الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الروحاني
الجزء: ٣
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٢
المطبعة: قدس
الناشر: مدرسة الإمام الصادق (ع)
ردمك:
ملاحظات:

زبدة الأصول
تأليف
المحقق الفذ آية الله العظمى
السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
مد ظله
الجزء الثالث
1

الكتاب: زبدة الأصول
المؤلف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني
نشر: مدرسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: قدس
الطبعة: الأولى، ربيع الأول 1412
الكمية: 1000 نسخه
السعر: 200 تومان
2

زبدة الأصول
الجزء الثالث
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين صلواته
وأكمل تحياته على أشرف الخلائق محمد وآله
الطيبين الطاهرين سيما بقية الله في الأرضين أرواح
من سواه فداه وبعد فهذا هو ال‍ جزء الثالث من كتابنا
زبدة الأصول وفقنا لنشره واخراجه إلى عالم
الظهور والمر جو من الله تعالى التوفيق لنشر الجزء
الرابع والله ولى التوفيق
5

المقصد السادس: في القطع، وأقسامه، وأحكامه: وقبل الشروع في مباحث هذا
المقصد، لا بد من تقديم أمور: الأول: أن مباحث القطع خارجة عن المسائل الأصولية، بل هي أشبه بمسائل
الكلام، وإنما نتعرض لها لشدة مناسبته مع المقام، فلنا دعا وثلاث:
أما خروجها عن المسائل الأصولية، فلأنها عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق
استنباط الأحكام الشرعية بمعنى لأنها انضمت إليها الصغريات أنتجت نتيجة فقهية،
وهو الحكم الشرعي الكلي الواقعي، أو الظاهري، وحجية القطع بأقسامه - بما أنها لا تكون
واسطة في استنباط الحكم الشرعي - تكون خارجة عن مسائل علم الأصول.
فان قلت: إنه بناءا على كون المسائل الأصولية، هي المسائل التي تفيد في مقام
إقامة الحجة على حكم العمل شرعا، تكون هذه المسألة منها إذ البحث عن منجزية
القطع باقسامه كالبحث عن منجزية الامارة، يفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل
في الفقه.
قلت: إن الحجة في الفقه التي جعلت موضوع علم الأصول، وقيل: (1): إن مسائله إنما
هي ما تفيد في مقام إقامة الحجة على حكم العمل شرعا، يحتمل أن يراد بها معناها
المصطلح في المنطق، ويحتمل أن يراد بها معناها المصطلح عند الأصوليين، وعلى أي
تقدير لا يصح إطلاقها على القطع الطريقي: أما بمعناها الأول: فلان الحجة عبارة عن
الوسط، الذي يحتج به على ثبوت الأكبر للأصغر، كالتغير لاثبات حدوث العالم، وهي
بهذا المعنى تتوقف على أن يكون بينها وبين الأكبر - الذي يراد إثباته للأصغر - علقة ثبوتية:
إما علقة العلية والمعلولية بان يكون الوسط علة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمي، أو
7

يكون معلولا له الذي هو البرهان الآني، وإما علقة التلازم. ومن المعلوم أن الحجة بهذا
المعنى لا تصدق على القطع، ولا يصح جعله وسطا في تأليف القياس، فلا يقال: إن هذا
معلوم الخمرية أو الحرمة، وكل معلوم الخمرية خمر، أو يجب الاجتناب عنه إذ
المعلوم الخمرية يمكن ان يكون خمرا، ويمكن ان لا يكون - وبعبارة أخرى - ان الخمرية
من العناوين الواقعية تدور مدار الواقع لا العلم، ووجوب الاجتناب متعلق بالخمر
الواقعي لا بما هو معلوم الخمرية.
ثم إن الحجة بهذا المعنى كما لا تصدق على القطع لا تصدق على الامارات
الشرعية، ولا يصح جعلها وسطا: إذ متعلقاتها ان كانت من الموضوعات الخارجية فعدم
ثبوت العلقة بينهما واضح، إذ لا علقة بين البينة القائمة على الخمرية وبين نفس الخمر، لا
علقة التلازم، ولا علقة العلية، والمعلولية، وان كانت من الأحكام الشرعية، فلان الأحكام الشرعية
انما تثبت لمتعلقاتها ومترتبة على موضوعاتها الواقية، لا على ما أدى إليه
الطريق الأبناء على التصويب الذي لا نقول به، فلا ربط ثبوتي بين الامارة وبين الأكبر
وقد عرفت لزوم وجوده في اطلاق الحجة.
وبهذا يظهر عدم تمامية ما افاده الشيخ الأعظم (ره) بقوله ان اطلاق الحجة على
القطع ليس كاطلاقها على الامارات المعتبرة شرعا إلى أن يقول فقولنا الظن حجة يراد به
كونه وسطا لا ثبات حكم متعلقه فراجع وتدبر.
وأما بمعناها الثاني: فلان الحجة في اصطلاح الأصوليين، عبارة عن الطرق
والامارات الواسطة لا ثبات احكام ما تعلقت به بحسب الجعل الشرعي، وهذا المعنى
لا ينطبق على القطع، إذ القطع بالحكم هو وصوله حقيقة ولا يتوقف عل منجزية القطع
لتكون نتيجة البحث عنها مفيدة في الفقه، وهذا بخلاف ساير الامارات فإنه بما انها ليست
وصولا حقيقيا للحكم، فيتوقف العلم بالحكم على ثبوت كونها وصولا تعبديا، وبهذه
العناية يصح جعلها وسطا في القياس لا ثبات احكام متعلقاتها فيقال هذا مظنون الخمرية
وكل مظنون الخمرية حرام، ولعله إلى هذا نظر الشيخ الأعظم (ره) وان كان خلاف ظاهر
كلامه.
8

فالمتحصل انه لا يصح اطلاق الحجة على القطع باصطلاح أهل الميزان
ولا بالاصطلاح الأصولي، نعم بصح اطلاق الحجة عليه بمعنى القاطع للعذر أي المنجز
والمعذر، ولكن هذا في القطع الطريقي.
واما القطع المأخوذ في الموضوع فقد يقال انه يصح اطلاق الحجة بمعناها الأول
عليه بنحو من العناية فيقال هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية نجس يجب
الاجتناب عنه إذا كانت النجاسة مترتبة على معلوم الخمرية لان نسبة الموضوع إلى
الحكم كنسبة العلة إلى المعلول وان لم تكن من العلل الحقيقية الا ان من جهة عدم
تخلف الحكم عن موضوعه والتلازم بينهما يقع وسطا للقياس، ولا فرق ذلك بين ما
لو كان القطع تمام الموضوع أو جزئه، نسب ذلك إلى المحقق النائيني (ره) ولا باس به.
ولكن لا يصح اطلاق الحجة عليه بالمعنى الثاني: إذ القطع، بل من الأدلة الدالة
على ثبوت ذلك الحكم كالنجاسة عند القطع بالخمرية. مثلا - وبعبارة أخرى - تكون
نسبته إليه هي نسبة ساير الموضوعات إلى الحكم، فكما ان الحرمة لا تستنبط من الخمر
بل من الأدلة الدالة على حرمة الخمر كذلك هذا الحكم.
ثم انه بما ذكرناه ظهر ان مسألتي منجزية العلم الاجمالي، واستحقاق المتجرى
للعقاب خارجتان عن مسائل الفن، واما مسالة قيام الامارات والأصول مقام القطع، فهي
وان كانت من المسائل الأصولية الا انها خارجة عن مسائل القطع، لان امكان قيام الامارة
مقام القطع وعدمه من توابع الامارة، لا القطع لأنه يثبت بها ترتب حكم الواقع على
مؤدى الامارة أو عدمه، فظهر خروج هذه المسألة من المسائل الأصولية.
واما وجه أشبهيته بمسائل الكلام: فلان المسائل الكلامية، عبارة عن كل شئ له
مساس بالعقائد الدينية، وحيث إن البحث عن منجزية القطع يمكن ارجاعه إلى، انه هل
يصح للمولى ان يعاقب على مخالفة المقطوع به، فيصح دعوى ان هذه المسألة أشبه
بمسائل الكلام.
واما شدة مناسبته مع المقام فلانه يبحث في الأصول عما يقع نتيجته في طريق
9

القطع بالحكم فيناسب بيان حال القطع بالحكم.
هل المسائل الأصولية تختص بالمجتهد
الامر الثاني: ظاهر كلام الشيخ الأعظم (1) من جعل المقسم للحالات الثلاث، القطع،
الظن، الشك، هو المكلف، عدم اختصاص ما يذكره من أحكامها، بالمجتهد، وهو صريح
المحقق الأصفهاني (2)، وصريح المحققين الخراساني (3) والنائيني (4) هو الاختصاص وتبعهما
جماعة (5) وقالوا ان المسائل الأصولية من حجية خبر الواحد، والاستصحاب، وما شاكل
تختص بالمجتهد، وقد استدل للثاني، بوجوه.
الأول: ما افاده المحقق النائيني (6) (ره) وتوضيحه اختصاص عناوين موضوعاتها
بالمجتهد: إذ حصول تلك الصفات من، القطع، والظن، والشك، فرع الالتفات التفصيلي
إلى الحكم، والعامي من جهة غفلته لا يكاد تحصل له تلك الصفات، وعلى فرض
حصولها له لا عبرة بظنه وشكه بعد عجزه عن تشخيص موارد الامارات والأصول، وعدم
تمكنه من فهم مضامينها والفحص في مواردها.
وفيه: انه يمكن فرض حصولها للمقلد، ولو بعد تنبيه المجتهد، أو كان محصلا
غير بالغ مرتبة الاجتهاد، واما عدم تشخيص مواردها، فيرجع في ذلك إلى المجتهد وهو
يعين الموارد.
الثاني: ما ذكره المحقق الأصفهاني (7) قال إن عناوين موضوعات الاحكام الظاهرية
لا تنطبق الاعلى المجتهد، فإنه الذي جائه النبأ، أو جائه الحديثان المتعارضان، وهو الذي
أيقن بالحكم الكلى، وشك في بقائه وهكذا الا ان محذوره عدم ارتباط حكم المقلد به
فلا يتصور في حقه تصديق عملي ليخاطب به، ومن له تصديق عملي لا ينطبق
عليه العنوان ليتوجه التكليف انتهى.
وفيه: ان وظيفة المجتهد هي وظيفة الإمام (ع)، وهي بيان الاحكام المجعولة في
10

الشريعة بنحو القضايا الحقيقية، ومن جملة تلك الأحكام، الاحكام الأصولية، فإذا فرضنا
ان الخبر الموثق المتضمن للحكم الكلى، كوجوب جلسة الاستراحة فهم المجتهد من
الأدلة حجيته، يفتى بحجية الخبر الموثق، ويرجع المقلد إليه في ذلك من باب رجوع
الجاهل إلى العالم، ويبين ان هذا الخبر ظاهر في الوجوب ولا معارض له، ويرجع المقلد
في ذلك أيضا إليه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة، فيعمل المقلد به.
وبذلك يظهر انه حاجة إلى ما ذكره (قده) في رد هذا المحذور بقوله ان أدلة
الافتاء والاستفتاء يوجب تنزيل المجتهد منزلة المقلد فيكون مجيئ الخبر إليه بمنزلة
مجيئ الخبر إلى مقلدة ويقينه وشكه بمنزلة يقين مقلده وشكه فالمجتهد هو المخاطب
عنوانا والمقلد هو المخاطب لبا انتهى.
مع أنه يرد عليه انه لا دلالة لأدلة الافتاء على هذا التنزيل فتدبر.
الثالث: عدم قدرة المقلد على العمل بالخبر الواحد، وعلى الفحص اللازم في
العمل بالأصول.
وفيه: ان العمل بالخبر الواحد هو الاتيان بالفعل الذي دل الخبر على وجوبه،
وهذا مما يقدر عليه المقلد، وانما لا يقدر على الاستظهار من الدليل، وقد عرفت انه له ان
يرجع إلى المجتهد في ذلك من باب كونه شرطا في الاخذ بالأحكام المتعلقة بالشك، بل
الحكم متعلق بالشك الذي لا يكون في مورده دليل، والفحص انما يكون لاحراز ذلك،
فيكون نظر المجتهد في تعيين ذلك متبعا للمقلد لكونه أهل الخبرة متبعا للمقلد، فالأظهر
ان هذه الأحكام كالأحكام الأولية مشتركة بين المجتهد والمقلد لاطلاق أدلتها.
ونتيجة ما اخترناه ان للمجتهد ان يقر المقلد على الشك ويقول له لا تنقض اليقين
السابق بالشك، كما أن له يجرى الاستصحاب عنه لليقين والشك ويفتى بما يستخرجه
من الاستصحاب، وهذا بخلاف القول بالاختصاص فإنه ليس له ذلك.
ويترتب عليه انه إذا فرضنا في مورد كون حكم متيقنا سابقا، ومشكوكا فيه لا حقا
والمجتهد يرى ظهور رواية في خلاف الحكم السابق، والمقلد يعلم بخطائه واشتباهه،
11

فان له ان يجرى الاستصحاب، ويعمل على طبقه وهذا بخلاف مبنى التخصيص، فإنه
ليس له ذلك لعدم الاستصحاب له فتدبر فان هذه ثمرة مهمة.
وربما يورد على القول بالاختصاص بوجهين.
أحدهما: ان لازمه عدم جواز رجوع المقلد إليه فيما استفاده من الأدلة، فان
الأحكام المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها لا حظ، وجوب التصرف في مال
الأيتام والقضاوة وما شاكل.
ويرده انه فرق بين الحكم المتعلق بالعمل الخاص والحكم الذي يكون واسطة في
اثبات الحكم الكلى الأولى المشترك بين المجتهد والمقلد، والذي لا يجوز العمل به هو
الأول، فإنه حكم متعلق بعمل المجتهد، والمقام من قبيل الثاني، فإنه يستفيد المجتهد من
حجية الاستصحاب الحكم المشترك بينه وبين مقلده فتدبر.
ثانيهما: ان موضوع الأصول هو المكلف الشاك، والمقلد الذي يكون التكليف
متوجها إليه، لا يكون شاكا في الحكم لعدم التفاته، والمجتهد وان كان شاكا، الا ان
التكليف غير متوجه إليه، فمن توجه إليه التكليف غير شاك في الحكم، والشاك فيه لم
يتوجه إليه التكليف، فلا مورد للرجوع إلى الأصل العملي.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بان المجتهد نائب عن المقلد في اجراء الأصل، فيكون
الشك من المجتهد بمنزلة الشك من المقلد.
وفيه: انه لا دليل على هذه النيابة وأدلة الأصول غير شاملة للشك النيابي.
والحق في الجواب ان يقال ان موضوع الأصول هو الشك في الحكم فالمجتهد
إذا التفت إلى حكم مقلده الذي، هو مجعول بنحو القضية الحقيقية، ووظيفة المجتهد
كوظيفة الإمام (ع) - بيان ذلك وحصل له الشك مع يقينه سابقا بثبوته يجرى الاستصحاب
بلحاظ يقينه وشكه، ولا يعتبر في جريان الاستصحاب كون الشك متعلقا بالحكم المتعلق
بفعل نفسه ويفتى حينئذ ببقاء ذلك الحكم.
أضف إليه انه يمكن ان يجرى المتجه الاستصحاب بلحاظ يقين المقلد وشكه،
كما إذا كان الحكم مما يلتفت إليه المقلد أيضا، فيشك فيه كما شك فيه المجتهد فيجرى
12

الاستصحاب في حقه ويفتى بمؤداه، فالقول بالاختصاص وان كان لا محذور فيه، الا ان
مقتضى اطلاق الأدلة هو البناء على التعميم.
تثليث الأقسام
الامر الثالث: ذكر الشيخ الأعظم، ان المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فاما ان
يحصل له القطع، أو الظن، أو الشك، ولذلك جعل كتابه مشتملا على مقاصد ثلاثة،
ومورد كلامه في التقسيم هو الحكم الواقعي.
وعدل المحقق الخراساني في الكفاية عن ذلك وجعل التقسيم ثنائيا، ومحصل
ما ذكره في وجه العدول أمور ثلاثة.
الأول: انه لا بد من أن يكون المراد من الحكم، أعم من الواقعي والظاهري، لعدم
اختصاص احكام القطع بما إذا تعلق بالحكم الواقعي، وعليه فلا بد من جعل التقسيم
ثنائيا، إذ المكلف إذا التفت إلى حكم أو ظاهري، فاما ان يحصل له القطع به، أو لا
ويدخل بحث الحجج والامارات الشرعية، والأصول العملية الشرعية، في القسم الأول،
وعلى الثاني لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل، من اتباع الظن أو حصل ولم تتم
مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة لا بد من الرجوع إلى الأصول العقلية، من البراءة
والاشتغال والتخيير على اختلاف اختلاف الموارد.
الثاني: انه لا بد من تخصيص الحكم بالفعلي لان احكام القطع مختصة بما إذا كان
متعلقا به، إذا الحكم الانشائي غير البالغ مرتبة الفعلية لا يترتب عليه اثر.
الثالث: انه لا بد من تبديل الظن بالطريق المعتبر لئلا يتداخل الأقسام، إذ الظن غير
المعتبر محكوم بحكم الشك، وفى كلام الشيخ جعل قسيما له، والامارة المعتبرة ربما
لا تفيد الظن الشخصي فهي قسيم الشك وقد جعلت في كلام الشيخ داخلة فيه، وعليه فان
كان لا بد من تثليث الأقسام، فلا بد وان يقال ان المكلف اما، ان يحصل له القطع، أو لا،
13

وعلى الثاني، اما ان يقوم عنده طريق معتبر، أولا، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق.
أقول يرد على ما افاده أولا، ان المجعول في باب الامارات والأصول الشرعية
ليس هو الحكم الظاهري كما ستعرف فلا علم بالحكم في مواردها.
أضف إليه ان التقسيم في كلام الشيخ انما هو في رتبة سابقة على الحكم، ولبيان
شرعي، اما ان يحصل له القطع الذي هو حجة ذاتا ولا تكون حجية جعلية، أو الشك
الذي لا يكون قابلا للحجية إذ ليس فيه كاشفية أصلا ولا معنى لجعله حجة، واما ان
يحصل له الظن وهو متوسط بينهما إذ له طريقية ناقصة، فليس كالقطع ليكون حجة ذاتا،
ولا كالشك ليكون جعل الحجية له ممتنعا، فان دل على اعتباره يكون ملحقا بالقطع
والا فهو ملحق بالشك، ويجرى في مورده الأصل العملي، فالتقسيم انما هو في مرتبة
سابقة على الحكم، وبعد البحث قد يلحق الظن بالقطع، وقد يلحق بالشك، فلا بد من جعل
التقسيم ثلاثيا نعم لا بد من تبديل الظن في كلام الشيخ بالطريق الناقص الذي جعله الشارع
حجة، وتبديل الشك، بعدم وجود امارة معتبرة على الحكم، وقد صرح الشيخ (ره) بذلك
في أول بحث البراءة.
وبذلك يظهر الحال فيما افاده ثالثا، وانه هو الصحيح، وان كان فيما افاده مسامحة
يظهر لمن تدبر فيه فالمتحصل ان التقسيم لا بد وأن يكون ثلاثيا، بالنحو الذي افاده
المحقق الخراساني ولا يتم ما افاده الشيخ الأعظم (ره).
وقد يقال كما عن المحقق العراقي ان الأولى، ما افاده الشيخ، لان التقسيم انما هو
بلحاظ ما للأقسام المذكورة من الخصوصيات الموجبة للطريقية والحجية من حيث،
الوجوب، والامكان، والامتناع حيث إن القطع لكشفه التام مما وجب حجيته عقلا،
والظن لكونه كاشفا ناقصا أمكن حجيته شرعا، والكشف لعدم الشك فيه لا يفعل حجيته.
وفيه: انه لو كان البحث في المباحث الآتية عن، وجوب الحجية للقطع، وامكانها
للظن، وامتناعها للشك كان ما ذكر من التقسيم حقا، ولكن بما ان البحث في الظن انما هو
14

عن الامارات المجعولة شرعا أفادت الظن أم لم تفد، كما أن البحث في المقام الثالث
عن الأصول المجعولة عند عدم وجود امارة معتبرة ولو حصل الظن، والتقسيم انما يكون
لتعيين عناوين المباحث الآتية اجمالا، فلا يصح ما ذكر.
الكلام في حجية القطع
وكيف كان فبيان احكام القطع وأقسامه، يستدعى البحث في، مواضع الأول، قد
طفحت كلمات الأصحاب بأنه يجب العمل على وفق القطع، ولزوم الحركة على
طبقه، وانه يوجب تنجيز الحكم، وتنقيح القول في هذا الموضع انما هو بالبحث في
مقامات.
الأول: في أن طريقية القطع بمعنى انكشاف المقطوع به به، قابلة للجعل، أم لا؟
الثاني: في أن وجوب العمل على طبق القطع، بمعنى منجزيته في صورة المطابقة
للواقع، ومعذريته في صورة المخالفة، وان شئت فعبر عنه بالحجية، هل هو مجعول، أم لا؟
الثالث: في أنه هل يمكن عقلا النهى عن العمل به بمعنى عدم ترتب محذور عقلي
عليه، أم لا؟
الرابع: في أنه هل يصح تعلق الامر المولوي بالعمل على طبق القطع، وان شئت
فعبر عنه بالإطاعة، أم لا، فيكون الامر بالإطاعة ارشاديا ولا يمكن ان يكون مولويا.
اما المقام الأول: فالحق ان طريقيته لا تقبل الجعل، لا التكويني منه، ولا
التشريعي، إذ حقيقة القطع، حقيقة مرآتية، فاقطع عين الطريقية، لا شئ لازمه تلك، ومن
الواضح انه لا جعل تأليفي يبن الشئ ونفسه، نعم يصح جعل وجود القطع نفسه، لكنه
غير جعل الطريقية له، الذي هو محل الكلام هذا بالنسبة إلى الجعل التكويني واما عدم
قابليتها للجعل التشريعي، فلانه لا يتعلق بما هو متكون بنفسه، والا يكون من أردأ أنحاء
تحصيل الحاصل.
واما مقام الثاني: فالأقوال في ثلاثة 1 - ان وجوب العمل على وفق القطع، انما
15

هو من لوازم ذاته، اختاره صاحب الكفاية، حيث قال، وتأثيره في ذلك لازم وصريح
الوجدان به شاهد وحاكم 2 - ان ذلك انما يكون بحكم العقل والزامه، اختاره
المحقق الخراساني في التعلقية 3 - انه انما يكون ببناء العقلاء اختاره المحقق الأصفهاني.
والحق هو الأول فان العقل بعد القطع بالحكم،
يرى أن مخالفته مناف لذي
الرقية، وخروج عن رسم العبودية، وهتك لحرمة المولى وظلم عليه، والعمل على وقفه
عمل بوظيفة العبودية، ولهذا يدرك العقل انه لو عاقبه المولى على مخالفته لم يعد قبيحا،
بل يحسن ذلك لعدم منافاته للحكمة، - وبعبارة أخرى - ان العقل كما يدرك استحالة
العقاب من الحكيم في صورة عدم العصيان لكونه عقابا بلا بيان، ومنافيا للحكمة، كذلك
يدرك صحته وامكانه في صورة العصيان لعدم التنافي بينه وبين الحكمة بل بينهما كمال
الملائمة، وهذا الدرك العقلاني انما هو كدرك العقل امتناع اجتماع الأمر والنهي، أو
جوازه.
واستدل المحقق اليزدي (ره) في دوره لعدم جعل الحجية للقطع: بأنه لو قلنا
باحتياجها إليه لزم التسلسل، لان الامر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده
الواقعي، بل لا بد من العلم، وهذا العلم أيضا كالسابق يحتاج في التنجيز إلى الامر
وهكذا.
ولكن يرد عليه ان الامر الثاني وان كان وصوله مما لا بد منه في تنجيز الامر
الواقعي المعلوم، الا انه لا تنجز له حتى يحتاج تنجزه إلى الجعل فإنه امر بداعي تنجز
الامر الأول - وبعبارة أخرى - ان جعل المنجزية للقطع لا يكون من الأحكام المتعلقة
بفعل المكلف حتى يتصور فيه المخالفة فتوجب استحقاق العقاب بل هو من الأحكام الوضعية
التي لا مخالفة لها، وعليه فلا معنى لمنجزيته حتى يحتاج إلى جعل آخر فلا يلزم
منه التسلسل، فالصحيح ما ذكرناه.
واما القول الثاني: فيرده ان شان القوة العاقلة، ليس هو البعث والتحريك، والالزام،
بل شانها ادراك الأشياء، بل الالزام والبعث التشريعي وظيفة المولى، نعم الانسان
يتحرك نحو ما قطع بكونه نفعا له، ويحذر عما يراه ضررا، ولكن ذلك ليس بالزام العقل
16

بل انما يكون منشأه حب النفس، ولذا لا يختص ذلك بالانسان، بل الحيوان بما انه بفطرته
يحب نفسه، يتحرك نحو ما يراه نفعا له، ويحذر عما يراه ضررا عليه، وهذا التحرك
تكويني، لا بعث تشريعي.
واما القول الثالث: وهو القول بان حجية القطع انما تكون ثابتة ببناء العقلاء،
والأحكام العقلائية عبارة عن القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظا
للنظام وابقاءا للنوع لحسن العدل وقبح الظلم والعدوان.
فيرده ان وجوب العمل على طبق القطع كان ثابتا في زمان لم يكن فيه إلا بشر
واحد ولم يكن نوع ليكون العمل على طبقه لحفظه، وان شئت فاختبر ذلك بفرض نفسك
ذلك البشر.
النهى عن العمل بالقطع
واما المقام الثالث: فالحق عدم امكان النهى عن العمل به، وذلك لوجهين.
أحدهما: لزوم التناقض اعتقادا مطلقا، وواقعا في صورة الإصابة، - وبعبارة
أخرى - المكلف لا يتمكن من تصديق النهى عن العمل به بعد تصديقه بحرمة الفعل كما
لو علم بحرمة الخمر: إذ النهى عن العمل به اذن في الفعل، وهو لا يجتمع مع الحرمة - وان
شئت قلت - ان الحرمة عبارة عن الزجر عن الفعل مع عدم الترخيص في الفعل،
فالترخيص فيه مع الحكم بالحرمة متناقضان والمكلف بعد اذعانه بالأول غير متمكن من
الاذعان بالثاني.
وقد أورد على هذا التقريب بايرادين. الأول: بأنه قد ورد النهى عن العمل بالظن
القياسي حتى في حال الانسداد فإذا جاز النهى عن العمل به في حال الانسداد، جاز النهى
عن العمل بالعلم في حال الانفتاح، لان الظن في تلك الحال كالعلم في هذه.
وفيه: انه ان أريد بهذا التنظير ان الظن بالحكم غير الفعلي، وان صح المنع عن
العمل به، الا ان القطع به كذلك والقطع بالحكم الفعلي لا يمكن النهى عن العمل به،
17

للزوم اجتماع النقيضين، فالظن به أيضا كذلك، لأنه يلزم منه الظن باجتماعهما وهو أيضا
غير معقول - فيرد عليه - ان التكليف الواصل بالقطع الواصل بالقطع بما انه لا يحتمل الخلاف فلذا
لا يعقل جعل حكم آخر في مورده، واما الظن فحيث انه ليس وصولا حقيقيا فالتكليف
باق على مجهوليته ومرتبة الحكم الظاهري محفوظة، فيصح جعل حكم في مورده
وتمام الكلام في محله.
وان أريد به ان الظن في حال الانسداد كالعلم يستقل العقل بمنجزيته لما تعلق به
فإذا صح الترخيص في مخالفته شرعا صح في القطع فيرد عليه، ما سيأتي في محله من أن
حكم العقل بمنجزية الظن في حال الانسداد تعليقي، بخلاف القطع فإنه تنجيزي فيصح
المنع عن العمل به دونه.
الثاني: ما عن المحقق العراقي (ره) وهو انه لا مناقضة ولا تضاد بين الحكمين بعد
كون مرجع ردعه إلى الترخيص في الرتبة اللاحقة عن القطع والحال ان حرمة الفعل ثابتة
له في الرتبة السابقة على القطع، ومع اختلاف الرتبة بين الحكمين، يرتفع المناقضة
والتضاد بين الحكمين - وفيه - ما سيأتي في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي،
والظاهري، من أن اختلاف الرتبة لا يكفي في رفع التناقض والتضاد فانتظر.
الوجه الثاني: انه يلزم من النهى عن العمل بالقطع، الاذن في المعصية في صورة
المصادفة للواقع، وفى التجري في صورة المخالفة، وهما قبيحان، فالاذن فيهما أيضا
قبيح، وان شئت قلت إن النهى عن العمل بالقطع، اما ان يكون بسلب طريقيته، أو بالمنع
عن متابعته، والعمل على وقفه وشئ منهما لا يمكن، اما الأول فواضح إذ سلب الشئ
عن نفسه محال، واما الثاني فلما ذكرناه.
الامر بالإطاعة لا يكون مولويا
واما المقام الرابع: فقد استدل لعدم امكان تعلق الامر المولوي بالإطاعة بوجوه.
الأول: لزوم التسلسل: إذا الامر بالإطاعة لو كان مولويا يتحقق عنوان إطاعة أخرى
18

