الكتاب: اصطلاحات الأصول
المؤلف: الشيخ علي المشكيني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع: صفر المظفر ١٤١٣ - ١٣٧١ ش
المطبعة: الهادي
الناشر: دفتر نشر الهادي - قم
ردمك:
ملاحظات:

اصطلاحات الأصول
ومعظم أبحاثها
في بابه جيد فريد، وفى موضوعه مبتكر وحيد نتائج
انظار المحققين، وعصارة أفكار المتأخرين، يهديك إلى
مطلبوك بأقصر سبيل ويعطيك منيتك بأحسن بيان.
حضرة آية الله الحاج الميرزا علي المشكيني
1

تمتاز هذه الطبعة عن سوابقها ببعض الإضافات من قبل المؤلف دام
ظله، وتصحيح الأخطاء المطبعية وبحسن الطباعة حتى أخرجت بحلتها
القشيبة هذه، خدمة لطلاب العلم والفضيلة والله ولي التوفيق.
الناشر
اسم الكتاب: اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها
المؤلف: حضرة آية الله الحاج الميرزا علي المشكيني
الطبعة: الخامس
عدد الصفحات: 304
عدد النسخ: 2000
تاريخ النشر: صفر المظفر 1413 ه‍. ق مرداد 1371 ه‍. س
المطبعة: الهادي
الناشر: دفتر نشر الهادي قم تليفون 37001
حق الطبع محفوظ للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا، والحمد لله الذي علم ادم الأسماء
كلها والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد المصطفى وعلى اله الأتقياء الأوصياء
واللعن على أعدائهم في الآخرة والأولى.
وبعد: اعلم أنه قد كثر استعمال عدة من الألفاظ لدى الأصوليين في معاني
مخصوصة تغاير معانيها الحقيقة أو تباينها، بحيث صارت عندهم منقولة عن المعاني
الأولية وحصل لها وضع تخصصي أو تخصيصي في المعاني الحديثة.
فأنتج ذلك تعسر ادراك المقصود منها للباحث في هذا الفن، أو عدم نيله إلى
حقيقة الغرض من البحث.
فرأيت مستعينا بالله تعالى ان أضع كتابا شاملا لتوضيح ما اصطلحوا عليه
وتفسيره مراعيا فيه حسن التعبير، مجتنبا عن الاطناب والتعسير، موضحا كل مطلب
بمثال، مشيرا فيه إلى بعض الأقوال، وايراد ما يناسب البحث من الاستدلال، محافظا
في ذلك على مقتضى الحال فأوردت ما تيسر لي ذكره من العناوين المصطلحة على
ترتيب حروف أوائله ليكون سهل التناول للباحث الفاحص.
ثم إني رجوت ان تكون في هذا التأليف خدمة لطلبة العلم ورواد الحقيقة وتسهيلا
3

لأمرهم في دراسة علم الأصول، وحفظا لأوقاتهم الثمينة عن التضييع فيما لا يعنيهم،
فقصدت القربة وأقدمت على التأليف مع ضيق الباع وقلة الاطلاع والمرجو من الرب
الكريم ان يتقبل ذلك بقبول حسن ويثيبني عليه ثوابا جميلا، ويأجرني ومن يراجعه
ويستفيد منه اجرا جزيلا فإنه اهل لذلك وهو ولي التوفيق.
وينبغي قبل الورود في المقصود من تقديم امر هام وهو انه قد وردت في شرف
العلم وفضله والثناء عليه ومدحه وحمد طالبيه واطراء حامليه، اخبار كثيرة وأحاديث
غفيرة تبلغ حد التواتر بل تزيد عليه بكثير، ان تريدوها لا تحسبوها وان تعدوها لا
تحصوها. فنذكر هنا نبذا يسيرا، ونزرا قليلا تشرفا بنقلها وتيمنا بذكرها.
وليعلم قبل ذلك أن المراد من العلم الذي كثر الحث في تلك الأخبار على تحصيله
والترغيب في تعلمه وتعليمه حتى أنه عد من أعلا الفرائض وأغلاها، وأشرف
الذخائر وأسماها، انما هو علم الدين وفقه الشريعة من أصولها الاعتقادية وقوانينها
الأخلاقية وفروعها العملية، فهي المتصفة بالشرف والفضيلة والممدوحة بمدائح جميلة
كقوله " عليه السلام " " بالعلم حياة القلوب ونور الابصار من العمى، بالعلم يطاع الله
ويعبد وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من
الحرام، وانه السبب بينكم وبين الله، وانه لا خير في دين لا تفقه فيه، وان ذخيرة العلم
اجتناب الذنوب، وان تعلم العلم حسنة ومدارسته تسبيح، لأنه معالم الحلال والحرام، وان
بالعلم تحسن خدمة ربك " إلى غير ذلك مما ستسمعه.
واما العلوم المتداولة الدارجة، والفنون المتعارفة الرائجة في هذه الاعصار فإن كان
الغرض منها تحصيل المعاش الحلال، وتوسعة الرزق، وعمارة الأرض والبلاد،
والخدمة للعباد، فهي لدى الشرع ومشرعه كسائر صنوف تحصيل المعاش والمكاسب
والتجارات حلال محلل وممدوح محمود، تشمله الأدلة الدالة على محبوبية طلب الحلال
وتوسعة المعاش وإعانة الضعفاء وحفظ نظام المجتمع والمعاونة على رفاههم، كل ذلك
بشرطها وشروطها.
وان كان الغرض مجرد الدنيا وجعلها مقدمة لتحصيل الثروة وحيازة المقام
والترؤس على ضعفة العباد وتوسعة السلطة على الملك والبلاد، واشباع القوى البهيمية
4

والشهوية، والإجابة للملتمس الميول النفسانية وتقوية الملكات السبعية يمنع منازعه في
هواه ويدفع مزاحمه في مناه فهي الدنيا المبغوضة الملعونة والمشتغلون بها هم اهل الدنيا،
وقد صارت هي أكبر همهم ومبلغ علمهم ونعوذ بالله من ذلك.
واما ما أردنا ايراده من الاخبار فها إليك نبذا منها تتعلق بفضل نفس العلم
وفضيلة التعلم والتعليم، ونبذا مما يتعلق بشرف طالبيه وحامليه وكرامتهم عند الله.
فمن الأول: ما ورد من انه: " لا كنز أنفع من العلم ".
وان: " من سلك طريقا يطلب به علما سلك الله به طريقا إلى الجنة ".
وان تعلم العلم حسنة ومدارسته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه
صدقة وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام وسالك بطالبه سبيل الجنة، وهو
أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة وسلاح على الأعداء وزين الاخلاء; يرفع الله به
أقواما يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق اعمالهم وتقتبس آثارهم وترغب الملائكة
في خلتهم، يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم، لان العلم حياة القلوب ونور الابصار من
العمى وقوة الأبدان من الضعف، وينزل الله حامله منازل الأبرار ويمنحه مجالسة
الأخيار في الدنيا والآخرة، بالعلم يطاع الله ويعبد وبالعلم يعرف الله ويوحد وبالعلم
توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، والعلم امام العقل والعقل تابعه يلهمه
السعداء ويحرمه الأشقياء.
وان فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة.
وان كمال المؤمن في ثلث خصال أولها تفقهه في دينه.
وانه يلزم لكل ذي حجى استماع العلم وحفظه ونشره عند اهله والعمل به.
وان العلم ضالة المؤمن.
وانه وراثة كريمة.
وان طلب العلم فريضة على كل مسلم في كل حال، فاطلبوا العلم من مظانه
واقتبسوه من اهله.
وانه السبب بينكم وبين الله تعالى.
وان طلب العلم فريضة من فرائض الله.
5

وانه يجب تعلمه من حملته وتعليم الاخوان كما علمه العلماء.
وانه لا خير في دين لا تفقه فيه.
وان كمال الدين طلب العلم والعمل به.
وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال، ان المال مقسوم بينكم مضمون
لكم قد قسمه عادل بينكم وسيفي لكم به; والعلم مخزون عليكم عند اهله قد أمرتم
بطلبه منهم فاطلبوه، واعلموا ان كثرة المال مفسدة للدين مقساة للقلوب وان كثرة العلم
والعمل به مصلحة للدين سبب إلى الجنة، والنفقات تنقص المال والعلم يزكو على
انفاقه; وانفاقه بثه على حفظته ورواته.
وانه لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا.
وانه اف لكل مسلم لا يجعل في كل جمعة يوما يتفقه فيه امر دينه ويسئل عن
دينه.
وانه لا يستحى الجاهل إذا لم يعلم ان يتعلم.
وانه يجب تعلمه قبل أن يقبض وقبل ان يجمع.
وانه يجب طلبه ولو بالصين.
وانه لا شرف كالعلم.
وان هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمهما فما يزيد في علمك وأدبك
يزيد في ثمنك وقدرك، فان بالعلم تهتدى إلى ربك وبالأدب تحسن خدمة ربك،
وبأدب الخدمة يستوجب العبد ولايته وقربه.
وانه ليس الخيران يكثر مالك وولدك ولكن الخير ان يكثر علمك ويعظم
حلمك.
وان كل وعاء يضيق بما جعل فيه الا وعاء العلم فإنه يتسع.
وان هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وان العلم أشرف الأحساب.
وانه لا كنز أنفع من العلم ولا قرين سوء شر من الجهل.
وانه صلة بين الاخوان ودال على المروة وتحفة في المجالس وصاحب في السفر
6

وانس في الغربة.
وان الكلمة من حكمة يسمعها الرجل فيقول أو يعمل بها خير من عبادة سنة.
وان بابا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون أبو قبيس ذهبا فأنفقه في
سبيل الله.
وان مثل العلم الذي بعث الله به النبي " صلى الله عليه وآله " كمثل غيث
أصاب أرضا منها طائفة طيبة فقبلت الماء وأنبتت الكلاء والعشب الكثير، وكان منها
أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منه وسقوا وزرعوا فذلك مثل من
فقه في دين الله وتفقه فعلم ما بعث الله به نبيه وعلم.
وان النوم مع العلم خير من صلاة مع الجهل.
وان قليلا من العلم خير من كثير من العبادة.
وانه كفى بالعلم شرفا ان يدعيه من لا يحسن ويفرح إذا نسب إليه.
وان العلم أفضل من المال لسبعة:
الأول: انه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة.
الثاني: ان العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص.
الثالث: يحتاج المال إلى حافظ والعلم يحفظ صاحبه.
الرابع: العلم يدخل في الكفن ويبقى المال.
الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل الا للمؤمن خاصة.
السادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في امر دينهم ولا يحتاجون إلى
صاحب المال.
السابع: العلم يقوى الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه.
وانه إن لم يسعد لم يشق، وإن لم يرفع لم يضع وإن لم يغن لم يفقر وا إن لم ينفع لم
يضر، والعلم يشفع لصاحبه وحق على الله أن لا يخزيه.
وان بابا من العلم تتعلمه أحب إلى أبي ذر من الف ركعة تطوعا.
وان العلم عليه قفل ومفتاحه السؤال.
وان المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيمة
7

سترا فيما بينه وبين النار.
وانه من جلس مجلسا يحيي فيه امر الأئمة " عليهم السلام " لم يمت قلبه يوم يموت
القلوب.
وان حلق الذكر رياض الجنة.
وانه يجب تحادث العلم، فان بالحديث تجلى القلوب الرائنة.
وانه يجب التكلم في العلم ليتبين قدر الرجل.
وان النبي " صلى الله عليه وآله " لما رأى مجلس الدعاء ومجلس مذاكرة الفقه قال:
كلا المجلسين إلى خير، اما هؤلاء فيدعون الله واما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل،
هؤلاء أفضل، بالتعلم أرسلت، ثم قعد معهم.
وانه رحم الله عبدا أحيى العلم وتذاكر به عند اهل الدين والورع.
وان تذكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة.
وانه يجب على الانسان ان يرتع في رياض الجنة أعني حلق الذكر، فان لله
سيارات من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا اتوا عليهم حفوا بها.
وانه لو علم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج.
ومن الثاني: أعني ما دل على فضل حملة العلم وكرامتهم عند الله فقد ورد انه لا خير
في العيش الا لرجلين، عالم مطاع أو مستمع واع.
وانه منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا، فاما طالب العلم فيزداد رضا
الرحمن، واما طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان.
وانه من خرج من بيته يطلب علما شيعه سبعون الف ملك يستغفرون له.
وانه إذا رأيتم المتفقهين فاستوصوا بهم خيرا.
وان العالم بين الجهال كالحي بين الأموات.
وان الله يحب بغاة العلم.
وان أكثر الناس قيمة أكثرهم علما وأقل الناس قيمة أقلهم علما.
وان قلبا ليس فيه علم كالبيت الخراب الذي لا عامر له.
8

وانه أوحى الله تعالى إلى النبي الأعظم " صلى الله عليه وآله ": انه من سلك
مسلكا يطلب فيه العلم سهلت له طريقا إلى الجنة.
وانه ما من عبد يغدو في طلب العلم ويروح الا خاض الرحمة خوضا، وهتف به
الملائكة مرحبا بزائر الله وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك.
وان صحبة العالم واتباعه دين يدان به الله; وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة
للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفقة في حياتهم وجميل الأحدوثة عنهم بعد موتهم.
وان فقيها واحدا أشد على إبليس من الف عابد.
وان من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وان من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل ابدا.
وان طالب العلم لا يموت أو يمتع جده بقدر كده.
وان قوام الدنيا بأربعة: أولهم عالم يستعمل علمه وثانيهم جاهل لا يستنكف ان
يتعلم.
وانه لا حرج على من لا يعلم ان يسئل من يعلم.
وان طالب العلم أحبه الله وأحبه الملائكة وأحبه النبيون ولا يحب العلم الا
السعيد فطوبى لطالب العلم يوم القيمة; وهذا كله تحت هذه الآية: " يرفع الله الذين
آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ".
وان من خرج يطلب بابا من علم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالة إلى هدى كان
عمله ذلك كعبادة متعبد أربعين عاما.
وان الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله، وكم من مؤمن يخرج في
طلب العلم فلا يرجع الا مغفورا.
وانه من تعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل كان أفضل من أن يصلى الف
ركعة تطوعا.
وانه إذا خرج في طلب العلم ناداه الله عز وجل من فوق العرش مرحبا بك.
وان أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جائوا به.
وان الناس أبناء ما يحسنون.
9

وان العالم كبير وان كان حدثا والجاهل صغير وان كان شيخا وان الشريف من
شرف علمه.
وان الملوك حكام على الناس والعلماء، حكام على الملوك. وانه من طلب علما
فأدركه كتب الله له كفلين من الاجر ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا
من الاجر.
وان من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الاسلام كان بينه وبين الأنبياء
درجة واحدة في الجنة.
وان من غدا إلى مسجد ليتعلم خيرا، أو ليعلمه كان له اجر معتمر تام العمرة ومن
راح إلى المسجد لا يريد الا ليتعلم خيرا أو ليعلمه فله اجر حاج تام الحجة.
وان أمقت الناس إلى الله الجاهل المستخف بحق اهل العلم التارك للاقتداء
بهم.
وان أحب الناس إلى الله التقى الطالب للثواب الجزيل الملازم للعلماء. وانه ويل
لمن سمع بالعلم ولم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار.
وان الله يقول يوم القيمة يا معشر العلماء ما ظنكم بربكم فيقولون ظننا ان ترحمنا
وتغفر لنا فيقول الله تعالى فانى قد فعلت انى استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير
أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي ورحمتي.
وانه إذا جاء الموت لطالب العلم وهو على هذه الحالة مات شهيدا.
وان الأئمة " عليهم السلام " هم العلماء والشيعة هم المتعلمون وسائر الناس غثاء.
وانه يجب أن يكون الانسان اما عالما واما متعلما واما محبا للعلماء ولا يكون قسما
رابعا فيهلك ببغضهم.
وان العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.
وان النظر إلى وجه العالم عبادة.
وان مروة الانسان مجالسة العلماء والنظر في الفقه.
وان الفقهاء قادة والجلوس إليهم عبادة.
وان الفقهاء سادة والجلوس إليهم زيادة.
10

وانه يجب الجلوس مع العلماء فإنك ان تكن عالما ينفعك علمك ويزيدونك علما;
وإن كنت جاهلا علموك، ولعل الله ان يظلهم برحمته فتعمك معهم.
وان الله عز وجل يقول لملائكة عند انصراف اهل مجلس الذكر والعلم إلى منازلهم:
اكتبوا ثواب ما شاهدتمون من اعمالهم فيكتبون لكل واحد ثواب عمله، ولا يكتبون
لمن حضر معهم ممن ليس بعالم، ولا تكلم معهم بكلمة فيقول الجليل: اكتبوه معهم
انهم قوم لا يشقى بهم جليسهم فيكتبون له ثوابا مثل ثواب أحدهم.
وان محادثة العالم على المزبلة خير من محادثة الجاهل على الزرابي.
وان النظر إلى وجهه حبا له عبادة.
وان من جالس العلماء وقر.
11

وها نحن نشرع في مطالب الكتاب على ترتيب حروف أوائل المصطلحات ليسهل
الوصول إليها مستمدا من المحسن المجمل ومستعينا بالمنعم المفضل.
الابتلاء وعدم الابتلاء
المشهور ان كل تكليف الهى من ايجاب أو تحريم مشروط في مقام فعليته بعدة
شرائط عقلية غير ما لاحظه الشارع شرطا له بالخصوص.
والمسلم منها أربعة: البلوغ والعقل والقدرة والالتفات، وتسمى بالشرائط العامة;
فالصبي والمجنون والعاجز عن الامتثال والغافل لا حكم لهم فعليا; وان قلنا بكونه ثابتا
في حقهم اقتضاء وانشاء. بمعنى ان الملاك في أفعالهم موجود والانشاء في حقهم مجعول
ولكن لا إرادة جدية بالنسبة إليهم.
هذا وقد أضيف إليها في التكليف التحريمي شرط آخر يسمى بالابتداء، فقيل ان
النهى لا يكون فعليا ما لم يصر متعلقه محلا لابتلاء المكلف.
وبيانه: ان الغرض من النهى المنع عن إرادة المكلف للحرام لئلا يتحقق منه في
الخارج وحينئذ لو كان الحرام مترقب الحصول منه بحيث كان المكلف مريدا له أو
يصح ويمكن تولد الإرادة في نفسه فلا اشكال في صحة النهى عنه فعلا; ولو كان بعيد
الحصول منه جدا كما لو كان الخمر المطلوب تركها في البلاد النائية ولا يصح من
الشخص تولد الإرادة فعلا على شربها، فلا يصح النهى عنها نهيا فعليا بل يصح معلقا
على الظفر بها والوصول إليها لان الغرض من النهى وهو عدم الإرادة وعدم تحقق الفعل
12

حاصلان حينئذ قهرا، فلا مقتضى للنهى الفعلي عنه، وهذا معنى ما افاده الشيخ (ره)
في رسائله من قوله: " والمعيار في الابتلاء وعدمه صحة التكليف بذلك عند العرف
وعدم صحته "; ومراد صاحب الكفاية (ره) من قوله: " ان الملاك في الابتلاء المصحح
لفعلية الزجر هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد " فالأصوليون
قد سموا ترقب حصول الفعل من المكلف الابتلاء وعدم ترقبه عدم الابتلاء.
تنبيهان:
الأول: إذا شككنا في كون متعلق التكليف داخلا في محل الابتلاء أو خارجا
عنه; كما إذا كان الاناء النجس في ملك زيد وتحت سلطنته لا يبيعه ولا يهبه،
فشككنا في كونه عند العرف معدودا من محل الابتلاء بالنسبة الينا ليكون حكمه
منجزا أم ليس بمحل الابتلاء فلا يكون بمنجز ففيه قولان:
أحدهما: الحكم بفعلية التكليف فيه بتقريب ان المورد من قبيل الشبهة المفهومية
للمخصص; أو ان المخصص فيه لبى والحكم فيها الرجوع إلى العموم أو الاطلاق، فقوله
اجتنب عن الخمر مثلا مطلق والحاكم بعدم فعلية ذلك التكليف في الخمر الخارجة
عن محل الابتلاء هو العقل وهو دليل لبى يقتصر في تخصيصه على المتيقن، أو انه وان
فرضنا كون المخصص لفظيا فخرج به عنوان غير المبتلى به عن اطلاق وجوب
الاجتناب الا ان مفهوم الابتداء مجمل عند العرف يشك في تحققه في المورد فاللازم
أيضا التمسك بالمطلق.
ثانيهما: الحكم بعدم الفعلية واجراء أصالة البراءة في المورد اما لان مفهوم الابتلاء
معلوم والشك انما هو في تحقق مصداقه فالشبهة مصداقية حكمها الرجوع إلى الأصول،
واما لان جواز التمسك بالاطلاق انما هو في موارد الشك في تقييد متعلق التكليف، كما
إذا شككنا في أن الرقبة المأمور بها مقيدة بالايمان أم لا; لا فيما شك في قيود نفس
التكليف وفعليته كما في المقام فان كون المتعلق محلا للابتلاء شرط عقلي لفعلية
التكليف وتنجزه فالشك في الابتلاء شك في فعلية التكليف والأصل فيه البراءة.
13

الثاني:
قد يقع الشئ المعلوم خروجه عن محل الابتلاء أو المشكوك الخروج طرفا للعلم
الاجمالي، كما إذا فرضنا في صورة العلم الاجمالي بنجاسة أحد الثوبين كون أحدهما
حاضرا عند المكلف والاخر في البلاد النائية أو في ملك زيد وتحت يده بحيث لا يبيعه
ولا يهبه، فإن كان الابتلاء شرطا في فعلية التكليف لم يجب الاجتناب عن الثوب
الحاضر; إذ يحتمل أن يكون النجس هو الخارج عن الابتلاء فالتكليف الواقعي ليس
بفعلي، أو هو الداخل في محل الابتلاء فهو فعلى فلا علم للمكلف حينئذ بتكليف
فعلى، والشرط في وجوب الاحتياط كون التكليف فعليا على كل تقدير ولو لم يكن
شرطا وجب الاجتناب عن الحاضر أيضا وهذه من ثمرات كون الابتلاء شرطا
وعدمه.
14

الاجتماع والامتناع
لا اشكال عند العقل في عدم جواز صدور امر ونهى من الحكيم يتعلقان بفعل
واحد له عنوان واحد في زمان واحد.
فلا يجوز ان يأمر عبده باكرام زيد وينهاه عن اكرامه، أو يأمره بشرب العصير
وينهاه عن شربه في زمان واحد.
ولكن قد وقع الاختلاف بين الاعلام في امكان تعلق الحكمين كذلك بواحد ذي
عنوانين، فيأمر به بعنوان وينهى عنه بعنوان آخر كالامر بالصلاة في الدار المغصوبة
بعنوان الصلاة والنهى عنها بعنوان الغصب.
فذهب فريق من الاعلام إلى الجواز وامكان كون الواحد ذي الوجهين مأمورا به
ومنهيا عنه.
فان متعلقيهما (ح) وان كانا متحدين وجودا الا انهما متعددان عنوانا; وتعدد
العنوان مستلزم لتعدد المعنون عقلا، فالموجود المترائى في نظر أهل العرف واحدا يكون
بنظر العقل متعددا فهو وجود واحد عرفا ووجودان عقلا، فعل واحد ظاهر وفعلان
واقعا، فلا مانع من تعلق الامر به بعنوان والنهى عنه بعنوان آخر، ويترتب عليه آثارهما
من حصول الإطاعة واستحقاق المثوبة بالنسبة إلى الامر، والمعصية واستحقاق العقوبة
15

بالنسبة إلى النهى فسمى هذا المبنى بالاجتماع والقائلون بذلك بالاجتماعين.
وذهب آخرون إلى الامتناع عقلا وان اتحاد متعلق الامر والنهى خارجا يستلزم
اجتماع، الضدين، أعني تعلق إرادة الامر وكراهته بالنسبة إلى فعل واحد وهو
مستحيل، ولا ينفع في ذلك تعدد العنوان، فان كثرة الاسم لا يجعل المسمى متكثرا
ويسمى هذا المبنى بالامتناع والقائلون به بالامتناعيين.
تنبيهان:
الأول: قد علم مما ذكرنا أن وجه الاشكال في المسألة هو لزوم المحذور العقلي في
ناحية الحكيم الصادر عنه الحكم، فالقائل بالامتناع يدعى استحالة توجيه الحكمين
على النحو المذكور لاستلزامه اجتماع الإرادة والكراهة في نفس المولى مع تعلقهما بفعل
واحد في زمان واحد، فالمحذور هو كون نفس التكليف محالا، لا انه يلزم التكليف
بالمحال فإنه على فرض لزومه في بعض الموارد محذور آخر.
الثاني: العنوانان المتعلقان للامر والنهى المنطبقان على وجود واحد يتصوران على أقسام
ثلثة.
أولها: أو يكون بينهما التساوي في الصدق كما إذا قال جئني بالضاحك، وقال
لا تجئ بالقاتب.
ثانيها: أن يكون بينهما العموم من وجه كما إذا قال صل ولا تغصب.
ثالثها: ان يكن بينهما العموم المطلق كما إذا قال جئني بحيوان وقال لا تجئ ببقر.
والظاهر أن في موارد التصادق في الجميع يجرى نزاع الاجتماع والامتناع، فيقول
المجوز انه لا محذور عقلي من ناحية المولى في تعلق التكليفين بمورد الاجتماع وان كان
المانع من ناحية العبد موجودا في القسم الأول، فإنه لا قدرة له لو أراد الامتثال التام
باتيان المأمور به وترك المنهى عنه للتلازم بينهما في الوجود، فعدم جواز القسم الأول
لدى الاجتماعي انما هو للزوم التكليف بالمحال لا التكليف المحال بنفسه، بخلاف
16

القسمين الأخيرين فإنه يمكن للمكلف امتثال كلا التكليفين، فان صلى في غير
الغصب وترك الغصب أطاع الامر وامتثل النهى وان صلى فيه كان ذلك إطاعة
وعصيانا.
فعلم من ذلك أنه لا تعارض عندهم بين دليلي صل ولا تغصب حتى يخصص
أحدهما بالاخر أو يتساقطا فيرجع إلى الأصول بالعملية، وكذا لا تعارض بين قوله جئني
بحيوان ولا تجئ ببقر حتى يخصص الأول بالثاني لعدم اجتماعهما حقيقة في مورد
واحد.
واما الامتناعي فالقسم الأول عنده باطل من وجهين والقسم الثاني داخل في
المتعارضين والثالث في الجمع الدلالى.
17

الاجتهاد والتقليد
اما الاجتهاد: فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن
ملكة واستعداد.
والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها.
وتقييد الاحكام بالفرعية لاخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية
الاعتقادية، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد،
فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه
لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح.
وتقييد التحصيل بكونه عن ملكة لاخراج فعل من قد يتفق له استنباط حكم
فرعى مع عدم وجود الملكة له كما إذا تصدى من له حظ من علم اللغة لاستنباط حلية
البيع وحرمة الربا من قوله تعالى: " أحل الله البيع وحرم الربا " مع عدم قدرته على غير علم
اللغة من مقدمات الاستنباط; وأيضا لاخراج من له ملكة الاستنباط ولكنه لم يستنبط
شيئا من الاحكام فيشكل اطلاق اسم الفقيه والمجتهد عليه لظهور الأدلة في فعلية
الاستنباط والاستخراج.
ثم إنه يندرج في التعريف تحصيل العلم بالاحكام الفرعية، وكذا إقامة الدليل
18

والامارة الشرعية عليها، وكذا تحصيل الظن الانسدادي حكومة أو كشفا. ويندرج
أيضا فيه اجراء الأصول العملية الشرعية والعقلية، فإنها أمور ممهدة لرعاية حال
الأحكام الواقعية، معمول بها في سبيل اثباتها أو اسقاطها فهي أشبه شئ بحجج
منجزة أو معذرة.
ثم إن المجتهد اما أن يكون محصلا للحجة على معظم الاحكام عن ملكة استنباط
جميع ما يحتاج إليه ويسئل عنه. فيسمى مجتهدا مطلقا، واما ان يحصل الحجة على
البعض وله ملكه استنباط البعض دون بعض لتفاوت المدارك في السهولة والصعوبة
فهو يسمى مجتهدا متجزيا، لتجزئ الملكات في حقه، فالمتجزئ من له ملكة أو ملكات
قليلة والمطلق من له ملكات كثيرة، لا ان المتجزئ من له ملكة ضعيفة والمطلق من له
ملكة شديدة، فالتفاوت بالكمية لا بالكيفية.
ثم إن للعلماء (ره) في أصل امكان التجزؤ وفى جواز عمل المتجزئ بالحكم الذي
اجتهد فيه وفي جواز رجوع غيره إليه في ذلك أقوال مختلفة.
واما التقليد: فقد يعرف بأنه اخذ قول الغير للعمل به في الفرعيات والالتزام به
قلبا في الاعتقاديات تعبدا وبلا مطالبة دليل; فإذا افتى الفقيه بوجوب صلاة الجمعة أو
حرمة شرب العصير فالتزم به المقلد وبنى قلبا على العمل به من دون ان يطالبه بدليل
الحكم تحقق التقليد وصح ان يقال إنه قلدا الفقيه في هذه المسألة وإن لم يعمل به بعد،
وكذا إذا افتى المجتهد بان المعراج مثلا جسماني فتعلمه المقلد واعتقد به في قلبه تحقق
التقليد فيها.
وقد يعرف بأنه العمل استنادا إلى قول الغير وعليه لا يتحقق التقليد بمجرد تعلم
الحكم ما لم يعمل به.
ولا يخفى عليك ان المناسب للمورد من معانيه اللغوية معنيان:
الأول: كونه بمعنى جعل الشئ ذا قلادة ويتعدى حينئذ إلى مفعولين: أولهما:
الشئ الذي تجعل القلادة له وثانيهما الشئ المجعول قلادة، يقال قلد الهدى نعله أي
جعله قلادة له وقلدا العبد حبلا أي جعله قلادة على عنقه، فيكون معنى قلدت الفقيه
صلاتي وصومي وحجى جعلها على عنقه وألقيتها على عهدته; وهذا المعنى يقتضى كون
19

التقليد هو العمل فإنه ما دام لم يعمل لم يصدق انه قلده والقى العمل على رقبته.
الثاني: التبعية ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي يقال قلده في مشيه أي تبعه فيه
فيكون معنى قلدا الفقيه في وجوب الصلاة وحرمة الخمر اتبعه فيهما، وعلى هذا المعنى ان
أريد في باب التقليد من التبعية التبعية بحسب القلب والاعتقاد كان التقليد هو
الالتزام وان أريد بها التبعية بحسب العمل كان هو العمل عن استناد.
ثم إن كثرة استعمالهم التقليد متعديا بفي شاهدة على ارادتهم المعنى الثاني وان
كان أحدهما كناية عن الآخر.
تنبيه:
استدلوا على نفوذ الاجتهاد وحجية فتوى المجتهد، وعلى صحة تقليد الجاهل له
بأمور:
منها: آية النفر; قال الله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في
الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " فأوجب الله تعالى لطائفة التفقه
في الدين وهو يشتمل الاجتهاد وتحصيل الحجة على الاحكام كما يشمل نقل الرواية.
وطلب من آخرين الحذر العملي من اخبار المنذرين وهو يشمل التقليد كما يشمل
اخذ الرواية.
ومنها: قوله " عليه السلام " " يا ابان اجلس في المسجد وافت للناس فانى أحب ان يرى
في أصحابي مثلك ".
وليس الامر بافتائه الا لكونها حجة وقاطعا للعذر عن السامعين وكون العمل منهم
على طبقها مطلوبا.
ومنها: قوله في رواية أفيونس بن عبد الرحمان ثقة: " آخذ عنه معالم ديني؟ قال
(عليه السلام) نعم ". فاخذ معالم الدين يشمل التقليد وابلاغه وبيانه يشمل الافتاء.
ومنها: جريان السيرة العملية العقلائية على العمل بقول اهل الخبرة والاطلاع في
كل علم وفن بلا مطالبة دليل منهم.
20

الاجزاء
هو في اللغة بمعنى الكفاية، وفى الاصطلاح عبارة عن تأثير اتيان متعلق الامر في حصول
غرض الآمر لينتج سقوط الامر، وحيث انهم قسموا الامر إلى واقعي أولى وواقعي
ثانوي كالامر الاضطراري والى ظاهري، وقع البحث منهم في مواضع ثلاثة:
أولها: في اجزاء اتيان متعلق كل امر بالنسبة إلى نفس ذلك الامر فهل يجزى
اتيان المأمور به بالأمر الواقعي كصلاة الصبح مثلا في سقوط ذلك الامر واتيان المأمور
به بالأمر الاضطراري أو الظاهري كالصلاة بالتيمم أو مع استصحاب الطهارة في
سقوط امرهما أم لا، والمخالف في هذا المقام نادر والنزاع فيه لا يليق بحال العلماء، فإنه
لو أمر المولى بفعل واتى المكلف به بتمام ماله دخل في غرض المولى ومتعلق امره فلا
معنى لعدم سقوط غرضه وأمره.
ثانيها: في اجزاء اتيان المأمور به بالأمر الاضطراري ونحوه في سقوط الامر الواقعي
بان يقال إنه لو أتى الفاقد للماء صلاة بتيمم ثم وجد الماء في الوقت أو خارجه فهل
تجزى تلك الصلاة الاضطرارية عن الامر الواقعي فيسقط الإعادة والقضاء أم لا يجزى
فيجبان.
ثالثها: في اجزاء اتيان المأمور به بالأمر الظاهري في سقوط الامر الواقعي، فإذا
21

صلى باجراء أصالة الطهارة في ثوبه أو استصحابها مثلا ثم انكشف الخلاف في الوقت أو
خارجه فهل تجزى تلك الصلاة الظاهرية عن الواقع فلا يجب الإعادة والقضاء أم لا
فيجبان.
تنبيه:
استدلوا على اجزاء الأوامر الاضطرارية بالنسبة إلى الواقعية باطلاق مثل قوله
تعالى: " وإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا آه " وقوله " عليه السلام ": " التراب أحد
الطهورين ويكفيك عشر سنين " ونحوهما، فان ظاهرها كون العمل الاضطراري في
هذه الحالة مشتملا على جميع مصالح الاختياري أو معظمها في حال الاختيار، ولازمه
الاجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.
ولو لم يكن اطلاق لذلك الدليل فمقتضى أصالة البراءة (ح) عدم الوجوب فإنه
لشك في تجدد التكليف بعد رفع الاضطرار والأصل عدمه.
واستدلوا أيضا على اجزاء الامر الظاهري عن الواقعي بان مريد الصلاة مثلا إذا
شك في الطهارة فاجرى قاعدة الطهارة أو استصحابها كان الأصلان مثبتين للطهارة
حاكمين على اطلاق ما دل على أنه لا صلاة الا بطهور ولازم ذلك احراز الشرط واجزاء
العمل وهنا تفاصيل لا يناسب هذا المختصر ذكرها.
22

الاجماع
يطلق الاجماع تارة ويراد به اتفاق جميع علماء الاسلام أو التشيع حتى الامام
" عليه السلام " ولو في عصر واحد على امر من الأمور الدينية.
ويطلق أخرى ويراد به اتفاق عدة من العلماء فيهم الامام " عليه السلام " ولو كانوا
فئة قليلة.
ويطلق ثالثة ويراد به اتفاق الجميع غير الامام " عليه السلام " ولو في عصر واحد.
ويطلق رابعة على قول الإمام " عليه السلام " وحده.
اما القسم الأول والثاني: فيسمى كل منهما اجماعا دخوليا لدخول الامام في
المجمعين، فمتى حصل لاحد ذلك النحو من الاتفاق وعلم به كان حجة على اثبات
ذلك الامر المجمع عليه لاشتماله على ما هو من أعلى الحجج أعني قول المعصوم
" عليه السلام " ولكن الكلام في حصول العلم والاطلاع على ذلك، نعم قد يتصور القسم
الثاني بأنه لو ورد أحد من المؤمنين في مجلس أو مسجد فرأى عدة جالسة فسئلهم عن
حكم السورة في الصلاة مثلا فأفتوا جميعا بالوجوب ثم علم بعد ذلك أن الامام
" عليه السلام " كان داخلا فيهم وإن لم تحصل له المعرفة بشخصه فهذا الاتفاق اجماع
دخولي فممكن حصوله.
23

واما القسم الثالث: ففي حجيته بالنسبة إلى من حصله أو من نقل إليه اختلاف
بين الاعلام فقال عدة منهم بالحجية لاجل الملازمة بين اتفاقهم على حكم وقول الإمام
" عليه السلام " بقاعدة اللطف، بتقريب ان المجمعين لو أخطأوا في الحكم جميعا لوجب
على الامام " عليه السلام " عقلا من جهة وجوب اللطف عليه ان يردعهم عن خطائهم
بنحو من الانحاء، فحيث لم يردعهم فهم مع الحق والحق معهم، ويسمى هذا اجماعا
لطفيا والقائل به الشيخ وعدة آخرون.
وقال عدة أخرى بالحجية للملازمة بينهما بقاعدة التقرير بمعنى انهم لو أخطأوا
جميعا لوجب على الامام " عليه السلام " شرعا من باب ارشاد الجاهل تنبيههم على خطائهم
فحيث لم ينبههم عليه فهم على الحق; ويسمى هذا اجماعا تقريريا.
وذهب عدة ثالثة إلى انكار الملازمة بين قوله " عليه السلام " وقولهم; وقالوا انه انما
يكون حجة من جهة انه يحصل غالبا لمحصل هذا الاتفاق قطع أو اطمينان بتوافق
رأيهم مع رأي الامام " عليه السلام "، فإنه يبعد كل البعد ان يتلبس مثلا جميع جنود
سلطان بلباس مخصوص مع عدم اطلاع سلطانهم عليه وأمرهم به ويسمى هذا اجماعا
حدسيا.
وذهب عدة رابعة إلى عدم الملازمة وعدم حصول القطع بقول الامام " عليه السلام "
الا انهم قالوا بان اتفاقهم كاشف عن وجود دليل معتبر في البين فهو حجة من هذه
الجهة ويسمى هذا اجماعا كشفيا.
واما القسم الرابع: فقد يتفق فيما إذا وصل أوحدي من الناس في زمان الغيبة إلى
حضرة الامام " عليه السلام " وتشرف بخدمته واخذ منه " عليه السلام " حكما من الاحكام
ولا يريد إظهار الامر على الناس، فيقول هذا الحكم مما قام عليه الاجماع مريدا به
نفس الامام " عليه السلام " فإنه واحد كالكل ولا جله خلق البعض والكل فبهم فتح الله
وبهم يختم وهذا يسمى اجماعا تشرفيا.
تنبيهان:
الأول: قد عرفت أن الاجماع على أقسام ستة، دخولي ولطفي وتقريري وحدسي
24

وكشفي وتشرفي، ومتى حصل لاحد قسم من تلك الأقسام ونقله لغيره فهو بالنسبة إلى
من حصله وتحقق في حقه يسمى اجماعا محصلا، وبالنسبة إلى من نقل إليه اجماعا
منقولا.
الثاني: وجه حجية الاجماع لمحصله وللمنقول إليه هو قول الإمام " عليه السلام "
فالدخولي والتشرفي لا اشكال في حجيتهما للسامع إذ الناقل ينقل قول الإمام
" عليه السلام " بلا واسطة وان ضم إليه أقوال آخرين فهو خبر عالي السند.
واما أربعة الاخر فحجيتها في حق المنقول إليه منوطة باعتقاده اللطف والتقرير
والكشف أو بحدسه قول الإمام " عليه السلام " مثل الناقل بواسطة نقله وإلا فلا حجية
فيها.
25

أحوال اللفظ وتعارضها
اعلم أنه يعرض للفظ من ناحية الوضع والاستعمال حالات مختلفة وضعوا لكل منها
اسما خاصا وعنوانا معينا.
فبملاحظة حاله قبل الوضع مهمل.
وحاله بعده موضوع.
وبلحاظ كون معناه جزئيا متشخصا علم شخص، وكونه طبيعة كلية اسم
جنس، وبلحاظ وضعه لمعان مختلفة بأوضاع متعددة مشترك لفظي، ولمعنى قابل
للانطباق على كثيرين مشترك معنوي، وبلحاظ وضع ألفاظ متعددة لمعنى واحد
مترادف، وبلحاظ نقله عن معنى إلى آخر منقول، وبلحاظ استعماله في ما وضع له
حقيقة واستعماله في غير ما وضع له مجاز وبملاحظة كون اسناده إلى ما هو له حقيقة في
الاسناد، والى غير ما هو له مجاز في الاسناد، وبملاحظة حذف شئ وتقديره مجاز في
الحذف إلى غير ذلك من الحالات.
ثم إن علم الوضع وكيفية الاستعمال وانه وقع بنحو معين من تلك الانحاء فلا
كلام.
وان جهل الامر وتردد بين بعضها مع بعض اما من جهة الشك في كيفية الوضع
26

كأن شك في لفظ انه مشترك لفظي بين معنيين أو معان أو مشترك معنوي، أو من
جهة كيفية الاستعمال كأن شك في أنه مجاز في الكلمة أو في الاسناد.
فقد وضع الأصوليون لترجيح بعض الاحتمالات على بعض قواعد عقلية لا تسمن
ولا تغنى من جوع.
فحكموا مثلا بكون المجاز أرجح من الاشتراك اللفظي والمعنوي كالامر المستعمل
في الوجوب والندب، فإذا دار امره بين كونه حقيقة في الوجوب مجازا في الندب وبين
كونه مشتركا لفظيا بينهما أو معنويا قدم الأول لعدم حصول اجمال فيه على الأول دون
الأخيرين.
وحكموا أيضا بكون الاشتراك أرجح من النقل فالحكم بكون لفظ الصلاة مشتركا
بين الدعاء والأركان أرجح من الحكم بكونه منقولا إلى الثاني، لان النقل يقتضى
نسخ الوضع الأول والأصل عدمه.
وغير ذلك من الترجيحات والاستحسانات العقلية الباطلة في باب وضع
الألفاظ.
والحق انه كلما كان الشك راجعا إلى الوضع كانت الأصول العقلائية الجارية
هناك محكمة وسيأتي ذلك تحت عنوان الوضع.
وكلما شك في الاستعمال يرجع فيه إلى القرائن الشخصية أو النوعية ان كانت والا
فيحكم بالاجمال.
تنبيه:
أفردوا لبيان بعض حالات اللفظ في هذا العلم بابا مستقلا كالعموم والخصوص
والاطلاق والتقييد والظهور والاجمال ونحوها فراجع مظانها.
27

الإرادة
هذه الكلمة موضوعة لغة واصطلاحا لصفة خاصة من صفات النفس تتعلق بايجاد
فعل أو تركه، وتكون علة تامة لتحقق ذلك في الخارج.
ولهذه الصفة مقدمات تحصل في النفس قبل حصولها، كما أن لها معلول ومسبب
يوجد في الخارج بعد وجودها.
اما المقدمات:
فمنها: تصور فعل شئ أو تركه.
ومنها: الميل إليه المسمى بهيجان الرغبة.
ومنها: التصديق بحسنه وعدم البأس في صدوره بالتفكر في مصلحة الصدور ودفع
مفسدته.
ومنها: الجزم به والعزم عليه وهي الحالة الشبيهة بالإرادة المتصلة بها; وبعد كمال
تلك المقدمات يتكون في النفس شوق مؤكد يقتضى تحريك المريد نحو المراد أو مقدمته
ويكون موجبا لحركة العضلات إليه، ويسمى ذلك الشوق بالإرادة كما قال الحكيم
السبزواري: " عقيب داع دركنا الملائما شوقا مؤكدا إرادة سما ".
واما معلولها فقد علم أنه حركة عضلات المريد نحو المراد أو نحو مقدماته فيما كان
فعليا.
ثم انها تقسم بتقسيمات:
28

الأول: تقسيمها إلى الإرادة الفعلية والإرادة الاستقبالية.
فالأولى: هي التي تتعلق بامر حالي كما إذا أراد الانسان تحريك يده أو اكله
لشئ أو شربه بالفعل.
والثانية: هي التي تتعلق بامر استقبالي، كما إذا أراد الانسان الصوم في الغد أو
السفر بعد يوم أو شهر، وهذا تقسيم لها بالعرض والمجاز والا فهو في الحقيقة تقسيم
للمراد.
الثاني: تقسيمها إلى الإرادة الحقيقية والإرادة الانشائية وهذا التقسيم مبنى على
تخيل كون لفظ الإرادة مترادفا مع الطلب وحسبان ان لمعناهما مصداقين، مصداقا
حقيقيا هي الصفة النفسانية المذكورة آنفا، ومصداقا انشائيا هو الطلب الانشائي
والإرادة الانشائية وسيجئ الكلام فيه.
الثالث: تقسيمها إلى الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية.
فالأولى: إرادة الشخص صدور الفعل عنه بنفسه بلا تخلل إرادة غيره في صدوره;
كما في إرادة الله تعالى خلق العالم وايجاد الأرض والسماء، وكإرادتك أكلك وشربك
وصلاتك وصيامك، فيسمى هذا القسم بالإرادة التكوينية.
والثانية: إرادة الشخص صدور الفعل عن غيره بإرادته واختياره كما في إرادة الله
تعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وإرادتهم، لا مجرد حصولها
بأعضائهم وصدورها بأبدانهم بدون تخلل القصد منهم، وكما في إرادتك صدور الفعل
من ابنك وخادمك بلا اجبار منك والجاء، وتسمى هذه بالإرادة التشريعية.
تنبيهان:
الأول: ان تخلف إرادة الله تعالى عن مراده في الإرادة التكوينية مستحيل عقلا،
للزوم عجزه عن ايجاد مراده; تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، واما في التشريعية فليس
التخلف بمستحيل بل هو واقع كثيرا، فان موارد عصيان العباد وتركهم طاعة ربهم من
الايمان والعقائد القلبية والواجبات البدنية; من قبيل تخلف إرادة الله التشريعية عن
29

مراده ولا بأس بذلك.
الثاني: هل الطلب والامر لفظان موضوعان للمعنى الذي وضع له لفظ الإرادة
فالجميع ألفاظ مترادفة حاكية عن معنى واحد، أو هما موضوعان لمعنى آخر هو البعث
والتحريك نحو فعل أو ترك، سواء كان بعثا خارجيا كجر المأمور قسرا نحو المأمور به،
أو بعثا اعتباريا منشأ باللفظ كقوله اضرب أو اشرب، فهما في أنفسهما مترادفان
ومعناهما يباين معنى الإرادة إذا لبعث والتحريك الفعلي أو الانشائي غير الصفة
المتأصلة الحاصلة في النفس، وجهان اختار أولهما المحقق الخراساني لكن الأظهر هو
الثاني.
الرابع: تقسيمها إلى الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية.
فالأولى إرادة المتكلم استعمال اللفظ في المعنى، والثانية ارادته المعنى المستعمل
فيه اللفظ.
واعلم أنه ربما يعلم ان المتكلم استعمل اللفظ في معنى من المعاني ويشك في أنه
هل أراد المعنى المستعمل فيه حقيقة أم رتب عليه الحكم في الكلام ظاهرا فقط، فيقال
حينئذ ان الإرادة الاستعمالية محققة موجودة والإرادة الجدية مشكوكة بمعنى ان
استعمال اللفظ في المعنى ثابت وقصد المعنى مشكوك، فالمراد من الإرادة الاستعمالية
نفس استعمال اللفظ في معناه; فإذا ورد أكرم العلماء أو أعتق الرقبة نحكم باستعمال
كلمة العلماء في معناها الحقيقي أعني الاستغراق; والرقبة في الطبيعة لا بشرط السارية
في كل فرد.
ثم إذا شككنا في أنه هل أراد جميع الافراد جدا أم لم يرد الفساق من العلماء
والكافرة من الرقاب نقول إن الإرادة الجدية بالنسبة إلى العالم الفاسق والرقبة الكافرة
مشكوكة.
ثم إن للعقلاء في هذه الموارد أصلا كليا يعملون به، وهو بنائهم على تحقق الإرادة
الجدية في مورد الشك وتطابقها مع الاستعمالية، ويسميه الأصوليون بأصالة التطابق
بين الإرادتين وحيث إنه ينتزع من الإرادة الاستعمالية الحكم بمرتبته الانشائية ومن
الإرادة الجدية الحكم بمرتبة الفعلية والتنجز تكون نتيجة بنائهم على تحقق الإرادة
30

الجدية، البناء على فعلية الحكم والعمل عليه.
ثم إنه لو ظهر بعد ذلك وجود الإرادة بنحو القطع يعلم بكون الحكم باكرام
الفساق مثلا حكما فعليا واقعيا; ولو ظهر عدمها كما لو فرض الظفر بمخصص ينكشف
كون الحكم بوجوب اكرام الفساق حكما انشائيا محضا.
ثم إن هذا كله لو قلنا بان تخصيص العام وتقييد المطلق لا يخرجهما عن حقيقتهما،
بل التخصيص مثلا تصرف في الإرادة لا في الاستعمال، واما على مبنى المشهور
فالتلازم بين الإرادتين ثابت، فإذا ظهر تخصيص فرد فكما يحصل العلم بعدم تعلق
الإرادة الجدية له يحصل العلم بعدم الاستعمال أيضا، ولو شك في التخصيص شك في
الإرادتين، وأهل هذا المبنى أيضا يدعون أن هنا أصلا عقلائيا هو بنائهم على استعماله
في العموم وإرادته، ويسمونه بأصالة العموم وهي من مصاديق أصالة الحقيقة كما
سيجئ تحت عنوان الأصل.
31

الاستحسان
هو رجحان ينقدح في نفس الفقيه بالنسبة إلى حكم خاص لموضوع خاص بسبب كثرة
ملاحظة احكام الشرع في الموارد المناسبة لهذا الموضوع بلا ورود دليل عليه
بالخصوص، كرجحان حرمة التكلم مع المرأة الأجنبية أو حرمة تخيل صورتها في نظره
بواسطة ملاحظة حال النظر واللمس والتقبيل ونحوها، وصورة قياسه ان يقال حرمة
التكلم والتخيل مثلا مما يترجح في النظر لمناسبتهما لموارد حكم الشرع وكلما ترجح في
النظر لذلك فهو حكم الله فحرمة التكلم والتخيل حكم الله تعالى; ثم إنه لا اشكال
في بطلان الاستحسان عندنا كالقياس المستنبط علته.
32

الاستصحاب
هو حكم المكلف ببقاء شئ وترتيبه آثار البقاء فيما كان متيقنا ثبوتا ومشكوكا
بقاء، فله موضوع ومحمول، موضوعه المتيقن ثبوته والمشكوك بقائه ومحموله الحكم
بالبقاء بترتيب آثار بقائه في حال الشك، وعليه تكون حقيقة الاستصحاب هو فعل
المكلف.
وعرفه في الكفاية بأنه حكم الشارع بلزوم ابقاء الشئ وترتيب آثار بقائه لدى
الشك فيه فتكون حقيقته عنده هو حكم الشارع وتعريف الشيخ (ره) له بأنه ابقاء ما
كان يرجع إلى أحد التعريفين السابقين.
واطلاق الحجة عليه على التعريف الأول بمعنى كونه واجبا لازما وعلى الثاني بمعنى
كونه ثابتا منكشفا بالأدلة.
ثم إن الدليل عليه عند عدة من الأصحاب اخبار مستفيضة.
منها: قوله " عليه السلام ": " لا تنقض اليقين بالشك ".
ومنها: قوله: " من كان على يقين فشك فليبن على يقينه ". وعند عدة أخرى بناء
العقلاء وعند طائفة حكم العقل بذلك. وعند آخرين الظن بالبقاء ولو نوعا مع
حكمهم بحجية ذلك الظن.
33

تنبيه: اعلم أن للاستصحاب تقسيمات باعتبار نفس الشئ المستصحب وتقسيما
باعتبار الدليل الدال على ثبوت المستصحب سابقا وتقسيمات أيضا باعتبار الشك
الطارئ في بقاء المستصحب اما تقسيماته بالاعتبار الأول فهي كثيرة:
منها: تقسيمه إلى الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي كاستصحاب
وجوب الجمعة وحياة زيد واستصحاب عدم وجوب الظهر وعدم كرية الماء.
ومنها: تقسيمه إلى الاستصحاب الحكمي والاستصحاب الموضوعي، والأول نظير
استصحاب حلية العصير بعد غليانه والثاني كاستصحاب حياة زيد وكرية الماء.
ومنها: تقسيمه إلى استصحاب الحكم التكليفي والحكم الوضعي، والأول
كاستصحاب الوجوب والحرمة، والثاني كاستصحاب الطهارة والنجاسة والملكية
والزوجية.
ومنها: تقسيمه إلى الاستصحاب التعليقي والاستصحاب التنجيزي.
والأول: ما كان المستصحب فيه حكما تعليقيا كما إذا ورد يحرم العنب إذا غلى و
استفدنا منه للعنب حكما تحريميا تعليقيا معلقا على الغليان فإذا بقي العنب مدة وصار
زبيبا وشككنا في بقاء حرمته التعليقية وعدمه كان الاستصحاب الجاري في حرمته
استصحابا تعليقيا لكون المستصحب ومورد جريانه تعليقيا.
والثاني: ما كان المستصحب فيه حكما تنجيزيا كاستصحاب حلية اكل العنب
بعد صيرورته زبيبا وطهارته وملكيته لمالكه ونحوها.
ومنها: تقسيمه إلى استصحاب الجزئي والكلى، وتقسيم الكلى إلى القسم الأول
والقسم الثاني والقسم الثالث، وتقسيم القسم الثالث أيضا إلى أقسام ثلاثة.
بيانه ان المستصحب تارة يكون امرا جزئيا كحيوة زيد وكرية ماء معين فيسمى
ذلك باستصحاب الجزئي وأخرى يكون كليا وهو على أقسام ثلاثة.
الأول: أن يكون المستصحب كليا مع كون منشأ الشك في بقائه بقاء الفرد الذي
تحقق في ضمنه، فإذا علمنا بوجود زيد في الدار وتحقق كلى الانسان في ضمنه ثم
شككنا في بقاء الانسان فيها لاجل الشك في بقاء زيد، وفرضنا ان الشارع قال إذا
كان زيد في الدار تصدق بدرهم وإذا كان الانسان فيه تصدق بدينار، كان اجراء
34

الاستصحاب في بقاء زيد لترتيب اثره من استصحاب الجزئي واجرائه في بقاء
الانسان لترتيب اثره من استصحاب الكلى بنحو القسم الأول.
الثاني: أن يكون المستصحب كليا أيضا مع كون منشأ الشك في بقائه تردد
الخاص الذي تحقق الكلى في ضمنه بين فرد مقطوع البقاء وفرد مقطوع الارتفاع، مثلا
إذا حصل لنا العلم بدخول حيوان إلى الدار وشككنا في أنه بق أو فيل مع فرض ان
البق لا يعيش أزيد من ثلاثة أيام; ثم شككنا في اليوم الرابع والخامس مثلا في بقاء
الحيوان في الدار وعدمه لاجل الشك في أنه هل كان متحققا في ضمن البق حتى
لا يكون باقيا أو كان متحققا في ضمن الفيل حتى يكون باقيا، فحينئذ ان أردنا اجراء
الاستصحاب في خصوص البق فهو على فرض جريانه من استصحاب الجزئي وان
أردنا اجرائه في الحيوان الكلى وترتيب آثاره سمى ذلك باستصحاب الكلى بنحو
القسم الثاني.
الثالث: أن يكون المستصحب كليا أيضا مع كون منشأ الشك وجود فرد
آخر مقارن لوجود الفرد الزائل أو تحققه مقارنا لارتفاعه أو احتمال تبدل الفرد الأول
بفرد آخر فهنا صور ثلاث يسمى جميعها باستصحاب الكلى بنحو القسم الثالث.
الصورة الأولى: ان يعلم بارتفاع الفرد الذي كان الكلى متحققا في ضمنه ويشك
في بقاء الكلى لاحتمال وجود فرد آخر مع الفرد الزائل، مثالها ما إذا رأينا زيدا انه
دخل الدار فحصل لنا العلم بوجود الانسان فيها ثم رأيناه قد خرج عن الدار وذهب
بسبيله، فشككنا في وجود الانسان فيها بالفعل من جهة احتمال كون عمرو فيها
معه، فاستصحاب الانسان الكلى في هذا المثال يسمى باستصحاب الكلى بنحو القسم
الأول من القسم الثالث.
الصورة الثانية: ان يعلم أيضا بارتفاع الفرد المعلوم و يشك في بقاء الكلى لاجل
احتمال حدوث فرد مقارنا لارتفاع الأول، كما إذا علمنا في المثال بأنه لم يكن أحد في
الدار غير زيد الا انا شككنا أيضا في وجود الانسان في الدار بعد خروجه لاحتمال
دخول عمر وإلى الدار مقارنا لخروج زيد، ويسمى هذا باستصحاب الكلى بنحو
القسم الثاني من القسم الثالث.
35

الصورة الثالثة: ان يشك في بقاء الكلى في مورد لاجل الشك في أن الفرد الذي
كان الكلى متحققا في ضمنه هل تبدل بفرد آخر أو انه انعدم من غير تبدل، كما إذا
رأينا الخمر في الاناء فعلمنا بوجود المايع فيه ثم حصل لنا العلم بعدم وجود الفرد الذي
تحقق الكلى في ضمنه أعني الخمر اما لاتفاق اراقته أو تبدله بالخل فشككنا في بقاء
الكلى أعني المايع في الاناء فاجراء الاستصحاب في بقاء المايع الكلى في الاناء يسمى
باستصحاب الكلى بنحو القسم الثالث من القسم الثالث.
ومنها: تقسيمه إلى الاستصحاب المثبت وغير المثبت، وسيأتي شرحهما تحت عنوان
الأصل.
واما تقسيمه بالاعتبار الثاني: أعني باعتبار الدليل فهو ان الدليل الدال على
ثبوت المستصحب في السابق اما أن يكون دليلا شرعيا لفظيا كظاهر الكتاب والسنة
أو يكون اجماعا قوليا أو عمليا أو يكون حكم العقل.
فالأول: مثل ما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره أو في طهارة
الماء الذي شككنا في ملاقاته للنجس، فدليل الثبوت في السابق فيها قوله الماء ينجس
إذا تغير وقوله الماء كله طاهر.
والثاني: كما إذا قام الاجماع على نجاسة العصير العنبي ثم شككنا في بقائها بعد
صيرورته دبسا قبل ذهاب الثلثين.
والثالث: كما إذا حكم العقل بوجوب رد الوديعة في حال كون الودعي موسرا
متمولا وفرضنا حكم الشارع أيضا على طبقه بقاعدة الملازمة ثم عرض للودعي الفقر
الموجب لحصول الشك في وجوب ردها فنجري استصحاب الوجوب الشرعي المستنبط
من الحكم العقلي.
واما تقسيماته بالاعتبار الثالث: أعني الشك المأخوذ في موضوعه، فهي أيضا
كثيرة.
أولها: تقسيمه إلى الاستصحاب في الشبهة الموضوعية والاستصحاب في الشبهة
الحكمية.
فالموضوعية ما كان الشك في بقاء الشئ لاجل اشتباه الأمور الخارجية كما إذا
36

شك في بقاء طهارة ثوب من جهة الشك في ملاقاته للنجس وعدمها أو في بقاء نجاسة
الماء من جهة ورود الكر عليه وعدمه.
والحكمية ما إذا كان الشك في بقاء الحكم لاجل عدم النص على البقاء أو اجماله
أو تعارضه مع مثله، كما إذا شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره لاجل
عدم الدليل على البقاء; وفى بقاء وجوب الصوم بعد استتار القرص وقبل ذهاب
الحمرة المشرقية لاجل اجمال قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل وتردد الليل بين أن يكون
أو له الاستتار أو ذهاب الحمرة; وشككنا في بقاء وجوب الجمعة وعدمه في
زمان الغيبة لاجل تعارض النصوص، وتسمى هذه الأقسام الثلاثة بالشبهة الحكمية.
ثانيها: تقسيمه إلى الاستصحاب في صورة الظن بالبقاء والظن بالارتفاع والشك
المتساوي في البقاء والارتفاع; فإذا علمنا بحيوة زيد يوم الخميس وحصل لنا التردد يوم
الجمعة فقد يكون بقائها راجحا مظنونا وقد يكون مرجوحا مظنون الارتفاع وقد يكون
مشكوكا بلا رجحان في البين، فبناء على حجية الاستصحاب من جهة الاخبار جاز
اجرائه في الصور الثلاث; وبناء على حجيته من جهة الظن الشخصي جاز في الصورة
الأولى فقط; وبناء على الظن النوعي أو بناء العقلاء فجريانه في الصورة الأولى
والأخيرة بلا اشكال وفي الصورة الثانية مورد كلام واشكال.
ثالثها: تقسيمه إلى استصحاب في الشك في المقتضى والشك في الرافع وتقسيم
الشك في الرافع إلى أقسام، اما الشك في المقتضى فهو ما إذا كان الشك في البقاء
لاجل الشك في مقدار استعداد الشئ للبقاء وكمية اقتضائه له، كما إذا علمنا بثبوت
خيار الغبن للمغبون وشككنا في أنه فورى وزمانه قصير أو هو باق وزمانه طويل.
واما الشك في الرافع فهو عبارة عن الشك في البقاء بعد احراز استعداد الشئ
للدوام واقتضاء ذاته للبقاء والاستمرار فيكون الشك في حدوث رافع له عن صفحة
الوجود ويتصور هذا على انحاء.
أولها: الشك في وجود الرافع كما إذا شك المتطهر من الحدث في خروج البول منه
أو عروض النوم عليه.
ثانيها: الشك في رافعية الموجود من جهة كون المتيقن السابق مرددا بين شيئين
37

