الكتاب: المباحث الأصولية
المؤلف: الشيخ محمد إسحاق الفياض
الجزء: ٤
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٨٢ ش – ١٤٢٤
المطبعة: شريعت
الناشر: مكتب المؤلف
ردمك:
ملاحظات:

المباحث الأصولية
دراسة موضوعية معمقة تستوعب احدث
ما وصل اليه الباحث الأصولي من الآراء
والنظريات العامة بأسلوب بالغ درجة
كبيرة من الدقة والعمق والشمول
تأليف
آية الله العظمى
الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظله)
الجزء الرابع
1

هوية الكتاب:
اسم الكتاب:... المباحث الأصولية
المؤلف:... آية الله العظمى الشيخ محمد إسحاق الفياض دام ظله
الناشر:... مكتب سماحته
الطبعة:... الأولى
المطبعة:... شريعت
الكمية:... 1000
كافة الحقوق محفوظة للناشر
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد
وآله الطيبين الطاهرين المعصومين واللعنة الأبدية
على أعدائهم أعداء الدين أجمعين.
3

مقدمة الواجب
لا يخفى أن مسألة مقدمة الواجب حيث إنها ترتبط بعدة مسائل بشكل
مباشر أو غير مباشر فيقع الكلام في تلك المسائل في ضمن بحوث:
البحث الأول:
تقسيم المقدمة إلى وجوبية ووجودية
أما الأولى: فهي قيود مأخوذة مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار
كالاستطاعة ونحوها ولهذا تكون من قيود الوجوب في مرحلة الجعل، واتصاف
الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ.
ولا فرق في ذلك بين أن تكون تلك القيود مقدورة للمكلف أو غير
مقدور له.
ثم إن هذه المقدمة خارجة عن محل الكلام في المسألة، إذ لا يعقل
ترشح الوجوب من الواجب إليها لا قهرا ولا جعلا، حيث إنه لا وجوب فعلا
قبل وجودها، ووجوبها بعد وجودها تحصيل الحاصل.
5

وأما الثانية: فهي قيود يتوقف إيجاد الواجب عليها في الخارج ودخيلة
في ترتب الملاك عليه بدون أن تكون دخيلة في وجوبه واتصافه بالملاك.
وإن شئت قلت: إن المقدمات الوجوبية تفترق عن المقدمات الوجودية
في نقطتين:
الأولى: أن المقدمات الوجوبية دخيلة في الحكم في مرحلة الجعل وفي
اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، بينما المقدمات الوجودية غير
دخيلة لا في الحكم في مرحلة الجعل ولا في الملاك في مرحلة المبادئ،
وإنما هي دخيلة في ترتب الملاك على وجود الواجب في الخارج.
الثانية: أنه لا يعقل ترشح الوجوب إلى المقدمات الوجوبية كما مر،
بينما لا يكون مانعا عن ترشحه إلى المقدمات الوجودية، ومن هنا لا يكون
المكلف مسؤولا أمام الأولى ومكلفا بإيجادها، ولهذا لا فرق بين أن تكون
اختيارية أو غير اختيارية كالبلوغ والعقل والوقت ودخول شهر رمضان
والحيض والنفاس وغير ذلك، بينما يكون مسؤولا أمام الثانية ومكلفا
بإيجادها، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد تسأل ما هو المقصود والمراد من وجوب المقدمة؟
والجواب: أن هناك عدة احتمالات:
الأول: أن يكون المراد منه اللابدية التكوينية الخارجية.
الثاني: أن يكون المراد منه اللابدية العقلية، بمعنى عدم صحة اعتذار
العبد عن ترك الواجب بترك مقدمته.
الثالث: أن يكون المراد منه ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى المقدمة
قهرا.
الرابع: أن يكون المراد منه وجوب مولوي مجعول بجعل مستقل من
6

قبل المولى على المقدمة تبعا لجعل وجوب ذيها.
أما الاحتمال الأول، فهو غير محتمل، لأن اللابدية التكوينية عين
المقدمية في الخارج، فإن معنى المقدمة توقف ذيها عليها تكوينا، فلا مجال
للبحث عنها.
وأما الاحتمال الثاني: فأيضا غير محتمل، لوضوح أن العقل مستقل
بلا بدية الاتيان بالمقدمة من أجل الاتيان بذيلها، وعدم صحة الاعتذار عن تركه
بترك مقدمته، وعدم إمكان النقاش فيه.
وأما الاحتمال الثالث: فهو غير معقول، لأنه لا يتصور في الأمور
الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها، وإنما يتصور في الأمور التكوينية التي
يتولد المعلول فيها من العلة ويترشح، والوجوب حيث إنه أمر اعتباري قائم
بالمعتبر مباشرة، فلا يعقل فرض تولده من وجوب آخر، لأنه خلف فرض
كونه أمرا اعتباريا غير قابل للتأثير والتأثر وفعلا مباشريا للمعتبر.
وأما الاحتمال الرابع: فهو احتمال معقول ثبوتا وهو محل النزاع في
المسألة، فإذا أمر المولى بشئ فمحل النزاع إنما هو في ثبوت الملازمة بين
الأمر به والأمر بمقدماته التي يتوقف وجوده على وجودها خارجا هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن المقدمات الوجودية على نحوين:
الأول: ما يكون قيدا للواجب شرعا ودخيلا في ترتب الملاك عليه.
الثاني: ما يتوقف وجود الواجب عليه في الخارج بدون أن يكون قيدا
له شرعا ودخيلا في ترتب الملاك، كقطع المسافة مثلا إلى الميقات للبدء بالحج
أو العمرة، فإنه واجب على النائي، ويسمى النوع الأول بالمقدمات الوجودية
الشرعية، والثاني: بالمقدمات الوجودية العقلية.
7

فالمقدمات على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: المقدمات الوجوبية كما مرت.
النوع الثاني: المقدمات الوجودية الشرعية وهي التي تكون من قيود
الواجب ويتوقف وجوده عليها في الخارج، وهذه المقدمات إن كانت اختيارية
كالطهارة من الحدث والخبث واستقبال القبلة والقيام والاستقرار وغير ذلك،
فالمكلف مسؤول أمامها ومكلف بإيجادها في الخارج لإيجاد الواجب فيه،
وإن كانت غير اختيارية، فلابد من أن تكون شرطا وقيدا للوجوب أيضا، إذ
لو كان الوجوب مطلقا وغير مقيد بها، لزم التكليف بغير المقدور، إذ معناه أنه
مكلف بالاتيان بواجب مقيد بقيد غير اختياري.
فالنتيجة أن كل قيد يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
الثبوت فهو قيد للوجوب في مقام الاثبات، ويؤخذ مفروض الوجود فيه،
سواء أكان قيدا للواجب أيضا أم لا، وكل قيد لا يكون دخيلا في اتصاف
الفعل بالملاك وإنما هو دخيل في ترتب الملاك على الواجب في الخارج، فهو
قيد للواجب فحسب، بمعنى أن التقيد به داخل فيه والقيد خارج عنه، فلهذا
أما يكون محركا نحو إيجاد الواجب هو المحرك نحو إيجاده.
النوع الثالث: المقدمات الوجودية العقلية، وهي التي يتوقف وجود
الواجب عليها بدون أن تكون من قيوده شرعا، ودخيلة في ترتب الملاك
عليه، وبذلك تختلف المقدمات العقلية عن المقدمات الشرعية.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن المقدمات الوجوبية
خارجة عن محل الكلام والنزاع في المسألة، بينما المقدمات الوجودية
الشرعية والعقلية داخلتان فيه.
بقي هنا مقدمتان أخريان:
8

الأولى: المقدمات العلمية وهي المقدمات التي توجب حصول العلم
بإتيان الواجب وامتثاله، كالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي وفي الشبهات
الحكمية قبل الفحص ونحوهما، فإنه مقدمة علمية وموجبة لحصول العلم
بالامتثال، هذا. ولكن تلك المقدمات خارجة عن محل النزاع، لأنها مقدمة
للعلم باتيان الواجب لا لوجوده في الخارج، فإنه لا يتوقف عليها، فإذا صلى
المصلي إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة، فإن الصلاة إلى إحدى الجهات
نفس الصلاة المأمور بها، وأما الصلاة إلى سائر الجهات فهي مباينة لها، فلذلك
لا يعقل أن تكون تلك المقدمات مقدمات وجودية، فبطبيعة الحال تكون من
المقدمات العلمية.
الثانية: المقدمات الداخلية وهي جزء الواجب، كأجزاء الصلاة ونحوها،
وهل تصلح أن تكون داخلة في محل النزاع أو لا؟ فيه وجهان:
الظاهر أنها لا تصلح أن تكون داخلة فيه، لأن محل النزاع إنما هو في
وجوب المقدمة التي يتوقف وجود الواجب عليها، ومن الواضح أن توقف
وجود شئ على وجود آخر يقتضي الاثنينية والتعدد في الوجود، لاستحالة
توقف الشئ على نفسه كالطهارة والصلاة، فإن الأولى مقدمة للثانية.
وموجودة مستقلة في قبالها خارجا، فلذلك يتوقف وجودها على وجود
الطهارة في الخارج، وكقطع المسافة بالنسبة إلى الحج وهكذا، وحيث إنه لا
إثنينية بين وجود الواجب ووجود أجزائه في الخارج، لأن وجوده فيه عين
وجود أجزائه بالأسر، بداهة أن وجود الصلاة هو وجود أجزائها من التكبيرة
إلى التسليمة، فلا يعقل أن يكون متوقفا على وجود أجزائها، لأن التوقف
يتطلب التعدد والاثنينية في الخارج.
وأما ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من اطلاق المقدمة على
9

الأجزاء، بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشئ وإن لم يكن وجوده في الخارج
غير وجود ذيه، فإن وجود الواجب كالصلاة مثلا يتوقف على وجود أجزائه،
وأما وجودها فلا يتوقف على وجوده نظير الواحد بالنسبة إلى الاثنين، فإن وجود
الاثنين يتوقف على وجود الواحد دون العكس (1).
فلا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأن أجزاء الواجب كالصلاة مثلا،
فتارة تلحظ بما أنها موجودات بوجودات مستقلة وحقائق مختلفة كمقولة
الكيف المسموع، كالتكبيرة والقراءة وسائر الأذكار، ومقولة الوضع كالركوع
والسجود ونحوهما، وأخرى تلحظ بما أنها أجزاء للصلاة فعلا، وعلى هذا
فعلى الأول وإن كانت نسبتها إلى الصلاة نسبة الواحد إلى الاثنين، إلا أنها بهذا
اللحاظ ليست أجزاء للصلاة، لأن أجزائها حصة خاصة منها، مثلا التكبيرة
باطلاقها ليست جزء للصلاة، فإن الجزء حصة خاصة منها وهي الحصة
المسبوقة بالفاتحة، والفاتحة باطلاقها ليست جزء لها، فإن الجزء حصة خاصة
منها وهي الحصة المسبوقة بالركوع والملحوقة بالتكبيرة وكذلك الركوع
والسجود ونحوهما، ونتيجة ذلك أن نسبة الصلاة إلى تلك الأشياء باللحاظ
الأول نسبة الاثنين إلى الواحد، فيتوقف وجودها عليها، وأما نسبتها إليها
باللحاظ الثاني، فليست نسبة الاثنين إلى الواحد، بل هي العينية، فإنها
باللحاظ الثاني عين الصلاة، حيث إنها عبارة عن تلك الأجزاء بالأسر وهي
التكبيرة المسبوقة بالفاتحة، وهي المسبوقة بالركوع والملحوقة بالتكبيرة
والركوع المسبوق بالسجود والملحوق بالفاتحة الملحوقة بالتكبيرة وهكذا،
ومن الواضح أنه لا يتصور بهذا اللحاظ توقف وجود الصلاة على أجزائها، فإنه

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 298.
10

من توقف الشئ على نفسه، ومن هنا يظهر أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من
أن نسبة الصلاة إلى أجزائها نسبة الاثنين إلى الواحد، مبنية على الخلط بين
لحاظها بالمعنى الأول ولحاظها بالمعنى الثاني، فإن نسبتها إليها نسبة الاثنين
إلى الواحد باللحاظ الأول دون الثاني، والمفروض أنها باللحاظ الأول ليست
أجزاء للصلاة وتوقفها عليها ليس من باب توقف الواجب على أجزائه.
فالنتيجة أن توقف الواجب على أجزائه بما هي أجزائه غير معقول،
وأما توقفه على ذواتها المطلقة وإن كان صحيحا، إلا أنها ليست أجزاء له،
فإذن ما يسمى بالمقدمات الداخلية ليس بمقدمة حتى يكون داخلا في محل
النزاع.
هنا أمران:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه لا يمكن أن تكون أجزاء
المأمور به واجبة بالوجوب الغيري، وإلا لزم اجتماع المثلين، لفرض أنها
واجبة بالوجوب النفسي، فلو كانت واجبة بالوجوب الغيري أيضا، لزم هذا
المحذور، فلذلك لا يمكن أن تكون أجزاء الواجب مقدمة للواجب وواجبة
بالوجوب الغيري (1).
ولنأخذ بالنقد عليه أما أولا فكان ينبغي له أن يعلل عدم صحة مقدمية
الأجزاء بالاستحالة الذاتية، باعتبار أن الأجزاء المرتبطة بالأسر هي نفس
الواجب المركب، فكيف يعقل أن تكون مقدمة له؟ لاستحالة أن يكون الشئ
مقدمة لنفسه، لأن مقدمية الشئ لنفسه كعلية الشئ لنفسه مستحيلة، ومع

(1) كفاية الأصول: ص 90.
11

استحالتها بالذات فلا يصل الدور إلى تعليلها بأمر عرضي وهو لزوم اجتماع
المثلين لو قلنا بوجوب المقدمة، وأما لو لم نقل بوجوبها فلا محذور، أو فقل
أن التعليل بالأمر العرضي يدل بنفسه على أنه لا محذور ذاتا.
وثانيا: مع الاغماض عن ذلك وتسليم إمكان مقدميتها، فما ذكره (قدس سره) من
أنها تستلزم اجتماع المثلين وهو محال، فلا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما
ذكرناه في محله من أن استحالة اجتماع المثلين أو الضدين إنما هي في الأمور
التكوينية الخارجية، وأما في الأمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها
خارجا غير اعتبار المعتبر، فلا موضوع لاجتماع المثلين أو الضدين فيها،
وعلى هذا فاجتماع وجوبين نفسين في شئ واحد وإن كان يستلزم اجتماع
ملاكين فيه، إلا أنهما لما كانا من سنخ واحد، فيندك أحدهما في الآخر
فيصبحان ملاكا واحدا أقوى وآكد، فلذلك لا مانع من اجتماعهما على شئ
واحد لا في مرحلة الاعتبار والجعل ولا في مرحلة المبادئ، ولا في مرحلة
الامتثال.
ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن اجتماعهما على شئ واحد لا
يمكن، على أساس استحالة اجتماع ملاكين فيه، إلا أنه لا مانع من اجتماع
الوجوب النفسي مع الوجوب الغيري في شئ واحد، على أساس أن
اجتماعهما فيه لا يستلزم اجتماع ملاكين فيه، لأن الوجوب النفسي ناشئ من
ملاك قائم في متعلقه، وأما الوجوب الغيري فهو ناشئ من ملاك قائم بشئ
آخر غير متعلقه، مثلا وجوب صلاة الظهر النفسي ناشئ من ملاك قائم بها،
وأما وجوبها الغيري فهو ناشئ من ملاك قائم بصلاة العصر، فاجتماعهما فيها
لا يستلزم اجتماع ملاكين فيها.
الأمر الثاني: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) من أن الثمرة تظهر بين القول
12

بتعلق الوجوب الغيري بالأجزاء والقول بعدم تعلقه بها في مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين، فعلى القول الأول يكون المرجع في تلك المسألة أصالة الاشتغال
ووجوب الاتيان بالأكثر، وعلى الثاني يكون المرجع فيها أصالة البراءة عن
وجوبه وكفاية الاتيان بالأقل، وقد أفاد في وجه ذلك أن العلم الاجمالي في
المسألة على الأول لا ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل الجامع بين
الوجوب النفسي والوجوب الغيري، لأن الانحلال منوط بأن يكون المعلوم
بالتفصيل من سنخ المعلوم بالاجمال وفرد من أفراده، والمفروض أنه غير
محرز في المقام، لأن المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم
بالتفصيل الجامع بين النفسي والغيري، فإذن ليس هنا إلا احتمال انطباق
المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل، وهذا مقوم للعلم الاجمالي لا أنه
موجب لانحلاله، فإذا لم ينحل العلم الاجمالي فمقتضاه وجوب الاحتياط.
وأما على الثاني فحيث أن المكلف يعلم تفصيلا بوجوب الأجزاء وجوبا
نفسيا في ضمن الأقل ويشك في تقييد وجوبها بالأكثر، فيرجع إلى أصالة
البراءة عنه، فينحل العلم الاجمالي بها حكما (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من أن العلم التفصيلي بوجوب الأقل الجامع
بين الوجوب النفسي والغيري لا يوجب انحلال العلم الاجمالي، لعدم احراز
انطباق المعلوم بالاجمال عليه وإن كان صحيحا على المشهور، إلا أن ما
أفاده (قدس سره) من التفصيل بين القول بتعلق الوجوب الغيري بالأجزاء والقول بعدم
تعلقه بها، فعلى الأول لا تجري أصالة البراءة عن وجوب الأكثر وعلى الثاني
تجري، لا يرجع إلى معنى محصل، ضرورة أنه لا فرق بين القولين في

(1) نهاية الأفكار ج 3: ص 382.
13

المسألة في جريان أصالة البراءة وعدم جريانها، لأن العلم التفصيلي بوجوب
الأقل الجامع بين النفسي والغيري لا أثر له ولا يوجب الانحلال كما عرفت.
فإن الذي يوجب الانحلال حقيقة في المقام العلم التفصيلي بالوجوب
النفسي للأقل وهو غير موجود، فإذن الركن الأول من أركان منجزية العلم
الاجمالي وهو تعلقه بالتكليف الفعلي على كل تقدير ثابت في المسألة، وإنما
الكلام في توفر الركن الثاني وهو تساقط الأصول المؤمنة في أطرافه فيها
ولكنه غير متوفر، وذلك لأن أصالة البراءة لا تجري في الأجزاء التي يكون
تعلق الوجوب النفسي بها معلوما في الجملة، وأما الجزء المشكوك فيه فلا
مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه، حيث أن مرجع الشك فيه إلى الشك
في تقييد الأقل به ولا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن هذا التقييد الزائد
المشكوك فيه وبها ينحل العلم الاجمالي حكما، فإذن الركن الثاني من أركان
منجزية العلم الاجمالي غير متوفر في المسألة.
14

البحث الثاني:
تقسيم الشروط إلى المقارن والمتقدم والمتأخر
تقدم في البحث الأول الفرق بين شروط الوجوب وشروط الواجب،
ويقع الكلام في هذا البحث حول أقسام الشروط من الشرط المقارن، والمتقدم،
والمتأخر، سواء أكان للوجوب أم للواجب.
أما الأول: فهو كزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر، فإن الأول شرط
مقارن لوجوب صلاتي الظهر والعصر، والثاني شرط مقارن لوجوب صلاة
الفجر، كالاستطاعة، والسفر، وإقامة عشرة أيام في بلد وهكذا، فإن كل ذلك
شرط مقارن للوجوب، هذا بالنسبة إلى الشروط المقارنة للوجوب، وأما
الشروط المقارنة للواجب فهي كطهارة البدن والثوب والطهارة من الحدث
واستقبال القبلة والقيام والطمأنينة وغيرها فإنها جميعا شروط مقارنة للواجب.
وأما الثاني: كرؤية الهلال في شهر رمضان، فإنها شرط متقدم لوجوب
الصوم، وغسل الجنابة في شهر رمضان قبل طلوع الفجر، فإنه شرط متقدم
للواجب وهو الصوم.
وأما الثالث كالإجارة في العقد الفضولي على القول بالكشف، فإنها
15

شرط متأخر لصحة العقد، ويوم العرفة فإنه شرط متأخر لوجوب الحج،
وهكذا، وغسل المستحاضة في الليل الآتي، فإنه شرط متأخر لصحة صومها
في اليوم الماضي على قول، هذه هي أقسام الشروط من المقارن والمتقدم
والمتأخر سواء كانت للوجوب أم للواجب، ولا إشكال في القسم الأول لا
ثبوتا ولا إثباتا ولا كلام فيه، وإنما الكلام في القسم الثاني والثالث فهنا
مقامان:
الأول: في إمكان الشرط المتقدم.
الثاني: في إمكان الشرط المتأخر.
أما الكلام في المقام الأول فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى
استحالة الشرط المتقدم، وقد أفاد في وجه ذلك أن الشرط حيث إنه من اجزاء
العلة التامة، فلابد أن يكون معاصرا مع المشروط ضرورة كما إنه لا يعقل أن يكون
الشرط متأخرا عنه زمانا، كذلك لا يعقل أن يكون متقدما عليه كذلك، ولا وجه
لتخصيص الاشكال بالشرط المتأخر كما هو المشهور في الألسنة، بل يعم الشرط
والمقتضي المتقدمين المنصرمين حين وجود الأثر كالعقد في باب الوصية وفي
باب الصرف والسلم، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرمها حين
تأثيره وتحقق أثره (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب، أن تقدم الشرط على
المشروط في التكوينيات غير عزيز فضلا عن التشريعيات، وقد أفاد في وجه
ذلك أن مرد الشرط في طرف الفاعل إلى مصحح فاعليته وفي طرف القابل إلى
متمم قابليته، ومن الطبيعي أنه لا مانع من تقدم الشرط بهذا المعنى على

(1) كفاية الأصول: ص 92.
16

المشروط زمانا، فإن ما لا يمكن أن يكون متقدما على أثره هو العلة التامة
دون سائر أجزائها (1).
هذا ولكن الظاهر أن هذا الإيراد غير وارد، وذلك لأن مقصود صاحب
الكفاية على ما يظهر من كلامه أن الشرط بوجوده المتقدم لا يمكن أن يكون
مؤثرا في المشروط بوجوده المتأخر وهذا بديهي، وأما ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره)
من أن الشرط جزء العلة التامة وهو دائما مقدم على المشروط والمعلول، على
أساس أن المعلول يوجد بعد تمامية العلة، فيرد عليه أن الشرط الذي هو جزء
العلة ليس مؤثرا في وجود المعلول من حين تحققه ووجوده، بل هو من هذا
الحين يؤثر في فاعلية المقتضي ويعطي له هذه الصفة التي كان فاقدا لها قبل تحقق
الشرط، فتصبح فاعليته تامة في نفسه لولا وجود المانع في البين، فإذا لم يكن
هناك مانع أثر المقتضي أثره بنحو العلة التامة، وعلى هذا فأثر الشرط هو إعطاء
صفة الفالعية للمقتضي لولا المانع، وهذا الأثر يتحقق من حين تحققه، فلا يكون
الشرط متقدما عليه زمانا، وحيث إن هذه الصفة ثابتة للمقتضي بثبوت الشرط،
فإذا لم يكن هناك مانع تمت العلة التامة فتؤثر في إيجاد المعلول، ومن الواضح أن
العلة التامة بكل أجزائها منها الشرط معاصرة لمعلولها، فلا يكون الشرط الذي هو
جزء العلة التامة من الشرط المتقدم فإن معنى الشرط المتقدم هو أنه في الزمن
المتقدم مؤثر في المشروط في الزمن المتأخر على الرغم من أنه معدوم في زمن
المشروط، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن حدوثه وإن كان متقدما، إلا أن تأثيره
في وجود المعلول مقارن.

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 305.
17

ومن هنا يظهر أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) (1) من أن الشرط الذي هو جزء
العلة التامة من الشرط المتقدم غير تام، لما عرفت من أنه ليس من الشرط المتقدم
لا بالنسبة إلى أثره الخاص وهو إعطاء صفة الفاعلية للمقتضي ولا بالنسبة إلى أثر
العلة التامة، وهذا هو مراد صاحب الكفاية (قدس سره) من الشرط المتقدم كما يظهر ذلك
من الأمثلة التي ذكرها (قدس سره) في هذا الباب. إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة
وهي أن العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة: المقتضي، ووجود الشرط، وعدم
المانع، فإذا توفرت هذه الأجزاء الثلاثة جميعا تحققت العلة التامة وأثرت أثرها،
ومن الطبيعي أن العلة التامة بتمام أجزائها معاصرة لمعلولها وأثرها الذي يتولد
منها، مثلا ذات النار مقتضي للإحراق والمماسة بينها وبين الحطب شرط لفاعلية
النار ورطوبة الحطب مانعة عن فاعليتها وتأثيرها، فإذا كان المقتضي مع الشرط
موجودا ولكن هناك مانع يمنع عن تأثيره وفاعليته فلا أثر له، وأما إذا انتفى
المانع كما إذا كان الحطب المماس للنار يابسا، فيكون مؤثرة في الإحراق بنحو
العلة التامة لتوفر جميع أركانها وأجزائها ولا حالة منتظرة في البين، فالشرط
الذي يعطي صفة الفاعلية للمقتضي، فلابد أن يكون باقيا إلى أن تتم العلة بكافة
أجزائها، ضرورة أن الشرط لو لم يبق لم تبق صفة الفاعلية للمقتضي أيضا، لأنها
أثر الشرط ومعلولة له، فكيف يعقل بقاؤها مع انتفاء الشرط، هذا كله في
التكوينيات.
وأما في التشريعيات فالمعروف والمشهور بين الأصحاب أنها لا تقاس
بالتكوينيات، باعتبار أنها أمور اعتبارية وأمرها وضعا ورفعا وإطلاقا وتقييدا
بيد الشارع، فإن له أن يجعل الحكم لشئ وله أن لا يجعل، كما أنه إذا جعل

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 306.
18

حكما لشئ فله أن يقيده بقيد مقارن أو متقدم أو متأخر، من هنا كان له أن
يجعل وجوب صوم شهر رمضان عند طلوع الفجر مشروطا بشرط متقدم وهو
رؤية الهلال في الليل وصحة العقد الفضولي من حين وقوعه مشروطا بشرط
متأخر وهو إجازة المالك وهكذا. فإذن لا مانع من تقييد الأحكام الشرعية
بقيد متقدم أو متأخر هذا، ولكن هذه الشهرة لا تبني على نكتة مبررة لها لأن
الأحكام الشرعية وإن كانت أمورا اعتبارية، إلا أن جعل المولى الحكم
مشروطا بشئ لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة، مثلا جعل الاستطاعة
شرطا لوجوب الحج والسفر لوجوب القصر وهكذا، لا يمكن أن يكون جزافا
وبدون ملاك.
ومن هنا قلنا أن كل قيد مأخوذ في لسان الدليل شرعا ظاهر في أنه
دخيل في الحكم في مرتبة الجعل واتصاف الفعل بالملاك في مرتبة المبادئ،
فإذن نكتة جعل الحكم مشروطا بشئ كونه دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك
في مرحلة المبادئ، ومن الواضح أن هذا الاتصاف أمر واقعي وليس
باعتباري، كما أن جعل شئ قيدا للمأمور به إنما هو بنكتة أنه دخيل في
ترتب الملاك عليه، وعلى هذا الأساس فلا فرق بين التكوينيات والتشريعيات،
باعتبار أن الشروط في التشريعيات ترجع في الحقيقة إلى شروط للأمور الواقعية،
فإنها إن كانت للوجوب إثباتا فهي شروط في الحقيقة للاتصاف في مرحلة
المبادئ ثبوتا، وإن كانت للواجب كذلك، فهي شروط في الحقيقة لترتب الملاك
عليه في الخارج، فما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من البرهان وهو أن العلة التامة لا
يمكن تقدمها بتمام أجزائها على المعلول، كما لا يمكن تأخرها كذلك عن
المعلول متين جدا، إلا أنه يمكن علاج الشرط المتقدم بإرجاعه إلى الشرط
المقارن لبا وواقعا وإن كان منه صورة، بتقريب أن الشرط إن كان شرطا للوجوب
19

فهو في الحقيقة شرط لإيجاد الاستعداد والقابلية في الفعل للاتصاف بالملاك،
ويبقى هذا الاستعداد والقابلية فيه إلى أن تأتي سائر أجزاء العلة التامة، فإذا أتت
تمت العلة فأثرت في اتصاف الفعل بالملاك ووجوبه، وإن كان شرطا للواجب فهو
في الحقيقة شرط ومؤثر في إيجاد الاستعداد والصلاحية في الفعل لترتب الملاك
عليه، ويبقى الفعل على هذا الاستعداد إلى أن يتحقق سائر أجزاء العلة التامة، مثلا
رؤية هلال شهر رمضان تؤثر في إيجاد الاستعداد في الصوم ليوم الغد ويبقى
الصوم من الليل على هذا الاستعداد إلى أن تتحقق سائر أجزاء العلة التامة، فإذا
تحققت تمت العلة فأثرت حينئذ في اتصافه بالملاك ووجوبه، ولولا هذه الرؤية لم
تكن للصوم قابلية الاتصاف بالملاك، كما أن غسل الجنابة قبل الفجر في شهر
رمضان يؤثر في إيجاد الاستعداد في صوم الغد لترتب الملاك عليه ويبقى على
هذا الاستعداد إلى أن تمت سائر أجزاء العلة التامة.
ويمكن أن يكون هذا المعنى هو مراد المحقق الأصفهاني (قدس سره) من مقالته
في المقام، وحاصل هذه المقالة أن الشرط إن كان متمما لفاعلية الفاعل أو
قابلية القابل، فلابد أن يكون مقارنا مع المعلول، وأما إذا كان معدا، فشأنه أن
يقرب المعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة، ومثله لا يعتبر مقارنته مع
المعلول في الزمان، والخلاصة أن ما كان من الشرائط شرطا للتأثير كان حاله
حال ذات المؤثر، فلا يمكن أن يكون متقدما على المشروط، وما كان شرطا
لتقريب الأثر كان حاله حال المعد (1).
وعلى هذا فلا يرد عليه ما أورده بعض المحققين (قدس سره) من أنه إن أريد
بتقريب الشئ من الامتناع إلى الامكان تقريب الشئ الممتنع بالذات

(1) نهاية الدراية ج 2: ص 32.
20

كاجتماع النقيضين إلى الإمكان، فهو خلف فرض كونه ممتنعا بالذات، وإن
أريد به تقريبه من الامتناع بالغير أي الامتناع من ناحية عدم وجود علته إلى
الامكان، فهذا لا يعقل إلا بتقريب المعلول إلى علته بأن يكون شرطا دخيلا
في وجوده، وحينئذ يقال بأنه كيف يكون دخيلا في وجوده وهو متقدم عليه
في الوجود، وذلك (1):
أما عدم ورود الشق الأول من الإيراد فهو واضح، لأنه مجرد فرض لا
واقع له، ضرورة إنه لم يرد من المقرب تقريب الشئ من الامتناع بالذات إلى
الامكان، وأما عدم ورود الشق الثاني فلأن الظاهر أن مراده (قدس سره) من المقرب
ليس تقريب المعلول إلى العلة بمعنى أنه شرط دخيل في وجوده بقرينة أنه
جعل المعد والمقرب في مقابل المؤثر في الوجود، فلو كان مراده المؤثر فيه
فلا معنى لجعله في مقابله، فإذن هذه المقابلة تدل على أن مراده من المعد
والمقرب أنه أوجد الاستعداد في الفعل والتهيؤ له للاتصاف بالملاك أو لترتبه
عليه خارجا، مثلا رؤية الهلال في شهر رمضان تقرب الصوم وتهيؤه للاتصاف
بالملاك وتوجد فيه الاستعداد لذلك ويبقى على هذا التهيؤ والاستعداد إلى
اكتمال بقية الشروط، فإذن ليست الرؤية حينئذ من الشروط المتقدمة إلا صورة،
وأما واقعا ولبا فهي من الشروط المقارنة، فالنتيجة أنه لا مناص من الالتزام بهذا
التوجيه في الشرط المتقدم على مستوى الملاك بلا فرق بين أن يكون من شروط
الوجوب أو الواجب ونظير ذلك كثير في الأمور التكوينية، مثلا البيضة إنما تصبح
فرخ دجاجة لما فيها من الاستعدادات والمؤهلات الذاتية التي هي تعطى لها صفة
الحركة الجوهرية من النقص إلى الكمال ومن الامكان إلى الوجود ومن القوة إلى

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 185.
21

الفعلية إلى أن تصبح فرخا، وكذلك المني فإن فيه استعدادات ومؤهلات ذاتية
وهي تعطي له صفة الحركة نحو الكمال إلى أن يصبح إنسانا كاملا وهكذا.
فالنتيجة أن الشرط المتقدم لا يمكن أن يكون مؤثرا في إيجاد المشروط
المتأخر، على أساس استحالة تقدم العلة بتمام أجزائها على المعلول، ولكن
قد عرفت أن الشرط المتقدم وإن كان متقدما صورة إلا أنه مقارن في الحقيقة
وبحسب اللب والواقع.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو الشرط المتأخر، فتارة يقع في الشرط
المتأخر للوجوب وأخرى في الشرط المتأخر للواجب.
أما الكلام في الأول فهل يمكن أن يكون الوجوب مشروطا بشرط
متأخر، فيه قولان: فذهب جماعة من المحققين إلى أنه مستحيل، بتقريب أن
الشرط المتأخر إن كان مؤثرا بوجوده المتأخر في إيجاد المشروط في الزمن
المتقدم لزم تأثير المعدوم في الموجود، لفرض أنه معدوم حين وجود
المشروط، وإن كان مؤثرا من حين وجوده لزم انقلاب الواقع عما وقع عليه،
لفرض أن المشروط قد وقع في زمن متقدم، فلو كان الشرط المتأخر مؤثرا
في إيجاده في زمانه المتأخر لزم انقلاب وقوعه من زمن متقدم إلى زمن متأخر
وهو كما ترى، وإن لم يكن مؤثرا فيه أصلا، فمعناه أنه ليس بشرط، وهنا
خلف فرض كونه شرطا، وفي حل هذا الاشكال ودفعه عدة محاولات:
الأولى: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) وملخصه، إن شرط الحكم إنما
هو شرط له بوجوده اللحاظي الذهني التصوري لا بوجوده الخارجي الواقعي،
فالاستطاعة بوجودها الواقعي الخارجي ليست شرطا لوجوب الحج بل هي
شرط بوجودها اللحاظي التصوري، ورؤية الهلال في شهر رمضان شرط
لوجوب صوم الغد بوجودها اللحاظي وهو مقارن له لا متقدم، لأن المتأخر
22

إنما هو وجودها الخارجي دون الذهني وهكذا (1).
والخلاصة أن نتيجة هذه المحاولة ليست دفع الإشكال عن الشرط
المتأخر للحكم بل هي إنكار لكون الشرط متأخرا، فإن ما هو شرط وهو
الوجود الذهني ليس بمتأخر وما هو متأخر وهو الوجود الخارجي ليس
بشرط هذا.
وقد أورد على هذه المحاولة السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب أنها مبنية على
الخلط بين شرائط الحكم في مرتبة الجعل وشرائط الحكم في مرتبة المجعول،
فإن الوجود التصوري من مبادئ الجعل بلحاظ أنه فعل اختياري للمولى
وقائم به قيام صدوري، ومن الواضح أن صدوره من المولى بحاجة إلى ما
يتوقف عليه من مبادئ الفعل الاختياري كتصوره وتصور موضوعه وشرائطه
وما يرتبط به وهذا خارج عن محل الكلام، فإن محل الكلام إنما هو في
شرائط المجعول وهي أمور واقعية لا ذهنية، مثلا رؤية الهلال بوجودها الذهني
شرط لجعل وجوب الصوم بنحو القضية الحقيقية وبوجودها الخارجي شرط
للحكم المجعول في مرحلة الفعلية، والكلام إنما هو في شرطية رؤية الهلال
بوجودها الخارجي للثاني، فإذن يبقى الإشكال بلا حل.
وبكلمة أن جعل الحكم الشرعي كقضية حقيقية التي ترجع إلى قضية
شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له لا يتوقف على
وجود الموضوع والشرط في الخارج، على أساس أنه مجعول على الموضوع
المفروض الوجود فيه لا على الموضوع المحقق وجوده، وأما المجعول فهو
يتوقف على فعلية الموضوع في الخارج وتحققه فيه، وعليه فإذا كان الشرط

(1) كفاية الأصول: ص 93.
23

متأخرا عنه لزم محذور تأثير المتأخر في المتقدم (1) هذا، ويمكن نقد ذلك بما
ذكرناه موسعا في مبحث القطع وملخصه، أن الإشكال في المقام مبني على ما بنى
عليه (قدس سره) من أن للحكم مرتبتين:
1 - مرتبة الجعل.
2 - مرتبة المجعول.
وهي مرتبة فعلية الحكم بفعلية موضوعه، ولكن هذا المبنى بالتحليل لا
يرجع إلى معنى محصل، وذلك لأن حقيقة الحكم أمر اعتباري لا واقع
موضوعي له ما عدا وجوده في عالم الاعتبار والذهن ولا يمكن تحققه في
عالم الخارج هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الحكم يتحقق باعتبار المعتبر وجعله، ولا يمكن
أن يؤثر فيه شئ من موجود خارجي باسم الموضوع والشرط وإلا لكان
خارجيا لا اعتباريا وهو كما ترى، فإذن الحكم الشرعي فعلي بمجرد الجعل
والاعتبار، لأن معنى فعليته هو وجوده الاعتباري في عالم الذهن والاعتبار
ولا يعقل فيه التأثير والتأثر لأمرين:
الأول: أنه لا واقع موضوعي له في الخارج حتى يقبل ذلك.
الثاني: أن أمره بيد المعتبر مباشرة، فلو كان يقبل التأثر بشئ آخر
ومتولدا منه لزم خلف فرض كون أمره بيده كذلك.
ومن هنا يظهر أنه ليس للحكم عالم آخر غير عالم الاعتبار والجعل
وأما المجعول فهو عين الجعل فلا اختلاف بينهما ذاتا كالايجاد والوجود، وأما
تفسيره بفعلية الحكم بفعلية موضوعه في الخارج فهو مبنى على التسامح ولا

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 313.
24

واقع له، ضرورة أنه ليس للحكم فعلية أخرى غير فعليته بالاعتبار والجعل في
عالم الذهن، ولا يمكن أن يراد من المجعول ما هو مسبب عن الجعل ومعلول
له وقد يتأخر وجوده عن وجوده، أما أولا فلأن السببية والمسببية لا تتصوران
في الأمور الاعتبارية.
وثانيا أنه لا يمكن أن يكون مسببا عنه في الخارج وإلا لزم أن يكون
خارجيا لا شرعيا، وثالثا أنه ينافي كونه فعلا إختياريا للمعتبر مباشرة.
والخلاصة أن للحكم الشرعي مرتبة واحدة وهي مرتبة الجعل والاعتبار
وهو يوجد في هذا العالم ويصبح فعليا فيه بنفس الجعل والاعتبار ولا يعقل تأثره
بالأمور الخارجية ولا تتوقف فعليته على فعلية موضوعه في الخارج، لأنه فعلي
في عالمه وهو عالم الاعتبار والذهن، سواء أكان موضوعه فعليا فيه أم لا،
ضرورة أنه لا يتأثر بوجود موضوعه خارجا كما عرفت، وعلى هذا فشرائط
المجعول هي شرائط الجعل باعتبار أنه عينه ولا اختلاف بينهما، ولا يمكن القول
بأن شرائط المجعول الوجودات الواقعية الخارجية وشرائط الجعل الوجودات
اللحاظية التصورية، لما مر من استحالة أن يكون الحكم متأثرا بالموجودات
الخارجية وإلا لكان خارجيا، فإذن لا يتصور أن يكون الحكم مشروطا بشرط
متأخر، لأن التأخر إنما يكون في الوجودات الخارجية لا في الوجودات
اللحاظية التصورية، والمفروض أنها بوجوداتها اللحاظية شروط للحكم، نعم أن
وجود الشرط في الخارج سبب لفعلية فاعلية الحكم لا لفعليته نفسه ولكنها ليست
من مراتب الحكم فإنها أمر تكويني، فإذا أوجدت الاستطاعة مثلا في الخارج
أصبح وجوب الحج فاعلا ومحركا للمكلف فعلا من جهة إدراك العقل حينئذ
العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته.
والخلاصة أن شرائط الحكم كالاستطاعة ونحوها لا يمكن أن تكون
25

شرائط له بوجوداتها الواقعية الخارجية، لاستحالة أن يتأثر الحكم الشرعي بها،
نعم إنها بوجوداتها الخارجية شروط لفعلية فاعليته ومحركيته في الخارج،
والمفروض أنها أمر تكويني، فلا يعقل أن يكون من مراتب الحكم.
تحصل أن شرائط الحكم حيث إنها متمثلة في وجوداتها اللحاظية، فلا
يمكن فرض الشرط المتأخر فيها، وأما شرائط فاعلية الحكم ومحركيته فعلا،
فبما أنها وجوداتها الخارجية فيمكن تصوير الشرط المتأخر فيها، ولكنه
مستحيل وقوعه في الخارج لاستحالة أن تكون الشئ المتأخر في ظرفه
مؤثرا في فاعليته ومحركيته في الزمن المتقدم، لما مر من أن مرده إما إلى
تأثير المعدوم أو قلب الواقع عما وقع عليه أو عدم التأثير أصلا، كل ذلك لا يمكن
كما تقدمت، ودعوى أن محركية وجوب الحج وفاعليته إما أن تكون من حين
تحقق الاستطاعة وإن كان قبل أشهر الحج أو بعد دخولها مع إنها مشروطة بحضور
يوم عرفة بنحو الشرط المتأخر، مدفوعة بأن حضور يوم عرفة شرط لوجوب
الوقوف فيها الذي هو ركن للحج لا لوجوب الحج أعم من عمرة التمتع والحج،
فإن وجوبه فاعل من حين دخول أشهر الحج.
وأما شرائط اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ فهي أمور
تكوينية واقعية، على أساس أن المشروط بها أمر تكويني وهو الاتصاف به،
وعلى هذا فلا يمكن أن يكون الاتصاف مشروطا بشرط متأخر لنفس
المحذور المتقدم.
المحاولة الثانية ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) بتقريب، أنه يمكن أن
يفترض دخل الشرط المتأخر في اتصاف الفعل بالملاك بأحد نحوين:
الأول: أن يكون الشرط المذكور دخيلا في احتياج الملاك إلى الفعل
المتقدم لا في الزمن المتقدم بل في زمن الشرط، ولكن الفعل المحتاج إليه إما
26

أن يكون الجامع بين الزمن المتقدم والزمن المتأخر، وهذا الجامع هو المتصف
بالملاك، وأما وجوبه فبما أنه ثابت من أول أزمنته، فيكون متقدما على الشرط أو
خصوص الفعل المتقدم لخصوصيته فيه التي تفوت على المكلف إذا لم يفعله في
اليوم المتقدم كما إذا رأى المولى أن عبده سيحتاج في الشتاء إلى شراء الفحم مثلا
إلا أنه لا يمكنه شرائه إذا جاء وقت الشتاء، فيوجب شراء الفحم في الصيف
شريطة بقائه حيا في الشتاء.
الثاني: أن يكون الاحتياج حاصلا في زمان الواجب المتقدم، والشرط
المتأخر ليس هو الذي يولد الاحتياج، إلا أن يكون عدم تحققه في زمانه
المتأخر موجبا لمفسدة أشد مثلا لو كان في شرب الدواء فائدة ولكن تلك
الفائدة مشروطة بعدم ابتلاء الإنسان بالبرد بعد ذلك وإلا كان شربه مضرا له،
ومعنى هذا أنه يشترط في شرب الدواء في الزمن المتقدم عدم تعرضه للبرد في
المستقبل (1).
و يمكن المناقشة في كلا النحوين:
أما النحو الأول فلأن الفعل الوافي بالملاك المتأخر إذا كان الجامع بين
الفعل المتقدم والفعل المتأخر وهو الفعل في زمن الشرط، فبطبيعة الحال كان
الوجوب متعلقا بالجامع لا بالفعل من أول أزمنته كما هو المفروض في كلامه،
لأن معناه التعلق بالحصة الطولية مع أنه يتبع الفعل الوافي بالملاك وهو في
المقام الجامع بلا خصوصية لهذه الحصة أو تلك ولا يمكن فرض تخلفه عنه،
هذا إضافة إلى أن المثال أو ما شاكله يختلف عما هو محل الكلام في المسألة
في نقطة، وهي أن الواجب الحقيقي في المثال أو ما شاكله مقارن زمانا

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 181 - 182.
27

للشروط، وحيث أن ملاكه تام في ظرفه وملزم فهو يؤثر في حكم العقل
بالحفاظ عليه بأي وسيلة ممكنة، وإن كانت بحفظ القدرة عليه قبل وقته، ولا
يجوز تفويته ولو بتفويت القدرة قبل الوقت أو التقصير في تحصيلها، لأن
القدرة المعتبرة فيه قدرة مطلقة، لا قدرة خاصة وهي القدرة في الوقت، وعلى
هذا فإن تمكن المكلف من الحفاظ عليه بتحصيل القدرة في الوقت لم يجب
عليه تحصيلها قبل الوقت، بل هو حينئذ مخير بين تحصيلها قبل الوقت
والحفاظ عليها إلى أن جاء الوقت وبين تحصيلها في الوقت، فإذن الواجب هو
الجامع بين الفعل في الزمن المتقدم والفعل في الزمن المتأخر، ولكن وجوب
الجامع عندئذ وجوب مقدمي والحاكم به العقل من باب حكمه بوجوب
الاتيان بالمقدمات المفوتة، وإن لم يتمكن المكلف من تحصيل القدرة عليه
في الوقت، وجب عليه تحصيلها قبل الوقت بالإتيان بكل مقدمة لها دخل في
القدرة عليه، وهذا لا من جهة خصوصية في هذه المقدمة، بل من جهة أنه لو
لم يأت بها لفات الملاك الملزم عنه في ظرفه كما هو الحال في جميع
المقدمات المفوتة، والمثال من هذا القبيل، فإن المكلف إن كان متمكنا من
تهيئة الفحم أو بديله في وقت الشتاء لم يجب عليه شرائه أو شراء بديله في
الصيف، بل هو حينئذ مخير بين أن يقوم بشرائه في الصيف أو في الشتاء،
فالواجب عليه من باب المقدمة الجامع بين الفعل المتقدم والفعل المتأخر، وإن
لم يتمكن من تهيئة الفحم أو بديله في وقت الشتاء، وجب عليه شرائه في
الصيف حتى لا يفوت عنه الملاك الملزم في ظرفه، فوجوب شراء الفحم في
الصيف إذا لم يتمكن منه في الشتاء ليس لخصوصية فيه، بل من أجل التحفظ
على الملاك الملزم في ظرفه وعدم جواز تفويته ولو بتفويت القدرة قبل الوقت.
إلى هنا قد تبين أن المثال أو ما شاكله ليس من صغريات المسألة في
28

محل الكلام، فإن محل الكلام في المسألة إنما هو في أن اتصاف الواجب
بالملاك في مرحلة المبادئ، هل يمكن أن يكون مشروطا بشرط متأخر أو
لا، وأما في المثال أو ما شاكله فالواجب بما له من الملاك مقارن للشرط
والمتقدم زمانا إنما هو مقدماته المفوتة، وفي مثل ذلك إذا أحرز أن ملاك
الواجب تام في ظرفه ولا يجوز تفويته في أي حال وإن كان بتفويت القدرة
عليه قبل الوقت، يستقل العقل بلزوم الاتيان بمقدماته المفوتة قبل الوقت
لتحصيل القدرة عليه إذا لم يتمكن من تحصيلها في الوقت، فالنتيجة أن هذا
ليس توجيها لتأثير الشرط المتأخر في اتصاف الواجب بالملاك في الزمن
المتقدم، بل هو بيان أن ملاك الواجب إذا كان تاما في ظرفه ومهما بحيث لا
يجوز تفويته ولو بترك تحصيل القدرة عليه قبل الوقت، كان يؤثر في إيجاب
مقدماته المفوتة قبل الوقت عقلا.
وأما النحو الثاني فهو أيضا غير تام حتى في المثال المذكور، لأن تأثير
الدواء في بدن المريض منوط بتوفر شروط منها استعداد بدنه للبرء وقبوله
الصحة وعدم تدهور صحته بشكل إنتهى مفعوله ومنها غير ذلك، فإذا توفرت
شروطه أثر الدواء تدريجا مرحلة بعد مرحلة بقدر مفعوله، شريطة أن لا
يكون هناك مانع، فإذا كان مانع، فإن كان من الأول فهو مانع عن تأثيره
حدوثا، وإن حدث بعد ذلك بسبب أو آخر فهو مانع عن تأثيره بقاء، وقد
يؤثر في تدهور صحته أكثر من السابق ويبطل مفعول الدواء الأول نهائيا، كل
ذلك لا صلة بتأثير الشرط المتأخر، لوضوح أن حدوث المانع في زمن متأخر
لا يكشف عن عدم تأثير الدواء من الأول، بل هو يمنع عن تأثيره بقاء، وعلى
هذا فمعنى أن فائدة شرب الدواء مشروطة بعدم تعرض المريض للبرء، مثلا
أن تأثيره في رفع المرض عن المريض منوط بعدم تعرضه له حدوثا وبقاء،
29

فعلى الأول فهو مانع عن تأثيره حدوثا، وعلى الثاني فهو مانع عن تأثيره بقاء.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الشروط إذا كانت شروطا
للحكم، فقد تقدم أنها شروط له بوجوداتها اللحاظية التصورية، فلذلك لا
يتصور فيها الشرط المتأخر، وإذا كانت شروطا لفاعلية الحكم ومحركيته في
الخارج فهي بطبيعة الحال شروط لها بوجوداتها الخارجية بملاك أن المشروط
أمر خارجي، وحينئذ فالشرط المتأخر وإن كان متصورا فيها، إلا أنكم عرفتم
استحالة ذلك وعدم إمكان كونها مشروطة به، وإذا كانت شروطا لاتصاف
الفعل بالملاك فهي أيضا شروط لها بوجوداتها الخارجية، على أساس أن
المشروط أمر تكويني، وقد مر استحالة كونه مشروطا بشرط متأخر، وما
سبق من المحاولة لتصحيح ذلك فقد تقدم ما فيها.
وأما الكلام في الثاني وهو الشرط المتأخر للواجب، فتارة يقع في
شروط الواجب وأخرى في شروط الملاك المترتب عليه خارجا.
أما الأولى فلا مانع من أن يكون الواجب مقيدا بقيد متأخر، كما أنه لا
مانع من أن يكون مقيدا بقيد متقدم أو مقارن، إذ ليس هذا من باب تأثير
الشرط المتأخر في المتقدم، لكي يقال أنه محال بل هو من باب تخصيص
الواجب بحصة خاصة وهي الحصة المقيدة بقيد متأخر، إذ كما أنه لا مانع من
تقييده بقيد مقارن أو متقدم، كذلك لا مانع من تقييده بقيد متأخر كتقييد صحة
صوم المستحاضة يوم الخميس مثلا بغسلها ليلة الجمعة، فالواجب عليها حصة
خاصة من الصوم وهي الحصة المقيدة بغسلها في الليلة القادمة، ومعنى ذلك أن
هذه الحصة المأمور بها لا تتحقق إلا بتحقق قيدها الأخير، باعتبار أن التقيد به
جزئها.
وأما الثانية فهي عكس الأولى، لأن الشرط فيها بمعناه الحقيقي أي كونه
30

مؤثرا في المشروط وهو ترتب الملاك على الواجب، وعلى هذا فلا يمكن أن
يكون مشروطا بشرط متأخر لاستحالة تأثير المتأخر في شئ في زمن متقدم،
وعلى كلا التقديرين فهو من الشرط المقارن لا المتأخر.
وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني (قدس سره) بما إليك نصه:
وهو أن كون الشئ شرطا للمأمور به ليس إلا ما يحصل لذات المأمور
به بالإضافة إليه وجه عنوان به يكون حسنا أو متعلقا للغرض، بحيث لولاها
لما كان كذلك، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه
والاعتبارات الناشئة من الإضافات مما لا شبهة فيه ولا شك يعتريه، والإضافة
كما تكون إلى المقارن تكون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلا، كما لا
يخفى على المتأمل، فكما تكون إضافة شئ إلى مقارن له موجبا لكونه
معنونا بعنوان يكون بذلك العنوان حسنا ومتعلقا للغرض، كذلك إضافته إلى
متأخر أو متقدم، بداهة أن الإضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلك أيضا، فلولا
حدوث المتأخر في محله لما كان للمتقدم تلك الإضافة الموجبة لحسنه
الموجب لطلبه والأمر به، كما هو الحال في المقارن أيضا، ولذلك أطلق عليه
الشرط مثله بلا انخرام للقاعدة أصلا، لأن المتقدم أو المتأخر كالمقارن ليس
إلا طرف الإضافة الموجبة للخصوصية الموجبة للحسن، وقد حقق في محله
أنه بالوجوه والاعتبارات، ومن الواضح أنها تكون بالإضافات. فمنشأ توهم
الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر، وقد عرفت أن إطلاقه عليه فيه كإطلاقه
على المقارن إنما يكون لأجل كونه طرفا للإضافة الموجبة للوجه الذي يكون
بذاك الوجه مرغوبا ومطلوبا كما كان في الحكم لأجل دخل تصوره فيه
كدخل تصور سائر الأطراف والحدود التي لولا لحاظها لما حصل له الرغبة في
31

التكليف ولما صح عنده الوضع (1).
ما أفاده (قدس سره) يرجع إلى عدة نقاط:
الأولى: أن الحسن والقبح العقليين من العناوين الاعتبارية التي تختلف
باختلاف الوجوه والاعتبارات والإضافات.
الثانية: أن المأمور به كما يتعنون بعنوان حسن بإضافته إلى قيد مقارن،
كذلك يتعنون بعنوان حسن بإضافته إلى قيد متقدم أو متأخر ولا فرق بينهما
في ذلك.
الثالثة: أن الشرط للمأمور به إنما هو إضافته إلى قيد ما وهي مقارنة له،
سواء كان طرفها أيضا مقارنا أو متقدما أو متأخرا، ولنأخذ بالنظر إلى هذه
النقاط.
أما النقطة الأولى فهي صحيحة، فإن حسن الأفعال أو قبحها يختلف
باختلاف الوجوه والاعتبارات، فإذا كان الفعل مصداقا للظلم فهو قبيح، وإذا
كان مصداقا للعدل فهو حسن، فالعدل تمام الموضوع للحسن بنحو العلة التامة
والظلم تمام الموضوع للقبح كذلك، ومن هنا تكون قضية قبح الظلم وحسن
العدل من القضايا الأولية الرئيسية لسائر القضايا العقلية العملية، على أساس إن
كلما بالغير لابد وأن يرجع إلى ما بالذات، وعلى هذا فطالما يكون عنوان الظلم أو
العدل صادقا على عمل، فلا يمكن إفتراض مزاحم له، بداهة أنه لا يمكن لأي
فرد أن يسمح لنفسه الاعتراف بعدم قبح الظلم أو حسن العدل مع الاعتراف بأنه
ظلم أو عدل، فإنه بذلك يكذب وجدانه ويكابر نفسه.
نعم ما يكون موضوعا للحسن أو القبح بنحو الاقتضاء كالصدق والكذب،

(1) كفاية الأصول: ص 93 - 94.
32

فإن في الأول اقتضاء للحسن وفي الثاني اقتضاء للقبح، فقد يقع التزاحم بين هذه
المقتضيات، كما إذا لزم من الصدق الخيانة فإنها تزاحم مثلا اقتضاء الصدق
للحسن.
والخلاصة أنه لا شبهة في أن الأفعال تختلف حسنا وقبحا باختلاف
العناوين والاعتبارات والتفصيل في محله.
وأما النقطة الثانية، فكما أن حسن الأفعال أو قبحها يختلف باختلاف
الإضافة فكذلك مصلحتها أو مفسدتها، فإنها تختلف باختلاف الإضافة ونقصد
بالإضافة هنا تقيد تلك الأفعال بقيود، مثلا المصلحة القائمة بالصلاة لا تترتب
عليها مطلقا بل ترتبها عليها منوط بتقيدها بالطهارة من الحدث والخبث
واستقبال القبلة والقيام والطمأنينة وما شاكل ذلك، ونتيجة هذا أن المصلحة
مترتبة على حصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة المقيدة بقيودها وشروطها
جميعا، وهذا معنى أن الإضافة دخيلة فيها، ومن هنا إذا صلى المصلي في
الأرض المباحة فصلاته صحيحة وإذا صلى في الأرض المغصوبة فصلاته
باطلة ومشتملة على مفسدة، والنكتة في ذلك أن تقييد الشارع المأمور به
بقيود لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة، ومن الواضح أن النكتة المبررة
كذلك إنما هي دخالة تلك القيود في الملاك المترتب على المأمور به، وعلى
هذا فكل قيد مأخوذ فيه من قبل الشارع فهو كما أنه قيد له كذلك قيد دخيل
في ترتب الملاك، فإن القيد كما يوجب تخصيص المأمور به بحصة خاصة،
كذلك يوجب تخصيص الملاك بها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القيد
مقارنا للمأمور به أو متأخرا عنه، على أساس أن التقيد به جزئه ودخيل في
ترتب الملاك عليه كسائر أجزائه، وتحقق هذا الجزء إنما هو بتحقق طرفيه هما
ذات المقيد وذات القيد باعتبار أنه متقوم بهما ذاتا وحقيقة ولا ذات له إلا
33

ذاتهما، فإذا فرضنا أن صوم المستحاضة في اليوم الخميس مثلا مشروط
بغسلها في ليلة الجمعة، فمعناه أن الواجب حصة خاصة من الصوم وهي الصوم
المقيد بالغسل في الليل والملاك قائم به ومترتب عليه في الخارج، والمفروض
أن الحصة لا تتحقق إلا بتحقق الغسل في الليل، بلحاظ أن جزئه وهو التقيد لا
يتحقق إلا بتحققه، وعلى هذا فلا موضوع للشرط المتأخر في شروط المأمور
به إلا صورة لا لبا وواقعا.
وأما النقطة الثالثة، فيرد عليها أن إضافة المأمور به إلى قيد ما ليست
شرطا له، بل هي جزئه كسائر أجزائه، فما ذكره (قدس سره) من أنها شرط للمأمور به
غير دقيق، إلى هنا قد تبين أن ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) من الجواب غير
تام هذا، وقد أجاب عن الإشكال بعض المحققين (قدس سرهم) ببيان آخر وهو أن الإشكال
في المقام نشأ من إفتراض أن المأمور به هو المقتضي للمصلحة المطلوبة كصحة
المزاج مثلا في مثال المريض، وأن الأمر المتأخر هو الشرط في تحقق تلك
المصلحة، فيقال لو فرض تحقق المصلحة حين المقتضي وهو وجود المأمور به
لزم تأثير المتأخر في المتقدم، ولو فرض تحققها حين الشرط لزم تأثير المقتضي
بعد انقضائه وكلاهما محال ولكن هناك فرض آخر ينحل به الإشكال، وهذا
الفرض عبارة عن أن المقتضي للمصلحة المطلوبة ليس مقتضيا لها بالمباشرة، بل
إنه يوجد أثرا معينا ويكون ذلك الأثر هو الحلقة المفقودة بين المقتضي وهو
المأمور به والمصلحة المطلوبة، وهذا الأثر يبقى إلى زمان تحقق الشرط المتأخر،
فإذا بقي إلى ذلك الزمان فبمجموعهما تكتمل أجزاء علة التامة للمصلحة المتوخاة
فتحصل المصلحة، فشرب الدواء مثلا يولد حرارة معينة في الجسم وتلك الحرارة
تبقى إلى زمان المشي أو الامتناع عن الطعام مثلا فتؤثر في صحة المزاج المطلوبة،
و هذا شئ مطرد في كل المقتضيات التي يظهر أثرها بعد انضمام شرط متأخر
34

يحصل بعد فقدان ذلك المقتضي، وهذا الأثر الذي يبقى بعد فقدان المقتضي هو
المقتضى للنتيجة المطلوبة، وأما بقاء هذا الأثر بعد زوال مؤثره إنما هو بمؤثر آخر،
فإن علة حدوثه غير علة بقائه وهذا لا مانع منه، فإن في كثير من الأشياء علة
حدوثها غير علة بقائها كالعمارات والبنايات مثلا، فإن علة حدوثها حركة أيدي
العمال والفنانين، وأما علة بقائها فهي تماسك أجزائها بعضها مع بعضها الآخر من
ناحية، والقوة الجاذبية العامة التي تحفظ على وضعها من ناحية أخرى.
ونتيجة هذا البيان أن ما هو الشرط في الحقيقة مقارن للمأمور به وليس
بمتأخر، فإذا صح ذلك في الأمور التكوينية فليكن الأمر كذلك في الأمور
التعبدية (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن هذا البيان وإن كان تاما في كل
المقتضيات من الأمور التكوينية التي يظهر أثرها في زمان تحقق الشرط
المتأخر وبعد فقدان المقتضي كشرب الدواء، فإنه يوجد أثرا في جسم
المريض، وهذا الأثر يبقى بعد انقضاء شرب الدواء ويرفع المرض بالتدريج
شريطة أن لا يصادم بالمانع عن تأثيره كتعرضه للبرد أو أكله الحامض أو غير
ذلك، ولكن لا يمكن تطبيق ذلك على الأمور التعبدية، وذلك لأن فرض أن
صوم المستحاضة مثلا أوجد أثرا وذلك الأثر يبقى بعد انقضاء الصوم إلى زمان
غسلها في الليل وهو بمثابة المقتضي، فإذا ظل إلى زمان الشرط فبالمجموع
تكتمل العلة التامة للمصلحة المطلوبة مجرد فرض كأنياب الأغوال، والنكتة
فيه أن الصوم الذي مضى وانقضى، قد تسأل هل هو وقع صحيحا أو باطلا
وكلاهما لا يمكن، أما الأول فلأنه خلف فرض كون صحته مشروطة بالغسل

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 183.
35

في الليل، وأما الثاني فلأنه خلف فرض كون المصلحة قائمة به ومترتبة عليه
إذا وقع صحيحا لا مطلقا.
ودعوى أن صحته معلقة على تحقق الشرط في ظرفه، فإذا تحقق صح
وإلا لم يصح، وإن كانت صحيحة إلا أن معنى ذلك هو أن المأمور به حصة
خاصة من الصوم وهي الصوم المقيد بالغسل في الليل اللاحق، بحيث يكون
التقييد به جزئه والقيد خارج، ونتيجة ذلك أن الصوم المأمور به لم يتحقق
طالما لم يتحقق الشرط في ظرفه، باعتبار أن التقيد به جزئه لا أنه تحقق
ومضى وأثره يبقى، فالنتيجة أنه لا يمكن تطبيق هذه الفرضية على الواجبات
الشرعية، فإن موردها إنما هو المقتضيات التكوينية كشرب الدواء ونحوه هذا،
والتحقيق في المنقام أن يقال أن أخذ شئ في لسان الدليل قيدا للمأمور به
كما يكون ظاهرا في أنه دخيل فيه ويوجب تقييده بحصة خاصه وهي الحصة
المقيدة به، كذلك ظاهرا في أنه دخيل في ملاكه وترتبه عليه خارجا، ولا
فرق في ذلك بين القيد المقارن والمتقدم والمتأخر، إذ على جميع التقارير
يكون التقيد به جزء المأمور به والقيد خارج، وعلى هذا فالمأمور به الحصة
والملاك قائم بها ومترتب عليها خارجا، وبكلمة واضحة كما أنه لا إشكال من
ناحية كون الشرط المتأخر قيدا للمأمور به على أساس أنه يوجب تخصيصه
بحصة خاصة وهي الحصة المقيدة بقيد متأخر كذلك لا إشكال من ناحية كونه
شرطا للملاك ودخيلا فيه، لأن دخله فيه كدخل سائر أجزاء المأمور به
وقيوده بمعنى أن كل واحد منها جزء العلة فالحصة بجميع أجزائها وقيودها
منها قيدها المتأخر تمام العلة لحصول الملاك ومترتب عليها غرض المولى،
ومن الواضح أن هذه الحصة لا تتحقق طالما لم يتحقق قيدها المتأخر لغرض
أن التقيد به جزئها، فإذن يكون القيد المتأخر بمثابة الجزء الأخير من العلة
36

التامة، إذ كما أن صحة الحصة المأمور بها تتوقف على الاتيان بها بتمام
أجزائها وقيودها منها قيدها المتأخر، كذلك ترتب الملاك عليها يتوقف على
الاتيان بها كذلك، وعليه فلو ثبت أن غسل المستحاضة في الليل المقبل قيد
لصومها في اليوم بنحو القيد المتأخر، كان الواجب عليها حصة خاصة من
الصوم وهي الصوم المقيد بالغسل في الليل اللاحق وهو تمام العلة للصحة
وترتب الملاك وكل جزء منه جزء العلة وتأثيره منوط بتأثير الآخر لا مستقلا.
ودعوى أن العلة التامة إنما تكون مؤثرة إذا توفرت جميع أجزائها في
آن التأثير وموجودة في هذا الآن وإلا فلا يعقل تأثيرها، وفي المقام ليس
كذلك، لأن الصوم قد انقضى وانعدم في زمان القيد المتأخر فكيف يعقل أن
يكون المجموع مؤثرا كعلة تامة مع أن المقتضى معدوم.
مدفوعة بأن المقتضي ليس هو طبيعي الصوم في المثال بل هو حصة
خاصة وهي الحصة المقيدة بالقيد المتأخر، فالمعدوم إنما هو طبيعي الصوم
وأما الحصة فهي بعد لم توجد وإنما توجد بإيجاد قيدها الأخير المتأخر
باعتبار أن التقيد به جزء الحصة ومقوم لها والقيد خارج، ولهذا يكون بمثابة
الجزء الأخير من العلة التامة، فتمام الموضوع للأمر والملاك هو الحصة، فإذا
وجدت سقط الأمر وحصل الملاك، ومن الواضح أن الحصة لم توجد إلا
بإيجاد قيدها المتأخر، فإذا وجد، وجدت الحصة بتمام أجزائها طولا هذا
نظير الواجبات المركبة من الأجزاء الطولية كالصلاة والصيام والحج وما شاكل
ذلك، فالصلاة بما أن أجزائها تدريجية فلا يمكن اجتماعها في آن واحد،
فكل جزء منها يوجد بعد انقضاء الجزء السابق وهكذا، هذا بلحاظ ذوات
الأجزاء، وأما بلحاظ جزئيتها فكل واحد منها مرتبط بالآخر ثبوتا وسقوطا،
فالسابق يرتبط باللاحق وبالعكس، فالمجموع كتلة واحدة وغير قابلة للتجزئة
37

وهي مؤثرة في آن واحد، وهو أن الانتهاء من الجزء الأخير في الصحة وترتب
الملاك لا أن كل جزء يؤثر في ظرفه، فإنه خلف فرض أن الجميع واجب
واحد لا أن كل جزء واجب مستقل، ولا أن الجزء السابق يؤثر أثرا وذلك
الأثر يبقى بعد انقضاء الجزء، لأن ذلك مبني على أن المؤثر والمقتضي ذات
الجزء مع أن الأمر ليس كذلك، ضرورة أن المؤثر حصة خاصة منه وهي
الحصة المرتبطة والمتصفة بالجزئية، ومن الواضح أن هذه الحصة لا توجد إلا
بوجود جميع الأجزاء من البداية إلى النهاية ككتلة واحدة، وبذلك يظهر حال
صوم المستحاضة في المثال.
هذا إضافة إلى أنه فرق في ذلك بين الأمور التعبدية والأمور التكوينية،
أما في الأمور التكوينية فلا يمكن القول بأن المقتضي حصة خاصة من النار
مثلا، بل المقتضي ذات النار والمماسة بينها وبين الحطب شرط لفاعليتها
ورطوبة الحطب مانعة عنها، وأما في الأمور التعبدية فيكون الأمر بعكس ذلك
تماما، إذ لا يمكن القول بأن المقتضى ذات الصوم مثلا، ضرورة أن ما هو
المقتضي والموضوع للأثر والملاك هو حصة خاصة منه وهي الحصة المقيدة
بقيود، سواء كانت تلك القيود مقارنة أم متأخرة ولا قيمة لذات الصوم شرعا
بدون قيوده، ومن هنا يظهر أن منشأ الاشكال تخيل أن المقتضي ذات الصوم
والقيد المتأخر شرط لفاعليته، ولكن قد عرفت أنه لا واقع موضوعي لهذا
الخيال وأن المقتضى والموضوع حصة خاصة منه وهذه الحصة لا توجد إلا
بوجود قيدها المتأخر الأخير، باعتبار أن التقيد به داخل فيها، فإذن لا
موضوع للشرط المتأخر في شروط المأمور به.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن شرائط المأمور به قيود
مأخوذ فيه ويوجب تخصصه بحصة خاصة وهي الحصة المقيدة بها، ولا فرق
38

بين أن تكون تلك القيود من القيود المقارنة أو المتأخرة أو المتقدمة، فإنه على
جميع التقادير لا توجد الحصة إلا بإيجادها وإن كانت متأخرة.
أجاب عن ذلك أيضا المحقق النائيني (قدس سره) وحاصله، أن مرد شرطية شئ
للمأمور به هو أن الشارع جعل متعلق أمره حصة خاصة من الفعل وهي
الحصة المتقيدة به لا مطلقا، فإن معنى كون الطهارة من الحدث شرط للصلاة
هو أن المأمور به حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بها لا مطلقا، فحال
القيد حال الجزء فكما أن الجزء متعلق للأمر النفسي فكذلك الشرط، ولا فرق
بينهما من هذه الناحية، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه لا مانع من أن
يكون بعض أجزاء المأمور به متأخرا عن بعض آخر ولا محذور فيه، بل هو
واقع في كثير من الواجبات الشرعية كالصلاة والصيام والحج ونحوها، فإن
الصلاة مركبة من الأجزاء الطولية فلا يجتمع جزءان منها في آن واحد، وكذلك
الصوم والأمر متعلق بتلك الأجزاء المرتبطة بعضها مع بعضها الآخر طولا، وكذا
لا مانع من أن يكون بعض القيود متأخرا عن بعضها الآخر، فإن مرجع ذلك إلى أن
الواجب حصة خاصة وهي الحصة المقيدة بتلك القيود سواء أكانت متقدمة أم
مقارنة أم متأخرة، فطالما لم تتحقق شروطها جميعا من المتقدم والمقارن
والمتأخر لم تتحقق الحصة، فغسل المستحاضة في الليل اللاحق لو كان شرطا
لصحة صومها اليوم وإن كان متأخرا عن إجزاء الصوم وسائر شروطها إلا أنه ليس
متأخرا عن الواجب، فإن الواجب حصة خاصة منه وهي الحصة المقيدة يغسلها
في الليل اللاحق، فطالما لم تغتسل فيه لم يتحقق ما هو مصداق الواجب وهو
الحصة الخاصة، بل ذكر (قدس سره) أنه ليس في الأمور التشريعية التأثير والتأثر تكوينا
وإنما هو جعل الأحكام على المتعلقات ولا مانع من جعل الحكم لشئ مقيدا بقيد
مقارن أو متقدم أو متأخر، ومعنى ذلك هو أن الواجب مقيد بهذه القيود المختلفة
39

و لا يمكن امتثاله بدون الاتيان بها فحال الشرط المتأخر حال التسليمة في
الصلاة، فكما لا يمكن امتثال الصلاة بدون الاتيان بالتسليمة، فكذلك لا يمكن
امتثال الواجب بدون الاتيان بشرطه المتأخر (1).
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من أن مرد قيود المأمور به إلى كونه حصة
خاصة وهي الحصة المقيدة بها، بلا فرق بين أن تكون تلك القيود من القيود
المقارنة أو المتقدمة أو المتأخرة وإن كان صحيحا كما تقدم تفصيله، إلا أن ما
أفاده (قدس سره) من أن حال الشرط كحال الجزء، فكما أن الجزء متعلق للأمر النفسي
فكذلك الشرط من جهة وأنه لا تأثير ولا تأثر في الأمور التشريعية من جهة
أخرى، فلا يمكن المساعدة عليه أي على كلتا الجهتين، أما الجهة الأولى
فلأن الشرط ليس كالجزء، فإن الجزء متعلق للأمر النفسي تقيدا وقيدا معا
بينما الشرط متعلق للأمر النفسي تقيدا فحسب لا تقيدا وقيدا معا.
وأما الجهة الثانية، فلأن ما ذكره (قدس سره) من أنه لا تأثير ولا تأثر في الأمور
الشرعية فلا يتم، فإن جعل شئ قيدا للمأمور به وإن كان بيد المولى وضعا
ورفعا، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة، فلا محالة يكون مبنيا
على نكتة وهي دخل القيد في الملاك وترتبه على وجود المأمور به في
الخارج، والمفروض أنه أمر تكويني لا تشريعي.
المحاولة الثالثة: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من الالتزام
بالشرط المتأخر في كلا الموردين:
هما شرط الواجب وشرط الحكم (2).

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 221 - 223.
(2) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 309.
40

أما الأول فلأن قيد المأمور به يوجب تعنونه بعنوان خاص وتخصصه
بحصة مخصوصة التي يقوم بها ملاك الأمر وهو المصلحة الملزمة، فالمأمور به
حصة خاصة من الكلي من دون دخل قيد في الملاك القائم بها، ولا فرق بين
أن يكون ذلك القيد مقارنا للمأمور به أو متقدما أو متأخرا، فإنه على جميع
التقادير قيد له وتوجب تقييد المأمور به بحصة خاصة، فإذا فرضنا أن غسل
المستحاضة في الليلة اللاحقة شرط في صحة صومها اليوم بنحو الشرط
المتأخر، كان المأمور به حصة خاصة من الصوم وهي الحصة المقيدة بالغسل
في الليلة اللاحقة.
وأفاد في وجه ذلك أن باب الأحكام الشرعية، باب الاعتبارات وهو
أجنبي عن باب التأثير والتأثر ولا صلة لأحد البابين بالآخر أصلا، فلا مانع
من تقييد المأمور به بقيد متأخر كما أنه لا مانع من تقييده بقيد مقارن أو متقدم، لأن
مرد تقييده بأمر متأخر هو أنه يكشف بوجوده المتأخر عن تحقق الواجب في
ظرفه، باعتبار أن تقيده به كان جزئه.
ومن هنا يظهر أن إطلاق لفظ الشرط على الشرط المتأخر هو المنشأ
للاشتباه والتوهم، بأن المراد منه ما له دخل في تأثير المقتضي وفاعليته
فيكون من أجزاء العلة التامة، فلا يعقل تأخره عن وجود المعلول، ولكن قد
تبين مما تقدم أن المراد من الشرط هنا معنى آخر وهو ما يكون تقيده دخيلا
في الواجب دون نفس القيد.
وأما الثاني فلأن شرائط الحكم عبارة عن القيود المأخوذة في موضوعه
في مقام الجعل وتدور فعلية الحكم مدار فعليته بتمام قيوده في الخارج
كالاستطاعة مثلا، فإنها قد أخذت في موضوع وجوب الحج في مرحلة الجعل
وتتوقف فعليته على فعليتها في الخارج، وعلى هذا فكما أن للمولى في مقام
41

الجعل تقييد موضوع الحكم بقيد مقارن فكذلك له تقييده بقيد متأخر.
وقد أفاد في وجه ذلك أن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية ولا واقع
موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ولا صلة لها بالموجودات
الخارجية المتأصلة أبدا، لأنها خاضعة لعلتها الواقعية، فلا يمكن تعلق الجعل
بها بينما الأحكام الشرعية خاضعة لاعتبار المعتبر وصفا ورفعا، ولا يمكن
خضوعها للموجودات الخارجية وإلا لكانت خارجية، ومن هنا يظهر أن
موضوعات الأحكام الشرعية وإن كانت من الأمور التكوينية الخارجية إلا أنه
لا تأثير لتلك الموضوعات في الأحكام الشرعية، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن فعلية الأحكام وإن كانت دائرة مدار فعلية
موضوعاتها بتمام قيودها وشرائطها في الخارج إلا أن لازم ذلك ليس تقارنهما
زمانا، والسبب فيه هو أن ذلك تابع لكيفية جعلها في الخارج، فإن كان
مجعولا على موضوع مقيد بقيد مقارن كانت فعليته مقارنة لفعلية القيد وإن كان
مجعولا على موضوع مقيد بقيد متأخر، كانت فعليته متقدمة على فعلية القيد،
وكل ذلك بمكان من الإمكان بعد ما عرفت من أنه لا واقع موضوعي للحكم
الشرعي غير اعتبار من بيده الاعتبار، فإذا كان أمره بيده وصفا ورفعا وسعة
وضيقا، كان له جعله بأي نحو وبشكل أراد وشاء، فلو كان جعله على النحو
الأول فلا محالة تكون فعلية الحكم مقارنة لفعلية موضوعه، ولو كان جعله
على النحو الثاني فلا محالة تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه وإلا لزم
الخلف، ونتيجة ما أفاده (قدس سره) أمران:
الأول: أن مرد كون شئ شرطا للمأمور به إلى تقييده به وأنه حصة
خاصة وهي الحصة المفيدة به.
الثاني: أن الشرط في باب التشريعيات بمعنى آخر بينما الشرط في باب
42

التكوينيات جزء العلة التامة، وللنظر في كلا الأمرين محال.
أما الأمر الأول فلأن ما أفاده (قدس سره) من أن مرد كون الشئ شرطا للمأمور
به إلى تقييده به وصيرورته حصة خاصة وإن كان صحيحا إلا أن لازم ذلك
عدم تصور الشرط المتأخر عن المأمور به، وذلك لأن المولى إذا قيد متعلق
أمره بقيد، فمعناه أن المأمور به حصة خاصة وهي الحصة المتقيدة به، وحيث
أن التقيد به جزئها فبطبيعة الحال تنتفي بانتفائه، على أساس أن المركب ينتفي
بانتفاء أحد أجزائه، وهذا التقيد حيث إنه متقوم بكلا طرفيه هما ذاتي المقيد
والقيد، فلا يعقل تحققه بدون تحققهما معا، لأنهما بمثابة الجنس والعضل له،
وعلى هذا فإذا فرضنا أن غسل المستحاضة في الليلة الآتية شرط في صحة
صومها في اليوم، فمعناه أن الواجب حصة خاصة من صومها وهي الحصة
المتقيدة بغسلها فيها، وحيث إن التقيد متقوم بطرفيه معا، فلا يمكن تحققه
بدون تحققهما كذلك، ونتيجة هذا أن المأمور به وهو الحصة الخاصة من الصوم لا
تتحقق ما لم يتحقق الغسل في الليلة الآتية، فإذا تحقق الغسل فيها تحقق المأمور
به بكامل أجزائه منها تقيده به، وعلى هذا الأساس فلا يتصور الشرط المتأخر في
شرائط المأمور به واقعا، فإن الصوم المأمور به لو كان متحققا قبل وجود إيجاد
الغسل في الليل اللاحق، فمعناه أن التقيد به ليس جزئه، وهذا خلف فرض كونه
قيدا له.
ومن هنا يظهر مما في كلام السيد الأستاذ (قدس سره) من الجمع بين كون مرد
شرط المأمور به إلى تقييده به وصيرورته حصة خاصة وبين إفتراض كونه
مشروطا بشرط متأخر، فإن معنى كونه مشروطا بشرط متأخرا به متأخر عنه
وجودا، وهذا لا ينسجم مع كونه قيدا له والتقيد به جزئه، فالجمع بين الأمرين
لا يمكن.
43

وأما الأمر الثاني، فيرد عليه أن شرط المأمور به ليس مجرد أخذه فيه
في لسان الدليل شرعا لكي يقال أن الشرط هنا بمعنى آخر غير الشرط الذي
هو جزء العلة التامة، وذلك لما تقدم من أن تقييد المأمور به بقيد لا يمكن أن
يكون جزافا وبدون مبرر، فلا محالة يكون مبنيا على نكتة واقعية في المرتبة
السابقة، وهي أنه دخيل في الملاك القائم بالمأمور به واقعا وترتبه عليه
خارجا، وهذه النكتة الثبوتية هي التي تدعو المولى إلى أخذه قيدا للمأمور به
في مقام الاثبات ليكون كاشفا عنه في مقام الثبوت، وحيث إن ترتب الملاك
الواقعي على وجود المأمور به في الخارج أمر تكويني واقعي، فيكون القيد
شرطا لأمر تكويني، ومن هنا لا فرق بين الشروط في باب التشريعات
والشروط في باب التكوينيات، فإن الشروط في الأولى في الحقيقة شروط
للأمور الواقعية التكوينية كاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ في
شروط الوجوب وترتب الملاك على الفعل في الخارج في شروط الواجب،
وكلاهما أمر تكويني لا تشريعي ودخالتها في هذا الأمر التكويني ثبوتا هي
الموجبة لأخذها قيدا للحكم أو المتعلق في مقام الاثبات ليكون كاشفا عنها
في مقام الثبوت، وليس شرط المأمور به مجرد كونه قيدا له في مقام الاثبات
الذي هو بيد الشارع، بل هو شرط في الحقيقة لترتب الملاك عليه في الواقع
ومقام الثبوت، وهو ليس بيد الشارع بما هو شارع لأنه أمر تكويني غير قابل
للجعل تشريعا، فإذن الشرط في كلا البابين بمعنى واحد وهو التأثير والتأثر
في الأمر التكويني، وعلى هذا فكما أن تأخر الشرط عن المشروط مستحيل
في التكوينيات فكذلك في المقام، فإذا فرضنا أن غسل المستحاضة في الليلة
اللاحقة شرط في صحة صومها في النهار على النحو الشرط المتأخر، فإن
معنى ذلك هو أن مصلحته مترتبة عليه في النهار قبل تحقق الغسل في الليل،
44

وحينئذ فلا يخلو الحال فيه عن أمور:
الأول: أن غسل المستحاضة في الليل غير دخيل في ترتب الملاك على
الصوم في النهار.
الثاني: أن يكون عدمه دخيلا فيه.
الثالث: أن يكون وجوده دخيلا فيه والكل محال، أما الأول فلأنه خلف
فرض كونه قيدا للصوم ودخيلا في ترتب الملاك عليه.
وأما الثاني فلأن تأثير المعدوم في شئ مستحيل، لأن فاقد الشئ لا
يمكن أن يكون معطيا.
وأما الثالث فلأنه إن كان مؤثرا في إيجاد المشروط في زمن متقدم، لزم
وجوده قبل أن تتم علته وهو محال، وإن كان مؤثرا فيه في ظرفه، لزم وجوده
بعد انقضاء مقتضية وهو كما ترى.
وأما في المقام الثاني فلأن جعل الحكم على شئ سعة وضيقا وإن كان
بيد المولى ولا يكون خاضعا لأمر تكويني، إلا أن هذا الجعل لا يمكن أن
يكون جزافا وبدون نكتة، فإذا أخذ المولى قيدا في مرحلة الجعل في لسان
الدليل كالاستطاعة مثلا، فلا يمكن أن يكون ذلك بدون مبرر ثبوتي والمبرر
الثبوتي له هو دخل ذلك القيد في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ
ثبوتا، فإنه دعى المولى في أخذه قيدا للحكم في مرحلة الاثبات وإلا فلا
موجب له ويكون لغوا، باعتبار أن الملاك هو حقيقة الحكم وروحه، وغرض
المولى بيان ما له دخل فيه وشرط لاتصاف الفعل به في هذه المرحلة وأخذه
قيدا للحكم في مرحلة الجعل إنما هو بالتبع وبغرض الإشارة إليه، ومن هنا لا
يعقل أن يكون الشئ شرطا للوجوب بدون أن يكون شرطا لاتصاف الواجب
بالملاك ورائه أي في مرحلة المبادئ، وحيث إن الاتصاف أمر تكويني فلا
45

محالة يكون تأثيره فيه من التأثير في الأمر التكويني، وعلى هذا فكيف يعقل
أن يكون القيد المتأخر مؤثرا فيه في الزمن المتقدم، فإن الاتصاف إن كان في
الزمن المتقدم يستحيل أن يؤثر فيه المتأخر، وإن كان في الزمن المتأخر لزم
خلف فرض كونه مشروطا بشرط متأخر، فالنتيجة إن ما أفاده (قدس سره) لو تم فإنما
يتم بالنسبة إلى شرط الحكم دون شرط الملاك الذي هو روح الحكم وحقيقته،
والمفروض أن ما يكون شرطا للحكم شرعا ومأخوذا في لسان الدليل فهو
شرط للملاك أيضا في مرحلة المبادئ ثبوتا، فإنه دعى المولى في أخذه
قيدا للحكم في مقام الاثبات ليكون كاشفا عنه في مقام الثبوت. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما أفاده (قدس سره) مبني على أن يكون للحكم الشرعي
مرتبتين:
الأولى: مرتبة الجعل.
الثانية: مرتبة المجعول.
وهي فعلية الحكم بفعلية موضوعه، ولكن قد تقدمت الإشارة وسيأتي
تفصيله أن للحكم مرتبة واحدة وهي مرتبة الجعل والمجعول معا، لأن
المجعول عين الجعل فلا إختلاف بينهما ذاتا، إلا بالاعتبار كالايجاد والوجود،
وأما فعلية الحكم بمعنى الاعتبار بفعلية موضوعه في الخارج فهي غير معقولة،
وإلا لزم أن يكون الحكم أمرا خارجيا لا اعتباريا.
والخلاصة أن الحكم الشرعي أمر اعتباري صرف وقائم بالمعتبر قيام
صدور في وعاء الاعتبار والذهن ولا يتصور له وعاء آخر وهو فعلي بنفس
الاعتبار والجعل، ولا يتصور له فعلية أخرى ووجود ثان، كما لا يعقل تأثره
بشئ من الأمر التكويني وإلا لكان تكوينيا ومسببا عن سبب وهو كما ترى،
46

ضرورة أنه أمر اعتباري قائم بالمعتبر مباشرة، نعم إذا تحقق موضوعه في الخارج
كان الحكم المجعول فاعلا ومحركا فعلا، ولكن هذه الفاعلية والمحركية ليست من
مراتب الحكم، ولا يعقل أن تكون من مراتبه، لأنها أمر تكويني واقعي بحكم
العقل العملي بها في مقام الامتثال والإطاعة.
وعلى هذا فشرائط الحكم جميعا كما تقدم من الأمور اللحاظية التصورية
في عالم الذهن ولا يمكن أن تكون من الأمور الخارجية، فإذن لا موضوع
للشرط المتأخر في شرائط الحكم، فإن التصور واللحاظ فعلي على كل حال وإن
كان المتصور متأخرا، فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من إمكان الشرط المتأخر
للحكم لا يتم إلا إذا فرض أن الشرط شرط للحكم فحسب دون ما ورائه وهو
الملاك، ولكن ذلك لا يمكن، لأن كون شئ شرطا للحكم إنما هو باعتبار أنه
شرط للملاك واتصاف الفعل به، وإلا فلا مبرر لأخذه شرطا للحكم في مقام
الاثبات.
هذا كله في الحكم التكليفي، وأما في الحكم الوضعي، فحيث إن الملاك
فيه قائم بنفس جعله فيكون الشرط دخيلا فيه ثبوتا، وهذا هو الذي
دعى المولى إلى أخذه قيدا له في مقام الاثبات لكي يكون كاشفا عنه في مقام
الثبوت.
فالنتيجة أن الشرط المتأخر في شروط المأمور به وقيوده غير متصور لا
بالنسبة إلى نفس المأمور به ولا بالنسبة إلى ترتب الملاك عليه.
وأما في شروط الحكم فلا يتصور فيها الشرط المتأخر بالنسبة إلى نفس
الحكم في مرحلة الجعل، وأما بالنسبة إلى فاعلية هذا الحكم ومحركيته في
مرحلة الفعلية، فهو وإن كان متصورا إلا أنك عرفت أنه محال، وكذلك الحال
بالنسبة إلى اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ.
47

بقي هنا شئ وهو أن الاستطاعة المأخوذة في لسان الآية الشريفة (1)
والروايات (2) شرط بوجودها اللحاظي لوجوب الحج في عالم الاعتبار والجعل
وبوجودها الواقعي لاتصاف الحج بالملاك في عالم المبادئ، وحيث إن اتصاف
الحج بالملاك في مرحلة المبادئ لا يمكن أن يكون مشروطا بشرط متأخر ولا
متقدم، فبطبيعة الحال يدور هذا الاتصاف مدار الاستطاعة في أشهر الحج حدوثا
وبقاء، وعليه فإذا استطاع المكلف قبل أشهر الحج لم تكن استطاعته مؤثرة في
اتصاف الحج بالملاك في أشهر الحج، وإلا لزم تأثير المتقدم في المتأخر وهو
مستحيل.
وحينئذ فإن بقت استطاعته إلى أشهر الحج، كانت مؤثرة فيه بقاء،
ونتيجة ذلك أنه لا يجب على المكلف حفظ الاستطاعة إذا استطاع قبل أشهر
الحج، فيجوز له تفويت الاستطاعة ولا يكون ملزما بحفظها، حيث لا يلزم
من تفويتها، تفويت شئ لا الوجوب ولا الملاك، لفرض أنه لا وجوب ولا
ملاك للحج قبل الأشهر، نعم بعد دخولها، فلا يجوز تفويتها لاستلزامه تفويت
الملاك الملزم.
وبكلمة أن الصحيح في المسألة بناء على ما قويناه من استحالة الشرط
المتأخر والمتقدم هو ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب حفظ الاستطاعة
في طول السنة، وإنما يجب حفظها في أشهر الحج فحسب سواء أكانت
الاستطاعة حاصلة فيها أم باقية من السابق، فإنه على كلا التقديرين
يجب حفظها ولا يجوز تفويتها لأنه تفويت للملاك الملزم. نعم بناء على

(1) سورة آل عمران: 97.
(2) راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحج وشرائطه.
48

إمكان الواجب المعلق والشرط المتأخر، فيجب حفظها طول السنة إذا
حصلت كما بنى عليه السيد الأستاذ (قدس سره)، وتمام الكلام في ذلك في
محله.
نستعرض نتائج البحث في عدة نقاط:
النقطة الأولى: إن المقدمات الوجوبية التي هي عبارة عن القيود المأخوذة
في موضوع الحكم في لسان الدليل في مرحلة الجعل تختلف عن المقدمات
الوجودية في أمرين:
الأول: أن المقدمات الوجوبية دخيلة في الحكم في مرحلة الجعل وفي
اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، بينما المقدمات الوجودية غير
دخيلة في شئ من ذلك وإنما هي دخيلة في ترتب الملاك على الواجب في
الخارج.
الثاني: أنه لا يعقل ترشيح الوجوب من الواجب إلى المقدمات الوجوبية
بينما لا يكون مانع عن ذلك في المقدمات الوجودية.
النقطة الثانية: هل يراد من وجوب المقدمة اللابدية التكوينية أو العقلية
أو ترشيح الوجوب من الواجب إليها قهرا أو جعلا، فيه وجوه وإحتمالات
والصحيح هو الاحتمال الأخير كما تقدم.
النقطة الثالثة: أن هنا مقدمتين أخريين:
الأولى: المقدمات العلمية وهي خارجة عن محل البحث في المسألة.
الثانية: إجزاء الواجب، وقد تقدم أنها لا تصلح أن تكون داخلة في
محل النزاع، لأن الدخول منوط بأن يكون وجود المقدمة غير وجود ذيها،
والمفروض أن وجود الواجب ليس غير وجود إجزائه في الخارج بل هو هو كما
تقدم.
49

النقطة الرابعة: أن الشروط على أقسام:
الأول: المقارن ولا إشكال فيه ثبوتا وإثباتا.
الثاني: المتقدم.
الثالث: المتأخر، والإشكال إنما هو فيهما ثبوتا، أما في المتقدم فقد
ذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى استحالته على أساس أنه من أجزاء العلة
التامة، فلابد أن يكون معاصرا مع المشروط والمعلول (1) هذا، وأورد عليه السيد
الأستاذ (قدس سره) بأن تقدم الشرط على المشروط في التكوينيات غير عزيز فضلا عن
التشريعيات.
ولكن تقدم موسعا أن هذا الإشكال غير وارد، فإن العلة التامة بتمام
أجزائها معاصرة لمعلولها ولا فرق في ذلك بين التكوينيات والتشريعيات،
على ما مر من أن الشروط في باب التشريعيات في الحقيقة شروط للأمور
التكوينية، فإنها وإن كانت للوجوب فهي شروط في الحقيقة لاتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ، وإن كانت للواجب فهي في الحقيقة شروط
لترتب الملاك عليه خارجا، والمفروض أن كليهما من الأمور الواقعية
التكوينية.
النقطة الخامسة: أنه يمكن علاج الشرط المتقدم بارجاعه إلى الشرط
المقارن لبا وواقعا، فإنه إن كان للوجوب فيوجد الاستعداد في الفعل للاتصاف
بالملاك في ظرفه فيبقى الفعل على هذا الاستعداد إلى أن تكتمل سائر أجزاء
العلة التامة، وحينئذ فالشرط وإن كان متقدما صورة إلا أنه مقارن واقعا ولبا،
وإن كان للواجب فهو يؤثر في استعداد الفعل وصلاحيته لترتب الملاك عليه

(1)
50

في الخارج، فيبقى الفعل على هذا الاستعداد إلى أن تكتمل سائر أجزاء العلة
التامة، وتمام الكلام فيه قد مر.
النقطة السادسة: أن الشرط المتأخر للحكم بمعنى الجعل والاعتبار غير
متصورة، وأما الشرط المتأخر لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ
ولفاعليته في مرحلة الفعلية فهو مستحيل.
النقطة السابعة: أن هناك عدة محاولات لرفع الإشكال عن الشرط
المتأخر.
الأولى: لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن شرط الحكم إنما هو
وجوده اللحاظي التصوري لا وجوده الخارجي، فالاستطاعة بوجودها
اللحاظي التصوري شرط لوجوب الحج لا بوجودها الواقعي الخارجي،
والمتأخر إنما هو وجوده الواقعي الخارجي لا وجوده اللحاظي التصوري،
فإذن لا موضوع للشرط المتأخر في شرائط الحكم.
وأورد على هذه المحاولة السيد الأستاذ (قدس سره) بأنها مبنية على الخلط بين
شرائط الجعل وشرائط المجعول، فإن شرائط الجعل الوجودات اللحاظية
التصورية وشرائط المجعول الوجودات الخارجية، والشرط المتأخر إنما لا
يتصور في الأولى لا في الثانية هذا، وقد تقدم أن الإيراد مبني على أن يكون
للحكم مرتبتين: الجعل والمجعول، ولكن مر أن له مرتبة واحدة وهي مرتبة
الجعل، لأن المجعول عين الجعل ولا يعقل أن تكون له مرتبة أخرى وهي
فعليته بفعلية موضوعه، لاستحالة أن يتأثر الحكم بأمر خارجي، وإلا كان
خارجيا لا اعتباريا وهذا خلف.
النقطة السابعة: أن ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) من المحاولة لتصحيح
الشرط المتأخر للحكم في مرحلة المبادئ، لا يمكن المساعدة عليه كما
تقدم.
51

النقطة الثامنة: أن محاولة المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) لتصحيح الشرط
المتأخر للواجب، لا يرجع إلى معنى صحيح وقد مر تفصيله.
النقطة التاسعة: أن محاولة بعض المحققين (قدس سره) لتصحيح الشرط المتأخر
لتحصيل الملاك المترتب على الواجب في الخارج، بأن المقتضي وهو المأمور
به لا يؤثر في ترتب الملاك عليه خارجا، وإلا لزم تأثير المتأخر في المتقدم
بل يوجد أثرا ويبقى هذا الأثر بعد انقضاء المقتضي بسبب آخر إلى زمان
تحقق الشرط المتأخر، فإذا تحقق تكتمل العلة التامة للملاك المطلوب، مما لا
يمكن المساعدة عليه على تفصيل قد سبق.
النقطة العاشرة: الصحيح أن الشرط المتأخر في شرائط الواجب وقيوده
غير متصور إلا صورة، لأن شروط الواجب قيود له والتقييد بها جزئه والقيد
خارج عنه، وعلى هذا فتحقق الواجب منوط بتحقق تمام أجزائه وقيوده منها
قيده المتأخر، باعتبار أن التقيد به جزئه.
النقطة الحادية عشر: أن ما ذكره المحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهما) في
محاولتهما لرفع الاشكال عن الشرط المتأخر، بأن التشريعيات تختلف عن
التكوينيات، فلا تأثير ولا تأثر في الأولى دون الثانية، لا يرجع إلى معنى
صحيح كما تقدم تفصيله.
52

تنبيه:
فيه أمران:
الأول: أن ظاهر الآية الشريفة وهي قوله تعالى: (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) وكذا ظاهر الروايات، هو أن فاعلية وجوب
الحج تتحقق بتحقق الاستطاعة في الخارج (2) هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن يوم عرفة حيث إنه كان قيدا للواجب وهو الحج
فيكون قيدا للوجوب أيضا، على أساس ما ذكرناه من أن قيد الواجب إذا كان
غير اختياري، فلابد أن يؤخذ قيدا للوجوب، إذ لو كان الوجوب مطلقا لزم
أن يكون محركا نحو الواجب المقيد بزمان متأخر وهو من التكليف بالمحال،
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين أن فاعلية وجوب الحج مشروطة بحضور
يوم عرفة بنحو الشرط المتأخر، وحيث إن الشرط المتأخر مستحيل فلابد من
علاج ذلك بأحد طريقين:
الأول: أن الواجب، وهو الحج ليس موقتا بيوم عرفة، لأنه عمل مركب
من جزئين طوليين مرتبطين:
الأول عمرة التمتع.
الثاني حج التمتع، ويمتد وقت هذا العمل المركب من بداية أشهر الحج
إلى نهايتها، فإذا دخل الأشهر أصبح وجوب الحج فعليا ومحركا من الآن إلى
أن يفرغ من العمل نظير الصلاة، فإنه إذا دخل وقتها أصبح وجوبها فعليا
ومحركا نحو الاتيان بها في طول زمانها، وإنه يكشف عن إن اتصافها بالملاك

(1) سورة آل عمران: 97.
(2) راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحج وشرائطه.
53

فعلي في مرحلة المبادئ، وعلى الجملة فكما أن فاعلية وجوب الحج فعلية عند
دخول الأشهر إذا كان مستطيعا فكذلك اتصافه بالملاك، ولهذا يجب الاتيان
بجميع المقدمات التي يتوقف امتثال الحج عليها، ولا يجوز التقصير في تحصيلها
أو تفويتها لاستلزام ذلك تفويت الملاك الملزم، ومن الواضح أنه لا مانع من تعلق
الوجوب بالحج المركب من عملين طوليين مرتبطين من حين دخول أشهر الحج،
كما أنه لا مانع من اتصاف المجموع بالملاك في طول الأشهر وترتب هذا الملاك
عليه إذا تحقق في الخارج كما هو الحال في الصلاة ونحوها، فإذن لا موضوع
للشرط المتأخر.
الثاني: أن الروايات التي تدل على وجوب تهيئة المقدمات المفوتة
والاتيان بها قبل موسم الحج (1) تكشف عن اهتمام الشارع بالحج وعدم جواز
تفويته ولو بترك تحصيل القدرة عليه قبل الموسم، ومعنى هذا أن القدرة المعتبرة
في ملاكه قدرة مطلقة لا قدرة خاصة وهي القدرة عليه بعد الموسم.
والخلاصة أن المكلف المستطيع الذي تكون وظيفته حج التمتع لا
يتمكن من توفير تمام مقدمات السفر إلى الحج والوصول إليه في يوم عرفة ولا
سيما في الأزمنة القديمة، فلهذا يجب عليه تهيئة تلك المقدمات قبل ذلك، ولا
يجوز التسامح فيها وترك تحصيلها أو تفويتها لاستلزامه تفويت الحج الذي لا
يرضى الشارع بتفويته ومعاقب عليه إذا تسامح وتساهل فيه.
ومن الواضح أن هذا كاشف عن أن ملاكه تام في ظرفه وأنه غير
مشروط بالقدرة الخاصة، وبذلك يمتاز الحج عن مراتب الصلاة ونحوها، فإن
القدرة المعتبرة في اتصاف مراتبها بالملاك قدرة خاصة وهي القدرة في وقتها لا

(1) راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
54

مطلقا، لأن القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية قدرة خاصة وهي القدرة
عليها في وقتها ولا يجب على المكلف تحصيل هذه القدرة قبل وقتها بل
يجوز له تفويتها، كما إذا كان عنده ماء يجوز إهراقه قبل الوقت مع علمه بأنه
لا يتمكن منه بعد الوقت، وأما القدرة على الصلاة نفسها فلا يبعد أن تكون مطلقة.
الأمر الثاني قد تقدم أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد بنى على إمكان الشرط
المتأخر ثبوتا، وأما وقوعه في مقام الاثبات فهو بحاجة إلى دليل خاص وإلا
فهو خلاف ظواهر الأدلة العامة التي تتكفل جعل الأحكام الشرعية بنحو
القضايا الحقيقية الظاهرة في فعلية الأحكام بفعلية موضوعاتها وحملها على
فعلية الأحكام قبل فعلية موضوعاتها لا يمكن إلا بقرينة خاصة، ولكن
استثنى (قدس سره) من ذلك موردين:
الأول: أن شرطية الإجازة المتأخرة لصحة العقد الفضولي كالبيع
والنكاح ونحوهما تكون على القاعدة فلا تحتاج إلى دليل خاص.
الثاني: أن شرطية القدرة على الجزء الأخير للواجب المركب من
الأجزاء الطولية كالصلاة ونحوها لوجوب الأجزاء السابقة بنحو الشرط
المتأخر تكون على القاعدة فلا تحتاج إلى دليل.
أما في المورد الأول فقد أفاد (قدس سره) في وجهه أن العقد الفضولي من حين
وقوعه لم يكن منتسبا إلى المالك حتى يكون مشمولا لإطلاقات أدلة الامضاء
من الآيات والروايات، باعتبار أن موردها عقد المالك، ولكن إذا أجاز المالك
العقد كانت اجازته متعلقة بالعقد الصادر من الفضولي، وحيث إن الإجازة من
الأمور التعلقية فهي كما تتعلق بأمر مقارن كذلك تتعلق بأمر متقدم أو متأخر
كالعلم مثلا، وفي المقام حيث إن الإجازة قد تعلقت بالعقد السابق من حين
صدوره فيكون هو الممضي والمنتسب إلى المالك، وعلى هذا فالحكم بالصحة
55

والامضاء وإن كان من حين الإجازة، إلا أن المحكوم بالصحة والممضي هو
العقد السابق، وإن شئت قلت أن شمول إطلاقات أدلة الامضاء له وإن كان من
زمن الإجازة، إلا أن المشمول لها والمجاز هو العقد السابق، فالمعيار إنما هو
بزمان الممضى لا بزمان الامضاء، ونتيجة ذلك أن اعتبار ملكية المبيع للمشتري
والثمن للمالك المجيز وإن كان منذ شمول إطلاقات الأدلة وهو زمن الإجازة، إلا
أن المعتبر ملكية كل منهما للآخر من حين صدور العقد، ومن الواضح أنه لا مانع
من اعتبار المولى من الآن الملكية في زمن سابق وهو زمن صدور العقد، كما إنه
لا مانع من اعتبارها في زمن متأخر أو مقارن لأنه خفيف المؤنة وبيد المعتبر، ومن
هنا يكون ذلك مقتضى القاعدة فلا يحتاج إلى دليل خاص، لأن الاطلاقات
الأولية كافية في ذلك، وعلى هذا الأساس بنى (قدس سره) الإجازة في مسألة العقد
الفضولي على الكشف الانقلابي بمعنى أن العقد الفضولي إلى حين الإجازة لم يكن
مشمولا لاطلاق دليل الامضاء، ولهذا لم ينتقل المبيع إلى المشتري ولا الثمن إلى
المالك وبعد الإجازة كان مشمولا له وممضا، فالشمول والامضاء وإن كان من
الآن، إلا أن المشمول والممضي هو العقد السابق، فإذا كان كذلك فالانتقال من
ذاك الحين لا من الآن، وهذا هو معنى الانقلاب (1) هذا.
ولكن للنظر فيه مجالا: أما أولا فلأن الإجازة وإن كانت من الأمور
التعلقية فإنها كما تتعلق بأمر مقارن كذلك تتعلق بأمر متأخر أو متقدم، إلا أن
شمول إطلاق دليل الامضاء للعقد السابق إنما هو من حين الإجازة، وعليه
فبطبيعة الحال يكون الحكم بصحته وإمضائه وترتب الأثر عليه وهو انتقال
المبيع إلى المشتري والثمن إلى المالك المجيز من الآن، وفرق بين ترتب الأثر

(1) المحاضرات ج 2: ص 316 - 318.
56

عليه من الآن وترتبه عليه من حين صدوره، وحيث إن صحة العقد السابق
وإمضائه أثر شمول إطلاق الدليل له، فلا يمكن أن يكون متقدما زمنا على
المؤثر، فإذن لا محالة يكون أثر الشمول مقارنا له ولا يعقل أن يكون الشمول
من الآن وأثره من السابق، نعم متعلقه العقد السابق لا أثره، هذا نظير العلم
المتعلق بأمر متقدم، كما إذا علم شخص يوم الخميس بنجاسة ماء يوم الأربعاء،
فإن متعلق العلم وهو نجاسة الماء وإن كان في زمن سابق، إلا أن أثره وهو تنجيز
متعلقه من الآن أي من حين العلم، لاستحالة انفكاك الأثر عن المؤثر، ففرق بين
أن يكون متعلقه أمرا سابقا زمنا وبين أن يكون أثره سابقا كذلك، فإن الثاني
مستحيل والأول واقع، ولهذا يكون التنجيز من يوم الخميس لا من يوم الأربعاء
وما نحن فيه كذلك، ومن هنا قلنا أن مقتضى القاعدة في مسألة العقد الفضولي
النقل لا الكشف.
وثانيا أن ما ذكره (قدس سره) لو تم فإنما يتم إذا كانت الإجازة المتأخرة شرطا
للحكم الوضعي فحسب من دون أن تكون شرطا لشئ آخر وراؤه، ولكن قد
تقدم أن الأمر ليس كذلك، بداهة أن كون الإجازة شرطا لصحة عقد الفضولي
إنما هو باعتبار أن موضوع دليل الامضاء عقد المالك، وعلى هذا فأخذ
انتساب العقد إلى المالك في موضوع دليل الامضاء في مرحلة الجعل إنما هو
على أساس أنه دخيل في اتصاف العقد بالملاك في مرحلة المبادئ وإلا فلا
مبرر لأخذه في موضوعه في مقام الاثبات، باعتبار أن حكم الشارع بصحة
عقد المالك لا يمكن أن يكون جزافا، فلا محالة يكون مبنيا على نكتة وتلك
النكتة هي اتصاف عقده بالملاك في مرحلة المبادئ، فإنه دعى المولى إلى
أخذه في موضوع دليل الامضاء في مرحلة الجعل وإلا كان أخذه فيه بلا مبرر
ولغوا.
57

والخلاصة أن جعل الشارع عقد المالك مملكا دون غيره لا يمكن أن
يكون جزافا وبلا موجب، والموجب له هو اتصافه بالملاك في مقام الثبوت،
فإذن الإجازة في الحقيقة شرط للاتصاف، وحيث إنه أمر تكويني فلا يمكن
أن يكون مشروطا بشرط متأخر، وعلى هذا فمضافا إلى أن مقتضى القاعدة
النقل دون الكشف، فلا يمكن القول بالكشف لأنه مبني على الالتزام بالشرط
المتأخر وهو مستحيل كما مر، فإذن تكون الإجازة من الشرط المقارن.
وأما المورد الثاني فقد أفاد (قدس سره) أن وجوب كل جزء من أجزاء الصلاة مثلا
كما أنه مشروط بالقدرة عليه مباشرة، كذلك مشروط بالقدرة على الأجزاء
المتأخرة بنحو الشرط المتأخر، مثلا وجوب التكبيرة كما أنه مشروط بالقدرة
عليها مباشرة كذلك مشروط بالقدرة على فاتحة الكتاب والركوع والسجود
والتشهد والتسليم بنحو الشرط المتأخر، وكذلك الحال في فاتحة الكتاب بل
أن وجوب الفاتحة مضافا إلى كونه مشروطا بشرط مقارن ومتأخر مشروط
بشرط متقدم أيضا وهو القدرة على التكبيرة، وهكذا الحال في سائر الأجزاء،
مثلا وجوب التسليم وإن لم يكن مشروطا بشرط متأخر ولكنه مشروط بشرط
متقدم وهو القدرة على الأجزاء المتقدمة (1).
فالنتيجة أن وقوع الشرط المتأخر في الواجبات المركبة من الأجزاء
الطولية كالصلاة ونحوها يكون على القاعدة ومقتضى ارتباطية بعضها مع
بعضها الآخر مسبوقا وملحوقا ولا يحتاج إلى دليل خاص.
وللنظر فيه مجال، وذلك لأن الوجوب المتعلق بالصلاة وجوب واحد
بسيط، لأنه اعتبار محض من المولى ولا يعقل كونه مركبا، وهذا الوجوب

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 318.
58

الواحد مجعول بجعل واحد متعلق لها في عالم الاعتبار، ولا يكون تعلقه بها
في عالم الخارج لكي ينبسط على أجزائها وينحل إلى حصص متعددة بعدد
الأجزاء، وأما في عالم الاعتبار فلا يتصور فيه الانحلال، إذ ليس فيه إلا
اعتبار المولى الوجوب للصلاة في عالم الذهن، فالانحلال إنما هو بتحليل من
العقل بتبع انحلال الأجزاء وتعددها في عالم الخارج ولا واقع موضوعي له،
ومن الواضح أن الوجوب إذا كان واحدا فله فاعلية واحدة في الخارج عند
توفر شروطه فيه، وعلى هذا فالوجوب المتعلق بالصلاة بما أنه وجوب واحد
مستقل فله فاعلية واحدة كذلك من بدايتها إلى نهايتها، وأما الوجوب المتعلق
بكل جزء من أجزائها فلا يكون فاعلا، حيث لا واقع له حتى يكون كذلك ولا
أثر لمجرد تحليل العقل إياه وتقديره وافتراضه إذا لم يكن له واقع. هذا إضافة
إلى أن فاعلية الوجوب الضمني لكل جزء إنما هي بفاعلية الوجوب الاستقلالي
لا بنفسه، وإلا لم يكن وجوبا ضمنيا وهذا خلف، لأن الوجوب الضمني
للأجزاء المرتبطة عين الوجوب الاستقلالي المتعلق بالكل، باعتبار أن
الوجوب الضمني المتعلق بالتكبيرة مرتبطا بالوجوب الضمني المتعلق بالفاتحة
وهكذا عين الوجوب الاستقلالي، ولهذا لا فاعلية له إلا بفاعليته، ومن هنا
يكون إشتراط الوجوب الضمني لكل جزء بالقدرة إنما هو باشتراط الوجوب
الاستقلالي بها لا مستقلا، وإلا لم يكن وجوبا ضمنيا والمفروض أن اشتراط
الوجوب الاستقلالي بالقدرة إنما هو بنحو الشرط المقارن حدوثا وبقاء،
وحيث إن القدرة التي يكون الوجوب الضمني مشروطا بها هي نفس القدرة
التي يكون الوجوب الاستقلالي مشروطا بها، فبطبيعة الحال يكون إشتراط
الوجوب الضمني بها أيضا بنحو الشرط المقارن، وذلك لأن وجوب التكبيرة
ليس مشروطا بالقدرة المطلقة بل بحصة خاصة منها وهي القدرة المرتبطة
59

بالقدرة على فاتحة الكتاب المرتبطة بالقدرة على الركوع وهكذا إلى القدرة
على التسليمة، وهذه القدرة المرتبطة نفس القدرة التي هي شرط للوجوب
الاستقلالي، فالنتيجة أن اشتراط الوجوب الضمني إنما هو باشتراط لوجوب
الاستقلالي وإطلاقه باطلاقه فلا شأن له ولا وجود إلا بوجوده، فما أفاده
السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الوجوب الضمني لكل جزء سابق مشروطا بالقدرة
على الجزء اللاحق بنحو الشرط المتأخر دون الوجوب الاستقلالي لا يرجع
إلى معنى صحيح، ومن هنا يظهر أنه لا يعقل أن يكون الوجوب الاستقلالي
مشروطا بالقدرة بنحو الشرط المقارن. والوجوب الضمني المرتبط مشروطا
بها بنحو الشرط المتأخر، فإن هذا إنما يتم إذا لوحظ وجوب كل جزء بحده
ومستقلا وهذا خلف.
60

البحث الثالث:
في الواجب المشروط والمطلق
قد قسم الواجب إلى قسمين:
1 - المشروط.
2 - المطلق.
وهذا التقسيم يكون بلحاظ الوجوب لا الواجب، فالحج واجب مشروط
بلحاظ أن وجوبه مشروطا بالاستطاعة، وصلاة الظهر مثلا واجب مشروط
باعتبار أن وجوبها مشروط بالزوال وهكذا، وهذا الواجب المشروط مطلق
من جهة أخرى فيكون واجب واحد مشروطا من جهة ومطلقا من جهة أخرى
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن المسألة تتطلب البحث في مقامين:
المقام الأول في إمكان رجوع القيد في القضية الشرطية إلى مفاد الهيئة
ثبوتا وإثباتا.
المقام الثاني بعد الفراغ عن إمكان ذلك ثبوتا وتسليم عدم ظهور القضية
الشرطية في رجوع القيد إلى مفاد إحداهما معينا إثباتا فيقع في موردين:
61

الأول: في مقتضى الأصل اللفظي.
الثاني: في مقتضى الأصل العملي.
أما الكلام في المقام الأول فيقع في مرحلتين:
الأولى: في مرحلة الجعل.
الثانية: في مرحلة المبادئ.
أما المرحلة الأولى فيقع الكلام في أن القيد المأخوذ في لسان الدليل هل
يمكن رجوعه إلى مفاد الهيئة أو لا، فيه قولان:
القول الأول: أن الشرط في القضية الشرطية يرجع إلى مفاد الهيئة.
القول الثاني: أنه يرجع إلى مفاد المادة، وقد اختار شيخنا العلامة
الأنصاري (قدس سره) القول الثاني، بتقريب أن القضية الشرطية وإن كانت ظاهرة عرفا
في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، إلا أنه لابد من التصرف في هذا الظهور ورفع
اليد عنه بإرجاع القيد إلى مفاد المادة لأمرين:
الأول: أن رجوعه إلى مفاد الهيئة مستحيل.
الثاني: تعين رجوعه إلى مفاد المادة لبا وواقعا.
أما الأمر الأول فيمكن تقريبه بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما أفاده الشيخ (رحمه الله) على ما في تقرير بحثه من أن الوجوب
الذي هو مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي، باعتبار أن الموضوع
لها الحروف وما شابهها جزئي حقيقي والجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد
والتضييق، فإن القابل لذلك إنما هو المعنى الكلي، فلذلك لابد من إرجاع القيد
إلى المادة (1).