فيتعلق به الامر لكونها إطاعة، وهذا الامر أيضا، يحقق عنوان إطاعة أخرى، فيتعلق به
الامر أيضا وهكذا إلى أن يتسلسل.
وفيه: ان ذلك يلزم لو قيل باحتياج وجوب الإطاعة إلى الامر، لا ما هو محل
البحث، وهو امكان تعلقه بها كما لا يخفى، مع أنه للآمر ان يأمر بها بنحو القضية الطبيعية
فيشمل جميع الافراد غير المتناهية، وانحلال الامر المتعلق بالطبيعة إلى أوامر غير متناهية
حيث يكون بايجاد واحد لا محذور فيه.
الثاني: لزوم اللغوية لان الامر المولوي ليس الا من جهة دعوة المكلف إلى الفعل
وهي موجودة هنا فلا حاجة إليه.
وفيه: انه يكفي في عدم لزوم اللغوية تأكيد داع المكلف لأنه يمكن ان لا ينبعث
من امر واحد، وينبعث لو تعدد.
الثالث: ما ذكره المحقق صاحب الدرر وهو انه يعتبر في صحة الامر قابليته، لان
يصير داعيا مستقلا، لان حقيقته البعث نحو الفعل والامر المتعلق بالإطاعة لا يصلح
لذلك، لان المكلف اما ان يؤثر فيه امر المولى أولا، وعلى الأول يكفيه الامر المتعلق
بالفعل، وهو المؤثر لا غير لأنه أسبق رتبة من الامر المتعلق بالإطاعة، وعلى الثاني لا يؤثر
الامر المتعلق بالإطاعة فيه استقلالا لأنه من مصاديق امر المولى.
وفيه أولا: ان حقيقة الامر كما تقدم، اما ابراز اعتبار كون المادة على عهدة
المأمور، أو ابراز شوق المولى إلى الفعل ولا يعتبر في ذلك سوى ما يخرجه عن اللغوية
وقد عرفت، انه يكفي في ذلك تأكيد داع المكلف، واما اعتبار كونه قابلا لان يصير داعيا
مستقلا فلا وجه له أصلا، بل لو سلم كون الامر عبارة عن البعث نحو الفعل لا نسلم اعتبار
ذلك فيه، إذا البعث نحو الفعل، ليس الا عبارة عن جعل ما يمكن داعويته، واما امكان
داعويته مستقلا من دون ان يضم إليه شئ فليس ذلك مأخوذا في حقيقة البعث.
وثانيا: لو سلمنا اعتبار ذلك فيه ولكن في المقام يتصور ذلك، فان كل واحد من
الامرين قابل لان يكون داعيا مستقلا، ولكن لفرض اجتماعهما كل منهما يصير جزء
الداعي وذلك ليس لقصور في الامر كما لا يخفى.
19

فالحق في وجه ذلك يبتنى على مقدمتين الأولى ان التكليف تأكيديا كان أم غير
تأكيدي، - وبعبارة أخرى - كان في مورده تكليف آخر أم لم يكن، كان دليله المثبت
حكم العقل، بضميمة قاعدة الملازمة أم كان دليلها الكتاب والسنة، لا بد وان يترتب عليه
ثمرة، والا جعله يكون لغوا، وصدوره من الحكيم محال.
الثانية: ان العناوين الحسنة قسمان، الأول: ما لا يكون مرتبطا بالمولى من حيث إنه
مولى كالاحسان إلى الغير والظلم عليه. الثاني: ما يكون له ارتباط خاص بالمولى من حيث إنه
مولى كإطاعته والانقياد له. وفى الأول لو لم يتعلق به الامر المولوي لا وجه لعقاب
المولى على المخالفة ولا الثواب على لا موافقة، ولا يوجب الفعل قربا إلى المولى، ولا
الترك بعدا عنه. واما في الثاني، فتصح العقوبة على المخالفة والثواب على الموافقة
ويوجب الفعل قربا إليه والترك بعدا عنه.
إذا عرفت هاتين المقدميتن، فاعلم أن الامر والطلب حيث لا يصح الا فيما يوجب
الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة
بحيث لولاه لما كان في المبين ان يتقرب به أو فيما يوجب ازدياد الثواب
و العقاب، والا يكون التكليف لغوا، فلا يصح الامر المولوي في المقام لترتب هذه الآثار
على نفس الموضوع بل هو الموضوع لهذه الآثار دون الامر كما لا يخفى.
قال المحقق الخراساني (ره) في الكافية ثم لا يذهب عليك ان التكليف ما لم يبلغ
مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق
العقوبة على المخالفة وان كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة انتهى.
فيه: ان التفكيك بين الثواب والعقاب، لا وجه له: إذا الحكم ان كان فعليا فموافقته
توجب الثواب ومخالفته توجب العقاب، وان لم يكن فعليا فان كانت المصلحة تامة
ملزمة وانما لم يؤمر به لمانع في الامر غير المفسدة، كالفعلة في المولى العرفي، فمخالفته
توجب العقاب كما أن موافقته توجب الثواب، من جهة تفويت الغرض الملزم، وان كان
لم يؤمر به لمانع من قبيل المفسدة في الامر فمخالفته، وان كانت لا توجب العقاب الا ان
موافقته أيضا لا توجب الثواب فتدبر.
20

الموضع الثاني في التجري
وقبل الشروع في البحث لا بد من التنبيه على امر، وهو ان موضوع البحث في
كلمات الاعلام، وان كان هو القطع، الا ان الظاهر أنه أعم منه، ومن الامارات المعتبرة
والأصول العملية، بل يعم كل احتمال منجز كالمقرون بالعلم الاجمالي، والشبهة البدوية
قبل الفحص، فالأولى ان يعنون البحث هكذا إذا قام حجة أي ما يحتج به المولى
على العبد على حكم، بان قطع به، أو قامت امارة معتبرة عليه، أو استصحب، أو احتمل
ولم يكن له مؤمن، وخالفه العبد، ولم يكن ذلك موافقا للواقع، فيكون فعله ذلك تجريا،
فلو قامت البينة على خمرية شئ أو استصحب تلك، أو علم اجمالا بخمرية هذا المايع،
أو المايع الاخر فشربه ولم يكن في الواقع خمرا، كان متجريا.
ودعوى: انه في موارد الطرق والامارات الشرعية والأصول العملية يكون كشف
الخلاف موجبا لانتهاء أمد الحكم الا انه يستكشف عدم الحكم من الأول فلا يتصور
فيها التجري.
مندفعه، بان ذلك يتم على القول بالتصويب، واما بناءا على ما هو الحق من أن
المجعول في باب الامارات والطرق الشرعية هي الطريقية والكاشفية كما ستعرف فلا يتم
ذلك كما لا يخفى.
ثم إن مورد الكلام انما هو القطع الطريقي، واما القطع الموضوعي، فهو خارج عن
محل البحث لأنه لو كان القطع تمام الموضوع فليس له كشف الخلاف وان كان جزء
الموضوع، فكشف الخلاف وان كان يتصور فيه الا ان تنجز التكليف، انما يكون بواسطة
القطع بالحكم المتعلق بما هو جزء الموضوع وجزئه الاخر فنزاع التجري انما يجرى
باعتبار ذلك القطع الذي يكون طريقيا.
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في حكم التجري من حيث، استحقاق العقاب،
والقبح، والحرمة فلا بد من البحث في مقامات.
21

المقام الأول: في أن التجري هل يوجب استحقاق، العقاب مع بقاء الفعل
المتجرى به على ما هو عليه من المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟ وبهذا الاعتبار تكون
المسألة كلامية.
المقام الثاني: في أن الفعل المتجرى به هل يكون قبيحا كي يستتبعه الحرمة
بقاعدة الملازمة أم لا؟ وبهذا الاعتبار تكون المسألة أصولية.
المقام الثالث: في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به، والكلام فيه في جهتين:
الأولى في البحث عن حرمته بنفس ملاك الحرام الواقعي باعتبار ان موضوعات الأحكام
هي الأشياء بوجوداتها العلمية فاطلاق الأدلة يشمل الفعل المتجرى به، الجهة الثانية في
البحث عن حرمته لا بملاك الحرام الواقعي بل بملاك التمرد على المولى، والفرق بين
الجهتين مضافا إلى أنه في الجهة الأولى، يكون البحث عن حرمة الفعل المتجرى به
بعنوانه الأولى، وفى الثانية يكون عن حرمته بالعنوان الثانوي: ان البحث في الأولى
مختص بما إذا كان الخطاء في الانطباق، مع كون الحكم مجعولا في الشريعة كما إذا قطع
بخمرية شئ فشربه، ولا يتصور فيما إذا كان الخطأ في أصل جعل الحكم كما لو قطع
بحرمة شرب التثن فشربه ولم يكن في الواقع محرما، واما البحث في الجهة الثانية فهو عام
لكلا القسمين.
استحقاق المتجرى للعقاب
اما المقام الأول: فالأقوال فيه أربعة. الأول: استحقاق العقاب عليه مطلقا ولعله
المشهور بين الأصحاب. الثاني: استحقاق العقاب على قصد العصيان والعزم على الطغيان
لا على الفعل اختاره المحقق الخراساني. الثالث: عدم استحقاق العقاب لا على القصد
ولا على الفعل. الرابع: استحقاق العقاب عليه إذا لم يكن الفعل المتجرى به واجبا واقعا.
وحق القول في المقام انه ان قلنا ان استحقاق العقاب على المعصية، انما هو بجعل
الشارع كما هو أحد طرقه على ما نسب إلى الشيخ الرئيس في الإشارات وغيره وفى غيرها:
22

نظرا إلى أن ردع النفوس عن فعل ما فيه المفسدة وترك ما فيه المفسدة وترك ما فيه المصلحة واجب بقاعدة
اللطف، فالمتجري لا يستحق العقاب لان ما فيه المفسدة ذات شرب الخمر لا ما اعتقد انه
شرب الخمر، وان قلنا انه انما يكون بحكم العقل كما هو المشهور، فالمتجري يستحقه
لاتحاد الملاك فيه مع المعصية الواقعية: لان العقاب على المعصية ليس لأجل ذات
المخالفة مع التكليف، ولا لأجل تفويت غرض المولى، ولا لأجل ارتكاب المبغوض بما
هو لوجود الكل في صورة الجهل، بل لكونها هتكا لحرمة المولى وجرئة عليه، وعدم
العمل بما يقتضيه قانون العبودية والمولوية إذ بها يخرج العبد عن ذي الرقية ورسم
العبودية إذ مقتضى ذلك تعظيم المولى لا هتك حرمته، والهتك يوجب الدخول في زمرة
في المتجرى.
وقد أفاد المحقق النائيني (ره) ردا على هذا الوجه بأنه مركب من أمرين. الأول: كون
العلم تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الإطاعة والمعصية حيث إن
الإرادة الواقعية لا اثر لها عند العقل ولا يمكن ان تكون محركة لعضلات العبد الا بالوجود
العلمي والوصول. الثاني: كون المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي ولا اثر
للقبح الفعلي المجرد عن ذلك.
وكل منهما قابل للمنع، اما الأول: فلان العلم وان كان له دخل في المستقلات
العقلية، الا ان العلم غير المصادف للواقع ليس علما بل هو جهل، واعتبار هذا العلم في
موضوع هذا الحكم العقلي انما هو من جهة ان الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة
الفاعل، بل المحرك هو انكشاف الإرادة، وفى المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى
الفاعل، بل هو تخيل الإرادة فلا عبرة به في نظر العقل، وعلى الجملة ان الموجب للعقاب
هو مخالفة تكليف المولى الواصل إلى العبد، وأين هذا مما لم يكن في الواقع تكليف،
وكان من تخيل التكليف.
واما الامر الثاني: فلان مناط استحقاق العقاب عند العقل، وان كان هو القبح
الفاعلي، الا ان له قسمين. أحدهما: ما يتولد من القبح الفعلي الذي يكون احرازه موجبا
23

للقبح الفاعلي. والثاني: ما يكون متولدا من سوء السريرة وخبث الباطن، وبينهما فرق
واضح، والذي يوجب استحقاق العقاب هو القسم الأول، والموجود في التجري
هو الثاني.
ويرد عليه انه ليس المدعى تأثير العلم في استحقاق العقوبة على المخالفة كي يقال
انه في مورد التجري لا يكون علم بل هو جهل مركب بل المدعى ان العلم يصير سببا
لانطباق عنوان على المعلوم كعنوان الطغيان على المولى والجرئة عليه، ولا فرق وجدانا في
انطباق هذا العنوان بين المعصية والتجري، وعلى الجملة قد عرفت ان الموجب
لاستحقاق العقاب ليس مخالفة تكليف المولى بما هي مخالفة كي يقال انه ليس في مورد
التجري تكليف، بل الموجب هو الهتك، والطغيان عليه، وفى ذلك لا فرق بين كون العلم
مخالفا للواقع أم موافقا له.
نعم في المعصية الواقعية جهة أخرى موجبة للعقاب أيضا، وهي تقويت الغرض
الواصل وهذه الجهة غير موجودة في التجري وعليه ففي المعصية سببان للعقاب بحيث لو
أمكن انفكاك تفويت الغرض الواصل عن الهتك والطغيان، لكان يوجب العقاب أيضا،
ولكن بما انه لا يصدر في الخارج عن المكلف الا فعل واحد فيعاقب بعقاب واحد، أشد
من عقاب التجري.
ولعل هذا هو مراد صاحب الفصول (ره) من أن العاصي يعاقب بعقابين متداخلين،
وعليه فايراد المحقق الخراساني عليه من أن المعصية الحقيقية لا توجب الا عقوبة واحدة
وعلى تقدير استحقاقهما لا وجه للتداخل، غير وجيه.
1 - انه لو فرضنا رجلين قطع أحدهما بخمرية مايع وشربه فصادف، والاخر قطع
بخمرية مايع آخر فشرب وخالف، يدور الامر بين أمور أربعة، وهو استحقاق كليهما
للعقاب، وعدم استحقاقهما له، واستحقاق المصادف قطعه، دون الاخر، وعكس ذلك،
وحيث إن الثلاثة الأخيرة باطلة فيتعين الأول، اما بطلان الثاني، والرابع فواضح، واما
24

بطان الثالث فلاستلزامه إناطة استحقاق العقاب، بما هو خارج عن الاختيار من مصادفة
قطعة الخارجة عن تحت قدرته، وفساده بين.
ولكنه يندفع بأنه لا محذور في الالتزام به فإنه للخصم ان يقول بان السبب
لاستحقاق العقاب هو المخالفة العمدية وانتفائها، تارة بانتفاء كلا الجزئين، وأخرى
بانتفاء الثاني، كما لو ارتكب الحرام عن عذر، وثالثة بانتفاء الأول كما في المتجرى،
ولكن الجزئين حاصلان في المعصية، وعليه فالمصادفة التي هي غير اختيارية دخيلة في
تحقق علة الاستحقاق وهو المخالفة لا في نفسه، ودخل الامر غير الاختياري في ذلك
لا منع منه، بل واقع كوجود المكلف وما شاكل، وانما يعاقب المتجرى لعدم تمامية علة
الاستحقاق.
2 - ما ادعاه جماعة من، الاجماع على أن ظان ضيق الوقت، يكون عاصيا إذا ترك
الصلاة، ولو انكشف بقائه.
ويرده مضافا إلى عدم تمامية الاجماع المزبور، صغرى، وكبرى، اما الصغرى
فلمخالفة جماعة، واما الكبرى فلان المسألة عقلية، مع أن مدرك المجمعين معلوم أو
محتمل، انه يمكن ان يكون للظن موضوعية في هذا الحكم، بل الظاهر من جهة التعبير
بالعاصي هو ذلك.
وبه يظهر ما في الدليل 3 - وهو دعوى الشيخ ظاهرا، في أن سالك الطريق المظنون
الضرر أو مقطوعه عاص، يجب عليه اتمام الصلاة، ولو بعد انكشاف عدمه.
4 - بناء العقلاء، ويرده انه لعله على الإرادة لا على الفعل.
5 - انه انما يحكم بالاستحقاق من جهة تجريه وهتك حرمته لمولاه، وخروجه
عن رسم عبوديته كما مر و هذا العنوان انما ينطبق على الفعل المتجرى به لا على مقدماته
كالعزم والإرادة: لان العبد بفعل ما، يراه انه مبغوض للمولى يخرج عن رسم العبودية
ويكون ظالما، والعزم عليه عزم على الظلم، لا انه بنفسه ظلم، وهذا هو الوجه في عدم
العقاب على الإرادة والعزم: لا ما ذكره بعض من أن الإرادة غير إرادية غير إرادية والا لتسلسل ومن
المعلوم ان العقاب لا بد وأن يكون على الامر الاختياري، لما عرفت من أن الإرادة إرادية
25

بنفسها لا بواسطة إرادة أخرى، فلا يلزم التسلسل ولا العقاب على الامر غير الاختياري
فتدبر.
الفعل المتجرى به قبيح
واما المقام الثاني: فقد استدل له بوجهين. أحدهما: ان التجري يكشف عن سوء
سريرة العبد، وخبث باطنه، وانه في مقام الطغيان على المولى، وهذا يوجب قبح الفعل
المتجرى به.
ويرده ان الفعل وان كان يكشف عن سوء السريرة وخبث الباطن، الا انه لا يكون
المنكشف قبيحا عقلا، وان كان موجبا لاستحقاق اللوم كساير الصفات والأخلاق
الذميمة، وعلى فرض تسليم قبحه قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف كما أن حسنه
لا يوجب حسن الكاشف.
ثانيهما: ان تعلق القطع بقبح فعل وحرمته، يوجب تعنون الفعل المقطوع قبحه
بعنوان قبيح ويصير قبيحا سواء كان ذلك القطع مخالفا للواقع أم موافقا له.
وأنكر ذلك جماعة منهم المحقق الخراساني في الكفاية قال ولكن ذلك مع بقاء
الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح والوجوب أو الحرمة
واقعا، بلا حدوث تفاوت فيه: بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة
ولا يغير حسنه أو قبحه بجهة أصلا انتهى، وقد ذكر في الاستدلال له بما محصله يرجع
إلى أمور أربعة:
الأول: ان العلم المرآتي المتعلق بالفعل، لا يكون مؤثرا في صفة الفعل، بان يغيره
عما هو عليه، وان قلنا ان الحسن والقبح يعرضان للفعل بالوجوه والاعتبار، بداهة انه ليس
كل وجه واعتبار يغير صفة الفعل، والوجدان أقوى شاهد عليه، وحال العلم في ذلك حال
البصر وفى المبصرات، فكما ان البصر لا يؤثر في المبصر، العلم لا يؤثر في المعلوم، - وبعبارة
أخرى - ان لا واقع للحسن والقبح عقلا، ولا لكون شئ وجها موجبا لهما الا في وجدان
26

العقل، وعدم كون المقطوع بهذا العنوان من العناوين الموجبة لأحدهما بعد وضوح عدم
كونه بهذا العنوان ذا مصلحة أو مفسدة في نظر العقل، واضح.
ويرده ان المدعى لا يدعى كون العلم بنفسه موجبا لذلك بل يقول بتأثير العلم في
انطباق عنوان على المعلوم على تقدير المخالفة، وهو عنوان التجري على المولى والطغيان
عليه، وهتك حرمته.
الثاني: ان العناوين المحسنة والمقبحة، لا بد وأن تكون اختيارية متعلقة للإرادة
والاختيار، وعنوان القطع ليس من هذا القبيل: إذ القاطع لا يقصد الفعل بما هو مقطوع
الوجوب أو الحرمة أو الخمرية أو شاكل، وانما يقصد العنوان الواقعي، فهذا العنوان
لا يكون مقصودا.
وفيه: ان المراد من القصد في قوله ان القاصد لا يقصد الا الفعل بعنوانه الأولى، ان
كان هو الداعي كما هو ظاهر كلامه فهو صحيح، إذ من يشرب الخمر يكون داعيه
الاسكار مثلا لا عنوان مقطوع الخمرية الا انه لا يعتبر في اختيارية الفعل أزيد من الالتفات
إليه والقدرة على الفعل والترك، الا ترى ان من شرب الخمر لا بقصد انه خمر مسكر بل
بقصد انه مايع بارد، يصدق انه شرب الخمر اختيارا ويستحق بذلك العقاب وان
كان المراد منه الالتفات، فهو يرجع إلى الوجه الثالث.
الثالث: ان عنوان المقطوعية، يكون غالبا مغفولا عنه، وغير متلفت إليه، فكيف
يكون من الجهات المحسنة أو المقبحة عقلا، ولا يكاد صفة موجبة لذلك الا إذا
كانت اختيارية والشئ ما لم يكن ملتفتا إليه لا يكون اختياريا.
وفيه: مضافا إلى كونه أخص من المدعى كما هو واضح: ان المراد من الالتفات، ان
كان هو الالتفات التفصيلي فعنوان المقطوعية، وان كان غير ملتفت إليه الا انه لا يعتبر
الالتفات التفصيلي في الاختيار بل يكفي الاجمالي منه، وان كان المراد ما يعم الالتفات
الاجمالي الارتكازي، فهو وان كان دخيلا في الاتصاف بالاختيارية، الا ان عنوان
المقطوعية، يكون ملتفتا إليه بالالتفات الاجمالي دائما، كيف وان الأشياء انما تكون
حاضرة عند الذهن بالقطع، ويسمى بالعلم الحصولي، واما حضور القطع فهو يكون
27

بنفسه، بل لا حقيقة للقطع الا الحضور عند النفس، ويعبر عنه بالعلم الحضوري، فلا يعقل
وجود القطع وعدم الالتفات إليه.
الرابع: ان المتجرى لا يصدر فعل منه في بعض افراده بالاختيار، كما في التجري
بارتكاب ما قطع انه من مصاديق الحرام كما إذا قطع مثلا بان مايعا خمر مع أنه لم يكن
بالخمر، فان شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه، وشرب الماء مما لم يقصده، فلم يصدر
منه فعل بالإرادة والاختيار إذ ما قصده لم يقع وما وقع لم يقصده.
وأجاب عنه بعض المحققين بما حاصله ان البرهان المذكور انما يتم بالنسبة
إلى الخصوصيات ولا يتم في الجامع فإنه من شرب المايع باعتقاد انه خمر يعلم أنه
مصداق للجامع وهو شرب المايع وقادر على تركه فكيف يمكن ان يقال انه شرب المايع
بلا اختيار، الا ترى ان من قتل شخصا باعتقاد انه زيد فبان انه عمر: فإنه لا شبهة في أنه قتل
انسانا اختيارا.
وفيه: انه مع الاغماض عن كون نسبة الطبيعي إلى الافراد نسبة الاباء إلى الأبناء
لا نسبة أب واحد الأبناء، وعليه فكل فرد من افراد المايع له حصة من الطبيعي
والحصة التي تكون في ضمن الخمر وان تعلقت إرادة الشارب بها الا انها لم توجد ولا
واقع لها والحصة المتحققة لم تتعلق الإرادة بها حتى يكون صدورها اختياريا.
انه لو سلم كون نسبته إليها نسبة الأب الواحد إلى الأبناء، الا ان الطبيعي في ضمن
الخاص انما يتعلق به الإرادة بالعرض والا فهي متعلقة بالخاص، وكل ما بالعرض لا بد
وان ينتهى إلى ما بالذات، وحيث إن الخصوصية التي أريدت، ونسبت الإرادة إلى الطبيعي
الموجود بالعرض لم توجد، والخصوصية الأخرى، لم تتعلق بها الإرادة كي تنسب إلى
الطبيعي بتبعه، والمفروش ان الجامع لم يتعلق به الإرادة رأسا، وبما هو فلا محالة،
لا يكون الجامع اختياريا.
والحق في الجواب ان شرب المايع الشخصي المشار إليه بالإشارة الحسية ليس
بقسر القاسر.
ولا بالطبع، بل يتحقق مستندا إلى الإرادة. نعم، تعلق الإرادة به كان لأجل اعتقاد
28

انه شرب الخمر، وتخلفه انما يكون من باب تخلف الداعي، ولا يوجب كون الشرب
المتحقق خارجا عن الاختيار.
ثم إن في المقام وجها خامسا لعدم القبح، وهو انه لو التزم بقبح الفعل المتجرى
به، لزم انقلاب الواقع عما هو عليه، أو اجتماع الحسن والقبح في مورد واحد، إذا كان
الفعل المتجرى به في الواقع من الافعال الحسنة وكل منهما محال.
وفيه: أولا، ان الفعل بما له من العنوان واقعي المجهول للفاعل لا يكون حسنا ولذا
لو تركه كان معذورا، الا ترى انه لو ضرب اليتيم للتشفي وترتب عليه التأديب، لا يكون
الضرب حسنا بوجه، بل هو قبيح محض. وثانيا: انه لو سلم كونه حسنا لا يلزم اجتماع
الضدين بل يقع التزاحم بينهما ويقدم الأقوى، ومع التساوي، يحكم بأنه لا حسن فيه ولا
قبح، وعلى أي تقدير هذا الوجه، لا يمنع من كون التجري بنفسه من العناوين القبيحة.
ثم إن المحقق النائيني (ره) بعد ما التزم بعدم قبح الفعل مستندا إلى الوجه الأول من
الوجوه التي استند إليها المحقق الخراساني قال نعم، لا باس بدعوى القبح الفاعلي بان
يكون صدور هذا الفعل من مثل هذا الفاعل قبيحا وان لم يكن الفعل قبيحا.
وفيه: مضافا إلى ما عرفت آنفا من أن القبح انما هو لعنوان التجري، والهتك،
والظلم المنطبق، على الفعل المضاف: انه لو سلم عدم قبح الفعل وأغمض عما ذكر لما
كان، وجه للالتزام بالقبح ألفا على إذا إضافة الفعل إلى الشخص، - وبعبارة أخرى - ايجاده،
عين وجوده حقيقة لما حقق في محله من، اتحاد الايحاد والوجود، فلا معنى للقول بعدم
قبح الوجود، وقبح الايجاد.
و بهذا يظهر عدم صحة ما ذكره المحقق العراقي (ره) في مقام الجواب عنه، من أن
لازم مبغوضية إضافة الفعل مبغوضية نفس الفعل، لكونه مقدمة للإضافة المذكورة. نعم،
لو كان الفعل غير الإضافة المذكورة كان هذا الجواب متينا جدا - وبالجملة - لا بد من
الالتزام اما بعدم القبح، كما عن المحقق الخراساني، أو القبح الفعلي كما حققناه
في الجواب عن استدلال المحقق الخراساني على مختاره، واما الالتزام بالقبح الفاعلي فلا
وجه له أصلا.
29

حرمة الفعل المتجرى به وعدمها
واما المقام الثالث: فقد مر ان الكلام فيه في جهتين.
الأولى: في حرمته بنفس الملاك للحرام الواقعي، بان يقال ان اطلاق الأدلة
الأولية شامل لموارد التجري، وان متعلق التكليف في الخطابات الأولية انما هو إرادة
الفعل الخارجي المحرز كونه ذلك الفعل من دون دخل لمصادفته ومخالفته، ويكون
الموضوعات هي الوجودات العلمية، لا الموجودات الواقعية فمعنى لا تشرب الخمر
لا تشرب ما قطعت بكونه خمرا.
ويستدل له بما هو مركب من مقدمات، الأولى ان متعلق التكليف لا بد وأن يكون
مقدورا للمكلف فما هو خارج عن تحت قدرته لا محالة يكون مفروض الوجود
ولا يتعلق به الحكم، وعليه فموضوعات الأحكام ومتعلقاتها خارجة عن حيز التكليف،
فلو ورد لا تشرب الخمر، تكون خمرية الخمر خارجة عن حيز الخطاب ومفروضة
الوجود في هذا الخطاب. الثانية: ان المحرك للإرادة و الاختيار، انما هو القطع
والانكشاف من دون دخل للمصادفة للواقع وعدمها فيه أصلا، الا ترى ان القاطع بوجود
الأسد يفر وان لم يكن هناك أسد، وجود الأسد، لا يوجب الحركة نحو الفرار ما لم
يقطع به. فما، افاده المحقق النائيني (ره) من أن المحرك هو العلم بالموجود الخارجي بما
انه طريق إليه، - وبعبارة أخرى - الموجود الخارجي لكن لا مطلقا بل بعد الانكشاف غير
تام. الثالثة: ان متعلق الإرادة التشريعية هي الإرادة التكوينية، إذا الغرض مترتب على الفعل
الاختياري، لا الاضطراري، فالفعل في نفسه من حيث هو لا غرض فيه بل الغرض مترتب
على اختيار الفعل، إذا عرفت هذه الأمور تعرف ان متعلق التكليف انما هو اختيار ما تعلق
القطع بانطباق الموضوع، أو المتعلق عليه فعلا أو تركا، صادف الواقع قطعه أم خالفه.
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بان المقدمة الثالثة، غير تامة: إذ الإرادة تكون
مغفولا عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها، فلا تصلح لان يتعلق بها التكليف.
30

وفيه: ان الإرادة ملتفت إليها واختيارية بنفسها.
والحق في الجواب بمنع تلك المقدمة بان يقال ان التكليف لا بد، وان يتعلق بما فيه
المفسدة أو المصلحة، ولأجل ذلك متعلق للغرض، ولا ريب ان ما فيه المصلحة أو
المفسدة انما هو الفعل غاية الامر اما لا مصلحة أو لا مفسدة في الفعل غير الصادر عن
الاختيار، أو انه من جهة عدم امكان التكليف بما لا يطاق، يكون المتعلق هو الفعل الصادر
عن الاختيار، لا الاختيار نفسه، وعليه فإذا اختار شرب الخمر ولم يشربه لما أوجد
المنهى عنه، فالحق ان الموضوعات هي الأشياء بوجوداتها الواقعية.
واما الكلام في الجهة الثانية وهو انه قد يدعى حرمة الفعل المتجرى به يملك
الجرئة على المولى: واستدل له بان تعلق القطع بحرمة فعل، أو بموضوع معلوم الحرمة
كالخمر، يوجب قبح ذلك الفعل، والقطع بحسن عمل بوجب حسنه، فبضميمة قاعدة
الملازمة، يحكم بحرمته في الأول، ووجوبه في الثاني فهنا دعويان. الأولى ان القطع
بقبح فعل أو حسنه من الوجوه المقبحة أو المحسنة الثانية ان قبح الفعل يستتبع حرمة
شرعية، وحسنه يستتبع وجوبا شرعيا، اما الدعوى الأولى فقد مر الكلام فيها في المقام
الثاني وعرفت انها تامة، والكلام في المقام في خصوص الدعوى الثانية.
فقد أورد عليه المحقق النائيني (ره) بما حاصله ان الخطاب المدعى استكشافه
بقاعدة الملازمة ان كان مختصا بالمتجري ومن خالف قطعه للواقع، فمضافا إلى أنه
تخصيص بلا وجه بعد اشتراك القبح الفاعلي بين صورة المصادفة للواقع، والمخالفة له،
يكون غير ممكن، لان الالتفات إلى الموضوع مما لا بد منه والمتجري لا يعقل ان يلتفت
إلى أنه متجر لأنه الالتفات يخرج عن كونه متجريا، فتوجيه الخطاب على وجه
يختص بالمتجري لا يمكن، وان كان الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والخالفة،
بان ينهى عن هتك المولى مثلا، فهو أيضا لا يمكن لاستلزامه اجتماع المثلين دائما في نظر
القاطع، وان لم يلزم ذلك في الواقع لان النسبة بين حرمة الخمر الواقعي، ومعلوم
الخمرية، هي العموم من وجه، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان: إذا القاطع يرى قطعه
مصادفا للواقع فدائما يجتمع في نظره حكمان، وكل من هذين الحكمين لا يصلح ان
31

يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد بحيال ذاته ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث
عنه ولو في مورد، وفى مثل اكرام العالم وأكرم الهاشمي مما تكون النسبة بينهما عموما
من وجه كل من الحكمين يصلح للباعثية ولو في مورد الافتراق، وفى صورة الاجتماع
يلزم التأكد، فلا مانع من تشريع هذين الحكمين، بخلاف المقام فإنه لو فرض ان للخمر
حكم ولمعلوم الخمرية أيضا حكم، فبمجرد العلم بخمرية شئ يعلم بوجوب الاجتناب
عنه الذي فرض انه رتب على ذات الخمر فيكون هو المحرم الباعث للاجتناب،
والحكم الاخر المرتب على معلوم الخمرية، لا يصلح لان يكون باعثا، ويلزم لغوييه
وليس له مورد اخر، يمكن استقلاله في الباعثية وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل
المخالفة.
وأضاف الأستاذ الأعظم إلى ذلك، ان الحكم ان كان مترتبا على ما يشمل التجري،
والمعصية، كان جعل هذا الحكم مستلزما للتسلسل، إذا التجري أو العصيان قبيح عقلا
على الفرض، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة، أو التجري فيها
أيضا، قبيح عقلا، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية وهكذا إلى ما لا نهاية له.
ولكن يرد على المحقق النائيني (ره) انه في مورد الاجتماع، اما ان يكون جعل
التكليف الثاني صحيحا لترتب الأثر عليه، أو لا يكون كذلك فان كان صحيحا فلا يفرق
فيه، بين ان يتعلق التكليف به خاصا، أو بما يعمه، وان لم يكن صحيحا فلا يصح، ولو بان
يتعلق بعنوان أعم منه، - وبعبارة أخرى - بما ان المانع عن التكليف الثاني المتعلق بعنوان
الاجتماع حينئذ، مانع ثبوتي، وهو عدم امكان داعويته، فلا يصح ولو بان يتعلق بعنوان
أعم، إذ امكان داعويته، في مورد الافتراق، لا يصحح التكليف في مورد الاجتماع كما
لا يخفى.
والحق انه في الموارد التي نلتزم فيها بالتأكد، لا فرق بين ان يكون النسبة بين
العنوانين عموما من وجه، أو تكون عموما مطلقا، فإنه في المورد الثاني أيضا يصح جعل
التكليف الثاني، ولا يكون لغوا، إذ يمكن ان يكون العبد ممن لا ينبعث عن التكليف
الواحد، وينبعث لو تعدد، لازدياد العقاب على المخالفة، والثواب على الموافقة، فعلى
32

هذا للمستدل ان يقول إنه وان كان في نظر القاطع، مورد النهى عن الهتك ملازما دائما،
لمورد يكون متعلقا لتكليف آخر، الا انه يكفي لجعل الحكم عليه تأكد داعي العبد
ولا يكون جعله لغوا.
أضف إلى ذلك أنه لو كانت النسبة بين الموضوع الواقعي كالخمر، وما علم كونه
محرما، هي العموم من وجه، كما اعترف به (قده) من جهة ان العلم ربما يخالف الواقع،
والواقع ربما لا يتعلق به العلم، لا تكون النسبة في نظر العالم هي العموم المطلق، إذ العالم
وان لم يحتمل مخالفة قطعه الفعلي للواقع، الا انه يحتمل مخالفة بعض افراد قطعه له بل
ربما يحصل له العلم بذلك كما لا يخفى وعليه فلا محذور في جعلهما حتى على مسلكه.
واما ما افاده الأستاذ ففيه انه لا يوجد من المولى إلا نهي واحد متعلق بطبيعة الهتك،
وهو يشمل الافراد المحققة به، ولا باس بانحلال النهى الواحد إلى نواهي غير متناهية
لانتهائها إلى ايجاد واحد، مضافا إلى انقطاعها بانقضاء زمان الامتثال وبترك فعل واحد،
وهو ما نهى عنه أولا، مع أنه ليس هناك الا هتك واحد ولا يوجب مخالفة المتعدد من
التكاليف التي في مورد واحد، أزيد من هتك واتحد وجرئة واحدة.
فالحق في الجواب عن قاعدة الملازمة، ان يقال بعد بيان مقدمات.
الأولى: انه لا بد وأن يكون لتكليف سواء كان في مورده تكليف اخر أم لم يكن
وسواء كان دليله المثبت له حكم العقل، أم كان هو الكتاب السنة اثر، والا يكون جعله
لغوا وصدوره من الحكيم محال.
الثانية: ان التكليف المولوي يتأتى فيما يكون موجبا للثواب على الموافقة
والعقاب على المخالفة أو ازديادهما، والتمكن من التقرب إلى المولى بالموافقة أو فيما
يكون موجبا للتنجز والعذر كالتكاليف الواردة في مقام جعل الامارات والأصول
العملية. الثالثة: ان العناوين القبيحة قسمان، الأول ما لا يكون له في نفسه ارتباط خاص
بالمولى، كالظلم على الغير، الثاني ما يكون بنفسه مرتبطا به، كهتك حرمة المولى، والظلم
عليه، ففي القسم الأول لو لم به النهى المولوي، لا وجه لعقاب المولى عليه من
33

حيث إنه مولى، ولا يوجب بنفسه بعدا عنه، ولا يكون تركه موجبا للقرب إليه، واما في
القسم الثاني فجميع هذه الآثار تترتب عليه فيصح عقوبته عليه، ويكون فعله مبعدا عنه،
وتركه مقربا إليه، بل هو الملاك لترتب هذه الآثار هذه الآثار على التكليف، والا فهو بنفسه مع قطع
النظر عن هذا الحكم العقلي لا يترتب عليه شئ من هذه الآثار.
إذا عرفت هذه المقدمات يتبين انه لا يصح التكليف المولوي بعنوان هتك المولى،
لان الآثار التي يمكن ان يترتب على الحكم الشرعي الذي يكون بدون ترتبها لغوا
لا يصدر من الحكيم، كلها مرتبة على نفس الموضوع، فتعلق التكليف به يكون لغوا وبلا
اثر، وصدوره من الحكيم محال.
ولنا في الجواب عن هذا الدليل وجه آخر، وهو ان حكم العقل عبارة عن ادراكه
لا غير كما مر غير مرة، وعليه فتارة فتارة يدرك العقل ما هو سلسلة علل الأحكام من
المصالح والمفاسد، وأخرى يدرك ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية، كحسن
الإطاعة وقبح المعصية إذ هذا الحكم من العقل فرع ثبوت الحكم الشرعي، والذي يكون
مورد قاعدة الملازمة انما هو القسم الأول والمقام من قبيل الثاني فلنا دعويان.
الأولى: ان قاعدة الملازمة تتم في الأول، دون الثاني، والوجه فيه ان العقل إذا
أدرك مصلحة ملزمة غير مزاحمة بمفسدة في عمل الأعمال، أو مفسدة ملزمة غير
مزاحمة بالمصلحة في فعل من الافعال، يعلم قطعا بجعل، الوجوب الشرعي في الأول
والحرمة في الثاني، بناءا على مسلك العدلية من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح
والفاسد، وان الشارع الا قدس جعل لكل عمل حكما اما لزوميا أو غير لزومي، وهذا
القسم من الحكم العقلي نادر ان وجد.
وأما إذا كان المدرك العقلاني من القسم الثاني فلا مورد لقاعدة الملازمة.
الدعوى الثانية ان المقام من قبيل الثاني وهو واضح لا سترة عليه.
تنبيهات
الأول: انه قد استدل لحرمة لافعل المتجرى، به بوجهين آخرين أحدهما الاجماع،
34

الثاني الاخبار.
اما الأول: فقد ادعى جماعة الاجماع على أن ظان ضيق الوقت إذا اخر صلاته
عصى وان انكشف بقاء الوقت، وتعبيرهم بظن الضيق انما هو لبيان ادعى فردي الرجحان،
وأيضا ادعى الاجماع على أن سلوك طريق مظنون أو مقطوعه معصية، ولو
انكشف الخلاف، فلو فاتت الصلاة في السفر الكذائي، لا بد من القضاء تماما ولو بعد
انكشاف عدم الضرر.
ولكن يرده مضافا إلى ما مر من أن محل الكلام في التجري، هو القطع الطريقي
المحض فلو تم الاجماع يكون الظن أو القطع بنفسه موضوع الحكم فيكون أجنبيا
عن المقام.
مع أنه يمكن منع الاجماع على العصيان حتى في صورة كشف الخلاف، لان
وظيفة المفتى ليس الا تعيين الوظيفة حين العمل وهو حين حصول الظن والخوف
فيحكم بحرمة التأخير، وان المكلف لو اخر يكون عاصيا، ولا يجوز السفر مع الخوف
ويعد سفره معصية، واما انه لو تجرى وانكشف الخلاف، فهل هو عاص، أم لا ليس
وظيفة المفتى بيانه.
واما الاخبار فقد دلت الاخبار على العقاب نية المعصية، وبإزائها روايات تدل
على عدم العقاب عليها، فقد جمع بينهما، بحمل الأولى على نية المعصية مع الجري على
طبق ما نوى، وحمل الثانية على النية المجردة، ومن الحكم بترتب العقاب يستكشف
الحرمة.
ويرد عليه ان الجمع المذكور تبرعي لا شاهد له، ولعل الأولى حمل ما دل على
نفى العقاب على العفو، وعدم فعلية العقاب، وما دل على ثبوته على الاستحقاق، نظير ما
ورد في العفو عن الظهار، وعن الصغائر إذا اجتنب الكبائر فتأمل - مع - انه من ترتب
العقاب في أمثال المقام مما يكون الموضوع له ارتباط خاص بالمولى الذي يكون
العقاب من آثار نفس الموضوع لا يستكشف الحرمة كما هو واضح، هذا كله مضافا إلى أن
عنوان الهتك والتجري غير قابل لتعلق النهى المولوي به، فلو تم الاجماع و الاخبار
35

لا بد من تأويلهما. أصف إلى ذلك أن الرويات الدالة على ترتب العقاب ما بين ما هو
ضعيف السند وما هو قاصر الدلالة، راجع الوسائل أبواب مقدمات العبادات.
التنبيه الثاني: هل المتجرى يكون فاسقا، أم لا؟ أم يفصل بين التجري في الكبائر،
وبين التجري في الصغائر، والأول يوجب الفسق دون الثاني.
والحق يقتضى ان يقال انه ان فسرنا العدالة، بملكة باعثة على فعل الواجبات
وترك المحرمات مطلقا، يكون المتجرى فاسقا مطلقا، لأنه به يستكشف عدم الملكة،
وانه لا رادع له عن المعصية، كما أنه ان فسرناها بملكة باعثة على عدم مخالفة المولى
في الكبائر تعين التفصيل المزبور، وان فسرناها بفعل الواجبات وترك المحرمات
لم يكن المتجرى فاسقا لأنه لم يرتكب الحرام.
التنبيه الثالث: أفاد صاحب الفصول (ره) ان قبح التجري لا يكون ذاتيا، بل يختلف
بالوجوه والاعتبار ولذلك تقع المزاحمة بين محبوبية الفعل في الواقع، إذا قطع بحرمة ما
هو واجب واقعا، فربما يتساويان، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى، فالتجري حينئذ
مضافا إلى عدم قبحه يكون حسنا، وربما يكون ملاك قبح التجري أقوى فيكون قبيحا.
والحق ان يقال انه تارة يقع البحث فيما افاده على القول بعدم حرمة الفعل
المتجرى به وكونه فقط، وأخرى يقع البحث على القول بحرمته، اما على الأول فما
بتوهم مزاحمته للقبح أمران - الأول - حسن الفعل ان كان واجبا - الثاني - وجوبه، اما
الأول: فهو لا يصح للمزاحمة: لان العنوان الحسن، أو القبيح، ما لم يلتفت إليه ولم
يقصد، لا يوجب حسن الفعل أو قبحه، وحيث إن المتجرى لا يرى حسن الفعل فلا يقصد
العنوان الحسن فلا يصلح ذلك لمنع تأثير ما يقتضى القبح وهو عنوان التجري والهتك.
واما الثاني: فلانه لا منافاة بين الوجوب الواقعي وقبح الفعل لدخوله تحت عنوان قبيح،
والوجوب الواقعي لفرض عدم الالتفات لا يعقل ان يؤثر في رفع قبح الفعل.
واما على الثاني: فالظاهر تعارض الوجوب الواقعي والحرمة الثابتة بواسطة القطع
بحرمته: لان متعلق الوجوب هو الفعل وهو أيضا متعلق للحرمة لانطباق العنوان المتعلق
للحرمة عليه، فيلزم الضدين فيدخل في باب التعارض، ولبيان ما تقتضيه القاعدة
36

في أمثال المقام محل آخر.
الموضع الثالث في القطع الموضوعي
قد مر ان القطع طريق بذاته من دون جعل جاعل، وهو قد يؤخذ في موضوع
حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله ولا يضاده، وقد قسم الشيخ الأعظم هذا القسم من
القطع أي القطع الموضوعي إلى قسمين باعتبار ان القطع قد يكون مأخوذا في الموضوع
بنحو الصفتية، وقد يكون مأخوذا على وجه الطريقية.
أقول يقع الكلام في مقامين. الأول: في بيان المراد من اخذه على وجه الطريقية
ملاحظته من حيث إنه طريق معتبر - وبعبارة أخرى - ملاحظة الجامع بين القطع وساير
الطرق المعتبرة، والمراد من اخذه في الموضوع على وجه الصفتية، ملاحظته حيث إنه
كشف تام.
وفيه: ان الظاهر هو تقسيم القطع بما هو قطع وممتاز عن غيره إلى القسمين،
واخذه فيه بما انه من مصاديق الطرق المعتبرة، مع قطع النظر عن كشفه التام، يكون قطع
النظر عن حقيقته، واخذ لغير القطع في الموضوع، وهو خلف.
أضف إلى ذلك أن الامارات تكون حينئذ من مصاديق ما اخذ في موضوع
الحكم، ولا معنى للقول بأنها تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية
على ما افاده الشيخ الذي هو المقسم لهذا التقسم فلا يصح حمل كلامه عليه.
وقد يقال كما في الكفاية ان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة،
ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره، فقد يؤخذ في الموضوع بما هو صفة خاصة بالغاء
37

جهة كشفه، وهذا معنى اخذه في الموضوع على وجه الصفتية، وقد يؤخذ فيه بما هو
كاشف عن متعلقه وحاك عنه، وهذا معنى اخذه في الموضوع على وجه الطريقية.
وفيه انه بما ان حقيقة القطع عين الانكشاف فلا يعقل اخذه في الموضوع مع الغاء
جهة كشفه، فان حفظ الشئ مع قطع النظر عن جهة كشفه والغائها يكون قطع
النظر عن حقيقته، ومعنى كون القطع والعلم ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره ليس ان له حيثيتين
وجهتين فان ظهوره بنفسه عين مظهريته لغيره، بل معناه عدم احتياجه في الحضور إلى
حضور آخر.
أضف إلى ذلك أن اخذ القطع في الموضوع مع الغاء جهة كشفه عديم المورد
في الشرعيات.
وحق القول في المقام ان المراد من اخذه في الموضوع على وجه الصفتية، اخذه
فيه بما انه مظهر لما تعلق به في النفس بلا نظر إلى مطابقته للخارج، ومعنى اخذه
في الموضوع على وجه الطريقية، اخذه فيه بما انه حاك عما في الخارج ومتعلق به،
توضيح ذلك، ان العلم يشارك الوجود في كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لغيره، الا انه يفارقه
في أن الوجود انما يكون مظهرا لماهية واحدة ولكن العلم مظهر لماهيتين، لأنه أولا
وبالذات مظهر لماهية في النفس وهي التي لا يعقل تحقق القطع بدونها لأنه من الصفات
الحقيقية ذات الإضافة، وتلك الماهية وان لم تكن معلومة بالذات الا انه يعبر عنها بذلك
مسامحة، وثانيا وبالعرض يكون مظهرا لما في الخارج الذي يسمى بالمعلوم بالعرض،
وهو الذي لا يكون ملازما للقطع، وقد لا يكون كما في ما إذا كان جهلا مركبا، ولا باس
بتسمية المعلقين بالماهيتين، ويقال ان للعلم ماهيتين.
فحينئذ قد يتعلق بأخذ القطع في الموضوع من جهة تعلقه بالماهية
المعلومة بالذات، ومثاله العرفي، ما لو نذر الوسواسي الذي لا يحصل له القطع بشئ، انه
إذا قطع بشئ فعليه التصدق بدرهم، فإنه لا ريب في أن نظره انما يكون إلى إزالة مرضه
المتوقفة على حصول هذه الصفة في النفس، ولا نظر له إلى جهة تعلقه بما في الخارج،
38

وهذا هو المراد من اخذ القطع في الموضوع على وجه الصفتية، وقد يتعلق الغرض بأخذه
فيه من جهة تعلقه بالمعلوم بالعرض فيؤخذ في الموضوع بهذا اللحاظ وهذا معنى اخذ
القطع في الموضوع على وجه الطريقية.
اقسام القطع
واما المقام الثاني: وهو بيان اقسام القطع، فالظاهر أن المأخوذ منه في الموضوع
ينقسم إلى أربعة اقسام، إذ المأخوذ على الصفتية ينقسم إلى قسمين، لأنه اما ان يكون
الموضوع هو هذه الصفة بلا دخل للواقع فيه ويؤخذ فيه كذلك، فيكون القطع تمام
الموضوع، واما ان يكون الموضوع هذه الصفة مع كون الواقع أيضا دخيلا فيه فيكون
القطع جزء الموضوع.
و اما القطع المأخوذ على وجه الطريقية فلا يعقل فيه إلا قسم واحد، إذ لا معنى
لاخذه فيه بما انه تمام الموضوع بلا دخل للواقع، إذ معنى اخذه كذلك عدم النظر إلى
الواقع، ومعنى اخذه على نحو الطريقية كون النظر إلى الواقع، فلا يمكن الجمع بينهما،
وما افاده المحقق الخراساني من أنه أيضا ينقسم إلى قسمين - غير تام - فهذه ثلاثة اقسام.
وهناك قسم رابع، وهو اخذه في الموضوع بما انه يقتضى الجري العملي على
وفقه، توضيح ذلك أنه للقطع 1 - كونه ظاهرا بنفسه ومظهرا لما في النفس 2 - كونه
مظهرا لما في الخارج 3 - كونه مقتضيا للجري العملي على وقفه لأنه الموجب والداعي
لإرادة العمل، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يقتضى الفرار عنه واما نفس وجود
الأسد، فهو لا يقتضى ذلك كما لا يخفى.
فعلى هذا تارة يؤخذ القطع في الموضوع من الجهة الأولى، وقد عرفت انقسامه
إلى قسمين، وأخرى يؤخذ فيه من الجهة الثانية، وثالثة يؤخذ في الموضوع من الجهة،
الثالثة، فأقسام القطع المأخوذ في الموضوع، انما يكون أربعة فإذا انضم إليها ما هو طريق
محض يصير خمسة.
39

ثم إن المراد من القطع الموضوعي هو المأخوذ في الموضوع واقعا ويكون دخيلا
في ترتب الحكم، كالعلم المأخوذ في الركعتين الأولتين الأوليتين من الصلوات الرباعية، وركعات
المغرب والصبح، ولذلك لو شك بين الواحدة والاثنتين مثلا، وأتم الصلاة رجاءا ثم
انكشف انه كان آتيا بركعتين كانت صلاته باطلة.
لا القطع المأخوذ المأخوذ في لسان الدليل فقط مع ثبوت عدم دخله في الموضوع كما في
قوله تعالى (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود).
قيام الامارات والأصول مقام القطع
الموضع الرابع: وقع الكلام في قيام الامارات والأصول مقام القطع وملخص
القول فيه بالبحث في مقامين، الأول في قيام الامارات مقام القطع، الثاني في قيام
الأصول مقامه.
اما المقام الأول: فلا ريب ولا كلام في قيام الامارات مقام القطع الطريقي
المحض، إذ أثره انما هو تنجز الواقع عند الإصابة والعذر عند المخالفة وهما مترتبان قيامها
مقامه مطلقا. الثاني: عدم قيامها مقامه كذلك اختاره المحقق الخراساني. الثالث: قيامها
مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية واما المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية
فلا تقوم الامارات مقام اختاره الشيخ الأعظم (ره) وتبعه غيره من الأساطين ولعله الأظهر.
فلنا دعويان. الأولى: عدم قيام الامارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على
وجه الصفتية الثانية قيامها مقام القطع المأخوذ فيه على وجه الطريقية.
اما الدعوى الأولى: فلقصور أدلة حجيتها في مقام الاثبات عن ذلك، إذ غاية
ما يدل عليه دليل الحجية هو تتميم الكشف، والغاء احتمال الخلاف، وترتيب اثار الواقع
على مؤداها، وبعبارة أخرى ترتيب اثار القطع من حيث الطريقية والكاشفية، واما الآثار
40

المترتبة على القطع من قطع النظر عن كاشفيته وطريقيته بل بما هو صفة خاصة نفسانية
كبقية الصفات فلا نظر لدليلها إليها أصلا.
وبذلك يظهر ان ما افاده المحقق الخراساني، من أن دليل التنزيل لو كان كافيا
لتنزيل الامارة منزلة القطع الطريقي والموضوع على وجه الطريقية لكان دليلا على قيامها
مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية من غير فرق، غير تام.
واما الدعوى الثانية فيشهد بها اطلاق دليل الامارة فإنه كما يدل على ترتيب اثر
القطع العقلي على الامارة كذلك يدل على ترتيب اثره الشرعي.
توضيح ذلك أن المجعول في باب الامارات، هو الطريقية والكاشفية التامة بالغاء
احتمال الخلاف، ويعبر عن ذلك بتتميم الكشف، فمفاد دليل الامارة جعلها قطعا، فان
شئت فعبر عنه بتنزيل الامارة منزلة القطع، ومرجعه إلى التوسعة في القطع موضعا
وجعل فر تعبدي له، وعليه فكما انه يدل على ترتيب اثر القطع العقلي أي اثر المقطوع
على الامارة والمؤدى باعتبار انه بعد تتميم كشف الامارة يصير المؤدى منكشفا تعبدا،
فيلزم ترتيب اثره، كذلك يدل على ترتيب اثر القطع الشرعي أي الحكم المأخوذ في
موضوعه القطع، كما أنه على اختاره المحقق الخراساني (ره)، من أن المجعول في باب
الامارات هو المنجزية والمعذرية يكون مقتضى اطلاق الدليل ذلك.
وما افاده (قده) في وجه عدم القيام بما توضيحه ان تنزيل شئ منزلة شئ آخر،
يستدعى لحاظ المنزل، والمنزل عليه، ولحاظ الامارة والقطع في تنزيل الامارة منزلة
القطع الطريقي المحض، لا بد وأن يكون آليا إذا الأثر مترتب على الواقع المنكشف
بالقطع لا على نفس القطع، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الامارة، ولحاظ
الامارة والقطع في تنزيل المارة منزلة القطع الموضوعي يكون استقلاليا، إذا الأثر مترتب
على نفس القطع فيكون النظر إليه حقيقة، وحيث إن الجمع بين التنزيلين في دليل واحد،
مستلزم للجمع بين اللحاظين التنافيين، أي اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ
واحد في آن واحد، وهو غير ممكن، فلا بد وأن يكون التنزيل بلحاظ أحدهما، وحيث إن
المستفاد من أدلة حجية الامارات يحسب المتفاهم العرفي هو لحاظ القطع طريقيا
41

فيتعين الاخذ به ما لم تقم على التنزيل من حيث الموضوعية.
غير تام: لان المجعول في باب الامارات حيث يكون على مسلكه هو المنجزية
والمعذرية، فلا يكون النظر في شئ من الموردين إلى الواقع، بل في القطع الطريقي
المحض أيضا يكون التنزيل بلحاظ اثر القطع نفسه، فلا محالة تكون اللحاظ استقلاليا،
فلا يلزم من التنزيل منزلة القطع الطريقي والموضوعي على نحو الطريقية، الجمع بين
اللحاظين المتنافيين، بل يلزم لحاظ واحد استقلالي وتنزيل واحد وهو تنزيل الامارة
منزلة القطع: إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع فلا يكون هناك الا تنزيل
واحد.
نعم على القول بأنه في باب الامارات يكون المجعول هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع يشكل قيامها مقام المأخوذ في الموضوع لان دليل الاعتبار لا يثبت العلم بالواقع
ولو بالعناية والتعبد فلا وجه لقيامها مقامه.
ودعوى: انه بعد ورود دليل الاعتبار يحصل العلم الوجداني بالواقع التعبدي،
وهذا يكفي في ترتيب آثار العلم الموضوعي، مندفعة بان موضوع الحكم العلم بالواقع
الحقيقي وتعميمه إلى ما يشمل القطع بالواقع التعبدي يحتاج إلى دليل مفقود، فعلى القول بجعل المؤدى يشكل الحكم بالقيام، ولكن على المسلكين الآخرين لا اشكال فيه،
وسيأتي الكلام في بيان ما هو الحق في أول مبحث الظن فانتظر.
قيام الأصول مقام القطع
واما المقام الثاني: وهو قيام الأصول مقام القطع، فقيام الأصل المحرز، مقام
القطع الطريقي المحض واضح، حيث إن حكم الشارع بالبناء على وفق الحالة السابقة
يستلزم المنجزية والمعذرية ويوجب ارتفاع موضوع قبح العقاب بلا بيان، واما القطع
الموضوعي، فان كان مأخوذا في الموضوع بما هو صفة خاصة، أو بما انه طريق، لا يقوم
مقامه إذا المجعول في الأصل المحرز ليس هو الطريقية، واما ان كان مأخوذا فيه بما انه
42

مقتض للجري العملي يقوم مقام القطع.
واما ساير الأصول العملية فغير الاحتياط الشرعي منها لا معنى لقيامها مقام القطع.
اما البراءة العقلية، فلأنها عبارة أخرى عن المعذرية، لا شئ نزل مقام القطع في
ذلك.
واما الاحتياط الفعلي فالمنجز في مورده هو العلم الاجمالي، وانما الاحتياط في
كيفية الإطاعة، لا انه منجز للحكم.
واما البراءة الشرعية فهي ترخيص في الشئ بلحاظ عدم احراز الواقع، لا احراز
عدم الواقع.
واما الاحتياط الشرعي، فلا وجه لترك التكلم فيه من جهة منع الصغرى كما
في الكفاية، إذا هو ثابت في الموارد الثلاثة على المشهور، مع أن عدم ثبوته عند الأصوليين
لا يمنع من ذلك بعد كونه ثابتا عند الأخباريين رضوان الله تعالى عليهم.
فالحق ان يقال، ان المجعول فيه ان كان هو التنجيز كما اختاره المحقق الخراساني
فهو يقوم مقام القطع كما تقدم، ولكن الحق انه هو الحكم الذي لا مصلحة فيه سوى
التحفظ على الواقع، حيث إن المولى لما كان له غرض لم يكن راضيا بتركه حتى في
صورة الجهل، وكان يرى عدم داعوية التكليف في ظرف الجهل والاحتمال جعل هذا
الوجوب تحفظا لذلك الغرض، وليس المجعول هو الحكم على تقدير المصادفة إذ بهذا
النحو من الحكم لا يحفظ الواقع، فلا بد وان يجعل الحكم على جميع التقادير، وعلى
هذا فلا وجه، لقيامه مقام القطع لعدم جعل الطريقية والكاشفية.
ثم إن المحقق الخراساني (ره) بعد اختياره عدم قيام الامارات والأصول مقام القطع
المأخوذ في الموضوع قال وما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل
منزلة الواقع والقطع وان دليل الاعتبار انما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة
الواقع وانما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل
القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة لا يخلو من تكلف بل تعسف
انتهى.
43

ولكن الوجه الذي ذكره في الحاشية، لا يتم، لا لما في الكفاية، بل لان الدلالة
الملازمية، ان أريد بها دلالة الاقتضاء، فهي انما يكون فيما إذا كان الدليل مختصا بمورد
خاص ولم يكن له اثر سوى هذا الأثر المترتب عليه، وعلى الجزء الاخر فمن باب عدم
لزوم اللغوية يستكشف التعبد بالجزء الاخر أيضا إذا لم يكن وجدانيا، وأما إذا كان الدليل
مطلقا أو عاما شاملا لغير هذا المورد فمن الأول لا يختص بما إذا كان له اثر فعلى، ففيما كان
الأثر مترتبا على الجزئين، لا يشمل الدليل أحدهما وحده فلا يلزم اللغوية.
توضيح ذلك أنه ربما يترتب الأثر على الموضوع غير المركب - وبعبارة أخرى -
يكون الموضوع شيئا واحدا نحو لا تشرب الخمر، وفى مثل ذلك إذا أحرز الموضوع
وجدانا أو تعبدا يترتب عليه إلا حكم والأثر بلا توقف على شئ، وربما يترتب الأثر
على الموضوع المركب كما في موضوع عدم تنجس الماء حيث إنه مركب من المائية
والكرية. وعليه، فإذا قامت الامارة على كلا جزئي الموضوع فلا كلام وان قامت على
أحدهما ولم يكن الجزء الاخر محرزا بالوجدان، فلا يمكن التمسك باطلاق دليلها لمثل
هذه الامارة ثم اثبات الجزء الاخر بالملازمة، إذ شموله لها انما يكون متوقفا على ترتب
الأثر عليها، والمفروض ان الأثر لا يكون مترتبا عليها مع فرض عدم ثبوت الجزء الاخر
ولا يلزم من عدم شمول الدليل لها محذور فلا محالة لا يشملها، والمقام من هذا القبيل،
لعدم اختصاص دليل حجية الامارة، والاستصحاب بالمورد الذي يكون القطع مأخوذا
في الموضوع، نعم لو ورد دليل خاص على حجية خصوص هذه الامارة كما ورد خبر
حفص في جواز الشهادة مستندة إلى اليد لدل على ثبوت الجزء الاخر وهو العلم
بالمشهود به بدلالة الاقتضاء صونا لكلام الحكيم عن اللغوية.
وان أريد بها الدلالة الالتزامية المصطلحة، فيرد عليه انها تتوقف على التلازم البين
بين المدلولين، وبديهي عدم التلازم بين جعل المؤدى منزلة الواقع وجعل القطع به منزلة
المتعلق به هو العلم بكونه خمرا، كما أن العلم بكونه خمرا لا يستلزم كونه خمرا في الواقع
فلا مورد للدلالة الالتزامية.
44

