجوب الغيري لتحصيل الوضوء.
فنحن في المدعى نتفق مع المحقق النائيني، لكن نختلف عنه في طريقة
الاثبات. واما ما ذكره السيد الخوئي من الملازمة بين بطلان التيمم والامر
بالوضوء لوحدة لوحدة موضوعهما. فلا وجه له، إذ قد عرفت أن هذا مسلم إلا أن في
الوضوء خصوصية تقتضي بعدم الامر به إلا بنحو الاشتراط.
واما ما ذكره من عدم بطلان تيمم غير السابق في صورة السبق لكشفه
عن عدم قدرته. ففيه ما لا يخفى، فان الفرض ما إذا كان كل منهما قادرا على
الحيازة من أول الامر ولم يقدم عليها، فسبق أحدهما انما يرفع القدرة بقاء لا
حدوثا. نعم لو لم يكن مجال أصلا للحيازة قبل السابق كان السبق مانعا من تحقق
القدرة، لكنه خلاف الفرض.
وقد يستشكل على المحقق النائيني في حكمه ببطلان التيمم بأنه (قدس
سره) التزم في مسالة ما لو أباح شخص لجماعة مالا يكفي لحج واحد منهم فقط،
بأنه لا يجب على كل منهم الحج مع أن الاستطاعة تصدق في حقهم جميعا كصدق
وجدان الماء في حق المتيممين جميعا ولزوم الوضوء على كل منهم مشروطا بترك
503

الآخرين.
والحل: ان نظره (قدس سره) إلى أن إباحة المال بالنحو المذكور لا
تكون محققة لاستطاعة كل منهم فعلا، وذلك لان الإباحة كانت لواحد منهم
بنحو الجامع، وهو لا يحقق استطاعة كل منهم التي هي موضوع الوجوب، بل لا
يستطيع أحدهم الا بعد الاستيلاء على المال وتطبيق الجامع على نفسه، وبما أن
ذلك يعد تحصيلا للاستطاعة لم يجب لعدم وجوب تحصيل ما هو شرط الوجوب،
وبعبارة أخرى: الفرق بين مسالة التيمم ومسالة الحج: ان المراد من القدرة في
باب التيمم مطلق التمكن. والمراد بها في باب الحج هو الاستيلاء على الزاد
والراحلة أو ملكيتهما، وكلاهما لا يحصل بإباحة المال لواحد من الجماعة ما لم
يستول عليه فعلا ويطبق الجامع عليه.
ولكن قد ذكرنا في باب الحج: ان وجوب الحج يتحقق بإباحة المال
للجميع، ويكون واجبا على كل منهم، فإذا استولى عليه أحدهم ارتفع الوجوب
عن الآخرين، نظير وجوب الوضوء في هذا الفرع، وقد أوضحنا نكتة المناقشة
هناك فراجع.
* * *
504

فصل
الموسع والمضيق
المراد من الواجب الموسع: ما أخذ فيه الوقت بمقدار أوسع من الزمان
الذي يستدعيه الفعل. كصلاة الظهر ونحوها.
والمراد من الواجب المضيق: ما اخذ فيه الوقت بمقدار الزمان الذي
يستدعيه الفعل كالصوم المقيد بما بين طلوع الفجر وغروب الشمس.
وقد استشكل في صحة كلا النحوين:
اما الاشكال في صحة المضيق، فبان الانبعاث لا بد من تأخره عن البعث
آنا ما، لان الإرادة تتوقف على حصول مقدماتها من تصور الفعل والجزم
بالمصلحة العائدة ونحو ذلك، وهذا يستلزم زيادة زمان الوجوب على زمان
الواجب.
وعليه، فلو فرض تحقق الوجوب قبل زمان الواجب، مع أنه مشروط به،
استلزم ذلك تقدم المشروط على شرطه وهو محال، لأنه من تقدم المعلول على
علته. وان فرض تحقق الوجوب في أول زمان الواجب تأخر الانبعاث عنه آنا ما
وهو خلف الفرض لاستلزامه خلو بعض الزمان عن الواجب فيه. فعليه لا بد من
الالتزام بتقدم الوجوب على وقت الواجب، مع عدم اشتراطه به، كي يكون
505