(1) مطارح الأنظار: ص 46 وأيضا قد تكلم صاحب التقريرات حول هذا المعنى في الهداية
الخامسة حيث قال (قدس سره) إذا ثبت وجوب شئ وشك في كونه مشروطا أو مطلقا... فراجع.
62

والجواب: أولا أن المعنى الموضوع لها الحروف وإن كان خاصا إلا أن
خصوصيته ليست بمعنى أنه غير قابل للتقييد، وذلك لما ذكرناه في بحث
الحروف موسعا وملخصه:
أن الحروف موضوعة بإزاء نسب واقعية متقومة ذاتا وحقيقة بشخص
وجود طرفيها في وعاء الذهن أو الخارج وليست لها ماهية متقررة في المرتبة
السابقة على وجودها في الذهن أو الخارج، ومن هنا قلنا أن الجامع الذاتي
بين أنحاء النسب غير متصور ولا يمكن فرض اشتراكها فيه، لأن المقومات
الذاتية لكل نسبة المتمثلة بشخص طرفها مختلفة عن المقومات الذاتية للنسبة
الأخرى، وإذا ألغينا المقومات الذاتية لكل نسبة، استحال الحصول على جامع
ذاتي بينها، ضرورة أن الجامع الذاتي لابد أن تنحفظ فيه المقومات الذاتية
للأفراد كأفراد الإنسان، فإنه إذا ألغينا خصوصياتها فالمقومات الذاتية بينها
وهي الحيوانية والناطقية محفوظة، بينما إذا ألغينا خصوصيات أشخاص
النسب وهي أطرافها، فالنسب ملغية بذاتها وذاتياتها نهائيا. ومن هنا يكون
شخص طرفي النسبة من الذاتيات لها وبمثابة الجنس والفصل للنوع، وعلى
هذا فيمكن تقييد المعنى الحرفي وهو النسبة بتقييد طرفيها، والمفروض أنهما
قابلان للتقييد وتقييدهما، تقييد للمعنى الحرفي، باعتبار أنه لا وجود له إلا
بوجودهما، وتمام الكلام هناك، فالنتيجة أن مفاد الهيئة وإن كان معنى حرفيا
وهو النسبة الطلبية المولوية، إلا أنه قابل للتقييد بتقييد طرفيه، فإذن لا مانع
من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.
وثانيا مع الإغماض عن ذلك وتسليم أن رجوع القيد إلى مفاد الهيئة لا
63

يمكن، إلا أن ذلك إنما هو بالنسبة إلى مدلولها المطابقي وهو النسبة الطلبية
المولوية دون مدلولها الالتزامي وهو الوجوب الذي هو معنى اسمي، وذلك لما
ذكرناه في محله من أن صيغة الأمر تدل بالدلالة الوضعية على النسبة الطلبية
المولوية بالمطابقة وعلى الوجوب بالالتزام، على أساس أنه من لوازم النسبة
المذكورة، وحينئذ وإن قلنا أن النسبة غير قابلة للتقييد، إلا أن لازمها وهو
الوجوب قابل له، باعتبار أنه معنى اسمي، بل تقييد مفاد الهيئة لا محالة يرجع
إلى تقييد الوجوب.
وثالثا مع الاغماض عن ذلك أيضا، إلا أن لازم هذا عدم إمكان تقييد
مفاد الهيئة بالتقييد الإفرادي، على أساس أنه لا إطلاق له أفرادا، وأما تقييده
بالتقييد الأحوالي فلا مانع منه، باعتبار أن له اطلاقا أحواليا كما في قولنا إن
جاءك زيد فأكرمه، أو إن كان عالما فاسأل منه، فإنه في المثال الأول قد قيد
وجوب الإكرام بحالة المجيئ وفي الثاني بحالة العلم.
فالنتيجة أن ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إلى
مفاد الهيئة لا يمكن المساعدة عليه.
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن المعنى الحرفي وإن كان
كليا في نفسه، إلا أنه حيث كان ملحوظا باللحاظ الآلي، فلا يرد عليه الاطلاق
والتقييد، لأنهما إنما يردان على المعنى الملحوظ باللحاظ الاستقلالي، والنكتة في
ذلك أن مصب الاطلاق والتقييد اللحاظيين لابد أن يكون مورد توجه المتكلم
ولحاظه مستقلا حتى يحكم عليه بالاطلاق أو التقييد، وأما إذا لم يكن المعنى
موردا لتوجهه ولحاظه كذلك، فلا يكون بإمكانه الحكم بأنه مطلق أو مقيد،
وحيث إن مفاد الهيئة معنى حرفي وملحوظ آلة وفانيا في معنى آخر، فلا يصلح
64

أن يكون مصبا للاطلاق أو التقييد (1) هذا.
وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ (قدس سره) بأمرين:
الأول: أن المعنى الحرفي كالمعنى الاسمي فلا فرق بينهما من هذه
الناحية، فكما أن المعنى الاسمي ملحوظ باللحاظ الاستقلالي فكذلك المعنى
الحرفي، بل ربما يكون المعنى الحرفي هو مورد اللحاظ والتوجه مستقلا دون
المعنى الاسمي، كما إذا كان المعنى الاسمي معلوما للمخاطب، فإن في مثل
هذه الحالة يكون التوجه والنظر منصبا إلى المعنى الحرفي وتفهيمه فحسب.
الثاني: أن اللحاظ الآلي للمعنى إنما يمنع عن طرو الاطلاق والتقييد
عليه حال لحاظه آليا، فإن المعنى في هذه الحالة بما أنه ليس منظورا إليه، فلا
يمكن الحكم بأنه مطلق أو مقيد، وأما إذا قيد المعنى أولا بقيد ثم لوحظ المقيد
آليا، فلا مانع منه ولا محذور فيه، وعلى هذا فلا مانع من ورود اللحاظ الآلي
على الطلب المقيد بحالة خاصة أو قيد مخصوص في المرتبة السابقة، فالنتيجة
أنه لا مانع من تقييد المعنى الحرفي كالاسمي (2)، ولنا تعليق على كلا الجوابين:
أما على الجواب الأول، فلأنا قد ذكرنا في مبحث الحروف مفصلا أن
الحرف موضوع بإزاء النسبة الواقعية التي هي متقومة ذاتا وحقيقة بشخص
وجود طرفيها في الذهن أو الخارج، فإن كان طرفاها في الذهن فالنسبة ذهنية
بنفسها لا بوجودها، وإن كانا في الخارج فالنسبة خارجية كذلك، حيث إنها
بوجودها لا يمكن أن تكون في الذهن أو الخارج، إذ ليست لها ماهية متقررة

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 129 وفي بحث الوضع من نفس الكتاب قد ذكر ما يدل على
المقام في ص 24 وكذا قد ذكر في فوائد الأصول ج 1: ص 181 ما يدل على المقصود.
(2) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 321.
65

في مرتبة سابقة على وجودها فيه كما هو الحال في المعنى الاسمي، ضرورة
أنه لو كانت لها ماهية متقررة في المرتبة السابقة، فبطبيعة الحال كانت مستقلة
في وجودها وهذا خلف، ولهذا لا يمكن تصورها ولحاظها في أفق الذهن إلا
بلحاظ طرفيها، ضرورة أن كلما يتصور فيه النسبة فهو مفهومها الذي هو مفهوم
اسمي لا واقعها الذي هو مفهوم حرفي، لأن واقع النسبة غير قابل للتصور
واللحاظ الذي هو وجود ذهني، والمفروض أن النسبة بنفسها في الذهن لا
بوجودها كما مر، ومن هنا يكون الذهن أو الخارج ظرف لنفسها لا لوجودها،
وعلى هذا فلا يمكن أن يكون المعنى الحرفي ملحوظا باللحاظ الاستقلالي، بأن
يكون موردا للتوجه والالتفات مستقلا كالمعنى الاسمي حتى يمكن طرو الاطلاق
والتقييد عليه، فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أن المعنى الحرفي
كالمعنى الاسمي يقبل اللحاظ الاستقلالي غير تام.
وأما على الجواب الثاني، فلأنه مبني على أن المعنى الحرفي في ذاته
مستقل وقابل لعروض الاطلاق والتقييد عليه، والمانع عن ذلك إنما هو لحاظه
آليا في مقام الاستعمال، وأما تقييده في المرتبة السابقة على هذا اللحاظ فلا
مانع منه، وهذا معنى أنه في ذاته قابل للتقييد فيقيده المولى أولا ثم يلاحظ
المقيد به آليا ولكنه غير صحيح، فإن المعنى الحرفي بذاته غير مستقل، حيث
قد مر أنه لا ذات له إلا ذات شخص طرفيه، فلو كان الاطلاق والتقييد من
شؤون المعنى المستقل كما هو مقتضى بيان المحقق النائيني (قدس سره)، لم يمكن
تقييده نهائيا حتى في المرتبة السابقة.
هذا إضافة إلى أنا ننقل الكلام إلى التقييد في المرتبة السابقة على هذا
اللحاظ، لأن التقييد بحاجة إلى لحاظ المقيد والقيد معا، وحينئذ فإن لوحظ
المقيد في تلك المرتبة آليا لزم المحذور المذكور، وإن لوحظ استقلالا لزم
66

خلف فرض كونه معنى حرفيا، فالنتيجة أن هذا الجواب أيضا غير تام.
فالصحيح في الجواب أن يقال، أنه (قدس سره) إن أراد بذلك أن مصب الاطلاق
والتقييد لابد أن يكون معنى إسميا، بنكتة أن الاطلاق كالتقييد أمر وجودي
متقوم باللحاظ الاستقلالي في مقابل التقييد، على أساس أن التقابل بينهما من
تقابل العدم والملكة.
فيرد عليه ما حققناه في محله من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل الايجاب والسلب وليس من تقابل العدم والملكة ولا من تقابل التضاد،
لأن الاطلاق أمر عدمي وهو عدم لحاظ القيد، فإن المعنى في نفسه قابل
للانطباق على أفراده وهذه القابلية ذاتية، باعتبار أن الطبيعي عين أفراده في
الخارج وانطباقه عليها ذاتي قهري، فلا يتوقف على أي مقدمة خارجية طالما
لم يقيده بقيد، فإذا قيده بقيد فبما أنه يحدث فيه مفهوما جديدا غير المفهوم
الأول وأضيق دائرة منه، فلا يمكن انطباقه إلا في دائرة المقيد والحصة فحسب
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن المعنى إن كان مستقلا بالذات كان التقييد واردا
عليه مباشرة، وإن كان غير مستقل كذلك كالمعنى الحرفي فالاطلاق أو التقييد
وارد على مقوماته الذاتية وهي شخص طرفيه، فإن إطلاق المعنى الحرفي وهو
النسبة إنما هو باطلاق طرفيه وتقييده إنما هو بتقييدهما، ويكفي في إطلاقه
عدم لحاظ القيد فيه ولا يتوقف على لحاظ عدم القيد هذا.
وإن أراد المحقق النائيني (قدس سره) بذلك أن المعنى الحرفي حيث إنه غير
مستقل بذاته ولحاظه معا، فلذلك غير قابل للتقييد، فإذا لم يكن قابلا له لم
يكن قابلا للاطلاق، على أساس أن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة،
فاستحالة أحدهما يستلزم استحالة الآخر.
67

فيرد عليه أن المعنى الحرفي في نفسه وإن كان غير قابل للتقييد،
باعتبار أن شيئيته إنما هي بشيئية طرفيه ولا شئ بقطع النظر عنهما حتى يقبل
التقييد أو الاطلاق، ولكن لا مانع من عروض التقييد أو الاطلاق عليه بلحاظ
متعلقه كما عرفت.
الوجه الثالث: أن القيد لو رجع إلى مفاد الهيئة، لزم منه التفكيك بين
الانشاء والمنشأ والايجاب والوجوب، فإن المنشأ إنما يتحقق عند تحقق
الشرط والقدرة، وأما الانشاء فهو يتحقق من حين الجعل وإن لم يكن الشرط
متحققا، وفي مثل قوله تعالى: (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) (1). يتحقق الانشاء والايجاب بنفس الآية الشريفة، وأما الوجوب والمنشأ
فهو معلق على الاستطاعة في الخارج ومشروط بها، فإن وجدت الاستطاعة وجد
المنشأ، وإلا فلا وجود له مع أن الانشاء موجود، وهذا من تفكيك المنشأ عن
الانشاء وهو مستحيل، لأن المنشأ عين الانشاء ذاتا وحقيقة، فلا يعقل إنفكاكه
عنه كالايجاد والوجود في التكوينيات، وعلى هذا فرجوع القيد إلى مفاد الهيئة
حيث يستلزم تفكيك الانشاء عن المنشأ، بأن يكون الانشاء حاليا والمنشأ
استقباليا وهو مستحيل كتفكيك الايجاد عن الوجود، فلابد من إرجاعه إلى مفاد
المادة هذا، وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني (قدس سره) بتقريب أن المنشأ في
القضية الشرطية الانشائية كالآية الشريفة ونحوها، حيث إنه حصة خاصة من
الطلب وهي الطلب على تقدير حصول الشرط كالاستطاعة أو نحوها لا الطلب
المطلق، فبطبيعة الحال لا يتحقق الطلب المنشأ قبل تحقق الشرط وإلا لزم تخلف
المنشأ عن الانشاء وهو محال، ودعوى أن إنشاء الوجوب والطلب معلقا على

(1) سورة آل عمران: 97.
68

شئ لا يمكن، لأنه تعليق في الانشاء وهو لا يقبل.
مدفوعة بأنه لا مانع من هذا الانشاء لأنه ليس تعليقا فيه، بل هو انشاء
حصة خاصة من الطلب وهي الطلب المشروط بشئ، وهذا الطلب المنشأ لا
يتحقق إلا بتحقق الشرط، فيكون حال الانشاء من هذه الناحية حال الاخبار،
فكما أنه يصح الاخبار عن تحقق شئ على تقدير تحقق شئ آخر، فكذلك
يصح انشاء طلب شئ على تقدير تحقق شئ آخر (1) هذا.
وقد علق عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بأن هذا الجواب ليس بشئ لأنه تكرار
للمدعي في المسألة، لا أنه دليل عليه فيكون مصادرة، وذلك لأن الكلام إنما
هو في إمكان انشاء مثل هذا الطلب المعلق، بأن يكون الانشاء حاليا والمنشأ
أمرا استقباليا، واستدلاله (قدس سره) على إمكانه تارة بأنه لا شبهة في إمكانه كما في
الأخبار وأخرى بأن المنشأ لابد أن لا يتحقق إلا بعد تحقق شرطه، وإلا لزم
تخلف المنشأ عن الانشاء، غريب جدا، فإن الأول مصادرة لأنه من
الاستدلال على إمكان شئ بامكان نفسه، والثاني من لوازم إمكان هذا
الانشاء، ومن هنا أن ما علقه السيد الأستاذ (قدس سره) عليه في محله هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى قال السيد الأستاذ (قدس سره) أن هذا الاشكال غير قابل للرفع
والحل على ضوء نظرية المشهور في باب الانشاء، من أنه عبارة عن إيجاد
المعنى باللفظ وذلك لاستحالة تفكيك الايجاد عن الوجود بأن يكون الايجاد
حاليا والوجود استقباليا.
وأما بناء على ضوء نظريتنا من أن الانشاء عبارة عن إبراز الأمر
الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز ما من قول أو فعل فلا أصل لهذا

(1) كفاية الأصول: ص 97.
69

الاشكال، وذلك لأن المراد من الايجاب سواء كان إبراز الأمر الاعتباري
النفساني أم كان نفس ذلك الأمر الاعتباري النفساني، فلا يلزم من رجوع القيد
إلى مفاد الهيئة محذور، أما على الأول فلأن الابراز والمبرز والبروز كلهم فعلي
فليس شئ منها معلقا على أمر متأخر، وأما على الثاني فلأن الاعتبار بما أنه
من الأمور النفسانية التعلقية فلا مانع من تعلقه بأمر متأخر، كما أنه تعلق بأمر
مقارن نظير العلم الذي هو من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، ومن هنا قد
يتعلق بأمر مقارن وقد يتعلق بأمر متأخر أو متقدم، وعلى هذا فلا محذور في
أن يكون الاعتبار حاليا والمعتبر استقباليا ولا مانع من التفكيك بينهما، باعتبار
أنه بيد المعتبر، فله اعتبار وجوب شئ في الحال وله اعتباره في المستقبل،
ومن هذا القبيل الوصية التمليكية، حيث إن التمليك فيها حالي والملكية
المعتبرة فيها استقبالية، ومن هنا استشهد (قدس سره) بها على أنه لا مانع من أن يكون
الاعتبار حاليا والمعتبر إستقباليا.
فالنتيجة أن ما أفاده (قدس سره) يرجع إلى نقطتين:
الأولى: عدم صحة نظرية المشهور في تفسير الانشاء بايجاد المعنى
باللفظ، وصحة نظريته (قدس سره) في تفسيره وهو أنه عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري
النفساني في الخارج بمبرز ما.
الثانية: أن هذا الإشكال لا يمكن دفعه على ضوء نظرية المشهور في
مسألة الانشاء، بينما يمكن دفعه على ضوء نظريته (قدس سره) في المسألة، ولنا تعليق
على كلتا النقطتين:
أما على النقطة الأولى، فلأنا قد ذكرنا موسعا في باب الانشاء والإخبار
أن الصحيح هو نظرية المشهور في هذا الباب دون نظرية السيد الأستاذ (قدس سره)،
وذلك لأن نظرية السيد الأستاذ (قدس سره) مبنية على مسلكه في باب الوضع من أنه
70

عبارة عن التعهد والالتزام النفساني (1)، ولازم هذا المسلك الالتزام بأن المدلول
الوضعي للألفاظ مدلول تصديقي لا تصوري، وعليه فلا مناص من تفسير الانشاء
بما يتضمن القصد والإرادة، باعتبار أن مدلوله الوضعي تصديقي لا تصوري، و
من هنا فسر (قدس سره) الانشاء بقصد إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج، و
مسلكه (قدس سره) في باب الوضع وإن كان لا يقتضي تفسيره بذلك، فإنه إنما يقتضي
تفسيره بما يكون مدلول الانشاء مدلولا تصديقيا، وأما إنه عبارة عن قصد إبراز
الأمر الاعتباري النفساني فهو لا يقتضي ذلك، إذ كما يمكن تفسيره بذلك يمكن
تفسيره بقصد إيجاد المعنى باللفظ، إلا أنه (قدس سره) حيث يرى بطلان التفسير الثاني،
فلهذا فسره بالأول، ولكن قد ذكرنا في باب الوضع مفصلا أن تفسير السيد
الأستاذ (قدس سره) الوضع بالتعهد والالتزام النفساني غير صحيح، والصحيح أنه عبارة عن
جعل اللفظ للمعنى خارجا وكان جادا في ذلك الجعل والقرن بينهما بغرض
حصول العلقة والاختصاص على تفصيل هناك، فلهذا يكون المدلول الوضعي
للفظ مدلولا تصوريا لا تصديقيا، وعلى هذا فالجملة الانشائية موضوعة بإزاء
معنى فانيا في مصداق يرى بالنظر التصوري أنه يتحقق بنفس الجملة، كما أن
الجملة الخبرية موضوعة بإزاء معنى فانيا في مصداق يرى بالنظر التصوري أنه
مفروغ عنه، وقد تقدم تفصيله.
وأما النقطة الثانية فيرد عليها أن إشكال تفكيك الانشاء عن المنشأ كما
أنه قابل للدفع على ضوء نظرية السيد الأستاذ (قدس سره) في باب الانشاء، كذلك قابل
للدفع على ضوء نظرية المشهور في هذا الباب أيضا، وذلك لأن المقصود من
إيجاد المعنى باللفظ ليس إيجاده في الخارج لكي يقال أنه لا يمكن باللفظ لأنه

(1) راجع المحاضرات ج 1: ص 45.
71

تابع لعلته فإن وجدت وجد وإلا فلا، سواء أكان هناك لفظ أم لا لأنه ليس
واقعا في سلسلة علله، بل المقصود منه دلالة اللفظ بالوضع على إيجاد المعنى
بالإيجاد التصوري، على أساس أن المدلول الوضعي مدلول تصوري،
فالإيجادية من شؤون المدلول التصوري للجملة الانشائية، كما أن الحكائية
من شؤون المدلول التصوري للجملة الخبرية، ومن هنا تكون موجدية الجمل
الانشائية محفوظة حتى في موارد صدورها عن هازل أو لافظ بلا شعور
واختيار، لأنها محفوظة بالنظر التصوري، سواء ترتب مصداق حقيقي للمعنى
الإيجادي على الجملة الانشائية كما في موارد المعاملات الواقعية الصحيحة أم
لا، كما في موارد المعاملات الهزلية، مثلا إذا قال أحد بعت داري مثلا، فإن
كان جادا في بيعها حكم بالصحة وترتب عليها ملكية المبيع للمشتري والثمن
للبائع واقعا، وإن كان هازلا لم تترتب عليه الملكية، ولكن مع هذا فالموجدية
بالنظر التصوري موجودة بمعنى أن المتبادر من هذه الجملة معنى فانيا في
مصداق يرى بالنظر التصوري إيجاده بنفس الجملة وإن كانت صادرة عن لافظ
بلا شعور.
وهذا هو المراد من إيجاد المعنى باللفظ، وعلى هذا فلابد أن يكون
معنى الجمل الانشائية سنخ معنى نسبي قابل للايجاد لكي تدل الجملة على
إيجاد مصداقه تصورا، مثلا معنى البيع هو التمليك وهو سنخ معنى نسبي قابل
للانشاء والايجاد، فلذلك تدل صيغة بعت على إيجاد مصداقه وإن كانت في مقام
الهزل أو كان اللافظ بها غير شاعر، غاية الأمر أنها تدل في هذه الحالة على
الايجاد التصوري فحسب، وإذا كانت في مقام الجد فتدل على الايجاد التصديقي
أيضا، وكذلك الحال في سائر صيغ الانشائية كصيغة النكاح والطلاق ونحوهما
وصيغة الأمر والنهي وغيرهما، ولا فرق في ذلك بين الصيغ المشتركة بين الإخبار
72

والانشاء والصيغ المختصة بالانشاء، وذلك كما تقدم في محله مفصلا من أن
الجمل المشتركة مشتركة في الصيغ اللفظية فحسب لا في المعنى، ولا في مرحلة
التصور ولا في مرحلة التصديق، فالجمل المستعملة في مقام الانشاء تختلف عن
الجمل المستعملة في مقام الإخبار في المدلول التصوري والتصديقي معا.
والخلاصة أن موجدية الجملة الانشائية وحكائية الجملة الخبرية
كلتيهما من شؤون المدلول التصوري لهما، فإن الجملة الخبرية تدل على معنى
نسبي فإن في مصداق يرى بالنظر التصوري أنه مفروغ عنه في الخارج، وإن
كان المتكلم جادا في ذلك، كان ثبوته مفروغ عنه واقعا لا تصورا فحسب،
بينما الجملة الانشائية تدل بالدلالة الوضعية على معنى نسبي فإن في مصداق
يرى بالنظر التصوري إيجاده بنفس الجملة، وإن كان المتكلم بها في مقام الجد،
تحقق مصداقه واقعا وترتب على الجملة أثرها كذلك.
ثم أن موجدية الجملة الانشائية لمصداق معناها ليست كموجدية العلة
التامة لمعلولها، فإنها تبتني على العلاقة الذاتية بينهما، بينما موجدية الجملة
تبتني على العلاقة الجعلية بينهما وهي العلاقة الوضعية.
ومن هنا يظهر أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن تفسير الانشاء بإيجاد
المعنى باللفظ لا يرجع إلى معنى محصل لا يمكن المساعدة عليه، لأنه مبني
على الخطأ في تفسير مراد المشهور من الإيجاد، وقد عرفتم أن المراد من
الايجاد في كلماتهم ليس الايجاد التكويني التصديقي الخارجي ولا الذهني،
كما أن المراد منه ليس الايجاد الاعتباري، فإنه بيد المعتبر ولا يرتبط بالجملة
الانشائية، بل المراد منه كما مر إيجاد مصداق المعنى باللفظ في مرحلة
التصور، والجملة الانشائية تدل على ذلك بالدلالة الوضعية بناء على ما هو
الصحيح من أن المدلول الوضعي مدلول تصوري.
73

فالنتيجة أن الصحيح في باب الانشاء هو مسلك المشهور دون مسلك
السيد الأستاذ (قدس سره)، هذا كله في الجمل الحملية الانشائية، وأما الجمل الشرطية
فهي موضوعة بإزاء النسبة التعليقية وهي النسبة بين الشرط والجزاء، غاية
الأمر أنها إن كانت إخبارية فهي تدل على النسبة المذكورة فانية في مصداق
يرى ثبوته مفروغا عنه بالنظر التصوري، وإن كانت انشائية فهي تدل على
النسبة المذكورة فانية في مصداق يرى ثبوته بالنظر التصوري بنفس الجملة،
مثلا قوله تعالى: (لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (1) يرجع إلى
قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وهو الاستطاعة، تاليها ثبوت الحكم له وهو
وجوب الحج، وهذه القضية الشرطية تدل على النسبة التعليقية بين الاستطاعة
ووجوب الحج فانية في مصداق يرى ثبوته بها بالنظر التصوري، فالموجدية من
شؤون المدلول التصوري في الجمل الانشائية، والحكائية من شؤون المدلول
التصوري في الجمل الإخبارية سواء أكانتا حمليتين أم شرطيتين.
وعلى هذا الأساس فلا موضوع لاشكال تفكيك المنشأ عن الانشاء
لأنهما شئ واحد وهو إيجاد مصداق المعنى بالنظر التصوري بنفس صيغة
الانشاء، لأنه إنشاء بعينه باعتبار ومنشأ كذلك باعتبار آخر، فلا فرق بينهما
ذاتا وحقيقة، إلا بالاعتبار كالإيجاد والوجود، فوجوب الحج عند الاستطاعة
إنشاء باعتبار ومنشأ باعتبار آخر وكلاهما فعلي، وليس المراد من المنشأ هو
فعلية وجوب الحج بفعلية الاستطاعة في الخارج، ضرورة أنها ليست منشأة
بالانشاء في مرحلة الجعل، بل إنها معلولة لوجود الاستطاعة في الخارج
ومستندة إليه، وقد تقدم أن المراد من فعلية وجوب الحج فعلية فاعليته

(1) سورة آل عمران: 97.
74

ومحركيته نحو الاتيان بمتعلقه لا فعلية وجوبه، لأن الوجوب أمر اعتباري
وفعليته إنما هي بالانشاء والجعل، ولا يعقل أن تكون مستندة إلى الاستطاعة
الخارجية وإلا كان خارجيا لا اعتباريا وهذا خلف، ومن هنا قلنا أن للحكم
مرتبة واحدة وهي مرتبة الجعل والانشاء والمجعول وهو المنشأ عين الجعل،
فلا فرق بينهما إلا بالاعتبار، وأما فعلية المجعول فهي مستندة إلى الأسباب
الخارجية ومعلولة لها وليست من مراتب الحكم كيف، وإلا فلازمه أن يكون
الحكم أمرا خارجيا وهو كما ترى، فإذن ما هو متأخر وهو فعلية المنشأ ليس
بمنشأ وما هو منشأ بالانشاء عين الانشاء وليس بمتأخر عنه، فلهذا لا
موضوع لاشكال التفكيك بين الانشاء والمنشأ، ومن هنا يظهر أن هذا
الاشكال نشأ من الخلط بين الوجود الانشائي لمدلول الجملة وبين فعليته
بفعلية شرطه في الخارج، بتخيل أن المنشأ هو فعلية وجوب الحج مثلا عند
تحقق الاستطاعة في الخارج، وهذا التخيل باطل ولا أصل له، ضرورة أن
المنشأ بالانشاء في الآية الشريفة مثلا هو الوجوب في مرحلة الجعل، سواء
أكانت الاستطاعة موجودة في الخارج أم لا وهو فعلي في هذه المرحلة، ولا
تتصور فعلية أخرى له بما هو حكم شرعي، وأما فعليته بفعلية الاستطاعة
خارجا، فلا يعقل أن تكون منشأة بالانشاء ومجعولة بالجعل، لأنها أمر
تكويني وعبارة عن فعلية فاعليته ومحركيته في الخارج، ومن المعلوم أنها لا
تعقل أن تكون معلولة للانشاء ومستندة إليه، وإلا لزم أن يكون الانشاء أمرا
تكوينيا وهو كما ترى، فالنتيجة أنه لا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة من
هذه الناحية.
ومن هنا يظهر أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من أن يكون
الاعتبار حاليا والمعتبر استقباليا، واستشهد على ذلك بالوصية التمليكية بعد
75

الموت، بدعوى أن الاعتبار فيها فعلي والمعتبر استقبالي وهو الملكية بعد
الموت، أو فقل أن الإنشاء فعلي والمنشأ يوجد بعد الموت، ووجه الظهور أنه
كيف يمكن أن يكون الاعتبار فعليا والمعتبر به استقباليا مع أنه موجود
بوجوده ولا اختلاف بينهما ذاتا وحقيقة كالايجاد والوجود في التكوينيات، إذ
كما لا يعقل الايجاد بدون الوجود كذلك لا يعقل الاعتبار بدون المعتبر
والانشاء بدون المنشأ، وعلى هذا ففي الوصية التمليكية الاعتبار والمعتبر به
كلاهما فعلي وموجود في عالم الاعتبار والذهن ولا يعقل فيه التعليق،
والمعلق على ما بعد الموت إنما هو فعلية المعتبر والمنشأ وهي مسببة عن الأسباب
الخارجية كالموت ونحوه ولا يعقل أن تكون منشأة به، وإن شئت قلت أن المعتبر
بالاعتبار عين الاعتبار على أساس أنه موجود بالوجود الاعتباري في عالم
الذهن، وأما فعليته خارجا فهي معلقة على الموت، لأنه شرط لها والأثر الشرعي
مترتب عليها لا على وجوده الاعتباري، وقد مر أن فعليته بفعلية شرطه ليست من
مراتب الحكم وإلا فلازمه أن يكون الحكم أمرا خارجيا (1) وهو كما ترى.
فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) مبني على الخلط بين المعتبر الموجود بالوجود
الاعتباري وبين فعليته خارجا بفعلية شرطه، فالمعتبر إنما هو الأول الذي هو بيد
المعتبر دون الثاني، فإذن ما هو متأخر عن الاعتبار فليس بمعتبر وما هو معتبر به
فهو عينه، فلا يعقل أن يكون متأخرا عنه.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من رجوع
القيد إلى مفاد الهيئة.
الوجه الثاني: أن الإنسان إذا توجه إلى شئ والتفت إليه فلا يخلو من

(1) المحاضرات ج 2: ص 323.
76

أنه إما أن يطلب ذلك الشئ أو لا، ولا كلام على الثاني، أما على الأول، فإن
كان الملاك الذي دعى المولى إلى طلبه قائما به على نحو الاطلاق، فالطلب
متعلق به كذلك، وإن كان قائما بحصة خاصة وهي الشئ المقيد بقيد
مخصوص فالطلب متعلق بها لا محالة ولا ثالث في البين، ولا فرق في ذلك
بين أن يكون القيد اختياريا أو غير اختياري، فعلى الأول لا فرق بين أن
يكون مطلق وجوده مأخوذا في الواجب كالطهارة المأخوذة قيدا للصلاة
وغيرها، أو وجوده الاتفاقي الطبعي كالاستطاعة للحج، فإنها قيد للواجب
بوجودها الاتفاقي فحسب، بمعنى أن المكلف لا يكون ملزما بإيجادها في
الخارج، وعلى الثاني فلا محالة يكون مأخوذا مفروض الوجود في الخارج
كالوقت الذي هو قيد للواجب كالصلاة ونحوها.
فالنتيجة أنه بالتحليل في مقام اللب والواقع أن القيد عند الطلب يرجع
إلى المادة دون الهيئة، وحيث إن مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت، فرجوع القيد
في مقام الثبوت إلى المادة قرينة على التصرف في مقام الاثبات برفع اليد عن
ظهور القضية الشرطية في رجوع القيد إلى الهيئة، هذا.
والجواب إننا قد أشرنا فيما تقدم أن شروط الملاك على نحوين:
الأول: أنها شروط لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ.
الثاني: أنها شروط لترتب الملاك على الفعل في مرحلة الامتثال.
أما الأولى، وهي شروط الاتصاف فهي التي تدعو المولى إلى أخذها
قيودا للوجوب في مرحلة الجعل ومفروضة الوجود في هذه المرحلة، وعلى
هذا فإذا جعل شئ في مرحلة الجعل قيدا للحكم فهو إنما يكون بتبع كونه
قيدا للاتصاف بالملاك في مرحلة المبادئ، ولولاه لكان جعله قيدا للحكم
لغوا. فالنتيجة أن شروط الاتصاف هي شروط الوجوب ولا يمكن أن تكون
77

شروطا للواجب.
ثم إن جعل شئ قيدا للوجوب في مرحلة الجعل إنما هو بأحد ملاكين:
الأول: أن يكون ذلك الشئ شرطا للاتصاف في مرحلة المبادئ وقيدا
له، فإن ذلك هو قيد الوجوب وشرطه في مرحلة الجعل ولا يعقل أن يكون
شرطا للواجب، ولا فرق بين أن يكون ذلك الشئ اختياريا كالاستطاعة أو
غير اختياري، فإن الاستطاعة بما أنها دخيلة في اتصاف الحج بالملاك في
مرحلة المبادئ وشرط له، فلا محالة تكون شرطا للوجوب في مرحلة
الجعل ولا يعقل أن تكون شرطا للواجب، فما في هذا الوجه من جعلها شرطا
للواجب فلا يرجع إلى معنى محصل.
الثاني: أن قيد الواجب إذا كان غير اختياري كالوقت، فلابد من أخذه
قيدا للوجوب أيضا، إذ لو كان الوجوب مطلقا لزم التكليف بغير المقدور وأما
الثانية وهي شروط الترتب فهي قيود للواجب ودخيلة في حصول الملاك
وترتبه عليه خارجا، ولهذا يكون المكلف مسؤول أمامها وملزما بتوفيرها،
باعتبار أن ملاك الواجب تام ووجوبه فعلي ولا حالة منتظرة له.
ومن هنا يظهر أنه لا يمكن أن ترجع جميع القيود إلى المادة، بداهة أن
ما كان قيدا للاتصاف فلا يعقل أن يكون قيدا للمادة، بل لا محالة يكون قيدا
للوجوب وهو مفاد الهيئة، فالنتيجة أن ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أن
جميع القيود ترجع إلى المادة دون الهيئة (1)، لا يمكن المساعدة عليه بوجه،
وعلى هذا فإذا كانت القضية الشرطية ظاهرة في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة،
فيؤخذ به ولا موجب لرفع اليد عنه أصلا، هذا.

(1) مطارح الأنظار: ص 46.
78

وأجاب السيد الأستاذ (قدس سره) عن هذا الوجه بما يرجع إلى أحد أمرين:
الأول: أن القضية الشرطية ظاهرة في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة، وهذا
الظهور حجة ولابد من الأخذ به ما لم تقم قرينة على الخلاف (1).
الثاني: أن الملاك القائم بالواجب تارة يكون تاما ولا تتوقف تماميته
على أي شئ في الخارج من زمان أو زماني، وأخرى يكون غير تام وأن
تماميته تتوقف على أمر متأخر، أما على الأول فمرة يكون الاتيان به يتوقف
على مقدمات اختيارية كالصلاة بعد دخول وقتها، فإن ملاكها تام وإن كان
إتيانها يتوقف على الاتيان بمقدماتها إذا لم تكن متوفرة، وشرب الدواء
للمريض فإن ملاكه تام له فعلا وأن كان تحققه في الخارج يتوقف على الاتيان
بعدة مقدمات كرجوعه إلى الطبيب وتشخيص مرضه وتعيين الدواء له وهكذا.
وأخرى يكون الاتيان به يتوقف على مقدمات خارجة عن اختيار
المكلف كالمريض مثلا، فإن ملاك شرب الدواء في حقه تام ولا حالة منتظرة
له، ولكن تحصيل الدواء فعلا غير ممكن لوجود مانع خارجي من زمان أو
زماني، وفي مثل ذلك لا مانع من الالتزام بكون الوجوب حاليا والواجب
استقباليا، ومن هذا القبيل وجوب الصوم بعد دخول شهر رمضان بمقتضى
الآية الشريفة: (من شهد منكم الشهر فليصمه) (2)، فإن الظاهر منها هو أن
وجوب الصوم فعلي بعد دخول الشهر، وهذا لا يمكن إلا بالالتزام بتمامية ملاكه
من الليل.
وأما على الثاني فحيث أن ملاكه غير تام فعلا وإنما يتم في ظرفه

(1) المحاضرات ج 2: ص 320.
(2) سورة البقرة: 185.
79

المتأخر عند تحقق قيده، فبطبيعة الحال يكون الوجوب المتعلق به وجوب
تعليقي ولا يمكن أن يكون فعليا لعدم الملاك له كذلك (1).
فالنتيجة أن الحكم الشرعي يختلف باختلاف القيود الدخيلة في ملاكه
فقد يكون فعليا لفعلية ما له دخل في ملاكه، وقد يكون معلقا على حصول ما
له دخل فيه، هذا إضافة إلى ظهور القضية الشرطية في رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة، حيث إن المتفاهم العرفي منها هو تعليق مفاد الجملة الجزائية على مفاد
الجملة الشرطية بلا فرق في ذلك بين أن تكون القضية حملية أم شرطية، ومن
هنا فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة دون المادة،
وغير خفي أن ما أفاده (قدس سره) من ظهور القضية الشرطية في رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة دون المادة صحيح ولا إشكال فيه، كما أن ما أفاده (قدس سره) من أن ملاك الواجب
إذا لم يكن تاما فعلا وتتوقف تماميته كذلك على أمر متأخر، فلا يعقل أن يكون
وجوبه فعليا صحيح أيضا، ولكن ما أفاده (قدس سره) من أنه لا مانع من أن يكون الوجوب
فعليا لفعلية ما له دخل في ملاكه والواجب مقيد بقيد متأخر غير اختياري كصوم
شهر رمضان، فإنه مقيد بطلوع الفجر مع أن وجوبه فعلي لفعلية ملاكه من حين
رؤية الهلال لا يتم، لما مر من أن كون الشئ قيدا للوجوب في مرحلة الجعل أحد
أمرين:
الأول: أن يكون الشئ من شروط الاتصاف في مرحلة المبادئ، فإنه
لابد من أخذه قيدا للوجوب.
الثاني: أن المأمور به إذا كان مقيدا بقيد غير اختياري، فلابد من أخذه
قيدا للوجوب أيضا، إذ لو كان الوجوب مطلقا فبطبيعة الحال يكون محركا

(1) المحاضرات ج 2: ص 327.
80

نحو الاتيان بالمقيد بقيد غير اختياري وهو من التكليف بالمحال، وعلى هذا
فلو كان وجوب الصوم فعليا من الليل ومطلقا وكان الواجب وهو الصوم مقيدا
بطلوع الفجر، لزم التكليف بغير المقدور، لأن معنى كونه فعليا أنه محرك
بالفعل وهذا لا يمكن مع كون الواجب استقباليا، ودعوى أن القيد المتأخر إذا
كان تحققه مضمونا كطلوع الفجر في المثال، فلا مانع من تعلق الوجوب
بالمقيد به، لأن تعلقه بالمقيد ليس في الحقيقة تعلق بالقيد بل تعلق بالتقيد
وذات المقيد وهما مقدوران للمكلف عند تحقق القيد مدفوعة بأن وجوب
الصوم إذا كان فعليا من أول الليل فمعناه أنه محرك نحوه، وهذا من التكليف
بغير المقدور، ومجرد كون القيد مضمونا لا يحل المشكلة، فإن التقيد مقدور عند
تحقق القيد المضمون لا قبل تحققه والمفروض أن الوجوب منذ الليل فعلي.
ودعوى أن الوجوب وإن لم يكن مشروطا بطلوع الفجر بنحو الشرط
المتأخر، باعتبار أنه مضمون ولكنه مشروط بالقدرة عليه بعد الطلوع بنحو
الشرط المتأخر، باعتبار أن قيد القدرة ليس من القيود المضمونة وجودها في
المستقبل، فإذا كان مشروطا بشرط متأخر لم يكن محركا نحو الاتيان
بالواجب قبل تحقق شرطه، وعليه فهو وإن كان مطلقا بالنسبة إلى قيد طلوع
الفجر ولم يكن مقيدا به، إلا أنه مع ذلك لا يكون محركا نحو الصوم المقيد
بالطلوع فعلا لمكان اشتراطه بالقدرة عليه بعد الطلوع بنحو الشرط المتأخر.
مدفوعة بما تقدم من أن اشتراط الوجوب بشئ إنما هو على أساس أن
ذلك الشئ شرط للاتصاف في مرحلة المبادئ وإلا فلا يمكن أن يكون
الوجوب مشروطا به في مرحلة الجعل لأنه لغو وبلا مبرر، وعلى هذا فالقدرة
المتأخرة لو كانت شرطا للوجوب بنحو الشرط المتأخر فلا محالة تكون
شرطيتها له من جهة أنها شرط للاتصاف في مرحلة المبادئ بنحو الشرط
81

المتأخر، وقد تقدم أن الاتصاف بما أنه أمر تكويني فيستحيل أن يكون
مشروطا بشرط متأخر لاستحالة تأثير المتأخر في المتقدم.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) في المقام من أن الوجوب حالي
والواجب استقبالي غير تام، هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى لها.
وأما المرحلة الثانية فيقع الكلام فيها في موردين:
الأول: في الملاك المشروط بشئ.
الثاني: في الإرادة المشروطة.
أما الأول: فلا إشكال في معقولية إشتراط اتصاف شئ بالملاك بتحقق
شئ آخر كاشتراط اتصاف شرب الدواء بالملاك بالمرض واتصاف شرب
الماء به بالعطش واتصاف الحج بالملاك بالاستطاعة وهكذا.
وأما الثاني: فيقع الكلام في كيفية تفسير الإرادة المشروطة، وفيها أقوال:
القول الأول: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الشوق النفساني المؤكد إذا
تحقق في أفق النفس بتحقق مبادئه فيه، فلا يختلف باختلاف المشتاق إليه في
خارج أفق النفس من ناحية الاطلاق والتقييد تارة، ومن ناحية كون القيد
اختياريا وعدم كونه اختياريا تارة أخرى، ومن ناحية كون القيد موردا للشوق
وعدم كونه كذلك ثالثة، بل ربما يكون القيد مبغوضا في نفسه ولكن المقيد به
مورد للشوق وذلك كالمرض مثلا، فإنه على الرغم من كونه مبغوضا للإنسان
المريض فمع ذلك يكون شرب الدواء النافع مطلوبا له وموردا لشوقه (1).
ونتيجة ما أفاده (قدس سره) أنه لا فرق بين الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة إلا

(1) المحاضرات ج 2: ص 325.
82

في المتعلق فإن متعلق الأول الطبيعة المطلقة ومتعلق الثانية حصة خاصة منها
وهي المقيدة بقيد خاص، وعليه فاطلاق الإرادة وتقييدها إنما هو بلحاظ
متعلقها لا بلحاظ نفسها، وقد يدعي بأن هذا موافق للوجدان، فإن المولى إذا
التفت إلى نفسه بالنسبة لشئ ما، فلا يخلو من أنه إما أن يريده أو لا يريده،
والثاني خارج عن محل الكلام، وأما على الأول فالإرادة موجودة منذ البدأ
في أفق النفس سواء كان متعلقها الطبيعي المطلق أم المقيد، فإذن كيف يقال
أنها معلقة على وجود شئ.
ولنا تعليق على هذا القول وتقريبه أن ما ذكره (قدس سره) من أن الفرق بين
الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة إنما هو في المراد لا في نفس الإرادة، فإن
المراد تارة يكون مطلقا وأخرى يكون مشروطا ومقيدا، وإنما الإرادة فهي
فعلية في عالم النفس على كلا التقديرين لا يتم، لأن القيد يختلف باختلاف
الموارد، فتارة يكون للمراد وأخرى للإرادة كما هو الحال في القيود المأخوذة في
مرحلة الجعل، فإنه قد يكون للوجوب وقد يكون للواجب وقيد الوجوب هو قيد
الإرادة في مرحلة المبادئ، وقيد الواجب هو قيد المراد في تلك المرحلة،
وعلى هذا فما ذكره (قدس سره) من أن القيد قيد للمراد دائما دون الإرادة سواء أكان
إختياريا أم غير اختياري وموردا للإرادة أم لا خلاف الوجدان، لوضوح أن إرادة
شرب الدواء وجدانا معلقة على المرض، وشرب الماء على العطش، وإرادة الحج
على الاستطاعة، والصلاة على دخول الوقت، والصوم على دخول شهر رمضان
وهكذا، ولا يمكن القول بأن القيد دائما يكون للمراد لا الإرادة، فما ذكره (قدس سره) من
أن المرض قيد للمراد دون الإرادة فإنها فعلية خلاف الوجدان.
والخلاصة أن شروط الحكم في مرحلة الجعل شروط لإرادة الفعل
واتصافه بها في مرحلة المبادئ، كما أنها شروط لاتصافه بالملاك في هذه
83

المرحلة، وهذه الإرادة لا تتحقق قبل تحقق شروطها، مثلا الاستطاعة التي
هي شرط لوجوب الحج في مرحلة الجعل شرط لإرادته في مرحلة المبادئ،
كما أنه لا وجوب للحج قبل تحقق الاستطاعة، كذلك لا إرادة له قبل تحققها.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا فرق بين الإرادة المطلقة
والإرادة المشروطة، فإن كلتيهما موجودة في أفق النفس، والفرق بينهما إنما
هو في المتعلق، فمتعلق الأولى مطلق ومتعلق الثانية مقيد، فالاطلاق
والاشتراط بلحاظ حال المتعلق لا بلحاظ حال نفسها (1)، لا يمكن المساعدة عليه
أصلا، بل هو خلاف الوجدان، لما عرفت من أن الإرادة المشروطة لا تكون
موجودة في أفق النفس قبل تحقق شرطها.
ودعوى أن نفس تصدي المولى طلب الفعل من العبد بنحو الواجب
المشروط قبل تحقق الشرط، دليل على فعلية الإرادة في نفس المولى،
لوضوح أن جعل الايجاب من المولى مقدمة بحسب الحقيقة لايجاد المراد
خارجا، يدل على فعلية الإرادة في نفسه حتى تترشح نحو المقدمات.
مدفوعة، أولا أن هذه الدعوى مبنية على إمكان الشرط المتأخر في
مرحلة المبادئ وقد تقدم استحالته، وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم
إمكان الشرط المتأخر، إلا أن إيجاب المولى الفعل وتصديه طلبه قبل تحقق
الشرط، يدل على أن ملاكه تام في ظرفه ولا يرضى المولى بتفويته من قبل
المقدمات المفوتة، وهذا يدل على أنه مشروط بالقدرة المطلقة لا القدرة
الخاصة وهي القدرة بعد الوقت، فلهذا يجب تحصيل القدرة عليه قبل وقته إذا
لم يتمكن من تحصيلها في وقته.

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 52.
84

القول الثاني: ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) من أن الإرادة المشروطة فعلية
في أفق النفس كالإرادة المطلقة، ولكن لا من جهة أن القيد قيد للمراد لا
للإرادة بل هو قيد لها، فمع ذلك تكون فعلية قبل تحقق القيد في الخارج،
وذلك لأن الإرادة بما أنها من الموجودات في أفق النفس، فلا محالة تكون
شروطها أيضا من الموجودات في هذا الأفق، وحيث أنها بوجودها الذهني
فعلي، فالإرادة المشروطة بها أيضا كذلك، وعلى الجملة فالشرط للإرادة ليس
وجود القيد في الخارج بل وجوده في عالم الذهن وهو فعلي (1) هذا.
والجواب أن الإرادة وإن كانت من الموجودات في عالم النفس، إلا أنها
موجودات واقعية تصديقية فيه لا تصورية، فإذن بطبيعة الحال تكون شروطها
أيضا كذلك، فإن العطش شرط لإرادة شرب الماء بوجوده التصديقي الواقعي
في عالم النفس لا بوجوده التصوري، إذ لا يترتب على وجوده التصوري أثر،
ضرورة أن تصور العطش لا يكفي لحصول إرادة شرب الماء، كما أن تصور
المرض لا يوجب تحقق الإرادة نحو شرب الدواء وهكذا، فالنتيجة أن هذا
القول مبني على الخلط بين كون القيد شرطا للإرادة بوجوده اللحاظي
التصوري، وكونه شرطا لها بوجوده التصديقي الواقعي، وتخيل أن الشرط هو
الأول.
القول الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الإرادة المشروطة
كالإرادة المطلقة في الوجود، فكما أن وجود الإرادة المطلقة فعلي فكذلك
وجود الإرادة المشروطة، فلا فرق بينهما من هذه الناحية، وإنما الفرق بينهما
في الموجود، فإنه في الإرادة المشروطة معلق وفي الإرادة المطلقة منجز وهذا

(1) نهاية الأفكار ج 1: ص 295.
85

هو الفارق بينهما (1).
وغير خفي غرابة هذا القول من المحقق النائيني (قدس سره)، وذلك لاستحالة
تفكيك الوجود عن الموجود لأنهما شئ واحد ذاتا وحقيقة ولا اختلاف
بينهما إلا بالاعتبار، فإذا كان الوجود فعليا فكيف يعقل أن يكون الموجود
معلقا مع أنه عين الوجود بل إن هذا غير ممكن في الوجودات الاعتبارية بأن
يكون الجعل فعليا والمجعول معلقا فضلا عن الوجودات التكوينية،
والمفروض أن الإرادة من الوجودات التكوينية، وإن أراد (قدس سره) بذلك أن المراد
في الإرادة المشروطة متعلق وفي الإرادة المطلقة منجز، مثلا شرب الماء معلق
على وجود العطش وشرب الدواء معلق على وجود المرض وهكذا، فيرد
عليه أن وجود العطش والمرض ونحوهما يكون من قيود الامارة لا المراد،
لأن إرادة شرب الماء معلقة على وجود العطش وإرادة شرب الدواء معلقة على
وجود المرض وإرادة الحج معلقة على وجود الاستطاعة وهكذا، وطالما لم
توجد هذه القيود فلا إرادة في عالم النفس لا أنها موجودة والمراد معلق، لأن
ذلك خلاف الوجدان والضرورة.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الأقوال المتقدمة حول الفرق
بين الإرادة المطلقة والإرادة المشروطة جميعا خلاف الوجدان ولا يمكن
الأخذ بشئ منها، ومن هنا فالصحيح في الفرق بينهما ما أشرنا إليه آنفا من أن
الإرادة المشروطة هي الإرادة المعلقة ولا وجود لها في عالم النفس قبل وجود
شرطها، فإذن يكون الفرق بين الإرادتين ذاتا وحقيقة، فإن الإرادة المطلقة
موجودة في أفق النفس دون الإرادة المعلقة، لأن وجودها منوط بوجود

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 140.
86

شرطها كإرادة شرب الماء المشروطة بالعطش وإرادة شرب الدواء المشروطة
بالمرض وهكذا، هذا تمام كلامنا في المرحلة الثانية وهي مرحلة المبادئ.
وأما الكلام في المقام الثاني، فيقع في موارد الشك في رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة أو المادة، تارة في مقتضى الأصل اللفظي وأخرى في مقتضى الأصل
العملي.
أما الكلام في الأول فقد ذهب شيخنا الأنصاري (قدس سره) إلى أن مقتضى
الأصل اللفظي هو رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة وقد استدل على ذلك
بوجهين:
الأول: أن المقام من صغريات مسألة دوران الأمر بين الاطلاق البدلي
والاطلاق الشمولي، وحيث إنه لا يمكن الأخذ بكليهما معا فلابد من الأخذ
بالاطلاق الشمولي وطرح الاطلاق البدلي تطبيقا لقاعدة تقديم الأظهر على
الظاهر (1) وقد أفاد (قدس سره) في مبحث التعادل والترجيح أن دلالة العام على العموم
تنجيزية فلا تتوقف على مقدمة خارجية، ودلالة المطلق على الاطلاق تعليقية
وتتوقف على تمامية مقدمات الحكمة منها عدم القرينة، والمفروض أن عموم
العام يصلح أن يكون قرينة (2)، هذا.
فيه أن ما أفاده (قدس سره) هناك من الكبرى وإن كان تاما إلا أن هذه الكبرى
تختص بما إذا كان التعارض بين العام الوضعي وبين المطلق، وتقديم العام
الوضعي على المطلق في مورد التعارض لا يختص بما إذا كان إطلاق المطلق

(1) مطارح الأنظار: ص 46 س 12.
(2) فرائد الأصول: ص 457 قلت المستند في إثبات أصالة الحقيقة... فالمطلق دليل تعليقي
والعام دليل تنجيزي.
87

بدليا بل هو يتقدم عليه وإن كان شموليا، باعتبار أنه يصلح أن يكون قرينة
مانعة عن تمامية المقدمات ولا تشمل مثل المقام، فإنه ليس من صغريات هذه
الكبرى، حيث إن التعارض فيه إنما هو بين الاطلاق الشمولي والاطلاق
البدلي لا بين العام الوضعي والمطلق، والمفروض أن كلا الاطلاقين هنا مستند
إلى مقدمات الحكمة، فإذن لا يكون دلالة الاطلاق الشمولي تنجيزية بل هي
كدلالة الاطلاق البدلي تعليقية وتتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، وحينئذ
فلا يمكن تقديمه عليه بهذا الملاك، وهل يمكن تقديمه عليه بملاك آخر، فهنا
بحثان:
الأول في أصل ثبوت الكبرى وهي تقديم الاطلاق الشمولي على
الاطلاق البدلي في مورد التعارض.
الثاني: أن المقام هل هو داخل في هذه الكبرى أو لا؟
أما الكلام في الأول فقد اختلفت كلمات الأصوليين حول هذه الكبرى
نفيا واثباتا في مبحث التعادل والترجيح، ولكنا استظهرنا هناك أنه لا يبعد
ثبوت الكبرى بملاك الأظهرية وتمام الكلام في المسألة هناك.
وأما الكلام في الثاني وهو أن المقام هل هو داخل في تلك الكبرى وهي
تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي في مقام المعارضة أو لا، ففيه
وجهان، فذهب جماعة إلى أنه غير داخل فيها، وقد ذكروا في وجه ذلك
وجوها:
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن المقام ليس من صغريات تلك
الكبرى لاختصاص الكبرى بما إذا كان التعارض بينهما بالذات، كما إذا ورد
في دليل أكرم فقيرا وورد في دليل آخر لا تكرم فاسقا، فإنه يقع التعارض
بينهما في مورد الالتقاء والاجتماع وهو الفقير الفاسق، فإن مقتضى إطلاق
88

الدليل الأول وجوب إكرامه على البدل ومقتضى إطلاق الدليل الثاني حرمة
اكرامه مطلقا، ففي مثل ذلك يمكن تقديم إطلاق الثاني على الأول، وأما في
المقام فلا تعارض بين الاطلاقين في مورد الاجتماع بالذات وإنما نشأ التنافي
بينهما من جهة العلم الاجمالي برجوع القيد إلى أحدهما فمن أجل هذا العلم
الاجمالي لا يمكن الجمع بين الاطلاقين والأخذ بكليهما معا، والرجوع إلى
قاعدة الأظهرية أو القرينية فإنما هو فيما إذا كان التعارض والتنافي بينهما
بالذات، فعندئذ إن كان أحدهما أظهر من الآخر حكم بتقديمه عليه بملاك
الأظهرية، وإما إذا لم يكن التعارض بينهما بالذات وإنما جاء ذلك بالعرض
بواسطة العلم الاجمالي برجوع القيد إلى أحدهما كما في المقام، فلا ترجيح
في البين، حيث إن نسبة رجوعه إلى كل منهما نسبة واحدة، ومن الواضح أن
أظهرية إطلاق الهيئة على اطلاق المادة لا تصلح أن تكون قرينة على رجوع
القيد إلى المادة لعدم صلة لأحدهما بالآخر، وذلك لأن القضية الشرطية إن
كانت ظاهرة في رجوع القيد إلى أحدهما خاصة فهو المتبع، وإن لم تكن
ظاهرة في ذلك بأن تكون مجملة، فعندئذ يعلم إجمالا برجوعه إلى أحدهما،
وعلى هذا فالحكم برجوعه إلى مفاد المادة خاصة أو الهيئة كذلك، تحكم
وترجيح بلا مرجح فلا يمكن، ومجرد كون إطلاق الهيئة أظهر من إطلاق
المادة لا يصلح قرينة على رجوعه إلى المادة، باعتبار أنه لا يوجب رجوعه
إلى المادة أظهر من رجوعه إلى مفاد الهيئة.
فالنتيجة أن ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أن اطلاق الهيئة حيث إنه
شمولي فيتقدم على اطلاق المادة الذي هو بدلي، إنما يتم إذا كان التعارض
بينهما بالذات، وأما إذا لم يكن التعارض بينهما كذلك كما في المقام، فلا
يمكن تطبيق الجمع العرفي عليهما بتقديم الأظهر على الظاهر، فإذن يكون
89

المرجع في المسألة الأصل العملي، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه ما
أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من أن كبرى قاعدة الجمع العرفي بين الدليلين تختص
بالدليلين المتعارضين بالذات لا بالعرض وبواسطة العلم الاجمالي، ولكنه غير
تام وذلك لعدم اختصاص الكبرى بالدليلين المتعارضين بالذات بل تشمل
الدليلين المتعارضين بالعرض أيضا أي بواسطة العلم الاجمالي بكذب أحدهما
وعدم مطابقته للواقع، والنكتة في ذلك أن قاعدة الجمع العرفي تختص بموارد
الدلالات والكشوفات العرفية وتقديم الأقوى منهما على غيره سواء أكانت
الاقوائية من جهة الخصوصية أو الأنصية أو الأظهرية أو الحكومة، ولا فرق
بين أن تكون تلك الأقوائية بالدلالة المطابقية أو الالتزامية هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن العلم الاجمالي بكذب أحد الدليلين يشكل دلالة
التزامية لكل منهما على نفي المدلول المطابقي للآخر بنحو القضية الشرطية،
وهي أنه لو كان هذا الدليل صادقا لكان الآخر كاذبا، وإن كان العكس
فبالعكس، فإذن يرجع التعارض بالعرض إلى التعارض بالذات، وعلى هذا
ففي المقام إذا علم إجمالا بكذب أحد الاطلاقين، أما إطلاق المادة أو اطلاق
الهيئة وعدم مطابقته للواقع، فهذا العلم الاجمالي يشكل الدلالة الالتزامية لكل
منهما على نفي الدلالة المطابقية للأخرى، وعلى هذا فالمادة تدل على إطلاق
مدلولها بالمطابقة وعلى نفي مدلول الهيئة في مورد الاجتماع بالالتزام، والهيئة
تدل على إطلاق مدلولها بالمطابقة وعلى نفي مدلول المادة في مورد الاجتماع
بالالتزام، وحيث إن دلالة الهيئة على الاطلاق أقوى من دلالة المادة عليه،
فلابد من تقديمها عليها في مورد الالتقاء والاجتماع بينهما تطبيقا لقاعدة
الجمع العرفي، وقد عرفت الآن أنه لا فرق في ذلك بين الدلالة المطابقية
والدلالة الالتزامية، وإن شئت قلت أن العلم الاجمالي بكذب أحد الاطلاقين
90

في المقام وإن كان يوجب احتمال كذب كل منهما إلا أنه لا يؤثر في الأقوى
كشفا ولا يجعله أضعف أو المساوي للآخر، باعتبار أن هذا الاحتمال كما أنه
موجود فيه موجود في الآخر أيضا بنفس الدرجة، فإذن تبقى أقوائية إطلاق
الهيئة بالنسبة إلى اطلاق المادة بنفس النسبة فيتقدم عليه بملاك الأقوائية (1).
الوجه الثاني: أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة دون العكس، فإذا دار
الأمر بين رفع اليد عن اطلاق الهيئة والمادة معا وبين رفع اليد عن إطلاق المادة
فقط تعين الثاني، لأن الضرورة تتقدر بقدرها وهي في المقام لا تقتضي أكثر
من رفع اليد عن إطلاق إحداهما، فرفع اليد عن إطلاق كلتيهما بلا موجب
وضرورة، فإذن لا مناص في المقام من الاقتصار على إرجاع القيد إلى المادة
دون الهيئة، أو فقل أن إرجاعه إلى مفاد الهيئة يستلزم ارتكاب خلاف الظاهر
أكثر من اللازم وهو بلا مبرر فلا يجوز، مثال ذلك إذا ورد في دليل أكرم العالم
الفلاني ثم ورد في دليل آخر فليكن ذلك إذا جاء في بلدك، وفرضنا أن الدليل
المقيد لا يكون ظاهرا في رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وهو الوجوب ولا في
رجوعه إلى مفاد المادة وهو الاكرام، فيكون مجملا وإجماله سبب للعلم
الاجمالي برجوعه إلى مفاد إحداهما لا بعينه، وحينئذ فإن قلنا برجوعه إلى
مفاد الهيئة وهو الوجوب وتقييد إطلاقه فهو يستلزم تقييد إطلاق المادة أيضا
وهو الاكرام، فإن وجوب إكرام العالم في المثال إنما هو ثابت عند المجيء لا
مطلقا، وعليه فبطبيعة الحال يكون الواجب هو إكرامه في هذه الحالة ولا
يكون إكرامه في غير تلك الحالة واجبا، وأما إذا قلنا برجوعه إلى مفاد المادة
وتقييد إطلاقه فهو لا يستلزم تقييد اطلاق الهيئة، فإن الوجوب حينئذ مطلق

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 163.
91

وغير مشروط بهذا القيد والواجب مقيد به، ومعنى أن الوجوب مطلق غير
مشروط به أنه فعلي سواء أكان القيد متحققا أم لا، بينما إذا كان مشروطا به
فلا يكون فعليا إلا بفعليته.
وقد علق عليه المحقق الخراساني بتقريب أن هذا الوجه إنما يتم فيما إذا
كان القيد المردد رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة منفصلا ولا يمنع عن انعقاد
ظهور كل منهما في الاطلاق، فعندئذ يتعين رجوعه إلى المادة دون الهيئة،
باعتبار أن رجوعه إلى الهيئة كما يستلزم تقييد إطلاقها كذلك يستلزم تقييد
إطلاق المادة وهو بلا موجب وضرورة كما مر، وأما إذا كان القيد المذكور
متصلا فهو بما أنه مانع عن انعقاد ظهور كل منهما في الاطلاق، فلا يلزم من
رجوع القيد إلى مفاد الهيئة محذور مخالفتين:
مخالفة إطلاق الهيئة ومخالفة إطلاق المادة، لأن السالبة حينئذ بانتفاء
الموضوع فلا اطلاق في البين حتى يلزم خلاف الأصل، فإذن لا فرق بين
رجوع القيد إلى مفاد المادة أو مفاد الهيئة وليس في شئ من ذلك خلاف
الأصل (1) هذا.
والتحقيق في المقام أن يقال: أن ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أن
رجوع القيد إلى مفاد الهيئة يستلزم مخالفتين بينما يكون رجوعه إلى مفاد
المادة يستلزم مخالفة واحدة، ومن الواضح أنه لا يجوز ارتكاب مخالفتين مع
إمكان الاقتصار على مخالفة واحدة لا يمكن المساعدة عليه.
أما أولا فلأن هذه الكبرى غير تامة، لأن ارتكاب مخالفتين مع إمكان
الاقتصار على مخالفة واحدة إنما لا يجوز إذا كان ذلك بيد المكلف واختياره،

(1) كفاية الأصول: ص 96.
92

فإن الضرورة حينئذ تتقدر بقدرها، وأما إذا لم يكن ذلك باختيار المكلف وبيده
فالكبرى غير تامة والمقام من هذا القبيل، لأن رجوع القيد إلى الهيئة أو المادة
منوط بظهوره العرفي، فإذا فرضنا أنه ظاهر عرفا في رجوعه إلى الهيئة،
فاستلزام تقييد إطلاقها بتقييد إطلاق المادة لا يمنع عن هذا الظهور ولا يصلح
أن يكون قرينة على رفع اليد عنه، وأما إذا لم يكن ظاهرا لا في رجوعه إلى الهيئة
ولا إلى المادة، بأن تكون القضية مجملة من هذه الناحية، فعندئذ كما يحتمل
رجوعه إلى مفاد الهيئة كذلك يحتمل رجوعه إلى مفاد المادة، واستلزام رجوعه
إلى مفاد الهيئة رجوعه لبا إلى مفاد المادة أيضا، لا يصلح أن يكون مرجحا
لرجوعه إلى المادة دون الهيئة، ضرورة أن الاستلزام المذكور لا يوجب ظهور
القضية في رجوع القيد إلى المادة يعني انقلابها من الاجمال إلى الظهور، لاستحالة
انقلاب الشئ عما كان عليه، كما أنه لا يوجب كون رجوعه إلى المادة أقوى من
رجوعه إلى الهيئة.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم الكبرى أن تقييد الهيئة بقيد لا
يستلزم تقييد المادة به مباشرة حتى يكون مخالفة زائدة بلا مبرر، بل يستلزم
تقيدها على أساس أن كل واجب في مقام الثبوت والواقع مقيد بقيود الوجوب
لبا، ضرورة أنه لا يتصور تلبس واجب بالوجوب قبل تحقق تلك القيود وإنما
يتلبس به بعد تحققها، فالحج لا يكون واجبا قبل تحقق الاستطاعة التي هي
قيد للوجوب وإنما يكون واجبا بعد تحققها، وهذا معنى أن الواجب مقيد
بقيود الوجوب لبا وواقعا، وعلى هذا فإذا قيد إطلاق مفاد الهيئة بقيد فقد قيد
الواجب به لبا أيضا، ولكن ليس في هذا التقيد لبا مخالفة للظاهر حتى يكون
مخالفة زائدة.
الوجه الثالث: أن العلم الاجمالي برجوع القيد إلى مفاد الهيئة أو المادة
93

ينحل إلى العلم التفصيلي بتقييد المادة وعدم شمولها للحصة الفاقدة للقيد، لأن
إطلاق المادة قد سقط يقينا إما برجوع القيد إليها مباشرة أو برجوعه إلى الهيئة،
فإنه يوجب سقوط إطلاقها وعدم شمولها للحصة الفاقدة للقيد جزما، فإذا أمر
المولى مثلا بزيارة الحسين (عليه السلام) ثم قال فليكن ذلك عن قيام، وشككنا في أن القيام
هل هو قيد للأمر أو للمأمور به وهو الزيارة، ففي مثل ذلك نعلم تفصيلا أن إطلاق
المادة وهي الزيارة ساقط على كل تقدير، أي سواء كان القيد راجعا إليها مباشرة
أم إلى الهيئة، أما على الأول فهو واضح، وأما على الثاني وهو رجوع القيد إلى
مفاد الهيئة، فإنه لا إطلاق لها بالنسبة إلى حصة من الزيارة الفاقدة للقيام لأنها
ليست مصداقا للمأمور به، فالقيام في هذا الفرض وإن لم يكن قيدا لها مباشرة إلا
أنها مقيدة به لبا، ضرورة أنه لا يمكن أن تكون دائرة الواجب أوسع من دائرة
الوجوب، وعلى هذا فمعنى أن تقييد مفاد الهيئة يستلزم سقوط إطلاق المادة أنه لا
يفعل إطلاقها وشمولها للحصة الفاقدة للقيد، وعلى هذا فنعلم تفصيلا بسقوط
إطلاق المادة إما برجوع القيد إليها مباشرة أو بتقيدها به لبا وقهرا ولا نعلم بسقوط
إطلاق الهيئة، فعندئذ لا مانع من التمسك بإطلاقها، ونتيجة ذلك أن الوجوب
مطلق وثابت قبل تحقق القيد والواجب حصة خاصة وهي المقيدة بالقيد لبا أو
جعلا هذا.
ويمكن المناقشة في هذا الوجه بتقريب أن أثر رجوع القيد إلى مفاد
الهيئة عدم وجوب تحصيله على المكلف وعدم كونه مسؤولا أمامه لأنه
مأخوذ مفروض الوجود ودخيل في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ
فلا ملاك له قبل تحققه، وأثر رجوع القيد إلى المادة وجوب تحصيله على
المكلف وأنه مسؤول أمامه، باعتبار أنه دخيل في ترتب الملاك عليها خارجا،
وعلى هذا فمعنى إطلاق الهيئة أن الوجوب مطلق وفعلي والواجب مقيد بقيد
94

فيجب تحصيل قيده، ومعنى إطلاق المادة أن الواجب مطلق والوجوب مقيد فلا
يجب تحصيل القيد، ومن الواضح أن تقييد إطلاق الهيئة لا يستلزم تقييد إطلاق
المادة بهذا المعنى بل يستلزم إطلاقها وعدم تقييدها به، وأما أن تقييد إطلاق الهيئة
يوجب كون الواجب حصة خاصة وهي الحصة بعد تحقق الوجوب بتحقق قيده،
فإنما هو بلحاظ أن الواجب لا يتصف بهذا الوصف إلا بعد تحقق الوجوب بتحقق
شرطه، لأن الحصة قبل تحقق الوجوب ليست مصداقا للواجب، باعتبار أن دائرة
الواجب لا يمكن أن تكون أوسع من دائرة الوجوب، وهذا معنى تقيده به لبا بتقييد
الهيئة به، ولكن هذا ليس معنى تقييد إطلاق الواجب به في مقابل تقييد اطلاق
الوجوب، لما مر من أن معنى تقييد إطلاقه هو وجوب تحصيل القيد لتحصيل
الملاك، والمفروض عدم وجوب تحصيله في هذه الصورة، وعلى هذا فما في هذا
الوجه من العلم التفصيلي بسقوط اطلاق المادة على كل تقدير إما بالتقييد أو
بالتقيد خطأ، لأن إطلاق المادة المتوخا والمطلوب في المقام غير ساقط بتقييد
الهيئة، إذ معنى إطلاق المادة أنها غير مقيدة بقيد بحيث يكون التقيد به جزئها
والقيد خارج عنها، ومعنى تقييدها به أن التقيد به جزئها كسائر أجزائها ودخيل
في ترتب الملاك عليها، ومن الواضح أن تقييد الهيئة بقيد لا يستلزم تقييد المادة به
بهذا المعنى بأن يكون التقيد به جزئها وذات القيد خارجا عنها، وإنما يستلزم
تقيدها به لبا، ومعنى ذلك أن المادة لا تتصف بالوجوب واقعا إلا بعد تحققه بتحقق
هذا القيد، وأن الحصة قبل تحققه ليست مصداقا للواجب، باعتبار أن دائرة
الواجب لا يعقل أن تكون أوسع من دائرة الوجوب، وهذا معنى تقيد المادة لبا
بتقييد الهيئة وهو لا ينافي إطلاقها بمعنى عدم تقييدها بقيد بحيث يكون التقيد به
جزئها في مقابل تقييدها به كذلك، ولهذا لا يترتب على التقييد اللبي أثر والأثر
إنما يترتب على التقييد الجعلي وهو وجوب تحصيل القيد، ومحل الكلام في
95

المسألة إنما هو في تقييد إطلاق المادة بمعنى أن التقيد جزئها ودخيل في ترتب
الملاك عليها والقيد خارج عنها في مقابل إطلاقها، وتقييد إطلاق الهيئة لا يستلزم
تقييد إطلاق المادة بهذا المعنى ولهذا لا يجب تحصيله.
فإذن بطبيعة الحال تقع المعارضة بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة من
جهة العلم الاجمالي بتقييد أحدهما بالقيد المذكور في القضية الذي يشكل
دلالة التزامية لكل منهما، وعلى هذا فإن كان القيد للهيئة فالمادة مطلقة وغير
مقيدة به ولهذا لا يجب تحصيله، وإن كان للمادة فمفاد الهيئة مطلق وغير مقيد
به فيجب تحصيله.
ومن هنا يظهر أن العلم الاجمالي في المسألة إما بتقييد إطلاق الهيئة أو
تقييد إطلاق المادة لا ينحل إلى علم تفصيلي بسقوط إطلاق المادة وشك
بدوي في سقوط اطلاق الهيئة، وذلك لأنه لا علم بسقوط إطلاق المادة في
مقابل إطلاق الهيئة الذين نعلم إجمالا بتقييد أحدهما بالقيد المردد في القضية
بين رجوعه إلى إطلاق الأولى أو إطلاق الثانية، وأما الاطلاق اللبي فهو ليس
محل الكلام بل لا معنى لاطلاق المادة لبا إلا شمولها للحصة قبل تحقق قيد
الوجوب وشرطه حتى يكون تحقق الوجوب بتحقق القيد يوجب تخصص المادة
بخصوص الحصة بعد تحقق القيد، ومن الطبيعي أن هذا الاطلاق ليس مورد الكلام
في المسألة ولا طرف للعلم الاجمالي، لأن محل الكلام في المسألة إنما هو في
إطلاق الواجب وتقييده، مثلا لو شككنا فرضا أن الاستطاعة في الآية الشريفة (1)
هل هي قيد للواجب أو للوجوب، فعلى الأول فتقيد الواجب بها داخل فيه وجزئه
ودخيل في ترتب الملاك عليه في مقام الامتثال والوجوب مطلق ولهذا يجب

(1) سورة آل عمران: 97.
96

تحصيلها، وعلى الثاني فالوجوب مقيد به وأنه دخيل فيه في مرحلة الجعل وفي
اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، والواجب مطلق وأنها ليست قيدا له
ولهذا لا يجب تحصيلها، والعلم الاجمالي إنما هو بين تقييد إطلاق الواجب
بالاستطاعة وتقييد إطلاق الوجوب بها، وهذا من العلم الاجمالي بين أمرين
متباينين وليس بينهما قدر متيقن حتى يمكن انحلال العلم الاجمالي به، وإلا فلا
يكون علم إجمالي بين المتباينين وهذا خلف.
فالنتيجة في نهاية المطاف أن تقييد اطلاق الهيئة مباين لتقييد اطلاق
المادة ملاكا وجعلا وأثرا، أما الأول فلأن قيد الهيئة دخيل في اتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ، وقيد المادة دخيل في ترتب الملاك عليها في
الخارج.
وأما الثاني فلأن قيد الهيئة مأخوذ مفروض الوجود في مقام الجعل دون
قيد المادة.
وأما الثالث فلأن أثر قيد الهيئة عدم وجوب تحصيله وأثر قيد المادة
وجوب تحصيله، فلذلك لا يستلزم تقييد الهيئة تقييد المادة، فيقع التعارض
بينهما فيسقطان معا والمرجع الأصل العملي في المسألة.
ثم إن محل النزاع في المسألة إنما هو فيما إذا كان القيد المردد رجوعه
إلى الهيئة أو المادة اختياريا، وأما إذا كان غير اختياري فهو خارج عن محل
النزاع ويتعين كونه قيدا للوجوب أيضا، وقد تقدم أن ملاك كون شئ قيدا
للوجوب أحد أمرين:
الأول: أن يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ.
الثاني: أن يكون قيدا للواجب رغم أنه غير اختياري، فإنه حينئذ لابد
من أخذه قيدا للوجوب أيضا، إذ لو كان الوجوب مطلقا لزم التكليف بغير
97

المقدور. إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا ترجيح لتقديم إطلاق
الهيئة على إطلاق المادة من هذه الناحية، نعم يمكن تقديم إطلاقها على
إطلاق المادة في مورد الاجتماع بملاك الأظهرية كما تقدم.
وهنا وجهان آخران في المسألة:
الأول: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره).
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره).
أما الوجه الأول فقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) بيانا مفصلا حول هذه المسألة
وتحليلها وبيان علاجها، ونلخص ما ذكره في ضمن عدة نقاط.
الأولى: أن قيد الهيئة مأخوذ مفروض الوجود في مرحلة الجعل دون
قيد المادة، فهما متباينان من هذه الناحية.
الثانية: أنه لا فرق بين أن يكون القيد اختياريا أو غير اختياري.
الثالثة: أن معنى تقييد مفاد الهيئة كون الوجوب حصة خاصة وهي
الحصة المتقيدة بالقيد، ومعنى تقييد المادة كون الواجب حصة خاصة وهي
الحصة المتقيدة به.
الرابعة: أن النسبة بين تقييد المادة بقيد وتقييد الهيئة به عموم من وجه،
فيمكن أن يكون الشئ قيدا لمفاد الهيئة دون المادة، كما إذا أمر المولى
بركعتين من الصلاة مثلا في المسجد إذا دخل فيه، فيكون الدخول شرطا
لوجوبهما بنحو صرف الوجود، فإذا دخل فيه وجب عليه ركعتان من الصلاة
ولو عن جلوس، وقد يكون الشئ قيدا للمادة دون الهيئة، وقد يكون قيدا
لهما معا.
الخامسة: أن المراد من إطلاق المادة ليس عمومها وشمولها للحصة قبل
تحقق قيد الوجوب وانطباقها عليها، لكي يقال أن تقييد مفاد الهيئة بقيد
98

يستلزم تقييد المادة أيضا بخصوص الحصة بعد تحقق هذا القيد، على أساس
أن دائرة الواجب لا يمكن أن يكون أوسع من دائرة الوجوب، ولا يصدق على
الحصة الفاقدة للقيد، بل المراد منه عدم أخذ القيد فيها في مقام الجعل في
مقابل تقييدها به في هذا المقام وأثره وجوب تحصيله، كما أن المراد من
إطلاق مفاد الهيئة عدم تقييده بقيد في مقام الجعل وأنه مطلق في مقابل تقييده
في هذا المقام بقيد مأخوذ مفروض الوجود في الخارج وأثره عدم وجوب
تحصيله فيه، ومن الواضح أن تقييد اطلاق المادة بالمعنى المذكور مباين لتقييد
إطلاق الهيئة جعلا وأثرا، ونتيجة هذا أن تقييد إطلاق الهيئة لا يستلزم تقييد
إطلاق المادة بل يستحيل هذا الاستلزام، باعتبار أنهما متباينان جعلا وأثرا كما
عرفت، وعليه فالعلم الاجمالي برجوع القيد إلى المادة أو إلى الهيئة يوجب
وقوع التعارض بين إطلاق كل منهما مع اطلاق الآخر فيسقطان معا من جهة
المعارضة، فلا يمكن التمسك بشئ منهما، ولا ينحل هذا العلم الاجمالي إلى
علم تفصيلي بسقوط إطلاق المادة وشك بدوي في سقوط إطلاق الهيئة، لأنه
علم إجمالي بين المتباينين، فلا يمكن فرض الانحلال فيه إلا بافتراض القدر
المتيقن بينهما وهو خلف.
فالنتيجة أنه (قدس سره) قد اختار في المسألة سقوط كلا الاطلاقين معا عن
الحجية بمقتضى العلم الاجمالي بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع، فإذن
ليس في المسألة أصل لفظي، والمرجع فيها حينئذ الأصول العملية (1). هذا، ولنا
أن ننظر إلى هذه النقاط ومدى صحتها أو سقمها.
أما النقطة الأولى: فهي صحيحة، غاية الأمر أنه (قدس سره) لم يبين فيها ما هو

(1) المحاضرات ج 2: ص 342 - 343.
99

نكتة الفرق بين القيدين هما قيد الوجوب وقيد الواجب، وقد تقدم أن نكتة
الفرق بينهما هي أن أخذ شئ قيدا للوجوب في مرحلة الجعل إنما هو من
جهة أنه دخيل في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، إذ لولا دخله
فيه لكان أخذه قيدا للوجوب في مرحلة الجعل لغوا بلا مبرر، وأخذ شئ
قيدا للواجب في هذه المرحلة إنما هو من جهة أنه دخيل في ترتب الملاك
عليه في الخارج وإلا كان أخذه قيدا له لغوا وبلا موجب، وعلى هذا فقيد
الوجوب يفترق عن قيد الواجب ملاكا وجعلا وأثرا، لا أنه يفترق عنه جعلا
وأثرا فقط كما في كلامه (قدس سره).
وأما النقطة الثانية: فيرد عليها ما تقدم منا آنفا من أن محل الكلام في
المسألة إنما هو في القيد الاختياري المأخوذ في القضية وأنه يرجع فيها إلى
مفاد الهيئة أو المادة، ولا يمكن أن يكون الكلام في الأعم منه ومن غير
الاختياري إذ لو كان القيد غير اختياري تعين كونه قيدا لمفاد الهيئة دون المادة،
ولا يدور الأمر حينئذ بين كونه قيدا للهيئة أو المادة، ولو علم من الخارج أنه قيد
للواجب ودخيل في ترتب الملاك عليه، فلابد من أخذه قيدا للوجوب أيضا، إذ لا
يمكن أن يكون الوجوب مطلقا والواجب مقيدا بقيد غير اختياري، وإلا فيلزم
التكليف بغير المقدور.
وأما النقطة الثالثة: فالظاهر أنه (قدس سره) أراد منها تقييد كل من مفاد الهيئة
والمادة بقيد مباشر الذي هو في مقابل اطلاق كل منهما، وليس مراده (قدس سره) من
تقييد المادة صيرورتها حصة خاصة ولو بتقييد الهيئة بقرينة أنه جعل تقييد
المادة في مقابل تقييد الهيئة، وإنهما متباينان جعلا وأثرا. ودعوى أن معنى
تقييد المطلق صيرورته حصة خاصة، سواء أكان ذلك بتقييده بقيد مباشرة أم
بواسطة لأن معنى تقييد المطلق سقوط إطلاقه، ولا يعتبر فيه أن يكون ذلك
100

بالقيد مباشرة، وحيث إن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة قهرا بالحصة الواجدة
للقيد ولا تشمل الحصة الفاقدة له، لأن سعة الواجب لا يمكن أن تكون أكثر
من سعة الوجوب فلا إطلاق لها.
مدفوعة أولا أنه لا إطلاق للمادة لبا بصفة أنها متعلقة للوجوب، فإن
الكلام إنما هو في اطلاق متعلقه وتقييده بحيث يكون التقيد جزئه.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم إطلاق المادة لبا للحصة الفاقدة
للقيد وسقوطه بتقييد الهيئة وصيرورتها حصة خاصة وهي الحصة بعد تحقق
القيد، ولكن هذا الاطلاق اللبي وتقييده كذلك ليس محل الكلام في المسألة
ولا موضوع للأثر المطلوب فيها، فإن ما هو محل الكلام فيها إطلاق المادة في
مقابل تقييدها بقيد مباشرة، بحيث يكون تقيدها به جزء لها وداخلا فيها كسائر
أجزائها ودخيلا في ترتب الملاك عليها كغيره من الأجزاء، فإن هذا هو
موضوع الأثر ومحل البحث في المسألة، وتقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة
بهذا المعنى لأنه في مقابل تقييدها كذلك بتقابل التباين.
وأما النقطة الرابعة: فالأمر فيها كما أفاده (قدس سره)، لأن النسبة بين تقييد الهيئة
وتقييد المادة الذي هو محل الكلام في المسألة عموم من وجه لا عموم مطلق،
فإن عموم المطلق إنما هو بين تقييد الهيئة وتقييد المادة لبا لا جعلا كما مر
تفصيلا.
وأما النقطة الخامسة: فالأمر فيها أيضا كما أفاده (قدس سره)، لما عرفت من أن ما
هو محل الكلام في المسألة إنما هو اطلاق المادة في مقابل تقييدها بقيد مباشر
جعلا، غاية الأمر أن التقابل بينهما من تقابل التضاد على مسلك السيد
الأستاذ (قدس سره)، ومن تقابل الايجاب والسلب على ما قويناه، وليس المراد من
إطلاقها، إطلاقها للحصة الفاقدة في مقام اللب والواقع كما تقدم تفصيلا.
101

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره)
من أن تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة هو الصحيح على تفصيل تقدم، هذا كله
فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا عن دليل الأمر.
وأما إذا كان متصلا، فهو بما أنه يمنع عن انعقاد ظهور كل منهما في
الاطلاق، فالحكم فيه هو الاجمال والمرجع فيه الأصول العملية.
وأما الوجه الثاني: فقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أن القيد يرجع إلى المادة،
بلا فرق بين كونه متصلا أو منفصلا، وقد استدل على ذلك بوجهين:
الأول: أن رجوع القيد إلى المادة وإن كان في ضمن المادة المنتسبة متيقن،
وأما رجوعه إليها بعد الانتساب فهو مشكوك فيه وبحاجة إلى عناية زائدة، فإذا لم
تكن عناية ودليل على ذلك، فمقتضى اطلاق المادة المنتسبة عدم رجوعه إليها،
وحينئذ فلا مانع من التمسك باطلاقها.
الثاني: أنه لو كان قيدا لها بعد الانتساب، فلابد من أخذه مفروض
الوجود، وحيث إن أخذه كذلك بحاجة إلى قرينة، فإذا لم تكن قرينة،
فمقتضى إطلاق القيد عدم أخذه كذلك، لأنه خصوصية زائدة على ذات القيد
وبحاجة إلى عناية زائدة، ولا فرق في ذلك بين كون القيد متصلا أو منفصلا
لفظيا كان أم لبيا (1) هذا.
وللمناقشة فيه مجال واسع، أما أولا فلأن دليل التقييد إذا كان متصلا
بدليل الأمر، كان مانعا عن انعقاد أصل ظهور كل من ذات المادة والمادة
المنتسبة في الاطلاق، لمكان احتفاف الكل بما يصلح للقرينية، فلا ظهور لا
لذات المادة ولا للمادة المنتسبة، أو فقل أن المراد من المادة المنتسبة هو الهيئة،

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 165.
102

والمفروض في المقام أن نسبة القيد إلى كل من المادة والهيئة على حد سواء،
وحيث إنه متصل بدليل الأمر، فيصلح أن يكون مانعا عن ظهور كل واحد منهما
في الاطلاق.
ودعوى أن رجوع القيد إلى المادة أعم من ذاتها والمادة المنتسبة متيقن،
وأما رجوعه إلى خصوص المادة المنتسبة فهو مشكوك فيه.
مدفوعة فإنا لو سلمنا هذه الدعوى، إلا أنه يكفي في إجمال المادة
المنتسبة وعدم انعقاد الظهور لها في الاطلاق الشك في رجوع القيد إليها لمكان
احتفافها به، نعم لا أثر للشك في التقييد بالمنفصل، باعتبار أن إطلاق المطلق
منعقد فلا يجوز رفع اليد عنه ما لم يثبت تقييده.
وثانيا أنه (قدس سره) إن أراد بالمادة المنتسبة ما هو مساوق لمفاد الهيئة وهو
الوجوب ومن ذات المادة ما هو مساوق للواجب، فيرد عليه أن مرجع ذلك
إلى أن رجوع القيد إلى الأعم من الواجب والوجوب متيقن وإلى خصوص
الوجوب مشكوك فيه، وفيه أن هذا من توضيح الواضح، ضرورة أن الأمر في
تمام موارد العلم الاجمالي كذلك، لأن الجامع بين فردين أو أفراد متيقن وكل
واحد منهما بنفسه مشكوك فيه، وفي المقام رجوع القيد إلى أحدهما متيقن
وإلى خصوص كل من الواجب والوجوب مشكوك فيه، فإذن لا خصوصية
للوجوب.
وإن أراد (قدس سره) من ذات المادة، المادة بقطع النظر عن اتصافها بالوجوب
ومن المادة المنتسبة، المادة بالنظر إلى اتصافها بالوجوب، فيرد عليه نفس ما
عرفت هذا إضافة إلى أن رجوع القيد إلى المادة بعد انتسابها لا يجدي في دفع
المشكلة وهي أن المعنى الحرفي غير قابل للتقييد، فإنه (قدس سره) فرارا عن أن القيد
لا يرجع إلى مفاد الهيئة باعتبار أنه معنى حرفي والمعنى الحرفي لا يقبل التقييد،
103

التزم بأنه يرجع إلى المادة المنتسبة مع أنه يقع في نفس المحذور، لأن المادة
المنتسبة في مقابل ذات المادة عبارة عن نفس النسبة الطلبية بين ذات المادة
والمخاطب وهي معنى حرفي.
والخلاصة أن المحقق النائيني (قدس سره) حيث قد بنى على أن المعنى الحرفي
غير قابل للاطلاق والتقييد، فلذلك حاول بأن القيد يرجع إلى المادة المنتسبة
لا إلى مفاد الهيئة باعتبار أنه معنى حرفي، ولكن قد عرفت أن هذه المحاولة لا
تجدي، لأن المادة المنتسبة أيضا معنى حرفي في مقابل ذات المادة، فإنها
عبارة عن نفس النسبة الطلبية هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن أصل المبنى وهو أن المعنى الحرفي غير قابل
للاطلاق والتقييد غير صحيح، لما تقدم من أنه لا مانع من تقييد المعنى الحرفي
بتقييد طرفيه، على أساس أنه متقوم بهما ذاتا وحقيقة، فإذن إطلاقه وتقييده
إنما هو باطلاق وتقييد طرفيه باعتبار أنهما بمثابة الجنس والفصل للنوع،
والمفروض أنه لا مانع من إطلاق وتقييدهما.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن بين إطلاق الهيئة وإطلاق
المادة معارضة لا بالذات بل بالعرض وبواسطة العلم الاجمالي بتقييد إطلاق
إحداهما، وعلى هذا فالمقام داخل في الكبرى المتقدمة وهي تقديم الاطلاق
الشمولي على الاطلاق البدلي في مورد المعارضة، فإذن لابد من تقديم إطلاق
الهيئة باعتبار أنه شمولي على إطلاق المادة باعتبار أنه بدلي، فلا تصل النوبة
حينئذ إلى الأصل العملي في المسألة، هذا كله فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا
وغير مانع عن انعقاد ظهور كل منهما في الاطلاق، وأما إذا كان مجملا ومانعا
عن انعقاد ظهور كل منهما في الاطلاق فهو خارج عن محل الكلام، لأن
موضوع البحوث المتقدمة هو ما إذا كان لكل منهما اطلاق، وأما إذا كانتا
104

مجملتين، فلا موضوع لتلك البحوث، فإذن يكون المرجع في المسألة الأصل
العملي.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو ما إذا لم تكن في المسألة أصول لفظية إما
من جهة أن دليل التقييد متصل بدليل الأمر فيوجب إجماله أو من جهة أن
المولى ليس في مقام البيان أو من جهة سقوطها بالمعارضة، فهل مقتضى
الأصل العملي فيه البراءة في المسألة أو الاحتياط أو التفصيل فيه وجوه.
فقد يقال بالتفصيل في المسألة بين ما إذا كان الشك في وجوب المادة
قبل تحقق القيد المردد، وما إذا كان الشك في وجوبها بعد تحقق ذلك القيد،
فالمرجع على الأول أصالة البراءة على أساس أن الشك في أصل وجوبها، فإن
القيد إن كان قيدا لها فوجوبها فعلي ويجب عليه تحصيل هذا القيد، وإن كان قيدا
للهيئة فلا وجوب لها فعلا، فلهذا يكون الشك في أصل وجوبها وهو مورد لأصالة
البراءة، وعلى الثاني فلا موضوع لأصالة البراءة للعلم بوجوبها على كل تقدير أي
سواء أكان القيد لها أو للهيئة هذا.
ولكن هذا التفصيل غير سديد وذلك، لأن أصالة البراءة عن تقييد
الواجب به وإن كانت جارية في نفسها، إلا أنها معارضة بأصالة البراءة عن
تقييد الوجوب به، لأن جريان كلتا الأصالتين في المقام لا يمكن لاستلزامه
المخالفة القطعية العملية فيه للقطع بأنه قيد لأحدهما، فإذا أتى بالمادة الفاقدة
للقيد فقد علم بالمخالفة سواء كان القيد قيدا للواجب أم للوجوب، مثلا إذا أمر
المولى بالصلاة ركعتين في المسجد ثم قال فلتكن الصلاة عن قيام، وشككنا
فرضا في أن القيام هل هو قيد لمفاد الهيئة وهو وجوب الصلاة أو للمادة وهي
الصلاة، ففي مثل ذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة عن تقييد الصلاة بالقيام،
لأنها معارضة بأصالة البراءة عن تقييد الوجوب به وجريان كلتيهما لا يمكن،
105

لأنه يستلزم المخالفة القطعية العملية وهو ترك الصلاة عن قيام مع أن وجوبها
قائما معلوم تفصيلا سواء كان القيام قيدا لها أم لوجوبها، ومن هذا القبيل ما إذا
أمر المولى بقوله تصدق على الفقراء ثم قال فليكن ذلك عن قيام، وشككنا
فرضا في أن القيام هل هو قيد للواجب أو للوجوب، ففي مثل ذلك ليس
بإمكاننا إجراء البراءة عن تقييد الواجب به، لأنها معارضة بأصالة البراءة عن
تقييد الوجوب به، لأن جريان كلتيهما معا يستلزم الترخيص في المخالفة
القطعية العملية، هو الترخيص في ترك التصدق عن قيام.
وإن شئت قلت أن مرجع الشك في وجوب المادة قبل تحقق القيد إلى
الشك في تقييدها به، ومن الواضح أن أصالة البراءة عن تقييدها به معارضة
بأصالة البراءة عن تقييد وجوبها به فتسقطان معا من جهة المعارضة، فالواجب
حينئذ هو الاتيان بالمادة الواحدة للقيد ولا يكفي الاتيان بها فاقدة للقيد لأنها
ليست بواجبة جزما.
فالنتيجة أنه لا يمكن الرجوع في المسألة إلى أصالة البراءة، فالصحيح فيها
هو القول الثاني أي الاحتياط.
ثم أنه هل يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب تحصيل القيد
المشكوك المردد بين كونه للمادة أو للهيئة، فإنه إن كان للأولى وجب تحصيله
، وإن كان للثانية لم يجب، والجواب أنه لا يمكن الرجوع إليها، لأن مرجع
هذا الشك إن كان إلى الشك في تقييد المادة به، فقد عرفت أن أصالة البراءة
عنه لا تجري من جهة المعارضة، وإن لم يرجع إليه فلا أثر لهذا الشك، لأن
شك في الوجوب الغيري ولا تجري أصالة البراءة عنه، لأنها إنما هي لدفع
المسؤولية والمؤاخذة عن المكلف، والمفروض أنه لا مؤاخذة على مخالفة
الوجوب الغيري بما هو غيري ولا مثوبة على موافقته، هذا تمام كلامنا في
106

الواجب المشروط والمطلق.
نتائج هذا البحث عدة نقاط:
الأولى: أن الحج حيث إنه عمل مركب من عملين طوليين مرتبطين:
الأول: عمرة التمتع.
الثاني: حج التمتع.
فالظاهر هو امتداد وقت هذا العمل المركب من بداية أشهر الحج إلى
نهايتها، فلهذا يجب توفير مقدماته من حين دخول تلك الأشهر.
الثانية: أن وجوب توفير المقدمات المفوتة قبل موسم الحج يكشف عن
أن ملاكه الملزم تام في ظرفه، ولا يرضى الشارع بتفويته مطلقا حتى قبل
الموسم، وهذا يدل على أن القدرة المعتبرة فيه، قدرة مطلقة لا قدرة خاصة.
الثالثة: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد بنى على إمكان الشرط المتأخر ثبوتا،
ولكن وقوعه في مقام الاثبات بحاجة إلى دليل واستثنى من ذلك موردين:
الأول: الإجازة المتأخرة في العقد الفضولي.
الثاني: شرطية القدرة على الجزء الثاني للواجب المركب، وقال أن وقوع
الشرط المتأخر فيهما يكون على القاعدة هذا. وقد تقدم نقد ما أفاده (قدس سره) في كلا
الموردين.
الرابعة: أن تقسيم الواجب إلى المشروط والمطلق إنما هو بلحاظ
وجوبه، فالحج واجب مشروط باعتبار أن وجوبه مشروط بالاستطاعة
ومطلق من جهة أخرى، وصلاة الظهر واجبة مشروطة بلحاظ أن وجوبها
مشروط بالزوال ومطلقة من جهة أخرى.
الخامسة: أن جماعة من الأصوليين ذهبوا إلى استحالة رجوع القيد في
107

القضية الشرطية إلى مفاد الهيئة وتعين رجوعه إلى المادة، وقد ذكروا في وجه
ذلك وجوها:
الأول: أن مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي والجزئي لا
يقبل التقييد والتضيق.
الثاني: أن المعنى الحرفي وإن كان كليا إلا أنه ملحوظ آلة، والاطلاق
والتقييد من شؤون المعنى الملحوظ مستقلا.
الثالث: أن رجوع القيد إلى مفاد الهيئة يستلزم التفكيك بين الانشاء
والمنشأ وهو مستحيل، ولكن هذه الوجوه جميعا غير سديدة، فإن المعنى
الحرفي وإن كان خاصا إلا أنه لما كان متقوما ذاتا وحقيقة بشخص طرفيه،
فاطلاقه وتقييده إنما هو باطلاق وتقييد طرفيه، وتفصيل الكل قد تقدم.
السادسة: أن ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أن القيد في مقام اللب
والواقع يرجع إلى المادة دون الهيئة لا يتم، لأن شروط الوجوب تختلف عن
شروط الواجب، فإن الأولى شروط للاتصاف في مرحلة المبادئ والثانية
شروط للترتب في مرحلة الامتثال، ولا يمكن أن تكون شروط الوجوب بما
هي قيودا للواجب، وإنما هي قيود للوجوب في مرحلة الجعل وللاتصاف في
مرحلة المبادئ على ما تقدم، نعم يمكن أن يكون شئ واحد قيدا للواجب
والوجوب معا لكن كلا من جهة، وأما أن جميع القيود يكون قيودا للمادة
فحسب فهو خلاف الضرورة.
السابعة: أن ملاك كون الشئ قيدا للوجوب أحد أمرين:
الأول: أن يكون ذلك الشئ دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ.
الثاني: أن قيد الواجب إذا كان غير اختياري، فلابد من أخذه قيدا
108

للوجوب أيضا، إذ لو كان الوجوب مطلقا لزم التكليف بغير المقدور ولا يمكن
أخذ شئ قيدا للوجوب في مرحلة الجعل بدون أحد هذين الملاكين وإلا
لكان لغوا.
الثامنة: أن الفرق بين الإرادة المشروطة والإرادة المطلقة إنما هو
بالذات، فإن الإرادة المشروطة هي الإرادة المعلقة مثل إرادة شرب الماء
المعلقة على العطش وإرادة شرب الدواء المعلقة على المرض وهكذا، فالإرادة
المشروطة غير فعلية في أفق النفس وإنما هي معلقة فيه، بينما الإرادة المطلقة
فعلية فيه. وعلى هذا فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا فرق بين الإرادة
المشروطة والإرادة المطلقة فكلتاهما موجودة في أفق النفس وإنما الفرق
بينهما في المتعلق (1).
فإنه مطلق في الإرادة المطلقة ومقيد في الإرادة المشروطة غير تام بل
مخالف للوجدان، كما أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الفرق بينهما في
الموجود لا في الوجود (2) غير تام، إذ لا يمكن التفكيك بين الوجود والموجود،
وكذلك ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) من أن الإرادة المشروطة فعلية كالإرادة
المطلقة، من جهة أن شروطها من الأمور النفسانية وهي فعلية وتفصيل كل ذلك
تقدم.
التاسعة: إذا دار الأمر بين رجوع القيد إلى مفاد الهيئة أو المادة، فقد
رجح شيخنا الأنصاري (قدس سره) إطلاق الهيئة على اطلاق المادة وإرجاع القيد إلى
المادة، بدعوى أن اطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادة بدلي، والأول يتقدم

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 52.
(2) نفس المصدر المتقد: ص 54.
109

على الثاني في مقام المعارضة بملاك الأظهرية (1).
وقد علق عليه بأن الكبرى إنما هي ثابتة بين العام الوضعي والمطلق
الثابت إطلاقه بمقدمات الحكمة، فإن دلالة الأول تنجيزية لا تتوقف على أي
مقدمة خارجية ما عدا الوضع، ودلالة الثاني تعليقية تتوقف على مقدمات
الحكمة، فلذلك يتقدم عليه في مقام المعارضة بملاك الأظهرية، ولا فرق في هذا
التقديم بين أن يكون المطلق بدليا أو شموليا إذا كان العام وضعيا لا مطلقا حتى
بين الاطلاق الشمولي والاطلاق البدلي إذا كان كلاهما ثابتا بمقدمات الحكمة،
فلا يكون المقام من صغريات هذه الكبرى هذا.
ولكن قد استظهرنا في مبحث التعادل والترجيح، أنه لا يبعد تقديم الاطلاق
الشمولي على الاطلاق البدلي أيضا في مورد المعارضة بالأظهرية وتمام الكلام
هناك.
العاشرة: إذا ثبتت قاعدة أن الاطلاق الشمولي يتقدم على الاطلاق
البدلي في مقام المعارضة، فهل المقام داخل في هذه القاعدة ويكون من
صغرياتها، باعتبار أن إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادة بدلي، فيه وجهان
فذهب جماعة إلى أنه غير داخل فيها، وقد ذكروا في وجه ذلك وجوها:
الأول: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من اختصاص القاعدة بما إذا كان
التعارض بينهما بالذات، وحيث إنه لا تعارض بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة
بالذات وإنما يكون بالعرض من جهة العلم الاجمالي الخارجي، فلا يكون
المقام من صغريات القاعدة، ولكن تقدم أن الصحيح عدم الفرق في تطبيق
قواعد الجمع العرفي بين ما إذا كان التعارض بين الدليلين بالذات أو

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 55.
110

بالعرض (1).
الثاني: أن تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة وصيرورتها حصة خاصة وهي
الحصة الواجدة للقيد ولا تشمل الحصة الفاقدة، فإذن لا تعارض بينهما لكي يرجع
إلى قواعد الجمع العرفي، ولكن قد تقدم أن فيه خلطا بين تقييد المادة بالمعنى
المطلوب في المسألة والموضوع للأثر شرعا في مقابل تقييد الهيئة وبين تقيدها
بمعنى صيرورتها حصة خاصة في مقام اللب والواقع بتقييد الهيئة على أساس أن
دائرة الواجب لا يمكن أن تكون أوسع من دائرة الوجوب، ومحل الكلام في
المسألة إنما هو في الأول دون الثاني.
الثالث: أن العلم الاجمالي برجوع القيد إلى مفاد الهيئة أو المادة، ينحل
إلى علم تفصيلي بتقييد المادة وسقوط إطلاقها على كل تقدير، أي سواء كان
بتقييدها مباشرة أم بتقييد الهيئة، ولكن مر أن هذا الوجه أيضا غير تام.
الحادية عشر: أن محل الكلام في المسألة إنما هو في القيد الاختياري،
فإن أمره مردد بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو إلى مفاد المادة، وأما إذا كان غير
اختياري فلا يكون أمره مرددا كما تقدم.
الثانية عشر: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) في المسألة من أن النسبة بين
تقييد الهيئة وتقييد المادة عموم من وجه فلا يستلزم تقييد الهيئة تقييد المادة،
هو الصحيح.
الثانية عشر: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن القيد يرجع إلى المادة
بلا فرق بين كونه متصلا أو منفصلا، غير تام كما مر.
الثالثة عشر: قد تبين لحد الآن أن بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 56.
111

معارضة بواسطة العلم الاجمالي بسقوط إطلاق إحداهما، وعلى هذا فالمقام
داخل في الكبرى المتقدمة وهي تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي
بملاك الأظهرية، فلا تصل النوبة حينئذ إلى الأصل العملي في المسألة، هذا
كله فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا، وأما إذا كان متصلا، فهو خارج عن
محل الكلام في المسألة والمرجع فيها حينئذ الأصول العملية.
الرابعة عشر: أن الأصل العملي في المسألة، أصالة الاحتياط دون أصالة
البراءة.
112

