الكتاب: تقريرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث البروجردي ، للاشتهاردي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٧
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات: تقرير بحث آية الله العظمى السيد آقا حسين البروجردي

تقريرات
في
أصول الفقه
لبحث سيدنا الأستاذ آية الله العظمى
الحاج السيد آقا حسين البروجردي (قدس سره)
من أول بحث المشتقات إلى آخر حجية الاجماع
قررها
سماحة آية الله الشيخ على پناه الاشتهاردي
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على فخر بني آدم الفاتح الخاتم أبي
القاسم محمد المصطفى، وعلى آله كنوز العلم والتقى، واللعنة الدائمة على أعدائهم
أجمعين.
وبعد، فإن خلود الدين الاسلامي وأبدية الشريعة المحمدية وكونها خاتمة
الشرائع وناسخة لما قبلها من الأديان من جهة وتطور حياة الانسان والتجدد
الهائل والكبير في أبعاد حياته الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية
والثقافية وتجدد الكثير من مسائل الابتلاء التي يحتاج فيها المسلم إلى معرفة
الحكم الشرعي الصائب كي يحافظ على سيرته من الزيغ والانحراف ويستقيم
على الطريقة المرضية لله جل شأنه من جهة أخرى أوجب على المتصدين لبيان
أحكام الشريعة والناظرين في حلالها وحرامها وهم الفقهاء والمجتهدون لتأسيس
قواعد كلية وضبط أصول عامة استقوها من الكتاب والسنة بحيث يمكن على
ضوئها معرفة أحكام المسائل المستحدثة والمستجدة في كل زمان ومكان.
وكلما كانت قدرة الفقيه على إرجاع الفروع إلى الأصول أدق وأمتن وتطبيق
الأصول على الفروع أقوى وأحسن تكون منزلته من بين الفقهاء المجتهدين أسمى
وأرفع، ولمهارة البعض منهم الفائقة في هذا المجال مضافا إلى اجتماع شرائط
التقوى والعدالة والكفاءة وغيرها توجوا بتاج المرجعية وشرفوا بشرف الزعامة
في الطائفة الإمامية، فرجع إليهم الناس لمعرفة أحكام دينهم وقلدوهم أعمالهم
3

فانتظمت حياتهم وحفظ الدين، ولولا هؤلاء لاندرست آثار النبوة والولاية،
فرضي الله عن الماضين وحفظ وأيد الباقين منهم، آمين.
والكتاب الماثل بين يديك - عزيزنا القارئ - هو تقرير للمباحث الأصولية
التي كان يفيض بها على طلابه علم من أعلام الطائفة وأحد مراجعها المبرزين
الفقيه المدقق والأصولي المحقق آية الله العظمى السيد حسين البروجردي قدس
الله نفسه وطيب رمسه، للمقرر الفاضل العالم العامل آية الله الشيخ علي پناه
الاشتهاردي دامت توفيقاته العالية، الذي كان يعد واحدا من تلامذته المتفوقين،
نفع الله به عامة المؤمنين.
وقد قامت مؤسستنا بطبع هذا الكتاب ونشره بعد تحقيقه وتصحيحه وترتيبه
خدمة لتراث علمائنا الماضين لينتفع بها من جاء بعدهم من المحصلين والراغبين
في تحصيل علوم شريعة سيد المرسلين، وفقهم الله وإيانا لخير الدارين إنه قريب
مجيب.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وسلام الله على
رسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
وعلى وصيه وخليفته الذي به أكمل دينه بقوله تعالى: اليوم أكملت لكم
دينكم... الخ (1).
وعلى ذريته المعصومين المساوين معه في كل الفضائل إلا أن له عليه السلام فضله
كما أخبرنا عن الصادق عليه السلام (2)، ولا سيما خاتمهم وثاني عشرهم الذي به تم العدد
ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات
والأرض (3).
وبعد، كيف أقول: هذا تقرير بحث من كان أجل شأنا من أن يكون مثلي مقرر
بحثه؟!
أم كيف أقول، هذا، مع سيدنا الأستاذ كان بحرا زاخرا متلاطما، وكان بطل
العلم والعلم والزهد والتقوى؟!

(1) المائدة: 3.
(2) أصول الكافي: ج 2 ص 275 باب في أن الأئمة عليهم السلام في العلم... الخ طبع الآخوندي.
(3) التوبة: 36.
5

أم كيف يجترئ مثلي أن يقول: أنا مقرر بحث من أقر واعترف وأذعن جميع
معاصريه بأن له مزية خاصة به في استنباط الاحكام الفرعية ليست لغيره منذ
الاعصار؟!
أم كيف يجوز أو يصح أن يدعي مثلي هذه الدعوى مع أني كنت في أوائل
الشباب وكان سنون عمره الشريف إذ ذاك - يعني زمن التقرير - بلغ إلى خمسة
وسبعين سنة مع كونه - كثر الله أمثاله - مجتهدا كاملا حين كونه بلغ ثمانية عشر
سنة، وانه كان يعلق على العروة الوثقى وهو في سن خمسة وعشرين؟! (1).
ولا غرو أن أشير إلى أوصافه الجميلة على نحو الاجمال وإن كان التفصيل
محتاجا إلى تأليف كتاب كبير مستقل.
فهو كان بطل العلم والعمل، معرضا عن الدنيا وحيثياتها، غير راغب في ما
يتخيل أنه مقام، أي مقام كان، وكان زاهدا عابدا، متقيا فوق ما يعتبر في العدالة.
وكان سيدنا الأستاذ الآية الكبرى الحاج السيد أحمد الخوانساري قدس سره يجعله نظير
الشيخ الزاهد المعروف الحاج الشيخ مرتضى الأنصاري في الزهد والتقوى.
وكان فريد عصره ووحيد دهره في أنواع العلوم التي كان لها دخل في
استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، وكان له نظر مستقل في كل واحد منها، وكان
جامعا للمعقول والمنقول بأنواعه من الدراية والرجال والحديث والتفسير وأقوال
الفريقين، متتبعا في كل واحد منها، أعني سيدنا المعظم واستاذنا الأعظم المرجع
الديني المنحصر في أواخر عمره الشريف الآية العظمى الحاج آقا حسين
البروجردي أعلى الله مقامه المتوفى سنة 380 ه‍. ق.
بالجملة، كيف يصف مثلي لمثله ويليق في المقام أن يقال في مقام التشبيه:
أين التراب ورب الأرباب؟ ولنعم ما قيل في رثائه بالفارسية:

(1) صرح بهذا قدس سره في أثناء أبحاثه.
6

أي كه تقريرات أو در درس استعداد بخش أي دو صد أفسوس كان كانون استعداد رفت
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلوات الله وتحياته على محمد
وآله المنتجبين.
قم المقدسة
علي پناه الاشتهاردي
7

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
فصل
بحث في المشتق
اختلف في أن جرى المشتق على الذات بعد انقضاء تلبسه بالمبدأ هل يكون
حقيقة أو مجازا، بعد اتفاقهم على أنه في زمان التلبس حقيقة وفيما لم يتلبس بعد مجاز.
وقبل الخوض في الاستدلال من الجانبين، لا بد من تقديم مقدمات ليكون
الاستدلال على المقصود أسهل إن شاء الله تعالى، فنقول:
هنا مقدمات ثلاث
الأولى: أن المفاهيم المنطبقة على المصاديق قسمان:
(الأول) انطباقها عليها في مرتبة ذاتها غير مؤخر عنها كحمل الانسان على
أفراده ومصاديقه مثلا، مثل: زيد انسان، عمرو انسان، وهكذا.
9

(الثاني) أن يكون الانطباق عليها في مرتبة متأخرة عن ذات المصاديق
كالأعراض، وهذا أيضا على قسمين:
(الأول) أن تكون المفاهيم المنطبقة على ذواتها المتأخرة عن وجودات
ذواتها، غير منفكة عنها، بحيث إذا كان الذات موجودا كان هذا المصداق منطبقا
عليها كزوجية الأربعة.
(والثاني) أن تكون منفكة كأغلب صفات المشبهة وأسماء الفاعلين كذلك،
ومورد النزاع هو الثاني من القسم الثاني.
الثانية: أن حمل المفاهيم على المصاديق في الخارج يحتاج إلى حيثية في
الخارج بها يصير الحمل صادقا، بحيث إذا جرد المصداق - أعني الموضوع - عن
جميع الخصوصيات يكون الحمل صادقا أيضا، وإذا جرد عنها - ولو كان باقي
الخصوصيات موجودا - يكون كاذبا، وإلا لصح حمل كل شئ على كل شئ،
ولما صح حمل هذا المفهوم مع هذه الحيثية على هذا المصداق، وحيث قد علمنا
صحة الحمل في فرض وجود الخصوصيات وعدم الصحة في صورة عدمها عرفنا
أن صحة الحمل وعدم صحته دائر مدار وجودها.
الثالثة: أن الحيثيات مختلفة، بعضها له واقعية وما بحذاء في الخارج،
وبعضها ليست كذلك، بل أمر اعتباري. والأمور الاعتبارية تختلف باختلاف منشأ
انتزاعها، بعضها وجوده يدور مدار وجود منشأ الانتزاع، وبعضها لا يعتبر فيه ذلك،
بل بعد وجود منشأ الانتزاع وجودها باق حتى بعد انعدام منشأ انتزاعه، وبعضها
موجب لصدق الحمل باعتبار وجوده حتى قبل وجوده.
إذا عرفت هذه المقدمات وجعلتها في بالك فنقول:
صدق (قائم) مثلا على زيد بمقتضى المقدمة الثانية يكون بلحاظ حيثية بها
يصير الحمل صحيحا - وهي حيثية القيام - أعني الوضع المخصوص الذي هو
عبارة عن حالة القيام.
فإذا فرض صحة الحمل حتى بعد فقد هذه الحيثية يلزم ما ذكرنا من المحذورين.
10

وما يقال في إثبات صحة الحمل حتى بعد فقد تلك الحيثية، من أن وجودها
المخصوص في الجملة - ولو آنا ما - كاف عقلا في صحة الحمل ولو بعد عدمها
مدفوع بأن العقل لا يحكم بهذا قطعا، وإلا لزم صحته باعتبار قبل وجودها، فإنه لو
لم يصح لزم الترجيح بلا مرجح وهو فاسد قطعا.
نعم لو قيل: إن نفس الحيثية لا تكون علة لصدق الحمل، بل ما انتزع منها، وهو
أمر اعتباري، وبمقتضى المقدمة الثالثة قلنا: إنه لا يعتبر وجود منشأ هذا الامر
الاعتباري حتى يتوقف صحته عليه، فله وجه.
ثم اعلم أن العمدة في البحث عن كل مسألة تعيين جهتها، فلنذكر أمرين على
سبيل التنبيه عليها:
(الأول) أن عنوان البحث المتداول في الألسنة والكتب - من أن المشتق هل
هو حقيقة في خصوص من تلبس بالمبدأ في الحال أو أعم منه وممن انقضى عنه
المبدأ؟ - ليس المراد ب‍ (الحال) فيه أن زمان الحال مأخوذ في مفهوم المشتق
بل حيث إن وجود المفاهيم والمصاديق تكون زمانية، بل الموجودات مطلقا -
سوى وجود الباري تعالى - كذلك لا جرم يكون وقوع المبدأ ووجوده في زمان
لا من حيث أخذه في مفهومه.
(الثاني) ليس المراد من (أعم) في قولهم: (حقيقة في خصوص من تلبس
بالمبدأ في الحال أو أعم) هو الأعم المنطقي بمعنى كونه أكثر أفرادا، بل المراد
أشمليته بحسب الزمان لا كثرة الافراد، فإن صدق القائم على زيد مثلا بناء على
الأخص لا يكون أكثر أفرادا منه بناء على الأعم (1).
هنا تنبيهات
الأول: هل النزاع مختص بالمشتق الاصطلاحي أم يعم الجوامد أيضا؟ قال

(1) أقول: إلا أن يقال بحسب تقطيع الأزمنة إلى آنات متعددة يصح أن يقال بتعدد الافراد
بتعددها، أو يقال: بترتب الآثار المتعددة في بعض الصور، مثلا إذا قيل: أكرم فردين من القائم
يصح إكرام زيد مرتين على الأعم ومرة على الأخص كما لا يخفى.
11

في الايضاح (1) في مسألة من كان له زوجتان كبيرتان مدخول بهما وزوجة صغيرة
فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرة، انهما تحرمان معا، لكون الكبيرة أم زوجته
الرضاعية، والصغيرة بنت زوجته الرضاعية، وبضميمة قوله صلى الله عليه وسلم: يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب (2)، وقوله تعالى: وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي
في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن (3) تثبت الحرمة.
فكما أن الرضاع السابق ينشر الحرمة فكذا اللاحق.
وأما الكبيرة الأخرى فهي أيضا محرمة، لصدق أم الزوجة عليها.
وفي المسالك - على ما حكي - ابتناء المسألة على كون المشتق حقيقة في
خصوص من تلبس بالمبدأ أو أعم منه وممن انقضى عنه.
أقول: وهذا الفرع لا يختص بما فرضه الايضاح، بل هو جار فيما إذا كانت له
زوجة صغيرة فطلقها فأرضعته امرأته، فجواز تزويج هذه المرأة المرضعة أيضا
مبني على مسألة المشتق، ولا يحتاج إلى بيان الرضاع اللاحق كالسابق في نشر الحرمة.

(1) الأولى نقل عبارتي القواعد والايضاح بعينها لعلي لم أحفظ ولم أضبط حين التقرير حق
الحفظ والضبط.
قال في القواعد: ولو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب فالأقرب تحريم الجميع،
لان الأخيرة صارت أم من كانت زوجته إن كان قد دخل بإحدى الكبيرتين، وإلا حرمت
الكبيرتان مؤبدا وانفسخ عقد الصغيرة، انتهى.
قال في الايضاح - بعد نقل هذه العبارة ما هذا لفظه -: أقول: تحرم المرضعة الأولى
والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالاجماع، وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها
خلاف، واختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها، لان هذه يصدق عليها أنها أم زوجته،
لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه، فكذا هنا، ولان عنوان الموضوع
لا يشترط صدقه حال الحكم، بل لو صدق قبله كفى، فيدخل تحت قوله تعالى: وأمهات
نسائكم...، ولمساواة الرضاع، النسب وهو يحرم سابقا ولاحقا فكذا مساويه. انتهى
موضع الحاجة من كلامهما رفع الله مقامهما. (إيضاح الفوائد: ج 3 ص 52 طبع المطبعة
العلمية - قم).
(2) راجع الوسائل: باب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع ج 14 ص 280.
(3) النساء: 23.
12

والحاصل: أن المستفاد من هذين الفرعين أمران، أحدهما: كون المشتق
حقيقة في الأعم، وثانيهما: جريان النزاع في الجوامد.
فالتحقيق أنه إن قلنا بكون المسألة عقلية بدعوى جواز الجري دائما على
من تلبس بالمبدأ ولو كان قد انقضى عنه فعلا عقلا (1) فتعم الجوامد أيضا، فان
عنوان النزاع - ولو لم يكن شاملا للجوامد - إلا أنه يعمه بالملاك، فان ملاك جريان
النزاع في المشتق هو أن المفهوم الصادق على الذات لمعروضيته بعرض مفارق
هل يصدق بعد زوال هذا العرض أو لا؟ وهذا بعينه جار في الجوامد المعروضة
للمفارقات، فإن زيدا يصدق عليه أنه زوج والزوجية من الاعراض المفارقة
فيبحث أنه هل يصدق عليه هذا العنوان بعد مفارقة هذا العرض أم لا؟
وإن قلنا: إن النزاع لفظي لغوي لا عقلي - كما هو الظاهر من استدلالهم
بالتبادر وصحة السلب وعدمهما - فلا تعم الجوامد حينئذ، فان القائلين بالأعم
يدعون أن صدق المفهوم على الذات - باعتبار حيثية ينتزع منها - أمر اعتباري
يبقى بعد زوال الحيثية، وهذا لا يتصور في الجوامد، فان الحيثية المأخوذة في
المثال هي الزوجية، ولا يتصور انتزاع أمر يبقى حتى بعد زوالها، فان صدق
الزوجية باعتبار أنه زوج فكيف تبقى هذه الحيثية بعد زوال كونه زوجا؟
التنبيه الثاني: لا يخفى أن أنحاء تلبسات الذوات بالمبادئ مختلفة (فتارة)
تلبس الذات بمبدأ يكون بنحو الاستعداد - كما في الأشجار المثمرة - بمعنى
استعدادها وقابليتها للاثمار، فانقضاؤها بزوال هذا الاستعداد. (وأخرى) بنحو
الملكة كالعادل والشجاع، فانقضاؤها بزوال هذه الملكة. (وثالثة) بنحو الفعلية
كما في الكاتب أو القائم مثلا، فانقضائهما كذلك. (ورابعة) بنحو الحرفة أو الصفة
كما في نحو البقال أو التمار، فزوالها وانقضاؤها برفع اليد عنهما.
كما أن كونه مصداقا لذلك المفهوم أيضا مختلف (فتارة) بنحو الصدور كما في
الضارب. (وأخرى) بنحو الوقوع كالمضروب. (وثالثة) بنحو الآلية كما في

(1) قيد للجواز، يعني جواز الجري عقلا.
13

المضراب. (ورابعة) بنحو الظرفية كما في المضرب المشترك بين ظرفي الزمان
والمكان، بناء على كونه مشتركا معنويا أو لفظيا إذا فرض وضعه مرتين، مرة
للزمان ومرة للمكان على الاحتمالين.
والحاصل: عدم الخلاف المذكور إلا في اسم الزمان.
قال في الكفاية (1) ما معناه: إن النزاع جار في جميع المشتقات إلا اسم
الزمان، فإنه قد يشكل بأن شرط جريان النزاع بقاء الموضوع بعد زوال المبدأ،
والزمان يوجد وينصرم، وهكذا فصدق المضرب مثلا على زمان باعتبار تلبسه به،
فلا يتصور صدقه بعد هذا الزمان فضلا عن كونه أعم.
وأجاب في الكفاية بما حاصله: ان جريان النزاع في شئ باعتبار أن مفهومه
عام ذو أفراد لا مانع منه ولو كان هذا العام منحصرا في فرد، كما في الواجب تعالى
يبحث فيه أنه هل يكون علما للذات المستجمع للصفات الكمالية أو كلي منحصر
في فرد واحد في الخارج لا غير؟
فاسم الزمان له مفهوم عام ولو كان فرده في الخارج منحصرا بزمان التلبس.
أقول: ويمكن دفعه بأنه كما أن أصل الاشكال من كلام أهل المعقول فكذا لهم
كلام آخر يدفع به أصل الاشكال، وهو أن الزمان موجود واحد من أوله إلى
آخره لا موجودات متعددة حسب تعداد الآنات، وإلا يلزم ثبوت الجزء الذي لا X،

(1) الأولى والأحوط نقل عبارة الكفاية بعينها لعل في تقريري قصورا في توضيح مرامه قال:
ثانيها - يعني ثاني ما ينبغي تقديمه -: قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض
المشتقات الجارية على الذوات، إلا أنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان، لان
الذات فيه وهي الزمان بنفسه ينقضي وينصرم، فكيف يمكن أن يقع النزاع في الوصف الجاري
عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال أو فيما يعم المتلبس به في المضي؟
ويمكن حل الاشكال بأن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون
وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن
الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى، انتهى كلامه رفع مقامه.
(الكفاية: ج 1 ص 60 الطبع الحجري).
14

يتجزأ، وقد أنكره المتكلمون وأبطلوه بوجوه عديدة (1).
ففيما نحن فيه، وقوع المبدأ في قطعة منه كاف في صدقه عليه فيما بعد على
الأعم ولو كانت هذه القطعة قد انصرمت، لكن لما كان موجودا واحدا يصدق أن
هذا ذاك، غاية الامر كان الموجود في الزمان الأول أطول منه في الزمان الثاني،
كما هو واضح.
التنبيه الثالث: لا إشكال في كون المصادر المزيد فيها - كالمجردة وكذا
الافعال - خارجة عن حريم النزاع، لكونه فيما يكون قابلا للحمل وهي ليست
قابلة له وإن صح جعلها خبرا للمبتدأ، نحو هذا الوضع قيام مثلا، أو هذا الفعل
احسان، وزيد قائم، لكون الأولين خبرين لغير الذات. والكلام أنما هو في الحمل
عليه، والثالث ليس محمولا بالحمل الذاتي أو الشايع الصناعي الذي هو محل للبحث.
نعم، اختلف في كون الافعال هل تدل على الزمان أو لا؟ نقل عن أهل العربية
أنها دالة عليه، فإنهم قسموا الكلمة إلى ما لا يستقل في الدلالة وهو الحرف أو
الأداة، وما يستقل غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة وهو الاسم وما يستقل مقترنا به
وهو الفعل أو الكلمة.
وقد (2) أنكر في الكفاية عليهم وأبطل قولهم بأن الافعال إما أمر أو نهي، أو

(1) ذكر المحقق الطوسي قدس سره في تجريد الاعتقاد وجوها ستة لنفي الذي لا يتجزأ، نذكر هنا
واحدا منها قال: ولا وجود لوضعي لا يتجزأ بالاستقلال لحجب المتوسط، انتهى.
قال العلامة في شرحه: أقول: هذا أحد الأدلة على نفي الجزء، وتقريره انا إذا فرضنا
جوهرا متوسطا بين جوهرين فإما أن يحجبهما عن التماس أو لا، والثاني باطل، وإلا لزم
التداخل، والأول يوجب الانقسام، لان الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي
للآخر، انتهى. (كشف المراد: المسألة السادسة في نفي الجزء الذي لا يتجزى ص 104 طبع
مكتبة المصطفوي - قم).
(2) الأولى نقل عبارة الكفاية خوفا من القصور أو التقصير في التقرير قال: قد اشتهر في ألسنة
النحاة دلالة الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران بها في تعريفه، وهو اشتباه ضرورة عدم
دلالة الامر ولا النهي عليه، بل على إنشاء طلب الفعل والترك، غاية الامر نفس الانشاء بهما
15

ماض أو مضارع.
(أما الأولان) فإن أرادوا من دلالتهما كونهما دالين على الطلب والزجر وهما
أمران زمانيان فلا إشكال في عدم دلالتهما عليه، لان الموجودات الزمانية كلها
لابد لها من الزمان، سواء كانت مدلولة للامر والنهي أو الأعيان الخارجية
كالشجر والحجر وأسماء الاعلام للأشخاص كزيد وعمرو وبكر مثلا.
وإن أرادوا أنهما يدلان على طلب الصدور من المأمور وصدور الفعل لا بد له
من الزمان فكذلك أيضا، لان الصدور أيضا أمر زماني لا بد له من الزمان، بل
المكان فلا يكون واحد منهما مأخوذا في مفهومهما.
(وأما الثالث) فهو أيضا كالأولين في عدم دلالته على الزمان، وإلا يلزم
التفكيك بين المعاني المستعمل فيها الافعال.
وهو كما ترى، فإن الافعال المستندة إلى غير الزمانيات مثل (علم الله) و
(علم جبرئيل) أو (وجد العقل) ومثل (وجدت العلة فوجد المعلول) لا تدل على
الزمان قطعا لكون مدخولاتها غير زمانية.

في الحال كما هو الحال في الاخبار بالماضي أو المستقبل وبغيرهما كما لا يخفى، بل يمكن
منع دلالة غيرهما من الافعال على الزمان إلا بالاطلاق والاسناد إلى الزمانيات، وإلا لزم
القول بالمجاز والتجريد عند الاسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.
نعم، لا يبعد أن يكون لكل من الماضي والمضارع بحسب المعنى خصوصية أخرى
موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي وفي الحال أو الاستقبال في المضارع
فيما كان الفاعل من الزمانيات. ويؤيده أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال
والاستقبال، ولا معنى له إلا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما، لا أنه
يدل على مفهوم زمان يعمها، كما أن الجملة الإسمية كزيد ضارب يكون لها معنى صح
انطباقه على كلم واحد من الأزمنة مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا فكانت الجملة
الفعلية مثلها. وربما يؤيد ذلك أن الزمان الماضي في فعله وزمان الحال والاستقبال في
المضارع لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة وفي المضارع ماضيا كذلك، وإنما يكون ماضيا أو
مستقبلا في فعلهما بالإضافة كما يظهر من مثل قوله: يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله
بأيام، وقوله: جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده، فبما مضى
فتأمل جيدا، انتهى كلامه رفع مقامه. (الكفاية ج 1 ص 61 الطبع الحجري).
16

ودعوى تجريدها عن الزمان واستعمالها فيها مجازا من قبيل استعمال اللفظ
الموضوع للكل في الجزء مدفوعة بعدم تفاوت الاستعمالات في نظر العرف، بل
عند الدقة أيضا. نعم، يمكن أن يكون له خصوصية بها تدل على الزمان عند
الاسناد إلى الزمانيات.
(وأما الرابع) فدلالته عليه إما باشتراكه لفظا بين الحال والاستقبال فهو ممنوع
كما هو واضح إذ لم يقل به أحد، وإما باشتراكه معنى بينهما فهو كذلك أيضا إذ لا
جامع بينهما يكون مشتركا بين الحال والاستقبال.
وبالجملة، لا دلالة لواحد من الافعال على الزمان، لا للامر والنهي، ولا
للماضي ولا المضارع (1).
أقول: أما عدم دلالة الأمر والنهي عليه فصحيح لما ذكره، فلا نعيد.
وأما المضارع فدعوى عدم وجود الجامع ممنوعة فإنه وإن لم يمكن بين
زمان الحال والاستقبال فرض جامع.
إلا أنه يمكن أن يكون وقوع المبدأ في الحال والاستقبال جامعا بينهما لكون
الزمان - كما مر - موجودا يصدق على كل قطعة منهما الزمان، فيمكن وضع
المضارع للقطعة التي يصدق على كل جزء منها وقوع المبدأ فيها، ووقوعه مشترك
معنوي بين الحال والاستقبال، فإنه يكفي في صدق المركب على بعض أجزائه أن
يقال: إنه صدق عليه.
مثلا يصدق: وضع الجبهة على الأرض مع أن الأرض موضوعة لجميعها
وتمامها وضمها على بعض أجزائها، وكذا يصدق: قتل الحسين عليه السلام يوم عاشوراء
مع أن قتله عليه السلام وقع في بعض أجزاء ذلك اليوم.
وأما الماضي فالتحقيق دلالته أيضا عليه، لان (ضرب) في قول العرب بمنزلة
(زد) في الفارسي، و (يضرب) بمنزلة (ميزند) فكما أن لفظة (زد) في الفارسية تدل

(1) إلى هنا توضيح ما في الكفاية الذي أنكر على أهل العربية الذين قالوا بدلالة الافعال على
الزمان.
17

على الزمان بنظر العرف، كذا (ضرب) لعدم الفرق بينهما كما لا يخفى.
وأما القول بلزوم التفكيك بين معانيه بنحو مر ففيه انه مبني على القول بأن
واضع اللغات هو الباري تعالى، واما بناء على كونه البشر فهو وضع هذه الألفاظ
للمعاني على نحو واحد ولا يعلم هو - أي البشر - أن ما هو خارج عن الزمان
والزماني ما هو؟ كي يضع ألفاظا تدل على أفعال غير الزماني.
وأما الاستدلال بعدم الدلالة بأنا قد نستعمل الماضي والمضارع على نحو
التقابل نحو يضرب زيد غدا وقد قام غلامه قبل ساعتين منه، ونحو ضرب زيد
عمرا وقد يضحك فمردود بأن استعمالهما في غير معناهما لوقوعهما في مورد يدل
على ذلك المعنى، فلا دلالة فيه على أنهما لا يدلان على الزمان. والحاصل: أن
المضارع والماضي يدلان على الزمان دون الأمر والنهي.
التنبيه الرابع: هل للمسألة أصل عند الشك في وضع المشتق للأعم أو
الأخص أم لا؟ بمعنى أنه إذا شك أن المشتق إذا استعمل في الذي وضع له ولم يدل
دليل على أحد الامرين هل المرجع حينئذ هو الأصل أم لا؟
لا يخفى أنه لا أصل هنا، أما بناء على تقرير النزاع على النحو الأول وهو
دلالة العقل على الأعم أو الأخص فواضح.
وأما على النحو الثاني فكذلك أيضا، لان انتزاع أمر اعتباري من حيثية
اعتبرت في صدق المفهوم على الذات لا وجود له سابقا كي يستصحب وعدمه
منقض بزمان التلبس وبعده عين المتنازع فيه فلا يجري الأصل.
واعلم أن ما بيناه من محل النزاع في المشتق - وهو ان المفهوم المنطبق على
الذات هل هو حقيقة في خصوص المتلبس أو أعم منه وممن انقضى عنه المبدأ -
ليس المراد أن الانطباق جزء لمفهوم المشتق، وكذا ليس المراد من أنه حقيقة في
خصوص حال التلبس. أن الحال الزماني مأخوذ في مفهومه، لان المشتقات
مفردات لها مفاهيم مفردة، لا معنى لها إلا دلالتها على أن الذات منطبقة عليها تارة
وغير منطبقة عليها أخرى.
18

هذا وفي المسألة أقوال اخر:
(منها) القول بالأعم، وهذا لا دليل عليه إلا ما أشرنا إليه من دعوى انتزاع
أمر اعتباري من الحيثية التي بها كان المفهوم صادقا على الذات، واستدلالهم
بالتبادر أيضا مبني على هذه الدعوى، ودفع هذه الدعوى واضح بعد ما قررناه من
عدم انتزاع هذا الامر كما مر، فعدم اعتبار التبادر أولى.
(ومنها) التفصيل بين ما كان محكوما عليه وما كان محكوما به، بكونه أعم في
الأول وأخص في الثاني.
وفيه ان لازم ذلك التزام كون وضعه في حال التركيب كذا مثلا مع لزوم تعدد
الوضع، وهو كما ترى ضرورة أن المشتقات كما مر ألفاظ مفردة لها مفاهيم مفردة،
وعند تركيبها لها معنى آخر، أعني نسبتها إلى الذات.
(ومنها) التفصيل بين المفاهيم التي مبدأها يوجد وينصرم ولا يبقى كالضارب
مثلا وبين المفاهيم التي يبقى لها وجود واحد كالقائم مثلا بكونه أعم في الأول
وأخص في الثاني، نسب هذا إلى صاحب الفصول (1).
(ومنها) التفصيل بين المبادئ المتعدية كالضارب والقاتل وبين اللازمة
بالعموم في الأول والخصوص في الثاني.
نقول: إنا بعد ما تأملنا في هذه الأقوال وأطرافها عرفنا أن الحق هو القول
بالأخص وأن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ لزوال الحيثية في
الزمان الثاني، التي بها كان المفهوم صادقا على الذات في الزمان الأول، والله العالم.
فائدة
قرر بعض أفاضل عصرنا محل النزاع بما محصله: إنا نفرض للذات ثلاثة
حالات، الأولى: حالها قبل التلبس، الثانية: حالها حين التلبس، الثالثة: حالها بعد
التلبس.
ثم إن انطباقه مع المشتق في الأولى مجاز قطعا، وأما الثانية والثالثة فكما أنه

(1) على ما هو ببالي في مجلس الدرس.
19

يمكن أن يوضع المشتق للذات في الحالة الثانية كذلك يمكن أن يوضع له في
الحالة الثالثة، بمعنى أن المشتق وضع للذات المنطبق معه في زمان ما لكن خرج
انطباقه بالنسبة إلى الأولى قطعا وبقيت الحالتان.
وبعبارة أخرى: وضع للذات المنتسب إليها المبدأ، بمعنى أن القائم مثلا وضع
للذات الذي ثبت له المبدأ، بمعنى أن له مفاهيم ثلاثة: الذات، والمبدأ، والنسبة
بينهما، لا للذات المتلبس بالمبدأ فعلا، غاية الامر الفرق بينه وبين الفعل أنه وضع
للنسبة بين المتصلين، أعني الذات والمبدأ والفعل وضع للنسبة بين المنفصلين.
أن قيل: إنه لا يناسب بساطة مفهوم المشتق كما قيل، قلنا: إنا لا نلتزم على هذا
التقرير ببساطة مفهومه، بل بتركيبه كما قررناه.
فائدة أخرى
صدق المشتق على الذات (تارة) يكون باعتبار اتحاده معه وحمله عليه في
الخارج كزيد قائم مثلا، بدلالة لفظة (زيد) على الذات وقائم على المفهوم الكلي،
ومرفوعيته للمبتدأ والخبر على النسبة والهيئة التركيبية على النسبة بينهما
واتحاده معه.
(وأخرى) باعتبار انه مرآة له ومشير إليه لا أنه متحد معه، بمعنى أن المخاطب
لا يعرف المفهوم باسمه وسائر صفاته سوى هذا المفهوم والعنوان العام المنطبق
معه في زمان ما من الأزمنة نحو: أكرم ضارب زيد مثلا، فإن الضارب لم يستعمل
إلا في المتلبس بالمبدأ كالفرض الأول، ولا يلزم أن يكون في زمان المرآتية
متلبسا به كما لا يخفى.
(وثالثة) باعتبار أن وجود المبدأ موجب ومستتبع لهذا الحكم بعد وجوده لا
قبله، وهذا إما أن يكون في المبادي الباقية نحو: أكرم العالم، حيث إن وجوده
موضوع لوجوب الاكرام المعبر عنه في الفارسية ب‍ (دانائى) أو (دانا بودن)، وإما
أن يكون في المبادي المنصوصة الغير الباقية نحو قوله تعالى: والسارق
20

والسارقة فاقطعوا أيديهما (1) ونحو: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة (2)، حيث إن السرقة والزنا بوجودهما موجبان للقطع والجلد، وهذه
أيضا كالأولين في أن المشتق استعمل في خصوص ما تلبس بالمبدأ.
فلا يتوهم أنه في هذين استعمل في الأعم باعتبار أنه حين القطع والجلد لا
يكون هناك سرقة ولا زنا ومع ذلك يصدق قطع يد السارق وجلد الزاني، وذلك (3)
لان الخطاب للحكام والخلفاء الصالحين للخلافة فلا يحسن من الحكيم تعالى
حكمه بذلك حين التلبس، بل لا يتصور هنا، لأنهما (4) قبلهما (5) لا يجبان وبعدهما
لا يكون الذات متلبسا بهما.
(ورابعة) باعتبار أن صدقه عليه سلبا وإيجابا في زمان ولو قبل وجوده كقوله
تعالى: لا ينال عهدي الظالمين (6) حيث إن جعل الخليفة لدفع الظلم عن سائر
الناس، فلا يناسب بل لا يجوز عقلا تصدي الظالم لهذا المنصب الجليل، فوجود
الظلم بهذا الذات (7) ولو آنا ما موجب لعدم جواز جعله خليفة ولو بعد زمان الظلم.
وهذا أيضا لا يكون مستعملا إلا في خصوص المتلبس، غاية الامر تلبسه في
زمان علة للحكم دائما، في زمان التلبس وبعده، وهنا مطلقا، سواء كان قبله أو
حينه أو بعده.
فائدة ثالثة
قال المحقق الشريف ما مضمونه: مفهوم المشتق بسيط منتزع من المشتق لا
مركب من الذات والمبدأ أو الشئ والمبدأ، لان أخذ الذات إما أن يكون مفهوما
أو مصداقا.

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
(3) بيان لنفي التوهم.
(5) أي القطع والجلد.
(5) أي السرقة والزنا.
(6) البقرة: 124.
(7) أي بسببه.
21

والأول يلزم منه أن يدخل العرض العام في مفهوم النوع في نحو قولنا:
الانسان ناطق بمعنى شئ له النطق، فإن الشئ مفهوم عام شامل للأشياء كلها
وأخذه في مفهوم الناطق الذي هو فصل للانسان موجب لما ذكرنا من المحال.
والثاني يلزم منه انقلاب الممكنة الخاصة إلى الضرورية في نحو قولنا:
الانسان ضاحك، لان معنى ضاحك على هذا شئ له الضحك فتصير القضية:
الانسان انسان له الضحك وثبوت الشئ - أعني الانسانية - لنفسه - أعني
الانسان - ضروري، فيلزم أيضا ما ذكرناه من المحال.
أقول: ما ذكره المحقق رحمه الله من بساطة مفهوم المشتق صحيح لان قولنا: زيد
شئ، وزيد قائم، ليس تكرارا، وكذا قولنا: زيد قائم وزيد ليس بشئ لا يكون
تناقضا، وكذلك ينتزع من القضيتين، المتحد محمولهما أمر واحد، وهو حيثية المبدأ.
وأما ما ذكره رحمه الله من لزوم المحال على التقديرين فليس بجيد، غاية الامر أن
يقال: ما ذكره المنطقيون من كون الناطق فصلا ليس كذلك، بل غفلوا عن ذلك،
وكذا في تسمية المثال الثاني ممكنة خاصة، بل الحق مثلا أن يذكروا الناطق عرضا
خاصا ويسموا قضية الانسان ضاحك ضرورية.
فعلى هذا يمكن أن يستظهر من كلام المنطقيين ما يؤيد ما قلنا من البساطة
بأنهم أيضا لم يفهموا من المشتقات إلا المعنى البسيط، ولم يتبادر إلى ذهنهم إلا
ذاك المعنى، فلذا سموا الناطق فصلا والقضية المذكورة ممكنة خاصة (1).
وأما ما أفاده شيخنا أعلى الله مقامه في الكفاية في رد صاحب الفصول -
الذي عبارته في الفصول هكذا: ويمكن أن يختار الوجه الأول، ويدفع الاشكال
بأن يكون الناطق فصلا، مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن
مفهوم الذات، وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك، انتهى - بقوله أعلى الله
مقامه: وفيه أن من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه

(1) فتأمل.
22

أصلا، بل بما له من المعنى، كما لا يخفى، انتهى. يعني أن المنطقيين لم يتصرفوا في
مفاهيم الألفاظ وأنهم جعلوه كذلك فصلا.
فغير جيد (1) لارجاعه إلى أن مفهوم الشئ لم يؤخذ في مفهوم المشتق، لما
ذكرناه من تبادر البساطة.
وكذلك ما أفاده في الكفاية أيضا ردا على صاحب الفصول - حيث قال في
الفصول ما هذه عبارته: ويمكن أن يختار الوجه الثاني أيضا، ويجاب بأن
المحمول ليس مصداق الشئ والذات مطلقا، بل مقيدا بالوصف، وليس ثبوته
حينئذ للموضوع بالضرورة لجواز أن لا يكون ثبوت القيد ضروريا، انتهى - من (2)
أن القضية المذكورة في المثال تنحل إلى قضيتين (3): ضرورية وهي قولنا:
الانسان انسان، وممكنة وهو قولنا: الانسان له الضحك، فعاد المحذور أيضا.
ليس (4) على ما ينبغي أن يستند إليه قدس سره، لان قولنا: الانسان له الضحك،
يتصور على وجهين (تارة) يجعل لفظة (له الضحك) مثلا عنوانا مشيرا ومرآة
للمعرف الذي هو الانسان الثاني في المثال فتكون القضية ضرورية.
(وأخرى) يجعل (إنسان له الضحك) أعنى القيد - نحو خروج القيد

(1) خبر لقوله قدس سره: (وأما ما أفاده... الخ).
(2) بيان لقوله: (ما أفاده في الكفاية).
(3) والأولى نقل عبارة الكفاية خوفا من القصور في التقرير، فإنه بعد نقل قول صاحب
الفصول - بقوله: ويمكن أن يختار الوجه الثاني... الخ - قال: ويمكن أن يقال: إن عدم كون
ثبوت القيد ضروريا لا يضر بدعوى الانقلاب، فإن المحمول إن كان ذات المقيد وكان القيد
خارجا - وإن كان التقيد داخلا بما هو معنى حرفي - فالقضية لا محالة تكون ضرورية،
ضرورة ضرورية ثبوت الانسان الذي يكون مقيدا بالنطق للانسان وإن كان المقيد بما هو
مقيد على أن يكون القيد داخلا، فقضية الانسان ناطق تنحل في الحقيقة إلى قضيتين:
(إحداهما) قضية الانسان انسان، وهي ضرورية (والأخرى) قضية الانسان له النطق، وهي
ممكنة، وذلك لان الأوصاف قبل العلم بها أخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا،
فعقد الحمل ينحل إلى القضية كما أن عقد الوضع ينحل إلى قضية مطلقة عامة عند الشيخ،
وقضية ممكنة عند الفارابي، فتأمل، انتهى كلامه رفع الله مقامه. (الكفاية: ج 1 ص 79 - 80).
(4) خبر لقوله رحمه الله: (وكذلك ما أفاده قدس سره).
23

ودخول التقيد - معرفا له ومحمولا عليه.
وعلى هذا لا تكون القضية ضرورية ولا تنحل إلى قضيتين، لان مجموع القيد
والمقيد قضية واحدة.
والحاصل: أن مفهوم المشتق أمر بسيط منتزع من الحيثية، ودليله التبادر لا ما
ذكره المحقق المذكور من لزوم المحال لولا ذلك كما لا يخفى.
ثم إن ما في الكفاية من أن المراد من البساطة ما هو بسيط خارجا لا مفهوما
وتصورا، فإن كل مفهوم ينحل بالانحلال العقلي إلى جزءين كالنوع مثلا ينحل إلى
فصل وجنس، والشجر إلى شئ له الشجر.
فيه (1) ما لا يخفى، لعدم الفرق حينئذ بين البساطة والتركب، لان كل مركب
بالنظر البدوي يكون بسيطا وبالدقة يصير مركبا، فكل مركب بسيط بدوا، وكل
بسيط مركب دقة وهو واضح.
فائدة رابعة
إذا علم أن مناط صدق الحمل هي الحيثية التي هو المبدأ ولا دخل أصلا
للذات في صدق المفهوم على الذات فيقع الاشكال حينئذ في أنه ما الفرق بين
المشتق والمبدأ مع صحة الحمل في الأول وعدمها في الثاني؟
وما في الكفاية (2) من تطبيق كلام أهل المعقول في الفرق بين الصورة والمادة

(1) خبر لقوله قدس سره: (إن ما في الكفاية).
(2) الأولى نقل عبارة الكفاية بعينها خوفا من القصور في التقرير، قال: (الثاني) الفرق بين
المشتق ومبدأه، مفهوما أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ولا يعصى عن
الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد بخلاف المبدأ فإنه بمعناه يأبى عن ذلك، بل
إذا قيس ونسب إليه كان غيره لا هو هو، وملاك الحمل والجري إنما هو نحو من الاتحاد والهوهوية
، والى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما من أن المشتق يكون لا بشرط،
والمبدأ يكون بشرط لا، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون
آبيا عنه، انتهى كلامه رفع مقامه. (الكفاية ج 1 ص 83).
24

والفصل والجنس - بقولهم: إن الأول أخذ لا بشرط، والثاني بشرط لا - على
المشتق والمبدأ.
كما ترى (1)، فإنه مصادرة، فكأنه قيل: لم يصح حمل المشتق ولا يصح حمل
المبدأ؟ فيقال: إن الأول أخذ لا بشرط الحمل، والثاني بشرط الحمل، وهذا هو
عين المصادرة.
فالتحقيق في المعنى المراد من كلامهم أن يقال: إن المركب إما أن يكون
موجودا بوجودات متعددة حقيقة أو اعتبارا، فالأول يكون تركيبه انضماميا
ويسمى مركبا حقيقيا، وواحدا اعتباريا، والثاني بالعكس.
وبعبارة أخرى: إن كان كل واحد من الاجزاء يرى لا متحصلا وغير مستقل
في الوجود، فمركب اعتباري وواحد حقيقي كأجزاء النوع مثلا، وإلا فواحد
اعتباري ومركب حقيقي، فالجنس أو الفصل إن كان يرى كالأول فحمل كل واحد
منهما على الاخر وعلى الكل، وحمله عليهما صحيح وإن كان يرى كالثاني فغير صحيح.
وبالاعتبار الثاني يكونان مادة وصورة اللتين هما الاجزاء العقلية للنوع، أما
مادة فلكونه قابلا لان يكون انسانا مثلا، وأما صورة فلكونه ما به الفعلية له.
وبالاعتبار الأول يكون جنسا وفصلا، ولا يكونان أجزاء للنوع، بل حدين له،
فالأول يسمى باصطلاحهم (2) لا بشرط، أي لا بشرط التحصل، والثاني بشرط لا،
وهذا بخلاف تقسيمهم الماهية فإنهم قسموها أقساما ثلاثة.
فإنهم قالوا: إن كانت الماهية ملحوظة بشرط أن لا يكون معها شئ وجودا
وعدما فهي الماهية لا بشرط، وإن كان معها شئ فهي بشرط شئ، وإن كانت

(1) خبر لقوله قدس سره: (وما في الكفاية).
(2) أي أهل المعقول.
25

ملحوظة بشرط لا شئ فهي بشرط لا.
فانقدح الفرق بين المقامين، وان لا بشرط الذي قيل: إنه يجتمع مع ألف شرط
في هذا المقام، غير موجود أصلا، فإنه لا توجد ماهية إلا مع شئ لا أقل من
الوجود، بناء على أنه زائد عليها كما قرر في محله، بخلافه في المقام الأول فإنه
كما ذكرنا بمعنى عدم التحصل الاستقلالي في الوجود ولو كان بنفسه موجودا
منضما إلى موجود آخر.
والحاصل: أن مجرد الاتحاد الوجودي غير كاف في صحة الحمل (1)، بل إذا
تصور مبهما فانقدح بذلك ما هو المراد من قولهم: إن المشتق حيث أخذ لا بشرط
يصح جعله محمولا، والمبدأ حيث أخذ بشرط فلا يصح جعله محمولا.
فإن في الأول وجود مناط صحة الحمل، وفي الثاني عدم وجوده، لا ما ذكر
من أن الأول بمعنى لا بشرط عدم الحمل، والثاني بشرط الحمل.
فائدة خامسة
قال في الكفاية (2) ما مضمونه: يكفي في صحة الحمل مغايرة المبدأ مع الذات
ولو مفهوما ولا يحتاج إلى التزام والنقل عل يما في الفصول، فيصبح حمل

(1) فإن الحمل باعتبار الوجود، والمفروض أن الوجود واحد.
(2) الأولى نقل عبارة الكفاية بعينها خوفا من القصور في التقرير، قال فيها: (الرابع) لا ريب في
كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتق عليه مفهوما وإن اتحدا عينا وخارجا، فصدق
الصفات مثل العالم والقادر والرحيم والكريم، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال عليه
تعالى، على ما ذهب إليه أهل الحق من عينية صفاته يكون على الحقيقة، فإن المبدأ فيها وإن
كان عين ذاته تعالى خارجا إلا أنه غير ذاته تعالى مفهوما، ومنه قد انقدح ما في الفصول من
الالتزام بالنقل أو التجوز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى بناء على الحق من العينية
لعدم المغايرة المعتبرة بالاتفاق، وذلك لما عرفت من كفاية المغايرة مفهوما ولا اتفاق على
اعتبار غيرها إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره كما لا يخفى، وقد عرفت ثبوت
المغايرة كذلك بين الذات ومبادي الصفات، انتهى كلامه رفع مقامه. (الكفاية: ج 1 ص 85).
26

القادر، والعالم، والقديم، والحق، وسائر صفاته الكمالية عليه تعالى.
أقول: مراده من (صحة الحمل) إفادة الحمل: وإلا يكفي في صحته اتحاد
الوجود مع لحاظه مبهما، ولو مع الاتحاد مفهوما، مثل الانسان انسان، غايته ان
الحمل غير مفيد كما هو واضح.
والمفاهيم الصادقة عليه تعالى عين ذاته تعالى، إذ لا يكون فيها حيث غير
حيث خلافا للأشاعرة القائلين بحدوثها تعالى عن ذلك.
وللمعتزلة القائلين بقدمها مع قولهم باشتراط مغايرة المبدأ مع الذات، خارجا
فلازم هذا، الالتزام بتعدد القدماء، تعالى عن ذلك أيضا.
والأول باطل بالضرورة، وكذلك الثاني ضرورة أن وجوده تعالى عين ذاته
وصفاته، أعني القدرة والحياة والعلم والقدم، وسائر صفاته الكمالية والجمالية، بل
كلما وجدت من صفات الكمال والجمال فهو في الحقيقة له تعالى أو لا وبالذات،
ولغيره تعالى بالعرض والمجاز وهو نور السماوات والأرض ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها (1).
بداهة انه لو كان صدقها عليه تعالى لحيثية لزم كون صدقها على هذه
الحيثيات حقيقة وعليه تعالى مجازا، وهو واضح البطلان كما لا يخفى.
فائدة سادسة
شرط صحة الحمل وصدقه قيام المبدأ بالذات، غاية الامر اختلاف أنحاء
القيام من الصدور والحلول والوقوع.
والاحتجاج لعدم الاشتراط بصدق المولم والضارب مع القيام بهما بل بالمولم
والمضروب مدفوع بما ذكرنا، فإن الأول بنحو الحلول، والثاني بنحو الصدور،
والحمد لله.

(1) الأعراف: 180.
27

فصل
في الأوامر
وفيه بحثان:
(الأول) في معنى الامر مادة، قيل: استعمل في الطلب والشئ والشأن
والغرض والامر العجيب، وغيرها من المفاهيم.
والظاهر اشتراكه بين الأولين، وأما البواقي، فبالقرائن الخارجية يعرف
المستعمل فيه نحو: جئتك لأمر كذا، فإن الغرض مستفاد من اللام.
ولعل الامر بالفتح اشتبه بالامر بالكسر الذي بمعنى العجيب نحو: لقد جئت
شيئا إمرا (1).
وله معنيان: الحدث وعليه صار مشتقا منه، والفعل فلا يشتق منه، والأول
يجمع على أوامر، والثاني على الأمور.
(البحث الثاني) في معناه عرفا، هل المعتبر العلو أو الاستعلاء أو كلاهما أو
عدم اعتبار واحد منهما؟
التحقيق ان كيفية الطلب على وجهين تارة يكون بنحو يريد الطالب وجود

(1) الكهف: 71.
28

المطلوب بنفس هذا الطلب من دون ضميمة مقدمات اخر، وأخرى يريد مطلوبه
ويطلبه مع الضميمة والمرغبات كالسائل الذي يطلب مع ضميمة الدعاء بالخير
والالتماس والتواضع وغيرهما من الضمائم والبواعث.
والأول يستلزم أن يكون الطالب عاليا مع إعمال علوه في مقام الطلب
ويسمى أمرا. لا أقول إن علو الامر معتبر في تحقق مفهوم الأمر بحيث يصير مركبا
من الطلب وعلو آمره، بل أقول: إن هذا النحو من الطلب يستتبع علو طالبه.
فانقدح بذلك عدم اعتبار واحد منهما في تحقق مفهومه.
إذا عرفت هذا فاعلم أن كون الامر حقيقة في الايجاب أو الندب أو مشتركا
بينهما لفظيا أو معنويا موقوف على بيان معنى الطلب وما به يمتاز الايجاب عن
الندب وبيان وجه إيراد الأصوليين مسألة الطلب والإرادة في هذا الفن مع أنه
بحث كلامي.
فنقول: إن الناس قبل ظهور الاسلام ودعوة النبي صلى الله عليه وآله لا يعبأون بمسألة تعلم
العلم وتعليمه إلا قليلا بعد ظهوره وظهور القرآن والسنة.
ففي زمن الصحابة كانوا يأخذون المطالب مبهما ولا يهتمون به كثيرا أيضا.
وفي زمان التابعين - لما برز الاسلام كثيرا والمسلمون كانوا يجاهدون
ويقاتلون فيغلبون فيأسرون من الأكناف من الروم وغيرهم - كان المسلمون
يجلسون حلقا حلقا فيذاكرون العلم ويعلمون ويتعلمون الكتاب والسنة.
والحسن البصري كان من الأسارى وكان المسلمون يجالسونه ويأخذون منه
المطالب والمعالم والمباحث العقلية التي من جملتها التكلم في صفات الباري
تعالى التي قسموها إلى صفات الذات.
قالوا: هي الصفات التي يحمل عليه تعالى في مرتبة ذاته تعالى ومعه.
والى صفات الفعل وقالوا: هي التي يحمل عليه تعالى باعتبار صدور فعل من
الافعال، ووقع الكلام يوما في أنه هل يكون بين الكفر والايمان واسطة أم لا؟
29

فادعى واصل بن عطاء (1) وساطة الفسق بينهما.
ونازع مع الحسن البصري (2) وادعى عدم الواسطة واعتزل واصل منه وأسس
مجلسا آخر يذاكر العلم.
وادعى في صفات الباري تعالى أنها قديمة، بدعوى لزوم كون الذات غير
متصف بها قبل حدوثها إن لم يكن كذلك، وأنه محال فتكون قديمة.
وادعى عدم إمكان كونها عين ذاته تعالى لان كل صفة غير موصوفه، وكانت
المعتزلة يعتقدون ذلك في برهة من الزمان إلى أن قام أبو الحسن الأشعري (3)
وكان من المعتزلة، فلما رأى انقراض هذه الطائفة قام يوما على المنبر فقال - بعد
التعريف -: أنا أتوب إلى الله من أن أكون من هذه الطائفة وأدعي في صفات
الباري تعالى أنها حادثة. وانجر النزاع حتى قاتلوا وقتلوا، فقتل من المعتزلة
والأشاعرة لأجل الاختلاف في هذه المسألة إلى أن انجر البحث في اتصافه تعالى
ب‍ (المتكلم).

(1) هو أبو حذيفة واصل بن عطاء البصري المتكلم، سمع من الحسن البصري وغيره، وكان من
أجلاء المعتزلة ولد سنة 80 ه‍ بالمدينة، وله تصانيف، وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل،
مات سنة 131 ه‍. (لسان الميزان: ج 6 ص 214).
(2) كان الحسن أحد الزهاد الثمانية، وكان يلقى الناس بما يهوون ويتصنع الرئاسة، وكان رئيس
القدرية، قال ابن أبي الحديد: وممن قيل إنه يبغض عليا ويذمه الحسن بن أبي الحسن
البصري، وروي أنه كان من المخذلين عن نصرته (إلى أن قال:) وروي عن تلميذه ابن أبي
العوجاء أنه لما قيل له: لم تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ قال:
إن صاحبي كان مخلطا، كان يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، وما أعلمه اعتقد مذهبا دام
عليه، توفي في رجب من سنة 110 ه‍. (الكنى والألقاب للمحدث القمي: ج 2 ص 74).
(3) علي بن إسماعيل بن أبي بشر... كان مولده بالبصرة ونشوءه ببغداد، وهو امام الأشاعرة
وإليه تنسب الطائفة الأشعرية، توفى سنة 334 ه‍ ودفن بين الكرخ وباب البصرة (الكنى
والألقاب: ج 1 ص 44).
وقال أيضا: وإنما قيل له أشعر لان أمه ولدته والشعر على بدنه، كذا عن السمعاني.
(الكنى والألقاب: ج 2 ص 30).
30

فقالت المعتزلة: إنه صفة فعل، لان الكلام عبارة عن الحروف والأصوات
الموجودة في الخارج وبالنسبة إليه تعالى أنها مخلوقة في الهواء وأنها حادثة
بالضرورة، قال الأشعري: هي صفة ذات وأنه متكلم أزلا وأبدا، وخلق الأصوات
والحروف إنما هو في الكلام اللفظي دون النفسي الذي هو مدلول الكلام اللفظي.
قال الشاعر:
ان الكلام لفي الفؤاد * وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأجاب عنه المعتزلي بأنه إن كان المراد العلم في الإخباريات والإرادة
والكراهة في الإنشائيات فليس هذه صفة مغايرة للعالم والمريد أو الكاره،
والمفروض مغايرتها، وإن كان غيرها فهو غير معقول.
قال الأشعري: إنه هو الطلب في الامر وفي النفس هو قائم بها.
أجاب المعتزلي بأنه ليس في النفس صفة قائمة بها غير الإرادة عند الامر،
وليس هنا شئ آخر يسمى بالطلب أو الكلام النفسي.
فانقدح بذلك أن النزاع في أن الطلب هل هو الإرادة أو غيرها منشعب من
النزاع في أن التكلم من صفات فعله تعالى أو ذاته تعالى.
وأن ما في الألسنة من عينية الطلب والإرادة فيه ما لا يخفى.
والحاصل: ان الأشعري يدعي أن في النفس شيئين، الطلب والإرادة،
والمعتزلي يقول بعدم شئ في النفس وجدانا غير الإرادة لا أن هنا شيئا آخر هو
الطلب وهو عين الإرادة، بل ليس شئ غيرها تدبر تعرف.
وما في الكفاية من إمكان الاصلاح بأنه لا نزاع بينهما في ماهية الطلب
والإرادة ولا في وجودهما بأنحائهما، من الحقيقي والذهني والمفهومي
والخارجي والانشائي وإنما الاختلاف في منصرفهما عند الاطلاق، فإن
الانصراف في الأول (يعني الطلب) الانشائي وفي الثاني (يعني الإرادة) الحقيقية.
31

غير سديد (1)، ضرورة أن النزاع إنما هو في أن مبدأ الطلب اللفظي هل هو
الإرادة فقط أو شئ آخر كما ذكرنا فراجع.
مع أن لازم ما ذكره أن للشئ وجودات خمسة وأهل المعقول قسموها إلى
أربعة (أحدها) الوجود الواقعي. (ثانيها) الوجود الذهني بناء على أن التصور
بمعنى وجود المتصور في الذهن. (ثالثها) الوجود اللفظي. (رابعها) الوجود
الكتبي.
وإن كان في إطلاق الوجود على الأخيرين مسامحة في التعبير فإنهما كاشفان
عن الوجود الواقعي أو الذهني لا أنهما وجودان للشئ، كما لا يخفى.
وأما على ما ذكره هنا وجود خامس وهو الانشائي. مع أن كون الإرادة قابلة
للانشاء، فيه ما لا يخفى، فإن الإرادة لا تتعلق بها الانشاء ولا توجد به، بل هي
كيفية نفسانية تابعة لنفس الامر.
وتوضيحه: أن الأمور إما واقعيات كزيد وعمرو والشجر والحجر، أو
اعتباريات، وهذا على وجهين: تارة ينتزع من الوجودات العينية، وبعبارة أخرى
لمنشأ انتزاعه ما بحذاء في الخارج كالفوقية والتحتية والأبوة والبنوة والاخوة
وغيرها من الاعتباريات ذات الإضافة. وأخرى ليس كذلك، بل ينتزع من مجرد
جعل الجاعل.
والأولان لا يتعلق بهما الانشاء، والثالث تابع لمن بيده الاعتبار، فإن اعتبره
يوجد، وإلا فلا، كجعل الحكومة لأحد من قبل السلطان والملكية لأحد من قبل
المالك والزوجية المسببة عن العقد.
والإرادة من قبيل القسم الأول، فلا تكون قابلة للانشاء، وما هو قابل له هو،
القسم الثالث، فافهم.
واستدل الأشاعرة بدليلين: (أحدهما) أحدها) أنه لو كان الطلب اللفظي مستندا إلى

(1) خبر لقوله قدس سره: (وما في الكفاية... الخ).
32

الإرادة دائما دون الطلب النفسي لما أمر الله تعالى الخليل عليه السلام بذبح ولده عليه السلام،
لعدم إرادة فعل الذبح منه عليه السلام حقيقة، مع أنه تعالى أمره عليه السلام كما هو المستفاد من
قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى
قال يا أبت افعل ما تؤمر.. الآية (1).
(ثانيهما) انه لو كان كذلك لما تحقق الكفر والعصيان، ولوجب تحقق الاسلام
والاطاعة والايمان لعدم إرادة الأولين (2) وإرادة الأخيرين (3) مع أنه ليس كذلك
بالضرورة.
وتوهم إمكان تحقق الإرادة مع عدم تحقق الفعل مدفوع بامتناع تخلف
الإرادة عن المراد، قال الله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون (4).
وقد يجاب عن الأول بما في الكفاية (5) من أنه كما لا يكون هنا إرادة حقيقية
كذلك لا يكون الطلب الحقيقي، نعم، هنا وجودهما الانشائي.
وفيه: ما ذكرناه من أنه أجنبي عن محل النزاع وعدم تصور الإرادة

(1) الصافات: 102.
(2) أي الكفر والعصيان.
(3) أي الاسلام والاطاعة.
(4) يس: 82.
(5) قال في الكفاية - بعد نقل استدلال الأشاعرة على المغايرة بين الطلب والإرادة بالامر مع
عدم الإرادة كما في صورتي الاختبار والاعتذار، وبعد ذكر أن فيه خللا -: ما هذا لفظه:
وبالجملة، الذي يتكفله الدليل ليس إلا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ
بالصيغة، الكاشف عن مغايرتها وهو مما لا محيص عن الالتزام به كما عرفت، ولكنه لا يضر
بدعوى الاتحاد أصلا لمكان هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والانشائي كما لا
يخفى. ثم إنه يمكن مما حققناه أن يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين، بأن
يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا، ويكون
المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الانشائي من الطلب كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق
لفظه، والحقيقي من الإرادة كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيا،
فافهم، انتهى كلامه رفع مقامه. (الكفاية: ج 1 ص 97).
33

الانشائية.
والتحقيق أن يقال: إن الداعي على الامر تارة يكون نفس إرادة وجود
المأمور به كغالب العبادات البدنية والمالية وكإصلاح ذات البين مثلا. وأخرى
تهيؤ المأمور وتوطينه لفعل المأمور به على نحو لو لم يكن مقصرا في أداء الوظيفة
- بمعنى إتيان جميع مقدماته الاختيارية - ليحصل له الكمالات النفسانية من القوة
إلى الفعل.
والمقام من قبيل الثاني فإنه تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وأراد تكميل
نفسه الشريفة بلحاظ تحقق كمالات النفس الأمرية في الخارج ووجودها في
المرتبة الفعلية بعد أن كان مستعدا لهذه الكمالات، وذلك لا يحصل بالامر بالمقدمة
دون ذيها، لعدم حصول الكمال في إتيان المقدمة مع العلم بعدم الامر بذيها.
والحاصل: أن الإرادة تتعلق بالمقدمة مع الامر بذيها بقصد تحقق الكمال
له عليه السلام في مرتبة الفعلية.
وقد يجاب (1) عن الثاني بأن امتناع تخلف الإرادة عن المراد مختص بأفعاله
تعالى بمعنى إرادة إيجاد الفعل بنفسه، وأما إرادة وجوده من غيره فلا نسلم
الامتناع.
وأجاب في الكفاية أيضا (2) بما مرجعه إلى ما ذكره هذا المجيب من أن

(1) المجيب من المتكلمين على ما صرح به الأستاذ مد ظله ودامت إفاداته.
(2) قال في الكفاية: (إشكال ودفع) أما الاشكال: فهو أنه إنما يلزم بناء على اتحاد الطلب
والإرادة في تكليف الكفار بالايمان بل أهل العصيان في العمل بالأركان، إما أن لا يكون
هناك تكليف جدي إن لم يكن هناك إرادة، حيث إنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي، واعتباره
في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي، وإن كان هناك إرادة فكيف تتخلف عن المراد؟
ولا يكاد يتخلف إذا أراد الله شيئا يقول له كن فيكون.
وأما الدفع: أن استحالة التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية - وهو العلم بالنظام على
34

الامتناع إنما هو في الإرادة التكوينية دون التشريعية.
والمراد بالأولى علم الباري تعالى بوجود الممكنات على الوجه الأكمل
والأتم، وبالثانية علمه تعالى بصلاح هذا الفعل للعبد إذا صدر منه، فإذا توافقتا
فلا بد من الإطاعة والايمان، وإذا تخالفتا فلا محيص عن الكفر والعصيان.
ثم استشكل على نفسه بأن لازم (1) هذا عدم جواز العقاب والعتاب لتارك
الايمان والعابدة، مع أنه مناف لبعث الرسل الموعدين للعقاب بالضرورة.
ثم أجاب بما محصله: أن العقاب وما يتبعه مترتب على الكفر الصادر منه

النحو الكامل التام - دون الإرادة التشريعية - وهو العلم بالمصلحة في فعل المكلف - ومالا
محيص عنه في التكليف أنما هو هذه الإرادة لا التكوينية، فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة
والايمان، وإذا تخالفتا فلا محيض عن أن يختار الكفر والعصيان، انتهى كلامه رفع مقامه.
(الكفاية: ج 1 ص 99).
(1) بقوله قدس سره: (إن قلت:) إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بإرادته تعالى التي لا
تكاد تتخلف عن المراد فلا يصح أن يتعلق بها التكليف لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر
فيه عقلا.
(قلت:) إنما يخرج بذلك عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها
الاختيارية وإلا فلا بد من صدورها بالاختيار، وإلا لزم تخلف إرادته عن مراده، تعالى عن
ذلك علوا كبيرا.
(إن قلت:) إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما إلا أنهما
منتهيان إلى ما لا بالاختيار، كيف وقد سبقهما الإرادة الأزلية والمشية الإلهية، ومعه كيف
تصح المؤاخذة على ما يكون بالآخرة بلا اختيار؟
(قلت:) العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة
عن شقاوتهما الذاتية اللازمة بخصوص ذاتهما، فإن السعيد سعيد في بطن أمه، والشقي شقي
في بطن أمه، والناس معادن كمعادن الذهب والفضة - كما في الخبر - والذاتي لا يعلل
فانقطع سؤال انه لم جعل السعيد سعيدا، والشقي شقيا فإن السعيد سعيد بنفسه، والشقي شقي
كذلك، وإنما أوجدهما الله تعالى (قلم اينجا رسيد، سر بشكست) قد انتهى الكلام في المقام
إلى ما ربما لا يسعه كثير من الافهام، ومن الله الرشد والهداية وبه الاعتصام، (الكفاية: ج 1
ص 99 - 101).
35

بالاختيار الناشئ من شقاوته الذاتية اللازمة لخصوص ذاته، فإذا انتهى الامر إلى
هذا انقطع السؤال ب‍ (لم) فإن الشقي شقي في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه
... إلى آخر ما ذكره قدس سره في الكفاية.
وينبغي بيان أن علم الباري تعالى ليس علة لأفعال العباد - ولو كانت في سلك
النظام - بعون الملك العلام.
وتقرير الاعتراض على ما في شرح التجريد عند قول المصنف - يعني العلامة
محمد بن الحسن الخواجة نصير الملة والدين -: (والعلم تابع) قال العلامة عند
إيراد حجج الخصم: الثالثة قالوا: كلما علم الله تعالى وقوعه وجب وما علم عدمه،
امتنع، فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا
لما يمتنع وجوده.
والجواب أن العلم تابع لا يؤثر في الامكان الذاتي، وقد مر تقرير ذلك.
وقال - فيما مر عند جواب القائلين بعدم تعلق علمه تعالى بالمتجددات، وإلا
إما يلزم وجوبها أو انقلاب علمه تعالى جهلا وهو محال - ما هذه عبارته:
والجواب: إن أردتم بوجوب علمه تعالى أنه واجب الصدور عن العلم فهو
باطل فإنه تعالى يعلم ذاته ويعلم المعدومات مع أنها لا تصدر.
وإن أردتم وجوب المطابقة، فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق لا سابق، فلا
ينافي الامكان الذاتي، انتهى كلامه قدس سره (1).
وقد أورد بعض المتأخرين على قول المحقق الطوسي (2) (والعلم تابع) بأن
الاطلاق ممنوع، فإن العلم على قسمين، فعلى وهو المحصل للأشياء الخارجية
كعلم واجب الوجود تعالى بمخلوقاته، وانفعالي وهو المستفاد من الأعيان
الخارجية كعلمنا بالسماء والأرض وأشباههما، وحيث إن أفعال العابد داخله في

(1) شرح التجريد: ص 222 طبع مكتبة المصطفوي المسألة الثانية في أنه تعالى عالم.
(2) على ما هو ببالي القاصر.
36

سلك النظام التام فيكون العلم الفعلي محيطا لها، فيلزم الجبر، وهو باطل.
والجواب: (1) ان الممكنات المترتبة بعضها على بعض على سبيل العلية
والمعلولية لها اعتباران: تارة يلاحظ وجودهما في الخارج، وأخرى علية بعضها
لبعض، فما يؤثر علم الباري فيه هو ترتب الممكن بالاعتبار الأول دون الثاني،
فإن العلية غير قابلة للجعل، بل هي تابعة لذات الأشياء، وكذا المعلول.
والحاصل: ان منشأ المؤاخذة يحتمل أحد أمرين:
(الأول) إرادة المكلف الفعل كما هو مختار صاحب الكفاية.
وفيه: أن مجرد الإرادة - إن كانت مصححة لحسن المؤاخذة - لحسن مؤاخذة
الحيوانات بأفعالها، لان لها أيضا إرادات تصدر منها الافعال الإرادية، كما لا
يخفى.
(الثاني) اختيار المكلف بمعنى أن له رقائق ذاتية فبرقيقة الروح العلوي يميل
إلى عالم العلويات، وبرقيقة الجهل السفلي يميل إلى عالم السفليات، ومع ذلك له
عقل حاكم بالحسن والقبح على القول بهما (كما هو الحق)، وبوجوب دفع الضرر
المحتمل مطلقا مضافا إلى تأيده بإرسال الرسل وإنزال الكتب وجعل الشرايع.
فإذا رجح مع ذلك كله الهوى النفسانية يكون هذا اختيارا موجبا لحسن
المؤاخذة.
ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن
شيئا مذكورا × إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج (2) نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ×
إنا هديناه السبيل (3) إما شاكرا وإما كفورا (4).
فانقدح بذلك دفع توهم أن أفعالنا غير مستندة إلينا، بل الإرادة المسبوقة

(1) على ما هو ببالي القاصر.
(2) إشارة إلى الرقائق.
(3) إشارة إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب.
(4) الدهر 1 - 3.
37

بالمبادئ الغير الاختيارية لا أقل من عدم الإرادة الأزلية.
وذلك فإن الافعال ليست مستندة إلى الإرادة أصلا بل إلى الاختيار كما
حققناه.
واعلم (1) - رحمك الله - أيها الأخ العزيز أن التكلم في كل مسألة يحتاج إلى
بصيرة فيها، مثلا الصانع إذا صنع سريرا فليس لغير الصانع أن يتكلم في أطراف
هذا السرير ويقول إن الصانع كيف صنعه؟ وكيف يستعمله؟ ويتكلم في كميته
وكيفيته إلا أن يكون هو أيضا من أهل تلك الصنعة وبصيرا بما هو مادة أصلية
للسرير.
فما نحن فيه - أعني مسألة الطلب والإرادة المتعلقين بذات الباري تعالى، بل
مطلق صفاته الكمالية والجلالية والتكلم فيها كيفا وكما للمخلوق الفقير المحتاج
بتمام ذاته وصفاته إلى الله الغني بالذات الغير المحتاج على الاطلاق بكل وجه
يتصور بل فوق ما يتصور - من هذا القبيل فعليك بالوقوف فيما لا تعلم وعدم الغور
في الشبهات، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات كما ورد
عنهم عليهم السلام (2).
إذا عرفت ما تلوناه عليك مفصلا وبيناه علمت أن مسألة الطلب والإرادة لا
دخل لها بما نحن بصدده، أعني مفهوم الطلب.
فالحق أنه حقيقة في الانشاء اللفظي المتحقق بالانشاء عند اعتبار المنشئ
بأي لفظ كان كقوله: آمرك، وافعل، واطلب منك، وغيرها من الألفاظ الدالة على
الطلب.
وهو على قسمين: ايجابي، وندبي.

(1) هذا الكلام الشريف أورده سيدنا الأستاذ الأكبر بعنوان النصيحة والموعظة في عدم
التكلف في أمثال هذه الأمور.
(2) راجع الوسائل: باب 12 من أبواب صفات القاضي ج 18 ص 112.
38

فلا بد من بيان ما يمتاز أحدهما عن الاخر ثبوتا أولا، ثم بيان استظهار
أحدهما عند التجرد عن القرينة ليحمل عليه ثانيا إثباتا.
فنقول بعون الله تعالى: كل شيئين هما اثنان لا بد لهما مما يمتاز أحدهما عن
الاخر، فإما بالتباين الحقيقي بمعنى أنه لا شئ من ذات أحدهما بالآخر، وإما
بالفصل بمعنى أن له حيثية مشتركة في مرتبة الذات وحيثية مختصة في مرتبتها
أيضا وهو الفصل، وإما بالمرتبة بمعنى أن ما به الامتياز من نفس ما به الاشتراك.
وهو (1) إما بالكيف كالشدة والضعف وهو تارة يكون بالضمائم الخارجية ولا
إشكال في وجوده، وأخرى بنفس العرض. أو بالكم كالأطولية والأقصرية، أو
بالذات كالأكملية والأنقصية بناء على وجود هذا القسم في الذات أيضا.
لا إشكال في عدم كون امتياز الواجب عن المندوب من قبيل الأول (2)
لاشتراكهما في الطلب كما هو المفروض.
وتعريفهم الواجب بأنه طلب الفعل مع المنع من الترك يؤيد كونه من القسم
الثاني (3).
وفيه: ان مفهوم الوجوب بسيط مع أنه قد يكون المنع من الترك عين طلب
الفعل، فلا يكون جزء له باعتبار المغايرة في الاجزاء.
وتعريف آخرين للوجوب بأنه ما يستحق تاركه العقاب والمندوب ما ليس
كذلك، أو أنه ما لا يرضى الامر بتركه، والمندوب ما يرضى به موهم أنه من
الثالث، أي ما يكون امتيازهما بالعوارض.
وفيه: ان استحقاق العقاب (4) معلول للطلب الايجابي والمعلول متأخر في
مرتبة الوجود الذهني عن العلة فلا يصلح لان يكون مميزا في مرتبة التي

(1) أي كونها بالمرتبة.
(2) أي كونه بالتباين.
(3) أي كونه بالفصل، وجه التأييد كون طلب الفعل بمنزلة الجنس، والمنع من الترك بمنزلة الفصل.
(4) جواب عن التعريف الأول.
39

هو العرض.
كما أن الرضا (1) بالترك علة للطلب الايجابي ومقدم عليه، والمقدم لا يصح أن
يكون مميزا للمتأخر في مرتبة الذات.
والحاصل: ان المميز لا بد من مقارنته للمميز لا متأخرا عنه كما في الأول،
ولا متقدما عليه كما في الثاني (2).
ويمكن أن يقال: إن ما به الامتياز بين الايجاب والندب من القسم الرابع (3)
وتقريره يمكن أن يكون بأحد وجهين:
(أحدهما) أن ما يكون منشأ لحكم العقلاء باستحقاق العبد العقوبة هو الطلب
الغير المقارن مع الاذن في الترك، وهذا يعبر عنه بالايجاب، وما ليس كذلك فهو
الندب.
(ثانيهما) أن منشأ الحكم المذكور في الايجاب هو الإرادة الواقعية النفسانية
بحيث لو سئل عن جواز الترك لأجاب بعدمه والطلب يكشف عنها لا نحو كشف
اللفظ عن المعنى، بل نحو كشف المعلول عن العلة بحيث لو علم المكلف بالإرادة
الكذائية من المولى بغير الطلب الكاشف أيضا لكان غير معذور في ترك المراد
ومستحقا للعقوبة بحكم العقلاء.
والفرق بين الوجهين أن تمام الموضوع لجواز الاستحقاق هو الطلب بنفسه
على الأول، وعليته وهي الإرادة الواقعية على الثاني.
هذا كله في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات فالموضوع له هو الطلب مطلقا.
ومن هنا أنه عند الشك في المقارنة وعدمها يحكم بالاستحقاق على
الوجهين ولا اعتماد على احتمال مقارنته بالاذن في الترك، لوجود الموضوع

(1) جواب عن التعريف الثاني.
(2) تشبيه للمنفي في الموضعين.
(3) وهو كونه بالمرتبة بالقسم الرابع منها، وهو كون التفاوت بالذات كالكمال والنقص.
40

عنده أيضا كما يعلم، بالمراجعة إلى حال الموالي بالنسبة إلى العبيد.
ثم لا يخفى أنه لا يكون هذا الكشف بالدلالة اللفظية - بمعنى أن صيغة (افعل)
مثلا تدل على أن منشأ الاستحقاق يكون طلبا كذائيا كما هو المتراءى من الكفاية،
من أنه بالوضع أو بالاطلاق، ومن أن الصيغة مثلا تدل على الطلب المتقيد بالإرادة
النفسانية وضعا أو إطلاقا لعدم (1) الدليل على إثبات هذا المعنى لها.
مضافا إلى ما فيه (أولا) من أن الإرادة لا تكون قابلة للانشاء كما أشرنا إليه
في بحث الطلب والإرادة.
و (ثانيا) أن الإرادة النفسانية تكون علة لانشاء الطلب، والمعلول لا يمكن أن
يتقيد بعلته، ضرورة لزوم تقدم العلة على معلولها رتبة، والمتقدم بمرتبة لا يمكن
أن يكون قيدا للمتأخر عنه بتلك الرتبة فإن وجود القيد لو لم يكن متأخرا عن
المقيد فلا أقل من لزوم تقارن وجودهما.
نعم، يمكن أن يستفاد الموضوع (2) من الأصل. توضيحه: أنه إذا قال المولى:
اضرب (فتارة) يشك في أن صدوره كان لمعنى أم لا؟ فالأصل يقتضي الأول.
(وأخرى) في الإرادة الجدية أو كانت استهزاء فهو أيضا يقتضي الأول. (وثالثة)
دلالة لفظة (اضرب) على معناها الحقيقي أو المجازي - وهو الضرب مثلا - فهنا
تجري أصالة الحقيقة، ومعلوم أن مدلول اللفظ منحصر في الثالث دون واحد من
الأولين ضرورة عدم دلالة اللفظ على صدوره لمعنى أو عن جد وإرادة.
فانقدح بذلك أن منشأ حكم العقلاء باستحقاق العبد العقوبة لا يكون بدلالة.
لفظية، بل بالأصل العقلي، ولا يحتاج إلى دليل وبيان أو إقامة برهان بل يكون
الحكم المذكور ناشئا من نفس الطلب.