الانبعاث في أول وقت الواجب ولا يلزم تقدم المعلول على علته وهذا ملازم لنفي
المضيق.
وأجاب عنه المحقق النائيني (قدس سره): بان تقدم البعث على الانبعاث
وان كان بديهيا، لكنه تقدم رتبي لا زماني، لأنه لا يزيد على تقدم العلل التكوينية
على معلولاتها، وهو تقدم رتبي لا زماني فلا مانع من كون زمان البعث والانبعاث
واحدا (1).
أقول: هذا الجواب وان كان صحيحا لكنه مما لا تصل النوبة إليه.
وذلك لان أساس الاشكال في صحة الواجب المضيق هو فرض شرطية
الوجوب بزمان الواجب، وهذا لا نعرف له وجها ظاهرا. فان المفروض في المضيق
كون الزمان بمقدار الواجب. اما ان الوجوب في ذلك الحال كي يكون تمديد
الوقت وجعل وقت الوجوب قبل الوقت المفروض خلف التضييق فهذا مما لا
يلتزم به القائل بالمضيق، وليس في تحديد المضيق إشعار به، فيمكن ان يفرض
تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب في مطلق الواجبات - كما عليه صاحب
الكفاية (2) -، وهو لا ينافي التضييق كما لا يخفى. وما ذكرناه هو الأساس في حل
الاشكال لا ما افاده المحقق النائيني فإنه جواب مبنائي.
واما الاشكال في صحة الموسع، فبان الواجب في الآن الأول اما ان يجوز
تركه إلى غير بدل، فهو يتنافى مع وجوب الواجب، إذ لازمه كونه غير لازما.
واما أن لا يجوز تركه إلى غير بدل، فمعناه كون سائر الابدال وهي
الأفعال في الآنات الأخرى أعدال تخييرية، فيكون وجوبه تخييريا وهو خلف
الفرض.

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 190 - الطبعة الأولى.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 103 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
506

والجواب عنه - كما في حاشية الأصفهاني (1) بتوضيح منا -: ان الواجب
هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت، فان للوقت حركتين توسطية وهي حركة من
المبدأ إلى المنتهي، وقطعية وهي كل آن آن، فالمتوهم توهم ان الواجب هو الفعل
الملحوظ مع الحركة القطعية، بمعنى ان الفعل في كل ان، فيرد الاشكال المذكور
حينئذ. ولكن الامر ليس كذلك، بل الواجب هو الفعل المقيد بطبيعي الوقت
بنحو الحركة التوسطية، فيكون وجوب الفعل في كل آن وجوبا عقليا تخييريا
لتطبيق طبيعي الفعل المقيد بطبيعي الوقت على كل فرد فرد عقلا، والتخيير
العقلي ليس خلف الفرض، فإنه لا يتنافى مع كون الوجوب الشرعي تعيينيا.
وبعد ذلك يقع الكلام في جهات:
الجهة الأولى: في دلالة الدليل الدال على الواجب الموقت - موسعا كان
أو مضيقا - على وجوب الفعل خارج الوقت.
والتحقيق: عدم دلالة الدليل عليه - كما عليه صاحب الكفاية (2) -، إذ لا
وجه للدلالة لو لم يلتزم بالدلالة على عدم الوجوب عملا بمفهوم الغاية، فان
المدعى في التوقيت بغاية دلالته على نفي الحكم بعد حصول الغاية، وغاية ما
يذكر هناك هو انكار هذه الدلالة ودعوى سكوت الدليل عما بعد الغاية. اما
دلالته على ثبوت الحكم بعد الغاية فلا يدعيه أحد.
وقد ادعى الفرق بين كون التقييد بالوقت بدليل متصل وكونه بدليل
منفصل. فلا دلالة في الأول واما في الصورة الثانية فيدل الدليل على ثبوت الحكم
بعد الوقت لظهور التقييد المنفصل في كون التقييد بنحو تعدد المطلوب لا
وحدته، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر على حاله.