وأضف إلى ذلك أن أساس هذا التوجيه انما هو كون المجعول في باب الامارات
والأصول هو المؤدى، وهذا مضافا إلى منافاته لما التزم به في الكفاية من أن المجعول في
باب الامارات هو المنجزية والمعذرية، فاسد من أصله لاستلزامه التصويب الباطل وعدم
دلالة الدليل عليه في مقام الاثبات كما سيأتي تمام الكلام في ذلك في أول مبحث الظن.
اخذ القطع بحكم في موضوع نفس الحكم
الرابع: قال المحقق الخراساني في الكفاية الامر الرابع لا يكاد يمكن ان يؤخذ
القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ولا مثله للزوم اجتماع المثلين
ولا ضده للزوم اجتماع الضدين نعم يصح اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى
منه أو مثله أو ضده انتهى.
وتنقيح القول بالبحث في موارد. الأول: في اخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه.
الثاني: في اخذه في موضوع ضده. الثالث: في اخذه في موضوع مثله - الرابع في اخذ
القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه، أو مثله، أو ضده.
اما المورد الأول: فعن العلامة وغيره الاستدلال لامتناعه، بما في الكفاية من لزوم
الدور.
ولكن يرد عليه ان الحكم وان كان متوقفا على العلم لفرض اخذه في موضوعه، الا
ان العلم لا يتوقف على شخص هذا الحكم بل على ماهية الحكم لاستحالة تقوم العلم بما
هو خارج عن أفق النفس، وليس العلم الا وجود الماهية في النفس، والوجود لا يقبل
وجودا آخر.
فالحق ان يستدل لامتناعه بوجهين آخرين. أحدهما: لزوم الخلف في نظر
المكلف، حيث إنه يرى علمه كاشفا عن الواقع، والواقع منكشفا لديه، فيفرض قبل تعلق
العلم حكما، ويرى علمه متعلقا به، فلو كان التكليف متأخرا عن العلم لزم الخلف في نظر
المكلف، وان لم يكن العلم في الواقع متوقفا على المعلوم بالعرض.
45

ثانيهما: ما ذكره بعض المحققين، وهو ان فرض تعلق الوجوب مثلا بالعلم به
فرض مدخلية العلم في المتعلق، وعدم كون المتعلق طبيعي فعل المكلف كالصلاة،
وفرض العلم بوجوب الصلاة فرض تعلقه بطبيعيها وهما لا يجتمعان.
ثم إن المحقق النائيني التزم بامكان اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه بنتيجة
التقييد - بدعوى - ان العلم بالحكم لما كان من الانقسامات الثانوية للحكم فلا يمكن ان
يكون الدليل المتكفل لبيان الحكم مطلقا بالإضافة إليه ولا مقيدا بل يحتاج إلى متمم
الجعل وذلك المتمم ربما يوجب الاطلاق، وربما يوجب التقييد، كما في مورد الجهر
والاخفات، والقصر والاتمام، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في الموردين
بالعالم.
وفيه: انه في مثل العلم والجهل كون المتمم بنحو الاطلاق، بمعنى عدم مدخلية
العلم والجهل ممكن، واما كونه بنحو التقييد، بمعنى مدخلية نفس العلم، فهو غير ممكن:
إذا الخلف الذي ذكرناه يكون مانعا ثبوتيا ولا يفرق فيه بين ان يكون الدليل المتكفل لبيانه
واحدا أم متعددا كما لا يخفى، نعم كونه بنحو التقييد بمعنى ملازمة العلم لعنوان ومدخلية
ذلك العنوان فيه امر ممكن، وعلى هذا يحمل، ما دل على اختصاص حكم في مورد
بالعالم به.
اخذ القطع بحكم في موضوع ضده
واما المورد الثاني: وهو اخذ القطع بحكم في موضوع ضده، كما إذا ورد الدليل
على حرمة صوم يوم لو قطع بوجوبه، فقد يقال انه لا يلزم منه اجماع الضدين: لان من
شرائطه وحدة الموضوع، وفى المثال يكون الوجوب متعلقا بالصوم والحرمة متعلقة به
بما هو مقطوع الوجوب فيكون الموضوع للحكمين متعددا بحسب الجعل.
ومع ذلك يكون ذلك ممتنعا أيضا لعدم امكان الجمع بينهما في مقام الامتثال
لعدم امكان الانبعاث نحو عمل والانزجار عنه في آن واحد، ومع عدم امكان امتثالهما
46

مع لا يصح تعلق الجعل بهما من المولى الحكيم لهذه لجهة.
ولكن تحقيق لزوم اجتماع الضدين، لان الحرمة في المثال، وان تعلقت بالصوم
بما هو مقطوع الوجوب الا ان الوجوب متعلق به مطلقا يشمل ما لو تعلق القطع
بوجوبه، فيلزم اجتماع الضدين في فرض العلم بالوجوب.
اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم مثله
واما المورد الثالث: وهو اخذ القطع بالحكم في موضوع مثله، فقد استدل
لامتناعه باستلزامه اجتماع المثلين.
وفيه: ان القطع بالحكم ان لم يوجب حدوث مصلحة أخرى سوى المصلحة
الموجودة في المتعلق المقتضية لجعل الحكم الأول، فعدم امكان جعل الحكم الثاني
انما يكون مستندا إلى عدم المقتضى لا إلى وجود المانع، وان أوجب حدوث المصلحة
فان بنينا على عدم امكان الجعل الثاني من جهة عدم ترتب الغرض عليه، ولزوم لغويته،
كان عدم امكان الجعل مستندا إلى لزوم اللغوية لا إلى اجتماع المثلين، وان بنينا على
امكانه وعدم لزوم اللغوية كما سنبينه فاجتماع المثلين، لا يكون مانعا لأنه يلتزم بالتأكد
كساير موارد التأكد.
والحق في المقام ان جعل الحكم الثاني، لا يكون لغوا إذ النسبة بين متعلقي
الحكمين، وان كانت عموما مطلقا بما انه يترتب على الحكم الثاني اثر زيد وهو ازدياد
العقاب والبعد بالمخالفة، وازدياد الثواب والقرب بالموافقة، ومن الممكن ان لا ينبعث
العبد من تكليف واحد وينبعث من تكليفين بملاحظة ما ذكر فلا يكون جعل الحكم
الثاني لغوا غاية الامر لا بد من الالتزام بالتأكد في صورة الاجتماع.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق النائيني (ره) حيث التزم بأنه لو كان بين
العنوانين عموما من وجه، صح جعل كلا الحكمين، لان كلا من الحكمين يصلح لان
ينبعث العبد منه ولو في مورد الافتراق، ففي صورة الاجتماع يلتزم بالتأكد. فلا مانع من
47

تشريع الحكمين بخلاف ما لو كان بينهما عموم مطلق إذ جعل التكليف الثاني الذي هو
أخص موردا من الأول يكون لغوا لعدم قابليته، لان ينبعث عنه العبد ولو في مورد، ولا
معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه، و حيث إن القاطع بالحكم يرى قطعه مطابقا
للواقع ففي نظره، تكون النسبة عموما مطلقا فلا الجعل لذلك.
مع أنه يرد عليه (قده) انه لو فرضنا استحالة جعل الحكم لما يكون متعلقا لتكليف
آخر، لأجل عدم امكان داعويته، لا بد من الالتزام بعدم الامكان حتى فيما كانت النسبة
بين الموردين عموم من وجه إذا التكليف الثاني بما انه في بعض موارد متعلقه لا يصلح
للداعوية وانبعاث العبد عنه جعله بنحو الاطلاق، بنحو يشمله أيضا لغو ولا يصح بل لا بد
من تقييده بمورد الافتراق - وامكان - داعويته في مورد لا يصحح التكليف لمورد
لا يصلح لذلك فتدب. ولا يتوهم، ان لازم ما اخترناه امكان تعلق الامر المولوي بالإطاعة،
فإنه يدفعه ما ذكرناه في محله من أنه لهذا العنوان خصوصية لا يعقل تعلق الامر المولوي به.
اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه
واما المورد الرابع: وهو اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه، فقد
التزم المحقق الخراساني (ره) بامكانه، ولكن سيأتي انشاء الله تعالى في الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري، ان هذا امر غير معقول، إذ كل ما اخذ في الموضوع في مقام الجعل لو
تحقق يصير الحكم فعليا بلا توقف على شئ آخر ولو لم يتحقق لا يصير فعليا وإلا لزم
الخلف، فعدم دخل القطع في الانشاء، وعدم اخذه في الموضوع في مقام الجعل، ودخله
فيه في مقام الفعلية مما لا يجتمعان.
وان شئت قلت إن ما ذكره (ره) يبتنى على ما أسسه (ره) من أن للحكم مراتب أربعا
من، الاقتضاء، والانشاء، والفعلية، والتنجز، واما بناءا على المسلك الحق من أن له
مرتبتين مرتبة الجعل ومرتبة الفعلية فلا يتم: وذلك لان المراد من اخذ العلم بمرتبة من
الحكم، ليس هو اخذ العلم بجعل الحكم لغير القاطع فإنه ليس محل الكلام، بل المراد
48

اخذ العلم بجعل الحكم لنفس القاطع وهو يلازم العلم بالفعلية مثلا كون قوله تعالى (لله
على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) جعلا لشخص القاطع يتوقف على صيرورته
مستطيعا ومعه يصير فعليا فيعود محذور الدور أو الخلف.
اخذ الظن في موضوع الحكم
هذا كله في اخذ القطع بالحكم في الموضوع، واما الظن فملخص القول فيه، انه
تارة يؤخذ في الموضوع على وجه الطريقية، وأخرى يؤخذ فيه على وجه الصفتية، وعلى
التقديرين، ربما يكون جزءا للموضوع، وربما يكون تمامه، وعلى التقادير قد يكون الظن
معتبرا بجعل الشارع، وقد يكون غير معتبر.
والكلام في امكان اخذ الظن بالحكم في موضوع نفسه هو الكلام في اخذ القطع
به فيه دليلا ومختارا نقضا وإبراما.
واما اخذ الظن بالحكم في موضوع حكم يخالفه كما إذا قال المولى إذا ظننت
بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال يجب عليك التصدق، فان كان الظن تمام الموضوع،
ترتب عليه وجوب التصدق كان الظن معتبرا أو غير معتبر، وان كان جزء الموضوع،
والجزء الاخر هو الواقع، فان كان الظن معتبرا ترتب عليه الحكم أيضا فان أحد جزئي
الموضوع، وهو الظن محرز بالوجدان، والجزء الاخر وهو الواقع محرز بالتعبد الشرعي،
وان كان الظن غير معتبر، فان قام امارة أخرى معتبرة، أو أصل معتبر على الواقع ترتب
الحكم أيضا، والا فلا.
واما اخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله، فان كان الظن معتبرا، فان قلنا بان
اخذ القطع بالحكم في موضوع حكم يماثله ممكن، ولا يلزم اجتماع المثلين، ويلتزم
بالتأكد، فلا اشكال في جواز اخذ الظن فيه، وان قلنا بعدم امكانه، فالظاهر امكان اخذ
الظن فيه أيضا لان المانع المتوهم في القطع وهو كون النسبة بين العنوانين عموما مطلقا
في نظر القاطع لأنه لا يحتمل مخالفة قطعه للواقع وان كان فاسدا، لا يجرى في الظن، لان
49

النسبة بين ثبوت الواقع والظن به عموم من وجه، ولو في نظر الظان، إذ الظن المعتبر وان
كان علما تعبدا، الا انه يحتمل مخالفته للواقع وجدانا، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد
كما هو الشأن في جميع موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين.
واختار المحقق النائيني (ره) عدم الامكان واستدل له بوجهين 1 - ان احراز الشئ
لا يكون من طوارئ ذلك الشئ بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث
ملاك في الشئ غير ما هو عليه من الملاك 2 - ان الحكم الثاني لا يكون محركا لإرادة
العبد لان الانبعاث انما يتحقق بنفس احراز الحكم الواقعي المجعول على الواقع فلا
معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز.
ولكن يرد على ما أفيد أولا، انه اشكال يسرى إلى جميع اقسام القطع والظن
المأخوذة في الموضوع، والكلام في هذا البحث بعد الفراغ عن الامكان من الجهات
الاخر، ويرد على ما أفيد ثانيا ما تقدم من أنه يمكن ان لا ينبعث العبد من حكم واحد
وينبعث من الحكم المؤكد الموجب الازدياد الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة
وما شاكل من الآثار المخرجة للثاني عن اللغوية، مع أنه (قده) التزم بامكان الجعل الثاني،
إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما من وجه، وقد مر ان النسبة بين العنوانين في المورد
عموم من وجه.
وان كان الظن غير معتبر فقد ذهب المحقق الخراساني إلى امكان اخذه في
موضوع الحكم المماثل، واستند في ذلك إلى ما افاده في وجه امكان اخذ الظن بحكم
في موضوع حكم ضده وستقف عليه وما يمكن ان يورد عليه.
واما المحقق النائيني فقد اختار امكانه، وملخص ما افاده في وجه ذلك أن لازم
اخذ الظن غير المعتبر لحاظه على وجه الصفتية إذ اخذه على وجه الطريقية، يستدعى
اعتباره، وهو قد يؤخذ تمام الموضوع، وقد يؤخذ جزئه، ولا اشكال في كلا القسمين، اما
في الأول: فلان النسبة تكون حينئذ العموم من وجه، وفى مورد الاجتماع يكون الحكم
آكد، واما في الثاني، فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل من جهة ان الحكم الأولى
المجعول للواقع كالخمر محفوظ في حال الظن فجعل الحكم على الخمر المظنون لغو لا
50

اثر له، لكنه يندفع بأنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر، وتكون
مثلا واجدة لعشرة درجات من المفسدة، بخلاف ما إذا لم يتعلق يه الظن، فإنه يكون
واجدا لخمس درجات، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع
اقدامه على ما يكون خمس درجات، وهذا المقدار من الأثر يكفي.
أقول ان ما افاده في المقام وان كان متينا جدا، الا انه ينافي ما ذكره في الظن المعتبر
وما ذكر في غير موضع من، انه إذا كانت النسبة بين العنوانين عموما مطلقا، لا يصح جعل
الحكم الثاني للزوم اللغوية، ولذلك اختار عدم جواز القطع بحكم في موضوع حكم
يماثله.
فان قلت إنه يمكن ان يكون نظره إلى الفرق بين موارد تنجز حكم العام كما في
القطع وساير الموارد وبين المقام الذي يكون الحكم غير منجز، لفرض عدم اعتبار الظن،
لان الحكم الأول لا يكون محركا فيصح جعل الثاني حينئذ.
قلت إن هذا وان كان مطلبا دقيقا الا انه في المقام لا يمكن الالتزام لأنه بما ان الظن
في موضوع الحكم الثاني، اخذ جزء الموضوع وجزئه الاخر هو الواقع فحينئذ ان لم
يعلم الواقع ولم يقم ظن معتبر على الواقع لا يكون الحكم الثاني باعثا أو زاجرا لعدم العلم
به وان علم به ينقلب الموضوع فلا حكم، فلا محالة لا بد، وان يفرض في فرض تعلق
الظن به قيام امارة معتبرة على أن المظنون هو الواقع، ليكون أحد الجزئين ثابتا بالوجدان
والاخر ثابتا بالتعبد حتى يكون الحكم الثاني صالحا للداعوية وفى هذا الفرض في المرتبة
المتقدمة على هذا الحكم الحكم الأولى المترتب على العنوان العام لفرض قيام الامارة
يصير فعليا ومنجزا ويكون صالحا للداعوية، وبالجملة في المورد الذي يكون الحكم
الثاني صالحا للداعوية يكون الحكم الأول أيضا كذلك فتدبر فإنه دقيق.
واما اخذه في موضوع ضد ذلك الحكم، فان كان الظن مما ثبت اعتباره
بالخصوص فالحق عدم الجواز: لأنه حينئذ بضميمة دليل اعتبار الامارة يكون محرزا
للواقع فجعل حكم آخر له يوجب اجتماع الضدين حقيقة في صورة المصادفة للواقع،
وظنا مطلقا.
51

وان كان الظن غير معتبر فقد اختار المحقق الخراساني جوازه، من جهة ان
المحذور المتوهم ليس الا اجتماع الضدين وهو مندفع بان الحكم الواقعي الذي تعلق به
الظن لا يكون فعليا من جميع الجهات، بل العلم به دخيل في فعليته، وهذا النحو من
الحكم لا ينافي مع الحكم المجعول للظن الذي يكون فعليا لما سيأتي من التحقيق
في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
وفيه: انه ستعرف من أن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي انما يكون، من جهة
ان الحكم الظاهري سنخ حكم يجتمع مع الحكم الواقعي، وفى المقام يكون كلا
الحكمين واقعيين فلا يمكن اجتماعهما وحيث إن اطلاق الحكم الواقعي شامل لصورة
مصادفة الظن وتعلقه به، فيلزم عند المصادفة اجتماع الضدين وهو محال - وان شئت
قلت - انه عند اجتماع العنوانين ووجود مصلحة ملزمة في الفعل باعثة إلى جعل الوجوب
ومفسدة حادثة بواسطة الظن به باعثة إلى جعل الحرمة يتزاحم الملاكان، فان كان أحدهما
أقوى يكون هو المؤثر دون الاخر، ومع التساوي لا بد من الحكم بالإباحة فتحصل ان
اخذ الظن بالحكم في موضوع ضد ذلك الحكم لا يمكن مطلقا.
وجوب موافقة القطع التزاما
الموضع الخامس: قال في الكفاية هل تنجز التكليف بالقطع كما يقتضى موافقته
عملا يقتضى موافقته التزاما والتسليم له اعتقادا وانقيادا كما هو اللازم في الأصول الدينية
والأمور الاعتقادية انتهى.
أقول ان هذا البحث انما انعقد لبيان انه، هل يكون من ناحية وجوب الموافقة
الالتزامية مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي إذا كانت الأصول جارية
في أنفسها مع قطع النظر عن هذه الجهة، أم لا؟ فالكلام يقع في جهتين، الأولى، انه هل
تجب الموافقة الالتزامية أم لا؟ الثانية، انه على فرض الوجوب هل يمنع ذلك عن جريان
الأصول أم لا؟ وقبل التعرض للبحث في الجهتين لا بد من بيان أمرين.
52

أحدهما: ان محل البحث في الجهة الأولى انه هل يكون لكل تكليف متعلق بعمل
المكلف، اقتضائان، أحدهما الموافقة العملية، وثانيهما الموافقة الالتزامية، ويترتب على
المخالفة عملا، والتزاما عقابان، وعلى الموافقة كذلك ثوابان، وعند التكليف ثواب
وعقاب، أم ليس له الا اقتضاء واحد.
الامر الثاني: في بيان حقيقة الالتزام، وهي في غاية الخفاء بيانا وواضح دركا،
والذي يمكن ان يقال، انه زايدا على الصورة الحاصلة للشئ عند النفس الذي هو القطع،
والعمل الخارجي، للنفس شئ آخر نسبتها إليه نسبة التأثير والايجاد، ويكون هو فعلها،
ويعبر عنه بالعلم الفعلي وذلك الشئ عبارة عن الالتزام وهو من جهة كونه نحوا من
الوجود لا يمكن بيان حقيقته، الا انه مما يساعده الوجدان، ويشهد به قوله تعالى
" وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " (1) حيث إنه يدل على أنهم انهم مع كونهم عالمين بنبوة نبينا
(صلى الله عليه وآله)، لم يكونوا منقادين له قلبا ولا مقرين بها باطنا، إذا عرفت الامرين فيقع
الكلام في الجهتين.
اما الجهة الأولى: فيمكن ان يستدل لعدم وجوب الموافقة الالتزامية بان التكليف
إذا تعلق بفعل خارجي غاية ما يستكشف منه وجود مصلحة لازمة الاستيفاء في الفعل
ويعلم منه ان الغرض من التكليف جعل ما يمكن ان يكون داعيا إلى العمل الخارجي
لأجل تحصيل تلك المصلحة الملزمة، فالعقل الحاكم في باب الامتثال انما يحكم بلزوم
اتيان ما فيه المصلحة خاصة وهو الفعل الخارجي، فلا يقتضى التكليف الالتزام قلبا، ولعله
إلى هذا نظر صاحب الكفاية، حيث قال لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة
والعصيان بذلك.
وكيف كان هذا الوجه لا يثبت عدم الوجوب حتى يعارض ما استدل به للوجوب لو تمت دلالته فالعمدة التعرض لأدلة الوجوب فان لم يتم شئ منها يكون المرجع ما
ذكرناه، فقد استدل له بوجوه.
.

1 - النمل / آية 14.
53

منها: انه من مراتب شكر المنعم الذي هو واجب عقلا، وفيه انه لا دليل على
وجوب شكر المنعم بكل ما يصدق عليه الشكر.
ومنها: أدلة حرمة التشريع بدعوى انه لو علم الوجوب ولم يستند إليه تعالى بل
استند الإباحة إليه يكون محرما ولا وجه لحرمته سوى وجوب الالتزام بالحكم المعلوم.
وفيه: ان التشريع هو استناد ما لم يعلم أنه من الدين إليه تعالى، وقد دل الدليل على
حرمة ذلك، واما لو علم التكليف ولم يستند إليه تعالى لا هو، ولا غيره، فهو ليس من
التشريع فلو ثبت وجوب الموافقة الالتزامية يكون عدم الاستناد موجبا للعقاب، والا فلا.
ومنها: أدلة وجوب قصد القربة في العبادات فإنه لا يكون الا مع التصديق بأنه
مأمور به فالالتزام يكون من لوازم وجوب الاتيان بالعبادة بداعي الامر، فيكون واجبا: بما
دل على وجوب العبادة.
وفيه، أولا: انه أخص من المدعى. وثانيا: ان مورد الكلام كما عرفت ثوبت
اقتضائين لكل تكليف، وفى التعبديات، الالتزام، والعمل الخارجي، لا يكونان الا أمرا
واحدا، والامر يقتضيهما باقتضاء واحد، وكون الالتزام في مورد محققا لمقتضى
التكليف ومتعلقه لا يوجب كونه ينفسه مطلوبا آخر. وثالثا: انه قد يؤتى بالعبادة من دون
التزام أصلا كما لو علم بمحبوبية شئ ولم يعلم وجوبه واستحبابه فإنه يأتي به بداعي
الامر بلا قصد لخصوص الوجوب أو الاستحباب فتدبر.
ومنها: استقلال العقل بقبح عدم الالتزام بما جاء به النبي (ص) من الأحكام لكشفه
عن نقص العبد وانحطاط درجته لديه بخلاف ما لو التزم به فإنه لكشفه عن كمال العبد
وقربه إلى ربه يكون حسنا.
وفيه: ان وصول هذا إلى حد اللزوم غير ثابت ويحتاج إلى دليل مثبت له.
ومنها: ما دل على وجوب تصديق النبي فيما جاء به من الأحكام.
وفيه، أولا: ان مقتضى هذا الوجه تصديقه في الأحكام وغيرها بل في
الاخبار أيضا، ولا يختص بالتكاليف اللزومية. وثانيا: انه انما يقتضى تصديقه فيما ثبت
كونه من النبي (ص) بأي نحو ثبت، اجماليا كان، أم تفصيليا ولا يقتضى وجوب الالتزام بكل
54

حكم تفصيلا وان لم يثبت ذلك كذلك. وثالثا: ان معنى تصديق النبي تصديقه ان ما يأتي
به من الأحكام من قبل الله تعالى، وهذا يجتمع مع عدم الالتزام بما أو جبه الله تعالى.
فتحصل انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية فالأظهر عدم وجوبها.
واما الجهة الثانية: فان ثبت وجوب الموافقة الالتزامية، فان كان مقتضى الدليل
وجوب الموافقة الالتزامية بأحكام الله تعالى على النحو الثابت للمكلف، فهو لا يمنع من
جريان الأصول: إذا الثابت انما هو وجوب أحد الفعلين فيلتزم به كذلك، واجراء الأصول
والحكم ظاهرا، بإباحة كل واحد بعينه، لا ينافي ذلك فإنه يلتزم بإباحة كل منهما ظاهرا و
وجوب أحدهما واقعا، وان كان مقتضى الدليل هو الالتزام بكل حكم بشخصه، وعدم
كفاية الالتزام الاجمالي، لزم سقوط وجوبها مع العلم الاجمالي: لعدم القدرة عليه، والبناء
على كونه مخيرا في الالتزام بأحدهما باطل، لاستلزامه التشريع المحرم، كما أنه يلزم ذلك
لو بنى على الالتزام بكل منهما بعينه كي بتحقق الالتزام الواجب كساير موارد تردد
المكلف به فيها، أو على الالتزام بأحدهما بالخصوص.
فالمتحصل مما ذكرناه انه لا مانع من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي،
وموارد دوران الامر بين المحذورين من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.
ثم إن الشيخ الأعظم أفاد في دفع محذور عدم الالتزام به، بل الالتزام بخلافه: بان
الأصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي، فيرتفع موضوع لزوم الالتزام.
وأورد عليه في الكفاية بأنه مستلزم للدور، وحاصل ما افاده ان جريان الأصول
يتوقف على عدم المانع عنه، ومن جملة الموانع الاذن في المخالفة الالتزامية الذي، هو
لازم التعبد بعدم الحكم المعلوم بالاجمال، لان ذلك قبيح فيكون مانعا، وعدم هذا المانع
يتوقف على نفى الحكم الواقعي، كي لا يكون مقتض للموافقة الالتزامية ونفى الحكم
الواقعي موقوف على جريان الأصل، فصحة جريان الأصول تتوقف على نفسها وكذلك
عدم الحكم.
ويرد على أن جريان الأصل، لا يتوقف على نفى الحكم، بل هو مفاد الأصل،
ولا يلزم من نفى الحكم بالأصل الاذن في المخالفة الالتزامية المحرمة: لعدم حرمتها مع
55

نفى الحكم: لان الدليل المثبت لهذا التكليف أي وجوب الموافقة الالتزامية كساير أدلة
الأحكام لا نظر له إلى موضوعه، وهو الحكم، فهو لا يصح ان يكون مانعا عن الأصل
النافي للموضوع.
قطع القطاع
الموضع السادس: حكى عن الشيخ الكبير عدم اعتبار قطع القطاع، والمراد من
القطاع ليس من يحصل له القطع كثيرا لكونه بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة
الفطرية أو الاكتساب، بل المراد به من يحصل له القطع من الأسباب غير العادية بحيث لو
اطلع غيره عليها لا يحصل له القطع منها، في مقابل الوسواسي الذي لا يحصل له القطع من
الأسباب العادية، وعلى هذا فان كان مراد الشيخ من قطع القطاع القطع الطريقي المحض
فاشكاله واضح، لما مر من أن حجية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل اثباتا ونفيا.
وان أراد منه القطع الموضوعي، فقد وافقه جماعة منهم الشيخ الأعظم،
والمحقق الخراساني نظرا إلى أن امره سعة وضيقا بيد المولى، فله ان يأخذ في موضوع
حكمه قسما خاصا من القطع، وهو الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية.
ولكنه يندفع بان القطاع، وان كان يمكن التفاته إلى أن نوع قطعه يحصل من سبب
لا ينبغي حصوله منه الا ان شخص القطع الحاصل من السبب الخاص، لا يمكن ان يلتفت
إلى حصوله مما لا ينبغي حصوله منه، والا انقلب قطعه - وبعبارة أخرى - في كل قطع
شخصي حين حصوله يرى أنه حاصل من سبب ينبغي حصوله منه - وعليه - فلا فائدة في
اختصاص الدليل، فلا مناص عن علي الاطلاق، فالأظهر عدم امكان منع القطاع عن
العمل بقطعه مطلقا، من غير فرق بين الآثار العقلية، والشرعية.
القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة
السابع: المنسوب إلى جملة من الأخباريين، عدم اعتبار القطع الحاصل
56

من المقدمات العقلية، وأنكر المحقق الخراساني (ره) هذه النسبة، وأفاد انهم في مقام منع
الصغرى: فان بعضهم كالسيد الصدر، في مقام منع الملازمة بين حكم العقل والشرع،
وبعضهم كالمحدث الاسترآبادي في مقام بيان ان المقدمات العقلية لا تفيد الا الظن، فلا
يجوز الاعتماد عليها، ولكن الشيخ الأعظم نقل في الرسائل كلمات جماعة منهم
غير العلمين المذكورين، وهي صريحة في منع الكبرى.
وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في مقامين. الأول: في الصغرى وانه، هل
يحصل القطع بالحكم الشرعي من غير الكتاب والسنة أم لا؟ الثاني: في أنه، هل يصح
المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غيرهما، أم لا؟ ولنقدم الكلام في المقام الثاني.
وقد ذكروا في توجيه كلام الأخباريين الظاهر في صحة المنع، وجوها.
الأول: ما يظهر من الشيخ الأعظم (ره) وصرح به المحقق العراقي (ره) وهو انه يمكن
ان يردع الشارع عن القطع الحاصل من غيرهما بان يقول إن القطع الحاصل عن تقصير
المكلف في مقدمات حصول قطعه، لا يكون معذرا عند مخالته للواقع.
وفيه: انه كما لا يعقل الردع عن منجزية القطع كذلك، لا يعقل الردع عن معذريته
عند المخالفة، لأنهما من لوازم القطع التي لا تنفك عنه، وقد مر في أول الكتاب انه
لا يمكن النهى عن العمل بالقطع في كلا أثريه.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره)، وحاصله ان حيث لا يمكن اخذ العلم بالحكم
في موضوع نفس ذلك الحكم لاستلزامه الدور، ولا يمكن الاطلاق لان التقابل بينهما
تقابل العدم والملكة، فإذا امتنع أحدهما امتنع الاخر، وحيث إن الاهمال النفس الأمري
غير معقول فلا بد، اما من نتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد، إذ الملاك المقتضى لتشريع
الحكم ان كان محفوظا في كلا الحالين، لا بد من الاطلاق، والا فمن التقييد، وحيث
لا يمكن ان يكون الجعل الأولى متكفلا لبيان ذلك فلا بد جعل آخر، ليستفاد منه
نتيجة الاطلاق أو نتيجة التقييد، فإذا دل دليل على اختصاص حكم بخصوص العالم كما
في، الجهر والاخفات، والقصر والاتمام، نلتزم به، وإذا صح اخذ العلم بالحكم شرطا في
ثبوت الحكم، صح اخذ العلم بالحكم من وجه وسبب خاص مانعا عن ثبوت
57