(1) تعليل للنفي المذكور بقوله مد ظله: لا يكون هذا الكشف... الخ، يعني عدم كون الكشف
بالدلالة اللفظية لأجل عدم الدليل.
(2) أي الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العبد العقوبة.
41

ويؤيده أيضا قوله تعالى مخاطبا لإبليس لعنه الله: ما منعك أن لا تسجد إذ
أمرتك بعد قوله تعالى: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا
إبليس (1).
ولا فرق فيما ذكرنا بين الطلب المستفاد من لفظه أو مادة الامر أو صيغة
(افعل) أو غمز وإشارة، أو من الجملة الخبرية المراد بها الطلب، فإن الحكم
المذكور للإرادة النفسانية بأي شئ انكشفت أو للطلب الغير المقارن للاذن في
الترك كما تقدم، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أن الحكم المذكور لا يكون لمطلق الطلب الصادر من أي
شخص بالنسبة إلى أي أمر، بل الطلب الصادر ممن له حق الأولوية لحكم العقل
والعقلاء على المكلف بالنسبة إلى الأوامر المولوية كأوامر الله تعالى كافة وأوامر
الرسول صلى الله عليه وآله، وأولي الامر الذين أمر الله بطاعتهم، لا مطلقا، بل من حيث إن
أمرهم عليهم السلام من قبل الله ورسوله صلى الله عليه وآله.
قال الله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم (2).
نعم، ما ذكرنا من أنه لا فرق بين أنحاء الطلب إنما هو بالنسبة إلى نفس الطلب.
وأما بالنسبة إلى المتكلم فقد يقال بالفرق بين الطلب المستفاد من الصيغة
والمستفاد من مادة الامر والطلب بأنه (3) في الثاني متصور مع المطلوب دون
الأول.
ووجهه أن الطلب لكثرة توجه الامر إلى المطلوب مندك وفان في المطلوب،
كأن الطالب لا يرى ألا المطلوب، وإن كان مع التوجه والالتفات يتصوره أيضا،
مثلا قولنا: اضرب زيدا - مع قطع النظر عن التفات المتكلم إلى هذا الكلام - يدل
على مطلوبية وقوع الضرب على زيد، ولذا صرح بعضهم بعدم دلالته على الطلب

(1) الأعراف: 11 و 12.
(2) النساء: 59.
(3) بيان للفرق.
42

أصلا.
ولكنه مدفوع بعدم إمكان القول بذلك، إذ المقصود من قولنا: اضرب مثلا إما
تصور المخاطب ضرب زيد أو تصديقه بذلك، إذ الكلام لا يخلو عنهما، فحيث لا
يكون شئ منهما قطعا، يتعين قصد ايجاد الطلب، وهذا بخلافه في الثاني (1) فإن
نفس الطلب متصور أيضا بقوله: آمرك، أو أطلب منك، فإن استعمال الصيغة في
معنى يستلزم تصور مادتها وإلا كان ساهيا، والمفروض أن المادة هي للطلب أو
الامر.
تنبيه
حكي عن صاحب المعالم (2) عليه الرحمة أنه - بعد اختيار أن الامر حقيقة في
الوجوب مجاز في الندب - قال ما محصله: إن كثرة استعمال الامر في الندب
المستفادة من تضاعيف أخبارنا المروية عن الأئمة عليهم السلام بلغت إلى حيث صار
من المجازات الراجحة استعمالا، المساوي احتمالها لاستعمال الوجوب،
فيشكل التعلق بالاخبار بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام لاثبات الوجوب.
وأجاب في الكفاية (3) - بعد منه اختصاص الكثرة بالندب بل استعمالها في

(1) يعني بناء على الطلب المستفاد من مادة الامر أو الطلب.
(2) عبارة المعالم هكذا: (فائدة) يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم
الصلاة والسلام أن استعمال صيغة الامر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من
المجازات الراجحة، المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح
الخارجي فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام (انتهى).
عبارة الكفاية - بعد اختياره فيها كونه حقيقة في الوجوب دون الندب - هكذا: وكثرة
الاستعمال فيه (أي الندب) في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حمله عليه
لكثرة استعماله في الوجوب أيضا، مع أن الاستعمال وإن كثر فيه إلا أنه كان مع القرينة
المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه
43

الوجوب أيضا كثير، وأنه فيه مع القرينة ولو كانت هي الشهرة، فلا يحمل عليه عند
التجرد -: بأن كثرة الاستعمال لا توجب انصراف اللفظ إلى المعنى المجازي كما
في استعمال العام في الخاص كثيرا، بل استعماله فيه أكثر من استعمال الصيغة،
حتى قيل: ما من عام إلا وقد خص، ومع ذلك لا يحمل على الخاص عند التجريد
عن القرينة.
أقول: وأنت خبير بما فيه، فإن كثرة استعماله في الوجوب (1) مثل الندب
معلوم العدم.
والندب (2) لا يستفاد من اللفظ والقرينة معا حتى لا يدل اللفظ عند التجريد
عليه، بل هي تدل على أن المراد منه هو ذاك المعنى المجازي مثلا، فاللفظ وحده
استعمل في الندب دونه مع القرينة.
ودعوى أن انس الذهن من هذا اللفظ بهذا المعنى بالقرينة بلغ إلى تلك المرتبة
المذكورة الموجبة للتوقف كما ذكره المعالم.
واما النقص (3) باستعمال العالم في الخاص ففيه: (أولا) أن العام بما هو عام لا
يستعمل في الخاص بما هو خاص حتى يكون مجازا، بل العام في موارد
التخصيص استعمل في الخصوص لبا وإرادة العموم منه استعمالية لا جدية كما هو
الحق على التحقيق، فيستكشف بالقرينة أن المتكلم لم يرد من الأول الا الباقي فلا
يكون مجازا أصلا.

ليرجح أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور، كيف وقد كثر استعمال العام في الخاص
حتى قيل: ما من عام الا قد خص، ولم ينثلم به ظهوره في العموم بل يحمل علية ما لم تقم
قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص. (الكفاية: ج 1 ص 103 - 104).
(1) إشارة إلى منع الصغرى، أعني كثرة استعمال الصيغة في الوجوب أيضا على حد استعماله
في الندب.
(2) إشارة إلى منع كون الاستعمال في الوجوب مع القرينة ولو كانت هي الشهرة.
(3) إشارة إلى منع كون استعماله في الوجوب أكثر من استعماله في الندب.
44

(وثانيا) بعد تسليم كون استعماله فيه مجازا أن عنوان الخاص ليس شيئا معينا
ضرورة أنه قد يكون زيدا وقد يكون عمرا وقد يكونان معا، غاية الامر يصدق
على الصور الثلاث بالحمل الشايع الصناعي أنه خاص، ومعلوم أن الحقيقة
والمجاز تابعان للعموم والخصوص المصداقيين لا المفهوميين، كما لا يخفى.
فالأحسن في الجواب أن يقال: حيث ذكرنا أن الطلب - سواء كان مستفادا
من اللفظ أو غيره، وسواء كان بالجملة الانشائية أو الخبرية - يتحصل إيجابا إما
بنفسه وإما بالإرادة النفسانية المكشوفة بالطلب الغير القابلة للانشاء، بمجرد
وجوده غير مقارن وجودا بالاذن في الترك إذا صدر ممن له حق المولوية على
المخاطب فيحمل على الايجاب إذا صدر على النحو المزبور.
نعم هنا كلام آخر
وهو أن الأوامر الواردة عن الأئمة عليهم السلام في بيان الاحكام لا تحمل على
الوجوب المولوي غالبا، بل تحمل على الارشاد.
توضيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام (تارة) يأمرون بما أنهم عليهم السلام
مخبرون عن الله تعالى، (وأخرى) بما هم عليه السلام سلاطين ولهم سلطان على الناس،
المجعول لهم من قبل الله تعالى كما في أمر الرسول صلى الله عليه وآله في بعض الغزوات عبد
الله بن جبير وجماعة باستقرارهم عند فم الجبل الفلاني مثلا إلى الوقت المعلوم
مثلا.
فإنه صلى الله عليه وآله بما أن له سلطانا أمرهم بكذا لا بما أنه مخبر عن الله تعالى.
والامر على النحو الأول لا يكون مولويا حتى يكون في مخالفته عقاب، فلا
يترتب على مخالفته أو موافقته عقاب أو ثواب.
ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله - في جواب بريرة الذي أمره بالرجوع إلى زوجته وسؤاله
بقوله: أتأمرني يا رسول الله؟ -: لا، بل أنا شافع.
45

فهذا القسم نظير أوامر المفتي للمقلد أو الواعظ للمتعظ المستمع. فحينئذ
يشكل التمسك بالأخبار الواردة في بيان الاحكام، لاثبات (1) الوجوب المولوي
وترتب آثاره من الفسق أو استحقاق العقاب بمجرد مخالفته.
وبعبارة أخرى: الأوامر الصادرة على ثلاثة أقسام:
(الأول) ما يكون نظير أوامر الطبيب للمرضى بالنسبة إلى الأمور البدنية،
وهذا لا يكون في مخالفته إلا المفسدة المترتبة على نفس المخالفة.
(الثاني) ما يكون نظير أوامر المفتي والواعظ للمقلد والمتعظ المستمع، وهذا
لا يكون فيه غير مخالفة الواقع مخالفة أخرى.
(الثالث) ما يكون نظير أوامر الملوك والسلاطين لرعيتهم، وهذا القسم يكون
في مخالفته عقاب آخر غير العقاب المترتب على نفس الواقع وهو المراد من قوله
تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم (2).
ولذا قال علماء الأصول: النهي عن عبادة أو معاملة على وجه خاص يدل
على الفساد، بل يمكن أن يقال: بدلالة مطلق النهي والامر على الفساد والصلاح،
فأن كان محفوفا بقرينة تدل على الكراهة أو الندب فبها، وإلا يحمل على الحرمة
أو الوجوب.
في تقسيم المأمور به
(فمنها) تقسيمه إلى التعبدي والتوصلي، ولا بد من بيان معناها.
اعلم أن لهما تعاريف (فمنها) أن التعبدي ما لم يعلم الغرض منه، والتوصلي ما
يعلم الغرض منه. (ومنها) غير ذلك ولا يهمنا ذكره.
والعبارة الجامعة له أن التعبدي ما يؤتى على نحو يكون صالحا لان يقال: أنه

(1) متعلق بقوله قدس سره: (التمسك).
(2) النساء: 59.
46

أتاه لله سبحانه مطلقا، سواء كان لعظمته، أو خوفا منه، أو طمعا لأنعامه، أو له
خالصا، أو وجده أهلا للعبادة، علم الغرض أم لا.
والثاني ما كان مطلق وجوده كافيا في الامتثال.
وبعبارة أخرى: هما يشتركان في كون إتيانهما معلولا عن أمر الامر.
ويفترقان في أن (الأول) يعتبر في إتيانه كونه معلولا عن الامر وأنه هو
الداعي. وفي (الثاني) لا يعتبر إلا وجود المأمور به بأي وجه اتفق، سواء كان عن
غفلة أو إرادة أم لا، وسواء كانت الإرادة له تعالى ولأجل غرضه سبحانه أم لغيره
من الدواعي النفسانية.
ثم هل يعتبر في الأول كونه مأمورا به من قبل الشارع أم لا؟ بل كل ما وجده
العقل لائقا لساحة قدسه تعالى يصح أن يؤتى له تعالى ويحصل القرب بذلك، غاية
الامر أمر الشارع بل إذنه يكون موجبا لاحراز كونه مقربا؟
الظاهر الثاني، لما ذكرنا من عدم دليل معتبر على اشتراط كون المقرب مما أمر
به الشارع. نعم، يعتبر مما وجده العقل أن يكون لائقا لشأن المولى ولا إشكال فيه.
إنما الاشكال والخلاف في أن داعي الامر هل يمكن أن يؤخذ في موضوع
الامر شرعا أم لا؟ لم أجد في كلمات من تقدم على الشيخ الأنصاري أعلى الله
مقامه تعرضا لهذا العنوان. نعم، عنونه هو أعلى الله مقامه على ما يستفاد من تقرير
بعض مقرري بحثه مدعيا عدم إمكان أخذ داعي الامر شرعا في المأمور به ولزوم
كونه من قيود المأمور به عقلا.
وأرسله تلامذته وتلامذة تلامذته إرسال المسلمات.
بيانه (1): أن مأخوذية داعي الامر في المأمور به لا يتأتى إلا بعد الامر به
ليكون داعيه جزء منه، والمفروض أن الامر تعلق بالذي داعي الامر جزئه، وهو

(1) هذا حاصل ما أفاده السيد الأستاذ الأكرم مد ظله العالي على ما هو ببالي عاجلا، اللهم
اغفر لنا إن نسينا أو أخطأنا.
47

محال.
وقد اختلف تلامذة الشيخ أعلى الله مقامه وتلامذة تلامذته في تقرير
الاشكال على وجهين:
الأول: تقريره على نحو استلزامه للمحال من طرف الشارع.
الثاني: تقريره على نحو استلزامه للمحال من قبل إتيان المأمور به.
والأولون قرروه على أنحاء: (منها) أن الامر حكم، والمأمور به موضوع، ولا
بد من تقدم الموضوع على الحكم بتمام أجزائه التي من جملتها داعي الامر،
فالامر يتوقف على وجود ذات المأمور به، وهو يتوقف على الامر به ليكون داعي
الامر جزء منه، وهو محال.
(ومنها) أن مقدورية المأمور به من الشرائط المعتبرة عند الامر وكونه مقدورا
يكون يتوقف على الامر به، وهو دور محال.
(ومنها) أن الحكم أمر نسبي رابطي، فلحاظه آلي كمعاني الحروف على القول
به، وتصور المأمور به كتصور المعاني الإسمية، فلحاظه استقلالي، فلو كان داعي
الامر جزء من المأمور به شرعا لزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي، وهو
محال.
وحاصل ما قرره الآخرون على نحو استلزامه للدور من طرف إتيان المأمور
به أن الامر لا بد أن يكون داعيا إلى اتيان ما هو المأمور به، وإتيان المأمور به
الذي داعي الامر جزء منه لا يمكن بهذا الامر الذي يكون محصلا لداعي الامر
كما لا يخفى.
وحاصل ما ذكره في الكفاية (1) أنه لو كان معنى قصد التقرب بأحد هذه الأمور

(1) عبارة الكفاية هكذا: (المبحث الخامس) ان اطلاق الصيغة هل يقتضى كون الوجوب
توصيليا فيجزى إتيان مطلقا ولو بدون قصد القربة أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في
48

إما إتيان الفعل بداعي المحبوبية أو داعي الحسن، أو لإرادته تعالى فلا يمكن.
بيانه من وجهين: (أحدهما) ما ملخصه: أن غرض الامر يسقط إذا كان المأتي
به منطبقا على ما هو عنوان المأمور به، وانطباقه عليه متوقف على إتيانه بداعي
الامر، والمفروض أن داعي الامر مأخوذ فيه فيلزم الدور وهو محال.
(ثانيهما) ان الامر لا يدعو إلا إلى ما هو متعلقه، والمفروض أن متعلقه الفعل
بداعي الامر (أو مع داعي الامر).
وبعبارة أخرى: الامر داع إلى فعل المدعو الذي منه داعي الامر، وهذا الداعي
أيضا يدعو إلى متعلقه، فإما أن يكون متعلقه ذات العمل بدونه أو معه، والأول هو
المطلوب، والثاني أيضا يدعو إلى متعلقه - أعني المدعو - بداعي الامر الذي
يدعو إلى فعل المدعو بداعي الامر، وهكذا إلى أن يصل إلى ما لا نهاية له فيلزم
التسلسل وقد تقرر في محله أن التسلسل محال.
أقول: إن التقرير الأول - وهو الدور - يرجع إلى أن الداعي يتوقف على
الداعي لان انطباقه على المأمور به ليس شيئا مستقلا حتى يتوقف عليها الاتيان

تعبديته وتوصليته إلى الأصل لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات (إلى أن قال:) ثانيها:
أن التقرب المعتبر في التعبدي إن كان بمعنى قصد الامتثال والاتيان بالواجب بداعي امره
كان مما يعتبر في الطاعة عقلا، لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا، وذلك لاستحالة أخذ ما لا
يكاد يتأتى إلا من قبل الامر بشئ في متعلق ذاك الامر مطلقا شرطا أو شطرا، فما لم تكن
نفس الصلاة متعلقة للامر لا يكاد يمكن اتيانها بقصد امتثال أمرها.
وتوهم إمكان تعلق الامر بفعل الصلاة بداعي الامر وإمكان الاتيان بها بهذا الداعي
- ضرورة إمكان تصور الامر بها مقيدة - والتمكن من إتيانها كذلك بعد تعلق الامر بها،
والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الامر إنما هو في حال الامتثال لا حال الامر
واضح الفساد ضرورة أنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من الامكان إلا أنه لا يكاد يمكن
الاتيان بها بداعي أمرها لعدم الامر بها، فإن الامر حسب الفرض تعلق بها مقيدة بداعي
الامر، ولا يكاد يدعو الامر إلا إلى ما تعلق به لا إلى غيره. انتهى موضع الحاجة من كلامه
زيد في علو مقامه. (الكفاية: ج 1 ص 107 - 109).
49

بداعي الامر كما لا يخفى.
ثم (1) إن الداعي إلى كل شئ موصوف لا بد أن يدعو إلى ذات الشئ حال
اتصافه بهذا الوصف مع قطع النظر عن هذا الداعي، فالامر الداعي إلى الصلاة
المأمور بها مثلا يدعو إليها مع اتصافها بكونها مأمورا بها مع قطع النظر عن هذا
الامر، وكذا داعوية هذا الامر إلى إتيان الفعل بقصد المحبوبية أو بداعي حسنه أو
لإرادته تعالى متوقفة على اتصافه بهذا الامر قبل تعلق الامر.
فحينئذ لا فرق في لزوم المحال بين كون معنى قصد القربة إتيان الفعل بداعي
الامر أو بداعي حسنه، أو بداعي المحبوبية، أو لإرادته تعالى.
فما في الكفاية (2) من التفصيل بينه وبينها غير وجيه، بل الاشكال على الثاني
أشد، لامكان أن يقال - على الأول -: إن الشارع جعل المحصل للغرض أعم من
المأمور به، بمعنى أن المأمور ذات العمل، وما هو المحصل هو مع القصد.
ولا يصح ادعاء ذلك في باقي الوجوه المذكورة، فإنه لا معنى لتعلق الامر
بأعم من المحبوبية أو مما قصد حسنه، أو مما أراده تعالى.
وأما لزوم المحال من طرف الامر بأحد الامر الوجوه الثلاثة المذكورة فيرد على
الأول أن توقف الحكم على وجود الموضوع يكفي وجوده الذهني، ووجوده في
الخارج يتوقف على الامر في الخارج لا في الذهن، فلا دور. وعلى الثاني أن

(1) هذا تقرير آخر لسيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله العالي لعدم جواز أخذ قصد القربة في
متعلق الامر بأي معنى كان.
(2) فإنه أعلى الله مقامه - بعد بيان استحالة أخذه في متعلق الامر - قال: هذا كله إذا كان التقرب
المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال، وأما إذا كان بمعنى الاتيان بالفعل بداعي حسنه أو
كونه ذا مصلحة أوله تعالى فاعتباره في متعلق الامر وإن كان بمكان من الامكان إلا أنه غير
معتبر فيه قطعا لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة،
تأمل فيما ذكرناه في المقام تعرف حقيقة المرام كي لا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض
الاعلام. (الكفاية: ج 1 ص 112).
50

مقدورية الفعل تعتبر في زمان إتيان الفعل لا زمان الامر. وعلى الثالث أن اجتماع
اللحاظين محال في صورة وحدة اللحاظ دون تعدده، كما في المقام فإن آن لحاظ
الامر غير آن لحاظ المأمور به هذا.
ولما قام الاجماع بل الضرورة الفقهية على اعتبار قصد التقرب في العباديات
وقع العلماء المتأخرون عن الشيخ الأنصاري قدس الله أسرارهم في حيص وبيص
عن دفع هذا الاشكال الذي تفطن به الشيخ قدس سره، وأجابوا بأجوبة لا تخلو أكثرها
عن إشكال وتأمل.
وحاصل ما قالوا أو يمكن أن يقال أمور خمسة أو ستة:
(الأول) ما أجاب به الشيخ قدس سره بالقول بتعدد الامر، تعلق أحد الامرين بنفس
العمل والاخر به مع داعي أمره فيتمكن من إتيان المأمور به بالامر الثاني.
وقد أورد عليه - بعد دعوى الاجماع على عدم التعدد في العباديات - بأنه إن
فرض سقوط الامر بإتيان المأمور به الأول مجردا عن داعي الامر، فلا حاجة إلى
الامر الثاني، والا فلا ينفع الأول أيضا كما لا يخفى.
(الثاني) ما أجاب به في الكفاية (1) - كما أشرنا إليه - من أنه يمكن تعلق الامر
بنفس العمل، ولما كان الغرض لا يحصل إلا بإتيانه مع الداعي كان المحصل
للغرض أعم من المأمور به، غاية الامر نبه الشارع على أن الغرض لا يحصل إلا
بتقارن إتيان المأمور به مع الداعي. وبالجملة هو شرط عقلي كشف عنه الشرع
العالم بالواقعيات.
وفيه: أن لازم ذلك عدم صلاحية ذات المأمور به في جميع العباديات للتقرب
أصلا، بل كان ضم الداعي إلى ذات المأمور به كضم الحجر بجنب الانسان، وهو
كما ترى.

(1) تقدم آنفا نقل عبارة الكفاية، فراجع.
51

(الثالث) ما يستفاد من درر الحائري رحمه الله (1). وحاصله: أن العبادية في
العباديات لا يتوقف على قصد الامر بالخصوص حتى يلزم الدور أو التسلسل، بل
يمكن أن يكتفي فيها بقصد عناوين هذه العبادات، مثلا أن يأتي بالتكبير والقراءة
والركوع والسجود والتشهد والسلام مثلا بقصد تحقق عنوان الصلاة ولا يحتاج مع
ذلك إلى إتيان هذا العنوان بداعي الامر، بل يكفي حسنه الذاتي للأشياء
المنكشف بها بتصريح الشارع أمرا أو إذنا أو بيانا ولو لم تدركه العقول الجزئية ولم
تصدقه.
وفيه - مضافا إلى أن معنى العناوين القصدية إيجاد نفس العمل قاصدا
إيقاعها كالانشاءات، لا بمعنى إتيانها بقصد تحققها، وإلا يلزم الدور ضرورة توقف
كون العمل مثلا معنونا بعنوان التعظيم للمولى على قصده يتوقف على أنه تعظيم مع

(1) المؤسس للحوزة المقدسة العلمية ببلدة قم صانها الله عن التهاجم والتصادم، المتوفى سنة
1355 ه‍ ق، والمناسب نقل عبارة الدرر قال: لا إشكال في أن ذوات الافعال والأقوال
الصلاتية مثلا من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعا، ولكن من الممكن
كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع
والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوبا للامر، غاية الامر أن الانسان لقصور
إدراكه لا يدرك أن صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عز شأنه،
ويكون التفاته موقوفا على إعلام الله سبحانه، فلو فرض تمامية العقل واحتوائه بجميع
الخصوصيات والجهات لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.
والحاصل: أن العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثنائه بما
يستحق ويليق به. ومن الواضح أن محققات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد، فقد
يكون تعظيم شخص بأن يسلم عليه وقد يكون بتقبيل يده، وقد يكون بالحضور في مجلسه،
وقد يكون بمجرد إذنه بأن يحضر في مجلسك أو يجلس عندك، إلى غير ذلك من
الاختلافات الناشئة من خصوصيات المعظم - بالكسر - والمعظم - بالفتح -.
ولما كان المكلف لا طريق له إلى استكشاف أن المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى
ما هو إلا بإعلامه تعالى لا بد أن يعلمه أولا ما يتحقق به تعظيمه ثم يأمره به، وليس هذا
المعنى مما يتوقف تحققه على قصد الامر حتى يلزم محذور الدور. انتهى موضع الحاجة من
كلامه رفع مقامه. (درر الفوائد: ص 96 طبع مؤسسة النشر الاسلامي - قم).
52

قطع النظر عن هذا القصد، فلو كان تعنونه بعنوان التعظيم بهذا القصد لزم الدور كما
هو واضح -:
أنه التزام بالاشكال، فإنه بعد تحقق العنوان إن لم يعتبر قصد القربة، فهو خلاف
الاجماع، بل الضرورة كما قلنا وإن اعتبر الدور فإن كون هذا العنوان مقربا يتوقف
على إتيانه بداعي الامر، وإتيانه بداعي الامر يتوقف على كونه مقربا كما هو
واضح.
(الرابع) ما في الدرر أيضا (1) وحاصله: أن كون شئ عبادة يتصور أحد أمور

(1) عبارة صاحب الدرر هكذا: ويمكن أن يقال بوجه آخر، وهو أن ذوات الافعال مقيدة بعدم
صدورها عن الدواعي النفسانية محبوبة عند المولى. وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات
ثلاث:
إحداها: أن المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث
يكون الفعل مستندا إلى خصوص أمره، وهذا معنى بسيط يتحقق في الخارج بأمرين
(أحدهما) جعل الامر داعيا لنفسه (والثاني) صرف الدواعي النفسانية عن نفسه، ويمكن أن
يكون المعتبر إتيان الفعل خاليا عن سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الامر بحيث يكون
المطلوب المركب منهما والظاهر هو الثاني لأنه أنسب بالاخلاص المعتبر في العبادات.
الثانية: أن الامر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير وأخرى يكون غيريا.
مثال الأول الامر بالغسل قبل الفجر على احتمال، فإن الامر متعلق بالغسل قبل الامر
بالصوم فليس هذا الامر معلولا لأمر آخر إلا أن الامر به إنما يكون لمراعاة حصول الغير في
زمانه. والثاني، الأوامر الغيرية المسببة من الأوامر المتعلقة بالعناوين المطلقة نفسا.
الثالثة: أنه لا إشكال في أن القدرة شرط في تعلق الامر بالمكلف، ولكن هل يشترط
ثبوت القدرة سابقا على الامر ولو رتبة أو يكفي حصول القدرة ولو بنفس الامر؟ الأقوى
الأخير، لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلف العبد بفعل يعلم بأنه يقدر عليه بنفس الامر.
إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وثبوت الداعي الإلهي الذي
يكون موردا للمصلحة الواقعية، وإن لم يكن قابلا لتعلق الامر به بملاحظة الجزء الأخير
للزوم الدور، أما من دون ضم القيد الأخير فلا مانع منه.
ولا يرد أن هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاد يتصف
53

ثلاثة:
أحدها: إتيانه بداعي الامر.
ثانيها: إتيانه به مع كونه غير مقترن بالدواعي النفسانية.
ثالثها: إتيانه غير مقترن بالدواعي النفسانية.
ولما كان في الأولين محذور لزوم الدور أو التسلسل يمكن أن يؤخذ على
النحو الثالث، ويلزمه الأولان أيضا، لان إتيان الفعل حال عدم الدواعي النفسانية
مساوق لاتيانه مع داعي الامر، فداعي الامر ما اخذ في متعلق الامر، بل اخذ عدم ما هو ملازم وجودا لوجوده، فلا إشكال كما إذا قيل: أكرم الضاحك فيلازمه الامر
بإكرام الانسان.
وفيه: أن الاجماع أو الضرورة قام على اعتبار قصد التقرب في العبادات لا
على عدم كونها غير مقترن بالدواعي النفسانية وما لا دليل على اعتباره لا يمكن
أن يؤخذ في متعلق الامر، سيما في العبادات التي هي توقيفية ويكتفى في أجزائها
على إذن الشارع.
(الخامس) أن الامر بالكل يكفي كونه داعيا إلى أجزائه التي من جملتها

بالمطلوبية، فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها
قوام المصلحة
لأنا نقول: عرفت أنه قد يتعلق الطلب بما هو لا يكون مطلوبا في حد ذاته بل يكون تعلق
الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير، والفعل المقيد بعدم الواعي النفسانية وإن لم يكن تمام
المطلوب النفسي مفهوما، لكن لما لم يوجد في الخارج الا بداعي الامر لعدم إمكان خلو
الفاعل المختار عن كل داع تصح تعلق الطلب به لأنه يتحد في الخارج مع ما هو مطلوب
حقيقة، كم أو كان المطلوب الأصلي إكرام الانسان فإنه لا شبهة في جواز الامر بإكرام الناطق
لأنه لا يوجد في الخارج إلا متحدا مع الانسان الذي إكرامه مطلوب أصلي، وكيف كان فهذا
الامر ليس أمرا صوريا بل هو أمر حقيقي وطلب واقعي لكون متعلقه متحدا في الخارج مع
المطلوب الأصلي، انتهى موضوع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه (درر الفوائد: ص
97 - 98 طبع مؤسسة النشر الاسلامي - قم).
54

داعي الامر، فإن الامر المتعلق بما له أجزاء وشرائط ومقدمات أمر واحد لا تعدد
فيه بتعددها ولا يتقرب العبد بإتيانها إلا مع إتيان ذيها، لان التقرب إنما يحصل
بإتيان المأمور به بقصد امتثال أمر المولى، والمفروض أنه لا أمر مولويا بالنسبة
إلى المقدمات ليأتي بها بقصد الامتثال كما لا يخفى.
فالتحقيق أن يقال: إن مأخوذية شئ في شئ يمكن أن يكون بأحد الوجوه
الثلاثة:
الأول: بنحو الجزئية، بأن يكون قصد التقرب مثلا مع سائر الأفعال مجموعا
متعلقا للامر.
الثاني: بنحو القيدية، مثل أن تكون الصلاة المقيدة بالطهارة نحو خروج القيد
ودخول التقيد متعلقة للامر. والمراد من خروج القيد خروجه عن الاعتبار، وإلا
فهو في الحقيقة داخل في المأمور به، بل التقيد عين القيد كما لا يخفى.
الثالث: بنحو الشرطية وإرجاع الشرائط الشرعية إلى العقلية، بمعنى أن كل ما
جعله الشارع شرطا فهو دخيل في إيجاد المشروط على ما هو عليه لبا وفي نفس
الامر. غاية الامر لما لم تدركه العقول الجزئية كشف عنه الشرع الذي بيده ملكوت
كل شئ، وقصد التقرب يمكن أخذه بأحد هذه الوجوه الثلاثة.
والاشكال على الوجه الأول - أعني أخذه بنحو الجزئية - بأن من شرائط تعلق الامر بالمركب كونه بتمام أجزائه مقدورا اختياريا وداعي الامر لا يكون
اختياريا، وإلا لزم التسلسل، فلا يمكن تعلق الامر بالمركب مدفوع أولا: بالنقض
بكونه دخيلا في حصول الغرض الذي هو مسلم عند المستشكل فإنه لا فرق في
الشرط المذكور بين كون الشئ متعلقا للامر أو كونه دخيلا في حصول الغرض،
فكما يمكن الثاني باعترافه فكذا الأول.
وثانيا: منع لزوم كون الإرادة بالإرادة أيضا، فإن الافعال وإن كان كلها
بالإرادة لكن الإرادة موجودة بنفسها كما لا يخفى.
55

وكذا الاشكال على الوجه الثاني - أعني كونها مأخوذة بنحو القيدية - بأنه
على تقدير كونه قيدا للمأمور به لا يمكن أيضا الاتيان بذات المقيد، فإن ذات
المقيد لا يتعلق به أمر، والمقيد مع قيده لا يمكن إتيانه بالفرض، فلا يكون الامر
داعيا إليه مدفوع أيضا بما ذكرنا من أنه يكفي تعلقه بالكل، وكون الامر داعيا إلى
الكل. وبعبارة أخرى: تعلق الامر بالمطلق يكفي في ظرف وجود المقيد.
والحاصل: أنه يدعو إلى متعلقه والى كل ما هو دخيل في تحقق المأمور به
مطلقا سواء كان من الاجزاء أو المقدمات، وهي وإن كانت معدومة قبل تعلق الامر
إلا أن الامر يدعو إلى ايجادها بأسرها وإن كان بعض المقدمات موجودا، كما في
ما نحن فيه، فالامر يدعو إلى الباقي.
وبعبارة أخرى: الداعي للموافقة هي الصفات الكامنة في نفس المأمور
بحسب المراتب المختلفة في العبيد، من مثل حبه بالمولى، أو تجلي عظمته له، أو
خوفه من عقابه، أو طمعه في ثوابه، فيكون أمر المولى موضوعا لهذه المراتب
ومحركا لفعليتها بعد ما كانت موجودة شأنا، فإذا كان بعض المأمور به عين
الداعي المفروض وجوده فالامر لا يكون محركا إلا نحو البقية التي إذا انضمت إليه
يتحقق المأمور به بالأسر، تأمل تعرف.
(السادس) أنه يمكن أن يقال: إن ما يكون في نفس العبد من قصد موافقة
الامر سبب لتحقق قصد إيجاد عنوان المأمور به، مثل الصلاة مثلا، وإيجاد هذا X،
العنوان يتوقف على إتيان جميع ما له دخل في وجوده الذي منه داعي الامر
المفروض وجوده، فاندفع الدور، فإن تحقق العنوان يتوقف على أشياء منها
الداعي الموجود، ووجوده لا يتوقف على تحققه ليدور، فإنه بنفسه موجود كما هو
المفروض.
تنبيه
إعلم أن ثمرة النزاع التي رتبها في الكفاية (1) - من أنه بناء على إمكان أخذ

(1) الظاهر إنه نظره مد ظله إلى ما ذكر في الكفاية بما هذه عبارته:
56

الداعي يمكن التمسك بالاطلاق عند الشك ويجري البراءة عند عدم اجتماع
شرائط الاطلاق، وأما بناء على عدم إمكانه فلا مجال لواحد منهما لكونه غير
مجعول ليكون قابلا للرفع والوضع - غير جارية كما سأنبه عليه إن شاء الله تعالى
في موضعهما.
تذنيب
لا دلالة للامر على المرة، سواء كانت بمعنى الفرد أو الدفعة، وسواء كان الزائد
على المرة بكلا المعنيين امتثالا أم لا.
ولا على التكرار، سواء كان المراد أول مراتبه، وهو الفردان أو الدفعتان على
اختلاف معنى المرة، أم أكثر مراتبه بمعنى إتيانه ما دام مقدورا.
بل يدل على طلب الطبيعة التي تتحقق بأول فرد من الافراد، ولا إشكال في
عدم كون الفرد الثاني امتثالا أيضا لسقوط الامر بالأول، فلا يعقل ثانيا.
وهل تعد الافراد المأتي به دفعة امتثالا متعددا أم واحدا أو هو تابع لقصد
الممتثل؟ وجوه أقواها الأول.
ووجه الثاني أن المميزات الفردية والخصوصيات لا دخل لها في تحققه، بل
هر كالحجر المنضم بجنب الانسان، فبعد إلغائها تبقى الطبيعة، وهي واحدة لا تعدد فيها.

ثم إنه لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار وإن كان
قضية الاشتغال عقلا هو الاعتبار لوضوح أنه لا بد في عمومها من شئ قابل للرفع والوضع
شرعا وليس هاهنا، فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي بل واقعي،
ودخل الجزء والشرط فيه وإن كان كذلك الا انهما قابلان للوضع والرفع شرعا، فبدليل الرفع
- ولو كان أصلا - يكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك يجب الخروج عن
عهدته عقلا بخلاف المقام فإنه علم بثبوت الامر الفعلي كما عرفت، فافهم. (ج 1 ص 114
- 116).
57

وفيه: أنه وإن كان كذلك إلا أنها موجبة لتعدد الطبائع الموجودة في الخارج.
وبالجملة: ليس متعلق الامر، الجامع بين الافراد في صورة إتيان المتعدد، بل كل
واحد من الافراد التي تكون الطبيعة موجودة في ضمنه.
وقصد المأمور لا دخل له في الوحدة والتعدد، فلا وجه للثالث فيتعين الأول،
ولا دلالة لها أيضا على الفور ولا على التراخي بالبيان المذكور.
كما أن وقوعه عقيب الحظر لا يدل على الإباحة، ولا على الندب، ولا على
الوجوب، بل يلزم على المجتهد التفحص في موارد الاستعمال واستفادة كل واحد
من الأمور المذكورة من دليل آخر.
فصل في الاجزاء
واعلم أن هاهنا مقامين: (الأول) في شرح ألفاظ مورد النزاع. (والثاني) في
تحقيق المقام.
(أما الأول) فاعلم أنه تارة يعبر أن الامر هل يقتضي الاجزاء؟ وأخرى أن
إتيان المأمور به هل يقتضي... الخ؟ وثالثة مع زيادة قولنا: على وجهه هل
يقتضي... الخ؟
وكيف كان، فالمقصود من الكل أنه إذا أتى بالمأمور به مع سائر شرائطه قيدا أو جزء هل يكون علة تامة للكفاية أم لا؟
فالمراد من الاقتضاء على الأول الدلالة، وعلى الأخيرين العلية التامة، كما
أن المراد من قوله (على وجهه) إتيان متعلقه بما هو متعلقه بحيث لو أتى معه ولم
يكف كان القصور عن طرف الامر حيث علق امره بما هو غير كاف.
ووجه التقييد بذلك الإشارة إلى جواب ما توهمه القاضي عبد الجبار (1) الذي

(1) عبد الجبار المعتزلي ابن أحمد بن عبد الجبار الهمداني الأسد آبادي شيخ المعتزلة،
58

هو الأصل في تأسيس هذه المسألة، وهو عدم كفاية الطهارة في سقوط الامر عند
كشف الخطأ.
فإنه (1) لم يؤت به على وجهه للاخلال بالطهارة واقعا، لا دخول التعبديات
في حريم النزاع حيث إنها بدونه تخرج عنه كما هو الظاهر من الكفاية.
فإن (2) النزاع في اعتبار قصد القربة وعدمه إنما حدث من زمان الشيخ
الأنصاري رحمه الله كما ذكرنا آنفا، وتقييدهم بقولهم على وجهه كان قبل الشيخ رحمه الله.
ثم إن الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار، وكذا مسألة تبعية القضاء
للأداء واضح، فإنه فيهما في جواز الاكتفاء بالمأمور به وعدمه، وبإتيان الفرد
الأول وفي الثالث أن المكلف إذا لم يأت به في وقته فهل يكون الامر الأول دالا
عليه في خارج الوقت أم لا؟
وبعبارة أخرى: النزاع في هذا المقام بعد إتيان المأمور به وفي مسألة القضاء قبل
إتيانه وبينهما بون بعيد كما هو واضح.
(وما المقام الثاني) فتحقيق المقام بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري
أن نقول: إنه يبحث تارة في مقام الثبوت، وأخرى في مقام الاثبات على ما في
الكفاية.
أما الأول فيحكم بالاجزاء في ثلاث صور:
(أحدها) اتحاد مصلحة الاضطراري مع الاختياري.
(ثانيها) نقصانها عنها نقصا لا يلزم تداركه.

استدعاه الصاحب بن عباد إلى الري من بغداد بعد سنة 360 ه‍ وبقي فيها مواظبا على
التدريس إلى أن توفي.
وكان للصاحب اعتقاد عظيم في فضله، يقال إن له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل
فن، توفي سنة 415 ه‍، (الكنى: ج 3 ص 53 طبع مطبعة الحيدرية).
(1) بيان لدفع التوهم.
(2) دليل لقوله مد ظله: (لا دخول التعبديات).
59

(ثالثتها) نقصانها عنها نقصا يلزم تداركه مع عدم إمكان التدارك.
ويحكم بعدم الاجزاء في صورة واحدة وهي نقصانها عنه نقصا يلزم تداركه
مع إمكان التدارك، ويجوز البدار في الأول ان قيل بكفاية العذر في بعض الأوقات
في صدق الاضطرار وفي الثاني والثالث مطلقا هذا كله في مقام الثبوت.
ثم حكم صاحب الكفاية في مقام الاثبات بالاجزاء مطلقا، تمسكا بإطلاق
أدلتها، مثل قوله عليه السلام: (التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين) (1).
والتحقيق أن يقال: إما أن يكون هناك أمران تعلق أحدهما بالمأمور به
الاضطراري والاخر بالاختياري فحينئذ لا وجه لتوهم الاجزاء، لعدم تعقل
سقوط أمر بإتيان متعلق أمر آخر كما لا يخفى، أو يكون أمر واحد تعلق بالطبيعة،
فحينئذ لا وجه لتوهم عدم الاجزاء حتى يتكلم.
بيانه: أن غاية ما يمكن أن يتصور أن المكلف إما أن يكون مختارا في تمام
الوقت أو مضطرا كذلك، أو مختارا في أول الوقت ومضطرا في آخره، أو بالعكس.
والمأمور به الاختياري والاضطراري أيضا تارة يلاحظ بالنسبة إلى دليليهما
مع قطع النظر عن دليل آخر، وأخرى مع النظر إلى دليل آخر.
أما الأول - أعني ملاحظته بالنسبة إلى دليليهما - فالظاهر من قوله تعالى:
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على
سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن
يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (1).
وكذا قوله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله

(1) الوسائل: باب 23 من أبواب التيمم ج 2 ص 994.
(2) المائدة: 6.
60

قانتين × فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية (1).
تعين (2) تكليف المختار والمضطر في عرض واحد من دون أن يكون الأول
أكمل من الثاني، بمعنى أن طبيعة الصلاة المأمور بها تحصل بإتيان كل من فردي
الاختياري والاضطراري عند تحقق شرطيهما، فلا بد من النظر إلى شرط
تحققهما.
فنقول: لا إشكال في سقوط الامر بإتيان الطبيعة على الأولين في أي جزء من
أجزاء الوقت بمقتضى دليل التخيير شرعا كما قيل أو عقلا كما هو المختار.
وكذا على الثالث إن أتى به بمقتضى تكليفه، فإن كان في أوله أتى بالفرد
الاختياري وإلا فبالاضطراري.
وإنما الكلام في الأخير، لو أتى به في أول الوقت ثم تمكن من الاختياري
فيقال بعد فرض أن المستفاد من الأدلة كفاية عدم التمكن في بعض الوقت في
صدق الاضطرار كما هو صريح تعبيرهم في محل النزاع بان إتيان المأمور به
بالامر الاضطراري... الخ.
والمفروض أن أدلة التخيير بين اجزاء الوقت تقتضي تمكن المكلف من
الاتيان به مطلقا، بمقتضى حاله من الاضطرار أو الاختيار، وبعد تسليم أن الفرد الاضطراري أيضا فرد من الطبيعة المأمور بها بمقتضى الآيات المشار إليها
والاخبار مثل قوله صلى الله عليه وآله: (ان رب الماء هو رب الصعيد) (3).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (التيمم أحد الطهورين) (4).
فلا وجه لتوهم عدم الاجزاء كي يقال: إتيان المأمور به بالامر الاضطراري
هل... الخ بل يحكم بالاجزاء قطعا لسقوط الامر الأول بهذا الفرد فرضا ولا أمر

(1) البقرة: 238 - 239.
(2) خبر لقوله مد ظله " " فالظاهر " ".
(3) راجع الوسائل: باب 23 من أبواب التيمم ج 2 ص 994.
(4) الوسائل: باب 14 حديث 15 وباب 21 حديث 1 من أبواب التيمم ج 2 ص 984 و 991.
61

آخر يدل على تدارك ما فات، لعدم الفوت.
ولو فرض أمر آخر يدل على وجوب الاتيان ثانيا مستقلا فلا وجه للاجزاء
أيضا كي يتكلم فيه كما ذكرنا.
نعم لو دل دليل من الخارج على وجوب إتيان فرد آخر لا بعنوان التدارك فلا
بحث، وكذا البحث في وجوب القضاء فإنه بعد إتيان الفرد الاضطراري لم يفت منه
شئ فلا يشمله: من فاتته فريضة... الخ.
ثم إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنه إن لم يكن إطلاق لأدلة الاضطرار
يشمل الاضطرار في بعض الأوقات، فالمرجع الاشتغال إعادة وقضاء للشك في
الامتثال بعد اليقين بالتكليف لا البراءة كما يظهر من الكفاية (3).
تنبيه
قد عرفت مما ذكرنا أن القول بالاجزاء مطلقا هو مقتضى القاعدة باعتبار
إتيانه بما هو منطبق على ما هو عنوان المأمور به أيضا.
ولكن هذا في غير ما إذا سقط الامر بعروض عارض كالتقية أو الخوف على
النفس، كما إذا أفطر بحكم قاضي العامة فإنه يجب الافطار حينئذ، لكن لا لان
طبيعة الصوم منطبق عليه بعروض الاضطرار، بل لسقوط أمره حينئذ فلا ينافي
القول بوجوب القضاء بعده، لعدم الاتيان بالمأمور به، وهذا هو السر في وجوب
القضاء في الموارد التي حكم فيها بوجوبه مع كونه مضطرا فلا تغفل.
وأما إتيانه بالامر الظاهري فهل يجزي أم لا؟ فتحقيق المقام يقتضي بيان ما
هو محل النزاع أولا، ثم بيان ما هو الحق ثانيا.
فاعلم أن الشئ إذا تعلق به الامر مطلقا فالحكم الذي هو مدلول الامر هو

(1) راجع الكفاية ج 1 ص 135 أواخر المقام الثاني من قوله: وهذا بخلاف ما إذا علم أنه
مأمور به... الخ.
62

واقعي، اختياريا كان أم اضطراريا كما مر.
وإن قيد بالجهل بالحكم الواقعي، حكما أو موضوعا يعبر عنه بالحكم
الظاهري والواقعي الثانوي، سواء كان من الأمور التي جعلت حجة لكاشفيتها عن
الواقع (1) أو مطلقا (2).
ثم هو يتصور على وجهين، لأنه (إما) أن يتعلق بشئ ليس بالمأمور به واقعا
أصلا، كما إذا قامت الامارة أو الأصل على وجوب الجمعة مثلا في يومها ثم
انكشف أن الواجب الظهر، فهذا ليس من محل النزاع في شئ لعدم إمكان توهم
الاجزاء حتى يتكلم، كما مر في الاضطراري أيضا.
(وإما) أن يتعلق بشئ يختلف بحسب الكيفية مع الواقعي، كما إذا ترك الجزء
أو الشرط المشكوكين بمقتضى حديث الرفع، بناء على شموله لهما أيضا أو قامت
الامارة على عدمهما ثم انكشف اعتبارهما، فهذا محل الكلام.
والتحقيق: أن ينظر إلى الأدلة، فإن كانت ظاهرة في كون هذا أيضا فردا من
الطبيعة المأمور بها فمقتضى القاعدة الاجزاء، وإلا فلا.
فلا حاجة إلى أن يقال كما في الكفاية: إن دليل الحكم الظاهري إن كان أصلا
فعدم الاجزاء، وإن كان أمارة فعلى الطريقية أو الشك فيها فلا اجزاء أيضا، وعلى
السببية فكالاضطراري من كونه منقسما في مقام الثبوت بأقسامه.
وذلك ضرورة أن في صورة عدم استظهار الفردية يكون المأتي به مبائنا
للمأمور به، وهو غير مجزئ عنه قطعا كما لا يخفى.
مضافا إلى أن التقسيم غير حاصر لعدم شموله للشك في الشبهة الحكمية كما
مثلنا سابقا.
وتوهم تعرضه لها في آخر كلامه قدس سره - بقوله: أما ما يجري في إثبات أصل
التكليف كما إذا قام الطريق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها في زمان

(1) كالأمارات.
(2) كالأصول.
63

الغيبة فانكشف... الخ مدفوع بأنه من القسم الأول الذي لا نزاع فيه أصلا كما
اعترف به قدس سره.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام يقع في مقامين (الأول) في الأصول (والثاني)
في الامارات.
أما الأصول فهي على قسمين، قسم قرره الشارع لخصوص مورد الشك في
الموارد المخصوصة كما في الشكوك المتعلقة بأفعال الصلاة أو أقوالها بعد تجاوز
المحل.
مثل قوله عليه السلام في ذيل رواية زرارة: (يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم
دخلت في غيره فشككت ليس بشئ) (1).
ودلالة هذا القسم على الاجزاء وكونه حاكما على الأدلة الأولية موقوف على
مقدمتين:
الأولى: أنه على فرض عدم انكشاف الخلاف إلى الأبد مع عدم إتيانه في علم
الله تعالى لا إشكال في الاجزاء وكونه فردا من الصلاة.
الثانية: أن المراد من الشك إما المستمر فيكون تقييد الحكم به لغوا لعدم علم
الشاك باستمراره ليترتب عليه حكمه، وإما مجرد حدوثه، واللازم من ذلك
الاجزاء أيضا كما في صورة عدم الانكشاف أصلا لعدم الفرق بينهما إلا الاستمرار
في الأول دون الثاني، والمفروض أنه لا دخل له في كونه فردا، هذا.
ومع تسليم عدم كونه فردا منها فلا أقل من سقوط الامر حينئذ وهو كاف في
الاجزاء.
والحاصل: أن الظاهر سقوط الامر بإتيان المأمور به الظاهري بالنظر إلى دليله
ودليل الواقعي مع قطع النظر عن دليل خارجي من قرينة عقلية أو شرعية.
وقسم في الأصول التي تجري لبراءة الشاك عن المشكوك جزء أو شرطا أو

(1) الوسائل: باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ج 5 ص 336.
64

مانعا ولو بنحو العموم، مثل حديث الرفع (1) وقوله عليه السلام: (كل شئ نظيف حتى
تعلم أنه قذر) (2) ونحوها، والكلام فيه أيضا كالكلام في القسم الأول في الاجزاء
والحكومة ومن هنا (3) انقدح حال أدلة الامارات، مثل أن يخبر العادل مثلا بطهارة
الثوب، وثبت بالدليل حجية قول العادل ووجوب تصديقه في الموضوعات، فإن
مفاد أدلة اعتبار الامارات بعينه مفاد دليل الأصول في كونه ظاهرا في الاجزاء
بمقتضى القاعدة ما لم يمنع عنه مانع عقلي.
فتلخص مما ذكرنا أنه لا فرق بين أدلة الأصول وأدلة اعتبار الامارات من
هذه الجهة.
نعم بينهما فرق من جهة أخرى، وهو أنها (4) حاكمة عليها، لأنها كالمفسر لها
عرفا كما لا يخفى.
(إن قلت:) (5) مقتضى اطلاق دليل الحكم الواقعي شموله لصورة الجهل ولم
يمكن تقييده أو تخصيصه بصورة العلم بملاحظة الأدلة الظاهرية فإنه - مضافا إلى
أنه يلزم من ذلك أن لا يتحقق الموضوع قط ضرورة أن الحكم لا يتحقق إلا بعد
تحقق موضوعه بجميع أجزاءه وقيوده، والمفروض أن من القيود العلم بالحكم
المفروض عدم ثبوته بعد فلا يمكن تحققه - غير ممكن (6) عقلا، بداهة اختلاف
مرتبتهما، فإن موضوع الحكم الواقعي مقدم على موضوع الحكم الظاهري
بمرتبتين، ولا يمكن كون شئ متأخرا ولو بمرتبة واحدة مقيدا أو مخصصا لما هو
كذلك فضلا عن مرتبتين، فحينئذ بناء على ما ذكرت من الاجزاء يلزم اختصاص
الحكم بالعالم والمفروض عدم الاختصاص به كما مر بيانه.

(1) الوسائل: باب 37 من أبواب قواطع الصلاة ج 4 ص 1284 حديث 2.
(2) الوسائل: باب من أبواب النجاسات ج 2 ص 1054 حديث 4.
(3) شروع في المقام الثاني وهو مقام الاثبات.
(4) أي الامارات حاكمة على الأصول.
(5) شروع في بيان الموانع العقلية عن الاجزاء.
(6) خبر لقوله: " " فإنه " ".
65

(قلت:) نعم الامر كذلك، ولكن هذا الاشكال مشترك الورود بين القول
بالاجزاء وعدمه، لأنه نشأ من أنه كيف يمكن الحكم واقعا مطلقا والحكم ظاهرا
مع الجهل على خلافه أو وفاقه؟ وهل يكون إلا نظير اجتماع المثلين على تقدير
موافقتهما، أو الضدين على تقدير مخالفتهما، أو النقيضين على تقدير كون مفاد
أحدهما مثلا حكما ومفاد الاخر عدمه؟ مضافا إلى عدم إمكان جعله كما ذكرنا في
السؤال.
والحل أما (أولا) فبما نسب إلى الكفاية من أن الحكم الواقعي اقتضائي،
والظاهر فعلي أو عذر للمكلف.
وعلى التقديرين لا يكون الواقعي فعليا، فلا منافاة.
وأما (ثانيا) فيقال: أما في مقام الثبوت والواقع فلأنه لا مانع من جعل الحكم
في صورة الجهل للجاهل مجردا عن الجزء والشرط وفقد الموانع المشكوكة فيها،
بمعنى أن يكون الصلاة المأمور بها في صورة الشك كذلك بلا تفاوت أصلا بينها
وبين الصلاة الواجدة لها في حصول عنوان المأمور به.
وتوهم تفويت المصلحة في صورة المخالفة مدفوع، مضافا إلى أنه لا يجب
علينا إلا التعبد بالأوامر من دون لزوم العلم بأن المصلحة في المأمور به ما هو؟
لاحتمال أن تكون المصلحة في نفس الامر أو في المأمور بهذا الامر ولا يكون في
ذاتها مصلحة أصلا.
أنه يكفي في تحقق المصلحة كونه تسهيل الامر على المكلفين، هذا في مقام
الثبوت.
وأما في مقام الاثبات فيكفي ظاهر الأدلة كما ذكرنا، فراجع.
والحاصل: أن مقتضى القاعدة الاجزاء، إلا أن يدل دليل على عدمه، مثل: لا
تعاد الصلاة... الخ (1) بالنسبة إلى الأركان، لا العكس (2) والحمد لله.

(1) الوسائل: باب 28 من أبواب السجود ج 4 ص 987 ح 1.
(2) إلى هنا ذكر ما أفاده سيدنا الأكبر مد ظله في بحث الاجزاء.
66

فصل في وجوب المقدمة
اختلفوا في أن مقدمة الواجب هل تكون واجبة أم لا؟ بمعنى أنه هل يترشح
الوجوب الشرعي من ذيها إليها عقلا أم لا؟
وكون هذه المسألة مسألة أصولية وعدمه مبني على ما حققناه في محله من أن
المسألة الأصولية ما تكون باحثة عن الحجة في الفقه، ومعلوم أن النزاع في
الملازمة وعدمها (1) عقلا لا يكون نزاعا في الحجية وعدمها فلا تكون منها.
وكيف كان، فقبل الخوض في المقصود لا بد من شرح ألفاظ محل النزاع في
لفظ (المقدمة) وهي تنقسم بأقسام:
(منها) انقسامها إلى الداخلية والخارجية، فالداخلية هي التي تكون مقومة
لتحقق نفس الماهية بحيث تكون مقدمة لقوامها، بحيث لو لم تكن لا توجد
الماهية.
ولذا قد يشكل في تصويرها (تارة) بأنه (2) لما كان ذوها وجودا محتاجا إليها
والاحتياج أمر إضافي يحتاج إلى الطرفين المفروض فقدهما هنا.
(وأخرى) بأن صدق كونها مقدمة مستلزم لتقدمها على ذيها ذاتا، والاجزاء
الداخلية ليست كذلك، فلا يتصور المقدمية.
والتحقق في الحل أن يقال: أن (3) المقدمة عبارة عن كل فرد فرد من الاجزاء
وذو المقدمة هي الاجزاء بالأسر، فالإضافة متحققة حقيقة بين كل واحد من

(3) يعني أن البحث في وجوب المقدمة بالمعنى المذكور بحث في الملازمة بين وجوب
المقدمة ووجوب ذيها، وعلى تقدير ثبوت الملازمة نقول: إن الملازمة لا تكون حجة في
الفقه، فلا تكون هذه المسألة من المسائل الأصولية بناء على ما حققناه من أن المسألة
الأصولية هي التي باحثة عن الحجة في الفقه، والله العالم.
(2) بيان الاشكال. (3) دفع للاشكال الأول.
67

المقدمات وبينها بالأسر.
وكذا (1) يكون كل واحد من الاجزاء مقدما على الاجزاء بالأسر، فلا إشكال،
وبذلك يندفع أيضا ما قيل (2) في دفعه: إن المقدمة هي إلا جزاء بالأسر وذو المقدمة
هي بشرط الاجتماع، ضرورة (3) أن الاجزاء بالأسر تكون عين ذي المقدمة يحمل
عليها بالحمل الشايع الصناعي، كما لا يخفى.
ثم هل يكون وجوب المقدمة ضمنيا أو نفسيا أو غيريا أو مركبا من
الأخيرين؟ التحقيق: الأول.
توضيحه: أن المركب على قسمين، قسم حقيقي تكون أجزاؤه موجودة
مستقلا (4)، وقسم اعتباري تكون أجزاؤه اعتبارية (5)، فإذا طري على ما كان من
قبيل الأول عارض كالحكم فيما نحن فيه بالنسبة إلى الموضوع انبسط قهرا على
أجزائه بالنسبة، فيكون كل واحد من الاجزاء معروضا لهذا العرض بنسبة تعلقه به،
فتكون التكبيرة مثلا واجبة ببعض الوجوب المتعلق بالصلاة.
وبالجملة، يكون بعض متعلق الوجوب (6) تمام المتعلق لبعض الوجوب
فيكون وجوبه ضمنيا، كما لا يخفى.
هذا كله في المقدمة الداخلية.
وأما الخارجية فهي التي يكون لها دخل في تحقق ذيها على الوجه الشرعي
المعتبر شرعا ولا تكون مقدمة للماهية.
(ومنها) انقسامها إلى العقلية والشرعية والعادية.
والتحقيق رجوع الكل إلى العقلية، لان ما حكم الشرع بمقدميته يكشف منه

(1) دفع للاشكال الثاني.
(2) القائل هو صاحب الكفاية.
(3) بيان للدفع (4) كالصلاة.
(5) كماء الحوض مثلا.
(6) متعلق الوجوب كالصلاة مثلا وبعضه كالتكبيرة مثلا.
68

العقل أن عنوان المأمور به شئ لا يحصل إلا به، فيكون مقدمة عقلية. وكذا
العادية، فإن العقل يحكم - مع فرض العادة - أن ذيها لا يحصل إلا بهذه المقدمة
العادية.
(ومنها) انقسامهما إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة بحسب الوجود بالنسبة
إلى ذي المقدمة.
ولا بد هنا من بيان المراد منها كي يدفع بعض الاشكالات الواردة عليها من
حيث لزوم تقدم اجزاء العلة على المعلول، والمتأخر بل المتقدم لا يكون قابلا لان
يؤثر في المعلول المتقدم أو المتأخر زمانا، بل لا بد من تقارن زمانيهما.
فنقول بعون الله الملك الوهاب:
إن الأصوليين قسموا المقدمة باعتبار إلى: السبب، والشرط، وعدم المانع،
والمعد.
وقالوا: إن الأول ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، والثاني ما
يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، والثالث ما يكون وجوده مزاحما لوجود شئ آخر، والرابع ما يلزم من وجوده وعدمه معا الوجود.
ومنشأ هذا التقسيم إلى أن الشئ إما أن يكون دخيلا في وجود شئ آخر أو
لا، ودخله إما أن يكون بنحو التأثير في وجوده فهو السبب، وإما أن يكون مؤثرا
في قابليته للوجود تارة بوجوده فهو الشرط، وأخرى بعدمه فهو عدم المانع،
وثالثة بهما بمعنى التركب من الوجود والعدم فهو المعد.
ويمكن إرجاع الأربعة باصطلاح الأصوليين إلى المعد باصطلاح أهل
المعقول، فإنهم يطلقونه على ما يكون دخيلا في وجود الشئ.
وبعبارة أخرى: يستعد الشئ بوجوده فيكون المؤثر في الواقع ونفس الامر
هو المقتضى - أعني الإرادة - ويكون الشرط والسبب وعدم المانع والمعد
69

باصطلاح الأصوليين، معدات باصطلاح أهل المعقول:
فالحركة مثلا - سواء كانت في الأين أو الوضع أو الكم أو المتى أو الجوهر
على القول بالحركة الجوهرية - معدات لتأثير المقتضي بالكسر في المقتضى
بالفتح.
وكيف كان، فقد مثلوا للسبب بتحريك اليد لتحرك المفتاح، ويظهر من المثال
أن مرادهم من السبب العلة التامة، فإن السبب - أعني تحريك اليد - فعل خارجي
وهو غير المقتضى الذي عبارة عن الإرادة المسببة عن الشوق المؤكد، المسبب
عن تصوره والتصديق بفائدته والعزم على فعله، فإنها مقتضية لوجود الشئ بعد
ارتفاع موانعه وبعد وجود شرائط وجوده.
ثم إنه لا إشكال في تعدد الحركة لتعدد معروضها - أعني اليد والمفتاح -
لاستحالة قيام عرض واحد في آن واحد بمعروضين.
ولا إشكال أيضا أن الوجود متحد مع الايجاد، غاية الامر إذا أسند إلى نفسه
يسمى وجودا، وإذا أسند إلى فاعله يسمى ايجادا.
وإنما الاشكال والكلام في أن الفعل الصادر من الفاعل هل هو متعدد لتعدد وجوده الذي هو الحركة أم متحد فإنه وإن كان الفعل متعددا إلا أن القيام الصدوري
لهذين الفعلين مستند إلى فاعل واحد بإرادة واحدة، فإن التحريك الصادر من
الفاعل للمفتاح يكون بعين التحرك لليد من غير تعدد؟ الظاهر الثاني لعين ما
ذكرنا.
ويظهر من تمثيلهم أيضا أن مرادهم من السبب والمسبب الافعال الخاصة،
المباشرية والتوليدية، الأولى للأولى والثانية للثاني، فلا يشمل الإرادة لعدم تعلق
الطلب بها على ما مر في مبحث الطلب والإرادة.
فهي تارة تتعلق بالمسبب ويكون تعلقها بالسبب بالعرض، وأخرى بالعكس،
ويتولد من هذا النزاع بحث آخر غير النزاع والبحث في وجوب المقدمة وعدمه.
70

وهو أن الطلب إن تعلق بشئ بظاهر الدليل هل هو متعلق به مطلقا أو بسببه
مطلقا أو التفصيل بين ما إذا كان السبب واسطة في ايصال فعل الفاعل إلى المنفعل
كالمثال المذكور فالثاني، وبين كونه فاعلا بالطبع كالأمر بالاحراق بالنار أو
بالإرادة كالأمر بالالقاء في المسبعة فالأول.
فعلى الأول (1) تكون المسألة من صغريات مسألة وجوب المقدمة.
وعلى الثاني (2) لا نزاع فيه، بل هي واجبة فقط من دون ذيها، كما لا يخفى
على المتأمل.
وعلى الثالث (3) فبالنسبة إلى الأول كالثاني، وبالنسبة إلى الثاني كالأول.
واستدل للأول (4) بوجهين: (الأول) أن الطلب يتعلق بما هو مقدور للمكلف
ولا قدرة بالنسبة إلى المسبب.
والجواب أن المقدور بالواسطة أيضا مقدور.
(الثاني) أن الإرادة تتعلق بما هو فعل المكلف في الخارج، والمسببات
الناشئة عن الأسباب لا تكون أفعالا له.
وأيده بعضهم بأنه إذا رمى سهما إلى شخص ثم مات الرامي قبل وصول السهم
إلى المرمى المقتول بالسهم لا يصح أن يسند القتل إلى الرامي، لأنه ميت بالفرض
حين وصول السهم.
وأجيب (5) بأنا لا نسلم بأن متعلق الأوامر هي أفعال المكلف بما هي أفعال بل
القدر المتيقن أن يقال: إن الأوامر تتعلق بوجود المأمور به، المسبب عن إرادة
المكلف، سواء كان هذا الوجود بلا واسطة شئ أو معها؟
والقتل (6) في المثال أيضا مستند إلى الرامي، غاية الامر مع الواسطة، ولذا

(1) يعني وجوب المسبب.
(2) يعني وجوب السبب.
(3) يعني التفصيل.
(4) يعني تعلق الوجوب بالسبب دون المسبب.
(5) يعني عن أصل الاستدلال.
(6) جواب عن المؤيد.
71

يحصل الامتثال بالنسبة إلى بعض الحدود بأمر الإمام عليه السلام أو نائبه على قول، وكذا
تكون الدية على الرامي يأخذها أولياء المقتول من تركته، هذا مع أن المسببات
أيضا أفعال، غاية الامر مع الواسطة.
إذا عرفت هذا فقد ظهر لك في مثال الرمي أن السبب يمكن أن يكون مقدما
على المسبب، ولا يشترط تقارنه معه زمانا كما قيل، نعم يشترط كونه مقدما عليه
طبعا.
وما نسب إلى أهل المعقول من اشتراط كون العلة بتمام أجزائها مقدمة على
المعلول وجودا ومقارنة له زمانا.
فهو إنما هو في العلة الأصلية الحقيقية التي هي ما منها الوجود لا فيما هو من
قبيل المقام من كون الوجود اعتباريا وكون الأسباب المباشرية مسببة عنها.
وبالجملة، إن كان المراد من سببيتها لها أن التقدم بالوجود الذي هو عبارة عن
اعتبار المتأخر موجودا بعد اعتبار الوجود للمتقدم في المرتبة المتقدمة من غير
لزوم العكس فالمقام كذلك ولا بأس به ويسمى هذا التقدم (التقدم بالعلة) وبالطبع وبالذات أيضا.
وإن كان المراد تقارنهما زمانا مع تقدم السبب طبعا فممنوع كما في المثال
المتقدم، فإن الرامي لا يكون موجودا باقيا حين حصول القتل، لأن المفروض
موته قبل الإصابة، اللهم إلا أن يقال: إن السبب هو الإصابة حينئذ فيقال: إن
الإصابة أيضا مسببة عن الرمي المتقدم عليها زمانا من غير تقارن، وكذا الحال
بالنسبة إلى الشرط وعدم المانع والمعد، بل فيهما بطريق أولى كما لا يخفى.
فانقدح بذلك دفع ما يستشكل في الشرط المتقدم أو المقارن من أنه لا بد أن
يكون الشرط مقارنا وجودا للمشروط، وغالب (1) الشروط لا يكون كذلك، ولا
سيما الشرط المتأخر.

