الكتاب: محاضرات في أصول الفقه
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للفياض
الجزء: ٥
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك: ٩٦٤-٤٧٠-٠٥٨-٩
ملاحظات: تقرير أبحاث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

محمد إسحاق الفياض
محاضرات
في أصول الفقه
تقرير البحث سيدنا الأستاذ الأعظم
فقيه الطائفة مرجع الأمة زعيم
الحوزة العلمية سماحة آية الله
العظمى الورع التقى السيد
أبو القاسم الموسوي الخوئي
دام ظله الوارف
الجزء الخامس
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(النهي في العبادات)
يقع البحث فيه عن عدة جهات:
الأولى: ما تقدم من أن نقطة الامتياز بين هذه المسألة والمسألة
المتقدمة - وهي مسألة اجتماع الأمر والنهي - هي ان النزاع في هذه المسألة كبروي
فان المبحوث عنه فيها إنما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها
وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى - وهي تعلق
النهي بالعبادة - وفي تلك المسألة صغروي حيث إن المبحوث عنه فيها
إنما هو سراية النهي في مورد الاجتماع والتطابق عن متعلقه إلى ما ينطبق
عليه متعلق الأمر وعدم سرايته.
وعلى ضوء ذلك فالبحث في تلك المسألة في الحقيقة بحث عن اثبات
الصغرى لهذه المسألة، حيث - انها على القول بالامتناع وسراية النهي من
متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر - تكون من إحدى صغريات هذه المسألة
ومصاديقها، فهذه هي النقطة الرئيسية للفرق بين المسألتين.
الثانية: ان مسألتنا هذه من المسائل الأصولية العقلية، فلنا دعويان:
(الأولى) انها من المسائل الأصولية (الثانية) انها من المسائل العقلية.
أما الدعوى الأولى فلما ذكرناه في أول بحث الأصول من أن المسألة
الأصولية ترتكز على ركيزتين: (إحداهما) ان تقع في طريق استنباط
3

الحكم الكلي الإلهي (وثانيتهما) أن يكون ذلك بنفسها أي بلا ضم مسألة أصولية
أخرى، وحيث إن في مسألتنا هذه تتوفر كلتا هاتين الركيزتين فهي من
المسائل الأصولية، فإنها على القول بثبوت الملازمة تقع في طريق استنباط
الحكم الفرعي الكلي بلا واسطة ضم مسألة أصولية أخرى.
وأما الدعوى الثانية فلان الحاكم بثبوت الملازمة بين حرمة عبادة
وفسادها وعدمه إنما هو العقل، ولا صلة له بباب الألفاظ أبدا، ومن
هنا لا يختص النزاع بما إذا كانت الحرمة مدلولا لدليل لفظي، ضرورة
انه لا يفرق في ادراك العقل الملازمة أو عدمها بين كون الحرمة مستفادة
من اللفظ أو من غيره.
وبكلمة أخرى: ان القضايا العقلية على شكلين: (أحدهما) القضايا
المستقلة العقلية بمعنى ان في ترتب النتيجة على تلك القضايا لا نحتاج إلى ضم
مقدمة خارجية، بل هي تتكفل لاثبات النتيجة بنفسها، وهذا معنى
استقلالها وهي كمباحث التحسين والتقبيح العقليين (وثانيهما) القضايا
العقلية غير المستقلة بمعنى ان في ترتب النتيجة عليها نحتاج إلى ضم مقدمة
خارجية وهذا هو معنى عدم استقلالها وهي كمباحث الاستلزامات العقلية
كمبحث مقدمة الواجب، ومبحث الضد، وما شكلهما، فان الحاكم في
هذه المسائل هو العقل لا غيره، ضرورة انه يدرك وجود الملازمة بين ايجاب
شئ وايجاب مقدمته، وبين وجوب شئ وحرمة ضده، وهكذا، ومسألتنا
هذه من هذا القبيل (الثالثة) ان محل النزاع في المسألة إنما هو في
النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات وأما النواهي الارشادية المتعلقة
بهما التي تدل على مانعية شئ لهما كالنهي عن المعاملة الغررية مثلا
وكالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه وما شاكل ذلك فهي خارجة عن
محل النزاع جزما والسبب فيه ظاهر وهو انه لا اشكال ولا خلاف في
4

دلالة تلك النواهي على الفساد بداهة انه إذا أخذ عدم شئ في عبادة أو
معاملة فبطبيعة الحال تقع تلك العبادة أو المعاملة فاسدة عند اقترانها بهذا
الشئ لفرض انها توجب تقييد اطلاق أدله العبادات والمعاملات بغير
هذه الحصة فلا تشملها.
وعلى الجملة فحال هذه النواهي حال الأوامر المتعلقة بالاجزاء
والشرائط في أبواب العبادات والمعاملات، وقد ذكرناه في أول بحث
النواهي بصورة موسعة، وقلنا هناك ان الأمر والنهي في نفسهما وان كانا
ظاهرين في المولوية فلا يمكن حملهما على الارشاد من دون قرينة الا ان
هذا الظهور ينقلب في هذه النواهي والأوامر وعليه فلا محالة يكون مثل
هذا النهي إذا تعلق بعبادة أو معاملة مقيدا لاطلاق أدلتهما بغير هذه الحصة
المنهى عنها ومن هنا لم يقع خلاف فيما نعلم في دلالته على الفساد فيهما
أما في الأولى فلفرض انها لا تنطبق على تلك الحصة ومع عدم الانطباق
لا يمكن الحكم بالصحة حيث إنها تنتزع من انطباق المأمور به على الفرد
المأتي به خارجا وأما في الثانية فلفرض عدم شمول دليل الامضاء لها
وبدونه لا يمكن الحكم بالصحة.
الرابعة: انه لا اشكال ولا كلام في أن النهي النفسي التحريمي
داخل في محل النزاع وإنما الاشكال والكلام في موردين: (الأول)
في النهي التنزيهي وهل هو داخل فيه أم لا؟ (الثاني) في النهي الغيري.
أما الأول فالصحيح في المقام أن يقال إن النهي التنزيهي المتعلق
بالعبادة تارة ينشأ من حزازة ومنقصة في تطبيق الطبيعي الواجب على
حصة خاصة منه من دون أية حزازة ومنقصة في نفس تلك الحصة،
ولذا يكون حالها حال سائر حصصه وأفراده في الوفاء بالغرض، وذلك
كالنهي المتعلق بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلا، والصلاة في مواضع
5

التهمة وما شاكل ذلك. وأخرى ينشأ من حزازة ومنقصة في ذات
العبادة.
وبعد ذلك نقول: إن النهي التنزيهي على التفسير الأول خارج عن
مورد النزاع، بداهة انه لا يدل على الفساد بل هو يدل على الصحة. وعلى
التفسير الثاني داخل فيه، ضرورة ان الشئ إذا كان مكروها في نفسه
ومرجوحا في ذاته لم يمكن التقرب به فلا فرق عندئذ بينه وبين النهي
التحريمي من هذه الناحية أصلا. وبكلمة أخرى ان النهي التنزيهي إذا
كان متعلقا بالعبادة الفعلية كالصلاة في الحمام مثلا يدل على صحتها دون
فسادها نظرا إلى أن مدلوله الالتزامي هو ترخيص المكلف في الاتيان بمتعلقة
ومعنى ذلك جواز الامتثال به وعدم تقييد الواجب بغيره، ولا نعني
بالصحة الا ذلك، وهذا بخلاف ما إذا كان متعلقا بذات العبادة، فإنه
يدل على كراهيتها ومبغوضيتها، ومن المعلوم انه لا يمكن التقرب بالمبغوض
وإن كانت مبغوضيته ناقصة. فالنتيجة في نهاية الشوط هي أن النهي التنزيهي
على التفسير الأول خارج عن محل النزاع، وعلى التفسير الثاني داخل فيه.
وأما الثاني وهو النهي الغيري كالنهي عن الصلاة التي تتوقف على
تركها إزالة النجاسة عن المسجد بناء على ثبوت الملازمة بين الامر بشئ
والنهي عن ضده فهو خارج عن مورد الكلام، ولا يدل على الفساد
بوجه، والسبب في ذلك ما عرفت بشكل موسع في مبحث الضد من أن
هذا النهي على تقدير القول به لا يكشف عن كون متعلقه مبغوضا كي
لا يمكن التقرب به، فان غاية ما يترتب على هذا النهي إنما هو منعه عن
تعلق الامر بمتعلقه فعلا ومن الطبيعي ان صحة العبادة لا تتوقف على
وجود الامر بها بل يكفي في صحتها وجود الملاك والمحبوبية.
نعم مع فرض عدم الامر بها لا يمكن كشف الملاك فيها الا انه مع
6

ذلك قلنا بصحتها من ناحية الترتب على ما أوضحناه هناك نعم لو لم نقل به
فلا مناص من الالتزام بالفساد. وقد تحصل من ذلك ان الداخل في محل
النزاع في مسألتنا هذه إنما هو النهي النفسي التحريمي والنهي التنزيهي
المتعلق بذات العبادة واما بقية أقسام النواهي فهي خارجة عنه.
الخامسة: لا شبهة في أن المراد من العبادة في عنوان المسألة ليس
العبادة الفعلية، ضرورة استحالة اجتماعها مع الحرمة كذلك، كيف
فان معنى حرمتها فعلا هو كونها مبغوضة للمولى فلا يمكن التقرب بها،
ومعنى كونها عبادة فعلا هو كونها محبوبة له ويمكن التقرب بها، ومن
المعلوم استحالة اجتماعهما كذلك في شئ واحد، بلى المراد منها العبادة
الشأنية بمعنى انه إذا افترضنا تعلق الامر بها لكانت عبادة. وان شئت
قلت: ان المراد منها كل عمل لو أمر به لكان عباديا فمثل هذا العمل
لو وقع في حيز النهي صار موردا للكلام والنزاع وان هذا النهي هل
يستلزم فساده أم لا، والمراد من المعاملات هو كل أمر اعتباري قصدي
يتوقف ترتيب الأثر عليه شرعا أو عرفا على قصد اعتباره وانشائه من
ناحية، وابرازه في الخارج بمبرز ما من ناحية أخرى، ومن الطبيعي انها
بهذا المعنى تشمل العقود والايقاعات فلا موجب عندئذ لاختصاصها بالمعاملات
المتوقفة على الايجاب والقبول. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان
كل ما لا يتوقف ترتيب الأثر على قصده وانشائه بل يكفي فيه مطلق وجوده
في الخارج كتطهير البدن والثياب وما شاكلهما فهو خارج عن محل الكلام
ولا صلة له به.
السادسة: ان الصحة والفساد في العبادات والمعاملات هل هما مجعولان
شرعا كسائر الأحكام الشرعية أو واقعيان أو تفصيل بين العبادات والمعاملات
فهما مجعولان شرعا في المعاملات دون العبادات أو تفصيل في خصوص
7

المعاملات بين المعاملات الكلية والمعاملات الشخصية، فهما في الأولى مجعولان
شرعا دون الثانية أو تفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية فالثانية
مجعولة دون الأولى فيه وجوه بل أقوال: قد اختار المحقق صاحب
الكفاية (قده) التفصيل في خصوص المعاملات واختار شيخنا الأستاذ (قده)
التفصيل الأخير والصحيح هو التفصيل الأول.
وبعد ذلك نقول: إنه لا شك في أن الصحة والفساد من الأوصاف
الطارئة على الموجودات الخارجية، فالشئ الموجود يتصف بالصحة مرة
وبالفساد أخرى واما الماهيات فهي مع قطع النظر عن طرو الوجود عليها لا يعقل
اتصافها بالصحة أو الفساد أبدا، والسبب في ذلك ان الصحة لا تخلو
من أن تكون من الأمور الانتزاعية أو الأمور المجعولة، فعلى كلا التقديرين
لا يعقل عروضها على الماهية المعدومة في الخارج أما على الأول فظاهر
حيث إنها في العبادات إنما تنتزع من انطباق الطبيعة المأمور بها على العمل
المأتى به في الخارج، كما أن الفساد فيها ينتزع من عدم انطباقها عليه،
وكذا المعاملات، فان الصحة فيها تنتزع من انطباق الطبيعة المعاملة الممضاة
شرعا على الفرد الموجود في الخارج، كما أن الفساد فيها ينتزع من عدم
انطباقها عليه، فمورد عروض الصحة والفساد إنما هو الفرد الخارجي
باعتبار الانطباق وعدمه. واما على الثاني فكذلك، فان حكم الشارع
بالصحة أو الفساد إنما هو للعمل الصادر من المكلف في الخارج، وأما
العمل الذي لم يصدر منه فلا يعقل ان يحكم الشارع بصحته تارة وبفساده
تارة أخرى. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان الصحة والفساد إنما تعرضان على الشئ
المركب ذا اثر في الخارج دون البسيط فيه والوجه في هذا واضح وهو
أن الشئ إذا كان مركبا وكان ذا اثر فبطبيعة الحال إذا وجد في الخارج
8

جامعا لجميع الاجزاء والشرائط اتصف بالصحة باعتبار ترتب اثره
(المترقب منه) وإذا وجد فاقدا لبعض الاجزاء أو الشرائط اتصف
بالفساد باعتبار عدم ترتب اثره على الفاقد. واما إذا كان بسيطا فهو
لا يخلو من أن يكون موجودا في الخارج أو معدوما فيه ولا ثالث لهما،
ومعه كيف يعقل اتصافه بالصحة مرة وبالفساد مرة أخرى. ومن ناحية
ثالثة ان الصحة والفساد وصفان إضافيان فيكون شئ واحد يتصف تارة
بالصحة وأخرى بالفساد، وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في مبحث
الصحيح والأعم بشكل موسع.
ثم اننا قد قوينا في الدورات السابقة ما اختاره شيخنا الأستاذ (قده)
من التفصيل في المسألة، بيان ذلك انا قد ذكرنا في تلك الدورات ان
ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات إنما هو بالانطباق على الموجود
الخارجي وعدم الانطباق عليه.
أما في العبادات فظاهر حيث إنها لا تتصف بالصحة أو الفساد في
مقام الجعل والتشريع، وإنما تتصف بهما في مقام الامتثال والانطباق،
مثلا إذا جاء المكلف بالصلاة في الخارج، فان انطبقت عليها الصلاة
المأمور بها انتزعت الصحة لها والا انتزع الفساد، ومن البديهي ان انطباق
الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمر ان تكوينيان وغير
قابلين للجعل تشريعا من دون فرق في ذلك بين الماهيات الجعلية وغيرها
فانطباق المأمور به الواقعي الأولي أو الثانوي أو الظاهري على الموجود
الخارجي وعدم انطباقه عليه كانطباق الماهيات المتأصلة علي فردها الموجود
في الخارج وعدمه، فكما ان الانطباق على ما في الخارج أو عدمه في الماهيات
المتأصلة أمر قهري تكويني غير قابل للجعل شرعا، فكذلك الانطباق
وعدمه في الماهيات المخترعة، وهذا معنى قولنا ان الصحة والفساد فيها
9

أمران واقعيان وليسا بمجعولين أصلا لا أصالة ولا تبعا.
واما في المعاملات فكذلك حيث إنها لا تتصف بالصحة أو الفساد
في مقام الجعل والامضاء وإنما تتصف بهما في مقام الانطباق والخارج،
مثلا البيع ما لم يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد، فإذا
وجد فيه فان انطبق على البيع الممضى شرعا اتصف بالصحة والا فبالفساد
وكذا الحال في الإجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك.
وبكلمة أخرى ان الممضاة شرعا إنما هي المعاملات الكلية بمقتضى
أدلة الامضاء كقوله تعالى " أحل الله البيع " وأوفوا بالعقود " وتجارة
عن تراض " وقوله ص (النكاح سنتي) وقوله (ع) (الصلح جائز بين
المسلمين) ونحو ذلك دون افرادها الخارجية، وإنما تتصف تلك الافراد
بالصحة تارة وبالفساد أخرى باعتبار انطباق تلك المعاملات عليها وعدم انطباقها
فإذا وقع بيع في الخارج، فان انطبق عليه البيع الكلي الممضى شرعا حكم
بصحته والا فلا. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد عرفت ان
الانطباق وعدمه أمران تكوينيان غير قابلين للجعل تشريعا. فالنتيجة على
ضوئهما ان حال الصحة والفساد في المعاملات حالهما في العبادات فلا فرق
بينهما من هذه الناحية أصلا، هذا كله في الصحة الواقعية.
وأما الصحة الظاهرية فالصحيح انها مجعولة شرعا في العبادات
والمعاملات. أما في الأولى فكالصحة في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ
فإنه لولا حكم الشارع بانطباق المأمور به على المشكوك فيه تعبدا، لكانت العبادة
محكومة بالفساد لا محالة وأما في الثانية فكالصحة في موارد الشك في
بطلان الطلاق أو نحوه فإنه لولا حكم الشارع بالصحة في هذه الموارد لكان
الطلاق مثلا محكوما بالفساد لا محالة.
هذا والصحيح ما اخترناه وهو التفصيل بين كون الصحة والفساد
10

في العبادات غير مجعولين شرعا وفي المعاملات مجعولين كذلك. أما في
العبادات فقد عرفت انهما منتزعان من انطباقها على الموجود الخارجي وعدم
انطباقها عليه فلا تنالهما يد الجعل أصلا.
وأما في المعاملات فالامر فيها ليس كذلك، والسبب فيه هو انها
تمتاز عن العبادات في نقطة واحدة وتلك النقطة هي الموجبة لافتراقها عن
العبادات من هذه الناحية، وهي: ان نسبة المعاملات إلى الامضاء الشرعي
في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه، وهذا
بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها، فان نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة
المتعلق لا الموضوع، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى اننا قد حققنا في محله ان موضوع الحكم في
القضايا الحقيقية قد أخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون
متعلقه، ولذا تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون
الحكم فعليا فيها بدون فعليه موضوعه، فلا حكم قبل فعليته الا على نحو
الفرض والتقدير.
ومن ناحية ثالثة ان الحكم ينحل بانحلال افراد موضوعه في الخارج
فيثبت لكل فرد منه حكم على حده. ومن ناحية رابعة ان معنى اتصاف
المعاملات بالصحة أو الفساد إنما هو بترتب الأثر الشرعي عليها وعدم
ترتبة ومن الواضح ان الأثر الشرعي إنما يترتب على المعاملة الموجودة في
الخارج دون الطبيعي غير الموجود فيه.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي. ان المعاملات بما انها أخذت
مفروضة الوجود في لسان أدلتها فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء على فعليتها
في الخارج فما لم تتحقق المعاملة فيه لم يعقل تحقق الامضاء لاستحالة فعلية
الحكم بدون فعلية موضوعه. وعلى ذلك فإذا تحقق بيع مثلا في الخارج
تحقق الامضاء الشرعي والا فلا امضاء أصلا، لما عرفت من أن الامضاء
11

الشرعي في باب المعاملات لم يجعل لها على نحو صرف الوجود، لتكون
صحتها منتزعة من انطباقها على الفرد الموجود وفسادها من عدم انطباقها عليه.
وقد تحصل من ذلك ان المعاملات بما انها موضوعات للامضاء
الشرعي فبطبيعة الحال يتعد الامضاء بتعدد افرادها فيثبت لكل فرد منها
امضاء مستقل مثلا الحلية في قوله تعالى " أحل الله البيع " تنحل بانحلال افراد
البيع فتثبت لكل فرد منه حلية مستقلة غير مربوطة بالحلية الثابتة لفرد
آخر منه، وهكذا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا لا نعقل للصحة
والفساد في باب المعاملات معنى الا امضاء الشارع لها وعدم امضائه من
جهة شمول الاطلاقات والعمومات لها وعدم شمولها، فكل معاملة واقعة
في الخارج من البيع أو نحوه فإن كانت مشمولة لاطلاقات أدلة الامضاء
وعموماتها فهي محكومة بالصحة والا فبالفساد، وعلى هذا الضوء لا يمكن
تفسير الصحة فيها إلا بحكم الشارع بترتيب الأثر عليها، كما أنه لا يمكن
تفسير الفساد فيها إلا بعدم حكم الشارع بذلك. وعلى الجملة فمعنى ان
هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعا ليس الا حكم الشارع بترتيب
الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية، كما أنه لا معنى لفساده
شرعا إلا عدم حكمه بذلك.
إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي: ان الصحة والفساد
في العبادات أمران واقعيان وفي المعاملات أمران مجعولان شرعا.
وعلى ضوء هذه النتيجة قد تبين بطلان نظرية شيخنا الأستاذ (قده) من أن الصحة والفساد في المعاملات كالصحة والفساد في العبادات غير
مجعولين شرعا لا أصالة ولا تبعا، ووجه التبين ما عرفت من أن هذه
النظرية تبتنى على نقطة واحدة وهي كون المعاملات كالعبادات متعلقات
للامضاءات الشرعية لا موضوعات لها، وعليه فبطبيعة الحال تكون صحتها
12

منتزعة من انطباقها على ما في الخارج، وفسادها من عدم انطباقها، ولكن
من المعلوم ان هذه النقطة خاطئة حتى عنده (قده) فلا واقع موضوعي
لها حيث إنه قد صرح في غير مورود ان نسبة المعاملات إلى الأحكام الوضعية
نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه، وعلى ذلك فالجمع
بين كون الصحة والفساد في المعاملات أمرين منتزعين واقعا وبين كون
نسبة المعاملات إلى اثارها الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم جمع بين
المتناقضين، ضرورة ان لازم كون نسبتها إليها نسبة الموضوع إلى الحكم
هو كونهما أمرين مجعولين شرعا كما أنه ظهر بذلك فساد ما أفاده المحقق
صاحب الكفاية (قده) من التفصيل بين المعاملات الكلية كالبيع والإجارة
والصلح والنكاح وما شاكل ذلك وبين المعاملات الشخصية الواقعة في
الخارج فبنى (قده) على أن الصحة والفساد في الأولى مجعولان شرعا،
وفي الثانية منتزعان واقعا بدعوى ان المعاملات الشخصية غير مأخوذة في
موضوع أدلة الامضاء حيث أن المأخوذ فيها هو المعاملات بعناوينها الكلية
وعندئذ فان انطبقت هذه المعاملات عليها في الخارج اتصفت بالصحة والا
فبالفساد. ووجه الظهور هو ان أخذ تلك العناوين الكلية في موضوع
أدلة الامضاء إنما هو للإشارة إلى افرادها الواقعة في الخارج حيث قد
تقدم انها أخذت مفروضة الوجود فيه وعليه فبطبيعة الحال يكون الموضوع
هو نفس تلك الافراد فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل وامضاء على حده
كما مر ذلك آنفا بشكل موسع. فما أفاده (قده) من التفصيل خاطئ
جدا ولا واقع موضوعي له أصلا.
السابعة: ان النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أقسام: (الأول)
ما يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صلاة الحائض وصوم يومي العيدين وهكذا
(الثاني) ما يتعلق بجزء منها. (الثالث) ما يتعلق بشرط منها. (الرابع)
13

ما يتعلق بوصفها الملازم لها كالجهر والخفت في القراءة. الخامس ما يتعلق
بوصفها المفارق وغير الملازم لها كالتصرف في مال الغير الملازم لاكوان
الصلاة في مورد الالتقاء والاجتماع وهو الأرض المغصوبة - لا مطلقا. ومن
هنا يكون هذا التلازم بينهما اتفاقيا لا دائميا. هذا مجمل الأقسام واليكم
تفصيلها:
أما القسم الأول: وهو النهي المتعلق بذات العبادة فلا شبهة في
دلالته على الفساد وثبوت الملازمة بين حرمتها وبطلانها والسبب في ذلك
واضح وهو ان العبادة كصلاة الحائض مثلا وصومي العيدين وما شكلهما
إذا كانت محرمة ومبغوضة للمولى لم يمكن التقرب بها لاستحالة التقرب
بما هو مبغوض له فعلا كيف فإنه مبعد والمبعد لا يعقل أن يكون مقربا
ومعه لا تنطبق الطبيعة المأمور بها عليه لا محالة، وهذا معنى فساده.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون حرمتها ذاتية أو تشريعية نعم فرق بين
الصنفين من الحرمة في نقطة أخرى وهي أن صلاة الحائض لو كانت
حرمتها ذاتية فمعناها انها محرمة مطلقا ولو كان الاتيان بها بقصد التمرين
فحالها من هذه الناحية حال سائر المحرمات. وإن كانت حرمتها تشريعية
فمعناها الها لا تكون محرمة مطلقا بل المحرم إنما هو حصة خاصة منها
وهي الحصة المقترنة بقصد القربة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا
قد ذكرنا غير مرة ان التشريع العملي عبارة عن الاتيان بالعمل مضافا إلى
المولى سبحانه فيكون عنوانا له ومن هنا قلنا إنه افتراء عملي. وعلى ذلك
بما ان هذه الحصة الخاصة من الصلاة وهي الصلاة مع قصد القربة محرمة
على الحائض ومبغوضة للمولى يستحيل ان تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها
لاستحالة كون المحرم مصداقا للواجب، فاذن لا محالة تقع فاسدة.
فالنتيجة هي أنه لا فرق في استلزام حرمة العبادة فسادها بين كونها
14

ذاتية أو تشريعية. فهما من هذه الناحية على صعيد واحد. هذا من
جهة. ومن جهة أخرى انه لا يمكن تصحيح هذه العبادة المنهى عنها
بالملاك يتخيل ان الساقط إنما هو أمرها نظرا إلى عدم امكان اجتماع الأمر والنهي
في شئ واحد واما الملاك فلا موجب لسقوطه أصلا، وذلك لعدم
الطريق إلى احراز كونها واجدة لملاك في هذا الحال، فان الطريق إلى
احراز ذلك أحد أمرين: (الأول) وجود الامر بها، فإنه يكشف عن
كونها واجدة له. الثاني انطباق طبيعة المأمور بها عليها والمفروض هنا التفاء
كلا الامرين كما عرفت، هذا مضافا إلى انها لو كانت واجدة للملاك
لم يكن ذلك الملاك مؤثرا في صحتها قطعا، ضرورة انها مع كونها
محرمة فعلا ومبغوضة كذلك كيف يكون ملاكها مؤثرا في محبوبيتها وصالحا
للتقرب بها، وهذا واضح.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه انه لا شبهة في فساد العبادة
المنهى عنها بلا فرق بين أن يكون النهي عنها نهيا ذاتيا أو تشريعيا. هذا
كله في النهي المتعلق بذات العبادة. وأما القسم الثاني وهو النهي المتعلق
بجزء العبادة فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه لا اشكال في
استلزامه فساد الجزء، ولكنه لا يوجب فساد العبادة الا إذا اقتصر المكلف
عليه في مقام الامتثال، وأما إذا لم يقتصر عليه وأتى بعده بالجزء غير
المنهى عنه تقع العبادة صحيحة لعدم المقتضي لفسادها عندئذ الا ان يستلزم
ذلك موجبا آخر للفساد كالزيادة العمدية أو نحوها، وهذا أمر آخر أجنبي
عما هو محل الكلام هنا. فالنتيجة ان النهي عن الجزء بما هو نهى عنه
لا يوجب الا فساده دون فساد أصل العبادة.
ولكن أورد على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) واليك نصه: واما
النهي عن جزء العبادة فالتحقيق انه يدل أيضا على فسادها، وتوضيح
الحال فيه هو أن جزء العبادة أما ان يؤخذ فيه عدد خاص كالوحدة
15

المعتبرة في السورة بناء على حرمة القران، أما ان لا يؤخذ فيه ذلك.
أما الأول أعني به جزء العبادة؟؟؟ فيه عدد خاص فالنهي المتعلق به
يقتضي فساد العبادة لا محالة، لان الآتي به في ضمن العبادة اما ان يقتصر
عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهى عنه، وعلى كلا التقديرين
لا ينبغي الاشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه، فان الجزء المنهي عنه
لا محالة يكون خارجا عن اطلاق دليل الجزئية أو عمومه فيكون وجوده
كعدمه، فان اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها
جزئها، وان لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة
في الجزء كما هو الفرض. ومن هنا تبطل صلاة من قراء إحدى العزائم
في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر، لان قرائتها تستلزم الاخلال
بالفريضة من جهة ترك السورة أو من جهة لزوم القران، بل لو بنينا على
جواز القران لفسدت الصلاة في الفرض أيضا، لان دليل الحرمة قد
خصص دليل الجواز بغير الفرد المنهي عنه فيحرم القران بالإضافة إليه
لا محالة، هذا مضافا إلى أن تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة
إليه بشرط لا سواء اتي به في محله المناسب له كقراءة العزيمة بعد الحمد أم
أتى به في غير محله كقرائتها بين السجدتين.
ويترتب على ذلك أمور كلها موجبة لبطلان العبادة المشتملة عليه:
(الأول) كون العبادة مقيدة بعدم ذلك الجزء المنهى عنه فيكون وجوده
مانعا عن صحتها، وذلك يستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده. (الثاني)
كونه زيادة في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها
في صحتها، ولا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به
من جنس أحد أجزاء العمل. نعم يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان
المأتي به من غير جنسه. الثالث خروجه عن أدلة جواز مطلق الذكر
16

في صلاة، فان دليل الحرمة لا؟؟ يوجب تخصيصها بغير الفرد
المحرم فيندرج؟؟ المحرم في عموم أدلة بطلان الصلاة بالتكلم العمدي،
إذ الخارج عن عمومها إنما هو الذكر غير المحرم. وما ذكرناه هو الوجه
في بطلان الصلاة بالذكر المنهى عنه. واما ما يتوهم من أن الوجه في ذلك
هو دخوله في كلام الآدميين فهو فاسد، لأن المفروض انه ذكر محرم.
ومن الواضح انه لا يخرج بسبب النهي عنه عن كونه ذكرا ليدخل في
كلام الآدميين.
وأما الثاني - وهو ما لم يؤخذ فيه عدد خاص - فقد اتضح الحال فيه
مما تقدم، لان جميع الوجوه المذكورة المقتضية لفساد العبادة المشتملة على
الجزء المنهى عنه جارية في هذا القسم أيضا وإنما يختص القسم الأول
بالوجه الأول منها انتهى ".
نحلل ما أفاده (قده) من البيان إلى عدة نقاط: (الأولى) بطلان
العبادة في صورة اقتصار المكلف على الجزء المنهى عنه في مقام الامتثال
(الثانية) ان حرمة الجزء توجب تخصيص دليل جواز القران بغير الفرد
المنهى عنه لا محالة فيحرم القران بالإضافة إلى هذا الفرد في ظرف الامتثال
(الثالثة) ان النهي عن جزء لا محالة يوجب تقييد العبادة بغيره (الرابعة) انه
لا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من سنخ أجزاء
العمل (الخامسة) ان الجزء المنهى عنه خارج عن عموم ماد؟؟ على جواز
مطلق الذكر في الصلاة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فالامر كما افاده (قده) من أن المكلف إذا
اقتصر عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة فقدانها الجزء، ولا
17

فرق في ذلك بين أن يكون الجزء مأخوذا بشرط لا أو لا بشرط كما
هو واضح.
وأما النقطة الثانية: فيردها انه بناء على القول بجواز القران في
العبادة وعدم كونه مانعا عن صحتها كما هو المفروض لم تكن حرمة الجزء
في نفسها موجبة لبطلانها ما لم يكن هناك موجب آخر له، والوجه في
ذلك واضح وهو ان حرمة الجزء في نفسها لا توجب اعتبار عدم القران
في صحة العبادة ليكون القران مانعا عنها، كيف فان حرمة القران في
العبادة عبارة عن اعتبار عدم اقتران جزء بمثله في صحة تلك العبادة، ومن
المعلوم ان حرمة جزء لا تستلزم ذلك، ضرورة ان اعتباره يحتاج إلى مؤونة
زائدة فلا يكفي في اعتباره مجرد حرمته ومبغوضيته، فاذن لا يترتب عليها
إلا بطلان نفسه وعدم جواز الاقتصار به في مقام الامتثال دون بطلان
أصل العبادة، الا إذا كان هناك موجب آخر له كالنقيصة أو الزيادة.
واما النقطة الثالثة: فيرد عليها ان حرمة جزء العبادة لو كانت
موجبة لتقييد العبادة بغيره من الاجزاء لكانت حرمة كل شئ موجبة
لذلك، ضرورة انه لا فرق في ذلك بين كون المحرم من سنخ اجزاء
العبادة وبين كونه من غير سنخها من هذه الناحية أصلا. وعلى هذا فلا بد
من الالتزام ببطلان كل عبادة قد أتى المكلف في أثنائها بفعل محرم كالنظر
إلى الأجنبية مثلا في الصلاة، مع أن هذا واضح البطلان، فاذن الصحيح
في المقام أن يقال إن حرمة شئ تكليفا لا تستلزم تقييد العبادة بالإضافة
إليه بشرط لا، بداهة انه لا تنافي بين صحة العبادة في الخارج وحرمة
ذلك الشئ المأتي به في أثنائها.
فالنتيجة أن حال الجزء المنهى عنه حال غيره من المحرمات فكما ان
الاتيان بها في أثناء العبادة لا يوجب فسادها، فكذلك الاتيان بهذا الجزء
18

المنهي عنه فلا فرق بينهما من تلك الناحية ابدا.
وعلى الجملة فحرمة الجزء في نفسها لا تستلزم فساد العبادة الا إذا
كان هناك موجب آخر له كالزيادة العمدية أو النقيصة أو نحو ذلك لوضوح
انه لا منشأ لتخيل اقتضاء حرمته الفساد الا تخيل استلزامها تقييد العبادة
بالإضافة إليه بشرط لا، ولكن من المعلوم ان هذا مجرد خيال لا واقع موضوعي
له أصلا وذلك لان ما دل على حرمته لا يدل على تقييد العبادة بغيره لوضوح
ان تقييدها كذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي فيه مجرد حرمة شئ
تكليفا وإلا لدل عليه كل دليل قام على حرمة شئ كالنظر إلى الأجنبية
أو إلى عورة شخص أو نحو ذلك، مع أن هذا واضح البطلان.
وبكلمة أخرى ان التقييد بعدم شئ على نحوين (أحدهما) شرعي
وهو تقييد الصلاة بعدم القهقهة والتكلم بكلام الآدميين وما شاكلهما، فان
مرد هذا التقييد إلى أن وجود هذه الأشياء مانع عنها شرعا وعدمها معتبر
فيها (وثانيهما) عقلي وهو عدم انطباق الصلاة المأمور بها على المقيد
بذلك الشئ أي لا يكون المقيد به مصداقا لها، فان هذا التقييد لا يرجع
إلى أن وجود هذا الشئ مانع عنها شرعا وعدمه معتبر فيها كذلك، بل
مرده إلى أن المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة وهي لا تنطبق على
المقيد به، وما نحن فيه من قبيل الثاني، فان ما دل على حرمة جزء لا محالة
يقيد اطلاق الامر المتعلق بهذا الجزء بغير هذه الحصة فلا ينطبق الجزء
المأمور به عليها، لاستحالة انطباق المأمور به على الفرد المنهى عنه، مثلا
ما دل على حرمة قراءة سور العزائم في الصلاة بطبيعة الحال تقيد اطلاق
ما دل على جزئية السورة بغيرها ومن المعلوم ان مرد ذلك إلى أن الواجب
هو الصلاة المقيدة بحصة خاصة من السورة فلا تنطبق على الصلاة الفاقدة
لتلك الحصة، وعليه فان اقتصر المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام
19

الامتثال بطلت الصلاة من ناحية عدم انطباق الصلاة المأمور بها على الفرد
المأتي به في الخارج وان لم يقتصر عليه بل أتى بعده بالفرد غير المنهى عنه
أيضا فلا موجب لبطلانها أصلا، غاية الأمر انه قد ارتكب في أثناء الصلاة
أمرا محرما وقد عرفت انه لا يوجب البطلان.
وأما النقطة الرابعة: فمضافا إلى الها لو تمت لكانت خاصة
بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات يرد عليها ان صدق عنوان الزيادة في
الجزء على ما بيناه في محله يتوقف على قصد جزئية ما يؤتى به في الخارج
والا فلا تصدق الزيادة من دون فرق في ذلك بين أن يكون ما أتى به من
جنس أجزاء العمل أو من غير جنسها. نعم لا يتوقف صدق الزيادة على
القصد في خصوص الركوع والسجود، بل لو اتى بهما من دون قصد
ذلك لكان مبطلا للصلاة، الا ان ذلك من ناحية النص الخاص الوارد في
المنع عن قراءة العزيمة في الصلاة معللا بأنها زيادة في المكتوبة وهذا النص
وإن ورد في السجود خاصة إلا انا نقطع بعدم الفرق بينه وبين الركوع
وتمام الكلام في محله. فالنتيجة انه لا يصدق على الاتيان بالجزء المنهي
عنه بدون قصد الجزئية عنوان الزيادة لتكون مبطلة للصلاة.
وأما للنقطة الخامسة: فمضافا إلى اختصاص تلك النقطة بالصلاة
ولا تعم غيرها من العبادات انه لا دليل على بطلان الصلاة بالذكر المحرم
فان الدليل إنما يدل على بطلانها بكلام الآدميين ومن المعلوم ان الذكر
المحرم ليس من كلامهم على الفرض.
واما القسم الثالث - وهو النهي المتعلق بالشرط - فقد ذكر المحقق صاحب
الكفاية ان حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به
أيضا الا إذا كان الشرط عبادة. وبكلمة أخرى ان الشرط إذا كان توصليا كما هو
الغالب في شرائط العبادات فالنهي عنه لا يوجب فساده فضلا عن فساد العبادة
20

المشروطة به، فان الغرض منه يحصل بصرف ايجاده في الخارج ولو كان ايجاده
في ضمن فعل محرم. واما إذا كان عباديا كالوضوء أو الغسل أو نحو ذلك
فالنهي عنه لا محالة يوجب فساده ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض
للمولى ومن المعلوم ان فساده يستلزم فساد العبادة للمشروطة به هذا.
ولشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وملخصه: هو أن شرط العبادة
الذي عبر عنه باسم المصدر ليس متعلقا للنهي، ضرورة ان النهي تعلق
بالفعل الصادر عن المكلف باختياره وارادته، لا بما هو نتيجته واثره،
وما هو متعلق للنهي الذي عبر عنه بالمصدر ليس شرطا لها، فاذن ما هو
شرط للعبادة ليس متعلقا للنهي، وما هو متعلق له ليس شرطا لها، مثلا
الصلاة مشروطة بالستر فإذا افترضنا ان الشارع نهى عن ليس ثوب خاص
فيها فعندئذ إن كان مرد هذا النهي إلى النهي عن الصلاة فيه فهو لا محالة يوجب
بطلانها، وان لم يكن مرده إلى ذلك كما هو المفروض حيث قد عرفت ان
متعلق النهي غير ما هو شرط فعندئذ لا وجه لبطلانها أصلا ويكون حاله
حال النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
ان شرائط الصلاة بأجمعها توصلية فيحصل الغرض منها ولو بايجادها في
ضمن فعل محرم.
ومن هنا يظهر بطلان تقسيم الشرط إلى كونه عباديا كالطهارات الثلاث
وغير عبادي كالتستر ونحوه، فان ما هو شرط للصلاة هو الطهارة بمعنى
اسم المصدر المقارنة لها زمانا. واما الافعال الخاصة كالوضوء والغسل
والتيمم فهي بأنفسها ليست بشرط وإنما تكون محصلة للشرط، فاذن ما هو
شرط لها - وهو الطهارة بالمعنى المزبور - ليس بعبادة، وما هو عبادة
- وهو تلك الأفعال الخاصة - ليس بشرط ولذا لا يعتبر فيها قصد القربة
وإنما يعتبر قصد القربة في تلك الأفعال فحسب، فحال الطهارة من هذه
21

الناحية حال بقية الشرائط. فالنتيجة ان النهي عن الشرط ان رجع إلى النهي
عن العبادة المتقيدة به فهو يوجب بطلانها لا محالة والا فلا اثر له أصلا.
ونحلل ما أفاده (قده) إلى عدة نقاط: (الأولى) ان النهي
المتعلق بالشرط يرجع في الحقيقة إلى النهي عما هو مفاد المصدر والمفروض
انه ليس بشرط، وما هو شرط - وهو المعنى الذي يكون مفاد اسم المصدر -
ليس بمنهى عنه (الثانية) ان الشرط في مثل الوضوء والغسل والتيمم إنما
هو الطهارة المتحصلة من تلك الأفعال لا نفس هذه الأفعال: (الثالثة)
ان شرائط الصلاة بأجمعها توصلية:
ولنأخذ بالمناقشة على هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فيرد عليها انه (قده) ان أراد من المصدر
واسم المصدر المقدمة وما يتولد منها بدعوى ان النهي المتعلق بالمقدمة لا يوجب
فساد ما يتولد منها ويترتب عليها كالنهي عن غسل الثوب مثلا أو البدن
بالماء المغصوب، فإنه لا يوجب فساد الطهارة الحاصلة منه فلا يمكن المساعدة
عليه أصلا. والوجه في ذلك هو ما ذكرناه غير مرة من أن ما عبر عنه
باسم المصدر لا يغاير المعنى الذي عبر عنه بالمصدر الا بالاعتبار فالمصدر
باعتبار اضافته إلى للفاعل، واسم المصدر باعتبار اضافته إلى نفسه كالايجاد
والوجود فإنهما واحد ذاتا وحقيقة والاختلاف بينهما بالاعتبار حيث إن
الايجاد باعتبار اضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار اضافته إلى نفسه، وليس
المصدر واسم المصدر من قبيل المثال المذكور، ضرورة ان المثال من السبب
والمسبب والعلة والمعلول. ومن الواضح جدا ان المصدر لبس علة وسببا
لاسم المصدر، بداهة ان العلية والسببية تقتضي الاثنينة والتعدد بحسب
الوجود الخارجي، والمفروض انه لا اثنينية ولا تعدد بين المصدر واسم
المصدر أصلا، بل هما أمر واحد وجودا وماهية. نعم في مثل المثال
22

المزبور لا مانع من أن تكون المقدمة محرمة وما يتولد منها واجبا إذا لم
تكن المقدمة منحصرة وإلا فتقع المزاحمة بينهما كما تقدم في بحث مقدمة
الواجب مفصلا إلا انك عرفت انه خارج عن محل الكلام هنا حيث إنه
في المصدر واسم المصدر وقد عرفت انهما أمر واحد وجودا وخارجا فلا
يعقل أن يكون أحدهما مأمورا به الآخر منهيا عنه، لاستحالة أن يكون المحرم
مصداقا للواجب والمبغوض مصداقا للمحبوب، وعليه فلا محالة يكون النهي عن
شرط يوجب تقييد العبادة المشروطة به بغير هذا الفرد المنهى عنه، مثلا
إذا نهى المولى عن التستر في الصلاة بثوب خاص فلا محالة يوجب تقييد
الصلاة المشروطة بالستر بغير هذا الفرد ولا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها
على هذه الحصة المقترنة به.
وان أراد قده من المصدر واسم المصدر واقعهما الموضوعي فيرد عليه
ما عرفت الآن من أنهما متحدان حقيقة وذاتا ومختلفان بالاعتبار، ومعه
لا يعقل أن يكون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه. ودعوى - ان
النهي تعلق به باعتبار اضافته إلى الفاعل - وهو المعبر عنه بالمصدر - والامر
تعلق به باعتبار اضافته إلى نفسه فلا تنافي بينهما عندئذ - خاطئة جدا وغير
مطابقة للواقع قطعا، وذلك ضرورة أن الشئ الواحد لا يتعدد بتعدد
الإضافة، ومعه كيف يعقل أن يكون مأمورا به والمنهى عنه معا ومحبوبا
ومبغوضا في زمان واحد، وعلى هذا فإذا افترضنا ان المولى نهي عن التستر
حال الصلاة بثوب خاص أو نهى عن الوضوء أو الغسل بماء مخصوص
فلا محالة يكون مرد هذا النهي إلى مبغوضية تقيد الصلاة بهذا الفرد الخاص
وعليه فطبيعة الحال لا تكون الصلاة المقترنة به مأمورا بها لاستحالة اتحاد
المأمور به مع المنهي عنه خارجا.
وبكلمة أخرى ان النهي عن الشرط والقيد لا محالة يرجع إلى تقييد
23

اطلاق دليل العبادة بغير هذه الحصة المنهي عنها، ولازم ذلك ان الواجب
هو الصلاة المقيدة بغير تلك الحصة فلا يطبق عليها، ومع عدم الانطباق
لا محالة تقع فاسدة. فالنتيجة: ان حال النهي عن الشرط من هذه الناحية
حال النهي عن الجزء فلا فرق بينهما. نعم فرق بينهما من ناحية أخرى وهي ان
الاجزاء بأنفسها متعلقة للامر وعبادة فلا تسقط بدون قصد القربة، وهذا
بخلاف الشرائط، فان ذواتها ليست متعلقة للامر والمتعلق له إنما هو تقيد
العبادات بها. ومن هنا تكون الشرائط خارجة عن مقام ذات العبادة
وغير داخلة فيها، ولذا لا يعتبر في سقوطها قصد القربة فلو أتى بالصلاة
غافلا عن كونها واجدة للشرائط كالسر والاستقبال إلى القبلة ونحوهما
صحت، وكيف كان فلا فرق بين الجزء والشرط فيما نحن فيه فكما أن
النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة كالصلاة مثلا بغير الحصة المشتملة على
هذا الجزء فلا يعقل أن تكون تلك الحصة مصداقا للمأمور به وفردا له
لاستحالة كون المبغوض مصداقا للمحبوب فكذلك النهي عن الشرط فإنه
يوجب تقييد اطلاق العبادة بغير الحصة المقترنة به بعين الملاك المزبور:
وقد تحصل مما ذكرناه: أنه بناء على ثبوت الملازمة بين حرمة عبادة
وفسادها لا يفرق في ذلك بين أن تكون الحرمة متعلقة بذاتها أو بجزئها أو
شرطها، فعلى جميع التقادير تقع فاسدة بملاك واحد وهو عدم وقوعها
مصداقا للعبادة المأمور بها فما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن النهي
متعلق بالشرط بالمعنى المصدري وما هو شرط في الواقع والحقيقة هو المعنى
الاسم المصدري فلا يوجب الفساد لا يرجع إلى معنى محصل أصلا، لما
عرفت من أنهما متحدان ذاتا وخارجا ومختلفان اعتبارا، وقد عبر عنهما
في لغة العرب بلفظ واحد، ويفرق بينهما بقرائن الحال أو المقال: نعم
عبر في لغة الفرس عن كل منهما بلفظ خاص، وكيف كان فلا يمكن أن
24

يكون أحدهما متعلقا للامر والآخر متعلقا للنهي:
وأما النقطة الثانية: - وهي - أن الطهارة الحاصلة من الافعال الخاصة
شرط للصلاة دون نفس هذه الأفعال فيردها أن ذلك خلاف ظواهر الأدلة
من الآية والروايات فان الظاهر منها هو أن الشرط لها لنفس تلك الأفعال
والظهارة اسم لها وليست أمرا آخر مسببا عنها. وعلى الجملة فما ذكره (قده)
من كون الطهارة مسببة عنها وإن كان مشهورا بين الأصحاب الا أنه لا يمكن
اتمامه بدليل. ومن هنا قلنا: إن ما ورد في الروايات من أن الوضوء على
الوضوء نور على نور وانه طهور ونحو ذلك ظاهر في أن الطهور اسم لنفس
تلك الأفعال دون ما يكون مسببا عنها على ما فصلنا الكلام فيه في محله.
ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة أيضا - وهي أن شرائط الصلاة
بأجمعها توصلية - ووجه الظهور ما عرفت من أن نفس هذه الأفعال شرائط
لها وهي تعبدية لا توصلية وعليه صمح تقسيم شرائط الصلاة إلى تعبدية
وتوصلية.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من عدم صحة هذا التقسيم خاطئ
جدا ولا واقع موضوعي له أصلا.
وأما القسم الرابع - وهو النهي عن الوصف الملازم للعبادة - فحاله حال
النهي عن العبادة بأحد العناوين السالفة. والوجه في ذلك هو أن النهي عن مثل هذا
الوصف لا محالة يكون مساوقا للنهي عن موصوفه باعتبار ان هذا الوصف
متحد معه خارجا ولا يكون له وجود بدون وجوده، وعليه فلا يعقل
أن يكون أحدهما منهيا عنه والآخر مأمورا به، لاستحالة كون شئ واحد
مصداقا لهما معا ومثال ذلك الجهر والخفت بالقراءة فان النهي عن الجهر
بالقراءة مثلا لا محالة يكون نهيا حقيقة عن القراءة الجهرية أي عن هذه
الحصة الخاصة، ضرورة اله لا وجود للجهر بدون القراءة، كما أنه لا
25

وجود للقراءة بدون الجهر أو الخفت في الخارج فلا يعقل أن يكون الجهر
بالقراءة منهيا عنه دون نفس القراءة، بداهة انها حصة خاصة من مطلق
القراءة فالنهي عن الجهر بها نهى عن تلك الحصة لا محالة. فالنتيجة: ان
النهي عن الجهر أو الخفت يرجع إلى النهي عن العبادة غاية الأمر ان القراءة
لو كانت بنفسها عبادة دخل ذلك في النهي عن نفس العبادة، وإن كانت
جزءا لها دخل في النهي عن جزئها، وإن كانت شرطا لها دخل في النهي عن
شرطها وعلى هذا الضوء فلا يكون هذا القسم نوعا آخر في مقابل الأقسام المتقدمة
بل هو يرجع إلى أحد تلك الأقسام لا محالة كما هو واضح.
وأما القسم الخامس: - وهو النهي عن الوصف المفارق للموصوف -
فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة
وذلك لان هذا الوصف إن كان متحدا مع موصوفه في مورد الالتقاء
والاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع، وعندئذ يدخل في كبرى مسألتنا
هذه. وإن كان غير متحد معه وجودا فيه ولم نقل بسراية الحكم من
أحدهما إلى الآخر فلا مناص من القول بالجواز. وعندئذ لا يكون داخلا
فيها. فالنتيجة ان هذا القسم داخل في المسألة المتقدمة لا في مسألتنا هذه
كما لا يخفى.
الثامنة: انه لا أصل في المسألة الأصولية ليعول عليه عند الشك
في ثبوتها والسبب في ذلك ما ذكرناه غير مرة من أن الملازمة المزبورة
وان لم تكن داخلة تحت أحد ى المقولات كالجواهر والاعراض الا انها مع
ذلك أمر واقعي أزلي أي ثابت من الأزل وليست لها حالة سابقة فإن كانت
موجودة فهي من الأزل وإن كانت غير موجودة فكذلك فلا معنى
لان يشك في بقائها لا وجودا ولا عدما بل الشك فيها دائما إنما هو في
أصل ثبوتها من الأزل وعدم ثبوتها كذلك ومن المعلوم أنه لا أصل هنا
26

ليعتمد عليه في اثباتها من الأزل أو عدم اثباتها كذلك: ومن هنا يظهر
الحال فيما لو كان المبحوث عنه في هذه المسألة دلالة النهي على الفساد
وعدم دلالته عليه حيث إنه لا أصل على هذا الفرض أيضا، ليعول عليه
في اثبات هذه الدلالة أو نفيها هذا كله في المسألة الأصولية.
وأما في المسألة الفرعية فيجري الأصل فيها - وهو أصالة الفساد -
وإنما الكلام في أنه هل يقتضي الفساد في العبادات والمعاملات مطلقا أو
في المعاملات فحسب دون العبادات فيه قولان: فاختار شيخنا الأستاذ
(قدس سره) القول الثاني. وقد أفاد في وجه ذلك: ان الأصل في
جميع موارد الشك في صحة المعاملة يقتضي الفساد، لأصالة عدم ترتب
الأثر على المعاملة الخارجية المشكوك صحتها، وبقاء متعلقها على ما كان قبل
تحققها من دون فرق في ذلك بين أن يكون الشك لأجل شبهة حكمية أو
موضوعية. وأما العبادة فإن كان الشك في صحتها وفسادها لأجل شبهة
موضوعية فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم
سقوط أمرها. وأما إذا كان لأجل شبهة حكمية فالحكم بالصحة والفساد
عند الشك فيهما يبتنى على الخلاف في جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في
كبرى مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. هذا حسب
ما تقتضيه القاعدة الأولية. وأما بالنظر إلى القواعد الثانوية الحاكمية على
على القواعد الأولية فربما يحكم بصحة العبادة أو المعاملة عند الشك فيها بقاعدة
الفراغ أو التجاوز أو الصحة أو نحو ذلك.
وأما صاحب الكفاية (قده) ففي بعض نسخ كتابه وإن كان هذا
التفصيل موجودا الا انه ضرب الخط المحو عليه واختار القول الأول - وهو
الفساد مطلقا - وقال: نعم كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد لو لم
يكن هناك اطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة وأما العبادة فكذلك
لعدم الامر بها مع النهي عنها كما لا يخفى.
27

والصحيح هو ما اختاره صاحب الكفاية (قده) من النظرية في
المسألة بيان ذلك: أما في العبادات فلان محل الكلام هنا ليس في مطلق
الشك في صحة العبادة وفسادها سواء أكانت متعلقة للنهي أم لم تكن وكانت
الشبهة موضوعية أم كانت حكمية، بل محل الكلام إنما هو في خصوص
عبادة شك في صحتها وفسادها من ناحية كونها متعلقة للنهي ومحرمة فعلا
وأما ما لا تكون كذلك فليس من محل الكلام في شئ سواءا كان الشك
في صحتها وفسادها من ناحية الشك في الطباق المأمور به عليها أو من
الشك في أصل مشروعيتها أو في اعتبار شئ فيها جزءا أو شرطا مع عدم
الشك في أصل مشروعيتها، فان كل ذلك خارج عن مفروض الكلام في
المسألة، وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الأصل في هذه
الموارد وإن كان تاما في الجملة إلا أنه أجنبي عن محل الكلام فمحل الكلام
في المسألة ما ذكرناه. وعلى هذا فلا محالة يكون مقتضى الأصل في العبادة
هو الفساد.
والسبب فيه واضح: وهو ان العبادة إذا كانت محرمة ومبغوضة
فعلا للمولى فطبيعة الحال في توجب تقييد اطلاق دليلها بغيرها (الحصة
المنهى عنها) بداهة ان المحرم لا يعقل أن يقع مصداقا للواجب والمبغوض
مصداقا للمحبوب؟؟ فاذن كيف يمكن الحكم بصحتها.
وان شئت قلت: ان صحتها ترتكز على أحد أمرين: (الأول) أن تكون
مصداقا للطبيعة المأمور بها. (الثاني) أن تكون مشتملة على الملاك في
هذا الحال، ولكن شيئا من الامرين غير موجود أما الأول فلما عرفت
من استحالة كون العبادة المنهي عنها مصداقا للمأمور به. وأما الثاني:
فما ذكرناه غير مرة من أنه لا يمكن احراز اشتماله على الملاك الا بأحد
طريقين: وجود الامر به. وانطباق الطبيعة المأمور بها عليه، وأما إذا
28

افترضنا انه لا أمر ولا انطباق فلا يمكن احراز اشتمالها على الملاك، والمفروض
فيما نحن فيه هو انتفاء كلا الطريقين معا، ومعه كيف يمكن احراز
اشتمالها على الملاك، فان سقوط الامر كما يمكن أن يكون لأجل وجود مانع
مع ثبوت المقتضي له يمكن أن يكون لأجل عدم المقتضي له في هذا الحال
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان مقتضى الأصل في العبادة هو الفساد مطلقا.
وأما في المعاملات فإن كان هناك عموم أو اطلاق وكان الشك في
صحة المعاملة المنهي عنها وفسادها من جهة الشبهة الحكمية فلا مانع من
التمسك به لاثبات صحتها، ضرورة انه لا تنافى بين كون معاملة محرمة
ووقوعها صحيحة في الخارج إلا أن هذا الفرض خارج عن محل الكلام،
حيث إنه فيما إذا لم يكن دليل اجتهادي من عموم أو اطلاق في البين
يقتضي صحتها أو كان ولكن الشبهة كانت موضوعية فلا يمكن التمسك بالعموم
فيها، فعندئذ بطبيعة الحال المرجع هو الأصل العملي، ومقتضاه الفساد
مثلا لو شككنا في صحة نكاح الشغار أو فساده ولم يكن دليل من الخارج
على صحته أو فساده لا عموما ولا خصوصا فالمرجع هو الأصل وهو
يقتضي فساده وعدم حصول العلقة الزوجية بين الرجل والمرأة، وكذا
الحال فيما إذا شككنا في صحة معاملة وفسادها من ناحية الشبهة الموضوعية
وقد تحصل من ذلك ان مقتضى الأصل في المعاملات أيضا هو الفساد
مطلقا فلا فرق بينها وبين العبادات من هذه الناحية. نعم فرق بينهما من
ناحية أخرى وهي اله الا تنافي بين حرمة المعاملة تكليفا وصحتها وضعا
كما ستأتي الإشارة إلى ذلك بشكل موسع، وهذا بخلاف العبادة، فان حرمتها
لا تجتمع مع صحتها كما عرفت.
وبكلمة واضحة: ان النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان ارشاديا ومسوقا
لبيان مانعية شئ عنها كالنهي عن بيع الغرر أو بيع ما ليس عندك وما
29

شاكل ذلك فلا اشكال في دلالته على الفساد، ومن هنا قلنا بخروج هذا
القسم من النهي عن محل الكلام في المسألة، وقد أشرنا إلى ذلك في
ضمن البحوث المتقدمة بشكل موسع، فالكلام هنا إنما هو في دلالة النهي
النفسي المولوي على الفساد وعدم دلالته عليه بمعنى ثبوت الملازمة بين حرمة
معاملة وفسادها وعدم ثبوتها، وقد اختلفت كلمات الأصحاب حول ذلك
ونسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة، ونسب إلى آخر
دلالته على الفساد، وفصل ثالث بين ما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبيب
وما إذا تعلق بالسبب فعلى الأول يدل على الصحة دون الثاني واختار هذا
التفصيل المحقق صاحب الكفاية (قده) حيث قال: بعد ما نسب إلى
أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة والتحقيق انه في المعاملات
كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب لاعتبار القدرة في متعلق النهي
كالأمر ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما إذا كانت المعاملة مؤثرة صحيحة.
واليك توضيح ما أفاده وهو ان النهي إذا افترض تعلقه بالتسبيب
أي ايجاد الملكية من سبب خاص دون آخر كالنهي عن بيع الكلب مثلا
فبطبيعة الحال يدل على صحة هذا السبب ونفوذه في الشريعة وحصول
الملكية به، ضرورة انه لو لم يكن هذا السبب نافذا شرعا ولم تحصل
الملكية به لكان النهي عن ايجادها به لغوا محضا وكان النهى
عن غير مقدور
لفرض انها لا تحصل بانشائها به (السبب الخاص) مع قطع النظر عن
النهي، فاذن لا محالة يكون النهي عنه نهيا عن أمر غير مقدور وهو
مستحيل. ومن هنا يظهر الحال فيما إذا تعلق النهي بالمسبب كالنهي عن
بيع المصحف من كافر، فإنه يدل على صحة هذه المعاملة - وهي البيع
لوضوح انها لو لم تكن صحيحة وممضاة شرعا لم تكن سببا لحصول الملكية
وبدون ذلك لا معنى للنهي عن الملكية المسببة عن هذا السبب الخاص،
30

لفرض انه لا يقدر على ايجادها بايجاد سببها، ومعه لا محالة يكون النهي
عنه نهيا عن غير مقدور وهو محال، لاعتبار القدرة في متعلقه كالأمر.
وقد اختار شيخنا الأستاذ (قده) تفصيلا ثانيا في المقام: وهو ان النهي
إذا تعلق بالمسبب دل على الفساد وإذا تعلق بالسبب لم يدل عليه هذه هي:
الأقوال في المسألة. والصحيح في المقام أن يقال إن النهي عن المعاملة
لا يدل على فسادها وانه لا ملازمة بين حرمة معاملة وبطلانها أصلا بيان
ذلك يحتاج إلى مقدمة وهي اننا قد ذكرنا غير مرة ان الأحكام الشرعية
بشتى أشكالها وألوانها: التكليفية والوضعية أمور اعتبارية لا واقع موضوعي
لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
قد تقدم منا في أول بحث النواهي بصورة موسعة ان حقيقة النهي وواقعه
الموضوعي هو اعتبار الشارع محرومية المكلف عن الفعل وبعده عنه،
وابرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل. كما أن حقيقة الامر وواقعه
الموضوعي هو اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف، وابرازه في الخارج
بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك، وهذا هو واقع الامر وللنهي.
واما الوجوب والحرمة والبعث والزجر وما شاكل ذلك فليس شئ منها
مد لولا للامر والنهي بل الجميع منتزع من ابراز ذلك، الأمر الاعتباري في
الخارج ولا واقع موضوعي لها ما عدا ذلك فان الأمر والنهي لا يدلان إلا
على ابراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج دون غيره ومن ناحية ثالثة ان
لهذا الأمر الاعتباري متعلق وموضوع: ومتعلقه هو فعل المكلف كالصلاة
والصوم والزكاة والحج وما شاكل ذلك، وموضوعه العقل والبلوغ ودخول
الوقت والاستطاعة والدم والخمر والخنزير وغير ذلك من الجواهر والاعراض.
أما الأول - وهو المتعلق - فلا ينبغي الشك في عدم دخله في الحكم
الشرعي أصلا، ولا يؤثر فيه أبدا، لا في مرحلة التشريع والاعتبار ولا
31

في مرحلة الفعلية والامتثال. اما عدم دخله في مرحلة التشريع فواضح
حيث إنه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على أي شئ ما عدا اختياره
وأعمال قدرته. نعم نظرا إلى أن صدور اللغو من الشارع الحكيم مستحيل
فبطبيعة الحال يتوقف اعتباره وصدور منه على وجود داع ومرجح له،
والداعي له إنما هو المصالح والحكم الكامنة في نفس الافعال والمتعلقات بناءا
على ما هو المشهور بين العدلية، أو في نفس الاعتبار والتشريع بناءا على
ما ذهب إليه بعض العدلية والأشاعرة. ومن الواضح أن دخل تلك المصالح
فيه على نحو دخل الداعي في المدهو لا على نحو دخل العلة في المعلول
وإلا لزم خروج الحكم الشرعي عن كونه أمرا اعتباريا بقانون التناسب
والسنخية؟؟؟ من ناحية، وعن كونه فعلا اختياريا للشارع من ناحية أخرى.
وأما عدم دخله في مرحلة الفعلية فأيضا واضح، وذلك لان فعلية الاحكام
إنما هي بفعلية موضوعاتها وتدور مدارها وجودا وعدما، ولا تتوقف
على فعلية متعلقاتها، كيف فان فعليتها توجب سقوطها خارجا.
وأما الثاني - وهو الموضوع - فأيضا لا دخل له في الحكم الشرعي
أبدا، وذلك لما عرفت من أنه فعل اختياري للشارع فلا يتوقف على شئ
ما عدا ارادته واختياره. نعم جعله حيث كان غالبا على نحو القضايا
الحقيقية فبطبيعة الحال يكون مجعولا للموضوع المفروض الوجود خارجا،
فإذا كان الامر كذلك فلا محالة تتوقف فعليته على فعلية موضوعه والا لزم
الخلف أي ما فرض موضوع له ليس. وضوع، ولأجل ذلك يطلق عليه
السبب تارة، والشرط تارة أخرى فيقال: ان الاستطاعة شرط لوجوب
الحج، والسفر بقدر المسافة شرط لوجوب القصر، والبلوغ شرط للتكليف
والبيع سبب للملكية وهكذا، مع أنه عند التحليل لا شرطية ولا سببية
في البين أصلا.
وبكلمة أخرى: ان الموجودات الخارجية لا تؤثر في الأحكام الشرعية
32

وإلا لكانت تلك الأحكام من الأمور التكوينية بقانون التناسب والسنخية
المعتبر في تأثير العلة في المعلول من ناحية، ولخرجت عن كونها أفعالا
اختيارية من ناحية أخرى. وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون اطلاق
الشرط على موضوعاتها مبني على ضرب من المسامحة نظرا إلى انها حيث
أخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار فيستحيل انفكاكها عنها
في مرحلة الفعلية فتكون من هذه الناحية كالسبب والشرط، مثلا إذا جعل
الشارع وجوب الحج للمستطيع على نحو القضية الحقيقية انتزع عنوان الشرطية
للاستطاعة باعتبار أن فعلية وجوبه تدور مدار فعليتها خارجا واستحالة
انفكاكها عنها.
ومن هدى هذا البيان يظهر حال الأحكام الوضعية أيضا، تفصيل ذلك
أن الأحكام الوضعية على طائفتين: (أحداهما) منتزعة من الأحكام التكليفية
وذلك كالجزئية والشرطية والمانعية وما شاكل ذلك: (وثانيتهما) مجعولة
على نحو الاستقلال كالأحكام التكليفية وذلك كالملكية والزوجية والرقية
الولاية وما شابه ذلك: أما الطائفة الأولى: فهي خارجة عن محل كلامنا في المسألة، لما عرفت من أن محل الكلام فيها إنما هو في المعاملات بالمعنى
الأعم الشامل للعقود والايقاعات: وبعد ذلك نقول: انا قد حققنا في
محله ان ما هو المشهور بين الأصحاب من أن صيغ العقود والايقاعات
أسباب للمسببات خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا، كما انا ذكرنا
أنه لا أصل لما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن نسبتها إليها نسبة
الآلة إلى ذيها.
والسبب في ذلك: ما بيناه في مبحث الانشاء والاخبار بشكل موسع
ملخصه: أن ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا من
أن الانشاء ايجاد المعنى باللفظ لا واقع له أصلا، وذلك لأنهم ان أرادوا به
33

الايجاد التكويني الخارجي فهو غير معقول، بداهة ان اللفظ لا يعقل أن
يكون واقعا في سلسلة علل وجوده. وان أرادوا به الايجاد الاعتباري
فيرد عليه أنه يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به
أنه لم يكن، لوضوح أن اللفظ لا يكون سببا لايجاده الاعتباري ولا الة له
كيف فان الأمر الاعتباري كما ذكرناه غير مرة لا واقع موضوعي له ما عدا
اعتبار من بيده الاعتبار في أفق النفس، ولا يتوقف وجوده على أي شئ
آخر غيره. نعم ابرازه في الخارج يحتاج إلى مبرز، والمبرز قد يكون لفظا
كما هو الغالب، وقد يكون كتابة أو إشارة خارجة، وقد يكون فعلا كذلك.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى انا إذا حللنا واقع المعاملات تحليلا موضوعيا لم نجد
فيها إلا أمرين: (الأول) الاعتبار القائم بنفس المعتبر بالمباشرة (الثاني) ابرازه
في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك فالمعاملات اسام للمركب
من هذين الامرين أي الأمر الاعتباري النفساني، وابرازه في الخارج بمبرز ما
مثلا عنوان البيع والإجارة والصلح والنكاح لا يصدق على مجرد الأمر الاعتباري
النفساني بدون ابرازه في الخارج فلو اعتبر شخص في أفق نفسه ملكية
داره ليزيد مثلا من دون ان يبرزه في الخارج لم يصدق عليه أنه باع داره أو
وهب فرسه مثلا كما أنه لا يصدق تلك العناوين على مجرد الابراز الخارجي من
دون اعتبار نفساني كما إذا كان في مقام تعداد صيغ العقود أو الايقاعات،
أو كان التكلم بها بداع آخر لا بقصد ابراز ما في أفق النفس من الأمر الاعتباري
.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان المعاملات بشتى ألوانها مركبة من
الأمر الاعتباري النفساني وابرازه في الخارج بمبرز ما واسام لهما وكلاهما
أمر مباشري ولا يعقل التسبيب بالإضافة إلى ذاك الأمر الاعتباري.
34

وعلى ضوء هذه النتيجة: قد اتضح انه ليس في باب المعاملات
سبب ولا مسبب ولا آلة ولا ذبها ليقال أن النهي قد يتعلق بالسبب وقد
يتعلق بالمسبب. هذا من جانب. ومن جانب آخر ان المعاملات بعناوينها
الخاصة كالبيع والإجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك قد أخذت
مفروضة الوجود في لسان أدلة الامضاء والجعل كقوله تعالى " أحل الله
البيع " " وتجارة عن تراض " وقوله (ص) (النكاح سنتي) (والصلح جائز
بين المسلمين) ونحو ذلك، كما انها مأخوذة كذلك في موضوع امضاء العقلاء
وعلى هذا فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء الشرعي على فعلية هذه
المعاملات وتحققها في الخارج فمرجع قوله تعالى " أحل الله البيع " مثلا
إلى قولنا إذا وجد شئ في الخارج وصدق عليه أنه بيع فهو ممضا شرعا،
ومن هنا قلنا فيما تقدم ان الصحة في المعاملات مجعولة شرعا.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان نسبة صيغ العقود
أو الايقاعات إلى المعاملات ليست نسبة الأسباب إلى المسببات، ولا نسبة
الآلة إلى ذيها، بل نسبة المبرز بالكسر إلى المبرز بالفتح. كما أن نسبتها
إلى الامضاء الشرعي ليست نسبة الأسباب إلى المسببات، كيف فان المعاملات
بهذه العناوين الخاصة مأخوذة في موضوعه، ومن المعلوم ان الموضوع ليس
سببا لحكمه وعلة له. ومن هنا يظهر ان نسبة هذه المعاملات كما تكون إلى
الامضاء الشرعي نسبة الموضوع إلى الحكم كذلك تكون نسبتها إلى الامضاء
العقلائي.
وعلى أساس هذا البيان يظهر انه لا فرق بين الأحكام الوضعية والتكليفية
من هذه الناحية أصلا فكما أنه لا سببية ولا مسببية في باب الأحكام التكليفية
حيث إن نسبتها إلى موضوعاتها كالاستطاعة والبلوغ والعقل ودخول
الوقت وما شاكل ذلك ليست نسبة المعلول إلى العلة فلا تأثير ولا ارتباط
35

بينهما ذاتا فكذلك الحال في الأحكام الوضعية. وعليه فلم يظهر لنا لحد
الآن وجه ما اصطلحوا عليه الفقهاء من التعبير عن موضوعات الأحكام التكليفية
بالشرائط وعن موضوعات الأحكام الوضعية بالأسباب، مع أنهما
من واد واحد فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبدا، وكيف كان فلا يقوم
هذا الاصطلاح على واقع موضوعي، حيث قد عرفت انه ليس في كلا
البابين معا إلا جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده في الخارج من دون أي
تأثير له في ثبوت الحكم تكوينا. نعم لا بأس بالتعبير عن الموضوع بالشرط
نظرا إلى رجوع القضية الحقيقية إلى القضية الشرطية: مقدمها وجود
الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له. ولكن هذا الشرط بمعنى آخر غير الشرط
الذي هو من أجزاء العلة التامة.
وقد تحصل من مجموع ما حققناه: ان الموجود في مورد المعاملة
عدة أمور: (الأول) الاعتبار النفساني القائم بنفس المعتبر بالمباشرة.
(الثاني) ابرازه في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو نحو ذلك.
(الثالث) الامضاء العقلائي وهو فعل اختياري للعقلاء وخارج عن اختيار
المتعاملين (الرابع) الامضاء الشرعي وهو فعل اختياري للشارع وخارج
عن قدرة المتعامل واختياره. وقد تقدم أن موضوعه هو المعاملة بعناوينها
الخاصة كالبيع أو نحوه.
وبعد ذلك نقول: إن النهي المتعلق بالمعاملة لا يخلو من أن يكون
متعلقا بالامضاء الشرعي المعبر عنه في لسان الفقهاء بالملكية الشرعية، أو
متعلقا بالامضاء العقلائي، أو بالامر الاعتباري النفساني، أو بالمبرز الخارجي
أو بالمجموع المركب منهما فلا سادس في البين.
أما الأول - وهو الامضاء الشرعي فلا معنى للنهي عنه، بداهة انه
فعل اختياري للشارع وخارج عن قدرة المتعامل واختياره، ومن الطبيعي
36

أنه لا معنى لنهي الشارع عن فعل نفسه غاية الأمر إذا كانت فيه مفسدة
ملزمة لم يصدر منه، كما هو الحال في مثل بيع الكلب والخنزير والخمر
والبيع الربوي وما شاكل ذلك، فان عدم امضاء الشارع هذه المعاملات
وعدم اعتباره الملكية فيها من جهة وجود مفسدة ملزمة في تلك المعاملات
فإنها تكون مانعة منه، لا انها موجبة للنهي عنه.
وتوهم - ان هذه الدعوى لا تلائم مع نهي الشارع عن هذه المعاملات
من ناحية وكون النهي عنها متوجها إلى المتعاملين من ناحية أخرى - فاسد
جدا، وذلك لان هذا النهي ليس نهيا تكليفيا ليقال أنه غير معقول، بل هو
نهي ارشادي فيرشد إلى عدم امضاء الشارع تلك المعاملات. وقد ذكرنا
غير مرة ان شأن النهي الارشادي شأن الاخبار فكأن المولى أخبر عن فساد
هذه المعاملات وعدم امضائها. نعم بعض هذه المعاملات - وهو المعاملة
الربوية - وإن كان محرما تكليفا أيضا إلا أن الحرمة متعلقة بفعل المتعاملين
لا بالامضاء الشرعي والملكية الشرعية. وقد عرفت ان المعاملات أسام
للأفعال الصادرة عن آحاد الناس فلا مانع من تعلق الحرمة بها. فالنتيجة
هي: أنه لا معنى لتعلق النهي بالملكية الشرعية. ومن هنا يظهر الحال في
الأمر الثاني - وهو الامضاء العقلائي - فإنه حيث كان خارجا عن اختيار
المتعاملين فلا معنى للنهي عنه ولا يعقل تعلق النهي في باب المعاملات به.
وأما الثالث - وهو فرض تعلق للنهي بالامر الاعتباري النفساني
فحسب - فهو وإن كان شيئا معقولا في نفسه إلا أنه لا يستلزم فساد المعاملة
لان النهي عنه لا يكون نهيا عن المعاملة حتى يستلزم فسادها، لما عرفت
من أن المعاملات من للعقود والايقاعات أسام للمركب من ذلك الأمر الاعتباري
النفساني وابرازه في الخارج بمبرز ما فلا تصدق على الاعتبار
النفساني فحسب، ولا على المبرز الخارجي كذلك. وعلى هذا الضوء فما يتعلق به
37

النهي ليس بمعاملة وما هو معاملة ليس بمنهى عنه.
وان شئت قلت: ان تعلق النهي بذلك الأمر الاعتباري النفساني مع
قطع النظر عن ابرازه في الخارج غير محتمل في نفسه وعلى تقدير تعلقه به
فهو لا يدل على صحة المعاملة ولا على فسادها.
وأما الرابع - وهو فرض تعلق النهي بالمبرز بالكسر فحسب - فقد
ظهر أنه لا يستلزم فساد المعاملة أيضا حيث أن النهي عنه لا يكون نهيا
عنها حتى يدل على فسادها، ومثال ذلك ما إذا افترضنا أن أحدا تكلم أثناء
الصلاة بقوله بعت داري أو زوجتي طالق أو ما شاكل ذلك، فان التكلم
بهذا القول بما هو قول آدمي أثناء الصلاة وإن كان محرما بناء على نظرية
المشهور، بل ادعى الاجماع على ذلك، إلا أن هذه الحرمة لا تدل على فساد
هذا العقد أو الايقاع، لوضوح أن المحرم إنما هو التكلم بهذه الصيغة بما هي
كلام آدمي، لا بما هي بيع أو إجارة أو طلاق أو نحو ذلك، فاذن لا يكون
نهي عن المعاملة ليقال باستلزامه فسادها:
نتيجة ما ذكرناه لحد الآن هي أن النهي عن الأمر الأول والثاني غير
معقول في نفسه. وأما النهي عن الأمر الثالث والرابع وإن كان معقولا
إلا أنه ليس نهيا عن المعاملة بما هي معاملة ليقع البحث عن أنه هل يدل
على فسادها أم لا.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أن ما نسب إيل أبي حنيفة والشيباني وهو الذي
اختاره المحقق صاحب الكفاية (قده) أيضا من أن النهي إذا تعلق بالمسبب أو التسبيب
يدل على الصحة خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أبدا أما (أولا):
فلما عرفت في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع من أنه لا سببية ولا مسببة
في باب المعاملات أصلا كي يفرض تارة تعلق النهي بالسبب وأخرى بالمسبب
وثالثا بالتسبيب. وأما (ثانيا): فلما تقدم من أنهم فسروا المسبب فيها
38

بالملكية الشرعية، وقد عرفت أنه لا معنى للنهي عنها ليقال أنه يدل على
الصحة. وأما (ثالثا): فعلى تقدير تسليم أنهم أرادوا بالمسبب فيها الاعتبار
النفساني ولكن قد عرفت أن النهي عنه في إطاره الخاص لا يكون نهيا
عن المعاملة ليقال أنه يدل على صحتها، وعلى الجملة فصحة المعاملة تابعة
لامضاء الشارع إياها ولا صلة لها بالنهي عن الأمر الاعتباري النفساني أصلا،
وأما الخامس - وهو فرض تعلق النهي بالمعاملة من العقود أو الايقاعات
ولو باعتبار جزئها الداخلي أو الخارجي - فقد ذكر شيخنا الأستاذ (قده)
أن الحق في المقام هو التفصيل بين تعلق النهي بالسبب على نحو يساوق معنى
المصدر وتعلقه بالمسبب على نحو يساوق معنى اسم المصدر فالتزم (قده) انه
على الأول لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه بيان ذلك:
أما وجه عدم دلالة الأول على الفساد فلان الانشاء في المعاملة بما
أنه فعل من أفعال المكلف فالنهي عنه إنما يدل على مبغوضيته فحسب،
ومن الطبيعي ان مبغوضيته لا تستلزم فساد المعاملة وعدم ترتب أثر شرعي
عليها، ضرورة أنه لا منافاة بين حرمة انشاء المعاملة تكليفا وصحتها وضعا،
وأما وجه دلالة الثاني على الفساد فلما ذكره (قده) من أن صحة
المعاملة ترتكز على ركائز ثلاث: (الأولى) أن يكون كل من المتعاملين
مالكا للعين أو ما بحكمه كالوكيل أو الولي أو ما شاكل ذلك. (الثانية)
ان لا يكون ممنوعا عن التصرف بأحد أسباب المنع كالسفه أو الفلس أو
الحجر لتكون له سلطنة فعلية على التصرف فيها. (الثالثة) أن يكون ايجاد
المعاملة بسبب خاص وآلة خاصة. وعلى ذلك فإذا فرض تعلق النهي
بالمسبب وهو الملكية المنشأة بالصيغة أو بغيرها كما هو الحال في النهي عن
بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر فلا محالة يكون النهي عنه معجزا
مولويا للمكلف عن الفعل ورافعا لسلطنته عليه وبذلك تختل الركيزة الثانية
39

المعتبرة في صحة المعاملة - وهي سلطنة المكلف عليها في حكم الشارع وعدم
كونه ممنوعا عن التصرف فيها - ويترتب على هذا فساد المعاملة لا محالة.
وعلى ضوء ذلك يظهر وجه تسالم الفقهاء على فساد الإجارة على الأعمال
الواجبة على المكلف مجانا، فان العمل بما أنه مملوك لله تعالى وخارج عن
سلطان المكلف فلا يمكنه تمليكه من غيره بإجارة أو نحوها وكذا وجه
تسالمهم على بطلان بيع منذور الصدقة، فان نذره أوجب حجره عن التصرف
بكل ما ينافي الوفاء بنذره فلا تنفذ تصرفاته المنافية له، وكذا وجه تسالمهم
على فساد معاملة شئ إذا اشترط في ضمنها عدم معاملته من شخص آخر كما
إذا فرض أنه باع داره من زيد مثلا واشترط عليه عدم بيعها من عمرو
فان وجوب الوفاء بهذا الشرط يجعل المشترى محجورا من البيع فلو خالف
وباع الدار من عمرو لم يكن نافذا. وغير ذلك من الموارد.
ولكن من ضوء ما حققناه في ضمن البحوث السالفة قد تبين نقد
ما أفاده (قده) ملخص ما ذكرناه هناك هو أنه لا سببية ولا مسببية في باب
المعاملات أصلا لكي يفرض تعلق النهي مرة بالسبب وأخرى بالمسبب كما انا ذكرنا
هناك أن نسبة صيغ العقود إلى الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة
وليست من قبيل نسبة السبب إلى المسبب، ولا المصدر إلى اسم المصدر
واما نسبتها إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي من قبيل نسبة الموضوع إلى
الحكم لا السبب إلى المسبب كما عرفت ولا المصدر إلى اسم المصدر بداهة أن
المصدر واسم المصدر كما مر متحدان ذاتا ووجود أو مختلفان اعتبارا كالايجاد
والوجود، ومن المعلوم ان صيغ العقود أو الايقاعات تباين الملكية الانشائية
وجودا وذاتا فلا صلة بينهما إلا صلة الابراز أي كونها مبرزة لها، كما أنه
لا صلة بينها ويبن الملكية الشرعية أو العقلائية إلا صلة الموضوع والحكم.
وعلى ذلك فان أراد شيخنا الأستاذ (قده) من المسبب الملكية
40

الشرعية فقد تقدم مضافا إلى انها ليست مسببة عن شئ أن النهي عنها غير
معقول وان أراد به الملكية الاعتبارية القائمة بنفس المعتبر بالمباشرة المبرزة
في الخارج بالصبغ المزبورة أو نحوها فقد عرفت أن النهي عنها لا يوجب
فساد المعاملة وان فرض تعلقه بها بوصف كونها مبرزة في الخارج بمبرز ما
كما هو مفروض الكلام هنا، ضرورة أنه لا ملازمة بين حرمة معاملة تكليفا
وفسادها وضعا فلا مانع من أن تكون المعاملة محرمة شرعا كما إذا أوقعها أثناء
الصلاة مثلا، فإنها محرمة على المشهور، ومع ذلك يترتب عليها أثرها:
ومن هنا لو أوقع شخص طلاق زوجته أثناء الصلاة لم يشك أحد في صحته
إذا كان واجدا لسائر شرائط الصحة، وكذا لو باع داره أثنائها مع أنه
منهي عنه على المشهور ومحرم.
وعلى الجملة فالنهي المولوي عن الأمر الاعتباري بوصف كونه مبرزا
في الخارج، وكذا النهي عن المبرز بالكسر بوصف كونه كذلك لا يدلان
بوجه على فساد المعاملة لعدم التنافي بين حرمتها وصحتها أصلا وإنما يدل
النهي على فساد العبادة من ناحية التنافي بينهما وعدم امكان الجمع
كما عرفت.
وبكلمة أخرى أن النهي عن المسبب بالمعنى المتقدم في باب المعاملات
لا بوجب تقييد اطلاق دليل الامضاء بغير الفرد المنهي عنه إذا كان له اطلاق
يشمله بنفسه، وذلك لما عرفت من عدم التنافي بين حرمته تكليفا وامضاء
الشارع إياه وضعا حيث إن كلا منهما في إطاره الخاص تابع لملاك كذلك
ولا تنافي بين الملاكين أصلا.
والسر فيه واضح وهو أنه إذا كان لدليل الامضاء كقوله تعالى:
" أحل الله البيع " أو نحوه اطلاق أو عموم فالنهي تكليفا عن معاملة في
مورد لا يوجب تقييد اطلاقه أو تخصيص عمومه بغيرها لعدم كونه مانعا
41

عن شموله لها كيف حيث إنه لا تنافي بين كون معاملة محكومة بالحرمة
تكليفا وكونها محكومة بالصحة وضعا، ولذا صح تصريح المولى بذلك
فإذا لم تكن منافاة بينهما فلا مانع من التمسك باطلاقه أو عمومه لا ثبات صحتها.
ومن هنا يظهر أن مثل هذا النهي لا يوجب حجر المكلف ومنعه عن
ايجاده وعدم امضاء الشارع إياه عند تحققه فان ما يوجب ذلك إنما هو
النهي الوضعي دون التكليفي.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أن قياس المقام بموارد ثبوت الحجر الوضعي
خاطئ جدا وأنه قياس مع الفارق، وذلك لان النهي عن المعاملة في
تلك الموارد ارشاد إلى فسادها حيث إن المكلف ممنوع من التصرف فيها
وضعا. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان ما رتبه (قده) من الفروع
على ما ذكره من الضابط أيضا قابل للنقد بيان ذلك:
أما الفرغ الأول - وهو تسالم الفقهاء على بطلان الإجارة على الواجبات
المجانية - فإنه وإن كان صحيحا إلا أن البطلان غير مستند إلى ما أفاده (قده)
من كون تلك الواجبات مملوكة له سبحانه وتعالى، بل هو مستند إلى
نقطة أخرى، فلنا دعويان: (الأولى) ان بطلان الإجارة غير مستند
إلى ما ذكره (الثانية) أنه مستند إلى نقطة أخرى.
أما الدعوى الأولى: فلان نحو ملكه تعالى لشئ يغاير نحو الملك
الاعتباري فلا يوجب بطلان العقد عليه، فان معنى كون هذه الواجبات
مملوكة له تعالى هو اضافتها إليه سبحانه، ومن البديهي ان مجرد هذه
الإضافة لا يقتضى بطلان الإجارة عليها والا لزم بطلانها في كل مورد
يتصف متعلقها بالوجوب ولو كان الوجوب كفائيا كما في الصناعات الواجبة
كذلك، وهذا مما لا نظن أن يلتزم به أحد حتى هو (قده).
فالنتيجة: ان مقتضى القاعدة صحة الإجارة على الواجبات فالوجوب
42

بما هو لا يقتضي سلب المالية عنها ولا يوجب خروجها عن قابلية التمليك.
وأما الدعوى الثانية: فلان المانع من صحة الإجارة عليها إنما هو
الزام الشارع بالاتيان بها مجانا، ومن الطبيعي أن هذا العنوان لا يجتمع
مع عنوان الإجارة عليها:
وبكلمة أخرى قد عرفت أن مقتضى القاعدة الأولية جواز الإجارة
على كل واجب الا ما قامت للقرينة من الخارج على لزوم الاتيان به مجانا
وبلا عوض. وعلى هذا فيما اننا علمنا من الخارج بوجوب الاتيان بتلك
الواجبات مجانا ومن دون عوض فبطبيعة الحال لا تصح الإجارة عليها،
فالنتيجة أن البطلان مستند إلى هذه النقطة دون ما أفاده (قده).
وأما الفرغ الثاني - وهو بيع منذور الصدقة - فان النذر إذا لم يكن
نذر النتيجة فلا يكون بطلان بيع المنذور مما تسالم عليه الفقهاء، بل هو
محل خلاف بينهم، فاذن كيف يجوز الاستشهاد به على بطلان المعاملة فيما
نحن فيه. وبقول آخر ان النذر المتعلق بشئ على قسمين: (أحدهما)
نذر النتيجة (وثانيهما) نذر الفعل أما الأول فعلى تقدير تسليم صحته فهو
وإن كان يوجب بطلان البيع نظرا إلى أن المال المنذور قد انتقل من ملك
الناذر إلى ملك المنذور له، وعليه فلا محالة يكون بيع الناذر إياه بيع لغير ملكه
فيلحقه حكمه إلا أن هذا الفرض خارج عن مورد كلامه (قده) حيث إن
كلامه ناظر إلى أن المانع عن صحة بيعه هو وجوب الوفاء به، لا صيرورة
المال المنذور ملكا للمنذور له هذا.
والصحيح ان وجوب الوفاء به غير مانع عنها، والسبب في ذلك
هو أن وجوب الوفاء بالنذر لا ينافي امضاء البيع حيث أنه لا منافاة بين
لزوم ابقاء المال على الناذر تكليفا بمقتضى التزامه به وصحة البيع وضعا على
تقدير تحققه في الخارج، غاية الأمر انه يترتب على البيع المزبور استحقاق
43

العقاب على المخالفة ولزوم الكفارة، ومن الطبيعي ان شيئا منهما لا يستلزم
بطلان البيع بل إذا افترضنا ان المال المنذور قد انتقل إليه ثانيا بعد بيعه
وفي ظرف الوفاء بالنذر لم يلزم الحنث أيضا من هذه الناحية أي من
ناحية بيعه إياه.
وعلى الجملة حيث إنه كان وجوب الوفاء بالنذر وجوبا تكليفيا محضا
فبطبيعة الحال أنه لا يستلزم بطلان البيع أصلا. فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده)
من أن الناذر من جهة لزومه الوفاء بنذره يكون محجورا عن التصرف في
المال المنذور خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له.
ومن هنا يظهر حال الفرع الثالث - وهو ما إذا اشترط البائع على
المشتري أن لا يبيع المال المشترى من غيره - فان غاية ما يترتب على هذا
وجوب الوفاء به. وقد عرفت أنه لا ينافي صحة البيع وامضائه على تقدير
تحققه في الخارج فلا بد في الحكم بفساده من التماس دليل آخر وإلا لكان
مقتضى الاطلاق صحته وترتب الأثر عليه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي: أن النهي المتعلق
بالمعاملة إذا كان ارشادا إلى مانعية شئ عنها فلا اشكال في دلالته على فسادها
من دون فرق في ذلك بين أن يكون النهي متعلقا بنفس العقد أو الايقاع
كالنهي عن بيع الوقف وما لا يملك وبيع المجهول والنكاح في العدة والطلاق
في طهر المواقعة وما شاكل ذلك وأن يكون متعلقا باثاره كقوله (ع) (ثمن
العذرة سحت، وثمن الكلب سحت) ونحو ذلك، فهذه الطائفة من
النواهي بكلا نوعيها تدل على فساد المعاملة جز ما وبلا خلاف واشكال.
ومن هنا قلنا بخروجها عن محل الكلام. وأما إذا كان النهي نهيا مولويا ودالا
على حرمتها ومبغوضيتها فقد عرفت أنه لا يدل على فسادها بوجه سواء أكان
متعلقا بأحد جزئي المعاملة أو بكلا جزئيها ثم لا يخفى ان هذا القسم عن
44

النهي في باب المعاملات من العقود والايقاعات قليل جدا والغالب فيه إنما
هو القسم الأول:
بقي الكلام حول الروايات الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون
اذن سيده.
قد يتوهم ان تلك الروايات تدل على عدم الملازمة بين حرمة المعاملة
وفسادها ببيان ان مفادها هو ان عصيان السيد لا يستلزم بطلان نكاح العبد رأسا
وإنما يوجب ذلك أن تتوقف صحته على اجازته واذنه. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان عصيان السيد بما أنه يستلزم عصيانه تعالى فبطبيعة
الحال تدل تلك الروايات من جهة هذه الملازمة على عدم استلزام عصيانه
سبحانه وتعالى بطلان النكاح. ومن ناحية ثالثة ان ما دل على أن عصيانه
تعالى مستلزم - لفساده وهو مفهوم قوله (ع) انه لم يعص الله وإنما عصى
سيده الخ - فلابد أن يراد به العصيان الوضعي بمعنى ان العبد لم يأت
بالنكاح غير المشروع في نفسه كالنكاح في العدة على ما مثل الإمام (ع) له
بذلك لئلا يكون قابلا للصحة، بل جاء بأمر مشروع في نفسه وقابل للصحة
بإجازة المولى. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي ان هذه الروايات
تدل على أن النهي التكليفي لا يدل على فساد المعاملة بوجه واما النهي
الوضعي فإنه يدل على فسادها جزما.
تفصيل الكلام حول هذه المسألة فنقول: ان الأقوال فيها ثلاثة:
(الأول) ان صحة نكاح العبد تتوقف على إجازة السيد فإذا أجاز جاز
(الثاني) انه فاسد مطلقا أي سواء أجاز سيده أم لا واليه ذهب كثير من
العامة. (الثالث) التفصيل بين ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه وما إذا
أوقع فضولة ومن قبل غيره فإنه على الأول فاسد مطلقا دون الثاني هذه
هي الأقوال في المسألة.
45