البحث الرابع:
في الواجب المعلق والمنجز
يقسم الواجب إلى المعلق والمنجز، ونقصد بالواجب المعلق ما يكون
وجوبه حاليا والواجب استقباليا، وبالواجب المنجز ما يكون الوجوب
والواجب كلاهما حاليا.
أو فقل أن القيد إن كان للوجوب فهو مشروط وإن كان للواجب ويكون
الوجوب مطلقا، فإن كان القيد حينئذ مقارنا له فهو منجز، وإن كان متأخرا
فهو معلق.
بيان ذلك أن زمان الوجوب لا يمكن أن يكون بكامله متقدما على
زمان الواجب وإلا لزم خلف فرض كونه واجبا، ضرورة أنه لا يمكن اتصاف
شئ بالواجب إلا أن يكون في زمان الوجوب، وإلا فلا يكون موصوفا به
وهو خلف وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في أن زمان الوجوب هل يمكن أن
يبدأ قبل زمان الواجب، مثلا يبدأ زمان وجوب الحج منذ تحقق الاستطاعة
في الخارج وزمان الواجب وهو الحج يكون متأخرا وزمان وجوب الصوم
يبدأ من حين رؤية الهلال وزمان الواجب يكون منذ طلوع الفجر وهكذا،
113

فهناك مجموعة من النقاط للبحث:
النقطة الأولى في إمكان الواجب المعلق واستحالته.
النقطة الثانية ولو سلمنا إمكانه، فهل هو داخل في الواجب المطلق أو
الواجب المشروط أو أنه نوع ثالث من الواجب لا هذا ولا ذاك.
النقطة الثالثة في ثمرة هذه المسألة.
أما الكلام في النقطة الأولى، فقد ذهب جماعة من الأصوليين إلى استحالة
الواجب المعلق، وقد استدل عليها بعدة وجوه:
الوجه الأول: ما حكاه المحقق الخراساني (قدس سره) من أن التكليف مشروط
بالقدرة بمعنى أن المكلف حين ما يكون التكليف متجها إليه فعلا، لابد أن
يكون قادرا على الامتثال وإلا لزم التكليف بغير المقدور، وعلى هذا فلو قلنا
بالواجب المعلق لم يكن المكلف قادرا على الامتثال حين كون التكليف فعليا
ومتجها نحوه، ولذلك لا يمكن الالتزام به (1).
والجواب: أن هذا الوجه بهذا المقدار من البيان واضح البطلان، لأن
التكليف مشروط بالقدرة في ظرف الامتثال لا في ظرف الجعل والاعتبار. فإذا
كان المكلف قادرا على الامتثال في ظرفه، كفى ذلك في صحة التكليف وإن
كان تقريب هذا الوجه بصورة أخرى فنية، وهي أن جعل التكليف لا يمكن أن
يكون لغوا وجزافا وبلا مبرر، وعلى هذا فما هو المبرر لجعل الوجوب قبل
زمان الواجب رغم أنه يظل معطلا ما لم يأت وقت الواجب، مثلا جعل
وجوب الصوم منذ رؤية الهلال في شهر رمضان مع أن زمان الواجب من حين
طلوع الفجر، فإذن ما هو فائدة جعل هذا الوجوب قبل زمان الواجب، أليس

(1) كفاية الأصول: ص 103.
114

ذلك لغوا وبلا أثر، ومن الواضح أن صدور اللغو من المولى الحكيم مستحيل
هذا.
والجواب أن جعل الوجوب لشئ لا يمكن أن يكون جزافا، فلا محالة
يكون مبنيا على نكتة وتلك النكتة التي تدعو المولى إلى الجعل هي اتصاف
ذلك الشئ بالملاك في مرحلة المبادئ، وقد تقدم سابقا أن شروط الجعل
هي شروط للاتصاف في تلك المرحلة، والجعل إنما هو من أجل ذلك، فإنه
روح الحكم وحقيقته دون مجرد الاعتبار، فإنه لا قيمة له بدون الملاك، وعلى
هذا فإذا تحقق شرط اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ قام المولى
بالجعل على أساس أنه دعاه إليه، سواء كان شرط ترتب الملاك على الفعل في
الخارج متحققا أم لا، وحينئذ فإن تحقق شرط الترتب مقارنا لشرط الاتصاف،
كان زمان الوجوب مقارنا لزمان الواجب فيكون الواجب منجزا، وإن كان شرط
الترتب متأخرا عن شرط الاتصاف، بأن يكون الواجب مشروطا بوقت متأخر
كالصوم مثلا، كان زمان الوجوب متقدما على زمان الواجب فيكون الواجب
معلقا بأن وجوبه حالي والواجب استقبالي هذا.
وغير خفي أن هذا الجواب وإن كان فنيا، إلا أنه لا يعالج المشكلة فإن
المشكلة متمثلة في أحد أمرين:
الأول: أن شرط الواجب المعلق من زمان أو زماني إن كان شرطا
للوجوب أيضا بنحو الشرط المتأخر، فالوجوب حينئذ وإن كان فعليا قبل
تحقق شرطه، إلا أن ذلك مضافا إلى أنه قسم من الواجب المشروط بالشرط
المتأخر وليس نوعا آخر من الواجب في مقابل الواجب المشروط أنه مستحيل،
لما تقدم من أن شرط الوجوب، حيث إنه شرط لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ وهو أمر تكويني، فلا يعقل أن يكون مشروطا بشرط متأخر لاستحالة
115

تأثير المتأخر في ظرفه في الزمن المتقدم، فإن المؤثر فيه حينئذ إن كان عدمه
المقارن له فهو مستحيل، وإن كان وجوده فلازمه قلب المشروط عما وقع عليه
وهو أيضا كذلك.
الثاني: أن الوجوب إذا لم يكن مشروطا به بنحو الشرط المتأخر بأن
يكون مطلقا، لزم التكليف بغير المقدور، لوضوح أن الوجوب إذا كان فعليا
فلا محالة يكون محركا نحو الاتيان بالواجب المقيد بقيد غير اختياري، ومن
الواضح أن تحريكه نحوه من التحريك نحو المحال وهو لا يمكن هذا.
وفصل بعض المحققين (قدس سره) في القيد غير الاختياري للواجب بين القيد
المضمون تحققه في الخارج والقيد غير المضمون تحققه فيه، فإن كان قيد
الواجب من قبيل الأول كالوقت، فلا ملزم لأخذه قيدا للوجوب أيضا، باعتبار
أن الأمر المتعلق بالمقيد ليس أمرا حقيقة بالقيد وإنما هو بذات المقيد والتقيد
والقيد خارج وكلاهما مقدور إذا كان القيد مضمونا، وحينئذ فلا مانع من
إيجاب الفعل المقيد بقيد مضمون تحققه في الخارج بنحو الواجب المعلق أي
بدون أخذه قيدا للوجوب، باعتبار أن متعلق الوجوب وهو التقيد وذات المقيد
مقدور، والقيد وإن كان غير مقدور إلا أنه مضمون التحقق خارجا، وعلى هذا
فلا محذور في إيجاب المولى الصوم المقيد بطلوع الفجر منذ رؤية الهلال بنحو
الواجب المعلق، فيكون الوجوب حاليا والواجب وهو الصوم استقباليا، وإن
كان قيد الواجب من قبيل الثاني كالقدرة مثلا فلابد من أخذه قيدا للوجوب
أيضا، مثلا الصوم كما أنه مقيد بطلوع الفجر كلك مقيد بالقدرة عليه بعد
الطلوع، والقيد الأول مضمون التحقق خارجا والقيد الثاني غير مضمون
التحقق، فإن المكلف قد يكون قادرا على الصوم بعد الطلوع وقد لا يكون
قادرا عليه بعده، والقيد الأول حيث إنه مضمون التحقق خارجا، فلا تتصور
116

فيه الحصة الفاقدة للقيد حتى يلزم من اطلاق الأمر التكليف بالمحال، وأما
القيد الثاني فحيث إنه غير مضمون التحقق، فنتصور فيه الحصة الفاقدة للقيد
وهي الصوم غير المقدور بعد طلوع الفجر، وحينئذ لو لم تكن القدرة عليه بعد
الطلوع قيدا للأمر أيضا بأن يكون مطلقا، لزم التكليف بغير المقدور، لأنه
باطلاقه يشمل صورة عدم القدرة فيكون محركا نحو الصوم غير المقدور وهو
لا يمكن، هذا هو الفارق بين القيد المضمون وغير المضمون، فالنتيجة أنه لا
مانع من الالتزام بالواجب المعلق في القيد المضمون تحققه خارجا، ولا يمكن
الالتزام به في القيد غير المضمون كذلك (1) هذا.
ويمكن المناقشة في هذا التفصيل بتقريب، أن الثمرة بين كون القيد
مضمون التحقق خارجا وبين كونه غير مضمون التحقق كذلك إنما تظهر في
ظرفه المتأخر، وأما بالنسبة إلى الأمر المتقدم فلا فرق بينهما، فإن هذا الأمر لا
يمكن أن يكون مشروطا به بنحو الشرط المتأخر بلا فرق بين أن يكون
مضمون التحقق في ظرفه أو لا، وأما كونه مطلقا والواجب مقيد به في ظرفه
المتأخر. فهو أيضا لا يمكن، لأن معنى أن الأمر مطلق أنه فعلي ولا حالة
منتظرة له، ولازم ذلك أنه محرك للمكلف نحو الاتيان بالواجب ولو بنحو
الاقتضاء مع أنه مستحيل، لاستحالة أن يكون محركا ولو بنحو الداعوية
الاقتضائية قبل طلوع الفجر، وإن شئت قلت أن الأمر المتعلق بالصوم المقيد
بطلوع الفجر إذا كان فعليا منذ رؤية الهلال، فلا محالة يكون محركا وداعيا
بنحو الاقتضاء نحو الصوم المذكور، ومن الواضح أنه مستحيل، إذ لا يعقل أن
يكون الأمر مطلقا وفعليا من الآن ومتعلقه متأخرا، لأن معنى ذلك أن

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 198.
117

موضوعه متحقق فعلا باعتبار أنه مطلق وغير مقيد بقيد الطلوع، ونتيجة هذا
هي فعلية فاعلية الأمر ومحركيته قبل الفجر ومنذ الليل وهي مستحيلة، لأنها
تحريك نحو المحال، نعم يمكن جعل وجوب الصوم بعد الطلوع من الليل بأن
يكون الجعل من الآن والمجعول بمعنى فعليته بفعلية موضوعه منذ الفجر، فإن
معنى هذا أن قيد الطلوع مأخوذ في موضوع الوجوب أيضا بمعنى أنه كما
يكون قيدا للواجب يكون قيدا للوجوب أيضا، ولكن هذا خارج عن محل
الكلام وليس من الواجب المعلق، وعلى ضوء هذا الأساس لا يمكن أن يقاس
الواجب المعلق بالواجب الموسع، فإن الوجوب في الثاني فعلي بمعنى أن
فاعليته تامة، غاية الأمر أن الوقت بما أنه متسع فهو يدعو ويحرك نحو
الواجب بنحو الاقتضاء لا اللزوم، وأما الوجوب في الواجب المعلق فيستحيل
أن يكون محركا وداعيا ولو بنحو الاقتضاء، فإن اقتضاء المحال محال هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الوجوب في الواجب المعلق حيث إنه غير مقيد
بقيده، فمعناه أنه لم يؤخذ في موضوعه في مرحلة الجعل، وعليه فالوجوب
فعلي بفعلية موضوعه قبل تحقق قيد الواجب، فإذا كان فعليا كذلك، كان
محركا لا محالة نحو الواجب المقيد بالقيد المتأخر. ومن الواضح أنه لا فرق
في ذلك بين كون قيد الواجب مضمونا أو غير مضمون، ضرورة أن التحريك
نحوه قبل تحقق قيده تكليف بالمحال، وإن كان القيد مضمونا.
ومن ناحية ثالثة أن المراد من إطلاق الوجوب في الواجب المعلق ليس
إطلاقه في زمان الواجب بلحاظ قيده لكي يختلف باختلاف القيد المضمون
وغير المضمون، فإن القيد إن كان مضمونا فلا تتصور فيه الحصة الفاقدة له،
فإذن ليس للاطلاق مصداق إلا الحصة الواحدة، وإن كان غير مضمون فتتصور
118

فيه الحصة الفاقدة، وحينئذ فإذا كان الوجوب مطلقا وإطلاقه حيث يشمل
الحصة الفاقدة فيلزم التكليف بالمحال. ولكن قد مر أن المراد من إطلاقه هو
إطلاقه قبل زمان الواجب، فإذن لا فرق بين القيدين من هذه الناحية.
من ناحية رابعة أن الواجب المعلق إذا أمكن ثبوتا في القيد المضمون
أمكن كذلك في القيد غير المضمون أيضا، وذلك لما عرفت من أن التفصيل
بينهما مبني على أن القيد إذا كان مضمونا، فحيث إن الحصة الفاقدة للقيد في
ظرفه غير متصورة فيه، فلا يستلزم اطلاق الأمر وعدم تقييده به التكليف بغير
المقدور، باعتبار أن مصداق المأمور به حينئذ منحصر بالحصة الواجدة، وأما
إذا لم يكن مضمونا كالقدرة، فحيث إن الحصة الفاقدة للقيد متصورة فيه
فاطلاق الأمر وعدم تقييده به يستلزم التكليف بغير المقدور، لأنه يدعو حينئذ
إلى الحصة الفاقدة للقدرة.
ولكن هذا البناء غير صحيح، فإن إطلاق الأمر كما أنه في الأول لا
يستلزم التكليف بالمحال كذلك في الثاني، لأن معنى إطلاقه وعدم تقييده
بالقدرة، أنها ليست من شروط الاتصاف في مرحلة المبادئ وقيود الأمر في
مرحلة الجعل، بل هي من شروط الترتب وقيود المأمور به فحسب، وليس
معناه أنه يدعو إلى الاتيان بالحصة الفاقدة للقدرة، ضرورة أن الأمر لا يدعو
إلا إلى الاتيان بمتعلقه وهو في المثال الصوم المقيد بالقدرة لا الجامع بينه وبين
الحصة الفاقدة، مثلا الأمر المتعلق بالصلاة تعلق بحصة خاصة منها وهي
الصلاة المقيدة بقيودها مع أن تلك القيود ليست قيودا للأمر لأنه مطلق بالنسبة
إليها، ومعنى إطلاقه أنها غير دخيلة في الاتصاف في مرحلة المبادئ لا أنه
يحرك إلى الصلاة الفاقدة لهذه القيود وهكذا، وعلى ضوء ذلك فإذا كان الصوم
بعد طلوع الفجر مقيدا بالقدرة فمعناه أن الواجب حصة خاصة من الصوم وهو
119

الصوم المقيد بالقدرة، بحيث يكون التقيد بها جزء له والقيد خارج عنه، فإذن
لا محالة يكون الأمر متعلقا بهذه الحصة ولا يدعو إلا إليها، وهذا لا ينافي
إطلاقه وعدم تقييده بالقدرة، فإن معنى إطلاقه أن القدرة ليست من شروط
الاتصاف في مرحلة المبادئ حتى تكون قيدا له في مرحلة الجعل، إلى هنا
قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا فرق بين القيد المضمون وغير المضمون
لا في إمكان الواجب المعلق ولا في استحالته.
الوجه الثاني ما حكاه المحقق الخراساني (قدس سره) عن بعض معاصريه
وملخصه:
أن الإرادة لا تنفك عن المراد بلا فرق في ذلك بين الإرادة التكوينية
والإرادة التشريعية، غاية الأمر أن الأولى تتعلق بفعل نفس المريد والثانية بفعل
غيره، ومن المعلوم أن الايجاب والطلب إنما هو بإزاء الإرادة المحركة
للعضلات نحو المراد، فكما أن الإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد زمنا
باعتبار أنها لا تنفك عن التحريك وهو لا ينفك عن التحرك خارجا وإن تأخر
عنه رتبة، فكذلك الإرادة التشريعية، فإنها لا تنفك عن الايجاب زمنا وهو
ينفك عن تحريك العبد في الخارج، لأن حقيقة الايجاب إيجاد الداعي
والباعث له نحو الفعل، وحيث إن الباعث والانبعاث والتحريك والتحرك
متضايفان، فإذا استحال الانبعاث والتحرك نحو فعل استقبالي، استحال
التحريك والباعث أيضا، ونتيجة ذلك استحالة تعلق الايجاب بأمر
استقبالي (1)، ويمكن تقريب هذا الوجه بصيغتين تاليتين:
الأولى: أن الإرادة التكوينية لا تنفك عن المراد، فلا يمكن أن تكون

(1) كفاية الأصول: ص 102.
120

الإرادة فعلية وموجودة في أفق النفس بتمام مبادئها والمراد استقباليا، لأنه من
انفكاك المعلول عن العلة التامة، وعلى هذا فإذا اتصف الفعل بالملاك في
مرحلة المبادئ وحصلت الإرادة للمولى، فلا تنفك عن الايجاب والبعث نحو
الفعل في الخارج.
الثانية: أن الإرادة التشريعية التي هي عبارة عن أمر المولى عبده بفعل ما
وإيجابه لا تنفك عن المراد، فإن حقيقة الأمر من قبل المولى هو إيجاد الداعي
والباعث في نفس المكلف، ومن المعلوم أنه لا ينفك عن الانبعاث والتحرك،
لأنهما متضايفان والمتضايفان متقابلان في القوة والفعل، ومن الواضح أن
الانبعاث والتحرك بالفعل نحو أمر استقبالي مستحيل واستحالته تستلزم
استحالة الداعوية والباعثية، ولازم ذلك استحالة البعث والتحريك نحو فعل في
المستقبل هذا.
وأجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن الصيغة الأولى وحاصل جوابه،
المنع عن استحالة انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية، فإنها مرتبة مؤكدة من
الشوق في أفق النفس المحرك للعضلات نحو المراد، فإذا حصل هذا الشوق
في عالم النفس كان مؤثرا شريطة أن تكون قابلية القابل متحققة، كما إذا كان
الفعل المشتاق إليه مقارنا للإرادة، فإنه حينئذ تحقق بها خارجا، وأما إذا كان
مقيدا بزمان استقبالي فلا يتحقق إلا أن يأتي ذلك الزمان، وهذا ليس من جهة
قصور في الإرادة لأنها تامة بل لعدم قابلية القابل (1).
والخلاصة أن الإرادة كما تتعلق بأمر مقارن كذلك تتعلق بأمر متأخر،
ولا فرق بين الإرادتين من حيث بلوغها مرتبة الكمال، ومن هنا إذا تعلقت

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 76.
121

الإرادة بأمر متأخر، فإن كانت له مقدمات خارجية، كانت محركا نحو الاتيان
بها، وإن لم تكن له مقدمات كذلك غير عمود الزمان، فالإرادة بكامل مرتبتها
موجودة ولكن قابلية المحل غير متحققة إلا بمرور الزمان، فإذن انفكاك
الإرادة عن المراد والشوق المؤكد عن المشتاق إليه خارجا أمر مطابق
للوجدان وغير قابل للانكار.
وللنظر في هذا الجواب مجال، أما أولا فلأنه يظهر من هذا الجواب أن
الإرادة إذا بلغت مرتبتها العالية فهي علة تامة لتحريك العضلات نحو المراد
شريطة توفر جميع شروطها منها قابلية القابل.
وقد تقدم في ضمن البحوث السالفة أن الإرادة مهما بلغت من المرتبة
والدرجة لا يمكن أن تكون علة تامة لايجاد المراد في الخارج، فإن الفعل
الاختياري مسبوق بسلطنة الإنسان التي هي وراء الإرادة ومستند إليها لا إلى
الإرادة فيصدر منه بسلطنته واختياره، كانت هناك إرادة في نفسه أم لا على
تفصيل تقدم.
وثانيا أن إمكان انفكاك الإرادة عن المراد لا يدل على إمكان انفكاك
الوجوب عن الواجب بتمام مراحله من المبدأ إلى المنتهى، أما إمكان انفكاك
الإرادة عن المراد، فإنما هو بملاك أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد من
الصفات النفسانية التعلقية، فقد تتعلق بأمر متأخر زمنا كما أنها تتعلق بأمر
مقارن كذلك، وأما انفكاك الوجوب عن الواجب زمنا بتمام مراتبه لا يمكن،
لأن حقيقة الوجوب وروحه هي اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ
وهو أمر تكويني فلا يمكن أن يكون مشروطا بشرط متأخر كطلوع الفجر مثلا
، ولكن الوجوب بما له من الملاك يكون فعليا ومطلقا لاستلزامه التكليف بغير
المقدور، وقد تقدم تفصيله، هذا كله فيما إذا كان المراد من الإرادة الشوق
122

النفساني المؤكد فإنه لا استحالة في انفكاكه عن المشتاق إليه، وأما إذا كان
المراد منها الاختيار وإعمال القدرة، فلا يمكن انفكاكها عن المراد لأن
الاختيار وإعمال القدرة لا يتعلق إلا بالفعل الخارجي المقدور، ولا يمكن
فرض كون إعمال القدرة من الآن والفعل المقدور في زمن متأخر، وقد تقدم
تفصيل ذلك ضمن البحوث السالفة.
وأجاب (قدس سره) عن الصيغة الثانية أن الانبعاث والتحرك ببعث المولى وأمره
إنما هو بحكم العقل من باب لزوم الطاعة، ومن الواضح أن موضوع حكم
العقل بلزوم الطاعة كل شوق مؤكد قد حمل المولى على التصدي لتحصيله من
خلال تحريك العبد بأمره الداعي والباعث له نحو الفعل في ظرفه وبحسب
مقدماته، فإن هذا المقدار كاف لحكم العقل على العبد بلزوم الانبعاث في وقت
الواجب، وإلا فماذا يقال في شأن الواجبات المنجزة المقيدة بقيود لابد أن تقع
قبلها زمانا، فالصلاة مقيدة بالوضوء قبلها وهو يستلزم مرور زمان حتى ينتهي
المكلف منه ويبدأ بالصلاة مع أن الواجب لم يقيد بالزمان المتأخر عن فعل
الوضوء بل هو فعلي من أول الأمر، فلو كان يشترط في الوجوب فعلية
الانبعاث نحو الواجب، لزم المحذور في المقام أيضا، إذ الانبعاث فعلا نحو
الصلاة المقيدة بالوضوء غير معقول، وإنما المعقول الانبعاث أولا نحو الوضوء
ثم نحو الصلاة هذا (1).
وفيه أن هذا الجواب لا يتم، وذلك لوضوح أن الغرض من الأمر إمكان
انبعاث المكلف نحو الواجب بما له من القيود والشروط ولا يشترط في جعل
الوجوب فعلية الانبعاث، حيث إن الغرض من جعله لشئ إيجاد الداعي في

(1) كفاية الأصول: ص 103.
123

نفس المكلف بنحو الاقتضاء لا بنحو العلية.
وعلى هذا الأساس فإذا كان زمان الواجب مقارنا لزمان الوجوب كصلاة
الظهر مثلا، فإن زمانها مقارن لزمان وجوبها، لأن زمان كليهما يبدأ من الزوال،
وعليه فإذا تحقق الزوال أمكن انبعاث المكلف نحو الصلاة بما لها من القيود
والشروط، وهذا بخلاف ما إذا كان زمان الوجوب متقدما على زمان الواجب،
فإنه يستحيل أن يكون باعثا وداعيا من حين تحققه وفي فترة قبل تحقق زمان
الواجب، لأن في هذه الفترة من الزمان لا يمكن داعويته وباعثيته كما لا يمكن
انبعاث المكلف فيها نحو الواجب، مثلا إذا تحقق وجوب الصوم في شهر رمضان
منذ رؤية الهلال، لا يمكن أن يكون داعيا وباعثا في فترة زمنية بينها وبين طلوع
الفجر، كما أنه لا يمكن انبعاث المكلف في تلك الفترة، بينما وجوب الصلاة بعد
الزوال يمكن أن يكون داعيا وباعثا كما يمكن انبعاث المكلف منه بعده.
ودعوى أن الواجب المقيد بقيد زماني كالصلاة مثلا وإن كان وقوعه
ممكنا في عمود الزمان كوقوع الصلاة في طول زمانها إلا أن وقوعه دفعة
واحدة في آن تحقق الوجوب لا يمكن ومستحيل، إذ لا يعقل وجود الواجب
التدريجي كالصلاة دفعة واحدة كاستحالة وقوع الفجر في الليل.
مدفوعة ضرورة أن المراد من امكان انبعاث المكلف امكان انبعاثه نحو
الواجب في عمود زمانه بما له من الأجزاء والقيود والشروط الطولية، وليس
المراد منه انبعاث المكلف نحو وقوعه دفعة واحدة حتى يقال أنه مستحيل، فإن
هذا غير محتمل، بداهة أن وجوب الصلاة إذا تحقق بعد الزوال، لا يوجب تحريك
المكلف وانبعاثه نحو الاتيان بالصلاة دفعة واحدة وفي آن تحقق الوجوب لكي
يقال أنه مستحيل، بل يوجب ذلك من الزوال إلى الغروب، لوضوح أن العقل لا
يحكم بأكثر من ذلك، فإن انبعاث المكلف إنما هو على أساس حكم العقل بلزوم
124

الطاعة وهو لا يحكم بأكثر من انبعاثه نحو الشروع في الواجب بما له من
المقدمات في زمانه، بل لو قلنا أن تحقق الوجوب فعلا يوجب الانبعاث الفعلي
فأيضا لا إشكال، لأنه لا يوجب الانبعاث أو لا نحو المقدمات ثم إلى الواجب بل
يوجب الانبعاث فعلا نحو الاتيان بالواجب بما له من القيود والمقدمات الخارجية
التي يتوقف إتيانه عليها، كوضوح أن الانبعاث إلى المقدمات ناشئ من الانبعاث
إلى الواجب بالتبع وفي طوله، فإذن ليس هنا إلا انبعاث واحد فعلا وهو الانبعاث
نحو الاتيان بالواجب بتمام قيوده وشروطه أصالة.
وما في هذا الجواب من أن فعلية الوجوب لو كانت مشروطة بفعلية
الانبعاث، لزم المحذور في الواجبات المنجزة أيضا، لأن الانبعاث فعلا نحو
الصلاة المقيدة بالوضوء غير معقول، وإنما المعقول الانبعاث أو لا نحو الوضوء ثم
نحو الصلاة غير تام، لأن الانبعاث نحو الوضوء من توابع الانبعاث نحو الصلاة،
على أساس أنه من قيودها وتبعاتها فلا يكون انبعاثا مستقلا، ضرورة أن فعلية
الوجوب تقتضي فعلية الانبعاث نحو الاتيان بالصلاة المأمور بها وهي الصلاة
المقيدة بقيود منها الوضوء ولا تقتضي الانبعاث أولا نحو الوضوء ثم نحو الصلاة،
لأن الانبعاث نحو الوضوء في طول الانبعاث نحو الصلاة ومترشح منه، فيكف
تقتضي الانبعاث إليه أولا.
وهذا بخلاف الواجب المعلق، فإن وجوبه الحالي لا يمكن أن يكون
داعيا وباعثا في الفترة الزمنية الفاصلة بينه وبين الواجب لا إمكانا ولا فعلا مع
أن فعلية الوجوب بفعلية موضوعه لا محالة تقتضي إمكان الانبعاث، وإلا فلا
معنى لفعليته.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا يمكن حمل الآية الشريفة
على الواجب المعلق بأن يكون وجوب الصوم فعليا منذ شهادة الشهر والواجب
125

يكون متأخرا ويبدأ منذ الفجر، فإن الآية وإن كانت ظاهرة في أن الأمر
بالصوم في الغد من حين الشهادة، إلا أنها لا تكون ظاهرة في أن الأمر بالصوم
مطلق وفعلي بفعلية موضوعه قبل طلوع الفجر وأنه غير دخيل في اتصافه
بالملاك في مرحلة المبادئ، بل لا يبعد ظهورها في أن جعله إنما هو من
حين الشهادة، وأما فعليته فإنما هي بفعلية الفجر، فإنه كما أخذ قيدا لمتعلقه
كذلك أخذ قيدا لموضوعه حكما وملاكا، فإذن لا يكون الوجوب فعليا قبل
طلوع الفجر، فالنتيجة أن الآية لا تدل على أن فاعلية وجوب الصوم فعلية
بفعلية موضوعه قبل الفجر، بل لو كانت الآية الشريفة ظاهرة في الواجب
المعلق وهو فعلية الوجوب قبل الفجر، فلابد من رفع اليد عن هذا الظهور، لما
عرفت من استحالة ذلك، ومن هنا يظهر حال الروايات الآمرة بتعليق وجوب
الصوم على الرؤية كقوله (عليه السلام) صم للرؤية (1).
الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن قيود الوجوب تختلف
عن قيود الواجب، فإن قيود الوجوب قد أخذت في لسان الدليل مفروضة
الوجود خارجا في مرحلة الجعل، وأما قيود الواجب فإنها قد أخذت في
متعلق الوجوب تقيدا لا قيدا، ولازم الأول أمران:
أحدهما: أن تحصيلها غير واجب، إذ لا مقتضى لوجوبها بينما يجب
تحصيل الثانية.
وثانيهما: أن فعلية الحكم تتبع فعلية هذه القيود في الخارج على أساس
أنها بمثابة الشرط في القضية الشرطية والحكم بمثابة الجزاء، ومن الطبيعي أن
الجزاء يدور مدار الشرط وجودا وعدما حدوثا وبقاء، وعلى ذلك بنى (قدس سره) أن

(1) الوسائل ج 7: ص 184 ب 3 من أحكام شهر رمضان ح 11.
126

الشرط المتأخر مستحيل، إذ لا يعقل أن يكون الحكم فعليا قبل فعلية
موضوعه وشرطه، وإلا لزم خلف فرض كونه موضوعا له، وحيث إن الواجب
المعلق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر فيكون مستحيلا (1) هذا.
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب أن الحكم المجعول وإن كان
يتبع الجعل ويستحيل أن يتخلف عنه إلا أن كيفية الجعل بيد المولى، فكما أن
له أن يجعل الوجوب على موضوع مقيد بقيد مقارن، فكذلك له أن يجعله
على موضوعه مقيد بقيد متأخر، وحينئذ فلا محالة يتحقق الوجوب قبل
تحقق قيده المتأخر على أساس أنه مقيد ومشروط به بنحو الشرط المتأخر،
أو فقل أن كيفية جعل الحكم واعتباره حيث إنه بيد المولى، فله جعله على
موضوع مقيد بقيد متأخر أو متقدم بنحو المفروض وجوده في الخارج كما أن
له جعله على موضوع مقيد بقيد مقارن كذلك، فعلى الأول بطبيعة الحال
يتحقق الحكم قبل تحقق قيده، وهذا هو معنى كون الحكم مشروطا بشرط
متأخر، ولهذا قال (قدس سره) أنه غير مانع من الالتزام بامكان الشرط المتأخر ثبوتا بلا
فرق بين أن يكون الشرط شرطا للوجوب فقط أو شرطا للواجب أيضا،
ويسمى الثاني بالواجب المعلق، ومن هنا يظهر أن الواجب المعلق قسم من
الواجب المشروط بالشرط المتأخر (2).
والجواب: أن ما أفاده (قدس سره) مبني على أن تكون للحكم مرتبتان:

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 146. ثم لا يخفى أنه (قدس سره) قد تعرض لكلام المحقق النائيني في
المحاضرات ج 2: ص 353 وقال في جوابه: ولكن قد تقدم الكلام في مسألة شرط المتأخر
وذلك قد تعرض له في ص 308 فراجع.
(2) المحاضرات ج 2: ص 308.
127

الأولى: مرتبة الجعل.
الثانية: مرتبة المجعول.
وهي فعلية الحكم بفعلية موضوعه، ولكن قد تقدم موسعا أن للحكم
مرتبة واحدة وهي مرتبة الجعل والاعتبار على أساس أن الحكم أمر اعتباري
وليس له واقع وراءه يتحقق بنفس الجعل والاعتبار، والمجعول به عين الجعل
ولا يمكن التفكيك بينهما كالايجاد والوجود في التكوينيات، ولا يعقل أن
تكون للمجعول به مرتبة أخرى، ضرورة أنه عين الجعل ذاتا وحقيقة، ولا
فرق بينهما إلا بالاعتبار، ووجود الحكم إنما هو بنفس وجود الجعل والاعتبار
ولا يتصور له وجود آخر، وأما وجوده بوجود موضوعه في الخارج فهو
بمعنى وجود فاعليته ومحركيته نحو الاتيان بالمأمور به وليس من مراتب
الحكم، ضرورة أنه ليس بيد الشارع بل هو مسبب عن الأسباب الخارجية
كوجود موضوعه فيه، فلو كان من مراتب الحكم فلازمه أن يكون الحكم من
الأمور الخارجية وهو كما ترى، إلى هنا قد تبين أن فعلية الحكم إنما هي
بفعلية موضوعه في الخارج وليست من مراتب الحكم الذي هو أمر اعتباري
وبيد المولى وضعا ورفعا ولا يتأثر بشئ من الوجودات الخارجية، ومعنى
فعليته، فعلية فاعليته ومحركيته لا فعلية نفس الحكم الشرعي لأنه فعلي بنفس
الجعل في عالم الاعتبار والذهن، ولا يعقل أن تكون تلك المرتبة من مراتب
المجعول، بداهة أن مرتبة المجعول نفس مرتبة الجعل لأنه عينه، ويستحيل
انفكاكه عنه كاستحالة انفكاك الوجود عن الايجاد، فإذن جعل هذه المرتبة من
مراتب الحكم مبني على ضرب من المسامحة.
ومن هنا قلنا في ضمن البحوث السالفة أن شرائط الحكم هي نفس
شرائط الجعل باعتبار أنه عين الجعل ذاتا وحقيقة، والمفروض أن شرائط
128

الجعل هي الأشياء بوجوداتها اللحاظية الذهنية لا بوجوداتها الخارجية، إذ لا
يعقل أن يكون جعل الحكم متأثرا بالأشياء بوجوداتها الخارجية وإلا كان
خارجيا وهذا خلف، وعلى هذا فلا يتصور أن يكون الحكم مشروطا بشرط
متأخر، لأن الشرط وجود الشئ لحاظا وتصورا وهو مقارن وإن كان متأخرا
خارجا أو متقدما، فإذن ما هو شرط ليس بمتأخر وهو الوجود الذهني وما
هو متأخر ليس بشرط وهو الوجود الخارجي هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى أن فعلية فاعلية الحكم ومحركيته نحو الاتيان بمتعلقه،
حيث إنها تكون من الأمور الواقعية التكوينية، فلا يمكن أن تكون مشروطة
بشرط متأخر، لاستحالة تأثير المتأخر في المتقدم على تفصيل قد مر.
لحد الآن قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن شروط الحكم بما
أنها من الأمور الذهنية اللحاظية فلا يتصور فيها الشرط المتأخر، فإنه إنما
يتصور فيما إذا كان الشئ شرطا بوجوده الخارجي، وأما اتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ، فحيث إنه من الأمور التكوينية، فلا يمكن أن
يكون مشروطا بشرط متأخر وكذلك فعلية فاعلية هذا الحكم في الخارج.
وأما الواجب المعلق الذي يكون مقيدا بالوقت المتأخر، فإن كان الوقت
شرطا لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ أيضا، فقد تقدم أنه
مستحيل لاستحالة كون الاتصاف مشروطا بشرط متأخر، وإما إذا لم يكن
شرطا للاتصاف ودخيلا فيه وإنما هو شرط لترتب الملاك على الواجب في
الخارج، فعندئذ إن كان الفعل متصفا بالملاك مطلقا في مرحلة المبادئ ولكن
ترتبه عليه منوط بدخول الوقت، فهل يقتضي ذلك جعل الوجوب مطلقا أو
لابد من جعله مشروطا بدخول الوقت بنحو الشرط المتأخر.
والجواب أن كليهما لا يمكن، أما الأول فقد تقدم أنه يستلزم التكليف
129

بغير المقدور، وأما الثاني فلأن جعل الوجوب مشروطا بدخول الوقت رغم أن
ملاكه مطلق فهو بلا مبرر، إذ لا معنى لجعل الحكم بلا ملاك، لأن الملاك هو
حقيقة الحكم وروحه ولا قيمة للاعتبار بما هو، وأما بلحاظ ملاكه فلا يمكن
أن يكون مشروطا بشرط متأخر، هذا كله بحسب مقام الثبوت والتصور، وأما
ما أشرنا إليه سابقا من أن ملاك أخذ شئ قيدا للوجوب في مقام الاثبات أحد
أمرين:
الأول: أن يكون ذلك الشئ دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ، فإنه حينئذ لابد من أخذه قيدا للوجوب في مرحلة الجعل.
الثاني: أن يكون الواجب مقيدا بقيد طولي غير اختياري، ففي مثل ذلك
لا محالة أخذ ذلك القيد قيدا للوجوب أيضا، فإنما هو بلحاظ مقام الاثبات،
بنكتة أن القيد إذا كان قيدا للوجوب مباشرة في مرحلة الجعل، فهو يكشف
عن أنه قيد للاتصاف بالملاك في مرحلة المبادئ، وإلا فلا يمكن أخذه قيدا
للوجوب، وأما إذا كان القيد قيدا للواجب في هذه المرحلة فهو لا يكشف
مباشرة عن أنه قيد للاتصاف وإنما يكشف كذلك عن أنه قيد للترتب، ولكنه
إذا كان طوليا وغير اختياري، يكشف عن أنه قيد للوجوب والاتصاف أيضا
بنحو الشرط المقارن حتى لا يلزم التكليف بغير المقدور، مثلا قوله تعالى
(فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ظاهر في أن الأمر بالصوم منذ رؤية الهلال،
وحيث إنه لا يمكن أن يكون ذلك بنحو الواجب المعلق ولا الواجب المشروط
بالشرط المتأخر لاستحالتهما معا كما تقدم، فلابد حينئذ من الالتزام بأن
طلوع الفجر كما أنه قيد للترتب كذلك قيد للاتصاف، غاية الأمر أن الجعل كان
منذ الليل وأما المجعول وهو الوجوب الفعلي المحرك فهو بعد الطلوع، إلى هنا
قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الواجب إذا كان مقيدا بوقت متأخر، فإن
130

كان ذلك الوقت دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ أيضا كان
قيدا للواجب والوجوب معا، فلا يكون الواجب معلقا والوجوب مطلقا، وإن
لم يكن دخيلا فيه بأن يكون الاتصاف به مطلقا فلا يمكن جعل الوجوب
كذلك، لاستلزامه التكليف بغير المقدور، ولا مشروطا لعدم الملاك له.
إلى هنا قد وصلنا إلى النتائج التالية:
الأولى: أن الواجب المعلق وهو أن يكون الوجوب حاليا والواجب
استقباليا مستحيل، لأن الوجوب إذا كان مطلقا وفعليا فهو يقتضي تحريك
المكلف نحو الاتيان بالواجب المقيد بالوقت المتأخر، وهذا من التكليف
بالمحال، وإذا كان وجوبه أيضا مشروطا بالوقت المتأخر، فمعناه أنه قيد
للوجوب بتمام مراحله من مرحلة المبادئ وهي مرحلة اتصاف الفعل بالملاك
والإرادة إلى مرحلة الجعل والاعتبار، وقد تقدم أنه لا يمكن أن يكون
الوجوب مشروطا بشرط متأخر بلحاظ مبادئه، لأنها من الأمور التكوينية
ويستحيل تأثير المتأخر فيها.
الثانية: أن الواجب المعلق بمعنى أن يكون الوجوب حاليا والواجب
استقباليا، لا يختص بما إذا كان مقيدا بوقت متأخر مضمون التحقق في
الخارج بل الظاهر إناطته بالتقييد بقيد متأخر غير اختياري من زمان أو زماني
كالقدرة أو الحياة أو غيرها، فإن التخصيص بالأول بنكتة أن إمكان الواجب
المعلق مبني على أن يكون مقيدا بقيد متأخر مضمون التحقق في الخارج،
فعندئذ لا مانع من أن يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا، وأما إذا كان
مقيدا بقيد متأخر غير مضمون في الخارج كالقدرة أو الحياة أو نحوها، فلابد
من أخذه قيدا للوجوب أيضا، فيكون حينئذ من الواجب المشروط لا من
المعلق، ولكن قد تقدم المناقشة في هذا التفصيل بشكل موسع.
131

الثالثة: أن الواجب إذا كان مقيدا بقيد طولي غير اختياري، فإن كان
ذلك القيد دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ فهو قيد
للواجب والوجوب معا، فإذن يكون من الواجب المشروط لا المعلق، وإن لم
يكن دخيلا فيه بأن يكون الاتصاف بالملاك في هذه المرحلة تاما وغير
مشروط بشئ، فعندئذ لا يمكن جعل الوجوب مطلقا ومنجزا، لأنه يدعو
المكلف إلى الاتيان بالواجب المقيد بقيد غير اختياري، وهو من الدعوة إلى
الحال فلهذا لا يعقل جعله كذلك، وهذا معنى استحالة الواجب المعلق، كما أنه
لا يمكن جعل الوجوب مشروطا بذلك القيد المتأخر لأنه بلا ملاك، هذا تمام
كلامنا في النقطة الأولى.
وأما الكلام في النقطة الثانية وهي أن الواجب المعلق هل هو داخل في
الواجب المشروط أو المطلق، أو لا هذا ولا ذاك، بل هو نوع ثالث من
الواجب في مقابل النوع الأول والثاني، ففيه وجوه والأظهر هو الوجه الثالث،
وذلك لما تقدم من أن الواجب المعلوم هو ما يكون الواجب مقيدا بقيد متأخر
غير اختياري والوجوب مطلقا وغير مقيد به فلهذا يكون نوعا ثالثا من
الواجب في مقابل النوعين الأولين، أما أنه في مقابل الأول فلأنه مباين له
ثبوتا واثباتا، أما ثبوتا فلأن قيده دخيل في ترتب الملاك عليه من دون كونه
دخيلا في اتصافه به، بينما هو في الواجب المشروط دخيل في اتصاف الفعل
بالملاك في مرحلة المبادئ، وأما إثباتا فلأنه في الواجب المعلق قيد للواجب
في هذا المقام، بينما هو في الواجب المشروط قيد للوجوب فيه، فإذن
يختلف الواجب المعلق عن الواجب المشروط ولا اشتراك بينهما، وأما أنه في
مقابل النوع الثاني، فلأن الواجب المعلق حصة خاصة وهو المقيد بقيد متأخر،
بينما الواجب المطلق مطلق من هذه الناحية وغير مقيد به
132

فالنتيجة أن الواجب المعلق على تقدير إمكانه نوع ثالث من الواجب في
الشريعة المقدسة هذا.
وهنا قولان آخران في المسألة:
أحدهما ما اختاره المحقق الخراساني (قدس سره) وهو أن الواجب المعلق قسم
من الواجب المطلق (1).
الثاني ما اختاره شيخنا الأنصاري (قدس سره) وهو أنه لا واقع لتقسيم الواجب
إلى أنواع ثلاثة:
المطلق والمشروط والمعلق، بل الواجب إما مطلق أو مشروط ولا ثالث
لهما (2).
أما القول الأول فقد أفاد المحقق الخراساني (قدس سره) في وجهه أن المعيار في
كون الواجب مطلقا هو فعلية وجوبه وإطلاقه في مقابل تقييده وإن كان
الواجب بنفسه مقيدا، والمعيار في كون الواجب مشروطا تقييد وجوبه
واشتراطه في مقابل إطلاقه وإن كان الواجب بنفسه مطلقا، فلا تنافي حينئذ
بين كون الواجب بنفسه مطلقا وغير مقيد بقيد ووجوبه مقيدا ومشروطا بشئ، كما
أنه لا تنافي بين كون الواجب مقيدا بقيد ووجوبه مطلقا وغير مشروط به، وعلى
هذا فالواجب المعلق من الواجب المطلق، لأن وجوبه مطلق وإن كان الواجب
مقيدا (3).
وأما القول الثاني فقد أفاد شيخنا الأنصاري (قدس سره) أن الواجب في الشريعة

(1) كفاية الأصول: ص 101.
(2) مطارح الأنظار: ص 51.
(3) كفاية الأصول: ص 102.
133

المقدسة لا يخلو إما أن يكون مطلقا وغير مشروط بشئ أو مشروطا به.
فعلى الأول هو الواجب المطلق وعلى الثاني هو الواجب المشروط ولا
ثالث في البين، ولهذا فلا وقع لهذا التقسيم (1) هذا.
وذكر السيد الأستاذ (قدس سره) تبعا لصاحب الكفاية أن مرد كلام الشيخ (قدس سره) إلى
إنكار الواجب المشروط على مسلك المشهور دون الواجب المعلق، حيث إنه (قدس سره)
يرى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وتعين رجوعه إلى مفاد المادة فيكون
مفاد الهيئة مطلقا، وهذا هو الواجب المعلق لأن وجوبه حالي والواجب استقبالي،
وعلى هذا فالواجب المشروط عند الشيخ (رحمه الله) هو الواجب المعلق عند صاحب
الفصول (قدس سره) دون الواجب المشروط عند المشهور (2).
وفيه أن هذا التوجيه غير سديد، وذلك لأن ملاك إنكاره رجوع القيد إلى
مفاد الهيئة في المسألة المتقدمة شئ وملاك إنكاره الواجب المعلق هنا شئ
آخر، أما الأول فقد تقدم هناك أن ملاك إنكاره أمران:
أحدهما: أن مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي حقيقي
والجزئي الحقيقي لا يقبل التقييد والتضيق، والآخر أن القيد يرجع إلى المادة لبا
دون الهيئة، ولكن هذا مختص بما إذا كان الوجوب مفاد الهيئة في القضية الشرطية
وتردد أمر الشرط بين رجوعه إلى مفاد الهيئة أو المادة، فإنه في مثل ذلك أنكر
رجوع الشرط إلى مفاد الهيئة، ومن الواضح أن معنى ذلك ليس إنكار الواجب
المشروط على مسلك المشهور مطلقا، لوضوح أنه لا ينكر تقييد الوجوب إذا كان
مفاد مادة الأمر أو مفاد مادة الوجوب أو كان الدليل عليه الاجماع أو العقل، فإنه

(1) مطارح الأنظار: ص 52.
(2) المحاضرات ج 2: ص 347 و 348.
134

في جميع هذه الصور معنى اسمي قابل للتقييد، ومن هنا لا يحتمل أنه (قدس سره) أنكر
الواجب المشروط في الشريعة المقدسة مطلقا كوجوب الحج المشروط
بالاستطاعة ووجوب الصلاة المشروط بالعقل والبلوغ والوقت وما شاكل ذلك
وهكذا، هذا إضافة إلى أن مفاد الهيئة لا يكون قابلا للتقييد مباشرة ولا مانع من
تقييد الوجوب المنتزع منه.
فالنتيجة أن انكار الشيخ (رحمه الله) رجوع القيد في القضية الشرطية إلى مفاد
الهيئة لا يدل على أنه أنكر الواجب المشروط في الشريعة المقدسة مطلقا،
فإذن لا يكون الشيخ (رحمه الله) من المنكرين للواجب المشروط على مسلك المشهور،
وأما إنكاره الواجب المعلق، فهو إنما يكون بملاك أنه لا يعقل نوع ثالث من
الواجب في مقابل الواجب المطلق والمشروط، وذلك لأن وجوب الواجب
المسمى بالمعلق لا يخلو إما أن يكون مطلقا وغير مقيد أو أنه مقيد بقيد الواجب،
فعلى الأول يكون من الواجب المطلق وعلى الثاني يكون من الواجب المشروط،
فلهذا قال (قدس سره) أنه لا وجه لتقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز في مقابل تقسيمه إلى
المطلق والمشروط (1).
فالنتيجة أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) تبعا للمحقق الخراساني من
التوجيه لكلام الشيخ (رحمه الله) في غير محله.
ثم أن للمحقق العراقي (قدس سره) في المقام كلاما وحاصله أن تقسيم الواجب
إلى الواجب المنجز والمشروط والمعلق صحيح، فإن هذه الواجبات جميعا
تشترك في نقطة واحدة وهي فعلية وجوبها، ويمتاز الواجب المشروط عن
المنجز والمعلق بأن الشرط فيه دخيل في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة

(1) مطارح الأنظار: ص 51.
135

المبادئ، فبينما القيد فيهما دخيل في ترتب الملاك في مرحلة الامتثال،
ويمتاز الواجب المنجز عن المعلق والمشروط بشرط متأخر بفعليته وجوبا
وواجبا، بينما الواجب المعلق بنفسه ليس بفعلي لأنه مقيد بقيد متأخر غير
اختياري وإن كان وجوبه فعليا، والواجب المشروط وجوبه غير فعلي ومنجز
لأنه مقيد بقيد متأخر وإن كان الواجب فعليا ومنجزا (1).
وذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن الواجب المعلق هو الواجب المشروط بالشرط
المتأخر، غاية الأمر أن الواجب المشروط بالشرط المتأخر قد يكون وجوبه
مشروطا بشرط متأخر دون الواجب، وقد يكون الواجب والوجوب معا مقيدا
ومشروطا به (2)، وغير خفي أن ما ذكره المحقق العراقي والسيد الأستاذ (قدس سرهما) مبني
على إمكان الواجب المعلق والواجب المشروط بالشرط المتأخر، ولكن قد تقدم
استحالة كل من الواجب المعلق والواجب المشروط بالشرط المتأخر هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الوجوب في
الواجب المعلق أيضا مقيد بقيد متأخر كالواجب فيكون القيد قيدا لهما معا،
مبني على أن يكون القيد المذكور دخيلا في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ أيضا، كما أنه دخيل في ترتب الملاك عليه في الخارج، وأما إذا كان
الاتصاف بالملاك في تلك المرحلة مطلقا وغير مقيد بالقيد المذكور في الواقع،
فعندئذ لا موجب لتقييد وجوبه به فإنه بلا ملاك وموجب، وأما إطلاقه تبعا
لاطلاق ملاكه فهو لا يمكن، لأن لازم اطلاقه تحريك المكلف نحو فعل مقيد

(1) نهاية الأفكار ج 1: ص 303.
(2) المحاضرات ج 2: ص 349.
136

بقيد غير مقدور وهو من التكليف بالمحال، فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره)
على تقدير إمكان الشرط المتأخر لا يتم مطلقا.
ومن ناحية ثالثة قد مر أن الواجب المعلق على تقدير إمكانه نوع آخر
من الواجب في الشريعة المقدسة في مقابل الواجب المطلق والمشروط.
ومن ناحية رابعة أن دفع محذور التكليف بالمحال لا يصلح أن يكون
مبرر التقييد الوجوب أيضا بالقيد المتأخر، فإن ملاكه إذا كان مطلقا فهو لا
يقتضي جعله مشروطا، وأما جعله مطلقا فالمقتضى له وإن كان موجودا في
الواقع إلا أنه يستلزم التكليف بالمحال، فإذن لا يمكن جعله لا مطلقا ولا
مقيدا بقيد متأخر.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتيجة التالية:
وهي أن الواجب المعلق على تقدير إمكانه نوع ثالث من الواجب في
الشريعة المقدسة في مقابل الواجب المشروط والواجب المطلق، ويمتاز عن
الأول في نقطة وهي أن القيد في الواجب المشروط قيد للاتصاف والوجوب
بينما يكون في الواجب المعلق قيدا للترتب والواجب، ويمتاز عن الواجب
المطلق في نقطة وهي أن الواجب المطلق غير مقيد بقيد استقبالي بينما الواجب
المعلق مقيد به، وبذلك يظهر أن ما ذكره شيخنا الأنصاري والمحقق الخراساني (قدس سرهما)
من أنه داخل في الواجب المطلق وفرد من أفراده، لأن المعيار فيه ما يكون
وجوبه فعليا سواء أكان الواجب أيضا كذلك أم لا، غير تام.
وأما النقطة الثالثة فعلى تقدير إمكان الواجب المعلق، فما هو فائدة هذا
الواجب المترتبة عليه في الفقه، ونستعرض فائدته في ضمن البحوث القادمة
ان شاء الله تعالى هذا تمام الكلام في البحث عن الواجب المعلق والمنجز.
137

بحوث
فيها أمران:
الأمر الأول
في وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب، والاشكال
فيه أنه كيف يمكن تبرير هذا الوجوب مع أن وجوب المقدمة يترشح من
وجوب ذيها ولا يعقل وجوبها قبل وجوبه.
ومن أجل حل هذا الاشكال ودفعه قام الأصوليون بعدة محاولات:
المحاولة الأولى: الالتزام بالواجب المعلق في الموارد المذكورة فيكون
الوجوب فعليا من أول الأمر والواجب استقباليا، وحينئذ فلا مانع من ترشح
الوجوب على مقدماته قبل وقته، لأن مسؤولية المكلف أمام المقدمات منوطة
بفعلية الوجوب سواء أكان الواجب فعليا أيضا أم لا ولا ترتبط بفعلية الواجب،
فإذا فرض أن الحج من الواجب المعلق فيكون وجوبه حاليا يبدأ من حين
تحقق الاستطاعة، فعندئذ بطبيعة الحال يجب على المكلف توفير جميع
المقدمات التي يتوقف الاتيان بالحج عليها في وقته ولا يجوز له التسامح
138

والتساهل أمام تلك المقدمات، فإن تفويتها الموجب لتفويت الحج في ظرفه
موجب لاستحقاق العقوبة بقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
والخلاصة أن الحج لو كان من الواجب المعلق، كان وجوبه فعليا،
ومقتضى فعليته وجوب الاتيان بتمام مقدماته المفوتة قبل دخول وقته،
وكذلك إذا فرض أن الصوم واجب معلق، فإن وجوبه فعلي منذ رؤية الهلال،
ومقتضى فعليته منذ الليل وجوب الاتيان بتمام مقدماته قبل الفجر كالغسل من
الجنابة أو الحيض أو النفاس وهكذا.
والجواب: أن هذه المحاولة مبنية على توفر أمرين:
الأول: القول بإمكان الواجب المعلق.
الثاني: أن لا يكون قيد الواجب قيدا للوجوب أيضا وإلا لم يكن
وجوبه مطلقا، ولكن كلا الأمرين غير متوفر.
أما الأمر الأول فلما تقدم من استحالة الواجب المطلق.
وأما الأمر الثاني فلأنه مبني على أن قيد الواجب كما أنه قيد لترتب
الملاك عليه في مقام الامتثال كذلك قيد لاتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ، فعلى الأول قيد للواجب وعلى الثاني للوجوب، وحينئذ فإن كان
الاتصاف مقيدا به بنحو القيد المقارن فلا وجوب قبل تحققه لكي يجب الاتيان
بالمقدمات قبل ذلك، فإذن ظل الإشكال بلا حل، وإن كان مقيدا به بنحو القيد
المتأخر، فقد تقدم أنه مستحيل.
المحاولة الثانية ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من الالتزام بالواجب
المشروط بالشرط المتأخر، بتقريب أن وجوبه مشروط بالقيد الاستقبالي من
زمان أو زماني بنحو الشرط المتأخر فيكون وجوبه فعليا، فإذا كان فعليا كان
المكلف مسؤولا أمام المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب على أساس أنه ليس
139

بمقدوره الاتيان بها بعد الوقت، فإذن لا مانع من ترشح الوجوب على تلك
المقدمات التي لا يقدر عليها بعد الوقت (1).
والجواب: أن هذه المحاولة مبنية على إمكان الشرط المتأخر، وقد تقدم
أنه لا يمكن أن يكون الوجوب بتمام مراحله من مرحلة الاتصاف إلى مرحلة
الجعل مشروطا بشرط متأخر لاستحالة تأثير المتأخر في المتقدم هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن وجوب المقدمة إنما هو من أثر فعلية فاعلية
وجوب ذيها لا من أثر فعلية الوجوب نفسه، فإن فعليته إنما هي بنفس الجعل
والاعتبار وليست له فعلية أخرى، وبتحقق موضوعه وشرطه في الخارج يصبح
فاعلا ومحركا بالفعل، وعلى هذا فالوجوب إذا كان مشروطا بشرط متأخر، فإنه
وإن كان فعليا قبل تحقق شرطه إلا أن فعليته إنما هي بالجعل والاعتبار فحسب في
عالم الذهن ولا أثر لها، وإن الأثر إنما هو لفعلية فاعليته ومحركيته وهي إنما
تكون بفعلية موضوعه وشرطه في الخارج، وحينئذ فإذا تحقق شرطه في الخارج
في ظرفه أصبحت فاعليته فعلية، ومن الواضح أن وجوب المقدمة، إنما هو من
أثر فعلية فاعلية وجوب ذيها ومن شؤونها لا من أثر وجوده بالجعل والاعتبار.
المحاولة الثالثة: أنه لا مانع من وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل
وقت الواجب على مسلك الشيخ الأنصاري (قدس سره) بتقريب، أن القيود والشروط
جميعا على مسلكه ترجع إلى الواجب والوجوب مطلق، فإذا كان الوجوب
مطلقا وفعليا فمقتضاه وجوب الاتيان بجميع المقدمات التي لا يتمكن المكلف

(1) كفاية الأصول: ص 93.
140

من الاتيان بها في وقت الواجب (1).
والجواب: أولا أن الشيخ (قدس سره) لا ينكر الواجب المشروط في الشريعة
المقدسة نهائيا، فإذا كان هناك دليل على أن الوجوب مشروط بشرط دون
الواجب فهو ملتزم به، لأن الوجوب معنى اسمي قابل للتقييد كما أنه قابل
للاطلاق، وأما الدليل اللبي فإنه إنما أخذ به إذا لم يكن هناك دليل على خلافه،
لأنه إنما يقتضي رجوع القيد إلى المادة بحسب الطبع الأولي لا مطلقا.
وثانيا أن هذا المسلك غير صحيح كما تقدم.
المحاولة الرابعة: أن وجوب المقدمات المفوتة وجوب نفسي تهيئ وليس
معلولا لوجوب ذيها لكي يقال باستحالة وجود المعلول قبل وجود علته، أما أنه
تهيئ من أجل أن الذي دعا المولى إلى إيجاب تلك المقدمات قبل وقت الواجب
هو تهيؤ المكلف وتمكنه من الاتيان بالواجب في وقته، فإن اهتمام المولى
بمصلحة الوقت والحفاظ عليها وعدم جواز تفويتها في كل حال أدى إلى ايجابها
قبل الوقت، فلذلك يكون وجوبها تهيئيا، وأما أنه نفسي فمن أجل أنه لم ينشأ من
إيجاب ذيها.
والجواب: أن هذه المحاولة وإن كانت ممكنة ثبوتا إلا أن إثباتها بحاجة
إلى دليل ولا دليل عليها، لأن ظاهر الأدلة في مسألة الحج والصيام ونحوهما
أن وجوب هذه المقدمات وجوب غيري لا نفسي بل لا يحتمل أن يكون
نفسيا.
المحاولة الخامسة: أن الواجب منذ الغروب في باب الصوم ليس هو
الصوم الاستقبالي في النهار الذي هو أمر واحد، بل الواجب هو سد باب عدم

(1) مطارح الأنظار: ص 53.
141

الصوم في النهار منذ الليل، وهذا السد واجب طول هذه الفترة الزمنية
ومشروطا بالقدرة عليه، فإذا كان المكلف قادرا عليه في طول هذه الفترة
بالقدرة التدريجية فعلا، كان وجوبه فعليا كما هو الحال في كل واجب
تدريجي، وعندئذ فلا مانع من ترشح الوجوب منه على مقدماته كالغسل من
الجنابة في الليل وقبل الفجر ومن الحيض أو النفاس، أو فقل أن سد باب عدم
الصوم في النهار منذ الليل واجب واحد وإن كان العدم متعددا بتعدد أسبابه،
منها عدم غسل الجنابة قبل الفجر ومنها عدم غسل الحيض كذلك وهكذا، إلا
أن هذه الاعدام واجبة بوجوب واحد ومنه يترشح على مقدماته.
والجواب: أولا أن هذه المحاولة مبنية على استحالة الواجب المعلق
والمشروط بالشرط المتأخر معا، وإلا فلا يصل الدور إلى هذه المحاولة.
وثانيا أن هذه المحاولة لو تمت فإنما تتم فيما إذا كان طلوع الفجر من
شروط الترتب فحسب دون الاتصاف بمعنى أن الصوم كان متصفا بالملاك منذ
رؤية الهلال، وعندئذ فوجوب سد باب عدم الصوم في النهار منذ الغروب
يكون على القاعدة، لأن اتصافه بالملاك فعلا وقبل الفجر يقتضي ذلك.
وثالثا أن الصوم مثلا لو كان متصفا بالملاك منذ الليل ولا يكون الفجر
شرطا له وإنما يكون شرطا للترتب فحسب، فمعناه أن ملاكه مطلق وثابت
منذ رؤية الهلال، وحينئذ فيستقل العقل بالحفاظ عليه وعدم جواز تفويته
بترك المقدمات المفوتة، فيكون وجوب سد باب العدم حينئذ غيري مقدمي
من أجل الحفاظ على الملاك الملزم الفعلي في الصوم لا نفسي، ولا يمكن أن
يكون وجوبه نفسيا لا في باب الصوم ولا في باب الحج ولا غيرهما.
أما في باب الصوم فهنا صنفان من الدليل:
142

الصنف الأول: الآية الشريفة (من شهد منكم الشهر فليصمه) (1) فإنها
بضميمة الروايات التي تنص على وجوب الصوم عند الرؤية، ظاهرة في أن
وجوب الصوم يتحقق منه بشهود الهلال، وحيث إنه لا يمكن أن يكون بنحو
الواجب المعلق ولا الواجب المشروط بشرط متأخر لاستحالتهما معا كما مر،
فإذن لابد من أن يراد منها أنها في مقام بيان جعل وجوب الصوم بعد طلوع الفجر
من الآن، أي منذ شهود الهلال في الليل فيكون الجعل منذ ذلك الآن، وأما
المجعول بمعنى فعليته بفعلية موضوع في الخارج فهو بعد الطلوع، ونتيجة ذلك أن
الفجر كما أنه شرط للواجب ودخيل في الترتب كذلك شرط لفعلية الوجوب
ودخيل في الاتصاف، فالنتيجة أن هذا الصنف لا يدل على أن سد باب عدم
الصوم واجب نفسي بل لا إشعار فيه على ذلك فضلا عن الدلالة والظهور، كما أنه
لا يدل على وجوب السد بوجوب غيري، لأنه أثر فعلية فاعلية وجوب ذي
المقدمة لا من أثر فعلية نفسه بفعلية الجعل.
الصنف الثاني: الروايات التي تنص على وجوب الغسل على الجنب أو
الحائض أو النفساء قبل طلوع الفجر، ولا يجوز له أن ينام قبل الغسل إذا لم
تكن من عادته الاستيقاظ قبل الفجر في وقت يتمكن من الغسل فيه (2)، فإن هذه
الروايات تدل على أن وجوب الغسل وجوب مقدمتي لا نفسي وأنه شرط لصحة
الصوم، بمعنى أن المأمور به حصة خاصة منه وهي الصوم المقيد بغسل الجنابة أو
الحيض أو النفاس، بحيث يكون التقيد به جزئه والقيد خارج، غاية الأمر أن

(1) سورة البقرة: 185.
(2) لاحظ الوسائل ج 7: ص 42 ب 16 من ما يمسك عنه الصائم، وص 47 ب 21 من ما
يمسك عنه الصائم.
143

قيديته مختصة بحال العمد والالتفات، لأن المانع عنه الاصباح جنبا عامدا وملتفتا
لا مطلقا، فإذن لا محالة يكون وجوب الغسل وجوب غيري لأنه من المقدمات
الوجودية التي يتوقف وجود الواجب عليها ولا يحتمل أن يكون وجوبه وجوبا
نفسيا.
هذا إضافة إلى أن سد تمام أبواب عدم الواجب كالصوم مثلا مفهوم
منتزع من الأمر به مقيدا بقيود ومشروطا بشروط سواء أكانت متقدمة أم
مقارنة أم متأخرة، فإن امتثال هذا الواجب يتوقف على سد جميع أبواب العدم
من ناحية قيوده وشروطه بلا فرق بين المتقدمة والمقارنة والمتأخرة في ذلك،
فإذن ليس سد باب العدم متعلقا للتكليف بل العقل يحكم بهذا السد من باب
حكمه بلزوم الطاعة والامتثال فيكون من شؤون حكمه في ذلك الباب،
فالنتيجة أن الصنف الأول لا يدل على وجوب سد أبواب العدم لا بوجوب
نفسي ولا غيري، وأما الصنف الثاني فهو يدل على وجوبه بوجوب غيري،
وأما في باب الحج فهنا أيضا صنفان من الدليل:
الصنف الأول: الآية الشريفة: (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) (1) فإنها بضميمة الروايات التي تنص على شرطية الاستطاعة ظاهرة
في تحقق وجوب الحج عند تحقق الاستطاعة (2)، وهو مبني إما على القول
بالواجب المعلق أو على القول بالواجب المشروط بالشرط المتأخر، ولكن قد
تقدم استحالة كلا القولين معا وأنه ليس بامكان المولى الخطاب فعلا إذا كان
الواجب متأخرا أو شرطه كذلك، وعلى هذا فلابد من حمل الآية على أنها في

(1) سورة آل عمران: 97.
(2) راجع الوسائل ج 8: ص 3 ب 1 من وجوب الحج وشرائطه.
144

مقام تشريع وجوب الحج وجعله على المستطيع في ظرفه، فيكون زمان الجعل
متقدما ومنذ الاستطاعة وزمان المجعول بمعنى فعلية الحكم بفعلية موضوعه في
الخارج متأخر، وعليه فلا يكون وجوب الحج فاعلا ومحركا نحوه قبل أن يدخل
وقته، إذ لا أثر لوجوده الانشائي الاعتباري في عالم الاعتبار والذهن ما لم
يتحقق موضوعه بتمام قيوده في الخارج.
فالنتيجة أن هذا الصنف لا يدل على وجوب سد جميع أبواب عدم الحج
بوجوب نفسي بل لا إشعار فيه فضلا عن الدلالة، لأن الحاكم بذلك إنما هو
العقل من باب حكمه بلزوم الامتثال والإطاعة وهو لا يمكن إلا بسد تمام
أبواب العدم، فلا يمكن أن يكون وجوبه شرعيا كما أنه لا يدل على وجوبه
بوجوب غيري.
الصنف الثاني: الروايات التي تدل على أنه يجب على المستطيع أن يقوم
بتوفير جميع المقدمات التي يتوقف الاتيان بالحج عليها كتهيئة الزاد والراحلة
وغيرهما (1) من المقدمات، فإن هذه الروايات ظاهرة في أن وجوب الاتيان بتلك
المقدمات وجوب غيري لا نفسي بل لا إشعار فيها على ذلك فضلا عن الدلالة،
كما أنه لا إشعار فيها على وجوب سد باب العدم بوجوب نفسي، هذا إضافة إلى ما
أشرنا إليه آنفا من أن مفهوم سد باب العدم مفهوم انتزاعي منتزع من الأمر بشئ
مقيدا بقيود، فإن العقل في مثل ذلك يحكم بلزوم سد باب الاعدام من ناحية قيود
الواجب وشروطه من باب حكمه بلزوم الإطاعة، إلى هنا قد استطعنا أن نخرج
بهذه النتيجة وهي أن الصنف الأول لا يدل على وجوب سد تمام أبواب العدم لا
بوجوب نفسي ولا غيري بل الحاكم به العقل في ظرف الامتثال، وأما الصنف

(1) راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحج وشرائطه.
145

الثاني فهو يدل على وجوب مصداقه وهو المقدمات المفوتة بوجوب غيري
الكاشف عن تمامية ملاك الواجب في وقته من ناحية هذه المقدمات على تفصيل
يأتي في ضمن البحوث الآتية.
المحاولة السادسة: التي سنشير إليها الآن وهي العمدة في المسألة، فإنها
تبرر مسؤولية المكلف أمام المقدمات المفوتة والزامه بتوفيرها والاتيان بها قبل
وقت الواجب وتعالج مشكلة المسألة على كافة النظريات الأصولية العامة دون
المحاولات المتقدمة، فإنها لا تعالج المشكلة إلا على ضوء بعض النظريات دون
بعضها الآخر.
أما المحاولة الأولى، فهي تعالج المشكلة على ضوء نظرية القائل بامكان
الواجب المعلق ولا تدفع على ضوء نظرية القائل باستحالة الواجب المعلق.
وأما المحاولة الثانية، فهي تعالج المشكلة على ضوء نظرية القائل
بامكان الواجب المشروط بالشرط المتأخر ولا تعالجها على ضوء نظرية
القائل بامتناع ذلك.
وأما المحاولة الثالثة، فهي تعالج المشكلة على ضوء نظرية القائل بأن
القيود جميعا قيود للواجب دون الوجوب، فإنه مطلق ولا تدفعها على ضوء
نظرية القائل بأن القيود تختلف فمنها للواجب ومنها للوجوب.
وأما المحاولة الرابعة فهي تعالج المشكلة على ضوء نظرية القائل بأن
وجوب المقدمات المفوتة قبل دخول وقت الواجب وجوب نفسي تهيئ لا
مطلقا.
وأما المحاولة الخامسة فهي تعالج المشكلة على ضوء نظرية القائل بأن
الواجب هو سد تمام أبواب عدم الواجب منذ رؤية الهلال في باب الصوم ومنذ
تحقق الاستطاعة في باب الحج لا مطلقا. وهذه بخلاف هذه المحاولة، فإنها
146

تدفع الإشكال على مستوى كافة النظريات الأصولية وجميع الأقوال في
المسألة، بيان ذلك أنه ينبغي قبل الخوض في المسألة تقديم مقدمة، وهي أن
الواجبات الشرعية جميعا مشروطة بالقدرة ويمكن تقسيم تلك الواجبات على
ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية، ونقصد بالقدرة العقلية
أنها غير دخيلة في ملاك الحكم وهو اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة
المبادئ.
ونتيجة ذلك أن الفعل تام الملاك سواء أكان المكلف قادرا عليه أم
عاجزا، ومن هنا إذا أدرك العقل أن ملاكه تام في ظرفه، استقل بلزوم الاتيان
بجميع المقدمات التي يتوقف استيفاء هذا الملاك عليها ولا يجوز التسامح
والتساهل فيها بحيث يؤدي إلى تفويت الملاك الملزم في ظرفه، ولا فرق في
ذلك بين المقدمات الخارجية والمقدمات الداخلية.
القسم الثاني ما هو مشروط بالقدرة الشرعية المطلقة، ونقصد بالقدرة
الشرعية أنها مأخوذة في لسان الدليل في مرحلة الجعل من قبل الشرع فيكون
حالها حال سائر القيود المأخوذة فيه في هذه المرحلة، فكما أن تلك القيود
ظاهرة في أنها قيود للحكم في مرحلة الجعل ولإتصاف الفعل بالملاك في
مرحلة المبادئ، فكذلك القدرة الشرعية، فإنها ظاهرة في أنها قيد للحكم في
هذه المرحلة ولإتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ، وهذا بخلاف
القدرة العقلية، فإنها غير مأخوذة في لسان الدليل شرعا، لأن الحاكم بها إنما
هو العقل بملاك قبح تكليف العاجز، وحيث إنه لا طريق للعقل إلى ملاكات
الأحكام الشرعية، فلا يحكم بأنها دخيلة في اتصاف الفعل بالملاك.
ونقصد بالمطلقة أن الدخيل في اتصاف الفعل بالملاك القدرة المطلقة في
147

مقابل القدرة الخاصة وهي القدرة في ظرف الواجب، ونتيجة ذلك أنه لا يجب
على المكلف تحصيل القدرة لا قبل دخول الوقت ولا بعد دخوله، نعم إذا كان
قادرا قبل الوقت ولو من جهة قدرته على الاتيان بالمقدمات المفوتة، فيجب
عليه التحفظ على قدرته ولا يجوز له تفويتها بعدم الاتيان بتلك المقدمات،
لأن تفويتها تفويت الملاك الملزم في ظرفه فلا يجوز.
القسم الثالث: ما هو مشروط بالقدرة الخاصة وهي القدرة على الواجب
بعد دخول وقته، وهذه القدرة هي الدخيلة في الملاك لا القدرة المطلقة. ونتيجة
ذلك أنه لا يجب على المكلف تحصيل القدرة قبل الوقت وإن علم بأنه لو لم يقم
بتحصيلها من الآن لم يتمكن منه بعد الوقت، وحينئذ فإن تمكن منه بعد الوقت فهو
، وإلا فلا وجوب ولا ملاك.
فالنتيجة أن الواجبات الشرعية بلحاظ اشتراطها بالقدرة تقسم إلى هذه
الأقسام الثلاثة بحسب مقام الثبوت، ولا إشكال فيها في هذا المقام.
وإنما الكلام في الدليل على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة في مقام
الاثبات، أما القسم الأول فهو مختص بالواجبات التي لم يؤخذ القدرة في
لسان أدلة جعلها في الشريعة المقدسة، وعليه فلا تدل أدلتها على أنها دخيلة
في ملاكاتها في مرحلة المبادئ.
فإذن بطبيعته الحال يكون الحاكم بها العقل من باب قبح تكليف العاجز،
وحيث إنه لا طريق للعقل إلى ملاكاتها في الواقع، فلذلك لا يحكم بأنها دخيلة
فيها، وعلى ذلك فإن أحرز أن ملاكاتها مطلقة وغير مقيدة بشئ في الواقع،
فيستقل العقل بلزوم الحفاظ عليها وعدم جواز تفويتها ولو بترك المقدمات
المفوتة قبل ظروف امتثالها، فإذن لابد من توفير جميع هذه المقدمات وعدم
جواز التسامح والتساهل فيها الموجب لتفويت الواجب بما له من الملاك الملزم
148

في ظرفه، فإذا علم المكلف أن حفظ نفسه بعد شهر مثلا يتوقف على توفير
مقدمات والاتيان بها من الآن، استقل العقل بلزوم توفيرها والاتيان بها قبل
شهر لكي لا يفوت الواجب بعده، وكذلك إذا علم أن حفظ الإسلام في
المستقبل يتوقف على الاتيان بمقدمات من الآن، حكم العقل بوجوب الاتيان
بها لكي لا يفوت الواجب في ظرفه وهكذا.
وأما القسم الثاني فهو مختص بالواجبات التي قد أخذ القدرة المطلقة في
لسان أدلة جعلها في الشريعة المقدسة، فلذلك يختلف هذا القسم عن القسم
الأول ثبوتا وإثباتا، أما ثبوتا فلأن القدرة في هذا القسم دخيلة في الملاك في
مرحلة المبادئ بينما القدرة في القسم الأول غير دخيلة فيه، وأما إثباتا فلأن
القدرة في هذا القسم مأخوذة في لسان الدليل بينما القدرة في القسم الأول غير
مأخوذ في لسان الدليل، ولكن كون المأخوذ فيه القدرة المطلقة بحاجة إلى
دليل، وبذلك يظهر حال القسم الثالث أيضا، هذا تمام كلامنا حول المقدمة
وبعد ذلك يقع الكلام في المسائل:
الأولى: في حكم المقدمات المفوتة في باب الحج.
الثانية: في حكم المقدمات المفوتة في باب الصوم.
الثالثة: في حكم المقدمات المفوتة في باب الصلاة ونحوها.
أما الكلام في المسألة الأولى فيمكن إثبات وجوب المقدمات المفوتة في
باب الحج بأحد أمور:
الأول: أن آية الاستطاعة بضميمة سائر الأدلة الدالة على أن حجة التمتع
من حجة الإسلام مجعولة على النائي، تستبطن أن ملاكه تام في مرحلة
المبادئ في وقته من قبل مقدماته المفوتة بعد الاستطاعة وإن قلنا باستحالة
الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، إذ لا يمكن أن تكون القدرة
149

المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة عليه في وقته، ضرورة أن لازم ذلك
جواز ترك الحج في وقته للنائي، إذ لا يجب عليه تحصيل القدرة من قبل
المقدمات المفوتة قبل الوقت لعدم الملاك له، وأما بعد الوقت فهو عاجز عنه،
فإذن لا يفوت عنه شئ لا قبل الوقت لعدم الملاك له ولا بعده لأنه مشروط
بالقدرة ولا قدرة عليه.
ودعوى أن هذه الأدلة تدل بالمطابقة على وجوب الحج عند الاستطاعة
وبالالتزام على ثبوت ملاكه في الواقع واتصافه به، وعليه فإذا سقطت دلالتها
المطابقية على الوجوب من جهة استحالة الواجب المطلق أو المشروط
بالشرط المتأخر، سقطت دلالتها الالتزامية أيضا، لأنها تابعة لها حدوثا وبقاء
فلا يعقل بقائها بعد سقوط الدلالة المطابقية، لأنه بمثابة بقاء المعلول بعد
سقوط العلة.
مدفوعة بأن دلالة هذه الأدلة على أن ملاكه تام من قبل المقدمات
المفوتة ليست بالالتزام لكي يقال أنها سقطت بسقوط الدلالة المطابقية، بل من
جهة أن ضم الأدلة الدالة على أن حجة التمتع من حجة الإسلام مجعولة على
النائي إلى أدلة الاستطاعة كالآية الشريفة وغيرها، يدل على أن ملاكه تام بعد
الاستطاعة من قبل المقدمات المفوتة، وأن القدرة المعتبرة فيه قدرة مطلقة
وهي القدرة من قبل تلك المقدمات قبل وقت الواجب، وإلا كان وجوبه على
النائي لغوا، إذ حينئذ يجوز له ترك الحج اختيارا بدون أن يكون مسؤولا أمام
الله تعالى حيث لم يفت منه شئ، إذ لا ملاك له قبل وقته لأنه مشروط به، ولا
بعده لأنه مشروط بالقدرة عليه ولا قدرة بعده.
والخلاصة أن نفس الأدلة التي تنص على وجوب حج التمتع من حجة
الإسلام على النائي عند استطاعته قرينة واضحة على أن ملاكه تام من هذا
150

الحين، فيحكم العقل بوجوب الحفاظ عليه بالاتيان بجميع المقدمات التي
يتوقف الاتيان بالحج عليها في وقته وهي المقدمات المفوتة، وهذا معنى أن
القدرة المعتبرة فيه قدرة مطلقة لا قدرة خاصة، ومن الواضح أن دلالة هذه
الدلالة لا تتوقف على القول بإمكان الواجب المطلق أو المشروط بالشرط
المتأخر، فإنه وإن كان لا يمكن للمولى الخطاب بالحج فعلا بنحو الواجب
المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر، إلا أنه يمكنه الإشارة إلى فعلية الملاك
والإرادة وتماميتهما ولو بنحو الإخبار.
الثاني: الروايات التي تنص على أن المكلف إذا استطاع، وجب عليه أن
يقوم بتوفير جميع متطلبات السفر إلى الحج (1) من المقدمات، ظاهرة بل ناصة
على أن ملاك الحج تام في ظرفه، فلهذا يجب الاتيان بجميع المقدمات التي
يتوقف استيفاء الملاك عليه قبل وقت الواجب، وإلا لفات الملاك عنه في ظرفه
وهو لا يجوز، لأنه تفويت بالاختيار، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
الثالث: أن حج التمتع من حجة الإسلام عمل مركب من جزئين طوليين
مرتبطين، الأول عمرة التمتع من حجة التمتع، ويدخل وقت هذا العمل
المركب منذ دخول شهر شوال ويستمر إلى آخر ذي الحجة، وعليه فوجوبه
فعلى من بداية هذا الشهر تدريجا إلى أن يفرغ المكلف عن العمل كاملا شريطة
القدرة عليه كذلك كما هو الحال في جميع الواجبات المركبة من الأجزاء
الطولية، وقد تقدم سابقا أن إناطة وجوب الجزء الأول بالقدرة على الجزء
الأخير ليس من الواجب المشروط بالشرط المتأخر، لأن وجوب مجموع هذه
الأجزاء الطولية وجوب واحد طولا ومشروط بالقدرة الواحدة كذلك، فإذن لا

(1) راجع الوسائل ج 8: ص 21 ب 8 من وجوب الحج.
151

موضوع للمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب منذ دخول أشهر الحج، نعم لا
يجب عليه تحصيل المقدمات قبل أشهر الحج إذا كان مستطيعا إلا إذا توقف
الاتيان بالحج على تحصيل تلك المقدمات قبل أشهر الحج، فحينئذ يجب
بنفس الملاك المتقدم في الأمر الأول.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أن المستفاد من
مجموع هذه الأدلة أن القدرة المعتبرة في اتصاف الحج بالملاك في مرحلة
المبادئ قدرة مطلقة وهي القدرة من قبل المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب.
وأما الكلام في المسألة الثانية، وهي مسألة وجوب المقدمات المفوتة في
باب الصوم، فيقع فيها تارة في الأدلة الواردة في مقام تشريع الصيام عند رؤية
الهلال وأخرى في الروايات الدالة على وجوب الغسل على الجنب قبل الفجر
وبطلان الصوم باصباحه جنبا عامدا وملتفتا.
أما الكلام في الأولى، فظاهر الآية الشريفة وهي قوله تعالى (من شهد
منكم الشهر فليصمه) (1) وكذلك الروايات التي تنص على وجوب الصوم عند
رؤية الهلال، أن وجوب الصوم يتحقق منذ رؤية الهلال، فإذن بطبيعة الحال يكون
ثبوته إما بنحو الواجب المعلق أو الواجب المشروط بالشرط المتأخر، وحيث إن
كليهما مستحيل كما تقدم، فإذن لابد من التصرف في هذه الأدلة، أما في الآية
الشريفة فلأنها في مقام تشريع وجوب الصوم مطلقا على شهود الشهر الذي هو
كناية عن رؤية الهلال، وأما أن الصوم واجب من الآن أو من الفجر، فالآية ليست
في مقام البيان من هذه الناحية، فإنها تدل على أن من شهد منكم الشهر فليصمه،
إما أنه يصمه من الآن أو من الفجر، فالآية لا تدل على شئ من ذلك لأنها ليست

(1) سورة البقرة: 185.
152

في مقام البيان من هذه النواحي وإنما هي في مقام أصل تشريع صوم شهر
رمضان، فإذن إرادة كل من هذه الخصوصيات بحاجة إلى دليل خارجي،
ومقتضى الدليل الخارجي أنه واجب منذ طلوع الفجر، وعليه فتشريع الوجوب
وجعله من الليل يكون للصوم بعد الفجر فيكون الجعل والتشريع من الآن وفعلية
المجعول منذ الفجر بفعلية موضوعه، وعلى هذا فيكون زمان الواجب وزمان فعلية
الوجوب واحد وهو يبدأ من الفجر، وزمان الجعل والتشريع متقدم، ومع
الاغماض عن ذلك وتسليم أن الآية ظاهرة في أن وجوب الصوم فعلي منذ الرؤية
وزمان الواجب متأخر، فلابد من رفع اليد عن ظهورها في ذلك وحملها على ما
ذكرناه، ومن هنا يظهر أن الآية كما لا تدل على أن الوجوب من الآن كذلك لا تدل
على أن الاتصاف بالملاك كذلك، على أساس أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة
المطابقية، وأما الرواية الآمرة بالصوم عند الرؤية، فهي أيضا في مقام تشريع
وجوب صوم شهر رمضان وليست في مقام بيان أنه واجب من الآن أو من الغد،
فحالها حال الآية الشريفة من هذه الناحية حرفا بحرف.
فالنتيجة أن أدلة التشريع من الآية والروايات لا تدل على أن وجوب
الصوم ثابت منذ الليل حكما وملاكا.
وأما الكلام في الثانية وهي الروايات التي تدل على وجوب الغسل على
الجنب في ليالي شهر رمضان قبل طلوع الفجر ولا يجوز له أن يصبح جنبا
متعمدا وإلا لكان صومه باطلا (1)، فمفاد هذه الروايات إرشاد إلى شرطية حصة
خاصة من الغسل في الليل للصوم منذ الفجر وأنها شرط وقيد له ودخيل في ترتب
الملاك عليه، ونتيجة هذا أن الواجب حصة خاصة من الصوم وهي الصوم المقيد

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 90.
153

بالغسل من الجنابة أو الحيض أو النفاس قبل طلوع الفجر، بحيث يكون التقيد به
جزئه وداخلا فيه والقيد خارجا كما هو الحال في سائر القيود للواجب، غاية
الأمر أن الغسل من القيد المتقدم، وعليه فالواجب على المكلف هذه الحصة من
الصوم وهي مقدورة له من جهة قدرته على الغسل في الليل، ولا مانع من ترشح
الوجوب من هذه الحصة إليه لفرض أنه تعلق بها، فإذا كان التقيد بالغسل قبل الفجر
جزء الصوم ومتعلق الوجوب، فلا مانع من ترشحه إلى الغسل، لأن وجوب الغسل
حينئذ لا يكون متقدما على وجوب الصوم زمنا، فإذن وجوب الغسل من الجنابة
أو الحيض قبل الفجر يكون على القاعدة ومعلولا لوجوب الصوم ومترشحا منه
على تقدير القول بأن وجوب المقدمة معلول ومترشح من وجوب ذيها ولا يكون
ذلك من تقدم وجوب المقدمة على وجوب ذيها، فإن ذلك ناشئ من تخيل أن
متعلق الوجوب الصوم منذ الفجر مع أن الأمر ليس كذلك، لأن متعلقه الصوم المقيد
بالغسل من الجنابة أو الحيض قبل الفجر، فإذن لا مانع من الترشح ولا محذور فيه،
وإن شئت قلت أن المستفاد من روايات المسألة هو أن المانع من الصوم الاصباح
جنبا متعمدا، وحيث إن عدم المانع قيد للواجب وهو في المقام متمثل في الغسل
من الجنابة، فيكون الغسل منها قبل الفجر قيدا للصوم، هذا إضافة إلى أن هذه
الروايات تكفي للدلالة على أن ملاك الصوم تام في ظرفه، فمن أجل ذلك يجب
توفير المقدمات المفوتة قبل وقت الواجب، أو فقل أن هذه الروايات تدل على أن
القدرة المعتبرة في الصوم قدرة مطلقة وهي القدرة من قبل المقدمات المفوتة قبل
وقت الواجب، فلذلك يجب على المكلف تحصيل هذه القدرة بالاتيان بهذه
المقدمات من الليل وقبل الفجر، وليس القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي
القدرة عليه بعد الفجر، وإلا فلا موجب لايجاب الغسل من الجنابة أو الحيض في
الليل وقبل طلوع الفجر ولا مبرر له أصلا، فإذن وجوبه يكشف عن تمامية ملاكه
154

في ظرفه منذ دخول الشهر، وأما عدم فعلية وجوبه، فإنما هو من جهة استحالة
الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر، وحينئذ وإن لم يكن بامكان المولى
الخطاب فعلا إليه بنحو الواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر، ولكن
بامكانه الإشارة إلى تمامية ملاكه في ظرفه بلسان هذه الروايات.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أن وجوب الغسل من الجنابة
أو الحيض وجوب مقدمي، ومع الاغماض عن ذلك فلا شبهة في دلالة هذه
الروايات على تمامية ملاك الصوم في وقته وعدم جواز تفويته مطلقا حتى قبل
الوقت بترك الاتيان بالمقدمات المفوتة، وإلا استحق العقوبة عليه بعد الوقت،
لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وأما الكلام في المسألة الثالثة وهي مسألة وجوب المقدمات المفوتة في
باب الصلاة، فيقع فيها تارة في توقف أصل الصلاة على مقدمة قبل دخول وقتها
وأخرى في توقف مرتبة منها على مقدمة قبل دخوله دون أصل الصلاة، أما الكلام
في الأول، كما إذا فرض أن المكلف يعلم بأنه لو لم يقم بتحصيل الطهارة من
الحدث قبل الوقت فلا يتمكن منها بعد دخول الوقت لا من المائية ولا من الترابية،
ففي مثل ذلك لا يبعد وجوب تحصيل الطهارة قبل الوقت، لأن اهتمام المولى
بالصلاة وجعلها عماد الدين ونحو ذلك، يكشف عن أن ملاكها تام في ظرفها وإن
القدرة الدخيلة فيه قدرة مطلقة، فيجب على المكلف تحصيلها من قبل مقدماتها
المفوتة قبل الوقت إذا لم يتمكن منه بعد دخول وقتها، ولا يرضى الشارع بتفويتها
مطلقا حتى بترك تحصيل القدرة عليها قبل الوقت إذا كان متمكنا من ذلك.
وأما الكلام في الثاني، فالظاهر أن المعتبر في وجوب كل مرتبة من
مراتبها قدرة خاصة وهي القدرة عليها بعد دخول الوقت، كما إذا علم المكلف
بأنه لو لم يتوضأ قبل الوقت فلا يتمكن من ذلك بعد الوقت، أو علم بأن ما
155

عنده من الماء إذا أهرق لم يجد ماء آخر بعد الوقت، ففي مثل ذلك لا يجب عليه
الوضوء في الأول ولا حفظ الماء في الثاني، لأنه إذا دخل عليه الوقت، فإن تمكن
من الوضوء أو الغسل فهو، وإلا فوظيفته التيمم والصلاة معه.
وأما القسم الثالث وهو ما كان مشروطا بالقدرة الخاصة فمن أظهر
مصاديقه مراتب الصلاة من المرتبة العليا إلى المرتبة الدنيا، فإن كل مرتبة من
مراتبها مشروطة بالقدرة الخاصة، فإذا دخل وقت الصلاة فإن تمكن من الصلاة
مع الطهارة المائية أو القيام أو غير ذلك فهو، وإلا فتنتقل وظيفته إلى الصلاة مع
الطهارة الترابية أو مع الجلوس وهكذا.
فالنتيجة الظاهر وهو أن اتصاف طبيعي الصلاة بالملاك في مرحلة
المبادئ تام مطلقا حتى من قبل مقدماتها وقيودها المفوتة، فإذا لم يتمكن
من تحصيلها في الوقت وجب تحصيلها قبله، بينما القدرة المعتبرة في اتصاف
كل مرتبة من مراتبها بالملاك في مرحلة المبادئ، قدرة خاصة من قبل
مقدماتها وقيودها وهي القدرة عليها بعد الوقت.
تحصل مما ذكرناه أن وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت
الواجب في باب الحج والصوم والصلاة لا يتوقف على القول بامكان الواجب
المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر، بل يجب الاتيان بها مطلقا على جميع
المذاهب والآراء في المسألة، سواء على الرأي القائل بامكان الواجب المعلق
والمشروط بالشرط المتأخر أم على الرأي القائل باستحالتهما كما هو الصحيح،
فإنه على هذا القول وإن لم يكن بإمكان المولى الخطاب فعلا بنحو الواجب المعلق
أو المشروط بالشرط المتأخر، ولكن بامكانه الإشارة إلى تمامية الملاك والإرادة
في وقته مطلقا بلسان الإخبار أو الكناية. وعلى هذا فلا يجوز للمكلف تعجيز
نفسه بترك الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل الوقت، فإنه في هذه الحالة إذا دخل
156

عليه الوقت وعجز عن الاتيان بالواجب، استحق العقوبة على تفويت الملاك
باعتبار أنه كان بسوء اختياره، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
157

الأمر الثاني:
إن حكم العقل بوجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل الوقت، هل
يصلح أن يكون دليلا على ثبوت الوجوب الشرعي وكاشفا عنه بقاعدة
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فيه وجهان، فقد اختار المحقق النائيني (قدس سره)
الوجه الأول بتقريب، أن حكم العقل بوجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل
الوقت للحفاظ على الملاك الملزم التام في ظرفه كاشف عن حكم الشارع
بوجوب الاتيان بها قبل الوقت حفاظا على ذلك الملاك في ظرفه، فإن الملاك
المذكور كما أنه منشأ لحكم العقل بلزوم الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت
الواجب، كذلك يصلح أن يكون منشأ لحكم التشرع بوجوب الاتيان بها قبل
الوقت (1) هذا.
ولكن ما ذكره (قدس سره) غير سديد، بيان ذلك أن الملازمة بين حكم العقل
وحكم الشرع تارة يكون بين حكم العقل النظري وحكم الشرع، وأخرى بين
حكم العقل العملي وحكم الشرع، فيقع الكلام في مقامين:
الأول: في الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشرع.

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 153.
158

الثاني: في الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع.
أما الكلام في المقام الأول، فلا شبهة في ثبوت الملازمة بينهما كبرويا،
فإذا أدرك العقل مصلحة ملزمة مثلا في فعل غير مزاحمه بالأقوى منها أو
المساوي، فبطبيعة الحال يكشف عن ثبوت الوجوب على أساس أن الأحكام
الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية، وأما صغرويا فهي غير تامة ولا
واقع موضوعي لها، حيث إنه ليس للعقل طريق إلى إدراك ملاكات الأحكام
الواقعية فضلا عن الإحاطة بها من جميع الجهات، ومن هنا لو أدرك في مورد
وجود مصلحة ملزمة في فعل أو مفسدة كذلك ولكن ليس بإمكانه إدراك أنه لا
مزاحم لها، فلذلك فلا يمكن أن يكون كاشفا عن حكم الشارع.
فالنتيجة أن البحث عن الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشرع
تام نظريا بحسب الكبرى، وأما تطبيقيا فلا توجد لها صغرى.
وأما الكلام في المقام الثاني، وهو الملازمة بين حكم العقل العملي
وحكم الشرع، فتارة يقع في حقيقة حكم العقل العملي وهو الحسن والقبح،
وأخرى في ثبوت الملازمة بينه وبين حكم الشرع.
أما الفرض الأول ففيه قولان:
القول الأول ما اختاره جماعة من الأصوليين منهم المحقق الأصفهاني (قدس سره)
من أن قضية الحسن والقبح قضية مجعولة من قبل العقلاء كسائر مجعولاتهم
العقلائية في أمور معادهم ومعاشهم على أساس ما يدركونه من المصالح والمفاسد
العامة حفاظا على بقاء نوعهم (1)، ولكن هذا التفسير خاطئ وجدانا وبرهانا، أما
وجدانا فلأن العقل مستقل بقبح الظلم وحسن العدل بما هما ظلم وعدل، وإن ذلك

(1) نهاية الدراية ج 3: ص 29 - 30.
159

من القضايا الفطرية الوجدانية ولا يتوقف على وجود عقلاء على الأرض، ومن
هنا ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) إنهما لو كانا من القضايا المجعولة من قبل العقلاء، فمعناه
أن العاقل الأول قبل وجود العقلاء وتشريعاتهم لا يدرك قبح الظلم وحسن العدل،
باعتبار أنه لا قبح ولا حسن حتى يدركهما وهو كما ترى، بداهة أنه أمر فطري
وجداني فلا يمكن أن يتأثر بجهات خارجية، ولهذا يدرك فطرة أن سلب ذي
الحق عن حقه ظلم وقبيح كان هناك عقلاء أم لا ولا يمكن أن يكون هذا الادراك
متأثر بوجود العقلاء وتشريعاتهم، ومن هنا يدرك ذلك الصبي الذي لم ينضج عقله
بعد، فالنتيجة أن قضايا الحسن والقبح العقليين من القضايا الواقعية الفطرية
الموجودة في لوح الواقع وراء موقف العقلاء لا أنها من القضايا الانشائية للعقلاء،
فلا واقع لها ما عدا انشائها وجعلها.
وأما الاشكال على أنه من أين يعرف حال العاقل الأول وأنه يدرك
حسن العدل وقبح الظلم أولا، فلعل إحساسنا بهذا الوجدان من تأثير بناء العقلاء
فهو غريب جدا، لأن إدراك ذلك أمر وجداني فطري ولا يمكن أن يتأثر بعامل
خارجي، لأن الفطرة لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان وتبدله لأنها ذاتية، وأما
برهانا فلأن هذه النظرية تبتني على أن قضية الحسن والقبح ترتبط بالمصالح
والمفاسد الواقعية، فإن العقلاء لما أدركوا مصلحة في فعل أو مفسدة في آخر،
حكموا بحسن الأول وقبح الآخر فيكون الحسن والقبح تابعين للمصلحة
والمفسدة كالوجوب والحرمة شرعا، ولكن هذا الارتباط خلاف الوجدان، إذ
مضافا إلى أنه لا طريق للعقلاء إلى إدراك مصالح الأشياء ومفاسدها، أنه في كثير
من موارد الحسن والقبح لا مصلحة في فعل ولا مفسدة في آخر، ولهذا يحكم
العقل بقبح التجري مع أنه لا مفسدة في الفعل المتجري به، ويحكم بحسن الانقياد
مع أنه لا مصلحة في الفعل المنقاد به، وهذا يبرهن على أن باب الحسن والقبح
160

باب مستقل ولا يرتبط بباب المصلحة والمفسدة، ولهذا لا يجري باب التزاحم
بين القبح والمصلحة والحسن والمفسدة، فالعدل لا يكون قبيحا مهما ترتبت عليه
مفسدة طالما هو عدل والظلم لا يكون حسنا مهما ترتبت عليه مصلحة طالما هو
ظلم، فلو كان الحسن مجعولا من قبل العقلاء على الفعل فيه مصلحة والقبح
مجعولا على فعل فيه مفسدة، فمعناه أن القبح لا يكون مجعولا على فعل فيه
مصلحة أو لا مصلحة فيه ولا مفسدة والحسن على فعل فيه مفسدة أو لا مفسدة فيه
ولا مصلحة، كما هو الحال في حكم اشارع بالوجوب أو الحرمة، فإن الوجوب
غير مجعول على فعل فيه مفسدة والحرمة على فعل فيه مصلحة مع أن الأمر ليس
كذلك، فإن القبح موجود عقلا في باب الانقياد كذلك مع أنه لا مصلحة فيه بل ربما
تكون فيه مفسدة، وبكلمة أنه (قدس سره) إن أراد بجعل الحسن والقبح من قبل العقلاء، أن
حسن كل فعل أو قبحه مجعول من قبلهم تبعا للمصلحة أو المفسدة فيه، فيرد عليه
ما تقدم من أن ارتباط الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة خلاف الوجدان، وهذا
دليل على أن باب الحسن والقبح باب مستقل لا صلة له بباب المصلحة والمفسدة،
غاية الأمر قد تجمع البابان في مورد وهذا من باب الاتفاق لا من باب الارتباط،
وإلا لم يكن بينهما مورد افتراق أصلا، وإن أراد (قدس سره) به أن حسن العدل وقبح الظلم
مجعولان من قبل العقلاء على أساس مصلحة عامة وهي تحقيق العدالة
الاجتماعية لا بقاء النوع، فيرد عليه ما تقدم من أنه خلاف الوجدان والضرورة
أيضا، بداهة أن قضية حسن العدل وقبح الظلم من القضايا الفطرية الأولية التي
يدركها العقل البشري بالفطرة والوجدان كان هناك عقلاء أم لا، وليست من
القضايا الانشائية المجعولة من قبل العقلاء التي لا واقع لها ما عدا إنشائها وجعلها.
فالنتيجة أن ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) من أن قضية الحسن والقبح
من القضايا المجعولة من قبل العقلاء كسائر مجعولاتهم العقلائية، غير تام.
161

القول الثاني: أن حسن العدل وقبح الظلم ليس من المدركات الأولية لا
للعقل ولا للحس ولا للوهم، وإنما يحصل التصديق الجازم بهما نتيجة التأديب
والتربية الاجتماعية العقلائية، ومن هنا قال ابن سينا بأن الإنسان لو خلق فريدا
وحيدا لما أدرك بعقله حسن العدل وقبح الظلم.
وفيه أن هذا القول غريب جدا، إذ كيف يمكن إنكار ما هو مدرك
بالوجدان، وقد مر أن قضية الحسن والقبح من القضايا الفطرية الأولية،
والمعيار في أولية القضية ما كان ثبوت المحمول للموضوع ضروريا كما في
قضية الأربعة زوج، فإنها قضية أولية مضمونة الحقانية، وهذا المعيار ينطبق
على قضيتي حسن العدل وقبح الظلم، فإن ثبوت الحسن للعدل ضروري
مضمون الحقاني وثبوت القبح للظلم كذلك، ومن هنا يكفي مجرد إدراك
الطرفين والنسبة بينهما للتصديق الجزمي بهما، ضرورة أن الإنسان إذا تصور
العدل وتصور الحسن والنسبة بينهما، حصل له الجزم بثبوت الحسن للعدل،
وكذلك إذا تصور الظلم وتصور القبح والنسبة بينهما، تيقن بشكل قاطع بثبوت
القبح له، وهذا هو المعيار في أولية القضية.
إلى هنا قد تبين أن الصحيح هو كون الحسن والقبح أمران واقعيان ثابتان
في لوح الواقع ويدركهما العقل العملي بالفطرة والوجدان، فكونهما من أحكام
العقل العملي، فإنما هو بلحاظ ارتباطهما بالعمل واقتضائهما جريا عمليا على
طبقهما بشكل مباشر، فإن معنى حسن فعل هو أنه ينبغي صدوره في الخارج،
ومعنى قبح فعل هو أنه لا ينبغي صدوره فيه، فمن أجل ذلك يكونا من أحكام
العقل العملي لا أنهما كالأحكام الشرعية المجعولة في الشريعة المقدسة، فإذن
يفترق المدرك للعقل العملي عن المدرك للعقل النظري في نقطة وتشترك معه
في نقطة أخرى، أما نقطة الافتراق فلأن المدرك للعقل العملي يقتضي بطبعه
162

الجري العملي على طبقه بدون توسط مقدمة خارجية، بينما المدرك للعقل
النظري لا يقتضي بطبعه ذلك، ولهذا يكون الحسن والقبح من أحكام العقل
العملي، والمصلحة والمفسدة من أحكام العقل النظري، فإن الأول يقتضي
بنفسه الجري العملي على طبقه خارجا بينما الثاني لا يقتضي ذلك بنفسه بدون
جعل الوجوب أو الحرمة، فالمقتضى هو الوجوب أو الحرمة لا المصلحة و
المفسدة.
وأما نقطة الاشتراك، فلأن كليهما من الأمور الواقعية الثابتة في لوح الواقع،
فالنتيجة أن كبرى حسن العدل وقبح الظلم من القضايا الفطرية الأولية ولا خلاف
فيها بين العقلاء، نعم الخلاف إنما هو في بعض صغرياتها وفي موارد التزاحم بين
مقتضياتها.
وأما الكلام في الفرض الثاني وهو ثبوت الملازمة بين حكم العقل
العملي وحكم الشرع، فقد نسب إلى المشهور ثبوت الملازمة بينهما، ويمكن
تقريبه بوجهين:
الأول: أن ملاك الوجوب والحرمة هو الحسن والقبح العقليين، فإذا أدرك
العقل حسن فعل اكتشف وجوبه من قبل الشارع، وإذا أدرك قبح فعل اكتشف
حرمته وهكذا، وهذا الوجه مبني على أن الحسن والقبح أمران واقعيان
يدركهما العقل، وأما بناء على القول بأنهما حكمان مجعولان من قبل العقلاء
فلا يصلح الحسن أن يكون ملاكا للوجوب والقبح ملاكا للحرمة، لأن حكم
الشارع لا يمكن تابعا لحكم العقلاء.
الثاني: أن الشارع حيث إنه سيد العقلاء، فإذا حكم العقلاء بما هم عقلاء
بحسن فعل أو بقبح فعل آخر كان الشارع في طليعتهم وإنه أول الحاكمين به،
غاية الأمر أن حكم الشارع بالحسن عبارة عن حكمه بالوجوب وبالقبح عبارة
163

عن حكمه بالحرمة، وهذا الوجه مبني على أن الحسن والقبح حكمان مجعولان
من قبل العقلاء.
وللمناقشة في كلا الوجهين مجال:
وأما الوجه الأول: فلأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في الواقع
لا للحسن والقبح العقليين، ومن هنا قد يكون الفعل حسنا عقلا ولا مصلحة فيه
كالانقياد وقد يكون قبيحا كذلك ولا مفسدة فيه كالتجري، ولكن حيث إن ملاك
حكم الشارع بالوجوب في الأول وبالحرمة في الثاني غير موجود وهو المصلحة
والمفسدة فلا يكون بإمكانه الحكم بوجوب الأول وحرمة الثاني لأنه بلا ملاك،
نعم قد يلتقي الحسن مع المصلحة في فعل والقبح مع المفسدة في آخر وقد لا
يلتقيان، فتكون النسبة بينهما عموما من وجه، وقد تقدم آنفا أن باب الحسن
والقبح لا يرتبط بباب المصلحة والمفسدة.
فالنتيجة أن الأحكام الشرعية لا تدور مدار الحسن والقبح بل تدور
مدار الملاكات الواقعية من المصالح والمفاسد التي لا طريق للعقل إليها.
وأما الوجه الثاني، فيرد عليه أولا ما تقدم من أن الحسن والقبح أمران
واقعيان ثابتان في لوح الواقع وليسا حكمين مجعولين من قبل العقلاء حتى
يقال أن الشارع حيث إنه سيد العقلاء ووليهم فهو أول الحاكمين بهما.
وثانيا أن الشارع المقدس يجعل الأحكام الشرعية على طبق ما يراه في
الواقع من المصالح والمفاسد كانت مطابقة لحكم العقل بالحسن أو القبح أم لا،
لوضوح أن الشارع غير ملزم بحفظ مصالح العقلاء وأنظمتهم، كيف فإن الله
تعالى أرسل رسوله بنظام كامل يحل مشاكل الإنسان الكبرى ويزوده بطاقات
نفسية وبغرائز الدين، ومن الواضح أن هذا النظام لا يرتبط بنظام العقلاء، لأن
نظامهم لا يمكن أن يقوم على أساس مصالح واقعية لعدم الطريق لهم إليها،
164

فالنتيجة أنه لا ملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع.
و في مقابل هذا القول قول باستحالة الملازمة بينهما، بتقريب أن جعل
الحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو، فإن حكم العقل بذلك يكفي
لتحريك المكلف ومسؤوليته أمام المولى، وحيث إن ذلك هو الغرض من جعل
الحكم الشرعي ومع توفره يكون لغوا، وإن شئت قلت أن الغرض من جعل الحكم
الشرعي إنما يكون بداعي تحريك المكلف بتوسط حكم العقل بقبح المعصية
وحسن الإطاعة، وعليه فتنتهي داعوية الحكم الشرعي الالزامي في نهاية المطاف
إلى الحكم العقلي بقبح معصية المولى ووجوب إطاعته، وعلى هذا فإذا كان
الحكم العقلي بالقبح أو الحسن في مورد موجودا في المرتبة السابقة، فبطبيعة
الحال يكون جعل الحكم الشرعي فيه لغوا ولا يترتب عليه أثر هذا.
ولكن لا أساس لهذا القول أيضا، أما أولا فلأن حكم العقل بالحسن أو
القبح في مورد إنما يوجب التحريك عند العقلاء دون الشارع إلا على القول
بالملازمة بينه وبين حكم الشرع، وعليه فلا يكون جعل الحكم الشرعي في
مورده بداعي تحريك المكلف لغوا.
وثانيا أن جعل الحكم الشرعي في مورد حكم العقل بالحسن أو القبح
يؤكد مسؤولية المكلف ومحركيته بنحو أقوى مما كانت بل ربما يكون تمام
العلة، فإذا جعل الشارع الحرمة للكذب مثلا، فالحرمة هي الداعية للمكلف
نحو الاجتناب عنه بل ربما تكون تمام الداعي على أساس ما يدركه المكلف
من العقوبة على ارتكابه.
فالنتيجة أن هذا القول لا يرجع إلى معنى محصل.
تتمة: وهي ما إذا شك في وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة، ومنشأ هذا
الشك الشك في أن ملاك الواجب في ظرفه تام من قبل هذه المقدمات ومشروط
165

بالقدرة المطلقة أو أن ملاكه فيه غير تام من قبل تلك المقدمات وأنه مشروط
بالقدرة الخاصة وهي القدرة عليه في ظرفه من قبل مقدماته لا مطلقا، وفي مثل
ذلك لا يجب عليه الاتيان بالمقدمات المذكورة قبل وقت الواجب إذا لم يحرز أن
ما يفوت عنه في الوقت إذا ترك الاتيان بها هو الملاك التام الملزم، إذ كما يحتمل
ذلك يحتمل أن لا يفوت منه شئ، فإذن يكون المورد من موارد قاعدة قبح
العقاب بلا بيان، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشك في الملاك أو الحكم، هذا
تمام كلامنا في المقدمات المفوتة.
نلخص نتائج البحث في عدة نقاط:
الأولى: القول بأن وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب
منوط بالالتزام بالواجب المعلق غير صحيح، لما تقدم من استحالة الواجب
المعلق ثبوتا وعدم إمكان الالتزام به كذلك هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى
أن قيد الواجب الطولي إذا كان غير اختياري، فلابد من أخذه قيدا للوجوب
أيضا وإلا لزم التكليف بالمحال، فإذن لا يكون وجوبه فعليا لكي يترشح منه
الوجوب على مقدماته المفوتة قبل وقته.
الثانية: القول بأن وجوب الاتيان بتلك المقدمات منوط بالالتزام
بالشرط المتأخر كما عن صاحب الكفاية (قدس سره) غير تام، لما تقدم من استحالة
الواجب المشروط بالشرط المتأخر وعدم امكان الالتزام به، هذا إضافة إلى أن
مجرد وجود الوجوب قبل تحقق الشرط لا أثر له ولا يؤثر في إيجاب
المقدمات، وذلك لأنه وإن كان فعليا إلا أنه ذا فاعلية له قبل تحقق شرطه،
فإن فاعليته وتأثيره منوطة بتحققه في الخارج، لأن إيجاب المقدمات يكون
من أثر فعلية فاعلية الوجوب لا من أثر فعلية نفسه.
166

الثالثة: القول بأن وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب
مبني على مسلك الشيخ (رحمه الله) من إنكار الواجب المشروط ورجوع العقد إلى
الواجب دون الوجوب فالوجوب مطلق، فإذا كان مطلقا ترشح منه الوجوب على
مقدماته المفوتة غير سديد، لما تقدم من أن الشيخ (رحمه الله) لا ينكر الواجب المشروط
في الشريعة المقدسة نهائيا وإنما أنكر رجوع القيد في القضية الشرطية إلى مفاد
الهيئة باعتبار أنه معنى حرفي، وأما تقييد الوجوب إذا كان مفاد الجملة الاسمية أو
مادة الأمر، فلا مانع منه لأنه معنى اسمي، وعليه فإذا كان هناك دليل على تقييده
فلابد من الأخذ به، هذا إضافة إلى أن المبنى غير صحيح.
الرابعة: القول بأن وجوب المقدمات المفوتة وجوب نفسي تهيئ
ناشئ إما من ملاك في نفس تهيئ المكلف أو من ملاك في الواجب الثابت
قبل وقته غير صحيح، لما تقدم من أن تصويره ثبوتا وإن كان ممكنا إلا أن
إتمامه بالدليل لا يمكن.
الخامسة: أن الواجب منذ الغروب ليس هو الصوم الاستقبال في النهار
بل الواجب سد باب عدم الصوم في النهار منذ الليل، وهذا السد واجب من
الليل، ومن الواضح أن مقتضى وجوبه أن الغسل من الجنابة في الليل وقبل أن
يطلع الفجر واجب وكذلك الغسل من الحيض، وإلا لم يسد باب العدم منذ
الليل.
ولكن تقدم أولا أن هذه المحاولة مبنية على استحالة الواجب المعلق
والمشروط معا، وثانيا أنها لو تمت فإنما تتم إذا كان طلوع الفجر شرطا
للترتب فقط لا له وللاتصاف معا، وثالثا أن الصوم مثلا لو كان متصفا بالملاك
منذ رؤية الهلال، كان العقل مستقلا بالحفاظ عليه وسد جميع أبواب العدم
بالاتيان بالمقدمات المفوتة، وعلى هذا فوجوب السد غيري من أجل الحفاظ
167

على ملاك الصوم في ظرفه لا أنه واجب نفسي.
ورابعا: أن سد باب العدم عنوان انتزاعي منتزع من أمر المولى بشئ
مقيدا بقيود ومشروطا بشروط ولا يكون متعلقا للأمر، وحكم العقل به إنما هو
من باب حكمه بلزوم الامتثال والإطاعة، فإن من شؤون امتثال أمر المولى
وإطاعته سد جميع أبواب العدم.
السادسة: أن كل واحدة من المحاولات المتقدمة إنما تدفع الإشكال من
زاوية نظر أصولي خاص في المسألة لا من زاوية جميع الأنظار والآراء
الأصولية فيها.
السابعة: أن المحاولة الأخيرة في المسألة التي هي صحيحة تدفع
الإشكال على جميع الأنظار والأقوال فيها وفي جميع الأبواب، كباب الحج
والصوم والصلاة ونحوها، أما في باب الحج فبأمور:
الأول: أن وجوب حج التمتع على النائي بنفسه قرينة على أن ملاكه تام
من حين الاستطاعة مطلقا ومنذ أشهر الحج، وإلا كان وجوبه عليه لغوا.
الثاني: أن ما دل على وجوب توفير كل ما يتوقف عليه الحج على
المستطيع من المقدمات، كاشف عن أن ملاكه تام في ظرفه بحيث يجب
تحصيل القدرة عليه من الآن.
الثالث: أن حج التمتع من حجة الإسلام عمل مركب من جزئين طوليين
مرتبطين ويدخل وقته منذ دخول شهر شوال، فإذن وجوب الاتيان بالمقدمات
بعد دخول شهر شوال يكون على القاعدة.
وأما في باب الصوم فلأن أدلة التشريع من الآية الشريفة والروايات لا
تدل على أن وجوب الصوم فعلي بفعلية موضوعه منذ رؤية الهلال، لأنها في
مقام التشريع ولا نظر لها إلى أن وجوبه ثابت كذلك من الآن أو منذ طلوع
168

الفجر، وأما روايات وجوب الغسل من الجنابة أو الحيض في الليل وقبل الفجر
، فيكون مفادها الارشاد إلى أنه قيد للصوم فيكون الواجب حصة خاصة منه
وهي الصوم المقيد بالغسل من الليل وقبل الفجر، فإذن لا يكون الاتيان
بالغسل قبل الفجر من الاتيان بالمقدمة قبل وقت الواجب، وأما في باب
الصلاة فبالنسبة إلى أصل الصلاة، فيجب الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقتها
إذا لم يتمكن من الاتيان بها في الوقت، وأما بالنسبة إلى مراتبها فلا يجب.
الثامنة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن حكم العقل بوجوب
الاتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب، يستلزم حكم الشرع بالوجوب
على أساس الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، غير تام لا في العقل
النظري ولا في العقل العملي (1).
التاسعة: أنه إذا شك في وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة وعدم
وجوبه، فالمرجع فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 98.
169

وجوب تعلم الأحكام الشرعية
وهنا عدة مقامات:
الأول: في تعلم الأحكام الشرعية المطلقة أو الموقتة بعد دخول وقتها.
الثاني: في تعلم الأحكام الموقتة قبل دخول وقتها فيما إذا علم الابتلاء
بها بعد دخول الوقت.
الثالث: في تعلم الأحكام الشرعية قبل البلوغ فيما إذا علم بالابتلاء بعده.
الرابع: في تعلم الأحكام الشرعية قبل دخول وقتها فيما إذا لم يعلم
بالابتلاء بها بعده.
الخامس: في أن وجوب التعلم هل هو نفسي أو غيري.
أما الكلام في المقام الأول، فإن كان المكلف غير متمكن من الامتثال
التفصيلي ولا الاجمالي بدون التعلم كتعلم أجزاء الصلاة مثل القراءة والركوع
والسجود والتشهد والتسليم وما شاكل ذلك فلا شبهة في وجوب التعلم، لأنه
في هذا الفرض مقدمة وجودية للواجب وإن كان متمكنا من الامتثال الاجمالي
دون التفصيلي، كما إذا علم المكلف إجمالا في يوم الجمعة مثلا إما بوجوب
صلاة الظهر أو صلاة الجمعة، ففي مثل ذلك لا يجب عليه التعلم مقدمة
170

للامتثال التفصيلي لكفاية الامتثال الاجمالي وهو الاحتياط بالجمع بين
الصلاتين فيه، وكذلك إذا شك في وجوب السورة مثلا فإنه لا يجب عليه
التعلم والفحص لتمكنه من الاحتياط، نعم إذا كانت محتملات المسألة كثيرة
ولا يتمكن من إحراز الامتثال ولو إجمالا وجب التعلم في هذه الحالة.
وأما الكلام في المقام الثاني، فإن كان المكلف متمكنا من الاحتياط
والامتثال الاجمالي بعد الوقت لم يجب عليه التعلم قبل الوقت، لأن الامتثال
الاجمالي يكفي عن الامتثال التفصيلي، وأما إذا لم يكن متمكنا من الاحتياط
في الوقت، فيجب عليه التعلم قبل الوقت وإلا لفات الواجب عنه فيه، وكذلك
إذا أدى ترك التعلم قبل الوقت إلى عدم إمكان إحراز الاتيان بالواجب وامتثاله
في الوقت، وفي كلا الفرضين يكون وجوب التعلم بملاك أن تركه يؤدي إلى
تفويت الملاك الملزم في ظرفه أو عدم إحراز استيفائه، والفرق بين الفرضين
إنما هو في نقطة أخرى وهي أن وجوب التعلم من باب وجوب المقدمات
المفوتة في الفرض الأول، ومن باب وجوب المقدمات العلمية وهي إحراز
الامتثال اليقيني في الفرض الثاني، ومن هنا يظهر أن ما ذكره المحقق
النائيني (قدس سره) من أن وجوب التعلم ليس بملاك وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة
قبل الوقت، لأن ملاك وجوب الاتيان بها هو أن تركه يؤدي إلى تفويت الملاك
التام في ظرفه بينما يكون ملاك وجوب التعلم دفع احتمال العقاب باحراز
الامتثال اليقيني لا يتم على إطلاقه، لأنه إنما يتم في الفرض الثاني دون
الفرض الأول، فإن وجوب التعلم فيه من باب وجوب المقدمات المفوتة قبل
وقت الواجب، نعم وجوب التعلم على الثاني يكون إرشادا إلى حكم العقل
171

بدفع العقاب المحتمل بالتعلم لكي يحرز الامتثال إما تفصيلا أو اجمالا (1)، وأما
وجوبه على الأول فهو وجوب طريقي كما سوف نشير إليه.
ولهذا أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بأن ما أفاده لا يتم باطلاقه، وقد أفاد
في وجه ذلك ما حاصله أن ترك التعلم قبل الوقت تارة يكون من جهة أنه
متمكن منه بعد الوقت، وحينئذ فلا إشكال في جوازه وكذلك إذا لم يؤد ترك
التعلم قبل الوقت إلا إلى عدم التمكن من الامتثال التفصيلي مع تمكنه من
الامتثال الاجمالي، وأما إذا أدى ترك التعلم إلى عدم التمكن من الامتثال
التفصيلي والاجمالي معا مع تمكنه من الامتثال الاحتمالي، ففي مثل ذلك
يجب عليه التعلم قبل الوقت بملاك إحراز الامتثال اليقيني ودفع العقاب
المحتمل به على أساس أن ملاك التكليف في ظرفه تام والمكلف كان ملتفتا
إليه وعالما بعدم جواز تفويته ومعه لا يمكن الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي لأنه
لا يكون مؤمنا ودافعا للعقاب المحتمل، بل لابد حينئذ من التعلم لكي يتمكن
من الامتثال العلمي، وما ذكره (قدس سره) تام في هذا الفرض، وأما إذا أدى ترك التعلم
قبل الوقت إلى ترك الواجب نهائيا بعد الوقت كتعلم أجزاء الصلاة، فإنه لو لم
يتعلمها قبل الوقت لأدى إلى تركها بعد الوقت لا إلى عدم إحراز امتثالها فلا يتم
فيه ما ذكره (قدس سره)، فإن وجوب التعلم فيها من باب وجوب المقدمات المفوتة لا
من باب دفع العقاب المحتمل (2) ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من الايراد على
المحقق النائيني (قدس سره) تام هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ملاك وجوب التعلم لأحكام الصلاة والحج

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 157.
(2) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 367.
172

والصيام قبل الوقت إنما هو نفس ملاك وجوب الاتيان بالمقدمات المفوتة، أما
على القول بامكان الواجب المعلق فيكون الوجوب فعليا ومحركا نحو الاتيان
بالمقدمات المفوتة كما أنه محرك نحو تعلمها، لأن فعلية وجوب المقدمة تتبع
فعلية وجوب ذيها، سواء أكان ذيها فعليا أيضا أم لا، وكذلك الحال على القول
بإمكان الواجب المشروط بالشرط المتأخر، وأما على القول بعدم إمكانهما معا
كما هو الصحيح، فالوجوب حينئذ وإن لم يكن فعليا إلا أنك عرفت أن ملاكات
هذه الواجبات تامة في أوقاتها من قبل هذه المقدمات منها التعلم، بمعنى أن تلك
الملاكات منوطة بالقدرة المطلقة لا بالقدرة الخاصة وهي القدرة عليها بعد الوقت،
ونتيجة ذلك وجوب تحصيل القدرة على المكلف قبل أوقاتها بالاتيان بالمقدمات
المفوتة والتعلم هذا بحسب مقام الثبوت، وقد تقدم أن هذه الفرضية هي الصحيحة
والمختارة في المسألة وينحل الاشكال بها على جميع الأقوال فيها، وأما في مقام
الاثبات فهي بحاجة إلى دليل والدليل عليها هو الآيات والروايات (1) الدالة على
وجوب تعلم الأحكام الشرعية وتحصيل معرفتها كالأدلة الدالة على وجوب
المقدمات المفوتة، وقد أشرنا فيما تقدم أن ما يدل على وجوب هذه المقدمات من
الآيات والروايات يدل على اهتمام المولى بالأحكام الواقعية وملاكاتها وعدم
رضائه بتفويتها من قبل تلك المقدمات، وكذلك الآيات والروايات التي تنص
على تعلم الأحكام الشرعية، فإنها تدل على تمامية ملاكاتها في ظرفها وعدم
جواز تعجيز المكلف نفسه عن استيفائها بترك التعلم اختيارا لأن امتناع بالاختيار
لا ينافي الاختيار.