الحكم، بحيث لا يحكم مع العلم به من ذلك السبب كما في باب القياس حيث قام الدليل
على أنه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس كما في رواية ابان في مسالة
دية، الأصابع.
وفيه، أولا: ما تقدم في مبحث اخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم،
من أن المانع انما هو في مقام الثبوت، لا في مقام الاثبات كي يرتفع بتعدد الدليل،
ومضافا إلى ما مر في مبحث التعبدي والتوصلي من أن استحالة التقييد لا تستلزم استحالة
الاطلاق، بل لازمها ضرورية الاطلاق أو التقييد بضده، وحيث إن التقييد بالجاهل أيضا
محال فيكون الاطلاق ضروريا، ان لازم ما افاده التصرف في ناحية المعلوم، وانه
لا يحصل العلم بالحكم من غير الكتاب والسنة، مع أن صريح كلمات جماعة منهم عدم
العبرة بالعلم بالحكم من غير هما، واما مسالة الجهر والاخفات، والقصر والتمام فليس
الامر فيهما ما افاده من اختصاص الحكم بالعلم، بل المستفاد من الأدلة اجزاء أحدهما
عن الاخر، واجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحكم على ما فصلناه في محله.
الثالث: ان حكم العقل بوجوب اتباع القطع حكم تعليقي على عدم درع الشارع
عن خلافه.
وفيه: ما تقدم في أول الكتاب من أن حكمه تنجيزي لا تعليقي.
الرابع: انه في العبادات التي يعتبر قصد القربة المنوط بالجزم بالامر الشرعي،
للشارع ان يقيد القربة المعتبرة في المأمور به بالقرب الناشئ عن خصوص الجزم الناشئ
عن الأدلة السمعية لا مطلقا.
وفيه: ان هذا وان كان ممكنا، الا انه لا دليل على هذا التقييد أولا، وهو أخص من
المدعى ثانيا: لاختصاصه بالعبادات فتحصل انه لا يصح النهى عن العمل بالقطع الحاصل
عن غير الكتاب والسنة.
واما المقدم الأول: فملخص القول فيه ان الحكم العقلي على اقسام. الأول: ان
يدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل. الثاني: ان يدرك حسن فعل أو
قبحه بمعنى ان يدرك فاعله المدح أو الذم. الثالث: ان يدرك أمرا خارجيا
58

كاستحالة اجتماع النقيضين، ولكن بضميمة حكم شرعي إليه يستكشف حكما شرعيا في
مورده.
اما القسم الأول: فالحق مع المنكرين للملازمة بحسب الغالب، وذلك لعدم إحاطة
عقول البشر بملاكات الأحكام ومناطاتها: إذ لعل المصلحة المدركة مزاحمة بمفسدة في
موردها، ولأجلها لا يصلح للمنشاية لجعل الوجوب، أو ان هناك مانعا آخر، عن جعل
الوجوب، وعليه فلا يمكن استكشاف الحكم الشرعي، ولكن إذا فرضنا في مورد العلم
بثبوت الحكم الشرعي فيه، قد مر انه ليس للشارع النهى عن العمل به.
واما القسم الثاني: فادراك الحسن والقبح، انما يكون لدرك المصلحة
والمفسدة، أو لأمر الشارع ونهيه ولا ثالث، وعلى الأول يدخل في القسم الأول، وعلى
الثاني لا يصلح للمنشاية لجعل الوجوب والحرمة لكونه في طولهما وقد تقدم تفصيل
القول في ذلك فراجع.
واما القسم الثالث: فاستكشاف الحكم الشرعي في لا ينكر مثلا يستكشف وجوب
المقدمة من حكم العقل بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته، بضميمة
وجوب ذي المقدمة.
بقى في المقام امر ان: الأول: انه قد يتوهم ان جملة من النصوص الكثيرة تدل على
المنع عن العمل بالأحكام الشرعية ما لم يتوسط تبليغ الحجة إياها.
ولكنه فاسد، فإنها ما بين طوائف، الأولى ما تدل على المنع عن العمل بالقياس
والاستحسانات والاعتبارات الوهمية كما عليه العامة. الثانية: ما يدل على اعتبار الولاية
في صحة العبادات. الثالثة: ما يدل بظاهرها على اعتبار تبليغ الحجة في وجوب امتثال
الأحكام - اما الطائفتان الأولييان، فهما أجنبيتان عن المقام كما هو واضح، واما الأخيرة
فالجواب عنها - انه إذا استكشف الحكم الشرعي من حكم عقلي لا محالة يستكشف
تبليغ الحجة إياها - لقوله (ص) ما من شئ يقربكم إلى الجنة الخ، مع أنه إذا استكشف
الحكم الشرعي من دليل عقلي، تكون الحجة الباطنية، واسطة في ثبوت الحكم، مع أنه
لو سلم ظهور الاخبار في ذلك لا بد من رفع اليد عن ظاهرها بواسطة البراهين القطعية
59

القوية التي لا يمكن اثبات أساس الدين بأقوى منها.
الفروع التي توهم فيها المنع عن العمل بالمقطع
الامر الثاني: في الفروع التي توهم فيها، المنع عن العمل بالقطع بالحكم
والجواب الاجمالي في جميع تلك الفروع ان الحكم الذي نريد اثباته ويكون مخالفا
للعلم ويلزم منه المخالفة العملية، ان كان حكما ظاهريا، لا يثبت لأنه يكون في فرض
الجهل بالواقع وان كان حكما واقعيا، فهو يوجب التخصيص في ذلك الدليل، نأير
الدليل الدال على ثبوت حق المارة، فإنه لا يصح ان يقال ان هذا الحكم مخالف لما علم
من حرمة اكل مال الغير بغير رضاه، فإنه يختص بغير هذا المورد، واما الجواب التفصيلي
فهو بتوقف على بيان كل واحد منها.
الأول: ما لو ادع شخص درهمين عند شخص، وادع الاخر عنده، درهما
واحدا، فتلف أحد الدراهم عند الودعي: فإنهم حكموا بأنه لصاحب الدرهمين درهم
ونصف ولصاحب الدرهم نصف درهم، فلو انتقل النصفان منهما إلى ثالث بهبة، ونحوها
واشتري بمجموعهما ثوبا، فإنه تفضيلا بعدم دخول الثوب بتمامه في ملكه لان
بعض الثمن ملك الغير قطعا فلا يجوز الصلاة فيه ولا لبسه ولم يلتزم الأصحاب بذلك.
وأجيب عنه بأجوبة. منها: ان الخبر الذي يكون مستند هذه الفتوى ضعيف السند
ذكره الشهيد (ره) وفيه انه بعد افتاء الأصحاب بمضمونه لا مجال للمناقشة فيه سندا.
ومنها: ان الامتزاج موجب للشركة ويوجب صيرورة كل جزء من الدراهم بينهما
أثلاثا، فما سرق يكون من مالهما، لان من أحدهما حتى يلزم المحذور المذكور.
وفيه: ان الامتزاج في مثل المقام لا يوجب الشركة هو محرر في محله، مع أن
لازم ذلك اعطاء درهم وثلث لصاحب الدرهمين وثلثي الدرهم، لصاحب الدرهم
الواحد كما نسب إلى العلامة (ره) الالتزام بذلك.
ومنها: انه لا يكون الحكم في نفسه تاما. وفيه انه لا وجه له سوى ضعف سند
60

المدرك الذي عرفت ما فيه.
ومنها: ان الدرهمين الباقيين أحدهما لصاحب الدرهم قطعا فيعطى له، والباقي
يحتمل ان يكون له، ويحتمل ان يكون لصاحب الدرهم الواحد، فيكون مالا مرددا
بينهما لا بينة لأحدهما على كونه له، ولا يحلف على ذلك فمقتضى قاعدة العدل
والانصاف التي هي من القواعد العقلائية التي أمضاها الشارع، ويكون مبناها على تقديم
الموافقة القطعية في الجملة والمخالفة القطعية كذلك على الموافقة والمخالفة
الاحتماليين في باب الأموال هو تنصيفه بينهما.
وفيه: لازم هذا الوجه هو جوار التصرف لكل منهما فيما اعطى له جوازا ظاهريا
وعليه فلو اجتمعا عند ثالث، واشتري به ثوبا، فهو يعلم تفصيلا بعدم انتقال الثوب بتمامه
إليه والحكم الظاهري لا يكون حجة مع العلم التفصيلي بالخلاف، ولازم ذلك عدم جواز
التصرف فيه، ودعوى: انه بعد كون كل من النصفين مما يجوز تصرف من تحت يده فيه،
لو انتقلا إلى ثالث يجوز تصرفه فيهما واقعا لأن جواز تصرف ذي اليد في المال ولو ظاهرا
موضوع لجواز تصرف من انتقل إليه ذلك المال واقعا، فلا يحصل العلم لثالث بعدم جواز
تصرفه في أحدهما واقعا، مندفعة: بان قاعدة اليد أيضا من الامارات ولا يكون متكفلة
لبيان حكم واقعي ولا توجب تبدل الواقع.
ومنها: القول بكون ذلك من باب الصلح القهري فبالتعبد الشرعي، من باب
الولاية، يدخل كل من النصفين في ملك واحد منهما، فكل يملك النصف واقعا فلا
يحصل العلم المزبور لو اجتمعا عند ثالث.
الفرع الثاني: لو اختلف المتبايعان في تعيين المبيع مع الاتفاق على الثمن، أو في
تعيين الثمن مع الاتفاق، على المثمن مع عدم البينة فإنهم ذكروا انه لو حلف أحدهما
فيحكم له وان تحالفا يحكم بالانفساخ، ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك
مالكهما فلو انتقل ما اتفقا على كونه أحد العوضين أو انتقل، كل من ما وقع الاختلاف
فيه إلى ثالث واشتري بها شيئا فهو يعلم بعدم انتقاله إليه وعدم جواز تصرفه فيه مع أنهم
أفتوا بالجواز.
61

وفيه: أولا ان أصل الحكم غير مسلم إذ لم يذكروا له مدركا سوى النبوي -
المتبايعان إذا اختلفا تحالفا وترادا (1) وان مقتضى حلف كل منهما على نفى قول الاخر
سقوط دعواه فيكون كان لم يقع عقد بينهما، ولكن يرد على النبوي مضافا إلى، ضعف
السند، وعدم الانجبار بالعمل، إذ لعل المشهور استندوا إلى وجه آخر: انه يلزم من العمل
به تخصيص الأكثر لعمومه لجميع صور الاختلاف كما لا يخفى - واما الوجه الثاني، فيرد
عليه أولا: ان الحلف لا يوجب فسخ العقد وانما يكون هذه القواعد قواعد ظاهرية
محكمة في صورة الشك والجهل لا مع العلم. وثانيا: ان حلف كل منهما على نفس قول
الاخر انما هو في التعيين، والا فهما متفقان على وقوع عقد بينهما فالساقط بالحلف هو
التعيين، لا أصل العقد الذي هو معلوم ومتفق عليه. وثالثا: انه لو سلم الحكم بالانفساخ
فان قلنا بأنه بالتحالف ينفسخ البيع واقعا، ويرجع كل من العوضين إلى مالكه فلا كلام،
والا فنلتزم جواز تصرف الثالث فيهما.
الفرع الثالث: لو علم شخس اجمالا بجنايته أو جنابة صاحبه صح له ان يأتم به في
الصلاة، مع أنه يعلم ببطلان صلاته لجنايته أو جنابة امامه.
وفيه أولا: ان المشهور بين الأصحاب عدم جواز الاقتداء في الفرض وانما أفتى
جماعة منهم بالجواز، متمسكا بأنها جنابة أسقط الشارع حكمها، وبصحة صلاة كل
منهما شرعا، ولا دليل على اعتبار ما زاد على ذلك: وبانا نمنع حصول الحدث الا مع
تحقق الانزال من شخص بعينه، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثاني من
فقه الصادق وبينا فساد هذه الوجوه، وان الأقوى هو عدم الجواز. وثانيا: انه لو سلم جواز
الاقتداء يمكن ان يقال ان جوازه الاقتداء واقعا يتوقف على احراز الامام صحة صلاته،
ولو ظاهرا وان أحرز المأموم فسادها، وعليه فلا يحصل العلم المزبور كما لا يخفى.
الفرع الرابع: لو اختلفنا في أن تمليك العين الخارجية كان بالهبة، أو بالبيع، ولم
يكن لأحدهما بينة، وتحالفا قالوا، يرد العين إلى مالكها الأول مع العلم التفصيلي

1 - سنن البيهقي ج 5 ص 333.
62

بخروجها عن ملكه.
وفيه: أولا انه إذا كان أحد الاحتماليين كونه هبة جائزة لا يلزم من الرد العلم
المزبور، بل يعلم بكونه ملكا له، اما على فرض كونه هبة جائزة فلكون نفس انكاره لها
رجوعها، واما على فرض كونه بيعا فلامتناع المشترى من أداء الثمن، فيكون البايع بالخيار
فأخذه العين رد للبيع، فهو يرجع إلى ملكه على كل تقدير، وان كان أحد الاحتمالين كونه
هبة لازمة فحيث ان أحد الاحتمالين كونه بيعا وله الخيار في فسخه يحتمل صيرورته
ملكا له بالرد فلا يحصل العلم المزبور. وثانيا: انا لا نسلم هذا الحكم من رأسه، بل يقدم
قول المدعى الهبة لأصالة البراءة فالحلف وظيفته، فلو حلف ينتقل المال إليه من دون
عوض، ولو نكل يحلف صاحبه ويحكم له. وثالثا: لو سلمنا الانفساخ بالتحالف نقول ان
التحالف يوجب الانفساخ القهري كان في الواقع بيعا أو هبة. الفرع الخامس: لو أقر بعين لشخص ثم أقربها لشخص آخر، قالوا - يعطى نفس
العين للأول ويغرم للثاني قيمة العين، فيعلم اجمالا بعدم مالكية أحدهما لما تحت يده -
فلو انتقل منهما العين وقيمته إلى ثالث واشترى بهما جارية يعلم تفصيلا بعدم انتقالها إليه
فيحرم وطيها مع أنهم لم يلتزموا به.
وفيه: ان جواز تصرف الثالث فيهما وفيما جعل عوضا لهما مما لم يدل عليه آية
ولا رواية فلا نلتزم به.
الفرع السادس: لو تداعى رجلان عينا بحيث يعلم بصدق أحدهما وكذب الآخر.
قالوا: الحاكم يحكم بالتنصيف، ولازم ذلك جواز شراء ثالث لنصفين، مع أنه يعلم
تفصيلا بعدم انتقال تمام المال إليه من مالكه الواقعي.
والجواب عن ذلك يظهر مما ذكرناه في الفرع الأول.
كما أنه يظهر مما ذكرناه في هذه الفروع الحكم في ساير الفروع المذكورة
في الرسائل.
63

الموضع الثامن في العلم الاجمالي
والبحث في العلم الاجمالي في مقامين، الأول في ثبوت التكليف وتنجزه به
وعدمه، المقام الثاني في سقوط التكليف بالعلم الاجمالي بالعلم الاجمالي بعد الفراغ عن ثبوته مع امكان
الامتثال التفصيلي.
اما المقام الأول: فيقع البحث فيه في موردين. الأول: في أن العلم الاجمالي منجز
بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية، فلا يجوز ترك المجموع من الأطراف في الشبهة
الوجوبية، وارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية أم لا؟ المورد الثاني، في تنجيز العلم
الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية وعدمه بمعنى انه يجب الاجتناب عن
جميع الأطراف في الشبهة التحريمية والآتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية،
والبحث في كل من الموردين مبتن على أحد طرفي الترديد في المورد الاخر، فان البحث
عن وجوب الموافقة القطعية انما هو بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعية، والا فمع
القول بعدم حرمتها لا مورد للبحث في وجوب الموافقة القطعية، كما أن البحث عن
حرمة المخالفة القطعية انما هو على القول بعدم وجوب الموافقة القطعية، والا فمع
القول بوجوبها، لا يبقى مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها ولهذه الجهة
لا يكون البحث في أحد الموردين مغنيا عن البحث في الاخر.
ثم إن مسألة تنجز العلم الاجمالي للحكم معنونة هنا وفى باب البراءة والاشتغال.
وأفاد الشيخ الأعظم (ره) ان المناسب في المقام هو البحث في المورد الأول،
والمناسب لبحث البراءة البحث في المورد الثاني إذ البحث في المورد الثاني عن جواز
ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية وارتكاب البعض في التحريمية، وليس في
بعض الأطراف الا احتمال التكليف كما هو الحال في الشبهة البدوية، واما البحث
في المورد الأول،
وهو جواز ارتكاب المجموع في التحريمية وتركها في الوجوبية فهو
بحث عن مخالفة العلم الاجمالي لان ثبوت التكليف معلوم.
64

والمحقق الخراساني (ره) يدعى ان المناسب في المقام هو البحث عن كون العلم
الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية هل يكون بنحو
العلية أو الاقتضاء، ثم بعد الفراغ عن كونه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى كليهما، أو أحدهما،
يبحث في باب الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.
أقول الحق مع المحقق الخراساني إذا المناسب للبحث في المقام، هو البحث عن
كل ما هو من شؤون العلم، وفى باب الاشتغال البحث عن كل ما يكون من شؤون الجهل
كما هو واضح، وحيث انه في العلم الاجمالي كلتا الجهتين موجودتان ولا بد وان يبحث
عن كلتيهما، ففي المقام يبحث عن كون العلم المخلوط بالجهل مقتض للتنجز، أم علة
تامة له، وفي باب الاشتغال يبحث عن أن الشك المقرون بالعلم، هل يصلح بواسطة جريان
الأصول ان يمنع عن التنجيز، أم لا؟
ثم انه قد يتوهم التنافي بين ما ذكره المحقق الخراساني في المقام من أن العلم
الاجمالي مقتض للتنجيز، وبين ما يصرح به في مبحث الاشتغال من كونه علة تامه له.
ولكنه ناش من عدم التدبر في كلماته، ولتوضيح ما افاده في الموردين والجمع بين
كلاميه، لا بد من تقديم مقدمة.
وهي ان من جلمة كلماته، ان التكليف قد يكون فعليا من جهة، وقد يكون فعليا
من جميع الجهات، ومراده من ذلك على ما يظهر من ما ذكره في بعض مباحث الكفاية،
والتعليقة، وهو المنقول من مجلس بحثه، ان الغرض من التكليف قيد يكون بحد يوجب
قيام المولى مقام البعث، وايصاله إلى المكلف ولو بنصب طريق أو ايجاب الاحتياط،
وفى مثل ذلك لا يجوز الترخيص في مخالفته، وقد لا يكون بهذا الحد، بل بحيث إذا
وصل من باب الاتفاق لتنجز، وكان سببا لتحصيل الغرض من المكلف، وفى مثله يجوز
الترخيص في خلافه وسد باب وصوله، فان كان التكليف على النحو الأول فهو فعلى من
جميع الجهات، وان كان على النحو الثاني فهو الفعلي من جهة، هذا في مقام الثبوت.
واما في مقام الاثبات فان دل دليل خاص على كونه فعليا من جميع الجهات، كما
في الأبواب الثلاثة، الدماء، والاعراض، والأموال عند المشهور فهو، والا فمقتضى
65

اطلاق أدلة الأصول، الشامل لأطراف العلم الاجمالي كون الغرض من قبيل الثاني وكون
الحكم فعليا من جهة.
إذا عرفت هذه المقدمة يظهر اندفاع التوهم المذكور فإنه في مبحث الاشتغال
يصرح بأنه علة تامة إذا تعلق بالتكليف الفعلي من جميع الجهات، واما كلامه في المقام،
فهو فرع عدم احراز ذلك، فمن جريان الأصول يستكشف كون التكليف فعليا من جهة.
هل العلم الاجمالي منجز للتكليف، أم لا؟
وكيف كان فالبحث في كل من الموردين، أي البحث في حرمة المخالفة القطعية،
ووجوب الموافقة القطعية في المقام يقع في موردين - الأول في أن العلم الاجمالي هل
يكون منجزا للتكليف في الجملة أم لا؟ - وبعبارة أخرى - هل العقل يرى العلم الاجمالي
بيانا كالعلم التفصيلي كي لا يجرى معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان أم لا؟ الثاني في أن تأثير
العلم الاجمالي في التنجز، هل هو بنحو الاقتضاء، أو العلية، بمعنى انه هل يمكن للشارع
الا قدس ان يرخص في المخالفة القطعية أو الاحتمالية، أم لا؟ فالكلام يقع في مباحث
أربعة.
المبحث الأول: في تأثير العلم الاجمالي في حرمة المخالفة القطعية وعدمه، وقد
يقال انه يعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة ان يكون المكلف عالما بالمخالفة حين
العمل لعدم تحقق العصيان الا مع العلم بها، ولا يكفي في حكم العقل بالقبح احتمال
التكليف حين الارتكاب، ولا حصول العلم بالمخالفة بعد ارتكاب الجميع، ولذا
في الشبهات البدوية مع احتمال التكليف يجوز الارتكاب تمسكا بأصالة البراءة، ولا مانع
من تحصيل العلم بحرمة ما فعله بالسؤال أو بغير ذلك - وعلى الجملة العقل انما يستقل
بقبح الاقدام على العمل إذا علم حينه انه مخالفة للمولى، واما الاتيان بأمور يعلم بعد
ارتكابها انه خالف المولى فيها، ويكون حين العمل شاكا في ذلك، فلا يستقل العقل بقبح
الاقدام عليها.
66

وفيه: ان الشك في التكليف ان كان توأما مع عدم وصوله من حيث الصغرى، كما
في الشبهات الموضوعية، أو الكبرى كما في الشبهات الحكمية، يكون مورد القاعدة قبح
العقاب بلا بيان، وبها يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، وذلك كما
في الشبهات البدوية، فيجوز الارتكاب، ومع ذلك لا يبقى مورد لحكم العقل بقبح
المخالفة، واما ان كان احتمال وجود التكليف في كل مورد مقرونا بالعلم الاجمالي
بوجود الحكم في أحد الطرفين، فلا محالة لا يكون مورد القاعدة قبح العقاب بلا بيان،
بل يكون مورد القاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل - وان شئت قلت، انه لا يعتبر في
حكم العقل بقبح مخالفة التكليف، سوى وصول التكليف من حيث الصغرى والكبرى،
ولا يعتبر فيه تمييز المتعلق عن غيره، ولذلك ترى انه لم يشك أحد في حكم العقل بقبح
النظر دفعة إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما، مع أن متعلق التكليف غير مميز،
فإذا وصل التكليف بالعلم الاجمالي استقل العقل بقبح مخالفته، وان شئت فاختبر ذلك
بمراجعة العقلاء فإنك تراهم لا يفرقون، في قبح قتل ابن المولى بين ما لو عرفه بشخصه،
وبين ما لو تردد بين شخصين، وهذا هو الفارق بين المقام والشبهات البدوية، وحاصله انه
في المقام يكون مخالفة التكليف من ناحية العبد. وفى الشبهات البدوية يكون من ناحية
المولى فتدبر.
المبحث الثاني: ان العلم الاجمالي بالقياس إلى حرمة المخالفة القطعية هل يكون
بنحو العلية أو الاقتضاء فقد اختار المحقق الخراساني (ره) انه بنحو الاقتضاء، بدعوى ان
الحكم الواقعي حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف ففي كل طرف ليس الا احتمال
وجود التكليف، فمرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، وموضوع الأصول متحقق،
فيجوز للشارع الاذن بمخالفته، ومحذور مناقضته مع المقطوع اجمالا، انما هو محذور
مناقضة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي، يرتفع بما يرتفع به هذا المحذور في
الشبهات غير المحصورة، بل في الشبهات البدوية لاستلزام جعل الحكم الظاهري، فيها
احتمال الجمع بين الضدين، وبديهي ان احتمال الجمع يبن الضدين كالقطع به محال،
والمحال مقطوع العدم، دائما، فما به التقصي عن المحذور في تلك الموارد كان به
67

التقصي في المقام، وعلى الجملة المقتضى للاذن موجود، وهو الشك في كل مورد
والمانع مفقود لما يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي.
أقول يرد عليه أمران. الأول: انه في الشبهات البدوية، انما يلتزم بجواز الاذن
وجعل الحكم الظاهري: نظرا إلى الحكم الواقعي، حيث لا يكون واصلا فلا يلزم
العقل بلزوم اتباعه، وحرمة مخالفته، ومثل هذا الحكم لا يكون مضادا مع الحكم
الظاهري، واما في المقام فالمفروض وصول الحكم الواقعي، وحكم العقل بوجوب
اتباعه، وحرمة مخالفته، وهذا لا يلائم مع الحكم الظاهري، واما في الشبهات غير
المحصورة فيجئ في محلة انشاء الله تعالى ان القدر المتيقن من موردها، ما إذا لم يكن
العلم الاجمالي منجزا اما لخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، أو لغير ذلك من موانع
التكليف، واما ما افاده (قده) في وجه الجمع من عدم كون الحكم الواقعي فعليا من جميع
الجهات مع عدم العلم به تفصيلا، وعليه التزم في المقام بامكان جعل الترخيص في كل
من الأطراف فيجئ في محله انه غير معقول لابتنائه على دخالة العلم في فعلية الحكم
مع عدم اخذه في مقام الجعل.
الثاني: ان المحذور ليس منحصرا في المناقضة كي يتم ما ذكره (ره) بل في المقام
محذور آخر، وهو لزوم الترخيص في المعصية والاذن في الظلم.
توضيح ذلك يتوقف على بيان أمور. الأول: انه قد تقدم في مبحث التجري، من أن
ملاك استحقاق العقاب، هو الظلم على المولى، وعرفت أيضا انه انما يتحقق فيما لو
وصل تكليف المولى. الثاني: ان الحاكم، بذلك هو العقل، لا الشرع. الثالث: ان محل
الكلام هو ما لو تعلق العلم بالتكليف الفعلي والا فالعلم التفصيلي لا يوجب تنجزه فضلا
عن العلم الاجمالي. الرابع: ان العناوين القبيحة ذاتا لا من باب انطباق عنوان آخر عليه
كالظلم، لا يمكن ان يطرأ عليه ما يرفع قبحه. الخامس: انه لا فرق في حكم العقل بان
مخالفة التكليف ظلم بين كونه واصلا بالعلم التفصيلي أو الاجمالي.
إذا عرفت هذه المقدمات تعرف ان العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة
القطعية، انما يكون بنحو العلية، ولا يعقل ثبوتا الترخيص في كلا الطرفين لأنه مستلزم
68

للعذن في الظلم، مضافا إلى أن الترخيص في كلا الطرفين مستلزم لنقض الغرض من
التكليف، إذا الغرض من الامر جعل الداعي ومن النهى جعل الزاجر، والترخيصان
مناقضان لذلك. فتحصل، ان الأظهر كونه بنحو العلية بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية.
المبحث الثالث: في أن العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية، هل يكون له
اقتضاء لوجوبها، أم لا؟ لا ريب في اقتضائه له، لفرض وصول الحكم، فإنه يحكم بلزوم
الخروج عن عهدة التكليف الواصل - وان شئت قلت - ان مقتضى وجوب دفع الضرر
المحتمل لزوم الموافقة القطعية، لاحتمال وجود التكليف الواصل في كل طرف فلا
يجرى قبح العقاب بلا بيان.
المبحث الرابع: في أن العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، هل
هو بنحو العلية كما عن المحقق الخراساني إذا كان الحكم فعليا من جميع الجهات، أم هو
بنحو الاقتضاء كما عن الشيخ الأعظم والمحقق النائيني وغيرهما.
وقد استدل للأول بوجهين، الأول: ما افاده المحقق الخراساني، وهو ان احتمال
ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما محال فبما انه يحتمل وجود التكليف الفعلي في كل
طرف فلا يصح الترخيص فيه.
وفيه: انه يرد هذا الوجه ما يجمع به بين الحكم الظاهري والواقعي، وثبت في
محله عدم التنافي بينهما، ولذا ذكرنا في وجه عدم جواز الترخيص في المخالفة القطعية
انه مستلزم للترخيص في المعصية.
الوجه الثاني: ما افاده المحقق العراقي (ره) وحاصله انه لا شبهة في أن العلم
الاجمالي يوجب تنجز الحكم الواقعي بما له من الوجود الخارجي لا بوصف انه معلوم
- وبعبارة أخرى - ما يتنجر انما هو الحكم بنفسه لا صورته الذهنية، وحيث انه يحتمل
انطباقه على كل طرف ففي كل من الأطراف يحتمل ثبوت التكليف المنجز وعليه فيكون
مورد القاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا قبح العقاب بلا بيان.
وفيه، أولا: النقض بموارد رخص الشارع في المخالفة الاحتمالية، كما في مورد
اشتباه القبلة، إذ مقتضى العلم الاجمالي هو الصلاة إلى الجوانب بحد يقطع بالصلاة إلى
69