أما القول الأول: فإنه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام
به، وذلك لأنه مضافا إلى أن صحته بالإجازة على طبق القاعدة قد دلت
عليها روايات الباب بالصراحة، وسيأتي توضيح ذلك في ضمن البحوث
الآنية إن شاء الله تعالى.
وأما القول الثاني: فهو واضح البطلان فإنه مضافا إلى أن الالتزام به
بلا موجب خلاف صريح الروايات المشار إليها.
وأما القول الثالث فقد اختاره شيخنا العلامة الأنصاري (قده)
ونسبه إلى الشيخ التستري (ره)، ونسبه شيخنا الأستاذ (قده) إلى
المحقق القمي (قده) وكيف كان فقد ذكر في وجهه ان العقد الصادر منه
لنفسه لا يمكن تصحيحه بإجازة المولى المتأخرة، لفرض أنه من حين صدوره
يقع فاسدا. ومن الطبيعي ان الشئ لا ينقلب عما هو عليه، فاذن كيف
يعقل انقلابه من الفساد إلى الصحة بالإجازة المتأخرة، وهذا بخلاف العقد
الصادر منه لغيره فإنه وإن كان فضوليا حيث أنه بدون اذن سيده الا ان
السيد إذا أجازه جاز نظرا إلى استناده إلى من له العقد من هذا الحين
أي من حين الإجازة فتشمله الاطلاقات والعمومات. والسر في ذلك هو
ان هذا العقد لم يقع من الأول فاسدا، بل فساده كان مراعي بعدم إجازة
المولى، نظير بقية العقود الفضولية، فإذا أجاز صح.
وبتعبير آخر: ان النكاح الصادر من العبد لنفسه بدون اذن مولاه
كالنكاح الصادر من الصبي أو المجنون أو السفيه لنفسه بدون اذن وليه
فكما انه غير قابل للتصحيح بإجازة نظرا إلى أنه فاسد من حين صدوره
فكذلك نكاح العبد وهذا بخلاف ما إذا كان لغيره فان من له العقد بما انه
غيره فصحته فتوقف على استناده إليه والمفروض ان الإجازة المتأخرة
مصححة له هذا.
46

ولنأخذ بالمناقشة على هذا التفصيل ملخصها أمران:
الأول: أنه لا فرق بين هذه الموارد وسائر موارد الفضولي، فان
صحته بالإجازة على القاعدة في جميع الموارد بلا فرق بين مورد دون مورد
بل لا يبعد أن يكون الحكم بالصحة في هذه الموارد أولى من غيرها، وذلك
لان الاستناد هنا إلى مالك العقد موجود ولا قصور فيه إلا من ناحية ان
صحته وترتب الأثر عليه شرعا تتوقف على إجازة السيد أو الولي وعلى
الجلمة فلا فرق في صحة عقد الفضولي بالإجازة المتأخرة بين أن يكون عدم
صحته من ناحية عدم استناده إلى المالك أو من هو في حكمه أو من ناحية
عدم إجازة من يكون لاجازته دخل في صحته، ففي جميع هذه الموارد
يكون حكم الشارع بفساد العقد معلقا على عدم الإجازة، فإذا أجاز من له
الإجازة جاز وصح. ومن الطبيعي أن هذا ليس من انقلاب الشئ عما
وقع عليه فان الحكم بالفساد إنما هو من جهة عدم تحقق شرط الصحة وهو
الإجازة فإذا تحقق حكم بها لا محالة وهذا ليس من الانقلاب في شئ على أن
اشكال لزوم الانقلاب لو تم لا يختص بمورد دون مورد بل يعم تمام
موارد العقد الفضولي كما هو ظاهر:
الثاني: لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان مقتضى القاعدة عدم صحة
العقد الفضولي والصحة تحتاج في كل مورد إلى دليل خاص إلا أن روايات
الباب تكفينا دليلا على الصحة في المقام فان هذه الروايات وان وردت في
خصوص نكاح العبد بغير اذن سيده إلا أنه يستفاد منها الكبرى الكلية
وهي ان المعاملات إذا كانت في أنفسها ممضاة شرعا لم يضر عصيان السيد
بصحتها أصلا سواء أكانت نكاحا أم كانت غيره. ضرورة أنه لا خصوصية
للنكاح في ذلك هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لا خصوصية لعصيان
السيد بما هو سيد إلا من جهة أن صحة المعاملة تتوقف على اجازته واذنه فإذا
47

أجاز جازت. وعلى ذلك فكل من كانت اجازته دخيلة في صحة معاملة
فعصيانه لا يضر بها فإذا أجاز المعاملة جازت.
وعلى الجملة فهذه الروايات في مقام بيان الفرق بين المعاملات الممضاة
شرعا في أنفسها والمعاملات غير ممضاة كذلك، كالنكاح في العدة ونحوه
وتدل على أن الطائفة الأولى إذا وقعت في الخارج فضولة وبدون إجازة
من له الإجازة صحت بإجازته المتأخرة دون الثانية، مثلا لو باع شخص مال
غيره فضولة أو تزوج بامرأة كذلك فعندئذ ان اجازه المالك صح العقد.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان المراد من العصيان في تلك الروايات
هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي كما سيأتي بيانه بشكل موسع.
فاذن تلك الروايات أجنبية عن محل الكلام في المسألة بالكلية فإنها كما
لا تدل على أن النهي عن المعاملة يدل على الصحة كذلك لا تدل على أن
النهي عنها يدل على الفساد.
ولكن شيخنا الأستاذ (قده) قد استدل بهذه الروايات على دلالة
النهي على الفساد ببيان ان المراد من عصيان الله تعالى فيها المستلزم للفساد
بمقتضى مفهومها هو العصيان التكليفي. وأما ما ذكر من تحقق عصيانه
سبحانه وتعالى في المقام نظرا إلى أن عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى
فإنه وإن كان صحيحا إلا أن المنفي في روايات الباب ليس مطلق عصيانه
ولو كان مع الواسطة، بل خصوص عصيانه المتحقق بمخالفة نهيه الراجع
إلى حقه تعالى على عبيده مع قطع النظر عن حقوق الناس بعضهم على
بعض، فيكون المتحصل من الروايات هو أن عصيان العبد بنكاحه لسيده
من دون اذنه لو كان ناشئا من مخالفة نهي متعلق بذلك النكاح من حيث
هو في نفسه لما فيه من المفسدة المقتضية لذلك لا وجب ذلك فساده لا محالة
كالنهي عن النكاح في العدة أو عن النكاح الخامس، وهكذا، وذلك لان
متعلق هذا النهي مبغوض للشارع حدوثا وبقاءا، لفرض استمرار مفسدة
48

المقتضية للنهي عنه، وهذا بخلاف عصيان العبد الناشئ من مخالفة النهي
عن التمرد على سيده فإنه بطبيعة الحال يدور مدار تمرده عليه حدوثا
وبقاءا، فإذا افترضنا أن سيده رضى بما عصاه ارتفع النهي عنه بقاءا،
وعليه فلا يبقى موجب لفساده أصلا ولا مانع من الحكم بصحته.
فالنتيجة ان المستفاد من الروايات هو: أن الفساد يدور مدار النهي
الإلهي حدوثا وبقاءا، غاية الأمر أنه إذا كان ناشئا من تفويت حق الغير
فهو إنما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهي باقيا ببقاء ملاكه وموضوعه
وأما إذا ارتفع حق الغير بارتفاع موضوعه بإجازة من له الحق تلك المعاملة
ارتفع النهي عنها أيضا.
وقد تحصل من ذلك ان هذه الروايات تدل على أن النهي عن المعاملة
ذاتا يوجب فسادها وان صحتها لا تجتمع مع عصيانه تعالى. نعم إذا كان
العصيان ناشئا من تفويت حق من له الحق توقفت صحة المعاملة على اجازته
كما عرفت.
ومن ضوء هذا البيان يظهر حال التعليل الوارد فيها وهو قوله (ع)
(انه لم يعص الله وإنما عصى سيده فإذا أجاز جاز) فان المراد من أنه لم يعص
الله يعني أنه لم يأت بما هو منهي عنه بالذات ومبغوض له تعالى من ناحية
اشتماله على مفسدة ملزمة وإنما أتى بما هو مبغوض لسيده فحسب من جهة
تفويت حقه فلا يكون مبغوضا له تعالى إلا بالتبع. ومن هنا يرتفع ذلك
برضا سيده بما فعله وعصاه فيه.
أو فقل: ان نكاح العبد بما أنه ليس من أحد المحرمات الإلهية في
الشريعة المقدسة، بل هو أمر سائغ في نفسه ومشروع كذلك وإنما هو
منهي عنه من ناحية ايقاعه خارجا بدون اذن سيده، وعليه فبطبيعة الحال
يرتفع النهي عنه بإذن سيده واجازته، ومع الارتفاع لا موجب للفساد أصلا.
49

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) وهو: انه لا يمكن أن يراد من
العصيان في الروايات العصيان التكليفي، بل المراد منه العصيان الوضعي
في كلا الموردين والسبب في ذلك هو ان النكاح المزبور بما أنه مشروع
في نفسه في الشريعة المقدسة لا يكون مانع من صحته ونفوذه بمقتضى العمومات
الا عدم رضا السيد به وعدم اجازته له فإذا ارتفع المانع بحصول الإجازة
جاز النكاح هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد تقدم منا في ضمن
البحوث السالفة ان حقيقة المعاملات عبارة عن الاعتبارات النفسانية المبرزة
في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل أو كتابة أو نحو ذلك، ومن الطبيعي
ان ابراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز ما ليس من
التصرفات الخارجية ليقال انه حيث كان بدون اذن السيد فهو محكوم بالحرمة
بداهة أنه لا يحتمل إناطة جواز تكلم العبد بإذن سيده ومن هنا لو عقد
العبد لغيره لم يحتج نفوذه إلى اذن سيده جزما فلو كان مجرد صدور العقد
منه بدون اذنه معصية له فبطبيعة الحال كان نفوذه يحتاج إلى اذنه بمقتضى
روايات الباب مع أن الامر ليس كذلك.
وعلى الجلمة فلا نحتمل أن يكون تكلم العبد بصيغة النكاح بدون اذن
سيده محرما شرعا، كما انا لا نحتمل ان اعتباره الزوجية في أفق النفس
بدون اذنه من أحد المحرمات في الشريعة ومن هنا تكون النسبة بين
توقف نفوذ العقد على إجازة السيد وبين صدور العقد من العبد عموما من
وجه، فإنه قد يصدر العقد من العبد ومع ذلك لا يتوقف نفوذه على إجازة
سيده كما إذا أوقعه لغيره، وقد يصدر العقد من غيره ولكن مع ذلك
يتوقف نفوذه على اجازته كما إذا أوقعه للعبد مع أنه لا عصيان هنا من أحد
وقد يجتمع الأمران كما إذا أوقع العبد العقد لنفسه.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي: انه لا مناص من القول بأن المراد
50

من العصيان في الروايات العصيان الوضعي وعلى هذا الضوء فحاصل معنى
الروايات هو ان النكاح لو كان غير مشروع في نفسه كما إذا كان العقد
في العدة أو ما شاكل ذلك لكان باطلا وغير قابل للصحة أصلا: وأما إذا
كان مشروعا في نفسه، غاية الأمر يتوقف نفوذه خارجا وترتب الأثر عليه
على رضا السيد به فهو بطبيعة الحال يدور فساده مدار عدم رضاه به حدوثا
وبقاء فإذا رضى صح ونفذ.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النقطة وهي: ان هذه الروايات كما
لا تدل على أن النهي عن المعاملات يقتضي الفساد كذلك لا تدل على أنه
يقتضي الصحة فهي ساكنة عن ذلك بالكلية. فالصحيح هو ما حققناه من
عدم الملازمة بين حرمة المعاملة شرعا وفسادها. ومما يؤكد ذلك اننا إذا
افترضنا حرمة المعاملة بعنوان ثانوي كما إذا أوقع العقد قاصدا به وقوع
الضرر على غيره أو نحو ذلك لم يحكم بفساده جزما مع أنه محرم شرعا.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الأولى: ان الجهة البحوث عنها في مسألتنا هذه تغاير الجهة المبحوث
عنها في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة حيث إنها في تلك المسألة في
الحقيقة عن اثبات الصغرى لمسألتنا هذه.
الثانية: ان مسألتنا هذه من المسائل الأصولية العقلية أما كونها
أصولية فلتوفر ركائز المسألة الأصولية فيها، وأما كونها عقلية فلان الحاكم
بها هو العقل ولا صلة لها باللفظ.
الثالثة: ان القضايا العقلية على شكلين: المستقلة وغير المستقلة،
وتقدم ما هو ملاك الاستقلال وعدمه.
الرابعة: ان محل النزاع في المسألة إنما هو في النواهي المولوية
المتعلقة بالعبادات والمعاملات. واما النواهي الارشادية فهي خارجة عن
51

محل النزاع حيث لا نزاع بين الأصحاب في دلالتها على الفساد.
الخامسة: لا شبهة في أن النهي التحريمي المتعلق بالعبادة داخل في محل
النزاع، وكذا النهي التنزيهي المتعلق بها إذا كان ناشئا عن حزازة ومنقصة
في ذاتها. نعم إذا كان ناشئا عن حزازة ومنقصة في تطبيقها على حصة
خاصة منها فهو خارج عن محل الكلام. وأما النهي الغيري فهو أيضا
خارج عنه ولا يوجب الفساد.
السادسة: ان المراد من العبادة في محل الكلام هو العبادة الشالية
لا الفعلية، لاستحالة اجتماعها مع النهي الفعلي. والمراد من المعاملات كل
أمر اعتباري قصدي بحيث يتوقف ترتب الأثر عليه شرعا أو عرفا على قصد
انشائه واعتباره، فما لا يتوقف ترتيب الأثر عليه على ذلك فهو خارج
عن محل الكلام.
السابعة: ان الصحة والفساد أمر ان منتزعان في العبادات ومجعولان
شرعا في المعاملات وعلى كلا التقديرين فهما صفتان عارضتان على الموجود
المركب في الخارج باعتبار ما يترتب عليه من الأثر وعدمه فالماهية لا تتصف
بهما كالبسيط.
الثامنة: ان النهي تارة يتعلق بذات العبادة، وأخرى بجزئها، وثالثة
بشرطها، ورابعة بوصفها الملازم لها، وخامسة بوصفها المفارق. أما الأول
فلا شبهة في استلزامه الفساد من دون فرق بين كونه ذاتيا أو تشريعيا،
لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وأما الثاني فالصحيح انه لا يدل
على فساد العبادة. نعم لو اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت
العبادة من جهة كونها فاقدة للجزء. وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده)
من أن النهي عنه يدل على فساد العبادة فقد تقدم نقده بشكل موسع.
وأما الثالث فحاله حال النهي عن الجزء من ناحية عدم انطباق الطبيعة
52

المأمور بها على الحصة المنهي عنها على تفصيل قد سبق. وأما الرابع فهو
يرجع إلى أحد هذه الأقسام وليس قسما آخر في قبالها. وأما الخامس فهو
خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي نعم على
القول بالامتناع يدخل مورد الاجتماع في أحد الأقسام المزبورة.
التاسعة: إنه لا أصل في المسألة الأصولية ليعتمد عليه عند الشك
وعدم قيام الدليل عليها إثباتا أو نفيا. نعم الأصل في المسألة الفرعية
موجود، ومقتضاه الفساد مطلقا في العبادات والمعاملات.
العاشرة: نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي عن المعاملة على
صحتها واختاره المحقق صاحب الكفاية (قده) وقد تقدم نقده بصورة
موسعة والصحيح هو أن النهي عنها لا يدل على صحتها ولا على فسادها
يعني لا ملازمة بين حرمتها وفسادها.
الحادية عشرة: أن نسبة صيغ العقود إلى الملكية المنشأة ليست نسبة
السبب إلى المسبب، ولا نسبة الآلة إلى ذيها بل نسبتها إليها نسبة المبرز إلى
المبرز فالملكية من الافعال القائمة بالمتعاقدين بالمباشرة لا بالتسبيب وأما
نسبة الصيغ إلى الملكية الشرعية أو العقلائية نسبة لا موضوع إلى الحكم لا غيرها،
وعليه فلا معنى لفرض تعلق النهي بالسبب تارة وبالمسبب أخرى.
الثانية عشرة: أن شيخنا الأستاذ (قده) قد فصل بين تعلق النهي
بالسبب وتعلقه بالمسبب والتزم بأنه على الأول لا يدل على الفساد وعلى الثاني
يدل عليه. وقد تقدم نقده بشكل مفصل فلا حظ.
الرابعة عشرة: أن الروايات الواردة في نكاح العبد بدون اذن سيده
53

لا تدل على فساد النكاح ولا على صحته وأنها أجنبية عن ذلك، وما ذكره
شيخنا الأستاذ (قده) من أنها تدل على الفساد بتقريب أن المراد من
العصيان فيها هو العصيان التكليفي لا الوضعي قد سبق نقده وقلنا إن المراد
منه العصيان الوضعي ولا يمكن أن يكون المراد منه العصيان التكليفي.
(مباحث المفاهيم)
قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب سواء
أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية، وقد يطلق على مطلق ما يفهم
من الشئ سواء أكان ذلك الشئ لفظا أم كان غيره كالإشارة أو الكتابة أو نحو
ذلك وغير خفي أن هذين الاطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث أنه في
المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من الشئ مطلقا.
وعلى ذلك فلابد لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق
والمفهوم فنقول: اما المنطوق فإنه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ
بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقولنا (رأيت أسدا) فإنه
يدل على كون المرئي هو الحيوان المفترس بالمطابقة وكقوله تعالى " وأنزلنا
من السماء ماء طهورا " حيث أنه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى
طهورية جميع أفراده بالاطلاق والقرينة العامة، كما أن قولنا رأيت أسدا
يرمي يدل على كون الرأي هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا.
وعلى الجملة فما دل عليه اللفظ وضعا أو اطلاقا أو من ناحية القرينة
العامة أو الخاصة فهو منطوق نظرا إلى أنه يفهم من شخص ما نطق به
المتكلم. وأما المفهوم فإنه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية
نظرا إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق
54

فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أولا وبالذات وعلي المفهوم ثانيا وبالعرض،
وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية التي قد دلت عليها
بالمطابقة أو بالاطلاق والقرينة العامة، مثلا دلالة القضية الشرطية على
المفهوم وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلا - تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط
علة منحصرة للحكم وضعا أو إطلاقا على ما يأتي.
وبكلمة أخرى: أن انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون
أولا وبالذات أي لا يحتاج إلى شئ ما عدى الوضع أو القرينة العامة أو
الخاصة أو يكون ثانيا وبالتبع أي يحتاج انفهامه زائدا على ما عرفت إلى
خصوصية أخرى، وتلك الخصوصية تستتبع ذلك، فان القضية الشرطية
كقولنا (ان جاءك زيد فأكرمه) مثلا بناء على دلالتها على المفهوم تدل
على الثبوت عند الثبوت أولا وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانيا وبالتبع
بمعنى أن انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأول ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها
على الخصوصية المزبورة - وهي كون الشرط علة منحصرة للحكم - ومن الطبيعي
أن لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعا لانفهام المنطوق في مقام الاثبات والدلالة
فالنتيجة في نهاية الشوط هي أن المفهوم في محل الكلام عبارة عما
كان انفهامه لازما لانفهام المنطوق باللزوم البين بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج
إلى شئ آخر زائدا على ذلك. ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب
المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام، فان الملازمة على القول بها وإن كانت
ثابتة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، ووجوب شئ وحرمة ضده،
ونحو ذلك إلا أنها ليست على نحو اللزوم البين، ضرورة أن النفس
لا تنتقل من مجرد تصور وجوب الشئ ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور
مقدمة أخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما. فالنتيجة أن الملازمة في
تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البين.
55

ودعوى - أن تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون
جزافا فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة
بين المعنيين فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين
التبعية في تلك الموارد فكما أن تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب
ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية - وهي ادراك العقل ثبوت الملازمة بينهما -
فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى
مقدمة خارجية - وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم - فلا فرق
بينهما من هذه الناحية أصلا. وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطردا حيث
تدخل فيه الموارد المذكورة - خاطئة جدا وذلك لان التبعية في المقام تمتاز
عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة وهي أن التبعية هنا وإن كانت
تستند إلى كون الشرط علة منحصرة للحكم الا أنه ليس من المقدمات
الخارجية فإنه مدلول للجملة الشرطية وضعا أو اطلاقا فلا نحتاج في انفهام
المفهوم منها إلى مقدمة خارجية، وهذا بخلاف التبعية هناك، فإنها تحتاج
إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائدا على مدلول الجملة كصيغة
الامر أو ما شاكلها.
وعلى الجملة فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أن التبعية في المقام
مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ، والتبعية هناك مستندة
إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ، ولأجل ذلك تكون
الملازمة هنا بين الالفهامين بينة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية، وهناك
غير بينة لاحتياجها إليها، كما أنه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء
والتنبيه والإشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام، فان اللزوم في مواردها
من اللزوم غير البين فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية،
مثلا دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أنها ليست
56

من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون
اللزوم بينا، والمفروض أن الملازمة فيها غير بينة بل هي من الدلالة
الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة أخرى وبدونها فلا دلالة.
فالنتيجة: أن اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بين.
ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ (قده) من الخط بين اللزوم
البين بالمعنى الأعم واللزوم غير البين حيث أنه (قده) مثل للأول بتلك
الدلالات مع أنك عرفت أن اللزوم فيها غير بين لاحتياجها إلى ضم مقدمة
خارجية، فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البين واللزوم غير البين وأما نقطة
الامتياز بين اللزوم البين بالمعنى الأعم واللزوم البين بالمعنى الأخص فهي أمر آخر
وهو أنه يكفي في اللزوم البين بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى
لازمه، وهذا بخلاف اللزوم البين بالمعنى الأعم فإنه لا يكفي فيه ذلك،
بل لابد فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الانتقال إليه.
نعم هما يشتركان في نقطة أخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي: أن في كل مورد لم
يحتج لزوم انفهام شئ لانفهام شئ آخر إلى ضم مقدمة أخرى فهو من
اللزوم البين سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص وفي كل مورد احتاج لزوم
انفهام شئ لانفهام شئ آخر إلى ضمها فاللزوم لا يكون بينا أصلا.
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أن هذه الدلالات من اللازم
البين بالمعنى الأعم في غير محله.
ثم أن لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البين بالمعنى الأخص
أو من اللزوم البين بالمعنى الأعم الظاهر هو الأول. والسبب في ذلك هو
أن اللازم إذا كان بينا بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أن
المخاطب قد يغفل عنه نظرا إلى أن الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور
57

ملزومه ولحاظه في أفق النفس بل لابد من تصوره وتصور اللازم والنسبة
بينهما، ومن الطبيعي أن اللازم بهذا المعنى لا ينطبق على المفهوم، لوضوح
أن معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أنها تدل على
كون الشرط أو نحوه علة منحصرة للحكم ومن الطبيعي أن مجرد تصورها
يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى
تصور أي شئ آخر، وهذا معنى اللزوم البين بالمعنى الأخص.
لحد الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أن لزوم المفهوم للمنطوق
من اللزوم البين بالمعنى الأخص.
الثانية: أن مسألة المفاهيم هل هي من المسائل الأصولية العقلية أو
اللفظية فيه وجهان بل قولان قد يقال كما قيل: أنها من المباحث اللفظية
بدعوى أن الدال عليها اللفظ، غاية الأمر أن دلالته المنطوق بالمطابقة وعلى المفهوم
بالالتزام. ومن هنا تفترق مسألة المفاهيم عن مسألة الضد ومقدمة الواجب
واجتماع الأمر والنهي وما شاكل ذلك حيث أنها من المباحث اللفظية دون تلك
المسائل فإنها من المباحث العقلية، ولا صلة لها بعالم اللفظ أبدا.
ولكن يمكن أن يقال أنها من المسائل العقلية أيضا والوجه في ذلك هو
أن الحيثية التي نقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلية المنحصرة وإن كانت
مداولا للفظ وضعا أو اطلاقا حيث أن الدال عليها هو الجملة الشرطية
أو نحوها الا أن هذه الحيثية نفسها ليست بمفهوم على الفرض، فان المفهوم
ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها، ومن المعلوم أن الحاكم بذلك أي
بانتفاء المعلول عند انتفاء علته التامة إنما هو العقل ولا صلة له باللفظ.
وبكلمة أخرى أن للمفاهيم حيثيتين واقعيتين فمن إحداهما تناسب
أن تكون من المسائل الأصولية العقلية ومن الأخرى تناسب أن تكون من
المسائل الأصولية اللفظية وذلك لأنه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول
58

عند انتفاء العلة هو العقل فحسب فهي من المسائل الأصولية العقلية وبالنظر
إلى كون الكاشف عن العلة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضا
فهي من المسائل الأصولية اللفظية لفرض أن الكاشف عنها هو اللفظ كما
عرفت، فاذن يكون المفهوم مدلولا للفظ التزاما وكيف كان فلا يترتب
أي أثر على البحث عنها من هذه الناحية وإنما الأثر مترتب على كونها
أصولية سواء أكانت عقلية أم كانت لفظية والمفروض أنها من المسائل
الأصولية لتوفر ركائزها فيها - وهي وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها من
دون ضم كبرى أو صغرى أصولية إليها - فلا أثر للبحث عن أن الحاكم فيها
هل هو العقل أو غيره أصلا.
الثالثة أن كلامنا هنا ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده
بل الكلام إنما هو في أصل وجوده وتحققه خارجا بمعنى أن الجملة الشرطية
أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أم لا كما هي ظاهرة في المنطوق
والوجه فيه أن البحث في جميع مباحث الألفاظ إنما هو عن ثبوت الصغرى
- وهي اثبات الظهور لها - بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى - وهي حجية
الظواهر في الجملة -
وبعد ذلك نقول: إن الكلام يقع في عدة موارد الأول في مفهوم الشرط
اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه
وليعلم أن دلالتها على المفهوم ترتكز على ركائز.
الأولى: أن يرجع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة بأن
يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة أخرى.
الثانية: أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.
الثالثة أن تكون القضية ظاهرة في أن ترتب الجزاء على الشرط من باب
ترتب المعلول على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول ولا من باب ترتب
59

أحد المعلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر.
الرابعة: أن تكون ظاهرة في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها
فمتى توفرت هذه الركائز في القضية تمت دلالتها على المفهوم وإلا فلا،
وعلى هذا فلابد لنا من درس كل واحدة منها:
أما الركيزة الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة والسبب في ذلك
هو ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن القضايا الشرطية ظاهرة
عرفا لي تعليق مفاد الجملة - وهي الجزاء - على مفاد الجملة الأخرى - وهي
الشرط - مثلا قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يدل على
تعليق وجود النهار على طلوع الشمس، كما أن قوله (ع) إذا بلغ الماء
قدر كر لا ينجسه شئ يدل على تعليق عدم الانفعال على بلوغ الماء قدر
كر وهكذا، وكيف كان فلا شبهه ء في ظهور القضية الشرطية في ذلك.
نعم لو بنينا على رجوع القيد إلى المادة كما اختاره شيخنا الأنصاري
(قده) فحال القضية الشرطية عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة
على المفهوم وعدمها، لما سيأتي من أن المراد بالوصف ليس خصوص
الوصف المصطلح في مقابل سائر المتعلقات بل المراد منه مطلق القيد سواء
أكان وصفا أم كان غيره من القيود. ومن هنا لو عبر عن مفهوم الوصف
بمفهوم القيد لكان أولي.
وعلى الجملة فعلى هذه النظرية يدخل مفهوم الشرط في مفهوم الوصف
ويكون من أحد أفراده ومصاديقه. فالنتيجة أن القول بمفهوم الشرط في
قبال مفهوم الوصف يقوم على أساس رجوع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة
دون المادة.
وأما الركيزة الثانية: وهي دلالة القضية الشرطية على كون العلاقة
بين الجزاء والشرط علاقة لزومية فإنها أيضا تامة وذلك لان استعمالها
60

في موارد الاتفاق وعدم العلاقة في أية لغة كون لو لم يكن غلطا فلا شبهة
في أنه نادر جدا لوضوح أنه لا يصح تعليق كل شئ على كل شئ من دون
علاقة وارتباط بينهما، وكيف كان فلا شك في أن الاستعمال في تلك الموارد
لو صح فإنه يحتاج إلى رعاية علاقة وأعمال عناية وبدونهما فالقضية ظاهرة
في وجود العلاقة اللزومية بينهما.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أن تقسيم المناطقة القضية الشرطية إلى
لزومية واتفاقية لا يقوم على أساس صحيح فان ما مثلوا للثانية بقولهم إن
كان الانسان ناطقا فالحمار ناهق أو ما شاكل ذلك لم يكن بحسب الواقع
والحقيقة قضية شرطية، بل صورتها صورة القضية الشرطية، وكيف
كان فلا شبهة في ثبوت هذه الركيزة وأنها أساس للقضية الشرطية.
وأما الركيزة الثالثة: وهي دلالة القضية الشرطية على أن ترتب
الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فهي خاطئة جدا وذلك
لأنها وإن دلت على ترتب الجزاء على الشرط والتالي على المقدم كما هو
مقتضى كلمة ألفا إلا أنها لا تدل على أن هذا الترتب من ترتب المعلول
على العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غيره مجازا بل هي تدل على مطلق
الترتب سواء أكان من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة كترتب وجوب الحج
على الاستطاعة وترتب وجوب إكرام زيد مثلا على مجيئه وترتب عدم
انفعال الماء على بلوغه كرا وما شاكل ذلك أو كان من قبيل ترتب؟؟؟
على المعلول كما هو الحال في البرهان الآني كترتب طلوع الشمس على
وجود النهار وترتب تغير العالم على حدوثه والأول كقولنا إن كان النهار
موجودا فالشمس طالعة والثاني كقولنا إن كان العالم حادثا فهو متغير ونحو
ذلك أو كان من قبيل ترتب أحد معلولين لعلة ثالثة على معلول آخر
كقوله إن كان النهار موجودا فالعالم مضئ وغير ذلك والسبب فيه هو
61

أن القضية الشرطية في جميع هذه الموارد تستعمل في معنى واحد وليس
استعمالها في موارد ترتب العلة على المعلول أو ترتب أحد المعلولين على
على الآخر مجازا لنحتاج إلى لحاظ وجود قرينة في البين وأعمال عناية،
بل إنه كاستعمالها في موارد ترتب المعلول على العلة التامة على نحو الحقيقة،
ضرورة أنه لا فرق بين قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وبين
قولنا إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة، فكما أن الأول على نحو
الحقيقة، فكذلك الثاني فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
نعم يفترق الأول عن الثاني في نقطة أخرى وهي أن الترتب في
الأول مطابق للواقع الموضوعي دون الثاني، فان الترتب فيه بمجرد إفتراض
من العقل من دون واقع موضوعي له.
إلى هنا قد؟؟ استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن القضية الشرطية
موضوعة للدلالة على ترتب الجزاء على الشرط من دون الدلالة على أنه من
ترتب المعلول على العلة التامة فضلا عن كونها منحصرة فالموضوع له هو
الجامع بين جميع أنواع الترتب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن
القضية الشرطية لا تدل على المفهوم في موارد البرهان الآني لوضوح
أن غاية ما تقتضيه القضية في تلك الموارد هو أن تحقق المقدم يستلزم تحقق
التالي ويكشف عنه فيكون وسطا للاثبات والعلم دون الثبوت والوجود
ولا تدل على امتناع وجود التالي من دون وجود المقدم، بداهة أن وجود
المعلول وإن كان يكشف عن وجود العلة إلا أن عدمه لا يكشف عن عدمها
لامكان أن يكون عدمه مستندا إلى وجود المانع لا إلى عدمها، مثلا وجود
الممكن في الخارج كاشف عن وجود الواجب بالذات نظرا إلى استحالة
وجوده في نفسه ولكن عدمه لا يكشف عن عدمه ولا عن عدم وجود ممكن
آخر لجواز أن يكون عدمه مستندا إلى ما يخصه من المانع.
62

نعم علم المعلول يكشف عن عدم علته التامة، كما أن وجوده يكشف
عن وجودها، وعدم أحد المعلولين لعلة ثالثة يكشف عن عدم الآخر،
كما يكشف عن عدم علته التامة. وعلى هذا الضوء فالقضايا الشرطية في
موارد البراهين الآنية إنما تدل على الثبوت عند الثبوت ولا تدل على انتفاء الجزاء
عند انتفاء المقدم، لاحتمال أن يكون انتفاء المقدم مستندا إلى وجود المانع
لا إلى انتفاء الجزاء والوجه في ذلك هو أنه لا فرق بين استعمال القضايا
الشرطية في موارد العلة الناقصة واستعمالها في موارد العلة التامة، فكما
أنه على نحو الحقيقة في الثانية فكذلك في الأولى فلا فرق بينهما من هذه
الناحية أبدا.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي انه لا ظهور للقضايا الشرطية في ترتب
المعلول على العلة لا بالوضع ولا بالاطلاق.
هذا ولكن لشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وهو انه بعدما
اعترف من أن استعمالها في موارد غير ترتب المعلول على العلة ليس مجازا قال إن
ظاهر القضية الشرطية ذلك أي ترتب المعلول على العلة وذلك لان
ظاهر جعل شئ مقدما وجعل شئ آخر تاليا هو ترتب التالي على المقدم
فإن كان هذا الترتب موافقا للواقع ونفس الامر بأن يكون المقدم علة للتالي
فهو والا لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام
البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية، وعليه فمن ظهور الجملة
الشرطية في ترتب التالي على المقدم يستكشف كون المقدم علة للتالي وان
وإن لم يكن ذلك مأخوذا في نفس الموضوع له.
وهذا الذي أفاده (قده) وإن كان غير بعيد في نفسه نظرا إلى
أن المتكلم إذا كان في مقام بيان تفرع الجزاء على الشرط وترتبه عليه بحسب
مقام الثبوت والواقع لدلت القضية على ذلك في مقام الاثبات أيضا للتبعية
63

نظير ما إذا قلنا جاء زيد ثم عمرو، فإنه يدل على تأخر مجيئي عمرو عن مجيئي
زيد بحسب الواقع ونفس الآمر والألم يصح استعماله فيه.
وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان ذلك بل كان في مقام الاخبار أو الانشاء
فلا يتم ما أفاده (قده). وذلك لان القضية الشرطية عندئذ لا تدل إلا على أن أخبار
المتكلم عن وجود الجزاء متفرع على فرض وجود الشرط أو انشاء الحكم
واعتباره متفرع على فرض وجوده وتحققه وأما أن وجود الجزاء واقعا
مترتب على وجود الشرط فلا دلالة للقضية على ذلك أصلا، ضرورة أنه
لا مانع من أن يكون الاخبار عن وجود العلة متفرعا على فرض وجود المعلول في الخارج
والاخبار عن وجود أحد المتلازمين متفرعا على فرض وجود الملازم الآخر فيه والسر فيه
هو أنه لا يعتبر في ذلك الا فرض المتكلم شيئا مفروض الوجود في الخارج
ثم أخبر عن وجود شئ آخر متفرعا على وجوده ومعلقا عليه كقولنا (إن كان
النهار موجودا فالشمس طالعة) حيث أن المتكلم فرض وجود النهار
في الخارج ثم أخبر عن طلوع الشمس على تقدير وجوده أو فرض وجود شئ
فيه ثم انشاء الحكم على هذا التقدير كقولنا (ان جاءك زيد فأكرمه) حيث
أنه جعل وجوب الاكرام على تقدير تحقق مجيئه في الخارج وهكذا.
وعلى الجملة فيما أن القضية الشرطية لم توضع للدلالة على أن ترتب
الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فبطبيعة الحال تستند دلالتها
على ذلك في مورد إلى قرينة حال أو مقال والا فلا دلالة لها على ذلك أصلا.
وأما الركيزة الرابعة: وهي دلالة القضية على كون الشرط علة
منحصرة للجزاء فهي واضحة الفساد، لما عرفت من أنها لا تدل على أن
ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فضلا عن دلالتها
على أن هذا الترتب من الترتب على العلة المنحصرة.
فالنتيجة لحد الآن: هي أنه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم
64

أصلا وإنما تدل على الثبوت عند الثبوت فحسب. قد يقال كما قيل أن القضية الشرطية
وإن لم تدل على المفهوم وضعا إلا أنها تدل عليه إطلاقا بيان ذلك هو أن
المتكلم فيها إذا كان في مقام بيان ولم ينصب قرينة على الخلاف فمقتضى
إطلاقها هو أن الشرط علة منحصرة للجزاء وان ترتبه عليه من الترتب على
العلة المنحصرة، ضرورة أنه لو كانت هناك علة أخرى سابقة عليه وجودا
لكان الجزاء مستندا إليها لا محالة، كما أنه لو كانت هناك علة أخرى في
عرضها لكان مستندا إليهما معا، وبما أن المتكلم استند وجود الجزاء إلى
وجود الشرط فمقتضى اطلاق هذا الاستناد هو أنه ليس له علة أخرى
سابقة أو مقارنة، ونستكشف من هذا الاطلاق الاطلاق في مقام الثبوت
والواقع وان العلة منحصرة فيه فليس له علة أخرى غيره.
ولكن هذا القول خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له، والسبب في
ذلك هو أن غاية ما تدل القضية الشرطية عليه هو ثبوت الملازمة بين التالي
والمقدم فحسب وأما ترتب التالي على المقدم، فإنه ليس مدلولا لها وإنما
هو قضية تفريعه عليه في ظاهر القضية وتعليقه ومن هنا قلنا أن القضية
مع هذا التفريع لا تدل إلا على مطلق ترتب الجزاء على الشرط.
وأما الترتب الخاص وهو ترتب المعلول على العلة فلا يستفاد منها
إلا بقرينة خاصة فضلا عن كون هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة
المنحصرة.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي: أن القضية الشرطية
لا تدل على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق. ومن هنا أخذ شيخنا الأستاذ
قدس سره طريقا ثالثا لاثبات المفهوم لها، وهو التمسك باطلاق الشرط
بيان ذلك: أن القضية الشرطية على نوعين: (أحدهما ما يكون الشرط
فيه في حد ذاته مما يتوقف عليه الجزاء عقلا وتكوينا. (وثانيهما) ما لا يكون
65

الشرط فيه كذلك، بل يكون توقف الجزاء عليه بجعل جاعل ولا يكون
عقليا وتكوينيا.
أما النوع الأول فيما أن ترتب الجزاء على الشرط في القضية قهري
وتكويني فبطبيعة الحال لا يكون لمثل هذه القضية الشرطية مفهوم، لأنها
مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيكون حالها حال اللقب فلا يكون فرق بينهما
من هذه الناحية أصلا، وهذا كقولنا: ان رزقت ولدا فاختنه، وإن
جاء الأمير فخذ ركابه، وما شاكل ذلك، فان القضية الشرطية في أمثال
هذه الموارد تكون مسوقة لبيان تحقق الحكم عند تحقق موضوعه فيكون حال الشرط
المذكور فيها حال اللقب فلا تدل على المفهوم أصلا، بداهة أن التعليق في أمثال
هذه القضايا لو دل على المفهوم لدل كل قضية عليه ولو كانت حملية،
وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أن كل قضية حملية تنحل
إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، مع
أن دلالتها عليه ممنوعة جزما.
وأما النوع الثاني وهو ما لا يتوقف الجزاء فيه على الشرط عقلا وتكوينا
فقد ذكر (قده) أنه يدل على المفهوم وأفاد في وجه ذلك: أن الحكم
الثابت في الجزاء لا يخلو من أن يكون مطلقا بالإضافة إلى وجود الشرط المذكور
في القضية الشرطية أو يكون مقيدا به ولا ثالث لهما وبما أنه رتب في ظاهر
القضية الشرطية على وجود الشرط فطبيعة الحال يمتنع الاطلاق ويكون مقيدا
بوجود الشرط لا محالة، وعلى هذا فإن كان المتكلم في مقام البيان وقد
أتى بقيد واحد ولم يقيده بشئ آخر سواء أكان التقييد بذكر عدل له في
الكلام أم كان بمثل العطف بالواو، لتكون نتيجته تركب قيد الحكم من
أمرين كما في مثل قولنا: ان جاءك زبد وأكرمك فأكرمه استكشف من
ذلك انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية الشرطية.
66

وعلى الجملة: فالقضية الشرطية وإن كانت بحسب الوضع لا تدل
على تقييد الجزاء بوجود الشرط المذكور فيها فحسب، وذلك لما عرفت
من صحة استعمالها في موارد القضية المسوقة لبيان الحكم عند تحقق موضوعه
الا أن ظاهرها فيما إذا كان التعليق على ما لا يتوقف عليه متعلق الحكم في
الجزاء عقلا هو ذلك، فإذا كان المتكلم في مقام البيان فكما أن اطلاق
الشرط وعدم تقييده بشئ بمثل العطف بالواو مثلا يدل على عدم كون
الشرط مركبا من المذكور في القضية وغيره، فكذلك اطلاق الشرط وعدم
تقييده بشئ مثل العطف بأو يدل على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية
وليس له شرط آخر والا لكان عليه ذكره. وهذا نظير استفادة الوجوب
التعييني من اطلاق الصيغة فكما أن قضية اطلاقها عدم سقوط الواجب
باتيان ما يحتمل كونه عدلا له فيثبت بذلك كون الوجوب تعيينيا فكذلك
قضية اطلاق الشرط في المقام، فإنها انحصار قيد الحكم به وأنه لا بدل
له في سببية الحكم وترتبه عليه.
ومن ضوء هذا البيان يظهر أن ما أورده المحقق صاحب الكفاية (قده)
على هذا التقريب خاطئ جدا وحاصل ما أورده هو أن قياس المقام
بالوجوب التعييني قياس مع الفارق، وذلك لان الوجوب التعييني سنخ
خاص من الوجوب مغاير للوجوب التخيري فهما متباينان سنخا. وعلى هذا
فلابد للمولى إذا كان في مقام البيان من التنبيه على أحدهما بخصوصه والإشارة
إليه خاصة. وبما أن بيان الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر خصوصية في
الكلام أعني بها العدل كما في مثل قولنا أعتق رقبة مؤمنة أو صم شهرين
متتابعين أو أطعم ستين مسكينا فإذا لم يذكر كان مقتضى الاطلاق
كون الوجوب تعيينيا وأنه غير متعلق الا بما هو مذكور في الكلام، وهذا
بخلاف المقام، فان؟؟؟ المعلول على علته المنحصرة ليس مغايرا في السنخ
67

لترتبه على غير المنحصرة، بل هو في كليهما على نحو واحد، فاذن لا مجال
للتمسك بالاطلاق لاثبات انحصار العلة بما هو مذكور في القضية.
وجه الظهور هو أن الاطلاق المتمسك به في المقام ليس هو اطلاق
الجزاء واثبات أن ترتبه على الشرط إنما هو على نحو ترتب المعلول على علته
المنحصرة ليرد عليه ما ذكر، بل هو اطلاق الشرط بعدم ذكر عدل له
في القضية، وذلك لما عرفت من أن ترتب الجزاء على الشرط وان لم
يكن مدلولا للقضية الشرطية وضعا الا أنه يستفاد منها بحسب المتفاهم
العرفي سياقا، وذلك يستلزم تقييد الجزاء بوجود الشرط في غير القضايا
الشرطية المسوقة لبيان تحقق الحكم بتحقق موضوعه كما تقدم، وبما أن
التقييد بشئ واحد يغاير التقييد بأحد الشيئين على البدل سنخا يلزم على
المولى بيان الخصوصية إذا كان في مقام البيان، وحيث أنه لم يبين العدل
مع أنه يحتاج إلى البيان تعين كون الشرط واحدا وان القيد منحصر به
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده).
أما أولا: فلان ما ذكره (قده) من الملاك لدلالة القضية الشرطية
على المفهوم لو تم فلا يختص الملاك بها، بل يعم غيرها أيضا كالقضايا
الوصفية ونحوها والسبب في ذلك هو أن التمسك بالاطلاق المزبور لا يثبت
مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد فلو أثبت المفهوم فهو إنما يثبته بعنوان
مفهوم القيد ببيان أن الحكم الثابت لشئ مقيد بقيد كقولنا: أكرم العالم
العادل مثلا فالقيد لا يخلو من أن يكون مطلقا في الكلام ولم يذكر المتكلم
عدلا له كالمثال المزبور أو ذكر عدلا له كقولنا: أكرم العالم العادل أو
الهاشمي فالقضية على الأول تدل على أن الحكم الثابت للعالم مقيد بقيد واحد
وهو العدالة، وعلى الثاني تدل على أنه مقيد بأحد القيدين: وهما العدالة
والهاشمية وبما أن التقييد بأحدهما على البدل يحتاج إلى بيان زائد في الكلام
68

كالعطف بأو أو نحوه كان مقتضى اطلاق القيد وعدم ذكر عدل له انحصاره
به أي بما هو مذكور في القضية والا لكان على المولى البيان، ومن الطبيعي
أنه لا فرق في ذلك بين كون القضية شرطية أو وصفية أو ما شاكلها،
والسر في هذا هو أن ملاك دلالة القضية على المفهوم إنما هو اطلاق القيد
المذكور فيها، ومن الواضح جدا أنه لا يفرق في ذلك بين كونه معنونا
بعنوان الشرط أو الوصف أو نحو ذلك.
وبكلمة أخرى أن الحكم المذكور في القضية قد يكون مقيدا بقيود
عديدة المذكورة فيها، وقد يكون مقيدا بأحد قيدين أو قيود على سبيل
البدل، وقد يكون مقيدا بقيد واحد، فما ذكره (قده) من البيان لاثبات
المفهوم للقضية الشرطية إنما هو لازم تقييده بقيد واحد، حيث أن مقتضى
إطلاقه هو انحصاره به، وهذا الملاك لا يختص بها، بل يعم غيرها من
القضايا أيضا.
فالنتيجة: أن ما أفاده (قده) لو تم فهو لا يثبت مفهوم الشرط في
مقابل مفهوم القيد.
وأما ثانيا: فلان مقتضى اطلاق القيد في الكلام وعدم ذكر عدل
له وإن كان وحدته تعيينا في مقابل تعدده أو كونه واحدا لا بعينه إلا أنه
لا يدل على انحصار الحكم به، بل غاية ما يدل عليه هو أن الحكم في
القضية غير ثابت لطبيعي المقيد على الاطلاق وإنما هو ثابت لحصة خاصة
منه، ولكنه لا يدل على أنه ينتفى بانتفاء تلك الحصة، فإنه لازم انحصار
الحكم به لا لازم اطلاقه وعدم ذكر عدل له فان لازمه عدم ثبوت الحكم
للطبيعي على الاطلاق ولا يدل على انتفائه عن حصة أخرى غير هذه الحصة
وعلى الجملة فملاك دلالة القضية على المفهوم إنما هو انحصار الحكم
بالقيد المذكور فيها وأنه علته المنحصرة لا إطلاقه حيث أن لازمه ما ذكرناه
69

لا المفهوم بالمعنى الذي هو محل الكلام - وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلا -.
فالنتيجة أن ما أفاده (قده) من البيان لا يكون ملاك دلالة القضية
الشرطية على المفهوم.
وأما ثالثا: فلما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) هنا وحاصله:
هو أن المتكلم للقضية الشرطية ليس في مقام البيان من هذه الناحية أي
من ناحية انحصار الشرط بما هو مذكور فيها، بل الظاهر أنه في مقام
بيان مؤثرية الشرط على نحو الاقتضاء بمعنى عدم قصوره في حد ذاته عن
التأثير وليس هو في مقام بيان مؤثريته الفعلية وانحصارها بما هو مذكور في
القضية بلحاظ عدم ذكر عدل له حتى يتمسك باطلاقه لا ثبات انحصار المؤثر
الفعلي فيه.
نعم لو كانت القضية في مقام البيان من هذه الناحية لدلت على
المفهوم لا محالة الا أن هذه النكتة التي توجب دلالتها على المفهوم لا تختص
بها، بل تعم القضية الوصفية أيضا حيث أنها لو كانت في مقام البيان
من هذه الناحية أي من ناحية انحصار القيد المؤثر بما هو مذكور فيها
وعدم وجود غيره لدلت بطبيعة الحال على المفهوم. وقد تقدم منا أن هذا
المفهوم ليس من مفهوم الشرط الذي هو محل الكلام في مقابل مفهوم
القيد، بل هو هو بعينه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن كون
المتكلم فيها في مقام البيان حتى من هذه الناحية نادر جدا فلا يمكن أن يكون
هذا هو مراد القائلين بالمفهوم فيها حيث أنه رغم كونه نادرا وغير مناسب
أن يكون مرادا لهم فيحتاج إثباته إلى قرينة خاصة، ومن المعلوم أن مثله
خارج عن مورد كلامهم وإن لم يكن نادرا، فان كلامهم في دلالة القضية
الشرطية على المفهوم وضعا أو إطلاقا. وأما دلالتها عليه بواسطة القرينة
الخاصة فلا نزاع فيها أبدا.
70

وبكلمة أخرى: أن المتكلم في القضية الشرطية إنما هو في مقام بيان
ترتب مفاد الجزاء على الشرط وليس في مقام بيان انحصار العلة والمؤثر
بما هو مذكور فيها بملاحظة عدم ذكر عدل له في الكلام. ومن هنا قلنا
أن القضية الشرطية لا تدل إلا على مطلق ترتب الجزاء على الشرط فلا
تدل على أنه على نحو ترتب المعلول على علته فضلا عن الترتب على علته
المنحصرة.
وعلى ضوء ذلك فالناحية التي يكون المتكلم فيها في مقام البيان فالتمسك
بالاطلاق فيها لا يجدي لا ثبات كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب
المعلول على علته المنحصرة. والناحية التي يجدي التمسك بالاطلاق فيها
فالمتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية. وقد تحصل من ذلك
أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الطريقة لا ثبات المفهوم للقضية الشرطية
خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا.
إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان ما ذكره من
الوجوه لا ثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعا أو اطلاقا لا يتم
شيئا منها. ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) عدم دلالتها
على المفهوم الا فيما قامت قرينة على ذلك، ولكن أين هذه من دلالتها
عليه وضعا أو اطلاقا.
فالصحيح في المقام ان يقال: إن دلالة القضية الشرطية على المفهوم
ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء، ولا يمكن اثبات المفهوم
لها على ضوء نظرية المشهور في البابين، فلنا دعويان:
الأولى: عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية
المشهور في هذين البابين لا بالوضع ولا بالاطلاق.
الثانية: دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.
71

اما الدعوى الأولى: فقد ذكرنا محله ان المعروف والمشهور بين
الأصحاب هو ان الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في
الواقع أو نفيها عنه، والجملة الانشائية موضوعة للدلالة على ايجاد المعنى
في الخارج.
وعلى ضوء ذلك فلا يمكن اثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية
الوضع ولا من ناحية الاطلاق لما تقدم من أن غاية ما تدل القضية عليه هو
ترتب الجزاء على الشرط وتفرعه عليه سواء أكانت القضية في مقام الاخبار
أم كانت في مقام الانشاء، واما كون الجزاء معلولا الشرط فقد عرفت
عدم دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق فضلا عن الوضع، وعلى تقدير
التنزيل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه الا انها لا تدل على كون هذا الترتب
على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث
السابقة بشكل موسع.
اما الدعوى الثانية: فقد ذكرنا في بحث الانشاء والاخبار ان الجملة
الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة
في الواقع أو نفيها عنه، وذلك لامرين:
الأول: أنها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه
ولو دلالة ظنية مع قطع النظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل
ذلك وقطع النظر عن القرائن الخارجية، مع أن من الطبيعي أن دلالة اللفظ
لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع، وعليه فما فائدته.
وعلى الجملة فإذا افترضنا أن الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة
في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفا ظنيا فما معنى كونها موضوعة بإزائها
فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغوا محضا فلا يصدر من الواضع
الحكيم.
72

الثاني: أن الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام
النفساني المبرز بمبرز ما في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محله أن كل متكلم من
أهل أي لغة كان تعهد والتزم في نفسه أنه متى ما أراد تفهيم معنى خاص
يبرزه بلفظ مخصوص وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع
على أن المتكلم به أراد تفهيم معنى خاص.
ثم أن من الطبيعي أن التعهد والالتزام لا يتعلقان إلا بالفعل الاختياري
ضرورة أنه لا معنى لتعهد الشخص بالإضافة إلى الامر الخارج عن اختياره
فالتعهد إنما يتعلق بالفعل في إطاره الخاص وهو الفعل الاختياري. هذا
من ناحية ومن ناحية أخرى أن ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها
فيه في القضايا أمر خارج عن الاختيار يعني عن اختيار المتكلم بها بل هو
تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع، وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام
به. ومن ناحية ثالثة أن ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنما هو
إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل
لان يتعلق به التعهد والالتزام.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي تعين تعلق التعهد والالتزام
بابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفيا أو إثباتا:
ومن هذا البيان قد ظهر أمران: (الأول) أنه بناء على ضوء
نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت
النسبة في الواقع أو نفيها عنه (الثاني) تعين وضعها للدلالة على إبراز
قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفيا أو اثباتا ونتيجة هذا أن الجملة
الخبرية بمقتضى تعهد الواضع بأنه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شئ في
الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها تدل على أن الداعي إلى ايجادها و؟؟؟
في الخارج ذلك، وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها؟؟؟
73

للحكاية والاخبار.
ثم أن هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبدا حتى فيما إذا لم يكن
المتكلم في مقام التفهيم والإفادة في الواقع ما لم ينصب قرينة على الخلاف
في مقام الاثبات، غاية الأمر أن تكلمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى
تعهده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع. ومن
هنا قلنا أن الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرة وبالكذب أخرى من
ناحية الدلالة الوضعية، لما عرفت من أن تلك الدلالة ثابتة على كلا
تقديري الصدق والكذب، فقولنا زيد عدل مثلا يدل على أن المتكلم
قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه وأما أنه مطابق للواقع
أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأنه لا صلة لها بمالها من الدلالة الوضعية بهذه
الجهة أصلا، ولأجل ذلك قلنا أن الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الانشائية
في الدلالة الوضعية فكما أن الجملة. الانشائية موضوعة للدلالة على قصد
المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفساني فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة
على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية
ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الانشائية بالصدق والكذب من
هذه الجهة، والفرق بينهما إنما هو من ناحية أخرى وهي أن لمدلول الجملة
الخبرية واقعا موضوعيا دون مدلول الجملة الانشائية، ولذا تتصف الأولى
بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون
الثانية، هذا ملخص القول في الجملة الخبرية.
وأما الجملة الانشائية فقد حققنا في محلها أنها موضوعة للدلالة على
إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى
فيه كما اشتهر في السنة الأصحاب، وذلك لما ذكرناه هناك من أنهم أو
أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني الخارجي كإيجاد الجوهر والعرض فبطلانه
74

من الضروريات ولا نحتمل أنهم أرادوا ذلك كيف فان الموجودات الخارجية
بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالانشاء، بداهة أن الألفاظ لم تقع
في سلسلة عللها وأسبابها وان أرادوا به الايجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب
والحرمة والملكية والتزوجية وما شاكل ذلك فيرد عليه أنه يكفي في ايجاد
هذه الأمور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأي كلام والتلفظ
بأي لفظ، لوضوح أن الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعا ووضعا
فله؟؟؟ في عالم الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.
نعم اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أنه موجود له وتقدم تفصيل
ذلك بصورة موسعة فلا حظ.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أن مفاد الجملة
الشرطية إذا كانت اخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار
عن ثبوت شئ في الواقع على تقدير ثبوت شئ آخر فيه لا على نحو الاطلاق
والارسال، بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص، مثلا جملة إن كانت
الشمس طالعة فالنهار موجود تدل على أن المتكلم قاصد للحكاية
والاخبار عن وجود النهار لا على نحو الاطلاق والا لكان كاذبا، بل على
تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس ومن الطبيعي أن لازم هذه النكتة
يعني كون اخباره على تقدير خاص هو انتفائه عند انتفاء هذا التقدير،
لفرض أنه لم يخبر عنه على نحو الاطلاق وإنما أخبر عنه على تقدير خاص
وفي اطار مخصوص، وعليه فبطبيعة الحال ينتفي اخباره بانتفاء هذا التقدير
وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم، مثلا في جملة لو شرب زيد
سما فمات أو لو قطع رأسه فمات فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في
الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرأس لا مطلقا
ولازم ذلك قهرا انتفاء اخباره بانتفاء هذا التقدير.
75

ومن ضوء هذا البيان يظهر ان اخباره عن موت زيد على هذا التقدير
لا يتصف بالكذب عند انتفائه يعني انتفاء هذا التقدير خارجا وعدم تحققه فيه.
والسبب في ذلك هو ان المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارة
وبالكذب أخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له،
بل المناط في ذلك إنما هو ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي وعدم ثبوتها،
فإن كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة والا فهي
كاذبة من دون فرق في ذلك بين كون المقدم والتالي صادقين أم كانا
كاذبين، بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج، وذلك كقوله
سبحانه وتعالى " لو كان فيهما آلهة الا الله؟؟؟ " فان القضية صادقة
على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلا فلا يكون اخباره تعالى عن
فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذبا وغير مطابق للواقع، بل هو
صادق ومطابق له، حيث إن اخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقا، بل يكون
على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم. نعم لو لم يقع
الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن
عدم الملازمة بينهما في الواقع
والسر في ذلك اي في أن صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران
مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الامر وعدم ثبوتها فيه
ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما هو ان المخبر به فيها إنما هو قصد
الحكاية والاخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدم والتالي، لوضوح
ان المتكلم فيها غير ناظر إلى انهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان
وعليه فإن كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية
صادقة والا فهي كاذبة.
وقد تحصل من ذلك ان القضية الشرطية على ضوء نظريتنا
76

موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على
تقدير وجود المقدم، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء
الاخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدم وهذا معنى دلالتها على المفهوم
بالدلالة الالتزامية الوضعية يعني أنها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين
بالمعنى الأخص.
وأما الجمل الانشائية فهي على نوعين: (الأول) ما يتوقف الجزاء
على الشرط عقلا وتكوينا كقولنا ان رزقت ولدا فاختنه وان ملكت شيئا
تصدق به وما شاكل ذلك (الثاني) ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلا
بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا إن كان زيد عالما
فأكرمه وما شابه ذلك.
أما النوع الأول: فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم
والسبب في ذلك هو أن دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على
ركيزتين: (الأولى) أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الذي علق
عليه الجزاء. (الثانية) أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقليا وعلى
ذلك فأية قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لإحداهما فلا مفهوم
لها، والأول كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا ان جاءك أمير فأستقبله،
فان الشرط في هذه القضية وإن كان غير الموضوع الا ان توقف الجزاء
عليه عقلي.
وعلى الجملة فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي
وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتبا على الشرط ومعلقا عليه أصلا،
ضرورة أن توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأنه يستحيل وجوده وتحققه
في الخارج بدون وجوده وتحققه ومن هنا لا يفرق في ذلك بين لو جيئ
به على نحو القضية الشرطية، وما لو جيئ به على نحو القضية الوصفية، فان
77

توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفائه بانتفائه عقلي، ولا صلة له
بعالم اللفظ أبدا كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه
فاذن كيف يمكن عد هذا الانتفاء من المفاهيم وقد تقدم أن المفاهيم مداليل
للألفاظ وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلا.
وأما النوع الثاني وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل إنما
هو يجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا ان جاءك زيد فأكرمه فيما أن
الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم، بيان
ذلك أن الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور
فيها يعني ان له حالتين فالجزاء معلق على إحداهما دون الأخرى ولا يكون هذا
التعليق عقليا وإنما هو بجعل المولى وعنايته كما هو الحال في المثال المذكور
فان الموضوع فيه هو زيد، والشرط فيه هو مجيئه، ولا يكون توقف الجزاء
وهو وجوب الاكرام عليه عقليا ضرورة عدم توقف اكرامه عليه بل يمكن
ذلك في كلتا الحالتين، فمثل؟؟ القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة
بناء على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الانشاء
وحاصلها هو ان حقيقة الانشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على
ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبر؟؟ ما، ومن الطبيعي أن هذا الاعتبار قد
يكون مطلقا وقد يكون مطلقا على شئ خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال
السابق حيث أن المولى لم يعتبر اكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الاطلاق،
وإنما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه، وإبرازه في الخارج بقوله: إن
جاءك زيد فأكرمه فإنه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيئ
وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام
وقد تقدم أن الملازمة بينهما بينة بالمعنى الأخص والسر فيه ما عرفت من أن
اعتبار المولى إذا كان مقيدا بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء
78

هذه الحالة ومن الطبيعي أن هذا اللازم بين بالمعنى الأخص حيث أن النفس
تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الاطلاق في اعتبار المولى وأنه يكون على
تقدير خاص ومقيدا به، فالقضية الشرطية التي تدل على الأول بالمطابقة
فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أية نكتة
ومقدمة أخرى.
والسبب في ذلك ما تقدم من أن الجملة الانشائية موضوعة للدلالة
على ابراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج. وعلى هذا الضوء فإذا كانت
الجملة الانشائية شرطية كقضية ان استطعت فحج مثلا أو نحوها دلت على
أن اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو
الاطلاق، بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة
ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه، غاية الأمر
أن دلالتها على الأول بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.
وبكلمة ثانية: أن اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف
أو اعتبار ملكية شئ لشخص مثلا إذا كان معلقا على تقدير ثبوت شئ
ولم يكن مطلقا كاعتبار الصلاة مثلا على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير
الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا
كان مرده إلى أمرين: (أحدهما) اعتبار هذا الشئ على هذا التقدير
الخاص (وثانيهما) عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير، لفرض
أن الشارع لم يعتبر الصلاة مثلا على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق
الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة، وكذا الموصي لم يعتبر ملكية
ماله له على تقدير عدم موته. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن
هذين الامرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البين
بالمعنى الأخص. هذا بحسب مقام الثبوت.
79

وأما بحسب مقام الاثبات فالكاشف عن ذلك إن كان هو القضية
الوصفية فهي لا تدل على المفهوم أي الانتفاء عند الانتفاء وإنما تدل على أن
الحكم في القضية لم يجعل على نحو الاطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع
في ضمن البحوث الآتية وإن كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه
بمقتضى التعليق اي تعليق الجزاء على الشرط غاية الأمر ان دلالتها على
الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.
فالحاصل ان دلالتها على المفهوم نتيجة؟؟؟ المتوفرة فيها ولم تكن
متوفرة في غيرها وهي تعلق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفا
عليه ومترتبا بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.
ثم إن هذه الدلالة مستندة إلى الوضع اي وضع أدوات الشرط للدلالة
على ذلك ككلمة ان، وإذا، ولو وما شاكل ذلك في اية لغة كانت ولم تكن
مستندة إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة، لفرض انها لازمة بينة بالمعنى
الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت. هذا من
ناحية. ومن ناحية أخرى انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم
بين أن يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا ان جاءك زيد
فأكرمه أو ماشا كله أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا ان جاءك
زيد وأكرمك فأكرمه أو العطف بأو كقولنا ان جاءك زيد أو عمرو فاعط
له هذا المال، فعلى الأول يكون الشرط في الحقيقة مجموع الامرين بحيث
يكون كل واحد منهما جزئه لا تمامه، وعلى الثاني أحدهما، ومن الطبيعي
انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط
المذكور فيها واحدا أو متعددا، ضرورة ان ملاك دلالتها في الجميع
واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتا واثباتا غاية الأمر إذا
كان الشرط مجموع الامرين انتفى الجزاء بانتفاء واحد منهما، وإذا كان
80

أحدهما لا بعينه لم ينتف إلا بانتفاء الجميع.
وان شئت قلت أن مفاد القضية الشرطية هو تعليق الجزاء على الشرط
وأما كون الشرط واحدا أو متعددا وعلى تقدير التعدد كان ملحوظا على
نحو العموم المجموعي أو العموم الاستغراقي فكل هذه الخصوصيات خارجة
عن مفادها فلا اشعار فيها فضلا عن الدلالة نظير ذلك لفظ (كل) فإنه
موضوع للدلالة على إرادة العموم والشمول بالإضافة إلى أفراد مدخوله ومتعلقه
ومن الطبيعي ان هذه الدلالة لا تختلف باختلاف مدخوله سعة وضيقا،
ضرورة أنه غير ناظر إلى ذلك أصلا فلا فرق بين قولنا أكرم كل عالم
وقولنا أكرم كل انسان فان كلمة (كل) في كل المثالين قد استعملت
في معنى واحد - وهو الدلالة على إرادة عموم أفراد مدخوله.
إلى هنا قد ظهر لنا هذه النتيجة وهي الفرق بين القضية للشرطية
والقضية الحقيقية مثل قولنا يجب على المسافر القصر وعلى الحاضر التمام وما
شاكل ذلك، فان المبرز عن اعتبار المولى إن كان هو القضية الحقيقية فهي
لا تدل على المفهوم، لما تقدم من أن مدلولها هو قصد المتكلم الحكاية عن
ثبوت المحمول للموضوع الخاص المفروض وجوده في الخارج، ولا يستلزم
نفيه عن غيره كما هو واضح وأشرنا إليه آنفا أيضا، وهذا بخلاف القضية
الشرطية كقولنا ان سافرت فقصر، فإنها كما تدل على ثبوت وجوب القصر
عند ثبوت السفر وتحققه كذلك تدل على نفيه عند عدم تحققه، والحجر الأساسي
لهذا الفرق هو أن عنوان المسافر أو نحوه بما أنه قد أخذ موضوعا للحكم
بنفسه في القضية الحقيقية فبطبيعة الحال لا تدل إلا على ثبوته لهذا الموضوع
الخاص ولا تدل على نفيه عن غيره، ضرورة أن ثبوت شئ لشئ لا يدل على
نفيه عن غيره وأما في القضية الشرطية فالموضوع فيها هو نفس المكلف في
المثال المتقدم وحيث إن له حالتين: حالة سفره. وحالة عدم سفره فالمولى
81

قد علق الحكم على إحدى حالتيه وهي حالة سفره، وعليه فلا محالة تدل
على انتفائه عند انتفاء هذه الحالة. ومن هنا قلنا إن دلالة القضية الشرطية
على المفهوم ترتكز على ركيزتين: هما كون الموضوع فيها غير الشرط،
وان لا يكون توقف الجزاء عليه عقليا.
قد وصلنا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة وهي أن دلالة القضية الشرطية
على المفهوم بناء على وجهة نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء من الواضحات
وأما بناء على نظرية المشهور في هذين؟؟؟ فلا يمكن اثبات دلالتها عليه.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الأولى: ان المراد من المفهوم ليس كل معنى يفهم من اللفظ، بل
المراد منه حصة خاصة من المعنى في مقابل المنطوق حيث إنه يطلق على كل
معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة، والمفهوم
يطلق على كل معنى بفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية المستندة إلى اللزوم
البين بالمعنى الأخص أو الأعم.
الثانية: تمتاز الملازمة بين المفهوم والمنطوق عن الملازمة في مباحث
الاستلزامات العقلية كالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته وبين
وجوب شئ وحرمة ضده ونحو ذلك في نقطة - وهي ان الملازمة بينهما هنا من
اللزوم البين بخلاف الملازمة هناك، فإنها غير بينة - وعلى ضوء هذه النقطة
قد خرجت دلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه عن المفهوم حيث إن اللزوم
في موارد تلك الدلالات غير بين فتحتاج إلى ضم مقدمة خارجية، وهذا
بخلاف اللزوم في موارد الدلالة على المفهوم، فإنه؟؟؟ فلا تحتاج الدلالة
عليه إلى ضم مقدمة خارجية، خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث جعل
اللزوم في تلك الموارد من اللزوم البين بالمعنى الأعم. وقد تقدم نقده.
الثالثة: أن كون مسألة المفاهيم من المسائل الأصولية واضح حيث
82

تتوفر فيها ركائزها، وإنما الكلام في أنها من المسائل الأصولية العقلية أو
اللفظية وقد تقدم ان لها حيثيتين واقعيتين: فمن إحداهما تناسب أن تكون
من المسائل الأصولية العقلية، ومن الأخرى تناسب أن تكون من المسائل
الأصولية اللفظية، ولكن لا أثر للبحث عن هذه الجهة أصلا.
الرابعة: ان محل الكلام ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن
وجوده، بل إنما هو في أصل وجوده كما هو الحال في جميع مباحث الألفاظ.
الخامسة: ان دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركائز
وتلك الركائز وان؟؟؟ بعضها، ولكن بما انها لا تتم جميعا فلا دلالة لها على
المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.
السادسة: ان شيخنا الأستاذ (قده) قد أخذ طريقا آخر لا ثبات
دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو التمسك باطلاق الشرط. وقد
تقدم نقده بشكل موسع.
السابعة: ان دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء
نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء، ولا يمكن اثبات المفهوم لها على ضوء
نظرية المشهور في هذين البابين. وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة
بقي أمور:
الأول: ان المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط
عند انتفائه، وأما انتقاء شخصه فهو إنما يكون بانتفاء موضوعه ولو بلحاظ
انتفاء بعض قيوده وحالاته، ومن الطبيعي أنه عقلي ولا صلة له بدلالة
اللفظ أبدا، مثلا انتفاء شخص وجوب الاكرام المنشأ في قولنا ان جائك
زيد فأكرمه بانتفاء المجيئ الذي هو من حالات الموضوع وقيوده عقلي ولا
83

صلة له بدلالة القضية الشرطية على المفهوم أصلا، ضرورة استحالة بقاء
المعلق بدون المعلق عليه. ومن هنا لو لم نقل بدلالتها على المفهوم أيضا
انتفى هذا الوجوب الخاص بانتفاء ما علق عليه - وهو الجيئ في المثال -
فالذي يصلح أن يكون محلا للنزاع وموردا للكلام بين الأصحاب إنما هو
في دلالة القضية الشرطية على انتفاء فرد آخر من هذا الحكم عن الموضوع
المذكور فيها عند انتفاء الشرط وعدم ثبوته ومن الطبيعي ان الحكم لو ثبت
له في هذه الحالة أي حالة انتفاء الشرط لا محالة كان حكما آخر غير الحكم
الثابت له عند ثبوت الشرط، غاية الأمر أنه من سنخه، ومن المعلوم
ان ثبوت هذا الحكم له في تلك الحالة وعدم ثبوته كلايهما أمر ممكن بحسب
مقام الثبوت، والكاشف عن عدم ثبوته وانتفائه في مقام الاثبات إنما هو
دلالة القضية الشرطية على المفهوم.
فالنتيجة في نهاية المطاف: هي ان المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ
الحكم المعلق على الشرط، لا انتفاء شخص هذا الحكم، فإنه كما عرفت
أمر عقلي وضروري عند انتفاء المعلق عليه وليس قابلا للنزاع.
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر أنه ليس انتفاء الحكم في باب الوصايا
والأقارير والأوقاف وما شاكلها عن غير مواردها من باب الدلالة على المفهوم
كما توهم، بل نسب إلى الشهيد (قده) في تمهيد القواعد انه نفى الاشكال
عن دلالة هذه القضايا على المفهوم بدعوى انها تدل على انتفاء الوصية عن
غير موردها، وانتفاء الوقف عن غير الموقوف عليه، وانتفاء الاقرار عن
غير موضوعه. ووجه الظهور ما عرفت من أن انتفاء الحكم بانتفاء متعلقه
أو موضوعه عقلي لا يرتبط بدلالة اللفظ أبدا، والموارد المذكورة من هذا
القبيل، لوضوح ان الواقف إذا أوقف شيئا على عنوان خاص كعنوان
أولاده الذكور مثلا أو على عنوان عام كعنوان أهل العلم أو السادات أو
84

ما شاكل ذلك فبطبيعة الحال ينتفي الوقف بانتفاء هذا العنوان، كما أنه
منتف عن غيره من العناوين، وكلاهما غير مربوط بدلالة اللفظ. أما
الأول فلما عرفت من أن انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عقلي فلا صلة له
باللفظ أبدا وأما الثاني فلعدم المقتضى حيث أنه جعل وقفا على العنوان
المزبور فحسب فانتفائه عن غيره ليس من ناحية دلالة اللفظ بل هو من
ناحية عدم المقتضى لثبوته، وكذلك الحال في غيره من الموارد.
فالنتيجة ان المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط
بانتفائه ونقصد بسنخ الحكم الحكم الكلي المنشأ في الجزاء فإنه؟؟؟ هو حكم
ينتفي عن الموضوع مطلقا بانتفاء شرطه لا خصوص الفرد الثابت منه فيمتاز
المفهوم من هذه الناحية عن مطلق انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.
وعلى ضوء هذا البيان: قد ظهر أن الحكم المستفاد من الجزاء المعلق
على الشرط إذا كان مفهوما اسميا بأن يكون مدلولا لكلمة وجب أو يجب
أو ما شاكل ذلك فلا اشكال في دلالة القضية الشرطية عندئذ على المفهوم
نظرا إلى أنه حكم كلي وأما إذا كان مفهوما حرفيا ومستفادا من الهيئة فقد
يشكل في دلالة القضية على المفهوم حينئذ نظرا إلى أن مفاد الهيئة معنى
حرفي والمعنى الحرفي جزئي، وقد عرفت ان انتفاء الحكم الجزئي بانتفاء
شرطه عقلي ولا صلة له بدلالة القضية على المفهوم أصلا، فان معنى دلالتها
هو انتفاء سنخ الحكم بانتفاء شرطه.
ومن هنا فصل شيخنا العلامة الأنصاري (قده) بين ما كان الحكم
في الجزاء مستفادا من المادة كقوله (ع) (إذا زالت الشمس وجبت الصلاة
والطهور) وما كان مستفادا من الهيئة كقولنا (ان جائك زيد فأكرمه)
حيث إنه (قده) التزم بدلالة القضية الشرطية على المفهوم في الأول
دون الثاني بملاك ان الحكم في الأول كلي وفي الثاني جزئي.
85

وقد أجيب عن هذا الاشكال بوجوه عديدة. ولكن بما أن تلك
الوجوه بأجمعها مبنية على أساس وجهة نظر المشهور في باب الانشاء فلا
يجدينا شئ منها، لما تقدم من فساد هذه النظرية فعلية لسنا بحاجة إلى
بيان تلك الوجوه والمناقشة فيها. واما على؟؟؟ نظريتنا في باب الانشاء
فلا مجال لهذا الاشكال أبدا، وذلك لما ذكرناه غير مرة من أنه لا واقع
موضوعي للوجوب والثبوت ما عدى اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف
وابرازه في الخارج بمبرز ما، ومن الطبيعي أنه لا يفرق في المبرز بين
القول والفعل كما أنه لا يفرق في القول بين الهيئة والمادة، ضرورة ان
العبرة إنما هي بالاعتبار النفساني ومن المعلوم أنه لا يختلف باختلاف المبرز
والكاشف كيف حيث إنه لا شأن له ما عدى ذلك وعلى هذا فالمولى مرة
يعتبر الفعل على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ومرة أخرى يعتبره على
تقدير خاص دون آخر كاعتبار الصلاة والطهارة على ذمة المكلف على تقدير
زوال الشمس لا مطلقا، واعتبار الحج على تقدير الاستطاعة، وهكذا،
فإذا كان الاعتبار قابلا للاطلاق والتقييد فالقضية الشرطية بمنطوقها تدل
على التعليق أي تعليق الاعتبار على الشرط وبمفهومها تدل على انتفاء هذا
الاعتبار عند انتفاء الشرط والمعلق عليه. ومن الواضح أنه لا فرق في
دلالة القضية عليه بين أن يكون المبرز عن ذلك الاعتبار النفساني هيئة
كقولنا (ان جائك زيد فأكرمه) أو قولنا (ان استطعت فحج) أو مادة
كقوله (ع) (إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة) أو ما شاكل
ذلك والسبب فيه هو أنه لا واقع موضوعي لهذا الاشكال بناء على ضوء
نظريتنا، لوضوح ان الاعتبار المزبور كما عرفت قابل للاطلاق والتقييد فإذا
افترضنا ان المولى اعتبره مقيدا بشئ ومعلقا عليه من دون اقتضائه ذلك
بنفسه فبطبيعة الحال ينتفى بانتفائه، والمبرز عن ذلك في مقام الاثبات إنما
86

هو القضية الشرطية على نحو الالتزام باللزوم البين بالمعنى الأخص. أو فقل
ان الملازمة بين ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت هذا الشئ وانتفائه عند
انتفائه موجودة في مقام الثبوت فالقضية الشرطية التي تدل على الأول بالمطابقة
فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام، ولا نقصد بالمفهوم إلا ذلك، ومن
المعلوم أنه لا فرق فيه بين أن يكون الجزاء مستفادا من المادة أو الهيئة.
الثاني: أنه لا فرق فيما حققناه من دلالة القضية الشرطية على المفهوم
بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحدا كالأمثلة المتقدمة أو ما شاكلها
أو يكون متعددا سواء أكان تعدده على نحو التركيب أو التقييد والأول
كقولنا (ان جائك زيد وأكرمك وسلم عليك) فأكرمه، فان الشرط
مركب من أمور: المجيئ، والاكرام، والسلام، ولازم ذلك هو انتفاء
الحكم بانتفاء كل واحد منها. والثاني كقولنا (ان ركب الأمير في يوم
الجمعة والساعة الفلانية فخذ ركابه. فيكون الشرط وهو الركوب مقيدا
بقيدين: هما يوم الجمعة والساعة الفلانية وبانتفاء كل منهما ينتفي الحكم
لا محالة.
فالنتيجة أنه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين كون
الشرط المذكور فيها واحدا أو متعددا، نعم على الأول ينتفى الحكم المستفاد
من الجزاء بانتفائه، وعلى الثاني ينتفي بانتفاء المجموع، وانتفائه تارة يكون
بانتفاء جمع أجزائه أو قيوده، وأخرى بجزء أو قيد منه، وهذا ظاهر.
الثالث: ان الحكم الثابت في الجزاء المعلق على الشرط على نوعين:
أحدهما أنه حكم غير انحلالي وذلك كوجوب الصلاة والحج وما شاكل ذلك
حيث إنه ثابت لطبيعي الفعل على نحو صرف الوجود، ومن المعلوم أنه
لا ينحل بانحلال أفراده ومصاديقه. نعم هو ينحل بانحلال أفراد موضوعه
في الخارج - وهو المكلف - ففي مثل ذلك بطبيعة الحال بكون مفهوم
87

القضية الشرطية هو انتفاء هذا الحكم بانتفاء شرطه. وثانيهما أنه حكم
انحلالي كقوله (الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شئ) فان الشئ نكرة
وبما انه وقع في سياق النفي فبطبيعة الحال يدل على العموم، وعليه فلا
محالة ينحل الحكم المجعول في الجزاء المعلق على الشرط المذكور في القضية
بانحلال افراده ومصاديقه في الخارج، هذا مما لا كلام فيه، وإنما الكلام
في مفهوم مثل هذه القضية وهل هو ايجاب جزئي أو كلي فيه وجهان بل
قولان: اختار شيخنا الأستاذ (قده) القول الثاني وقد أفاد في وجه ذلك
ما هو نصه:
ولكن التحقيق أن يقال: إن النظر في علم الميزان بما أنه مقصور
على القواعد الكلية لتأسيس البراهين العقلية لا ينظر فيه إلى الظواهر ومن
ثم جعلت الموجبة الجزئية نقيضا للسالبة الكلية، وهذا بخلاف علم الأصول
فان المهم فيه هو استنباط الحكم الشرعي من دليله ويكفي في ذاك اثبات
ظهور الكلام في شئ وان لم يساعده البرهان المنطقي فلا منافاة بين كون
نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية وظهور القضية التي علق فيها السالبة
الكلية على شئ في ثبوت الموجبة الكلية بانتفاء ذلك الشئ فبين النظرين
عموم وخصوص من وجه، وعلى ذلك فإن كان المعلق على الشرط بحسب
ظاهر القضية الشرطية هو نفس عموم الحكم وشموله كما في العام المجموعي
فلا محالة كان المنتفي بانتفاء الشرط هو عموم الحكم أيضا فلا يكون المفهوم
حينئذ إلا موجبة جزئية. واما إذا كان المعلق على الشرط هو الحكم العام
أعني به الحكم المنحل إلى أحكام عديدة بانحلال موضوعه إلى افراده ومصاديقه
كان المعلق في الحقيقة على وجود الشرط حينئذ هو؟؟؟ واحد من تلك الأحكام
المتعددة فيكون المنتفى عند انتفاء الشرط هو كل واحد من تلك الأحكام
أيضا. وبالجملة الحكم الثابت في الجزاء ولو فرض كونه استغراقيا
88

ومنحلا إلى أحكام متعددة إلا أن المعلق على الشرط في القضية الشرطية قارة
يكون هو مجموع الاحكام، وأخرى كل واحد واحد منها، وعلى الأول
فالمفهوم يكون جزئيا لا محالة، بخلاف الثاني: فإنه فيه كلي كالمنطوق هذا
بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات فإن كان العموم المستفاد من التالي معنى
اسميا مدلولا عليه بكلمة كل وأشباهها أمكن أن يكون المعلق على الشرط
هو نفس العموم أو الحكم العام فلابد في تعيين أحدهما من إقامة قرينة
خارجية. وأما إذا كان معنى حرفيا مستفادا من مثل هيئة الجمع المعرف
باللام ونحوها وغير قابل لان يكون ملحوظا بنفسه ومعلقا على الشرط أو كان
مستفادا من مثل وقوع النكرة في سياق النهي ولم يكن هو بنفسه مدلولا
عليه باللفظ فلا محالة يكون المعلق في القضية الشرطية حينئذ. هو؟؟؟
العام كما في الرواية المزبورة إذ المعلق على الكرية فيها إنما هو عدم تنجس
الماء بملاقاة كل واحد من النجاسات: لأنه مقتضى وقوع النكرة في سياق
النفي فتدل الرواية على عدم تنجس الكر من الماء بملاقاة البول أو الدم
أو نحوهما فيثبت بانتفاء الشرط أعني به كرية الماء تنجسه بملاقاة كل واحد
منها فلا معنى حينئذ للقول بأن؟؟؟؟؟؟ جزئية وأنه لا يثبت بالرواية
إلا تنجس الماء القليل بملاقاة نجس ما دون جميع النجاسات، هذا مع انا
لو قلنا بأن المفهوم فيما لو كان التالي سالبة كلية لا يكون الا موجبة جزئية
لما ترتب عليه أثر في خصوص المثال، لأنه إذا تنجس الماء القليل بنجس
ما ثبت تنجسه بكل نجس من أنواع النجاسات، إذ لا قائل بالفصل بينها
فلا ترتب ثمرة على البحث عن كون مفهوم الرواية موجبة كلية أو
موجبة جزئية.
وأما توهم - ان ما تدل عليه الرواية على القول يكون المفهوم موجبة
89

جزئية إنما هو تنجسه بملاقاة - نجس ما، غاية الأمر أنه يتعدى من ذلك
إلى بقية النجاسات بعدم القول بالفصل لكن عدم القول بالفصل مختص
بالأعيان النجسة فلا يمكن اثبات تنجس الماء القليل بملاقاته المتنجس الا
على تقدير كون المفهوم موجبة كلية - فهو مدفوع بأنه ليس المراد من
الشئ المذكور في الرواية هو كل ما يصدق عليه انه شئ، إذ لا معنى
لاشتراط عدم انفعال الماء عند ملاقاته الأجسام الطاهرة بكونه كرا بل
المراد به هو الشئ الذي يكون في نفسه موجبا لتنجس ملاقيه وعليه فان
ثبت من الخارج تنجيس المتنجس فذلك يكفي في الحكم بانفعال الماء القليل
بملاقاته من دون احتياج في ذلك إلى التمسك بمفهوم الرواية وان لم يثبت
ذلك فالمتنجس غير داخل في عموم المنطوق لتثبت بمفهومها نجاسة الماء القليل
بملاقاته على تقدير كون المفهوم موجبة كلية ".
تلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط:
الأولى: ان بين النظر المنطقي والنظر الأصولي عموم من وجه حيث إن
الأول يقوم على أساس البراهين العقلية سواء أكانت مطابقة لظاهر
الدليل أم لم تكن والثاني يقوم على أساس الدليل في المسألة والحجة فيها
وهو قد يكون مطابقا للبرهان العقلي وقد لا يكون.
الثانية: ان العام المعلق على الشرط في ظاهر القضية الشرطية قد
يكون عاما مجموعيا وقد يكون استغراقيا فعلى الأول يكون مفهومها قضية
جزئية، وعلى الثاني قضية كلية.
الثالثة: ان العموم المستفاد من الجزاء في مقام الاثبات إن كان معنى
اسميا بأن يكون مدلولا لكلمة (كل) أو ما شاكلها أمكن أن يكون المعلق
على الشرط هو العموم المجموعي كما أمكن أن يكون هو العموم الاستغراقي
وإن كان معنى حرفيا بأن يكون مستفادا من هيئة الجمع المعرف باللام أو
90

نحوها أو مستفادا من مثل وقوع النكرة في سياق النهي فلا محالة يكون
المعلق على الشرط هو العموم الاستغراقي والرواية المزبورة من هذا القبيل
حيث إن العموم فيها مستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي.
الرابعة: انا إذا افترضنا ان مفهوم السالبة الكلية لا يكون الا موجبة
جزئية الا انه لا ثمرة لذلك في المقام.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط: أما النقطة الأولى فهي وإن كانت
تامة بحسب الكبرى الا أن الظاهر عدم تحقق الصغرى لها كما سوف يتضح
ذلك في ضمن النقطة الآتية.
وما قيل - من أن مفهوم السالبة الكلية في القضية الشرطية قد يكون
قضية كلية وذلك كما إذا افترضنا ان المعلق على الشرط هو الجامع بين
المطلق والمقيد والاطلاق المستفاد من قرينة الحكمة يطرأ عليه ففي مثل ذلك
لا محالة يكون مفهومها قضية كلية فان انتفاء الجامع لا يمكن الا بانتفاء
كلا فرديه المطلق والمقيد معا وعلى الجملة فإن كان التعليق واردا على المطلق
والعموم فالمفهوم جزئية حيث أنه نفى العموم لا عموم النفي وإن كان
التعليق وأراد على الطبيعي الجامع والاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة
يطرأ عليه فالمفهوم قضية كلية حيث إنه نفي الجامع وهو لا يكون الا ينفي
جميع أفراده ومن هنا يفترق الحال بين ما كان العموم مستفادا من اللفظ
وما كان مستفادا من قرينة الحكمة فعلى الأول التعليق وارد على العموم وعلى
الثاني العموم وارد على التعليق - لا يمكن المساعدة عليه.
أما أولا: فلان المعلق على الشرط إذا لم يكن هو المطلق والعموم
بل كان الطبيعي الجامع فليست القضية في مرتبة التعليق حينئذ قضية سالبة
كلية لفرض ان الكلية المستفادة من قرينة الحكمة تطرأ عليه فما أفاده المناطقة
من أن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية لا ينتقض بذلك.
91

وأما ثانيا: فلان المتفاهم العرفي من تلك القضايا الشرطية التي يكون
اطلاق الجزاء فيها مدلولا لقرينة الحكمة هو ان التعليق فيها أيضا وارد على
المطلق، مثلا المتفاهم عرفا من مثل قوله (ع) (إذا بلغ الماء قدر كر
لم ينجسه شئ) هو ورود التعليق على المطلق لا أنه في مرتبة سابقة عليه
والسر في ذلك هو ان المعلق على الشرط في القضية بطبيعة الحال إنما يكون
هو مراد المتكلم ومقصوده حسب فهم العرف ولو كان بضميمة قرينة خارجية
كقرينة الحكمة أو نحوها.
فالنتيجة ان فرض ورود الاطلاق على المعلق وإن كان ممكنا بحسب
مقام الثبوت إلا أنه لا يمكن اثباته بدليل.
أما النقطة الثانية: فهي مبنية على نقطة خاطئة - وهي أن يكون الدال
على كل حكم منحل بانحلال افراد الطبيعة المحكوم عليها قضية مستقلة في
مقام الاثبات والدلالة لتكون هناك قضايا متعددة بعدد أفرادها - ولكن
الامر ليس كذلك، ضرورة ان هذا الفرض خارج عن مورد كلامه فإنه
فيما إذا كان الدال على جميع هذه الأحكام الثابتة لا فراد هذه الطبيعة قضية
واحدة في مقام الاثبات والدلالة، والمفروض ان هذه القضية لا تدل على
ثبوت حكم لكل فرد منها بعنوانه واستقلاله، بل هي تدل على ثبوت
حكم الطبيعة السارية إلى افرادها على تقد ير تحقق شرطه، فاذن بطبيعة الحال
يكون مفهومها انتفاء هذا الحكم الساري، ومن الطبيعي ان انتفائه يتحقق
بانتفائه عن بعض أفراده فيكون مساوقا للقضية الجزئية.
وبكلمة أخرى ان انحلال الحكم وتعدده في القضية بحسب مقام الثبوت
والواقع لا يجدي في كيفية استفاده المفهوم منها في مقام الاثبات والدلالة
على الشكل الذي أفاده (قده) وهو القضية الكلية، وذلك لان مدلول
القضية في مقام الاثبات والدلالة واحد حيث إن الشارع في مقام الابراز
92

والجعل فقد أبرز حكما واحدا، غاية الأمر أن ذلك الحكم الواحد يتعدد
بتعدد أفراد متعلقه وينحل بانحلاله، بل ربما ينحل إلى أحكام غير متناهية
من ناحية عدم تناهي أفراد متعلقه، ولكن هذا الانحلال إنما هو في مرحلة
الفعلية لا في مرحلة الجعل والابراز،
وعلى ضوء ذلك فالقضية الشرطية في أمثال هذه الموارد لا تدل الا
على انتفاء الحكم الساري عن الطبيعة كذلك عند انتفاء شرطه حيث إن
منطوقها ثبوت هذا الحكم لها كذلك، ومن الطبيعي أنه يتحقق بانتفائه عن
بعض الافراد ولا يتوقف تحققه على انتفائه عن جميع الافراد، ضرورة
ان النفي المتوجه إلى الحكم الساري المطلق بسريان أفراد متعلقه مسلوق
للموجبة الجزئية ولا فرق في ذلك بين أن يكون السريان والاطلاق مدلولا
وضعيا للفظ أو مدلولا لقرينة الحكمة، فإنه على كلا التقديرين يكون
المعلق على الشرط هو الاطلاق والسريان، وعليه فبطبيعة الحال تدل القضية
على انتفائه بانتفاء الشرط، ومن المعلوم ان ذلك مساوق للقضية الجزئية.
ولنأخذ لتوضيح ذلك بعدة أمثلة: الأول كقولنا (إذا ليس زيد لامة حربه
لم يخف أحدا) فإنه لا اشكال في أن المتفاهم العرفي منها هو تحقق الخوف
له في الجملة عند انتفاء الشرط وهو مساوق للموجبة الجزئية بداهة ان
مفهومها ليس تحقق الخوف له من كل أحد حتى من الجبناء. الثاني كقولنا
(إذا غضب الأمير لم يحترم أحدا) فإنه لا يدل على أنه يحترم كل أحد
عند انتفاء غضبه ولو كان عدوا له بل يدل على ذلك في الجملة وهو مساوق
للقضية الجزئية. الثالث كقولنا (إذا جد زيد في درسه فلا يفوقه أحد)
فان مفهومه عرفا هو انه إذا لم يجد في درسه فسوف يفوقه أحد لا ان
مفهومه هو انه إذا لم يجد في درسه يفوقه كل أحد.
وعليه فلا يكون مفهوم قولهم (ع) إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه
93

شئ الا ثبوت النجاسة له في الجملة بملاقاة النجس عند انتفاء الكرية
لا ثبوت النجاسة له بملاقاة كل نجس. فالنتيجة ان المتفاهم الفرقي من
الأمثلة التي ذكرناها وما شاكلها من القضايا الشرطية هو ان مفهومها قضية
جزئية لا قضية كلية (1) ولا فرق في هذه الاستفادة العرفية بين أن يكون

(1) وما قبل من أنه فرق بين الأمثلة المتقدمة وبين قولهم (ع) إذا
بلغ الماء قدر الخ ببيان ان في تلك الأمثلة قد طرأ التعليق على المطلق دون
قولهم (ع) والسبب فيه هو أن ثبوت الاطلاق في تلك الأمثلة إنما هو لقرينة
عرفية خاصة وليس ثابتا بمجرد مقدمات الحكمة حيث لا يحتمل عرفا اختصاص
كلمة أحد المذكورة فيها في طرف الجزاء بخصوص العادي من الناس بحيث
لو أراد القائل بكلامه السابق ان زيدا لبس لامة حربه لم يخف أحدا الجبناء
من الناس لما كان كلامه كلاما عرفيا وكذا لو أراد من قوله إن زيدا إذا
جد في درسه لم يسبقه أحد خصوص الاغيياء منهم أو أراد أحدا في قوله
إذا غضب الأمير لم يحترم أحدا خصوص الأهل والأقرباء منه فإذا كان
الاطلاق مدلولا لقرينة خاصة عرفية كان التعليق واردا عليه، وهذا بخلاف
الاطلاق في قولهم (ع) إذا بلغ الماء الخ فإنه حيث يكون مدلولا لقرينة
الحكمة فهو وارد على التعليق دون؟؟؟ وعليه فيكون مفهومه موجبة
كلية حيث إن المعلق على الشرط على هذا هو الطبيعي الجامع فنفيه لا يمكن
الا بنفي جميع أفراده.
وما قبل من الفرق مدفوع بأن حال قولهم عليهم السلام حال الأمثلة
المذكورة فكما ان تخصيص الاحد فيها بطائفة خاصة مستهجن عرفا فكذلك
تخصيص الشئ فيه بخصوص المتنجس. وان شئت قلت أن تقييد المطلق
لطائفة خاصة منه وان لم يكن مستهجنا عرفا في نفسه، ولكن في المقام
للاحظ الاستيجان في تخصيص الشئ في قولهم (ع) إذا بلغ الماء قدر -
94

العموم في طرف الجزاء استغراقيا أو مجموعيا فكما ان نفي العموم المجموعي
يلائم مع قضية موجبة جزئية فكذلك نفي العموم الاستغراقي.
وأما النقطة الثالثة: فقد ظهر مما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة
خطائها. اما أولا: فلما تقدم بشكل موسع في ضمن بحث الحروف أن
ما اشتهر في الألسنة من أن المعنى الحرفي ملحوظ آلة والمعنى الاسمي استقلالا
لا أصل له، وقد - ذكرنا هناك أنه لا فرق بينهما في هذه النقطة أبدا.
وأما ثانيا: فعلى فرض تسليم ذلك إلا أنه لا نتيجة له فيما نحن فيه،
لما عرفت من عدم الفرق بين كون العموم في طرف الجزاء مجموعيا أو
استغراقيا في كيفية استفادة المفهوم عرفا من القضية الشرطية.