(1) كقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وقوله (عليه السلام): هلا تعلمت وما
شاكل ذلك.
173

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن ترك التعلم إن كان يؤدي إلى
ترك الواجب في ظرفه، كان التعلم من المقدمات الوجودية كالمقدمات المفوتة،
وإن كان يؤدي إلى عدم إحراز امتثاله لا تفصيلا ولا إجمالا، كان التعلم من
المقدمات العلمية، وملاك وجوب التعلم في كلا القسمين وهو فعلية ملاكاتها
واهتمام الشارع بالحفاظ عليها وعدم جواز تفويتها في ظرفها ولو بترك التعلم قبل
الوقت.
ومن هنا تختلف المقدمات العلمية في المقام عن المقدمات العلمية في
سائر الموارد، فإن الحاكم بوجوب المقدمات العلمية في سائر الموارد هو
العقل، وأما في المقام فهو الشرع، إذ العقل لا يحكم بوجوب التعلم قبل وقت
الواجب لا من باب المقدمات المفوتة ولا من باب المقدمات العلمية في
المرتبة السابقة لكي يكون حكم الشرع إرشادا إليه، وعلى هذا فحكم الشرع
بوجوب التعلم بما أنه لا يمكن أن يكون جزافا، فلا محالة يكون مبنيا على
نكتة وهي أنه يكشف عن اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية وملاكاتها وعدم
رضائه بتفويتها في ظرفها ولو بالتساهل والتسامح في التعلم قبل أوقاتها.
وأما الكلام في المقام الثالث، وهو التعلم قبل البلوغ فهل هو واجب على
الشخص إذا كان واثقا ومطمئنا بأنه إذا لم يتعلم قبل البلوغ لم يتمكن منه بعد
البلوغ، فيه وجهان:
فذهب السيد الأستاذ (قدس سره) إلى الوجه الثاني وهو عدم وجوبه قبل البلوغ
وإن علم بعدم تمكنه منه بعد البلوغ، وقد أفاد في وجه ذلك أن مقتضى حديث رفع
القلم عن الصبي (1) أنه لا يترتب على ترك التعلم قبل بلوغه أثر، إذ لا حكم له قبل

(1) راجع الوسائل ج 1: ص 32 ب 4 من مقدمة العبادات ح 11.
174

البلوغ ولا ملاك، لأن الحكم بتمام مراحله من مرحلة المبادئ إلى مرحلة الجعل
مشروط بالبلوغ فلا أثر له قبله، وأما بعده فللعجز وعدم القدرة، فإذن لا يكون
الحكم بما له من الملاك فعليا في حقه لا قبل البلوغ ولا بعده، فإذا لم يكن فعليا
في حقه فلا طريق لنا إلى إحراز أن ملاكه فعلي، وعليه فلا يكون الصبي مشمولا
لقاعدة أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن هذا الحديث وارد على حكم العقل بوجوب التعلم
قبل البلوغ إذا علم بأنه لا يتمكن منه بعده، وذلك لأن العقل إنما يحكم بذلك
لدفع العقاب المحتمل على ترك التعلم، والمفروض أن الحديث المذكور رافع
لاحتمال العقاب ومعه يرتفع حكم العقل بارتفاع موضوعه (1) هذا.
وذهب بعض آخر إلى الوجه الأول وهو وجوب التعلم قبل البلوغ إذا
علم بأنه لا يتمكن منه بعد البلوغ، مثلا من لم يتعلم الصلاة بما لها من الأجزاء
والشرائط قبل البلوغ فلا يقدر على تعلمها بعده في ضمن ساعات ولا سيما
بالنسبة إلى غير أهل اللسان، بدعوى أن المرفوع بحديث الرفع الالزام كوجوب
الصلاة مثلا، فإنه قابل للرفع دون الملاك في مرحلة المبادئ باعتبار أنه أمر
تكويني غير قابل لا للرفع ولا للوضع شرعا، فالنتيجة أن الحديث يدل على أن
المرفوع عن الصبي وجوب الصلاة لأملاكه، فإذا ظل ملاكها على حاله لم يجز
تفويته، وحيث إنه منوط بالقدرة المطلقة فيجب على الصبي تحصيل القدرة قبل
البلوغ إذا لم يتمكن من تحصيلها بعده هذا، والتحقيق في المقام أن يقال أن
المتفاهم العرفي من حديث رفع القلم بقرينة وروده في مقام الامتنان أن المقتضى
للتشريع موجود، ولكن هذا المقتضى ليس بنحو يتطلب من الصبي تحصيل القدرة

(1) المحاضرات ج 2: ص 274 - 275.
175

على استيفاء الملاك في ظرفه من الآن وقبل البلوغ إذا علم بأنه لا يتمكن منه بعد
البلوغ، إذ لو كان المقتضى بهذه الدرجة لزم من الامتنان عدم الامتنان ولا يترتب
أثر حينئذ على رفع القلم، لأن حقيقة الحكم وروحه باقية وبكلمة أن المقتضى
للتشريع وإن كان موجودا إلا أن مصلحة الامتنان أقوى منه، فلهذا تصلح أن تمنع
عن تأثيره قبل البلوغ ولا يتطلب منه تحصيل القدرة من الآن.
ومن هنا يظهر حال ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الوجوب إذا كان
مرفوعا عن الصبي بالحديث، فلا طريق إلى أن ملاكه ثابت في الواقع، لأن
الطريق إليه منحصر بالوجوب ومع ارتفاعه يرتفع الطريق، وجه الظهور أن
الرفع في الحديث حيث إنه امتناني فهو بنفسه قرينة على ثبوت الملاك
والمقتضي له في الواقع وإلا فلا معنى للامتنان، غاية الأمر أن مصلحة الامتنان
بما أنها أقوى منه فهي تمنع عن تأثيره لا أن وجوده غير معلوم.
كما أنه بذلك يظهر حال القول الثاني، وجه الظهور هو أن المقتضى وإن
كان ثابتا إلا أنه بنحو الاقتضاء، فلا تأثير له فعلا.
وأما الكلام في المقام الرابع، فقد تقدم أن تعلم الأحكام الشرعية واجب
قبل الابتلاء بها بلا فرق بين أن تكون الأحكام من الأحكام المطلقة أو الموقتة
، شريطة العلم بالابتلاء أو الاطمئنان به، وأما إذا لم يعلم بالابتلاء فهل يجب
التعلم في هذه الحالة أيضا أو لا، فيه وجهان، المعروف والمشهور بين
الأصحاب الوجه الأول، وقد استدل على ذلك بأمرين:
الأول: بحكم العقل، بدعوى أن احتمال الابتلاء بالأحكام الواقعية التي
تكون ملاكاتها تامة في ظرفها مساوق لاحتمال العقاب على تفويتها على
تقدير ثبوتها، ومن الواضح أن العقل حيث إنه مستقل بدفع العقاب المحتمل،
فلذلك يحكم بوجوب تعلمها حتى لا تفوت عنه إذا ابتلي بها.
176

الثاني: أن الأدلة الدالة على وجوب التعلم من الآيات (1) والروايات (2)
تشمل باطلاقها صورة الشك في الابتلاء بالأحكام الشرعية في ظرفها ولا تختص
بصورة العلم بالابتلاء، لأن مقتضى إطلاقها وجوب تعلم جميع الأحكام الشرعية
سواء علم المكلف بالابتلاء بها أم لم يعلم، لأن موضوع تلك الأدلة الأحكام
الشرعية ومفادها وجوب تعلمها، وأما كون المكلف عالما بالابتلاء بها أو غير
عالم به فهو أجنبي عن موضوعها ولا يكون مقيدا بالعلم بالابتلاء بها هذا،
وللمناقشة في كلا الدليلين مجال.
أما الدليل الأول وهو حكم العقل، فالاستدلال به في غير محله، وذلك
لأن العقل بقطع النظر عن الكتاب والسنة الدالين على وجوب تعلم الأحكام
الشرعية قبل الابتلاء بها لا طريق له إلى ملاكات الأحكام الواقعية حتى يحرز
أنها تامة حتى من ناحية التعلم قبل الوقت، فلذلك لا موضوع لحكم العقل في
المقام.
وأما الدليل الثاني وهو إطلاق الأدلة من الآيات والروايات، فيرد عليه
أنها لا تشمل صورة الشك في الابتلاء لأنها مختصة لبا وواقعا بالأحكام التي
يكون مورد الابتلاء في الواقع، ولهذا لا تدل على وجوب تعلم الأحكام
المختصة بالنساء على الرجال وبالعكس، بل لو علم شخص من جهة عجزه
البدني كالمشلول أنه لا يقدر على الحج طول عمره مباشرة لم يجب عليه تعلم
أحكامه لعدم إطلاق لها من هذه الناحية، والنكتة في ذلك أن مناسبة الحكم
والموضوع الارتكازية القطعية قرينة عرفية على أنها متجة إلى من تكون

(1) كقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
(2) كقوله (عليه السلام): هلا تعلمت وما شاكل ذلك.
177

الأحكام الشرعية مورد ابتلائها لا مطلقا، إذ لا مبرر لوجوب تعلم ما لا يكون
مورد الابتلاء أصلا.
وعلى هذا فموضوع هذه الأدلة مقيد في الواقع بخصوص الأحكام التي
تكون مورد الابتلاء، وحينئذ فإذا شك في حكم أنه مورد الابتلاء أو لا فلا
يمكن التمسك باطلاقها، لأن الشبهة موضوعية. فلا يمكن التمسك به فيها،
وقد ذكرنا في الأصول أنه لا فرق في عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات
الموضوعية بين أن يكون الدليل المخصص لفظيا أو لبيا، كما أنه لا فرق في
ذلك بين العام الوضعي والمطلق الثابت إطلاقه بمقدمات الحكمة، وتمام الكلام
هناك، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى هل يمكن التمسك بالأصول العملية النافية في موارد
الشك في الابتلاء بعد ما لا يمكن التمسك بالأصول اللفظية والجواب إن هنا
صورا:
الأولى: ما إذا كانت كبرى التكليف واصلة إلى المكلف ولكنه يشك في
تحقق صغرى لها، كما إذا علم بوجوب الدعاء مثلا عند رؤية الهلال ولكنه
يشك في تحقق الرؤية.
الثانية: عكس هذه الصورة، بأن يعلم بتحقق الصغرى ولكنه يشك في
تحقق الكبرى، كما إذا رأى الهلال ولكنه يشك في وجوب قراءة الدعاء.
الثالثة: أن الكبرى واصلة إلى المكلف، كما إذا علم بوجوب الحج على
المستطيع ولكنه يشك في أنه هل يستطيع في المستقبل.
أما الصورة الأولى فلا شبهة في أن المرجع فيها الأصول المؤمنة النافية
كاستصحاب عدم تحقق الصغرى، فإذا شك في رؤية الهلال وتحققها فمقتضى
الاستصحاب عدم تحققها ويترتب عليه عدم وجوب تعلم قراءة الدعاء وهذا لا
178

إشكال فيه.
وأما الصورة الثانية، فحيث أن الشبهة فيها حكمية وتكون قبل الفحص،
فيجب فيها الاحتياط أو الفحص وتحصيل الحجة على عدم وجوب التعلم.
وأما الصورة الثالثة فهل يجب فيه تعلم الأحكام كأحكام الحج إذا كان
ترك التعلم من الآن موجبا للعجز عن الامتثال في حينه، فيه وجهان قيل بعدم
وجوب التعلم، بمقتضى استصحاب عدم الابتلاء بها في المستقبل، أو فقل أن
المكلف إذا شك في أنه هل يستطيع في المستقبل أو لا، فلا مانع من التمسك
باستصحاب عدم استطاعته فيه بنحو الاستصحاب القهقرائي، وبه ينفي
الصغرى للكبرى الواصلة وهي وجوب الحج على المستطيع ويترتب عليه عدم
وجوب تعلم أحكام الحج هذا.
وقد أورد على هذا الاستصحاب بوجوه:
الأول: أن هذا الاستصحاب بما أنه استصحاب قهقرائي فلا يكون
مشمولا لاطلاق روايات الاستصحاب، باعتبار أنها ظاهرة في فعلية زمان
الشك وتقدم زمان اليقين، وأما إذا كان الأمر بالعكس فلا يكون مشمولا
لاطلاقها.
الثاني: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أنه لا يمكن نفي وجوب التعلم
باستصحاب عدم الابتلاء بالواقع لأنه من آثار نفس الشك والاحتمال وهو
محرز بالوجدان، وليس من آثار الواقع لكي يمكن نفيه باستصحاب عدم
ثبوت الواقع عند الشك فيه، وإن شئت قلت أن الأثر في كل مورد إذا كان
مترتبا على نفس الشك والاحتمال دون الواقع فمتى شك فيه، فالموضوع
محرز بالوجدان ومعه لا معنى لنفي الواقع بالاستصحاب لأنه لغو صرف، وما
نحن فيه كذلك، فإن الأثر فيه مترتب على نفس احتمال الابتلاء والشك فيه،
179

والمفروض أنه في المقام محرز بالوجدان فلابد من ترتيب أثره عليه، وأما
الابتلاء الواقعي فبما أنه لا أثر له فلا يجري استصحاب عدمه (1).
وقد ناقش السيد الأستاذ (قدس سره) في كلا الوجهين:
أما الوجه الأول، فقد ذكر (قدس سره) أنه لا فرق في حجية الاستصحاب بين أن
يكون المشكوك لاحقا والمتيقن سابقا كما هو الغالب أو بالعكس، فإن الملاك في
حجية الاستصحاب عدم جواز نقض اليقين بالشك ولا خصوصية لأن يكون
الشك في بقاء اليقين السابق، لأن دليل الاستصحاب دليل ارتكازي ومفاده عدم
جواز رفع اليد عن الأمر المبرم بغير المبرم، وليس دليلا تعبديا محضا حتى يقال
أنه لابد من الاقتصار على مورده، والخلاصة أنه لا فرق في جريان الاستصحاب
بين أن يكون الشك فعلا في بقاء الأمر السابق أو يكون مستقبلا في بقاء الأمر
الحالي.
وأما الوجه الثاني، فقد ذكر (قدس سره) أن الحكم العقلي وإن لم يكن قابلا
للتخصيص إلا أنه قابل للتخصص والخروج الموضوعي، بمعنى أنه قابل للرفع
بارتفاع موضوعه، فإن رفع العقاب المحتمل وقبح العقاب بلا بيان من القواعد
العقلية التي استقل العقل بها ومع ذلك فهي قابلة للرفع بارتفاع موضوعها، فإن
المولى إذا جعل الترخيص في مورد القاعدة الأولى ارتفعت القاعدة بارتفاع
موضوعها وجدانا وهو احتمال العقاب، وإذا جعل البيان في مورد القاعدة
الثانية ارتفعت القاعدة الثانية بارتفاع موضوعها كذلك وهو عدم البيان (2)،
فالنتيجة أن القاعدة العقلية قابلة للرفع بارتفاع موضوعها وإن لم تكن قابلة

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 158.
(2) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 371.
180

للتخصيص، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن احتمال الابتلاء الذي هو موضوع
للأثر وإن كان محرزا بالوجدان إلا أن استصحاب عدم الابتلاء واقعا إذا جرى كان
رافعا للابتلاء الواقعي تعبدا وبه يرتفع موضوع الأثر وهو احتمال الابتلاء، فيكون
المكلف ببركة الاستصحاب عالما بعدمه وهذا ليس من التخصيص في الحكم
العقلي بشئ، بل هو ارتفاعه بارتفاع موضوعه، وإن شئت قلت أن موضوع حكم
العقل هنا احتمال العقاب على مخالفة الواقع، ومن الطبيعي أنه لا احتمال للعقاب
بعد فرض التعبد الاستصحابي هذا.
ولنا تعليق على كلا الجوابين أما على الجواب الأول، فلأن دليل
الاستصحاب دليل تعبدي صرف في مورده ولا يكون من تطبيق الكبرى الكلية
الارتكازية عليه لكي يمكن التعدي عنه إلى غيره من الموارد، لأن النهي عن
نقض اليقين بالشك فيه كناية عن العمل بالحالة السابقة تعبدا في حال الشك
فيها، فإذن يكون مفاد دليل الاستصحاب تعيين الوظيفة العملية عند الشك في
بقاء الحالة السابقة من دون أن يكون هناك مرجح للبقاء لأن شكه لا يقتضي
ذلك، وما قيل من أن الشئ إذا وجد دام لا أصل له بل هو يختلف باختلاف
الأشياء، وليس في مورد الاستصحاب ما يقتضي كونه طريقا إلى الواقع
ومحرزا له، ومن هنا قلنا في مورده أن الاستصحاب ليس من الأصول
المحرزة بل حاله حال الأصول غير المحرزة فلا فرق بينهما من هذه الناحية،
وعلى هذا فمفاد دليل الاستصحاب تعيين وظيفة الشاك وهي العمل بالحالة
السابقة تعبدا بدون النظر إلى الواقع، فإذن التعدي منه إلى ما إذا كان المكلف
متيقنا فعلا وشاكا في المستقبل بحاجة إلى قرينة من ارتكاز أو غيره، وإلا
فلابد من الاقتصار على مورده وهو ما إذا كان المكلف شاكا فعلا ومتيقنا سابقا.
والخلاصة أن دلالة روايات الاستصحاب على حجية الاستصحاب
181

الاستقبالي بحاجة إلى قرينة داخلية أو خارجية، وحيث إنها لم تكن فلا تدل
على حجيته وتمام الكلام هناك.
وأما على الجواب الثاني فلأن ما ذكره (قدس سره) من أن حكم العقل غير قابل
للتخصيص ولكنه قابل للتخصص والخروج الموضوعي وإن كان تاما بحسب
الكبرى، إلا أن المقام ليس من صغرياتها، وذلك لأن المكلف إذا علم بثبوت
الكبرى وهي وجوب الحج على المستطيع وشك في استطاعته في المستقبل،
ففي مثل ذلك وجوب التعلم بحكم العقل على أساس احتمال أنه سوف
يستطيع، مبني على إحرازه أن ملاك وجوب الحج على المستطيع تام في
ظرفه من قبل المقدمات المفوتة منها التعلم، ولكن لا واقع لهذا البناء، ضرورة
أنه لا طريق للعقل إلى إحراز أن ملاك الحج تام في وقته من قبل المقدمات
المفوتة منها التعلم قبل الاستطاعة حيث لا طريق له إلى ملاكات الأحكام
الشرعية أصلا، وعلى هذا فمجرد احتمال أنه سوف يستطيع في المستقبل لا
يبرر حكم العقل بوجوب التعلم طالما لم يحرز تمامية الملاك في ظرفه، هذا
من ناحية.
ومن ناحية أخرى قد أشرنا فيما تقدم أن موضوع دليل وجوب التعلم
الابتلاء الواقعي بالأحكام الشرعية، فإذا شك فيه ولو من جهة الشك في تحقق
موضوعه فلا يمكن التمسك باطلاقه لأنه من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، فإذن يكون المرجع فيه الأصل العملي وهو الاستصحاب في المقام
بناء على حجية الاستصحاب الاستقبالي، وإلا فالمرجع فيه قاعدة قبح العقاب
بلا بيان.
الوجه الثالث: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن هناك مانعا آخر عن
جريان الاستصحاب في المقام وهو متمثل في أحد أمرين: الأول: أن كل
182

مكلف يعلم اجمالا بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في ظرفها، وهذا العلم
الاجمالي مانع عن جريان الأصول النافية في أطرافه، لأن جريانها في الجميع
لا يمكن لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية العملية وجريانها في البعض
دون الآخر ترجيح من غير مرجح فلا محالة تسقط فيكون العلم الاجمالي
منجزا ومعه يستقل العقل بوجوب التعلم والفحص.
الثاني: أن ما دل من الآيات والروايات على وجوب التعلم والمعرفة
كقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (1). وقوله (عليه السلام): هلا
تعلمت (2) وما شابه ذلك وارد في مورد هذا الاستصحاب، وحيث إن في غالب
الموارد لا يعلم الإنسان بل لا يطمئن بالابتلاء، ففي تلك الموارد إذا جرى
الاستصحاب لم يبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلا الموارد النادرة، وهذا
من تقييد المطلق بالفرد النادر فلا يمكن الالتزام به، ونظير ذلك ما ذكره (قدس سره) في
بحث الاستصحاب في وجه تقديم قاعدة الفراغ والتجاوز عليه (3).
ويمكن المناقشة في كلا الأمرين:
أما في الأمر الأول: فيرد عليه أولا أنه لا يتم مطلقا حتى فيما إذا فرض
غفلة المكلف نهائيا عن هذا العلم الاجمالي، فإنه في هذا الفرض لا مانع من
تمسكه بهذا الاستصحاب، حيث لا يلزم منه المحذور المزبور، إذ مع الغفلة لا
وجود للعلم الاجمالي حتى يكون مؤثرا.

(1) سورة النحل: 46.
(2) تفسير البرهان ج 1: ص 560 ح 2، ولا يخفى أن أصل الحديث قد نقله الصدوق (قدس سره) في
الخصال وقد لاحظنا الوسائل والمستدرك والبحار فلم نعثر عليه فراجع.
(3) المحاضرات ج 2: ص 373.
183

وثانيا أن هذا إنما يتم فيما إذا لم يتعلم مجموعة من الأحكام التي لا
تكون أقل من المعلوم بالاجمال، وإلا فينحل العلم الاجمالي وحينئذ فلا مانع
من جريانه.
وثالثا أن محل الكلام إنما هو في وجوب التعلم في موارد الشك في
الابتلاء بها بدوا من دون العلم به لا تفصيلا ولا إجمالا، وإلا كان العلم
المذكور كافيا في وجوب تعلمها.
وأما في الأمر الثاني، فلأن ما أفاده (قدس سره) مبني على أن يكون موضوع
وجوب التعلم نفس الشك والاحتمال في الابتلاء، وحينئذ فحيث إن موارد
الشك فيه أكثر من موارد اليقين، فلو جرى الاستصحاب في تلك الموارد لزم
تقييد إطلاق أدلة وجوب التعلم بالفرد النادر ولكنه لا يتم، أما أولا فلأن
موضوع وجوب التعلم ليس نفس الشك في الابتلاء بل هو الابتلاء الواقعي كما
تقدم، وحينئذ فلا يلزم من جريان الاستصحاب فيه ما ذكره (قدس سره) من المحذور.
وثانيا على تقدير تسليم أن موضوعه نفس الشك ولكن مع هذا لا يلزم
المحذور على ضوء ما سلكه (قدس سره) في باب الاستصحاب من أن المجعول فيه
الطريقية والكاشفية.
وعليه فيكون الاستصحاب حاكما على تلك الأدلة ورافعا لموضوعها
وهو الشك والاحتمال تعبدا، فلا يكون تقديمه عليها من باب التقييد
والتخصيص بل من باب الحكومة وحينئذ فلا محذور، إلى هنا قد تبين أنه
يجب تعلم الأحكام الشرعية في موارد العلم التفصيلي بالابتلاء وكذلك في
موارد العلم الاجمالي على أساس سقوط الأصول المؤمنة في أطرافه أو قصور
أدلتها عن شمولها.
وأما في موارد الشبهات البدوية، فقد تقدم أنه لا يمكن التمسك باطلاق
184

أدلة وجوب التعلم فيها، لأنه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية،
وعندئذ فإن كانت الشبهة حكمية بأن يكون الشك في الكبرى مع تحقق
الصغرى، وجب الاحتياط فيها أو الفحص وتحصيل الحجة على عدم ثبوت
الكبرى، وإن كانت الشبهة موضوعية، وحينئذ فإن كان الشك في تحقق
الصغرى فعلا مع العلم بثبوت الكبرى شرعا، فلا مانع من الرجوع إلى الأصول
المؤمنة فيه كاستصحاب عدم تحقق الصغرى، وبذلك ينفي وجوب التعلم، وإن
كان الشك في تحقق الصغرى في المستقبل، كما إذا احتمل أنه سوف يستطيع
للحج، ففي مثل ذلك حيث قد تقدم الاشكال في جريان استصحاب عدم
تحقق الصغرى فيه، فيكون المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيان باعتبار أنه لم
يقم بيان على وجوب التعلم في المقام.
وأما الكلام في المقام الخامس، وهو أن وجوب التعلم هل هو نفسي أو
غيري أو لا هذا ولا ذاك بل هو إرشادي أو طريقي، ففيه وجوه:
الوجه الأول: ما نسب إلى المحقق الأردبيلي (قدس سره) وهو أن وجوب التعلم
نفسي (1)، بل ربما نسب هذا القول إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره) أيضا بقرينة قوله في
رسالته العملية أن تارك التعلم فاسق (2)، ولكن في دلالة تلك الجملة على هذا
القول تأمل، وكيف كان فقد ادعى المحقق الأردبيلي (قدس سره) أنه نفسي تهيئ، أما أنه
نفسي فلأنه مجعول من أجل ما فيه من الملاك لا من أجل ما في واجب آخر كما
هو الحال في الوجوب الغيري، وأما أنه تهيئ فمن أجل أنه يحافظ على ملاكات
الأحكام الواقعية، وعليه فتكون فيه جهتان:

(1) راجع مجمع الفائدة والبرهان ج 2: ص 110 مبحث مكان المصلي.
(2) وقد نسبه المحقق النائيني إلى الشيخ الأعظم في أجود التقريرات ج 1: ص 158.
185

الأولى: جهة نفسية وهي اتصافه بالملاك.
الثانية: جهة غيرية وهي جعل وجوبه من أجل الحفاظ على الملاكات
الواقعية، وكلتا الجهتين تدعو المولى إلى جعل التعلم واجبا نفسيا تهيئيا.
والجواب: أن ذلك وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أنه لا يمكن إثباته بدليل،
لأن الأدلة الدالة على وجوب التعلم لا تدل على أن وجوبه نفسي بل لا إشعار
فيها على ذلك فضلا عن الدلالة، لوضوح أن وجوبه إنما هو من أجل الحفاظ
على الأحكام الواقعية بما لها من الملاكات التامة لا من أجل نفسه، إذ لا
يحتمل أن تكون في نفس التعلم وتحصيل العلم مصلحة ملزمة تدعو إلى
إيجابه بقطع النظر عما يترتب على الواقع المنكشف به من المصالح والآثار
المطلوبة، لأن قيمة العلم إنما هي بقيمة المعلوم وآثاره العامة أو الخاصة لا في
نفسه، بل في قوله (عليه السلام): " هلا تعلمت " (1) تصريح بأن التعلم إنما هو من أجل العمل
بالواقع، ومن هنا لا يمكن الالتزام بلازم هذا القول وهو استحقاق العقوبة على
ترك التعلم زائدا على استحقاق العقوبة على ترك الواقع وتفويته.
فالنتيجة أنه لا يمكن الالتزام بأن وجوب التعلم وجوب نفسي تهيئ.
وأما القول الثاني، وهو أن وجوبه غيري، فقد أورد عليه بأن ما يتصف
بالوجوب الغيري هو المقدمات الوجودية التي يتوقف وجود الواجب عليها
دون المقدمات العلمية التي يتوقف العلم بالواجب عليها، والتعلم بما أنه من
المقدمات العلمية فلا يتصف بالوجوب الغيري، فلهذا لا يمكن الالتزام بهذا
القول.
والجواب: أن هذا الإيراد لا يتم مطلقا، فإن المقدمة العلمية وإن لم

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 113.
186

تتصف بالوجوب الغيري إلا أن التعلم كما مر ليس مقدمة علمية مطلقا بل هو
في بعض الموارد مقدمة وجودية كتعلم الصلاة بما لها من الأجزاء والشروط.
فإنه مقدمة وجودية لها، وعلى هذا فإن كان ملاك عدم اتصافه بالوجوب
الغيري كونه مقدمة علمية، فلابد حينئذ من التفصيل بين الموارد التي يكون
التعلم فيها مقدمة وجودية والموارد التي يكون التعلم فيها مقدمة علمية، فعلى
الأول يتصف بالوجوب الغيري دون الثاني.
وإن كان ملاك عدم اتصافه به عدم الدليل عليه وقصور المقتضي،
فحينئذ لا فرق بين كونه مقدمة وجودية أو علمية، فإنه لا مقتضى لكون
وجوبه غيريا، لأن مفاد الأدلة الدالة على وجوبه إما إرشادي أو طريقي ولا
ثالث لهما.
وأما القول الثالث وهو أن وجوب التعلم إرشادي، فقد أورد عليه السيد
الأستاذ (قدس سره) بأن مفاد أدلة وجوب التعلم لو كان إرشاديا، لم يكن هناك مانع من
التمسك بأصالة البراءة في الشبهات الحكمية قبل الفحص، وقد أفاد في وجه
ذلك أن المقتضي للتمسك بها موجود وهو إطلاق أدلتها والمانع مفقود، لأن
المانع منه إنما هو أدلة وجوب التعلم، ولكن لو كان مفادها الإرشاد إلى حكم
العقل بوجوب التعلم من باب دفع العقاب المحتمل من دون أن تكون لها أثر
لزم هذا المحذور، وهو جواز التمسك بأصالة البراءة في الشبهات الحكمية قبل
الفحص، باعتبار أن العقل لا يمنع عن التمسك بها فيها لأنها رافعة لحكم العقل
بارتفاع موضوعه وهو احتمال العقاب وجدانا، ضرورة أنه مع أصالة البراءة
المؤمنة لا احتمال للعقاب (1).

(1) المحاضرات ج 2: ص 376.
187

ويمكن المناقشة فيه بتقريب، أنه لا إطلاق لأدلة أصالة البراءة للشبهات
المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهات الحكمية قبل الفحص، لأنها منصرفة عن
تلك الشبهات عرفا، أو أن هناك قرينة لبية عقلية كالمتصل مانعة عن انعقاد
ظهورها في الاطلاق وهي أن الرجوع إليها في تلك الشبهات يؤدي في مخالفة
الواقع وتفويت الملاكات الملزمة في ظرفها في كثير من الموارد، فإذن لا مانع
من الالتزام بهذا القول من هذه الناحية.
وبكلمة أن ما دل على وجوب التعلم من الآيات والروايات مدلولين:
الأول: المدلول المطابقي وهو وجوب التعلم وتكون دلالته عليه
بالمطابقة.
الثاني: المدلول الالتزامي وهو أن ملاكات الأحكام الواقعية تامة في
ظرفها ويدل عليه بالالتزام، هذا بحسب مقام الاثبات، وأما بحسب مقام
الثبوت والواقع، فالمدلول الالتزامي هو الملاك والمنشأ لمدلوله المطابقي وهو
وجوب التعلم، لوضوح أنه لولا تمامية ملاكاتها في ظرفها من قبل التعلم لم
يكن هناك مبرر لجعل وجوبه، فالمبرر له إنما هو تمامية الملاكات فيه وإلا فلا
يكون المكلف مسؤولا أمامها قبل الابتلاء بها، وأما بعده فإن تمكن من
الامتثال تفصيلا أو اجمالا فهو، وإن لم يتمكن فهو معذور فلا شئ عليه،
فإذن جعل وجوب التعلم في مقام الاثبات كاشف عن أن ملاكات الأحكام
الواقعية تامة في ظرفها وهي تدعو المولى إلى جعل هذا الوجوب بغرض
الحفاظ على الملاكات الواقعية وعدم تفويتها، وعلى هذا فلابد من النظر إلى
أن هذا الوجوب هل هو إرشادي أو طريقي بعد ما لا يمكن أن يكون نفسيا أو
غيريا.
أما الاحتمال الأول، فلأنه إن كان إرشاديا فهو إرشاد لا إلى حكم العقل
188

مباشرة بل إلى أن ملاكات الأحكام الشرعية تامة في ظرفها، فإذا كانت كذلك
وجب الحفاظ عليها وعدم جواز تفويتها عقلا، وعلى هذا فأدلة وجوب التعلم
وإن كانت صورة إنشاء إلا أنها في الحقيقة إخبار عن تمامية ملاكات الأحكام
الشرعية في الواقع، فتكون منشأ لحكم العقل بوجوب التعلم والفحص والحفاظ
عليها وعدم جواز تفويتها.
وأما الاحتمال الثاني، وهو الوجوب الطريقي فإن الغرض من جعله هو
تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير عند الخطأ كحجية الأمارات على الطريقية،
فإن شأنها تنجيز الواقع إذا أصابت والتعذير إذا أخطأت، ومن هنا يكون وجوب
الاحتياط في الشبهات الحكمية بعد الفحص على تقدير ثبوته وجوبا طريقيا
وبيانا على الأحكام الواقعية وكاشفا عن اهتمام الشارع بها حتى في حال الجهل
بها، وأنه لا يرضى بتفويتها حتى في هذه الحالة ومنجزا لها بمعنى أن العقاب على
تركها حينئذ يكون مع البيان.
وكذلك الحال في وجوب التعلم الذي هو مفاد الأدلة المذكورة فإنه
وجوب طريقي ودال على اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية وتمامية ملاكاتها
في ظرفها، وأنه لا يجوز تفويتها بحال حتى في حال الشك والجهل بها،
ووجوب تحصيل القدرة عليها قبل الوقت إن لم يتمكن منه بعد الوقت، ومنجز
لها بمعنى أن العقاب على تركها في وقتها معه لا يكون بلا بيان بل مع البيان
كما هو مقتضى قوله (عليه السلام): " هلا تعلمت "، وإن شئت قلت أن للوجوب
الطريقي الشرعي أثرين:
الأول: أنه بيان على الواقع ومنجز له ويكون العقاب على تركه حينئذ
مع البيان لا بلا بيان.
الثاني: أنه كاشف عن اهتمام الشارع بالحفاظ على الأحكام الواقعية
189

وملاكاتها التامة وعدم جواز تفويتها حتى في حال الشك والجهل بها.
ثم أن الظاهر من أدلة وجوب التعلم أن وجوبه طريقي لا إرشادي بقرينة
ظهورها في الانشاء والجعل المولوي حقيقة، فلو كان مفادها الارشاد فهي في
الحقيقة إخبار بصورة الانشاء ولا يمكن حملها على ذلك إلا بقرينة ولا قرينة
لا في نفس هذه الأدلة ولا من الخارج، فإذن لابد من الأخذ بظاهرها وهو أنها
في مقام المولوية بغرض الحفاظ على الأحكام الواقعية وملاكاتها في ظروفها
وأوقاتها ودلالتها على اهتمام الشارع بها وعدم رضائه بتفويتها في وقتها ولو
بترك تحصيل القدرة عليها قبل الوقت.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن وجوب التعلم ليس بنفسي
ولا غيري ولا إرشادي، أما الأول والثاني، فلأن معيار الوجوب النفسي
والوجوب الغيري لا ينطبقان عليه، وأما الثالث فهو مبني على أن يكون
مفادها الإخبار حقيقة بصورة الانشاء، ومن الواضح أن حملها على ذلك
بحاجة إلى قرينة ولا قرينة عليه، فإذن لابد من الأخذ بظاهرها وهو الوجوب
المولوي الطريقي.
نتائج البحث
الأولى: أن وجوب تعلم الأحكام الشرعية المطلقة أو الموقتة قبل
الابتلاء بها إنما هو فيما إذا لم يتمكن المكلف من امتثالها بعد الابتلاء لا تفصيلا
ولا إجمالا وإلا فلا مقتضى لوجوب تعلمها من الآن.
الثانية: أن التعلم قد يكون من المقدمات الوجودية كالمقدمات المفوتة،
فإن وجود الواجب يتوقف عليه كتعلم القراءة في الصلاة والركوع والسجود
وسائر أجزائها، فإن وجود الصلاة يتوقف عليه وقد يكون من المقدمات
190

العلمية.
الثالثة: عدم وجوب تعلم الأحكام الشرعية على الصبي قبل بلوغه،
وهذا لا من جهة أن المقتضي للوجوب غير موجود بالنسبة إلى الصبي المميز،
ولكن مصلحة الامتنان حيث إنها أقوى منه، فهي تمنع عن تأثيره.
الرابعة: أن المكلف إذا لم يعلم بالابتلاء بالحكم في المستقبل، فهل
يجب عليه تعلمه؟ الجواب: أن المعروف والمشهور وجوب تعلمه، ولكن
تقدم أنه لا يخلو عن مناقشة.
الخامسة: أن الشك في الابتلاء إن كان من الشبهة الحكمية بأن يعلم
المكلف بالصغرى ويشك في الكبرى، فالمرجع فيه الاحتياط بوجوب التعلم
وإن كان من الشبهة الموضوعية بأن يعلم بالكبرى ويشك في الصغرى،
فالمرجع هو استصحاب عدم تحقق الصغرى، هذا إذا كان الشك في تحقق
الصغرى فعلا، وأما إذا كان الشك في تحققها في المستقبل، كما إذا علم
بوجوب الحج على المستطيع ولكنه يشك في أنه هل يستطيع في المستقبل؟ ففي
مثل ذلك هل يجري الاستصحاب الاستقبالي؟
والجواب: أن جريانه لا يخلو عن إشكال والمرجع فيه قاعدة البراءة
العقلية.
السادسة: أن أدلة وجوب التعلم لا تشمل صورة الشك في الابتلاء
واحتماله، لأنه موضوعه مقيد بالابتلاء واقعا وغير المبتلى كذلك خارج عن
موضوعه، وعليه فلا يمكن التمسك بعمومها وإطلاقها في موارد الشك في
الابتلاء لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلهذا يكون المرجع فيها
الأصول العملية.
السابعة: أن وجوب التعلم ليس بنفسي ولا غيري ولا إرشادي، لأن
191

معيار الوجوب النفسي لا ينطبق عليه وكذلك معيار الوجوب الغيري، وأما
الوجوب الارشادي فهو بحاجة إلى قرينة ولا قرينة عليه في المقام، فلهذا
يتعين كونه طريقيا وأثره أمران:
الأول: تنجيز الواقع بمعنى أن العقاب على مخالفته حينئذ يكون مع
البيان.
الثاني: كشفه عن اهتمام الشارع بالحفاظ على الواقع وعدم جواز
تفويته بحال.
192

البحث الخامس:
في الواجب النفسي والواجب الغيري
يقع الكلام فيه في عدة نقاط:
الأولى: في نقطة الفرق بين ذاتي الواجب النفسي والواجب الغيري.
الثانية: في نقطة الفرق بين الواجبين في الأصل اللفظي والأصل العملي.
الثالثة: في ترتب الثواب والعقاب على الواجب الغيري وعدم ترتبهما
عليه.
أما الكلام في النقطة الأولى فقد ذكر الأصوليون عدة فروق بينهما.
الأول: أن الواجب النفسي هو ما وجب لنفسه لا من أجل واجب آخر
كالصلاة والصيام والحج وغيرها من الواجبات النفسية، والواجب الغيري هو ما
وجب لأجل واجب آخر كالوضوء والغسل والتيمم ونحوها، فإنها واجبة لا
من أجل نفسها بل من أجل واجب آخر.
وقد نوقش فيه بأن هذا الفرق ليس بجامع، فإن مقتضاه خروج كثير من
الواجبات النفسية عن هذا التعريف ودخولها في الواجب الغيري كالصلاة
والصيام والحج وما شاكلها، فإن هذه الواجبات جميعا واجبة من أجل مصالح
193

وملاكات لزومية مترتبة عليها، فيكون وجوبها من أجل تلك الملاكات
والمصالح لا من أجل نفسها، فإذن تكون مشمولة لتعريف الواجب الغيري
دون النفسي.
والخلاصة أن الواجب بالأصالة ولنفسه إنما هو تحصيل تلك المصالح
والملاكات اللزومية، وحيث إنه لا يمكن مباشرة فلذلك أوجب الشارع هذه
الأفعال كالصلاة والصيام ونحوها مقدمة لإيجادها وتحصيلها في الخارج،
ونتيجة هذا الفرق انحصار الواجب النفسي بمعرفة الباري عز وجل فإنها واجبة
لنفسها لا من أجل الغير، وأما ما عداها جميعا من الواجبات الغيرية سواء
كانت من الواجبات العملية كالصلاة والصيام ونحوهما أم العقائدية كمعرفة
النبوة والإمامة وغيرهما، فإنها جميعا من أجل معرفة الباري عز وجل لا
بالذات.
وقد يجاب عن هذه المناقشة، بأن وجوب الواجب النفسي وإن كان في
الحقيقة من أجل حصول المصلحة الملزمة وترتبها عليه لا لنفسه، إلا أن
المصلحة المذكورة لما كانت خارجة عن نطاق قدرة المكلف واختياره لم
يعقل تعلق الوجوب بها، فإذن ينطبق عليه تعريف الواجب النفسي وهو ما
وجب لنفسه لا لواجب آخر.
وقد علق على هذا الجواب المحقق الخراساني (قدس سره) بتقريب، أنه إن أريد
بذلك أن المصالح والملاكات اللزومية خارجة عن قدرة المكلف واختياره
مطلقا، فيرده أن الأمر ليس كذلك، فإنها وإن كانت خارجة عن نطاق قدرة
المكلف مباشرة إلا أنها مقدورة بالواسطة والمفروض أن المقدور بالواسطة
مقدور ولا مانع من تعلق التكليف به كذلك، كما إذا أمر المولى عبده بتسخين
ماء مثلا أو طبخ شئ فإنه قادر عليه من جهة قدرته على إيجاد سببه،
194

فالنتيجة أن القدرة قد تتعلق بالفعل بشكل مباشر وقد تتعلق به بالواسطة (1) هذا.
وقد ناقش في هذا التعليق المحقق الأصفهاني (قدس سره) بتقريب، أنه فرق بين
الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، فإن الإرادة إذا كانت تكوينية فإن تعلقت
بشئ فلا محالة يكون تعلقها به بغاية، فإذا أراد الإنسان شراء لحم كان بغرض
طبخه والغرض من الطبخ أكله والغرض منه إقامة البدل لما يتخلل من البدن
والغرض منه إبقاء الحياة والغرض منه إبقاء وجوده وذاته، فهذا غاية جميع
الغايات للشوق الحيواني، وإذا كان الشوق عقلائيا، فغاية بقائه إطاعة ربه
والتخلق بأخلاقه، فبالنهاية ينتهي إلى معرفة ربه، فغاية الغايات وهي مبدأ
المبادئ غاية لجميع الغايات العقلائية.
وهذا بخلاف ما إذا كانت الإرادة تشريعية، فإنها عبارة عن إرادة الفعل
من الغير، وعلى هذا فيمكن أن يكون الفعل مرادا من شخص والغرض منه لا
يكون مرادا من ذلك الشخص، فإذا أراد المولى العرفي شراء لحم من زيد، فإن
الغرض منه وإن كان طبخه ولكنه غير مراد منه، بل لعله مراد من عمرو
واحضاره في المجلس مراد من بكر وهكذا، إذ لا تنافي بين كون الشئ مرادا
من أحد والغرض منه غير مراد منه وإن كان مقصودا من الفعل لترتبه عليه.
ومنه يعلم حال الصلاة وسائر الواجبات، فإن الغرض من الصلاة وإن
كانت مصلحتها إلا أنها غير مرادة من المكلف لا بالغرض ولا بالذات، بل
المراد بالذات من المكلف نفس الصلاة، فالإرادة التشريعية متقومة بإرادة الفعل
من الغير لا أنها مطلق الشوق حتى يقال أن الشوق إلى الصلاة منبعث عن
الشوق إلى غايتها إلى أن ينتهي إلى غاية الغايات، ومن هنا يكون جميع آثار

(1) كفاية الأصول: ص 108.
195

الواجب النفسي الحقيقي من كونه محركا ومقربا وموجبا لاستحقاق الثواب
على موافقته والعقاب على مخالفته مترتبة على هذه الواجبات النفسية
المتعارفة، فإنها المرادة من المكلف بالذات فإرادتها منه هي الداعية له فهي
المقربة له (1).
ولكن للمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجالا واسعا، إذ لا شبهة في أن المصالح
والملاكات اللزومية المترتبة على الواجبات الشرعية كالصلاة والصيام والحج
ونحوها مقصودة ومرادة من المكلف أولا وبالذات، لوضوح أن الأمر بالصلاة
إنما هو من جهة اشتمالها على المصلحة الملزمة وترتبها عليها، فإنها تدعو
المولى إلى إيجابه وإلا لكان وجوبها لغوا، والمفروض أن تلك المصالح
والملاكات ترجع إلى العباد، فإيجاب هذه الواجبات الشرعية إنما هو لإدراك
العباد تلك المصالح ووصولهم إليها وأن لا تفوت عنهم، ولا يمكن فرض أن
الصلاة مطلوبة من شخص والغرض المترتب عليها مطلوب من آخر وهكذا،
بل أن هذا في نفسه غير معقول في الواجبات الشرعية، باعتبار أن ترتب
المصالح اللزومية عليها من قبيل ترتب الأثر على المؤثر فلا يمكن أن يكون
الشخص مكلفا به فحسب لأنه خارج عن اختياره وقدرته، وما أفاده (قدس سره) مبني
على الخلط بين الواجبات العرفية والواجبات الشرعية، فإن هذا التفكيك
ممكن في الواجبات العرفية، حيث لا مانع من أن يكون الفعل فيها مرادا من
شخص وما يترتب عليه الغرض مرادا من آخر باعتبار أن الغرض هناك لا
يرجع إلى المأمور بل يرجع إلى الآمر، وحينئذ فيمكن التفكيك بأن يكون
الفعل الذي هو بمثابة المقدمة مطلوبا من فرد وتحصيل الغرض منه مطلوبا من

(1) نهاية الدراية ج 2: ص 101 - 102.
196

فرد آخر وهكذا، وأما في الواجبات الشرعية فلا يعقل ذلك، لأن المصلحة
فيها ترجع إلى العبد وهو مأمور بتحصيلها لا إلى المولى من جهة وعدم إمكان
التفكيك بينهما خارجا من جهة أخرى، فما أفاده (قدس سره) من أن الغرض من الصلاة
وإن كانت مصلحتها إلا أنها غير مرادة من المكلف لا بالغرض ولا بالذات
غريب جدا، وبكلمة أن ما ذكره (قدس سره) من أن المصلحة المترتبة على الصلاة مثلا
غير مرادة من المكلف لا بالذات ولا بالغرض، إن أراد بذلك أن الإرادة التشريعية
متعلقة بالفعل لا بها ولا بالغرض ولا بالذات، فيرد عليه أنها متعلقة بها بالذات،
وأما تعلقها بالصلاة باعتبار أنها مقدمة لها هذا إذا كان المراد من الإرادة التشريعية
القصد والشوق، وأما إذا كان المراد منها أمر المولى، فهو وإن كان متعلقا بالفعل
كالصلاة إلا أن تعلقه بالفعل إنما هو لتحصيل المصلحة الملزمة المترتبة عليه، فإنه
المقصود بالأصالة دون الفعل بما هو، ولهذا تكون تلك المصلحة هي حقيقة الأمر
وروحه لا مجرد الاعتبار، وإن أراد بذلك أنها غير مقدورة للمكلف، فقد تقدم أنها
مقدورة بالواسطة وهي تكفي في صحة التكليف والإرادة، وإن أراد بذلك أنها غير
قابلة لتعلق التكليف بها باعتبار أنه لا طريق للمكلف إليها ولا يعلم بها ولا
بحدودها سعة وضيقا، ففيه أن هذا وإن كان صحيحا إلا أن ذلك لا يمنع عن كونها
مرادة ومقصودة بالذات من المكلف تحصيلها.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن جميع آثار الواجب النفسي مترتبة على الأفعال
الواجبة ككونها محركة ومقربة وموجبة لاستحقاق الثواب على موافقتها
والعقوبة على مخالفتها فهو صحيح، إلا أن ترتب تلك الآثار على هذه
الواجبات إنما هو باعتبار اشتمالها على المصالح والملاكات اللزومية التي هي
الداعية إلى إيجابها، لأن العقوبة في الحقيقة إنما هي على تفويتها والمثوبة على
استيفائها والأمر بالصلاة إنما هو محرك بلحاظ ما فيها من المصلحة الملزمة،
197

وإلا فلا قيمة للأمر بما هو اعتبار.
فالنتيجة أن ما أفاده (قدس سره) من أن الواجبات الشرعية كالصلاة ونحوها
مقصودة بالذات من المكلف والمصلحة المترتبة عليها ليست مرادة منه لا
بالعرض ولا بالذات لا يرجع إلى معنى صحيح، كما أنه ظهر بما ذكرناه أن هذا
الفرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري غير فارق.
الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الواجب النفسي ما يكون
معنونا بعنوان حسن في نفسه لا من أجل واجب آخر، ويستقل العقل بمدح
فاعله وذم تاركه وهو يدعو المولى إلى إيجابه من أجل حسنه الذاتي، ولا
منافاة بين كونه حسنا في نفسه ومتعلقا للوجوب كذلك، وبين كونه مقدمة
لمصلحة ملزمة مطلوبة واقعا، بينما الواجب الغيري ما يكون كذلك من أجل
واجب آخر لا من أجل حسنه الذاتي، وإن فرض أنه حسن في نفسه
كالطهارات الثلاث، فإنها وإن كانت معنونة بعنوان حسن إلا أن الأمر الوجوبي
المتعلق بها ليس من أجل حسنها ذاتا بل من أجل واجب آخر كالصلاة
ونحوها، فلهذا يكون وجوبها غيريا مترشحا من وجوب واجب آخر.
والخلاصة أن الضابط في كون الواجب نفسيا أو غيريا هو أن كلما كان
وجوبه متعلقا به بلحاظ حسنه الذاتي فهو واجب نفسي وإن كان مقدمة
لمطلوب آخر كصلاة الظهر، فإنها على الرغم من كون وجوبها بلحاظ حسنها
الذاتي مقدمة لواجب آخر وهو صلاة العصر، فإن ذلك لا يضر بكونها واجبة
نفسية، وكلما كان وجوبه متعلقا به من أجل واجب آخر ومترشحا من وجوبه
فهو واجب غيري وإن كان حسنا في نفسه هذا (1).

(1) كفاية الأصول: ص 108.
198

وقد أورد على هذا الوجه المحقق النائيني (قدس سره) بما يلي: وهو أن حسن
الواجبات الشرعية كالصلاة ونحوها إن كان بلحاظ مقدمية تلك الواجبات
للمصالح والملاكات اللزومية فالإشكال قد ظل بحاله، فإنها في نفسها ليست
بحسنة وإنما هي حسنة بالتبع وبالغير لا بالذات، وإن كان ذاتيا لها بقطع النظر
عن تلك المصالح والملاكات الملزمة المترتبة عليها، فلازم ذلك أن لا يكون
شئ من الواجبات النفسية في الشريعة المقدسة متمحضا في الواجب النفسي
وذلك لاشتمالها على ملاكين:
أحدهما: حسنها الذاتي، فإنه ملاك وجوبها النفسي، والآخر كونها
مقدمة لواجب آخر، فإنه ملاك وجوبها الغيري كصلاة الظهر، فإنها واجبة
لنفسها ومقدمة لغيرها وهي صلاة العصر، وكذلك الحال في صلاة المغرب فإنها
واجبة لنفسها ومقدمة لواجب آخر وهو صلاة العشاء هذا (1).
وفيه أن هذا الإشكال لا يرجع بالتحليل إلى معنى صحيح، أما الشق
الأول منه فهو إشكال معروف في الألسنة وسوف يأتي الجواب عنه. وأما
الشق الثاني فهو ليس بإشكال، إذ لا مانع من أن يكون الواجب النفسي مقدمة
لواجب آخر كصلاة الظهر، فإنها على الرغم من كونها واجبة نفسية مقدمة
لواجب نفسي آخر وهو صلاة العصر، وكذلك الحال في صلاة المغرب فإنها
ترغم كونها واجبة نفسية مقدمة لواجب نفسي آخر وهو صلاة العشاء وهكذا،
والنكتة في ذلك أن مقدميتها بملاك ونفسيتها بملاك آخر ولا يرتبط أحد
الملاكين بالآخر ولا تنافي بينهما، فما ذكره (قدس سره) من أن الواجبات النفسية إن
كانت نفسيتها بلحاظ حسنها الذاتي بقطع النظر عن المصالح والملاكات

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 167.
199

المترتبة عليها، فلازم ذلك أن لا يوجد هناك واجب متمحض في الواجب
النفسي، ففيه أنه ليس إشكالا في المسألة، فإن الكلام فيها إنما هو في الفرق
بين الواجب النفسي والواجب الغيري وهو متحقق في هذه الموارد، فإن صلاة
الظهر واجب نفسي بملاك وواجب غيري بملاك آخر ولا يمكن أن تكون
واجبا نفسيا وغيريا بملاك واحد، وليس الكلام في أن الواجب النفسي لابد
أن يكون متمحضا في النفسية، ضرورة أن الفرق بينهما لا يقتضي ذلك هذا،
والصحيح في الجواب أن يقال أن دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات
النفسية في الشريعة المقدسة لا تخلو عن مجازفة، ضرورة أن مجموعة من
الواجبات النفسية لم تكن في ذاتها حسنة بقطع النظر عن أمر الشارع بها
وكشفه عن اشتمالها على المصالح والملاكات اللزومية كبعض أعمال الحج
كالسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات والذبح والحلق والمبيت في منى
ونحو ذلك، والصوم مثلا. فإن الكف عن الأكل والشرب في نهار شهر رمضان
ولا سيما في فصل الصيف الحار لا يكون محبوبا في نفسه وحسنا بذاته
وهكذا، لأن العقل لا يدرك حسن هذه الأفعال في نفسها حتى بنحو الاقتضاء،
فإذن كيف يمكن أن يقال أن ملاك الواجب النفسي حسنه الذاتي، هذا إضافة
إلى أن مجرد حسن فعل لا يصلح أن يكون ملاكا للوجوب، ومن هنا لا شبهة
في أن احترام المؤمن حسن ولكنه غير واجب شرعا وهكذا، فالنتيجة أنه لا
يمكن أن يكون ملاك الوجوب النفسي حسنه الذاتي هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ملاك الوجوب هو اتصاف الفعل بالمصلحة الملزمة
في مرحلة المبادئ، وملاك الحرمة هو اتصاف الفعل بالمفسدة الملزمة في
هذه المرحلة، وقد تقدم أنه لا ملازمة بين حكم العقل العملي وبين حكم
الشرع، فإن هذه الكبرى غير ثابتة وإن كانت صغراها ثابتة وهي حكم العقل
200

بالحسن والقبح، وأما الملازمة بين حكم العقل النظري وحكم الشرع فهي وإن
كانت ثابتة كبرويا إلا أنه لا وجود لها في مرحلة التطبيق صغرويا، وتمام
الكلام في ذلك قد تقدم.
الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من إن الأمر لا يمكن أن يتعلق
بالغايات القصوى المترتبة على الواجبات الشرعية، بتقريب أن الغايات تقسم إلى
ثلاثة أقسام، الأول ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط أمر اختياري
أو غير اختياري بينه وبين ذلك الفعل، وذلك كالزوجية المترتبة على العقد
والطهارة المترتبة على الغسل أو الوضوء والقتل المترتب على سببه وما شاكل
ذلك، فإذا كانت الغاية من هذا القبيل فلا مانع من تعلق التكليف بها، لأنها مقدورة
بواسطة القدرة على سببها.
الثاني: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر اختياري خاصة،
وذلك كالصعود على السطح وطبخ اللحم وما شاكلهما، فإن كل ذلك في
الخارج يتوقف على عدة مقدمات اختيارية، وفي هذا الصنف أيضا لا مانع من
تعلق التكليف بنفس الغاية والغرض على أساس أن المقدور بالواسطة مقدور.
الثالث: ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر خارج عن الاختيار،
فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعد إلى المعد له، لا نسبة السبب إلى المسبب والعلة
إلى المعلول وذلك كحصول الثمر من الزرع، فإنه يتوقف زائدا على زرع الحب في
الأرض وجعلها صالحة له وسقيها على مقدمات أخرى خارجة عن اختيار
الإنسان، فالمقدمات الاختيارية مقدمات إعدادية فحسب، ومثل ذلك شرب
الدواء للمريض، فإن تحسن حاله يتوقف على مقدمة أخرى خارجة عن اختياره،
وهذا الصنف مما لا يمكن تعلق التكليف به لأنه تكليف بغير المقدور وما نحن فيه
من هذا القبيل، فإن نسبة الأفعال الواجبة إلى ما يترتب عليها من المصالح
201

والملاكات اللزومية نسبة المعد إلى المعد له، حيث إن بينهما مقدمات خارجة عن
إختيار المكلف، وعليه فلا يمكن تعلق التكليف بتلك المصالح والملاكات، لفرض
أنها خارجة عن اختيار المكلف هذا (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بأن ما أفاده (قدس سره) وإن كان تاما بالنسبة
إلى الغرض الأقصى لأنه خارج عن قدرة المكلف واختياره كالنهي عن
الفحشاء الذي هو الغاية القصوى من الصلاة، فإنه لا يترتب عليها ترتب
المعلول على العلة التامة بل ترتبه عليها يتوقف على مقدمة أخرى خارجة عن
اختيار المكلف وقدرته، إلا أنه غير تام بالنسبة إلى الغرض الأدنى وهو حيثية
الإعداد والتهيؤ للوصول إلى الغرض الأقصى، والمفروض أن تلك الحيثية
مترتبة على الواجبات الشرعية ترتب المسبب على السبب والمعلول على العلة
التامة، وحيث إن السبب مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف بالمسبب،
فيكون المقام نظير الأمر بزرع الحب في الأرض، فإن الغرض الأقصى منه
وهو حصول النتاج وإن كان خارجا عن اختيار المكلف، إلا أن الغرض الأدنى
المترتب على الزرع من دون تخلف وهو إعداد المحل وتهيؤه مقدور له بالقدرة
على سببه، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى حيث إن الغرض المترتب على تلك الأفعال ترتب
المسبب على السبب لزوميا على الفرض فبطبيعة الحال يتعين التكليف به
لكونه مقدورا، وعلى ذلك يبقى إشكال دخول الواجبات النفسية في تعريف
الواجب الغيري بحاله (2).

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 167.
(2) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 385.
202

وقد ناقش فيه بعض المحققين (قدس سره) أن التهيؤ والإعداد الموصل إلى
الغرض الأقصى أيضا خارج عن قدرة المكلف، وأما الاعداد والتهيؤ الأعم من
الموصل وغير الموصل فحاله حال الفعل من حيث إنه ليس المطلوب الحقيقي
ولا النفسي ولا الغيري بناء على ما هو الصحيح من اختصاص الوجوب
والشوق الغيريين بالمقدمة الموصلة، وإنما هو المطلوب بالمسامحة، ومن
الواضح أنه لا فرق في إعمال المسامحة بين أن يطلب الإعداد أو ذات الفعل
هذا.
ولكن هذه المناقشة غير سديدة، وذلك لأن أمر المولى بشئ لا يمكن
أن يكون جزافا وبدون نكتة مبررة له وتلك النكتة هي المصلحة المترتبة عليه
، فإنها تدعو المولى إلى الأمر به وإيجابه، ومن الطبيعي أن هذه المصلحة هي
مصلحة الاعداد والتهيؤ للوصول إلى المصلحة الأقصى، فإن الواجبات
الشرعية العملية كالصلاة والصيام والحج ونحوها تجعل النفس مستعدة
للوصول إلى الغاية القصوى وهي الإيمان الكامل، حيث لا شبهة في أن العلاقة
الإيمانية في النفس تنمو وتترسخ فيها بالاستمرار على تلك الواجبات والتداوم
عليها وبالإجتناب عن المحرمات، والخلاصة أن التهيؤ والإعداد هو المطلوب
من هذه الواجبات الشرعية وهو الداعي إلى إيجابها من قبل المولى، غاية
الأمر إن كان موصلا إلى الغرض الأقصى فهو نور على نور، وإلا فالغرض
الأولي قد حصل منها، ضرورة أن إعداد النفس للوصول إلى درجة عالية من
الإيمان بنفسه مطلوب باعتبار أنه مرتبة بدائية من الإيمان، وهذا لا ينافي كونه
مقدمة لمطلوب أقصى إذ لا يمكن القول بأن الإعداد والتهيؤ ليس مطلوبا حقيقيا لا
نفسيا ولا غيريا إذا لم يكن موصلا إلى الغرض الأقصى، إذ لازم ذلك أن يكون
203

الأمر بتلك الواجبات بلا مبرر وهو لا يمكن (1)، وما ذكره (قدس سره) من أن الإعداد
والتهيؤ لا يكون مطلوبا حقيقة وإنما هو مطلوب مسامحة فلا يمكن المساعدة
عليه، إذ لا شبهة في أن الإعداد والتهيؤ مطلوب بالذات بمرتبته لأنه المرتبة البداية
من الإيمان، فإن له درجات من الدانية إلى العالية وما يترتب على الواجبات
الشرعية ترتب الأثر على المؤثر والمسبب على السبب هو الدرجة الأولى من
الإيمان، ومن الواضح أنها مطلوبة بالذات وفي نفس الوقت مقدمة للدرجة الثانية
وهكذا، نعم مطلوبيتها المقدمية منوطة بالإيصال بناء على ما هو الصحيح من أن
المقدمة إنما تكون مطلوبة إذا كانت موصلة لا مطلقا، وأما مطلوبيتها الذاتية فهي
ثابتة مطلقا ولا ترتبط بالإيصال.
فالنتيجة أن هذه المناقشة غير تامة، وهل يتم ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره)
من الإيراد؟ والجواب أنه لا يتم وسوف تأتي الإشارة إلى ذلك.
الرابع: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن المصالح والملاكات المترتبة
على الواجبات الشرعية وإن كانت ملزمة بل هي الداعية إلى الأمر بها إلا أنها
غير قابلة لتعلق التكليف بها، لأن تعلق التكليف بشئ مبني على أساس
أمرين:
الأول: أن يكون ذلك الشئ مقدورا للمكلف، لاستحالة تعلق التكليف
بغير المقدور.
الثاني: أن يكون ذلك الشئ أمرا عرفيا وقابلا لأن يقع في حيز
التكليف لدى العرف العام، بأن يكون مفهوما عرفيا مجددا جزء وقيدا سعة
وضيقا كالصلاة والصيام ونحوهما، وعلى هذا فالمصالح والملاكات اللزومية

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 222.
204

المترتبة على الواجبات الشرعية كالصلاة ونحوها وإن كانت مقدورة للمكلف
من جهة قدرته على أسبابها، إلا أنها ليست من المفاهيم العرفية المحددة سعة
وضيقا حتى يمكن أخذها في متعلق الخطابات الشرعية على أساس أنها
خطابات عرفية فلابد أن تكون متعلقاتها أمور عرفية محددة، وحيث إن
المصالح والملاكات المترتبة علينا مجهولة الهوية والحدود لدى العرف،
باعتبار أنه لا طريق لهم إليها ولا إلى حدودها سعة وضيقا، فلا يمكن تعلق
الخطابات الشرعية بها، ضرورة أن متعلقاتها لابد أن تكون معلومة ومحددة
ولا يعقل تعلقها بالمجهول هوية وحدودا.
فإذن لا محالة يكون متعلق الوجوب نفس الأفعال الخارجية بمفاهيمها
العرفية المحددة من حيث السعة والضيق من قبل الشرع دون المصالح
والملاكات المترتبة عليها، وعلى هذا فينطبق عليها تعريف الواجب النفسي
وهو ما وجب لنفسه لا لأجل واجب آخر، فالصلاة واجبة لنفسها لا لأجل
واجب آخر وهكذا، فالنتيجة أن الواجبات المذكورة واجبات نفسية والمصالح
المترتبة عليها داعية إلى الأمر بها (1) هذا.
والجواب: أن ما ذكره (قدس سره) من أن المصالح والملاكات اللزومية المترتبة
على الواجبات الشرعية بما أنها مجهولة الهوية والحدود عند العرف، فلا
يمكن تعلق الخطابات الشرعية بها وإن كان صحيحا، إلا أن ذلك وحده لا
يجدي في دفع الاشكال، وذلك لأن للواجب النفسي تفسيرين:
الأول: أن لا يكون وجوبه ناشئا من وجوب واجب آخر.
الثاني: أن لا يكون وجوبه لأجل شئ آخر.

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 386.
205

وما ذكره (قدس سره) إنما يتم على ضوء التفسير الأول، فإن وجوب الصلاة على
أساس هذا التفسير وجوب نفسي، باعتبار أن وجوبها غير ناشئ من وجوب
واجب آخر. وأما على ضوء التفسير الثاني فلا يتم ما أفاده (قدس سره)، لأن وجوب
الصلاة إنما هو لأجل شئ آخر وهو المصلحة اللزومية المترتبة عليها، فإنها
حقيقة الوجوب وروحه هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى الصحيح في تفسير الواجب النفسي هل هو الأول أو
الثاني؟
والجواب الصحيح هو الثاني، ولا يجوز الاقتصار على الأول، لأن
لازمه أن المناط في الواجب النفسي أن يكون وجوبه متعلقا به أولا وبالذات
بأن لا يكون معلولا لوجوب واجب آخر، وإن كان معلولا لشئ آخر الذي
هو أهم من الوجوب بمعنى الاعتبار وهو المصلحة الملزمة المترتبة عليه وهذا
كما ترى، لأن لازم ذلك هو أن وجوب الواجب إن كان ناشئا عن وجوب
واجب آخر فهو واجب غيري، وإن كان ناشئا عما هو روح الوجوب وحقيقته
فليس بواجب غيري، ولهذا فلا يمكن الاقتصار على التفسير الأول، وعليه
فحيث إن وجوب الصلاة من أجل مصلحة لزومية قائمة بها ومترتبة عليها في
الخارج فلا يكون نفسيا، ومجرد أن وجوبها لم ينشأ من وجوب واجب آخر
لا يكفي في كونها واجبة نفسية طالما يكون وجوبها لأجل غيرها لا لنفسها،
لعدم صدق تعريف الواجب النفسي عليها، فالمعيار فيه ما كان وجوبه لنفسه لا
لأجل غيره، وفي الغيري ما كان وجوبه لأجل غيره سواء كان ذلك الغير واجبا
أم لم يكن واجبا، إذ لا أثر لوجوبه من هذه الناحية. وبكلمة أن وجوب
الواجب المتعلق به أولا وبالذات، فإن كان ناشئا عن محبوبية نفسه وتعلق
إرادة المولى به كذلك في مرحلة المبادئ فهو واجب نفسي، وإن كان ناشئا
206

عن محبوبية غيره وتعلق إرادة المولى بذلك الغير في تلك المرحلة فهو واجب
غيري، وما نحن فيه كذلك، فإن الوجوب المتعلق بالصلاة إنما هو لأجل
المصلحة اللزومية المترتبة عليها لا لأجل محبوبية نفسها، وإرادة المولى
تعلقت بتحصيل تلك المصلحة أصالة وبالصلاة تبعا، وعدم تعلق الوجوب إنما
هو به لمانع كما مر، وفي مثل ذلك لا محالة يكون وجوبها غيريا حكما
وملاكا، أما الأول فيكون لأجل غيرها لا لنفسها، وأما ملاكا فلأن متعلق إرادة
المولى بالذات هو حصول المصلحة اللزومية لا نفسها إلا تبعا، وعلى هذا
فالخطاب الوجوبي المتعلق بالصلاة مثلا وإن لم يكن مسبوقا بالخطاب
الوجوبي بتحصيل المصلحة واستيفائها ومعلولا له إلا أنه معلول لحقيقة
الخطاب وهي إرادة المولى والمصلحة اللزومية، فإذن بطبيعة الحال يكون
وجوبها غيريا، إذ لا يمكن القول بأن وجوبها إن كان ناشئا عن وجوب واجب
آخر فهو غيري، وإن كان ناشئا عن ملاكه الذي هو حقيقة الوجوب وروحه لم
يكن غيريا.
هذا إضافة إلى أن وجوب المقدمة ليس معلولا لوجوب ذيها بالمعنى
الواقعي لأنه أمر اعتباري وبيد المعتبر وصفا ورفعا ولا يتصور فيه التأثير والتأثر،
وعلى هذا فالوجوب حيث إنه فعل اختياري للشارع فلا يعقل أن يكون مترشحا
من وجوب آخر قهرا، فإذن لا يمكن أن تكون الملازمة بين وجوب المقدمة
ووجوب ذيها تكوينية بأن يكون وجوب المقدمة مترشحا من وجوب ذيها قهرا
كترشح المعلول عن العلة وتولده عنها، وإلا فلازم ذلك أن يكون الوجوب أمرا
تكوينيا وهذا خلف، فإذن يكون المراد من الملازمة بينهما الملازمة في الجعل
بمعنى أن الشارع إذا جعل الوجوب لشئ بالأصالة جعل الوجوب لمقدمته أيضا
بالتبع، وحينئذ فإذا كان هناك مانع عن جعل الوجوب لذلك الشئ بسبب أو آخر
207

مع وجود ملاكه فيه الذي هو حقيقة الوجوب وروحه فلا محالة يجعل الشارع
الوجوب لمقدمته، لأن مراد الشارع بالأصالة ومقصوده الحقيقي تحصيل الملاك
واستيفائه كان هناك وجوب بمعنى الاعتبار أم لا، فإذا كان ذلك متوقفا على
مقدمة فلا محالة بأمر الشارع بها تبعا، والمفروض أن الأمر بالمقدمة ليس معلولا
للأمر بذيلها لكي لا يمكن فرض الأمر بالمقدمة بدون الأمر به بل كلاهما مجعول
من قبل الشارع، فإذا لم يمكن جعل الأمر الأول لمانع فلا مانع من جعل الأمر
الثاني وهو الأمر بالمقدمة، إلى هنا قد تبين أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من الفرق
بين الواجب النفسي والواجب الغيري لا يمكن المساعدة عليه.
الخامس ما ذكره بعض المحققين (قدس سره) بتقريب أن ملاك النفسي والغيري
في تعريف المشهور ليس بلحاظ عالم الملاك والمبادئ بل بلحاظ عالم
الالزام وتحميل المسؤولية من قبل المولى على العبد، فإن الواجب النفسي ما
يعاقب على تركه بما هو هو والواجب الغيري ما لا يعاقب على تركه بما هو
هو بل بما هو يؤدي إلى ترك شئ آخر، وعلى هذا فإذا جعل المولى نفس
المصلحة في عهدة المكلف ابتداء واشتغلت ذمته بها كانت هي الواجب النفسي
، والفعل بما أنه محصل لها فيكون وجوبه غيريا لأن اشتغال الذمة واستحقاق
العقوبة يكونان بلحاظها.
وأما إذا جعل المولى نفس العمل كالصلاة والصيام ونحوهما في العهدة
واشتغلت الذمة به، كان الفعل واجبا نفسيا، لأن استحقاق العقوبة إنما هو
بلحاظه لا بلحاظ المصالح المترتبة عليه (1) هذا.
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن متعلق الالزام وإن كان نفس الفعل

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 221.
208

كالصلاة والصيام ونحوهما، إلا أنه لا فرق من هذه الناحية بين الواجب النفسي
والواجب الغيري، لأن متعلق الوجوب في كل منهما نفس الفعل، ولكن بما أن
الالزام النفسي به لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة، فالنكتة هي المصلحة
اللزومية المترتبة عليه خارجا، فإنها تدعو المولى إلى إيجابه، وعليه فالالزام
لأجل الغير لا لنفسه، وعلى هذا فإذا أمر المولى بالصلاة مثلا، فقد حمل
مسؤولية تحصيل الغرض على العبد بفعل الصلاة باعتبار أنها محصلة له
ومقدمة لحصوله وترتبه في الخارج باعتبار أنه حقيقة الأمر، وإلا فلا قيمة له
بما هو اعتبار وبقطع النظر عنها، فإذن لا يكون العقاب على ترك الصلاة بما
هو هو بل على تركها بلحاظ أنه يستلزم تفويت الغرض والملاك الملزم،
فالعقاب إنما هو على ذلك، ولهذا لو فرض أن تركها لا يستلزم تفويت الغرض
والمصلحة الملزمة فلا عقاب عليه، فما ذكره (قدس سره) من أن الواجب النفسي ما
يعاقب على تركه بما هو هو غير واقعي، ضرورة أن العقاب على تركه إنما هو
من جهة أنه يستلزم تفويت غرض المولى الذي هو روح الحكم ودعاه إلى
الأمر به، ولو لم يستلزم ذلك فلا مقتضى للعقاب، لحد الآن قد وصلنا إلى هذه
النتيجة وهي أن تعريف الواجب النفسي والواجب الغيري على المشهور لا
ينطبق على شئ من الوجوه المتقدمة هذا، والتحقيق في المقام أن يقال أن
هناك مسألتين.
الأولى: مسألة الفرق بين الواجب النفسي والواجب الغيري.
الثانية: مسألة أن الأحكام الشرعية تتبع ملاكاتها الواقعية اللزومية وإنها
حقيقة الأحكام ولا قيمة لها بدونها، ولهذا يكون الغرض الأساسي هو
تحصيلها والوصول إليها بواسطة الواجبات الشرعية التي هي بمثابة مقدمة لها.
وحينئذ فإن التزمنا بتعريف المشهور للواجب النفسي والغيري، فلا
209

يمكن تطبيق هذا التعريف على شئ من الواجبات الشرعية التي هي واجبة
لأجل مصالحها وملاكاتها اللزومية المترتبة عليها، بل لا مصداق له إلا معرفة
الباري عز وجل، فإذن الجمع بين تعريف المشهور وبين كون هذه الواجبات
واجبات نفسية لا يمكن، ومن هنا لابد من التصرف في هذا التعريف، ولا مبرر
للحفاظ على ظاهره وإلا فلازمه كون جميع تلك الواجبات واجبات غيرية وهو
كما ترى، وعلى هذا فالصحيح في تعريف الواجب النفسي والواجب الغيري أن
يقال أن الواجب النفسي هو ما وجب لأجل مصلحة لزومية قائمة بنفسه ومترتبة
على وجوده في الخارج، والواجب الغيري هو ما وجب لأجل مصلحة لزومية
قائمة بغيره كالطهارة من الحدث والطهارة من الخبث وهكذا، وعلى هذا فلا
إشكال في المسألة، فإن الصلاة والصيام والحج ونحوها من الواجبات، نفسية
باعتبار أن وجوبها ناشئ من المصلحة اللزومية في نفسها، وأما الوضوء والغسل
وتطهير البدن والثياب ونحوها من الواجبات، غيرية باعتبار أن وجوبها ناشئ
من المصلحة اللزومية في غيرها لا في نفسها، فإذن كل واجب كان وجوبه ناشئا
من مصلحة لزومية في نفس متعلقه فهو واجب نفسي وكل واجب كان وجوبه ناشئا
من مصلحة لزومية في غيره فهو واجب غيري.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى وهي الفرق بين الواجب النفسي
والواجب الغيري.
وأما الكلام في الجهة الثانية وهي ما إذا شك في واجب أنه نفسي أو
غيري، فيقع تارة في الأصل اللفظي وأخرى في الأصل العملي، أما على
الأول فإذا شك في واجب أنه نفسي أو غيري فمرجعه إلى الشك في أن وجوبه
مطلق أو مشروط بوجوب واجب آخر، ففي مثل ذلك يكون مقتضى الأصل
اللفظي من عموم أو إطلاق عدم الاشتراط، فإن الاشتراط بحاجة إلى مؤنة زائدة
210

والاطلاق ينفيها، فإذا أمر المولى بالوضوء مثلا وشككنا في أن وجوبه نفسي أو
غيري وحيث إن هذا الشك يرجع إلى الشك في أن وجوبه مشروط بوجوب
الصلاة أو مطلق فلا مانع من التمسك باطلاق الهيئة لاثبات عدم اشتراط وجوبه
بوجوب الصلاة وأنه مطلق، ولا فرق في ذلك بين أن يكون وجوب الصلاة فعليا
أم لا هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى إنه يمكن التمسك باطلاق دليل وجوب الصلاة أيضا
لاثبات أن الوضوء ليس قيدا له، بيان ذلك أن المولى إذا أمر بالصلاة وكان في
مقام البيان ولم يقيدها بالوضوء ولا بدليل متصل ولا منفصل، ففي مثل ذلك
إذا شك في تقييدها به، فلا مانع من التمسك باطلاق دليلها، فإن مقتضاه عدم
التقيد لأنه بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه، ولازم ذلك أن الوضوء ليس قيدا
لها وأنه واجب نفسي، لأن مثبتات الأصول اللفظية حجة، فالنتيجة أنه إذا شك
في أن الوضوء واجب نفسي أو غيري وقيد للصلاة، ففي مثل ذلك كما يمكن
إثبات أنه واجب نفسي باطلاق الهيئة كذلك يمكن إثبات أنه واجب نفسي
بالتمسك باطلاق دليل الصلاة، هذا كله بناء على ما هو الصحيح من جواز
رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وإمكان التمسك باطلاقها عند الشك فيه، وأما بناء
على نظرية شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) من استحالة رجوع القيد إليه ولزوم
رجوعه إلى المادة، فلا إطلاق لها حتى يمكن التمسك به في حالة الشك (1)، نعم
بامكانه (قدس سره) التمسك بالاطلاق لإثبات أن ما يشك في كونه نفسيا أو غيريا نفى
بأحد الطريقين:
الأول: أن يكون الوجوب مفاد الجملة الاسمية كقولنا الوضوء فريضة

(1) مطارح الأنظار: ص 67.
211

وغسل الجنابة واجب وهكذا، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك باطلاق الجملة
لاثبات كون الوجوب نفسيا، لأنه لو كان غيريا لكان على المولى نصب قرينة
على ذلك، وحيث إنه لم ينصب قرينة مع كونه في مقام البيان فالاطلاق يقتضي أنه
نفسي.
الثاني: التمسك باطلاق دليل الواجب كالصلاة ونحوها، فإنه إذا شك في
تقييده بالوضوء فمقتضى إطلاق الدليل عدمه، ولازم ذلك أن الوضوء واجب
نفسي لا غيري كما تقدم، فالنتيجة أنه لا مانع من التمسك بالاطلاق في
المسألة عند الشك في واجب أنه نفسي أو غيري إذا كان هناك إطلاق.
وأما على الثاني وهو مقتضى الأصل العملي في المسألة إذا لم يكن فيها
أصل لفظي، فهنا فروض:
الأول: أن المكلف لا يعلم بفعلية التكليف المشكوك كونه نفسيا أو
غيريا.
الثاني: أنه يعلم بفعليته ولكنه لا يدري أنه نفسي أو غيري.
الثالث: أن المكلف يعلم بوجوب فعلين في الخارج ولكنه لا يدري أنه
مقيد بوجود الآخر أولا مع علمه بالتماثل بينهما في الاطلاق والتقييد.
الرابع: نفس الفرض الثالث ولكن المكلف لا يعلم فيه بالتماثل بين الفعلين
في الاطلاق والاشتراط، بينما هو يعلم بذلك في الفرض الثالث.
أما الفرض الأول كما إذا علم المكلف بأن الوضوء واجب في الشريعة
المقدسة ولكنه لا يعلم أن وجوبه نفسي أو غيري مشروط بوجوب واجب آخر،
فإن كان غيريا لم يكن فعليا لعدم فعلية وجوب ذيه كالصلاة مثلا، وإن كان نفسيا
فهو فعلي، ومثل ذلك ما إذا علمت الحائض بوجوب الغسل عليها ولكنها لا تعلم
أن وجوبه نفسي أو غيري، فإن كان غيريا لم يكن فعليا لعدم فعلية وجوب ذيه
212

عليها وهو وجب الصلاة، وإن كان نفسيا فهو فعلي، ففي مثل ذلك حيث إن مرجع
هذا الشك إلى الشك في أصل ثبوت الوجوب النفسي فالمرجع فيه أصالة البراءة
شرعا وعقلا.
وأما الفرض الثاني وهو ما إذا علم المكلف بوجوب الوضوء عليه فعلا
ولكنه لا يعلم أنه نفسي أو غيري، وذلك كما إذا علم بأنه نذر أحد فعلين
ولكنه لا يدري أنه نذر زيارة الحسين (عليه السلام) مثلا مع الوضوء أو نذر الوضوء
فحسب، وفي هذه الحالة يعلم تفصيلا بوجوب الوضوء الجامع بين النفسي
والغيري، لأن النذر إن كان متعلقا بالوضوء في الواقع فإنه واجب نفسي، وإن
كان متعلقا بالزيارة فهو واجب غيري فوجوبه معلوم على كل تقدير، وأما
وجوب الزيارة فهو مشكوك فيه.
ففي مثل ذلك هل يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزيارة
فيه وجهان:
فذهب السيد الأستاذ (قدس سره) إلى الوجه الأول وهو الرجوع إلى أصالة البراءة
عن وجوبها في هذه المسألة وأمثالها، وقد أفاد في وجه ذلك أن المكلف في
المقام وإن علم إجمالا بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالزيارة أو الوضوء، إلا
أن هذا العلم الاجمالي إنما يكون مؤثرا فيما إذا تعارض الأصول المؤمنة في
أطرافه فتسقط من جهة المعارضة فيكون العلم الاجمالي منجزا، وأما إذا لم
تتعارض الأصول فيها فلا أثر له، وبما أن أصالة البراءة في المقام لا تجري
عن وجوب الوضوء، لفرض العلم التفصيلي به واستحقاق العقوبة على تركه
على كل تقدير أي سواء كان وجوبه نفسيا أم كان غيريا، فلا مانع من الرجوع إلى
أصالة البراءة عن احتمال الزيارة لعدم المعارض لها.
وبكلمة أوضح أن العلم الاجمالي في المقام وإن لم ينحل حقيقة، إلا أنه
213

منحل حكما كما هو الحال في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، ولكن ملاك
الانحلال الحكمي في هذه المسألة غير ملاك الانحلال الحكمي هناك، بيان
ذلك أما في مسألة الأقل والأكثر فقد ذكرنا فيها أن العلم الاجمالي قد تعلق
بالماهية المرددة بين لا بشرط وبشرط لا. وهذا العلم الاجمالي غير قابل
للانحلال حقيقة من هذه الناحية، حيث إن تعلقه بالماهية المذكورة مقوم له فكيف
يعقل أن يكون موجبا لانحلاله، ولكن حيث إن الأصل لا يجري في أحد طرفي
هذا العلم الاجمالي وهو الاطلاق فلا مانع من جريانه في طرفه الآخر وهو التقييد
ومعه لا أثر له، وهذا هو معنى انحلاله هناك حكما، ومرد هذا الانحلال هنا إلى
التفكيك بين أجزاء الواجب الواحد في التنجيز بعدم امكان التفكيك بينها في
مرحلتي الثبوت والسقوط.
وأما في هذه المسألة فحيث إن المكلف يعلم بوجوب الوضوء تفصيلا
وإن لم يعلم أنه لنفسه أو لغيره، فلا يمكن له الرجوع إلى البراءة عنه لعلمه
باستحقاق العقاب على تركه على كل تقدير، وأما وجوب الزيارة فبما أنه لا
يعلم به فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه عقلا وشرعا لعدم قيام بيان
على وجوبها، ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقابا بلا بيان،
والمفروض أنه لا معارض لها في المسألة، لأن أصالة البراءة عن وجوب
الوضوء لا تجري في نفسها لكي تصلح أن تكون معارضة لها (1).
تحصل مما ذكرناه أن العلم الاجمالي في المقام بوجوب نفسي مردد بين
تعلقه بالوضوء أو الزيارة في المثال وإن لم ينحل حقيقة إلا أنه ينحل حكما
من ناحية عدم جريان الأصل المؤمن في أحد طرفيه، فإذن لا مانع من

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 390 - 391.
214

جريانه في الطرف الآخر هذا.
وقد يناقش فيه بتقريب أن ما هو معلوم تفصيلا في المقام وجوب
الوضوء الجامع بين النفسي والغيري والجامع بما هو لا أثر له، ولهذا يرجع هذا
العلم التفصيلي إلى العلم الاجمالي إما بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوبه غيريا،
ومعنى كونه غيريا أنه قيد لواجب نفسي وشرط له كالصلاة مثلا، فإذا فرضنا أن
شخصا كان يعلم أنه حين دخوله في المسجد نذر ولكنه لا يدري أن متعلق نذره
الصلاة ركعتين فيه أو الوضوء فحسب، ففي مثل ذلك كان يعلم إجمالا إما بوجوب
الصلاة ركعتين فيه أو الوضوء، وحينئذ وإن كان وجوب الوضوء الجامع بين
النفسي والغيري معلوما تفصيلا، إلا أنه في الحقيقة علم بالجامع المردد بين فردين
هما النفسي والغيري، وهذا العلم الاجمالي يوجب التعارض بين أصالة البراءة
عن وجوب ركعتين من الصلاة وأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا
فتسقطان من جهة المعارضة.
ودعوى أن العقاب على ترك الوضوء معلوم على كل تقدير إما لنفسه أو
لاستلزامه ترك الصلاة في المثال، فلذلك لا يمكن الرجوع إلى أصالة البراءة
عن وجوبه فتبقى حينئذ أصالة البراءة عن وجوب الصلاة بلا معارض فينحل
العلم الاجمالي بها حكما.
مدفوعة بأن العقاب على ترك الوضوء مردد بين العقاب على تركه لنفسه
والعقاب على تركه لاستلزامه ترك الصلاة فالمعلوم أحد العقابين، وعلى هذا
فلو جرت أصالة البراءة عن وجوب الصلاة فهي تدفع احتمال العقاب على
تركها، وعلى هذا فلا علم بالعقاب على ترك الوضوء على كل تقدير فإنه على
تقدير كونه قيدا للصلاة فلا عقاب على تركه، فالجمع بين العلم بالعقاب على ترك
الوضوء على كل تقدير وبين أصالة البراءة عن وجوب الصلاة لا يمكن لمكان
215

التهافت والتناقض بينهما، فإذن بطبيعة الحال تكون هذه الأصالة معارضة بأصالة
البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا.
وعلى الجملة فالعقاب ليس على ترك الوضوء بما هو هو بل العقاب إما
على تركه كذلك أو على أن تركه يستلزم ترك الصلاة، ففي الحقيقة يكون
العقاب على ترك الصلاة، فإذا كان العقاب على ترك الصلاة مدفوعا بأصالة
البراءة عن وجوبها فلا علم بالعقاب على ترك الوضوء على كل تقدير، فإذن لا
مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا من هذه الناحية أي
من ناحية العلم التفصيلي بالعقاب لولا معارضتها بأصالة البراءة عن وجوب
الصلاة، وغير خفي أن هذه المناقشة وإن كانت لها صورة فنية إلا أنه لا واقع
موضوعي لها، لأن أصالة البراءة في المقام لا تجري في نفسها عن وجوب
الوضوء النفسي الذي هو أحد طرفي العلم الاجمالي، لأنه إن أريد بها التأمين من
العقوبة على تركه والترخيص فيه فهو لا يمكن، لأن العقوبة على تركه متيقنة على
كل تقدير أي سواء كان واجبا نفسيا أم كان قيدا لواجب آخر، والترخيص فيه
ترخيص في المخالفة القطعية العملية كذلك، فإذن كيف تجري أصالة البراءة عنه،
وإن أريد بها إثبات أنه قيد له لا كونه واجبا نفسيا، ففيه أنه لا يمكن إلا على القول
بالأصل المثبت.
والخلاصة أن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء لا تجري
بنفسها وبقطع النظر عن أصالة البراءة عن تقيد الواجب الآخر به، فلهذا لا
يكون سقوطها من جهة المعارضة، فإن سقوط الأصالة في أطراف العلم
الاجمالي بالمعارضة إنما هو في فرض أنها تجري بنفسها في كل طرف من
أطرافه وبقطع النظر عن جريانها في الطرف الآخر. ولكنها تسقط لمكان
المعارضة. وأما في المقام فحيث إن أصالة البراءة عن وجوب الوضوء النفسي
216

لا تجري بنفسها، على أساس ما عرفت من المحذور فلا مانع من جريانها في
الطرف الآخر وهو كونه قيدا لواجب آخر وبه ينحل العلم الاجمالي حكما،
فالضابط العام لذلك هو أن في كل مورد من موارد العلم الاجمالي إذا كانت
مخالفة التكليف فيه مساوقة لمخالفة التكليف في الطرف الآخر فلا يجري
الأصل المؤمن فيه، وحينئذ فلا مانع من جريانه في الطرف الآخر هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى أن ما ذكره (قدس سره) من أن انحلال العلم الاجمالي في
مسألة الأقل والأكثر حكمي لا حقيقي فهو مبني على ما ثبتت عليه مدرسة
المحقق النائيني (قدس سره)، ولكن الصحيح هو ما حققناه في محله من أن العلم
الاجمالي في هذه المسألة منحل حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك
البدوي في وجوب الزائد، والنكتة في ذلك أن تعلق الوجوب المجعول في
الشريعة المقدسة وهو الوجوب بمفاد كان التامة بالأقل معلوم تفصيلا والشك
إنما هو في وجوب الزائد وهو مشكوك فيه بدوا، وأما تعلق الوجوب بوصف
الاستقلال والضمني الذي هو بمفاد كان الناقصة، فهو وإن كان مشكوكا فيه إلا
أنه بهذا الوصف غير مجعول في الشريعة المقدسة لأنهما كوصف الإطلاق
والتقييد من الأوصاف والمفاهيم الانتزاعية التي لا واقع موضوعي لها إلا في
عالم الذهن ولا تكون من قيود الوجوب المقومة له بل هي خارجة عن حقيقته
ومنتزعة من حدوده، بل قلنا هناك أنه ليس في المسألة علم اجمالي من الأول،
لأن جعل الوجوب بوجوده المحمولي لذات الأقل بمفاد كان التامة معلوم تفصيلا
من حين الجعل، والشك إنما هو في جعله للزائد وهو بدوي.
والعلم الاجمالي إنما يتصور فيها بلحاظ الأوصاف المذكورة كالعلم
بوجوب الأقل الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني أو الوجوب
217

المطلق والوجوب المقيد، وهذا العلم الاجمالي غير قابل للانحلال حقيقة،
ولكن من الواضح أن الوجوب بهذا الوصف الذي هو بمفاد كان الناقصة غير
مجعول في الشريعة المقدسة كما عرفت. ولهذا لا يدخل في العهدة، فإن الداخل
فيها هو الوجوب بمفاد كان التامة ولا وجود له إلا في عالم الذهن فحسب، وتمام
الكلام في ذلك يأتي في محله وهو مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين إن شاء الله
تعالى.
وأما الفرض الثالث وهو ما إذا علم المكلف بوجوب فعلين في الخارج
وشك في أن وجود أحدهما مقيد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوديهما من
حيث الاطلاق والاشتراط من سائر الجهات كوجوب الوضوء والصلاة مثلا،
ففي مثله قد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) أن الشك حيث إنه متمحض في تقييد ما
علم كونه واجبا نفسيا كالصلاة بالواجب الآخر وهو الوضوء في مفروض
المثال، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن ذلك التقييد، وذلك لفرض
أن وجوب الصلاة معلوم وكذا وجوب الوضوء والشك إنما هو في خصوص
تقييد الصلاة بالوضوء، ومن الطبيعي أن مقتضى أصالة البراءة عدمه هذا (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب أن أصالة البراءة عن تقييد
الصلاة بالوضوء في المثال معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا،
وذلك لأن العلم التفصيلي بوجوبه الجامع بين النفسي والغيري لا أثر له ولا
يمنع عن جريان أصالة البراءة عن وجوبه النفسي في ذاته، لأن مرجع هذا
العلم التفصيلي إلى العلم الاجمالي إما بوجوبه النفسي أو الغيري، ومعنى كون
وجوبه غيريا أنه قيد للصلاة وأصالة البراءة فيه وإن كانت في نفسها جارية إلا

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 170.
218

أنها معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي، إذ كما أن تقييد الصلاة به
مشكوك كذلك وجوبه النفسي، فإذن أجزاء أصالة البراءة عن كليهما معا لا يمكن
لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية العملية، فالمرجع عندئذ أصالة
الاحتياط وهي الاتيان بالوضوء أولا ثم الصلاة معه (1)، وهذا الإيراد من السيد
الأستاذ (قدس سره)، ولكنه ينافي ما تقدم منه في الفرض السابق وهو ما إذا علم اجمالا إما
بوجوب ركعتين من الصلاة المقيدة بالوضوء أو وجوب الوضوء نفسيا، حيث أفاد
في هذا الفرض أنه لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب ركعتين من
الصلاة المذكورة ولا تعارض بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسيا لأنها لا
تجري في طرف الوضوء للعلم تفصيلا بوجوبه الجامع بين النفسي والغيري
واستحقاق العقوبة على تركه على كل تقدير، ونفس هذا البيان تجري في هذا
الفرض، فإن الفرق بينه وبين الفرض السابق إنما هو في نقطة أخرى لا ترتبط
بجريان أصالة البراءة عن وجوب الوضوء وعدم جريانها فيه، وتلك النقطة هي أن
وجوب الصلاة في هذا الفرض معلوم والشك إنما هو في وجوب الأقل والأكثر
فيدور أمر الصلاة بينهما، وأما في ذاك الفرض فأصل وجوبها غير معلوم وإن
الشك فيه من الأول في وجوب الأكثر، ومورد أصالة البراءة في كلا الفرضين
وجوب الأكثر أي وجوب الصلاة المقيدة بالوضوء، غاية الأمر أن مقتضاها في
هذا الفرض عدم تقيد الصلاة الواجبة بالوضوء، ومقتضاها في الفرض السابق عدم
وجوب الصلاة المذكورة، فالوضوء ليس قيدا لها فيه من باب السالبة بانتفاء
الموضوع، وهذه الأصالة في كلا الفرضين معارضة بأصالة البراءة عن وجوب
الوضوء نفسيا فتسقطان معا فيكون العلم الاجمالي منجزا في كلا الفرضين.