كما إذ علم المكلف باشتغال ذمته يوم الجمعة بصلاة ولم يعلم بكونها الظهر أو الجمعة;
فإذا أتى بصلاة الجمعة مثلا فإنه يشك في رافعيتها لاشتغال الذمة; فإنه لو كان
الاشتغال بصلاة الظهر فهو باق ولو كان بالجمعة فهو مرتفع، فاستصحاب بقاء
الاشتغال في المثال لاجل الشك في رافعية الموجود.
ثالثها: الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في وجود صفة الرافعية فيه كما إذا
خرج المذي من المتطهر فشك في أنه رافع كالبول أم لا.
رابعها: الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في أنه مصداق للرافع المعلوم
المفهوم كما إذا خرج عنه البلل وشك في أنه بول أم لا.
خامسها: الشك في رافعية الموجود من جهة الشك في أنه مصداق للرافع المجهول
المفهوم كما إذا علم بكون البلل مذيا وشك في مفهوم البول وانه خصوص ما
هو المعروف أو انه أعم منه ومن المذي.
38

الاستقراء
قيل هو عبارة عن تصفح الجزئيات لاثبات الحكم الكلى والتام منه يفيد القطع
كما إذا تصفحنا جميع ما وصلنا إليه من افراد الحيوان فوجدناه جسما فحكمنا بان كل
حيوان جسم، والناقص منه يفيد الظن سواء أحصل من تتبع قليل الافراد أم كثيرها.
فالأول: كما إذا رأينا واحدا من اهل بلد يتكلم بكلام مخصوص أو يلبس لباسا
مخصوصا ثم رأينا الثاني والثالث إلى خمسين مثلا حصل الظن بان من هو ساكن هناك
حاله كذا.
والثاني: كما إذا رأينا أكثرهم على ذلك المنوال، والاستقراء أعم من الغلبة
عموما مطلقا فإنه يحصل بقليل الافراد دون الغلبة وكلاهما يشتركان في أن النظر فيهما
إلى اثبات الحكم الكلى من تصفح حال الجزئي; ثم الاستقراء أيضا ليس بحجة عندنا
ما لم يفد العلم.
39

الاستقلالي والآلي
يطلق هذان الوصفان غالبا على المعنى الملحوظ عند استعمال اللفظ فالمعنى
الملحوظ بما هو آلة وحالة للغير معنى آلى، والمعنى الملحوظ بنفسه بما هو هو معنى
استقلالي، والكلام في هذين العنوانين وقع في الأصول في موارد:
منها: معاني الحروف والأسماء فقيل ان معاني الحروف آلية ومعاني الأسماء
استقلالية لا بمعنى انها غير ملتفت إليها أصلا بل بمعنى توجه الذهن إليها ولحاظها حالة
للغير توضيح ذلك انك إذا قلت سرت من البصرة إلى الكوفة فكلامك هذا مركب من
أربعة أسماء وثلاثة حروف; اما الأسماء فمادة سرت وضمير المتكلم وكلمتا البصرة
والكوفة واما الحروف فهيئة الفعل وكلمتا من والى; فألفاظ ذلك الكلام سبعة كما أن
معانيه أيضا سبعة، أربعة معان مستقلة باللحاظ وثلثة منها غير مستقلة اما المستقلة فهي
السير والمتكلم والبصرة والكوفة، واما غير المستقلة فهي حالات السير الموجود في
الخارج وصفاته، أحدها ارتباطه بالمتكلم بصدوره عنه; ثانيها كون مبدئه البصرة،
ثالثها كون منتهاه الكوفة، ولا اشكال في أن المتكلم لاحظ في مقام الاستعمال
الألفاظ السبعة والمعاني السبعة فاستعملها فيها لتفهيم المخاطب، فمراده من هيئة الفعل
أعني سرت بيان ارتباط السير بالمتكلم بنحو الصدور ومن كلمة من بيان حال مبدئه
40

ومن كلمة إلى بيان حال منتهاه، فالمعاني الحرفية ملحوظة حالة للغير.
ومنها: ما ذكروه في مقام الفرق بين القطع الطريقي والموضوعي بالنسبة إلى بعض
الألفاظ كالعلم والقطع والإرادة والقصد ونحوها، فإنها قد تلاحظ آلية وقد تلاحظ
استقلالية; فربما يقول المولى إذا علمت بورود زيد إلى بلدك فزره فيريد ترتيب حكم
الزيارة على نفس المجئ والورود لا على العلم به، فالمقصود إذا ورد بلدك فزره;
وحيث إن انكشاف الورود وثبوته لا يكون الا بالعلم أطلق اسم الكاشف وأريد
المنكشف كناية. وهذا هو العلم الذي يسمى في باب القطع بالقطع الطريقي.
وربما يقول إذا علمت بأنك تسافر فصل ركعتين أو تصدق على فقير، أو يقول إذا
أردت الأكل فقل بسم الله، أو يقول إذا قطعت بكون مايع عصيرا حرم عليك شربه،
ويريد ترتيب تلك الأحكام على صفة العلم والإرادة فيقال (ح) ان تلك العناوين
لوحظت استقلالية، ويسمى هذا القطع في بابه بالقطع الموضوعي.
ومنها: ما ذكروه في باب الاستصحاب بالنسبة إلى كلمة اليقين من كون اليقين
الوارد في اخبار ذلك الباب ملحوظا بنحو الالية لا الاستقلالية كقوله " عليه السلام ":
" لا تنقض اليقين بالشك " فمن شك في بقاء حياة زيد مثلا يكون المراد من اسناد
حرمة النقض ووجوب الابقاء إلى يقينه اسنادهما إلى متيقنه كحيوة زيد فكأنه قال لا
تنقض حياة زيد بالشك فمن شدة الارتباط بين اليقين والمتيقن أطلق اليقين وأريد به
المتيقن كناية ولذلك أيضا أسند آثاره إليه وأريد من حرمة نقض آثار اليقين
ووجوب ترتيب احكامه، حرمة نقض آثار المتيقن كحيوة زيد وكرية الماء مثلا.
41

أصالة الاحتياط
ويعبر عنها بأصالة الاشتغال ومجراها في الأغلب الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي.
وهي على قسمين: أصالة الاحتياط العقلية وأصالة الاحتياط الشرعية.
فالأولى: عبارة عن حكم العقل بلزوم اتيان فعل يحتمل الضرر الأخروي في تركه
ولزوم ترك فعل يحتمل الضرر الأخروي في فعله، فهي حكم عقلي كلى له موضوع
ومحمول موضوعه الشئ المحتمل فيه لضرر الأخروي من فعل أو ترك ومحموله لزوم
الاجتناب عنه عقلا، فإذا علمنا بوجوب صلاة يوم الجمعة قبل صلاة العصر وشككنا
في أنها الظهر أو الجمعة فترك كل واحدة منهما مما يحتمل فيه الضرر الأخروي فالعقل
يحكم بلزوم اتيان كلتيهما احتياطا، وكذا إذا علمنا بتحريم الشارع مايعا معينا وشككنا
في أنه الخمر أو العصير العنبي ففعل كل منهما يحتمل فيه الضرر الأخروي فيحكم
العقل بلزوم ترك كليهما احتياطا.
والثانية: عبارة عن حكم الشارع بلزوم اتيان ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل
حرمته، فموضوعها مشكوك الوجوب والحرمة ومحمولها وجوب الفعل أو الترك شرعا.
ثم إن أصالة الاحتياط أيضا تنقسم إلى شبهة وجوبية وتحريمية حكمية وموضوعية.
اما الشبهة الوجوبية فكالشك في أن الواجب هذا أو ذاك.
42

فتارة يكون منشأ الشك فيها عدم النص على تعيين أحدهما بعد قيام الدليل على
وجوب أحدهما بنحو الاجمال.
وأخرى يكون المنشأ هو اجمال النص كقوله تعالى: " حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى " وكانت الوسطى مرددة بين الصبح والظهر.
وثالثة: يكون المنشأ تعارض النصين أو النصوص على التعيين كمسألة الظهر
والجمعة.
ورابعة: يكون اشتباه المصداق والموضوع كما إذا حصل الشك في أن العالم
الواجب اكرامه هذا أو ذاك أو انه نذر الاطعام أو الصيام والأمثلة الثلثة الأول شبهة
وجوبية حكمية والأخير وجوبية موضوعية.
واما الشبهة التحريمية: ففيها أيضا تارة يكون منشأ الشك عدم الدليل على تعيين
الحرام.
وأخرى يكون المنشأ اجمال النص الدال عليه.
وثالثة تعارض النصوص.
ورابعة اشتباه الأمور الخارجية أعني اشتباه المصداق لاجلها كما إذا لم يعلم ان
الخمر هل هو في هذا الاناء أو ذاك. ثلثة منها شبهة حكمية وواحد موضوعية.
تنبيهات:
الأول: قسم الشيخ الأعظم (قده) مجرى أصالة الاحتياط بتقسيم آخر مغاير لم ذكرنا
وحاصله: انا إذا علمنا بنوع التكليف من وجوب وحرمة وشككنا في متعلقه وانه هذا
الفعل أو ذاك، فتارة يدور الامر بين الواجب وغير الحرام كما إذا شككنا في أن الواجب
يوم الجمعة هل هو صلاة الظهر أو الجمعة فكل من الصلاتين يدور امرها بين الوجوب
وغير الحرمة من الاحكام الثلاثة الباقية وأخرى بين الحرام وغير الواجب كما إذا علمنا
حرمة أحد الإنائين فان كلا منهما يدور امره بين الحرمة وغير الوجوب من تلك الأحكام
. وثالثة بين الحرام والواجب.
43

ويسمى القسم الأول بالشبهة الوجوبية للاحتياط، والثاني بالشبهة التحريمية،
والثالث داخل في مسألة التخيير.
ثم إن في كل واحد من الأقسام الثلاثة اما أن يكون منشأ الشك عدم النص أو
اجماله أو تعارضه أو اشتباه المصداق والموضوع فالأقسام فيها ترتقى إلى اثنى عشر قسما
ثمانية منها داخلة تحت مسائل الاحتياط وأربعة في مسائل التخيير كما سيجئ.
الثاني: مجرى أصالة الاحتياط لا ينحصر في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي كما
يظهر من تقسيم الشيخ قدس سره، بل قد تجرى في الشبهة البدوية أيضا كما إذا كان
التكليف المشكوك مهما، فإذا أراد رمى شبح من بعيد ولم يعلم انه انسان أو حجر
مثلا لزم الاحتياط على المشهور وكذا في كل ما شك في وجوبه أو حرمته بالشبهة
الحكمية وكان قبل الفحص وكذا إذا شك المكلف في اتيانه بالواجب الموقت قبل
انقضاء وقته وغير ذلك من الموارد.
الثالث: الدليل على أصالة الاحتياط العقلي هو احتمال الضرر الأخروي أو
الضرر المهم، فالعقل حاكم بلزوم الاجتناب عن كل ما احتمل فيه الضرر الأخروي
موهوما كان ذلك الضرر أو مشكوكا أو مظنونا كما أن العقل حاكم بلزوم ترك
مقطوعه فهذه قاعدة كلية عقلية، ولزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي انما هو من
جهة ان كل فرد من الأطراف داخل تحت هذه الكلية وكذا بعض الشبهات البدوية
كما ذكرنا فإذا علمت بخمرية أحد الإنائين أشرت إلى واحد منهما وقلت هذا مما
احتمل فيه الضرر الأخروي وكل ما احتمل فيه الضرر الأخروي يجب الاجتناب عنه
فهذا يجب الاجتناب عنه.
فان قلت: ما الفرق بين كل واحد من الإنائين في هذا المثال والاناء المحتمل
الحرمة في الشبهة البدوية حيث حكموا في الأول بالاحتياط وفى الثاني بالبراءة مع أن
احتمال الحرمة في الكل مستلزم لاحتمال العقاب الأخروي قلت: الفرق هو ان العلم
الاجمالي في الأول حجة على المكلف منجز للواقع، فالمحتمل في كل طرف هو
التكليف المنجز واحتماله مستلزم لاحتمال الضرر الأخروي فيجب تركه، وهذا
بخلاف الشبهة البدوية التي لا علم فيها بالتكليف ومعه لا يكون منجز أو يقبح العقاب
44

عليه فالمحتمل فيه تكليف غير منجز والعقاب فيه مأمون منه.
واما الاحتياط النقلي فقد استدل عليه بعدة اخبار.
منها: اخبار التوقف كقوله " صلى الله عليه وآله ": " قفوا عند الشبهة " وقوله
" عليه السلام ": " الوقوف عند الشبهة خير عن الاقتحام في الهلكة " فيجب الوقوف عملا
والاحتياط في كل محتمل التحريم من فعل أو ترك.
ومنها: قوله " عليه السلام ": " إذا خفت ضلالة فان الكف عنده خير من ركوب
الأهوال. "
ومنها: قوله " عليه السلام ": " وأمر اختلف فيه فرده إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وآله
وسلم ".
ومنها: قوله " عليه السلام ": " ومن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث
لا يعلم ".
الرابع: الظاهر أن أكثر علمائنا الأخباريين (قدهم) قائلون بالاحتياط النقلي فقط
في موارد العلم الاجمالي بمقتضى الاخبار المتقدمة، وبعضهم قائل بالشرعي والعقلي
كليهما، واما الأصوليون قدس الله اسرارهم فمنهم من قال بالاحتياط العقلي فقط وحمل
الاخبار السابقة على الارشاد إلى حكم العقل أو على الاستحباب أو على الاحتياط في
المسائل الاعتقادية، ومنهم من قال بكلا قسمي الاحتياط العقلي منه والنقلي فراجع.
45

أصالة البراءة
هي على قسمين: أصالة البراءة العقلية وأصالة البراءة الشرعية.
فالأولى: عبارة عن حكم العقل بعدم استحقاق العقوبة على ما شك في حكمه ولم
يكن عليه دليل، فأصالة البراءة العقلية قاعدة كلية عقلية لها موضوع ومحمول;
موضوعها الفعل المشكوك الذي لا بيان على حكمه من الشارع ومحمولها الحكم بعدم
العقوبة عليه وعدم حرمته بالفعل، فإذا شك المكلف في حرمة العصير التمري مثلا بعد
غليانه فتفحص ولم يجد دليلا على حرمته تحقق موضوع البراءة العقلية، فيحكم عقله
بعدم استحقاق العقاب على شربه، وكذا إذا شك في وجوب الصوم أول كل شهر ولم
يجد بيانا على الوجوب حكم عقله بعدمه.
والثانية: عبارة عن حكم الشارع بعدم التكليف الفعلي أو بالإباحة والرخصة في
فعل أو ترك شك في حكمهما الواقعي، فموضوعها العمل المشكوك حكمه واقعا ومحمولها
الإباحة والرخصة، فإذا شك في حرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال
ولم يوجد دليل على حرمة الأول ووجوب الثاني حكم الشارع بالإباحة فيهما.
ثم إن مسألة أصالة البراءة مطلقا تنقسم إلى مسائل ثمان، فإنه اما أن يكون
الشك في وجوب شئ أو يكون في حرمته، والأول يسمى بالشبهة الوجوبية للبراءة
46

والثاني بالتحريمية لها وعلى كل تقدير اما أن يكون الشك في الحكم الكلى للموضوع
الكلى أو في الحكم الجزئي للموضوع الجزئي، وعلى الأول اما أن يكون منشأ الشك هو
عدم وجود دليل في المورد أو يكون اجمال الدليل الوارد أو يكون تعارضه مع آخر، كما أنه
على الثاني يكون منشأ الشك اشتباه الأمور الخارجية.
فالشبهة الوجوبية لها مسائل أربع:
الأولى: ان يشك في الوجوب الكلى وكان منشأ الشك هو عدم الدليل كالشك في
وجوب الاطعام في أول كل شهر مثلا.
الثانية: ان يشك في الوجوب الكلى من جهة اجمال النص كما إذا ورد اغتسل
للجمعة وشككنا في أن هيئة الامر تدل على الوجوب أو على استحباب.
الثالثة: ان يشك في الوجوب الكلى من جهة تعارض الدليلين كما إذا ورد صل في
أول كل شهر الصلاة الفلانية وورد أيضا لا تصلها، فإذا تعارض الدليلان فتساويا
فتساقطا رجعنا إلى أصالة البراءة وهذه الأقسام الثلاثة تسمى بالشبهة الحكمية، لان
الشك فيها انما هو في حكم الشارع دون موضوعه، ورفع الشك وكشف الحجاب عن
الواقع فيها يتوقف على بيان الشارع ولا يمكن الا من قبله.
الرابعة: الشك في الوجوب الجزئي كما إذا شك في وجوب اكرام هذا الشخص
وعدم وجوبه من جهة الشك في أنه عالم أو ليس بعالم ويسمى هذا القسم بالشبهة
الموضوعية تارة والمصداقية أخرى، لان المفروض العلم بان كل عالم يجب اكرامه وانما
الشك في أن هذا عالم أو ليس بعالم فالشبهة في المصداق والموضوع وفى الحكم الجزئي
دون الكلى.
والشبهة التحريمية أيضا تنقسم إلى مسائل أربع، مثل ما إذا شككنا في حرمة
الفقاع من جهة عدم الدليل أو اجماله أو تعارضه وهذه أقسام الشبهة الحكمية التحريمية،
أو شككنا في أن هذا المايع فقاع أم لامع العلم بان كل فقاع حرام، وهذه هي الشبهة
الموضوعية التحريمية منشأ الشك فيه اشتباه الأمور الخارجية.
47

تنبيهات:
الأول: انهم ذكروا ان الدليل على البراءة العقلية هي قاعدة قبح العقاب
بلا بيان; بتقريب ان العقل حاكم بالاستقلال بأنه لو التفت عبد إلى حكم فعل من
أفعاله وشك في وجوبه الواقعي وعدم وجوبه أو في حرمته وعدمها وتتبع وتفحص بقدر
الوسع والامكان فلم يجد دليلا على الحكم فترك مشكوك الوجوب وفعل مشكوك
الحرمة كان عقاب المولى ومؤاخذته عليه قبيحا، وهذا ما هو المشهور من أن دليل
الأصل العقلي هو قبح عقاب الحكيم بلا بيان ومؤاخذته بلا برهان.
والدليل على البراءة الشرعية:
أولا ظاهر الكتاب كقوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " والمعنى ما
كان عادتنا سابقا ولا حقا ان نعذب أحد على ترك واجب وفعل حرام حتى نبين
حكمهما فبعث الرسول كناية عن بيان حكم الأفعال.
وقوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا الا وسعها " بناء على أن المراد الوسع العلمي.
" ولا يكلف الله نفسا الا ما آتاها " بناء على أن الايتاء الاعلام.
وثانيا الاخبار، فمنها: قوله " صلى الله عليه وآله " في حديث الرفع: " رفع عن
أمتي ما لا يعلمون " فان الايجاب والتحريم المجهولين من قبيل ما لا يعلم فيكونان
مرفوعين.
ومنها قوله " عليه السلام " في حديث الحجب: " ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم ".
ومنها قوله " عليه السلام ": " الناس في سعة ما لا يعلمون " أي انهم من ناحية
مجهولاتهم في سعة لا يؤاخذون عليها ولا يعاقبون.
ومنها قوله " عليه السلام ": " كل شئ لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه " أي
كل مشكوك الحرمة والحلية في الواقع فهو لك حلال ظاهرا وهو معنى البراءة.
ومنها قوله " عليه السلام ": " كل شئ لك مطلق حتى يرد فيه نهى " أي كل فعل
أنت مرخص فيه حتى يصل إليك حرمته.
48

الثاني: أدلة البراءة الشرعية من حيث عمومها للشبهة الوجوبية والتحريمية مختلفة
فالاجماع والكتاب وأكثر الاخبار تشمل الشبهتين جميعا، والروايتان الأخيرتان لا
تدلان الا على البراءة في الشبهات التحريمية فقط.
الثالث: اختلف أقوال الأصحاب (قدس سرهم) في القول بالبراءة فالمشهور من
الأصوليين القول بها مطلقا عقليها ونقليها في الوجوبية والتحريمية، وفصل بعض المحققين
منهم في البراءة العقلية بين الشبهات الحكمية والموضوعية فقال بالجريان في الأولى دون
الثانية.
ومعظم الأخباريين منعوا البراءة العقلية مطلقا وعزلوا العقل عن الحكم في هذا
المضمار وأجروا البراءة النقلية في خصوص الشبهة الوجوبية فهم في الوجوبية قائلون
بالبراءة ومشكوك الوجوب عندهم مباح وفى التحريمية قائلون بالاحتياط ومشكوك
الحرمة عندهم حرام وهنا أقوال أخر أعرضنا عن ذكرها طلبا للاختصار.
الرابع: للعلامة الأنصاري (قدس سره) في بيان أقسام الشبهة الوجوبية والتحريمية
للبرائة تقسيم ببيان آخر غير ما ذكرنا، وحاصله ان التكليف المشكوك فيه اما تحريم
مشتبه بغير الوجوب اما وجوب مشتبه بغير التحريم واما تحريم مشتبه بالوجوب، ويعبر
عن الأول بدوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب، وعن الثاني بدورانه بين الوجوب و
غير الحرمة، وعن الثالث بدورانه بين الوجوب والحرمة، وعلى كل من الأقسام الثلاثة
تارة يكون متعلق التكليف الواقعة الكلية ويكون منشأ شكها عدم النص أو اجماله أو
تعارضه; وأخرى الواقعة الجزئية مع كون منشأ شكها اشتباه الأمور الخارجية; فكل
من الأقسام الثلاثة ينقسم إلى أقسام أربعة والمجموع اثنى عشر قسما ثمانية منها داخلة
في مسائل البراءة وأربعة في مسائل التخيير كما سيجئ.
49

أصالة التخيير
هي عبارة عن حكم العقل بتخيير المكلف بين فعل شئ وتركه أو تخييره بين فعلين
مع عدم امكان الاحتياط; فهو حكم عقلي كل له موضوع ومحمول فموضوعه الأمران
لا رجحان لأحدهما على الاخر ولا امكان للاحتياط ومحموله جواز اختيار أيهما شاء
ويتحقق موضوعه في موردين:
أحدهما: العمل الواحد، كما إذا علمنا بجنس التكليف المشترك بين الوجوب
والتحريم أعني أصل الالزام المتعلق بعمل المكلف وشككنا في تعلقه بايجاد ذلك
العمل أو بتركه; ويعبر عنه تارة بدوران الامر بين الوجوب والحرمة وأخرى بدورانه بين
المحذورين، فإذا علمنا ان صلاة الجمعة مثلا اما واجبة واما محرمة ولا ترجيح لأحدهما
على الاخر حكم العقل بالتخيير بين فعلها وتركها.
ثانيهما: العمل المتعدد كما إذا كان هنا فعلان وعلمنا بوجوب أحدهما وحرمة
الاخر ولكن لم نعلم ان هذا واجب وذاك حرام أو ان ذاك واجب وهذا حرام حكم
العقل أيضا بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الاخر ولا يجوز فعلهما معا ولا تركهما
معا لان في الأول يحصل العلم بمخالفة قطعية للحرام وفى الثاني بمخالفة قطعية للواجب
وكلاهما ممنوعان.
50

وبعبارة أخرى لا يخلو حال المكلف من انه اما ان يفعلهما معا أو يتركهما معا أو
يفعل أحدهما ويترك الاخر; ففي كل من الأولين يحصل العلم بالمخالفة القطعية
والموافقة القطعية وعلى الثالث لا علم في البين بل احتمال الموافقتين واحتمال
المخالفتين والعقل يحكم باختياره.
ثم إن مسألة أصالة التخيير أيضا تنقسم إلى مسائل أربع فان الشك اما أن يكون
من جهة عدم الدليل على تعيين أحدهما أو اجماله أو تعارضه أو اشتباه الأمور الخارجية،
فأمثلة الشبهة الحكمية للمورد الأول من التخيير ما إذا أقام الاجماع على أن صلاة الجمعة
في يومها لا تخلو من حكم الزامي، وشك في أن ذلك الحكم هو الوجوب أو الحرمة
لعدم الدليل على التعيين أو انه " عليه السلام " قال: " صل الجمعة في يومها " ولم يعلم انه
استعمل الامر في الايجاب أو التهديد وهذا اجمال النص أو انه ورد في رواية صل
الجمعة وفى أخرى لا تصلها وهذا تعارض النصين، ومثال الشبهة الموضوعية ما لو علم
بأنه نذر السفر أو امره والده بذلك فشك في أن النذر أو امر الوالد كان بفعله أو بتركه.
وأمثلة الشبهة الحكمية للمورد الثاني من التخيير الظهر والجمعة بناء على القول بأنه
لو كانت إحديهما واجبة كانت الأخرى محرمة ذاتا ولا دليل على تعيين الواجب
والحرام، ومثل ما لو قال صل الصلاة الوسطى ولا تصل الأخرى وشك في أن الوسطى
هل هي الجمعة والأخرى الظهر أو العكس وهذا اجمال النص، ومثل ما لو ورد في خبر
صل الجمعة ولا تصل الظهر وفي آخر صل الظهر ولا تصل الجمعة وهذا تعارض
النصين ومثال الشبهة الموضوعية كما إذا كان هنا فعلان كالسفر واطعام زيد وعلم بان
والده امر بأحدهما ونهى عن الاخر ونسي ما عينه الوالد.
تنبيهان:
الأول: في مسئلتنا هذه أقوال:
أولها: حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك كما ذكرنا والدليل عليه قبح
الترجيح من غير مرجح واما من حيث الشرع فالمورد خال عن الحكم الظاهري.
ثانيها: الحكم بالبراءة في كل من الطرفين عقلا ونقلا، فإذا شككنا في وجوب
51

دفن المنافق وحرمته كان كل من الوجوب والحرمة مجهولا يجرى فيه أصالة البراءة، ولا
يستلزم اجراء البراءة هنا مخالفة عملية إذا الفرض انها غير ممكنة هنا.
ثالثها: وجوب الاخذ بأحدهما معينا والبناء القلبي عليه والعمل به، كما ادعى انه
يجب الاخذ بالحرمة بالخصوص وترك الوجوب لان دفع الضرر عند العقلاء أرجح من
جلب المنفعة.
رابعها: وجوب الاخذ بأحدهما تخييرا بان يبنى قلبا على أنه واجب فيأتي به أو
حرام فيتركه.
خامسها: التخيير عقلا كسابقه مع الحكم على كل واحد من الطرفين بالإباحة
شرعا وهذا هو مختار صاحب الكفاية وببالي انه يظهر من كلمات الشيخ (ره) أيضا.
الثاني: دوران الامر بين الوجوب والحرمة يتصور على أقسام أربعة:
أولها: دورانه بين الوجوب والحرمة التوصليين بان نعلم انه لو كان واجبا فوجوبه
توصلي لا يحتاج إلى نية التقرب ولو كان حراما فحرمته كذلك.
ثانيها: دورانه بين الوجوب والحرمة التعبديين بان نعلم انه لو كان واجبا
فامتثاله لا يحصل الا بقصد القربة ولو كان حراما فتركه قربى أيضا كتروك الصائم
والمحرم مثلا.
ثالثها: ان يعلم بان أحدهما المعين تعبدي والاخر توصلي كان يعلم بان صلاة
الجمعة لو كانت واجبة فاللازم اتيانها قربيا ولو كانت محرمة فالمطلوب مجرد الترك ولو
بلا نية.
رابعها: ان يعلم بان أحدهما غير المعين تعبدي والاخر كذلك توصلي، ولا يخفى
عليك ان الأقوال المذكورة في التنبيه السابق انما تجرى في الصورة الأولى والأخيرة من
هذه الصور، واما الوسطان فلا مناص فيهما عن اختيار القول الثالث أو الرابع لاستلزام
غيرهما المخالفة العملية القطعية، مثلا إذا حكمنا بإباحة صلاة ا لجمعة في المثالين ولكن
أتينا بها اقتراحا وبلا نية حصل لنا العلم بمخالفة حكم الله واقعا فإنها لو كانت واجبة
لم نكن ممتثلين إذ اتيانها بلا نية كتركها ولو كانت محرمة لم يتحقق منا الترك فضلا عن
كون الترك بقصد القربة.
52

أصالة الصحة في عمل الغير
هي الحكم بصحة العمل الصادر عن الغير وترتيب آثارها عليه عند الشك في صحته
وفساده، فللقاعدة موضوع ومحمول، موضوعها العمل الصادر عن الغير المشكوك في
صحته وفساده، ومحمولها الحكم بصحته وترتيب آثارها عليه; عبادة كان المشكوك أو
معاملة، عقدا كان أو ايقاعا، وهذه نظير قاعدة الفراغ الا ان مجريها عمل الغير ومجرى
تلك القاعدة عمل نفس الشاك.
فإذا رأينا أحدا غسل ميتا أو صلى عليه فشككنا في صحة عمله جاز ترتيب آثار
الصحة والحكم بسقوط الواجب عن ذمتنا.
وإذا رأينا عادلا يصلى الفريضة جاز اجراء أصالة الصحة في صلاته والاقتداء به.
وإذا وقع من أحد بيع أو شراء أو ذبح حيوان أو غسل ثوب أو نكاح امرأة أو
طلاقها أو اتيان عمل استيجاري، حكمنا بالصحة في الكل ورتبنا عليها آثارها.
تنبيهات:
الأول: ان الدليل على القاعدة أمور:
53

أولها: الاجماع القولي المستفاد من تتبع كلمات الاعلام في مواطن كثيرة من
الفقه، كتقديمهم قول مدعى الصحة على مدعى الفساد ونحوه.
ثانيها: السيرة العملية من المسلمين لولا العقلاء على حمل الاعمال على الصحيح
وترتيب آثار الصحة في العبادات والمعاملات.
ثالثها: عموم التعليل الوارد في موارد قاعدة اليد، فإنه " عليه السلام " قال: " ولولا
ذلك لما قام للمسلمين سوق " فمعنى التعليل ان كل ما يلزم من عدمه وترك العمل به
اختلال السوق فهو لازم العمل المحكوم بترتيب الأثر عليه، وادعى فيما نحن فيه أنه لولا
الحمل على الصحة لاختل السوق وبطل الحقوق.
الثاني: مورد جريان القاعدة ما إذا كان الشك في الصحة موضوعيا ناشئا من
جهة اشتباه الأمور الخارجية; لا حكميا ناشئا من ناحية الدليل، فإذا كان اعتقاد
الامام والمأموم وجوب السورة في الصلاة، فشك المأموم ان الامام تركها عمدا أم لاحمل
فعله على الصحة.
وإذا كانت شرطية العربية في النكاح محرزة عند الفاعل الحامل فشك الحامل في أن
العاقد أخل بها عمدا أو نسيانا أم لا حمل أيضا على الصحة.
واما إذا علم الشخص بان الغير اشترى شيئا بالمعاطاة وشك في صحة المعاطاة
شرعا فليس ذلك موردا لجريان هذا الأصل; وان أمكن الحكم بالصحة تمسكا بعموم
الأدلة واطلاقها الا ان هذه قاعدة أخرى واصل لفظي يجريها الشخص في عمل نفسه
وغيره لدى الشك في شمول العموم والاطلاق وأصالة الصحة المبحوث عنها أصل
عملي.
الثالث: مورد القاعدة كما ذكرنا هو الشك في الحكم الوضعي وهي الصحة
والفساد; فالموضوع هو مشكوك الصحة والمحمول ترتيب آثار الصحة.
واما إذا شك في حلية فعل صادر عن الغير وحرمته فهنا أصل آخر يسمونه بأصالة
الصحة التكليفية وإن شئت فسمه بأصالة الحلية في فعل الغير; وبينه وبين أصالة
الصحة تباين ذاتا وعموم من وجه تحققا.
فإذا شككنا في أن كلام المتكلم أو اكله أو شربه وقع بنحو الحرام أو الجائز
54

جرى (ح) أصالة الإباحة دون أصالة الصحة، وإذا علمنا بوقوع المعاملة منه وقت
النداء إلى صلاة الجمعة وشككنا في صحتها من جهة اختلال شرائطها جرى أصالة
الصحة دون أصالة الإباحة للعلم بحرمتها التكليفية، وإذا شككنا في كون البيع
الصادر منه ربويا أو غير ربوي جرى الأصلان.
ثم إن الدليل على قاعدة أصالة الحلية اخبار كثيرة تدل على لزوم حمل فعل المسلم
على الحسن دون القبيح ففي الكافي في تفسير قوله تعالى: " وقولوا للناس حسنا " قال
" عليه السلام ": " لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو ".
وفيه أيضا عن علي " عليه السلام " قال: " ضع امر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما
يقلبك عنه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلا ".
وما ورد مستفيضا ان: " من اتهم اخاه انماث الايمان في قلبه، أو فلا حرمة بينهما،
أو انه ملعون " وغيرها من الروايات.
55

الأصل
هو في الاصطلاح عبارة عن الحكم المجعول للشاك ليس فيه ناظرية وجهة كشف.
بيانه ان المجعول للجاهل بالواقع لو كان فيه جهة كشف بالذات وكان الجعل
بتتميم كشفه واعطاء الطريقية له فهو يسمى امارة ودليلا، ولو لم يكن كذلك بل
فرض المشكوك موضوعا من الموضوعات ورتب عليه حكم من الاحكام سمى ذلك
أصلا، فالأصل كالامارة حكم ظاهري مجعول في موضوع الجهل بالواقع وينقسم
بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الأصل العملي والأصل اللفظي.
اما العملي: فهو الحكم الظاهري المحتاج إليه في مقام العمل من دون ارتباط له
بمقام الألفاظ; فكل حكم ظاهري كان جريه باب الألفاظ فهو أصل لفظي; وكل
حكم ظاهري كان مجراه عمل المكلف وتعيين وظيفة له بالنسبة إلى عمله فهو أصل
عملي، كأصالة البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب والطهارة والصحة والفساد
وغيرها، فراجع عنوان مجارى الأصول وعناوين نفس تلك الأصول.
واما الأصل اللفظي: فهو الحكم الظاهري الذي يعمل به في باب الألفاظ
ويسمى أصلا لفظيا عقلائيا; اما كونه أصلا فلكونه مجعولا في حق الشاك، واما كونه
56

لفظيا فلكون مجريه باب الألفاظ، واما كونه عقلائيا فلكون مدركه بناء العقلاء
وعملهم وان كان الشارع قد أمضاه أيضا بالعمل على طبق طريقتهم وهو كثير يرجع
جلها إلى مقام وضع اللفظ واستعماله في معناه وإرادة معناه منه، كأصالة عدم الوضع
وأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل وأصالة عدم الاضمار وأصالة الظهور
وأصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الاطلاق وغيرها.
بيان ذلك: ان العقلاء إذا شكوا في أن هذا اللفظ المعين مثلا موضوع أم لا؟ بنوا
على عدم الوضع، وإذا علموا بوضعه لمعنى فشكوا في وضعه لمعنى آخر أم لا؟ بنوا على
العدم أيضا ويعبر عنه بأصالة عدم الاشتراك، وإذا شكوا في أنه أضمر في الكلام
شئ من المضاف والمتعلق ونحوهما بنوا على العدم ويعبر عنه بأصالة عدم الاضمار،
وإذا شكوا في أنه أريد ما كان اللفظ ظاهرا فيه ولو بالقرينة أم لا؟ بنوا على إراداته
ويعبر عنه بأصالة الظهور، وإذا شكوا في أنه أريد المعنى الحقيقي أم أريد غيره بنوا على
إرادة المعنى الحقيقي ويعبر عنه بأصالة الحقيقة، وإذا شكوا في ألفاظ العموم، هل أريد
منها الكل أو البعض بنوا على إرادة العموم ويعبر عنه بأصالة العموم، وإذا شكوا في
الألفاظ الموضوعة للطبايع الكلية مثلا انه هل أريد منها مطلق الطبيعة السارية في
الافراد ولو بنحو البدل أو أريد الطبيعة المحدودة المقيدة؟ بنوا على إرادة نفس الطبيعة
ويعبر عنه بأصالة الاطلاق وهكذا.
تنبيهان:
الأول: ان هنا أصلين آخرين لا بد من التعرض لهما.
أحدهما: أصالة التطابق وتوضيح معناها انه ان قلنا بان استعمال العام والمطلق
مع إرادة الخاص والمقيد مجاز فالأصل الجاري فيهما هو أصالتا العموم والاطلاق وهما
من مصاديق أصالة الحقيقة غير أن مورد هذين الأصلين الشك في مجازية العام والمطلق
ومورد أصالة الحقيقة الشك في مجازية كل لفظ واستعماله في غير ما وضع له، وان قلنا
بعدم المجازية كما هو مذهب عدة من المحققين بتقريب ان المتكلم بالعام على هذا المبنى
57

لا يستعمله مطلقا الا في العموم ولا يريد منه الا تفهيم العموم للمخاطب ليرتب عليه
حكما عاما ويعطى قاعدة كلية يعمل بها المخاطب.
ثم إن السامع تارة يعلم بكون مراده الجدي موافقا لظاهر كلامه فيكون الحكم
المرتب على جميع الافراد حكما فعليا حقيقيا ويطابق الانشاء الظاهري الإرادة الجدية
فيقال حينئذ ان الإرادة الاستعمالية قد طابقت الإرادة الجدية.
وأخرى: يعلم بكن المراد مخالفا لظاهر الكلام فلم يرد بنحو الجد شمول
الحكم لبعض الافراد مع شمول العام له استعمالا وترتب الحكم عليه انشاء فيكون
الحكم المرتب عليه حكما انشائيا ويقال حينئذ ان الإرادة الاستعمالية قد خالفت
الإرادة الجدية.
وثالثة: يحصل التردد في بعض الافراد ويشك في أن المراد الجدي موافق
للاستعمال أم لا؟ فيبنى العقلاء حينئذ على كون المراد الجدي مطابقا لظاهر
الاستعمال، ويعبر اهل الفن عن هذا البناء تارة بأصالة التطابق بين الإرادة الجدية
والاستعمالية; وأخرى بأصالة العموم أو الاطلاق، فظهر لك ان مجرى أصالة العموم
والاطلاق على قول المشهور الشك في الاستعمال وعلى مبنى بعض المحققين الشك في
الإرادة مع العلم بالاستعمال فراجع بحث الإرادة الجدية والاستعمالية.
ثانيهما: أصالة عدم الادعاء وبيانها انه قد يدعى في بعض المجازات عدم استعمال
اللفظ في غير معناه بل فيه مع دعوى الاتحاد بينه وبين المعنى المجازى فإذا قال القائل
جاءني أسد مريدا به الرجل الشجاع فمعناه جاءني الحيوان المعهود وهو هذا الرجل
فالشك في المجازية (ح) يرجع إلى الشك في أنه هل أراد المعنى المجازى بدعوى الاتحاد
أم لا؟ فيبنى العقلاء (ح) على عدم تحقق الادعاء ويسمى هذا بأصالة عدم الادعاء.
الثاني: انه هل يبنى العقلاء على إرادة الحقيقة أو العموم أو غيرهما ابتداء من غير
توسيط شئ آخر أو هم يبنون ابتداء على عدم وجود قرينة مانعة عن إرادة الحقيقة
فيبنون بواسطته على تلك الأمور فيكون مرجع تلك الأصول حقيقة إلى أصالة عدم
القرينة; قولان مشهوران بين الأصحاب، وهذا الخلاف هو المراد من قولهم ان حجية
الظواهر هل هي من جهة أصالة الحقيقة أو من جهة أصالة عدم القرينة؟ وتظهر الثمرة
58

بينهما فيما إذا شك في إرادة الظاهر مع العلم بعدم وجود القرينة فإنه بناء على الأول
يكون الظاهر حجة وبناء على الثاني لا معنى لأصالة عدم القرينة مع العلم بعدمها.
الثاني: تقسيمه إلى الأصل الشرعي والأصل العقلي
اما الأول: فكل حكم ظاهري كان مجعولا من ناحية الشارع فهو أصل شرعي،
كالاستصحاب الشرعي والبراءة الشرعية وأصالة الطهارة والصحة ونحوها.
واما الثاني: فكلما كان بحكم العقل وبناء العقلاء فهو أصل عقلي; كأصالة
البراءة العقلية وأصالة التخيير والاحتياط وجميع الأصول الجارية في باب الألفاظ كما
ذكرنا.
الثالث: تقسيمه إلى الأصل المحرز والأصل غير محرز
قد عرفت أن معنى الأصل هو الحكم المجعول للجاهل بالواقع الذي ليس له إليه
طريق، وحينئذ فان لوحظ في جعل تلك الأحكام حال الواقع وكان لسان الدليل
جعل الاحكام المماثلة له سمى ذلك أصلا محرزا، وهذا كالاستصحاب وأصالة
الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز، ففي استصحاب حياة زيد مثلا يحكم بترتيب آثار
الحياة ويكون الحكم المذكور مماثلا للواقع فكأنه محرز له ولذا سمى بالأصل المحرز.
وإن لم يلاحظ ذلك بل كان المجعول حكما ظاهريا مستقلا بلا لحاظ كون المجعول
مما يماثل الواقع سمى أصلا غير محرز، كالبراءة والتخيير ونحوهما فان حكم الشارع
بالإباحة في مشكوك الحرمة ليس بلسان ترتيب حكم الواقع بل هو حكم ظاهري
مستقل.
الرابع: تقسيمه إلى الأصل المثبت وغير المثبت.
توضيحه: ان كل موضوع له اثر شرعي لابد في ترتيب اثره عليه من احراز ذلك
الموضوع بالقطع أو بامارة معتبرة أو بأصل عملي، فان أحرز بالقطع فلا اشكال ولا
كلام في لزوم ترتيب آثار نفس ذلك الموضوع وآثار جوانبه.
59

بيانه ان الشئ يتصور له جوانب أربعة: اللازم والملزوم والملازم والمقارن; فحياة
زيد ملزوم وتنفسه وتغذيه وتلبسه ونبات لحيته لوازم عقلية وعادية والتنفس بالنسبة إلى
نبات اللحية ملازم، وفيما لو حصل العلم الاجمالي بموت زيد وعمرو فموت كل منهما
بالقياس إلى حياة الآخر مقارن، ثم إنه لاشكال في أن القطع بالشئ مستلزم للقطع
بتحقق جميع لوازمه، فحينئذ إذا كانت تلك الجوانب لها آثار شرعية فلا اشكال في
لزوم ترتيب آثارها عند القطع بأصل الشئ لان الجوانب أيضا تكون محرزة بالوجدان
كنفس الشئ.
واما لو لم يحصل القطع وكان حياة زيد مثلا مشكوكة فمن الواضح ان الجوانب
أيضا تكون مشكوكة بالوجدان، إذ كما أن القطع بالملزوم مستلزم للقطع باللازم
فكذلك الشك فيه مستلزم للشك فيه، فإذا فرضنا قيام امارة معتبرة على الشئ
كاخبار البينة عن حياة زيد فلا اشكال في لزوم ترتيب آثار نفس الحياة من حرمة
التصرف في ماله وحرمة تزويج زوجته ووجوب الانفاق عليه فإنه معنى تصديق البينة
في اخبارها، واما الآثار الشرعية المترتبة على الجوانب كما إذا كان ناذرا للتصدق
بدرهم لو كان زيد متنفسا وبدينار لو كان متلبسا أو إذا نبت له لحية فالظاهر أيضا
وجوب ترتيب تلك الآثار بمجرد قيام البينة على حياة زيد إذ لا اشكال في أن اخبار
العادل بالحيوة كما أنه حاك في نفس الحياة بالمطابقة حاك عن الجوانب بالملازمة
والشارع كما امر بالعمل على ما حكى عنه بالمطابقة امر بالعمل على ما حكى عنه
بالملازمة فيجب ترتيب آثار الجميع وهذا معنى ما يقال ان مثبتات الامارة حجة،
ومرادهم ان الامارة تثبت لوازم ما أدى إليه أيضا وجوانبه فيجب ترتيب آثارها.
هذا حال الامارات واما الأصول العملية الجارية في الموضوع عند عدم الامارة
كاستصحاب حياة زيد مثلا فهل يثبت بها نفس الحياة ويجب ترتيب آثارها فقط أو
يثبت بها آثار المستصحب وآثار جوانبه كالامارة وجهان بل قولان:
أشهرهما انه لا يثبت به الآثار نفسها واما آثار الجوانب كما عرفت فلا تكاد
تترتب باجراء الاستصحاب في نفس الحياة، فلو أريد اثبات تلك الآثار فلا بد من
اجراء استصحاب آخر بالنسبة إلى كل من الجوانب لو كان لها حالة سابقة وجودية;
60

فاستصحاب الحياة ينفع لترتيب حرمة التصرف في ماله واما لزوم التصدق بدرهم أو
دينار في المثال السابق فاثباته يحتاج إلى اجراء الاستصحاب في نفس التنفس
والتلبس وهذا معنى ما اشتهر من أن الأصل المثبت غير حجة، ومرادهم ان الأصل
الذي يراد به اثبات اللوازم للمستصحب ليترتب عليها آثارها لا يكون بحجة.
فان قلت إذا حكم الشارع بحيوة زيد مثلا بالاستصحاب فلازمه ترتيب آثار
التنفس والتلبس ونحوهما أيضا إذ الملازمة بينهما واضحة عقلا وعادة فكيف يحكم
بترتيب آثار الحياة دون آثارها.
قلت المفروض ان أصل الحياة ولوازمها كلها مشكوكة وجدانا وحكم الشارع
بترتيب الآثار تعبدا لم يثبت الا في خصوص ما وقع مجرى الاستصحاب وهو الحياة
فالجوانب لم تحرز بعد بالقطع ولا بحكم تعبدي بترتيب آثارها.
61

الأصول
عرفوا المعنى الاصطلاحي لهذه الكمة بتعاريف كثيرة:
والأولى: تعريفها بأنها العلم بالقواعد الممهدة لرعاية الأحكام الشرعية الفرعية
اثباتا أو اسقاطا.
فخرج بالعلم بالقواعد علم الفقه فإنه علم بنفس الأحكام الشرعية والوظائف
العملية لا بالقواعد المعدة لكشف حالها.
وبعبارة أخرى هنا قواعد معينة مدونة قابلة لان يصل بها الباحث إلى الأحكام الفرعية
والوظائف العملية; فالعلم بتلك القواعد يسمى بعلم الأصول، والعلم بتلك
الاحكام والوظائف يسمى بعلم الفقه.
مثلا إذا وقع البحث عن خبر الثقة وأثبتت له الحجية، سميت النتيجة مسألة
أصولية، والعلم بها علم الأصول، وإذا جعلت تلك النتيجة كبرى لقياس مؤلف،
فقيل وجوب الجمعة مما أخبر به الثقة وكلما أخبر به الثقة ثابت فالوجوب ثابت; سميت
النتيجة مسألة فقهية والعلم بها فقها واجتهادا.
وخرج بقيد الرعاية القواعد التي لم يكن تمهيدها لخصوص رعاية الاحكام كعلم
اللغة والمنطق وغيرهما.
62

وخرج بالتقييد بالفرعية ماله دخل في استخراج الأحكام الشرعية الأصولية
كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى والمعاد وسفرائه إلى العباد.
ثم إن تلك القواعد أعم مما يوجب القطع بالحكم وغيره، ومن الشرعية والعقلية،
ومن الامارات والأصول، ومن مثبتات الاحكام ومسقطاتها فيدخل في التعريف
حجية نصوص الكتاب والأخبار المتواترة وهي مفيدة للقطع، وحجية ظواهر الكتاب
واخبار الآحاد وهي تفيد الظن ويدخل أيضا الحديث والاجماع والشهرة مثلا وهي
امارات، والاستصحاب والبراءة والاحتياط وهي أصول عملية، ويدخل أيضا اخبار
الآحاد واستصحاب والبراءة النقلية وهي قواعد شرعية، والظن الانسدادي على
الحكومة وقاعدة الملازمة والبراءة والاحتياط العقليين ونحوهما وهي قواعد عقلية;
ويدخل أيضا كل امارة أو أصل مثبت حكما من الاحكام وكلما ينفيه ويسقطه.
تنبيهان:
الأول: مقتضى التعريف المذكور انه ليس لهذا العلم موضوع معين معلوم المفهوم،
بل هو القدر الجامع بين شتات موضوعات المسائل فبعد وقوع البحث عن خبر العدل
وظاهر الكتاب والظن والانسدادي واليقين بثبوت شئ والشك في بقائه ونحوها ينتزع
من تلك الموضوعات عنوان جامع يكون هو موضوع العلم وسيأتي الكلام في ذلك تحت
عنوان الموضوع.
الثاني: مسائل هذا العلم عبارة عن النتائج الحاصلة من أبحاثه القابلة لان تقع
كبرى كلية في مقام الاستنباط كحجية الخبر والملازمة بين وجوب الشئ ووجوب
مقدمته ولزوم ابقاء ما كان ونحوها وبذلك يعلم ان الغرض منه النيل إلى هدف
الاستنباط وتحصيل الأحكام الشرعية.
63

الاطراد وعدم الاطراد
إذا أطلق لفظ على معنى باعتبار لحاظ ملاك وخصوصية كاطلاق لفظ العالم على زيد
باعتبار وصف العالمية وأريد ان يعلم ان هذا الاطلاق هل هو بنحو الحقيقة أو المجاز
فلا بد من الاختبار; فان صح اطلاقه على كل شئ كان له ذلك الوصف كعمرو
العالم وغيره يطلق على هذا المعنى الاطراد; أي شيوع استعمال اللفظ في المصاديق
الواجدة لملاك الاستعمال، ويجعل ذلك علامة على كون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى
وإن لم يصح الاطلاق كان ذلك علامة المجاز ويسمى بعدم الاطراد، كاستعمال لفظة
أسد في زيد باعتبار مشابهته بالأسد فإنه لا يصح استعماله في كل شئ كان شبيها
بالأسد في شئ من الصفات وبشباهة ما من الشبه. فاللفظ هنا كلمة أسد
والمستعمل فيه زيد والملاك والخصوصية هي الشباهة في شئ من الصفات فمع وجود
هذا الملاك في فرد آخر كعمرو مثلا لا يصح الاستعمال وهو معنى عدم الاطراد
وجعلوه قرينة على أن استعمال أسد في زيد مجاز.
ولا يخفى عليك ان هذا البيان يتم لو كان المراد من الملاك أصل الشباهة بلا لحاظ
مصاديقها فان استعمال أسد في زيد لشبه الشجاعة لا يصحح استعماله في الحجر
لشبه الصلابة أو في المعز لكثرة الشعر، واما لو كان الملاك في الاستعمال نوعا
64

مخصوصا من العلائق وقسما معينا من الشباهات كالشجاعة مثلا فيطرد الاستعمال
هنا أيضا; فكل حيوان كان له شجاعة مثل الأسد صح الاستعمال فلا يكون الاطراد
من علائم الحقيقة.
65

الأقل والأكثر
(الاستقلاليان والارتباطيان)
هما في الاصطلاح عبارة عن فعلين أحدهما أقل من الاخر في الكمية ملحوظين في مقام
تعلق التكليف، فإذا علم بتوجه بعث أو زجر وشك في أنه تعلق بالقليل أو الكثير تحقق
عنوان دوران الامر بين الأقل والأكثر وجرى الاختلاف والبحث في أنه هل يجب
اتيان بالأكثر أو انه يكفى الأقل أيضا، أو انه هل يحرم اتيان بالأكثر فقط أو يحرم
الأقل أيضا.
ثم إن معنى الاستقلاليين كون اتيان الأقل على فرض تعلق الحكم بالأكثر
في الواقع، مجزيا بمقدار الأقل وامتثالا في الشبهة الوجوبية وعصيانا بمقداره ومخالفة في
الشبهة التحريمية، بخلاف الارتباطيين فإنه لو كان التكليف متعلقا بالأكثر في الواقع
لكان اتيان الأقل لغوا وفاسدا لا طاعة فيه ولا مخالفة كما سيظهر من أمثلة الباب.
وبعبارة أخرى التكليف في الاستقلاليين متعدد، فالمكلف يعلم بوجود تكليف أو
تكليفين مثلا ويشك في وجود ما زاد عنه، بخلاف الارتباطيين فان التكليف فيهما
واحد لا شك فيه وانما الشك في أنه متعلق بالأقل أو بالأكثر، ومن هنا قالوا ان مرجع
الشك في الاستقلاليين إلى الشك في التكليف وفى الارتباطيين إلى الشك في المكلف
به.
66

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأقل والأكثر اما ان يكونا استقلاليين أو ارتباطيين
وعلى كلا التقديرين فاما ان يلاحظا في الشبهة الوجوبية أو في الشبهة التحريمية.
فهنا صور أربع:
الأولى: الأقل والأكثر الاستقلاليان في الشبهة الوجوبية ومثاله ما إذا علم المكلف
بفوات صلوات منه وشك في عددها وانها ثلث أو أربع، فهو عالم بتعلق الوجوب
وشاك في وجوب القليل أو الكثير; وكذا إذا علم بان عليه دين لزيد وشك في أنه
درهم أو درهمان.
فذهب الأكثر فيه إلى وجوب اتيان الأقل واجراء أصالة البراءة عن الأكثر; إذ قد
عرفت أن الشك هنا يرجع إلى الشك في التكليف المستقل بالنسبة إلى ما زاد عن
الأقل فتجرى البراءة.
الثانية: الأقل والأكثر الاستقلاليان في الشبهة التحريمية، ومثاله ما إذا علم الجنب
أو الحايض بحرمة قراءة العزائم وشك في أن المحرم خصوص آية السجدة أو جميع اجزاء
السورة فيقول ان التكليف بالأقل معلوم وما زاد منه مشكوك يجرى فيه أصالة البراءة.
الثالثة: الأقل والأكثر الارتباطيان في الشبهة الوجوبية وهذا القسم هو المهم
المقصود بالبحث للأصوليين والاختلاف بينهم فيه كثير ويسمونه تارة بالأقل والأكثر
الارتباطيين، وأخرى بالشك في جزئية شئ للمأمور به أو شرطيته له. مثاله ما لو علم
بتكليف وجوبي وشك في أنه تعلق بالصلاة مع السورة أو بالصلاة بلا شرط السورة
فالتكليف معلوم ومتعلقه مردد بين الأقل والأكثر فيرجع هذا الشك إلى الشك في
جزئية السورة للصلاة وعدمها.
والأقوال فيه ثلاثة:
أحدها: جريان البراءة العقلية والنقلية بالنسبة إلى تعلق التكليف بالأكثر.
فيقال الأصل عدم تعلق الوجوب بالصلاة المركبة من السورة مثلا واما تعلقه
بالأقل فهو معلوم لا مورد للبرائة فيه أو جريان حديث الرفع وغيره بالنسبة إلى الحكم
الوضعي أعني جزئية المشكوك واليه ذهب الشيخ (ره) في رسائله.
ثانيها: جريان البراءة الشرعية في الجزئية ورفعها بأدلة البراءة الشرعية دون البراءة
67

العقلية، بل المورد بحسب العقل من موارد الاحتياط وهذا مذهب صاحب الكفاية
(قده).
ثالثها: عدم جريانها مطلقا بل لزوم الاحتياط باتيان الأكثر، ويظهر هذا من
كلمات بعض المتأخرين وربما ينسب إلى بعض المتقدمين أيضا.
الرابعة: الأقل والأكثر الارتباطيان في الشبهة التحريمية; مثاله ما إذا علمنا بحرمة
تصوير ذوات الأرواح نقشا واو تجسيما وشككنا في أن الحرام هل هو نقش تمام
الصورة أو ان البعض أيضا كذلك فالحرمة معلومة والشك انما هو في تعلقها بالأقل أو
بالأكثر وحكم الارتباطيين في هذه الشبهة يباين حكم الارتباطيين في الوجوبية،
فالأكثر هنا معلوم الحرمة والأقل مشكوك تجرى فيه البراءة كما أن الأكثر كان هناك
مشكوكا والأقل معلوم الوجوب.
68

الامارة
(أي الطريق المجعول في حق الجاهل بالواقع)
المجعول في حق الجاهل بالواقع ان كان له كاشفية ذاتية عن الواقع ناقصة وناظرية
وحكاية ولو نوعية واعتبره الشارع بلحاظ كشفه ونظره يسمى ذلك دليلا وامارة،
والا فاصلا كما تقدم وقد يطلق على المجعول لكشف حال الاحكام الدليل وعلى المعتبر
لبيان حال الموضوعات الامارة.
فقوام أمارية الامارة بأمرين: أحدهما: وجود كاشفية ناقصة فيها بالذات. والثاني:
كون امضائها بنحو تتميم كشفها وامضاء طريقيتها.
مثلا إذا أخبر العادل بوجوب الجمعة أو حرمة العصير فقوله حاك عن الواقع ظنا
وبعد ورود أدلة تدل على وجوب تصديقه والعمل على طبقه يصير قوله دليلا اجتهاديا
وامارة على الاحكام ومثل ذلك الظن الانسدادي والاجماع المنقول والشهرة في الفتوى
على القول بحجيتها.
وإذا قامت البينة على كون المال المعين ملكا لزيد كان ذلك دليلا وامارة في
الموضوعات ويجب ترتيب آثار المخبر به بواسطة اخبارها.
69

تنبيهات:
الأول: ان المعتبر للدليل ان كان هو الشارع يسمى ذلك دليلا شرعيا وامارة
شرعية كخبر العدل والثقة والظن الانسدادي على الكشف، وان كان هو العقل
يسمى دليلا عقليا وامارة عقلية كالظن الانسدادي على الحكومة فراجع عنوان
الحكومة.
الثاني: ان الدليل الشرعي قد يكون هو جعل الحجية له من الشارع جعلا بدئيا
من غير سبق عمل عليه من العقلاء فيقال انه دليل شرعي تأسيسي، وان كان مع
عمل العقلاء بذلك والشارع أمضى عملهم ولو بالسكوت وعدم نهيهم عنه فيقال انه
دليل امضائي; وجل الأدلة لو لم يكن كلها امضائية رخص الشارع فيها العمل بما عليه
العقلاء.
الثالث: ان وجه تقييد الدليل بالاجتهادي أحيانا بملاحظة ما قيل في تعريف
الاجتهاد; فإنهم عرفوا الاجتهاد بأنه استفراغ الوسع وبذل الجهد في تحصيل الأحكام الواقعية
فالمجتهد هو الطالب للاحكام الواقعية كما أن الدليل هو الحاكي عن تلك الأحكام
فناسب ان ينسب هذا النحو من الدليل إليه.
الرابع: ان افراد الامارة المعتبرة في الاحكام قليلة جدا فالذي تسلمه الجل لولا
الكل هو خبر العدل أو الثقة وحكم العقل.
واما الاجماع المنقول وبعض مصاديق المحصل والشهرة في الفتوى والظن
الانسدادي ونحوها فيمكن دعوى الشهرة من المتأخرين على عدم حجيتها.
واما أدلة الموضوعات فهي كثيرة عمدتها البينة أعني اخبار العدلين فما زاد.
ومنها: اخبار ذي اليد بالطهارة والنجاسة والملكية والكرية ونحوها.
ومنها: اخبار المرأة في بعض الموارد.
ومنها الأمور المختصة بهن كالطهر والحيض والعدة ونحوها.
ومنها: اخبار العدل مع انضمام اليمين.
ومنها: اخبار الصبيان في القتل.
70

ومنها: اخبار الشخص فيما لا يعرف الا من قبله كعلمه وجهله ونحوهما.
ومنها: اليد المثبتة للملكية بناء على كونها امارة.
الخامس: قد ظهر مما ذكرنا أن قول العدل الواحد حجة في الاحكام دون
الموضوعات الا في الجملة والوجه في ذلك الاستظهار من الروايات.
ثم إن البحث عن كون حجية الامارات بنحو السببية أو الطريقية سيجئ
انشاء الله تحت عنوان السببية.
71