- كر لم ينجسه شئ بالمتنجس وعلى هذا فلا محالة يكون المراد منه المطلق
الشامل للمتنجس أيضا وعليه فبطبيعة الحال يكون مفهومه موجبة جزئية.
وبكلمة أخرى ان المراد من الشئ في هذه الرواية لا يخلو من أحد
أمور ثلاثة: الأول أن يكون المراد منه خصوص الأعيان النجسة. الثاني
أن يكون المراد منه خصوص الأعيان المتنجسة. الثالث أن يكون الأعم
منهما. فعلى الاحتمال الأول الرواية ساكتة عن حكم ملاقاة المتنجس منطوقا
ومفهوما وإنما هي ناظرة إلى بيان حكم ملاقاة عين النجس كذلك، وعلى
الاحتمال الثاني عكس ذلك تماما، ولكن لا يمكن الاخذ بكلا الاحتمالين
جزما، أما الاحتمال الأول فبملاحظة ان التقييد بحاجة إلى قرينة تدل عليه
وحيث أنه لا قرينة في المقام على ذلك مع كون المولى في مقام البيان فقرينة
الحكمة تعين الاطلاق. وأما الاحتمال الثاني فهو ساقط في نفسه لوضوح
أنه لا يمكن أن تكون الرواية متجهة منطوقا ومفهوما إلى بيان حكم ملاقاة
المتنجس خاصة وقد تقدم ان الرواية على هذا تخرج عن الكلام العرفي
فاذن يتعين الاحتمال الثالث.
95

وأما النقطة الرابعة: فهي تامة بالإضافة إلى الأعيان النجسة وخاطئة
بالإضافة إلى الأعيان المتنجسة فلنا دعويان: (الأولى) ان الثمرة لا تظهر
في الأعيان النجسة بين كون مفهوم قولهم (ع) (إذا بلغ الماء قدر كر
لم ينجسه شئ) موجبة كلية أو جزئية (الثانية) انها تظهر في الأعيان
المتنجسة بين الامرين.
أما الدعوى الأولى: فلانه إذا ثبت انفعال الماء القليل بملاقاة عين
النجس في الجملة ثبت انفعاله بملاقاة جميع أنواعها لعدم القول بالفصل
بينهما جزما وان التفكيك بينها في ذلك خلاف المرتكز العرفي ومن الطبيعي
ان هذا الارتكاز قرينة عرفية على ذلك، فاذن لا تظهر ثمرة بين وجهة
نظرنا في المقام ووجهة نظر شيخنا الأستاذ (قده).
وأما الدعوى الثانية: فلانه بعد ما ثبت من الخارج تنجيس المتنجس
لما لاقاه في الجملة نحكم بالفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس بناء على ضوء
نظرية شيخنا الأستاذ (قده) من استفادة العموم في جالب المفهوم. وأما
بناء على ضوء نظريتنا من عدم استفادة العموم في جانب المفهوم وانه
موجبة جزئية فلا نحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته، وذلك لان القدر
المتيقن من المفهوم عندئذ هو تنجسه بملاقاة عين النجس فلا يدل على
أزيد من ذلك، والقول بعدم الفصل بين المتنجس والأعيان النجسة غير
ثابت والتفكيك بينهما بالحكم بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة الأول وانفعاله
بملاقاة الثاني ليس على خلاف الارتكاز العرفي ليتمسك به.
ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) في
المقام من أنه إذا دل دليل خارجي على تنجيس المتنجس لما لاقاه كفى
ذلك في الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس فلا حاجة حينئذ إلى
التمسك بالمفهوم، وان لم يدل دليل من الخارج على ذلك فالمتنجس غير
96

داخل في المنطوق فيختص المنطوق بالأعيان النجسة، وعليه فلا يترتب على
القول يكون المفهوم موجبة كلية الحكم بانفعال الماء القليل بملاقاته. وجه
الظهور هو أنه لو كان للدليل الخارجي اطلاق أو عموم فالأم كما أفاده
(قدس الله سره) حيث إن مقتضى اطلاقه هو تنجيس المتنجس لما لاقاه
مطلقا أي سواء أكان ماء أو كان غيره وأما إذا افترضنا أنه لا يدل الا
على تنجيسه (المتنجس) لما لاقاه في الجملة من دون أن يكون له اطلاق أو عموم
فعندئذ يدخل المتنجس في موضوع ما يكون قابلا لتنجيس ملاقيه فتدل
الرواية بحسب المنطوق على عدم انفعال الكر بملاقاته.
وعلى هذا فلو قلنا بكون مفهوم الرواية موجبة كلية لدلت على انفعال
الماء القليل بملاقاة المتنجس كما تدل على انفعاله بملاقاة الأعيان النجسة وإلا فهي
ساكتة عن حكم ملاقاته له فلابد فيه من التماس دليل آخر، والقول بعدم
الفصل بين أفراد ملاقي المتنجس غير ثابت ليتمسك به وان شئت قلت إن
ما دل على تنجيس المتنجس لما لاقاه في الجملة من غير دلالته على
تنجيس الماء القليل بملاقاته بالخصوص أو العموم لا يمكن التعدي عن
مورده المتيقن إلى غيره من الموارد بعدم القول بالفصل، بدعوى أنه إذا
ثبت تنجيس المتنجس لملاقيه في مورد ثبت في جميع الموارد من دون فرق
بين أقسام ملاقيه في ذلك، كما أنه لم بثبت القول بعدم الفصل بين
أنواع المتنجس وافراده، والثابت إنما هو القول بعدم الفصل بين أنواع
النجس فحسب.
وعلى هذا الضوء تترتب ثمرة مهمة على هذا البحث أي البحث عن
كون مفهوم القضية الكلية كالرواية المتقدمة قضية كلية أو جزئية حيث أنه على
الأول تدل الرواية على انفعال الماء القليل بملاقاة المتنجس دون الثاني.
الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزء كما في قضيتي: (إذا خفى
97

الاذان فقصر) و (إذا خفى الجدران فقصر) فبناء على ضوء دلالة
القضية الشرطية على المفهوم لا محالة تقع المعارضة بين اطلاق مفهوم كل
منهما ومنطوق الأخرى، وعليه فيقع الكلام في طريق علاج هذه المعارضة
وقد ذكر لذلك طرق أربعة:
الأول: ان يلتزم بعدم دلالتهما على المفهوم نظرا إلى أن دلالة القضية
الشرطية على المفهوم تقوم على أساس دلالتها على العلية المنحصرة وحيث
أن العلة في مفروض المقام لم تكن منحصرة، فلا مقتضى لدلالتها على
المفهوم أصلا، وقد اختار هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قده)
بدعوى انه مما يساعد عليه العرف.
الثاني: أن يلتزم في هذه الموارد ان الشرط هو عنوان أحدهما الذي
هو نتيجة العطف بكلمة (أو) وعليه فإن كان لهما جامع ذاتي فذلك
الجامع الذاتي هو الشرط في الحقيقة، وان لم يكن لهما جامع كذلك
فالجامع الانتزاعي هو الشرط فيها. ونتيجة ذلك هي ترتب وجوب القصر
على خفاء أحدهما وان لم يخف الآخر.
الثالث: ان يلتزم بأن الشرط هو المركب من الامرين الذي هو
نتيجة العطف بكلمة (واو) لاكل واحد منهما مستقلا، وعلى هذا فإذا
خفيا معا وجب القصر وإلا فلا وان فرض خفاء أحدهما.
الرابع: أن يلتزم بتقييد اطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر من
دون تصرف في شئ من المنطوقين فهذه هي الوجوه المنصورة في هذه
الموارد. نعم ذكر المحقق النائيني (قده) وجها خامسا وهو أن يكون كل
منهما شرطا مستقلا، ثم قال وعليه يترتب لزوم تقييد اطلاق كل من
الشرطين المذكورين في القضيتين باثبات العدل له فيكون وجود أحدهما
كافيا في ثبوت الجزاء، ولكن غير خفي ان هذا الوجه بعينه هو الوجه
98

الثاني فليس وجها آخر في قباله كما هو ظاهر.
وبعد ذلك نقول: أما الوجه الرابع فبظاهره غير معقول إلا أن يرجع
إلى الوجه الثاني، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أن المفهوم لازم عقلي
للمنطوق باللزوم البين بالمعنى الأخص، وعليه فلا يعقل التصرف فيه
بتقييد أو تخصيص من دون التصرف في المنطوق أصلا، بداهة ان مرد
ذلك إلى انفكاك اللازم من الملزوم والمعلول عن العلة وهو مستحيل.
وعلى الجملة فقد عرفت أن دلالة القضية الشرطية على المفهوم إنما هي
بدلالة الزامية على نحو اللزوم البين بالمعنى الأخص، ومن الطبيعي ان
ان هذه الدلالة بما انها دلالة قهرية ضرورية لدلالة القضية على المنطوق،
فلا يمكن رفع اليد عنها والتصرف فيها من دون رفع اليد والتصرف في
تلك، فاذن لابد من ارجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني. وعليه فالوجوه
المعقولة في المسألة ثلاثة: ولنأخذ بالنظر إلى هذه الوجوه:
أما الوجه الأول: وهو الالتزام برفع اليد عن المفهوم فيهما معا
فيرده: أنه بلا مقتض وموجب، بداهة ان الضرورة تتقدر بقدرها،
ومن الطبيعي أن الضرورة لا تقتضي رفع اليد عن مفهوم كلتا القضيتين
معا والالتزام بعدم دلالتهما عليه أصلا، بل غاية ما تقتضي هو رفع اليد
عن اطلاق كل منهما بتقييده بالأخرى بمثل العطف بكلمة (أو) أو بكلمة
(واو) وبه تعالج المعارضة بينهما ويدفع التنافي لهما رأسا وعليه فكيف
يساعد العرف على هذا الوجه وسيأتي بيانه بشكل موسع من دون موجب
للالزام بعدم المفهوم في ضمن البحوث التالية.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون الشرط عنوان أحدهما في الحقيقة
فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان العقل يعين هذا الوجه وأفاد
في وجه ذلك ما توضيحه هذا: ان الأمور المتباينة المتعددة بما هي كذلك
99

لا يعقل أن تؤثر أثرا واحدا، وذلك لاستحالة صدور الواحد عن الكثير
بما هو كثير، لاستلزام ذلك اجتماع علل مستقلة على معلول واحد وهو
محال، وقد تقدم بيان ذلك بشكل موسع في ضمن بحوث الجبر والتفويض
وحيث إن المعلول في المقام واحد وهو وجوب القصر فلا يعقل أن يكون
المؤثر فيه الشرطين المذكورين في النقيضين على نحو الاستقلال والا لزم تأثير
الكثير في الواحد وهو مستحيل، فاذن بطبيعة الحال يكون الشرط هو الجامع
بينهما بقانون ان وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر، وعليه فلابد من
الالزام بهذا الوجه وإن كان مخالفا لما هو المرتكز في أذهان العرف من
أن كل واحد منهما بعنوانه الخاص وإطاره المخصوص شرط ومؤثر فيه إلا
أن هذا الارتكاز العرفي إنما يكون متبعا فيما أمكن الالتزام به، لا في
مثل المقام حيث قد عرفت استحالة كون كل منهما بعنوانه الخاص شرطا
ومؤثرا ثم بعد ذلك ذكر بقوله: " وأما رفع اليد عن المفهوم في خصوص
أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لان يصار إليه إلا بدليل
آخر الا أن يكون ما بقي على المفهوم أظهر ".
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) اما ما أفاده من أن قاعدة الواجد
لا بصدر إلا من الواحد ويستحيل صدوره عن الكثير فيرد عليه (أولا)
ما ذكرناه غير مرة من أن هذه القاعدة إنما تتم في الواحد الشخصي الحقيقي
حتى يكشف عن جامع وحداني كذلك، ولا تتم فيما إذا كانت وحدة
المعلول اعتبارية، فإنه لا يكشف إلا عن وحدة كذلك، ومن المعلوم ان
وحدة الجزاء في المقام وحدة اعتبارية لا حقيقية، وعليه فلا يكشف عن
جامع واحد ذاتي. (وثانيا) أنه لا شمول ولا عموم لتلك القاعدة
بالإضافة إلى جميع الأشياء بشتى ألوانها واشكالها بل أن لها إطارا خاصا
وموضعا مخصوصا وهو اطار سلسلة العلل والمعاليل الطبيعتين دون اطار
100

سلسلة الأفعال الاختيارية وقد تقدم الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين
في ضمن لقد مذهب التفويض بشكل موسع وقلنا هناك باختصاص القاعدة
بالسلسلة الأولى فحسب دون الثانية، وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك
لما ذكرناه غير مرة من أن الأحكام الشرعية بأجمعها أمور اعتبارية ولا واقع
موضوعي لها ما عدى اعتبار المعتبر وليست بأمور تكوينية وانها فعل اختياري
للشارع وصادرة منه باختياره وأعمال قدرته وليس للأمور الخارجية دخل
وتأثير فيها أصلا وإلا لكانت أمورا تكوينية بقانون التطابق والسنخية.
نعم لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفقهية
ولكن هذه الاستحالة إنما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك
المعلول عن العلة التامة، لفرض أنه ليس لها أي تأثير في الاحكام أبدا.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان ما نحن فيه ليس من موارد تلك
القاعدة في شئ ليتمسك بها لا ثبات ان الشرط هو الجامع بين الامرين،
وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما، يمكن أن يكون الشرط
هو مجموعهما من حيث المجموع. (وثالثا) أنه قد لا يعقل الجامع لما هوى
بينهما وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر
من مقولة أخرى، فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي، لاستحالة
وجود الجامع كذلك بين المقولتين.
وأما ما أفاده (قده) بقوله: الا أن يكون ما أبقي على المفهوم أظهر
فلعله سهو من قلمه الشريف، وذلك لان مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما
وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين،
وذلك لان التنافي إنما هو بين مفهوم كل واحدة منهما ومنطوق الأخرى
ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب إنما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق
الأخرى، وأما التنافي بين مفهوم الأخرى ومنطوق تلك باق على حاله
101

ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أنه ضرب في النسخة المصححة الخط
المحو على هذه العبارة لحد الآن قد تبين ان ما تمسك به المحقق صاحب
الكفاية (قده) لا ثبات كون الشرط هو الجامع بين الامرين غير تام هذا.
وقد اختار شيخنا الأستاذ (قده) ان الشرط هو مجموع الامرين
لاكل واحد منهما وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه: التحقيق ان دلالة
كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله
من غير انضمام شئ آخر إليه إنما هي بالاطلاق المقابل بالعطف بالواو
كما أن انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الاطلاق المقابل
للعطف بأو، وبما أنه لابد من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ولا مرجح
لأحدهما على الآخر يسقط كلاهما عن الحجية، لكن ثبوت الجزاء كوجوب
القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير،
واما في فرض انفراد كل من الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون
مشكوكا فيه، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض، لسقوط الاطلاقين
بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي - فتكون النتيجة موافقة لتقييد
الاطلاق المقابل بالعطف بالواو. وأما ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن
خصوص الاطلاق المقابل بالعطف بأو، لكونه متأخرا في الرتبة عن الاطلاق
المقابل بالعطف بالواو، ضرورة ان انحصار الشرط متأخر رتبة عن
تعينه وتشخصه - فيدفعه ان تقدم أحد الاطلاقين على الآخر في الرتبة
لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر، لان الموجب لرفع اليد عن الاطلاقين
إنما هو وجود العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما، ومن الواضح ان نسبة
العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما
بخصوصه دون الآخر ".
؟؟؟ ما أفاده (قده) هو ان الاطلاقين بما أنه لا يمكن الاخذ
102

بكليهما معا من ناحية العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معا فلا
يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو اطلاق ليتمسك به لا ثبات الجزاء
وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج
فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي، وبما ان وجوب القصر
في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه
فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
أنه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام لفرض شك
المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر، ومعه لا قصور
في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام. وان شئت قلت أنه لا شبهة في
وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الاذان والجدران معا كما أنه لا اشكال
في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك، فهاتان الصورتان خارجتان عن
محل الكلام ولا اشكال فيهما، وإنما الاشكال والكلام في الصورة الثالثة
وهي ما إذا خفى أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما ان اطلاق كل
منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع
فبطبيعة الحال ينتهي الامر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب
بقاء وجوب التمام، للشك في بقائه وتبدله بالقصر، فاذن النتيجة هي نتيجة
التقييد بالعطف بالواو.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قده) صغرا وكبرا: أما بحسب
الصغرى فلان مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده (قده) من الكبرى
وهي الرجوع إلى الأصل العملي، بل هو من صغريات كبرا أخرى وهي
الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو اطلاق فلنا دعويان: (الأولى)
ان المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي. (الثانية) أنه من
موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.
103

أما الدعوى الأولى: فلان وجوب القصر وجواز الافطار في حال
السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنة هذا من ناحية. ومن
ناحية أخرى ان السفر المأخوذ في موضوعها أمر عرفي وهو بهذا المعنى
العرفي مأخوذ فيه على الفرض ومن ناحية ثالثة أنه لا شبهة في صدق عنوان
المسافر على من خرج من البلد قاصدا السفر ولا يتوقف هذا الصدق على
وصوله إلى حد الترخص. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي ان مقتضى
اطلاق الكتاب والسنة وجوب القصر وجواز الافطار مطلقا ولو قبل وصوله
إلى حد الترخص أي بمجرد صدق عنوان المسافر عليه ولكن قد قيد هذا
المطلق في عدة من النصوص به يعني؟؟؟ وجوب القصر وجواز الافطار
فيها بخفاء الاذان والتواري عن الجدران الذي عبر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء
الجدران نظرا إلى أنه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران الا بخفائه
وإلا فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب. فالنتيجة ان هذه الروايات
توجب تقييده بما ذكر، وعليه فما لم يصل المسافر إلى الحد الترخص لم
يجب عليه التقصير وعلى ضوء هذا البيان فإذا خفي أحدهما دون الآخر
فالمكلف وان شك في وجوب القصر وجواز الأقطار الا ان المرجع فيه
ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء النمام، بل المرجع الأصل اللفظي
وهو الاطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.
وأما الدعوى الثانية: وهي ان المورد داخل في كبرى الرجوع إلى
الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيناه في الدعوى الأولى، وتوضيحه:
هو ان القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدلة على وجوب القصر
وجواز الافطار مطلقا هو ما إذا لم يخف الاذان والجدران معا حيث إن
الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الافطار، وأما إذا
خفى أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها، ومعه لا مناص عن الرجوع
104

إليها لا ثبات وجوب القصر وجواز الافطار، لفرض عدم الدليل على
التقييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الاطلاقين من ناحية المعارضة
فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده)
وقد تحصل من ذلك ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من الكبرى
لا ينطبق على المقام.
نعم إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم
الابتدائي تم ما أفاده (قده)، وذلك كما إذا ورد في دليل (إذا خفي
الاذان فتصدق) وورد في دليل آخر (إذا خفي الجدران فتصدق) وبما
أنه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين معا للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع
فيسقطان فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي - وهو أصالة
البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر - لا في مثل
المقام حيث إنهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والاطلاق فحينئذ
لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم
والاطلاق كما عرفت.
واما بحسب الكبرى: فالصحيح، ان القاعدة تقتضي تقييد الاطلاق
المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الأستاذ (قده)
والسبب في ذلك هو أنه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين
ضرورة أن وجوب القصر عند خفاء الاذان لا ينافي وجوبه عند خفاء
الجدران أيضا، لفرض ان ثبوت حكم لشئ لا يدل على نفيه عن غيره
وكذا لا منافاة بين مفهوميهما لوضوح أن عدم وجوب القصر عند عدم خفاء
الاذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران، إذ عدم ثبوت حكم
عند عدم شئ لا يقتضي ثبوته عند عدم شئ آخر ليكون بينهما تنافي.
فالنتيجة ان المنافاة إنما هي بين اطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الأخرى
105

مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم، ولذا لو كان الوارد في الدليلين
(إذا خفى الاذان فقصر) و) يجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران)
كان بين ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت
وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة، فان مقتضى اطلاق
مفهوم الأولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الاذان وان فرض خفاء
الجدران، ومقتضى القضية الثانية وجوب القصر في هذا الفرض، وقد
تحصل من ذلك ان المعارضة في مورد الكلام إنما هي بين مفهوم كل
من القضيتين ومنطوق الأخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه
فاذن لابد لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوها:
الأول: ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية (قده) وهو رفع اليد
عن مفهوم إحداهما دون الأخرى. وفيه ما عرفت من أنه لا تعارض بين
المفهومين حتى يعالج بذلك ومن هنا قلنا إن هذا سهو من قلمه (قده).
الثاني: ما تقدم من شيخنا الأستاذ (قده) وهو رفع اليد عن كلا
الاطلاقين معا والرجوع إلى الأصل العملي. أقول إن ما أفاده (قده)
وان أمكن علاج المعارضة به إلا أن الاخذ به بلا موجب بعد امكان
الجمع العرفي بين الدليلين، والسبب في ذلك هو انه إذا أمكن في مورد علاج
المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم
تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه وليس معهودا ومرتكزا
بينهم. وبما أن ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا
يمكن المساعدة عليه ولتوضيح ذلك نضرب مثالا وهو ما إذا ورد الامر
باكرام العلماء الظاهر في وجوب اكرامهم ثم ورد في دليل آخر أنه لا يجب
اكرام زبد العالم، فان التنافي بينهما وإن كان يرتفع بحمل الامر في الدليل
العام علي الاستحباب إلا أنه بلا مقتضى حيث إن العرف لا يساعد علي
106

ذلك، فان الموجب للتنافي في المقام ليس الا ظهور الدليل الأول في
العموم، ومن المعلوم ان المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن
عموم وتخصيصه بالدليل الثاني، لا حمل الامر في الدليل الأول على الاستحباب
فإنه خارج عن المرتكز العرفي.
وعلى الجملة فالتنافي في المثال المزبور إنما هو بين ظهور العام في
العموم وظهور الخاص في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مرادا
ولا تنافي بين ظهور الخالص في التخصيص به وبين ظهور الامر في طرف العام في
الوجوب مع قطع النظر عن ظهوره في العموم، وعليه فبطبيعة الحال يحمل
العام على الخاص نظرا إلى أن ظهوره أقوى منه فيكون قرينة عليه عرفا،
كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر.
وأما التصرف في ظهور الامر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو
بلا ضرورة، تستدعيه وإن كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل
أحدهما على التقية مع أنه لم يقل به أحد فيما نعلم أو بحمل الخاص على
أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان كل ما يمكن به دفع التنافي
والتعارض بين الدليلين لا يمكن الاخذ به ما لم يساعد عليه العرف وعلى
ضوء هذا البيان يظهر ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) في المقام من
رفع اليد عن كلا الاطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة
عليه بوجه، وذلك لان التعارض وإن كان يدفع بما ذكره (قده) إلا
ألك عرفت ان كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن
الاخذ به إلا فيما إذا ساعد عليه العرف يعني يكون الجمع بينهما؟؟؟ عرفيا
ومن الطبيعي ان رفع اليد عن كلا الاطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى
107

دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شئ، والسبب في ذلك هو ما تقدم
من أن التعارض بينهما إنما هو بين اطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق
الأخرى وان افترض عدم دلالتها على المفهوم فلو كان الوارد في الدليلين
(إذا خفى الاذان فقصر) (ويجب التقصير عند خفاء الجدران) لكان
بين ظهور القضية الأولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب
التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة، وحيث إن نسبة المنطوق إلى
المفهوم نسبة الخاص إلى العام فبطبيعة الحال بقيد اطلاقه به، وبما أن
التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن، لما عرفت من
أنه لازم عقلي له فيدور مداره سعة وضيقا فلا يمكن انفكاكه عنه ولو
الاطلاق والتقييد فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان التصرف في اطلاق مفهوم كل من القضيتين
بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في اطلاق منطوق كل منهما بنتيجة
العطف بكلمة (أو) ولازم ذلك هو ان الشرط أحدهما، والسر فيه
هو اننا إذا قيدنا اطلاق مفهوم قوله (ع) إذا خفى الاذان فقصر بمنطوق
قوله (ع) إذا خفى الجدران فقصر وبالعكس أي تقييد اطلاق مفهوم
القضية الثانية بمنطوق القضية الأولى.
فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير الا إذا خفى أحدهما وهذا معنى
أن ذلك نتيجة تقييد اطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة (أو) وأما
التقييد بالعطف بكلمة (واو) فلا مقتضى له أصلا وإن كان يرتفع به
التعارض.
وقد تحصل من ذلك عدة أمور: (الأول) ان ما أفاده شيخنا
الأستاذ (قده) في المقام خاطئ صغرا وكبرا فلا واقع موضوعي له
108

(الثاني) ان ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في
أمثال المقام دون غيره. (الثالث) ان الجمع بين ظواهر الأدلة لابد
أن يكون في اطار مساعدة العرف عليه والا فهو غير مقبول (الرابع)
ان التعارض في محل الكلام إنما هو بين اطلاق مفهوم كل من القضيتين
ومنطوق الأخرى (الخامس) ان نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الأخرى
نسبة عموم مطلق (السادس) ان التصرف في المفهوم لا يمكن بدون
التصرف في المنطوق.
الأمر الثالث: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وثبت من الخارج
أو من نفس ظهور القضيتين أو القضايا كون كل شرط مستقلا في ترتب
الجزاء عليه فهل القاعدة في مثل ذلك تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها
أثرا واحدا أولا مثلا، إذا اجتمع أسباب عديدة للوضوء أو الغسل في
شخص واحد كالنوم والبول وخروج الربح والجنابة ومس الميت والحيض
وما شاكل ذلك فهل تستدعي اثرا واحدا أو متعددا وعلى تقدير اقتضائها التعدد
فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء أو لا، ونقصد بتداخل الجزاء الاكتفاء
بوضوء واحد أو غسل في مقام الامتثال، وبعدم تداخله عدم الاكتفاء به
؟؟؟ هذا المقام، بل لابد من الاتيان به متعددا حسب تعدد الشرط.
وبعد ذلك نقول: إن الكلام يقع في مقامين: (الأول) في تداخل
الأسباب (الثاني) في تداخل المسببات. وقبل البحث عنها ينبغي؟؟؟
خطوط تالية:
الأول: ان الكلام في التداخل أو عدمه إنما هو فيما إذا لم يعلم
من الخارج ذلك وإلا فهو خارج عن محل الكلام، كما هو الحال في
بابي الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أنه لا يجب على المكلف عند
اجتماع أسبابه الا وضوء واحد، وكذا الحال في الغسل ومنشأ هذا العلم
109

هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين: أما في باب الوضوء فلان
الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل: لا ينقص الوضوء
الا حدث وما شاكل ذلك، ومن الطبيعي ان صفة النقض لا تقبل التكرر
والتكثر، وعليه فبطبيعة الحال يكون المتحصل من نصوص الباب ان
أسباب الوضوء إنما تؤثر في وجود صفة واحدة وهي المعبر عنها بالحدث ان
اقترنت أثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد منها جزء
السبب لا تمامه، وان ترتبت تلك الأسباب استند الأثر إلى المتقدم منها
دون المتأخر كما هو الحال في العلل المتعددة التي لها معلول واحد.
فالنتيجة على ضوء هذا البيان ان التداخل في باب الوضوء إنما هو
في الأسباب دون المسببات.
وأما في باب الغسل فلان الوارد في لسان عدة من رواياته هو أجزاء
غسل واحد عن المتعدد كصحيحة زرارة (إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر
أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة
فإذا أجمعت عليك حقوق (الله) أجزأها عنك غسل واحد ثم قال،
ولذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها واحرامها وجمعتها وغسلها من
حيضها وعيدها) وموثقته عن أبي جعفر (ع) قال (إذا حاضت المرأة
وهي جنب أجزأها غسل واحد) وصحيحة شهاب بن عبد ربه قال:
(سألت أبا عبد الله (ع) عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتا له أن
يأتي أهله ثم يغتسل فقال سواء لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يده
وتوضأ وغسل الميت وهو جنب وان غسل ميتا توضأ ثم أتى أهله ويجزيه
غسل واحد لهما) ونحوها غيرها.
فالنتيجة ان المستفاد من هذه الروايات هو أن التداخل في باب
الغسل إنما هو في المسببات لا في الأسباب. هذا فيما إذا علم بالتداخل
110

في الأسباب أو المسببات وأما إذا لم يعلم بذلك كما إذا أفطر الصائم مثلا
في نهاية شهر رمضان بالاكل أو الشرب أو الجماع أو نحو ذلك مرات
عديدة فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة، وسيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن
البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.
الثاني: إذا فرض انه لا الدليل على التداخل ولا على عدمه فما هو
قضية الأصل العملي فهل هي التداخل أو عدمه أو التفصيل بين الأسباب
والمسببات يعني يقتضي التداخل في الأولى دون الثانية وجوه الصحيح هو
الوجه الأخير - وهو التفصيل بينهما - والسبب في ذلك هو أن مرد الشك
في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشك في ثبوت تكليف زائد على التكليف
الواحد المتيقن، ومن الطبيعي ان مقتضى الأصل عدمه، ومثال ذلك ما إذا
علم المكلف بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه كما إذا بال أو نام
ولكن شك في ثبوته زائدا على هذا المتيقن كما إذا بال أو نام مرة ثانية
فحينئذ لا محالة يكون مقتضى الأصل عدم ثبوته، وهذا بخلاف الشك في
تداخل المسببات، فإنه حيث أنه نعلم بتعدد التكليف هناك والشك إنما
هو في سقوط كلا التكليفين بسقوط أحدهما بالامتثال فبطبيعة الحال يكون
مقتضى الأصل عدم سقوطه.
ثم إن هذا الذي ذكرناه في كلا الموردين لا يفرق فيه بين الأحكام الوضعية
والتكليفية، لوضوح ان الشك إذا كان في وحدة الحكم وتعدده
عند تعدد شرطه فمقتضى الأصل عدم تعدده يعني عدم حدوث حكم آخر
زائدا على المتيقن، ومن المعلوم أنه لا يفرق فيه بين أن يكون المشكوك
حكما تكليفيا أو وضعيا، كما أنه إذا شك في سقوطه بعد العلم بثبوته فمقتضى
الأصل عدم سقوطه، ولا يفرق فيه أيضا بين كونه حكما تكليفيا أو وضعيا
فالنتيجة ان مقتضى الأصل العملي هو التداخل في موارد الشك في تأثير
111

الأسباب وعدم التداخل في موارد الشك فيه في المسببات. ومن هنا يظهر
أن ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من أنه لا ضابط كلي لجريان الأصل
في موارد الأحكام الوضعية فلابد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع
فيه إلى ما يقتضيه الأصل لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما عرفت من
أنه لا فرق في جريانه في كلا المقامين بين الحكم التكليفي والوضعي أصلا.
الثالث: ان محل الكلام في تداخل الأسباب أو المسببات إنما هو
فيما إذا كان الجزاء قابلا للتعدد كالوضوء أو الغسل أو ما شاكل ذلك،
واما إذا لم يكن قابلا لذلك فهو خارج عن محل الكلام كالقتل، فان من
يستحق ذلك بارتداد أو نحوه فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب أو
المسببات فيه وفي أمثاله نعم قد يكون قتله موردا لحقوق متعددة متباينة كما إذا
افترض أنه قتل عدة أشخاص متعمدا، فإنه يثبت اولي كل من المقتولين
حتى قتله على نحو الاستقلال فلو أسقط أحد الأولياء حقه لم يسقط حق
الآخرين فلهم اقتصاصه. نعم لو اقتصه أحدهم سقط حق الباقين قصاصا
بسقوط موضوعه، ولكن لهم عندئذ ان يأخذوا الدية من أمواله، هذا
بالإضافة إلى حقوق الناس، وكذلك الحال بالإضافة إلى حقوق الله كما إذا
افترضنا ان أحدا زنى بأحد محارمه كأخته أو أمه أو بنته أو ما شاكل ذلك
مرتين أو أزيد، فإنه بطبيعة الحال لا يترتب على الزنى في المرة الثانية
الا تأكد الجزاء حيث أن القتل غير قابل المتعدد. ثم أنه ربما لا يكون
الجزاء قابلا للتأكد أيضا كإباحة شئ مثلا أو طهارته نظرا إلى أن الطهارة
كالإباحة غير قابلة للشدة والتأكد فضلا عن الزيادة، مثلا إذا غسل
الثوب المتنجس في الماء الكر وطهر فلا أثر لغسله ثانيا في الماء الجاري
ولا يوجب ذلك تأكد طهارته وشدتها، وكذا إذا افترضنا إباحة شئ
بعدة أسباب مجتمعة عليه دفعية أو تدريجية كاجتماع الاكراه والاضطرار
112

وما شاكلهما في مادة شخص واحد حيث إنه لا يوجب شدة إباحة الفعل
المضطر إليه أو المكره عليه على الرغم من كون كل واحد منها سبب
تام لذلك.
الرابع ما نسب إلى فخر المحققين من أن القول بالتداخل وعدمه
يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباب أو معرفات، فعلى الأول لا يمكن
القول بالتداخل، وعلى الثاني لا مانع حيث إن اجتماع معرفات عديدة
على شئ واحد بمكان من الوضوح.
وغير خفي ان القول بكون الأسباب الشرعية معرفات خاطئ جدا
ولا واقع موضوعي له أصلا، والسبب فيه انه ان أريد بكونها معرفات
انها غير دخلية في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول فهو وإن كان
متينا جدا، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من أنه لا دخل للأمور
التكوينية في الأحكام الشرعية أصلا، ولا تكون مؤثرة فيها كتأثير العلة
في المعلول وإلا لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الأمور التكوينية ومسانحة
لها بقانون التناسب والسنخية، والحال ان الامر ليس كذلك، بداهة ان
وجوب صلاتي الظهرين مثلا ليس معلولا لزوال الشمس وإلا لكان معاصرا
له من ناحية وامرا تكوينيا من ناحية أخرى بقانون التناسب، وكذا الحال
في وجوب صلاتي المغرب والعشاء، فإنه ليس معلولا لغروب الشمس
ووجوب صلاة الفجر، فإنه ليس معلولا لطلوع الفجر، ووجوب الحج
فإنه ليس معلولا للاستطاعة ونحوها، ووجوب الصوم، فإنه ليس معلولا
لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.
وعلى الجملة فالأحكام الشرعية بأجمعها أمور اعتبارية فرفعها ووضعها
بيد الشارع، وفعل اختياري له، ولا يؤثر فيها شئ من الأمور الطبيعية
نعم الملاكات الموجودة في متعلقاتها وإن كانت أمورا تكوينية الا ان دخلها
113

في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها، بل هي داعية
لجعل الشارع واعتباره إياها. أو؟؟؟ انها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها
كبقية الدواعي للأفعال الاختيارية، لا انها تؤثر في نفسها. وان أريد من
كون الأسباب الشرعية معرفات ذلك فهو وإن كان متينا من هذه الناحية
إلا أنه يرد عليه من ناحية أخرى، وهي انه لا ملازمة بين عدم دخلها
في الأحكام الشرعية وكونها معرفات، بل هنا أمر ثالث وهو كونها
موضوعات لها يعني ان الشارع جعل الاحكام على تلك الموضوعات في مرحلة
الاعتبار والانشاء على نحو القضية الحقيقية، مثلا أخذ الشارع زوال الشمس
مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة،
وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج، وهكذا
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا قد ذكرنا غير مرة ان القضية
الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت
المحمول له.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي ان عدم دخل الأسباب
الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها
معرفات محضة، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك
الموضوعات، ولا تنفك عنها أبدا. ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه
الناحية أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.
وان أريد بذلك كونها معرفات لموضوعات الاحكام في الواقع، ولا
مانع من تعدد المعرف لموضوع واحد واجتماعه عليه مثلا عنوان الافطار في
نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعا لوجوب الكفارة، بل هو معرف
لما هو الموضوع له في الواقع، وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم
وما شاكلهما، فان هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها
114

موضوعات للأحكام، بل هي معرفات لها، ومن الطبيعي انه لا مانع من
اجتماع معرفات متعددة على موضوع واحد - فيرد عليه ان ذلك وإن كان
أمرا ممكنا في نفسه إلا أن ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك، حيث إن
الظاهر منها ان العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام،
لا اناه معرفات لها، فالحمل على المعرف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن
وعلى الجملة فالظاهر من الدليل عرفا ان عنوان الافطار بنفسه موضوع
لوجوب الكفارة. لا انه معرف لما هو الموضوع له واقعا، وكذا عنوان
البول والنوم ونحوهما. وان أريد بذلك كونها معرفات لملاكاتها الواقعية
- ففيه انها ليست بكاشفة عنها بوجه، فان الكاشف عنها - اجمالا إنما
هو نفس الحكم الشرعي، واما ما سمي صببا له فلا يكون بكاشف عنها أصلا.
فالنتيجة في نهاية المطاف ان القول بكون الأسباب الشرعية معرفات
خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا، هذا إذا كان المراد من الأسباب
الشرعية موضوعات الاحكام وشرائطها كما هو كذلك واما لو أريد بها
ملاكاتها الواقعية فالامر في غاية الوضوح حيث إنه لا معنى لدعوى كونها
معرفات كما هو ظاهر.
الرابع: ان محل الكلام في التداخل وعدمه إنما هو فيما إذا كان
الشرط قابلا للتعدد والتكرر. واما إذا لم يكن قابلا له فهو خارج عن
محل الكلام لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه، وذلك كالافطار
متعمدا في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة حيث إنه
من العناوين التي غير قابلة للتعدد والتكرر فلو اكل الصائم عالما عامدا
في نهار شهر رمضان مرة واحدة صدق عليه عنوان الافطار العمدي،
وأما إذا اكل بعده مرة ثانية فلا يصدق عليه هذا العنوان، وبما ان موضوع
وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات هو عنوان الافطار دون الاكل أو
115

الشرب فبطبيعة الحال لا يجرى فيه النزاع المتقدم، ومن هنا لو أكل أو
شرب في نهار شهر رمضان مرات عديدة لم يجب عليه الا كفارة واحدة.
نعم في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما نظرا إلى أن الجماع
والاستمناء بعنوانهما قد أخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات،
ومن الطبيعي انها تتعدد بتعددهما خارجا.
وبكلمة أخرى ان غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما انها لم
تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأولية وإنما أخذت فيه بعنوان
المفطر فمن الطبيعي ان عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الاكل أو الشرب
في نهار شهر رمضان باعتبار ان الصوم قد أفطر ونقض به فلا يصدق
هذا العنوان على وجوده الثاني، لوضوح ان ما نقض غير قابل للنقض مرة
ثانية وإن كان الامساك بعد النقض والافطار أيضا واجبا عليه الا انه ليس بعنوان
الصوم الواجب. ومن هنا يجب قضائه ولا يكون الامساك المزبور مجزيا
عنه. فالنتيجة ان عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الاكل أو الشرب
فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث، وهكذا، ولذا لا تتعدد الكفارة
بتعدده، وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث إن المأخوذ في لسان الرواية
عنوان الاتيان بالأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما؟؟ من
العناوين التي قابلة للتعدد والتكرر خارجا، وعليه فلا محالة تتعدد الكفارة
بتعدد هما فلو أتى بأهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعددا وجبت عليه
الكفارة كذلك؟؟ هذا.
ولكن السيد الطباطبائي صاحب العروة (قده) قال في جواب بعض
المسائل التي سئلت عنه ان الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والاكل بدعوى
ان عنوان الافطار كناية عن نفس الأكل والشرب ونحوهما من دون أن
تكون له خصوصية فأخذه في لسان الروايات؟؟؟ هو بعنوان المعرف لما
116

هو الموضوع له واقعا ثم قال: وتدل عليه الروايات أيضا. وفيه ما تقدم من أن
ظاهر الروايات هو ان عنوان الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة
لا أنه كناية عن الأكل والشرب، فحمله على المعرف والكناية يحتاج إلى
قرينة ولا قرينة على الفرض. وأما ما أفاده (قده) من دلالة الروايات
على ذلك فيرده انا لم نجد في هذا الموضوع ولا رواية واحدة تدل على
ترتب وجوب الكفارة على عنوان الأكل والشرب فلا ندري ما هو مقصوده
(قدس سره) من الروايات الدالة على ذلك.
وبعد ذلك نقول: اما الكلام في المقام الأول - وهو التداخل في
الأسباب - فيقوم على أساس ان القضية الشرطية ظاهرة في نفسها في التداخل
أو في عدمه فلو أتى المكلف بأهله في نهار شهر رمضان مرات عديدة
فان قلنا بالأول لم تجب عليه الا كفارة واحدة وان قلنا بالثاني وجبت
عليه كفارات متعددة.
وذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ما إليك نصه. " والتحقيق
انه لما كان ظاهر الجملة الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه
أو بكشفه عن سببه وكان قضيته تعدد الجزاء عند تعدد الشرط كان الاخذ
بظاهرها إذا تعدد الشرط حقيقة أو وجودا محالا، ضرورة ان لازمه أن يكون
الحقيقة الواحدة مثل الوضوء بما هي واحدة في مثل (إذا بلت فتوضأ)
(وإذا نمت فتوضأ) أو فيما (إذا بال مكررا) أو (نام كذلك) محكوم
بحكمين متماثلين وهو واضح الاستعمالة كالمتضادين فلابد على القول بالتداخل
من التصرف فيه اما بالالتزام بعدم دلالتها في هذا الحال على الحدوث عند
الحدوث، بل على مجرد الثبوت، أو الالتزام بكون متعلق الجزاء وإن كان
واحدا صورة الا انه حقائق متعددة حسب تعدد الشروط الا ان
الاجتزاء بواحد لكونه مجمعا لها كما في (أكرم هاشميا) (وأضف عالما)
117

فأكرم العالم الهاشمي بالضيافة، ضرورة انه بضيافته بداعي أمرين يصدق انه
امتثلهما ولا محالة يسقط الامر بامتثاله وموافقته وإن كان له امتثال كل منهما
على حدة كما إذا كرم الهاشمي بغير الضيافة، وأضاف العالم الغير الهاشمي،
ما أفاده (قده) يحتوي على عدة نقاط: 1 - ان القضية الشرطية
في نفسها ظاهرة في الحدوث عند الحدوث، ولا يفرق في ذلك بين أن
يكون الشرط في القضية بنفسه سببا للجزاء أو يكون كاشفا عن السبب.
2 - ان الاخذ بهذا الظاهر لا يمكن نظرا إلى أن متعلق الجزاء بما انه
حقيقة واحدة فلازم الاخذ به هو اجتماع الحكمين المتماثلين فيها وهو مستحيل
كاجتماع المتضادين. 3 - انه على القول بالتداخل لابد من الالتزام بأحد
أمرين: اما ان يلتزم برفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث
عند الحدوث. واما ان يلتزم بأن متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة
إلا أنه متعدد واقعا.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط: اما النقطة الأولى فهي في غاية
الصحة والمتانة. وأما النقطة الثانية فيرد عليها مضافا إلى ما سوف يأتي
في ضمن البحوث التالية ما ذكرناه غير مرة من أنه لا مانع من اجتماع
الحكمين المتماثلين في شئ واحد، غاية الأمر انه يوجب التأكد والاندكاك
وصيرورتهما حكما واحدا مؤكدا. ومن ذلك يظهر حال النقطة الثالثة
حيث إنه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحدوث عند
الحدوث، كما أنه لا معنى لدعوى ان الوضوء أو ما شاكله حقائق متعددة
في الواقع ونفس الامر هذا.
ولشيخنا الأستاذ (قده) في المقام كلام وهو في غاية الصحة والجودة
واليك نصه: والحق هو القول بعدم التداخل مطلقا، وتوضيح ذلك
إنما يتم ببيان أمرين:
118

الأول: ما تقدم سابقا من أنه لا اشكال في أن كل قضية شرطية
ترجع إلى قضية حقيقية، كما أن كل قضية حقيقية تنحل إلى قضية شرطية
مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، فالمعنى المستفاد منهما في
الحقيقة شئ واحد، وإنما الاختلاف في كيفية التعبير عنه، وعليه فكما
ان الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه إلى احكام متعددة
إذ المفروض ان فرض وجود الموضوع فرض ثبوت الحكم له، كذلك
ينحل الحكم في القضية الشرطية بانحلال شرطه. لان أدوات الشرط اسمية
كانت أم حرفية إنما وضعت لجعل مدخولها موضع الفرض والتقدير واثبات
التالي على هذا الفرض فلا يكون بين القضية الشرطية والحقيقية فرق من
جهة الانحلال أصلا، وعليه فيتعدد الحكم بتعدد الشرط وجودا، كما يتعدد
بتعدد موضوعه في الخارج واما تعدد الحكم بتعدد شرطه جنسا فهو إنما
يستفاد من ظهور كل من القضيتين في أن كلا من الشرطين مستقل في ترتب
الجزاء عليه مطلقا، فان ظاهر قضية (إذا بلت فتوضأ) هو ان وجوب
الوضوء مترتب على وجود البول ولو قارنه أو سبقه النوم مثلا، وكذلك
ظاهر قضية (إذا نمت فتوضأ) هو ترتب وجوب الوضوء على النوم
ولو قارنه أو سبقه البول مثلا، فاطلاق كل من القضيتين يستفاد منه
استقلال كل من النوم والبول في ترتب وجوب الوضوء عليه على جميع
التقادير، ولازم ذلك هو تعدد وجوب الوضوء عند حصول الشرطين
في الخارج ووجودهما فيه.
الثاني: ان تعلق الطلب بشئ لا يقتضي إلا ايجاد ذلك الشئ
خارجا ونقض عدمه المطلق، وبما ان نقض العدم المطلق يصدق على أول
وجود من وجودات الطبيعة يكون الاتيان به مجزيا في مقام الامتثال عقلا.
وأما توهم ان ذلك من جهة تعلق الطلب بصرف الوجود وصدقه على أول
119

الوجودات فهو فاسد، إذ لا موجب لاخذ صرف الوجود في متعلق الطلب
بعد عدم كونه مدلولا عليه بالهيئة ولا بالمادة، ضرورة ان المادة لم توضع
إلا لنفس الماهية المعرات عن الوجود والعدم. وأما الهيئة فهي لا تدل إلا
على طلب ايجادها ونقض عدمها المطلق الصادق قهرا على أول الوجودات،
وليس هناك ما يدل على اعتبار صرف الوجود في متعلق الطلب غير صيغة الامر
المفروض عدم دلالتها على ذلك هيئة ومادة، وعليه فالطلب لا يرد على
صرف الوجود المأخوذ في المتعلق في مرتبة سابقة على عروض الطلب عليه
بل الطلب هو بنفسه يقتضي ايجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه المطلق،
فإذا فرض تعلق طلبين بماهية واحدة كان مقتضى كل منهما ايجاد تلك
الماهية فيكون المطلوب في الحقيقة هو ايجادها ونقض عدمها مرتين، كما هو
الحال بعينه في تعلق إرادتين تكوينيتين بماهية واحدة فتعدد الايجاد تابع
لتعدد الإرادة. وبالجملة ان كل أمر في نفسه لا يدل إلا على الطلب
المقتضى لإيجاد متعلقه، وأما كون هذا الطلب واحدا أو متعددا فليس في
الامر بهيئته ومادته دلالة عليه قطعا. نعم إذا لم يكن هناك ما يقتضي تعدد
الطلب وقد فرض تعلق الامر بالطبيعة كان الطلب واحدا قهرا الا انه
من جهة عدم المقتضي لتعدده لا من جهة دلالة اللفظ عليه، فإذا فرض
ظهور القضية الشرطية في الانحلال وتعدد الطلب أو فرض تعدد القضية
الشرطية في نفسها كان ظهور القضية في تعدد الحكم موجبا لارتفاع موضوع
الحكم بوحدة الطلب أعني به عدم المقتضي للتعدد وواردا عليه.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ظهور الجزاء في وحدة الطلب لكان ذلك
من جهة عدم ما يدل على التعدد. فإذا دلت الجملة الشرطية بظهورها في
الانحلال أو من جهة تعددها في نفسها على تعدد الطلب كان هذا الظهور لكونه
لفظيا مقدما على ظهور الجزاء في وحدة الطلب. ومن هنا يظهر الفرق بين
120

المقام الذي التزمنا فيه بتعدد الطلب ومسألة تعلق الامر بشئ واحد مرتين
كما إذا قال المولى (صم يوما) ثم قال (صم يوما) التي التزمنا فيها
بحمل الأمر الثاني على التأكيد كما تقدم، وذلك لان ظهور الأمر الثاني في
التأسيس وتعدد الحكم ليس ظهورا لفظيا ليكون قرينة على صرف ظهور
وحدة المتعلق في وحدة الحكم، بل هو من الظهورات السياقية، فكما يمكن
أن يكون هو قرينة على التأسيس والتعدد، كذلك يمكن أن تكون وحدة
المتعلق قرينة على الواحدة والتأكد فلا ينعقد حينئذ للكلام ظهور في التأسيس
ومعه لا مناص من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد عن المتيقن
فتكون النتيجة نتيجة التأكيد، وهذا بخلاف المقام، فان ظهور القضية
الشرطية في تعدد الحكم بما انه ظهور لفظي يكون رافعا لظهور الجزاء في
وحدة الحكم فيكون مقتضى القاعدة حينئذ عدم التداخل.
ملخص ما أفاده (قده) نقطتان:
الأولى: ان القضية الشرطية ظاهرة في انحلال الحكم بانحلال شرطه
حيث إن الشرط فيها هو الموضوع في القضية الحقيقية بعينه ولا شبهه في
انحلال الحكم فيها بانحلال موضوعه ونتيجة ذلك هي تعدد الحكم بتعدد
سببه وشرطه من دون فرق بين أن يكون التعدد بحسب الافراد أو الأجناس.
الثانية: ان تعلق الطلب بشئ والبعث نحوه يقتضى ايجاده في
الخارج ونقض عدمه، فإذا فرض تعلق الطلب به ثانيا فهو يقتضي في
نفسه ايجاده كذلك نظرا إلى أن تعدد البعث يقتضي تعدد الانبعاث نحو
الفعل لا محالة. ودعوى ان متعلق الطلب والبعث بما انه صرف الوجود
فهو غير قابل للتكرر، وعليه فبطبيعة الحال تكون نتيجة الطلبين إلى طلب
واحد بمعنى ان الطلب الثاني يكون مؤكدا للأول خاطئة جدا، وذلك لان
متعلق الطلب والبعث ايجاد الطبيعة، ومن المعلوم ان ايجادها يتعدد بتعدد
121

وجوداتها في الخارج فيكون لكل وجود منها فيه ايجاد خاص فلا مانع من
تعلق كل طلب بايجاد فرد منها، ولا موجب لحمل الطلب والبعث الثاني
على التأكيد، فإنه يحتاج إلى قرينة وإلا فكل بعث نحو فعل يقتضي في
نفسه انبعاث المكلف؟؟ ايجاده. غاية الأمر في صورة التعدد يقتضي
ايجاده متعددا فيكون ايجاد كل فرد متعلق لبعث، كما هو مقتضى انحلال
الحكم بانحلال شرطه وموضوعه.
فالنتيجة على ضوء هاتين؟؟؟ هي انه لا موضوع للتعارض بين
ظهور القضية الشرطية في الانحلال والحدوث عند الحدوث وبين ظهور
الجزاء في وحدة التكليف حيث لا ظهور للجزاء في ذلك بل قد عرفت ان
تعدد الطلب والبعث ظاهر في نفسه في تعدد الانبعاث والمطلوب فالحمل
على التأكيد يحتاج إلى قرينة من حال أو مقال كما إذا علم من الخارج ان
الأمر الثاني للتأكيد أو علم ذلك من جهة ذكر سبب واحد لكلا الامرين
كما إذا كرر نفس السبب في القضية الأولى مرة ثانية من دون التقييد
بقيد (كرة أخرى أو نحوها) مثل ما إذا قال المولى (ان جامعت فكفر)
ثم قال: (ان جامعت فكفر) ففي مثل ذلك لا محالة يكون الامر في
القضية الثانية للتأكيد دون التأسيس حيث إن ذكر سبب واحد لكليهما معا
قرينة على ذلك. وأما إذا لم تكن قرينة في البين فلا محالة يكون تعدد الامر
ظاهرا في تعدد المطلوب فيكون تكليفان متعلقين بطبيعة واحدة، فإذا أتى
المكلف بها مرة سقط أحدهما من دون تعيين، وإذا أتى بها مرة ثانية
سقط الآخر، ونظير ذلك ما (إذا أتلف أحد درهما من شخص)
و (استقرض منه درهمان آخر) فحينئذ الثابت في ذمته درهمان: أحدهما
من ناحية الاتلاف والآخر من ناحية القرص: فإذا أدى أحد الدرهمين
سقط أحدهما عن ذمته وبقي الآخر من دون تعيين وتمييز في أن الساقط هو الدرهم
122

التالف أو الدرهم القرض حيث إنه لا تمييز بينهما في الواقع وفي ظرف
ثبوتهما - وهو الذمة - وكذا إذا كان الثابت في ذمته صوم يومين أو أزيد
من جهة نذر أو عهد أو قضاء صوم شهر رمضان أو ما شاكل ذلك ففي
مثل ذلك لا محالة إذا صام يوما سقط أحدهما عن ذمته من دون تعيين،
لفرض عدم واقع معين لهما حتى في علم الله تعالى، وكذا الحال فيما إذا
كان مديونا لصلاتين متماثلتين بناء على عدم اعتبار الترتيب بينهما.
والنكتة في ذلك ان ما ثبت في الذمة من تكليف كالصلاة والصوم
ونحو ذلك أو وضع إذا كان له طابع خاص وإطار مخصوص من ناحية
الزمان أو المكان أو ما شاكل ذلك فلابد في مقام الوفاء من الاتيان بما
ينطبق عليه ماله طابع خاص والا لم يف به، كما إذا نذر صوم يومي
الخميس والجمعة مثلا حيث إن لكل منهما طابعا خاصا في الواقع فلا ينطبق
على غيره. وأما إذا لم يكن له طابع خاص وخصوصية مخصوصة كما إذا
نذر صوم يومين من الأيام من دون اعتبار خصوصية في شئ منهما ففي
مثل ذلك بطبيعة الحال لا يكون بينهما ميز في الواقع ونفس الامر حتى في
علم الله سبحانه باعتبار انه لا واقع له ما عدى ثبوته في الذمة فعندئذ لا محالة
إذا صام يوما سقط أحدهما لا بعينه من دون تميز حيث لا يتوقف سقوطه
على وجود ميز في الواقع. ودعوى - انه لا يمكن الحكم بالسقوط في أمثال
المقام، فان الحكم يسقط هذا دون ذاك ترجيح من دون مرجح والحكم
بسقوط كليهما بلا موجب فلا محالة يتعين الحكم بعدم سقوط شئ منهما -
خاطئة جدا حيث إن المفروض انه لا تعين ولا ميز بينهما في الواقع ونفس
الامر حتى في علم الله تعالى ليقال ان الساقط هذا أو ذاك - فان الإشارة
تستدعي أن يكون بينهما ميز في الواقع، وقد عرفت عدمه، فاذن لا محالة
يكون الساقط أحدهما المبهم غير المميز والمعين في الواقع لانطباقه على المأتي به
123

في الخارج جزما وهو واضح.
أما الكلام في المقام الثاني - وهو التداخل في المسببات - فلا شبهة
في أن مقتضى القاعدة هو عدم التداخل، لوضوح ان تعدد التكليف يقتضي
تعدد الامتثال، والاكتفاء بامتثال واحد عن الجميع يحتاج إلى دليل، وقد
قام الدليل على ذلك في باب الغسل حيث قد ثبت ان الغسل الواحد يجزى عن
الأغسال المتعددة ولو كان ذلك هو غسل الجمعة يعني لم يكن واجبا. وأما فيما لم
يقم دليل على ذلك فلا مناص من الالتزام بتعدد الامتثال، كما إذا وجبت
على المكلف كفارة متعددة من ناحية انه أتى بأهله مثلا في نهار شهر
رمضان مرات متعددة، أو من ناحية أخرى ففي مثل ذلك لا تكفي كفارة
واحدة عن الجميع، حيث قد عرفت ان مقتضى الأصل عدم سقوط
التكاليف المتعددة بامتثال واحد. نعم يستثنى من ذلك مورد واحد وهو
ما إذا كانت النسبة بين متعلقي التكليفين عموما وخصوصا من وجه كما في
قضيتي (أكرم عالما) و (اكرام هاشميا) فان مقتضى القاعدة فيه هو
سقوط كلا التكليفين معا باتيان المجمع وامتثاله - وهو اكرام العالم الهاشمي
لانطباق متعلق كل منهما عليه، ومن الطبيعي انه لا يعتبر في تحقق الامتثال
عقلا الا الاتيان بما ينطبق عليه متعلق الأمر.
وبكلمة أخرى: ان مقتضى اطلاق متعلق كل من الدليلين هو جواز
امتثالهما منفردا ومجتمعا حيث إن اكرام العالم لا يكون مقيدا بغير الهاشمي
وبالعكس، وعليه فلا محالة إذا أتى المكلف بالمجمع بينهما انطبق عليه متعلق
كل منهما، وهذا معنى سقوط كلا التكليفين بفعل واحد.
ومن ضوء هذا البيان يظهر ان المقام ليس من تأكد الحكم في مورد
الاجتماع أصلا كما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) وذلك لان التأكد
في أمثال المقام إنما يتصور فيما إذا تعلق كل من الحكمين بنفس مورد
124

الاجتماع، كما إذا كان التكليف في كل من العالمين من وجه انحلاليا،
فعندئذ يكون مورد الالتقاء والاجتماع بنفسه متعلقا لكلا الحكمين معا فيحصل
التأكد بينهما فيصبحان حكما واحدا مؤكدا، لاستحالة بقاء كل منهما بحده
وهذا بخلاف ما إذا كان التكليف في كل منهما بدليا كما هو المفروض
في المقام، فعندئذ لا يكون المجمع بنفسه موردا لكل من الحكمين، بل
هو مما ينطبق عليه متعلق كل منهما، حيث إن متعلق التكليف في العموم
البدلي هو الطبيعي الجامع الملغى عنه الخصوصيات، فالفرد المأتي به ليس
بنفسه متعلقا للامر ليتأكد طلبه عند تعلق الامرين به، بل هو مصداق لما
يتعلق به الطلب والامر. فالنتيجة ان التداخل في أمثال المقام على القاعدة
فلا يحتاج إلى مؤونة زائدة. وتظهر ثمرة ذلك في الفقه فيما إذا كانت النسبة
بين الواجب والمستحب عموما من وجه وكان كل من الوجوب والاستحباب
متعلقا بالطبيعة الملغاة عنها الخصوصيات، أو كانت النسبة بين المستحبين
كذلك، والأول كالنسبة بين صوم الاعتكاف، وصوم شهر رمضان أو
قضائه أو صوم واجب بالنذر أو نحوه حيث إن النسبة بينهما عموم من وجه
فإذا أتى المكلف بالمجمع بينهما، فإنه يجزى عن كليهما معا، لانطباق متعلق
كل منهما عليه. والثاني كالنسبة بين صلاة الغفيلة ونافلة المغرب حيث إن
الامر المتعلق بكل منهما مطلق فلا مانع من الجمع بينهما في مقام الامتثال باتيان
المجمع بأن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب، فإنها تجزى عن
كليهما معا، لانطباق متعلق كل منهما عليها، وكذا الحال بين صلاة
الجعفر ونافلة المغرب.
نتائج البحوث السالفة عدة نقاط:
الأولى: ان المفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط
وأما انتفاء شخص الحكم المعلق عليه بانتفائه فهو قهري فلا صلة له بدلالة
125

القضية الشرطية على المفهوم، فالمراد منه انتفاء فرد آخر من الحكم عن
الموضوع المذكور فيها بانتفاء الشرط وعلى هذا فلا يكون انتفاء الحكم بانتفاء
موضوعه من المفهوم في شئ ولا يفرق في ذلك بين كون الحكم المستفاد
من الجزاء مدلولا اسميا أو حرفيا.
(الثانية): انه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين
أن يكون الشرط المذكور فيها واحدا أو متعددا كان تعدده على نحو
التركيب أو التقييد.
(للثالثة): ان الحكم الثابت في طرف الجزاء المعلق على الشرط
قد يكون انحلاليا وقد يكون غير انحلالي، وعلى الأول فهل مفهومه ايجاب
جزئي أو كلي اختار شيخنا الأستاذ (قده) للثاني، والصحيح هو الأول
وقد تقدم تفصيل ذلك بشكل موسع.
(الرابعة): إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فمقتضى القاعدة فيه
هو ان الشرط أحدهما حيث إنها تقتضي تقييد اطلاق مفهوم كل منهما
بمنطوق الآخر، فالنتيجة من ذلك هي نتيجة العطف بكلمة (أو).
(الخامسة): إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فهل القاعدة تقتضي
التداخل في الأسباب أو المسببات أو لا هذا ولا ذاك، وقد تقدم ان مقتضى
القاعدة عدم التداخل في كلا المقامين، فالتداخل يحتاج إلى دليل، وقد
قام الدليل عليه في بابي الوضوء والغسل على تفصيل قد سبق.
(السادسة): ان كون الأسباب الشرعية معرفات لا يرجع عند
التخليل إلى معنى صحيح ومعقول.
(السابعة): ان محل الكلام في التداخل وعدمه إنما هو فيما إذا
كان كل من الشرط والجزاء قابلا للتعدد والتكرر والا فلا موضوع لهذا
البحث على ما عرفت بشكل موسع.
126

(الثامنة): ان مقتضى القاعدة التداخل في المسهب فيما إذا كانت
النسبة بين الدليلين عموما من وجه وكان العموم فيهما بدليا، فان الاتيان
بالمجمع في مورد الاجتماع يجزى عن كلا التكليفين، لانطباق متعلق كل
منهما عليه.
مفهوم الوصف
لتنقيح محل النزاع ينبغي لنا تقديم أمرين:
الأول: ان محل الكلام بين الأصحاب في دلالة الوصف على المفهوم
وعدم دلالته عليه إنما هو في الوصف المعتمد على موصوفه في القضية
بأن يكون مذكورا فيها كقولنا (أكرم انسانا عالما) أو (رجلا عادلا)
أو ما شاكل ذلك. وأما الوصف غير المعتمد على موصوفه كقولنا
(أكرم عالما أو عادلا) أو نحو ذلك فهو خارج عن محل الكلام ولا
شبهة في عدم دلالته على المفهوم، ضرورة انه لو كان داخلا في محل
الكلام لدخل اللقب فيه أيضا، لوضوح انه لا فرق بين اللقب وغير المتعمد
من الوصف من هذه الناحية، فكما ان الأول لا يدل على المفهوم من
دون خلاف فكذلك الثاني، ومجرد ان الوصف ينحل بتعمل من العقل إلى
شيئين: ذات، ومبدأ كما هو الحال في جميع العناوين الاشتقاقية لا يوجب
فارقا بينه وبين اللقب في هذه الجهة، حيث إن هذا الانحلال لا يتعدى
عن أفق النفس إلى أفق آخر فلا أثر له في القضية في مقام الاثبات والدلالة
أصلا حيث إن المذكور فيها شئ واحد - وهو الوصف دون موصوفه -
وكيف كان فالظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في عدم دلالته على المفهوم،
والسبب فيه هو ان الحكم الثابت في القضية لعنوان اشتقاقيا كان أو ذاتيا
127

فلا تدل القضية إلا على ثبوت هذا الحكم لهذا العنوان وكونه دخيلا فيه
وأما انتفائه عن غيره فلا اشعار فيها فضلا عن الدلالة، بل لو دل على
المفهوم لكان الوصف الذاتي أولى بالدلالة نظرا إلى أن المبدأ فيه مقوم
للذات وبانتفائه تنتفي الذات جزما، وهذا بخلاف الوصف غير الذاتي
فان المبدأ فيه حيث إنه جعلي غير مقوم للذات فلا محالة لا تنتفي الذات
بانتفائه. فالنتيجة انه لا فرق بين اللقب وغير المعتمد من الوصف،
فان ملاك عدم الدلالة فيهما واحد.
الثاني: ان الوصف تارة يكون مساويا لموصوفه كقولنا (أكرم
انسانا ضاحكا) وما شاكله، وأخرى يكون أعم منه مطلقا كقولنا
(أكرم انسانا ماشيا) وثالثة يكون أخص منه كذلك كقولنا (أضف
انسانا عالما) ورابعة يكون أعم منه من وجه كقوله (ع) (في الغنم
الصصائمة زكاة): اما الأول والثاني فلا اشكال في خروجهما عن محل النزاع
والوجه فيه ظاهر وهو ان الوصف في هاتين الصورتين لا يوجب تضييقا في
ناحية الموصوف حتى يكون له دلالة على المفهوم، حيث إن معنى دلالة
الوصف على المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموصوف الذكور في القضية
بانتفائه وهذا فيما لا يوجب انتفائه انتفاء الموصوف، والمفروض ان في هاتين
الصورتين يكون انتفائه موجبا لانتفاء الموصوف فلا موضوع لدلالته على المفهوم
وأما الثالث فلا اشكال في دخوله في محل الكلام، فان ما ذكرناه من الملاك
لدلالته على المفهوم موجود فيه. واما الرابع فهو أيضا داخل في محل
الكلام حيث إنه يفيد تضييق دائرة الموصوف من جهة فيقيد الغنم في المثال
المتقدم بخصوص الصائمة، فعلى القول بدلالة الوصف على المفهوم يدل
على انتفاء وجوب الزكاة عن الموضوع المذكور في القضية بانتفائه، فلا
زكاة في الغنم المعلوفة. نعم لا يدل على انتفائه عن غير هذا الموضوع
128

كالإبل المعلوفة كما نسب ذلك إلى بعض الشافعية؟؟؟ وجوب الزكاة عن
الإبل المعلوفة استنادا إلى دلالة وصف الغنم بالسائمة على انتفاء حكمها يعني
وجوب الزكاة عن فاقد هذا الوصف مطلقا ولو كان موضوعا آخر، ووجه
عدم دلالته على ذلك واضح، لما عرفت من أن معنى دلالته على المفهوم
هو انتفاء الحكم عن الموصوف المذكور في القضية بانتفائه، وأما غير المذكور
فيها فلا يكون فيه تعرض لحكمه لا نفيا ولا اثباتا، فلما نسب إلى بعض
الشافعية لا يرجع إلى معنى محصل أصلا.
وبعد ذلك نقول: إن الصحيح هو عدم دلالة الوصف على المفهوم
بيان ذلك ان دلالة القضية على المفهوم ترتكز على أن يكون القيد فيها راجعا
إلى الحكم دون الموضوع أو المتعلق، وبما ان الوصف في القضية يكون
قيدا للموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم أصلا، فان ثبوت
الحكم لموضوع خاص لا يدل على نفيه عن غيره، ضرورة ان ثبوت شئ
لشئ لا يدل بوجه على نفيه عن غيره، ولا فرق في ذلك بين أن يكون
الموضوع شيئا واحدا كاللقب أو كالوصف غير المعتمد على موصوفه أو
يكون مقيدا بقيد كالموصوف المقيد بوصف خاص، فان ملاك عدم الدلالة
على المفهوم في الجميع واحد وهو ان ثبوت حكم لموضوع خاص وإن كان
مركبا أو مقيدا لا يدل على نفيه عن غيره فلا فرق بين قولنا (أكرم رجلا)
و (أكرم رجلا عادلا) حيث إنهما يشتركان في نقطة واحدة وهي الدلالة
على ثبوت الحكم لموضوع خاص، غاية الأمر ان الموضوع في الجملة
الثانية مقيد بقيد خاص فتدل على ثبوت الحكم له ولا تدل على نفيه عن
غيره كما إذا كان الموضوع واحدا.
ومن ضوء ذلك يظهر الفرق بين القضية الوصفية والقضية الشرطية
نظرا إلى أن الشرط في القضية الشرطية راجع إلى الحكم دون الموضوع
129

فيكون الحكم مطلقا عليه فلأجل ذلك تدل على انتفائه عند انتفاء الشرط
وهذا بخلاف الوصف في القضية الوصفية فإنه راجع إلى الموضوع فيها
دون الحكم. فالنتيجة ان دلالة الوصف على المفهوم ترتكز على أن يكون
قيدا لنفس الحكم لا لموضوعه أو متعلقه والا فلا دلالة له عليه أصلا.
ولكن مع ذلك قد يستدل على المفهوم بوجه:
الأول: ان الوصف لو لم يدل على المفهوم لكان الآتي به لاغيا
وهو مستحيل في حق المتكلم الحكيم، فاذن لا مناص من الالتزام بدلالته
عليه. ويرد عليه انه مبني على احراز ان الداعي للآتي به ليس الا دخله في
الحكم نفيا واثباتا حدوثا وبقاء بمعنى انه علة منحصرة له، فإذا كان كذلك
فبطبيعة الحال ينتفي الحكم عن الموصوف بانتفائه، ولكن من المعلوم ان
هذا الاحراز يتوقف (أولا) على كون الوصف قيدا للحكم دون الموضوع
أو المتعلق، وقد عرفت ان الامر بالعكس تماما (وثانيا) على الالتزام
بأن اثبات حكم لموضوع خاص يدل على انتفائه عن غيره، وقد مر
انه لا يدل على ذلك، بل لا يكون فيه اشعار به فضلا عن الدلالة
و (ثالثا) على أن لا يكون الداعي له أمرا آخر حيث إن فائدته لا تنحصر
بما ذكروا (رابعا) على أنه لا يكفي في الخروج عن كونه لغوا الالتزام بدلالته
على اختصاص الحكم بحصة خاصة من موصوفه وعدم ثبوته له على نحو
الاطلاق، والمفروض انه يكفي في ذلك ولا يتوقف على الالتزام بدلالته
على المفهوم - وهو الانتفاء عند الانتفاء عند الانتفاء -. فالنتيجة ان هذا الوجه ساقط
فلا يمكن الاستدلال به على اثبات المفهوم للوصف.
الثاني: ان الوصف الموجود في الكلام مشعر بعليته للحكم عند
الاطلاق. ويرد عليه ان مجرد الاشعار على تقدير ثبوته لا يكفي لا ثبات
المفهوم جزما، حيث إنه لا يكون من الدلالات العرفية التي تكون؟؟؟
130

عندهم، بل لابد في اثبات المفهوم له من اثبات ظهور القضية في كون
الوصف علة منحصرة للحكم المذكور فيها، ومن الطبيعي ان اثبات ظهورها
في كونه علة في غاية الاشكال، بل خرط القتاد فما ظنك بظهورها في
كونه علة منحصرة كيف حيث إن مرد هذا الظهور إلى كون الوصف قيدا
للحكم دون الموضوع أو المتعلق وانه يدور مداره وجودا وعدما وبقاء
وارتفاعا، وقد تقدم ان القضية الوصفية ظاهرة في كون الوصف قيدا
للموضوع أو المتعلق دون الحكم، فالنتيجة ان مجرد الاشعار بالعلية غير
مفيد وما هو مفيد - وهو الظهور فيها - فهو غير موجود.
الثالث: ان القضية الوصفية لو لم تدل على المفهوم وانحصار التكليف
بما فيه الوصف لم يكن موجب لحمل المطلق على المقيد حيث إن النكتة في
هذا الحمل هي دلالة المقيد على انحصار التكليف به وعدم ثبوته لغيره،
وبدون توفر هذه النكتة لا موجب له، ومن الطبيعي ان هذه النكتة بعينها هي
نكتة دلالة الوصف على المفهوم ويرد عليه ان نكتة حمل المطلق على المقيد
غير تلك النكتة، فإنها نكتة دلالة القيد على المفهوم وقد عرفت عدم
توفرها فيه وانه لا يدل على المفهوم أصلا واما حمل المطلق على المقيد فلا
يتوقف على تلك النكتة، فإنه على ضوء نظرية المشهور يتوقف على أن يكون
التكليف في طرف المطلق متعلقا بصرف وجوده ففي مثل ذلك إذا تعلق
التكليف في دليل آخر بحصة خاصة منه وعلم من القرينة ان التكليف واحد
حمل المطلق على المقيد نظرا إلى أن المقيد قرينة بنظر العرف على التصرف
في المطلق، ومن المعلوم انه لا صلة لهذا الحمل بدلالة القيد على المفهوم
أي نفي الحكم عن غير مورده، ضرورة ان المقيد لا يدل الا على ثبوت
الحكم لموضوع خاص من دون دلالة له على نفيه عن غيره بوجه، ومع
ذلك يحمل المطلق على المقيد. واما إذا كان التكليف في طرف المطلق
131

متعلقا بمطلق وجوده المستلزم انحلاله بانحلال وجوداته وافراده خارجا
ففي مثل ذلك لا يحمل المطلق على المقيد، لعدم التنافي بينهما، وذلك كما
إذا ورد في دليل) أكرم كل عالم) ورد في دليل آخر (أكرم كل
عالم عادل) فلا موجب لحمل الأول على الثاني أصلا حيث إن النكتة
التي توجب حمل المطلق على المقيد غير متوفرة هنا فلا مانع من أن يكون
كل منهما واجبا، غاية الأمر يحمل المقيد هنا على أفضل افراد الواجب.
وأما بناء على ضوء نظريتنا من عدم الفرق في حمل المطلق على المقيد
بين ما كان التكليف واحدا أو متعددا فأيضا لا يتوقف هذا الحمل على
دلالة القيد على المفهوم يعني نفي الحكم عن غير مورده، بل يكفي فيه
دلالته على عدم ثبوت الحكم للطبيعي على نحو الاطلاق، وسنبين إن شاء الله
تعالى عن قريب انه لا شبهة في دلالته على ذلك كما أنه لا شبهة في
عدم دلالته على نفي الحكم عن غير مورده.
وعلى الجملة سوف نذكر في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله ان
ظهور المطلق في الاطلاق كما يتوقف حدوثا على عدم دليل صالح للتقييد
كذلك بقاء، حيث إن ظهوره يتوقف على جريان مقدمات الحكمة، ومن
الواضح انها لا تجرى مع وجود الدليل الصالح للتقييد، والمفروض ان
دليل المقيد يكون صالحا لذلك عرفا، ومما يدل على أن حمل المطلق على
المقيد لا يبتني على دلالة القضية الوصفية على المفهوم هو انه يحمل المطلق
على المقيد حتى في الوصف غير المعتمد على موصوفه كما إذا ورد في دليل
(أكرم عالما) وورد في دليل آخر (أكرم فقيها) يحمل الأول على الثاني
مع أنه لا يدل على المفهوم أصلا.
إلى هنا قد استطعنا ان لخرج بهذه النتيجة وهي ان النكتة التي
ذكرناها في القضية الشرطية لدلالتها على المفهوم عرفا - وهي تعليق الحكم فيها
132

على الشرط تعليقا مولويا - غير متوفرة في القضية الوصفية حيث إن الحكم
فيها غير معلق على الوصف يعني ان الوصف ليس قيدا للحكم كالشرط
بل هو قيد للموضوع أو المتعلق، ومن المعلوم ان ثبوت الحكم لموضوع
خاص لا يدل على انتفائه عن غيره. فما ذكرناه لحد الآن هو المعروف
والمشهور بين الأصحاب في تقرير المسألة.
ولكن الصحيح فيها هو التفصيل بيان ذلك ان النزاع في دلالة
الوصف على المفهوم تارة بمعنى ان تقييد الموضوع أو المتعلق به يدل على
انتفاء الحكم عن غيره فلو ورد في الدليل (أكرم رجلا عالما) يدل على
انتفاء وجوب الاكرام عن غير مورده يعني عن الرجل العادل أو الفاسق
أو الفقير أو ما شاكل ذلك ولو بسبب آخر وأخرى بمعنى ان تقييده به
يدل على عدم ثبوت الحكم له على نحو الاطلاق أو فقل ان معنى دلالته
على المفهوم هو دلالته على نفي الحكم عن طبيعي موصوفه على نحو الاطلاق
وانه غير ثابت له كذلك، فإن كان النزاع في المعنى الأول فلا شبهة في
عدم دلالته على المفهوم بهذا المعنى، ضرورة ان قولنا (أكرم رجلا عالما)
لا يدل على نفي وجوب الاكرام عن حصة أخرى منه كالرجل العادل أو
الهاشمي أو ما شاكل ذلك، لوضوح انه لا تنافي بين قولنا (أكرم رجلا
عالما) وقولنا (أكرم رجلا عادلا) مثلا بنظر العرف أصلا فلو دلت
الجملة الأولى على المفهوم - أي نفي الحكم عن حصص أخرى منه -
لكان بينهما تناف لا؟؟. وقد تقدم وجه عدم دلالته على المفهوم
بشكل موسع.
وإن كان النزاع في المعنى الثاني فالظاهر أنه يدل على المفهوم بهذا
المعنى. ونكتة هذه الدلالة هي ظهور القيد في الاحتراز ودخله في موضوع
الحكم أو متعلقه إلا أن تقوم قرينة على عدم دخله فيه ففي مثل قولنا
133

(أكرم رجلا عالما) يدل على أن وجوب الاكرام لم يثبت لطبيعي الرجل
على الاطلاق ولو كان جاهلا، بل ثبت لخصوص حصة خاصة منه - وهي
الرجل العالم - وكذا قولنا (أكرم رجلا هاشميا) أو (أكرم عالما عادلا)
وهكذا، والضابط ان كل قيد أتى به في الكلام فهو في نفسه ظاهر في
الاحتراز ودخله في الموضوع أو المتعلق يعني أن الحكم غير ثابت له إلا مقيدا
بهذا القيد، لا مطلقا والا لكان القيد لغوا، فالحمل على التوضيح أو
غيره خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة. والحاصل ان مثل قولنا (أكرم
رجلا عالما) وان لم يدل على نفى وجوب الاكرام عن حصة أخرى من
الرجل كالعادل أو نحوه ولو بملاك أخر إلا أنه لا شبهة في دلالته على أن
وجوب الاكرام غير ثابت لطبيعي الرجل على نحو الاطلاق.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان النزاع في دلالة القضية الوصفية
على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها
ولو بسبب آخر فقد عرفت انها لا تدل على ذلك بوجه، بل لا اشعار
فيها على ذلك فضلا عن الدلالة. وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم
عن طبيعي الموصوف على اطلاقه فقد عرفت أنها تدل على ذلك جزما
حيث لا شبهة في ظهورها فيه الا فيما قامت قرينة على خلافه. ومن هنا
يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه، وغير المعتمد عليه كقولنا
(أكرم عالما) مثلا، فإنه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وان انحل
بحسب مقام اللب والواقع إلى شئ له العلم الا انه لا أثر له في مقام الاثبات
بعدما كان في هذا المقام شيئا واحدا لا شيئان: أحدهما موصوف،
والآخر صفة له.
ثم إن هذه النقطة التي ذكرناها قد أهملت في كلمات الأصحاب
ولم يتعرضوا لها في المقام لا نفيا ولا اثباتا مع أن لها ثمرة مهمة في الفقه
134

منها ما في مسألة حمل المطلق على المقيد حيث إن المشهور قد خصوا تلك
المسألة فيما إذا كانا مثبتين أو منفيين بما إذا كان التكليف فيهما واحدا واما
إذا كان متعددا فلا يحملوا المطلق على المقيد واما على ضوء ما ذكرناه من
النقطتين فيحمل المطلق على المقيد ولو كان التكليف متعددا كما إذا ورد
في دليل (لا تكرم عالما) وورد في دليل آخر (لا تكرم عالما فاسقا)
فإنه يحمل الأول على الثاني مع أن التكليف فيهما انحلالي، وكذا إذا ورد
في دليل (أكرم العلماء) ثم ورد في دليل آخر (أكرم العلماء العدول)
فيحمل الأول على الثاني، والنكتة في ذلك هي ظهور القيد في الاحتراز
يعني انه يدل على أن الحكم - وهو وجوب الاكرام - لم يثبت للعالم على نحو
الاطلاق وإنما ثبت لحصة خاصة منه - وهو العالم العادل في المثال دون
العالم مطلقا ولو كان فاسقا - ومن الواضح انه لا فرق في دلالة القيد على
ذلك بين كون التكليف واحدا أو متعددا.
نلخص هذا المبحث في ضمن عدة نقاط: (الأولى) ان محل الكلام
هنا كما عرفت إنما هو في الوصف المعتمد علي موصوفه واما غير المعتمد
فيكون حاله حال اللقب في عدم الدلالة على المفهوم. (الثانية) ان ملاك
الدلالة على المفهوم هو أن يكون القيد راجعا إلى الحكم، واما إذا كان
راجعا إلى الموضوع أو المتعلق فلا دلالة له عليه، ربما ان الوصف من
القيود الراجعة إلى الموضوع أو المتعلق دون الحكم فلا يدل على المفهوم
(الثالثة) انه قد استدل على المفهوم بوجوه ثلاثة وقد عرفت نقدها
جميعا. (الرابعة): ان الحق في المقام هو التفصيل على شكل قد تقدم.
(الخامسة) ان لهذه الدلالة ثمرة مهمة تظهر في الفقه.
135

(مفهوم الغاية)
يقع الكلام فيه في مقامين: الأول في المنطوق. الثاني في المفهوم.
أما المقام الأول فقد اختلف الأصحاب في دخول الغاية في حكم
المغيى وعدم دخولها فيه فيما إذا كانت الغاية غاية للمتعلق أو الموضوع على
وجوه بل أقوال: ثالثها التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيى
وعدم كونها من جنسه، فعلى الأول الغاية داخلة فيه دون الثاني ورابعها
التفصيل بين كون الغاية مدخولة لكلمة حتى وكونها مدخولة لكلمة إلى
فعلى الأول هي داخلة في؟؟؟ دون الثاني.
وقد قبل هذا التفصيل في الجملة شيخنا الأستاذ (قده) حيث قال:
وهذا التفصيل وإن كان حسنا في الجملة لان كلمة حتى تستعمل غالبا في
ادخال الفرد الخفي في موضوع الحكم فتكون الغاية حينئذ داخلة في المغيي
لا محالة، لكن هذا ليس بنحو الكلية والعموم فلابد من ملاحظة كل
مورد بخصوصه، والحكم فيه بدخول الغاية في حكم المغيى أو عدمه.
ولكن الصحيح هو القول الثاني يعني عدم دخول الغاية في المغيى
مطلقا، فلنا دعويان: (الأولى) صحة هذا القول (الثانية) بطلان
سائر الأقوال:
أما الدعوى الأولى فلان المرجع في المقام إنما هو فهم العرف
وارتكازهم، والظاهر أن المتفاهم العرفي من القضية المغياة بغاية كقولنا
(صم إلى الليل) وكقوله تعالى: " فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق،
وما شاكلهما هو عدم دخول الغاية في المغي الا فيما قامت قرينة على
الدخول كما في مثل قولنا (سرت من البصرة إلى الكوفة) أو ما شاكل ذلك
136

وأما الدعوى الثانية فيظهر مما ذكرناه في الدعوى الأولى بطلان القول
الأول والثالث حيث إنه لا فرق في فهم العرف ما عرفت بين كون الغاية
من جنس المغي وعدمه، وكذا القول الرابع بعين هذا الملاك وأما
ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من الفرق في الجملة بين كون الغاية
مدخولة لكلمة (إلى) وكونها مدخولة لكلمة (حتى) نشأ من الخلط بين مورد
استعمال كلمة (حتى) عاطفة، وموارد استعمالها لإفادة كون مدخولها غاية
لما قبلها، فإنها في أي مورد من الموارد إذا استعملت لادراج الفرد الخفي كما
في مثل قولنا (مات الناس كلهم حتى الأنبياء) لا تدل على كون ما بعدها
غاية لما قبلها، بل هي من أداة العطف. فالنتيجة ان مقتضى الظهور
العرفي والارتكاز الدهني عدم دخول الغاية في المغيى، هذا تمام الكلام
في المقام الأول.
وأما المقام الثاني فالغاية قد تكون غاية للموضوع كما في مثل قوله
تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) وقد تكون غاية للمتعلق
كقوله تعالى: " أتموا الصيام إلى الليل ". وقد تكون غاية للحكم
كقوله (ع) (كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام) وقوله (ع)
(كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قدر) أو كقولنا (يحرم الخمر إلى أن
يضطر المكلف إليه) فان الغاية في أمثال هذه الموارد غاية للحكم دون
المتعلق أو الموضوع. وأما إذا كانت غاية للموضوع أو المتعلق فدلالتها على
المفهوم ترتكز على دلالة الوصف على حيث إن المراد من الوصف كما عرفت
مطلق القيد الراجع إلى الموضوع أو المتعلق سواء أكان وصفا اصطلاحيا أو
حالا أو تمييزا أو ظرفا أو ما شاكل ذلك، وعليه فالتقييد بالغاية من
إحدى؟؟؟ يأت التقييد أبا أو صف. وأما إذا كانت غاية للحكم فالكلام فيها
تارة يقع في مقام الثبوت، وأخرى في مقام الاثبات.
137

أما المقام الأول: فلا شبهة في دلالة القضية على انتفاء الحكم عند
تحقق الغاية، بل لا ببعد أن يقال إن دلالتها على المفهوم أقوى من دلالة
القضية الشرطية عليه، ضرورة انه لو لم يدل على المفهوم لزمن فرض
وجود الغاية عدمه يعني ما فرض غاية له ليس بغاية وهذا خلف فاذن
لا ريب في الدلالة على المفهوم في هذا المقام.
وأما المقام الثاني - وهو مقام الاثبات - فالظاهر أن الغاية قيد
للفعل - وهو المتعلق - دون الموضوع حيث إن حالها حال بقية القيود كما أن
الظاهر منها هو رجوعها إلى الفعل باعتبار انه معنى حدثي كذلك الظاهر
من الغاية واما رجوعها إلى الموضوع فيحتاج إلى قرينة تدل عليه كما في
الآية الكريمة المتقدمة حيث إن قوله تعالى: " إلى المرافق في هذه الآية "
غاية للموضوع - وهو اليد لا للمتعلق - وهو الغسل وذلك لأجل قرينة
وخصوصية في المقام وهي اجمال لفظ اليد واختلاف موارد استعماله وهو
قرينة على أنه سبحانه في هذه الآية المباركة في مقام بيان حد المغسول من اليد
ومقداره ومن هنا قد اتفق الشيعة والسنة على أن الآية في مقام تحديد
المغسول، لا في مقام بيان الترتيب، ولذا يقول العامة بجواز الغسل من
المرفق إلى الأصابع وافتوا بذلك، وان كانوا بحسب العمل الخارجي ملتزمين
بالغسل منكوسا، ونظير الآية في ذلك المثال المشهور (اكنس المسجد من
الباب إلى المحراب) فإنه ظاهر بمقتضى قرينة المقام في أن كلمة (إلى)
غاية للموضوع وبيان لحد المسافة التي أمر يكنسها، وليست في مقام بيان
الترتيب، ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى: " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين " حيث إن الظاهر بمقتضى خصوصية المقام هو ان كلمة (إلى)
غاية لتحديد حد الممسوح، لا لبيان الترتيب. ومن هنا ذهب المشهور إلى
جواز المسح منكوسا وهو الأقوى، إذ مضافا إلى اطلاق الآية فيه رواية
138