(1) الواو حالية.
72

وذلك (1) فإنا قد حققنا أنه لا مانع من تأخر المسبب عن السبب فضلا عن
تأخر المشروط عن شرطه.
بل يمكن أن يقال بجواز الحكم بوجود شئ آخر متأخرا عنه زمانا أيضا كما
في تقدم خلق آدم عليه السلام على نبينا صلى الله عليه وآله، فإن غاية وجوده وجود نبينا صلى الله عليه وآله كما
يستفاد من بعض الاخبار (2) وهو صلى الله عليه وآله متأخر عنه عليه السلام زمانا فتأمل.
لا يقال: إن العلة وجوده العلمي وهو متقدم، فإنه يقال: إن العلم مرآتي
وطريقي لا موضوعي، فيكون وجوده صلى الله عليه وآله الخارجي علة غائية لوجود آدم عليه السلام.
هذا كله بالنسبة إلى وجود المكلف به.
وأما ما هو شرط لنفس التكليف فلا يلزم تقدمه زمانا أيضا، فإن القيود التي
تؤخذ في موضوع التكليف هي الشرائط العقلية للتكليف، بمعنى أنها لو لم تكن لم
يمكن التكليف سواء كانت أوصافا في المكلف كالعقل والبلوغ والقدرة والعلم، أو
في المكلف به ككونه مما يمكن أن يوجد بالنسبة إلى المكلف به، فتكون هذه
شرائط لامكان التكليف لا عللا لوجود ما هو ممكن بعد الفراغ من إمكانه ذاتا.
وتوهم كونها عللا لوجود الامكان مدفوع بأن الامكان وقسيميه من الوجوب
والامتناع لا تكون موجودة مستقلة في الخارج، بل هي منتزعة من مرتبة ذات
الأشياء ضرورة انتزاع الوجود من شئ ضروري الوجود والامتناع من
ضروري العدم، والامكان من اللا ضرورة من الجانبين ووجود الممكن لا دخل له
بكون التكليف مشروطا.
وبالجملة، إمكان انقداح الإرادة من المولى للبعث والزجر منوط بتحقيق
الشرائط العامة لا وجود الممكن.
فانقدح أيضا دفع توهم الاشكال في شرائط التكيف بأن الشرائط لابد أن

(1) بيان الدفع
(2) بل هو مفاد حديث " لولاك لما خلقت الأفلاك ".
73

تكون مقدمة على المشروط طبعا ومقارنة له وجودا وزمانا، وهنا ليس كذلك.
فلا يلزم انخرام القاعدة العقلية أيضا في واحد منهما، لا بالنسبة إلى المكلف
به ولا بالنسبة إلى التكليف.
ولا حاجة إلى الدفع بأن وجودها العلمي كاف في صحته إلى آخر ما قيل،
فراجع الكفاية.
وأما ما هو شرط لكون شئ واجبا فتارة تكون شرطيته بنحو التقييد نحو
دخول التقيد وخروج القيد، وأخرى تكون شرطا لقابلية المشروط، لان يكون
منشأ لانتزاع عنوان آخر كالحركة المعنوية بالاستقبال بشرط مجئ زيد مثلا،
وثالثة بنحو الجزئية.
فالأولان لا فرق فيهما بين أن يكونا متقدمين أو مقارنين أو متأخرين، لأنه لا
سببية لهما للمشروط، بل يعني أخذهما في الواجب أنه متصف بالوجوب في
صورة وجودهما.
كما أنه لا فرق بينهما في أن الوجوب الثابت لهما نفسي عرضي لا مقدمي
استقلالي، ضرورة أن وجوبهما في عرض وجوب المشروط.
وحكم القسم الثالث مثل حكمهما في أن وجوبه نفسي عرضي إلا أن وجوده
متقدم زمانا على وجود الكل المعلول، لا لأنه مقدمة وكل مقدمة يجب تقدمهما
طبعا وتقارنها زمانا، بل حيث إن وجود المعلول في مرتبة وحد لو وجد فيها لكان
متأخرا قهرا عن وجود العلة - أعني الجزء - لا جرم كان مقدما عليه.
مع أن هذا مختص بالزمانيات، وإلا ففي غيرها يكفي التقدم بالعلة، بمعنى أنه
يعتبر وجود المعلول في مرتبة اعتبر وجود العلة فيها من غير لزوم العكس، كما مر.
وأما تقسيم الواجب
فباعتبارات أيضا:
74

منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط
وقد عرف كل منهما بتعاريف لا يهمنا ذكرها.
والأولى أن يقال: إن الاشتراط والاطلاق أمران إضافيان، بمعنى أن الشئ
إذا لوحظ بالنسبة إلى واجب فإن كان وجوده شرطا لثبوت الوجوب له كان هذا
الواجب مشروطا بالنسبة مطلقا سواء كان مقدمة لوجوده أيضا كقول المولى مثلا
(إن دخلت السوق فاشتر اللحم) بناء على فرض عدم إمكان اشتراء اللحم إلا
الدخول فيه أم لا كالحج بالنسبة إلى الاستطاعة، وإلا كان مطلقا بالنسبة سواء كان
مقدمة للوجود كقوله (أكرم زيدا) على فرض عدم إمكان إكرامه إلا بالمجئ مثلا
أم لا كتعيين الطريق الخاص للحج.
فما ذكر في تعريفهما - من أن المشروط ما يتوقف وجوبه على شئ ما
والمطلق ما لا يتوقف على شئ إما مطلقا كما عن بعض أو غير الشرائط العامة كما
عن آخر - غير سديد.
كما أن ما نسب إلى الحاجبي والعضدي وغيرهما - من أن الأول ما يتوقف
وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده، والثاني ما لا يتوقف وجوبه على ما يتوقف عليه وجوده - ليس على ظاهره من تحديدهما، بل حيث إنهم اختلفوا في وجوب
المقدمة وعدمه، أرادوا الاستثناء من وجوبها بناء على الملازمة لما هو مقدمة
للوجوب أيضا، فعبروا كذلك، وكيف كان فالامر سهل.
إذا عرفت هذا فاعلم أن عدم وجوب المقدمة الوجوبية مما اتفق عليه
المتكلمون والمفسرون والأصوليون، والفقهاء خلفا عن سلف.
وكذا وجوب مقدمة الواجب المشروط اللازم منه كون القيد راجعا إلى الهيئة
إلى زمن المحقق الأنصاري قدس سره، وأما بعده فنسب إليه على ما عن بعض مقرري
بحثه أن القيودات غير راجعة إلى الهيئة أعني الوجوب، بل إلى المادة أعني
الواجب.
75

وحاصل ما يستفاد من كلمات المقرر قدس سره أنه إذا كان الجزء الذي يكون أمرا
كقوله (إن جاءك زيد فأكرمه) يكون القيد بحسب القواعد اللفظية متعلقا بالطلب
بمعنى تعلق الطلب المطلق بإكرام زيد على تقدير مجيئه على المشهور مع
استثنائهم المقدمة التي تكون مقدمة للوجوب أيضا.
بيانه: أن لإكرامه في قولنا (إن جاءك زيد فأكرمه) مادة لفظية أعني لفظ
الاكرام، ومعنوية أعني مفاده، وهيئته هي طلب مفاد الاكرام، والتعليق المستفاد
من لفظة (إن) وإن كان قيدا لطلبه لا لمطلوبه بحسب القواعد اللفظية العربية بل
مطلق المحاورات إلا أنه بحسب اللب وبحسب القواعد الأدبية يمتنع كونه قيدا لها.
أما لبا فإن الامر إذا تصور شيئا فإما أن يطلبه مطلقا أو مقيدا بتقدير خاص
فيكون المطلوب مطلقا أو مقيدا بحسب اختلاف المصالح والمفاسد.
أما ما بحسب الدقائق العربية فالجهات الباعثة للامتناع ثلاثة:
الأولى: أن الطلب إنشاء، والانشاء إيجاد، وهو يمتنع أن يعلق على شئ.
الثانية: أن وضع الهيئات عام والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص
كالحروف، فيكون جزئيا حقيقيا ولا يعقل الاطلاق فيه.
الثالثة: أن لحاظ مفاد الهيئات كلحاظ الحروف آلي، بل لا يكون ملحوظا في
الحقيقة إلا بلحاظ طرفيه، وما لا يكون ملحوظا مستقلا يمتنع تقييده، فإنه بعد
لحاظه مطلقا، بقيده، وإذ ليس فليس، هذا.
ونحن نقول: حيث كان إثبات كون القيد راجعا إلى المادة أو الهيئة بعد الفراغ
عن مقام الثبوت فالأولى أن ننقل الكلام إليه ببيان ملاكها.
فنقول بعون الملك العلام: ملاك الارجاع إلى المادة يتصور فيما إذا كان
غرض المولى بعث المكلف أو زجره إلى المصلحة أو عن المفسدة اللتين لا
توجدان إلا في صورة وجود القيد، فلا محالة يتعلق الطلب بالفعل المقيد، فإن
المفروض أن لا مصلحة فيه بدون القيد.
76

ويشكل حينئذ بأن لازم ذلك وجوب القيد أيضا ضرورة وجوب القيد
بوجوب مقيده بوصف كونه مقيدا، وبدونه لا يكون الواجب إلا ذات المقيد
والمفروض خلافه.
وما دفعه به صاحب التقريرات - من أن كونه ذا مصلحة مختص بما إذا كان
قيده غير مكلف به، وإذا كان تحت التكليف فلا يكون فيه مصلحة - فمدفوع، بأن
كون شئ عدمي مؤثرا في مصلحة شئ بعيد جدا، فإن متعلق الأوامر تكون ذا
مصلحة إذا أتى بها بعنوان الامتثال، ولا امتثال في العدمي كما لا يخفى.
وأما ملاك كون القيد راجعا إلى الهيئة فيتصور بأحد الوجوه الثلاثة:
الأول: أن يتعلق غرضه برفع المفسدة الموجودة أو دفع المفسدة المتوجهة
عند وجود ما يحتمل أن يكون قيدا للمادة أو الهيئة كما في قوله مثلا (إن ظاهرت
فاعتق رقبة مؤمنة) و (إن أفطرت فاعتق رقبة) و (إن فاتتك فريضة فاقضها) فإن
الظهار والافطار وفوت الفريضة لا يمكن أن يكون قيدا للمادة، كيف وهي
بوجودها الخارجية علة مجئ الحكم، ولا يعقل أن يكون متعلق الحكم الناشئ
من قبل شئ مقيدا به.
الثاني: أن يتعلق فرضه بوجود المكلف به مطلقا، بمعنى كون المتعلق ذا
مصلحة مطلقا لكنه لوجود المانع قيد الحكم برفعه، كما في القدرة والعقل والتميز،
فإنها شرائط للحكم لا لمتعلقه، فان فيه مصلحة على الاطلاق لكن لم يكلف لعدم
انبعاث فاقدها نحو المطلوب.
الثالث: أن يكون فيه مصلحة مطلقا، لكنه إن أمر به كذلك يلزم العسر
والمخالفة الكثيرة، وكلاهما منافيان للطفه تعالى، كما في اشتراط الحج
بالاستطاعة والزكاة بتملك النصاب المستفاد من قوله مثلا (إن استطعت فحج) أو
(إن ملكت النصاب فزك)، فلما ثبت في مقام الثبوت اختلاف تعلق القيود حسب
اختلاف الملكات فهل يكون في مقام الاثبات ما يدل عليه أم لا؟ الظاهر لا.
77

فحينئذ لا يمكن إطلاق القول كما عن الشيخ رحمه الله بأن القيود لا بد من أن يتعلق
بالمادة دون الهيئة بعدما عرفت من الامتناع في المواضع الثلاثة.
مع أن الشيخ قدس سره يسلم تعلقه بمقتضى قواعد العربية وفهم العرف بالهيئة فلا
يمنعه شئ سوى ما قد مر من امتناع أن يتعلق بها باعتبار أنها معنى حرفي وهو
آلي اللحاظ أو باعتبار أن الانشاء ايجاد وهو جزئي حقيقي لا يقبل التقييد.
ويندفع الأول (1) بعدم تسليم كون المعنى الحرفي آليا، بل هو استقلالي،
والخصوصيات إنما نشأت من قبل الاستعمال.
والثاني (2) بأن الانشاء أمر اعتباري يمكن لحاظ وجوده مقيدا كما يمكن
مطلقا أيضا، هذا.
مضافا إلى أن فهم العرف قرينة على وقوعه، فشبهة الامتناع إنما هي في
مقابل البديهة.
مع أن هذا مسلم قطعا فيما إذا كان الامر بصورة الاخبار بشهادة ظاهر
القضية، مثل قوله مثلا (إذا دخل الوقت وجبت الصلاة) فإن الوجوب معلق على
دخول الوقت.
مع إمكان أن يقال على ما حققه المحقق القمي رحمه الله تعالى أن القيود التي
اخذت في الاحكام راجعة في الحقيقة إلى المكلفين دون التكليف، والمكلف به
باعتبار تنويع المكلفين بنوعين مثلا، نوع واجد لهذه الشرائط، ونوع فاقد نتوجه
الامر إلى الواجد دون الفاقد.
مثلا قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (3).
بمنزلة أن يقول: يجب على المستطيعين الحج دون غير المستطيعين، هذا.
مضافا إلى ذلك كله يمكن أن يقال: إن نظر الشيخ قدس سره راجع إلى ما ذكرنا سابقا

(1) وهو كونه باعتبار كونه أمرا اعتباريا.
(2) وهو كونه باعتبار أن الانشاء ايجاد.... الخ.
(3) آل عمران: 97.
78

في بحث الطلب والإرادة من أنه فرق بين الطلب المنشأ بلفظه كقوله (أطلب منك
كذا) أو بصيغة افعل، فإن الطلب في الدول ملحوظ مستقلا، بخلافه في الثاني، فإن
الامر لشدة توجهه إلى المطلوب والمقصود كأنه لا يرى إلا إياه فيتوجه نظره إليه
وبلحظه لحاظ من يطلبه ويريده، فيقال: إن القيود وإن كانت تتعلق لبا بالإرادة إلا
أنها لما لم تكن مستقلة في اللحاظ صح أن يقال: إن القيد لم يتعلق بها فعلا، فيمكن
أن يكون نظر الشيخ قدس سره من عدم إمكان تقييد الهيئة إلى عدم ملحوظيتها مستقلة
كي تقيد بقيد لا أنه لم يتعلق بها لبا أيضا، فتدبر.
وانقدح بما ذكرنا أن الواجب المشروط موجود في صورتين: (إحداهما)
صورة توجه المفسدة أو وجودها. (ثانيتها) صورة وجود المانع من البعث إما
لعدم الفائدة كما في غير البالغ أو المخالفة للطف كما ذكرنا.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا فاعلم أنه لا نزاع فيما هو شرط الوجوب، لعدم
وجوب المشروط قبل وجود شرط وجوبه كي تترشح، وبعد وجوده تحصيل
للحاصل.
اللهم إلا أن يقال: إن الوجوب على المشروط يحدث بعد وجوده فيحكم ببقاء
الوجوب على الشرط، وهو كما ترى خارج عما نحن فيه كما لا يخفى.
وما هو شرط الوجود تابع في الاشتراط لديه، بناء على الملازمة.
تذنيب
قد علم مما ذكرنا وجود الواجب المشروط بشرط الوجوب، فنقول: إنه على
قسمين:
أحدهما: ما هو متقدم على الامر، بمعنى أن الامر متأخر وجودا عن وجود
هذا الشرط، كالبلوغ والعقل وملك النصاب في الزكاة والزاد والراحلة في الحج.
ثانيهما: ما هو متأخر وجودا عن الامر كالقدرة، بمعنى أن الامر يمكن
79

ويصلح إذا كان المكلف قادرا على إتيانه في زمان الامتثال، وهذا هو الشرط
المتأخر للتكليف الذي قدمنا أنه لا يشترط كونه مقدما زمانا أيضا وإن كان مقدما
بالطبع وبالعلية.
وصاحب الفصول عليه الرحمة - حيث لا يرى الشرط المتأخر للواجب
المشروط - التجأ إلى تقسيم الواجب بقوله رحمه الله: وينقسم الواجب باعتبار آخر إلى
ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة،
وليسم منجزا، والى ما يتعلق وجوبه ويتوقف حصوله على أمر مقدور له، وليسم
معلقا. (انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه).
ومحصل ما ذكره في الفصول في بيان الواجب المعلق (1) على ثلاثة أقسام:

(1) على ما هو ببالي المستفاد من بيانات سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله، والأولى نقل عبارة
الفصول ليتضح الحال، قال: تمهيد مقال لتوضيح حال ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلى
مطلق ومشروط، فالمطلق منه ما لا يتوقف وجوبه - بعد حصول شرائط التكليف من البلوغ
والعقل والعلم والقدرة - على شئ كالمعرفة، وانما اعتبرنا الاطلاق بالنسبة إليها عقلا أو
شرعا، ويقابله المشروط وهو ما يتوقف وجوبه على غيرها كالحج.
وقد يطلق الواجب المطلق ويراد به ما لا يتوقف تعلقه بالمكلف على حصول أمر غير
حاصل، سواء توقف على غير ما مر وحصل كما في الحج بعد الاستطاعة، أو لم يتوقف كما
مر، وهو بهذا المعنى محل النزاع في المبحث الآتي، ويقابله المشروط وهو ما يتوقف تعلقه
بالمكلف على حصول أمر غير حاصل، والنسبة بين كل من المطلقين ومشروطه تباين، وبين
كل منهما وكل من الآخرين عموم من وجه.
وقد يعتبر الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى شئ معين، فيقال: الحج واجب مشروط بالنسبة
إلى الاستطاعة ومطلق بالنسبة إلى شراء الزاد والراحلة، فالواجب بالنسبة إلى سببيته التامة
أو الجزء الأخير منه لا يكون إلا مطلقا لا يلزم إيجاب الشئ بشرط وجوبه، فإنه يعد سفها
قطعا، وأما بالنسبة إلى غيره من المقدمات فيجوز أن يكون مطلقا ويجوز أن يكون مشروطا،
وحينئذ فهل الأصل في الامر المطلق - أي المجرد عن التقييد بالشرط - أن يكون مطلقا أو
يتوقف بينه وبين أن يكون مشروطا؟ قولان، الأكثر على الأول وهو المختار، وذهب السيد
إلى الثاني (انتهى). ومراده من (السيد) علم الهدى.
80

الأول: ما كان وجوبه مشروطا بشرط منتزع عن أمر استقبالي، وهو كون
المكلف بحيث يدرك الوقت. وبعبارة أخرى: الواجب مشروط شرعا بمجئ
الوقت ولا يكون نفس البلوغ شرطا لوجوبه، بل المنتزع منه وهو كونه مدركا
للوقت.
الثاني: ما كان مشروطا كذلك، لكن توقفه على مجئ الوقت يكون عقلا.
الثالث: ما يكون مشروطا، لكن كان شرطه حراما. وبعبارة أخرى: يكون
وجوبه معلقا على عصيان المكلف لأمر المولى بحيث كان الامر مشروطا والنهي
مطلقا، فانقدح بذلك أن صاحب الفصول لا يقول بكون المطلق على قسمين معلق
ومشروط، ولا أن المعلق قسم ثالث غير المشروط وغير المطلق كما توهم كل
واحد منها، بل هو تقسيم آخر باعتبار آخر لنفس الواجب كسائر تقسيماته، مثل
تقسيمه باعتبار آخر إلى الأصلي والتبعي، أو إلى النفسي والغيري.
ثم إن الشيخ قدس سره - حيث أرجع القيد إلى المادة دون الهيئة - أنكر على الفصول
وجود هذا القسم المعلق بأن (1) هذا عين المشروط.
وقد عرفت أنه لا يكون مراد الفصول رحمه الله مقابلة هذا القسم للمشروط بل
يتداخل معه تارة ويتبائن أخرى.
وصاحب الكفاية أعلى الله مقامه - حيث يرى الشرط المتأخر - أنكر عليه
أيضا بأن غاية ما يلزم هنا كون هذا القسم مشروطا يتأخر شرطه.
فتحصل من جميع ذلك أنه لا نزاع بين الأنجم الثلاثة (2) قدس الله أسرارهم
في أن هذا الوجوب حالي والواجب استقبالي.
وقد يقال بأن وجوب المقدمة التي لم يبلغ زمان ذيها نفسي تهيئي فلا اشكال
حينئذ في وجوبها قبل وجوب ذيها.

(1) بيان الانكار.
(2) صاحب الفصول، والشيخ، وصاحب الكفاية رحمه الله.
81

فالحاصل: أن الاشكال المعروف بينهم - من أنه كيف يمكن وجوب المقدمة
مع عدم وجوب ذيها في مثل (صم غدا) مع اشتراط صحة الصوم بالاغتسال قبل
الفجر، مع أنه بناء على الملازمة يترشح من ذي المقدمة إلى المقدمة - يمكن دفعه
بأحد الأوجه الأربعة:
(إما) بكون الواجب معلقا دون وجوبه، كما نسب إلى صاحب الفصول رحمه الله.
(أو) كون قيد الزمان في الواجب المتقيد به شرعا راجعا إلى المادة دون
الهيئة، كما نسب إلى الشيخ الأنصاري قدس سره.
(أو) كون القيد من قبيل الشرط المتأخر، ولا ضير في تأخره زمانا بعد كونه
متقدما بالطبع وبالعلة، كما نسب إلى صاحب الكفاية أعلى الله مقامه.
(أو) كون وجوب المقدمة نفسيا تهيئيا، كما نسب إلى المحقق الأردبيلي قدس سره،
هذا.
واعلم أن القسم الثالث من الأقسام الثلاثة للواجب سيأتي إن شاء الله تعالى
في مبحث القيد.
وأما الأولان فقد يشكل في الأول منهما، بأنه لا يمكن تعلق إرادة المولى
بالوجوب الفعلي المتعلق بالواجب الاستقبالي، فإن الوجوب في الوقت الشرعي
لا يمكن فعليته لعدم تمشي الإرادة التشريعية بالنسبة فإنها كالارادة التكوينية،
فكما لا يمكن إيجاد فعل تكويني فعلا في زمان متأخر، فكذا لا يمكن البعث نحو
فعل متأخر، فلا يترشح وجوب المقدمة من ذي المقدمة التي كذلك بخلاف
الموقت العقلي الذي يكون وجوبه فعليا، غاية الامر تحقق الواجب يحتاج إلى
مقدمات مستلزمة لمقدار من الزمان، فإن وجوبها فيه بملاك تفويت الواجب.
وبعبارة أخرى: إن أتى مثلا بالغسل قبل الفجر يمكن التكليف بعده بالصوم،
وإلا فلا، فكما يحرم ترك الواجب المحقق فكذا يحرم ترك ما يوجب انتفاء
الموضوع للواجب، فلأجل عدم تحقق القبح تتحقق الإرادة الفعلية بالنسبة إلى
82

الواجب، فيترشح الوجوب منه إلى مقدماته بخلاف المقام، فإنها فيه تقديرية،
بمعنى أنه على تقدير تحقق الشرائط ورفع الموانع توجد إرادة فعلية.
(وفيه) أولا: أنه لا فرق بين القسمين في أن الواجب تقديري، فكما لا يضر
احتمال فوت الواجب الموقت العقلي في كون الوجوب فعليا فكذلك لا يضر في
الموقت الشرعي، وكما لا يحصل في الأول فوت الواجب الاستقبالي فكذا في
الثاني.
وثانيا: كون قبح ترك الواجب مساويا لقبح ما يوجب انتفاء موضوعه ممنوع،
فإن الأول يصدق عليه العصيان دون الثاني، فإن عصيان شئ لم يتحقق بعد غير
معقول كما لا يخفى، هذا.
مع أن اللازم على صاحب الفصول القول بالواجب المشروط بالشرط
المتأخر لا محالة، فإن كل الواجبات مشروطة بقدرة المكلف على الفعل في زمان
الفعل لا في زمان التكليف وهو متأخر عن زمان التكليف، فالواجب دائما
مشروط بالشرط المتأخر، أعني القدرة.
ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري
عرف الأول بأنه ما أمر لأجل محبوبيته بنفسه، والثاني ما أمر به لأجل
محبوبيته لغيره.
واعترض عليه بأن لازم ذلك خروج أكثر الواجبات عن المعرف، فإن وجوبه
غالبا لأجل مصالح فيه.
وأجيب بأن المراد تعلق الوجوب على ما هو المحبوب، والمصالح التي
لاجلها وجب شئ آخر غير مقدورة، فلا يتعلق بها وجوب واندفع بكونها مقدورة
بالواسطة، والمقدور بالواسطة مقدور أيضا.
(وفيه) أنه إن كان المراد بالمحبوبية أنه بنفسه محبوب فالاشكال باق لعدم
83

محبوبيته كذلك، وإن كان المراد أن محبوبيته لأجل فوائد، ننقل الكلام إلى تلك
الفوائد المفروضة ونقول: إنها هل هي محبوبة بنفسها؟
وبعبارة أخرى: علة المحبوبية إن كانت نفس المصالح فلازم ذلك أن الافعال
التي هذه المصالح مترتبة عليها لا تكون محبوبة، وإن كانت العلة غيرها ننقل
الكلام إلى ذلك وقلنا مثل ما قلنا فيها.
فالتحقيق أن يقال: إن الواجب النفسي هو العنوان الذي تعلق الامر في ظاهر
اللفظ أو غيره من أسباب البعث، والغيري ما كان وجوبه من حيث إنه طريق إلى
الغير.
وبعبارة أخرى: الوجوب الغيري في الواقع يكون وجوبا للغير بحيث إذا
تأمل العقل لا يرى وجوبا غير وجوب الغير بحيث يكون وجوبه مندكا في
وجوب الغير.
توضيحه: أن منشأ تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري بين الخاصة والعامة
هو أنهم - بعدما اختلفوا في استلزام بعث المولى نحو شئ لبعثه نحو مقدماته -
اختلفوا في أنه على القول بالاستلزام شرعا هل يكون وجوب المقدمات من حيث
هي هي، أو من حيث إنها طريق إلى الغير.
فإن كان الأول فهو على قسمين: تارة هو محبوب بذاته ويسمى واجبا نفسيا،
وأخرى للتوصل به إلى الغير ويسمى واجبا غيريا.
والغالب في الأوامر الشرعية البعث إلى الكليات لا الموضوعات الجزئية، نعم
ربما يبعث نحو شئ مستقل، مثل قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم... الآية (1).
وحينئذ فلا يلزم الاشكال على التعريف طردا ونقضا وإشكالا وجوابا على

(1) المائدة: 6
84

كل من التقديرين، كما لا يخفى.
الشك في الغيري والنفسي
ثم إنه إذا شك في واجب أنه غيري أو نفسي فتارة يعلم وجوب الغير، وأخرى
لم يعلم وجوبه لكن علم وجوب هذا الشئ ولو كان مقدمة، وثالثة كان وجوبه
فعلا معلقا على كونه نفسا.
فعلى الأولين يجب مطلقا، وعلى الثالث فهل يحمل على النفسي أم لا؟
الظاهر أنه يحمل على الوجوب النفسي بظاهر الامر حيث إنه كان واجبا متعلقا
بنفس الفعل فحيثما توجه الامر إلى فعل يحمل على أنه بنفسه مطلوب لا للغير.
وتوهم (1) إثبات النفسية بالتمسك بالاطلاق حيث تكون الغيرية قيدا زائدا
والأصل عدمه مدفوع، بأن الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي ولا تتقيد
العلة بمعلوله لاختلاف هويتهما، فالتقييد غير ممكن كي يتمسك بالاطلاق، كما لا
يخفى.
مضافا إلى أنه لا تضييق في الوجوب غيريا كان أو نفسيا، فإن العلة لا توجب
تضييق دائرة المعلول، كما هو واضح.
تبصرة
إتيان الواجب نفسيا كان أو غيريا هل يوجب استحقاق الثواب أو تركها
استحقاق العقاب أم لا؟ أما الثاني فلا اشكال في استحقاقه بالترك عقلا وعرفا
وشرعا بمقتضى الآيات والأخبار المتواترة.

(1) إشكال على الكفاية حيث قال: إذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري فالتحقيق أن الهيئة
وإن كانت موضوعة لما يعمها إلا أن إطلاقها يقتضى كونه نفسيا، فان لو كان شرطا لغيره
لوجب التنبيه عليه على المتكلم الحكيم. (الكفاية: ج 1 ص 172).
85

وأما الأول فقد يقال باستحقاقه للأول عقلا، لان تحميل الغير على المشقة
قبيح عقلا، واستحقاقه شرعا أيضا بمقتضى الآيات الدالة على حصول الاجر بفعل
الطاعات.
والحق عدم الاستحقاق، لان عمل المملوك لا يوجب على المولى الذي
وجوده منه مع تمام شؤوناته ولوازم إطاعته من العقل الذي هو رسول باطني
والشرع الذي هو عقل (رسول - خ ل) ظاهري ولا سيما عند كون أوامره لمصلحة
نفس العبد كأوامر الطبيب بالنسبة إلى المريض.
وكيف كان، فعلى القول بالاستحقاق لا فرق بين الواجب النفسي والغيري لان
حكم العقل قبح حمل الغير على عمل بلا أجرة، وهذا كما ترى لا فرق بينهما بل
يحكم بهذا مع عدم وجوبه أيضا، فلا يبتنى القول باستحقاق الثواب على
المقدمات على القول بوجوبها، سواء كانت مطلوبة بنفسها أيضا أم كان وجوبها
مترشحا من وجوب ذيها.
وأما الاشكال - بأن وجوب المقدمات لا بد أن يكون توصليا لا تعبديا، فإن
المقدمة ما هو بالحمل الشايع الصناعي مقدمة، أعني ذات الافعال التي لها دخل
في تحقق الواجب، فلا يمكن أن يتعلق الغرض بنفس المقدمة مع قطع النظر عن
كونها طريقا إلى الغير كي يمكن أن يصير داعيا إلى إتيان العمل بقصد القربة كما
قيل في الواجبات التعبدية.
فمندفع، أولا: بما ذكرنا من عدم توقف حصول الثواب على وجوب
المقدمات، وثانيا: بما مر منا آنفا في جواب اشكال أن قصد القربة كيف يمكن ان
يكون جزء للمأمور به.
تنبيه
قد عرفت إمكان إتيان الطهارات الثلاث (الوضوء، الغسل، التيمم) على القول
86

به في التيمم أيضا بأحد وجهين: إما بقصد المحبوبية الذاتية، أو بداعي إتيان ذي
المقدمة.
فهل يجوز إتيانها قبل وقت ذيها إذا كان موقتا أم لا؟ وجهان: (من) أن
الداعي إلى إتيان المقدمة التمكن من إتيان ذي المقدمة، والامر بإتيان ذيها لا
يدعو إلى المقدمة إلا وقت وجوبه، فلا يمكن إتيان المقدمة لأنه مسبوق بالإرادة
التي لا تتحقق قبل تحقق منشأها الذي هو وجوب ذي المقدمة. (ومن) أن إتيان
المقدمة على نحو المقربية لا يحتاج إلى إتيانها بقصد الامتثال، بل يكفي قصد
إمكان التوصل بها إليه في أول أزمنة الامكان.
والحاصل: أن لها اعتباران: (الأول) الطريقية (الثاني) حصول قصد الامتثال
بالنسبة إلى ذيها، فإذا تعذر الثاني في بعض الفروض تعين الأول.
نعم، هذا الوجه بالنسبة إلى الطهارة الترابية بإطلاقه مشكل إلا على القول
بجواز إتيان ذيها في أول الوقت بالنسبة إلى ذوي الأعذار كلا أو بعضا. ولا يبعد
ترجيح الوجه الثاني، فعلى هذا التقدير تكون الطهارة قبل الوقت المسماة بالطهارة
التهيئية على وفق القاعدة، والخروج عن الجواز محتاج إلى دليل، وعلى التقدير
الأول - أي عدم الاشتراط - مقتضى القاعدة عدم الجواز إلا لدليل.
في تعلق الوجوب بالمقدمة
في المعالم - في مقام الجواب عن القائلين بحرمة الضد مستندا إلى أن فعل
الضد الخاص مستلزم لترك المأمور به، وهو محرم، فيحرم الضد أيضا، لان مستلزم
المحرم محرم - قال: وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما
تنهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليه، كما
لا يخفى على من أعطاها حق النظر. (انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو
مقامه).
87

وفيه: أن وجوب المقدمة متوقف على إرادة ذيها، فإما أن يقال بوجوبها
أيضا مقيدا بإرادته فيلزم لغوية الايجاب، أو وجوبه مطلقا.
وحينئذ، فإما أن يقال بوجوبها كذلك فمسلم، لكن لا يلزم منه كونه متوقفا
على إرادته، وإما أن يقال بعدم وجوبها في بعض أوقات وجوب ذيها. وحينئذ،
يلزم التفكيك بين اللازم والملزوم، والظل وذي الظل وهو محال، ولذا قيل: إن
إنكار أصل وجوب المقدمة أقل فسادا من القول بتوقفه على الإرادة، فلا ريب في
فساده.
ثم إنه قد اختلف في متعلق وجوب المقدمة فقيل - وهو منسوب إلى الشيخ
المحقق الأنصاري قدس سره - بأن ما هو بالحمل الشايع الصناعي مقدمة هو الفعل بداعي
التوصل إلى ذيها.
وقيل - وهو منسوب إلى صاحب الفصول عليه الرحمة -: هو الفعل الموصل
إلى ذيها مطلقا، سواء أراد التوصل به إلى ذي المقدمة أم لا.
وقيل: لا بشرط شئ من ذلك، بل هي واجبة سواء أراد ذيها أم لا، وسواء
كانت موصلة أم لا.
قال في الفصول: ثم هل يعتبر في وقوع الواجب الغيري على صفة الوجوب
(وجوبه - خ ل) أن يترتب عليه فعل الغير أو الامتثال به وإن لم يقصد ذلك أو يعتبر
قصد التوصل إليه أو إلى الامتثال وإن لم يترتب عليه أو يعتبر الأمران أو لا يعتبر
شئ منهما؟ وجوه، والتحقيق من هذه الوجوه هو الوجه الأول (إلى أن قال:) وأما
القصد فلا يعقل له مدخل في حصول الواجب وإن اعتبر في الامتثال. نعم، إن كان
عبادة وكانت مطلوبيتها من حيث كونها للغير فقط اعتبر فيه ذلك كما في الوضوء
والغسل، بناء على نفي رجحانهما الذاتي. (انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في
علو مقامه).
ويظهر من بعض مقرري بحث الشيخ أعلى الله مقامه أنه رحمه الله أيضا فصل بين
88

المقدمات العبادية وغيرها بلزوم قصد التوصل في الأولى دون الثانية وإنما نقول
يلزم قصد التوصل لا لكون المقدمة لا تتحقق على صفة الوجوب إلا بهذا القصد،
بل لان التقرب لا يحصل به، ونحن نقول به في المقدمات التي لا تكون لها
محبوبية ذاتية كتطهير الثوب مثلا وغيره من التوصليات.
فالشيخ أعلى الله مقامه لا يقول بتوقف تحقق مطلق المقدمات على إتيانها
بقصد التوصل، وعلى تقدير صحة هذه النسبة إليه فنقول:
إنه خلاف التحقيق، فإن ملاك وجوب المقدمات بيد العقل، وهو لا يفرق بين
إتيانها بقصد التوصل وبين عدمه.
في المقدمة الموصلة
ومحصل ما أفاده في أن المقدمة تقع واجبة إذا ترتبت عليها ذوها - ولو كانت
محرمة - كما إذا دخل في الدار المغصوبة لانقاذ الغريق فأنقذه، ووقعت على ما هي
عليه إذا لم يترتب عليها ذوها فإن كانت محرمة فهي محرمة، وإن كانت مباحة
فهي مباحة.
نعم، إذا دخل للتنزه في الدار المغصوبة فاتفق الانقاذ تجزى، وهذا نظير ما إذا
كان للانقاذ طريقان أحدهما محرم والاخر محلل فدخل في الطريق المحرم واتفق
الانقاذ.
أقول: مراد صاحب الفصول من الموصلة أحد الامرين:
الأول: أن تكون الموصلية عنوانا مشيرا إلى ما هو بالحمل الشايع الصناعي
مقدمة واجبة بحيث كانت لو لم توجد لم يوجد ذوها.
وبعبارة أخرى: كونها بحيث يلزم من وجودها الوجود أيضا - مضافا إلى
استلزام عدمها العدم -.
فهذا عين القول بالتفصيل بين السبب وغيره بالوجوب في الأول دون الثاني
كما نسب إلى السيد علم الهدى رحمه الله، وأنكر عليه صاحب المعالم عليه الرحمة.
89

مضافا إلى أن هذا السبب مستلزم لوجوب المسبب بلا إرادة متخللة بينهما،
فحينئذ ينحصر القول بوجوب المقدمة بالأسباب التوليدية والمدعى وجوب
المقدمة الموصلة مطلقا.
الثاني: أن يكون الموصلة قيدا مأخوذا في متعلق وجوب المقدمة بحيث كان
على المكلف إتيان المقدمات مع قيد الموصلية، وهو لا يحصل إلا بأن يأتي بذي
المقدمة، فذو المقدمة حينئذ يجب لان وجوب المقدمة على هذا الفرض مترشح
من وجوب ذي المقدمة، فلو كان هنا وجوب آخر مترشح من المقدمة إلى ذيها لزم
اجتماع وجوبين في شئ واحد وهو محال، لان اجتماع مثلين كاجتماع الضدين
أو النقيضين محال قطعا.
ثم اعلم أن الأقوال الثلاثة - أعني قول صاحب العالم رحمه الله وصاحب
الفصول رحمه الله والشيخ رحمه الله - منشأها تصحيح العبادة التي وقعت مقدمة لترك المأمور
به، فصاحب المعالم رحمه الله التجأ إلى عدم وجوبها على تقدير عدم إرادة ذيها.
توضيحه: أن ترك الضد الخاص يجب من باب المقدمة إذا كان فعل المأمور
به واجبا، وأما إذا لم يكن واجبا كما إذا كان للمكلف صارف عن فعله كما هو
المفروض عند فعل الضد، فإن (1) فعل الضد قرينة على عدم إرادته فعل المأمور به
فلا تجب مقدمته.
وأما القولان الآخران فيأتي توضيحهما إن شاء الله في مبحث الضد. نعم،
ذكروا ثمرات اخر هنا لا ثمرة في نقلها.
ثم لا يخفى أنه لا أصل في المسألة على تقدير الشك في وجوبها، فإنه لا
يتصور هنا أصل إلا الاستصحاب، وهو لا يجدي في المقام لعدم الثمرة فيه إلا
زوم إتيانها وهو أثر لمقدميتها للواجب لا لوجوبها.
وتوهم أنه وإن لم يجر في نفس المسألة التي هي الملازمة وعدمها، فإنها غير

(1) تعليل لوجود الصارف.
90

مسبوقة بالعدم في زمان إلا أنه في وجوبها، فإنه مسبوق بالعدم ولو بعدم وجوب
ذيها مدفوع بأنه إذا كان المرفوع بالأصل تنجزها فغير مثمر، فإنه لا أثر للوجوب
إلا لزوم إتيانه واستحقاق الثواب أو العقاب في صورة الموافقة أو المخالفة،
والأول لازم مقدميتها كما مر، والثاني مفقود في المقام باعتراف المتوهم وان كان
فعليتها، فاجراء الأصل غير ممكن، فان وجوب المقدمة لا يكون لها جعل مستقل
كي يدفع بالأصل عند الشك، بل هو إن كان، فهو للملازمة الواقعية، فلا يمكن رفع
اللازم مع فرض ثبوت الملزوم كما هو المفروض في المقام هذا مضافا إلى أنه لا
أثر في رفعه وجريان الاستصحاب بلحاظ آثاره كما مر.
إذا أحطت خبرا بما ذكرناه من أول بحث المقدمة إلى هنا فاعلم أن النزاع في وجوب المقدمة وعدمه على وجهين:
الأول: أن يقال: إنه لما وجب ذو المقدمة وجب بحكم العقل الاتيان بمقدماته
بلحاظ أنه لا يحصل إلا بإتيانها. وبعبارة أخرى: يتصور النزاع في الوجوب
العقلي لا الشرعي، فهذا لا نزاع فيه.
الثاني: أن يقال: بكشف العقل من ايجاب ذيها وعدم حصوله إلا بها أن هنا
حكما شرعيا بحيث لو التفت الامر إلى المقدمات يحصل له حالة بعثية إليها، فهذا
محل النزاع.
فنقول: ذهب المشهور إلى وجوبها مطلقا والظاهر استنادهم إلى الوجدان كما
يظهر من استدلالاتهم، والشهرة وإن قلنا بحجيتها في الاحكام الفرعية إلا أنها
ليست حجة في مثل المقام، كما لا يخفى وجهه.
ونسب إلى بعض العامة إنكار وجوبها مطلقا.
وذهب بعض إلى التفصيل بين المقدمة السببية وغيرها، وآخر إلى التفصيل
بين المقدمة الشرعية وغيرها بالوجوب في الأولين دون الثانيين.
والظاهر أن منشأ اختلافهم ليس الاختلاف في حكم الوجدان كي يشكل
91

عليهم أنه إذا كان مناط الوجوب المقدمية فلا تفصيل، وإلا فلا تفصيل أيضا.
بل هو أمر آخر وهو أن القائلين بالتفصيل الأول توهموا أن الامر بالمسبب
أمر بالسبب حقيقة لكونه مقدورا دون المسبب، فإن مرادهم بالأسباب الافعال
المباشرية وبالمسببات الافعال التوليدية التي لا يكون لها إرادة ولا إرادة
المسببات كما مر سابقا من أن السبب والمسبب وإن كانا وجودا وايجادا متعددا
إلا أنه بإصدار واحد وهو لا ينشأ إلا بإرادة واحدة، فتوهموا أنه لما لم يكن للعبد
إلا إرادة واحدة متعلقة بالأسباب فلا جرم تكون المقدمة السببية واجبة لعدم
انفكاك وجوبها عن وجوب المسبب.
وفيه: أنه خروج عن محل النزاع، فإنه فيما إذا تمكن من ايجاد المقدمة وذيها
بإرادتين مستقلتين، واحدهما للوجوب النفسي، والاخر للوجوب التبعي
المقدمي، وعلى ما توهموا تعلق الوجوب النفسي بالمقدمة ولم يجب ذوها أصلا،
وهو خلاف المفروض كما لا يخفى، مضافا إلى جواز تعلق الوجوب بالمسبب
وكونه مقدورا ولو بالواسطة.
وأما بيان التفصيل الثاني فحاصله: أنه لما كان إتيان ذي المقدمة ممكنا عقلا
بدون المقدمة إلا أن الشارع لم يمضه بدونها لا جرم يكون الواجب متقيدا بهذه
المقدمة الشرعية نحو دخول التقيد وخروج القيد وإتيان الواجب المتقيد لا يمكن
إلا بإتيان قيده، فإن التقيد أمر اعتباري لا وجود له إلا بمنشأ انتزاعه - أعني القيد -
فلا بد من شمول الواجب النفسي لهذا القيد ليتمكن المكلف من إتيانه فتكون
المقدمة الشرعية واجبة لكونها قيدا لذيها.
وفيه: ما مر من أنه خروج عن المتنازع أيضا، فإنه في وجوبها التبعي وعلى
هذا يكون وجوبها نفسيا.
مضافا إلى إمكان عدم حصول الواجب عقلا إلا بإتيانها، غاية الامر كشف
الشارع عن هذا الحكم، فتكون القيود الشرعية قيودا عقلية حقيقية كما مر سابقا.
92

وكيف كان، فقد استدل أبو الحسين البصري (1) على الوجوب مطلقا بأنه لو لم
تجب المقدمة لجاز تركها، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه لزم التكليف بما
لا يطاق، وإلا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا.
ومحصله: أنه على تقدير عدم الوجوب يلزم أحد الامرين إما التكليف بما لا
يطاق أو اجتماع النقيضين، وحيث ثبت أن كليهما محالان ثبت الوجوب.
وفيه: أنه إن كان المراد من المضاف إليه لفظة (حينئذ) جواز الترك منعنا لزوم
أحد الامرين، وإن كان الترك منعنا جواز (صحة - خ ل) كون لفظة (حينئذ) حد
الوسط لعدم تكرره على هذا التقدير، كما لا يخفى وجهه.
واستدل أيضا على الوجوب بوجوه اخر:
الأول: أنه إذا صرح المولى في مورد بوجوبها بأن قال مثلا: يجب عليك
دخول السوق واشتراء اللحم، علمنا بوجوبها وأن المناط هو المقدمة لا غير، ولا
فرق بين مقدمة ومقدمة، ولا بين مولى ومولى، ولا بين عبد وعبد، فنستكشف
الوجوب في سائر الموارد التي لم يصرح المولى بوجوب المقدمة.
ويمكن أن يجاب بأن لا يسلم أن قوله (يجب دخول السوق... الخ) لا يدل
على وجوب دخول السوق بما هو هو، بل يدل على أنه مراد بما هو طريق إلى
الغير، فلا تتعلق الإرادة بدخول السوق مستقلا بنحو يبعث إليه المولى، بل الامر به
لتعيين الطريق.
الثاني: أن الإرادة التشريعية كالارادة التكوينية، فإذا أراد تكوينا ايجاد شئ
فلا بد من إرادة ايجاد مقدماته، فكذلك في الإرادة التشريعية.
والجواب: أن الإرادة التكوينية - كما مر - هي إرادة ايجاد الفعل بنفسه بلا

(1) محمد بن علي بن الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة وهو أحد أئمتهم الاعلام
المشار إليه في هذا الفن (إلى أن قال:) توفى ببغداد سنة 436 ه‍ (الكنى والألقاب للمحدث
القمي ج 1 ص 50).
93

توسط إرادة الغير في إيجاد هذا الفعل، والتشريعية هي إرادة المولى توليد إرادة
أخرى للعبد وانبعاثه إلى المبادئ الاختيارية للفعل كي يوجد منه بإرادته
واختياره، فالإرادة التشريعية بهذا المعنى لا تستلزم إرادة إيجاد مقدماته من
الغير.
وأما قياسها بالإرادة التكوينية فهو مع الفارق فإن التكوينية لا بد فيها من
إرادة إيجاد مقدماته ليتمكن من ايجاد ذيها بخلاف التشريعية فإن المولى يطلب
ايجاد الفعل من الغير بإرادة نفسه، وهو لا يتوقف ولا يستلزم إرادة ايجاد مقدماته
منه، بل هي مفوضة منه إليه بحكم عقله.
الثالث: المراجعة إلى الوجدان.
والجواب: أن من تصور وجوبا لا مخالفة له ولا امتثال ولا يعد من الوجوبات
عند السؤال من المولى يحكم الوجدان بعدم وجوب هذا الشئ.
الرابع: اجماع العقلاء بما هم عقلاء على وجوبها.
وفيه: أن الحاجبي في المختصر والعضدي في شرحه، وكذا جماعة من العامة
منكرون لوجوبها وهم أيضا من العقلاء.
فالقول بعدم وجوب المقدمة شرعا لا إباء عنه.
نعم، لا يبعد الالتزام بالوجوب التبعي الضمني لا الوجوب البعثي الذي تترتب
عليه الآثار.
ولا يبعد أن يكون مراد المحققين من القدماء والمتأخرين من الوجوب ما
ذكرنا لا الوجوب المصطلح البعثي بحيث يعد من الوجوبات المولوية التي تترتب
عليها الآثار، هذا كله في مقدمة الواجب.
وأما مقدمة المستحب فمثلها النعل بالنعل والحذو بالحذو فلا نطيل.
وأما مقدمة الحرام فإن قلنا: أن الحرام عبارة عن الزجر والمنع من الفعل كما
هو الحق فلا وجه للقول بحرمة مقدماته، فإن وجوب مقدمة الواجب على القول به
94

إنما هو لكونها متوقفا عليها الواجب، ولا بد للمكلف فعلها ليتمكن من فعل ذيها،
وهذا لا يجري في مقدمة الحرام.
وإن قلنا: إنه عبارة عن طلب الترك وأن الترك مطلوب فلا تجب إلا المقدمة
السببية إما بناء على أن الامر بالسبب أمر بالمسبب كما قيل، وإما بناء - على ما هو
الحق - من أن الامر بالمسبب أمر بنفسه، فحينئذ تعلق الحرمة أولا وبالذات
بالسبب، وثانيا وبالعرض بالمسبب، فلا يكون على كل حال إلا الحرمة الواحدة.
وأما المقدمة الغير السببية فلا حرمة فيها، لعين ما ذكرنا بناء على الوجه
الأول، والحمد لله، رب يسر ولا تعسر.
فصل في مبحث الضد
اختلفوا في أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده العام فقط أو الخاص
أيضا، أو التوقف فيه، أو في كليهما؟
ثم الاقتضاء هل هو بنحو العينية بمعنى المطابقة، أو على نحو الجزئية بمعنى
التضمن، أو بنحو اللزوم البين بالمعنى الأعم، أو الأخص أو غير البين؟ وجوه
وأقوال لا يهمنا ذكرها كلها.
فقبل الخوض في المقصود لا بد من بيان أمور:
الأول: أن الضد هنا أعم من الضد باصطلاح أهل المعقول، فإنهم يقسمون
الشيئين المتغايرين إلى المتماثلين والمتخالفين والمتقابلين ثم يقسمون الأخير
إلى الوجوديين أو أحدهما وجودي والاخر عدمي.
والوجوديان إما يتوقف تصور أحدهما على تصور الاخر فهما المتضايفان،
أو لا فهما المتضادان.
وما كان أحدهما عدميا إما أن يكون عدم ذلك الشئ بنفسه فهما المتناقضان
أو عدم شئ من شأنه الوجود فهما العدم والملكة.
95

فالمتضادان عندهم هما الأمران الوجوديان المتعاقبان في الوجود اللذان لا
يتوقف تصور أحدهما على تصور الاخر.
ولكن الأصوليين يطلقون الضد على أقسام ثلاثة: (أحدها) النقيض عند أهل
المعقول. (ثانيها) أحد الأضداد الوجودية لا بعينه ويسمون هذين بالضد العام.
(ثالثها) كل واحد واحد من الأضداد المعينة ويسمونه بالضد الخاص.
الثاني: بناء على ما ذكرنا سابقا من أن المسألة الأصولية ما تكون حجة في
الفقه، لا تكون هذه المسألة من المسائل الأصولية، بل من المبادئ الأحكامية التي
هي عبارة عن الأمور التي توجب معرفتها التصديق بمسائل ذلك العلم أو بصيرة
فيه.
كما أن المبادي اللغوية ما توجب فهم معاني الألفاظ التي تستعمل في ذلك
العلم من الحقيقة والمجاز والمشترك بقسميه وغير ذلك.
وكما أن المبادي العقلية ما يوجب البحث فيها تشخيص الحسن والقبح
والمصلحة والمفسدة من الأمور المدركة بالعقل.
الثالث: أن القول بالجزئية أو العينية يتصور في الضد العام فقط دون الخاص،
كما لا يخفى على من تأمل.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه وقع النزاع في موردين: (الأول) أن الامر بالشئ
هل يقتضي النهي عن ضده العام بنحو الجزئية أم لا؟ (الثاني) هل يقتضيه بنحو
العينية أم لا؟
وجه الأول توهم تركب الامر، لكنه ممنوع، فإن الطلب كما ذكرنا سابقا مقول
بالتشكيك يختلف بالشدة والضعف، فالمرتبة الشديدة تسمى طلبا وجوبيا، غاية
الامر عند التعبير عن هذا المعنى وتفهيم المخاطب يعبر عنه بطلب الفعل مع المنع
من الترك.
وجه الثاني - أعني الاقتضاء بنحو العينية - فيمكن تقريره بوجوه:
96

(الأول) أن النهي - بناء على أنه يتحد مع الامر مفهوما ويختلف متعلقا - عبارة
عن طلب الترك، واقتضاء الامر النهي عن الترك معناه طلب ترك الترك، وتحقق
هذا المعنى في نفس الامر يكون بعين وجود الشئ المأمور به، فيكون الامر به
عين النهي عن ضده العام بمعنى الترك.
(الثاني) بناء على ما هو المعروف من أن نقيض كل شئ رفعه يكون نقيض
الضد الذي بمعنى الترك رفعه وعدمه، وعدم الترك وإن كان مفهوما مغايرا مع الامر
بالوجود، إلا أن تحققه النفس الأمري يكون بالوجود والنهي عن عدمه يتحققان
معا بالوجود.
(الثالث) أن يقال: إن نقيض الضد - الذي بمعنى الترك - هو عين الوجود لا
عدم الضد، بناء على عدم تسلم ما ذكرنا من التعبير المعروف في معنى نقيض كل
شئ كما ذكرنا في الثاني. ونقول: إن متعلق النهي العدم، وإن نقيض العدم الوجود،
فيكون نقيض عدم العدم عين الوجود، فمعناه أن النهي عن الضد العام طلب عدم
العدم، والمفروض أنه عين الوجود، فالامر بالشئ عين النهي عن ضده العام،
وهذا أحسن الوجوه لعدم مغايرته مع الامر به ولو اعتبارا.
(الرابع) - بناء على ما هو الحق كما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن متعلق
النهي مختلف مع متعلق الامر لكونه في الأول الزجر عن الشئ، وفي الثاني البعث
إليه - أن الامر بالشئ على هذا وإن لم يكن له مساس مع النهي عن ضده إلا أنهما
بحسب المصداق يكونان متحدين كما مر في المشتق من أن صدق القضية يكون
بحسب وجود المصداق، فصدق قولنا مثلا: الصلاة موجودة، وقولنا: تركها معدوم،
يكون بوجود الصلاة في نفس الامر.
وكيف كان، فالمراد من اقتضائه هو اتحاد النفس الأمري، إلا أن يكون هنا
ايجاب وتحريم، كما أن اقتضاء النهي الامر بضده يكون كذلك، فإذا ترك المكلف
المأمور به لا يعاقب لترك الواجب مرة وفعل الحرام أخرى. هذا كله في الضد
97

العام.
وأما الضد الخاص فلنبين أولا موضوع النزاع في المسألة كي يسهل تصديق
أحد طرفيها.
فنقول: إن موضوع المسألة هو أنه إذا وجب أحد الضدين فهل يوجب ايجابه
تحريم الضد الاخر أم لا؟ وبعبارة أخرى: نفس التضاد بين الوجودين هل يقتضي
إيجاب أحدهما حرمة الاخر أم لا؟
فالمأمور به الذي هو أحد الضدين له اعتباران: الأول أنه واجب، والثاني أن
تركه الذي هو الضد العام حرام، فتارة يستدل بالاعتبار الأول (1) على حرمة الضد
الخاص، وأخرى بالاعتبار الثاني (2).
أما الأول فيقال: إن وجود المأمور به يتوقف على ترك الضد الخاص، فترك
الضد واجب من باب المقدمة، وحيث إن فعل الضد الخاص نقيض لترك الضد
يكون حراما باعتبار أنه الضد العام له، ففعل الضد الخاص يكون حراما.
وأما الثاني فيقال: إن (3) فعل الضد الخاص مستلزم لترك المأمور به، وكل
مستلزم (4) لترك المأمور به مستلزم للحرام، ففعل الضد (5) الخاص مستلزم للحرام،
وكل (6) مستلزم للحرام حرام، ففعل الضد الخاص حرام.
ولا يخفى أن الاستدلال الأول (7) مبني على وجوب المقدمة، والثاني مبني
على أن الحرام مستلزم لحرمة كل ما هو مقدمة له حتى المقدمات الغير السببية كما
أن كلا الاستدلالين مبنيان على حرمة الضد العام فإذا رد الأول فلا يصح
الاستدلال بالدليل الأول، وإذا رد الثاني فلا يصح الاستدلال بالدليل الثاني، وإذا

(1) أي باعتبار وجوبه.
(2) أي حرمة الترك.
(3) هذا بمنزلة الصغرى.
(5) وهذا بمنزلة الكبرى.
(5) هذا بمنزلة النتيجة ولكن تجعل ثانية صغرى للقياس الثاني.
(6) وهذا كبرى النتيجة التي هي الصغرى.
(7) يعني قوله مد ظله: (الأول أنه واجب).
98

رد الثالث فلا يصح الاستدلال بهما هذا.
مضافا إلى أن هذا الاستدلال منشأه التضاد بين الشيئين، وهو من الإضافات
المتشابهة الأطراف كالإخوة لا المختلفة كالأبوة والبنوة وهما يتساويان في
الاحكام الطارية عليها.
فإذا كان وجود أحدهما سببا لعدم الاخر كان وجود الاخر أيضا سببا لعدم
الاخر، وكذا إذا كان عدم أحدهما مقدمة لوجود الاخر كان عدم الاخر أيضا
مقدمة لوجوده، والمقدمية والسببية تقتضيان التقدم بالطبع وبالذات على ذيها
وعلى المسبب، فيلزم كون كل منهما متقدما على الاخر ولازم هذا تقدم كل واحد
من الضدين على نفسه، واعتبار الوجود لكل منهما في مرتبة عدمه، وهو دور محال.
بيان الدور: أن عدم أحد الضدين - كالصلاة مثلا - موقوف على وجود الضد
الاخر، مثل فعل الإزالة مثلا، ووجود كل ما هو متقدم على الضد الاخر،
والمفروض أن من جملة ما هو متقدم هو عدم أحد الضدين، فعدم أحد الضدين
متقدم على نفسه، وهو محال، وكذلك في طرف وجود أحد الضدين، هذا.
وما ذكرنا من التوقف في الطرفين يظهر من كلمات بعض المتقدمين من
الأصوليين كما يظهر (1) من الحاجبي والعضدي (2) في مقام الجواب عن حرمة
الضد الخاص من إنكار وجوب المقدمة لانكار المقدمية.
مع أنهم أجابوا عن شبهة الكعبي (3) (4) وهي عدم وجود المباح، لان كل فعل من

(1) متعلق بقوله قدس سره: يظهر.
(2) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الفاضل المشهور، كان رأس طائفة من
المعتزلة، فقال لهم الكعبية، وهو صاحب مقالات وله اختيارات في علم الكلام، توفي في
سنة 317 ه‍.
(3) والكعبي - بفتح أوله وسكون ثانيه - نسبة إلى بني كعب، والبلخي نسبة إلى بلخ إحدى مدن
خراسان (انتهى) (الكنى والألقاب للمحدث القمي: ج 3 ص 95 طبع مطبعة العرفان - صيدا).
(4) بيان للشبهة.
99

الافعال لا بد أن يقع مقدمة لترك محرم من المحرمات بعدم (1) وجوب المقدمة.
وذهب بعضهم إلى عدم التوقف من طرف العدم، بمعنى أن ترك أحد الضدين
لا يتوقف على وجود الاخر، ولكن فعله يتوقف على عدمه.
ووجه ذلك معلوم لان تحقق الترك من الطرفين ممكن بعدم إرادتهما بخلاف
الفعل، فلا يمكن تحقق أحدهما إلا بعدم الاخر.
وفصل آخر بأنه إن كان أحد الضدين متحققا يتوقف ترك الاخر على رفعه
وإلا فلا.
والحق في المسألة عدم التوقف مطلقا لا من طرف الوجود ولا من طرف
العدم.
بيانه: أن ما هو منشأ لتوهم التوقف لا بد أن يكون نفس التضاد بين الشيئين لا
شيئا آخر، وهو لا يقتضي إلا عدم اجتماعهما في الوجود، بمعنى أنه لا بد أن لا
يجتمع الوجود ان للزوم المحال، وارتفاع المحال يكون بنفس عدم الاجتماع،
وعدم الاجتماع متحقق باجتماع أحد الضدين مع عدم الاخر من غير تقدم
للوجود على العدم أو بالعكس.
نعم، لو كان للوجودين علتان، يمكن ان يؤثر أحدهما في معلوله دون الاخر
لضعفه بالنسبة إليه، فيلزم عدم وجود الاخر لذلك لا لوجود الضد الاخر بل لعدم
تأثير علته فيه.
فتحصل مما ذكرنا عدم التوقف من الطرفين، فلا دليل على اقتضاء الامر
بالشئ النهي عن ضده الخاص، فيصح الضد لو كان عبادة.

(1) متعلق بقوله قدس سره: أجابوا.
100

وربما نسب إلى شيخنا البهائي قدس سره عدم صحة الضد ولو مع القول بعدم اقتضاء
الامر بالشئ النهي عن ضده الخاص، لأنه لا يمكن تعلق الامرين بشئ واحد
في زمان واحد، فلا أمر للضد فلا امتثال.
وأجيب عنه بوجوه ثلاثة:
أحدها: أن الامر تعلق بأحد الضدين في زمان موسع والاخر تعلق بالضد
الاخر في زمان معين من ذلك الزمان الموسع.
وتوهم أن تعلق الامر بالضدين، كما أنه محال إذا كان في زمان معين،
فكذلك إذا كان أحدهما معينا والاخر مخيرا، فإن إتيان الفعل في الجزء من الزمان
الذي تعلق الامر بالضد الاخر معينا في ذلك الجزء محال، والامر بالمحال محال
لعدم انقداح الإرادة بالنسبة إليه مدفوع بأن الامر دائما يتعلق بالكلي، والذي يؤتى
به فرد من هذا الكلي.
وبعبارة أخرى: متعلق الامر أمر كلي، وهو وقوع الفعل والزمان ظرف له، ففي
كل وقت أتى المكلف، الفعل يصدق أنه أتى بالكلي في مجموع هذا الزمان، ولا
يمكن تعلقه بالخصوصيات، ولا يحصل الامتثال أيضا باعتبار الخصوصيات بل
بما أنه فرد من ذلك الكلي.
والحاصل: أن هنا أمرا واحدا تعلق بارتفاع الفعل في مجموع الزمان، والامر
الاخر تعلق بالضد في زمان معين من هذا الزمان، فإذا أتى المكلف الفعل بسوء
اختياره في زمان معين هو ظرف لمتعلق الضد فالامتثال أيضا يتحقق باعتبار
إتيان الكلي وإن كان آثما باعتبار تخصيصه بهذه الخصوصية.
وبعبارة أخرى: يلاحظ المولى كل ما له دخل في تحقق المأمور به شرطا
وجزء وزمانا، فلو لاحظ ما لا دخل له في حصول متعلق الامر يصير لحاظه ذلك
جزافا لا يصدر عن الحكيم، والمفروض أن الامر تعلق بالطبيعة المشروطة
بايقاعها ما بين الحدين مثل زوال الشمس إلى غروبها مثلا، لا بخصوصيات
101

الافراد لعدم دخل في تلك الخصوصيات في تحقق المأمور به، كما هو المفروض.
فإذا أتى المكلف الطبيعة المأمور بها في ضمن إحدى الخصوصيات التي
تكون ظرفا لمتعلق أمر آخر كان آتيا بها أيضا بما هي وإن كان عاصيا باتيانه مع هذه
الخصوصية المستلزمة لترك ضده المأمور به.
الثاني من الوجوه: ما هو منسوب إلى الكفاية (1)، وهو انه وإن لم يكن الامر
الفعلي باقيا إلا أن بقاء ملاك الامر كاف في تحقق الامتثال.
وفيه ما لا يخفى.
الثالث من الوجوه: صحة تعلق الامر بالضد بنحو الترتب، وهذا هو محل
الاشكال عند الاعلام.
ولا بد من بيان محل النزاع فنقول: لا إشكال في امتناع تعلق أمر واحد
بضدين في محل واحد، بل هو بنفسه محال، لان الامر ناش عن إرادة الامر،
وانقداح الإرادة الواحدة في زمان واحد بالنسبة إلى ضدين محال.
كما لا إشكال أيضا في امتناع ما كان مثله كتعلق أمر بشئ وامر آخر بضده
في زمان واحد، فإن العقل يراه مثله من حيث توجه المولى في حالة واحدة إلى
شئ والى ضده، ويبعث ببعثين نحوهما وإن كان تعلق الامر بكل واحد منهما في
نفسه ممكنا
وكيف كان، فلا إشكال في امتناع ذلك، سواء كان الأمران مطلقين أم

(1) الأولى نقل عبارة الكفاية، قال: وعن البهائي رحمه الله أنه أنكر الثمرة بدعوى أنه لا يحتاج في
استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد، بل يكفي عدم الامر به لاحتياج العبادة إلى الامر، وفيه
أنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى، فإنه يصح منه أن يتقرب به منه كما لا يخفى،
والضد - بناء على عدم حرمته - يكون كذلك، فإن المزاحمة على هذا لا توجب إلا ارتفاع
الامر المتعلق به فعلا مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة كما هو مذهب
العدلية، أو غيرها أي شئ كان كما هو مذهب الأشاعرة وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته
وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث بناء على الاقتضاء (الكفاية: ج 1 ص 212).
102

مشروطين بشرط واحد أو بشرطين يتحققان في زمان واحد وسواء كان الشرط
اختياريا أم اضطراريا أم أحدهما مطلقا والاخر مشروطا، لأن المفروض بقاء
المطلق إلى زمان المشروط أيضا.
وإنما الاشكال في أن الامرين المتعلقين بالضدين في زمان واحد هل يمكن
أم لا؟
ولا بد هنا من بيان أمور مقدمة.
الأول: أن كل أمر تعلق بموضوع لا يتجافى ولا يتعدى عن مرتبته نزولا
وصعودا.
الثاني: الملاك في استحالة التكليف بالمحال أحد أمرين، إما كونه بنفسه
محالا كتعلق أمر واحد بضدين في زمان واحد، وإما كونه بمنزلة ذلك بنظر العقل
كتعلق أمرين بالضدين في زمان واحد في مرتبة واحدة.
الثالث: أن إطاعة كل أمر وعصيانه متأخران رتبة عن نفس الامر، ولا يمكن
كونه مقيدا بأحدهما ولا مطلقا بحيث يسري إليهما نحو سريان المطلق إلى أفراده
لأنهما لا يتصوران إلا بعد تحقق الامر، فلو كان في مرتبته لزم كون الشئ متقدما
ومتأخرا، وهو محال.
إذا عرفت هذه المقدمات تعرف أنه إذا تعلق الامر بالأهم مطلقا وأمر آخر
بالمهم مشروطا بعصيان الامر الأول فهو وإن كان يلزم منه اجتماع الامرين في
زمان واحد إلا أن مرتبتهما مختلفة، فإن الامر الثاني في مرتبة عصيان الامر
الأول، وعصيانه متأخر عن أمره بمقتضى المقدمة الأخيرة، والامر المشروط
بشرط - وهو عصيان الأهم - متأخر عن شرطه.
فالامر الثاني - وهو المهم - متأخر عن عصيان الامر الأول المتأخر عنه
بمرتبتين، ولا يمكن صعود الثاني ولا نزول الأول حتى يجتمعان في مرتبة واحدة
بمقتضى المقدمة الأولى، ولا يلزم من ذلك تكليف بالمحال لعدم وجود واحد من
103

الملاكين المذكورين في المقدمة الثانية، فإن الأول مفروض العدم، والثاني مفقود
أيضا، لاختلاف مرتبتهما، إذ العقل لا يراه محالا كما مر.
وتوهم أن المفروض إطلاق الامر الأول الشامل لزمان ثبوت الامر الثاني،
فاجتمع الأمران مدفوع بأن إطلاقه ذاتي لا بعنوان أنه عاص، والمفروض أن الامر
الثاني مشروط بهذا العنوان المتأخر، والاتحاد في الزمان غير قادح بعد كفاية
اختلاف المرتبة في صحة الترتب.
هذا مضافا إلى أن وقوع الامر على الترتب في العرف كثير.
(وأما) ما قيل في الجواب عنه بأنا نحمل ما وقع من الموالي العرفية على أحد
وجهين، إما على رفع اليد عن الامر الأول، وإما على الارشاد إلى محبوبية الثاني
فمدفوع بأن رفع اليد عن الأهم إما لحصول البداء وانقلاب المصلحة فيه، فهو
خلاف المفروض، وإما لعدم تأثير الامر بالأهم في نفس العبد، ففي صورة خيبة
الإرادة بالنسبة إلى الأهم يوجه المولى أمره إلى المهم، فهو حينئذ عين ما ذكرنا
من تحقق الامر الثاني في صورة عصيان الامر الأول.
إن قلت: لازم ما ذكرت من تأخر مرتبة الثاني عن الإرادة بمرتبتين باعتبار
العصيان جواز تعلق الامر الثاني في مرتبة إطاعة الامر الأول أيضا، لان الإطاعة
والعصيان في مرتبة واحدة، والمفروض صحة التعلق مشروطا بالعصيان، فلتكن
كذلك مشروطا بالإطاعة، وهو مخالف للضرورة على بطلانه.
قلت: هذه مقايسة مع الفارق، فإن الامر مشروطا بالعصيان ممكن في حد
ذاته، وباعتبار خلو الزمان عن الفعل فالزمان قابل للامر الاخر بخلاف صورة
الإطاعة، فإن الامر حينئذ في نفسه محال لان الزمان مشغول بالفعل فرضا، فيلزم
الامر بالمحال.
إن قلت: هذا يلزم منه استحقاق تعدد العقاب في صورة تركهما مع أن الزمان
غير قابل إلا لأحدهما.
104

قلت: لا مانع منه أصلا في صورة تركهما فإنه يترتب على التمرد كما أن
الثواب يترتب على الإطاعة، فإن أتى بالأهم لا يستحقه أصلا لعدم تحقق شرط
الامر بالمهم، والمفروض إطاعة الأهم، وإن أتى بالمهم دون الأهم فيستحق عقابا
واحدا لمكان التمرد بالنسبة إليه، وإن تركه أيضا فعليه عقابان، لان ترك المهم لا
يستلزم انقلاب التمرد بالنسبة إلى التمرد الحاصل من ناحية ترك الأهم.
ثم إنه نقل عن الشيخ المحقق الأنصاري قدس سره في مقام تأسيس الأصل عند
تعارض الدليلين على تقدير السببية أن مقتضى القاعدة التخيير بمعنى أن وجوب
العمل بكل منهما مشروط بعدم العمل بالآخر، فوجوب كل مشروط بعدم العمل
بالآخر.
واستشكل عليه بعض الأعاظم رحمه الله بأن الشيخ غير قائل بالترتب من طرف
واحد مع أنه يلزم عليه ذلك، بل هنا أشد، لأنه من الطرفين كما لا يخفى.
أقول: لا يخفى عدم ورود الاشكال عليه، فإن أحد الامرين في المقام مطلق،
باق على إطلاقه حتى عند تحقق الامر الثاني، غاية الامر أنه لا أثر له بالفرض
بخلاف ما أسسه الشيخ الأنصاري قدس سره، فإن كل واحد من الامرين مشروط وجودا
بعدم العمل بمقتضى الدليل الاخر، فلم يجتمعا قط.
نعم، يمكن أن يستشكل بأنه عند عدم الاتيان بواحد منهما يجتمع الأمران
لتحقق شرطهما، اللهم إلا أن يقال بأن مرجع ما ذكره إلى التخيير، فلا يجتمع
الأمران أيضا.
فانقدح بذلك كله صحة القول بالترتب وإمكانه عقلا ووقوعه شرعا وعرفا.
الامر بشئ مع علم الامر بانتفاء شرطه
اختلفوا في جواز أمر المولى بشئ مع علمه بانتفاء شرطه، واتفقوا على أن
105

المراد من الشرط شرط الوجوب لا شرط الوجود، فالنزاع على هذا التقدير
واضح الفساد لعدم إمكان الامر، بل لا معنى له بعد فرض أن ما هو معلوم العدم له
دخل في تحقق الامر.
نعم، يمكن أن يكون منشأ النزاع في أنه هل يجوز الامر من المولى قبل زمان
الوجوب بشئ في زمان متأخر؟
وبعبارة أخرى: هل يجوز أن يريد المولى أمرا ويطلبه وهو يعلم أنه لا يبقى
على وجوبه أم لا؟
فالأشاعرة لما ذهبوا إلى اثنينية الطلب والإرادة جوزوا ذلك، والمعتزلة
والامامية لما أنكروا ذلك عليهم لم يجوزوا ذلك.
ويؤيد كون محل النزاع ذلك استشهاد القائلين بالجواز بقصة ذبح إبراهيم
ولده عليهما السلام، فإنه تعالى أمره بالذبح قبل زمان الفعل مع علمه تعالى بأنه سينسخه.
فصل في تقسيم الايجاب
الايجاب على قسمين: تعييني، وتخييري. ولما عرف العامة الايجاب ببعض
لوازمه، مثل أنه ما يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب، وهذا المعنى منطبق على
التعييني دون التخييري لعدم استحقاق العقاب، لمجرد ترك أحد الطرفين،
اختلفوا (1) هناك.
فقيل: إن الواجب أحد الشيئين أو الأشياء وقيل: ما هو معلوم عند الله غير
معلوم عند العبد، وقيل: ما اختاره المكلف فهو واجب، كل هذا لينطبق تعريفهم
على ذلك.
وأما على ما اختاره الامامية في تعريفه عند المتقدمين من الأصوليين وهو ما
يستحق تاركه - لا إلى بدل - العقاب فينطبق من دون تكلف، بل الظاهر أن نحو

(1) جواب لقوله: " لما عرف ".
106

تعلق الوجوب التخييري بأكثر من شئ مختلف مع نحو تعلقه بشئ معين،
وأحكامه أيضا مختلفة مع أحكامه، فإن نحو تعلق الايجاب بأكثر من شئ واحد
على سبيل الترديد النفس الأمري دون الايجاب بشئ واحد، والعقاب في
الواجب التعييني مترتب على ترك ما يوجب فعله الثواب، بخلاف التخييري فإن
العقاب على ترك تمام متعلقات الامر، والثواب مترتب على فعل أحد الأشياء.
وفصل في الكفاية بين ما إذا ترتب مصلحة واحدة على فعل كل واحد من
واجبي التخييري وما إذا ترتب مصالح متعددة مختلفة حسب تعدد المتعلق، بأن
الأول واجب تخييري عقلي، بجامع بين الشيئين أو الأشياء، يكون هو المأمور به
حقيقة، ضرورة لزوم السنخية بين العلة والمعلول، واستحالة أن يكون الشيئان بما
هما شيئان علتين لمعلول واحد ضرورة أن الواحد لا يصدر إلا من الواحد، كما أنه
لا يصدر منه إلا الواحد، والثاني واجب تخييري شرعي، بمعنى أن اختلاف نحو
التعلق محصل له.
وفيه أنا قد ذكرنا أن الواجب التخييري مطلقا مخالف للواجب التعييني تعلقا
وأحكاما كما ذكرنا.
ولا يلزم أن يترتب المصلحة على فعل الواجب لامكان إرادته سبحانه
وتعالى تحميل المشقة بإتيان أحد الشيئين أو الأشياء باعتبار تمرده وعصيانه أمر
المولى ليرجع من النقصان الحاصل من ذلك إلى الكمال الذي كان له قبل العصيان.
كما ربما يؤيده قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا
بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال امره
الآية (1)
وجه التأييد أنه سبحانه وتعالى علل الامر بأحد الأشياء، بذوق العاصي وبال

(1) المائدة: 95
107

أمره.
وكيف كان، فلا كلام في جواز ذلك في الجملة، وإنما الاشكال في بعض
موارده كالأقل والأكثر.
بيان ذلك: أن تعليق الوجوب التخييري على نحو ما قلنا بالنسبة إلى شيئين
متباينين، وكذا الامرين اللذين بينهما جامع مشترك ولو كان كل واحد بالنسبة إلى
شئ آخر منفردا أمر ممكن.
وأما بالنسبة إلى الأقل والأكثر بمعنى أن تعلق الوجوب تخييرا بشيئين
أحدهما واجد لجميع ما الاخر واجده كالتخيير بين التسبيحة الواحدة والثلاث،
فهل يمكن تصويره أو يرجع أخيرا إلى واجب تعييني بالنسبة إلى الأقل والتخيير
في الزائد فيكون مندوبا؟ الظاهر الثاني.
اللهم إلا أن يتعلق الامر بعنوان عرضي ينطبق على الأقل والأكثر كما في
القصر والاتمام حيث تعلق الامر بعنوان الصلاة المنطبقة على الركعتين أو أربع
ركعات أو يتعلق بماهية مقولة بالتشكيك، كالخط فإنه يصدق على شبر وعلى
شبرين على نحو واحد، وفي غير هاتين الصورتين يرجع إلى التعيين بالنسبة إلى
الأقل ويكون الزائد مندوبا.
فصل في الواجب الكفائي
من الواجبات الواجب الكفائي، وله أثران اتفاقيان بين العقلاء والعلماء
(أحدهما) استحقاق الثواب لمن أتى به، وسقوطه عن الباقين (ثانيهما) استحقاق
العقاب لكل واحد من المكلفين.
وحيث رسموا الواجب بما يستحق فاعله الثواب وتاركه العقاب لم ينطبق
هذا الرسم على الواجب الكفائي، لأنه إن تعلق بكل واحد فلم يسقط عن الباقين
ولم لم يستحقوا الثواب جميعا؟ وإن تعلق بواحد منهم دون الباقين فلم استحقوا
108

جميعا العقاب؟
فلأجل هذه العويصة حدثت فيهم أقوال ثلاثة: (أحدها) تعلق الوجوب
بمجموع المكلفين من حيث المجموع. (ثانيها) تعلقه بأحدهم. (ثالثها) ما نسب
إلى المشهور بين قدماء الأصوليين وهو تعلقه بكل واحد واحد لكنه يسقط - بفعل
الواحد - عن الباقين، وفي جميع هذه الأقوال ما لا يخفى.
أما الأول: فإن المجموع بما هو لا عقل له ولا اختيار ولا ينبعث ببعث المولى
وهي مما لا بد منها في التكليف.
وأما الثاني: فإن أريد من أحدهم مفهوم الاحد فالمفهوم غير متعلق للتكليف
لا نفيا ولا إثباتا، وإن أريد مصداقه فلا يعقل لان الترديد النفس الأمري بالنسبة
إلى المبعوث إليه أمر ممكن بعد تنجيز أصل التكليف كما في الواجب التخييري،
وأما بالنسبة إلى المبعوث فلا يعقل لعدم انبعاثه حينئذ، فلا يصح عقاب أحد بترك
الواجب الكفائي، وهو خلاف الاتفاق الذي ذكرناه وسقوط الامر بفعل واحد.
وأما الثالث: فإن سقوط الامر بفعل واحد منهم عن الباقين إن كان بلا حصول
المطلوب فهو خلاف الغرض، ولذا يثاب الفاعل، ولان الامر لا يسقط إلا بالإطاعة
أو العصيان أو ذهاب الموضوع، فحيث انتفى العصيان والمفروض بقاء الموضوع
يتعين الإطاعة، فلم لم يثابوا جميعا عند إتيان أحدهم؟ فإنه مع حصوله لا بد من
ترتب الثواب للاتفاق الذي ذكرناه.
فالذي يقتضيه التحقيق - بعد التأمل في كلمات الأصوليين - أن يقال: إن
البعث توجه إلى كل واحد، لكن المبعوث إليه هي الطبيعة الغير المقيدة بصدورها
من الافراد، فإذا أتى أحدهم فقد تحققت الطبيعة فيسقط الامر لحصول تمام
المطلوب بإتيان هذا الفرد.
وبعبارة أخرى: كل أمر توجه إلى مكلف له ثلاثة تعلقات (أحدها) التعلق
بالامر. (ثانيها) التعلق بالمأمور. (ثالثها) التعلق بالمأمور به. والواجب الكفائي
109

مشترك مع العيني في الأولين، ويمتاز عنه في الأخير بتقيده بصدوره عن
الاشخاص في الثاني وعدم تقيده في الأول، بل الامر تعلق بالمكلفين بالنسبة إلى
نفس الطبيعة الغير المقيدة بصدورها عن شخص خاص، هذا.
وينبغي التنبيه على أمرين
الأول: إطلاق الامر يقتضي الوجوب الكفائي بمعنى سقوط الامر بمجرد
إتيان الطبيعة، لان متعلق الامر مردد بين الطبيعة الصرفة من دون تقيد بصدوره عن
شخص خاص، والتقيد أمر زائد يدفع بالأصل.
وتوهم أنه يقتضي العينية باعتبار أن الواجب الكفائي مشروط بعدم إتيان
الاخر له وهو قيد زائد يدفع بالأصل مدفوع بأن تعلق الامر مطلق غير مشروط
بعدم إتيان الاخر والمطلق يتحقق بأي فرد.
نعم، يمكن أن يقال بعينية الواجب نظرا إلى ظاهر الدليل، فإن نحو الخطاب
المتوجه إلى المكلفين إن كان المراد منه عينيا غير نحوه إذا توجه وإن كان المراد
منه كفائيا فان الوجوب المستفاد من قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
واركعوا مع الراكعين (1) غير الوجوب المستفاد من قوله تعالى: ولتكن منكم
أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون (2)، وكذا من قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر
من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم
يحذرون (3).
الثاني: لو أتى واحد منهم بفرد من الطبيعة بسقط الامر ولا يمكن الامتثال بعد
الامتثال، وأما لو شرعوا جميعا دفعة فهل يتحقق الامتثال بالنسبة إلى كل، أو كان

(1) البقرة: 43.
(2) آل عمران: 104.
(3) التوبة: 122.
110

واحد من الافراد امتثالا؟
التحقيق الأول، لان متعلق التكليف هي الطبيعة، والمفروض إتيان كل واحد
من المكلفين المخاطبين لهذه الطبيعة، والامتثال يتحقق بإتيان الطبيعة، فيكون كل
واحد من الافراد امتثالا، بل تعدد الامتثال هنا أوضح من تعدده فيما إذا أتى في
آن واحد بفردين من الطبيعة كما مر في المرة والتكرار.
في الواجب الموقت والمضيق
الواجب إما مطلق بمعنى عدم مدخلية الزمان في حصول المصلحة، وإما
موقت بمعنى دخله فيه مضيقا أو موسعا.
والمراد من المضيق عدم زيادة الوقت عن زمان الفعل، كما أن المراد من
الموسع زيادته عنه.
وحيث إن القدماء عرفوا الواجب ببعض لوازمه - أعني ما يكون فاعله
مستحقا للثواب وتاركه مستحقا للعقاب ولم يجدوه منطبقا على واحد من
القسمين - اختلفوا على أقوال، فقيل: يختص الوجوب بأول الوقت، وقيل بآخره،
وقيل بالتخيير الشرعي، وقيل غير ذلك من الأقوال التي لا طائل تحت ذكرها.
والحق عدم صحتها أجمع، بل الامر تعلق بالطبيعة المقيدة بصدورها في هذه
القطعة من الزمان، بحيث لو أتى بفرد منها امتثل بما أنه أتى بالطبيعة، لا بما أنه أتى
بالفرد المخصوص بهذه الخصوصية، ففعلها بإتيان واحد من الافراد، وتركها ترك
تمام الافراد، فينطبق على تعريفهم أيضا.
ثم لا يخفى أن بقاء الوقت بمقدار أداء الواجب في الموسع لا يوجب كونه
مضيقا، بل هو باق على ما كان عليه من كونه متصفا بالموسع.
توضيح ذلك: أنه إذا أتى بفرد من الطبيعة في أول الوقت يصدق أنه أتى بها
111

وامتثل بما هي هي لا بما أنها ذات الخصوصية، وكذا لو أتى بها في
وسطه أو آخره بخلاف المضيق، فإن امتثاله بما أنه ذو خصوصية خاصة وهي
إتيانها في هذا الوقت الخاص.
ثم إنه لا دلالة لدليل المضيق بقسميه على وجوب الفعل في خارج الوقت
- على تقدير عدم إتيانه فيه - بوجه من الوجوه، لأن المفروض عدم ترتب
المصلحة إلا على فعل مقيد بحصوله في هذا الوقت، فكأن تمام الموضوع بهذا
الحكم إتيانه في هذا الوقت، فإذا خرج الوقت تبدل الموضوع فينتفي الحكم.
وتوهم أنه إذا تعدد الامر الدال على ذات الموقت والوقت يمكن الدلالة عليه
في خارج الوقت مدفوع بأنه إن كان المراد دلالة الامر الأول ففيه (أولا) أنه
خارج عن مورد النزاع، فإنه في الموقت فعله يكون مطلقا حينئذ (وثانيا) بأنه بعد
فرض خروج الوقت له ليخرج (وثالثا) أنه فيما إذا عصى المكلف وعلى هذا
لا عصيان.
وإن كان المراد دلالة الامر الثاني فلا يعقل أصلا، لأنه دال على تقيد الامر
الأول الدال على وجوب الفعل بقول مطلق، فكيف يعقل دلالته على إتيان الفعل
في خارج الوقت؟
فقول صاحب الكفاية أعلى الله مقامه: نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل لم
يكن (1) له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق لكان (2) قضية
إطلاق ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت. وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب
لا أصله مدفوع بما ذكرناه، مضافا إلى أن حمل المطلق على المقيد بعد تعارض
مدلوليهما إنما هو فيما إذا أحرز وحدة الحكم بتمام مراتبه، كما إذا قال: إن
ظاهرت فاعتق رقبة، ثم قال إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة، الظاهر في وحدة
الحكم المسبب عن الظهار.