القبلة ولكن الشارع المقدس رخص في ترك الموافقة القطعية، اما بالاكتفاء إلى الصلاة
إلى أربع جوانب، أو الاكتفاء بالصلاة إلى جانب واحد كما هو المختار تبعا لجمع من
الأساطين، وفى موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، فان الشارع لم يرفع اليد عن التكليف
الواقعي، ولذا لو انكشف الخلاف يجب الإعادة، ولكن في مقام امتثاله اكتفى بما يكون
امتثالا احتماليا بل في جميع موارد الامارات على الطريقية الامر كذلك.
وثانيا: الحل، وحاصله ان احتمال التكليف قد عرفت انه مع قطع النظر عن المؤمن
يكون مساوقا لاحتمال العقاب، وليس معنى احتمال ثبوت التكليف المنجز الا ذلك،
فكما انه في ساير الموارد لا يكون هذا الاحتمال مانعا عن جريان الأصل كذلك في المقام
و - بعبارة أخرى - انه مع عدم احتمال العقاب لا تجرى الأصول العقلية والنقلية للزوم
اللغوية، فمورد جريانها انما هو احتمل العقاب - فتحصل - ان الأظهر انه بالنسبة إلى
وجوب الموافقة القطعية يكون مقتضيا لا علة تامة فيمكن ان يرخص الشارع في تركها.
جواز الامتثال الاجمالي
واما المقام الثاني: وهو سقوط التكليف بالعلم الاجمالي بان يوافقه اجمالا، فلا
ينبغي الاشكال في جواز الامتثال الاجمالي مع عدم التمكن من الامتثال التفصيلي، والا
لا نسد باب الاحتياط، مع أنه في فرض عدم التمكن منه، اما ان يسقط التكليف، أو يكون
مكلفا بما لا يطاق، أو يجوز الامتثال الاجمالي، والأول خلاف الفرض، إذ الفرض العلم
بالتكليف والثاني محال، فيتعين الثالث.
واما مع التمكن منه، فالكلام يقع تارة في التوصليات، وباب العقود والايقاعات،
وأخرى في التعبديات.
اما في التوصليات فلا اشكال في كفايته إذ المقصود فيها تحقق المأمور به
في الخارج كيفما اتفق، لان به يحصل الغرض، ويسقط الامر بتبعه، فلو احتاط، واتى
بجميع المحتملات يحصل له العلم بتحقق المأمور به في الخارج، ويلحق بالتوصليات،
70

الوضعيات كالطهارة والنجاسة، فلو غسل المتنجس بما يعين طاهرين يعلم اجمالا، بان
أحدهما ماء والاخر مضاف، طهر بلا اشكال.
وكذلك العقود والايقاعات فلو اتى بانشائات متعددة يعلم اجمالا بصحة أحدها
يكفي في تحقق المنشأ وان لم يتميز عنده السبب المؤثر.
ولكن استشكل جمع من الفقهاء منهم الشيخ الأعظم الأنصاري، في الاحتياط في
العقود والايقاعات، اما مطلقا كما عن جماعة منهم، أو في خصوص ما إذا كان التردد من
ناحية الشروط المقومة، كالزوجية بالنسبة إلى الطلاق كما عن جماعة آخرين، واستندوا
في ذلك إلى أنه مستلزم للاخلال بالجزم المعتبر في الانشاء: إذ الترديد ينافي الجزم، ولذا
لا يصح التعليق في الانشاء، وعلى ذلك بنى الشهيد (ره) في محكى القواعد، الجزم ببطلان
عقد النكاح، فيما لو زوج امرأة يشك في أنها محرمة عليه فظهر حلها، وكذلك لو خالع
امرأة أو طلقها وهو شاك في زوجيتها فإنه باطل وان تبين كونها زوجة، وكذا لو ولى
نائب الامام قاضيا لا يعلم أهليته وان ظهر كونه اهلا فإنه لا يصير قاضيا.
ولكن الاشكال المذكور لا يرجع إلى محصل وذلك لأنه في باب العقود
والايقاعات أمور، أحدها الاعتبار النفساني من قبل المنشئ نفسه، الثاني السبب الذي
يكون مظهرا لذلك الاعتبار النفساني، الثالث امضاء الشارع لذلك، والجزم انما يعتبر في
الامر الأول، فلو كان المعتبر مرددا في اعتباره، ومعلقا إياه على امر مشكوك فيه كما لو
قال وهبتك هذا المال ان كنت ابن زيد مثلا، أو ان جاء زيد، مع التردد فيه، لم يصح لأنه
مردد في اعتباره ولا يدرى تحققه لفرض تعليقه على امر مشكوك الحصول، وهذا هو
الترديد المنافى لقصد الانشاء جزما، اجماعا، واما موارد الاحتياط في العقود
والايقاعات فلا ترديد في الانشاء بمعنى الاعتبار النفساني، من قبل المنشئ، بل هو
جازم به، غاية الامر انه تردد في أن السبب الممضى هو هذا أو ذاك.
وعلى الجملة فالجزم المعتبر انما هو بمعنى عدم التردد في الاعتبار النفساني
المبرز باللفظ، وهو متحقق في موارد الاحتياط في العقود والايقاعات التي هي محل
الكلام، مثلا من ينشأ النكاح بجميع محتملاته جازم في ذلك الاعتبار النفساني، والتردد
71

انما هو في أن السبب الممضى هذا أو ذاك، وهو لا ينافي الجزم المعتبر في الانشاء هذا
فيما إذا لم يكن التردد من ناحية قابلية المحل للاعتبار الشرعي، واما في ذلك المورد كما
لو شك في كون امرأة محرمة عليه فزوجها فظهر حلها، فلو اعتبر زوجيتها مع الشك في أن
الشارع أمضاها أم لا؟ فحيث لا تريد في اعتباره وهو جازم به، فلا مانع من صحته إذ
التردد في الحكم الشرعي لا ينافي الجزم المعتبر في الانشاء، بل العلم بعدم امضاء الشارع
لا ينافي الانشاء لأنه اعتبار من قبل نفس المنشئ ولا ربط له بالامضاء الشرعي ولذا لو
زوج امرأة معتقدا انها محرمة عليه لا يصح تزويجها، ثم انكشف حليتها يحكم بصحة
النكاح المذكور.
واما في التعبديات فمع عدم تنجز الواقع كما في الشبهة البدوية الحكمية بعد
الفحص، والشبهة الموضوعية مطلقا، فلا اشكال ولا كلام في الاحتياط فيها.
واما مع تنجز الواقع كما في موارد العلم الاجمالي والشبهة الحكمية البدوية قبل
الفحص، فربما يستلزم الاحتياط التكرار، وقد لا يستلزمه، وعلى التقديرين فقد يكون
المعلوم بالاجمال أو المشكوك فيه استقلاليا كما في مورد دوران الامر بين القصر
والاتمام، وقد يكون ضمنيا كما في مورد دوران الامر بين الجهر والاخفات في القراءة
كما في ظهر يوم الجمعة، وعلى التقادير تارة يتمكن من الامتثال العلمي، وأخرى يتمكن
من الامتثال الظني، وما لم يستلزم التكرار قد يكون أصل الطلب معلوما في الجملة، وانما
الشك في الوجوب والاستحباب، وقد لا يكون معلوما لاحتمال الإباحة فها هنا مسائل.
المسألة الأولى: فيما إذا كان الاحتياط مستلزما للتكرار وكان المعلوم بالاجمال
استقلاليا وكان متمكنا من الامتثال العلمي، وفيها قولان، وفى الرسائل لكن الظاهر كما
هو المحكى عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقف على
تكرار العبادة انتهى.
وقد استدل لعدم الجواز بوجوه، الأول: انه يوجب الاخلال بقصد الوجه المعتبر
في العبادة، لأمور 1 - الاجماع المحكى على ذلك. وفيه، مضافا إلى عدم ثبوته، والى عدم
ثبوت اجماع الفقهاء بما هم فقهاء: انه يحتمل بل يعلم استناد المجمعين إلى الوجه العقلي
72

الذي سيمر عليك وما فيه 2 - ان حسن الافعال وقبحها انما يكونان مترتبين على العناوين
القصدية فلو قصد العنوان الحسن يتصف الفعل به، والا فلا مثلا ضرب اليتيم إذا قصد به
التأديب يكون حسنا، والا فلا، فما دام لم يقصد العنوان الخاص الذي به يصير الفعل
حسنا لما اتصف به، وحيث إن المكلف لا يكون محيطا بالمصالح والعناوين التي بها
يصير الفعل العبادي حسنا فلا بد من الإشارة الاجمالية إليه بالاتيان به بالعنوان الذي أوجبه
الشارع، لكونه عنوانا اجماليا للعنوان الذي يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالحسن،
فيعتبر قصد الوجه، لكونه قصدا للعنوان الحسن الذي لا يعنون الفعل الخارجي به الا إذا
قصده.
وفيه، أولا: أن من يأتي بعملين يعلم بوجوب أحدهما انما يقصد الاتيان بكل
منهما باحتمال الامر الخاص، فعلى فرض كونه هو المأمور به، فهو قاصد للامر المتعلق
به، وهو عنوان اجمالي للعنوان الحسن الذي يصير الفعل حسنا فالاحتياط غير مخل بذلك
وثانيا: انه يكفي في الإشارة إلى ذلك العنوان قصد القربة لان الامر لا يدعوا الا إلى ما تعلق
به. 3 - انه يحتمل دخل قصد الوجه في العبادة ولا يمكن نفى اعتباره باطلاق دليل العبادة
لأنه من القيود التي على فرض دخلها لا يمكن اخذها في المأمور به شرعا، ولا يمكن نفيه
بالأصل بل المتعين هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وأصالة الاحتياط، ولا مورد للبرائة.
وفيه: مضافا إلى ما تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي، من أن هذه القيود التي لا
يمكن اخذها في المتعلق لو احتمل دخلها في حصول الغرض، يصح التمسك بالاطلاق
لنفى اعتبارها، وأيضا يصح التمسك بالأصل لنفيه فراجع ما ذكرناه.
انه على فرض عدم تمامية ما ذكرناه من صحة التمسك بالاطلاق، والأصل في
خصوص مثل قصد الوجه، يصح التمسك بالاطلاق المقامي لاثبات عدم دخله: إذ القيد
ان كان مما يغفل عنه العامة فعدم بيان المولى دخله، ولو بالاخبار بدخله في الغرض، دليل
العدم سيما إذا كان مما تعم البلوى به وتكثر الحاجة إليه، فان عدم البيان حينئذ على فرض
دخله في الغرض اخلال بالغرض، والحكيم لا يخل به فيستكشف من عدم البيان عدم
دخله فيما يحصل به الغرض، وهذا هو حقيقة الاطلاق المقامي، فالأظهر عدم اعتبار قصد
73

الوجه.
الثاني: ان الاحتياط يستلزم الاخلال بالتمييز ومراعاته لازمه، واستندوا في لزوم
مراعاتها بالوجوه الثلاثة المتقدمة في قصد الوجه، وقد عرفت نقدها، فالأظهر عدم
اعتباره أيضا.
الثالث: ان التكرار لعب بأمر المولى وعبث فلا يصدق عليه الامتثال.
وأجاب عنه في الكفاية بأمرين. أحدهما: انه ربما يكون لداع عقلائي.
وفيه: ان الاشتمال على الغرض العقلائي لا يجدى في دفع المحذور لو سلم سراية
اللعب إلى نفس الامتثال فان المعتبر في العبادة قصد القربة واللعب، لا يوجب القرب فلا
يصح التقرب به.
ثانيهما: ما محصله ان اللعب والعبث لو كان، فإنما هو في كيفية احراز الامتثال
وتحصيل اليقين به واما الاتيان بما هو مصداق للواجب عدم تحقق الامتثال.
الرابع: ما افاده المحقق النائيني (ره)، وحاصله ان الإطاعة في نظر العقل الذي
هو الحاكم في هذا الباب لا يتحقق الا باتيان العمل، والانبعاث عن شخص امر المولى،
وبعثه لا عن احتماله، وهذا المعنى غير متحقق في الامتثال الاجمالي، فان الداعي له نحو
العمل في كل طرف هو احتمال الامر - نعم - مع عدم التمكن منه يكون الامتثال
الاحتمالي إطاعة، فالامتثال الاجمالي انما يكون في طول الامتثال التفصيلي، ثم على
فرض عدم استقلال العقل بذلك، لا ريب في عدم استقلاله بعدمه، فتصل النوبة إلى
الأصل، وهو الاشتغال، وان قلنا بالبرائة فيما إذا احتمل اعتبار مثل قصد الوجه: إذ الشك
هنا في كيفية الإطاعة الموكولة إلى حكم العقل لا فيما يمكن اعتباره شرعا.
وفيه: ان حقيقة الإطاعة في نظر العقل ليست الا اتيان المأمور به بجميع قيوده،
مضافا إلى المولى وليس وراء ذلك للعقل حكم، وهو لا يحكم باعتبار شئ زايد فيه،
ولا ريب في أن الإضافة إليه تتحقق بالاتيان بداعي احتمال الامر، فلو كان معتبرا فيه
الاتيان به عن البعث الجزمي، لكان ذلك باعتبار من الشارع وحيث انه لا دليل عليه،
74

فالأصل يقتضى عدم اعتباره.
مع أن اتيان الفعل باحتمال الامر انما ينطبق عليه عنوان الانقياد الذي هو من
العناوين الحسنة بالطبع، فما لم يمنع عنه مانع يكون متصفا بالحسن، ولذا اختار هو (قده)
ان الامتثال الاجمالي من وجوه الطاعة وانما منع في صورة التمكن من الامتثال
التفصيلي، والمانع المتصور ليس الا امكان الامتثال التفصيلي، وهو لا يوجب تعنون
الامتثال الاجمالي بالعنوان القبيح.
مضافا إلى انا لا يتصور اعتبار شئ في الطاعة بحكم العقل، وان لم يعتبره الشارع،
إذ لو كان دخيلا في الغرض كان كقصد الوجه والقربة مما على الشارع بيانه، وان لم يكن
دخيلا فيه لا معنى لاعتباره.
فتحصل ان الاحتياط وان استلزم تكرار العمل يكون حسنا ولا موجب للمنع عنه
مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي وبه يظهر الحال في ساير الموارد.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا، عدم جواز الاحتياط لو استلزم تكرار العمل - يقع
الكلام في المسائل الاخر.
المسألة الثانية: ما إذا كان الاحتياط مستلزما لتكرار جزء العمل مع التمكن من
الامتثال العلمي التفصيلي، وغاية ما يمكن ان يقال أو قيل في وجه عدم جوازه أمران.
أحدهما: انه يحتمل دخل قصد وجه الجزء، والمرجع في مثل ذلك هو قاعدة
الاشتغال، وقد مر تقريبه والجواب عنه.
ثانيهما: ما افاده المحقق النائيني من أنه يعتبر الانبعاث عن البعث لا عن احتماله في
صدق الطاعة وقد مر الجواب عنه.
واما ما افاده قدس سره في وجه عدم جريان هذا الوجه في المقام من أنه يكفي في
صدق الطاعة الانبعاث عن البعث الشخصي المتعلق بمجموع العمل، ولا يتوقف على أن
يكون المحرك نحو كل جزء من العمل الامر الضمني المتعلق به.
فيرد عليه ان الامر بالمجموع عين الامر بالاجزاء فعند الاتيان بكل جزء لا محالة
يكون المحرك الامر الضمني المتعلق به فإذا لم يكن متعلقه معلوما وأراد التكرار
75

لا محالة يأتي بكل واحد بداعي احتمال الامر.
واما ساير الوجوه من دعوى، اخلال الاحتياط بقصد الوجه والتمييز، وكون
الاحتياط لعبا وعبثا، فلا تجرى في المقام، اما الأول، فلان دليل اعتباره لم يكن الا
الاجماع غير الثابت في المقام إذ المشهور عدم اعتباره هنا.
وما ذكره المتكلمون من أن حسن الافعال انما يكون، بالعناوين القصدية وحيث
انها في العبادات غير معلومة، فلا بد من الإشارة الاجمالية إليها بالاتيان بها بقصد الوجه.
غير جار في الاجزاء إذ قصد وجوب مجموع العمل يكفي في قصد ذلك العنوان
الحسن، ولا حاجة إلى قصد وجه الجزء، والجزء بما هو لا يكون معنونا بعنوان حسن
مستقل كي يلزم قصده.
وبما ذكرناه ظهر وجه عدم جريان الوجه الثاني، واما الثالث: فلان الاحتياط
غير المستلزم لتكرار العمل لا يعد لعبا ولا مجال لتوهم عده كذلك.
المسألة الثالثة: ما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار، فان كان التكليف
استقلاليا وكان أصل الطلب معلوما، كما إذا شك في أن غسل الجنابة واجب نفسي أو
مستحب كذلك، فالظاهر أنه لا اشكال في الاحتياط باتيان المحتمل بداعي الامر المعلوم
وجوده، ولا يكون هناك ما يوجب المنع عن الاحتياط سوى ما نشير إليه وستعرف ما فيه.
وقد استدل للمنع بوجوه: 1 - الاجماع 2 - كونه مخلا بقصد الوجه والتمييز 3 - ان
الانبعاث عن البعث المحتمل انما ينطبق عليه عنوان الإطاعة إذا لم يتمكن من الجزم
بالامر، وقد مر الكلام في الجميع، ويضاف إليه انه لو سلم اعتبار قصد العنوان الخاص
الذي يصير الفعل حسنا به لا ينحصر ذلك بقصد الوجه خصوصا بقصد خصوصية
الوجوب، أو الاستحباب، بل يمكن الإشارة إليه بقصد الامر المحرز على الفرض.
هذا كله في فرض التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي، وأما إذا لم يتمكن منه
ودار الامر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظني، فتارة يكون الظن مما ثبت اعتباره
بالخصوص، وأخرى يكون مما ثبت الاكتفاء به بدليل الانسداد، وثالثة مما لم
يثبت اعتباره.
76

اما القسم الأول: فهو ملحق بالعلم التفصيلي بناءا على ما هو الحق من أن المجعول
في الامارة المعتبرة هو الطريقية والكاشفية، وان الحجة المعتبرة، علم بالتعبد، فعلى القول
بعدم جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي لا بد من البناء على عدم
جوازه مع التمكن من الامتثال الظني وعلى القول بجوازه يجوز في المقام أيضا.
نعم فرق بين العلم الوجداني والظن المعتبر، وهو انه مع العلم الوجداني لا مجال
للاحتياط، لعدم احتمال الخلاف، وله مجال مع الظن المعتبر، فإنه لا ينافي مع الاحتمال
الوجداني الذي هو الموضوع للاحتياط.
وعلى هذا وقع الكلام بين الاعلام في جوازه تقديم المحتمل على المظنون في
صورة الاحتياط وعدمه، واختار المحقق النائيني (ره) الثاني، ونسبه إلى الشيخ الأعظم،
والسيد الشيرازي (ره)، حيث إنه في مسألة دوران الامر بين القصر والتمام، لمن سافر إلى
أربعة فراسخ، ولم يرد الرجوع في يومه، اختار الشيخ تقديم التمام على القصر واختار
السيد تقديم القصر على التمام، قال (قده) ان منشأ ذلك الاختلاف فيما يظهر من الأدلة هل
هو التمام أو القصر، بعد اتفاقهما على الكبرى الكلية، وهي وجوب تقديم المظنون على
المحتمل، فالشيخ يرى أنه وجوب التمام فاختار تقديمه على القصر عند الاحتياط،
واستظهر السيد منها وجوب القصر فاختار تقديمه على التمام.
وكيف كان فقد استدل له بوجهين، أحدهما ما افاده المحقق النائيني (ره)، وهو ان
ذلك مبنى على تأخر مرتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي فإنه على هذا لو اتى،
أولا بالمحتمل فحيث انه يحتمل سقوط الامر، فلا مناص له عن اتيان المظنون بداعي
احتمال الامر، وهذا بخلاف ما لو اتى به قبل الاتيان بالمحتمل.
وفيه: مضافا إلى ضعف المبنى كما مر، انه لا يتم البناء أيضا: إذ الاتيان بالمظنون
انما يكون بداعي الامر الجزمي التعبدي الثابت بالحجة المعتبرة قدم أو اخر، فإنه لو اتى
بالمحتمل أو لا يكون مقتضى الأدلة الخاصة بقاء الامر، فلا فرق بين التقديم والتأخير.
ثانيهما: ما ذكره الشيخ الأعظم (قده) - وحاصله - انه لو اتى بما قامت الحجة
المعتبرة عليه، أولا فيأتي به مع قصد الوجه، وهذا بخلاف ما لو قدم المحتمل، فإنه
77

لاحتمال سقوط الامر لا مجال لقصد الوجه.
وفيه: مضافا إلى ما تقدم من عدم اعتبار قصد الوجه انه لا فرق بين التقديم
والتأخير كما عرفت في جواب المحقق النائيني (ره).
واما القسم الثاني: فقد اختار الشيخ الأعظم تأخره عن الامتثال الاجمالي وتعجب
من المحقق القمي (ره) حيث إنه بنى على حجية مطلق الظن من باب دليل الانسداد، ومع
ذلك ذهب إلى تقديم الامتثال الظني على الامتثال الاجمالي.
وملخص القول في هذا القسم انه لو كانت نتيجة المقدمات هي حجية الظن عليه
المتوقفة على بطلان الاحتياط للاجماع أو لغيره، فحكمه حكم الظن الخاص، ولا فرق
بينهما الا في الكاشف عن الحجية والدليل عليها، وان كانت نتيجتها هي الحكومة التي
حقيقتها، تضييق دائرة الاحتياط، ومن مقدماتها عدم وجوب الاحتياط، لا وجه لتقديم
الامتثال الظني على الاحتياط كما لا يخفى، والمحقق القمي (ره) حيث يكون قائلا
بالكشف، ومصر عليه لا بالحكومة فعلى القول بتقديم الامتثال التفصيلي على الامتثال
الاجمالي، يتم ما ذكره (ره)، وايراد الشيخ الأعظم (ره) عليه في غير محله.
وبما ذكرناه يظهر الحال في الظن غير المعتبر، وانه لا وجه لتقديمه على الامتثال
الاجمالي كما هو واضح هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث القطع.
والحمد لله أولا وآخرا
78

المقصد السابع
الامارات
79

المقصد السابع في الامارات المعتبرة شرعا
- وبعبارة أخرى - في بيان ما يكون من الطرق الناقصة معتبرا شرعا أو قيل باعتباره
وان شئت فعبر بالظن، وكيف كان فقبل الدخول في المباحث لا بد من التعرض لجهات.
الأولى: لا شبهة في أن الظن ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمه، بل ثبوتها له،
ولكن طريق ناقص يحتاج إلى الجعل الشرعي، إذ القطع بالحكم كما مر وصول للحكم
ومخالفة التكليف الواصل ظلم على المولى وخروج عن رسم العبودية وذي الرقية وقبح
الظلم واستحقاق اللوم من العقلاء والعقاب من الشارع عليه من الأحكام العقلية العملية
الضرورية، واما الظن بالحكم وكذا الطريق الناقص إليه بما انه ليس وصولا له فالحكم
على محجوبيته ومجهوليته فمخالفته لا ينطبق عليها عنوان الظلم والتعدي بل مورد لقاعدة
قبح العقاب بلا بيان - أي بلا وصول - المقتضية لعدم منجزيته للحكم - الا بجعل الشارع،
غاية الامر ان الكاشف عن الجعل، قد يكون دليلا لفظيا، وقد يكون لبيا، وقد يكون
مقدمات الانسداد على الكشف.
واما ما افاده المحقق الخراساني من أنه ربما تقتضي الامارة غير المعتبرة الحجية
عقلا عند ثبوت مقدمات وطرو حالات وذلك بناءا على تقرير مقدمات الانسداد بنحو
الحكومة.
فيرده ان مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة انما توجب حكم العقل بتضييق
دائرة الاحتياط، وجواز الاكتفاء بالامتثال بالعمل وفق المظنونات تركا أو فعلا، فهو في
81

الحقيقة تبعيض في الاحتياط، لا ان الامارة غير العلمية تصير حجة، والا فلا مجال ان
يحكم العقل بشئ لعدم كونه مشرعا بل شانه الدرك خاصة.
ثم إن الظن كما لا يكون حجة لثبوت الحكم كذلك لا يكفي في سقوط التكليف.
وفى الكفاية، وان كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف، والاكتفاء بالظن
بالفراغ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل انتهى.
والظاهر أن مراده ذلك البعض المحقق الخوانساري حيث إنه في مبحث
الاستصحاب، قال إذا كان امر أو نهى لفعل إلى غاية معينة فعند الشك في حدوث تلك
الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج عن العهدة
وما لم يحصل الظن لم يحصل الامتثال انتهى، وربما كان فيرد على ما ذكره في وجه
القول بالاكتفاء بالظن بالفراغ، من عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، ان معنى وجوب
دفع الضرر المحتمل انه ان صادف الواقع ترتب الضرر الذي هو العقاب في امتثال المقام،
فلا معنى لعدم الوجوب بهذا المعنى، - وبعبارة أخرى - ان هذا الحكم ليس شيئا زايدا
على موضوعه حتى ينكره أحد، مع أن لازم هذا الوجه عدم وجوب تحصيل الظن
بالامتثال، وكفاية الامتثال الاحتمالي ولا أظن أن يلتزم به أحد، فالأظهر عدم اقتضاء غير
القطع للحجية ثبوتا، ولا سقوطا.
امكان التعبد بالامارة غير العلمية
الجهة الثانية: في امكان التعبد بالامارة غير العلمية والظن، وليعلم انه ليس المراد
بالامكان المتنازع فيه في المقام هو الاحتمال كما هو المراد منه في قولهم (كل ما قرع
سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان): لعدم كون الاحتمال محل النزاع لكونه أمرا
وجدانيا: ولعدم كون الامكان بهذا المعنى موردا للأثر فلا يناسب مع البحث الأصولي،
ولا الامكان الذاتي وهو ما كان بالنظر إلى ذاته لا اقتضاء بالإضافة إلى الوجود والعدم، أي
82

ما ليس بذاته ضروري الوجود كالباري تعالى، ولا ضروري العدم كشريكه: إذ لم يتوهم
أحد كون حجية الظن بالنظر إلى ذاته ضروري العدم.
بل المراد به الامكان الوقوعي أي ما لا يلزم من فرض وقوعه أولا وقوعه محال.
وقد اختار الشيخ الأعظم (ره) الامكان وعلله ببناء العقلاء على ذلك ما لم يجدوا ما
يوجب الاستحالة.
وأورد على المحقق الخراساني بايرادات. الأول: منع كون سيرة العقلاء على
ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه. الثاني: عدم الدليل على حجية هذه السيرة. الثالث:
عدم الحاجة إلى اثبات امكانه لعدم ترتب اثر عملي عليه.
ولكن هذه الايرادات انما تتم إذا كان مراد الشيخ الأعظم (ره) ما فهمه
المحقق الخراساني من كلامه من أن بناء العقلاء على الامكان عند الشك فيه وفى
الاستحالة، وليس مراده ذلك، لأنه بعد أسطر يصرح بخلاف ذلك - قال (قده) - (ان العقل
لا يمكن له ادراك جميع المحسنات والمقبحات حتى يحكم بالامكان والامتناع) إذ مع
عدم الإحاطة لا طريق للعقلاء إلى الامكان ومعه لا معنى لبناء العقلاء عليه.
بل مراده بتوضيح منا انه لو ورد من المولى، دليل ظاهر في حكم يحتمل العبد،
عدم تمكنه من امتثاله واستحالته عليه، بناء العقلاء على الاخذ بدليل الوقوع، والبناء
على الامكان حتى يثبت الاستحالة - وبعبارة أخرى - ان بناء العقلاء عملا يكون على ذلك
عند الشك في الامكان والاستحالة، مع ورد دليل ظاهر في الحكم، فلو شككنا في
امكان التعبد بالظن وورد دليل دال على حجية ظن خاص كخبر الواحد يتبع ذلك
الدليل، وهذا متين جدا - فان شئت فاختبر ذلك من حال العبيد بالإضافة إلى الموالى
العرفية، فإذا قال المولى بعبده امش إلى السوق واشتر اللحم، واحتمل العبد عدم قدرته
على امتثال ذلك، فإنه ليس للعبد ان يعتذر عن ترك التعرض للامتثال، باحتمال عدم
القدرة بل العقلاء يذمونه، فيعلم من ذلك بنائهم على اتباع ظهور كلام المولى ما لم يثبت
الاستحالة.
ثم إن للمحقق النائيني (ره) في المقام كلاما، وهو ان المراد بالامكان في المقام،
83

ليس هو الامكان التكويني، بل المراد به الامكان التشريعي، المقابل للامتناع في عالم
التشريع، إذ المحاذير المذكورة كلها راجعة إلى عالم التشريع، والا فلم يتوهم أحد ترتب
محذور تكويني على التعبد بالظن، وعليه فلا ربط لذلك بالعقلاء كي يقال ان بنائهم
على الامكان.
أقول ينبغي ان يعد هذا الكلام من الغرائب، إذ الامكان والامتناع ليسا أمرين
اعتبارين كي يختلف الحال باعتبار شخص دون شخص بل هما أمران واقعيان، بمعنى
ان الخارج ظرف لهما لا لوجودهما، وانما الاختلاف يكون من ناحية المتعلق، وقد يكون
المتعلق أمرا تكوينيا وقد يكون تشريعيا، فالامكان والامتناع في جميع الموارد بمعنى
واحد، فكما ان بناء العقلاء على الامكان في التكوينيات يكون بنائهم عليه في
التشريعيات.
مع أنه لو سلم كون الامكان التشريعي غير الامكان التكويني، لا أرى محذورا في
القول بان بناء العقلاء على ترتيب اثار الامكان في مقام العمل، وعدم طرح الدليل الدال
على التعبد به بمجرد احتمال ترتب محذور عليه في عالم التشريع كما يقال بان بنائهم
عليه في الامكان التكويني، وكون الامر في التشريعيات بيد غيرهم لا يصلح للمنع عن
ذلك كيف، وهل يكون الامر في التكوينيات بيدهم ومربوطا بهم كي يقال انه لا ربط
للتشريعيات بهم.
ما توهم لزومه من التعبد بغير العلم من المحاذير
وكيف كان فمن اختار، استحالة التعبد بالظن وبغير العلم، أو بطلانه وان لم يكن
محالا، توهم لزوم محاذير من التعبد به.
وقبل بيان تلك المحاذير ونقدها، لا بد وان يعلم أن الصور المعقولة في موارد
التعبد بالظن ست، إحداها عدم وجود الحكم في الواقع، ثانيتها، وجود الحكم الواحد
سنخا في الواقع والظاهر معا مع كون متعلقيهما ضدين، ثالثتها وجود الحكمين مع وحدة
84