خاصة. هذا كله فيما إذا كان الحكم في القضية مستفادا من الهيئة.
وأما إذا كان الحكم فيها مستفادا من مادة الكلام فإن لم يكن المتعلق
مذكورا فيه كقولنا (يحرم الخمر؟؟ أن يضطر المكلف إليه) فلا شبهة
في ظهور الكلام في رجوع القيد إلى الحكم، وأما إذا كان المتعلق مذكورا
فيه كما في مثل قولنا (يجب الصيام إلى الليل) فلا يكون للقضية ظهور
في رجوع الغاية إلى الحكم أو إلى المتعلق فلا تكون لها دلالة على المفهوم
لو لم تقم قرينة من الداخل أو الخارج عليها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي ان الحكم في
القضية إن كان مستفادا من الهيئة فالظاهر من الغاية هو كونها قيدا للمتعلق
لا للموضوع، والوجه فيه ليس ما ذكره جماعة منهم شيخنا الأستاذ (قده)
من أن مفاد الهيئة معنى حرفي، والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد وذلك لما
حققناه في بحث الواجب المشروط من أنه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة، بل الوجه فيه هو ان القضية في أمثال الموارد في نفسها ظاهرة في
رجوع القيد إلى المتعلق والمعنى الاسمي دون الحكم ومفاد الهيئة، وإن كان
الحكم مستفادا من مادة الكلام فقد عرفت ظهور القيد في رجوعه إلى
الحكم ان لم يكن المتعلق مذكورا والا فلا ظهور له في شئ منهما،
فدلالة الغاية على المفهوم ترتكز على ظهور القضية في رجوعها، إلى الحكم
ولو بمعونة قرينة.
نتائج هذا البحث عدة نقاط:
الأولى: ان الصحيح هو القول بعدم دخول الغاية في المغي مطلقا
أي سواء أكانت من جنسه أم لم تكن، وسواء أكانت بكلمة (إلى)
أم كانت بكلمة (حتى)، فما عن شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل
بينهما قد عرفت نقده.
139

الثانية: ان الغاية إذا كانت قيدا للمتعلق أو الموضوع فحالها حال
الوصف فلا تدل على المفهوم، وإذا كانت قيدا للحكم فحالها حال القضية
الشرطية، بل لا يبعد كونها أقوى دلالة منها على المفهوم.
الثالثة: ان الغاية في القضية التي كان الحكم فيها مستفادا من الهيئة
ظاهرة في رجوعها إلى المتعلق فالرجوع إلى الموضوع يحتاج إلى دليل، وفي
القضية التي كان الحكم فيها مستفادا من المادة فإن لم يكن المتعلق مذكورا
فيها فالظاهر هو رجوعها إلى الحكم والا فهي مجملة من هذه الجهة.
(مفهوم الحصر)
يقع الكلام في أدائه: منها كلمة (الا) ولا يخفى ان هذه الكلمة
إنما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى الاستثناء كما هو الظاهر منها عرفا
كقولنا مثلا (جاء القوم الا زيدا) فإنها تدل على نفي الحكم الثابت للمستثنى منه
عن المستثنى ولذا بكون الاستثناء من الاثبات نفيا ومن النفي اثباتا، وأما إذا
كانت بمعنى الصفة والغير فلا تدل على ذلك، بل حالها حينئذ حال سائر
قيود الموضوع، وقد تقدم عدم دلالتها على المفهوم. ومنها كلمة (إنما)
وقد نص أهل الأدب انها من أداة الحصر وتدل عليه. هذا مضافا إلى أنه
المتبادر منها أيضا. نعم ليس لها مرادف في لغة الفرس على ما نعلم
حتى نرجع إلى معنى مرادفها في تلك اللغة لنفهم معناها نظرا إلى أن الهيئات
مشتركة بحسب المعنى في تمام اللغات، مثلا لهيئة اسم (فاعل) معنى
واحد في تمام اللغات بشتى أنواعها وكذا غيرها، وهذا بخلاف الموارد،
فإنها تختلف باختلاف اللغات. وكيف كان فيكفي في كون هذه الكلمة
أداة للحصر ومفيدة له تصريح أهل الأدب بذلك من جهة، والتبادر من
140

من جهة أخرى ثم إنها قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة وقد تستعمل
في عكس ذلك وهو الغالب، وعلى الأول فهي تستعمل في مقام التجوز
أو المبالغة كقولنا (إنما زيد عالم أو مصلح) أو ما شاكل ذلك، مع أن
صفاته لا تنحصر به حيث إن له صفات أخرى غيره، ولكن المتكلم
بما انه بالغ فيه وفرض كأنه لا صفة له غيره فجعله مقصورا عليه ادعاء
وعلى الثاني فهي تفيد الخصر كقولنا (إنما الفقيه زيد مثلا) و (إنما
القدرة لله تعالى) وما شاكل ذلك، فإنها تدل في المثال الأول على انحصار
الفقه به وان فقه غيره في جنبه كالعدم. وفي المثال الثاني على انحصار
القدرة به سبحانه وتعالى حيث إن قدرة غيره في جنب قدرته كلا قدرة
وإن كان له أن يفعل وله ان يترك، الا ان هذه القدرة ترتبط بقدرته
تعالى في اطار ارتباط المعلول بالعلة، وتستمد منها في كل آن بحيث لو
انقطع الامداد منها في آن انتفت القدرة في ذلك الآن، وقد أوضحنا
ذلك بشكل موسع في ضمن البحوث المتقدمة في مسألة الامر بين الامرين
فالنتيجة ان هذه الكلمة غالبا تستعمل في قصر الصفة على الموصوف وهي
تفيد الحصر عندئذ. نعم قد تستعمل للمبالغة في هذا المقام أيضا، وعندئذ
لا تدل على الحصر.
ثم إن العجب من الفخر الرازي حيث أنكر دلالة كلمة (إنما)
على الحصر وقد صرح بذلك في تفسير قوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله
والذين أمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " فإنه بعد
انكاره ان المراد من الذين أمنوا الخ في الآية ليس هو علي بن أبي طالب
عليه الصلاة والسلام كما قال الشيعة، بل المراد منه عامة المؤمنين قال إن
الشيعة قد استدلوا على أن الآية نزلت في حق علي (ع) بأن كلمة (إنما)
للحصر وتدل على حصر الولاية بالله وبرسوله وبالذين الموصوفون بالصفات
141

المذكورة في الآية، ومن المعلوم ان من كان له هذه الصفات فهو الولي
المتصرف في أمر الأمة وهو لا يكون الا الإمام (ع). ودعوى ان المراد
من الولاية ليس بمعنى المتصرف، بل هو بمعنى الناصر والمحب خاطئة جدا
ولا واقع موضوعي لها أصلا، لان الولاية بهذا المعنى تعم جميع المؤمنين
فلا تختص بالله وبرسوله وبالذين يكون موصوفا؟؟؟ المزبورة، فاذن
بطبيعة الحال يكون المراد من الولاية في الآية بمعنى المتصرف والسلطنة
ومن المعلوم انها بهذا المعنى تختص بالله وبالرسول وبالاحكام وهو علي
ابن أبي طالب (ع).
؟؟؟ أورد على هذا الاستدلال بانا لا نسلم ان الولاية المذكورة في
الآية غير عامة حيث إن عدم العموم يبتني على كون كلمة (إنما) مفيدة
للحصر، ولا نسلم ذلك، والدليل عليه قوله تعالى: " إنما مثل الحياة
الدنيا كماء أنزلناه من السماء " ولا شك ان الحياة الدنيا لها أمثال أخرى
ولا تنحصر بهذا المثل وقوله تعالى: " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " ولا
شك في أن اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها.
والجواب عنه أولا بالنقض بقوله تعالى: " وما الحياة الدنيا الا لهو
ولعب " وقوله: سبحانه " وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب " حيث
لا شبهة في إفادة كلمة (الا) الحصر ولا ينكرها أحد فيما نعلم الا
أبي حنيفة، فاذن ما هو جواب الفخر الرازي عن هاتين الآيتين، فان
أجاب بان عدم دلالة كلمة (الا) على الحصر فيهما إنما هو من ناحية
قيام قرينة خارجية على ذلك - وهو العلم الخارجي بعدم انحصار الحياة
الدنيا بهما - نقول بعين هذا الجواب عن الآيتين المتقدمتين وان عدم دلالة
كلمة (إنما) على الحصر فيهما إنما هو من جهة القرينة الخارجية.
وثانيا بالحل.
142

بيان ذلك: ان الحياة مرة تضاف إلى الدنيا. وأخرى تكون الدنيا
صفة لها اما على الأول فالمراد منها حياة هذه الدنيا في مقابل حياة الآخرة
كما هو المراد في قوله تعالى: " ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيى "
وقوله تعالى: " ان هي الا حياتنا الدنيا نموت ولحي وما نخي وما نحن بمبعوثين "
فيكون المراد من الحياة فيهما هو حياة هذه الدنيا في قبال الآخرة، كما أن
المراد من الحيوان في قوله تعالى: " وان الدار الآخرة؟؟ الحيوان لو
كانوا يعلمون " هو الحياة الأخروية. وأما على الثاني وهو أن تكون الدنيا
صفه للحياة فالمراد منها الحياة الدانية في مقابل الحياة العالية الراقية،
وهي بهذا المعنى تارة تطلق ويراد منها الحياة في مقابل الحياة الأخروية نظرا
إلى أن الحياة الدنيوية وإن كانت حياة الأنبياء والأوصياء فهي دانية بالإضافة
إلى الحياة الأخروية، حيث إنها حياة راقية دائمية أبدية ومملوءة بالطمأنينة
والراحة. واما هذه الحياة فهي موقنة وزائلة ومقدمة لتلك الحياة الأبدية
ومملوءة بالتعب وعدم الراحة فكيف يقاس هذه بتلك وعليه فبطبيعة الحال
تكون الحياة في هذه الدنيا ولو كانت حياة عالية وراقية كحياة الأنبياء
والصالحين التي هي مملوءة بالعبودية والإطاعة لله سبحانه الا انها مع ذلك
تكون في جنب الحياة الأخروية دانية. وتارة أخرى تطلق ويراد منها
الحياة الدانية في هذه الدنيا، في مقابل الحياة الراقية فيها يعني ان الحياة
في هذه الدنيا على نوعين: أحدهما حياة دنية حيوانية كالحياة المملوءة
باللعب واللهو ونحوهما وثانيهما حياة عالية راقية كحياة الأنبياء والأولياء
ومن يتلو تلوهما حيث إن حياتهم بشتى أنواعها واشكالها عبادة وطاعة
لله تعالى:
وبعد ذلك نقول: إن المراد من الحياة في الآية الثانية هي الحياة
الداية فالدنيا صفة لها، وهي تنحصر باللعب واللهو يعني ان الحياة الدنية
143

في هذه الدنيا هي اللعب واللهو بمقتضى دلالة كلمة إنما ويؤيد ذلك دلال
الآيتين المتقدمتين على حصر الحياة الدنية بهما، هذا مضافا إلى أن في الآية
الكريمة ليس كلمة (إنما) بكسر همزة، بل هي بفتحها، ودلالتها على
الحصر لا تخلو عن اشكال بل منع، فاذن لا وقع للاستشهاد بهذه الآية
المباركة على عدم دلالة كلمة (إنما) على الحصر.
ومن هنا يظهر حال الآية الأولى، فالنتيجة ان دلالة كلمة إنما على
الحصر واضحة. وانكار الفخر دلالتها عليه مبني على العناد أو التجاهل
ثم إنه ذكر في مقام تقريب عدم دلالة الآية الثانية على الحصر بان
اللعب واللهو قد يحصلان في غيرها أي غير الحياة الدنيا ففيه مضافا إلى
منع ذلك ان الآية في مقام بيان حصر الحياة الدنيا بهما، لا في مقام
حصر هما بها فلا يكون حصولهما في غير الحياة الدنيا يعني الحياة الأخروية
مانعا عن دلالة الآية على الحصر، وان - أراد من ذلك حصولهما
في الحياة العالية في هذه الدنيا وعدم انحصار هما بالحياة للدانية فيها فيرده
(أولا) منع ذلك وان الحياة العالية خالية عنها (وثانيا) انه لا يضر بدلالة
الآية على الحصر، فان الآية تدل على حصر الحياة الدانية بهما ولا تدل على
حصر هما بها. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان دلالة هذه الكلمة على الحصر هل هي بالمنطوق
أو بالمفهوم فيه وجهان:؟؟؟ المحقق ألنا؟؟؟ (قده) الأول وقال:
ان دلالتها على الحصر داخلة في الدلالات المنطوقية دون المفهومية نظرا إلى أن
ضابط المفهوم لا ينطبق على المقام حيث إن الركيزة الأساسية للمفهوم
هي ان الموضوع فيه بعينه هو الموضوع في المنطوق، غاية الأمر ان دلالة
القضية على ثبوت الحكم له على تقدير ثبوت المعلق عليه تكون بالمطابقة
في المنطوق وعلى انتفائه عنه عند انتفاء المعلق عليه بالالتزام في المفهوم،
144

وهذه الركيزة مفقودة في المقام، فان كلمة (إنما) في مثل قولنا (إنما
الفقيه زيد) تدل على ثبوت الفقه لزيد ونفيه عن غيره فلا يكن النفي
والاثبات واردين على موضوع واحد. نعم لا بأس بتسمية هذا بالمفهوم أيضا
ولا مشاحة فيها كما أن دلالة كلمة (الا) على النفي أو الاثبات مسماة بالمفهوم
مع أنهما غير؟؟؟ على موضوع واحد وكيف كان فلا أثر لهذا البحث أصلا.
وأما كلمة (الا) فلا شبهة في وضعها لإفادة الحصر، ومن هنا
ذهب بعض إلى أن دلالتها عليه بالمنطوق لا بالمفهوم، وكيف كان فلا
خلاف في إفادتها ذلك الا عن أبي حنيفة حيث ذهب إلى عدم دلالتها عليه
واستدل على ذلك بقوله (ص) (لا صلاة الا بطهور) وأجاب عنه
المحقق صاحب الكفاية (قده) بوجوه: (الأول) ان المراد من الصلاة
في هذا التركيب هو الصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ما عدا الطهور
فيكون مفاده ان الصلاة التي كانت واجدة للاجزاء والشرائط المعتبرتين فيها
لا تكون صلاة الا إذا كانت واجدة للطهارة وبدونها لا تكون صلاة على
القول بالصحيح وصلاة تامة على القول بالأعم ويرد عليه انه واضح
البطلان حيث إن لازم ذلك هو استعمال الصلاة في معان متعددة حسب
تعدد هذا التركيب، فإنها في هذا التركيب قد استعملت في جميع الأجزاء
والشرائط ما عدا الطهور، وفي مثل قوله (ع) (لا صلاة الا بفاتحة
الكتاب) قد استعملت في جميع الأجزاء والشرائط ما عدا فاتحة الكتاب،
مع أن المتفاهم العرفي منها معنى واحد في كلا التركيبين (الثاني) ان
عدم دلالتها على الحصر في مثل هذا التركيب إنما هو من جهة وجود القرينة
ولولاء لكانت دالة عليه. وفيه انه لا قرينة هنا حيث إنه لا فرق بين
استعمالها في هذا التركيب واستعمالها في غيره من الموارد، ولعله لأجل
ذلك عدل عنه وأجاب بجواب ثالث وهو ان كلمة (الا) في مثل هذا
145

التركيب تدل على نفي الامكان يعني ان الصلاة لا تكون ممكنة بدون الطهور
ومعه تكون ممكنة. وفيه ان موارد استعمالاتها تشهد بأنها تستعمل للنفي الفعلي
أو الاثبات كذلك.
وبكلمة أخرى: ان ظاهر هذا التركيب كمثل قولنا (لا اقرأ القرآن
إلا مع الطهارة) و (لا؟؟؟ الحسين (ع) إلا حافيا) ونحو ذلك.
هو ان خبر لا المقدر فيه موجود لا ممكن. فالنتيجة انه لا يمكن الاعتماد
على شئ من هذه الوجوه ولا واقع موضوعي لها أصلا.
فالصحيح في المقام: ان يقال: إن المتفاهم العرفي من مثل هذا
التركيب هو ان مرده إلى قضيتين: ايجابية وسلبية، مثلا قوله (ص)
(لا صلاة إلا بطهور) ينحل إلى قولنا ان الصلاة لا تتحقق بدون الطهارة
وإذا تحققت فلا محالة تكون مع الطهارة، وكذا قولنا (لا أكل الطعام
إلا مع الملح) فإنه ينحل إلى قولنا ان الاكل لا يتحقق بدون ملح، وانه
متى تحقق تحقق مع ملح وليس قوله (ص) (لا صلاة الا بطهور) ان الطهور
مني تحقق تحققت الصلاة وكذا قولنا (لا أكل الطعام إلا مع الملح) ليس
معناه ان الملح؟؟؟ تحقق تحقق الاكل ومنه قولنا (لا أطالع الكتب الا
كتب الفقيه) فان معناه ليس انه متى تحقق كتب الفقيه تحقق المطالعة
ولا فرق في ذلك بين أن تكون الجملة في مقام الاخبار أو الانشاء، كما أن
المتبادر من جملة (لا صلاة إلا بطهور) هو انها مسوقة لانشاء شرطية
الطهور للصلاة. وعلى الجملة فلا شبهة في أن المتفاهم عرفا من أمثال
هذه التراكيب ما ذكرناه دون ما توهمه أبو حنيفة.
ومن ضوء هذا البيان يظهر حال كلمة التوحيد، فان دلالتها عليه
بمقتضى فهم العرف وارتكازهم ولا وجه لما عن المحقق صاحب الكفاية
(قدس سره) من أن دلالتها على التوحيد كانت بقرينة الحال أو المقال
146

والسبب فيه ما عرفت من أن الناس يفهمون منها التوحيد بمقتضى ارتكازهم
بلا حاجة إلى قرينة من حال أو مقال. ولكن قد يستشكل في دلالتها على
التوحيد بأن خير (لا) بما انه مقدر في الكلام فهو بطبيعة الحال لا يخلو
من أن يكون المقدر ممكنا أو موجودا، فإن كان الأول فالكلمة لا تدل على
وجوده تعالى، وإن كان الثاني فهي لا تنفي امكان إله آخر، حيث إن
نفي الوجود أعم من نفي الامكان. والجواب عنه هو ان امكان ذاته تعالى
مساوق لوجوده ووجوبه نظرا إلى أن الواجب الوجود لا يعقل اتصافه
بالامكان الخاص، فان المتصف به هو ما لا اقتضاء له في ذاته لا للوجود ولا
للعدم، فوجوده في الخارج يحتاج إلى وجود علة له، فمفهوم واجب الوجود
لذاته إذا قيس إلى الخارج فان أمكن انطباقه على موجود خارجي وجب
ذلك كما في الباري سبحانه وتعالى، وان لم ينطبق كان ممتنع الوجود كشريك
الباري، فامر هذا المفهوم مردد في الخارج بين الوجوب والامتناع ولا
ثالث لهما. والحاصل ان امكان وجود هذا المفهوم في الخارج بالامكان
العام مساوق لوجوده ووجوبه فيه، كما أن عدم وجوده فيه مساوق لامتناعه
وعليه فهذه الكلمة تدل على التوحيد سواء أكان الخبر المقدر ممكنا أو
موجودا.
وقد يستدل على ذلك كما عن بعض بأن الممكن بالامكان العام إذا لم
يوجد في الخارج فبطبيعة الحال اما ان يستند عدم وجوده إلى عدم المقتضى
أو إلى عدم الشرط أو إلى وجود المانع، وكل ذلك لا يعقل في مفهوم
واجب الوجود، ضرورة ان وجوده لا يعقل ان يستند إلى وجود المقتضى
مع توفر الشرط وعدم المانع فيه والا لا نقلب الواجب ممكنا، بل نفس
تصوره يكفي للتصديق بوجوده، ويسمى هذا البرهان بالبرهان الصدقين
عند العرفاء، ومدلوله هو ان نفس تصور مفهوم واجب الوجود على واقعه
147

الموضوعي تكفي للتصديق بوجوده في الخارج والا لم يكن التصور تصور
مفهوم واجب الوجود. وهذا خلف، ولعل هذا هو مراد بعض فلاسفة
الغرب من أن مجرد تصور مفهوم الصانع لهذا العالم وما فوقه يكفي للتصديق
بوجوده بلا حاجة إلى إقامة برهان، وكيف كان فلا شبهة في أن امكانه
تعالى مساوق لوجوده وبالعكس، فنفي امكانه عين نفي وجوده كما أن نفي
وجوده عين نفي امكانه. ومن هنا يظهر حال صفاته سبحانه وتعالى فإنه
إذا أمكن ثبوت صفة له فقد وجب والا امتنع.
ثم إن الظاهر بحسب المتفاهم العرفي من كلمة التوحيد هو ان الخبر
المقدر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها مثل قولنا (لا رئيس
في هذا البلد) وقولنا (لا رجل في الدار) وهكذا، فان المتفاهم العرفي
منها هو ان الخبر المقدر لكلمة (لا) فيها موجود لا ممكن، هذا من
ناحية. ومن ناحية أخرى ان المستفاد من كلمة التوحيد أمران: (أحدهما)
التصديق بوجود الصانع للعالم كما هو مقتضى كثير من الآيات القرآنية
(وثانيهما) التصديق بوحدانيته: ذاتا وصفة ومعبودا واليه أشار بقوله
تعالى: " قل هو الله أحد " وقوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين "
فهذان الأمران معتبران في كون شخص مسلما فلو عبد غيره تعالى فقد
خرج عن رقبة الاسلام.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتائج:
الأولى: ان كلمة (الا) إنما تدل على الحصر فيما إذا كانت بمعنى
الاستثناء، وأما إذا كانت بمعنى الصفة فلا تدل عليه.
الثانية: ان كلمة (إنما) وضعت للدلالة على إفادة الحصر للتبادر
عند العرف، وتصريح أهل الأدب بذلك وان لم يكن ما نظائر في لغة
الفر من ليرجع إليها الا انه لا حاجة إليها بعد ثبوت وضعها لذلك.
148

الثالثة: ان كلمة إنما قد تستعمل في قصر الموصوف على الصفة
فحينئذ لا تدل على الحصر، بل تدل على المبالغة، وقد تستعمل في قصر
الصفة على الموصوف كما هو الغالب، وحينئذ تدل على الحصر نعم قد
تستعمل في هذا المقام أيضا في المبالغة.
الرابعة: ان الفخر الرازي أنكر دلالة كلمة إنما على الحصر، وقد
صرح بذلك في تفسير قوله تعالى إنما وليكم الله وقد عرفت ما في انكاره
وانه لا محمل له الا الحمل على العناد أو التجاهل.
الخامسة: انه لا ثمرة للبحث عن أن دلالة هذه الكلمة على الحصر
بالمنطوق أو بالمفهوم أصلا وان اختار شيخنا الأستاذ (قده) الأول وقد
تقدم وجهه موسعا.
السادسة: لا شبهة في دلالة كلمة (الا) على الحصر وانها موضوعة
لذلك ونسب الخلاف انى أبي حنيفة وانه استدل على عدم إفادتها الخصر
بقوله (ص) لا صلاة الا بطهور، وأجاب عن هذا الاستدلال صاحب
الكفاية (قده) بعده وجوه، وقد عرفت عدم تمامية شئ منها، والصحيح
في الجواب عنه ما ذكرناه كما تقدم فلا حظ.
السابعة: ان كلمة التوحيد تدل على الحصر بمقتضى الارتكاز العرفي
وليست دلالتها مستندة إلى قرينة حال أو مقال كما عن صاحب الكفاية
(قدس سره)، والاشكال على دلالتها - بأن الخبر المقدر فيها لا يخلو
من أن يكون موجودا أو ممكنا، وعلى كلا التقديرين فهي لا تدل على التوحيد -
مدفوع بما تقدم بشكل موسع.
الثامنة: ان الظاهر من هذه الكلمة بحسب المتفاهم العرفي هو ان
خبر (لا) المقدر فيها موجود لا ممكن كما هو الحال في نظائرها، هذا
تمام الكلام في مفهوم الحصر.
149

(مفهوم العدد)
ان أريد به ان للقضية مثل (تصدق بخمسة دراهم) دلالة على أنه
لا يجزى التصدق بأقل من ذلك فالامر وإن كان كذلك الا انه ليس من
جهة دلالة العدد على المفهوم، بل من جهة انه لم يأت بالمأمور به يعني
ان المأمور به لا ينطبق على المأتي به في الخارج حتى يكون مجزيا، نظير
ما إذا قال المولى (أكرم زيدا مثلا في يوم الجمعة) فلو أكرمه في يوم
الخميس لم يجز، لعدم الطباق المأمور به على المأتي به، وكذا إذا قال
(صل إلى القبلة) فصلى إلى جهة أخرى، وهكذا. وبكلمة أخرى ان
قضية (تصدق بخمسة دراهم) لا تدل الا على وجوب التصدق بها،
واما بالإضافة إلى الأقل فهي ساكتة نفيا واثباتا يعني لا تدل على نفي وجوب
التصدق عنه ولا على اثباته، وأما عدم الاجزاء به فهو من ناحية ان
المأمور به في هذه القضية لا ينطبق عليه، وأما بالإضافة إلى الزائد على
هذا العدد فان قامت قرينة على أن المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد
بشرط لا بالإضافة إليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد يعني
ان التصدق بالسنة غير واجب، بل هو مضر، نظير الزيادة في الصلاة،
وان لم تقم قرينة على ذلك فمقتضى اطلاق كلامه ان الزيادة لا تكون
مانعة عن حصول المأمور به في الخارج، واما بالإضافة إلى حكمة (الزائد)
فهو ساكت عنه نفيا واثباتا يعني لا يدل على وجوبه، ولا على عدم وجوبه
ولا على استحبابه، فحال العدد من هذه الناحية حال اللقب.
150

(العام والخاص)
قبل الوصول إلى محل للبحث لا بأس بالإشارة إلى عدة نقاط:
الأولى: ان العام معناه الشمول لغة وعرفا، وأما اصطلاحا فالظاهر أنه
مستعمل في معناه اللغوي والعرفي، ومن هنا فمروه بما دل على شمول
الحكم لجميع أفراد مدخوله.
الثانية: ما هو الفرق بين العام والمطلق الشمولي كقوله تعالى " أحل
الله البيع " و " تجارة عن تراض " وما شاكلهما حيث إنه يدل على شمول
الحكم لجميع أفراد مدخوله. أقول: الفرق بينهما هو ان دلالة العام
على العموم والشمول بالوضع ودلالة المطلق على ذلك بالاطلاق ومقدمات
الحكمة وتترتب على هذه النقطة من الفرق ثمرات تأتي في ضمن للبحوث الآتية؟؟؟
الثالثة: ان العموم ينقسم إلى استغراقي ومجموعي وبدلي، فالحكم
في الأول وإن كان واحدا في مقام الانشاء والابراز الا انه في مقام الثبوت
وللواقع متعدد بعدد أفراد العام، ففي مثل قولنا (أكرم كل عالم) وإن كان
الحكم في مقام الانشاء واحدا الا انه بحسب الواقع ينحل بانحلال أفراد
موضوعه فيكون في قوة قولنا (أكرم زيد العالم) و (أكرم بكر العالم)
وهكذا فيثبت لكل فرد حكم مستقل غير مربوط بالحكم الثابت لآخر. وفي
الثاني واحد في مقامي الاثبات والثبوت باعتبار ان المتكلم قد جعل المجموع من
حيث المجموع موضوعا واحدا بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه
وفي الثالث أيضا كذلك حيث إن الحكم فيه تعلق بصرف وجود الطبيعة
السارية إلى جميع أفرادها كقولنا مثلا (أكرم أي رجل شئت) والمفروض ان
صرف الوجود غير قابل للتعدد، وعليه فلا محالة يكون الحكم المتعلق به واحدا.
151

الرابعة: ما هو منشأ هذا التقسيم ذكر صاحب الكفاية (قده) ان
منشأه إنما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام حيث إنه يتعلق به تارة
على نحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم، وأخرى يكون الجميع
موضوعا واحدا بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه، وثالثة يكون
كل فرد موضوعا على البدل. وفيه ان الامر ليس كذلك، والسبب فيه هو
ان المولى في مرحلة جعل الحكم إذا لم يلاحظ الطبيعة بما هي مع قطع النظر
عن افرادها أي من دون لحاظ فنائها فيها ولم يجعل الحكم عليها كذلك كما
هو الحال في القضية الطبيعية كقولنا (الانسان نوع) و (الحيوان جنس)
وما شاكلهما التي لا صلة لها بالعام والخاص فبطبيعة الحال تارة يلاحظ
الطبيعة فانية في افرادها على نحو الوحدة في الكثرة يعني يلاحظ الافراد الكثيرة
واقعا وحقيقة في ضمن مفهوم واحد وطبيعة فاردة ويجعل الحكم على الافراد
فيكون كل واحد منها موضوعا مستقلا. وأخرى يلاحظها فانية في الافراد
لا على نحو الوحدة في الكثرة، بل على نحو الوحدة في الجمع يعني يلاحظ
الافراد المتكثرة على نحو الجمع واقعا وحقيقة في اطار مفهوم واحد ويجعل
الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعا واحدا على نحو يكون كل
فرد جزء الموضوع لا تمامه وثالثة يلاحظها فاتية في صرف وجودها في
الخارج ويجعل الحكم عليه، فعلى الأول العموم استغراقي فيكون كل فرد
موضوعا للحكم، وجهة الوحدة بين الافراد ملغاة في مرتبة الموضوعية،
كيف حيث لا يعقل ثبوت احكام متعددة لموضوع واحد وعلى الثاني
العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعا للحكم فالتكثرات
فيه وإن كانت محفوظة الا انها ملغاة في مرتبة الموضوعية. وعلى الثالث
العموم بدلي فيكون الموضوع واحدا من الافراد لا بعينه فجهة الكثرة
وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية يعني لم يؤخذ شئ منهما
152

في الموضوع فالنتيجة ان منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب
الكفاية (قده).
الخامسة: ان صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع
ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها. منها هيئة الجمع المحلي باللام التي ترد
على المادة كقولنا (أكرم العلماء) فإنها موضوعة للدلالة على سراية الحكم
إلى جميع افراد مدخولها وهو العالم. وكذا الحال في كلمة (كل).
ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دل على العموم من الصيغ
وبين لفظ عشرة ونظائرها، فان هذه اللفظة بالإضافة إلى افرادها حيث إنها
كانت من الأسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعة للدلالة على الطبيعة
المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا فلا تكون من ألفاظ العموم
في شئ، واما بالإضافة إلى مدخولها كقولنا (أكرم عشرة رجال) فلا
تدل على سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها - وهو الرجل - نعم
بمقتضى الاطلاق وان دلت على أن المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال
على أي صنف منهم أراد وشاء سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء
أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها الا ان ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة
لا بالوضع. وأما بالإضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وان
دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو
الحال في كل مركب يتعلق الحكم به، فإنه لا محالة يسري إلى أجزائه
كذلك، الا ان هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى
جميع أفراد مدخوله، حيث إن تلك الدلالة دلالة على سراية الاحكام المتعددة
المستقلة إلى الافراد والموضوعات كذلك، وهذا بخلاف هذه الدلالة،
فإنها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمنا
يعني ان كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما
153

هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها.
ودعوى ان - استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد حيث إن
كل مرتبة من مراتب الاعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم
مخصوص مؤلفة من الآحاد والواحد الذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل
واحد منها - فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدها الخاص، والعشرون
يكون؟؟؟ له إلى حده كذلك، وهكذا، وعدم انطباق العشرة بما
هي على الواحد غير؟؟؟، لان مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد
من افراده، بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من
افراده، فاللازم انطباق ذات ماله الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق
وشمول وإلا فليس له إلا مطابق واحد؟؟ خاطئة جدا والوجه فيه ان
مراتب الاعداد وان تألفت من الآحاد الا ان الواحد ليس مادة لفظ العشرة
أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق بعروض هذه اللفظة عليه.
أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين.
وان شئت قلت إن نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلا
إلى العلماء حيث إنه مادة الجمع المحلى باللام يعني ان هيئة هذا الجمع
تعرض عليه و؟؟؟ على كونه ذا شمول واستغراق، وهذا بخلاف العشرة
فإنها لا تعرض على الواحد كيف فإنه جزئها المقوم لها نظرا إلى انها مركبة
منه ومن مائر الآحاد وبانتفائه تنتفي، وتكون مباينة له لفظا ومعنى، كما
انها مباينة لسائر مراتب الاعداد كذلك، فاذن لا يعقل عروضها عليه،
كي تدل على شموله وعمومه، ضرورة ان الكل لا يعقل عروضه على
الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها
وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من افرادها، وكذا ليست نسبة
الواحد إلى العشرة كنسبة الرحل إلى لفظة (كل) الداخلة عليه، وذلك
154

لان الواحد كما عرفت جزء العشرة لا انها داخلة عليه كدخول أداة العموم
على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد،
كما هو الحال في لفظة (كل) الداخلة على الرجل مثلا. فالنتيجة ان
العشرة ليست من أداة العموم كلفظة (كل) وهيئة (الجمع المعرف
باللام) ونحو هما.
السادسة: انه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب
الكفاية (قده) كلفظة (كل) وما شاكلها حيث لا شبهة في أن المتفاهم
العرفي منها العموم وان دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني، وهكذا
الحال في نظائرها. وعلى الجملة فلا شبهة في أن كلمة (كل) في لغة
العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وانها ونظائرها
من صيغ العموم خاصة به. ودعوى ان - الخاص بما هو القدر المتيقن
بحسب الإرادة خارجا فوضع اللفظ بإزائه أولى من وضعه بإزاء العموم -
خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها ابدا، ضرورة ان كونه كذلك لا يقتضي
وضع اللفظ بإزائه دون العموم.
نعم كون الخاص من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام
في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج أراد
العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال إن وضع اللفظ للعموم لغو فالأولى
أن يكون موضوعا للخصوص، ولكن الامر ليس كذلك، فان كون
الخاص متيقنا إنما هو بحسب الإرادة الخارجية، ومن الطبيعي ان مثل هذا
المتيقن لا يكون مانعا عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره، غاية الأمر
يكون اللفظ نصا بالإضافة إرادة الخاص وظاهرا بالإضافة إلى إرادة
العام، ومحط النظر إنما هو في اثبات الظهور وعدمه، وقد عرفت انه
لا شبهة في ظهور لفظة (كل) في العموم كما في مثل قولنا (أكرم
155

كل عالم) أو (أكرم كل رجل) وما شاكل ذلك. ودعوى ان - المناسب
وضع اللفظ للخاص لا للعام نظرا إلى كثرة استعمال العام في الخاص حتى
قيل ما من عام إلا وقد خص - فاسدة جدا، ضرورة ان مجرد ذلك لا يقتضي
الوضع بإزائه دونه، إذ لا مانع من أن تكون الاستعمالات المجازية أكثر
من الاستعمالات الحقيقية لداع من الدواعي.
وان شئت قلت: ان كون الخاص معنى مجازيا للعام ليس على نحو
يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى
قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور، بل الامر بالعكس تماما، فإنه
ظاهر في العموم وإرادة الخاص منه تحتاج إلى قرينة. هذا مضافا إلى
ما سيأتي في ضمن البحوث الآتية من أن التخصيص لا يستلزم استعمال
العام في الخاص حتى يكون مجازا، بل العام قد استعمل في معناه بعد
التخصيص أيضا.
السابعة: ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) واليك نصه:
ربما عد من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النقي أو النهي
ودلالتها عليه لا ينبغي أن ينكر عقلا. لضرورة انه لا يكاد يكون الطبيعة
معدومة إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود والا لكانت موجودة، لكن
لا يخفى انها تقيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد والا فسلبها
لا يقتضي الا استيعاب السلب لما أريد منها يقينا، لا استيعاب ما يصلح
انطباقها عليه من افرادها، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية، فإنها
بالإضافة إلى افراد ما يراد منها لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها،
كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كل) على العموم وضعا كون عمومه بحسب
ما يراد من مدخوله، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة. نعم لا يبعد
أن يكون ظاهرا عند اطلاقها في استيعاب جميع افرادها، وهذا هو الحال
156

في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا بناءا على إفادته للعموم، ولذا لا ينافيه
تقييد المدخول بالوصف وغيره، واطلاق التخصيص على تقييده ليس الا
من قبيل ضيق فم الركية، لكن دلالته على العموم وضعا محل منع، بل
إنما يفيد فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى، وذلك لعدم اقتضائه
وضع اللام، ولا مدخوله، ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى،
وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام.
تلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط:
الأولى: ان المراد من النكرة هو الطبيعة اللابشرط ودلالتها على
العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على أن تكون مأخوذة
على نحو الاطلاق حيث إنها تدل على عموم ما يراد منها عقلا، فان أريد
منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك وان أريد منها الطبيعة المفيدة
دلت على نفيها كذلك، لا مطلقة وبالإضافة إلى جميع افرادها، فاذن في
اثبات دلالة كلمة (لا) على نفي الطبيعة مطلقة لابد من اثبات انها مأخوذة
في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة حيث إنها بدونها لا تدل عليه، ضرورة
ان الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن اثبات اطلاقها بها لم تدل على
نفيها كذلك، بل تدل على نفي المتيقن منها في اطار الإرادة.
الثانية: ان لفظة (كل) وإن كانت موضوعة للدلالة على العموم الا
ان دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الافراد والوجودات
تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه، والا فلا دلالة لها على ذلك نظرا
إلى انها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها، فان ثبت اطلاقه
فهو والا فهي تدل على إرادة المتيقن منه.
الثالثة: ان الجمع المعرف باللام بناء على إفادته للعموم أيضا كذلك
يعني ان دلالته على العموم أي عموم افراد مدخوله تبتني على اثبات اطلاقه
157

باجراء مقدمات الحكمة فيه وكذا الحال في المفرد المعرف؟؟؟.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة، والوجه فيه ما ذكرناه
في أول بحث النواهي من أن مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة
(لا) سواء أكانت نافية أم ناهية فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا:
مثلا (لا أملك شيئا) فان كلمة شئ وان استعلمت في معناها الموضع له
وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء - الا ان مقتضى الاطلاق
وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه
عنوان الشئ، لا نفي فرد ما منه ووجود البقية عنده، فان هذا المعنى باطل
في نفسه فلا يمكن ارادته منه، واما إذا افترضنا انه لا اطلاق له يعني أن
مقدمات الحكمة لم تجر فيه فهي لا تدل على العموم والشمول وإنما تدل
على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية، كما أنه
إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد، ومن هذا
القبيل أيضا قوله (لا تشرب الخمر) وقوله (ع) (لا ضرر ولا ضرار
في الاسلام) وقوله تعالى: " لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج "
وما شاكلها.
وأما النقطة الثانية: فهي خاطئة جدا، والسبب فيه ان دلالة لفظة
كل أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه
مدخولها لا تتوقف على اجراء مقدمات الحكمة فيه لا ثبات اطلاقه أولا،
وإنما هي تكون مستندة إلى الوضع، بيان ذلك: ان لفظة (كل) أو ما شاكلها
التي هي موضوعة لإفادة العموم تدل بنفسها على اطلاق مدخولها وعدم
أخذ بخصوصية فيه ولا يتوقف ذلك على اجراء المقدمات ففي مثل قولنا
(أكرم كل رجل) تدل لفظة (كل) على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق
158

عليه الرجل من دون فرق بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، والأبيض
والأسود، وما شاكل ذلك فتكون هذه اللفظة بيان على عدم اخذ خصوصية
وقيد في مدخولها.
وبكلمة أخرى: قد ذكرنا في غير مورد ان الاطلاق والتقييد خارجان
عن حريم المعنى، فإنه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية
من الخصوصيات فيه منها خصوصية الاطلاق والتقييد، فإرادة كل منهما
تحتاج، إلى عناية زائدة، وعليه فلفظة كل في مثل قولنا (أكرم كل رجل)
تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بماله من
المعنى وضعا، ومن الواضح ان هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ
خصوصية فيه، لا ان دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام
قرينة على تقييده بقيد ما والا لكفى جريان مقدمات الحكمة في اثبات العموم
من دون حاجة إلى أدائه وعليه فبطبيعة الحال يكون الاتيان بها لغوا محضا حيث إن
العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن
وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها وهذا خلاف الارتكاز العرفي، ضرورة
ان العرف يفرق بين قولنا (أكرم كل عالم) وقولنا (أكرم العالم) ويرى ان
دلالة الأول على العموم لا تحتاج إلى أية مؤنة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه
وهذا بخلاف الثاني، فان دلالته على العموم تحتاج إلى مؤنة زائدة وهي
اجراء مقدمات الحكمة: فالنتيجة ان وضع لفظة (كل) أو ما شاكلها للدلالة
على العموم أي عموم مدخولها وشموله بماله من المعنى بنفسه قرينة على عدم
أخذ خصوصية وقيد فيه يعني ان دلالتها عليه عين دلالتها على العموم، لا ان
لها دلالتين: دلالة على العموم، ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه
وهذه النقطة هي زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع، والعموم المستند
إلى قرينة الحكمة، حيث إن الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في
159

غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في
ضمن البحوث الآتية، والأول بيان على عدم دخله فيه، فهما أشبه شئ
بالأصول والامارات.
وأما - ما أفاده (قده) من أن امكان تقييد مدخول الأداة؟؟؟ كل
في مثل قولنا (أكرم كل عالم عادل) وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها
على العموم دليل على أن دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف
على اجراء مقدمات الحكمة فيه - فهو خاطئ جدا وذلك لان دلالتها
على العموم أي عموم مدخولها وشموله بماله من المعنى لا ينافيه تقييده
بقيدها، ضرورة انها لا تدل على أن مدخولها جنس أو نوع أو فصل
أو صنف، فان مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان
غاية الأمر إن كان جنسا دلت على العموم في إطاره، وإن كان نوعا
دلت على العموم في اطار النوع، وإن كان صنفا دلت على العموم في
اطار الصنف وهكذا. وان شئت قلت إنه لا فرق بين القول بوضعها
للعموم أي عموم المدخول بماله من المعنى، والقول بوضعها لعموم ما يراد
من المدخول في هذه النقطة، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على
العموم. نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأول في نقطة أخرى وهي أن
دلالتها على العموم على القول الثاني لا ثبات اطلاق المدخول وارادته بقرينة
الحكمة كي تدل على عمومه وشموله، وعلى القول الأول فهي بنفسها تدل
على اطلاقه وسعته، ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا هي ان أداة العموم على
القول بكونها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لابد أولا
من اثبات سعة واطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله
وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة عموم المدخول بماله من المعنى فهي
بنفسها تدل على سعته واطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها
160

لما عرفت من أن دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على اطلاق المدخول
وعدم أخذ خصوصية فيه، ومن الطبيعي أنه لا يفرق فيه بين أن يكون
مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف، فان السعة إنما
تلا حظ بالإضافة إلى دائرة المدخول فلا فرق بين قولنا (أكرم كل رجل)
وقولنا (أكرم كل رجل عالم) فان تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على
العموم فان معنى دلالته عليه هو انها لا تتوقف على اجراء مقدمات الحكمة
سواء أكانت دائرة المدخول سعة أو ضيقا في مقابل القول بأن دلالته عليه
تتوقف على اجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيقا وبما ان المدخول
هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه ولولا ما ذكرناه من الدلالة على
العموم لما أمكن التصريح به في مورد ما أبدا مع أنه واضح البطلان.
وأما النقطة الثالثة: فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله
تعالى:
تلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط: 1 - الظاهر أن العام في
كلمات الأصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي - وهو الشمول.
2 - ان الفرق بين العام والمطلق هو أن دلالة الأول على العموم بالوضع
والثاني بالاطلاق ومقدمات الحكمة. 3 - ما هو المنشأ. والموجب لتقسيم
العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي ذكر صاحب الكفاية (قده) ان
منشأه إنما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به، ولكن عرفت نقده وانه
ليس منشأ لذلك، بل منشأوه ما ذكرناه آنفا بشكل موسع.
4 - ان العشرة وأمثالها من مراتب الاعداد ليست من ألفاظ العموم
فان دلالتها بالإضافة إلى هذه العشرة وتلك بالاطلاق، وبالإضافة إلى
الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية، كما هو الحال في كل مركب
بالإضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم. 5 - لا شبهة في أن للعموم صيغ
161

تخص به وتدل عليه بالوضع، ولا موجب لدعوى انها موضوعة للخصوص
باعتبار أنه القدر المتيقن أو أنه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاص
على ما تقدم بشكل موسع. 6 - ان دلالة العام على العموم كلفظة (كل)
أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم
صاحب الكفاية (قده)، بل هو يدل بالوضع على اطلاق مدخوله
وعدم أخذ خصوصية ما فيه.
(عدة مباحث)
المبحث الأول: اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعام بعد ورود
التخصيص عليه على أقوال: بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية:
الأول: يفرض الكلام في الشبهة الحكمية يعني ما كان الشك في شمول
العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في الحكم الشرعي، كما إذا افترض
ورود عام مثل (أكرم كل عالم) وورد مخصص عليه مثل (لا تكرم
المرتكب للكبائر منهم) وشك في خروج المرتكب للصغائر عن حكم العام
من ناحية أخرى لا من ناحية الشك في دخوله تحت عنوان المخصص
للقطع بعدم دخوله فيه.
الثاني: يفرض الكلام في الشبهة المفهومية يعني ما كان الشك في
شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في مفهوم الخاص أي دورانه
بين السعة والضيق كما إذا ورد (أكرم كل عالم) ثم ورد (لا تكرم
الفساق منهم) وافترضنا ان مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة
والضيق أي أنه عبارة عن خصوص مرتكب الكبائر أو الجامع بينه وبين
مرتكب الصغائر، والشك إنما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر
162

ومنشأه إنما هو اجمال مفهوم الخاص وشموله له وأما في طرف العام فلا
اجمال في مفهومه أصلا.
الثالث: يفرض الكلام في الشبهة المصداقية يعني ما كان الشك في
شمول العام للفرد أو الصنف ناشئا من الاشتباه في الأمور الخارجية كما
إذا دل دليل على وجوب (اكرام كل هاشمي) ودل دليل آخر على
حرمة (اكرام الفاسق منهم) وشككنا في أن زيد الهاشمي هل هو فاسق أولا
فيقع الكلام في امكان التمسك بالعام بالإضافة إليه وعدم امكانه.
أما الكلام في الأول فالظاهر أن عمدة الخلاف فيه إنما يكون بين
العامة حيث نسب إلى بعضهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقا، ونسب
إلى بعضهم الآخر التفصيل بين ما كان المخصص منفصلا وما كان متصلا
فذهب إلى عدم جواز التمسك بالعام على الأول دون الثاني هذا.
والصحيح هو جواز التمسك به مطلقا أي بلا فرق بين المخصص
المتصل والمنفصل أما في الأول فهو واضح حيث أن دائرة العام كانت
من الأول ضيقا نظرا إلى أن المخصص المتصل يكون مانعا عن ظهور العام
في العموم من الابتداء، بل يوجب استقرار ظهوره من الأول في الخاص.
وبكلمة أخرى أنه لا تخصيص في البين، واطلاقه مبني على المساحة
لما تقدم من أن أداة العموم كلفظة (كل) أو ما شاكلها موضوعة للدلالة
على عموم المدخول وشموله بماله من المعنى سواء أكان من الأجناس أو
الأنواع أو الأصناف فلا فرق بين قولنا (أكرم كل رجل) وقولنا (أكرم
كل رجل عادل) أو (كل رجل إلا الفساق منهم) فان لفظة (كل)
في جميع هذه الأمثلة تستعمل في معناها - وهو عموم المدخول وشموله -
غاية الأمر ان دائرة العموم فيها تختلف سعة وضيقا كما هو الحال في
سائر الموارد والمقامات، ومن الطبيعي أنه لا صلة لذلك بدلالتها على العموم
163

أبدا. فالنتيجة ان اطلاق التخصيص في موارد التقييد؟؟؟ في غير محله.
وأما الثاني - وهو ما كان المخصص منفصلا - فقد يقال إن التخصيص
كاشف عن أن عموم غير مراد من الأول والا لزم الكذب فإذا انكشف
ان العالم لم يستعمل في العموم لم يكن حجة في الباقي لتعدد مراتبه " ومن
المعلوم ان المعالي المجازية إذا تعدد فإرادة كل واحد منها معينا تحتاج إلى
قرينة، وحيث لا قرينة على أن المراد منه تمام الباقي فبطبيعة الحال يصبح
العام مجملا فلا يمكن التمسك به. وعلى الجملة ففي كل مورد كان المعنى
المجازي متعددا فإرادة أي واحد منه تحتاج إلى قرينتين: (أحداهما) قرينة
صارفة (وثانيتهما) قرينة معينة، وفي المقام وإن كانت القرينة الصارفة
موجودة - وهي المخصص إلا أن القرينة المعينة غير موجودة، وبدونها
لا محالة يكون اللفظ مجملا.
وقد أجاب عنه بوجوه: منها ما عن شيخنا الأستاذ (قده) واليك نصه:
والتحقيق في المقام أن يقال: أنه قد ظهر مما ذكرناه ان الميزان
في كون اللفظ حقيقة هو كونه مستعملا في معناه الموضوع له بحيث أن
الملقى - في الخارج كأنه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني وهذا الميزان
متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص، وذلك من جهة
أن أداة العموم لا تستعمل إلا فيما وضعت له، كما أن مدخولها لم
يستعمل إلا فيما وضع له، أما عدم استعمال المدخول إلا في نفس ما وضع
له فلانه لم بوضع إلا لنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة،
ومن الواضح أنه لم يستعمل إلا فيها، وإفادة التقييد بدال آخر كإفادة
الاطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة
كما هو ظاهر ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه
واستقيد قيده الدخيل في؟؟؟ المتكلم من دال آخر، وأما في موارد
164

التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وإن كان منحصرا بنفس اللفظ
الموضوع للطبيعة المهملة، ولاجله كانت مقدمات الحكمة موجبة لظهوره
في إرادة المطلق إلا أن الاتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينة على أن المتكلم
اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده أما لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو
لمصلحة في ذلك - وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلا في معناه الموضوع
له، وأما عدم استعمال الأداة إلا فيما وضعت له فلأنها لا تستعمل أبدا إلا
في معناها الموضوع له أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما أريد من مدخولها
غاية الأمر ان المراد من مدخولها ربما يكون أمرا وسيعا وأخرى يكون
أمرا ضيقا، وهذا لا يوجب فرقا في ناحية الأداة أصلا.
فان قلت: إنما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازا
لا في ناحية المدخول، ولا في ناحية الأداة إنما يتم في المخصصات الأنواعية
فإنها لا توجب الا تقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلا، وأما
التخصيصات الافرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب
المجازية في ناحيتها. قلت ليس الامر كذلك، فان التخصيص الافرادي
أيضا لا يوجب إلا تقييد مدخول الأداة، غاية الأمر أن قيد الطبيعة المهملة
ربما يكون عنوانا جزئيا كتقييده العالم بكونه عادلا أو بكونه غير فاسق،
وقد يكون عنوانا جزئيا كتقييده بكونه غير زيد مثلا، وعلى كل حال
فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له، ولا فرق فيما ذكرناه من
عدم استلزام التخصيص للنجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية،
لان الأداة في كل منهما لا تستعمل إلا في تعميم الحكم لجميع أفراد ما أريد
من مدخولها، وأما المدخول فهو أيضا لا يستعمل إلا في نفس الطبيعة اللا
بشرط القابلة لكل تقييد، وكون القضية خارجية أو حقيقية إنما يستفاد
من سياق الكلام، ولا ربط له بمداليل الألفاظ نظير استفادة الأخيار
165

والانشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم. وبالجملة أن أداة العموم
لا تستعمل إلا فيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد
وسواء أكانت القضية حقيقية أما كانت خارجية فلا فرق بين موارد التخصيص
وغيرها إلا أن التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة
ومن الظاهر أن التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملا في
غير ما وضع له أصلا على ما سيجئ تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
وأما توهم ان - التخصيص إذا كان راجعا إلى تقييد مدخول أداة
العموم ورافعا لاطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في أن استفادة
العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده، وعليه فلا وجه
لما تقدم سابقا من تقدم العام على المطلق عند التعارض. وبالجملة ان
شمول الحكم لكل فرد من أفراد العام إن كان مستندا إلى الدلالة الوضعية
كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزما لكون العام مجازا،
وان لم يكن الشمول المزبور مستندا إلى الوضع، بل كان مستفادا من
مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة - فهو
مدفوع بما مر في بحث مقدمة الواجب من أن احراز لحاظ الماهية مطلقة
وإن كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام
إلا أن وجه تقدم العام على المطلق إنما هو من جهة أن أداة العموم تتكفل
بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالإضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه
مدخولها، وهذا بخلاف المطلق، فان سراية الحكم فيه إلى الأقسام المنصورة
له إنما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق وحيث ما فرض هناك
عام دل بمدلوله اللفظي على عدم تسوية افراد المطلق فهو يكون بيانا له
ومانعا من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده ".
نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط:
الأولى: ان تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم،
166

لا في مدخولها، أما في الأولى فلأنها دائما تستعمل في معناها الموضوع له
وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها أي سواء أكان ما يراد منه
معنى وسيعا أو ضيقا، وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم
كانت القرينة المنفصلة، فإنها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة
في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلا، وأما في الثاني فالامر وأضح
حيث إن المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة علي الماهية المهملة التي لم
تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الاطلاق والتقييد فهما كبقية
الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى، فاللفظ لا يدل الا على معناه،
ولم يستعمل إلا فيه، وإفادة التقييد إنما هي بدال آخر، كما أن إفادة
الاطلاق بمقدمات الحكمة.
الثانية: أنه لا فرق فيما ذكرناه من أن تخصيص انعام لا يوجب
تجوزا لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول بين كون المخصصات
ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية، ولا بين القضايا الحقيقية
والقضايا الخارجية...
الثالثة: أن العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة أخرى
أما نقطة الاشتراك فهي ان احراز اطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة
مشترك فيه بين العام والمطلق واما نقطة الافتراق فهي ان أداة العموم
تتكفل بمداولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من
الأقسام والأصناف وأما المطلق فان سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام
المتصورة له تتوقف على مقدمة أخرى وهي حكم العقل بتساوي افراده
في انطباقه عليها.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناء على نظريتنا
167

من أن أداة العموم بنفسها متكفلة لإفادة العموم وعدم دخل خصوصية ما
في حكم المول وغرضه.
بيان ذلك ان الدلالات على ثلاثة أقسام:
الأول: الدلالة التصورية (الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ)
وهي لا تتوقف على شئ ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له، وليس لعدم
القرينة دخل فيها، فالعام بوضع لفظ خاص لمعنى مخصوص ينتقل إليه
من سماعه ولو افترضنا ان المتكلم نصب قرينة على عدم ارادته، بل ولو
افترضنا صدوره عن لا فظ بلا شعور واختيار أو عن شئ آخر كاصطكاك
حجر بحجر مثلا، وقد ذكرنا في محله أن هذه الدلالة غير مستندة إلى
الوضع بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه
أو غيره مما بوجب هذه الدلالة.
الثاني: الدلالة التفهمية ويعبر عنها بالدلالة التصديقية أيضا من جهة
تصديق المخاطب المتكلم بأنه أراد تفهيم المعنى للغير، وهي عبارة عن
ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصدا لتفهيم معناه، وهذه الدلالة تتوقف
زايدا على العلم بالوضع على احراز أن المتكلم في مقام التفهيم وانه لم ينصب
قرينة متصلة في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية وإلا فلا دلالة
له على الإرادة التفهمية، وقد ذكرنا في أول الأصول بشكل موسع أن
هذه الدلالة مستندة إلى الوضع. أما على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع
حيث أنه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني فالاستناد إليه واضح،
ضرورة أنه لا معنى للتعهد والالتزام بكون اللفظ دالا على معناه ولو صدر
عن لا فظ بلا شعور واختيار، فان هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه
طرفا للالتزام والتعهد، حيث أنهما لا يتعلقان إلا بما هو تحت اختيار
الانسان وقدرته، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية
168

بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وارادته سواء أكانت الإرادة تفهمية
محضة أم كانت جدية أيضا، وتمام الكلام من هذه الناحية هناك وأما على
ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالامر أيضا كذلك على ما ذكرناه هناك
فالنتيجة أن هذه الدلالة هي الدلالة الوضعية.
الثالث: الدلالة التصديقية وهي دلالة اللفظ على أن الإرادة الجدية
على طبق الإرادة الاستعمالية يعني أنهما متحدتان في الخارج، وهذه الدلالة
ثابتة بيناء العقلاء وتتوقف زائدا على ما مر على احراز عدم وجود قرينة
منفصلة على الخلاف أيضا، ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفا
عن المراد الجدي، فهذه القرينة إنما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن
الواقع وحجيته لا عن أصله، فان الشئ إذا تحقق لم ينقلب عما هو عليه
والحاصل ان بناء العقلاء قد استقر على أن الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة
الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.
وبعد ذلك نقول: إن العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه
قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي، فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعية
على أن المتكلم به أراد تفهيم المخاطب؟؟؟ معناه الموضوع له كما أنه يدل ببناء
العقلاء على أن ارادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم
المجعول على العام ثابتا له واقعا، ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما
تتوقف على احراز كون المتكلم في مقام الإفادة وعدم نصبه قرينة على
اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام، كذلك تتوقف على
عدم اتيانه بقرينة تدل على الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه،
فان القرينة المنفصلة تكون مانعة عن كشف ظهور العام في كون الحكم
المجعول له إنما هو بنو العموم في الواقع ونفس الامر، حيث إنها
تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهدهم
169

ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من
التعهد والالتزام يعني ظهوره في الإرادة التفهمية وكشفه عنها، وعليه فلا
ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليل ورفع اليد عن أصله،
بداهة انه لا ملازمة بين كون المعنى مرادا للمتكلم في مقام التفهيم وكونه
مرادا له في مقام الواقع والجد، فإذا افترضنا أن المولى في الواقع لا يريد
في مثل قوله (أكرم كل عالم) الا اكرام العالم العادل دون غيره، ولكن
لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام أما لوجود مفسدة فيه أو مصلحة
في تأخيره من ناحية ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان
يتمكن من تقييده من ناحية أخرى فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو
العموم، ومن المعلوم أنه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام
فإذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير
افراد الخاص في الواقع، فإنه لا محالة يكشف عن أن الداعي إلى إرادة
تفهيم المعنى العام ليس هو الإرادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في
جميع أفراد العام في نفس الامر بل الداعي لها شئ آخر.
وعلى الجملة فاللفظ بمقتضى تعهد الواضح والتزامه بأنه متى ما أراد
معنى خاصا أن يجعل مبرزه لفظا مخصوصا يدل على إرادة تفهيم معناه
إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام، وأما
إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عد الجملات مثلا أو كان
في مقام البيان ولكنه أتى بقرينة متصلة فيه ففي مثل ذلك على الأول لا تعهد له
أصلا، لا بالإضافة إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي، ولا بالإضافة إلى إرادة
تفهيم المعنى المجازي. وعلى الثاني فله تعهد بالإضافة إلى إرادة تفهيم المعنى
المجازي دون الحقيقي. واما دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جد فهي
دلالة أخرى غير الدلالة الأولى حيث إن الأولى مستندة إلى الوضع دون
170

تلك، فإنها مستندة إلى نباتي العقلاء وتعهدهم، ومن هنا قد يشك في هذه
الدلالة مع القطع بالدلالة الأولى، وهذا يكشف عن انه لا ملازمة بين
الدلالتين يعني ان هدم الدلالة الثانية بالقرينة لا يلازم هدم الدلالة الأولى
والسر فيه ما عرفت من أن الدلالة الأولى مستندة إلى تعهد الواضع والدلالة
الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء، ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأول
أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك، فان نصب قرينة
متصلة فهي تدل على أنه أراد خلاف تعهد الواضح وان نصب قرينة منفصلة
فهي تدل على أنه أراد خلاف تعهد العقلاء، هذا من ناحية. ومن ناحية
أخرى أن ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى
الوضع وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه
من جهة قرينة تدل عليه، وقد عرفت ان اللفظ بمقتضى الوضع إنما يدل
على إرادة تفهيم المعنى فحسب دون أزيد من ذلك، وهذه الدلالة دلالة
حقيقية حيث إنها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له، وأما كون هذا
المعنى مرادا بإرادة جدية أيضا فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة والا
فلا دلالة له على ذلك أصلا، فالقرينة المنفصلة إنما هي تمنع عن حجية
الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي، ولا تمنع عن ظهوره في إرادة
تفهيمه الذي هو مستند إلى الوضع، وعليه فإذا ورد عام من المولى ثم ورد
مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل إنما يزاحم حجية ظهور العام
في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع، دون أصل ظهوره، ضرورة ان
ظهوره في أن المولى أراد تفهيم المعني العام باق على حاله، والمفروض ان
هذا الظهور كاشف عن أن المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.
فالنتيجة: ان إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له
؟؟؟، وكون هذه الإرادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد
171

المستعمل فيه أمر آخر، والمفروض ان المخصص المنفصل إنما يكون كاشفا
عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الامر، لا عن
كون استعمال العام استعمالا مجازيا، ضرورة انك قد عرفت ملاك
الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وانه لا صلة للمخصص المنفصل بهما
أصلا، لا وجودا، ولا عدما.
قد يقال كما قيل: أن المخصص المنفصل إذا كان كاشفا عن المراد
الجدي وانه غير مطابق للمراد الاستعمالي - وهو العموم - فما هو فائدة
التكلم بالعام واستعماله في العموم، وما هو الأثر المترتب على عموم المراد
الاستعمالي بعدما لم يكن مرادا جدا وواقعا: وفيه مضافا إلى أن استعمال
العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لابد منه نظرا إلى أن المتكلم قد
لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو
تقية أو ما شاكل ذلك ان استعماله فيه إنما هو ضربا للقاعدة والقانون،
حيث أنه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلا بقيام دليل على
خلافه فهو حجة بهذا العنوان العام بالإضافة إلى جميع موارده وصغرياته
إلا ما قدم الدليل على خروجه عنه فنأخذ به، وفي الزائد نرجع إلى عمومه
قاعدة وقانونا.
وأما النقطة الثانية: فالامر فيها أيضا كذلك يعني أنه لا فرق بين
كون المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي، فعلى كلا التقديرين لا يوجب
التجوز في ناحية العام.
وأما النقطة الثالثة: فيردها ما تقدم منا بشكل موسع من أن أداة
العموم بنفسها تدل على أن مدخولها ملحوظ مطلقا أي بدون أخذ خصوصية
ما فيه من دون حاجة إلى أجراء مقدمات الحكمة.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي ان التخصيص في العام
172

لا يوجب تجوزا فيه، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقا وان
لم يكن المستعمل فيه مرادا للمتكلم بالإرادة الجدية.
وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الأستاذ (قده)
على هذا الوجه، وحاصله ان الإرادة الاستعمالية ان أريد بها إرادة ايجاد
المعنى البسيط العقلاني أبا الفظ بحيث كان اللفظ والإرادة مغفولين عنها حين
الاستعمال باعتبار ان النظر إليهما آلي فهذه بعينها هي الإرادة الجدية التي
يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى. وان أريد بها الإرادة الهزلية في مقابل
الإرادة الجدية فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له
لوضوح ان الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال
هو خصوص الإرادة الجدية إلا أنه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى
استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنة في معانيها هو الإرادة الهزلية
وجه الظهور ما عرفت من أن الإرادة الاستعمالية وإن كانت قد تتحد مع
الإرادة الجدية إلا انها قد تفترق عنها فيكون المعنى مرادا استعماليا ولم يكن
مرادا عن جد، ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الإرادة إرادة هزلية،
ضرورة أنه لا ملازمة بين عدم كون الإرادة جدية وكونها هزلية فان إرادة
الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داع من الدواعي
ولم يكن ذلك الداعي الإرادة الجدية، وقد عرفت ما هو الداعي لهذه
الإرادة وما هو القائدة المترتبة عليها، ومع هذا كيف تكون هزلية:
ومنها ما قيل عن أن تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه
لامكان أن يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ليكون ذكر العام
توطئة لبيان مخصصه، وحيث إن العموم لم يكن مرادا من اللفظ فبطبيعة
الحال يكون اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي. وأورد عليه شيخنا الأستاذ
(قدس سره) بما حاصله ان ذكر العام الدلالة على معناه الموضوع له دلالة
173

تصورية توطئة للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد
ضم بعضه إلى بعضه الآخر وإن كان صحيحا إلا أنه لا ينطبق إلا في
موارد التخصيص بالمتصل فتبقى موارد التخصيص بالمنفصل بلا دليل،
على أن التخصيص فيها لا يستلزم المجاز. وفيه ان ما أفاده (قده)
خلاف ظاهر هذا الوجه، فان الظاهر من إرادة العموم من العام إرادة
تمهيدية هو ان العام قد استعمل فيه وأريد منه هذا المعني بإرادة المقومة
للاستعمال يعني الإرادة التفهيمية، والتعبير عنها بالإرادة التمهيدية نظرا إلى
أن ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده، وكيف كان فالظاهر أن
مرد هذا الوجه إلى ما ذكرناه وليس وجها آخر في قباله.
ومنها ان العام إنما يستعمل في العموم دائما من باب جعل القانون
والقاعدة في ظرف الشك فلا ينافيه ورود التخصيص عليه بعد ذلك. وأورد
عليه شيخنا الأستاذ (قده) أيضا بأن ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم
الشك ضربا للقاعدة وإن كان مما لا ينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة
ونحوهما، الا أن التخصيص في هذه الموارد قليل جدا حيث أن تقدم
شئ عليها غالبا يكون بنحو الحكومة أو الورود وأما العمومات المتكفلة
لبيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية من دون نظر إلى حال
الشك وعدمه فلا يكون عمل أهل العرف بها حال الشك كاشفا عن كونها
واردة في مقام جعل القانون والقاعدة حيث أن عملهم بها حال الشك في
ورود التخصيص عليها إنما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن
كون الظاهر مرادا واقعا وعن ان المتكلم القى كلامه بيانا لما أراده في
الواقع، وعليه فلا يعقل كون هذه العمومات واردة لضرب القانون
والقاعدة في ظرف الشك كما هو ظاهر. وفيه ان الظاهر من هذا الوجه
ليس هو جعل الحكم على العام في ظرف الشك ليرد عليه ما أفاده شيخنا
174

الأستاذ (قده)، بل الظاهر منه ان الداعي إلى استعمال العام في معناه
الموضوع له قانونا وقاعدة إنما هو كون العام بيانا للمراد ما لم يكن هناك
قرينة على التخصيص ففي كل مورد شك في التخصيص فيه فالمرجع هو
عموم العام، فالنتيجة أن هذا الوجه أيضا يرجع إلى ما ذكرناه فليس
وجها على حده.
ومنها ما ذكره شيخنا الأنصاري (قده) من أن التخصيص لا يوجب
اجمال العام على تقدير؟؟؟ المجاز، ولا يمنع من التمسك به في غير
ما خرج منه من الافراد أو الأصناف، وقد أفاد في وجه ذلك ان المجاز
فيه إنما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه
عنه، لا من بقاء بقية الافراد أو الأصناف تحته، ضرورة أنها داخله فيه
سواء أخصص العام به أم لا. وان شئت قلت إن المقتضي لبقاء البقية
تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأول - فالخروج يحتاج
إلى دليل، فإذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام
لا محالة، وأما خروج غيرها من الافراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا
مقتض وموجب، حيث إن المقتضى للبقاء موجود فالخروج يحتاج إلى
دليل وهو مفقود هنا، وعليه فإذا شككنا في خروج مقدار زائد
عما خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالإضافة إليه
حيث أنه لابد من الاقتصار على المقدار الذي لتيقن بخروجه عنه دون
الزائد عليه.
وبكلمة أخرى: ان دلالة العام على ثبوت الحكم لكل واحد من أفراد
مدخوله ليست متوقفة على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الافراد جزما
فكما ان ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الافراد،
فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط على دلالته على ثبوته لغيره
175

من الافراد. والسبب في ذلك واضح وهو أن المجعول في مقام الثبوت
والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله (المحققة والمقدرة) فيكون كل
فرد منها في الواقع محكوم يحكم مستقل بحيث لو خالف إياه استحق العقوبة
وإن كان ممتثلا للحكم الثابت لغيره من الافراد واما في مقام الاثبات
فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات
متعددة في عرض واحد، ولقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها
الآخر، ومن الطبيعي ان سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل
خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية، بل هي باقية
عليها، لفرض أن هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها
فإذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب
لسقوطها، وعليه فخروج افراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته
على ثبوت الحكم لبقية الافراد التي لا يعمها المخصص.
وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه
والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا (رأيت أسدا يرمي) فان المجاز اللازم
هنا إنما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلا في عموم العام حيث أنه
يستلزم كونه مجازا في الباقي، وأما دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون
استعماله فيه مجازا، فإنه داخل فيه من الأول يعني قبل التخصيص، وعليه
فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلا فيه لا إلى دخول الباقي، ونتيجة
ذلك هي ان المعنى المجازي في المقام لا يكون مباينا للمعنى الحقيقي، فان
الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنى مجازيا،
وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا (رأيت أسدا يرمى) فإنه مباين
للمعنى الحقيقي، وعلى ذلك فالمعنى المجازي وإن كان متعددا في المقام
نظرا إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام إلا أن المتعين بعد ورود التخصيص
176

عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب، لما عرفت من أن
الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي، فان المقتضى له
موجود والمانع مفقود، فإذا لا يحتاج ارادته من بين غيره من المراتب
إلى قرينة معينة، وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعددا في غير المقام كالمثال
المزبور، فإنه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معينة، مثلا إذا قامت
القرينة الصارفة على أن المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس، ودار
أمره بين أن يكون المراد منه الرجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلا
أو غيرهما من المعاني المجازية له فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها
إلى قرينة معينة، وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شئ منها، وقد
قرب شيخنا الأستاذ (قده) هذا الوجه بهذا التقريب وقال إنه على تقدير
تسليم كون التخصيص مستلزما للمجاز فلا اجمال في العام أيضا وان المرجع
في غير أفراد المخصص هو عموم العام.
ولكن لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما ذكره في الكفاية من أن
الدلالة لابد لها من مقتض وهو أما الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما،
أما الأول فهو مفقود على الفرض، حيث إن العام لم يوضع للدلالة على
سراية الحكم إلى تمام الباقي، وإنما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى
تمام أفراد مدخوله. واما القرينة فكذلك، فان القرينة إنما قامت على أن
العام لم يستعمل في معناه الموضوع له، ولا قرينة أخرى تدل على أنه
استعمل في تمام الباقي، فما ذكره (قده) من أن دلالة العام على ثبوت
الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الافراد وإن كان متينا
جدا الا ان ذلك يحتاج إلى مقتض وهو وضع العام للدلالة على العموم،
فإذا افترضنا ان دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا
مقتضى لدلالته على إرادة تمام الباقي، لفرض ان دلالته عليها إنما هي
177

من جهة دلالته على العموم لا مطلقا. وعلى الجملة فالمقتضي - وهو دلالته
على العموم - قد سقط على الفرض، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة
تمام الباقي، فإنه يرتكز على أحد أمرين: الوضع أو القرينة المعينة،
وكلاهما مفقود كما عرفت، فإذا ما هو مقتضى لظهوره فيها، فما في
كلامه (قده) من أن المقتضى لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى
دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنى صحيح على ضوء نظرية ان التخصيص
يستلزم المجاز، فان المقتضى - وهو عموم العام - قد سقط بالتخصيص
فإذا ما هو المقتضى - وهو عموم العام - قد سقط بالتخصيص
فإذا ما هو المقتضى لدخوله، إذ من المحتمل أنه قد استعمل بعد التخصيص
في بعض مراتب الباقي لا في تمامه، فالتعيين يحتاج إلى قرينة:
نعم لو كانت دلالة العام على العموم عقلية أو كانت ذاتية لتم
ما أفاده (قده) كما هو واضح، ولكنه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له
فالنتيجة انه لا دافع للاشكال المزبور إلا على ضوء ما ذكرناه من أن
التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المجاز، حيث إن العام بعد التخصيص
أيضا استعمل في معناه الموضوع له، وعليه فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده)
تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري (قده) من أن المقتضي بالإضافة إلى الباقي
موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه، فان المقتضي - وهو ظهور العام
في العموم المستند إلى الوضع - موجود والمخصص المنفصل إنما يكون مزاحما
لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره، فإذا لا مانع من التمسك
به بالإضافة إلى الباقي كله، كما أن ما أفاده (قده) من أن دلالة العام
على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة الآخر
فإذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها إنما يتم على ضوء ما عرفت
من أن التخصيص لا يوجب المجاز، إذا على هذا الأساس فسقوط بعض هذه
178

الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها، والسر فيه هو ان موضوع
الحجية إنما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى، والمفروض انه متحقق
في المقام، والمخصص المنفصل إنما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته
بالإضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه، فبالنسبة إلى الزائد فالعام
باق على ظهوره وكاشفيته عن الواقع، لعدم المانع عنه على الفرض،
وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلا.
ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز وهي
ان المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعا عن ظهور العام
في العموم ومزاحما له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو
كذلك على ضوء هذه النظرية، وعليه فإذا افترضنا ان ظهوره في العموم
قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم
بالإضافة إلى الافراد الباقية يعني غير افراد المخصص، ونظير ما ذكرناه
هنا موجود في سائر الامارات والحج أيضا مثلا إذا افترضنا ان البينة قامت
على أن الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها
والدار الأخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلها لزيد، ثم أقر زيد
بأن الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو فلا يكون هذا الاقرار مانعا
عن حجية البينة مطلقا، وإنما يكون مانعا بالإضافة إلى مورده فحسب،
والسبب فيه هو أن هذه البينة تنحل في الواقع إلى بينات متعددة فسقوط
بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها، لعدم موجب لذلك
أصلا، وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.
وأما الكلام في البحث الثاني - وهو ما يفرض الشك في التخصيص
فيه من ناحية الشبهة المفهومية - فيقع في مقامين: (الأول) فيما إذا كان
أمر المخصص المجمل مفهوما دائرا بين الأقل والأكثر: (الثاني) فيما
179

إذا كان أمره دائرا بين المتباينين.
أما المقام الأول فتارة يكون المخصص المجمل متصلا، وأخرى
يكون منفصلا. وأما إذا كان متصلا فيما أنه مانع عن انعقاد ظهور العام
في العموم من الأول حيث أنه لا ينعقد للكلام المتقى للإفادة والاستفادة ظهور
عرفي في المعنى المقصود الا بعد فراغ المتكلم منه فبطبيعة الحال يسرى اجماله إلى
العام فيكون العام مجملا حقيقة يعني كما لا ينعقد له ظهور في العموم لا ينعقد له
ظهور في الخصوص أيضا وان شئت قلت: ان اتصال المخصص بالعام مانع
عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم فإن لم يكن مجملا انعقد ظهوره في
خصوص الخاص وأما إذا كان مجملا فهو كما يمنع عن انعقاد ظهوره
التصديقي في العموم كذلك يمنع عن ظهوره التصديقي في خصوص الخاص
أيضا كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) إذا افترضنا ان مفهوم
الفاسق مجمل ودار أمره بين فاعل الكبيرة فحسب أو الأعم منه ومن فاعل
الصغيرة ففي مثل ذلك كما أن شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم حيث
لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة، كذلك شمول العام له
نظرا إلى اجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلا فلا يعلم أن الخارج منه فاعلا:
الكبيرة والصغيرة معا أو خصوص فاعل الكبيرة، وعليه فلا محالة يكون
المرجع في فاعل الصغيرة الأصل العملي، فإن كان العام متكفلا لحكم الزاي
والخاص متكفلا لحكم غير الزامي أو بالعكس فالمرجع فيه أصالة البراءة،
وأما إن كان كل منهما متكفلا لحكم الزامي فيدخل في دوران الامر بين
؟؟؟ حيث يدور أمره بين وجوب الاكرام وحرمته فهل المرجع فيه
أصالة التخيير عقلا أو أصالة البراءة: الأظهر هو الثاني فيما إذا كانت
الواقعة واحدة لا مطلقا على تفصيل يأتي في محله.
وأما إذا كان المخصص المجمل منفصلا ودار أمره بين الأقل والأكثر
180

كما إذا قال المولى (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم الفساق منهم) وفرضنا
أن مفهوم الفاسق مجمل ومردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه من
فاعل الصغيرة فلا يكون اجماله مانعا عن التمسك بعموم العام، حيث إن
ظهوره في العموم قد انعقد، والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون
مانعا عن انعقاد ظهوره فيه، وعليه فلا محالة يقتصر في تخصيصه بالمقدار
المتيقن ارادته من المخصص المجمل - وهو خصوص فاعل الكبيرة فحسب
وأما في المشكوك - وهو فاعل الصغيرة في المثال - فيما ان الخاص لا يكون
حجة فيه، لفرض اجماله فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام حيث إنه
حجة وكاشف عن الواقع، ولا يسرى اجمال المخصص إليه على الفرض
وان شئت قلت: ان المخصص المنفصل إنما يكون مانعا عن حجية
العام وموجبا لتقييد موضوعه في المقدار الذي يكون حجة فيه، فإن لم
يكن مجملا فهو لا محالة يكون حجة في تمام ما كان ظاهرا فيه وإن كان
مجملا كما في محل الكلام فهو بطبيعة الحال إنما يكون حجة في المقدار
المتيقن ارادته منه في الواقع دون الزائد حيث إنه كاشف عن هذا المقدار
فحسب دون الزائد عليه، وعلى الأول فهو يوجب تقييد موضوع العام
بالإضافة إلى جميع ما كان ظاهرا فيه وعلى الثاني فيوجب تقييده بالإضافة
إلى المتيقن فحسب دون الزائد المشكوك فيه، فإنه لا يكون حجة فيه،
وعليه فلا مانع من الرجوع فيه إلى عموم العام حيث إنه شامل له، ولا
مانع من شموله ما عدا كون الخاص حجة فيه وهو غير حجة على الفرض
وعلى هذا الضوء ففي المثال المتقدم قد ثبت تقييد موضوع العام - وهو
العالم - بعدم كونه فاعل الكبيرة واما تقييده بعدم كونه فاعل الصغيرة فهو
مشكوك فيه فأصالة العموم في طرف العام تدفعه. فالنتيجة ان أصالة العموم
رافعة لا جمال المخصص حكما يعني لا يبقى معها اجمال فيه من هذه الناحية.
181

وأما المقام الثاني - وهو ما إذا كان أمر المخصص المجمل مرددا بين
المتباينين - فأيضا تارة يكون المخصص المجمل المزبور متصلا، وأخرى
يكون منفصلا، أما الأول فالكلام فيه بعينه هو الكلام في المخصص
المتصل المجمل الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر يعني انه يوجب اجمال
العام حقيقة فلا يمكن التمسك به أصلا، ومثاله كقولنا (أكرم العلماء
إلا زيدا مثلا) إذا افترضنا أن زيدا دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن
بكر فإنه لا محالة يمنع عن ظهور العام في العموم ويوجب اجماله حقيقة
نعم يفترق الكلام فيه عن الكلام في ذاك بالإضافة إلى الأصل العملي، بيان
ذلك: ان العام أو الخاص إذا كان أحدهما متكفلا للحكم الالزامي والآخر متكفلا
للحكم الترخيصي فالمرجع فيه أصالة الاحتياط، للعلم الاجمالي بوجوب اكرام
أحدهما أو بحرمة اكرامه، ومقتضى هذا العلم الاجمالي لا محالة هو الاحتياط
وأما إذا كان كلاهما متكفلا للحكم الالزامي بأن يعمل اجمالا ان أحدهما
واجب الاكرام، والآخر محرم الاكرام فيما أنه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط
ولا إلى أصالة البراءة، لعدم امكان الأول، واستلزام الثاني المخالفة القطعية
العملية فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة التخيير. فالنتيجة انهما يشتركان في
الأصل اللفظي ويفترقان في الأصل العملي.
وأما الثاني - وهو ما إذا كان المخصص المجمل المذكور منفصلا - فهو
وإن لم يوجب اجمال العام حقيقة حيث قد انعقد له الظهور في العموم ومن
الطبيعي ان الشئ لا ينقلب عما هو عليه الا أنه يوجب اجماله حكما مثلا
لو قال المولى (أكرم كل عالم) ثم قال (لا تكرم زيدا) وفرضنا أن زيدا دار
أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن خالد فهذا المخصص المنفصل كغيره وان لم
يكن مانعا عن ظهور العام في العموم، لما عرفت الا انه لا يمكن التمسك
بأصالة العموم في المقام، لان التمسك بها بالإضافة إلى كليهما لا يمكن
182

لان العلم الاجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية والاعتبار
فلا تكون كاشفة عن الواقع بعد هذا العلم الاجمالي، وأما بالإضافة إلى
أحدهما المعين دون الآخر ترجيح من دون مرجح، وأحدهما لا بعينه ليس
فردا ثالثا على الفرض. فالنتيجة ان العام في المقام في حكم المجمل وان
لم يكن مجملا حقيقة.
وأما الكلام في البحث الثالث - وهو ما إذا كان الشك في التخصيص
من ناحية الشبهة الموضوعية - فيقع في جواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية وعدم جوازه. الصحيح هو عدم جوازه مطلقا أي سواء
أكان المخصص متصلا أم كان منفصلا، أما في الأول فلا شبهة في عدم
جواز التمسك به في الشبهة المصدقية، ولا خلاف فيه بين الأصحاب،
ولا فرق فيه بين أن يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كقولنا (أكرم
العلماء إلا الفساق منهم) أو بغيرها كالوصف أو نحوه كقولنا (أكرم كل
عالم تقي) وشككنا في أن زيد العالم هل هو فاسق أو هو تقي أوليس
بتقي ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بأصالة العموم لا حراز أنه ليس بفاسق
أو هو تقي.
والسبب في ذلك هو ان القضية مطلقا أي سواء أكانت خارجية أم
كانت حقيقية وسواء أكانت خيرية أم كانت انشائية فهي إنما تتكفل لبيان
حكمها لموضوعه الموجود في الخارج حقيقية أو تقديرا من دون دلالة لها على
أن هذا الفرد موضوع له أوليس بموضوع له أصلا، مثلا قولنا (أكرم
علماء البلد الا الفساق منهم) فإنه قضية خارجية تدل على ثبوت الحكم
للافراد الموجودة في الخارج فلو شككنا في أن زيد العالم الذي هو من علماء
البلد هل هو فاسق أوليس بفاسق فهذه القضية لا تدل على أنه ليس بفاسق
فيجب اكرامه، ضرورة ان مفادها وجوب اكرام عالم البلد على تقدير
183

عدم كونه فاسقا، وأما ان هذا التقدير ثابت أوليس بثابت فهي لا تتعرض له
لا اثباتا ولا نفيا، واما في القضية الحقيقية كالقضيتين المتقدمتين ونحو هما
فالامر فيها أوضح من ذلك، فان الموضوع فيها بما أنه قد أخذ في موضع
الفرض والتقدير فلأجل ذلك ترجع في الحقيقة إلى قضية شرطية مقدمها
وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ومن الطبيعي ان القضية الشرطية
لا تنظر إلى وجود شرطها في الخارج وعدم وجوده أصلا، بل هي ناظرة
إلى اثبات التالي على تقدير وجود الشرط كقولنا (الخمر حرام) (البول
نجس (الحج واجب على المستطيع) وما شاكل ذلك، فإنها قضايا حقيقية
قد أخذ موضوعها مفروض الوجود في الخارج، ومدلول هذه القضايا هو
ثبوت الحكم لهذا الموضوع من دون نظر لها إلى وجوده وتحققه في الخارج
وعدمه أصلا. ومن هنا لو شككنا في أن المائع الفلاني خمر أوليس بخمر
لم يكن التمسك باطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر، لا ثبات أنه خمر
حيث أنه خارج عن اطار مدلوله فلا نظر له إليه لا اثباتا ولا نفيا.
فالنتيجة ان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية في موارد
التخصيص بالمتصل بمكان من الوضوح.
هذا مضافا إلى أن العام المخصص بالمتصل لا ينعقد له ظهور في العموم
وإنما ينعقد له ظهور في الخاص فحسب كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق
منهم) فإنه لا ينعقد له ظهور إلا في وجوب اكرام حصة خاصة من
العلماء وهي التي لا توجد فيها صفة الفسق، وعليه فإذا شككنا في عالم
أنه فاسق أوليس بفاسق فلا عموم له بالإضافة إليه حتى نتكلم في جواز
التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.
وأما الثاني - وهو ما إذا كان المخصص منفصلا فقد قيل أن
المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، وربما
184

تسب هذه القول إلى السيد (قده) في العروة أيضا بدعوى ان؟؟ هذه
المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر
فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث إن
الخاص لا يكون حجة فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف
عن كونه مرادا في الواقع، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة
ببيان أن ظهور العام قد العقد في عموم وجوب اكرام كل عالم سواء أكان
فاسقا أم لم يكن، وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص، فحينئذ
أن علم بفسقه فلا اشكال في عدم وجوب اكرامه وان لم يعلم به فلا قصور
عن شمول عموم العالم له، حيث إن دليل المخصص غير شامل له باعتبار
أنه لا عموم أو الاطلاق له بالإضافة إلى الفرد المشكوك، وعليه فلا مانع من
التمسك بعموم العام فيه حيث أنه بعمومه شامل له. هذا من ناحية. ومن
ناحية أخري ان هذه النسبة غير مصرح بها في كلماتهم وإنما هي استنبطت
من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها، كما أن شيخنا العلامة الأنصاري
(قدس سره) قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع
التي هم قد التزموا بها وذكر (قده) بعض هذه الفروع وقال: انها
تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم. وعلى
الجملة فيما ان هذه المسألة لم تكن معنونة في كلماتهم لا في الأصول ولا
في الفروع، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوي لا يمكن اتمامها بدليل
إلا على القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فلا جل ذلك
نسب إليهم - هذا.
واما نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة (قده) فهي أيضا
تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها (قده) في العروة منها
قوله: إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في أنه من المستثنيات
185

أم لا يبنى على العفو، وأما إذا شك في أنه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط
عدم العفو، حيث توهم من ذلك أن بنائه (قده) على العفو في الصورة
الأولى ليس الا من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية
وكذا بنائه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس الا من ناحية التمسك
بها فيها. بيان ذلك.
أما في الصورة الأولى فقد ورد في الروايات أنه لا بأس بالصلاة في
دم إذا كان أقل من درهم منها: صحيحة محمد بن مسلم قال: قلت (له
الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة قال إن رأيته وعليك ثوب
غيره فاطرحه وصل في غيره وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك
ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم وما كان أقل من ذلك فليس
بشئ رأيته قبل أو لم تره) ومنها صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال:
قلت لأبي عبد الله (ع) (الرجل يكون في ثوبه فقط الدم لا يعلم به ثم
يعلم فينسى أن يغسله فيصلى ثم يذكر بعدما صلى أيعيد صلاته قال يغسله
ولا يعيد صلاته إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة)
ومنها صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (ع) قال (في الدم يكون
في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة) وهذه الروايات
استثناء مما دل على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقا ولو كان أقل من
درهم باعتبار نجاسته. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد ورد في رواية أخرى ان دم الحيض مانع عن
الصلاة مطلقا ولو كان أقل من الدرهم، وقد ألحق المشهور به دم النفاس
والاستحاضة وهي رواية أبي بصبر عن أبي عبد الله أو أبي جعفر (ع)
(قال لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم الحيض فان قليله وكثيره
في الثوب ان رآه أو لم يره سواء) فهذه الرواية تقيد اطلاق الروايات
186

المتقدمة بغير دم الحيض وما ألحق به.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي أنه إذا شككنا في دم يكون
أقل من الدرهم أنه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد
العام وهو الروايات المتقدمة فالسيد (قده) تمسك بعموم تلك الروايات
وحكم بعدم البأس به في الصلاة، مع أن الشبهة مصداقية، وهذا ليس إلا
من جهة أنه (قده) يرى جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وأما في الصورة الثانية فقد ورد في الروايات ما دل على عدم جواز
الصلاة في الثواب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجسا بالدم أو بغيره من
النجاسات، ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا
كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة فعندئذ إذا شككنا في دم أنه أقل
من الدرهم حتى يكون داخلا تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون
داخلا تحت عنوان دليل العام فالسيد (قده) قد تمسك فيه بعموم دليل
العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة. مع أن الشبهة مصداقية، وهذا
شاهد على أنه (قده) يرى جواز التمسك بالعام فيها، هذا. ولكن التوهم
المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع اما في الصورة الأولى فيحتمل أن
يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي، لا حراز
موضوع العام حيث إن موضوعه مركب من أمرين. (أحدهما) وجودي
وهو الدم الذي يكون أقل من الدرهم. (وثانيهما) عدمي وهو عدم
كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة، والأول محرز بالوجدان،
والثاني بالأصل وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق
فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات واطلاقها أو يحتمل أن
يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة
بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.
187

وأما في الصورة الثانية فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو
هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم نظرا إلى أن عنوان المخصص
عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه.
وكيف كان فلا يمكن استنباط أنه (قده) من القائلين بجواز التمسك
بالعام في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين. ومما يشهد على أنه ليس
من القائلين بذلك ما ذكره (قده) في كتاب النكاح واليك نصه:
(مسألة 50) إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة
المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر
عنه، ومن لا يجب وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوبة، فان شك
في كونه مماثلا أولا أو شك في كونه من المحارم النسبية أولا فالظاهر وجوب
الاجتناب، لأن الظاهر من أية وجوب الغض ان جواز النظر مشروط
بأمر وجودي وهو كونه مماثلا أو من المحارم، فمع الشك يعمل بمقتضى
العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، بل لاستفادة
شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك) فان هذا شاهد صدق على
أنه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى ان ما أفاده (قده) من التمسك بعموم أية وجوب الغض
خاطئ جدا. أما (أولا) فلا عموم في الآية من هذه الناحية يعني
لا يمكن استفادة حرمة النظر من الآية الكريمة واما (ثانيا) فعلى
تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أن جواز النظر مشروط بأمر
وجودي، بل مفهومها حرمة النظر إلى المخالف فتكون الحرمة مشروطة
بأمر وجودي وهو المخالف، وتمام الكلام في محله.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان النسية غير ثابتة.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) ذكر ان المشهور حكموا بالضمان فيما
إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية، ولكن لم يعلم وجه
188

فتواهم بذلك هل هو من ناحية التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية
أو من ناحية قاعدة المقتضى والمانع نظرا إلى أن المقتضى للضمان موجود
وهو اليد والمانع مشكوك فيه وهو كونها يد أمانة فيدفع بالأصل، أو
استصحاب العدم الأزلي نظرا إلى أن موضوع الضمان هو الاستيلاء على
مال الغير المتصف بكونه مقارنا لعدم رضاه فإذا كان الاستيلاء محرزا بالوجدان
جرى استصحاب عدم رضاء المالك فيثبت الضمان، أو وجه آخر غير هذه
الوجوه. فالنتيجة ان كون مستند فتواهم به أحد هذه الأمور الثلاثة غير
معلوم، بل هي بأنفسها غير تامة أما الأول فسيجيئ الكلام فيه. وأما
الثاني فان أريد بالمقتضى الدليل فقد عرفت أنه قاصر عن شمول المورد
وان أريد به الملاك المقتضى له فلم يمكن احراز أصل وجوده فيه بعد عدم
شمول الدليل له، وان أريد به اليد الخارجية فقد عرفت ان اليد مطلقا
لا تقتضي الضمان والمقتضي له إنما هو اليد الخاصة - وهي التي لا تكون
يد أمين.
ثم قال: (قده) أن الصحيح في وجه ذلك أن يقال أنه يمكن
التمسك بالأصل لاحراز موضوع الضمان بضم الوجدان إليه وملخص ما أفاده
(قدس سره) هو ان موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير
وعدم رضاه بذلك، والمفروض في المقام ان الاستيلاء على مال الغير محرز
بالوجدان وعدم رضاه بذلك محرز بالأصل، وبضم الوجدان إلى الأصل
يتم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره - وهو الضمان -.
ولا يخفى أن ما أفاده (قده) في غاية الصحة والمتانة سواء أكانت
الدعوى بين المالك وذي اليد في الرضا وعدمه يعني أن المالك يدعى أنه
غير راض باستيلائه على ماله وهو يدعى رضائه به كما عرفت أو كانت
بينهما في رضاء الله تعالى به وعدمه يعني أن المالك يدعي أنه تعالى غير راض
189