(1) صفة دليل.
(2) جواب " لو ".
112

بخلاف ما إذا لم يحرز كما في غالب المندوبات، كما إذا قال مثلا: اغسل
يديك بعد الاكل، ثم قال: اغسل يديك بعد الاكل مرتين.
وبعد إحراز وحدة الحكم وحمل المطلق على المقيد - فيما نحن فيه - لا يعقل
التمسك بالاطلاق لأن المفروض تقيده بإتيان العمل في وقت معين، فبعد هذا
الوقت لا دلالة له على الوجوب الفعلي خارج الوقت، كما لا يخفى على من تأمل،
فافهم.
فصل في أن متعلق الأوامر الطبيعة أو الافراد؟
إذا تعلق أمر بشئ وامتثله في ضمن فرد فهل للخصوصيات المتحققة
الموجودة في ضمن هذا الفرد دخل في تحقق الامتثال أم لا يكون لها دخل فيه
بحيث لو أمكن تجردها عنها لامتثل أيضا.
وعلى الأول يعبر ب‍ (تعلق الامر بالافراد) وعلى الثاني يعبر ب‍ (تعلقه
بالطبيعة).
وتحقيق الكلام فيه أن يقال: إن للامر مضافا إلى قيامه الصدوري بالفاعل
- أعني الامر - تعلقين آخرين باعتبار كونه من الصفات ذات الإضافة، أحدهما
بالمأمور به، وثانيهما بالمأمور، ولا بد من وجود الأول في الخارج حين الامر
لعدم إمكان انقداح الإرادة الجدية من الامر بالنسبة إلى شخص لم يوجد بعد، وكذا
لا بد من عدم الثاني في الخارج لاستحالة تحصيل الحاصل.
نعم، يجب أن يكون موجودا في الذهن لا بمعنى كونه مقيدا بالوجود الذهني،
وإلا لامتنع الامتثال لان الموجود في الخارج غير الموجود في الذهن كما هو
واضح، بل أنه يلحظ موجودا غاية الامر ظرف وجوده الذهن.
وبعبارة أخرى: نفس الطبيعة في ظرف الذهن متعلقة للطلب.
فحينئذ لم تكن الخصوصيات المميزة دخيلة في تحقق المطلوب لعدم كونها
113

متعلقة للطلب بالفرض، فلو قلنا بدخالتها في حصول الامتثال لكان المأتي به غير
المأمور به، والمفروض أن المأتي به عين المأمور به مع قطع النظر عن
الخصوصيات.
فانقدح بذلك أن الحق تعلق الطلب بنفس الطبيعة لا الافراد بما هي.
وبعبارة أخرى: تعلق الطلب بالوجود السعي الساري في جميع الافراد.
وتوهم أن الطبيعة ملحوظة في الذهن مع جميع خصوصياتها الفردية نحو
إرائة المرآة للمرئي فيكون الطلب متعلقا بالافراد مدفوع بأنه إن كان المراد أن
الذهن آلة للحاظ الخصوصيات المتميزة بعضها عن بعض فغير معقول، لان المرآة
الواحدة لا يمكن أن يكون مرآة للمرئيات المتباينة فرضا، وإن كان المراد أنه آلة
للبعض دون البعض فترجيح بلا مرجح، وإن كان المراد أن الحيثية المشتركة
ملحوظة دون الخصوصيات المميزة فهي عين الطبيعة التي ليس وراءها شئ.
نعم، يمكن أن يقال: إن متعلق الامر - لا الطلب - هي الطبيعة باعتبار أن معنى
الامر هو طلب وجود الطبيعة باعتبار أن المادة دالة على الطبيعة، والهيئة دالة على
طلب هذه الطبيعة، فالامر بهيئته متعلق بالطبيعة التي هي مستفادة من مادة هذا،
الامر - أعني الصلاة والصيام والزكاة - المستفادة من قوله: صل، أو صم، أو زك،
وغيرها من مواد متعلق الأوامر.
ثم لا يخفى أنه - حيث قلنا: إن متعلق الطلب هو الوجود - ليس المراد أنه
متعلق لتمام الوجود بل قطعة منه الصادقة مع جميع الافراد المعبر عنها بالوجود
السعي، فانقدح أن الحق تعلق الامر بنفس الطبيعة لا الوجود كما قيل (1): إن الطلب
متعلق بالوجود، وهو متعلق بالطبيعة، فلو كان متعلقا بالطبيعة بلا واسطة الوجود
لزم كونها في مرتبتها لا تحمل على شئ إلا على نفسها أو على أجزائها مثل قولنا:
(الانسان إنسان) أو (حيوان ناطق).

(1) القائل صاحب الكفاية رحمه الله.
114

وفيه: أن عدم حملها على شئ وراء ذاتها لا ينافي حملها عليها، باعتبار
أنها متعلقة لإضافة الطلب ونسبته إليها.
وبعبارة أخرى: يمكن أن يقال: الماهية مطلوبة أو متعلقة للامر بعد ملاحظة
تعلق الطلب بها، وهذا لا ينافي ما اتفق عليه أهل المعقول عليه من أن الماهية بما
هي ليست إلا هي، هذا.
مضافا إلى كون متعلق الامر الوجود إنما هو بالنظر الدقي الفلسفي دون
العرفي الذي هو مناط أخذ متعلق الأوامر والنواهي، كما لا يخفى، والحمد لله رب
العالمين.
115

فصل
في النواهي
هل الامتياز بين الأمر والنهي من حيث المتعلق أم لا؟ وبعبارة أخرى: هل
معنى الأمر والنهي واحد والاختلاف بحسب المتعلق أم غيره؟
الذي يقتضيه النظر الدقيق أن يقال: إن الأمر والنهي مختلفان بحسب المبادئ
وبحسب نحو التعلق وذلك أن المولى إذا تصور أمرا يكون وجوده مصلحة للعبد أو
لنفس المولى في الموالي العرفية يصير محبوبا له فيأمر العبد بذلك، فمتعلق الامر
حينئذ يكون أمرا وجوديا ذا مصلحة للعبد أو للمولى.
وأما إذا تصور شيئا يكون لوجوده مفسدة للعبد أو للمولى يصير مبغوضا له
فينهى، فمتعلق النهي أيضا أمر وجودي ذو مفسدة. وبعبارة أخرى: يكون الامر
عند اعتبار العقلاء على تقدير عدم وضع لفظ يدل عليه بعث العبد إلى الفعل تكوينا
وجره إليه، والنهي الزجر عنه تكوينا والمنع من تحققه عند اعتبارهم مثلا.
وكلا المتعلقين يكونان أمرين وجوديين.
ولا يكون معنى النهي الطلب المتعلق بالعدم، ليكون متعلقه مغايرا لمتعلق
الامر حيث طلب الوجود، كما ذهب إليه المشهور وقرره صاحب الكفاية أيضا،
قال:
الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الامر بمادته
116

وصيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود وفي الاخر العدم (1) (انتهى
موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه).
وذلك لما (2) أن متعلق كليهما الوجود، فلو كان كما قاله رحمه الله يلزم الالتزام في
موارد مختلفة، على خلاف القاعدة.
(منها) عدم تحقق العصيان دفعة ثانية بعد العصيان الأول لسقوط النهي
بالأول، فإن المفروض أن متعلق النهي العدم، وقد تبدل بالوجود بالعصيان الأول،
والعدم لا يتعدد كي يتحقق العصيان ثانيا، بل العدم بما هو من غير نظر الوجود
ليس بشئ كي يمكن تعلق النهي به، ولا تحقق له إلا مفهوما، فحيث كان متعلق
النهي العدم، وهو لا يصدق إلا بعدم جميع الافراد، فإذا ابتدأ بالوجود عصى
والمفروض أنه لا تعدد فيه كي يصدق ثانيا أنه عصى، مع أن العقلاء لا يلتزمون
بذلك فإنهم يرون الآتي بالمنهي عنه إذا كان الاتيان متعددا عاصيا بمعاص
متعددة.
(ومنها) عدم تحقق الامتثال إلا مرة على تقدير ترك جميع الافراد ولو كان
انزجاره باعتبار النهي متعددا، مع أنهم يرون ذلك الشخص ممتثلا بامتثالات
عديدة ومستحقا للمثوبات المتعددة، فإذا اشتهى إلى فعل المنهي عنه وانزجر
لأجل نهي المولى يقال: إنه امتثل النهي وانزجر، ثم إذا اشتهى ثانيا إليه أيضا
فانزجر لأجل النهي يقال أيضا: إنه امتثل وانزجر، ثم إذا اشتهى ثالثا إليه وانزجر
أيضا لأجله يقال له ذلك، وهكذا.
وعلى التقدير الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه الله تعالى - تبعا للمشهور - لا يمكن
تعدد الامتثال، لان تحقق الامتثال يكون بترك الطبيعة الذي لا يتحقق ذلك الترك
إلا بإعدام جميع الافراد.

(1) الكفاية: ج 1 ص 232.
(2) علة لقوله قدس سره: (ولا يكون معنى النهي... الخ).
117

وهذا بخلاف ما إذا كان متعلق النهي - كالأمر - الوجود لامكان تعدده حسب
تعدد الامتثالات كما مثلنا.
والحاصل: أن المناط في تميز النهي عن الامر هو كون المتعلق في أحدهما ذا
مصلحة وفي الاخر ذا مفسدة وجودا، وعلى هذا فإذا كان لعدم شئ مصلحة لكن
لا بما هو بل بضميمة المقارنات فأمر المولى بتركه يكون أمرا لا نهيا كقوله: (اترك
الشئ الفلاني) مثلا، فعدم ذلك الشئ تترتب عليه المصلحة بضميمة المقارنات.
ولعل الامر بترك المبطلات في الصوم الواجب من هذا القبيل، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أنه بناء على ما قلنا من كون متعلق النهي أيضا الوجود
- كالأمر - ينحل النهي الواحد إلى نواهي متعددة. لا أقول باعتبار تعدد الافراد
المتميزة بعضها عن بعض بما به الامتياز، بل بما أن نفس المتعلق باعتبار اشتراكه
بين الافراد وتحققه في جميعها قابل، لان يتعدد فينحل النهي إلى النواهي
العديدة.
فلا يتوهم أن النهي الواحد كيف يكون له معاص عديدة؟
ثم اعلم أن ما اشتهر بينهم من أن الامر يسقط بالإطاعة والموافقة وبالعصيان
ليس بجيد بالنسبة إلى الثاني، فإن العصيان بما هو ليس مسقطا للامر قط بوجه من
الوجوه، فإن المأمور به إن كان موقتا فبعد خروج الوقت لا يمكن بقاء الامر، وإن
كان غير موقت فعصيانه بعد خروج المكلف عن شرائط التكليف من العقل والحياة
والاختيار وغيرها، ففي الصورتين يكون تعذر الامر مسقطا له لا العصيان بما هو.
وبعبارة أخرى: تكون الإطاعة في الأوامر، والنواهي بموافقة الغرض،
وحصول العصيان بنقض الغرض، وحيث إن الامر تعلق بشئ يكون نفس أمريته
إطاعة له، والنهي تعلق بشئ يكون نفس أمريته باعتبار كونه منهيا عصيانا له،
تكون موافقة الغرض في الأوامر بايجاد أي فرد من هذه الطبيعة واحدا أو متعددا
في صورة كون زمان الاتيان قابلا لاتيان الافراد وكذلك في النواهي أيضا.
118

فكما يمكن تعدد الطبيعة باعتبار تعدد الافراد في الأول كذا يمكن تعددها
باعتباره في الثاني، غاية الامر حصول الغرض في الأول موجب لسقوط الامر
بخلاف الثاني، فإنه نقض الغرض، ونقض الغرض لا يوجب سقوط النهي، بل ما هو
المسقط، حصوله وهو عدم إتيان الطبيعة.
ثم لا يخفى أن لازم ما ذكرنا من معنى النهي - الذي هو عبارة عن الزجر عن
الوجود - البعث إلى العدم عقلا.
لا أقول: إنه أمر مستقل ببعث إلى الوجود كما قد يتوهم، كما قد مر نظير
التوهم المذكور من أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن الترك أم لا؟ وقد قلنا
هناك: إن المراد من الاقتضاء هو أن لازم البعث إلى الوجود الزجر عن العدم وهو
متحد معه بنحو من الاتحاد، وهنا أيضا الزجر عن الوجود مستلزم للبعث إلى
الوجود عقلا.
بل أقول: حيث إن العقل يرى استحالة ارتفاع النقيضين ينتزع من الزجر عن
الوجود، البعث إلى نقيضه الذي هو العدم كما ينتزع من البعث إلى الوجود، الزجر
عن العدم دفعا لارتفاع النقيضين.
ويكفي في دفع هذا التوهم - أعني عدم لزوم ارتفاع النقيضين - أن يحكم
العقل ببعثه إلى الوجود المطلق من دون تقيد بقيد زائد.
فاندفع توهم النزاع في أن متعلق الطلب في النهي هل نفس أن لا تفعل أو
الكف، لان القول بكون متعلق الطلب العدم مرهون بما ذكرنا من مخالفته لأحكام
عقلائية، وأما إذا كان متعلقه الزجر عن الوجود فهو لا يقتضي إلا البعث إلى نقيضه
لما ذكرنا.
وأما الكف فهو عبارة عن العدم المقيد بميل النفس إلى فعله ولا يقتضيه، كما
لا يخفى على المتأمل.
119

في التعبدي والتوصلي
يظهر مما ذكرنا عدم إمكان تقسيم النهي - كالأمر - إلى التعبدي والتوصلي،
فإنه لا يمكن على ما ذكرنا من معنى النهي، فإن موافقته يكون بعدم ايجاد متعلقه،
والعدم لا يتأثر عن تقييده بقصد الامتثال أو القربة، ووجود متعلقة وإن كان قابلا
لان يقيد إلا أنه موجب للعصيان، وهو غير مشروط بقصد القربة والوجوب.
فصل في جواز اجتماع الأمر والنهي
وقبل الخوض في المقصود لا بد من بيان محل النزاع، وقد مر أنه لا بد في
تحقق التكليف والامر بالمعنى المصدري من تحقق إضافات ثلاثة: المكلف
بالكسر والمكلف بالفتح والمكلف به، ففي صورة اتحادها لا شك ولا شبهة في
امتناع اجتماع توجه التكليف إلى الحيثية المبعوث إليها التي هي عين الحيثية
المزجور عنها في زمان واحد، بل استحالته من الاحكام البديهية للعقل.
وإنما النزاع في أنه إذا أمر المولى بحيثية ونهي عن حيثية أخرى فهل يشترط
أن يكون بينهما تباين كلي أم يكفي أن يكون بينهما عموم من وجه أو عموم
مطلق بناء عليه كما سيأتي إن شاء الله.
وبعبارة أخرى: هل يكون اجتماع الحيثيتين في مجمع واحد في ضمن فرد
من أفرادهما باختيار العبد، مثل اجتماعهما في لحاظ الامر في الاستحالة، فكما
أن هذا مستحيل كذلك ذلك أم لا؟
وبعبارة ثالثة: كما إذا كان الوجه واحدا فتوجه الامر إليه محال كذلك عند
تعدد الوجه والعنوان يكون محالا أيضا أم لا؟
فمحل النزاع هو ما ذكرنا، ولا دخل لشئ في تحرير محل النزاع سوى ما
ذكرنا وإن كان صاحب الكفاية أعلى الله مقامه قد ذكر مقدمات لتحريره التي جعل
120

بعضها بل أكثرها من تنبيهات المسألة وكونها من ثمراتها أشبه.
مثلا ذكر منها أن النزاع إنما هو في محل وموضع تكون المصلحة والمفسدة
غير قاصرتين لشمولهما للمجمع بمعنى عدم قصور مقتضى الأمر والنهي عن شمول
المجمع.
وفيه: أنه لا دخل له لمحل النزاع في شئ فإنه في الامكان وعدمه عقلا،
فالقائلون بالامتناع يقولون بعدم الجواز بحيث لو وقع في الشرع مورد يوهم ذلك
لوجب تقييد أحدهما بالآخر، بخلاف القائلين بالجواز فإنهم يحملونه على
ظاهره، فما ذكره إنما هو في الثمرة التي يترتب على محل النزاع لا أن له دخلا
فيه، فتأمل جيدا.
وربما بني النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة فيجوز أن يجري النزاع في
جوازه وعدمه على وجه، أو يقال بناء عليه: لا نزاع في جواز الاجتماع، وأما بناء
على تعلقه بالفرد فلا يجري النزاع.
ولا يخفى أن هذا المبنى صحيح بالنسبة إلى الثاني، لان الفرد متشخص
موجود في الخارج وليس له جهتان يتعلق الامر باعتبار إحداهما، والنهي باعتبار
الأخرى.
فتوهم أنه لا فرق أيضا حينئذ في جريان النزاع لامكانه في أن هذا الفرد
المتحقق في الخارج الذي تصدق عليه الطبيعتان إحداهما مأمور بها وثانيهما
منهي عنها مدفوع بأن معنى تعلق الامر أو النهي بالافراد أنهما بتمام مشخصاتها
متعلقة للامر، فإذا كان متعلقا لأحدهما كذلك فيمتنع أن يتعلق به الاخر كذلك.
فانقدح بما ذكرنا أن محل النزاع هو ما قلناه من أنه هل يلزم في تعلق الامر
بشئ والنهي عن شئ أن يكون متعلقاهما متباينين أم لا؟
إذا عرفت هذا فاعلم أن عمدة ما استند إليه القائلون بالامتناع هو لزوم
اجتماع الضدين في موضوع واحد، ومرادهم من الضدين هو الوجوب والحرمة
121

العارضان لمتعلقي الأمر والنهي، فإن اجتماعهما في موضوع واحد محال
بالضرورة.
وأجيب عنه بوجوه: (الأول) الالتزام بتعدد الموضوع، فإن موضوع الامر
الصلاة وموضوع النهي الغصب، فلا يلزم الاجتماع المحال.
واعترض عليه (1) بأن هذا صحيح على القول بأصالة الماهية، حيث إنها حينئذ
متعددة. وأما على القول بأصالة الوجود فلا يصح فإن الوجود المتعلق للامر
والنهي واحد، فعاد المحذور.
(الثاني) الالتزام بتعلق الامر بالطبيعة لا بالفرد.
واعترض عليه بأن الافراد عين الطبيعة كما هو التحقيق لا مقدمة لها كما
توهم (2)، فإذا تعلق بالطبيعة فكأنما تعلق بالافراد.
(الثالث) أن الوجود وإن كان واحدا إلا أنه متبعض باعتبار الحيثيتين،
فبالحيثية الغصبية منهي عنه، وبالحيثية الصلاتية مأمور به، فإن الغصب عبارة عن
حركة في مكان بغير إذن مالكه أو من له الاذن أو الكون فيه كذلك. والصلاة ليست
كذلك، بل هي عبارة عن أفعال وأقوال وحركات وسكنات مخصوصة، وكون هذه
الأمور في المكان، من لوازم وجودها لا أنها دخيلة في ماهيتها وحقيقتها كما لا
يخفى.
واعترض عليه بأن الوجود أمر وحداني بسيط لا يتبعض فكيف يتصور فيه
تعلق الأمر والنهي؟
وصاحب الكفاية أعلى الله مقامه حيث إنه قائل بالامتناع قد شيد أركان هذا
الدليل ومهد له مقدمات أربعة:
(أولاها) تضاد الأحكام الخمسة في مرتبة الفعلية.

(1) المعترض صاحب الكفاية رحمه الله على ما هو ببالي، فراجع.
(2) لمتوهم صاحب القوانين عليه الرحمة على ما هو ببالي، فراجع.
122

(ثانيتها) كون الوجود الخارجي الذي هو فعل المكلف الذي هو موضوع علم
الفقه متعلقا للأحكام دون الوجود اللفظي أو الذهني.
(ثالثتها) كون هذا الوجود الواحد بسيطا فلا يتبعض كما أشرنا إليه في
الاعتراض.
وتوهم أن انتزاع المفهومين مستلزم لتعدد المنتزع منه فثبت التبعض مدفوع
بالنقض بوجود الباري تعالى شأنه وعز اسمه، فإنه مع وحدته وبساطته من جميع
الوجوه يصدق عليه المفاهيم المتعددة المختلفة كالعالم والقادر والحي وغيرها من
الصفات الكمالية.
(رابعتها) عدم إمكان أن يكون للوجود الواحد ماهيتان، فإنها تابعة له وحدة
وتعددا ضرورة أنها عبارة عما يقال في جواب ما هو، وجواب ما هو عبارة عن
ذاتيات الشئ، والذات والوجود واحد كما قرر في محله.
فإذا تعلق أمر بشئ كان متعلق الامر وجودا واحدا بسيطا، وإذا تعلق النهي
بشئ كان متعلقه أيضا كذلك، فإما أن يجتمعا فهو باطل بمقتضى المقدمة الأولى،
وإما أن يكون وجودهما اللفظي أو الذهني متعلقهما فباطل بمقتضى المقدمة
الثانية، وإما أن يكون الامر متعلقا ببعض هذا الوجود والنهي ببعضه الاخر فباطل
بمقتضى الثالثة، وإما أن يكون تعلقهما باعتبار تعدد ماهيتها فباطل بمقتضى
الرابعة، فثبت كون الاجتماع محالا، هذا.
ولكن التحقيق جواز الاجتماع، لان الضدين أمران عرضيان حالان في
موضوع واحد على تقدير محال، والوجوب والحرمة ليستا كذلك فلم يمتنع
اجتماعهما، لان منشأ الاستحالة هو ذلك كما أشرنا إليه سابقا.
بيان ذلك يحتاج إلى مزيد تفصيل فنقول - بعون الله تعالى -: الحكم إما أن
يكون بعثا أو زجرا أو ترخيصا، وكل من الأولين إما أكيد أو غير أكيد، فالأولان
الوجوب والندب، والثالث والرابع الحرمة والكراهة، والخامس الإباحة.
123

فإذا بعث المولى مثلا عبده نحو فعل من الافعال فله إضافات ثلاثة: (أولاها)
بالنسبة إلى الباعث نفسه، وهذه إضافة حقيقية قائمة بنفس المولى نحو القيام
الصدوري. (ثانيتها) إلى المبعوث. (ثالثتها) إلى المبعوث إليه.
وباعتبار هذه الإضافات يصح حمل هذه المحمولات (1) على موضوعاتها (2).
ومناط صدق جملها عليها في الكل أمر واحد، وهو الإضافة القائمة بنفس
المولى، فبعين هذه الإضافة إلى كل من الفعل والمكلف يصح (على سبيل اللف
والنشر) حمل المبعوث والمبعوث إليه عليهما، وليس وراء الإضافة القائمة بنفس
المولى (3) شئ آخر قائم - بالفعل والمكلف - حال فيهما. نعم لها نوع تعلق
وإضافة إليهما، ولا يلزم من تعلقها بهما حلولهما فيهما وعروضهما عليهما، فإنه لا
ملازمة بين تعلق شئ بشئ وبين عروضه عليه وحلوله فيه كما تجده في تعلق
القدرة أو الإرادة بشئ مستقل، فإنه يصدق عليه أنه مقدور أو مراد مع أن القدرة
والإرادة غير عارضتين عليهما، لأن المفروض عدم وجودهما وإلا يلزم وجود
العرض قبل وجود معروضه، وهو محال.
فالوجوب والحرمة المنتزعتين من الفعل المأمور به والمنهي عنه باعتبار
إضافة البعث القائم بنفس المولى إليهما ليسا عرضين قائمين بمحلهما وإلا يلزم
بقائهما بعد وجوب الواجب أو الحرام والمفروض أنهما يسقطان بعده.
(فإن قلت:) يمكن عدم الوجوب والحرمة قبلهما أيضا.
(قلنا:) يلزم حينئذ عدم استحقاق العصاة العقاب وهو باطل قطعا. وبعبارة
أوضح: إذا تعلق الامر أو النهي بشئ ينتزع منه الواجب أو الحرام فقبل وجوده
في الخارج إما أن لا يكون الفعل متصفا بالوجوب أو يكون متصفا به، فعلى الأول

(2) وهي: الباعث والمبعوث والمبعوث إليه.
(2) هي: المولى والفعل والمكلف.
(3) في الموالي العرفية.
124

يلزم عدم كون العصاة مستحقين للعقاب، وعلى الثاني يلزم تقدم العرض على
المعروض (1)، وكلاهما باطلان، فالقول بالامتناع إن كان مستندا إلى لزوم اجتماع
الضدين فقد ظهر بطلانه، فيكون الاجتماع جوازا ومنعا تابعا لجواز الامر مع
النهي، فيجوز الاجتماع حيث يجوز الامر مع النهي، ويمتنع حيث يمتنع.
فإن كان المدعى عدم جواز الامر مطلقا مع النهي مطلقا فباطل قطعا ضرورة
ملازمة بعض الأوامر مع بعض النواهي، مثل ملازمة الامر بالشئ مع النهي عن
ضده العام أو الخاص على رأي.
وإن (2) كان المدعى عدم اجتماع الامر الخاص مع النهي الخاص نقول: القدر
المسلم من الامتناع ما إذا تعلق النهي بعين ما تعلق به الامر في زمان واحد، وغير
هذه الصورة عين المدعى.
(إن قلت:) الامر وإن تعلق بالطبيعة دون الافراد إلا أنها تسري إليها ليكون
الفرد متعلقا للبعث والزجر ليجتمع الضدان.
(قلت:) الطبيعة وإن كانت تسري إلى الافراد، إلا أن الامر لها لا يسري إلى
خصوصيات الافراد، فلعل هذا منشأ توهم من ذهب إلى الامتناع مع ذهابه إلى
تعلق الاحكام بالطبائع.
مثلا الامر بإتيان إنسان لا يسري إلى خصوصيات موجودة في أفراده كزيد
وعمرو وبكر وغيرها من الافراد، وإن كان نفس (انسان) ساريا إليها بحيث كلما
أتى بواحد صدق أنه أتى (بانسان) هذا.
مضافا إلى أن معنى الاطلاق على ما مر وسيجئ أيضا إن شاء الله تعالى: أن
متعلق الامر مرسل من التقيد بالخصوصيات الفردية لا أن الطبيعة تكون مرآة
للافراد كي ينحل الأمر والنهي إلى أوامر ونواهي، فحينئذ معنى كون الامر متعلقا

(1) مع أنه على رأي المتأخرين من الطبيعيين وجود العرض عين وجود المعروض. (المقرر).
(2) عطف على قوله مد ظله: (فإن كان المدعى).
125

بالطبيعة أنه إذا أتى بها يسقط الامر كما ذكرنا آنفا.
ويمكن أن يقرر دليل الجواز بوجه آخر أمتن وأوضح.
وهو أن الإرادة التشريعية نظير الإرادة التكوينية، فكما إذا أراد تكوينا ايجاد
شئ مثلا لا يمكن أن تسري هذه الإرادة إلى خصوصيات الافراد - ولو كانت في
الخارج - محفوفة بها، مثلا إذا أراد الحركة إلى مكان فتصادف في الطريق وقوعه
في البئر لا يكون هذا الوقوع أيضا مرادا له بالبداهة، فكذا الإرادة التشريعية التي
هي إرادة المولى الفعل من الغير باختياره لا يمكن أن تتخلف عن المراد سعة
وضيقا.
والمفروض في المقام تعلق الإرادة التشريعية بنفس الطبيعة، فكما إذا أتى
بالصلاة مع خصوصية كون المكان مرطوبا مثلا لا يكون خصوصية المرطوبية
داخلة فيها، فكذا إذا أتى بها مع خصوصية مغصوبية لا تكون خصوصية المغصوبية
داخلا فيها، وهذا واضح جدا لا محيص عنه، فأين الاجتماع هذا؟
مضافا إلى النقض بما إذا علم بوجود مجئ العالم غدا وجهل بوجود مجئ
العادل غدا فاتفق في الغد مجئ عالم عادل، فيصدق على هذا الوجود الواحد
الشخصي أنه معلوم له ومجهول له، فكما أن العلم والجهل منشأ لانتزاع المعلومية
والمجهولية مع أنه قد اجتمع ولا يضر فكذا هنا الاجتماع في صدق هذين
العنوانين، هذا.
مضافا إلى صدق الإطاعة والعصيان بالنسبة إلى من كان مأمورا بالخباطة
ومنهيا عن التصرف في مال الغير ولو كان فضاء.
وتوهم أنه توصلي والكلام إنما هو في التعبدي مدفوع بأنه إن كان مناط
الامتناع عدم إمكان صدور النهي عن حيثية مع الامر بحيثية أخرى التي قد يتفق
اجتماعها في مجمع واحد فلا فرق حينئذ بينهما.
نعم، هنا كلام آخر وهو أنه إذا أمر المولى بأمر عبادي - سواء كان قصد
126

التقرب مأخوذا في المأمور به، أو كان معتبرا في حصول الغرض على اختلاف
الآراء - فهل يعتبر في حصول العبادة والامتثال أن يكون متعلقهما مجردا عن كونه
منطبقا على عنوان المنهي عنه أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل يشترط في الوجود الذي به يتحقق عنوان المأمور به
العبادي أن لا يكون منهيا عنه من حيثية أخرى أم لا؟ فمن يقول بالاعتبار - كما
ذهب إليه المشهور - يقول ببطلانها، ومن لا يقول فلا.
فانقدح بذلك أن ما نسب إلى المشهور من القول بالامتناع ليس على ما
ينبغي، لان جماعة منهم - كالسيد المرتضى رحمه الله (1) في الناصريات - عنونوا هل يصح
إتيان المأمور به بحيثية مع النهي عنه لحيثية أخرى؟ وكذلك الشيخ رحمه الله في
الخلاف والمبسوط، والسيد أبو المكارم رحمه الله في الغنية والمحقق رحمه الله في المعارج
وغيرهم من القدماء.
ومثلوا لذلك بالصلاة في الدار المغصوبة وحكموا بعدم صحتها من حيث إن
الوجود الواحد المبغوض لا يصح أن يتقرب به إلى الله سبحانه، بل نسب في
الناصريات القول بالصحة إلى الفقهاء وأراد بهم فقهاء العامة.
فإن كان المراد من هذه النسبة (2) قول المتقدمين من الامامية فقد عرفت عدم
عنوانهم هذه المسألة، وإن كان المراد قول العامة فقد عرفت نسبة السيد إليهم القول
بالصحة (3) فأين الشهرة المدعاة؟!
نعم، في التوصليات لا بأس بحصول الامتثال لحصول الغرض كما لا يخفى.
تنبيهات
الأول: قد علم مما ذكرنا أن اجتماع الأمر والنهي ليس ممتنعا في مقام البعث

(1) وقد نقل سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله عبارته في مجلس الدرس ولم أحفظها.
(2) نسبة الجواز إلى الشهرة.
(3) لاحظ الناصريات: المسألة 80 من كتاب الصلاة.
127

والزجر لان الحيثية المبعوث إليها والمزجور عنها ليس فيهما إلا الحسن المحض
والقبح المحض، فإذا وقع في الوجود العيني يكون كل واحد منهما ملونا بلون
الاخر في جدول الاخر، فعلى هذا لا إشكال في قبح الوجود العيني مع الاتحاد إذا
كان حيثية القبح غالبة على حيثية الحسن، سواء قلنا بالامتناع أو الجواز كما لا
إشكال في قبحه الفعلي مطلقا، سواء كان عالما بأنه نهى عنه أم لا، وسواء رجحنا
جانب المصلحة أم لا، وسواء كان له مندوحة أم لا.
إنما الكلام فيما إذا رجحنا جانب المصلحة ولم تكن له مندوحة، فربما توهم
ابتناء قبحه الفاعلي وعدمه على الجواز والامتناع.
فإن قيل بالأول فلا تزاحم فيصح الفعل ويحصل الامتثال، وإن قيل بالثاني
فيلاحظ أقوى المناطين.
لكن هذا التوهم فاسد، فإن الحسن والقبح وإن كان بالوجوه والاعتبار لكنه
يرجع إلى ما بالذات، والمفروض أن الحيثية المبعوث إليها في مقام شامخ النفس
حسن محض لا شوب فيها مع القبح، والحيثية المزجور عنها كذلك قبيحة.
ففي مقام الوجود العيني إن غلب جانب الحسن على جانب القبح ولم يكن
معذورا في فعله - كما إذا كان له مندوحة - فحينئذ يكون له القبح الفاعلي وإن لم
يكن له القبح الفعلي بعد الكسر والانكسار في مقام الثبوت.
وإن كان معذورا كالجاهل القاصر بالحكم أو بالموضوع أو كان مضطرا فلا
يكون له حينئذ القبح الفاعلي لعذره فلا يلام على هذا الفعل، فلا يكون مستحقا،
فيصح عمله فيثاب عليه وإن كان له القبح الفعلي.
هذا إذا كان المأمور به أمرا عباديا لعدم كون الوجود العيني المتحد مع
المبغوض مقربا وعبادة له سبحانه، وأما إذا كان توصليا فيصح ويسقط الامر
مطلقا.
التنبيه الثاني: لا إشكال في عدم إمكان البعث والزجر بالنسبة إلى الحيثية
128

الواحدة في زمان واحد، لأنه هو اجتماع الضدين الذي هو تكليف محال لا
تكليف بالمحال كما صرح به في المعالم، فإن الأمر والنهي عرضان قائمان بنفس
الامر.
وكذا لا إشكال في عدم إمكان توجه البعث والزجر بالنسبة إلى حيثيتين
متساويتين في الصدق أو متلازمتين في الوجود أو عامين والمبعوث إليه أخص.
وإنما الكلام فيما إذا كان بينهما عموم وخصوص مطلق، والمزجور عنه
أخص أو كانا عامين من وجه.
لا إشكال في جواز الأول كما ذكرناه مفصلا.
وأما الثاني فربما يتخيل أنه مثله بتقريب أن الامر بحيثية المأمور بها بحيث
تكون تمام المتعلق لتحقق المصلحة من الامر بها، ولا يمكن تجاوز الامر عما
تتحقق به المصلحة، ولا يمكن تقيده بشئ إلا بما يكون دخيلا في تحققها، فلو قيد
لا بما كان كذلك يكون هذا القيد جزافا ولغوا، فلو تعلق الامر بهذه الحيثية المقيدة
بكونها في دار الغير كالخياطة المأمور بها على الاطلاق ونهى عنها مقيدة بعدم
كونها في الدار المغصوبة فلو خاطها فيها امتثل، لأنه أتى بتمام المتعلق للامر، وهو
نفس الخياطة المأمور بها وعصى، لأنه أوجد هذا المتعلق في موضع ايجادها فيه
مبغوض للمولى، وكل من أتى بما هو مبغوض له فإنه عاص بالنسبة إليه، هذا.
لكن في النفس شئ، وهو أنه إما أن يكون النهي لمفسدة في خصوص
الحيثية المأمور بها أو في خصوص القيد أو في المجموع، والمفروض انتفاء
الأولين فتعين الثالث، فحينئذ تكون الحيثية المأمور - بها التي تكون تمام المتعلق
لتحقق المصلحة - جزء العلة لتحقق المفسدة، فكما لا يمكن تعلق الامر بشئ
والنهي عن آخر مع كون كل واحد مستقلا في تحقق المصلحة والمفسدة فكذا لا
يمكن تعلق الامر بشئ والنهي عن آخر دخيل في تحقق المفسدة، لان ما كان
تمام العلة بشئ لا يمكن أن يكون جزء العلة لضد ذلك الشئ، فالنار التي تكون
129

علة تامة لتحقق الحرارة لا يمكن أن تكون جزء علة لتحقق البرودة.
واحتمال أن معنى إطلاق الامر ليس أنه ينحل إلى أوامر بالنسبة إلى الافراد
بل معناه أنه يجزي لو أتى بالمأمور به في ضمن أي فرد كان مسلم، لكن كونه
مجزيا فرع على بقاء المصلحة بالنسبة إلى هذا الفرد المنهي عنه، بل يكشف أنها
غير باقية.
فدقيق النظر يقتضي عدم إمكان الاجتماع في العموم والخصوص بالمعنى
المذكور مطلقا، لا في التوصليات ولا في العباديات.
اللهم إلا أن يقال: إن ما ذكرت من عدم إمكان كون الشئ علة تامة مع
المصلحة مع كونه جزء علة للمفسدة مغالطة من باب اشتباه المفهوم بالمصداق،
فتأمل جيدا.
التنبيه الثالث: كل مورد جوزنا فيه الاجتماع في الامر الايجابي والنهي
التحريمي يجوز في الامر الندبي مع النهي التحريمي أو التنزيهي، أو الامر الندبي
والنهي التنزيهي، فلا يصح العمل لو كان عبادة إلا فيما إذا كان النهي تنزيهيا حتى
في الصورة الأخيرة، ولو كانت حزازة النهي غالبة على الكمال الحاصل بالمأمور
به الندبي، فإنه لا يعتبر في المستحبات فعلية الامر، وإلا يلزم خروج نوعها عن
الاستحباب باعتبار لحاظ الأهم فالأهم مع أن كل واحد منهما يقع مستحبا فيكف
فيه الامر الثاني؟ فتأمل.
وكيف كان، فقد استدلوا للجواز بوقوعه في العبادات المكروهة، وأدل دليل
على إمكان الشئ وقوعه بضميمة أن الاحكام بأسرها متضادة، فإذا وقع في
بعضها يكشف عن إمكان اجتماع الباقي، كل مع كل، فإن حكم الأمثال فيما يجوز
ومالا يجوز سواء.
وأجيب (1) عنه: (تارة إجمالا) بأن الدليل القاطع والبرهان الواضح لما دل

(1) المجيب صاحب الكفاية رحمه الله.
130

على امتناع شئ، فلا بد من أن يؤول ما جاء من الشرع على خلافه، فإن الظواهر
لا تقاوم البراهين.
ويمكن أن يقال أيضا - مضافا إلى ذلك -: إن غاية الامر دلالة الدليل على
صحة العبادات، ولا تلازم بينها وبين كونها مأمورا بها فعلا والمفروض أن النهي
تنزيهي، وقد ذكرنا أن النهي التنزيهي غير مناف للحكم بالصحة.
(وأخرى) (1) تفصيلا بأن الموارد التي دل الدليل على اجتماعها على ثلاثة
أقسام: (الأول) ما يكون بينهما عموم وخصوص من وجه كالصلاة والكون في
مواضع التهمة. (الثاني) ما يكون بينهما عموم وخصوص مطلق. (الثالث) ما يكون
ملازما.
أما الأولان فلا يحتاج إلى تكلف دليل بناء على جواز الاجتماع في كليهما.
وأما الثالث كصوم يوم عاشوراء وكالنوافل المبتدأة في الأوقات المخصوصة،
فجواز ذلك شرعا ووروده كذلك لا يكون دليلا على جواز الاجتماع لان القولين
متفقان على عدم جواز هذه الصورة، فلا بد من الجواب على القولين.
فقد أجاب في الكفاية بما محصله: أن الامر تعلق بما له مصلحة والنهي تعلق
بما هو منطبق أو ملازم لعنوان يكون مصلحة تركه أكثر من مصلحة فعله، ففي
الحقيقة تزاحم المصلحتين، لا المصلحة والمفسدة فمصلحته صوم يوم عاشوراء
بقول مطلق محفوظة وإن لم يكن أمره فعليا لمزاحمتها لعنوان مخالفة العامة التي
عدمها أهم من مصلحة الصوم منه بقرينة محافظة الأئمة عليهم السلام على تركه في ذلك
اليوم.
والحاصل: أنه قدس سره بدل النهي بالامر فجعلهما من قبيل تزاحم المستحبين مع
كون أحدهما أهم.
وفيه (أولا) أنه صحيح على مذاقه من أن النهي عبارة عن الطلب المتعلق

(1) المجيب صاحب الكفاية رحمه الله أيضا.
131

بالمنهي عنه وقد مر بيان فساده: وأنه يترتب عليه لوازم هو غير قائل بها.
(وثانيا) لو قلنا: إنه والطلب كالأمر إلا أنه لا بد من متعلق لهذا الطلب فإن كان
صرف العدم فلا يمكن أن يصير متعلقا له، فكما لا يصح أن يصير متعلقا له كذا لا
يمكن أن ينطبق عليه عنوان آخر، فإن نفس الامر لهذا العنوان ليس إلا العدم، فلو
كان قابلا لان ينطبق عليه عنوان آخر يصح أن يتعلق به الامر، فحيث لا يصح هذا
لا يصح ذلك.
(وثالثا) أن الأدلة دلت على أن الصوم بنفسه فيه حزازة ومنقصة لفاعليه، لا
لعنوان آخر.
وتوهم أن ذلك للحذر عن كون الشئ - أعني العدم - راجحا ومرجوحا
مدفوع، بأن كون الشئ راجحا ومرجوحا يتصور على وجهين: (تارة) بأن يكون
ذا مصلحة ومفسدة. وبعبارة أخرى مشوبة بالمفسدة. (وأخرى) بأن عدمه راجح
بالرجحان الخالص وفعله راجح كذلك لكن أحدهما أقوى، والدليل العقلي دل
على امتناع الصورة الأولى دون الثانية.
(ورابعا) أنه يلزم من ذلك أنه لو ترك الصوم يوم عاشوراء يثاب عليه وليس
كذلك.
ويمكن الجواب عن أصل الاشكال (1) - بناء على جواز الاجتماع - أن وجود
الصوم يوم عاشوراء أو النافلة في الأوقات يترتب عليه عنوانان، أحدهما ذو
المصلحة، وثانيهما ذو الحزازة والمنقصة، غاية الامر أقوائية الثاني أسقط الأول
عن فعلية أمره مع بقاء مصلحته على ما كانت عليه، ففي الحقيقة المعنون الواحد له
عنوانان وجوديان أحدهما أضعف من الاخر.
التنبيه الرابع: لو توسط في الأرض المغصوبة فهل الخروج مأمور به ومنهي

(1) يعني أصل الاشكال المتقدم من قوله مد ظله (وأما الثالث).
132

عنه فعلا كما ذهب إليه أبو هاشم (1) من المعتزلة ومال إليه المحقق القمي قدس سره؟ أو
مأمور به فقط كما حكي عن الشيخ المحقق الأنصاري رحمه الله؟ أو حرام فعلا ولو لم
يكن منهيا عنه لكنه بالنهي السابق كما مال إليه صاحب الكفاية رحمه الله؟ أو مأمور به
مع إجراء حكم المعصية عليه كما ذهب إليه بعض؟ وجوه وأقوال.
وتوضيح المقام يحتاج إلى بيان مقدمات:
الأولى: الاضطرار إلى الحرام إما أن يكون رافعا للحرمة عقلا كما إذا سلب
الاختيار، أو شرعا كما إذا اضطر إلى شرب الخمر، لحديث الرفع.
ثم على التقديرين إما أن يكون مضطرا إلى ارتكاب محرم بعينه أو أحد
المحرمين، والثاني إما أن يكونا متساويين في الحرمة كما وكيفا أو مختلفين فيهما.
لا كلام على الأول، وكذا على الثاني في جواز ارتكاب أحدهما المعين.
أما لو اختار أشدهما أو أكثرهما عددا لم يكن معذورا في ارتكاب ذلك، وهل
يكون معذورا بالنسبة إلى القدر المشترك بينهما أم لا؟ وجهان.
الثانية: الاضطرار إلى الحرام إما أن يكون بفعل غير اختياري كما لو مرض
أو اضطر إلى شرب الخمر أو بفعل اختياري، تارة يكون مباحا، وأخرى يكون
حراما متحدا مع الحرام المضطر إليه صنفا، كالزنا الموجب لحبسه في مكان
مغصوب مثلا أو متحدا كذلك، لكن يكون مختلفا فردا كالسرقة الموجبة كذلك، أو
متحدا شخصا كما إذا كان الغصب حدوثا موجبا للحبس في مكان مغصوب.
وكل واحد منهما إما أن يكون مع الالتفات إلى انجراره إلى الحرام أو مع عدم
التفاته إلى ذلك أو تردده في ذلك.

(1) الجبائي أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان
ابن عفان، ويطلق عليه (يعني الجبائي) على ابنه أبي هاشم عبد السلام بن محمد، ويقال لهما
الجبائيان، وكلاهما من رؤساء المعتزلة (إلى أن قال:) توفي الجبائي سنة 303 ه‍ وابنه أبو
هاشم سنة 321 ه‍ (الكنى والألقاب: ج 2 ص 126).
133

لا إشكال في كون الاضطرار رافعا للحكم في صورة عدم الالتفات مطلقا،
وأما في صورة الالتفات فيمكن أن يكون كذلك أيضا بضميمة أن الاضطرار الفعلي
موجب للرفع، والمفروض أنه موجود.
لكن يقع البحث في أنه هل الحرمة باقية أم لا؟ الأظهر الثاني، لان رفع الحرمة
إما أن يكون بالعقل أو دليل الرفع، وشئ منهما لا يدل على ارتفاع الحرمة.
الثالثة: أن الحرمة والوجوب تابعان للمفاسد والمصالح الواقعية، فلو كان
أحدهما غالبا على الاخر حكم بمقتضاه من الوجوب أو الحرمة، وحينئذ لو غلبت
الحرمة لغلبة المفسدة واضطر إلى فعله ارتفعت الحرمة الظاهرية ولم يوجب ذلك
أن يؤثر ذلك الوجوب لان رفعه لم يكن لفعلية الحرمة بل لكون الفعل ذا مفسدة،
والمفروض في المقام كذلك، وملاك كون الشئ غير واجب، هو مزاحمته
بالمفسدة لا بالحرمة التي هي حكم تكليفي كي يرتفع بارتفاعه.
فقول صاحب الكفاية قدس سره: إن الوجوب يعود بعد اضطراره إلى الحرمة بملاكه
الذي كان قبل الاضطرار مندفع.
والحاصل: أنه إذا كان شئ له مصلحة ومفسدة أقوى منها فلا محالة يكون
حراما ومانعا من اقتضاء تلك المصلحة الوجوب، فإذا جاء الاضطرار رفع الحرمة
وتبقى المانعية لأنها لم تكن لأجل الحرمة، بل لكون هذا الفعل ذا مفسدة أقوى،
اللهم إلا أن يحدث مصلحة أقوى منها بعد الاضطرار.
ألا ترى إلى قوله تعالى: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (1)، دلت الآية الشريفة على أن للخمر
والميسر مصلحة بحيث لو لم تكن مزاحمة بمفسدة أقوى منها لكانت مقتضية
للرجحان، لا أقل من الندب، فإذا اضطر إلى شربه لم يكن هذا الاضطرار موجبا
لوجوبه أو استحبابه الا أن يكون شربها بطبابة الأطباء الحاذقين - مثلا مع كونه

(1) البقرة: 219.
134

موجبا لبقاء النفس وتركها موجبا لهلاكها - فيجب حينئذ، وهذا غير ما نحن فيه،
فتأمل جيدا.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا إشكال في حرمة الدخول ولا في حرمة البقاء ولا
في حرمة التصرفات العرضية.
وإنما الاشكال في الحركة التي تكون لخروجه منها بتمام المحتملات التي
ذكرناها.
أما احتمال كونها واجبة (1)، ففيه أنه ما الفرق بين تصرف وتصرف، ولم صار
الدخول حراما والخروج واجبا مع كونهما متساويين في الغصبية؟
وأما احتمال كونها حراما (2) ففيه أن معنى كون شئ حراما أنه مبغوض.
وبعبارة أخرى: يكون تركه واجبا مع أن تركه مستلزم للحرام، فكيف يصير
واجبا؟
وأما احتمال كونه واجبا شرعا مع اجراء حكم المعصية (3) فغير سديد أيضا،
فإن لازم جريان حكم المعصية على شئ كونه مبغوضا فلا يمكن أن يصير واجبا.
ويحتمل احتمالا خامسا - وإن لم يحتمله المحققون - وهو أنه أن يكون
مأمورا به على سبيل الترتب بأن يقال: إن المولى يلاحظ المنهي عنه على نحو لو
كان العبد عاصيا بالنسبة إلى هذا النهي كان مأمورا بالخروج، كما في وجوب إنقاذ
الأخ المهم بعد عصيان الامر الأهم كالابن مثلا.
لكن يبعده - الفرق بين المقام وبين مسألة الترتب، فإنه لو ترك الأهم والمهم
كليهما كان عاصيا بعصيان واحد بخلاف المقام - مضافا إلى أن المهم ثمة كان
مطلوبا ذاتا دونه هنا.
فالأولى أن يقال في دفع هذه العويصة: حيث إن الامر دائر بين كون المعصية

(1) المحتمل المحقق الأنصاري قدس سره.
(2) المحتمل صاحب الكفاية أعلى الله مقامه.
(3) المحتمل أبو هاشم والمحقق القمي عليه الرحمة.
135

قليلا أو كثيرا فالعقل يحكم بلزوم رفع اليد عن الكثير، فيحكم بالحرمة الشرعية
والوجوب العقلي المندك في الحرمة الشرعية (1).
وبعبارة أخرى: الوجوب العقلي (2) منتزع من عدم جواز التصرف في مال
الغير كما أن الامر بالشئ عين النهي عن ضده العام، والنهي عنه عين الامر بضده.
وأما احتمال أن المقام نظير شرب الخمر الموجب لحفظ النفس في كونه
واجبا مقدميا فقياس مع الفارق، فإن حفظ النفس موجب لايجاد مصلحة ملزمة
أقوى من مفسدة شرب الخمر، وقد قلنا: إن هذا غير المقام الذي هو كون مجرد
الاضطرار موجبا لوجوب ذلك، فافهم.
وأما قول الشيخ رحمه الله بأن الخروج عن دار الغصب بما هو لا يمكن أن يتعلق به
النهي إلا مقيدا بالدخول وبعد الدخول لا يمكن النهي أيضا، لعدم القدرة على ترك
المنهي عنه.
وبعبارة أخرى: لا يمكن توجه النهي عن الخروج إليه مطلقا، لا قبل النهي
لعدم وجود شرطه الذي هو الدخول، ولا بعده لاضطراره إلى التصرف.
فمسلم إذا كان الخروج بعنوانه منهيا عنه، وليس كذلك، فإن النهي تعلق من
الأول بالتصرف في مال الغير، فله فردان: التصرف الدخولي، والتصرف
الخروجي.
وقد يجاب عن الشيخ رحمه الله بعدم كون التصرف الخروجي الذي هو ضد ترك
الغصب مقدمة، فإن أحد الضدين وجودا وعدما، لا يكون مقدمة للآخر.
ورد هذا الجواب بأن مراد الشيخ رحمه الله من الواجب الذي يكون الخروج مقدمة
له، هو تخليص مال الغير عن التصرف لا الكون في خارج الأرض المغصوبة.
وفي الجواب والرد كليهما نظر.

(1) يعني بالنسبة إلى الخروج من المكان المغصوب.
(2) يعني بالنسبة إلى التصرف.
136

أما في الأول فالفرق بين مسألة الضد والمقام، فان النزاع في مسألة الضد هو
أنه هل يكون وجود أحد الضدين اللذين لا يمكن وجودهما معا في زمان واحد،
مقدمة لعدم الاخر أم لا يكون هنا إلا المعية في التحقق؟ بمعنى أن وجود أحدهما
مع عدم الاخر فمنع المقدمية حينئذ متجه كما ذكرنا في محله.
بخلاف المقام، فإن النزاع فيه هو أنه هل يجب الخروج الذي هو مقدم زمانا
على التخلص من الغصب الذي هو متأخر زمانا أم لا؟ فحينئذ يمكن القول
بمقدمية الخروج، فإنه لا يكون التصرف الخروجي مع ترك الغصب واردين على
موضوع واحد في زمان واحد، فلا يكون أحدهما مقدمة للآخر بخلاف مسألة
الضدين.
وأما في الثاني فلان وجوب التخليص من أحكام الغصب الذي هو الاستيلاء
على مال الغير، لا من أحكام التصرف في مال الغير بغير إذنه أو مع نهيه، فإن بينهما
عموما وخصوصا من وجه لصدق الثاني دون الأول فيما إذا ألقى في ملك الغير من
الخارج شئ وبالعكس فيما إذا لم يكن مستوليا، وصدقهما في المتصرف
والمفروض في المقام أن التصرف وقع بغير إذن مالكه، لا أنه غصبه واستولى عليه
ثم تصرف بعنوان الغصب كما هو واضح.
فصل في دلالة النهي على الفساد
إذا تعلق النهي بعبادة أو معاملة فهل يدل على فسادهما أم لا؟ وبعبارة أخرى:
هل يقتضي النهي فسادهما أم لا؟ وقبل الخوض في المقصود لا بد من بيان معنى
الصحة والفساد.
فاعلم أن كل شئ يوجد - سواء كان من الجواهر أو الاعراض، وسواء كان
من الأمور الأصلية أو الجعلية - ويترقب منه أثر يترتب عليه الذي يتصف بالعنوان
المخصوص إن وجد منضما بذاك العنوان، فهو صحيح وإلا ففاسد.
137

مثلا إذا أوجدت الصلاة كما هي وعلى ما هي عليها من اجتماعها للشرائط
وفقدها للموانع فقد أوجدت عنوان الصلاة، فتترتب عليها الآثار المترقبة كسقوط
الإعادة والقضاء عند الفقيه، وموافقة الامر أو الشريعة عند المتكلم، والتقرب إلى
الله سبحانه عند العارف بالله السالك إليه مثلا.
وإن كانت واجدة لبعض الموانع أو فاقدة لبعض الشرائط أو الاجزاء فلا
يصدق عليها عنوان الصلاة، فلا تترتب الآثار وإن كان ما وجد متصفا بعنوان آخر
غير ذلك العنوان ككونه تكبيرا أو قراءة أو تشهدا أو سلاما.
ومن هنا يظهر كون ألفاظ العبادات والمعاملات أسامي للصحيح وتقسيمهم
إياها بالصحيحة والفاسدة، مسامحة ومجاز.
فعلم مما ذكرنا أن ما وصف بالصحة والفساد هو الموجود الخارجي، لكن لا
بعنوان أنه ذلك الموجود بل باعتبار أنه عنوان مخصوص، فمجموع التكبير
والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام يوصف بالصحة باعتبار أنه صلاة لا
باعتبار أنه هذه الأفعال والأقوال ويوصف بالفساد بهذا الاعتبار، فتعريفهم إياهما
بما أشرنا إليه تعريف باللوازم.
وكذلك الكلام في المعاملات التي عرفوا الصحة فيها بترتب الأثر، فإن المراد
به ترتبه على ما يترقب منه من العنوان المطلوب، فلو صدق عرفا عليها ذلك
العنوان مع عدم بعض الاجزاء أو وجود بعض الموانع فهو مسامحة.
تنبيه
لا يخفى عليك أنه ليس كل موضوع ذي أثر قابلا لان يتصف بالصحة
والفساد، فإنه ربما يوجد بعض العناوين لا يتصف بواحد منهما، بل الذي يتصف
بهما هو ما يوجد بترقب ترتب الأثر إذا وجد على الوجه المترقب فهو صحيح،
وإذا لم يوجد على ذلك الوجه المترقب ففاسد، فمثل غسل الثوب وملاقاة النجاسة
138

والجنابات والاتلافات الموجبة للضمان لا يكون على قسمين صحيح وفاسد،
فتعريفهما بترتب الأثر وعدمه، ليس على ما ينبغي.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الأمور الموجودة المترقبة الأثر على قسمين قسم لا
يكون منظورا فيه عند العقلاء بوجه من الوجوه إلا بنحو الآلية كالعقود والايقاعات
مثلا، وقسم يكون معتبرا عندهم مع قطع النظر عن حكم الشرع، كغسل البدن
الموجب لزوال الدناسة وكالعبادات على وجه.
وكيف كان، ترتب الآثار (تارة) يكون بنظرهم مستقلا من دون أن يكون
للشرع مدخل فيه، كغسل الوجه المترتب عليه التبرد، ولبس الثوب المترتب عليه
المحفوظية عن الحرارة والبرودة (وأخرى) يكون موقوفا على بيان كيفية إتيان
العمل ليترتب عليه الأثر، ومورد البحث هو الثاني.
إذا عرفت هذا فاعلم أن اقتضاء النهي فساد المنهي عنه مطلقا يعرف بوجهين:
(أحدهما) الرجوع إلى العرف في فهمهم أن هذا الشئ مثلا دخيل في تحقق
المأمور به. مثلا إذا نهى المولى عن الصلاة في الحرير يفهم منه عرفا مانعية الحرير
عن انعقاد الصلاة.
وبعبارة أخرى أوضح: فكما إذا أمر بشئ مقيدا بقيد خاص يفهم اشتراطه به
بحيث لولاه لم يوجد المقيد، فكذا إذا نهى عن شئ مقيدا بوجود شئ يفهم منه
اشتراطه بعدمه كذلك، وهذا هو المراد من استدلال الحاجبي من العامة في
المختصر والشيخ رحمه الله من الخاصة في عدة الأصول وصاحب المعالم وجماعة من
المتأخرين بأن علماء الأمصار في جميع الأعصار لا يزالون يستدلون بالنواهي
على الفساد فيهما.
(ثانيهما) - وهو مخصوص بالعبادات بالمعنى الأخص - وهو أن النهي إذا
تعلق بشئ يعتبر في تحققه إتيانه على وجه القربة والاطاعة يكون فاسدا من هذا
الوجه، بخلاف ما إذا تعلق بغير العبادات بالمعنى الأخص، فلا يستلزم الفساد،
139

لان المقصود فيه مطلق الوجود بأي نحو حصل، بل ربما لا يكون هناك أمر كي
يجتمع المبغوض والمحبوب ليتوهم فساده كما لا يخفى.
وهذان الوجهان كما ترى متغايران موضوعا وجهة ومدعيا ومنكرا، بمعنى أن
القائلين بالفساد - استنادا إلى الوجه الأول - ربما ينكرون الوجه الثاني، وكذا
العكس.
وجهة البحث أيضا على الوجه الأول غير جهته على الوجه الثاني فإن الأول
مستند إلى عرف العقلاء، والثاني إلى اقتضاء التحريم الفساد كما بينا، فجعلهما
واحدا ومن واحد واحد - كما فعله - جماعة ليس على ما ينبغي كما لا يخفى.
فعلم أن استكشاف الفساد إنما هو من الوجهين المذكورين، فما نسب إلى
الشيخ عليه الرحمة من ناحية بعض مقرري بحثه من استكشافه أيضا بتعلقه بالأثر
الحاصل من المسبب ككون ثمن العذرة سحتا المستكشف منه فساد المعاملة
الواقعة عليها بعيد جدا، فإنه لم يتعلق بالمعاملة بوجه من الوجوه.
وكذا استكشافه من تعلق النهي بالسبب كما في البيع وقت النداء، حيث إن
النهي لم يتعلق بالانتقال، بل بالايجاب والقبول المفوتين للجمعة بعيد أيضا،
لرجوعه إلى مبغوضيته أو الاشتغال بالتجارة في هذا الوقت، ويرجع بالآخرة إلى
حرمة المسبب. غاية الامر تكون حرمته (تارة) إحداثا كما في البيع وقت النداء
(وأخرى) إحداثا وإبقاء كما في بيع العبد المسلم أو المصحف من الكافر، فلا فرق
بينهما، فعدهما مستقلين كما ترى.
وهنا وجوه اخر تكشف بها الفساد:
(منها) ما عن الشيخ الأنصاري رحمه الله - على ما نسبه إليه مقررو بحثه - وهو أن
النهي يكون راجعا إلى تقييد إطلاقات أدلة صحة البيع. وهذا الوجه كالوجه الذي
ذكرناه، مشروط بتوجه النهي إلى الأسباب.
140

(ومنها) ما نسب إليه رحمه الله أيضا، وهو أنه إن قلنا بأن تأثير الأسباب في
المسببات عقلي فالنواهي المتوجهة إلى الأسباب لا تدل على الفساد، وإن قلنا إنه
جعلي وإمضائي فهو يكشف عن فسادها.
(ومنها) ما ينسب إلى بعض الأعاظم رحمه الله، وهو أن المكلف بعد ورود النهي
محجور شرعا فلا يصح البيع، لان شرط صحة المعاملة عدم كون المتعاقدين
محجورين، هذا.
والذي يقتضيه التدبر والتعمق أن النهي المولوي يتعلق بما هو منظور بما هو
عند العقلاء مع قطع النظر عن النهي، وحيث إن الأسباب بما هي ليست منظورة إلا
عنوان الآلية فليست مطلوبة، فلا تعلق للنهي بها.
وكذا المسببات الاعتبارية كالملكية والزوجية ليست بنفسها مطلوبة، فإن
الملكية الاعتبارية غير مفيدة ما لم ينضم إليها ترتب الآثار، فالمقصود بالأصالة
عند العقلاء من المعاملات ترتب الآثار الذي هو في المرتبة الثالثة في اعتبارهم،
فالنهي المولوي يتعلق به لا غير، فهو لا غير، غير مبغوض، ولا معنى للمبغوضية إلا
عدم وقوعه عند الشارع، فإن الاعتبارات العرفية إنما تفيد إذا انضم إليه إمضاء
الشارع المستكشف بالتصريح أو عدم الردع، فإذا صرح بمبغوضيته فلا جرم
يحكم بعدم وقوعه عنده.
وربما استدل للفساد بما رواه - كما في الوسائل - محمد بن يعقوب عن علي
ابن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن زرارة عن أبي
جعفر عليه السلام قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلى سيده، إن
شاء أجازه، وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله، إن الحكم بن عيينة وإبراهيم
النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل له إجازة السيد له،
فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله وإنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز (1).

(1) الوسائل: باب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 ج 14 ص 523.
141

فإنه رتب الحكم على الفساد المستفاد من مفهومه على عصيان الله تعالى،
فيفهم أن العصيان ملازم للفساد.
وهذا الاستدلال مبني على أن حكمه عليه السلام بالفساد عند كونه عصيانا له تعالى
من الاحكام المولوية دون الارشادية.
مع أن الظاهر أنه عليه السلام أراد الرد على فقهاء العامة، فإنهم زعموا أنه معصية له
تعالى، فنبه عليه السلام على أنه ليس الامر كذلك بل إنما عصى سيده فقط، هذا.
مضافا إلى أنه ليس المراد بالعصيان إتيان ما هو مبغوض له تعالى، وإلا فلا
يصح نفيه عليه السلام إياه، لان معصية السيد أيضا عصيان لله تعالى، باعتبار أن وجوب
إطاعة السيد على العبد حكم من أحكام الله تعالى.
بل المراد به تمرد العبد وخروجه عن رسم العبودية بالنسبة إلى مولاه فقط،
فإنه تصرف بما يغير حالاته وكيفية تعيشه كوجوب نفقة زوجته وتقليل عمله
لمولاه، فيرجع إلى ما ذكرنا من أنه إن كان الشئ مبغوضا بسنخه ونوعه لا
بشخصه فهو ملازم للفساد من حيث إن مبغوضيته بلحاظ ترتب آثاره، فإذا كان
مبغوضا لم يحصل شرعا، فلم يقع عرفا أيضا، لان تنفيذ الاحكام العرفية منوط
بإمضاء الشارع كما لا يخفى.
فتحصل مما ذكرنا: أن النزاع في موضعين: (أحدهما) هل التحريم مطلقا من
أي سبب كان - من قول صريح أو غيره، وفعل وإشارة وكناية، وغيرها
المستفاد من الاخبار والاجماع والعقل الدالين على التحريم - ملازم للفساد أم لا؟
(ثانيهما) هل النواهي في المعاملات والعبادات تدل على الحرمة أو الفساد؟
وعلى الأول يكون من صغريات البحث الأول، وليس بينهما جامع، فإن الأول
عقلي والثاني لفظي.
فترديد بعض الأعاظم (1) أعلى الله مقامه بأن المسألة هل هي عقلية أو لفظية

(1) هو صاحب الكفاية المرحوم المحقق الآخوند الخراساني.
142

ليس في محله، بل يقال: إنها عقلية بالنسبة إلى بعض الموارد، ولفظية بالنسبة إلى
بعض الموارد الاخر، فافهم.
ونظير الرواية - المتقدمة في الاستدلال بها، وما يرد عليها - ما رواه موسى بن
بكر الواسطي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل تزوج عبده
امرأة بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه، قال: ذاك لمولاه إن شاء فرق
بينهما، وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن فرق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلا أن يكون
اعتدى فأصدقها كثيرا، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأول (إلى أن
قال عليه السلام:) وليس بعاص لله، وإنما عصى سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان
ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه (1).
بل يمكن أن يقال: إن هذه الرواية هي التي رواها ابن أذينة عن زرارة. غاية
الامر قد نقل ابن أذينة بعضها وأسقط بعضها الاخر، وهكذا موسى بن بكر أيضا قد
نقل بعضها وأسقط بعضها الاخر.
نعم، هنا رواية أخرى يمكن استشمام الحكم منها. وهي ما رواه عبد الرحمن
ابن الحجاج عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام في مملوك تزوج بغير إذن
مولاه أعاص لله؟ قال عليه السلام: عاص لمولاه، قلت: حرام هو؟ قال: ما أزعم أنه حرام
ونوله (وقل له - خ ل) أن لا يفعل إلا بإذن مولاه (2).
وأما الاستدلال عليه بما رواه الصدوق رحمه الله باسناده عن أبي العباس البقباق،
والكليني عنه أيضا، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يتزوج الرجل بالأمة بغير علم
أهلها؟ قال عليه السلام: هو زنا، إن الله يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن (3). فلا دلالة
فيها على المطلوب أصلا (4).

(1) الوسائل: باب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 2 ج 14 ص 525.
(2) الوسائل: باب 23 من أبواب نكاح العبيد والإماء ج 14 ص 522 ح 2.
(3) الوسائل: باب 29 من أبواب نكاح العبيد والإماء ج 14 ص 527 ح 1.
(4) هكذا أفاده سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله، لكن يمكن أن يقال: إنها تدل صريحا على أن
143

خاتمة
حكي عن أبي حنيفة القول بدلالة النهي على الصحة.
وقد يوجه بأن كل شئ يكون مأمورا به أو منهيا عنه يكشف عن صدق
عنوان الموضوع عليه، لان الأوامر والنواهي لا تكون محققة لموضوعاتها، فتوجه
الأمر والنهي على شئ فرع صدق هذا العنوان مع قطع النظر عن الأمر والنهي،
فكما إذا أمر بشئ يكشف عن صدق هذا العنوان، كذا إذا نهى عنه يكشف عن
صدقه أيضا، فإذا أمر بالصوم يكشف منه أن ما أمر به المولى يكون مصداقا
صحيحا للمأمور به.
وبعبارة أخرى: المأمور به هو الصوم، وإذا نهى عنه يكشف منه على أن ما نهى
عنه يكون مصداقا للمنهي عنه.
وبعبارة ثالثة: المنهي عنه هو الصوم وهو المطلوب.
والجواب منع الملازمة بين صدق العنوان واتصافه بالصحة بمعنى ترتب
الآثار التي من جملتها التقرب إليه سبحانه وتعالى وسقوط الامر أو الإعادة. نعم
يصدق عليه أنه صوم مثلا مسامحة وتجوزا، كما لا يخفى.
والمفروض أنه ليس مأمورا بإيجاد مسمى العنوان، بل المأمور به هو العنوان
الصحيح، والحمد لله.

تزويج الرجل أمة الغير بغير إذن مولاها محرم، فإذا أوقع العقد على هذا المحرم يقع فاسدا،
فتدل - مع إلغاء الخصوصية - على أن كل عقد وقع محرما لا تترتب عليه الآثار الصحيحة
إلا أن يقال: من شروط وقوع العقد على أمة الغير صحيحا إذن مولاها، فإذا انتفى الشرط
انتفى المشروط، وهذا لا دخل له بالمقام أصلا، فتأمل. (المقرر عفي عنه).
144

فصل
في المفهوم والمنطوق
لا إشكال في أنهما من صفات المدلول لا الدلالة، فتعبير بعضهم بالدلالة
المفهومية أو المنطوقية من قبيل الوصف بحال المتعلق أي مدلولها منطوقي أو
مفهومي.
ولا إشكال أيضا في أن منشأ اختلافهما اختلاف نحو الدلالة، بمعنى أن كيفية
الدلالة المنطوقية غير الدلالة المفهومية.
وإنما الكلام في تمييز وتشخيص الكيفيتين، فقد يقال في مقام التحقيق: إنه لا
إشكال في أن الدلالة المطابقية والتضمنية من المنطوق، وأما الالتزامية فهي على
قسمين: (الأول) ما هو اصطلاح المنطقيين، أعني المدلول الالتزامي للمفردات.
(والثاني) ما هو اصطلاح الأصوليين، أعني المدلول الالتزامي للمركبات.
أما الأولى فداخلة في المنطوق قطعا، لان المراد به التكلم به ولو كان محل
نطقه ملزوم المعنى، فكما إذا نطق بما هو متضمن للمعنى يصدق أنه منطوق فكذا
إذا نطق بما هو مستلزم لمعنى بصدق أنه منطوق.
والفرق بين الاصطلاحين أن الأول ما يكون خارجا عن الماهية لكنه لازم
145

لوجودها الذهني - سواء كان لازما خارجا أيضا أم لا كالعمى بالنسبة إلى البصير،
حيث إنه لازم له مع أنه ممتنع الاجتماع خارجا مع العمى - والثاني ما يكون لازما
للوجود الخارجي للملزوم - سواء كان لازما ذهنا أم لا - مثلا هيئة (زيد قائم) التي
هي مركبة من دوال ثلاث على مداليل ثلاثة: (الأول) الموضوع وهو زيد الدال
على ذاته. (الثاني) المحمول وهو قائم الدال على ذات ثبت له القيام. (الثالث)
النسبة الدالة على انتساب القيام إلى زيد على وضع خاص.
يلاحظ انتساب أجزاء هذه الهيئة إلى نفسها (تارة) وبهذا الاعتبار يسمى
وضع تمام المقولة، وانتسابها إلى خارجها (أخرى) وبهذا الاعتبار يسمى وضع
بعض المقولة.
فمجموع الدوال الثلاث إذا دل على مجموع هذا الوضع، بمعنى أنه إذا وجد
في الخارج تمام هذه الهيئة يوجد أجزاؤها أيضا قطعا ولا يلزم من تصور
المجموع من حيث، هو تصور أجزائها لغفلة الذهن كثيرا عن تصور الاجزاء، فبين
المعنيين عموم من وجه.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام في الالتزام بالمعنى الثاني وهو اصطلاح
الأصوليين دون الأول وهو اصطلاح المنطقيين.
فنقول: المدلول الالتزامي في المركبات - بالبين بالمعنى الأخص - داخل في
المنطوق، لما ذكرنا آنفا وأما البين بالمعنى الأعم فهو داخل في المفهوم على ما
قيل ونسب أيضا إلى الشيخ الأنصاري رحمه الله على ما حكي عن بعض مقرري بحثه.
إن قيل: إن الكل مستلزم للجزء، فاللفظ الدال على الكل دال على الجزء
بالمنطوق، فأين المفهوم؟ قلت: الكل مستلزم للجزء خارجا لا تصورا كما قلنا من
أن المتكلم قد لا يتصور الجزء حين التكلم.
فانقدح أن المعنى المطابقي والتضمني والالتزامي البين بالمعنى الأخص
داخل في المنطوق، والالتزامي البين بالمعنى الأعم داخل في المفهوم.
146

لكن الانصاف أن هذا أيضا إحالة على المجهول، لان الكلام في تشخيص
هذه المعاني وتمييزها، لان الكلام فيما إذا صدر من المتكلم كلام له مفهوم بحيث
يمكن الاحتجاج به على ثبوت المدعى كما في المنطوق، وهذا ليس كذلك.
ويمكن أن يقال - في مقام التحقيق -: إن التدبر في كلمات المتقدمين من
الأصوليين يعطي أنه إذا كان مضمون الجملة الشرطية غير متضمن إلا لعلية الشرط
للجزاء من دون قيد زائد فليس له مفهوم، مثل قول الطبيب للمريض: إن شربت
السقمونيا فهو مسهل، فإن القضية تصير عند الانحلال هكذا: السقمونيا مسهل، ولا
يكون قيدا زائدا على الموضوع والمحمول، نظير قوله عليه السلام - بعد سؤال الراوي عن
غدير ماء وقع فيه الكلام والعذرة مثلا -: (الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شئ) (1) حيث إن الموضوع والمحمول في هذه القضية عبارة عن الماء وتنجسه أو عدم
تنجسه وبلوغ الماء قدر الكر قيد زائد عليهما، فيمكن حينئذ أن يقال: إن له
مفهوما.
فانقدح بذلك أن ما يقال (2) من أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه - لا في
حجيته وعدمها مع فرض الثبوت - ليس على ما ينبغي، لأنا قد بينا أن ما كان من
قبيل الثاني - أعني اشتماله على قيد زائد - فالمفهوم ثابت له حذرا عن لزوم لغوية
القيد الزائد، ويعلم ذلك بعد المراجعة إلى استدلالاتهم على الانتفاء عند الانتفاء
في مفهوم الشرط والوصف والغاية.
ولهذا استدل السيد المرتضى رحمه الله على عدم الدلالة بإمكان قيام قيد آخر مقام
القيد الأول واستشهد بقوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية (3) حيث تقوم امرأتان مقام الشاهد
الواحد، وعند فقدهما يقوم يمين المدعي مقامهما.