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 2: ص 392.
219

ودعوى أن أصالة البراءة عن التقييد تجري للتأمين عن العقوبة في
فرض الاتيان بذات الصلاة لا في فرض تركها، لأن العقوبة في فرض تركها
معلومة على كل حال سواء أكان الواجب الأقل أم الأكثر، وفي فرض فعل
الصلاة يعني الأقل لا تكون أصالة البراءة جارية عن وجوب الوضوء، لأن
المكلف في هذه الحال أي حال الاتيان بذات الصلاة يعلم بأن في ترك الوضوء
عقوبة على كل حال، إما من جهة وجوبه نفسيا أو من جهة وجوب التقيد به كما
يعلم بأنه ليس في تركه عقوبة أخرى زائدة.
مدفوعة بأن أصالة البراءة عن تقيد الصلاة بالوضوء في المثال مبنية
على جريانها في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين كما هو الصحيح، لأن الأمر
في المقام يدور بين أن الواجب هو ذات الصلاة أو الصلاة المقيدة بالوضوء فلا
مانع من جريان أصالة البراءة عن تقيدها بالوضوء، ونتيجة ذلك أن الوضوء
ليس قيدا لها، وعلى هذا فلو لم تجر أصالة البراءة عن وجوب الوضوء النفسي،
إنحل العلم الاجمالي بأنه إما واجب نفسي أو قيد للصلاة، ولكن بما أنه لا مانع من
جريانها عنه في نفسه، فتقع المعارضة بينها وبين أصالة البراءة عن التقيد به
فتسقطان من جهة المعارضة، وإن شئت قلت أن العقوبة على ترك الوضوء وإن
كانت عقوبة واحدة إلا أن منشأها إما أن الوضوء قيد للصلاة أو أنه واجب نفسي،
والاحتمال الأول مدفوع بأصالة البراءة عن التقيد به، والاحتمال الثاني مدفوع
بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي، وحيث إن الجمع بين الأصالتين لا يمكن
لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعية العملية فتسقطان معا من جهة المعارضة
فالمرجع قاعدة الاشتغال من جهة منجزية العلم الاجمالي ومقتضاها الاتيان
بالوضوء أولا ثم بالصلاة هذا.
والتحقيق صحة هذه الدعوى دون ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره)، وذلك لما
220

تقدم من أن أصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء لا تجري في نفسها
لنفس ما مر من المحذور، فإذن لا مانع من جريانها عن تقيد الصلاة به، وعلى
هذا فالصحيح هو ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) في المسألة من أن أصالة البراءة
عن التقييد تجري بلا معارض دون ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنها معارضة
بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي.
فالنتيجة أن المكلف في المسألة مخير بين الإتيان بالصلاة أولا ثم
الوضوء وبالعكس.
وأما الفرض الرابع، وهو ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين
وشك في تقييد أحدهما بالآخر مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث
الاطلاق والاشتراط، وذلك كما إذا علم باشتراط الصلاة بالوقت وشك في
إشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أن وجوبه نفسي أو غيري، فعلى الأول
لا يكون مشروطا به وعلى الثاني يكون مشروطا لتبعية الوجوب الغيري
للنفسي في الاطلاق والاشتراط ففيه يكون الشك من عدة جهات، وقد أفاد
المحقق النائيني (قدس سره) أن المرجع أصالة البراءة في جميع تلك الجهات.
الأولى: الشك في تقييد الصلاة بالوضوء والمرجع فيه أصالة البراءة ونتيجة
ذلك صحة الصلاة بدون الوضوء.
الثانية: الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت وهو مورد لأصالة البراءة
أيضا.
الثالثة: الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلى من أتى به
قبله، ومرجع هذا الشك إلى أن وجوب الوضوء بعد الوقت هل هو مطلق أو
مشروط بما إذا لم يؤت به قبله، وحيث إن وجوبه مشكوك بالنسبة إلى من
أتى به قبله فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه، ونتيجة الكل هي أن
221

المكلف مخير بين الاتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده قبل الصلاة وبعده (1) هذا.
ولكن يمكن المناقشة فيما أفاده (قدس سره) في جميع الجهات المذكورة.
أما في الجهة الأولى، فلأن أصالة البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء
معارضة بأصالة البراءة عن الوجوب النفسي له، وذلك لأن العلم التفصيلي
بوجوبه الجامع بين النفسي والغيري لا قيمة له، لأن وجوبه في الواقع إن كان
غيريا فلا أثر له بلحاظ نفسه، وإما بلحاظ كون متعلقه قيدا للصلاة وإن كان له
أثر وتجري أصالة البراءة عن تقييدها به في نفسها عند الشك فيه، إلا أن هذه
الأصالة معارضة بأصالة البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء، وما ذكره (قدس سره) من
أن الشك إنما هو في تقييد الصلاة بالوضوء لا في وجوب الصلاة ولا في
وجوب الوضوء غير تام، لأن الشك في تقييد الصلاة بالوضوء منشأ للشك في
أن وجوب الوضوء نفسي أو غيري والعلم بوجوبه الجامع بينهما في الحقيقة
يرجع إلى العلم الاجمالي بأنه إما واجب مستقل أو قيد للصلاة، وهذا العلم
الاجمالي يمنع عن جريان الأصول المؤمنة في أطرافه، لأن أصالة البراءة عن
تقييد الصلاة بالوضوء معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي فتسقطان معا
من جهة المعارضة فيكون العلم الاجمالي منجزا، ومقتضى تنجيزه وجوب
الاتيان بالصلاة مع الوضوء، وعندئذ يعلم بالموافقة سواء كان وجوب الوضوء
غيريا أم نفسيا.
وأما في الجهة الثانية فقد ظهر حالها مما ذكرناه الآن، وذلك لأن أصالة
البراءة عن الوجوب النفسي للوضوء قبل الوقت معارضة بأصالة البراءة عن
تقييد الصلاة به للعلم اجمالا بأن الوضوء إما واجب مستقل أو قيد للصلاة

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 170.
222

كسائر قيودها، فإذن كلتا الأصالتين لا يمكن جريانها لاستلزامه الترخيص في
المخالفة القطعية العملية، وإحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح
فتسقطان معا فيكون العلم الاجمالي منجزا ومقتضاه وجوب الاتيان بالوضوء
أولا ثم الاتيان بالصلاة معه، نعم لو علم بوجوبه النفسي تفصيلا ولكنه شك
في أنه مقيد بإيقاعه قبل الوقت أو مطلق، فلا مانع عندئذ من جريان أصالة
البراءة عن تقييده به ولا تعارض بأصالة البراءة عن إطلاقه، لأن الإطلاق ليس
موردا لها، باعتبار أن مفادها رفع الكلفة والضيق عن المكلف ولا كلفة في
الاطلاق حتى ترتفع بأصالة البراءة، وعلى هذا فلا معارضة بين أصالة البراءة عن
تقييده بإيقاعه قبل الوقت وأصالة البراءة عن تقييد الصلاة به، إذ لا مانع من
جريان كلتا الأصالتين معا ولا يلزم منه محذور، ولكن هذا الفرض خلاف فرض
المسألة، فإن فرض المسألة فيما إذا علم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسي
والغيري لا بخصوص وجوبه النفسي.
وأما في الجهة الثالثة، فلأن الشك في وجوب الوضوء الغيري بعد الوقت
ناشئ من الشك في تقييد الصلاة به، وقد تقدم أن أصالة البراءة عنه معارضة
بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي فتسقطان معا من جهة المعارضة، فيكون
العلم الاجمالي منجزا ومقتضاه الاحتياط.
مميزات الوجوب الغيري عن الوجوب النفسي
وأما الكلام في الجهة الثالثة فيقع فيها وهي متمثلة في أمور:
الأول: أن الوجوب الغيري ليس وجوبا مولويا قابلا للتنجيز لكي يستحق
العقوبة على مخالفته بينما الوجوب النفسي وجوب مولوي قابل للتنجيز فيستحق
العقوبة على مخالفته، ومن هنا يكون ملاك الوجوب الغيري قائما بغير متعلقه بينما
223

يكون ملاك الوجوب النفسي قائما بمتعلقه، وإرادة الوجوب الغيري إنما هي بالتبع
بينما إرادة الوجوب النفسي تكون بالأصالة، واعتبار الوجوب الغيري يكون
بالغير بينما يكون اعتبار الوجوب النفسي بالذات، ولذلك لا تتوفر في الوجوب
الغيري خصائص الوجوب النفسي المولوي، وهذه الخصائص هي حقيقة
الوجوب المولوي وترتب الآثار عليه إنما هو على أساس توفر تلك الخصائص
فيه، فإذا ترك المكلف الصلاة مثلا استحق العقوبة على تركها لا بما هو هو بل
باعتبار أن فيه تفويتا للخصائص المذكورة، ومن هنا لا يستحق العقاب على ترك
الواجب الغيري باعتبار أنها لا تتوفر فيه.
والخلاصة أنه لا عقوبة على مخالفة الوجوب الغيري، ومن هنا لو ترك
المكلف الواجب النفسي بما له من المقدمات لم يستحق إلا عقابا واحدا.
الثاني: إن الوجوب الغيري لا يصلح أن يكون محركا بصورة مستقلة
عن الوجوب النفسي نحو الاتيان بمتعلقه وإلا لزم خلف فرض كونه غيريا،
لأن إطاعة المولى إنما هي بتحرك المكلف وإرادته التكوينية على طبق الإرادة
التشريعية من المولى، وحيث إن الإرادة التشريعية لم تتعلق بالمقدمة إلا تبعا لا
حقيقة وذاتا، فلذلك لا يكون الاتيان بها مصداقا لطاعة المولى، وعليه فلا
يكون تحرك المكلف نحو الاتيان بالمقدمة بصورة مستقلة عن تحركه نحو الاتيان
بذيلها ولا يكون بروحية الطاعة والانقياد للمولى.
الثالث: إن ملاك الوجوب الغيري وسببه التعليلي إنما هو حيثية المقدمية
التي هي جهة تعليلية لا تقييدية، ولهذا يكون متعلقه واقع المقدمة بالحمل
الشائع بدون أخذ شئ من الخصوصيات فيه كقصد التوصل والتقرب ونحوهما
فإن كل ذلك خارج عن دائرة الواجب الغيري، لأن ملاك تعلقه به إنما هو
توقف وجود الواجب على وجودها في الخارج، ومن الواضح أن خصوصية
224

قصد التوصل والتقرب ونحوهما غير دخيلة في هذا الملاك، فإذن متعلق
الوجوب الغيري ما هو مقدمة بالحمل الشائع بدون أخذ خصوصية أخرى فيه،
ومن هنا لو تحقق المقدمة في الخارج ولو بدون شعور والتفات سقط الوجوب
الغيري لأن الغرض منه تحقق المقدمة والمفروض أنها تحققت، ولا يتوقف
الواجب النفسي على أن يكون تحققها بقصد التوصل أو بقصد القربة، وعليه
فالوجوب الغيري وجوب توصلي بل لا يمكن أن يكون تعبديا.
الرابع: إن امتثال الوجوب الغيري في مقابل امتثال الوجوب النفسي لا
يوجب استحقاق المثوبة، لوضوح أن الوجوب الغيري بما هو لا يصلح أن
يكون داعيا ومقربا بنفسه وبقطع النظر عن داعوية الوجوب النفسي ومقربيته،
وعلى هذا الأساس فإن كان تحرك المكلف نحو الاتيان بالواجب الغيري تبعا
لتحركه نحو الاتيان بالواجب النفسي وبداعي الاتيان به كان ذلك شروعا في
امتثال الواجب النفسي باعتبار أنه تحرك بروحية الطاعة والانقياد للمولى وإلا
لم يكن شروعا في امتثاله.
فالنتيجة أن المكلف إن أتى بالواجب النفسي بما له من المقدمات
استحق الثواب عليه، وإلا فلا وإن كان آتيا بمقدماته.
ثم إن للسيد الأستاذ (قدس سره) في المقام كلاما وحاصله أن المكلف إذا أتى
بالواجب الغيري بقصد الامتثال والتوصل استحق الثواب، بتقريب أن ملاك
الاستحقاق هو كون العبد بصدد الإطاعة والانقياد والعمل بوظيفة العبودية
والرقية لكي يكون أهلا لذلك، ومن المعلوم أنه باتيانه المقدمة بداعي التوصل
والامتثال قد أصبح أهلا له، بل الأمر كذلك ولو لم نقل بوجوبها، ضرورة أن
الاتيان بها بهذا الداعي مصداق لإظهار العبودية والإخلاص والانقياد والإطاعة،
نعم لو أتى بها بدون قصد التوصل والامتثال فقد فاته الثواب.
225

والخلاصة أن ملاك ترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري هو أنه
بنفسه مصداق للانقياد والإطاعة وإظهار لمقام العبودية مع قطع النظر عن إتيانه
بالواجب النفسي، ولهذا لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل ثم لم يتمكن من الاتيان
بذيلها لمانع من الموانع استحق الثواب عليها بلا إشكال (1) هذا.
ولكن ما أفاده (قدس سره) غير تام، وذلك لما عرفت من أن الوجوب الغيري بما
أنه ليس وجوبا مولويا قابلا للتنجيز، فكما لا يستحق العقوبة على مخالفته لا
يستحق المثوبة على موافقته أيضا، وقد تقدم أن الوجوب الغيري لا يصلح أن
يقصد الامتثال به ولا التقرب بقطع النظر عن الوجوب النفسي، باعتبار أن
متعلقه لا يكون محبوبا بنفسه حتى يصلح أن يكون مصداقا للإطاعة والانقياد،
وما ذكره (قدس سره) من أن المكلف إذا أتى بالمقدمة بقصد التوصل إلى الاتيان بذيلها ثم
بعد الاتيان بها لم يتمكن من الاتيان بذيلها بسبب أو آخر استحق المثوبة على
الاتيان بالمقدمة، مبني على الخلط بين استحقاق المثوبة على الاتيان بالمقدمة بما
هي هي وبين استحقاق المثوبة على الاتيان بها بعنوان أنها مصداق للانقياد إلى
امتثال الواجب النفسي، فإن استحقاق المكلف المثوبة على الاتيان بالمقدمة بقصد
التوصل إلى الاتيان بذيلها وامتثاله إذا لم يتمكن بعد ذلك من الاتيان بذيلها إنما هو
على أساس أنه مصداق لإظهار العبودية والإخلاص والانقياد إلى إطاعة المولى،
وليس هذا الاستحقاق على الاتيان بالمقدمة بما هي مقدمة.
والحاصل أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أن الاتيان بالمقدمة بقصد
التوصل منشأ لاستحقاق الثواب وإن كان المكلف غير آت بالواجب النفسي غير
تام، بل يظهر منه (قدس سره) أن استحقاق الثواب على الاتيان بالمقدمة بقصد التوصل إنما

(1) المحاضرات ج 2: ص 397.
226

هو بلحاظ أنه مصداق لإظهار العبودية والإخلاص وأنه كان بصدد الإطاعة
والعمل بوظيفة العبودية لا بلحاظ أنه أتى بالمقدمة بما هي مقدمة، ومن هنا لم
يفرق (قدس سره) بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها، باعتبار أن الاتيان
بالمقدمة بقصد التوصل إلى ذيها بما أنه نوع من الانقياد فلهذا يستحق المثوبة
بحكم العقل، وأما الاتيان بالمقدمة بما هي وبعنوانها الأولي فيستحيل استحقاق
المثوبة عليه لعدم كونها محبوبة وكذلك الاتيان بها بداعي وجوبها الغيري، لما مر
من أنه لا يصلح أن يكون داعيا نحو الاتيان بمتعلقه.
قد يقال كما قيل أن موضوع المثوبة التعظيم والانقياد للمولى، ولا شبهة
في أن فعل المقدمة بقصد الامتثال والتوصل إلى ذي المقدمة انقياد وتعظيم للمولى
سواء جاء بذيلها بعد ذلك أم لا، غاية الأمر إذا جاء به بعد ذلك تعدد التعظيم فيتعدد
الثواب.
والجواب: أن التعظيم والانقياد وإن كان هو موضوع الثواب إلا أن
الحاكم به حيث إنه العقل العملي فإنه يعين ما هو موضوع للثواب، ومن
الواضح أن الموضوع عنده هو التعظيم والانقياد للمطلوب النفسي المولوي ولا
يكون الاتيان بالمقدمة بما هو موضوع للتعظيم والانقياد للمولى، ضرورة أنه
ليس محبوبا في نفسه حتى يكون موضوعا للتعظيم والانقياد له فإن الموضوع
له إنما هو قصد التوصل بها إلى الواجب النفسي لأن التحرك نحو تحقيقه
والسير إليه مطلوب من المولى وتعظيم وانقياد له وإن لم يصل إلى تحقيق
المطلوب الأصلي في الخارج، ومن هنا إذا ترك المكلف الاستمرار في
تحصيل المطلوب النفسي للمولى باختياره من دون مانع خارجي لم يستحق
ثوابا على ما أتى به من المقدمة، لأنه ليس مصداقا للتعظيم والانقياد للمولى،
فالنتيجة أنه لا يكون استحقاق المثوبة على الاتيان بالمقدمة بما هو اتيان بها،
227

ومن هنا يظهر أنه لا يمكن التقرب بالأمر الغيري، لما مر من أنه ليس أمرا
قابلا للتقرب به لعدم توفر خصائصه المقومة فيه.
الطهارات الثلاث
لحد الآن قد تبين أنه لا يترتب ثواب على الواجب الغيري بما هو هو ولا
يمكن التقرب به كذلك، لأنهما من الخصائص المقومة للواجب النفسي ولا يمكن
افتراض توفرها في الواجب الغيري لأنه خلف، وعلى هذا الأساس فيقع
الإشكال في الطهارات الثلاث من جهتين:
الأولى: من جهة ترتب الثواب عليها، بينما عرفت عدم ترتب الثواب
على الواجب الغيري:
الثانية: من جهة اعتبار قصد القربة فيها، بينما لا يمكن التقرب بالواجب
الغيري، ولكن يمكن علاج الإشكال في كلتا الجهتين ببيان منشأ عبادية
الطهارات الثلاث، فإن ما يصلح أن يكون منشأ لعباديتها يصلح أن يكون منشأ
لترتب الثواب عليها ولا يمكن التفكيك بينهما.
وعلى هذا فيقع الكلام في أن منشأ عباديتها هل هو الأمر الغيري أو
الاستحباب النفسي أو الأمر الضمني أو قصد التوصل فيه بوجوه:
فذهب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إلى أن منشأ عباديتها الأمر
الاستحبابي، بدعوى أن الطهارات الثلاث مستحبة في نفسها ومتعلقة للأمر
الاستحبابي النفسي وهو يصلح أن يكون منشأ لعباديتها واستحقاق المثوبة
عليها (1).

(1) كفاية الأصول: ص 111.
228

وقد أورد عليه المحقق النائيني (قدس سره) بوجوه:
الوجه الأول: أن هذا الوجه لو تم فإنما يتم في الوضوء والغسل دون
التيمم، فإن استحباب الوضوء والغسل ثابت شرعا، وأما التيمم فلا دليل على
استحبابه، فإذن لا يمكن أن يكون منشأ عبادية التيمم الأمر الاستحبابي (1).
وقد يجاب عن ذلك بأن التيمم بدل عن الوضوء والغسل، ومن الطبيعي
أن كلما يكون للمبدل من الآثار والأحكام فهو ثابت للبدل أيضا ومنها
استحباب المبدل، وغير خفي أن هذا الجواب لا يتضمن أي دليل على أن كلما
للمبدل من الأحكام والآثار فهو ثابت للبدل أيضا وإنما هو مجرد دعوى لا
أساس لها، والسبب فيه أن التيمم لا يخلو من أن يكون مبيحا للدخول في كل
ما هو مشروط بالطهارة كالصلاة ونحوها أو رافعا للحدث.
أما على الأول فمن الواضح أن ما يترتب على الوضوء والغسل من
الأحكام لا يترتب على التيمم، حيث يترتب عليهما الطهارة ورفع الحدث
وهي لا تترتب على التيمم، ولكن هذا القول لا أساس له ولا يرجع إلى معنى
محصل كما فصلنا الحديث عنه في بحث الفقه.
وأما على القول بأنه رافع للحدث في حالة عدم تمكن المكلف من
استعمال الماء في الوضوء أو الغسل فأيضا لا دليل على الملازمة المذكورة،
وهي أن كلما للمبدل من الأحكام والآثار فهو ثابت للبدل أيضا، وذلك لأن ما
دل على استحباب الوضوء أو الغسل بعنوانه لا يشمل التيمم لأنه شئ آخر
ولا يصدق عليه عنوان الوضوء أو الغسل، وأما أدلة البدلية فهي ناظرة إلى أنه
رافع للحدث في حالة عدم وجود الماء أو عدم التمكن من استعماله كالوضوء

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 174.
229

والغسل، وأما أنه مثله حتى في اعتبار قصد القربة فيه فلا تدل أدلة البدلية
على ذلك، لأنها غير ناظرة إلى تنزيل التيمم منزلة الوضوء أو الغسل في جميع
الآثار حتى في الاستحباب النفسي واعتبار قصد القربة، لوضوح أن نظرها إلى
التنزيل في الرافعية فحسب لا في الجهات الأخرى.
فالنتيجة أن هذا الجواب مجرد دعوى بلا دليل.
فالصحيح في المقام أن يقال أنه يمكن إثبات استحباب التيمم نفسيا
بضم الروايات التي تنص على أن التيمم ظهور كالوضوء والغسل إلى الآية
الشريفة وهي قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (1).
لأن نتيجة هذا الضم وهو تطبيق الكبرى على الصغرى استحباب التيمم،
لأن الروايات تثبت الصغرى وهي أن التيمم طهور والآية الشريفة تدل على أن
الطهور محبوب لله تعالى، فينتج أن التيمم محبوب وقابل للتقرب به، فما ذكره
المحقق النائيني (قدس سره) من أنه لا دليل على استحباب التيمم لا يمكن المساعدة عليه.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا أن الطهارات الثلاث جميعا مستحبة في
أنفسها إلا أنها لما كانت مقدمة للصلاة فهي واجبة بالوجوب الغيري، ومع
كونها واجبة بهذا الوجوب لا يمكن بقاء الأمر الاستحبابي النفسي لأنه يندك
فيه، فإذن لا يكون هناك أمر استحبابي حتى يكون منشأ لعباديتها (2) هذا.
وقد أجاب عن ذلك السيد الأستاذ (قدس سره) بوجوه ثلاثة:
الأول: أن الأمر الاستحبابي النفسي وإن اندك في الأمر الوجوبي الغيري
إلا أن معنى الاندكاك بينهما ليس زوال الأمر النفسي الاستحبابي نهائيا، بل

(1) سورة البقرة: 223.
(2) أجود التقريرات ج 1: ص 174.
230

معناه زوال حد كل من الأمرين واكتساب كل منهما عن الآخر ما هو فاقد له،
فالأمر الاستحبابي حيث إنه فاقد للوجوب فيكتسب من الأمر الوجوبي جهة
الوجوب، والأمر الوجوبي حيث إنه فاقد لجهة العبادية فيكتسب من الأمر
الاستحبابي العبادي تلك الجهة فيصبح الأمران أمرا واحدا وجوبيا عباديا
بالاندكاك، وهذا هو منشأ عباديتها، ونظير ذلك ما إذا نذر الوضوء أو الغسل، فإن
الأمر الجائي من قبل النذر المتعلق به أمر توصلي وبالاندكاك والتفاعل بينه وبين
الأمر الاستحبابي المتعلق به يكتسب كل منهما عن الآخر ما هو فاقد له، فيصبح
الأمران أمرا واحدا وجوبيا عباديا أقوى من كل منهما بحده الخاص، فإذن لا
إشكال من هذه الناحية.
الثاني: أنه لا اندكاك ولا تفاعل بين الأمرين أصلا بناء على ما هو
الصحيح من أن الأمر مادة وهيئة موضوع للدلالة على قصد إبراز الأمر
الاعتباري النفساني، بلا فرق في ذلك بين الأمر الوجوبي والأمر الاستحبابي،
باعتبار أن الوجوب والاستحباب كليهما خارجان عن مدلول الأمر وضعا،
فإذا صدر أمر من المولى كان يدل وضعا على قصد إبراز الأمر الاعتباري
النفساني، وحينئذ فإن كانت هناك قرينة على جواز الترك انتزع منه
الاستحباب فيكون الأمر استحبابيا، وإلا انتزع منه الوجوب فيكون الأمر
وجوبيا، وعليه فيكون الاستحباب منتزعا بحكم العقل من القرينة، والوجوب
منتزعا من مولوية الأمر طالما لم تكن قرينة على الترخيص وجواز الترك،
وعلى هذا فالوجوب والاستحباب كلاهما خارج عن مدلول الأمر وضعا،
فإذن لا إندكاك ولا تفاعل بين الأمرين في المدلول الوضعي وإنما الاندكاك
والتفاعل بينهما في الصفة الخارجية عن المدلول الوضعي لهما وهي صفة
الاستحباب فإنها تندك في الوجوب، على أساس أن الضعيف يندك في القوي
231

وبذلك يكتسب الوجوب صفة العبادة فيصبح الأمران أمرا واحدا وجوبيا
عباديا، فالنتيجة نفس النتيجة والاختلاف إنما هو في التقريب.
الثالث: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من الاندكاك لا يتم على مبناه في
باب التعبدي والتوصلي وهو عدم إمكان أخذ قصد القربة في متعلق الأمر
وعلى هذا فحيث أن متعلق الأمر الاستحبابي ذات الطهارات الثلاث بدون
تقيدها بقصد القربة، ومتعلق الأمر الغيري الطهارات الثلاث مع تقيدها بقصد
القربة، باعتبار أنها مقدمة بملاك كونها عبادة لا مطلقا فلا مقتضى للإندكاك،
لأن المقتضى له إنما هو فيما إذا كان متعلق كلا الأمرين واحدا ذاتا وحقيقة،
وأما إذا كان متعلق أحدهما غير متعلق الآخر فلا موضوع له، والمقام كذلك
لأن متعلق الأمر الاستحبابي كما عرفت غير متعلق الأمر الوجوبي، وعليه فلا
مقتضى لاندكاك أحدهما في الآخر بل هو محال، لأن لازم ذلك أن يكون له
متعلق واحد مع أنه متعدد (1)، ولنا تعليق على هذه الأجوبة.
أما على الجواب الأول فلأن الاندكاك والتفاعل بالفعل والانفعال والتأثير
والتأثر لا يتصور في الأمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا
وجودها في عالم الاعتبار والذهن، وحيث إن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية
وأمرها وضعا ورفعا بيد الشارع مباشرة ولا وجود لها إلا عالم اعتبارها فلا
يتصور فيها الاندكاك والتفاعل بالفعل والانفعال والتأثير والتأثر، بداهة أنه لا
يعقل اندكاك اعتبار في اعتبار آخر وتولد اعتبار ثالث منهما، إذ لا واقع له
حتى يعقل فيه ذلك مع أنه خلف فرض كونه قائما بالمعتبر مباشرة، نعم إن
ذلك يتصور في الموجودات التكوينية الخارجية، فإذا امتزج مائع أسود مثلا

(1) المحاضرات ج 2: ص 400 - 401.
232

بمائع أبيض، اندك أحدهما بالآخر قهرا وحصل التفاعل بالتأثير والتأثر بينهما
فيكتسب كل منهما من الآخر ما هو فاقد له فلهذا يصبحان مائعا واحدا لا هذا
بحده ولا ذاك، وكذلك إذا امتزج ماء حار بماء بارد، فإنه يتولد منهما ماء ثالث لا
حار ولا بارد وهكذا، وأما الأمور الاعتبارية كالأحكام الشرعية فلا واقع لها في
الخارج حتى يتصور فيها ذلك.
نعم يتصور الاندكاك والتفاعل بالتأثير والتأثر بين الملاكين في مرحلة
المبادئ على أساس أنهما من الأمور التكوينية، فإذا اجتمع ملاك الوجوب
والاستحباب في شئ واحد فلا محالة يندك أحدهما في الآخر بالفعل
والانفعال، فيصبح الملاكان ملاكا واحدا أقوى وآكد من كل واحد منهما بحده
الخاص، ولكن هذا الاندكاك والتفاعل بين ملاكات الأحكام الشرعية إنما هو
في مرتبة فعلية الأحكام أي فعلية فاعلية الحكم بفعلية موضوعه في الخارج
لا في مرتبة الجعل فإنها مرتبة التقدير والفرض، لأن المولى فرض وجود
العالم في الخارج وجعل وجوب الاكرام له لأجل ما يرى في اكرامه من
مصلحة، وفرض وجود الهاشمي فيه وجعل وجوب الاكرام له من جهة ما
يرى في اكرامه من مصلحة، فكل من الجعلين مستقل ولا يرتبط أحدهما
بالآخر، وحينئذ فإذا وجد شخص في الخارج وصدق عليه عنوان العالم
والهاشمي معا فاكرامه يكون مصداقا لكلا الإكرامين الواجبين، فلهذا يجزي
عن كليهما معا وقد اجتمع فيه ملاك كلا الحكمين هما وجوب اكرام العالم
ووجوب اكرام الهاشمي ويندك أحدهما في الآخر، حيث لا يمكن الحفاظ
على كل واحد منهما بحده، ولكن هذا الاندكاك لا يوجب وحدة الجعل
والاعتبار في مورد الاجتماع إذ لا شبهة في تعدد الجعل، غاية الأمر أن فاعلية
كلا الحكمين المجعولين في مرتبة فعلية موضوعهما في الآخر ومحركيته
233

واحدة، ولكنها ليست من مراتب الحكم، ومن هنا يظهر أن ما تبنت عليه
مدرسة المحقق النائيني (قدس سره) من أن للأحكام الشرعية مرتبتين:
الأولى: مرتبة الجعل.
الثانية: مرتبة المجعول وهي مرتبة فعلية الحكم بفعلية موضوعه في
الخارج لا يرجع إلى معنى صحيح، وذلك لأن المرتبة الثانية لا يمكن أن
تكون من مراتب الحكم، بداهة أن الحكم حيث إنه أمر اعتباري يوجد بنفس
اعتبار المولى وجعله مباشرة في وعاء الاعتبار ولا يعقل أن يتأثر بالأمور
الخارجية وأن يكون معلولا لها وإلا لزم أن يكون أمرا خارجيا، وهذا خلف
والمجعول ليس مرتبة أخرى للحكم وهي فعليته، لأن المجعول عين الجعل
ذاتا وحقيقة كالإيجاد والوجود في الأمور التكوينية، وفعليته ووجوده إنما هي
بنفس جعله واعتباره من قبل المولى، ولا يعقل أن تكون له فعلية أخرى،
ضرورة أن لكل شئ وجودا واحدا ويوجد بإيجاد واحد سواء أكان اعتباريا
أم تكوينيا، ولا يعقل وجود الحكم في الخارج بوجود موضوعه فيه وإلا فهو
خارجي بقانون مبدأ السنخية، وأما فعلية الحكم بفعلية موضوعه فمعناها
فعلية فاعليته ومحركيته للمكلف نحو الامتثال والطاعة لا فعلية نفسه، أو فقل
أن معنى كون الأحكام الشرعية فعلية بفعلية موضوعاتها، فعلية فاعليتها
ومحركيتها خارجا لا فعلية نفسها في الخارج بوجود موضوعاتها فيه زائدا
على فعليتها في عالم الاعتبار، بداهة أنه لا يعقل أن يكون للحكم وجودان،
وجود في عالم الخارج تبعا لوجود موضوعه فيه ووجود في عالم الاعتبار،
فإذن لا محالة يكون المراد من فعليته بفعلية موضوعه فعلية فاعليته ومحركيته
بحكم العقل.
وعلى ضوء هذا الأساس فقد تقدم أن الاندكاك والتفاعل بين الحكمين
234

في مرحلة الجعل غير متصور، إذ ليس في هذه المرحلة إلا جعل الحكم
واعتباره من المولى مباشرة ولا يعقل فيها تأثر الحكم بمبادئه وكونه معلولا لها،
لأنها غاية لجعله وداعية إليه ولولاها كان جعله لغوا، ولهذا يكون أمرا اعتباريا مع
أن مبادئه من الأمور التكوينية، وقد مر أن الاندكاك والتفاعل بين الأمور
الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها إلا في عالم الاعتبار غير ممكن لأنها ليست
في الخارج لكي يعقل التأثير والتأثر فيها، وأما في مرحلة الفعلية فلا حكم في
هذه المرحلة حتى يندك أحدهما بالآخر ويقوله منهما حكم ثالث أقوى وآكد،
وإنما الموجود فيها فاعليته ومحركيته بحكم العقل نحو الامتثال والإطاعة وهي
أمر تكويني وليست مجعولة من قبل الشرع وعلى هذا ففي مورد الاجتماع بين
الدليلين كانت النسبة بينهما عموما من وجه أو المطلق في مرحلة الفعلية ليس إلا
فاعلية كلا الحكمين المجعولين ومحركيتهما فيه بحكم العقل بنحو أقوى وآكد من
فاعلية ومحركية كل منهما على حده باعتبار أن الملاك فيه أقوى من الملاك في
موارد الافتراق، وأما الحكم فقد مر أنه لا وجود له في هذه المرحلة حتى يتصور
فيه الاندكاك.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من اندكاك أحد الحكمين بالآخر
في مورد الاجتماع واكتساب كل منهما عن الآخر ما هو فاقد له لا يمكن
المساعدة عليه، وعلى هذا فلا موضوع لاندكاك استحباب الطهارات الثلاث
النفسي بوجوبها الغيري لا في مرحلة الفعلية، إذ لا وجود لهما في هذه
المرحلة لكي يندك أحدهما بالآخر. نعم الاندكاك بينهما في هذه المرحلة إنما
هو بين فاعلية كل منهما مع فاعلية الآخر في مورد الاجتماع ولا في مرحلة
الجعل، فإنهما في هذه المرحلة وإن كانا موجودين، إلا أنك عرفت عدم تعقل
الاندكاك فيها.
235

وأما التعليق على الجواب الثاني، فلأنه لا فرق بين القول بأن الأمر
موضوع مادة وهيئة للدلالة على الوجوب بالوضع كما هو المعروف والمشهور
بين الأصحاب وهو الصحيح، والقول بأن الأمر موضوع للدلالة على إبراز
الأمر الاعتباري النفساني لا على الوجوب فإنه بحكم العقل، وعلى كلا
القولين لا يتصور الاندكاك بين الحكمين في مورد الاجتماع، بلا فرق في ذلك
بين أن يكون الحكم مدلولا للأمر وضعا أو مدلولا للعقل، فإنه على الأول أمر
اعتباري لا واقع له حتى يتصور فيه الاندكاك والتفاعل كما عرفت، وعلى
الثاني أمر انتزاعي لا وجود له في الخارج أيضا لكي يتصور فيه التفاعل
والاندكاك.
وأما التعليق على الجواب الثالث، فلأن المحقق النائيني (قدس سره) إنما بنى على
استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه بالأمر الأول دون الأمر الثاني على أساس
أنه (قدس سره) يرى أن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة
التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، وحيث إن الاهمال في الواقع غير معقول
فلابد من الالتزام بمتمم الجعل الذي تكون نتيجته إما الاطلاق أو التقييد، فإذن
لا مانع من أخذ قصد القربة في متعلق الأمر الاستحبابي بالطهارات الثلاث
بالأمر الثاني الذي هو متمم للأمر الأول، ولهذا التزم (قدس سره) بالاندكاك فيها بتقريب
أن متعلق الأمر الاستحبابي والأمر الوجوبي واحد وهو حصة خاصة من
الطهارات الثلاث المقيدة بقصد القربة، فإذن يكون الجواب المذكور في غير
محله هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن الذي يرد على المحقق النائيني (قدس سره) زائدا على ما
تقدم أنه لا يتصور في الطهارات الثلاث الاندكاك والتفاعل بين ملاك
الاستحبابي النفسي وملاك الوجوب الغيري في مرحلة المبادي، وذلك لأن
236

ملاك الاستحباب قائم بالطهارات الثلاث وملاك الوجوب الغيري قائم بالصلاة
مثلا لا بالطهارات الثلاث فلا موضوع حينئذ للإندكاك بينهما، ولكن حيث إن
كلا الملاكين يقتضي الاتيان بالطهارات الثلاث فيكون الاندكاك في فاعلية
الحكمين ومحركيتهما لا في الملاك.
الوجه الثالث: أن الأمر الاستحبابي النفسي في غالب الأوقات يكون
مغفولا عنه، حيث إن أكثر الناس كانوا يعتقدون بأن الوضوء أو الغسل واجب
غيري وغافلين عن استحبابه النفسي وكانوا يأتون به بقصد وجوبه الغيري، ومع
هذا لا شبهة في صحته، وهذا دليل على أن الأمر الاستحبابي النفسي لا يكون
منشأ لعبادية الطهارات الثلاث، وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني (قدس سره)
بتقريب أن الأمر الغيري المتعلق بالطهارات الثلاث لا محالة يدعو المكلف إلى
الاتيان بها، على أساس أن كل أمر يدعو إلى الاتيان بمتعلقه، وحيث إن متعلق
الأمر الغيري الطهارات الثلاث بقصد القربة، فهو يدعو إلى الاتيان بها كذلك،
وعلى هذا فإذا أتى بها بداعي أمرها الغيري فقد أتى بها بقصد أمرها الاستحبابي
النفسي ضمنا أي في ضمن قصد أمرها الغيري على أساس أنه مأخوذ في
متعلقه (1) هذا.
ولكن الجواب غير سديد. وذلك لأن قصد الأمر الاستحبابي إذا كان
مأخوذا في الطهارات الثلاث كما هو المفروض كان مقوما لعباديتها، ومع هذا
لا يمكن الحكم بصحتها في صورة الغفلة عنه لأنها فاقدة لما هو معتبر في
صحتها وهو قصد الأمر الاستحبابي النفسي، وأما قصد الأمر الغيري فهو بنفسه
لا يكون مقربا، فما هو مقرب لم يقصده لمكان الغفلة عنه وما قصده لم يكن مقربا.

(1) الكفاية: ص 111.
237

وأما ما ذكره (قدس سره) من أن الاتيان بالطهارات الثلاث بقصد أمرها الغيري
يستلزم الاتيان بها بقصد أمرها النفسي ضمنا، باعتبار أنه لا يدعو إلا إلى ما تعلق
به فلا يرجع إلى معنى محصل، ضرورة أن المكلف إذا كان غافلا عن الأمر
الاستحبابي النفسي نهائيا، فكيف يعقل أن قصد أمرها الغيري يستلزم قصده ضمنا
فإنه إنما يستلزم قصده كذلك إذا كان المكلف ملتفتا إليه، لأن الاتيان بكل جزء في
ضمن سائر أجزاء المركب مشروط بالقدرة، ومع الغفلة عنه لا يكون قادرا عليه،
وما نحن فيه كذلك، لأن المكلف إذا كان غافلا عن الأمر الاستحبابي النفسي
المتعلق بالطهارات الثلاث فلا يتمكن من قصده في ضمن الاتيان بها، لأن
الالتفات إليه شرط للتمكن والقدرة عليه كما هو الحال في سائر الأجزاء، وعليه
فلا يعقل أن يكون الأمر الغيري المتعلق بها يدعو المكلف إلى قصده مع أنه غافل
عنه، ضرورة أنه دعوة إلى المحال، فالأمر المتعلق بشئ سواء كان نفسيا أم
غيريا إنما يدعو المكلف إلى الاتيان به إذا كان قادرا عليه، وإلا فيستحيل أن
يكون داعيا ومحركا نحوه.
هذا إضافة إلى أن الأمر الغيري لا يصلح أن يكون داعيا بنفسه ومحركا
نحو الاتيان بمتعلقه، فإن داعويته إنما هي بداعوية الأمر النفسي ولولاه لم
يكن داعيا، وعلى هذا فدعوة الأمر الغيري إلى الاتيان بمتعلقه إنما هي بدعوة
الأمر النفسي لا بذاته.
فالنتيجة أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من الجواب غير تام هذا.
وذكر المحقق النائيني (قدس سره) أن منشأ عبادية الطهارات الثلاث ليس هو
الأمر الاستحبابي ولا الأمر الغيري كما مر، بل هو الأمر النفسي الضمني
المتعلق بها، على أساس أن الأمر المتعلق بالصلاة ينحل إلى أوامر ضمنية متعلقة
بأجزائها وشروطها، وحيث إن تلك الأوامر الضمنية أوامر عبادية فإنها كما تكون
238

منشأ لعبادية أجزائها كذلك تكون منشأ لعبادية قيودها كالطهارات الثلاث
ونحوها (1)، ثم أورد على نفسه بأن لازم ذلك أن يكون جميع شروط الصلاة
وقيودها عبادة وتتوقف صحتها على الاتيان بها بقصد القربة كالطهارات الثلاث
باعتبار أنها متعلقة للأمر الضمني العبادي.
وأجاب عنه بأن الفارق بينها وبين سائر الشروط كطهارة البدن والثياب
ونحوهما هو أن الغرض من الطهارات الثلاث لا يحصل إلا بالاتيان بها بقصد
القربة دون غيرها من القيود، فإن الغرض منها يحصل به مطلقا ولا مانع من
اختلاف شرائط الصلاة وقيودها من هذه الناحية (2).
وللمناقشة فيما أفاده (قدس سره) مجال واسع، أما أولا فلأن الأمر المتعلق
بالصلاة لو انبسط على شرائطها وقيودها أيضا، فما هو الفرق حينئذ بين
أجزائها وشرائطها، فإن الفرق الوحيد بينهما هو أن الأجزاء بنفسها متعلقة
للأمر دون الشرائط، فإن متعلق الأمر فيها هو التقيد بها دون ذات القيد لأنه
خارج عن متعلق الأمر، فما ذكره (قدس سره) من أن شرائط الصلاة بنفسها متعلقة للأمر
الضمني كأجزائها لا يرجع إلى معنى محصل، وثانيا أن الأمر الضمني المتعلق
بالشرائط والقيود عبادي، باعتبار أنه حصة عن الأمر الاستقلالي العبادي،
وعلى هذا فلا يسقط ذلك الأمر بالاتيان بمتعلقه إلا بقصد الامتثال والتقرب به،
وعليه فكيف يسقط بدون ذلك في غير الطهارات الثلاث من الشرائط مع أنه
عبادي والغرض منه لا يحصل بدونه.
هذا إضافة إلى أن الأمر اعتبار صرف في عالم الذهن وهو بسيط ولا

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 175.
(2) أجود التقريرات ج 1: ص 176.
239

يعقل انحلاله في هذا العالم، وإلا فلازمه التركيب فيه وهو خلف ولا وجود له
في عالم الخارج لكي ينحل بانحلال أجزاء الواجب كالصلاة ونحوها، أجل
أن العقل يحكم بانحلال فاعليته في الخارج ومحركيته فيه بتبع تعدد أجزاء
الواجب، ولكن من الواضح أن محركيته الضمنية لكل جزء وإنما هي بمحركيته
الاستقلالية للكل لا مستقلة وإلا لزم تعدد الوجوب وهو كما ترى، وعلى هذا
فلو كانت الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر فلابد من الاتيان بكل شرط في
ضمن داعوية الأمر بالكل، كما أنه لابد من الاتيان بكل جزء كذلك مع أن
المكلف غير ملزم بالاتيان بالشرائط كذلك، وأما الطهارات الثلاث فالمكلف
يأتي بها لا بداعوية الأمر بالصلاة بل بداعوية ما في نفس هذه الطهارات
الثلاث من المحبوبية.
فالنتيجة أن ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) في وجه عباديتها لا يمكن
المساعدة عليه بوجه هذا.
والتحقيق في المقام أن يقال أن عبادية شئ منوطة بتوفر عنصرين فيه:
الأول: أن يكون محبوبا في نفسه لله تعالى حتى يكون قابلا للإضافة
إليه سبحانه.
الثاني: أن يكون المكلف آتيا به مضافا إليه تعالى، فإذا توفر هذان
العنصران فيه فهو عبادة، وعلى هذا فحيث إن كلا العنصرين متوفر في
الطهارات الثلاث فهي عبادة.
أما العنصر الأول فلأن مجموعة من الروايات تنص على أنها طهور، وهذه
المجموعة تحقق صغرى القياس وهي أن الطهارات الثلاث طهور، وقوله تعالى:
(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) يحقق كبرى القياس، وبضم الصغرى
إلى الكبرى، فالنتيجة أن الطهارات الثلاث محبوبة عند الله تعالى، فإذا كانت
240

محبوبة كانت قابلة للتقرب بها.
وأما العنصر الثاني فقد ثبت أن صحة الاتيان بالطهارات الثلاث منوطة
بقصد القربة وهو يتحقق بأحد أمور:
الأول: الاتيان بها بداعي أمرها الاستحبابي.
الثاني: الاتيان بها بداعي كونها محبوبة عنده تعالى.
الثالث: الاتيان بها بقصد التوصل إلى الصلاة أو نحوها، والجامع الاتيان
بها مضافا إلى المولى سبحانه وتعالى، ولا فرق في ذلك بين القول بوجوب
المقدمة والقول بعدم وجوبها، لأن الوجوب الغيري لا يكون مقربا كما مر.
تحصل من ذلك أن عبادية الطهارات الثلاث من جهة محبوبيتها في
نفسها، ثم إنه لا فرق في صحة الاتيان بالطهارات الثلاث بين أن يكون قبل
الوقت أو بعده، باعتبار أن محبوبيتها لا تكون مقيدة بما بعد الوقت، وعلى
هذا فما هو دخيل في صحتها لا يكون منوطا بما بعد الوقت، وما هو منوط به
غير دخيل في صحتها وهو وجوبها الغيري على تقدير القول به.
إلى هنا قد وصلنا إلى النتائج التالية:
الأولى: أن الواجب النفسي على المشهور ما وجب لنفسه لا لواجب
آخر، والواجب الغيري ما وجب لأجل واجب آخر، وقد أورد عليه بأن هذا
التعريف لا ينطبق على جل الواجبات في الشريعة المقدسة لأنها واجبة لأجل
الغير وهو المصالح والملاكات المترتبة عليها لا لنفسها، بل على ضوء هذا
التعريف ينحصر الواجب النفسي بمعرفة الله تعالى فقط، وأما غيرها جميعا من
الواجبات العملية كالصلاة والصيام ونحوهما والواجبات العقائدية كمعرفة
الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) ونحوهما واجبات غيرية، وقد دافع عن ذلك المحقق
الأصفهاني والمحقق النائيني والسيد الأستاذ (قدس سرهم) ولكن دفاعهم غير تام.
241

الثانية: أن المحقق الخراساني (قدس سره) قد ذكر أن المعيار في الواجب النفسي
ما يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه لا من أجل واجب آخر.
وفي الواجب الغيري ما يكون معنونا كذلك من أجل واجب آخر لا في
نفسه، ولكن تقدم أن هذا المعيار لا أصل له.
أولا: أن جميع الواجبات النفسية في الشريعة المقدسة ليست معنونة
بعنوان حسن في نفسها.
ثانيا: أن الحسن العقلي ليس ملاكا للوجوب، فإن ملاكه المصلحة
الواقعية التي لا طريق للعقل إليها.
الثالثة: أن بعض المحققين (قدس سرهم) قد ذكر أن ملاك النفسي والغيري ليس
بلحاظ عالم الملاك والمبادئ بل بلحاظ عالم الالزام والايجاب، وعلى هذا
فلا يرد الإشكال على التعريف المشهور، ولكن تقدم المناقشة فيه.
الرابعة: أن الميزان في الواجب النفسي هو ما وجب لأجل مصلحة
لزومية قائمة بنفسه ومترتبة عليه مباشرة، وفي الواجب الغيري هو ما وجب
لأجل مصلحة قائمة بغيره لا بنفسه ومترتبة على الغير مباشرة دونه، وهذا
الميزان هو الصحيح والمطابق للواقع، ولا موجب للالتزام بظاهر تعريف
المشهور والحفاظ عليه.
الخامسة: أن مقتضى الأصل اللفظي في المسألة عند الشك في واجب
هل هو نفسي أو غيري أنه نفسي، لأن مرجع هذا الشك إلى الشك في الاطلاق
والاشتراط، ومقتضى الأصل عدم الاشتراط فإنه بحاجة إلى مؤنة زائدة، فإذا
شك في وجوب الوضوء أنه مطلق أو مشروط بوجوب الصلاة، فمقتضى إطلاق
دليله أنه مطلق، ويمكن التمسك باطلاق دليل الصلاة أيضا لاثبات أن الوضوء
ليس قيدا لها، ولازم ذلك أن الوضوء واجب نفسي.
242

السادسة: أن مقتضى الأصل العملي في المسألة يختلف باختلاف
الفروض، فإذا شك في وجوب الوضوء وأنه مطلق أو مشروط بوجوب الصلاة
، ففي مثل ذلك إن لم يكن وجوب الصلاة فعليا فالمرجع أصالة البراءة عن
وجوبه النفسي، وإن كان فعليا فقد ذهب السيد الأستاذ (قدس سره) إلى عدم جريان
أصالة البراءة عن وجوبه للعلم التفصيلي به والعقاب على تركه على كل تقدير،
وحينئذ فلا مانع من جريان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة ولا معارض لها،
ولكن تقدم أنها معارضة بأصالة البراءة عن وجوبه النفسي للعلم الاجمالي إما
بوجوب حصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة المقيدة بالوضوء أو وجوب
الوضوء نفسيا، وأصالة البراءة عن وجوب الأولى معارضة مع أصالة البراءة
عن وجوب الثاني، ودعوى أن أصالة البراءة عن وجوب الوضوء لا تجري
للعلم التفصيلي بالعقاب على تركه على كل تقدير أي سواء أكان واجبا نفسيا
أم كان قيدا لواجب أخر كالصلاة، فعلى الأول يكون العقاب على ترك نفسه،
وعلى الثاني على ترك الصلاة باعتبار أن تركه يستلزم تركها، فإذن لا مانع من
جريان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة، مدفوعة بأن العلم التفصيلي بالعقاب
إنما هو على ترك الوضوء الجامع بين ترك نفسه وترك الصلاة، فإذن يرجع هذا
العلم التفصيلي إلى العلم الاجمالي بالعقاب إما على ترك الوضوء أو على ترك
الصلاة، فإذا فرض جريان أصالة البراءة عن وجوب الصلاة فهي تدفع احتمال
العقاب على تركها من ناحية كون الوضوء قيدا لها فيبقى احتمال العقاب على
تركه من ناحية كونه واجبا نفسيا.
والخلاصة أن العلم التفصيلي بالعقاب على ترك الوضوء على كل تقدير
لا يجتمع مع أصالة البراءة عن وجوب الصلاة لأنها تدفع احتمال العقاب على
تقدير كونه قيدا.
243

السابعة: إذا علم بوجوب فعلين كالوضوء والصلاة وشك في تقييد
أحدهما بالآخر كما إذا شك في تقييد الصلاة بالوضوء، ففي مثل ذلك أصالة
البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء
نفسيا، فتسقطان من جهة المعارضة فيكون العلم الاجمالي منجزا، ولا فرق في
ذلك بين أن يكون الفعلان متماثلين في الاطلاق والتقييد أولا كما تقدم.
الثامنة: أن الوجوب الغيري ليس بوجوب مولوي قابل للتنجيز، فلهذا
لا يستحق العقوبة على مخالفته، بينما الوجوب النفسي وجوب مولوي قابل
للتنجيز فيستحق العقوبة على مخالفته، ويترتب على ذلك أن الوجوب الغيري
لا يصلح أن يكون محركا بصورة مستقلة عن الوجوب النفسي.
الثامنة: أن ملاك الوجوب الغيري هو حيثية المقدمية التي هي جهة
تعليلية لا تقييدية ولهذا يكون متعلقه واقع المقدمة بالحمل الشائع بدون أخذ
أي خصوصية فيه كقصد التوصل ونحوه، بينما يكون ملاك الوجوب النفسي
اتصاف متعلقه بالملاك في مرحلة المبادئ.
التاسعة: أنه لا ثواب على الواجب الغيري والثواب إنما هو على الواجب
النفسي، ولهذا لو أتى بالواجب النفسي بقصد التوصل إلى امتثال الواجب
النفسي بتمام مقدماته استحق مثوبة واحدة، ولو شرع في المقدمة وأتى بها ثم
لم يأت به، فإن كان عدم الاتيان به عامدا وملتفتا لم يستحق الثواب على
المقدمة، وإن كان لعذر استحق الثواب لا على المقدمة بل على الانقياد وهو
قصد الامتثال.
العاشرة: أن الطهارات الثلاث تمتاز عن سائر الواجبات الغيرية في
أمرين:
الأول: في ترتب الثواب عليها بينما هو لا يترتب على غيرها.
244

الثاني: في اعتبار قصد القربة فيها رغم أنه لا يعتبر في غيرها، وكلا
الأمرين غير مرتبط بوجوبها الغيري.
الحادية عشر: ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أن منشأ عبادية الطهارات الثلاث
استحبابها النفسي، وناقش فيه المحقق النائيني (قدس سره) بوجوه ثلاثة:
الأول: أن استحباب الوضوء والغسل وإن كان ثابتا، إلا أن استحباب
التيمم غير ثابت.
الثاني: أن الأمر الاستحبابي يندك في الأمر الوجوبي الغيري فلا يبقى
حتى يكون مقربا.
الثالث: أنه غالبا يكون مغفولا عنه، وفي هذه الحالة لا يمكن التقرب به،
وهذه الوجوه جميعا غير تامة كما تقدم.
الثانية عشر: ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن الأمر الاستحبابي النفسي المتعلق
بالطهارات الثلاث يندك في الأمر الوجوبي الغيري المتعلق بها، ومعنى
الاندكاك اكتساب كل من الأمرين عن الآخر ما هو فاقد له، فيصبحان أمرا
وجوبيا واحدا عباديا.
ولكن تقدم أن الاندكاك والتفاعل بين الأحكام الشرعية غير معقول، أما
في مرحلة الجعل فهو واضح، وأما في مرحلة الفعلية فلا حكم فيها حتى يندك
بعضه في بعض، نعم إن الاندكاك والتفاعل في هذه المرحلة إنما هو بين فاعلية
كل منهما مع فاعلية الآخر في مورد الاجتماع.
الثالثة عشر: ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أن منشأ عبادية الطهارات الثلاث
ليس أمرها الاستحبابي النفسي بل منشأها الأمر الضمني المتعلق بها (1)، ولكن

(1) نفس المصدر المتقدم ص 151.
245

تقدم الإشكال فيه أولا أن الشرائط ليست كالأجزاء.
وثانيا: أنها لو كانت متعلقة للأمر الضمني النفسي العبادي لكانت عبادة
كالأجزاء بلا فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها من الشرائط مع أن الأمر ليس
كذلك.
الرابعة عشر: أن فاعلية الأمر الضمني إنما هي بفاعلية الأمر الاستقلالي
وداعويته إنما هي بداعويته، وعلى هذا فلو كانت الشرائط متعلقة للأمر
الضمني فلازم ذلك الاتيان بكل شرط بداعوية الأمر الاستقلالي كالجزء مع أن
الأمر ليس كذلك.
الخامسة عشر: الصحيح أن منشأ عبادية الطهارات الثلاث محبوبيتها في
نفسه، وعلى هذا فالاتيان بها مضافا إلى المولى سبحانه كفى في صحتها بلا حاجة
إلى مؤنة أخرى.
246

البحث السادس:
الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها
هنا عدة مقامات:
المقام الأول: هل البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شئ ووجوب
مقدمته وعدم ثبوتها يكون من المسائل الأصولية أو لا.
المقام الثاني: هل هذه الملازمة ثابتة بينهما؟
المقام الثالث: على تقدير ثبوت هذه الملازمة يقع الكلام في سعتها
وضيقها على أقوال:
أما الكلام في المقام الأول: فقد ذكرنا في أوائل بحث الأصول أن أصولية
مسألة مقدمة الواجب ليست مرهونة بوجوبها الغيري لما قدمناه هناك وأشرنا
إليه آنفا أيضا من أن الوجوب الغيري ليس بوجوب مولوي قابل للتنجيز لكي
يستحق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته فلهذا لا يصلح أن تكون
نتيجة فقهية عملية ومحركا نحو طاعة المولى ومركزا لها.
ومن هنا ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن أصولية مسألة مقدمة الواجب من جهة
وجود أثرين منجزين لها ولكن قد علقنا عليهما هناك وسوف نشير إليهما في
247

ضمن البحوث القادمة أن كلا الأثرين لا يصلح أن يكون أثرا فقهيا للمسألة
الأصولية مباشرة ومن هنا قلنا أن مسألة مقدمة الواجب ليست من المسائل
الأصولية التي تقع في طريق عملية الاستنباط للحكم الفقهي الكلي بنحو
مباشر كما هو شأن المسألة الأصولية بل تقع بواسطة مسألة أصولية فتكون
صغرى لها وتمام الكلام هناك.
وأما الكلام في المقام الثاني فتارة يقع في ثبوت الملازمة في مرحلة
الإرادة وأخرى في مرحلة الجعل والاعتبار.
أما الأول فلا شبهة في ثبوت الملازمة في هذه المرحلة لوضوح أن
المولى إذا أراد شيئا بالأصالة أراد مقدماته أيضا بالتبع كما أن حب شئ
يستلزم حب مقدماته وهذا التلازم أمر وجداني لا برهاني فلهذا لا يمكن الزام
الخصم به فالنتيجة أن الإيمان بالمسائل النظرية إنما هو بالبرهان وأما الإيمان
بالمسائل الوجدانية فإنما هو بشهادة الوجدان.
و دعوى أنه لا ملازمة بين إرادة شئ وإرادة مقدماته لأن إرادة المقدمة
ليست بمعنى تعلق الحب والشوق بها بل بمعنى إعمال القدرة نحو الاتيان بها وما
قيل من أن إرادة شئ تستتبع إرادة مقدماته المستتبع لتحريك العضلات نحوها
خلاف الوجدان لأن الإرادة والشوق إنما هي تجاه ذي المقدمة دونها ومن هنا إذا
كانت المقدمة محرمة وتكون مساوية مع وجوب ذيها في الأهمية فلا يعقل تعلق
الحب والشوق بها تبعا للحب والشوق بذيلها.
مدفوعة بأن إرادة المقدمة إرادة تبعية بمعنى أنها من شؤون إرادة ذيها ومن
مراتب وجودها النازلة لأنها متولدة منها ولهذا لا تكون محركة مستقلة فإن
محركيتها إنما هي بمحركية إرادة ذيها ودعوتها إنما هي بدعوتها لا بالذات وأما
إذا كانت المقدمة محرمة مساوية لذيها في الأهمية ملاكا فمع لحاظ التزاحم بينهما
248

فلا إرادة في البين لا بالنسبة إلى الاجتناب عن المقدمة ولا بالنسبة إلى الاتيان
بذيلها وأما مع قطع النظر عن التزاحم بينهما فيكون ذو المقدمة محبوبا ومرادا في
نفسه ومقدماته بالتبع فعدم تعلق الحب والشوق بالمقدمة.
إذا كانت محرمة فإنما هو من جهة التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها المانع
من إرادته لا إرادة المقدمة فحسب يعني عن ترشحها عن إرادة ذيها.
وأما الثاني وهو الملازمة في مرحلة الجعل فإن أريد بها ترشح وجوب
المقدمة من وجوب ذيها بصورة قهرية كترشح المعلول عن العلة التامة فهي غير
معقولة لأن الوجوب أمر اعتباري وبيد المعتبر مباشرة.
هذا إضافة إلى أن الترشح والتولد إنما يتصور في الأمور التكوينية وأما في
الأمور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها في الخارج فلا يتصور تولد بعضها
من بعض وترشح حكم من حكم آخر قهرا إذ ليس هنا شئ حتى يتولد منه شئ.
فالنتيجة أن ترشح وجوب المقدمة عن وجوب ذيها قهرا غير معقول
لسببين:
الأول: أن الوجوب فعل اختياري للمولى مباشرة فلا يعقل فيه التسبيب.
الثاني: أن ذلك إنما يتصور في الأمور التكوينية دون الأمور الاعتبارية
التي لا واقع لها في الخارج حتى يتصور فيها التأثير والتأثير وإلا كان خارجيا
لا اعتباريا وهذا خلف.
وإن أريد بها أن المولى كما إذا أراد ذي المقدمة أراد مقدمته أيضا بالتبع
كذلك إذا جعل الوجوب لذيها أصالة جعل الوجوب لمقدمته أيضا كذلك فالملازمة
ثابتة بين الجعلين بأن يكون الجعل الأول داعيا للجعل الثاني.
ففيه أن ذلك وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أن إثباته بحاجة إلى دليل لأن جعل
الوجوب للمقدمة زائدا على الوجوب لذيها بحاجة إلى نكتة تبرر هذا الجعل وإلا
249

لكان لغوا وجزافا ولا نكتة في المقام تبرر هذه الملازمة الجعلية لأن المبرر لجعل
الحكم من قبل المولى هو اتصاف متعلقه بالملاك في مرحلة المبادئ فإنه يدعوه
إلى الجعل والمفروض أنه لا ملاك في متعلق الوجوب الغيري لكي يكون مبررا
لجعله ومن هنا لا يترتب على الوجوب الغيري أثر ولا يكون محركا وحده نحو
طاعة المولى وانقياده ولهذا لا عقوبة على مخالفته ولا مثوبة على موافقته كل ذلك
من جهة أنه وجوب بلا روح وحقيقة ومن الواضح أن الوجوب إذا كان بلا روح
وحقيقة فلا يكون محركا ودعوى أن المبرر لجعله اتصاف الواجب النفسي
بالملاك في مرحلة المبادئ. مدفوعة بأنه إنما يكون مبررا لجعل الوجوب
النفسي ولا يصلح أن يكون مبررا لجعل وجوب آخر.
وإن شئت قلت: إن المبرر لجعل الوجوب أحد أمرين:
الأول: أن يكون الوجوب مركزا لحق الطاعة والمعصية والإدانة كالأوامر
الامتحانية.
الثاني: أن يكون مبرزا للملاك في مرحلة المبادئ الذي هو حقيقة
الوجوب وجوهره وأما إذا كان الوجوب خاليا عن كلا الأمرين المذكورين فلا
قيمة له والوجوب الغيري حيث إنه خال عن كليهما معا باعتبار أنه ليس مركزا
لا للطاعة ولا للمعصية ولا مبرزا للملاك في متعلقه فلا قيمة له وعليه فلا
محالة يكون جعله لغوا وجزافا فلا يمكن صدوره من المولى وهناك مبررات
أخرى لجعل الوجوب الغيري سوف نستعرضها في ضمن البحوث القادمة وما
فيها من النقد.
وأما الكلام في المقام الثالث فعلى تقدير تسليم الملازمة بين وجوب ذي
المقدمة ووجوب مقدمته فيقع في حدوده سعة وضيقا بمعنى أن الواجب
الغيري هل هو مطلق المقدمة أو خصوص حصة خاصة منها وعلى الأول فهل
250

الوجوب الغيري المتعلق بها مطلق أو أنه مشروط بالإرادة والعزم.
وعلى الثاني فهل الواجب الغيري خصوص المقدمة المقيدة بقصد التوصل
بها إلى ذي المقدمة أو خصوص المقدمة المقيدة بالإيصال إلى ذيها في الخارج
ففيه أقوال:
القول الأول: ما اختاره المحقق الخراساني (قدس سره).
القول الثاني: ما اختاره صاحب المعالم (قدس سره).
القول الثالث: ما نسب إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره).
القول الرابع: ما اختاره صاحب الفصول (قدس سره).
أما القول الأول الذي اختاره صاحب الكفاية (قدس سره) فقد أفاد في وجهه أن ما
يدعو المولى إلى إيجاب المقدمة هو أن تمكن المكلف من الاتيان بذيلها مترتب
على الاتيان بها فلا يتمكن منه بدون الاتيان بها وحيث إن هذا الغرض مترتب
على مطلق المقدمة فلا محالة يدعو المولى إلى إيجابها كذلك باعتبار أن الوجوب
يدور مدار الغرض المترتب عليها في السعة والضيق (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بإيرادين:
الأول: إن تمكن المكلف من الاتيان بذي المقدمة لا يترتب على
الاتيان بالمقدمة في الخارج بل هو مترتب على قدرته وتمكنه من الاتيان
بالمقدمة على أساس أن المقدور بالواسطة مقدور فإذا كان المكلف قادرا على
الاتيان بالمقدمة كان قادرا على الاتيان بذيلها وعليه فالغرض المذكور ليس
غرضا لايجاب المقدمة لأنه مترتب على قدرة المكلف عليها وتمكنه منها فإذا
كان قادرا عليها صح التكليف بذي المقدمة سواء أتى المكلف بها أم لا وليس هذا

(1) كفاية الأصول: ص 113 - 114.
251

من التكليف بغير المقدور.
الثاني: أن القدرة على الاتيان بذي المقدمة لو كانت متوقفة على الاتيان
بالمقدمة في الخارج فلازم ذلك جواز تفويت الواجب اختيارا لأن تحصيل
القدرة غير واجب باعتبار أنها من شروط التكليف ولا مقتضى لوجوب
تحصيلها كالاستطاعة مثلا هذا (1).
أما الإيراد الأول فالأمر كما أفاده (قدس سره) لأن القدرة على الاتيان بالواجب
كالصلاة ونحوها متوقفة على القدرة على الاتيان بالمقدمة لوضوح أن إمكان
ذي المقدمة وقوعا يتوقف على إمكان المقدمة كذلك لا على وجودها في
الخارج.
وأما الإيراد الثاني فالظاهر أنه مبني على الخلط بين تحصيل القدرة على
الواجب من قبل شروط الوجوب وتحصيل القدرة عليه من قبل شروط
الواجب فالأول غير واجب إذ لا مقتضى له حيث إنه لا ملاك للواجب قبل
تحقق شروط وجوبه ولهذا لا يجب تحصيل القدرة على الحج بإيجاد
الاستطاعة في الخارج وهذا بخلاف الثاني وهو تحصيل القدرة من قبل شروط
الواجب فإنه واجب وما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن الكلام فيه إنما هو في شروط الواجب ومقدماته وفي مثل ذلك
حيث إن ملاك الواجب فعلي وتام فيجب على المكلف تحصيل القدرة عليه
بالاتيان بمقدماته وشرائطه وتحصيل القدرة من قبل هذه المقدمات على ذيها
واجب وإلا لزم تفويت الملاك الملزم الفعلي وبكلمة أن الوجوب وإن لم يكن فعليا
من جهة عجز المكلف قبل الاتيان بتلك المقدمات إلا أن اتصاف الفعل بالملاك في

(1) المحاضرات ج 2: ص 416.
252

مرحلة المبادئ فعلي من جهة فعلية شروطه فلا يجوز تفويته والخلاصة أنه لو
فرض أن القدرة على الاتيان بالواجب تتوقف على الاتيان بمقدماته الوجودية
في الخارج وجب تحصيلها من قبلها على أساس أن ملاكه تام وفعلي فلا يجوز
تفويته نعم لا يجب تحصيل القدرة من قبل مقدمات الوجوب لعدم المقتضي له.
وعلى هذا فالمقتضي لوجوب تحصيل القدرة على الواجب من قبل
مقدماته موجود باعتبار أن اتصاف الواجب بالملاك فعلي فلا حالة منتظرة من
هذه الناحية.
فالنتيجة أن الإشكال الثاني غير وارد على المحقق الخراساني (قدس سره) هذا
إضافة إلى أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنما هو وجود ذي المقدمة في
الخارج لأنه المطلوب بالذات لا التمكن من إيجاده.
وعلى هذا فبطبيعة الحال تكون إرادة المقدمة ومطلوبيتها إنما هي
بغرض الوصول بها إليه لا مطلقا ضرورة أن الملازمة إنما هي بين إرادة وجود
ذي المقدمة في الخارج وإرادة مقدمته فيه تبعا ومن الواضح أن المطلوب بالغير
إنما هو المقدمة التي يترتب عليها وجوده فيه وإلا لزم أن تكون دائرة المطلوب
بالغير أوسع من دائرة المطلوب بالذات وهو كما ترى وعليه فبطبيعة الحال
يكون الوجوب متعلقا بحصة خاصة من المقدمة وهي المقدمة الموصلة لأن
الداعي إلى إيجابها هو الوصول بها إلى وجود ذيها في الخارج.
ونتيجة ذلك أن المقدمة التي لا يترتب عليها وجود ذي المقدمة في
الخارج فلا تكون مطلوبة وإلا لزم المحذور المذكور وهو أن تكون دائرة
المطلوب بالغير أوسع من دائرة المطلوب بالذات فلهذا يكون الواجب هو
المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة على تفصيل يأتي في ضمن البحوث
القادمة.
253

وأما القول الثاني الذي اختاره صاحب المعالم (قدس سره) هو أن وجوب المقدمة
مشروط بالعزم وإرادة الاتيان بذي المقدمة.
فلا يمكن الالتزام به ثبوتا وذلك لأن الالتزام بالوجوب الغيري إنما هو
على أساس ثبوت الملازمة بينه وبين الوجوب النفسي أما على نحو الملازمة
بين المعلول والعلة التامة أو على نحو الملازمة بين جعل الوجوب النفسي لذي
المقدمة وجعل الوجوب الغيري للمقدمة تبعا بملاك أن ما يقتضي جعل الأول
أصالة هو يقتضي جعل الثاني تبعا فلذلك لا يمكن للمولى أن لا يجعل الوجوب
الغيري للمقدمة بعد جعل الوجوب النفسي لذيها وعلى كلا التقديرين فالوجوب
الغيري يتبع الوجوب النفسي في الاطلاق والاشتراط فإذا كان الوجوب النفسي
مطلقا وغير مشروط بالإرادة والعزم فكيف يعقل أن يكون الوجوب الغيري
مشروطا بها مثلا إذا كان وجوب الصلاة مطلقا وغير مشروط بإرادتها وعزمها فلا
يمكن أن يكون وجوب مقدمتها مشروطا بها فإن معنى ذلك نفي الملازمة بينهما
وهو خلف أو فقل أن مرجع تقييد الوجوب الغيري بالإرادة والعزم أما إلى نفي
الملازمة أو إلى أن الوجوب النفسي هو المقيد بها وكلاهما لا يمكن أما الأول فهو
خلف فرض ثبوتها وأما الثاني فلأن لازم ذلك أن يكون الوجوب النفسي كوجوب
الصلاة مثلا مشروطا بإرادة المكلف وعزمه الاتيان بالواجب (1) وهو كما ترى
بداهة أن معنى ذلك عدم الوجوب شرعا عند عدم إرادة المكلف لأنه تابع لإرادته
ويدور مدارها وجودا وعدما وهذا غير معقول.
فالنتيجة أن هذا القول لا يرجع إلى معنى محصل وقد يستشكل على
هذا القول كما عن المحقق العراقي (قدس سره) بأن وجوب المقدمة مشروطا بإرادة ذي

(1) معالم الدين: ص 74 في آخر مبحث الضد.
254

المقدمة والعزم عليه لغو لأن المكلف إذا كان عازما على الاتيان بذي المقدمة
ومريدا له فبطبيعة الحال كان عازما على الاتيان بمقدمته ومريدا له أيضا تبعا
وحينئذ فجعل الوجوب لها مشروطا بهذه الحالة يكون لغوا فلا أثر له أصلا
لأن أثره إيجاد الداعي في نفس المكلف نحو المطلوب لتحصيله والمفروض إن
هذا الداعي حاصل فاذن يلزم من جعله تحصيل الحاصل (1).
ولكن هذا الاشكال مبني على أن يكون الغرض من إيجاب المقدمة
إيجاد الداعي في نفس المكلف مع أن الأمر ليس كذلك لأن وجوب المقدمة
وجوب غيري تبعي ليس له داعوية فإن داعويته إنما هي بداعوية الوجوب
النفسي فإذن لا موضوع لإشكال اللغوية من هذه الناحية وأما تعبيره (قدس سره) بأن
وجوب المقدمة إذا كان مشروطا بإرادة ذيها كان من تحصيل الحاصل فهو مبني
على التسامح لأن غاية ما يستلزم هذا الاشتراط إن إرادة ذي المقدمة تستلزم
إرادة المقدمة لا حصولها لكي يكون من تحصيل الحاصل.
وأما القول الثالث وهو ما نسب إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره) على ما في
تقريرات بحثه من أن الواجب حصة خاصة من المقدمة وهي المقيدة بقصد
التوصل بها إلى الواجب (2) فلا يمكن المساعدة عليه وذلك لأن أخذه قيدا في
المقدمة الواجبة شرعا لابد أن يكون مبنيا على نكتة مبررة له ولا يمكن أن يكون
جزافا والمفروض عدم وجود نكتة تبرر أخذه فيها لأن المبرر لأخذ شئ في
المقدمة إنما هو دخله في الغرض المترتب عليها والغرض المترتب عليها أحد
أمرين:

(1) نهاية الأفكار ج 1: ص 333.
(2) مطارح الأنظار: ص 75.
255

الأول: تمكن المكلف من الاتيان بالواجب النفسي كالصلاة ونحوها
وهو مترتب على الاتيان بالمقدمة بالحمل الشائع ومن الواضح أن قصد
التوصل بها غير دخيل فيه لأن المكلف إذا أتى بالمقدمة تمكن من الاتيان
بالواجب النفسي سواء كان قاصدا التوصل بها إليه أم لا.
الثاني: أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة هو وجود ذي المقدمة في
الخارج لا مجرد تمكن المكلف منه على أساس أن كل ما بالغير لابد أن ينتهي
إلى ما بالذات فالوجوب الغيري لابد أن ينتهي إلى الوجوب النفسي لأنه منشأ
له والغرض الغيري التبعي لابد أن ينتهي في نهاية المطاف إلى الغرض النفسي
وحيث إن الغرض الأصلي الذاتي هو حصول الواجب النفسي في الخارج
وتحققه فيه فلا محالة يكون هو الداعي إلى إيجاب المقدمة كما أنه الداعي إلى
إيجاب ذيها ومن الطبيعي أن ما يكون داعيا للأمر النفسي هو الداعي للأمر الغيري
باعتبار أنه يتبع الأمر النفسي لا أنه في مقابله.
وإن شئت قلت: أن المطلوب بالذات والحقيقة إنما هو وجود الواجب
النفسي في الخارج بما له من الملاك والمقدمة مطلوبة بالعرض والتبع وقد
عرفت أن المطلوب بالعرض والتبع لابد أن ينتهي إلى المطلوب بالذات ونتيجة
ذلك أن المقدمات إنما تقع مطلوبة فيما إذا ترتب الواجب النفسي عليها خارجا
لوضوح أنه لا يمكن أن تكون دائرة المطلوب الغيري التبعي أوسع من دائرة
المطلوب الذاتي وحيث إن المطلوب الذاتي هو إيجاد الواجب النفسي في
الخارج بما له من الملاك فبطبيعة الحال كل ما يقع في طريق إيجاده فيه فهو
المطلوب بالتبع والغير وأما ما لا يقع في طريق إيجاده فيه فلا يعقل أن يكون
مطلوبا بالغير وإلا لزم أن تكون دائرة المطلوب بالغير أوسع من دائرة المطلوب
بالذات وهو كما ترى ومن هنا لا يعقل أن يكون الشئ مطلوبا بالغير بدون أن
256

يكون ورائه مطلوبا بالذات لأنه مساوق لوجود المعلول بدون وجود علته
وعلى هذا فلا يمكن أن يكون قصد التوصل قيدا للمقدمة لأنه غير دخيل في
الغرض على كلا الفرضين:
أما على الفرض الأول فلأن الغرض وهو تمكن المكلف من الاتيان بذي
المقدمة مترتب على الاتيان بذات المقدمة سواء أكان قاصدا التوصل بها أم لا.
وأما على الفرض الثاني فلأن الفرض الداعي إلى إيجاب المقدمة هو
وجود ذي المقدمة في الخارج وحصوله بما له من الملاك ومن الواضح أن هذا
الغرض إنما يترتب على المقدمة الموصلة فإنها إن كانت واقعة في طريق إيجاده
في الخارج فقد حصل الغرض منها وإلا فلا ولا فرق في ذلك أن يقصد بها التوصل
أو لا فالمعيار إنما هو يترتب وجود ذي المقدمة عليها قصد بها التوصل أم لا
فالنتيجة في نهاية الشوط أنه لا مبرر لأخذ قصد التوصل قيدا للمقدمة هذا.
ثم إن المحقق النائيني (قدس سره) قد استظهر من تقريرات بحث العلامة
الأنصاري (قدس سره) أن مراده من اعتبار قصد التوصل إنما هو اعتباره في مقام
الامتثال دون أخذه قيدا في المقدمة وعليه فمن جاء بالمقدمة بقصد التوصل
بها فقد امتثل وإلا فلا (1).
وفيه أن هذا ليس قولا في وجوب المقدمة في مقابل سائر الأقوال فإن
قصد التوصل على هذا دخيل في الامتثال وترتب الثواب سواء كان الواجب
في المرتبة السابقة مطلق المقدمة أو حصة خاصة منها وهي المقدمة الموصلة
لأن المكلف إذا أتى بها بقصد التوصل فقد استحق الثواب وإلا فلا.
فالنتيجة أن حمل كلام الشيخ (رحمه الله) على ذلك وإن كان ممكنا بلحاظ أن

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 234.
257

عبارة التقريرات مشوشة وقابلة للتفسير به إلا أن لازم ذلك إنه ليس للشيخ (قدس سره)
قول في المسألة في مقابل سائر الأقوال فيها بمعنى أنه لا يقول بأن قصد التوصل
معتبر في المقدمة وقيد لها.
وقد يوجه مراده (قدس سره) من ذلك بما يلي:
وهو إن الواجب الغيري الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل وهذا يعني أن
عنوان المقدمة مأخوذ في متعلق الوجوب الغيري وهو عبارة عن قصد التوصل
وعليه فإذا أتى المكلف بالمقدمة بدون قصد التوصل بها فالغرض وإن حصل
إلا أنه لم يكن آتيا بالواجب وما أتى به ليس مصداقا له وإن سقط الواجب به
من جهة حصول غرضه ويتفق ذلك كثيرا في الواجبات التوصلية.
وفيه أنه غريب جدا فإن أخذ قصد التوصل قيدا في المقدمة لا يمكن
أن يكون جزافا فلو حصل الغرض منها بدونه فمعناه أن أخذه فيها لغو وجزاف
وهو لا يمكن من المولى الحكيم.
هذا إضافة إلى عنوان المقدمة جهة تعليلية لوجوبها فلا يمكن أن يكون
مأخوذا فيها فالواجب الغيري ذات المقدمة بالحمل الشايع فحال عنوان المقدمة
حال الملاكات والمصالح التي تدعو المولى إلى إيجاب الأفعال التي كانت متصفة
بها في مرحلة المبادئ غاية الأمر أنها تدعو المولى إلى إيجابها نفسيا بينما عنوان
المقدمة يدعوه إلى إيجابها غيريا هذا.
وهنا توجيه ثالث وهو من المحقق الأصفهاني (قدس سره) لمراد الشيخ (رحمه الله) بيان
ذلك أن الجهات التقييدية في الأحكام الشرعية تمتاز عن الجهات التعليلية لأن
العناوين المأخوذة في متعلقاتها كعنوان الصلاة والصيام ونحوهما من الجهات
التقييدية ومن هنا يعتبر في صحة هذه الواجبات الاتيان بها بعناوينها الخاصة
وإلا لم يأت بها نعم الملاكات القائمة بها في مرحلة المبادئ من الجهات
258

التعليلية يدعو المولى إلى إيجابها والحاصل أن الجهات التعليلية في الأحكام
الشرعية غير الجهات التقييدية فإن الأولى خارجة عن متعلقات الأحكام
الشرعية قيدا وتقيدا والثانية داخلة فيها تقيدا وإن كانت خارجة عنها قيدا
وهذا بخلاف الأحكام العقلية فإن الجهات التعليلية فيها هي الجهات التقييدية
فلا تكون مختلفة عنها لأنها نفس عناوين موضوعاتها بلا فرق في ذلك بين
الأحكام العقلية النظرية والأحكام العقلية العملية.
وإن شئت قلت: إن الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية عناوين
لموضوعاتها فإذا حكم العقل باستحالة شئ للدور أو التسلسل أو اجتماع
النقيضين فالمطلوب الجدي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي نفس هذه
العناوين من الدور أو التسلسل أو اجتماع النقيضين وهذا معنى أن الحيثية التعليلية
فيها راجعة إلى الحيثية التقييدية التي هي الموضوع في الحقيقة وكذا حكم العقل
بحسن ضرب اليتيم للتأديب فإن الموضوع الحقيقي لحكم العقل نفس التأديب
دون الضرب وفي المقام حيث إن مطلوبية المقدمة لم تكن لذاتها بل لحيثية
مقدمتيها والتوصل بها فبطبيعة الحال يكون المطلوب الجدي والموضوع الحقيقي
للحكم العقلي نفس التوصل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الواجب سواء
كان تعبديا أم كان توصليا فلا تقع على صفة الوجوب ومصداقا للواجب بما هو
واجب إلا إذا كان المكلف إتيانه عن قصد وعمد لوضوح أن الأمر تعبديا كان أم
توصليا لا يتعلق إلا بالفعل الاختياري فالغسل إذا صدر من شخص بدون اختيار
فهو وإن كان مطابقا لذات الواجب ومحصلا لغرضه ولكنه لا يقع على صفة
الوجوب ومصداقا للواجب بما هو واجب بل يستحيل أن يتعلق الوجوب بالفعل
غير الاختياري حتى يقع مصداقا له وعلى هذا فاعتبار قصد التوصل في وقوع
المقدمة على صفة الوجوب مطلقا إنما هو من جهة أن المطلوب الحقيقي بحكم
259

العقل هو التوصل.
هذا توضيح ما أفاده (قدس سره) في تعليقته على الكفاية ثم ناقش فيه في هامش
التعليقة بتقريب أن الوجه في اعتبار قصد التوصل في مصداقية المقدمة
للواجب مركب من أمرين، أحدهما رجوع الحيثيات التعليلية إلى الحيثيات
التقييدية في الأحكام العقلية وعليه فالتوصل هو الواجب بحكم العقل لا الشئ
لغاية التوصل.
وثانيهما أن التوصل إذا كان بعنوانه واجبا فما لم يصدر هذا العنوان عن
قصد واختيار لا يقع مصداقا للواجب وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد
إليه (1)، وكلا الأمرين قابل للمناقشة:
أما الأمر الأول فبالفرق بين الأحكام العقلية العملية والأحكام العقلية
النظرية بدعوى أن مبادئ الأولى بناء العقلاء على الحسن والقبح ومدح فاعل
فعل وذم فاعل آخر وموضوع الحسن التأديب لا الضرب لغاية التأديب إذ ليس
هناك تشريع حكم من قبل العقلاء لغاية كما هو الحال في الأحكام الشرعية بل
مجرد بنائهم على المدح والممدوح وهو التأديب وهذا بخلاف الأحكام العقلية
النظرية فإنها ليست إلا مجرد إدراك للواقع وإذعان به وعلى هذا ففي المقام
ليس إلا إدارك العقل الملازمة بين إرادة ذي المقدمة وإرادة مقدماته تبعا وبين
وجوبه ووجوبها كذلك ضرورة أنه ليس للعقل حكم ابتدائي بوجوب المقدمة
حتى يقال أنه لا يمكن حكمه بوجوبها إلا من جهة حسنها وهو في نظره
التوصل لأن العقل لا يكون مشرعا فشأن القوة العاقلة إدراك الأشياء لا جعل
الحكم لها، فالنتيجة أن العقل لا يحكم باعتبار قصد التوصل في المقدمة.

(1) نهاية الدراية ج 2: ص 133.
260

وأما الأمر الثاني فلأن الممدوح عليه هو التأديب بالحمل الشائع كما أن
الواجب هو التوصل بالحمل الشائع إلا أن بينهما فرقا فإن التأديب عنوان
قصدي فاختياريته إنما هي بقصد عنوانه لا باختيارية الضرب فإذا صدر ضرب
من ضارب بالاختيار بدون أن يكون قاصدا به التأديب لم يصدر منه التأديب
بالاختيار فصدوره بالاختيار منوط بقصده ولا يكفي في اختياريته اختيارية
الضرب وهذا بخلاف التوصل فإنه بالحمل الشائع لا ينفك عن الاتيان بالمقدمة
واقعا فإذا توضأ المكلف أو اغتسل كان هذا توصلا اختياريا وإن لم يقصد به
التوصل فعنوان التوصل كعنوان المقدمة ليس من العناوين القصدية فالواجب
هو واقع التوصل بالحمل الشائع بدون لزوم قصده هذا.
ولنأخذ بالمناقشة فيما ذكره (قدس سره) في أصل التعليقة ثم ننظر إلى ما أفاده
من الإشكال في هامشها وقبل بيان ذلك نشير إلى مقدمة وهي أن العقل سواء
كان نظريا أم كان عمليا بشأنه إدراك الأشياء غاية الأمر إن كان نظريا
فمدركاته لا تقتضي في نفسها بأنه ينبغي أو لا ينبغي أن يتعداه الإنسان
كاستحالة الدور أو التسلسل أو اجتماع النقيضين أو الضدين أو الملازمة بين
شيئين أو علية شئ لآخر وهكذا وإن كان عمليا فمدركاته في نفسها تقتضي بأنه
ينبغي أو لا ينبغي فالكذب مثلا إذا لوحظ في نفسه يحكم العقل بأنه يقتضي أن لا
يرتكب والصدق في نفسه يقتضي أن يكون هو الصادر من الإنسان.
ثم إن القضايا النظرية التي يدركها العقل البشري ترجع في نهاية المطاف
إلى قضايا أولية كمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية وإن الكل أعظم من الجزء
ونحوها فإن النفس مضطرة إلى الإيمان بها بدون أن تطالب بدليل وبرهان على
صحتها لأن طبيعة تلك القضايا الأولية تقتضي الإيمان بها غنيا عن إقامة برهان
على أساس أن القضايا النظرية جميعا ترجع في نهاية المطاف إلى القضايا
261

الأولية بقانون أن كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات. وبعد ذلك نقول
أنه يمكن المناقشة فيه من وجوه:
المناقشة الأول: أن معنى أن الجهات التعليلية ترجع إلى الجهات التقييدية
في الأحكام العقلية هو أن كل ما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات فحكم
العقل بحسن الضرب للتأديب يرجع لبا وحقيقة إلى حكمه بحسن التأديب
مباشرة مع أنه كان في القضية العقلية جهة تعليلية كما أن حكمة بحسن
التأديب يرجع في الحقيقة ونهاية المطاف إلى حسن العدل ذاتا كما أن حكم
العقل بقبح الضرب للإيذاء يرجع في الحقيقة إلى حكمه بقبح الإيذاء مباشرة
بقانون أن ما بالغير لابد أن ينتهي إلى ما بالذات ومن هنا لا يقف حكم العقل
بقبح الإيذاء بل ينتهي في نهاية المطاف إلى قبح الظلم وهو ذاتي.
فالنتيجة أن جميع القضايا التي يحكم العقل بالحسن والقبح فيها ترجع
في الحقيقة إلى قضيتين فطريتين هما قضية حسن العدل وقبح الظلم.
بل إن هذه القاعدة الأولية وهي أن كلما بالغير لابد أن ينتهي إلى ما
بالذات تشمل الأحكام الشرعية أيضا بحسب مقام الثبوت والواقع فإن الجهات
التعليلية فيها ترجع لبا وحقيقة في هذا المقام إلى الجهات التقييدية ضرورة أن
مطلوبية الواجبات الشرعية كالصلاة ونحوها تنتهي في نهاية المطاف إلى
مطلوبية الملاكات الواقعية في مرحلة المبادئ بقانون أن ما بالغير لابد أن
ينتهي إلى ما بالذات وحيث أن المطلوب بالذات هو الملاكات الواقعية المترتبة
عليها فلا محالة تنتهي مطلوبيتها إليها نعم الجهات التعليلية للأحكام الشرعية
في مقام الاثبات غير الجهات التقييدية فيها.
فالنتيجة أنه لا فرق في رجوع الجهات التعليلية إلى الجهات التقييدية
ثبوتا بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية على أساس أن ما كان بالغير لابد
262

أن ينتهي إلى ما بالذات.
المناقشة الثاني: أن شأن العقل إدراك الواقع بلا فرق في ذلك بين العقل
النظري والعقل العملي كما مر وعلى هذا فهل العقل في المقام يدرك الملازمة بين
المقدمة وذيها والجواب قد تقدم أن الملازمة بين إرادة المقدمة تبعا وإرادة ذيها
وجدانية وأما الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها فهي غير ثابتة لأن
الملازمة بينهما بنحو الملازمة بين المعلول والعلة بأن يترشح وجوب المقدمة من
وجوب ذيها ويتولد منه بصورة قهرية غير معقولة لأن الوجوب أمر اعتباري لا
واقع موضوعي له ما عدا وجوده في عالم الاعتبار والذهن فلا يتصور فيه العلية
والمعلولية والسببية والمسببية وثانيا أنه قائم بالمعتبر مباشرة في وعاء الاعتبار
والذهن وفرض التسبيب فيه خلف وأما الملازمة بين جعل الشارع الوجوب لذي
المقدمة وجعله الوجوب للمقدمة تبعا فهي وإن كانت ممكنة ثبوتا إلا أنها لم تقع إذ
لا مبرر لوقوعها كما مر.
وأما ما ذكره (قدس سره) من أن العقل يحكم بأن الواجب هو المقدمة بعنوان
المقدمية أي بعنوان التوصل وحينئذ فإن أتى بالمقدمة بقصد التوصل فقد أتى
بالواجب وإلا فلا لأن المأتي به عندئذ ليس مصداقا له فهو غريب جدا لأن
تعيين متعلق الوجوب سعة وضيقا بيد المولى كأصل الوجوب وليس للعقل
طريق إليه فوجوب المقدمة إذا كان من قبل الشارع فتعيين متعلقه سعة وضيقا
أيضا بيده على أساس أن إيجاب الشارع المقدمة بما أنه لا يمكن أن يكون
جزافا وبلا نكتة فالنكتة التي تدعو المولى إلى إيجابها أحد أمرين لا ثالث لهما
الأول التمكن من الاتيان بذي المقدمة.
الثاني وجود ذي المقدمة في الخارج المترتب على الاتيان بمقدمته
فعلى الأول يكون الواجب مطلق المقدمة وعلى الثاني خصوص المقدمة
263

الموصلة وأما قصد التوصل فلا يكون دخيلا في شئ من الأمرين فلهذا لا
موجب لأخذه قيدا للمقدمة وأما العقل فلا يحكم أن قصد التوصل دخيل في
ملاك وجوب المقدمة لعدم الطريق إليه لوضوح أنه لو كان دخيلا فيه كان
الشارع أخذه قيدا لها.
الثالث: أن ما ذكره (قدس سره) من أن الواجب حصة خاصة من المقدمة وهي
المقدمة المقيدة بقصد التوصل فإذا أتى المكلف بذات المقدمة بدون قصد
التوصل فلا يكون المأتي به مصداقا للواجب وإن حصل الغرض به غير تام
فإنه لو لم يكن دخيلا في الغرض لم يمكن أن يكون مأخوذا فيها من قبل
الشارع لأنه لغو وجزاف والمفروض أن العقل لا يحكم باعتباره إذ مضافا إلى
أنه لا يكون مشرعا لا يمكن أن يحكم باعتبار شئ في المقدمة جزافا وبدون
أن يكون دخيلا في الغرض منها إلا أن يقال أن حكم العقل باعتبار قصد
التوصل إنما هو من جهة أنه دخيل في ترتب الثواب عليها وعلى هذا فهذا
القول ليس قولا في المسألة في مقابل سائر الأقوال بل هو ناظر إلى أن قصد
التوصل دخيل في ترتب الثواب لا أنه دخيل في وجوب المقدمة والعقل يحكم
بأنه دخيل في ترتب الثواب عليها على أساس أن من أتى بالمقدمة بقصد التوصل
بها إلى ذيها فقد شرع في الطاعة وانقاد فيستحق الثواب.
الرابع: أن الأمر سواء كان تعبديا أم توصليا لا يتعلق إلا بالفعل الاختياري
وعلى هذا فإذا أتى به المكلف عن قصد وإرادة فهو مصداق للمأمور به وإلا لم يقع
مصداقا له وإن كان الغرض منه حاصلا كما إذا أتى المكلف بذات المقدمة غافلا
عن قصد التوصل والمقدمية فإن المأتي به حينئذ وإن لم يقع مصداقا للواجب
الغيري وهو المقدمة بقصد التوصل إلا أن الغرض منها حاصل إذا كانت موصلة.
وفيه أن متعلق الأمر لابد أن يكون اختياريا لاستحالة التكليف بغير
264

المقدور إلا أنه لا ملزم لأن يكون متعلقه خصوص الحصة المقدورة بل يكفي
أن يكون متعلقه الجامع بين المقدور وغير المقدور باعتبار أن الجامع بينهما
مقدور ومن الواضح أن العقل لا يحكم بأكثر من أن يكون متعلق الأمر مقدورا
بملاك قبح تكليف العاجز والمفروض أن التكليف بالجامع بين المقدور وغير
المقدور ليس من تكليف العاجز حتى يحكم العقل بقبحه هذا من ناحية ومن
ناحية أخرى أن القائل بأن متعلق التكليف خصوص الحصة الاختيارية إنما
يقول بذلك بنكتة أن الغرض من جعل التكليف هو إيجاد الداعي في نفس
المكلف وهو يقتضي أن يكون متعلقه خصوص الحصة الاختيارية ولكن ذلك
لا ينطبق على وجوب المقدمة فإنه وإن قلنا بأنه مجعول من قبل الشارع ولكنه
مجعول تبعا لا بغرض إيجاد الداعي في نفس المكلف فإذن لا مقتضى لكون
وجوب المقدمة متعلقا بالحصة الاختيارية فحسب بل لا مانع من تعلقه
بالجامع بين الحصة المقدورة وغير المقدورة هذا إضافة إلى أن الغرض المذكور
أيضا لا يقتضي أكثر من كون متعلق التكليف مقدورا والغرض أن الجامع بين
المقدور وغير المقدور مقدور.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن ما نسب إلى شيخنا
الأنصاري (قدس سره) من القول بوجوب المقدمة بقصد التوصل لا يرجع إلى معنى
صحيح، هذا كله بالنسبة إلى ما أفاده في التعليقة وأما ما أفاده (قدس سره) في هامشها
فهو صحيح إلا في نقطة واحدة وهي الفرق بين الأحكام العقلية العملية
والأحكام العقلية النظرية على أساس أن هذا الفرق مبني على مسلكه (قدس سره) في
مسألة التحسين والتقبيح العقليين وقد تقدم عدم صحة مسلكه في هذه
المسألة.
وأما القول الرابع: وهو ما اختاره صاحب الفصول (قدس سره) من أن الواجب
265

خصوص المقدمة الموصلة بمعنى أن الملازمة إنما هي بين وجوب هذه المقدمة و
وجوب ذيها (1) هذا.
وقد نوقش فيه بعدة نقاط:
الأولى: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن تخصيص الوجوب الغيري
بالمقدمة الموصلة يستلزم أحد محاذير:
الأول: الدور.
الثاني: التسلسل.
الثالث: لزوم اجتماع المثلين والكل مستحيل.
أما الدور فلأن المقدمة الموصلة متوقفة على وجود ذي المقدمة وإلا
فلا يتحقق قيدها وهو الإيصال والمفروض أن وجود ذي المقدمة متوقف
على المقدمة الموصلة (2).
والجواب: أن اتصاف المقدمة بالإيصال وإن كان متوقفا على وجود ذي
المقدمة في الخارج إلا أن وجوده فيه لا يتوقف على صفة الإيصال بل يتوقف
على ذات المقدمة بالحمل الشائع وحينئذ فلا دور وقد يقال كما قيل أن الدور إنما
هو بلحاظ عالم الوجوب فإن لازم وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذيها على
أساس أنه قيد لها مع أن وجوب المقدمة ناشئ عن وجوبه ومعنى ذلك أن وجوب
ذي المقدمة يتوقف على وجوب المقدمة وهو متوقف على وجوبه وهذا هو الدور
والجواب عن ذلك واضح فإن الوجوب النفسي لذي المقدمة لا يتوقف على
وجوب المقدمة ولا يتولد منه حتى يلزم الدور لأن الذي يتوقف على وجوب

(1) الفصول الغروية: ص 86 في التنبيه الأول من تنبيهات مقدمة الواجب.
(2) أجود التقريرات ج 1: ص 237.
266

المقدمة هو وجوبه الغيري فإذن لا دور.
وقد يستشكل في ذلك بأن الوجوب الغيري لا يخلو من أن يندك في
الوجوب النفسي لذي المقدمة أو لا وعلى كلا التقديرين فهو مستحيل إما على
التقدير الأول فلأن لازم الاندكاك اتحاد المتأخر مع المتقدم وهو مستحيل لأن
معناه تأخير المتقدم وتقديم المتأخر وأما على التقدير الثاني فيلزم فيه اجتماع
المثلين والجواب إما عن الأول فلأنه على تقدير تسليم الوجوب الغيري
واجتماعه مع الوجوب النفسي في ذي المقدمة فقد تقدم موسعا أنه لا أصل
لاندكاك حكم مع حكم مماثل له لا في مرحلة الجعل والاعتبار ولا في مرحلة
الفعلية حتى يلزم المحذور المذكور وأما عن الثاني فلأنه لا يلزم من اجتماعهما
فيه اجتماع مثلين لا في مرحلة الجعل والاعتبار ولا في مرحلة الفعلية أما في
الأولى فلأنه ليس فيها إلا صرف اعتبارين هما اعتبار الوجوب النفسي واعتبار
الوجوب الغيري ومن الواضح أنه لا تنافي بينهما بل لا يتصور ذلك. وأما في
الثانية فلا حكم فيها حتى يلزم اجتماع المثلين في مورد الاجتماع بل لا اندكاك
في هذه المرحلة بين فاعلية كل منهما مع فاعلية الآخر أيضا حيث لا فاعلية
للوجوب الغيري فإن فاعليته إنما هي بفاعلية الوجوب النفسي.
هذا إضافة إلى أن ذلك مبني على أن الوجوب المتعلق بشئ ينحل
بانحلال أجزائه وقيوده معا وعلى هذا فالوجوب الغيري المتعلق بالمقدمة المقيدة
بوجود ذيها ينحل إلى وجوبين ضمنيين أحدهما متعلق بذات المقدمة والآخر
متعلق بقيدها وهو الواجب النفسي ولكن قد تقدم أن هذا المبني غير صحيح لأن
القيد خارج عن متعلق الوجوب والتقيد به داخل فإذن لا يتصف الواجب النفسي
بالوجوب الغيري فلا يجتمع فيه وجوبان أحدهما الوجوب النفسي والآخر
الوجوب الغيري.
267

فالنتيجة أنه لا يلزم من تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة
محذور الدور ولا اجتماع المثلين بل لا يلزم اجتماع الوجوب الغيري مع
الوجوب النفسي في شئ واحد.
وأما التسلسل فلأن الواجب الغيري إذا كان خصوص الحصة الموصلة
فبطبيعة الحال ينحل إلى أمرين:
أحدهما ذات المقدمة والآخر تقيدها بالإيصال إلى ذي المقدمة وعلى
هذا فذات المقدمة مقدمة للمقدمة وحيث إن الوجوب الغيري ثابت لمقدمة
المقدمة أيضا ولا تختص بالمقدمة المتصلة فيلزم حينئذ التسلسل بتقريب أن
ذات المقدمة إن كانت مقدمة مطلقا وبدون تقيدها بالإيصال فهو خلاف
الفرض وإن كانت مقدمة مقيدة بالإيصال فننقل الكلام حينئذ إلى ذات هذا
المقيد حرفا بحرف وهكذا إلى ما لا نهاية له.
والجواب: أولا أن ذات المقدمة ليست من المقدمات الخارجية التي
يتوقف وجود ذي المقدمة عليها خارجا لأن هذا هو ملاك الوجوب الغيري
وترشحه من الوجوب النفسي بل هي من المقدمات الداخلية وجزء من
الواجب الغيري لأن المقدمة الموصلة مركبة من جزئين:
الأول: ذات المقدمة.
الثاني: تقيدها بالإيصال إلى ذي المقدمة والمفروض أن المقدمة الداخلية
لا تتصف بالوجوب الغيري لانتفاء ملاكه فيها فإذن لا موضوع للتسلسل.
وثانيا أن التسلسل المحال إنما هو في العلل والمعاليل في الأمور
التكوينية الخارجية وأما في الأمور الاعتبارية فلا يكون محالا لأنه ينقطع
بانقطاع الاعتبار واللحاظ وإن شئت قلت أنه لا معنى للتسلسل في الأمور
الاعتبارية أو الافتراضية لأنها بيد المعتبر رفعا ووضعا بنحو المباشر ولا
268

تتصور فيها العلية والمعلولية والسببية والمسببية في الوجود ومن هنا لا يكون
في نفس الآمر إلا شوق وإرادة بالنسبة إلى الواجب النفسي أصالة وبالنسبة إلى
مقدماته الموصلة تبعا وليس في نفسه أشواق متسلسلة واعتبار ذات كذلك إلا
بالافتراض والاعتبار.
وثالثا مع الاغماض عن جميع ما ذكرناه أن التسلسل إنما يلزم لو كانت
ذات المقدمة المقيدة بالإيصال مقدمة للمقدمة الموصلة وهي المقدمة الأولى
المباشرة فإذا كانت كذلك ترشح الوجوب الغيري منها إليها لا من الواجب النفسي
ثم ننقل الكلام إلى المقدمة الثانية وهكذا إلى أن تذهب الوجوبات الغيرية إلى ما لا
نهاية له ولكن الأمر ليس كذلك لأن ذات المقدمة المقيدة بالإيصال مقدمة للواجب
النفسي مباشرة لأنها نفس ذات الواجب الغيري الذي هو مقدمة له كذلك وحينئذ
فلا يعقل اتصافها بوجوب غيري آخر جديد لفرض أنها بلحاظ تقيدها بالإيصال
إلى الواجب النفسي متصفة به ولا معنى لترشح وجوب غيري جديد منه إليها لكي
يلزم التسلسل مثلا الوضوء بلحاظ تقيده بالإيصال إلى الصلاة متصف بالوجوب
الغيري المترشح من وجوبها إليه وذات الوضوء المقيدة بالإيصال إليها مباشرة لا
يعقل أن تتصف بوجوب غيري آخر جديد لأنها نفس الوضوء الموصل وليست
مقدمة أخرى غيره لأن التقيد بوجود ذي المقدمة أمر معنوي وذات القيد خارج
عن متعلق الوجوب الغيري.
وبكلمة أن مركز الوجوب الغيري واحد وهو الموصل إلى الواجب
النفسي وحينئذ فإن كانت مقدمته متعددة عرضا ترشح إلى كل منها وجوب
غيري مستقل وإن كانت متعددة طولا ترشح وجوب غيري واحد إلى الجميع
باعتبار إن الكل بمثابة مقدمة واحدة وإن كانت واحدة فهي وإن كانت مقيدة
بالإيصال إلى الواجب النفسي إلا أن ذات المقيد تلحظ تقيدها بالإيصال إلى
269

الواجب النفسي لا إلى الواجب الغيري باعتبار أنها في الواقع نفس الواجب
الغيري لا أنها غيره.
ورابعا أن هذا التسلسل مبني على أن يكون الواجب النفسي قيدا
للواجب الغيري ولكن هذا البناء خاطئ لا واقع موضوعي له وذلك لأن معنى
الإيصال إلى الواجب النفسي ليس كونه قيدا للمقدمة بل معناه أن المقدمة قد
وقعت في طريق إيجاد الواجب النفسي فإذا جاء المكلف بالمقدمة ثم بذيلها
اتصفت تلك المقدمة بالموصلة فالايصال عنوان انتزاعي منتزع من وقوع المقدمة
في سلسلة علل وجود الواجب النفسي في الخارج فإذا وجد فيه وترتب عليها
خارجا انتزع عنوان الإيصال لها فإذن أخذ هذا العنوان لمجرد المعرفية والإشارة
إلى أن الواجب الغيري حصة خاصة من المقدمة وهي الحصة الواقعة في سلسلة
علة وجود الواجب النفسي فإذا وقعت في هذه السلسلة انتزع منها عنوان
الموصلة. وإن شئت قلت أن المقدمة في الخارج على نحوين:
الأول: إن الواجب النفسي مترتب عليها في الخارج كما إذا أتى المكلف
بالوضوء مثلا ثم بالصلاة.
الثاني: أن الواجب النفسي لا يترتب عليها فيه فالمقدمة على الأول
موصلة دون الثاني فعنوان الإيصال عنوان منتزع من ترتب الواجب النفسي عليها
خارجا لا أنه قيد لها في المرتبة السابقة فإذا جيئ بالمقدمة ثم بالواجب النفسي
انتزع بها عنوان الموصلية وإلا فلا تكون موصلة.
فالنتيجة أن عنوان الإيصال إلى الواجب النفسي عنوان انتزاعي منتزع
من ترتب وجود الواجب النفسي على وجود المقدمة في الخارج لا أنه قيد لها.
الثانية: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الغرض الداعي إلى إيجاب
المقدمة هو ترتب تمكن المكلف من الاتيان بذي المقدمة على الاتيان بها
270

وهذا الغرض مترتب على مطلق المقدمة لا على حصة خاصة منها وهي
المقدمة الموصلة وعليه فيكون الواجب مطلق المقدمة لا خصوص
الموصلة (1). ولكن قد تقدم بشكل موسع أن ذلك لا يصلح أن يكون ملاكا لايجاب
المقدمة.
المناقشة الثالثة: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) أيضا بتقريب أن المكلف
إذا أتى بالمقدمة ولم يأت بذيلها فهل يسقط أمرها الغيري أو لا.
والجواب: أنه لا يمكن الالتزام بالثاني وهو عدم سقوطه وإلا فلازمه
وجوب الاتيان بها مرة ثانية وهو طلب الحاصل وعلى الأول وهو السقوط
فلا يخلو من أنه إما بالعصيان أو بانتفاء الموضوع أو الموافقة والامتثال وحيث إن
الأول والثاني منتف فيتعين الثالث وهذا يكشف عن أن الوجوب الغيري متعلق
بمطلق المقدمة لا بخصوص المقدمة الموصلة (2).
ولنأخذ بالنقد على هذه المناقشة وحاصل هذا النقد أن الأمر الغيري
حيث إنه تبعي فلا يكون محركا إلا بمحركية الأمر النفسي وهو الأمر بذي
المقدمة ولا يسقط إلا بسقوطه وهذا لا من جهة أن سقوطه مقيد بالاتيان به بل
من جهة أن الغرض من الأمر بالمقدمة لا يحصل إلا بإيجاد ذي المقدمة في
الخارج فإذا أتى المكلف بالمقدمة كما إذا توضأ للصلاة مثلا ثم لم يأت بها فلا
يسقط الأمر بالوضوء لعدم حصول الغرض منه لأن الغرض الموجب للأمر به
هو وجود الصلاة في الخارج فطالما لم يأت المكلف بها لم يسقط الأمر
بالوضوء لأن سقوطه منوط بسقوط الأمر بها ضرورة أنه ليس له سقوط

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 161.
(2) كفاية الأصول: ص 114.
271

مستقل كما أنه ليس له امتثال مستقل في مقابل امتثال الأمر بالصلاة وليس
معنى عدم سقوطه أنه يدعو إلى الاتيان بمتعلقه مرة أخرى لكي يلزم طلب
الحاصل لأن الأمر الغيري لا يدعو إلى الاتيان بمتعلقه إلا بداعوية الأمر
النفسي والمفروض أن الأمر النفسي في هذه الحالة لا يدعو إلى الاتيان بمتعلق
الأمر الغيري مرة أخرى وحينئذ فإذا أتى بمتعلق الأمر النفسي فقد سقط الأمر
الغيري بسقوط الأمر النفسي لمكان حصول غرضه وإلا فهو ليس مصداقا
للواجب الغيري فإن الواجب الغيري على هذا هو ما يترتب عليه وجود
الواجب النفسي في الخارج ويقع في سلسلة علة وجوده فيه فإذا أتى المكلف
بالمقدمة ولم يأت بذيلها لم ينطبق الواجب الغيري على الفرد المأتي به في الخارج
وهو المقدمة فلهذا لا يسقط أمرها الغيري.
والخلاصة أن داعوية الأمر الغيري التبعي إنما هي بداعوية الأمر النفسي
ومن الواضح أن الأمر النفسي إنما يدعو إلى الاتيان بمقدماته تبعا إذا أتى
بمتعلقه لا مطلقا وسقوط الأمير الغيري التبعي إنما هو بسقوط الأمر النفسي
ومن المعلوم أن سقوط الأمر النفسي إنما هو بالاتيان بمتعلقه وبه يسقط الأمر
الغيري أيضا فالنتيجة أن هذه المناقشة أيضا غير تامة.
المناقشة الرابعة: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) أيضا وتبعه فيه المحقق
النائيني (قدس سره) وحاصل هذه المناقشة هو أن الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة لو
كان قائما بخصوص المقدمة الموصلة وهي ما يترتب عليه الواجب النفسي في
الخارج فلازم ذلك تخصيص الوجوب الغيري بخصوص السبب من المقدمة دون
غيره كما عن صاحب المعالم (قدس سره) فإن المقدمة إذا كانت سببا كان ذي المقدمة مترتبا
عليها في الخارج فإذن ليس هذا القول في مقابل القول بتخصيص الوجوب
الغيري بخصوص السبب من المقدمات.
272

والجواب: أن المقدمة الموصلة لا تكون مساوقة للسبب لما تقدم من أن
المراد منها ما يقع في طريق إيجاد ذي المقدمة في الخارج (1) فإذا توضأ المكلف
ثم صلى كان وضوءه مقدمة موصلة وإلا فلا وكذلك الحال في طهارة البدن و
الثوب ونحوهما فإن من قام بتطهير بدنه أو ثوبه ثم صلى فهو من المقدمة الموصلة
وإلا فلا ولا فرق في ذلك بين أن تكون المقدمة شرطا أو سببا أو غيره فإن المقدمة
إذا كانت سببا فبما أن ذي المقدمة مترتب عليها قهرا باعتبار أنه فعل سببي فتكون
موصلة وإذا كانت شرطا كالوضوء أو الغسل للصلاة فإذا صلى بعده فهي مقدمة
موصلة وإلا لم تكن موصلة لأن صفة الموصلية كما مر منتزعة من ترتب الواجب
عليها خارجا من دون كونها دخيلة في وجود ذي المقدمة ومن هنا إذا أتى
بالواجب بعدها اتصفت بالموصلية وإلا فلا.
إن قلت: أن المقدمات على قسمين:
أحدهما المقدمات التوليدية التي تساوق العلة التامة.
وثانيهما المقدمات غير التوليدية وهي التي يتوقف تحقق ذي المقدمة
خارجا على إرادة المكلف واختياره زائدا على المقدمة فالمجموع مساوق مع
العلة التامة وعلى هذا فالمقدمة الموصلة سواء كانت توليدية أم كانت غيرها
تساوق العلة التامة.
وقد أجيب عن ذلك بأن الإرادة حيث أنها غير اختيارية فلا يعقل أن
تكون جزء المقدمة لأن التكليف لابد أن يتعلق بالفعل الاختياري.
وفيه أن وجوب المقدمة حيث أنه غيري فلا يكون مشروطا بالقدرة
والاختيار فإن اعتبار القدرة أما أن يكون على أساس اقتضاء الخطاب أو