باستيلائه على ماله وهو يدعي أنه راض به، كما إذا افترضنا ان المالك
يدعي انك غصبت ما بيدك من مالي، وهو يدعي اني وجدت هذا المال
وانه كان عندي أمانة برضى الله سبحانه وتعالى فلا ضمان عليه إذا تلف
ففي هذه الصورة أيضا لا مانع من احراز الموضوع بضم الوجدان إلى
الأصل حيث إن الاستيلاء على مال الغير محرز بالوجدان وعدم رضائه
تعالى به محرز بالأصل فيتم الموضوع ويترتب عليه أثره - وهو الضمان - وان
شئت قلت إن ذي اليد قد اعترف بأن المال الذي تحت يده هو مال
المدعى، ولكنه ادعى أنه غير ضامن له بدعوى أن يده عليه يد أمانة
حيث أنها كانت بإذن من الله تعالى، ولكن المالك ادعى أنه تعالى لم يأذن
به وان يده عليه ليست يد أمانة ففي مثل ذلك يمكن احراز موضوع الضمان
بضم الوجدان إلى الأصل - وهو أصالة عدم اذنه تعالى به.
نعم فيما إذا كان المالك راضيا بتصرف ذي اليد في ماله ولكنه يدعى
ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ففي مثل ذلك مقتضى الأصل
عدم ضمانه، مثاله: ما إذا اختلف المالك وذو اليد في عقد فادعى المالك
أنه بيع، وادعى ذو اليد أنه هبة فالقول قول مدعى الهبة، وعلى مدعي
البيع الاثبات. والوجه فيه هو أنه يدعى اشتعال ذمة المنقول إليه بالثمن
وهو ينكر ذلك، ويدعى عدم اشتغال الذمة بشئ، فحينئذ ان أقام
البينة على ذلك فهو والا فله احلاف المنكر أي المنقول إليه، حيث أن
قوله مطابق لأصالة عدم الضمان يعني عدم اشتغال ذمته بالثمن، هذا فيما
إذا كانت العين تالفة أو كان المنقول إليه ذا رحم والا فله حق استرجاع
المال من دون مرافعة، لأن العقد إن كان بيعا في الواقع فيما أن المشتري
لم يرد ثمنه فلا خيار الفسخ وإن كان هبة كذلك يعني في الواقع فيما أنها
190

جائزة على الفرض فله فسخها واسترداد المال: نعم إذا افترضنا الامر
بالعكس بأن يدعى المالك الهبة، ويدعي ذو اليد البيع فالقول قول مدعي
البيع، وعلى مدعي الهبة الاثبات، وذلك لأنه يدعي في الحقيقة زوال
ملكية المنقول إليه عن هذا المال برجوعه فان أقام البينة على ذلك فهو والا
فالقول قوله مع يمينه. ولكن مثل هذا الفرع خارج عن مورد كلامه (قده)
فان مفروض كلامه هو ما إذا كان الشك في رضاء المالك وعدمه، كما في
الفرعين الأولين، وأما في هذا الفرع فالمفروض أن رضاء المالك بالتصرف
محرز والشك في الضمان إنما هو من ناحية أخرى.
فالنتيجة ان النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم يكن فالصحيح
في المقام أن يقال: أن التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز،
والسبب فيه أن غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو
ما أشرنا إليه من أن ظهور العام في العموم قد انعقد، والمخصص المنفصل
لا يكون مانعا عن انعقاد ظهوره، وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه،
مثلا لو أمر المولى بقوله (أكرم كل عالم) ثم نهى عن (اكرام العالم
الفاسق) فالدليل الأول وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى أما
الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد، وأما الكبرى - وهي وجوب
اكرام كل عالم - قد وصلت إلينا على الفرض، وقد تقدم انها لا تنكفل
لبيان حال الافراد في الخارج، وإنما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع
المفروض الوجود فيه، فإذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض
فلا حالة منتظرة للعمل به، وأما الدليل الثاني - وهو الخاص - ففي كل
مورد أحرزنا صغراه - وهو العالم الفاسق - نحكم بحرمة اكرامه، ونقيد
عموم العام بغيره، وفيما لم نحرزها لا نحكم بحرمة اكرامه، لما عرفت من
أن العمل بالدليل متوقف على احراز الصغرى والكبرى معا وبدونه فلا
191

موضوع للعمل به، وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أن زيد
العالم مثلا فاسق أوليس بفاسق، ولكن لا مانع من العمل بالعام فيه
لاحراز الصغرى والكبرى معا بالإضافة إليه.
وعلى الجملة فلا يمكن التمسك بأي دليل ما لم يحرز صغراه، ولا يكون
حجة بدون ذلك، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة انا إذا شككنا في مايع
أنه خمر أوليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دل على حرمة شرب
الخمر، ضرورة أنه لا يكون متكفلا لبيان صغراه، وإنما هو متكفل
لثبوت الحكم لمايع على تقدير أنه خمر، كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية
؟؟؟ لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلا، لا وجودا، ولا عدما وإنما هي
ناظرة إلى ثبوت الاحكام لموضوعاتها المقدرة وجودها في الخارج، وأما
انها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبدا، فالتمسك بالعام
في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر
المخصص بين الأقل والأكثر نظرا إلى أن المخصص هناك لا يكون حجة
إلا في الأقل دون الزائد عليه، ومن العموم أنه لا مانع من الرجوع إلى
عموم العام في الزائد. لعدم قصور فيه عن الشمول له، وكذا الحال في
المقام حيث أن المخصص. كقولنا (لا تكرم فساقهم) لا يكون حجة إلا
فيما إذا أحرز صغراه فيه فإذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا مانع
من التمسك به، وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون
حجة وعليه فلا مانع من كون العام حجة فيه، هذا غاية ما يمكن أن يقال
في وجه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حرى بنا أن نقدم نقطة: وهي أن
الحجة قد فسرت بتفسيرين: (أحدهما) أن يراد بها ما يحتج به لاولى
على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي (وثانيهما) أن يراد بها
192

الكاشفية والطريقية يعني أن المولى جعله كاشفا وطريقا إلى مراده الواقعي
الجدي فيحتج على عبده بجعله كاشفا ومبرزا عنه، هذا من ناحية. ومن
ناحية أخرى ان الحجة بالتفسير الأول تتوقف على احراز الصغرى والكبرى
معا والا فلا أثر لها أصلا، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أنه يجوز ارتكاب
المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه. فان ما دل على حرمة شرب الخمر أو
نجاسة البول لا يكون حجة في المشتبه، لعدم احراز صغراه. وأما الحجة
بالتفسير الثاني فلا تتوقف على احراز الصغرى، ضرورة انها كاشفة عن
مراد المولى واقعا وطريقة إليه سواء أكان لها موضوع في الخارج أم
لم يكن.
وان شئت قلت: ان الحجة بهذا التفسير تتوقف على احراز الكبرى
فحسب. ومن ناحية ثالثة ان الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في
مقام الفتيا، دونها بالتفسير الأول، ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه
أجاب بالكتاب أو السنة أو ما شاكلهما. ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج
على المستطيع سواء أكان المستطيع موجودا في الخارج أم لم يكن، فاحراز
الكبرى فحسب كاف من دون لزوم احراز الصغرى. ومن ناحية رابعة
ان القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية توهم ان المراد من
الحجة في كل من طرفي العام والخاص هو الحجة بالتفسير الأول دون
التفسير الثاني، وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على احراز الصغرى
والكبرى معا وبما ان الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما
على احراز الصغرى فحسب، فان أحرز أنه عالم فاسق فهو من صغريات
الخاص حيث قد قيد موضوع العام بغيره، وان شك في فسقه فلا يحرز
أنه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاص حجة فيه واما كونه من صغريات
العام فالظاهر أنه من صغرياته لفرض ان العالم بجميع أقسامه وأصنافه أي
193

سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه من صغريات العام
ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق، واما القسمان الآخران فهما
باقيان تحته.
والحاصل ان موضوع العام قد قيد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص
نظرا إلى أنه حجة فيه دون غيره، واما مشكوك الفسق فهو باق تحت
العام فلا مانع من التمسك به بالإضافة إليه.
وبعد ذلك نقول: إن المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير
الثاني يعني بالطريقية والكاشفية، والوجه فيه واضح وهو ان معنى حجية
العام في عمومه وحجية الخاص في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع
وحيث إن حجية كل منهما من باب حجية الظهور، وقد حقق في محله
ان حجيتها من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع ثم إن الحجة بهذا المعنى
تلازم الحجة بالمعنى الأول أيضا يعني ان المولى كما يحتج على عبده بجعل
ظهور العام - مثلا - حجة عليه وكاشفا عن مراده واقعا وجدا، كذلك
يحتج بجعل ظهور الخاص حجة عليه وكاشفا عن مراده في الواقع، وعليه
فإذا ورد عام كقولنا (أكرم كل عالم) فهو كاشف عن أن مراد المولى
اكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفساق ونحو هما،
ثم إذا ورد خاص كقولنا (لا تكرم فساقهم) فهو يكشف عن أن مراده
الجدي هو الخاص دون العام بعمومه، ضرورة ان الاهمال في الواقع
غير معقول، وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه اما مطلق أو مقيد،
ولا ثالث لهما، وحيث انه لا يمكن أن يكون هو المطلق، لفرض وجود
المقيد والمخصص في البين فلا محالة يكون هو المقيد يعني ان موضوع العام
يكون مقيدا بقيد عدمي، ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الاكرام
هو العالم الذي لا يكون فاسقا لا مطلق العالم ولو كان فاسقا، وعلى ضوء
194

هذا البيان فإذا شك في عالم انه فاسق أوليس بفاسق فكما ان صدق عنوان
المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام، فالصغرى في
كليهما غير محرزة، فإذا لا محالة يكون التمسك بالعام بالإضافة إليه من
التمسك به في الشبهات المصداقية، كما أن التمسك بالخاص بالإضافة
إليه كذلك.
وان شئت فقل ان التمسك بالعام إنما هو من ناحية انه حجة وكاشف
عن المراد الجدي، لا من ناحية انه مستعمل في العموم، إذ لا أثر له
ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مرادا جدا وواقعا، والمفروض ان المراد
الجدي هنا غير المراد الاستعمالي حيث إن المراد الجدي مقيد بعدم الفسق في
المثال دون المراد الاستعمالي، وعليه فإذا شك في عالم انه فاسق أولا فبطبيعة
الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال
بالإضافة إلى الخاص يعني ان نسبة هذا الفرد المشكوك بالإضافة إلى كل
من العام بما هو حجة والخاص نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية
أصلا، فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالإضافة إلى هذا الفرد فكذلك
لا يمكن التمسك بالعام بالإضافة إليه، ومن هنا يظهر ان قياس المقام
بالمسألة المتقدمة - وهي ما إذا كان المخصص مجملا ودار امره بين الأقل
والأكثر -، ووجه الظهور هو ان تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم
واما بالإضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم. وعلى
الجملة فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية، بل من ناحية الشبهة
المفهومية فيكون الشك شكا في التخصيص الزائد بعد العلم بأن المشكوك
فيه ليس من مصاديق المخصص دون المقام، فان الشك فيه ليس شكا في
التخصيص الزائد، وإنما هو شك في أنه من مصاديق العام بما هو حجة
أولا؟ وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لا حراز انه من مصاديقه،
195

هذا مضافا إلى أن ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات
المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعام فيها، بل هو من التمسك
بالعام في الشبهات الحكمية، حيث إن الشك إنما هو في التخصيص الزائد
بالإضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاص نظرا إلى أن الخاص
لا يكون حجة بالإضافة إليه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص
العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدة نتائج: (الأولى) ان التمسك
بالعام في الشبهات المصداقية غير ممكن. (الثانية) ان ما ذكر في وجه
جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين
المزبورين للحجة. (الثالثة) أنه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك
بالعام في الموارد المشكوكة كونها من مصاديق الخاص من التمسك به في
الشبهات المصداقية.
ثم إن شيخنا العلامة الأنصاري (قده) قد فصل في المقام بين
ما كان المخصص لفظيا وما كان لبيا فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعام في
الشبهات المصداقية دون الثاني وتبعه في ذلك المحقق صاحب الكفاية (قده)
وقال: في وجهه ما إليك نصه:
وأما إذا كان (المخصص) نبيا فإن كان مما يصح أن يتكل عليه
المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد
ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص، وان لم يكن كذلك فالظاهر بقاء
العام في المصداق المشتبه على حجيته كظهوره فيه، والسر في ذلك ان
الكلام الملقى من السيد حجة ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره
عن ارادته للعموم فلابد من اتباعه ما لم يقطع بخلافه، مثلا إذا قال المولى
(أكرم جيراني) وقطع بأنه لا يربد اكرام من كان عدوا له منهم كان
196

أصالة العموم باقية على الحجية بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم
الكلام، للعلم بعداوته، لعدم حجة أخرى بدون ذلك على خلافه،
بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا، فان قضية تقديمه عليه هو كون
الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاص، كما كان كذلك حقيقة فيما كان
الخاص متصلا، والقطع بعدم إرادة العدو لا يوجب انقطاع حجيته إلا
فيما قطع انه عدوه لا فيما شك فيه، كما يظهر صدق هذا من صحة
مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه، لاحتمال عداوته له وحسن
عقوبته على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة
كما لا يخفى على من راجع الطريقة المعروفة والسيرة المستمرة المألوفة بين
العقلاء التي هي ملاك حجية أصالة الظهور، وبالجملة كان بناء العقلاء
على حجبتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناك، ولعله لما أشرنا إليه
من التفاوت بينهما بالقاء حجتين هناك تكون قضيتهما بعد تحكيم الخاص
وتقديمه على العام كأنه لم يعمه حكما من رأس، وكأنه لم يكن بعام،
بخلاف هاهنا، فان الحجة الملقاة ليست إلا واحدة، والقطع بعدم إرادة
اكرام العدو في (أكرم جيراني) مثلا لا يوجب رفع اليد عن عمومه إلا
فيما قطع بخروجه عن تحته، فإنه على الحكيم القاء كلامه على وفق
غرضه ومرامه فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه، بل يمكن
أن يقال إن قضية عمومه للمشكوك أنه ليس فردا لما علم بخروجه من حكمه
بمفهومه فيقال في مثل (لعن الله بني أمية قاطبة) ان فلانا وان شك في
ايمانه؟؟؟ لعنه لمكان العموم، وكل من جاز لعنه لا يكون مؤمنا فينتج
أنه ليس بمؤمن فتأمل جيدا.
نلخص ما أفاده (قده) في؟؟؟؟؟؟:
1 - ان المخصص اللبي قد يكون كالمخصص اللفظي المتصل يعني يكون
197

مانعا عن انعقاد ظهور العام في العموم.
2 - أنه قد يكون كالمنفصل اللفظي يعنى لا يكون مانعا عن انعقاد
ظهوره في العموم، ولكنه يفترق عنه في نقطة وهي ان المخصص المنفصل
إذا كان لفظيا فهو مانع عن التمسك بالعام في الفرد المشتبه، واما إذا كان
لبيا فهو غير مانع عنه، والنكتة في ذلك هو ان الأول يوجب تقيد موضوع
العام بعدم عنوان المخصص من باب تحكيم الخاص على العام، وعليه
فإذا شك في فرد أنه من افراد الخاص أو العام لم يمكن التمسك بالعام
لا حراز أنه من افراده كما عرفت بشكل موسع، وهذا بخلاف الثاني،
فإنه لا يوجب تقيد موضوع العام إلا بما قطع المكلف بخروجه عن تحته
فان ظهور العام في العموم حجة، والمفروض عدم قيام حجة أخرى على
خلافه وإنما هو قطع المكلف بخروج بعض أفراده عن تحته للقطع بعدم
كونه واجدا لملاك حكمه وهذا القطع حجة فيكون عذرا له في مقام
الاحتجاج، وأما فيما لا قطع بالخروج عن تحته من الموارد المشكوكة فلا
مانع من التمسك بعمومه فيها، حيث إن المانع عنه على الفرض إنما هو
قطع المكلف به، ومع فرض عدمه فلا مانع منه أصلا.
3 - ان التمسك بعموم العام للفرد المشكوك فيه يكون دليلا على أنه
ليس فردا لما علم بخروجه من العنوان عن حكمه وان هذا الفرد من افراد
العام هذا.
وقد أورد على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) واليك بيانه: وهذا
الكلام (جواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص
لبيا غير لفظي) لا يسعنا تصديقه على اطلاقه، فان المخصص إذا كان
حكما عقليا ضروريا بأن كان صارفا لظهور الكلام وموجبا لعدم انعقاد
الظهور إلا في الخاص من أول الأمر فحكمه حكم القرينة المتصلة اللفظية
198

فكما لا يمكن التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية معها كذلك لا يجوز
التمسك بالعموم معه، واما إذا كان حكما عقليا أو اجماعا بحيث لم يكن
صالحا لصرف ظهور العام من أول الأمر فحكمه حكم المخصص المنفصل
اللفظي، إذا كما أن المخصص اللفظي بعد تقدمه على عموم العام يكشف
عن تقيد المراد الواقعي وعدم كون موضوع الحكم الواقعي مطلقا فلا يمكن
التمسك به عند عدم احراز تمام موضوعه لأجل الشك في وجود القيد
كذلك المخصص اللبي يكشف عن التقيد المزبور فلا يمكن التمسك بالعموم
عند عدم احراز تمام موضوعه، فان الاعتبار في عدم اعتبار جواز التمسك
بالعموم إنما هو بالمنكشف أعني به تقيد موضوع الحكم لبا لا بخصوصية
الكاشف من كونه لفظيا أو عقليا.
وبعد ذلك نقول: أما الخط الأول فهو في غاية الصحة والمتانة.
وأما الخط الثاني فيرد عليه ما أورده شيخنا الأستاذ (قده) لكن
فيما إذا كان تطبيق الكبرى على الصغرى واحرازها موكولا بنظر المكلف
سواء أكانت الفضية حقيقية أم كانت خارجية لا مطلقا حتى فيما إذا لم يكن
موكولا بنظره فلنا دعويان: (الأولى) عدم تمامية هذا الخط فيما إذا
كان أمر التطبيق منوطا بنظر المكلف (الثانية) تماميته فيما إذا لم يكن
كذلك.
أما الدعوى الأولى فإن كانت القضية المتكفلة لا ثبات حكم العام من
قبيل القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق موضوع الحكم فيها على افراده في
الواقع موكولا بنظر المكلف واحرازه فبطبيعة الحال يكون احراز عدم
وجود ملاك الحكم في فرد ما كاشفا عن أن فيه خصوصية قد قيد موضوع
العام بعد؟؟، وتلك الخصوصية قد تكون واضحة بحسب المفهوم عرفا
والشك إنما هو في وجودها في فرد ما من أفراد العام. وقد تكون مجملة
199

بحسب المفهوم كذلك يعني يدور أمرها بين أمرين أو الأكثر وهذا تارة من
دوران الامر بين الأقل والأكثر، وأخرى من المتباينين، أو العموم من
وجه فالأقسام ثلاثة:
اما القسم الأول: فلا يجوز فيه التمسك بالعام لا ثبات الحكم له،
لفرض ان الشك فيه في وجود موضوعه وتحققه في الخارج ومعه لا محالة
يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ومن الطبيعي أنه لا فرق
فيه بين أن يكون المخصص لفظيا أو لبيا.
وأما القسم الثاني: فلا مانع من التمسك به بالإضافة إلى المقدار
الزائد عن المتيقن حيث إن مرجعه إلى الشك في التخصيص الزائد، والمرجع
فيه لا محالة هو عموم العام.
وأما القسم الثالث: فلا يمكن التمسك به لا جماله نظرا إلى اننا
فعلم اجمالا بتقييد موضوع العام بقيد مردد بين أمرين متباينين أو أمور
كذلك، ومن الطبيعي ان هذا العلم الاجمالي مانع من التمسك به في المقام
حيث إن شمول العام لكليهما معا لا يمكن، وشموله لأحدهما المعين دون
الآخر ترجيح من دون مرجح، وأحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا،
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال. وهو ما إذا ورد دليل يدل على وجوب اكرام
كل عالم الشامل للعادل والفاسق وللنحوي وغيره ثم علم من الخارج ان
ملاك وجوب الاكرام غير موجود في زيد العالم مثلا. وهذا تارة من
ناحية العلم بكون اتصافه بالفسق مانعا عن تحقق ملاك وجوب الاكرام
فيه. وأخرى من ناحية العلم بكون المانع من تحقق الملاك فيه كلا من
صفتي الفسق والنحوية الموجودتين فيه، فعلى الأول لا محالة يستلزم ذلك
العلم بتقييد موضوع وجوب الاكرام بعدم كونه فاسقا، وعليه فبطبيعة
الحال. لا يجوز التمسك بالعموم لا ثبات وجوب الاكرام للعالم الذي شك
200

في فسقه، وعلى الثاني يستلزم العلم بتقييد الموضوع بعدم اتصافه بأحد
الوصفين على نحو الاجمال، ولازم ذلك اجمال العام وعدم جواز التمسك به
لا ثبات وجوب الاكرام للعالم الفاسق أو للنحوي.
نعم إذا علم أن المانع من تحقق الملاك هو صفة الفسق ولكنها يحسب
المفهوم مجمل ويدور أمره بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه وفاعل الصغيرة
أو احتمل ان المانع من تحقق الملاك هو اجتماع الوصفين معا لا كل واحد
منهما، أو مع إضافة وصف آخر إليهما اقتصر في جميع هذه الفروض في
تخصيص العام على القدر المتيقن ويتمسك في غيره بأصالة العموم، كما
كان هو الحال بعينه فيما دار أمر المخصص اللفظي بين الآفل والأكثر.
فالنتيجة في نهاية الشوط هو انه لا فرق بين المخصص اللفظي واللبي
في شئ من الاحكام المزبورة فيما إذا كانت القضية المتكلفة لا ثبات حكم
العام من القضايا الحقيقية التي يكون تطبيق الموضوع على افراده في الخارج
بنظر نفس المكلف.
وأما إذا كانت القضايا من قبيل القضايا الخارجية فإن كان المخصص
لفظيا لم يجز التمسك بالعام في موارد الشبهات المصداقية حيث إن المخصص
اللفظي يكون قرينة على أن المولى أو كل احراز موضوع حكمه في الخارج
إلى؟؟ المكلف، وبما أن موضوعه صار مقيدا بقيد بمقتضى التخصيص
فبطبيعة الحال إذا شك في تحقق قيده في الخارج لم يمكن التمسك بالعموم
لفرض عدم كونه ناظرا إلى وجوده فيه أو عدم وجوده كما سبق. واما إذا
كان المخصص لبيا فان علم من الخارج ان المولى أو كل احراز موضوع العام
إلى نفس المكلف فحاله حال المخصص اللفظي، كما إذا ورد في دليل
(اعط لكل طالب علم في النجف الاشراف كذا وكذا دينارا) وعلم من
الخارج ان مراد المولى هو المعيل دون المجرد، ولازم ذلك بطبيعة الحال
201

هو العالم بتقيد موضوع العام بعدم كونه مجردا، فعندئذ إذا شك في طالب
علم أنه معيل أو مجرد لم يكن التمسك بعمومه، نعدم احراز انه من
مصاديق العام.
وان لم يعلم من الخارج ذلك صح التمسك بالعموم في موارد الشبهة
المصداقية، والسبب فيه ان ظهور كلام المولى في العموم كاشف عن أنه
بنفسه أحرز انطباق موضوع حكمه على جميع الافراد ولم يكن ذلك إلى
المكلف، ومن المعلوم ان هذا الظهور حجة على المكلف في الموارد المشكوك
فيها، فإذا أمر المولى خادمه باكرام جميع جيرانه، فان ظهور كلامه في
العموم كاشف عن أنه لاحظ جميع أفراد موضوع حكمه واحرز وجود
الملاك في الجميع، ومن الطبيعي ان هذا الظهور حجة عليه ولا يجوز له
التعدي عن مقتضاه إلا إذا علم خلافه، كما إذا علم بأن زيدا مثلا الذي
يسكن في جواره عدوه وانه لا ملاك لوجوب الاكرام فيه جز ما وسكوت
المولى عن بيانه لعله لأجل مصلحة فيه أو مفسدة في البيان أو غفل عنه
أو كان جاهلا بعدم وجود الملاك فيه، وكيف ما كان فالمكلف متى ما علم
بعدم وجود الملاك فيه فهو معذور في ترك اكرامه، لان قطعه هذا عذر له
وهذا بخلاف ما إذا شك في فرد أنه عدوه أو لا فلا عذر له في ترك اكرامه
حيث إنه لا أثر لهذا الشك في مقابل الظهور نظرا إلى أنه حجة فلا
يجوز له رفع اليد عنه من دون قيام دليل وحجة أقوى بخلافه
واما الخط الثالث فهو صحيح فيما إذا لم يكن احراز الموضوع
موكولا إلى نظر المكلف كما هو الحال في مثل قوله (ع) (لعن الله بني
أمية قاطبة) فان هذه القضية بما انها قضية خارجية صادرة من الإمام (ع)
من دون قرينة تدل على ايكال احراز الموضوع فيها في الخارج إلى انظر
المكلف فبطبيعة الحال تدل على أن المتكلم لاحظ الموضوع بتمام افراده
202

واحرز أنه لا مؤمن بينهم، وعليه فلا مانع من التمسك بعمومه لا ثبات
جواز لعن الفرد المشكوك في ايمانه أو فقل انا إذا علمنا من الخارج ان
فيهم مؤمنا فهو خارج عن عمومه فلا يجوز لعنه جزما، وأما إذا شك في
فرد انه مؤمن أوليس بمؤمن فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات جواز
لعنه، ويستكشف منه بدليل لان انه ليس بمؤمن.
فالنتيجة ان القضية إن كانت خارجية فإن كان المخصص لفظيا أو
كان لبيا وقامت قرينة على أن احراز الموضوع في الخارج موكول إلى نظر
المكلف لم يجز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية. واما إذا كان
المخصص لبيا ولم تقم قرينة على ذلك فالقضية في نفسها ظاهرة في أن أمر
التطبيق بيد المولى، وانه لاحظ جميع الافراد الخارجية وجعل الحكم عليها
مثلا لو قبل المولى لعبده (بع جميع ما عندي من الكتب) فإنه يدل
بمقتضى الفهم العرفي ان المولى قد أحرز وجود ملاك البيع في كل واحد
واحد من كتبه، ومن العموم ان هذا الظهور حجة الا فيما حصل له
القطع بالخلاف، فحينئذ يرفع اليد عن هذا الظهور ويعمل على طبق قطعه
لان حجيته ذاتية وهو معذور في العمل به وإن كان مخالفا للواقع واما في
موارد الشك في وجود الملاك فالظهور حجة فيها، ولو خالف ولم يعمل به
استحق المؤاخذة واللوم، إذ لا أثر لشكه بعدما كان أمر التطبيق واحراز
الملاك بيد المولى.
ومن ضوء هذا البيان يظهر نقد التفصيل الذي اختاره شيخنا الأستاذ
(قدس سره) وحاصل ما اختاره ان المخصص اللبي بحسب مقام الاثبات
على انحاء ثلاثة.
أحدها: ما يوجب تقييد موضوع حكم العام وتضييقه نظير تقييد
الرجل في قوله (ع) " فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر في حلالنا
203

وحرامنا الخ " بكونه عادلا لقيام الاجماع على ذلك فحال هذا القسم
حال المخصص اللفظي في عدم جواز التمسك بالعموم معه في الافراد
المشكوك فيها، ولا فرق في ذلك بين كون المخصص اللبي من قبيل القرينة
المتصلة كما إذا كان حكما عقليا ضروريا، أو من قبيل القرينة المنفصلة كما
إذا كان حكما عقليا نظريا، أو اجماعا، فإنه على كلا التقديرين لا يمكن
التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية.
وثانيها: ما يكون كاشفا عن ملاك الحكم وعلته من دون أن يوجب
ذلك تقييد موضوع الحكم به، حيث إنه لا يصلح تقييد موضوع الحكم بما
هو ملاكه، فإن كان المخصص اللبي من هذا القبيل فلا اشكال في جواز
التمسك بالعموم عندئذ في الشبهات المصداقية، وكشف هذا العموم بطريق
الان عن وجود الملاك في تمام الافراد، فإذا شك في وجود الملاك في فرد
كان عموم الحكم كاشفا عن وجود الملاك فيه ورافعا للشك من هذه الناحية
كما أنه إذا علم بعدم الملاك في فرد كان ذلك الفرد خارجا عن العام من باب
التخصيص، فيكون سكوت المولى عن حكم ذلك الفرد اما لا جل مصلحة
مقتضية له أو مفسدة في بيانه كما في المولى الحقيقي أو لجهله بعدم الملاك فيه
كما ربما يتفق ذلك في الموالي العرفية.
فالنتيجة أن المخصص اللبي على هذا سواء أكان حكما ضروريا أم نظريا
أم اجماعا لا يوجب تقييد موضوع الحكم في طرف العام، حيث إن ملاك
الحكم كما عرفت لا يصلح أن يكون قيدا لموضوعه. والسبب في ذلك هو
أن احراز اشتمال الافراد على الملاك إنما هو وظيفة نفس المولى فبعموم
الحكم يستكشف انه أحرز وجود الملاك في تمام الافراد فيتمسك به في
الموارد المشكوكة.
وثالثها: ما لا يكشف عن شئ من الامرين المزبورين يعني لا يعلم
204

أنه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما،
فإذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في
موارد الشك فقد فصل (قده) بين ما إذا كان المخصص اللبي حكما عقليا
ضروريا بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان وما إذا كان حكما
عقليا نظريا أو اجماعا، فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعموم في موارد الشبهة
المصداقية حيث إن المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية
فيسقط ظهوره في العموم لا محالة، فان هذا المخصص اللبي إن كان
كاشفا عن الملاك لم يكن مانعا عن انعقاد ظهوره في العموم، وإن كان
كاشفا عن تقييد موضوع العام كان مانعا عنه، وبما أنه مردد بين الامرين
فلا محالة يكون مانعا عن انعقاد الظهور، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك
بالعموم حيث إن ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك
به في الشبهات المصداقية، والسبب في ذلك هو ان أمر المخصص بما أنه
يدور بين الامرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به
في الواقع، بل هو مجرد الاحتمال، ومن الطبيعي ان ظهور كلام المولى في
العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة. ولا يمكن رفع اليد عنه
بمجرد الاحتمال.
وجه الظهور أي ظهور النقد هو ما عرفت من أنه لا يمكن التمسك
بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها
ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظيا أو لبيا. واما في القضايا
الخارجية فإن كان المخصص لفظيا أو كان لبيا وقامت قرينة على أن المولى
أو كل أمر التطبيق واحراز الموضوع إلى نفس المكلف فأيضا لا يمكن
التمسك بالعموم فيها في موارد الشك في المصداق. نعم إذا كان المخصص
لها لهيا ولم تقم قرينة على ايكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كالت
205

القضية بنفسها ظاهرة في أن المولى لاحظ بنفسه الافراد الخارجية واشتمالها
على الملاك ثم جعل الحكم عليها، ومن المعلوم ان هذا الظهور حجة
ولا يمكن رفع اليد عنه إلا فيما علم بعدم اشتمال فرد على الملاك فيكون
سكوت المولى عن استثنا؟؟ لعله لا جل مصلحة في السكوت أو لا جل مفسدة
في الاستثناء، أو لا جل جهل المولى به، أو غفلته عنه كما ربما يتفق ذلك في
الموالي العرفية، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة.
وأما ما أفاده (قده) من أن احراز اشتمال المتعلق على الملاك
وظيفة الحاكم فهو وإن كان صحيحا إلا أن العلم بعدم اشتمال فرد على الملاك
لا ينفك عن العلم بعدم كونه واجدا لخصوصية موجودة في بقية الافراد
وإن كانت تلك الخصوصية أمرا عدميا، ومن الطبيعي ان العلم بدخل هذه
الخصوصية في ملاك الحكم ملازم للعلم بأخذها في موضوعه، وعليه فلا
يجوز التمسك بالعموم لا محالة فيما إذا شك في انطباق الموضوع بتمام قيوده
على فرد ما في الخارج إذا لم يكن أمر التطبيق بيد المولى هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى أن ما أفاده (قده) من أن المخصص اللبي قد يدور
أمره بين أن يكون كاشفا عن ملاك الحكم وأن يكون قيدا للموضوع لا يمكن
المساعدة عليه بوجه، والسبب فيه أنه لا يوجد مورد يشك في كون
ما أدركه العقل من قبيل قيود الموضوع أو من قبيل الملاك المقتضى لجعل
الحكم على موضوعه، حيث أن كل ما يمكن انقسام الموضوع بالنسبة إليه
إلى قسمين أو أزيد يستحيل أن يكون من قبيل ملاكات الاحكام، بل لابد
من أن يكون الموضوع بالإضافة إليه مطلقا أو مقيدا بوجوده أو بعدمه،
كما أن كل ما يكون مترتبا على فعل المكلف في الخارج من المصالح أو المفاسد
يستحيل كونه قيدا لموضوع الحكم وإنما هو متمحض في كونه ملاكا له
ومقتضيا لجعله على موضوعه.
206

فالنتيجة ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) من التفصيل خاطئ جدا
ولا واقع موضوعي له أصلا، وما اخترناه من التفصيل هو الصحيح.
(تكملة)
هل يمكن احراز دخول الفرد المشتبه في افراد العام باجراء الأصل
في العدم الأزلي بعد عدم امكان التمسك بعموم العام بالإضافة إليه فيه
قولان: فذهب المحقق صاحب الكفاية (قده) إلى القول الأول، وشيخنا
الأستاذ (قده) إلى القول الثاني. فهنا نظريتان: والصحيح هو النظرية
الأولى دون الثانية. ثم ليعلم ان محل الكلام في جريان هذا الأصل وعدم
جريانه إنما هو فيما إذا كان المخصص ذات عنوان وجودي وموجبا لتقييد
موضوع العام بعدمه كقولنا (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) أو قولنا
(أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم) واما إذا كان المخصص موجبا
لتقييد موضوع العام بعنوان وجودي كقوله (أكرم العلماء العدول) أو
(أكرم العلماء) ثم قال (فليكونوا عدولا) فهو خارج عن محل الكلام
فلو شك في فرد أنه عادل أوليس بعادل فلا أصل لنا لاحراز عدالته.
نعم لو شك في بقائها فالاستصحاب وإن كان يقتضي ذلك إلا أنه خارج
عن مفروض الكلام، حيث إن الكلام في وجود الأصل المحرز لعدالته
مطلقا وفي جميع الموارد ومثل هذا الأصل غير موجود، ونظير ذلك،
ما ذكرناه في الفقه من أن ما دل من الروايات على عدم انفعال الماء مطلقا
إلا بالتغير بأحد أوصاف النجس قد قيد بروايات الكر الدالة على اعتصامه
وعدم انفعاله بالملاقاة دون القليل وإلا لكان عنوان الكر المأخوذ في لسان
الروايات لغوا محضا، وعليه فيكون موضوع عدم انفعال الماء بالملاقات
207

إلا إذا تغير هو الماء المقيد بالكر دون مطلق الماء، فإذا شك في ماء أنه
كر أم لا فلا أصل هنا لاحراز أنه كر إلا إذا كانت لكريته حالة سابقة
فالنتيجة ان في كل مورد يكون المخصص موجبا لتعنون العام بعنوان
وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن اثباته بالأصل.
فمحل الكلام إنما هو فيما إذا كان المخصص موجبا لتقيد العام بعنوان
عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل كتقييد
ما دل على انفعال الماء مطلقا بالملاقاة بما دل على أن الماء الكر لا ينفعل
بها فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الذي لا يكون كرا، وعليه
فإذا شك في ماء أنه كر أوليس بكر، فالصحيح أنه لا مانع من الرجوع
إلى الأصل لاثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي، فان الموضوع على هذا
مركب من أمرين: أحدهما عنوان وجودي: والآخر عنوان عدمي، والأول
محرز بالوجدان، والثاني بالأصل فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع
المركب فيترتب عليه أثره ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال
مركبا من الماء، وعدم اتصافه بالكرية والأول محرز بالوجدان والثاني بالأصل
حيث أنه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثم وجد الماء في الخارج فنشك
في اتصافه بالكرية وانه هل وجد أم لا فنستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.
وكذا الحال في المثال الذي جاء به صاحب الكفاية (قده) وهو
ما إذا شك في المرأة انها قرشية أولا فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب
عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها، حيث إن في زمان لم تكن هذه
المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثم وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى القريش
فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه، ويضم هذا الاستصحاب إلى
الوجدان يثبت ان هذه مرأة لم تكن قرشية، والأول بالوجدان، والثاني
بالأصل فندخل في موضوع العام.
208

ولكن أنكر ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وقال بأن الاستصحاب
لا يجرى في العدم الأزلي، واستدل على ذلك بعدة مقدمات:
الأولى: ان التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء
أكان استثناء أو غيره إنما يوجب تقييد موضوع العام بغير عنوان المخصص
فإذا كان المخصص أمرا وجوديا كان الباقي؟؟؟ العام معنونا بعنوان
عدمي. وإن كان المخصص أمرا عدميا الباقي تحته معنونا بعنوان
وجودي، والوجه فيه هو ما تقدم من أن موضوع كل حكم أو متعلقه
بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين
مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له لابد من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه
أما مطلقا بالإضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي
أو مقيدا بوجودها فيكون من الماهية بشرط شئ، أو مقيدا بعدمها فيكون
من الماهية بشرط لا، لان الاهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأولية
مستحيل، مثلا العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النظر
عن ثبوت الحكم له، وعليه فإذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب
الاكرام له فهو لا يخلو من أن يجعل له مطلقا وغير مقيد بوجود العدالة
أو بعدمها، أو يجعل له مقيدا بإحدى الخصوصيتين، ضرورة أنه لا يعقل
جهل الحاكم بموضوع حكمه وانه غير ملاحظ له لا على نحو الاطلاق ولا
على نحو التقييد، ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها،
وعليه فإذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من
أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيدا بنقيض الخارج فيكون دليل
المخصص مقيدا لا طلاقه ورافعا له، أو يبقى على اطلاقه بعد التخصيص
أيضا، ولا ثالث لهما، وبما ان الثاني باطل جزما لاستلزامه التناقض
والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاص فيتعين الأول.
209

نعم إذا كان المخصص متصلا فهو مانع من العقاد ظهور العام في
العموم من الأول، فاطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من
المسامحة حيث أنه لا تقييد ولا تخصيص في العموم، فان الظهور من الأول
قد انعقد في الخاص، وإنما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي
الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك
أصلا، وإن كان فرق بينهما من ناحية أخرى كما لا يخفى.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعيا أو صنفيا أو
فرديا أصلا فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.
وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم (قدس الله اسراره)
بما ملخصه: من أن التخصيص لا يوجب تعنون العام بأي عنوان، حيث إنه
ليس الا كموت أحد افراد العام، فكما انه لا يوجب تعنون العام بأي
عنوان، فكذلك التخصيص، غاية الأمر ان الأول موت تكويني والثاني
موت تشريعي.
ويرده ان هذا القياس خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا،
والسبب فيه ان الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في
مرحلة التطبيق، لما ذكرناه غير مرة من أن الأحكام الشرعية مجعولة على
نحو القضايا الحقيقية التي مردها إلى القضايا الشرطية مقدمها وجود
الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، مثلا قولنا الحمر حرام يرجع إلى قولنا
إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه انه خمر فهو حرام، وإذا لم يوجد
مائع كذلك فلا حرمة، فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها
وهذا ليس تقييدا للحكم في مرحلة الجعل، ضرورة انه مجعول في هذه
المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه والا
فلا حكم في هذه المرحلة أي مرحلة التطبيق والفعلية، وهذا بخلاف
210

التخصيص، فإنه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت
يعني أن دليل المخصص يكشف عن أن الحكم من الأول خاص، وفي
مقام الاثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع
الموجود فيكون من السالية بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في
الموت التكويني.
الثانية: ان الوجود والعدم مرة يضافان إلى الماهية يعني أنها اما
موجودة أو معدومة.
وبكلمة أخرى ان الماهية سواء أكانت من الماهيات ألم نأصلة كالجواهر
والاعراض أو كانت من غيرها فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون
موجودة أو معدومة ولا ثالث لهما، ضرورة أنه لا يعقل خلو الماهية عن
أحدهما والا لزم ارتفاع النقضين، فكما يقال أن الجسم الطبيعي اما موجود
أو معدوم، فكذلك يقال: إن البياض اما موجود أو معدوم، ولا فرق
بينهما من هذه الناحية، ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم
المحمولين نظرا إلى انهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين.
وأخرى يلاحظ وجود العرض بالإضافة إلى معروضة لا ماهيته، أو عدمه
بالإضافة إليه، ويعبر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين
تارة، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة أخرى، وهذا الوجود
والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج
ويستحيل تحققهما بدونه، فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة يعني ان
التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج، ويستحيل التقابل
بدونه، اما احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها الا في موضوع
موجود، واما احتياج العدم فلان المراد منه ليس العدم المطلق، بل المراد
منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للانصاف بالملكة، مثلا
211

العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الاطلاق، ولذا لا يصلح سلبه عما
لا يكون قابلا للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلا أنه أعمى يعني ليس ببصير
ومن هنا يصح ارتفاعهما معا عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع
النقيضين، فان زيد غير موجود لا بصير ولا أعمى.
وقد تحصل من ذلك ان اتصاف شئ بكل منهما يحتاج إلى وجوده
وتحققه في الخارج، بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها
لان ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، وما نحن فيه كذلك، فان
الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في
الخارج. ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع
النقيضين، فان الفرد الخارجي من العالم اما أن يكون عادلا أو فاسقا،
واما المعدوم فلا يعقل اتصافه بشئ منهما، وهذا بخلاف الوجود والعدم
المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معا، فإنه من ارتفاع النقيضين، لما
عرفت من أن الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودة
أو معدومة ولا ثالث لهما.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن
ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما، حيث إن الشئ قبل وجوده لا يكون متصفا
بوجود الصفة ولا بعدمها، ضرورة ان الاتصاف فرع وجود المتصف،
واما إذا كانا محموليين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع، ضرورة انه من
ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتا.
الثالثة: ان الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركبا
من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها، أما إذا كان
من قبيل الأول كان يكون مركبا من وجودي زيد وعمرو مثلا فتارة يكون
كلاهما محرزا بالوجدان، وأخرى يكون كلاهما محرزا بالأصل، وثالثة يكون
212

وتعين في الواقع إلا أنه إنما يمنع من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار
المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مرددا بين الأقل والأكثر كالمثال الذي
قدمناه آنفا.
وأما إذا كان ماله العلامة والتعين مرددا أيضا بين الأقل والأكثر
فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع، فكما
أن ما ليس له العلامة والتعين فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم،
فكذلك ماله العلامة والتعين، وما نحن فيه كذلك، فان ماله العلامة
والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعين فلا فرق بينهما من هذه
الناحية يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.
وان شئت فقل: كما أن العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات
في الشريعة المقدسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن، كذلك العلم
الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل
بذلك، والنكتة فيه ان المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي كالمعلوم بالاجمال
في العلم الاجمالي الأول يعني أن أمره دائر بين الأقل والأكثر.
وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلا فلا علم بعده
بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر، والشاهد عليه هو اننا لو
أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص
أو المقيد فيها، وهذا معني انحلال العلم الاجمالي
وعلى الجملة ان قوام العلم الاجمالي إنما هو بالقضية الشرطية المتشكلة
في مورده على سبيل مانعة الخلو فإذا انحلت هذه القضية إلى؟؟؟
جملتين: إحداهما: متيقنة والأخرى: مشكوك فيها فقد انحل العلم
الاجمالي ولا يعقل بقائه.
والمفروض في المقام قد انحلت هذه القضية إلى هاتين؟؟؟،
213

حيث إن كلا منهما - وإن كان نعتا لموضوعه إلا أن أحدهما ليس نعتا
للاخر ومتوقفا عليه، نظير الممكن فإنه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب
بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.
أو فقل ان الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين
خارجا من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه وعليه فحالهما حال
الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد، فكما أنه يمكن احراز كليهما
بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، فكذلك في
المقام ومن هذا القبيل ركوع الامام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا إن
الموضوع مركب من ذاتي ركوع الامام وركوع المأموم يعني ركوع المأموم
تحقق في زمان كان الامام فيه راكعا وعليه فإذا شك المأموم حينما ركع انه هل
أدرك الامام في ركوعه أولا فلا مانع من استصحاب بقاء الامام فيه وبضمه
إلى الوجدان - وهو ركوع المأموم - يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره وهو
صحة الاقتداء - واما إذا قلنا إن المستفاد من الأدلة ان الموضوع لها عنوان
آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الامام ووجود
ركوع المأموم في زمان واحد فلا يمكن اثباته الا على القول بالأصل المثبت
الذي لا نقول به. وعلى الجملة فإن كان المستفاد من الأدلة هو ان الموضوع
ذاتي الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية أخرى فيه فلا
مانع من جريان الأصل واثبات الموضوع به، واما إن كان المستفاد منها
أنه قد أخذ فيه خصوصية أخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام
ليتمسك به الا إذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.
واما إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركبا من
جوهر وعرض فإنه تارة يكون مركبا من جوهر وعرض لموضوع آخر كما
إذا افترضنا ان الموضوع مركب من وجود زيد مثلا وعدالة عمرو أو وجود
214

بكر وقيام خالد وهكذا فحال هذا الشق حال القسم الأول والثاني فلا مانع
من اثباته بالأصل، وتارة أخرى يكون مركبا من عرض وموضوعه كزيد
وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ
في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي حيث إن العرض نعت لموضوعه
وصفة له فعندئذ إن كان لا تصاف الموضوع به وجودا أو عدما حالة سابقة
جرى استصحاب بقائه وإلا فلا مثلا إذا كان لا تصاف الماء بالكرية أو
بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه وأما إذا لم تكن له حالة
سابقة فلا يجري الاستصحاب فان استصحاب عدم الكرية بنحو العدم
المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وإن كان لا مانع منه
في نفسه نظرا إلى أن له حالة سابقة إلا أنه لا يجدي في المقام حيث أنه لا يثبت
الانصاف المزبور - وهو مفاد كان أوليس الناقصة إلا على القول بالأصل المثبت
وقد تحصل من ذلك أنه لا يمكن اثبات الوجود أو العدم النعتي
باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك وهذا معنى قولنا ان الوجود
والعدم المحمولين مغائر ان للوجود والعدم النعتيين لا بمعنى ان في الخارج عدمين
ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي ضرورة ان في الخارج ليس الا عدم
واحد ووجود كذلك، ولكنهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارة
يلحظ وجو العرض أو عدمه في نفسه ويعبر عنه بالوجود أو العدم المحمولي
وأخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافا إلى موضوعه ويعبر عنه بالوجود أو العدم
النعتي فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع والمحل الذي
هو قوام الوجود أو العدم النعتي مثلا استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت
اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلا على
القول باعتبار الأصل المثبت.
وبعد هذه المقدمات أفاد (قده) ان ما خرج عن تحت العام من
215

العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة
الأولى، وان هذا التقييد لابد أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة
بمقتضى المقدمة الثالثة، وان هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل
تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية. وعليه فلا يمكن احراز
قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي ببيان أن المستصحب لا يخلو من أن
يكون هو العدم النعتي المأخوذ في موضوع العام أو يكون هو العدم المحمولي
الملازم للعدم النعتي بقاء، فعلى الأول لا حالة سابقة له، فإنه من الأول
مشكوك فيه، وعلى الثاني وإن كان له حالة سابقة إلا أنه لا يمكن باستصحابه
احراز العدم النعتي المأخوذ في الموضوع الا على القول بالأصل المثبت.
وبكلمة أخرى ان المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص
بما أنه العدم النعتي فلا يمكن احرازه بالأصل. لعدم حالة سابقة له،
والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة إلا أنه لا يمكن باستصحابه اثباته
إلا بناء على الأصل المثبت، وعلى ذلك فرع (قده) منع جريان أصالة
العدم في المشكوك فيه من اللباس بناء على كون المانعية المجعولة معتبرة في
نفس الصلاة ومن قيودها، فان الصلاة من أول وجودها لا تخلو من أن
تكون مقترنة بالمانع أو بعدمه فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها
ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل، وأما العدم الأزلي
فهو وإن كان متحققا سابقا الا انك عرفت ان استصحابه لا يجدي إلا إذا
قلنا باعتبار الأصل المثبت. وأما إذا كانت المانعية المجعولة معتبرة في ناحية
اللباس وكانت من قيوده فمرة يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك
في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول، وأخرى لأجل الشك
في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير مالا يؤكل لحمه
أما الأول فلا يجري فيه الأصل، لما عرفت من أن العدم النعتي لا حالة
216

سابقة له والعدم الأزلي وإن كان له حالة سابقة إلا أن استصحابه لا يجدي
لاثبات العدم النعتي بناء على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت
وأما الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق
التكليف في الخارج.
فالنتيجة: أنه لا يمكن احراز دخول الفرد المشتبه في افراد العام
باجراء الأصل في العدم الأزلي، فإذا لابد من الرجوع إلى الأصل الحكمي
في المقام من البراءة أو نحوها.
ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قده) بيان ذلك ان ما أفاده (قده) في
المقدمة الأولى من أن التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلا أو منفصلا
وسواء أكان نوعيا أو صنفيا أو فرديا لا محالة يوجب تعنون موضوع العام
بعدم عنون المخصص وتقيده به في غاية الصحة والمتانة، ضرورة ان الاهمال
في الواقع غير معقول فلابد اما من الاطلاق أو التقييد، وحيث إن الاطلاق
غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مداولي العام والخاص فلا مناص
من التقييد، فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص
المأخوذ في موضوع العام عدما نعتيا أصلا.
وأما ما أفاده (قده) في المقدمة الثانية من أن وجود العرض قد
يضاف إلى ماهيته ويعبر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة، ويعبر عن
عدمه البديل له العدم المحمولي ومفاد ليس التامة، وقد يضاف إلى
موضوعه المحقق في الخارج ويعبر عنه بالوجود النعتي ومفاد كان الناقصة
ويعبر عن عدمه البديل له بالعدم النعتي ومفاد ليس الناقصة فهو في غاية
الصحة والمتانة، كما أن ما أفاده (قده) من أن الوجود والعدم إذا كانا
محموليين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية، ضرورة انها لا تخلو من أن تكون
موجودة أو معدومة فلا ثالث لهما فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو
217

مستحيل، واما إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما
حيث إن الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فإذا لم يكن
متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم، وهذا معنى ارتفاعهما
بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين - في غاية الصحة
والمتانة، وغير خفي ان هذه المقدمة أيضا لا تقتضي كون المأخوذ في
موضوع حكم العام هو العدم النعتي.
واما - ما أفاده (قده) في المقدمة الثالثة من أن الموضوع المركب
لا يخلو من أن يكون مركبا من جوهرين أو عرضين أو أحد جزئيه جوهر
والآخر عرض ولا رابع لها، أما القسم الأول والثاني فقد عرفت فيهما
ان احراز كلا جزئي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزا
بالوجدان؟؟؟ من الامكان، واما القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع
مركبا من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر، واما إذا كان مركبا
من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أنه لا يمكن احرازه
بالأصل، فان المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتي حيث إن
العرض نعت لموضوعه وصفة له، وحينئذ فإن كان له حالة سابقة فهو
والا فلا يمكن احرازه بالأصل، وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع
هو العدم النعتي، فإنه إن كانت له حالة سابقة فهو والا لم يجر الأصل
فيه، واما العدم المحمولي فهو وإن كانت له حالة سابقة إلا أنه لا يمكن
اثبات العدم النعتي باستصحابه الا على القول بالأصل المثبت - فهو متين
جدا ولا مناص عنه الا أنه لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص
المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتي دون العدم المحمولي.
فالنتيجة في نهاية المطاف ان هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها (قده)
لا تقتضي الالتزام بما أفاده (قده) من عدم جريان الاستصحاب في المقام
218

فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الأستاذ (قده) ليس في هذه المقدمات
وإنما هو في العام المخصص بدليل وان موضوعه بعد التخصيص هل قيد
بالعدم النعتي أو بالعدم المحمولي، فعلى الأول لا مناص من الالتزام بما
أفاده (قده) من عدم جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، وعلى
الثاني فلا مانع من جريانه فيها، مثلا ما دل على أن الماء الكر لا ينفعل
بالملاقاة يكون مخصصا للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقا ولو
كان كرا، وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام - وهو الانفعال -
بعدم عنوان المخصص - وهو الكر - هل يكون المأخوذ فيه هو الانصاف
بعدم كونه كرا أو المأخوذ فيه هو عدم الاتصاف بكونه كرا، فعلى الأول
إن كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه والا لم يجر
واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتي الا على القول باعتبار الأصل
المثبت ولا نقول به، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام
الموضوع، غاية الأمر ان أحد جزئيه - وهو الماء - كان محرزا بالوجدان،
وجزئه الآخر - وهو العدم المحمولي قد أحرز بالأصل، وكذا إذا شك
في امرأة انها قرشية أولا فان قلنا إن المأخوذ في موضوع العام بعد ورود
التخصيص عليه إن كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه
لعدم حالة سابقة له وإن كان عدم الانصاف بها لا مانع منه.
فالنتيجة ان محل النزاع إنما هو في أن المأخوذ في موضوع حكم
العام بعدم ورود التخصيص عليه ما هو؟ هل هو العدم النعتي أو العدم
المحمولي، وقد برهن شيخنا الأستاذ (قده) ان المأخوذ فيه هو العدم النعتي
دون المحمولي بما حاصله ان المأخوذ في موضوع العام من جهة ورود
المخصص عليه لو كان هو العدم المحمولي ليكون الموضوع مركبا من الجوهر
وعدم عرضه بمفاد كان التامة. فلا محالة اما أن يكون ذلك مع بقاء
219

اطلاق الموضوع بالإضافة إلى كون العدم نعتا أو يكون ذلك مع التقييد
من جهة كون العدم نعتا أيضا. وبكلمة أخرى ان العدم النعتي بما أنه
من نعوت موضوع العام وأوصافه ولذا ينقسم الموضوع باعتباره إلى قسمين
مثلا العالم الذي هو موضوع في قضية (أكرم كل عالم الا إذا كان فاسقا)
له انقسامات:
منها انقسامه إلى اتصافه بالفسق مثلا، واتصافه بعدمه فلا محالة،
اما أن يكون الموضوع ملحوظا بالإضافة إليه مطلقا أو مقيدا به أيضا أو
مقيدا بنقيضه بداهة ان الاهمال في الواقع مستحيل.
أما القسم الأول - وهو ما إذا كان الموضوع بالإضافة إلى العدم النعتي
مطلقا - فهو غير معقول للزوم التناقض والتهافت بين اطلاق موضوع العام
بالإضافة إلى العدم النعتي وتقييده بالإضافة إلى العدم المحمولي، فان الجمع
بينهما غير ممكن حيث إن العدم النعتي ذاتا هو العدم المحمولي مع زيادة شئ
عليه وهو اضافته إلى الموضوع الموجود في الخارج - فلا يعقل أن يكون
الموضوع في مثل قضية (كل مرأة ترى الدم إلى خمسين الا القرشية)
مثلا مطلقا بالإضافة إلى العدم النعتي - وهو اتصافه بعدم القرشية - بعد
فرض تقييده بالعدم المحمولي - وهو عدم القرشية بمفاد ليس التامة -
بداهة ان مرد اطلاق الموضوع في القضية هو ان المرأة مطلقا أي سواء
أكانت متصفة بالقرشية أم لم تكن تحيض إلى خمسين، وهذا الاطلاق
كيف يجتمع مع الاستنشاء وتقييد المرأة بعدم كونها قرشية بمفاد ليس التامة
فالنتيجة ان اطلاق موضوع العام بالإضافة إلى العدم النعتي بعد تقييده
بالعدم المحمولي غير معقول.
وأما القسم الثاني فهو أيضا كذلك، ضرورة ان الموضوع قد قيد
بعدم الفسق بمفاد ليس التامة فكيف بعقل تقييده بوجوده بمفاد كان
220

الناقصة، فإذا يتعين القسم الثالث - وهو تقيده بالعدم النعتي - فإذا قيد
الموضوع به فهو أغنانا عن تقييده بالعدم المحمولي حيث أنه يستلزم لغوية
التقييد به فالنتيجة هي أنه لا مناص من تقييد موضوع العام بعد ورود
التخصيص عليه بالعدم النعتي، ومعه لا يمكن التمسك بالاستصحاب في
العدم الأزلي:
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) أولا ان النكتة التي ذكرها (قده)
لاستلزام التخصيص تقييد موضوع حكم العام بالعدم النعتي لو تمت لم
تختص بخصوص ما نحن فيه بل تجري في الموضوعات المركبة بشتى أنواعه
حتى فيما إذا كان مركبا من جوهرين أو عرضين لمحل واحد أو محلين.
والسبب فيه هو ان انقسام كل جزء من أجزاء الموضوع المركب بمقارنته
للجزء الآخر زمانا أو مكانا وعدمها بما أنه من الانقسامات الأولية والاعراض
القائمة بالجوهر فلابد من لحاظها في الواقع، لاستحالة الاهمال فيه، وعليه
فبطبيعة الحال لا يخلو الامر من أن يلحظ كل جزء مقيدا بالإضافة إلى
الاتصاف بالمقارنة للجزء الآخر زمانا أو مكانا أو مقيدا بالإضافة إلى
الاتصاف بعدم المقارنة له كذلك أو مطلقا لا هذا ولا ذاك، ومن
المعلوم ان الثاني والثالث كليهما غير معقول، أما الثاني فلفرض ان
تقييد جزء الموضوع يجزئه الآخر قد ثبت في الجملة ومعه كيف يعقل أخذه
فيه متصفا بعدم مقارنته له، ضرورة أنه في طرف النقيض معه، وكذا
الحال في الثالث، لوضوح أن فرض الاطلاق فيه بالإضافة إلى الاتصاف
بالمقارنة وعدمه يستلزم التدافع بينه وبين التقييد المزبور، فإذا لا مناص
من الالتزام بالأول، ومن الطبيعي ان مع اعتبار التقييد بالاتصاف بالمقارنة
بمفاد كان الناقصة يلزم لغوية تقييد كل جزء بنفس وجود الجزء الآخر
بمفاد كان التامة.
221

والنكتة فيه ان مفاد كان الناقصة هو مفاد كان التامة مع اشتماله على
خصوصية زائدة - وهي اضافته إلى موضوعه ومحله - وعليه فبطبيعة الحال
إذا افترضنا تقييد جزء موضوع بالإضافة إلى جزئه الآخر بمفاد كان الناقصة
لزم لغوية تقييده بالإضافة إليه بمفاد كان التامة. ويترتب على ذلك أنه
لا يمكن احراز الموضوع بجريان الأصل في نفس وجود أحد الجزئين مع
احراز الآخر بالوجدان الا على القول باعتبار الأصل المثبت. ولتوضيح
ذلك نأخذ بمثالين.
الأول: ما إذا افترضنا ان الموضوع مركب من جوهرين كوجودي
زيد وعمر مثلا، فان ورود كل منهما بالإضافة إلى الآخر لا يخلو من
من أن يكون ملحوظا مقيدا بالإضافة إلى الاتصاف بالمقارنة له أو مقيدا
بالإضافة إلى الاتصاف بعدم المقارنة له أو مطلقا بالإضافة إلى كل منهما
لاستحالة الاهمال في الواقع، وحيث إن الشقي الثاني والثالث غير معقول
فلا محالة يتعين الشق الأول، ومعه يكون تقييده بوجود الجزء الآخر
بمفاد كان التامة لغوا محضا كما عرفت، وعليه فلا يمكن احراز الموضوع
بضم الوجدان إلى الأصل.
الثاني: ما إذا افترضنا ان الموضوع مركب من عرضين في محلين
كاسلام الوارث وموت المورث حيث إن موضوع الإرث مركب منهما،
وعليه فبطبيعة الحال أما ان يلحظ كل منهما بالإضافة إلى الآخر مقيدا
باتصافه بالمقارنة له بمفاد كان الناقصة أو مقيدا باتصافه بعدم المقارنة له
بمفاد ليس الناقصة أو مطلقا بالإضافة إلى كل منهما ولا رابع لها، وذلك
لاستحالة الاهمال في الواقع، وقد تقدم ان القسمي الأول والثاني يستلزمان
التدافع والتناقض فلا يمكن الاخذ بشئ منهما، وأما القسم الثالث فلا
مناص من الاخذ به، ومعه لا محالة يكون تقييد أحدهما بالآخر بمفاد
222

كان التامة لغوا محضا بعد ثبوت التقييد بينهما بمفاد كان الناقصة، فإذا
لا يمكن احراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل كما إذا كان؟؟؟
محرزا بالوجدان وشك في بقاء اسلام الوارث فباستصحاب بقائه لا يثبت
الاتصاف بالمقارنة الا على القول بالأصل المثبت ولا تقول به.
فالنتيجة ان لازم ما أفاده (قده) هو أنه لا يمكن احراز الموضوعات
المركبة بشتى أنواعها واشكالها بضم الوجدان إلى الأصل.
وثانيا حل ذلك بصورة عامة وهو ما ذكرناه في ضمن بعض البحوث
السالفة من أن موضوع الحكم أو متعلقه بالإضافة إلى ما يلازمه وجودا في
الخارج لا مطلق ولا مقيد ولا مهمل، أما الاطلاق فهو غير معقول حيث إن
مرده إلى أن ما افترضناه من الموضوع أو المتعلق للحكم ليس موضوعا
أو متعلقا له فان معنى اطلاقه بالإضافة إليه هو انه لا ملازمة بينهما وجودا
وخارجا وهو خلف، واما التقييد فهو لغو محض نظرا إلى أن وجوده في
الخارج ضروري عند وجود الموضوع أو المتعلق، ومعه لا معنى لتقييده به
وأما الاهمال فهو إنما يتصور في مورد القابل لكل من الاطلاق والتقييد
فان المولى الملتفت إليه لا يخلو من أن يلاحظ متعلق حكمه أو موضوعه
بالإضافة إليه مطلقا أو مقيدا، لاستحالة الاهمال في الواقع، وأما إذا
لم يكن المورد قابلا لذلك كما فيما نحن فيه فلا موضوع للاهمال فيه.
وبكلمة أخرى ان الاطلاق والتقييد إنما يتصوران في المحل القابل لهما
يعني ما يمكن لحاظ الموضوع أو المتعلق بالإضافة إليه مطلقا تارة ومقيدا أخرى
كالقبلة مثلا بالنسبة إلى الصلاة حيث يمكن لحاظ الصلاة مطلقة بالإضافة إليها
ويمكن لحاظها مقيدة بها ولكن بعد تقييد الصلاة بها كما امتنع اطلاقها بالإضافة
إليها كذلك امتنع تقييدها بعدم كونها إلى دبر القبلة فان هذا التقييد أصبح
ضروريا بعد تقييد الأول يعني ان التقييد الأول يغني عنه ويلازمه وجودا بلا
223

حاجة إليه.
وان شئت قلت: ان للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة، فإنها تستلزم
في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق
وخلفه في طرف الشمال، بل لها لوازم غير متناهية، ومن الطبيعي كما
أنه لا معنى لا طلاقها بالإضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها حيث إنها
قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ومعها لا محالة
يكون كل من الاطلاق والتقييد بالإضافة إليها لغوا، حيث أنهما لا يعقلان إلا
في المورد القابل لكل منهما لا في مثل المقام، فان تقييدها إلى القبلة يغني عن
تقييدها؟؟؟ كما هو الحال في كل من المتلازمين في الوجود الخارجي فان تقييد
المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر حيث أنه لغو صرف بعد التقييد
الأول، كما أن الامر بأحدهما يغني عن الامر بالآخر حيث أنه لغو محض
بعد الأمر الأول، ولا يترتب عليه أي أثر فلو أمر المولى بالفعل المقيد
بالقيام كالصلاة مثلا فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع
أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك، فان تقييده به بعد
التقييد الأول لغو محض.
فالنتيجة: ان ما ذكرناه سار في جميع الأمور المتلازمة وجودا سوا
أكانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث
فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر، كما أن الامر
يغني عن الامر بالآخر. وعليه فلا معنى لا طلاق المأمور به بالإضافة إليه
فان اطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول، لفرض تقييده به
قهرا، واما اطلاقه بحسب مقام الاثبات فإنه لغو، وكذلك تقييده به
في هذا المقام، وما نحن فيه من هذا القبيل، فان العدم النعتي ملازم
للعدم المحمولي، وعليه فتقييد موضوعي العام بعدم كونه متصفا بعنوان الخاص
224

كالقرشية مثلا لا يبقى مجال لتقييده باتصافه بعدم ذلك العنوان الخاص ولا
لا طلاقه بالإضافة إليه، فكما أن تقييد المرأة مثلا باتصافها بعدم القرشية
يغني عن تقييدها بعدم انصافها بالقرشية، كذلك التقييد بعدم اتصافها
بالقرشية يغني عن التقييد باتصافها بعدم القرشية، ضرورة انه مع وجود
المرأة في الخارج كان كل من الامرين المزبورين ملازما لوجود الآخر
لا محالة فلا يبقى مع التقييد بأحدهما مجال للاطلاق والتقييد بالإضافة
إلى الآخر أصلا.
وعلى الجملة فحيث ان العدم النعتي والعدم المحمولي متلازمان في
الخارج ولا ينفك أحدهما عن الآخر فبطبيعة الحال إذا قيد الموضوع أو
المتعلق بأحدهما لم يبق مجال للتقييد أو الاطلاق بالإضافة إلى الآخر. نعم
إنما تظهر الثمرة بين التقييد بالعدم المحمولي والتقييد بالعدم النعتي في صحة
جريان الأصل وعدمها فعلى الأول لا مانع من جريان الأصل في نفس العدم
واحراز تمام الموضوع بضمه إلى الوجدان كما هو الحال في بقية موارد تركب
الموضوع من جزئين أو أكثر وعلى الثاني فلا يمكن احراز الموضوع بجريان
الأصل في نفس العدم بمفاد ليس التامة إلا على القول باعتبار الأصل المثبت
ولا نقول به.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي ان أخذ كل من
العدم المحمولي والعدم النعتي في الموضوع أو المتعلق يغني عن أخذ الآخر
فيه بحسب مقام الثبوت والواقع فلا مجال للاطلاق أو التقييد بالإضافة إليه
أصلا. نعم في ظرف الشك فيه تظهر النتيجة بينهما في جريان الأصل
وعدمه نظرا إلى أن المأخوذ في الموضوع أو المتعلق إذا كان العدم المحمولي
أمكن احرازه بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إذا كان جزؤه الآخر
محرزا بالوجدان، وأما إذا كان المأخوذ فيه العدم النعتي فلا يمكن احرازه
225

بجريان الأصل في نفس ذلك العدم إلا على القول بالأصل المثبت. نعم
لو كانت حالة سابقة لنفس ذلك العدم جرى الأصل فيه وبضمه إلى
الوجدان يلتثم الموضوع المركب.
ومن هنا يظهر الفرق بين ما إذا كان المأخوذ في الموضوع أو المتعلق
الوجود المحمولي وما إذا كان المأخوذ فيه الوجود النعتي، فعلى الأول إذا
شك في بقائه فلا مانع من جريان الأصل فيه وبه يحرز الموضوع أو المتعلق
إذا كان جزؤه الاخر محرزا بالوجدان، كما إذا افترضنا ان الصلاة مقيدة
بالطهارة بمفاد كان التامة فعندئذ إذا شك في بقائها فلا مانع من استصحاب
بقائها وبه يحرز ان المكلف قد صلى في زمان كان واجدا للطهارة في ذلك
الزمان، أما الصلاة فيه فهي محرزة بالوجدان واما الطهارة فهي محرزة
بالأصل، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتثم الموضوع المركب، وعلى الثاني
إذا شك في بقائه لم يمكن احرازه بجريان الأصل فيه الا على أساس أحد
أمرين: اما القول باعتبار الأصل المثبت أو يكون لنفس هذا الوجود حالة
سابقة، ومثاله هو ما إذا افترضنا أن المأخوذ في الصلاة هو عنوان اقترانها
بالطهارة و؟؟؟ معها وعليه فلا يمكن احراز هذا العنوان باستصحاب بقاء
الطهارة إلا على القول بحجية الأصل المثبت أو فيما إذا كانت حالة سابقة
لنفس هذا العنوان.
وعلى ضوء هذه النتيجة يقع الكلام في أن التخصيص على يوجب
تعنون موضوع العام بعدم اتصافه بعنوان المخصص بمفاد ليس التامة؟؟
يوجب تعنونه باتصافه بعدم ذلك العنوان بمفاد ليس الناقصة، قد اختار
شيخنا الأستاذ (قده) الثاني: والصحيح هو الأول فلنا دعويان:
الأولى: بطلان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده):
الثانية: صحة ما اخترناه
226

اما الدعوى الأولى: للان التخصيص - لا يقتضي تقييد موضوع
انعام بكونه متصفا بعدم عنوان المخصص ليترتب عليه تركب الموضوع من
العرض - وهو العدم النعتي - ومحله فان غاية ما يترتب عليه فيما إذا كان
المخصص عنوانا وجوديا هو تقييد موضوع العام بعدم كونه متصفا بذلك
العنوان الوجودي، بيان ذلك: أنه قد حقق في محله ان وجود العرض في
نفسه عين وجوده لموضوعه ويستحيل أن يتحقق بدون وجود موضوع محقق
في الخارج حيث إن حقيقة وجود العرض حقيقة منقومة بالموضوع الموجود
خارجا في مقابل وجود الجوهر حيث إنه في ذاته غني عن الموضوع وقائم
بذاته، ولذا قيل في تعريف الجوهر بأنه ماهية إذا وجدت وجدت في نفسه
في قبال تعريف العرض بأنه ماهية إذا وجدت وجدت في غيره يعني متقوما
بغيره، ومن هنا يكون وجوده المحمولي عين وجوده النعتي يعني أن في
الخارج وجودا واحدا والاختلاف بينهما إنما هو في الإضافة باعتبار اضافته
إلى نفسه محمولي، وباعتبار اضافته إلى موضوعه نعتي.
وعلى هذا فإن كان الموضوع مركبا من جوهرين أو عرضين في محل
واحد أو في محلين أو عرض مع غير محله وموضوعه ففي جميع ذلك يكون
العرض مأخوذا في الموضوع بوجوده المحمولي وبمفاد كان التامة، فان أخذه
بمفاد كان الناقصة في هذه الموارد يحتاج إلى عناية زائدة والا فالقضية في
نفسها وبطبعها لا تقتضي أزيد من أخذه بسفاد كان التامة، وأما إذا كان
مركبا من العرض ومحله الخاص كالرية المأخوذة في الماء والعدالة المأخوذة
في زيد مثلا وهكذا ففي مثل ذلك لا محالة يكون المأخوذ فيه العرض
بوجوده النعتي، ضرورة ان الحكم إنما يترتب على محصوص وجوده في
ذلك المحل الخاص والموضوع المخصوص، ومن المعلوم أنه بعينه وجود
نعتي لما عرفت آنفا ان وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه فوجود
227

الكرية في ماء هو بعينه ثبوت الكرية له الذي يعبر عنه باتصافه بالكرية
وما هو مفاد كان الناقصة، وكذا وجود العدالة في زيد مثلا هو بنفسه
ثبوت العدالة له المعبر عنه باتصاف زيد بالعدالة الذي هو مفاد كان الناقصة
فعلى الأول لا مانع من احراز الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل، وعلى
الثاني لا يمكن ذلك، فان استصحاب وجود العدالة بمفاد كان التامة
لا يثبت اتصاف زيد بها، وكذا استصحاب وجود الكرية كذلك لا يثبت
اتصاف الماء بها الا إذا كانت لهذا الاتصاف حالة سابقة، واما في غير
هذه الصورة فلا محال لجريان الاستصحاب وترتب آثار الوجود النعتي الا
على القول باعتبار الأصل المثبت فالأثر المترتب على كرية ماء في الخارج
أو عدالة زيد مثلا إنما يترتب عليها بضم الوجدان إلى الأصل فيما إذا علم
باتصاف الماء بالكرية أو اتصاف زيد بالعدالة ليستصحب بقائه عند الشك
فيه، واما مع عدم العلم بهذا الاتصاف فلا يمكن احراز كريته أو عدالته
باستصحاب وجود طبيعي الكرية أو العدالة بمفاد كان التامة ولو مع العلم
بالملازمة بين وجودها في الخارج واتصافه بها حيث إنه من أوضح انحاء
الأصل المثبت.
فالنتيجة ان الموضوع إذا كان مركبا من العرض ومحله فلا محالة
يكون المأخوذ فيه هو وجود العرض بمفاد كان الناقصة، حيث إن ثبوته
لموضوعه بعينه هو اتصافه به كما عرفت. واما إذا كان مركبا من عدم
العرض ومحله فلا يلزم أن يكون العدم مأخوذا فيه بمفاد ليس الناقصة
حتى لا يمكن احرازه بالأصل، بل الظاهر هو انه مأخوذ فيه بمفاد ليس
التامة، والسبب في ذلك يرجع إلى الفرق بين وجود العرض وعدمه حيث إن
العرض في وجوده يحتاج إلى موضوع محقق في الخارج لا في عدمه
فإنه لا يحتاج إلى موضوع كذلك، بداهة ان نقطة الافتقار إلى وجود
228

الموضوع في عالم العين إنما تكون من لوازم وجود العرض دون عدمه
فكرية الماء مثلا وإن كانت بحيث إذا تحققت في الخارج كانت لا محالة في
الموضوع الا ان عدم كريته ليس كذلك، بل هو أمر أزلي كان متحققا
قبل تحقق موضوعه، فإذا تحقق ماء في الخارج ولم يكن متصفا بالكرية
كان عدم كربته الذي يعبر عنه بعدم اتصافه بالكرية باقيا على ما كان عليه
في الأزل، وكذا عدم عدالة زيد مثلا، فان عدالته وإن كانت بحيث
إذا تحققت في الخارج كانت في الموضوع لا محالة الا ان عدم عدالته ليس
كذلك، بل هو ثابت من الأزل سواء أكان موضوعها موجدا أم لا،
فإذا وجد زيد في الخارج ولم يكن متصفا بالعدالة فبطبيعة الحال كان عدم
عدالته المعبر عنه بعدم اتصافه بالعدالة باقيا على ما كان عليه في الأزل
نعم قد يؤخذ في موضوع الحكم اتصافه بعدم شئ على نحو الموجبة المعدولة
الا ان هذا الاعتبار يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة، حيث إن صرف عدم
شئ بما هو هو لم تؤخذ فيه أية خصوصية من الخصوصيات، منها كونه صفة
ونعتا لموضوع موجود في الخارج، ضرورة أنه بطلان محض فلابد في أخذه
نعتا لموضوع محقق فيه من اعتبار خصوصية في ذلك لموضوع الملازمة لاخذ
العدم كذلك وتلك الخصوصية هي اضافته إليه، ومن المعلوم انها خصوصية
زائدة على أصل العدم وذاته.
واما على تقدير تحقق هذا الاعتبار وأخذ العدم في الموضوع كذلك
فلا يجري الاستصحاب في مورده لاحراز تمام الموضوع إذا كان جزءه
الآخر محرزا بالوجدان الا إذا كان لا تصاف الموضوع به حالة سابقة،
فعندئذ لا مانع من جريان استصحاب بقائه، وبضم الوجدان إليه يحرز
الموضوع بكلا جزئيه.
واما إذا لم تكن حالة سابقة له فلا يجري الاستصحاب فيه، ولا
229

يكفي في صحة جريانه العلم بعدم اتصافه أي اتصاف الموضوع بوجود ذلك
الوصف قبل ذلك، فإنه وإن كان يوجب صحة جريانه في عدم الاتصاف
بالوصف الوجودي بمفاد ليس التامة، ضرورة انه لا مانع منه في نفسه
الا انه لا يجدي في احراز موضوع الحكم في محل الفرض، لأن المفروض
ان العدم المأخوذ فيه إنما هو بمفاد ليس الناقصة والعدم النعتي دون العدم
المحمولي وما هو مفاد ليس التامة، ومن المعلوم ان استصحاب العدم المحمولي
وما هو بمفاد ليس التامة لا يثبت العدم النعتي وما هو بمفاد ليس الناقصة
الذي له خصوصية وجودية زائدة - وهي خصوصية اضافته إلى الموضوع
الموجود في الخارج - إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به.
فالنتيجة لحد الآن هي ان أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم يحتاج
إلى مؤنة وعناية زائدة دون العدم المحمولي.
وعلى ضوء هذه النتيجة فالظاهر أن عدم عنوان المخصص المأخوذ في
موضوع حكم العام بعد ورود التخصيص عليه هو العدم المحمولي وما هو مفاد
ليس التامة دون العدم النعتي وما هو مفاد ليس الناقصة فان اخذه فيه يحتاج
إلى عناية ونصب قرينة والا فالقضية ظاهرة في بان المأخوذ هو الأول دون
الثاني مثلا الظاهر في مثل قضية (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) هو
تقييد موضوعها بعدم الاتصاف بالفسق لا بالاتصاف بعدمه.
وعلى الجملة إذا أخذ وجود عرض في محله موضوعا لحكم شرعي فهو
وإن كان لابد من كونه مأخوذا فيه على وجه النعتية والصفتية وما هو مفاد
كان الناقصة الا ان ذلك لا يستدعي أخذ عدم ذلك العرض نعتا في موضوع
عدم ذلك الحكم وارتفاعه، لوضوح ان الحكم الثابت للموضوع المقيد بما
هو مفاد كان الناقصة إنما يرتفع عند عدم اتصافه بذلك القيد على نحو
السالبة المحصلة من دون أن يتوقف ذلك على اتصاف الموضوع بعدم ذلك
230

القيد على نحو مفاد ليس الناقصة، وعليه فمفاد قضية (المرأة تحيض
إلى خمسين الا القرشية) وإن كان هو اعتبار صفة القرشية على وجه النعتية
في موضوع الحكم الخاص - وهو الحكم بتحيض المرأة القرشية بعد الخمسين -
الا ان من الواضح أنه لا يستدعي أخذ عدم القرشية في موضوع عدم الحكم
بتحيض المرأة بعد الخمسين على وجه النعتية أي مفاد ليس الناقصة
وإنما يستدعي أخذه في ذلك الموضوع على نحو السالبة المحصلة أعني به
مفاد ليس التامة فكل امرأة لا تكون متصفة بالقرشية باقية تحت العام
بعد خروج خصوص المرأة المتصفة بها الا ان الباقي تحته المرأة المتصفة
بعدمها أي بعدم القرشية.
والنكتة في ذلك ما عرفت من أن أخذ العدم النعتي في موضوع الحكم
يحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة في مقام الثبوت والاثبات دون اخذ العدم
المحمولي فقضية (أكرم العلماء الا الفساق منهم) في نفسها ظاهرة في أن
المأخوذ في موضوعها هو العدم المحمولي، فان دلالتها على أن المأخوذ
فيه هو العدم النعتي تحتاج إلى رعاية نصب قرينة لكي تدل على اعتبار
خصوصية زائدة على أخذ نفس العدم فيه كما أن اخذه في مقام الثبوت
يحتاج إلى لحاظ عناية زائدة.
وعلى ذلك فإذا شك في كون المرأة الفلانية قرشية من جهة
الشبهة الموضوعية دون الحكمية فلا مانع من التمسك باستصحاب عدمها
الثابت لها قبل وجودها في عالم التكوين حيث إن في زمان لم تكن
المرأة موجودة ولا اتصافها بالقرشية ثم وجدت المرأة في الخارج وشك
في أن اتصافها بالقرشية هل وجد أيضا فلا مانع فيه من استصحاب عدم انصافها
بها وانه لم يوجد وبذلك يثبت موضوع العام، فان كونها مرأة محرزة
بالوجدان وعدم اتصافها بالقرشية بالاستصحاب، وبضمه إلى الوجدان يحرز
231

الموضوع بكلا جزئيه ويترتب عليه أثره - وهو انها تحيض إلى خمسين -
ولا تحيض إلى ستين.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان دعوى استلزام التخصيص بعنوان
وجودي أخذ عدم ذلك العنوان في طرف العام على وجه الصفتية والنعتية
كما أصر على ذلك شيخنا الأستاذ (قده)، ولأجل ذلك منع عن جريان
الاستصحاب في الاعدام الأزلية خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها أصلا
حيث قد عرفت بشكل موسع ان التخصيص بعنوان وجودي سواء أكان
بالاستثناء أو بمخصص منفصل إنما يستلزم تقييد موضوع العام بعدم ذلك
العنوان الوجودي بمفاد ليس التامة نظرا إلى أن أخذ عدم عرض ما في
موضوع الحكم بطبعه لا يقتضي إلا أخذه كذلك، فان تقييده به بمفاد ليس
الناقصة يحتاج إلى عناية زائدة ثبوتا واثباتا، وعليه فلا مانع من جريان
الاستصحاب في الاعدام الأزلية، ويترتب على جريانه فيها ثمرات في
أبواب الفقه كما لا يخفى.
بقي هنا شئ وهو ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) من
العبارة بقوله " لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو
كالاستثناء من المتصل لما كان غير معنون بعنوان خاص بل بكل عنوان لم
يكن ذاك بعنوان الخاص كان احراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في
غالب الموارد الا ما شذ ممكنا " ما هو مراده ومقصوده، الظاهر أن مراده
منها هو ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بما أنه كان مقيدا بعدم عنوان
الخاص فلا محالة يكون المنافي لحكمه هو وجود هذا العنوان؟؟؟ دون
غيره من العناوين فان أي عنوان كان وجوديا أو عدميا فلا يكون اتصافه
وتعنونه به مانعا عن ثبوت حكمه له، مثلا في جملة (كل مرأة تحيض إلى
خمسين إلا القرشية) يكون المانع عن ثبوت هذا الحكم العام لكل مرأة
232

إنما هو هذا العنوان الوجودي وهو عنوان القرشية دون غيره من العناوين
إذ أي عنوان فرض امكان اتصاف المرأة به سواء أكان وجوديا أم كان
عدميا دون ذاك لا يكون مانعا عن ثبوت هذا الحكم العام لها.
إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي انه لا يجوز التمسك بالعام
في الشبهات المصداقية الا في صورة واحدة وهي ما إذا كان عموم العام
على سبيل القضية الخارجية وكان المخصص له لبيا فان لمثل هذا العام ظهورا
في نفسه في أن أمر التطبيق بيد المولى. وعليه فلا محالة يكون عمومه حجة
حتى في الفرد المشكوك فيه على ما تقدم بشكل موسع.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انه " ربما يظهر من بعضهم
التمسك بالعمومات فيما إذا شك في فرد لا من جهة احتمال التخصيص،
بل من جهة أخرى كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف
فيكشف صحته بعموم مثل أوفوا بالنذور فيما إذا وقع متعلقا للنذر بأن يقال
وجب الاتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم وكلما يجب الوفاء به لا محالة
يكون صحيحا للقطع بأنه لولا صحته لما وجب الوفاء به. وربما يؤيد
ذلك بما ورد من صحة الاحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلق
بهما النذر كذلك، ملخص ذلك هو أنه لا مانع من تصحيح عبادة لم تثبت
مشروعيتها من ناحية النذر حيث إن وجوب الوفاء به يكشف عن صحتها
والا لم يجب الوفاء به جزما نظير الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات
فإنه كالصلاة قبل الوقت في عدم المشروعية كما في بعض الروايات، ومع
ذلك يصح بالنذر، وكذا الصوم في السفر عنه غير مشروع، ومع ذلك
يصح بالنذر.
حرى بنا أن نتكلم في هذه المسألة في مقامين: (الأول) في صحة
؟؟؟ النذر وفساده (الثاني) في صحة الاحرام قبل الميقات والصوم في
233

السفر بالنذر.
أما المقام الأول: فلا شبهة في أن صحة النذر مشروطة بكون متعلقه
راجحا فلا يصح فيما إذا تعلق بأمر مباح فضلا عن المرجوح، ضرورة ان
ما كان لله تعالى لابد وأن يكون راجحا حتى يصلح للتقرب به إليه تعالى
فان المباح لا يصلح أن يكون مقربا، فإذا لابد أن يكون متعلقه عملا
صالحا لذلك.
وعلى ضوء ذلك فلو شك في رجحان عمل وعدمه لم يمكن التمسك
بعموم أوفوا بالنذور لفرض ان الشبهة هنا مصداقية وقد تقدم أنه لا يجوز
التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، بل هو من أظهر أفراد التمسك به
في الشبهة المصداقية، ولعل من يقول به لم يقل بجوازه في المقام يعني فيما
إذا كان المأخوذ في موضوع حكم العام عنوانا وجوديا كما هو المفروض
هنا، فان موضوع وجوب الوفاء بالمنذر قد قيد بعنوان وجودي وهو
عنوان الراجح. وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الوضوء بمائع مضاف من
جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر لفرض ان الشك في رجحان هذا
الوضوء، ومعه كيف يمكن التمسك به.
فالنتيجة أنه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بمائع مضاف من
ناحية عموم وجوب الوفاء بالنذر.
وأما المقام الثاني: فلان الالتزام بصحة الاحرام قبل الميقات وصحة
الصوم في السفر من جهة النذر ليس من ناحية التمسك بعموم وجوب الوفاء
بالنذر، بل هو من ناحية الروايات الخاصة الدالة على صحتهما كذلك بالنذر.
وعلى ذلك فلما أن نجعل هذه الأدلة مخصصة لما دل على اشتراط
صحة المنذر برجحان متعلقه واما أن نقول بكفاية الرجحان الناشئ من
قبل النذر في صحته كما التزم بذلك السيد الطباطبائي (قده) في العروة
234

ولكن أورد على ذلك شيخنا الأستاذ (قده) بأن لازم هذه النظرية امكان
تصحيح النذر في المحرمات أيضا بالرجحان الناشئ من قبله فضلا عن
المكروهات وهو كما ترى.
وفيه أن ما أورده (قده) على هذه النظرية خاطئ جدا، والسبب
في ذلك ان ما دل على حرمة شئ أو كراهته باطلاقه يشمل ما قبل النذر
وما بعده يعني انه كما يدل على حرمته قبل النذر كذلك يدل عليها بعده،
بداهة ان دليل وجوب الوفاء بالنذر لا يصلح أن يكون مقيدا لاطلاقه وإلا
لأمكن تحليل جميع المحرمات والواجبات فعلا وتركا بالنذر كما أفاده
والسر فيه ان دليل وجوب الوفاء به لا يكون ناظرا إلى أن ما تعلق به النذر
راجح أوليس براجح.
وعليه فلابد من احرازه من الخارج. نعم قد يكون تعلق النذر به
ملازما لانطباق عنوان راجح عليه، فحينئذ يصح النذر، إذ ل يعتبر في
صحته أن يكون متعلقه راجحا قبله أي قبل النذر زمانا، بل يكفي فيها
مقارنته معه زمانا.
وعلى الجملة فدليل وجوب الوفاء بالنذر لا يكون سببا وموجبا
لحدوث الرجحان في متعلقه حتى يستلزم انقلاب الواقع بأن يجعل المبغوض
محبوبا والحرام راجحا حيث إنه غير ناظر إلى أن متعلقه راجح أو غير
راجح حرام أوليس بحرام وهكذا، بل لابد من احراز ذلك من الخارج
فان أحرزنا أنه راجح صح النذر وان لم يحرز ذلك سواء أحرزنا أنه
مرجوح كالمكروه أو الحرام أم لم يحرز فهو غير صحيح.
وعليه فبما أن ما دل على حرمة شئ كشرب الخمر مثلا أو كراهته
باطلاقه يدل عليها حتى بعد تعلق النذر به أيضا فلا محالة لا يكون مثل
هذا النذر صحيحا لمرجوحية متعلقه ولا يشمله عموم وجوب الوفاء
235

بالنذر لما عرفت، ولا يقاس ذلك بمسألتي صحة الصوم في السفر والاحرام
قبل الميقات بالنذر، فان صحتها في تلك المسألتين إنما هي من ناحية
الروايات الخاصة، ومن الواضح اننا نستكشف عن هذه الروايات ان
تعلق النذر بهما ملازم لانطباق عنوان راجع عليهما أو موجب له، ولاجله
يصح النذر ويجب الوفاء به فتكون تلك الروايات مقيدة لا طلاقه أدلة عدم
مشروعية الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات بغير صورة النذر.
وبكلمة أخرى ان الظاهر كفاية الرجحان الناشئ من قبل النذر
يعني أن تعلقه بشئ إذا كان موجبا لانطباق عنوان راجح عليه أو ملازم له
ولكن احراز ذلك يحتاج إلى دليل ففي كل مورد قد دل الدليل على
ذلك ولو بالدلالة الالتزامية فلا اشكال في صحة النذر فيه كما هو الحال
في تلك المسألتين، واما إذا لم يكن دليل على ذلك فلا يمكن احرازه وبدونه
لا يمكن الحكم بصحة النذر أصلا.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان صحة الصوم في السفر بالنذر،
وكذا الاحرام قبل الميقات إنما هي من ناحية أحد أمرين، أما من ناحية
أن ما دل على صحتهما بالنذر يكون مقيدا لاطلاق ما دل على اعتبار الرجحان
في متعلقه، وأما من ناحية كشفه عن عروض عنوان راجح عليه من جهة
النذر على الشكل الذي عرفت.
بقي هنا أمران: الأول ما إذا علم بأن اكرام زيد مثلا غير واجب
ولكن لا ندري ان عدم وجوب اكرامه من ناحية التخصيص أي تخصيص
عموم (أكرم كل عالم) بغيره أو أنه من ناحية التخصيص يعني أن عدم
وجوب اكرامه من ناحية أنه ليس بعالم فدار الامر في المقام بين التخصيص
والتخصص، ومثال ذلك في الفقه مسألة الملاقي لماء الاستنجاء حيث أنه
غير محكوم بالنجاسة إذا توفرت فيه الشرائط التي ذكرت، لعدم تأثير
236