(1) راجع الوسائل: باب 9 من أبواب الماء المطلق ج 1 ص 117 ح 1.
(2) كما في الكفاية.
(3) البقرة: 282.
147

ولم ينكر السيد رحمه الله ومن تبعه دلالة القيد على المفهوم، بل رده بما ذكره
فيستكشف الاجماع على ثبوت المفهوم، وكلامهم إنما هو في حجيته وعدمها.
وبعبارة أخرى أوضح: إن أهل العرف يفهمون هذا المعنى من مفهوم هذا
الكلام مثلا، وإنما الكلام في أن هذا الفهم العرفي حجة بحيث يصير عذرا
للمتكلم في مؤاخذته عند عدم العمل بمقتضى هذا المفهوم أم لا؟ ومعذرا
للمخاطب مع العمل به أم لا؟
والحاصل: أن المفهوم عبارة عن كون الكلام بحيث لو لم يدل على هذا المعنى
لزم لغوية القيد الزائد.
فقول بعض الأعاظم (1): (هو حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية
المعنى الذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكم، وكان يلزمه لذلك
وافقه الايجاب والسلب أو خالفه) لم نفهم معناه. فإنه إن كان المراد أن
الخصوصية داخلة في المعنى فهو بنفسه مستتبع للمفهوم دون الخصوصية، وإن
كانت خارجة عنه فلا نسلم أن في المعنى دائما خصوصية بها يستتبع المفهوم.
ولعله لذا أعرض عن هذا التعريف بعض الأعاظم (2) وعرفه بأنه مدلول
التزامي باللزوم البين بالمعنى الأخص الذي تصور الملزوم فيه كاف لتصور اللازم.
وأما دلالة الإشارة والاقتضاء والتنبيه فسماها بالمدلول السياقي، فحينئذ يرد
عليه أنه يلزم أن تكون المداليل أربعة: المنطوق، وهو المعنى المطابقي والتضمني.
والمفهوم، وهو اللزوم البين بالمعنى الأخص. والمدلول السياقي، وهو التنبيه
والإشارة والاقتضاء، ويكون البين بالمعنى الأعم. والغير البين بالمعنى الأعم
قسما رابعا، وهو خلاف اصطلاح القوم كما لا يخفى.
وكيف كان، فالأنسب ما اختاره المتقدمون، وهو أن المفهوم مستفاد من مجرد

(1) هو المحقق الآخوند ملا محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية أعلى الله مقامه.
(2) لعل المراد المحقق المعروف بالأصولي الحاج آقا ضياء العراقي رحمه الله.
148

ذكر القيد، سواء كان شرطا أو وصفا أو غاية ونحوها من القيود والأوصاف، وأنها
تدل على الثبوت عند الثبوت، وأن لها دخلا في ثبوت الحكم وجودا.
وبعبارة أخرى: الموضوع في القضية الشرطية في نحو قولنا: (إن جاءك زيد
فأكرمه) هو زيد الجائي لا أن المجئ علة لوجوب إكرام زيد كما اختاره جماعة
من المتأخرين، فإنهم يبحثون في كون العلة المستفادة من الشرط هل هي علة
تامة أو غير تامة، المستكشف منه أن كون الشرط علة في الجملة مفروغ عنه
والنزاع في خصوصيتها. نعم لا يدل على الانتفاء عند الانتفاء، اللهم إلا بالنسبة إلى
هذا الحكم، فمعنى قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) أن وجوب الاكرام الثابت لزيد
الجائي منتف عند انتفاء القيد لا مطلق وجوبه، فافهم.
ثم لا يذهب عليك أن هذه الدلالة من دلالة التكلم لا من دلالة الكلام، بمعنى
أن الأصل العقلائي كما يقتضي كون التكلم لأجل الدلالة حذرا من لزوم اللغوية
كذلك يقتضي بالنسبة إلى أجزائه.
وبعبارة أخرى: كما أن أصل الكلام يحمل عند العقلاء على إرادة معنى في
الجملة، كذلك أجزائه التي من جملتها هذا القيد وأما الانتفاء عند الانتفاء فدفع
محذور اللغوية غير محتاج إليه فيحتاج إلى دليل آخر.
وأما بناء على ما اختاره المتأخرون من استفادة المفهوم من كون الشرط علة
تامة منحصرة مع الوجوه التي ذكروها في محله، فلا يسمن ولا يغني من جوع.
تتميم
لا نزاع في انتفاء شخص الحكم الذي أوجده المتكلم - بنفس هذا الكلام -
عند انتفاء القيد كما هو ظاهر، فلو قال: (إن جاءك زيد فأكرمه) فقد أوجد
الوجوب المتعلق بإكرام زيد الجائي، فلا يتصور حينئذ بقاء الحكم بعد انتفاء القيد
شخصا أو سنخا، وعليه يحمل الأوقاف والأقارير والوصايا وأمثالها مما يكون
149

وجود الحكم بنفس ايجاده.
وأما إذا حكى بهذا الكلام عن حكم واقعي ثابت في نفس الامر - سواء كانت
حكايته بالكلام الانشائي أو الاخباري - فقد نقل أنه لا كلام أيضا في انتفاء
شخص الحكم.
وإنما الكلام في انتفاء سنخه ونوعه، من أنه هل ينتفى بانتفاء قيده أم لا؟
وعلى الثاني فهل المراد بقاء وجوده أو ماهيته؟ وعلى الثاني يمكن أن يستشكل
أن المتكلم كيف يوجد الماهية بما هي كي تبقى عند انتفاء قيدها؟ بل الماهية من
حيث هي لا إطلاق فيها ولا تقييد، فإنها ليست إلا هي.
مع أنه كيف يعقل كون الوجود علة للماهية وقد قرر في موضعه أن الوجود لا
يكون علة إلا للوجود (1) فإنه متأخر عنها طبعا، والمتأخر بما هو متأخر لا يمكن
أن يكون علة للمتقدم كما هو ظاهر.
وكيف كان، فقد علل لانتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده بوجهين: (أحدهما) ما
نسب إلى بعض مقرري بحث الشيخ الأنصاري رحمه الله من عدم دلالة الكلام على
الحكم بعد انتفاء القيد، بل الحكم ينتفى بمجرد انتهاء الكلام. (ثانيهما) ما عن
الكفاية من أن الانتفاء عند انتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده.
ويرد على الأول أن لازم هذا الكلام كون الحكم تابعا حدوثا وبقاء للكلام،
وليس كذلك، بل هو أمر واقعي يكشف عنه بهذا الكلام، فوجوده ثابت قار غير
تابع لوجود الكلام، ولذا يرى المخاطب نفسه مكلفا بهذا الفعل حتى بعد تمام الكلام.
ويرد على الثاني أنه غير مناسب لما اختاره في المفهوم تبعا لجماعة من
المتأخرين من كون الشرط علة للحكم، فإنه حينئذ ليس جزء للموضوع، لان كون
شئ جزء لشئ يقتضي معيتهما وجودا، وكونه علة له يقتضي تقدمه على
المعلول، فلا تجتمع الجزئية مع العلية تصورا.

(1) العبارة موهمة لعدم إمكان صيرورة الوجود علة للعدم، وليس المراد ذلك، فلا تغفل.
150

وكيف كان، فلا نتعقل الفرق هاهنا بين كون (1) الحكم شخصا أو سنخا، بل لا
معنى لسنخيته، فإن وجوب إكرام زيد عند مجيئه حكم شخصي ينتفي بانتفاء قيده،
سواء قلنا في استفادة المفهوم بمقالة المتقدمين بالنحو الذي ذكرنا أو المتأخرين.
أما على الأول فإن الموضوع على قولهم (اكرام زيد) المقيد بالمجئ.
وبعبارة أخرى: الموضوع مقيد، والوجوب المحمول على هذا المقيد شخصي
ينتفي بانتفاء المجئ قطعا.
وأما على الثاني فإن القيد عندهم علة للحكم الشخصي فبانتفاء قيده الذي هو
العلة ينتفي المعلول.
والحاصل: أن الحكم المنشأ شخصي، ولا نعرف معنى كونه سنخا ونوعا أو
فردا من السنخ، كما لا يخفى.
فصل
لا يخفى عليك أن تعدد الشرط تارة يكون بحيث يمكن معه تعدد المشروط،
وأخرى يكون بحيث لا يمكن. والأول داخل في المسألة كما سيأتي إن شاء الله،
والثاني يمكن أن يكون في مقام الثبوت على أحد أنحاء أربعة.
مثلا إذا قال المولى: (إذا خفي الاذان فقصر، وإذا خفي الجدران فقصر) فأما
أن يخصص مفهوم كل منهما بمنطوق الاخر، أو أنه لا مفهوم لهما، أو يكون أحد
المنطوقين قيدا للآخر بحيث لو لم يجتمعا معا لم يتحقق الجزاء، أو يكون الشرط
شيئا ثالثا يكشف عنه بواحد منهما.
وأما في مقام الاثبات والاستظهار فيبعد الثاني أن المتكلم لما كان في مقام
التحديد فاحتمال عدم وجود المفهوم بعيد جدا.
ويبعد الثالث أيضا أنه بعيد عن ذهن أهل العرف، فان السائل أو سأل

(1) من قبيل إضافة الكون إلى اسمه.
151

الإمام عليه السلام عن ذلك وأجابه عليه السلام بأحد الشرطين لم يفهم منه إلا استقلالية كل
منهما لوجود الجزاء.
ويبعد الرابع أيضا أنه خلاف ظاهر القضية الشرطية التي مفادها كون الشرط
بنفسه علة للجزاء وأنه لا يجامع شرطا آخر.
فأظهر الاحتمالات الأول.
وأما احتمال كون أحدهما مخصصا للآخر وبقاء الاخر على إطلاقه فرجم
بالغيب كما لا يخفى.
وأما القسم الأول المشار إليه، وهو أن تعدد الشرط هل يوجب تعدد الجزاء؟
فهذا البحث يفارق عن البحث السابق من وجهين (الأول) أنه كان متفرعا على
القول بالمفهوم بخلاف هذا البحث. (والثاني) أن البحث السابق بعد الفراغ عن عدم
إمكان تعدد الجزاء، وهذا البحث بعد إمكان تعدد الجزاء ثبوتا، وإنما يبحث في
مقام الاثبات.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه هل تقتضي الأسباب المتكثرة إيجابات متعددة أم
يكتفى بإيجاب واحد؟ وعلى الأول هل يمكن إتيانها بايجاد واحد أم لابد من
ايجادات متعددة، والثاني يعبر عنه بتداخل الأسباب، والثالث بتداخل المسببات،
ولا فرق في هذا النوع من النزاع بين اتحاد الجنس واختلافه كما لا يخفى.
وكيف كان، فقد استدل للقول بعدم التداخل الذي هو منسوب إلى المشهور في
مثل قولنا (إذا نمت فتوضأ، وإذا بلت فتوضأ) بظهور القضية الشرطية في الحدوث
عند الوجود، أي حدوث الجزاء عند وجود الشرط، فلو لم يحمل على ذلك - بأن
حمل على ثبوت الوجود عند وجود الشرط الثاني أو تأكده عنده أو كونه غير
مؤثر أصلا - كان خلاف الظاهر.
وإطلاق متعلق الامر لا يصار إليه بعد كون ظهور القضية الشرطية بيانا له،
ومن مقدمات جواز التمسك بالاطلاق عدم كون المتكلم في مقام البيان.
وعلى تقدير تسليم المعارضة فتقييد إطلاق الجزاء أولى، لان إطلاقه
152

مقدمات الحكمة، وإطلاق الشرطية بحسب الوضع، فهو مقدم باعتبار أن دلالته
الوضعية أقوى من غيرها.
وقد استدل أيضا بكون الشرط علة للجزاء، وتعدد العلة مستلزم لتعدد
المعلول.
وهذا الاستدلال أولى من الأول فإنه يشمل تعاقب العلتين وتقارنهما، بخلاف
الأول، فإنه مختص بالثاني كما لا يخفى.
ولا يخفى ما فيهما، فإنه ليس في المقام إلا تعلق الامر بالطبيعة، وهي لا تعدد
فيها، وتعدد الافراد لا يوجب تعدد الطبيعة، فعند وجود الشرط إن وجد الفرد
الاخر فهو وإن كان فردا آخر، لكن ليس بطبيعة أخرى، والمفروض أن الفرد الثاني
عين الطبيعة الأولى التي وجدت في ضمن الفرد.
وتوهم كون الشرط الأول أوجد الطبيعة في ضمن هذا الفرد، فالشرط الثاني
يكون متوجها إلى الفرد الثاني قهرا مدفوع بأن المفروض أن الجزاء هو الوجوب
المتعلق بالوضوء في المثال لا نفس التوضؤ والوجوب أينما وجد، فهو شخصي لا
تعدد فيه كما لا يخفى.
والحاصل: أنه إن كان السببان مقيدين للامر المتعلق بالوضوء من الأول
فاللازم كونهما ناظرين إلى كل واحد منهما، وليس كذلك، فإن قوله: (إن بلت
فتوضأ) مطلق، سواء وجد البول مثلا أم لا؟ وكذا قوله: (وإن نمت فتوضأ) أيضا
كذلك، سواء وجد النوم أم لا.
وإن كان أحدهما مطلقا والاخر مقيدا ففيه أنه ربما يوجد ما فرضته مقيدا
متقدما على ما فرضته مطلقا.
وربما يظهر من تقريرات الشيخ الأنصاري رحمه الله أن الجزاء عبارة عن الوجود
فراجع.
وفيه أن من المعلوم أن الجزاء في قوله: (إذا بلت فتوضأ) هو الوجوب
المتعلق بالتوضؤ لا نفس التوضؤ. وبعبارة أخرى: هيئة الجزاء معلقة على مادة
153

الشرط، والهيئة تدل على الوجوب.
وكذا توهم أن اشتغال الذمة يقتضى تعدد الجزاء مدفوع، بأن اشتغال الذمة أمر
انتزاعي ينتزع عند العقل من منشأ انتزاعه، والمفروض أن منشأ انتزاعه غير قابل
للتعدد.
وبتقرير آخر: لا إشكال في جواز طلبين متعلقين بوجودين عقلا بأن يتعلق
الامر بإيجاد وجودين، ولكن إذا كان في مقام لا يمكن أن يتميز أحدهما عن
الاخر ولا يكون الوجود ان أيضا بأنفسهما متميزين، بل إذا أتى بواحد منهما امتثل
بالنسبة إليه من غير تعيين أنه أي منهما، وإذا امتثل بإتيان اثنين يسقط كلاهما،
كل ذلك إذا كانا مطلوبين بطلب واحد بايجاب فارد، كأن يقول مثلا: (أكرم زيدا
إكرامين) أو (اعط زيدا درهمين) بحيث لو أعطى أحدهما صار ممتثلا بالنسبة إلى
هذا الاعطاء.
وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإن أحد الوجوبين جاء من قبل قوله: (إذا بلت
فتوضأ) والاخر من قبل قوله (إذا نمت فتوضأ) فلا يمكن أن يكون أحدهما ناظرا
إلى الاخر، والمفروض أن متعلق كل واحد منهما وجوب نفس طبيعة التوضؤ من
دون قيد زائد، فلا يتصور حينئذ تعدد، فتأمل جيدا.
خاتمة
لا شك أن المفهوم على القول به عبارة عن نفي حكم ثبت لموضوع عند عدم
شرطه بنفسه أو بقيوده للموضوع أو للحكم.
وهل ينتفى الحكم عن جميع الافراد بما هي هي في المفهوم إذا ثبت لها في
المنطوق؟ وبعبارة أخرى: هل يكون الثابت لموضوع ذي أفراد على تقدير الشرط
منتفيا عنه في الجملة أو يكون منتفيا عن جميع أفراده؟ مثلا قولنا: (إذا جاءك زيد
فأكرم كل عالم) هل هو مستلزم لانتفاء الحكم الثابت للمجموع على تقدير وجود
154

الشرط عن جميع (1) أفراد العالم، أو عن مجموع أفراده الغير المنافي لثبوته لبعض
الافراد وكذا قوله عليه السلام: (الماء إذا كان قدر كر لا ينجسه شئ) (2) هو أن الماء إذا
لم يبلغ قدر كر ينجسه كل شئ أو ينجسه شئ في الجملة؟ وجهان بل قولان.
والتحقيق أن يقال: إن الشرط لو اخذ علة تامة لكل واحد من أفراد العام
بحيث لو انحلت القضية إلى قضايا متعددة معلقة مثل (إن جاءك زيد فأكرم هذا
العالم) و (إن جاءك زيد فأكرم ذاك العالم) وهكذا بالنسبة إلى جميع الافراد،
فاللازم انتفاء الحكم عن جميع الافراد عند انتفاء الشرط.
وإن اخذ على نحو بكون الشرط علة تامة لجميع الافراد فاللازم كفاية
الانتفاء في المفهوم في الجملة.
والعرف لا يفهمون إلا الثاني بمعنى أن يكون للماء الكر خاصية بها يمنع عن
تأثير مطلق النجاسات، وهذا لا ينافي أن يكون في الماء بنفسه - ولو كان قليلا -
خاصية بها يمنع عن تأثير بعض النجاسات، فتأمل جيدا.
ولكن يمكن أن يخدش في هذا الكلام بأنه بعد إقامة الدليل والبرهان على
النحو الأول لا يكون فهم العرف متبعا، وإنما يكون ذلك إذا كان المفهوم مشكوكا
فيرجع إلى العرف حينئذ بخلاف المقام، فإن المفروض أن العلة تكون منحصرة
بالنسبة إلى الافراد.
هذا ولكن يمكن أن يقال: إن الحاكم يلاحظ العموم، بنحو الاستغراق وتعليق
الحكم على هذا الشرط بنحو المجموع.
وهذا حسن إن لم يستلزم اجتماع اللحاظين كما قيل، ولكن يمكن أن يقال
بعدم استلزامه اجتماع اللحاظين، فإن موضوع الحكم متقدم على لحاظ التعليق،
فاجتماع اللحاظين في زمانين لا مانع منه.

(1) متعلق بقوله: (لانتفاء... الخ).
(2) الوسائل: باب 9 من أبواب الماء المطلق ج 1 ص 117 ح 1.
155

تذييل
قد ذكرنا أن المفهوم على مذاق القدماء هو عبارة عن دلالة القيد على
مدخليته في ثبوت هذا الحكم في الجملة، بحيث لولا هذا القيد للزم الهذرية في
زيادة القيد من غير فرق بين الموارد من شرط أو وصف أو غاية أو استثناء. نعم
يحتمل في الثالث كونه موضوعا لدلالته على ثبوت الحكم للمذكور وانتفائه عن
المنطوق مثل (إلى) و (حتى) فإنهما موضوعان لانتهاء الحكم، فدلالتها على
الانتفاء إنما هو بالمنطوق، وكذا (إلا) الاستثنائية موضوعة لثبوت الحكم نفيا كان
أو إثباتا للمستثنى منه ونفيه عن المستثنى كذلك، وقد اعترف شيخنا الآخوند
الخراساني أعلى الله مقامه في الكفاية بالنسبة إلى ما كان قيدا للحكم لا للموضوع
كما في قوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق (1) حيث إن
موضوع الحكم اليد إلى المرفق.
ولا يخفى أن (إلا) موضوعة لنفي الحكم الذي نسب إلى المستثنى منه عن
المستثنى.
فالاشكال بأن كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لا تفيد التوحيد على تقدير
إضمار ممكن أي لا ممكن أو على تقدير موجود أي لا موجود مندفع، بأن المعنى
لا معبود، فإن العرب كانوا يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، كما حكاه الله
تعالى عنهم بقوله: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (2) فلا يفهمون هذه
الاصطلاحات المستحدثة الفعلية من الوجوب بالذات وللذات، والامكان،
ولوجوب الغير (3).

(1) المائدة: 6.
(2) الزمر: 3.
(3) هكذا أفاده سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله العالي، لكن يبقى الاشكال بالنسبة إلى الزمان
الحاضر لو أقر بالتوحيد بهذه الكلمة وأراد واحدا منها هل يكون مسلما أم لا؟ نعم يمكن أن
يقال: إن مجموع المستثنى منه والمستثنى وأداة الاستثناء عبارة عن جملة موجبة كقولنا:
(الله المفروض الوجود واحد) فيكون كافيا في الحكم بالتوحيد، والله العالم.
156

بحث
في العموم والخصوص
فقد يعبر بالعام والخاص، وكيف كان فقد عرفوا العام بتعاريف لا طائل تحتها
مع ما أورد عليها طردا وعكسا.
(فمنها) ما ذكره في الكفاية من أنه شمول المفهوم بجميع ما يصلح أن ينطبق
عليه.
وفيه: أن ما يصلح... الخ غير معلوم المراد، مضافا إلى أن لازمه شمول قولنا
أكرم (العلماء) مثلا على كل واحد من أفراده بعنوانه العمومي وليس كذلك، لان
زيدا مثلا وكذا عمرا وهكذا، لا يصدق على كل واحد عنوان (العلماء).
(ومنها) أنه اللفظ الدال على استغراق أفراده.
وفيه: أن العموم والخصوص من صفات المعنى لا اللفظ، مضافا إلى ورود ما
ذكر على التعريف الأول، مع أن هذا التعريف لا يشمل العموم المجموعي كما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
فالأولى تعريفه بأنه شمول المفهوم لجميع أفراد العنوان الواحد أو اللفظ الدال
على استغراق أفراد عنوان واحد.
ثم إن الحق أن العموم بما هو هو ينقسم إلى المجموعي والاستغراقي والبدلي،
لا باعتبار تعلق الحكم كما هو المصرح به في الكفاية.
157

بيان ذلك: أن ما يتصور إما أن يكون مفهوما جزئيا أو كليا، والأول خارج عن
محل الكلام، والثاني إما أن يلاحظ معناه الكلي مع قطع النظر عن كونه آلة
لملاحظة الكثرات أم لا؟
فالأول كالحيوان الناطق المتصور الموضوع له لفظ الانسان وهذا يسمى عاما
منطقيا، والثاني إما أن يكون لحاظ الكثرات بواسطة هذا المفهوم مع وصف كثرتها
بأفرادها إما متميزة وإما مجموعا أو يلاحظ أحد الكثرات على سبيل التبادل.
فالأول هو الاستغراقي، والثاني هو المجموعي، والثالث هو البدلي. فانقدح
بذلك عدم الحاجة - في مقام تصور الأقسام الثلاثة - إلى إضافة الحكم (1).
ثم لا يخفى أن التعريف الثاني لا يشمل القسمين الأخيرين كما أشرنا إليه
لعدم كون أفرادهما مستغرقة لأفرادهما، فإن العموم المجموعي مثلا - كما مثل له
قدماء الأصوليين بالدار - لا يشترط أن يكون له أفراد متفقة الحقيقة التي لوحظت
مجموعا بمنزلة الفرد الواحد، فإن ذلك مشروط بصحة إطلاق اللفظ على كل واحد
واحد، مثل أن يقال: زيد إنسان، وعمرو إنسان، وهكذا، ولا كذلك لفظة (الدار)
فإن بعض أجزاء الدار لا يسمى دارا لا لغة ولا عرفا، هذا.
مضافا إلى أنه ليس لنا في الخارج لفظ معناه ذو أفراد إذا لوحظ معناه يكون
المجموع من حيث هو ملحوظا، اللهم إلا باعتبار تعلق الحكم، وما ذكرناه من
إمكان الانقسام إلى الثلاثة إنما هو في مقام الثبوت لا في مقام الاثبات.
تنبيه
قد ذكروا أن الخاص ما قصر شموله للافراد، وظاهر هذا التعريف أن الخاص

(1) هكذا أفاده سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله العالي. أقول: هذا مضافا إلى أن تعلق حكم كل
موضوع بنفسه فرع على تصور الموضوع، فما دام لم يتصور كل واحد منها لم يمكن أن
يتعلق الحكم بها، فلو كان انقسامه باعتبار تعلق الحكم لزم الدور، فتأمل.
158

من أفراد العام مفهوما، بمعنى أن له قابلية أن تشمل الافراد ذاتا إلا لمانع قصر
شموله، فيرجع في الحقيقة إلى أن العام على قسمين: (أحدهما) ما بقي على عمومه
(وثانيهما) ما لم يبق عليه فكونهما حينئذ متقابلين كما يظهر من كلماتهم كما ترى.
والظاهر أن مناط العموم هو كون العنوان الواحد آلة لملاحظة الكثرات بما
هي متميزات، فالأصل في العموم أن يكون استغراقيا، وأما البدلي فظاهر أنه ليس
المراد بالعموم إلا بمؤنة زائدة، وأما المجموعي فحمله عليه خلاف ظاهر اللفظ.
وهنا تنبيهات:
الأول
الظاهر أن للعموم صيغة تخصه، لان المتكلم إذا أراد إلقاء المعنى إلى
المخاطب فلا محالة يضع بإزائه لفظا يدل عليه.
وأما احتمال أن كل ما ادعى أنه للعموم فهو للخصوص أو المشترك بينه وبين
العموم مستدلا بأنه المتيقن، بضميمة القاعدة المعروفة ما من عام إلا وقد خص.
فمردود، بأنه إن كان المراد أن تيقن الإرادة علة لان يكون الواضع قد وضعه
لذلك ففيه أن الإرادة متأخرة عن الاستعمال المتأخر عن الوضع، فكيف يكون
علة للوضع؟ وإن كان المراد أنه علة لعلمنا بأن الوضع كان للخصوص ففيه أن
الخصوصيات مختلفة باعتبار اختلاف المخصصات كما لا يخفى، فكيف يمكن أن
يقال: إنه وضع للخصوص مع أنه مختلف مثلا قولنا: (أكرم القوم إلا زيدا) يكون
المخصص الباقي غير زيد وإذا استثنى عمرا يكون الباقي غير عمرو وهكذا؟
فتدبر.
الثاني
ما وقع في سياق النفي سواء كان نكرة أو معرفا بلام الجنس يفيد العموم لأنه
159

- مع قطع النظر عن النفي - موضوع للطبيعة، وهي تتحقق بوجود فرد منها، فنفيها
يكون بنفي جميع الافراد وإلا لزم التناقض.
ثم لا يخفى أن قولنا: (لا رجل) نفي بسيط لا يحتاج إلى الخبر بقولنا:
(موجود) كما ذهب إليه سيبويه، لان الطبيعة بما هي لا موجودة ولا معدومة، ولذا
ذكروا بأن محل استحالة ارتفاع النقيضين إنما هو في مقام التحقق لا في مقام
لحاظ الطبيعة بما هي، فكما تحتاج في الوجود إلى العلة، فكذا كونها معدومة
تحتاج إليها، غاية الامر يكفي في علة العدم عدم وجود علة الوجود، فإذا لم يكن
علة لوجود الرجل يقال: (لا رجل) ولا يحتاج إلى قولنا: (موجود) لان المقصود
نفي الطبيعة لا نفي وجود الطبيعة، فإن الوجود والطبيعة ولو كانا متعاقبين في
اللحاظ لكن ورود النفي عليها لا يحتاج أن يكون بعد لحاظ وجودها كما لا
يخفى.
الثالث
لو خصص العام فإما أن يكون المخصص منفصلا أو متصلا بوصف أو استثناء،
فهل يصير العام مجملا أم حجة فيما بقي مطلقا أم لا مطلقا أم التفصيل بين المنفصل
والمتصل بكونه حجة في الأول دون الثاني؟ وجوه وأقوال.
حجة الأولين أن المعنى الحقيقي لم يرد قطعا، والمجازات متعددة حسب
تعدد المراتب، فإن المراد مردد بين تمام الباقي أو بعضها، والبعض أيضا متعدد
حسب تعدد أفراد ذلك البعض المحتمل، ودليل المخصص إنما ينهض لصرفه عن
المعنى الحقيقي دون تعيين المعنى المراد، فتعينه يحتاج إلى قرينة معينة.
وقد أجيب بأن تمام الباقي أقرب المجازات عند تعذر الحقيقة، فيتعين
بمقتضى القاعدة المعروفة القائلة بأنه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات.
وقد رده في الكفاية - وهو في محله - بأن الأقربية الموجبة للتعين هي ما إذا،
160

كان منشأها انس الذهن بأحد المعاني المجازية، لا كونه أكثر أفرادا، وهو إنما
يحصل بكثرة الاستعمال.
وقد أجاب في الكفاية أيضا عن أصل الدليل بأن الاستعمال وإن كان قد وقع
في تمام الافراد لكن الإرادة الجدية لم تكن إلا بالنسبة إلى الافراد الباقية. غاية
الامر (1) أن فائدة هذا الاستعمال تظهر في الموارد المشكوكة حيث يجوز له
الاحتجاج فيها.
ويرد عليه أن الاحتجاج يصح إذا كانت الافراد مرادة بالدلالة التصديقية التي
في المرتبة الثالثة من الأصول الثلاثة العقلائية، فإذا انكشف بالقرينة أنه لم يرد
تمام الافراد جدا فكيف يجوز الاحتجاج فيها؟
والتحقيق أن يقال: إن استعمال اللفظ في المعنى على وجهين: (أحدهما) أنه
يستعمل في الموضوع له ويراد ذلك المستعمل فيه. (والثاني) يستعمل في المعنى
الموضوع له ويراد به معنى يناسب الموضوع له بعلاقة، فاللفظ دائما يستعمل في
الموضوع له، غاية الامر تسمية هذا الاستعمال حقيقة موقوفة على إرادة هذا
الموضوع له جدا، وأما إذا جعل ذلك الموضوع آلة لملاحظة معنى آخر ومعبرا له
يسمى مجازا.
ولعل تسمية ذلك مجازا من هذا الوجه لان المجاز مشتق من (جاز) إذا
عبر، كأن المخاطب يعبر عن الموضوع له إلى غيره (2).
واعلم أن المخاطب في العموم والخصوص نظير الكلام في الحقيقة والمجاز، فإذا

(1) قد أفاد الأستاذ مد ظله: إن هذا المعنى من قوله: (غاية الامر... الخ) غير موجود في
الكفاية. أقول: كأنه توضيح لكلام الكفاية.
(2) هكذا أفاده الأستاذ مد ظله: أقول: فيه أنه يلزم من ذلك أن يصير المعنى الحقيقي مجازا،
لأنه على هذا الوجه صار معبرا للمعنى الغير الموضوع له، مضافا إلى أن أهل الأدبية يعرفون
الحقيقة بأنها الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له ولم يعتبروا كونه مرادا جديا، والله
العالم. والحاصل: أن صيرورة استعمال اللفظ حقيقة لا يحتاج إلى إرادة جدية.
161

استعمل العام وأريد به تمام الافراد فقد استعمل في معناه الموضوع له وبواسطة
المخصص يخرج بعض الافراد الغير المراد، فقرينية المخصص تدل على عدم
إرادة الباقي، ودلالته على تمام الباقي لا يحتاج إلى قرينة أخرى كي يقال: إن
المخصص قرينة صارفة ويحتاج الباقي إلى قرينة معينة، لأن المفروض أن اللفظ
استعمل في تمام الافراد وأريد بعضها بقرينة المخصص.
ففي الحقيقة، العام المخصص لا حقيقة ولا مجاز (أما الأول) فلعدم إرادة تمام
الموضوع له في مقام الاستعمال (وأما الثاني) فلان المستعمل فيه لم يجعل آلة
للحاظ معنى آخر، بل هو بعينه مراد، غاية الامر قرينة المخصص أخرجت البعض
فيبقى الباقي بحاله وعلى ما كان من الحقيقة.
والى هذا يرجع كلام شيخنا الأنصاري رحمه الله أيضا من أن دلالة العام على بعض
الافراد لا يحتاج إلى دلالته على البعض الاخر كما لا يخفى.
فالاشكال عليه - بأن ظهور اللفظ في المعنى إما بالوضع أو بالقرينة، والأول
غير ثابت بالنسبة إلى خصوص الباقي، بل اتمام المعنى بعنوان واحد، والثاني يفيد
بالنسبة إلى صرفه عن المعنى الحقيقي لا تعيين الباقي - مدفوع، بأنه إن كان المراد
على سبيل منع الخلو فمسلم، وإن كان على سبيل منع الجمع فممنوع، بل قد
يجتمعان كما في ما نحن، فإن العام يدل بالوضع على إرادة تمام الافراد استعمالا
وعلى خصوص الباقي بالقرينة، وقد ذكر أنه ليس بمجاز، لان المخاطب لم
يتجاوز عن المستعمل فيه إلى معنى آخر بل هو عين المعنى الموضوع له، غاية
الامر أن القرينة قامت على خروج البعض الاخر.
ثم إنه لا فرق في ذلك بين العام الاستغراقي والمجموعي كما لا يخفى.
الرابع
إذا خصص العام بمخصص متصل فلا يجوز التمسك به في الفرد المشكوك
162

مفهوما أو مصداقا، وإن خصص بمنفصل واشتبه شمول الخاص لبعض أفراده، فإن
كانت الشبهة مفهومية مرددة بين الأقل والأكثر تحت عنوان واحد فلا شبهة أيضا
في عدم جواز التمسك بالعام وإن كانت مرددة بينهما تحت عنوانين، أفراد
أحدهما أقل من أفراد الاخر، فالعام حجة بالنسبة إلى أحدهما بلا عنوان.
وثمرة الحجية عدم التمسك بالأصول لوجود الحجة الاجمالية بخلاف ما إذا
لم تكن حجة فيه، فإنه يتمسك بها في الموارد المشكوكة، هذا.
وأما إذا كانت الشبهة مصداقية فهل يجوز التمسك بالعام فيها أم لا؟ فيه خلاف
بين الاعلام.
وأقوى ما يستدل به على جواز التمسك هو أن إثبات حكم لموضوع موقوف
على إحراز صغرى وجدانية وكبرى تعبدية، فما دام لم يحرز أحدهما لم يثبت
الحكم، مثلا قولنا: (أكرم كل رجل عالم) شموله لزيد موقوف على إحراز أنه
عالم، وينضم مع قول المولى: (وكل عالم يجب إكرامه).
والمفروض في المقام أن عنوان العام صادق على المشكوك وشمول عنوان
الخاص مشكوك، فالصغرى في طرف العام محرزة دون الخاص فيجب التمسك به.
وأجاب في الكفاية بما حاصله: أن شمول العام بمفهومه وإن كان مسلما حتى
بالنسبة إلى الافراد المشكوكة إلا أن شموله بها بما أنه حجة أول الكلام فإن
الخاص يوجب قصر حكم العام بالنسبة إلى أفراده، ففي الحقيقة بعد ورود الخاص
ينحل موضوع القضية إلى قسمين: قسم يجب إكرامه وهو كل رجل عالم غير
فاسق واقعا، وقسم لا يجب إكرامه وهو كل رجل عالم فاسق.
فكما لا يمكن التمسك به في إثبات حكم الثاني للفرد المشكوك فكذا الأول.
وتوضيحه بحيث لا يبقى إشكال أن يقال: إن هنا مقامين: أحدهما إثبات
حكم كلي متلقى من الشارع، وثانيهما تطبيق هذه الافراد، والذي يحتاج إلى
إحراز الصغرى هو الثاني دون الأول.
163

ولذا لم نقل بجريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، فإن العقلاء لا
يذمون من عاقب شارب الخمر الواقعي مع جهله بأنه خمر، لان حكم الخمر قد
تبين بقوله مثلا: (الخمر حرام).
والحاصل: أن إثبات حكم كلي يكفي فيه صدور ذلك الحكم الكلي من
الشارع ولو لم يحرز المصاديق، ويشهد على ذلك إجراء الاستصحاب في الموارد
المشكوكة ليثبت به الحكم وجودا وعدما، فلو لم يكن الدليل الأولي كافيا لما كان
للاستصحاب وجه.
إن قلت: مقتضى الأصل العقلائي تطابق الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية
في الموارد المشكوكة فيتمسك به فيها، قلت: كلا. فإنك إن أردت تطابقها بحسب
الواقع بالنسبة إلى هذا الفرد المشكوك بمعنى كون زيد العالم المشكوك فسقه
وعدالته واجب الاكرام واقعا بعنوان أنه عالم، فهو خلاف المفروض، لأن المفروض
خروج الفاسق الواقعي عن تحت هذا العام واقعا.
وإن أردت أن الفرد المشكوك يحكم بحسب الظاهر بأنه واجب الاكرام
بعنوان أنه مشكوك الفسق والعدالة بحيث يكون لقيد المشكوكية دخل في ثبوت
هذا الحكم، فاللازم كون هذا الفرد موضوعا وحكما مخالفا لسائر الافراد الواقعة
تحت العام، وهو محال لان الدليل الواحد لا يمكن أن يكون دالا على حكمين
مختلفين في الرتبة بحيث يكون أحدهما وجودا موقوفا ومترتبا على الاخر.
فإن قلت: إن قول المولى: (أكرم كل رجل عالم) يدل على أمرين: أحدهما
عموم الافراد بالوضع، وثانيهما عموم الحالات بالاطلاق، فيدل على وجوب
إكرام زيد العالم على أي حال من الأحوال ومن الحالات كونه مشكوك الفسق
والعدالة، فمقتضى الاطلاق الحالي جواز التمسك بالعام في الافراد المشكوكة.
قلت: هذا الاشكال لعله نشأ من عدم تبين معنى الاطلاق، فإن معناه كون
موضوع الحكم غير مقيد بقيد من القيود في حال من الحالات، ففي المقام مثلا هو،
164

نفس العالم لا غيره، لا أن معناه كون الحالات جزء من الموضوع في كل فرد، وإلا
لزم تعدد الموضوعات حسب تعدد الافراد بل حسب تعدد حالات كل فرد، وهو
واضح البطلان.
فحينئذ لا يكون الفرد المشكوك بوصف كونه مشكوكا موضوعا بل بعنوان أنه
عالم متصف بكونه ليس فاسقا، والمفروض أن كونه كذلك، فلا يجوز التمسك.
وقد استدل للعدم أيضا بأن تخصيص الفرد المشكوك إن كان مستلزما لزيادة
التخصيص، كما إذا شك في أنه بعد التخصيص بمخصص خاص هل خصص بآخر
أم لا فيجوز التمسك وإن لم يكن مستلزما ذلك فلا يجوز؟
وقد استدل أيضا للعدم - كما عن التقريرات - بأن الشك في التخصيص إن كان
يرتفع بالمراجعة إلى المولى إن كان متمكنا فلا يجوز، وإلا - بأن كان الشك لاشتباه
أمور خارجية بحيث لم يكن رفع الشك بيد المولى - فلا يجوز.
هذا إذا خرج بعض الافراد باعتبار أنه من مصاديق عنوان خاص بالدليل
اللفظي.
وأما إذا خرج كذلك بالدليل العقلي فتارة يكون خروج الفرد واضحا بحيث لا
يحتاج إلى تأمل فكالمتصل في أنه لا يجوز التمسك بعدم حجيته إلا فيما هو ظاهر
فيه وهو غير الخاص، وإن كان محتاجا إلى التأمل - لحكم العقلاء بذلك، ولأنه
ليس له حينئذ هناك إلا حجة واحدة - فالقدر المتيقن هو المخرج.
ويمكن أن يقال: إنه أيضا كالمنفصل، لأنه مشترك معه في أن المخرج تحت
عنوان مخصوص، فكما يكون الشك في دخوله - تحت العنوان الذي دل اللفظ -
موجبا لسقوط حجيته في الفرد المشكوك فكذلك إذا دل عليه العقل.
وبعبارة أخرى: كون الفرد داخلا تحت العنوان موجب لعدم شمول العام له
بحسب الظاهر لا كون الدليل لفظيا كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
لكن لقائل أن يقول: هذا إذا كان المخصص اللبي - الاجماع - موجبا
165

لصيرورة العام معنونا بعنوان غير ذاك الخصوص، لم لا يكون المولى قد اتكل في
تخصيصه على فهم المخاطبين، ولكن لا بعنوان أنه عنوان مخصوص، بل باعتبار
أن المخاطب يعلم بنفسه الافراد المعلومة فيتمسك به في غيرها.
لا يقال: إنه إثبات للحكمين بدليل واحد، فإنه يقال: ليس كذلك، فإن الحكم
قد ثبت للافراد الواقعية تحت عنوان عام واقعا، لكن المولى - حفظا لتمام الافراد -
جعل الافراد المشكوكة أيضا موردا للحكم، فالأفراد الواقعية محكومة بالحكم،
وغيرها غير محكومة واقعا لكن العقل يحكم بإتيانها مقدمة لحفظ الواقعيات، فلا
تغفل.
الخامس
هل يكون تعليل الفرد المخرج بعلة موجبا لصيرورة العام معنونا واقعا بعنوان
غير الخاص كالمخصص المتصل أو المنفصل - على وجه - أم لا؟ مثلا قولنا:
(أكرم كل رجل عالم، ولا تكرم زيدا لأنه فاسق) بمنزلة قولنا: (لا تكرم الفاسق)؟
وجهان: من كون العلة المنصوصة معممة، ومن كون مجرد خروج فرد معللا بعلة لا
يوجب إخراج سائر الافراد المعنونة بعنوان العلة.
السادس
إذا كان العام تاما في موضوعيته للحكم ثم خصص بعنوان يكون تاما في
موضوعيته لحكم آخر فهل يجوز التمسك به حينئذ أم لا؟ الظاهر أنه لا إشكال في
جواز التمسك، فإن المفروض كونه مستقلا في الموضوعية، فما دام لم يحرز
المزاحم فهو محكوم بعدمه.
ولعل هذا مراد من (1) عبر بأن المخصص تارة لا يكون معنونا بعنوان وأكثر ما

(1) نسب إلى بعض مقرري بحث الشيخ الأنصاري قدس سره.
166

يكون ذلك في المخصص اللبي، وأخرى يكون معنونا به وأكثر ما يكون ذلك إذا
كان لفظيا (انتهى).
وإلا (1) فالمخصص الغير المستقل في كونه موضوعا دائما يكون لبيا كما أن
المخصص الذي تحت عنوان دائما يكون لفظيا.
السابع
ما ذكرنا من عدم جواز التمسك أو جوازه إنما هو إذا لم يكن هناك أصل
موضوعي، وإلا فبعد جريان الأصل يحكم بحكمه إذا كان المشكوك مسبوقا
بالوجود، وبعدمه إذا كان مسبوقا بالعدم، والأغلب وجوده إلا ما شذ وندر.
مثلا إذا ورد: المرأة ترى الدم إلى خمسين سنة، ثم ورد: أن القرشية تراه إلى
ستين سنة، يمكن أن يحكم في المرأة المشكوكة في كونها من أيهما، بكونها
محكومة بحكم غير القرشية بمقتضى الاستصحاب بوجهين.
(الأول) أن انتساب هذه المرأة إلى القرشية لم يكن ولو بالعدم الأزلي البسيط.
وبعبارة أخرى: كون الانتساب محمولا مسبوق بالعدم فيستصحب.
(الثاني) أن يقال: هذه المرأة لم تكن قرشية بالسلب المركب فلا تكون فعلا
كذلك، غاية الامر عدمها في السابق بعدم الموضوع وفي اللاحق بعدم المحمول،
واختلاف نحوي العدم غير قادح بعد كونهما مشتركين في نفس العدم.
إن قلت: لا يحتاج إلى إحراز كونها غير قرشية بالعدم الربطي بل يكفي صدق
عنوان العام مع كونها غير قرشية، والمفروض صدق العنوان بالوجدان وإحراز أنها
لم تكن كذلك بالأصل.
قلت: كما أن العام يجعل في طرف المخصص مقيدا بالوجود الربطي كالمرأة
المقيدة بكونها قرشية، كذلك في الافراد الباقية يقيد بالعدم الربطي كالمرأة الغير

(1) يعني وإن لم يكن المراد ذلك الذي ذكرنا فالمخصص... الخ.
167

القرشية، فلا يعقل الانفكاك.
إن قلت: لا حاجة (1) إلى إحراز عدم كونها غير قرشية بل يكفي صدق عنوان
العام في الافراد الباقية.
وبعبارة أخرى: إخراج بعض الافراد. بمنزلة موت بعضها، فكما لا يقيد بقية
الافراد في الصورة الثانية بعدم المخرج بالموت فكذلك في الأولى، ولا ملازمة
بين تقيد العام في طرف المخصص وبينه في الافراد الباقية، فصدق (المرأة) كاف
في إثبات الحكم العام، لان لسان التقييد غير لسان التخصيص، ففي الأول يقيد
المطلق وفي الثاني لا يقيد.
قلت: هنا مقامان (أحدهما) مقام الاثبات (ثانيهما) مقام الثبوت.
ففي الأول يكفي في ثبوت الحكم صدق عنوان العام ولا يصير مقيدا بعدم
الخاص.
وأما الثاني فلا يعقل - بعد ورود الخاص - بقاء العام بما هو عليه من
الموضوعية قبل وروده، فبدليل الخاص يستكشف عدم كون العام بنفسه مستقلا
موضوعا للحكم وإلا فاللازم إسراء الحكم إلى كل ما وجد فيه الموضوع، لان
نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلة إلى المعلول في أنه لا يوجد بدونه.
وبعبارة أخرى: التخصيص يدل على اعتبار قيد آخر إما وجودي أو عدمي
كما في المقام.
فانقدح لزوم إحراز أمرين في المسألة كونها مرأة وأنها غير قرشية.
وتشبيه المقام بموت بعض الافراد لا جامع بينهما، فإن فرض الموت تخصص
والمقام تخصيص، وكون لسان التخصيص غير لسان التقييد إنما هو في مقام
الاثبات دون الثبوت.
نعم، إذا كان المخصص مستقلا في كونه موضوعا لحكم آخر كما في قوله:

(1) يحكي هذا الاشكال عن الأصولي المعروف الحاج آقا ضياء الدين العراقي رحمه الله.
168

(أكرم العلماء ويحرم إكرام الفساق) حيث إن كل واحد منهما من العلماء والفساق
عنوان مستقل في الموضوعية يقع التزاحم بينهما في صورة الاجتماع، وفي هذه
يتمسك بالعام حتى يثبت المخصص.
وأما ما نحن فيه فالمفروض عدم كون العام تمام الموضوع بل هو مقيد بعدم
عنوان الخاص فلا يمكن إثبات كون المرأة المشكوكة النسب أنها بحكم الغير
القرشية، مضافا إلى أنه على تقدير جريانه يكون مثبتا كما لا يخفى.
الثامن
قد يتوهم أنه - مضافا إلى جواز التمسك بالعام في المشكوك من غير جهة
التخصيص - يمكن إحراز أنه من أفراد المخصص، كما إذا شك في جواز الوضوء
مع المضاف فيصح إثبات الجواز باعتبار كونه متعلقا للنذر الموجب لوجوب
الوفاء بعموم الدليل الدال على وجوب الوفاء، وقد أيد هذا بجواز الصوم في
السفر والاحرام قبل الميقات بعد تعلق النذر بهما، كذلك مع أنهما مع قطع النظر عن
كونهما متعلقين للنذر غير جائزين.
وفيه: ما لا يخفى، فإن الوضوء بالماء المضاف لو لم يكن صحيحا في نفسه
فكيف يمكن تعلق النذر الصحيح مع اشتراطه بكون متعلقه راجحا دينا أو دنيا، هذا
مضافا إلى أن أصل إثبات أن هذا ليس فردا للمخصص في غاية البعد عن التحقيق.
مع أن التأيد بالمثالين غير صحيح لكونهما أخص من المدعى، لان إثبات
جواز الوضوء بالمضاف مطلقا - ولو لم يكن متعلقا للنذر كما عن السيد
المرتضى رحمه الله وجواز الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات - مختص بكونهما
متعلقين للنذر.
نعم، لو كان المدعى مشروعية كل عمل غير محرم بكونه متعلقا للنذر لكان
للتأييد بالمثالين وجه.
169

إن قلت: هذا الأخير مناف لما سبق منك من كون الرجحان الديني أو
الدنيوي شرطا في انعقاد النذر، والمفروض أن الصوم في السفر ليس من البر كما
في الخبر، وكذا الاحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت كما ورد في الخبر،
فكيف يمكن إثبات صحتهما بالدليل؟
قلت: ما ذكرنا إنما هو في مقام الاثبات، وأما في مقام الثبوت فيمكن أن
يخصص دليل النذر.
ويحتمل وجود عنوان آخر حين تعلق النذر كان هو راجحا ذاتا.
ويحتمل أن يصير الدليل كاشفا عن كونه راجحا ذاتا، هكذا أفاده بعض
الأعاظم قدس سره (1) في مقام الجواب.
ويرد على الأول أن المفروض أن المنذور في المثالين عبادة، وتخصيص
دليل النذر خلاف الفرض، وصيرورتهما كذلك بتعلق النذر موجب للدور الذي قد
سبق بيانه في اعتبار قصد القربة.
وعلى الثاني أنه كيف يصير العنوان الغير المعلوم داعيا للمكلف إلى فعل
المأمور به ولا بأس بالثالث؟
التاسع
هل يمكن التمسك بالعام في إثبات أنه ليس من أفراده بقرينة خروجه عنه
حكما أم لا؟ فهل يمكن إثبات أن زيدا ليس بعالم لخروجه، عن وجوب الاكرام
المستفاد من قوله: (أكرم كل عالم) أم لا؟
وأما إثبات أنه عالم فلا شبهة في عدم صحته لان العام لا يكون محققا
لموضوعه.

(1) وهو شيخ المتأخرين عنه في تحقيق القواعد الأصولية المحقق ملا محمد كاظم
الخراساني قدس سره.
170

وبعبارة أخرى: إن كان المراد بجواز التمسك أنه من مصاديقه فالمفروض أنه
كذلك مشكوك، وإن كان المراد أصالة تطابق الإرادة الجدية للإرادة الاستعمالية،
فالمفروض عدم إحراز الإرادة الاستعمالية، وعلى تقدير شمولها له فالمفروض
عدم تطابق الإرادة الجدية لها من حيث الحكم.
نعم، قد يستشكل في إثبات أنه ليس بعالم بقرينة خروجه عن الحكم بأنه
مثبت والأصول اللفظية وإن كان مثبتاتها أيضا حجة إلا أنه لم يرد به نص خاص
على ذلك، بل هي تابعة لاعتبار العقلاء فما لم يحرز ذلك منهم لم يجز التمسك،
والمفروض أنه لا دلالة بإحدى الدلالات على ذلك، وأصالة الحقيقة أو أصالة
العموم لا تفيد أزيد من أن أفراد العام باقية على ما هي عليه من كونه مشمولة،
لعموم الحكم لها وعدم خروج فرد منها، وأما دلالتها على عدم صدق عنوان العام
على تلك الافراد فلا تعرض لها لا إثباتا ولا نفيا.
العاشر
إذا ثبت حكم العام ثم خرج منه فرد معين بالنص فلا إشكال في جواز
التمسك بالعام في بقية الافراد المشكوكة، وكذا إذا كان المخرج مرددا بين العالم
والجاهل.
نعم، قد يستشكل فيما إذا ثبت للجاهل حكم آخر مضاد للحكم الذي ثبت
لعنوان العام. ففي الفرض وإن كان العام أيضا محكما بالنسبة إلى صدق عنوان
العام ومحكوما بحكمه إلا أن الاشكال في حكم الجاهل حيث إنه مردد بين
شخصين فهل تنحل حينئذ الحجة الاجمالية بعد كونه أحد طرفي الشبهة المردد
حكمها بين الوجوب والحرمة أم يحكم بحرمة إكرامه بمقتضى الملازمة والأصول
اللفظية وإن كانت ملازمتها حجة أيضا إلا أنه يقتصر على ما ثبت من بناء العقلاء
كما ذكرنا والمفروض أنه لم يحرز، والظاهر الانحلال، فيحرم إكرام الجاهل.
171

ثم لا يخفى أن الانحلال هنا غير الانحلال المصطلح، لأنه هو أن يكون عين
الحكم المردد منحلا كالوجوب ينحل إلى عدم الوجوب وكالحرمة تنحل إلى
عدمها، بخلافه هنا، لأن المفروض أن الوجوب قد انحل إلى عدم الحرمة، فتأمل.
الحادي عشر
قد يتوهم أن حكم الفقهاء رضي الله عنهم (1).
الثاني عشر
اختلفت العامة والخاصة في أنه هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن
المخصص أم لا؟ وابتداء البحث كان من أبي العباس الترنجي (2) الذي كان وفاته
في أوائل القرن الرابع وخالفه تلميذه أبو بكر الصيرفي (3) وقبله لم يكن هذا البحث
في كتب الأصوليين.
وكيف كان، فهل يختص هذا البحث بالعام أم هو شامل لمطلق الأدلة اللفظية أم
لجميع الأدلة لفظية وغيرها كالفحص عن المعارض ووجوه الترجيح؟ وجوه
أوجهها الأخير.
واستدل (تارة) بالعلم الاجمالي بوجود المخصص من بين الأدلة، وقد رده
في الكفاية بجعل موضوع البحث غير هذه الصورة، فإن العلم الاجمالي كالعلم
التفصيلي حجة بحكم العقل.
(وأخرى) كما في الكفاية بأنه يكون في معرض التخصيص.

(1) حيث إن هذه النسخة التي بين يديك قد استنسختها ثانيا بعد أكثر من أربعين سنة من عام
التقرير وكانت تلك النسخة الأولى المستنسخ منها أولا بياضا كذلك لم أغيرها زيادة ولا
نقصانا، صاننا الله وإياكم من الخطأ والنسيان بحق محمد وآله.
(2 و 3) لم نقدر على الاطلاع بتراجم هذين (أبي العباس - أبي بكر الصيرفي) فتتبع لعلك تجده
إن شاء الله.
172

ونقول: لا نفهم المراد من المعرضية ما هو، فإن كان المراد أنه محتمل فكل
عام كذلك ولو بعد الفحص، وإن كان المراد أنه معلوم فالمفروض أنه أخرجه عن
موضوع البحث.
فالأوجه الاستدلال بالأدلة اللفظية النقلية من آية النفر وجميع الروايات
الواردة في الترغيب في تحصيل العلم والتحذير عن ترك الطلب الكاشفة عن عدم
معذورية الجاهل، ومعنى عدم المعذورية ليس مجرد المعاقبة، بل عدم الحجية كما
هو واضح.
وأما مقدار الفحص فيختلف بحسب الأدلة، فإما أن يتفحص إلى أن ينحل
العلم، وإما أن يسقط عن المعرضية، وإما أن يصدق أنه طلب العلم.
وبعبارة أخرى: كل ما له دخل في تحصيل العلم الاجتهادي من العلوم الأدبية
وتفسير القرآن وحفظ آيها لا سيما ما هو الراجع إلى آيات الاحكام وعلم
الاخبار وأسانيدها صحة وسقما، وتتبع موارد الاختلاف، وتمييز المشهورات عن
غيرها ليتمسك بها عند عدم النص بناء على كشف رأي المعصوم عليه السلام بها مع
شرائطها المقررة في محلها، أعاننا الله على الاجتهاد الذي هو أشد من طول
الجهاد.
الثالث عشر
هل الخطابات الشفاهية مختصة بالموجودين في زمن الخطاب وفي مجلسه
أم تعم غير الموجودين في مجلس الخطاب مطلقا سواء كان المخاطب موجودا
في الجملة أم معدوما؟
ويظهر من صاحب الكفاية رحمه الله أن النزاع في موارد ثلاثة: (الأول) في أنه
هل يصح أصل التكليف بالمعدومين؟ (الثاني) هل يصح مخاطبة المعدومين أم لا؟
(الثالث) بعد الفراغ عن إمكانهما هل يكون ظهور الأداة في لزوم كون المخاطب
173

حاضرا في مجلس المخاطبة أقوى أم ظهور متعلقه في كونه موضوعا للأعم؟
ولكن الحق أن يقال: إن كلمات القوم ظاهرة بل صريحة في أن النزاع في
الخطابات الشفاهية، وأن إمكان التكليف كان مفروغا عنه.
ويؤيده استدلال القائلين بالعدم بأن اشتراك التكليف إنما ثبت بدليل آخر من
الاجماع أو الضرورة، فإنه يظهر من هذا الاستدلال أن إمكان التكليف في مقام
الثبوت كان مسلما، والبحث إنما هو في مقام الاثبات، فقوم أثبتوه بالأدلة الأولية،
وآخرون بالاجماع والضرورة، بل لا يكون ولم يكن من المورد الثالث في
كلماتهم عين ولا أثر.
ولكن نحن نتكلم تبعا لصاحب الكفاية رحمه الله ومن تبعه فنقول:
أما إمكان التكليف فإن كان المراد توجهه إلى المعدوم في حال العدم فغير
ممكن، وإن كان المراد توجهه إلى المعدوم المتدرج في الوجود بحسب اقتضاء
الزمان بإذن الله تعالى فهو بمكان من الامكان، بل جميع الخطابات العرفية
القانونية من هذا القبيل، بل جملة من المعاملات كذلك كالوقف والحبس، حيث إن
الموقوف عليهم كلما وجدوا استحقوا من عين الموقوفة ما أنشأه الواقف.
والحاصل: أنه إن كان المراد من عدم جواز تعلق التكليف عدم جوازه بمعنى
كونه متعلقا للحب والبغض فهذا ليس بتكليف، وإن كان المراد عدم جوازه متعلقا
بالمكلف حال عدمه فلا يتوهمه أحد كي يكون محلا للنزاع، وإن كان المراد عدم
جوازه متعلقا به في حال وجوده - وإن كان زمان الانشاء حال عدمه - فلا إشكال
في إمكانه.
وأوضح منه في الاستدلال على الجواز أن التكليف مستلزم للاضافات
الثلاثة:
(أحدهما) إلى المكلف بالكسر، ولا بد من وجوده حين إنشائه، وهو واضح.
(ثانيها) إلى المكلف بالفتح، ولا بد من وجوده حين بعثه ولا يلزم وجوده
174

حين انشائه.
(الثالث) إلى المكلف به، ولا بد من كونه معدوما خارجا كي لا يكون طلبه
طلبا للحاصل.
وأما إمكان المخاطبة إلى المعدوم فمحصوله أن تحقق المخاطبة لا يحتاج إلى
تقارن وجوديهما زمانا، بل هو دائر مدار صدق المخاطبة إما بالتوجيه أو بالكتابة
أو بحبس الصوت مثلا، أو غير ذلك من آلات إسماع الأصوات، فتأمل هذا.
ولكن يستفاد من عبارة الكفاية أن الصور الممكنة التصور ثلاثة:
(إحداها) الخطاب الحقيقي إلى المعدومين. (الثانية) الخطاب الانشائي
وفائدته انبعاث المخاطب عند وجوده وفعلية التكليف عنده. (الثالثة) الخطاب
الحقيقي مقيدا بالوجود.
والأولى غير ممكنة بلا ارتياب، والثانية لا مانع منها عقلا على الظاهر،
والثالثة أيضا ممكنة بلا شك ولا ريب.
وفيه: أن الصورة الأولى ليست من محل الكلام في شئ كي تحتاج إلى
ذكرها إلا أنه من المحالات العقلية بعث المخاطب المعدوم، وهو جلي لاخفاء فيه.
وأما الصورة الثانية، ففيها أيضا أن المخاطبة على ما ذكرنا - من أنها عبارة
عن توجيه الكلام نحو الغير - ليست من مقولة الانشائيات بل هي من الأمور
الاعتبارية التي منشأها أمر تكويني - أعني التكلم - متوجها إلى الغير فلا يمكن
إنشاؤها كما لا يمكن إنشاء الأبوة والبنوة والاخوة التي وجودها تابع لوجود
منشأها تكوينا من الأب والابن والأخ.
والصورة الثالثة - وإن كانت حقا في الجملة - إلا أن الوجود ليس قيدا
للمخاطبين في إمكان توجه الخطاب إليهم، بل المخاطبة لا تصح إلا إلى الموجود
بأحد من العناوين المأخوذة في متعلق التكليف مثل: أيها المؤمنون أو الناس أو
المستطيعون مثلا، سواء كانت بأدوات المخاطبة كما مثلنا أم لا، مثل قوله تعالى:
175

ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (1) وقوله تعالى: يوفون
بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا × ويطعمون الطعام على حبه الآية (2)
وغيرها من الآيات الشريفة، فكلما صدقت هذه العناوين تصح المخاطبة، ولا
تصدق إلا بعد وجود المعنونات، لأنها متقدمات عليها رتبة نحو تقدم المعروض
على العرض.
فالوجود ليس قيدا للمخاطب كما ذكره قدس سره.
والحاصل: أن التكلم بما هو فعل من الافعال الطبيعية يقتضي فائدة يقتضيها
طبع هذا الفعل كما قلنا في الطلب من أن الغاية الطبيعية للطلب، البعث المترتب
عليه الانبعاث اختيارا.
وحينئذ، فإذا استعمل اللفظ، فإن كان مراده من هذا الاستعمال الغاية الطبيعية
كالبعث في الانشاء، والاخبار بوقوع النسبة في الاخبار كان استعمالا حقيقيا، وإلا
كان استعمالا مجازيا عقلائيا لا لغويا لاستعمال المتكلم كل واحد من الألفاظ في
المعنى الحقيقي العقلائي في قوله: (يا كوكبا ما كان أقصر عمرك) (عمره - خ ل)
وقوله: (ألا يا أيها الليل الطويل ألا انجلي).
غاية الامر عدم كون الاستعمال على وفق الاستعمالات العقلائية وهو كون
المقصود فهم الغير، وملاك صدق الانشاء والاخبار والتكلم والمخاطبة،
والتخاطب واحد في الجميع، فلا فرق فيها إلا في الغرض، وهو ترتب الغايات
الطبيعية على اختلافها في كل واحد.
إذا عرفت أصل معنى الخطاب فلنرجع إلى محل الكلام فنقول بعون الله
تعالى:
أن كان ما به الخطاب غير قار الذات وغير باق إلى زمان وجود المعدوم،

(1) آل عمران: 97.
(2) الانسان: 7 و 8.
176

فحيث ما إذا وجد الكلام ينعدم فالمعدوم غير مشمول له.
وإن كان ما به الخطاب باقيا - إما بالكتابة أو الحكاية أو نحو ذلك من أسباب
البقاء - فلا مانع من شمولها لهم بلا إشكال.
ولعل خطابات الشارع من هذا القبيل، لأنه باق بأحد الأسباب المذكورة.
مضافا إلى أنه يمكن أن يكون خطاب الله تعالى متوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقط، والقابل لهذا الخطاب قلبه الشريف كما هو ظاهر قوله عز وجل: (نزل به الروح الأمين × على قلبك لتكون من المنذرين (1).
ونسبة هذا الخطاب بالنسبة إلى جميع المكلفين على السوية حتى
الموجودين في زمان نزول الآيات الشريفة، لان نسبته تعالى إلى الموجودات
على السواء زمانية كانت أو مكانية، لأنه سبحانه فوق الزمان والمكان بالإحاطة
علما، وقراءة النبي صلى الله عليه وآله على الناس كان بعنوان الحكاية قرآنا، كما يشير إليه قوله
سبحانه وتعالى:
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه (2) وقوله تعالى: فإذا
قرأناه فاتبع قرآنه (3) وقوله عز من قائل بالخطاب العام: فاقرأوا ما تيسر (4)
في مواضع عديدة حيث نسب القراءة إليه صلى الله عليه وآله.
وبذلك يندفع توهم أن المخاطب - بالكسر - ولو كان محيطا علما بجميع
الموجودات فلا فرق حينئذ بين الموجود والمعدوم إلا أن المخاطب غير قابل
للشمول.
وجه الاندفاع ما قلنا: إن المخاطب قلبه الشريف صلى الله عليه وآله، وله نحو وجود محيط
أعطاه الله تبارك وتعالى، وجعله ظرفا ووعاء لقبول الخطابات القرآنية.
هذا مضافا إلى قوله تعالى: قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني

(1) الشعراء: 193 و 194.
(2) طه: 114.
(4) القيامة: 18.
(4) المزمل: 20.
177

وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ (1) الآية، فإنه عمم الانذار
لكل من بلغ بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى مرتبة القابلية للإنذار.
إن قلت: هذه الآية تدل على عكس المطلوب لان الخطابات لو كانت شاملة
لجميع المكلفين لكفى قوله: (لأنذركم) ولم يحتج إلى قوله: (ومن بلغ) فيظهر منه
عدم شمول الخطابات لمن بلغ فاحتاج إلى التصريح.
قلت: فرق بين أمثال هذا الخطاب من الآيات التي مصدرة بقوله: (قل) وبين
مثل (يا أيها الناس) و (يا أيها الذين آمنوا) فإن الأول خطاب خاص من الله
سبحانه إلى النبي صلى الله عليه وآله بأن يقول للناس كذا وكذا، والثاني خطاب من الله سبحانه
إلى الناس بواسطة النبي صلى الله عليه وآله، فإن قوله تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن...
الخ (2) مقول لقوله تعالى: قل أي شئ أكبر شهادة (3).
فانقدح بذلك أن الخطابات الإلهية شاملة للمعدومين في حال وجودهم إن
كانوا بالعنوان الذي خوطبوا به، فحينئذ لا فائدة في تطويل ذكر الثمرة التي
ذكروها كما لا يخفى.
الرابع عشر
لما كان عدم كون أحقية أزواج المطلقات البائنات أحق بردهن إليهم مسلما
بينهم وقع النزاع في قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا
يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا الآية (4) في ارتكاب التجوز
بأحد الاحتمالات الثلاثة على ما في الكفاية:
(أحدها) التصرف في العموم، بأن يرجع الضمير في " بعولتهن " إلى تمام

(1) الانعام: 19.
(2) و (3) الانعام: 19.
(4) البقرة: 228.
178

المطلقات ولكن أريد منه الرجعيات فقط.
(ثانيها) التجوز في الضمير بعنوان المجاز في الكلمة، بأن يراد منه جميع
المطلقات ويرجع الضمير إلى بعضها فيصير مجازا لغويا لعدم تطابقه لوضع الضمير.
(ثالثها) التجوز فيه بعنوان المجاز في الاسناد، بأن يكون المراد من ضمير
(بعولتهن) العموم ولكن إسناد الأحقية إلى بعولتهن يكون مجازا كما في قولك: بنو
فلان قتلوا فلانا، في صورة كون القاتل واحدا منهم لا الجميع.
ففي الكفاية سوى بين الوجوه الثلاثة بعد تزاحم الاحتمالات بأنه يرجع إلى
الأصول العملية، فإن أصالة العموم المتولدة من عدة أصالات الحقيقة بالنسبة إلى
كل فرد متعارضة فحكم فيما لم يعلم بالرجوع إلى الأصول، والمفروض أنه علم
عدم إرادة العموم، والعمل بأصالة الحقيقة في الضمير إنما هو فيما إذا يعلم المراد،
أما إذا علم ولم يعلم كيفية الإرادة فلا يحكم بها فيرجع إلى الأصول العملية.
وفيه (أولا) أن الضمائر وضعت للإشارة كالموصولات وأسماء الإشارات،
وهي إنما تصلح فيما إذا كان هناك جهة تعين وبعض ما يراد من المرجع لا يصلح
لان يكون جهة تعين لضمير (هن) لأن المفروض أنه أريد بالمرجع العموم،
والفرق بين المقام والمثال إمكان اعتبار الوحدة فيه دون المقام.
وبعبارة أخرى: يكون المثال من قبيل العموم المجموعي، والمقام عموم
استغراقي، فإن الاحكام في الآية ثابتة لكل واحدة من المطلقات.
(وثانيا) بأن الشك من ناحية الضمير مسبب عن الشك من ناحية العموم، فإذا
علم المراد من العموم فلا مجاز فيه بناء على كون وضعه لما يراد بالمرجع، لا لما
كان ظاهرا فيه.
(وثالثا) إنا قد ذكرنا سابقا أن العام دائما يستعمل في العموم ولا يستعمل في
الخصوص قط، غاية الامر أنه كلما شككنا أن الإرادة الاستعمالية هل هي مطابقة
للإرادة الجدية نحمله على التطابق لبناء العقلاء عليه.
179

وأما في المقام فهذا الأصل غير جار في الضمير للعلم بخلافه بدليل خارجي،
وهذا بخلاف العموم، فالأصل جار فيه فالحكم بالتربص عام لجميع المطلقات،
والحكم بالأحقية خاص بالرجعيات فقط، فلا مجاز لا في العموم ولا في الضمير.
الخامس عشر
قد ذكرنا أن الحكم إن كان مترتبا على ذات الموضوع من غير مدخلية قيد
آخر فيه فإثباته لموضوع آخر - مشترك معه في الذات ولو كان مختلفا في
الصفات - يسمى مفهوم الموافقة، سواء كان ثبوته له أولى كحرمة ضرب الوالدين
المستفادة من قوله تعالى: فلا تقل لهما أف (1) أو مساويا له كقوله مثلا: إذا شك
الرجل بين الثلاث والأربع يبني على الأربع، لثبوت هذا الحكم للمرأة أيضا.
وبلسان متأخري المتأخرين يعبر عنه بإلغاء الخصوصية.
وإن كان مترتبا على موضوع مع مدخلية قيد آخر في الحكم كقوله مثلا: في
السائمة زكاة، فإن الموضوع للوجوب ذات الغنم مع كونها سائمة فنفيه عن
موضوع مجردا عن القيد - كالمعلوفة - مفهوم المخالفة.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ادعى الاجماع على جواز التخصيص بمفهوم
الموافقة، وإنما الاختلاف في مفهوم المخالفة.
وفيه انا لم نجد مصرحا بذلك بل كلماتهم مطلقة، نعم ذكر العضدي (2) أن

(1) الاسراء: 23.
(2) القاضي عبد الرحمن بن عبد الغفار الفارسي الشافعي الأصولي المتكلم الحكيم المدقق
المحقق، كان من علماء دولة السلطان اولجايتو محمد المعروف ب‍ (شاه خدا بنده) المغولي
(إلى أن قال:) له شرح مختصر ابن الحاجب، وهو معروف بين العلماء، وله المواقف في علم
الكلام الذي شرحه المحقق الشريف، وله كتاب في الأخلاق مختصر لخص فيه زبدة ما في
المطولات، شرحه تلميذه شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني المتوفى 786 ه‍، إلى
180

التخصيص بالموافق أظهر، وبأن الاجماع هنا لا يسمن ولا يغني من جوع.
وكيف كان، فيظهر من الكفاية التوقف في مقام الافتاء والرجوع إلى الأصول
العملية إذا كان العموم ومفهوم المخالفة متساويين في الظهور، وإلا فيحمل على الأظهر
منهما.
والتحقيق أن يقال: إن هذه المسألة ترجع إلى مسألة حمل المطلق على المقيد.
مثلا قوله صلى الله عليه وآله فيما رواه العامة: (خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ)
الحديث (1) عام وقوله عليه السلام فيما رواه الخاصة: (إذا كان الماء قدر كر لا ينجسه
شئ خاص) (2) فيرجعان إلى أن أحدهما يدل على أن تمام الموضوع لعدم
الانفعال كونه ماء والاخر على أنه مركب منه ومن الكرية.
فكما إذا ورد - مثلا -: لا يجب الاجتناب عن ماء ملاق لها ما لم يتغير أحدها
ثم ورد: لا يجب الاجتناب عن ماء ملاق للنجاسة، لم يتغير أحدها يحمل الأول
على الثاني، كذلك ما نحن فيه.
وأما ما ذهب إليه صاحب الكفاية فمبني على قول المتأخرين في أخذ
المفهوم من القيد باعتبار دلالته على العلية المنحصرة، فإن لازمه دلالته على عدم
ثبوت الحكم في غير مورد القيد، فإذا ثبت بدليل آخر حكم على ذلك الموضوع،
يتعارضان، فيراعى ما هو الأظهر، وإلا فيكون مجملا.
وأما بناء على مبنى القدماء الذي قويناه في باب المفهوم، وحاصله دلالة القيد
على كون الموضوع مركبا لا بسيطا.

غير ذلك، وآخر مصنفاته العقائد العضدية الذي شرحها الدواني جرت له محنة مع صاحب
الكرمان فحبسه بقلعة وريمان فمات مسجونا سنة 756 ه‍. (الكنى والألقاب للمحدث
القمي: ج 2 ص 431 طبع انتشارات بيدار - قم).
(1) سنن أبي داود: ج 1 باب ما جاء في بئر بضاعة ص 17، الوسائل: ج 1 باب 1 من أبواب
الماء المطلق ص 101 الحديث 9.
(2) الوسائل: باب 9 من أبواب الماء المطلق ج 1 ح 1 ص 117.
181

وبعبارة أخرى: كونه دخيلا في ثبوت الحكم فبذلك وإن كان يرتفع محذور
اللغوية في كلام الحكيم.
لكن دلالته على انتفاء الحكم عند انتفائه فلا، كما ذهب إليه السيد
المرتضى رضي الله عنه واستشهد بقوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم... الخ (1).
فإن كان مراده من هذا الاستشهاد أنه يكفي في رفع محذور اللغوية كون القيد
دخيلا في ثبوت الحكم كالمقيد بحيث لا يكون المقيد تمام الموضوع، فكما أن
ء ثبات الحكم لموضوع لا يدل على انتفائه عن موضوع آخر كذلك إثباته له مع قيد
لا يدل على انتفائه عند انتفاء القيد، فإنهما مشتركان في كونهما دخيلين في تحقق
الحكم.
فلا يرد عليه ما أورده المتأخرون عنه أصلا.
فمحصل الفرق بين مبنى القدماء والمتأخرين حصول التعارض لو دل دليل
على خلاف المنطوق المقيد، على الثاني دون الأول.
السادس عشر
هل تعقب الاستثناء للجمل العديدة يقتضي عوده إلى جميعها أم لا؟ فعن
صاحب الكفاية رحمه الله - بعد المفروغية عن عوده إلى الأخيرة - جزما، وبعد فرض
إمكان عوده إلى الجميع بمقتضى القاعدة قياسا، على تعدد المستثنى كقوله: جاء
القوم إلا زيدا وعمرا. واختار (2) الاجمال في مقام الاثبات لوجود ما يصلح
للقرينية في غير الأخيرة أيضا فلا ينعقد ظهور للعموم.
والتحقيق أن المستثنى منه إن اعتبر شيئا واحدا بأن يتصور جميع الجمل
ويجعل مستثنى منه فيمكن إخراجه من الجميع لأنه إخراج واحد.

(1) البقرة: 282.
(2) يعني صاحب الكفاية رحمه الله.
182

وأما إن اعتبر كل واحد من الجمل المستثنى منها فلا يمكن، فإن الاستثناء
معنى حرفي، وهو عبارة عن الارتباط المندك في المرتبطين بخلاف المعنى
الاسمي، فإن له وجودا مستقلا في الذهن.
وتوضيحه: أن الاسم والحرف مشتركان في شئ ومتميزان في شئ آخر.
فأما اشتراكهما فهو أن الوجود الخارجي في قولنا: (سرت من البصرة إلى
الكوفة) ليس إلا السير الاسمي و (أنا) و (البصرة) و (الكوفة) وليس للابتداء
والانتهاء المفهومين من كلمة (من) و (إلى) وجود آخر في الخارج، وكذا مفردات
هذه الجملة المركبة (كالبصرة) و (السير) ولفظ (الابتداء) و (الانتهاء) وضمير (أنا)
فهما مشتركان في عدم ثبوت شئ في الخارج لهما، وليس للابتداء والانتهاء عين
ولا أثر، سواء كان بلفظهما أو ب‍ (من) و (إلى).
وأما تميزهما فهو أن المعنى الاسمي موجود في الذهن مستقلا دون الحرفي
فإنه أمر انتزاعي لا يتحقق إلا بالمرتبطين كما في استعمال اللفظ في أكثر من معنى،
حيث إن اللفظ مرآة للمعنى، بل هو عينه باعتبار فلا يمكن اندكاك شئ في شئ،
يكون هو مندكا في شئ آخر، بل الحروف لا معنى لها كما عن الرضي رضي الله عنه،
خلافا لابن الحاجب، فالاشكال هنا أشد من إشكال استعمال اللفظ في أكثر من
معنى، لان اندكاك الحرف في معنى الاسم أخفى من اندكاك الاسم في معناه،
فتأمل جيدا.
فيمكن حينئذ تصديق صاحب المعالم في المقام من امتناع العود إلى الجميع
وإن كان ما مهده لاثبات مطلوبه محل نظر، هذا.
ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الاشكال بجعل المتكلم أدات الاستثناء علامة
للاخراج بأن يتصور كل واحد من المستثنى منه ويجعل لفظة (إلا) مثلا علامة
للاخراج من الجميع.
كما يمكن أن يقال ذلك في المشترك أيضا، ووحدة العلامة وتعدد ذي العلامة
183

لا إشكال فيه، فافهم.
السابع عشر
هل يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد أم لا؟ قولان: استدل المانعون
بوجوه:
(الأول) أن الكتاب قطعي وخبر الواحد ظني ولا يرفع اليد عن المعلوم
بالمظنون.
وفيه: أن أدلة حجيته خبر الواحد تصيره معلوما، مضافا إلى أن ظواهر
الكتاب ليست معلومة ولو كان صدور أصل الكتاب معلوما.
(الثاني) أن دليل حجية الخبر الواحد هو الاجماع، ولا إجماع في المقام.
وفيه: أن الاجماع في المقام إجماع عملي يرجع إلى السيرة، والسيرة ترجع
إلى بناء العقلاء، والأدلة الدالة على حجية الاخبار الآحاد كلها من الكتاب والسنة
والآثار المروية عن الأئمة عليهم السلام دالة على الحكم الامضائي لا التأسيسي كما
يأتي إن شاء الله تعالى في محله.
(الثالث) لو جاز التخصيص لجاز النسخ، وهو غير جائز إجماعا.
وفيه: أن الاجماع - لو كان - هو الفارق.
(الرابع) الأخبار الدالة على طرح الاخبار المخالفة للكتاب أو (أنها زخرف)
أو (لم نقله) أو (اضربوه على الجدار) أو غير ذلك (1) تدل على عدم الاعتماد
وعلى الخبر المخالف للكتاب، وهذه الأخبار متواترة إجمالا أو معنى (2).