الامتثال
هو عبارة عن موافقة التكليف خارجا والجري على وفقه عملا بعثا كان التكليف أو
زجرا، أكيدا كان أو ضعيفا، وله مراتب أربع:
الأولى: الامتثال التفصيلي وهو اتيان متعلق التكليف مع احراز انه متعلقه بعينه،
والاحراز قد يكون علميا كما إذا كان احراز نفس العمل أو اجزائه وشرائطه بالعلم
الوجداني، فإذا علم المكلف بان الواجب هو الظهر دون الجمعة فاتى به كان هذا
امتثالا تفصيليا علميا، وهكذا العلم بالقبلة والطهارة وغيرهما، وقد يكون ظنيا بالظن
المعتبر كما لو كان احراز أصل العمل أو كيفياته بدليل معتبر أو أصل كذلك; فإذا
أدت الامارة أو الأصل إلى وجوب الظهر أو جزئية السورة أو تعيين القبلة مثلا وعمل
المكلف على طبقها كان ذلك امتثالا تفصيليا ظنيا ومنه العمل على طبق الظن
الانسدادي على الحكومة والكشف.
الثانية: الامتثال العلمي الاجمالي كالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة الوجوبية
منها والتحريمية، فبعد حصول العلم الاجمالي بوجوب الجمعة أو الظهر كان الاتيان بهما
امتثالا علميا اجماليا ومثله ترك الإنائين المشتبهين.
الثالثة: الامتثال الظني بظن غير معتبر كاتيان الصلاة إلى القبلة المظنونة مع
72

امكان الاحراز العلمي.
الرابعة: الامتثال الاحتمالي كاتيان أحد أطراف الشبهة المحصورة في الوجوبية
وترك أحدها في التحريمية.
تنبيه:
لا اشكال في عدم كفاية الامتثال الاحتمالي مع امكان الامتثال الظني ولا الظني
مع امكان الامتثال العلمي واما جواز الاكتفاء بالعلمي الاجمالي مع امكان الاحراز
التفصيلي بقسميه ففيه اختلاف بين الاعلام.
73

الامر
هو في اللغة موضوع لمعان كثيرة وفى هذا الاصطلاح عبارة عن الطلب الانشائي،
والتقييد بالانشائي لاخراج الطلب الحقيقي الذي هو الإرادة القلبية فلا يطلق عليها
الامر الا مجازا.
وهل يعتبر في الطلب الذي هو معنى الامر أن يكون أكيدا ينتزع عنه الوجوب
فالطلب الضعيف المنتزع عنه الاستحباب ليس بامر حقيقة، أو يعتبر فيه كونه صادرا
من العالي فالصادر من المساوي والداني ليس بامر; أو يعتبر فيه كون الطالب مستعليا
مرتفعا وإن لم يكن عاليا فالصادر من المتواضع الخافض جناحه ليس بامر، أو يعتبر فيه
أحد الامرين اما كون الطالب عاليا ولو طلب بخفض الجناح أو كونه مستعليا ولو لم
يكن عاليا فالصادر من غير العالي بخفض الجناح ليس بامر وجوه بل أقوال.
وينقسم الامر بتقسيمات:
منها: تقسيمه إلى الامر المولوي والامر الارشادي.
فالأول: هو البعث والطلب الحقيقي لمصلحة موجودة في متعلقه غالبا بحيث يحكم
74

العقل بترتب استحقاق المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته مضافا إلى مصلحة
الفعل المطلوب; كغالب الأوامر الواقعة في الكتاب والسنة فإذا امر المولى بالصلاة
والصيام وحصل من العبد امتثال ذلك الامر ترتب عليه امران: أحدهما: حصول
غرض المولى من امره وهو نيل العبد إلى المصالح الموجودة في الصلاة والصيام، وثانيهما:
حكم العقل باستحقاقه للجزاء والمثوبة بواسطة حصول الطاعة منه.
والثاني: هو البعث الصوري الذي ليس بطلب وأمر حقيقة بل ليس بالدقة الا
اخبارا عن مصلحة الفعل وارشادا وهداية إلى فعل ذي صلاح بحيث لا يترتب لدى
العرف والعقلاء على موافقته الا الوصول إلى مصلحة العمل المرشد إليه وعلى مخالفته
الا فوت تلك المصلحة، فقوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " بعث إلى إطاعة
الأوامر الصادرة منه تعالى فهو امر بالصلاة والزكاة والحج ونحوها فيجتمع حينئذ في
الواجبات والمستحبات امران، امرها الأولى من قوله صل وصم وحج وغيرها، وأمرها
الثانوي بواسطة انطباق عنوان الإطاعة عليها، فلصلاة الظهر مثلا امر بعنوان انها ظهر
وأمر بعنوان انها إطاعة للامر الأول والأول حقيقي مولوي كما ذكرنا والثاني ارشادي
يهدى إلى المصلحة الثابتة في متعلقه وهو الإطاعة باتيانه، فحينئذ إذ أتى العبد بالظهر
لم يترتب على موافقة امرها الثانوي الأنفس ما في الإطاعة مع قطع النظر عن هذا الامر
وهو درك مصلحة الظهر وثواب إطاعة الامر المولوي، لا انه يستحق جزاء للامر الأول
وجزاء ومثوبة للامر الثاني، ولو خالف ولم يأت بها لم يترتب عليها أيضا الا فوت مصالح
الظهر وترتب عقاب الامر الأول لا ان هنا عقابين أحدهما للامر الأول والثاني للامر
الثاني وهكذا سائر موارد الارشاد.
ثم إن تعيين كون الامر مولويا أو ارشاديا وتشخيص مواردهما موكول إلى حكم
العقل ونظر اهل الفن وقد اختلفت كلماتهم في ذلك فقال بعضهم ان كل مورد يكون
للعقل فيه حكم بالاستقلال فالحكم الوارد فيه حكم ارشادي كقبح الظلم وحسن
الاحسان، وقال آخرون ان كل مورد يلزم من اعمال المولوية فيه اللغوية فهو مورد
الارشاد، وذهبت عدة ثالثة إلى أن كل مورد يلزم من جعل الامر المولوي محذور عقلي
75

كالدور والتسلسل فهو مورد الارشاد كالأوامر الإطاعة فإنها لو كانت مولوية لزم حصول
إطاعة أخرى لها وحدوث امر جديد وهكذا فيتسلسل.
ومنها: تقسيمه إلى التعبدي والتوصلي والى النفسي والغيري والى التعييني
والتخييري والى العيني والكفائي ويأتي جميع ذلك أن شاء الله تحت عنوان الوجوب.
76

الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده أم لا؟
من الأبحاث الراجعة إلى الامر بحثهم عن أن الامر بالشئ هل يقتضى النهى عن
ضده أم لا؟
وبيانه انه إذا تعلق امر المولى بفعل من الأفعال كإزالة النجاسة عن المسجد
فلا محالة يتصور له ضد أو أضداد يعاند وجوده وينافى تحققه، وجوديا كان المعاند
كالصلاة والأكل والنوم، أو عدميا كترك ذلك الفعل.
فوقع البحث (ح) في أنه هل يكون للامر الدال على وجوب فعل بالمطابقة دلالة
على النهى عن تلك المعاندات أم لا؟.
واو جز البيان في المقام ان نقول إنه لا بأس بالقول بدلالة الامر بالشئ على
النهى عن المعاند العدمي وهو ترك المأمور به بالملازمة العقلية فان ايجاب الإزالة مثلا
يلازم عقلا عدم رضا الآمر بتركها ومبغوضية ذلك الترك.
واما الأضداد الوجودية ففيها وجهان:
أحدهما: دلالته على النهى عنها بتخيل ان ترك الأضداد مقدمة لفعل المأمور به;
فيترشح من الطلب المتعلق بالفعل طلب غيرى متعلق بترك الأضداد وهو معنى النهى
عنه.
77

أو بتخيل ان فعل المأمور به وترك الأضداد متلازمان والامر بأحد المتلازمين
يستلزم الامر بالملازم الاخر فطلب الفعل يستلزم طلب ترك ضده وهو معنى النهى عنه.
وثانيها: عدم الدلالة لان وجود المأمور به وعدم الضد امران متقارنان في الوجود لا
علية لأحدهما الاخر ولا توقف، بل كل منهما معلول لعلة مستقلة، فالمكلف الداخل في
المسجد إذا قصد الإزالة ولم يقصد الصلاة أو النوم، يكون قصده للإزالة علة لحصول
الإزالة وعدم قصده للصلاة علة لعدم الصلاة إذ يكفى في عدم الشئ عدم تحقق علة
وجوده، فالمأمور به معلول لعلة; وترك الضد معلول لعلة أخرى وحيث لا علية بينهما فلا
توقف ولا تقدم، فان توقف شئ على شئ فرع كون الثاني من اجزاء علة الأول.
نعم هما متلازمان في التحقق والوجود الا ان طلب أحد المتلازمين لا يستلزم طلب
الاخر بل غاية الامر عدم جعل حكم له يخالف حكم ملازمه.
إذا فلا يدل الامر بالشئ على النهى عن أضداده الوجودية.
ثم إن ثمرة هذه المسألة حرمة الأضداد الوجودية على الاقتضاء وعدمها على العدم
وتنتج الحرمة بطلان الضد إذا كان عبادة كما في المثال.
78

الامكان والوجوب والامتناع
ينقسم الامكان إلى الذاتي والوقوعي وينقسم كل من الوجوب والامتناع إلى الذاتي
والغيري والوقوعي ويعرف حقيقة كل منها ونسبته مع صاحبه في ضمن مثاله فنقول:
الأول: الامكان الذاتي وهو كون الشئ بحيث ليس في ذاته اقتضاء للوجود ولا
للعدم بل رجحان كل من وجوده وعدمه يحتاج إلى علة وان كان يكفى في طرف عدمه
عدم علة الوجود، وهذا كجميع الممكنات الموجودة والمعدومة، فالفلك والشمس
والقمر والفرس والنجم والشجر ممكنات اقتضت إرادة الله تعالى وجودها والانسان
الذي له الف رأس ممكن لم يرد الواجب تعالى وجوده.
الثاني: الامكان الوقوعي وهو كون الشئ بحيث لا يستلزم وجوده وعدمه ووقوعه
ولا وقوعه محذورا عقليا كاجتماع النقيضين والضدين والخلف والقبح على الحكيم
ونحوها، ومثاله غالب الحركات والأفعال الصادرة منا والنسبة بين هذا الامكان
وسابقه عموم مطلق، فكل ممكن وقوعي ممكن ذاتي ولا عكس لأنه قد يكون الممكن
الذاتي واجبا وقوعيا أو ممتنعا وقوعيا كما ستعرف; فالامكان الذاتي أعم من الامكان
الوقوعي.
الثالث: الوجوب الذاتي وهو كون الشئ بحيث يقتضى الوجود لذاته اقتضاء
79

حتميا ويحكم العقل بمجرد تصور ذاته بأنه لا بد له من الوجود ويمتنع في حقه العدم،
وهذا المعنى منحصر المصداق في ذات الله تعالى فهو الواجب لذاته دون غيره.
الرابع: الوجوب الغيرى وهو وجود علة الشئ وتحققها خارجا، فيطلق على
الشئ حينئذ انه واجب غيرى; اما وجوبه فلانه لا يمكن أن لا يوجد مع فرض وجود
علته التامة واما كونه غيريا فلان المقتضى لوجوده ليس نفس ذاته بل وجود علته
والنسبة بينه وبين الواجب الذاتي هي التباين.
الخامس: الوجوب الوقوعي وهو كون الشئ بحيث يلزم من عدم وجوده محذور
عقلي ويستلزم عدمه امرا باطلا أو محالا عقليا وان كان ممكنا ذاتا، وذلك كالمعلول
الصادر من العلة الواجبة لذاتها والآثار اللازمة للواجب بالذات، فكل موجود خلقه
الله تعالى لاقتضاء ذاته وصفاته تعالى خلقه وايجاده من العقل والروح والنور والماء
ونحوها فهو واجب وقوعي، إذ يلزم من عدمه عدم ذات الواجب وصفاته وهو خلف
محال، والنسبة بينه وبين الوجوب الغيرى عموم من وجه فمادة الافتراق من الغيرى
أفعال العباد ومعلولات الممكنات غالبا إذ لا يلزم من عدم فعلنا الا عدم ارادتنا التي
هي علة ولا محذور فيه، ومادة الافتراق من الواجب الوقوعي ذات الباري تعالى فإنه
كما هو واجب ذاتي واجب وقوعي أيضا إذ يلزم من عدمه الخلف وعدم كونه واجب
الوجود، ومادة الاجتماع المعلول الأول الصادر من الله تعالى فإنه واجب وقوعي
وواجب غيرى، ومنه تعرف النسبة بين الواجب الذاتي والوقوعي أيضا فان الأول
أخص من الثاني إذ كل واجب ذاتي واجب وقوعي وليس كل وقوعي ذاتيا.
السادس: الامتناع الذاتي وهو كون الشئ بحيث يقتضى بذاته العدم اقتضاء
حتميا ويحكم العقل بمجرد تصوره انه ممتنع الوجود كشريك الباري واجتماع
النقيضين والضدين وتقدم الشئ على نفسه وصدور القبيح من الحكيم كما قيل.
السابع: الامتناع الغيرى وهو عدم تحقق علة الشئ، فكل شئ لم يوجد علته
التامة يطلق عليه انه ممتنع غيرى; اما امتناعه فلعدم امكان الشئ بلا علة واما كونه
غيريا فلان عدمه ليس لاقتضاء ذاته بل لعدم علة وجوده.
ومثاله غالب الممكنات فإذا لم يصدر منك الأكل والشرب والنوم في وقت معين
80

مثلا صدق عليها انها ممتنعات غيرية.
والنسبة بينه وبين الممتنع الذاتي عموم مطلق إذ كل ممتنع ذاتي ممتنع غيرى فإنه
لا يعقل تحقق علة للممتنع الذاتي فيكون ممتنعا غيريا أيضا وليس كل ممتنع غيرى
ممتنعا ذاتيا كالممكنات غير الموجودة فالذاتي أخص من الغيرى.
الثامن: الامتناع الوقوعي وهو كون الشئ بحيث يلزم من وقوعه باطل ومحال وإن لم
يكن ذاتا بمحال، وذلك كصدور معلول واحد عن علتين مستقلتين فالحرارة المحدودة
المعينة في ماء مثلا لا يمكن صدورها عن النار والشمس عن الاستقلال، فهي وان
كانت بنفسها ممكنة الا ان صدورها عن علتين مستقلتين ممتنع لاستلزامه صدور
الواحد عن اثنين مع أن المشهور انه لا يصدر الواحد إلا عن الواحد، وهذا أخص من
الممتنع الغيرى فكل ممتنع وقوعي ممتنع غيرى إذ لا يعقل وجود العلة للمتنع الوقوعي
فيكون غيريا أيضا وليس كل غيرى وقوعيا إذ غالب ما لم يوجد علته ممتنع غيرى مع
عدم لزوم محذور من وجوده.
81

الانحلال
استعمال هذا العنوان في علم الأصول يقع في موارد:
منها: مورد وجود العلم الاجمالي بالتكليف المنجز، وينقسم بهذا الاطلاق إلى
الانحلال الحقيقي والانحلال الحكمي.
بيان ذلك أنه إذا حصل للمكلف علم اجمالي بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء
مثلا ثم حصل له الاحراز التفصيلي بالنسبة إلى بعض الأطراف بان انكشف له ان
المعلوم بالاجمال هو هذا دون ذاك وزال العلم الأول وتحقق علم تفصيلي بالواجب أو
الحرام سمى زوال الأول وحدوث الثاني انحلالا.
مثلا إذا علم المكلف اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ثم علم على التفصيل بان
الواجب هو الظهر دون الجمعة أو علم أولا بخمرية ما في أحد الإنائين ثم علم تفصيلا
بان الخمر في هذا الاناء دون ذاك يقال حينئذ انه قد انحل العلم الاجمالي.
هذا هو الانحلال الحقيقي وفى حكمه ما سموه بانحلال الحكمي، مثاله ما إذا قام
دليل معتبر على تعيين المعلوم بالاجمال من دون حصول العلم على طبقه كما إذا أخبر
العادل بان الواجب هو الظهر لا الجمعة أو قامت البينة على أن الخمر هي ما في هذا
الاناء دون ذاك، فيجوز حينئذ الاخذ بمفاد ذاك الدليل وترتيب حكم الواقع عليه
82

وترك الاحتياط في الطرف الاخر وسمى ذلك بالانحلال الحكمي لأنه في حكم
الانحلال الحقيقي في جواز اخذ مؤديه وطرح الآخر بلا ترتب عقاب على المكلف ولو
كان الدليل مخطئا عن الواقع.
تنبيه:
العلم التفصيلي الطارئ بعد العلم الاجمالي يتصور على صور بعضها موجب
للانحلال قطعا وبعضها غير موجب له على المشهور وبعضها مختلف فيه.
فالأول: هو ما لو علم انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل كما إذا علم
تفصيلا بان المغصوب الموجود في البين هو ما في هذا الاناء دون ذاك.
والثاني: ما إذا كان المعلوم بالتفصيل تكليفا حادثا أو عنوانا آخر غير عنوان المعلوم
بالاجمال كما إذا علم اجمالا بغصبية أحد الإنائين ثم وقع قطرة من البول في أحدهما
المعين أو علم اجمالا بالغصبية ثم علم تفصيلا بكون هذا الاناء نجسا من أول الامر وان
احتمل الانطباق في كلتا الصورتين.
والثالث: ما إذا احتمل وحدة التكليف واتحاد العنوانين كما إذا علم اجمالا
بخمرية أحد الإنائين ثم علم بنجاسة أحدهما المعين مع احتمال أن يكون نجاسته
لكونه هو الخمر، أو علم اجمالا بنجاسة أحدهما ثم علم تفصيلا بان هذا الاناء خمر; أو
علم بحرمة أحدهما اجمالا ثم علم بحرمة هذا ولم يعلم وجه الحرمة في متعلق العلمين، ففي
المثال الأول عنوان المعلوم بالاجمال معلوم دون عنوان المعلوم بالتفصيل وفى الثاني الامر
بالعكس وفى الثالث كلا العنوانين مجهولان، وفى هذه الموارد وقع الاشكال
والاختلاف في الانحلال وعدمه فراجع المطولات.
ومنها: مورد انحلال الحكم التكليفي المنشأ بانشاء واحد إلى احكام كثيرة مستقلة
فإذا قال المولى أكرم كل عالم، فالانشاء في هذا الكلام وان كان واحدا الا انه ينحل
لدى العقل والعرف إلى انشاءات كثيرة واحكام مستقلة شتى بعدد افراد الموضوع
ومصاديقه، فكان المولى أنشأ لاكرام كل فرد وجوبا مستقلا بانشاء مستقل فلكل منها
83

امتثال مستقل وعصيان كذلك وكذا إذا قال حرمت عليك الكذب.
ومنها: مورد انحلال الحكم التكليفي المنشأ بانشاء واحد إلى أبعاض كثيرة، وذلك
في الحكم الوحداني المتعلق بموضوع مركب ذي اجزاء، فإذا ورد تجب صلاة الصبح أو
يحرم تصوير ذوات الأرواح، كان الوجوب المترتب على الصلاة امرا وحدانيا بسيطا
منبسطا على اجزاء العمل المركب; فللوجوب وحدة حقيقية وتعدد اعتباري باعتبار
أبعاضه; ولمتعلقه تركب حقيقي ووحدة اعتبارية باعتبار اجتماعه تحت طلب المولى،
فيقال (ح) ان الحكم الواحد منحل إلى اجزاء المركب وتعلق بكل جزء منه حصة من
الامر ويطلق على تلك الحصة الامر النفسي الضمني، وبهذا الاعتبار تجرى البراءة في
الأقل والأكثر إذ يرجع الشك في جزئية شئ للمأمور به إلى الشك في تعلق ذلك
الامر الضمني به والأصل عدم تعلقه وكذلك الكلام في الحرمة من حيث انبساطها على
اجزاء الحرام لا في اجراء البراءة عند الشك كما تقدم في آخر عنوان الأقل والأكثر.
ومنها: مورد انحلال الحكم الوضعي المنشأ بانشاء واحد احكام وضعية مستقلة أو
أبعاض عديدة غير مستقلة، فلو قال البايع بعد تعيين قيمة كل واحد من الأجناس
المختلفة مريدا لايقاع بيع مستقل على كل واحد منها، بعت هذه الأشياء بما عينته لها
من القيمة انحل التمليك والبيع الواحد إلى تمليكات كثيرة وبيوع مستقلة لكل واحد
منها حكمه من اللزوم والجواز وطرو الخيار وعروض الفسخ والإقالة، ولو قال بعت هذه
الدار مثلا انحل البيع الواحد إلى أبعاض كثيرة وتمليكات ضمنية فكل جزء من الدار
مبيع ضمنا وجزء من بيع المجموع، وبهذا الاعتبار قد ينحل ذلك بظهور بعض المبيع
مستحقا للغير ويحصل تبعض الصفقة فهذا من انحلال الحكم الوضعي أعني الملكية إلى
أبعاض كثيرة.
84

الانشائي والاعتباري والانتزاعي
قسموا الأمور المتصورة للانسان، إلى المتأصل وغير المتأصل والثاني إلى الانشائي
ويرادفه الاعتباري والى الانتزاعي.
فالمتأصل، هو ما له وجود حقيقي في عالم التكوين معلول عن علل خاصة تكوينية
ولا توجد بانشائه باللفظ ولا بقصده وإرادته; كالأعيان الخارجية وأوصافها المقولية
المتأصلة.
واما الانشائي أو الاعتباري، فهي الأمور المفروضة المقدرة القابلة للوجود في وعاء
الفرض وعالم الاعتبار بمجرد الجعل والانشاء بلفظ أو غير لفظ يعتبر لها أهل العرف
والعقلاء بعد تحقق عللها نحوا من الوجود يكون منشأ للآثار وموضوعا للاحكام.
واما الانتزاعي فقد يظهر من عدة ترادفه مع الاعتباري، وقد يفرق بينه وبين
سابقيه بان الامر المتأصل له وجود حقيقي وثبات في عالم التكوين، والامر الاعتباري
له تقرر وثبات في عالم الاعتبار فيراه العقلاء امرا متحققا منشأ للآثار، واما الانتزاعي
فلا تقرر له بنفسه في أي وعاء، ولا يراه العقلاء امرا متحققا موضوعا لحكم واثر; وانما
الوجود والتقرر لمنشأ انتزاعه; وذلك كالكليات المنتزعة عن الأعيان الخارجية كان
انتزاعها عن مقام الذات أو عن مرحلة اتصافها باحدى المقولات كالامكان والوجوب
85

والفوقية والتحتية والمحاذاة ونحوها، فهي أمور تصورية تفترق عن المتأصل في أنها لا
تأصل لها ولا وجود وعن الاعتباري في أنها لا تقبل الجعل والانشاء بل هي تابعة
لتحقق منشاء انتزاعها.
فرعان يتعلقان بالاعتباري:
الأول: المعتبر الذي بيده الجعل والانشاء قد يكون هو الشارع وقد يكون أهل العرف
والعقلاء; والنظر منهما قد يختلف في اعتبار شئ وقد يأتلف; فربما يعتبر الشارع
امرا اعتباريا في مورد لا يعتبره فيه العقلاء وأهل العرف كملكية مال الميت لبعض
الوراث وملكية الحبوة للولد الأكبر والزكوات والأخماس للفقراء والسادة والحدث
الأكبر والأصغر على قول ونجاسة بعض الأعيان وطهارة بعضها، وقد يعتبره العقلاء
دون الشارع كملكية الخمر والخنزير وبعض الأعيان النجسة وتحقق الضمان لمتلفها
والزوجية مع بعض المحارم، وموارد التوافق كثيرة.
الثاني: سبب الجعل ومنشأ الاعتبار تارة يكون امرا تكوينيا، وأخرى فعلا من
الأفعال الاختيارية، وثالثة فعلا غير اختياري; ورابعة لفظا من الألفاظ، وخامسة
مجرد القصد والإرادة وقد يتصور غير هذه فهاهنا أقسام:
أولها: كموت المورث ووقوع الصيد في الحبالة وحصول الاحتلام والنوم; فهي
أسباب تكوينية; والملكية والحدث الأكبر والأصغر أمور اعتبارية تعتبر عند حصول
تلك الأسباب.
ثانيها: كبيع المعاطاة وحيازة المباحات وصيد الوحوش والجماع والبول واتلاف
مال الغير عدوانا ونحوها، فهي أفعال اختيارية; والملكية والحدث والطهارة من الحدث
والضمان وغيرها أمور اعتبارية تعتبر عند تحقق تلك الأفعال.
ثالثها: كأخذ اللقطة والاتلاف الخطائيين والقتل بغير عمد ونحوها فهي أفعال
غير اختيارية وضمان العين أو البدل ووجوب الكفارة واشتغال الذمة بدية المقتول
أمور اعتبارية تعتبر عند حصول تلك الأفعال.
رابعها: كصيغ الأوامر والنواهي وسائر الكلمات الصادرة من الشارع مثلا المنشأ
86

بها الأحكام التكليفية والوضعية فالأسباب ألفاظ والاحكام أمور اعتبارية منشأة بها،
فينشأ الشارع بقوله من حاز شيئا ملكه أو من قتل قتيلا فله سلبه ملكية المحوز للحائز
والسلب للقاتل.
وبقوله على اليد ما اخذت ضمان الآخذ، وبقوله فإذا قالت نعم فهي زوجتك
زوجية المرأة للعاقد، وبقوله جعلته حاكما أو قاضيا منصب الحكومة والقضاوة للفقيه
وبقوله ما أدى عنى فعنى يؤدى حجية خبر الثقة وبقوله يا ابان اجلس في المسجد وافت
للناس حجية فتواه ونحو ذلك.
ومن هذا القسم أيضا صيغ العقود والايقاعات فينشأ المجرى لتلك الصيغ الملكية
والزوجية والطلاق والانعتاق والابراء والخيار والفسخ في العقود والرجعة في الطلاق
ونحوها فهي أمور انشائية وأسبابها ألفاظ صادرة من المكلفين.
ومنه أيضا المتكلم بكلمة أزيد قائم وليت الشباب يعود ولعل الله يشفى المريض
وألفاظ المدح والذم ونحوها فان الاستفهام والتمني والترجي والمدح والذم أمور انشائية
اعتبارية توجد بتلك الألفاظ.
خامسها: كإباحة بعض الأشياء للمكلفين برضا الشارع حيث قلنا بعدم الانشاء
وإباحة الأموال للمتصرف برضا صاحبها وحرمة ما أباحه بعدوله عن رضاه ونحوها.
87

الانفتاح والانسداد
لا اشكال في انفتاح باب العلم وامكان الوصول إلى الأحكام الواقعية الاعتقادية -
عقلية كانت أو نقلية - كوجوب معرفة الباري جل شأنه ومعرفة أوصافه ووجوب
معرفة الأنبياء والأئمة " عليهم السلام " واصل المعاد وبعض خصوصياته، فلنا أدلة كثيرة
عقلية وسمعية توجب العلم بتلك الاحكام.
فباب العلم بالاحكام الاعتقادية مفتوح وهذا انفتاح في الاعتقاديات والعلماء
فيها انفتاحيون.
واما الأحكام الشرعية الفرعية من التكليفية و الوضعية والواقعية والظاهرية، فقد
اختلفت فيها آراء الأصحاب.
فمنهم: من يدعى امكان الوصول إليها علما وان لنا إليها طريقا حقيقيا منجعلا
وهو العلم ولا فرق بين حال حضور الامام " عليه السلام " وامكان التشرف بحضرته وبين
حال الغيبة، فلنا ظواهر قطعية واخبار متواترة تورث للمتتبع العلم الوجداني بالاحكام
كلها أو جلها وليسم هذا المعنى انفتاحا حقيقيا، والقائل بذلك كان بعض علمائنا في
الصدر لأول كالسيد المرتضى وغيره ممن كانوا قريبي العهد من عصر بعض الأئمة
" عليهم السلام " وكان يمكنهم تحصيل العلم والاطلاع على الاحكام.
88

ومنهم: من ينكر الوصول بنحو العلم ويدعى انفتاح باب العلمي إلى غالب
الاحكام بمعنى ان لنا طرقا وأدلة مجعولة من طرف الشرع والعقل موصلة إلى معظمها أو
جميعها وافية في اثباتها، كخبر الثقة والاجمال المحصل والمنقول والشهرة الفتوائية
وحكم العقل، وتلك الطرق مقطوعة الاعتبار ويطلق عليها العلمي للعلم باعتبارها
وكون دليل اعتبارها قطعيا، فهو يدعى انفتاح باب العلمي دون العلم، وليسم هذا
المعنى انفتاحا حكميا والقول به مشهور شهرة عظيمة تقرب من الاتفاق.
ومنهم: من يدعى الانسداد وانه لا طريق لنا إلى الواقع لا علما ولا علميا ويطلق
على هذا المعنى الانسداد وعلى قائله الانسدادي.
ثم اعلم أن للقائل بالانسداد عند الشك في التكاليف الواقعية دليلا عقليا يطلق
عليه دليل الانسداد، وعلى مقدماته مقدمات الانسداد، ونتيجة ذلك الدليل وجوب
العمل بكل ظن تعلق بثبوت الأحكام الواقعية أو بسقوطها سواء حصل من ظواهر
الكتاب والسنة أو غيرهما ويعبرون عن كل ظن ثبت حجيته بهذا الدليل بالظن
المطلق في مقابل الظن الخاص الذي ثبت حجيته بغير هذا الدليل.
وهذا الدليل مبنى على مقدمات خمس:
الأولى: انا نعلم اجمالا بوجود احكام واقعية كثيرة في الشرع.
الثانية: انه قد انسد علينا باب العلم والعلمي بكثير منها.
الثالثة: انه لا يجوز لنا اهمالها والاعراض عنها وعن التعرض لموافقتها وامتثالها لأنه
مستلزم للخروج عن الدين.
الرابعة: انه لا يجب أولا يجوز الاحتياط الكلى في أطرافها بمعنى فعل جميع مظنونات
الوجوب ومشكوكاته وموهوماته من أفعال المكلفين وترك جميع مظنونات الحرمة
والمشكوكات والموهومات منها فإنه مستلزم للعسر والحرج فلا يجب أو لاختلال النظام
فلا يجوز; ولا يجوز التقليد أيضا لان الكلام في المجتهد الذي يرى عدم وفاء نصوص
الكتاب والمتواتر من الاخبار الا بالقليل من الاحكام وعدم حجية اخبار الآحاد;
فرجوعه إلى المجتهد الآخر واخذ فتاويه المأخوذة من الخبر الواحد مثلا من قبيل رجوع
العالم إلى الجاهل.
89

الخامسة: ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح.
وحاصل تلك المقدمات انه بعد العلم بوجود احكام فعلية وعدم امكان العلم
التفصيلي بها وعدم جواز اهمالها أو الاحتياط التام في أطرافها يلزمنا التبعيض في
الاحتياط فيدور الامر بين ان نعمل بظننا ونأتي بمظنونات الوجوب مثلا ونترك ما
شككنا أو وهمنا وجوبه وبين عكسه ولا اشكال في وجوب الأول فينتج لزوم العمل
بالظن.
تنبيه:
اختلف القائلون بالانسداد وتمامية هذا الدليل في أن مفاده ونتيجته هل هو
حجية الظن عقلا بمعنى ان العقل يحكم بلزوم العمل عليه كحكمه بحجية القطع بلا
حصول جعل من الشارع، أو ان مفاده حجيته شرعا بمعنى انا نستكشف منه ان الشارع
جعله حجة وأمرنا باتباعه كخبر العدل والثقة عند من قال بحجيتهما، وعلى التصوير
الأول يقال ان الظن الانسدادي حجة على الحكومة وعلى التصوير الثاني يقال إنه
حجة على الكشف والمنشأ في هذا الاختلاف هو ان عدم لزوم الاحتياط هل هو بحكم
العقل أو بحكم الشرع.
90

انقلاب النسبة ودوامها
مورد هذين العنوانين هو تقابل أكثر من دليلين مع امكان الجمع العرفي بينها أو بين
بعضها مع بعض آخر، فإذا لوحظ ابتداء حال أحدهما مع صاحبه وعمل بينهما على نحو
يقتضيه نظر العرف ثم لو حظ حاله مع الثالث فتارة تنقلب النسبة بينهما عما كانت
قبل ذلك فيتحقق عنوان انقلاب النسبة وأخرى لا تنقلب فيوجد عنوان دوامها.
مثال الانقلاب ما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الفساق منهم وورد أيضا
لا تكرم النحويين منهم، فالنسبة ابتداء بين الثاني والثالث عموم من وجه وبين كل
منهما مع الأول عموم مطلق، فإذا جعلنا الخاص الأول مخصصا للعام تغير عنوان العام
وانقلبت النسبة بينه وبين الخاص الثاني إلى العموم من وجه فكأنه قال أكرم العلماء
غير الفساق ولا تكرم النحويين منهم فمادة الافتراق من ناحية الأول العالم الفقيه ومن
الثاني النحوي الفاسق ومادة الاجتماع العادل النحوي.
ثم إن الحكم هنا هو ملاحظة النسبة الأولية وجعل كلا الخاصين مخصصا للعام في
عرض واحد ما لم يستلزم الاستغراق أو التخصيص المستهجن، فان استلزم ذلك يؤخذ
بأحد الخاصين ويخصص به العام ويطرح الخاص الآخر.
ومثال عدم الانقلاب ما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا تكرم الأصوليين وورد
91

أيضا لا تكرم النحويين وفرضنا التباين بين الخاصين، فإذا خصصنا العام بالخاص
الأول وصار عنوان العام العالم الغير الأصولي كان النسبة بينه وبين الخاص الثاني هي
النسبة الأولى بعينها فان كل عالم نحوي عالم غير أصولي وليس كل عالم غير أصولي عالما
نحويا كالفقيه القليل المعرفة بالنحو.
ثم إن أقسام انقلاب النسبة وعدمه كثيرة جدا واحكامها مختلفة اقتصرنا على
المثالين خوفا من الإطالة فراجع مظانها.
92

التبادر
هو في الاصطلاح عبارة عن انسباق المعنى إلى الذهن من اللفظ عند سماعه; فإن كان
ذلك من نفس اللفظ بلا معونة قرينة كان ذلك علامة كون ذلك اللفظ حقيقة
في ذلك المعنى وموضوعا له بوضع تخصيصي أو بوضع تخصصي، لبداهة انه لولا وضعه
له لما تبادر ذلك منه ولما انسبق، فإذا سمعت قول المولى جئني بأسد واستبق إلى
ذهنك من الكلام وجوب الاتيان بالحيوان المفترس قلت إن هيئة الامر حقيقة في
الوجوب وكلمة أسد حقيقة في الحيوان المفترس وهكذا.
93

التجري
هو في اللغة الجرئة وعدم الخوف في مورد يكون معرضا له.
وفى اصطلاح هذا العلم فعل أو ترك، يقطع أو يتخيل كونه مخالفة للمولى
وعصيانا لحكمه، مع عدم المخالفة واقعا.
كما أن المعصية الحقيقية هو الاقدام على مخالفة المولى فيما صادف الواقع، فالنسبة
بين التجري والمعصية الحقيقية هو التباين، فمن شرب الماء معتقدا لخمريته تحقق
التجري دون المعصية، ومن شرب الخمر ملتفتا إلى الخمرية والحرمة تحقق العصيان
دون التجري.
وقد يطلق التجري على مطلق الجرئة على المولى صادف الواقع أم خالفه وعليه
يكون التجري أعم مطلقا من العصيان.
ثم إن التجري هل هو عنوان ينطبق على إرادة الشخص المتجرى، فهو فعل من
أفعال القلب ومعناه العزم على العصيان والقصد إلى مخالفة المولى مع اتيان ما يعتقد
كونه عصيانا، أو هو عنوان ينطبق على الفعل الخارجي فهو من أفعال الجوارح ومعناه
العمل الذي يعتقدانه مخالفة للمولى، قولان اختار كل واحد منهما عدة من المحققين.
فعلى الأول: يكون قبح التجري عقليا، من جهة خبث باطن الشخص وسوء قصده
94

وإرادته ويطلق عليه القبح الفاعلي، وعلى الثاني يكون من أجل سوء عمله الخارجي
ويطلق عليه القبح الفعلي، وفى استلزام القبح العقلي فعليا كان أو فاعليا للحرمة
الشرعية كلام سيجئ التعرض له.
تنبيهان:
الأول: يقع الكلام تارة في قبح التجري عقلا وأخرى في حرمته شرعا وثالثة في
سببيته لاستحقاق العقوبة، وعلى التقادير اما ان نقول بانطباق عنوان التجري على
القصد والإرادة واما بانطباقه على الفعل المتجرى به.
وحينئذ نقول إن للأصوليين هاهنا أقوالا:
منها: القول بانطباق عنوان التجري على الإرادة وسببيته لاستحقاق العقاب مع
عدم قبحه عقلا وعدم حرمته شرعا، وهذا هو مختار صاحب الكفاية (ره) على ما يظهر
من كلامه فذهب إلى أن الإرادة المستتبعة لفعل ما يعتقد كونه معصية لا تكون قبيحا
عقلا ولا حراما شرعا، فإنهما من عوارض الامر الاختياري والإرادة ليست اختيارية،
والاستحقاق معلول للبعد عن المولى الحاصل بتلك الإرادة.
واما الفعل الخارجي كشرب الماء المقطوع بخمريته فهو باق على ما هو عليه من
الأحوال والاحكام ولم ينطبق عليه عنوان يجعله قبيحا أو حراما.
ومنها: القول بانطباقه على الإرادة وقبحه عقلا مع عدم حرمته وعدم العقاب عليه
شرعا وذلك لاجل ان النية والقبح الفاعلي لا تكون حراما ولا توجب استحقاق
العقاب; وان كان قبيحا عقلا، والملازمة بين القبح العقلي والحرمة الشرعية على القول
بها انما هي في القبح الفعلي الذي هو مجرى قاعدة الملازمة لا الفاعلي كما فيما نحن فيه،
وهذا أيضا مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه وعدم انطباق عنوان عليه يغيره
وهذا هو مختار الشيخ (ره) في رسائله.
ومنها: القول بانطباق التجري على الفعل الخارجي وقبحه عقلا وسببيته
لاستحقاق العقاب مع عدم حرمته شرعا فان القبح والاستحقاق العقليين لا يستلزمان
95

الحرمة الشرعية فهما (ح) مترتبان على عنوان هتك حرمة المولى والإهانة له وطغيان
العبد وخروجه عن زي الرقية; وكل تلك العناوين تنطبق على الفعل المتجرى به
فيكون قبيحا عقلا وسببا لاستحقاق العقاب.
بل العلة التامة للاستحقاق حتى في المعصية الحقيقية انما هي تلك العناوين لا
تفويت المصلحة الواقعية بترك الواجب أو الوقوع في المفسدة الواقعية بفعل الحرام، ولا
مخالفة الامر والنهى الواقعيين، فإنهما يتحققان كثيرا في موارد الخطاء والنسيان والجهل
القصوري مع عدم العقاب حينئذ قطعا، وبالجملة ما يمكن أن يكون علة للعقاب أمور
ثلثة:
الأول: تفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة.
الثاني: مخالفة الامر أو النهى.
الثالث: هتك حرمة المولى والطغيان عليه، والأظهر لدى التأمل هو الثالث وهو
موجود في صورة التجري أيضا كالمعصية الحقيقية وهذا القول قوى.
الثاني: ان هنا عنوانا آخر يسمى بالانقياد يضاهى التجري ويماثله، وهو الفعل أو
الترك لما يقطع أو يتخيل كونه طاعة للمولى ومطلوبا له مع عدم كونه في الواقع
كذلك، ويقابله الطاعة الحقيقية وهو الاقدام على طاعة المولى فيما صادف الواقع.
والبحث في الانقياد نظير البحث في التجري; في أنه هل هو عنوان ينطبق على
القصد أو على الفعل الخارجي، وانه هل يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا وسببا
لاستحقاق المثوبة أم لا. والحاصل انهما متماثلان توأمان مرتضعان من أم واحدة بلبن
واحد.
96

التخصص
هو في الاصطلاح خروج مورد عن موضوع دليل خروجا حقيقيا وجدانيا بلا وساطة
تعبد ولا معاونة دليل كخروج الخل عن موضوع دليل حرمة الخمر وخروج زيد
الجاهل عن دليل وجوب اكرام العلماء.
فنقول مثلا في مقام بيان: ان الحرمة مترتبة على افراد الخمر واما الخل فهو خارج
عن موضوع ذلك الدليل تخصصا، ونقول في مقابل من تخيل ان زيدا عالم يجب اكرامه
ان الواجب هو اكرام العالم واما زيد فهو خارج عن موضوع الوجوب تخصصا; فيطلق
على هذا النحو من الخروج التخصص وعلى الدليل المخرج عنه المتخصص (بالفتح)
وعلى المورد المحكوم بالخروج الخارج بالتخصص والفرق بينه وبين الورود سيجئ
تحت عنوان الورود.
97

التخطئة والتصويب
التخطئة: في الاصطلاح عبارة عن أن يكون لحكم أو موضوع ذي حكم وجود
واقعي محفوظ قد يخطئه المجتهد المريد للوصول إليه بطريق معتبر من علم أو امارة وقد
يصيب فالقائلون بواقع محفوظ للشئ قد يصيبه طالبه وقد لا يصيبه يسمون بالمخطئة.
والتصويب: عبارة عن تبعية واقع الشئ لما أدى إليه الطريق المعتبر والقائلون
بذلك يسمون مصوبة.
ثم إن التخطئة والتصوب تارة يلاحظان في الحكم العقلي وأخرى في الحكم
الشرعي وثالثة في الموضوع المرتب عليه الحكم، وعلى كل تقدير اما ان يلاحظا فيما إذا
حصل للمجتهد القطع بهذه الأمور أو يلاحظا فيما إذا قامت الامارة المعتبرة عليها، واما
الأصول العملية فهي ليست طرقا إلى الواقع فلا يلاحظ فيها عنوان التخطئة
والتصويب.
اما الأول: أعني العقليات سواء كان الطريق إليها علما أو غير علم فلا اشكال بل
لا خلاف ظاهرا في التخطئة فيها، فالعقل يحكم بامتناع اجتماع الضدين والنقيضين
وحسن الاحسان وقبح الظلم وغيرها مما استقل به العقول والمعتقد على وفق تلك
الأمور مصيب وعلى خلافها مخطئ، وليس اجتماع الضدين وامتناعهما تابعين لعلم
98

الناس فمن اعتقد الامتناع امتنع في حقه ومن اعتقد الجواز جاز.
وكذا الكلام في الموضوعات سواء كانت عرفية محضة أو شرعية مستنبطة فإنه لا
يعرف القائل بالتصويب فيها; فلكل موضوع كالغنى والفقير والبيع والإجارة والكرو
القليل بل والطهارة والنجاسة واقع محفوظ يصيبه الطريق تارة ويخطئه أخرى لا ان
البيع مثلا عند المعتقد بيعيته بيع وعند الجاهل ليس ببيع.
واما الأحكام الشرعية فقد وقع الاختلاف فيها على أقوال: الأول: التصويب
مطلقا في صورة العلم بالواقع وقيام الامارات عليه، الثاني: التخطئة كذلك، الثالث:
التفصيل بين العلم والامارات بالقول بالتخطئة في الأول واما الثاني فبالنسبة إلى
الحكم الواقعي الانشائي القول بالتخطئة أيضا وبالنسبة إلى الظاهري الفعلي القول
بالتصويب.
ومنشأ القولين الأخيرين هو الاختلاف في أن حجية الامارة هل هي بنحو
الطريقية أو السببية، فمن قال بالأول ذهب إلى القول الثاني ومن قال بالثاني ذهب
إلى القول الثالث.
مثلا إذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة وأمر الشارع بتصديقه فبناء على
الطريقية يكون امره بتصديقه عبارة عن جعل قوله طريقا إلى الواقع من دون جعل
حكم آخر في قبال الواقع وهذا الطريق قد يكون مصيبا منجزا للواقع وقد يكون مخطئا
معذرا عن تركه فلنا واقع ثابت أصبناه تارة وأخطأناه أخرى.
واما بناء على السببية يكون مفاد وجوب التصديق هو جعل حكم نفسي على
طبق اخباره صادف قوله الواقع أو خالفه ويرجع الواقع إلى المرتبة الانشائية فهذا
الطريق بالقياس إلى الواقعي الانشائي وان كان يلاحظ فيه الخطاء والصواب الا انه
بالقياس إلى الفعلي الظاهري لا معنى له بل ذلك الحكم تابع لقيامه وهذا ما قالوا من
التخطئة والتصويب الإضافيين.
تنبيهات:
أولها: ان مراد القائلين بالتصويب مطلقا يتصور على أقسام:
99

الأول: أن لا يكون في فعل المكلف الجاهل بالحكم مصلحة ولا مفسدة أصلا
تقتضيان جعل الحكم في حقه فلم ينشأ الله تعالى بالنسبة إليه حكما واللوح المحفوظ
المكتوب فيه حكم كل شئ خال عن حكم فعل هذا المكلف لخلوه عن علل
الاحكام ومصالحها، فإذا تتبع وتفحص وقام عنده طريق معتبر على حكم من
الاحكام انشاء الله وأوجده في حقه وأمر بان يكتب في اللوح المحفوظ. وحينئذ إذا قام
عند أحد طريق على وجوب الجمعة مثلا وعند آخر طريق على حرمتها وعند ثالث على
استحبابها، تولد في فعل الأول المصلحة الملزمة فينشأ الله تعالى وجوبها في حقه وفى فعل
الثاني المفسدة الملزمة فينشأ حرمتها في حقه وهكذا.
الثاني: أن يكون في الواقع في كل فعل من الأفعال الاقتضائية مصلحة أو مفسدة
ملزمة أو غير ملزمة، وتكون احكام الأفعال أيضا منشأة على حسب اقتضاء تلك
المصالح والمفاسد سواء في ذلك العالم والجاهل، لكنه إذا تفحص الجاهل فأصاب
الواقع كان ذلك هو حكمه الثابت غير المتغير; وان أخطأ طريقه وادى إلى غير الواقع
زال الملاك الواقعي من المصلحة والمفسدة وانتفى الحكم المسبب عنه أيضا انشاء
وفعلية وحدث ملاك على طبق تأدية طريقه وحدث حكم مناسب للملاك الحادث
أو غلب الملاك الحادث على الملاك السابق فتبعه الحكم، فلو كانت الجمعة ذات
مفسدة ومحرمة وقام طريق عنده على وجوبها زالت المفسدة بالكلية أو غلبت المصلحة
عليها بحيث كان المقدار الزائد بحد الالزام فصارت واجبة في حقه.
الثالث: أن يكون الفعل كالصورة السابقة ذا ملاك وحكم في الواقع وبعد قيام
الطريق على خلافه أيضا لم يزل ملاكه باقيا ولم يحدث فيه نقص أصلا ولم ينتف
الحكم الواقعي أيضا إلا عن مرتبة الفعلية فالجمعة المحرمة واقعا محرمة وان قامت الامارة
على خلافها الا ان الحادث بسبب قيام الامارة أمور:
أحدها: سقوط الحكم الواقعي عن الفعلية ورجوعه إلى مرتبة الانشاء.
ثانيها: حدوث مصلحة في امر الشارع بتبعية تلك الطريق كمصلحة تسهيل الامر
على المكلف أو احترام العادل مثلا ليجبر بها ما فات من الواقع.
ثالثها: حدوث حكم ظاهري مسبب عن تلك المصلحة الحادثة.
100

ثانيها: قد ادعى الاجماع وتواتر الاخبار على بطلان التصويب بالمعنى الأول والثاني
وتسالموا على أن لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل، ومن قامت عنده
الامارة على وفاته أو خلافه، واما التصويب بالمعنى الثالث فلا دليل على بطلانه بل
يمكن أن يكون مراد القائلين بالسببية من أصحابنا الامامية هو هذا المعنى. فراجع
عنوان السببية والطريقية.
ثالثها: الفرق بين التصويب بالمعنى الأول والثاني من وجوه:
أحدها: انه قبل قيام الامارة لدى الجاهل لا حكم له في الواقعة أصلا على الأول
وله حكم واقعي كالعالمين على الثاني.
ثانيها: ان قيام الامارة الموافقة يؤثر في توليد المصلحة والمفسدة والحكم على الأول
ولا تأثير له فيها على الثاني.
ثالثها: انه بعد قيام الامارة المخالفة لا مقتضى لغير حكم الامارة على الأول دون
الثاني فان فيه قد يكون ملاك الحكم الواقعي موجودا وان كان غير مؤثر شيئا ومغلوبا
لملاك حكم الامارة.
رابعها: ان قيام الامارة على الوجهين الأولين سبب لجعل الحكم الواقعي وعلى
الوجه الثالث سبب لجعل الحكم الظاهري.
101

التخيير وأقسامه
يستعمل هذا العنوان في علم الأصول في موارد ثلاثة:
الأول: مورد دوران الامر بين وجوب فعل وحرمته; كما إذا علم المكلف اجمالا
بوجوب صلاة الجمعة أو حرمتها; ومورد دورانه بين وجوب فعل وحرمة آخر وبين
عكسه، فيتخير المكلف في المثال الأول بين فعل الجمعة وتركها; وفى المثال الثاني بين
فعل أحدهما وترك الاخر وليس له الجمع بين فعلهما معا ولا تركهما كذلك، وهذا
القسم هو مجرى أصالة التخيير. والتخيير هنا حكم عقلي ظاهري جار في المسألة
الفرعية ولذا عدوا أصالة التخيير من الأصول العقلية راجع عنوان أصالة التخيير.
الثاني: مورد تزاحم الحكمين في مقام الامتثال مع عجز المكلف عن امتثالهما معا
كالضدين الواجبين أو المستحبين، كما إذا عجز عن انقاذ كلا الغريقين مع كونهما
واجبي الانقاذ، والبحث في هذا القسم مربوط بباب التزاحم والتخيير هنا حكم عقلي
واقعي مجراه المسألة الفرعية.
الثالث: مورد تنافى الخبرين المتعارضين أو مطلق الامارتين المتعارضتين مع عدم
مرجح لأحدهما في البين وعدم كون حكمهما التساقط والرجوع إلى الأصول العملية
والبحث في ذلك موكول إلى باب التعارض وباب المرجحات والتخيير هنا حكم
102

ظاهري شرعي متعلق بالفقيه دون العامي ثابت بأدلة العلاج جار في المسألة الأصولية
أعني الحجية.
تنبيه:
هل التخيير الثابت للفقيه في القسم الأخير ابتدائي أو استمراري؟ فيه وجهان بل
قولان:
بيانه: انه إذا دل دليل على وجوب الجمعة ودليل آخر وجوب الظهر مثلا
وقلنا بتخيير الفقيه فهل له ان يختار مرة الخبر الدال على وجوب الجمعة وأخرى الدال
على الظهر وهكذا فله التخيير دائما وفى جميع الوقايع; أو ليس له التخيير الا في الواقعة
الأولى فإذا اختار أحدهما ابتداء ليس له ان يعدل إلى الاخر بعد ذلك.
وجهان: ذهب عدة إلى الأول تمسكا باطلاق أدلة التخيير، كقوله " عليه السلام ":
" إذا فتخير " وقوله " عليه السلام ": " وبأيهما اخذت من باب التسليم وسعك "، أو
باستصحاب التخيير الثابت في أول الامر.
وذهب آخرون إلى الثاني لمنع كون الاطلاق في مقام البيان من حيث البقاء على
التخيير ومنع جريان الاستصحاب للشك في بقاء موضوعه، إذ موضوع التخيير ان كان
هو المتحير ومن لم يختر لنفسه حجة فمرتفع قطعا; وان كان هو الشاك في الحكم الواقعي
والواصل إليه الخبران المتعارضان فباق قطعا فلا يجرى الاستصحاب، فيدخل المورد في
مسألة دوران الامر بين التعيين والتخيير فيكون حجية ما اختاره أو لا مقطوعة وحجية
الاخر مشكوكة محكومة بالعدم.
واما القسم الأول ففي كون التخيير فيه أيضا بدويا أو استمراريا خلاف الا ان
الأقوى هو التخيير الاستمراري لحكم العقل به في الزمان الثاني والوقايع البعدية
التدريجية كما حكم به أولا والتفصيل في محله.
103

الترتب
هو في الاصطلاح اجتماع حكمين فعليين في موضوع واحد أو موضوعين في وقت واحد
بحيث لا يقدر المكلف على امتثالهما معا مع كون أحدا الحكمين مطلقا والآخر مشروطا
بعصيان الامر المطلق أو ببناء العبد على عصيانه.
ويتصور الترتب في غالب أمثلة تزاحم الحكمين كما سيجئ ونذكر بعضها توضيحا
لمعنى الترتب وتبيينا للقيود المأخوذة في تعريفه فنقول:
الأول: تصويره بين حكمي الضدين الواجبين أحدهما أهم والاخر مهم كما في
مثال الغريقين أحدهما ابن للمولى والآخر اخ له مع عدم قدرة عبده على انقاذهما معا،
فيقول المولى بنحو الاطلاق يجب عليك انقاذ الولد ثم يقول لو عصيت امرى أو بنيت
على عصيانه وجب عليك انقاذ الأخ، فقبل بناء العبد على عصيان الأهم ليس هنا
الا حكم واحد فعلى متعلق بانقاذ الولد، فإذا بنى العبد على عصيانه وحصل شرط الامر
الثاني اجتمع هنا حكمان فعليان في موضوعين متضادين أحدهما انقاذ الولد والآخر
انقاذ الأخ مع عدم قدرة العبد على كلا الانقاذين وامتثال كلا الامرين.
فالقائل ببطلان الترتب يقول إن توجيه الامرين إلى المكلف على هذا النحو
يساوق توجيههما إليه مع كون الامرين مطلقين، في لزوم طلب الضدين والتكليف بما
104

لا يطاق القبيح على الحكيم.
والقائل بصحته يجوز ذلك بدعوى حكم العقل والوجدان بعدم قبح توجيه الحكمين
على هذا المنوال مع أن للمكلف مندوحة على المخالفة والعصيان، إذ له امتثال الامر
الأهم وعدم البناء على عصيانه لئلا يتوجه إليه امر آخر وعقاب على مخالفته.
ومن هذا القبيل الامر المطلق بإزالة النجاسة عن المسجد والامر المشروط بالصلاة
المضادة لها، فيأمر الشارع بكلا الفعلين مع جعله الامر الثاني مشروطا بعصيان الامر
الأول، والترتب هنا بين حكمين وجوبين في موضوعين متضادين.
والثمرة بين القول بالترتب وعدمه تظهر في صورة امتثال امر المهم وترك الأهم
وصورة ترك امتثالهما معا كما إذا فرضنا انه في المثال السابق أنقذ الأخ وترك انقاذ
الولد أو ترك الفعلين معا فعلى القول ببطلان الترتب كان الثابت عقابا واحدا على
التقديرين إذ ليس هنا الا وجوب واحد خالفه المكلف; وعلى الصحة يستحق في
الفرض الأول ثواب انقاذ الأخ وعقاب ترك الولد وفى المثال الثاني يستحق عقابين
لمخالفة التكليفين.
الثاني: تصويره في التزاحم بين حكمي المقدمة فيما إذا صار الحرام مقدمة لواجب
أهم، كما إذا كان الدخول في دار الغير مقدمة الانقاذ غريق فأوجب المولى الدخول
مقدمة للانقاذ ثم قال إن بنيت على عصيان امر الانقاذ حرمت عليك الدخول
والتصرف; فإذا بنى العبد على العصيان تحقق امران فعليان وجوب التصرف في ملك
الغير مقدميا وحرمة التصرف نفسيا لحصول شرطها وهو البناء على العصيان في موضوع
واحد أعني الدخول في ملك الغير أو التصرف في مائه.
والترتب هنا بين حكمين أحدهما ايجاب والاخر تحريم في موضوع واحد.
والثمرة تظهر فيما إذا لم يرد العبد امتثال امر الأهم ومع ذلك دخل الدار فعلى
البطلان يستحق عقابا واحدا على ترك ذي المقدمة وعلى الصحة يستحق عقابين
لترك الانقاذ والتصرف المحرم بعد إرادة العصيان.
الثالث: تصويره في التزاحم لاجل اختلاف حكمي المتزاحمين كما إذا لزم من
اكرام عالم إهانة عام آخر وكان حكم حرمة الإهانة أقوى من وجوب الاكرام، فيقول
105

المولى يحرم اكرام زيد لاستلزامه إهانة عمرو فان بنيت على عصياني وأردت إهانة
عمرو فيجب عليك اكرام زيد، والترتب هنا بين حكمين تحريمي وايجابي في موضوع
واحد هو اكرام زيد وحينئذ لو ترك اكرام زيد لم يتحقق معصية أصلا ولو أراد إهانة
عمرو فأكرم زيدا فبناء على بطلان الترتب حيث يكون إهانة عمرو محرمة نفسا
واكرام زيد مقدمة لا يستحق الا عقابا واحدا وبناء على الصحة يستحق عقابا لإهانة
عمرو وثوابا لاكرام زيد.
الرابع: تصويره في باب اجتماع الامر والنهى كوجوب غسل الثوب وحرمة
التصرف في ماء الغير بان يقول المولى حرمت عليك الغصب والغسل ولو بنيت على
العصيان والتصرف فأوجبت عليك الغسل والترتب هنا بين الوجوب والحرمة في
موضوع واحد; والثمرة تظهر فيما لو بنى على العصيان فتصرف بغسل الثوب فعلى البطلان
لا يترتب الاعقاب واحد وعلى الصحة يترتب عقاب على التصرف وثواب على
الغسل.
تنبيهان:
الأول: إذا جعل عصيان الامر المتعلق بانقاذ الولد مثلا شرطا في فعلية الامر
المتعلق بانقاذ الأخ، فتارة يفرض ان نفس العصيان شرط وأخرى يفرض ان الشرط
هو بناء العبد على تركه.
لا يقال إذا كان نفس العصيان شرطا فلا يحصل الشرط الا بعد انقضاء زمان
انقاذ الولد وموته; إذ لا يحصل العصيان الا بمضي الوقت وفى هذا الحال يفوت وقت
انقاذ الأخ أيضا فيلزم أن يكون فعلية امر المهم بعد انعدام موضوعه.
لأنا نقول إن المراد من شرطية العصيان كونه شرطا متأخرا كشرطية الغسل الليلي
لصوم المرأة المستحاضة لا شرطا متقدما أو مقارنا.
الثاني: بناء على صحة الترتب لا يختص ذلك بحكمين بل يلاحظ في الاحكام
الكثيرة في وقت واحد، فيقول المولى أنقذ ولدى والا فأخي والا فعمي والا ففرسي
106

والا فصل ركعتين والا فاغسل ثوبك مثلا فإذا اشتغل المكلف بالأهم الأول لم يتحقق
شرائط الأوامر الباقية ولا يكون محذور في فوتها; وان ترك الجميع استحق العقاب على
جميعها; وان فعل البعض فإن كان الفعل المتوسط استحق العقاب على السابق دون
اللاحق وهكذا.
107

التزاحم ومرجحاته
هو تمانع الحكمين المجعولين في مقام الامتثال مع وجود ملاكهما وعدم المانع عن فعليتهما
غالبا الا عجز المأمور عن امتثالهما.
وعليه فالتزاحم وصف للحكم والمتزاحمان هما الحكمان، وعلى هذا فلو تمانعا في
مقام الجعل بان لم يمكن للمولى الا جعل أحدهما فلا يطلق عليهما المتزاحمان والتزاحم
على أقسام خمسة يتضح معناه وأمثلته في ضمن تلك الأقسام.
القسم الأول: التزاحم لاجل اتحاد متعلق الحكمين اتفاقا كباب اجتماع الامر
والنهى فإذا ورد الامر بغسل الثوب والنهى عن الغصب وكان ههنا ماء مغصوب،
فالوجوب يقتضى وجود الغسل والحرمة تدعوا إلى عدمه فهما يتمانعان من حيث إن
كلا منهما يقتضى صرف قدرة المكلف إلى متعلقه ويمنعه من الاتيان بالاخر مع وجود
ملاك كلا الحكمين أعني مصلحة الغسل ومفسدة الغصب.
القسم الثاني: التزاحم بين الضدين الواجبين أو المستحبين كالمؤمنين الغريقين مع
عدم قدرة المكلف على انقاذ كليهما.
القسم الثالث: التزاحم بين المقدمة وذي المقدمة فيما إذا صار الحرام مقدمه لواجب
أو صار الواجب مستلزما لحرام، فإذا توقف انقاذ غريق على التصرف في ملك الغير
108