(ماء الاستنجاء) فيه (الملاقي) فحينئذ لا محالة يدور بين أن يكون
خروجه عن هذا الحكم بالتخصص أو بالتخصيص يعني أن ما دل على
طهارة الملاقي له هل يكون مخصصا لعموم ما دل على انفعال الملاقي للماء
النجس أو يكون خروجه منه بالتخصيص فيه خلاف بين الأصحاب فذهب
بعضهم إلى الأول، وأخر إلى الثاني بدعوى أنه لا مانع من التمسك بأصالة
عدم التخصيص لاثبات طهارة ماء الاستنجاء نظرا إلى أن الأصول اللفظية
كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك تثبت لوازمها العقلية والعادية أيضا.
فالنتيجة أنه لا مانع من التمسك بها لا ثبات التخصص.
وبكلمة أخرى ان الحري بنا أن نتكلم في كبرى المسألة فنقول إذا
دار الامر بين التخصيص والتخصص فهل يقدم الأول على الثاني، فيه
قولان: المعروف في الألسنة هو القول الثاني واستدل عليه بأصالة عدم
التخصيص في طرف العام، وهذه الأصالة كما تثبت لوازمها الشرعية كذلك
تثبت لوازمها العقلية والعادية نظرا إلى أن المثبتات من الأصول اللفظية
حجة، مثلا إذا علم بخروج زيد عن عموم العام وشك في أن خروجه منه
بالتخصيص أو بالتخصص فلا مانع من التمسك بأصالة عدم ورود
التخصيص عليه لا ثبات التخصص.
ولنأخذ بالنقد عليه وهو ان حجية أصالة عدم التخصيص لم تثبت
بآية أو رواية حتى نأخذ باطلاقها في أمثال المورد وإنما هي ثابتة بالسيرة
القطعية من العقلاء، فإذا بطبيعة الحال تتبع حجيتها في كل مورد جريان
السيرة منهم على العمل بها في ذلك المورد، وقد ثبت جريان سيرتهم فيما
إذا أحرز فردية شئ لعام وشك في خروجه عن حكمه ففي مثل هذا المورد
لا مانع من التمسك بها، واما إذا كان الامر بالعكس بأن علم بخروجه
عن حكمه وشك في فرديته لعام كما فيما نحن فيه حيث إذا نعلم بأن زيدا
237

مثلا خارج عن حكم العام ولكن لا نعلم أن خروجه من ناحية أنه ليس
بفرد له أو من ناحية التخصيص فلا نعلم بجريان السيرة منهم على العمل بها
ومع عدم احرازه لا يمكن الحكم بحجيتها.
أو فقل: ان الأصول اللفظية وأن كانت مثبتاتها حجة، لما ذكرناه
في محله من أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا وبقاء يعني
في أصل الوجود والحجية، وقد ذكرنا غير مرة أنه لا يمكن بقاء الدلالة
الالتزامية على الحجية إذا سقطت الدلالة المطابقية عنها، ضرورة انها تسقط
بسقوطها كما حققنا ذلك بشكل موسع في ضمن البحث عن ثبوت الملازمة
بين الامر بشئ والنهي عن ضده، هذا فيما إذا كانت الدلالة المطابقية موجودة
من جهة ظهور اللفظ أو من جهة بناء العقلاء، وأما إذا لم تكن دلالة
مطابقية في البين فلا موضوع للدلالة الالتزامية، لفرض انها متفرعة عليها
فكيف يعقل وجودها بدون تلك.
وبعد ذلك نقول: إن ما ثبت حجية هذه الأصالة فيه هو ما إذا كان الشئ
فردا لعام وشك في خروجه عن حكمه ففي مثل ذلك تكون هذه الأصالة حجة
فلا مانع من الاخذ بدلالتها الالتزامية أيضا لما عرفت من أنها تابعة للدلالة
المطابقية في الحدوث والحجية وأما في محل الكلام وهو عكس هذا الفرض
تماما فلا تجرى هذه الأصالة لعدم احراز بناء العقلاء عليها فيه فما ظنك
بدلالتها الالتزامية مثلا لو قال المولى لعبده (بع جميع كتبي) الموجودة
في مكتبتنا هذه فباع جميعها فليس للمولى الاعتراض عليه بقوله لما ذا بعت
الكتاب الفلاني، بل له الزام المولى بظهور العام في العموم وعدم نصبه قرينة
على الخلاف، وأما إذا قال له بع جميع كتبي ثم قال لا تبع الكتاب
الفلاني ونشك في أنه وقف أو عارية أو أنه ملكه فعلى الأول يكون خروجه
من باب التخصص وعلى الثاني من باب التخصيص فلا يمكن التمسك بأصالة
238

العموم لاثبات التخصص، لعدم احراز جريان السيرة على التمسك بها في
مثل المقام، ومن هذا القبيل الملاقي لماء الاستنجاء حيث إن أمره يدور بين
أن يكون خروجه عن عموم ما دل على انفعال الملاقي للماء النجس بالتخصيص
أو التخصص.
بيان ذلك: ان في ماء الاستنجاء أقوال ثلاثة: (الأول): النجاسة
(الثاني): الطهارة ونسب هذا القول إلى المشهور بين الأصحاب (الثالث)
للنجاسة لكن مع العفو بمعنى عدم انفعال الشئ بملاقاته.
أما القول الأول فلا أصل له حيث إنه يقوم على أساس الاخذ بعموم
ما دل على انفعال الملاقي للماء النجس لما نحن فيه أيضا، ولكن فساده
بمكان من الوضوح، فان الملاقي لماء الاستنجاء قد خرج عن هذا العموم
جزما للنصوص الخاصة الدالة على عدم انفعاله بملاقاته، فإذا هذا القول
على تقدير القائل به خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا، فيدور
الحق بين القولين الأخيرين، ونقول: ان هنا طوائف من الروايات:
(الأولى): ما دلت على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس كمفهوم
أخبار الكر ونحوه من الروايات المتفرقة الواردة في الموارد الخاصة بعد
الغاء خصوصيات الموارد بنظر العرف.
(الثانية): ما دلت على انفعال الملاقي للماء النجس:
(الثالثة): ما دلت على عدم انفعال الملافي لماء الاستنجاء فحسب
ثم إن هذه الطائفة لا تخلو من أن تكون مخصصة المطائفة الأولى بغير ماء
الاستنجاء ونتيجة هذا التخصيص هي طهارته وعدم انفعاله بملاقاة النجس
كالبول أو العذرة، وحينئذ تكون طهارة ملاقيه على القاعدة ومن باب
التخصص، أو تكون مخصصة للطائفة الثانية فتكون نتيجة هذا التخصيص
نجاسة ماء الاستنجاء من دون تأثيره في انفعال ملاقيه كالبدن أو الثوب
239

ولا ثالث لهما، فالاحتمال الأول يقوم على أساس إحدى دعويين:
الأولى: ان الحكم بطهارة الملاقي لماء الاستنجاء إن كان لطهارته فلا
تخصيص في الطائفة الثانية الدالة على انفعال الملاقي للماء النجس، وإن كان
مع نجاسة ماء الاستنجاء لزم التخصيص في هذه الطائفة فبأصالة عدم
التخصيص تثبت طهارة ماء الاستنجاء.
ويرد على هذه الدعوى أولا: ان أصالة العموم في هذه الطائفة معارضة
بأصالة العموم في الطائفة الأولى، للعلم الاجمالي بتخصيص إحداهما بالطائفة
الثالثة بناء على ما هو الصحيح من أن مثبتاتها حجة، فان لازم أصالة
العموم في الطائفة الأولى تخصيص الطائفة الثانية، كما أن لازم أصالة
العموم في الطائفة الثانية تخصيص الطائفة الأولى من ناحية، واثبات
التخصص من ناحية أخرى يعني خروج الملاقي لماء الاستنجاء عن عموم
الطائفة الثانية موضوعيا لا حكميا فلا يمكن الجمع بينهما معا، لاستلزامه
طرح الطائفة الثالثة رأسا. وثانيا ان هذه الأصالة لا تجري في مثل المقام
في نفسها للعلم التفصيلي بسقوطها اما تخصيصا واما تخصصا فلا تجرى
لاثبات التخصص.
وبكلمة أخرى: ان أصالة العموم إنما تجرى فيما إذا علم بفردية
شئ للعام وشك في خروجه عن حكمه، واما إذا علم بخروجه عن حكمه
وشك في فرديته له ففي مثل ذلك لا مجال فلتمسك بها أصلا وما نحن
فيه من هذا القبيل. نعم بناء على جريانها في نفسها تقع المعارضة بين
اطلاق الطائفة الأولى واطلاق الطائفة الثانية، ودعوى ان الطائفة الثانية
واردة في موارد خاصة فلا اطلاق لها خاطئة جدا، فإنها وإن كانت كذلك
الا أن الغاء خصوصيات الموارد بالارتكاز العرفي مما لا شبهة فيه، وبضم
هذا الارتكاز إليها يثبت الاطلاق، وحيث لا ترجيح في البين فيسقط كلا
240

الاطلاقين معا ويرجع إلى الأصل العملي ومقتضاه طهارة ماء الاستنجاء،
ولكن هذا مجرد فرض لا واقع موضوعي له، فالصحيح هو عدم جريانها
في نفسها في أمثال المقام.
الثانية: ان مقتضي الارتكاز العرفي هو التلازم بين نجاسة شئ
ونجاسة ملاقيه وعلى ضوء هذا التلازم فما دل على طهارة الملاقي (بالكسر)
يدل بالالتزام العرفي على طهارة الملاقي (بالفتح) وفيما نحن فيه بما أن
الطائفة الثالثة تدل على طهارة الملاقي لماء الاستنجاء فبطبيعة الحال تدل
بالالتزام العرفي على طهارة ماء الاستنجاء. فتكون مخصصة للطائفة الأولى.
ويرد على هذه الدعوى: أولا ان هذه الدلالة الالتزامية معارضة
بالدلالة الالتزامية الموجودة فيما دل على نجاسة العذرة الشامل باطلاقه للعذرة
عند ملاقاة ماء الاستنجاء لها جزما حيث أنه يدل بالدلالة الالتزامية على
نجاسته بالملاقاة، فان مقتضى تلك الدلالة الالتزامية نجاسة ماء الاستنجاء
ومقتضى هذه طهارته فلا يمكن الجمع بينهما للتدافع.
نعم على هذا فالنتيجة هي القول بالطهارة حيث إن كلتا الدلالتين
الالتزاميتين تسقط فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة الطهارة
وثانيا ان المستفاد من روايات الباب وهي الطائفة الثالثة - عدم
وجود هذه الدلالة الالتزامية حيث إن محط السؤال فيها عن حكم الملاقي
لماء الاستنجاء.
ومن الطبيعي ان السؤال عن حكمه من حيث الطهارة أو النجاسة
؟؟؟ لعدم الجزم بالملازمة بين نجاسة شئ ونجاسة ملاقيه اما في مرتبة
ملاقاة الثوب أو البدن لماء الاستنجاء أو في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة
بعد اليقين بنجاسة العذرة، وحكم الإمام (ع) في تلك الروايات بطهارة
الثوب الملاقي لا محالة يدل على عدم الملازمة في إحدى المرتبتين فإن كان
241

عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمرده إلى التخصيص
في المقام وإن كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمرده إلى التخصص
وحيث إن تلك الطائفة يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب لا تدل على
تعيينه أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة فلا محالة لا ظهور
لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها، فإذا لا مانع من الرجوع
إلى عموم الطائفة الأولى حيث إن قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس
وقد تحصل من ذلك ان الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء
وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.
ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة
ولا سيما معتبرة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال سألت أبا عبد الله (ع)
" عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه قال لا "
فإنها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على
ذلك وخصوصا ملاحظة حال المفتي والمستفتي، فإنه إذا سأل العامي مقلده
عما أصابه ماء الاستنجاء واجابه بأنه غير منجس فهل يشك السائل في
طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.
وعليه فهذه الروايات تعيين عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين
النجاسة - وهي العذرة في مفروض المقام - نظرا إلى انها واردة في مورد
خاص، دون ما دل على نجاسة العذرة، فإنه يدل بالالتزام على نجاسة
ملاقيها مطلقا في هذا المورد وغيره، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة
الالتزامية في غير هذا المورد.
بقي هنا شئ وهو ان ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره
بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فردا له كما إذا تردد أمر زيد
في مثل (لا تكرم زيدا) بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية
242

ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بأصالة العموم بالإضافة إلى زيد العالم
لفرض ان للشك كان في خروجه عن حكم العام، وبذلك يثبت التخصص
يعني ان الخارج هو زيد الجاهل بناء على أن مثبتاتها حجة، والوجه فيه هو
ان هذا المورد من موارد التمسك بها، حيث إن فرديته للعام محرزة
والشك إنما هو في خروجه عن حكمه، وهذا بخلاف المسألة المتقدمة
حيث إنها بعكس ذلك تماما يعني ان هناك كان خروج الخارج عن حكم
العام معلوما والشك إنما هو في فرديته له وقد تقدم أنه لا دليل في مثل
ذلك على جريان أصالة العموم لاثبات التخصص.
ولكن قد يقال: بأن العلم الاجمالي بحرمة اكرام زيد المردد بين العالم
وغيره موجب لترك اكرامهما وأصالة العموم لا توجب انحلاله نظرا إلى انها
غير متكفلة لبيان حال الافراد، وليس حالها كقيام امارة على أن زيد
العالم يجب اكرامه حيث أنه يوجب انحلاله جزما نظرا إلى انها متكفلة
لبيان حال الفرد دونها، فإذا تسقط عن الحجية بالإضافة إلى زيد العالم أيضا.
ويغر خفي ما في هذا القول، فان أصالة العموم وان لم تكن ناظرة
إلى بيان حال الافراد إلا انها مع ذلك توجب انحلال هذا العلم الاجمالي
بيان ذلك هو أن لها دلالة مطابقية ودلالة التزامية، فبالأولى تدل على
وجوب اكرام زيد العالم، وبالثانية تدل على انتفاء الحرمة عنه واثباتها
لزيد الجاهل باعتبار أن مثبتاتها حجة، وعلى هذا فلا محالة ينحل هذا
العلم الاجمالي إلى علمين تفصيليين هما: العلم بوجوب اكرام زيد العالم،
والعلم بحرمة اكرام زيد الجاهل فلا تردد حينئذ.
وفي نهاية المطاف قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية وهي ان
مسألة دوران الامر بين التخصيص والتخصص إذا كانت بالإضافة إلى فرد
واحد فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أنه لا دليل على جريان أصالة العموم
243

فيها لاثبات التخصص، فاثبات كل منهما يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه
إلا إذا كان هناك أصل موضوعي يحرز به ان المشكوك فرد للعام أوليس
بفرد له. فعلى الأول يثبت التخصيص، وعلى الثاني التخصص، ولكنه
خارج عن مفروض الكلام.
نعم قد يكون مقتضى دليل آخر التخصيص كما في مسألة ماء الاستنجاء
فان نتيجة التمسك بعموم ما دل على انفعال الماء القليل بملاقاة النجس
هي نجاسة ماء الاستنجاء، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم بطهارة الملاقي
لا تخصيصا في دليل انفعال الملاقي لماء النجس. وقد سبق تفصيل ذلك
بشكل موسع. وأما إذا كانت " كبرى مسألة دوران الامر بينهما " بالإضافة
إلى فردين يكون أحدهما فردا العام والآخر ليس بفرد له فقد عرفت أنه لا مانع
من الرجوع إلى أصالة العموم لاثبات التخصص.
إلى هنا قد انتهينا إلى عدة نقاط:
الأولى: ان الكلام في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص
عليه يقع في موارد ثلاثة 1 - في الشبهات الحكمية. 2 - في الشبهات
المفهومية. 3 - في الشبهات المصداقية اما في الأولى فلا خلاف في جواز
التمسك بالعام فيها الا ما نسب إلى بعض العامة من عدم جواز مطلقا أو
التفصيل بين المخصص المنفصل والمخصص المتصل فلا يجوز في الأول
دون الثاني.
الثانية: الصحيح هو جواز التمسك بالعام مطلقا يعني بلا فرق بين
كون المخصص منفصلا أو متصلا. ودعوى ان المخصص إذا كان منفصلا
يوجب التجوز في العام المستلزم لاجعاله فلا يمكن التمسك به خاطنة
جدا وذلك لعدة وجوه: منها ما عن شيخنا الأستاذ (قدس سره) على
تفصيل تقدم.
244

الثالثة: ان ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) يرجع إلى عدة نقاط
وقد ناقشنا في النقطة الثالثة منها فحسب دون غيرها.
الرابعة: ان العام دائما يستعمل في معناه الموضوع له وان لم يكن
مرادا واقعا وجدا فان الإرادة الجدية قد تكون مطابقة للإرادة الاستعمالية
وقد لا تكون مطابقة لها وما أورده شيخنا الأستاذ (قده) من انا لا تعقل
فلارادة الاستعمالية في مقابل الإرادة الجدية معنى معقولا قد ذكرنا خطائه
وانه لا واقع موضوعي له.
الخامسة: ان الوجه الثاني والثالث كليهما يرجع إلى ما حققناه في
المقام وليس وجها آخر في قبال ما ذكرناه.
السادسة: ان ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قده) من أن
التخصيص في العام وان استلزم المجاز فيه إلا أنه لا يمنع من التمسك به
بالإضافة إلى غير ما هو الخارج عنه من الافراد لا يمكن المساعدة عليه بوجه
على ما عرفت بشكل موسع.
السابعة: ان المخصص المجمل بحسب المفهوم تارة يدور أمره بين الأقل
والأكثر وأخرى بين المتباينين وعلى كلا التقديرين مرة أخرى يكون متصلا
وأخرى يكون منفصلا فإن كان متصلا منع عن أصل انعقاد ظهور العام
في العموم من دون فرق بين أن يكون دائرا بين الأقل والأكثر لو بين
المتباينين وإن كان منفصلا فإن كان أمره دائرا بين الأقل والأكثر فيما أنه
لا يكون مانعا عن انعقاد ظهور العام في العموم فبطبيعة الحال يقتصر في
تخصيصه بالمقدار المتيقن - وهو خصوص الأقل - وفي الزائد عليه يرجع
إلى عموم العام وأن كان دائرا بين المتباينين فهو وان لم يوجب اجمال
العام حقيقة الا انه يوجب اجماله حكما فلا يمكن التمسك به.
245

الثامنة: أنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقا
أي سواء أكان المخصص متصلا أم كان منفصلا أما على الأول فواضح
كما تقدم بشكل موسع وأما على الثاني فكذلك حيث إن القضية سواء أكانت
حقيقية أم كانت خارجية لا تتكفل لبيان موضوعها نفيا واثباتيا وإنما؟؟؟
متكفلة لبيان الحكم عليه على تقدير تحققه في الخارج وما نسب إلى المشهور
من أنهم يجوزون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مبني على الحدس
والاستنباط ولعله لا أصل له وأما ما نسب إلى السيد الطباطبائي (قده)
من جواز التمسك به فيها لا أصل له كما عرفت بشكل مفصل.
التاسعة: ان شيخنا الأستاذ (قده) قد ذكر ان المشهور حكموا
بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عادية أو غير عادية واحتمل ان
وجه فتواهم بذلك أحد أمور ثم ناقش في جميع هذه الأمور وبعد ذلك
بين (قده) وجها آخر لذلك وقد تقدم ان ما ذكره (قده) من الوجه
متين جدا. نعم فيما إذا كان المالك راضيا بتصرف ذي اليد في ماله ولكنه
يدعى ضمانه بعوضه وهو يدعى فراغ ذمته عنه ففي مثل ذلك مقتضى الأصل
عدم الضمان على تفصيل تقدم.
العاشرة: ان ما يمكن ان يستدل به على جواز التمسك بالعام في
الشبهات المصداقية هو أن ظهور العام في العموم قد انعقد والمخصص
المنفصل لا يكون مانعا عن انعقاده على الفرض والمفروض ان هذا الظهور
حجة ما لم يقم دليل على خلافه ولا دليل عليه بالإضافة إلى الافراد المشكوكة
حيث إن الخاص لا يكون حجة فيها وقد عرفت بشكل موسع خطأ هذا
الاستدلال فلا حظ.
الحادية عشرة: ان شيخنا العلامة الأنصاري (قده) فصل بين
ما كان المخصص لفظيا وما كان لبيا فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعام
246

دون الثاني وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية (قده) أيضا وقد أفاد في
وجه ذلك ما يرجع إلى عدة خطوط وقد فصلنا الكلام حول هذه الخطوط
بشكل موسع وقلنا إن هذا التفصيل لا يرجع إلى معنى محصل فالصحيح
هو تفصيل آخر وهو ان في كل مورد ثبت ان أمر التطبيق أيضا بيد
المولى يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية وكل مورد كل أمر
التطبيق بيد المكلف لا يجوز التمسك به.
الثانية عشرة: الصحيح جريان الأصل في الاعدام الأزلية وعليه
فيمكن احراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام وترتب حكمه عليه ولكن
الكر ذلك شيخنا الأستاذ (قده) وشدد ذلك ببيان مقدمات: وقد ذكرنا
ان المقدمات التي ذكرها (قده) بأجمعها في غاية الصحة والمتانة إلا انها
لا تقتضي عدم جريان هذا الأصل وان المأخوذ في موضوع العام بعد
التخصيص هو العدم النعتي لا محمولي وقد عرفت ان المأخوذ فيه هو العدم
المحمولي وعليه فلا مانع من جريان هذا الأصل لاحراز ان الفرد المثبتة
داخل في أفراد العام ومحكوم بحكمه.
الثالثة عشرة: أنه يعتبر في صحة النذر أن يكون متعلقه راجحا فلو
شك في ذلك لم يجز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر لان الشبهة مصداقية
فلا يجوز التمسك بالعام فيها، وأما صحة الاحرام قبل الميقات بالنذر
وكذلك الصوم في السفر فإنما هي من جهة الروايات الخاصة لا من جهة
التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر.
الرابعة عشرة: إذا علم بخروج فرد عن حكم العام وشك في أن
خروجه من باب التخصيص أو من باب التخصص فلا يمكن التمسك
بأصالة عدم التخصيص لاثبات ان خروجه من باب التخصص فان الأصول
اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجة إلا أنه لا دليل على جريانها في مثل المقام.
247

الخامسة عشرة: ان الأقوال في ماء الاستنجاء ثلاثة الصحيح بمقتضى
الفهم العرفي انه طاهر فان ما دل على طهارة ماء الاستنجاء بالملازمة العرفية
يتقدم على ما دل على نجاسته كذلك، لوروده في مورد خاص.
(الفحص عن المخصص)
قبل التكلم في أدلته ينبغي تقدم - ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده)
تبعا للمحقق صاحب الكفاية - وهو نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص
في موارد الأصول العملية وحاصلها هو ان الفحص في المقام إنما هو عن
المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها - وهو ظهوره في العموم -
حيث أنه قد انعقد لفرض عدم الاتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد
ظهوره في العموم، والفحص إنما هو عن وجود قرينة منفصلة وهي إنما
تزاحم حجية العام لا ظهوره، فالمقتضي للعمل به موجود - وهو الظهور -
والفحص إنما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع، وهذا بخلاف
الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالأصول العملية، فإنه
لتتميم المقتضي، أما بالإضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح حيث إن
العقل لا يستقل بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من
الفحص عن أحكام المولى المتوجهة إليه، لوضوح أنه لا يجب على المولى
ايصال الاحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شئ منها، بل الذي
هو وظيفة المولى بيان الاحكام لهم على النحو المتعارف بحيث انهم لو قاموا
بما هو وظيفتهم وهي الفحص عنها لوصلوا إليها.
وعلى هذا الضوء فلا يكون موضوع أصالة البراءة العقلية محرزا قبل
الفحص، فان موضوعها عدم البيان فلابد في جريانها من احرازه، ومن
248

المعلوم أنه قبل الفحص غير محرز حيث يحتمل وجود بيان في الواقع بحيث
لو تفحصنا عنه لوجدناه، ومع هذا الاحتمال كيف يكون محرزا.
فالنتيجة ان عدم جريانها قبل الفحص إنما هو لعدم المقتضي لها
والفحص إنما هو لتميمه واحراز موضوعها. وعلى الجملة فمن البديهي
ان العقل يستقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول إذا لم
يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى مع احتمال قيام
المولى بما هو وظيفته من بيان أحكامه المتوجهة إلى عبده بحيث ان العبد
لو تفحص عنها لظفر بها، ومعه كيف يكون العقل مستقلا بعدم استحقاق
العقاب عليها، وقد ذكرنا في محله أنه لا تنافي بين هذه القاعدة وقاعدة
قبح العقاب من دون بيان لاختلافهما موردا وموضوعا. أما موردا فلان
مورد تلك القاعدة ما كان التكليف الواقعي فيه منجزا بمنجهما، دون
مورد هذه القاعدة أي قاعدة قبح العقاب حيث إن التكليف الواقي فيه
غير منجز لفرض عدم قيامه منجز عليه، واما موضوعا فلان موضوع تلك
القاعدة هو ما قام بيان على التكليف ومنجز عليه ولو كان ذلك البيان والمنجز
نفس احتماله في الواقع، حيث إنه منجز بحكم العقل إذا كان قبل الفحص
وأما موضوع هذه القاعدة هو ما لا يقوم بيان ومنجز عليه.
وأما البراءة الشرعية فأدلتها على تقدير تماميتها سندا وإن كانت
مطلقة وغير مقيدة بالفحص إلا أن اطلاقها قد قيد باستقلال العقل بوجوب
الفحص وانه لا يجوز العمل باطلاقها والالزم كون بعث الرسل وانزال
الكتب لغوا. ضرورة انه لو لم يجب الفحص بحكم العقل والنظر لم يمكن
اثبات أصل النبوة حيث إن اثباتها يتوقف على وجوب النظر إلى المعجزة
وبدونه لا طريق لنا إلى اثباتها. وعلى الجملة فكما ان ترك النظر إلى
المعجزة قبيح بحكم العقل المستقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث
249

الرسل وانزال الكتب، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعية المتوجهة
إلى العباد بعين هذا الملاك.
فالنتيجة ان موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيد بما بعد الفحص
فالفحص في مواردها إنما هو متمم لموضوعها، ومن ذلك يظهر حال
دليل الاستصحاب أيضا حرفا بحرف.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قد هما) بيان ذلك ان هذه النظرية وإن كانت
لها صورة ظاهرية إلا أنه لا واقع موضوعي لها، فان الفحص في
كلا المقامين كان مرة عن ثبوت المقتضي والموضوع، ومرة أخرى عن
وجود المزاحم والمانع، توضيح ذلك ان العمومات الواردة في الكتاب أو
السنة أو من الموالي العرفية إن كانت في معرض التخصيص بحيث قد
قامت قرينة من الخارج على أن المتكلم بها قد نعتمد في بيان مراداته منها
على القرائن المنفصلة والبيانات الخارجية المتقدمة أو المتأخرة زمانا حيث إن
دأبه إنما هو على عدم بيان مراده في مجلس واحد أو أخر البيان لأجل
مصلحة مقتضية لذلك كما هو الحال في عمومات الكتاب حيث إن الله تعالى
أو كل بيان المراد منها إلى النبي الأكرم (ص) وأوصيائه (ع).
ومن هنا قد ورد من الأئمة الأطهار (ع) مخصصات بالإضافة
إلى عمومات الكتاب والسنة أو ورد منهم (ع) عمومات ولكن أخر بيانها
إلى أمد آخر لأجل مصلحة تقتضي ذلك أو مفسدة في البيان كخلاف تقية
أو نحوها.
ونتيجة ذلك ان مثل هذه العمومات التي قد علمنا من الخارج انها
في معرض التخصيص وان دأب المتكلم بها إنما هو على بيان مراداته الواقعية
منها بالقرائن المنفصلة المتأخرة عنها زمانا أو المتقدمة عليها كذلك لا يكون
حجة قبل الفحص، لعدم احراز بناء العقلاء على العمل بها قبله، وبدونه
250

فلا يمكن التمسك بها، حيث إن عمدة الدليل على حجيتها إنما هو بناء
العقلاء على التمسك بها. وبما اننا لم نحرز البناء منهم بالتمسك بتلك
الطائفة من العمومات قبل الفحص عن وجود القرائن على خلافها فلا يمكن
الحكم بحجيتها بدونه، فإذا بطبيعة الحال كان الفحص عن وجود تلك
القرائن بالإضافة إلى هذه العمومات متمما للموضوع والمقتضى للعمل بها
وبدونه لا يتم، وعليه فحالها من هذه الناحية حال أصالة البراءة فكما ان
الفحص في موارد التمسك بها يكون متمما للموضوع والمقتضى له فكذلك
الفحص في موارد التمسك بهذه العمومات.
وأما إذا كانت العمومات ليست من تلك العمومات التي تكون في
معرض التخصيص كما هو الحال في أكثر العمومات الواردة من الموالي العرفية
بالإضافة إلى عبيدهم وخدمهم، أو من الموكلين بالإضافة إلى وكلائهم،
أو من الامراء بالإضافة إلى المأمورين، فان هذه العمومات ليست في
معرض التخصيص، ولأجل ذلك لا مانع من العمل بها قبل الفحص،
حيث إنها كاشفة عن أن المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي وظاهرة في
ذلك، وهذا الظهور حجة ما لم تقم قرينة على الخلاف ولا يجب عليهم
الفحص.
والسر في ذلك كله هو أن السيرة القطعية من العقلاء قد جرت
على العمل بها قبل الفحص فالتوقف عن العمل بها قبله خلاف تلك السيرة
الجارية بينهم، وهذا بخلاف تلك العمومات، فان السيرة لم تجر على
العمل بها قبل الفحص عن وجود المخصصات والقرائن على الخلاف نظرا
إلى أنها غير كاشفة عن مطابقة الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية فإذا كانت
العمومات من هذا القبيل لم يجب الفحص عنها إلا فيما إذا علم اجمالا بورود
مخصص عليها فعندئذ لا محالة يجب الفحص لأجل هذا العلم الاجمالي،
251

حيث أنه لو لم ينحل بالفحص لكان موجبا لسقوطها عن الحجية والاعتبار
وضرورة ان أصالة العموم تسقط في أطرافه.
ومن الواضح أن الفحص حينئذ إنما هو عن وجود المانع والمزاحم
مع ثبوت المقتضي للعمل بها يعني هذا العلم الاجمالي يكون مانعا عن العمل
بها مع ثبوت المقتضي له، ومثل هذه العمومات الأصول العملية في
الشبهات الموضوعية حيث إن المقتضي للعمل بها في تلك الشبهات تام ولا
قصور فيه أصلا نظرا إلى أن جريانها فيها لا يتوقف على الفحص إلا في
موارد العلم الاجمالي كما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الإنائين مثلا أو بخمرية
أحدهما، فإنه مانع عن جريان الأصول في أطرافه مع ثبوت المقتضي لها
وعدم قصور فيه أبدا، ولذا لو انحل هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بنجاسة
أحدهما وجدانا أو تعبدا فلا مانع من جريانها في الآخر.
فالنتيجة أنه لا فرق بين الأصول العملية في الشبهات الموضوعية وتلك
الطائفة من العمومات وانهما من واد واحد.
إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النقطة وهي أنه لا فرق بين
الفحص في موارد الأصول اللفظية والفحص في موارد الأصول العملية
فما أفاده شيخنا الأستاذ (قده) تبعا للمحقق صاحب الكفاية (قده)
من الفرق بينهما خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا.
وبعد ذلك نقول: إن المعروف والمشهور بين الأصحاب هو عدم
جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص وهذا هو الصحيح واستدل على
ذلك بعدة وجوه: ولكنها بأجمعها مخدوشة وغير قابلة للاستدلال بها.
الأول: ان الظن بمراد المولى من العموم لا يحصل قبل الفحص
فلزوم الفحص إنما هو لتحصيل الظن به. وان شئت قلت: ان حجية
اعمالة العموم ترتكز على ما افاده الظن بمراد المولى، بما انها لا تقيد
252

الظن قبل الفحص عن وجود المخصصات في الواقع فيجب حتى يحصل
الظن به.
ويرد عليه أولا: أنه أخص من المدعى، فان المدعي هو وجوب
الفحص مطلقا وان فرض حصول الظن منها قبل الفحص مع أن لازم هذا
الوجه هو عدم وجوبه في هذا الفرض. وثانيا: ان حجية أصالة العموم
إنما هي من باب إفادة الظن النوعي دون الشخصي كما ذكرناه بشكل موسع
في محله، وعليه فهي حجة سواء أفادت الظن أم لم تفيد، بل لا يضر
بحجيتها قيام الظن الشخصي على الخلاف فضلا عن الظن بالوفاق.
الثاني: ان خطابات الكتاب والسنة خاصة للمشافهين فلا تعم غيرهم
من الغائبين والمعدومين وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسكوا بعموم تلك
الخطابات لفرض أنها غير متوجهة إليهم، بل لابد في اثبات الحكم
المتوجه إلى المشافهين لهم من التمسك بذيل قانون الاشتراك في التكليف.
ومن الطبيعي ان التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين
من تلك الخطابات وأنه عام أو خاص، ومن المعلوم أن تعيينه منها يتوقف
على الفحص، فإذا يجب على غير المشافهين الفحص.
فالنتيجة ان هذه النظرية تستلزم وجوب الفحص عن القرائن
والمخصصات على غير المشافهين.
ويرد عليه أولا: أنه أخص من المدعى حيث أن جميع الخطابات
الواردة في الكتاب والسنة بشتى أنواعها ليس من الخطابات المشافهة،
ضرورة أن بعضها ورد على نحو القضية الحقيقية.
ومن الطبيعي أنها غير مختصة بالمشافهين كقوله تعالى: " ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " وما شاكله وكقوله (ع) (كل
شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر) (وكل مسكر حرام) وما شابهها.
253

وثانيا: انا سنذكر في ضمن البحوث الآتية انها لا تختص بالمشافهين والحاضرين
في مجلس الخطاب، بلى تعم غير هم من الغائبين والمعدومين أيضا.
الثالث: ان كل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب
والسنة يعلم اجمالا بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة فيهما.
وبتعبير آخر أن المتصدي لذلك يعلم اجمالا بوجود قرائن على إرادة خلاف
الظواهر من الكتاب والسنة وقضية هذا العلم الاجمالي عدم جواز العمل
بها إلا بعد الفحص عن المخصص والقيد كما أن قضية العلم الاجمالي بوجود
واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة عدم جواز العمل بالأصول العملية
الا بعد الفحص عن الحجية على التكليف.
وقد يورد عليه بان المدرك لوجوب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي
لكانت قضيته وجوب الفحص عن كل ما يحتمل أن يكون فيه مخصص
أو مقيد سواء أكان من الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة أم كان
من غيرها.
أو فقل ان لازم ذلك هو وجوب الفحص عن كل ككتاب يحتمل
أن يكون فيه مخصص أو مقيد من دون فرق بين كون ذلك الكتاب
كتابا فقهيا أو أصوليا أو غير هما.
ومن الطبيعي ان المجتهد لا يتمكن من الفحص عن كل مسألة مسألة
كذلك حيث إن عمروه لا يفي بذلك، وهذا دليل على أن المدرك لوجوب
الفحص ليس هذا العلم الاجمالي.
والجواب عنه ان لنا علمين اجماليين: (أحدهما) علم اجمالي بوجود
مخصصات ومقيدات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين (ع).
(وثانيهما) علم اجمالي بوجودهما في ضمن خصوص الروايات الموجودة
في الكتب المعتمدة للشيعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة، وقضية العلم
254

الاجمالي الأول وإن كانت هي وجوب الفحص من كل كتاب أو باب
يحتمل وجود المخصص أو المقيد فيه الا ان هذا العلم الاجمالي ينحل بالعلم
الاجمالي الثاني، حيث إن المعلوم بالاجمال في ذاك العلم ليس بأزيد من
المعلوم بالاجمال في هذا العلم، ومعه لا محالة ينحل العلم الاجمالي الأول
بالعلم الاجمالي الثاني يعني أنه لا علم لنا بوجود مخصص أو مقيد في الخارج
عن دائرة العلم الاجمالي الثاني وإن كان احتماله موجودا الا انه لا أثر له
ولا يكون مانعا عن التمسك بالعموم أو الاطلاق.
ومن الطبيعي ان الفحص عن وجود المخصص أو المقيد في كل مسألة
في الأبواب المناسبة لهما بمكان من الامكان ولا يلزم منه محذور العسر
والحرج عادة فضلا عن عدم امكان ذلك، نظير ذلك ما إذا علمنا اجمالا
بنجاسة عشرة انائات في ضمن مائة اناء ثم علمنا اجمالا بنجاسة العشرة
في ضمن الخمسين، ونحتمل أن تكون العشرة في ضمن المأة بعينها هي
العشرة في ضمن الخمسين.
وعلى هذا فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأول بالعلم الاجمالي الثاني
يعني لا علم لنا بالنجاسة الخارجة عن دائرة العلم الاجمالي الثاني وهذا هو معنى
الانحلال فإذا لا يجب الاجتناب إلا عن أطراف هذا العلم الاجمالي الثاني دون
الزائد عنها، وقد أجبنا بمثل هذا الجواب عن هذه الشبهة التي أوردها هناك
أيضا على وجوب الفحص في موارد التمسك بالأصول العملية فلا حظ.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان هذه الاشكال غير وارد على هذا
الوجه. نعم يرد عليه اشكال آخر هو أن المقتضى لوجوب الفحص أركان
هذا العلم الاجمالي فبطبيعة الحال أنه إنما يقتضي وجوبه ما دام لم ينحل
فإذا انحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن مقتض
لوجوب الفحص بعده لا محالة.
255

وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم قبل الفحص، مع أن المدعي
وجوبه مطلقا ولو بعد الانحلال، ومن هنا يعلم أن العلم الاجمالي بما هو
لا يصلح أن يكون مدركا لوجوبه على الاطلاق.
هذا وقد تصدى شيخنا الأستاذ (قده) ان هذا العلم الاجمالي غير قابل
للانحلال وأفاد في وجه ذلك ما إليك نصه: ليس الميزان في انحلال العلم
الاجمالي هو مجرد وجود القدر المتيقن في البين ليترتب عليه ما ذكرت من
انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف أو
المخصصات المستلزم لعدم وجوب الفحص وبعد ذلك عند احتمال
تكليف أو تخصيص، بل الميزان في الانحلال أمر آخر لابد في توضيحه
من بيان أمور:
الأول: أنه لابد في موارد العلم الاجمالي من تشكيل قضية شرطية على
سبيل منع الخلو، ضرورة أنه لازم العلم بأصل وجود الشئ مع الشك في
خصوصيته وانطباقه على كل واحد من أطرافه.
الثاني: أنه يختلف موارد العلم الاجمالي فتارة تكون القضية الشرطية
التي لابد منها في موارد العلم الاجمالي مؤتلفة من قضية متيقنة وقضية أخرى
مشكوك فيها كما هو الحال في موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر،
وأخرى تكون القضية الشرطية المزبورة مؤتلفة من قضيتين يكون كل منهما
مشكوكا فيه كما هو الحال في موارد دوران الامر بين المتباينين. وثالثة
تكون تلك القضية جامعة لكلتا الخصوصيتين فهي من جهة تكون مؤتلفة
من قضية متيقنة وأخرى مشكوك فيها. ومن جهة أخرى مؤتلفة من قضيتين
مشكوك فيهما، ولازم ذلك انحلال العلم الاجمالي إلى علمين اجماليين أحدهما
من قبيل القسم الأول، والثاني من قبيل القسم الثاني.
الثالث: من القضايا التي قياساتها معها وهو استحالة أن يزاحم ما لا يقتضي
256

خلاف شئ لما يقتضي ذلك.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن الانحلال في القسم الأول كعدمه
وفي القسم الثاني مما لا ريب فيه ولا اشكال، وأما القسم الثالث نفي
انحلال العلم الاجمالي فيه وعدمه خلاف، وتوهم الانحلال فيه هو الموجب
لتوهم الانحلال في المقام.
ولكن التحقيق خلافه، وتوضيحه: مع التطبيق على المقام هو
ان يقال اننا إذا علمنا بعد المراجعة إلى ما بأيدينا من الكتب المعتبرة ان
فيها ما يخالف الأصول اللفظية والعملية فكل ما فيها من التكاليف الالزامية
والتخصيصات الواردة على العمومات يكون متنجزا لا محالة، لأن المفروض
تعلق العلم به بهذا العنوان أعني به وروده في تلك الكتب، وهذا العلم
يوجب التنجز بمقدار عنوان متعلقه.
وعليه فالأحكام والمخصصات الواقعية الموجودة في تلك الكتب بما
أنها معلومة بهذا العنوان مع قطع النظر عن مقدار كميتها تكون ذات علامة
وتعين فلا ينحل العلم بها بالظفر بمقدار يعلم بتحققه من التكاليف والمخصصات
في هذه الكتب. فان العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر إنما يكون
منحلا إلى العلم بوجود الأقل والشك في وجود الأكثر إذا لم يكن الأكثر
طرفا لعلم اجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلحظ فيه الكمية.
وأما فيما إذا كان كذلك كما في المقام فلا يكون للعلم بوجود الأقل
موجبا للانحلال - لان غاية الأمر ان العلم بالتكاليف أو المخصصات من
جهة تعلقه بما هو مردد بين الأقل والأكثر لا يكون مقتضيا لتنجز الأكثر
وذاك لا ينافي تنجزها من جهة تعلقه بماله تعين وعلامة.
وعليه فكل حكم احتمل المكلف جعله في الشريعة المقدسة أو كل
عام احتمل أن يكون له مخصص يجب الفحص عنه في تلك الكتب
257

لكونه من أطراف العلم الاجمالي المتعلق بماله تعين وعلامة. ولا يفرق في
ذلك بين الظفر بالمقدار المتيقن من حيث الكمية والعدد وعدم الظفر به.
وبالجملة المعلوم بالاجمال في محل الكلام وإن كان مرددا بين الأقل
والأكثر إلا أن ذلك بمجرده لا يكفي في عدم تنجز الأكثر بعد تعلق العلم به
بعنوان آخر لم تلحظ فيه الكمية والعدد، فغاية ما هناك هو عدم اقتضاء
العلم الثاني للتنجز بالإضافة إلى المقدار الزائد على المتيقن، لا أنه يقتضي
عدم التنجز بالإضافة إلى ذلك المقدار فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم
الأول للتنجز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدمة الثالثة
ونظير ذلك ما إذا كنت عالما بأنك مديون لزيد بمقدار مضبوط يمكن العلم به
تفصيلا بالمراجعة إلى الدفتر فهل يساعد وجدانك على أن تكتفي بمراجعة
الدفتر بمقدار يكون فيه القدر المتيقن من الدين وهل عدم الاكتفاء به إلا
من جهة العلم باشتغال الذمة بمجموع ما في الدفتر الموجب لتنجز الواقع
المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الامر من الكمية والمقدار،
فاتضح مما ذكرناه ان الانحلال يتوقف زائدا على كون المعلوم مرددا بين
الأقل والأكثر على أن لا يكون متعلق العلم معنونا بعنوان آخر غير ملحوظ
فيه الكمية والعدد.
وأما إذا كان كذلك فلا يعقل فيه الانحلال ويستحيل أن يكون مجرد
اليقين بمقدار معين مما يندرج تحت ذلك العنوان موجبا له، فإنه يستلزم
سقوط ما فيه الاقتضاء عن اقتضائه لأجل ما لا اقتضاء فيه وهو غير معقول.
نلخص ما أفاده (قده) في عدة نقاط.
الأولى: ان الضابط في انحلال العلم الاجمال ليس هو الظفر بالمقدار
المعلوم والمتيقن، بل له نكتة أخرى لابد في الحكم بالانحلال من توفر
تلك النكتة، وسوف يأتي توضيحها في ضمن النقاط التالية:
258

الثانية: ان القضية للتشكلة في مورد لاعلم الاجمالي مرة تكون مركبة
من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها كما هو الحال فيما إذا كان المعلوم
بالاجمال مرددا بين الأقل والأكثر. وأخرى تكون مركبة من قضيتين
مشكوكتين كما إذا تردد المعلوم بالاجمال بين أمرين متباينين. وثالثة تكون
جماعة بين الامرين يعني أن العلم الاجمالي في هذه الصورة ينحل في الحقيقة
إلى علمين اجماليين، فالمعلوم بالاجمال في أحدهما مردد بين الأقل والأكثر
وفي الآخر بين المتباينين، فهذه الصورة في الحقيقة مركبة من الصورتين
الأولتين وليست صورة ثالثة في قبالهما.
الثالثة: ان العلم الاجمالي إنما بكون قابلا للانحلال فيما إذا تعلق
بعنوان لو حظ فيه الكمية والعدد من دون أن يكون ذا علامة وتعين في
الواقع كما هو الحال في أكثر موارد العلم الاجمالي.
وأما إذا كان متعلقا بعنوان ذات علامة وتعين في الواقع ولم تلحظ فيه
الكمية والعدد فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن، ومثال ذلك
هو ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الانائات، وعلم أيضا بنجاسة خصوص
اناء زيد مثلا المردد بين تلك الانائات واحتمل أن يكون المعلوم بالاجمال
في العلم الاجمالي الأول هو اناء زيد كما احتمل أن يكون غيره، وبما أن
المعلوم بالعلم الاجمالي الثاني ذو علامة وتعين في الواقع دون المعلوم في العلم
الاجمالي الأول فلا ينحل الثاني بانحلال الأول بالظفر بالمقدار المعلوم حيث
أن نسبة؟؟ زيد إلى كل واحد من هذه الانائات على حد سواء من دون
فرق بين المعلوم منها التفصيل والمشكوك منها بالشك البدوي.
وان شئت قلت: ان العلم التفصيلي بنجاسة أحدها وإن كان يوجب
انحلال العلم الاجمالي الأول جزما إلا أنه لا يؤثر بالإضافة إلى العلم الاجمالي
الثاني، فان المعلوم بالاجمال فيه وان احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل
259

إلا أن مجرد ذلك لا يكفي بعدما كانت نسبته إلى كل واحد منها نسبة
واحدة فلا تنحل القضية الشرطية فيه إلى قضيتين حمليتين.
إحداهما: متيقنة، والأخرى: مشكوك فيها حيث إن ملاك انحلال
العلم الاجمالي هو انحلال هذه القضية وهي قد انحلت في العلم الاجمالي
الأول على الفرض دون العلم الاجمالي الثاني، وما نحن فيه من هذا القبيل
فان لنا علمين اجماليين.
أحدهما: متعلق بوجود المخصصات والمقيدات المردد في الواقع بين
الأقل والأكثر.
وثانيهما: متعلق بوجوداتهما في خصوص الكتب الأربعة مثلا فالعلم
الاجمالي الثاني يمتاز عن العلم الاجمالي الأول حيث إن المعلوم بالاجمال
في العلم الثاني ذات علامة وتعين في الواقع دون المعلوم بالاجمال في
العلم الأول.
ونتيجة ذلك هي: ان العلم الاجمالي الأول ينحل بالظفر بالمقدار
المعلوم دون الثاني، نظرا إلى أن المعلوم بالاجمال فيه ذات علامة وتعين
في الواقع من دون لحاظ الكمية والعدد فيه.
وعلى الجملة فإذا ظفرنا بالمقدار من المخصص والمقيد فان لو حظ
بالإضافة إلى العلم الاجمال الأول فإن كان بمقدار المعلوم بالاجمال فيه
فقد انحل لا محالة، وان لوحظ بالإضافة إلى العلم الاجمالي الثاني لم يؤثر
فيه أصلا حيث لم تلحظ فيه الكمية، فما دام العلم الاجمالي متعلقا بما له
تعتين وعلامة في الواقع فهو غير قابل للانحلال، ولا ينتفى إلا بانتهاء
تعينه وعلامته فيه، ولازم ذلك هو وجوب الاحتياط بالإضافة إلى كل
ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال المعنون بهذا العنوان والعلامة، وفي المقام
العلم الاجمالي الأول الذي يدور المعلوم بالاجمال فيه بين الأقل والأكثر وان
260

انحل بالظفر بالمقدار والمعلوم بالاجمال - وهو الأقل - ولازمه هو عدم وجوب
الفحص عن المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر إلا أن هذا الأكثر طرف للعلم
- الاجمالي الثاني وهو يقتضي وجوب الفحص عنه في ضمنه؟؟؟ يزاحم
ما لا اقتضاء له - وهو العلم الاجمالي الأول - ما له اقتضاء - وهو العلم
الاجمالي الثاني -.
الرابعة: ما إذا علم شخص اجمالا بأنه مديون لزيد مثلا بمقدار
مضبوط في الدفتر يمكن العلم به تفصيلا بالمراجعة إليها لم يجز له الرجوع
إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد العلم التفصيلي بالمقدار المتيقن من الدين،
وليس هذا إلا من ناحية أن المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي ذات
علامة وتعين في الواقع فهو لا محالة يوجب تنجز الواقع المعنون بهذا
العنوان على ما هو عليه في نفس الامر من الكمية والمقدار.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها أصلا،
والسبب فيه هو ان الضابط في انحلال العلم الاجمالي إنما هو الظفر بالمقدار
المعلوم بالاجمال تفصيلا بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي، فإنه إذا ظفر
المكلف بهذا المقدار واحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه كما هو كذلك
فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالإضافة إلى المقدار
المعلوم بالاجمال والشك البدوي بالإضافة إلى غيره فعندئذ لا مانع من الرجوع
إلى الأصل في غير موارد العلم التفصيلي.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم بالاجمال؟؟؟ علامة وتعين
في الواقع وان لا يكون كذلك، ضرورة أن المعلوم بالاجمال إذا احتمل
انطباقه على المعلوم بالتفصيل أو على المعلوم بالاجمال في علم اجمالي آخر
فضلا عن احرازه فقد انحل ولو كان ذا علامة وتعين في الواقع ولا تبقى
261

القضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو، بل تنحل إلى
قضيتين جملتين: إحداهما: متيقنة - والأخرى: مشكوك فيها، وليس
لانحلاله نكتة أخرى سوى ما ذكرناه، وما أفاده (قده) من النكتة
سوف يأتي بطلانها بشكل موسع في ضمن البحوث التالية.
وأما النقطة الثانية: فيرد عليها أن فرض القضية المتشكلة في موارد
العلم الاجمالي مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها بعينه هو فرض
انحلال العلم الاجمالي. أو فقل: ان في كل مورد كان المعلوم بالاجمال
مرددا بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ففيه صورة للعلم الاجمالي لا واقعه
الموضوعي.
نعم فيما إذا كان الأقل والأكثر ارتباطيين فالعلم الاجمالي في مواردها
وإن كان موجودا إلا أن القضية الشرطية فيها ليست مركبة من قضية
متيقنة وقضية مشكوك فيها، بل هي مركبة من قضيتين مشكوكتين حيث إن
العلم الاجمالي في مورد هما قد تعلق بالجامع بين الاطلاق والتقييد وكل
منها مشكوك فيه، وبما أن الأصل في طرف الاطلاق غير جار لعدم الكلفة
فيه فلا مانع من جريانه في طرف التقييد، وبذلك ينحل العلم الاجمالي
حكما لما حققناه في الأصول من أن تنجيز العلم الاجمالي إنما يقوم على
أساس عدم جريان الأصول في أطرافه وسقوطها من جهة المعارضة.
وأما إذا افترضنا ان الأصل قد جرى في بعض أطرافه بلا معارض
فلا يكون العلم الاجمالي مؤثرا وما نحن فيه من هذا القبيل. فالنتيجة ان
ما فرضه (قده) من تركب القضية في مورده أي مورد العلم الاجمالي
هو فرض انحلاله لا فرض وجوده.
وأما النقطة الثالثة: فهي أو تمت فإنما تتم في المثال الذي ذكرناه
لا في المقام، والسبب فيه هو ان المعلوم بالاجمال هنا وإن كان ذا علامة
262

وتعين في الواقع إلا أنه إنما يمنع من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار
المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مرددا بين الأقل والأكثر كالمثال الذي
قدمناه آنفا.
وأما إذا كان ماله العلامة والتعين مرددا أيضا بين الأقل والأكثر
فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع، فكما
أن ما ليس له العلامة والتعين فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم،
فكذلك ماله العلامة والتعين، وما نحن فيه كذلك، فان ماله العلامة
والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعين فلا فرق بينهما من هذه
الناحية يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.
وان شئت فقل: كما أن العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات
في الشريعة المقدسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن، كذلك العلم
الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل
بذلك، والنكتة فيه ان المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي كالمعلوم بالاجمال
في العلم الاجمالي الأول يعني أن أمره دائر بين الأقل والأكثر.
وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلا فلا علم بعده
بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر، والشاهد عليه هو اننا لو
أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص
أو المقيد فيها، وهذا معني انحلال العلم الاجمالي.
وعلى الجملة ان قوام العلم الاجمالي إنما هو بالقضية الشرطية المتشكلة
في مورده على سبيل مانعة الخلو فإذا انحلت هذه القضية إلى؟؟؟
جملتين: إحداهما: متيقنة والأخرى: مشكوك فيها فقد انحل العلم
الاجمالي ولا يعقل بقائه.
والمفروض في المقام قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين،
263

ومجرد كون المعلوم بالاجمال فيه ذا علامة وتعين في الواقع لا يمنع عن
انحلاله بعد ما كان في نفسه مرددا بين الأقل والأكثر كالمعلوم بالاجمال في
العلم الاجمالي الأول. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان ما أفاده (قده) لا يتم في المثال الذي ذكرناه
أيضا بناء على ضوء نظريته (قده) من أن العلم الاجمالي مقتض للتنجيز
دون العلة التامة، والوجه في ذلك هو ان المكلف إذا علم بوجود نجس
بين إناءات متعددة مردد بين الواحد والأكثر وعلم أيضا بنجاسة اناء زيد
بالخصوص المعلوم وجوده بين هذه الإناءات فإنه إذا علم بعد ذلك وجدانا
أو تعبدا بنجاسة أحد تلك الإناءات بعينه فهذا العلم التفصيلي كما يوجب
انحلال العلم الاجمالي الأول المتعلق بوجود النجس بينها المردد بين الأقل
والأكثر كذلك يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني لاحتمال أن الاناء المعلوم
نجاسته تفصيلا - هو اناء زيد - فلا علم بوجود اناء زبد بين الإناءات
الباقية، كما لا علم بوجود النجس بينها، فإذا لا مانع من الرجوع إلى
أصالة الطهارة في الإناءات الباقية، ولا يلزم من جريانها فيها مخالفة
قطعية عملية.
والمفروض ان المانع عن جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي
إنما هو لزوم المخالفة القطعية العملية فإذا افترضنا ان جريانها في أطرافه
لا يستلزم تلك المخالفة فلا مانع منه.
وبكلمة أخرى أن تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على تعارض الأصول
في أطرافه بتقريب ان جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية
وفي البعض دون الآخر ترجيح من غير مرجح فلا محالة تسقط في الجميع
وأما إذا افترضنا أنه لا يلزم من جريانها في أطرافه المخالفة القطعية العملية
التي هي المانع الوحيد عنه فلا يكون العلم الاجمالي منجزا، وحينئذ لا مانع
264

من جريانها فيها، وما نحن فيه كذلك حيث أنه لا مانع من جريان أصالة
الطهارة في الإناءات الباقية بأجمعها لفرض عدم لزوم المخالفة القطعية العملية
منه التي هي ملاك المعارضة بين جريانها فيها الموجبة لسقوطها فإذا
جرت أصالة الطهارة فيها فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي فيصبح وجوده
كعدمه.
وفي نهاية الشوط قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي أنه بناء
على أساس نظريته (قده) من أن العلم الاجمالي يكون مقتضيا للتنجيز لا العلة
التامة كما قوينا أيضا هذه النظرية لا يفرق بين كون المعلوم بالاجمال ذا
علامة وتعين في الواقع وما لا علامة والتعين له، وماله العلامة لا يفرق فيه
بين أن يكون مرددا بين الأقل والأكثر ومالا يكون مرددا بينهما فان العلم
الاجمالي في جميع هذه الصور ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم يعني أنه لا مانع
بعد ذلك من الرجوع إلى الأصول فيما عدا هذا المقدار المتيقن تفصيلا،
حيث إن المانع من الرجوع إليها في أطرافه إنما هو وقوع المعارضة بينها
وحيث إن منشأه لزوم المخالفة القطعية العملية وهي غير لازمة في المقام
في تمام هذه الشقوق.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه ان العلم الاجمالي بوجود المخصصات
أو المقيدات لا يصلح أن يكون ملاكا لوجوب الفحص وإلا لكان لازمه
عدم وجوبه بعد انحلاله مع أن الامر ليس كذلك.
وأما النقطة الرابعة: فقد ظهر خطأها مما ذكرناه، فان مجرد العلم
الاجمالي بكون مقدار الدين مضبوطا في الدفتر لا يوجب الاحتياط والفحص
بعد الظفر بالمقدار المتيقن ثبوته، لفرض أنه قد انحل بعد الظفر بهذا
المقدار إلى قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها.
ومجرد كون المعلوم بالاجمال هنا ذا علامة وتعين في الواقع لا يمنع
265

عن انحلاله كما عرفت آنفا ولا سيما فيما إذا كان مرددا بين الأقل والأكثر
كما هو كذلك في المثال، فإنه ينحل لا محالة بالظفر بالمقدار المتيقن.
وعليه فوجوب الفحص عن الزائد على هذا المقدار يحتاج إلى دليل
آخر يدل عليه بعد عدم الاطمئنان باشتمال الدفتر على الزائد عنه.
ومن هنا لو لم يتمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو نحو ذلك
لم يجب عليه الاحتياط جزما بأداء ما يقطع معه بفراغ الذمة واقعا، بل
يرجع إلى أصالة البراءة بالإضافة إلى الزائد على المقدار المعلوم والمتيقن،
لفرض الشك في اشتغال الذمة به، وهذا دليل على أن العلم الاجمالي المزبور
لا يكون منجزا للواقع على ما هو عليه.
ثم إن شيخنا الأستاذ (قده) بين وجها آخر لوجوب الفحص وحاصله
هو أن حجية أصالة العموم إنما هي لكشفها عن مراد المتكلم في الواقع
وهو متقوم بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله التي تكشف عن عدم دخل
قيد ما في مراده نظرا إلى أن أدات العموم إنما وضعت للدلالة على عموم
ما يراد من مدخولها ولا تكون متكفلة لبيان ان المراد من مدخولها هو
الطبيعة المطلقة دون المقيدة، فان اثبات ذلك يتوقف على جريان مقدمات
الحكمة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة موسعا.
هذا من ناحية: ومن ناحية أخرى حيث اننا قد علمنا بعد مراجعة
الأدلة الشرعية ان طريقة الشارع قد استقرت على ابراز مراداته وبيان
مقاصده من ألفاظه الصادرة منه في هذا المقام بالقرائن المنفصلة حتى قبل
أنه لم يوجد عام في الكتاب والسنة إلا وقد ورد عليه تخصيص منفصل
عنه لا يكون للعمومات الواردة فيهما ظهور تصديقي كاشف عن المراد قبل
الفحص عن مخصصاتها.
ومن الطبيعي أن ما لم يكن لها هذا الظهور يعني الظهور التصديقي
266

الكاشف عن المراد قبل الفحص عنها لا محالة لا تكون حجة يصح
الاعتماد عليها.
وعلى ضوء هذا العلم يعني العلم بأن ديدن الشارع قد استقر على ذلك فقد
الهدم أساس جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأدات أي أدات العموم
فإنها إنما تجري في مدخول العمومات التي يكون المتكلم بها في مقام بيان
مراداته منها ولم تستقر سيرته على بيان مقاصده بالقرائن المنفصلة كما هو
الحال في عمومات الكتاب والسنة حيث إنها واردة في عصر النبي (ص)
ومخصصاتها قد وردت في عصر الأئمة (ع)، وكذا الحال في العمومات
الصادرة منهم (ع)، فان بنائهم ليس على ابراز مقاصدهم وموداتهم
في مجلس واحد لمصلحة دعت إلى ذلك أو لمفسدة في البيان.
ومن الطبيعي ان هذا العلم أوجب هدم أساس المقدمات فلا يعقل
جريانها في مدخول مثل هذه العمومات لفرض ان من مقدمات الحكمة عدم
نصب المتكلم القرينة على الخلاف فإذا علمنا من الخارج أن ديدن هذا المتكلم
قد جرى على نصب القرينة المنفصلة على الخلاف فكيف تجري المقدمات
في كلامه.
فإذا لم تجر المقدمات لم ينعقد له ظهور تصديقي في العموم حتى
يكون كاشفا عن مراده الجدي في الواقع.
فالنتيجة ان عدم جواز التمسك بالعمومات أو المطلقات الواردة في
الكتاب أو السنة قبل الفحص إنما هو لأجل هذه النكتة.
ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه بأمرين:
الأول: ما ذكرناه سابقا بشكل موسع من أن أدات العمومات بنفسها
متكفلة لاثبات اطلاق مدخولها يعني انها تدل بمقتضى وضعها على تسرية
الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى اجراء
267

مقدمات الحكمة فيه.
الثاني: سوف ما نذكره إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد
ان مقدمات الحكمة إنما تجرى لاثبات ظهور المطلق في الاطلاق فإذا صدر
كلام مطلق عن متكلم في مجلس ولم يصدر منه قرينة على الخلاف جرت
مقدمات الحكمة فيه، وبها يثبت ظهوره في الاطلاق والعلم بأن سيرة المتكلم
قد جرت على ابراز مراداته ومقاصده بالقرائن المنفصلة، وليس بنائه على
ابرازها في مجلس واحد لا يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في كلامه إذا
لم ينصب قرينة متصلة على الخلاف.
والسبب فيه واضح هو ان القرينة المنفصلة لا تمنع عن انعقاد ظهور
المطلق في الاطلاق وإنما هي تمنع عن حجية ظهوره فيه، والمفروض ان
جريان مقدمات الحكمة إنما هو لاثبات ظهوره فلا يكون العلم المزبور
مانعا عنه.
وعلى الجملة فبناء على تسليم نظريته (قده) من أن دلالة أدوات
العموم على إراداته من مدخولها تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه
فما أفاده (قده) في المقام غير تام، فان القرائن المنفصلة لا تمنع عن
جريان مقدمات الحكمة في المطلق لاثبات ظهوره في الاطلاق، والمانع عنه
إنما هو القرينة المتصلة فالمراد من عدم البيان الذي هو من إحدى مقدماتها
هو عدم البيان المتصل لا المنفصل فلا يتوقف انعقاد ظهوره في الاطلاق
على عدم بيانه أيضا.
وعليه فلا محالة ينعقد ظهور العام في العموم، سع ان لازم ما أفاده
(قدس سره) هو عدم جواز التمسك بالعموم فيما إذا كان المخصص
المنفصل مجملا حيث أنه يصلح أن يكون مانعا عن جريان مقدمات الحكمة
في مدخوله فإذا لم تجر لم ينعقد ظهور للعام في العموم.
268

أو فقل ان عمومات الكتاب والسنة لا تخلو من أن ينعقد لها ظهور
في العموم ولا يتوقف انعقاد فيه على عدم وجود القرائن المنفصلة أو
لا ينعقد لها ظهور فيه.
فعلى الأول لابد من التزام شيخنا الأستاذ (قده) بعدم وجوب
الفحص حيث إن ملاكه على ما ذكره (قده) إنما هو عدم ظهور لها في
العموم فإذا افترضنا ان الظهور لها قد انعقد فيه فلا مقتضى له بعد ذلك.
وعلى الثاني لابد له من الالتزام بعدم جواز التمسك بها حتى فيما
إذا كان المخصص المنفصل مجملا، ضرورة أنه لو توقف انعقاد ظهور
العام في العموم على عدم البيان أصلا حتى المنفصل فبطبيعة الحال لا يفرق
في المخصص المجمل بين كونه متصلا أو منفصلا فكما أن اجمال الأول
يسري إلى العام ويمنع عن انعقاد ظهوره في العموم، فكذلك الاجمال الثاني
مع أنه (قده) غير ملتزم به.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن هذه الوجوه التي ذكرت
لوجوب الفحص لا يتم شئ منها.
فالصحيح في المقام ان يقال: إن ما دل على وجوب الفحص عن
الحجة في موارد الأصول العملية بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد
الأصول اللفظية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا فالملاك لوجوبه في
كلا البابين واحد، وذكرنا هناك ان ما دل على وجوبه أمران:
الأول: حكم العقل بذلك حيث أنه يستقل بأن وظيفة المولى ليست
إلا تشريع الاحكام واظهارها على المكلفين بالطرق العادية ولا يجب عليه
تصديه لجميع ماله دخل في الوصول إليهم بحيث يجب على المولى ايصال
التكليف إلى العبد ولو بغير الطرق العادية المتعارفة إذا امتنع العبد من
الاطلاع على تكاليف مولاء بتلك الطرق كما أنه يستقل بأن وظيفة العبد
269

لاطلاق الإرادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.
وعلى الجملة فالإرادة التفهيمية هي العلة لابراز الكلام واظهاره في
مقام الاثبات، فان المتكلم إذا أراد تفهيم شئ يبرزه في الخارج بلفظ،
فعندئذ ان لم ينصب قرينة منفصلة على الخلاف كشف ذلك عن أن
الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدية والا لم تكن مطابقة لها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي ان المتكلم إذا كان
متمكنا من الاتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على
الخلاف لا متصلة ولا منفصلة كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت
وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعا،
ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث فهي
قرينة عامة على اثبات الاطلاق، واما القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف
الموارد فلا ضابط لها.
بقي في المقام أمران: الأول ان القدر المتيقن بحسب التخاطب هل
يمنع عن التمسك بالاطلاق فيه وجهان: ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده)
انه يمنع عنه وتفصيل الكلام في المقام انه يريد تارة بالقدر المتيقن القدر
المتيقن الخارجي يعني انه متيقن بحسب الإرادة خارجا من جهة القرائن
منها مناسبة الحكم والموضوع.
ومن الواضح ان مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق،
ضرورة أنه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك الا نادرا فلو قال المولى
(أكرم عالما) فان المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع التقي، إذ لا يحتمل
أن يكون المراد منه غيره دونه، واما احتمال أن يكون المراد منه ذلك
دون غيره فهو موجود.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: " أحل الله البيع " فان القدر المتيقن
270

ومنها قوله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين الخ " وغير هما من الآيات. وأما الثانية: فمنها قوله (ع) (ان
الله تعالى يقول لعبده في يوم القيامة هلا عملت فقال ما علمت فيقول هلا
تعلمت) وغيرها من الروايات.
ومن الواضح ان هذا الوجه لا يختص بموارد الرجوع إلى الأصول
العملية، بل يعم غيرها من موارد الرجوع إلى الأصول اللفظية أيضا،
ضرورة أنه لا يكون في الآيات والروايات ما يوجب اختصاصهما بها.
فالنتيجة أنهما لا تختصان بمورد دون مورد وتدلان على وجوب التعلم
والفحص مطلقا بلا فرق بين موارد الأصول العملية وموارد الأصول اللفظية
هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.
وأما مقداره فهل يجب الفحص على المكلف بمقدار يحصل له العلم
الوجداني بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه وان احتمل وجوده في
الواقع، أو بمقدار يحصل له الاطمئنان بذلك، أو لا هذا ولا ذاك بل
تكفي تحصيل الظن به فيه وجوه:
أما الأول: فهو غير لازم جزما لان تحصيل العلم الوجداني بعدم
وجوده بالفحص يتوقف على الفحص عن جميع الكتب المحتمل وجوده
فيها وان لم يكن الكتاب من الكتب الحديث.
ومن الطبيعي أن هذا يحتاج إلى وقت وطويل بل لعله لا يفي العمر
بالفحص كذلك في باب واحد من أبواب الفقه فضلا في جميع الأبواب،
هذا مضافا إلى عدم الدليل على وجوبه كذلك.
وأما الثاني: فهو الصحيح نظرا إلى أنه حجة فيجوز الاكتفاء به
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن تحصيله لكل من يتصدى لاستنباط
الأحكام الشرعية من أدلتها بمكان من الامكان نظرا إلى أن الاطمئنان يحصل
271

بعدم وجوده بالفحص عنه في الأبواب المناسبة ولا يتوقف على الفحص
عن الزائد عنها، والمفروض أن تحصيل الزائد على مرتبة الاطمئنان غير
واجب.
وأما الثالث: فلا يجوز الاكتفاء به لعدم الدليل بعدما لم يكن
حجة شرعا.
فالنتيجة ان المقدار الواجب من الفحص هو ما يحصل الاطمئنان منه
بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه دون الزائد ولا أثر لاحتمال
وجوده في الواقع بعد ذلك، كما أنه لا يجوز الاكتفاء بما دونه بعني الظن
لعدم الدليل عليه.
ولصاحب الكفاية (قده) في المقام كلام وحاصله هو ان عمومات
الكتاب والسنة بما انها كانت في معرض التخصيص فالمقدار اللازم من
الفحص هو ما به يخرج عن المعرضية له.
وغير خفي ان ما أفاده (قده) لا يرجع بظاهره إلى معنى محصل
فان تلك العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضية
بالفحص عن مخصصاتها، لان الشئ لا ينقلب عما هو عليه، بل القطع
الوجداني بعدم المخصص لها لا يوجب خروجها عن المعرضية فضلا عن
الاطمئنان، ولعله (قدس سره) أراد الاطمئنان من ذلك وكيف كان
فالصحيح ما ذكرناه من أن الفحص الواجب إنما هو بمقدار يحصل منه
الاطمئنان بالعدم دون الزائد عليه.
272

الخطابات الشفاهية:
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان النزاع فيها يتصور على
وجوه: (الأول) أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب
هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب
ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهيا أو غيره كقوله تعالى: " لله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " وقوله تعالى: " أحل الله البيع "
وما شاكلهما: (الثاني) أن يكون النزاع في امكان المخاطبة مع المعدومين أو
الغائبين وعدم امكانها يعني أنه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا فالنزاع
على هذين الوجهين يكون عقليا (الثالث) أن يكون في وضع أدوات
الخطاب يعني أنها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين
والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.
وبعد ذلك نقول: الذي ينبغي أن يكون محلا للنزاع هو هذا الوجه
يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليين، لأنهما غير قابلين لان يجعلها
محلا للنزاع والكلام.
أما الأول فلان جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل
ثبوته للمعدومين بل للغائبين، ضرورة أنه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج
- وهو العاقل البالغ القادر - والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعليا في حقه
والا استحال فعليته.
وأما جعل التكليف بمعنى الانشاء وابراز الأمر الاعتباري على نحو
القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلا عن الغائبين بمكان من الامكان لوضوح
انه لا بأس يجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معا حيث إن
273

الموضوع فيها قد أخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع
وجعل الحكم له سواء أكان موجودا حقيقة أم لم يكن فالوجود الفرضي
لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجودا.
وان شئت قلت: انا قد ذكرنا في محله ان الاعتبار خفيف المؤنة
فكما أنه يتعلق بالامر الحالي، فكذلك يتعلق الامر الاستقبالي كما هو الحال
في الواجب المشروط بالشرط المتأخر.
وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية
الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية حيث إن مردها إلى الشرط المتأخر
لا محالة. ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة حيث إن
الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطنا بعد بطن
بحيث ان كل بطن لا حق بتلقي الملك من الواقف لا من البطن السابق،
ومعنى ذلك هو ان الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له فيكون زمان
المعتبر متأخرا عن زمان الاعتبار. فالنتيجة ان النزاع بهذا المعنى لا يرجع
إلى معنى معقول.
وأما الثاني: فان أريد من امكان توجيه الخطاب إلى المعدومين
والغائبين توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقة فهو غير معقول، ضرورة ان
توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلا مستحيل
فما ظنك بالمعدوم والغائب فيكون نظير الخطاب إلى الحجر، فإنه لا يعقل
إذا قصد به تفهيمه، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لا يكون عارفا
بها أو بالعكس.
وهكذا فان الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول.
وان أريد بذلك شيئا آخر كاظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك
فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلا عن الغائبين بمكان من الامكان
274

كما هو المشاهد في الصبي كثيرا حين ما يخاف أو يضربه شخص، نادى يا أبا
يا اما مع أنه يعلم بأن أبيه أو أمه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب
اظهار العجز والتظلم.
فالنتيجة ان الخطاب الحقيقي الذي يكون الداعي إليه، قصد التفهيم
لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غلفلا فضلا عن
المعدوم. واما الخطاب الانشائي الذي يكون الداعي إليه اظهار العجز أو
الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك إلى المعدوم فضلا عن الغائب بمكان
من الامكان.
وهنا شق ثالث: للخطاب وهو أن يقصد التكلم تفهيم المخاطب
حين ما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره كما إذا افترضنا ان المخاطب
نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله (إذا قمت من النوم أفعل الفعل الفلاني)
أو خاطب ولده بقوله (يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا) أو سجل
خطابه في شريط ثم يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في
ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم
وسماعهم إياه، لا من حين الصدور أو خطاب شخصا في بلد آخر بالتلفون
حيث إن خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه
كان بعده بزمان وإن كان ذلك الزمان قليلا جدا.
ومن الطبيعي أنه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين
قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير فإذا جاز
في القليل جاز في الكثير أيضا.
وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة
في الكتاب والسنة جميع البشر إلى يوم القيامة يعني كل من وصلت إليه
تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك، وكيف ما كان فلا اشكال
275

في امكان ذلك أصلا.
وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه: ان النزاع في هذا الوجه أيضا
لا يرجع إلى معنى محصل، فالذي ينبغي أن يكون محلا للنزاع هو الوجه
الأخير وهو ان أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب
الحقيقي أو الانشائي فعلى الأول لا يمكن شموله للغائبين فضلا عن المعدومين
بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلا عنه فما ظنك بالغائب
والمعدوم كما أشرنا إليه آنفا، وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين
والغائبين حيث إن مفادها حينئذ اظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعي
من الدواعي فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضة بمنزلة
الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقة، هذا، والظاهر أنها موضوعة
للدلالة على الخطاب الانشائي، فان المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب
هو اظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعي من الدواعي.
ومن الواضح ان الخطابات بهذا المعنى يشمل المعدومين بعد فرضهم
منزلة الموجودين فضلا عن الغائبين، هذا مضافا إلى أن لازم القول يكون
هذه الأدوات مستعملة في الخطاب الحقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات
الشرعية هو اختصاص تلك الخطايات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم
شمولها للغائبين فضلا عن المعدومين - وهذا مما نقطع بعدمه لان اختصاصها
بالمدركين لزمان الحضور وإن كان محتملا في نفسه الا انه لا يحتمل اختصاصها
بالحاضرين في المسجد جزما.
وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الانشائي ولو كان
ذلك بالعناية، فإذا يشمل المعدومين أيضا بعد تنزيلهم منزلة الموجودين
على ما هو لازم كون القضية حيقية، هذا كله على تقدير كون الخطابات
القرآنية خطابا من الله تعالى بلسان رسوله (ص) إلى أمته.
276

وأما إذا قلنا بأنها نزلت على قلبه (ص) قبل قراءته فلا موضوع
عندئذ لهذا النزاع حيث إنه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه
إليه الخطاب حقيقة ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب
أو عمومها الغائبين بل المعدومين.
ومن ضوء هذا البيان يظهر ان - ما أفاده شيخنا الأستاذ (قده)
في المقام من التفصيل بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية بتقريب ان
الخطاب في القضايا الخارجية يختص بالمشافهين، فان عمومه للغائبين فضلا
عن المعدومين يحتاج إلى عناية زائدة وبدونها فلا يمكن الحكم بالعموم.
وأما في القضايا الحقيقية فالظاهر أنه يعم المعدومين فضلا عن الغائبين
حيث إن توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين
الذي هو المقوم لكون القضية حقيقية - لابتم فان كون القضية حقيقية وإن كان
يقتضي بنفسه فرض الموضوع فيها موجودا والحكم على هذا الموضوع
المفروض وجوده إلا أن مجرد ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين
ضرورة ان صرف وجود الموضوع خارجا لا يكفي في توجيه الخطاب إليه
بل لابد فيه من فرض وجوده في مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب
والا لصح خطاب الغائب في القضية الخارجية من دون عناية وهو خلاف
المفروض كما عرفت.
فالنتيجة ان الصحيح هو ما ذكرناه من أن أدوات الخطاب موضوعة
للدلالة على الخطاب الانشائي دون الحقيقي. وقد مر أنه لا مانع من شمول
الخطاب الانشائي للمعدومين فضلا عن الغائبين.
الكلام في ثمرة هذا البحث قد ذكر له عدة ثمرات نذكر منها ثمرتين:
إحداهما: انه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فظواهره
تكون حجة عليهم بالخصوص، وعلى القول بعدمه فلا تكون حجة عليهم
277

كذلك. وأورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية (قده) بأنها تبتني
على مقدمتين: (الأولى) اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه.
(الثانية) أن يكون المقصود بالافهام من خطابات القران هو خصوص
الحاضرين في مجلس التخاطب.
ولكن؟؟؟ المقدمتين: خاطئة وغير مطابقة للواقع اما المقدمة الأولى
فلما حققناه في محله من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين
بالافهام بل تعم الجميع من المقصودين وغيرهم، وذلك لعدم الفرق في
السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين من قصد افهامه من الكلام ومن
لم يقصد وتمام الكلام في محله. واما المقدمة الثانية فلان المقصود بالافهام
من خطايات القرآن جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين
والمعدومين، والنكتة في ذلك ان القرآن لا يختص بطائفة دون طائفة
وبزمان دون زمان بل هو يجري كما يجرى الليل والنهار وكما تجرى الشمس
والقمر، ويجرى على آخرنا كما يجرى على أولنا، ولا يمكن القول بأن
المقصود بالافهام من خطاباته هو الحاضرين في مجلس التخاطب دون غيرهم
حيث أنه لا يناسب مكانة القرآن وعظم شأنه وانه كتاب إلهي نزل لهداية
البشر جميعا فلا محالة يكون المقصود بالافهام منها جميع البشر، غاية الأمر
ان من يكون حاضرا في مجلس التخاطب يكون مقصودا بالافهام من حين
صدورها ومن لم يكن حاضرا أو كان معدوما فهو مقصود به حين ما وصلت
إليه الآيات والخطابات.
ثانيتهما: انه على القول بالعموم والشمول يصح التمسك بعمومات
الكتاب والسنة بالإضافة إلى الغائبين والمعدومين كقوله تعالى مثلا: " إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " فإنه لا مانع من التمسك
بعمومه على هذا القول لاثبات وجود السعي لهما.
278

وأما على القول بالاختصاص وعدم العموم فلا يصح التمسك بها
لفرض ان وجوب السعي في الآية عندئذ غير متوجه إلينا لنتمسك بعمومه
عند الشك في تخصيصه، بل هو خاص للحاضرين في المجلس فاثباته
للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف هنا، وهذه القاعدة
إنما تثبت الحكم لهم إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف.
وأما مع الاختلاف فيه فلا مورد لتلك القاعدة، مثلا الحكم الثابت
للمسافر لا يمكن اثباته بهذه القاعدة للحاضر وبالعكس.
نعم إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافرا ثبت لجميع
من يكون متحدا معه في هذا العنوان بيركة تلك القاعدة.
وأما في المقام فهل يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات الحكم الثابت
للحاضرين في ذلك العصر للمعدومين فيه وجهان: الأظهر عدم امكان
التمسك بها، وذلك لعدم احراز اشتراكهم معهم في الصنف، لاحتمال
ان لوصف الحضور دخلا فيه، ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك
بهذه القاعدة.
وعلى الجملة فلا شبهة في أنه لا يمكن اختلاف أهل شريعة واحدة
في أحكام تلك الشريعة.
نعم؟؟ مختلفون فيها حسب اختلاقهم في الصنف فيثبت لكل صنف
منهم حكم خاص لا يثبت للآخر، مثلا للحائض حكم وللجنب حكم
آخر ولم نستطيع حكم ثالث وللمسافر حكم رابع وللحاضر حكم خامس
وهكذا ولا يمكن اختلاف أفراد صنف واحد في ذلك الحكم فإذا ثبت
لفرد منه ثبت للباقي فإذا دل دليل على ثبوت حكم لشخص ثبت لغيره
من الافراد المتحدة معه في الصنف، ونظير ذلك كثير في الروايات حيث إن
رواية لو كانت متكفلة لحكم شخص خاص باعتبار ورودها فيه فالحكم
279

لا يختص به " بل يعم غيره مما هو متحد معه في الصنف بقانون الاشتراك
في التكليف.
وأما إذا لم يحرز الاتحاد فيه فلا يمكن التمسك بهذه القاعدة لتسرية
الحكم من مورده إلى غيره مما لم يحرز اتحاده معه فيه، وما نحن فيه من
هذا القبيل حيث اننا لم نحرز اتحاد المعدومين مع الحاضرين في الصنف
لاحتمال دخل وصف الحضور فيه فلا يمكن التمسك بتلك القاعدة.
فالنتيجة ان الثمرة تظهر بين القولين فعلى القول بشمول الخطابات
للمعدومين يجوز لهم التمسك بها، وعلى القول بعدمه فلا يجوز لهم
ذلك هذا.
وقد أورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قده بما إليك نصه:
" ولا يذهب عليك انه يمكن اثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن
فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له باطلاق الخطاب إليهم من دون
التقييد به، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق مع إرادة المقيد معه
فيما يمكن أن يتطرق الفقدان وان صح فيما لا يتطرف إليه ذلك.
وليس المراد بالاتحاد في الصنف الا الاتحاد فيما اعتبر قيدا في
الاحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام،
بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام والا لما ثبت بقاعدة الاشتراك
للغائبين فضلا عن المعدومين حكم من الاحكام.
ودليل الاشتراك إنما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص
المشافهين فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان أولم يكونوا معنونين به شك
في شمولها لهم أيضا فلولا الاطلاق واثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم
لما أفاد دليل الاشتراك، ومعه كان الحكم يعم غير المشافهين ولو قبل
باختصاص الخطابات بهم فتأمل جيدا.
280

فنلخص أنه لا يكاد تظهر الثمرة الا على القول باختصاص حجية
الظواهر لمن قصد افهامه مع كون غير المتشافهين غير مقصودين بالافهام وقد
حقق هدم الاختصاص في غير المقام وأشير إلى منع كونهم غير مقصودين به
في خطاباته تبارك وتعالى في المقام.
وملخص ما أفاده (قده) هو ان التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف
لا يمكن إلا فيما أحرز الاتحاد في الصنف، ومن الطبيعي أنه لا يمكن
احرازه فيه إلا باحراز عدم ما كان المشافهون في ذلك الزمان واجدين له
دون غيرهم.
ومن المعلوم انه لا يمكن احراز ذلك إلا بالتمسك باطلاق الخطاب
لاثبات عدم دخله في الحكم وهو لا يمكن إلا في الأوصاف المفارقة دون
الأوصاف اللازمة للذات حيث إن ما يحتمل دخله فيه مما كان المشافهون
واجدين له إن كان من الأوصاف المفارقة وكان دخيلا في مطلوب المولى
واقعا فعليه بيانه بنصب قرينة دالة على التقييد والا لأخل بغرضه، وإن كان
من الأوصاف اللازمة وكان دخيلا فيه كذلك لم يلزم عليه بيانه ولا اخلال
بالغرض بدونه.
والنكتة في ذلك هي ان ما يحتمل دخله فيه إن كان من تلك الأوصاف
لم يمكن التمسك بالعموم والاطلاق حيث إن التمسك به فرع جريان
مقدمات الحكمة، ومع الاحتمال المزبور لا تجرى المقدمات إذ على تقدير
عدم البيان لا يكون اخلال بالغرض نظرا إلى عدم انفكاك الوصف المزبور
عن الموضوع.
وغير خفي ان ما أورده (قده) من الايراد على هذه الثمرة يتم في
غير المقام ولا يتم فيه فلنا دعويان: (الأولى) تمامية ما أفاده (قده)
في غير المقام وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل دخلها في الحكم
281

الشرعي من العوارض المفارقة كالعلم والعدالة والفسق وما شاكلها (الثانية)
عدم تماميته في المقام وهو ما إذا كان الأوصاف التي نحتمل فيه من
العوارض اللازمة للذات كالهاشمية والقرشية وما شاكلهما.
أما الدعوى الأولى: فلان احتمال دخل مثل هذه الأوصاف في ثبوت
حكم لجماعة كانوا واجدين لها مع عدم البيان من قبل المولى على دخله
فيه لا يكون مانعا عن التمسك بالاطلاق لوضوح انه لو كان دخيلا فيه
واقعا فعلى المولى بيانه وإلا لكان مخلا بغرضه وهو خلف.
والسر في ذلك هو ان الوصف المزبور بما أنه من الأوصاف والعوارض
المفارقة يعني أنه قد يكون وقد لا يكون فمجرد ان هؤلاء الجماعة واجدين
له حين ثبوت الحكم لهم غير كاف لبيان دخله فيه ولتقييد اطلاق الكلام
حيث أنه ليس بنظر العرف مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام البيان
إذا كان دخيلا في غرضه واقعا، بل عليه نصب قرينة تدل على ذلك وإلا
لكان اطلاق كلامه في مقام الاثبات محكما وكاشفا عن اطلاقه في مقام
الثبوت يعني ان مقتضى اطلاق كلامه هو ثبوت الحكم لهم في كلتا الحالتين
أي حالة وجدان الوصف المزبور وحالة فقدانه.
فالنتيجة ان احتمال دخل مثل هذا الوصف لا يكون مانعا عن جريان
مقدمات الحكمة والتمسك بالاطلاق.
وأما الدعوى الثانية: فلان احتمال دخل مثل تلك الأوصاف في ثبوت
الحكم مانع عن جريان مقدمات الحكمة والسبب فيه ان الحكم إذا ثبت
لطائفة كانوا واجدين لوصف لازم لذاتهم كالهاشمية أو نحوها وكان الوصف
المزبور دخيلا فيه واقعا صح عرفا اعتماد المتكلم عليه في مقام البيان فلا
يحتاج إلى بيان زائد.
وعليه فإذا احتمل دخله وكان المتكلم في مقام البيان فبطبيعة الحال
282

يحتمل اعتماده في هذا المقام عليه، ومعه كيف يمكن التمسك بالاطلاق.
فالنتيجة ان عدم دخله يحتاج إلى قرينة خارجية دون دخله فيه.
وبكلمة أخرى ليس لهم حالتان: حالة كونهم واجدين للوصف المزبور
وحالة كونهم فاقدين له حتى يكون لكلامه اطلاق بالإضافة إلى كلتا الحالتين
فالتقييد يحتاج إلى دليل، بل لهم حالة واحدة وهي حالة كونهم واجدين
له فلا اطلاق لكلامه حتى يتمسك به لاثبات الحكم الثابت لهم لغيرهم
فالاطلاق يحتاج إلى دليل وما نحن فيه من هذا القبيل نظرا إلى أن ما يحتمل
دخله في الحكم - وهو الوصف الحضور - من الأوصاف اللازمة، ومع
احتمال دخله فيه لا يمكن التمسك باطلاق الخطابات لاثبات الحكم لغير
الحاضرين بعين الملاك المتقدم.
فالنتيجة أنه لا بأس بهذه الثمرة.
نتائج البحوث المتقدمة عدة نقاط.
الأولى: ان ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (قده) وتبعه فيه شيخنا
الأستاذ (قده) من الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد
الأصول العملية فان الفحص هنا عن وجود المزاحم والمانع مع ثبوت المقتضي
له، وأما الفحص هناك إنما هو عن ثبوت أصل المقتضي له لا يمكن
المساعدة عليه، لما عرفت من أنه لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه
والفحص هناك.
الثانية: ان ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من عدم جواز
التمسك بعموم العام قبل الفحص هو الصحيح وإن كان ما استدلوا عليه
من الوجوه مخدوشة بتمامها.
الثالثة: قد يستدل على وجوب الفحص بالعلم الاجمالي بوجود
مخصصات ومقيدات، وهذا العلم الاجمالي أوجب لزوم الفحص عنها حيث
283

ان أصالة العموم لا تجري ما لم ينحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم
وناقش في انحلال هذا العلم الاجمالي شيخنا الأستاذ (قده) وقد تقدم
بشكل موسع ان العلم الاجمالي ينحل، وما أفاده شيخنا الأستاذ (قده)
من عدم الانحلال لا يرجع إلى معنى محصل، وبالتالي ذكرنا ان العلم
الاجمالي لا يصلح أن يكون مدركا لوجوب الفحص.
الرابعة: ان الدليل على وجوب الفحص بعينه هو الدليل على وجوبه
في موارد الأصول العملية، وقد ذكرنا هناك ان الدليل عليه أمران:
أحدهما: حكم العقل بذلك.
وثانيهما: الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص.
الخامسة: ان النزاع المعقول في شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين
والغائبين إنما هو في وضع أدوات الخطاب وانها موضوعة للدلالة على
عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين، أو موضوعة للدلالة على
اختصاصها بالحاضرين فحسب.
ثم أنه لا يمكن أن يكون النزاع في توجيه الخطاب إلى المعدومين
والغائبين حقيقة فإنه غير معقول نعم توجيه الخطاب إليهم انشاء أو بداع
آخر كاظهار العجز أو النحسر أو نحو ذلك أمر معقول.
السادسة: ذكرنا للمسألة ثمرتين:
الأولى: انه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فالظواهر
حجة بالخصوص، وعلى القول بعدم عمومه فلا تكون حجة عليهم كذلك
وأورد على هذه الثمرة صاحب الكفاية (قده) بأنها تبتني على مقدمتين
وكلتاهما خاطئة.
الثانية: انه على القول بعموم الخطاب يجوز التمسك بعمومات الكتاب
والسنة بالإضافة إلى الغائبين والمعدومين، وعلى القول بعدم عمومه لا يجوز
284

التمسك بها وهذه الثمرة لا بأس بها، ولا يرد عليها ما أورده المحقق
صاحب الكفاية (قدس سره).
(تعقب العام بضمير)
إذا عقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده فبطبيعة الحال يدور
الامر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير
بالالتزام بالاستخدام فيه ومثلوا لذلك بقوله تعالى: " والمطلقات يتربصن
بأنفسهن " إلى قوله تعالى: " وبعولتهن أحق بردهن " فان كلمة المطلقات
تعم الرجعيات وغيرها، والضمير في قوله تعالى وبعولتهن يرجع إلى خصوص
الرجعيات حيث إن حق الرجوع للزوج إنما ثبت فيها دون غيرها من
المطلقات، فإذا يقع الكلام في أن المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم
أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك وجوه بل أقوال:
اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) القول الأخير، وأفاد في وجه
ذلك ما توضيحه: لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى
أصالة عدم الاستخدام، أما أصالة العموم فلان تعقب العام بضمير يرجع
إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه حيث إن ذلك داخل
في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف، ومعه لا ظهور له
حتى يتمسك به الا على القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبدا وهو غير ثابت
جزما، وأما أصالة عدم الاستخدام فلان الأصل اللفظي إنما يكون متبعا
ببناء العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ، واما إذا كان المراد
معلوما وكان الشك في كيفية ارادته وانها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا
أصل هناك لتعينها.
285

وعلى الجملة فالأصول اللفظية بشتى أشكالها إنما تكون حجة في تعيين
المراد من اللفظ فحسب دون كيفية ارادته من عموم أو خصوص وحقيقة
أو مجاز لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وإنما بنائهم على
العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه، وبما ان المراد من الضمير فيما
نحن فيه معلوم والشك إنما هو في كيفية استعماله وانه على نحو الحقيقة
أو المجاز فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله
لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض، والدليل
الآخر غير موجود.
فالنتيجة لحد الآن هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام، لكن
كل بملاك، فان أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينة
وأصالة عدم الاستخدام بملاك ان الشك فيها ليس في المراد وإنما هو في
كيفية استعماله، فإذا لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه
الناحية هذا.
ولكن قد اختار شيخنا الأستاذ (قده) القول الأول وهو جريان
أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام وقد أفاد في وجه ذلك وجوها:
الأول: ان الاستخدام في الضمير إنما يلزم فيما إذا أريد من المطلقات
في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات
منها.
ومن الواضح ان هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص
مجازا، إذ على هذا يكون للعام معنيان: (أحدهما) معنى حقيقي وهو جميع
ما يصلح ان ينطبق عليه مدخول أداة العموم (وثانيهما) معنى مجازي وهو
الباقي من أفراده بعد تخصيصه - وعليه فبطبيعة الحال إذا أريد بالعام معناه
الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام
286