(1) راجع الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 75.
(2) الفرق بين التواتر المعنوي والاجمالي أن الأول مشتمل على معنى مشترك بين سائر الأخبار
الواردة في مشتبهات الحوادث بحيث يكون المعنى التضمني أو الالتزامي داخلا في
متفرقاتها، والثاني مشتمل على لفظ يكون العلم به حاصلا من بين الشتات ولو لم يكن بينها
مشترك فبينها عموم من وجه كما لا يخفى.
184

وفيه: أن الأخبار الواردة في هذا الباب على أقسام.
(منها) ما يدل على عدم جواز العمل إن لم يوجد شاهد أو شاهدان من كتاب
الله عز وجل.
مثل ما رواه الكليني عليه الرحمة مسندا عن عبد الله بن أبي يعفور قال:
وحدثني الحسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس، قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به
قال عليه السلام: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول
رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فالذي جاء بكم أولى به (1).
وعن محمد بن يحيى عن علي بن الحكم عن عبد الله بن بكير عن رجل عن
أبي جعفر عليه السلام قال: إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من
كتاب الله فخذوا به وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم (2).
(ومنها) ما يدل على لزوم الرجوع إلى الكتاب عند المعارضة (3)، فلا دلالة
فيها على المطلوب كما أن الطائفة الأولى تدل على عدم جواز العمل بخبر الواحد،
وهو ينافي (بناء العقلاء) منضما إلى السيرة المستمرة للمسلمين على العمل،
مضافا إلى الأدلة التي أقاموها للحجية فيجب حملها على صورة المباينة كلية.
مثل ما رواه سعيد بن عبد الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال
أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها عن محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد عن
أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر ابن بابويه عن أبيه عن سعد
ابن عبد الله عن أيوب بن نوح عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد
الله، قال: قال الصادق عليه السلام: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على

(1) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 78 ح 11.
(2) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 80 ح 18.
(3) راجع الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 78 - 79 ح 10 - 16 وغيرها.
185

كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه (1) الحديث.
وما رواه العياشي، عن الحسن بن الجهم، عن العبد الصالح عليه السلام قال: إذا
جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حق،
وإن لم يشبهما فهو باطل (2).
(ومنها) ما تدل على أن ما خالف كتاب الله فهو زخرف أو لم أقله.
مثل ما رواه الكليني عليه الرحمة عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن
عيسى عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن أيوب بن راشد عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف (3). وما رواه عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن أيوب بن
الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وكل
حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (4).
ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير عن هشام بن
الحكم وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله بمنى فقال: أيها الناس،
ما جاءكم يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاءكم يخالف كتاب الله فأنا لم أقله (5).
وهذه الطائفة أيضا يجب حملها على المخالفة في غير الاحكام، بل في
العقائد.
مضافا إلى أن المخالفة بالعموم والخصوص ليست مخالفة عند العرف.
وقريب من هذه الأخبار الأخبار الدالة على لزوم طرح الاخبار المخالفة (6).

(1) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 84 ح 29.
(2) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 89 ح 48.
(3) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 78 ح 13.
(4) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 79 ح 14.
(5) الوسائل: ج 18 باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 79 ح 15.
(6) راجع بقية أخبار باب 9 تجده كذلك معنى.
186

فالحاصل: أن العمدة في دليل حجية الاخبار الآحاد هي السيرة، ولم يرد في
الشرع ما يخالف السيرة بل ورد ترغيب وترخيص على العمل بقول الثقات، فلا
يجوز رفع اليد بهذه الاخبار عن تلك السيرة، والله العالم.
الثامن عشر
كلما ثبت ورود الخاص بعد وقت العمل بالعام بالنسبة إلى هذا الخاص فهو
ناسخ، وكلما ثبت وروده قبل وقته أو قبل العام ولم يكن وقت العمل به فهو
مخصص، وإذا شك في ورود الخاص قبل وقت العمل بالعام بالنسبة إلى هذا
الخاص أو بعده يعمل على مقتضى الخاص، وكلما شككنا في تقدم ورود العام
على الخاص وتأخره عنه يرجع إلى الأصول العملية.
187

في المطلق والمقيد
وفيه أبحاث:
الأول
اعلم أن الاطلاق والتقييد وصفان للمعنى يلاحظ معناهما عند اعتبارهما
موضوعين للحكم، فكل معنى كان موضوعا للحكم وله نحو انتشار فيه من دون
أن يكون اعتبار شئ آخر دخيلا فيه، كان هذا المعنى مطلقا، ويسمى اللفظ الدال
على المعنى المذكور أيضا مطلقا ثانيا وبالعرض.
وكل معنى لا يكون تمام الموضوع في مقام الموضوعية، بل يكون هو مع
شئ آخر موضوعا للحكم يسمى مقيدا، واللفظ الدال عليه أيضا كذلك ثانيا
وبالعرض.
فالمعنى الذي ليس له نحو انتشار ليس بمطلق ولا مقيد.
والذي يكون له ذلك ولكن لا يكون موضوعا للحكم ليس بمقيد ولا مطلق.
والذي كان موضوعا له مع قيده يكون مطلقا لا مقيدا.
والحاصل: أنهما في مقام الموضوعية لا في مقام تصور معنييها لأنهما ليسا
موضوعين لغة.
188

ومن هنا يندفع الاشكال بأنك قد قسمت العام والخاص بما هو هو، لا بما هو
موضوع للحكم، وهنا بعد تصورهما موضوعين.
بيان الاندفاع: أن العموم والخصوص لهما لفظان موضوعان لغة بخلاف
المطلق والمقيد، فلذا يقولون: إن الرقبة في كفارة قتل الخطأ مقيدة وفي كفارة
اليمين مطلقة، وفي الظهار مختلف فيها، فتعريفهما ب‍ (ما دل على شائع في جنسه
وما دل لا على شائع في جنسه) مقيد في غير موضعه.
فإنه - مضافا إلى أن الاطلاق والتقييد من صفات المعنى دون اللفظ - يلزم أن
يكون العموم الاستغراقي والمجموعي، والاعلام كلها مقيدات، وأن يكون مثل
الانسان مع قطع النظر عن كونه متعلقا وموضوعا للحكم مجردا عن اللام
والتنوين، وكذا (رقبة) في قولنا: (أعتق رقبة مؤمنة) مطلقات وكلها كما ترى.
وكيف كان، فقد عد جملة من الألفاظ مطلقة:
(الأول) اسم الجنس، كالانسان والحيوان والسواد والبياض، فقد قيل إن اسم
الجنس موضوع للماهية المطلقة المبهمة الغير المقيدة بشئ حتى عن قيد
اللا بشرطية.
بيانه: أن أهل المعقول قسموا الماهية إلى ما ليس شئ من اعتبار الوجود
والعدم ملحوظا معها، والى ما يلاحظ معها اعتبار عدم شئ آخر معها، والى ما
يلاحظ اعتبار وجود شئ معها.
فالأولى: تسمى الماهية اللابشرط والمجردة.
والثانية: الماهية بشرط لا.
والثالثة: الماهية بشرط شئ ومخلوطة.
وقد أشكل عليهم بأن المقسم عين القسم الأول، فالتقسيم تقسيم إلى نفسه
والى غيره.
189

وأجيب أن الأول هو اللابشرط المقسمي (1)، والثاني القسمي.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن اعتبار الماهية أو لحاظها ينقسم إلى أقسام
ثلاثة، لا نفس الماهية، وقولهم: إن الماهية الملحوظة اما كذا وإما كذا راجع إلى
ذلك، فإن ملحوظيتها صارت سببا للانقسام، والاعتبار (2) مشترك بين الأقسام لا
يكون عين واحد منها.
وكيف كان، فلا فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس في كونه موضوعا للماهية
المبهمة المجردة عن القيودات.
فتوهم أنه أخذ في الثاني قيدا التعين الذهني دون الأول مدفوع، بأن هذا القيد
لا يوجب إلا فرقا في الاحكام اللفظية دون المعنوية، فتترتب عليه آثارها من
كونه ذا حال، ووصفه بالمعرفة ووصفها به، وغير ذلك من الاحكام الثابتة للمعرفة.
ويؤيد عدم الفرق، بل يدل عليه أنه يجب تجريده عند كونه موضوعا للحكم،
ولا شئ من المعنى الموضوع للفظ (يجب تجريده) في مقام الموضوعية.
وبعبارة أخرى: يكون علم الجنس من المعرفات السماعية كالمؤنثات
السماعية، غاية الامر في الثاني لا يمكن أن يقال: إن لهما نوع تأنيث فلا جرم
قالوا إنها في حكمهما من حيث ترتب الأثر بخلاف المقام، فإنه يمكنهم أن يقولوا:
إنه وضع للجنس المتعين في الذهن.
(والثاني) (3) علم الجنس، وقد بيناه فلا نعيده.
(الثالث) المعرف باللام، وهو على قسمين، قسم يراد به وبمد خوله الشخص

(1) والحاصل: أن المقسم ذات الماهية من دون اعتبار شئ حتى اعتبار تقيدها باللابشرطية
والقسم هو بشرطه ولو كان هو اللابشرطية، فتأمل جدا (المقرر).
(2) وعلى هذا يكون الكلي الطبيعي الماهية الملحوظة لا بشرط مع قطع النظر عن هذا
اللحاظ، ولا نزاع حينئذ بين أهل المعقول فيه، وإليه ذهب الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي
وشراح كتابه عليهم الرحمة، هكذا أفاده الأستاذ مد ظله العالي.
(3) عطف على قوله مد ظله: (الأول) اسم الجنس.
190

الخارجي، وقسم يراد به وبمدخوله في مقام الموضوعية الطبيعة، إما هي من حيث
هي وإما باعتبار وجودها في ضمن جميع الافراد أو بعض الافراد، معينا كان أم
غير معين.
والقسم الثاني بأنواعه الثلاثة يسمى معرفا بلام الجنس.
واختلف في كون اللام موضوعة لتلك المعاني أو تكون اختلاف الدلالات
باختلاف إرادة المتكلم في مقام الاستعمال، على وجوه.
فقيل بكونها موضوعة لها، نسب ذلك إلى قدماء النحويين.
وقد أورد عليه ما أورد على القول بأن علم الجنس موضوع للماهية المعينة
في الذهن من أنه يلزم تجريده عن هذا القيد عند كونه موضوعا، فلا فائدة في
أخذه جزء للموضوع له.
مضافا إلى أنه إن كان المراد من التعين التعين الشخصي فممنوع، وإن كان
التعين الماهوي فلا إشكال في أن كل ماهية هي هي بعينها، ولا اختصاص له بعلم
الجنس المعرف باللام.
وقيل: إن اللام موضوعة في جميع الموارد للإشارة.
وفيه: مضافا إلى أنه ليس كذلك فإنا لا نتصور من قولنا: (الرجل خير من
المرأة) أو إن الانسان لفي خسر أو (ولقد أمر على اللئيم يسبني) هذا الرجل
أو هذا الانسان أو هذا اللئيم.
ومضافا إلى لزوم اجتماع الإشارة والوصف في مثل قولنا: (هذا الانسان فعل
كذا) وقوله عليه السلام: (أفلا تنظر إلى هذا الانسان كيف يبصر بشحم وينطق بلحم
ويسمع بعظم) فإن الإشارة ليست معنى مستقلا - بل هي مندكة - في المشار إليه
كما قلنا مرارا.
بعبارة أخرى: الألفاظ الموضوعة لها موضوعة لمصداق الإشارة التي يصدق
عليها بالحمل الشايع، إنها إشارة، لا لمفهوم الإشارة.
191

وفي الكفاية إنها للتزيين كالحسن والحسين.
وفيه: أن اللام في المثالين قد دخلت للمح الوصفية السابقة كما قال ابن مالك:
وبعض الاعلام عليه دخلا * للمح ما كان عنه قد نقلا
كالفضل والحارث والنعمان * فذكرها وحذفها سيان
وأما في سائر الموارد التي ليست كذلك - مثل: رجل وغلام وأمثال ذلك -
فلا.
وكيف كان، فلا نتعقل معنى للام مستقلا قد وضعت له.
إلا أن يقال: إن اللغات توقيفية، والمفروض أن أهل اللسان قد صرحوا بأنها
موضوعة للمعاني المذكورة.
ويمكن رده أيضا بأنا - معاشر غير العرب - أيضا نفهم ما يفهمه العرب من
تلك الألفاظ المتداولة، ولا سيما بعد الاطلاع على قواعدهم ومراعاتها، والامر
سهل.
(الرابع) النكرة، وهي على قسمين، الأول: ما يراد به في مقام الاستعمال،
المعين الخارج عن الذهن ولو بقرينة خارجية - مقامية أو مقالية - مثل: جاء رجل.
الثاني: ما يراد به الطبيعة لكونها متعلقة للطلب، نحو: جئني برجل، فهل هو
موضوع للمعنى الكلي أو الجزئي؟ قولان:
نقل الأول عن المحقق القمي صاحب القوانين رحمه الله، والثاني عن صاحب
الفصول قدس سره.
والتحقيق أن يقال: إنها تراد مجردة عن الوجود أو تلاحظ مع قيد الوجود،
وعلى الثاني إما أن تكون مرآة لكل ما تصدق عليه هذه الطبيعة - وهو مناط دلالة
ألفاظ العموم - أو تكون مرآة لبعض الوجودات.
فحينئذ إن كان مراد من قال: (إن النكرة جزئية بمعنى أنها موضوعة للمعنى
الجزئي) أن هذا الوجود المراد من الطبيعة منتشر بين الجزئيات المتباينة كالعلم
192

الاجمالي المتعلق بأمرين متباينين، كما إذا علمنا أنه إما زيد وإما عمرو مثلا بحيث
يكون بين الجزئيات ما به يمتاز كل واحد عن الاخر ولا تكون قابلة لان يحمل
كل واحد على الاخر كزيد وعمرو في المثال المتقدم، ويحمل كل واحد من
الوجود عليها وهي عليه.
وان كان المراد من الجزئية أن الطبيعة لما كانت متعدية عن نفسها في مقام
اللحاظ إلى الوجود، والوجود جزئي (يعني بمقتضى قاعدة أن الشئ ما لم
يتشخص لم يوجد) فلا منافاة بين هذا المعنى وبين كونه كليا يصدق على الافراد
على سبيل التبادل أو البدلية.
فظهر أن الحق ما هو المنقول عن صاحب القوانين، واختاره أيضا في الكفاية
دون ما اختاره صاحب الفصول وتبعه شيخنا الأنصاري على ما نسب إليه مقررو
بحثه.
البحث الثاني
الحق أن المطلق إذا استعمل في المقيد يكون حقيقة كما حققه سلطان
العلماء قدس سره في حاشيته على المعالم، لان الرقية في قولنا: (أعتق رقبة مؤمنة) لم
تستعمل إلا في معناها الذي استعملت فيه عند التجرد عن التقيد بالايمان.
وبالجملة هذه القضية مركبة من ثلاثة ألفاظ: العتق، والرقبة، والايمان، ولا
يكون واحد منها عدل به عن وضعها اللغوي الأولي.
نعم، بناء على توهم أن ما ذكر من أسماء الأجناس والنكرة - إذا قيل إنها
موضوعة للمعنى المقيد بالارسال كما نسب إلى المشهور - بكون استعماله فيه
مجاز لتجرده عن الارسال حينئذ.
ولكن قد ذكرنا آنفا أن المطلق ليس موضوعا للمعنى الخاص اصطلاحا، بل
هو على معناه اللغوي، فلا وجه حينئذ للقول بمجازيته.
193

البحث الثالث
قد عرفت أن معنى المطلق كون المعنى في مقام الثبوت تمام الموضوع
للحكم، ومعنى المقيد كونه جزء لا أنهما لفظان متباينان وضعا للمعنيين المختلفين
كالاسم والفعل والحرف، فإنها متباينات، بل اللفظ الواحد يطلق عليه المطلق تارة
والمقيد أخرى.
وبعبارة أخرى: إن كان المعنى البسيط مع بساطته موضوعا للحكم فهو مطلق
وإن كان الموضوع مركبا منه ومن معنى آخر فهو مقيد، وبتبع المعنى يتصف اللفظ
بهما.
يدل على ما ذكرنا قولهم رضي الله عنهم: إن الرقبة في كفارة اليمين مطلقة،
وفي كفارة قتل الخطأ مقيدة، وفي كفارة الظهار مختلف فيها، فيظهر من هذه
الاستعمالات أن المعنى الواحد يتصف بهما وإن عرفوهما ب‍ (ما دل على شائع في
جنسه وما دل لا على شائع في جنسه) إلا أنهم في مقام التعريف لم يحصلوا ما
أطلقوا عليه هذين اللفظين بارتكازهم.
فلا يشكل بأن جعل هذا الاصطلاح أيضا منهم فكيف يكون تعريفهم إياهما
على غير مورده.
وجه الدفع: أن مقام التعريف غير مقام الاطلاق والاستعمال، فهم في مقام
الاطلاق والاستعمال وإن أصابوا بارتكازهم إلا أنهم أخطأوا في مقام التعريف فلا
ضير، هذا كله في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات إذا شككنا أنه مطلق أم مقيد فتختلف كيفية أخذ
الاطلاق والتقييد باختلاف تعريفهما.
فإن قلنا بمقالة من عرف الاطلاق بأنه لحاظ السريان والشياع، والتقييد بأنه
عدم لحاظهما، سواء كان عدم السريان ملحوظا أم لا، فيحتاج - كما قيل - إلى
194

قرينة حال أو مقال، أو حكمة محتاجة إلى مقدمات ثلاث وإن كان في بعضها تأمل
كما يظهر إن شاء الله تعالى.
(إحداها) كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد. والمراد من هذه المقدمة أن
المتكلم يريد أن يبين تمام ما هو موضوع حكمه، للمخاطب (1) ولا يكون في مقام
أن يبين أن هذه الطبيعة متعلقة للحكم في الجملة، بأن يكون في مقام أصل التشريع
مثل كثير من الآيات القرآنية الشريفة نحو قوله تعالى: أقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة وقوله عز من قائل: فأن لله خمسه وقوله جل وعلا ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا وأمثالها.
(ثانيتها) أن لا يكون هناك قرينة تصرف اللفظ إلى بعض الافراد ضرورة أنه
لو كان كذلك يتعين تلك الافراد بخصوصها ولا يكون المتكلم ناقضا لغرضه لو لم
يلاحظ السريان والشيوع كما لا يخفى.
(ثالثتها) عدم انس ذهن المخاطب بالنسبة إلى بعض تلك الطبيعة لأجل
خصوصية من الخصوصيات، ويعبر عن هذه ب‍ (عدم وجود القدر المتيقن في مقام
التخاطب) وقيد التخاطب لاخراج الافراد المتيقنة التي يكون حصول التيقن بعد
التأمل والتعمل من العقل فإنه غير مضر بالاطلاق.
وكيف كان، فلو كان الذهن مأنوسا مع بعض الافراد حين التخاطب لم يكن
هناك إطلاق، فإن المتكلم قد بين ما هو بصدد بيانه من بيان تمام المراد، فإن الامر
حينئذ دائر بين إرادة ما هو المتيقن أو المشكوك، فينحل العلم الاجمالي إلى العلم
التفصيلي بالنسبة إلى الافراد المخصوصة التي لها خصوصية زائدة على سائر
الافراد، والشك البدوي بالنسبة إلى غيرها.
فلو كان مراد المتكلم هو هذه الافراد المخصوصة لما أخل بالغرض، لان
الغرض بيان تمام المراد ولو بحسب الواقع. نعم، لو كان غرضه بيان تمام المراد

(1) متعلق بقوله مد ظله: (أن يبين).
195

فعلا لم يفد الكلام له.
بل يمكن أن يقال - بضميمة المقدمة الأولى -: إن غير هذه الافراد معلومة
العدم في الموضوعية، لان الغرض أن المتكلم في مقام بيان تمام ما هو موضوع
حكمه بمقتضى المقدمة الأولى. والمفروض أن ما هو الممكن لان يكون موضوعا
لحكمه، هو هذه الافراد المخصوصة باعتبار تيقنها في مقام التخاطب ولازم هذين
عدم كون الباقي موضوعا له.
فالحاصل: أن النظر البدوي وإن كان يقتضي احتمال الموضوعية بالنسبة إلى
الافراد المخصوصة إلا أن بالنظر الثانوي يعلم عدم موضوعيتها قطعا بضميمة
المقدمة الأولى، فتأمل جيدا.
وقد أشكل عليه بعض الأعاظم - بعد تسليم أن الاطلاق والتقييد تابعان
للحاظ الشيوع وعدمه - (أولا): بأن اللازم من ذلك عدم جواز التمسك بالاطلاق
فيما إذا كان كلام المتكلم مسبوقا بالسؤال عن فرد خاص كما إذا سئل عن وجوب
إكرام النحوي فأجاب المسؤول بقوله: أكرم العالم، مع أنهم يتمسكون بمثل هذا في
بعض الموارد.
(وثانيا) بأنه يلزم عدم جواز التمسك فيما إذا كان القدر المتيقن بعد التأمل
والتعمل من العقل، مع أن الملاك هنا مع كون المتيقن في مقام التخاطب واحد.
(وثالثا) بأن وجود القدر المتيقن غير مضر في الاطلاق، لأن المفروض
بمقتضى المقدمة الأولى كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده الواقعي، ومجرد
وجود المتيقن لا يدل على مراده الواقعي، فيمكن التمسك مع هذا كما لا يخفى.
فذلكة
اعلم أن الكلام في الاطلاق والتقييد تارة في مقام الثبوت وأخرى في مقام
الاثبات. أما الأول ففيه مقامات:
196

الأول: الكلام ليس في لفظ (ط، ل، ق) بل فيما يصدق عليه بالحمل الشائع
الصناعي أنه مطلق ويستعمل مطلقا.
الثاني: أن الألفاظ ليست على قسمين، قسم يقال إنه مطلق، وقسم يقال: إنه
مقيد.
بل الشئ الواحد تارة يحمل عليه المطلق وأخرى يحمل عليه المقيد.
الثالث: الاطلاق والتقييد ليسا إلا باعتبار أن المعنى هو الذي يتصف بالمطلق
والمقيد، فيكون من قبيل الصفة بحال متعلق الموصوف، أي اتصاف اللفظ بهما
باعتبار المعنى.
الرابع: أن المعنى الذي يتصف بهما ليس يتصف على الاطلاق بل في مقام
الموضوعية للحكم، فكل معنى لوحظ في مقام الموضوعية للحكم بحيث يكون
صدقه على الافراد بالسوية يكون مطلقا، وإلا فمقيد.
الخامس: أن معنى الاطلاق تساوي شمول الحكم لافراد ذلك الموضوع
بالسوية، ومعنى التقييد عدم تساويه كذلك.
السادس: أن المناط فيهما أخذ ذلك في مقام الموضوعية تمام الموضوع
للحكم بحيث يكون القيد مسلوبا عنه بنحو القيدية، بل بنحو السلب الشائع
الصناعي، وأخذه جزء لموضوع الحكم بحيث يكون الموضوع مركبا من أمرين.
فحينئذ (1) يكون مناط الاطلاق عدم أخذ الغير في الموضوع، ومناط التقييد
أخذه فيه، فمناط الأول يكون أمرا عدميا، ومناط الثاني يكون وجوديا.
فحينئذ لا حاجة إلا إلى المقدمة الأولى من المقدمات الثلاث التي قد ذكرها
في الكفاية لاخذ الاطلاق.
فإن الثانية لا تكون مقدمة، بل المفروض في الكلام ما إذا لم يكن هناك قرينة
لفظية تدل على القيد فجعل موضوع البحث مقدمة له كما ترى.

(1) شروع في بيان مقام الاثبات الذي أشار مد ظله إليه في صدر الفذلكة. (المقرر عفي عنه).
197

والمقدمة الثالثة غير محتاج إليها بعد فرض أن المتكلم قد بين تمام الموضوع
لحكمه ولو كان هناك قدر متيقن، فتأمل جيدا.
وينبغي التنبيه على أمرين
الأول: أن الاطلاق مطلقا في جميع الموارد يكون على نحو واحد ومعنى
فارد. نعم، اختلافه حسب اختلاف أنحاء الاحكام، فتارة يكون موضوعا لحكم
اقتضائي، وأخرى: يكون لغير الحكم أو غير الاقتضائي منه.
فالأول إما يكون متعلقا للوجوب أو الندب فمعناه شيوع الحكم في جميع
أفراد الموضوع على نحو العموم البدلي ويسمى إطلاقا بدليا، أو يكون متعلقا
للحرمة أو الكراهة فمعناه شيوع الحكم في جميع أفراد الموضوع على نحو العموم
الاستغراقي والاستيعابي ويسمى إطلاقا استيعابيا، ضرورة أنه قد مر أن الامر بعث
إلى الوجود، والنهي زجر عنه، ولازم ذلك امتثال الامر بإتيان فرد من الطبيعة في
الأول وتحقق العصيان بإتيان فرد منها في الثاني، فالشيوع والسريان في كليهما
هو مقتضى الطبيعة، غاية الامر يختلف باختلاف الأمر والنهي.
وهذا القسم من الاطلاق شرطه عدم وجود الافراد في الخارج ليتحقق بإتيان
المأمور به في الأول والانزجار عن المنهي عنه في الثاني.
وأما الثاني أعني ما يتعلق بغير الحكم أو الحكم الغير الاقتضائي مثل قوله
تعالى: إن الإنسان لفي خسر (1) وقوله تعالى: أحل الله البيع (2) فهو يتعلق
بأفراد موجودة بمعنى أنه بعد فرض وجودها يتعلق المحمول به، بخلاف الأولين
فإنه يكون متعلقا للحكم ليوجد وجودا وعدما.
الثاني ما قلنا من عدم كفاية أصالة الحقيقة في إثبات الحقيقة - بل لا بد له
من مقدمات الحكمة - إنما هو إذا لم يكن تعلق الحكم بمفهوم مدلول عليه بلفظ

(2) العصر: 2.
(2) البقرة: 275.
198

تعلق الحكم به ظاهرا منافيا لتعلقه بمفهوم مقيد كالأوامر، فإن تعلق الحكم بالرقبة
المؤمنة بحسب الواقع لا ينافي تعلقه بالطبيعة، أعني طبيعة الرقبة مثلا ظاهرا، فلم
يمكن إثبات إطلاقه بالتمسك بأصالة الحقيقة بخلاف الطبيعة الواقعة تلو النهي أو
النفي، فإن أداة النهي أو النفي قد وضعت للزجر عن مدخولها ونفيه، فإذا كان
متعلق النهي مثلا بحسب الواقع الزجر عن إكرام الرجل الجاهل وتعلق النهي
بمطلق الرجل فإنه ينافي وضع أداة النهي والنفي فيتمسك حينئذ بأصالة الحقيقة،
فافهم واغتنم.
199

(في القطع والظن)
201

المقصد الأول
في القطع وأحكامه
واعلم (1) أنه قال الشيخ الأنصاري قدس الله نفسه الزكية في الفرائد: (فاعلم
أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل له إما الشك فيه أو القطع أو الظن،
فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام
العمل، وتسمى بالأصول العملية، وهي منحصرة في أربعة) (انتهى موضع الحاجة).
والمراد من المكلف المكلف الفعلي بالنسبة إلى جملة من الاحكام الضرورية
المعلومة له من غير تكلف، إذا التفت إلى حكم آخر غير معلوم له.
والتعبير بالبالغ العاقل (2) الذي وضع عليه قلم التكليف لا يرفع الاشكال
الوارد عليه مع قطع النظر عن التوجيه الذي ذكرناه (3) من أنه إن كان المراد المكلف
الفعلي فلا معنى للشك الذي هو أحد الأقسام، وإن كان الشأني فلا وجه للحكم
بوجوب متابعة القاطع ما قطع به لان ذلك مجرد تغيير عبارة.

(1) من هنا إلى آخره كان سيدنا الأستاذ يعنون عبارة (شيخنا المحقق الأنصاري قدس سره) لأنه لم
يؤلف في زمانه الكفاية فتفطن.
(2) كما في الكفاية.
(3) بيان الاشكال.
203

وكيف كان، فيدفع الاشكال بما ذكرنا.
والمراد بالالتفات الالتفات مع توجه النفس إلى وجوده وعدمه المعبر عنه
بالالتفات التصديقي لا التصوري فقط.
والحق أن الحكم يطلق على معنيين فقط: شأني وفعلي باعتبار، ومنجز
باعتبار آخر.
توضيحه: أن المولى إذا لاحظ المصلحة أو المفسدة الواقعتين الكامنتين في
نفس الموجودات بتكوين منه سبحانه بحسب ما يعلمه سبحانه فإما أن يريد
انبعاث العبد إلى فعل ماله مصلحة وانزجاره عما فيه مفسدة أو لا.
وعلى الثاني فلا حكم هناك أصلا، لا أنه يكون هناك حكم اقتضائي كما نسب
إلى صاحب الكفاية قدس سره.
وعلى الأول فإما أن يعلم بها المكلف أو لا، وعلى الثاني فالحكم شأني،
وعلى الأول فعلي باعتبار أنه يجب فعلا على العبد موافقته من الانبعاث
والانزجار، ومنجز باعتبار أنه لو صادف الواقع لكان العبد مستحقا للعقوبة على
ترك الواقع، فالفعلية والتنجيز يكونان في مرتبة واحدة يصدقان على شئ واحد،
إلا أن الأول أعم باعتبار صدقه على الإلزامي وغيره، والثاني يطلق على الإلزامي
فقط.
فانقدح بذلك أن ما في الكفاية من تقسيمه الحكم إلى مراتب أربع
- الاقتضائي والشأني والفعلي والمنجز - لا يخلو من مسامحة، فإن الاقتضاء
للحكم ليس حكما، وكذا التنجز ليس في مرتبة على حدة.
مضافا إلى أن الحكم ليس من الأمور التي لها حقيقة في الخارج كي يقال: إنه
ذو مراتب.
وبعبارة أخرى: ليس من الكليات التي هي مقولة بالتشكيك كالنور والوجود
مثلا، لان شرطها أن تكون ذاتا واحدة لها مراتب مختلفة بحيث يكون ما به
204

التفاوت عين ما به الاتحاد، والحكم ليس كذلك، فإن الشأنية والفعلية أمران
مختلفان لا ربط لأحدهما مع الاخر.
نعم، هنا تقسيم آخر له باعتبار آخر، وهو أنه واقعي أو ظاهري.
توضيحه: أن إرادة الانبعاث والانزجار إذا تعلقا بالموضوعات التي هي
بالحمل الشائع الصناعي موضوعات متوجهة إلى المكلفين مطلقا من غير نظر إلى
حالاتهم من القطع والظن أو الشك وغيرها من الحالات الطارئة عليه، فالحكم
يسمى واقعيا.
وإن تعلقا نظرا إلى بعض حالاته ككونه شاكا أو ظانا يسمى الحكم حكما
ظاهريا باعتبار أن وظيفته في مرحلة الظاهر ذلك ولكنه طريق إلى الواقع ومنجز
له كالقطع.
فالحكم الظاهري من الامارات وبعض الأصول، كالقطع في كونه منجزا
للواقع على تقدير المصادفة بمعنى استحقاق المخالف للعقوبة على تركه لو صادف
الواقع، والتجري لو لم يصادف، ولا يكون حكما مستقلا في مقابل الحكم الواقعي،
ولذا لو خالف الامارة وصادف الواقع لم يستحق العقوبتين، ولو خالف لم يستحق
العقوبة على الواقع، بل يجري عليه حكم التجري على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
فتقسيم الشيخ قدس سره نفسه الزكية بأن الحكم الظاهري يجعل تارة بحيث تكون
المصلحة في نفسه وأخرى طريقا إلى الواقع لا يخلو من إشكال.
وحيث قلنا إن القطع والامارة يشتركان في المنجزية ويفترقان في أن الأول
يتعلق بالواقع، والثاني وإن كان أيضا يتعلق بالواقع كما بينا إلا أنه إذا تعلق القطع
بهذا الحكم يكون متعلقا بما هو طريق إلى الواقع، لا بالواقع نفسه.
فقول صاحب الكفاية رحمه الله (إن البالغ العاقل الذي وضع عليه قلم التكليف إذا
التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري إما أن يحصل له القطع... الخ) لا يخلو من
إشكال، لما ذكرنا من أن تعلق القطع بالحكم الواقعي غير تعلقه بالحكم الظاهري.
205

فتقسيم صاحب الكفاية رحمه الله وإن كان حسنا - من حيث كونه ثنائيا ولا يرد
عليه إشكال عدم دخل الشك والظن في الرجوع إلى الامارات والأصول - إلا أنه
مورد له من هذه الجهة التي ذكرناه.
والجواب عنه بأن كونه قدس سره في مقام بيان الحالات الطارئة على الانسان،
مطلقا خلاف الظاهر، بل الظاهر أنه قدس سره في مقام بيان الحالات التي باختلافها
تختلف الاحكام، فتأمل جيدا.
وعن بعض الأعاظم قدس سره (1) - في مقام رفع الاشكال عن الشيخ رحمه الله - أن
المكلف إما أن تحصل له حالة لا يمكن معها عدم تنجز الحكم قطعا أو لا يمكن
تنجزه قطعا أو يكون محتملا الامرين.
وبعبارة أخرى: الحالة الحاصلة إما كاشفة تامة أو غير كاشفة تامة أو كاشفة
ناقصة.
فالأولى هي القطع، والثانية هي الشك، والثالثة هي الظن، فلا إشكال على
الشيخ رحمه الله في مقام التقسيم.
وفيه: (أولا) أن الحالة الظنية لا دخل لها في الاحكام الثابتة للظان، بل
المناط عدم العلم، سواء كان ظانا أو شاكا.
(وثانيا) عدم إمكان كون الشك منجزا مطلقا ممنوع، فإن الشك في الشبهة
الحكمية وفي التخصيص قبل الفحص، بل في مطلق المعارض قبله منجز للواقع،
بمعنى أنه لو ترك وصادف الواقع كان التارك مستحقا للعقوبة عقلا، وكذا
الاستصحاب منجز للواقع شرعا على الأصح، كما سيأتي إن شاء الله في محله من
كون حجيته من باب التعبد.
والحاصل مما ذكرنا آنفا: أن جعل الظن مقابلا للشك غير جيد، بل المتعين
جعل التقسيم ثنائيا كما أن جعل القواعد الأربعة قسيما للقطع لا يخلو من إشكال.

(1) منسوب إلى المحقق المعروف بالميرزا النائيني المتوفى سنة 1354 ه‍ ق.
206

لان القطع بالحكم يشمل الاشتغال والاستصحاب والتخيير في الجهة.
نعم، البراءة وبعض أقسام التخيير يكون في مقابل القطع.
توضيحه: أن المكلف إذا توجه إلى التكليف فإما أن يكون عالما به أو لا، فإن
كان عالما فإما أن يحصل له العلم التفصيلي أو الاجمالي.
لا إشكال في تنجز التكليف إذا علم تفصيلا، وفي صورة الاجمال فإما أن
يمكن له المخالفة والموافقة القطعيتين أو لا يمكن شئ منهما أو يمكن المخالفة
القطعية دون الموافقة القطعية، فالأول هو الاشتغال فهو أثر العلم الاجمالي.
والثاني هو الدائر بين المحذورين، وهو مجرى التخيير العقلي. والثالث هو
الاشتغال أيضا عقلا بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية والحاصل: أن ما يمكن فيه
كلاهما أو أحدهما إن كان هو المخالفة القطعية فالتكليف منجز بحكم العقل، وما لا
يمكن فيه واحد منهما يحكم العقل بعدم تنجز الواقع.
وإن لم يكن عالما فإن كان له حالة سابقة فالحكم منجز بحكم الشرع، وهو
المعبر عنه بالاستصحاب وإلا فالبراءة.
فالاشتغال والاستصحاب والتخيير بالنسبة إلى المخالفة القطعية موجبة لتنجز
المعلوم إجمالا، كالقطع التفصيلي الموجب لتنجز الاحكام.
فالأولى أن يقال في مقام التقسيم: إن المكلف إذا توجه إلى وجود التكليف
وعدمه فإما أن يكون له منجز من القطع - أعم من التفصيلي والاجمالي والأمارات
مثل خبر الواحد والاجماع المنقول والشهرة وبعض الأصول كالاستصحاب - أو
لا فعلى الأول يعمل بمقتضى التنجز وعلى الثاني يرجع إلى البراءة أو التخيير (1).

(1) هكذا أفاده سيدنا مد ظله، لكن يمكن أن يقال: كون العلم الاجمالي بأحد الحكمين مع
عدم التمكن من الموافقة القطعية ليس منجزا، لان شرط تنجز التكليف عقلا التمكن من
الموافقة القطعية بالنسبة إليه المفروض عدمه، ومجرد ترك الواقع في ضمن ترك أحدهما
207

ومما ذكرنا من حكم العقل بلزوم متابعة العلم الذي من مصاديقه مورد
الاشتغال وبعدم لزوم متابعة غير العلم الذي من مصاديقه مورد البراءة وبعض
موارد التخيير ظهر ما في كلام الشيخ قدس سره من قوله: (فإن حصل له الشك فالمرجع
هي القواعد المقررة شرعا... الخ) فإن غير الاستصحاب لا يكون هناك قاعدة
شرعية كما عرفت تفصيلا والله العالم.
قال الشيخ قدس سره: لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام
موجودا لأنه بنفسه طريق إلى الواقع... الخ.
واعلم أن لوجوب متابعة القطع معنيين: (أحدهما) أن القاطع بنفسه يرى
وجوب متابعة القطع شرعا لا بما هو متابعة القطع، بل المتابعة التي بالحمل الشائع
الصناعي يصدق أنها متابعة.
والحاصل: أن هذا الوجوب مركب من أمور ثلاثة: الأول اختصاصه
بالقاطع. الثاني اختصاصه بالوجوب الشرعي لا العقلي. الثالث تعلق هذا الوجوب
بما هو بالحمل الشائع متابعة.
ولا يخفى أنه على هذا يصير المعنى أن القاطع بالوجوب يقطع به فيصير
توضيحا للواجب، ويكون التعليل بقوله قدس سره: (لأنه بنفسه طريق إلى الواقع) تعليل
للواضح.
(ثانيهما) أن كل عاقل أعم من أن يكون هو القاطع أو غيره يحكم بلزوم
متابعة القطع عقلا بما هو متابعة بعنوانها، ومعنى حكم العقل بلزوم المتابعة هو أن
هذا الحكم لو كان ثابتا في الواقع ونفس الامر لكان منجزا على القاطع، بمعنى

المتمكن في فعله لا يوجب إسناد المخالفة إليه بحيث يمكن ان يخاطبه بأنك خالفت الواقع،
لان له أن يجيبه: اني ما خالفت الواقع قطعا.
والحاصل: أنه حيث كان الكلام في حكم العقل بتنجز الواقع بالعلم، فنحن نرى
بالوجدان أنه لا يحكم الا فيما إذا كان موافقة الواقع ممكنا عقلا قطعا لا احتمال، والمفروض
في المقام أن حصول ذلك القطع غير ممكن كما لا يخفى، فتأمل جيدا. (المقرر).
208

استحقاقه للعقوبة على تقدير المخالفة والمصادفة.
وهذا المعنى أيضا مركب من أمور ثلاثة:
الأول: عدم اختصاص الحكم بوجوب المتابعة، بالقاطع، بل كل عاقل يحكم
بذلك.
الثاني: أن المراد بالوجوب هو العقلي لا الشرعي.
الثالث: اعتبار عنوان متابعة القطع في مقام الامتثال، وهو بهذا المعنى يقوم
مقامه سائر الامارات والأصول كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، لان حالهما
أيضا كذلك لان كل عاقل يحكم بعد ملاحظة أدلة اعتبار الامارة أنها إذا قامت
على حكم أو موضوع ذي حكم لو كانت مطابقة للواقع لكان منجزا عليه، فتكون
نظير القطع في المنجزية، لأنها نظير القطع في كونه منجزا.
وعلى هذا لا يرد إشكال توضيح الواضحات، وكذا عبر في الكفاية بقوله: (لا
شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ولزوم الحركة على طبقه جزما وكونه
موجبا لتنجز التكليف الفعلي... الخ).
فالأولى التعليل لعدم كونه قابلا للجعل بقوله رحمه الله: لعدم جعل تأليفي حقيقة بين
الشئ ونفسه ولا بينه وبين لوازمه.
لان التنجيز ليس من لوازمه، وعلى تقديره: فعدم قابلية اللوازم للجعل مطلقا
ممنوعة. نعم، اللوازم المنتزعة من مرتبة ذات الشئ ليست قابلة للجعل، وأما
المنتزعة من مرتبة متأخرة عنه فهي قابلة للجعل.
وكذا في قول صاحب الكفاية في مقام بيان آثار القطع: (وعذرا فيما أخطأ
قصورا) إشكال.
لأنا قد ذكرنا أنه يظهر من عبارته قدس سره أن لهذا القطع دخلا في الحكم بلزوم
المتابعة وتنجز الواقع بالنسبة إليه بحيث لو لم تحصل له هذه الصفة لم يتنجز الواقع،
فوجود هذا الحكم الواقعي بما هو هو غير موجب لتنجزه.
209

فحينئذ يكفي في العذرية عدم حصول هذه الصفة لا حصولها على ضد الواقع
أو نقيضه، فلو اعتبرنا في العذرية حصول القطع على خلاف الواقع لزم التناقض
في الكلام. ولا فرق فيها بين بقائه مترددا أو جازما على خلافه.
ومحل الكلام فيما إذا كان جزمه عن قصور إما بعدم وصوله إلى الواقع بعد
التتبع الملازم أو بعدم التفاته إلى وجوده وعدمه أصلا كي يحصل له التردد، بل
جازم على العدم كما إذا كان جهله وعزمه عن تقصير ولا فرق بين تقصيره في
التفحص والتتبع في الأدلة وبين عصيانه للنهي الطريقي كما إذا نهاه عن تحصيل
الواقع بأمثال الرمل والجفر، ومع ذلك قد حصل له القطع من تلك الطرق، فإنه في
الصورتين غير معذور عند العقلاء.
ثم اعلم أن القطع إما طريقي، وإما موضوعي، والمراد بالأول ما لا يكون
للقطع دخل لتحصيل المقطوع به، سواء كان موضوعا أو حكما.
والمراد بالثاني ما يكون له ذلك ولا يمكن أن يؤخذ في موضوع نفس ذاك
الحكم للزوم التناقض، لان أخذه موضوعا مستلزم لمدخليته فيه، والمفروض أنه
بدونه موجود، وهو مستلزم لعدم دخله فيه، فيلزم ما ذكرنا.
وأما أخذ القطع في متعلق حكم آخر مثله، فقد ذهب في الكفاية إلى عدم
إمكان أخذه فيه أيضا للزوم اجتماع المثلين.
وهو مبني على ما ذهب إليه رحمه الله من كون الاحكام من قبيل الاعراض للأفعال
الموجودة في الخارج وأن اجتماعهما باعتبار ان الاثنينية، اما باعتبار تعدد
الوجود أو تعدد الماهية أو تعدد العوارض، والمفروض انتفاؤها كلها.
وأما على ما ذكرناه في مسألة اجتماع الأمر والنهي فلا مانع من اجتماعهما،
والله العالم.
قال الشيخ قدس الله نفسه الزكية: (ثم ومن خواص القطع الذي هو طريق إلى
الواقع قيام الامارات الشرعية (وبعض، كل - خ) والأصول مقامه بخلاف المأخوذ
210

في الحكم على وجه الموضوعية، فإنه تابع لدليل الحكم، فإن ظهر منه أو من دليل
خارج اعتباره على وجه الطريقية للموضوع قامت الامارات و (بعض - خ ل)
الأصول مقامه، وإن ظهر من دليل الحكم اعتبار القطع في الموضوع من حيث
كونها صفة خاصة قائمة بالشخص لم يقم مقامه غيره. انتهى موضع الحاجة من
كلامه زيد في علو مقامه.
اعلم أن المراد من هذه العبارة يتصور على وجوه:
(الأول) أن القطع بالحكم إما أن يؤخذ في لسان الدليل أو لا، والثاني يسمى
طريقيا صرفا، والأول إن ظهر منه أنه اخذ في مقام الثبوت طريقا إلى موضوعه
فكالثاني وإن فهم منه أنه أخذ في مقام الثبوت جزء للموضوع أو تمام الموضوع
يسمى موضوعيا والأمارات والأصول تقوم مقام ما لم يؤخذ أصلا في لسان
الدليل أو اخذ وفهمنا منه الطريقية، وأما إن فهمنا الموضوعية فلا تقوم مقامه كما
لا يخفى.
(الوجه الثاني) أن القطع من الصفات ذات الإضافة، فله إضافة إلى نفس
القاطع وإضافة إلى متعلقه فبالاعتبار الثاني يقوم مقامه الامارات والأصول دون
الأول.
وفيه: أنه لا دليل على الفرق بينهما، فإنه على كلا التقديرين يكون موضوعيا
تارة وطريقيا أخرى.
(الوجه الثالث) أن القطع تارة يلاحظ بما أنه طريق معتبر بمعنى أنه يلاحظ
الجامع بعينه وبين سائر الامارات وهو مطلق الحجية فيقوم الامارات والأصول
مقامه، وأخرى بما أنه انكشاف تام خاص فلا تقوم.
وفيه: أنه حينئذ لا يصدق القيام كما هو ظاهر العبارة المذكورة للشيخ رحمه الله،
بل هو حكم واقعي في عرض القطع به كما في التيمم عند تعذر الطهارة المائية،
غاية الامر ترتبه كترتبه عليه، مضافا إلى عدم أثر عملي.
211

إن قلت: يمكن أن يكون له الأثر على كلا التقديرين. أما على تقدير كون
القطع جزء للموضوع فيكفي كونه دخيلا في الموضوع جزء، بحيث لو انضم إليه
الجزء الاخر الذي هو الامارة وأما على تقدير كون القطع تمام الموضوع ففيما إذا
كان للمقطوع أثران: أحدهما يترتب على نفسه عند وجوده النفس الأمري
وثانيهما يترتب عليه مع فرض قيام الامارة فيصح التنزيل باعتبار ذاك الأثر
المترتب على نفسه. مثلا قد ثبتت الحرمة للخمر الواقعية والنجاسة لمعلومها، فإذا
قامت الامارة على كون مايع خمرا يثبت النجاسة الواقعية للخمر المحكوم
بالحرمة ظاهرا.
قلت: يرد على الأول بأن الخمر الذي هو جزء للموضوع إن كانت جزئيته
بوصف كونه مما قامت به الامارة فالمفروض أنه مقطوع، وإن كانت مع قطع النظر
عنه لزم الدور لان اعتبار قيام الامارة على كونه هذا خمرا موقوف على كونها
ذات أثر وهو موقوف على قيام الامارة.
ويرد على الثاني أنه يلزم كون ما حكم به بالحكم الظاهري المتأخر عن
الحكم الواقعي بمرتبتين متقدما عليه كذلك، وهو كما ترى فتأمل، فالأولى هو
الوجه الأول.
قال الشيخ قدس الله نفسه - في التنبيه الأول بعد كلام له رحمه الله -: (لكن الكلام
في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن كان مخالفا في علم الله فيعاقب
على مخالفته، أو أنه حجة عليه إذا صادف الواقع؟ (إلى أن قال:) ظاهر كلماتهم
في بعض المقامات الاتفاق على الأول (إلى أن قال:) والحاصل: أن الكلام في
كون هذا الفعل الغير المنهي عنه واقعا مبغوضا للمولى من حيث تعلق اعتقاد
المكلف بكونه مبغوضا لا في أن هذا الفعل المنهي عنه باعتقاده ظاهرا ينبئ عن
سوء سريرته (إلى أن قال:) لكن لا يجدي في كون الفعل محرما شرعيا (إلى أن
قال:) ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم استحقاق العقاب
212

شرعا) انتهى.
ثم قال - عند الجواب عن الاجماع المدعى على القبح -: (والمسألة عقلية)
انتهى.
والمقصود من نقل هذه العبارات بيان أن كلمات الشيخ رحمه الله مختلفة في بيان
محل النزاع.
فلا بد أولا من بيان محل النزاع، ثم بيان المختار ثانيا إن شاء الله تعالى
فنقول:
محل النزاع يتصور على وجوه أربعة، لأنه إما أن يكون في الحكم الشرعي،
وإما أن يكون في الحكم العقلي.
وعلى الأول فإما أن يكون الكلام في أن المقطوع الحرمة بما هو مقطوع
الحرمة يكون من المحرمات، وإما أن يكون مقطوع الحرمة بقطع مخالف للواقع.
وعلى الثاني فإما أن يكون حكم العقل بالقبح بملاك آخر غير ملاك العصيان، وإما
بملاك العصيان.
لا إشكال في أن النزاع على الأولين مقطوع العدم، مضافا إلى لزوم محرمات
غير متناهية، فإن المفروض أن مقطوع الحرمة - باعتبار تعلق القطع به - يصير
حراما، فيتعلق القطع بذاك الحرام الاخر فيصير حراما، فيتعلق القطع به أيضا
فيصير حراما، وهكذا مع بطلانه بالبداهة.
وكذا لا إشكال في عدم كون مقطوع الحرام حراما بملاك آخر، فانحصر
النزاع في كون الفعل المتجرى به حراما بملاك العصيان أم لا.
والتحقيق أن يقال: إن الفعل المتجرى به يلاحظ باعتبارين، فتارة يلاحظ مع
قطع النظر عن تعلق أمر المولى به مولويا، وأخرى: مع النظر إليه. فبالاعتبار الأول
لا يكون الفعل قبيحا ولا عزمه ولا ارادته، لأنه لا يكون إلا كسائر الافعال
المباحة. وبالاعتبار الثاني يكون قبيحا بعنوان الخروج عن رسوم العبودية وكفران
213

نعم المولى، ولذا يسري قبحه إلى عزمه وإرادته أيضا.
فعنوان الخروج عن رسوم العبودية عنوان مستقل موجب لتقبيح العقلاء، بل
واستحقاقه العقاب شرعا من غير تفاوت بنظر العقل بين العاصي والمتجري من
هذه الحيثية وحرمة إرادة ذلك أيضا، من حيث إنه إرادة الحرام، وإلا فلا وجه
لحرمة إرادة شرب المايع الذي يعتقد أنه شرب المسكر كما لا يخفى.
إن قلت: إن العقل يحكم باستحقاق العبد العقوبة على إتيان ما هو مبغوض
للمولى، والمفروض عدم إتيانه بما هو مبغوض له.
قلت لا نسلم ذلك، فإن العقل يحكم باستحقاقه العقوبة على مخالفة الأوامر
الاختبارية مع أنه لم يأت به بما هو مبغوض له.
إن قلت: ان الدليل لم يدل الا على ترتب العقاب على المعصية والتجري ليس
بمعصية.
قلت: الكلام إنما هو في الاستحقاق بحكم العقل لا الفعلية، وهو لا يفرق بين
التجري والمعصية.
والاجماع المدعى في المقام على حرمة السفر مثلا عند ظن الضرر أو حرمة
تأخير الصلاة عند ظن ضيق الوقت يراد به هذا المعنى الذي يعرفه الوجدان
ويحكم به، لا أنه كاشف عن رأي المعصوم عليه السلام أو عن خبر صحيح جامع لشرائط
القبول، لان المسألة لم تكن معنونة عند القدماء كي يستكشف بها رأيه عليه السلام، هذا
مع كونه عقلية ليس للاستكشاف إليها طريق أجاب الشيخ رحمه الله عنه به.
فانقدح أن توهم كون القبح لسوء السريرة، لا للفعل المتجري به مدفوع بما
ذكرناه، مضافا إلى عدم تسليم كون كل عاص بكون عصيانه لسوء سريرته مع
مولاه، فإن العبيد على قسمين: قسم يكون عصيانهم لكونهم بصدد الفساد
والاستكبار كما حكى الله عن إبليس بقوله تعالى: قال ما منعك ألا تسجد إذ
214

أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (1).
وقسم لا يكون كذلك، بل يتوجه إلى مولاه بمجرد مخالفته إياه ويتضرع
ويتوب، كما حكى الله تعالى مخاطبا لآدم وحواء على نبينا وآله وعليهما السلام
بقوله تعالى: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو
مبين × قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (2)
فمخالفة مثل هذا العبد لمولاه لا يكون لسوء سريرته، وكونه بصدد الطغيان،
بل حسن سريرته تقتضي التضرع إليه.
ولا وجه أيضا لما في الكفاية من كون استحقاق العقوبة بسبب إرادته
للمعصية، لما ذكرنا من أن قبح الإرادة ناش عن قبح الخروج عن رسوم العبودية،
وهذا القبح مساو لإرادة المعصية على تقدير المصادفة.
والحاصل: أن جميع مقدمات المعصية من الميل والعزم والجزم والإرادة التي
لا تتخلف عن المراد مساوية لمقدمات التجري حتى بالنسبة إلى الفعل الخارجي
المعبر عنه ب‍ (المتجري به).
وبعبارة أخرى: حركات النفس قد انتهت إلى منتهى المقصد وهو الفعل ولم
يبق شئ تفعله كي يكون العبد معذورا عند المولى، فما لم يصل إلى مرتبة الفعلية
لم يحكم العقل باستحقاق العبد العقوبة، لعدم صدق عنوان الخروج عن رسوم
العبودية.
بل الاخبار المروية عنهم عليهم السلام أيضا دالة على العفو عن إرادة المعصية وإن
كان لها تأثير في النفس وموجب لانحطاطها عن المرتبة العالية إلى المرتبة الدانية
لكنه غير استحقاق العقوبة، هذا.
مضافا إلى أنه لا وجه لتوهم أن منشأ استحقاق العبد العقوبة هو الإرادة، لان
الحيوانات كلها لها إرادات، إذ الافعال الصادرة عنها ليست كالتقلص الطبيعي نحو

(1) الأعراف: 12.
(2) الأعراف: 22 و 23.
215

تقلص اللحم الحار بعد قطع أوداجه وقبل ذهاب حرارته.
بل منشأ الاستحقاق هو الاختيار الذي معناه تشخيص أنه خيره الناشي من
حكم العقل بعد ملاحظة الخيرات والشرور وميل النفس إلى الأولى باعتبار
الرقائق التي تميل بها إلى العالم العلوي المناسب لها والى الثانية باعتبار الرقائق
التي تميل بها إلى العالم السفلي المتناسب لها.
ويمكن أن يكون هو المراد بقوله تعالى: إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج
نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (1).
كما لا وجه أيضا لتوهم أن إرادة المعصية ناشئة من خبث السريرة الراجعة
إلى الذات المخلوقة كذلك فينقطع السؤال بلم، لان الذاتي لا يعلل ضرورة أنه
مخالف للآيات والأخبار الكثيرة وحكم العقل.
أما الآيات فكثيرة، منها قوله تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل
منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا
وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (2) دل على أن سبب
كفرهم إنما هو اختيار أنفسهم الكفر.
مضافا إلى عدم صحة المخاطبة بهذا الخطاب المهيل إلا لمن كان ذا اختيار
بنفسه مع قطع النظر عن ذاته، بل إنما يصح فيما إذا لم يجعله خبيثا ذاتا وإلا فيقبح
ذلك الخطاب.
وأما الاخبار فكثيرة على اختلافها، فمنها ما يدل على أن للقلب أذنين كما
رواه في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: ما من قلب إلا وله أذنان على إحديهما ملك مرشد وعلى الاخر
شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره
عنها، وهو قول الله عز وجل: عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول

(1) الانسان: 2.
(2) الانعام: 130.
216

إلا لديه رقيب عتيد) (1).
وعن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن
سيف بن عميرة، عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا ولقلبه
أذنان، في جوفه اذن ينفث فيها الوسواس، وأذن ينفث فيها الملك، فيؤيد الله تعالى
المؤمن بالملك فذلك قوله عز وجل: وأيدهم بروح منه (2).
ويستفاد من هذه أن الانسان مخلوق بحيث يصلح منه صدور الخير والشر
معا لا أنه مجبور على أحدهما ذاتا، والرواية الثانية وإن اختصت بالمؤمن إلا أن
الأولى عامة لكل قلب، سواء كان مؤمنا أم غيره.
ومنها ما يدل على أن الانسان خلق من الطينتين: السجين والعليين، ولازم
ذلك أن لا يكون أحد عاصيا، بمقتضى سوء سريرته لان سريرته مركبة من أمرين،
يقتضي كل واحد منهما خلاف ما يقتضي الاخر.
مثل ما رواه في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن
ربعي بن عبد الله عن رجل عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: إن الله خلق النبيين من
طينة عليين، قلوبهم وأبدانهم، وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطينة، وجعل خلق
أبدان المؤمنين من دون ذلك. وخلق الكفار من طينة سجين، قلوبهم وأبدانهم،
وخلط بين الطينتين، فمن هذا يلد المؤمن الكافر، ويلد الكافر المؤمن، ومن ها هنا
يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين يحن إلى ما خلقوا منه (3).
وموضع الاستشهاد هو قوله عليه السلام: (وخلط بين الطينتين... الخ) وإن كان قبله
يوهم خلاف ذلك.
وعن علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن الحسين بن يزيد (زيد - خ ل)

(1) أصول الكافي: باب أن للقلب أذنين... الخ ج 2 ص 266 حديث 1 طبع الآخوندي -
طهران.
(2) أصول الكافي: باب أن للقلب أذنين... الخ ج 2 ص 266 الحديث 3.
(3) أصول الكافي: باب طينة المؤمن والكافر ج 2 ص 2 حديث 1 طبع الآخوندي - طهران.
217

عن الحسن بن علي عن (بن - خ ل) أبي حمزة عن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: إن الله عز وجل أراد أن يخلق آدم (على نبينا وآله وعليه السلام) بعث
جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة
إلى السماء الدنيا، وأخذ من كل سماء تربة، وقبض قبضة أخرى من الأرض
السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى، فأمر الله عز وجل كلمة فأمسك القبضة
الأولى بيمينه والقبضة الأخرى بشماله، ففلق الطينتين فذرا من الأرض ذروا، ومن
السماء ذروا، فقال للذي بيمينه: منك الرسل والأنبياء والأوصياء والصديقون
والمؤمنون والسعداء ومن أريد كرامته فوجب لهم ما قال كما قال، وقال للذي
بشماله: منك الجبارون والمشركون والكافرون والطواغيت ومن أريد هوانه
وشقوته فوجب لهم ما قال، كما قال: ثم إن الطينتين خلطتا جميعا (1) الحديث.
وعن أبي علي الأشعري ومحمد بن يحيى عن محمد بن إسماعيل عن علي
ابن الحكم عن أبان بن عثمان، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لو علم الناس
كيف كان ابتداء الخلق ما اختلف اثنان، إن الله عز وجل قبل أن يخلق الخلق قال:
كن ماء عذبا أخلق منك جنتي وأهل طاعتي، وكن ملحا أجاجا أخلق منك ناري
وأهل معصيتي. ثم أمرهما فامتزجا، فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر، والكافر
المؤمن، ثم أخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديدا كالذر يدبون، فقال
لأصحاب اليمين: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم
أمر نارا فأسعرت فقال لأصحاب الشمال ادخلوها، فهابوها، وقال لأصحاب
اليمين: ادخلوها، فدخلوها فقال: كوني بردا وسلاما فكانت بردا وسلاما، فقال
أصحاب الشمال: يا رب أقلنا فقال: قد أقلتكم فادخلوها، فذهبوا فهابوها، فثم
ثبتت الطاعة والمعصية فلا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء من
هؤلاء (2).

(1) أصول الكافي: باب طينة المؤمن والكافر ج 2 ص 5 حديث 7.
(2) أصول الكافي: باب آخر منه وفيه زيادة وقوع... الخ ج 2 ص 6 حديث 1 طبع الآخوندي.
218

والرواية الأخيرة صريحة في أن الطاعة والمعصية كان لكل من الطائفتين
أمران اختياريان، لان أصحاب الشمال لا يمكن أن يصيروا مطيعين وإلا لما
أمرهم بدخول النار، ولما قالوا: (ربنا أقلنا).
والروايات بهذا المضمون أو قريب منها مستفيضة، بل متواترة بوجه تفيد
القطع على خلاف ما توهم.
وأما حكم العقل فإنه يقبح عقلا - من العاقل فضلا عن الحكيم العادل - أن
يأمر من جعل طينته من شئ لا يقتضي إلا العصيان بالإطاعة ويبعث إليه الرسل
والكتب ويؤاخذه على مخالفته، مع أن المفروض أن المخالفة مقتضى طينته
وجبلته، وهو واضح لمن له أدنى تدبر، فتأمل جيدا.
فانقدح أنه لا وجه لتوهم كون المعصية ناشئة من سوء سريرة العبد التي لا
تعلل باعتبار أنها ذاتية، والذاتيات لا تعلل هذا.
وقد نسب إلى صاحب الفصول رحمه الله التفصيل بين التجري على الحرام الواقعي
وبين غير الواقعي، ففي الثاني تترتب عليه أحكام التزاحم، فيحكم بمقتضى ما هو
غالب في الواقع، فربما يصير التجري حسنا باعتبار أنه تجري على الواجب الأهم
مصلحته من مفسدة التجري.
وفيه: أن التزاحم هنا لا وجه له.
توضيحه: يتوقف على بيان أمور:
(الأول) أن الحسن والقبح مترتبان على المصالح والمفساد النفس الأمرية،
فتارة يكون الشئ باعتبار كونه ذا مصلحة فقط حسنا، وأخرى باعتبار كونه ذا
مفسدة فقط قبيحا، وثالثة يكون مجمع العنوانين، فإما أن تكون المصلحة غالبة أو
المفسدة كذلك وكيفما كان، فلا تزول المصلحة عند غلبة المفسدة ولا تزول
المفسدة عنه غلبة المصلحة، نعم لا أثر لأحدهما عند غلبة الاخر.
(الثاني) قد اشتهر في ألسنة الأصوليين أن الحسن والقبح هل هما ذاتيان أم
بالوجوه والاعتبار؟
219

التحقيق أن يقال: إن الافعال إن لوحظت بعناوينها الخاصة مع قطع النظر عن
وجودها في الخارج يكون الحسن والقبح حينئذ ذاتيين لهما، وإن لوحظت مع
النظر إليه يكونان بالوجوه والاعتبار، فالإساءة والاحسان مفهومان قبيحان
وحسنان ذاتا، وإذا وجدتا في الخارج في ضمن مصداق يمكن طرو عنوان ضد
كل واحد بملاحظته كونه ذا مصلحة ومفسدة كليهما.
(الثالث) أن ما يحكم العقل باستحقاق العبد العقوبة به إنما هو القبح الناشئ
عن صدق عنوان مخالفة المولى والخروج عن رسوم العبودية، لا القبح الذي لا
يكون للشئ الناشئ عن كونه ذا مفسدة مع قطع النظر عن تعلق النهي.
نعم، لو دل دليل على أن كل ما كان قبيحا عقلا فلا تفعله كان العبد مستحقا
بارتكابه العقوبة بهذا الاعتبار الذي ذكرنا، لا باعتبار القبح الذاتي الناشئ عن
المفسدة النفس الأمرية.
إذا عرفت هذه الأمور الثلاثة يظهر لك أن قبح التجري الذي هو بملاك
العصيان باق على حاله من غير تغيير، سواء كان الفعل المتجري به واجبا واقعا أم
مكروها أم مباحا، لأن المفروض أنه لا تأثير في القبح أو الحسن الواقعي في رفع
قبح هذا العنوان المترتب على هذا الفعل، أعني الخروج عن رسوم العبودية، لما
ذكرنا من أن الملاك إنما هو حكم العقل بالقبح، وهو بعد بحاله.
مضافا إلى أن التزاحم إنما هو فيما إذا كان المتزاحمان في مرتبة واحدة،
والمفروض في المقام أن القبح الناشئ عن التجري متأخر عن حسن ذات الفعل،
فإن حسنه ذاتي، سواء كان مأمورا به فعلا أم لا كما هو المفروض، وقبح التجري
مقيد بكونه معنونا بعنوان المأمور به كما لا يخفى.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من قبح التجري وترتب آثاره بين كون الحرمة
معلومة بالعلم الجازم أو مظنونة بالظن المعتبر من الخبر الواحد أو الاستصحاب أو
غير ذلك من الأمور المعتبرة شرعا.
كما لا فرق بين أقسامه من كون المتجري أتى بالفعل بقصد الوصول إلى
220

الحرام أو بقصد عدم الوصول، أو كونه غير مبال بمخالفته للواقع كما لا يخفى.
ثم إنه لا يهمنا التعرض لكون قصد المعصية موجبا للعقاب أم لا بعد حكم
العقل بعدم الاستحقاق ما لم يصل إلى حد الفعلية كما ذكرناه، فإنا نتكلم في
الاستحقاق لا في الفعلية.
نعم، الأولى الجمع بين الروايات المتخالفة الواردة في هذه المسألة بما أفاده
الشيخ الأنصاري قدس سره بحمل الاخبار المثبتة على من بقي على قصده والنافية على
من ارتدع عن قصده بنفسه، أو بحمل الأولى على من اشتغل بعد القصد ببعض
المقدمات والثانية على من اكتفى بمجرد القصد.
قال الشيخ قدس الله نفسه الزكية: إن المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم في
الاعتبار بالتفصيل أم لا؟ (إلى أن قال:) لان اعتبار العلم الاجمالي له مرتبتان:
الأولى حرمة المخالفة القطعية، والثانية وجوب الموافقة القطعية (إلى أن قال بعد
كلام طويل، ليس محل بحثنا:) مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال يتصور على
وجهين: أحدهما مخالفته من حيث الالتزام (إلى أن قال:) الثاني مخالفته من حيث
العمل (إلى أن قال بعد بحث طويل في المخالفة غير العملية:) وأما المخالفة العملية
فإن كانت لخطاب تفصيلي فالظاهر عدم جوازها (إلى أن قال:) وأما الاناء النجس
الموجود بينهما ولا أصل يدل على طهارته لأنه نجس يقينا فلا بد إما من اجتنابهما
تحصيلا للموافقة القطعية، وإما أن يجتنب أحدهما فرارا عن المخالفة القطعية على
الاختلاف المذكور في محله.
وقال في مبحث البراءة والاشتغال - بعد أن اختار لزوم الاجتناب عقلا وأن
إذن الشارع في أحد المشتبهين ينافي أيضا حكم العقل بوجوب الامتثال التكليف
المعلوم - ما هذا لفظه:
نعم، لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الاخر بدلا ظاهريا عن
الحرام الواقعي فيكون المحرم الظاهري هو أحدهما على التخيير، وكذا المحلل
الظاهري.
221

فيظهر من هذه الكلمات الشريفة أن العلم علة تامة بالنسبة إلى المخالفة
ومقتض بالنسبة إلى المخالفة الاحتمالية.
ويظهر من الكفاية أنه مقتض بالنسبة إلى كليهما.
وينسب إلى المحقق الخوانساري والمحقق القمي تعالى أنه ليس بمقتض
بالنسبة إلى واحد منهما أصلا فضلا عن كونه علة لهما.
وسيظهر إن شاء الله تعالى ما في النسبة، وأنه قد اشتبه مرادهما رحمهما الله.
ويظهر من الشيخ رحمه الله أيضا في الرسالة أن هنا قولين آخرين فيما إذا كان
المعلوم بالاجمال مرددا بين خطابين: أحدهما التفصيل بين الشبهة الموضوعية
والحكمية، ثانيهما التفصيل بين كون الحكم المشتبه في موضوعين واحدا بالنوع
كوجوب أحد الشيئين وبين اختلافه كوجوب الشئ وحرمة آخر.
والتحقيق في المقام أن يقال: إن الكلام يقع في مقامين: (أحدهما) في أن
المردد بين الامرين أو الأمور إذا ثبت بالعلم. (الثاني) أنه قد ثبت
بالحجة الأخرى غير العلم.
فإن ثبت بالعلم فلا مناص من أن يقال كونه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية
ووجوب الموافقة القطعية كليهما. بل لا يتصور التفكيك بينهما عقلا.
ويتضح ذلك ببيان أمور: (الأول) أن معنى العلم الاجمالي هو كون ما هو
المعلوم من الأطراف متعلقا للزجر الأكيد من المولى بالنسبة إلى متعلقه فعلا،
فترخيصه بالنسبة إليهما أو إلى أحدهما تناقض، منه.
أما الأول فواضح، وأما الثاني فعلى تقدير مصادفة المرخص فيه مع المحرم
الواقعي مثلا.
(الثاني) قد مر أن الحكم عبارة عن إرادة انبعاث العبد أو انزجاره، وهو لا
يمكن أن يكون داعيا للعبد ما لم يصل إلى مرتبة العلم، فإذا وصل إلى هذه المرتبة
لا يمكن عدم داعويته، فإن جعل الحكم موقوف على جهل المخاطب به
والمفروض كونه عالما.
222

(الثالث) أن العقلاء لا يذمون من عاقب من ارتكب شيئا يعلم أنه أو شئ منه
منهي عنه أو ترك ما يعلم أنه أو شئ منه مأمور به، فيستكشف به أن العلم
الاجمالي كالتفصيلي حجة بحيث يلزم عقلا الخروج عن عهدته، ولا يجوز
مخالفته ولو احتمالا.
وأما جعل البدل الذي قد اشتهر عن الشيخ الأنصاري قدس سره ومن تبعه فإن كان
المراد جعله في مرتبة الواقع - ولو بأن يقال: إن هذا الجعل مقيد بالجهل بالواقع -
فهو خلاف الفرض، فإن المفروض أن الواقع غير مجهول.
مضافا إلى استلزامه كون البدل والمبدل كليهما واجبين على نحو الترتب كما
في كفارة الظهار مثلا.
وإن كان المراد جعل البدل في مقام الظاهر فغير معقول لان الحكم الواقعي مع
كونه فعليا لا وجه لجعل الحكم الظاهري الذي هو في فرض كونه حينئذ شأنيا.
وأما ما يتراءى في بعض العبارات من محفوظية مرتبة الحكم الظاهري فلا
يكون العلم علة تامة، فمدفوع، بأن مقتضى الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
كما سيجئ إن شاء الله بأي نحو كان هو كون الحكم الواقعي شأنيا لا فعليا،
والظاهري فعليا لا شأنيا، والمفروض في المقام أنه فعلي تعلق العلم به، فلا تكون
مرتبته محفوظة.
هذا كله إذا ثبت الحكم المردد بالعلم.
وأما إذا ثبت بالحجة الاجمالية من عموم أو إطلاق أو استصحاب أو غيرها
من الأدلة الظاهرية فيمكن أن يقال حينئذ بتعارضها مع أدلة الأصول.
فإذا ورد: (لا تشرب الخمر) مثلا الشامل بإطلاقه للخمر المردد بين الإناءين
ورد أيضا (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه) أو (كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه) (1) الشامل بعمومه
للمردد المذكور فيمكن أن يقال: بتعارض الحجتين.