(1) كفاية الأصول: ص 113.
273

بحكم العقل أما على الأول فلأن الخطاب إنما يقتضي كون متعلقه مقدورا إذا
كان الغرض منه إيجاد الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو الاتيان بمتعلقه
ومن الواضح أن إيجاد الداعي في نفسه لا يمكن إلا إذا كان متعلقه مقدورا وإلا
فلا يمكن إيجاده وحيث أن الغرض من الأمر الغيري ليس هو إيجاد الداعي في
نفس المكلف فلا يقتضي أن يكون متعلقه مقدورا فإن داعويته إنما هي
بداعوية الأمر النفسي لا بذاته.
و أما على الثاني فلأن حكم العقل باعتبار القدرة إنما هو بملاك قبح تكليف
العاجز وإخراجه وإيقاعه في العصيان واستحقاق العقوبة ومن الواضح أن ذلك
خاص بالواجب النفسي لما عرفت من عدم تصور العصيان واستحقاق العقوبة في
الواجب الغيري المقدمي. هذا إضافة إلى أن الإرادة بمعنى الشوق المؤكد وإن
كانت غير اختيارية لعدم اختيارية أسبابها إلا أن الفعل الاختياري ليس معلولا لها
ومستندا إليها بل هو مستند إلى سلطنة النفس وأعمالها خارجا وهي باختيارها
وقد فصلنا الحديث عن ذلك بشكل موسع في مبحث الجبر والتفويض ودعوى أن
أخذ الإرادة بهذا المعنى في المقدمة لا يجدي في جعلها موصلة لأن المجموع
المركب من المقدمة والإرادة لا يكون علة تامة حتى يكون مساوقا للمقدمة
الموصلة لأن سلطنة النفس على الفعل لا توجب خروجه من حد الإمكان إلى
الوجوب بالغير ومن هنا قلنا في ضمن البحوث السالفة أن قاعدة أن الشئ ما لم
يجب لم يوجد غير منطبقه على الأفعال الاختيارية التي هي مسبوقة بسلطنة
النفس وقدرتها وعلى هذا فبإمكان المكلف أن يترك الفعل بمقتضى سلطنته بعد ما
لم يخرج بها عن حد الإمكان إلى الوجوب.
مدفوعة بما تقدم من أن المقدمة الموصلة لا تكون مساوقة للعلة التامة
بالمفهوم الفلسفي بحيث يستحيل انفكاك ذي المقدمة عنها خارجا بل المراد
274

منها ما يقع في طريق وجود الواجب في الخارج فإذا أتى المكلف بالمقدمة
باختياره وإرادته ثم أتى بالواجب اتصفت المقدمة بالموصلية وقد مر أن صفة
الموصلية منتزعة من ترتب وجود الواجب على وجود المقدمة في المرتبة
السابقة لا أنها جزء المقدمة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن الإرادة سواء
أكانت بمعنى الشوق المؤكد أم بمعنى سلطنة النفس على الأفعال الخارجية
الاختيارية غير مأخوذة في المقدمات التي يبحث عن وجوبها في المسألة فإن
هذه المقدمات إذا وقعت في طريق إيجاد ذيها اتصفت بالموصلية وإلا فلا ولهذا لا
تكون المقدمة الموصلة مساوقة للعلة التامة كما عرفت.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي عدم تمامية شئ من
المناقشات المتقدمة على تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة ومن
هنا لو قلنا بوجوب المقدمة فلابد من تخصيصه بها وقد عرفت أن صفة
الموصلية إلى ذي المقدمة ليست قيدا لها ودخيلة فيها لوضوح أنها منتزعة من
ترتب وجود ذي المقدمة عليها خارجا في المرتبة السابقة فلا يعقل أن تكون
قيدا لها ثم إن المحقق النائيني (قدس سره) لما كان يعتقد بأن المراد من المقدمة الموصلة
ما كان الإيصال إلى وجود ذي المقدمة قيدا لها أو لوجوبها وحيث إنه رأى فيه
محذورا من الدور أو التسلسل فلهذا قد اختار (قدس سره) أن الواجب هو المقدمة في
حال الإيصال إلى وجود ذيها لا مطلق المقدمة إذ لا دليل على وجوبها كذلك ولا
يحكم الوجدان السليم بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته مطلقا.
والجواب: عن ذلك قد ظهر مما تقدم من أن المراد من المقدمة الموصلة
ما يقع في طريق إيجاد ذي المقدمة في الخارج بالحمل الشائع ولا يعقل أن
يكون الإيصال قيدا لها ودخيلا في مقدميتها حيث إنه لا وجود له إلا في عالم
الانتزاع والذهن هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن حال الإيصال ليس قيدا
275

للمقدمة كما هو الحال في القضية الحينية في مقابل القضية الشرطية فإذا لم
يكن قيدا لها فمعناه أن الواجب مطلق المقدمة لا حصة خاصة منها أو فقل أن حال
الإيصال إن كان قيدا لها فيوجب تخصصها لا محالة بحصة خاصة وهي المقدمة
المقيدة بحال الإيصال فيعود حينئذ المحذور المذكور وإن لم يكن قيدا لها كما هو
المفروض استحال أن يوجب تخصصها بحصة خاصة وإلا لزم الخلف فإذن لا
محالة يكون الواجب مطلق المقدمة لا خصوص حصة خاصة ومن هنا لا يرجع ما
أفاده (قدس سره) إلى معنى صحيح.
ثم إن صاحب الفصول (قدس سره) قد استدل على ما اختاره (قدس سره) من وجوب
خصوص المقدمة الموصلة بوجوه:
الأول: أن الحاكم بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته العقل
ومن الواضح أنه لا يحكم بها إلا بين وجوب شئ ووجوب مقدماته التي تقع
في سلسلة مبادئ وجوده في الخارج بحيث يكون وجودها فيه توأما
وملازما لوجود الواجب وإما ما لا يقع في هذه السلسلة ويكون وجوده
خارجا مفارقا عن وجود الواجب فيه فلا يحكم العقل بالملازمة بينهما
والفطرة الوجدانية السليمة تشهد على ذلك ومن هنا لا يأبى العقل عن تصريح
الأمر بعدم إرادة المقدمة التي لا تكون موصلة وهذا دليل على أن الواجب
خصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة هذا (1) ولكن ناقش فيه المحقق
الخراساني (قدس سره) بدعوى أن العقل لا يفرق بين المقدمة الموصلة وغير الموصلة في
الحكم بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدماته على أساس أن ملاك حكمه
بها هو تمكن المكلف من الاتيان بذي المقدمة بعد الاتيان بمقدماته وعلى هذا

(1) الفصول: ص 86 ولا يأبى أن يقول الحكيم...
276

فليس للمولى الحكيم غير المجازف التصريح بعدم إرادة غير المقدمة الموصلة (1).
وفيه ما تقدم من أن الوجدان قاض بأن العقل يفرق بين المقدمة
الموصلة وغير الموصلة ويحكم بالملازمة في الأولى دون الثانية وقد تقدم أن
التمكن من الاتيان بذي المقدمة ليس ملاك وجوب المقدمة لأنه مترتب على
التمكن من المقدمة لا على الاتيان بها ومن هنا أن ما يصلح أن يكون ملاكا
لإيجابها هو وجود ذي المقدمة في الخارج على تفصيل قد مر.
الثاني: أن الغرض من إيجاب المقدمة هو إيصالها إلى الواجب النفسي
فطالما لم تكن المقدمة موصلة لم يكن داع لإيجابها أصلا والوجدان السليم
قاض بذلك وهذا الوجه كالوجه السابق موافق للوجدان في الجملة نعم ليس
بإمكانها المستدل الزام الخصم بذلك في كلا الوجهين باعتبار أنه تمسك
بالوجدان لا بالبرهان.
الثالث: أنه يجوز للمولى أن ينهى عن المقدمات التي لا تكون موصلة إلى
ذيها ولا يستنكر ذلك العقل السليم مع أنه يستحيل أن ينهى عن مطلق المقدمة أو
عن خصوص المقدمة الموصلة وهذا الفرق شاهد على أن الواجب خصوص
المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة.
وأجاب عن ذلك المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) بوجهين:
أحدهما أن هذا الفرض وهو كون المقدمة منهيا عنها خارج عن محل
الكلام في المسألة فإنه إنما هو في المقدمات المباحة في نفسها وأما إذا كانت
المقدمة محرمة فعدم اتصافها بالوجوب الغيري إنما هو لوجود مانع لا لعدم
المقتضي له وعليه فنهي المولى عن المقدمات غير الموصلة لا يكشف عن أنه لا

(1) كفاية الأصول: ص 118.
277

مقتضى لها إذ كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون عدم اتصافها بالوجوب لوجود
مانع وهو النهي فإذن لا يكون النهي عنها كاشفا عن عدم ثبوت المقتضي للوجوب
فيها وعلى هذا فهذا الوجه لا يدل على اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة
وإنما يدل على اختصاصه بغير المقدمة المحرمة سواء أكانت موصلة أم لا نعم إذا
كانت موصلة تقع المزاحمة بين حرمتها ووجوب ذيها فعندئذ لابد من الرجوع
إلى قواعد باب المزاحمة وسوف نشير إلى ذلك موسعا.
وثانيهما أنه لا يمكن تخصيص الحرمة بالمقدمة غير الموصلة وذلك
لأنه يستلزم طلب الحاصل وهو مستحيل.
بيان ذلك أن وجوب ذي المقدمة مشروط بالقدرة عليه عقلا وشرعا
وهي تتوقف على إباحة مقدمته وإباحتها تتوقف على أن تكون المقدمة
موصلة والإيصال مساوق لوجود الواجب ونتيجة ذلك أن وجوب ذي المقدمة
يتوقف على وجوده في الخارج وهو من طلب الحاصل (1).
ويمكن تقرير ذلك بصيغة أخرى وهي أن إباحة المقدمة منوطة بإيصالها
إلى وجود الواجب في الخارج وإلا كانت محرمة ومع حرمتها لا يكون
الواجب مقدورا لأن القدرة عليه تتوقف على إباحة المقدمة وهي تتوقف على
وجود الواجب في الخارج فطالما لم يوجد فيه فالمقدمة محرمة فلا يكون
المكلف حينئذ قادرا شرعا على الاتيان بالواجب وصياغة هذا التقرير وإن
كانت تختلف عن صياغة التقرير الأول إلا أنهما متلازمان لبا وواقعا فلا ينفك
أحدهما عن الآخر.
والجواب: أولا ما تقدم من أن عنوان الإيصال عنوان انتزاعي منتزع من

(1) كفاية الأصول: ص 118.
278

ترتب الواجب على وجود المقدمة في الخارج بالحمل الشائع في المرتبة
السابقة ولا يكون قيدا لها ودخيلا فيها فإذن لا مانع من تخصيص الحرمة
بالحصة غير الموصلة لأن المقدمة الموصلة مباحة وإباحتها لا تتوقف على
وجود الواجب في الخارج حتى يلزم المحذور المتقدم.
وثانيا مع الاغماض عن ذلك وتسليم أن عنوان الإيصال قيد لها إلا أنه
قيد للمقدمة المباحة لا أنه قيد لإباحتها والمحذور المذكور إنما يلزم لو كان
الإيصال قيدا للإباحة باعتبار أن وجوب الواجب حينئذ يتوقف على إباحة
المقدمة وهي تتوقف على وجود الواجب فبالنتيجة يتوقف وجوب الواجب
على وجوده وهو من طلب الحاصل أو أنه يستلزم عجز المكلف شرعا عن
الاتيان بالواجب كما مر ولكن الأمر ليس كذلك بل هو قيد للمقدمة المباحة
وعلى هذا فلا محذور لأن المقدمة الموصلة مباحة قبل الاتيان بالواجب فلا
تتوقف إباحتها على وجود الواجب والاتيان به لكي يلزم المحذور.
وثالثا مع الاغماض عن ذلك أيضا وتسليم أن الإيصال قيد للإباحة فمع
ذلك لا يلزم المحذور المذكور فإنه إنما يلزم إذا كان وجود الواجب قيدا
للإباحة الفعلية للمقدمة ولكن الأمر ليس كذلك فإنه قيد لإباحتها اللولائية أي
إباحتها لو توصل بها إلى وجود الواجب في الخارج فإنه يتوقف على هذه
الإباحة للمقدمة وهي لا تتوقف على وجوده لأنها فعلية قبل وجوده ووجود
المقدمة فإن معنى الإباحة اللولائية هو أن المقدمة مباحة لو توصل المكلف بها إلى
ذيها في الخارج فوجوده فيه يتوقف على هذه الإباحة وهي بيد المكلف واختياره
قبل وجود مقدماته ومن الواضح أن المعيار في صحة الأمر بشئ هو مقدورية
مقدماته وإيقاعها على وجه شرعي والمفروض أن المكلف قادر على الاتيان
بالمقدمة متوصلا بها إلى إيجاد ذيها فإذا أتى بالمقدمة كذلك فقد أتى بها على وجه
279

شرعي وهذا بيد المكلف.
تحصل مما ذكرناه أن الصحيح على القول بوجوب المقدمة هو ما ذهب
إليه صاحب الفصول (قدس سره) من وجوب حصة خاصة منها وهي المقدمة الموصلة
باعتبار أن الغرض من الوجوب الغيري للمقدمة ليس إلا حصول ذي المقدمة
ووجوده فإنه المراد والمطلوب بالأصالة وما يقع في طريق وجوده في الخارج
وحصوله فيه هو المراد والمطلوب بالغرض ومن هنا يكون وجوب ذي
المقدمة أصلي ووجوب مقدمته تبعي وإرادته في مرحلة المبادئ بالأصالة
وإرادة مقدمته بالتبع ومن الواضح أنه لا يمكن أن تكون دائرة المطلوب
بالعرض أوسع من دائرة المطلوب بالذات لأن معنى ذلك أن دائرة المعلول
أوسع من دائرة العلة وهو كما ترى فالنتيجة أنه على تقدير القول بوجوب
المقدمة فهذا القول هو الصحيح دون سائر الأقوال هذا، ولكن التحقيق عدم
وجوب المقدمة مطلقا وقد أشرنا إلى وجه ذلك فيما تقدم وملخصه:
أن الملازمة بين إرادة ذي المقدمة وإرادة مقدمته في مرحلة المبادئ
وإن كانت ثابتة بالوجدان وكذلك الملازمة بين محبوبيته ومحبوبيتها إلا أن
الملازمة في مرحلة الاعتبار غير ثابتة لأنه إن أريد بها أن وجوب المقدمة مترشح
من وجوب ذيها ومتولد منه بصورة قهرية كتولد المعلول عن العلة التامة فإنه غير
معقول وذلك لأن الوجوب أمر اعتباري لا واقع موضوعي له خارجا ما عدا
وجوده في عالم الاعتبار والذهن حتى يتصور فيه التأثير والتأثر لأنه إنما يتصور
في الموجودات التكوينية الخارجية لا في الأمور الاعتبارية.
هذا إضافة إلى أن الاعتبار فعل مباشر للمعتبر فافتراض التسبيب فيه خلف
وإن أريد بها أن وجوب المقدمة مجعول تبعا لوجوب ذيها فهو وإن كان ممكنا
ثبوتا إلا أنه بحاجة إلى دليل في مقام الاثبات وذلك لأن جعل الوجوب للمقدمة
280

من قبل الشارع لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة تبرر هذا الجعل وتلك النكتة
التي تدعو المولى إلى جعل الوجوب للمقدمة لا تخلو إما أن تكون في نفس
المقدمة أو في ذيها والأول خلاف الفرض إذ لو كانت في المقدمة مصلحة تدعو
المولى إلى جعل الوجوب لها لم يكن وجوبها غيريا وهذا خلف وأما وجودها في
الثاني فهو لا يقتضي إلا إيجابه لا إيجاب مقدمته تبعا لأنه يكفي في تحريك
المكلف وبعثه نحو امتثاله والاتيان بمتعلقه ويلزمه باتيان جميع مقدماته التي
يتوقف وجود الواجب عليها والمفروض أن الوجوب الغيري لا يصلح أن يكون
داعيا مستقلا حتى يؤكد داعوية الوجوب النفسي بل داعويته إنما هي بداعوية
الوجوب النفسي فيكون وجوده وعدمه من هذه الناحية على حد سواء لوضوح أن
المحرك نحو الطاعة والامتثال هو الوجوب النفسي فحسب كان الوجوب الغيري
أم لم يكن وإن شئت قلت أن جعل الوجوب لشئ أما لإبراز وجود ملاك فيه
والمفروض أنه لا ملاك في المقدمة وأما وجود الملاك في ذي المقدمة فيكفي
لإبرازه جعل الوجوب النفسي له بلا حاجة إلى جعل الوجوب الغيري لمقدماته
وأما أن يكون مركز حق الطاعة والفرض أن الوجوب الغيري ليس مركز الحق
الطاعة لما تقدم من أن موافقته بما هي موافقة له ليست طاعة ومخالفته بما هي
ليست معصية فمن أجل ذلك يكون جعله لغوا وجزافا ولا يمكن صدوره من
المولى الحكيم.
نلخص نتائج البحث في النقاط التالية:
الأولى: أن أصولية المسألة مرهونة بترتب أثر فقهي عليها مباشرة
وحيث أنه لا يترتب على مسألة مقدمة الواجب أثر فقهي كذلك فلا تكون من
المسائل الأصولية وأما الوجوب الغيري فهو لا يصلح أن يكون أثرا فقهيا
للمسألة الأصولية.
281

الثانية: أن الملازمة في مرحلة المبادئ ثابتة وجدانا بين إرادة ذي
المقدمة وإرادة مقدمته فإنها تترشح من إرادة ذيها وتتولد منها بصورة قهرية كتولد
المعلول عن العلة التامة وكذلك الحال بين محبوبية ذي المقدمة ومحبوبية مقدمته
وهذا أمر وجداني لا برهاني وأما الملازمة في مرحلة الجعل والاعتبار بين
وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته فهي غير ثابتة فإنها بمعنى ترشح وجوب
المقدمة عن وجوب ذيها غير معقولة وبمعنى جعل وجوب المقدمة تبعا لجعل
وجوب ذيها وإن كانت ممكنة ثبوتا إلا أنه لا يمكن إثباته كما مر.
الثالثة: أن الغرض من إيجاب المقدمة ليس ترتب تمكن المكلف من
إيجاد ذيها على وجودها في الخارج كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) لأنه مترتب
على التمكن من الاتيان بالمقدمة لا على وجودها فيه كما أن القول بأن وجوب
المقدمة مشروط بالعزم وإرادة الاتيان بذي المقدمة لا يرجع إلى معنى صحيح (1).
الرابعة: أن ما نسب إلى شيخنا الأنصاري (قدس سره) من أن قصد التوصل
مأخوذ في المقدمة لا يمكن المساعدة عليه لأن أخذ شئ قيدا فيها لا يمكن
أن يكون جزافا بل لابد أن يكون دخيلا في الغرض والمفروض أن قصد
التوصل غير دخيل فيه كما تقدم وعليه فلا موجب لأخذه في المقدمة.
الخامسة: أن عبارة التقريرات للشيخ (قدس سره) حيث إنها مشوشة فلهذا قد
فسرت بعدة تفاسير منها ما عن المحقق الأصفهاني (قدس سره) من أن مقصود الشيخ (رحمه الله)
من اعتبار قصد التوصل في وجوب المقدمة أنه جهة تعليلية لوجوبها والجهة
التعليلية في الأحكام الشرعية فإنها غير الجهة التقييدية وعلى هذا فحيث أن
قصد التوصل جهة تعليلية للحكم العقلي فهو الموضوع له في الحقيقة.

(1) نفس المتقدم: ص 161.
282

وقد علقنا على هذا التفسير بوجوه:
الأول: أنه لا فرق في ذلك بين الأحكام العقلية والأحكام الشرعية فكما
أن الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية فكذلك في
الأحكام العقلية جهة تقييده لها وهذا بخلاف الجهة التعليلية في الأحكام الشرعية
ثبوتا بقانون أن كلما بالغير لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات وجدانا لا برهانا.
الثاني: أن الملازمة بين إرادة ذي المقدمة وإرادة المقدمة ثابتة بين
وجوبه ووجوب مقدمته.
الثالث: أن ما ذكره (قدس سره) من أن الواجب حصة خاصة من المقدمة وهي
المقدمة المقيدة بقصد التوصل فإذا أتى بها بدون قصده لم يأت بالمقدمة الواجبة
غير تام ضرورة أن الواجب هو المقدمة بالحمل الشايع والغرض مترتب عليها
وقصد التوصل غير دخيل فيه.
السادسة: أن صاحب الفصول (قدس سره) قد اختار في المسألة أن الواجب هو
خصوص المقدمة الموصلة وقد أورد عليه جمع من المحققين بعده.
مناقشات ولكن تقدم أن جميع تلك المناقشات غير تامة.
السابعة: أن عنوان الإيصال عنوان منتزع من ترتب الواجب على
المقدمة في الخارج في المرتبة السابقة وليس قيدا لها ودخيلا فيها لأن الواجب
هو المقدمة بالحمل الشايع وما يقع في طريق إيجاد الواجب في الخارج.
الثامنة: أنه على تقدير القول بوجوب المقدمة فالصحيح هو وجوب
المقدمة الموصلة.
التاسعة: أن صاحب الفصول (قدس سره) قد استدل على وجوب المقدمة
الموصلة بعدة وجوه أكثرها تامة ولكنها مرتبطة بالوجدان لا بالبرهان.
283

ثمرة المقدمة
أن أصولية مسألة مقدمة الواجب ليست مرهونة بوجوبها الغيري لما
تقدم من أنه لا يصلح أن يكون ثمرة للمسألة الأصولية لأن ثمرتها لابد أن
تكون مسألة فقهية قابلة للتنجيز والمفروض أن الوجوب الغيري لا يقبل
التنجيز ومن هنا لا تكون موافقته طاعة ومخالفته معصية وبذلك يظهر أن ما
ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن أثر هذه المسألة الوجوب الغيري فلا يمكن
المساعدة عليه.
فالنتيجة أن مسألة مقدمة الواجب ليست من المسائل الأصولية بل هي
من المبادئ التصديقية لها على تفصيل تقدم في أول بحث الأصول ولهذا
حاول السيد الأستاذ (قدس سره) لإثبات كون مسألة مقدمة الواجب من المسائل
الأصولية بملاك آخر لا بملاك وجوبها الغيري وهو متمثل في مسألتين تاليتين:
الأولى: ما إذا كانت المقدمة محرمة.
الثانية: ما إذا كان الواجب علة تامة لارتكاب الحرام.
أما الثمرة الأولى فقد ذكر (قدس سره) أنه على القول بعدم الملازمة بين وجوب
شئ ووجوب مقدمته يقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وحرمة مقدمته
وحينئذ فيكون المرجع مرجحات باب المزاحمة.
وأما على القول بالملازمة فيختلف الحال باختلاف الأقوال في المسألة
فعلى القول بوجوب المقدمة مطلقا تقع المعارضة بين وجوبها وحرمتها فإذن
لابد من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة وعلى القول بوجوب المقدمة
التي يقصد بها التوصل إلى ذيها في الخارج فتقع المعارضة بين وجوب هذه الحصة
وحرمتها.
وعلى القول بوجوب المقدمة الموصلة تقع المعارضة بين وجوبها
284

وحرمتها وهذه ثمرة مهمة مترتبة على هذه المسألة (1).
ولنا على ما ذكره (قدس سره) من الثمرة تعليقان:
الأول: على ما ذكره (قدس سره) من الفرق بين القول بالملازمة في المسألة
والقول بعدم الملازمة فيها.
الثاني: على أن هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة مباشرة بل هي ثمرة
لمسألة أخرى أصولية.
أما التعليق الأول فالظاهر أنه لا فرق بين القول بعدم ثبوت الملازمة بين
وجوب شئ ووجوب مقدمته والقول بثبوت الملازمة بينهما.
لأن المسألة على كلا القولين داخلة في باب التزاحم أما على القول بعدم
ثبوت الملازمة فلأنه لا تنافي بين جعل الحرمة للمقدمة في نفسها وجعل
الوجوب لذيها كذلك في مرحلة الجعل لتعدد موضوع الحكمين وإنما التنافي
بينهما في مرحلة الامتثال فإن المكلف في هذه المرحلة لا يقدر على امتثال كلا
الحكمين معا فعندئذ يقع التزاحم بينهما على أساس أمرين:
الأول: تقييد كل خطاب شرعي لبا بعدم الاشتغال بضده الواجب لا يقل عنه
في الأرجحية.
الثاني: إمكان الترتب وعلى ضوء هذا الأساس فالخطاب التحريمي
بالمقدمة مقيد لبا بعدم الاشتغال بذيلها ونتيجة ذلك تقييد إطلاق الخطاب التحريمي
بالمقدمات غير الموصلة.
والخطاب الوجوبي بذي المقدمة مقيد لبا بالدخول في المقدمة المحرمة
ونتيجة ذلك تقييد إطلاق الخطاب الوجوبي بالدخول في الحرام وأما إذا لم

(1) المحاضرات ج 2: ص 425.
285

يدخل فيه فلا وجوب وحينئذ فإن كانا متساويين كان الترتب بينهما من
الطرفين وإن كان أحدهما أهم من الآخر فالترتب من جانب واحد، وأما لو لم
نقل بالتقييد أو قلنا به ولم نقل بالترتب فباب التزاحم داخل في باب التعارض
ويسري التنافي بينهما من مرحلة الامتثال إلى مرحلة الجعل ولا يمكن جعل
كلا الحكمين معا بنحو الاطلاق وإن كان موضوعهما متعددا.
وأما على القول بثبوت الملازمة فالأمر أيضا كذلك إذ لا تنافي بين جعل
الحرمة للمقدمة وجعل الوجوب لذيها في مقام الجعل بنفس ما تقدم من الملاك
وعليه فحرمة المقدمة تزاحم وجوب ذيها وهل معارضة بين حرمتها ووجوبها
الغيري؟
والجواب: أنه لا معارضة بينهما رغم أن موضوعهما واحد.
وذلك لأن الوجوب الغيري إنما ينافي الحرمة لا بنفسه بل بملاك أنه من
شؤون الوجوب النفسي وتوابعه وبقطع النظر عنه فلا وجود له حتى يكون
معارضا لها ومن الواضح أن مجرد الوجوب الغيري الاعتباري للمقدمة ترشحا
من الوجوب النفسي أو جعلا بتبعه لا يمنع عن حرمتها لا ملاكا في مرحلة
المبادئ ولا دعوة في مرحلة الامتثال لأن دعوته إنما هي بدعوة الوجوب
النفسي لا بالاستقلال ولذلك فلا معنى لكون الوجوب الغيري للمقدمة معارضا
لحرمتها إذا لم يكن الوجوب النفسي معارضا لها بل إن هذا غير متصور إلا
بافتراض أن الوجوب الغيري وجوب مستقل في مقابل الوجوب النفسي وهذا
خلف.
وعلى هذا فعلى القول بوجوب المقدمة مطلقا يقع التزاحم بين حرمة
المقدمة كذلك ووجوب ذيها وحينئذ فإن كانا متساويين فالترتب بينهما من
الجانبين فإن إطلاق الخطاب التحريمي مقيد لبا بعدم الاشتغال بالواجب وتركه
286

في الخارج وإطلاق الخطاب الوجوبي مقيد كذلك بالدخول في المقدمة المحرمة
فالنتيجة أن المكلف إن أتى بالمقدمة المحرمة ولم يأت بالواجب وهو ذيلها فقد
ارتكب حراما وترك واجبا معا واستحق العقاب على كليهما كذلك وإن ترك
الحرام وهو الاتيان بالمقدمة فلا وجوب للواجب لأن وجوبه مقيد بارتكاب
الحرام وإلا فلا وجوب له وإن أتى بالمقدمة المحرمة ثم بالواجب فلا حرمة لها
لأنها مقيدة بعدم الاتيان بالواجب وإن كان الواجب أهم من الحرام فالترتب من
جانب الحرام لأن حرمته مقيدة بعدم الاتيان بالواجب وإلا فلا حرمة له وأما
وجوب الواجب فهو مطلق وثابت في كل حال الاتيان بالمقدمة المحرمة وتركها
معا وإن كان الحرام أهم من الواجب فالترتب من جانب الواجب فحسب لأن
وجوبه مقيد بارتكاب الحرام وإلا فلا وجوب له وأما حرمة الحرام فهي مطلقة.
وعلى القول بوجوب حصة خاصة من المقدمة وهي المقدمة المقيدة
بقصد التوصل يقع التزاحم بين حرمة هذه الحصة من المقدمة ووجوب ذيها فإن
كانا متساويين كان الترتب من كلا الجانبين فإن وجوب الواجب مترتب على
الاشتغال بالمقدمة المحرمة وإلا فلا وجوب له وحرمة المقدمة مترتبة على ترك
الواجب وعدم الاشتغال به وإلا فلا حرمة لها وهذا معنى أن الترتب بينهما من كلا
الجانبين وإن كان الوجوب أهم من الحرمة فالحرمة مترتبة على ترك الواجب وأما
الوجوب فهو مطلق وإن كان العكس فبالعكس.
وعلى القول بوجوب المقدمة الموصلة يقع التزاحم بين حرمة هذه
الحصة من المقدمة ووجوب ذيها ولكن قد يقال أنه لا يمكن أن تكون حرمة
المقدمة الموصلة مقيدة بعدم الاشتغال بالواجب وإلا لم تكن المقدمة موصلة وهذا
خلف ومن هنا لا يعقل الترتب من جانب حرمة المقدمة الموصلة إذا كانت
مساوية مع وجوب الواجب أو كان وجوب الواجب أهم منها.
287

وفيه أنه مبني على أن تكون المقدمة الموصلة محرمة بعنوانها مع أن
الأمر ليس كذلك فإن الحرام ذات المقدمة والمقدمة الموصلة فرد من الحرام
وهذا الفرد مزاحم للواجب فعندئذ إن كانا متساويين فالترتب بينهما من
الجانبين وإن كان أحدهما أهم من الآخر فالترتب من جانب واحد هذا بناء
على ما هو الصحيح من القول بإمكان الترتب وأما بناء على استحالته فجميع
تلك الصور داخلة في باب التعارض حيث أن التنافي حينئذ يسري من مرحلة
الامتثال إلى مرحلة الجعل لأن باب التزاحم إنما لا يدخل في باب التعارض
على القول بإمكان الترتب وأما على القول باستحالته فيدخل فيه إذ لا يمكن
حينئذ جعل كلا الحكمين المترتبين من كلا الجانبين معا أو من جانب واحد
للتنافي بينهما في مرحلة الامتثال ولا يمكن علاجه على القول باستحالة
الترتب هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقدمة إذا كانت محرمة فهل
يمكن اتصافها بالوجوب الغيري؟
والجواب: أن فيه تفصيلا وذلك لأن وجوب الواجب إن كان أهم من
حرمة المقدمة ترشح منه الوجوب إليها مطلقا على القول بوجوبها كذلك وإلى
حصة خاصة منها وهي الحصة الموصلة على القول بوجوب هذه الحصة
فحسب وحينئذ فهل بين حرمة المقدمة ووجوبها الغيري معارضة أو مزاحمة
فيه وجهان:
فذهب جماعة إلى الوجه الأول بدعوى أن متعلقهما واحد فلا يعقل أن
يكون ذلك من باب التزاحم فإنه لا يتصور إلا مع تعدد متعلق الحكمين وأما مع
الوحدة فلا محالة يكون من باب التعارض هذا ولكن الصحيح هو الوجه الثاني
لما تقدم من أن الوجوب الغيري من شؤون الوجوب النفسي وتوابعه وعليه فلا
يعقل أن يكون معارضا لحرمة شئ أو مزاحما لها إلا بمعارضة الوجوب النفسي
288

أو مزاحمته لأن معارضته انما هي بمعارضة الوجوب النفسي ومزاحمته انما هي
بمزاحمته لا بذاته والمفروض أن بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها مزاحمة لا
معارضة ولهذا يكون الوجوب الغيري مشروط بما هو شرط للوجوب النفسي
فالوجوب النفسي مشروط بالقدرة على الواجب النفسي والوجوب الغيري أيضا
مشروط بالقدرة عليه وحينئذ فإذ صرف المكلف قدرته على ترك الحرام ارتفع
الوجوب النفسي بارتفاع شرطه وهو القدرة وكذلك الوجوب الغيري وهذا هو
ضابط التزاحم فالنتيجة أنه لا يعقل أن يكون بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها
تزاحم وبينها وبين وجوبها الغيري تعارض ولا فرق في ذلك بين القول بوجوب
المقدمة مطلقا والقول بوجوب الحصة الموصلة فحسب فإنه على كلا القولين لا
تعارض بين حرمتها ووجوبها الغيري بل بينهما تزاحم تبعا للتزاحم بينها وبين
وجوب ذيها.
وعلى هذا فحرمة المقدمة مشروطة بعصيان الواجب فإذا أتى بالمقدمة
وعصى الواجب ولم يأت به فقد فعل محرما وترك واجبا وإن أتى به فلا حرمة
لها.
وأما إن كانت حرمة المقدمة أهم من وجوب الواجب فلا وجوب عندئذ
لكي يترشح منه إلى مقدمته إذ مع افتراض أهمية حرمة المقدمة لابد من ارتفاع
الوجوب وتقييده بعصيان حرمة المقدمة فإذ أتى بالمقدمة تحقق الوجوب من
جهة تحقق شرطه وهو العصيان فطالما لم يتحقق العصيان بفعل المقدمة
المحرمة لم يتحقق الوجوب وحيث إن وجوب الواجب يتحقق بعد فعل
المقدمة المحرمة فلا موضوع حينئذ لترشح الوجوب منه إليها وإلا لزم طلب
الحاصل ولا فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة مطلقا والقول بوجوب
الحصة الموصلة فإنه على كلا القولين لا مقتضى للترشح لا قهرا ولا جعلا أو
289

فقل أن فعل المقدمة حيث إنه شرط للوجوب فلا يترشح منه الوجوب الغيري
عليها وإلا لزم تعلقه بالحاصل وإن كان وجوب الواجب مساويا مع حرمة
المقدمة فأيضا لا موضوع لترشح الوجوب الغيري إلى المقدمة المحرمة لأن
إطلاق خطاب كل منهما مشروط بعصيان الآخر فإطلاق الخطاب الوجوب
مقيد ومشروط بعصيان الحرام وهو فعل المقدمة وإطلاق الخطاب التحريمي
مشروط بعصيان الواجب وعلى هذا فلا وجوب في فرض عدم عصيان الحرام
بفعل المقدمة وأما في فرض العصيان فالوجوب إنما يتحقق بعد تحقق العصيان
بالاتيان بالمقدمة المحرمة وحينئذ فترشح الوجوب منه إليها من طلب الحاصل
فلهذا لا مقتضى له في هذا الفرض أيضا بلا فرق في ذلك بين القول بوجوب
المقدمة مطلقا والقول بوجوب الحصة الموصلة فحسب، إلى هنا قد وصلنا إلى
هذه النتيجة وهي أن التنافي بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها إنما هو من باب
التزاحم ولا فرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها وعلى
الأول لا فرق بين القول بوجوب المقدمة مطلقا والقول بتخصيص وجوبها بالحصة
الموصلة أو الحصة التي قصد بها التوصل.
هذا كله على القول بامكان تخصيص الوجوب الغيري بالمقدمة الموصلة
وأما على القول باستحالة هذا التخصيص كما ذهب إليه المحقق النائيني (قدس سره) (1) فقد
ذكر بعض المحققين أنه على هذا القول يقع التنافي بين حرمة المقدمة غير الموصلة
ووجوب ذي المقدمة إذ يستحيل إطلاق كليهما معا للتناقض والتضاد بينهما لأن
المقدمة لا يمكن أن تكون محرمة وواجبة معا في آن واحد وتقييد وجوبها
بالموصلة مستحيل ويسري هذا التعارض والتنافي بالتبع إلى وجوب ذي المقدمة

(1) راجع أجود التقريرات ج 1: ص 239.
290

وحرمة المقدمة غير الموصلة لاستحالة اجتماعهما لأنه يستلزم التكليف بالمحال
هذا نظير أن يأمر المولى بانقاذ الغريق مثلا وينهي عن التصرف في مال الغير على
الرغم من أنه متوقف عليه ولكن مع افتراض أهمية الواجب لابد من ارتفاع
الحرمة عن مطلق المقدمة حتى غير الموصلة بحيث لو فعلها المكلف لم يكن
عاصيا ومرتكبا للحرام وهذا من النتائج الغريبة للقول باستحالة تخصيص
الوجوب بالموصلة.
ودعوى إمكان دفع هذا التنافي بالالتزام بأن حرمة غير الموصلة
مشروط بترك الواجب وعصيانه بناء على القول بإمكان الترتب كما هو
الصحيح.
مدفوعة بأن الترتب إنما يعقل في موارد التزاحم بين الامتثالين لا في
موارد التنافي بين الجعلين كما في المقام أو فقل أن المقدمة غير الموصلة
يستحيل أن تكون حرمتها مشروط بترك ذيها لأن المقدمة في هذا الفرض أي
فرض ترك ذي المقدمة واجبة بالوجوب الغيري بعد استحالة تقييده بالموصلة
فيلزم اجتماع الضدين وهما الوجوب الغيري والحرمة بلحاظ حال ترك ذي
المقدمة في شئ واحد وهو المقدمة فإذن لا محيص عن الالتزام بارتفاع حرمتها
مطلقا (1).
ويمكن المناقشة فيه وذلك لما تقدم من أن الوجوب الغيري حيث إنه
من شؤون الوجوب النفسي ومترشح منه فلا يصلح أن يكون طرفا للمعارضة
مع حرمة المقدمة بنفسه فإنه يتبع الوجوب النفسي في ذلك ولا يعقل أن تكون
بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها مزاحمة وبينها وبين وجوبها الغيري معارضة

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 256.
291

ضرورة أن معارضته إنما هي بمعارضة الوجوب النفسي ومزاحمته إنما هي
بمزاحمته ولا يعقل أن يكون مستقلا في ذلك وإلا لم يكن غيريا وهذا خلف وعلى
هذا.
فما يظهر منه (قدس سره) من أن بين حرمة المقدمة غير الموصلة وبين وجوب
ذيها مزاحمة وبينها وبين وجوبها الغيري معارضة فإن لازم ذلك أن يكون وجوبها
وجوبا مستقلا في قبال وجوب ذيها لا غيريا وهو كما ترى.
وإن شئت قلت: أن الوجوب الغيري بما هو اعتبار مترشح من وجوب ذي
المقدمة فلا يكون منافيا لحرمة المقدمة بما هي اعتبار حتى يكون اجتماعهما على
المقدمة من اجتماع الضدين ضرورة إن المضادة لا تتصور بين الأمور الاعتبارية
في نفسها هذا إضافة إلى أن مضادة الوجوب الغيري لحرمة المقدمة إنما هي
بمضادة الوجوب النفسي لها لا بذاتها وترشح الوجوب الغيري منه إليها لا يناقض
حرمتها لأنه لا يدعو إلا بدعوة الوجوب النفسي ولا يحرك إلا بمحركيته فالتنافي
بين حرمة المقدمة ووجوبها الغيري إنما هو بالتبع أي بتبع التنافي بينها وبين
الوجوب النفسي وما في كلامه (قدس سره) من أن التنافي بين حرمة المقدمة ووجوبها
الغيري يسري بالتبع إلى وجوب ذي المقدمة وحرمتها غير مطابق للواقع فإن
الأمر بالعكس تماما هذا مضافا إلى أن هذا التنافي والتعارض إذا سرى بالتبع إلى
وجوب ذي المقدمة وحرمتها كان بينهما تعارض لا تزاحم مع أن المفروض في
كلامه (قدس سره) أن بينها تزاحم.
والخلاصة أنه لا يمكن افتراض أن بين حرمة المقدمة ووجوبها الغيري
تعارض وأما بينها وبين الوجوب النفسي تزاحم فإن لازم ذلك أن الوجوب
الغيري وجوب مستقل وهو خلق وإلا فهو في نفسه لا يصلح أن يكون طرفا
للمعارضة أو المزاحمة لأنه ليس وجوبا مولويا قابل للتنجيز حتى يكون طرفا
292

لها.
وعلى هذا فلا مانع من أن تكون حرمة المقدمة غير الموصلة مشروطة
بترك الواجب وعصيانه ووجوبها الغيري في هذه الحالة بعد استحالة تقييده
بالموصلة لا ينافي حرمتها كذلك لا في مرحلة المبادئ ولا في مرحلة
الامتثال ولا بحسب الاقتضاء لأنه لا يدعو إلا بدعوة الأمر النفسي فإذن لا
مانع من الالتزام بالترتب وإن حرمة المقدمة مشروطة بترك الواجب فإذا أتى
بالمقدمة ولم يأت بالواجب فقد ارتكب محرما وإلا فلا.
تحصل مما ذكرناه أن المقدمة إذا كانت محرمة تقع المزاحمة بينها وبين
وجوب ذيها وحينئذ فلابد من الرجوع إلى مرجحات باب المزاحمة وقواعده من
تقديم الأهم على المهم وغير ذلك ولا فرق فيه بين القول بوجوب المقدمة أو بعدم
وجوبها.
وأما التعليق الثاني فلأن هذه الثمرة ليست ثمرة لهذه المسألة مباشرة بل
هي مترتبة على مسألة أخرى أصولية كمسألة الترتب وقواعد باب التزاحم لا
على هذه المسألة مباشرة بمعنى أن الدليل المباشر للفقيه في عملية الاستنباط
هو تلك القواعد دون هذه المسألة فإنها من المبادئ التصديقية لها.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أن أصولية مسألة مقدمة
الواجب مرهونة بترتب هذه الثمرة الفقهية عليها لا يتم لأنها لا تترتب عليها
مباشرة وإنما تترتب على قواعد أخرى أصولية كقاعدة الترتب وقاعدة الترجيح
في باب التزاحم ومن هنا قلنا أن مسألة مقدمة الواجب ليست من المسائل
الأصولية.
وأما الثمرة الثانية: وهي ما إذا كان الواجب علة تامة للحرام فقد ذكر (قدس سره)
أنه على القول بعدم الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها تقع المزاحمة بين
293

الواجب والحرام لأن وجوب الواجب وحرمة الحرام كليهما مشروط بالقدرة
وحيث إن للمكلف قدرة واحدة فإن صرفها في امتثال الواجب عجز عن ترك
الحرام فتنفي حرمته حينئذ بانتفاء شرطها وهو القدرة وان صرفها في ترك الحرام
عجز عن امتثال الواجب فينتفي وجوبه حينئذ بانتفاء شرطه وهو القدرة فإذن لا
تنافي بين المجعولين في مرحلة الجعل والتنافي بينهما إنما هو في مرحلة الامتثال
من جهة عجز المكلف وعدم قدرته على امتثال كليهما معا وعلى هذا فإن كان
الواجب أهم من الحرام فيقدم الواجب عليه فلا حرمة حينئذ وإن كان العكس
فبالعكس وإن كانا متساويين فالمكلف مخير بين ترك الحرام بترك الواجب وبين
فعل الحرام بامتثال الواجب وأما على القول بالملازمة فتقع المعارضة بين وجوب
الواجب وبين حرمته الغيرية بملاك أنه مقدمة للحرام فلا يمكن اجتماعهما لأنه من
اجتماع الضدين وهذه ثمرة فقهية تظهر بين القولين في المسألة (1) هذا لنا تعليقان
على هذه الثمرة الفقهية أيضا:
الأول: أن المسألة على كلا القولين داخلة في باب المزاحمة دون
المعارضة.
وأما على القول بعدم الملازمة فما ذكره (قدس سره) من أن المسألة داخلة في
باب التزاحم فهو الصحيح كما عرفت.
وأما على القول بالملازمة فما ذكره (قدس سره) من وقوع التعارض بين وجوب
الواجب النفسي وحرمته الغيرية بملاك المقدمية فلا يمكن المساعدة عليه
وذلك لأن حرمته الغيرية حيث كانت ناشئة عن ملاك قائم بغير متعلقها وكان
اقتضاؤها باقتضاء الحرمة النفسية ودعوتها بدعوتها لا بذاتها فلا تصلح أن

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 256.
294

تعارض الوجوب النفسي لأن منشأ المعارضة إنما هو المضادة بينهما في
مرحلة المبادئ من جهة ومرحلة الاقتضاء والدعوة من جهة أخرى وحيث
أن الحرمة الغيرية لا تنافي الوجوب النفسي في مرحلة المبادئ ولا في
مرحلة الاقتضاء والدعوة باعتبار أن دعوتها إنما هي بدعوة الحرمة النفسية
ولهذا لا يعقل أن تكون معارضة للوجوب النفسي حيث أنه لا شأن لها إلا شأن
الحرمة النفسية ولا يعقل أن تزاحم الوجوب إلا بمزاحمة الحرمة النفسية ولا
تعارضه إلا بمعارضتها فإذن لا يمكن افتراض أن بين الوجوب النفسي
للواجب وحرمته الغيرية معارضة بينه وبين الحرمة النفسية للحرام مزاحمة فإن
لازم ذلك أن لا تكون الحرمة الغيرية من شؤون الحرمة النفسية وهذا خلف.
فالنتيجة أنه لا فرق بين القولين في المسألة وإنها على كلا القولين داخلة
في كبرى باب التزاحم والمرجع فيها قواعد هذا الباب.
التعليق الثاني: أن هذه الثمرة ليست ثمرة فقهية لهذه المسألة مباشرة بل
هي ثمرة فقهية للمسألة الأخرى الأصولية وهي قواعد باب التزاحم فإن تلك
القواعد هي كبرى القياس وهذه المسألة صغرى لها فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من
أن أصولية هذه المسألة مرهونة بترتب هذه الثمرة عليها (1) في غير محله لأنها لا
تترتب عليها مباشرة الذي هو الملاك لأصولية المسألة وإنما تترتب كذلك على
مسائل أخرى وهي القواعد المذكورة فإذن تلك القواعد هي من المسائل
الأصولية دونها. إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أن ما ذكره السيد
الأستاذ (قدس سره) من الثمرتين لهذه المسألة وجعل أصوليتها مرهونة بها غير تام لما
عرفت من أن المقدمة إذا كانت محرمة فالمسألة وإن كانت داخلة في باب

(1) المحاضرات ج 2: ص 427.
295

التعارض أو التزاحم إلا أن ذلك ليس ثمرة فقهية مبررة لأصوليتها فإن الثمرة
الفقهية مترتبة على مسائل أخرى مباشرة وهي كبرى قواعد الترجيح في باب
التعارض أو التزاحم لا على هذه المسألة وقد ذكرنا في أول بحث الأصول أن
الضابط لأصولية المسألة أن تكون ذات طابع استدلالي للفقه خاصة كدليل مباشر
على الجعل ومن الواضح أن هذا الضابط لا ينطبق على هذه المسألة فمن أجل
ذلك لا يمكن القول بأنها مسألة أصولية بل هي مبادئها التصديقية وصغرياتها.
ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) ذكر ثمرة فقهية للقول بوجوب المقدمة
الموصلة وهي صحة العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب أهم كما إذا وقعت
الصلاة في المسجد مزاحمة مع واجب أهم كالإزالة مثلا فإنه على القول
بوجوب المقدمة مطلقا تقع الصلاة فاسدة على أساس أنها الضد العام للواجب
الغيري وهو تركها والأمر به وإن كان غيريا فهو يقتضي النهي عن ضده العام
والنهي عن العبادة يوجب فسادها وإن كان غيريا وأما إذا قلنا بأن الواجب
المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة وحينئذ فحيث أن فعل الصلاة ليس ضدا عاما
للترك الموصل فلا يقتضي الأمر به النهي عنها حتى تقع فاسدة فلهذا لابد من
الحكم بصحتها فهذه ثمرة مترتبة على القول بوجوب المقدمة الموصلة فحسب (1).
والجواب: أن صحة العبادة وفسادها وإن كانت تصلح أن تكون ثمرة
فقهية للمسألة الأصولية إلا أنهما لا يترتبان على هذه المسألة مباشرة أما
الفساد فهو يتوقف على تمامية عدة مسائل ومقدمات:
الأولى: القول بثبوت الملازمة بين الأمر بشئ والنهي عن ضده.
الثانية: أن النهي الغيري كالنهي النفسي يقتضي الفساد.

(1) كفاية الأصول: ص 121.
296

الثالثة: أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر.
وكل هذه المسائل والمقدمات غير ثابتة كما سوف يأتي بيانه في مبحث
الضد الخاص بعونه تعالى.
وأما صحة العبادة كالصلاة مثلا فهي لا تترتب على القول بوجوب
المقدمة الموصلة لأن الأمر بالترك الموصل وإن لم يقتض النهي عن الصلاة إلا
أنه في هذه الحالة لا يمكن الأمر بها وإلا لزم الأمر بالضدين هما الصلاة
والإزالة ومن الواضح أن صحة العبادة تتوقف على أحد أمرين:
الأول: على وجود الأمر.
الثاني: على إحراز وجود الملاك والمحبوبية فيها.
وإحراز الثاني يتوقف على وجود الأول إذ لا طريق إليه بدونه وعلى هذا
فإذا لم يكن أمر بالصلاة كما في المقام فلا طريق إلى إحراز أنها محبوبة ومشتملة
على المصلحة في هذه الحالة فلهذا تتوقف صحتها على مسألة أخرى وهي مسألة
الترتب إذ بها يثبت الأمر بالصلاة مشروطا بترك الإزالة.
فالنتيجة أن صحة العبادة لا تترتب على هذه المسألة مباشرة بل هي
مترتبة على مسألة الترتب كذلك وهي مسألة أصولية دونها.
هذا إضافة إلى أنا لو سلمنا تمامية المقدمات المذكورة فمع ذلك لا
يمكن الحكم بصحة العبادة كالصلاة لأن الأمر بتركها الموصل وإن لم يقتض
النهي عنها إلا أنها مع ذلك تكون متعلقة للنهي الغيري على ضوء تلك
المقدمات فإن بين الضدين تمانع فكما أن ترك كل منهما مقدمة لوجود الآخر
فكذلك وجود كل منهما مانع عن الآخر وعلة لتركه وعلى هذا فوجود الصلاة
مانع عن وجود الإزالة وعلة تامة لتركها والمفروض أنه حرام غيري باعتبار
أنه الضد العام لوجود الإزالة وحيث أن فعل الصلاة علة تامة لتركها فيحرم
297

بالحرمة الغيرية على أساس أنه مقدمة موصلة فإذن لا فرق بين القولين في
المسألة فعلى كلا القولين لا يمكن الحكم بصحة العبادة.
وهنا ثمرات أخرى ذكروها لهذه المسألة، ولكنها جميعا ليست ثمرة
للمسألة الأصولية فإن ثمرتها إثبات الجعل الشرعي الكلي بها مباشرة لا تطبيق
الجعل الثابت على مصداق من مصاديقه.
298

البحث السابع:
الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته
قد استدل على الملازمة بينهما بوجوه:
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الأوامر الغيرية كقوله تعالى
(إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق...) الخ (1) و
قوله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما يؤكل لحمه (2) وما شاكل ذلك تدل على إيجاب
المقدمة وهذه الأوامر وإن وردت في بعض المقدمات إلا أنه يستكشف منها أن
وجوبها لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة مبررة له وتلك النكتة هي ثبوت
الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته إذ احتمال خصوصية في المقدمات
المذكورة غير محتمل.
وفيه أن مفادها ليس الوجوب الغيري للمقدمة بل مفادها الإرشاد إلى
الشرطية فإنها كالأوامر المتعلقة بأجزاء العبادات كالصلاة ونحوها فإن مفادها

(1) سورة المائدة: 8.
(2) راجع الوسائل ج 2: ص 1009 ب 9 من النجاسات.
299

الإرشاد إلى جزئيتها للعبادات.
والخلاصة أن أوامر الأجزاء والشرائط أوامر إرشادية فيكون مفادها
الإرشاد إلى الجزئية والشرطية لا جعل الوجوب الغيري لها فإذن تلك الأوامر
أجنبية عن الدلالة على جعل الوجوب الغيري للمقدمات.
الثاني: أن الملازمة في الإرادة التكوينية ثابتة بين إرادة شئ تكوينا
وإرادة مقدماته كذلك فإذا كانت ثابتة في الإرادة التكوينية فهي ثابتة في الإرادة
التشريعية أيضا تطبيقا للكبرى الكلية وهي أن كلما يجوز في الإرادة التكوينية
يجوز في الإرادة التشريعية وعلى هذا فكما أن من أراد شيئا أصالة أراد
مقدماته بالتبع للحفاظ عليه فكذلك إذا أراد المولى الفعل عن المكلف تشريعا أراد
مقدماته أيضا بنفس الملاك ومعنى إرادة مقدماته إيجابها الغيري.
وفيه أن هذا الوجه مركب من مقدمتين:
الأولى: صغرى القياس وهي ثبوت الملازمة بين إرادة شئ تكوينا
وإرادة مقدمات تبعا.
الثانية: كبرى القياس وهي أن كلما يجوز في الإرادة التكوينية يجوز في
الإرادة التشريعية.
أما المقدمة الأولى فهي وإن لم تكن برهانية إلا أنها وجدانية بمعنى أن
إرادة شئ بالذات تستلزم قهرا إرادة مقدمته تبعا وبالغير بملاك أن وجود
المراد يتوقف على وجودها في الخارج والإرادة التبعية حيث أنها من شؤون
الإرادة الذاتية فلا تنافي حرمة المقدمة إلا بمنافاة الإرادة الذاتية فإن منافاتها
إنما هي بمنافاتها ومعارضتها إنما هي بمعارضتها وليست بالأصالة وعلى هذا
فالمقدمة إذا كانت محرمة ومبغوضة فإن كانت حرمتها أهم من وجوب
الواجب النفسي ومبغوضيتها أقوى من محبوبيته ففي مثل ذلك لا وجوب
300

للواجب ولا محبوبية له بلحاظ أنها مزاحمة بمبغوضية المقدمة الأقوى منها
وإن كان في نفسه وبقطع النظر عن مبغوضية المقدمة محبوبا وكذلك مقدمته
محبوبة بالتبع بقطع النظر عن مبغوضيتها وإن كانت حرمتها مساوية مع وجوب
الواجب النفسي فالأمر أيضا كذلك.
والخلاصة أن حرمة المقدمة ومبغوضيتها لا تصلح أن تكون دليلا على
عدم الملازمة بين إرادة شئ ذاتا وإرادة مقدمته تبعا وبين محبوبية شئ أصالة
ومحبوبية مقدمته تبعا والإرادة التبعية ليست إرادة مستقلة ولها وجود كذلك في
أفق النفس بل هي متولدة من الإرادة الأصيلة ومن مراتب وجودها النازلة.
وأما المقدمة الثانية: فهي غير صحيحة إذ لا دليل على أن كلما يجوز في
الإرادة التكوينية يجوز في الإرادة التشريعية أيضا وذلك لأن للحكم ثلاث
مراحل:
الأولى: مرحلة الملاك.
الثانية: مرحلة الإرادة والحب.
الثالثة: مرحلة الجعل والاعتبار.
أما في المرحلة الأولى فلا ملازمة بين اتصاف الفعل بالملاك واتصاف
مقدماته به وإلا لكان وجوبها نفسيا لا غيريا وهذا خلف.
وأما في المرحلة الثانية فقد عرفت ثبوت الملازمة فيها وجدانا بين إرادة
شئ وإرادة مقدماته لا برهانا وأما في المرحلة الثالثة وهي مرحلة الإرادة
التشريعية التي هي متمثلة في إيجاب شئ فلا ملازمة بينه وبين إيجاب
مقدماته وذلك لأنه إن أريد بالملازمة بينهما ترشح وجوب المقدمة وتولده من
وجوب ذيها بصورة قهرية كتولد المعلول عن العلة التامة ففيه أنه غير معقول لأن
الوجوب أمر اعتباري لا واقع له في الخارج لكي يتصور فيه التأثير والتأثر والعلية
301

والمعلولية هذا إضافة إلى أنه فعل اختياري للجاعل مباشرة فلا يعقل فيه التسبيب
بأن يكون سببا لاعتبار آخر قهرا فإن افتراضه خلف.
وإن أريد بها الملازمة بين جعل الوجوب لشئ وجعله لمقدمته تبعا ففيه
أن هذا وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أنه لا يمكن الالتزام به إثباتا وذلك لأن جعل
الوجوب لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة وتلك النكتة هي كونه داعيا
ومحركا للمكلف نحو الطاعة والامتثال والمفروض أن الوجوب الغيري لا
يصلح أن يكون داعيا ومحركا نحوها لما تقدم من أن موافقة الوجوب الغيري
لا تكون طاعة ومخالفته لا تكون معصية فلهذا لا يكون داعيا لأن داعويته
إنما هي بداعوية الوجوب النفسي فإذن لا مبرر لجعله فيكون لغوا وجزافا.
الثالث: أن المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فإذا جاز تركها فهل
يعاقب على ترك ذي المقدمة أو لا وكلاهما لا يمكن، أما الأول فلأن لازمه
عدم جواز ترك المقدمة الذي يوجب ترك ذيها.
وأما الثاني فلأن لازمه انقلاب الواجب النفسي المطلق إلى الواجب
المشروط بأن يكون وجوبه مشروطا بالاتيان بالمقدمة فإذن تكون المقدمة
مقدمة الوجوب فلا يجب تحصيلها.
وفيه أنه إن أريد بجواز الترك جوازه مطلقا عقلا وشرعا فهو وإن كان
يستلزم المحذور المذكور إلا أنه غير مراد جزما وإن أريد بجوازه جوازه شرعا
بمعنى عدم إيجاب الشارع المقدمة فهو لا يستلزم المحذور المتقدم لأن العقل
مستقل بوجوب الاتيان بها بملاك حكمه بوجوب الاتيان بالواجب النفسي
وامتثاله لأنه من شؤون امتثاله وإطاعته.
والخلاصة أنه لا شبهة في استقلال العقل بوجوب الاتيان بالصلاة مثلا
بتمام شروطها وقيودها وما يتوقف وجودها عليه.
302

فالنتيجة أن هذا الوجه أيضا غير تام.
الأصل العملي في المسألة
يقع الكلام فيه تارة في المسألة الأصولية وأخرى في المسألة الفرعية أما
الكلام في الأولى فلا موضوع للأصل العملي فيها لأن الملازمة بنحو القضية
الشرطية التي يدور صدقها مدار ثبوتها في الواقع سواء كان طرفاها من الشرط
والجزاء موجودين أم لا أزلية وليست لها حالة سابقة.
وعلى الجملة فالملازمة في المسألة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته
بنحو القضية الشرطية إن كانت ثابتة فهي ثابتة من الأزل وإن لم تكن ثابتة
فكذلك من الأزل فلا تتصور فيها الحالة السابقة لا وجودا ولا عدما لكي
تكون من موارد التمسك بالاستصحاب عند الشك في بقائها نعم لو أريد
بالملازمة، الملازمة الفعلية بين الوجوب النفسي للشئ بعد تحققه والوجوب
الغيري فهي مسبوقة بالعدم بنحو العدم الأزلي فإن قبل تحقق الوجوب النفسي لم
يكن وجوب ولا استلزامه للوجوب الغيري وبعد تحققه نشك في تحقق صفة
الملازمة بينهما وحينئذ فلا مانع من استصحاب عدم تحققها إلا أن هذا
الاستصحاب لا أثر له إذ مرجعه إلى استصحاب عدم تحقق الوجوب الغيري وهو
لا يجري لأن الأصول العملية كأصالة البراءة والاستصحاب ونحوهما إنما تجري
فيما هو قابل للتنجيز والتقدير لا مطلقا ولهذا يختص جريانها في الأحكام التي
تقبل التنجيز والتقدير والوجوب الغيري للمقدمة شرعا بما أنه غير قابل للتنجيز
فلا عقوبة في مخالفته لكي يجري استصحاب عدم تحققه عند الشك فيه لدفع
احتمال العقوبة عليها هذا إضافة إلى أنه أصل في المسألة الفرعية لا في الأصولية
ومحل الكلام في المقام إنما هو في الثاني دون الأول ونتيجة ذلك أنه لا أصل في
303

المسألة الأصولية هنا.
وأما الكلام في المسألة الفرعية فقد أفاد المحقق النائيني (قدس سره) أنه لا مانع
من الرجوع إلى أصالة عدم وجوب المقدمة بتقريب أن المقدمة قبل إيجاب
ذيها لم تكن واجبة وبعد وجوبه شك في وجوبها ومعه لا مانع من الرجوع إلى
استصحاب عدم وجوبها أو لا أقل من أصالة البراءة هذا (1).
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بما أشرت إليه الآن من أن الأصول
العملية إنما تجري في الأحكام التكليفية الالزامية لدفع الكلفة والمسؤولية عن
المكلف أمامها عند الشك في ثبوتها وقد مر أنه لا عقوبة على مخالفة الوجوب
الغيري ولا مسؤولية على المكلف من قبله ولا امتنان في رفعه (2) ولهذا لا مجال
لجريان الأصول العملية فيه لا أصالة البراءة ولا الاستصحاب لأنها إنما تجري في
الأحكام التكليفية التي تقبل التنجيز والتعذير ويكون في مخالفتها عقاب وفي
موافقتها ثواب وقد تقدم أن وجوب المقدمة شرعا على القول به ليس بنفسه مما
يقبل التنجيز والتعذير هذا تمام كلامنا في مقدمة الواجب.
مقدمة المستحب والمكروه والحرام
أما مقدمة المستحب فهي كمقدمة الواجب فلو قلنا بالملازمة بين
وجوب شئ ووجوب مقدمته فلابد أن نقول بها بين استحباب شئ
واستحباب مقدمته بنفس الملاك فلا فرق بينهما لا في مرحلة المبادئ ولا في
مرحلة الجعل.

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 230.
(2) المحاضرات ج 2: ص 437.
304

وأما مقدمة الحرام فقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أنها على ثلاثة أقسام:
الأول: ما لا يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة الفاعل واختياره بمعنى أن
المقدمة علة تامة لارتكاب الحرام وفي هذا القسم حكم (قدس سره) بحرمة المقدمة حرمة
نفسية بتقريب أن النهي المتعلق بذي المقدمة فهو متعلق في الحقيقة بالمقدمة
باعتبار أنها مقدورة.
الثاني: ما يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة المكلف واختياره وكان المكلف
يقصد باتيانها التوصل إلى الحرام.
وفي هذا القسم أيضا حكم (قدس سره) بالحرمة مترددا بين كونها نفسية أو غيرية
فإنها إن كانت من باب التجري فهي حرمة نفسية وإن كانت من باب السراية
فهي غيرية.
الثالث: هذا الفرض ولكن المكلف لم يأت بالمقدمة بقصد التوصل إلى
الحرام والمفروض أنه قادر على ترك الحرام بعد الاتيان بها أيضا وفي هذا
القسم حكم (قدس سره) بعدم حرمتها (1).
وقد أورد على ذلك السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب أنه لا يمكن الحكم بحرمة
المقدمة في هذين القسمين وإن قلنا بوجوب المقدمة هناك لأن حكم العقل
بالملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته إنما هو بملاك أن الاتيان
بالواجب لا يمكن بدون الاتيان بمقدماته وهذا الملاك غير متوفر فيهما لأن
ترك الحرام في مثلهما لا يتوقف على ترك مقدمته إذ بامكان المكلف أن يترك
الحرام فيه مع الاتيان بمقدماته فإذن لا وجه للالتزام بحرمة المقدمة فيهما وأما
القسم الأول فحرمة المقدمة فيه مبنية على القول بوجوب مقدمة الواجب فإن

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 248 - 249.
305

قلنا بوجوب المقدمة بملاك أن الاتيان بالواجب يتوقف على الاتيان بها فلابد
أن نقول بحرمة مقدمة الحرام في هذا القسم لأن ترك الحرام يتوقف على تركها
وإلا فلا يتمكن من تركه (1).
ومن هنا يظهر أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن حرمة المقدمة في
هذا القسم حرمة نفسية لا وجه له أصلا ضرورة أن ملاك الحرمة النفسية غير
موجود فيها وهو المفسدة الملزمة لأنها قائمة بذيلها بل الموجود فيها ملاك الحرمة
الغيرية وهو توقف ترك الحرام على تركها.
إلى هنا قد تبين أن الصحيح ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) دون ما أفاده
المحقق النائيني (قدس سره).
بقي هنا شئ وهو أن الفرق بين مقدمة الواجب ومقدمة الحرام في نقطة
واحدة وهي أن المطلوب في الحرام حيث إنه الترك فيكون المتصف بالحرمة
الغيرية مجموع مقدماته لا جميعها على أساس أن تركه يتوقف على ترك
أحدها غاية الأمر أنها إن كانت عرضية فالمطلوب هو ترك أحدها تخييرا وإن
كانت طولية فالمطلوب هو ترك ما يقع في آخر سلسلة علل الحرام.
وأما المطلوب في الواجب فحيث أنه الفعل فالمتصف بالوجوب الغيري
جميع مقدماته سواء كانت عرضية أم طولية.
نتيجة البحث عدة نقاط
الأولى: أن مسألة مقدمة الواجب ليست مسألة أصولية لعدم توفر ملاك
الأصولية فيها وهو ترتب أثر فقهي منجز عليها مباشرة الذي هو المعيار العام

(1) المحاضرات ج 1: ص 439 - 440.
306

لأصولية المسألة والوجوب الغيري لا يصلح أن يكون ثمرة لها لأنه غير قابل
للتنجيز الموجب لاستحقاق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته.
الثانية: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد ذكر لها ثمرتين منجزتين:
الأولى: ما إذا كانت المقدمة محرمة.
الثانية: ما إذا كان الواجب علة تامة للحرام، ولكن قد تقدم موسعا أن
هاتين الثمرتين ليست من ثمرات هذه المسألة ومترتبتان عليها مباشرة بل هما
من ثمرات مسائل أخرى ومترتبتان عليها كذلك وهي قواعد باب التزاحم
والتعارض.
الثالثة: ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أنه على القول بوجوب المقدمة
الموصلة تترتب على هذه المسألة ثمرة فقهية وهي صحة العبادة إذا كان تركها
مقدمة لواجب أهم.
ولكن تقدم أن صحة العبادة وإن كانت تصلح أن تكون ثمرة فقهية
للمسألة إلا أنها لا تترتب على هذه المسألة مباشرة بل هي مترتبة على مسألة
الترتب.
الرابعة: قد استدل المحقق الخراساني (قدس سره) على الملازمة بين وجوب
شئ ووجوب مقدماته بالأوامر الغيرية كقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة
...) الخ.
ولكن قد تقدم أن مفاد تلك الأوامر الإرشاد إلى شرطية هذه المقدمات
دون وجوبها الغيري.
الخامسة: أن الملازمة بين إرادة شئ تكوينا وإرادة مقدماته تبعا ثابتة
وجدانا فإذا كانت هذه الملازمة ثابتة بينهما في الإرادة التكوينية فهي ثابتة في
الإرادة التشريعية أيضا، ولكن قد مر أنها غير ثابتة في الإرادة التشريعية ولا
307

ملازمة بينهما وبين الإرادة التكوينية في ذلك.
السادسة: أن المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فإذا جاز تركها فهل
يعاقب على ترك ذي المقدمة أو لا وكلاهما لا يمكن.
وفيه ما تقدم من عدم صحة هذا الدليل بل فيه مغالطة واضحة.
السابعة: الصحيح أنه لا ملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته لا
مطلقا ولا في خصوص المقدمة الموصلة.
الثامنة: إذا شك في ثبوت الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته
وعدم ثبوتها بنحو القضية الشرطية فلا أصل في المسألة لكي تثبت به الملازمة
أو عدمها لأنها إن كانت ثابتة فهي ثابتة من الأزل وإلا فعدمها كذلك فلا حالة
سابقة لها.
التاسعة: ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أنه لا مانع من الرجوع إلى الأصل
العملي في المسألة الفرعية وهو استصحاب عدم وجوب المقدمة عند الشك
فيه أو أصالة البراءة عنه (1).
ولكن تقدم أن الأصول المؤمنة لا تجري في الوجوب الغيري للمقدمة
عند الشك فيه لأنها إنما تجري في الأحكام التي تقبل التنجيز والتعذير
والوجوب الغيري بما أنه لا يقبل التنجيز والتعذير فلا تجري فيه الأصول
العملية.
العاشرة: أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب بدون فرق بينهما من هذه
الناحية ومقدمة المكروه كمقدمة الحرام.
وأما مقدمة الحرام فإن كان تركه متوقفا على ترك مقدمته فحالها حال

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 197.
308

مقدمة الواجب فإن قلنا بوجوب مقدمة الواجب فلابد أن نقول بحرمة مقدمة
الحرام أيضا وإن لم يكن ترك الحرام متوقفا على ترك مقدمته فلا إشكال في
عدم حرمتها وإن قلنا بوجوب مقدمة الواجب.
هذا تمام كلامنا في مبحث مقدمة الواجب.
309

مبحث الضد
فسر كلمة (ضد) لغة وعرفا بما يعاند الشئ وينافيه سواء كان أمرا
وجوديا كالأفعال الخاصة أم عدميا كالترك.
وقد قسم الأصوليون الضد على نوعين:
الأول: الضد الوجودي الخاص.
الثاني: الضد العام وهو ما يقابل الوجود بتقابل الإيجاب والسلب.
وهذا التقسيم ينسجم مع مفهوم الضد الجامع بين النوعين.
وعلى هذا فالكلام في المسألة يقع في مقامين:
الأول: في الضد العام.
الثاني: في الضد الخاص.
وقبل الدخول في المسألة نبدأ بنقطتين:
الأولى: قد تقدم في ضمن البحوث السالفة أن أصولية المسألة مرهونة
بترتب أثر فقهي عليها مباشرة وعلى هذا فيقع البحث عن نكتة أصولية هذه
المسألة عند الأصحاب، قد يقال كما قيل أن أصوليتها مرهونة على القول
بالملازمة بين وجوب شئ وحرمة ضده، فإن حرمته هي ثمرة هذه المسألة
310

وأصوليتها مرهونة بها، ولكن قد تقدم أن الحرمة الغيرية كالوجوب الغيري لا
تصلح أن تكون ثمرة للمسألة الأصولية، لأن ثمرتها مسألة فقهية قابلة للتنجيز
والتعذير، والمفروض أن الحرمة الغيرية لا تقبل التنجيز، ولهذا لا عقاب على
مخالفتها ولا ثواب على موافقتها بما هي موافقة لها.
ومن هنا ذهب السيد الأستاذ (قدس سره) إلى أن أصوليتها مرهونة بصحة العبادة
المترتبة على هذه المسألة على القول بعدم الاقتضاء (1).
ولكن قد سبق أنها لا تترتب على المسألة على هذا القول مباشرة بل
هي مترتبة على مسألة أخرى وهي مسألة الترتب فإنها مسألة أصولية وهذه
المسألة على هذا القول صغرى لها وتمام الكلام هناك.
الثانية: أن ما ذكر من أن هذه المسألة على القول بعدم الاقتضاء داخلة
في باب المزاحمة وعلى القول بالاقتضاء داخلة في باب المعارضة غير صحيح
فإن المسألة على كلا القولين داخلة في باب المزاحمة لأن الحرمة الغيرية بما
هي لا تصلح أن تعارض الوجوب النفسي لا في المبدأ ولا في المنتهى ولا في
الاقتضاء فإن اقتضاء الحرمة الغيرية إنما هو باقتضاء الحرمة النفسية لا في
نفسها ومزاحمتها إنما هي بمزاحمتها وكذلك معارضتها وتفصيل ذلك تقدم في
أول بحث الأصول وبعد ذلك نقول أما الكلام في المقام الأول ففيه أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن الأمر بشئ عين النهي عن ضده العام وهو الترك.
القول الثاني: أنه يدل عليه بالتضمن.
القول الثالث: أنه يدل عليه بالالتزام.
أما القول الأول: فإن أريد بذلك أن الأمر كما يدل على وجوب متعلقه

(1) محاضرات في أصول الفقه ج 3: ص 7.
311

حقيقة يدل على حرمة تركه كذلك بمعنى أنه يقتضي حكمين متباينين من
مرحلة المبادئ إلى مرحلة الاعتبار أحدهما الوجوب المتعلق بالفعل بنحو
صرف الوجود والآخر الحرمة المتعلقة بتركه.
فيرد عليه أن ذلك وإن كان ممكنا بحسب مقام الثبوت والواقع كما إذا
فرضنا أن الفعل كالصلاة مثلا مشتمل على مصلحة ملزمة تدعو المولى إلى
جعل الوجوب له وتركه مشتمل على مفسدة ملزمة تدعو المولى إلى جعل
الحرمة له وفي مثل ذلك لا مانع من جعل الوجوب للفعل والحرمة للترك ولا
تنافي بينهما لا في مرحلة المبادئ ولا في مرحلة الاعتبار إلا أنه لا يمكن
ذلك بحسب مقام الاثبات لأن الأمر يدل على الطلب المولوي الذي هو مدلوله
ولا يدل على الزجر الذي هو مدلول النهي لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا
بالالتزام.
والخلاصة: أن هذا القول بهذه الصيغة وهي أن الأمر بشئ عين النهي
عن ضده غير معقول بداهة أن الأمر لا يمكن أن يكون عين النهي لا في
مرحلة المبادئ ولا في مرحلة الجعل والاعتبار ولا في مرحلة الفعلية وعلى
هذا فإن أريد بها الدلالة المطابقية فقد عرفت أن الأمر لا يدل على النهي
بالمطابقة وإن أريد بها العينية في التأثير بمعنى أن تأثير الأمر بشئ كتأثير
النهي عن نقيضه وهو الترك في التقريب إلى الفعل والابتعاد عن الترك وأنهما على
مستوى واحد فلا فرق في التأثير بين قول المولى (صل) وبين قوله لا تترك الصلاة
حيث أن لهما أثرا واحدا في نفس المكلف وهو تحريكه نحو الفعل وابتعاده عن
الترك.
فيرد عليه أن معنى ذلك هو أن الأمر والنهي مشتركان في الأثر وهو
تحريك الأمر المكلف نحو الفعل بنفس نسبة تحريك النهي المكلف نحو
312

الابتعاد عن تركه لا في المدلول والمعنى وهذا خلف الفرض.
وإن أريد بها أن النهي عن شئ عبارة عن طلب نقيضه ونقيض الشئ
تركه ونقيض الترك الفعل وعليه فالنهي عن ترك الشئ معناه طلب نقيضه وهو
الفعل وهذا معنى أن الأمر بشئ عين النهي عن ضده العام فإذن ليس النهي عن
ترك ذلك الشئ غير طلب فعله.
فيرد عليه أنه مبني على أن يكون معنى النهي عن شئ طلب نقيضه
وعليه فالنهي عن الضد العام معناه طلب نقيضه وهو الفعل ولكن هذا المبنى
خاطئ جدا وغير صحيح فإن معنى النهي عن شئ هو الزجر عنه باعتبار أنه
ناشئ عن اتصافه بالمفسدة الملزمة لا عن اتصاف تركه بالمصلحة كذلك
ليكون معنى النهي عن شئ طلب نقيضه.
والخلاصة: أن معنى الأمر هو الطلب المولوي الناشئ من المصلحة في
الفعل ومعنى النهي هو الزجر المولوي الناشئ من المفسدة فيه، هذا كله
بلحاظ عالم الاعتبار والجعل.
وأما بلحاظ عالم المبادئ فلا يعقل أن تكون المصلحة عين المفسدة
والإرادة عين الكراهة والحب عين البغض، نعم لا مانع من أن يكون الفعل
مشتملا على مصلحة والترك على مفسدة.
والأول يكون منشأ للإرادة والحب.
والثاني للكراهة والبغض هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الملازمة
بين إرادة شئ وكراهة تركه تبعا وإن كانت موجودة وجدانا وكذلك بين حب
شئ وبغض تركه تبعا إلا أنها تدل على التعدد والاثنينية لا على العينية
والوحدة.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الأمر بشئ لا يعقل أن
313

يكون عين النهي عن ضده العام إلا بناء على تفسيره بطلب ترك نقيضه كما هو
المشهور ولكن هذا التفسير خاطئ جدا أما أولا فلأنه خلاف المتفاهم العرفي
لأن المتفاهم منه عرفا الزجر والمنع المساوق للحرمة.
وثانيا أن هذا التفسير لا ينسجم مع ما هو واقع النهي وحقيقته وروحه
وهو المفسدة الملزمة القائمة بمتعلقه فإنها تدعو المولى إلى النهي والزجر عنه
والمنع من إيجاده في الخارج ولا تدعو إلى طلب تركه لأن الطلب ناشئ عن
مصلحة في متعلقه والمفروض أنه لا مصلحة فيه والمفسدة في الفعل لا تتطلب
ذلك وإنما تتطلب الزجر عنه، تحصل أن القول بالعينية لا يرجع إلى معنى
محصل.
وأما القول الثاني: وهو القول بالتضمن والجزئية فلا أساس له إلا دعوى
أن الوجوب ينحل إلى اعتبارين:
اعتبار طلب الفعل واعتبار المنع من الترك.
ولكن هذه الدعوى خاطئة جدا وذلك لأنه إن أريد بذلك أن الوجوب
مركب من اعتبارين:
أحدهما بمثابة الجنس والآخر بمثابة الفصل.
فيرده أن الوجوب أمر اعتباري وهو بسيط ولا يتعقل له الجنس والفصل
وإن أريد بذلك أن المولى إذا أمر بشئ فقد أنشأ أمران:
أحدهما: طلب الفعل.
والآخر: المنع من الترك.
فيرده أن الأمر لا يدل على المنع من الترك لا مادة ولا هيئة لا بالمطابقة
ولا بالتضمن والالتزام وإنما يدل على الطلب المولوي المساوق للوجوب.
نعم إذا أمر المولى بشئ فالعقل يحكم بالمنع عن تركه لا المولى.
314

فالنتيجة أن هذا القول أيضا لا يرجع إلى معنى محصل.
وأما القول الثالث: فالمعروف والمشهور بين الأصحاب أن الأمر بشئ
يدل بالالتزام على النهي عن ضده العام ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف بينهم
في أن هذه الملازمة هل هي بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص أو البين
بالمعنى الأعم، فذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى الوجه الأول بدعوى أنه يكفي
في تصور المنع من الترك تصور وجوب شئ بلا حاجة إلى عناية زائدة ثم
قال وعلى تقدير التنزل عن ذلك فلا شبهة في الوجه الثاني وهو اللزوم البين
بالمعنى الأعم هذا.
والتحقيق في المقام أن يقال أن البحث عن وجود الملازمة في المسألة
يقع في موردين:
الأول: في مرحلة المبادئ والملاكات.
الثاني: في مرحلة الجعل والاعتبار.
أما الكلام في المورد الأول فالظاهر أن الملازمة بين إرادة شئ
بالأصالة وكراهة تركه بالتبع بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص غير موجودة إذ
كثير ما أراد شخص فعل شئ غافلا عن تركه مع أن الملازمة لو كانت بينهما
بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص فمجرد تصور الملزوم يستلزم تصور اللازم
قهرا بدون منبه آخر لاستحالة الانفكاك بينهما مع أن الأمر ليس كذلك وأما
الملازمة بينهما بنحو اللزوم البين بالمعنى الأعم فالظاهر أنها ثابتة وجدانا لا
برهانا إذ ليس بإمكاننا إقامة برهان على ذلك وإيماننا بها إنما هو بشهادة
الوجدان ولهذا لا يمكن الزام الخصم بها فالنتيجة أن الملازمة بينهما بنحو
اللزوم البين بالمعنى الأخص غير موجودة وأما بنحو اللزوم البين بالمعنى
الأعم فهي موجودة وكذلك الحال بين حب شئ بالأصالة وبغض تركه بالتبع
315

فإن الملازمة بينهما بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص غير ثابتة وأما بنحو
اللزوم البين بالمعنى الأعم فهي ثابتة وجدانا لأن كل من راجع إلى وجدانه
يرى ثبوت الملازمة بين حب شئ أصالة وبغض تركه تبعا في نفسه.
وأما الكلام في الثاني أي الملازمة بين الأمر بشئ كالصلاة مثلا والنهي
عن تركه في مرحلة الجعل والاعتبار فلا شبهة في عدم ثبوتها لأنه إن أريد بها
الملازمة بينهما بصورة قهرية كالملازمة بين العلة والمعلول ففيه إنها غير
معقولة لأن الحرمة أمر اعتباري لا واقع لها ما عدا اعتبار المعتبر وجعلها
باختياره وإرادته في عالم الاعتبار والذهن فلا يعقل أن تتولد من اعتبار آخر
كتولد المعلول من العلة التامة بدون اعتبار من معتبر لأنه خلف فرض أنه فعل
اختياري مباشرة لا تسبيبا.
هذا إضافة إلى أن التسبيب والتسبب والتأثير والتأثر من آثار
الموجودات التكوينية الخارجية ولا يتصور في الأمور الاعتبارية التي لا واقع
موضوعي لها في الخارج.
وإن أريد بها الملازمة بين جعل المولى الوجوب لشئ أصالة كالصلاة
مثلا وبين جعله الحرمة لتركه تبعا.
ففيه أنها وإن كانت ممكنة ثبوتا إلا أنها مستحيلة وقوعا وذلك لأن جعل
الحكم من المولى لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة تبرر جعله ولا نكتة في
المقام تدعو إلى جعل الحرمة للترك تبعا لجعل الوجوب للفعل لفرض أنه لا مفسدة
فيه لكي تدعو إلى الحرمة له وإلا لكانت الحرمة مجعولة مستقلا لا تبعا وهذا خلف
وأما المصلحة القائمة بالفعل فهي إنما تدعو إلى جعل الوجوب له ولا تدعو إلى
جعل الحرمة لتركه أيضا تبعا لأن الغرض من جعل الوجوب هو إيجاد الداعي في
نفس المكلف وتحريكه نحو الفعل وهو يحصل بجعله وأما جعل الحرمة التبعية
316

لتركه فبما أن ملاكها هو المصلحة القائمة بالفعل فلا يوجب تأكيده وحينئذ فيكون
وجودها وعدمها من هذه الناحية على حد سواء هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى أن حرمة الترك حيث إنها حرمة غيرية فلا تكون موردا لاستحقاق العقوبة
على مخالفتها والمثوبة على موافقتها لكي يكون ذلك داعيا إلى جعلها.
فالنتيجة أن الملازمة بين وجوب شئ وحرمة تركه البديل له مستحيلة
وقوعا وإن كانت ممكنة ثبوتا فإذن لا تصل النوبة إلى مقام الاثبات في
المسألة والبحث فيها عن أن الأمر بشئ هل يدل على النهي عن ضده العام
أولا فإنه فرع إمكانه ذاتا ووقوعا.
إلى هنا قد تبين أنه لا ملازمة بين الأمر بشئ والنهي عن ضده العام لا
مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو أن الأمر بشئ هل يقتضي النهي عن
ضده الخاص فيه قولان فذهب جماعة من الأصوليين إلى القول الأول وقد
استدلوا عليه بوجهين:
الوجه الأول: يتوقف على تمامية مقدمات:
الأولى: أن ترك أحد الضدين مقدمة للآخر.
الثانية: أن مقدمة الواجب واجبة وحيث إن ترك الضد الواجب كالصلاة
مقدمة للضد الواجب الآخر كالإزالة فيكون واجبا.
الثالثة: أن وجوب ترك الضد الخاص العبادي كالصلاة مثلا يستلزم
حرمة نقيضه وهو إيجاد الضد فإذا تمت تلك المقدمات جميعا فقد تم هذا
الوجه فيثبت به القول بالاقتضاء هو الأمر بشئ يستلزم النهي عن ضده
الخاص.
فإذن يقع الكلام في تمامية هذه المقدمات ومدى صحتها.
317

أما المقدمة الأولى: فقد ذكر في وجهها أن وجود الضد مانع عن وجود
الضد الآخر فإذا كان مانعا فعدم المانع من أجزاء العلة التامة على أساس أن
العلة التامة مركبة من ثلاثة أجزاء:
الأول: وجود المقتضي.
الثاني: وجود الشرط.
الثالث: عدم المانع مثلا وجود النار مقتضي للإحراق والمماسة بين
وجودها والحطب شرط لتأثيرها فيه باعتبار أنها مصححة لفاعلية النار
ورطوبة الحطب مانعة عن فعلية تأثيرها فيه فإذا تمت هذه الأجزاء الثلاثة فقد
تمت العلة التامة وأثرت أثرها وحيث أن عدم الضد من أجزاء العلة التامة
فبطبيعة الحال يكون مقدمة لوجود الضد الآخر من باب أن عدم المانع من
المقدمات وهذا معنى كون عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر هذا.
ولكن ذهب جماعة من المحققين الأصوليين إلى استحالة مقدمية عدم
أحد الضدين للضد الآخر وقد استدلوا على ذلك بوجوه:
الوجه الأول: وتوجيه هذا الوجه بحاجة إلى مقدمة وهي أن المعلول
وإن كان مترتبا على العلة بتمام أجزائها وعناصرها ومتأخرا عنها رتبة
ومعاصرا لها زمنا ولكن تأثير كل عنصر من عناصرها في المعلول مغاير لتأثير
الآخر فيه فإن المقتضى هو مبدأ المعلول مباشرة وبمثابة الأم على أساس أنه
متولد منه كذلك ويكون من مراتب وجوده النازلة وليس شيئا أجنبيا عنه وإلا
استحال تأثيره فيه ضرورة أنه منوط بمبدأ التناسب بين العلة والمعلول على
أساس أن المعلول عين الربط بالعلة والتعلق بها لا ذات له الربط والتعلق مثلا
الحرارة عين الربط بالنار وتتولد من صميم ذاتها وإلا لزم تأثير كل شئ في
كل شئ وهو كما ترى فإن لازم ذلك انهيار جميع العلوم من العلوم الطبيعية
318

والعقلية بل انهيار العالم بتمام نظمه الطبيعية التي يتحرك بها بشتى ألوانه
وأشكاله ويخرج من القوة إلى الفعل ومن الامكان إلى الوجود فإن تلك النظم
المتمثلة في الحركة الجوهرية في الأشياء التي تتحرك على أساس مبدأ العلية
من ناحية وفي القوة الجاذبة العامة من ناحية أخرى تتحكم على العالم
وتحتفظ به كما هو.
وأما الشرط فهو مؤثر في فعلية فاعلية المقتضي ولا يكون مؤثرا في
المعلول مباشرة فمماسة الحطب للنار مؤثرة في فعلية فاعلية النار في إيجاد
الحرارة وتوليدها بدون أن يكون لها تأثير مباشر في الإحراق وتوليد الحرارة.
وأما عدم المانع فهو بنفسه لا يكون مؤثرا في شئ ضرورة أن العدم بما
هو لا يعقل أن يكون مؤثرا لما عرفت من أن تأثير شئ في شئ آخر إنما هو
على أساس مبدأ التناسب وبدونه فلا يمكن التأثير والعدم ليس بشئ حتى
يكون مؤثرا وعلى هذا فعد عدم المانع من أجزاء العلة التامة إنما هو باعتبار
أن وجوده مانع عن تأثير المقتضى لا أن عدمه من أجزائها مثلا عدم رطوبة
الحطب لا يكون مؤثرا لا في الإحراق ولا في فاعلية النار له فإذن جعله من
أجزاء العلة التامة مبني على المسامحة وبلحاظ أن نقيضه وهو الرطوبة مانع
عن فاعلية النار وتأثيرها فيه فيكون من قبيل وصف الشئ بحال متعلقه.
إلى هنا قد تبين أمران:
الأول: أن تأثير كل جزء من أجزاء العلة التامة في المعلول يختلف عن
تأثير جزء الآخر فإن تأثير المقتضى فيه يكون بنحو المباشر على أساس مبدأ
التناسب وأما تأثير الشرط فيه لا يكون كذلك بل هو في فعلية فاعلية المقتضي
وعدم المانع بما هو العدم لا يكون مؤثرا في شئ لأنه ليس بشئ حتى يكون
مؤثرا بل تأثيره إنما هو بلحاظ أن وجوده مانع عن فاعلية المقتضي فالشرط مؤثر
319

في فعلية فاعلية المقتضي مباشرة والمانع مانع عن فعلية تأثيره كذلك فالشرط
وعدم المانع كلاهما من متممات فاعلية المقتضي.
الثاني: أن المقتضى متقدم رتبة على الشرط على أساس أن الشرط من
متممات فاعليته فلابد من افتراض وجوده في المرتبة السابقة حتى يكون
متمما لها وإلا فلا يتصف الشرط بالشرطية فمماسة الحطب للنار إنما تتصف
بالشرطية مع وجود النار لأنها نسبة بين الحطب والنار ومتقومة بهما ذاتا
وحقيقة ولا يعقل وجودها بدون وجوديهما كما أن رطوبة الحطب إنما تتصف
بالمانعية مع فرض وجود الشرط وهو المماسة في المقام وإلا فلا موضوع
لمانعيتها ولا معنى لاتصافها بها.
ومن ذلك البيان يظهر طولية أجزاء العلة التامة رتبة وإن كانت معاصرة
زمنا كما أنه اتضح بذلك استحالة اتصاف الشرط بالشرطية إلا في ظرف ثبوت
المقتضى فالمماسة إنما تتصف بالشرطية إذا كانت النار موجودة وإلا فلا معنى
لكونها شرطا وكذلك اتصاف المانع بالمانعية إلا في ظرف وجود المقتضي
والشرط معا مثلا الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعية إلا في
ظرف وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم فيكون عدم الاحتراق حينئذ
مستندا إلى وجود المانع وأما إذا لم تكن النار موجودة أو كانت ولم تكن
مماسة مع ذلك الجسم فلا يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود المانع.
ولتوضيح ذلك نأخذ بمثال فإذا فرضنا أن النار موجودة والجسم القابل
للاحتراق مماس بها ومع ذلك لم يحترق ففي مثل ذلك نفتش عن سبب ذلك
وما هو وبعد الفحص يظهر لنا أن سببه وجود المانع وهو الرطوبة الموجودة في
ذلك الجسم وهي التي تمنع عن احتراقه وتجعله غير قابل له فيكون عدمه
مستندا إلى وجود المانع وإذا كانت النار موجودة ولكن الجسم المذكور لم
320

يكن مماسا لها فعدم احتراقه مستندا إلى انتفاء الشرط وهو المماسة ولا يعقل
أن يكون مستندا إلى وجود المانع.
وكذلك إذا فرضنا أن اليد الضاربة قوية والسيف حاد ومع ذلك لا يؤثر
في قطع الجسم في الخارج فلا محالة يكون عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثر
بالسيف إنما هو من جهة وجود المانع وهو صلابة ذلك الجسم مع وجود
المقتضي وهو اليد الضاربة القوية والشرط وهو حدة السيف وأما إذا كانت اليد
الضاربة قوية ولكن السيف لم يكن حاد فيكون عدم المعلول مستندا إلى انتفاء
الشرط لا إلى وجود المانع لأنه في هذه الحالة يستحيل أن يتصف بالمانعية
وإذا لم تكن النار موجودة أو اليد الضاربة ضعيفة أو مشلولة فعدم المعلول
عندئذ مستند إلى عدم وجود المقتضي لا إلى عدم الشرط أو وجود المانع وبعد
هذه المقدمة ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أنه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدين
مانعا عن وجود الضد الآخر حتى يكون عدمه مقدمة له لما تقدم من أن المانع
إنما يتصف بالمانعية في ظرف تحقق المقتضي مع شروطه ومن الواضح أن عند
وجود أحد الضدين يستحيل ثبوت المقتضي للضد الآخر مع شرطه لكي
يكون عدمه مستندا إلى وجود ضده لأن مقتضى المحال محال فإذا كان وجود
الضد الآخر مستحيلا لاستحالة اجتماع الضدين فالمقتضي له أيضا محال
وعلى هذا فعدم الضد مستند إلى عدم ثبوت مقتضيه لا إلى وجود المانع بل
يستحيل اتصاف الضد الموجود بالمانعية فإذا أراد المكلف الصلاة واشتغل بها
في حال مزاحمتها مع الإزالة فعدم الإزالة لا يمكن أن يكون مستندا إلى وجود
الصلاة بل هو مستند إلى عدم المقتضي لها وهو إرادة المكلف فإنه في هذه
الحالة إذا أراد الصلاة لم يرد الإزالة فإذن يكون عدمها مستندا إلى عدم إرادتها
لا إلى وجود الصلاة المضادة لوجود الإزالة وبكلمة إن استحالة مانعية أحد
321

الضدين للضد الآخر بالنسبة إلى إرادة شخص واحد لأحدهما دون الآخر في
غاية الوضوح بداهة استحالة تحقق إرادة كل من الضدين في آن واحد من
شخص واحد فلا يمكن تحقق إرادة كل من الصلاة والإزالة في حال وقوع
المزاحمة بينهما في نفس المكلف فإن أراد المكلف الصلاة في هذه الحالة فلا
يمكن تحقق إرادة الإزالة في نفسه وإن كان العكس فبالعكس فإذن ترك كل
واحدة منهما عند الاشتغال بالأخرى مستند إلى عدم المقتضي لها لا إلى وجود
المانع.
وأما بالإضافة إلى إرادة شخصين للضدين فالأمر أيضا كذلك لأن
اجتماع الضدين في موضوع واحد مستحيل وعلى هذا الأساس فإذا أراد
شخص حركة شئ إلى جهة وأراد آخر حركته إلى جهة ثانية استحال تأثير
كلتا الإرادتين معا فإن كانا متساويين في القوة فلا يؤثر شئ منهما فيكون
عدم وجود كل من الحركتين المتضادتين مستند إلى عدم تمامية المقتضي لهما
معا وإن كان أحدهما أقوى من الآخر فبطبيعة الحال يكون الآخر مغلوبا في
إرادته وعندئذ تسقط إرادة شخص المغلوب عن صفة الاقتضاء على أساس أن
اقتضاء المحال محال وبكلمة أن الإرادتين إن كانتا متساويتين فلا يؤثر شئ
منهما وإن كانت إحداهما أقوى من الأخرى كانت الأقوى هي المؤثرة دون
الأضعف وعلى هذا فبطبيعة الحال يكون عدم وجود الضد مستندا إلى عدم
تمامية مقتضيه وهو الإرادة غير المزاحمة لا إلى وجود الضد الآخر.
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه يستحيل أن يتصف وجود الضد بالمانعية
عن وجود الضد الآخر حتى يكون عدمه مقدمة له هذا (1).