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 257 و 3 / 286 - الطبعة الأولى.
الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث / 43.
(2) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 144 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
507

وهذه الدعوى واضحة الفساد، فإنه لا فرق بين الزمان وغيره من القيود،
فكما لا يلتزم في غيره بكون القيد مأخوذا بنحو تعدد المطلوب، بل يرجع إلى
تقييد أصل المطلوب فكذلك في الزمان والتفرقة بينهما لا وجه لهما مع وحدة الملاك
في المقامين، والالتزام في غير الزمان بما يلتزم به في الزمان يستلزم سد باب حمل
المطلق على المقيد وهو خلاف الضرورة العرفية ومما لا يبني عليه أحد.
فالمتعين: الالتزام بعدم دلالة الدليل على ثبوت الواجب خارج الوقت
سواء كان التقييد بمتصل أو بمنفصل.
نعم يستثنى من ذلك صورة واحدة أشار إليها في الكفاية وهي: ما إذا
كان دليل الواجب مطلقا وكان دليل التقييد بالوقت منفصلا مجملا، فإنه إذا كان
مجملا من حيث صورة التمكن من الاتيان بالعمل في الوقت وعدمه ولا اطلاق
له يثبت التوقيت في كلا الحالين، كان القدر المتيقن التقييد بالوقت في صورة
التمكن، وفي صورة عدمه لا يعلم التقييد، فيرجع إلى اطلاق دليل الواجب
المتكفل لاثبات الوجوب في مطلق الزمان، وبعبارة أخرى: يكون الحال في هذه
الصورة كما لو ورد رأسا التقييد بالوقت مع التمكن بالخصوص. فيثبت الواجب
بعد الوقت باطلاق الدليل (1).
الجهة الثانية: إذا دل دليل آخر على ثبوت القضاء ولزوم الفعل بعد
الوقت، فهل يكشف ذلك عن تبعية القضاء للأداء - بمعنى كون التقييد بالوقت
بنحو تعدد المطلوب - أو لا يكشف، بل هو أمر مستقل؟.
وهذا المعنى مما يترتب عليه آثار عملية في كثير من موارد الفقه تعرف في
محالها.
وقد أفاد المحقق النائيني ان الاحتمالات الثبوتية ثلاثة:

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 144 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
508

أحدها: أن يكون هناك امران: أحدهما متعلق بذات العمل. والآخر
بايقاعه في الوقت الخاص. فإذا انتفى الثاني لتعذر متعلقه بقي الأول على حاله.
ثانيها: أن يكون التقييد بالوقت مختصا بحال الاختيار، فهناك امر واحد
بذات العمل المقيد للمختار، وبذاته من دون تقييد، لغيره، نظير الامر بالتمام
للحاضر وبالقصر للمسافر.
ثالثها: أن يكون امرا جديدا مستقلا، موضوعه فوت الواجب الأول.
هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت. اما بالنسبة إلى مقام الاثبات، فقد اختار
(قدس سره) الوجه الثالث لوجوه ثلاثة:
الأول: ان الظاهر من لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته. ومن
الواضح انه لا معنى للتدارك على كلا الوجهين الأولين، لان ثبوت الفعل خارج
الوقت بنفس الامر الأول. وبعبارة أوضح نقول: ان خصوصية الوقت غير قابلة
للتدارك، وذات الفعل لم تفت حتى تتدارك، إذ هو ثابت بالأمر الأول ولم يسقط
بخروج الوقت.
الثاني: ثبوت القضاء شرعا في الحج والصوم المنذورين في وقت معين، مع أنه
من الواضح ان النذر يتبع قصد الناذر، وقصده انما تعلق بالعمل المقيد
بالوقت الخاص بنحو الوحدة، ومعه لا يبقى الامر بذات العمل بعد الوقت لعدم
موافقته للقصد، فيكشف ذلك عن القضاء فيهما بامر جديد، وظاهر انه لا يختلف
الحال في ثبوت القضاء بين الموارد، بل هو في جميعها بنحو واحد.
الثالث: ان مقتضى الوجهين الأولين اتصال الامر بالفاقد بالأمر بالواجد
زمانا كما لا يخفى، مع أن زمان القضاء منفصل عن زمان الامر بالأداء بحسب
الغالب، نظير الامر بقضاء الصوم، فإنه لا يتوجه الامر به - على بعض المباني
وهو استحالة الواجب المعلق - الا مقارنا للفجر، مع أن فواته يكون من أول
الليل - على أقل تقدير، إذ يمكن أن يكون في أثناء النهار، كما لو اكل أول النهار -،
509