(1) راجع الوسائل: باب 4 من أبواب ما يكتسب به ج 12 ص 59 - 60 ح 1 - 4.
223

فإما أن يرجح إطلاقات الاحكام الأولية، وإما أن ترجح عمومات الحل كما
لا يبعد ذلك.
ووجهه أن المتيقن من أدلة الاحكام تحميل الشارع للمكلفين كلفة إتيان
المأمور به ما لم يلزم مشقة زائدة على أصل إتيان المكلف به، فإذا لزم منه ذلك
وشق على المكلف تحصيل العلم بالواقع فقد رفع الشارع يده عن فعل ذلك.
وبعبارة أخرى: المستفاد من الأدلة لزوم ترك الحرام أو فعل الواجب بعينه لا
ترك شئ أو فعله مع ترك شئ آخر أو فعل شئ آخر.
وعلى ما ذكرنا (1) يحمل ما نسب إلى المحقق القمي والمحقق الخوانساري رحمهما الله
من عدم لزوم الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة إلا إذا قام الاجماع على
اللزوم، فإن مرادهما أنه لو لم يقم إجماع على لزوم الموافقة القطعية في
أطراف الشبهة ترجح أدلة عمومات الحل، لا أنه مع العلم بتنجز التكليف لا يجب
الاجتناب، فإنه غير متصور، للوجوه المذكورة التي بيناها آنفا.
فانقدح بذلك الفرق بين الحجة الاجمالية والعلم الاجمالي وأن جعل البدل
في الثاني لا يتصور.
وربما يتوهم إمكان جعل البدل بل وقوعه كثيرا كقاعدة البناء على الأكثر عند
الشك في عدد الركعات على تقدير النقصان، وقاعدة الفراغ على تقدير المخالفة
وغيرها من القواعد المقررة للشاك على تقدير المخالفة، فإن ناقصها بدل عن
تامها.
ولكنه مدفوع بما ذكرنا في مبحث اقتضاء الامر الظاهري، الاجزاء من أن
الوظيفة بالنسبة إلى الشاك يكون مطلوبا كذلك، بأن يأتي الشاك بين الثلاث
والأربع بثلاث ركعات متصلات وواحدة منفصلة، لا أنه أتى بغير الصلاة وجعله
الشارع بدلا عنه.
وكذا ما في قاعدة الفراغ على تقدير المخالفة، هو رفع اليد عن الحكم الواقعي

(1) من تعارض الحجتين.
224

لئلا يقع المكلف في مشقة العمل بالشك دائما أو غالبا فلا يكون أيضا بدلا هذا،
مضافا إلى أنها من موارد الحجة الاجمالية.
تنبيه
قد يتوهم كون هذه المسألة من المسائل الكلامية لا الأصولية ولكن لا وجه
له، لأنه إن كان المراد من كونها منها أنه يبحث فيها في الكلام عن استحقاق العبد
العقوبة في الآخرة وعدمه وهي منها.
ففيه: أن الكلام لا يبحث فيه إلا أن لنا مبدأ ومعادا يوصل إلى كل جزاء عمله،
وأما البحث عن موجبات العقاب والثواب فمختص بالشرع لا طريق للعقل إليه.
وإن كان المراد أنه يبحث في الكلام عما يصح ويقبح من المولى، والمفروض
أنه يبحث فيها: هل يصح من المولى عقاب من خالف العلم الاجمالي أم لا؟
ففيه: أن البحث بين الأشعريين وغيرهم في أنه هل يصح صدور القبيح منه
تعالى أم لا؟ فالأشعري ينكر ذلك، ذاهبا إلى أن كلما صدر منه تعالى فهو متصف
بالحسن، وغيرهم يقولون: بأن الافعال على قسمين: قبيح وحسن، ولا يصدر
الأول منه تعالى.
وأما تعيين مصاديق الحسن والقبح فليس من وظائف علم الكلام، فالحق أن
المسألة أصولية، فإن الحق أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات لا غير، وأن
موضوع الأصول هو الحجة في الفقه، وأن القطع أيضا حجة بالمعنى الذي ذكرناه
مرارا.
هذا كله في تنجز التكليف بالعلم.
وأما كفاية الامتثال الاجمالي فنقول: إن المأمور به المردد يتصور على
وجوه، فإنه (إما) أن يكون مرددا بين المتباينين (أو) بين الأقل والأكثر. وعلى
الثاني (إما) أن يكون مطلوبية الأكثر معينة والشك في كونه مطلوبا واجبا أو
مستحبا (أو) يكون مرددا بين كونه مطلوبا أو لا.
225

وعلى الأول من قسمي الثاني نقول: لا إشكال في تحقق الاحتياط على النحو
الأكمل لامكان إتيان المأمور به مع جميع ما يحتمل اعتباره حتى قصد الوجه
أيضا، كما في التسبيحتين الأخيرتين في الركعتين الأخيرتين، فإن المشكوك في
المثال ليس بنفسه متعلقا للامر، بل المتعلق هو الصلاة المنطبقة على مصاديقها على
اختلافها شرطا أو جزء، فإن الحق أن الصلاة ماهية مقولة بالتشكيك، لها مراتب
من حيث الأكملية والكاملية، وليس نفس الاجزاء بصلاة، وإلا كانت مشتركة لفظا،
فإذا فرض انطباقها على مجموع الاجزاء سواء كانت واجبة أم مندوبة كان إتيانها
مع قصد الوجه بمكان من الامكان بالنسبة إلى مجموعها من حيث هي، وإن لم
يتميز بعض اجزائها وجوبا أو ندبا، لان قصد الوجه المعتبر على تقديره إنما هو
في المأمور به، والمفروض أنه عنوان الصلاة، والمفروض انطباقها على نفس
الاجزاء، لان وجوبها ضمني عقلي لا نفسي شرعي كما لا يخفى.
فتصحيح تعلق الامر الوجوبي بالاجزاء المستحبة منحصر فيما ذكرنا، لا ما قد
قيل من أن هناك أمرين: أحدهما وجوبي تعلق بالأقل، والاخر استحبابي تعلق
بالأكثر من حيث هو هو، ولا منافاة بين وجوب الأقل واستحباب الأكثر.
فإن فيه: أن للأكثر إما دخلا في تحقق الواجب أم لا؟ وعلى الأول يلزم أن
يكون الآتي بالأقل غير آت بالواجب وهو باطل، وعلى الثاني يلزم أن يكون
الآتي بالأكثر آتيا بواجب وغيره وهو باطل أيضا.
هذا كله فيما إذا كان المشكوك مرددا بين الواجب والمستحب.
وأما إذا كان مرددا بين المتباينين فالاشكال - إن كان - فإنما هو في كيفية
قصد التقرب، لا في قصد الوجه لأنه يأتي به بداعي الوجوب ولو لم يعلم أنه
الواجب أم غيره، ولا في قصد التميز لان مرجعه إلى كيفية قصد التقرب أيضا، لا
في أصل قصد القربة لأن المفروض أن ما هو الواجب واقعا كان داعيا إلى إتيانه
مكررا.
وبالجملة - بعد الفراغ عن كون المأمور به المردد تعبديا بين الأمور
226

المحصورة - يقع الكلام في أنه هل يكفي إتيانه بقصد القربة غير متميز مع التمكن
من العلم التفصيلي أم يعتبر قصد القربة لخصوص ما يأتي به فعلا؟
ففي المسألة وجهان، أقواهما تحقق الاحتياط لأنه لا دليل لفظي لنا يدل على
اعتبار قصد القربة في العبادات.
ولعل السر فيه - مع كون قصد القربة مما يبتلي به العموم - أنه لا داعي للعبيد
في مقام الامتثال إلا إتيانها بداعي القربة لا غيره من الدواعي الشهوية والغضبية،
فإن نوع العبادات يخالف الشهوة والغضب.
نعم، قد يمكن إتيانها بصورة العبادة بداع آخر كالرياء والعجب، لكنه يتوصل
بصورة قصد القربة إلى مقتضى شهوة النفس.
وبالجملة، المتيقن اعتبار إتيانه بداعي القربة، وأما إتيانه بداعي أنه بعينه هو
المقرب فعلا فلا دليل عليه.
ويستدل للثاني - أعني عدم لزوم التكرار - بالاجماع أولا، وبكون الاحتياط
لعبا بأمر المولى ثانيا.
ويرد على الأول (أولا) بأن دعوى الاجماع في مثل هذه المسألة التي قد
عنونت من زمن صاحب الإشارات (1) اشتباه واضح، بل أمر غريب، فإنه قد مر

(1) الشيخ الأجل الأفقه الأورع الحاج المولى محمد إبراهيم بن محمد حسن الكاخكي
الأصبهاني المعروف بالكلباسي، مصدر العلم والحكم والآثار، مركز دائرة الفضلاء
والأخيار، ركن الشيعة وشيخها، الجليل المنزلة والمقدار، صاحب كتاب المنهاج والنخبة
والإشارات تلمذ على العلامة الطباطبائي بحر العلوم، والشيخ الأكبر، وصاحب الرياض.
وغيرهم رضوان الله عليهم، بل أدرك مجلس الأستاذ الأكبر المحقق البهبهاني، توفي سنة
1262 ه‍ (غرسب) وقبره بأصبهان جنب مسجد الحكيم مزار معروف، وابنه العالم الورع أبو
المعالي، تقدم ذكره (انتهى).
(الكنى والألقاب للمحدث القمي رحمه الله: ج 3 ص 89 طبع مطبعة العرفان - صيدا).
أقول: أبو المعالي هو من مشايخ سيدنا الأستاذ الأكبر البروجردي قدس سره المتوفى عام
1315 ه‍ ق وللأستاذ إذ ذاك ثمانية عشر سنة من العمر الشريف،
وقد توفي الأستاذ قدس سره عام 1380 ه‍ ق رحمة الله عليهم أجمعين.
227

غير مرة أن حجية الاجماع إنما هي في المسائل التي عنونها القدماء من
الأصحاب التي شأنها أن تتلقى من المعصوم عليه السلام، لا في المسائل المستحدثة.
(وثانيا) بعدم حجية الاجماع في المسائل الأصولية.
(وثالثا) بعدم حجية الاجماع المنقول.
هذا إن أريد بالاجماع القولي.
وإن أريد الاجماع العملي في كل عصر حتى يصل إلى عصر الأئمة عليهم السلام
ففيه: أن ذلك لعدم الداعي إلى ذلك، ودعوى إنكار أهل كل عصر على من عمل
بذلك مع وجود الداعي مجازفة.
ويرد على الثاني أنه خلاف المفروض، فإن المفروض فيما إذا أتى بالعمل
بداعي أمر المولى لا لعبا، ولو فرض إتيانه كذلك فلا اختصاص له بصورة العلم
الاجمالي، بل إتيانه بالمعلوم التفصيلي لعب قبيح عقلا.
ولا فرق فيما ذكرنا من تحقق الاحتياط بين كون مقتضى الأصل اللفظي أو
العملي هو التعبدية أو التوصلية، لأن المفروض إحراز تعبدية هذا المعلوم
الاجمالي.
نعم، لا بد للمقلد من التقليد في مسألة جواز الاحتياط، لعدم إمكان حصول
العلم بنفسه - من غير تقليد - بأن قصد القربة التفصيلي غير معتبر.
اللهم إلا أن يكون مجتهدا، والمفروض أنه مقلد هذا.
والتحقيق: أن الحكم فيها إذا كان مرددا بين الجزءين المتباينين مع عدم
احتمال كون ما ليس بجزء واقعا مانعا فيأتي بها بقصد حصول التقرب بما هو
واجب واقعا، بل الظاهر تحقق الاحتياط فيما إذا كان أصل الامر مرددا وجودا
وعدما.
ودعوى أنه يلزم العلم حين العمل بكون المأتي به مأمورا به ولو إجمالا فلا
يتحقق الاحتياط حينئذ لعدم حصول العلم (تدفعها) أصالة البراءة.
228

نعم، لا يمكن التمسك لعدم اشتراطه بأصالة الاطلاق لعدم إمكان أخذ العلم
في متعلق الامر كي ينتفى بالاطلاق، أو لان اشتراط العلم في صحة العمل لو قيل
به إنما هو فيما إذا كان المأمور به معينا والمفروض أنه غير معين هذا.
مضافا إلى أن العلم بشئ متأخر عن ذات الشئ، فلا يمكن أخذه في مرتبه
متقدمة عليه.
إذا عرفت هذا في العلم فالحكم بالنسبة إلى الظن التفصيلي أولى والله العالم.
قال الشيخ رحمه الله:
229

المقصد الثاني
في الظن
والكلام فيه يقع في مقامين: (أحدهما) في إمكان التعبد به عقلا. (الثاني) في
وقوعه عقلا وشرعا.
أما الأول
فاعلم أن المعروف هو إمكانه، ويظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة... الخ.
لا يخفى أن البحث غير مختص فيما ذكره ابن قبة، بل هو جار في مطلق
الظنون.
وحيث إن البحث وقع أولا في الامكان فلا بد من بيان المراد منه هنا فنقول
بعون الله تعالى شأنه:
ليس المراد منه هو الامكان الذاتي بقسميه، من الامكان الخاص الذي هو
عبارة عن سلب الضرورة من الطرفين، والامكان العام الذي هو عبارة عن عدم
ضرورة أحد الطرفين الذي لازمه إمكان الطرف الآخر يسمى عاما لكونه شاملا
للواجب والممتنع، بخلاف الخاص فإنه مخصوص بالممكن.
ولا الامكان الاستعدادي الذي هو عبارة عن استعداده لان يصير شيئا آخر،
فبملاحظة نفس الشئ يسمى استعدادا، وبملاحظة الشئ الاخر يسمى إمكانا
230

استعداديا.
ولا الامكان بمعنى الاحتمال الذي سماه الأصوليون إمكانا ذهنيا مستفادا من
قول الشيخ الرئيس: كلما قرع سمعك فذره في بقعة الامكان ما لم يزدك عنه قائم
البرهان.
ولا الامكان الاستقبالي الذي هو عبارة - عند من تفوه - عن تحقق الامكان
في ظرف الاستقبال دون الحال، بتقريب أن الشئ إن لوحظ في الحال فإما أن
يكون له علة الوجود أو علة العدم، فعلى الأول يكون ضروري الوجود، وعلى
الثاني يكون ضروري العدم، فحاق الامكان غير متحقق في هذه الملاحظة،
بخلاف ما إذا لوحظ بالنسبة إلى الاستقبال، فإن حاق الامكان متحقق بهذه
الملاحظة.
وأنا أقول: انه هو غلط، فإن الملحوظ في الاستقبال أيضا إما أن يكون له علة
الوجود فضروري الوجود، وإلا فضروري العدم.
وكيف كان فليس المراد من الامكان واحدا من هذه، بل المراد منه الامكان
الوقوعي، بمعنى أنه هل يلزم من وقوعه محال أم لا؟
لا يخفى أنه لا أصل هنا يتمسك به في إثباته مضافا إلى أنه لا أثر له شرعا
وليس بنفسه أيضا مجعولا شرعيا.
كما أنه لا وجه لأصالة عدم المانع كما توهم، لان موردها - على تقدير
ثبوتها - إنما هو فيما إذا أحرز المقتضي، وقد دل الدليل على كون شئ مانعا
على تقدير تحققه ثم شك في وجوده، فيحكم بمقتضى أصالة عدم المانع بتأثير
المقتضي وعدم وجود المانع أو عدم مانعية الموجود، وليس شئ من ذلك في
المقام موجودا.
مضافا إلى أنه لا دليل على حجية أصالة عدم المانع.
وكيف كان، فقد استدل على عدم جواز التعبد بوجهين:
231

(أحدهما) أنه لو جاز التعبد بالاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله لجاز التعبد به في
الاخبار عن الله تعالى، والتالي باطل إجماعا ولازمه بطلان المقدم.
والجواب: أنه إن كان المراد الملازمة بين جواز التعبد بالاخبار عن
النبي صلى الله عليه وآله ولزوم تصديق المتنبئ في دعوى النبوة فهي ممنوعة، لان الثاني عقلي
لا يحكم العقل بوجوب تصديق المتنبئ بل بجوازه ما لم يقم عنده البرهان القاطع
من المعجزة وغيرها، بخلاف الأول، فإنه شرعي وإن قام الدليل بلزوم التعبد،
وإلا لا.
وإن كان المراد الملازمة بين التعبدين، فإن كان المراد جواز التعبد بالاخبار
بالنبوة عن قبل هذا النبي المشكوكة نبوته فلا يعقل ذلك، وإن كان جواز التعبد
بالاخبار بالنبوة عن قبل نبي آخر - بأن قال النبي المتقدم: إن جاء شخص وادعى
النبوة فاقبلوه - فهذا ممكن لا نسلم قيام الاجماع على امتناعه.
وإن كان المراد جواز التعبد بالاخبار عن الله تعالى بالمكاشفات كإخبار
سلمان مثلا عنه تعالى فالاجماع أيضا ممنوع، بل هو على عدم الوقوع فقط.
(الثاني) أنه لو جاز التعبد يلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال.
توضيحه - مع زيادة مني -: أن الموضوعات الواقعية بعناوينها الأولية إما أن
تكون لها أحكام مرسلة غير مقيدة بصورة العلم بها أو لم يكن لها حكم أصلا، فعلى
الثاني يلزم التصويب المجمع على بطلانه، ووردت الأخبار المتواترة تقريبا على
بطلانه.
وعلى الأول إما أن ينقل الحكم الأول أو لا، وعلى الأول يلزم التصويب
أيضا، ويسمى عند الأصوليين بالتصويب الانقلابي.
وعلى الثاني فإما أن يكون الحكم المجعول بالأمارة مطابقا للحكم الواقعي أو
لا؟ وعلى الأول يلزم اجتماع المثلين، وعلى الثاني يلزم اجتماع النقيضين على
بعض التقادير مضافا إلى لزوم التكليف بالمحال، والى لزوم تفويت المصلحة
232

والالقاء في المفسدة في بعض الصور، والى عدم الملاك للحكم الواقعي، بمعنى أن
نفس الحكم بأمرين متنافيين مع بقاء تمام الملاك لهما ممتنع.
هذا تمام ما قيل أو يمكن أن يقال في توضيح إشكال ابن قبة مع زيادة.
والجواب: أنا نختار بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه أولا فنقول حينئذ: إن
عمدة الاشكال إنما هو في صورة المخالفة، وإلا ففي صورة المصادفة لا يرد
الاشكال، فإنا قد ذكرنا - في مسألة اجتماع الأمر والنهي - أن الاحكام غير
متضادة، فإن من خواص التضاد وجود الضد بعد وجود معروضه، وهنا بالعكس،
فإن الوجوب وغيره من الاحكام تسقط بعد وجود متعلقها، بل الايجاب ونحوه له
قيام صدوري بالموجب لا حلولي كي يكون عرضا، فإن مطلق تعلق شئ بشئ
لا يسمى عرضا، فلذا إذا علمنا بمجئ زيد غدا فالمعلومية غير عارضة للمجئ
مع تعلق علمنا به حسب الفرض، وكذا لو قال: (أكرم عالما) ثم قال: (أكرم عادلا)
فأكرمت عادلا عالما لم يجتمع هنا وجودان قائمان بالشخص الواحد.
وأما إشكال عدم الملاك فنقول: إما أن نقول بالطريقية أو السببية.
(فعلى الأول) كما هو التحقيق - فإن (1) أدلة حجية الامارات التي أعلاها خبر
الواحد أو ظاهر القرآن المجيد وظواهر الاخبار - لا تثبت حجيته تأسيسا، بل هو
إمضاء طريقة العقلاء، فإن آية النبأ دالة على المنع من عمل الفاسق لا جعل الحجية
لخبر العادل، وكذا آية النفر تدل على وجوب النفر على بعضهم لا على جميعهم،
وأما وجوب التحذر فهو أمر ارتكازي.
والتعبير بقوله تعالى: لعلهم يحذرون باعتبار اختلاف الاشخاص بمعنى
أن الانذار موجب للتحذر بالنسبة إلى المتقين لا غيرهم.
وكذا سائر الأدلة لا تدل على أزيد من لزوم اتباع طريقة العقلاء، كما سيأتي
إن شاء الله تعالى.

(1) بيان لما اختاره مد ظله من الطريقية.
233

فكون (1) ملاك الحكم هو بعينه ملاك جعل الحكم الواقعي من ايصال المكلفين
إلى المصالح النفس الأمرية وزجرهم عن المفاسد الواقعية بعد عدم إمكان
الوصول إلى الاحكام الواقعية.
إن قلت: هذا إذا كان الواقع ذا حكم وكان الحكم مصادفا له، وأما في صورة
عدم الحكم أو عدم المصادفة فلا ملاك للحكم الظاهري.
قلت: يكفي ملاكا للحكم الظاهري ملاكات الاحكام الواقعية بحسب نوعها
ولو لم يكن في بعض الموارد حكم أصلا، والله العالم.
وأما إشكال لزوم تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فمندفع بعدم كون
جعل الشارع سببا لذلك، بل نفس جهل المكلف بالواقع صار سببا لفوت المصلحة
والوقوع في المفسدة (2). هذا كله بناء على الطريقية.
(وأما بناء على السببية) - فبعد بطلان التصويب إن كان على أحد النحوين
المذكورين في الطريقية - نقول: قد نقل عن الشيخ الأنصاري تغمده الله بغفرانه أنه
يمكن أن يقال: إن المصلحة تكون في الامر بسلوك الامارة.
وفيه: أنه لا يعقل ذلك لان الامر عبارة عن إرادة انبعاث العبد نحو الفعل
المطلوب، فلو لم يكن لنفس المؤدى مصلحة فلا يتحقق الامر، بل هو مندك في
المراد بحيث لا يرى إلا المراد، فإن الإرادة ليست شيئا مستقلا وراء المراد، بها
تقوم المصلحة والمفسدة، بل لا تكون بنفسها منشأ للآثار (3).

(1) تفريع على قوله مد ظله: (فعلى الأول... الخ).
(2) أقول: إنما يصح ذلك إذا لم يكن جعل الامارة موجبا لتكليف إلزامي، وإلا فلو أدت الامارة
إلى وجوب ما هو حرام واقعا كان نفس الجعل سببا موجبا للالقاء في المفسدة، فإنه لولا
الوجوب الظاهري لما كان للمكلف داع إلى إتيان الفعل، إلا أن يقال: إن ذلك إنما هو
في نوع الاحكام الظاهرية لا بالنسبة إلى أشخاصها، والله العالم. (المقرر).
(3) إن كان المراد أن الإرادة في مقام الامر ليست منشأ للآثار فصحيح، وإن كان المراد أنها
234

هذا مضافا إلى استلزام ذلك عدم لزوم الامتثال، فإن المصلحة حسب الفرض
قد تحققت بالامر نعم، يرفع هذا الامر القبح اللازم على الامر على تقدير مخالفتها
للواقع، يعني أن مصلحة الامر تكون متداركة لقبحه على خلاف الواقع.
وعن بعض نسخ الرسائل المتقدمة على سائر النسخ نقل أن المصلحة في نفس
سلوك الامارة على أنها هو الواقع.
وهذا أيضا غير صحيح، فإنا إذا فرضنا أن في الواقع يكون واجبا وأدت
الامارة إلى حرمته فلا معنى لكون سلوك الامارة ذا مصلحة يتدارك به مصلحة
الواقع الواجب، لان ترك الواجب الواقعي لا مصلحة له، بل الحرام ما يكون في
فعله مفسدة.
أو أدت (1) إلى كراهته، فإن الترك على وجه التنزيه هو العمل بمقتضى الامارة،
وليس هنا فعل يكون ذا مصلحة.
وكذا إذا أدت إلى إباحته، فإنه لا معنى لكون فعل شئ وتركه على وجه
التساوي الذي هو معنى كون الإباحة ذا مصلحة.
ولو كان الفرض بالعكس بأن كان الواقع حراما فأدت الامارة إلى وجوبه،
فإنها إما أن تكون ساقطة على تقدير تساوي مفسدة الواقع ومصلحة العمل أو
أحدهما فقط على تقدير الاختلاف كما أن هذه الوجوه تأتي في الفرض الأول من
الأصل.
نعم، يمكن أن يقال: إن منشأ التوهم في هذا القول ما اشتهر بينهم في المثال
المعروف من أنه إذا كان شئ واحد واجبا واقعا، وتردد بين أمرين، فأدت الامارة

مطلقا ليس منشأ فممنوع، لان إرادة إقامة عشرة أيام تكون موجبة للاتمام ولو تصادف
بحسب الواقع عدم نفس المقام.
لا يقال: إن ذلك بعد صلاة رباعية لا مطلقا، فإنه يقال: ننقل الكلام إلى أول صلاة يصليها
تماما، فإن إتمامها مسبب عن الإرادة فقط، والله العالم. (المقرر). (1) عطف على قوله مد ظله: (وأدت الامارة... الخ).
235

إلى وجوب أحدهما مع كون الواجب واقعا هو الاخر، فقد يتوهم أن مصلحة
مؤدى الامارة تتدارك المصلحة الفائتة.
وفيه: أن المفروض عدم المصلحة في مؤدى الامارة بحسب الواقع لا واقعا
ولا ظاهرا، بل لها مفسدة في بعض الموارد، مثلا لو كان الواجب الواقعي هو
الجمعة فأدت الامارة إلى وجوب الظهر فصلى الظهر في وقت الجمعة ففعلها
يوجب فوات مصلحة الجمعة مضافا إلى أنه موجب لفوت وقت الجمعة، فتكون
الظهر محرمة واقعا فلا تكون لها مصلحة، فتأمل.
وأما لزوم الحكم بالمتناقضين فقد أجاب عنه المحقق الخراساني رحمه الله (تارة)
في حاشيته على الفرائد، بأن الحكم الواقعي إنشائي والحكم الظاهري فعلي، فلا
تضاد بين الانشائي والفعلي وانما التضاد في الفعليين. (وأخرى) في الكفاية
بأمرين:
(أحدهما) أن الحكم الظاهري حكم صوري، والحكم الواقعي حقيقي.
وبعبارة أخرى: التكليف حقيقة إنما هو بالنسبة إلى الاحكام الواقعية، وأما
الظاهرية فليس بتكليف حقيقة.
(ثانيهما) بأن الحكم الظاهري ليس بحكم أصلا، بل هو طريق إلى الواقع،
والحكم منحصر بالواقع، فإن صادف الواقع فهو الحكم الواقعي فقط، وإن خالف
فليس هنا حكم لا واقعا، ولا ظاهرا، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان أن كلتا
الصورتين صحيحتان على وجه سنحققه.
وقد أجيب أيضا، ونقل هذا عن السيد محمد وعن الميرزا الشيرازي رحمهما الله
تعالى بالترتيب.
بيانه: أن لموضوعات الاحكام حالتين:
(إحداهما) ما يمكن أن يؤخذ في مرتبة الموضوع ككون الصلاة في مكان كذا
أو زمان كذا، أو قائما أو قاعدا مثلا، واجبة أو مستحبة أو محرمة.
(ثانيتهما) ما لا يمكن تعقله إلا بعد مجئ الحكم، ككون المكلف شاكا أو
236

عالما به أو جاهلا، أو كون المكلف به مشكوكا أو مجهولا أو معلوما، فإن الحكم
ولو كان مطلقا بالنسبة إلى الحالات المذكورة، لا بمعنى كون الطبيعة آلة للحاظ
أفراده كما اشتهر، فإن هذا عين التقييد، بل بمعنى إرسالها عن القيودات، إلا أن
تقيده أيضا بالحالات المذكورة محال عقلا.
وحينئذ إذا طرأ إحداهما للمكلف أو المكلف به يصير موضوعا آخر، فيمكن
جعل حكم آخر لاختلاف الموضوع باختلاف المرتبة، فإن موضوع الحكم
الواقعي هو الفعل بعنوانه الأول وموضوع الظاهري الفعل المشكوك.
وفيه: أن موضوع الحكم الظاهري وإن كان منحصرا بصورة الجهل إلا أن
موضوع الحكم الواقعي غير مقيد بحالة دون حالة، فإطلاقه يشمل حالة الجهل
أيضا، غاية الامر أنه معذور.
إن قلت: قد مر في مبحث الأوامر التسليم بالنسبة إلى الترتب.
قلت: فرق بين الترتب في مسألة الأهم والمهم وبينه هنا، فإنه هناك عبارة عن
أمر المولى بالمهم حال عصيان الأهم، ولا شبهة أن الأهم لا تأثير له حينئذ، فيمكن
الامر بالمهم لان منشأ عدم جواز الترتب هو الامر بالمحال أو الامر بشئ هو
كالمحال، والامر بالمهم في حال عصيان الأهم ليس بمحال ولا كالمحال لان
تعلق أمرين بشيئين يمكن إتيان كل واحد في ظرفه أمر ممكن، بخلاف ما نحن
فيه، فإن الامر الأول محفوظ حال الامر الثاني، فلا يمكن إتيانه هذا.
وأما الجواب الأول فإن كان المراد أن كون شئ ذا مصلحة وله اقتضاءان
يصير منشأ للحكم أو أن مجرد جعل القانون من غير إرادة ولا كراهة حين الجعل
يسمى حكما فلا وجه له فإنهما لا يسميان حكمين حقيقة.
وإن كان المراد ما هو المترآى من بعض مباحث الكفاية من أن الإرادة من
المولى إنما تبعث وتزجر العبد في صورة وصول الخطاب إلى المكلف فما دام لم
تصل إلى هذه الدرجة لم تكن باعثة ولا زاجرة فقد بقيت في مرتبة الشأنية بمعنى
237

أنها لم تبلغ المرتبة الفعلية الموجبة للبعث والزجر الفعليين، فحينئذ لا يرد الاشكال
عليه.
توضيح المطلب على وجه يرتفع الاشكال المتوهم حينئذ: أنهما (1) قدس سرهما أجابا
عن الاشكال بوجوه ثلاثة:
(أحدها) القول بعدم كون الحكم الواقعي حكما حقيقيا، وإنما الحكم الحقيقي
هو الظاهري فقط.
(ثانيها) القول بعدم جعل الحكم أصلا، وإنما المجعول هو الحجية.
(ثالثها) على تقدير تسليم الجعل نقول بعدم جعل الحكم التكليفي، بل عند
المصادفة لا حكم أصلا، وعند المخالفة هو طريق صرف والإرادة إنما تعلقت
بالواقعي وما كان متعلقا للحكم الظاهري يكون من قبيل المقصود بالضرورة، مثل
حركة الانسان نحو شئ مقصود له فتصادف في الطريق ما يكرهه، فإنه لم يقصد
المكروه لكنه مقصود بالضرورة.
والتحقيق أن هنا إرادتين (إحداهما) إرادة وجود الفعل من المكلف بقول
مطلق. (ثانيتهما) إرادة انبعاثه نحوه بالخطاب الأول.
والأولى عامة لكل مكلف، العالم والجاهل، لان المولى يريد وجود الفعل من
جميع المكلفين.
والثانية مختصة بالعالم، فإن الخطاب لا يمكن كونه باعثا وزاجرا نحو الفعل
المطلوب إلا إذا وصل إلى المكلف، فما لم يصل إليه لم يكن المولى مريدا منه لهذا
الخطاب، فيصير هذا الخطاب شأنيا، بمعنى أنه يمكن إيصاله إلى المكلف لا بهذا
الخطاب، بل بجعل أمارة قائمة على الحكم من إخبار ثقة، وظاهر القرآن وغيره.
وفي عين هذه الحالة يمكن أن يقال: إنه فعلي بعد قيام الامارة باعتبار أن
قيامها أيضا إنما هو على الحكم الواقعي لا حكم آخر، غاية الامر ايصال المولى

(1) يعني السيد محمد والميرزا الشيرازي قدس سره.
238

إلى المكلف المراد الواقعي بسببين:
(أحدهما) الخطاب الأولي بالنسبة إلى العالم.
(ثانيهما) إيصاله بالخطاب الثانوي بالنسبة إلى الجاهل، أي نعني أن من لم
يصل إليه الخطاب الأولي فالخطاب شأني باعتبار عدم قابلية وصول الخطاب إليه
وفعلي أي بالنسبة إلى الخطاب الثانوي وإن كان التحقيق هو الثاني، لان إرادة
وجود الفعل من العبد لا تختص بأن تكون بالخطاب الأولي، بل المقصود تفهيم
المكلفين باختلاف حالاتهم بأسباب مختلفة إما بالخطاب الأولي أو بجعل الامارة
عليه، فافهم واغتنم.
تذنيبات
الأول: المراد بكون الحكم الواقعي فعليا هو فعليته في صورة العلم بالخطاب
أو قيام الامارة أو الأصل عليه، بناء على ما قلنا من أن مفاد الطرق والأمارات
أيضا الحكم الواقعي ما لم يكشف الخلاف.
أما عدم وجود العلم أو ما يقوم مقامه، فلا حكم بالضرورة، فكما أن الاجماع
قائم على فعلية الحكم الواقعي في صورة العلم والامارة والأصل فكذا الاجماع
قائم على عدم الحكم في صورة عدمها.
الثاني: قد عرفت أن القول بالموضوعية لا وجه له سيما على الوجه الثالث
الذي ذكره الشيخ رحمه الله في رسائله - وهو سلوك الامارة على أنه طريق إلى الواقع
يكون ذا مصلحة، فإنه ينجر إلى التناقض، لان كون سلوك الامارة ذا مصلحة
يقتضي عدم استقلاليته وكونه طريقا يقتضي استقلاليته، وقد عرفت ما هو التحقيق
في الجمع.
فهل يكون منشأ الحكم الظاهري أمر المولى بلزوم اتباع الامارة كما هو
الظاهر، أو جعل المولى الحجية كما هو المستفاد من ظاهر كلمات المحقق
239

الخراساني رحمه الله أو المحرزية أو الوسطية؟
ويرد على الثاني أن معنى الحجية الذي هو عبارة عن استحقاق العقاب أو
الثواب أو كونه معذورا أو متجريا أو منقادا حسب اختلاف المقامات غير قابل
للجعل، هذا.
مع اعترافهم بأنه ليس لنا أمارة مجعولة، بل أمارية الامارات عقلائية لا
شرعية، فما معنى قولهم الجعل في هذا المقام؟ فتأمل.
الثالث: الحكم المجعول إما أن يكون أصلا أو أمارة، وكل واحد منهما إما أن
يكون في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.
أما الشبهة الموضوعية إذا كان الدليل أصلا فالحق أنه ليس هناك الا أمر واحد
بالمأمور به الواقعي، والحكم الظاهري يكون لأجل توسعته عند الشارع، مثل
قاعدتي الطهارة والحلية.
وبالجملة، أدلة الأصول حاكمة على الاحكام الواقعية، لكن لا بأمرين واقعي
وظاهري، بل أمر واحد تعلق بالواقعي.
إن قلت: مرجع الحكومة إلى التخصيص أو التقييد وشرطه إحراز وحدة
الحكم، والمفروض فيما نحن فيه أن جعل الحكم الظاهري إنما هو عند الشك في
الحكم الواقعي، ولازمه تعدد الحكمين وكونهما في مرتبتين كما لا يخفى،
والحكومة لا تكون كذلك كما هو واضح.
قلت: إن المراد بالحكومة ليس التخصيص أو التقييد، بل هي هنا ضدهما،
فإنهما يوجبان تضيق دائرة العام أو المطلق، والحكومة توجب التوسعة في متعلق
الحكم الظاهري.
والكلام إنما هو في مقام الثبوت، وإلا فمقام الاثبات يكفي فيه ظواهر أدلة
الاحكام الظاهرية، فإنها بظاهرها تدل على كونه فردا من أفراد متعلق الحكم الواقعي.
240

وبعبارة أخرى: المقصود من الامر الأول إيجاد شئ ينطبق عليه عنوان
المأمور به، ومفاد الثاني أنه منزل منزلته في ذلك الأثر، أعنى انطباقه على عنوان
المأمور به الواقعي لا أنه شئ آخر غير متعلق الامر الأول.
إن قلت: هب أن مقتضى ظواهر أدلة الاحكام الظاهرية هو الاجزاء، إلا أنه
على تقدير كشف الخلاف فإما أن ينطبق عنوان المأمور به الواقعي عليه أو لا،
وعلى الثاني يلزم الخلف، فإن المفروض انطباقه قبل كشف الخلاف، وعلى الأول
- أعني انطباق عنوان المأمور به - يشكل بأن الاختلاف في المرتبة مانع عن
الانطباق لكون الواقع لا يتغير عما هو عليه بالشك والجهل.
قلت: بعدما سلمتم كون مقتضى الأدلة هو الاجزاء فلا بد من ملاحظة ترجيح
أحد الظهورين على الاخر، أعني ظهور دليل الحكم الظاهري، ونحن ندعي
ترجيح الثاني على الأول، بل تعينه، وإلا يلزم لغوية الجعل في صورة الشك.
إن قلت: يكفي في عدم اللغوية كونه محكوما بإتيان الصلاة ما لم يكشف
الخلاف، بل يمكن أن يقال: إن ذلك يستفاد من نفس أدلة الاحكام الظاهرية حيث
إنها مغياة بعدم كشف الخلاف.
والحاصل: أن قوله عليه السلام: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر) (1) مثلا يدل
بغايته أن هذا الحكم ممتد إلى زمان العلم لا مطلقا.
قلت: (أولا) الغاية مسوقة لبيان عدم العلم والشك فيه لا لبيان عدم وجود
حكم المغيى بعد كشف الخلاف.
(وثانيا) العلم بالقذارة مثلا بعد الشك فيها يكشف عن عدم الموضوع، لا عن
عدم ترتب الأثر، أعني انطباق عنوان المأمور به، فإن المفروض انطباقه قبل العلم،
فكشف الخلاف لا يوجب رفع ذلك الأثر.
فتحصل من جميع ذلك: أن مقتضى القواعد الاجزاء إلا ان يدل دليل على

(1) الوسائل: ج 2 ص 1054 باب 37 من أبواب النجاسات ح 4.
241

خلافه.
وقد ذكر لعدم الاجزاء أمران:
(الأول) أن ظواهر الأدلة لا تدل على أزيد من جعل الحجية ومعناه العذر عند
المخالفة والمثوبة عند الموافقة.
وفيه: أنه خلاف ظواهر الأدلة، مضافا إلى أن الالتزام - بكون أغلب أفراد
المكلفين لم يأتوا بالمأمور به الواقعي، وإنما هم معذورون في المخالفة - في غاية
البعد.
مضافا إلى أن جعل الشارع حكما يوجب مخالفة الواقع أيضا في غاية البعد.
مضافا إلى خصوص بعض الروايات في المقام مع عدم إمكان الالتزام بجعل
العذرية فقط دون تحقق المأمور به، مثل ما عن علي عليه السلام: (لا أبالي أبول أصابني
أم ماء إذا كنت لم أعلم) (1) فإن الالتزام بأنه عليه السلام التزم ترك الصلاة عند عدم العلم
بالنجاسة، غاية الامر أنه عليه السلام كان معذورا حينئذ، بعيد جدا.
(الثاني) أن جعل الاحكام على نحو الطريقية فلا حكم هنا.
وفيه: أنا وإن لم نقل بكون الأوامر والنواهي تابعة لمصالح ومفاسد في نفس
الاحكام بل هي في المتعلقات إلا أنه من الممكن كون المصلحة في تحقق الإطاعة
بما هو طاعة بالنسبة إلى عمل قد عينه الشارع من بين الافعال، بعد ملاحظة
المرجحات بينها، هذا.
(الثالث) يظهر من صاحب الكفاية رحمه الله أيضا تسليم حكومة الدليل الظاهري
على الأدلة الواقعية في الشبهات الموضوعية بالنسبة إلى الشك في الشرائط
والاجزاء.
وقد أورد عليه بأمور: (أحدها) أن الحكومة - على ما بينه في موارد عديدة
من كلماته - عبارة عن كون دليل الحاكم مفسرا لمدلول دليل المحكوم وناظرا إليه،

(1) الوسائل ج 2 ص 54 باب 37 من أبواب النجاسات ح 5.
242

لا إلى حكمه، ولذا قد أورد على الشيخ الأنصاري رحمه الله حيث مثل للحكومة
بقوله عليه السلام: (لا سهو مع كثرته ولا للامام مع حفظ المأموم) (1) بأنه ليس من
الحكومة، فإنه لا يفسر الشك الواقع في دليل المحكوم، بل رفع الحكم في بعض
مصاديقه، فهو ناظر إلى حكمه، والمقام أيضا من قبيل ما مثله الشيخ رحمه الله للحكومة،
فليس حاكما عند صاحب الكفاية رحمه الله.
وفيه: أنه مناقشة لفظية كما لا يخفى.
(ثانيها) يلزم من ذلك، الحكم بطهارة الملاقى لمشكوك الطهارة حتى بعد
العلم بنجاسته، فإن المفروض أنه بمنزلة الواقع في جميع الآثار.
وفيه: منع ترتب الآثار حتى بعد العلم بالخلاف كما هو ظاهر الغاية في
قوله عليه السلام: (حتى تعلم... الخ).
(ثالثها) على هذا لا فرق بين الأصول والأمارات مع أنه فرق بينهما للحكم
بعدم الاجزاء في الثاني.
وفيه: أن مجرد عدم الفرق لا يوجب عدم الصحة حتى بالنسبة إلى الأصول
أيضا. نعم، يبقى عليه حينئذ سؤال الفرق بينهما وسيجئ إن شاء الله أنه لا فرق.
(رابعها) هو أن اختلاف الرتبة يوجب عدم كون الحكم الظاهري حاكما على
الواقع، لان شرط الحكومة كون دليل الحاكم في مرتبة دليل المحكوم كي يكون
بمنزلة التقييد أو التخصيص.
وفيه: إنا نقول: نعم لكنا لا نقول بالحكومة بهذا المعنى، بل لا بد من الجمع
بينهما بتقديم أحد الظهورين على الاخر، لا تقييده أو تخصيصه به كي يكون
اختلاف الرتبة قادحا كما مر تفصيلا.
وبالجملة، بعد الفراغ عن عدم كونه مخصصا أو مقيدا بالمعنى المصطلح يبقى
الكلام في تقديم دليل الحكم الظاهري أو الواقعي.

(1) راجع الوسائل: ج 5 ص 338 باب 24 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
243

فنقول: حيث إن الدليل الظاهري إنما حكم بكون البدن أو اللباس المشكوك
طهارته بحكم الطاهر فلا بد من أحد معنيين: إما أن يكون المراد كون المصلي
كذلك معذورا في المخالفة، أو أن العمل الكذائي ينطبق عليه عنوان الصلاة،
والأول غير معقول، فإنه في صورة كشف الخلاف في الوقت لا مخالفة فلا معنى
للعذر، وفي خارجه - حيث إن المخالفة مسببة عن العمل بنفس الحكم الظاهري
وهو صار سببا لها أيضا - لا مخالفة للحكم فلا معذورية أيضا، فإذا ثبت بطلان
الأول تعين الثاني، فلو حكم مع ذلك بلزوم الإعادة في صورة كشف الخلاف، لزم
الحكم بلزوم إتيان فردين من الطبيعة المأمور بها والمفروض، بل المسلم عدم
اللزوم.
إن قلت: فكيف الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.
قلت: وإن لم يمكن الجمع هنا بأحد الوجهين المتقدمين في الشبهة الحكمية
أما (1) كون الواقعي شأنيا والظاهري فعليا فلان الشأنية هناك كانت متوقفة على
إمكان انبعاث العبد بالخطاب الأول بالنسبة إلى الشأني فلا محالة تكون الإرادة
الأولية المنكشفة بذاك الخطاب شأنية، وأما ما نحن فيه فليس كذلك، فإن تعين
الامر والمأمور به والتمكن من تحصيل شرائطه الواقعية شرط فيحكم العقل بلزوم
تحصيلها لولا حكم الشارع بالتنزيل.
وأما الوجه الثاني - أعني كون الحكم الظاهري حجة وعذرا صوريا والواقعي
حقيقيا فعليا - فلما مر من عدم تحقق العذر، لا في صورة انكشاف الخلاف في
الوقت ولا في خارجه.
ولكنه (2) يمكن الجمع بوجه آخر يرجع إلى الوجه الأول، بتقريب آخر، وهو
أن الاحكام لا بد لها من ملاك ومصلحة، ويلزم العبد في مقام الامتثال المشقة

(1) بيان للوجهين المتقدمين فلا تغفل.
(2) استدراك من قوله مد ظله العالي: (وإن لم يمكن الجمع هنا... الخ).
244

بمقدار تقتضي طبيعة هذا الحكم، والمشقة اللازمة من إتيان نفس الطبيعة لا
تعارض المصلحة الثابتة في متعلقها بخلاف المشقة اللازمة من إتيان نفس الطبيعة
وغيرها مقدمة لها، فإنه يمكن معارضة المشقة الزائدة مع المصلحة التي فيها فيرفع
اليد عن تلك المصلحة للزوم هذه المشقة الزائدة.
وبالجملة، المستفاد من أدلة الاحكام الظاهرية أن الشارع لا يرضى بتحمل
المشقة زائدة على المشقة التي اقتضاها الحكم الأولي.
والحاصل: أن مقتضى ظواهر الأدلة عدم اشتراطه بالشرائط والاجزاء
الواقعية للشاك، فيرجع الكلام إلى أن العلم بالنجاسة مضر لا أن العلم بعدمها
شرط.
إن قلت: فما معنى جعل الحكمين وتنزيل المشكوك منزلة المعلوم، بل يكفي
أن يقول: يشترط في الصلاة عدم العلم بالنجاسة مثلا.
قلت: حيث إن الكلام في إمكان جعل الحكمين يكفينا أن نقول - وإن لم يكن
عليه دليل شرعي ولا برهان عقلي - بأنه يمكن أن يقال: إن الوصول إلى المثوبات
الأخروية والمنافع الدنيوية بإتيان متعلقات الاحكام، ليست مترتبة على وجودها
الخارجي فقط من دون دخل شئ في ترتبها.
فيمكن أن تكون مترتبة على تحقق عنوان الإطاعة في ضمنها، فلا بد من
أمور تتعلق بالافعال بعد ملاحظة المرجحات، فيمكن أن تكون الصلاة مع الطهارة
الواقعية ذات مصلحة في صورة التمكن من العلم بها، فيأمر المولى بتلك الصلاة،
فإتيانها حينئذ مستند إلى أمر المولى، فيتحقق عنوان الإطاعة، وفي صورة الشك
يمكن أن لا تكون كذلك ذات مصلحة لمزاحمتها بلزوم المشقة الزائدة على إتيان
أصل الطبيعة فيأذن إتيانها بدون تحصيل ذلك الشرط، فيأتي بها مع البناء على
الطهارة المستندة إلى إذن الشارع، فيتحقق عنوان الإطاعة أيضا.
وبالجملة، ترتب المثوبات الأخروية والآثار الدنيوية متوقف على تحقق
245

عنوان الإطاعة، سواء كانت إطاعة للامر الواقعي أو للامر الظاهري.
إذا عرفت هذا في مفاد الأصل فاعلم أنه إذا كان دليل الحكم الظاهري أمارة
فهي أيضا كذلك من غير فرق بينهما أصلا.
والفرق بينهما بكون مفاد الامارة هو الواقع، فكأنها مرآة للواقع، فإذا انكشف
الخلاف لم يكن ما اتي به مجزيا، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الأصل، فإنه يدل
على أن مؤداه منزل منزلة الواقع، فانكشاف الخلاف يؤثر من حينه لا من أصله.
مدفوع بأن ما ذكر إنما هو مفاد الامارة لا مفاد دليل الامارة في تنزيل مؤداه منزلة
الواقع.
ولا فرق أيضا في الامارة بين القول بالطريقية والموضوعية.
والفرق بأنها على الثاني مجزية دون الأول مدفوع بأنه إن كان المراد من
الاجزاء أن السببية - ملازمة للاجزاء عقلا دون الطريقية - فممنوع، وإن كان المراد
أن لسان الدليل على الطريقية يغاير لسانه على الموضوعية لا نسلم ذلك في مقام
الاثبات.
نعم بينهما فرق في مقام الثبوت.
هذا بعض الكلام في الاجزاء وإن كان البحث عنه خارجا عما نحن فيه من
مسألة التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
والله الموفق والمعين، (اللهم اغفر لجميع المؤمنين ولا سيما أساتيذنا بحق
النبي وأهل بيته) (11 شعبان سنة 1368 ه‍ ق).
قال الشيخ قدس الله نفسه الزكية: التعبد بالظن الذي لم يدل على التعبد به
دليل محرم بالأدلة الأربعة، ويكفي من الكتاب قوله تعالى: قل آلله أذن لكم أم
على الله تفترون (1) (إلى أن قال:) ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله - في عداد القضاة من
أهل النار -: (رجل قضى بالحق وهو لا يعلم) (2)، ومن الاجماع ما ادعاه الوحيد

(1) يونس: 59.
(2) الوسائل: 18 ص 11 باب 4 من أبواب صفات القاضي ح 6.
246

البهبهاني رحمه الله (إلى أن قال:) ومن العقل تقبيح العقلاء من يتكلف من قبل مولاه بما
لا يعلم وروده عن المولى ولو كان جاهلا مع التقصير (انتهى موضع الحاجة من
كلامه).
استشكل في الكفاية بأن ذلك لا يلازم عدم الحجية لعدم الملازمة بين حرمة
النسبة وعدم الحجية، كما في حجية الظن الانسدادي على القول بالحكومة.
فالأولى أن يستدل لأصالة عدم الحجية عند عدم الدليل عليها بأن نفس الشك
يكفي في الحكم بعدمها.
إن قلت: يلزم حينئذ التناقض، لان معنى الشك في الحجية احتمال وجود
الحجة وعدمها، فكيف يعقل القطع بعدمها مع فرض هذا الشك.
قلت: يمكن أن يكون ترتيب الآثار على الحجة المحتملة مشروطا على العلم
بها، فالمراد بالقطع بعدم الحجة واستقلال العقل به ليس هو عدمها الواقعي حتى
يلزم ما ذكرت، بل استقلال العقل بعدم لزوم ترتيب الآثار مع الشك، فمجرد
الوجود المحتمل الواقعي ليس منشأ لآثار الحجية نظير الايقاعات، حيث إن
وجودها الواقعي الاعتباري لا يكفي في كفاية ترتيب الآثار، بل الوجود
الاعتباري مع الشرائط الخاصة، فما لم يحرز الشروط لم يرتب الشارع الأثر
المطلوب وإن كان المنشي أنشأه باعتباره عن نفسه، فافهم.
قال الشيخ رحمه الله: إنما المهم بيان ما خرج أو قيل بخروجه (إلى أن قال:) وهي
أمور منها الامارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الكتاب
والسنة، وهي على قسمين، القسم الأول: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم (إلى أن
قال:) القسم الثاني: ما يعمل لتشخيص أوضاع الألفاظ... الخ.
واعلم أنه مما هو حجة عقلائية قد أمضاها الشارع ظواهر الألفاظ.
توضيحه: أن الانسان يحتاج - في إحراز رأي الغير أو عقيدته إما لكونهما
مطابقين للواقع أو هما حجة في حقه - إلى دال، وليس الدال غالبا إلا الكلام كما
247

هو واضح لا مرية فيه.
بل مقتضى التمدن كان كذلك من أول الامر بين جميع العقلاء بما هم عقلاء
ومنهم العبيد والموالي.
فالبحث يقع في حجية كلام كل متكلم يحتاج إليه في فهم مراده - وهو القسم
الثاني الذي ذكره الشيخ - الذي هو بمنزلة الصغرى للقسم الأول.
وحيث إن البحث في الكبرى أهم فلنقدمه فنقول:
أنه لا شبهة في كون هذه المسألة من مسائل الأصول، بناء على ما هو التحقيق
من كون موضوع علم الأصول هو الحجة في الفقه، فإن المدون الأول لعلم الأصول
- وهو الشافعي - جعل ذلك موضوعه، وكان بصورة تعيين ما هو حجة فيه، من غير
فرق بين الأدلة الأربعة وغيرها، فإن موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية.
والمراد بالعرض في التعريف العرض المنطقي الذي لا يأبى عن كونه ذاتيا،
لان العرض يطلق على ما هو متحد مع شئ آخر وجودا كما يقال: إن الجنس
عرض عام للفصل، والفصل عرض خاص للجنس وكلاهما عرضان للنوع.
وهذا بخلاف العرض عند الطبيعي، فإنه يطلق عنده على ما هو الموجود في
محل في مقابل الجوهر الذي هو موجود لا في محل، والمفروض أن المسائل
الأصولية متحدة وجودا مع مفهوم الحجة مغايرة مفهوما كما في سائر الموضوعات
مع محمولاتها.
إذا عرفت هذا فاعلم أن اللفظ الدال على معنى على قسمين: أحدهما كونه
موضوعا ليستعمل في ايجاد المعنى، ثانيهما وضع لأجل كونه حاكيا ومفهما.
والثاني على قسمين: قسم وضع لافهام المعنى التصوري كالألفاظ المفردة
مثل زيد وعمرو وبكر وأمثالها، وقسم وضع لافهام المعنى التصديقي كالقضايا
التصديقية.
248

وبعبارة أخرى: المعاني التصديقية هي المعاني الارتباطية التي هي النسب،
والمراد بالمعاني الارتباطية هو كون المعنى بحيث لا يكون له ما بحذاء لا في
الذهن ولا في الخارج، بل تدل أطراف القضية على نفس الارتباط الذي هو
بالحمل الشايع ارتباط، لا بالحمل الأولي الذاتي كالمعاني الحرفية، حيث إنها تدل
على المعاني التي لا يكون بحذائها شئ في الخارج، ولا في الذهن كما في قولك:
سرت من البصرة إلى الكوفة، بخلاف إيراد مفردات هذه الألفاظ بلا ارتباط مثل:
السير وأنا والبصرة والكوفة والابتداء والانتهاء.
فالمعنى الاسمي وإن كان له وجود ذهني إلا أن الارتباط غير مفهوم منه.
ومن قبيل ما وضع لحكاية المعنى التصوري أسماء المبهمات - كالموصولات
وأسماء الإشارة - بناء على ما هو التحقيق من كونها موضوعة للإشارة لا لمفهومها،
بل لحقيقتها. وبعبارة أخرى: لما هو بالحمل الشايع إشارة.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الألفاظ الموضوعة لافهام المعاني دلالتها على
المعنى تكون دلالة تصورية، ولا يحتاج إلى إرادة متكلم، بل لو كان وجودها
بتموج الهواء كانت دالة أيضا. وأما الألفاظ الموضوعة لافهام المعاني التصديقية
فيشترط كون ألفاظها المفردة موضوعة للمعنى التصوري ووجود الهيئة التي لها
دخل لدلالتها على المعنى التصديقي، فيحتاج إلى صدورها من انسان ذي غرض
وكان غرضه الافهام وهو عالم بدلالتها التصديقية وكان علمه مطابقا للواقع مريدا لها.
وما قرع سمعك من الشيخ الرئيس والمحقق الطوسي من كون الدلالة
تابعة للإرادة يراد به ما ذكرنا من كون المعنى التصديقي مرادا له.
وبه يدفع ما أورده المحقق الخراساني رحمه الله من كون مرادهما أن العلم بالدلالة موقوف على إحراز إرادة المتكلم.
فإنه (1) ليس كل لفظ له دلالة تصورية ودلالة تصديقية كي يجعل النزاع في

(1) بيان الدفع.
249

الثانية، بل دلالة الألفاظ على أنحاء (منها) ان لها دلالة تصورية لا غير، فتأمل.
والحاصل: أن المتكلم إذا تكلم بكلام موضوع للمعنى التصديقي فدلالته على
الموضوع له تابعة للإرادة.
وبعد الإحاطة على ما ذكرنا فاعلم أن ما يستفاد من المتكلم بكلام على
أنحاء.
(منها) الاعتقاديات، وهذا القسم مخصوص ومختص بما إذا صدر الكلام من
معصوم عليه السلام، فإن تمت المقدمات المذكورة بتمامها على نحو القطع حصل القطع
بها، وإلا يحصل الظن إن كانت إحدى المقدمات ظنية ولو كانت البقية قطعية، أو
حصل الوهم إن كانت إحداهما وهمية والباقية غيرها. وهذا القسم من الظواهر
الموجبة للظن، ليست بحجة.
(ومنها) ما ينشأ لاستفادة العمل منها، فإن كان المتكلم بحيث لا يجب على
المخاطب إطاعته عقلا وعرفا فحجيته وعدمها دائرة مدار ما هو المقصود
للمستفيد، كما في إخبار أهل الخبرة بالنسبة إلى الأمور الدنيوية.
وإن كان بحيث يجب العمل بقوله عقلا كالعبيد بالنسبة إلى المولى الحقيقي أو
عرفا كالعبيد العرفية بالنسبة إلى مواليهم.
فالظاهر - بل المقطوع - عدم الاشكال في حجية أمثال هذه الظواهر، لما
ذكرنا من كونها من الأمور العقلائية التي كانت قبل الشرع، كما هو الان كذلك بين
كل من يتشرع بشرع، وهذه هي أقدم الامارات وأظهرها وأعمها لاحتياج الناس
إلى إيصال مقاصدهم، وهو لا يحصل إلا بالألفاظ التي لها ظهور.
ومن المقاصد - بل المقصد الأعلى - وصول المكلفين إلى الكمالات النفسية
والعقلية، وهو متوقف على التكلم بالألفاظ غالبا، فلو لم تكن ظواهر ألفاظ المولى
الحقيقي حجة يلزم نقض الغرض، وتعطيل أكثر الوصولات إلى الكمالات لو لم
يكن كلها، ولا يحتاج إلى الاستدلال إلى أكثر من هذا.
250

وبالجملة، فعمدة الدليل على حجية الظواهر بناء العقلاء الراجع إلى حكم
العقل بذلك.
وقد يقرر (1) البناء لوجهين آخرين:
(الأول) أن بناءهم على العمل بالظواهر حيث لم يردع الشارع فيكشف عن
حجيتها، واستشكله المقرر بأنه لا يثبت وجوب العمل كما هو المدعى.
(الثاني) أن طريقتهم احتجاج بعضهم على بعض في موارد الاحتجاج بمعنى
حكمهم باستحقاق العبد العقوبة على تقدير مخالفة عمله للواقع، وهذا هو الحق.
وحيث يكون هذا النحو من الاستدلال عمدة ما يعتبر في المسائل الأصولية
التي هي عبارة عن الحجة في الفقه كما مر مرارا وعمدة الدليل على حجية خبر
الواحد الذي يثبت به عمدة المسائل الفقهية الفرعية.
فلا بد من شرح المراد من هذا البناء على نحو الاجمال فنقول:
التحقيق أن بناء العقلاء ليس حجيته باعتبار صيرورته واسطة في إثباتها
فيقال - مثلا -: هذا مما يبني عليه العقلاء، وكل ما يبني عليه العقلاء حجة ينتج أن
هذا حجة.
بل هو راجع إلى حكم العقل بذلك، بمعنى أن كل عاقل يحكم بأن اللفظ إذا
كان قالبا لمعنى، يجب ترتيب آثار ذلك المعنى حتى يثبت خلافه فيرجع إلى
دعوى كونها بديهية بنظره.
وبعبارة أوضح: العقل يحكم بقبح ترك العمل بظواهر الألفاظ معتذرا باحتمال
إرادة خلافها، وبحسنه ما لم يظهر خلافها، فيرجع إلى التقبيح والتحسين العقليين.
فحينئذ، فهل تكون هذه الحجية ذاتية له كالقطع بحيث لا يمكن منعه، فلو منع
يرى متناقضا أو تكون بعوارض خارجية؟ الحق هو الثاني.
والعوارض التي تتصور في كونها موجبة لها أمران:

(1) المقرر المحقق الخراساني رحمه الله.
251

(أحدهما) انسداد باب التفهيم والتفهم وايصال المقاصد، إلا أن يكون للمتكلم
طريق آخر غير ما هو المتعارف.
(ثانيهما) عدم الردع من الطريقة المعروفة عند العقلاء.
فحجية البناء ولو لم تكن ذاتية إلا أنها محفوفة بما يكون كالذاتي، فإن
المفروض أنه لا طريق إلى إيصال المقاصد التي لا بد منها ولو كانت أخروية غير
الألفاظ الظاهرة، فلو لم تكن حجة لزم اختلال النظام، فيحكم العقل حينئذ بلزوم
الحجية (1).
ثم إذا ثبت هذا فهنا خلافان: (أحدهما) ما يظهر من المحقق القمي رحمه الله، وهو
عدم حجية الظواهر بالنسبة إلى غير من قصد إفهامه.
وقد يوجه ما ذهب إليه المحقق القمي رحمه الله بأن منشأ القول بعدم حجية الظواهر
مطلقا لا بد أن يكون بأحد أمرين: إما غفلة المتكلم عن إتيان ما له دخل في فهم
المراد من قرينة مقالية متصلة أو منفصلة، وإما غفلة المخاطب عن فهم المراد
باحتمال غفلته عن سماع القرينة اللفظية أو وجود قرينة حالية، وحيث إن
المفروض لا طريق إلى احتمال غفلة المتكلم في الأحكام الشرعية وغفلة
المخاطب عن الامرين مظنونة العدم - ولو بضميمة أصالة عدم الغفلة - فيحصل الظن بالمراد ظنا نوعيا، بمعنى أن اللفظ يكون بحيث لو خلى وطبعه يفيد الظن
بالمراد نوعا وإن لم يفده في بعض الموارد.
وأصالة العدم إنما تجري في حق المقصود بالافهام، لامكان قيام القرينة في
حق غيره، فلا يجوز العمل بإطلاق الظواهر وعمومها وحقائقها إلا بعد إحراز عدم

(1) ما أفاده سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله العالي في تحقيق معنى بناء العقلاء وأن حجيته
كالذاتي إنما يفيد في خصوص حجية الظواهر المقطوع صدورها من المتكلم، وأما مثل
الخبر الواحد الذي هو عمدة ما تستفاد منه الاحكام فلا، لأنه لا يلزم في ترك العلم بظواهره
اختلال النظام كي يحكم العقل بلزوم اتباعه كما لا يخفى، فتأمل والله العالم.
252

ما يخالفها، والمفروض عدم إمكان الاحراز بأصالة الاطلاق والعموم والحقيقة في
حق غير من قصد إفهامه.
وفيه: (أولا) أن لازم ما ذكر القطع بالمراد في حق المقصودين بالافهام لا
الظن، فإن المفروض عدم غفلة المتكلم، وعدم غفلة السامع أيضا حين توجهه إلى
الخطاب بحسب اعتقاده، فيحصل له القطع بكون ظاهر اللفظ مرادا باعتقاده فتأمل.
(وثانيا) عدم كون الحجية مسببة عن حصول الظن بالمراد، كيف وقد يكون
السامع غافلا عن احتمال وجود القرينة، مع أنه يحمله على ظاهره في هذه
الصورة أيضا، فليس حجيتها عنده مستندة إلى أصالة عدم وجود القرينة، بل
الوجه في الحجية ما ذكرنا من انسداد التفهيم والتفهم وعدم ردع المتكلم السامع
عن العمل بظاهر كلامه.
(وثالثا) احتمال وجود القرينة مشترك بين المقصود بالافهام وغيره، ففي
القرينة المنفصلة لا فرق بينهما بعد استقرار الظهور، وفي المتصلة أيضا المفروض
استقرار الظهور بعد عدم وصولها إليه فلا فرق أيضا بينهما، فالتفصيل خلاف
التحقيق.
وقد يقال (1) بمنع الصغرى، فنحن أيضا مقصودون بالافهام، غاية الامر
بالواسطة بيانه، أن عبيد الله بن علي الحلبي الذي يروي عن المعصوم عليه السلام مثلا
مقصود بالافهام منه عليه السلام، وحماد بن عثمان الراوي عنه مقصود بالافهام أيضا من
عبيد الله، وابن أبي عمير الراوي عن حماد بن بن عثمان مقصود به من حماد، وإبراهيم
ابن هاشم الراوي عن ابن أبي عمير مقصود به من ابن أبي عمير، وعلي بن إبراهيم
الراوي عن إبراهيم مقصود به من إبراهيم، ومحمد بن يعقوب الكليني الراوي عن
علي بن إبراهيم مقصود به منه.
فلو كانت الرواية هكذا: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن إبراهيم بن

(1) منسوب إلى المحقق الميرزا حسين النائيني رحمه الله المتوفى سنة 1345 ه‍ ق.
253

هاشم عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي
عبد الله عليه السلام... الخ كان كل واحد منهم مقصودا بالافهام من الاخر، فينتهي إلى أن
يبينه الصادق عليه السلام للمقصود بالافهام لمحمد بن يعقوب، والمفروض أن محمد بن
يعقوب يروي لنا بلا واسطة.
وفيه: أن من راجع الروايات وكيفية نقلها يعرف أنها ليست على نحو ما ذكره،
فإن مقصود الرواة مجرد النقل لا إفهام المخاطبين.
مثلا قول الحلبي لحماد: قال الصادق عليه السلام كذا يريد به نقل قوله عليه السلام، وكذا
قول حماد لابن أي عمير قال الحلبي: قال الإمام عليه السلام كذا، وهكذا.
نعم قول الراوي: قال فلان يريد به افهامه ذلك القول، بل ربما كان المنقول إليه
أعرف بالكلام الملقى إليه من الناقل، كما يؤيد قوله عليه السلام: رب حامل فقه إلى من
هو أفقه (1).
ويؤيد (2) ما ذكرنا من كون المقصود من النقل ليس افهاما نقل بعض الرواة
القول عنه عليه السلام على نحو الترديد بلفظة مثل (أو) الكاشف عن ذلك، وأنه لا معنى
للأفهام الترديدي.
(ثانيهما) (3) ما يظهر من الطائفة المنتحلة إلى الامامية رضوان الله عليهم،
المعروفين بالأخبارية وهو عدم حجية ظواهر القرآن.
اعلم أن حجية ظواهر الكتاب كانت معروفة غير محتاج إلى الاستدلال، لأنه
كتاب نزل به الروح الأمين على قلبه صلى الله عليه وآله ليكون بشيرا ونذيرا للعالمين، ويكون
به هداية الناس والجنة أجمعين، وبه انقلب الجهل إلى العلم في جزيرة العرب

(1) أصول الكافي ج 1 ص 403 باب ما أمر النبي صلى الله عليه وآله بالنصيحة... الخ حديث 1.
(2) أضف إلى ذلك أن نقل الروايات قد يكون بإجازة بعض الرواة لبعض لنقل ما في الكتاب:
(المقرر).
(3) عطف على قوله مد ظله العالي: " أحدهما يظهر من المحقق القمي... الخ ".
254

بحيث صار موردا لتعجب العقلاء والمتمدنين والفصحاء المتكلمين فلا شبهة أنه
كتاب انزل لافهام المطالب الحقة لجميع الناس وإيصالهم إلى الكمالات اللائقة
بحالهم ولم يشك فيه أحد من الناس إلا شرذمة قليلة من الذين أشرنا إليهم في
صدر العنوان.
وعمدة ما وجه أو يوجه به قولهم ونظرهم أمور خمسة:
أحدها: كونه مشتملا على المضامين العالية التي لا تصل إليها إلا أفهام
الأوحدي من الناس.
وفيه: (أولا) أن الآيات الراجعة إلى الاحكام ليست كذلك، فإن كل عربي
يعرف أن قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
الآية (1) ما (2) أريد منها المضامين العالية المذكورة. وكذا قوله تعالى: (ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف (3).
(وثانيا) إظهار المتكلم ما في ضميره بعبارة لا يفهمها إلا الأوحدي يدل على
عجز المتكلم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(وثالثا) أنه قياس مع الفارق، فإن كلمات غير القرآن لم تصدر لهداية جميع
الناس وإرشادهم، بخلاف القرآن المجيد الذي نزله على قلبه ليكون من المنذرين
وأوحى إليه لينذر به جميع الانس بل الجن أيضا.
ثانيها: دعوى العلم بإرادة خلاف ظاهر جملة من ظواهره.
وفيه - بعد تسليم وجوده وكونه في آيات الاحكام -: منع بقائه بعد مراجعة
الأدلة، فإنه لم يحصل إلا بعد ملاحظة ما في الاخبار فينحل بعد عدم الظفر على
إرادة خلافه.
ثالثها: الروايات في ذم من فسر القرآن برأيه.

(1) النور: 2.
(2) نافية.
(3) النساء 22.
255

وفيه: أن الظاهر أن حمل الظاهر على ظاهره ليس تفسيرا فضلا عن كونه
تفسيرا بالرأي، وأكثر الاخبار الذامة ورد في ذم من خالف الثقل الأصغر الذي لم
يخالف الثقل الأكبر ولم يفرق بينهما حتى يردا على النبي صلى الله عليه وآله الحوض.
وقوله عليه السلام مخاطبا لأبي حنيفة - أنه ما ورثك من كتابه شيئا (1) يريد به العلم
الموروثي الذي ورث النبي صلى الله عليه وآله عليا ثم الحسن ثم الحسين عليهم السلام، وهكذا إلى
آخر الأئمة عليهم السلام، لا فهم ظاهره.
وبه يظهر الجواب عن الوجه الرابع لهم بأن القرآن لا يعرفه إلا من خوطب به.
خامسها: إن في القرآن متشابها، والمتشابه بمعنى مشتبه المعنى لا يجوز
التمسك به أما كون الآيات متشابهة بالفرض - بعد العلم بإرادة خلاف الظاهر
منها - فقد نهى الله تعالى عن العمل بها بقوله عز وجل: هن أم الكتاب وأخر
متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا الآية (2).
وفيه: عدم كون ظواهر الآيات من المتشابهات، فإن المراد منها هو ما لا
يكون له ظاهر، والمحكمات ماله ظاهر، فالآية الشريفة المذكورة إن لم تدل على
جواز العمل بالظواهر فلا دلالة لها على عدمه كما لا يخفى.
وربما يتوهم أن تحريف القرآن أو تصحيفه يمنع من التمسك به، واستدلوا به
بأمور لا تخلو عن إشكال.
وفيه: (أولا) الاتفاق على عدم وقوع الزيادة حتى من القائلين بالتحريف،
فإن ما بين الدفتين قرآن قطعا إجماعا.
(وثانيا) القول به في طرف النقيصة مخالف لنفس القرآن الناطق بقوله

(1) علل الشرائع ج 1 ص 84 قطعة من حديث 5 باب 81.
(2) آل عمران: 7.
256

عز وجل: انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (1) وحمل الذكر على إرادة
الرسول صلى الله عليه وآله، وإرجاع الضمير لله، خلاف المعهود من القرآن حيث لم يستعمل في
مورد أنه نزل رسولا، والحفظ عند الإمام عليه السلام مناف لتعبير الذكر، لأنه باعتبار أنه
سبب لتذكر الناس عبر به.
(وثالثا) أن الروايات التي دلت على وقوع التحريف قد اخذت من كتب لا
اعتماد عليها، فإن أكثرها مأخوذ من كتاب أحمد بن محمد بن السيار المعروف
بالسياري، وهو منسوب إلى فساد المذهب.
فعن النجاشي أنه ضعيف الحديث فاسد المذهب، ذكر ذلك الحسين بن عبيد
الله (2) مجفو الرواية كثير المراسيل انتهى.
وعن ابن الغضائري في رجاله: أحمد بن محمد بن سيار يكنى أبا عبد الله
القمي المعروف بالسياري ضعيف متهالك غال منحرف، استثنى شيوخ روايته من
كتاب نوادر الحكمة وحكى عن محمد بن علي بن محبوب في كتاب نوادر
المصنف أنه قال بالتناسخ. (انتهى).
وقريب مما حكي عن النجاشي ما حكي عن العلامة رحمه الله في الخلاصة، فلا
ريب في ضعفه.
وكثير من تلك الأخبار أي الدالة على التحريف عن فرات بن إبراهيم
الكوفي، وهو وإن لم ينسب إلى فساد المذهب بل في رجال المامقاني رحمه الله أنه كان
من مشايخ الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه، وقد أكثر الصدوق رحمه الله الرواية عنه (3)
لكنه لم يرد توثيق له من علماء الرجال بالنسبة إليه.
وعدة منها عن تفسير العياشي رحمه الله، وهو وإن كان من الامامية وكان ثقة لكن

(1) الحجر: 9.
(2) كلام ابتدائي لا تتمة لكلام الحسين بن عبيد الله الغضائري فلا تغفل.
(3) تنقيح المقال: ج 2 ص 3.
257

أكثر الروايات المنقولة في تفسيره مرسلة فلا اعتبار بها.
وعدة منها لا ربط لها بالمقام، بل راجعة إلى كيفية اختلاف القراءات.
وعدة منها مقطوع كذبها، ولعلنا نتكلم فيما بعد أكثر من هذا إن شاء الله تعالى،
وحيث إن الأهم تقديم ما هو له دخل في استنباط الأحكام الشرعية فاللازم
مراعاته.
إذا عرفت هذا فلنقدم الكلام في حجية الخبر الواحد ثم الاجماع ثم الشهرة
إن شاء الله تعالى.
فنقول بعون الله تعالى: الخبر ما له واقع قد يطابقه وقد لا يطابقه، بمعنى أنه في
حد ذاته كذلك ولو كان معلوم الكذب أو الصدق.
وقد قسم إلى متواتر وواحد، والأول ما يكون عدد المخبرين فيه قد بلغ إلى
حد يمتنع عقلا أو عادة تواطئهم على الكذب، وذلك موجب للقطع بالحكم بالنسبة
إلى المتعارف من الناس لو لم تكن أذهانهم مسبوقة على خلاف ما يفهم منها كما
نبه عليه علم الهدى السيد المرتضى رضي الله عنه.
وهو إما تواتر تفصيلي وإما إجمالي، والأول إما أن يكون المخبر به فيه قولا
أم لا، وعلى تقدير كونه قولا إما أن يكون المقصود بالذات نقل الألفاظ دون
المعنى، أو بالعكس أو كلاهما.
فالأول يسمى بالتواتر اللفظي، والثاني بالمعنوي، والثالث يتصف بكليهما
باعتبارين.
وعلى تقدير عدم كونه قولا يسمى إجماليا، ويسمى المعنوي أيضا إجماليا
وبالعكس، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا إشكال فيه بجميع أقسامه ولا نزاع.
وإنما الخلاف في الخبر الواحد، فعن السيد المرتضى وأتباعه إنكار حجيته
وادعى عليه إجماع الصحابة، وعن الشيخ أبي جعفر الطوسي وأتباعه حجيته
وادعى هو أيضا إجماع الصحابة، والمشهور بين العامة أيضا حجيته وينسبون عدم
258

الحجية إلى غير المحصلين منهم كالغلاة ونحوهم.
وكيف كان، فقد استدل للأول بوجوه:
(الأول) الآيات الناهية عن اتباع الظن وما ليس لنا به علم.
وفيه: أنه بعد وجود الدليل القاطع على حجية الخبر الواحد يخرج العمل به
عن كونه عملا بالظن ومتابعة له، بل هو متابعة القطع، فأدلة حجية الخبر مع هذا
الفرض واردة على الآيات - الناهية، بمعنى أن العمل به - وإن كان قبل ورود
الدليل القاطع من مصاديق اتباع الظن إلا أنه بعد ورود الدليل يخرج عن ذلك.
والمناط في كون الدليل واردا هو ذلك مثل قوله عليه السلام: (رفع... وما لا
يعلمون) (1) مثلا عام لكل ما لا يعلمه، فإذا ورد دليل قاطع على وجوب الدعاء
عند رؤية الهلال يقال: إن هذا وارد على قوله عليه السلام: (رفع... وما لا يعلمون) ولا
يكون ذلك تخصصا كما توهم ولا تخصيصا كما لا يخفى بعد التأمل.
(الثاني) الأخبار الدالة على أن ما لم تعرفوا أنه قولنا فليس منا (2) أو أنه
زخرف (3)، أو فاضربوه على الجدار (4)، أو على طرح ما خالف الكتاب (5) أو ما لم
يوافق الكتاب (6)، أو اعرضوها على كتاب الله، فإن كان فيه شاهد أو شاهدين
عليها فخذوها وإلا فلا (7).
وقد ذكرنا الاخبار مسندة في أواخر بحث العموم والخصوص في مسألة

(1) الوسائل: باب 37 من أبواب قواطع الصلاة ج 4 ص 1284 ح 2.
(2) الوسائل: ج 18 ص 83 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 25.
(3) الوسائل: ج 18 ص 78 - 79 باب 1 من أبواب صفات القاضي ح 12 و 14.
(4) مقدمة تفسير مجمع البيان: (الفن الثالث) وفيه: (فاضربوا به عرض الحائط).
(5) الوسائل: ج 18 ص 75 - 86 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 و 10 و 15 و 16 و 19
و 29 و 35.
(6) الوسائل: ج 18 ص 75 - 89 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 12 و 14 و 15 و 19 و 21
و 29 و 35 و 47. (7) الوسائل ج 18 ص 80 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 18.
259

جواز تخصيص الكتاب العزيز بالخبر الواحد، وذكرنا المراد منها فراجع.
وبالجملة، العمدة التعرض لدليل حجية الخبر وإلا فنفس عدم الدليل يكفي في
عدم جواز العمل، كما بيناه سابقا عند ذكر تأسيس الأصل.
لا يقال: إن أخبار العرض على الكتاب إما أن تدل على حجية الخبر أو لا.
وبعبارة أخرى: إما أن نقول بحجية الخبر أو لا، وعلى الثاني يثبت المطلوب،
وعلى الأول يدل أخبار العرض على الكتاب على عدمها.
فإنه يقال - بعد فرض وجود الدليل القاطع -: لا بد من حملها على معنى غير
ذلك أو طرحها، وإلا يلزم طرح القطعي بالظني كما لا يخفى.
(الثالث) الاجماع المنقول عن السيد المرتضى رحمه الله بأن أخبار الآحاد لا
يوجب علما ولا عملا، وسيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر أدلة حجيته، وكيفيته
الجمع بينه وبين الاجماع الذي ادعاه الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن
الطوسي رحمه الله على الحجية.
واستدل للثاني - أعني الحجية - بالأدلة الثلاثة أيضا:
(الأول): الآيات (منها) آية النبأ في سورة الحجرات: يا أيها الذين آمنوا إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين (1).
فإنها علقت وجوب التبين على كون الجائي به فاسقا فينتفي الوجوب عند
عدم مجئ الفاسق بالنبأ.
وفيه: عدم وجود مفهوم الشرط هنا، بل المفهوم هو السالبة بانتفاء الموضوع،
فالقضية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.
والحاصل: أنه - بعد حمل وجوب التبين على الوجوب المقدمي - يصير
المعنى: إذا أردتم العمل وترتيب الأثر على خبر الفاسق فلا تعملوا به قبل التبين،

(1) الحجرات: 6.
260

فيصير موضوع القضية خبر الفاسق ومحمولها عدم جواز العمل قبل التبين، فلا
تعليق هنا كي يدل على انتفاء الحكم عند انتفائه.
نعم، يمكن أن يقال: إن اقتران الخبر بكون الجائي فاسقا قيد زائد على
الموضوع والمحمول، فيدل على كون هذا القيد دخيلا في هذا الحكم بمعنى أن
النبأ بما هو نبأ ليس تمام الموضوع لوجوب التبين، بل هو مع قيد آخر بضميمة ما
قد بيناه في بحث المفهوم والمنطوق أن كل قيد اخذ زائدا على موضوع القضية
ومحمولها فله دخل في تحقق ذلك الحكم، أما لدلالته على عدمه عند عدمه حتى
يعارض الدليل الدال على خلاف هذا فلا (1)، فافهم.
واعلم أنا قد بينا سابقا في بحث المفهوم أن دلالة القيود على أصل الكلام
على دخالتها في الحكم ليس بدلالة المطابقة أو المتضمن أو الالتزام، وإلا يلزم
كونها منطوقية لا مفهومية وقد قلنا إنها نحو من الدلالة التكلم - بما هو
فعل من الافعال - فكما أن أصل الكلام إذا صدر يحمل على أنه كان لغرض فكذا
فيوده، والغرض لابد أن يكون هناك الافادة، والافادة المتصورة هناك هي كونها
دخيلا في تحقيق الحكم.
ولا فرق بين الشرط والغاية وغيرها من القيود الزائدة على أصل الكلام.
وحيث إن المتقدمين من الأصوليين لم يفوقوا بينهما استدلوا بهذه الآية (آية

(1) أقول: يمكن أن يقال: إن مفهوم قوله تعالى: إن جاءكم فاسق... الخ أنه إن لم يجئكم
فاسق فلا يجب التبين، ولعدم مجئ الفاسق فردان: (أحدهما) أن لا يكون هناك خبر أصلا
(ثانيهما) أن يكون الجائي به عادلا فيصدق أيضا أنه لم يجئ به الفاسق نظير إن رزقت ولدا
ذكرا فاختنه، فلمفهومه مصداقان (أحدهما) عدم وجود الولد أصلا (ثانيهما) كون الولد أنثى
فيصدق أنه لم يرزق ولدا ذكرا، هذا ولكن الحق ما أفاده الأستاذ مد ظله العالي، وهو عدم
وجود المفهوم فإن حيثية العدالة والفسق وصفان للمخبر، فحيث قد قيد وجوب التبين
بأحدهما فيدل على أن لهذه الصفة دخلا للحكم ولا ربط له بالتعليق أصلا، حتى أنه لو لم
يعلق لكان له هذا المعنى، والله العالم. (المقرر).
261

النبأ) على حجية خبر الواحد من غير تفصيل بين كونه لأجل مفهوم الشرط أو
الصفة.
وحيث إن المتأخرين فرقوا بينهما بالحجية في الشرط - من حيث دلالتها
على العلية التامة وعدمها في غيره من حيث عدم دلالتهما على العلية التامة -
استشكلوا بأنه إن كان الاستدلال بمفهوم الشرط فلا مفهوم له، وإن كان بمفهوم
الصفة فهو غير حجة.
وقد استشكل الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله في عدة الأصول على الاستدلال
بما حاصله: أن التعليل بقوله تعالى: أن تصيبوا قوما بجهالة... الخ مانع عن
ظهور القيد في الدخالة، بل ظاهره كونه دخيلا، بل المناط هو الجهالة حين ترتيب
الأثر على خبر المخبر، فكل موضع لا يكون له العلم بصدق المخبر به يجب عليه
التبين بمقتضى عموم العلة، سواء كان المخبر عادلا أم فاسقا.
وقد أجيب عنه بوجوه:
(الأول) كون المفهوم أخص مطلقا من المفهوم فيخصص.
وفيه: (أولا) عدم ملاحظة العموم والخصوص في العلة والمعلول.
(وثانيا) - بعد فرض دلالة هذه العلة على عدم الفرق - فلا ظهور لهذا
الخصوص على المدعى.
(الثاني) حمل الجهالة على السفاهة، فيدل على أن العمل الغير العقلائي
موجب لإصابة القوم فيوجب الندم، والمفروض أن الاقدام على ترتيب الأثر على
قول العادل ليس عملا غير عقلائي.
وفيه: أن اشتراك الجهالة في مقام الاستعمال بين عدم العلم والسفاهة
يوجب عدم ظهور الآية في حجية قول العادل مع أن ظاهر الجهالة هو عدم العلم
لا السفاهة.
(الثالث) أن التعليل بقوله تعالى: فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ظاهر في
262

أن الفعل الموجب للندامة محظور، والعمل بقول العادل لا يوجب الندامة بعد ظهور
صدر الآية في الحجية.
وفيه: أنه إن كان المراد من الندامة الندامة الأخروية فالتعليل بها وإن لم يدل
على عدم حجية قول العادل مع قطع النظر عن التعليل بقوله تعالى: أن تصيبوا
قوما... الخ إلا أن الظاهر أن الوقوع في الندم معلول لإصابته القوم بجهالة.
والحاصل: أن قوله تعالى: أن تصيبوا قوما بجهالة علة لامرين: أحدهما
حرمة العمل بخبر الفاسق قبل التبين، ثانيهما الوقوع في الندم، غاية الامر أن
الوقوع في الندم أثر العمل بخبر الفاسق قبله.
(الرابع) أن صدر الآية - بعد فرض ظهورها في الحجية - حاكم على التعليل
المستفاد من ذيلها، بمعنى أنه يجعله بمنزلة العلم، فكما إذا كان هناك دليل منفصل
دال على حجية قول العادل لا يكون العامل به جاهلا والعمل به جهالة، فكذا إذا
كان منفصلا فيكون الصدر كالمفسر للذيل.
وفيه: أن الكلام في أن صدر الآية هل له ظهور في حجية خبر الواحد العادل
مع عموم التعليل، والمستشكل يدعي عدم الظهور معه كما هو الحق في مسألة
انعقاد الظهور، فإن الكلام ما دام متصلا لم ينقطع، لم ينعقد له ظهور.
مضافا إلى أنه مع تسليم الظهور فلا يكون له لسان الحكومة ليكون ناظرا إليه
وحاكما عليه.
(الخامس) أن الصدر مقتض لحجية خبر العادل، والذيل لا يصلح للمانعية
فيثبت المطلوب.
وفيه: (أولا) أن صلاحية الذيل لان يكون مانعا كاف لان يكون مانعا لانعقاد
الظهور، ولا يحتاج إلى إحراز أنه مانع.
(وثانيا) أنه إن كان المراد من الاقتضاء في مرتبة الثبوت فلا يكفي لدلالته
على حجية قول العادل، وإن كان في مقام الاثبات فهو مانع في هذا المقام.
263

(السادس) أن تعليل الحكم بعلة مشتركة بينه وبين غيره قبيح بنظر العرف، فلا
بد إما من رفع اليد عن القيد، والمفروض دخالته في هذا الحكم ظاهرا.
وإما حمل التبين على التبين الاطمئناني الذي يسكن عند الاضطراب
الحاصل من قول الفاسق، وادعاء حصول هذا المقدار من الاطمئنان بخبر العادل
باعتبار أن احتمال غفلته مدفوع بأصالة عدمه الذي عليه إطباق العقلاء عملا،
واحتمال تعمده في الكذب مدفوع بفرض وجود الملكة، ودعوى حصول الفسق
وذهاب الملكة بنفس هذا الاخبار ضعيفة فيحصل الاطمئنان بعد التأمل.
ولا يبعد صحة هذا الحمل، فتأمل.
وربما يقال: إن أدلة حجية خبر الواحد مطلقا - أي دليل كان سواء كان مفهوم
آية النبأ أو غيره - لا تنهض لاثبات حجية الاخبار مع الواسطة - مثل أن يقول
الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله مثلا: أخبرني المفيد رحمه الله قال: أخبرني الصدوق رحمه الله قال:
وكذا - لانصراف الأدلة إلى غير هذه الصورة.
وفيه: أنه إن كان المراد بانصراف الأدلة إلى الاخبار بلا واسطة ففيه منع
الانصراف أولا، ومنع كون الاخبار مع الواسطة إخبارا بلا واسطة.
فإن كل خبر - بعد فرض ثبوته بواسطة إخبار من تقدمه - خبر بلا واسطة
بالنسبة إلى المنقول إليه.
وإن كان المراد لزوم توقف تحقق إخبار المفيد رحمه الله في المثال على تصديق
الشيخ رحمه الله فيما أخبره، والمفروض أن ما أخبره هو اخبار المفيد رحمه الله، وهو لا
يتحقق إلا بتصديق الشيخ رحمه الله، فيلزم توقف الموضوع - الذي هو إخبار المفيد -
على الحكم الذي هو وجوب التصديق المتوقف على تحقق الموضوع في المرتبة
المتقدمة، وهو دور.
264

ففيه: منع بطلانه إذا توقف تحقق موضوع (1) على ثبوت الحكم لموضوع
آخر (2).
مضافا إلى أن الدور توقف وجود الاخبار الواقعي على الحكم المتوقف عليه
لا وجوده العلمي كما في المقام.
وإن كان المراد أنه لا وجه لتصديق الاخبار الأول كإخبار الشيخ رحمه الله، لعدم
أثر شرعي في تصديقه، وثبوت إخبار المفيد رحمه الله بتصديقه ليس من الآثار
الشرعية، ولا أثر له أيضا إلا وجوب التصديق الذي لا يترتب عليه إلا بعد وجوب
تصديق الشيخ رحمه الله، فوجوب تصديق الشيخ متوقف على إحراز إخبار المفيد رحمه الله
الموقوف على كونه ذا أثر شرعي، والمفروض أن إخبار المفيد ليس بأثر شرعي
ولا ذي أثر شرعي.
ففيه: أنه يكفي في الأثر وجوب التصديق المترتب على إخبار المفيد رحمه الله
المتحقق بتصديق الشيخ رحمه الله.
إن قلت: فحينئذ يلزم الدور. بيانه: أن وجوب التصديق متوقف على وجود
أثر شرعي فيما أخبره، وهو وإن كان هو وجوب التصديق بعينه إلا أنه لا يترتب
إلا بعد إحراز موضوعه وهو إخبار المفيد رحمه الله وإحراز موضوعه يتوقف على
وجوب تصديق الشيخ رحمه الله.
فوجوب تصديق الشيخ رحمه الله يتوقف على وجوب تصديق المفيد رحمه الله المتوقف
على إحراز موضوعه، المتوقف على تصديق الشيخ رحمه الله، وهو دور محال.
قلت: كما أن الحكم الواقعي مقدم على الظاهري كذا الامارة القائمة على
الحكم الواقعي مقدمة رتبة على القائمة على الظاهري.
وكما أن موضوع الحكم الواقعي مقدم على موضوع الحكم الظاهري، كذا

(1) كإخبار المفيد رحمه الله في المثال.
(2) كإخبار الشيخ رحمه الله.
265

الامارة القائمة على موضوع الحكم الواقعي مقدمة على موضوع الحكم الظاهري.
وحينئذ قول العسكري عليه السلام حكم واقعي، وإخبار الصفار بذلك أمارة قائمة
على هذا الحكم الواقعي فتكون متأخرة، وإخبار ابن الوليد مثلا أمارة على هذه
الامارة فتكون متأخرة عنه، وإخبار الصدوق رحمه الله أمارة عليه واخبار الشيخ رحمه الله
أمارة عليه، فوجوب تصديق الشيخ رحمه الله متوقف على وجود إخبار المفيد رحمه الله
واقعا، ووجود اخبار المفيد رحمه الله واقعا غير موقوف على وجوب تصديق
الشيخ رحمه الله، بل إحراز وجوده موقوف عليه فارتفع الدور.
وربما أورد أيضا على الاستدلال بآية النبأ بعدم المفهوم لها من جهة خروج
موردها وهو إخبار الوليد عن ارتداد جمع من المسلمين.
وأجاب الشيخ رحمه الله المحقق الأنصاري أعلى الله مقامه بما حاصله: أن المورد
إما أن يكون خصوص إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، وإما أن يكون الاخبار
بمطلق الارتداد.
فعلى الأول: يكون المورد داخلا في المنطوق لا المفهوم، وما هو خارج عنه
لا يكون موردا، أما المورد فغير خارج، والخارج غير المورد.
وعلى الثاني: لا يلزم الخروج غاية الامر يقيد حجية قول المخبر بضميمة
إخبار العدل الاخر، فلا يكون من موارد خروج المورد.
ويرد على الأول أنه ليس هناك لفظ عام كي يكون مقيدا، بل المناط في
حجيته هو خصوصية في اللفظ - أعني التكلم الذي هو فعل من أفعال المتكلم -
فالمفهوم مرتبط بالمفهوم وليس له لفظ مستقل قابل للتقييد، فتأمل.
ويرد على الثاني بأن مقتضى المفهوم صدق النبأ على البينة، وكون حجيتها
مركبة من حجتين.
أقول: ليس كذلك، فإن ما هو الحجة في البينة هو مجموع الخبرين، وهو ليس
مصداقا للنبأ، بل المصداق هو كل واحد واحد منهما، فما هو مصداق فيها ليس
266

بحجة، وما هو حجة ليس مصداقا للنبأ، فافهم.
(الآية الثانية) التي استدل بها على حجية الخبر الواحد آية النفر وهي في
أواخر سورة التوبة وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (1).
والظاهر أن المراد من قوله: (ما كان) هو النفي لا النهي بقرينة كون المنفي هو
المعنى المصدري - أعني النفر - نعم، فيما إذا كان المنفي هو اسم الذات تكون كلمة
(ما) للنهي.
مثل قوله تعالى قبل هذه الآية بآية: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من
الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه الآية (2).
وقوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم (3).
والظاهر أن المراد من النفر هو النفر إلى التفقه لا الجهاد، ومجرد وقوع الآية
في سورة ذكر في أكثر آيها التحريض على الجهاد لا يوجب صرفها عن ظاهرها، فإن ادعاء اتحاد السياق فيها بل في مطلق القرآن المجيد ممنوع، فإن فيها، آيات
غير مرتبطة بالجهاد مثل قوله تعالى: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن
موعدة وعدها إياه (4).
وقوله عز وجل: (إن الله له ملك السماوات) الآية (5).
وقوله عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (6).
وقوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) (7).