فهنا حكمان وجوب الانقاذ وحرمة الغصب فالحرام وقع مقدمة للواجب ووجود التمانع
والملاكين معلومان، وكذا لو استلزم الوضوء في محل تخريب ملك الغير والواجب هنا
مستلزم للحرام.
القسم الرابع: التزاحم لاجل اختلاف حكم المتلازمين; كما إذا لزم من اكرام
عالم إهانة عالم آخر فيقع التزاحم بين الوجوب والحرمة ويدور الامر بين مراعاة جانب
الوجوب وان حصل منها مخالفة للحرام ومراعاة جانب الحرمة وان استلزمت طرح
الواجب.
القسم الخامس: التزاحم لاجل اتحاد حكم الشئ وحكم عدمه كما إذا كان
الصوم يوم العاشور مستحبا لوجود مصلحة في فعله وعدمه أيضا مطلوبا لمصلحة في تركه
فيكون المورد من قبيل التزاحم بين المتناقضين.
ثم إنه إذا تحقق في مورد قسم من الأقسام فلا اشكال في حكم العقل بالتخيير إذا
لم يكن ترجيح لاحد الطرفين وبالترجيح إذا كان مرجح في البين.
مرجحات باب التزاحم
والكلام في بيان مرجحات أحد الحكمين وهي على أقسام:
الأول: كون أحدهما مقطوع الأهمية أو محتملها كما إذا كان أحد الغريقين مؤمنا
صالحا والاخر فاسقا طالحا قطعا أو احتمالا فيقدم الأول على الثاني.
الثاني: ان يؤخذ القدرة الشرعية في موضوع أحد المتزاحمين دون الاخر، مثلا إذا
قال المولى أد دينك وقال أيضا حج إذا لم يكن عليك دين ودار امر المكلف المديون
بين أداء الدين الواجب والسفر للحج فلا اشكال حينئذ في تقديم الدين على الحج كذا
قيل.
الثالث: أن يكون لأحدهما بدل اختياري دون الاخر كتزاحم الواجب الموسع مع
المضيق، كالصلاة في أول الوقت مع إزالة الخبث عن المسجد، فان لفرد الصلاة
المزاحم مع الإزالة بدلا اختياريا هو اتيانها بعد إزالة النجاسة فيقدم الإزالة عليها.
الرابع: أن يكون لأحدهما بدل اضطراري، كما إذا كان الشخص محدثا وكان
109

بدنه أو ثوبه نجسا وله من الماء مقدار لا يكفى للطهارة الحدثية والخبثية كلتيهما فيقدم
الثانية فان للأولى بدلا اضطراريا هو التيمم.
الخامس: أن يكون وجوب أحدهما عينيا والاخر كفائيا بالذات، كتزاحم الصلاة
اليومية في آخر وقتها مع تجهيز الميت بحيث لو صلى اليومية فات التجهيز فيقدم العيني.
السادس: أن يكون ظرف امتثال أحدهما وزمان اتيانه مقدما على الاخر كما إذا
دار امر المريض بين القيام في الركعة الأولى والقيام في الثانية فيقدم الأول لان تقدم
زمانه مرجح.
ثم إنه ظهر لك ان مسألة الترتب ومسألة الاجتماع فرعان من فروع التزاحم.
110

التعادل والترجيح
إذا تعارض دليلان فاما ان يكونا متساويين في الأوصاف التي توجب الرجحان
من عدالة الراوي وشهرة الرواية وموافقة الكتاب ومخالفة العامة ونحوها، واما ان يكونا
متفاضلين فيها فيكون مثلا راوي أحدهما أعدل من راوي الاخر أو أكثر منه أو يكون
أحدهما موافقا لظاهر الكتاب أو مخالفا لفتوى العامة دون الاخر.
فعلى الأول: يطلق على وصف تساويهما اسم التعادل وعلى الدليلين المتصفين به
المتعادلان، ووجه التسمية ان كل دليل عدل للاخر أي مثل له في المزايا والصفات.
وعلى الثاني: يطلق على صفة تفاضلهما اسم الترجيح بمعنى الترجح وقد يطلق
التراجيح أيضا باعتبار مصاديق الترجيح، وعلى الدليل ذي المزية اسم الراجح وعلى
مقابله اسم المرجوح.
ثم إن الأمور الموجبة لترجيح أحد الدليلين على الاخر كثيرة مذكورة تحت عنوان
المرجح - فراجع -.
111

التعارض
هو في الاصطلاح عبارة عن تنافى دليلين أو أكثر بحيث يتحير العرف في العمل بهما
وكيفية الجمع بينهما.
وهل المراد تنافيهما بحسب المدلول فيكون التنافي حقيقة وصفا للمعنيين ويكون
اتصاف نفس الدليلين به بالعرض والمجاز، كاتصاف اللفظ بالكلية والجزئية ولذا
عرفه بعض بأنه تنافى مدلولي دليلين؟
أو المراد تنافيهما بحسب الدلالة والظهور فيكون التنافي في الحقيقة وصفا للدلالة
والظهور ويكون اتصاف المعنى به مجازيا، ولذا عرفه في الكفاية بأنه تنافى الدليلين في
مقام الدلالة والا ثبات، قولان أظهرهما الثاني.
تنبيهات:
الأول: يظهر من الكفاية ان الثمرة بين الوجهين تظهر في شمول التعريف لموارد
الجمع العرفي كالعام مع الخاص والمطلق مع المقيد وعدم شموله، فإذا ورد أكرم
العلماء وورد أيضا لا تكرم فساقهم، فان لوحظ المعنيان بالخصوص كوجوب اكرام
112

جميع العلماء وعدم وجوب اكرام بعضهم فهما متنافيان لمنافاة الموجبة الكلية مع السالبة
الجزئية، وان لوحظ الدلالتان والظهور ان فلا تنافى بينهما إذ أهل العرف لا يرونهما
متعارضين ويتصرفون في العام بما يوافق الخاص.
الثاني: ان التنافي اما أن يكون على وجه التناقض أو على وجه التضاد وعلى
التقديرين اما أن يكون حقيقيا أو عرضيا فهنا أمثلة أربعة:
الأول: التناقض الحقيقي كما إذا ورد يجب اكرام العالم وورد أيضا لا يجب اكرام
العالم، فان عدم الوجوب نقيض للوجوب.
الثاني: التناقض عرضا كما إذا ورد يجب اكرام زيد وورد لا يجب اكرام عمرو
مع العلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين فهما متناقضان بسبب العلم الاجمالي.
الثالث: التضاد الحقيقي كما إذا ورد يجب اكرام زيد وورد أيضا يحرم اكرام زيد
فالوجوب والحرمة متضادان لكونهما وجوديين.
الرابع: التضاد العرضي كما إذا ورد يجب اكرام زيد وورد أيضا يحرم اكرام
عمرو، مع العلم الاجمالي بكذب أحدهما.
الثالث: انه قد ظهر مما ذكرنا أنه لا تعارض بين الوارد والمورود والحاكم والمحكوم
والعام والخاص والمطلق والمقيد ونحوها فان العرف لا يتحيرون فيها في مقام العمل.
113

الحجة
هي في اللغة البرهان وعرفها اهل الميزان بأنها تصديقات معلومة موصلة إلى تصديق
مجهول وهذا التعريف ينطبق على مجموع الصغرى والكبرى في قولك العالم متغير وكل
متغير حادث.
وعرفها اهل المعقول بأنها الوسط المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى وهذا
ينطبق على خصوص التغير في المثال المتقدم.
وعرفها الأصوليون بأنها ما يوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري وهذا أيضا
ينطبق على التغير في المثال وصحيح النظر فيه لحاظه محمولا على العالم وموضوعا
للحادث.
ثم إنه لا يبعد أن يكون مراد الجميع معنا واحدا هو العلم بالصغرى والكبرى إذ لا
اشكال في أن الحجة عندهم سبب العلم وسبب العلم بالنتيجة علمان علم بالصغرى
وعلم بالكبرى وتعريف اهل الميزان ظاهر الانطباق عليه واشتراط كون الوسط
محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى في تعريف اهل المعقول وكذا اشتراط صحيح
النظر في تعريف اهل الأصول معناه تأليف قياس تام فهما أيضا يرجعان إلى ذلك
المعنى الواحد.
114

وعرفها الشيخ (ره) في رسائله بأنها ما يقع وسطا لاثبات احكام متعلقه وهذا
يغاير تلك التعاريف في موارد يأتي الإشارة إليها في تنبيه المسألة.
تنبيهان:
الأول: في صحة اطلاق الحجة على القطع فنقول الأظهر عدم الصحة في الطريقي
المحض والصحة في الموضوعي، فاطلاقها على الطريقي بالنسبة إلى الحكم الذي تعلق به
غير صحيح على جميع التعاريف إذ الحجة كما عرفت علمان بنسبتين يستلزمان علما
ثالثا بنسبة ثالثة، والقطع بحرمة الخمر أو وجوب الجمعة علم واحد بنسبة واحدة
فكيف يكون حجة، وبتعبير آخر الحجة ما يوصلك إلى هذا العلم لا نفسه فلو كان هنا
علمان آخر ان كانا سببا لحصول هذا العلم لصح اطلاق الحجة عليهما، نعم يطلق عليه
الحجة بالنسبة إلى حكم العقل بوجوب الاتباع والجري العملي على وفق القطع، مثلا
إذا قطعت بخمرية مايع صح ان تقول هذا ما قطعت بخمريته وكل ما قطعت
بخمريته فهو لازم الترك عقلا ولا يصح ان تقول هذا ما قطعت بخمريته وكل ما
قطعت بخمريته فهو حرام شرعا والا لزم كون القطع موضوعا كما أنه موضوع بالنسبة
إلى الحكم العقلي.
هذا بالنسبة إلى الطريقي واما الموضوعي فلا مانع من اطلاقها عليه بناء على تلك
التعاريف، واما على تعريف الشيخ فلا يطلق عليه أيضا لكون الحجة عنده ما يكون
وسطا لاثبات الاحكام المترتبة على المتعلق مع قطع النظر عن تعلق القطع به والحكم
في الموضوعي ليس كذلك بل ثابت مع اخذ القطع فيه.
ففي القطع بموضوع بلا حكم إذا وقع في موضوع حكم كما إذا رتب الحرمة شرعا
على ما علم كونه عصيرا تقول هذا ما قطعت بكونه عصيرا وكل ما كان كذلك فهو
حرام فالقياس صحيح على تلك التعاريف وقطعك حجة بالنسبة إلى اثبات ذلك
الحكم، واما على قول الشيخ فلا يصح اطلاقها عليه اصطلاحا لعدم ترتب حكم على
المتعلق نفسه، وفى صورة القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم كما إذا وقع القطع
115

بوجوب الجمعة أو بخمرية شئ موضوعا لوجوب التصدق مثلا تقول: قطعت بوجوب
الجمعة أو بخمرية هذا المايع وكلما قطعت بهما وجب التصدق، فهنا حكمان حكم
تعلق القطع به أو بموضوعه وحكم تعلق بالقطع والقطع بالنسبة إلى الأول طريقي لا
يطلق عليه الحجة على جميع الأقوال وبالنسبة إلى الثاني موضوعي حجة عند غير الشيخ
وليس بحجة عنده.
الثاني: في صحة اطلاق الحجة على الامارات.
وبيانه: انه ان قلنا فيها بالسببية وانها سبب لحدوث حكم ظاهري على وفقها ففي
مورد قيام الامارة على وجوب الجمعة مثلا يتصور هنا حكمان واقعي تحكى عنه الامارة
وظاهري يتولد منها، فيطلق عليها الحجة بالنسبة إلى الظاهري فيقال صلاة الجمعة مما
قامت الامارة على وجوبها في الواقع وكلما كان كذلك فهو واجب ظاهرا، ولعل نظر
الشيخ (قده) من كونها وسطا لاثبات احكام متعلقاتها هو هذه الأحكام الظاهرية، واما
بالنسبة إلى الحكم الواقعي فهي كالقطع لا يطلق عليها اسم الحجة إذ لا يصح ان يقال
وكل ما قامت الامارة على وجوبه فهو واجب واقعا.
وان قلنا فيها بالطريقية وان اثرها تنجيز الواقع إذا أصاب والعذر إذا أخطأ من
دون جعل حكم تكليفي في موردها فهي نظير القطع بعينه ولا تسمى حجة إذ لا يصح
ان يقال وكل ما قامت الامارة على وجوبه فهو واجب واقعا ولا ان يقال فهو واجب
ظاهرا والكبرى على كلا التقديرين باطلة، نعم بعد جعل الشارع طريقيتها حيث يعلم
بتنجز الواقع على فرض وجوده يحكم العقل بمتابعتها مطلقا حذرا من مخالفة الواقع
وتكون الامارة موضوعا لهذا الحكم العقلي ويصح اطلاق الحجة عليها بالنسبة إليه
فيقال هذا ما قامت الامارة على حرمته وكلما كان كذلك فهو لازم الترك عند العقل
فهذا لازم الترك عقلا فالامارة وسط لاثبات الحكم العقلي.
116

الحقيقة والمجاز
اما الحقيقة: فهو اللفظ المستعمل فيما وضع له، وتنقسم إلى الشرعية واللغوية
والعرفية.
اما الأولى: فهو اللفظ الذي كان وضعه بيد الشارع وثابتا من قبله.
فإذا ثبت ان الشارع وضع لفظا لمعنى كلفظ الصلاة للهيئة المعهودة والصوم
للامساك المعلوم والزكاة للصدقة المعروفة اما بتنصيصه باني وضعت هذه الألفاظ لهذه
المعاني أو باستعماله لها في تلك المعاني مجازا ثم صيرورتها حقيقة بكثرة الاستعمال،
يقال ان هذه الألفاظ حقيقة شرعية في هذه المعاني والحقيقة الشرعية فيها ثابتة وإذا لم
يثبت وضعه لها بأحد النحوين يقال إنه لم يثبت الحقيقة الشرعية في هذه الألفاظ
بالنسبة إلى هذه المعاني.
وتظهر ثمرة النزاع فيما إذا وقعت الألفاظ المذكورة في كلام الشارع موضوعا لحكم
فقال مثلا يجب الصلاة عند رؤية الهلال من كل شهر فعلى القول بثبوت الحقيقة
الشرعية فيها كان الواجب هو الصلاة بمعنى الأركان المخصوصة والا كان الواجب هو
معناها اللغوي أعني مطلق الدعاء.
واما الثانية: أعني الحقيقة اللغوية فهو ما كان وضعه بيد واضع اللغة كالحجر
117

والشجر.
واما الثالثة: أي الحقيقة العرفية فهو ما كان وضعه بيد أهل العرف كالسيارة
والطيارة.
واما المجاز: فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، ويقسم تارة إلى المجاز في
الكلمة والى المجاز في الاسناد والى المجاز في الحذف.
اما الأول: فان كانت العلاقة بين المعنى الحقيقي والمستعمل فيه هي المشابهة
فاستعارة.
والا فمجاز مرسل وأقسامه كثيرة تنشأ من كثرة العلائق الملحوظة في الاستعمال
المجازى.
فمنها: تسمية الشئ باسم جزئه كاطلاق العين على الربيئة.
ومنها: عكسه كقوله تعالى " يجعلون أصابعهم في آذانهم " على ما قيل.
ومنها: تسمية الشئ باسم سببه كاطلاق العقد على البيع.
ومنها: تسمية السبب باسم مسببه كقولهم أمطرت السماء نباتا أي غيثا.
ومنها: تسمية الشئ باسم ما كان كاطلاق الحاج على الراجع عن سفر الحج.
ومنها: تسمية الشئ باسم ما يكون كقوله تعالى: " انى أراني اعصر خمرا ".
ومنها: تسمية الشئ باسم محله كقوله تعالى: " فليدع نادية " والمراد اهل المجلس.
ومنها: تسمية الشئ باسم حاله كقوله تعالى: " واما الذين ابيضت وجوههم ففي
رحمة الله " أي الجنة كما قيل.
ومنها: تسمية الشئ باسم آلته كقوله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في
الآخرين " أي ذكرا حسنا.
واما المجاز في الاسناد فكقولهم جرى الميزاب وقوله " صلى الله عليه وآله ": " رفع
عن أمتي الخطاء والنسيان " إذ الاسناد الحقيقي هو اسناد الجرى إلى الماء واسناد الرفع
إلى حكم الفعل الصادر خطاء أو نسيانا لا إلى نفس الخطاء. واما المجاز في الحذف
فكقوله تعالى: " واسأل القرية " اي اهل القرية بناء على كون القرية بمعنى الضيعة أو
المصر لا بمعنى الناس والمجتمع.
118

تنبيه:
استعمال اللفظ في المعنى المجازى في مجاز اللفظ والاسناد والحذف، لا يحتاج إلى
ترخيص الواضع وتعيينه المعاني المجازية أو العلائق المجوزة للاستعمال، بل هو مستند
إلى توافق النفوس واستحسان الطباع، وذهب بعض اهل الأدب إلى وجود وضع
للمجازات أيضا كالحقايق وأشرنا إليه في آخر عنوان الوضع فراجع.
ويقسم المجاز بتقسيم آخر إلى مجاز متعارف ومجاز راجح ومجاز مشهور.
فالأول: واضح ومنه أغلب المجازات المتداولة.
والثاني: هو المجاز الذي كان استعمال اللفظ فيه أكثر من سائر المعاني المجازية،
سواء أكان أقل من المعنى الحقيقي أم كان مساويا له. كما في استعمال الأسد في
الرجل الشجاع أكثر من الأبخر; واستعمال الامر في الندب أكثر من الإباحة على قول
المشهور.
والثالث: هو الذي كان الاستعمال فيه أكثر من المعنى الحقيقي; كما ادعاه
صاحب المعالم في صيغة الامر المستعملة في الاستحباب، وهذا القسم هو الذي اختلفوا
فيه في أن اللفظ مع خلوه عن القرينة هل يحمل عليه أو على المعنى الحقيقي أو يتوقف
فذهب إلى كل وجه فريق.
119

الحكم
وقسموه بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الحكم التكليفي والحكم الوضعي.
فالأول: هو الانشاء الصادر بداعي البعث أو الزجر أو الترخيص وتسميته
بالتكليفي لان فيه بحسب غالب مصاديقه كلفة ومشقة على المأمور ويقسم إلى أقسام
خمسة تسمى بالأحكام الخمسة التكليفية، وهي الوجوب والاستحباب والحرمة
والكراهة والإباحة، ومنشأ التقسيم هو ان فعل المكلف اما أن يكون ذا مصلحة
خالصة بلا شوب مفسدة خالصة بلا وجود مصلحة أو يكون خاليا عنهما
ليس فيه أحد الامرين، وعلى الأولين اما ان تكون المصلحة أو المفسدة شديدة ملزمة أو
ضعيفة غير ملزمة فهذه أقسام خمسة يتولد منها الأحكام الخمسة المذكورة.
ثم إنه بقي قسم آخر من فعل المكلف وهو ما يوجد فيه المصلحة والمفسدة كلتاهما،
وحينئذ اما ان يغلب فيه جانب المصلحة أو جانب المفسدة أو يتساويان وعلى الأولين
اما أن يكون المقدار الغالب كثيرا ملزما أو قليلا غير ملزم فهذه أقسام خمسة اخر يتولد
منها أيضا احكام خمسة.
فأقسام الأفعال عشرة واحكامها خمسة وهذا كله مبنى على كون الاحكام
120

التكليفية معلولة للملاكات الموجودة في متعلقاتها واما بناءا على أن انشائها وجعلها
لملاك في نفس الجعل كما ذهب إليه البعض فاللازم ملاحظة تلك الصور العشر في
نفس الجعل.
بقي هنا شئ وهو ان الإباحة كما تكون لعدم المصلحة والمفسدة في الفعل أو
لتساويهما فيه كذلك قد تكون مع المصلحة الملزمة أو المفسدة الملزمة ولكن مع وجود
مانع عن الالزام بالفعل أو الترك أو وجود المقتضى للترخيص والإباحة اللااقتضائية
وعلى القسم الثاني الإباحة الاقتضائية.
والثاني: أي الحكم الوضعي كل حكم مجعول منشأ لم يكن بحكم تكليفي
كالملكية والزوجية ونحوهما مما يأتي مفصلا وتسميته بالحكم الوضعي لكونه غالبا
موضوعا للحكم التكليفي.
تنبيه: في قابلية الحكم الوضعي للجعل وعدمها أقوال:
أحدها: انه قابل للجعل والانشاء استقلالا بجميع أقسامه كالحكم التكليفي.
ثانيها: انه غير قابل له مطلقا بل يكون دائما منتزعا عن الحكم التكليفي الموجود في
مورده، فإذا قال الشارع يجوز شرب الماء أو يجب الاجتناب عن البول أو قال إذا أنشأ
عقد البيع جاز تصرف البايع في الثمن والمشترى في المبيع أو إذا انشاء عقد النكاح جاز
لكل من الطرفين الاستمتاع من الآخر أو إذا اخذت مال الغير بغير رضاه وجب عليك
رد عينه أو بدله أو نحو ذلك، انتزع من جواز شرب الماء طهارته ومن وجوب الاجتناب
عن البول نجاسته ومن جواز تصرف كل من البايع والمشترى ملكيته لما انتقل إليه ومن
جواز استمتاع طرفي النكاح الزوجية ومن وجوب الرد الضمان.
ثالثها: التفصيل بين مصاديقه وان بعضها قابل للجعل بالاستقلال وبعضها قابل للانتزاع عن التكليف وبعضها لا يقبل هذا ولا ذاك فلا يمكن جعله استقلالا كما لا
121

يمكن انتزاعه عن الحكم التكليفي.
فالأول: أي ما يمكن جعله استقلالا وايجاده باللفظ أصالة، كالملكية والزوجية
والحجية والقضاوة والنيابة والحرية والرقية ونحوها، فالشارع بقوله من حاز شيئا من
المباحات أو استرق أحدا من الكفار فهو له; انشاء وجعل ملكية المال والشخص
الأسير للآخذ وبقوله صدق العادل جعل الحجية لقوله، وبقوله جعلته حاكما جعل
القضاوة للفقيه.
والثاني: كجزئية شئ للمأمور به وشرطيته فينتزع من تعلق الحكم التكليفي
بصلاة ذات اجزاء وقيود الجزئية لكل واحد من اجزائها والشرطية لكل واحد من
قيودها.
والثالث: كسببية مصالح الصلاة مثلا للامر بها وايجابها فان ذلك امر تكويني
مقدم على الوجوب فلا يعقل جعله تشريعا فضلا عن أن ينتزع من التكليف المتأخر
عنه رتبة.
ثم إن الحكم الوضعي ليس محصورا في ثلاثة أو خمسة أو تسعة كما توهم، بل كلما
كان من الأمور الاعتبارية القابلة للجعل والاعتبار أطلق عليه اسم الحكم وكان غير
التكليف فهو حكم وضعي كالصحة والبطلان والعلية كعلية الملاقاة للنجاسة،
والعلامية كالسن والاحتلام ونبات الشعر بالنسبة إلى البلوغ، والتقديرات كالكرية
والمسافة، والحجج كحجية خبر العدل والثقة، والبدلية كبدلية التيمم عن الوضوء
والتراب عن الماء، والتقبل كقبول العمل الناقص عوضا عن التام، والضمان أعني
كون الشئ على عهدة الشخص، والجنابة والحرية والرقية والوكالة والشرطية والسببية
والمانعية والقاطعية ونحوها.
الثاني: تقسيمه إلى الاقتضائي والانشائي والفعلي والمنجز.
ولا يخفى عليك ان هذه الأقسام من مصطلحات بعض المتأخرين (قده) والأكثرون
منهم لا يقولون الا بالانشائي والفعلي واما بيان تلك المراتب الأربع:
فالأولى: مرتبة الاقتضاء وكون الحكم في تلك الرتبة معناه وجود المقتضى للجعل
وكونه حسنا وذا مصلحة مع حصول مانع منه أو فقد شرط، واطلاق الحكم على هذه
122

المرتبة مع أن الموجود سببه ومقتضيه دون نفسه اطلاق مسامحي بلحاظ ان للمعلول
والمقتضى نحو وجود في ضمن علته ومقتضيه، فالمصلحة في البعث والزجر مثلا كأنها
وجود لنفس تلك الأحكام كما لو ادعى فيما إذا وجد المادة التي تنقدح منها النار ان
النار موجودة.
وقيل إنه من هذا القبيل الأحكام الشرعية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله والحكم في هذه
المرتبة يسمى حكما اقتضائيا شأنيا.
الثانية: مرتبة الانشاء وهي فيما إذا تحقق انشاء الحكم من الامر لوجود مقتضيه
وفقد مانعه الا انه ليس له إرادة جدية بالنسبة إلى الفعل ولم يقصد إلزام المأمور لوجود
مانع عن الالزام فيطلق على الحكم في هذه المرتبة الحكم الانشائي; وكانت عدة من
الاحكام في صدر الاسلام من هذا القبيل فكانت الواجبات عندئذ بحكم المستحبات
والمحرمات بحكم المكروهات لا تستلزم مخالفتها العقوبة.
ومنه أيضا الأوامر الامتحانية والاعتذارية. والأحكام الواقعية التي قامت الامارة
على خلافها بناء على السببية أو جرت الأصول العملية في مواردها.
ومنه أيضا الحكم المستفاد من العموم بالنسبة إلى الافراد الخارجة بالتخصيص
قبل انكشاف وجود المخصص. ولا يخفى عليك ان اطلاق الحكم على الانشائي أيضا اطلاق مسامحي فان
الانشاء بلا إرادة جدية التي هي روح الحكم كالجسد بلا روح والحكم (ح) كصورة بلا حياة.
الثالثة: مرتبة الفعلية بان أنشأه الآمر وحصلت الإرادة الجدية في نفسه وقصد
الالزام وتسجيل الامر على المأمور ويسمى هذه المرتبة بالفعلية والحكم فيها حكم فعلي
وهو الذي ينبغي اطلاق الحكم عليه حقيقة لكنه حينئذ فعلى فقط بلا حصول تنجز ولا
ترتب عقاب على تركه ما دام لم يلتفت إليه المكلف ولم تقم امارة على خلافه.
الرابعة: مرتبة التنجز بان يعلم المكلف بالحكم الفعلي أو يقوم عنده الامارة عليه
فيبلغ (ح) مرتبة التنجز ويسمى حكما منجزا ويترتب على تركه العقوبة.
هذا وقد أشرنا إلى أن الأكثر قسموه إلى قسمين وذهبوا إلى أنه قبل الانشاء
123

لا حكم هنا أصلا فإذا أنشأ باللفظ حصل الحكم الانشائي والشأني، وحينئذ فان لم
يكن على طبقه إرادة جدية فهو انشائي وشأني وان حصلت الإرادة وقصد الالزام به فهو
فعلى ومنجز.
الثالث: تقسيمه إلى الواقعي الأولى والواقعي الثانوي والظاهري.
فالأول: هو الحكم المجعول على الأفعال والذوات بعناوينها الأولية الخالية عن قيد
طرو العنوان الثانوي، وقيد الشك في حكمه الواقعي، كالوجوب المرتب على صلاة
الصبح والحرمة المرتبة على شرب الخمر والطهارة والنجاسة المرتبتين على الماء والبول،
فيطلق عليها الأحكام الواقعية وعلى متعلقاتها الموضوعات الواقعية.
والثاني: هو الحكم المرتب على الموضوع المتصف بوصوف الاضطرار والاكراه
ونحوهما من العناوين الثانوية غير عنوان مشكوك الحكم، فإذا كان صوم شهر رمضان
ضرريا أو حرجيا على أحدا وكره على الافطار كان جواز الافطار أو حرمة الامساك
حكما واقعيا ثانويا والموضوع المعنون بتلك العناوين موضوعا ثانويا، وكذا إذا امر
الوالد ولده بصوم أول شهر رجب مثلا أو نذره الشخص أو شرطه في ضمن عقد لازم
أو صار مقدمة لواجب يقال ان هذا الصوم بما هو صوم شهر رجب وبعنوانه الأولى
مستحب وبعنوانه الثانوي واجب فاستحبابه حكم واقعي أولى ووجوبه واقعي ثانوي.
وتسميته ثانويا لأنه في طول الواقع وموضوعه عنوان ثانوي عارض على العنوان الأولى
الأصلي.
والثالث: هو الحكم المجعول عند الجهل بالواقع والشك فيه كالحكم المستفاد من
أدلة اعتبار الامارات وأدلة الأصول العملية، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة أو
حرمة العصير وحكم الشارع بتصديقه فان قلنا فيه بالسببية وان مرجع وجوب التصديق
إلى جعل الوجوب التكليفي للصلاة والحرمة التكليفية للعصير كان المجعول حكما
تكليفيا ظاهريا لكونه مجعولا لدى الجهل بالواقع.
وان قلنا فيه بالطريقية وان مفاد دليل الاعتبار جعل الحجية أو الطريقية لقول
العادل كان ذلك حكما وضعيا ظاهريا.
وإذا شككنا في حكم صلاة الجمعة وكانت الحالة السابقة هي الوجوب فالحكم
124

بالوجوب لاجل الاستصحاب حكم ظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي، وكذا
الحكم بالإباحة عند الشك في الحلية والحرمة بدوا والحكم بالتخيير في مورد دوران
الامر بين المحذورين والحكم بالاحتياط في مورد العلم الاجمالي; ثم إن الفرق بين
الحكم الأماري والأصلي مضى تحت عنوان الامارة.
الرابع: تقسيمه إلى المولوي والارشادي وقد مضى تحت عنوان الامر.
125

الحكومة
يظهر عن عبائرهم ان الحكومة عبارة عن كون دليل ناظرا إلى حال دليل آخر وشارحا
ومفسرا لمضمونه سواء كان ناظرا إلى موضوعه أم إلى محموله وسواء كان النظر بنحو
التوسعة أم التضييق وسواء كان دلالة الناظر بنحو المطابقة أم الالتزام وسواء كان
متقدما أم متأخرا، فيسمى الدليل الناظر حاكما والمنظور إليه محكوما.
فإذا ورد قوله أكرم العلماء وورد قوله ان الفاسق ليس بعالم كان الثاني ناظرا
ومفسرا للأول وحاكما عليه إذ من المعلوم ان نفى الشارع عالمية الفاسق ليس على نحو
الحقيقة بل يرجع ذلك إلى نفى وجوب الاكرام فهذا الدليل ناظر إلى ذلك ومفسر له
وهو معنى الحكومة.
ثم إن للحكومة بهذا المعنى مصاديق كثيرة وأمثلة مختلفة لا بأس بالإشارة إلى
بعضها لايضاح معنى الحكومة.
منها: أن يكون دليل نافيا لموضوع دليل آخر تعبدا لا حقيقة ووجدانا كالمثال
السابق، وكما إذا ورد لاشك للمأموم مع حفظ الامام فإذا شك المأموم بين الثلث
والأربع وكان الامام حافظا للثلث متيقنا لها فالدليل الثاني ينفى حكم الشك عن شك
المأموم بلسان نفى الموضوع ويبين انه ليس له البناء على الأكثر واتيان صلاة الاحتياط
126

فيكون حاكما في قوله إذا شككت فابن على الأكثر، وانه لا يشمل شك المأموم مع
حفظ الامام، وهذه حكومة بنحو تضييق دائرة الموضوع من المحكوم.
ولعل إلى هذا القسم ينظر كلام الشيخ (قده) في رسائله حيث قال الحكومة هي
الناظرية بحيث لولا دليل المحكوم لكان دليل الحاكم لغوا.
ومنها: أن يكون دليلا مثبتا لموضوع دليل آخر تعبدا لا وجدانا، فإذا ورد أكرم
العلماء وورد ان الملازم لخدمة العالم عالم فالدليل الثاني يثبت موضوعا للدليل الأول،
وحيث إن ذلك ليس بموضوع له وجدانا فيرجع تعميم الموضوع إلى تعميم الحكم وشموله
لخادم العالم ومثله قوله " عليه السلام ": " الطواف بالبيت صلاة " بالنسبة إلى الأدلة التي
تثبت للصلاة احكاما خاصة وقوله كل مشكوك طاهر بالنسبة إلى قوله: " لا صلاة الا
بطهور " وهذا من قبيل النظر إلى الموضوع بنحو التوسعة.
ومنها: حكومة أدلة العناوين الثانوية على أدلة العناوين الأولية، فإذا حكم
الشارع بحرمة الخمر ووجوب الغسل والصوم فالحرمة والوجوب متعلقان بفعل المكلف
بعنوانه الأولى أعني الشرب والغسل فإذا طرء العسر أو الضرر على ترك الشرب وفعل
الصوم فإنه يتعلق بهما بطر وهذا العنوان حكم الجواز بأدلة الحرج والضرر; فالغسل
الحرجي والضرري مورد لتعارض الدليلين بدوا فهو بما أنه غسل واجب وبما أنه فعل
حرجي أو ضرري ليس بواجب ولكن دليل العنوان الثانوي مقدم.
فان معنى قوله " عليه السلام ": " لا ضرر ولا ضرار ": لا حكم ضرري في الاسلام
أولا فعل ضرري، فعلى الأول يكون ناظرا إلى أدلة الأحكام الواقعية وان احكامها لا
تشمل الموارد التي تحقق فيها الحرج والضرر وعلى الثاني يكون المعنى لا وضوء ضرري
ولا صوم ضرري فيكون نافيا لموضوعها ومضيقا لدائرته، ومن هنا قيل إن تصرف
الدليل الحاكم اما في عقد حمل دليل المحكوم أو في عقد وضعه فعلى الاحتمال الأول
يكون النظر في هذه القاعدة إلى حكم الأدلة الأولية والتصرف تضييق في محمولها،
وعلى الثاني يكون النظر إلى الموضوع والتصرف تضييق في الموضوع.
ومن هذا القبيل أيضا حكومة قوله " عليه السلام " في حديث الرفع: " وما استكرهوا
عليه وما اضطروا إليه "، فإذا استكره الانسان على شرب الخمر أو اضطر إليه يكون
127

الحديث رافعا لموضع دليل حرمة الخمر تعبدا وهو معنى الحكومة.
ومنها: حكومة الامارات على الاستصحاب على مبنى الشيخ (قده); وبيانه ان مفاد
دليل اعتبار الامارة جعلها طريقا إلى الواقع فهي علم مجعول لا يعتنى بخلافه فقوله
صدق العادل يدل بالمطابقة على لزوم الجرى على وفقه وبالملازمة على عدم الاعتناء
باحتمال مخالفته للواقع والغاء ذلك الاحتمال; وحيث إن ذلك الاحتمال هو موضوع
حكم الأصل كانت الامارة نافية لحكم الأصل عن موضوعه بلسان نفى موضوعه وهو
معنى الحكومة.
فإذا شككنا في حرمة العصير بعد الغليان، فاحتمال الحلية والحرمة في الواقع
موضوع للحكم بالحلية الظاهرية وهو حكم الأصل، فإذا أخبر العادل بحرمته فاحتمال
الحلية الواقعية وان كان باقيا أيضا إذ الفرض ان الخبر ظني لا يفيد العلم ولكن مفاد
دليل الاعتبار ينفى ذلك الاحتمال تعبدا ويحكم بعدم الاعتناء وعدم ترتيب اثره
عليه وهو الحلية الظاهرية.
ومنها: حكومة بعض الأصول العملية على بعض كالاستصحاب على البراءة
وتقريبه ان موضوع البراءة الشرعية هو الفعل الذي لم يرد فيه نهى بالفعل وحكمه هو
الاطلاق والإباحة لقوله " عليه السلام ": " كل شئ لك مطلق حتى يرد فيه نهى "،
فالمعنى كلما لم يرد فيه نهى بالفعل فهو حلال، فإذا فرضنا مشكوكا ثبت له نهى في
السابق كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس فهو وان كان مشكوكا لم يرد فيه نهى بالفعل
وحكمه الحلية الا ان دليل الاستصحاب وقوله من كان على يقين فشك فيه فليبن على
يقينه حاكم بلزوم ابقاء النهى السابق وفرض هذا الموضوع مما ورد فيه النهى تعبدا فهو
ناظر إلى دليل البراءة.
وبعبارة أخرى دليل البراءة مركب من جملتين مغياة وغاية والأولى كلما لم يرد فيه
نهى فهو حلال والثانية كلما ورد فيه نهى فهو ليس بحلال، والعصير المذكور وان كان
داخلا تحت الجملة الأولى دون الثانية وجدانا الا ان دليل الاستصحاب يخرجه عن
موضوع الأولى ويدرجه في الثانية تعبدا وتنزيلا فهو حاكم على الجملة الأولى بنفي
حكمها بلسان نفى الموضوع وعلى الجملة الثانية باثبات حكمها بلسان اثبات الموضوع،
128

كما أنه بالنسبة إلى دليل العنون الأولى وهو قوله العصير إذا غلى يحرم المجمل من جهة
دوام الحرمة وعدمه متمم لدلالته بحسب الظاهر.
تنبيهات:
الأول: قد ظهر مما قدمنا ان الفرق بين الحكومة والتخصيص من وجوه:
أولها: ان الحاكم ناظر وشارح بدلالته اللفظية للمحكوم بخلاف المخصص فإنه لا
نظر له للعام ولا شرح له ولا تفسير، وبعبارة أخرى قد صدر الحاكم لبيان حال المحكوم
وساقه القائل مفسرا لتحديد حكمه أو موضوعه وصدر المخصص لبيان حكم مستقل من
دون نظر من القائل إلى كونه شارحا لدليل آخر أم لا، فيكون العام والخاص في مورد
التصادم متعارضين من دون حكومة لاحد الطرفين; وحيث إن الخاص يكون أظهر
من العام غالبا في مورد التعارض يقدم عليه، فلو فرض في مورد تساويهما ظهورا فهما
يتساقطان ويرجع إلى الأصل أو فرض أظهرية العام فإنه يقدم هو ويطرح الخاص
سندا.
ثانيها: لحاظ الظهور والأظهرية في العام والخاص كما مر ولا يلاحظان في الحاكم
والمحكوم بل يقدم الحاكم الظاهر في أقل مرتبة من الظهور على المحكوم ولو كان أظهر.
ثالثها: عدم لحاظ النسبة بين الحاكم والمحكوم، ولذا قلنا بتقديم أدلة العناوين
الثانوية كقوله لا ضرر ولا ضرار على دليل وجوب الصوم الضرري مع أن بينهما عموما
من وجه; فان دليل لا ضرر يشمل غير الصوم كالوضوء والغسل الضرريين ودليل
وجوب الصوم يشمل الصوم غير الضرري وكلاهما يشملان الصوم الضرري.
الثاني: لا يخفى عليك ان الورود والحكومة كما كانا جاريين في الامارة والأصل
كذلك يجريان في الخاص الوارد في مقابل العام فالخاص النص أو الأظهر قد يكون
واردا على أصالة العموم وقد يكون حاكما.
بيانه ان لنا في طرف العام أصلا عقلائيا وهو الحكم باستعماله في معناه الحقيقي
أعني الاستغراق عند الشك في استعماله فيه أو هو الحكم بعدم وجود القرينة عند
129

الشك في وجودها وعدمها واقعا، ولهذا الأصل موضوع ومحمول، موضوعه الشك في
استعماله في معناه ومحموله الحكم باستعماله فيه وإرادته منه أو موضوعه احتمال وجود
القرينة ومحموله الحكم بعدمها وإرادة الظاهر، على المبنيين من أن حجة الظواهر من
باب الظهور النوعي أو من باب أصالة عدم القرينة، وحينئذ فإذا ورد خاص في قبال
العام فإن كان قطعيا سندا ودلالة كان واردا على الأصل المذكور; لأنه ينتفى الشك
وجدانا ويحصل اليقين بوجود القرينة واستعمال العام في المعنى المجازى فينتفى موضوع
الأصل اللفظي حقيقة وهو الورود وان كان نصا ظني السند فمقتضى دليل اعتباره هو
الحكم بصدوره تعبدا وكونه قرينة وانه لم يستعمل العام في معناه الحقيقي فيكون
الخاص بدليل اعتباره حاكما على أصالة العموم.
هذا كله على القول بان العام المخصص مجاز مستعمل في غير ما وضع له كساير
المجازات، واما على القول بعدم المجازية فيه وان التخصيص تصرف في الإرادة الجدية
فالأصل العقلائي هو أصالة التطابق بين الاستعمال والإرادة والموضوع أيضا الشك في
التطابق فيتصور فيه أيضا الورود والحكومة.
الثالث: قد تطلق الحكومة في مقابل الكشف ويراد بها حكومة العقل بحجية الظن
بعد تمامية مقدمات الانسداد فراجع التنبيه الأخير من بحث الانفتاح والانسداد.
130

الحمل الأولى الذاتي والحمل الشايع الصناعي
لا اشكال في لزوم نحو من الاتحاد بين الموضوع والمحمول والا لبطل حمله عليه. والاتحاد
يتصور على أقسام ثلاثة:
الأول: الاتحاد مفهوما وماهية ووجودا كقولك في مقابل من يتوهم امكان سلب
الشئ عن نفسه الانسان انسان فبين الموضوع والمحمول اتحاد في المراحل الثلث.
الثاني: الاتحاد ماهية ووجودا مع الاختلاف في المفهوم، كقولك الانسان حيوان
ناطق فبين المفهومين اختلاف بالاجمال والتفصيل واتحاد في المقامين أي الماهية
والوجود.
الثالث: الاتحاد في الوجود مع الاختلاف في المفهوم والماهية كقولك زيد انسان
وعمرو جسم.
ويطلق على الحمل في القسمين الأولين حمل الكلى على الكلى والحمل الأولى
الذاتي، وعلى القسم الثالث حمل الكلى على الفرد والحمل الشايع الصناعي اما كونه
شايعا فلشيوعه في الاستعمالات بين الناس واما كونه صناعيا فلاستعماله عند اهل
الصناعات وأرباب العلوم.
131

الدلالة
وهي تنقسم بتقسيمات:
منها: تقسيمها إلى دلالة المطابقة والتضمن والالتزام.
فالأولى: دلالة اللفظ على تمام ما وضع له كدلالة لفظ الانسان على الحيوان
الناطق، ودلالة الدار على جميع ما تحويه وتحيط به جدرانها.
والثانية: دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة لفظة زيد على رأسه ورجليه.
والثالثة: دلالة اللفظ على لازم معناه كدلالة الشمس على الضوء والانسان على
تعقله وكتابته.
ومنها: تقسيمها إلى الدلالة التصورية والتصديقية، فقد قيل إن اللفظ الموضوع
الصادر من المتكلم له دلالتان.
الأولى: الدلالة التصورية وهي خطور معنى اللفظ في الذهن عند سماعه وكون
سماعه موجبا لتصور معناه، وهذه الدلالة تتوقف من طرف السامع على أمور ثلثة:
سماع اللفظ وكونه موضوعا وعلم السامع بالوضع; ومن جانب اللافظ لا شرط لها بل
لو صدر اللفظ من وراء الجدار من لافظ بلا شعور واختيار حصلت هذه الدلالة.
الثانية: الدلالة التصديقية، وهي دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا لقائله فتكون
سببا لتصديقك بان اللافظ مريد مفاد لفظه; فإذا قال أحد زيد قائم تقول ان يعتقد
132

قيام زيد وان مراده الاخبار بقيامه، وهذه الدلالة للفظ ثابتة مسلمة عند العقلاء وهي
المعبر عنها بحجية الظواهر.
ومنها: تقسيمها إلى دلالة الاقتضاء والايماء والإشارة.
اما الاقتضاء فهي دلالة الكلام على امر مقصود للمتكلم دلالة التزامية عقلية أو
شرعية، من جهة توقف صحة الكلام عقلا أو شرعا على إرادة القائل ذلك المعنى،
بحيث لو لم يكن من قصده ذلك لعد غالطا في كلامه فدلالة الاقتضاء على قسمين
عقلية وشرعية.
مثال الأولى دلالة قوله تعالى: " واسأل القرية " على كون المسؤول اهل القرية
لا نفسها، فهذه الدلالة مقصودة بالملازمة العقلية للقائل وتتوقف صحة الكلام بحكم
العقل على كون المراد ذلك.
ومثال الثانية كما في قول القائل بع مالي عنك أو أعتق عبدي عنك، فان
الكلامين يدلان على قصد المتكلم تمليك ماله للمخاطب قبل بيعه وعتقه حتى يجوز له
البيع والعتق عن نفسه، فإنه لا بيع الا في ملك ولا عتق الا في ملك، كما أن اقدام
المخاطب على البيع والعتق بالشروع في الانشاء، يدل على قبول ذلك التمليك وقصده
لتملكه المال قبلهما، فدلالة كلام الامر بالبيع على التمليك من دلالة الاقتضاء بحكم
الشرع; ودلالة بيع المخاطب وعتقه على التملك أيضا من قبيل تلك الدلالة.
ومن ذلك أيضا قول من عليه الكفارة لمخاطبة الذي له مملوك: أعتق عبدك عنى
وأنشأ المخاطب عتق عبده بعد طلبه هنا فان الكلام الأول يدل بدلالة الاقتضاء الشرعية
على طلب تمليك العبد له وبيعه منه بذلك الثمن قبل العتق، والكلام الثاني يدل
بتلك الدلالة على قبول استدعائه بتمليكه العبد وبيعه منه; فالكلامان يدلان
اقتضاء على بيع بينهما حاصل بايجاب ضمني وقبول كذلك.
واما دلالة الايماء والإشارة فكدلالة قوله: " عليه السلام ": " كفر " عقيب قول القائل
انى واقعت أهلي في نهار شهر رمضان، هذا الامر باعطاء الكفارة بعد ذلك السؤال لا
يخلو عن الإشارة إلى علية الجماع لوجوب الكفارة ولذا يتعدى من المخاطب إلى غيره،
ومن الأهل إلى غيرها.
133

الدليل العقلي والنقلي
قد يطلق الدليل ويراد به الامارة التي تقابل الأصل وقد مر بيانه بهذا المعنى تحت
عنوان الامارة.
وقد يطلق ويراد به القياس المؤلف من صغرى وكبرى وهو بهذا اللحاظ ينقسم
إلى أقسام ثلاثة; دليل نقلي، ودليل عقلي مستقل، ودليل عقلي غير مستقل ويطلق
عليه العقلي الظني أيضا.
اما القسم الأول: فهو القياس الذي كانت الكبرى المأخوذة فيه شرعية سواء
كانت الصغرى أيضا شرعية أم لا، كقولك الماء المشكوك في طهارته طاهر وكل طاهر
يجوز شربه فالماء المشكوك في طهارته كذلك فالكبرى والصغرى شرعيتان، وكقولك
هذا خمر وكل خمر حرام فهذا حرام فالكبرى فقط فيه شرعية.
واما القسم الثاني: فهو القياس الذي كانت مقدمتاه عقليتين كقولك العالم
ممكن وكل ممكن محتاج إلى مؤثر فالعالم محتاج إلى مؤثر.
واما القسم الثالث: فهو القياس الذي كانت الكبرى المأخوذة فيه عقلية
والصغرى غير عقلية وأمثلتها كثيرة أشار الشيخ (قدس سره) في الرسائل إلى عدة منها.
فمنها: الاستصحاب على القول بكونه حجة من جهة العقل; فتقول وجوب صلاة
134

الجمعة مظنون البقاء وكل مظنون البقاء باق بحكم العقل فالوجوب باق فهذا الدليل
عقلي غير مستقل اما كونه عقليا فلان لزوم ابقاء كل مظنون البقاء وترتيب آثار البقاء
عليه يكون على هذا القول بحكم العقل فالكبرى عقلية، واما كونه غير مستقل فلان
الصغرى وجدانية من حيث النسبة الكلامية وشرعية من حيث الموضوع.
ومنها: القياس وكيفية تأليف الشكل فيه أن تقول مثلا ان النبيذ مسكر وكل
مسكر حرام لاستنباطه من قوله الخمر حرام فالنبيذ حرام.
ومنها: الاستحسان والقياس المؤلف فيه أن يقول الفقيه حرمة العصير مما يترجح
في ذهني بملاحظة أشباهه وموارد تناسبه وكل حكم ترجح في ذهني لذلك فهو حكم
الله فحرمة العصير حكم الله والكبرى فيه عقلية.
ومنها: المفاهيم فتقول في مفهوم الوصف وجوب الزكاة علق على وصف السوم في
قوله " عليه السلام ": " في الغنم السائمة زكاة " وكلما علق عليه الحكم في الكلام ينتفى الحكم
عند انتفاء ما علق عليه فالوجوب ينتفى عند عدم السوم، وكذلك تقول في مفهوم
الشرط ونحوه فهذا الدليل عقلي غير مستقل لكون كبراه فقط عقلية.
ومنها: الاستلزامات والمراد منها الملازمة بين وجوب الشئ وحرمة ضده أو
وجوب الشئ ووجوب مقدمته فتقول الصلاة واجبة وكل واجب تجب مقدمته أو يحرم
ضده فالصلاة كذلك فالكبرى عقلية والصغرى شرعية.
135

الدور
قد يعرف الدور بأنه توقف الشئ على نفسه; وقد يعرف بأنه توقف الشئ على ما
يتوقف عليه، ولا اشكال في أن اثبات دورية شئ يتوقف على تشكيل شبه قياس
مؤلف من صغرى وكبرى، فنقول مثلا ان الألف موقوف على الباء والباء موقوف
على الألف فالألف موقوف على الألف، فمن عرفه بالتعريف الأول فهو ناظر في
تعريفه إلى النتيجة في المثال وتعريفه ينطبق عليها، ومن عرفه بالتعريف الثاني فنظره
إلى الكبرى وتعريفه ينطبق عليها.
وعلى أي تقدير فان تم اثبات الدورية بكبرى واحدة في قياس الدليل كالمثال
المذكور سمى ذلك دورا مصرحا وان احتاج إلى ضم كبرى أخرى إلى الكبرى الأولى
سمى ذلك دورا مضمرا، وحينئذ فان كانت الكبرى الزائدة واحدة يسمى مضمرا
بواسطة وان كانت اثنتين فمضمرا بواسطتين وهكذا فقولك الألف موقوف على الباء
والباء موقوف على التاء والتاء موقوف على الألف دور مضمر بواسطة وان زدت عليه
قولك والتاء موقوف على الثاء مثلا كان مضمرا بواسطتين.
تنبيه:
136

لا اشكال ولا خلاف في بطلان الدور وهل الوجه في ذلك كون توقف الشئ
على نفسه مما يدرك العقل بطلانه بنفسه كاجتماع الضدين والنقيضين، أو الوجه فيه
استلزامه تقدم الشئ على نفسه إذا الشئ لو توقف على نفسه لزم ان يوجد أو لا
مقدمة لوجوده ثم يوجد ثانيا، أو استلزامه اجتماع النقيضين أي وجود الشئ وعدمه
في وقت واحد فان الشئ إذا وجد أولا مقدمة لوجوده ثانيا لزم على الفرض عدم
وجوده في حال وجوده أولا وجوه، وعلى الوجهين الأخيرين فالدور امر وملاك بطلانه
امر آخر من تقدم الشئ على نفسه أو اجتماع النقيضين وفى بعض الموارد يوجد ملاك
الدور دون نفسه فيقال ان هذا المطلب باطل لوجود ملاك الدور فيه.
137

السببية والطريقية
هما وصفان عارضان للامارة الحاكية عن الحكم الشرعي أو عن موضوع ذي حكم
شرعي.
توضيحه: انه ذهب فريق من الأصوليين إلى أن قيام الامارة على حكم أو موضوع
سبب لحدوث حكم تكليفي نفسي ظاهري على طبقها; كانت الامارة مصيبة أو
مخطئة، فمعنى جعل الامارة وامضائها من ناحية الشارع جعل حكم ظاهري على وفقها
طابق الحكم الواقعي أو خالفه; فإذا أخبر العدل مثلا بوجوب صلاة الجمعة، أو بحرمة
العصير تولد من الأول حكم وجوبي متعلق بصلاة الجمعة، ومن الثاني حكم تحريمي
متعلق بشرب العصير، فيطلق على هذا النحو من التأثير للامارة السببية والموضوعية.
وذهب آخرون إلى عدم تأثير الامارة في حدوث حكم تكليفي، وليس معنى جعل
الامارة الا اعطاء الطريقية لها وجعلها علما تعبد يا تنزيليا ليترتب عليها آثار العلم من
تنجيز الواقع في صورة الإصابة والعذر عن مخالفتها في صورة الخطاء فالمجعول فيها حكم
وضعي لا تكليفي فكما أن القطع الوجداني بالوجوب أو الحرمة لا اثر له الا التنجيز
والعذرية فكذلك الامارة ويطلق على هذه الصفة للامارة الطريقية.
138

تنبيهات:
الأول: يفرق بين السببية والطريقية في الامارة بأمور:
أحدها: وجود مصلحة في تبعية الامارة وترتيب الأثر عليها على الأول وهذه
المصلحة هي التي أوجبت جعل الحكم النفسي على وفقها، بخلاف الثاني فإنه
لا مصلحة في سلوكها غير ادراك الواقع لو اتفق.
ثانيها: جعل الحكم التكليفي النفسي على طبقها بناء على الأول وجعل الحكم
الوضعي على الثاني.
ثالثها: سقوط الحكم الواقعي عن الفعلية في صورة إصابة الامارة وخطائها على
الأول. إذ يستلزم بقائه على الفعلية مع فرض كون الحكم الظاهري فعليا أيضا
اجتماع المثلين أو الضدين; وهذا بخلاف الثاني فإنه عليه يتنجز الواقع لدى الإصابة
ويسقط عن الفعلية لدى المخالفة.
رابعها: كون مخالفة الامارة أصابت أم أخطأت; عصيانا للشارع ناشئا من جهة
مخالفة الحكم الظاهري بلا محذور من ناحية الواقع على الأول وكونها عصيانا من جهة
مخالفة الواقع في صورة الإصابة وكونها تجريا في صورة الخطاء على الثاني.
خامسها: حصول الاجزاء في بعض الموارد على الأول دون الثاني; فإذا أخبر
العدل بعدم جزئية السورة للصلاة أو عدم مانعية لبس الحرير فيها ثم انكشف الخلاف
بعد العمل صحت على الأول وبطلت على الثاني.
الثاني: ظاهر الأدلة الدالة على حجية الامارات من السيرة العقلائية والاخبار
الواردة هي الطريقية لا السببية، فان العقلاء لا يعملون باخبار الثقة عندهم أو بظاهر
الكلام مثلا الا لتوقع الوصول إلى الواقع المحكى بهما فلا مصلحة عندهم في تبعيتها الا
النيل إلى الواقع ولا مفسدة لديهم في مخالفتها الا فوت الواقع من دون نفسية في سلوكها
ومصلحة تعبدية في موافقتها.
كما أن العرف أيضا لا يفهمون من ظواهر الأدلة الشرعية المثبتة لحجيتها والباعثة
على العمل على طبقها الا امضاء عمل العقلاء وتثبيت ما هم عليه وهذا هو الطريقية.
139

الثالث: قد يتوهم ان القول بالسببية هو القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإمامية
ولكنه توهم فاسد فانا قد ذكرنا تحت عنوان التخطئة والتصويب ان
للتصويب أقساما ثلثة; وان القسمين الأولين داخلان في التصويب الباطل والقسم
الثالث الذي يساوق السببية فيما نحن فيه اما ليس بتصويب أو ليس بباطل فراجع.
140

السنة والحديث والحديث القدسي
اما السنة: فهي في الاصطلاح عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره.
واما الحديث: فقد يطلق على كلام غير المعصوم الحاكي عن السنة الصادرة عن
المعصوم كما أنه قد يطلق على الأعم من الحاكي والمحكى ويرادفه الخبر.
واما الحديث القدسي: فهو كلام الله تعالى غير المنزل على سبيل التحدي والتعجيز
سواء نقله المعصوم عن الله بواسطة الملك أم نقله من الكتب السماوية الماضية.
تنبيهات:
الأول: قد أشرنا إلى أن السنة قول أو فعل أو تقرير، والأول واضح من حيث
الموضوع ومن حيث الحجية كما سيجئ.
واما الفعل: فهو حجة في الجملة ومثبت للحكم في بعض الموارد.
اما في الأفعال الضرورية ولوازم الحياة كالأكل والشرب ونحوهما، فلا حاجة في
اثبات جوازها إلى فعل المعصوم لثبوته بالعقل والضرورة من الشرع.
واما في غيرها، فترك المعصوم فعلا من الأفعال يدل على عدم وجوبه كما أن فعله
141

شيئا منها يدل على عدم حرمته، إذا لم يكن هناك خوف وتقية.
واما اثبات رجحان عمل بالفعل أو اثبات كراهته بالترك سواء أكان مواظبا
عليهما أم لا; فلا اشكال فيه إذا علم بالصدور بقصد القربة; فعند ذلك يثبت أصل
الرجحان دون الوجوب، وإن لم يعلم وجه العمل واحتمل كونه عبادة أو مباحا يفعله
باقتضاء طبعه كما إذا كان يجلس بعد السجدتين وقبل القيام، فالظاهر عدم ثبوت
الرجحان بذلك.
واما التقرير: فهو ان يطلع المعصوم على معتقد شخص أو جماعة أو على صدور فعل
كذلك; أو على جريان سيرتهم على عمل فلم ينكره عليهم ولم يردعهم عنه مع عدم
خوف وتقية; (فح) يكون ذلك تقريرا لما صدر عنهم وحجة على صحة تلك العقيدة،
وإباحة تلك الأعمال والعادات.
الثاني: قسموا الخبر إلى أقسام كثيرة نذكر هنا نبذا من ذلك.
فمنها: خبر الواحد.
ومنها: المستفيض وهو ما كان مخبره أكثر من واحد ولم يصل إلى حد التواتر.
ومنها: المتواتر وهو الذي بلغ رواته في كل طبقه حدا يمتنع عادة تباينهم
على الكذب، وينقسم إلى أقسام ثلثة:
الأول: المتواتر اللفظي وهو اتفاق الرواة على نقل لفظ معين كما ادعى ذلك في
قوله " عليه السلام ": " انما الاعمال بالنيات ".
وقوله " صلى الله عليه وآله ": " انى تارك فيكم الثقلين "، وقوله " صلى الله عليه
وآله وسلم ": " من كنت مولاه فعلى مولاه ".
الثاني: المتواتر المعنوي وهو اخبارهم بألفاظ مختلفة تشترك الجميع في اثبات معنى
واحد كان ذاك المعنى مدلولا مطابقيا لها أو التزاميا أو بالاختلاف كما إذا روى
أحدهم ان الهر طاهر والاخر ان السنور نظيف وهكذا وكما إذا ورد ان الماء القليل
ينجس بالملاقاة وورد ان الا نقص من الكر ينفعل وورد ان الماء إذا بلغ قدر كر لا
ينجسه شئ ومثل الاخبار الحاكية عن غزوات مختلفة تشترك في الدلالة على شجاعة
علي " عليه السلام ".
142

الثالث: المتواتر الاجمالي وهو اخبار الناقلين بألفاظ مختلفة متفاوتة في سعة الدلالة
وضيقها مع حصول العلم الاجمالي بصدور بعض تلك الألفاظ كما إذا روى البعض
ان خبر المؤمن حجة وروى الاخر ان خبر الثقة حجة وروى الثالث ان خبر العدل
حجة والحكم (ح) لزوم الاخذ بالخبر الأخص مضمونا.
ومنها: الصحيح وهو ما كان افراد سلسلة سنده كلهم اماميين ممدوحين
بالتعديل، وقد يطلق الصحيح منسوبا إلى راو معين فيقال صحيح ابن أبي عمير مثلا
فيراد منه كون السند صحيحا إلى ذلك الرجل، وقد يقال روى الشيخ مثلا في
الصحيح عن ابن بكير فيراد كون الوسائط المحذوفة بين الشيخ وابن بكير رجالا ثقات
حذفوا للاختصار هذا عند المتأخرين واما عند القدماء فالصحيح كل حديث قابل
للاعتماد عليه فيعم الحسن والموثق كما سيجئ.
ومنها: الحسن وهو ما كان جميع رواة السند اماميين غير معدلين كلا أو بعضا.
ومنها: الموثق وهو ما كانت السلسلة غير اماميين كلا أو بعضا مع توثيق الجميع
ويسمى هذا قويا أيضا.
الثالث: لا اشكال في حجية التواتر من تلك الأقسام واما البواقي ففيها اختلاف
بين الاعلام وان كان الامر في بعضها أسهل من بعض.
فاستدل القائلون بالحجية في الصحيح والموثق بأمور:
الأول: قوله تعالى: " فلو لا نفر من كل فرقة منهم " الخ.
حيث أوجب الله الانذار للمتفقه، وطلب من الفرقة الحذر العملي من بعد الانذار
ولا يحصل العلم بطبع الحال من إنذار واحد أو اثنين فلو لا الحجية لما صح حذرهم عملا
بترتيب احكام الواقع على المنذر به.
الثاني: الروايات المتكثرة الواردة في الأبواب المختلفة فمنها ما ورد في الخبرين
المتعارضين فأوجب مولانا الصادق " عليه السلام " في مقبولة ابن حنظلة: " الاخذ بما يقوله
الأعدل والا صدق وما هو المشهور " ونحوها، وقال ابن أبي جهم للرضا " عليه السلام ":
" يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق، قال " عليه السلام " إذا لم
تعلم فموسع عليك بأيهما اخذت "; فلو لا الحجية لما تعارضا ولما كان الترجيح بينهما
143

مطلوبا.
ومنها: ما ورد عنهم، في ارجاع بعض أصحابهم إلى الآخرين، كقول الصادق
" عليه السلام ": " إذا أردت حديثا فعليك بهذا المجالس - (مشيرا إلى زرارة) - " وقوله
" عليه السلام " في حق ابان: " انه قد سمع منى حديثا كثيرا فما روى لك عنى فاروه عنى إلى
غير ذلك ".
الثالث: استقرار سيرة العقلاء جميعا على العمل في أمور معاشهم بقول الثقة، مع
كون هذه السيرة بمرئى من الشارع فلو لم تكن ماضية عنده لوجب ردعهم عن سلوكها
وتعيين طريقة أخرى في اخذ الاحكام ونقلها.
144

الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي
يطلق العنوان الأول في الغالب على المشتبه الذي لم يقارن علما اجماليا بتكليف.
وتلاحظ هذه الشبهة تارة في الشبهات الوجوبية وأخرى في التحريمية وثالثة في
الأقل والأكثر، وعلى أي تقدير قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية فالأقسام
ستة:
الأول: لحاظها في الوجوبية الحكمية كما إذا شككنا في أن الدعاء عند رؤية
الهلال واجب أم لا.
الثاني: لحاظها في الوجوبية الموضوعية كما إذا شككنا في أن هذا عالم أم لا بعد
العلم بوجوب اكرام كل عالم.
الثالث: لحاظها في التحريمية الحكمية كالشك في حرمة شرب العصير شرعا
وعدمها.
الرابع: لحاظها في التحريمية الموضوعية كالشك في أن هذا المايع خمر أم لا.
الخامس: لحاظها في الحكمية في الأقل والأكثر كما إذ شك في أن السورة واجبة في
الصلاة أم لا أو شك في أن غير آية السجدة من سور العزايم حرام على الجنب أم لا.
السادس: لحاظها في الموضوعية في الأقل والأكثر كما إذا شك في أن الستر الواجب
حال الصلاة حاصل أم لا.
145

تنبيهات:
الأول: ان الأقوال في الشبهة البدوية مختلفة فالمشهور على اجراء أصالة البراءة فيها
مطلقا وذهب عدة إلى البراءة في الوجوبية منها والاحتياط في التحريمية وعدة أخرى إلى
البراءة فيها مطلقا نقلا والاحتياط في الموضوعية عقلا وعدة ثالثة إلى الاحتياط في
الأقل والأكثر والبراءة في غيرهما إلى غير ذلك وأجملنا الكلام في نقل الأقوال مع عدم
استقصائها طلبا للاختصار.
الثاني: كما أن الشبهة البدوية مورد للبرائة على المشهور فكذلك لو كانت مقارنة
للعلم الاجمالي غير المؤثر ولها أمثلة كثيرة:
منها: ما لو علمنا اجمالا بخمرية أحد المايعين وكان أحدهما خارجا عن محل
الابتلاء فالشبهة في مورد الابتلاء بدوية موضوعا أو حكما.
ومنها: ما لو كانت الشبهة غير محصورة وكانت أطراف العلم كثيرة جدا فكل
واحد من أطرافه يكون بحكم الشبهة البدوية على المشهور.
ومنها: ما لو كان الشك في أحد أطراف العلم الاجمالي مسببا عن الشك في
الطرف الاخر كملاقي أحد الأطراف لحكمه حكم الشك البدوي لعدم تعارض اصله
مع الأصل السببي.
الثالث: مقابل الشبهة البدوية الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي وهو الشك الواقع في
أطراف العلم الاجمالي المؤثر بحيث كان ارتكابه مظنة للضرر الأخروي سواء أكانت
الشبهة وجوبية أم تحريمية حكمية أم موضوعية فإذا علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة
فالشبهة في كل صلاة وجوبية مقرونة بالعلم الاجمالي وكذا إذ علم بوجوب اكرام زيد
وشك انه هذا الشخص أو ذاك وإذا علم بحرمة فعل شرعا وشك في أنه شرب الخمر
أو شرب العصير فالشبهة في كل فعل تحريمية مقرونة بالعلم الاجمالي وكذا إذا علم بحرمة
الخمر وشك في أنه هذا المايع أو ذاك والحكم في هذه الشبهة الاحتياط على المشهور
وينسب إلى بعض جواز المخالفة الاحتمالية دون القطعية والى آخرين جوازهما معا
فراجع بحث العلم الاجمالي.
146

الشبهة الحكمية والموضوعية
يطلق هذان الاسمان غالبا على الشكوك التي تقع مجرى للأصول العملية، وموردا
للاحكام الظاهرية، كالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب وأصالة البراءة والتخيير
والاحتياط وقاعدة الطهارة وغيرها.
فالأولى: هي الشك المتعلق بالحكم الشرعي الكلى مع كون منشئه عدم النص في
المسألة أو اجماله أو تعارضه مع نص آخر، وتوصيفها بالحكمية لان متعلقها
هو الحكم الشرعي وحل الاشتباه ورفعه لا يكون الا من ناحية جاعل الحكم والدليل
الواصل من قبله.
فإذا شك المكلف في وجوب السواك، أو في بقاء وجوب الجمعة، أو في كون
الواجب يوم الجمعة صلاتها أو صلاة الظهر; أو في كون صلاة الجمعة واجبة أو محرمة أو
في طهارة العصير المغلى; كان ذلك من جهة عدم الدليل المعتبر في المورد أو اجمال
الدليل الوارد أو تعارض الدليل الظاهر مع مثله، كان الأول من قبيل الشبهة الحكمية
للبرائة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع للتخيير والخامس لقاعدة
الطهارة.
والثانية: هي الشك المتعلق بالموضوع الخارجي أو الحكم الجزئي مع كون منشئه
147

اشتباه الأمور الخارجية، والتوصيف بالموضوعية لكون متعلقها هو الموضوع الخارجي،
ورفع الشبهة موقوف على الفحص عن الأمور الخارجية من غير ارتباط له بالشرع.
فإذا شك في كون هذا المايع خمرا أو خلا، أو ان خمر هذا الاناء هل انقلبت إلى
الخل أولا، أو ان نهى والده هل تعلق بشرب التتن أو شرب الشاي، أو انه هل امره
بشرب الشاي أو نهاه عنه، أو ان هذا الغذاء المأخوذ من السوق هل هو طاهر أو نجس،
كان الأول شبهة موضوعية للبرائة والثاني للاستصحاب والثالث للاحتياط والرابع
للتخيير والخامس للطهارة.
148

الشبهة المحصورة وغير المحصورة
يطلق هذان العنوانان غالبا على المشتبهات الواقعة في أطراف العلم الاجمالي فإذا علمنا
اجمالا بنجاسة أحد الإناءات فهنا علم اجمالي وشكوك تفصيلية بعدد محتملات المعلوم
بالاجمال; فان كل واحد من الأطراف مشتبه ومشكوك فإذا كانت الأطراف
والمحتملات قليلة معدودة يطلق عليها الشبهة المحصورة لانحصار الشبهة أو المشتبهات وإذا
كانت كثيرة لا تقبل الحصر يطلق عليها الشبهة غير المحصورة.
ثم انهم ذكروا لبيان ما يكون ميزانا لتشخيص كون الشبهة محصورة أو غير محصورة
أمورا:
منها: ان المحصورة ما كان محصورا في العرف والعادة بمعنى انه لا يعسر عده في
زمان قليل، وغير المحصورة مالا يقبل الحصر والعد عرفا ويعسر عده في زمان قليل، فلو
اشتبه النجس بين عشرة إناءات أو مئة بل أو الف فأطراف الشبهة محصورة ولو اشتبه
بين عشرة آلاف مثلا فأطرافها غير محصورة.
ومنها: ما يقال إنه إذا بلغ كثرة الأطراف إلى حيث لا يعتنى العقلاء بالعلم
الاجمالي الحاصل فيها ويكون احتمال مصادفة كل واحد من أطراف الشبهة للحرام
المعلوم بالاجمال موهوما في الغاية فالشبهة غير محصورة والا فهي محصورة، الا ترى أنه لو
149

نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من اهل قرية كبيرة يعلم
بوجود زيد فيها لم يكن العبد ملوما وان صادف زيدا وهذا هو مختار الشيخ في رسائله.
وهنا أقوال أخر طوينا عنها كشحا روما للاختصار.
تنبيه:
اشتباه متعلق التكليف بين الأطراف يتصور على أقسام ثلاثة:
أولها: أن يكون المتعلق قليلا مرددا بين أطراف قليلة كالواجب المشتبه بين الظهر
والجمعة أو النجس المشتبه بين إنائين أو أكثر وهذا هو المسمى بالشبهة المحصورة ويطلق
عليه أيضا المشتبه القليل في القليل.
ثانيها: المتعلق القليل بين أطراف كثيرة وهذا هو المسمى بالشبهة غير المحصورة وقد
علمت أمثلتها.
ثالثها: المتعلق الكثير بين أطراف كثيرة كما لو علم بحرمة خمسمأة شاة بين الفين
أو ألفا بين عشرة آلاف ويطلق عليه المشتبه الكثير في الكثير وهل هو بحكم المحصور أو
غير المحصورة وجهان أوجههما الأول فان نسبة الحرام إلى المجموع كنسبة الواحد إلى
الأربعة أو إلى العشرة وهو مشتبه محصور.
150

الشك
يستعمل هذا اللفظ في الاصطلاح تارة في الحالة النفسانية المقابلة لوصفي القطع والظن
وهو تردد الذهن في طرفي النقيض من غير رجحان وهذا المعنى هو الذي كثر استعمال
الشك فيه في عرفنا الآن.
وأخرى في المعنى المقابل لليقين الشامل للشك بالمعنى الأول والظن وهو معناه
لغة.
وثالثة في عدم قيام الحجة والبرهان على الشئ والمعنى الأول أخص من
الأخيرين والثاني أخص من الثالث.
فإنه إذا شك الانسان في حرمة العصير مثلا شكا متساويا ولم يجد عليها دليلا
معتبرا تحقق الشك بجميع معانيه ولو ظن الحرمة ظنا غير معتبر ولا دليل عليها معتبر
تحقق الشك بالمعنيين الأخيرين دون الأول ولو ظن ظنا غير معتبر وعليها دليل معتبر
تحقق الشك بالمعنى الثاني دون الثالث، ثم إن المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية
والأصول العملية هل هو خصوص المعنى الأول، أو أحد المعنيين الأخيرين. وجوه بل
أقوال تقدم الكلام فيها في عنوان الحكومة.
ثم إنه يقسم الشك بتقسيمات:
151

الأول: تقسيمه إلى الشك الطارئ والشك الساري فالطارئ هو الشك في البقاء
المأخوذ في مجرى الاستصحاب والشك الساري هو الشك المأخوذ في مجرى قاعدة
اليقين فراجع القاعدتين تعرف حقيقتهما، واطلاق الساري على الثاني لسرايته إلى
نفس متعلق اليقين والطاري على الأول مع أن كل شك طار وعارض ليصح التقابل
اللفظي مع الثاني.
الثاني: تقسيمه إلى شك بدوي وشك مقرون بالعلم الاجمالي فراجع عنوان
الشبهة.
الثالث: تقسيمه إلى الشك السبى والشك المسببي.
وتوضيحه انك قد عرفت أن الشك موضوع في غالب الأصول العملية مأخوذ في
مجاريها، وان تلك الأصول احكام شرعية ظاهرية مترتبة على الشك (فح) نقول:
اما ان يوجد هنا شك واحد موضوع لحكم واحد، أو يوجد شكان كل واحد منهما
موضوع لحكم ومجرى لأصل; وعلى الثاني فاما أن يكون كل واحد منهما مسببا عن
سبب مستقل، أو يكونا مسببين عن سبب واحد أو يكون أحدهما مسببا عن الاخر
فالأقسام أربعة.
لا كلام في القسمين الأولين كما إذا عرض لنا شك في بقاء وجوب الجمعة أو
عرض شكان أحدهما في بقاء حياة زيد والاخر في كرية ماء فيترتب على كل شك
حكمه.
واما الثالث: فكما إذا علم اجمالا بوقوع قطرة من النجس في أحد الإنائين فتولد منه
شك في طهارة هذا وشك في طهارة ذاك فالشكان مسببان عن امر ثالث هو العلم
الاجمالي فيقع التعارض بين أصليهما إذ اجراء الاستصحاب أو قاعدة الطهارة في كليهما
ينافي العلم الاجمالي فالحكم (ح) هو التساقط والرجوع إلى الاحتياط مثلا.
واما الرابع: فهو يتصور على قسمين:
الأول: أن يكون أصلاهما متوافقين قابلين للعمل بهما.
والثاني: ان يكونا متخالفين متعارضين.
مثال الأول: ما إذا كان كر مشكوك الطهارة المسبوق بالطهارة فلاقاه شئ طاهر
152

فتولد من الشك في الماء الشك في ملاقيه فالأول سببي والثاني مسببي، وحكمه انه
يجرى استصحاب الطهارة في الماء فيغنى عن استصحابها في الملاقي أو يجرى فيه
استصحاب آخر.
ومثال الثاني: ما إذا كان هنا كر مسبوق بالطهارة فغسل فيه ثوب نجس فتولد من
الشك في الماء الشك في طهارة الثوب، والأول سببي والثاني مسببي وأصلهما (ح)
متعارضان بدوا فمقتضى استصحاب طهارة الكر طهارة المغسول فيه; ومقتضى
استصحاب نجاسة الثوب الحكم بنجاسته.
وهل اللازم حينئذ تقديم أصل السبب أو المسبب أو يتساقطان. وجوه أقواها
الأول لأمور:
منها: لزوم المحذور العقلي لو قد منا المسببي بخلاف تقديم أصل السبب.
بيانه: ان من آثار طهارة الماء شرعا طهارة المغسول به لقوله (ع) الماء يطهر ولا
يطهر، فإذا حكم الشارع بطهارة الماء بالاستصحاب فقد حكم بطهارة المغسول فيه;
فيكون رفع اليد عن نجاسة الثوب بامر الشارع ودليل شرعي، إذ الشارع (ح) قد ألغى
الشك المتعلق ببقاء نجاسة الثوب وحكم بعدمه تعبدا بعد الغسل بذلك الماء فرفع اليد
عن استصحاب النجاسة لعدم الشك في بقائها تعبدا فلا موضوع له حتى يجرى حكمه،
نظير ما إذا قامت البينة على طهارة الثوب في المثال.
فتحصل ان اللازم من تقديم السببي عدم بقاء الموضوع للمسببي وكونه محكوما بل
قد تعرضنا في بعض مواضع الكتاب لتقريب وروده عليه.
وهذا بخلاف ما إذا قدمنا أصل المسبب وطرحنا الأصل الجاري في السبب فإنه
يلزم طرح الحكم الشرعي بلا دليل فإنه ليس من آثار بقاء نحاسة المغسول في الكر
مثلا نجاسة الكر شرعا بل هي من الآثار واللوازم العقلية للاستصحاب المسببي فإنه
إذا حكم بنجاسة المغسول بالكر في المثال ينكشف لدى العقل انه لا وجه له الا كون
الماء نجسا غير قابل للتطهير به فإذا كان الأصل في المسبب غير ناظر إلى حال السبب
يكون رفع اليد عن اصله مع تحقق موضوعه تخصيصا بلا وجه وهذا معنى ما قيل إن
الامر يدور حينئذ بين التخصص والتخصيص بلا وجه فتقديم السبب مستلزم
153

للتخصص في ناحية المسبب وعكسه مستلزم للتخصيص بلا وجه في ناحية السبب كما
عرفت.
ومنها: انه يظهر من صحيحة زرارة صحة استصحاب الوضوء واجزاء الصلاة المأتي
بها بذلك الوضوء مع أنه معارض بأصالة عدم برائة الذمة بتلك الصلاة وهذا بعينه من
تقديم السبب على المسبب إذ الشك في بقاء الاشتغال مسبب عن الشك في بقاء
الوضوء.
ومنها: الارتكاز العرفي وعمل العقلاء على التقديم فإنهم إذا علموا بان الشارع
حكم بطهارة ماء أو كريته ولو كان حكما ظاهريا رتبوا عليه الحكم برفعه للخبث
والحدث وإذا حكم بحلية مال أدوا منه ديونهم ولا يلتفتون إلى ما يقابلها من
استصحاب بقاء النجاسة أو الحدث أو اشتغال ذمتهم بالديون وهكذا.
تنبيه:
قد لا يكون الأصل الجاري في ناحية السبب ناظرا إلى حال المسبب وحاكما عليه
لكون اللزوم عقليا، وقد يسقط عن الحجية لمانع أو مزاحم، وعلى التقديرين فتصل
النوبة إلى الأصل الجاري في المسبب.
مثال الأول ما إذا غاب عنا زيد وله من العمر عشر سنين فشككنا بعد عشرين
سنة في بقاء حياته; فاستصحاب الحياة لا يثبت بلوغ سنه إلى ثلثين أو نبات لحيته أو
سائر اللوازم العقلية والعادية فإنه مثبت فتصل النوبة إلى اجراء استصحاب عدم
تحقق تلك اللوازم وعدم آثارها وهذه أصول مسسببية.
ومثال الثاني ملاقي أحد الأطراف في الشبهة المحصورة فيما إذا علم اجمالا بنجاسة
أحد الشيئين، فان الأصل في طرف السبب أعني الملاقي بالفتح قد سقط بالمعارضة
فوصلت النوبة إلى أصل المسبب.
154

الشهرة
هي في الاصطلاح عبارة عن اشتهار امر ديني بين المسلمين ولو بين عدة منهم.
وتنقسم إلى أقسام ثلاثة:
الأول: الشهرة الروائية وهي اشتهار نقل الرواية بين أرباب الحديث ورواته
القريبين من عهد الحضور لا المتأخرين عنه سواء عمل بها ناقلها أم لم يعمل لوجود
قصور فيها أو وجود رواية أرجح منها وهذا القسم هو الذي جعلوه في باب التراجيح من
المرجحات وحملوا عليه قوله " عليه السلام ": " خذ بما اشتهر بين أصحابك " فإذا ورد خبران
متعارضان وكان أحدهما أشهر رواية من الاخر أوجبوا اخذه وطرح الاخر لمرجحية
الشهرة.
الثاني: الشهرة العملية وهي اشتهار العمل برواية بين الأصحاب المذكورين وكثرة
المستند إليها في مقام الفتوى ولو لم يتحملوا نقلها بشرائط التحمل والنقل وهي التي
توجب جبر سند الرواية إذا كان ضعيفا فإذا لم يكن في المسألة الا رواية واحدة ضعيفة
السند ولكن الأصحاب عملوا بها انجبر ضعفها وجاز الاستدلال بها.
كما أن المشهور لو اعرضوا عن رواية كان ذلك موهنا لها ولو كان السند صحيحا
سليما ومن هنا قيل: كلما ازداد الخبر صحة ازداد عند الاعراض عنه ضعفا، والنسبة
155

بين الشهرتين عموم من وجه فقد تكون الرواية مشهورة من حيث الرواية غير مشهورة
من حيث العمل وقد ينعكس الامر وقد يتصادقان وهذان القسمان من الشهرة من
صفات الرواية وحالاتها.
الثالث: الشهرة الفتوائية وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بحكم في مسألة من
المسائل مع عدم استناد المفتين بها إلى رواية اما لعدم وجودها أو لاعراضهم عنها وهذه
هي التي يبحث عن حجيتها في باب حجية الامارات وهذه الشهرة من الصفات
العارضة للحكم الشرعي دون الخبر والرواية.
156

الصحيح والأعم
وقع النزاع بين الأصوليين في أن أسامي العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم بل
وبعض أسامي المعاملات كالبيع والإجازة والنكاح ونحوها هل هي موضوعة ولو
بوضع تخصصي للمعاني الجامعة للاجزاء والشرائط الشرعية الفاقدة للموانع والقواطع
كذلك; بحيث يكون الاستعمال في الناقصة الفاقدة لما يعتبر فيها غلطا باطلا أو مجازا
لعناية وعلاقة ويكون ما هو الموضوع له هو المأمور به عند الشارع وما هو المأمور به عنده
هو الموضوع له، أو هي موضوعة للأعم من التامة الجامعة لما يعتبر فيها والناقصة الفاقدة
له، فاطلاقها على الناقصة أيضا استعمال حقيقي وان كان الطلب لم يتعلق الا بالكاملة
الواجدة لما يعتبر فيها فاختيار الوجه الأول قول بالصحيح والقائل به يسمى صحيحيا
واختيار الوجه الثاني قول بالأعم والقائل به يسمى أعميا.
ثم انهم قد أطنبوا الكلام في تعيين الألفاظ الواقعة في محل النزاع وفى تصوير المعنى
الصحيح والمعنى الأعم في موارد البحث وفى الاستدلال على ما اختاروه من الوجهين
فراجع مظانه.
واما الثمرة بين القولين فقالوا انها تظهر فيما إذا وقعت هذه الألفاظ بنحو الاطلاق
موضوعا لحكم من الاحكام كما إذا قال المولى صل الظهر وشككنا في أن السورة جزء
157

لها أم لا، فعلى القول الأول يرجع الشك في الجزئية إلى الشك في أصل صدق الصلاة
على الصلاة بلا سورة ومعه لا يجوز التمسك بالاطلاق كما إذا شك في قوله أعتق رقبة ان
هذا الموجود عبد أم حر فاللازم حينئذ الاحتياط وعلى القول الثاني لا اشكال في أن
العمل بلا سورة أيضا صلاة فيشك في تقييدها بقيد زائد على حقيقتها وعدمه والاطلاق
حينئذ محكم.
158

الضد والنقيض
قسم اهل المعقول العرضين المقيسين إلى موضوع واحد إلى أقسام ستة المثلين والخلافين
والضدين والمتضايفين والملكة وعدمها والنقيضين وسموا الأربعة الأخير بالمتقابلين.
فالمثلان: هما العرضان من نوع واحد كالبياضين والسوادين.
والخلافان: هما العرضان من نوعين مع امكان اجتماعهما في محل واحد كالبياض
والحلاوة.
والضدان: هما العرضان الوجوديان من نوعين مع عدم امكان الاجتماع وعدم
توقف تصور أحدهما على تصور الآخر كسواد وبياض.
والمتضايفان: هما الوجوديان من نوعين مع عدم الاجتماع وتوقف تصور أحدهما
على تصور الاخر كالأبوة والبنوة في شخص خاص بالنسبة إلى شخص خاص آخر.
والعدم والملكة: هما العرضان أحدهما وجودي والاخر عدمي مع كون المحل
المتصف فعلا بالعدمي من شأنه ان يتصف بالوجودي كعدم اللحية ووجودها في من
بلغ خمسين سنة مثلا.
والنقيضان: أو الايجاب والسلب هما الوجودي والعدمي مع عدم لحاظ الشأنية
كوجود زيد وعدمه.
159

إذا عرفت ذلك علمت معنى الضد عند اهل المعقول واما عند الأصوليين فقد
يطلق على ذلك وقد يطلق على المعنى الأعم من ذلك أعني المنافى للشئ والمعاند له
سواء كان وجوديا أو عدميا، الا انهم سموا الوجودي بالضد الخاص والعدمي بالضد
العام بمعنى الترك، فيقولون في مسألة " ان الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده أم لا "
انه إذا امر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد فهل يقتضى ذلك، النهى عن الصلاة أم لا
أو يقتضى النهى عن ترك الإزالة أم لا، فالازالة والصلاة عندهم ضد ان كما أن
الإزالة وعدمها أيضا عندهم ضدان.
160

الظن
هو لغة واصطلاحا عبارة عن الطرف الراجح من طرفي الترديد في الذهن، وقد يطلق
اصطلاحا على الأسباب الذي تورث الظن بحسب الغالب كما ستعرف ولمطلق الظن
عند الأصوليين تقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الظن الشخصي والظن النوعي.
فالأول: هو الظن اللغوي وهي صفة نفسانية تنقدح في النفس نظير العلم والشك.
والثاني: هي الأسباب التي تكون غالبا سببا لانقداح الظن الشخصي في الذهن،
كخبر العدل والثقة والاجماع المنقول وكون الشئ متيقن الوجود في السابق ونحوها
فيطلق عليها الظنون النوعية، وبين الظنين تباين ماهية وعموم من وجه تحققا فقد
يفترقان في التحقق وقد يتحققان وفي صورة التحقق قد يتوافقان وقد يختلفان فإذا
أخبرك العادل بوجوب الجمعة وكان ظنك الشخصي أيضا بالوجوب فقد اجتمعا
وتوافقا وان كان ظنك الشخصي بحرمتها فقد اختلفا فان ثبت عندك حجة أحدهما
دون الآخر عملت بالحجة منهما وان ثبت حجيتهما معا كان المورد من قبيل تعارض
الدليلين.
الثاني: تقسيمه إلى الظن الخاص والظن المطلق.
161

فالأول: كل ظن شخصي أو نوعي دل على حجيته دليل خاص من عقل أو نقل
كالظن بركعات الصلاة أو خبر العدل والثقة.
والثاني: هو الظن الذي ثبت حجيته بدليل الانسداد ومعونة مقدمات الحكمة
ويطلق عليه الظن الانسدادي أيضا وقد مضى بيان المقدمات تحت عنوان الانسداد.
الثالث: تقسيمه إلى الظن المانع والظن الممنوع.
وهذان اسمان لبعض مصاديق الظن المطلق الذي كان أحد الشقين في التقسيم
السابق، فهنا ظن مطلق مانع وظن مطلق ممنوع، مثلا إذا حصل للمكلف القائل
بالانسداد ظن من قول الصبى أو الفاسق بوجوب صلاة الجمعة وحصل له ظن آخر
بعدم حجية الظن الحاصل من قول الصبى والفاسق، يطلق على الظن الأول الممنوع
وعلى الثاني المانع وفى حجية أحدهما أو كليهما أقوال:
أولها: حجية المانع دون الممنوع لأنهما كالشك السببي والمسببي في الاستصحاب.
ثانيها: حجية الممنوع دون المانع لان الأول ظن بالحكم الفرعي وهو الوجوب
والثاني ظن بالحكم الأصولي وهي الحجية والمتقين من دليل الانسداد حجية الأول
فقط.
ثالثها: لزوم اختيار أقواهما لو كان والا فالتساقط لعدم الترجيح.
الرابع: تقسيمه إلى الظن الطريقي والظن الموضوعي.
والأول: ما كان طريقا محضا إلى واقع محفوظ من دون كونه مأخوذا في موضوع
حكم كما في القطع الطريقي من غير فرق بينهما الا في كون طريقية القطع ذاتية غير
قابلة للجعل شرعا وكون طريقية الظن عرضية مجعولة من الشرع أو العقل والأول
كحجية الامارة شرعا بنحو الطريقية والثاني كالظن الانسدادي على الحكومة.
والثاني: هو الظن الذي له دخل في الحكم شرعا بمعنى كونه مأخوذا في موضوعه
والاقسام المتصورة في القطع الموضوعي تجرى في المقام أيضا مع اختصاصه بزيادة
شئ.
بيانه انه سيأتي في باب القطع امتناع اخذ القطع بالحكم أو بالموضوع ذي الحكم
في موضوع حكم مماثل للمقطوع به أو مضاد له واما اخذ الظن بذلك في موضوع حكم
162

مماثل أو مضاد فهو جائز في الظن غير المعتبر وغير جائز في المعتبر; فيجوز أن يقول المولى
إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة من اخبار صبى أو فاسق فهي عليك واجبة أو هي
عليك محرمة، والسر في ذلك أن الواقع على فرض وجوده غير منجز على الظان لعدم
حجية ظنه فيكون الحكم المرتب على الظن حكما ظاهريا فعليا ولا تنافى بينه وبين
الحكم الواقعي كما في موارد الشك; ولا يجوز أن يقول بعد أن جعل قول العدل حجة
وطريقا إذا أخبرك العدل بوجوب صلاة الجمعة فهي عليك واجبة أو هي عليك محرمة
لان الواقع على فرض وجوده فعلى منجز والفرض ان الحكم المرتب على الظن أيضا
كذلك فيلزم اجتماع المثلين أو الضدين ولو ظنا وهو باطل.
163

عدم خلوا الواقعة عن الحكم
قد اشتهر بين الأصحاب عدم خلو واقعة من الوقايع عن الحكم الشرعي والقدر
المسلم من هذه المسألة ما إذا كان المراد من الواقعة فعل المكلف ومن الحكم الشرعي
الحكم التكليفي بمرتبته الانشائية.
وحاصل الكلام حينئذ انه ليس للمكلف فعل من الأفعال الا وله من
ناحية الشارع حكم من الأحكام الخمسة مجعول بالغ مرتبة الانشاء سواء أكان واصلا
إلى مرتبة الفعلية والتنجز أم لم يكن وهذا المعنى هو الذي يمكن دعوى الاتفاق عليه
وادعى تواتر الاخبار فيه بان لله في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم والجاهل.
وما سوى ذلك مورد شبهة واشكال اما الأحكام الوضعية فتارة يكون الفعل خاليا
عنها بالمرة وأخرى يعرضه منها واحد وثالثة يعرضه اثنان أو أكثر.
ففي غالب المباحات مثل الأكل والشرب والقيام والقعود لا يعرضه حكم وضعي
أصلا، وفى مثل العقود والايقاعات يترتب عليه التسببية بالنسبة إلى الأمور المقصودة
منها من الملكية والزوجية والطلاق والعتاق ونحوها، وفى أفعال الطهارات الثلاث مثلا
يترتب عليها السببية للحالة النفسانية الحاصلة منها والرافعية للحدث السابق والشرطية
للصلاة مثلا بناء على كونها بنفسها شرطا.
164

واما الأحكام التكليفية بمرتبتها الفعلية فهي أيضا لا تترتب دائما على الفعل بل
توجد موارد خلت الأفعال من مرتبة فعلية تلك الأحكام.
منها: موارد حصول القطع للمكلف على خلاف الحكم الواقعي كما إذا قطع
الشخص بوجوب الجمعة مع كونها حراما في الواقع فان ما قطع به ليس حكما شرعيا
مجعولا أصلا والحكم الواقعي ليس بمنجز حتما وليس بفعلي على المشهور فليس هنا
حكم شرعي في مرتبة الفعلية واقعيا كان أو ظاهريا وان كان التحريم موجودا أنشأ،
وكذا إذا قطع بحلية العصير مع حرمته في الواقع أو باستحباب شئ مع كونه واجبا
هذا إذا كان القطع بالخلاف قصوريا واما إذا كان عن تقصير فالواقع فعلى منجز.
ومنها: موارد الطرق الشرعية المؤدية إلى خلاف الواقع كما إذا أخبر العادل بإباحة
شئ وكان في الواقع واجبا أو حراما بناءا على القول بالطريقية فيها، فما أخبر به العادل
ليس بمجعول ولو ظاهرا وما كان موجودا واقعا ليس بفعلي فلا حكم فعلى في المورد.
ومنها: مورد الظن الانسدادي المخالف أيضا كالامارات الشرعية بناء على
الحكومة والكشف الطريقي.
ومنها: موارد مزاحمة المهم للأهم كالصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة من المسجد في
أول الوقت; فان الامر الفعلي لما توجه إلى الأهم بقي المهم خاليا عن الامر الفعلي بالكلية
والا لزم طلب الضدين نعم الحكم بمرتبته الانشائية ثابت وهذا مبنى على بطلان
الترتب واما بناءا على صحته فان أراد امتثال امر الأهم فكذلك أيضا وان أراد
المخالفة فامر المهم أيضا فعلى كامر الأهم.
ومنها: ما إذا استلزم امتثال واجب مخالفة حرام مع كون الواجب أهم كما لو
استلزم اكرام عالم إهانة عالم آخر أو الوضوء في محل انصباب مائه في ملك الغير;
فالإهانة والتصرف في ملك الغير لا حكم لهما أصلا لان الحرمة الواقعية قد ارتفعت
بالمزاحمة ولم يترتب عليهما من طرف ما يستلزمهما حكم أيضا.
165

عدم صحة السلب وصحته
وصحة الحمل وعدمها
اعلم أنه قد يرتكز في ذهن الانسان من أيام الصغر أو في برهة من الزمان معنى من
المعاني بنحو الاجمال للفظ مخصوص معين (فليلاحظ أحدنا ما في ذهنه من كلمة
الانسان والفرس والغنم وغيرها) وحينئذ إذا سمع من أحد تعريف الحيوان الناطق
وتصور في ذهنه ذلك الكلى فان رأى أنه لم يصح سلب الانسان بمعناه المرتكز في ذهنه
عن الكلى الذي تصوره أو انه يصح حمل الانسان بذلك المعنى على ما تصوره يعلم ان
لفظ الانسان حقيقة في الحيوان الناطق وان ما ارتكز في ذهنه اجمالا متحد مع ما
تصوره تفصيلا، فيتحقق حينئذ عنوان عدم صحة السلب وصحة الحمل ويكونان من
علائم الحقيقة، فيحكم بان الانسان والحيوان الناطق مترادفان.
وكذا ان رأى مصداقا من الانسان في الخارج كزيد مثلا وعلم أنه لا يصح سلب
المعنى المرتكز في ذهنه عنه بل صح حمله عليه يعلم بان زيدا مصداق حقيقي للمعنى
المرتكز لا مجازى ومن هنا قيل إن عدم صحة سلب مفهوم كلى عن مفهوم كلى وصحة
حمله عليه علامتا كونهما مترادفين وعدم صحة سلب المفهوم الكلى عن الفرد أو صحة
حمله عليه علامتا كون الفرد مصداقا حقيقيا لذلك الكلى.
هذا عدم صحة السلب واما صحته فإذا سمع الشخص من أحد تعريف الحمار
166

فتصور في ذهنه معناه الكلى أو رأى فردا منه في الخارج فرأى أنه يصح سلب الانسان
بمعناه المرتكز عن متصوره أو عن ذلك الفرد ولا يصح حمله عليهما كان هذان عنده
علامتا كون الحمار مباينا مع الانسان وعدم كون الفرد مصداقا حقيقيا له وكان
الاستعمال مجازيا وهكذا سائر الأمثلة.
167

العرض الذاتي والعرض الغريب
قد يستعمل العرض فيما يوافق معناه اللغوي وهو الوصف العارض للشئ المقابل
لذاتياته وهذا هو المستعمل في باب الكليات ويقسمونه إلى عرض خاص كالكتابة
للانسان وعرض عام كالحركة بالإرادة والمشي له أيضا.
وقد يستعمل بمعنى مطلق الامر الخارج عن الشئ ولو تصورا المحمول عليه ذاتيا
كان أو عرضيا، وهو بهذا المعنى يستعمل في تعريف موضوع العلم فيقال ان الموضوع هو
الذي يبحث في العلم عن عوارضه الذاتية، ويقسم العرض بهذا المعنى إلى عرض ذاتي
وعرض غريب.
فالأول: ما كان عارضا ومحمولا على الشئ حقيقة بحيث كان وصفا بحال نفس
الموصوف وكان اتصاف الشئ به اتصافا حقيقيا سواء كان بلا واسطة أو بواسطة
داخلية أو خارجية فهنا أمثلة ثلاثة:
أولها: المحمول العارض بلا واسطة كالفصل بالنسبة إلى الجنس والجنس بالنسبة
إلى الفصل، في قولك الناطق حيوان والحيوان ناطق، فالبحث عن كون الناطق حيوانا
أو عن كون الحيوان ناطقا بحث عن العوارض الذاتية أي عن محمول نفس الشئ.
ثانيها: المحمول العارض بواسطة داخلية كالتكلم المحمول على الانسان بواسطة
168

كونه ناطقا والحركة الإرادية له بواسطة كونه حيوانا، فهما عرضان والانسان معروض
والنطق والحيوانية واسطتان داخلتان في حقيقة المعروض.
ثالثها: المحمول العارض بواسطة خارجية كالضحك المحمول على الانسان بواسطة
التعجب الخارج عن حقيقة ذاته والحرارة العارضة للماء بواسطة النار.
والثاني: أي العرض الغريب ما كان عروضه على الشئ وحمله عليه مجازيا وكان
الوصف بحال متعلق الموصوف لا نفسه، وحيث كان المعروض الحقيقي مرتبطا مع هذا
الشئ بنحو من الارتباط نسب وصفه إليه مجازا، مثاله توصيف الجسم بالسرعة
والشدة فتقول هذا الفرس سريع وهذا الأبيض شديد فهذا يطلق عليه الغريب لان
الاتصاف ليس حقيقيا بل المتصف بالسرعة واقعا هي الحركة وبالشدة هو البياض
ولأجل كونهما وصفين للفرس والشئ الخارجيين نسب عارضهما إليهما بالعناية.
ثم إن عمدة الغرض من هذا البحث بيان ان مسائل علم الأصول من قبيل
العوارض الذاتية لموضوعه فان الحجية مثلا بالقياس إلى ظاهر الكتاب وخبر العدل
وغيرهما عرض ذاتي تتصف تلك الأمور بها حقيقة لا بالعرض والمجاز كما أن الأحكام الفرعية
المبحوث عنها في علم الفقه تكون من العوارض الذاتية لموضوعه أعني أفعال
المكلفين أو الموضوعات الخارجية.
169

العقل
العقل قوة مودعة في النفس معدة لقبول العلم والادراك، ولذا قيل إنه نور روحاني
تدرك النفس به العلوم الضرورية والنظرية; وأول وجوده عند اجتنان الولد ثم لا يزال
ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، وله جنود من الخصال الفاضلة والسجايا المرضية تبدو
من عند التمييز وتكمل حين بلوغ الأربعين في الغالب.
وقد يطلق العقل على نفس التعقل والادراك; ويسمى على الاطلاق الأول عقلا
مطبوعا، وهو المراد من قوله تعالى كما في الرواية: " ما خلقت خلقا هو أحب إلى منك "
وعلى الاطلاق الثاني عقلا مكسوبا مسموعا، وهو المراد من قوله " عليه السلام ": " ما
اكتسب الانسان شيئا أفضل من عقل يهديه إلى هدى "، قال علي " عليه السلام " على ما
نسب إليه:
فان العقل عقلان * فمطبوع ومسموع -
ولا ينفع مسموع * إذا لم يك مطبوع -
كما لا تنفع الشمس * وضوء العين ممنوع
ثم إن البحث عن العقل في هذا العلم بملاحظة حجية مدركاته وكون احكامه من
أدلة استنباط الحكم الشرعي تارة، ومرجعا عمليا عند فقدان الامارات أخرى.
170

اما الأولى: فهي احكامه الاستقلالية التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية
; فيكون دليلا عقليا وامارة منجزة أو معذرة، ولذا قيل إن الدليل العقلي حكم
عقلي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم شرعي والمراد بصحيح النظر جعله كبرى في
قياس الانتاج كما تقدم، وذلك كحكمه بحجية الظن الانسدادي والظن الاستصحابي
بناء على حجيتهما وحكمه بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته وبالملازمة بين
وجوب شئ وحرمة ضده وبالملازمة بين حسن شئ أو قبحه ووجوبه أو حرمته شرعا
بناء على حكمه بالملازمة في هذه الموارد وغيرها من احكامه.
فتقول حرمة العصير مما تعلق بها الظن الانسدادي أو الاستصحابي وهو دليل
مثبت للتكليف منجز له فالحرمة ثابتة منجزة; وتقول الوضوء مقدمة للصلاة وكل
مقدمة الواجب واجبة فالوضوء واجب، وتقول الصلاة المزاحمة لإزالة النجاسة عن
المسجد ضد للواجب وكل ضد الواجب حرام فتلك الصلاة محرمة; وتقول رد الوديعة مما
حكم العقل بحسنه وكلما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه فارد واجب شرعا
وهكذا.
واما الثانية: فهي احكامه الاستقلالية التي تعد احكاما ظاهرية وأصولا عملية
يرجع إليها عند فقد الامارات العقلية والقواعد النقلية، وذلك كحكمه بقبح العقاب
على الحكم بلا ورود البيان عليه، وحكمه بتخيير المكلف عند دوران الامر بين
المحذورين; ولزوم الاحتياط عليه في موارد العلم الاجمالي ونحوها.
تنبيهان:
الأول: تنقسم مدركات العقل واحكامه إلى أقسام كثيرة تختلف لديه بالوضوح
والخفاء.
فمنها: المشهورات وهي التي توافقت عليها آراء العقلاء لوجود مصالح فيها وانحفاظ
نظام المجتمع وبقاء النوع بها كحسن العدل وقبح الظلم.
ومنها: الأوليات ككون الكل أعظم من الجزء والضدين لا يجتمعان.
171

ومنها: الحسيات المحسوسة بالحواس الظاهرة أو الباطنة ككون هذا الجسم ابيض
وكحكمنا بان لنا علما وشوقا وشجاعة.
ومنها: الفطريات وهي القضايا التي قياساتها معها ككون الأربعة زوجا لأنها
تنقسم إلى المتساويين وكل منقسم إلى المتساويين زوج.
ومنها: التجربيات وهي الحاصلة بتكرر المشاهدة كحكمنا بان السم مهلك.
ومنها: المتواترات كحكمنا بان مكة موجودة لاخبار جماعة يمتنع تبانيهم على
الكذب.
ومنها: الحدسيات الموجبة لليقين كحكمنا بان نور القمر مستفاد من الشمس
لتشكله بدرا وهلالا.
الثاني: لا اشكال في حجية ما استقل به العقل من الاحكام مما يعد امارة موصلة
إلى الأحكام الشرعية، أو أصلا عمليا يرجع إليه في مرحلة العمل.
والدليل عليه أولا ان ذلك مما يجده العقل في نفسه طبعيا وجدانيا وهو كاف في
الحجية إذ حجية كل شئ ترجع إلى حكمه وقضائه فكيف يثبت حجية حكمه بشئ
آخر.
وثانيا ما ورد من الأدلة النقلية على ذلك، ففي الكافي عن الكاظم " عليه السلام "
قال: " يا هشام ان لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فاما الظاهرة
فالرسل والأنبياء والأئمة " عليهم السلام " واما الباطنة فالعقول ".
وفى البحار عن كتاب الاحتجاج قال ابن السكيت للرضا " عليه السلام " فما الحجة
على الخلق اليوم قال " عليه السلام ": " العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب
على الله فتكذبه " قال ابن الكسيت: هذا هو والله الجواب.
وما ورد مستفيضا من: " ان الله لما خلق العقل قال بك أثيب وبك أعاقب وبك
آخذ وبك أعطى ". والاثابة والعقاب لا يكونان الا بالحجة ونحوها غيرها; والمخالف
في أصل ادراك العقل للحسن والقبح الأشاعرة وفى كون حكمه دليلا على الحكم
الشرعي الطائفة الاخبارية ولهم في ذلك أقوال أخر وسيأتي بعض الكلام فيه في قاعدة
التحسين وقاعدة الملازمة.
172

العموم والعام
العموم في الاصطلاح عبارة عن شمول المفهوم لكل ما يصلح ان ينطبق عليه وبعبارة
أخرى فعلية الشمول فيما فيه قابليته، والعام عبارة عن اللفظ الدال على المفهوم
وشموله.
فمعنى لفظ العام يتركب من امرين المفهوم القابل للانطباق على كثيرين، وفعلية
ذلك الانطباق.
ثم إن ألفاظ العام الدالة على ذلك المعنى ان كانت جامدة غير مركبة نظير ما ومن
الشرطيتين ومتى وحيث وكيف وأمثال ذلك فإنها بمعنى كل شئ أو كل شخص
أو كل زمان ومكان فواضح.
والا فالجزء الذي يدل من اللفظ على نفس المفهوم هو مادة اللفظ والذي يدل على
الشمول والسريان يسمى أداة العموم.
ففي ألفاظ كل رجل والعلماء ولا رجل تكون كلمة رجل وعالم هي المواد الدالة
على المفهوم وكلمة كل وهيئة الجمع ووقوع النكرة في سياق النفي هي إدواة العموم.
ثم إن للعام عند اهل الفن تقسيمات:
منها: تقسيمه إلى العام البدلي والعام الاستغراقي والعام المجموعي.
173

بيانه ان اللفظ الدال على الاستيعاب ان دل على شمول المفهوم للافراد بنحو
البدل كان الشمول بدليا وأطلق عليه العام البدلي، كقولك أكرم أي رجل شئت
وسافر إلى يوم أردت فكلمة أي وما يؤدى معناها من أدواة البدلي.
وان دل على شموله دفعة وبنحو الاستيعاب كان الشمول استيعابيا وحينئذ ان
قصد في الكلام ترتب الحكم الكلامي على كل فرد من افراد المفهوم مستقلا سمى
ذلك " عاما استغراقيا " كما لو ورد أكرم كل عالم مع كون الفرض انشاء وجوب
مستقل لكل فرد وان قصد ترتب حكم واحد على الجميع سمى العام مجموعيا.
فظهر مما ذكرنا أن انقسام العام إلى البدلي والاستيعابي انقسام وضعي نشأ من
وضع اللفظ للمعاني المختلفة ولذلك صارت ألفاظهما أيضا مختلفة، وانقسام الاستيعابي
إلى الاستغراقي والمجموعي انقسام بلحاظ الحكم المرتب عليله ويشهد لذلك اتحاد
ألفاظهما وجواز استعمال كل واحد منها في موضع الاخر.
تنبيه:
الفرق بين الأقسام في هذا التقسيم واضح إذ في الحكم المرتب على العام البدلي
يتحقق الامتثال بالاتيان ولو في ضمن فرد واحد ويحصل الغرض ويسقط الامر
بخلاف الاستيعابي، واما الفرق بين الاستغراقي والمجموعي فهو ان في الأول يكون
الحكم متعددا بتعدد الافراد ولكل واحد منها إطاعة مستقلة وعصيان مستقل، فأي
فرد من العلماء أكرمه المكلف في المثال السابق استحق ثوابه وأي فرد لم يكرمه
استحق عقابه ولا ارتباط بينهما، وفى الثاني يكون الحكم واحدا بحيث لو أكرم الجميع
حصل امتثال واحد ولو ترك الكرام واحد حصل عصيان الامر بالكلية.
ومنها: تقسيمه إلى العام الافرادي والعام الأزماني.
فالأول: عبارة عن شمول المفهوم وسريانه بحسب الافراد.
والثاني: عبارة عن شموله وسريانه بحسب الا زمان بمعنى لحاظ استمرار المفهوم
وبقائه في عمود الزمان.
174

بيان المطلب ان تعلق حكم شرعي بفعل من الأفعال من حيث اخذ الزمان قيدا
للحكم أو للموضوع يتصور على أقسام أربعة:
الأول: أن لا يلاحظ الزمان أصلا لا في طرف الحكم ولا في طرف الموضوع بل
تلاحظ طبيعة الحكم فترتب على طبيعة الموضوع بلا لحاظ تقيدهما بزمان، كما إذا قال
المولى أوجبت عليك الجلوس في المسجد أو صيام يوم، أو قال أعتق رقبة وأكرم عالما،
وحكم هذا القسم هو حصول الغرض وسقوط الامر باتيان مسمى الجلوس والصيام
وطبيعة العتق والاكرام.
الثاني: ان يلاحظ مقدار من الزمان محدود كشهر أو سنة أو مستمر دائم، ظرفا
لثبوت الحكم على الموضوع بان يجعل ويرتب طبيعي الحكم على طبيعي الموضوع ويراد
بذكر الزمان دوام الحكم عليه واستمراره في تلك المدة في مقابل كونه آنيا من حيث
الزمان أو منوطا بمجرد تحقق الطبيعة ولو في ضمن فرد واحد كما لو قال المولى يجب
الصدق في الكلام ابدا وأكرم زيدا دائما فلا يسقط الامر بتحقق الصدق ولو دفعة
واكرام زيد ولو مرة.
ونظير التصريح بالدوام استفادة ذلك من الاطلاق فيطلق (ح) على دوام الوجوب
على عنوان الصدق وعنوان الاكرام العموم الأزماني للحكم; ويقال ان لهذا الحكم
عموما أزمانيا ويطلق على عموم عنوان الاكرام لمصاديقه كاكرام زيد واكرام عمرو
العموم الافرادي للموضوع وهذا القسم هو الذي ذكر الشيخ قده بان الزمان فيه لوحظ
ظرفا للحكم لا قيدا للموضوع.
الثالث: ان يلاحظ الزمان قيدا للموضوع بنحو المجموع بان يلاحظ الزمان جميعه
ولو كان طويلا ويجعل قيدا واحدا لموضوع التكليف أعني فعل المكلف ويكون
المطلوب الفعل المستمر في عمود الزمان بحيث لو ترك الفعل في جزء من الزمان لما امتثل
للتكليف أصلا، كما إذا أوجب على المعتكف الكون في المسجد أيام أو الكون في
عرفات ومنى يوما أو أياما ومنه الامساك الواقع بين الطلوع والغروب والعموم هنا
ينسب إلى الموضوع ويقال ان له عموما أزمانيا مجموعيا.
الرابع: لحاظ الزمان قيدا للموضوع بنحو الاستغراق بان يلاحظ كل جزء من
175

اجزائه قيدا مستقلا ويكون الفعل في كل آن أو ساعة مثلا مطلوبا مستقلا بحيث
يكون ترك الفعل في جزء من الزمان تفويتا لغرض وعصيانا لطلب واتيانه في جزء
آخر تحصيلا لغرض آخر وامتثالا لطلب كذلك.
مثاله ما لو قال أكرم العلماء أو أكرم زيدا في كل يوم إذا فرضنا ان الاكرام المقيد
بكل يوم مطلوب مستقل ويسمى هذا عموما زمانيا استغراقيا في ناحية الموضوع; وهذا
القسم هو مراد الشيخ ره من قوله ان الزمان قد يلاحظ قيدا للموضوع وعبر عنه بان
الزمان مفرد للموضوع لتكثر افراد الموضوع لا محالة بعدد الأيام وكون الاكرام في كل يوم
موضوعا مستقلا له حكم مستقل، فكما كان في القسم الثاني طبيعة الاكرام المتعلق
بزيد موضوعا مستقلا بحكم مستقل والمتعلق بعمرو موضوعا آخر فكذلك الاكرام
المتعلق بزيد في يوم الخميس مثلا موضوع مستقل له حكم مستقل والاكرام المتعلق به
في يوم الجمعة موضوع آخر له حكم آخر.
تنبيه:
إذا عرفت أن العموم الزماني عبارة عن استمرار الشئ في عمود الزمان وطوله
وانه قد يلاحظ في نفس الحكم وقد يلاحظ في الموضوع المترتب عليه الحكم كالجلوس
والاكرام والوفاء، وعرفت أيضا عدم ملاحظته في المتعلق كالعالم والخمر والماء إذ لا
معنى له في المتعلق غالبا بان يقال ان العالم المقيد بيوم الخميس حكمه كذا وبيوم
الجمعة كذا.
فاعلم أنه إذا ورد تخصيص على عام وكان المخصص مجملا غير واف لبيان حال
المورد في ما بعد الزمان الأول، كما إذا قام الاجماع على عدم وجوب اكرام زيد يوم
الجمعة بعد ورود قوله أكرم العلماء على الدوام، ففي لزوم استصحاب حكم المخصص فيما
بعد الزمان الأول أو لزوم التمسك بالعام خلاف بين الاعلام.
وفصل شيخنا الأعظم (ره) في رسائله ومكاسبه بأنه ان كان الزمان الملحوظ في
ناحية العام بنحو القسم الثاني وملحوظا ظرفا للحكم، فاللازم بعده استصحاب حكم
176

المخصص; إذا المفروض ان في كل فرد من افراد العلماء كزيد وعمرو وخالد، رتب
طبيعة الحكم على طبيعة الموضوع ومعنى قيام الاجماع على عدم وجوب اكرامه رفع
الحكم عن ذلك الموضوع وحيث ارتفع بالنسبة إلى فرد مثلا طبيعي الحكم عن طبيعي
الموضوع في وقت فترتبه عليه ثانيا يحتاج إلى دليل، وان كان ملحوظا قيدا للموضوع
بنحو القسم الأخير فاللازم التمسك بعد الزمان الأول بعموم العام إذا الفرض كما
ذكرنا أن الموضوع في كل يوم امر مستقل له حكم مستقل فتخصيصه لا يستلزم
تخصيص موضوع آخر.
177

الغلبة
هي في الاصطلاح عبارة عن مشاركة أغلب افراد الكلى في صفة من الصفات بحيث
يظن بكون ذلك من آثار الطبيعة الصادقة عليها وانها العلة في اتصاف المصاديق بها.
وثمرتها انه إذا شك في وجود هذا الحكم أو الصفة في فرد من افراد هذا الكلى
يحكم على الفرد المشكوك بما وجد في أغلب افراده من الحكم والصفة.
فظهر ان انتاج الغلبة موقوف على أمور ثلاثة:
أولها: وجود افراد غالبة تشترك في صفة من الأوصاف كالبياض والسواد مثلا.
ثانيها: وجود جامع بينها يظن بكونه السبب في اتصاف تلك الافراد بها بحيث لو
وجد فرد على الخلاف لكان على وجه الندرة والشذوذ.
ثالثها: وجود فرد مشكوك اللحوق بالغالب ليلحق به بواسطة الغلبة.
مثالها في غير الشرعيات انا إذا رأينا أكثر افراد الانسان الزنجي اسود على وجه
ظننا ان الزنجية هي العلة في ثبوت السواد فإذا شككنا في زنجي انه اسود أو ابيض
نحكم بكوه اسود وانه واجد لتلك الصفة الحاقا له بالأعم الأغلب.
178

ومثالها في الشرعيات انا إذا وجدنا أغلب افراد الصلاة يؤدى إلى القبلة بحيث
ظننا ان العلة في ذلك هي الصلاتية فلو شككنا في صلاة كالنافلة المأتي بها قائما مثلا
انها تؤدى إلى القبلة أم لا حكمنا بعدم الجواز إلى غيرها ثم إن الغلبة ليست بحجة ما لم
تفد الاطمينان بالحكم الشرعي.
179

الفقه
الفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية أو تحصيل الوظائف العملية
عن الأدلة التفصيلية.
فخرج بقيد الفرعية العلم باحكام أصول الدين; كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى
وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ونحوها، فإنها تسمى أحكاما شرعية أصولية.
وخرج أيضا العلم باحكام أصول الفقه كحجية ظواهر الكتاب وخبر العدل ونحوهما
فإنه لا يسمى بعلم الفقه بل هو علم الأصول والمراد من الأحكام الشرعية أعم من
الواقعية والظاهرية; فتدخل الأحكام الواقعية المستفادة من نصوص الكتاب الكريم
والأخبار المتواترة والاجماعات القطعية ونحوها، والاحكام الظاهرية التكليفية أو
الوضعية المستفادة من اخبار الآحاد وسائر الامارات على السببية ومن الأصول العملية
الشرعية.
ودخل بعطف الوظائف ما يحصله الفقيه من الامارات الشرعية بناء على الطريقية
ومن الامارات والأصول العقلية كلزوم اتباع الظن الانسدادي عقلا على الحكومة،
والحكم بعدم فعلية التكليف أو الامن من العقاب في البراءة العقلية، ولزوم العمل
بالاحتياط في مسألة الاشتغال.
180

والتقييد بالأدلة التفصيلية لاخراج علم المقلد باحكامه ووظائفه فان علومه
مستفادة من التعبد بقول مقلده، وليست مأخوذة عن الأدلة التفصيلية.
والمراد من تلك الأدلة كتاب الله العزيز من نصوصه وظواهره والسنة الواردة عن
المعصوم " عليه السلام " بشتى أصنافها والاجماع والعقل وقد مر شرح كل واحد تحت
عنوانه.
تنبيهان:
الأول: الفقه والاجتهاد اصطلاحان مترادفان وقد يفرق بينهما باستعمال كل واحد
في معنى يناسب معناه اللغوي، فيقال ان الاجتهاد تحصيل الحجة واقامتها على الاحكام
والفقه هو العلم بتلك الاحكام في الغالب، فمعناهما متلازمان، ويطلق على المستنبط
لعلة جهده واستفراغ وسعه في إقامة الحجة المجتهد، ومن جهة حصول العلم له فقيها.
فعلم أن الأصولي والمجتهد والفقيه عناوين مترتبة حسب الترتب التكويني، فان
الباحث عن الاحكام يثبت أولا حجية خبر العدل مثلا فيكون أصوليا، ثم يتفحص
ويحصل خبرا دالا على وجوب الجمعة فيكون مجتهدا ثم يحصل له العلم بذاك الحكم
الشرعي فيكون فقيها.
الثاني: ما عرفنا به الفقه هو تعريف الأكثرين ويخرج عنه جميع المباحث الواقعة
في الفقه في تشخيص الموضوعات، لا سيما الموضوعات المستنبطة، كالبحث عن ماهية
العبادات واجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها، وكذا البحث عن سائر الموضوعات
العرفية في موارد الحاجة إلى تشخيص بعض مصاديقها كالمعدن والوطن والصعيد
ونحوها، مع كون البحث عنها في العبادات أكثر من البحث عن احكامها غالبا،
والالتزام بالاستطراد فيها بعيد فينبغي القول بدخول تلك البحوث في هذا العلم،
ويضاف إلى التعريف قيد - أو موضوعاتها المستنبطة أو ما أشبهها - مثلا.
181

قاعدة التجاوز
هي الحكم بوجود عمل شك في وجوده بعد التجاوز عن محله والدخول في غيره أو
بعدما خرج وقته، فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الشك في الوجود وانه هل أوجده
أم لا ومحمولها الحكم بالوجود وترتيب آثاره، فإذا شك المصلى في أنه أتى بالقراءة أم لا
وهو في الركوع أو شك في الركوع وهو في السجود أو شك في السجود وهو قائم منتصب،
يحكم بأنه أوجدها ويمضى في صلاته والشك حينئذ في الوجود بعد تجاوز محل
المشكوك; وكذا لو شك بعد طلوع الشمس في أنه هل أتى بصلاة الصبح أم لا حكم
بالاتيان وفراغ الذمة، وهذا من قبيل الشك في الوجود بعد خروج الوقت.
ثم إن الدليل عليها هو بناء العقلاء في اعمالهم وامضاء الشارع له بقوله: " كل
شئ شك فيه مما جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه " وقوله: " يا زرارة إذا خرجت من
شئ ودخلت في غيره فشكك ليس بشئ " وقوله: " متى استيقنت أو شككت في وقت
فريضة انك لم تصلها صليتها وان شككت بعدما خرج وقت الفوت وقد دخل حائل فلا
إعادة عليك ".
تنبيهان:
182

الأول: حيث إن مورد هذه القاعدة الشك في الوجود ومورد قاعدة الفراغ الشك في
الصحة كما سيجئ تكون النسبة بين القاعدتين العموم من وجه موردا، فإنه قد يوجد
مورد تجرى فيه هذه دون تلك القاعدة; كما إذا شك في إتيان الركوع بعد الدخول في
السجود وقد يوجد مورد تجرى فيه تلك القاعدة دون هذه، كما إذا شك في صحة صلاته
من جهة انه زاد جزء أم لا أو جهر في موضع الاخفات عمدا أم لا، وقد يوجد مورد يمكن
التمسك بكلتا القاعدتين كما إذا شك في صحة صلاته من جهة انه أتى بالركوع أم لا
فيحكم بصحة الصلاة باجراء قاعدة التجاوز في الركوع أو اجراء قاعدة الفراغ في نفس
العمل لولا القول بالسببية والمسببية.
الثاني: لا اشكال في عدم جريان هذه القاعدة في اجزاء الطهارات الثلث فإذا
شك المتوضئ في غسل الوجه وقد شرع في غسل اليدين، أو شك الجنب في غسل
الرأس وقد دخل في غسل الطرف الأيمن مثلا لا يجوز له عدم الاعتناء، والبناء على
اتيانه بالجزء السابق بل اللازم إعادة الجزء على ما يحصل به الترتيب، الا ان الكلام
في أنه هل القاعدة جارية في اجزاء كل عمل ذي اجزاء كجريانها في الصلاة خرج
عنها اجزاء الطهارات الثلث تخصيصا أو انها مخصوصة باجزاء الصلاة فقط ولا دليل
عليها بنحو العموم، فاجزاء الطهارات كاجزاء غيرها خارجة تخصصا وجهان لا يخلو
ثانيهما من رجحان.
183

قاعدة التحسين والتقبيح
العقليين
وقع الاختلاف بين العلماء في أنه هل يحكم العقل بحسن الأفعال وقبحها أو انه لا
يحكم بشئ من الحسن والقبح، بل هو منعزل عن منصب الحكومة والقضاوة وليس
ذلك من حقه ولا هو من وظيفته.
والمراد من حكم العقل ادراكه فان المعروف انه ليس للعقل بعث وزجر بل انما
وظيفته ادراك كون الشئ حسنا وكونه قبيحا.
والمراد من الحسن كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح ومن القبح كونه بحيث
يستحق فاعله الذم.
وحاصل النزاع حينئذ انه هل تتصف للأشياء لدى العقل بحسن وقبح يدركهما
ويحكم بهما حكما جاز ما فيمدح فاعل الحسن ويذم فاعل القبيح، أم لا تتصف بهما
عنده، والنزاع في هذه المسألة وقع بين أصحابنا الامامية (ره) والمعتزلة وبين الأشاعرة،
فذهب الفريق الأول إلى الوجه الأول والفريق الثاني إلى الوجه الثاني.
قال صاحب الكفاية في مقام اثبات مختار أصحابنا الامامية ما ملخصه، والحق
الذي عليه قاطبة اهل الحق هو الأول، فإنه كما يختلف الأحجار والأشجار وسائر
الجمادات والنباتات في الخير والشر والنفع والضر تفاوتا فاحشا أكثر مما بين السماء
184