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 254 - 255.
322

وقد علق عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بتقريب أن ما ذكره (قدس سره) من طولية أجزاء
العلة التامة رتبة وإن كان تاما إلا أن ما ذكره (قدس سره) من أنه مع وجود أحد الضدين
يستحيل ثبوت المقتضي للضد الآخر بدعوى أن مقتضى المحال محال لا
يمكن المساعدة عليه وذلك لأنه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل واحد من
الضدين في نفسه بقطع النظر عن ثبوت المقتضي للآخر ولا استحالة فيه
والوجه في ذلك هو أن كلا من المقتضيين يقتضي أثره في الخارج في نفسه مع
قطع النظر عن الآخر ولا مانع من ذلك فإن المانع إنما هو اقتضاء كل منهما أثره
مقارنا لاقتضاء الآخر كذلك فإذا وقع التزاحم بين الصلاة والإزالة في مورد
فالمقتضي لكل واحدة منهما موجود في نفس المكلف بقطع النظر عن ثبوت
المقتضى للأخرى وهو إرادة الاتيان بكل منهما في نفسه أداء لحق العبودية
وقضاء لحق المولوية وعلى هذا فلا استحالة في أن يكون أحد الضدين مانعا
عن الضد الآخر ليستند عدمه إليه لا إلى عدم مقتضيه لفرض إمكان ثبوته في
نفسه بحيث لولا وجود الضد الآخر لأثر أثره ولكن وجوده يزاحمه في تأثيره
ويمنعه عن ذلك مثلا إذا فرض وجود مقتضى لحركة شئ إلى جهة الشرق
ووجود مقتضي لحركته إلى جهة الغرب فكل من المقتضيين يقتضي وجود
الحركة في نفسه إلى كل من الجانبين المتقابلين مع قطع النظر عن الآخر
فعندئذ بطبيعة الحال يكون تأثير كل واحد منهما في حركة إلى طرف معين
متوقفا على عدم المانع منه وحينئذ فإذا وجدت إحدى الحركتين فيه دون
الأخرى فلا محالة يكون عدم هذه مستندا إلى وجود الحركة الأولى لا إلى
عدم مقتضيها لفرض أن المقتضي لها موجود ولولا المانع لكان مؤثرا ولكن
وجود الحركة الأولى مانع عن تأثيره ولا فرق في ذلك بين أن يكون ثبوت
مقتضيين في نفسهما في موضوع واحد أو محل كذلك كإرادتين من شخص أو
323

سببين في موضوع أو في موضوعين كإرادتين من شخصين أو سببين في
موضوعين إذ لا مانع من أن يكون في شخص واحد مقتضي للقيام من جهة
ومقتضي للجلوس من جهة أخرى وكلا المقتضيين موجود في حد ذاتهما في
مادة هذا الشخص مع الغض عن الآخر وعندئذ فإذا وجد أحد الفعلين
المتضادين دون الآخر فعدم هذا لا محالة يكون مستندا إلى وجود ذاك لا إلى
عدم مقتضيه لفرض أن المقتضي له موجود وهو يؤثر أثره لولا وجود المانع
والخلاصة أن وجود المقتضي لكل من الضدين في نفسه مما لا شبهة فيه ولا
تنطبق عليه كبرى أن اقتضاء المحال محال فإن لها موردين:
الأول: ثبوت المقتضي لكل من الضدين مقارنا لثبوت المقتضي للآخر
ومجتمعا معه فعلا.
الثاني: أن يكون هناك شئ واحد يقتضي أمرين متضادين في الوجود
وكلاهما مستحيل هذا بحسب الوجدان ثم إنه (قدس سره) أقام برهانا على ذلك بتقريب
أن ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه وبقطع النظر عن الآخر لو كان
مستحيلا لكان استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه مستحيلا وذلك لأن أثر
المانع كالرطوبة في المثال لا يخلو من أن يكون مضادا لوجود المعلول أو لا
ولا ثالث لهما فعلى الأول يلزم استحالة استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه
على أساس أن أثر المانع مضاد لوجود المعلول وقد مر أن عدم أحد الضدين
يستحيل أن يستند إلى وجود الضد الآخر ونتيجة ذلك استحالة ثبوت المقتضي
له مع الشرط لما عرفت من أنه عند وجود أحد الضدين يستحيل ثبوت
المقتضي للآخر فيكون عدمه من جهة عدم المقتضي لا من جهة وجود المانع
وهو وجود ضده لاستحالة أن يتصف وجوده بالمانعية عن وجود الضد الآخر
ويمكن تقريب هذا البرهان بصيغة أخرى أكثر فنيا وهي أن استحالة استناد
324

عدم المعلول إلى وجود مانعه مخالفة للوجدان والبرهان أما الأول فلأن كثير ما
يكون في الخارج عدم المعلول مستندا إلى وجود مانعه كعدم إحراق الحطب عند
مماسته للنار فإنه لا محالة مستند إلى وجود مانعه وهو الرطوبة المانعة عن إحراقه
رغم توفر المقتضي له وهو النار وشرطه وهو المماسة وهذا أمر محسوس ومشاهد
خارجا ولا يقبل الانكار.
وأما الثاني: فلأنه لو استحال استناد عدم وجود المعلول إلى وجود
مانعه لزم أحد محذورين:
الأول: أنه يلزم من فرض وجود المانع عدمه لما تقدم من أن المانع إنما
يتصف بالمانعية في ظرف ثبوت المقتضي ووجود الشرط على أساس أنه يمنع
عن فعلية فاعلية المقتضي فلو لزم من فرض وجود المانع استحالة ثبوت
المقتضي وشرطه لزم منه فرض عدم وجود المانع واستحالة اتصافه بالمانعية
لأن اتصافه بها إنما هو في ظرف ثبوت المقتضي وتوفر شروطه لا مطلقا فإذن
يلزم من فرض وجوده عدم وجوده وكلما يلزم من فرض وجوده عدمه
فوجوده مستحيل.
الثاني: قد مر أن العلة التامة مركبة من ثلاثة أجزاء.
المقتضي والشرط وعدم المانع فإذا فرض استحالة استناد عدم المعلول إلى
وجود مانعه كان لازمه أن لا يكون عدمه من أجزاء العلة التامة وهو خلف هذا وما
ذكره (قدس سره) يرجع لبا إلى نقطتين:
الأولى: أنه لا مانع من وجود المقتضي والسبب لكل من الضدين في
نفسه ولا استحالة فيه.
ونتيجة ذلك إمكان أن يكون عدم وجود الضد مستندا إلى وجود الضد
الآخر فيكون عدمه من أجزاء العلة التامة.
325

الثانية: ما ذكره (قدس سره) من البرهان على ذلك (1).
ولنا تعليق على كلتا النقطتين:
أما التعليق على النقطة الأولى فلأنها تنحل إلى أمرين:
الأول: إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه على نحو يصلح
كل واحد منهما أن يؤثر أثره في ذاته وبقطع النظر عن الآخر.
الثاني: أن عدم أحد الضدين في مثل ذلك يكون مستندا إلى وجود
الضد الآخر لا إلى عدم المقتضي لفرض أنه موجود في نفسه ولا قصور فيه
ذاتا.
أما الأمر الأول فإن أراد (قدس سره) بثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه
ثبوته في مرتبة الاقتضاء فهذا مما لا إشكال فيه وإنه موافق للوجدان في
الأفعال الإرادية وغيرها لأن ثبوت المقتضي اللولائي لكل منهما مما لا
محذور فيه ولا يكون هذا من اقتضاء المحال الذي هو محال لأن المحال إنما هو
اقتضاء كل منهما أثره مقترنا مع الآخر ومجتمعا معه واقتضاء شئ واحد أثرين
متضادين والفرض أن المقام ليس لا من قبيل الأول ولا الثاني.
وإن أراد (قدس سره) به ثبوته في مرتبة الفعلية بمعنى أن المقتضي تام من ناحية
الفاعلية ولكن عدم أثره في الخارج مستند إلى وجود ضده ففيه أنه لا يمكن
ونشير إلى وجهه في الأمر الثاني.
وأما الأمر الثاني فلا يمكن الالتزام به وذلك لأن أحد المقتضيين إذا كان
مؤثرا وموجدا لأثره في الخارج فبطبيعة الحال كان مستندا إلى قوة مقتضيه
وضعف مقتضي الآخر وقوته شرط فعلية فاعليته وضعف الآخر بمثابة عدم

(1) المحاضرات ج 3: ص 17.
326

المانع فإذن تمت العلة بكامل أجزائها وهي المقتضي والشرط وهو قوته وعدم
المانع وهو ضعف مقتضي الآخر فحينئذ أثرت أثرها وعليه فلا يمكن أن يكون
عدم وجود الضد الآخر مستندا إلى وجود ضده في الخارج بل هو مستند إلى
عدم تمامية فاعلية مقتضيه فإن تمامية فاعليته منوطة بتحقق شروطه وهي
قوته من جهة وضعف مقتضى الآخر من جهة أخرى وأما إذا لم تتم فاعليته بأن
لا يتحقق شرطه الذي هو متمم لها فيكون عدم وجود الضد مستندا إلى انتفاء
الشرط وهو قوة مقتضية لا إلى وجود مانعه وهو وجود ضده.
وبكلمة أنه إذا وجد أحد الضدين في الخارج كالحركة مثلا دون الضد
الآخر كالسكون فلا محالة يكون وجودها مستندا إلى تمامية العوامل الثلاثة
في المرتبة السابقة وهي ثبوت المقتضي ووجود الشرط وعدم المانع فإذا تمت
تلك العوامل تمت العلة التامة وأثرت أثرها وهو الحركة وعلى هذا فلا يمكن
أن يستند عدم وجود السكون إلى وجود الحركة في الخارج مع تمامية العامل
الأول والثاني في المرتبة السابقة بل هو مستند إلى انتفاء العامل الثاني وهو قوة
مقتضية المتممة لفعلية فاعليته لا إلى وجود المانع وهو الحركة مثلا إذا فرض
أن في نفس الانسان إرادة الحركة في نفسه إلى جهة وفي نفس الوقت إرادة
السكون كذلك إلى جهة أخرى بسب أو آخر ففي مثل ذلك إذا تحرك الإنسان
إلى تلك الجهة كأن يكشف عن تمامية العوامل الثلاثة في المرتبة السابقة وهي
وجود الإرادة في أفق نفسه وقوتها بالنسبة إلى الإرادة المزاحمة وضعف الإرادة
المزاحمة بالنسبة إليها الذي هو بمثابة عدم المانع عن تأثيرها فإذا تمت تلك
العوامل فقد تمت العلة التامة وأما عدم السكون فلا يمكن أن يكون مستندا إلى
وجود الحركة في الخارج لأن استناده إليه إنما هو في فرض ثبوت المقتضي له
ووجود الشرط المتمم لفاعلية المقتضي وهو قوته والمفروض عدم تحقق
327

شرطه فإذن عدمه يكون مستند إلى ضعفه وعدم قوته لا إلى وجود الحركة لأنه
إنما يتصف بالمانعية في فرض تحقق المقتضي والشرط معا وإلا فهو لا يكون
مانعا ولا يعقل اتصافه بها ولا فرق بين أن تكون إرادة الضدين بذاتها في نفس
شخص واحد أو شخصين أو فقل أن اقتضاء المقتضي للضد المعدوم إن كان
مطلقا وغير مشروط بعدم وجود المقتضي للضد الموجود فهو من اقتضاء
المحال وهو محال مثلا إذا كان الجسم أسود فإن كان المقتضي لبياضه مطلقا
وغير مشروط بعدم اقتضاء المقتضي سواده لزم اقتضاء المحال لأن بياض
الأسود في حال سواده محال واقتضاؤه من اقتضاء المحال وعلى هذا فما
ذكره (قدس سره) من إمكان استناد عدم الضد إلى وجود الضد الآخر لا يمكن إلا في
فرض المحال وهو ثبوت المقتضي له مطلقا حتى في فرض اقتضاء المقتضي
لوجود الضد الآخر وإن كان المقتضي لبياضه مقيدا ومشروطا بعدم اقتضاء
المقتضي سواده كان عدم البياض مستندا إلى اقتضاء المقتضي سواده لأنه مانع
عنه دون وجود السواد فيه باعتبار أنه مشروط بعدم اقتضائه.
والخلاصة: أن السيد الأستاذ (قدس سره) إن أراد من ثبوت المقتضي لكل من
الضدين ثبوته مقيدا بعدم اقتضاء مقتضي الآخر وجوده وبقطع النظر عنه فهو
وإن كان ممكنا وجدانا وبرهانا إلا أن عدم الضد في هذا الفرض مستند إلى
مانعية اقتضاء مقتضي الضد الآخر وجوده لا إلى نفس وجوده وإن أراد منه
ثبوته مطلقا وغير مقيد بعدم اقتضاء مقتضي الآخر وجوده فهو مستحيل لأنه
من اقتضاء المحال وهو محال فلهذا لا يمكن فرض كون عدم الضد مستندا إلى
وجود الضد الآخر.
فالنتيجة أن ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من أن يكون عدم
أحد الضدين مستندا إلى وجود الضد الآخر مع ثبوت المقتضي له لا يمكن
328

المساعدة عليه بوجه لا وجدانا ولا برهانا.
وأما التعليق على النقطة الثانية فلأن ما ذكره (قدس سره) من البرهان النقضي وهو
أنه لو استحال استناد عدم وجود الضد إلى الضد الآخر استحال استناد عدم
المعلول إلى وجود مانعه فهو غير تام وذلك للفرق بين المقامين في نقاط:
الأولى: أن المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة التامة لا يكون مانعا
عن وجود المعلول مباشرة وإنما يكون مانعا عن تأثير المقتضي فيه كذلك
على أساس أن عدمه من أجزاء العلة التامة بينما يكون وجود أحد الضدين في
الخارج مانعا عن وجود الضد الآخر فيه مباشرة على أساس أن بينهما تمانعا
كذلك لا أنه مانع عن تأثير مقتضيه فيه بحيث يكون عدمه من أجزاء علته
التامة.
الثانية: أن أثر المانع هو المانع عن تأثير المقتضي في المعلول مباشرة
رغم ثبوته وتوفر شروطه بينما لا يكون أثر وجود الضد في الخارج المنع عن
تأثير المقتضي لضده فيه كذلك مثلا أثر وجود الحركة في الخارج ليس هو
المنع عن تأثير مقتضى السكون فيه لما عرفت من أن المانع عن تأثيره فيه هو
قوة مقتضى الحركة في مقام المزاحمة فإنها تمنع عن تأثيره فيه لا وجود
الحركة.
الثالثة: أن المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة التامة مقدم رتبة
على الممنوع قضاء لحق المانعية والممنوع متأخر عنه قضاء لحق الممنوعية
بينما الضدان في مرتبة واحدة فلا تقدم لأحدهما على الآخر ومن هنا كان
بينهما تمانع وتضاد فلا يجتمعان في موضوع واحد لأن التقدم الرتبي بحاجة
إلى ملاك مبرر له كالعلية والشرطية والمانعية لشئ وما شاكل ذلك والمفروض
أنه غير متوفر في الضدين ولهذا لا يعقل أن يكون وجود أحدهما مانعا عن
329

وجود الآخر بل بينهما تمانع وتضاد في مرتبة واحدة في دار الوجود وعلى
ضوء هذه النقاط الثلاث للفرق بين المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة
التامة وبين مانعية أحد الضدين عن وجود الضد الآخر وبالعكس تبين أن ما
ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من البرهان النقضي مبني على الخلط بين المانع بمعنى
التمانع والتضاد في عالم الوجود الخارجي فقط بدون أي تقدم أو تأخر رتبي
في البين وبين المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة التامة فإنه لا يتصور فيه
التمانع بينه وبين الممنوع بداهة أن المانع لا يعقل أن يكون ممنوعا وإلا لزم
تقدم الشئ على نفسه وهو مستحيل كما أن الممنوع لا يعقل أن يكون مانعا.
فالنتيجة في نهاية المطاف أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من البرهان
النقضي لا يتم ومن هنا يظهر أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من استحالة استناد
عدم الضد إلى وجود ضده بل هو مستند إلى عدم وجود المقتضي له قابل للنقد
من جهة وصحيح من جهة أخرى أما من الجهة الأولى فما ذكره (قدس سره) من أن عدم
الضد عند وجود الضد الآخر مستندا إلى عدم مقتضيه معللا بأن اقتضاء المحال
محال غير تام إذ لا مانع من ثبوته في مرتبة الاقتضاء ولا يلزم منه اقتضاء
المحال لكي يقال أنه محال لما تقدم من أن ذلك إنما هو في أحد الموردين
الذين قد سبقت الإشارة إلى كليهما معا والمقام غير داخل في شئ منهما فلا
مانع حينئذ من ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه وبقطع النظر عن
الآخر ولا استحالة فيه بل هو من موافق للوجدان.
وأما من الجهة الثانية فقد عرفت أنه لا يمكن أن يكون عدم وجود الضد
مستندا إلى وجود الآخر مع ثبوت مقتضيه وتوفر شروطه الذي هو متمم لفعلية
فاعليته بل لا محالة يكون مستندا أما إلى انتفاء الشرط مع ثبوت المقتضي له
في نفسه أو إلى عدم ثبوت المقتضي له كذلك.
330

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) وملخصه:
أن عدم الضد عند وجود الضد الآخر يكون مستندا إلى عدم قابلية
المحل لا إلى وجود ضده ولا إلى عدم المقتضي له فإنه (قدس سره) قد بنى على أن
إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه أمر ظاهر ولا خفاء فيه.
أما الأول: فلما عرفت من استحالة أن يكون عدم الضد مستندا إلى
وجود الضد الآخر بأن يكون وجوده مانعا عنه.
وأما الثاني فلأن إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدين في نفسه أمر
ظاهر ولا خفاء فيه فإذن ليس هنا شئ يكون عدمه مستندا إليه إلا عدم قابلية
المحل بعد اشتغاله بالضد الأول (1).
ويمكن تقريب ذلك فنيا بصيغة أخرى وهي أن عدم الضد عند وجود
الضد الآخر مستند إلى ضعف مقتضيه وعدم تمامية علته التامة بكامل أجزائها
وضعف مقتضيه مستند إلى قوة مقتضى الآخر وهي مانعة عن تأثير المقتضى
الأول ومانعية قوته عن تأثيره مستندة إلى عدم قابلية المحل على أساس أن
المحل لو كان قابلا له لم تكن قوة مقتضيه مانعة عن تأثيره فيه فإذن تنتهي
السلسلة في نهاية المطاف إلى عدم قابلية المحل بقانون أن كلما بالغير لابد وأن
ينتهي إلى ما بالذات.
فالنتيجة أن عدم وجود الضد عند وجود الضد الآخر مستند في نهاية
المطاف إلى عدم قابلية المحل هذا.
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن عدم قابلية المحل للضدين معا وإن كان
ذاتيا إلا أنه إذا وجد أحد الضدين فيه فهو وإن لم يقبل وجود الضد الآخر إلا

(1) نهاية الدراية ج 2: ص 187 - 189.
331

أن عدم وجوده فيه ليس مستندا إلى عدم قابلية المحل للضدين معا بل هو مستند
إلى علة أسبق وهي عدم قوة مقتضيه بدرجة تؤثر في إيجاده فيه واعدام الضد
الموجود لأن المحل قابل لكل منهما شريطة ثبوت مقتضيه إذا لم يكن مزاحما
لمقتضى الآخر وشريطة أقوائيته إذا كان مزاحما له.
وبكلمة أن المحل وإن لم يكن قابلا ذاتا للجمع بين وجودي الضدين
معا ولكنه قابل كذلك لأحدهما وعلى هذا فإذا وجد أحدهما فيه دون الآخر
فبطبيعة الحال يستند الضد المعدوم إما إلى عدم ثبوت مقتضيه أو عدم قوته وضعفه
بالنسبة إلى مقتضى الضد الموجود لا إلى عدم قابلية المحل لأن تأثير المقتضي
للضد الموجود فيه في كل آن منوط بقوته بدرجة أكبر من قوة مقتضي الضد
المعدوم وإذا صار الأمر بالعكس في الآنات التالية فلا محالة يوجد الضد المعدوم
فيه ويعدم الضد الموجود.
الوجه الثالث: أن الضد لو كان مانعا عن الضد الآخر وكان عدمه من
أجزاء العلة التامة لزم الدور بيان ذلك أن وجود الحركة مثلا لو كان مانعا عن
وجود السكون وبالعكس لكان لازمه أن يكون عدم الحركة جزء أخيرا للعلة
التامة للسكون وعدم السكون جزء أخيرا للعلة التامة للحركة.
ونتيجة هذا أن عدم الحركة متقدم على السكون رتبة باعتبار أن العلة
التامة بكامل أجزائها متقدمة على المعلول كذلك وعدم السكون متقدم على
الحركة رتبة بنفس الملاك هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن تقدم عدم كل
منهما رتبة على وجود الآخر مما لا استحالة فيه ولا يلزم منه أي محذور إذ لا
مانع من الالتزام بأن عدم الحركة متقدم رتبة على السكون بملاك أنه من أجزاء
علته التامة وعدم السكون متقدم رتبة على الحركة بنفس الملاك مع أن وجود
الحركة لا يكون متقدما على وجود السكون بل هما في مرتبة واحدة على
332

أساس أن التقدم الرتبي بحاجة إلى ملاك ولا ملاك لتقدم وجود الحركة على
وجود السكون وبالعكس وأما تقدم عدم كل منهما على وجود الآخر رتبة فهو
بملاك أنه من أجزاء علته التامة وهي متقدمة على المعلول رتبة رغم أن عدمها
لا يكون متقدما على عدم المعلول كذلك مع أنه في مرتبتها ولكن من الواضح
أن ذلك وحده لا يكفي في مانعية أحدهما عن الآخر فإنها كما تستلزم ذلك
تستلزم تقدم وجود كل منهما على عدم الآخر أيضا بملاك تقدم المانع على
عدم الممنوع رتبة وعلى هذا فيلزم الدور فإن لازم ذلك أن وجود السكون
متوقف على عدم الحركة من باب توقف المعلول على الجزء الأخير من العلة
التامة وعدم الحركة متوقف على وجود السكون من باب توقف عدم الممنوع
على وجود المانع وكذلك الحال بالنسبة إلى الحركة فإنها تتوقف على عدم
السكون من باب توقف المعلول على علته التامة وعدم السكون متوقف على
وجود الحركة من باب توقف عدم الممنوع على وجود مانعه وهذا هو الدور.
فيلزم حينئذ توقف الشئ على نفسه فيكون محالا.
وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
الأول: ما حكاه المحقق النائيني (قدس سره) عن المحقق الخونساري (قدس سره)
وحاصله إن اتصاف الضد الموجود بالمانعية عن الضد المعدوم مستحيل لما
تقدم من أن اتصاف المانع بالمانعية فرع ثبوت المقتضي والشرط المتمم له
والضد المعدوم لا مقتضى له معللا بأن مقتضى المحال محال.
ونتيجة ذلك أن وجود الضد الموجود يتوقف على عدم الضد المعدوم
من باب توقف المعلول على عدم مانعه وأما الضد المعدوم فهو لا يتوقف على
عدم الضد الموجود فإذن لا دور مثلا إذا كان البياض موجودا في موضوع فلا
محالة يتوقف وجوده فيه على عدم وجود السواد من باب توقف المعلول على
333

عدم المانع وأما وجود السواد المعدوم فيه فيستحيل أن يتوقف على عدم
البياض فيه من باب توقف الشئ على عدم المانع لاستحالة اتصاف البياض
بالمانعية عن وجود السواد لأنه فرع ثبوت المقتضي للسواد ولا يمكن افتراض
ثبوت المقتضي له في هذه الحالة لأن مقتضى المحال محال هذا (1).
وللمناقشة فيه مجال واسع أما أولا فلأن هذا الجواب لا يرجع إلى معنى
محصل وذلك لأن عدم الضد المعدوم ولو كان من أجزاء العلة التامة للضد
الموجود فبطبيعة الحال يكون وجوده مانعا لأن عدم المانع من أجزائها ولا
يمكن القول أن الضد طالما يكون معدوما فعدمه من الأجزاء ووجوده مانع
وإذا وجد في الخارج استحال أن يكون مانعا مثلا البياض طالما يكون معدوما
فعدمه من أجزاء العلة ووجوده مانع وإذا وجد في الخارج استحال أن يكون
عدمه من أجزاء العلة ووجوده مانعا وهذا كما ترى.
فهذا الجواب لا مغزى له لأنه إنما يدفع التوقف الفعلي لا التوقف الواقعي
وما هو ملاك استحالة الدور وهو تقدم الشئ على نفسه واقعا وذلك لأن عدم
الضد لو كان واجدا لملاك المقدمية للضد الآخر وهو تقدمه عليه رتبة وكان من
أجزاء العلة التامة بأن يكون وجوده مانعا لم يفرق فيه بين عدم الضد المعدوم
وعدم الضد الموجود وإن لم يكن واجدا له فأيضا لا فرق بينهما ضرورة أنه لا
يحتمل أن يكون عدم البياض مثلا عند وجوده لا يكون من أجزاء العلة التامة
للسواد وعند عدمه يكون من أجزائها إذ من غير المعقول أن يكون مانعية
البياض في الواقع مشروطة بعدم وجوده في الخارج وإلا فلا يكون مانعا هذا
من ناحية ومن ناحية أخرى أن ما في هذا الجواب من أن وجود الضد

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 259.
334

الموجود يتوقف على عدم الضد المعدوم دون العكس غريب جدا لأن توقف
وجود الضد الموجود على عدم الضد الآخر فلا محالة يكون مبنيا على توفر
ملاك التوقف فيه وهو كونه من أجزاء علته التامة ضرورة أنه لا يمكن أن
يكون بلا ملاك مبرر له وعلى هذا فمن الواضح أنه لا فرق في ذلك بين عدم
الضد المعدوم وعدم الضد الموجود فكما أن الأول من أجزاء العلة التامة للضد
الموجود فكذلك الثاني فإنه من أجزاء العلة التامة للضد المعدوم وحيث أنه لا
يعقل أن يكون عدم الضد مقدمة للضد الآخر ومن أجزاء علته التامة فيستحيل
توقف الضد الموجود على الضد المعدوم وقد تقدم أن وجود الضد مستند إلى
تمامية علته بكامل أجزائها من المقتضي والشرط وعدم المانع وقوة مقتضيه
شرط لفعلية فاعليته وعدم الضد الآخر مستند إما إلى عدم المقتضي له أو إلى ضعفه
أو تقيده بعدم اقتضاء مقتضى الأول وعلى جميع التقادير لا يعقل أن يكون عدم
الضد المعدوم من أجزاء العلة التامة للضد الموجود بداهة أن من أجزائها إما عدم
المقتضي للضد المعدوم أو ضعفه وعدم صلاحيته للمزاحمة مع مقتضي الضد
الموجود أو تقيده بعدم اقتضاء مقتضي الأول ولا رابع في البين.
وثانيا أن ما في هذا الجواب من استحالة مانعية الضد الموجود على أساس
أن مانعيته تتوقف على ثبوت المقتضى للضد المعدوم وهو محال لأنه من مقتضى
المحال لا يتم وذلك لأن ثبوت المقتضى له يتصور على نحوين:
الأول: أنه مشروط بعدم اقتضاء مقتضى الضد الموجود.
الثاني: أنه مطلق وغير مشروط بعدم اقتضاء ذلك ولا مانع من ثبوت
المقتضى له على النحو الأول ولا يكون من مقتضى المحال حتى يكون محالا
فما في هذا الجواب من أن ثبوت المقتضى له محال لأنه من اقتضاء المحال لا
يتم على إطلاقه فإن المحال هو ثبوت المقتضى له على النحو الثاني أي مطلقا
335

وغير مشروط، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن اتصاف الضد الموجود
بالمانعية على كلا الاحتمالين مستحيل.
أما على الاحتمال الأول فلأنه إنما يتصف بالمانعية عند ثبوت المقتضي
والشرط للضد المعدوم معا والمفروض أن الشرط غير متحقق هنا وإن كان
المقتضى له ثابتا لأن اقتضائه مشروط بعدم اقتضاء مقتضى الضد الموجود
والفرض أنه يقتضي وجوده فإذن عدمه مستند إلى اقتضاء المقتضي للضد
الموجود لا إلى نفس وجوده وعليه فيستحيل أن يتصف وجوده بالمانعية وإلا
لزم الخلف.
وأما على الاحتمال الثاني: فلأن اتصافه بالمانعية يستلزم تمامية فاعلية
مقتضى الضد المعدوم ومن المعلوم أن تمامية فاعلية مقتضيه مطلقا وغير
مشروط بعدم اقتضاء مقتضي الضد الموجود مستحيلة لأنها من اقتضاء المحال
وهو اجتماع الضدين واقتضاء المحال، محال.
مثلا إذا كان الجسم أسود فاقتضاء المقتضي بياضه حتى في حال سواده
من اقتضاء المحال وهو محال وحيث إن بياض الأسود محال بالذات فوجود
المقتضي له محال لأنه من اقتضاء المحال واقتضاء المحال بالذات محال
فبرهان استحالته استحالة اجتماع الضدين فإذا كان المقتضي للضد المعدوم
مستحيلا استحال فرض وجود المانع عنه بداهة أنه لا يتصور إلا عن تأثير
المقتضي في مقتضاه فإذا افترض استحالة ثبوته فلا يتعقل وجود المانع عنه.
وإن شئت قلت أن استحالة اجتماع الضدين بالذات في نفسه برهان
جزمي على استحالة ثبوت المقتضي للضد المعدوم مطلقا وغير مشروط بعدم
اقتضاء مقتضي الضد الموجود.
ونتيجة ذلك استحالة مانعية الضد الموجود عن الضد المعدوم وكون
336

عدمه من أجزاء علته التامة.
والجواب الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه إذا وجد أحد
الضدين كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الإرادة الأزلية بالضد الآخر وإلا
استحال تخلفها عن المراد فإذن يستحيل وجود المقتضي للضد المعدوم حتى
يكون الضد الموجود مانعا عنه (1) هذا.
ولكن الجواب ضعيف جدا لأن غاية ما يثبت به أن الإرادة الأزلية لم
تتعلق بأسبابه التامة في سلسلة علله وعدم تعلقها بها كما يمكن أن يكون من
جهة عدم المقتضي يمكن أن يكون من جهة وجود المانع.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد ذكرنا في بحث الأمر بين الأمرين
موسعا أن الأفعال الاختيارية للإنسان تصدر منه بسلطنته وإعمال قدرته لا
بالإرادة بمعنى الشوق المؤكد فإنها مهما بلغت من القوة لا تؤثر فيها كتأثير
العلة في المعلول ولا بالإرادة الأزلية بداهة أنها لم تتعلق بها مباشرة وإنما تتعلق
بمباديها كالحياة والقدرة والعلم وما شاكل ذلك فإنها جميعا خاضعة لسلطنته
تعالى المطلقة ومن الطبيعي أن نسبة تلك المبادئ إلى الأفعال الاختيارية ليست
نسبة العلة التامة إلى معلولها ولا نسبة المقتضي إليها وعلى هذا فما ذكره (قدس سره) من أنه
إذا وجد أحد الضدين كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الإرادة الأزلية بالضد الآخر
لا يرجع إلى معنى محصل لان ما ذكره (قدس سره) من ان الإرادة الأزلية تعلقت بالضد
الموجود ولم تتعلق بالضد المعدوم مبني على مسلكه (قدس سره) من أن الفعل الاختياري
هو ما كان مسبوقا بالإرادة بمعنى الشوق المؤكد في أفق النفس وأنها علة تامة له
وهي تنتهي في نهاية المطاف إلى الإرادة الأزلية بقانون أن كلما بالغير لابد وأن

(1) كفاية الأصول: ص 131.
337

ينتهي إلى ما بالذات ولكن قد تقدم هناك بشكل موسع بطلان هذه النظرية وعدم
إمكان الالتزام بها لا وجدانا ولا برهانا ومن هنا أن الإرادة مهما بلغت من القوة
فلا تصلح أن تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو المراد بل هو مستند إلى
سلطنة النفس وإعمال قدرتها وبها لا تخرج عن حد الإمكان إلى حد الضرورة.
ومن هنا قلنا أن الأفعال الاختيارية خارجة عن قاعدة أن الشئ ما لم
يجب لم يوجد على تفصيل هناك وعلى هذا فعدم الضد المعدوم لا يمكن أن
يكون من جهة عدم تعلق الإرادة الأزلية به.
فالنتيجة في نهاية المطاف أنه لا يمكن أن يكون عدم الضد مقدمة للضد
الآخر للدور وتقدم الشئ على نفسه.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من استحالة مقدمية عدم الضد
لا ضد الآخر، وإليك نصه:
وذلك لأن المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما
في التحقق وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله بل
بينهما كمال الملائمة كان أحد الضدين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة
واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر كما لا
يخفى فكما أن قضية المنافاة بين النقيضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما على
ثبوت الآخر كذلك في المتضادين (1) هذا.
وفي هذا النص احتمالات:
الاحتمال الأول: أن غرضه (قدس سره) من ذلك أن التمانع بين الضدين إنما هو
بمعنى المعاندة والمنافرة بينهما التي لا يقتضي أكثر من استحالة اجتماعهما في

(1) كفاية الأصول: ص 130.
338

دار التحقق والوجود في موضوع واحد لا بمعنى مانعية كل منهما عن الآخر
بحيث يكون عدمه من أجزاء العلة التامة له ولهذا لا يكون عدم أحدهما
متقدما رتبة على وجود الآخر بل هما في رتبة واحدة بلا تقدم وتأخر في
البين إذ لا موجب لذلك بعد ما كان التمانع بينهما بمعنى المعاندة والمنافرة في
الوجود فقط لا بمعنى المانعية حتى تقتضي التقدم الرتبي ثم الظاهر أن هذا هو
مراده (قدس سره) فإنه أراد به نفي مقدمية عدم الضد للضد الآخر باعتبار أن تقدمه عليه
رتبة بحاجة إلى ملاك وجودي فإذا لم يكن فهما في رتبة واحدة إذ يكفي في
المعية الرتبية عدم الملاك للتقدم ولا تتوقف على ملاك وجودي.
وهنا مناقشتان:
الأولى: أن الظاهر مما ذكره (قدس سره) هو أن سبب كونهما في رتبة واحدة عدم
التنافي بينهما وكمال الملائمة لا التمانع وفيه أن كمال الملائمة وعدم المنافاة
بينهما لا يكشف عن كونهما في رتبة واحدة فإن بين العلة والمعلول كمال
الملائمة مع أنهما في رتبتين طوليتين وهكذا.
الثانية: أن ما ذكره (قدس سره) من أن المنافاة بين النقيضين لا تقتضي تقدم
ارتفاع أحدهما على ثبوت الآخر لا يرجع إلى معنى معقول لأن ارتفاع أحد
النقيضين عين الآخر فكيف يعقل تقدمه عليه مثلا الإنسان وعدمه نقيضان
وارتفاع الإنسان عين عدمه مفهوما وخارجا وارتفاع عدمه أي عدم عدم
الإنسان وإن كان مغايرا له مفهوما ولكنه عينه خارجا فإذن كيف يتصور كون
المنافاة بينهما تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما على الآخر ولا يقاس ذلك
بالضدين فإن عدم الضد مغاير للضد الآخر مفهوما ومصداقا.
الاحتمال الثاني: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن المعاندة والمنافرة كما
تقتضي استحالة اجتماعهما في دار التحقق والوجود في زمان واحد كذلك
339

تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة فإذا استحال اجتماعهما في مرتبة
واحدة كان عدم أحدهما في تلك المرتبة ضروريا وإلا فلابد أن يكون وجوده
فيها كذلك لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة مثلا البياض والسواد متضادان
وقضية المضادة والمعاندة بينهما استحالة اجتماعهما في دار الوجود في موضوع
واحد وفي دار الرتبة في رتبة واحدة لأن استحالة اجتماعهما في زمان واحد
تستلزم ضرورة عدم أحدهما في ذلك الزمان كذلك استحالة اجتماعهما في رتبة
واحدة مثلا عدم البياض في مرتبة وجود السواد وبالعكس ضروري وإلا لزم أحد
محذورين أما ارتفاع النقيضين بأن لا يكون في تلك المرتبة وجود بياض ولا
عدمه أو اجتماع الضدين وكلاهما مستحيل هذا ثم أنه (قدس سره) قد علق على ذلك بأن
التنافي والتضاد بين الضدين إنما هو بلحاظ عالم الوجود واستحالة اجتماعهما فيه
في زمان واحد لا بلحاظ عالم الرتب الذي لا واقع موضوعي له في الخارج
ولذلك نجد استحالة اجتماع الضدين خارجا في زمان واحد وإن كانا طوليين
رتبة كما لو فرض أحدهما في طول الآخر وعلة له هذا.
ولكن يقع الكلام تارة في أصل تفسيره (قدس سره) عبارة الكفاية وأخرى في
تعليقه عليه.
أما الكلام في الأول فالظاهر أن مراد صاحب الكفاية (قدس سره) من أنهما في
رتبة واحدة بلا تقدم وتأخر أنه لا طولية بينهما لأنها بحاجة إلى ملاك ولا
ملاك لها إلا أن تكون عدم الضد مقدمة للضد الآخر وقد تقدم أن ذلك مستحيل
فإذن لا محالة يكون المراد من التمانع بينهما المعاندة والمنافرة في عالم
التحقق والوجود الخارجي واستحالة اجتماعهما فيه في زمان واحد لا بمعنى
مانعية كل منهما عن الآخر وعليه فيكونان في مرتبة واحدة لأن الطولية فيها
بحاجة إلى مبرر ولا يمكن أن يكون جزافا وحيث لا مبرر لها في المقام فلا
340

طولية بينهما في المرتبة ويكونا في مرتبة واحدة وليس مراده (قدس سره) من ذلك أن
ثبوت الضد لا يمكن أن يكون في رتبة الضد الآخر وإلا لزم اجتماع الضدين
في رتبة واحدة وهو مستحيل فإذن لابد أن يكون عدمه في رتبة الآخر وإلا
لزم ارتفاع النقيضين عنها وهو مستحيل.
وأما الثاني فقد أورد عليه بعض المحققين (قدس سرهم) بأن هذا التعليق مبني على
الخلط بين تفسيرين لاستحالة اجتماع الضدين في رتبة واحدة.
الأول: أن المعتبر في استحالة اجتماع الضدين أمران:
أحدهما: وحدة الزمان والآخر وحدة الرتبة ولا يكفي فيها وحدة الزمان
فقط بل لابد من توفر كلتا الوحدتين معا بمعنى أن استحالة اجتماع الضدين
في زمان واحد مشروطة بوحدة رتبتهما أيضا وإلا جاز الاجتماع.
الثاني: أن اجتماع الضدين كما أنه مستحيل في زمان واحد كذلك أنه
مستحيل في رتبة واحدة ومعنى هذا توسعة دائرة استحالة اجتماع الضدين
على عكس السابق واسرائها لعالم الرتب أيضا.
وهذا هو المقصود من البرهان الذي ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) ولا يمكن
رده بأن اجتماع الضدين مستحيل في زمان واحد ولو كانا طوليين وذلك لأن
الخصم يسلم ذلك ويدعي الزيادة وهي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة
أيضا فالنتيجة أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من التعليق مبني على التفسير الأول
لاستحالة اجتماع الضدين مع أن المقصود هو التفسير الثاني (1).
ولنا ملاحظة في هذا الإيراد وحاصل هذه الملاحظة أن التفسير الأول
لاستحالة اجتماع الضدين غير معقول لأن استحالة اجتماع الضدين في زمان

(1) بحوث في علم الأصول ج 2: ص 300.
341

واحد من البديهيات الأولية وإن كانا مختلفين رتبة ولا يعقل الحكم بالجواز
فإذن دعوى إن استحالة اجتماع الضدين في زمان واحد مشروطة بوحدة
رتبتهما أيضا مخالفة للبداهة.
فالنتيجة أن هذا التفسير لاستحالة اجتماع الضدين غير معقول.
وأما التفسير الثاني فهو إنما يصح إذا كانت النسبة بين وحدة الزمان
ووحدة الرتبة عموما من وجه ولكن الأمر ليس كذلك فإن النسبة بينهما عموم
مطلق لأن وحدة الزمان أعم من وحدة الرتبة فوحدة الرتبة بين شيئين تستلزم
وحدة الزمان بينهما ولا يعقل أن يكونا متحدين رتبة ومختلفين زمانا وأما
العكس فهو ممكن وإن شئت قلت أن الضدين كالسواد والبياض مثلا يستحيل
اجتماعهما في زمان واحد وموضوع فارد وإن كانا مختلفين رتبة ولكن لا
يمكن القول باستحالة اجتماعهما في رتبة واحدة وإن كانا مختلفين زمانا
بداهة أنهما إذا كانا مختلفين زمانا فلا إشكال في إمكان وجودهما معا في
الخارج ولا أثر لافتراض اتحادهما رتبة في عالم الرتب فرضا فإذن اشتراط
وحدة الرتبة زائدا على اشتراط وحدة الزمان في استحالة اجتماع الضدين لغو
محض لأن وحدة الرتبة لا تنفك عن وحدة الزمان ولا يعقل انفكاكها عنها.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا موضوع لاجتماع الضدين
أو النقيضين في عالم الرتب وهو عالم التحليل العقلي إذ لا وجود للضد في هذا
العالم حتى يقال باستحالة اجتماعه مع السواد فيه لوضوح أن الأضداد من
الموجودات الزمانية لأنها إما موجودة في عالم الزمان وهو عالم الوجود
الخارجي أو معدومة فيه فعلى الأول يستحيل اجتماعهما في موضوع واحد
وزمان فارد.
وعلى الثاني فلا موضوع للاستحالة وكذلك الحال في الأمور المتناقضة
342

فإن البياض وعدمه البديل له إنما هما بلحاظ عالم الزمان وبقطع النظر عنه فلا
بياض حتى يكون له بديل وهو عدمه.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) في توجيه
عبارة الكفاية وتفسيرها غير سديد كما مر (1) نعم على تقدير تسليم هذا التفسير
فتعليقه عليه في محله وهو أن استحالة اجتماع الضدين إنما هي بلحاظ عالم
الوجود الخارجي لا بلحاظ عالم الرتب ولا يرد على هذا التعليق ما أورده بعض
المحققين (قدس سره) إلا بصيغة فرضية لا واقعية وأما افتراض اجتماع الضدين في رتبة
واحدة فيما إذا كانا توأمين ومعلولين لعلة واحدة فهو وإن كان محالا ولكن لا من
جهة اتحادهما في رتبة واحدة بل من جهة اتحادهما في زمان واحد وإلا فلا مانع
من صدورهما من علة واحدة هذا كله في تفسير السيد الأستاذ (قدس سره)، عبارة الكفاية
وتوجيهها وما علق عليه والمناقشات حوله.
الاحتمال الثالث: ما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) من أن المحقق
الخراساني (قدس سره) أراد اثبات أن عدم الضد في مرتبة وجود الضد الآخر بلا تقدم
وتأخر بقياس المساواة بتقريب أن الضدين في مرتبة واحدة فإن وجود الحركة
في مرتبة وجود السكون ووجود البياض في مرتبة وجود السواد بلا تقدم ولا
تأخر بينهما كذلك لأنه بحاجة إلى ملاك ولا يكون جزافا ولا ملاك في المقام
لتقدم أحد الضدين على الضد الآخر رتبة وبالعكس وكذلك في المتناقضين
فإن وجود الإنسان في مرتبة عدمه البديل له ولا ملاك لتقدم أحدهما على
الآخر رتبة بعد ما كانا متقارنين زمانا وعلى ضوء هذا الأساس نقول أن وجود
الحركة في مرتبة وجود السكون ووجود السكون في مرتبة عدمه البديل له

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 210.
343

فينتج أن وجود الحركة في مرتبة عدم السكون بقياس المساواة وهذا معنى
قوله (قدس سره) هما في مرتبة واحدة وكذلك العكس وهو أن وجود السكون في مرتبة
وجود الحركة ووجود الحركة في مرتبة عدمه البديل له فينتج أن وجود
السكون في مرتبة عدم الحركة وهكذا وهذا معنى قوله (قدس سره) هما في مرتبة واحدة
ونتيجة ذلك أن عدم أحد الضدين في مرتبة وجود الضد الآخر ولا يكون
متقدما عليه رتبة حتى يصلح أن يكون مقدمة له وجزء أخيرا لعلته التامة
هذا (1).
وقد أورد عليه بأن قياس المساواة عقيم النتيجة في عالم الرتب على
أساس أن تفاوت الأشياء في هذا العالم إنما هو بتحليل من العقل واعتباره
وحيث إن حكم العقل بتقدم شئ على آخر رتبة بعدما كانا متقارنين زمانا لا
يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة فلا محالة يدور مدارها وجودا وعدما ومن
هنا يحكم العقل بتقدم العلة على المعلول رتبة قضاء لحق العلية ولا يحكم بأن
عدمها الذي هو في مرتبتها متقدم عليه كذلك لعدم الملاك لتقدمه عليه مع أنه
في مرتبتها ولا نتيجة لقياس المساواة هنا فإن عدم العلة في مرتبة العلة والعلة
متقدمة على المعلول رتبة فلا ينتج أن عدمها متقدم عليه كذلك لأن هذا التقدم
يكون بملاك مختص بها ولا يكون مشتركا بينهما فالكبرى وهي أن كل ما مع
المتقدم متقدم غير ثابتة في عالم الرتب بينما هي ثابتة في عالم الزمان لأن ما
كان مع المتقدم زمانا متقدم وما كان مع المتأخر كذلك متأخر وهكذا باعتبار
أن الملاك فيه الزمان وهو مشترك.
والخلاصة أن التقدم والتأخر أو التقارن إذا كان في عالم الرتب فالكبرى

(1) نهاية الدراية ج 2: ص 180.
344

وهي أن كلما كان مع التقدم متقدم ومع المتأخر متأخر غير ثابتة لأن ملاك
التقدم أو التأخر في هذا العالم مختص به ولا يكون مشتركا بينه وبين ما معه
في الرتبة وهذا بخلاف ما إذا كان ذلك في عالم الزمان فالكبرى ثابتة لأن
الملاك للتقدم أو التأخر فيه الزمان وهو مشترك بين المتقدم أو المتأخر وما معه
في الزمان.
وإن شئت قلت أن صاحب الكفاية (قدس سره) أراد بذلك نفي مقدمية عدم أحد
الضدين للضد الآخر بأن النقيضين في مرتبة واحدة مثلا البياض وعدمه البديل
له في مرتبة واحدة والسواد وعدمه البديل له كذلك فلو كان وجود البياض
متوقفا على عدم السواد لكان عدم السواد متقدما عليه رتبة وعليه فيكون
وجود السواد أيضا متقدما عليه بحكم أنه في مرتبته وكذلك لو كان وجود
السواد متوقفا على عدم البياض لكان عدم البياض متقدما عليه رتبة وعليه
فيكون وجود السواد بحكم كونه في مرتبته مقدما عليه أيضا رتبة وهذا هو
التناقض والتهافت في الرتبة بين الضدين لأن كلا منهما حينئذ متقدم على
الآخر ومتأخر عنه رتبة وهذا مستحيل.
ولكن قد مر أن هذا البيان غير تام في نفسه لأنه مبني على أن ما يكون
مع المتقدم رتبة متقدم أيضا وما يكون مع المتأخر كذلك متأخر أيضا وقد
تقدم أن هذه القاعدة غير تامة في عالم الرتب وإنما تتم في عالم الزمان هذا من
ناحية ومن ناحية أخرى أن الظاهر من الكفاية أنه لم يرد بذلك أي بأن عدم
الضد في مرتبة الضد الآخر نفي مقدميته بقياس المساواة بل أراد به نفيها على
أساس أن المراد من التمانع بين الضدين المعاندة والمضادة بينهما في دار
الوجود فلا يجتمعان في موضوع واحد فيه لا مانعية كل منهما عن تأثير
مقتضى الآخر فلهذا يكونا في مرتبة واحدة بلا تقدم أو تأخر في البين فإنه
345

بحاجة إلى ملاك.
الوجه الرابع: أن الضدين كالسواد والبياض أو الحركة والسكون وهكذا
لا يخلوان من أن يكون المقتضى لأحدهما موجودا دون الآخر أو لكليهما
موجودا. وعلى الثاني فإما أن يكون المقتضيان متساويين أو يكون أحدهما
أقوى من الآخر ولا رابع في البين أما على الفرض الأول فعدم الضد مستند إلى
عدم ثبوت مقتضيه لا إلى وجود ضده الآخر وأما على الفرض الثاني فاقتضاء
كل منهما أثره مشروط بعدم اقتضاء الآخر له تكوينا على أساس أن التزاحم
بينهما بمستوى واحد ولكن هذا التساوي لا يتصور فيما لو كان أثرهما من
الضدين الذين لا ثالث لهما وكانا من الأمور الطبيعية التي تتكون قهرا حسب
النظام العلي فإن في ذلك لابد من أن يكون أحد المقتضيين أقوى وأرجح من
الآخر حتى يكون هو المؤثر دون الآخر وأما إذا كانا من الأمور الإرادية التي
تتكون بالإرادة والاختيار فلا مانع من فرض التساوي بينهما والترجيح حينئذ
بيد الفاعل واختياره نعم إذا كان أثرهما من الضدين الذين لهما ثالث فلا مانع
من افتراض التساوي بين مقتضيهما بلا فرق بين أن يكونا من الأمور الطبيعية
القهرية أو من الأمور الإرادية الاختيارية وعلى جميع التقادير فعدم الضد
الآخر لا يكون مستندا إلى الضد الموجود بل هو مستند إلى المزاحم لمقتضيه
وهو المانع عن تأثيره دونه.
فالنتيجة أن في هذين الفرضين لا يعقل أن يكون عدم الضد مستندا إلى
وجود الضد الآخر حتى يكون وجوده مانعا.
وأما على الفرض الثالث فعدم وجوده مستند إلى ضعف مقتضيه وقصوره
في مقابل مقتضى الآخر فإنه حيث كان أقوى منه فيصلح أن يكون مانعا عن
تأثير مقتضيه وعليه فيكون تأثيره مشروطا بعدم اقتضاء مقتضى الآخر ومعه
346

لا اقتضاء له لأنه مقيد بعدم المانع والمفروض أنه مانع نعم أنه في نفسه تام
وصالح للتأثير إلا أنه من جهة كونه مزاحما بما هو أقوى منه فلا يصلح أن
يكون مؤثرا وبعبارة أخرى أن الجسم إذا كان أسود فعلا ففي هذه الحالة إما أن
لا يكون مقتضى البياض موجودا فيه أو أنه موجود ولا كلام على الأول وعلى
الثاني فإما أن يكون اقتضاؤه مطلقا وغير مشروط بعدم اقتضاء مقتضي السواد
أو أنه مشروط بعدم اقتضائه أو أنه مقتضي للضد الذي لا يوجد الضد الآخر
معه فالأول محال لأنه من اقتضاء المحال وهو اجتماع الضدين وأما الثاني فلا
اقتضاء له لأنه مشروط بعدم اقتضاء مقتضى الضد الموجود ومع اقتضائه ينتفي
اقتضاؤه بانتفاء شرطه ولا يمكن أن يكون اقتضائه في هذا الفرض منوطا بعدم
وجود السواد فيه بحيث يكون وجوده مانعا عن تأثيره وذلك لأن الجسم إذا
كان أسود كان كاشفا عن أن المقتضي له أقوى من مقتضي بياضه فالمانع عن
تأثير مقتضيه هو أرجحية مقتضي السواد واقوائيته وهي تمنع عن تأثيره فيه
ولا يعقل أن يكون مؤثرا في حال كونه مزاحما بأقوى منه وأرجح فإذن لا
يمكن أن يكون وجود السواد فيه مانعا عن تأثيره بل المانع منه في المرتبة
السابقة وهو مزاحمته بالأقوى في هذه المرتبة وهي مرتبة المقتضي وتأثيره
منوط بعدم المانع.
فبالنتيجة عدم تأثيره في نهاية المطاف مستندا إلى ضعفه وقصوره في
مقابل مقتضي السواد وبالإضافة إليه لا في نفسه.
وأما الفرض الثالث: ففيه أيضا لا يمكن أن يكون وجود الضد كسواد
الجسم مانعا لأن مقتضى البياض فيه إذا صار أقوى من مقتضى السواد فبطبيعة
الحال يمنع عن تأثير مقتضى السواد فيه بقاء وهذا معنى أن مقتضى البياض
كما يقتضي وجوده فيه كذلك يقتضي اعدام السواد عنه بالمنع عن تأثير
347

مقتضيه فيه بقاء لمكان مزاحمته بالأقوى والأرجح في مرحلة البقاء فإذن
ارتفاع السواد عنه ليس من جهة وجود المانع وهو وجود البياض فيه بل من
جهة ضعف مقتضيه وسقوطه عن العلية التامة فإن من شرائط تأثيره أن لا
يكون مزاحما بالأقوى والأرجح وإلا فلا يكون مؤثرا ولا فرق في ذلك بين
أن تكون مزاحمته بالأقوى والأرجح حدوثا أو بقاء.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه يستحيل أن يكون
عدم الضد مقدمة للضد الآخر فإذن لا يمكن الحكم بوجوبه من باب المقدمة.
ثم إن هنا تفصيلا بين الضد الموجود والضد المعدوم والأول لا يتوقف
على عدم الضد المعدوم طالما يكون معدوما.
والثاني يتوقف على عدم الضد الموجود وارتفاع وجوده وقد اختار هذا
التفصيل المحقق الخوانساري (قدس سره).
بتقريب أن المحل إذا كان مشغولا بأحد الضدين فبطبيعة الحال يتوقف
وجود الضد الآخر في هذا المحل على ارتفاع الضد الموجود فيه واعدامه بينما
إذا لم يكن المحل مشغولا به فلا يتوقف وجوده فيه على ارتفاعه عنه.
ونتيجة ذلك أن عدم الضد الموجود مقدمة للضد الآخر دون عدم الضد
المعدوم، بيان ذلك أن المحل لا يخلو من أن يكون خاليا عن كل من الضدين
كالجسم الخالي عن لون الأسود والأبيض معا أو يكون مشغولا بأحدهما دون
الآخر فعلى الأول المحل قابل لكل منهما بما هو بقطع النظر عن الآخر وقابلية
المحل لذلك فعلية ولا تتوقف على شئ وحينئذ فإذا وجد المقتضى للبياض
فيه مثلا صار أبيض من دون توقفه على عدم وجود السواد فيه فلا يكون
عدمه من المقدمات وعلى الثاني فالمحل المشغول بالضد كالسواد مثلا لا يقبل
البياض في غرضه نعم يقبله بدلا عنه وعليه فلا محالة يتوقف وجود الضد
348

الآخر على ارتفاع الضد الموجود ضرورة أن الجسم الأسود لا يقبل البياض
كما أن الجسم الأبيض لا يقبل السواد فإذا كان المحل مشغولا بالسواد فلا
محالة وجود البياض فيه يتوقف على ارتفاع السواد وعدمه فيكون عدمه
مقدمة له.
فالنتيجة أن عدم الضد الموجود مقدمة لثبوت الضد الآخر وأما عدم
الضد المعدوم فهو لا يكون مقدمة لثبوت الضد الآخر (1).
أقول أن هذا التفصيل مبني على نظرية الحدوث وهي أن سر حاجة
الأشياء إلى مبدأ العلية هو حدوثها لا إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي ولازم
ذلك أن الشئ إذا حدث في الخارج فقد استغنى عن مبدأ العلية بقاء وقد
يستدل على هذه النظرية بأمرين:
الأول: أن سبب حاجة الأشياء لو كان إمكانها الوجودي دون حدوثها
فهو لا ينسجم مع مجموعة من الظواهر الكونية التي تكشف عن استمرار
وجود المعلول بعد زوال علتها كالعمارات الشاهقة والبنايات والطرق والجسور
وما شاكل ذلك التي بناها البناؤون وأيدي آلاف من العمال فإنها تبقى بعد
انتهاء علتها وهي عملية البنا مئات من السنين من دون علة مباشرة لها وكذلك
الطائرات والسيارات والسفن والمكائن والمصانع وأنواع الأدوات الميكانيكية
وغيرها مما شاده المهندسون والفنانون في شتى ميادين العلم فإنها بعد انتهاء
عمليتها وصنعها بيد هؤلاء الفنانون والمهندسون تبقى إلى أمد بعيد بدون علة
مباشرة لها ومثلها الأشياء الكونية الطبيعية كالجبال والأحجار والأشجار وما
شاكلها من الموجودات الطبيعية على سطح الكرة الأرضية فإنها تبقى بدون أن

(1) فقد ذكره المحقق الخونساري (قدس سره) على ما في مطارح الأنظار: ص 109.
349

تكون لها علة مباشرة ومنها الكرات الهائلة التي تتحرك في الفضاء اللا متناهي
فإنها باقية بعد حدوثها بدون علة مباشرة لها.
والخلاصة أن قانون التعاصر بين العلة والمعلول منقوض بظواهر الأشياء
الطبيعية والصناعية التي تكشف بظاهرها عن استمرار وجود المعلول بعد زوال
العلة وبقائه بعد انتهائها.
والجواب: أن هذا الاستدلال مبني على عدم فهم معنى العلية في
الأشياء وعدم الوصول إليه كما هو الواقع حيث أنه أعمق من هذا وقد تقدمت
الإشارة إلى ذلك بشكل موسع في ضمن البحوث السالفة وننبه عليه هنا بصورة
موجزة وهي أن خطأ المناقش والمستدل في المسألة نشأ من عدم تصور علة
بقاء هذه الأشياء وتخيل أنها في بقائها ليست بحاجة إلى علة مباشرة ومنشأ
الخطأ هو أن علة حدوث هذه الأشياء غير علة بقائها فإن علة حدوثها
حركات أيدي المهندسين والفنانين وآلاف من العمال في بناء العمارات والدور
وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الأخرى كالطائرات والسفن
والسيارات والمكائن والمصانع وغيرها فإن عملية صنعها وإيجادها بشكلها
الخاص ووضعها المخصوص نتيجة عدة من الحركات والجهود التي يقوم بها
العمال ونتيجة تجميع المواد الخام من الحديد والخشب والآجر والحجر
وغيرها من المواد وهذه الحركات هي المعلولة للعمال وهي صادرة عنهم
باختيارهم ولهذا تنقطع تلك الحركات بمجرد اضراب العمال عن العمل وكف
أيديهم عنها.
وأما علة بقاء تلك الظواهر والأشياء على وضعها الخاص فهو معلول
لخصائص تلك المواد الطبيعية وحيويتها التي هي في صميم ذواتها وأعماق
طبيعتها من ناحية وقوة الجاذبية العامة التي تفرض المحافظة على وضعها
350

الخاص من ناحية أخرى نظير اتصال الحديد بما فيه القوة الكهربائية فإنها
تجذب الحديد بقوة جاذبية طبيعية تجره آنا فآنا بحيث لو سلبت منه تلك
القوة لانقطع منه الجذب لا محالة.
ومن هنا يظهر حال بقية الأمثلة فإن بقاء الجبال على وضعها الخاص
وموضعها المخصوص وكذلك الأشجار والمياه وما شاكلها على سطح الأرض
معلول لخصائص طبيعية كامنة في صميم موادها من ناحية والقوة الجاذبية
العامة التي تفرض المحافظة عليها من ناحية أخرى.
فالنتيجة أن بقاء الأشياء في هذا الكون من الأشياء الطبيعية والصناعية
بشتى أشكالها وألوانها معلول لأمرين:
الأول: الخصائص الذاتية في صميم ذواتها.
الثاني: القوة الجاذبة العامة وقد صارت عمومية القوة الجاذبة في يومنا
هذا من الواضحات الأولية وقد أودعها الله سبحانه وتعالى في صميم هذه الكرة
الأرضية التي تفرض المحافظة عليها وما فيها من الأشياء الكونية على وضعها
الخاص ونظامها المخصوص في حين أنها تتحرك في هذا الفضاء الكوني
بسرعة هائلة.
إلى هنا قد تبين أن المحافظة على الموجودات الطبيعية على وضعها
الخاص وموضعها المخصوص هي خصائصها الذاتية من الداخل والقوة
الجاذبية من الخارج فإنها تخضع لهما ولا تملك حريتها لا حدوثا ولا بقاء.
الثاني: أن الحركة إذا حدثت لم تحتج في بقائها إلى علة مباشرة لها
والمدرك لذلك هو التجربة فإنها توضح أن جهازا ميكانيكيا متحركا بقوة
خاصة في طريق مبلط مستقيم فإنه إذا انفصلت القوة المحركة عنه فهو يبقى على
حركته مسافة ما ثم يسكن ومن الممكن أن يزاد في حركة هذا الجهاز بعد انفصال
351

القوة المحركة عنه بتدهين آلات الجهاز ومحركاته وتسوية الطريق ورفع الموانع
والضغوط الخارجية فإذا افترضنا أن هذه الأمور تهيأت على ما يرام فقد استمر
الجهاز في تحركه بعد انفصال القدرة المحركة عنه بسرعة معينة إلى غير حد معين.
والجواب: أن هذا الدليل خاطئ من ناحيتين:
الأولى: أنه مبني على عدم تصور معنى مبدأ العلية في الأشياء.
الثانية: أن من يقوم بهذه التجربة تخيل أن علة الحركة هي القوة المحركة
الخارجية أما الناحية الأولى فسوف نشير إليه بعونه تعالى.
وأما الناحية الثانية فلأن التجربة حيث أن حدودها وحقلها لا تتعدى
عن الأشياء المادية المحسوسة فلا تصلح أن تدلل على أسبابها وعللها التي
هي أعمق منها وخارجة عن حدودها وحقلها لأنها مسألة فلسفية وليست
مادية في حدود الحس فالتجربة توضح أن الحرارة توجد عقيب النار والفلز
يتمدد بالحرارة وهكذا باعتبار أن ذلك واقع تحت مجهرة الحس وأما أن
العلاقة بين وجود الحرارة ووجود النار وبين تمدد الفلز وبين الحرارة وهكذا
هل هي ذاتية أو اتفاقية فلا يمكن إثباتها بالتجربة لأنها خارجة عن حقلها
وحدودها الحسية.
والخلاصة: أن التجربة لا تدلل على علل الأشياء وأسبابها التي ورائها
ومن هنا نحتاج في إثبات علية النار للحرارة مثلا إلى الفلسفة وتطبيق مبدأ
العلية العام عليها وعلى هذا فالحركات العرضية للجسم كالحركات الميكانيكية
تتولد جميعا عن قوة قائمة بنفس الجسم وأما القوة المحركة الخارجية فهي إنما
تقوم بعملية إثارة هذه القوة الداخلية وإعدادها للتأثير خارجا لا أنها علة لسببين:
الأول: أن المعلول لا يمكن أن ينفصل عن العلة على أساس مبدأ
التعاصر بينهما.
352

الثاني: أن المعلول عين الربط بالعلة وأنه يتولد منها ومرتبة من مراتب
وجودها النازلة هذا إضافة إلى أن حقيقة الحركة حدوث بعد حدوث بنحو
الاتصال وكل مرحلة من مراحلها حدوث جديد وتغير عقيب تغير وعليه فإذا
أمكن أن تستمر الحركة بقاء بدون علة مباشرة فبالامكان أن تحدث الحركة
بدون علة وأن توجد الأشياء بلا سبب باعتبار أن استمرار الحركة في كل آن
يحتوي على حدوث جديد دائما ونتيجة ذلك تحرير الحدوث من العلة وهو
كما ترى.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هذه النظرية أسرفت في تحديد
مبدأ العلية من حيث البداية والنهاية أما من حيث البداية فعلى ضوء نظرية
الفلاسفة من أن وجود الممكن غير مسبوق بالعدم فإنه لا يحتاج إلى العلة لأن
سبب الحاجة إليها الحدوث ولا حدوث له فإذن يكون في غنى عنها فإذا كان
في غنى فهو واجب الوجود وهذا من انقلاب الممكن إلى الواجب وهو كما
ترى وأما من حيث النهاية فلأن سر حاجة الأشياء إلى العلة لو كان حدوثها
يعني وجوده الأول فلازم ذلك أنها واجبة الوجود بقاء باعتبار أنها مستغنية عن
العلة ولا يغني بالواجب الوجود إلا ذلك ونتيجة هذا هي انقلاب الممكن إلى
الواجب وهو مستحيل بل إن هذه النظرية في نفسها غير معقولة وذلك لأن
الوجود الأول للممكن على ضوء هذه النظرية هو المعلول للعلة فإذا كان
معلولا لها فهو عين الربط والتعلق بها كالمعنى الحرفي وعلى هذا فلو كان
وجوده الثاني مستغنيا عن العلة فهو كالمعنى الاسمي وواجب الوجود وهذا في
نفسه غير معقول لأن معنى ذلك أن الممكن في وجوده الأول المسمى
بالحدوث بحاجة إلى علة ومربوط بها ذاتا وحقيقة وفي وجوده الثاني غني
بالذات ونتيجة ذلك انقلاب الممكن إلى الواجب بالذات بقاء وكون وجوده
353

الثاني ليس بقاء لوجوده الأول لأنهما متباينان سنخا باعتبار أن الأول ممكن
والثاني واجب وكلاهما خلف.
فالنتيجة أن هذه النظرية باطلة ولا ترجع إلى معنى محصل.
ومن هنا فالصحيح في المقام أن يقال سر حاجة الأشياء وهو إمكانها
الوجودي وفقرها الذاتي فإنها بالنظر الفلسفي العميق عين التعلق والربط بعللها
لا أنها شئ له الربط والتعلق بها فإنه لا ذات لها لأن ذاتها هي الربط والتعلق
ومن الطبيعي أنه لا فرق في ذلك بين الوجود الأول لها المسبوق بالعدم وبين
الوجود الثاني المسبوق بالوجود الأول لأنه ممكن والممكن عين الربط والفقر
وإلا لزم الخلف ومن الواضح أن الربط لا يمكن بدون وجود ما يرتبط به
والتعلق بدون ما يتعلق به ولهذا إذا زال ما يتعلق به زال التعلق إذ لا يعقل
وجوده بدونه وإلا لزم أن يكون مستقلا فيه لا مربوطا وهذا خلف فيكون حاله
حال المعنى الحرفي ومن هنا يجب أن يكون المعلول معاصرا للعلة لأنه عين
الربط بها ولا يعقل وجوده بدونها فيدور مدارها حدوثا وبقاء وهذا هو مبدأ
التعاصر بين العلة والمعلول وهذا المبدأ حتمي وضروري لأنه ناشئ من عمق
الارتباط بينهما ذاتا ووجودا كما أن مبدأ التناسب والسنخية بينهما ضروري
وحتمي باعتبار أن وجود المعلول من سنخ وجود العلة ومرتبة من مراتب
وجودها النازلة ولهذا يترشح منها ويتولد فلو كان المعلول موجودا مستقلا
أجنبيا عن وجود العلة استحال تأثيرها فيه بيان ذلك أن العلاقة بين شيئين
تارة تعبر عن مجرد ارتباط يعرض لهما في الخارج بصورة عن وجوديهما
ولذلك فالارتباط بينهما شئ ووجودهما فيه شئ آخر وذلك كالعلاقة بين
الكاتب والقلم وبين القارئ والكتاب وبين الرسام واللوحة وبين الجل
والفرس وهكذا فإن ارتباط الكاتب بالقلم الذي يكتب به وارتباط القارئ
354

بالكتاب الذي يقرأ فيه وارتباط الرسام باللوحة التي يرسم عليها وهكذا سائر
ألوان الارتباطات بين الأشياء في الخارج جميعا متأخرة عن وجود المرتبطين
فيه فإن الكاتب والقلم موجودان في الخارج قبل أن يرتبط أحدهما بالآخر
والرسام واللوحة موجودان فيه قبل أن توجد عملية الرسم والقارئ والكتاب
موجودان قبل أن توجد عملية القراءة وهكذا.
والخلاصة: أن هذه الارتباطات بجميع ألوانها وأشكالها إنما هي بين
كيانين مستقلين وتعرض عليهما في مرتبة متأخرة عن وجوديهما.
وأخرى تعبر عن تناسب ذاتي بين شيئين وسنخية في الوجود وهذه هي
العلاقة بين العلة والمعلول فإنها تعبير عن ارتباط المعلول بالعلة ذاتا وإن كيانه
كيان ارتباطي وتعلقي ولهذا كان قطع ارتباطه بالعلة إفناء له وإعداما لكيانه لأن
كيانه يتمثل في ذلك الارتباط لأنه عين الارتباط والفقر لا ذات له الارتباط ومن
هنا يظهر سر حاجة الأشياء إلى العلة وهو أنها عين التعلقات والارتباطات بعللها
وإن الارتباط والتعلق مقوم لكيانها ووجودها.
فلذلك لا يعقل انفكاكها عن العلة وإلا لزم الخلف.
فالنتيجة أن حاجة الأشياء إلى العلة كامنة في صميم وجوداتها وأعماق
ذواتها لأنها بذاتها تعلقات وارتباطات ولهذا تدور مدار العلة حدوثا وبقاء.
وعلى ضوء هذا الأساس فلا وجه للتفصيل في المسألة بين الضد
الموجود والضد المعدوم وأن الأول لا يتوقف على عدم الضد المعدوم فلا
يكون عدمه مقدمة له وأما وجود الضد المعدوم فهو يتوقف على عدم الضد
الموجود وارتفاعه فيكون عدمه مقدمة له فإنه مبني على أن الضد الموجود لا
يحتاج في بقائه إلى علة وإنما يحتاج إليه في حدوثه، ولكن قد مر فساد هذه
النظرية وأنها تبتني على عدم فهم معنى العلية في الأشياء.
355

ومع الاغماض عن ذلك وتسليم أن عدم الضد مقدمة للضد الآخر
كالإزالة إلا أنه قد تقدم في مبحث المقدمة عدم وجوبها وأنه لا ملازمة بين
إيجاب شئ وإيجاب مقدماته نعم أنها ثابتة في مرحلة المبادئ بين إرادة
شئ وإرادة مقدماته وجدانا وأما بين وجوبه ووجوب مقدمته في مرحلة
الاعتبار فهي غير ثابتة على تفصيل قد مر سابقا.
ومع الاغماض عن ذلك أيضا وتسليم أن مقدمة الواجب واجبة إلا أن
المقدمة الثالثة غير صحيحة وهي أن وجوب ترك الضد كالصلاة مثلا يستلزم
حرمة فعله فإن هذه المقدمة غير ثابتة في مرحلة الاعتبار والجعل ولا ملازمة
بين الأمر بشئ والنهي عن ضده بلا فرق في ذلك بين الضد العام والخاص لأن
ثبوتها بصورة قهرية كثبوت المعلول بثبوت علته غير معقولة لأن الحكم
الشرعي أمر اعتباري صادر من المولى باختياره مباشرة ولا يعقل فيه التسبيب
على تفصيل تقدم وأما ثبوتها بصورة جعلية فهو وإن كان ممكنا ثبوتا إلا أنه لا
يمكن وقوعه في الخارج بلحاظ أن هذه الملازمة الجعلية بحاجة إلى مبرر لها ولا
مبرر وبدونه فلا يمكن جعلها لأنه لغو نعم أن الملازمة بينهما ثابتة في مرحلة
المبادئ بين إرادة ضد كالصلاة وكراهة فعله بالتبع وبالعكس.
وإن شئت قلت أن الأمر بشئ لا يدل على النهي عن ضده العام لا
بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام أما الأولين فواضح لأن النهي عن ضده
العام كما أنه ليس تمام مدلول الأمر كذلك ليس جزء مدلوله.
وأما الثالث وهو الدلالة الالتزامية فيتوقف على أن تكون الملازمة بين
وجوب شئ وحرمة ضده العام بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص والمفروض
عدم ثبوت هذه الملازمة فضلا عن كونها بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص وذلك
لأن الملازمة بنحو ترشح حرمة الضد العام من الأمر قهرا كترشح المعلول عن العلة
356

غير معقولة في الأحكام الشرعية من سنخ واحد فضلا عما إذا كانت من سنخين
متباينين روحا واعتبارا وأما الملازمة بين جعل المولى الوجوب لشئ وجعل
الحرمة لضده العام فهي وإن كانت ممكنة في نفسها إلا أنه يستحيل وقوعها في
الخارج لأن الحرمة الغيرية بما أنه لا ملاك لها فيكون جعلها لغوا محضا إذ لا
يترتب عليها أي أثر عملي فإذن لا يمكن صدوره من المولى الحكيم وقد تقدم
تفصيل ذلك في الوجوب الغيري في باب مقدمة الواجب.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن المقدمات الثلاث:
1 - عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر.
2 - وجوب المقدمة.
3 - ثبوت الملازمة بين الأمر بالشئ والنهي عن ضده العام جميعا غير
تامة وعلى هذا فالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد لا يدل على وجوب ترك
الصلاة من باب وجوب المقدمة وعلى تقدير الدلالة فوجوب ترك الصلاة لا
يدل على حرمة فعلها من باب أن الأمر بالشئ يدل على النهي عن ضده العام.
الوجه الثاني: أن ترك الضد وإن لم يكن مقدمة للضد الآخر إلا أنهما
متلازمان والمتلازمان لا يختلفان في الحكم فلا يمكن أن يكون أحدهما
واجبا والآخر محرما لاستلزام ذلك التكليف بغير المقدور فإذن لابد من أن
يكونا متوافقين في الحكم فإذا كان أحد الضدين واجبا كان ترك الضد الآخر
أيضا كذلك فإذا كان تركه واجبا كان فعله حراما وهذا معنى أن الأمر بالشئ
يدل على النهي عن ضده فإذا كان حراما كان فاسدا بملاك أن النهي عن العبادة
يوجب فسادها.
والجواب أن هذا الدليل مركب من مقدمتين:
الأولى: صغرى القياس وهي ثبوت الملازمة بين وجود شئ وعدم
357

ضده.
الثانية: كبراه وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ووجوب
توافقهما فيه.
أما المقدمة الأولى فلا شبهة في ثبوت الملازمة بين وجود شئ وترك
ضده.
وأما المقدمة الثانية فيرد عليها أن الذي لا يمكن هو اختلاف المتلازمين
في الحكم لاستلزامه التكليف بالمحال إذا كان اختلافهما في الحكم الالزامي
واللغوية إذا كان اختلافهما في الحكم غير الالزامي وأما لزوم توافقهما فيه فهو
بلا مبرر ولا موجب له أصلا لأن المحذور إنما هو اختلافهما في الحكم وهذا
المحذور كما يندفع بتوافقهما في الحكم كذلك يندفع بعدم ثبوت الحكم
لأحدهما فإذن لا ملزم للالتزام بالأول دون الثاني بل لا يمكن الالتزام بالأول
لا ثبوتا ولا إثباتا.
أما ثبوتا فلأن سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر لا
تخلو إما أن تكون بصورة قهرية كسراية المعلول عن العلة أو تكون بصورة
جعلية ولا ثالث لهما وكلاهما لا يمكن أما الأول فهو مستحيل لأن الوجوب
أمر اعتباري وهو بيد المولى مباشرة ولا يعقل فيه التسبيب والتوليد لأنه فعل
مباشري لا توليدي وقد مر تفصيل ذلك في باب وجوب المقدمة.
وأما الثاني فهو وإن كان ممكنا ذاتا إلا أنه يستحيل وقوعا لأن جعل
الحكم من المولى لا يمكن أن يكون جزافا وبلا ملاك مبرر له وعلى هذا فإذا
أمر المولى بإزالة النجاسة عن المسجد مثلا فلا مبرر لأن يأمره بترك الصلاة فيه
تبعا وذلك لأنه لا ملاك فيه على الفرض والملاك إنما هو قائم بالإزالة وهو لا
يقتضي إلا الأمر بها ومن هنا لا داعوية له إلا بداعوية الوجوب النفسي ولا
358

امتثال له إلا بامتثاله ولهذا يكون وجوده وعدمه على حد سواء وقد تقدم
تفصيل ذلك في مبحث المقدمة.
وأما إثباتا فلأنا لو سلمنا إمكان الأمر بترك الصلاة تبعا للأمر بالإزالة في
مقام الثبوت وأنه لا يكون لغوا وجزافا إلا أنه لا دليل عليه في مقام الاثبات
وأما الدليل الخارجي فهو مفروض العدم وأما الأمر بالإزالة الذي يدل على
وجوبها مطابقة فهو لا يدل على وجوب ترك الصلاة بالتبع التزاما لأن الدلالة
الالتزامية متقومة بالملازمة بينهما بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص
والمفروض أنه لا ملازمة بينهما كذلك ضرورة أن العرف لا يفهم من الأمر
بالشئ إلا إيجابه دون إيجاب ما يلازمه وهو ترك ضده بالتبع ولا فرق في
ذلك بين أن يكون الضدان من الضدين الذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون
ونحوهما أو من الضدين الذين لهما ثالث كالسواد والبياض والقيام والقعود
ونحوهما فإن الملاك في كلا القسمين واحد ثبوتا وإثباتا أما الأول فلأن سراية
الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر مستحيلة إما ذاتا أو وقوعا وأما الثاني فمع
الاغماض عن الأول فلا دليل على هذه السراية هذا. ولكن المحقق النائيني (قدس سره) قد
فصل بين الضدين الذين لا ثالث لهما والضدين الذين لهما ثالث فالتزم بالسراية
في الأول دون الثاني ولهذا قال أن الضدين إذا لم يكن لهما ثالث فالأمر بأحدهما
يدل على النهي عن الآخر بالالتزام وإذا كان لهما ثالث فلا يدل عليه كذلك وإن
شئت قلت: أنه (قدس سره) قد التزم بالدلالة الالتزامية في النقيضين والمتقابلين بتقابل العدم
والملكة والضدين الذين لا ثالث لهما بدعوى أن الأمر بأحد النقيضين يدل على
النهي عن النقيض الآخر فإذا أمر المولى بالصلاة فهو يدل على النهي عن تركها
وإذا أمر المولى بتحصيل العلم فهو يدل على النهي عن الجهل المقابل للعلم بتقابل
العدم والملكة وإذا أمر المولى بالحركة فهو يدل على النهي عن السكون بالالتزام
359

بينما الأمر بالقيام لا يدل على النهي عن القعود هذا (1).
والجواب أنه لا وجه لهذا التفصيل إذ لا فرق في ذلك بين الضدين الذين
لا ثالث لهما والضدين الذين لهما ثالث أما أولا فلأن الملازمة بين الحكمين
ثبوتا غير معقولة لا قهرا ولا جعلا ولا فرق في ذلك بين أن يكونا بين الضدين
الذين لهما ثالث والضدين الذين لا ثالث لهما وكذلك الحال في النقيضين
والمتقابلين بتقابل العدم والملكة فإن الملازمة بين الحكمين فيهما قهرا غير
معقولة في نفسها وأما جعلا فهي وإن كانت معقولة إلا أنها غير واقعة جزما بل
وقوعها مستحيل لأنها لغو وجزاف فلا يمكن صدورها من المولى الحكيم.
وأما ثانيا فعلى تقدير تسليم إمكان وقوع هذه الملازمة جزما إلا أنه لا
دليل على وقوعها في مقام الاثبات إلا دعوى أن الأمر المتعلق بأحد النقيضين
أو المتقابلين يدل بالالتزام على حرمة الآخر ولكن هذه الدعوى لا أساس لها
لأن تكوين الدلالة الالتزامية له يتوقف على ثبوت الملازمة بينه وبين حرمة
الآخر بنحو اللزوم البين بالمعنى الأخص والفرض أنه لا ملازمة بينهما كذلك
عرفا لوضوح أن الفرق لا يفهم من الأمر بالصلاة مثلا إلا وجوبها فحسب لا
حكمان أحدهما وجوبها بالمطابقة والآخر حرمة تركها بالالتزام ضرورة أنه لا
يتبادر منه في ذهنه إلا الوجوب فقط فإذن كيف يمكن دعوى الدلالة الالتزامية
له مع أن تكوينها يتوقف على اللزوم البين بالمعنى الأخص والغرض أنه لا ملازمة
بينهما في المقام فضلا عن كونها بنحو البين بالمعنى الأخص.
هذا إضافة إلى أنا لو قلنا بالدلالة الالتزامية في المقام فلا فرق بين
الضدين الذين لا ثالث لهما والضدين الذين لهما ثالث غاية الأمر أن في

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 253.
360

القسم الثاني إذا تعلق الأمر بالضد كالقيام مثلا دل على وجوبه بالمطابقة
و على حرمة أضداده جميعا بالالتزام بملاك سد أبواب العدم من قبلها بينما
هو في القسم الأول يدل على حرمة ضده المتمثل في شئ واحد بالالتزام
بملاك سد باب العدم من قبله ومن الواضح أن هذا المقدار من الفرق غير
فارق بعدما كان القسمان مشتركين في ملاك الدلالة الالتزامية وهو سد باب
العدم.
والخلاصة: أن ما بنى عليه المحقق النائيني (قدس سره) من الالتزام بالدلالة
الالتزامية في الموارد المذكورة من ناحية والتفصيل بين الضدين الذين لا ثالث
لها والضدين الذين لهما ثالث والالتزام بالدلالة الالتزامية في الأول دون الثاني
من ناحية أخرى لا يرجع إلى معنى صحيح.
نتائج البحث
نستعرض نتائج البحث تطبيقا وتوضيحا في النقاط التالية:
النقطة الأولى: أن الأمر بشئ لا يدل على النهي عن ضده العام لا مطابقة
ولا تضمنا ولا التزاما، أما الأول فإن أريد بالمطابقة، المطابقة في مقام الاثبات
والدلالة فلا ينبغي الاشكال في صحة استعمال الأمر بشئ كالصلاة مثلا في مكان
النهي عن تركه وبالعكس فإن قولك صلي كقولك لا تترك الصلاة من حيث المعنى
لأن المعنى واحد وهو وجوب الصلاة ولكن قد يبرز ذلك المعنى بصيغة الأمر وقد
يبرزه بصيغة النهي فالاختلاف إنما هو في التعبير لا في المعنى وإن أريد بها
المطابقة في مقام الثبوت والواقع فلا واقع لها لأن النهي مختلف عن الأمر من
مرحلة المبادئ إلى مرحلة الاعتبار.
النقطة الثاني: وهو الدلالة التضمنية فلا أصل له لأنه مبني على أن الأمر
361

ينحل إلى حكمين:
أحدهما: الوجوب.
والآخر: الحرمة.
وهذا كما ترى.
و أما الثالث: وهو الدلالة الالتزامية فهو ثابت في مرحلة المبادئ بين
إرادة شئ وكراهة تركه تبعا ومحبوبية شئ ومبغوضية تركه كذلك.
وهذه الملازمة ثابتة وجدانا لا برهانا وأما في مرحلة الاعتبار فلا ملازمة
بين اعتبار الوجوب لشئ واعتبار الحرمة لتركه كما مر.
النقطة الثانية: أن العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة:
1 - المقتضي.
2 - الشرط.
3 - عدم المانع.
وهذه الأجزاء الثلاثة طولية رتبة، فالمقتضي الجزء الأول لها لأنه فاعل
ومتقدم على الشرط رتبة لأن الشرط إنما يكون جزءا لها عند ثبوت المقتضي
على أساس أنه متمم لفاعليته لا مطلقا وعدم المانع إنما يكون جزء لها باعتبار
أن وجوده مانع عن تأثير المقتضي وفعلية فاعليته وإلا فالعدم بما هو عدم لا
يعقل أن يكون جزء لها فالجزئية إنما هي بلحاظ أن وجوده مانع.
ومن الواضح أنه إنما يتصف بالمانعية عند تحقق المقتضي والشرط وإلا
فلا يتصف بالمانعية هذا بلحاظ الجزئية وأما بلحاظ التأثير فالجميع في مرتبة
واحدة فإن الفاعل والمؤثر بالمباشرة المقتضي لا الشرط ولا عدم المانع غاية
الأمر أن الشرط مصحح لفاعليته ومتمم لها وعدم المانع باعتبار أن وجوده
مانع عن فعلية فاعليته ولهذا يختلف تأثير كل جزء من أجزاء العلة التامة في
362

المعلول عن تأثير الآخر فيه فالمقتضي مؤثر فيه مباشرة وأما الشرط فهو لا
يكون مؤثرا فيه كذلك بل هو كما عرفت متمم لفاعليته وعدم المانع بلحاظ أن
وجوده مانع.
النقطة الثالثة: أن عدم المعلول عند عدم المقتضي مستند إليه ولا يعقل
أن يكون مستندا إلى انتفاء الشرط لأن الشرط لا يتصف بالشرطية إلا عند
ثبوت المقتضي وإذا تحقق المقتضي دون الشرط فعدم المعلول مستند إلى انتفاء
الشرط لا إلى وجود المانع لأنه لا يتصف بالمانعية إلا عند ثبوت المقتضي
والشرط معا، فإذا تحقق الشرط أيضا فعدم المعلول حينئذ مستند إلى وجود
المانع.
النقطة الرابعة: أن عدم الضد عند وجود الضد الآخر لا يمكن أن يكون
مستندا إلى وجوده لأنه إنما يتصف بالمانعية عند ثبوت المقتضي للآخر
والشرط معا وإلا فهو مستند إلى عدم ثبوت المقتضي أو عدم الشرط لا إلى
وجود ضده لكي يتصف وجوده بالمانعية فهنا عدة فروض:
الأول: أن لا يكون المقتضي للضد الآخر موجودا.
الثاني: أن يكون المقتضي له موجودا ولكنه أضعف من مقتضي الضد
الموجود بدرجة لا يصلح أن يزاحمه.
الثالث: أن يكون مساويا له.
الرابع: أن يكون أقوى منه.
أما الفرض الرابع فهو باطل جزما بداهة أن مقتضى الضد المعدوم لو كان
أقوى من مقتضى الضد الموجود لكان مؤثرا في إيجاده ومانعا عن تأثيره في
الأول فلا يعقل وجوده حينئذ.
وأما الفرض الثالث فهو أيضا غير معقول إذ مع افتراض تساوي المقتضي
363

لكل منهما مع مقتضي الآخر عدم وجود شئ منهما في الخارج لأن كلا منهما
يزاحم الآخر ومانع عن تأثيره في إيجاده والحكم بأن هذا مؤثر دون ذاك
ترجيح من غير مرجح فإذن وجود أحدهما دون الآخر كاشف عن أن مقتضيه
تام ومؤثر في إيجاده ومانع عن تأثير مقتضى الآخر فيه.
وأما على الفرض الأول فعدمه مستند إلى عدم مقتضيه وأما على الفرض
الثاني فهو مستند إلى ضعف مقتضيه ونقصان فاعليته من جهة اقوائية مقتضى
الآخر.
فالنتيجة أن عدم الضد في جميع هذه الفروض لا يكون مستندا إلى
وجود الضد الآخر بل هو مستند إما إلى عدم ثبوت مقتضيه نهائيا أو إلى ضعفه
ونقصان فاعليته من جهة عدم تحقق شرطه المتمم لها.
النقطة الخامسة: ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أنه مع وجود أحد الضدين
يستحيل ثبوت المقتضي للضد الآخر معللا بأن مقتضى المحال محال (1).
وأورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) بأنه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل من
الضدين في نفسه ولا مانع حينئذ من أن يستند عدم أحدهما إلى وجود الآخر
لا إلى عدم مقتضيه وهذا ليس من مقتضى المحال لكي يكون محالا فإن
المحال إنما هو ثبوت المقتضي لاجتماع الضدين أو النقيضين في شئ واحد
فعلا والفرض أنه ليس هناك ما يقتضي اجتماعهما فيه كذلك وقد برهن (قدس سره) ذلك
بأن عدم الضد لو استحال استناده إلى وجود الضد الآخر استحال استناد عدم
المعلول إلى وجود المانع أيضا مع أن الأمر ليس كذلك (2).

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 208.
(2) نفس المصدر: ص 210.
364

النقطة السادسة: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أنه لا مانع من ثبوت
المقتضي لكل من الضدين في نفسه وبقطع النظر عن الآخر وإن كان صحيحا
وموافقا للوجدان إلا أن ما ذكره (قدس سره) من أنه لا مانع من أن يكون عدم أحد
الضدين في هذه الحالة مستندا إلى وجود الآخر غير تام لأنه إنما يتم لو كان
اقتضاء المقتضي للضد المعدوم مطلقا وغير مشروط بعدم اقتضاء المقتضي
للضد الموجود لأن علته التامة حينئذ لا تتم إلا بعد الضد الموجود ولكن هذا
من اقتضاء المحال فإن معنى ذلك أن مقتضى البياض يقتضي وجود البياض
حتى في الجسم الأسود وهو محال لأن بياض الأسود محال واقتضاؤه يكون
من اقتضاء المحال.
النقطة السابعة: أن وجود أحد الضدين في الخارج كاشف عن أن علته
التامة بكامل أجزائها قد تحققت وعدم وجود الآخر كاشف عن أن علته التامة لم
تتحقق فيكون مستندا أما إلى عدم ثبوت المقتضي له أصلا أو إلى أن فاعليته
ناقصة من جهة مزاحمته بالأقوى فعندئذ يكون مستندا إلى نقص فاعليته المقتضي
يعني انتفاء الشرط ولا يمكن أن يكون عدمه مستندا إلى وجود الضد الآخر لأن
معنى ذلك أن المقتضي له تام الفاعلية والمانع عن تأثيره وجود الضد الآخر ولازم
ذلك أن اقتضاء مقتضيه مطلق وفي عرض اقتضاء مقتضي الآخر وغير مشروط
بعدم اقتضائه وهذا من اقتضاء المحال فيكون محالا ولهذا فلا يمكن أن يكون
عدم الضد من أجزاء العلة التامة لتكون وجوده مانعا.
النقطة الثامنة: فرق بين المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلة التامة
وبين مانعية وجود الضد عن الضد الآخر بوجوه ثلاثة تقدمت.
النقطة التاسعة: أن المحل قابل لكل من الضدين في نفسه وبقطع النظر
عن الآخر غاية الأمر أنه مع وجود أحدهما فيه لا يقبل الآخر فعدم قبوله إنما
365

هو من جهة وجود الضد الأول لا في ذاته.
النقطة العاشرة: أن وجود أحد الضدين لو كان مانعا عن وجود الضد
الآخر لزم الدور فإن لازم ذلك أن وجود السكون يتوقف على عدم الحركة من
باب توقف المعلول على عدم مانعه ووجود الحركة يتوقف على عدم السكون
بنفس الملاك وعدم الحركة يتوقف على وجود السكون من باب توقف
الممنوع على المانع وهذا هو الدور.
النقطة الحادية عشر: أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أنه إذا وجد
أحد الضدين دون الآخر كان ذلك كاشفا عن عدم تعلق الإرادة الأزلية به (1) وإلا
لما تخلفت عن المراد غير سديد فإن الإرادة الأزلية لم تتعلق بالضد المعدوم
مباشرة وإنما تتعلق بمبادئه وبرهان عدم التخلف على تقدير صحته لا يقتضي أكثر
من عدم تعلقها بالعلة التامة له ومن الواضح أنه لا يدل على انتفائها بكامل أجزائها
إذ كما يمكن ذلك يمكن أن يكون المنتفي الجزء الأخير منها وهو عدم المانع.
النقطة الثانية عشر: ذكر صاحب الكفاية (قدس سره) أن التمانع بين الضدين بمعنى
المعاندة والمنافرة بينهما وهي لا يقتضي أكثر من استحالة اجتماعهما في
موضوع واحد في عالم التحقق بلا تقدم وتأخر لأحدهما على الآخر رتبة،
وقد فسر هذه العبارة بتفسيرين:
أحدهما: من المحقق الأصفهاني (قدس سره) والآخر من السيد الأستاذ (قدس سره) وتقدم
المناقشة في ظاهر عبارة الكفاية من جهة وفي التفسيرين من جهة أخرى
فلاحظ.
النقطة الثالثة عشر: أن المقتضي للضدين كالسواد والبياض أو الحركة

(1) نفس المصدر المتقدم: ص 218.
366

والسكون لا يخلو من أن يكون موجودا لأحدهما دون الآخر أو موجودا لكل
منهما في نفسه وبقطع النظر عن الآخر وعلى الثاني فإما أن يكونا متساويين
اقتضاء ويكون أحدهما أقوى من الآخر ولا رابع في البين فعلى الأول يكون
عدم الضد الآخر مستندا إلى عدم مقتضيه وعلى الثاني فاقتضاء كل منهما أثره
مقيد بعدم اقتضاء الآخر على أساس أن اقتضاء كل منهما يزاحم اقتضاء الآخر
بنفس المستوى فإذن لا محالة يكون تأثير كل منهما أثره منوط بعدم تأثير
الآخر.
النقطة الرابعة عشر: أن ما ذكر من التفصيل بين الضد الموجود والضد
المعدوم وإن الأول لا يتوقف على الثاني بينما الثاني يتوقف على ارتفاع الأول
واعدامه مبني على نقطة خاطئة وهي إن سر حاجة الأشياء إلى مبدأ العلية
كامنة في حدوثها وهو وجودها الأول لا في إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي.
وقد تقدم أن نظرية الحدوث نظرية خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها
لأنها أسرفت في تحديد مبدأ العلية بحدوث الأشياء واستغنائها عنها بقاء ومن
الواضح أن ذلك بالتحليل لا يرجع إلى معنى معقول بل هو خلاف الضرورة.
النقطة الخامسة عشر: قد يستدل على نظرية الحدوث بظواهر مجموعة
من الأشياء الكونية التي تكشف عن استمرار وجود المعلول بعد زوال العلية
كالعمارات والبنايات وغيرهما من الأشياء المستحدثة بجهود فن العمال
والفنيين فإنها تبقى بعد انتهاء علتها وهي عملية البناء أو كالجبال والبحار
والكواكب في هذا الفضاء الهائل فإنها تبقى بعد حدوثها بدون علة مباشرة لها.
والجواب أن في هذا الدليل خلط بين علة حدوثها وعلة بقائها فإن علة
حدوثها حركات أيدي العمال والفنانين والمهندسين وأما علة بقائها إلى أمد
بعيد بعد انتهاء عملية البناء أمران:
367

الأول: الخصائص الذاتية الموجودة في مواد هذه الأشياء.
الثاني: القوة الجاذبة العامة التي تفرض المحافظة على وضعها الخاص
وكذلك الحال في الأشياء الكونية الطبيعية.
النقطة السادسة عشر: أن ما قيل من أن عدم الضد ملازم للضد الآخر
والمتلازمان لا يمكن أن يختلفا في الحكم بل لابد من أن يكونا متوافقين فيه
خاطئ فإن المتلازمين لا يمكن أن يختلفا في الحكم وأما إنه لابد أن يكونا
متوافقين فيه فلا موجب له.
ثمرة المسألة:
أما ثمرة المسألة فقهيا فقد تقدم في أول بحث الأصول موسعا أنه لا
يترتب على هذه المسألة ثمرة فقهية مباشرة وقد تقدم أيضا أن أصولية المسألة
مرهونة بترتب ثمرة فقهية عليها كذلك ومن هنا قلنا هناك أن هذه المسألة
ليست من المسائل الأصولية بل هي من المبادئ التصديقية لها فإن الثمرة
الفقهية مترتبة على مسألة أخرى مباشرة كمسألة الترتب ونحوها وهذه المسألة
صغرى لها هذا.
ولكن ذكر الأصحاب ثمرة لهذه المسألة في موردين:
الأول: فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة مثلا في أول
الوقت وواجب مضيق كإزالة النجاسة عن المسجد فورا.
الثاني: فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين يكون أحدهما
أهم من الآخر كالصلاة في آخر الوقت مع الإزالة.
أما في المورد الأول: فقد اختار المحقق الثاني (قدس سره) وتبعه فيه جماعة من
الأصوليين أن الثمرة تظهر فيه بين القولين فعلى القول بالاقتضاء تقع العبادة
368

فاسدة وعلى القول بعدم الاقتضاء تقع صحيحة (1)، بيان ذلك أن الأمر المتعلق
بالواجب الموسع كالصلاة وإن كان متعلقا بالطبيعي الجامع بين افراده العرضية
والطولية ولا مزاحمة بينه وبين الأمر المتعلق بالواجب المضيق لتمكن المكلف من
امتثال كلا الأمرين معا بدون أي مزاحمة بينهما إلا أن المزاحمة إنما هي بين فرده
والواجب المضيق وعلى هذا فالأمر بالواجب المضيق كالإزالة وإن لم يدل على
النهي عن الواجب الموسع إلا أنه يدل على النهي عن الفرد المقارن للواجب
المضيق زمانا والفرد وإن لم يكن بمأمور به لا بالمباشرة ولا بالسراية لفرض أن
الأمر لا يسري من الطبيعي إلى افراده إلا أنه لا يمكن تطبيق الطبيعي المأمور به
كالصلاة مثلا على الفرد المزاحم المنهي عنه فعلا لأن الحرام لا يمكن أن يكون
مصداقا للواجب، وعليه فإذا قام المكلف وأتى بهذا الفرد المزاحم فلا يمكن
الحكم بالصحة لأنها منتزعة من انطباق المأمور به على الفرد المأتي به والمفروض
أنه لا ينطبق عليه فإذن لابد من تقييد اطلاق الواجب الموسع كالصلاة بغير هذا
الفرد المزاحم باعتبار أنه لا ينطبق عليه هذا على القول بالاقتضاء.
وأما على القول بعدم الاقتضاء فلا يكون الفرد المزاحم منهيا عنه لأن
الأمر بالإزالة حينئذ لا يقتضي إلا عدم الأمر بالفرد المزاحم على أساس أن
الأمر به يستلزم التكليف بغير المقدور فإذا لم يكن الفرد المزاحم منهيا عنه فلا
مانع من انطباق الصلاة المأمور بها عليه كانطباقها على غيره من افرادها لأنها
إنما لا تنطبق على الفرد المحرم والمفروض أن الفرد المزاحم ليس بمحرم
ومجرد أنه مزاحم للواجب المضيق لا يمنع من الانطباق فإذا قام المكلف
بالاتيان بالصلاة في هذا الوقت وترك فيه الواجب المضيق فإنه وإن أثم على

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 262.
369

ترك الواجب المضيق إلا أن ذلك لا يمنع عن صحة الصلاة المأتي بها لانطباق
الواجب عليها إذ لا فرق في صحة الانطباق بين الفرد المزاحم وغيره من
الأفراد لأنه كغيره في الوفاء بالغرض غاية الأمر أنه لا يمكن تقييد اطلاق
المأمور به بخصوص هذا الفرد لاستلزامه طلب الجمع بين الضدين وأما تقييده
بغيره من الأفراد فلا مانع من هذه الناحية.
وإن شئت قلت أنه لا موجب لتقييد إطلاق الصلاة المأمور بها بغير الفرد
المزاحم بعد ما كان حاله حال سائر الأفراد في الوفاء بالغرض فإذن لا مانع من
انطباقها عليه فإن المانع عنه إنما هو فيما إذا كان مبغوضا ومشتملا على مفسدة
وإلا فلا موجب لا للتقييد بغيره من الأفراد ولا لعدم الانطباق عليه والنكتة في
ذلك أن متعلق الوجوب صرف وجود الطبيعة الخالية عن جميع الخصوصيات
الفردية والصنفية فإنها جميعا خارجة عن متعلق الأمر فمتعلق الأمر الطبيعي
الجامع بين جميع افراده بلا فرق بين الفرد المزاحم وغيره من الأفراد هذا
ولكن غير خفي أن هذه المسألة وهي المزاحمة بين الواجب الموسع والواجب
المضيق ليست من أفراد المسألة الضد لأن مسألة الضد عنوان المسألة الملازمة
بين الأمر بالشئ والنهي عن ضده العبادي وعدم الملازمة بينهما.
ومن الواضح أن هذه الكبرى لا تنطبق على هذه المسألة باعتبار أنه لا
مضادة بين الواجب الموسع والواجب المضيق ولا مزاحمة بينهما واقعا لتمكن
المكلف من امتثال كلا الواجبين معا بدون أي مزاحمة بينهما في هذه المرحلة
أي مرحلة الامتثال وعلى هذا فلا يقتضي الأمر بالواجب المضيق النهي عن
الواجب الموسع على تقدير القول بالملازمة بينه وبين النهي عن ضده إذ لا
مانع من أن يكون الأمر بكلا الواجبين المذكورين فعليا في عرض واحد فإذن
لا موضوع لهذا النزاع في هذه المسألة ولا منشأ لتوهم هذه الملازمة فموضوع
370

النزاع في المسألة هو ما إذا كانت بين الواجبين مضادة بحيث لا يمكن الأمر
بكليهما معا في عرض واحد لعدم تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة
الامتثال كما في الواجبين المضيقين بينما في هذه المسألة يمكن الأمر بالإزالة
والصلاة معا بدون أي تنافي بينهما هذا.
وقد أورد المحقق النائيني (قدس سره) على المحقق الثاني في المقام بأن ما ذكره
يرجع إلى دعويين طوليين:
الأولى: أن ما ذكره (قدس سره) من الثمرة بين القولين في هذه المسألة مبني على
أن يكون اعتبار القدرة في متعلق التكليف بحكم العقل لا باقتضاء نفس
التكليف.
الثانية: أنه مبني على أن لا يكون متعلق التكليف حصة خاصة وهي
الحصة المقدورة فحسب.
أما الدعوى الأولى فهي مدفوعة بأن اعتبار القدرة في متعلق التكليف
إنما هو باقتضاء نفس الخطاب الشرعي لا بحكم العقل على أساس أن الغرض
من جعل التكليف شرعا إنما هو إيجاد الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو
الاتيان بمتعلقه ومن الطبيعي أن الداعي لا يتحقق في نفس المكلف ولا يوجد
فيها إلا إذا كان متعلقه مقدورا له وإلا فلا يمكن إيجاد الداعي فيها (1).
وإن شئت قلت أن جعل التكليف حيث إنه لا يمكن أن يكون جزافا فلا
محالة يكون الغرض منه إيجاد ما يمكن انبعاث المكلف عنه وتحركه نحو
امتثاله والاتيان بمتعلقه ومن الواضح أنه لا يمكن ذلك إلا إذا كان متعلقه
مقدورا لاستحالة الانبعاث نحو الممتنع.

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 262 - 263.
371

فإذن لا يصل الدور إلى حكم العقل باعتبار القدرة في متعلق التكليف
من باب قبح تكليف العاجز لأن العقل إنما يحكم بذلك إذا لم يكن التكليف
بذاته مقتضيا كون متعلقه حصة خاصة وهي الحصة المقدورة في المرتبة
السابقة لوضوح أن الاستناد إلى أمر ذاتي في مرتبة سابقة على الاستناد إلى أمر
عرضي فإذا كان الغرض من البعث انبعاث المكلف نحو الفعل فمن الطبيعي أنه
لا يمكن الانبعاث نحو الممتنع وحصول الداعي له إلى إيجاده فإذا امتنع
الانبعاث والداعوية امتنع جعل التكليف لأنه لغو.
والخلاصة أن بعث المولى بذاته يقتضي كون متعلقه مقدورا سواء أكان
للعقل حكم في هذا الباب أم لا فإنه متأخر عن ثبوت التكليف ومتفرع عليه.
وأما الدعوى الثانية التي هي متفرعة على الدعوى الأولى فلأن متعلق
التكليف إذا كان حصة خاصة وهي الحصة المقدورة فلا محالة تختص بالأفراد
المقدورة ولا تعم غيرها وعلى هذا فلا محالة يكون متعلق التكليف مقيدا بغير
الفرد المزاحم للواجب المضيق لأنه وإن كان مقدورا عقلا ولكنه غير مقدور
شرعا على كلا القولين في المسألة ونتيجة ذلك أن المأمور به لا ينطبق على
الفرد المزاحم فإذا لم ينطبق عليه فهو محكوم بالفساد مطلقا حتى على القول
بعدم الاقتضاء فإذن لا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة.
نعم تظهر الثمرة بينهما في المسألة على القول بأن اعتبار القدرة في
متعلق التكليف إنما هو بحكم العقل من باب حكمه بقبح تكليف العاجز على
أساس أن العقل لا يحكم بأكثر من كون متعلق التكليف مقدورا والفرض أن
الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور فإذا كان الجامع بينهما مقدورا حكم
العقل بصحة التكليف به ولا يكون ذلك من تكليف العاجز حتى يحكم العقل
بقبحه وعلى هذا فالمأمور به هو الصلاة الجامعة بين الفرد المزاحم وغيره من
372

الأفراد ولا مانع من تعلق الأمر بها ولا يكون من التكليف بالمحال كيف فإن
المكلف متمكن منها وعلى هذا فعلى القول بالاقتضاء حيث أن الفرد المزاحم
منهي عنه فلابد من تقييد المأمور به بغيره من الأفراد لأن الحرام لا يمكن أن
يكون مصداقا للواجب وعلى هذا فإذا أتى المكلف بالفرد المزاحم حكم
بفساده لعدم انطباق المأمور به عليه وأما على القول بعدم الاقتضاء فيحكم
بصحته لإطلاق المأمور به وانطباقه عليه ومجرد وقوع التزاحم بينه وبين
الواجب المضيق لا يوجب تقييد إطلاق الواجب الموسع بغيره فإذن لا مانع من
الحكم بالصحة هذا.
وقد أورد على الدعوى الأولى السيد الأستاذ (قدس سره) بأنها مبنية على مسلك
المشهور في باب الانشاء بتقريب أن المنشأ بصيغة الأمر أو ما شاكلها إنما هو
الطلب والبعث نحو الفعل الاختياري الإرادي والبعث والطلب التشريعي عبارة
عن تحريك عضلات العبد نحو الفعل بإرادته واختياره وجعل الداعي له ومن
الطبيعي أن جعل الداعي إنما يمكن في خصوص الفعل الاختياري ضرورة أنه
لا يمكن البعث نحو الفعل الممتنع وطلبه عن المكلف فإذن لا تصل النوبة إلى
حكم العقل لأنه إنما يحكم بذلك إذا لم يكن التكليف بنفسه مقتضيا ذلك في
المرتبة السابقة (1)، ثم ناقش (قدس سره) أن ما هو المشهور بين الأصحاب من أن الانشاء
عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ لا أساس له أصلا فإنه لا يمكن أن يراد به الإيجاد
التكويني ضرورة أن اللفظ لم يكن واقعا في سلسلة علل وجوده على تفصيل تقدم
في غير مورد وكذلك لا يمكن أن يراد به الايجاد الاعتباري لأن الاعتبار خفيف
المؤونة يوجد بنفس اعتبار المعتبر سواء أكان هناك لفظ أم لم يكن.

(1) المحاضرات ج 3: ص 60.
373

فالنتيجة أن ما هو المشهور في تفسير الانشاء غير تام فالصحيح أن
الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز وعليه
فحقيقة التكليف عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وابرازه في
الخارج بمبرز ما من قول أو فعل ومن هنا ذكر أن صيغة الأمر لا تدل على
الوجوب مباشرة وإنما تدل على إبراز الأمر الاعتباري وينتزع منه العقل
الوجوب طالما لم تكن هناك قرينة على الترخيص في الترك.
ونتيجة ذلك هي أن التكليف بهذا التفسير لا يقتضي اعتبار القدرة في
متعلقه لوضوح أن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وابرازه في الخارج
بمبرز لا يقتضي بنفسه أن يكون الفعل مقدورا على أساس أنه لا يلزم المكلف
بالاتيان به بنفسه لكي يقتضي كونه مقدورا فإن الزامه به إنما هو بحكم العقل
إذا لم تكن هناك قرينة على الترخيص في الترك فإذن يصل دور العقل في ذلك
وهو لا يحكم إلا باعتبار القدرة في متعلق التكليف بملاك قبح تكليف العاجز
في مقام الامتثال فحسب لا مطلقا حتى في مقام الجعل فإنه لا مبرر له فإذا كان
المكلف قادرا على الامتثال في ظرفه وإن لم يكن قادرا عليه في ظرف الجعل
كفى في صحة التكلف ولا يكون جعله لغوا ولا قبيحا.
ثم إن من الطبيعي أن العقل لا يحكم بأزيد من كون متعلق التكليف
مقدورا للمكلف والمفروض أن الجامع بين المقدور وغيره مقدور إذ يكفي في
القدرة عليه القدرة على إيجاد بعض افراده فإذن لا مانع من كون متعلق
التكليف الجامع بين المقدور وغير المقدور ولا ملزم لتقييده بخصوص المقدور
عقلا وشرعا.
ومع الإغماض عن ذلك وتسليم أن التكليف بنفسه يقتضي كون متعلقه
مقدورا فمن الواضح أنه لا يقتضي أكثر من كونه مقدورا بملاك أن الانبعاث لا
374

يمكن نحو الممتنع والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور
ولا مانع من الانبعاث نحوه وإيجاد الداعي إليه.
فالنتيجة أن التكليف كحكم العقل فلا يقتضي أكثر من كون متعلقه
مقدورا حتى لا يلزم الانبعاث نحو الممتنع ولا يقتضي كون متعلقه خصوص
الحصة المقدورة (1).
والخلاصة أن في المسألة ثلاث نظريات:
الأولى: نظرية السيد الأستاذ (قدس سره).
الثانية: نظرية المحقق النائيني (قدس سره).
الثالثة: نظرية المحقق الثاني (قدس سره).
ولنا تعليق على هذه النظريات الثلاث جميعا.
أما التعليق على النظرية الأولى وهي نظرية السيد الأستاذ (قدس سره) فيتمثل أولا
فيما ذكرناه في بحث الانشاء والإخبار موسعا.
وملخصه: أن الصحيح في باب الإنشاء هو تفسير المشهور وهو إيجاد
المعنى باللفظ في دعائه على أساس أن المقصود من الإيجاد في هذا الباب إنما
هو الإيجاد التصوري الذي هو معنى الانشاء وضعا وليس المراد منه الإيجاد
التصديقي الخارجي أو الذهني بداهة أن اللفظ ليس علة لهذا الإيجاد ولا واقعا
في سلسلة علله إذ من غير المحتمل أن يكون هذا هو مراد المشهور من
الإيجاد كيف فإنهم في مقام بيان المعنى الموضوع له للإنشاء والمفروض أنه
تصوري لا تصديقي عندهم لأنهم يرون الدلالة الوضعية دلالة تصورية لا
تصديقية والمدلول الوضعي مدلولا تصوريا لا تصديقيا واللفظ بسبب الوضع

(1) المحاضرات ج 3: ص 63.
375

يدل عليه ولا فرق في ذلك بين الانشاء والإخبار لأن الجملة الإنشائية
موضوعة للدلالة على إيجاد النسبة بإيجاد تصوري سواء كانت النسبة الطلبية
المولوية أم الترجية أو التمنية أو الاستفهامية أو غيرها من النسب الإنشائية
والجملة الخبرية موضوعة للدلالة على النسبة الحكائية التصورية فإنها مدلول
وضعي للجملة الخبرية والايجادية التصورية مدلول وضعي للجملة الإنشائية
ونقصد بالحكائية التصورية النسبة التي تلحظ بالنظر التصوري كافية في أمر
مفروغ عنه في الخارج فإذا سمع زيد قائم من لافظ بغير شعور واختيار انتقل
الذهن إلى النسبة بينهما الملحوظة بالنظر التصوري فانية في أمر مفروغ عنه في
الخارج تصورا لا واقعا، ونقصد بالنسبة الإيجادية النسبة التي تلحظ بالنظر
التصوري فانية في أمر يرى ثبوته بنفس الجملة، ومن هنا قلنا في باب الوضع أن
الدلالة الوضعية دائما دلالة تصورية فإن الوضع على غير مسلك التعهد لا يصلح
أن يكون منشأ وعلة لأكثر من الدلالة التصورية لأنها مستندة إلى الوضع بعد ما لم
تكن دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية وأما الدلالة التصديقية فهي تتوقف بتمام
أقسامها زائدا على الوضع على عناية أخرى مثلا الدلالة الاستعمالية فإنها تتوقف
على إرادة المستعمل وقصده استعمال اللفظ في معناه والدلالة التفهيمية تتوقف
على إرادة المستعمل تفهيم المعنى زائدا على إرادة استعماله فيه والدلالة الجدية
تتوقف زائدا على كل ذلك على إرادته عن جد.
وأما تفسير السيد الأستاذ (قدس سره) الانشاء بإبراز الأمر الاعتباري النفساني
فهو مبني على مسلكه (قدس سره) في باب الوضع من أنه عبارة عن التعهد والالتزام
النفساني فإن الوضع بهذا المعنى لا يتعلق إلا بالأمر الاختياري ضرورة أنه لا
معنى للتعهد والالتزام بشئ ممتنع والأمر الاختياري في الجمل الانشائية هو
قصد إبراز الأمر الاعتباري النفساني وفي الجمل الخبرية هو قصد الحكاية
376

ومن هنا تكون الدلالة الوضعية على أساس هذا المسلك دلالة تصديقية لا
تصورية لأن قصد تفهيم المعنى مأخوذ في المعنى الموضوع له أو في العلقة
الوضعية وبذلك يتضح أن اختلاف السيد الأستاذ (قدس سره) مع المشهور في تفسير
الانشاء إنما هو ناشئ من الاختلاف بينهما في حقيقة الوضع فإن مقتضى
مسلك المشهور في باب الوضع هو أن الدلالة الوضعية دلالة تصورية ومقتضى
مسلك السيد الأستاذ (قدس سره) في هذا الباب هو أن الدلالة الوضعية دلالة تصديقية
ومنشأ هذا الاختلاف إنما هو الاختلاف في تفسير الوضع.
وثانيا أن الانشاء سواء كان بمعنى إيجاد المعنى باللفظ بإيجادي
تصوري أم كان بمعنى إبراز الأمر الاعتباري النفساني بما هو مدلول وضعي
للفظ فلا يكون داعيا ومحركا والداعي حقيقة إنما هو التكليف المولوي
بوجوده الواقعي الجدي بلحاظ ما يترتب عليه من التبعات وهي استحقاق العقوبة
على المخالفة والمثوبة على الموافقة وأما مع قطع النظر عما يترتب عليه من الآثار
والتبعات فلا يكون داعيا ومحركا للمكلف نحو الفعل فوجوب الصلاة إنما يكون
محركا للمكلف نحو الاتيان بها بلحاظ ما يترتب على تركها من استحقاق العقوبة
وإلا فلا يكون محركا وداعيا وعلى هذا فلا فرق بين أن يكون مدلول الأمر وضعا
الانشاء بتفسير المشهور أو الانشاء بتفسير السيد الأستاذ (قدس سره) فإنه بمدلوله الوضعي
لا يكون محركا وداعيا بكلا التفسيرين في المسألة فالمحرك والداعي إنما هو
حقيقة الأمر وروحه التي تتطلب من المكلف امتثاله وإيجاد متعلقه في الخارج
وإلا فهو عاص ومستحق للعقوبة، وإن شئت قلت: أن مفاد الأمر على المشهور هو
البعث والطلب التصوري وهو لا يوجب إلا الانبعاث التصوري ولا يوجب
الانبعاث الحقيقي والتحريك الواقعي وإيجاد الداعي في نفس المكلف واقعا
وحقيقة ضرورة أن الانبعاث الحقيقي لا يمكن أن يكون معلولا للبعث التصوري
377

الذي لا وعاء له إلا عالم التصور والذهن والمفروض أن الانبعاث الحقيقي وعائه
الواقع فالذي يوجب انبعاث المكلف وتحريكه ودعوته إلى الفعل في الخارج هو
فعلية فاعلية البعث والطلب باعتبار ما يترتب عليها من الأثر ومن الواضح أنه لا
فرق في ذلك بين أن يكون المدلول الوضعي للأمر البعث والطلب التصوري أو
إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز ما فإنه طالما يكون في عالم
التصور فلا يصلح أن يكون داعيا ومحركا للمكلف وإذا خرج عن هذا العالم إلى
عالم الواقع والجد أصبح صالحا لذلك باعتبار أن فاعليته أصبحت حينئذ فعلية في
هذا العالم ومع فعليتها يكون داعيا ومحركا كذلك.
والخلاصة أن الأمر بمدلوله الوصفي مادة وهيئة لا يكون محركا وداعيا
للمكلف نحو الاتيان بالمأمور به سواء أكان مدلوله الوضعي إيجاد النسبة
الطلبية المولوية بالإيجاد التصوري أم كان إبراز الأمر الاعتباري النفساني فإنه
إنما يكون محركا وداعيا بمدلوله التصديقي الجدي على أساس أنه يتطلب من
المكلف القيام بالعمل بالنظر إلى ما يترتب على عدم القيام به من التبعات وأما
مجرد إيجاد البعث والطلب التصوري لا أثر له ولا يوجب انبعاث المكلف
حقيقة لأن انبعاثه الحقيقي إنما هو فيما إذا كان البعث حقيقيا وجديا بمعنى أن
فاعليته فعلية وما دام لم تكن فاعليته كذلك لم يكن محركا داعيا وكذلك إبراز
الأمر الاعتباري النفساني فإنه إنما يكون داعيا ومحركا إذا كانت فاعلية اعتبار
الفعل في ذمة المكلف فعلية تتطلب القيام به لا مطلقا فإذن لا فرق بين القولين
في المسألة في تفسير الانشاء من هذه الناحية.
وأما التعليق على النظرية الثانية وهي نظرية المحقق النائيني (قدس سره) فهو
يتمثل في عدة نقاط:
النقطة الأولى أنا لو سلمنا أن التكليف بنفسه يقتضي اعتبار القدرة في
378

متعلقه إلا أن من الواضح أنه لا يقتضي كونه خصوص الحصة المقدورة وذلك
لأن ملاك اقتضائه كون متعلقه مقدورا هو أن الغرض منه إيجاد الداعي في
نفس المكلف ومن الطبيعي أنه لا يقتضي أكثر من كون متعلقه مقدورا
والمفروض أن الجامع بين المقدور غير المقدور مقدور فإذا كان مقدورا كان
تعلق التكليف به يصلح أن يكون داعيا ومحركا للمكلف نحو الاتيان به
وإيجاده في الخارج وعلى هذا فلا مبرر لاقتضائه كون متعلقه خصوص الحصة
المقدور ضرورة أنه يكفي في ذلك كون متعلقه مقدورا نحو صرف الوجود لا
مطلق الوجود والمفروض أنه كذلك وعليه.
فما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أنه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة
المقدورة فلا يمكن المساعدة عليه وعلى ذلك فلا فرق بين أن يكون اعتبار
القدرة في متعلق التكليف بحكم العقل أو باقتضاء نفس التكليف فكما أن العقل
لا يحكم بكون متعلق التكليف خصوص الحصة المقدورة فكذلك التكليف لا
يقتضي ذلك فإذن لا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة فإذا أتى المكلف
بالفرد المزاحم للواجب المضيق عصيانا أو نسيانا أو جهلا فلا مانع من
التمسك باطلاق دليل الواجب لاثبات أن الوجوب تعلق بالجامع بينه وبين
سائر الأفراد وحينئذ فينطبق الواجب على الفرد المأتي به وهو الفرد المزاحم
فيحكم بصحته وهذا بخلاف ما لو قلنا بأن التكليف يقتضي كون متعلقه
خصوص الحصة المقدورة فإنه عندئذ تظهر الثمرة بين القولين كما مر.
النقطة الثانية: أن ما ذكره (قدس سره) من أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما
هو باقتضاء نفس التكليف لا بحكم العقل لا يمكن المساعدة عليه وذلك لأن
ما أفاده (قدس سره) لا يرجع إلى معنى صحيح بالنظر التحليلي.
بيان ذلك أنه قد تقدم في أول بحث الأوامر أن صيغة الأمر موضوعة
379

للدلالة على النسبة الطلبية المولوية وهذه النسبة إذا كانت متعلقة للتصور فهي
مدلول تصوري للصيغة وإذا كانت متعلقة للإرادة فهي مدلول تصديقي لها
فالمدلول التصوري والمدلول التصديقي واحد ذاتا وحقيقة والاختلاف بينهما
إنما هو فيما يطرأ عليه فإن كان ما يطرأ عليه تصورا فهو مدلول تصوري.
وتدل عليه الصيغة بالوضع وإن كان ما يطرأ عليه تصديقا فهو مدلول
تصديقي وتدل عليه الصيغة بسبب القرائن الخارجية من الحالية أو السياقية.
ونتيجة ذلك أن صيغة الأمر تدل بالوضع على النسبة الطلبية المولوية
التصورية وبالقرائن الحالية أو السياقية تدل على إرادة تلك النسبة الطلبية
المولوية عن جد فإذن لا تدل الصيغة لا بمدلولها الوضعي ولا بمدلولها
التصديقي على شئ زائد على النسبة الطلبية المولوية لكونها داعية ومحركة
للمكلف نحو الاتيان بمتعلقها لأن ذلك خارج عن مفاد الصيغة فلا يكشف
الخطاب الشرعي من الأمر أو النهي عن أن داعي من وراء التكليف هو بعث
المكلف وتحريكه نحو إيجاد الفعل المأمور به في الخارج ومن الطبيعي أن هذا
الكشف خارج عن مدلول الخطاب الشرعي بما هو مدلول الخطاب من
التصوري والتصديقي ولا يدل إلا على إرادة معناه كما هو الحال في جميع
الألفاظ وعليه فلا محالة يكون هذا الكشف بضميمة حكم العقل بقبح تكليف
العاجز ولولا هذا الحكم العقلي وهو قبح تكليف العاجز فلا مانع من تكليفه
على أساس أنه ليس بقبيح فحكم العقل بقبح تكليف العاجز في المرتبة السابقة
هو الكاشف عن أن غرض المولى من وراء التكليف من الوجوب أو الحرمة
هو كونه داعيا ومحركا للمكلف نحو الاتيان بالواجب فيكون هذا الكشف
للخطاب الشرعي المولوي متفرعا على حكم العقل به في المرتبة السابقة
ولولاه لم يكن له هذا الكشف أصلا باعتبار أنه خارج عن مدلوله التصوري
380

والتصديقي معا.
وعلى الجملة فالأمر الصادر من المولى فيما أنه لفظ فلا يدل إلا على
معناه الموضوع له تصورا أو تصديقا ولا يدل على أن الغرض من ورائه هو
إيجاد الداعي في نفس المكلف ضرورة أن هذا خارج عن مدلول اللفظ فكيف
يعقل دلالته عليه ولكن حيث أن العقل يدرك أن ما صدر من المولى لا يمكن
أن يكون جزافا فلذلك يحكم بأن غرض المولى منه إيجاد الداعي في نفس
المكلف وتحريكه نحو الاتيان بالمأمور به فلهذا لابد أن يكون متعلقه مقدورا
لاستحالة جعل الداعي والمحرك نحو الممتنع فإذن اقتضاء الخطاب كون
متعلقه مقدورا إنما هو بحكم العقل لا بنفسه ولولا حكم العقل بقبح تكليف
العاجز فلا مانع من التكليف بغير المقدور ولا يكون قبيحا وعلى هذا الأساس
فالحاكم باعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو العقل بملاك قبح تكليف
العاجز فما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أنه بمقتضى الخطاب مبني على الغفلة
عن أن كشف الخطاب الشرعي عن أن الغرض الجدي للمولى من وراء
الخطاب هو جعله داعيا ومحركا للمكلف إنما هو بحكم العقل بقبح تكليف
العاجز في المرتبة السابقة لا بدلالة نفس الخطاب لوضوح أن الخطابات
الشرعية المولوية المتمثلة في الأوامر والنواهي إنما هي تدل على مدلولها
التصورية والتصديقية وتكشف عنها كشفا تصوريا أو تصديقيا ولا تكشف عن
أكثر من ذلك لأن الكشف والدلالة بحاجة إلى سبب ولا يمكن تحققها بلا سبب
وموجوب والفرض أنه لا موجب لكشفها عن خصوصية أخرى فإذن بطبيعة الحال
يكون كشفها عن أن الغرض الجدي من وراء تلك الخطابات الشرعية هو جعلها
داعية ومحركة نحو الاتيان بمتعلقاتها إنما هو بحكم العقل بقبح تكليف العاجز في
المرتبة السابقة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن حكم العقل باعتبار القدرة في
381

متعلق التكليف إنما هو في ظرف الامتثال وهو ظرف فعلية فاعليته ولا يحكم
باعتبارها فيه في ظرف الجعل لأن حكم العقل بذلك إنما هو على أساس حكمه
بقبح تكليف العاجز ومن الواضح أن قبح تكليف العاجز إنما هو في مرحلة فعلية
فاعلية التكليف بفعلية موضوعه في الخارج وتنجزه لا مطلقا فإذا كان المكلف في
ظرف الجعل غير قادر ولكنه في ظرف الامتثال قادرا فلا مانع من جعل التكليف
عليه ومن هنا تختلف القدرة المعتبرة في صحة التكليف بحكم العقل عن القيود
المأخوذة في موضوع الحكم شرعا في لسان الدليل في مرحلة الجعل بنحو القضية
الحقيقية كالبلوغ والعقل والوقت والاستطاعة ونحوها في نقطة وهي أن تلك القيود
كما أنها دخيلة في الحكم في مرحلة الجعل ومن شروطه في هذه المرحلة كذلك
أنها دخيلة في اتصاف الفعل بالملاك الذي هو روح الحكم وحقيقته في مرحلة
المبادئ ومن شروطه في هذه المرحلة بلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك القيود
متمثلة في القدرة أم في غيرها بينما القدرة المعتبرة بحكم العقل غير دخيلة لا في
اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ ولا في الحكم في مرحلة الجعل وإنما
هي دخيلة فيه في مرحلة الفعلية والامتثال ومن شروطه في هذه المرحلة، ومن
ناحية ثالثة أنا لو سلمنا أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هي باقتضاء نفس
التكليف فهل هذا يقتضي اعتبارها بنحو القيدية له كسائر قيوده المأخوذة فيه
شرعا أو لا فيه وجهان الظاهر هو الوجه الثاني وذلك لأن ملاك اقتضاء الخطاب
كون متعلقه مقدورا هو أن الغرض منه إيجاد الداعي في نفس المكلف ومن
الواضح أنه لا يقتضي أكثر من كون متعلقه مقدورا في مقابل كونه غير مقدور ولا
يقتضي كون القدرة قيدا له كسائر قيوده ونتيجة ذلك أنه لا يمكن توجيه الخطاب
نحو الفعل غير المقدور لأنه لغو ولكن لا مانع من توجيهه نحو الفعل المقدور ولو
في ضمن بعض أفراده، هذا.
382