وأما بناء على ما هو الصحيح من أن العام لا يكون مجازا بعد التخصيص
فلا يكون له إلا معنى واحد حقيقي وليس له معني آخر ليراد من الضمير
الراجع إليه معنى مغاير لما أريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.
ويرد على هذا الوجه ان لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف
على كون العام مجازا بعد التخصيص، ضرورة أنه لو أريد من العام جميع
أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وان لم يستلزم كون
العام مجازي حيث إنه خلاف الظاهر، فان الظاهر اتحاد المراد من الضمير
وما يرجع إليه، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور
ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه فالمراد من
أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.
الثاني: ان أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع
النظر عن معارضتها بأصالة العموم، والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في
ضمن البحوث السالفة من أن أصالة الظهور إنما تكون حجة إذا كان
الشك في مراد المتكلم.
وأما إذا كان المراد معلوما وكان الشك في كيفية ارادته من أنه على
نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري، وما نحن فيه من هذا القبيل فان أصالة
عدم الاستخدام إنما تجرى إذا كان الشك فيما أريد بالضمير.
وأما إذا كان المراد به معلوما والشك في الاستخدام وعدمه إنما هو
من ناحية الشك فيما أريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلا.
ويرد على هذا الوجه ان المراد بالضمير في المقام وإن كان معلوما
إلا أن من يدعى جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدعى ظهور نفس الضمير
في إرادة شئ ليرد عليه ما أفاده (قده)، بل ألما هو يدعى ظهور الكلام
بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه يعني ظهور الضمير في
287

رجوعه إلى عين ما ذكر أولا، لا إلى غير ما أريد منه، وحيث إن المراد
بالضمير في مورد الكلام معلوم فبطبيعة الحال يدور الامر بين رفع اليد
عن الظهور السياقي الذي مرده إلى عدم اردة العموم من العام ورفع اليد
عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.
ولكن الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام
هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم. بل الامر
كذلك بنظر هم حتى فيما إذا دار الامر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام
ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعني الحقيقي يعني
يلزم في مثل ذلك أيضا رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي
وحمله على إرادة المعنى المجازي مثلا في مثل قولنا رأيت أسدا وضربته
يتعين حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أنه المراد
بالضمير الراجع إليه.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر
العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الامر بينهما.
الثالث: اننا لو سلمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد
إلا انها إنما تجرى فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الواضع كما إذا
قال المتكلم رأيت أسدا وضربته وعلمنا ان مراده بالضمير هو الرجل الشجاع
واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية وهو
الرجل الشجاع أيضا لئلا يلزم الاستخدام وأن يكون المراد به الحيوان المفترس
ليلزم ذلك ففي مثل ذلك نسلم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة
العموم فيثبت بها ان المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرجل الشجاع دون
الحيوان المفترس.
وأما فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات
288

بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلقات في
الآية الكريمة فالمراد بالضمير فيها إنما هو مطلق المطلقات، وإرادة خصوص
الرجعيات منها إنما هي بدال آخر - وهو عقد الحمل في الآية - فإنه
يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.
فالنتيجة ان ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع
وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجرى أصالة عدمه فتعارض بها أصالة
العموم، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من
أنه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم أيضا من جهة اكتناف
الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا، وذلك
لان الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنما هو اشتمال الكلام
على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح انكال المتكلم عليه في مقام بيان
مراده كما مثل قولنا (أكرم العلماء الا الفساق منهم) إذا افترضنا ان
لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن
مرتكب الصغيرة فلا محالة يسرى اجماله إلى العام.
ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه، فان ما نحن فيه هو ما إذا كان
الكلام متكفلا لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث إن الجملة المشتملة
على العام متكفلة لحكم - وهو لزوم التربص والعدة -، والجملة المشتملة
على الضمير متكلفة لحكم آخر مغائر له - وهو أحقية رجوع الزوج إلى
الزوجة في مدة التربص والعدة - والحكم الأول ثابت لجميع أفراد العام،
والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده.
ومن الواضح ان ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينة
على اختصاص الحكم الأول به أيضا، ضرورة أنه لا صلة له به من
289

هذه الناحية أصلا كيف حيث قد عرفت أنه حكم مغائر له.
وان شئت قلت: انه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده
محكوما بحكم وببعضها محكوما بحكم آخر مغائر للأول، ولا مقتضى لكون
الثاني قرينة. على تخصيص الأول بوجه، وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام
متكفلا لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث إن اجمال المخصص فيه يسرى
إلى العام لا محالة.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي ان المقام غير داخل في
كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.
و؟؟؟ على هذا الوجه ان ما أفاده (قده) من كون الضمير في الآية
الكريمة مستعملا في العموم وإن كان في غاية الصحة والمتانة حيث إن قيام
الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلقات في أثناء
العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص أعني به خصوص الرجعيات
من أقسام المطلقات، وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة من أن
التخصيص لا يستلزم كون العام مجازا إلا أن ما أفاده (قده) من كون
الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية
الكريمة وهو قوله تعالى " أحق بردهن " حيث أنه يدل على كون الزوج
أحق برد زوجة خاطئ جدا.
والسبب فيه أن الآية المباركة تدل على أن الحكم المذكور فيها عام
لجميع المطلقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم محاص منها
فليس فيها ما يدل على الاختصاص فالاختصاص إنما ثبت بدليل خارجي
ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصص المنفصل يعني أنه لا يستلزم كون
اللفظ مستعملا في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.
وبكلمة أخرى: ان الآية الكريمة قد تعرضت لثبوت حكمين للمطلقات:
290

(أحدهما) لزوم التربص والعدة لهن. (وثانيهما) أحقية الزوج لرد زوجته
فلو كنا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلقات
حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهن، وإنما ثبت ذلك
بدليل خارجي فقد دل دليل من الخارج على أن الحكم الثاني خاص
للرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلقات.
كما أن الدليل الخارجي قد دل على أن الحكم الأول خاص بغير
اليائسة ومن لم يدخل بها، فإذا بطبيعة الحال كما أن لفظ المطلقات في
الآية استعمل في معنى عام والتخصيص إنما هو بدليل خارجي وهو لا يوجب
استعماله في الخاص، كذلك الحال في الضمير فإنه استعمل في معنى عام
والتخصيص إنما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله
في الخاص.
وأما ما أفاده (قده) من أن المقام غير داخل في كبرى احتفاف
الكلام بما يصلح للقرينية وإن كان تاما كما عرفت تفصيله بشكل موسع في
ضمن كلامه (قده) إلا أن هنا نكتة أخرى وهي تمنع عن التمسك
بأصالة العموم، وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقا من أن المرتكز
العرفي في أمثال المقام هو الاخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير
مع ما يرجع إليه، ورفع اليد عن ظهور العام في العموم يعني ان ظهور
الكلام في الاتحاد يكون قرينة عرفية لرفع اليد عن أصالة العموم، إذ من
الواضح ان أصالة العموم إنما تكون متبعة فيما لم تقم قرينة على خلافها،
ومع قيامها لا مجال لها.
إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهاتين النتيجتين:
الأولى: ان الصحيح في المسألة هو القول الثاني يعني الاخذ بأصالة
عدم الاستخدام دون أصالة العموم، لما عرفت من النكتة فيه.
291

وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الامر بين الالتزام بالاستخدام
ورفع اليد عن أصالة العموم كان اللازم هو رفع اليد عن أصالة العموم
وايقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.
الثانية: ان الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة
حيث إن موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في
خصوص بعض أقسامه فدار الامر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن
أصالة العموم.
وقد عرفت ان الضمير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل
في خصوص بعض أقسامه، بل هو مستعمل في العام والتخصيص إنما هو
من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملا في خصوص الخاص.
ثم إنه هل يكون لهذه المسألة صغرى في الفقه أم لا الظاهر عدمها
حيث إنه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الامر
فيه بين وفع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام
وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.
(تعارض المفهوم مع العموم)
هل يقدم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك ففيه
وجوه: قيل: بتقدم العموم على المفهوم بدعوى ان دلالة العام على
العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية.
ومن الطبيعي ان الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام
المعارضة. وبرد عليه ان دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من أن تكون
مستندة إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.
292

وبكلمة أخرى قد تقدم في مبحث المفاهيم ان دلالة القضية على
المفهوم إنما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له، ومن المعلوم
ان دلالتها على تلك الخصوصية اما من جهة الوضع أو من جهة مقدمات
الحكمة.
والمفروض ان دلالة العام على العموم أيضا لا تخلو من أحد هذين
الامرين يعني الوضع أو مقدمات الحكمة، فإذا ما هو معنى ان دلالة العام
على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية، فالنتيجة أنه لم يظهر
لنا معنى محصل لذلك.
وقبل بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق
ببيان ان دلالة القضية على المفهوم عقلية، ودلالة العام على العموم لفظية
فلا يمكن رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم.
وبتعبير واضح ان المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق
ومن الطبيعي أنه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك
الخصوصية، ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم.
ومن المعلوم ان رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب، لفرض
انها ليست طرفا للمعارضة مع العام، وما هو طرف لها - وهو المفهوم -
فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول. أو فقل: ان رفع اليد
عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع أن المفروض لزوم المفهوم له
أمر غير ممكن، والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع أنه ليس طرفا
للمعارضة بلا مقتض وموجب، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم
وتخصيصه بغير المفهوم.
ويرد عليه ان التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى
التعارض بين المنطوق والعام، والسبب فيه ان المفهوم كما عرفت لازم
293

عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق، ومن الطبيعي ان انتفاء
الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم
فلا يعقل انفكاك بينهما لا ثبوتا ولا نفيا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على
تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام غاية الام إن كان اللازم
موافقا للقضية في الايجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق وإن كان مخالفا
لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.
ومن ناحية ثالثة ان الدليل المعارض قد يكون معارضا للملزوم ويسمى
ذلك بالمعارض للمنطوق وقد يكون معارضا لللازم ويسمى ذلك بالمعارض
للمفهوم.
ولكن على كلا التقديرين يكون معارضا لكليهما معا، ضرورة ان
ما يكون معارضا للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه
أيضا، وكذا بالعكس أي ما يكون معارضا لللازم، ويدل على نفيه
فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضا، لما أشرنا إليه آنفا من أن نفي
الملزوم كما يستلزم نفي اللازم، كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم إلا
أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه، فعندئذ لا ملازمة بينهما
وأما إذا كان اللازم لازما مساويا له كما هو الحال في المفهوم حيث إنه لازم
مساوى للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق،
لان مرده إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث هي ان العام المعارض للمفهوم
بعمومه كما هو مفروض مسألتنا هذه فهو في الحقيقة معارض للمنطوق
ويدل على نفيه نظرا إلى ما عرفت من أن التصرف في المفهوم ورفع اليد
عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه
294

طرفا للمعارضة مستقلا فإذا افترضنا ان العام بعمومه يكون منافيا للمفهوم
فبطبيعة الحال يكون منافيا للمنطوق أيضا ولا محالة يمنع عن دلالة القضية
على الخصوصية المستتبعة له (المفهوم) والا فلا يعقل كونه منافيا له ومانعا
عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية لاستلزام
ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل، فإذا المعارضة في الحقيقة
لا تعقل الا بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل
معارضا للمفهوم هذا.
وقد فصل المحقق صاحب الكفاية (قده) في المقام واليك نصه:
وتحقيق المقام انه إذا ورد العام وماله المفهوم في كلام أو كلامين، ولكن
على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينة للتصرف في الآخر ودار الامر
بين تخصيص العموم أو الغاء المفهوم فالدلالة على كل منهما إن كانت
بالاطلاق بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم
لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة كما في مزاحمة
ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك فلابد من العمل بالأصول العملية
فيما دار فيه بين العموم والمفهوم إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر وإلا
كان مانعا عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر، ومنه قد القدح الحال
فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وماله المفهوم ذاك الارتباط والاتصال
وأنه لا بد ان يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر
وإلا فهو المعول والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل.
أقول: ما أفاده (قده) يحتوي على نقطتين:
الأولى أن يكون العام وماله المفهوم في كلام واحد أو في كلامين
يكونان بمنزلة كلام واحد؟؟ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منها
على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة، أو بالوضع، أو أحدهما بالوضع
295

والآخر بالاطلاق ومقدمات الحكمة، فعلى الأول والثاني لا ينعقد الظهور
لشئ منها، أما على الأول فلان انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز
على تمامية مقدمات الحكمة فيه.
والمفروض انها غير تامة في المقام حيث إن كلا منهما مانع عن جريانها
في الآخر. وأما على الثاني فلفرض ان كلا منهما يصلح أن يكون قرينة
على الآخر.
وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،
ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشئ منهما، إذا يكون المرجع في مورد
المعارضة هو الأصول العملية، وعلى الثالث فمنا كانت دلالته بالوضع يتقدم
على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة حيث إن ظهوره في مدلوله
لا يتوقف على شئ دون ذاك، فإنه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة
وهي غير جارية في المقام، لفرض ان ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها.
الثانية أن يكونا في كلامين منفصلين، وعندئذ فتارة تكون دلالة كل منهما.
على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة، وأخرى تكون بالوضع، وثالثة
تكون أحدهما بالوضع والاخر بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
فعلى الفرض الأول والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلا
إذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينة
على التصرف فيه فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصا والآخر عاما.
وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت
دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة كما هو ظاهر هذا،
والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الذي أفاده
صاحب الكفاية (قده) وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والاشكال في
ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل، بيان ذلك انك عرفت ان التعارض
296

في الحقيقة إنما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها
فحسب كما هو ظاهر.
وعليه فلابد من ملاحظة النسبة بينهما، ومن الطبيعي ان النسبة قد
تكون عموما من وجه، وقد تكون عموما مطلقا، أما على الأول فقد
ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه انه إذا كان أحدهما ناظرا إلى
موضوع الآخر ورافعا له دون العكس فلا اشكال في تقديمه عليه من
دون ملاحظة النسبة بينهما لفرض ان ما كان ناظرا إلى موضوع الدليل
الآخر حاكم عليه.
ومن الواضح أنه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم، كما
لا تلاحظ بقية المرجحات لفرض انه لا تعارض بينهما في الحقيقة كما هو
الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها حيث إن الآية الكريمة
على تقدير دلالتها على المفهوم - وهو حجية خبر العادل - تكون حاكمة على
عموم العلة ونحوها، فان المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر
العادل بعد ذلك من أصابه القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم حيث إنه
علم شرعا بمقتضى دلالة الآية، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعا عن
ظهورها في المفهوم، ضرورة ان العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها
في الخارج لا وجودا ولا عدما يعني انها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي
عدمها حيث إن شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل الا على ثبوت
الحكم لافراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.
ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد الا بعد احراز انه من
افرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات، فإذا كان هذا
حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعا عن انعقاد ظهور الآية
297

في المفهوم، لوضوح ان ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فردا
للعام، وقد عرفت انه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فردا لها أولا،
فإذا كيف يعقل أن يكون مزاحما لما يدل على كون هذا المورد ليس فردا
لها. أو فقل: ان جواز التمسك بعموم العام في مورد لاثبات حكم له
يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فردا للعام.
والمفروض ان كونه فردا له يتوقف على عدم دلالة القضية على
المفهوم والا لم يكن فردا له، ومعه كيف يعقل أن يكون عموم العام مانعا
عن دلالتها عليه وإلا لزم الدور نظرا إلى أن عموم العام يتوقف على
كون المورد في نفسه فردا للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على
المفهوم فلو كان ذلك متوقفا على عموم العام لزم الدور لا محالة.
ثم إنه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلا بماله المفهوم في الكلام
وكونه منفصلا عنه. فإنه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام حيث إن
النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.
واما إذا لم يكن أحدهما حاكما على الآخر فعندئذ إن كان تقديم
أحدهما على الآخر موجها لالغاء عنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس
تعين العكس ويكون ذلك من أحد المرجحات عند العرف.
ولنأخذ لذلك بمثالين:
أحدهما: ان - ما دل على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة
كصحيحة ابن بزيع - معارض بما دل على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله
عليه السلام: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ) بيان ذلك ان
الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارة بملاحظة التعليل الوارد
فيها وهو قوله (ع) (لان له مادة).
وأخرى بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها
298

وهو قوله (ع) (ماء البئر واسع لا ينجسه شئ) أما إذا كان الاستدلال
فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا حيث إن التعليل
يكون أخص مطلقا من المفهوم، لان المفهوم يدل بالالتزام على انحصار
ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حد الكر، وينفي وجوده عن غيره، والتعليل
نص في أن المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النظر إلى الماء القليل،
ضرورة انه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقا ابتداء
لبيان اعتصام ماء البئر وأن يكون مسوقا كذلك لبيان ارتفاع النجاسة عنه
بعد زوال التغير حيث إن المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية ان سببية
المادة لارتفاع النجاسة عنه إنما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم
انفعاله بالملاقاة، لا ان مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سببا
لاعتصامه.
ودعوى ان مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل
نعم الكثير أيضا فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت
بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سببا لاعتصام
الكثير خاطئة جدا فان الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وانها
لا تصلح أن تكون سببا لاعتصام الكثير، بل من ناحية عدم قابلية المحل
حيث إن المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي.
وبما ان الكثير معتصم في نفسه فيستحيل ان يقبل الاعتصام ثانيا
بسبب خارجي كالمادة، واحتمال ان عدم الفعال ماء البئر بالملاقاة إنما هو
من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية
وجود المادة فيه مدفوع بأن هذا الاحتمال خلاف الارتكاز حيث إن العرف
لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصية في ماء البئر بها يمتاز عن غيره
299

مع قطع النظر عن وجود المادة فيه فامتيازه عن غيره إنما هو بوجودها،
ومن هنا قلنا إن المتفاهم العرفي من الصحيحة ان سبب اعتصامه إنما
هو المادة.
وعلى الجملة ان احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في
نفسه غير محتمل جزما: ضرورة ان العرف لا يرى فرقا بين الماء الموجود
في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غض النظر عن المادة.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي ان التعليل في الصحيحة وان فرضنا انه
مسوق ابتداء لبيان إزالة النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير الا ان العرف
يرى بالمناسبات الارتكازية ان سببية المادة لطهارته وإزالة النجاسة عنه
إنما هي من آثار سببيتها لاعتصامه، ولازم ذلك ان التعليل فيها مطلقا
بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو
محط البحث والنظر وإن كان بحسب ظاهر القضية راجعا إلى ارتفاع النجاسة
عنه، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في أن التعليل راجع إلى اعتصامه أو
إلى ارتفاع النجاسة عنه.
ومن ضوء ما بيناه من النكتة يظهر خطأ ما قبل من أن التعليل إذا
افترضنا أنه راجع إلى بيان إزالة النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير
نظرا إلى أنه باطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلا، وبنكتة ان
الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه
أيضا. أو فقل: ان سببية المادة لإزالة النجاسة عنه يستلزم سببيتها لاعتصامه
وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولوية باعتبار ان الدفع أهون من الرفع عرفا.
وعلى هذا فلا محالة يعارض اطلاقه مع اطلاق ما يدل على انفعال الماء
القليل بالملاقاة، فان مقتضي اطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة ان الماء
القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة فيكون معارضا لما دل على انفعاله
300

ولا يكون أخص منه، فعندئذ يمكن تقييد اطلاق التعليل بخصوص الكثير
يعني ان مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيرا.
والسبب في خطأ ذلك ان هذا التقييد مضافا إلى أنه خلاف الارتكاز
جزما حيث إن المرتكز عرفا بمناسبة الحكم والموضوع انه لا فرق في مطهرية
المادة بين كون الماء كثيرا في نفسه وكونه قليلا ولا يرون للكثرة أية دخل
في المطهرية. أو فقل: ان العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية برون
الملازمة في مطهرية المادة بين كون الماء المطهر (بالفتح) كثيرا في نفسه
وكونه قليلا فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم ان ذلك التقييد إنما
يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه
واما إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا
التقييد، لما عرفت من أن سببيتها للاعتصام تختص بخصوص القليل
حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقا من دليل
انفعال القليل.
وبكلمة أخرى ان للمادة أثرين (الأول) كونها سببا للاعتصام (الثاني)
كونها سبا لارتفاع النجاسة ودليل انفعال الماء القليل إنما يكون معارضا
للتعليل باعتبار أثرها الأول دون أثرها الثاني كما هو ظاهر وقد عرفت انه
بهذا الاعتبار أي باعتبار أثرها الأول أخص منه مطلقا فلا محالة يخصصه
بغير مورده.
وأما إن كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النظر
عن التعليل الوارد في ذيلها نظرا إلى أنه لا مانع من الاستدلال به على
طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلا فهو حينئذ لا محالة
يكون معارضة بالعموم من وجه مع ما دل على انفعال الماء القليل سواء
أكان راكدا أو بئرا ويتعين عندئذ تقديم اطلاق صدر الصحيحة على اطلاق
301

دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع بنكتة اننا إذا قدمنا الصدر فلا
يلزم منه الغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأسا، بل يلزم
منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر، وهذا لا مانع منه.
واما إذا عكسنا الامر وقدمنا اطلاق دليل انفعال الماء القليل على صدر
الصحيحة فهو يستلزم الفاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأسا حيث
لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلا، فان اعتصام
الجميع إنما هو بالكثرة وببلوغه حد الكر، فإذا يصبح اخذ عنوان ماء
البئر في الصحيحة لغوا محضا، وحيث انه لا يمكن بمقتضى الارتكاز
العرفي لاستلزامه حمل كلام الحكيم على اللغو فلا محالة يكون قرينة على
تقديم الصحيحة على دليل الانفعال.
وثانيهما ما دل على طهارة بول الطير وخرئه مطلقا ولو كان غير
مأكول اللحم كقوله (ع) في معبرة أبي بصير (كل شئ يطير فلا بأس
ببوله وخرئه) معارض بما دل على نجاسة بول غير المأكول مطلقا ولو كان
طيرا، ومورد التعارض والالتقاء بينهما هو البول من الطير غير المأكول
ففي مثل ذلك لابد من تقديم دليل طهارة بول الطير وخرئه على دليل
نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه حيث إن العكس يؤدي إلى الغاء عنوان الطير
المأخوذ في موضوع دليل الطهارة، نظرا إلى أن الحكم بتقيده حينئذ بما إذا
كان الطير محلل الاكل.
ومن الواضح ان مرد ذلك إلى الغاء عنوان الطير رأسا وجعل
الموضوع للطهارة عنوانا آخر - وهو عنوان ما يؤكل لحمه - وهو قد تكون
طيرا وقد يكون غيره، وهذا بخلاف ما لو قيد دليل نجاسة بول غير
المأكول بما إذا لم يكن طيرا، إذ غاية ما يلزم هو رفع اليد عن اطلاق
موضوعيته للنجاسة.
302

ومن الطبيعي انه كلما دار الامر بين رفع اليد عن اطلاق موضوعية
عنوان للحكم ورفع اليد عن أصل موضوعيته له رأسا يتعين الأول بنظر
العرف، وما نحن فيه كذلك، فان تقديم دليل نجاسة بول ما لا يؤكل
لحمه على دليل طهارة بول الطير يستلزم الغاء عنوان الطير المأخوذ في
موضوع الطهارة رأسا، وأما العكس فلا يستلزم الا تقييد اطلاق موضوعية
عنوان غير المأكول للنجاسة، وهذا أخف مؤنة من الأول بمقتضى فهم
العرف وارتكازهم.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان المفهوم إن كان حاكما على المنطوق
فلا شبهة في تقديمه عليه وإن كانت النسبة بينهما عموما من وجه، وكذا
لا شبهة في تقديمه عليه إذا كان تقديم المنطوق عليه موجبا لالغاء العنوان
المأخوذ في موضوع الحكم فيه رأسا دون العكس، وأما إذا لم يكن هذا
ولا ذاك فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض إن كانت وإلا
فالحكم هو التساقط على تفصيل يأتي في مبحث التعادل والترجيح.
وأما لو كانت النحبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا فلا شبهة في تقديم
الخاص على العام حيث إنه يكون بنظر العرف قرينة على التصرف فيه،
ومن المعلوم ان ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذيها وان افترض ان ظهورها
بالاطلاق ومقدمات الحكمة وظهور ذاك بالوضع، كما إذا افترضنا ورود
دليل يدل بالوضع على أن كل ماء طاهر لا ينفعل بالملاقاة الا إذا تغير لونه
أو طعمه أو ريحه، فإنه مع ذلك لا يفاوهم مفهوم روايات الكر على الرغم
من أن دلالته على انفعال الماء القليل بالملاقاة بالاطلاق ومقدمات الحكمة.
إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان حال التعارض
بين المفهوم والمنطوق بعينه حاله بين المنطوقين من دون تفاوت في البين أصلا.
303

تعقب الاستثناء للجملات
إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة فهل الظاهر هو رجوعه إلى الجميع
أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في شئ منهما فيه وجوه بل
أقوال:
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) بقوله: والظاهر أنه لا خلاف
ولا اشكال في رجوعه إلى الأخيرة على أي حال، ضرورة ان رجوعه
إلى غيرها بلا قرينة خارج عن طريقة أهل المحاورة، وكذا في صحة رجوعه
إلى الكل وإن كان المتر أي من صاحب المعالم (ره) حيث مهد مقدمة
لصحة رجوعه إليه انه محل الاشكال والتأمل، وضرورة ان تعدد المستثنى
منه كتعدد المستثنى لا بوجب تفاوتا أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى
كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا وكان المستعمل فيه الأداة فيما
كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا كما هو الحال في
المستثنى بلا ريب ولا اشكال، وتعدد المخرج أو المحرج عنه خارجا
لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الاخراج مفهوما، وبذلك يظهر أنه
لا ظهور لها في الرجوع إلى الجميع أو خصوص الأخيرة وإن كان الرجوع
إليها متيقنا على كل تقدير.
نعم غير الأخيرة أيضا من الجمل لا يكون ظاهرا في العموم لاكتنافه
بما لا يكون معه ظاهرا فيه فلابد في مورد الاستثناء فيه من الرجوع إلى
الأصول إلا أن يقال بحجية أصالة الحقيقة تعبدا لا من باب الظهور فيكون
المرجع عليه أصالة العموم إذا كان وضعيا، لا ما إذا كان بالاطلاق
ومقدمات الحكمة فإنه لا يكاد يتم تلك المقدمات مع صلوح الاستثناء للرجوع
304

أنه يكشف عن تقييد موضوع حكم العام أو عن ملاكه فيدور أمره بينهما،
فإذا كان حال المخصص اللبي كذلك فهل يمكن التمسك بالعموم حينئذ في
موارد الشك فقد فصل (قده) بين ما إذا كان المخصص؟؟؟ حكما عقليا
ضروريا بحيث يمكن للمولى الاتكال عليه في مقام البيان وما إذا كان حكما
عقليا نظريا أو اجماعا، فعلى الأول لا يجوز التمسك بالعموم في موارد للشبهة
المصداقية حيث إن المقام يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية
فيسقط ظهوره في العموم ولا محالة، فان هذا المخصص اللبي إن كان
كاشفا عن الملاك لم يكن مانعا عن انعقاد ظهوره في العموم، وإن كان
كاشفا عن تقييد موضوع العام كان مانعا عنه، وبما أنه مردد بين الامرين
فلا محالة يكون مانعا عن انعقاد الظهور، وعلى الثاني فلا مانع من التمسك
بالعموم حيث إن ظهور الكلام في العموم قد انعقد فلا مانع من التمسك
به في الشبهات المصداقية، والسبب في ذلك هو ان أمر المخصص بما أنه
يدور بين الامرين المزبورين فبطبيعة الحال لا علم لنا بتقييد الموضوع به
في الواقع، بل هو مجرد الاحتمال، ومن الطبيعي ان ظهور كلام المولى في
العموم كاشف عن عدم تقييده به وهو حجة، ولا يمكن رفع اليد عنه
بمجرد الاحتمال.
وجه الظهور أي ظهور النقد هو ما عرفت من أنه لا يمكن التمسك
بالعموم في الشبهات المصداقية في القضايا الحقيقية بشتى أنواعها وأشكالها
ومن دون فرق بين كون المخصص له لفظيا أو لبيا. واما في القضايا
الخارجية فإن كان المخصص لفظيا أو كان نبيا وقامت قرينة على أن المولى
أوكل أمر التطبيق واحراز الموضوع إلى نفس المكلف فأيضا لا يمكن
التمسك بالعموم فبها في موارد الشك في المصداق. نعم إذا كان المخصص
لها لهيا ولم تقم قرينة على ايكال المولى أمر التطبيق إلى نفس المكلف كالت
305

والثاني كقولنا (زيد عادل) و (زيد متكلم) فالصور ثلاث (الأولى):
أن يكون تعددها بتعدد الموضوع فحسب. (الثانية) أن يكون تعددها
بتعدد المحمول كذلك (الثالثة) أن يكون تعددها بتعدد الموضوع
والمحمول معا.
أما الصورة الأولى فإن لم يتكرر فيها عقد الحمل كما إذا قبل:
(أكرم العلماء والاشراف والسادة إلا الفساق منهم) أو قبل (أكرم
الفقهاء والأصوليين والمتكلمين إلا من كان فاسقا منهم) فالظاهر بل
لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع حيث إن ثبوت الحكم الواحد لهم
جميعا قرينة عرفا على أن الجميع موضوع واحد في مقام اللحاظ والجعل
وإن كان متعددا في الواقع، والتكرار لا يخلو من أن يكون لنكتة فيه أو
لعدم وضع لفظ للجامع بين الجميع. وان شئت قلت: ان القضية في مثل
ذلك وإن كانت متعددة صورة إلا انها في حكم قضية واحدة قد حكم فيها
بحكم واحد - وهو وجوب اكرام كل فرد من الطوائف الثلاث الا الفاق
منهم - فمرد هذه القضية بنظر العرف إلى قولنا (أكرم كل واحد من
هذه الطوائف الثلاث الا من كان منهم فاسقا.
وأما إذا كرر فيها عقد الحمل كما إذا قيل (أكرم العلماء والاشراف)
و (أكرم الشيوخ إلا الفساق منهم) فالظاهر فيه هو رجوع الاستثناء إلى
خصوص الجملة المتكررة فيها عقد الحمل وما بعدها من الجمل لو كانت
لان تكرار عقد الحمل في الكلام قرينة بنظر العرف على أنه كلام آخر
منفصل عما قبله من الجملات، وبذلك يأخذ الاستثناء محله من الكلام
فيحتاج تخصيص الجملات السابقة على الجملة المتكرر فيها عقد الحمل إلى
دليل آخر، وحيث أنه مفقود على الفرض فلا مانع من التمسك بأصالة
العموم في تلك الجملات.
306

ودعوى انها داخلة في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية،
ومعه لا ينعقد لها ظهور في العموم حتى يتمسك به خاطئة جدا وذلك لان
كبرى احتفاف الكلام بذلك إنما هي فيما إذا صح اعتماد المتكلم عليه وإن كان
مشتبه المراد عند المخاطب والسامع كلفظ الفاسق مثلا إذا افترضنا
أنه مجمل عند المخاطب فلا يعلم أنه موضوع لخصوص مرتكب الكبائر أو
للأعم منه ومن الصغائر، فإنه إذا ورد في كلام المولى مقترنا بعام أو مطلق
كقوله: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) فلا محالة يكون مانعا عن
انعقاد ظهوره في العموم لدخوله في الكبرى المتقدمة حيث أنه يصح للمتكلم
أن يعتمد عليه في بيان مراده الواقعي، ومعه لا ينعقد لكلامه ظهور في
العموم حتى يتمسك به.
فالنتيجة ان مورد احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنما هي موارد
اجماله واشتباه المراد منه للسامع، وهذا بخلاف المقام حيث لا اجمال في
الاستثناء في مفروض المسألة، فإنه ظاهر في رجوعه إلى خصوص الجملة
المتكررة فيها عقد الحمل، وما بعدها من الجمل لو كانت دون الجمل
السابقة عليها، فإذا لا مانع من انعقاد ظهورها في العموم والتمسك به.
وعلى الجملة فلو أراد المولى تخصيص الجميع، ومع ذلك قد اكتفى
في مقام البيان يذكر استثناء واحد مع تكرار عقد الحمل في البين لكان
مخلا ببيانه حيث إن الاستثناء المزبور ظاهر بمقتضى الفهم العرفي إلى
خصوص ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده دون ما كان سابقا عليه، ومعه
لا موجب لرجوعه إلى الجميع، فإذا كيف يكون المقام داخلا في تلك الكبرى.
نعم لو كان الاستثناء مجملا وغير ظاهر لا في رجوعه إلى خصوص
ما يتكرر فيه عقد الحمل وما بعده ولا إلى الجميع وكان صالحا لرجوعه إلى
كل منهما لكان المقام داخلا فيها لا محالة.
307

وأما الصورة الثانية: - وهي ما إذا كان تعدد القضية بتعدد المحمول
فحسب - فإن كان الموضوع فيها غير متكرر كما في مثل قوله تعالى:
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا " فالظاهر
هو رجوع الاستثناء إلى الجميع نظير ما إذا قال المولى لعبده (بع كتبي
وأعرها وأجرها إلا ما كان مكتوبا على ظهره أنه مخصوص لي) فإنه
ظاهر في رجوعه إلى الجميع ولا شبهة في هذا الظهور. والوجه فيه واضح
وهو رجوع الاستثناء إلى الموضوع حيث إنه يوجب تضييق دائرته وتخصيصه
بحصة خاصة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون استثناء من الجميع، ويدل بمقتضى
الارتكاز العرفي ان هذه الأحكام المتعددة ثابتة لهذه الحصة دون الأعم،
مثلا لو قال المولى (أكرم العلماء وأضفهم وجالسهم إلا الفساق منهم)
فلا يشك أحد في رجوع هذا الاستثناء إلى العلماء وتخصيصهم بخصوص
العدول وان هذه الأحكام ثابتة لهم خاصة دون الأعم منهم ومن الفساق.
وعلى الجملة فالقضية في المقام وإن كانت متعددة بحسب الصورة إلا
انها في حكم قضية واحدة فلا فرق فيما ذكرناه بين أن تكون القضية واحدة
حقيقة وأن تكون متعددة صورة، فإنها في حكم الواحدة، والتعدد إنما
هو من جهة عدم تكفل القضية الواحدة لبيان الاحكام المتعددة.
فالنتيجة أنه لا شبهة في رجوع الاستثناء إلى الجميع في هذا الفرض
وأما إذا؟؟؟ الموضوع فيها ثانيا كما في مثل قولنا (أكرم العلماء وأضفهم
وجالس العلماء إلا الفساق منهم) فالظاهر هو رجوع الاستثناء إلى خصوص
الجملة المتكررة فيها عقد الوضع وما بعدها من الجمل إن كانت، والسبب
فيه هو ان تكرار عقد الوضع قرينة عرفا على قطع الكلام عما قبله، وبذلك
308

يأخذ الاستثناء محله من الكلام فيحتاج تخصيص الجمل السابقة على الجملة
المتكررة فيها عقد الوضع إلى دليل آخر وهو مفقود على الفرض.
فالنتيجة انه يختلف الحال بين ما إذا لم يكرر الموضوع أصلا وإنما
كرر الحكم فحسب، وما إذا كرر الموضوع أيضا، فعلى الأول يرجع
الاستثناء إلى الموضع المذكور في الجملة الأولى فيوجب تخصيصه بالإضافة
إلى جميع الأحكام الثابتة له، وعلى الثانية يرجع إلى ما أعيد فيه الموضوع
وما بعده على تفصيل تقدم في ضمن البحوث السالفة.
وعليه فلا مانع من جواز التمسك بالعموم في الجملة الأولى، وكذا
الثانية إذا كان ما أعيد فيه الموضوع هو الجملة الثالثة وهكذا، لما عرفت من
ظهور رجوع الاستثناء إليه دون ما سبقه من الجمل، ومعه لا محالة تكون
أصالة العموم محكمة. وأما ما قبل: من احتفافها بما يصلح للقرينية ومعه
لا ينعقد الظهور لها في العموم فقد عرفت خطأه وان المقام غير داخل في
هذه الكبرى كما عرفت بشكل موسع.
وأما الصورة الثالثة - وهي ما إذا تعددت القضية بتعدد الموضوع
والمحمول معا - فيظهر حالها مما تقدم يعني ان الاستثناء فيها أيضا يرجع
إلى الجملة الأخيرة دون ما سبقها من الجملات لعين ما عرفت حرفا بحرف.
(تخصيص الكتاب بخبر الواحد)
والظاهر أنه لا خلاف بين الطائفة الإمامية في جواز تخصيص عموم
الكتاب بخبر الواحد فيما نعلم، والمخالف في المسألة إنما هو العامة: وهم
بين من أنكر تخصيصه به مطلقا، وبين من فصل تارة بما إذا خصص
العام الكتابي بمخصص قطعي قبله، وما إذا لم يخصص به كذلك فقال
309

بالجواز على الأول دون الثاني ولعل وجهه هو تخيل ان التخصيص يوجب التجوز
في العام فإذا صار العام مجازا بعد التخصيص جاز تخصيصه ثانيا بخبر
الواحد نظرا إلى أن التخصيص الثاني لا يوجب شيئا زائدا على ما فعله فيه
التخصيص الأول، وعليه فلا مانع منه وفيه ما عرفت من أن التخصيص
لا يوجب التجوز في العام. وتارة أخرى بين المخصص المتصل والمنفصل
فقال بالجواز في الأول دون الثاني، ولعل وجهه هو أن الأول لا يوجب
التجوز في العام دون الثاني. وفيه ما مر من أن التخصيص مطلقا لا يوجب
التجوز فيه. ومنهم من توقف في المسألة وهو الباقلاني. فالنتيجة ان هذه
الأقوال منهم لا ترتكز على أساس صحيح.
والتحقيق هو ما ذهبه إليه علمائنا قدس الله أسرارهم من جواز
تخصيصه بخبر الواحد مطلقا، والسبب في ذلك هو اننا إذا أثبتنا حجية
خبر الواحد شرعا بدليل قطعي فبطبيعة الحال لا يكون رفع اليد عن عموم
الكتاب أو اطلاقه به الا رفع اليد عنه بالقطع لفرض انا نقطع بحجيته.
وبكلمة أخرى ان التنافي إنما هو بين عموم الكتاب وسند الخبر، ولا تنافي
بينه وبين دلالته لتقدمها عليه بمقتضى فهم العرف حيث إنها تكون قرينة
عندهم على التصرف فيه.
ومن الواضح انه لا تنافي بين ظهور القرينة وظهور ذيها، وعلى هذا
فإذا أثبتنا اعتبار سنده شرعا بدليل فلا محالة يكون مخصصا لعمومه أو مقيدا
لاطلاقه، ولا يكون مرد هذا إلى رفع اليد عن سند الكتاب حتى لا يمكن
ضرورة انه لا تنافي بين سنده وبين الخبر لا سندا ولا دلالة وإنما التنافي
كما عرفت بين دلالته على العموم أو الاطلاق وبين سند الخبر، وأدلة اعتبار
السند حاكمة عليها ورافعة لموضوعها - وهو الشك في إرادة العموم -
حيث أنه بعد اعتباره سندا مبين لما هو المراد من الكتاب في نفس الامر
310

والواقع فيكون مقدما عليه وهذا واضح
وإنما الكلام في عدة من الشبهات التي توهمت في المقام:
منها ان الكتاب قطعي السند والخبر ظني السند فكيف يجوز رفع
اليد عن القطعي بالظني. ويرده ما عرفت الآن من أن القطعي إنما هو سند
الكتاب وصدوره بألفاظه الخاصة، والمفروض ان الخبر لا ينافي سنده أصلا
لا يحسب السند ولا بحسب الدلالة وأما دلالته على العموم أو الاطلاق فلا
تكون قطعية، ضرورة اننا نحتمل عدم ارادته تعالى العموم أو الاطلاق من
عمومات الكتاب ومطلقاته، ومع هذا الاحتمال كيف يكون رفع اليد عنه
من رفع اليد عن القطعي بالظني فلو كانت دلالة الكتاب قطعية لم يمكن
رفع اليد عنها بالخبر، بل لابد من طرحه في مقابلها. وعلى الجملة فحجية
أصالة الظهور إنما هي ببناء العقلاء.
ومن المعلوم ان بنائهم عليها إنما هو فيما إذا لم تقم قرينة على خلافها
وإلا فلا بناء منهم على العمل بها في مقابلها، والمفرض أن خبر الواحد
بعد اعتباره وحجيته يصلح أن يكون قرينة على الخلاف جزما من دون
فرق في ذلك بين أن يكون مقطوع الصدور أو مقطوع الاعتبار وقد جرت
على ذلك السيرة القطعية العقلائية.
ومن الطبيعي أن عمومات الكتاب أو مطلقاته لا تمتاز عن بقية
العمومات أو المطلقات من هذه الناحية أصلا، بل حالها حالها. فالنتيجة ان
رفع اليد عن عموم الكتاب أو اطلاقه بخبر الواحد ليس من رفع اليد عن
القطعي بالظني.
ومنها: أنه لا دليل على اعتبار خبر الواحد الا الاجماع وبما أنه
دليل لبي فلابد من الاخذ بالمقدار المتيقن منه، والمقدار المتيقن هو ما إذا
لم يكن الخبر على خلاف عموم الكتاب أو اطلاقه والا فلا يقين بتحقق الاجماع
311

على اعتباره في هذا الحال، ومعه كيف يجوز رفع اليد به عنه. ويرد عليه
ان عمدة الدليل على اعتبار الخبر إنما هو السيرة القطعية من العقلاء لا الاجماع
بما هو الاجماع، وقد عرفت ان بنائهم على العمل بالعموم أو الاطلاق
إنما هو فيما إذا لم يقم خبر الواحد على خلافه حيث أنه يكون بنظرهم
قرينة على التصرف فيه.
ومنها: الأخبار الدالة على المنع من العمل بما خالف كتاب الله
وان ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو اضربه على الجدار أو لم أقله مما شاكل
ذلك، وهذه الأخبار تشمل الاخبار المخالفة لعمومات الكتاب ومطلقاته
أيضا، وعليه فكيف يمكن تخصيصها أو تقييدها بها.
والجواب عن ذلك هو ان الظاهر بل المقطوع به عدم شمول تلك الأخبار
للمخالفة البدوية كمخالفة الخاص للعام والمقيد للمطلق وما شاكلهما
والنكتة فيه ان هذه المخالفة لا تعد مخالفة عند العرف حيث إنهم يرون
الخاص قرينة عل التصرف في العام والمقيد قرينة على التصرف في المطلق.
ومن الطبيعي أنه لا مخالفة عندهم بين القرينة وذيها، وعليه فالمراد
من المخالفة في تلك الأخبار هو المخالفة بنحو التباين للكتاب أو العموم
والخصوص من وجه حيث إن هذه المخالفة تعد مخالفة عندهم حقيقة
وتوجب تحيرهم في مقام العمل.
ويدل على ذلك أمران:
الأول: انا نقطع بصدور الاخبار المخالفة لعموم الكتاب أو اطلاقه
من النبي الاكرام (ص) والأئمة الأطهار عليهم السلام بداهة كثرة صدور
المخصصات والمقيدات عنهم (ع) لعموماته ومطلقاته فلو كان مثل هذه
المخالفة مشمولا لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم (ع).
الثاني: ان في جعل موافقة الكتاب من مرجحات تقديم أحد الخبرين
312

أحدهما محرزا بالوجدان والآخر بالأصل فبضم الوجدان إلى الأصل يلتثم
الموضوع المركب فيترتب عليه أثره، كما إذا كان وجود زيد محرزا بالوجدان
وشك في وجود عمرو وانه باق أو مات فلا مانع من استصحاب بقائه
وعدم موته، وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع، حيث إن الموضوع ليس
إلا ذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلا
لخرج عن محل الكلام، فان محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة
على أنه لا يمكن احراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل. وأما
إذا كان من قبيل الثاني فتارة يكونا عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد
مثلا وعلمه، حيث إنهما قد أخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات
وجودي العدالة والعلم، ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو انه إذا وجد
العلم له في زمان كان عادلا في ذلك الزمان فقد تحقق الموضوع بكلا
جزئيه، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد
من دون أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره، والمفروض ان أحدهما
لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتا له وإن كان كل واحد منهما نعتا
لموضوعه ومحتاجا إليه، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا
فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلا، وعليه فمرة يكون
كل منهما محرزا بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني
ومرة أخرى يكون كل منها محرزا بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبينة
مثلا أو بالأصل أو أحدهما بالبينة والآخر بالأصل، ومرة ثالثة يكون
أحدهما محرزا بالوجدان والآخر محرزا بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتا
بالوجدان وعدالته بالبينة أو بالأصل، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتثم
الموضوع المركب فيترتب عليه أثره - وهو جواز التقليد أو نحوه: وأخرى
يكونا عرضين لمعروضين في الخارج كاسلام الوارث مثلا وموت المورث
313

لما عرفت من اننا لو قلنا بالشمول المزبور فمع ذلك لا يلزم الغاء الخبر
بالمرة، بل له موارد كثيرة لابد من العمل به في تلك الموارد من دون
كون العمل به فيها مخالفا للكتاب بوجه.
ومنها: لو جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد نسخه به
أيضا حيث إنه قسم من التخصيص وهو التخصيص بحسب الا زمان فلا
فرق بينهما إلا في أن التخصيص المصطلح تخصيص بحسب الافراد العرضية
وذاك تخصيص بحسب الافراد الطولية.
ومن الطبيعي ان مجرد هذا لا يوجب الحكم بجواز الأول وامتناع
الثاني فلو جاز الأول جاز الثاني أيضا مع أنه ممتنع جزما فيكون هذا
شاهدا على امتناع الأول كالثاني. وفيه ان الاجماع قد قام من الخاصة والعامة
على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهذا الاجماع ليس اجماعا
تعبديا، بل هو من صغيرات الكبرى المسلمة وهي ان الشئ الفلاني من
جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر ولكنه لم يشتهر فيكشف
عدم وجوده، والنسخ من هذا القبيل فإنه لو كان جائزا بخبر الواحد
لبان واشتهر بين العامة والخاصة بحيث يكون غير قابل للانكار فمن عدم
اشتهاره بين المسلمين أجمع يكشف كشفا قطعيا عن عدم وقوعه وانه
لا يجوز نسخ الكتاب به فلو دل خبر الواحد على نسخه لابد من طرحه
وحمله اما على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه كما هو الحال بالإضافة
إلى اثبات قرآنية القرآن حيث إنها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة
ولذا لا يثبت باخبار عمو الآية: " الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما " لان
اخباره بها داخل في خبر الواحد والقرآن لا يثبت به وإنما يثبت بالخبر
المتواتر عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وعليه فلابد من حمله على
أحد الوجوه الآنفة الذكر.
314

وعلى الجملة فالتزام المسلمين أجمع بعدم جواز نسخ الكتاب بخبر
الواحد يكشف كشفا جزميا عن أن الامر كذلك في عصر النبي (ص)
والأئمة الأطهار (ع) و؟؟؟ فيه هي التحفظ على صيانة القرآن:
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من
تخصيص عموم الكتاب بخبر ألواح، بل عليه سيرة الأصحاب إلى زمان
الأئمة عليهم السلام.
(التخصيص والنسخ)
إذا ورد عام وخاص ودار الامر بين التخصيص ففيه صور:
الأولى: أن يكون الخاص متصلا بالعام ففي هذه الصورة لا يعقل
النسخ حيث إنه عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة، والمفروض
ان الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت فيها ليكون الخاص
رافعا له، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آن واحد ودليل فارد.
الثانية: أن يكون الخاص متأخرا عن العام، ولكنه كان قبل حضور
وقت العمل به ففي مثل ذلك هل يمكن أن يكون الخاص ناسخا له، فذكر
بعض الاعلام انه لا يمكن أن يكون ناسخا. والنكتة فيه أنه لا يعقل جعل
الحكم من المولى الملتفت إلى عدم تحققه وفعليته في الخارج بفعلية موضوعه
ضرورة أنه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغوا محضا حيث إن
الغرض من جعله إنما هو صيرورته داعيا للمكلف نحو الفعل فإذا علم
بعدم بلوغه إلى هذه المرتبة لانتفاء شرطه فلا محالة يكون جعله بهذا الداعي
لغوا فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم.
نعم يمكن ذلك في الأوامر الامتحانية حيث إن الغرض من جعلها
315

ليس بلوغها مرتبة الفعلية، ولذا لا مانع من جعلها مع علم المولى بعدم
قدرة المكلف على الامتثال نظرا إلى أن الغرض منها مجرد الامتحان وهو
يحصل بمجرد انشاء الامر فلا يتوقف على فعليته بفعلية موضوعه، وهذا
بخلاف الأوامر الحقيقية حيث إنه لا يمكن جعلها مع علم الآمر بانتفاء
شرطها وعدم تحققه في الخارج، ولا يفرق في ذلك بين القضية الحقيقية
والخارجية فكما ان جعل الحكم مع علم الآمر بانتفاء شرط فعليته وامتثاله
في الخارج في القضية الحقيقية من اللغو الواضح، كذلك جعله مع علمه
بانتفاء شرط امتثاله في الخارج في القضية الخارجية.
وعلى الجملة فجعل الأوامر الحقيقية التي يكون الغرض من جعلها
ايجاد الداعي للمكلف نحو الفعل والاتيان بالمأمور به مع علم الامر بانتفاء
شرط فعليتها وامتثالها في الخارج لا محالة يكون لغوا فلا يصدر من المولى
الحكيم الملتفت إلى ذلك هذا.
وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ (قده) بما إليك نصه: ولكن
التحقيق ان ما ذكروه في المقام إنما نشأ من عدم تمييز الاحكام القضايا
الخارجية من أحكام القضايا الحقيقية، وذلك لان الحكم المجعول لو كان
من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية لصح ما ذكروه واما إذا
كان من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الحقيقية الثابتة للموضوعات المقدر
وجودها في الخارج كما هو الحال في أحكام الشريعة المقدسة فلا مانع من
نسخها بعد جعلها ولو كان ذلك في زمان قليل كيوم واحد أو أقل،
لأنه لا يشترط في صحة جعله وجود الموضوع له أصلا، إذ المفروض أنه
جعل على موضوع مقدر الوجود.
نعم إذا كان الحكم المجعول في القضية الحقيقية من قبيل الموقنات
كوجوب الصوم في شهر رمضان المجعول على نحو القضية الحقيقية كان
316

نسخه قبل حضور وقت العمل به كنسخ الحكم المجعول في القضايا الخارجية
قبل وقت العمل به فلا محالة يكون النسخ كاشفا عن عدم كون الحكم المنشأ
أولا حكما مولويا مجعولا بداعي البعث أو الزجر.
وبالجملة إذا كان معنى النسخ هو ارتفاع الحكم المولوي بانتهاء أمده
فلا محالة يختص ذلك بالقضايا الحقيقية غير الموقتة وبالقضايا الخارجية والقضايا
الحقيقية الموقتة بعد حضور وقت العمل بها، وأما القضايا الخارجية أو
الحقيقية الموقتة قبل حضور وقت العمل بها فيستحيل تعلق النسخ بالحكم
المجعول فيها من الحكم الملتفت والوجه في ذلك ظاهر.
نلخص ما أفاده (قده) في نقطة وهي: ان الحكم المجعول إذا كان
من قبيل الأحكام المجعولة في القضايا الخارجية أو القضايا الحقيقية الموقتة
لم يجز نسخه قبل حضور وقت العمل به وإذا كان من قبيل الأحكام المجعولة
في القضايا الحقيقية غير الموقتة جاز نسخه قبل ذلك وقد تعرض
(قدس سره) هذا التفصيل بعينه في مبحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء
شرطه فلا حظ.
ويرد عليه أنه لا يتم باطلاقه والسبب فيه ما عرفت من أنه لا يكفي
في الأوامر الحقيقية مجرد فرض وجود موضوعها في الخارج مع علم الآمر
بانتفاء شرط فعليتها فيه، ضرورة ان المولى على الرغم من هذا لو جعلها
بداعي البعث حقيقة لكان من اللغو الواضح فكيف يمكن؟؟؟ منع مع
التفاته إلى ذلك، وقد مر آنفا أنه لا يفرق في ذلك بين القضايا الحقيقية
غير الموقتة، والقضايا الحقيقية الموقتة. والقضايا الخارجية فكما ان الامر
الآمر مع علمه بانتفاء شرط امتثاله وعدم تمكن المكلف منه مستحيل في
القسمين الأخيرين، فكذلك مستحيل في القسم الأول من دون فرق بينهما
من هذه الناحية أصلا، ولا ندري كيف ذهب شيخنا الأستاذ (قده)
317

إلى هذا التفصيل، مع أنه قد صرح في عدة موارد ان امتناع فعلية الحكم
يستلزم امتناع جعله. هذا كله في الأوامر.
وأما النواهي فإذا علم المولى أنه لا يترتب أي أثر على جعل النهي
خارجا ولا يبلغ مرتبة الزجر لعلمه بانتفاء شرط فعليته فلا محالة يكون
جعله لغوا فلا يصدر من المولى الحكيم الملتفت إلى ذلك، وأما إذا علم
بأن جعل الحكم وتشريعه هو السبب لانتفاء موضوعه كما هو الشأن في جعل
القصاص والديات والحدود حيث إن تشريع هذه الأحكام سبب لمنع المكلف
وزجره عن ايجاد موضوعها في الخارج فلا مانع منه، بل يكون تمام
الغرض من جعلها ذلك فكيف يعقل أن يكون مانعا عنه.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي ان جعل الحكم مع العلم بانتفاء موضوعه
وشرطه في الخارج لا يمكن من الحكيم الملتفت إليه من دون فرق في ذلك
بين الأوامر والنواهي، والقضايا الحقيقية والخارجية.
نعم إذا كان جعل الحكم وتشريعه في الشريعة المقدسة يكون سببا
لانتفاء موضوعه وشرطه فلا مانع منه كما عرفت.
الثالثة: أن يكون الخاص المتأخر واردا بعد حضور وقت العمل
بالعام فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصا له أو ناسخا فيه وجهان:
فذهب جماعة إلى الثاني بدعوى أن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح،
وعليه فيتعين كونه ناسخا لا مخصصا، ولكنهم وقعوا في الاشكال بالإضافة
إلى عمومات الكتاب والسنة حيث إن مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة
الأطهار (ع) قد وردت بعد حضور وقت العمل بها، ومع ذلك كيف
يمكن الالتزام بتخصيصها بها، والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جدا
بل نقطع بخلافه، بداهة ان لازم ذلك هو نسخ كثير من الأحكام المجعولة
في الشريعة المقدسة، وهذا في نفسه مما يقطع بطلانه، لا من ناحية ما قيل
318

من أن النسخ لا يمكن بعد زمن النبي الأكرم (ص) لانقطاع الوحي،
وذلك لان الوحي وان انقطع بعد زمانه (ص) إلا أنه لا مانع من أنه
صلى الله عليه وآله: أو كل بيانه إلى الأئمة الطاهرين (ع) كبيان سائر الأحكام
، بل من ناحية أن نسخ تلك الأحكام بتلك الكثرة في نفسها
لا يناسب مثل هذه الشريعة الخالدة التي تجعل من قبل الله تعالى وأمر
رسوله (ص) وأوصيائه (ع) ببيانها، ولأجل ذلك يقطع بخلافه.
ومن هنا قد قاموا بعدة محاولات للنفصي عن هذا الاشكال أحسنها
ما ذكره صاحب الكفاية (قده) تبعا لشيخنا العلامة الأنصاري (قده)
من أن هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل
بها قد صدرت بأجمعها ضربا للقاعدة يعني انها متكفلة للأحكام الظاهرية
فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص فإذا ورد المخصص
عليها كان ناسخا بالإضافة إلى الاحكام الظاهرية ومخصصا بالإضافة إلى
الإرادة الجدية والأحكام الواقعية.
وقد ذكرنا في ضمن البحوث السالفة أن كون العموم مرادا بالإرادة
الاستعمالية لا يلازم كونه مرادا بالإرادة الجدية، كما أن كونه مرادا ظاهرا
ضربا للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مرادا واقعا وجدا.
وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مرادا ظاهرا
ويكون الناس مأمورا بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيئ المخصص
له فإذا جاء فيكون مخصصا بالإضافة إلى الإرادة الجدية وناسخا بالإضافة
إلى الحكم الظاهري.
ويرد عليه ان هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرة في إرادة
العموم واقعا وجدا في مقام الاثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرة فيه من جهة
نصب قرينة على أنها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع
319

والجد يعني أن القرينة تدل على أنها وردت ضربا للقاعدة بالإضافة إلى
الحكم الظاهري دون الواقعي.
ومن الطبيعي ان هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة
العموم واقعا وجدا فعلى الأول يبقى اشكال قبح تأخير البيان عن وقت
الحاجة بحاله ولا يندفع به الاشكال المزبور، ضرورة انها على هذا الفرض
ظاهرة في إرادة العموم واقعا، والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور
وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدن إرادة العموم فيها، وهذا
بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم
في مقام الاثبات حتى يتمسك به ضربا للقاعدة، وعليه فلا يكون حجة في
ظرف الشك. فالنتيجة ان ما ذكره صاحب الكفاية (قده) لدفع الاشكال
المذكور لا يرجع إلى معنى صحيح.
فالتحقيق في المقام أن يقال: إن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة
إنما هو لاحد أمرين لا ثالث لهما.
الأول: انه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتض
لها في الواقع كما إذا افترضنا ان العام مشتمل على حكم الزامي في الظاهر
ولكن كان بعض افراده في الواقع مشتملا على حكم ترخيصي، فإنه لا محالة
يوجب الزام المكلف ووقوعه بالإضافة إلى تلك الافراد المباحة في المشقة
والمكلفة من دون موجب ومقتض لها، وهذا من الحكيم قبيح.
الثاني: أنه يوجب القاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة
عنه كما إذا افترضنا ان العلم مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر، ولكن
كان بعض أفراده في الواقع واجبا أو محرما، فإنه على الأول يوجب تفويت
المصلحة الملزمة عن المكلف، وعلى الثاني يوجب القائه في المفسدة، وكلاهما
قبيح من المولى الحكيم.
320

ولكن من المعلوم ان هذا القبيح قابل للرفع، ضرورة ان المصلحة
الأقوى إذا اقتضت القاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو
القائه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلا.
فإذا لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل
انفكاكه عنه، بل هو كقبح الكذب يعني أنه في نفسه قبيح مع قطع النظر
عن طرو أي عنوان حسن عليه.
فإذا افترضنا أن المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت
أقوى من مفسدة تأخيره أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة
الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحا، بل هو حسن ولازم كما هو الحال في
الكذب، فان قبحه إنما هو في نفسه وذاته مع قطع النظر عن عروض
أي عنوان حسن عليه.
فإذا فرضنا ان الجاء مؤمن في مورد يتوقف عليه لم يكن قبيحا،
بل هو حسن يلزم العقل به، وكذا حسن الصد ق فإنه ذاتي بمعنى الاقتضاء
وانه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز، ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان
ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجبا لقتل مؤمن
أو ما شاكل ذلك، فان مثله لا محالة يكون قبيحا عقلا ومحرما شرعا،
فما لا ينفك عنه القبح - هو الظلم - حيث إنه علة تامة له فيستحيل تحقق
عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح، كما أن حسن العدل ذاتي بهذا
المعنى أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.
فالنتيجة أن قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما انه ذاتي بمنى
الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته
المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير أو كان في تقديم البيان
مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحا.
321

وبكلمة أخرى ان حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام
كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدسة حيث إن بيان الاحكام فيها كان
على نحو التدريج واحدا بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس، نظرا إلى
أن بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعا توجب النفرة
والاعراض عن الدين وعدم الرغبة إليه.
ومن الطبيعي ان هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج
ليرغب الناس إليه رغم ان متعلقاتها مشتملة على المصالح والمفاسد من الأول
فتأخير البيان وتدريجيته إنما هو لمصلحة تستدعي ذلك - وهي التسهيل على
الناس ورغبتهم إلى الدين - ومن الواضح ان هذه المصلحة أقوى من
مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.
ومن هنا قد ورد في بعض الروايات ان أحكاما بقيت عند صاحب
الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو (ع) بعد ظهوره بين تلك الأحكام
للناس، ومن المعلوم ان هذا التأخير إنما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في
البيان وما نحن فيه كذلك حيث أنه لا مانع من تأخير البيان عن وقت
الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة ولا
يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلا أو
أزيد فإنه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعة واحدة جاز كذلك سنين متطاولة
ضرورة ان قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبدا حتى في آن واحد
لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي انه لا مانع من تأخير البيان عن وقت
الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك أو كانت في تقديمه مفسدة
مانعة عنه.
وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاص المتأخر الوارد بعد حضور
322

وقت العمل بالعام مخصصا لا ناسخا، وعليه فلا اشكال في تخصيص
عمومات الكتاب والسنة الواردة في عصر النبي الاكرام (ص) بالمخصصات
الواردة في عصر الأئمة الأطهار (ع) حيث إن المصلحة تقتضي تأخيرها
عن وقت الحاجة والعمل أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.
الصورة الرابعة ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت
العمل به ففي هذه الصورة يتعين كون الخاص المتقدم مخصصا للعام المتأخر
حيث إنه لا مقتضى للنسخ هنا أصلا وإلا لزم كون جعل الحكم لغوا محضا
وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.
الصورة الخامسة: ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت
العمل به ففي هذه الصورة يقع الكلام في أن الخاص المتقدم مخصص
للعام المتأخر أو ان العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم، وتظهر الثمرة بينهما
حيث أنه على الأول يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة هو حكم
الخاص دون العام، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص بعد ورود العام
فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة بعد وروده هو حكم العام.
ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان الأظهر أن يكون الخاص
مخصصا وأفاد في وجه ذلك ان كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى
اشتهر ما من عام إلا وقد خص وندرة النسخ فيها جدا أوجيتا كون ظهور
الخاص في الدوم والاستمرار وإن كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة أقوى
من ظهور العام في العموم وإن كان بالوضع، وعليه فلا مناص من
تقديمه عليه هذا.
وأورد عليه شيخنا الأنصاري (قده) بما ملخصه: ان دليل الحكم
يستحيل أن يكون متكفلا لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضا، ضرورة
ان استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بد من فرض
323

حاجة إليه.
وان شئت قلت: ان للصلاة إلى القبلة لوازم متعددة، فإنها تستلزم
في بلدتنا هذه كون يمين المصلي في طرف الغرب ويساره في طرف الشرق
وخلقه في طرف الشمال، بل لها لوازم غير متناهية، ومن الطبيعي كما
أنه لا معنى لاطلاقها بالإضافة إليها كذلك لا معنى لتقييدها بها حيث إنها
قد أصبحت ضرورية التحقق عند تحقق الصلاة إلى القبلة ومعها لا محالة
يكون كل من الاطلاق والتقييد بالإضافة إليها لغوا، حيث أنهما لا يعقلان إلا
في المورد القابل لكل منهما لا في مثل المقام، فان تقييدها إلى القبلة يغني عن
تقييدها مها كما هو الحال في كل من المتلازمين في الوجود الخارجي فان تقييد
المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر حيث أنه لغو صرف بعد التقييد
الأول، كما أن الامر بأحدهما يغني عن الامر بالآخر حيث أنه لغو محض
بعد الأمر الأول، ولا يترتب عليه أي أثر فلو أمر المولى بالفعل المقيد
بالقيام كالصلاة مثلا فبطبيعة الحال يغني هذا التقييد عن تقييده بعدم جميع
أضداده كالقعود والركوع والسجود وما شاكل ذلك، فان تقييده به بعد
التقييد الأول لغو محض.
فالنتيجة: ان ما ذكرناه سار في جميع الأمور المتلازمة وجودا سواء
كانت من قبيل اللازم والملزوم أم كانت من قبيل المتلازمين لملزوم ثالث
فان تقييد المأمور به بأحدهما يغني عن تقييده بالآخر، كما أن الامر
يغني عن الامر بالآخر. وعليه فلا معنى لاطلاق المأمور به بالإضافة إليه
فان اطلاقه بحسب مقام الواقع والثبوت غير معقول، لفرض تقييده به
قهرا، واما اطلاقه بحسب مقام الاثبات فإنه لغو، وكذلك تقييده به
في هذا المقام، وما نحن فيه من هذا القبيل، فان العدم النعتي ملازم
العدم المحمولي، وعليه فتقييد موضوعي العام بعدم كونه متصفا بعنوان؟؟؟
324

أفراده العرضية يعني كلما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان
متخذا من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك فالقضية تدل على حرمة شربه
كذلك يدل عليه بالإضافة إلى افراده الطولية يعني بحسب الأزمان. لاطلاق
المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان، مع كون المتكلم
في مقام البيان.
وان شئت قلت: أن المتكلم كما بلا حظ الاطلاق والتقييد بالإضافة
إلى الافراد العرضية وهذا يعني أنه تارة بقيد المتعلق بحصة خاصة منه
ككونه متخذا من العنب مثلا، وأخرى لا يقيده بها فيلاحظه مطلقا
ومرفوضا عنه القيود بشتى اشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك باطلاقه
لاثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه كذلك بلا حظ الاطلاق والتقييد بالإضافة
إلى الافراد الطولية يعني تارة يقيده بزمان خاص دون آخر، وأخرى
لا يقيده به فيلاحظه مطلقا بالإضافة إلى جميع الأزمنة، فعندئذ بطبيعة الحال
يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة
فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له، فإذا ما أفاده صاحب
الكفاية (قده) من أن الخاص يدل على الدوم والاستمرار بالاطلاق ففي
غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.
نعم يرد على ما أفاده (قده) من أن الخاص يتقدم على العام وإن كانت
دلالته على الدوام والاستمرار بالاطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام
على العموم بالوضع، والسبب فيه هو انه لا يمكن الحكم بتقديم الخاص
على العام في هذه الصورة حيث إن العام يصلح أن يكون بيانا على خلاف
الخاص، ومعه كيف تجرى مقدمات الحكمة فيه.
وبكلمة أخرى: ان دلالة الخاص على الدوام والاستمرار تتوقف
على جريان مقدمات الحكمة، ومن الطبيعي ان عموم العام بما أنه مستند
325

إلى الوضع مانع عن جريانها، فإذا كيف يحكم بتقديم الخاص عليه،
وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الامر بينهما لا توجبان إلا الظن
بالتخصيص ولا أثر له أصلا، على أن فيما نحن فيه لا يدور الامر بينهما
حيث إن الخاص هنا لا يصلح أن يكون مخصصا للعام، فان صلاحيته
للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية على
الفرض - فعندئذ بطبيعة الحال يقدم العام على الخاص فيكون ناسخا له.
ولكن هذا الذي ذكرناه إنما يتم في الاحكام الصادرة من المولى
العرفي، فإنه إذا صدر منه خاص ثم صدر عام بعد حضور وقت العمل به
فلا محالة يكون العام مقدما على الخاص إذا كان ظهوره في العموم مستندا
إلى الوضع وظهور الخاص في الدوام والاستمرار مستندا إلى الاطلاق
ومقدمات الحكمة.
وأما في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام،
والسبب في ذلك هو أن الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الاسلامية
المقدسة حيث إنها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا
الظرف، وإنما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان فقد يكون العام
متأخرا عن الخاص في مقام البيان، وقد يكون بالعكس، مع أنه لا تقدم
والتأخر بينهما بحسب الواقع.
وعلى هذا الضوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل
بالخاص وإن كان بيانه متأخرا عن بيان الخاص زمانا إلا أنه يدل على
ثبوت مضمونه في الشريعة المقدسة مقارنا لثبوت مضمون الخاص فلا تقدم
ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.
ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار (ع) عن
ثبوتها من الأول لا من حين صدورها، ولذا لو صلى أحد في الثوب
326

النجس نسيانا ثم بعد مدة مثلا تذكر وسئل الإمام (ع) عن حكم صلاته
فيه فأجاب (ع) بالإعادة فهل يتوهم أحد أنه (ع) في مقام بيان حكم
صلاته بعد ذلك لا من الأول.
فالنتيجة ان الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار (ع) من العمومات
والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأول، ولا اشكال
في هذه الدلالة والكشف، ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الامام
المتأخر إلى الامام المتقدم كما في الروايات.
ومن الطبيعي أنه لم تكن النسبة صحيحة، فما فيها من أنهم (ع)
جميعا بمنزلة متكلم واحد إنما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أن لسان جميعهم
لسان حكاية الشرع.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان العام المتأخر
زمانا عن الخاص إنما هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله، فإنه مقارن
للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه، مثلا العام الصادر عن الصادق
عليه السلام، مقارن مع الخاص الصادر عن أمير المؤمنين (ع)، بل
عن رسول الله (ص) والتأخير إنما هو في بيانه.
وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخا للخاص، بل لا مناص من
جعل الخاص مخصصا له. ومن هنا قلنا إن العام الصادر عن الصادق (ع)
يصح نسبته إلى أمير المؤمنين (ع).
ومن المعلوم انه لو كان صادرا في زمانه (ع) لم تكن شبهة في كون
الخاص مخصصا له، فكذا الحال فيما إذا كان صادرا في زمان الصادق (ع)
بعد ما عرفت من أنه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وان الصادر في
زمانه (ع) كالصادر في زمان الأمير (ع) أو الرسول (ص)، ومن
هنا يكون دليل؟؟؟ كاشفا عن تخصيص الحكم العام من الأول لا من
327

حين صدوره وبيانه.
وعلى ضوء هذا البيان بظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والاحكام
العرفية فان صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأول
وإنما يدل على؟؟؟ من حين صدوره فإذا افترضنا صدور خاص منه
وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهرا في
نسخة للخاص، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر
فإنه يدل على ثبوته من الأول لا من حين صدوره والتأخير إنما هو في
بيانه لا جل مصلحة من المصالح أو لا جل مفسدة في تقديم بيانه، ولا جل
هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الاحكام العرفية فيما تقدم من النسخ
والتخصيص في بعض الموارد.
فالنتيجة في نهاية المطاف ان المتعين هو التخصيص في جميع الصور
المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شئ منها.
(النسخ)
وهو في اللغة بمعنى الإزالة ومنه نسخت الشمس الظل وفي الاصطلاح
هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، ولا يفرق
فيه بين أن يكون حكما تكليفيا أو وضعيا، ومنه يظهر ان ارتفاع الحكم
بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم
بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شئ، والوجه في ذلك
هو انا قد ذكرنا غير مرة ان للحكم المجعول في الشريعة المقدسة مرتبتين:
الأولى: مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع
والانشاء، وقد ذكرنا في غير مورد ان الحكم في هذه المرتبة مجعول على
328

نحو القضايا الحقيقية الني لا تتوقف على موجود موضوعها في الخارج،
فان قوام تلك القضايا إنما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان
موجودا حقيقة أم لم يكن، مثلا قول الشارع (شرب الخمر حرام) ليس
معناه ان هنا خمرا في الخارج وان هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة،
بل مرده هو ان الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة
فيها سواء أكان موجودا في الخارج أم لم يكن.
الثانية: مرتبة الفعلية وهي مرتبة ثبوت الحكم في الخارج بثبوت
موضوعه فيه، مثلا إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة؟؟؟
له في الشريعة المقدسة.
ومن الطبيعي ان هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجا فلا
بعقل انفكاكها عنه حيث إن نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية
نسبة المعلول إلى العلة التامة، وعليه فإذا انقلب الخمر خلا فبطبيعة الحال
ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته، ضرورة انه لا يعقل
بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلا لزم الخلف.
وبعد ذلك نقول: إن ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من
النسخ في شئ ولا كلام في امكانه ووقوعه في الخارج، وإنما الكلام في
امكان ارتفاع الحكم عن موضوعه (المفروض وجوده) في عالم التشريع
والجعل، المعروف والمشهور بين المسلمين هو امكان النسخ بالمعنى المتنازع
فيه (رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل)، وخالف في
ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شبهة
لا واقع موضوعي لها، وحاصلها هو ان النسخ يستلزم أحد محذورين
لا يمكن الالتزام بشئ منهما.
أما عدم حكمة الناسخ أو جهله بها وكلاهما مستحيل في حقه تعالى،
329

والسبب فيه ان تشريع الاحكام وجعلها منه سبحانه وتعالى لا محالة يكون
على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه، بداهة ان جعل الحكم جزافا
وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.
وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدسة لموضوعه
لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم
الناسخ بها أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالبا في
الاحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما، والأول ينافي حكمة الحكيم المطلق
فان مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافا.
ومن المعلوم ان رفع الحكم مع بقاء مصلحته المقتضية لجعله أمر
جزاف فيستحيل صدوره منه والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال
في حقه سبحانه.
فالنتيجة ان وقوع النسخ في الشريعة المقدسة بما أنه يستلزم المحال
فهو محال لا محالة.
والجواب عنها ان الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة من قبل الحكيم
تعالى على نوعين: (أحدهما) مالا يراد منه البعث أو الزجر الحقيقين
كالأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله.
ومن الواضح أنه لا مانع من اثبات هذا النوع من الاحكام أولا
ثم رفعه حيث إن كلا من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة
وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة، لفرض ان حكمته - وهي
الامتحان - قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقائه، ولا كشف
الخلاف المستحيل في حقه تعالى حيث لا واقع له غير هذا. (وثانيهما)
ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقي يعني ان الحكم المجعول حكما حقيقيا
ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان، والمراد من النسخ كما عرفت هو
330

انتهاء الحكم بانتهاء أمده يعني ان المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك
الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك.
وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام
الثبوت مقيدا بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس
ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيد به في الواقع
وحلول أجله الواقعي الذي أنيط به، وليس المراد منه رفع الحكم
الثابت في الواقع ونفس الامر حتى يكون مستحيلا على الحكيم تعالى العالم
بالواقعيات.
فالنتيجة ان النسخ بالمعنى الذي ذكرناه أمر ممكن جزما ولا يلزم منه
شئ من المحذورين المتقدمين، بيان ذلك أنه لا شبهة في دخل خصوصيات
الافعال في ملاكات الاحكام وانها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات سواء
أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة
والصيام والحج وما شاكل ذلك، فان دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال
مما لا يشك فيه عاقل فضلا عن فاضل فإذا كانت خصوصيات
الزمان دخيلة في ملاكات الاحكام وانها تختلف باختلافها فلتكن دخيلة في
استمرارها وعدمه أيضا، ضرورة انه لا مانع من أن يكون الفعل مشتملا
على مصلحة في مدة معينة وفي قطعة خاصة من الزمان فلا يكون مشتملا
عليها بعد انتهاء تلك المدة.
وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم
باشتماله كذلك محدودا بأمد تلك المصلحة فلا يعقل جعله منه على نحو
الاطلاق والدوام، فإذا لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث إنها
أمده.
وعلى الجملة فإذا أمكن أن يكون للبوم المعين أو الأسبوع المعين أو
331

أو الشهر المعين دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن
دخل السنة المعينة أو السنين المعينة فيها أيضا، فإذا كان الفعل مشتملا على
مصلحة في سنين معينة لم يجعل له الحكم إلا في هذه السنين فحسب فيكون
أجله وأمده انتهاء تلك السنين فإذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول
أجله، هذا بحسب مقام الاثبات فالدليل الدال عليه وإن كان مطلقا إلا
أنه كما يمكن تقييد اطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك
يمكن تقييد اطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل حيث إن المصلحة
قد نقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق، مع أن المراد الجدي
هو الخاص أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد
بدليل منفصل، فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده
وفي مقام الاثبات رفع الحكم الثابت لا طلاق دليله من حيث الزمان ولا يلزم منه
خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقه تعالى، هذا بناء على وجهة
نظر العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وأما على وجهة
نظر من يرى تبعية الاحكام لمصالح في أنفسها فالامر أيضا كذلك، فان
المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارة تقتضي جعله على نحو الاطلاق والدوام
في الواقع، وتارة أخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص
فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت (وهذا هو النسخ) وإن كان الفعل
باقيا على ما هو عليه في السابق أو فقل ان في ايجاب شئ تارة مصلحة
في جميع الأزمنة، وأخرى في زمان خاص دون غيره.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنه لا ينبغي الشك في امكان النسخ
بل وقوعه في الشريعة المقدسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة
أو نحوها.
332

(البداء)
قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات وخالف في ذلك العامة وقالوا
باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى: ومن هنا؟؟؟
إلى الشيعة ما هم براء منه وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم
بالبداء.
ولكن من الواضح انهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من
البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلا لم ينسبوا إليهم هذا
الافتراء الصريح والكذب البين، وممن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي
في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى: " بمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده
أم الكتاب " قال: قالت: الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو ان
يعتقد شيئا ثم يظهر له ان الامر بخلاف ما اعتقده) وهذا كما ترى كذب
صريح على الشيعة، وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه
تعالى كيف فان الشيعة ملتزمون به، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل
عليه سبحانه وتعالى.
وقد ورد في بعض الروايات ان من زعم أن الله عز وجل يبدو له
في شئ لم يعلمه أمس فابرأوا منه، وفي بعضها الآخر فأما من قال بالله
تعالى لا يعلم الشئ إلا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد.
وقد اتفقت كلمة الشيعة الإمامية على أن الله تعالى لم يزل عالما قبل
أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى الحكم العقل الفطري وطبقا للكتاب
والسنة.
بيان ذلك أنه لا شبهة في أن العالم بشتى ألوانه واشكاله تحت قدرة
333

الله تعالى وسلطانه المطلق وان وجود أي ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته
تعالى وأعمال قدرته فان شاء أو جده وان لم يشاء لم يوجده، هذا من ناحية
ومن ناحية أخرى ان الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ
الأزل وان لها بجميع أشكالها تعيينا علميا في علم الله الأزلي ويعبر عن هذا
التعيين بتقدير الله مرة وبقضائه مرة أخرى.
ومن ناحية ثالثة ان علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب
قدرة الله تعالى واختياره عنها، ضرورة أن حقيقة العلم بشئ الكشف عنه
على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شئ فيه فالعلم الأزلي
بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الإناطة بمشيئة الله واختياره
فلا يزيد انكشاف الشئ على واقع ذلك الشئ، وقد فصلنا الحديث من
هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسع.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث هي أن معني تقدير الله تعالى
للأشياء وقضائه بها ان الأشياء بجميع ضروبها كانت متعينة في العلم الإلهي
منذ الأزل على ما هي عليه من أن وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة
الإلهية بها حسب اقتضاء الحكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف
والتي يحيط بها العلم الإلهي.
ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أن قلم
التقدير والقضا حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة
الإلهية بخلافه.
ومن هنا قالوا يد الله مفلولة عن القبض والبسط والاخذ والاعطاء
ووجه الظهور ما عرفت من أن قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله
تعالى على الأشياء حين ايجادها حيث إنه تعلق بها على واقعها الموضوعي
؟؟؟ الإناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.
334

ومن الغريب جدا انهم (لعنهم الله) التزموا بسلب القدرة من الله
ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد مع أن الملاك في كليهما واحد - وهو
العلم الأزلي - فإنه كما تعلق بأفعاله تعالى كذلك تعلق بأفعال العبيد.
فالنتيجة انهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وان قلم التقدير والقضاء
لا ينافيها وسلب القدرة عن الله تعالى وان قلم التقدير والقضاء ينافيها،
وهذا كما ترى.
وبعد ذلك نقول: إن المستفاد من نصوص الباب ان القضاء الإلهي
على ثلاثة أنواع.
الأول: قضائه تعالى الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه حتى تهينا
محمد (ص) وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبر عنه باللوح
المحفوظ تارة وبأم الكتاب تارة أخرى، ولا ريب ان البداء يستحيل أن
يقع فيه كيف يتصور فيه البداء وان الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى
ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في
السماء، ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة ان البداء إنما ينشأ من هذا
العلم لا انه يقع فيه.
منها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمد النوالي ان
الرضا (ع) قال لسليمان المروزي رويت عن أبي عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال (ان لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعمه الا هو
من ذلك يكون البداء وعلما علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت
نبيك يعلمونه).
ومنها: ما عن بصائر الدرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله
عليه السلام قال (ان الله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من
ذلك يكون البداء وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبيائه ولحن نعلمه).
335

الثاني: قضاء الذي أخير نبيه وملائكته بأنه سوف بقع حتما
ولا شبهة في أن هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، ضرورة ان الله تعالى
لا يكذب نفسه ورسله وملائكته وأوليائه فلا فرق بينه وبين القسم الأول
من هذه الناحية. نعم يفترق عنه من ناحية أخرى وهي ان هذا القسم
لا ينشأ منه البداء دون القسم الأول.
وتدل على ذلك عدة روايات.
منها: قوله (ع) في الرواية المتقدمة عن الصدوق ان عليا (ع)
كان يقول " العلم علمان فعلم علمه الله ملائكته ورسله فما علمه ملائكته
ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم عنده مخزون
لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما بشاء
ويثبت ما يشاء ".
ومنها: ما روى العياشي عن الفضيل قال سمت أبا جعفر (ع)
يقول: (من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة ومن الأمور أمور موقوفة
عند الله يقدم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يطلع على ذلك
أحدا - يعني الموقوفة - فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه
ولا نبيه ولا ملائكته.
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج
لا بنحو الحتم بل معلقا على أن لا تتعلق مشيئة الله على خلافه، وفي هذا
القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والاثبات واليه أشار بقوله (يمحو الله
ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. لله الامر من قبل ومن بعد) وقد دلت
على ذلك عدة نصوص.
منها: ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبد الله بن مسكان عن
أبي عبد الله (ع) قال (إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكنية
336

إلى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة فإذا
أراد الله أن يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء
ثم أثبت الذي أراده، قلت وكل شئ هو عند الله مثبت في كتاب الله
قال: نعم قلت فأي شئ يكون بعده قال سبحان الله ثم يحدث الله أيضا
ما يشاء تبارك وتعالى).
ومنها: ما في تفسيره أيضا عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر
وأبي عبد الله وأبي الحسن (ع) عند تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل
أمر حكيم أي يقدر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك
السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدم ما يشاء ويؤخر ما بشاء من الآجال
والأرزاق والبلايا والاعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص
ما يشاء).
ومنها: ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال (لولا آية
في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة
وهي هذه الآية) " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ومثله
ما عن الصدوق في الآمال والتوحيد عن أمير المؤمنين (ع).
ومنها: ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال:
(كان علي بن الحسين (ع) يقول لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما
يكون إلى يوم القيامة فقلت أية آية قال قول الله يمحو الله الخ.
ومنها: ما في قرب الإسناد عن البزنطي عن الرضا عليه السلام قال:
قال أبو عبد الله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن
أبي طالب عليهم السلام (لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن
تقوم الساعة بمحو الله الخ.
ومنها: ما عن العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله (ع) يقول:
337

(ان الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده
أم الكتاب وقال فكل أمر يريد الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس
شئ يبدو له إلا وقد كان في علمه ان الله لا يبدو له من جهل).
ومنها ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (ع) سئل عن
قول الله يمحو الله الخ قال: (ان ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء
ويثبت فمن ذلك الذي يرد الدعاء القضاء وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي
يرد به القضاء حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا) ومنها
غيرها من الروايات الدالة على ذلك.
فالنتيجة على ضوء هذه الروايات هي أن البداء يستحيل ان يقع في
القسم الأول من القضاء المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم
المخزون عند الله، بداهة أنه كيف يتصور البداء فيه وان الله سبحانه عالم
بكنه جميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة
في الأرض ولا في السماء.
نعم هذا العلم منشأ لوقوع البداء يعني أن انسداد باب هذا العلم
لغيره تعالى حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة أوجب وقوع البداء في بعض
اخباراتهم، وكذا الحال في القسم الثاني من القضاء نظرا إلى أن العقل
يستقل باستحالة تكذيب الله تعالى نفسه أو أنبيائه.
وأما القسم الثالث فهو مورد لوقوع البداء ولا يلزم من الالتزام
بالبداء فيه أي محذور كنسبة الجهل إلى الله سبحانه وتعالى ولا ما ينافي
عظمته وجلاله ولا الكذب حيث إن أخباره تعالى بهذا القضاء لنبيه أو
وليه ليس على نحو الجزم وألبت، بل هو معلق بعدم مشيئته بخلافه،
فإذا تعلقت المشيئة على الخلاف لم يلزم الكذب، فان ملاك صدق هذه
338

القضية وكذبها إنما هو يصدق الملازمة وكذبها، والمفروض ان الملازمة
صادقة وهي وقوعه لو لم تتعلق المشيئة الإلهية على خلافه.
مثلا أن الله تعالى يعلم بأن زيدا سوف يموت في الوقت الفلاني ويعلم
بأن موته فيه معلق على عدم اعطائه الصدقة أو ما شاكلها، ويعلم بأنه
يعطي الصدقة فلا يموت فيه، فها هنا قضيتان شرطيتان ففي إحداهما:
قد علق موته في الوقت الفلاني بعدم تصدقه أو نحوه، وفي الأخرى قد
علق عدم موته فيه على تصدقه أو نحوه.
ونتيجة ذلك ان المشيئة الإلهية في القضية الأولى قد تعلقت بموته
إذا لم يتصدق، وفي القضية الثانية قد تعلقت بعدم موته وبقائه؟؟؟
إذا تصدق.
ومن الواضح ان اخباره تعالى بالقضية الأولى ليس كذبا، فان المناط
في صدق القضية الشرطية وكذبها هو صدق الملازمة بين الجزاء والشرط
وكذبها لا بصدق طرفيها، بل لا يضر استحالة وقوع طرفيها في صدقها
فعلمه تعالى بعدم وقوع الطرفين هنا لا يضر بصدق اخباره بالملازمة بينهما
وكذا لا محذور في أخبار النبي أو الوصي بموته في هذا الوقت معلقا بتعلق
المشيئة الإلهية به، فان جريان البداء فيه لا يوجب كون الخبر الذي أخبر به
المعصوم كاذبا لفرض ان المعصوم لم يخبر بوقوعه على سبيل الحتم والجزم
ومن دون تعليق وإنما أخبر به معلقا على أن تتعلق المشيئة الإلهية به أو ان
لا تتعلق بخلافه.
ومن الواضح ان صدق هذا الخبر وكذبه إنما يدوران مدار صدق
الملازمة بين هذين الطرفين وكذبها لا وقوعهما في الخارج وعدم وقوعهما فيه.
فالنتيجة في نهاية المطاف هي أنه لا مانع من الالتزام بوقوع البداء في بعض
اخبارات المعصومين (ع) في الأمور التكوينية ولا يلزم منه محذور لا بالإضافة
339

إلى ذاته سبحانه وتعالى ولا بالإضافة إليهم عليهم السلام (1).