فيفصل الليل بين الامر الأدائي والامر القضائي وكالأمر بقضاء الصلاة، فإنه
يتوجه بعد خروج الوقت، ففي فرض عدم التمكن الا من أقل من ركعة
واحدة في الوقت يسقط الامر الأدائي مع عدم توجه الامر بالقضاء إلا خارج
الوقت، فيفصل هذا الزمان بين الامرين (1).
وللمناقشة في كلام المحقق النائيني (قدس سره) بكلا جهتيه الثبوتية
والاثباتية مجال واسع.
اما المناقشة في الجهة الثبوتية، فبجعله الاحتمالات الثبوتية ثلاثة، مع أن
المعقول منها اثنان هما الأول والثالث. واما الثاني فهو غير صحيح، إذ مقتضاه
جواز التأخير اختيارا نظير جواز السفر والصلاة قصرا، إذ المكلف على هذا
الاحتمال صنفان: صنف مكلف بالصلاة في الوقت وهو المتمكن. وآخر مكلف
بالصلاة في خارجه وهو غير المتمكن. نظير انقسام المكلف إلى المكلف بالتمام
وهو الحاضر والمكلف بالقصر وهو المسافر. وهو مما لا يقول به ولا يحتمله أحد.
واما المناقشة في الجهة الاثباتية، فهي بالخدشة في جميع الوجوه:
اما الأول: فلان القضاء لغة عبارة عن الاتيان بالعمل، لكنه عرفا اما
ملازم أو مطابق للتدارك، فلا يعبر في العرف بالقضاء إلا عن العمل الذي يتدارك
به ما فات من المصلحة دون مجرد الاتيان بالعمل ومقتضى ذلك تبعية القضاء
للأداء لا عدمها كما ادعاه (قدس سره)، إذ لا معنى للتدارك لو كان واجبا
مستقلا ذا مصلحة مستقلة أجنبية. فان معنى التدارك بدلية أحد العلمين للآخر
وكونه عوضا منه، وهو لا يعم في إختلافهما من حيث المصلحة. فالتدارك ظاهر
في أن هذا الفرد تدارك عن الحصة التي كان يلزم ان تكون في الوقت. اما الفوت
فهو لا يصدق حقيقة، إذ الطبيعة لم تفت، لكنه يصدق مسامحة باعتبار فوت

(1) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 191 - الطبعة الأولى.
510

الحصة الخاصة، فيقال ان الطبيعة فاتت في الوقت.
واما الثاني: فينقض عليه بمسألة بيع العبد المكاتب وتخلف الوصف، فإنه
يلتزم بصحة البيع وعدم بطلانه، مع أن العقود تابعة للقصود وما وقع لم يقصد.
ومسالة الوقت لو تعذر الموقوف عليهم، فإنه يلاحظ الأقرب مكانا أو نحوه مع أنه
غير مقصود. يوجه ذلك بان المقصود في معاملة البيع أمران العبد وخصوصية
الكتابة بنحو تعدد المطلوب، فتخلف أحدهما لا يبطل الآخر، وهكذا في مسالة
الوقف. فيمكن ان ندعي ذلك في مسالة النذر، فنقول: ان النذر وان كان بظاهره
متعلقا بالمقيد بما هو مقيد، لكنه منحل في الحقيقة إلى قصدين نظير العقود.
ويظهر ذلك من عدم ظهور السؤال في النصوص عن ثبوت أمر جديد ذي
مصلحة مستقلة، بل عما هو من شان النذر السابق وتوابعه نفسه، فالسائل كأنه
يسال الإمام (عليه السلام) عن النذر هل هو كسائر العقود أو لا؟، فالجواب اما
أن يكون تخطئه لنظر الناذر ببيان ان الواقع ينحل إلى قصدين ونذرين: أحدهما
بذات العمل والثاني بايقاعه في الوقت الخاص. أو يكون حكما تعبديا بالانحلال،
فيكون حاكما على ما هو الظاهر من وحدة القصد والمنذور والظاهر هو الأول
ولا ظهور له في الثاني، ولا أقل من الاجمال فلا دلالة للمورد المذكور على
المدعى.
واما الثالث: فالانفكاك ليس في زمان الامر، بل في زمان فعلية الامر،
ففعلية الامر مقيدة بوقت خاص لا نفس الامر، ووحدة الامر مع تعدد فعليته
شئ لا يقبل الانكار، نظير ما لو نذر صوم يوم ما أو وجب عليه قضاء يوم ما،
فان فعلية الحكم تكون عند كل فجر مع أن الحكم واحد، ولا ينشأ عند كل فجر
امر كما لا يخفى. فالدليل الدال على كون القضاء في الصلاة بعد انتهاء الوقت
الذي هو الاجماع - لو سلم ولم ينكر -، فغاية ما يقتضي تقييد الدليل الأول في
هذه القطعة الزمانية، فلا يكون الامر فعليا فيها وان كان موجودا.
511