المتعلق، وكون الواقع هو الحرمة، والظاهر هو الوجوب، رابعتها عكس ذلك، أي كون
الواقع هو الوجوب والظاهر هو الحرمة، خامستها، وجود الحكمين ووحدة المتعلق، مع
كون الحكم الواقعي لزوميا، وجوبا كان، أم حرمة والحكم الظاهري هو الترخيص،
سادستها عكس ذلك أي كون الواقع ترخيصيا، والظاهر لزوميا.
واما المحاذير التي توهم لزومها في هذا الصور، فثلاثة، الأول نقض الغرض،
وهو يختص بالصورة الثالثة، والرابعة، والخامسة و تقريبه، انه إذا تعلقت الإرادة الجدية
بايجاد عمل، أو تركه، وتصدى المولى لذلك، بالامر، أو النهى يكون الامر بالعمل
بالامارة غير العلمية المؤدية إلى خلاف الواقع، بأحد الأنحاء المشار إليها نقضا منه لغرضه
وهو من المستحيل حتى عند المنكرين للتحسين العقليين.
والجواب عن ذلك: ان المولى إذا رأى في فعل مصلحة وغرضا مترتبا عليه، وكان
ذلك الفعل فعل الغير، وكان الأثر مترتبا عليه في صورة اتيانه باختياره يحصل له غرض
آخر، وهو جعل المحرك والداعي نحو الفعل فيأمر به لذلك، فالغرض من الامر، هو
جعل المحرك والداعي نحو الفعل، وهذا الغرض ربما يكون جعل المحرم للعبد نحو
الفعل واتفق العلم به، وربما يكون جعل الداعي والمحرك على كل تقدير أي حتى في
صورة الشك والجهل، وهذا الاختلاف انما ينشأ من اختلاف المصالح الواقعية المترتبة
على أفعال العبيد في الأهمية، إذ المصلحة قد تكون بمرتبة من الأهمية تقتضي تصدى
المولى لحصولها على جميع التقادير، وقد لا تكون بهذه الأهمية، بل بحيث لو علم العبد
بأمر المولى يتحرك نحوه، ومن الاختلاف في وجود المصلحة الجابرة، أو المزاحمة
للفائتة، إذ ربما تكون في ظرف الجهل لعدم الاتيان بالفعل مصلحة جابرة لما فات أو
مزاحمة له، وقد لا تكون، ففي صورة عدم أهمية المصلحة، وصورة الجبر أو التزاحم
لا مانع من جعل حكم ظاهري على خلاف الواقع كما لا منع عن سكوته، وعدم جعل
وجوب الاحتياط، ولا يلزم من ذلك نقض الغرض، وفى صورة الأهمية وعدم الجبر يلزم
من جعله نقض الغرض.
وحيث انه لا طريق لنا إلى استكشاف كون الغرض من أي قسم من الأقسام فلا بد
85

من متابعة الدليل فمن ورود الدليل على جعل حكم على خلاف الواقع يستكشف كونها
من قبيل أحد الأولى دون الأخير فلا يلزم محذور نقض الغرض.
المحذور الثاني المحذور الملاكي، وهو لزوم الالقاء في المفسدة فيما إذا كان
الحكم الواقعي، هو الحرمة - وأدت الامارة إلى الوجوب أو الترخيص، وتفويت
المصلحة فيما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب، وأدت الامارة إلى عدمه أو الحرمة،
ويعبر عن ذلك - بتحليل الحرام - ولزوم الالزام بشئ من دون ان يكون فيه مصلحة
الزامية فيما إذا كان الحكم الواقعي غير الزامي، وأدت الامارة إلى حكم الزامي، ويعبر
عنه بتحريم الحلال.
والجواب عن ذلك أن لهذا المحذور طرفين أحدهما، تحريم الحلال أي الالزام
بما هو مرخص فيه واقعا.
والجواب عنه واضح، إذ الالزام بأمور مباحة فيما إذا كان هناك ملاكات ثابتة في
موارد مشتبهة، ولا يمكن للمولى التحفظ عليها الا بالالزام بعدة أمور فيها ما لا ملاك فيه،
وما فيه ذلك، لا محذور فيه، بل لا مناص الا عن ذلك، الا ترى انه لو علم المولى العرفي،
ان في من يدخل عليه في اليوم المعين شخصا يهم بقتله وامر عبيده ان لا يأذنوا لاحد
الدخول عليه، في ذلك اليوم تحفظا على عدم دخول ذلك الشخص، لا يرى العقلاء في
ذلك محذورا بل يلزمونه بذلك - وبالجملة - الالزام بأمر مباح تحفظا على غرض مهم
لا محذور فيه حتى بناءا على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات: إذ التحفظ
على ذلك الغرض المهم مصلحة ثابتة في جميع الموارد حتى في ذلك المورد الذي هو
مباح واقعا.
الطرف الثاني، تحليل الحرام، أي الالقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة.
والجواب عنه انما هو بأحد وجهين، الأول: ان المصلحة أو المفسدة الواقعية
ليست بمرتبة من الأهمية كي يلزم تحصيلها حتى في حال الجهل وعدم العلم به.
الثاني: انه في فرض انسداد باب العلم حيث إن الامر يدور بين ان يهمل المولى
عبيده فلا يصلوا إلى الواقع أصلا فيلزم تفويت جميع المصالح والالقاء في جميع
86

المفاسد، و بين ان يتعبدهم بالعمل بالامارات غير العلمية فيصلوا إلى الواقع في جملة
من الموارد ويستوفون عدة من المصالح ويتحرزوا عن جملة من المفاسد، فيتعين التعبد
بالعمل بها.
واما في فرض انفتاح باب العلم، فان كانت الامارات غير العلمية أكثر إصابة إلى
الواقع من القطع أو الاطمينان الحاصل للمكلف فهذه الصورة ملحقة بالصورة الأولى،
وان كان القطع أو الاطمينان أكثر إصابة من الامارات، فالتعبد بالامارات يمكن ان يكون
لأجل ان الزم المكلفين بتحصيل العلم عسر على أنواع ومناف لسهولة الشريعة فمصلحة
التسهيل على النوع تقتضي التعبد بالامارات وتزاحم الملاكات الواقعية فمن التعبد بها
يستكشف ان الشارع الا قدس قدم المصلحة النوعية العامة على المصالح الشخصية ولا
قبح في ذلك.
وقد أجاب الشيخ الأعظم (ره) عن هذه الشبهة بجواب آخر وتبعه غيره منهم
المحقق النائيني (ره)، والأستاذ الأعظم، وهو الالتزام بالمصلحة السلوكية - بمعنى ان قيام
الحجة يكون سببا لحدوث مصلحة في نفس السلوك بلا تأثير على المصلحة الواقعية أو
استلزامه تبدل الموضوع، فما يفوت من المصلحة الواقعية بواسطة العمل على طبق الامارة
عند المخالفة يكون متداركا بمصلحة السلوك، مثلا إذا قامت الامارة على وجوب
الجمعة وكان الظهر واجبة في الواقع فان لم ينكشف الخلاف، يكون المتدارك مصلحة
الظهر بتمامها، وان انكشف الخلاف بعد مضى الوقت يكون المتدارك مصلحة الوقت،
وان انكشف بعد مضى وقت الفضيلة يكون المتدارك مصلحة فضيلة الوقت.
وهذه السببية هي السببية التي ذهب إليها بعض العدلية في مقابل السببية على
مسلك الأشعري الملتزم بأنه لا حكم في الواقع مع قطع النظر عن قيام الطريق بل يكون
قيامه سببا لحدوث مصلحة في المؤدى مستتبعة لثبوت الحكم على طبقها، والسببية على
مسلك المعتزلي - الملتزم بان قيام الحجة من قبيل طرو العناوين الثانوية كالضرر موجب
لحدوث مصلحة في المؤدى، أقوى من مصلحة الواقع، فان المصلحة على هذا المسلك
انما تكون في السلوك لا في المتعلق.
87

أقول لا ريب في أن ما فيه المصلحة ليس هو العنوان مع قطع النظر عن تحققه، بل
هو المتحقق في الخارج وهو الذي يكون ذا مصلحة فحينئذ ما له تحقق خارجي فيما إذا
أدت الامارة إلى وجوب ما هو حرام واقعا - مثلا - أمور ثلاثة - الأول - امر المولى باتباع
الامارة. الثاني: الالتزام بأنه واجب. الثالث: العمل الخارجي، فان كان المراد من المصلحة
السلوكية ثبوت المصلحة في الامر، ففيه انها غير استيفائية للمكلف حتى تدعو إلى البعث
وتوجب تلافى الفائت، مضافا - إلى أن الفعل إذا لم يكن ذا مصلحة كيف يتعلق به
التكليف، وان كان المراد ثبوتها في الالتزام، فمضافا إلى أنه لا وجه حينئذ للامر بالعمل
لعدم المصلحة فيه لا يجب الالتزام كما حققناه في محله، وان كان المراد ثبوتها
في العمل، ولو بان يكون ما فيه المصلحة عنوان آخر غير ذات الفعل منطبق عليه، أو
الفعل المستند إلى الامارة، يرجع ذلك إلى التصويب والسببية على زعم المعتزلي، إذ
لا محالة يقع بين ملاك الحكم الواقعي وهذه المصلحة الكسر والانكسار، فتصوير
المصلحة السلوكية بنحو لا يرجع إلى التصويب غير ممكن.
فان قلت إنه يمكن ان يتدارك الشارع المصلحة الفائتة باعطاء مقدار من المصلحة
المصلحة السلوكية بنحو لا يرجع إلى التصويب غير ممكن.
فان قلت إنه يمكن ان يتدارك الشارع المصلحة الفائتة باعطاء مقدار من المصلحة
قلت إن ذلك يتم في الثواب لا في المصلحة الداعية إلى الامر.
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
المحذور الثالث، المحذور الخطابي، وهو اجتماع المثلين. فيما إذا أصابت
الامارة - واجتماع الضدين، فيما إذا أخطأت وأدت إلى غير ذلك الحكم مع وحدة
المتعلق، وطلب الضدين فيما إذا أخطأت، وأدت إلى وجوب ضد الواجب، ولزوم
التصويب ان التزمنا بعدم ثبوت الحكم الواقعي.
وملخص القول في دفعه انما هو بوجهين، أحدهما مختص بالطرق والامارات
- ثانيهما - يعم موارد، الأصول، والامارات على القول بجعل الأحكام الظاهرية في
مواردها.
88

اما الأول: فهو انه في باب الطرق ليس المجعول الا الطريقية والوسطية وتتميم
الكشف، وعليه فمخالفة الطريق كمخالفة القطع له لا توجب التضاد وغيره مما أشير إليه.
توضيح ذلك أن المجعول في باب الامارات والطرق ليس هو الحكم التكليفي كي
تكون الحجية منتزعة عنه لما ذكرناه مفصلا في أوائل مبحث الاستصحاب من أن
الأحكام الوضعية مستقلة في الجعل ولا تكون منتزعة عن حكم تكليفي، مضافا إلى أن
الحجية ليست من الأحكام التأسيسية بل هي من الأحكام الامضائية والشارع امضى ما
عليه بناء العقلاء، ومن الواضح ان العقلاء لم يبنوا على جعل حكم تكليفي في موارد
الامارات - مع - ان الحكم التكليفي ينعدم بالعصيان وليست الحجية كذلك.
كما أن المجعول فيها، ليس هو التنجيز والتعذير، فان حسن العقاب على مخالفة
التكليف وقبحه انما يكونان مترتبين على البيان وعدم البيان ومن لوازمهما غير القابلة
للانفكاك، - وبعبارة أخرى - هما من الأحكام العقلية غير القابلة للتخصيص، فما دام لم
يتصرف في الموضوع باعطاء صفة الطريقية للامارة لا معنى لجعل التنجيز والتعذير.
وبالجملة في مورد الامارات غير العلمية بما ان موضوع حسن العقاب، وهو البيان
والوصول غير موجود فما لم يتصرف الشارع فيها بجعل ما يكون موجبا لتحقق
المقتضى للعقاب ليس للشارع جعل التنجيز والتعذير لأنه تخصيص في الحكم العقلي.
بل المجعول فيها الطريقية، أي ما للقطع بالانجعال وهو الطريقية والكاشفية التامة
وتصير الامارة بذلك فردا اعتباريا للقطع، والبيان، والوصول.
ودعوى ان اعتبار شئ يتصور على قسمين، الأول: ما يصير مصداقا حقيقيا
للطبيعة بعد الاعتبار كالملكية. الثاني: ما لا يصير كذلك، والطريقية الاعتبارية من قبيل
الثاني: إذ الامارة بعد اعتبار كونها علما لا تصير من مصاديق العلم حقيقة، وفى مثل هذا
القسم لا بد وأن يكون الجعل والاعتبار بلحاظ آثاره بخلاف القسم الأول فإنه بعد
صيرورته من مصاديق الطبيعة حقيقة بترتب عليه حكمها قهرا بلا احتياج إلى لحاظ
الشارع وجعله فاعتبار الطريقية لا بد وأن يكون بلحاظ الأثر، وهو المعاملة مع المؤدى
معاملة الواقع، فحينئذ لك ان تقول ان جعل المؤدى والمعاملة معه معاملة الواقع حيث إنه
89

مقدم على جعل الطريقية إذ جعلها انما يكون بلحاظ جعل المؤدى، فلا محالة يكون
أولى بالمجعولية منها، كما عن بعض الأساطين.
مندفعة: بان اعتبار شئ في جميع الموارد من دون لحاظ الأثر لغو لا يصدر من
الحكيم، بل في جميع الموارد الاعتبار يكون بلحاظ الأثر، ومن تلك الموارد اعتبار
الطريقية، والأثر الذي بلحاظه نزل غير العلم من الآثار من قبيل صحة العقاب على
المخالفة، فليس ذلك الأثر جعل المؤدى وتنزيله منزلة الواقع كي يصح ما ذكر، وتمام
الكلام في محله، فعلى هذا لا حكم مجعول في باب الامارات والطرق كي لا يجتمع مع
الحكم الواقعي.
واما الوجه الثاني: فمحذور اجتماع المثلين، يدفع بان موضوعي الحكمين ان كانا
طوليين غي المجتمعين في مورد واحد، فأين اجتماع المثلين، واما ان قلنا بان الحكم
الظاهري وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي ولكن الواقع محفوظ في مرتبة الحكم
الظاهري فيلتزم بالتأكد.
وبهذا البيان اندفع ايراد بعض الأعاظم على المحقق النائيني (ره) المتلزم بالتأكد في
الجواب عن شبهة اجتماع المثلين، بان الواقع والظاهر في مرتبتين فكيف يمكن الالتزام
بالتأكد، وجه الاندفاع انه على فرض الطولية لا يلزم اجتماع المثلين حتى يلتزم بالتأكد،
والالتزام بالتأكد انما هو على فرض اجتماعهما في مورد واحد، الذي هو فرض الاشكال.
ومحذور طلب الضدين يدفع بان طلب الضدين بهذا النحو أي بنحو لا يكون
الحكم الواقعي محركا نحو الفعل أو الترك، ولا يلزم العقل بموافقته في ظرف فعلية
الحكم الظاهري لا محذور فيه - وبعبارة أخرى - ان طلب الضدين غير صحيح، من جهة
عدم قدرة العبد على الامتثال، فإذا فرضنا ان وصول الحكم الواقعي مستلزم لارتفاع،
موضوع الحكم الظاهري، وفى فرض وصول الحكم الظاهري، لا يكون الحكم الواقعي
واصلا وهما لا يصلان معا في عرض واحد، فلا يلزم التدافع، ولا محذور من هذه
الناحية.
90

واما محذور اجتماع الضدين، فالجواب عنه ان الحكمين بما هما لا تضاد بينهما
و لذا يمكن جعلهما من المولى غير الحكيم، بل التضاد بينهما انما يكون من ناحية المبدأ
أي، المصلحة، والمفسدة، والشوق، والكراهة: إذا الوجوب ناش عن المصلحة الملزمة
غير المزاحمة والحرمة ناشئة عن المفسدة الملزمة غير المزاحمة، والاستحباب عن
المزاحمة غير المزاحمة، والكراهة عن المفسدة الملزمة غير الملزمة، والإباحة عن المصلحة
المزاحمة بالمفسدة المتساويتين، أو عن عدم شئ منهما، فاجتماع الحكمين كالوجوب
والحرمة يستلزم وجود المصلحة غير المزاحمة، والمفسدة غير المزاحمة في مورد
واحد، وهو ممتنع، أو من ناحية المنتهى، وهو امتثال التكليف - مثلا - الوجوب يستلزم
اتيان الفعل، والحرمة تستلزم تركه فمن تعلقهما بشئ واحد معا يلزم ان يفعل العبد فعلا
ويتركه وهو محال - وعليه - فالتضاد بين الحكمين انما يكون تضادا بالعرض، والا التنافي
انما يكون بين المبدئين والمنتهيين.
وعلى ذلك فلا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري اما من ناحية المنتهى: فلما
مر آنفا في الجواب عن محذور طلب الضدين، واما من ناحية المبدأ فلان الأحكام
الواقعية ناشئة عن المصالح والمفاسد في المتعلقات، واما الحكم الظاهري فهو انما يكون
ناشئا عن المصلحة في الجعل بمعنى المصالح النوعية مثلا، ايجاب الاحتياط ناش عن
التحفظ على الواقع، والبرائة على التسهيل عن المكلفين وعليه فلا تضاد بين
الحكمين فتدبر فان هذا هو القول الفصل في المقام.
ولا يخفى ان هذا يصلح جوابا ثانيا عن محذور اجتماع المثلين.
فيما قيل في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري
ثم انه قد أجيب عن محذور اجتماع الضدين بأجوبة اخر غير ما ذكرناه.
الأول: ما نسب إلى الشيخ الأعظم (ره) وحاصله، انه لا تضاد بين الحكمين لعدم
اتحاد الموضوع: إذ موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بعنوانه الأولى، وموضوع الحكم
91

الظاهري هو الفعل بما انه مشكوك الحكم ومع اختلاف الموضوع وتعدده كيف يحكم
بالتضاد.
وفيه: انه لو تم لاختص بالأصول، ولا يعم الامارات على القول بجعل الحكم
الظاهري، إذ لم يؤخذ في موضوعها الشك. وثانيا: ان مقتضى اطلاق دليل الحكم الواقعي
بالاطلاق اللحاظي، أو بنتيجة الاطلاق ثبوته في حال الشك في الحكم، والا لزم
التصويب فيلزم المحذور المذكور.
الثاني: ما في الكفاية وحاصله ان التعبد بدليل غير علمي انما هو بجعل الحجية له
والحجية المجعولة لا تكون مستتبعة لانشاء احكام تكليفية، بل انما تكون موجبة لتنجز
التكليف به إذا أصاب وصحة الاعتذار به، إذا أخطأ كما هو شأن الحجية غير المجعولة فلا
يلزم اجتماع الضدين في صورة المخالفة.
ثم انه (قده) أجاب بجواب آخر على فرض تسليم ان معنى الحجية أو لازمها جعل
احكام تكليفية، وحاصله ان الحكم الظاهري ليس بنحو يضاد مع الحكم الواقعي، فان
الواقعي يكون ناشئا عن المصلحة أو المفسدة في المتعلق الموجبة لانقداح الإرادة أو
الكراهية فيما يمكن انقداحهما، والحكم الظاهري يكون ناشئا عن المصلحة في نفس
الجعل، لا عن ما في المتعلق من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه فلا
يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل ولا اجتماع إرادة وكراهة ولا مضادة بين
الانشائين كذلك فيما إذا اختلفا.
وقد أشكل عليه الامر في بعض الأصول العملية كاصالة الإباحة الشرعية ووجه
الاشكال أمران. الأول: ان أصالة لا يمكن جريانها مع كون الواقع هو الحرمة لان
الترخيص في الفعل لا يجتمع مع المنع منه، ولو كان عن مصلحة في نفسه: إذ في الحكم
الإلزامي يمكن ان يقال انه لا يكون فعليا لعدم تعلق الإرادة فلا منافاة كما ذكرناه، واما
الترخيص فليس له مرتبتان لتكون المرتبة الثانية وهي الفعلية متوقفة على الإرادة، لعدم
انقداح الإرادة على كل حال بل فعليته انما تكون بنفس جعله فينافي الحكم الواقعي.
الثاني: ان الحكم الإلزامي يمكن ان يكون طريقيا موجبا لتنجز الواقع عند المصادفة
92

والعذر عند المخالفة، بخلاف الاذن والترخيص المجعول على المشكوك فيه فإنه
لا يعقل ان يكون طريقيا، لاخذ الشك في موضوعه، فلا محالة يكون نفسيا فينا في الحكم
الواقعي.
ثم انه أجاب عن هذا المحذور بجواب آخر وحاصله: انه لا يكون الحكم الواقعي
فعليا كي يلزم اجتماع الضدين، أو المثلين، فان التضاد انما يكون بين الحكمين الفعليين
ولا يكون انشائيا محضا حتى يرد على أن الحكم الانشائي لا اثر له حتى يتنجز بالعلم، بل
يكون وسطا بينهما، ويكون انشائيا من جهة انه لا إرادة ولا كراهة على طبقه وفعليا من
جهة انه يتنجز بالعلم كساير الأحكام الفعلية.
وعدم فعليته ليس من جهة دخل العلم في الفعلية حتى يقال ان ما ذكره في ذيل
كلامه في جواب ما أورده على نفسه بان الحكم قبل أداء الامارة الموافقة انشائي وبه
يصير فعليا.
بقوله لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم انشائي لا حقيقة
ولا تعبدا، الا حكم انشائي تعبدا، لا حكم انشائي أدت إليه الامارة، اما حقيقة فواضح،
واما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا لا الواقع
الذي أدت إليه الامارة انتهى.
وحاصله ان الالتزام بدخل العلم في الفعلية لا يجدى لفعلية الحكم بقيام الامارة
الموافقة، إذ الامارة ليست بعلم وجدانا، ففعلية الحكم على هذا الفرض تتوقف على
صيرورة الامارة علما - وهي تتوقف على شمول دليل الحجية لها فتصير علما وشمول
دليل الحجية لها انما يكون مع فرض تنزيل المؤدى منزلة الواقع ولا دليل على تنزيله
سوى دليل حجية الامارة وشموله له متوقف على أن يكون الجزء الاخر محرزا بالوجدان
أو بالتعبد، والأول مفقود بالفرض والثاني يتوقف على شمول دليل الحجية له ويثبت
الواقع به ليصير علما وهذا دور واضح، فدليل الحجية لا يتكفل الا لكون المؤدى هو
الواقع لا الواقع الذي علم به وجدانا أو تعبدا.
بل من جهة ان الاذن والترخيص، مانع عن الفعلية، والعلم يوجب رفع الاذن،
93

فالعلم يوجب الفعلية لا لدخله فيه حتى يرد المحذور المذكور بل لكونه موجبا لارتفاع
الاذن فمع قيام الامارة حيث يرتفع الاذن يصير الحكم فعليا ولا تتوقف الفعلية على
تنزيل الامارة منزلة العلم هذا ملخص كلامه (قده) مع توضيح منا.
أقول في كلامه (قده) مواضع للنظر. الأول: ما افاده من أن المجعول في الامارات
هو التنجيز والتعذير، فإنه يرد عليه ما ذكرته عند الوجه الأول من وجهي الجمع المنصور
فراجع.
الثاني: ما ذكره من الفرق بين الإباحة المجعولة في مورد أصالتها، وبين الأحكام
المجعولة في مورد الامارات، فإنه غير تام: إذ الحكم المجعول ان كان فعليا لفعلية
موضوعه كان مضادا للحكم الواقعي الفعلي كان عن مصلحة في نفسه أم في متعلقه،
وكان المتعلق، متعلقا للإرادة والحب، أم لم يكن، كان الحكم طريقيا ان نفسيا، وان لم
يكن فعليا لم يكن مضادا معه كان في مورد الامارات، أم في مورد أصالة الإباحة.
- وبعبارة أخرى - ان الواجب هو الترخيص في الفعل مع الالزام وقد التزم بعدم
مضادته مع الحكم الواقعي ان كان ناشئا عن مصلحة في نفسه فكذلك الإباحة التي هي
الترخيص المجرد فكيف يلتزم بمضادته معه ان كان ناشئا عن مصلحة في الجعل.
الثالث: ان ما ذكره (ره) من الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة بالمعنى
المتقدم، يرد عليه ان فعلية الحكم وعدمها أجنبيتان عن المولى بالمرة بل تدوران مدار
تحقق الموضوع بجميع قيوده وعدمه، فمع التحقق لا يعقل عدم فعلية الحكم، كما أنه مع
عدم تحققه لا يعقل فعليته - وعليه - فان كان المأخوذ في موضوع الحكم الواقعي، عدم
قيام الحجة على الخلاف، وعدم الترخيص في مخالفته فعند قيامها لا يكون الحكم ثابتا
لا الفعلي منه ولا الانشائي، اما الأول فواضح، واما الثاني فلانه انما يثبت لمن يكون
الحكم بالنسبة إليه فعليا، فيلزم التصويب، وان لم يكن المأخوذ فيه ذلك فلا محالة عند
قيامها أو الترخيص في مخالفته يلزم اجتماع الحكمين الفعليين فيلزم اجتماع الضدين.
الوجه الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) - وهو ان الكلام يقع في موارد ثلاثة:
الأول، في الامارات. الثاني، في الأصول التنزيلية. الثالث، في الأصول غير التنزيلية.
94

اما الأول: فقد أجاب عن المحاذير بما ذكرناه من الوجه الأول للجمع فراجع.
واما الثاني: فقد أجاب عنها بان المجعول في الأصول التنزيلية انما هي الجهة
الثالثة للقطع وهي كونه مقتضيا للجري العملي على طبق ما تعلق به وكون الشخص غير
متحير في مقام العمل كما يأتي تفصيله في مبحث الاستصحاب وعليه فلا حكم مجعول
حتى يلزم المحاذير المذكورة.
واما في الأصول غير التنزيلية فمحصل جوابه (ره)، ان التكاليف الواقعية بوجوداتها
النفس الامرية لا تصلح للمحركية والداعوية بل وصولها محرك نحو الفعل أو الترك
وهذه المرتبة من الحكم مرتبة التنجيز والتعذير، وهما من الأحكام العقلية المتأخرة، عن
مرتبة ثبوت الحكم الواقعي، وهذه المرتبة موكولة إلى حكم العقل - وعليه - فأملاك
الواقعي، تارة يكون بمرتبة من الأهمية لا يرضى الشارع بفواته حتى في فرض عدم
وصول الحكم، فلا بد من جعل وجوب الاحتياط فيكون هو وجوبا طريقيا موجبا
لوصول الحكم على فرض وجوده بطريقه، ناشئا عن مصلحة الحكم الواقعي، وأخرى
لا يكون بهذه المرتبة من الأهمية فيرخص في الفعل أو الترك، ويكون هذا الحكم نظير
حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان - وعلى ذلك - ففي المورد الأول بما ان علة جعل
وجوب الاحتياط، هي المصلحة الواقعية ففي فرض عدم الحكم واقعا لا يكون وجوب
الاحتياط ثابتا، بل انما هو صورة تخيل كونها حكما فلا يلزم اجتماع الضدين، وفى المورد
الثاني بما ان ثبوت الترخيص والاذن انما هو في مرتبة متأخرة عن الحكم الواقعي، لا لان
موضوعه الشك بما انه من الحالات الطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي، حتى يقال ان
انحفاظ الحكم الواقعي عنده مستلزم لاجتماع الضدين، بل باعتبار كونه موجبا للحيرة في
الواقع، وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له فقد لو حظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي
ومعه كيف يعقل ان يضاد الحكم الواقعي - وبعبارة أخرى - الرخصة انما تكون في
عرض المنع المستفاد من ايجاب الاحتياط، وهو انما يكون في طول الواقع، ومتفرعا
عليه فكذلك ما هو في عرضه يكون في طول الواقع، والا يلزم كون ما في طول الشئ في
عرضه.
95

أقول ما ذكره (ره) في الامارات وفى الأصول التنزيلية متين، واما ما افاده في
الأصول غير التنزيلية، ففي كلا موردي كلامه نظر.
اما في المورد الأول: فلان ايجاب الاحتياط في صورة الموافقة للواقع لا يصح،
وصدوره من الحكيم محال: إذ حينئذ يكون حكمه حكم الواقع غير الواصل، فلا يعقل
صيرورته موجبا لتنجز الواقع - وبعبارة أخرى - صيرورته موجبا للتنجز فرع وصوله، ومع
احتمال المخالفة وعدم المصادفة، لا يكون ذلك واصلا، فلا يكون منجزا وموجبا
للتحفظ على الغرض، مع أنه خلاف ظاهر الأدلة، فان ظاهرها الوجوب على كل تقدير
واستيفاء ما هو ملاكه مقتض أيضا.
واما في المورد الثاني: فلان الحكم الواقعي ان كان ثابتا في المرتبة المتأخرة
المفروضة لزم اجتماع الضدين، وإلا لزم التصويب، مع أن ترتب أحد الحكمين على
الاخر والحكم بثبوته على فرض ثبوت الاخر، انما يعقل على فرض عدم التضاد، والا
فلازمه جواز تحقق السواد على فرض وجود البياض - وبالجملة - فرض أحد الضدين في
طول الاخر لا يخرجه عن الضدية، ولا يوجب جواز اجتماعهما.
ما يقتضيه الأصل عند الشك في الحجية
الحجية الثالثة فيما يقتضيه الأصل عند الشك في الحجية، ليكون هو المرجع على
تقدير عدم الدليل على الحجية وعلى عدمها، والمراد به ليس خصوص الأصل العملي،
بل المراد منه القاعدة الأولية المستفادة من حكم العقل، أو الأدلة السمعية.
وقد طفحت كلماتهم بان الأصل عدم الحجية عند الشك فيها إذا الشك فيها
مساوق للقطع بعدمها، ومرادهم بذلك ان الشك في انشاء الحجية ملازم للقطع بعدم
الحجية الفعلية بمعنى عدم ترتب آثار الحجية.
وكيف كان فقد أفاد الشيخ الأعظم (ره) في وجه ذلك أن الحجية لها اثر ان.
أحدهما: صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام. ثانيهما: صحة نسبته إليه تعالى، وهذان
96