(1) ولو أغمضنا عن تلك الروايات وافترضنا أنه لم تكن في المسألة
أية رواية
من روايات الباب فما هو موقف العقل فيها الظاهر بل لا ريب
في أن موقفه هو موقف الروايات الدالة على أن قضاء الله تعالى على ثلاثة أنواع
والسبب في ذلك أن العقل يدرك على السبيل الحتم والجزم ان البشر مهما
بلغ من الكمال ذروته كنبينا محمد (ص) يستحيل أن يحيط بجميع ما في علم
الله سبحانه وتعالى هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان جريان البداء ووقوعه في الخارج بنفسه دليل
على ذلك حيث أنه يستحيل جريانه في علمه تعالى لاستلزامه الجهل بالواقع
(تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا).
وقد ثبت على ضوء الكتاب والسنة والعقل الفطري ان الله سبحانه
عالم بجميع الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها، ولا يعزب عن علمه مثقال
ذرة لا في السماء ولا في الأرض، وكذا يستحيل جريانه في القضايا
التي أخبر بوقوعها ملائكته ورسله على سبيل الحتم والجزم فان الله تعالى
يستحيل أن يكذب نفسه أو ملائكته أو رسله.
وعليه فبطبيعة الحال يجري البداء في القضايا التي أخبر بوقوعها لهم
معلقا بتعلق مشيئته به أو بعدم تعلقها على خلافه المعبر عنه بعالم المحو والاثبات
والنكتة في وقوعه فيها هو ان الله تعالى يعلم بعدم الوقوع من جهة علمه
بعدم وقوع ما علق عليه في الخارج بعلمه المكنون والمخزون عنده لا يحيط
به غيره أبدا.
وأما من أخبره تعالى بوقوعها على نحو التعليق فهو حيث لا يعلم بعدم
وقوع المعلق عليه فيه فلأجل ذلك قد يظهر ويبدو خلاف ما أخير به وهذا
هو البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية ولا يستلزم كذب ذلك
340

الخبر لفرض ان أخباره عن الوقوع للناس ليس على سبيل الحتم والجزم
وإنما كان على نحو التعليق ولا يتصف مثل هذا الخبر بالكذب إلا في
فرض عدم الملازمة بين المعلق والمعلق عليه والمفروض ان الملازمة بينهما
موجودة وبذلك يظهر ان حقيقة البداء عند الشيعة هي إلا بداء والاظهار
واطلاق لفظ البداء عليه مبنى على التنزيل وبعلاقة المشاكلة واسناده إليه
تعالى باعتبار ان علمه منشأ لوقوعه وجريانه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مناص من
الالتزام بالبداء بالمعنى الذي ذكرناه على ضوء الروايات وحكم العقل.
وقد تحصل مما ذكرناه ان نتيجة البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية
وتعتقد به هي الاعتراف الصريح بأن العالم بأجمعه تحت سلطان الله
وقدرته حدوثا وبقاء وان مشيئة الله تعالى نافذة في جميع الأشياء وانها
بشتى ألوانها بأعمال قدرته واختياره.
وقد تقدم الحديث من هذه الناحية في ضمن نقد نظريتي الجير
والتفويض هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان في الاعتقاد بالبداء
يتضح نقطة الفرق بين العلم الإلهي وعلم غيره، فان غيره وإن كان نهيا أو
وصيا كنبينا محمد (ص) لا يمكن أن يحيط بجميع ما أحاط به علمه تعالى
وإن كان عالما بتعليم الله إياه بجميع عوالم الممكنات إلا أنه لا يحيط بما
أحاط به علم الله المخزون المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب حيث الله
لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شئ أو عدم مشيئته الا حيث يخبره الله
الله تعالى به على نحو الحتم.
ومن ناحية ثالثة ان القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى
وتضرعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة
وابعاده عن المعصية كل ذلك إنما نشأ من الاعتقاد بالبداء وبان عالم المحو
341

عدم الملازمة في مرتبة ملاقاة الثوب لماء الاستنجاء فمرده إلى التخصيص
في المقام وإن كان في مرتبة ملاقاة ماء الاستنجاء للعذرة فمرده إلى التخصص
وحيث إن تلك الطائفة يعني الروايات الدالة على طهارة الثوب لا تدل على
تعيينه أي تعيين عدم الملازمة في إحدى المرتبتين خاصة فلا محالة لا ظهور
لها في طهارة ماء الاستنجاء ولا دلالة لها عليها، فإذا لا مانع من الرجوع
إلى عموم الطائفة الأولى حيث إن قضيته انفعال الماء القليل بملاقاة النجس
وقد تحصل من ذلك ان الأظهر حسب القاعدة نجاسة ماء الاستنجاء
وتترتب عليها آثارها ما عدا انفعال الملاقي له.
ولكن مع ذلك لا يمكن رفع اليد عن الروايات الظاهرة في الطهارة
ولا سيما معتبرة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال سألت أبا عبد الله (ع)
" عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه قال لا "
فإنها تدل بمقتضى الفهم العرفي على عدم نجاسة ماء الاستنجاء ويزيد على
ذلك وخصوصا ملاحظة حال المفتي والمستفتي، فإنه إذا سأل العامي مقلده
عما أصابه ماء الاستنجاء واجابه بأنه غير منجس فهل يشك السائل في
طهارة ماء الاستنجاء عندئذ.
وعليه فهذه الروايات تعيين عدم الملازمة في ملاقاة ماء الاستنجاء لعين
النجاسة - وهي العذرة في مفروض المقام - نظرا إلى انها واردة في مورد
خاص، دون ما دل على نجاسة العذرة، فإنه يدل بالالتزام على نجاسة
ملاقيها مطلقا في هذا المورد وغيره، وهذه الروايات تخصص هذه الدلالة
الالتزامية في غير هذا المورد.
بقي هنا شئ وهو ان ما علم بخروجه عن حكم العام إذا دار أمره
بين فردين أحدهما فرد للعام والآخر ليس فردا له كما إذا تردد أمر زيد
في مثل (لا تكرم زيدا) بين زيد العالم وغيره من ناحية الشبهة المفهومية
342

القول بأن الله تعالى غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير
(تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) حيث إنه مخالف لصريح الكتاب
والسنة وحكم العقل الفطري كما عرفت.
ومن المعلوم ان ذلك يوجب بأس العبد من إجابة دعائه وهو يوجب
تركه وعدم توجهه إلى ربه في قضاء مهماته وطلباته.
إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بالنتائج التالية.
الأولى: ان ما عن العامة من نسبة تجويز الجهل عليه سبحانه وتعالى
إلى الشيعة باعتبار التزامهم بالبداء فقد عرفت انه افتراء صريح عليهم
وان الالتزام بالبداء لا يستلزم ذلك، بل هو تعظيم واجلال لذاته تعالى
وتقدس.
الثانية: ان العالم بأجمعه وبشتى اشكاله تحت سلطان الله تعالى وقدرته
كما أنه تعالى عالم به بجميع أشكاله منذ الأزل، وقد عرفت ان هذا العلم
لا ينافي ولا يزاحم قدرته واختياره.
ومن هنا قلنا إن ما ذهب إليه اليهود من أن قلم التقدير والقضاء إذا
جرى على الأشياء في الأزل استحال ان تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه خاطئ
جدا ولا واقع موضوعي له أصلا، فان قلم التقدير والقضاء لا ينافي قدرته
ولا يزاحم اختياره.
الثالثة: ان قضائه تعالى على ثلاثة أنواع: 1 - قضائه الذي لم يطلع
عليه أحد من خلفه. 2 - قضائه الذي اطلع بوقوعه أنبيائه وملائكته على
سبيل الحتم والجزم. 3 - قضائه الذي اطلع بوقوعه أنبيائه وملائكته معلقا
على أن لا تتعلق مشيئته على خلافه، ولا يعقل جريان البداء في القضاء
الأول والثاني وإنما يكون ظرف جريانه هو الثالث، وهذا التقسيم قد
ثبت على ضوء الروايات وحكم العقل الفطري.
343

الرابعة: أنه لا يلزم من الالتزام بالبداء أي محذور كتجويز الجهل
عليه سبحانه أو ما ينافي عظمته واجلاله أو الكذب، بل في الاعتقاد به
تعظيم لسلطانه واجلال لقدرته، كما لا يلزم منه محذور بالإضافة إلى أنبيائه
وملائكته، بل فيه امتياز علم الخالق عن علم المخلوق.
الخامسة: ان حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعني الابداء أو
الاظهار واطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة.
السادسة: ان فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف الصريح بأن العالم
بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)
وتوجه العبد إلى الله تعالى وتضرعه إليه في قضاء حوائجه ومهماته وعدم
يأسه من ذلك، وهذا بخلاف القول بانكار البداء، فإنه يوجب بأس العبد
ولا يرى فائدة في التضرع والدعاء وهذا هو السر في اهتمام الأئمة (ع)
بشأن البداء في الروايات الكثيرة.
(المطلق والمقيد)
المطلق في اللغة بمعنى المرسل الذي لم يقيد بشئ في مقابل المقيد الذي
هو مقيد به ومنه يقال أن فلانا مطلق العنان يعني أنه غير مقيد بشئ،
وأما عند الأصوليين فالظاهر أنه ليس لهم في اطلاق هذين اللفظين اصطلاح
جديد، بل يطلقونهما بمالهما من المعنى اللغوي والعرفي. ثم إنه يقع الكلام
في جملة من الأسماء وهل انها من المطلق أولا. منها أسماء الأجناس من
الجواهر والاعراض وغيرهما.
وقبل بيان ذلك ينبغي لنا التعرض لأقسام الماهية فنقول: الماهية تارة
يلاحظ بما هي هي يعني أن النظر مقصور إلى ذاتها وذاتياتها ولم يلحظ
344

معها شئ زائد وتسمى هذه الماهية بالماهية المهملة نظرا إلى عدم ملاحظة
شئ من الخصوصيات المتعينة معها فتكون مهملة بالإضافة إلى جميع تلك
الخصوصيات حتى خصوصية عنوان كونها مقسما للأقسام الآتية.
وبكلمة أخرى ان النظر لم يتجاوز عن حدود ذاتها وذاتياتها إلى
شئ خارج عنها حتى عنوان اهمالها وقصر النظر عليها، فان التعبير عنها
بالماهية المهملة باعتبار واقعها الموضوعي، لا باعتبار اخذ هذا العنوان في
مقام اللحاظ معها.
فالنتيجة ان هذه الماهية مهملة ومبهمة بالإضافة إلى جميع طواريها
وعوارضها الخارجية والذهنية.
وتارة أخرى يلاحظ معها شئ خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها،
وذلك الشئ إن كان عنوان مقسميتها للأقسام التالية دون غيره سميت هذه
الماهية بالماهية اللا بشرط المقسمي، وإن كان ذلك الشئ الخارج عنوان
تجردها في وعاء العقل عن جميع الخصوصيات والعوارض سميت هذه
الماهية بالماهية المجردة وفي الاصطلاح بالماهية بشرط لا، وهي بهذا العنوان
غير قابلة للحمل على شئ من الموجودات الخارجية، لوضوح انها لو حملت
على موجود خارجي لكانت مشتملة على خصوصية من الخصوصيات وهذا
خلف الفرض، وهذه الماهية تسمى بالأسماء التالية: النوع، الجنس،
الفصل، العرض العام، الغرض الخاص، حيث إنها عناوين للماهيات
الموجودة في أفق النفس فلا تصدق على الموجود الخارجي.
وإن كان ذلك الشئ خصوصية من الخصوصيات الخارجية سميت
هذه الماهية بالماهية المخلوطة، وفي الاصطلاح بالماهية بشرط شئ، وهذه
الخصوصية تارة وجودية وأخرى عدمية، والأول كلحاظ ماهية الانسان
مثلا مع العلم، فإنها لا تنطبق الا على هذه الحصة فحسب يعني الانسان
345

العالم دون غيرها، والثاني كلحاظها مثلا مع عدم العلم أو عدم الفسق
فهي على هذا لا تنطبق في الخارج الا على الحصة التي لا تكون متصفة
بالعلم أو بالفسق، فهذان القسمان معا من الماهية الملحوظة بشرط شئ.
نعم قد يعبر عن القسم الثاني في الأصول بالماهية بشرط لا ولكنه
مجرد اصطلاح من الأصوليين ولا مناقشة فيه.
وإن كان ذلك الشئ عنوان الاطلاق والارسال سميت هذه الماهية
بالماهية اللا بشرط القسمي حيث إنها ملحوظة مطلقة ومرسلة بالإضافة إلى
جميع ما تنطبق عليه في الخارج.
وقد ذكرنا في غير مورد أن الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم أخذ
شئ منها مع الماهية وإلا لم تكن الماهية ماهية مطلقة، ولنأخذ لذلك بمثال
وهو ان الكلمة إذا لوحظت بما هي بأن يكون النظر مقصورا على ذاتها
وذاتياتها فحسب فهي ماهية مهملة ومبهمة بالإضافة إلى جميع التعينات
الخارجية والذهنية حتى تعين قصر النظر عليها يعني أن هذه الخصوصية
أيضا لم تلحظ معها، فالكلمة في اطار هذا اللحاظ لا تصلح أن يحمل عليها
شئ الا الذات أو الذاتيات نعم انها تصلح أن تكون محلا لعروض كل من
الاسم والفعل والحرف.
وان لوحظت معها خصوصية زائدة عن ذاتها وذاتياتها فإن كانت
تلك الخصوصية هي عنوان كونها مقسما لهذه الأقسام فهي ماهية لا بشرط
المقسمي، حيث إنها في اطار هذا اللحاظ مقسم لتلك الأقسام يعني أنه
لا تحقق لها الا في ضمن أحد أقسام الماهية كالمجردة والمخلوطة والمطلقة.
كما انها تمتاز بهذا اللحاظ عن الماهية المهملة وان لوحظت معها
خصوصية زائدة على تلك الخصوصية أيضا فإن كانت تلك الخصوصية
الزائدة عنوان تجردها في أفق النفس عن جميع العوارض والطوارئ
التي يمكن أن تلحقها في الخارج من خصوصيات أفرادها وأصنافها فهي
346

ماهية مجردة وإن كانت تلك الخصوصية خصوصية خارجية كخصوصية الاسم
أو الفعل أو الحرف فهي ماهية مخلوطة وإن كانت تلك الخصوصية عنوان
الاطلاق والارسال فهي ماهية مطلقة المسماة في الاصطلاح بالماهية لا بشرط
القسمي.
وبعد ذلك نقول: إن اسم الجنس موضوع للماهية المهملة دون
غيرها من أقسام الماهية وهي الجامعة بين جميع تلك الأقسام بشتى لحاظاتها وقد
عرفت انها معراة من تمام الخصوصيات والتعينات (الذهنية والخارجية) حتى
خصوصية قصر النظر عليها، والسبب فيه هو انه لو كان موضوعا للماهية
المأخوذ فيها شئ من تلك الخصوصيات لكان استعماله في غيرها مجازا ومحتاجا
إلى عناية زائدة حتى ولو كانت تلك الخصوصية قصر النظر على ذاتها
وذانياتها، لما عرفت من أنه نحو من التعين وهو غير مأخوذ في معناه
الموضوع له فالمعنى الموضوع له مبهم من جميع الجهات.
ومن هنا يصح استعمال اسم الجنس كالانسان أو ما شاكله في الماهية
بجميع أطوارها (الذهنية والخارجية) ومن الطبيعي انه لو كان شئ
منها مأخوذا في معناه الموضوع له لكان استعماله في غير الواجد له بحاجة
إلى عناية زائدة، مع أن الامر ليس كذلك.
ومن الواضح ان صحة استعماله فيها في جميع حالاتها وطواريها تكشف
كشفا يقينيا عن أنه موضوع بإزاء الماهية نفسها من دون لحاظ شئ من
الخصوصيات فيها حتى قصر النظر إلى ذاتها وذاتياتها ففي مثل قولنا:
(النار حارة) لم تستعمل كلمة (النار) إلا في الطبيعة الجامعة بين تلك
الأقسام المهملة بالإضافة إلى تمام خصوصياتها ولحاظانها.
وان شئت قلت: ان اللحظات الطارئة على الماهية بشتى اشكالها إنما
هي في مرحلة الاستعمال حيث إن في هذه المرحلة لابد من أن تكون الماهية
347

ملحوظة بأحد الأقسام المتقدمة نظرا إلى أن الغرض قد يتعلق بلحاظها على
شكل، وقد يتعلق به على شكل آخر وهكذا.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الماهية المهملة فوق جميع
الاعتبارات واللحظات الطارئة عليها حيث إنها مهملة حقيقة وبتمام المعنى.
واما الماهية المقصور فيها النظر إلى ذاتها وذاتياتها فليست بمهملة بتمام المعنى
نظرا إلى انها متعينة من هذه الجهة أي من جهة قصر النظر إلى ذاتها
فتسمية هذه بالماهية المهملة لا تخلو عن مسامحة فالأولى ما عرفت.
ثم إن الظاهر أن الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية المهملة دون غيرها
خلافا لشيخنا الأستاذ (قده) حيث قد صرح بأن الكلي الطبيعي الصادق
على كثيرين هو اللابشرط القسمي دون المقسمي بدعوى ان اللابشرط
المقسمي عبارة عن الطبيعة الجامعة بين الكلي المعبر عنه باللا بشرط القسمي
الممكن صدقه على كثيرين، والكلي المعبر عنه بالماهية المأخوذة بشرط لا الممتنع
صدقه على الافراد الخارجية، والكلي المعبر عنه الماهية بشرط شئ الذي
لا يصدق إلا على افراد ما اعتبر فيه الخصوصية.
ومن الطبيعي أنه يستحيل أن يكون الجامع بين هذه الأقسام هو الكي
الطبيعي، لان الكلي الطبيعي هو الكلي الجامع بين الافراد الخارجية الممكن
صدقه عليها فهو حينئذ قسيم للكلي العقلي الممتنع صدقه على الافراد الخارجية
ولا يعقل أن يكون قسيم الشئ مقسما له ولنفسه ضرورة أن المقسم لابد
من أن يكون متحققا في ضمن جميع أقسامه، ولا يعقل أن تكون المهية
المعتبرة فيها خصوصية على نحو تصدق على الافراد الخارجية متحققة في
ضمن الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو يمتنع صدقها على ما في الخارج
وعليه فلا مناص من الالتزام يكون الجامع بين الأقسام هو الماهية الجامعة
بين ما يصح صدقه على ما في الخارج وما يمتنع صدقه عليه، فالمقسم أيضا
348

وإن كان قابلا للصدق على الافراد الخارجية لفرض أنه متحقق في ضمن
الماهية المأخوذة على نحو اللا بشرط القسمي وحيث انها صادقة على ما في
الخارج، فالمقسم أيضا كذلك إلا أنه حيث يكون قابلا للصدق على الكلي
العقلي أيضا فيستحيل أن يكون الجامع بين الأقسام هو نفس الجهة الجامعة
بين الافراد الخارجية المعبر عنها بالكلي الطبيعي.
ما أفاده (قده) يحتوي على عدة نقاط:
الأولى: ان الماهية اللا بشرط المقسمي هي نفس الماهية من
حيث هي هي.
الثانية: ان الكلي الطبيعي ليس هو الماهية اللا بشرط المقسمي حيث
أنه (قده) قد اعتبر في كون الشئ كليا طبيعيا صدقه على الافراد
الخارجية فحسب دون غيرها.
ومن المعلوم ان هذه النكتة غير متوفرة في الماهية اللا بشرط المقسمي
لفرض صدقها على الماهيات المجردة التي لا موطن لها إلا العقل، وعليه
فلا يمكن أن تكون تلك الماهية كليا طبعيا.
الثالثة: ان ما يصلح أن يكون كليا طبعيا هو الماهية اللا بشرط
القسمي حيث إن النكتة المتقدمة وهي الصدق على الافراد الخارجية فحسب
دون غيرها متوفرة فيها.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط:
أما النقطة الأولى: فهي وإن كانت معروفة بينهم إلا انها خاطئة
جدا ولا واقع موضوعي لها، وذلك لها عرفت من أن الماهية من حيث
هي هي بينها هي الماهية المهملة التي كان النظر مقصورا على ذاتها وذاتياتها
وغير ملاحظ معها شئ خارج عنهما، بل قلنا إنها مهملة بالإضافة إلى
جميع الخصوصية (الذهنية والخارجية) حتى عنوان اهمالها وقصر النظر عليها
349

ولذا لا يصح حمل شئ عليها في اطار هذه اللحاظ إلا الذات فيقال:
(الانسان حيوان ناطق). وهذا بخلاف الماهية اللا بشرط المقسمي،
فان عنوان المقسمية قد لوحظ معها فلا يكون النظر مقصورا على الذات
والذاتيات، فإذا كيف تكون الماهية اللا بشرط المقسمي هي الماهية المهملة
ومن حيث هي هي.
وأما النقطة الثانية فهي وإن كانت صحيحة إلا انها ليست من ناحية
ما أفاده (قده) بل من ناحية أخرى وهي ان الماهية اللا بشرط المقسمي
لا تحقق لها إلا في ضمن أحد أقسامها من الماهية المجردة والمخلوطة
والمطلقة كما هو الحال في كل مقسم بالإضافة إلى أقسامه وما يعرض عليه
أحد اللحظات المتقدمة هو الماهية المهملة دون الماهية اللا بشرط المقسمي
نظرا إلى أنه لا وجود لها ولا تحقق في أفق النفس مع قطع النظر عن
هذه التقسيمات، ضرورة أن عنوان المقسمية عنوان انتزاعي وهو منتزع
بلحاظ عروض هذه التقسيمات على الماهية ومتفرع عليها فكيف يعقل أن
تعرض تلك التقسيمات عليها بلحاظ هذا العنوان الانتزاعي وتكون متفرعة
عليه أو فقل ان عروض هذا العنوان (المقسمية) على الماهية إنما هو
في مرتبة متأخرة عن عروض تلك التقسيمات عليها، ومعه كيف يعقل أن
تكون تلك التقسيمات عارضة على الماهية المعنونة بهذا العنوان.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي ان الماهية اللا بشرط
المقسمي يعني: المعنونة بهذا العنوان كما لا تصلح أن تكون محلا لعروض الأقسام
المتقدمة، كذلك لا تصلح أن تكون كليا طبيعيا.
أما الأول فلا أمرين: (الأول) ما عرفت من أن لحاظها مع هذا
العنوان في مرتبة متأخرة عن لحاظ تلك الأقسام ومتفرع عليه، ومعه كيف
تكون محلا لعروض تلك الأقسام (الثاني) انها مع هذا العنوان غير قابلة
350

للانطباق على ما في الخارج حيث أنه لا موطن له إلا العقل.
وأما الثاني فيظهر وجهه مما عرفت فان الكلي الطبيعي ما هو قابل
للانطباق على ما في الخارج، والمفروض انها مع هذا العنوان غير قابلة لذلك
ومعه كيف تكون كليا طبيعيا، واما مع قطع النظر عن ذلك العنوان
فهي ليست الماهية اللا بشرط المقسمي، بل هي الماهية المهملة.
وعلى الجملة فالماهية مع هذا العنوان أي عنوان المقسمية غير قابلة
للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها الا في الذهن فلا تصلح أن
تكون كليا طبيعيا وأما مع قطع النظر عن هذا العنوان فهي وإن كانت
قابلة للانطباق على الخارجيات وتصلح أن تكون كليا طبيعيا إلا انها ليست
حينئذ الماهية اللا بشرط المقسمي، بل هي ماهية مهملة التي قد عرفت انها
عارية عن جميع الخصوصيات ولم تلحظ معها أية خصوصية من الخصوصيات
(الذهنية والخارجية).
وقد تقدم ان اسم الجنس موضوع لها وان الخصوصيات بشتى أشكالها
وألوانها طارثة عليها في ظرف الاستعمال، حيث إن الغرض قد يتعلق
بالماهية المجردة، وقد يتعلق بالماهية المخلوطة، وقد يتعلق بالماهية المطلقة،
وهذه الماهية هي التي تصلح أن تكون محلا لعروض الحاظات المتقدمة،
فإنها بأجمعها ترد عليها.
وأما النقطة الثالثة: فيظهر حالها مما تقدم بيان ذلك ان المعتبر في
الماهية اللا بشرط القسمي هو انطباقها بالفعل على جميع أفرادها ومصاديقها
حيث إن السريان الفعلي قد لو حظ فيها رغم أنه غير ملحوظ في الكلي
الطبيعي، إذ لا يعتبر فيه إلا امكان انطباقه على الخارجيات دون فعليته،
ونقصد بالفعلية والامكان لحاظ الماهية فالية بالفعل في جميع مصاديقها وعدم
351

لحاظها كذلك فعلى الأول هي اللا بشرط القسمي وعلى الثاني هي الكلي
الطبيعي.
فالنتيجة في نهاية المطاف ان الكلي الطبيعي هو الماهية المهملة لا الماهية
اللا بشرط المقسمي كما عن السبزواري ولا الماهية اللا بشرط القسمي كما
عن شيخنا الأستاذ (قده) هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ظهر مما
تقدم ان أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة دون غيرها.
ومن ناحية ثالثة قد تبين مما ذكرناه ان ما ذكره المحقق صاحب
الكفاية (قده) من أن الماهية المطلقة لا وجود لها إلا في الدهن وانها
كلي عقلي خاطئ جدا، ومنشأ الخطأ تخيل ان لحاظ السريان قد أخذ
قيدا لها.
ومن الطبيعي ان الماهية المقيدة به لا موطن لها إلا الذهن، ولكنه
تخيل فاسد، فان معنى لحاظ سريانها هو لحاظها فانية في جميع مصاديقها
وافرادها الخارجية بالفعل من دون أخذ اللحاظ قيدا لها. فالمعتبر فيها هو
واقع السريان الفعلي لا لحاظه الذهني ووجوده في أفق النفس فمعنى الارسال
والاطلاق هو عدم دخل خصوصية من الخصوصيات الخارجية في الحكم
الثابت لها، لما ذكرناه غير مرة من أن معنى الاطلاق هو رفض القيود
وعدم دخل شئ منها فيه.
ومن البديهي ان السريان الفعلي من لوازم لحاظ الماهية كذلك ففي
مثل قولنا (النار حارة) الملحوظ فيه هو طبيعة النار مطلقة أي مرفوضة
عنها جميع القيود والخصوصيات وعدم دخل شئ منها في ثبوت هذا
الحكم لها - وهو الحرارة -.
ومن المعلوم ان السريان الفعلي وانطباقها على جميع افرادها الخارجية
بالفعل من لوازم اطلاقها وارسالها كذلك، وكذا قولنا (الانسان كاتب)
352

بالقوة أو (مركب من الروح واليدن) حيث لم يلحظ فيه إلا طبيعة الانسان
مطلقة أي من دون لحاظ أية خصوصية معها كالقصير والطويل والشاب
والشيخ والعرب والعجم والذكر والأنثى وما شاكل ذلك.
ومن الطبيعي ان الانسان الملحوظ كذلك ينطبق على جميع افراده
ومصاديقه بالفعل، وعليه فالحكم الثابت له لا محالة يسرى إلى جميع افراده
في الخارج من دون اعتبار خصوصية من الخصوصيات فيه.
فالنتيجة ان السريان ليس خصوصية وجودية مأخوذة في الماهية لتصيح
الماهية المطلقة الماهية بشرط شئ بل هو عبارة عن انطباق نفس الماهية على
أفرادها في الخارج ولا واقع موضوعي له ما عدا هذا، وعليه فما أفاده
المحقق صاحب الكفاية (قده) من أن الماهية المطلقة غير قابلة للانطباق على
الخارجيات حيث لا موطن لها إلا الذهن خاطئ جدا ولا واقع له أصلا
هذا كله في أسماء الأجناس.
وأما أعلام الأجناس فقد قال جماعة أنه لا فرق بينها وبين أسماء
الأجناس إلا في نقطة واحدة وهي ان أسماء الأجناس موضوعة للماهية
المهملة من جميع الجهات والخصوصيات الذهنية والخارجية، واعلام الأجناس
موضوعة لتلك الماهية لكن بشرط تعيينها في الذهن، ومن هنا يعاملوا
معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس.
وقد أورد على هذه النقطة المحقق صاحب الكفاية (قده) ببيان ان
أعلام الأجناس لو كانت موضوعة للماهية المتعينة في الذهن فلازم ذلك
انها بما لها من المعنى غير قابلة للحمل على الخارجيات حيث لا موطن لها
إلا الذهن.
ومن الطبيعي ان مالا موطن له إلا الذهن فهو غير قابل للانطباق على
ما في الخارج، مع أنه لا شبهة في صحة انطباقها بمالها من المعنى على
353

الخارجيات من دون تصرف ولحاظ تجرد فيها أصلا على الرغم من أن
الخصوصية الذهنية لو كانت مأخوذة في معانيها لم يكن انطباقها عليها بدون
التصرف ولحاظ التجرد.
ومن الواضح ان صحة الانطباق بدون ذلك تكشف كشفا قطعيا عن
أن تلك الخصوصية غير مأخوذة فيها، هذا مضافا إلى أن وضعها لخصوص
معنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية في مقام الاستعمال لا يصدر عن
جاهل فضلا عن الواضع الحكيم حيث إنه لغو محض، ومن الطبيعي أنه
لا معنى لوضح لفظ لمعنى لم يستعمل فيه أبدا.
ومن هنا قال (قده) التحقيق انه لا فرق بين أسماء الأجناس
واعلام الأجناس فكما ان الأولى موضوعة لصرف الطبيعة من دون لحاظ
شئ من الخصوصية معها (الذهنية أو الخارجية) فكذلك الثانية يعني
اعلام الأجناس.
والدليل على عدم الفرق بينهما ما عرفت من أنه لا يمكن أن تكون
الخصوصية الذهنية مأخوذة في معناها الموضوع له، والخصوصية الخارجية
مفروضة العدم، فإذا بطبيعة الحال لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا
وأما انهم يعاملون معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس فالظاهر أن
التعريف فيها لفظي كتأنيث اللفظي فكما ان العرب قد يجري على بعض
الألفاظ حكم التأنيث مع أنه ليس فيه تأنيث حقيقة كلفظ اليد والرجل
والاذن والعين وما شاكلها، فكذلك قد يجري على بعض الألفاظ حكم
التعريف وآثاره مع أنه ليس فيه تعريف أصلا كلفظ (أسامة) حيث إنه
لا فرق بينه وبين لفظ (أسد) في المعنى الموضوع له فالفرق بينهما إنما
هو من ناحية جريان أحكام التعريف على الأول لفظا فقط يعني لا يدخل
عليه اللف واللام ولا يقع مضافا دون الثاني.
354

وعلى الجملة فاللغة تتبع السماع ولا قياس فيها، وحيث إن المسموع
والمنقول فيها من أهلها كذلك فلابد من متابعته مع عدم الفرق بينهما بحسب
المعنى في الواقع والحقيقة، كما هو الحال في المؤنث اللفظي السماعي حيث إن
المسموع منهم جريان أحكام التأنيث عليه مع عدم التأنيث فيه حقيقة
فلابد من متابعته.
وهذا الذي أفاده (قده) متين جدا نعم يمكن المناقشة في البرهان
الذي ذكره على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له لا علام
الأجناس بيان ذلك ان أخذه في المعنى الموضوع له تارة يكون على نحو
الجزئية يعني كل من التقيد والقيد داخل فيه وتارة أخرى يكون على نحو
الشرطية بمعنى ان القيد خارج عن المعنى الموضوع له والتقيد داخل فيه
فالتعين الذهني على الأول مثل أجزاء الصلاة التي هي داخلة فيها قيدا
أو تقيدا كالتكبيرة والفاتحة والركوع والسجود وما شاكل ذلك وعلى الثاني
كشرائطها التي هي داخلة فيها إلا قيدا كاستقبال القبلة وطهارة البدن
والثوب وما شاكلها، وثالثة يكون على نحو المرآتية والمعرفية فحسب من
دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية.
فما أفاده صاحب الكفاية (قده) من البرهان على عدم أخذ التعين
الذهني في المعنى الموضوع له - وهو انه لو كان مأخوذا فيه لم يكن المعنى
قابلا للانطباق على الخارجيات - إنما يتم إذا كان أخذه فيه على أحد
النحوين الأولين.
وأما إذا كان أخذه على النحو الثالث فهو غير مانع عن انطباقه على
الخارجيات، فإذا لو كان مراد القائلين بأخذه في المعنى الموضوع له
لا علام الأجناس هو النحو الثالث لم يرد عليه ما أورده (قده) من عدم
الانطباق على الخارجيات، وكيف كان فما أفاده (قده) من أنه لا فرق
355

بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى الموضوع له متين جدا، لأنه مطابق
للمرتكزات الوجدانية من ناحية والاستعمالات المتعارفة من أهل اللسان من
ناحية أخرى ضرورة أن لفظ (أسامة) استعمل في المعنى الذي استعمل فيه
بعينه لفظ (أسد) فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا، وإنما الفرق
بينهما في اللفظ فقط بترتيب آثار المعرفة على لفظ (أسامة) دون لفظ
(أسد) كما عرفت.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: انه لا فرق بين أسماء الأجناس
وأعلام الأجناس وان كلتيهما موضوعة للماهية المهملة من دون أخذ خصوصية
من الخصوصيات فيها، والخصوصيات الطارئة عليها من ناحية الاستعمال
لا دخل لها في المعنى الموضوع له، وأما ترتيب آثار المعرفة على أعلام
الأجناس دون أسمائها فهو لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب كالمؤنثات
اللفظية التي لا يتجاوز تأنيثها عن حدود اللفظ فحسب.
ومنها: المفرد المعرف باللام أقول المعروف بينهم ان اللام على أقسام
الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه من الذهني. والذكري. والخارجي،
كما أن المعروف بينهم ان كلمة (اللام) موضوعة للدلالة على التعريف
والتعيين في غير العهد الذهني.
وأورد على ذلك المحقق صاحب الكفاية (قده) بقوله: وأنت
خبير بأنه لا تعين في تعريف الجنس إلا الإشارة إلى المعنى المتميز بنفسه
من بين المعاني ذهنا، ولازمه أنه لا يصح حمل المعرف باللام بما هو معرف
على الافراد، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع مالا موطن له إلا الذهن
إلا بالتجريد، ومعه لا فائدة في التقييد، مع أن التأويل والتصرف في
القضايا المتداولة في العرف غير حال عن التعسف، هذا مضافا إلى أن
الوضع لما لا حاجة إليه، بل لابد من التجريد عنه والغائه في الاستعمالات
356

المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه كان لغوا، كما
أشرنا إليه، فالظاهر أن اللام مطلقا يكون للتزيين كما في الحسن والحسين
واستفادة الخصوصيات إنما تكون بالقرائن التي لابد منها لتعيينها على كل
حال ولو قبل بإفادة اللام للإشارة إلى المعنى، ومع الدلالة عليه بتلك
الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الإشارة أو لم تكن مخلة، وقد عرفت
اخلالها فتأمل جيدا.
ما أفاده (قده) يتضمن عدة نقاط:
الأولى: ان كلمة (اللام) لو كانت موضوعة للدلالة على التعريف
والتعيين فلازمه عدم امكان حمل المفرد المعرف باللام على الخارجيات،
وذلك لان الجنس المعرف بها لا تعين له في الخارج على الفرض، وعليه
فلا محالة يكون تعينه في أفق النفس يعني ان كلمة (؟؟؟) تدل على
تعيينه وتمييزه من بين سائر المعاني في الذهن.
و؟؟؟ المعلوم ان الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي
إلا بالتجريد.
الثانية: ان لازم ذلك هو التصرف والتأويل في القضايا المتعارفة
المتداولة بين العرف، حيث إن الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون
ذلك مع أن التأويل والتصرف فيها لا يخلو ان عن التعسف لفرض صحة
الحمل فيها بدونهما.
الثالثة: ان وضع كلمة (اللام) لذلك لغو محض فلا يصدر من
الواضع الحكيم.
الرابعة: ان كلمة (اللام) تدل على التزيين فحسب من دون أن
تكون موضوعة للدلاة على التعريف والتعيين.
ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط: أما النقطة الأولى فهي تبتني على
357

كون كلمة (اللام) موضوعة للدلالة على تعين مدخولها في أفق الذهن
بنحو يكون التعين الذهني جزء معناه الموضوع له أو قيده، ولكن الامر
ليس كذلك، فان وضعها للدلالة على التعريف والتعيين لا يستلزم كون
التعين جزء معنى مدخولها أو قيده، ضرورة ان اسم الجنس موضوع لمعنى
واحد سواء أكان مع اللام أو بدون وانه مع اللام لم يوضع لمعنى آخر
غيره. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى اننا إذا راجعنا في مرتكز آتنا الذهنية نري ان كلمة
(اللام) تدل على معنى هي موضوعة بإزائه - وهو التعريف والإشارة -
وليس بحيث يكون وجودها وعدمها سيان وانه لا أثر لها ما عدا التزيين
فيكون حالها حال الأسماء الإشارة والضمائر من هذه الناحية فكما ان اسم
الإشارة موضوع للدلالة على تعريف مدخوله وتعيينه في موطنه حيث قد
يشار به إلى الموجود الخارجي كقولنا (هذا زيد) وقد يشار به إلى الكلى
كقولنا هذا الكلي يعني الانسان مثلا أخص من الكلى الآخر. وهو
الحيوان - بل قد يشار به إلى المعدوم كقولنا (هذا الشئ معدوم) ولا وجود
له أو هذا القول معدوم وغير موجود بين الأقوال، فكذلك كلمة (اللام)
فقد يشار بها إلى الجنس كقولنا (أكرم الرجل) وقد يشار بها إلى
الاستغراق كقولنا (أكرم العلماء) بناء على دلالة الجمع المعرف باللام
على العموم، وقد يشار بها إلى العهد الخارجي، وقد يشار بها إلى العهد
الحضوري فهي في جميع هذه الموارد قد استعملت في معنى واحد،
والاختلاف إنما هو في المشار إليه بها.
وبكلمة أخرى ان ما دلت عليه كلمة (اللام) من التعريف والإشارة
فهو غير مأخوذ في المعنى الموضوع له لمدخولها لا جزء ولا شرطا، ولذا
لا يختلف معنى المفرد المعرف باللام عما إذا كان مجردا عنها فشأنها الإشارة
358

إلى معنى مدخولها. فإن كان جنسا فهي تشير إليه، وإن كان استغراغا
فهي تشير إليه وهكذا، وكيف كان فالظاهر أن دلالتها على هذا المقدار
من المعنى غير قابلة للانكار وانها مطابقة للارتكاز والوجدان في الاستعمالات
المتعارفة وان لم يكن لها مرادف في سائر اللغات كي نرجع إلى مرادفها
في تلك اللغات ونعرف معناها حيث إنه من أحد الطرق لمعرفة معاني
الألفاظ الا ان في المقام لا حاجة إلى هذا الطريق لوجود طريق آخر فيه
وهو التبادر والارتكاز.
وأما العهد المعني فالظاهر أن دخول كلمة (اللام) عليه لا يقيد
شيئا فيكون وجودها وعدمها سيان فلا فرق بين قولنا (لقد مررت على
اللئيم) وقولنا (لقد مررت على لئيم) بدون كلمة (اللام)، فان
المراد منه واحد على كلا التقديرين - وهو المبهم غير المعين في الخارج -
ولا تدل كلمة (اللام) على تعيينه فيه وأما دخولها عليه فهو إنما يكون
من ناحية ان أسماء المعرب في كلمات العرب لم تستعمل بدون أحد
أمور ثلاثة: التنوين. الألف واللام. والإضافة لا أنها تدل على شئ
ففي مثل ذلك صح أن يقال إن (اللام) للتزيين فحسب كاللام الداخل
على اعلام الأشخاص. وبيالي ان المحقق الرضي ذهب إلى ذلك أي كون
اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني.
فالنتيجة في نهاية الشوط هي: ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية
(قدس سره) من أن كلمة (اللام) لم توضع للدلالة على معنى وإنما
هي للتزيين فحسب خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له على اطلاقه، وإنما
يتم في خصوص العهد الذهني فقط.
ومنها الجمع المعرف باللام ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) ان
دلالته على العموم لا تخلو من أن تكون من جهة وضع المجموع لذلك
359

أو وضع خصوص كلمة (اللام) لها يعني انها إذا دخلت على الجمع
تدل على ذلك.
وأما ما ذكره بعض الأصحاب من أن كلمة (اللام) بما انها
موضوعة بإزاء التعريف والإشارة فلابد أن يراد جميع أفراد مدخولها حيث
لا تعيين لسائر مراتبها (الافراد) الا تلك المرتبة يعني المرتبة الأخيرة فهو
غير تام وذلك لأنه كما أن لتلك المرتبة تعين في الواقع كذلك للمرتبة الأولى
وهي أقل مرتبة الجمع، فإذا لا دليل على تعيين تلك دون هذه. هذا.
ولكن الظاهر أن ما ذكره هذا البعض هو الصحيح والسبب فيه
ما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة من أن هذه المرتبة أي أقل مرتبة
الجمع أيضا لا تعين لها في الخارج وإن كان لها تعيين بحسب مقام الإرادة
فان الثلاثة التي هي أقل مرتبة الجمع تصدق في الخارج على الافراد الكثيرة
ولها مصاديق متعددة فيه كهذه الثلاثة وتلك وهكذا.
وبكلمة أخرى ان كل مرتبة من مراتب الاعداد كالثلاثة والأربعة
والخمسة والستة وهكذا كان قابلا للانطباق على الافراد الكثيرة في الخارج
فلا تعين لها فيه حيث انا لا نعلم أن المراد منها فيه هذه الثلاثة أو تلك
وهكذا.
نعم لها تعين في أفق النفس وفي اطار الإرادة دون أفق الخارج
وإطاره هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان كلمة (اللام) تدل على التعين الخارجي.
ومن ناحية ثالثة ان التعين الخارجي منحصر في المرتبة الأخيرة من الجمع
وهي إرادة جميع افراد مدخوله حيث إن له مطابقا واحدا في الخارج فلا
ينطبق الا عليه، فإذا يتعين إرادة هذه المرتبة من الجمع يعني المرتبة الأخيرة
دون غيرها بمقتضى دلالة كلمة (اللام) على التعريف والتعيين.
360

وأما احتمال وضع المجموع من حيث المجموع للدلالة على ذلك زائدا
على وضع كلمة (اللام) ومدخولها فهو بعيد جدا، ضرورة ان الدال على
إرادة هذه المرتبة إنما هو دلالة كلمة (اللام) على التعريف والتعيين
نظرا إلى أنه لا تعين في الخارج الا لخصوص هذه المرتبة، وكذا احتمال
وضع كلمة (اللام) للدلالة على العموم والاستغراق ابتداء بعيد جدا
لما عرفت من أنها لم توضع الا للدلالة على التعريف والتعيين.
فالنتيجة ان الجمع المعرف باللام يدل على إرادة جميع افراد مدخوله
على نحو العموم الاستغراقي.
ومنها النكرة: ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) انها تستعمل
مرة في المعين المعلوم خارجا عند التكلم وغير معلوم عند المخاطب كقوله
تعالى: " جاء من أقصى المدينة رجل " ومرة أخرى في الطبيعي المقيد
بالوحدة كقولنا (جئني برجل) ومن هنا يصح أن يقال (جئني برجل
أو رجلين) ولا يصح ان يقال (جئني بالرجل، أو رجلين) والنكتة
فيه أن التثنية لا تقابل باسم الجنس حيث إنه يصدق على الواحد والكثير على
السواء، - وما هو المعروف في الألسنة من أن النكرة وضعت للدلالة على
الفرد المردد في الخارج - خاطئ جدا ولا واقع موضوعي له أصلا،
ضرورة انه لا وجود للفرد المردد في الخارج حيث إن كل ما هو موجود
فيه متعين لا مردد بين نفسه وغيره فإنه غير معقول.
وبكلمة أخرى ان مرادهم من ذلك هو ما ذكرناه من أنها استعملت
في الطبيعة المقيدة بالوحدة القابلة للانطباق على كثيرين في الخارج حيث إنها
بهذا القيد أيضا كلي.
وعليه فما ذكره (قده) في ذيل كلامه متين جدا، وذلك لا لأجل
ان النكرة موضوعة للطبيعة المقيدة بالوحدة تارة وللطبيعة المهملة التي هي
361

الموضوع له لاسم الجنس مرة أخرى كما يظهر من عبارته (قده) في بدو
الامر، ضرورة عدم تعدد الوضع فيها، بل هي موضوعة للطبيعة الجامعة
بين جميع الخصوصيات فحسب وقد استعملت فيها دائما، والوحدة إنما
تستفاد من دال آخر - وهو التنوين للتنكير. فيكون من تعدد الدال.
والمدلول في مقابل التعريف والتنوين للتمكن، فان الاسم المعرب لا يستعمل
في لغة العرب الا مع إحدى هذه الخصوصيات: الإضافة، أو التنوين،
أو الألف واللام فلا يستقر الا بإحداها حيث إن تمكنه بها.
وعليه فما ذكره (قده) من أن رجلا في قولنا (جئني برجل) يدل
على الطبيعي المقيد بالوحدة ليس المراد استعماله فيه. بل المراد ان الرجل
استعمل في الطبيعي الجامع والوحدة مستفادة من دال آخر.
وأما ما ذكره (قده) في صدر كلامه من أن النكرة قد تستعمل في
الواحد المعين عند المتكلم والمجهول عند المخاطب كما في قوله تعالى " وجاء
من أقصى المدينة رجل يسعى " فلا يمكن الاخذ به، ضرورة ان لفظ
(رجل) في الآية لم يستعمل في المعين الخارجي المجهول عند المخاطب
بل استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة من باب تعدد الدال والمدلول، غاية الأمر
ان مصداقه في الخارج معلوم عند المتكلم ومجهول عند المخاطب.
ومن الطبيعي ان هذا لا يوجب استعمال اللفظ فيه. وكذا الحال في
الفعل الماضي أو المضارع أو الامر كقولنا (جئني برجل) أو (جاء رجل)
أو ما شاكل ذلك، فان لفظ الرجل في جميع هذه الأمثلة استعمل في
الطبيعي المقيد بالوحدة بنحو تعدد الدال والمدلول وان افترض ان مصداقه في
الخارج معلوم للمتكلم وغير معلوم للمخاطب إلا أنه لم يستعمل فيه جزما
كما إذا أمره (باتيان كتاب) وكان الكتاب معلوما لديه في الخارج، ولكنه
غير معلوم لدى المخاطب لم يستعمل في هذا المعلوم المعين خارجا وإنما
362

استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة.
فالنتيجة ان النكرة لم تستعمل في المعين الخارجي ولا المعين عند
الله تعالى باعتبار انه سبحانه وتعالى بعلم بأنه يأتي بالفرد الفلاني المعين في الواقع
بل هي تستعمل دائما في الطبيعي الجامع، والواحدة مستفادة من دال آخر
فإذا لا فرق بين النكرة واسم الجنس أصلا فالنكرة هي اسم الجنس،
غاية الأمر يدخل عليها التنوين ليدل على الوحدة.
ثم انك قد عرفت في ضمن البحوث السالفة ان اللفظ موضوع للماهية
الجامعة بين تمام الخصوصيات التي يمكن أن تعرض عليها، وقد يعبر عنها
بالماهية المهملة التي هي فوق جميع الماهيات كما تقدم بشكل موسع.
ومن الواضح ان الاطلاق والتقييد من الخصوصيات الطارئة على
الماهية التي وضع اللفظ بإزائها فهما خارجان عن حريم المعني الموضوع له
وهذا هو المعروف بين المتأخرين - وهو الصحيح - وعليه فالتقييد لا يستلزم
المجاز، فان اللفظ استعمل في معناه الموضوع له، والتقييد مستفاد من
دال آخر، بل لو كان موضوعا للمطلق بمعنى اللا بشرط القسمي كما هو
المعروف بين القدماء فأيضا لا يستلزم التقييد المجاز، فان المراد الاستعمالي
منه هو المطلق، واللفظ قد استعمل فيه، والتقييد إنما يدل على أن المراد
الجدي هو المفيد دون المطلق، ولا يدل على أن اللفظ قد استعمل في
المقيد. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى ان المحمول تارة يكون من المعقولات الثانوية
كقولنا (الانسان نوع) و (الحيوان جنس) و (الضاحك عرض خاص)
وهكذا ففي مثل ذلك فالموضوع هو الماهية ولا ينطبق على الموجود الخارجي
اوضوح ان زيدا مثلا ليس بنوع، والبقر ليس بجنس، وضحك زيد ليس
بعرض خاص، وهكذا. فلا يسري المحمول إلى خصصه وافراده في
363

الخارج، فهذا القسم خارج عن محل الكلام هنا - وهو البحث عن
اطلاق الموضوع وتقييده -. وتارة أخرى يكون المحمول من غيرها مما هو
قابل السراية إلى حصص الموضوع وافراده في الخارج " وهذا القسم هو
محل الكلام في المقام.
وعلى ذلك فالموضوع أو المتعلق لا يخلو من أن يكون مطلقا بمعنى
الارسال أو مقيدا بأمر وجودي أو عدمي فإن كانت هناك قرينة شخصية
على أحدهما فهو وان لم تكن قرينة كذلك فهل هنا قرينة عامة على تعيين
أحدهما أولا فقد ذكروا لتعيين الاطلاق قرينة عامة تسمى بمقدمات الحكمة
فان تمت تلك المقدمات ثبت الاطلاق وإلا فلا ويعتبر في تمامية هذا
المقدمات أمور:
الأول: أن يكون المتكلم متمكنا من البيان والاتيان بالقيد وإلا فلا
يكون لكلامه اطلاق في مقام الاثبات حتى يكون كاشفا عن الاطلاق في
مقام الثبوت، بيان ذلك ان الاطلاق أو التقييد تارة بلحظ بالإضافة إلى
الواقع ومقام الثبوت. وأخرى بالإضافة إلى مقام الاثبات والدلالة، أما
على الأول فقد ذكرنا غير مرة انه لا واسطة بينهما في الواقع ونفس الامر
وذلك لان المتكلم الملتفت إلى الواقع وماله من الخصوصيات حكيما كان أو غيره
فلا يخلو من أن يأخذ في متعلق حكمه أو موضوعه خصوصية من تلك
الخصوصيات أو لا يأخذ فيه شيئا منها ولا ثالث لهما، فعلى الأول يكون
مقيدا، وعلى الثاني يكون مطلقا، ولا يعقل شق ثالث بينهما يعني لا يكون
مطلقا ولا مقيدا. ومن هنا قلنا إن استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق
وبالعكس.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ (قده) من أن التقابل بينهما من تقابل
العدم والملكة كالعمى والبصر وانه لابد من طروهما على موضوع قابل
364

للاتصاف بالملكة لم يكن قابلا للاتصاف بالعدم أيضا، وكذا بالعكس
ولأجل ذلك لا يصح اطلاق الأعمى على الجدار مثلا، وما نحن فيه من
هذا القبيل، ولذا قال (قده) ان استحالة الاطلاق في مورد تستلزم
استحالة التقييد فيه وبالعكس فلا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لما
ذكرناه مررا من أن التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة وان
استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر لا استحالته، بداهة ان الاهمال في
الواقع مستحيل فالحكم فيه اما مطلق أو مقيد ولا ثالث لهما.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة
الا انه لا يعتبر كون الموضوع لها أمرا شخصيا، بل قد يكون الموضوع
فيها نوعيا ولا يعتبر في مثله أن يكون كل فرد من افراد الموضوع
قابلا للاتصاف بها، بل يستحيل ذلك بالإضافة إلى بعض افراده كما هو
الحال في العلم والجهل بالإضافة إلى ذاته سبحانه وتعالى، فان العلم بكنه
ذاته تعالى مستحيل.
ومن الواضح ان استحالته لا تستلزم استحالة الجهل به، بل تستلزم
ضرورته رغم ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة، وكذا الحال في
غنى الممكن وفقره بالإضافة إليه تعالى وتقدس، فان استحالة غنائه من
ذاته سبحانه لا تستلزم استحالة فقره، بل تستلزم ضرورته ووجوبه رغم
ان التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة فليكن المقام من هذا القبيل يعني
ان التقابل بين الاطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة فمع ذلك
تستلزم استحالة أحدهما في مقام الثبوت والواقع ضرورة الآخر لا استحالته.
وعلى الثاني وهو ما إذا كان الاطلاق والتقييد ملحوظين بحسب مقام
الاثبات فحينئذ ان تمكن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت
بقيد في كلامه كان اطلاقه في هذا المقام كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت
365

وان مراده في هذا المقام مطلق وإلا لكان عليه البيان.
وأما إذا لم يتمكن من الاتيان بقيد في مقام الاثبات فلا يكشف اطلاق
كلامه في هذا المقام عن الاطلاق في ذاك المقام والحكم بأن مراده الجدي
في الواقع هو الاطلاق، لوضوح ان مراده لو كان في الواقع هو المقيد لم
يتمكن من بيانه والاتيان بقيد، ومعه كيف يكون اطلاق كلامه في مقام
الاثبات كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت.
الأمر الثاني: أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يكون في مقام
الاهمال والاجمال كما في قوله تعالى: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " وقوله
تعالى: " وقرآن الفجر " وما شاكل ذلك، فان المتكلم في هذه الموارد
لا يكون في مقام البيان، نظير قول الطبيب المريض اشرب الدواء فإنه ليس
في مقام البيان، بل هو في مقام ان في شرب الدواء نفع له في الجملة ولا يمكن
الاخذ باطلاق كلامه، مع أن بعضه مضر بحاله جزما.
فالنتيجة ان المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان لم يكن لكلامه ظهور
في الاطلاق حتى يتمسك به.
نعم إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهة ولم يكن في مقام البيان
من جهة أخرى لا مانع من التمسك باطلاق كلامه من الجهة التي كان في
مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الأخرى، وهذا في الآيات والروايات
كثير: اما في الآيات فكقوله تعالى: " كلوا مما أمسكن " فإنه إذا شك
في اعتبار الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتباره لا مانع من
التمسك باطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية والحكم بعدم اعتبار الامساك
من الحلقوم.
وأما إذا شك في طهارة محل الامساك وعدمها فلا يمكن التمسك
باطلاق الآية من هذه الناحية، لان اطلاقها غير ناظر إليها أصلا فلا تكون
366

الآية في مقام البيان من هذه الجهة فلا محالة عندئذ يحكم بنجاسته.
وأما في الروايات فمنها قوله (ع) (لا بأس بالصلاة في دم إذا
كان أقل من درهم) فإنه في مقام البيان من جهة ان هذا المقدار من الدم
غير مانع من ناحية النجاسة حيث إن المتفاهم العرفي كون هذا استثناء من
مانعية الدم من هذه الناحية، ولا يكون في مقام البيان من جهة أخرى
- وهي كونه من دم المأكول أو غير المأكول - وعليه فإذا شك في صحة
الصلاة فيه وعدم صحتها لم يجز التمسك باطلاق الرواية، لعدم كون
اطلاقها ناظرا إلى هذه الناحية.
فالنتيجة انه لا اشكال في ذلك وان المتكلم من أي جهة كان في
مقام البيان جاز التمسك باطلاق كلامه من هذه الجهة وان لم يكن في
مقام البيان من الجهات الأخرى.
ثم إنه لابد من بيان أمرين: (الأول) [ما هو المراد من كون المتكلم
في مقام البيان] (الثاني) فيما إذا شك في أنه في مقام البيان أم لا.
أما الأول: فليس المراد من كونه في مقام البيان من جميع الجهات
والنواحي، ضرورة ان مثل ذلك لعله لم يتفق في شئ الآيات والروايات
ولو اتفق في مورد فهو نادر جدا كما أنه ليس المراد من عدم كونه في مقام
البيان أن لا يكون في مقام التفهيم أصلا مثل ما إذا تكلم بلغة لا يفهم
المخاطب منها شيئا كما إذا تكلم للعرب بلغة الفرس مثلا، بل المراد منه
أن لا ينعقد لكلامه ظهور في اطلاق كقول الطبيب للمريض اشرب
الدواء، فان المريض يفهم منه انه لابد له من شرب الدواء ولكنه ليس
في مقام البيان، بل في مقام الاهمال والاجمال، ولذا لا اطلاق لكلامه
بحيث يكون كاشفا عن مراده الجدي وكان حجة على المخاطب فيحتج به
عليه وبالعكس.
367

والحاصل ان المراد من كونه في مقام البيان هو انه يلقي كلامه على
نحو ينعقد له ظهور في الاطلاق ويكون حجة على المخاطب على سبيل
القاعدة.
ومن ذلك يظهر أن التقييد بدليل منفصل لا يضر بكونه في مقام
البيان ولا يكشف عن ذلك وإنما يكشف عن أن المراد الجدي لا يكون
مطابقا للمراد الاستعمالي، وقد تقدم أنه قد يكون مطابقا له، وقد لا يكون
مطابقا له، ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعي والعموم الاطلاقي،
ولذا ذكرنا سابقا ان التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن أن المتكلم
ليس في مقام البيان مثلا قوله تعالى: " أحل الله البيع " في مقام البيان
مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد، وكذا الحال فيما إذا
افترضنا ان الآية عموما تدل عليه بالوضع.
وعلى الجملة فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق فكما أن
التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العام عن قابلية التمسك به
فكذلك التقييد بدليل منفصل، ويترتب على ذلك ان تقييد المطلق من
جهة لا يوجب سقوط اطلاقه من جهات أخرى إذا كان في مقام البيان
من هذه الجهات أيضا فلا مانع من التمسك به من تلك الجهات إذا شك
فيها، كما إذا افترضنا ان الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد
عليها التقييد بعدم كون البائع صبيا أو مجنونا أو سفيها وشك في ورود
التقييد عليها من جهات أخرى كما إذا شك في اعتبار الماضوية في الصيغة
أو الموالاة بين الايجاب والقبول فلا مانع من التمسك باطلاقها من هذه
الجهات والحكم بعدم اعتبارها.
وأما الأمر الثاني: فالمعروف والمشهور بين الأصحاب هو استقرار
بناء العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في
368

ذلك، ومن هنا قالوا إن الأصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في
مقام البيان فعدم كونه في هذا المقام يحتاج إلى دليل.
ولكن الظاهر أنه غير تام مطلقا، وذلك لأن الشك تارة من جهة
ان المتكلم كان في مقام أصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده كما إذا
شك في أن قوله تعالى: " أحل الله البيع " في مقام بيان؟؟؟ التشريع فحسب
كما هو الحال في قوله تعالى " أقيموا الصلاة " أو في مقام بيان تمام المراد ففي مثل
ذلك لا مانع من التمسك بالاطلاق لقيام السيرة من العقلاء على ذلك الممضاة
شرعا وأخرى يكون الشك من جهة سعة الإرادة؟؟؟ يعني انا نعلم بأن
لكلامه اطلاقا من جهة ولكن نشك في اطلاقه من جهة أخرى كما في قوله
تعالى: " كلوا مما مسكن " حيث نعلم باطلاقه من جهة ان حلية أكله
لا نحتاج إلى الذبح سواء أكان امساكه من محل الذبح أو من موضوع آخر
كان إلى القبلة أو إلى غيرها ولكن لا نعلم بأنه في مقام البيان من جهة أخرى
وهي جهة طهارة محل الامساك ونجاسته - ففي مثل ذلك لا يمكن
التمسك بالاطلاق كما عرفت، لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في
مقام البيان من هذه الجهة.
الثالث: ان لا يأتي المتكلم بقرينة لا متصلة ولا منفصلة وإلا فلا
يمكن التمسك باطلاق كلامه، لوضوح ان اطلاقه في مقام الاثبات إنما
يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينة على الخلاف، وأما
مع وجودها فإن كانت متصلة فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور وإن كانت
منفصلة فالظهور وان انعقد الا انها تكشف عن أن الإرادة الاستعمالية
لا تطابق الإرادة الجدية، واما إذا لم يأت بقرينة كذلك فيثبت لكلامه
اطلاق كاشف عن الاطلاق في مقام لثبوت، لتبعية مقام الاثبات لمقام
الثبوت، ضرورة ان اطلاق الكلام أو تقييده في مقام الاثبات معلول
369

لاطلاق الإرادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.
وعلى الجملة فالإرادة التفهيمية هي العلة لابراز الكلام واظهاره في
مقام الاثبات، فان المتكلم إذا أراد تفهيم شئ يبرزه في الخارج بلفظ،
فعندئذ ان لم ينصب قرينة منفصلة على الخلاف كشف ذلك عن أن
الإرادة التفهيمية مطابقة للإرادة الجدية والا لم تكن مطابقة لها.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي ان المتكلم إذا كان
متمكنا من الاتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على
الخلاف لا متصلة ولا منفصلة كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت
وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعا،
ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث فهي
قرينة عامة على اثبات الاطلاق، واما القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف
الموارد فلا ضابط لها.
بقي في المقام أمران: الأول ان القدر المتيقن بحسب التخاطب هل
يمنع عن التمسك بالاطلاق فيه وجهان: ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده)
انه يمنع عنه وتفصيل الكلام في المقام انه يريد تارة بالقدر المتيقن القدر
المتيقن الخارجي يعني انه متيقن بحسب الإرادة خارجا من جهة القرائن
منها مناسبة الحكم والموضوع.
ومن الواضح ان مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق،
ضرورة أنه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك الا نادرا فلو قال المولى
(أكرم عالما) فان المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع النقي، إذ لا يحتمل
أن يكون المراد منه غيره دونه، واما احتمال أن يكون المراد منه ذلك
دون غيره فهو موجود.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: " أحل الله البيع " فان القدر المتيقن
370

منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية، إذ لا يحتمل أن يكون
المراد منه غيره دونه. وأخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب،
وهذا هو مراد صاحب الكفاية (قده) دون الأول، وقد ادعى (قده)
منعه عن التمسك بالاطلاق، ولكن الظاهر أنه لا يمكن المساعدة على هذه
الدعوى، والسبب فيه ان المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أن
يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنه مراده جزما.
ومنشأ ذلك أمور: عمدتها كونه واقعا في مورد السؤال، مثلا في
موثقة ابن بكير سأل زرارة أبا عبد الله (ع) (عن الصدة في الثعالب
والفنك والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتابا زعم أنه املاء رسول الله
صلى الله عليه وآله ان الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله فالصلاة في
وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة
حتى يصلي غيره مما أحل الله أكله) ان المتيقن بحسب التخاطب هو مورد
السؤال، ضرورة احتمال ان الإمام (ع) أراد غير مورد السؤال دونه غير
محتمل جزما، وأما العكس فهو محتمل، ولكن الكلام إنما هو في منعه
عن التمسك بالاطلاق والظاهر أنه غير مانع عنه.
والسبب فيه أن ظهور الكلام في الاطلاق قد انعقد، ولا أثر له
من هذه الناحية.
ومن الطبيعي أنه لا يجوز رفع اليد عن الاطلاق ما لم تقم قرينة على
الخلاف، ولا قرينة في البين، أما القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم
واما القرينة المتصلة فأيضا كذلك بعد فرض ان القدر المتيقن المزبور
لا يصلح أن يكون مانعا عن انعقاد الظهور في الاطلاق.
وعليه فلا مناص من التمسك به، وبما ان مقام الاثبات تابع لمقام
الثبوت فالاطلاق في الأول كاشف عن الأول كاشف عن الاطلاق في الثاني، ولذا لو سئل
371

عن مجالسة شخص معين في الخارج واجب بعدم جواز مجالسة الفاسق لم يحتمل
بحسب الفهم العرفي اختصاصه بذاك الشخص المعين في الخارج في محالة
يعم غيره أيضا.
فالنتيجة ان حال هذا القدر المتيقن حال القدر المتيقن الخارجي فكما
انه لا يمنع عن التمسك بالاطلاق فكذلك هذا فلو كان هذا مانعا عنه
لكان ذاك أيضا مانعا فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.
ثم إن الماهية تارة تلحظ بالإضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها
بالتواطئ والتساوي. وأخرى تلحظ بالإضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها
بالتشكيك حيث قد برهن في محله استحالة التشكيك في الماهيات، ونقصد
بالتشكيك والتواطئ هنا التشكيك والتواطئ بحسب المتفاهم العرفي
وارتكازاتهم وله عوامل عديدة: منها علو مرتبة بعض أفراد الماهية على
نحو يوجب انصرافها عنه عرفا، ومن ذلك لفظ الحيوان فإنه موضوع
لغة لمطلق ماله الحياة فيكون معناه اللغوي جامعا بين الانسان وغيره إلا أنه
في الاطلاق العرفي ينصرف عن الانسان.
ومن هنا ذكرنا ان المتفاهم العرفي من مثله قوله (ع) لا تصل فيما
لا يؤكل لحمه) هو خصوص الحيوان في مقابل الانسان فلا مانع من
الصلاة في شعر الانسان ونحوه وكيف كان فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر
العرف، ولا يمكن التمسك بالاطلاق في مثل ذلك، لفرض ان الخصوصية
المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الاطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتصلة
التي تمنع عن انعقاد ظهوره فيه.
ومنها دنو مرتبة بعض افرادها على نحو يكون صدقها عليه موردا
للشك كصدق الماء على ماء الكبريت أو ما شاكله ففي مثل ذلك لا يمكن
التمسك بالاطلاق أيضا، وذلك لان المعتبر في التمسك به هو أن يكون
372

صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزا، والشك إنما كان من ناحية
أخرى. وأما فيما إذا لم يكن أصل الصدق محرزا فلا يمكن التمسك به،
وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إن أصل الصدق مشكوك فيه فلا يمكن
التمسك باطلاق لفظ الماء بالإضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه، غاية الأمر
ان الأول من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة، والثاني من قبيل
احتفافه بما يصلح للقرينية، ولكنهما يشتركان في نقطة واحدة - وهي المنع
عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق -.
وأما الانصراف في غير هذين الموردين وما شاكلهما فلا يمنع عن
التمسك بالاطلاق، فإنه لو كان فإنما هو بدوي فيزول بالتأمل، ومن ذلك
الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فإنه بدوي ولا أثر له ولا يمنع عن
التمسك بالاطلاق حيث أنه يزول بالتأمل والتدبر.
التقييد هل يستلزم المجاز فيه وجهان: بناء على ما اخترناه من أن
الألفاظ وضعت بإزاء الماهيات المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات
الطارئة فهو لا يستلزم المجاز أصلا، إذا على أساس هذه النظرية فالاطلاق
والتقييد كلاهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له فكل منهما مستفاد من
القرينة فالاطلاق مستفاد غالبا من قرينة الحكمة والتقييد من القرينة الخاصة
فاللفظ في كلنا الحالتين مستعمل في معناه الموضوع له.
نعم استعماله في خصوص المقيد يكون مجازا كما أن استعماله في؟؟
المطلق يكون كذلك فلا فرق بينهما من هذه الناحية، ولكن هذا الفرض
خارج عن محل الكلام فان محل الكلام إنما هو في أن تقييد المطلق بقيد
هل يوجب المجاز فيه أم لا وقد عرفت انه لا يوجب ذلك، وان التقييد
مستفاد من دال آخر كما أن الاطلاق كذلك.
وأما بناء على نظرية القدماء من أن الألفاظ موضوعة للماهية اللا بشرط
373

القسمي يعني ان الاطلاق والسريان مأخوذ في المعنى الموضوع له فلابد من
التفصيل بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة فان الأولى تستلزم المجاز
لا محالة حيث إن الاطلاق والسريان لا يجتمع مع التقييد والتضييق وأما
الثانية فلا تستلزم ذلك ما ذكرناه في بحث العام والخاص من أنه لا مانع
من أن يكون المراد الاستعمالي من الكلام غير المراد الجدي، والمفروض ان
الحقيقة والمجاز تدوران مدار الأول دون الثاني.
وعليه فلا مانع من أن يكون المراد الاستعمالي في المقام هو الاطلاق
والسريان ضربا للقاعدة كما هو الحال في الحال في استعمال العام في العموم في موارد
التخصيص بالمنفصل، والمراد الجدي هو التقييد والتضييق، فإذا يكون
اللفظ مستعملا في معناه الموضوع له، غاية الأمر انه غير مراد جدا.
وعلى الجملة فالتقييد بالمنفصل لا يكشف عن أن المطلق استعمل في
المقيد، وإنما يكشف عن أن الإرادة الاستعمالية لا تطابق الإرادة الجدية.
(هل يحمل المطلق على المقيد)
إذا ورد مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أم لا فالكلام فيه
يقع في موضعين:
الأول: أن يكون الحكم متعلقا بالمطلق على نحو صرف الوجود
كقول المولى (أعتق رقبة).
الثاني: أن يكون الحكم متعلقا به على مطلق الوجود كقوله تعالى:
" أحل الله البيع "، حيث إن الحكم فيه ينحل بانحلال أفراد متعلقه
دون الأول.
اما الموضع الأول: فالكلام فيه تارة يقع في المقيد الذي يكون مخالفا
374

للمطلق في الحكم كقوله (أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) أو قوله:
(صلى ولا تصل فيما لا يؤكل لحمه) أو (في النجس) أو نحو ذلك
وأخرى يقع في المقيد الذي يكون موافقا له فيه كقوله: (أعتق رقبة واعتق
رقبة مؤمنة) وعلى الأول فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على
المقيد فيقيد الرقبة في المثال الأول بغير الكافرة، والصلاة في المثال الثاني
بغير الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل أو في النجس. وعلى الثاني فقد اختلفوا
فيه على قولين: (أحدهما) أنه يحمل المطلق على المقيد (وثانيهما) انه
يحمل المقيد على أفضل الافراد.
ولكن الظاهر أنه لا وجه للفرق بين هذا القسم والقسم الأول فهما
من واد واحد فلا وجه للانفاق في الأول والاختلاف في الثاني أصلا،
فإنه ان حمل المطلق على المقيد في الأول ففي الثاني أيضا كذلك وان حمل
المقيد في الثاني على أفضل الافراد برفع اليد عن ظهوره في الوجوب حمل
المقيد في الأول على المرجوحية، حيث إن ظهور الامر في جانب المقيد في
الوجوب ليس بأقل من ظهور النهي في الحرمة فما يقتضي رفع اليد عن
ظهور الامر في الوجوب وحمله على الرجحان يقتضي رفع اليد عن ظهور
النهي في الحرمة وحمله على المرجوحية، وكيف كان فالملاك في القسمين
واحد فلا وجه للتفرقة بينهما.
ثم اننا تارة نعلم من الخارج ان الحكم في موردي المطلق والمقيد واحد
كما إذا قال المولى (ان ظاهرت فأعتق رقبة) (وان ظاهرت فأعتق رقبة
مؤمنة) فنعلم ان الحكم واحد حيث إن الظهار ليس إلا سببا لكفارة
واحدة وليس موجبا لكفارتين ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد
أو يحمل المقيد على أفضل الافراد فذهب جماعة إلى الأول بدعوى ان فيه
جمعا بين الدليلين وعملا بهما دون العكس. وفيه أنه ان أريد به حصول
375

الامتثال بالاتيان بالمقيد فهو مما لا اشكال فيه، فان الامتثال يحصل به
على كل تقدير أي سواء أكان واجبا أو كان من أفضل الافراد. وان أريد
ان الجمع بين الدليلين منحصر به ففيه ان الامر ليس كذلك، فان الجمع
بينهما كما يمكن بذلك يمكن بحمل المفيد على أفضل الافراد فلا وجه لترجيح
الأول على الثاني.
ومن هنا ذكر المحقق صاحب الكفاية (قده) وجها آخر لذلك وهو
ان ظهور الامر في طرف المقيد في الوجوب التعييني بما أنه أقوى من ظهور
المطلق في الاطلاق فيقدم عليه. وفيه أنه لا يتم على مسلكه (قده) حيث إنه
قد صرح في بحث الأوامر ان صيغة الامر لم توضع للدلالة على الوجوب
التعييني، بل هو مستفاد من الاطلاق ومقدمات الحكمة، وعليه فلا فرق
بين الظهورين فلا يكون ظهور الامر في الوجوب التعييني أقوى من ظهور
المطلق في الاطلاق.
فالصحيح في المقام أن يقال إن الامر بالمقيد بما انه ظاهر في الوجوب
على ما حققناه في محله من ظهور صيغة الامر في الوجوب ما لم تقم قرينة
على الترخيص فيقدم على ظهور المطلق في الاطلاق حيث إن ظهوره فيه
يتوقف على البيان وهو يصلح أن يكون بيانا له عرفا.
ومن الواضح ان في كل مورد يدور الامر بين رفع اليد عن ظهور
القرينة ورفع اليد عن ظهور ذبها يتعين الثاني بنظر العرف، وعليه فيكون
ظهور الامر بالمقيد في الوجوب مانعا عن ظهور المطلق في الاطلاق ونقصد
بظهوره الظهور الكاشف عن المراد الجدي، فإنه يتوقف على عدم البيان
المنفصل دون أصل ظهوره حيث أنه لا يتوقف عليه وإنما يتوقف على عدم
البيان المتصل.
وعلى الجملة فلا يشك بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم في تقديم
376

ظهور المقيد على ظهور المطلق سواء أكان في كلام منفصل أو متصل،
غاية الأمر أنه على الأول يمنع عن حجية الظهور وكاشفيته عن المراد الجدي
وعلى الثاني يمنع عن أصل العقاد الظهور له فلا تكون بينهما معارضة ابدا
هذا فيما إذا علم وحدة التكليف من الخارج.
وأما إذا احتمل تعدد التكليف حسب تعددهما فالمحتملات فيه أربع:
الأول: أن يحمل المطلق على المقيد.
الثاني: أن يحمل المقيد على أفضل الافراد.
الثالث: لا هذا ولا ذاك فيبنى على تعدد التكليف لكن من قبيل
واجب في واجب آخر هذا يعني ان عتق الرقبة واجب على نحو الاطلاق
وخصوصية كونها مؤمنة أيضا واجبة، نظير ما لو نذر المكلف الاتيان
بالصلاة في المسجد أو في الجماعة أو في الحرم الشريف أو شاكل ذلك،
فان طبيعي الصلاة واجب على نحو الاطلاق وأينما سرى وخصوصية كونها
في المسجد أو في الجماعة واجبة أيضا فيكون من قبيل الواجب في الواجب
وقد اختار بعض الفقهاء هذا الوجه في الأغسال الثلاثة للميت حيث قال إن
طبيعي الغسل بالماء واجب أينما سرى وخصوصية كونه بالكافور واجبة
أخرى، وكذا خصوصية كونه بماء السدر، ويترتب على ذلك ان المكلف
إذا أتى بالصلاة في غير المسجد مثلا سقط الأمر الثاني أيضا بسقوط موضوعه
ولا مجال له بعد ذلك، غاية الأمر أنه قد خالف نذره، ويترتب على
مخالفته استحقاق العقاب من ناحية، ولزوم الكفارة من ناحية أخرى.
الرابع: أن يكون كل من المطلق والمقيد واجبا مستقلا، نظير
ما إذا أمر المولى بالاتيان بالماء على نحو الاطلاق، وكان غرضه منه غسل
الثوب به، ومن المعلوم أنه لا فرق في كونه ماء حارا أو باردا أو ما شاكل
ذلك ثم أمر بالاتيان بالماء البارد لأجل الشرب فلا شبهة في أنهما واجبان
377

مستقلان، هذا بحسب مقام الثبوت. وأما بحسب مقام الاثبات فالاحتمال
الثاني من هذه المحتملات خلاف الظاهر جدا فلا يمكن الاخذ به، لما
عرفت من ظهور الامر في الوجوب وحمله على الندب خلاف هذا الظهور
فيحتاج إلى دليل، ولا دليل في المقام عليه وبدونه فلا يمكن.
وأما الاحتمال الثالث: فالظاهر أن المقام ليس من هذا القبيل أي
من قبيل الواجب في الواجب كما هو الحال في مورد النذر، أو العهد،
أو الشرط في ضمن العقد المتعلق بحصة خاصة من الواجب، والوجه في
ذلك هو ان الأوامر المتعلقة بالقيودات والخصوصات في باب العيادات
والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية، وليست ظاهرة
في المولوية وإن كانت بأنفسها كذلك، إلا أن لخصوصية في المقام تنقلب
ظهورها من المولوية إلى الارشاد، كما أن النواهي المتعلقة بها ظاهرة في
الارشاد إلى المانعية من جهة تلك الخصوصية.
ومن هنا يكون المتفاهم العرفي من مثل قوله (ع) (لا تصل فيما
لا يؤكل لحمه) هو الارشاد إلى مانعية ليسه في الصلاة، وكذا الحال في
المعاملات مثل قوله (نهي النبي (ص) عن بيع الغرر) فإنه ظاهر في
الارشاد إلى مانعية الغرر عن البيع، هذا مضافا إلى أن الامر في أمثال
هذا الموارد قد تعلق بالتقييد لا بالقيد فصرف الامر عنه إليه خلاف
الظاهر جدا.
وأما الاحتمال الرابع: فهو يتصور على نحوين: (أحدهما) أن
يسقط كلا التكليفين معا بالاتيان بالمقيد و (ثانيهما) عدم سقوط التكليف
بالمطلق بالاتيان بالمقيد، بل لابد من الاتيان به أيضا.
أما الأول: فيكون المقام نظير ما ذكرناه سابقا من أنه لو كان بين
متعلقي التكليفين عموم من وجه كعنوان العام وعنوان الهاشمي سقط كلا
378

التكليفين بامتثال المجمع - وهو اكرام العالم الهاشمي - حيث إن هذا مقتضى
طلاق دليل كل منهما، وما نحن فيه من هذا القبيل يعني أن المقيد مجمع
لكلا العنوانين فيسقط كلا التكليفين باتيانه.
وغير خفي ان هذا بحسب مقام الثبوت وإن كان أمرا ممكنا إلا أنه
لا يمكن الاخذ به في مقام الاثبات، وذلك لان الاتيان بالمقيد إذا كان
موجبا لسقوط الامر عن المطلق أيضا فلا محالة يكون الامر به لغوا محضا
حيث إن الاتيان بالمقيد مما لابد منه. ومعه يكون الامر بالمطلق لغوا وعبثا
ولا يقاس هذا بما ذكرناه من المثال، فان اطلاق الامر فيه بكل من
الدليلين لا يكون لغوا أبدا. لفرض ان لكل منهما مادة الافتراق بالإضافة
إلى الآخر.
وعلى الجملة فلابد حينئذ من تقييد الامر بالمطلق بالاتيان به في ضمن
غير المقيد مع الترخيص في تركه بالاتيان بالمقيد ابتداء، ومرد ذلك إلى أن
المكلف مخير بين الاتيان بالمقيد ابتداء ليسقط كلا التكليفين معا وبين
الاتيان بالمطلق في ضمن حصة أخرى أولا ثم بالمقيد وهذا يعنى ان المكلف
لو أتى بالمطلق فلابد من الاتيان به في ضمن حصة أخرى.
ولكن من الواضح ان ذلك يستلزم خلاف الظاهر من جهتين:
(الأولى) ان التقييد المذكور خلاف الظاهر جدا فيحتاج إلى قرينة
(الثانية) ان حمل الامر في طرف المطلق على التخيير خلاف الظاهر فلا
يمكن الاخذ به بدون قرينة.
وان شئت قلت: ان هذا التخيير نتيجة التقييد المزبور، فإنه مضافا
إلى أنه بنفسه خلاف الظاهر يستلزم خلاف الظاهر من هذه الناحية أيضا
ولأجل ذلك لا يمكن الاخذ به.
وأما الثاني: وهو ما إذا لم يسقط التكليف بالمطلق بالاتيان بالمقيد
379

فأيضا لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنه لابد حينئذ من تقييد الامر
بالمطلق بغير هذه الحصة وإلا فلا موجب لعدم سقوطه بالاتيان بالمقيد بعد
فرض انطباقه عليه انطباق الطبيعي على حصته.
ومن المعلوم ان التقييد خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة ولا قرينة
في المقام على ذلك وبدونها فلا يمكن.
فالنتيجة أنه لا يمكن الاخذ بشئ من هذه الوجوه الثلاثة فيتعين
حينئذ الوجه الأول وهو حمل المطلق على المقيد.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي انه إذا علم من
الخارج تعدد التكليف فالمتعين هو الوجه الرابع، واما إذا لم يعلم تعدده
وان احتمل فالمتعين هو الوجه الأول، لما عرفت من عدم مساعدة الدليل
على بقية الوجوه، هذا تمام الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني: وهو ما إذا كان الحكم متعلقا بمطلق الوجود
يعني ان الحكم يكون انحلاليا كما في قوله تعالى: " أحل الله البيع "
و " تجارة عن تراض " وما شاكل ذلك فيقع الكلام فيه تارة فيما إذا
كان دليل المقيد مخالفا له في الايجاب والسلب وأخرى يكون موافقا له
في ذلك.
أما على الأول: فلا شبهة في تقييد المطلق به، ومن هنا قد قيد
اطلاق الآية بغير موارد البيع الغرري وبيع الخمر وبيع الخنزير والبيع
الربوي وما شاكل ذلك وأمثلة هذا في الآيات والروايات كثيرة ولا كلام
ولا خلاف في ذلك.
وأما على الثاني: فالمعروف والمشهور بينهم أنه لا موجب لحمل
المطلق على المقيد لعدم التنافي بينهما فالمقيد فيه يحمل على أفضل الافراد. ولكن
هذا إنما يتم فيما إذا لم نقل بدلالة الوصف على المفهوم بالمعنى الذي تقدم
380

في محله، وأما إذا قلنا بها كما هو الظاهر فلا يتم، بيان ذلك ان القيد
تارة يقع في كلام السائل من جهة توهمه أن فيه خصوصية تمنع عن شمول
الحكم له كما إذا افترض انه توهم ان الاطلاقات الدالة على طهورية الماء
لا تشمل ماء البحر من جهة ان فيه خصوصية - وهي ملاحته - تمتاز
بها عن غيره من المياه فلأجل ذلك سأل الإمام (ع) عن طهوريته فأجاب
عليه السلام بأنه طاهر ففي مثل ذلك لا شبهة في عدم دلالته على المفهوم
وكذا إذا أتى الإمام (ع) بقيد في كلامه لرفع توهم السائل ان فيه
خصوصية تمتاز بها عن غيره بأن قال (ع) ماء البحر طاهر.
وأما إذا لم تكن قرينة على أن الاتيان بالقيد لأجل رفع التوهم ففي
مثل ذلك لا مانع من الالتزام بالمفهوم، وقد ذكرنا في بحث مفهوم
الوصف انه ظاهر فيه والا لكان الاتيان به لغوا محضا كما انا ذكرنا هناك
ان المراد بالمفهوم هو دلالته على أن الحكم في القضية غير ثابت للطبيعي
على نحو الاطلاق والا لكان وجود القيد وعدمه سيان، وليس المراد منه
دلالته على نفي الحكم عن غير مورده كما هو الحال في مفهوم الشرط،
وقد تقدم تمام هذه البحوث بشكل موسع هناك فلا حظ، وعلى أساس
ذلك فلا مناص من حمل المطلق على المقيد هنا أيضا.
فالنتيجة انه لا فرق في لزوم حمل المطلق علي المقيد بين ما إذا كان
التكليف في طرف المطلق متعلقا بصرف وجوده أو بمطلق وجوده فلا وجه
لما عن المشهور من التفصيل بينهما، وعلى ذلك تترتب ثمرة فقهية في
بعض الفروع.
بقي الكلام في الفرق بين المستحبات والواجبات حيث إن المشهور
بين الأصحاب تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات
فالكلام إنما هو في الفارق بينهما، فان دليل المقيد إذا كان قرينة عرفية
381

على التقييد فلما إذا لا يكون كذلك في المستحبات، وإن لم يكن كذلك
فلما ذا يحمل المطلق على المقيد في الواجبات، ومن هنا ذكر في وجه
ذلك وجوه:
أحدها: ما عن المحقق صاحب الكفاية (قده) من أن الفارق بين
الواجبات والمستحبات في ذلك هو تفاوت المستحبات غالبا من حيث
المراتب بمعنى ان غالب المستحبات تتعدد بتعدد مراتبها من القوة والضعف
على عرضهما العريض، وهذه الغلبة قرينة على حمل المقيد على الأفضل
والقوى من الافراد.
ويرد عليه ان مجرد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض ان دليل المقيد
قرينة عرفية على تعيين المراد من المطلق، ضرورة ان الغلبة ليست على
نحو تمنع عن ظهور دليل المقيد في ذلك.
ومن هنا ذكر (قده) وغيره ان غلبة استعمال الامر في الندب
لا تمنع عن ظهوره في الوجوب عند الاطلاق ورفع اليد عنه، والحاصل
ان الظهور مقيع ما لم تقم قرينة على خلافه ولا قرينة في المقام على خلاف
ظهور دليل المقيد في تعيين المراد من المطلق، والغلبة لا تصلح أن تكون
قرينة على ذلك.
ثانيها أيضا ما ذكره (قده) وحاصله هو ان ثبوت استحباب
المطلق إنما هو من ناحية قاعدة التسامح في أدلة السنن، فان عدم رفع
اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيئ المفيد وحمله على تأكد استحبابه
من التسامح فيها. ويرد عليه وجوه:
الأول: ان دليل المقيد إذا كان قرينة عرفا للتصرف في المطلق وحمله
على المقيد لم يصدق عنوان البلوغ على المطلق حتى يكون مشمولا لتلك
القاعدة، فان دليل المقيد إذا كان متصلا به منع عن أصل انعقاد الظهور
382

له في الاطلاق، وإن كان منفصلا عنه منع عن كشف ظهوره في الاطلاق
عن المراد الجدي، وعلى كلا التقديرين لا يصدق عليه عنوان البلوغ.
الثاني: انا قد ذكرنا في محله ان مفاد تلك القاعدة ليس هو
استحباب العمل البالغ عليه الثواب، بل مفادها هو الارشاد إلى ما استقل به
العقل من حسن الاتيان به برجاء ادراك الواقع.
الثالث: انا لو سلمنا ان مفادها هو استحباب العمل شرعا إلا أنه
حينئذ لا موجب لكون المقيد من أفضل الافراد حيث إن استحبابه ثبت
بدليل واستحباب المطلق ثبت بدليل آخر أجنبي عنه، فإذا ما هو الموجب
لصيرورة المقيد أفضل من المطلق.
ثالثها -: - وهو الصحيح - ان الدليل الدال على التقييد يتصور على
وجوه أربعة - لا خامس لها:
الأول: أن يكون ذات مفهوم بمعنى أن يكون لسانه لسان القضية
الشرطية، كما إذا افترض انه ورد في دليل ان صلاة الليل مستحية
- وهي إحدى عشرة ركعة - وورد في دليل آخر ان استحبابها فيما إذا
كان المكلف آتيا بها بعد نصف الليل ففي مثل ذلك لا مناص من حمل
المطلق على المقيد عرفا نظرا إلى أن دليل المقيد ينفي الاستحباب في غير
هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.
الثاني: أن يكون دليل المقيد مخالفا لدليل المطلق في الحكم فإذا
دل دليل على استحباب الإقامة مثلا في الصلاة ثم ورد في دليل آخر
النهي عنها في مواضع كالإقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل
ذلك ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد، والوجه فيه
ما ذكرناه غير مرة من أن النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات
ظاهرة في الارشاد إلى المانعية وان الحدث أو الجلوس مانع عن الإقامة
383

المأمور بها، ومرجع ذلك إلى أن عدمه مأخوذ فيها فلا تكون الإقامة في حال
الحدث أو الجلوس مأمورا بها.
الثالث: أن يكون الامر في دليل المقيد متعلقا بنفس التقييد لا
بالقيد كما إذا افترض انه ورد في دليل ان الإقامة في الصلاة مستحبة وورد
في دليل آخر فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة فالكلام فيه هو الكلام في
القسم الثاني حيث إن الامر في قوله فلتكن ظاهر في الارشاد إلى شرطية
الطهارة أو القيام لها، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الإقامة مستحبة
أو واجبة. فما هو المشهور من أنه لا يحمل المطلق على المقيد في باب
المستحبات لا أصل له في الأقسام المتقدمة.
الرابع: ان يتعلق الامر في دليل المقيد بالقيد بما هو كما هو الغالب
في باب المستحبات، مثلا ورد في استحباب زيارة الحسين (ع) مطلقات
وورد في دليل آخر استحباب زيارته (ع) في أوقات خاصة كليالي الجمعة
وأول ونصف رجب، ونصف شعبان، وليالي القدر، وهكذا ففي مثل
ذلك هل يحمل المطلق على المقيد الظاهر أنه لا يحمل عليه، والسبب فيه ان
الموجب لحمل المطلق على المقيد في الواجبات هو التنافي بين دليل المطلق
والمقيد حيث إن مقتضى اطلاق المطلق ترخيص المكلف في تطبيقه على أي
فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال، وهو لا يجتمع مع كونه ملزما
بالاتيان بالمقيد، وهذا بخلاف ما إذا كان دليل التقيد استحبابيا: فإنه
لا ينافي اطلاق المطلق أصلا، لفرض عدم الزام المكلف بالاتيان به، بل
هو مرخص في تركه فإذا لم يكن تناف بينهما فلا موجب لحمل المطلق
على المقيد، بل لابد من حمله على تأكد الاستحباب وكونه الأفضل،
وهذا هو الفارق بين الواجبات والمستحبات.
ومن هنا يظهر أن دليل المطلق إذا كان متكفلا لحكم الزامي دون
384

دليل المقيد فلابد من حمله على أفضل الافراد أيضا بعين الملاك المزبور.
فالنتيجة ان دليل المقيد إذا كان متكفلا لحكم غير الزامي فلابد من حمله
على الأفضل سواء أكان دليل المطلق أيضا كذلك أو كان متكفلا لحكم
الزامي، والسر فيه ما عرفت من عدم التنافي بينهما أبدا.
بقي هنا شيئان:
أحدهما: ان الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في
مقام الثبوت، والتقييد فيه يكشف عن التقييد في ذلك لتبعية مقام الاثبات
لمقام الثبوت فلو أمر المولى (باكرام العالم) ولم يقيده بالعدالة أو الهاشمية
أو ما شاكل ذلك من القيود وكان في مقام البيان فالاطلاق في هذا المقام
يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت والواقع، وأما إذا قيده بالعدالة
فهو يكشف عن التقييد في مقام الثبوت، ولكن ربما ينعكس الامر فالاطلاق
في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت دون الاطلاق والسعة
وذلك كما في اطلاق صيغة الامر حيث إنه في مقام الاثبات يكشف عن أن
الواجب في مقام الثبوت والواقع نفسي لا غيري، وتعييني لا تخييري وعيني
لا كفائي كل ذلك ضيق على المكلف فلو أمر المولى بغسل الجنابة فإن كان
مطلقا في مقام الاثبات ولم يكن الامر به مقيدا بايجاب شئ آخر على
المكلف كشف ذلك عن كونه واجبا نفسيا في مقام الثبوت - وهو ضيق
على المكلف - وإن كان الامر به مقيدا بهذا كشف ذلك عن كونه واجبا
غيريا وهو سعة بالإضافة إليه، وكذا الحال بالنسبة إلى الواجب التعييني
والتخييري والعيني والكفائي، فان الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن
الضيق في مقام الثبوت والتقييد فيه يكشف عن الاطلاق والسعة فيه.
وثانيهما: انا قد ذكرنا غير مرة ان الاطلاق عبارة عن رفض القيود
وعدم دخل شئ منها فيه، ونتيجته تختلف باختلاف خصوصيات الموارد
385

والمقامات فقد تكون نتيجته في مورد تعلق الحكم بصرف الوجود، وقد
يكون تعلق الحكم بمطلق الوجود، وقد يكون غير ذلك، وقد تقدم تفصيل
ذلك بصورة موسعة في مبحث النواهي فلا حظ.
(المجمل والمبين)
لا يخفى أن المجمل والمبين هنا كالمطلق والمقيد والعام والخاص مستعملان
في معناها اللغوي، وليس للأصوليين فيهما اصطلاح خاص فالمجمل اسم
لما يكون معناه مشتبها وغير ظاهر فيه، والمبين اسم لما يكون معناه واضحا
وغير مشتبه.
ثم أن المجمل تارة يكون حقيقيا وأخرى يكون حكميا، ونقصد بالأول
ما كان اللفظ غير ظاهر في المراد الاستعمالي، ونقصد بالثاني ما يكون
اجماله حكميا لا حقيقيا بمعنى أنه ظاهر في المراد الاستعمالي، ولكن المراد
الجدي منه غير معلوم، والأول لا يخلو من أن يكون اجماله بالذات
كاللفظ المشترك، أو بالعرض كالكلام المحفوف بما يصلح للقرينية، فإنه
يوجب اجماله وعدم انعقاد الظهور له، والثاني كالعام المخصص بدليل
منفصل يدور امره بين متباينين كما إذا ورد (أكرم كل عالم) ثم ورد
في دليل آخر (لا تكرم زيد العالم) وفرضنا ان زيد العالم في الخارج
مردد بين شخصين: زيد بن خالد، وزيد بن عمرو مثلا فيكون المخصص
من هذه الناحية مجملا فيسري اجماله إلى العام حكما لا حقيقة، لفرض
ان ظهوره في العموم قد انعقد فلا اجمال ولا اشتباه فيه، وإنما الاجمال
والاشتباه في المراد الجدي منه، ولأجل ذلك يعامل معه معاملة المجمل.
هذا من ناحية.
386

ومن ناحية أخرى ان الاجمال والبيان من الأمور الواقعية فالعبرة
بهما إنما هي ينظر العرف فكل لفظ كان ظاهرا في معناه وكاشفا عنه
عندهم فهو مبين وكل لفظ لا يكون كذلك سواء أكان بالذات أو بالعرض
فهو مجمل فلا واسطة بينهما.
ومن هنا يظهر ان - ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قده) من
أنهما من الأمور الإضافية وليسا من الأمور الواقعية بدعوى ان لفظا واحدا
مجمل عند شخص لجهله بمعناه ومبين عند آخر لعلمه به - خاطئ جدا،
وذلك لان الجهل بالوضع والعلم به لا يوجبان الاختلاف في معنى الاجمال
والبيان فجهل شخص بمعنى لفظ وعدم علمه بوضعه له لا يوجب كونه
من المجمل وإلا لزم أن تكون اللغات العربية مجملة عند الفرس وبالعكس
مع أن الامر ليس كذلك.
نعم قد يقع الاختلاف في اجمال؟؟؟ فيدعى أحد انه مجمل ويدعى
الآخر أنه مبين، ولكن هذا الاختلاف إنما هو في مقام الاثبات وهو
بنفسه شاهد على أنهما من الأمور الواقعية والا فلا معنى لوقوع النزاع
والخلاف بينهما لو كانا من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف انظار
الأشخاص، نظير الاختلاف في بقية الأمور الواقعية فيدعى أحد أن زيدا
مثلا عالم، ويدعي الآخر أنه جاهل، مع أن العلم والجهل من الأمور
الواقعية النفس الامرية.
ومن ناحية ثالثة أنه يقع الكلام في عدة من الألفاظ المفردة والمركبة في
أبواب الفقه انها مجملة أو مبنية والأولى كلفظ الصعيد ولفظ الكعب ولفظ
الغناء وما شاكل ذلك والثانية مثل (لا صلاة إلا بطهور) أو (لا صلاة
لمن لم يقم صلبه) وما شابه ذلك، ومنها الأحكام التكليفية المتعلقة بالأعيان
الخارجية كقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ونحوه، وبما أنه
387

لا ضابط كلي لتمييز المجمل عن المبين في هذه الموارد فلابد من الرجوع
في كل مورد إلى فهم العرف فيه، فإن كان هناك ظهور عرفي فهو والا
فيرجع إلى القواعد والأصول وهي تختلف باختلاف الموارد.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء - وهو الجزء الخامس - من مباحث
الألفاظ وقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه.
388