والمتحصل: ان ظهور القضاء في التدارك يقتضي التبعية وكون التقييد
بنحو تعدد المطلوب وليس فيه اشكال.
الجهة الثالثة: لو شك في كون التقييد بنحو وحدة المطلوب، فلا يثبت
القضاء الا بدليل خاص، أو تعدده فيثبت بنفس الدليل الأول فما هو مقتضى
الأصل؟.
قد يتوهم ان مقتضى الاستصحاب ثبوت القضاء لاستصحاب وجوب
العمل الثابت أولا.
لكن نفاه صاحب الكفاية (1)، ولم يبين وجهه ولعله لاجل وضوحه. فان
المعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا، والزمان إذا
كان مأخوذا في المتعلق يكون مقوما لا حالة بنظر العرف. بخلاف ما يؤخذ في
الموضوع. والمفروض انتفاء الزمان فلا تتحد القضيتان فلا يجري الاستصحاب.
وهذا المعنى يحقق في محله من مسالة الاستصحاب.
وقد أطال المحقق الأصفهاني - هنا - في بيان الاستصحاب فيما نحن فيه
بشقوقه من الشخصي والكلي بأقسامه، وانكار جميعها، ثم توجيه الاستصحاب
ببعض التوجيهات الراجعة إلى جعل الزمان حالة لا قواما (2). وهو خلاف
التحقيق.
ولكن الحق: جريان الاستصحاب في كلي الوجوب المردد بين الوجوب
الضمني والنفسي الاستقلالي الثابت أولا، فيكون من القسم الثاني من
استصحاب الكلي، وذلك بناء على انحلال الامر بالمشروط لا وحدته الذي هو
مبنى جريان البراءة في الشروط، فان الوجوب الثابت للعمل بذاته في السابق

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 144 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 3 / 286 - الطبعة الأولى.
512

مردد بين الضمني، بناء على وحدة المطلوب، والاستقلالي بناء على تعدده.
فيستصحب الكلي الثابت أولا ويترتب عليه أثره من الدعوة والتحريك.
الجهة الرابعة: في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية، بمعنى انه
لو ثبت القضاء وشك في عدم الاتيان بالعمل في الوقت..
فهل يجري استصحاب عدم الاتيان بالفعل في الوقت وينفع في اثبات
القضاء أو لا؟.
الحق هو: انه إذا كان موضوع القضاء عدم الاتيان بالعمل في الوقت،
فيجري الاستصحاب ويثبت به موضوع القضاء مباشرة. واما إذا كان موضوعه
امرا وجوديا ملازما لعدم الاتيان، وهو فوت العمل، فلا ينفع الاستصحاب، لان
اثبات الموضوع يكون بالملازمة، فيكون من الأصول المثبتة كما لا يخفى. وهذا
المعنى أشار إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الاجزاء (1)، وتعرض إليه المحقق
النائيني في هذا المبحث (2) (3) ونحن تعرضنا إليه هنا مع سبق مروره تبعا للمحقق
النائيني، فالتفت.
لفت نظر: لا يخفى ان هذا الترديد لا يتأتى بناء على أن القضاء في مورد
ثبوته بالأمر الأول، إذ الشك في امتثاله يكفي في لزوم الاتيان بالعمل لقاعدة
الاشتغال، مع أن استصحاب عدم الاتيان بالواجب يجري بلا اشكال، ولا يكون
موضوع القضاء هو الفوت أو غيره. فالتفت. وليكن هذا من ثمرات الخلاف في
تبعية الأداء للقضاء وعدمها. فتدبر واعلم.