(1) التوبة: 122. (2) التوبة: 120.
(3) الأحزاب: 36 (4) التوبة: 114.
(5) التوبة: 116 (6) التوبة: 119.
(7) التوبة: 18
267

وغيرها من الآيات الواقعة في هذه السورة المباركة.
واللام في (لينفروا) لتأكيد النفي.
والفرقة قد فسرت بالقبيلة، ووجه تسميتها بالفرقة لعله باعتبار كونهم يعيشون
مفردا عن القبيلة الأخرى، وكان لهم استقلال في معيشتهم بالنسبة إلى الفرقة
الأخرى.
والمراد بالطائفة البعض، ومن التفقه تعلم أحكام الدين، ومن الانذار إبلاغها،
ومن الحذر العمل بمقتضى الابلاغ.
ولا يعتبر في تحقق الانذار الخوف كما يتراءى من كلام الشيخ
الأنصاري قدس سره. والنكتة في التعبير عن الابلاغ بالانذار لعلها هو تضمن ما بلغه على
ترتب العقوبة على مخالفته، وكذا العمل على مقتضى الابلاغ سمي حذرا لكشفه
عن حصول الخوف للعامل، وهذا من فصاحة الكلام.
والظاهر أن نفي الوجوب على كل واحد لوجود المانع، وهو اختلال النظام،
لا لعدم المقتضى كما لا يخفى، فالمعنى - والله العالم - أن مصلحة نشر الاحكام
الدينية وتعلمها وتعليمهما تقتضي نفر الجميع، لكن لزوم الاختلال مانع عن تأثير
هذا المقتضى.
وحيث كان عدم وجوب نفر الجميع لمانع فلم لا ينفر البعض ليتوصل به إلى
فائدتين عظيمتين:
(إحداهما) صيرورة النافرين فقهاء بتكلف ومشقة كي يرتبوا على فقاهتهم
آثارها من تهذيب الأخلاق وتنظيم الأمور الدنيوية والأخروية. (ثانيتهما) إبلاغ
النافرين للمتخلفين ما تفقهوا لأجل رجاء عمل المتخلفين بما أنذروا فيفوزوا.
والتعبير ب‍ (لعل) لما هو 2 كالجبلي للانسان من عدم اتعاظه تارة وقبول
النصيحة أخرى، وحيث لم يكن الثاني مقطوعا كي يقول (فهم يحذرون) فإنذار
النافرين المتفقهين نظير إنذار الأنبياء عليهم السلام، فهو يفيد تارة ولا يفيد أخرى.
268

فلا حاجة إلى تجشم دعوى أن لفظة (لعل) منسلخة عن المعنى الحقيقي
وأريد منها المعنى المجازي، أو أن مدخول (لعل) محبوب قطعا فيدل على
محبوبية الحذر وغير ذلك من المحامل، كما لا يخفى.
نعم، هنا أمران آخران لا بد من بيانهما:
الأول: هل الآية الشريفة دالة على لزوم العمل بقول المنذرين وإخبارهم
مطلقا ولو لم يفد علما أم لا؟
وجهان: من عدم تقييد متعلق الوجوب الكفائي وهو (طائفة) بكونهم عددا
يفيد قولهم العلم عادة. ومن أن الغرض الأصلي من الترغيب إلى النفر هو نشر
الاحكام الدينية بين الناس وانتشارها وصيرورتهم عالمين كما ينبه عليه (ليتفقهوا
في الدين) فالغرض هو التفقه في الدين وإبلاغ المتفقه وحذر المنذرين - بالفتح -
ما بلغه، فلا إطلاق في الآية حينئذ.
لكن الأول أوجه، فإن تعليق وجوب الحذر على المنذرين - بالفتح - على
حصول العلم بالأحكام بإخبارهم موجب لأحد محذورين - على سبيل منع
الخلو -: إما نقض الغرض وإما حمل الآية على خلاف ما هو المتعارف، لانهم إذا
أنذروا لم يحصل لهم العلم، فإما يجب عليهم النفر كي يحصل لهم العلم بصدقه
والمفروض لزوم الاختلال المانع عن وجوب النفر على جميعهم، وإما أن يجب
من الأول نفر جماعة يوجب قولهم العلم للباقين وهو خلاف إطلاق متعلق
الوجوب الكفائي، فإن (طائفة) تطلق على الجماعة وعلى الواحد. نعم، لا إشكال
في لزوم حصول الاطمئنان بقولهم وهو كاف.
الثاني: هل يشمل قوله تعالى: (ليتفقهوا في الدين... الخ) الناقلين للحديث
بعنوان التحديث لا بعنوان التفقه أم لا؟ فنقول:
إن تحمل الحديث على أنحاء:
(الأول) تحمل الألفاظ فقط من دون اعتقاد بحجية قول المتكلم، بل يعتقده
269

كأحد من المجتهدين، كما لو تحمل غير امامي حديثا من الإمام عليه السلام.
(الثاني) تحمل الألفاظ مع اعتقاد إمامته وحجية قوله، ولكنه لا يفهم معنى
اللفظ كما لو سمع الأعجمي من الإمام عليه السلام حديثا بلفظ عربي فتحمله بعين ألفاظه
من دون أن يعرف معناه.
(الثالث) تحمله للمعنى دون اللفظ مع اعتقاده إمامته ومعرفته للمعنى.
(الرابع) تحمله لهما معا.
لا شبهة في عدم صدق التفقه على الأولين، وعلى تقدير الصدق فلا يصدق أنه
متفقه في الدين، فإن المفروض عدم اعتقاد الأول أن ما تحمله هو من الدين،
والثاني لم يفهمه، والمفروض أن معنى التفقه هو التفهم.
والأخيران وإن كان يصدق عليهما التفقه لكن من حيث تحملهما المعنى دون
اللفظ فإخبارهما حجة لمن يعتقد أن فهمهما حجة بالنسبة إليه كالمقلدين بالنسبة
إلى المجتهدين.
فالمحدث بما هو محدث ليس بمتفقه، فدلالة الآية الشريفة على حجيته قول
المجتهدين بالنسبة إلى المقلدين أظهر.
وأما التمسك لعدم حجية قول المحدث من حيث هو بقوله تعالى: (لينذروا
قومهم) بأن الانذار هو التخويف، والمحدث نظره في التحديث هو مجرد نقل
الحديث لا الانذار، بل هو شغل الواعظ بالنسبة إلى المتعظ والمرشد بالنسبة إلى
المسترشد، فليس بجيد، لان المراد بالانذار هو إبلاغ الاحكام، كما أن المراد من
الحذر هو العمل بتلك الاحكام.
والتعبير بالانذار باعتبار اشتمال الاحكام على الوعيد بمخالفتها وبالحذر
باعتبار دلالته عليه كما أشرنا إليه، فالمحدث إذا أخبر بحكم يصدق عليه أنه منذر
بهذا المعنى فعدم شمول الآية للمحدث لا لعدم صدق المنذر بل لعدم صدق
المتفقه.
270

أقول: لا يخفى عليك أن القسمين الأولين من الأقسام الأربعة كما لا يصدق
عليهما المفقه كذلك لا يصدق عليهما المنذر بمعنى المبلغ أيضا، فإن من لم يعتقد
حجية كلام الإمام عليه السلام فلا يعتقد أنه حكم فلا يصدق أنه بلغ الحكم. وكذا من لم
يعرف المعنى من اللفظ إذا نقل ما سمعه لا يصدق أنه بلغ الحكم، فلا إشكال في
التمسك المذكور.
وكيف كان، فالآية لا تشمل الخبر بما هو خبر كما لا يخفى. نعم، لا إشكال في
دلالتها على وجوب العمل بقول الفقيه المجتهد.
لا يقال: إن الآية مطلقة فلا يشترط فيها الاجتهاد.
فإنه يقال: لا نسلم صدق المتفقه على من علم حديثا واحدا وإن كان قد عرف
معناه، والاجتهاد وإن لم يكن في الصدر الأول معروفا بهذا المعنى الفعلي، لكن كان
في ذلك الزمان أيضا فقهاء.
نعم، الاجتهاد إذ ذاك كان أسهل فيه منه في أمثال هذه الأزمنة باعتبار عدم
الحاجة إلى معرفة الرجال، ومعرفة الأقوال خصوصا أقوال العامة، ومعرفته أكثر
المسائل الأصولية، كيف وقد كان في زمن الأئمة عليهم السلام فقهاء أجلة مثل زرارة
ومحمد بن مسلم وبريد وأبي بصير وأبان بن تغلب وغيرهم. وكان بعضهم عليهم السلام
يأذن بل يوجب على أمثالهم أن يجلس مجلس القضاء أو الافتاء.
وكيف كان، فالقدر المتيقن منها وجوب العمل على طبق قول الفقيه.
ولا يخفى أن الوجوب يستفاد من جعل نفس الحذر غاية لوجوب الانذار
المستفاد من (لولا) التحضيضية أو التوبيخية، لا من جعل وجوب الحذر غاية له،
ولا من انسلاخ معنى (لعل) عن معناها الأصلي كما قيل.
فإنه يرد على الأول - جعل وجوب الحذر غاية له - أنه إن كان المراد من
الوجوب الوجوب الظاهري ففيه عدم انحصار فائدة وجوب الانذار في ذلك، بل
نفس تحقق الحذر يكفي في كونه فائدة لذلك.
271

وإن كان المراد من وجوب الحذر - الذي جعل غاية لوجوب الانذار بحسب
الفرض - الوجوب الواقعي بمعنى وجوب التحذر عن الاحكام الواقعية ففيه أنه
لا يعقل جعل وجوب الاحكام الواقعية الثابتة للموضوعات غاية لوجوب الانذار
المقدمي الناشئ من قبل تلك الأحكام، فإن وجوب الانذار تبعي ووجوب
الاحكام الواقعية ذاتي.
وأما توهم أنه لو لم يجب الحذر لزم لغوية وجوب الانذار نظير حرمة كتمان
النساء لما في أرحامهن مستلزمة لوجوب القبول وإلا لزم اللغوية فمدفوع بأنه
يكفي في عدم لزوم اللغوية تحقق الحذر، والقياس مع الفارق، فإن الفائدة في آية
حرمة الكتمان لم تذكر، بخلاف المقام فإنها قد ذكرت بقوله تعالى: (لعلهم
يحذرون).
ويرد على الثاني - انسلاخ معنى (لعل) - أنه لا ضرورة هناك موجبة لانسلاخ
(لعل) عن معناها الحقيقي، وقد مر بيان نكتة التعبير عن هذه الفائدة المطلوبة
الأكيدة بقوله تعالى: (لعلهم... الخ) فراجع.
وقد استدل أيضا بآيات اخر على حجية خبر الواحد مثل آية كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى (1)، وآية السؤال عن أهل الذكر (2) الملازم لوجوب القبول
الدال عليه في غير مورده بعدم الفصل، وآية الاذن (3) بضميمة ما ورد من نهي
الإمام عليه السلام لابنه إسماعيل من إعطاء المال لمن قال الناس في حقه إنه يشرب
الخمر وفيها (فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم) (4) ولا دلالة في شئ منها على

(1) (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك
يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) البقرة: 159.
(2) (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل: 43، الأنبياء: 7.
(3) ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن
للمؤمنين) التوبة: 61.
(4) الوسائل: ج 13 ص 230 باب 6 من أبواب أحكام الودية ح 1.
272

المدعى.
فإن الأولى لا تدل إلا على وجوب اظهار ما أنزل الله تعالى من البينات، لا
على وجوب قبول كل ما ادعي أنه من الكتاب.
والثانية لا تدل إلا على وجوب سؤال أهل الذكر، الغير الصادق على المحدث
بما هو.
والثالثة لو لم تدل على عدم الحجية لا تدل عليها، فإنها دالة على أن من
الصفات الحميدة للنبي صلى الله عليه وآله عدم إظهار إنكار إخبار المخبرين بحيث يعلم أنه لم
يقبله، بل كان صلى الله عليه وآله بمقتضى كونه رحمة للمؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: قل
اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم الآية (5).
يتراءى منه عليه السلام أنه قد قبل كلامه ولكن لم يرتب الأثر، فتأمل.
(الثاني) من الأدلة الدالة على حجية أخبار الآحاد الأخبار المتواترة على
اختلافها بحيث يقطع بصدور بعضها عن الإمام عليه السلام، وهي على طوائف سبعة:
ذكر أربعة طوائف منها في رسالة الشيخ الأنصاري، وأضفنا إليها ثلاث طوائف، ولنشر إلى فذلكتها، وقد أفردنا الاخبار مفصلة في موضع آخر.
(الأولى) الأخبار الدالة على الرجوع إلى المرجحات عند التعارض (2).
وفيه: أنه إن كان المراد بالاستدلال بهذه الطائفة أن حيثية التعارض بما هي
تدل على حجية الخبر الغير المعلوم الصدور فممنوع لامكان التعارض في
المقطوع أيضا دلالة أو صدورا، وإن كان التمسك من جهة إطلاق قوله عليه السلام: (إذا
جاءكم خبران متعارضان... الخ) (3) حيث يشمل المقطوع الصدور وغير المقطوع
فممنوع أيضا لكونه واردا في مقام بيان المرجحات، فيمكن الارجاع إليها في

(1) التوبة: 61.
(2) راجع الوسائل: ج 18 ص 75 - 89 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1 و 11 و 21 و 29
و 31 و 34 و 39 و 40 و 45 و 48.
(3) عوالي اللآلي: ج 4 ص 133 ح 229
273

المقطوع أيضا.
نعم، قول الراوي في بعض تلك الأخبار (يجئ عنكم خبران وكلاهما
ثقة) (1) مشعر بأن حيثية الوثوق دخيلة في صدوره لكن الاخبار المعبرة بهذا
التعيير قليلة جدا.
(الثانية) الأخبار الدالة على ارجاع الأئمة عليهم السلام أصحابهم على آحاد الرواة
وأشخاصهم (2) وهي كثيرة.
(الثالثة) الأخبار الدالة نحو العموم على الرجوع إلى الرواة الموصوفين
بصفات مخصوصة (3).
(الرابعة) الأخبار الدالة على التحريض على حفظ الحديث وبيان الثواب
عليه (4) وهي وإن كانت لا تدل على حجية الخبر الواحد بآحادها، لكن مجموعها
من حيث المجموع دال عليها.
وفيه - بعد تسليم عدم الدلالة بالنسبة إلى كل واحد -: لا معنى لادعاء الدلالة
بالنسبة إلى مجموعها، لان ما هو مصداق للخبر - أعني كل واحد - لا يدل على
المدعى بالفرض، وما يدل عليه لا يكون مصداقا.
ويرد على الثانية والثالثة أيضا أنها لا تدل على أزيد من حجية الفتوى، ولا
دلالة فيها بوجه على حجية الخبر بما هو خبر، كما يرشد إليه قوله عليه السلام: (لا
تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا) (5).

(1) الوسائل: ج 18 ص 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 40
(2) الوسائل: ج 18 ص 77 - 86 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 4 و 5 و 8 و 9 و 14 والى
27 و 33 و 36.
(3) الوسائل: ج 18 ص 75 - 88 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1 و 2 و 3 و 6 و 7 37
38 و 40 و 42 و 45.
(4) راجع الوسائل: ص 52 - 73 باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 1 و 6 و 19 و 21
و 36 و 38 و 43 و 45 و 48 و 52 و 54 و 57 - 73 و 84.
(5) الوسائل: ج 18 ص 109 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 42.
274

وقول الراوي: (أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟) (1)
وأمثال ذلك.
(الخامسة) الأخبار الدالة على إنكار الأئمة عليهم السلام على العامة العمل بالقياس
والاخذ بالرأي (2) وعدم إنكارهم العمل بخبر الواحد، بل تقريرهم عليهم السلام لهم في
ادعاء العمل بالسنة بضميمة أن السنة التي كانوا يعملون بها العامة ما كانت متواترة
غالبا، بل يمكن دعوى عدم وجود خبر متواتر أصلا في كتبهم.
وهذه الطائفة كغيرها.
(السادسة) الأخبار الدالة على احتجاجات أصحاب الأئمة عليهم السلام بعضهم
لبعض، إما مع اطلاع الإمام عليه السلام وسكوته عليه السلام، وإما مع عدم اطلاعه عليه السلام بحيث
يكشف أنه كان مفروغا عنه عندهم، وهي كثيرة أيضا (3).
(السابعة) الأخبار الدالة على أن المعصومين عليهم السلام يرسلون الحكام والولاة
إلى الأكناف ويوصلون فتاواهم بواسطتهم إلى الناس، وهي كثيرة أيضا (4).
فيحصل من مجموع هذه الطوائف السبع العلم بصدور بعضها، فيحصل لنا
القطع بصدور رواية تدل على حجية خبر الواحد في الجملة.

(1) الوسائل: ج 18 ص 107 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33 و 34 و 35
(2) راجع الوسائل ج 18 ص 20 باب 6 من أبواب صفات القاضي
(3) والاخبار في ذلك كثيرة، لكن نشير إلى مواضع منها:
أ - الكافي: باب الفقاع من كتاب الأشربة ج 6 ص 423 ح 7.
ب - الوسائل: ج 2 ص 1055 باب 38 من أبواب النجاسات ح 2.
ج - الوسائل ج 15 ص 308 باب 26 من أبواب مقدمات الطلاق ح 5.
د - راجع الوسائل: ج 3 ص 102 - 113 باب 8 و 9 من أبواب مواقيت الصلاة.
ه‍ - راجع الوسائل: ج 13 ص 95 باب 11 من أبواب الدين ح 5.
و - الوسائل: ج 14 ص 447 باب 4 من أبواب المتعة ح 8.
(4) يكفي في ذلك ارسال أمير المؤمنين عليه السلام في زمن خلافته الحكام إلى بلاد الاسلام كما
يعرف بالمراجعة إلى نهج البلاغة.
275

والقدر المتيقن منها حجية الخبر الصحيح المعدل بعدلين، فنتفحص ونجد مثل
هذا الخبر يدل على حجية خبر أوسع من نفسه كخبر الثقة مثلا، فتصير النتيجة
حجية خبر الثقة.
ثم إن كان كافيا لمعظم الفقه وإلا فيمكن أن نجد خبر ثقة يدل على حجية خبر
أوسع منه، وهكذا حتى يكتفي الخبر بمعظم الفقه.
ويمكن أن يقرر وجه آخر لحجية الخبر، وهو أنه بعد العلم بصدور خبر يدل
على الحجية يصير قولنا: (الخبر حجة) معقدا لاتفاق هذه الأخبار، فالقدر المتيقن
دلالة هذه الأخبار على حجية الخبر من دون تقييد.
وأما اشتراط كون مخبره عادلا إماميا معدلا بعدلين فمشكوك، فنأخذ بإطلاقه
إلا ما خرج بالدليل على عدم حجيته، فتأمل.
(الثالث) من الأدلة المدعاة دلالتها على المدعى، الاجماع، وقد قرره الشيخ
الأنصاري قدس سره بوجوه:
الأول: تتبع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخ الطوسي والشيخ المفيد
رضوان الله عليهما.
الثاني: تتبع الاجماعات المنقولة المفيدة للقطع التي نقلها الشيخ الطوسي وابن
طاووس والعلامة والمجلسي رضوان الله عليهم، وذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في
الرسالة قرائن عديدة تبلغ سبعة أو ثمانية، وادعى أنها تفيد القطع بحجية خبر
الواحد فراجع.
الثالث: إجماع الصحابة.
الرابع: إجماع المسلمين بما هم مسلمون.
الخامس: إجماع العقلاء بما هم عقلاء.
السادس: دعوى الاجماع حتى من السيد المرتضى - المنكر لحجيته - على
حجيته، وهي على وجهين:
276

الأول: كون الاخبار التي مودعة في الكتب المعتبرة حجة.
الثاني: كون الاخبار المزبورة حجة في أمثال زماننا هذا لكون باب العلم
منسدا.
ويرد (على الأول) بأن حجية الاجماع في المسائل العقلية وما هو نظيرها كما
في المسائل الأصولية غير معلومة، بل معلومة العدم لما نشاهد من كثرة وقوع
الخلاف فيها كما في مسألة امتناع الخلاء الذي اعتقد القدماء من أهل المعقول وقد
أثبتوا بعد ذلك وقوعه فضلا عن إمكانه، وكمسألة كون الصوت غير قار الذات وقد
أثبتوا خلافه، وغير ذلك.
(وعلى الثاني) أن مجرد تتبع الأقوال إلى زمن الشيخين لا يكشف عن قول
الحجة عليه السلام أو رضائه عليه السلام، كيف وقد ادعى الشيخ أبو جعفر الطوسي عليه الرحمة
حجيته مع أنه لم يكن في زمانه هذا الاجماع المصطلح ولم يقولوا في ذلك الزمان
بحجيته من باب الكشف؟ وتأثير إجماع من بعده في حجيته عنده غير معقول.
(وعلى الثالث والرابع والخامس) إن ادعاء إجماع صحابة النبي أو
الأئمة عليهم السلام أو المسلمين مع ادعاء سيرة العقلاء بما هم عقلاء مما لا يجتمعان
بحيث يكونان دليلين مستقلين، فإن كون شئ سيرة للمسلمين بما هم مسلمون
معناه أنه مما جاء به رئيس المسلمين بما أنه رئيسهم أو نبي، وكونه سيرة العقلاء
بما هم عقلاء معناه عدم كون هذا الشئ مما اختص به المسلمون بما هم مسلمون
فلا يجتمعان.
(وعلى خصوص الرابع) أن الاجماعات المنقولة لا يكون غير نقل عمل
الأصحاب ولا يكون إجماعا قوليا ليكشف منه قول المعصوم أو رضاه عليه السلام،
وحينئذ يمكن أن يكون وجه عملهم هو بناء العقلاء بما هم عقلاء.
(وعلى السادس) أن دعوى الاجماع حتى من السيد المرتضى عليه الرحمة
وأتباعه استنادا إلى الانسداد غير وجيهة، فإن الانسداد الذي صار معروفا قريبا
277

من مائتي، سنة أو أكثر (1) لا وجه له، فإن ادعاء انفتاح باب العلم، سواء كان في
زمن السيد فقط أو من قبله ممن هم في زمن الغيبة الصغرى أو الكبرى أو كان في
زمن الأئمة عليهم السلام أو كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله لا مستند، له فإنه ما كان أخذ جميع
المؤمنين والمسلمين جميع الأحكام من المعصومين عليهم السلام بطريق العلم ممكنا قط.
بل يمكن أن يدعى أن طريق إحراز الاحكام الواقعية في أمثال زماننا من
الأزمنة المتأخرة عن زمان الشيخ أبي جعفر الطوسي عليه الرحمة بطرق علمية أو
ما هو بحكم العلم - أسهل وأخف من زمن السيد رحمه الله ومن قبله.
فإن الاخبار المروية عن المعصومين عليهم السلام قد حفظت ودونت وصنفت في
كتبهم وتصنيفاتهم، بخلاف الزمان الذي كان قبل زمن السيد المرتضى رحمه الله، فإن
الاخبار كانت متشتتة ولا سيما قبل تأليف الكافي الذي ألفه محمد بن يعقوب
الكليني رحمه الله المتوفى سنة 328 - 329 ه‍ في مدة عشرين سنة.
ولذا ترى الحسن بن علي بن أبي عقيل ومن كان في عصره من الفقهاء
الامامية كثيرا ما يفتون بالعام أو المطلق مع أن له مخصصا أو مقيدا في الاخبار،
فإن عذرهم ما ذكرنا من عدم تدوين الاخبار في أمثال زمانه مجتمعة كما جمعت
بحمد الله في عصرنا من بعد زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي.
فتحصل: أن دعوى الانسداد بعد زمن السيد والانفتاح زمانه أو قبله لا وجه
لها، فإن كان منفتحا كان كذلك دائما، وإن كان منسدا كان كذلك من زمن
النبي صلى الله عليه وآله، فلا فرق في الانفتاح وعدمه بين الأزمنة.
فالتحقيق أن يقال: إن جميع الأدلة التي أقاموها للحجية ترجع إلى بناء
العقلاء، فإن آية النبأ دالة على المنع عن العمل بخبر الفاسق بحيث لو لم تمنع عنه
لكان العقلاء عاملين به أيضا.
وكذا آية النفر في مقام بيان وجوب التعلم لا وجوب العمل بقول المتعلم بعد

(1) كان هذا البيان من الأستاذ مد ظله في عام 1368 ه‍ ق.
278

انذاره، فإنه شئ يترتب عليه.
وكذا الروايات على اختلاف تعابيرها ليس فيها خبر واحد صحيح دال على
تأسيس حجية الخبر.
وكذا الاجماعات المنقولة إلا الاجماع الذي ادعاه الشيخ أبو جعفر الطوسي
في عدة الأصول، فإنه قد يتوهم ويتخيل أنه رحمه الله أخذ في معقد الاجماع خصوصية
لا يرونها العقلاء بما هم عقلاء في مقام العمل بالخبر الواحد.
قال في العدة: وأما الذي اخترته من المذهب فهو أن الخبر الواحد إذا كان
واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة وكان ذلك مرويا عن النبي صلى الله عليه وآله أو عن
أحد الأئمة عليهم السلام وكان ممن لا يطعن في روايته (إلى أن قال:) جاز العمل به...
الخ (1).
فإن أخذ كون الراوي من أصحابنا خصوصية لا يعتبرها العقلاء بما هم عقلاء
كما لا يخفى.
ويمكن أن يقال: إن نظره رحمه الله إلى أن الذي يوثق بقوله هو من كان من أصحابنا
باعتباره أن الرواة العامة - لعدم ضبط خصوصيات ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله من
الخاص والمقيد، والناسخ وتقطيع بعض الروايات - لا يوثق بقولهم كما يظهر من
رواية أن الله خلق آدم على صورته فإنهم يزعمون أن الضمير في (صورته) راجع
إلى الله تعالى، مع أن الحق أنه راجع إلى القائل الذي عير إنسانا بقبح صورته، فمر
النبي صلى الله عليه وآله فلقاه وقال: إن الله خلق آدم على صورة... الخ.
والحاصل: أن طريقة العقلاء العمل بخبر من يوثق، والشيخ أبو جعفر الطوسي
عليه الرحمة قد عين مصداق الثقة، فلا منافاة بين ما ذكره الشيخ رحمه الله وبين ما
ذكرنا، والحمد لله.

(1) عده الأصول: في حجية خبر الواحد ص 336 طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام - قم
279

شروط العمل بخبر الواحد
وللعمل بالخبر عند العقلاء شروط نذكر بعضها:
الأول: أن يكون المخبر ممن يكون دأبه وديدنه الصدق.
الثاني: عدم كونه كثير الاشتباه والنسيان بحيث كان يحفظ غالبا ما سمعه.
الثالث: عدم مخالفة المخبر عنه عملا للخبر الذي يحكيه وإن كان حاكيه ثقة.
الاجماع المنقول بخبر الواحد
ويتفرع على حجية الخبر حجية الاجماع المنقول بخبر الواحد، وقد جعله
مستندا جمع من الفقهاء، ولا سيما متأخري المتأخرين كصاحب الرياض وغيره،
بل وقبلهم كالعلامة، فإنه استدل على نجاسة العصير العنبي بالاجماع الذي ادعاه الشيخ في الخلاف.
وكيف كان، فقبل الورود في بيان حجيته وعدمها لا بد من بيان معنى الاجماع
المحقق ووجه حجيته وعدمها، فنقول بعون الله تعالى:
إن الاجماع يطلق على معنيين:
(أحدهما) العزم كقوله صلى الله عليه وآله: (لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل) (1) أي
لم يعزمه.
(الثاني) الاتفاق، وهذا يطلق على وجهين:
أحدهما: ما هو عند العامة الذين هم أسسوا بنيانه وفرعوا عليه كثيرا من
المسائل الفقهية، وهو اتفاق أهل الحل والعقد من الأمة في عصر واحد على أمر
من الأمور الشرعية.

(1) عوالي اللآلي ج 3 ص 132 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم
280

ثانيهما: أعم من هذا، وهو اتفاق أهل كل فن على أمر متعلق بذلك الامر،
كاتفاق النحوي مثلا على مسألة نحوية، والصرفي على الصرفية، وأمثال ذلك، ولا
يختص بكون المتفقين من أهل عصر واحد بل المراد من قولهم مثلا: اتفق
النحويون على كذا أن كل من كان من أهل هذا الفن سواء كان حيا أم ميتا، ذهب
إليه.
وبهذا المعنى يطلق أكثر الاتفاقات المدعاة في كلمات فقهائنا كقول العلامة
مثلا اتفق علماؤنا أو فقهائنا على كذا، وكذا قول الشيخ رحمه الله مثلا في الخلاف: لا
خلاف بين المسلمين في كذا، وغيرهما.
وكيف كان، فقد استدل العامة على حجيته بأمور:
(الأول) الحديث المعروف عندهم الذي هو العمدة في أدلتهم - وإن كان قد
أيدهم بعض منهم بعد نقل الحديث منه - والاستدلال به بآيات سنشير إليها إن شاء
الله تعالى: (لا تجتمع أمتي على الضلالة) أو (على ضلالة) أو (على الخطأ) (1)
على اختلاف النقل أو (وما كان الله ليجمع أمتي على الضلالة) (2).
وقالوا: إن لفظ (الأمة) وإن كانت عامة إلا أنه معلوم من القرائن الخارجية
أن المراد من كان لرأيه دخل في الاستنباط، وهو من كان من أهل الحل والعقد.
وأما وجه التخصيص بالعصر الواحد فهو أنه وإن كان يتصور عقلا أن يكون
المراد من الأمة جميعها من أول الاسلام إلى انقضاء زمن التكليف إلا أنه حينئذ
كلام لا فائدة فيه، فيصير قبيحا، فيستحيل صدوره من الحكيم لذلك، فليس ذلك
بمراد قطعا.
فإما أن يكون المراد اتفاقهم في جميع الأعصار إلى عصر المدعي أو العصر

(1) و (2) راجع عدة الأصول لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي: ج 2 ص 74 طبع النجف
الأشرف.
281

الواحد، وحمله على الأول يوجب إدخال ما ليس له دخل في تحقق المجمع عليه،
لان السابقين قد ماتوا، فلا رأي لهم كي يتفقهوا أو يختلفوا، فتعين الثاني.
وتوضيح هذا الكلام على تقدير صدوره من النبي صلى الله عليه وآله على وجه يعرف
منشأ الوجهين، هو أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله مثلا: (لا تجتمع أمتي... الخ) هل يكون
المراد من الاجتماع هو الاجتماع في الوجود ولو كان في أزمنة مختلفة أو يكون
المراد هو الاجتماع في الزمان؟ وجهان:
من ظهور لفظة (أمتي) في العموم الشامل لجميع الأزمان. ومن ظهور لفظة
(الاجتماع) الذي هو في مقابل الاختلاف في الاجتماع الفعلي لا الوجودي، ولا
يبعد كون الثاني أظهر.
وقد أورد الامامية عليهم بوجوه:
الأول: عدم معلومية صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله، وعدم كون رواة هذا الحديث
محرزي الوثاقة حتى يصير حجة شرعية، وقد يرد هذا بعدم اختصاص نقله
بالعامة، بل استدل به في بعض الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم السلام.
ففي الاحتجاج: ومما أجاب أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليهما السلام في
رسالته إلى الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال:
اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه
عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون وعلى تصديق ما أنزل الله
مهتدون، لقول النبي صلى الله عليه وآله: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فأخبر عليه السلام أن ما
اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق، فهذا معنى الحديث، لا ما
تأوله المعاندون من إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة
والأحاديث المزخرفة واتباع الأهواء المريبة المهلكة التي تخالف نص الكتاب
وتحقيق الآيات الواضحات النيرات، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب ويهدينا
282

إلى الرشاد... الحديث (1).
وكتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب الطبرسي (2) غير الطبرسي المعروف
صاحب (مجمع البيان) (3) وكان من علماء الإمامية قد جمع فيه احتجاجات
الأئمة عليهم السلام على المخالفين وأغلب رواياته وإن كانت مرسلة إلا أنه قال في أوله:
ولا نأتي في أكثر ما نورده من الاخبار باسناد، إما لوجود الاجماع عليه أو
موافقته لما دلت عليه العقول أو الاشتهار في السير والكتب بين المخالف والمؤالف
إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام فإنه ليس في
الاشتهار على حد ما سواه... الخ.
دل الخبر المذكور على كون الخبر المشهور صادرا عن النبي صلى الله عليه وآله.
وفيه: أنه يمكن أن يكون عليه السلام قد أجاب في مقام المعارضة بذلك، وإلا
فليس لاثبات حقية القرآن بالتمسك بإجماع المسلمين الذي هو حجة بدليل قول
النبي صلى الله عليه وآله: (لا تجتمع... الخ)، لان ثبوت حقية القرآن في عرض ثبوت حقية
نبوة النبي صلى الله عليه وآله وليست أظهر كي يتمسك بها عليها، كما لا يخفى.
ويشهد لما ذكرنا أن الإمام عليه السلام كتب هذا الجواب لأهل الأهواز الذين كانوا
شيعة له عليه السلام، وكانوا معتقدين للقرآن من غير حاجة إلى إثباته بإجماع الأمة،
فيعلم من هذا أن مراده عليه السلام تعليم الشيعة للمناظرة مع المخالفين بالطرق التي
يعتقدونها، فتأمل.
الثاني - مما أورده الامامية على المخالفين في استدلالهم بالحديث النبوي -:
عدم دلالته على حجية الاجماع بما هو إجماع، لم لا يكون باعتبار اشتماله على

(1) الاحتجاج: ص 450 مطبعة سعيد مشهد المقدسة.
(2) ولم تحدد لنا المصادر سنة ولادته كما لم تحدد لنا سنة وفاته (الاحتجاج: ج 1 المقدمة
بقلم السيد محمد الخرسان).
(3) المتوفى عام 548 ه‍ بسبزوار وحمل نعشه إلى المشهد الرضوي سلام الله على مشرفه
283

قول إمام معصوم عليه السلام؟ فنحن مشتركون معهم في القول بالحجية مفترقون عنهم
من حيث ملاك الحجية.
الثالث: عدم دلالته على ما ادعوه من حجية إجماع أهل العصر الواحد من
أهل الحل والعقد، فالدليل أخص من المدعى.
ثم اعترضوا على قولهم بعدم الحجية بأنه لم تقولون أن الاجماع حجة؟ بل
لازم ما ذكر - لو تم - كون قول الإمام عليه السلام حجة فضم غيره إليه كضم الحجر بجنب
الانسان لا دخل له في الحجية وأجابوا بأنا لم نكن مبتدئين في هذه المسألة، بل
كنا تابعين في الورود في أصل هذه المسألة، بل في مطلق المسائل الأصولية،
فحيث إنهم عنونوا هذه وقالوا بأن الاجماع بما هو حجة أوردنا عليهم بأنه حجة،
لكن بالاعتبار الذي ذكرناه.
ولعل السر في ذلك هو أن قدمائنا من الفقهاء في مقام تدوينهم للفقه كانوا على
طائفتين:
(إحداهما) في مقام المنازعة والمشاجرة مع مخالفيهم من العامة وفي هذا
المقام لا يمكنهم أن يستدلوا على المسألة الفقهية في صورة مخالفتهم معهم صريحا
بقول الإمام عليه السلام مع فرض عدم كونه حجة عندهم بمقتضى مذهبهم.
ولذا ترى السيدين كثيرا ما في الانتصار والناصريات والغنية في مقام
الاستدلال يستدلان بالاجماع ويقولان: (دليلنا) الاجماع المتقدم أو المتكرر إليه
الإشارة، ومرادهم هو الاجماع الذي أثبتاه في الأصول ولا يستدلان غالبا
بالرواية الصادرة عن الأئمة عليهم السلام.
(ثانيتهما) في مقام ترجيع قول الإمام عليه السلام كالعلامة في المختلف مثلا،
والشيخ في النهاية وفي هذا المقام يستدلون بها.
فتحصل أن الاجماع الذي يدعون مرادهم، هو قول المعصوم عليه السلام.
284

(الثاني) (1) قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (2) أوعد الله تعالى
النار على اتباع غير سبيل المؤمنين، والاجماع سبيلهم، فلا يجوز مخالفته.
وفيه: أن ظاهره أن اتباع السبيل الذي يقتضيه الايمان بما هو إيمان واجب
كما يؤيده صدر الآية، فإن معناه من جعل نفسه شقا آخر واتبع غير سبيل المؤمنين
فعليه كذا وكذا، فالوفاق معه صلى الله عليه وآله عبارة عن متابعة سبيلهم كما أن
الخلاف معه صلى الله عليه وآله متابعة غير سبيلهم، فيكون اتباع غير سبيل المؤمنين عبارة
أخرى عن المشاقة مع الرسول صلى الله عليه وآله، فلا تدل على اتباع ما لا يكون من مقتضيات
الايمان، بل هو أمر حادث اتفق عليه المؤمنون.
وعلى تقدير الدلالة يرد عليه ما ورد على الدليل الأول من الجواب الثاني.
(الثالث) قوله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر الآية (3) والخيرية تقتضي كون ما اتفقت عليه الأمة حقا.
وفيه: أنه لا ربط لها بالمقام كما لا يخفى.
(الرابع) قوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا (4).
وفيه: أن الظاهر أن المراد من الوسطية هو الاعتدال، يعني جعلناكم معتدلا من
بين سائر الأمم، ولا ربط لها بحجية ما اتفقت عليه.
وغيرها من الاستدلالات بالآيات، ولكن الاستدلال بها أوهن من بيت
العنكبوت لو كانوا يعلمون.
فالحق أن حجية الاجماع منحصرة بما إذا كان مشتملا على قول المعصوم أو

(1) عطف على قوله مد ظله في ص 281: " الأول: الحديث المعروف... الخ ".
(2) النساء: 115.
(3) آل عمران: 110.
(4) البقرة: 143.
285

رأيه أو رضاه قطعا، وهو مذهب الإمامية.
نعم، اختلفوا في طريق استكشافه (1) على أقوال:
الأول: قاعدة اللطف، وهي التي مستندة إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمة
الله عليه.
قال في عدة الأصول - في جواب السؤال عما إذا اختلفت الأمة كيف
يستكشف ويعلم دخول الإمام عليه السلام - ما هذا لفظه: ومتى فرضنا أن يكون الحق في
واحد من الأقوال ولم يكن هناك غير ذلك القول من غيره فلا يجوز للامام
المعصوم عليه السلام حينئذ الاستتار ووجب عليه أن يظهر ويبين الحق في تلك المسألة
أو يعلم بعض ثقاته الذين يسكن إليهم الحق من تلك الأفعال حتى يؤدي ذلك إلى
الأمة ويقترن بقوله علم معجز يدل على صدقه، لأنه متى لم يكن كذلك لم يحسن التكليف، وقد علمنا ببقاء التكليف وعدم ظهوره، أو ظهور ما يجري دليل على أن
ذلك لم يتفق (إلى أن قال:) وذكر المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله
روحه أخيرا أنه يجوز أن يكون الحق فيما عند الامام والأقوال الاخر تكون كلها
باطلة ولا يجب عليه الظهور (إلى أن قال:) وهذا عندي غير صحيح، لأنه يؤدي
إلى أن لا يصح الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا، لأنا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام
فيها الا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا انفراده بالقول ولا يجب ظهور، منع ذلك
بالاجماع (انتهى).
قوله رحمه الله: (وهذا عندي غير صحيح... الخ) فيه: إنا لا نجد وجها لهذا الكلام،
لعدم محذور في عدم صحة الاحتجاج بالاجماع، نعم، قاعدة اللطف ممنوعة.
الثاني ما ذهب إليه المتأخرون - وهو الحدس - بمعنى أنه يستحيل عادة كون
فتوى جميع العلماء خطأ مع نهاية تتبعهم وغاية احتياطهم.
وفيه: أن خطأ العلماء في أمر اتفقوا عليه ليس بمستحيل كما نشاهد في كثير

(1) يعني بعد استحالة دخوله عليه السلام بعينه في جملة المجمعين.
286

من المسائل العقلية التي اتفق قدمائهم عليها فانكشف خطأها.
فالحق أن يقال: إن إجماع الفقهاء على وجهين:
(أحدهما) اتفاقهم في المسائل التفريعية التي يكون للنظر والاجتهاد فيها
دخل في إثباتها. وبعبارة أخرى: ما لا يكون دليلها منحصرا في السمع وبمثل هذا
الاتفاق لا يكشف قول الإمام عليه السلام.
(ثانيهما) أن يكون طريقها منحصرا في السمع كمسألة العول مثلا بشرط أن
يتصل إلى زمن المعصوم عليه السلام وكانت معروفة في جميع الطبقات، فإنا لو وجدنا
مسألة العول في كتب علماء زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله، وكذا من قبله مثل
الشيخ المفيد رحمه الله، وكذا من قبله مثل الكليني عليه الرحمة الذي هو في زمن الغيبة
الصغرى، ومن قبله مثل علي بن إبراهيم رحمه الله وأمثاله مثلا، نكشف أن ذلك كان
صادرا عن الإمام عليه السلام قطعا.
هذا كله في الاجماع المحقق.
وأما الاجماع المنقول فظاهر فرائد الشيخ الأنصاري قدس سره بل صريحه ومن
تأخر عنه عدم الحجية. ومحصل إشكاله قدس سره في شمول أدلة حجية خبر الواحد
أنها لا تشمل إلا الاخبار عن حس أو عن حدس مستند إلى مبادي حسية
مستلزمة عادة للامر الحسي.
وحيث إن استكشاف قول المعصوم عليه السلام لا يمكن لنا بالحس ولا للناقلين
للاجماع عادة كالشيخين والسيدين، ولا بالحدس المذكور فلا يشمل الأدلة له.
والسر في عدم الشمول هو أن الأدلة تجعل قول العادل حجة بملاحظة عدم
تعمده في الكذب مع ضميمة أصالة عدم الاشتباه في الحس.
وبعبارة أخرى: حجية قول المخبر يحتاج إلى أمرين: (أحدهما) عدم تعمده
على الكذب. (ثانيهما) عدم اشتباهه، فإذا فقدا أو فقد أحدهما فلا، ففي ما إذا كان
المخبر عادلا وكان المخبر به أحد الامرين المذكورين فقد تم أركان الحجية، وفي
287

الفاسق أو العادل الذي يخبر بأمر حدسي يختل الشرطان أو أحدهما.
نعم، يثبت بإخباره نفس الأقوال التي هي محسوسة بالفرض، فان كان ناقله
ممن قال باللطف، يلزم من ذلك حجيته بالنسبة إلى من قال ذلك، وإلا فعلى التقرير
أو الحدس يستكشف رأي الإمام عليه السلام إما من الكاشف أو من نقل المنكشف الذي
هو رأي الإمام عليه السلام في ضمن نقل الكاشف.
وحيث إن قاعدة اللطف غير تامة فكل من كان من القائلين باللطف كالشيخ
أبي جعفر الطوسي رحمه الله ومن تبعه، فإجماعه ليس بحجة.
وأما قاعدة الحدس فلما كان مقدمات العلم بقول الإمام عليه السلام غير مستندة إلى
الأمور الحسية المستلزمة لكشف رأيه عليه السلام فلا يمكن أن يقال: إن نقل الاجماع
من القائل بالحدس مطلقا حجة بل يختلف باختلاف الناقلين، هذا.
لكن فيه مواقع للنظر:
(الأول) أن استكشاف رأي الإمام عليه السلام لا ينحصر أن يكون من الامام الغائب
صلوات الله وسلامه عليه كي يكون إحراز قوله عليه السلام بالحس ممتنعا عادة، بل كما
يمكن ذلك يمكن أيضا أن يكون قد استكشف رأيه عليه السلام بالنقل عن الأئمة السابقة
على عصره.
فرد إجماعات الشيخ رحمه الله استنادا إلى كونه مدعاة من جهة تسليم قاعدة
اللطف الغير التامة ليس في محله، بل صرح الشيخ رحمه الله على خلاف ذلك كما سيأتي
إن شاء الله تعالى نقل عبارته بعينها.
والحاصل: أن الكلام في أن إحراز قول الإمام عليه السلام هل يكون منحصرا في
أمرين كما استظهره الشيخ الأنصاري رحمه الله من كلمات العلماء (أحدهما) كون
الإمام عليه السلام داخلا في جملة المجمعين بحيث يكون قول الإمام عليه السلام وسائر الفقهاء
في عرض واحد من دون تقدم لأحدهما على الاخر (ثانيهما) كون قول
الإمام عليه السلام منكشفا بأقوال السائرين بحيث يكون قوله عليه السلام متقدما في الخارج
288

بحسب الواقع ومتأخرا في الذهن؟ أم يكون هناك شق ثالث أيضا وهو إحراز
قوله عليه السلام بالنقل بحيث كان الاعتماد في حكاية الاجماع على النقل كما صرح به
الشيخ قدس سره في العدة؟ فإنه قال في فصل كيفية العلم بالاجماع ومن يعتبر قوله ما
هذا لفظه:
إذا كان المعتبر في باب كونه حجة - قول الإمام عليه السلام - فالطريق إلى معرفة
قوله شيئان: (أحدهما) السماع منه عليه السلام والمشاهدة لقوله عليه السلام. (والثاني) النقل
عنه بما يوجب العلم، فيعلم بذلك أيضا قوله عليه السلام (1) (انتهى موضع الحاجة من
كلامه زيد في علو مقامه).
وهذا تصريح منه بأنه يمكن أن ينقل الاجماع ويكون المستند في نقل
الاجماع إحراز دخول قوله عليه السلام فيه بالنقل، ولا تنحصر طريقة العلم بقوله عليه السلام
من قاعدة اللطف كما أدعاه الشيخ الأنصاري قدس سره فتأمل.
ولا دلالة فيما أجاب به عن السيد رحمه الله القائل بعدم اقتضاء اللطف وجوب
إظهاره عليه السلام الحق بنفسه أو بنائبه، بأنه لو صح ذلك لما يمكن الاحتجاج بإجماع
الطائفة أصلا.
فإن كلامه (2) فيما إذا أريد استفادة قول الإمام عليه السلام بإجماع الطائفة، لا أن
إحراز قوله عليه السلام منحصر في اللطف.
وبالجملة، فرق بين انحصار استفادة قوله عليه السلام في اللطف وبين انحصار
استفادة قوله عليه السلام بإجماع الطائفة فيه، فالذي صرح به الشيخ الطوسي رحمه الله هو
الأول دون الثاني، بل صرح بخلافه في مواضع من العدة، وقد عرفت بعضها فراجع
العدة.
إن قلت: ظاهر كلمات الشيخ والسيد أبي المكارم ابن زهرة كون الكلام

(1) عدة الأصول: فصل في كيفية العلم بالاجماع ص 75.
(2) بيان لقوله مد ظله: (ولا دلالة في... الخ).
289

منحصرا في استكشاف رأي الامام الغائب عليه السلام.
قال السيد علم الهدى في الانتصار: وقد بينا صحة هذه الطريقة في مواضع من
كتبنا وخاصة في جواب مسائل عبد الله بن النبال رحمه الله (إلى أن قال:) وحسمنا كل
شبهة تعترض عليه وبينا كيف الطريق إلى العلم بأن قول الإمام المعصوم في جملة
أقوال الامامية؟ وكيف السبيل إلى أن تعرف مذاهبه ونحن لا نميز شخصه وعينه
في أحوال غيبته؟ وأسقطنا عجب من يقول: من لا أعرفه كيف أعرف مذهبه
(انتهى).
وقال السيد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية - بعد بيان وجه الحجية وأنه
لاشتماله على قول المعصوم عليه السلام - ما لفظه:
إن قيل: كيف يمكنكم القطع على أن قول الإمام الغائب في جملة أقوال الامامية مع عدم تميزه ومعرفته ومع استتاره وغيبته؟
قلنا: قد بينا فيما مضى أن الإمام عليه السلام موجود العين فينا وبين أظهرنا نلقاه
ويلقانا وإن كنا لا نعرفه بعينه ولا نميزه من غيره، ومعنى قولنا أنه غائب، أنه
مجهول العين غير متميز الشخص، لا نريد بذلك الغيبة أنه بحيث لا يرى شخصه
ولا يسمع كلامه (انتهى).
وأما الشيخ رحمه الله في العدة فكلماته في مسألة الاجماع مشحونة بذلك، وأظهر
ما يبين ذلك المشاجرة الواقعة بينه وبين السيد رحمه الله بالنسبة إلى قاعدة اللطف، ومع
ذلك كيف تقولون بعدم انحصار النزاع في استكشاف رأي الامام الغائب عليه السلام؟
قلت: (1) قد ذكرنا الجواب عن ذلك من أن نزاعهم في قاعدة اللطف بعد فرض
عدم إمكان الكشف إلا من الاجماع، وإلا فقد سمعت تصريح الشيخ بعدم
الانحصار.
فالحاصل: أن نقل الاجماع ليس منحصرا بصورة استكشاف رأي الامام

(1) جواب لقوله مد ظله: " إن قلت ظاهر كلمات... الخ ".
290

الغائب عليه السلام. نعم لا ينحصر أيضا في مورد ورود الرواية عنهم عليهم السلام، ولذا ترى في
مسائل الخلاف قد ادعى الاجماع على جواز نية الفرادى، وكذا العدول من
الفرادى إلى الجماعة، وكذا جواز استخلاف إمام الجماعة إذا عرض له مانع يمنعه
من إتمام صلاته، واستدل بهذه المسائل الثلاث بالاجماع والاخبار، وأشار إلى
ذكر الاخبار في كتابه الكبير (التهذيب) مع أنه لم يذكر فيها إلا روايات
الاستخلاف، واستنبط منها المسألتين الأخيرتين.
والذي يدل على ما ذكرنا من ادعاء الاجماع في مورد النقل أيضا وجعله
دليلا على المدعى ادعاء السيد المرتضى رحمه الله الاجماع في مسألة منع الزوجة في
الإرث من الأرض في الجملة مع ورود الأخبار المتواترة من الأئمة عليهم السلام.
وكذا في مسألة العول، بل من راجع الغنية لابن زهرة يقطع بما ذكرنا، فإنه قلما
كان في المسألة الفقهية لم يدع فيها الاجماع مع ورود الاخبار بذلك.
(الثاني) (1) على تقدير الانحصار، لا تنحصر كيفية استكشاف رأيه عليه السلام بأن
يجمع طائفة من العلماء يكون أحدهما الإمام عليه السلام بنفسه وبشخصه، فيكون هذا
النحو من الاجماع نادرا، بل يمكن أن يجمع جميع الفقهاء على قول يعلم بكون
الإمام عليه السلام موافقا كما مثل به شيخ الطائفة عليه الرحمة في العدة بمسألة إرث الأخ
والجدة، فإن فقهاء الاسلام على قولين: أحدهما اختصاصه بالأخ، ثانيهما
اشتراكهما فيه، فيعلم أن اختصاص الجد به مجمع على خلافه، فيعلم أن
الإمام عليه السلام لم يقل به.
(الثالث) أن الناقل للاجماع لا ينقل شيئين: أحدهما رأي المعصوم المنكشف،
ثانيهما إجماع العلماء الكاشف كي يقال: إنه حجة من حيث المنكشف أو الكاشف،
بل ينقل شيئا واحدا، وهو اتفاقهم على كذا مثلا، فلا وجه لدوران الحجية بينهما.

(1) عطف على قوله مد ظله: " وفيه مواقع للنظر: الأول... الخ ".
291

إن قلت: على ما ذكرت من مراد الناقلين للاجماع كالشيخ والسيدين رحمهم الله هو
نقل قول الإمام عليه السلام فلا فائدة في الاجماع المنقول على كل حال، لأنه إما أن
يكون في مورد نقل الاجماع خبر عن المعصوم عليه السلام أم لا. فعلى الأول فاللازم
النظر في دلالة الخبر، فإن دل فهو المتبع، وإلا فلا اعتبار له بعد احتمال أن يكون
مدرك الناقل هذا الخبر الغير الدال على المدعى بالفرض. وعلى الثاني فلا حجية
فيه أيضا، لأن المفروض أن الناقل قد يدعي الاجماع مستندا إلى قاعدة اللطف
الغير التامة فيكون مجملا فلا يكون حجة.
قلت: (أولا) قد ذكرنا أن طريقة الشيخ لا تنحصر في قاعدة اللطف لا أنها
منحصرة في غير اللطف.
(وثانيا) لا مانع من تكثير الأدلة على تقدير وجود الخبر، وعلى تقدير عدمه
أو عدم دلالته لا نسلم عدم حجيته بعد احتمال كون مدرك الناقل غير هذا الخبر أو
غير اللطف من المبادي الحسية احتمالا قريبا بالنسبة إلى القدماء، ولا سيما من
مثل الشيخ الذي كانت الجوامع الأولية المدونة في عصر علي بن موسى
الرضا عليهما السلام موجودة عنده، ولا يلزم إحراز عدم استناده إلى الحدس، بل يكفي
عدم إحراز استناده إليه في الحكم باستناده إلى الحس كما في قول المخبر زيد
عادل، فإن بناء العقلاء العمل بمقتضاه وإن كان يحتمل استناد المخبر في إحراز
المخبر به إلى الحدس، فتأمل جيدا.
(وثالثا) إحراز رأي المعصوم عليه السلام بقاعدة اللطف في مقابل إحرازه بالنقل
نادر بحيث يلحق بالمعدوم، فلا يحمل عليه عند عدم القرينة، بل يحمل على
الافراد الغالبة.
إن قلت: لا وجه حينئذ لادعاء الاجماع بل يكفي أن يقول: دليلنا قول
الإمام عليه السلام.
قلت: قد ذكرنا أنه في مقابل العامة القائلين بحجيته بنفسه.
292

إن قلت: لا وجه حينئذ للتقييد بقولهم (المحقة) بعد عدم كون أقوالهم حجة
عند العامة.
قلت: قد يتخيل أن المقصود من الاجماع إلزام العامة، وليس كذلك، بل
المقصود بيان أن لنا في الفقه مدركا لدفع تعبيرهم للامامية بعدم المدرك لفقههم،
فأخذت الامامية في أصول مذهبهم في إثبات أن الامام كما أن له سلطنة كذلك له
بيان الاحكام، فالمقصود والغرض من ادعاء الاجماع بيان المدرك لقولهم، غاية
الامر بتعبير يكون عند العامة حجة أيضا وهو الاجماع.
إن قلت: إن قولهم (دليلنا إجماع الفرقة المحقة) لا يثبت إلا إجماع خصوص
هذه الطائفة، والمفروض أن الاجماع الذي هو حجة عند العامة هو اجماع
المسلمين لا إجماع الخاصة فقط.
قلت: المقصود من هذا التعبير هو التمسك بأصل الاجماع لا به مع
خصوصياته، فإنهم أيضا قد اختلفوا بين قائل بحجية إجماع الصحابة فقط وقائل
بحجية إجماع أهل المدينة وقائل بحجية قول أهل الحل والعقد مطلقا، فلا مانع
حينئذ للامامية بادعاء حجية إجماعهم فقط.
إن قلت: على ما ذكرت من كون المقصود من الاجماع نقل الرواية فلا وجه
لنقل الرواية أيضا بعد دعوى الاجماع في كثير من المسائل الفقهية، مع أنه كثيرا ما
يدعى الاجماع وينقل الرواية أيضا كما فعله السيد علم الهدى في الناصريات
والشيخ أبو جعفر الطوسي في الخلاف.
قلت: يمكن أن يكون الوجه في ذلك بيان مأخذ دعوى الاجماع من الناقل
للمنقول إليه.
إن قلت: إذا كان المقصود من الاجماع نقل قول الإمام عليه السلام فلا حاجة إلى أن
يضيف المدعي جملة (وأخبارهم) مع أن الشيخ عليه الرحمة كثيرا ما يقول: دليلنا
إجماع الفرقة وأخبارهم، فراجع كتاب الخلاف.
293

قلت: يمكن أن يكون المراد من قوله: (وأخبارهم) هي الاخبار النبوية،
فكأن الناقل قد أقام على المسألة دليلين: أحدهما نقل قول المعصوم عليه السلام، ثانيهما
الاخبار النبوية، غاية الامر بطريقهم لا بطريق العامة، كما يرشد إليه الخبر الدال
على سؤال بعض الأصحاب عن أبي عبد الله عليه السلام بيان أسانيد أخباره وجوابه عليه السلام
بأني كلما رويت فقد رويته عن أبي عن أبيه عن أبيه عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام
عن رسول الله صلى الله عليه وآله (1).
هذا كله في الاجماع المنقول بخبر الواحد.
وأما الاجماع المنقول بالخبر المتواتر، فإن كان مراد ناقله أنه أخبر على كذا
مثلا جماعة كثيرة يوجب قولهم العلم لكل واحد وكان الامر واقعا كذلك فهو حجة
لأنه ينقل ما يوجب العلم، وإلا فلا وإن كان الناقل ينقل بنظره ما هو موجب للعلم.
ومن هنا يعلم أن قول الشيخ الأنصاري قدس سره في الفرائد: ومن جميع ما ذكرنا
يظهر الكلام في المتواتر المنقول (انتهى) محل نظر للفرق بين المقامين، فإن الناقل
للاجماع ينقل ما يكون بالحمل الشايع الصناعي موجبا للعلم إما مطلقا أو بنظر
الناقل لا بعنوانه، بخلاف الناقل للتواتر فإنه ينقل ما يكون موجبا للعلم بعنوان أنه
موجب للعلم، والله العالم.
قال الشيخ قدس سره: ومن جملة الظنون التي توهم حجيتها بالخصوص الشهرة في
الفتوى الحاصلة بفتوى جل الفقهاء المعروفين (إلى أن قال:) وفي المقبولة - بعد
فرض السائل تساوي الروايتين في العدالة - قال عليه السلام: ينظر إلى ما كان من
روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا،
ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه... الخ (2).
اعلم أن في الرواية جهات من البحث:

(1) الوسائل: ج 18 ص 58 باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 26.
(2) الوسائل: ج 18 ص 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 1.
294

(الجهة الأولى) هل المراد من التنازع هو التنازع في الموضوع أو الحكم؟
(الجهة الثانية) هل المراد من حجية الشهرة هي الشهرة رواية أو فتوى؟
(الجهة الثالثة) على التقدير الثاني هل تدل على حجية الشهرة أيضا أم لا؟
أما الجهة الأولى فالظاهر من الرواية هو التنازع في الحكم ويؤيده أمور.
الأول: إرجاع الإمام عليه السلام السائل إلى الأفقه إذا تعارض حكم الفقيهين، وهو
يناسب الشبهة في الحكم.
الثاني: إرجاعه عليه السلام إلى مستند حكم الفقيهين إذا تساويا في الصفات
الراجعة إلى القاضي، وهو أيضا يناسب الحكم دون الموضوع.
الثالث: سؤال الراوي: (أيحل ذلك له؟) والسؤال عن الحل ظاهر في الحكم.
وأما الجهة الثانية فقد يقال: إن ما هو المرجح لإحدى الروايتين على
الأخرى هو الشهرة من حيث الرواية لا الفتوى، لان السؤال عن اختلاف
الحكمين من حيث الرواية فأجاب عليه السلام بأخذ المجمع عليه مثلا معللا بأنه لا ريب
فيه.
لكن الأظهر هو إرادة الشهرة الفتوائية لامرين:
(أحدهما) كون السؤال كما مر في الحكم بمعنى أن حكم أحدهما منشأ لفعل
الخصومة فأمر عليه السلام أولا بما حكم به أعدلهما وأوثقهما... الخ.
(ثانيهما) تعليله عليه السلام بأن المجمع عليه لا ريب فيه.
ولا شبهة في أن المتصف بكونه لا ريب فيه ليس هو خصوص اللفظ فقط، بل
هو مع المعنى.
والظاهر عدم خصوصية ضم اللفظ، فيصير المعنى أن المطلب الذي هو
مشهور بين أصحابك - بمعنى أنه لو سئل هذا الحكم من أي أحد؟ يجيب بجواب
واحد مثل مسألة عدم تنصيف المهر فيما إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول،
فيؤخذ به ويترك الذي لا يفتي على خلاف المشهور إلا النادر.
295

وليس المراد اتفاق الكل بحيث لا يشذ منها أحد كي لا يتصور في طرفي
المسألة، بل المراد وضوح الحكم بحيث لا يكون نادرا ويعرفه عدة من الأصحاب
المفتين.
فقول الراوي: (إنهما معا مشهوران) في المرفوعة (1) وقوله: (يا سيدي
كلاهما مشهوران) في المقبولة (2) لا ينافي ما قلناه.
إن قلت: ظاهر تعليله عليه السلام بأن المجمع عليه لا ريب فيه مع قوله عليه السلام:
(ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور) بمنزلة قوله: (إنهما معا لا ريب فيهما) مع أنه
غير ممكن في الفتوى بخلاف الروايتين، فإنه يمكن أن لا يكون ريب في
صدورهما.
قلت: الشهرة مقتضية لكونها لا ريب فيها لا علة تامة، ومن الممكن كون
الشهرة الأخرى في قبالها مانعة لاتصافها بذلك.
وبعبارة أخرى: كل واحد منهما مانع عن اتصاف الأخرى بعدم الريب.
والحاصل: أنه لا يقال للرواية - بمجردها من دون كون مضمونها مفتى به -:
إنها مما لا ريب فيها، بل عدم الفتوى موجب لكونها ذات ريب.
ومن هنا اشتهر أن الرواية كلما ازدادت صحة ازدادت ضعفا وريبا إذا أعرض
عنها الأصحاب، وكلما ازدادت ضعفا زادت قوة إذا عمل بها الأصحاب كما في
المسألة المشار إليها.
فالروايات الكثيرة المعرض عنها التي تبلغ عشرين رواية - في مسألة عدم
تنصيف المهر إذا مات أحد الزوجين - والتي تدل على عدمه ليس إلا رواية
واحدة ومع ذلك تكون الثانية مفتى بها عند الأصحاب.
إن قلت: قوله في مرفوعة زرارة: (يأتي عنكم الخبران المتعارضان) يدل

(1) عوالي اللآلي: ج 4 ص 133 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم.
(2) الوسائل: ج 18 ص 75 باب 9 من أبواب صفات القاضي قطعة من ح 1.
296

ظاهرا على أن محل السؤال هو الخبر الذي يكون حجة مع قطع النظر عن
المعارضة، وما ذكر في المثال لا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد.
قلت: قوله عليه السلام: (خذ بما اشتهر بين أصحابك... الخ) (1) لعله إشارة إلى
ارتكاز العقلاء في تقديمهم المشهور على الشاذ من غير فرق بين أن يكون على
وجه الترجيح أو التعيين.
وأما الجهة الثالثة - وهي كون الشهرة حجة مطلقة - فيحتاج إلى إلغاء
خصوصيتين: أحدهما كونها متعارضة، ثانيتهما كونها مضمون خبر.
فالأولى لا شك في إلغائها، لان الشهرة لو كانت متعارضة كانت واجبة الاخذ
ففي صورة عدم المعارضة بطريق أولى.
وأما الثانية ففي إلغائها وعدمه وجهان، أظهرهما عدمه، فلا يمكن الحكم
بحجية كل شهرة استنادا إلى هذا الخبر إما بجعل اللام للجنس أو إلغاء الخصوصية.
نعم، يمكن الحكم بحجية قسم منها بملاك آخر غير الاستناد إلى الخبر.
توضيحه: أن المسائل الفقهية - كما يظهر لمن تتبع وتأمل تأملا تاما دقيقا -
على أقسام ثلاثة:
الأول: الأصول المتلقاة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، بحيث عبر فيها بعين ما
نقل عنهم عليهم السلام بلا زيادة ونقصان.
الثاني: المسائل التوضيحية، بمعنى أن ما صدر عنهم عليهم السلام كان مجملا،
فيحتاج إلى توضيح معناه وبيان موضوعه.
الثالث: المسائل التفريعية، بمعنى أن المستنبط - بعد بيان موضوعه - يفرع
على ما صدر عنهم عليهم السلام أمورا وفروعا مستفادة من كلامهم عليهم السلام.
ولا يبعد أن يكون القسم الأول حجة، لعدم دخالة الاجتهاد فيها أصلا لا
توضيحا ولا تفريعا كما في القسمين الأخيرين كذلك، ولا أقل من عدم الجرأة

(1) عولي اللآلي: ج 4 ص 133 ح 229 طبع مطبعة سيد الشهداء - قم.
297

على مخالفته.
هذا، ولكن تشخيص هذه الأقسام الثلاثة وتمييز بعضها عن بعض يحتاج إلى
تتبع تام وتأمل دقيق، فلا يحكم بمجرد وجود شهرة بصدورها عنهم عليهم السلام، ولا
يحكم أيضا بكونها من أحد القسمين الأخيرين، فافهم واغتنم، والله العالم.
فائدة
بناء على عدم إلغاء خصوصية الخبرية يستقيم دليل ما اشتهر بينهم خصوصا
بين المتأخرين منهم، بل استقر بينهم من أن الشهرة جابرة لضعف السند مطلقا وإن
كانوا لم يستندوا في ذلك إلى تلك الرواية فإنه يصير معناها حينئذ أن المشهور
المطابق للخبر لا ريب فيه، وهذا لا فرق فيه بين الاستناد وعدمه.
الحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
إلى هنا جف قلمي عن تقريراته مد ظله
اللهم اغفر لي ولوالدي أقل الطلبة
ولأساتيذي جميعا علي پناه الاشتهاردي
آمين 1368 ه‍. ق
298