والأرض، فكذا أفعال الناس بالنسبة إلى حكم العقل فأين الضرب المورث للحزن
والغم من الاحسان الموجب للفرح والسرور، وكما ان المسموعات بعضها يلائم القوة
السامعة وبعضها ينافرها وكذا المبصرات والمذوقات وغيرها، فكذلك المدركات
بالنسبة إلى القوة العاقلة التي هي رئيس تلك القوى فان لبعض الأفعال بحسب
خصوصيات وجوده نفعا وضرا وخيرا وشرا موجبة لاختلافها في الملائمة للقوة العاقلة
والمنافرة، ومع هذا لا يبقى مجال لانكار الحسن والقبح عقلا إذ لا نعنى بهما الا كون
الشئ في نفسه ملائما للعقل فيعجبه أو منافرا فيضربه فيوجبان ذلك صحة مدح
الفاعل وصحة قدحه انتهى.
واما الأشاعرة فوجه انكارهم الحسن والقبح اما في أفعاله تعالى فلبنائهم على أن
كلما فعله تعالى فهو صدر منه في محله، لأنه مالك الخلق كله، فلو أثاب العاصي
وعاقب المطيع لم يأت بقبيح لأنه تصرف في مملكته ومحل سلطنته لا يسئل عما يفعل
وهم يسئلون، واما في أفعال العباد فلبنائهم على عدم صدور الأفعال منهم بالاختيار
بل بالجبر والاضطرار ولا شئ من أفعال المجبور متصف بحسن ولا قبح، وكلا البنائين
باطلان لان قدرته تعالى لا يصير الحسن العقلي فقبيحا ولا القبيح العقلي حسنا وأفعال
العباد اختيارية على الغالب كما يشهد به الوجدان.
تنبيه:
تنقسم الأفعال الاختيارية للمكلفين بناء على قول الإمامية والمعتزلة إلى أقسام
ثلثة، ما يدرك العقل حسنه، وما يدرك قبحه، وما لا يدرك له حسنا ولا قبحا ولا
يحكم فيه بشئ، هذا بالنسبة إلى عقولنا القاصرة غير المحيطة بجهات الخير والشر
والمصلحة والمفسدة، واما العقول الكاملة المحيطة بجميع جهات الأفعال وملاكاتها
كالموجودة في النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وأوصيائه " عليهم السلام " فتقسم عندها إلى ما
هو حسن واقعا وما هو قبيح كذلك وما ليس له حسن ولا قبح، ولعل الصحيفة
المكتوبة فيها جميع الاحكام الموروثة من امام إلى امام كناية عن عقلهم " عليهم السلام "
المنعكس فيه جميع الكائنات على ما هي عليه وكذا الجفر وغيره.
185

قاعدة تداخل الأسباب والمسببات
المراد من تداخل الأسباب صيرورتها كالسبب الواحد في عدم تأثيرها الا في مسبب
واحد، بان يكون المؤثر هو ما يوجد أولا ان اختلفت في الزمان; ومجموعها ان تقارنت
فيه، ومن تداخل المسببات كفاية اتيان مصداق واحد جامع لعناوين متعددة في
امتثال أوامرها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا ثبت سببية شئ لشئ في الشرع; فإن كان كل من
السبب والمسبب واحدا فلا اشكال كما لو ورد إذا مات زيد وجب تغسيله، وكذا إذا
تعددت الأسباب والمسببات وتباينت، كما إذا ورد ان أفطرت فصم شهرين وان
ظاهرت فأعتق رقبة.
واما ان كان ظاهر الدليل تعدد الأسباب ووحدة المسبب فهذا يتصور على صور:
الأولى: أن يكون المسبب ماهية واحدة غير قابلة للتكرر كما إذا قال إن قتل زيد
مؤمنا فاقتله وان زنى فاقتله.
ومثله الأسباب والعلل التكوينية المتواردة على مسبب واحد، فلا اشكال (ح) في
تداخل الأسباب، وكون المؤثر منها هو الموجود أو لا ان حصلت تدريجا; ومجموعها ان
حصلت دفعة، لامتناع توارد علل متعددة على معلول واحد وصدور الواحد عن المتعدد;
186

فهذه الصورة من قبيل تداخل الأسباب تداخلا قهريا عقليا.
الثانية: أن يكون المسبب ماهية واحدة قابلة للتكرار كالوضوء واعطاء الدرهم
كما إذا قال إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ; أو قال إن جاءك زيد فاعطه درهما وان
سلم عليك فاعطه درهما.
فهل يحكم في هذه الصورة بتعدد المسبب، حسب تعدد السبب، فيجب على
المكلف وضوء إذا بال ووضوء آخر إذا نام، ويجب عليه اعطاء درهمين لزيد إذا تحقق
منه المجئ والتسليم.
أو يحكم بتداخل الأسباب كالصورة الأولى، فيكون المؤثر في وجوب الوضوء
أسبق العلل إذا اختلفت في الوجود وجميعها بالاشتراك إذا تقارنت.
أو يحكم بتداخل المسببات بان يدعى ان للوضوء مثلا حقائق مختلفة فالمسبب عن
البول حقيقة، والمسبب عن النوم حقيقة أخرى كغسل الجنابة والحيض، الا انهما
قابلان للانطباق على وجود واحد وفرد خارجي فارد فيتداخل المسببات.
وجوه بل أقوال وعلى الأخير يكون حكم المثال حكم الصورة الآتية.
الثالثة: أن يكون المسبب مهيات مختلفة حسب تعدد الأسباب، الا انها قابلة
للانطباق على الفرد الواحد كالاكرام والإضافة، كما إذا ورد ان أفطرت فأكرم عالما
وان ظاهرت فأضف فقيرا ولا اشكال في عدم تداخل الأسباب، وانما الكلام في
تداخل المسببات فإنه قد يقال بكفاية الاتيان بالمصداق الواحد الجامع للعنوانين
بقصد امتثال امر كليهما، كما أنه قد يقال بعدم الكفاية ما لم يكن دليل من الخارج
على الجواز، وهذا هو محل النزاع في تداخل المسببات.
تنبيهات:
الأول: اختلاف الأقوال في الصورة الثانية مبنى غالبا على كيفية استفادتهم
السببية من الجملة الشرطية، فان ظهورها في حدوث الجزاء المستقل عند حدوث
الشرط يثبت القول الأول، ولازم ذلك حمل متعلق الوجوب على الفرد حتى يقبل
187

التكرار والتعدد فيحدث وجوب مستقل على فرد من الوضوء عند حدوث البول،
ووجوب آخر على فرد آخر عند حدوث النوم وهكذا.
وظهورها في كون متعلق الوجوب هي الطبيعة الكلية لا الفرد يثبت القول الثاني،
فان الطبيعة بما هي لا تتكرر وانما التكرر في وجوداتها فلا يعقل عروض حكمين عليها
فان اجتماع المثلين، كالضدين ممتنع; فاللازم القول بتداخل الأسباب.
كما أنه يمكن القول ببقاء ظهور الشرطية في حدوث الجزاء، وظهور المتعلق في كونه
طبيعة كلية; بالقول بتعدد الطبايع وقابليتها للانطباق على الفرد فيجئ القول
الثالث.
الثاني: إذا لم يكن دليل لفظي في مورد العلم بالسببية، فمقتضى الأصل العملي
عند الشك في تداخل الأسباب، هو التداخل وعدم وجوب أزيد من مسبب واحد،
لرجوع الشك فيه إلى الشك في وحدة التكليف وتعدده، فالزائد عن المعلوم ينفى
بالأصل، كما انك قد عرفت أن مقتضى ظاهر الجملة الشرطية عدم تداخلها.
ومقتضى الأصل في الشك في تداخل المسببات عدم التداخل لقاعدة الاشتغال،
لان كفاية الفعل الواحد في مقام الامتثال غير معلومة فيجب الاحتياط، فعلم أن
مقتضى الدليل في الأسباب عدم التداخل، ومقتضى الأصل التداخل، وان مقتضى
الأصل في المسببات عدم التداخل.
الثالث: لم نذكر في ضمن الصور المذكورة وحدة السبب وتعدد المسبب لاجل انه
لا مانع من ذلك عرفا وشرعا وان استشكل فيه عقلا كما إذا ورد إذا قلت في أثناء
الصلاة أعتقت عبدي فصلاتك باطلة وعبدك محرر وان أفطرت بالحرام فصومك باطل
ووجبت عليك الكفارة وأنت ضامن لبدل ما أتلفته وان قتلت مؤمنا خطأ وجبت
عليك الكفارة وضمنت الدية للولي وعلى هذه فقس ما سواها.
188

قاعدة التسامح
إذا ورد خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحجية فدل على ترتب الثواب على فعل من
الأفعال، فلا اشكال في ترتب الثواب على ذلك الفعل إذا أتى به بقصد تحصيل ذلك
الثواب أو برجاء احتمال المطلوبية.
واما الحكم باستحباب ذلك الفعل ورجحانه شرعا ففيه اختلاف بين الأصحاب
فقال عدة بالاستحباب وآخرون بعدمه.
ثم انهم يسمون هذا الحكم الكلى بقاعدة التسامح في أدلة السنن يعنون بذلك
ثبوت التسامح شرعا في الحكم بالثواب أو الاستحباب وحصولهما بورود خبر في هذا
الباب; ولو كان غير حجة في سائر الأبواب.
فللقاعدة موضوع ومحمول، موضوعها الفعل الذي بلغك ثواب على اتيانه ومحمولها
الحكم بكونه ذا مثوبة مطلقا أو بالمقدار الذي بلغ أو الحكم باستحبابه ورجحانه
شرعا.
فإذا دل خبر غير حجة على أن من اغتسل في يوم النيروز فله كذا، قلنا إن غسل
النيروز مما بلغنا الثواب عليه وكل ما كان كذلك فهو ذو ثواب أو فهو مستحب فغسل
النيروز كذلك.
189

تنبيهات: الأول: استدلوا على هذه القاعدة بروايات كثيرة، منها قول الصادق " عليه السلام "
في صحيحة هشام بن سالم: " من بلغه عن النبي " صلى الله عليه وآله " شئ من
الثواب فعلمه كان اجر ذلك له " وان كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يقله
فان المراد من الشئ هو العمل ذو الثواب بقرينة رجوع الضمير إليه في قوله فعمله وقوله
" عليه السلام ": " كان اجر ذلك له ".
وفى خبر: " فعمله طلبا لقول النبي " صلى الله عليه وآله " وفى ثالث فعمله التماس
ذلك الثواب ".
الثاني: وجه الترديد في محمول القاعدة بأنه الحكم بالمثوبة فقط أو الحكم
بالاستحباب هو وقوع الاختلاف في أن المستفاد من روايات الباب هل هو الاخبار
عن حصول الانقياد بالفعل المأتي به بداعي الثواب; وانه لا محالة يترتب الثواب عليه
فهي ارشادية حاثة إلى ما يحكم به العقل ويستقل به فوزانها وان قوله تعالى: " أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول ".
أو ان ذكر الثواب على الفعل كناية عن رجحانه واستحبابه فهي دالة على
الحكم المولوي الاستحبابي; فوزانها وزان اخبار تعرضت لذكر الثواب على عمل في
مورد لم يكن لحكم العقل فيه مسرح كقوله من سرح لحيته فله كذا والمعنى الأول مختار
العلامة الأنصاري (قده) والثاني مختار المحقق الخراساني (ره).
ثم إنه على المعنى الأول لو كان المراد الوعد على الثواب المطلق لا خصوص الثواب
الواصل، كان الكلام مساوقا لما يستقل به العقل من ترتب الثواب على الانقياد بنحو
الاجمال، وان كان المراد الوعد على خصوص الثواب البالغ، فالاخبار مسوقة لبيان
تفضل الله بثواب خاص على امر استقل العقل بحسنه فهي نظير قوله تعالى: " من جاء
بالحسنة فله عشر أمثالها ".
الثالث: تظهر الثمرة بين القولين في موارد منها جواز افتاء الفقيه بالاستحباب على
القول الثاني دون الأول، إذ عليه لا تدل الاخبار على أزيد مما يحكم العقل به من
190

حسن الانقياد وترتب الثواب عليه.
ومنها: فيما لو ورد خبر ضعيف على استحباب الوضوء في مورد خاص فعمله المكلف
بذلك الداعي فعلى القول الأول لا يرفع الحدث وعلى الثاني يرفع وغير ذلك وللقاعدة
فروع اخر أغمضنا عن ذكرها روما للاختصار.
191

قاعدة التعيين العقلية
أو أصالة التعيين
إذا تردد امر المكلف في مورد بين الشيئين أو الأشياء، بمعنى احتماله تعين أحد
الامرين أو الأمور بالخصوص، واحتماله تخييره بينهما أو بينها، فلا محالة يكون أحد
الطرفين أو الأطراف (ح) محتمل التعيين والتخيير، والطرف الاخر محتمل التخيير
فيحكم العقل بلزوم الأول وعدم لزوم الثاني.
والأصوليون أسموا هذا الحكم الكلى العقلي بقاعدة التعيين أو أصالة التعيين;
يعنون بذلك حكم العقل بأخذ محتمل الخصوصية وطرح محتمل التخيير، فللقاعدة
موضوع ومحمول موضوعها محتمل التعيين والتخيير ومحمولها لزوم الاخذ به عقلا.
ثم إن الدوران بذلك النحو قد يكون في المسألة الفرعية، كما إذا حصل للمفطر في
شهر رمضان علم اجمالي بوجوب صيام شهرين متتابعين تعيينا أو وجوبه ووجوب
اطعام ستين مسكينا تخييرا وقد يكون في المسألة الأصولية; كما إذا شك الفقيه عند
تعارض قول العدل والموثق في حجية الأول تعيينا أو حجية كليهما تخييرا فهذا من الدوران في المسألة الأصولية.
192

قاعدة الجمع مهما أمكن
أولى من الطرح
مورد القاعدة هو الدليلان المتقابلان والمراد من الجمع هنا الجمع الدلالي أعني اخذ
احدى الدلالتين والتصرف في الأخرى بحيث يرتفع التنافي بينهما، أو التصرف في كلتا
الدلالتين كما ستعرف، ومن الامكان الامكان العرفي بحيث يساعد عليه نظر هم
ويكون عليه عملهم، لا الامكان العقلي ولو عده العرف غير ممكن، ومن الأولوية
اللزوم كقولك لان أكون صادقا أولى من أن أكون كاذبا.
فمعنى القاعدة ان الجمع بين دلالة الدليلين فيما أمكن عرفا وساعد عليه نظرهم
لازم فليس المورد داخلا في باب التعارض، وهذه قاعدة مطردة معمول بها بين العقلاء
والمتشرعة يسمون هذا النحو من العمل بالجمع الدلالي أيضا وعد الأصوليون من
مصاديقها موارد: الأول: ما إذا كان أحد الدليلين نصا والاخر ظاهرا كالخاص القطعي الدلالة مع
العام فإنه يجمع بينهما بأخذ الخاص وتخصيص العام به كما إذا ورد أكرم العلماء وورد
لا يجب اكرام فساقهم، وكالمقيد القطعي مع المطلق كما إذا ورد أعتق رقبة وورد أيضا
لا يجب اعتاق الكافرة فيحمل المطلق على المقيد، ومثل الامر أو النهى المتعلقين بشئ
مع دليل الترخيص كما إذا ورد صم يوم الخميس وورد أيضا لا بأس بترك الصوم يوم
193

الخميس فيحمل الامر على الاستحباب; أو ورد لا تشرب العصير العنبي وورد لا بأس
بشربه فيحمل النهى على الكراهة.
الثاني: ما إذا كان أحدهما ظاهرا والآخر أظهر كالعام مع الخاص الظني الدلالة
بحيث يكون أظهر من العام كما إذا ورد أكرم العلماء وورد ينبغي اكرام فساقهم فان
ظهور ينبغي في الاستحباب أقوى من ظهور هيئة أكرم في الوجوب فيقدم عليه وان
كان حمل كلمة ينبغي على الوجوب ممكنا لكنه مرجوح، فالنتيجة استحباب اكرام
الفساق ووجوب اكرام العدول، وكذا المطلق الظاهر والمقيد الأظهر منه، ومن هذا
القبيل ما إذا ورد اغتسل للجمعة وورد ينبغي غسل الجمعة.
الثالث: ما إذا كان الدليلان ظاهرين متساويين وكان المورد بحيث يساعد
العرف على جعل كل منهما قرينة على التصرف في الاخر فيجمع بينهما بالتصرف في
كليهما كما إذا ورد ثمن العذرة سحت وورد لا بأس ببيع العذرة، وفرضنا ان العرف
يوفقون بينهما بحمل الأول على عذرة غير مأكول اللحم والثاني على عذرة المأكول.
الرابع: ما إذا كان أحدهما حاكما والآخر محكوما، أو كان أحدهما واردا والآخر
مورودا، نصا كان الحاكم والوارد أو ظاهرا فراجع عنوان الحكومة والورود.
تنبيهات: الأول: ان الجمع بين الخبرين كما أشرنا إليه على قسمين دلالي وسندي فالدلالي
هو ما ذكرنا من مورد قاعدة الجمع وقلنا بأنه اخذ السندين وتأويل الظاهر إلى ما
يوافق النص أو الأظهر.
واما السندي فهو راجع إلى السند ومعناه اخذ سند ودلالة أحد الخبرين وطرح
الآخر رأسا سندا ودلالة; ومورد هذا الجمع ما إذا لم يمكن الجمع العرفي في الدلالة بل
يبقى أهل العرف متحيرين في حكمهما، وحينئذ فإن كان في أحدهما رجحان اخذ
ذلك تعيينا وطرح الآخر، وإن لم يكن رجحان في البين اخذ أحدهما تخييرا وطرح
الآخر رأسا فراجع بحث التعارض وعنوان المرجح، وهذا المورد هو الذي تخيل ابن أبي
194

جمهور جريان قاعدة الجمع فيه; فإذا ورد يجب اكرام العالم وورد أيضا لا يجب اكرام
العالم فعلى مبنى المشهور يؤخذ أحدهما ويعمل به ويطرح الآخر وعلى القول المنسوب إلى
ابن أبي جمهور يؤخذ كلاهما ويحمل أحدهما على العالم العادل والآخر على العالم
الفاسق مثلا، وهذا النحو من الجمع غير منضبط لا شاهد له ويسمى جمعا تبرعيا
أيضا.
الثاني: كان الكلام إلى هنا في أدلة الاحكام وبيان حال الخبرين المتعارضين،
واما أدلة الموضوعات وتعارض البينات فهي على قسمين:
الأول: أن يكون كلام كل من البينتين قابلا للتبعيض في التصديق بان يصدق
في بعض ما أخبر به ويرتب عليه آثار الصدق، ولا يصدق في البعض الاخر.
كما إذا قامت بينة على كون جميع الدار لزيد وبينة أخرى على كون جميعها
لعمرو، وطريق الجمع بينهما حينئذ أحد أمور:
الأول: ترجيح إحديهما بالقرعة.
الثاني: التساقط والرجوع إلى القرعة.
الثالث: التساقط والرجوع إلى قاعدة العدل والانصاف فيعطى نصف الدار لزيد
ونصفها لعمرو.
الرابع: التبعيض في التصديق فتصدق بينة زيد في نصفها وبينة عمرو في نصفها
الآخر فيشتركان وهذا ما قواه الشهيد (ره) ومال إليه الشيخ (ره) في رسائله ولا بأس
هنا بلزوم المخالفة القطعية للبينتين لمساعدة بناء العقلاء عليها كالسيرة والرواية.
الثاني: أن لا يكون قابلا للتبعيض كما إذا قامت بينة على بنوة طفل لزيد والأخرى
على بنوته لعمرو أو قامت إحديهما على زوجية امرأة لرجل والأخرى على زوجيتها لرجل
آخر والحكم حينئذ الاخذ بأحد الأمور المذكورة دون الأخير فان الزوجية والنسب
لا يقبلان التبعيض.
الثالث: المتعارضان من أدلة الاحكام يتصوران على أقسام ثلثة:
الأول: المتعارضان غير القابلين للتبعيض في التصديق كما إذا أخبر عدل بوجوب
الجمعة وعدل آخر بحرمتها.
195

الثاني: المتعارضان القابلان للتبعيض مع كونهما ظاهرين في الدلالة، كما إذا
روى عدل عن المعصوم أنه قال أكرم العلماء وروى آخر أنه قال لا تكرمهم.
الثالث: المتعارضان القابلان للتبعيض مع كونهما نصين كما إذا روى أحدهما أنه قال
يجب اكرام جميع العلماء بلا استثناء; وروى اخر أنه قال يحرم اكرام الجميع بلا
استثناء.
ثم إن مبنى المشهور كما ذكرنا هو اخذ سند وطرح آخر ترجيحا أو تخييرا في جميع
الأمثلة الثلثة.
ولكن قد وقع الخلاف من بعض في المثال الثاني والثالث، اما الثاني فقد عرفت أن
مذهب ابن أبي جمهور فيه هو الجمع الدلالي، بان يؤخذ السندان ويؤول الظاهران.
واما الثالث فحيث انهما نصان لا يمكن التأويل في دلالتهما فقد ذهب بعض إلى
اخذ السندين والجمع بين الدلالتين بالتبعيض في التصديق كما ذكرنا في البينتين
فيصدق كل واحد من العدلين في بعض ما أخبرا به، وتكون النتيجة (ح) وجوب
اكرام البعض كعدولهم مثلا وحرمة اكرام آخرين كفساقهم، الا ان هذا النحو من
الجمع مع أنه لا تساعد عليه الأدلة، يستلزم المخالفة القطعية في احكام الله تعالى بلا
قيام دليل عليه ولا يقاس هذا بتعارض البينتين لما ذكرنا من السيرة العقلائية فيه.
196

قاعدة الطهارة
هي الحكم ظاهرا بطهارة موضوع خارجي أو عنوان كلى شك في طهارته ونجاسته في
الواقع.
فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها المشكوك طهارته في الواقع ومحمولها هو الحكم
بالطهارة ظاهرا وترتيب الآثار الشرعية الثابتة للطاهر الواقعي عليه.
تنبيهان:
الأول: الترديد في تعريف القاعدة بين الموضوع الخارجي والعنوان الكلى لبيان انه
لا فرق في جريان القاعدة بين كون الشبهة موضوعية أو حكمية.
والأول: كما إذا شك في طهارة عين خارجية لاجل اشتباه الأمور الخارجية،
كالشك في أن الثوب المعين هل تنجس بملاقات النجس أم لا.
والثاني: كما إذا شك في طهارة عنوان كلى، وكان منشأ الشك فيها عدم ورود
النص أو اجماله أو تعارض بعضه مع البعض الآخر، وذلك نظير الشك في طهارة
العصير العنب المغلى ونجاسته، أو في طهارة خرء الطائر غير المأكول لحمه.
197

الثاني: هذه القاعدة أصل من الأصول المثبتة للحكم الظاهري وليست بامارة
حاكية عن الواقع فان ظاهر قوله " عليه السلام ": " كل شئ لك طاهر حتى تعلم انه
قذر "، كون الغاية قيدا للموضوع، ومعنى الرواية ان كل شئ لم تعلم قذارته فهو
طاهر، فحكم الطهارة مرتب على الموضوع المشكوك في طهارته ونجاسته في الواقع،
ومعلوم ان كل حكم رتب على الموضوع المشكوك حكمه فهو حكم ظاهري فمفاد
القاعدة حكم ظاهري وهي أصل من الأصول العملية.
198

قاعدة الفراغ
هي حكم المكلف بصحة عمله بعد الفراغ عنه والشك في صحته، فللقاعدة موضوع
ومحمول، موضوعها العمل المفروغ عنه المشكوك في صحته وفساده، ومحمولها الحكم
بالصحة وترتيب آثارها عليه.
فإذا صلى الشخص صلاة الظهر مثلا ثم شك في صحتها وبطلانها من جهة
احتماله ترك جزء أو شرط أو ايجاد مانع أو قاطع، حكم بالصحة ورتب آثارها، وكذا
لو توضأ أو اغتسل أو غسل ثوبا بقصد تطهيره أو أوقع بيعا أو إجارة أو نكاحا فشك في
صحتها بنى على الصحة في الجميع.
وتفترق هذه القاعدة عن أصالة الصحة في فعل الغير بالاختلاف موضوعا; فان
الموضوع في هذه القاعدة عمل نفس الشاك وفى تلك القاعدة عمل الغير.
وعن قاعدة التجاوز بالاختلاف موضوعا ومحمولا وشرطا فان الموضوع في تلك
القاعدة المشكوك وجوده والمحمول الحكم بالوجود، بشرط الدخول في عمل آخر غير
المشكوك، والمحمول فيما نحن فيه الحكم بالصحة بدون ذلك الشرط.
تنبيه:
199

الدليل على هذه القاعدة أمور:
أولها: قوله " عليه السلام " في موثقة محمد بن مسلم: " كلما شككت فيه مما قد مضى
فامضه كما هو ".
ثانيها: قوله " عليه السلام ": " كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه
كما هو ولا إعادة عليك ".
ثالثها: موثقة ابن أبي يعفور: " إذا شككت في شئ من الوضوء ودخلت في غيره
فشكك ليس بشئ " بناء على رجوع الضمير في غيره إلى الوضوء.
رابعها: بناء العقلاء عليها في اعمالهم العادية فإنهم لا يحكمون بفساد كل عمل
صدر عنهم في الماضي مع عدم خلو الانسان غالبا عن الشك في الصحة والفساد.
200

قاعدة القرعة
القرعة في اللغة السهم والنصيب، وفى عرف الفقهاء والعرف العام الاحتيال في تعيين
المطلوب لدى الشبهة والابهام بكتابة ونحوها.
فللقاعدة موضوع ومحمول، موضوعها ما عينه الاحتيال ومحمولها ترتيب آثار الواقع
عليه، أو موضوعها الاحتيال ومحمولها اعطاء الطريقية له وجعله كالعلم تعبدا وتنزيلا.
والأول مبنى على كونها أصلا والثاني على كونها امارة.
فتشمل القاعدة موارد الاشتباه في الظاهر مع وجود واقع محفوظ، وموارد الابهام
وعدم التعين في الواقع ونفس الامر.
فإذا أوصى الميت بعتق عبد معين من عبيده فحصل الاشتباه بعد موته في أنه زيد
أو عمرو عين المطلوب بالقرعة وحكم بكونه الموصى به واقعا; كما أنه إذا أوصى بعتق
عبد من عبيده من غير تعيين عين أحدهم بالقرعة واعتق، وإن شئت فسم نظائر المثال
الأول بالمشتبه والمجمل، ونظائر المثال الثاني بالمبهم والمهمل; وسم كلا القسمين
بالمشكل والمجهول.
تنبيهات:
الأول: استدلوا على مشروعية القرعة في الجملة بعدم الخلاف بين المسلمين بل
201

اجماعهم عليها، وبقوله تعالى: " فساهم فكان من المدحضين ".
وبقوله تعالى: " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ". وباخبار
يدعى تواترها، منها قول الكاظم " عليه السلام ": " كل مجهول ففيه القرعة فقلت ان
القرعة تخطئ وتصيب فقال كل ما حكم الله به فليس بمخطئ ".
وقول الصادق " عليه السلام ": " ما تقارع قوم ففوضوا امرهم إلى الله الا خرج سهم
المحق ".
الثاني: ان هذه القاعدة هل هي من الامارات، بمعنى ان الشارع جعل الاحتيال
بالكتابة ونحوها طريقا إلى احراز الواقع تأسيسا أو امضاء.
أو هي أصل من الأصول العملية، بان حكم الشارع بترتيب آثار الواقع على ما
عين بها تعبدا من دون نظر إلى ايصال المكلف إلى واقع محفوظ وجهان أظهرهما الثاني،
لشمولها لموارد الابهام مع عدم وجود واقع محفوظ هناك حتى تكون الامارة مؤدية إليه،
فراجع اخبار الباب.
وتظهر الثمرة في تقدمها على الأصول العملية حكومة أو ورودا وعدمه، فعلى
الا مارية تتقدم وعلى فرض كونها أصلا يتعارضان.
الثالث: لا تشمل قاعدة القرعة للشبهات الحكمية، والموضوعات المستنبطة;
للاجماع المحقق على ذلك، فليس للفقيه إذا شك في حرمة شرب التتن مثلا واباحته
تعيين الحكم الواقعي بالقرعة، وكذا في موارد الاشتغال والتخيير ونحوهما.
كما أنه ليس له تعيين اجزاء الصلاة وشرائطها لدى الشك بها.
فيختص موردها بالموضوعات الصرفة; كتعيين ان الملك الذي يدعيه زيد وعمرو
ولا يد لأحدهما عليه، لزيد أو لعمرو وان الفرد الموطوء من قطيع غنم هذا أو ذاك.
ثم إنه حيث كانت أدلة القرعة عامة لكل مورد شبهة، حكمية أو موضوعية مع قيام
الاجماع على عدم العمل بها على ذلك العموم والشمول بل كان الخارج من تحتها أكثر
من الباقي.
فلا جرم كان دلالتها ضعيفة موهونة ومن هنا اشتهر ان التمسك بها في مواردها
يحتاج إلى جبر بعمل الأصحاب فراجع.
202

قاعدة لا ضرر
هي اخبار الشارع بعدم جعله الحكم الضرري في شرعه ودينه تكليفيا كان أو
وضعيا، أو هي حكمه بانتفاء الموضوع الضرري ادعاء بعناية عدم جعل الحكم له.
فللقاعدة موضوع ومحمول، موضوعها الحكم الضرري أو الموضوع الخارجي
الضرري، ومحمولها الاخبار عن عدم جعل ذلك الحكم حقيقة أو عدم ذلك الموضوع
تنزيلا وادعاء بلحاظ عدم حكمه.
مثلا إذا فرضنا في مورد تضرر المكلف بالتوضؤ فايجاب الشارع للوضوء (ح) يكون
حكما ضرريا ينشأ منه تضرر المكلف، فنقول (ح) ان وجوب الوضوء هاهنا حكم
ضرري وكل حكم ضرري مرفوع، فالوجوب هنا مرفوع أو نقول الوضوء مثلا موضوع
ضرري فهو مرفوع بعناية رفع حكمه; ومثله الغسل والصوم والقيام في الصلاة وغيرها.
ونقول في رفع حكم الحرمة ان حرمة الكذب أو شرب الخمر ضررية في هذا المورد
فهي مرفوعة، أو ان نفس الكذب أو الشرب مرفوع بعناية رفع حكمه أعني الحرمة.
ونقول في رفع الإباحة مثلا ان إباحة اضرار شخص بشخص أو اتلاف ماله حكم
ضرري فهي مرفوعة.
وفى الحكم الوضعي ان لزوم بيع المغبون حكم وضعي ضرري فهو مرفوع أو ان
203

نفس البيع مرفوع بعناية رفع لزومه.
تنبيهات:
الأول: ما ذكرنا من الترديد في كون معنى القاعدة هو نفى الحكم أو نفى الموضوع
انما هو لاجل الاختلاف فيما يستفاد من الأدلة من معناها كما سيجئ في التنبيه
الثاني، والمعنيان في الغالب متحدان في النتيجة وقد يختلفان فيها.
ففي الإنائين المشتبه مضافهما بمطلقهما إذا فرضنا ان المكلف لا يتضرر بوضوء واحد
ويتضرر بوضوئين، فعلى المعنى الأول يرتفع الوجوب، إذ بقائه مستلزم للاحتياط
المستلزم للضرر فالضرر ينشأ من الحكم الشرعي فهو ضرري محكوم بالارتفاع
بالقاعدة، وعلى المعنى الثاني فالموضوع الواقعي أعني التوضؤ بالماء ليس ضرريا بنفسه
والضرر انما ينشأ من ضم غير الموضوع إلى الموضوع فهو غير مرفوع بالقاعدة الا إذا حكم
العقل بعدمه، أو فرض شمول قاعدة الحرج للمورد وهو امر آخر.
الثاني: ان المدرك للقاعدة، عدة اخبار يشتمل أكثرها على الجملة المشهورة وهي
قوله لا ضرر ولا ضرار اما مطلقا أو مقيدا بقوله على مؤمن أو بقوله في الاسلام، وحيث إن
الضرر موجود في الخارج وجدانا وجب التصرف في ظاهر الكلمة، فذهب شيخنا
الأنصاري (قده) إلى المجاز في الحذف أي لا حكم ضرري، وصاحب الكفاية إلى المجاز
في الاسناد وان المنفى نفس الضرر والنقص البدني أو المالي بعناية نفى حكمه كقوله
" عليه السلام ": " يا أشباه الرجال ولا رجال ".
الثالث: تجرى القاعدة في رفع الأحكام التكليفية الخمسة كما تجرى في الوضعية;
فالبعث المتعلق بالصوم الضرري كالزجر المتعلق بشرب الخمر، يرتفعان عند الضرر.
واما إباحة الشئ واستحبابه فهما بالنسبة إلى نفس المكلف وما له لا يكونان
ضرريين، فترخيص الشارع للمكلف في قطع يده أو اتلاف ماله بل وطلبهما منه على
وجه الاستحباب ليسا بضرريين; إذ الموقع له في الضرر (ح) ارادته واختياره لا
ترخيص الشارع وطلبه، نعم الشارع لم يمنعه عن الاضرار بنفسه أو ما له فأوقع نفسه فيه
204

وهذا غير ايقاع الشارع له في الضرر.
نعم إباحة اضراره للغير في نفسه وماله أو طلب ذلك منه يكون حكما ضرريا
مرفوعا بالقاعدة.
الرابع: النسبة بين هذه القاعدة والاحكام الأولية الثابتة لموضوعاتها هي نسبة
الحاكم إلى المحكوم، وقد مر تفصيل ذلك تحت عنوان الحكومة.
205

قاعدة المقتضى والمانع
هي الحكم بوجود المسبب والمقتضى بالفتح في كل ما أحرز سببه ومقتضيه وشك في
وجود مانعه، فللقاعدة موضوع ومحمول فموضوعها احراز المقتضى بالكسر والشك في
وجود المقتضى بالفتح ومحمولها هو الحكم بوجوده وترتيب آثاره، مثلا إذا علمنا بوقوع
النار على ثوب أو فراش وشككنا في أنه هل هناك رطوبة مانعة عن الاحتراق أم لا
حكمنا بناء على القاعدة بحصول الاحتراق; وكذا إذا علمنا بملاقاة النجاسة للماء
المقتضية لتنجسه وشككنا في كريته المانعة وعدمها حكمنا بنجاسة الماء لهذه القاعدة،
ومثله ما لو علمنا بوجود مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة في فعل وشككنا في تعلق
الوجوب أو التحريم به وعدمه لاحتمال وجود مانع عن جعل الحكم، حكمنا بوجوبه أو حرمته.
ثم إن المشهور عدم حجية هذه القاعدة وعدم دليل عليها من نقل أو عقل. وأيضا
ان هذه القاعدة على فرض تماميتها فيما إذا كان وجود الشرط أيضا معلوما وكان
المشكوك هو المانع فقط فلو فرض الشك في الشرط أيضا لم تكن جارية، كما أنه ليس
هنا قاعدة تجري فيما إذا علم عدم المانع وشك في وجود الشرط، فلو علم بإرادة زيد
الحج في عام معين وحصول شرائطه وشك في المانع جرت القاعدة ورتب آثار الحاج
على زيد ولو علم المقتضي وعدم المانع وشك في تحقق بعض الشروط لم تترتب تلك
الآثار فليس هنا قاعدة تسمى بقاعدة المقتضي والشرط. كما انا لم نقل بالأولى أيضا.
206

قاعدة الملازمة
بين حكم العقل والشرع
اعلم أن القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين كما مر في تلك المسألة اختلفوا في ثبوت
الملازمة بين حكم العقل والشرع وعدمه.
وهذه المسألة تنقسم إلى مسئلتين: الأولى: ان كلما حكم به العقل هل يحكم به
الشرع أم لا، والثانية: ان كلما حكم به الشرع هل يحكم به العقل أم لا.
اما المسألة الأولى: فحاصلها ان كل فعل أدرك العقل حسنه وكونه بحيث يمدح
فاعله هل يلازمه حكم الشرع بالوجوب بحيث كلما ثبت الأول كشف عن الثاني،
وان كل فعل أدرك العقل قبحه هل يلازمه حكم الشرع بحرمته ليستكشف الحرمة
منه بالملازمة أم لا.
فقال عدة من الأصحاب بالملازمة; بتقريب ان الشارع اعقل العقلاء بل هو
العقل كله، وهو العقل من خارج، كما أن العقل شرع من داخل، فلا يعقل تخالفهما
في الحكم فما حكم به أحدهما هو ما حكم به الآخر بعينه.
وذهب عدة أخرى منهم إلى عدمها لان وجود الحسن والقبح في الفعل لا يستلزم
جعل الحكم من الشرع، إذا الملاكات من قبيل المقتضيات للاحكام غالبا لا العلل
التامة، فربما يكون وجود الملاك مقارنا لفقد شرط من شرائط جعل التكليف أو
207

وجود مانع من موانعه فيدرك العقل حسنه وقبحه لادراكه الملاك ولا يحكم الشارع
بوجوبه وحرمته لاجل الموانع ولهذه الدعوى شواهد في موارد:
منها: أفعال الصبى المقارن للبلوغ، فإنه لا اشكال في أن صدقه في الكلام ووفائه
بالعهد وانقاذه الغريق وانجائه الحريق مشتملة على مصالح تلك الأفعال الثابتة في
حق البالغين الكاملين; وان كذبه وخيانته وقتله النفوس وإغارته على الأموال مشتملة
على المفاسد كذلك. فيدرك العقل في هذه الموارد حسنها وقبحها مع أن الشارع لم
يلزمه ايجابا وتحريما، بل الواجبات في حقه مستحبات والمحرمات في حقه مكروهات
فأين قولهم كلما حكم العقل بحسنه حكم الشرع بوجوبه فظهر الانفكاك بين
الحكمين.
ومنها: موارد الواجبات المهمة عند تزاحمها مع ما هو أهم منها، كالصلاة المزاحمة
بإزالة النجاسة أو كانقاذ الغريق المهم المزاحم مع الانقاذ الأهم; فإنه لا حكم
الزامي (ح) للمهم مع كونه واجدا للملاك الملزم; فالعقل يدرك الحسن والشارع
لا يحكم بالوجوب إذا فلا ملازمة بين الحكمين.
ومنها: جل الاحكام الواجبة والمحرمة في بدء حدوث الشرع فان عدم استعداد
العباد حينئذ للتحريم والايجاب لقرب عهدهم من الاسلام بحيث ربما كان يوجب
بعثهم على الاحكام على نحو الحتم والالزام نفرتهم عن دين الاسلام، فلم يكن يلزمهم
الشارع، مع أن حكم العقل بالحسن والقبح كان على حاله.
ومنها: بعض موارد الحكم الارشادي كوجوب الإطاعة للأوامر والنواهي وحرمة
المخالفة لها فان عنوان الإطاعة مما يحكم العقل بحسنه وعنوان العصيان مما يحكم العقل
بقبحه، مع أنه لا إلزام فيهما شرعا اما للغوية ذلك أو لاستلزامه التسلسل أو غير ذلك.
واما المسألة الثانية: أعني قاعدة كلما حكم به الشرع حكم به العقل، فالظاهر
من الأصحاب تماميتها وصحتها وكونها مقبولة عند الجل لولا الكل; فان معناها كل
فعل حكم الشرع بوجوبه لاشتماله على المصلحة الملزمة، أو حكم بحرمته لاشتماله على
المفسدة الملزمة لو أدرك العقل ذلك الملاك فلا جرم يحكم بحسن الأول وقبح الثاني
وهذا ظاهر.
208

قاعدة الميسور
إذا رتب طلب شرعي على موضوع عام بعموم استغراقي كقوله أكرم العلماء أو على
موضوع مركب ذي اجزاء كقوله أكرم هؤلاء العشرة; أو صل صلاة الصبح; فعرض
للمكلف عجز عن اتيان ما تعلق به الحكم تاما وكان اتيان بعض المصاديق أو بعض
الاجزاء ممكنا، فهل يبقى البعض الميسور على عهدة المكلف، ويكون محكوما بحكم
كان عليه عند امكان الجميع، أم يسقط الميسور أيضا بسقوط المعسور. فيه وجهان:
المشهور عند الأصحاب الأول فإنهم حكموا ببقاء البعض الممكن على عهدة
المكلف وعدم سقوطه بطر والعجز عن البعض الاخر، وسموا هذه الكبرى الكلية
بقاعدة الميسور تارة وقاعدة ما لا يدرك أخرى وإن شئت فسمها بقاعدة الاستطاعة
ثالثة.
يعنون بذلك بقاء المقدار الميسور على ما كان عليه من الطلب الشرعي وعدم
سقوطه عن عهدة المكلف.
فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الميسور اتيانه والممكن ادراكه، من مصاديق
الكلى أو اجزاء الكل المرتب عليه الحكم الشرعي، ومحمولها البقاء على عهدة المكلف
وعدم سقوطه.
209

فإذا تعلق الوجوب باكرام جميع العلماء فلم يقدر المكلف على اكرام بعضهم لم
يسقط اكرام البعض الباقي وإذا تعلق الطلب بالصلاة ذات الأجزاء والشرائط،
وعرض العجز عن اتيان بعض الاجزاء أو الشرائط لم تسقط الاجزاء الميسورة بفقد
البعض المعسور.
تنبيهات:
الأول: استدلوا على القاعدة بالنبوي " صلى الله عليه وآله " والعلويين
" عليه السلام " المرويات في غوالي اللئالي، فعن النبي " صلى الله عليه وآله ": " إذا
امرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم " وعن علي " عليه السلام ": " الميسور لا يسقط بالمعسور "
وعنه " عليه السلام ": " ما لا يدرك كله لا يترك كله " وضعف هذه الأخبار مجبور بعمل
الأصحاب، ودلالتها واضحة الانطباق على ما ذكرنا، فمعنى الخبر الأول إذا امرتكم
بشئ ذي افراد أو اجزاء فأتوا بالممكن من افراده أو اجزائه ولا تتركوا ما أمكن لاجل
ما لا يمكن.
ومعنى الثاني انه لا يسقط الميسور من الافراد والاجزاء بالعجز عن معسورهما،
ومعنى الثالث ان مالا يمكن ادراك جميع مصاديقه أو جميع اجزائه أو شرائطه لا ينبغي
تركه بالكلية بترك الباقي الممكن.
الثاني: الظاهر شمول القاعدة للمستحبات كشمولها للواجبات، فان المراد بعدم
السقوط بقاء الميسور على العهدة كما كان قبل العجز، ان واجبا فواجبا وان ندبا
فندبا، كما أن الظاهر شمولها لصورة كون المعسور من الاجزاء وكونه من الشرائط،
(فح) لو طرء للمكلف عجز عن اتيان السورة في صلاته أو عن غسل ثوبه لها فريضة
كانت الصلاة أو تطوعا، كانت القاعدة في اثبات الباقي على عهدة المكلف محكمة.
الثالث: لا اشكال في اشتراط شمول القاعدة للمركبات بما إذا كان بين الباقي
الميسور والمركب المعسور رابطة وتناسب، لا تخالف وتباين فيشترط ان يعد الباقي لدى
العرف ميسورا لذلك المعسور وفردا ناقصا منه مسامحيا بحيث يكتفى العرف بذلك عنه
210

لدى العجز والاضطرار.
فلو قال جئني بحيوان ناطق فعجز عن تحصيل الناطق وأراد المجئ بالناهق عملا
بالقاعدة لم يكن مجزيا قطعا إذ الحمار لا يعد ميسورا اضطراريا للانسان، كما أن
السجدة الواحدة أو قراءة الفاتحة فقط لا يعد ميسورا للصلاة، فلا تجرى القاعدة
لاثبات بقائهما.
211

قاعدة نفى الحرج (أو نفى العسر)
اعلم أنه ينقسم ما يتصور صدوره من العباد من الأفعال والتروك إلى أقسام ثلثة:
الأول: ما يقدرون عليه ويتمكنون من اتيانه بسهولة وسعة من دون ضيق وحرج،
كتكلمهم، بالصدق والكذب وأكلهم وشربهم.
الثاني: ما لا يقدرون عليه ولا يطيقونه، كطيرانهم إلى السماء وعدم تنفسهم مع
حياتهم.
الثالث: ما يقدرون عليه مع ضيق وشدة وعسر وحرج، كصومهم في مرضهم
وانفاقهم جميع ما يملكون وقطعهم لحوم أبدانهم عند تنجسها.
ثم إنه لا اشكال عقلا في جواز كون القسم الأول متعلقا للتكاليف الإلهية بعثا
وزجرا وترخيصا، بل الأحكام التكليفية كلها أو جلها انما تعلقت بهذا النوع من
أفعالهم، فالمطلوبات والمنهيات والمرخصات بحسب الغالب أفعال أو تروك مقدورة
للمكلفين بلا عسر في اتيانها ولا حرج.
واما القسم الثاني فلا اشكال أيضا في عدم تعلق تكليف الهى بهذا النوع فعلا
وتركا، ويدل عليه من العقل حكمه القطعي بقبح ان يكلف العاقل غيره بما لا يقدر
عليه، فضلا عن الحكيم تعالى.
212

ومن النقل قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا الا وسعها " والوسع هو الطاقة
وصحيحة هشام.. " الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون ".
وخبر الاحتجاج.. " وذلك حكمي في جميع الأمم أن لا أكلف خلقا فوق طاقتهم ".
واما القسم الثالث فالذي يستفاد من الكتاب والسنة واستقر عليه كلمات
الأصحاب (رض) كون تعلق التكليف الالزامي بالفعل الذي فيه عسر وحرج منفيا
في هذه الشريعة; وسموا هذا الحكم الكلى بقاعدة نفى الحرج أو نفى العسر; فلهذه
القاعدة موضوع ومحمول، موضوعها كل فعل أو ترك فيه حرج وشدة على المكلف،
ومحمولها نفى حكمه الالزامي والاخبار عن عدم تعلق ذلك به في الشريعة، أو رفع نفس
الموضوع الحرجي ادعاء وتنزيلا بلحاظ نفى حكمه.
فالغسل في شدة البرد والقيام للصلاة والصيام في شهر رمضان بالنسبة إلى المريض
والهرم ونحو ذلك، أفعال حرجية رفع حكمها في هذه الشريعة بأدلة نفى العسر والحرج.
تنبيهات:
الأول: استدل القوم على هذه القاعدة بأدلة، فمن الآيات قوله تعالى نقلا لمسألة
النبي الأعظم " صلى الله عليه وآله " ليلة المعراج: " ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته
على الذين من قبلنا " والإصر الامر الشديد العسر.
وقوله تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج ".
وقوله تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ".
وقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ".
ومن الاخبار قوله " صلى الله عليه وآله وسلم " في حديث الرفع: " رفع عن أمتي الخطاء
والنسيان. وما لا يطيقون " الخ.
ورواية عبد الأعلى فيمن وضع على إصبعه مرارة قال: " يعرف هذا وأشباهه من
كتاب الله ما جعل عليكم الخ " امسح على المرارة.
والحديث المشهور: " بعثت بالشريعة السمحة السهلة " وغير ذلك.
213

الثاني: أدلة نفي الحرج رافعة للأحكام الشرعية في موارد ودافعة لها في أخرى.
فالحكم المجعول الذي لا حرج في أصل جعله وتشريعه إذا عرضت له الحرجية في
بعض الموارد تكون حكومة قاعدة الحرج عليه بالرفع، لاجل شمول اطلاق دليل
الحكم لذلك المورد.
والحكم الذي يكون جعله من اصله حرجيا تكون حكومتها عليه بالدفع فلا جعل
ولا انشاء أصلا لمكان الحرج.
ثم انهم جعلوا من أمثلة الرفع العفو عن دم الجروح والقروح للمصلى والعفو عن
نجاسة ثوب المربية للصبى ورفع شرطية الطهارة عن صلاة المبطون والمسلوس في بعض
الفروض، والترخيص في الافطار للمريض والحامل والمرضعة والشيخ والشيخة وذي
العطاش، وسقوط القيام عن صلاة المريض والهرم، وإباحة المحرمات عند الاضطرار.
ومن أمثلة الدفع.
تشريع القصر في السفر، وتشريع الطلاق، وعدم وجوب السواك، وعدم وجوب
صلاة الليل وصلاة الجماعة وغير ذلك.
الثالث: لا اشكال في خروج بعض الموارد من تحت هذه القاعدة وعدم شمولها لها
كوجوب الجهاد للدعوة إلى الاسلام، ووجوب الدفع عن الأهل والمال ولو بالقتال
ونحوه على القول به.
(فح) نقول هل يكون خروجها من تحت القاعدة بالتخصيص كتخصيص قاعدة
نفى الضرر ببعض الاحكام الضررية، أو بالتخصص بدعوى عدم وجود العسر والحرج
فيها حقيقة، فان أدلة نفى الحرج غير قابلة للتخصيص فهي نظير قوله تعالى: " وما الله
يريد ظلما للعباد " وقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد " فليس ما تخيل كونه من باب
الحرج الا كما تخيل كونه ظلما للعباد من الاحكام.. فأدلة تلك الموارد كاشفة عن
الخروج الموضوعي وان كنا لم نعرف وجهه، وجهان أظهرهما الأول.
214

قاعدة اليد
هي الحكم بملكية شئ لمن كان مسلطا عليه ومتصرفا فيه لدى الشك في الملكية.
فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها الاستيلاء الخارجي والتسلط العرفي على ما
يشك في كونه ملكا واقعا، ومحمولها الحكم بالملكية وترتيب آثارها شرعا، فإذا وجدنا
زيدا مستوليا على عباءة يلبسها ويتصرف فيها حكمنا بان تلك العبائة ملكه وجاز
شرائها منه والتصرف فيها باذنه.
تنبيهان:
الأول: ان الدليل على القاعدة هو بناء العقلاء على ذلك مع عدم ردع الشارع
عنه، وقوله " عليه السلام " في خبر حفص: " حين قال السائل أرأيت ان رأيت في يد رجل
شيئا أيجوز ان اشهد أنه له، قال نعم إلى أن قال، ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوق "
وقوله في موثقة يعقوب: " في متاع البيت المشترك بين الزوج والزوجة من استولى على
شئ منه فهو له ".
الثاني: هل القاعدة امارة أو أصل فيه خلاف ومعنى اماريتها ان السلطنة
215

والاستيلاء على الشئ من لوازم الملكية وآثارها بحسب الغالب، لان الغالب ان
المستولي على الشئ والمتصرف فيه هو المالك ولو قد يتفق كونه غاصبا ونحوه
فالاستيلاء كاشف ظني عن الملكية كشف اللازم عن ملزومه والأثر عن مؤثره
والشارع أتم كشفه الناقص وجعله طريقا إلى الملكية، فهي امارة موضوعية مصوبة
لدى العقلاء ممضاة من جانب الشارع.
ومعنى كونها أصلا ان الشارع لم يلاحظ جهة كشفها بل حكم بترتيب آثار
الملكية تعبدا عند الشك فيها فتكون من الأصول المحرزة كالاستصحاب.
216

قاعدة اليقين
هو الحكم بوجود الشئ وترتيب آثار وجوده إذا حصل الشك في الوجود بعد العلم به
بان شك في كون علمه مطابقا للواقع أو مخالفا له فللقاعدة موضوع ومحمول موضوعها
الشك الساري في وجود ما تيقن به ومحمولها الحكم بالوجود بمعنى ترتيب آثاره.
فإذا علمنا بعدالة زيد يوم الخميس فصلينا مؤتمين به صلاة ثم شككنا في يوم
الجمعة في عدالته في ذلك اليوم وفسقه، حكمنا بعدالته في ذلك اليوم وصحة تلك
الصلاة.
ويتحقق موضوعها بأمور ثلاثة.
تقدم زمان اليقين على زمان الشك، وعدم اجتماع الوصفين في وقت واحد
ووحدة المتعلق حتى بلحاظ الزمان، كالعدالة المقيدة بيوم الخميس.
ثم إن في حجية هذه القاعدة مطلقا أو حجيتها في الجملة أو عدم حجيتها مطلقا
وجوه بل أقوال:
الأول: الحجية مطلقا وبلحاظ جميع الآثار بمعنى انه يجب الحكم بثبوت ما شك في
ثبوته، بحيث يرتب عليه آثار زمان اليقين وزمان الشك وبعده إلى الأبد، ففي المثال
يحكم بصحة تلك الصلاة وبجواز الايتمام بزيد في حال الشك وبعده رعاية لحال
217

اليقين السابق ولو كان زائلا فعلا لقوله " عليه السلام ": " من كان على يقين فشك فليبن
على يقينه أو فليمض على يقينه ".
الثاني: حجيتها في الجملة بمعنى لزوم ترتيب آثار زمان اليقين فقط ولو كان زمان
الأثر متأخرا، فيحكم بصحة تلك الصلاة وعدم وجوب قضائها بعد طرو الشك لكنه
لا يجوز الاقتداء بزيد فعلا.
الثالث: عدم حجيتها مطلقا، فلا يحكم بكونه موجودا ولا يرتب عليه الأثر مطلقا
ولا اثر لذلك اليقين الزائل أصلا، فيرجع في الآثار السابقة واللاحقة إلى قواعد
وأصول اخر، فيحكم بصحة تلك الصلاة لقاعدة الفراغ مثلا وبعدم جواز الايتمام بعد
الشك لعدم احراز عدالة الامام، وهذا هو المشهور بين الاعلام فلا حجية لقاعدة
اليقين; والخبر المذكور محمول على قاعدة الاستصحاب فراجع بابه.
218

القطع
ويرادفه في اصطلاح الأصوليين العلم واليقين.
ومفهوم هذه الأسماء واضح ولم يثبت لها في هذا الاصطلاح معنى يغاير معناها
اللغوي، كما أنه لا اشكال في حجية المفهوم المراد بها أعني الوصف الحاصل في النفس
المقابل للظن والشك حجية ذاتية يحكم بها العقل غير قابل للجعل التشريعي اثباتا
ونفيا، فالحجية بالنسبة إليه كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة يكون جعلها لها تحصيلا
للحاصل ونفيها عنها تفكيكا بين الشئ وذاتياته ولذا قيل (القطع حجة بنفسه بلا)،
(جعل والا دار أو تسلسلا) وقيل أيضا (وهو بنفسه طريق الواقع)، (وليس قابلا لجعل
الشارع).
ثم انهم قد قسموا القطع بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى القطع الطريقي والقطع الموضوعي.
فالأول: هو الذي يكون طريقا صرفا إلى حكم أو موضوع ذي حكم بحيث لا
دخل له في الحكم شرعا ولم يؤخذ في متعلقه بنظر الشارع، فإذا ورد الخمر حرام والبول
نجس، فقطعك هنا قطع طريقي سواء تعلق بالحكم الكلى فعلمت بان الخمر حرام
شرعا أو بالموضوع الخارجي فعلمت ان هذا الاناء خمر، إذ الفرض ان الحكم رتب على
219

العنوان الواقعي; ولم يلاحظ الشارع في مقام جعله الا الحكم الكلى على الموضوع الكلى
والقطع طريق إليه عند العقل.
والثاني: هو الذي يكون مأخوذا في الخطاب ويكون له دخل في الحكم أو في
موضوعه وهو على أقسام كثيرة بعضها ممكن وبعضها مستحيل.
وتوضيحه: ان القطع المأخوذ في الموضوع اما أن يكون قطعا متعلقا بالحكم أو
بموضوع ذي حكم أو بموضوع بلا حكم، وعلى التقديرين الأولين اما ان يقع موضوعا
لعين الحكم الذي تعلق به أو بموضوعه أو يقع موضوعا لمثله أو موضوعا لضده أو موضوعا
لخلافه، فصارت الأقسام تسعة، ستة منها مستحيلة وثلاثة منها ممكنة.
اما الستة المستحيلة فهي ان يؤخذ القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم موضوعا
لنفس ذلك الحكم أو موضوعا لحكم مثله أو لحكم ضده، واما الثلاثة الممكنة فهي
ان يؤخذ القطع بالحكم أو بموضوع ذي حكم في موضوع حكم مخالف له، أو يؤخذ
القطع بموضوع بلا حكم في موضوع أي حكم كان.
اما أمثلة الأقسام فالأول وهي ما كان القطع بالحكم مأخوذا في موضوع عين
ذلك الحكم كما إذا ورد إذا علمت بوجوب الجمعة فهي تجب عليك بعين ذلك
الوجوب وهذا باطل لاستلزامه الدور فان الوجوب يتوقف على العلم به والعلم به
يتوقف على الوجوب.
والثاني: وهو ما كان القطع بالحكم موضوعا لمثل ذلك كما لو قال إذا علمت
بوجوب صلاة الجمعة فهي تجب عليك بوجوب آخر، وهذا باطل لاجتماع المثلين
أحدهما الوجوب الذي تعلق به القطع والاخر الوجوب الذي تعلق هو بالقطع.
الثالث: وهو ما كان القطع بالحكم موضوعا لحكم ضد ذلك كما لو قال إذا
علمت بوجوب الجمعة فهي عليك محرمة، وهذا باطل لاجتماع الضدين الوجوب
والحرمة في موضوع واحد.
الرابع: وهو ما كان القطع بالحكم مأخوذا في موضوع حكم مخالف لمتعلقه كما لو
قال إذا علمت بوجوب الجمعة يجب عليك التصدق بدرهم; وهذا من قبيل القطع
الموضوعي الممكن.
220

الخامس والسادس والسابع: وهي ما كان القطع بموضوع ذي حكم مأخوذا في
موضوع نفس ذلك أو مثله أو ضده، كما لو قال إذا علمت بخمرية مايع فهو محرم بعين
حرمته السابقة أو بمثلها أو هو واجب، وهذا الثلثة مستحيلة للدور واجتماع المثلين
والضدين.
الثامن: وهو ما كان القطع بالموضوع مأخوذا في موضوع حكم مخالف، كما لو قال
إذا علمت بخمرية مايع وجب عليك التصدق بدرهم وهذا ممكن.
التاسع: وهو ما كان القطع بموضوع بلا حكم مأخوذا في موضوع أي حكم كان
كما لو قال إذا علمت بان هذا بول يجب عليك الاجتناب عنه بناء على كون الحكم
مرتبا على العلم بالبولية لا على الواقع ثم إن الانقسام إلى الطريقي والموضوعي يجرى في
الظن أيضا الا ان له مزيد بحث ذكرناه تحت عنوانه.
تنبيهان:
الأول: الفرق بين الطريقي المحض والموضوعي في الجملة يظهر في موارد:
أولها: في الاجزاء فإذا قطع بطهارة ثوبه أو القبلة فصلى ثم انكشف الخلاف فعلى
فرض كون القطع طريقا محضا أو مأخوذا جزء الوضوء يجب إعادة الصلاة لظهور كون
المأمور به غير المأتي به والمأتي به غير المأمور به، وعلى فرض كونه مأخوذا تمام الموضوع
فلا إعادة.
ثانيها: في قيام الامارة مقامه فإنه إذا قامت الامارة على حرمة العصير أو الخمر
فهي تقوم مقام الطريقي المحض في تنجيز الواقع بلا اشكال، واما الموضوعي ففيه
اختلاف فقال في الكفاية بعدم القيام مطلقا وفصل في الرسائل بين الكشفي بالقيام
مقامه والموضوعي الوصفي بعدم القيام فراجع الكتابين.
ثالثها: ان الطريقي لا فرق فيه بين حصوله من أي شخص وأي سبب وأي زمان
بخلاف الموضوعي فإنه تابع لجعل الشارع فراجع تقسيمه إلى قطع القطاع وغيره.
الثاني: قد يتوهم ان كون القطع موضوعا للحكم معناه انه يعرض الحكم عليه فإذا
221