ويظهر من المحقق النائيني (قدس سره) الوجه الأول هو أن مقتضى الخطاب
الشرعي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة ومعنى ذلك أن الخطاب يقتضي
كون القدرة قيدا لمتعلقه كسائر قيوده فإذا كانت قيدا له فبطبيعة الحال توجب
تخصصه بحصة خاصة وهي الحصة المقدورة.
وفيه أن هذا إنما يتم لو كان الخطاب الشرعي يقتضي كون القدرة قيدا
لمتعلقه كسائر قيوده ولكن ذلك لا ينسجم مع ما ذكره (قدس سره) في وجه ذلك من أن
اقتضاء الخطاب كون متعلقه مقدورا إنما هو بملاك أن الغرض منه إيجاد
الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو الاتيان بمتعلقه ومن الطبيعي أن ذلك
يتطلب كون متعلقه مقدورا لاستحالة الدعوة إلى غير المقدور لا أن القدرة قيد
له وما ذكره (قدس سره) لا يتطلب أكثر من ذلك باعتبار أنه في مقابل الدعوة إلى غير
المقدور.
فالنتيجة أن الخطاب الشرعي لا يقتضي كون القدرة قيدا لمتعلقه كسائر
قيوده في ظرف الجعل وإنما يقتضي كونه مقدورا للمكلف في ظرف الامتثال
سواء أكان مقدورا له في ظرف الجعل أيضا أم لا وعلى هذا فلا فرق بين أن
يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب فعلى كلا التقديرين يكون
اعتبارها في ظرف الامتثال والفعلية على أساس أن الحكم المجعول إنما يكون
داعيا ومحركا للمكلف في مرحلة فعلية فاعليته وهي مرحلة الامتثال، ومن هنا
يظهر أنا لو سلمنا أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف يكون بمقتضى نفس
الخطاب لا حكم العقل فمع ذلك لا يتم ما أفاده (قدس سره) من أنه يقتضي كون متعلقه
خصوص الحصة المقدورة لما عرفت من أنه لا يقتضي أكثر من اعتبارها في ظرف
الامتثال والفعلية ولا يقتضي كونها قيدا لمتعلقه في مرحلة الجعل كسائر قيوده
والنكتة في ذلك هي أن دلالة الخطاب على ذلك ليست بنفسه بل بضميمة مقدمة
383

خارجية وهي أن الغرض منه إيجاد الداعي في نفس المكلف وتحريكه نحو
الاتيان بمتعلقه واستحالة الدعوة والتحريك نحو الممتنع ومن الواضح أن التكليف
إنما يكون داعيا ومحركا للمكلف نحو الاتيان بمتعلقه في ظرف فعلية فاعليته
بفعلية موضوعه وهو ظرف الامتثال بل الأمر كذلك ولو كان الخطاب بنفسه
يقتضي كون متعلقه مقدورا من حين الجعل لأنه لا يقتضي كون القدرة مأخوذة فيه
بل هو يقتضي كونه مقدورا في مقابل غير المقدور والمفروض أن الجامع بين
المقدور وغير المقدور مقدور فإذن هو لا يقتضي أكثر من ذلك.
النقطة الثالثة: أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من فساد الاتيان بالفرد
المزاحم مطلقا أي سواء فيه القول بالاقتضاء والقول بعدم الاقتضاء مبني على
أن يكون المأمور به حصة خاصة وهي الحصة المقدورة عقلا وشرعا فإذا كان
المأمور به كذلك فلا ينطبق على الفرد المأتي به وهو الفرد المزاحم حتى
يحكم بصحته ولا فرق فيه بين القول بالاقتضاء في المسألة والقول بعدم
الاقتضاء فيها.
ولكن قد عرفت أن هذا المبني غير صحيح بل هو لا ينسجم مع ما
ذكره (قدس سره) من التعليل لذلك فإن مقتضاه أن الخطاب يقتضي اعتبار القدرة في
متعلقه في ظرف الامتثال وهو ظرف فعلية الحكم بفعلية موضوعه وتنجزه فإنه
في هذا الظرف يكون داعيا ومحركا لا في ظرف الجعل والمفروض أن
التكليف لا يقتضي ذلك في ظرف الجعل وإنما يقتضي ذلك في ظرف اتصافه
بالداعوية والمحركية وهو ظرف فعلية فاعليته بفعلية موضوعه في الخارج
وهو ظرف التنجز والامتثال.
ومن هنا قلنا أن التكليف لو كان مقتضيا لاعتبار القدرة في متعلقه لم
يكن بنفسه بل بضميمة مقدمة خارجية وهي أن الغرض منه جعل الداعي
384

للمكلف فإذن بطبيعة الحال يكون اقتضائه ذلك في ظرف اتصافه بالداعوية
والمحركية لا مطلقا فدلالته على ذلك إنما تكون فعلية إذا صار اتصافه
بالداعوية فعليا أو فقل أنه يدل على ذلك في ظرف الامتثال لا مطلقا كما هو
الحال فيما إذا كان اعتبارها بحكم العقل ونتيجة ذلك أن المأمور به لا يكون
مقيدا بغير الفرد المزاحم بل الجامع بينه وبين غيره من الأفراد غاية الأمر تقع
المزاحمة حينئذ بين الواجب المضيق كإزالة النجاسة عن المسجد فورا وبين
إطلاق الواجب الموسع كالصلاة مثلا للفرد المزاحم وعلى هذا فبطبيعة الحال
يكون إطلاق الواجب الموسع مقيدا لبا بعدم الاشتغال بضده الواجب المساوي
أو الأهم وحينئذ فإذا اشتغل المكلف بالإزالة التي هي الأهم فلا إطلاق
لوجوب الصلاة بالنسبة إلى الفرد المزاحم لأن إطلاقه مقيد بعدم الاشتغال بها
ومع الاشتغال فلا إطلاق وأما إذا عصى ولم يشتغل بها فلا موجب لتقييد إطلاق
وجوبها بغير الفرد المزاحم بناء على القول بإمكان الترتب كما هو الصحيح،
والخلاصة أن المزاحمة إنما هي بين إطلاق الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة وهذه
المزاحمة لا تقتضي أكثر من تقييد إطلاق الأمر بالصلاة بغير الفرد المزاحم إذا
اشتغل بالإزالة لا مطلقا وأما إذا لم يشتغل بها فلا موجب للتقييد ولا مانع
حينئذ من الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالصلاة على القول بالترتب ولا
فرق في ذلك بين القول بأن اعتبار القدرة بحكم العقل والقول بأن اعتبارها
بمقتضى نفس الخطاب هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه لا مانع من الالتزام
باطلاق الواجب الموسع حتى على القول بعدم إمكان الترتب من جهة وعدم
التقييد اللبي من جهة أخرى والنكتة في ذلك هي أن إطلاقه بدلي والاطلاق
البدلي لا يزاحم الواجب المضيق والذي يزاحمه هو الاطلاق الشمولي.
فالنتيجة أن ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) غير تام وأما التعليق على
385

النظرية الثالثة وهي نظرية المحقق الثاني (قدس سره) فهو يتمثل في أمرين:
الأول: أن هذه المسألة غير داخلة في باب التزاحم لأن التزاحم إنما هو
بين واجبين مضيقين في مقام الامتثال ومنشأه عدم قدرة المكلف على امتثال
كليهما معا في هذا المقام لأن للمكلف قدرة واحدة فإن صرفها في امتثال أحدها
عجز عن امتثال الآخر وإن عكس فبالعكس فلذلك تقع المزاحمة بينهما فلابد
حينئذ من الرجوع إلى مرجحات بابها وأما في هذه المسألة فلا مزاحمة بين
وجوب الصلاة ووجوب الإزالة لأن المكلف متمكن من امتثال كلا الواجبين معا
بدون أي مزاحمة بينهما فإذن كما أنه لا معارضة بين الواجبين في مرحلة الجعل
كذلك لا مزاحمة بينهما في مرحلة الامتثال ودعوى أن المزاحمة بين كل واحد من
الواجبين مع الواجب الآخر وإن لم تكن موجودة إلا أنها موجودة بين الواجب
المضيق وفرد من الواجب الموسع وهو الفرد في زمان الواجب المضيق لعدم
تمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة الامتثال مدفوعة بأن الفرد ليس
بواجب وإنما هو فرد الواجب لأن الوجوب لا يسري من الطبيعي إلى افراده
باعتبار أن متعلقه صرف إيجاده فإذا لم يكن واجبا فلا معنى لأن يكون مزاحما
للواجب المضيق لأن التزاحم إنما هو بين واجبين وأما إذا كان أحدهما واجبا
والآخر غير واجب فلا موضوع للتزاحم بينهما فالنتيجة أن ما هو واجب فلا
تزاحم بينه وبين الواجب المضيق وما هو مزاحم له فلا يكون واجبا.
الثاني: أن ما ذكره (قدس سره) من ظهور الثمرة بين القول بالاقتضاء في المسألة
والقول بعدم الاقتضاء فيها فعلى الأول يكون الفرد المزاحم محكوما بالفساد
لعدم انطباق الطبيعي المأمور به عليه وعلى الثاني يكون محكوما بالصحة
لمكان الانطباق فلا يمكن المساعدة عليه وذلك لأن ظهور هذه الثمرة يتوقف
على مقدمتين:
386

الأولى: أن الأمر بشئ يقتضي النهي عن ضده.
الثانية: أن النهي الغيري مانع عن الصحة والانطباق كالنهي النفسي ولكن
كلتا المقدمتين غير تامة أما المقدمة الأولى فلما تقدم موسعا من أن الأمر
بشئ لا يقتضي النهي عن ضده لا من باب المقدمية ولا من باب أن
المتلازمين لا يختلفان في الحكم وأما المقدمة الثانية فلأن النهي المتعلق بالفرد
المزاحم حيث إنه نهي غيري فلا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه وكونه
مبغوضا فإن الكاشف عن ذلك إنما هو النهي النفسي فيكون النهي الغيري
كالأمر الغيري فكما أن الأمر الغيري المتعلق بشئ ناشئ عن ملاك قائم بغيره
ولا ملاك في متعلقه فكذلك النهي الغيري فإنه ناشئ عن ملاك قائم في غيره
ولا ملاك في متعلقه.
وعلى هذا الأساس فالنهي الغيري المتعلق بالفرد المزاحم في المقام
ناشئ عن ملاك ملزم في الإزالة لا عن مفسدة فيه فإذن ظل الفرد المزاحم
على ما هو عليه بعد تعلق النهي الغيري به أيضا وهو وفائه بغرض المولى
وكونه محبوبا في نفسه فإذا كان باقيا كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به
عليه والحكم بالصحة لغرض أن الانطباق لا يتوقف على أن يكون الفرد
المأتي به متعلقا للأمر بل هو يتوقف على أن لا يكون فيه مانع من الانطباق
كالمبغوضية أو وجود مفسدة فيه والمفروض أنه لا مانع فيه كذلك من الانطباق
ومجرد النهي الغيري المتعلق به لا يمنع عن الانطباق عليه بعد ما لا يكون
كاشفا عن وجود مفسدة في متعلقه ولهذا قلنا أنه ليس بحكم مولوي قابل
للتنجز واستحقاق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته.
وعلى هذا فلا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة فعلى كلا القولين لا
مانع من الحكم بصحة الفرد المزاحم لمكان انطباق المأمور به عليه.
387

بقي هنا شئ وهو أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد علق على ما ذكره المحقق
النائيني (قدس سره) من التفصيل بين ما إذا كان اعتبار القدرة في متعلق التكليف بحكم
العقل بملاك قبح تكليف العاجز وما إذا كان اعتبارها فيه باقتضاء نفس
الخطاب الشرعي فعلى الأول حكم (قدس سره) بصحة العبادة على القول بعدم الاقتضاء
وبالفساد على القول بالاقتضاء.
وعلى الثاني حكم (قدس سره) بالفساد مطلقا وحاصل تعليقه عليه أنه بناء على
أن صحة العبادة مشروطة بقصد الأمر فلا وجه للتفصيل بين القولين في
المسألة وهو الحكم بالصحة على القول بعدم الاقتضاء وبالفساد على القول
بالاقتضاء بناء على عدم إمكان الواجب المعلق كما هو مختاره (قدس سره) بيان ذلك أنه
بناء على القول بامكان الواجب المعلق لا مانع من تعلق الوجوب بالعبادة
الموسعة كالصلاة مثلا من أول الوقت في حال مزاحمتها مع الواجب المضيق
بنحو يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا لاستحالة تعلق الوجوب بها
بنحو يكون الواجب أيضا حاليا لأنها في تلك الحال غير مقدورة للمكلف
بجميع أفرادها وإن شئت قلت أن الأمر بالصلاة في زمان الأمر بالإزالة لا
يمكن لأنها بجميع أفرادها ووجوداتها فيه غير مقدورة للمكلف فيستحيل
تعلقه بها في هذا الزمان إلا على نحو الواجب المعلق بأن يكون الوجوب فعليا
والواجب متأخرا وحيث أن المحقق النائيني (قدس سره) قد بنى على استحالة الواجب
المعلق فلا يمكن تعلق الأمر بالصلاة في زمان الأمر بالإزالة بنحو يكون كل
من الأمر والمأمور به فعليا لأنه من التكليف بغير المقدور وعلى هذا فلا يمكن
الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالصلاة إذ لا أمر بها في هذا الزمان وأما
على القول بامكان الواجب المعلق فلا مانع من الاتيان بالفرد المزاحم بداعي
الأمر بالصلاة باعتبار أن الأمر بها فعلي والمأمور به متأخر فلا يلزم التكليف
388

بالمحال فالنتيجة أنه بناء على استحالة الواجب المعلق من جهة واشتراط
صحة العبادة بقصد الأمر من جهة أخرى فلا يمكن الحكم بصحة الفرد المزاحم
بداعي الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة إذ لا أمر بها في هذا الزمان بلا فرق في
ذلك بين القول بالاقتضاء في المسألة والقول بعدمه فإذن لا وجه لما ذكره (قدس سره)
من التفصيل بينهما والحكم بالفساد على الأول والصحة على الثاني هذا.
ولكن يمكن نقد هذا التعليق بتقريب أنه لا مانع من تعلق الوجوب
بالجامع على البدل حتى في زمن انطباقه على الفرد المزاحم للواجب المضيق
ولا يتوقف تعلقه به في هذا الزمان على القول بامكان الواجب المعلق بل لا
مانع منه حتى على القول بعدم إمكانه وذلك لأن الوجوب المتعلق بالجامع
على البدل في الزمن المذكور لا يقتضي تطبيقه عليه لأن المكلف مخير في
تطبيقه في طول الوقت فلا يوجب الزام المكلف في تطبيقه لا على الفرد
المزاحم ولا على غيره من الأفراد وعليه فتعلق الوجوب بالصلاة الجامعة في
طول زمانها من المبدأ إلى المنتهى حتى في زمان انطباقها على الفرد المزاحم
لا يستلزم محذور التكليف بغير المقدور كطلب الجمع بين الضدين ضرورة أنه
لا يلزم المكلف بتطبيقها عليه حتى يلزم المحذور المذكور.
والخلاصة أنه لا مانع من تعلق التكليف بالجامع البدلي بين الأفراد
المقدورة وغير المقدورة لأن متعلقه صرف وجود الطبيعة بلا خصوصية لأفراده
ولا فرق في ذلك بين الأفراد الطولية والأفراد العرضية فإذا فرضنا أن بعض
أفراد الصلاة الطولية غير مقدور كالفرد المزاحم فلا يوجب ذلك تخصيصها
بحصة خاصة وهي الحصة المقيدة بغيره بل متعلق الأمر هو الجامع بين
المقدور وغير المقدور على البدل على أساس أن العموم في المقام بدلي لا
شمولي وهو لا يتطلب الزام المكلف بالتطبيق في كل زمان كما هو كذلك إذا
389

كان العموم شموليا.
ومن الواضح أنه لا يستلزم التكليف بغير المقدور فإنه إنما يوجب ذلك
إذا كان ثبوته في زمان الفرد المزاحم موجبا لالزام المكلف بالتطبيق عليه
والفرض أنه لا يوجب ذلك فإذن لا فرق بين القول بامكان الواجب المعلق
والقول باستحالته فإنه على كلا القولين لا مانع من الاتيان بالفرد المزاحم
بداعي الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة فما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من الفرق بين
القولين فعلى القول بامكان الواجب المعلق يصح الاتيان بالفرد المزاحم بقصد
الأمر المتعلق بالصلاة وعلى القول باستحالته لا يصح الاتيان به بقصد الأمر
المتعلق بها لا يمكن المساعدة عليه إذ لا مانع من الاتيان به بقصد الأمر المتعلق
بالجامع حتى على القول باستحالة الواجب المعلق هذا من ناحية، ومن ناحية
أخرى أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من التفصيل بين ما إذا كان اعتبار القدرة في
صحة التكليف بحكم العقل وما إذا كان باقتضاء نفس الخطاب مبني على نقطتين
خاطئتين:
الأولى: أن النهي الغيري كالنهي النفسي مانع عن انطباق المأمور به على
الفرد المنهي عنه.
الثانية: أن الخطاب بنفسه يقتضي كون متعلقه حصة خاصة وهي الحصة
المقدورة وكلتا النقطتين خاطئة.
أما النقطة الأولى فلما مر من أن النهي الغيري بما أنه لا يكشف عن
وجود مفسدة في متعلقه وكونه مبغوضا فلا أثر له من هذه الناحية ولا يمنع من
انطباق المأمور به على الفرد المنهي عنه بهذا النهي لأن وجوده كعدمه فإذا كان
المأمور به قابلا للانطباق عليه قبل تعلق هذا النهي به كان قابلا للانطباق عليه
بعده أيضا.
390

وأما النقطة الثانية: فقد تقدم أن اعتبار القدرة إذا كان باقتضاء نفس
الخطاب ليس معناه أنه يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة في
مرحلة الجعل بمعنى أن القدرة قيد له كسائر قيوده في هذه المرحلة بل معناه
أنه إنما يقتضي ذلك بضميمة مقدمة خارجية وهي أن الغرض منه إيجاد الداعي
في نفس المكلف وتحريكه نحو الاتيان بمتعلقه ومن الواضح أنه إنما يصير
داعيا ومحركا إذا صار فعليا بفعلية موضوعه في الخارج وعلى هذا فيدل
الخطاب على داعويته في هذه المرحلة ولا يدل في مرحلة الجعل والاعتبار
على كون متعلقه مقدورا فضلا عن كونه خصوص الحصة المقدورة.
وبكلمة أن داعوية الأمر تتوقف على فعلية فاعليته بفعلية موضوعه في
الخارج وطالما لم تتحقق فاعليته كذلك فلا يكون داعيا ومحركا وعلى هذا
فاقتضاء نفس الخطاب كون متعلقه مقدورا إنما هو في مرحلة فعلية فاعليته
ومن المعلوم أنه لا يتطلب في هذه المرحلة أكثر من كون متعلقه مقدورا في
مقابل كونه غير مقدور.
والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ولا يدل على
كونه خصوص الحصة المقدورة ومن هنا قلنا أنه لا فرق من هذه الناحية بين
أن يكون اعتبار القدرة بحكم العقل أو باقتضاء نفس الخطاب إذ على كلا
التقديرين فالواجب ليس خصوص الحصة المقدورة بل الجامع بينها وبين غير
المقدورة وعلى هذا فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) من التفصيل المذكور
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنه لا مانع من الاتيان بالفرد
المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالجامع على كلا القولين في المسألة بلا فرق بين
القول باعتبار القدرة بحكم العقل أو القول باقتضاء نفس الخطاب ذلك ومع
الاغماض عن ذلك وتسليم أنه لا يمكن الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر
391

المتعلق بالجامع بينه وبين غيره من الأفراد إما مطلقا أو على القول بالاقتضاء
فحينئذ هل يمكن الحكم بصحة الاتيان به بداعي رجحانه في نفسه ومحبوبيته
كذلك أو اشتماله على الملاك أو لا فيه وجهان:
الظاهر هو الوجه الأول إذ يكفي في صحة العبادة الاتيان بها بداعي
محبوبيتها أو اشتمالها على المصلحة التي توجب رجحانها ولا دليل على أن
المعتبر فيها خصوص قصد الأمر على أساس أنه يكفي فيها إضافتها إلى المولى
سبحانه وتعالى ومن الواضح أنه يكفي في تحقق هذه الإضافة رجحانها في
نفسه وإن لم يكن هناك أمر في البين ومن هنا قلنا في مبحث التعبدي
والتوصلي أن صحة العبادة تتوقف على توفر أمرين:
الأول: رجحانها في نفسه ومحبوبيتها كذلك أو اشتمالها على الملاك
الراجح.
الثاني: الاتيان بها مضافا إليه تعالى فإذا كان الأمر الأول متوفرا فيها
وأتى بها كذلك صحت وعلى هذا الأساس فصحة الاتيان بالفرد المزاحم
للواجب المضيق تتوقف على مقدمتين:
الأولى: اشتماله على الملاك وكونه راجحا في نفسه وهي صغرى
القياس.
الثانية: كفاية الاتيان به بداعي اشتماله على الملاك ورجحانه في نفسه
وهي كبرى القياس فإذن يقع الكلام في هاتين المقدمتين أما المقدمة الثانية وهي
كبرى القياس فلا إشكال في كفاية الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها أو اشتمالها
على الملاك.
وأما المقدمة الأولى وهي صغرى القياس فقد استدل عليها بوجوه:
الأول: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن الفرد المزاحم للواجب
392

المضيق تام الملاك كغيره من أفراد الواجب الموسع حتى على القول بالاقتضاء
في المسألة فإن النهي الغيري حيث أنه لم ينشأ عن وجود مفسدة في متعلقه
وكونه مبغوضا فلا يكون مانعا عن اشتماله على الملاك حتى لا يمكن انطباق
المأمور به عليه.
ثم أورد على نفسه بأن اعتبار القدرة إذا كانت باقتضاء نفس التكليف
فمعناه أنها دخيلة في الملاك وليس حالها حينئذ كحال القدرة المعتبرة بحكم
العقل لأن العقل إنما يحكم باعتبارها في مرحلة الامتثال فقط بملاك قبح
تكليف العاجز ولا يحكم بقبح جعل التكليف عليه إذا صار قادرا في ظرف
الامتثال وعلى هذا فيكون متعلق التكليف مطلقا وغير مقيد بالقدرة في مقام
الجعل والاعتبار وإطلاقه في هذا المقام كاشف عن إطلاق الملاك فيه في مقام
الثبوت وهذا بخلاف القدرة التي يقتضي نفس الخطاب اعتبارها في صحة
التكليف فإنها دخيلة في الملاك في مرحلة المبادئ وفي الحكم في مرحلة
الجعل فحالها حال القدرة المأخوذة في لسان الدليل في مرحلة الجعل كقوله
تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ونحوه فكما أن
تلك القدرة دخيلة فيهما في كلتا المرحلتين ومن شروطهما معا فكذلك هذه
القدرة المعتبرة بمقتضى نفس الخطاب فلا فرق بينهما من هذه الناحية.
وأجاب عنه بأن القدرة إذا كانت مأخوذة في موضوع الوجوب في لسان
الدليل كآية الوضوء وآية الحج ونحوهما كان أخذها فيه كاشفا عن أنها دخيلة
في اتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ وفي الحكم في مرحلة الجعل إذ
لا يحتمل أن يكون أخذها فيه جزافا وبلا مبرر وهذا بخلاف ما إذا كان
اعتبارها باقتضاء نفس الخطاب فإنه لا يقتضي تقييد متعلقه في المرتبة السابقة
عليه وإنما يقتضي تقييده بها في مرتبته بيان ذلك أن الخطاب الشرعي المولوي
393

إنما يقتضي تقييد متعلقه بها في مرتبة الجعل والاعتبار ولا يقتضي تقييده بها
في مرتبة المبادئ والنكتة في ذلك أن اقتضاء نفس الخطاب اعتبار القدرة إنما
هو بملاك أنه داع ومحرك للمكلف نحو الاتيان بمتعلقه ومن الواضح أن الدعوة
لا يمكن نحو الممتنع فلذلك يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه وأما تقييده بها في
مرحلة المبادي والاتصاف فهو لا يقتضي ذلك لعدم توفر ملاك اقتضائه فيه إذ
لا يعتبر في اتصافه بالمبادئ في تلك المرحلة أن يكون مقدورا (1).
ونتيجة ذلك أن الصلاة بلحاظ كونها متعلقة للوجوب مقيدة بالقدرة وهذا
يعني أن الواجب حصة خاصة وهي الحصة المقدورة فلا تشمل الفرد المزاحم
وبلحاظ اتصافها بالملاك في مرحلة المبادئ مطلقة فتشمل الفرد المزاحم
وعلى هذا فيكون الفرد المزاحم مشتملا على الملاك فإذن لا مانع من الاتيان
به بداعي قربى وهو داعي اشتماله على الملاك المقرب وإن شئت قلت إن
الخطاب الشرعي يدل على أمرين:
أحدهما وجوب المادة والآخر وجود الملاك فيها فالخطاب من حيث
دلالته على الأمر الأول يتطلب كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة بنكتة
استحالة الدعوة نحو الممتنع ومن حيث دلالته على الأمر الثاني فلا يتطلب
ذلك إذ لا مانع من وجود الملاك فيها مطلقا.
ولكن هذا الجواب غير سديد: أما أولا فلأن الخطاب إذا اقتضى كون
متعلقه خصوص الحصة المقدورة في مرحلة الجعل والاعتبار فحسب فلا
طريق لنا إلى إحراز إطلاقه في مرحلة المبادي إذ لا طريق إلى إحراز الملاكات
الواقعية وسعتها وضيقها واشتمال متعلقات الأحكام الشرعية عليها كذلك إلا

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 264 - 265.
394

من طريق ثبوت نفس هذه الأحكام فإذا كان متعلق الحكم مقيدا في مرحلة
الجعل فلا طريق لنا إلى إثبات أنه مطلق في مرحلة المبادئ وعلى هذا فإذا
اقتضى الخطاب كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة في مرتبته فلا طريق لنا
إلى أنه مطلق في مرتبة سابقة وهي مرتبة المبادئ فإن الخطاب وإن لم يقتض
تقييده في هذه المرتبة إلا أنه لا طريق لنا إلى إحراز أنه مطلق ومشتمل على
الملاك كذلك، نعم ما ذكره (قدس سره) من الفرق بين ما إذا كانت القدرة مأخوذة في
متعلق التكليف في لسان الدليل وما إذا كانت باقتضاء نفس الخطاب يتطلب
دلالة الأول على أن القدرة دخيلة في الملاك في مرحلة المبادئ وفي الحكم
في مرحلة الجعل وعدم دلالة الثاني على ذلك وإنما يدل على أن متعلقه حصة
خاصة وهي الحصة المقدورة بملاك استحالة الدعوة نحو المحال وأما أن
القدرة دخيلة في الملاك في مرحلة المبادئ أو غير دخيلة فيه في تلك
المرحلة فلا دلالة له على ذلك لا نفيا ولا إثباتا باعتبار أن ملاك الدلالة
والاقتضاء غير متوفر فيه.
والخلاصة: إن اعتبار القدرة في صحة التكليف إذا كان باقتضاء نفس
الخطاب يختلف عن اعتبارها فيها إذا كان بأخذها في لسان الدليل فعلى الأول
لا يقتضي الخطاب كون القدرة دخيلة في الملاك في مرحلة المبادئ وإنما
يقتضي كون متعلقه خصوص الحصة المقدورة فحسب وعلى الثاني يدل على
أنها دخيلة في الملاك.
إلى هنا قد تبين أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن متعلق التكليف
مطلق وغير مقيد بالقدرة من جهة اشتماله على الملاك غير تام إذ لا طريق لنا
إلى ذلك لأن الطريق منحصر بثبوت الحكم والمفروض أنه مقيد في مرحلة
الجعل لا مطلق وعلى هذا فلا طريق لنا إلى اشتمال الفرد المزاحم على الملاك
395

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد تقدم أنا لو سلمنا أن اعتبار القدرة في
صحة التكليف إنما هو باقتضاء نفس الخطاب إلا أنه لا يقتضي اعتبارها في
مرحلة الجعل والاعتبار لأن ملاك اقتضائه ذلك إنما هو داعويته ومحركيته
وهذا الملاك إنما يتحقق في مرحلة الامتثال والفعلية لا مطلقا فإن الحكم في
مرحلة الجعل لا يتصف بصفة الداعوية إذ ليس من هذه المرحلة جعل الداعي
فحسب ولا مانع من جعله للعاجز إذا صار قادرا في مرحلة الامتثال ولا
يقتضي الخطاب إلا أن يكون المكلف قادرا من حين الجعل إلى حين الامتثال
وعلى هذا فمتعلق التكليف مطلق في مرحلة الجعل وإطلاقه في هذه المرحلة
كاشف عن إطلاقه في مرحلة المبادئ ومن هنا قلنا أنه لا فرق بين أن يكون
اعتبار القدرة بحكم العقل أو باقتضاء نفس الخطاب إذ كما أن العقل يحكم بأن
المكلف لابد أن يكون قادرا في ظرف الامتثال وإلا لكان جعل التكليف عليه
لغوا كذلك الخطاب فإنه يقتضي بأن المكلف لابد أن يكون قادرا في مقام
الامتثال وإلا لزم دعوته نحو الممتنع وهي مستحيلة. هذا.
وثانيا أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من الوجه لإثبات أن الفرد المزاحم
مشتمل على الملاك غير تام على مسلكه (قدس سره) من أن اعتبار القدرة في صحة
التكليف إنما باقتضاء نفس الخطاب.
وثالثا أنه بناء على ما هو الصحيح من أن اعتبار القدرة إنما هو بحكم
العقل على أساس قبح تكليف العاجز فيكون الفرد المزاحم مشتملا على الملاك و
وافيا بغرض المولى وكذلك لو كان باقتضاء نفس الخطاب كما مر.
الوجه الثاني بالدلالة الالتزامية بدعوى أنها لا تتبع الدلالة المطابقية في
الحجية وتقريب الاستدلال بها من وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره جماعة من الأصوليين منهم المحقق النائيني (قدس سره)
396

من أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا فقط لا حجة وقد أفاد (قدس سره)
في وجه ذلك أن هنا فردين من الدلالة:
الأول: الدلالة المطابقية وهي دلالة الدليل على المدلول المطابقي وهو
المدلول الوصفي له.
الثاني: الدلالة الالتزامية وهي دلالة الدليل على المدلول الالتزامي وكلا
الفردين من الدلالة مشمول لدليل الحجية.
وإن شئت قلت: أن هنا ظهورين:
الأول: ظهور الدليل في المدلول المطابقي.
الثاني: ظهوره في المدلول الالتزامي.
وكل من الظهورين يكون حجة بمقتضى دليل حجية الظهور والظهور
الثاني وإن كان تابعا للظهور الأول حدوثا إلا أنه مستقل في الحجية وليس
تابعا له لأن شمول دليل الحجية للظهور.
الثاني: ليس تابعا لشموله للظهور الأول لأن كلا منهما موضوع مستقل
للحجية فلو سقط دليل الحجية عن الظهور الأول وهو الظهور المطابقي من
جهة المعارض أو نحوه فلا موجب لسقوطه عن الظهور الثاني وهو الظهور في
المدلول الالتزامي وإن شئت قلت أن عدم شمول إطلاق دليل الحجية لظهور
اللفظ في المدلول المطابقي لسبب أو آخر وسقوطه بالنسبة إليه لا يلازم عدم
شمول إطلاقه لظهوره في المدلول الالتزامي وسقوطه بالنسبة إليه أيضا لأنهما
ظهوران مستقلان كل منهما موضوع لاطلاق دليل الحجية ولا ترتبط حجية
الثاني بحجية الأول فإذن الساقط إنما هو إطلاق دليل الحجية لا أصل ظهور
الأمر في المدلول المطابقي لكي يستلزم سقوط ظهوره في المدلول الالتزامي
أيضا باعتبار أنه تابع له حدوثا في مرحلة التصور والتصديق معا وإنما لا يكون
تابعا له في مرحلة الحجية وحيث إن الساقط في المقام هو حجية ظهوره
397

في المدلول المطابقي فهو لا يستلزم سقوط ظهوره عن الحجية في
المدلول الالتزامي لعدم الملازمة بينهما في هذه المرحلة فإذن لا مانع من
التمسك باطلاق دليل حجية الظهور بالنسبة إلى ظهوره في المدلول الالتزامي
لعدم المانع منه والمانع عن التمسك به إنما هو بالنسبة إلى ظهوره في المدلول
المطابقي والمفروض أنه لا ملازمة بينهما في ذلك.
وعلى هذا ففي المقام حيث إن الخطاب تعلق بالجامع بين الحصة
المقدورة وغير المقدورة فيدل على وجوبه بالدلالة المطابقية وعلى اشتماله
على الملاك بالدلالة الالتزامية بناء على ما هو الصحيح من تبعية الأحكام
الشرعية للمصالح والمفاسد الواقعيين فإذا دل دليل على وجوب فعل مشروطا
بالقدرة بالمطابقة دل على اشتماله على الملاك كذلك بالالتزام لأن المدلول
الالتزامي يدور مدار المدلول المطابقي في السعة والضيق ولا يعقل أن تكون
دائرة المدلول الالتزامي أوسع أو أضيق من دائرة المدلول المطابقي وإذا دل
دليل على وجوب فعل جامع بين المقدور وغير المقدور بالمطابقة دل على
اشتماله كذلك على الملاك بالالتزام.
ونتيجة ذلك أن الفرد المزاحم للواجب المضيق مشتمل على الملاك
الوافي بغرض المولى مثلا الأمر المتعلق بالصلاة يدل على وجوبها بالمطابقة
مطلقا الشامل للفرد المزاحم وعلى اشتمالها على الملاك بالالتزام كذلك وعلى
هذا فيصح الاتيان بالفرد المزاحم بداعي اشتماله على الملاك ووفائه بالغرض
لأن الصغري فيه تامة وهي اشتماله على الملاك والكبرى ثابتة وهي كفاية
الاتيان بالعبادة بقصد اشتماله على الملاك وعلى أساس ذلك فإذا سقطت
الدلالة المطابقية وهي دلالة الأمر على وجوب الصلاة عن الحجية من جهة
استلزامها محذور التكليف بغير المقدور في المقام فلا موجب لسقوط الدلالة
398

الالتزامية وهي دلالته على اشتمالها على الملاك إذ لا محذور في وجود الملاك
في غير المقدور هذا.
وقد أورد عليه السيد الأستاذ (قدس سره) نقضا وحلا.
أما نقضا فبعدة موارد:
الأول ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول.
ثم علمنا من الخارج بكذب البينة وعدم ملاقاة الثوب للبول خارجا
جزما ولكنا نحتمل نجاسته من جهة أخرى كملاقاته للدم أو نحوه فحينئذ هل
يمكن الحكم بنجاسة الثوب من جهة البينة المذكورة بدعوى أن الإخبار عن
ملاقاة الثوب للبول إخبار عن نجاسته بالدلالة الالتزامية لأن نجاسته لازمة
لملاقاته للبول وبعد سقوط البينة عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من
جهة مانع فلا موجب لسقوطها بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية لعدم المانع عنها
أصلا ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى من يدعي بأن سقوط الدلالة المطابقية عن
الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها.
الثاني: ما إذا كانت الدار تحت يد زيد وادعى كل من عمرو وبكر
ملكيتها له وأقام بينة على مدعاه فبينة عمرو تدل بالمطابقة على أنها ملكه
وبالالتزام على أنها ليست ملك بكر وبينة بكر تدل على عكس ذلك تماما
فإذن تقع المعارضة بين الدلالة المطابقية لكل منهما مع الدلالة الالتزامية
للأخرى فتسقطان معا فلم تثبت دعوى كل منهما ولكن لهما مدلول التزامي
آخر مشترك بينهما وهو عدم كون الدار ملكا لزيد لأن كلتا البينتين موافقتان
على ذلك وتدلان عليه بالالتزام وحينئذ فهل يمكن الأخذ بالبينتين في هذا
المدلول الالتزامي لهما بعد سقوطهما عن الحجية في مدلولهما المطابقي
والالتزامي المخالف بالتعارض كلا ولا نظن أن يلتزم به متفقة فضلا عن فقيه.
399

الثالث: ما إذا شهد واحد على أن الدار في المثال المذكور لعمرو وشهد
آخر على أنها لبكر والمفروض أن شهادة كل واحد منهما ليست بحجة في
مدلولها المطابقي مع قطع النظر عن معارضة إحداهما مع الأخرى لتوقف
حجية شهادة الواحد على ضم اليمين ففي مثل هذا الفرض هل يمكن الأخذ
بمدلولهما الالتزامي وهو عدم كون هذه الدار لزيد لكونهما متفقتان فيه فلا حاجة
إلى ضم اليمين في الحكم بأن الدار ليست لزيد كلا ولا يمكن الأخذ به.
الرابع: ما إذا قامت البينة على أن الدار التي في يد عمرو لزيد ولكن زيد
أقر بأنها ليست له فلا محالة تسقط البينة عن الحجية من جهة الاقرار فإنه مقدم
عليها وبعد سقوط البينة عن الحجية بالإضافة إلى الدلالة المطابقية من جهة
قيام الإقرار على خلافها فهل يمكن الأخذ بها بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية
والحكم بعدم كون الدار لعمرو كلا ولا يمكن الالتزام به هذا (1).
ويمكن المناقشة في هذه النقوض وحاصل المناقشة أن محل الكلام في
المسألة هو ما إذا كان هناك ظهوران:
أحدهما: ظهور الدليل في المدلول المطابقي والآخر ظهوره في المدلول
الالتزامي ونسبة كلا الظهورين إلى الدليل العام للحجية على حد سواء وكل منهما
موضوع مستقل لدليل الحجية وعلى ضوء ذلك فبعض هذه النقوض خارج عن
محل الكلام وبعضها الآخر داخل فيه أما الخارج عن محل الكلام في المسألة هو
المثال الأول والثالث وأما المثال الثاني والرابع فهو من محل الكلام في المسألة
أما خروج المثال الأول فلأن الحكم بنجاسة الثوب ليس مدلولا التزاميا للبينة بل
هو ثابت واقعا بدليله وهو ما دل على أن الملاقي للنجس نجس والبينة بمقتضى

(1) المحاضرات ج 3: ص 74 - 75.
400

دليل حجيتها تثبت المشهود به ظاهرا وهو الملاقاة فإذا ثبتت الملاقاة تترتب
عليها آثارها وهو نجاسة الملاقى فإذن ليست نجاسة الملاقي مدلولا التزاميا للبينة
بل هي مدلول مطابقي لدليلها وهو ما دل على أن الملاقي لعين النجس نجس.
وبكلمة أنه ليس هنا فردان من الدلالة للبينة:
الأول: الدلالة على ملاقاة الثوب للبول.
الثاني: الدلالة على نجاسة الثوب بها بل دلالة واحدة وهي الدلالة على
الملاقاة وأما نجاسة الثوب واقعا فهي مدلول لدليلها في الشبهات الحكمية وهو ما
دل على نجاسة الملاقي وأما نجاسته ظاهرا فهي مترتبة على الملاقاة بدليل حجية
البينة فإنها إذا قامت على ملاقاة شئ للنجس ترتب عليها آثارها الثابتة شرعا
بدليل نجاسة الملاقي ومن الواضح أن ترتب أثر الملاقاة عليها بعد ثبوتها شرعا
بالبينة إنما هو من باب ثبوت الحكم بثبوت موضوعه لا من باب الدلالة الالتزامية
ضرورة أنه لا يرتبط بها فإنه بمقتضى دليل حجية ما دل على ثبوت موضوعه لا أنه
مدلول التزامي له فالبينة في المثال تدل على تحقق الملاقاة في الخارج ولا تدل
على نجاسة الثوب الملاقي فإن الدال عليها دليل آخر وهو يدل على أن من آثار
الملاقاة نجاسة الملاقي وعليه فإذا قامت البينة على الملاقاة في الخارج ترتب
عليها آثارها ظاهرا منها نجاسة الملاقي بمقتضى دليل حجيتها لا أنها مدلول
التزامي للبينة ونظير ذلك ما إذا قامت البينة على أن المانع الفلاني ماء فإن جواز
الوضوء من الماء ثابت واقعا بدليله في الشبهات الحكمية كالدليل الدال على أن
صحة الوضوء مشروطة بكون المائع ماء وأما جواز الوضوء من هذا المائع الذي
قامت البينة على أنه ماء ثابت ظاهرا بدليل حجيتها لا أنه مدلول التزامي للبينة
وهكذا في جميع موارد ثبوت الحكم بثبوت موضوعه شرعا هذا كله في المثال
الأول.
401

وأما المثال الثاني فلا يصح النقض به فإن للقائل بأن الدلالة الالتزامية
ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية أن يقول بذلك في هذا المثال أيضا
فإن الدلالة المطابقية لكل من البينتين قد سقطت عن الحجية في إثبات مدلولها
المطابقي لكل من عمرو وبكر من جهة المعارضة ولكن لا موجب لسقوط
دلالتهما في إثبات مدلولهما الالتزامي بالنسبة إلى زيد لعدم المعارض له.
والخلاصة: أن سقوط دلالتهما المطابقية عن الحجية بالنسبة إلى كل من
عمرو وبكر إنما هو لمانع وهو التعارض والمفروض أنه لا مانع عن دلالتهما
الالتزامية بالنسبة إلى زيد.
وأما المثال الثالث فهو خارج عن محل الكلام فإن محل الكلام في
المسألة ما إذا كانت هناك دلالة مطابقية حدوثا ودلالة التزامية كذلك ولكن
دليل الحجية قد سقط بالنسبة إلى الدلالة المطابقية ولم يشملها لمانع وحينئذ
فهل يمكن شموله للدلالة الالتزامية وعدم سقوطه بالنسبة إليها من جهة عدم
وجود هذا المانع أو لا وأما في هذا المثال فالدلالة المطابقية غير متحققة
حدوثا حتى تتحقق الدلالة الالتزامية تبعا لها فالنتيجة أنه ليست هنا بينة على نفي
ملكية الدار لزيد لا مطابقة ولا التزاما نعم إذا قلنا بأن شهادة عدل واحد حجة في
الموضوعات أيضا فعندئذ يدخل هذا المثال في المثال الثاني فحاله حاله ولا فرق
بينهما من هذه الناحية.
وأما المثال الرابع فهو كالمثال الثاني فإن للقائل بأن الدلالة الالتزامية
ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية يقول بذلك في هذا المثال وأمثاله
أيضا فإن دلالة البينة قد سقطت بالنسبة إلى مدلولها المطابقي بسبب الإقرار
على خلافه ولكن لا موجب لسقوطها بالنسبة إلى مدلولها الالتزامي هذا من
ناحية، ومن ناحية أخرى أن هذه الأمثلة تختلف عن المسألة في المقام إذ يمكن
402

القول بعدم التبعية في المقام ولا يمكن القول به في الأمثلة المذكورة كما سوف
نشير إليه.
فالنتيجة أن النقض بالأمثلة المذكورة غير صحيح.
وأما حلا فلأن الدلالة الالتزامية ترتكز على ركيزتين:
الأولى: ثبوت الملزوم وهي بمثابة الصغرى.
الثانية: ثبوت الملازمة بينه وبين شئ وهي بمثابة الكبرى ومن ضم
الصغرى إلى الكبرى تحصل النتيجة وهي ثبوت اللازم وأما إذا لم تثبت
الصغرى أو الكبرى أو كلتاهما فلا يمكن إثبات اللازم.
وفي المقام بما أن المدلول الالتزامي لازم للمدلول المطابقي فثبوته
يتوقف على ثبوت الملازمة وثبوت المدلول المطابقي فإذا لم يثبت المدلول
المطابقي أو ثبت ولكن لم تثبت الملازمة فلا يثبت المدلول الالتزامي لا محالة
ولا فرق في ذلك بين حدوثه وبقائه أصلا وبكلمة أن ظهور الكلام في مدلول
الالتزامي وإن كان مغايرا لظهوره في مدلوله المطابقي إلا أن ظهوره في ثبوت
المدلول الالتزامي ليس على نحو الاطلاق بل هو ظاهر في ثبوت حصة خاصة
منه وهي الحصة الملازمة للمدلول المطابقي مثلا الإخبار عن ملاقاة الثوب
للبول وإن كان إخبارا عن نجاسته أيضا إلا أنه ليس إخبارا عن نجاسته على
الاطلاق وبأي سبب كان بل إخبار عن حصة خاصة من النجاسة وهي الحصة
الملازمة لملاقاة البول بمعنى أنه إخبار عن نجاسته المسببة عن ملاقاته للبول
في مقابل نجاسته المسببة لملاقاته للدم أو نحوه فإذا قيل أن هذا الثوب نجس
بالنجاسة البولية وعندئذ فإذا ظهر كذب البينة في إخبارها بملاقاة الثوب للبول
فلا محالة يعلم بكذبها في إخبارها بنجاسة الثوب المسببة عن ملاقاة البول
وأما نجاسته بسبب آخر وإن كانت محتملة إلا أنها نجاسة أخرى أجنبية عن
403

مفاد البينة تماما وعليه فكيف يمكن الأخذ بالدلالة الالتزامية بعد سقوط
الدلالة المطابقية ومن ذلك يظهر حال بقية الأمثلة وسائر الموارد ومنها ما نحن
فيه فإن ما دل على وجوب فعل غير مقيد بالقدرة وإن كان دالا على كونه مشتملا
على ملاك ملزم كذلك إلا أن دلالته على كونه ذا ملاك ليست على نحو الاطلاق
حتى مع قطع النظر عن دلالته على وجوبه بل هي تتبع دلالته على وجوب ذلك
فيكون دالا على حصة خاصة من الملاك وهي الحصة الملازمة لوجوبه في مقام
الاثبات والكشف ولا يدل على قيام الملاك به بنحو الاطلاق وعليه فإذا سقطت
دلالته على الوجوب من جهة وجود مانع فلا تبقى دلالته على الملاك المسببة عن
دلالته على الوجوب فإذن لا علم لنا بوجود الملاك فيه لأن العلم به يتبع العلم
بالوجوب فإذا سقط العلم بالوجوب من جهة سقوط الوجوب سقط العلم بالملاك
أيضا لأنه معلول له ولا يعقل بقاء المعلول مع سقوط العلة (1).
ويمكن المناقشة فيه بتقريب أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من الجواب
إنما يتم فيما إذا كان المدلول الالتزامي في الواقع حصة خاصة وهي الحصة
المقارنة والملازمة لذات المدلول المطابقي واقعا ثبوتا وإثباتا ولا يمكن
التفكيك بينهما كذلك وذلك كعدم السكون الملازم والمقارن للحركة لأن ذات
المدلول الالتزامي ملازمة لذات المدلول المطابقي لا يوصف كونه مدلولا فما
ذكره (قدس سره) من الجواب الحلي تام في مثل ذلك فإذا فرضنا أن المولى أمر بالحركة
فإنه يدل على وجوبها بالدلالة المطابقية وعلى عدم السكون بالدلالة الالتزامية
فالمدلول الالتزامي في الواقع حصة خاصة وهي الحصة الملازمة للحركة ثبوتا
وإثباتا فإذن يدل الأمر على وجوب الحركة مطابقة وعلى الحصة الملازمة لها

(1) المحاضرات ج 3: ص 75.
404

بالالتزام فإذا سقطت دلالة الأمر على وجوب الحركة عن الحجية بسقوط
دليلها بسبب من الأسباب سقطت دلالته على الحصة المذكورة عن الحجية
أيضا لاستحالة بقائها بعد سقوط المدلول المطابقي وإلا لزم خلف فرض كونها
مقارنة وملازمة له بالذات ثبوتا وإثباتا مثلا إذا قامت البينة على حركة شئ
فإنها تدل بالمطابقة على حركته وبالالتزام على عدم سكونه على أساس أن
المدلول الالتزامي حصة خاصة في الواقع وهي الحصة المقارنة والملازمة
للمدلول المطابقي وهو الحركة وحينئذ فإذا سقطت دلالتها المطابقية على
الحركة عن الحجية بسقوط دليلها سقطت دلالتها الالتزامية على عدم السكون
أيضا فإن الحركة إذا سقطت بسقوط دليل حجيتها ولم تثبت سقطت الحصة
المقارنة والملازمة لها ذاتا في الواقع أيضا لاستحالة ثبوتها مع عدم ثبوت
الحركة وإلا لزم خلف فرض كونها ملازمة لها ذاتا فلهذا لا يعقل بقاء الدلالة
الالتزامية إذ معنى بقائها أنها تدل على ثبوت الحصة المقارنة والملازمة للحركة
مع عدم ثبوت الحركة من جهة سقوط الدلالة عليه وهو كما ترى.
والخلاصة: أن المدلول الالتزامي إذا كان مقارنا وملازما لذات المدلول
المطابقي في المرتبة السابقة وبقطع النظر عن وصف الدلالة وانتزاع صفة المدلول
له تم ما أفاده (قدس سره) وأما إذا لم يكن المدلول الالتزامي حصة خاصة وهي الحصة
المقارنة والملازمة للمدلول المطابقي ذاتا وفي المرتبة السابقة فلا يتم ما أفاده (قدس سره)
وما نحن فيه من هذا القبيل لأن المدلول الالتزامي فيه الملاك وهو ليس مقارنا
وملازما ذاتا وحقيقة للمدلول المطابقي وهو الوجوب، نعم يوجد التقارن بينهما
في مرحلة الدلالة فإذا تعلق الأمر بالصلاة فإنه يدل على وجوبها بالمطابقة وعلى
وجود الملاك فيها بالالتزام على أساس مقدمة خارجية التي هي بمثابة كبرى
القياس وهي أن الأحكام الشرعية تابعة للملاكات الواقعية فالمدلول الالتزامي
405

لازم للمدلول المطابقي في مرحلة الدلالة والاثبات دون مرحلة الثبوت والواقع
ونتيجة ذلك أن حدوث الدلالة على المدلول الالتزامي تابع لحدوث الدلالة على
المدلول المطابقي تصورا وتصديقا وكل من الدلالتين مشمول لدليل الحجية العام
وعلى هذا فإذا سقط دليل الحجية عن شمول الدلالة المطابقية بسقوط المدلول
المطابقي بسبب أو آخر فلا موجب لسقوطه عن شمول الدلالة الالتزامية مثلا إذا
سقطت دلالة الأمر على وجوب الصلاة عن الحجية من جهة اشتراطه بالقدرة فلا
مبرر لسقوط دلالته على اشتمالها على الملاك لفرض أنه غير مشروط بالقدرة.
فالنتيجة أن للقائل بعدم التبعية أن يقول بالتفصيل بين هذين الفرضين
بمعنى أن في الفرض الأول لا يمكن القول بعدم التبعية فلابد من الالتزام
بسقوط الدلالة الالتزامية تبعا لسقوط الدلالة المطابقية وفي الفرض الثاني
يمكن القول بعدم التبعية ولكن مع هذا فالصحيح هو أن الدلالة الالتزامية تابعة
للدلالة المطابقية حدوثا وبقاء فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية سقطت
الدلالة الالتزامية عنها أيضا ولا يعقل بقائها ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر
على ما سوف نشير إليه.
الوجه الثاني أن الدلالة الالتزامية ليست من دلالة اللفظ على المعنى بل
هي من دلالة المعنى على المعنى على أساس أن الملازمة إنما هي بين مدلولين
لا بين دلالتين لأن المدلول الالتزامي لا يخلو في الواقع من أن يكون معلولا
للمدلول المطابقي أو بالعكس أو كلاهما معلولان لعلة ثالثة وعلى جميع
التقادير فالملازمة بينهما ثابتة فإذن هناك دالان ومدلولان:
الأول: اللفظ وهو دال على المعنى.
الثاني: المعنى المطابقي وهو دال على المعنى الالتزامي باعتبار أن
الملازمة العقلية إنما هي بين معنيين هما المعنى المطابقي والمعنى الالتزامي
406

وعلى هذا فإذا سقطت الدلالة اللفظية عن الحجية لم يثبت المدلول المطابقي
فإذا لم يثبت فلا يكون هناك دال على المدلول الالتزامي وهذا معنى الدلالة
الالتزامية تسقط بسقوط الدلالة المطابقية هذا.
والجواب: أن الملازمة بين المعنى المطابقي والمعنى الالتزامي ملازمة
واقعية وهي الملازمة بين وجوديهما في الواقع فثبوت المعنى المطابقي واقعا
يستلزم ثبوت المعنى الالتزامي كذلك ولا ملازمة بينهما في الثبوت التعبدي
وعلى هذا فإن أريد أن الدال على المعنى الالتزامي خصوص ثبوت المعنى
المطابقي واقعا فيرد عليه أنه غير ثابت بدليل الحجية العام لأن الثابت به إنما
هو وجوده التعبدي لا الواقعي والمفروض أنه لا ملازمة بينهما فيه وإن أريد أن
الدال عليه أعم من ثبوته واقعا أو تعبدا فيرده ما عرفت من أنه لا ملازمة
بينهما في الثبوت التعبدي وأما الثبوت الواقعي فهو ليس مقتضي دليل الحجية
العام فإذن ما هو ثابت بدليل الحجية لا ملازمة بينه وبين المدلول الالتزامي وما
هو ملازمة بينه وبين المدلول الالتزامي فإنه غير ثابت به.
ومن هنا لا تكون الأصول المثبتة حجة مع أنها تثبت مداليلها المطابقية
تعبدا فلو كانت الملازمة ثابتة مطلقا حتى بين ثبوت المعنى المطابقي تعبدا وثبوت
المعنى الالتزامي كذلك لكانت الأصول المثبتة حجة أيضا ولم يكن فرق بينها وبين
الأمارات من هذه الناحية فإذا كان الأثر الشرعي مترتب على ثبوت المدلول
المطابقي أعم من الوجداني والتعبدي كان الأصل حجة ومثبتا له كالأمارة وأما إذا
كان مترتبا على ثبوته الواقعي فلا يمكن إثباته بالأصل العملي لأنه لا يثبت مدلوله
إلا تعبدا لا واقعا.
فالنتيجة أن المدلول المطابقي حيث أنه لا يثبت بدليل الحجية العام إلا
تعبدا لا واقعا فلا يدل على ثبوت المدلول الالتزامي كذلك لعدم الملازمة
407

بينهما فيه.
قد يقال كما قيل أن ثبوت المدلول المطابقي تعبدا كثبوت المدلول
الالتزامي وجدانا على أساس أن الأمارات تقوم مقام القطع الطريقي فإذا ثبت
المدلول المطابقي بالعلم الوجداني ترتب عليه ثبوت المدلول الالتزامي وكذلك
إذا ثبت المدلول المطابقي بالعلم التعبدي باعتبار أن المدلول المطابقي بمثابة
الموضوع للمدلول الالتزامي وهو بمثابة الأثر له ومن الواضح أن الموضوع كما
يثبت بالعلم الوجداني كذلك يثبت بالعلم التعبدي فإذن يثبت المدلول الالتزامي
بثبوت المدلول المطابقي وإن كان تعبدا.
والجواب واضح وهو أن نسبة المدلول المطابقي إلى المدلول الالتزامي
ليست كنسبة الموضوع إلى الحكم الشرعي حتى يكون ذلك مصححا لجعل
الحجية للأمارات الحاكية عن المدلول المطابقي الذي هو الموضوع له بل نسبة
الملازم إلى الملازم الآخر تكوينا وواقعا فيكون المدلول الالتزامي بوجوده
الواقعي لازما للمدلول المطابقي بوجوده كذلك فإذا ثبت واقعا وتكوينا كان
ملازما لثبوت المدلول الالتزامي كذلك ولا أثر لثبوته تعبدا فإنه لا يكون
ملازما لثبوته تعبدا لعدم الملازمة بينهما فيه وإن شئت قلت أن الثبوت
التكويني غير ثابت والثبوت التعبدي بحاجة إلى دليل والدليل إنما يدل على
ثبوت المدلول المطابقي تعبدا وشرعا ولا دليل على ثبوت المدلول الالتزامي
كذلك غاية الأمر أن ثبوت المدلول المطابقي تعبدا بقيام الأمارة الظنية يوجب
الظن بثبوت المدلول الالتزامي ولا دليل على حجية الظن، تحصل مما ذكرناه
أن هذا الوجه أيضا غير تام.
الوجه الثالث: أن منشأ حجية الظواهر في باب الإخبار هو أصالة عدم
الكذب وفي باب الانشاء أصالة الظهور فإذا أخبر ثقة عن عدالة زيد بقوله أنه
408

مستقيم في جادة الشرع كان كلامه ظاهرا في عدالته ودالا عليها بالمطابقة
وفي جواز الاقتداء به وقبول شهادته بالالتزام ومنشأ حجية ظهور كلامه هو
أصالة عدم الكذب لأن كذبه عامدا وملتفتا خلاف فرض أنه ثقة واشتباها
وغفلة خلاف الأصل فمن أجل ذلك يكون ظهوره مشمولا لدليل الحجية العام
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا ظهر كذبه وبان أن زيدا ليس بعادل فهو
كذب واحد لا متعدد بلحاظ تعدد مدلوله المطابقي والالتزامي فلا يقال أنه
كذب في الإخبار عن المدلول المطابقي والإخبار عن المدلول الالتزامي معا
بل يقال إنه كذب في الإخبار عن عدالته والنكتة في ذلك أن صدقه في
المدلول الالتزامي إنما هو بصدقه في المدلول المطابقي لا بنفسه ومستقلا
وكذبه فيه إنما هو بكذبه في المدلول المطابقي كذلك ولهذا لا يمكن التمسك
بأصالة عدم الكذب في الإخبار عن المدلول الالتزامي مع سقوطها في الإخبار
عن المدلول المطابقي لأن أصالة عدم الكذب في الإخبار عن المدلول
الالتزامي إنما هي بأصالة عدم الكذب في الإخبار عن المدلول المطابقي لا
بنحو الاستقلال ونتيجة ذلك أن أصالة عدم الكذب في القضية الخبرية متمثلة
في أصالة واحدة وهي عدم الكذب في الإخبار فيها عن المدلول المطابقي
غاية الأمر أن لها توابع ولوازم قهرية قائمة بها بالتبع لا بالاستقلال وعلى ضوء
هذا الأساس فإذا سقط الإخبار عن المدلول المطابقي عن الحجية من جهة
ظهور كذبه وعدم مطابقته للواقع سقط الإخبار عن المدلول الالتزامي عن
الحجية قهرا وتبعا ضرورة أنه ليس فيه كذب آخر لكي يمكن التمسك بأصالة
عدم الكذب فيه.
والخلاصة أنه ليس هنا فردان من الكذب أحدهما في الإخبار عن
المدلول المطابقي والآخر في الإخبار عن المدلول الالتزامي بل فرد واحد وهو
409

الكذب في الإخبار عن المدلول المطابقي لما مر الآن من أن الكذب في
الإخبار عن المدلول الالتزامي إنما هو بكذبه في الإخبار عن المدلول المطابقي
لا بنفسه ومستقلا كيف فإنه لا وجود له إلا بوجوده وعليه فإذا سقطت أصالة
عدم الكذب في الإخبار عن المدلول المطابقي سقطت في الإخبار عن المدلول
الالتزامي قهرا وتبعا وهذا معنى أن الدلالة الالتزامية تسقط بسقوط الدلالة
المطابقية عن الحجية.
وأما في باب الانشاء فإنه إذا سقط المدلول المطابقي من جهة عدم
إرادته في الواقع عن جد فليس في سقوط المدلول الالتزامي مخالفة زائدة
على مخالفة سقوط الأول لكي يمكن التمسك بأصالة الظهور فيه وعدم إرادة
الخلاف لاثبات عدم سقوطه فإذا كان هناك منشأ واحد لكلتا الدلالتين
المطابقية والالتزامية وهو إرادة المولى الانشاء عن جد باعتبار أن إرادة
المدلول الالتزامي إنما هي بإرادة المدلول المطابقي بالتبع لا مستقلة فلا يعقل
بقاء إرادته مع سقوط إرادة المدلول المطابقي لأنه خلف وعليه فإذا تبين أن
المولى لم يرد المدلول المطابقي عن جد فقد سقط كلتا الدلالتين معا بسقوط
منشأهما فلا يمكن حينئذ التمسك بأصالة الظهور في شئ منهما نعم لو كان
لظهوره في المدلول الالتزامي منشأ آخر لأمكن التمسك به طالما ظل منشأه
ثابتا وغير ساقط ولكنه خلف الفرض والجواب أن هذا الوجه أيضا غير تام أما
أولا فلأنه لو تم فإنما يتم فيما إذا لم يترتب على المدلول الالتزامي أثر شرعي
زائد على ما يترتب على المدلول المطابقي فعندئذ إذا سقطت الدلالة المطابقية
من جهة ظهور كذبها فليس في سقوط الدلالة الالتزامية كذب زائد على ما
يترتب على سقوط الدلالة المطابقية لكي يتمسك بأصالة عدم الكذب فيها
للحفاظ عليها وأما إذا ترتب عليه أثر زائد على ما يترتب على المدلول
410

المطابقي فعندئذ يكون في سقوط الدلالة الالتزامية كذب زائد على ما يترتب
على سقوط الدلالة المطابقية وحينئذ فلا مانع من التمسك بأصالة عدم الكذب
فيها بلحاظ ما يترتب من الأثر الزائد وبالتالي بأصالة الظهور حيث أن في
سقوطها مخالفة زائدة على ما يترتب على سقوط الدلالة المطابقية من المخالفة.
مثال ذلك: إذا أمر المولى بشئ فإنه يدل على وجوب ذلك الشئ
بالمطابقة وعلى اشتماله على الملاك بالالتزام وفي مثل ذلك إذا سقط ظهوره
في المدلول المطابقي عن الحجية فلا موجب لسقوط ظهوره عنها في المدلول
الالتزامي ولا مانع عندئذ من الأخذ به باعتبار ما يترتب عليه من الأثر الزائد
فيكون حجة عليه وهو الحكم بصحة ذلك الشئ إذا أتى به بداعي اشتماله
على الملاك في فرض سقوط الأمر به بسبب أو آخر وما نحن فيه من هذا
القبيل فإن الفرد المزاحم للواجب المضيق لا يمكن أن يكون مشمولا لإطلاق
المأمور به لمكان اشتراطه بالقدرة وأما اشتماله على الملاك في مرحلة
المبادئ فلا مانع منه لمكان عدم اشتراطه بها.
فالنتيجة أن الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الوجوب المتعلق بالجامع بينه
وبين غيره من الأفراد لا يمكن وأما الاتيان به بداعي اشتماله على الملاك فلا مانع
منه وفي مثل ذلك لا محذور من الالتزام بعدم سقوط الدلالة الالتزامية بسقوط
الدلالة المطابقية باعتبار أن في سقوطها كذب زائد بلحاظ ما يترتب عليها من
الأثر الزائد ومقتضى الأصل عدمه فلو كان منشأ حجية الظواهر في باب الإخبار
أصالة عدم الكذب لأمكن القول بعدم تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في
الحجية إذا كان لها أثر زائد فإذن لو تم الدليل المذكور فإنما يتم في غير هذا
الفرض وأما فيه فلا.
وثانيا: أن نكتة حجية الظواهر في باب الإخبار ليست أصالة عدم
411

الكذب بالمعنى الشامل للاشتباه والغفلة بل الوثوق النوعي بثبوت مضامينها في
الواقع وتدور حجيتها مدار هذا الوثوق وجودا وعدما حدوثا وبقاء وبناء
العقلاء على العمل بالظواهر بما أنه لا يمكن أن يكون جزافا فلا محالة يكون
مبنيا على الوثوق النوعي بثبوت مضامينها في الواقع كما هو الحال في بنائهم
على العمل بإخبار الثقة.
وبكلمة أن بناء العقلاء على العلم بالظواهر في بابي الإخبار والانشاء
ثابت ومرتكز في الأذهان وحيث أنه لا يمكن أن يكون جزافا وبلا نكتة
مبررة له فبطبيعة الحال تكون النكتة المبررة له هي إفادة تلك الظواهر الوثوق
النوعي بثبوت مضامينها إخبارية كانت أم انشائية وعلى هذا الأساس فحجية
الظواهر بمقتضى دليل اعتبارها تدور مدار النكتة المذكورة وجودا وعدما
وحيث أنها موجودة في ظواهر الألفاظ في بابي الإخبار والانشاء فتكون
مشمولة لدليل حجيتها وهو سيرة العقلاء القطعية الارتكازية ولا فرق في ذلك
بين ظهور اللفظ في المدلول المطابقي وظهوره في المدلول الالتزامي فإنه حجة
بقيام السيرة عليه فإذا أمر المولى بشئ كصوم يوم الجمعة مثلا فإنه ظاهر في
وجوبه مطابقة وفي ثبوت الملاك فيه التزاما وكلا الظهورين حجة ومشمول
لدليل الحجة من جهة توفر مداليلها فيهما وهو الوثوق النوعي بمطابقة الواقع
وحينئذ فإذا سقط ظهوره في المدلول المطابقي عن الحجية بسبب من الأسباب
فلا موجب لسقوط ظهوره في المدلول الالتزامي عنها لأن ملاكها متوفر فيه
والمفروض أن شمول دليل الحجية للظاهر يدور مدار توفر ملاكها فيه.
والخلاصة: أن شمول دليل الحجية العام للظاهر منوط بتوفر ملاكها فيه
وهو الكاشفية النوعية عن الواقع فطالما يكون هذا الملاك متوفرا فيه فهو
مشمول لدليل الحجية وإلا فلا وعلى هذا فإذا فرضنا أن هذا الملاك غير متوفر
412

في ظهور اللفظ في المدلول المطابقي أو متوفر ولكن هناك مانع عن الشمول
فلا مانع من شموله لظهوره في المدلول الالتزامي إذا كان ملاك حجيته متوفرا
فيه لأنه يدور مداره وجودا وعدما ولا يدور مدار أصالة عدم الكذب.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن الوجوه التي استدل بها على
تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية ثبوتا وحجية غير تام.
ولكن مع ذلك الصحيح هو التبعية مطلقا حتى في الحجية بيان ذلك أن
الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية من مرحلة التصور إلى مرحلة التصديق
على أساس أنها من شؤون الدلالة المطابقية في جميع المراحل بدرجة واحدة
ولا يمكن أن تكون درجة كشف الدلالة الإلتزامية عن ثبوت المدلول الإلتزامي
أقوى من درجة كشف الدلالة المطابقية عن ثبوت المدلول المطابقي أو أضعف فإذا
كانت الدلالة المطابقية قطعية سواء أكانت في مقام الإخبار أم الانشاء كانت
الدلالة الالتزامية أيضا كذلك ولا يمكن أن تكون الأولى قطعية والثانية ظنية أو
بالعكس كيف فإنها من شؤونها ومراتب وجودها على أساس أنها معلولة لها في
تمام مراحل وجودها من البداية إلى النهاية فإذا كانت ظنية كانت الدلالة
الالتزامية أيضا ظنية وهكذا وعلى ضوء هذا الأساس فاستقرار بناء العقلاء على
العمل بظواهر الألفاظ في مداليلها الالتزامية إنما هو بتبع استقرار بنائهم على العمل
بظواهرها في مداليلها المطابقية باعتبار أن الأولى من شؤون الثانية وتوابعها
فدليل الحجية يشمل الثانية بما لها من التوابع هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن
شمول دليل الحجية العام كالسيرة للظواهر إنما هو بملاك واحد وهو الوثوق
النوعي في إثبات مداليلها والوثوق النوعي بالمداليل المطابقية يستلزم الوثوق
النوعي بالمداليل الالتزامية لأنها تابعة لها تصورا وتصديقا بدرجة واحدة وعلى
ضوء هاتين الناحيتين فإذا سقط الوثوق النوعي بالنسبة إلى المدلول المطابقي
413

بسبب من الأسباب كالمعارضة أو نحوهما سقط بالنسبة إلى المدلول الالتزامي
أيضا لفرض أن الوثوق النوعي بالمدلول الالتزامي تابع للوثوق النوعي بالنسبة
إلى المدلول المطابقي وإذا سقط الوثوق النوعي بالنسبة إلى المدلول المطابقي
سقط بالنسبة إلى المدلول الالتزامي أيضا لأنه معلول له فلا يعقل زوال العلة وبقاء
المعلول وزوال المتبوع وبقاء التابع وإن شئت قلت أن الدلالة الالتزامية متقومة
بمقدمتين:
الأولى: الدلالة المطابقية.
الثانية: الملازمة البينة بالمعنى الأخص بين المدلول المطابقي والمدلول
الالتزامي فاللفظ على أساس العلقة الوضعية يدل على المعنى المطابقي تصورا
وبضميمة القرائن الحالية أو السياقية يدل عليه تصديقا وأما دلالته على
المدلول الالتزامي فهي تتوقف على وجود الملازمة المذكورة بينهما وبعد
تمامية هاتين المقدمتين إذا أطلق اللفظ انتقل الذهن منه إلى المعنى المطابقي
مباشرة وإلى المعنى الالتزامي بالواسطة وعليه فليس هنا ظهوران: أحدهما
ظهور اللفظ في المعنى المطابقي والآخر ظهوره في المعنى الالتزامي بل له
ظهور واحد مباشرة وهو ظهوره في المدلول المطابقي وأما ظهوره في المدلول
الالتزامي فهو يتولد منه بواسطة الملازمة بينهما لا أنه ظهور له في عرض
ظهوره في المدلول المطابقي فإذن ظهوره في المدلول الالتزامي معلول لأمرين:
أحدهما: ظهوره في المدلول المطابقي.
والآخر: وجوه الملازمة بينهما فلهذا يكون في طوله ومن مراتب
وجوده وحينئذ فإذا سقط الوثوق النوعي عن ظهوره في المدلول المطابقي
بسبب أو آخر كالعلم الخارجي بعدم مطابقته للواقع أو من جهة المعارضة مع
دليل آخر وهكذا سقط الوثوق النوعي عن ظهوره في المدلول الالتزامي أيضا
414

باعتبار أنه معلول له ومتولد منه.
إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنه لا يمكن إحراز اشتمال الفرد
المزاحم على الملاك على القول بسقوط الأمر عن الجامع بينه وبين سائر
الأفراد بالدلالة الالتزامية فالحكم بصحة الاتيان به مبني على ثبوت الأمر
بالجامع، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قد ذكرنا سابقا بطلان هذا القول
وأنه لا مانع من الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالجامع على كلا
القولين في المسألة هما القول بأن اعتبار القدرة في متعلق التكليف يكون
بحكم العقل بملاك حكمه بقبح تكليف العاجز، والقول بأن اعتبارها باقتضاء
نفس الخطاب على ما تقدم تفصيله.
بقي هنا شئ وهو أن جماعة من الأصوليين منهم المحقق النائيني (قدس سره) قد
ذكروا أن الثمرة تظهر بين القولين في المسألة هما القول بأن الأمر بشئ
يقتضي النهي عن ضده العبادي كالأمر بالإزالة فإنه يقتضي النهي عن الصلاة
والقول بأنه لا يقتضي النهي عنه فعلى الأول يحكم بفساد العبادة.
وعلى الثاني بصحتها هذا والتحقيق أن الثمرة لا تظهر بينهما وذلك لأن
ظهور الثمرة مبني على أن النهي الغيري كالنهي النفسي فإذا تعلق بعبادة منع من
التقرب بها مع أن الأمر ليس كذلك للفرق بينهما من هذه الناحية فإن النهي
النفسي يكشف عن أن متعلقه مبغوض ومشتمل على مفسدة ولهذا إذا تعلق
بعبادة يقتضي فسادها بينما النهي الغيري لا يكشف عن ذلك ولا يكون ناشئا
منها وإنما يكون ناشئا عن ملاك قائم بغيره فالنهي الغيري المتعلق بالصلاة إنما
هو ناشئ عن ملاك قائم بالإزالة لا عن ملاك في نفسها وإلا لكان نفسيا لا
غيريا وهو خلف ولهذا لا يقتضي فسادها ولا يمنع من التقرب بها باعتبار أنه
لا يكشف عن أنها مبغوضة ومن هنا لا تنافي بين النهي الغيري والأمر النفسي
415

في مرحلة المبادئ والخلاصة أن النهي المتعلق بالصلاة الناشئ من المصلحة
القائمة بالإزالة لا يكشف عن اشتمالها على مفسدة وكونها مبغوضة بل لا
ينافي اشتمالها على مصلحة وكونها محبوبة في نفسها غاية الأمر أنها دون
الإزالة في المحبوبية وحينئذ فلا مانع من الاتيان بالصلاة المزاحمة للإزالة
مضافة إلى الله تعالى أما من جهة محبوبيتها في نفسها أو من جهة اشتمالها على
مصلحة مطلوبة عند الله تعالى ولا يكون النهي الغيري عنها مانعا عن التقرب
بها بل لا مانع من الاتيان بها بداعي الأمر بالجامع بينها وبين سائر الأفراد كما
تقدم.
فالنتيجة أنه لا ثمرة بين القولين في المسألة من هذه الناحية (1).
هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو التزاحم بين الواجب الموسع
والواجب الضيق.
وأما الكلام في المقام الثاني وهو التزاحم بين الواجبين المضيقين كما إذا
وقع التزاحم بين الصلاة في آخر الوقت والإزالة ويكون أحدهما أهم من
الآخر ففي مثل ذلك لا يمكن تصحيح الواجب المهم بالأمر لاستحالة الأمر به
مع فعلية الأمر بالأهم وإلا لزم طلب الجمع بين الضدين كما لا يمكن تصحيحه
بالملاك لعدم الطريق إلى إحرازه فإذن تتوقف صحته على القول بإمكان الترتب
فإن قلنا بإمكانه حكم بصحته بداعي الأمر الترتبي وإن قلنا بعدم إمكانه لم
يمكن الحكم بصحته لا من ناحية الأمر ولا من ناحية الملاك.
بيان ذلك يتطلب البحث عن عدة نقاط:
الأولى: أن يكون التزاحم بين التكليفين المضيقين كوجوب الصلاة مثلا

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 264 - 265.
416

في آخر الوقت ووجوب الإزالة فيه بحيث لا يكون المكلف قادرا على امتثال
كلا التكليفين معا وأما إذا كان أحدهما موسعا والآخر مضيقا كالصلاة في أول
الوقت والإزالة فيه فهو خارج عن محل الكلام في المسألة على أساس أنه لا
تزاحم بين وجوب الصلاة في أول الوقت ووجوب الإزالة من جهة قدرة
المكلف على امتثال كليهما معا بدون أي تنافي بينهما فإذن لا موضوع لمسألة
الترتب هنا هذا.
ولكن ذهب المحقق النائيني (قدس سره) إلى أن بين إطلاق خطاب الواجب
الموسع وخطاب الواجب المضيق تزاحم فلا يمكن الجمع بينهما ولابد من رفع
اليد عن أحدهما أما عن إطلاق خطاب الواجب الموسع وأما عن وجوب
الواجب المضيق وعلى هذا فلا مانع من الالتزام بالترتب في المقام بتقريب أن
إطلاق خطاب الواجب الموسع مقيد لبا بعدم الاشتغال بالواجب المضيق وفي
صورة الاشتغال به لا إطلاق له (1).
وهنا تعليقان:
الأول: ما تقدم من أنه لا تزاحم بين إطلاق خطاب الواجب الموسع
وخطاب الواجب المضيق فإن متعلقه الجامع بين المقدور وغير المقدور
والمطلوب إنما هو صرف وجوده وهو لا يسري إلى الافراد ولهذا يكون
التطبيق بحكم العقل لا بحكم الشرع نعم لو كان ذلك بحكم الشرع أو كان
إطلاقه شموليا لكان بينه وبين خطاب الواجب المضيق تعارض لا تزاحم
وعلى الجملة فالمراد من إطلاق خطاب الواجب الموسع هو تعلقه بالجامع بين
المقدور وغير المقدور لا بحصة خاصة وهي الحصة المقدورة وليس المراد منه

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 262.
417

الإطلاق الشمولي وعلى هذا فلا تزاحم بينه وبين خطاب الواجب المضيق
والتزاحم إنما هو بين فرد الواجب الموسع والواجب المضيق والمفروض أنه
ليس متعلق الخطاب مباشرة ولا بالواسطة فإذن لا موضوع للالتزام بالترتب
لأن الالتزام به يتوقف على تقييد الخطاب المهم بعدم الاشتغال بالأهم لبا ومن
الواضح أن هذا التقييد منوط بالتزاحم بينهما والمفروض أنه لا تزاحم في
المقام بين خطاب الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق حتى يتطلب هذا
التقييد اللبي.
التعليق الثاني: أن ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) من أن هذا التنافي بين
إطلاق الواجب الموسع والواجب المضيق مبني على بنى عليه (قدس سره) من أن التقابل
بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة وحيث إنه لا يمكن تقييد إطلاق
الواجب الموسع بالفرد المزاحم فلا يمكن إطلاقه بالنسبة إليه أيضا على أساس
أن التقابل بينهما إذا كان من تقابل العدم والملكة فاستحالة أحدهما تستلزم
استحالة الآخر.
ونتيجة ذلك أن إطلاق خطاب الواجب الموسع حيث يزاحم خطاب
الواجب المضيق فمع فعليته يستحيل إطلاقه وعليه فلابد من رفع اليد إما عن
أصل وجوب المضيق أو عن إطلاق خطاب الموسع وتقييده بعدم الاشتغال
بالواجب المضيق وعليه فلا يمكن الحكم بصحة الاتيان بالفرد المزاحم بقصد
الأمر المتعلق بالجامع بينه وبين سائر الأفراد إلا بالالتزام بالترتب هذا (1). وغير
خفي أن هذا التعليق مبني على الخلط بين الإطلاق المقابل للتقييد بتقابل العدم
والملكة الذي هو بمعنى سلبي وهو عدم التقييد في مورد قابل له والاطلاق في

(1) المحاضرات ج 3: ص 64.
418

المقام الذي هو بمعنى ثبوتي وهو شمول إطلاق الواجب الموسع للفرد المزاحم في
مقابل تقييده به والتقابل بينهما من تقابل التضاد فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة
الاطلاق لا استحالته.
وبكلمة أن الاطلاق المقابل للتقييد بتقابل العدم والملكة إنما هو بمعنى عدم
التقييد في مورد قابل للتقييد على أساس أن التقابل بينهما متقوم بقابلية المحل
لكل منهما مثل العمى والبصر والعلم والجهل ونحوهما وأما إذا لم يكن المحل قابلا
للملكة فلا يكون قابلا للعدم أيضا بداهة أن المحل إذا لم يكن قابلا للاتصاف
بالبصر لم يكن قابلا للاتصاف بالعمى أيضا كالحجر والجدار ونحوهما ومن هنا
قلنا أن تقييد الصلاة بقصد الأمر لو كان مستحيلا لكان عدم تقييدها به أيضا
مستحيلا لأن المورد كالصلاة غير قابل للاتصاف بقصد الأمر ولا للاتصاف بعدمه
فلهذا إذا استحال الأول استحال الثاني وأما إذا كان المورد قابلا للاتصاف بشئ
فيكون قابلا للاتصاف بعدمه أيضا لأن مقابل الملكة العدم الخاص لا الوجود
وعلى هذا فليس مراد المحقق النائيني (قدس سره) من الاطلاق في المقام الاطلاق بمعنى
عدم التقييد في مورد قابل له مراده (قدس سره) من الاطلاق فيه بمعنى شموله للفرد المزاحم
وهو معنى ثبوتي لا سلبي.
فالنتيجة أن ما ذكره (قدس سره) من التزاحم بين الواجب المضيق وإطلاق
الواجب الموسع ليس مبنيا على ما بنى عليه (قدس سره) من أن التقابل بين الاطلاق
والتقييد من تقابل العدم والملكة هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن من
المحتمل أن يكون ما ذكره (قدس سره) مبنيا على أحد أمرين:
الأول: ما بنى (قدس سره) عليه من أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو
باقتضاء نفس الخطاب باعتبار أن الغرض منه إيجاد الداعي في نفس المكلف
وهو لا يمكن إلا أن يكون متعلقه خصوص الحصة المقدورة فحسب وعلى
419

هذا فالأمر المتعلق بالصلاة يقتضي كون متعلقه خصوص تلك الحصة وهي
الحصة المقيدة بغير الفرد المزاحم للواجب المضيق فإذن لا يمكن أن يكون
الأمر بالصلاة مطلقا بالنسبة إلى الفرد المزاحم وهذا معنى التزاحم بين إطلاق
الواجب الموسع والواجب المضيق وإنهما لا يجتمعان.
الثاني: أن يكون التخيير بين أفراد الواجب الموسع شرعيا لا عقليا فإذا
كان شرعيا فلا يمكن تعلق الخطاب التخييري بالفرد المزاحم لاستحالة الأمر
بالضدين في آن واحد ولو تخييرا فلذلك يقع التزاحم بين إطلاق خطاب
الواجب الموسع وبين وجوب الواجب المضيق.
ولكن كلا الأمرين غير صحيح أما الأمر الأول فقد تقدم الكلام فيه
موسعا بأن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو بحكم العقل على أساس
حكمه بقبح تكليف العاجز ولولا هذا الحكم العقلي في المرتبة السابقة فلا
يمكن أن يكون الخطاب مقتضيا ذلك لأن اقتضائه إنما يكون على أساس
حكم العقل لا في نفسه.
وأما الأمر الثاني: فقد تقدم أن التخيير بين أفراد الواجب الموسع عقلي
لا شرعي لأن الوجوب متعلق بصرف وجود الجامع القابل للانطباق على تمام
أفراده في الخارج منها الفرد المزاحم.
تحصل أن ما ذكره (قدس سره) من التزاحم بين إطلاق الواجب الموسع والواجب
المضيق في غير محله.
النقطة الثانية: أن محل الكلام في المسألة إنما هو فيما إذا كان الواجبان
من الضدين اللذين لهما ثالث كالصلاة والإزالة أو الصلاة وانقاذ الغريق أو
الحريق وأما إذا كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون
ونحوهما فيكون خارجين عن باب التزاحم وداخلين في باب التعارض لأن
420

التنافي بينهما إنما يكون في مرحلة الجعل لا في مرحلة الامتثال فقط الناشئ
من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في هذه المرحلة وذلك لأن جعل
التكليف لهما معا غير معقول لاستلزامه التكليف بالمحال وجعله لكل منهما
مشروطا بعدم الآخر لغو على أساس أن وجود الحركة عند عدم السكون
ضروري وبالعكس ولا معنى لإيجاب أحدهما عند عدم الآخر لأن وجوده في
هذه الحالة ضروري ومن الواضح أن القدرة لا تتعلق إلا بالممكن لا بالواجب
وجوده في الخارج ولا بالممتنع وجوده فيه وعلى هذا فإذا دل دليل على
وجوب الحركة ودل دليل آخر على وجوب السكون كان بينهما تعارض فلا
يمكن جعل كلا الوجوبين لهما معا بنحو الاطلاق لاستلزامه التكليف بالمحال.
فالنتيجة أن محل الكلام في المسألة في الضدين اللذين لهما ثالث حيث
أن جعل التكليف لهما ممكن ولكن قد يقع التزاحم بينهما في مرحلة الامتثال.
النقطة الثالثة: في تمييز باب التزاحم عن باب التعارض بيان ذلك أن
التزاحم بين حكمين ناشئ من عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في
مرحلة الامتثال فإن له قدرة واحدة فإن صرفها في امتثال أحدهما عجز عن
امتثال الآخر وبالعكس بدون أي تنافي بينهما في مرحلة الجعل بينما التعارض
بين حكمين ناشئ عن التنافي بينهما في مرحلة الجعل ذاتا أو عرضا وبذلك
يختلف باب التعارض عن باب التزاحم هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه لا
يمكن جعل حكمين اللذين لا يقدر المكلف على الجمع بينهما في مرحلة
الامتثال لأنه لغو صرف فلا يمكن صدوره من المولى الحكيم فإذن لا محالة
يسري التنافي إلى مرحلة الجعل ولابد حينئذ من الرجوع إلى مرجحات باب
التعارض وعلى هذا الأساس فعدم رجوع باب التزاحم إلى باب التعارض
منوط بالالتزام بأمرين:
421

الأول: أن كل خطاب شرعي مقيد لبا بعدم الاشتغال بضده الواجب
المساوي أو الأهم.
الثاني: الالتزام بالترتب وأما في فرض عدم الالتزام بالأول أو بالثاني
فيدخل باب التزاحم في باب التعارض أما على الفرض الأول فلأنه لا يمكن
جعل حكمين للضدين بنحو الاطلاق لاستلزامه طلب الجمع بينهما وهو
مستحيل فإذن تقع المعارضة بينهما ولابد من الرجوع إلى مرجحات بابها وأما
على الفرض الثاني وهو عدم الالتزام بالترتب فأيضا تقع المعارضة بينهما لأن
فعلية الأمر بالضدين مستحيلة في زمن واحد وإن كانت بنحو الترتب حيث أن
الالتزام بالتقييد اللبي العام وحده لا يكفي لرفع الاستحالة طالما لا يقول
بامكان الترتب إذ حينئذ وإن كان الأمر بالصلاة مثلا مقيدا لبا بعدم الاشتغال
بضدها الواجب لا يقل عنها في الأهمية كإنقاذ الغريق أو الحريق إلا أنه في
حال عدم الاشتغال به يكون كلا الأمرين فعليا أما الأمر بالصلاة فلتحقق
شرطه وهو عدم الاشتغال بضده الواجب وأما الأمر به فلأنه لا موجب لسقوطه
طالما يكون المكلف متمكنا من الاتيان به هذا إذا كان أهم وأما إذا كان
مساويا للصلاة فلتحقق شرطه وهو عدم الاشتغال بالصلاة.
وبكلمة واضحة أن كل خطاب شرعي مقيد لبا بعدم الاشتغال بضده
الواجب لا يقل عنه في الأهمية سواء أكان الأهم أم المساوي مثلا الأمر المتعلق
بالصلاة مقيد لبا بعدم الاشتغال بالإزالة ضرورة أنه لا يمكن جعل الأمر بالصلاة
مطلقا حتى في حال الاشتغال بها لاستلزامه طلب الجمع بين الضدين وهو
مستحيل ومن هنا لولا هذا التقييد اللبي لكان بينهما تعارض ومن المعلوم أنه
يتطلب رفع اليد عن أحد الحكمين مطلقا لا في حالة دون أخرى وعلى هذا فإذا
وقع التزاحم بين وجوب الصلاة ووجوب الإزالة في مرحلة الامتثال فتطبيق
422

قواعد باب التزاحم عليهما ومرجحاته منوط بتوفر الأمرين المشار إليهما آنفا
أحدهما تقييد إطلاق وجوب الصلاة بعدم الاشتغال بالإزالة لبا وإلا لزم طلب
الجمع بين الضدين إذا ظل وجوب الصلاة على إطلاقه وهو لا يمكن فإذن يدور
الأمر بين رفع اليد عن وجوب الصلاة مطلقا ورفع اليد عن إطلاقه وتقييده بعدم
الاشتغال بالإزالة فإذا دار الأمر بينهما تعين الثاني لأن الضرورة تتقدر بقدرها
وهي لا تتطلب أكثر من تقييد إطلاق وجوب الصلاة بعدم الاشتغال بالإزالة لا رفع
اليد عن وجوبها مطلقا حتى في صورة عدم الاشتغال بها وهذه نكتة عامة تتطلب
تقييد كل خطاب شرعي لبا بعدم الاشتغال بضده الواجب لا يقل عنه في الأهمية.
والخلاصة أن تقييد إطلاق وجوب كل واجب في الشريعة المقدسة لبا
بعدم الاشتغال بضد واجب لا يقل عنه في الأهمية أمر ضروري وذلك لأن
إطلاقه مستحيل ثبوتا بملاك أن الغرض منه إن كان هو طلب الجمع بين
الضدين والتوصل إليه فهو مستحيل وإن كان الغرض منه صرف المكلف عن
ذلك المزاحم وتركه والاشتغال به فهو خلف فرض أنه لا يقل عنه في الأهمية
وهذا برهان عقلي بشكل آخر يثبت التقييد اللبي العام في كل خطاب شرعي
وحينئذ فإن كان الخطابان متساويين كان إطلاق كل منهما مقيدا لبا بعدم الاشتغال
بالآخر وان كان أحدهما أهم من الآخر كان إطلاق المهم مقيدا لبا بعدم الاشتغال
بالأهم.
الثاني: إمكان القول بالترتب فإنه على ضوء هذا القول لا مانع من فعلية
الأمر بالضدين على نحو الترتب ولا يلزم منها طلب الجمع بين الضدين فإذا كان
الأمر بالصلاة مثلا مشروطا بعصيان الأمر بإنقاذ الغريق وترك الاشتغال به فكلا
الأمرين فعلي عند تحقق العصيان وترك الاشتغال به أما الأمر بالصلاة فلتحقق
شرطه وهو عصيان الأمر بالانقاذ وأما الأمر بالانقاذ فهو لا يسقط بمجرد عصيانه
423

طالما يكون المكلف متمكنا من امتثاله ولكن مع ذلك لا يستلزم طلب الجمع بين
الضدين فإذا توفر هذين الأمرين خرج باب التزاحم عن باب التعارض وإلا فلا.
والخلاصة أنه على القول باستحالة الترتب كما ذهب إليه جماعة منهم
المحقق الخراساني (قدس سره) يدخل باب التزاحم في باب التعارض ولا يمكن جعل
الوجوب لكل منهما مشروطا بعصيان الآخر وعدم الاشتغال به لاستحالة
فعليته ومن الواضح أن كل حكم إذا استحال فعليته استحال جعله لأنه لغو (1)، إلى
هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أن عدم رجوع باب التزاحم إلى باب التعارض
منوط بتمامية الأمرين المذكورين وقد مر أنهما تامان وعلى ضوء ذلك فلا مانع
من جعل حكمين مشروطين للضدين يكون كل منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر
إذا كانا متساويين وأما إذا كان أحدهما أهم من الآخر فيكون وجوب المهم
مشروطا بعدم الاشتغال بالأهم دون العكس.
الرابعة: أن القدرة المعتبرة في صحة التكليف بحكم العقل إنما هي القدرة
في مرحلة الامتثال بمعنى أن الأحكام المجعولة من قبل الشارع مجعولة في
الواقع على القادر في هذه المرحلة لأن العقل لا يحكم بأكثر من ذلك ومن هنا
لا تكون القدرة من شروط الحكم في مرحلة الجعل بمعنى أنها غير مأخوذة
في موضوعه في هذه المرحلة ولا من شروط الاتصاف في مرحلة المبادئ
وإنما هي من شروط فعلية الحكم على أساس أنه يستحيل فعليته على العاجز
ولهذا لا مانع من جعل التكليف على المكلف إذا كان قادرا على امتثاله في
ظرفه وإن كان عاجزا حين الجعل وبذلك تفترق القدرة المعتبرة بحكم العقل
عن القيود المأخوذة في موضوع الحكم شرعا في مرحلة الجعل فإن تلك القيود

(1) كفاية الأصول: ص 134.
424

كما تكون شروطا لتصاف الفعل بالملاك في مرحلة المبادئ كذلك تكون شروطا
للحكم في مرحلة الجعل بينما القدرة الحاكم بها العقل غير دخيلة في الملاك في
مرحلة المبادئ ولا في الحكم في مرحلة الجعل وإنما هي دخيلة في فعلية الحكم
في مرحلة الامتثال وعلى هذا تفترق القدرة العقلية عن القدرة الشرعية فإن
الحاكم بالأول حيث إنه العقل فلا تعتبر إلا في مرحلة الامتثال ولا تكون من
شروط الاتصاف ولا من الحكم بينما القدرة الشرعية مأخوذة في موضوع الحكم
في لسان الدليل كسائر قيوده الشرعية فتكون من شروط اتصاف الفعل بالملاك
في مرحلة المبادئ والحكم في مرحلة الجعل كالاستطاعة التي هي مأخوذة في
الآية الشريفة في موضوع وجوب الحج هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن
القدرة الشرعية على أقسام:
الأول: القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الطارئ بغير
الاختيار.
الثاني: القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الأعم من أن يكون
بالاختيار أو بغير الاختيار.
الثالث: أنها بمعنى عدم المانع التشريعي المولوي.
وتظهر الثمرة بين هذه الأقسام في النقاط التالية:
الأولى: أن الواجب إذا كان مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث فلا
يصلح أن يزاحم أي واجب آخر سواء أكان ذلك الواجب مشروطا بالقدرة
العقلية أم كان مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول أو الثاني لأن وجوبه
مشروط بعدم وجوب واجب آخر ومع وجوبه ينتفي بانتفاء شرطه ومن هنا لا
يتصور الترتب بينهما حيث لا أمر بالواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى
الثالث مع وجود الأمر بالواجب الآخر لأن صرف وجود الأمر به مانع عنه
425

فلا يتصور هنا أمران:
أحدهما: يكون مترتبا على عصيان الآخر ومن هنا لو كان كلا الواجبين
مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثالث فأيضا لا يتصور الترتب بينهما
لاستحالة فعلية الأمر بكليهما معا لأن فعليته بكل منهما متوقفة على عدم
فعليته بالآخر من باب توقف المشروط على الشرط فلهذا لا تزاحم بينهما
أيضا لعدم المقتضي له.
الثانية: أن الواجب إذا كان مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول فهو
يصلح أن يزاحم واجب آخر وإن كان مشروطا بالقدرة العقلية ولا وجه
لترجيح الثاني على الأول باعتبار أن ملاك كلا الواجبين موجود إذ كما أن ملاك
الواجب.
الثاني غير مقيد بعدم الاشتغال بالواجب الآخر كذلك ملاك الواجب
الأول فإنه غير مقيد بعدم الاشتغال بالثاني فإنه مع الاشتغال به وإن لم يكن
قادرا على الواجب الثاني تكوينا إلا أن عدم قدرته وعجزه التكويني مستند
إلى اختياره ومثل هذا العجز التكويني لا يكون مانعا عن اتصافه بالملاك في
مرحلة المبادئ لما مر من المراد من القدرة الشرعية بالمعنى الأول القدرة
التكوينية في مقابل العجز التكويني الطارئ بغير الاختيار فإذن لا مانع من
الالتزام بالترتب بينهما غاية الأمر ان كانا متساويين كان الترتب بينهما من
الطرفين وإن كان أحدهما أهم من الآخر كان الترتب من أحد الطرفين وبذلك
تمتاز القدرة الشرعية بالمعنى الأول عن القدرة الشرعية بالمعنى الثالث.
الثالثة: أن الواجب إذا كان مشروطا بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني فهو
لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلية باعتبار أن ملاكه مشروط
بعدم الاشتغال بالواجب الثاني ومع الاشتغال به ارتفع وجوب الأول بارتفاع
426

ملاكه باعتبار أن العجز التكويني الطارئ بالاختيار مانع عن اتصافه بالملاك
وعلى هذا فالواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني لا يصلح أن
يزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلية على أساس أن الاشتغال بالثاني رافع
لوجوب الأول بارتفاع ملاكه دون العكس ولكن لا يمنع ذلك من الالتزام
بالترتب بينهما بأن يكون وجوب الأول مشروطا بعدم الاشتغال بالثاني على
القول بإمكانه.
ومن هنا يظهر أن الواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الثاني لا
يصلح ان يزاحم الواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول أيضا فإن
وجوب الأول مشروط بعدم الاشتغال بالثاني ومع الاشتغال به ينتفي وجوبه
بانتفاء شرطه دون وجوب الثاني نعم لا بأس بالالتزام بالترتب بينهما كما مر (1).
وعلى ضوء هذا البيان يظهر أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من أن
الواجب المشروط بالقدرة العقلية تتقدم على الواجب المشروط بالقدرة
الشرعية لا يتم باطلاقه لما عرفت من أنه إنما يتم في المشروط بالقدرة
الشرعية بالمعنى الثاني والثالث ولا يتم في المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى
الأول هذا كله بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الاثبات فالضابط لذلك هو أن القدرة إذا كانت مأخوذة
في لسان الدليل من قبل الشارع بنحو من الأنحاء أي سواء كان بنحو الدلالة
المطابقية أو الالتزامية أو بالقرائن الحالية أو المقالية أو السياقية أو مناسبة
الحكم والموضوع الارتكازية فلا محالة يكون مبنيا على نكتة مبررة لذلك
وإلا فحكم العقل باعتبارها في صحة التكليف بملاك حكمه بقبح تكليف

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 265.
427

العاجز كاف فلا حاجة إلى أخذها في لسان الدليل وتلك النكتة هي دخلها في
الملاك في مرحلة المبادئ وفي الحكم في مرحلة الجعل كسائر القيود
المأخوذة في لسان الدليل في مقام الجعل وعلى الجملة فكل قيد مأخوذ في
لسان الدليل من قبل الشارع في مرحلة الجعل ظاهر في أنه دخيل في الملاك
والحكم معا بلا فرق بين أن يكون ذلك القيد قدرة أو غيرها (1).
فالنتيجة في نهاية المطاف أن المائز بين القدرة العقلية والقدرة الشرعية
هو أن ملاك اعتبار الأولى في صحة التكليف حكم العقل باستحالة تكليف
العاجز وملاك اعتبار الثانية هو دخلها في الملاك لا أنه تأكيد لحكم العقل.
النقطة الخامسة: أن التزاحم قد يكون بين الملاكات والمبادئ للأحكام
الشرعية في الواقع وهو التنافي بين ملاكين في التأثير كما في موارد اجتماع
الأمر والنهي على القول بالامتناع والضدين الذين لا ثالث لهما إذا كانا
مشتملين على ملاكين للوجوب والحرمة وهذا التزاحم مبني على اشتمال
المجمع في مورد الاجتماع على القول بالامتناع على ملاكين للوجوب
والحرمة واقعا واشتمال كل من الضدين عليه كذلك ولا طريق لنا إلى إحراز
ذلك وما ذكر من الوجوه لإحرازه فالكل غير تام وتمام الكلام في مبحث
التعادل والترجيح.
ثم إن التزاحم في باب الأحكام الشرعية يختلف عن التزاحم الملاكي
في نقطتين:
الأولى: ما عرفت من أن في التزاحم الحكمي لا تنافي بين الحكمين
المتزاحمين في مرحلة الجعل لأن كلا منهما مجعول على الموضوع المقدر

(1) أجود التقريرات ج 1: ص 265.
428

وجوده في الخارج والتنافي بينهما إنما هو في مرحلة الامتثال وهو ناشئ من
عدم قدرة المكلف على امتثال كلا الحكمين معا لأن له قدرة واحدة فإن
صرفها في امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعكس وأما التزاحم
الملاكي فيكون التنافي فيه إنما هو في مرحلة الجعل فلا يمكن جعل كلا
الحكمين معا كما في مسألة اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع.
الثانية: أن الترجيح أو التخيير في موارد التزاحم الحكمي يكون بيد
المكلف فإنه ينظر إلى الحكمين المتزاحمين فإن كانا متساويين فوظيفته
التخيير وإن كان أحدهما أهم من الآخر فوظيفته الترجيح وأما في موارد
التزاحم الملاكي فالترجيح أو التخيير إنما هو بيد المولى حيث إنه لا طريق
للمكلف إلى ملاكات الأحكام الشرعية ومبادئها فضلا عن أن هذا الملاك أهم
من ذاك.
نستعرض نتائج بحث الثمرة في عدة نقاط:
الأولى أن مسألة الضد ليست من المسائل الأصولية لأن الميزان في
أصولية المسألة إنما هو بترتب أثر فقهي عليها مباشرة وهذا الميزان غير متوفر
فيها ولهذا تكون من المبادئ التصديقية لا من المسائل الأصولية.
الثانية: أن الأصحاب قد ذكروا لهذه المسألة ثمرتين:
إحداهما: فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة في أول
الوقت وواجب مضيق كإزالة النجاسة عن المسجد والأخرى فيما إذا وقعت
المزاحمة بين واجبين مضيقين يكون أحدهما أهم من الآخر.
الثالثة التزم المحقق الثاني (قدس سره) بظهور الثمرة في المسألة الأولى وهي
صحة العبادة على القول بعدم الاقتضاء وفسادها على القول بالاقتضاء ولكن
429

يرد عليه أنه لا تزاحم في المسألة لأن المكلف قادر على امتثال كلا الواجبين
معا نعم ما يكون مزاحما للواجب المضيق هو فرد الواجب الموسع وهو ليس
بواجب وعليه فلا يقتضي الأمر بالإزالة النهي عن الصلاة ولا مانع من انطباقها
على الفرد المزاحم والنهي الغيري المتعلق به على القول بالاقتضاء لا يمنع عن
الانطباق فإذن لا تظهر الثمرة بين القولين في المسألة.
الرابعة: أن الإتيان بالفرد المزاحم محكوم بالفساد على كلا القولين في
المسألة بناء على نظرية المحقق النائيني (قدس سره) من أن اعتبار القدرة في متعلق
التكليف إنما هو باقتضاء نفس الخطاب دون حكم العقل وأما بناء على نظرية
المشهور من أن اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنما هو بحكم العقل من باب
قبح تكليف العاجز فالاتيان بالفرد المزاحم صحيح على كلا القولين في
المسألة (1).
الخامسة: ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) أن نظرية المحقق النائيني (قدس سره) من أن
اعتبار القدرة في صحة التكليف إنما هو باقتضاء نفس الخطاب مبنية على
مسلك المشهور في باب الانشاء وهو إيجاد المعنى باللفظ وأما بناء على ما هو
الصحيح من أن الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج
فالتكليف لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه هذا ولكن قد تقدم أنه لا فرق بين
المسلكين في باب الانشاء من هذه الناحية لأن التكليف المقتضي لاعتبار
القدرة في متعلقه إنما هو التكليف بوجوده التصديقي الواقعي لا التكليف
بوجوده الانشائي بلا فرق بين أن يكون الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ

(1) المصدر المتقدم: ص 238.
430

أو عن ابراز الأمر الاعتباري النفساني (1).
السادسة: أن نظرية المحقق النائيني (قدس سره) من أن الخطاب بنفسه يقتضي كون
متعلقه مقدورا خاطئة ولا واقع موضوعي لها فإن الحاكم في هذا الباب إنما هو
العقل من باب قبح تكليف العاجز لا اقتضاء الخطاب هذا إضافة إلى أن اعتبار
القدرة لو كان باقتضاء نفس الخطاب فهو لا يقتضي أكثر من كون متعلقه مقدورا
والمفروض أن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور.
السابعة: أن السيد الأستاذ (قدس سره) قد أفاد أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) من
التفصيل بين القول باعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب والقول باعتبارها
بحكم العقل فعلى القول الأول حكم (قدس سره) بفساد الاتيان بالفرد المزاحم مطلقا
حق على القول بعدم الاقتضاء في المسألة وعلى القول الثاني فصل في المسألة
بين القولين فعلى القول بالاقتضاء حكم بالفساد وعلى القول بعدم الاقتضاء
حكم بالصحة لا يتم على مسلكه (قدس سره) من استحالة الواجب المعلق ولكن تقدم
الكلام فيه موسعا فلاحظ.
الثامنة: أن الحكم بصحة الفرد المزاحم بداعي اشتماله على الملاك أو
رجحانه منوط بتمامية مقدمتين:
الأولى: كفاية الاتيان بالعبادة بداعي رجحانها واشتمالها على الملاك.
الثانية: إثبات أنه راجح أو مشتمل على الملاك أما المقدمة الأولى فهي
ثابتة لأن المعتبر في صحة العبادة قصد القربة وهو إضافتها إلى المولى.
وأما المقدمة الأولى: فقد ذكر المحقق النائيني (قدس سره) أن الفرد المزاحم تام
الملاك كغيره من الأفراد حتى على القول بالاقتضاء لأن النهي حيث إنه لم ينشأ

(1) المصدر المتقدم: ص 239.
431

عن وجود مفسدة في متعلقه فلا يكون مانعا عن اشتماله على الملاك
ورجحانه، ولكنه لا يتم على مسلكه (قدس سره) من أن اعتبار القدرة في متعلق
التكليف إنما هو باقتضاء نفس الخطاب فإن متعلقه إذا كان مقيدا بالقدرة فلا
طريق لنا إلى إحراز أن الفرد المزاحم مشتمل على الملاك لأن الطريق إليه منحصر
بثبوت الأمر به والمفروض انه غير ثابت.
نعم بناء على ما ذكرناه من أن متعلقه الجامع بين المقدور وغير المقدور
حتى على القول بأن اعتبار القدرة باقتضاء نفس الخطاب. فلا فرق بينه وبين
سائر الأفراد لأن الواجب ينطبق عليه كانطباقه على غيره وهو يكشف عن
اشتماله على الملاك.
التاسعة: أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا لا حجة
وعلى هذا فالدليل الدال على وجوب الواجب الموسع مطلقا بالمطابقة يدل
على اشتماله على الملاك كذلك بالالتزام فإذا سقطت الدلالة المطابقية عن
الحجية فلا موجب لسقوط الدلالة الالتزامية عنها فإذن يبقى إطلاقه بالنسبة إلى
اشتماله على الملاك على حاله ونتيجة ذلك أن الفرد المزاحم مشتمل على
الملاك كغيره من الأفراد وناقش فيه السيد الأستاذ (قدس سره) نقضا وحلا وقد تقدم
الإشكال في النقض والحل معا موسعا فلاحظ.
العاشرة: الصحيح أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثا
وحجة ولا يعقل سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وبقاء الدلالة الالتزامية
عليها وهذا لا من جهة أن الدلالة الالتزامية دلالة عقلية وهي الملازمة بين
ثبوت المدلول المطابقي وثبوت المدلول الالتزامي ولا من جهة أن منشأ حجية
الظواهر أصالة عدم الكذب بل من جهة أن الدلالة الالتزامية من شؤون الدلالة
المطابقية في تمام مراتبها ومراحلها من مرحلة التصور إلى مرحلة التصديق
432

ومعلولة لها كذلك.
الحادية عشر: أن التزاحم إذا كان بين الواجبين المضيقين كالصلاة في
آخر الوقت والإزالة فلابد أن يكون بين ضدين لهما ثالث ولا يتصور بين
ضدين لا ثالث لهما فإن جعل الحكم لهما معا لا يمكن ومن هنا يكونا داخلين
في باب التعارض.
الثانية عشر: أن خروج باب التزاحم عن باب التعارض منوط بتوفر
أمرين:
الأول: أن كل خطاب شرعي مقيد لبا بعدم الاشتغال بضده الواجب
الذي لا يقل عنه في الأهمية.
الثاني: الالتزام بالترتب ومع الالتزام بهذين الأمرين معا خرج باب
التزاحم عن باب التعارض وإلا فهو داخل فيه.
الثالثة عشر: أن القدرة العقلية التي هي معتبرة بحكم العقل على أساس
قبح تكليف العاجز غير دخيلة في الملاك في مرحلة المبادئ ولا في الحكم
في مرحلة الجعل وإنما هي معتبرة في مرحلة الامتثال فحسب بينما القدرة
الشرعية التي هي مأخوذة في لسان الدليل دخيلة في الملاك في مرحلة
المبادئ وفي الحكم في مرحلة الجعل بمعنى أنها من شروط الاتصاف
والحكم معا فحالها حال سائر القيود المأخوذة في لسان الدليل، وبذلك تمتاز
القدرة الشرعية عن القدرة العقلية.
الرابعة عشر: أن القدرة الشرعية على أقسام:
الأول: القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الطارئ بغير اختيار
المكلف.
الثاني: القدرة التكوينية في مقابل العجز التكويني الأعم من أن يكون
433

بالاختيار أو بغيره.
الثالث: أنها بمعنى عدم المانع المولوي الشرعي.
الخامسة عشر: أن الواجب المشروط بالقدرة الشرعية بمعنى الثالث
لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلية ولا الواجب المشروط
بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني فإن وجوبه يرتفع بمجرد وجوبه
وأما الواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول فهو يصلح إن تزاحم
الواجب المشروط بالقدرة العقلية نعم إن الواجب المشروط بالقدرة الشرعية
بالمعنى الثاني فهو أيضا لا يصلح أن يزاحم الواجب المشروط بالقدرة العقلية ولا
الواجب المشروط بالقدرة الشرعية بالمعنى الأول لأن وجوبه يرتفع بارتفاع
ملاكه بمجرد الاشتغال بالواجب الأول دون العكس نعم لو عصى ولم يشتغل به فلا
مانع من الالتزام بوجوبه بناء على القول بالترتب.
هذا تمام كلامنا في هذا الجزء وقد تم بعونه تعالى وتوفيقه.
434