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 87 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
(2) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 192 - الطبعة الأولى.
(3) ظاهر الكفاية وأجود التقريرات: المفروغية عن كون الموضوع هو الفوت، وانما الكلام في تشخيص
مفهومه، وهل انه امر عدمي أو وجودي؟. فانتبه (منه عفي عنه).
513

فصل
الامر بالأمر
إذا أمر المولى شخصا بان يأمر آخر بشئ، فهل يكون ذلك امرا للآخر،
بحيث يجب عليه الاتيان بالشئ مع اطلاعه ولو لم يأمره الواسطة، أو لا يكون
أمرا له؟.
وثمرة ذلك تظهر في موارد من الفقه. ومنها: الامر بامر الصبيان بالصلاة
كقوله: " مروا صبيانكم بالصلاة " (1) فإنه على الأول تثبت مشروعية عبادة الصبي
وتعلق الغرض بها، فتكون مجزية عن الواجب لو صلاها وبلغ في اثنا الوقت.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل إلى التفصيل - وهو الحق - بين صورة ما إذا
كان الغرض من الامر بالأمر هو حصول ذلك الشئ، وليس الغرض من توسيط
أمر الغير سوى تبليغ امره كما هو المتعارف في أمر الرسل بالأمر، وصورة ما إذا
كان الغرض يحصل بنفس الامر من دون تعلق غرض بالفعل أو مع تعلقه ولكن
بقيد تعلق أمر الغير به. فيكون الامر بالأمر امرا بالشئ في الصورة الأولى، إذ
المفروض علم العبد بكون الفعل متعلق غرض المولى وكون المولى بصدد

(1) وسائل الشيعة 3 / 12. باب 3، حديث: 5.
515

تحصيله، فيحكم العقل بلزوم الاتيان بالعمل تحصيلا لغرض المولى ويستحق
الذم لو ترك. وعدم أمره مباشرة مع تمكنه منه لا يمنع من ذلك بعد صيرورته
بصدد تحصيله، فإنه كاف في حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى. واما
الصورة الثانية فلا يلزم الاتيان بالعمل قبل أمر الغير، إذ ليس نفس الفعل
محصلا لغرض المولى كي يلزمه الاتيان به بحكم العقل (1).
* * *

(1) الخراساني المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 144 - طبعة مؤسسة آل البيت (ع).
516

فصل
الامر بعد الامر
إذا ورد امر بشئ ولم يمتثله العبد فورد أمر آخر بنفس ذلك الشئ،
فهل يلزمه تكرار العمل، أو يكون الامر الثاني تأكيدا للامر الأول؟.
وهذا الشئ كثيرا ما نراه في النصوص والروايات.
وموضوع البحث ما إذا كان المتعلق طبيعة واحدة ولم يذكر لأحدهما أو
لكليهما سبب، والا فالظاهر التكرار، كما لو قال: " إذا جاء زيد فتصدق وإذا جاء
عمرو فتصدق "، أو قال: " تصدق " ثم قال: " إذا جاء عمرو فتصدق ". فالتفت.
وبالجملة: فالامر الثاني يدور حاله بين التأسيس والتأكيد.
ويقتضي التأكيد اطلاق المادة، إذ الطلب تأسيسا لا يتعلق بطبيعة واحدة
مرتين من دون تقييد، بل كان متعلق الأول عين متعلق الثاني، لاستلزامه اجتماع
المثلين في واحد.
ويقتضي التأسيس انصراف الهيئة، فان الظاهر منها هو الطلب
التأسيسي.
ومقتضي القاعدة وان كان تقديم الثاني على الأول، لان ظهور الأول
تعليقي، والثاني تنجيزي فيرفع موضوع الأول.
517

لكن مفروض الكلام بنحو لا يكون هناك ظهور انصرافي في التأسيس
في نفسه، فان الظاهر في مثله انصراف التأكيد لا التأسيس. فالتفت. وتدبر والله
ولي التوفيق.
انتهى مبحث الأوامر تحريرا في يوم 16 / 7 / 86 ه‍.
* * *
518