قلنا إن القطع بالخمرية موضوع للحرمة أو النجاسة فمعناه كون نفس القطع محرما أو
نجسا، ولكنه توهم فاسد فان معنى الموضوع هنا هو ماله دخل في الحكم سواء أكان
شرطا للحكم أم وصفا للموضوع أو المتعلق.
بيانه: انك قد عرفت في التقسيم الأول للقطع ان القطع الموضوعي الصحيح
أصناف ثلاثة; القطع المتعلق بالحكم أو بموضوع ذي حكم المأخوذان في موضع حكم
مخالف، والقطع المتعلق بموضوع لا حكم له.
ففي الجميع يكون معنى الموضوعية هو شرطيته للحكم المتعلق به لأنه إذا قال
الشارع ان علمت بوجوب الجمعة أو بخمرية مايع (ذي حكم أو بلا حكم) وجب
عليك التصدق، كان موضوع الوجوب حقيقة هو التصدق والقطع بوجوب الجمعة أو
بالخمرية شرطا لحدوث الحكم وترتبه على موضوعه كشرطية الاستطاعة لوجوب
الحج.
الثاني: تقسيمه إلى الوصفي والكشفي، وكل منهما إلى تمام الموضوع وجزئه.
وهذا التقسيم للقطع الموضوعي فقط دون الطريقي وبيان ذلك يتوقف على مقدمتين:
الأولى: ان القطع امر قلبي له جهتان، إحديهما كونه صفة من الصفات النفسانية
كالسرور والحزن والحب والبغض، ثانيتهما كونه كاشفا عن متعلقة كشفا تاما وطريقا
إليه طريقا واضحا، ولأجل وجود هاتين الجهتين فيه ينتزع منه بمجرد حصوله وتعلقه
بشئ وصفان للقاطع ووصفان للمتعلق; فأنت قاطع بالخمرية بمعنى كونك ذا صفة
خاصة وقاطع بمعنى كونك ذا طريق إليها، وهذا الاناء مقطوعا به بمعنى كونه متعلق
تلك الصفة الخاصة ومقطوعا به بمعنى كونه منكشفا ومؤدى للطريق.
الثانية: انه لا اشكال في أن القطع قد يكون مصيبا ومطابقا للواقع وقد يكون
مخطئا وجهلا مركبا وان كان القاطع لا يلتفت إلى ذلك.
إذا عرفت ذلك فنقول الأقسام في هذا التقسيم أربعة:
الأول: الوصفي الموضوعي الملحوظ تمام الموضوع كما لو ورد إذا قطعت بحرمة الخمر
وجب عليك التصدق، فيما إذا لا حظ الشارع القطع بعنوان الوصفية، بان جعل
موضوع وجوب التصدق هو عنوان القاطع بالمعنى الوصفي المنطبق على الشخص، أو
عنوان المقطوع به بالمعنى المنطبق على الخمر، مع لحاظه له بنحو التمامية بان اخذه
222

موضوعا طابق الواقع أم لا.
الثاني: الكشفي الموضوعي الملحوظ تمام الموضوع ففي المثال السابق إذا جعل
الموضوع عنوان القاطع أو المقطوع به بالمعنى الثاني أعني الكشفية ولا حظه بنحو
الاطلاق طابق الواقع أو خالفه كان هذا القطع كشفيا موضوعيا تاما.
الثالث: الوصفي الموضوعي الملحوظ بنحو جزء الموضوع فإذا قال إذا قطعت
بوجوب الجمعة وجب عليك التصدق، ولاحظ القطع وصفيا بالمعنى السابق، ولاحظه
جزء الموضوع بان اخذ فيه خصوص القطع المطابق للواقع كان هذا وصفيا موضوعيا
جزء الموضوع.
الرابع: الكشفي الموضوعي الملحوظ جزء للموضوع فإذا قال إذا قطعت بوجوب
الجمعة وجب عليك التصدق، ولا حظ القطع بنحو الكشف بالمعنى المتقدم ولا حظ
خصوص القطع المصيب كان هذا موضوعيا كشفيا جزئيا.
الثالث: تقسيمه إلى قطع القطاع وقطع غير القطاع
فالأول: هو القطع الحاصل للشخص بنحو غير متعارف ومن سبب لا ينبغي
حصوله منه والثاني هو الحاصل بنحو متعارف ومن سبب يليق حصوله منه، فالقطاع
هو سريع القطع لا كثير القطع، وحكمها انه لا فرق بينهما فيما كان طريقا محضا فإنه لا
فرق عند العقل في وجوب متابعة القطع بين افراده كان حصوله من أي سبب ولأي
شخص وفى أي زمان وان كان ربما ينسب إلى بعض الأخباريين ان القطع الحاصل
بالحكم الشرعي من مقدمات عقلية لا يجب العمل به عقلا وان كان طريقا محضا.
واما فيما كان موضوعا فالفرق بينهما واضح إذا القطع (ح) يكون كسائر
الموضوعات; فكما انه يعقل ان يجعل موضوع وجوب الاكرام مطلق العالم أو العالم
العادل فكذا يصح ان يجعل موضوع وجوب التصدق القطع الحاصل للفقيه دون
العامي أو القطع الحاصل من خبر العادل دون الفاسق أو الحاصل في زمان البلوغ دون
الصغر وهكذا.
الرابع: تقسيمه إلى القطع الاجمالي والقطع التفصيلي
ولا يخفى عليك انه لا يكون الاجمال في نفس القطع ابدا وانما يتصور في متعلقه;
223

إذ حقيقة العلم التصديقي هو انكشاف النسبة لدى القاطع انكشافا تاما، فإذا حصل
القطع بان أحد الفعلين واجب اوان أحد الإنائين حرام فالنسبة الملحوظة بين الحكم
وموضوعه الذي هو عنوان أحدهما منكشفة لدى القاطع لا اجمال فيها.
نعم انطباق ذلك الموضوع الكلى على هذا المصداق بالخصوص وتعلق الحكم به
مجمل مجهول، وهو امر آخر ونسبة أخرى غير النسبة المنكشفة، فالعلم الاجمالي في
الحقيقة عبارة عن انضمام جهل إلى علم ونسبة مجهولة إلى نسبة معلومة، ويكون اسناد
الاجمال إلى العلم بلحاظ حصوله في متعلقه لا فيه نفسه، وإن شئت فقل العلم الاجمالي
هو العلم المتعلق بعنوان أحد الشيئين أو الأشياء مع كون العنوان غير معين والعلم
التفصيلي ما لا يكون كذلك.
تنبيه:
إذا حصل العلم الاجمالي بوجوب أحد الفعلين مثلا فإنه يتصور لكل من امتثال
الحكم المعلوم بالاجمال ومخالفته مرتبتان، إذ لا يخلو حال المكلف عن أحد أمور ثلاثة،
فعلهما معا وتركهما معا وفعل أحدهما وترك الآخر، ويسمى الأول بالموافقة القطعية
والثاني بالمخالفة القطعية والثالث بالموافقة والمخالفة الاحتماليتين، ففعل أحدهما وترك
الآخر هي المرتبة الأولى للموافقة والمخالفة وفعلهما معا المرتبة الثانية للموافقة وتركهما
معا المرتبة الثانية للمخالفة.
ثم إن في تأثير العلم الاجمالي في ايجاب الامتثال بالمرتبة الأولى أو الثانية أو عدم
تأثيره أصلا أقوال.
الأول: كونه علة تامة في ايجاب المرتبة الثانية ولزوم الموافقة القطعية كالعلم
التفصيلي; فلا يجوز حينئذ ترخيص الشارع في ترك البعض فضلا عن الكل وهذا
مختار صاحب الكفاية (قده) في باب الاشتغال.
الثاني: كونه مقتضيا بالنسبة إلى كلتا المرتبتين فيصح الترخيص في تركهما فضلا
عن ترك أحدهما، وهذا مختاره (قده) في بحث القطع.
224

الثالث: كونه علة تامة بالنسبة إلى المرتبة الأولى وايجاب الموافقة الاحتمالية
ومقتضيا بالنسبة إلى المرتبة الثانية; وهذا مختار الشيخ (ره) في رسائله.
الرابع: عدم العلية والاقتضاء بالنسبة إلى المرتبتين فهو يساوق الشك البدوي في
عدم التأثير; ولعله مراد من أجاز المخالفة القطعية.
225

القياس
هو في الاصطلاح عبارة عن تعدية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر بسبب
مشاركته له في علة ذلك الحكم; فيطلق على الموضوع الأول الأصل والمقيس عليه وعلى
الثاني الفرع والمقيس، وعلى الجهة التي بها يحكم بتعدية الحكم الملاك والعلة
المشتركة.
ثم إن العلة المشتركة ان كانت مظنونة مستخرجة من الكلام ظنا يطلق عليه
القياس المستنبط علته; وان كانت معلومة مصرحا بها في الكلام فهو القياس
المنصوص علته.
والقياس الباطل الذي ليس من مذهبنا هو الأول دون الثاني; فإنه صحيح
معمول به على المشهور بل قد يقال إنه ليس بقياس في الاصطلاح.
فإذا ورد ان الخمر حرام وحصل لنا الظن بان العلة في حرمتها هو الاسكار الموجود
في النبيذ والعصير مثلا، يكون تعدية حكم الحرمة من الخمر إلى النبيذ والعصير من
قبيل القياس المستنبط علته الباطل عندنا.
وإذا ورد لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو ورد لا تبع الحنطة بالحنطة مع التفاضل
لأنها مكيل، يكون تعدية الحكم من الخمر إلى النبيذ المسكر، أو من الحنطة إلى
226

العدس والحمص مثلا قياسا منصوص العلة صحيحا عندنا.
ثم إن الفرق بين القياس والغلبة التي سبق بيانها واضح، إذ المقصود من الغلبة
تعيين موضوع الحكم وبيان انه هو الكلى الشامل لمصاديقه، ليحكم بترتب ذاك
الحكم على كل فرد من افراد الكلى من دون نظر إلى علة ثبوت الحكم على الموضوع،
وهذا بخلاف القياس فان الموضوع فيه معلوم وانما المقصود تعيين ملاك الحكم ومناطه
ليحكم بسرايته إلى موضوع آخر مباين له بسبب ذلك المناط.
227

الكتاب والقرآن والمصحف والفرقان
هذه الألفاظ الشريفة حقيقة بالفعل في الكلام الذي نزل به الروح الأمين على قلب
نبينا الأعظم " صلى الله عليه وآله " بلسان عربي مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا
من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وهو يشتمل على آيات محكمات واخر متشابهات فمحكماته هي النصوص
والظواهر، ومتشابهاته ما هو مجمل ليس له ظاهر.
ثم إنه لا اشكال في جواز العمل بالمحكمات، ولا يصغى إلى ما صدر عن بعض من
المنع عن التمسك بالكتاب العزيز فإنهم عزلوا العقل أيضا عن الحكم والقضاء;
وليت شعري فماذا يبقى لنا بعد عزل عقولنا واخذ كتابنا، وهل هذا الا جناية على
العقل وخيانة للكتاب.
ويستدل على الحجية بأمور:
منها: قول مولانا علي " عليه السلام " في نهج البلاغة: " وانزل عليه - أي على النبي
" صلى الله عليه وآله وسلم " القرآن ليكون إلى الحق هاديا; وبرحمته بشيرا، فالقرآن
آمر زاجر وصامت ناطق، حجة الله على خلقه اخذ عليهم ميثاقه " الخ.
ومنها: خبر الثقلين حيث قال: " صلى الله عليه وآله ": " ما ان تمسكتم بهما لن
228

تضلوا " فامر بالتمسك بالكتاب وأهل البيت.
ومنها: الاخبار الكثيرة الآمرة: " يعرض كل حديث على كتاب الله فما وافقه
فخذوه وما خالفه فاضربوه على الجدار " فلو لم تكن الظواهر حجة فكيف يمكن عرض
الاخبار عليه والحكم بصحتها وسقمها.
ومنها: الاخبار الكثيرة الواردة عن الأئمة " عليهم السلام " ارشادا لأصحابهم إلى
التمسك بالقرآن واستفادة الحكم عنه كقول مولانا الصادق " عليه السلام ": " يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله "، وغيرها من الاخبار.
تنبيه:
حجية ظواهر الكتاب على ما ذكرنا ليست الا كحجية سائر الأدلة والامارات من
السنة والاجماع والعقل، مشروطة بالفحص عن المعارضات وسائر القرائن الصارفة عن
الظهور من الحاكم والمخصص والمقيد وغيرها، فكما انه لا يجوز للمستدل بتلك الأدلة
التمسك بها قبل الفحص واليأس عن الظفر بالمخالف فكذلك الكتاب العزيز، للقطع
بورود التخصيص والتقييد وسائر الصوارف على عدة من ظواهره.
نعم لا بأس بالتمسك بما كان نصا من آياته بلا حاجة إلى الفحص فان دلالة
النصوص كأصل السند غير قابلة لرفع اليد عنها فيحصل القطع بعدم وجود المعارض
لها، الا ان الكلام في تشخيص ما هو نص عما هو ظاهر فعلى المستدل التحرى التام
حتى لا يقع في الاشتباه والخطاء.
229

مجارى الأصول
اعلم أن المكلف إذا توجه والتفت إلى حكم من احكام أفعاله فلا يخلو حاله عن أحد
أقسام ثلاثة:
الأول: ان يحصل له القطع بذلك الحكم، ووظيفته حينئذ بحكم العقل العمل
بقطعه والجري على وفق علمه ويسمى هذا المكلف بالقاطع والعالم.
الثاني: أن لا يحصل له العلم به بل يقوم عنده طريق معتبر إلى حكمه من خبر عدل
أو ثقة أو اجماع أو شبهها، وحكمه أيضا ان يعمل على طبق طريقه ويسمى هذا بمن قام
عنده الطريق.
الثالث: أن لا يحصل له العلم ولا يقوم عنده طريق معتبر، ويسمى بالجاهل
والشاك وهو الذي يجرى في حقه الأصول العملية، الاستصحاب والبراءة والاحتياط
والتخيير، فإنه اما أن يكون للحكم الذي شك فيه حالة سابقة أم لا فعلى الأول
يتحقق مجرى الاستصحاب وعلى الثاني فاما أن يكون الشك في التكليف أو في
المكلف به مع العلم بالتكليف، فعلى الأول يتحقق مجرى البراءة، وعلى الثاني فاما ان
يمكن فيه الاحتياط أم لا فعلى الأول يتحقق مجرى الاحتياط، وعلى الثاني مجرى
التخيير.
230

ثم إنه قد ظهر من هذا التقسيم ان للاستصحاب شرطا واحدا وهو ملاحظة الحالة
السابقة، وللبراءة شرطين وهما عدم ملاحظة الحالة السابقة وكون الشك في التكليف،
وللاحتياط شروطا ثلاثة; عدم ملاحظة الحالة السابقة وكون الشك في المكلف به
وامكان الاحتياط، وللتخير أيضا شروطا ثلاثة: عدم ملاحظة الحالة السابقة وكون
الشك في المكلف به وعدم امكان الاحتياط.
تنبيهات: الأول: ان الجاهل والشاك اما أن يكون شاكا في الحكم التكليفي أو في الحكم
الوضعي أو في متعلقات الاحكام.
اما الأول: فهو الذي يجرى في حقه الأصول المذكورة، وحصر الأصول العملية
في الأربعة المشهورة انما هو بالنسبة إليه فلا يجرى في حقه غير تلك الأصول.
واما الثاني: كمن شك في الطهارة والنجاسة والصحة والفساد والملكية والزوجية
والحرية والرقية وغيرها، فلا يجرى في حقه من تلك الأصول غير الاستصحاب وله
أصول اخر كأصالة الطهارة وأصالة الصحة وأصالة الفساد وأصالة الحرية وأصالة
التحقق المسماة بقاعدة التجاوز، ولم يتعرض بعض المحققين لتلك الأصول ومجاريها في
أول الباب زعما منه ان مباحثها قليلة وانها تختص ببعض الأبواب.
واما متعلقات الاحكام وموضوعاتها فلا يجرى فيها من الأصول الأربعة الا
الاستصحاب، ويجرى فيها بعض الأصول الاخر والامارات كالقرعة واليد وخبر العدل
ونحوها.
الثاني: ان ما ذكرنا من المجاري للأصول العملية انما هو بيان لخصوص مجاريها
بنحو الاجمال واما بيان نفس تلك الأصول وانها احكام شرعية أو عقلية وبيان مجاريها
تحقيقا وتفصيلا فهو موكول إلى شرح حال ذلك الأصل تحت عنوانه الخاص فراجع
تلك العناوين لتكون على بصيرة منها.
231

المجمل والمبين
والظاهر والمأول والمحكم والمتشابه والنص والصريح
اما المجمل: فهو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان ذلك بسبب اكتنافه بما
أوجب اجماله وابهامه، وأقسامه كثيرة.
فمنها: المجمل بالذات كأوائل السور القرآنية من (ق) و (ن) وغيرهما.
ومنها: المشترك اللفظي الذي لا قرينة على تعيين بعض معانيه كقوله تعالى:
" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء " فان لفظة قرء مشتركة بين الطهر والحيض
فلا يدرى من ظاهر القرآن كون أيام التربص والعدة أطهار ثلثة أو حيضات ثلث.
ومنها: المشترك المعنوي في بعض الموارد، كقوله تعالى: " أو يعفو الذي بيده عقدة
النكاح " فلا يعلم ان المراد من الموصول الزوج أو ولى المرأة.
ومنها: العام والمطلق المقترنان بمخصص مجمل أو مقيد كذلك كما إذا قال أكرم
العلماء الا فساقهم، وتردد امر الفاسق بين مرتكب مطلق الذنب ومرتكب الكبيرة فقط
فيكون العام بالنسبة إلى اهل الصغائر مجملا.
ومنها: كل لفظ اقترن بما يصلح لصرفه عن ظاهره فحصل الاجمال بسببه.
واما المبين: فهو ما كان ظاهر الدلالة على المعنى المقصود وينقسم إلى قسمين:
الأول: النص وهو الظاهر البالغ في ظهور دلالته إلى حيث لا يقبل التأويل عند
232

أهل العرف بل يعدون التأويل له قبيحا خارجا عن رسوم المحاورة كقوله يجب اكرام
زيد فحمل الوجوب على الإباحة أو الاكرام على الإهانة أو زيد على عدوه ببعض
التأويلات لا يقبله أهل العرف ويرادفه الصريح أيضا.
الثاني: الظاهر وهو اللفظ الذي له ظهور قابل للتأويل بسبب القرائن كالعام
والمطلق ونحوهما.
واما المأول: فهو اللفظ الذي خرج عن ظهوره الذاتي وأريد منه خلاف ظاهره
بواسطة القرينة، فيدخل فيه كل لفظ علم استعماله في غير ما وضع له بقرينة حالية أو
مقالية.
فمنه: العام الذي علم تخصيصه، والمطلق الذي علم تقييده.
ومنه: أيضا قوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفا صفا " وقوله تعالى: " وعصى آدم
ربه فغوى " وقوله تعالى: " يضل من يشاء " وغيرها.
واما المحكم والمتشابه، فالأول يساوق المبين والثاني يساوق المجمل.
233

المخصص
ويطلق عليه الخاص أيضا وهو في الاصطلاح عبارة عن الدليل الواقع في مقابل ما هو
أعم منه موردا عموما مطلقا، بحيث يكون غالبا أقوى دلالة منه ويصير سببا لرفع اليد
عن حكمه وترك العمل به، وقد يطلق على أحد العامين من وجه إذا قدمناه على الاخر
وخصصناه به كما إذا قدمنا قوله أكرم العلماء على قوله لا تكرم الفساق لقوة دلالته في
مورد الاجتماع.
وينقسم بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى المخصص اللفظي والمخصص اللبي.
فاللفظي هو ما كان لفظا كما إذا ورد لا تكرم فساق العلماء بعد ورود اكرام كل
عالم; واللبي هو ما كان من قبيل المعنى ولا قالب لفظي له فكأنه لب لا قشر له كما
إذا قام الاجماع أو دلت سيرة العلماء أو العقلاء على عدم لزوم اكرام الفاسق في المثال
السابق، وكذا إذا قال المولى أكرم جيراني وحكم العقل بقبح اكرام من كان منهم
عدوا للمولى، فالاجماع والسيرة وحكم العقل من المخصصات اللبية.
الثاني: تقسيمه إلى المبين والمجمل.
والثاني ينقسم إلى أقسام أربعة لأنه اما أن يكون مجملا مفهوما أو مجملا مصداقا و
234

على التقديرين اما أن يكون مرددا بين الأقل والأكثر أو مرددا بين المتباينين فجميع
الأقسام خمسة فمثال المبين مبين واضح.
واما مثال المجمل المفهومي المردد بين الأقل والأكثر فكما إذا ورد أكرم العلماء
وورد أيضا لا تكرم الفساق منهم، وحصل الشك في أن الفاسق هل هو مطلق من
ارتكب المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، أو هو خصوص مرتكب الكبيرة، فإذا فرضنا
العلماء مئة والمرتكبين للكبيرة منهم عشرين وللصغيرة عشرة، فالمخصص مردد بين
عشرين وثلاثين من حيث اجمال المفهوم والقدر المتيقن عشرون والمشكوك عشرة،
والحكم هنا بناء على المشهور الرجوع إلى عموم العام على غير ما كان متيقنا من
المخصص.
ومثال المجمل المفهومي المردد بين المتباينين، كما لو قال المولى لا تكرم زيدا في
المثال السابق مع كونه مشتركا بين رجلين، وحكمه عدم جواز التمسك بالعام في كلا
الفردين والرجوع إلى الأصول العملية، من برائة واحتياط وتخيير.
ومثال المجمل المصداقي المردد بين الأقل والأكثر، ما لو علم في المثال الأول بان
المراد من الفاسق هو اهل الكبائر دون الصغائر، وعلم أيضا بان عشرين منهم قد
ارتكبوا للكبيرة وشك في ارتكاب عشرة آخرين فالمخصص مردد بين عشرين وثلثين
من حيث اشتباه المصداق، وفى جواز التمسك في العشرة المشكوكة بعموم العام أو عدمه
ولزوم الرجوع إلى الأصول العملية وجهان أشهر هما الثاني.
ومثال المجمل المصداقي المردد بين المتباينين، ما لو علم معنى الفاسق وعلم اجمالا
فسق أحد الرجلين وحكمه حكم المفهومي من المتباينين.
الثالث: تقسيمه إلى المتصل والمنفصل.
والأول: هو المقارن للعام بنظر العرف من وصف أو بدل أو شرط أو استثناء، كما
إذا ورد أكرم كل عالم عادل، أو أكرم عالم عدولهم، أو ان كانوا عدولا،
أو الا فساقهم.
والثاني: ما كان في كلام مستقل بحيث لا يصح عند العرف عده جزء من العام
أو من متمماته، سواء أكان صدوره قبل العام أم بعده، طالت المدة الفاصلة بينهما أو
235

قصرت، كما إذا ورد في خبر أكرم العلماء وورد في آخر لا تكرم فساق العلماء.
الرابع: تقسيمه إلى المخصص القطعي الدلالة أعني النص وظنيها أعني الظاهر والى
المخصص القطعي السند وظنيه.
توضيح ذلك: ان الخاص والعام اما ان يكونا نصين أو يكون الخاص نصا والعام
ظاهرا أو يكونا على عكس ذلك أو يكونا ظاهرين متساويين أو يكون أحدهما أظهر
من الاخر، على كل تقدير اما ان يكونا مقطوعي الصدور أو مظنوني الصدور أو يكون
الخاص مقطوعا والعام مظنونا أو عكس ذلك فالأقسام عشرون.
وفيما كانا نصين فإن كان الصدور ان أيضا قطعيين فاللازم حمل أحدهما على
التقية لعدم امكان التصرف في الدلالة والسند، وان كانا مختلفين فاللازم اخذ قطعي
الصدور وطرح الظني رأسا، وان كانا مظنوني الصدور فالحكم ما في المتباينين من اخذ
أحدهما تخييرا وطرح الاخر رأسا.
وفيما كان الخاص نصا والعام ظاهرا لا اشكال في تقديم الخاص على العام
وتخصيصه به، كما إذا ورد أكرم العلماء وورد لا يجب اكرام زيد سواء كانا قطعيين
سندا أو ظنيين أو مختلفين فهذه أقسام أربعة.
وفيما كان العام نصا والخاص ظاهرا فلا شبهة في الاخذ بالعام والتأويل في
الخاص، كما إذا ورد يجب اكرام العلماء بلا استثناء أحد وورد ينبغي اكرام زيد،
فيحمل ينبغي على الاستحباب، ولا فرق فيه بين قطعي السند وظنيه والاختلاف
فالأقسام أربعة.
وان كانا ظاهرين متساويين فان كانا قطعيين سندا يتساقط الظهوران ويكونان
بحكم المجملين ويرجع إلى الأصول العملية، وان كانا ظنيين يؤخذ بسند أحدهما تخييرا
أو ترجيحا ويطرح الاخر رأسا سندا ودلالة، وان كانا مختلفين يؤخذ المقطوع سندا
ويطرح المظنون رأسا على اشكال فيه.
وفيما كان أحدهما أظهر من الاخر يؤخذ به ويؤول الاخر بما يوافقه، مثلا إذا ورد
أكرم العلماء وورد ينبغي اكرام زيد، وفرضنا ان ظهور هيئة أكرم في الوجوب أقوى
من ظهور ينبغي في الاستحباب، فيقدم ظهور الهيئة ويؤول ظاهر ينبغي بحمله على
236

الوجوب وهذا مورد يقدم فيه العام على الخاص وان فرضنا أقوائية ظهور ينبغي في
الاستحباب يؤخذ به ويخصص العام ولا فرق فيه أيضا بين أقسام السند.
تنبيه:
قد عرفت أن اطلاق الخاص والعام فيما ذكر من الأقسام بلحاظ متعلق الحكمين
أعني زيدا والعلماء سواء أكان التصادم بين ظهور كلمة العلماء وزيد أو ظهور أكرم ولا
تكرم، وقد عرفت أيضا ان أقسامهما وكيفية تقدم أحدهما على الاخر مختلفة; فتارة يقدم
الخاص على العام ورودا أو حكومة، وأخرى يقدم العام عليه ظهورا، وثالثة يقدم
أحدهما على الاخر سندا ترجيحا أو تخييرا; ورابعة يتساقطان ظهورا فيرجع إلى
الأصول، وخامسة يحمل أحدهما على التقية وغير ذلك، وعليك بالتأمل في الأقسام
المذكورة في التقسيم الأخير حتى يتبين لك الحال وإن شئت ان تعرف كيفية ورود
الخاص على العام وحكومته فراجع آخر بحث الحكومة.
237

المرجح
هو في الاصطلاح أمور وخصوصيات تكون سببا لتقديم أحد المتقابلين على الاخر ومورد
لحاظه ومحل اعماله تارة السندان; فيحكم لا جل ذلك بأخذ سند وطرح سند آخر،
ويسمى بمرجح الصدور لكونه علة للحكم بصدور الدليل الواجد له وعدم صدور
الفاقد.
وأخرى: الظاهران المتقابلان فيحكم لاجله بتقديم ظاهر على ظاهر آخر، ويسمى
بمرجح الظهور لكونه سببا لترجيح ظهور على ظهور.
وثالثة: الحكمان المتوجهان على المكلف مع عجزه عقلا أو شرعا عن امتثالهما،
فيحكم لاجله بأخذ ذي المزية وترك الآخر، وهذا يسمى بمرجح الحكم.
فالمرجحات على أقسام ثلثة: يطلق على القسم الأول مرجح باب التعارض
وعلى القسم الثاني مرجح باب الظواهر وعلى القسم الثالث مرجح باب التزاحم.
اما القسم الأول: فهو كثير كالشهرة الروائية، والأعدلية، والأوثقية، والأورعية
والأصدقية، ومخالفة العامة، ومخالفة ميل حكامهم، وموافقة الكتاب وموافقة السنة
النبوية " صلى الله عليه وآله وسلم "; وموافقة الامارات الظنية، وموافقة الأصول العملية،
والشهرة الفتوائية، والأفصحية، والنقل باللفظ، وقلة الوسائط في سلسلة السند;
238

وغيرها وكل هذه المرجحات موجبة لتقديم السند فالدليلان المتعارضان إذا كان
أحدهما مشتملا على هذه المرجحات كلا أو بعضا ولم يكن الاخر كذلك فهو يؤخذ
سندا ودلالة والاخر يطرح رأسا.
ثم إن العلماء (رض) قسموا هذه المرجحات بتقسيمات مختلفة وأدخلوها تحت
عناوين متعددة.
منها: تقسيمها باعتبار موردها ومحل عروضها، إلى ما يعرض السند وما يعرض
المتن وما يعرض المضمون.
بيانه: ان كل خبر وارد عن المعصوم " عليه السلام " مشتمل على أمور أربعة: السند
والمتن والجهة والمضمون، فالسند هو الشخص أو الاشخاص الناقلين له; والمتن هي
عبارات الخبر وألفاظه الحاكية عن المعاني، والجهة هي علة صدور الكلام عن الامام
" عليه السلام " من بيان الحكم الواقعي أو التقية والمضمون هو المعنى المراد من الألفاظ.
فحينئذ نقول إن بعض تلك المرجحات يعرض السند كالأعدلية والأوثقية
وغيرهما من صفات الراوي، وبعضها يعرض المتن كالشهرة الروائية والفصاحة
ونحوهما; وبعضها يعرض المضمون كموافقة الكتاب والسنة والأصل ومخالفة العامة،
فان المتصف بها معنى الخبر لا ألفاظه.
ومنها: تقسيمها باعتبار مورد الرجحان أعني ما يكون المرجح سببا لتقديمه على
صاحبه إلى ما يرجح الصدور، وما يرجح الجهة، وما يرجح المضمون.
فالأصدقية والأوثقية مثلا ترجحان صدور ما رواه الأصدق والأوثق بمعنى انه لو دار
الامر بين الحكم بعدم صدور خبر الصادق أو خبر الأصدق فإنه يقوى في الذهن عدم
صدور الأول وصدور الثاني.
ومخالفة العامة ترجح الجهة، بمعنى ان احتمال التقية وعدم الصدور لبيان الحكم
الواقعي موجود في الموافق دون المخالف، فهذا المرجح يقوى جهة الخبر المخالف أولا
وبالذات ويوجب ثانيا وبالعرض تقوية سنده فيؤخذ هو ويطرح الاخر الموافق سندا
ودلالة، لا انه يؤخذ السند من كليهما ويحكم بصدور الموافق للعامة تقية والمخالف لها
لبيان الحكم الواقعي كما توهم.
239

وموافقة الكتاب والسنة والأصل وحكم العقل وكذا موافقة الشهرة الفتوائية
ترجح المضمون والمعنى المراد من اللفظ، فإذا ورد خبر دال على وجوب صلاة الجمعة
وآخر دال على وجوب الظهر، وكان ظاهر الكتاب أو مقتضى الاستصحاب وجوب
الجمعة فهو يؤيد مضمون الأول ويورث الظن بكونه الحكم الواقعي فيؤول الامر أيضا
إلى اخذ سند ما قوى مضمونه وطرح الاخر رأسا.
فعلم مما ذكر ان مرجع جميع المرجحات إلى ترجيح السند وان كان بعضها يؤيد
في ابتداء الامر الجهة أو المضمون، فتحصل ان المستفاد من أدلة العلاج واخباره ان
كل خبر كان ذات مزية في واحد من نواحيه وأطرافه لم يكن لمقابله تلك المزية يجب
اخذه سندا وطرح مخالفه رأسا.
تنبيه: لا يخفى عليك ان الأقسام المذكورة في هذا التقسيم كلها من قبيل المرجحات
الداخلية واما الخارجية فكلها من المرجحات المضمونية.
ومنها: تقسيمها إلى الداخلية، والخارجية والخارجية إلى المعتبرة وغير المعتبرة،
والى المؤثرة في أقربية المضمون وغير المؤثرة، فالأقسام بناء على هذا التقسيم خمسة:
أولها: المرجحات الداخلية، وهي عبارة عن كل مزية غير مستقلة في نفسها متقومة
بمعروضها، كصفات الراوي والفصاحة والنقل باللفظ وقلة الوسائط ونحوها، فإنه
لأقوام لها الا بمعروضها من السند والمتن، فصفات الراوي وقلة الوسائط تعرضان السند
أعني الرجال الناقلين للخبر، والباقي يعرض المتن أعني الألفاظ والمعاني.
ثانيها: المرجحات الخارجية المعتبرة وهي كل امر معتبر مستقل في نفسه ولو لم يكن
هناك خبر; مثل الكتاب والسنة والأصل العملي، فإذا ورد يحرم شرب العصير وورد
أيضا يحل شربه، فالثاني يرجح على الأول لموافقته لظاهر قوله تعالى: " خلق لكم ما في
الأرض جميعا " أو موافقته للاستصحاب، أو أصالة الحلية بناء على كون الأصل مرجحا
للامارات.
240

ثالثها: المرجحات الخارجية غير المعتبرة، كالشهرة الفتوائية والاجماع المنقول
وقاعدة أو لوية الحرمة للاخذ بها من الوجوب ونحوها، فإذا ورد تجب صلاة الجمعة
وورد أيضا تحرم صلاة الجمعة، فقد يقدم الثاني لموافقته للشهرة أو قاعدة الأولوية.
رابعها: المرجحات الخارجية المؤثرة في أقربية المضمون، كموافقة أحد الخبرين
لظاهر الكتاب بناء على حجية الخبر من باب الطريقية، فان المرجح بالكسر والمرجح
بالفتح كليهما حاكيان عن الواقع فيتعاضدان مضمونا.
خامسها: المرجحات الخارجية غير المؤثرة، كموافقة أحد الخبرين للأصل العملي
فان الخبر ناظر إلى الواقع وحاك عنه والأصل غير ناظر إليه بل هو حكم تعبدي، فلا
يعاضد به مضمون الخبر.
في مرجحات باب الظواهر
واما القسم الثاني: أعني مرجحات باب الظواهر; فهي تلاحظ فيما كان الدليلان
ظاهرين في المراد بحيث كان رفع اليد عن ظاهر كل منها ممكنا فيرجح أحدهما على
الاخر بتلك المرجحات، وعلى هذا فيخرج النص والظاهر عن محل الكلام لعدم
احتمال الخلاف في النص، فالمتعين فيهما اخذ النص وتأويل الظاهر فحينئذ نقول إن
مرجحات هذا الباب على أقسام ثلاثة:
أحدها المرجحات الشخصية، بمعنى ما يوجب تقديم شخص من الظواهر وفرد منها
على فرد آخر بالوضع أو قرائن شخصية احتفت بالكلام وجعلته أظهر من صاحبه،
وهذا القسم لا يدخل تحت ضابط كلى، بل تلاحظ الموارد الشخصية فيرجح بها، كما
في قولك رأيت أسدا يرمى، فان ظهور يرمى في رمى السهم أقوى من ظهور أسد في
الحيوان المفترس; فيحمل على الرجل الشجاع لا انه يؤخذ بظهور أسد ويحمل الرمي
على رمى التراب.
ثانيها: المرجحات النوعية بمعنى ما يوجب تقديم نوع من الظواهر على نوع آخر منها;
فترى ان اهل الفن يقدمون نوعا معينا على نوع آخر وذكروا لها موارد كثيرة:
منها: ترجيح ظهور الكلام في الاستمرار والدوام أعني عمومه الأزماني على العموم
241

الافرادي، ويعبر عن ذلك بان التخصيص أولى من النسخ، فإذا ورد خاص متقدم
كقوله لا تكرم فساق العلماء; ثم ورد عام متأخر كقوله أكرم العلماء، فللخاص ظهور في
الشمول الأزماني وان حكمه مستمر دائم ولازمه تخصيص العام به، وللعام ظهور في
شمول حكمه لجميع افراده حتى الفساق ولازمه نسخ الخاص به والحكم بانقضاء
مدته، فدار الامر بين نسخ الخاص وتخصيص العام، فقالوا (ح) بلزوم ارتكاب الثاني،
وكذا الكلام فيما إذا ورد عام ثم ورد خاص بعد العمل به فدار الامر بين كون العام
منسوخا أو مخصصا.
ومنها: ترجيح ظهور العام على اطلاق المطلق، فإذا ورد أكرم العالم وورد لا تكرم
الفساق، دار الامر في العالم الفاسق بين رفع اليد عن الاطلاق أو عن العموم فيرجح
ظهور العام فيقيد المطلق. هذا إذا كان عموم العام المقابل للمطلق وضعيا، واما إذا كان هو أيضا
بالاطلاق فيرجع الكلام إلى تعارض الاطلاق البدلي مع الاطلاق الشمولي، فيكون
المورد من تعارض الصنفين من الظهور كما إذا ورد اجتنب يوم الجمعة عن التكسب في
مقابل قوله تعالى: " أحل الله البيع ".
ومنها: تقديم مفهوم القضية الغائية على مفهوم الشرطية، كما إذا ورد لا تكرم
الفساق إلى أن يصيروا علماء وورد أكرم العلماء ان كانوا عدولا، وهذا ما حكموا به
من أظهرية القضية الغائية في دلالتها على المفهوم من القضية الشرطية.
ومنها: ترجيح مفهوم القضية الشرطية على مفهوم الوصفية، كما إذا ورد أكرم
العلماء ان كانوا عدولا وورد لا تكرم الفساق الجهال فيقدم الأول على الثاني.
ومنها: تقديم الظواهر غير العموم على ظهور المطلق، كما إذا ورد يجب اكرام العالم
وورد ينبغي اكرام زيد فيدور الامر بين تقييد المطلق وبين حمل كلمة ينبغي على
الوجوب وهو خلاف ظاهره.
ومنها: ترجيح ظهور الكلام في استمرار الحكم على غيره من الظهورات، كما إذا
ورد أكرم العلماء وورد بعد العمل به ينبغي اكرام العلماء، فرجحوا حمل الثاني على
الوجوب حفظا لظهور الأول في الاستمرار.
242

ومنها: ترجيح سائر الظواهر على العموم، كما إذا ورد أكرم العلماء وورد ينبغي
اكرام زيد فلا بد من التخصيص حفظا لظهور كلمة ينبغي.
هذه أنواع من الظواهر يقدم بعضها على بعض والمرجح في هذه الموارد هو نفس
العنوان الذي قدموه على ما يقابله.
ثالثها المرجحات الصنفية: فترى ان صنفا من المرجحات يرجح على الصنف
الآخر ولو كان الصنفان من نوع واحد وعدوا لهذا القسم أيضا موارد:
منها: تقديم ظهور اللفظ في المجاز الراجح على ظهوره في المجاز المرجوح ولذا يحمل
الأسد في رأيت أسدا يرمى على الرجل الشجاع دون الرجل الأبخر، ويحمل الامر
المصروف عن معناه الحقيقي على الاستحباب لا الإباحة.
ومنها: تقديم بعض أصناف التخصيص على البعض الآخر، فإذا تعارض عموم
الجمع المحلى باللام مع عموم المفرد المحلى به بناء على افادته العموم، يرجح الصنف
الأول على الثاني; فإذا ورد أكرم العالم وورد لا تكرم الفساق يرتكب التخصيص في
الأول دون الثاني، وكذا يقدم العموم القليل الافراد على العموم الكثير الافراد.
واما القسم الثالث: أعني مرجحات باب التزاحم فراجع البحث تحت عنوان
التزاحم.
243

المشتق
هو في الاصطلاح كل لفظ أطلق على الذات باعتبار اتصافها بمبدء من المبادئ، سواء
كان مشتقا نحويا أم غيره، وسواء كان اتصاف الذات بتلك الصفة باعتبار حلول
الصفة فيها أو صدورها منها أو انتزاعها عنها.
فالعالم والجاهل مشتقان بهذا الاصطلاح، كما أنهما مشتقان عند اهل الأدب أيضا
والزوج والزوجة والحر والعبد مشتقات بهذا الاصطلاح وجوامد عند اهل الأدب وفى
الحي والحار مثلا اتصاف الذات بالمبدء بنحو حلول الصفة في الذات وفى الضارب
والقاتل بنحو صدورها عن الذات.
وفى المالك والمملوك بنحو انتزاع الصفة عنها، إذ الملكية امر ينتزع عن زيد مثلا
وما له الذي يتصرف فيه.
ثم إن استعمال المشتق في معناه يتصور على انحاء ثلاثة:
الأول: استعماله في ذات متلبسة بالمبدأ في حال النسبة، كما تقول حاكيا عن
زيد المتلبس بالسفر حال تكلمك زيد مسافر، فزمان نسبة السفر إلى زيد هو الآن،
وزمان اتصافه بالسفر أيضا ذلك واستعمال المشتق في زيد في هذا الفرض استعمال
حقيقي عند الكل.
244

الثاني: استعماله في ذات كانت متلبسة بالمبدء قبل حال النسبة كما تقول لزيد
الوارد من السفر زيد مسافر، فزمان النسبة هو الآن وزمان التلبس بالمبدء هو الأمس
وفى كون هذا الاستعمال حقيقة أو مجازا اختلاف بين الاعلام.
الثالث: استعماله في ذات لم تتلبس بعد بالمبدء ولكنه سيتلبس أو سوف يتلبس،
كما تقول لزيد المريد للسفر غدا زيد مسافر فزمان النسبة هو الآن وزمان التلبس هو
الغد، والظاهر الاتفاق على أن اطلاقه بهذا النحو مجاز محتاج إلى القرينة والعناية.
تنبيه:
عرف اهل الأدب المشتق بأنه لفظ مأخوذ من لفظ آخر مع اشتماله على حروفه
وموافقته معه في الترتيب أو مطلقا، وعلى هذا فالنسبة بين المشتق باصطلاح الأصوليين
وبين المشتق عندهم هو العموم من وجه، فالزوج والزوجة مشتقان بهذا الاصطلاح دون
اصطلاحهم، والماضي والمضارع بل المصدر مشتقات عندهم دون هذا الاصطلاح،
لان الأفعال وضعت لبيان النسبة بين الذات والصفة لا للذات المتصفة بالصفة واسم
الفاعل والمفعول مشتقان في كلا الاصطلاحين.
245

المطلق والمقيد
اما المطلق: فهو في اللغة بمعنى المرسل وما لا قيد له وفى الاصطلاح هو اللفظ الدال
على معنى له نحو شيوع وسريان بالفعل فهو من صفات اللفظ وقد يقع صفة للمعنى
أيضا.
واما المقيد: فهو يقابل المطلق تقابل العدم والملكة فهو اللفظ الذي لا شيوع له
بالفعل مع قابليته لذلك بالذات.
ثم انهم عدوا للمطلق مصاديق:
منها: أسماء الأجناس من الأعيان والاعراض والأفعال، فإذا قال المولى يجب
عليك في أول الشهر اعطاء الحنطة للفقير، كان لفظ الشهر والاعطاء والحنطة والفقير
كلها مطلقات لوجود الارسال والشيوع في معانيها.
وإذا قال يجب عليك في أول الشهر الحرام اعطاء الحنطة الحمراء سرا للفقير
العادل كانت تلك الألفاظ مقيدات.
ومنها: النكرة وهي عبارة عن اسم الجنس الذي دخل عليه التنوين المستفاد منه
الوحدة، فهي أيضا لفظ دال على الشيوع في مصاديق جنسه، سواء أكان الشيوع
بنظر السامع فقط كما في جاءني رجل وقوله تعالى: " وجاء رجل " أو في نظر القائل
246

والسامع كليهما كما في جئني برجل، فلو قال جاءني رجل عالم أو جئني برجل شاعر
كان اللفظان مقيدين.
تنبيهات:
الأول: ان الاطلاق والتقييد امران إضافيان بمعنى انه لا بد من مقايسة مجرى
الاطلاق والتقييد بالأمور الخارجية فكل امر لم يكن له دخل في مورد الاطلاق فالمورد
بالقياس عليه مطلق وكل امر له دخل فيه فالمورد بالنسبة إليه مقيد فإذا قال أعتق رقبة
مؤمنة كانت الرقبة بالنسبة إلى الايمان مقيدة وبالنسبة إلى العدالة مثلا مطلقة.
الثاني: ان كلا من الاطلاق والتقييد يلاحظ تارة في اللفظ الدال على نفس
الحكم الشرعي، وأخرى فيما دل على موضوعه; وثالثة في ما دل على متعلقه، فإذا قال
المولى يجب اكرام العالم يقال ان الوجوب والبعث غير مقيد لان كلمة يجب مطلقة، وان
فعل الاكرام أيضا غير مقيد لاطلاق كلمة الاكرام; وكذا لفظ العالم أيضا مطلق غير
مقيد; فالألفاظ مطلقات والمعاني أيضا مطلقات، ولو قال يجب في يوم الخميس اكرام
العالم أو يجب اكرامه بالضيافة أو يجب اكرام العالم العادل كان اللفظ الدال على
الحكم في المثال الأول وعلى الموضوع في الثاني وعلى المتعلق في الثالث مقيدات كما أن
المعاني أيضا مقيدات.
الثالث: الاطلاق قد يلاحظ بالنسبة إلى افراد المعنى فيسمى اطلاقا افراديا، وقد
يلاحظ بالنسبة إلى حالاته فيسمى اطلاقا أحواليا، والمراد من الأول شيوع المعنى
الكلى في افراده ومن الثاني شمول المعنى بحسب أحواله.
وبين الاطلاقين عموم من وجه، فقد يتحقق الأحوالي دون الافرادي كما إذا قال
المولى أكرم زيدا، فزيد وان كان جزئيا لا يتصف بالاطلاق الافرادي الا انه يتصف
بالاطلاق الأحوالي، فهو مطلق من هذه الجهة قابل للتقييد بان يقول أكرمه إذا كان
مسافرا أو مريضا.
247

ونظيره ما إذا ورد أكرم العلماء فان للعلماء وان كان عموما افراديا الا ان لكل
واحد من الافراد اطلاقا أحواليا.
وقد يتحقق الافرادي دون الأحوالي كما إذا قال أعتق رقبة ثم قال وجميع حالاتها
عندي متساوية; أو انه لم يكن من جهة الحالات في مقام البيان فالرقبة مطلقة من
حيث الافراد ولا اطلاق لها من حيث الأحوال.
وقد يتحققان معا كما إذا قال إن ظاهرت فأعتق رقبة فللرقبة اطلاقان من حيث
الافراد والأحوال أي اية رقبة كانت وفى أي حال كانت.
الرابع: قد يكون مجرى الاطلاق والتقييد اللفظ وقد يكون الغرض المستفاد من
المولى، فالأول: هو اللفظ المشكوك في شموله لما له من المعنى كالأمثلة السابقة.
والثاني: هو المعنى المستفاد فإذا استفدنا من ناحية المولى حكما من الاحكام بعثا
أو زجرا أو غيرهما بواسطة لفظ أو غير لفظ وشككنا في دخالة شئ في غرضه أو مانعية
امر عن ذلك، وكان في مقام بيان تمام ماله دخل في غرضه ولم يتعرض لشئ ولم ينبه
على غير ما علمناه أمكن التمسك حينئذ لعدم دخل شئ في غرضه بأنه لو أراد ذلك
لأفاد وأشار إلى ما يبين المراد ويسمى هذا بالاطلاق المقامي في مقابل الاطلاق
اللفظي، فإذا قال اغتسل من الجنابة وشككنا في شرطية قصد الامر في الغسل
جاز التمسك لنفى الشرطية بهذا الاطلاق وإن لم يجز التمسك بالاطلاق اللفظي للزوم
الدور أو الخلف. وكذا لو كان في مقام بيان شرائط المأمور به مثلا فعد شروطا خاصة
جاز التمسك بعدم شرطية غيرها بالاطلاق، ويسمى هذا بالاطلاق المقامي.
الخامس: يعرف مما ذكرنا أن ألفاظ المطلق كالمذكورات وغيرها لا دلالة لها وضعا
الا على الماهية المبهمة، فالشيوع والسريان من طوارئها وعوارضها الثانوية يكون خارجا
عما وضع له وحينئذ فلا بد في دلالة اللفظ عليه من قرينة مقالية كقوله: أعتق رقبة، اية
رقبة كانت، أو حالية كما إذا علم من حاله ان يحب عتق الرقاب مطلقا، وقد تكون
الدلالة بما يسمى مقدمات الحكمة، وهي مركبة من مقدمات ثلاث:
إحداها: احراز كون المتكلم في مقام بيان المراد لا بيان امر مجمل وإحالة
التوضيح إلى مقام آخر.
248

ثانيتها: عدم وجود قرينة حالية أو مقالية في مقام التخاطب.
ثالثتها: عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب، فإذا قال أعتق رقبة وكان في
مقام البيان ولم يقل مؤمنة ولم يعلم من حاله انه يبغض عتق الكافرة، ولم يرتكز في
أذهان السامعين مثلا عدم امكان عتق الكافرة انعقد الاطلاق للفظ بهذه المقدمات
وهي كثيرة التحقق.
249

المفهوم والمنطوق
عرفوا المنطوق بأنه حكم مذكور في الكلام لموضوع مذكور.
والمفهوم بأنه حكم غير مذكور تستلزمه خصوصية المعنى المذكور.
وينقسم المفهوم إلى قسمين: المفهوم الموافق والمفهوم المخالف.
فالأول: هو المعنى غير المذكور الموافق للمعنى المذكور; في الايجاب والسلب.
والثاني: هو المعنى غير المذكور المخالف للمذكور فيها، فظهر ان المنطوق والمفهوم
وصفان للمعنى دون اللفظ، وان الأول من قبيل المداليل المطابقية والتضمنية، والثاني
من قبيل المداليل الالتزامية.
مثال المنطوق والمفهوم الموافق قوله تعالى: " ولا تقل لهما اف " فحرمة التأفيف وهو
التلفظ بأف حكم مذكور ومنطوق، وحرمة الضرب والشتم حكم غير مذكور يسمى
بالمفهوم; وهذا الحكم لازم لخصوصية المعنى الأول وهي كون التأفيف أدنى مرتبة من
الايذاء والعقوق للوالدين، فحرمة الفعل الأدنى بهذه الخصوصية تستلزم حرمة الأعلى.
ومثال المنطوق والمفهوم المخالف ففي مفهوم الشرط، كما إذا ورد: ان جاء زيد
فأكرمه، فان وجوب اكرام زيد عند مجيئة منطوق، وعدم وجوبه عند عدم المجئ
مفهوم مخالف وهو لازم لخصوصية في المعنى المذكور وهو انفهام كون المجئ علة
250

منحصرة للوجوب، فلازم العلية المنحصرة انتفاء الحكم عند انتفائها.
وفى مفهوم الوصف كما إذا ورد في الغنم السائمة زكاة، فالوجوب الثابت للسائمة
منطوق، وعدمه للمعلوفة مفهوم، والخصوصية هو اشعار الكلام بكون السوم علة
منحصرة للوجوب.
وفى مفهوم الغاية كما إذا قيل هذا الغذاء حلال لك إلى مجئ زيد، أو قيل سر
من البصرة إلى الكوفة; فيكون عدم الحلية بعد مجئ زيد وعدم وجوب السير بعد دخول
الكوفة مفهومين لازمين لخصوصية تحديد الحكم بذلك الحد المعين في المثال الأول;
وتحديد الموضوع بالحد المذكور في المثال الثاني.
وفى مفهوم اللقب: كما إذا قيل أكرم زيدا فان عدم وجوب اكرام عمر ومفهوم
مخالف للزومه لخصوصية حصر الوجوب في زيد والمراد من اللقب الاعلام الشخصية
وأسماء الأجناس وغيرها من الجوامد.
وفى مفهوم الاستثناء كما إذا قيل جاءني القوم الا زيدا، فنسبة المجئ إلى قوم
ليس فيهم زيد أعني الموضوع المتخصص بتلك الخصوصية تستلزم عدم مجئ زيد وهو
مفهوم مخالف، وهذا مبنى على كون كلمة الاستثناء حرفا موضوعا للمعنى الآلي;
وهو تخصص القوم بخصوصية عدم كون زيد مثلا فيهم، واما بناء على كونها اسما أو
فعلا فيكون الحكم المزبور منطوقا أيضا كقولك استثنى زيدا وقس عليها سائر المفاهيم.
تنبيهان:
الأول: انك قد عرفت أن المعتبر في المفهوم هو كون الحكم غير مذكور; سواء كان
الموضوع والمتعلق مذكورين أو كانا غير مذكورين، أو كان الأول مذكورا والثاني غير
مذكور أو كان على عكس ذلك، فالأمثلة أربعة.
أولها: كمفهوم الشرط فان الاكرام الذي هو الموضوع وزيدا الذي هو المتعلق
مذكوران في الكلام.
ثانيها: كما إذا ورد لا تقل لامك اف واستفدنا منه حرمة ضرب الأب أيضا;
251

فالضرب والأب موضوع ومتعلق غير مذكورين.
ثالثها: كوجوب الزكاة في السائمة المستفاد منه عدمها في المعلوفة، فالموضوع أي
الزكاة مذكور والمتعلق أعني المعلوفة غير مذكور.
رابعها: كآية التأفيف للأبوين بالنسبة إلى ضربهما، فالموضوع أعني الضرب غير
مذكور والمتعلق أعني الأبوين مذكور.
الثاني: هل المفاهيم المذكورة كلها حجة أو ليس شئ منها بحجة، أو الموافق منها
حجة دون المخالف، أو ان الشرط حجة دون غيره; أو ان الغاية حجة دون غيرها وجوه
يرجع إلى مظانها.
252

المفهوم المردد والفرد المردد
يقع التكلم في هذين العنوانين في علم الأصول في باب الاستصحاب فيقال هل يجوز
اجراء الاستصحاب في المفهوم المردد أم لا أو هل يجرى في الفرد المردد أم لا.
وتوضيح العنوان الأول: انه لو كان هنا لفظ لم يعلم مفهومه على التفصيل وكان
مرددا بين امرين أو أمور كلفظ الكر مثلا إذا فرضنا الجهل بمعناه الشرعي وتردده بين
أن يكون ثلاثة وأربعين شبرا تقريبا أو ستة وثلثين فمفهوم الكر مردد بينهما; فإذا علمنا
بوجود ماء في الحوض بمقدار المفهوم الأول ثم اخذنا منه مقدارا فنقص وصار بمقدار
الثاني، فهل يجوز استصحاب بقاء كريته فيقال انه كان كرا قبل نقصانه فالآن هو
أيضا كر، أو لا يجوز الاستصحاب لان الشك ليس في هذا الموجود بل في تعيين المعنى
المراد من اللفظ وان المستعمل فيه اللفظ هذا أو ذاك وليس هو بمجرى الاستصحاب;
قولان ذكروهما في ذيل مسألة استصحاب الكلى.
ومن ذلك أيضا ما لو شككنا في معنى النهار وانه عبارة عن استتار القرص أو
ذهاب الحمرة المشرقية، فإذا استتر القرص ولم تذهب الحمرة جرت مسألة جواز
استصحاب النهار وعدمه، ومنه أيضا ما لو شككنا في معنى العدالة وانها ترك الذنوب
كلها أو خصوص ترك الكبائر، فإذا كان زيد عادلا قطعا أي تاركا لجميع الذنوب ثم
253

ارتكب ذنبا صغيرا فالكلام في صحة استصحاب العدالة وعدمها هو الكلام في
سابقتها.
والحاصل ان في تلك الأمثلة يشك في بقاء المفهوم لتردده بين ما هو مقطوع
الارتفاع وما هو مقطوع البقاء.
وتوضيح العنوان الثاني: انه لو كان هنا لفظ معلوم المفهوم ووجد له مصداق في
الخارج وحصل الشك في أن الموجود هل هو الفرد الفلاني أو فرد غيره وتردد الامر
بينهما تحقق حينئذ معنى الفرد المردد، فإذا علمنا بوجود حيوان في الدار وشككنا في أنه
بق أو فيل فمضت ثلاثة أيام فعلمنا انه لو كان بقا لمات وانعدم ولو كان فيلا كان
باقيا، فتارة يتكلم في جواز جريان الاستصحاب في نفس المفهوم الكلى كالحيوان
وأخرى يتكلم في جريانه في الفرد المردد، فيقال ان الموجود المردد بين ذاك وذاك،
المعلوم وجوده في الثلاثة باق بعدها أيضا بالاستصحاب، وهذا هو استصحاب الفرد
المردد، والمشهور عدم جريانه، ولا فرق في الكلى المرددة افراده بين الجنس كالمثال أو
النوع والصنف.
254

المقدمة
هي في الاصطلاح مطلق ما يتوقف عليه الشئ فتطلق على العلة التامة وعلى كل
جزء من اجزائها.
وتنقسم بانقسامات:
الأول: انقسامها إلى المقدمة الداخلية والخارجية.
والأولى: عبارة عن كل جزء من اجزاء الشئ المركب، فكل جزء مقدمة بالنسبة
إلى وجود مجموع ذلك المركب وحصول ماهيته، فللشئ بعدد اجزائه مقدمات
داخلية.
فان قلت يلزم على هذا في المقدمات الداخلية اتحاد المقدمة وذي المقدمة فان ذا
المقدمة هو المركب والمقدمة هي الاجزاء وهي أيضا عين المركب.
قلت لا يلزم الاتحاد فان ذا المقدمة هو المجموع والمقدمة كل جزء من الاجزاء
وليس كل جزء عين الكل قطعا، نعم اللازم هنا اتحاد ذي المقدمة مع جميع المقدمات
فان المركب عين جميع الاجزاء فالصلاة ذو المقدمة والركوع مقدمة والسجود مقدمة
وهكذا.
255

والثانية: عبارة عن الأمور الخارجة عن الشئ مما يتوقف الشئ عليه كالصلاة
بالنسبة إلى غسل الثوب فهي مقدمة خارجية لها.
الثاني: انقسامها إلى العقلية والشرعية والعادية.
فالأولى: كالصعود بالنسبة إلى الكون على السطح، وطي الطريق بالإضافة إلى
الكون في مكة مثلا.
والثانية: كالطهارات الثلاث بالنسبة إلى الصلاة وطهارة الماء والتراب بالنسبة
إلى الطهارات.
والثالثة:
والثالثة: كالتلبس بلباس خاص بالنسبة إلى الحضور عند بعض العظماء مثلا أو
كالدخول من الباب بالإضافة إلى الكون في داخل البيت مع امكان الدخول من كوة
في السطح وكركوب خصوص السيارة للكون في مكة فإنه وان كان الجامع بين الامرين أو
الأمور مقدمة عقلية الا ان خصوص الدخول من الباب وركوب السيارة مقدمة عادية
لامكان ايجاد ذي المقدمة بلا اتيان هذه المقدمة عقلا.
الثالث: انقسامها إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة زمانا بالنسبة إلى ذي المقدمة،
وينقسم كل منها أيضا إلى ثلاثة أقسام لان كلا منها اما أن يكون مقدمة للحكم
التكليفي أو للحكم الوضعي أو للمأمور به، فالأقسام تسعة ثلاثة للمقدمة المتقدمة
زمانا وثلاثة للمقارنة وثلاثة للمتأخرة.
فالمقدمة المتقدمة للحكم التكليفي كما إذا ورد ان جاء زيد فأكرمه بعد مجيئه بيوم،
فمجئ زيد اليوم مقدمة لحدوث وجوب اكرامه في الغد.
والمقدمة المتقدمة للحكم الوضعي كالعقد في الوصية، فان ملكية الموصى له للعين
الخارجية بعد موت الموصى موقوفة على الانشاء السابق الواقع من الموصى.
والمقدمة المتقدمة للمأمور به كالطهارات الثلث بالإضافة إلى الصلاة، والأغسال
الليلية للمستحاضة بالنسبة إلى صوم اليوم البعدى، بناء على كون المقدمة نفس تلك الأفعال
لا الحالة الحاصلة منها المقارنة للعمل.
واما أقسام المقدمة المقارنة، فالمقارنة للحكم التكليفي كالبلوغ والعقل والقدرة
بالنسبة إلى وجوب الصلاة والصيام ونحوهما، فيشترط وجودها حاله ولا يلزم تقدمها
256

زمانا.
والمقارنة للحكم الوضعي كشرائط المتعاقدين من البلوغ والعقل بالنسبة إلى
حصول الملكية والزوجية وغيرهما.
والمقارنة للمأمور به كالاستقبال والستر وطهارة الثوب بالنسبة إلى الصلاة.
واما أقسام المقدمة المتأخرة.
فالمتأخرة عن الحكم التكليفي كما إذا ورد ان سافر زيد فأكرمه قبل ذلك بيوم،
فسفره في الغد مقدمة لوجوب اكرام اليوم، وكذا سببية يوم الجمعة لاستحباب غسلها
في يوم الخميس لمن لم يتمكن منه يومها، وسببية يوم الفطر لوجوب الفطرة من أول
شهر رمضان على القول به.
والمتأخرة عن الحكم الوضعي كإجازة المالك في عقد الفضولي عن القول
بالكشف، فان الملكية الموجودة حال العقد تتوقف على الإجازة المتأخرة بناء على ذلك
القول.
والمتأخرة عن المأمور به كالأغسال الليلية للمستحاضة بالإضافة إلى صوم يومها
الماضي، فالصوم المتقدم يتوقف على الغسل المتأخر.
الرابع: انقسامها إلى مقدمة الوجود ومقدمة الصحة ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم
أعني العلم بامتثال التكليف.
فالأول: كالاجزاء والشرائط الركنية مما له دخل في تحقق مسمى المأمور به
بالإضافة إلى المأمور به على القول بالأعم ومثل جميع الأجزاء والشرائط على القول
بالصحيح فالركوع مثلا مقدمة وجودية للصلاة على الأعم والقراءة، وطهارة الثوب أيضا
مقدمة وجودية لها على الصحيح.
والثانية: كالجزء اللازم غير الركني مثل السورة والذكر في الصلاة فإنه مقدمة
للصحة لا للوجود بناء على الأعم إذ الوجود يتحقق بدونه أيضا.
والثالثة: كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج فإنها شرط لوجوبه لا لوجوده.
والرابعة: كالعمل على طبق الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي، فإذا علم
المكلف اجمالا بوجوب صلاة واحدة يوم الجمعة قبل صلاة العصر، وشك في أنها الظهر
257

أو الجمعة فهو إذا أتى بالظهر مثلا وفرضنا ان الواجب واقعا في حقه هو الظهر، فحينئذ
وان حصل به الامتثال واقعا لكنه لم يحصل له العلم بذلك فإذا أتى بالجمعة يحصل له
العلم بالامتثال فيكون اتيان المحتملات مقدمة للعلم بامتثال التكليف لا لنفس
الامتثال والعلم بالامتثال واجب عقلا كنفس الامتثال فتكون مقدمته كذلك.
الخامس: انقسامها إلى الموصلة وغير الموصلة.
بيانه: ان القائلين بوجوب المقدمة وكونها واجبة بوجوب غيرى مترشح من الوجوب
النفسي اختلفوا في اطلاق تعلق الوجوب بها واطلاق انصافها بصفة الوجوب أو تقيدهما
بقيد على أقوال:
الأول: كون وجوبها الغيرى مشروطا بقصد اتيان ذي المقدمة، فإذا قصد المكلف
الاتيان بالصلاة مثلا صارت مقدماتها واجبة وإلا فلا، فقصد الاتيان بذي المقدمة
بالنسبة إلى وجوب المقدمة من قبيل الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج، فعلى هذا
يكون وجوب الصلاة بعد دخول الوقت مطلقا ووجوب مقدماتها مشروطا بإرادة الصلاة
وهذا نوع من القول بالمقدمة الموصلة ومعناه ان المقدمة ان قصد بها الوصول إلى ذي
المقدمة تعلق بها الوجوب وإلا فلا، وهذا مختار صاحب المعالم (قده).
الثاني: ان الوجوب المتعلق بها وان كان مطلقا الا ان اتصافها بصفة الوجوب
مشروط بقصد الوصول إلى ذيها، وعليه إذا دخل الوقت لصلاة الظهر مثلا; فكما يتعلق
الوجوب النفسي بالصلاة يتعلق الوجوب الغيرى أيضا بمقدماتها من غسل الثوب
والوضوء ونحوهما، الا انه متعلق بالمقدمة المقصود بها التوصل لا بغيرها، والفرق بينه
وبين سابقه ان قصد الوصول كان هناك شرطا للوجوب فقبل تحقق القصد لا وجوب
أصلا وهو هنا شرط للواجب والمقدمة الموصلة وغير الموصلة بهذا المعنى نظير المقدمة المحللة
والمحرمة; فكما أن الوجوب الغيرى لا يتعلق الا بالمحللة دون المحرمة فكذا لا يتعلق هنا
الا بالمقصود بها التوصل دون غيرها وهذا مختار الشيخ (ره).
وتظهر الثمرة بينهما فيما إذا نذر الشخص بأنه متى توجه إليه وجوب غيرى تصدق
بدرهم، فإذا دخل وقت الصلاة في المثال ولم يقصد اتيانها لم يتوجه إليه وجوب غيرى
أصلا فلا يجب التصدق على قول صاحب المعالم (ره)، وتوجه إليه ذلك ووجب التصدق
258

على مختار الشيخ (ره).
الثالث: القول باطلاق الوجوب الغيرى كسابقه الا ان اتصاف المقدمة بالوجوب
مشروط بترتب ذي المقدمة عليها وتحققه بعدها، سواء قصد الوصول إليه أم لا وسواء
كان تحققه بعدها اتفاقيا أو لاجل كون هذه المقدمة علة تامة لحصوله; والشرط هنا
أيضا من قبيل شرط الواجب لا شرط الوجوب الا ان الشرط في سابقه كان قصد
الوصول وهنا نفسه، فإذا أتى الشخص بالمقدمة مع عدم قصده الاتيان بالواجب كأن
غسل ثوبه النجس لا لغرض اتيان الصلاة ثم بدا له في فعلها واتى بها اتصف الغسل
بالوجوب الغيرى بناء على هذا الوجه ولم يتصف به على الوجه السابق وهذا مختار
صاحب الفصول (ره).
الرابع: اطلاق الوجوب أيضا الا انه مترتب على خصوص المقدمة المستلزمة لوجود
ذي المقدمة والعلة التامة له، فيختص الوجوب بالعلة التامة من بين المقدمات، ففي
الأفعال الاختيارية لا يتصف بالوجوب من مقدماتها الا إرادة المكلف ان قلنا بصحة
تعلق الوجوب بها إذ هي العلة التامة للفعل دون غيرها; وفى الأفعال التوليدية كالقتل
بالتسبيب مثلا تتصف به المقدمة الأخيرة كرمى السهم والالقاء في النار والماء، وهذا
هو المعنى الرابع للمقدمة الموصلة وهو الذي أورده صاحب الكفاية على الفصول بأنه
يلزمه القول بوجوب ذلك.
259

الموافقة والمخالفة
يلاحظ كل واحد من العنوانين في الاصطلاح منسوبا إلى تكاليف الآمر ومضافا إليها
فالمراد بها ههنا موافقة الأحكام الشرعية ومخالفتها.
ثم إن كلا منهما اما ان يلاحظ في العمل أعني فعل الجوارح أو في الالتزام أعني
فعل القلب والجوانح، ويسمى الأول بالموافقة والمخالفة العمليتين والثاني بالموافقة
والمخالفة الالتزاميتين، وعلى التقادير اما ان تكون قطعية أو احتمالية فالأقسام ثمانية
فإذا اعتقد المكلف بوجوب دفن ميت مثلا فتركه وذهب بسبيله فهو مخالفة عملية
قطعية، وإذا لم يعتقده قلبا لكنه دفنه خوفا منه أو كراهة لرائحته فهو مخالفة قطعية
التزامية، وإذا لم يعتقد ولم يدفن مع قيام الدليل على وجوب دفنه فهما مخالفتان قطعيتان
عملية والتزامية، ولو اعتقد بعد حصول العلم الاجمالي بوجوب الظهر والجمعة وجوب
إحديهما فاتى بها ولم يعتقد وجوب الأخرى فتركها حصلت الموافقة الاحتمالية العملية
والالتزامية بالنسبة إلى ما أتى بها والمخالفة الاحتمالية كذلك بالنسبة إلى الأخرى.
تنبيهات:
الأول: لا اشكال ولا خلاف في حرمة المخالفة العملية للاحكام الفرعية
260

واستحقاق العقوبة عليها عقلا وهو واضح، كما أنه لا اشكال في حرمة المخالفة
الالتزامية للاحكام الأصولية الاعتقادية، فإذا وجب عقد القلب على كون المعاد
والمعراج جسمانيين كان ترك الاعتقاد بهما مخالفة التزامية وعصيانا; واما حرمة
المخالفة الالتزامية ووجوب موافقتها بالنسبة إلى الأحكام الفرعية ففيه خلاف
واشكال، والمشهور عدمها إذ لا يستفاد من قوله أدفن الميت مثلا الا وجوب الدفن
خارجا وحرمة تركه عملا لا لزوم الاعتقاد بوجوبه قلبا مضافا إلى العمل خارجا، فلو
دفن الميت لم يكن مستحقا للعقاب ولو لم يعتقد قلبا بل فعله اقتراحا، كما أنه لو تركه
لم يستحق العقاب الا على تركه عملا اللهم الا ان تستلزم المخالفة الالتزامية المخالفة
العملية كما في العبادات.
وبعبارة أخرى لا يخلو حال المكلف عن أحد أمور أربعة: العمل خارجا والالتزام
قلبا وترك العمل والالتزام معا وفعل الأول وترك الثاني وعكسه، فعلى القول بوجوب
الالتزام مضافا إلى العمل يلزم استحقاقه لثوابين في الأول ولعقابين في الثاني ولثواب
وعقاب في الثالث والرابع; وهذا خلاف عمل العقلاء وبنائهم في التكليف الواحد
فيرون المكلف مستحقا لثواب واحد في الأول والثالث ولعقاب واحد في الثاني
والرابع، فنعلم حينئذ ان الملاك في الثواب والعقاب هو العمل لا الاعتقاد.
الثاني: المراد من الالتزام المذكور هو البناء الباطني والعقد القلبي وفى اتحاد هذا
المعنى مع العلم أو مغايرته له أقوال:
أحدها: مغايرته له بمعنى كونه قلبيا اختياريا يجتمع مع العلم بالمعتقد والشك فيه
ويمكن تركه ولو مع وجود اليقين، فالشك في وجوب الجمعة مثلا امر وعقد القلب عليه
امر آخر، والأول قهري الحصول والزوال غالبا والثاني اختياري دائما، وكذا اليقين
بوجوبها امر والالتزام به وعدم الالتزام امر آخر، فبينهما تباين ذاتا وعموم من وجه
تحققا.
ثانيها: انه عين العلم بالحكم ولا نتعقل معنى للالتزام الباطني وعقد القلب على
الوجوب مثلا سوى العلم به.
ثالثها: انه وان كان غير العلم الا انه لا يتحقق الا في مورد العلم دون الشك
261

والظن فإذا علم بشئ أمكن عقد القلب عليه.
الثالث: لا اشكال في امكان الموافقة العملية القطعية ومخالفتها في غالب موارد العلم
بالتكليف وقد يوجد مورد لا يمكن فيه الموافقة العملية القطعية ولا المخالفة كذلك، وهو
مورد دوران الامر بين وجوب فعل وحرمته، فإذا علم المكلف اجمالا بان دفن الميت
المنافق اما واجب واما حرام. فلا يعقل ان يعمل عملا تحصل به الموافقة القطعية أو
المخالفة القطعية بل هو اما ان يفعل أو أن يترك وعلى كل منهما يحصل احتمال الموافقة
والمخالفة.
واما الموافقة والمخالفة الالتزاميتان فهما ممكنتان حتى في مورد الدوران بين
المحذورين أيضا ففي مثال الدفن يلتزم قلبا بما هو حكم الله في الواقع إذ لا يشترط في
الالتزام بحكم العلم بذلك تفصيلا فتكفي الموافقة اجمالا.
ولو قلنا باشتراط ذلك وان الواجب هو الالتزام بحكم معلوم بالتفصيل، فهنا لا
يخلو امر المكلف من أحد أمور ثلاثة: عدم الالتزام بشئ منهما والالتزام بأحدهما
والالتزام بكليهما، والصواب هو الأول، إذ على الثاني لو التزم بالوجوب مثلا احتمل
أن يكون ما التزم به هو الواقع فيكون التزامه واجبا أو هو ضد الواقع فيكون حراما
فالتزامه دائر بين الواجب والحرام ولا ترجيح في البين، وعلى الثالث كما أنه يعلم
بالالتزام بالواقع يعلم بالالتزام بضده أيضا وهو أيضا باطل فانحصر الامر في الأول.
262

الموضوع
وقد يقابله المتعلق
يطلق هذه الكلمة في علم الأصول في موارد:
منها: في مقام بيان موضوع علم الأصول فتستعمل هناك ويراد منها موضوع العلم
وحري بنا ان لتعرض هنا لبيان كلى الموضوع أولا ولبيان موضوع علم الأصول ومسائله
ثانيا فنقول:
اما الأول: فهو الذي يبحث في العلم عن الأوصاف العارضة له حقيقة،
كالصحة والمرض للانسان، والرفع والنصب للكلمة، وهي التي تسمى بالعوارض
الذاتية في مقابل ما ينسب إليه عناية ومجازا كالسرعة المنسوبة إلى الطائر; فإنها عارضة
لحركته لا لنفسه وهوا المسمى بالعرض الغريب كما سيأتي في عنوان الواسطة.
واما الثاني: فقد قيل في موضوعه أقوال:
أحدها: انه ذوات الأدلة الأربعة; أعني الكتاب العزيز والسنة الصادرة عن
المعصوم " عليهم السلام " والاجماع والعقل، مع قطع النظر عن كونها حجة ودليلا في
الفقه، وعلى هذا فالبحث عن حجية تلك الأمور بحث عن المسألة الأصولية ويكون من
مسائل هذا العلم، نعم يخرج عنها عدة من مباحث الألفاظ، كبحث الصحيح والأعم
والمشتق والامر والنهى وكذا الظن الانسدادي والظن الاستصحابي، بل البحث عن
263

حجية قول العدل والثقة; إذ ليس البحث فيها عن أموال الأدلة الأربعة.
ثانيها: ان الموضوع هو الأدلة الأربعة بعد الفراغ عن دليليتها فالموضوع ظاهر
الكتاب الثابت حجيته والسنة المفروغ عن حجيتها; وعليه يكون البحث عن حجية
ظاهر الكتاب والسنة خارجا عن مسائل هذا العلم داخلا في مباديه، إذ البحث عن
وجود الموضوع أو عن جزئه وقيده يكون من المبادئ لا المسائل.
ثالثها: ان الموضوع هو عنوان الدليل في الفقه أو عنوان ما يمكن ان يقع في طريق
الاستنباط وهذا أعم من سابقيه، فيشمل قول العدل والظن الانسدادي
والاستصحابي، ويكون البحث عن حجية الشئ في مقام الاستنباط وعدمها من
مسائل هذا العلم، إذ البحث عن انطباق عنوان الموضوع على مورد أو عن فعلية ما له
شأنية الحجة بحث عن حالاته.
رابعها: ان الموضوع هو كلى موضوعات المسائل والقدر المشترك بينها ولا نعلمه
باسمه وعنوانه.
توضيح ذلك أن الغرض من هذا العلم معلوم وهو التمكن من استنباط الأحكام الفرعية
، فإذا جمعنا قضايا متشتتة مختلفة الموضوع والمحمول بلحاظ دخالتها في ذلك
الغرض، وسميناها بعلم الأصول، تعينت مسائل هذا العلم كتعين غرضه، (فح) إذا
سئلنا عن موضوعه أشرنا إلى موضوعات تلك المسائل وقلنا إن الموضوع هو القدر الجامع
بينها والكلى المنطبق عليها فسمه بأي اسم شئت وهذا مختار صاحب الكفاية (ره).
واما مسائله فهي القضايا المختلفة التي يبحث فيها عن أحوال أدلة الفقه بناء على
غير الأخير من الأقوال، كقولك ظاهر الكتاب حجة، أو هي كل مسألة لها دخل
قريب في استنباط الحكم الشرعي الفرعي، وبعبارة أخرى كل مسألة تقع كبرى
كلية لاستنتاج الحكم الشرعي بناء على القول الأخير كحجية قول العدل فإذا أثبتت
حجيته قلت، وجوب الجمعة مما أخبر به العدل وكلما أخبر به العدل ثابت فالوجوب
ثابت.
ثم إنه علم مما ذكرنا الغرض من هذا العلم وهو التمكن من الاستنباط.
ومنها: ما وقع التعرض له في باب الاستصحاب في مقام بيان اشتراط بقاء
264

الموضوع في استصحاب الحكم، فقسموه إلى موضوع عقلي ودليلي وعرفي.
بيان ذلك انهم اشترطوا في جواز اجراء استصحاب الحكم احراز بقاء الموضوع
فيلزم في استصحاب كرية الماء احراز بقاء نفس الماء، ومع القطع بعدم البقاء أو
الشك فيه لا يجوز اجراء استصحاب الكرية، ثم إن تشخيص موضوعات الاحكام
وتمييز الأوصاف الدخيلة فيها عن غيرها يختلف باختلاف الانظار، أعني نظر العقل
المبنى على الدقة، ونظر العرف بما يفهمون الموضوع من ظاهر الدليل، ونظرهم بعد
ملاحظة القرائن والمناسبات المغروسة في أذهانهم لدى ترتب الاحكام على
الموضوعات، ففي موارد الشك في بقاء الموضوع قد لا يكون باقيا بنظر العقل ولو من
جهة انتفاء ما له دخل في موضوعيته، لكنه باق بنظر غيره، فإذا اخذ مقدار من ما
كر ثم شك في بقاء كريته لم يجر الاستصحاب بناء على الموضوع العقلي، فان الماء
الباقي بنظره غير الماء السابق وجرى بناء على الموضوع العرفي فان الباقي هو السابق ذاتا
وان حصل له تغيير في كميته ووصفه.
وإذا ورد دليل على أن الماء المتغير بأوصاف نجس العين نجس، وكان هناك ماء
متغير فزال تغيره من قبل نفسه فشككنا في بقاء نجاسته، لم يكن الموضوع الدليلي باقيا،
فان ظاهر الدليل بنظر العرف البدوي هو الماء المقيد بالتغير، والمقيد ينتفى بانتفاء قيده
الا ان الموضوع العرفي باق في المثال فان أهل العرف يعدون الموضوع للنجاسة نفس الماء
ويحسبون ان التغير من أوصاف الموضوع وله دخل في ترتب الحكم عليه لا انه قيد
للموضوع ومعروض للنجاسة، فيجعلون ما هو قيد بحسب الدليل خارجا عن القيدية
راجعا إلى حالاته، فيرون الموضوع باقيا فإذا حصل الشك في بقاء الحكم لاجل زوال
ما يحتمل دخله فيه جرى الاستصحاب، فالموضوع باق بهذا النظر وان كان زائلا
بالنظرين الأولين.
ومنها: موارد يقع التعرض فيها لموضوعات الأحكام الشرعية ومتعلقاتها فيقع
الكلام هنا لك في الفراق بين الموضوع والمتعلق.
بيانه ان الأفعال الصادرة عن المكلف على قسمين: قسم لازم لا يتعدى منه إلى
غيره كالصلاة والصيام والركوع والقيام، وقسم يتعدى ويتعلق بامر آخر كالأكل
265

والشرب والتمليك والغصب فهنا امران: الفعل الصادر عن الفاعل والامر الخارجي
المتعلق به الفعل كالطعام والماء والمال.
(فح) نقول إنه قد يطلق كل واحد من الموضوع والمتعلق على كل واحد من الفعل
ومتعلقه فيقال ان الصلاة والشرب والخمر متعلقات أو موضوعات، وقد يطلق الموضوع
على خصوص الأفعال الصادرة على المكلف لازمة أو متعدية والمتعلق على الموضوع
الخارجي، ويستعملان ثالثة على عكس ذلك كما أنه قد يطلق المتعلق على نفس
المكلف أيضا.
266

الناقل والمقرر
والحاظر والمبيح
الناقل والمقرر في اصطلاح الأصوليين وصفان للخبرين المتعارضين أو لمطلق الدليلين
كذلك فيما كان أحدهما موافقا للأصل الجاري في موردهما والاخر مخالفا له، فيطلق
على الدليل المخالف للأصل اسم الناقل لاقتضائه نقل المكلف عن مقتضى الأصل
إلى التكليف المخالف له، وعلى الموافق اسم المقرر لتقريره المكلف وتثبيته على طبق
الأصل، سواء أكان تعارضهما في اثبات الوجوب أو في اثبات الحرمة، فإذا أخبر أحد
العدلين بوجوب الجمعة والاخر بعدم وجوبها أو أخبر أحدهما بحرمة شرب العصير
والاخر بعدمها أطلق على الخبر المفيد للوجوب أو الحرمة الناقل وعلى مقابلهما المقرر.
واما الحاظر والمبيح فهما أيضا وصفان للدليلين المتعارضين فيما كان مورد تعارضهما
الحرمة والإباحة فيطلق على الخبر المخالف لأصالة الإباحة اسم الحاظر لكونه مانعا عن
الفعل والحظر المنع، وعلى الموافق لها اسم المبيح لموافقة مضمونه لأصالة الإباحة
فموردهما أخص من مورد العنوانين الأولين; فعلم أن بين عنواني الناقل والمقرر والحاضر
والمبيح عموم مطلق.
267

النسخ
هو في اللغة بمعنى الإزالة وفى الاصطلاح ارتفاع الحكم الكلى المجعول للأمة في الشرعية
عن موضوعه الكلى لاجل تمام امده وانتفاء الملاك في جعله.
فخرج بقيد الكلى ارتفاع الحكم الجزئي، سواء أكان بانتهاء امده أو بانعدام
موضوعه. فارتفاع وجوب الصوم عن المكلف بعد دخول الليل أو حرمة الاصطياد
للمحرم بعد الاحلال لاجل انتهاء الأمد ليس بنسخ.
كما أن ارتفاع وجوب اكرام زيد بموته أو حرمة الشرب من اناء معين بإراقته
لانعدام الموضوع ليس بنسخ.
وخرج بقيد المجعول للأمة ارتفاع الحكم الكلى عن موضوعه بالنسبة إلى شخص
خاص فارتفاع الأحكام الكلية عن زيد مثلا بسبب عروض جنون أو موت لا يسمى
نسخا.
والتقييد بكون الارتفاع بانتهاء الأمد والملاك لبيان ان النسخ ليس رفعا في
الحقيقة، بل هو في مقام الثبوت دفع للحكم وانقضاء لاقتضائه بيانه انه قد يكن
مقتضى المصلحة جعل الحكم على الموضوع محدودا بحد وموقتا بوقت، فيريد الشارع
الجاعل للحكم العالم بالملاك انشاء الحكم الموقت، الا انه قد ينشأه مطلقا غير محدود
268

في مقام الانشاء مع قصده ابلاغ حد الحكم ووقته في مقام آخر. أو عند انتهاء امد
الحكم، فيكون (ح) مقتضى ظاهر الدليل دوامه واستمراره; فالحكم (ح) موقت في
مرحلة الثبوت مستمر دائم في مرحلة الاثبات.
فإذا ورد دليل النسخ كان ذلك كاشفا عن انتهاء امد الحكم بتمام مقتضيه وملاكه
فيحسب ذلك دفعا للحكم بالنظر إلى الواقع ورفعا بالنظر إلى الظاهر، ومن هنا قيل إن
النسخ دفع ثبوتي ورفع اثباتي.
تنبيهان:
أحدهما: في امكان النسخ والاخر في وقوعه:
اما الأول: فقد ادعى استحالته في الاحكام الصادرة عن الحكيم، بتوهم انه إذا
أنشأ حكما كليا ثم أنشأ نسخه بعد مدة; فإن كان لذلك الحكم ملاك ومصلحة في
جعله، كان نسخه باطلا قبيحا، وإن لم يكن مصلحة في جعله كان انشائه من اصله
لغوا باطلا، فالنسخ من الحكيم يستلزم دائما أحد المحذورين اما خلاف الحكمة في
الجعل واما في النسخ.
وجوابه: ان جعل الحكم ثم نسخه بعد مدة يتصور على قسمين:
أولهما: أن لا تكون هناك مصلحة في جعل الحكم أصلا، أو كانت في جعله موقتا
محدودا، فاعتقد الجاعل وجود ملاك دائم فأنشأ حكما مستمرا، ثم ظهر له خطائه
في اعتقاده فنسخه.
أو كانت المصلحة في جعله دائما مستمرا فاعتقد كونه موقتا فنسخه بعد مدة زعما
منه تمام امد الحكم وهذا القسم هو الذي يلزم منه لغوية الجعل تارة والنسخ أخرى
ولا يتصور هذا في الشارع المحيط بجميع الأشياء علما والعالم بملاكات الأمور سعة
وضيقا.
ثانيهما: ان تكون المصلحة في جعل الحكم موقتا محدودا فقصد الجاعل انشاء حكم
كذلك، الا انه أنشأه بكلام مطلق من حيث الزمان ظاهر في الاستمرار والدوام،
269

اما لوجود مانع عن التقييد اثباتا أو لمصلحة في تأخير بيان الأمد، إذ لا يجب عقلا بيان
امد كل حكم عند جعله وتشريعه فالحكم في الفرض موقت ثبوتا ظاهر في الدوام
اثباتا، فيكون نسخه دفعا ثبوتيا ورفعا اثباتيا; وهذا القسم لا يقبح من الحكيم تعالى
بل قد يحسن ويجب وما يدعى وقوعه في الشريعة من هذا القسم فلا محذور.
الثاني: لا اشكال في وقوع النسخ بالنسبة إلى أصل شريعة ودين فكلما كانت
تحدث شريعة في الأزمنة السابقة كانت تنسخ الشريعة التي قبلها بمعنى رفع عدة من
احكامها لا رفع جميعها، ولذا قيل إن النسخ رفع المجموع لا رفع الجميع.
واما نسخ بعض الاحكام في شريعة مع بقاء اصلها فقد ادعى وقوعه في شرعنا
وعد لذلك موارد لا يسلم أغلبها من الخدشة والمسلم من ذلك قوله تعالى: " يا ايها
الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجويكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فان
لم تجدوا فان الله غفور رحيم " فإنها نسخت بقوله تعالى في الآية اللاحقة لها: " أأشفقتم
ان تقدموا بين يدي نجويكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة الخ ".
بيانه ان الله تعالى أوجب على كل من أراد التكلم والنجوى مع النبي الأعظم
" صلى الله عليه وآله " ان يتصدق قبل ذلك شيئا على الفقراء، فلما ظهر اشفاق
الناس من ذلك وتركوا النجوى واخذ الاحكام بخلا بالمال نسخ الحكم وتاب على
المشفقين فالآية الأولى منسوخة والثانية ناسخة لها
وروى الصدوق عن علي " عليه السلام " أنه قال في عداد مناقبه واما الرابعة
والعشرون فان الله انزل على رسوله: " يا ايها الذين آمنوا.. " فكان لي دينار فبعته بعشرة
دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله " صلى الله عليه وآله " أتصدق قبل ذلك بدرهم
والله ما فعل هذا أحد غيرى من أصحابه قبلي ولا بعدي فانزل الله: " أأشفقتم الخ. "
270

النهى
المشهور بين الأصوليين ان النهى عبارة عن الطلب الانشائي المتعلق بترك الشئ
وعدمه، فهو يتحد مع الامر في الحقيقة النوعية أعني كونه الطلب الانشائي ويفترق عنه
في المتعلق، فان متعلق الطلب في الامر هو وجود الشئ ومتعلقه في النهى هو عدمه.
فمعنى لا تشرب الخمر ولا تكذب في القول اطلب عدم الشرب وترك الكذب
وعند بعض المحققين هو عبارة عن الزجر الانشائي المتعلق بوجود الفعل، فعلى هذا
يختلف النهى مع الامر بحسب الحقيقة والماهية إذا لامر هو البعث الانشائي نحو وجود
الشئ في مقابل البعث التكويني، والنهى هو الزجر الانشائي عن الوجود في مقابل
الزجر التكويني، ويتحدان في المتعلق فان المتعلق في كليهما هو الوجود.
ثم إن في بيان حدود ماهيته وتعيين متعلقه على كلا القولين اختلافا من جهات:
الأولى: انه هل هو عبارة عن مطلق الطلب أو الزجر فيشمل الكراهة، أو هو عبارة
عن الطلب أو الزجر الأكيدين فلا يشمل الكراهة.
الثانية: هل يشترط في حقيقته صدوره عن خصوص العالي أو عن خصوص
المستعلى أو صدوره عن أحدهما أو لا يشترط شئ منها فيه خلاف وأقوال مضت في
باب الامر.
271

الثالثة: بناء على كون حقيقته هو الطلب، فهل يكون متعلقه مجرد ترك الشئ نحو
أو هو كف النفس عن الشئ فعلى الأول يكون معنى لا تشرب الخمر اطلب عدم
تحقق شرب الخمر، وعلى الثاني يكون المعنى اطلب كف النفس عن شربها، وحينئذ لو
كف المكلف نفسه على شربها وتركها عن اشتياق إلى الشرب تحقق الامتثال على كلا
القولين واستحق المثوبة ولو تركها مع عدم الميل إليها لم يتحقق الامتثال واستحقاق
المثوبة على الثاني إذ كف النفس عن الشئ فرع ميلها واشتياقها إليه، ويتحقق على
الأول.
272

النهى عن الشئ يقتضى الفساد أم لا؟
وقع البحث بين الأصوليين في أن تعلق النهى بشئ هل يقتضى فساده أم لا.
وليعلم أولا ان مورد الكلام هي الأفعال القابلة لان تتصف بالصحة بمعنى كونها
تامة واجدة للآثار المطلوبة منها، وان تتصف بالفساد بمعنى كونها ناقصة فاقدة لتلك
الآثار، وذلك كالغسل والصلاة وسائر العبادات وصيغ العقود والايقاعات
وكالاصطياد والذبح ونحوهما من الموضوعات، فان لها افرادا جامعة لما له دخل في
كما لها فيترتب عليها الآثار المطلوبة منها، وافرادا فاقدة للكمال والآثار.
(و ح) نقول إذا تعلق نهى تحريمي بفعل من تلك الأفعال فيقع الكلام تارة في أنه
هل يحكم العقل بالملازمة بين المبغوضية والفساد فيحكم بفساد المنهى عنه وعدم ترتب
الآثار على متعلقه أم لا فالمسألة (ح) عقلية، وأخرى في أنه هل يدل لفظ النهى على
عدم ترتب الآثار على متعلقه أم لا فالمسألة (ح) لفظية.
وأخصر البيان في تحرير المسألة ان نقول إن كان متعلق النهى عبادة كالصلاة
المزاحمة للإزالة والنافلة الواقعة في وقت الفريضة مثلا. فالأظهر القول بالبطلان وعدم
الأثر عقلا لكن لا من جهة دلالة اللفظ، وذلك لحكم العقل بعدم اجتماع المبغوضية
المستفادة من النهى مع المقربية التي هي قوام العبادة وإذ لا صحة فلا يترتب اثرها من
273

سقوط التكليف واستحقاق الاجر عليها وكونها وفاء للنذر ونحوها من الآثار، هذا ان
كان متعلق النهى عبادة.
وان كان غير عبادة فلا وجه للحكم بالفساد (ح) لعدم دلالة النهى الأعلى مبغوضية
الفعل وعدم وجود الملازمة بين المبغوضية وعدم ترتب الآثار عقلا.
فلو غسل ثوبه النجس بالماء المغصوب أو ذبح الحيوان المغصوب أو باع ما له وقت
البداء أو اصطاد ما نذر عدم صيده لم تقع تلك الأمور فاسدة وان وقعت محرمة وفى
المسألة أقوال أغمضنا عن ذكرها روما للاختصار.
وهنا فرعان:
الأول: انه لا مجرى لهذا النزاع في الأفعال التي لا تتصف بالصحة والفساد بل
تتصف بالوجود والعدم فهي قد توجد وقد لا توجد كمسببات العقود والايقاعات فإذا
حرم الشارع نقل مال أو عتق عبد فباع المكلف واعتق يحكم بحصول النقل والعتق
وتحقق العصيان ولا معنى للنزاع في الصحة والبطلان فيهما.
الثاني: ان محل البحث في المسألة هو النهى المولوي تحريميا كان أو تنزيهيا واما
النهى الارشادي أعني الذي سيق لهداية المكلف إلى فساد العمل وبطلانه فلا كلام
في دلالته على الفساد كما أنه قد ادعى ظهور النواهي المتعلقة بتلك الاعمال في كونها
ارشادا إلى البطلان، وذلك كما إذا ورد النهى عن الصلاة في أيام الحيض أو في الثوب
النجس أو مستدبر القبلة مثلا أو ورد النهى عن غسل الثوب بالماء المضاف أو عن
ذبح الحيوان بغير ذكر اسم الله تعالى عليه أو بغير الآلة الحديدية ونحو ذلك.
274

الواجب
هو كل فعل أو ترك تعلق به البعث الأكيد وقسموه بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الموقت وغير الموقت والموقت إلى الموسع والمضيق.
ومنشأ التقسيم هو ان الزمان وان كان لابد منه في فعل المكلف عقلا إذ هو زماني
لا يوجد الا فيه، الا انه قد لا يكون له دخل في الفعل شرعا وقد يكون له دخل فيه;
وعلى الثاني قد يكون الزمان الدخيل فيه أوسع منه وقد يكون بمقداره.
فالأول: يسمى واجبا غير موقت كالصدق في الكلام وترك شرب الخمر.
والثاني: يسمى واجبا موسعا كالصلاة الواجبة لدلوك الشمس إلى غسق الليل.
والثالث: يسمى واجبا مضيقا كالصوم الواجب بين الطلوع الأول والغروب.
والثاني: تقسيمه إلى العيني والكفائي.
فالأول: هو الفعل المطلوب من شخص خاص.
والثاني: هو الفعل المطلوب من طبيعي صنف معين أو نوع خاص، وحينئذ فإن كان
المأتي به فردا واحدا من طبيعة العمل فلا اشكال سواء أتى به فرد واحد من
المكلفين أو أكثر كغسل الميت إذا أوجده شخص أو اشترك فيه اشخاص، وكذا لو
كان المأتي به فردين أو افرادا إذا أتى بها دفعة واحدة سواء كان الآتي شخصا أو
275

اشخاصا، كالاعتاق الواجب كفاية فأعتق شخص واحد عبيدا متعددين دفعة واحدة
وكصلاة الميت المأتي بها جماعة، واما لو كان المأتي به فردين أو افرادا واتى بها تدريجا
كما لو غسل الميت ثانيا وثالثا سواء غسله الغاسل الأول أو شخص آخر ففيه خلاف
واشكال من جهة عدم تعقل الامتثال بعد الامتثال.
الثالث: تقسيمه إلى المعلق والمنجز.
اما المعلق: فهو الفعل الذي تعلق به الوجوب فعلا ويتوقف حصوله على امر غير
مقدور زمانا كان أو غيره، أو على امر مقدور لم يترشح عليله الوجوب ويعبر عنه بأنه ما
كان الوجوب فيه فعليا والواجب استقباليا مثلا إذا استطاع المكلف الحج في شهر
شوال وتوجه إليه الخطاب بالحج فيقال ان الحج في حقه واجب معلق لعدم مجئ وقته
وتوقفه على الزمان الذي لا يقدر المكلف على انجازه، ولو فرضنا ان المولى أوجب
بالوجوب الفعلي اكرام زيد عند مجيئه مع عدم قدرة المكلف على تحصيل مجيئه فهذا
معلق على امر غير مقدور غير الزمان وإذا أوجب اكرامه وقال أكرم زيدا عند شرائك
الدار مع عدم ايجابه شراء الدار بل لو اتفق له الشراء بميله وطيب نفسه فهذا معلق على
مقدور لم يترشح عليه الوجوب.
واما المنجر فهو العمل الواجب مع عدم توقفه على امر غير مقدور كالصلاة بعد
دخول وقتها.
الرابع: تقسيمه إلى التوصلي والتعبدي.
فالأول: ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصوله في الخارج سواء أتى به المكلف
بداعي امر المولى أو بد واع آخر، كغسل الثوب مثلا فإنه يطهر ويحصل الغرض منه
بأي قصد غسله; الا انه إذا غسله بداعي الامر والتقرب حصل عنوان الإطاعة
واستحق عليه المثوبة وإلا فلا إطاعة ولا مثوبة.
والثاني: هو الفعل الذي لا تترتب عليه المصلحة ولا يحصل غرض الآمر الا باتيانه
قريبا، وذلك كالصلاة والصيام وسائر العبادات.
ثم إن الاتيان القربى الذي به يكون العمل عباديا ويسمى بالتعبدي على انحاء:
الأول: الاتيان به بقصد الامر.
276

الثاني: الاتيان به بقصد ان يتقرب من الآمر.
الثالث: الاتيان به لكون الفعل حسنا ذاتا.
الرابع: الاتيان به لكونه ذا مصلحة.
الخامس: الاتيان به لمجرد كون الآمر مستحقا لان يطاع وجديرا بان يعبد.
السادس: الاتيان به رجاء ثوابه وطمعا في اخذ شئ منه تعالى.
السابع: الاتيان به خوفا من عذابه تعالى وفرارا عن عقابه.
الثامن: الاتيان به لكونه شكرا لنعمه تعالى.
وهل يكفى في مقام الامتثال كل واحد من تلك القصود لكن تختلف مراتب
الثواب باختلافها، أو ان بعضها غير كاف في تحقيق العبادة وجهان مقرران في
الفقه فراجع.
277

الواسطة في العروض
والثبوت والاثبات
إذا فرضنا عروض عارض على شئ أعني صحة حمله عليه فاما أن لا يكون هنا واسطة
في البين فهو واضح; كعروض الناطق للحيوان والحيوان للناطق، واما أن يكون في
البين واسطة فيتحقق حينئذ أمور ثلاثة: الواسطة والعارض والمعروض ويطلق عليه
ذو الواسطة أيضا.
ثم انهم قسموا الواسطة بين العارض والمعروض إلى أقسام ثلثة:
الأول: الواسطة في العروض، وهي ما كان العارض حقيقة عارضا لنفس
الواسطة ويكون نسبته إلى المعروض بالعرض والمجاز، كوساطة الحركة لعروض السرعة
على الجسم في قولك الفرس سريع مثلا، فالسرعة عارض والفرس معروض والحركة
واسطة في العروض مجازا ومعروض حقيقة.
الثاني: الواسطة في الثبوت، وهي علة ثبوت العارض لمعروضه خارجا بحيث يكون
اتصاف المعروض بذلك العارض حقيقيا سواء كانت الواسطة أيضا متصفة به أم لا،
فالأول كوساطة النار لعروض الحرارة على الماء، والثاني كوساطة الحركة لعروض
الحرارة على الجسم والتعجب لعروض الضحك على الانسان.
الثالث: الواسطة في الاثبات، وهي ما كان علة للعلم بثبوت العارض لمعروضه
278

سواء كانت في الخارج أيضا علة أو كانت معلولا أو كانت ملازما.
والأول: كقولك الصلاة ذات مصلحة ملزمة وكل ما فيه مصلحة ملزمة فهو واجب
فالصلاة واجبة فيما إذا صار علمك بالمصلحة سببا للعلم بالوجوب.
والثاني: كقولك الحج واجب وكل واجب له مصلحة ملزمة فالحج له مصلحة
ملزمة فيما إذا صار علمك بالوجوب طريقا إلى علمك بالصلاح.
والثالث: كقولك الصلاة تنهى عن الفحشاء وكل ما ينهى عن الفحشاء فهو
معراج المؤمن فهي معراج بناء على تلازمهما، ومن هنا قيل إن الواسطة ان كانت علة
في العين والذهن فهي واسطة في الثبوت وان كانت علة في الذهن فهي واسطة في
الاثبات وهذا يكون في وسائط القياس.
ثم إن النسبة بين الواسطة في العروض والثبوت هي التباين; فلا شئ من
وسائط العروض واسطة في الثبوت ولا شئ من وسائط الثبوت واسطة في العروض،
إذ لا يعقل أن يكون شئ معروضا لعرض وعلة لثبوت نفس ذلك العرض لمعروض
آخر، والنسبة بين الواسطة في العروض والاثبات عموم مطلق فكل واسطة في
العروض يكون العلم بها علة للعلم بالاتصاف المجازى ولا عكس، فتقول هذا الفرس
ذو حركة سريعة وكل ما كان كذلك فهو سريع فالفرس سريع.
والنسبة بين الواسطة في الثبوت والاثبات أيضا كذلك فكل واسطة في الثبوت
واسطة في الاثبات أيضا ولا عكس، ففي قولك العالم متغير وكل متغير حادث، المتغير
واسطة في الثبوت والاثبات، وفى قولك الصلاة واجبة وكل واجب فيه مصلحة ملزمة،
الوجوب واسطة في الاثبات وليس واسطة في الثبوت.
ثم إن الاحتياج إلى بيان الوسائط في هذا العلم يقع في موارد: منها بيان ان مسائل
هذا العلم من قبيل الأمور العارضة لموضوعه مع الوساطة في الثبوت أو الاثبات، فان
الحجية مثلا عارض وخبر العدل معروض والمصلحة الداعية إلى جعل الحجية له واسطة
في الثبوت وما دل على ذلك من الكتاب والسنة واسطة في الاثبات، وكذلك يقال في
علم الفقه فالوجوب عارض وصلاة الجمعة مثلا معروض ومصلحة الفعل واسطة في
الثبوت والدليل الدال على الوجوب واسطة في الاثبات وهكذا.
279

الوجوب
هو أحد الأحكام الخمسة التكليفية، وحقيقته اما الإرادة الأكيدة الحاصلة في نفس
الآمر المتعلقة بفعل المأمور، أو هو امر انتزاعي ينتزع لدى العرف عن انشاء الطلب
بواسطة لفظ أو غير لفظ مع عدم قرينة على الترخيص في الترك، واختار الوجه الأول
فريق من العلماء والوجه الثاني فريق آخرون.
ثم إنه له عند اهل الفن تقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الوجوب المطلق والمشروط.
فالمطلق هو البعث الأكيد غير المقيد بامر وجودي أو عدمي، والمشروط هو البعث
الأكيد المقيد بقيد بحيث لو لم يوجد القيد لم يوجد البعث.
واللازم في الحكم بالاطلاق والتقييد هو ملاحظة امر معين وقياس الوجوب إليه
ثم الحكم بأنه مطلق أو مقيد، فكل امر لم يكن البعث منوطا به كان الوجوب بالنسبة
إليه مطلقا، وكلما كان منوطا به كان بالقياس إليه مقيدا، فالاطلاق والتقييد امران
إضافيان فترى ان كل تكليف أكيد بالنسبة إلى الشرائط العامة أعني البلوغ والعقل
والقدرة والالتفات مقيد، وبالنسبة إلى أمور اخر قد يكون مطلقا وقد يكون مقيدا.
مثلا وجوب الصلاة اليومية بالنسبة إلى الوقت مشروط، فما لم يدخل الوقت لم
280

يوجد الوجوب، وبالنسبة إلى الوضوء أو عدالة المصلى أو فسقه مثلا مطلق; ووجوب
الحج بالنسبة إلى الاستطاعة مشروط وبالنسبة إلى كونه مجتهدا أو مقلدا أو كونه قريبا
من مكة أو بعيدا غير مشروط.
ومنه يظهر انه ليس لنا وجوب مطلق على الاطلاق بحيث لم يكن مشروطا بشئ
أصلا، إذ لا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة ولا مشروط على الاطلاق بحيث كان
مشروطا بكل شئ، بل كل بعث مطلق ومشروط بالإضافة، فاطلاق قولهم الوجوب
المطلق انما هو بالنسبة إلى غير الشرائط العامة.
الثاني: تقسيمه إلى الوجوب النفسي والوجوب الغيرى.
فالنفسي: هو الوجوب المتعلق بفعل بداع من الدواعي غير داعى ايصال المكلف
إلى واجب آخر، كوجوب الصلاة والصوم ونحوهما.
والغيري: هو الوجوب بداعي ايصاله المكلف إلى واجب آخر، كوجوب غسل
الثوب والوضوء ونحوهما، وإن شئت فعبر عن النفسي بأنه الإرادة المستقلة وعن الغيرى
بأنه الإرادة المترشحة والطلب المتولد عن الطلب الاستقلالي لمقدمية متعلقه لمتعلق
الاستقلالي.
الثالث: تقسيمه إلى الوجوب الأصلي والوجوب التبعي.
فالأصلي هو البعث الفعلي المستقل الناشئ عن توجه الآمر نحو المتعلق ولحاظه له
على ما هو عليه.
والتبعي هو البعث التقديري التابع للبعث الأصلي بحيث لو التفت إلى متعلقه
لأراده إرادة تبعية.
مثلا إذا التفت الآمر إلى الصلاة وانها معراج المؤمن والى الغسل وانه مما يتوقف
عليه الصلاة وبعث نحوهما، فالوجوب فيهما اصلى وان كان الأول نفسيا والثاني غيريا.
واما إذا توجه نحو الصلاة وطلبها ولم يتوجه إلى الغسل ومقدميته لها فيقال ان
وجوبها اصلى ووجوب الغسل تبعي.
وقد يقال ان الأصلي هو الوجوب المقصود بالافهام من اللفظ، والتبعي ما لم يقصد
افهامه منه وان فهمه السامع منه بمثل دلالة الإشارة.
281

ثم إن بيان النسبة بين كل من الأصلي والتبعي والنفسي والغيري هو ان الأصلي
أعم من النفسي، فكل نفسي اصلى إذا النفسي لا يكون تقديريا تبعيا فان التبعية من
شؤون المقدمة; وليس كل اصلى نفسيا لشموله للغيري أيضا كما عرفت.
واما الأصلي والغيري فبينهما عموم من وجه، فقد يكون الوجوب أصليا ولا يكون
غيريا كالأصلي النفسي وقد يكون غيريا ولا يكون أصليا كالتبعي، وقد يكون أصليا
وغيريا كما عرفت.
الرابع: تقسيمه إلى الوجوب التعييني والتخييري.
فالتعييني: هو وجوب فعل بخصوصه.
والتخييري: هو وجوب فعلين أو الأفعال على البدل، كما لو ورد ان أفطرت
فأعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا أو صم شهرين متتابعين، ويتصور التخييري على
وجوه ذهب إلى كل منها فريق.
الأول: انه سنخ من الوجوب يتعلق بأزيد من فعل واحد بنحو الترديد، ويكون
امتثاله باتيان بعض الابدال وعصيانه بترك الجميع.
الثاني: انه الوجوب المتعلق بالجامع بينها وهو عنوان أحد الأشياء القابل للانطباق
على كل منها.
الثالث: انه ابعاث ووجوبات تعيينية متكثرة بتكثر عدد الابدال، ويسقط الكل
بامتثال البعض.
الرابع: انه الوجوب المتعلق بمعين عند الله تعالى المردد عند المكلف بين الأشياء
وأيا منها أتى به المكلف ينكشف انه كان مطلوبا عند الله تعالى; أو انه ان أتى بما وافق
الواقع كان امتثالا وان أتى بما خالفه كان مسقطا وله تصورات آخر أقل نفعا مما
ذكرنا.
282

وحدة المطلوب وتعدده
إذا تعلق تكليف من ناحية المولى الزامي كالوجوب أو غير الزامي كالاستحباب
بموضوع مقيد بقيد أو محدود بوقت، فقد يكون الحال في مقام الثبوت، ان للمولى غرضا
واحدا مترتبا على الفعل المقيد والمحدود، بحيث إذا حصل المتعلق بقيده ووصفه كان
محصلا لذلك الغرض، وان حصل بدون ذلك القيد كان مساوقا لعدم الحصول وغير
محصل للغرض أصلا.
وذلك نظير جواب السلام المقيد بالفورية العرفية، فهنا مصلحة واحدة مترتبة على
الفعل المقيد تحصل بحصوله وتنعدم بانعدامه ولو كان ذات الفعل موجودا.
ويسمى تعلق الحكم والغرض بالفعل بهذا النحو من التعلق بوحدة المطلوب. وقد
يكون هنا غرضان وصلاحان يترتب أحدهما على ذات الفعل والاخر عليه بقيده أو
وقته، أو يكون هنا مصلحة أكيدة تترتب بمرتبتها الكاملة على الفعل المقيد، وبمرتبتها غير
الكاملة على ذات الفعل، بحيث يكون ما به التفاوت أيضا مصلحة ملزمة لا يرضى
المولى بتركها، (فح) إذا حصل الفعل المقيد مع قيده حصل الغرضان أو الغرض
الأكيد وإذا حصل بدون القيد تحقق أحد الغرضين وفات الاخر أو فات المقدار اللازم،
وذلك نظير أداء الدين الحال مع قدرة المدين ومطالبة الغريم، فإنه إذا عصى المدين
283

واخر الأداء مدة من الزمان فات أحد المطلوبين أو مقدار منه وبقي الباقي مرتبا على
أصلا الأداء.
ويسمى هذا النحو بتعدد المطلوب ثم إن الثمرة بين الوجهين تظهر في موارد:
منها: ما إذا تعلق تكليف بفعل مقيد ثم تعذر القيد; كما في الصلاة المتعذر بعض
قيودها وشرائطها، فالصلاة الواجدة للقيود إذا فرض كون مطلوبيتها بنحو وحدة
المطلوب يسقط وجوب أدائها ويتحرى الدليل لقضائها، وإذا فرض بنحو التعدد
المطلوبي يسقط المعسور ويبقى الميسور.
ومنها: ما إذا تعلق تكليف بفعل موقت ففات من المكلف اتيانه في الوقت
عصيانا أو نسيانا كالصلاة الموقوتة بوقت، فعلى القول بوحدة المطلوب لا يجب القضاء
الا لدليل خارجي، وعلى القول بالتعدد يجب.
ومنها: ما إذا شك المكلف بعد مضى وقت الفعل الموقت في أنه أتى به في الوقت
أم لا، فيجرى استصحاب بقاء التكليف الثابت في الوقت بناء على التعدد إذ المورد
من قبيل الشك في بقاء التكليف وسقوطه بالامتثال ولا يجرى بناء على الوحدة لعدم
بقاء الموضوع المترتب عليه الحكم.
284

الورود
هو في الاصطلاح عبارة عن أن يرد دليل ويصير سببا لانعدام موضوع دليل آخر
حقيقة بحيث لولا ورود هذا الدليل لكان المورد مشمولا لذاك ويسمى الأول واردا
والذي انعدم موضوعه مورودا واليك أمثلة منه.
الأول: الامارات الشرعية بالقياس إلى الأصول العقلية، والدليل القطعي كالخبر
المتواتر بالقياس إلى الأصول الشرعية; فإذا فرضنا ان موضوع البراءة العقلية هو عدم
البيان والدليل، وموضوع التخيير هو عدم المرجح، وموضوع الاحتياط هو احتمال
العقاب الأخروي; فبمجرد ورود دليل معتبر في موردها ينتفى وجدانا موضوعاتها،
فينقلب عدم البيان إلى وجود البيان، وينتفى عدم الترجيح ويتحقق الترجيح; ويرتفع
احتمال العقاب فيحصل الا من منه، فيقال حينئذ ان الدليل واردا على تلك الأصول.
وكذا القول في الأصول الشرعية، فان موضوع البراءة الشرعية والاستصحاب
هو الشك في التكليف والشك في بقاء المتيقن، وكلاهما ينتفيان وجدانا بالدليل
القطعي كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية.
الثاني: تقدم الاستصحاب على الأصول العقلية كالبراءة العقلية والتخيير
والاحتياط، فإذا أجرينا استصحاب حرمة العصير مثلا فيما إذا ذهب ثلثاه بنفسه أو
بالشمس يكون ذلك دليلا شرعيا على الحرمة وبيانا لها فينتفى بالوجدان عدم البيان
285

وكذا استصحاب وجوب الجمعة وعدم وجوب الظهر (فيما إذا علمنا اجمالا بوجوب
إحديهما) يكون دليلا شرعيا على جواز ترك الظهر، فينتفى احتمال العقاب على تركه
بالوجدان.
وكذا استصحاب بقاء الوجوب وعدم الحرمة في مورد علمنا اجمالا بان صلاة
الجمعة اما واجبة واما محرمة مرجح شرعي لطرف احتمال الوجوب فينتفى عدم
الترجيح.
الثالث: تقدم الاستصحاب أيضا على الأصول الشرعية على قول بعض المحققين
بتقريب ان موضوع البراءة الشرعية هو المشكوك حكمه من جميع الجهات، فالمراد من
قوله " صلى الله عليه وآله ": " رفع عن أمتي مالا يعلمون " رفع الفعل الذي لا يعلم
حكمه من جميع الجهات، ومن قوله: " كل شئ لك مطلق " اطلاق ما هو مشكوك
من جميع الجهات، فإذا جرينا استصحاب الحرمة في العصير المشكوك مثلا، يكون
شربه معلوم الحرمة من جهة كونه متيقنا سابقا مشكوكا لاحقا فينعدم موضوع البراءة
الشرعية بالوجدان وهو الورود.
الرابع: تقدم الخاص على العام ورودا كما تقدم بيانه في آخر بحث الحكومة.
تنبيه:
الفرق بين الورود والتخصص هو انهما يشتركان في امر ويفترقان في آخر.
اما ما به يشتركان فهو ان موضوع المورود والمتخصص ينتفيان بالوجدان بعد مجئ
الوارد والمتخصص.
واما ما به يفترقان فهو ان انعدام الموضوع في الورود بواسطة التعبد وورود الدليل
ولولاه لكان المورد مشمولا للمورود، وفى التخصص خارج عنه بالوجدان لا بالتعبد
على الخروج، وبذلك تعرف الفرق بين هذين العنوانين وبين التخصيص والحكومة،
إذ في هذين ينعدم الموضوع وجدانا وفى التخصيص والحكومة موجود وجدانا والمعدوم
هو الحكم; فراجع معنى التخصيص والحكومة ليظهر الفرق بينهما وبين الورود وبينهما في
أنفسهما.
286

الوضع
هو اصطلاحا ارتباط خاص حاصل بين اللفظ والمعنى بحيث إذا فهم الأول فهم الثاني
وينقسم بتقسيمات:
الأول: تقسيمه إلى الوضع التعييني والتعيني.
فالأول: هو أن يكون حصول ذلك الربط والاختصاص بوضع الواضع وجعله،
كان يقول وضعت هذا اللفظ بإزاء هذا المعنى، والثاني أن يكون حصوله بكثرة
استعمال اللفظ في معنى بحيث لا يحتاج الانفهام إلى قرينة.
الثاني: تقسيمه إلى الوضع الخاص والموضوع له الخاص، والوضع العام والموضوع له
العام; والوضع العام والموضوع له الخاص، وتوصيف الوضع الذي هو من فعل الواضع
بالعام والخاص توصيف مسامحي، فان المتصف بها حقيقة هو الملحوظ للواضع عند
الوضع فالوضع العام معناه الوضع الذي كان الملحوظ عنده عاما.
وبيان الأقسام انه إذا أراد الواضع وضع لفظ في قبال معنى فعليه ان يتصور اللفظ
والمعنى كليهما.
فحينئذ تارة يتصور معنى جزئيا ولفظا معينا، ويقول مثلا وضعت لفظ زيد بإزاء
هذا الرجل المعين، فيكون ما لاحظه في ذهنه خاصا وما وضع له اللفظ خاصا أيضا
287

فيقال ان الوضع والموضوع له كليهما خاصان.
وأخرى يتصور ولا يلاحظ معنى كليا عاما ولفظا مخصوصا، فيقول وضعت لفظ
الانسان لهذا المفهوم الكلى فيقال ان الوضع والموضوع له كليهما عامان، بمعنى انه وضع
اللفظ في قبال عين الكلى الذي لاحظه.
وثالثة يلاحظ معنى عاما ويجعل ذلك آلة للحاظ مصاديقه ويضع اللفظ في قبال
كل فرد فرد من افراد الملحوظ فإذا لاحظ عنوانا كليا كالمذكر الفرد مثلا فوضع كلمة
هذا لكل ما هو مصداق له يقال (ح) ان الوضع عام والموضوع له الخاص، واما الوضع
الخاص والموضوع له العام فهو على المشهور تصور محض لا وقع له ولا امكان.
تنبيهان:
الأول: ان الأقوال في الوضع كثيرة.
منها: ما هو المشهور من كون أقسامه في مقام التصور أربعة وفى مرحلة الامكان
والوقوع ثلاثة كما عرفت.
ومنها: ما ذكره بعض الأعاظم من أنها في مقام التصور والامكان أربعة وفى
مرحلة الوقوع ثلاثة فذهب (قده) إلى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام، بان يرى
الواضع شبحا من بعيد ولا يعلم انه من مصاديق الانسان مثلا أو البقر، فيعين لفظا
ويقول وضعت هذا اللفظ لنوع ذلك الشبح أو لجنسه، فيكون الملحوظ هو ذلك الجزئي
والموضوع له هو الكلى الملحوظ بنحو الاجمال.
ومنها: ما ذكره في الكفاية من أنها في مرحلة التصور أربعة وفى مقام الامكان
ثلاثة وفى مرحلة الوقوع اثنان فأدرج ما هو من القسم الثالث لدى المشهور في القسم
الثاني.
الثاني: انه من القسم الأول الاعلام الشخصية كلها، ومن القسم الثاني أسماء
الأجناس ومواد الأفعال وأسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة ونحوها، ومن
القسم الثالث جميع الحروف وأسماء الإشارة والضمائر وشبهها.
288

الثالث: تقسيمه إلى الوضع الشخصي والوضع النوعي.
بيانه ان اللفظ له مادة وهيئة فالمادة هي ذات الحروف المرتبة (نحو ض رب) بلا
شرط لحاظ الاعراب والحركة، والهيئة هي الصور العارضة لتلك المواد كضرب
وضارب ومضروب وأيا منهما لاحظه الواضع تفصيلا في مقام الوضع فالوضع بالنسبة
إليه شخصي، وما لاحظه اجمالا فهو بالإضافة إليه نوعي.
فالأقسام ثلاثة: لحاظ الهيئة والمادة تفصيلا، ولحاظ الأول تفصيلا دون الثاني;
والعكس.
فالأول: كوضع الاعلام الشخصية والجوامد من الألفاظ فان الواضع لاحظ لفظة
انسان وزيد وحجر وشجر بموادها وهيئاتها ووضعها لمعانيها، ومنه الموضوع الأول في
المشتقات كما ستعرف.
والثاني: كوضع سائر المشتقات مما وضع بعد الوضع الأول.
وتوضيحه: ان المشتقات على أقسام كثيرة; كاسم الفاعل والمفعول والصفة
المشبهة والماضي والمضارع والمصدر فإنه أيضا من المشتقات، فلا بد للواضع عند الوضع
من تقديم واحد منها ولحاظ كل من هيئة ومادته مستقلا ووضعهما كذلك إذ لا وضع
للمادة مجردة عن الهيئات، فأيا منها قدمه كان وضعه بهيئته ومادته شخصيا فإذا قدم
الماضي مثلا وقال وضعت كلمة ضرب لمعنى كذا وسمع لكذا وعلم لكذا وهكذا تم
حينئذ وضع الماضيات من الأفعال; وبذلك تم وضوع نوع من الهيئات ووضع جميع
المواد فيكون وضع الماضي شخصيا هيئة ومادة ويقال ان الماضي أصل في الكلام أو
في الوضع، فإذا أراد وضع أسماء الفاعلين مثلا فيلاحظ فقط هيئتها معينة تفصيلا، ولا
يلزمه حينئذ لحاظ المادة كذلك لثبوت المواد كلها في ضمن الموضوع أولا وهو الماضي
من كل فعل، فيكفيه الإشارة الاجمالية إليها فيقول وضعت هيئة الفاعل في ضمن أي
مادة من المواد الموجودة في ماضيات الأفعال، لذات ثبت لها تلك المادة، فيكون وضع
الهيئة شخصيا والمادة نوعيا، وهكذا سائر المشتقات حتى المصدر ولذلك يقال ان تلك
المشتقات فرع للماضي في الوضع، ولو فرضنا كون الملحوظ أولا هو المصادر أو
المضارعات، كان ذلك أصلا، ومن هنا ذهب طائفة إلى أن المصدر هو الأصل
289

وآخرون إلى أن المضارع هو الأصل، واما لحاظ المادة بالخصوص دون الهيئة فلا وجود
له على ما قلنا.
تتمة:
كما أن اللفظ هيئة ومادة كذلك للمعنى أيضا هيئة ومادة، فمادة الضرب مثلا هي
أصل تصادم جسم مع آخر وهيئته هي الخصوصيات الملازمة له وعوارضه الوجودية من
الزمان والمكان وما منه وجوده أعني الضارب وما به وجوده أعني آلة الضرب، ومواد
الألفاظ تحكى عن مواد المعاني وهيآتها تحكى عن هيئاتها، فمادة ضرب تحكى عن
أصل الضرب وهيئته عن زمانه، ومادة كلمة مضراب عن أصل الضرب وهيئتها عما به
يوجد الضرب وهكذا.
هذا كله في الحقائق واما المجازات ففيها أقوال:
الأول: القول بان لها وضعا نوعيا من حيث الهيئة والمادة، بمعنى ان الواضع أشار
إلى كلتيهما بالإشارة الاجمالية بان جعل عنوان اللفظ آلة للحاظهما فقال وضعت كل
لفظ موضوع لمعنى من المعاني لمشابه ذلك المعنى أو لسببه أو لمسببه أو للحال فيه أو لمحله
على اختلاف انحاء المجازات، فكأنه وضع في ضمن هذا البيان لفظ الأسد للرجل
الشجاع مع أنه لم يلاحظ له هيئة ومادة، فاستعمال اللفظ في معناه المجازى أيضا يرجع
إلى وضع الواضع ولذلك حصروا المجازات في أقسام تخيلوا تنصيص الواضع عليها.
الثاني: القول بان استعمالها في المعاني المجازية لا ربط له بالواضع; بل هو منوط
باستحسان طبع المستعمل، فأي ربط تصوره المستعمل بين معنى من المعاني وبين
المعنى الحقيقي وطاب نفسه باستعمال لفظه فيه فالاستعمال جائز وصحيح، فلا تكون
أقسام المجازات محصورة فيما حصورها فيه.
الثالث: القول بان الألفاظ لم تستعمل في غير ما وضعت له أصلا حتى في المجازات
بل هي مستعملة في معانيها الحقيقية بدعوى اتحادها مع المعاني المجازية، مثلا إذا قلت
جاءني أسد مريدا به زيدا فإنك لم تستعمل الأسد في زيد ابتداء وبلا واسطة بل كأنك
قلت جاءني الحيوان المفترس المعهود وزيد هو ذلك الحيوان، وهذا هو القول الذي
290

ذهب إليه السكاكي إلا أنه قال به في خصوص الاستعارة.
وما بجمعه عنيت قد كمل * بحثا على جل المهمات اشتمل
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلواته على
رسوله الكريم وآله الميامين ولعنة الله
على مخالفيهم ومعانديهم
إلى قيام يوم الدين.
291