الاثران لا يترتبان مع الشك في الحجية لما دل من، الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل
على حرمة الالتزام والاستناد في صورة الشك، لأنهما تشريع عملي وقولي، دلت الأدلة
الأربعة على حرمته، فالشك في الحجية ملازم للقطع بعدم ترتب اثار الحجية الفعلية،
ومنه يستكشف عدمها.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بما حاصله ان اسناد مؤدى الامارة إلى الله تعالى
والاستناد إليها في مقام العمل ليسا من آثار الحجية، بل بينهما، وبين الحجية عموم من
وجه، إذ قد يكون الشئ حجة، ولا يصح اسناد مؤداه إلى الشارع كالظن على الحكومة،
ويمكن ان يدل دليل على صحة الالتزام والنسبة إليه تعالى مع الشك في التعبد وعدم
الحجية، وان الاثرين المذكورين هما للعلم بالمؤدى.
ولذلك جرى (قده) في تقرير الأصل على خلاف ما قرره الشيخ، وحاصله ان آثار
الحجية أربعة - التنجيز، التعذير، كون موافقته انقيادا، كون مخالفته تجريا، وهذه الآثار
انما هي للحجية الفعلية، وهي مرتبة على العلم بالحجية الانشائية، ضرورة انه بدون
الاحراز، لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته، ولا يكون عذرا لدى
مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجريا، لا يكون موافقته انقيادا، فمع الشك في
التعبد به يقطع بعدم حجيته وعدم ترتب شئ من الآثار عليه.
ثم إن الشيخ (قده) بعد تأسيس الأصل تمسك لا ثبات حرمة العمل بالظن،
بالعمومات، والآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وأفاد ان مقتضى هذه العمومات،
حرمة العمل بالظن الا ما خرج بالدليل، فأدلة حجية الامارات تخصص هذه العمومات،
فالشك في حجية شئ يكون شكا في التخصيص والمرجع فيه عموم العام، وأورد عليه
المحقق النائيني (ره) بما سيمر عليك مستوفى.
وربما يستدل لعدم الحجية باستصحاب عدمها، وتنقيح القول بالبحث في موارد.
الأول: في أنه هل هناك ملازمة بين الحجية وجواز الاستناد إليه تعالى حتى
يكون الدليل المثبت لأحدهما مثبتا للاخر كما افاده الشيخ أم لا؟ كما اختاره
المحقق الخراساني (ره).
97

الثاني: في أنه هل يصح التمسك بما دل على حرمة العمل بغير العلم على عدم
الحجية أم لا؟
الثالث: في أن الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم الحجية واقعا، أم لا؟
الرابع: في صحة ردع الشارع عن العمل بما لم يعلم حجيته.
الخامس: في أنه، هل يجرى استصحاب عدم الحجية وببركته يبنى على عدم
الحجية، أم لا يجرى.
اما المورد الأول: فقد تقدم تقريب ما افاده الشيخ الأعظم، وما أورده عليه
المحقق الخراساني، ولكن يرد على صاحب الكفاية، ان ايراده يتم على مبناه في جعل
الحجية، وهو ان المجعول، التنجيز، والتعذير فان ذلك لا يلازم ثبوت المؤدى، وكونه
حكما شرعيا، لا حقيقة، ولا تعبدا حتى يستند إلى الشارع، ولذلك لا يجوز الاستناد إليه في
مورد ايجاب الاحتياط مع جعل المنجزية في ذلك المورد.
وأما إذا قلنا بان المجعول في باب الحجج والامارات، جعل الطريقية، وجعل ما
ليس بعلم علما كما هو الحق، فلا ينفك ذلك عن جواز الاستناد، فإنه من آثار العلم جواز
الاستناد، فيترتب على الامارة، فمن دليل عدم جواز الاستناد يستكشف عدم الحجية،
وحيث إن مبنى الشيخ في الامارات، جعل الطريقية، فهذا الاشكال لا يرد عليه، وقد تقدم
الكلام في مبنى المحقق الخراساني في جعل الحجية، وعرفت عدم تماميته.
واما ما إفادة من أن الظن على تقدير الحكومة حجة، ولا يصح اسناد المظنون إلى
الشارع، فيرده ان نتيجة مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة ليست حجية الظن بل
نتيجتها التبعيض في الاحتياط.
ولكن يرد على الشيخ (ره) ان مقتضى الأدلة السمعية، عدم جواز اسناد ما لم يعلم،
ومعه قيام الامارة على شئ كوجوب السورة في الصلاة، واحتمال حجيتها، لا يحرز ان
وجوب السورة غير معلوم، بل يحتمل ان يكون معلوما، بالعلم التعبدي، فالتمسك
بالعمومات تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للعام، الذي لا شك لاحد في عدم جوازه فتدبر.
98

واما المورد الثاني: فقد استدل الشيخ بالعمومات الناهية عن العمل بغير العلم
كقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم، ونحوه وذكر ان مقتضى هذه العمومات حرمة
العمل بغير العلم الا ما خرج بالدليل، ونسبة أدلة حجية امارة خاصة إلى تلك العمومات،
نسبة المخصص إلى العام، فالشك في حجية امارة خاصة شك في التخصيص والمرجع
فيه عموم العام.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان مفاد دليل حجية الامارة كونها علما تعبدا
فنسبته إلى العمومات نسبة الحاكم إلى المحكوم ويكون نافيا لموضوع العام، فعند الشك
في الحجية لا محالة يشك في صدق موضوع العام، ومع الشك فيه يكون الشبهة
مصداقية، وضروري انه لا يجوز التمسك بالدليل الا مع احراز صدق موضوعه.
وأورد عليه الأستاذ بان الحجية الواقعية مما لا يترتب عليه اثر ما لم يصل إلى
المكلف فالحكومة انما هي بعد الوصول، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى المكلف، عمل
بغير علم، وان كان حجة في الواقع.
ولكن يرد على أن الحجية الواقعية وان لم تصل إلى المكلف، توجب صيرورة
الامارة علما، فاحتمالها يوجب الشك في كون المؤدى معلوما تعبدا، فايراد
المحقق النائين على الشيخ تام.
واما المورد الثالث: فقد يقال ان الحجية حكم واقعي نظير ساير الأحكام الشرعية
مشتركة بين العالم والجاهل، ولا تكون مختصة بالعالم، لعين ما ذكر من لزوم الدور،
وغيره من الاختصاص بالعالمين.
وأورد عليه بأنه لا محيص عن الالتزام بأخذ الوصول في مقام جعلها، إذ ليست هي
كساير الأحكام الشرعية تترتب عليها الآثار حتى في صورة الجهل، بل لا تترتب عليها
آثارها الا في فرض العلم والوصول.
توضيح ذلك أن الامارة، اما ان تؤدى إلى الترخيص مع كون الحكم الواقعي
لزوميا كالحرمة، واما ان يعكس الامر، واما ان يتوافقان في الحكم اللزومي، وعلى كل
تقدير لا اثر لوجود الحجية الواقعية: إذ في الفرض الأول يكون الواقع منجزا لأجل
99

احتمال وجوده وعدم الفحص والمفروض ان الامارة لم تصل إليه لتكون معذرة.
واما في الفرض الثاني: فلا يستحق العقاب على مخالفة الواقع، وانما يستحقه
للتجري لاحتمال التكليف ووجود الطريق إليه.
واما في الفرض الثالث: فمخالفة الواقع توجب استحقاق العقاب كانت الامارة
واصلة أم لم تكن: إذ مجرد احتمال التكليف منجز لكون الشبهة قبل الفحص، نعم لو
كانت الامارة واصلة ترتب هذا الأثر عليها، فجعل الحجة للجاهل لغو، فلا محالة تختص
بالعالم.
واما محذور الدور أو الخلف فيندفع بان انشائها كانشاء ساير الأحكام يكون
مهملا من هذه الجهة، فبنتيجة التقييد تختص بالعالم.
ومن ذلك كله يظهر ان الشك في الحجية يوجب العلم بعدمها، لا بمعنى انعدام
الشك، بل بمعنى ان الشك بمرتبة منها يوجب العلم بعدم مرتبة أخرى منها، فان احتمل
حجية طريق خاص مع العلم بأنه على فرض ثبوتها وانشائها تكون مختصة بالعالمين،
يقطع بعدم فعليتها بالإضافة إلى الشاك نفسه فالشك متعلق بمرتبة منها وهي الانشاء
مهملا، والمعلوم عدمها غير تلك المرتبة فيجتمعان، لا ان العلم يوجب انعدام الشك.
ولكن يمكن الجواب عن هذا الايراد بان احتمال التكليف يكون منجزا قبل
الفحص، لأجل احتمال وجود الطريق إليه، والا فمع العلم بعدمه على فرض كون
التكليف ثابتا واقعا، لا ريب في عدم التنجيز، فالاثر انما يترتب على الحجة غير واصلة،
والطريق غير الواصل، فدعوى عدم ترتب الأثر على وجودها الواقعي كما ترى، فالحجية
كساير الأحكام تكون مشتركة بين العالمين بها والجاهلين والشك فيها لا يوجب القطع
بعدمها، نعم الآثار المرغوبة من الحجية وهي المعذرية والمنجزية وصحة الاستناد إليها
في مقام العمل، وصحة اسناد مؤداها إلى المولى، لا تترتب على الحجية بوجودها
الواقعي، بل على احرازها صغرى وكبرى، لكونها من الآثار العقلية المترتبة على الحجية
الواصلة فلو شك في الحجية يبنى على عدمها ظاهرا وبحسب الآثار.
واما المورد الرابع: فلا ينبغي التوقف في صحة ردع الشارع عن العمل بما يشك
100

في حجيته كالقياس، وان كان العقل مستقلا بعدم الجواز مع العلم بالحجية أو الشك فيها
في فرض بقاء العلم والشك: إذ موضوع حكم العقل الشك في الحجية وبالتعبد بالمنع
يقطع بعدم الحجية فيخرج عن موضوع حكم العقل، فهو لا يصلح للمنع عن التعبد
المولوي الشرعي.
واما المورد الخامس: فقد يقال ان حجية الامارة من الحوادث وكل حادث
مسبوق بالعدم فعند الشك يتمسك باستصحاب عدم الحجية.
وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) بأنه لا يترتب على هذا الأصل اثر إذ يكفي في حرمة
العمل بالظن عدم العلم بورود التعبد من غير حاجة إلى احراز عدم ورود التعبد به ليحتاج
في ذلك إلى الأصل ثم اثبات الحرمة، والحاصل ان أصالة عدم الحادث انما يحتاج إليها
في الأحكام المترتبة على عدم ذلك الحادث، واما الحكم المترتب على عدم العلم بذلك
الحادث فيكفي فيه الشك، ولا يحتاج إلى احراز عدمه بحكم الأصل.
وأورد عليه المحقق الخراساني بايرادين - أحدهما - ان الحجية من الأحكام الشرعية
وامر رفعها ووضعها بيد الشارع وما كان كذلك يجرى فيه وفى عدمه الأصل
كان هناك اثر شرعي مترتب عليه أم لم يكن.
وفيه: ان المستصحب إذا كان حكما شرعيا أو عدمه أو موضوعا ذي حكم
شرعي، وان كان في جريان الاستصحاب لا يحتاج إلى اثر شرعي، الا انه لا بد وان يترتب
عليه اثر عملي لان الاستصحاب من الأصول العملية فلا يعقل جريانه من دون ان يقتضى
الجري والبناء العملي وان شئت فقل، انه كما يكون جعل الحكم الفرعي الذي لا اثر
عملي له لغوا لا يصدر من الحكيم، كذلك استصحاب الحكم أو عدمه وابقائه مع عدم
ترتب الأثر العملي عليه لغو فلا يجرى.
ثانيهما: انه إذا كان الأثر مترتبا على واقع الشئ، وعلى الشك فيه كليهما، يجرى
الاستصحاب ويثبت به الواقع ويوجب انعدام الشك الذي جعل موضوعا للقاعدة
المضروبة لحال الشك ويكون الاستصحاب حاكما عليها، كما في استصحاب الطهارة،
وقاعدة الطهارة، والمقام من هذا القبيل.
101

وأورد عليه المحقق النائيني، بان الأثر إذا كان مترتبا على الواقع، وعلى الشك،
فبمجرد الشك يترتب الأثر لتحقق موضوعة فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب، لأنه
لا تصل النوبة إلى اثبات الواقع ليجري فيه الاستصحاب فإنه في المرتبة السابقة على هذا
الاثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه فأي فائدة لجريان الاستصحاب.
وفيه: ان العقل وان استقل بعدم ترتيب اثار الحجية بمجرد الشك فيها، الا انه في
طول الحكم الشرعي فبمجرد الشك يجرى الاستصحاب ويقطع بعد الحجية، وبه يرتفع
موضوع الحكم العقلي، ويترتب حكم عقلي آخر وهو عدم ترتيب اثار الحجية مع
احراز عدمها.
وان شئت فقل ان المترتب على الشك عدم الحجية الفعلية، وما يثبته الأصل عدم
الحجية الانشائية، فأحدهما غير الاخر، فما يحصل بالوجدان، غير ما يحصل بالتعبد،
فالأظهر جريان استصحاب عدم الحجية.
حجية الظواهر
إذا عرفت ما ذكرناه، فيقع الكلام في الامارات المعتبرة، أو قيل باعتبارها في طي
مباحث الأول في حجية الظواهر، وهي من أهم المسائل الأصولية، وعليها تدور رحى
الاستنباط، بل هي، وحجية خبر الواحد أساس القول بانفتاح باب العلمي، ومع انكار
إحداهما، لا بد من البناء على الانسداد.
وكيف كان فالقول بحجية ظواهر الأدلة اللفظية الشرعية كالسنة يتوقف، على
اثبات الظهور، وعلى ثوبت عدم غفلة المتكلم، وعلى الدليل عليها في مقام الاثبات.
اما الأول: فمن حيث مواد الألفاظ لا بد من الرجوع إلى اللغة، ومن حيث الهيئة
إلى ساير العلوم، وما لم يذكر في علم يرجع إلى علم الأصول، كظهور الا مر في الوجوب
وما شاكل، وعلى أي تقدير لا يبحث عنه في المقام.
واما الثاني: فبالنسبة إلى المولى الحقيقي لا يحتمل الخطأ والغفلة حتى يحتاج إلى
102

الاثبات، واما في الموالى العرفية فأصالة عدم الخطاء تجرى لبناء العقلاء عليها.
واما الثالث: فحجية الظهورات أي كاشفيتها عن المراد الجدي، انما يكون ببناء
العقلاء - توضيح ذلك - ان في كل كلام صادر من متكلم أصلين مترتبين. أحدهما: أصالة
الظهور وبها يعين ان الظاهر هو المراد الاستعمالي عند الشك واحتمال إرادة تفهيم غيره.
ثانيهما: أصالة صدور الظاهر بداعي الجد: إذ بناء أهل المحاورات والعقلاء على حمل
الكلام على أنه انما صدر بداع الجد لابداع آخر، وان مطابق الظهور مراد جدي وبناءا
على هذين الأصلين العقلاء يحكمون، بان مراد المتكلم مطابق لما هو ظاهر كلامه،
والشارع الا قدس لم يخط عن هذه الطريقية المألوفة.
واستدل لعدم حجية الظهورات بان الأدلة الناهية عن العمل بالظن تشمل بعمومها
للظواهر، وهي تكفى في الردع عن بناء العقلاء.
وفيه: ان الظواهر ان كانت حجة تخصص تلك الأدلة بدليل حجيتها، والا فظهور
هذه الأدلة كغيره من الظهورات ليس بحجة فلا وجه للتمسك به.
ثم انه وقع الخلاف في موارد. الأول: هل تختص حجية الظهورات بما إذا ظن
بالوفاق، أم يعم ما إذا لم يظن به، بل وان ظن بالخلاف، وجوه أقواها الأخير: والدليل
عليه هو الدليل على حجية الظهور وهو بناء العقلاء: والشاهد عليه صحة مؤاخذة العبد إذا
خالف امر مولاه معتذرا بالظن بالخلاف وعدم قبول عذره.
ويشهد لعدم اعتبار الظن بالوفاق، مضافا إلى ذلك روايات باب التعارض، إذ
لا يعقل حصول الظن بالوفاق في المتعارضين، بل اما ان يحصل الظن بالوفاق في
أحدهما، أولا يحصل في شئ منهما، فان كان الظن بالوفاق معتبرا، لزم عدم حجيتهما
في الصورة الثانية، وحجية خصوص ما حصل الظن بالوفاق فيه في الأولى وعلى كل
تقدير لا تصل النوبة إلى التعارض، فمن تلك النصوص يستكشف عدم اعتبار الظن
بالوفاق.
واستدل لاعتبار الظن بالوفاق بما يشاهد من أن العقلاء لا يكتفون في الأمور
المهمة كما في الاعراض والأنفس والأموال بمجرد الظهور ما لم يحصل الظن بالوفاق.
103

وفيه: ان هذا يتم في غير المؤاخذة والاحتجاج من الآثار التي يكون المطلوب
فيها تحصيل الواقع، ولا يتم فيهما كما يظهر لمن لا حظ ديدن العقلاء في المعاملة مع
الظواهر بالنسبة إلى الموالى والعبيد العرفية، وتراهم لا يقبلون عذر العبد في مخالفة امر
مولاه، بأنه ما حصل الظن مما عينه طريقا لامتثال تكاليفه، أو حصل الظن بالخلاف فتدبر.
لا تخصص حجية الظهور بمن قصد افهامه
الثاني: هل تختص حجية الظهور بمن قصد افهامه، كما اختاره المحقق القمي (ره)،
وعليه بنى انسداد باب العلم والعلمي، أم يعم غيره وجهان، وقد استدل للأول بوجوه.
الأول: ان أصالة الظهور بعد فرض كون المتكلم في مقام البيان والسامع في مقام
فهم المراد مع عدم نصب القرينة على خلاف الظاهر، وعدم تعمد المتكلم في عدم اتيانه
بالقرينة، يتوقف على أصالة عدم غفلة المتكلم عن نصب القرينة، وعدم غفلة السامع عن
الالتفات إليها، وهي الأصل في حجية الظهور، وما لم يكن المخاطب مقصودا بالافهام،
لا تجرى في حقه، أصالة عدم الغفلة لاحتمال وجود القرائن الحالية أو المقالية، اعتمد
عليها المتكلم في مقام الإفادة.
وفيه: ان الكلام الملقى إلى شخص ان كان متضمنا لبيان حكم شخصي متعلق به
خاصة كان لما ذكر وجه، وأما إذا كان الكلام الملقى متضمنا لبيان حكم كلي متعلق بمن
قصد افهامه، وغيره، فقيام المتكلم مقام بيان هذا الحكم يقتضى وصول التكليف
العمومي بشخص هذا الكلام، فلا يصح الاعتماد على ما يختص بالمخاطب من القرينة،
أضف إليه ان احتمال وجود القرينة لا يعتنى به، بعد فرض كون الراوي عادلا غير خائن،
لان الغائها خيانة.
الثاني: ان بناء الشارع انما يكون على الاتكال على القرائن المنفصلة كما هو ظاهر
لمن راجع أدلة الأحكام، ولا دافع لهذا الاحتمال بالنسبة إلى من لم يقصد افهامه.
وفيه: انه احتمال وجود القرينة المنفصلة، وان كان مانعا عن التمسك بأصالة
104

الظهور، الا انه لا بد وان يفحص حتى يطمئن بعدمها لا انه يبنى على عدم حجية الظهور
رأسا.
الثالث: ان الروايات حيث قطعت على الأبواب ومن المحتمل ان يكون قرينة مع
القطعة التي قطعوها من ذيل الرواية فلا تجرى أصالة عدم القرينة.
وفيه: ان المقطع ان كان عاميا كان لهذا الكلام مجال، واما لو كان المقطع مثل
الكليني (ره) الذي هو ثقة وعارف بأسلوب الكلام فنقله لقطعة من الرواية دليل على عدم
وجود قرينة صارفة لظهورها صدرا وذيلا، - وبعبارة أخرى - كما نقول بحجية الخبر
المنقول بالمعنى، إذا كان الناقل غير عامي، مع أنه يحتمل وجود القرينة الصارفة، كذلك
نقول في الخبر المقطع، مع أنه لو سلم هذه الكبرى الكلية أي ان الظهورات حجة على
المقصودين بالافهام، دون غيرهم، نقول في الروايات، ان المخاطب بالخطاب الصادر
عن المعصوم (ع) مقصود بالافهام فالخطاب حجة عليه، وهو يروى الخبر لكل من سمعه
أو رآه في الكتاب، فالكل مقصودون بالافهام بالنسبة إليه فهو حجة على الجميع.
حجية ظواهر الكتاب
الثالث: هل تختص حجية الظواهر، بغير ظواهر الكتاب، أم تعمها وجهان، قد
استدل للأول بوجوه، وهي على قسمين. الأول: ما استدل به على منع أصل الظهور. الثاني:
ما استدل به على عدم حجيته.
اما القسم الأول: فهي أمور. أحدها: ما دل (1) على اختصاص فهم القرآن بمن
خوطب به، وهو النبي (ص) وأوصيائه (عليهم السلام)، وفى بعضها الردع لأبي حنيفة وقتادة
ويحك ما ورثك الله من كتابه حرفا، وهذا هو الموافق للاعتبار إذ القرآن مشتمل على
معان غامضة ومطالب عالية، ويشتمل على علم كان وما كان وما يكون، نزل في مقام الاعجاز

1 - الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي كتاب القضاء.
105

فلا يصل إلى معانيه فكر البشر غير الراسخين في العلم.
وفيه: ان تلك النصوص انما تدل على أن للقرآن بطونا لا يصل إليها فكر البشر غير
من خواطب به، ففي كل مورد يحتمل ذلك، لا بد من الرجوع إليهم لدفع هذا الاحتمال،
- وبعبارة أخرى - المنهى عنه الاستقلال في الفتوى من دون المراجعة إليهم وعلو مطالبه،
وغموض معانيه، لا يكون موجبا لكون بيانه مخلا بالمقصود، فمع فرض ذلك كله فهو
متناسب لا ذواق أهل العصور ولولا ذلك لما كان لاثبات اعجازه سبيل.
ثانيها: ان القرآن نزل على سبيل الرموز كما في فواتح السور، وفيه انه خلاف كونه
معجزة خالدة.
ثالثها: العلم الاجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على إرادة خلاف الظاهر منه
كثيرا من المخصصات والمقيدات وهو يمنع عن جريان أصالة الظهور كما يمنع عن
جريان الأصول العملية.
وفيه: أولا ان المعلوم بالاجمال معنون بعنوان خاص وهو الموجود في الكتب
التي بأيدينا فبعدا الفحص والظفر بالمقدار المعلوم ينحل العلم الاجمالي حقيقة، أو انه إذا
تفحص ولم يجد القرينة على إرادة خلاف الظاهر لهذا الظهور يخرج ذلك عن طرف
العلم. وثانيا: لو سلم عدم تعنون المعلوم بالاجمال، بما ذكر واحتمل وجود القرينة في
غير تلك الكتب، لو ظفرنا بعد الفحص بجملة من القرائن بمقدار المعلوم بالاجمال،
لا محالة ينحل العلم الاجمالي حكما ولا مانع من اجراء أصالة الظهور في غير تلك الموارد.
رابعها: وقوع التحريف واحتمال ان يكون فيما حرفوه قرينة صارفة لهذا الظهور.
وفيه: أولا أثبتنا في محله بالأدلة القطعية عدم وقوع التحريف في القرآن، واجبنا
عن الروايات الموهمة لذلك - وثانيا - ان النصوص الآمرة بالرجوع إلى القرآن، وعرض
الاخبار إليه ناظرة إلى القرآن، المدعى تحريفه، لان تلك النصوص عمدتها صادرة عن
الصادقين عليهما السلام، والتحريف على فرض وقوعه انما يكون في زمان الخلفاء، فهذه الأخبار
تدل على حجية ظهورات الكتاب الذي بأيدينا، فيستكشف منها، انه لم يقع
التحريف فيه أو على فرض وقوعه، فإنما هو في الآيات الواردة في فضائل أهل البيت
106

(عليهم السلام) لا آيات الأحكام، أو انه على فرض وقوعها فيها ليس فيما حرفوه قرينة صارفة
لظواهر تلك الآيات.
واما القسم الثاني: فهو أمران - الأول - ما دل من النصوص الكثيرة (1) على النهى عن
تفسير القرآن بالرأي، بدعوى ان حمل الكلام على ظاهره تفسير بالرأي.
وفيه: أولا - ان حمل الكلام على ظاهره ليس من التفسير بالرأي. وثانيا: انه ليس
من التفسير لأنه عبارة عن الايضاح والبيان والكشف، وحمل اللفظ على معناه الظاهر
الذي ليس عليه قناع ليس منه. وثالثا: انه لو سلم شمول تلك النصوص لحمل اللفظ على
ظاهره، فهي معارضة بالنصوص المتواترة الدالة على الرجوع إلى الكتاب، وطرح ما
خالفه، واستشهاده (ع) بظاهره، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الأولى على الاستقلال في
الاستفادة، واما على تأويله بما يطابق القياس والاستحسانات.
الثاني: ما دل على النهى عن اتباع المتشابه - بدعوى - ان المتشابه مقابل للصريح
وهو ما يحتمل فيه وجهان أو وجوه، فيشمل الظاهر، وفيه ان المتشابه هو ما تساوى
طرفاه فلا يحتمل صدقه على الظاهر - مع - انه لو سلم شموله للظاهر، لا يجوز الاستدلال
بهذه الآية الناهية عن اتباع المتشابه على عدم حجية ظواهر الكتاب، والا يلزم من وجوده
عدمه، إذ لفظ المتشابه من جملة الظواهر القرآنية، فيكون داخلا تحت المتشابه، فلا
يجوز الاستدلال به وما يكون كذلك لا يصح فلا بد وان يقال انها مختصة بحمل اللفظ
المجمل على أحد معنييه.
فتحصل: ان الأظهر حجية ظواهر الكتاب، ويشهد له: مضافا إلى ذلك كله:
النصوص الامرة بالرجوع إلى الكتاب التي تقدمت الإشارة إليها.
لو شك في المراد
ثم انه لو لم يحرز المراد، فتارة يكون من جهة عدم احراز الظهور، وأخرى يكون

1 - الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ج 18.
107

من جهة احتمال عدم تطابق المراد الجدي للمراد الاستعمالي، فهل هناك أصل عقلائي
من قبيل أصالة الظهور، أو أصالة عدم القرينة، أو أصالة الحقيقة يعين المراد أم لا؟ أم
هناك تفصيل بين الموارد.
وقبل الشروع في بيان هذه المسائل لا بد من تقديم مقدمات الأولى: ان الاحتياج
إلى هذه الأصول انما يكون لان يحتج بها على المولى إذا ادعى المولى إرادة خلاف
الظاهر. الثانية: انه لا بد وأن تكون الحجة مناسبة لمورد المحاجة. الثالثة: ان الظهور
المنعقد للكلام حجة ما لم يثبت حجة أقوى على خلافه ولم تصل.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن عدم احراز مراد المولى ربما يكون لأجل عدم
احراز الظهور، وربما يكون منشأه احتمال عدم كون الظاهر مرادا، اما الأول فمنشأه، اما
ان يكون عدم احراز الموضوع له، واما ان يكون احتمال غفلة المتكلم عن نصب
القرينة، واما ان يكون احتمال ترك نصبها عمدا لمصلحة أو غيرها، واما ان يكون
احتمال اتكاله على القرينة المنفصلة.
فان كان الشك في المراد بعد انعقاد الظهور، فالمرجع هو أصالة الظهور التي هي
بنفسها أصل وجودي ثابت ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع في الفروض الثلاثة، ولا يكون
مجال لاجراء أصالة عدم القرينة، اما في الأولين فللعلم بعدم نصبها مع أن ذلك الأصل
لا يناسب مورد المحاجة لو ادعى المولى إرادة خلاف الظاهر، واما في الثالث أي احتمال
القرينة المنفصلة، فلان الظهور المنعقد للكلام حجة ما لم يثبت حجة أقوى على خلافها
كما تقدم، والحجة متقومة بالوصول، فالقرينة غير الواصلة بوجودها الواقعي لا يترتب
عليها الأثر فلا مجال لاجراء أصالة عدم القرينة، فبمجرد عدم الوصول بعد الفحص يتبع
أصالة الظهور من دون ان يجرى أصالة عدم القرينة.
واما لو شك في المراد لأجل عدم احراز الظهور، فان كان منشأه عدم احراز
الموضوع له لا مجال لاجراء أصالة الظهور، ولا أصالة عدم القرينة كما لا يخفى، بل
يرجع إلى الأصول العملية.
108

وان كان منشأه احتمال قرنية الموجود، فعلى القول بكون أصالة الحقيقة بنفسها
أصلا عقلائيا، فتجري هي، ويحرز بها الظهور، وعلى القول بعدم كونها كذلك كما اختاره
الشيخ الأعظم (ره) فلا مجال لاجرائها في المقام ولا سبيل إلى احراز الظهور، والمراد.
وان كان منشأه احتمال وجود القرينة وقد غفل عنها السامع، فلا ريب في عدم
الاعتناء بهذا الاحتمال، الا ان هنا بالخصوص نزاعا بين العلمين، حيث إن
المحقق الخراساني يدعى انه يبنى على أصالة الظهور ابتداءا، والشيخ (ره) ذهب إلى أنه يبنى
على أن المراد هو ما يكون اللفظ ظاهرا فيه لولا القرينة لأصالة عدم القرينة.
أقول الظاهر لزوم اجراء أصالة عدم القرينة، لأنه ما لم يجر هذا الأصل لا يكون
الظهور محرزا كي يجرى أصالة الظهور، على أنه قد عرفت لزوم مطابقة الدليل لمورد
المحاجة، فإذا ادعى المولى، إرادة خلاف الظاهر مع نصب القرينة فالذي يفيد في مقام
احتجاج العبد، على المولى هو أصالة عدم القرينة لا أصالة الظهور، وبعد ذلك، ان لم
يحتمل إرادة خلاف الظاهر، وعلم أنه على فرض عدم القرينة المراد مطابق للظهور،
لا مجال لاجراء أصالة الظهور، لعدم الاحتياج إليها، والا فلا بد من اجرائها أيضا،
والشيخ (قده) حيث فرض العلم بان المراد مطابق للظهور على فرض القطع بعدم القرينة،
فما افاده من اجراء أصالة عدم القرينة خاصة متين غايته، ولا يرد على ما أورده
المحقق الخراساني إذ الظاهر أن مورد كلام الشيخ (قده) هو خصوص هذا المورد كما يظهر
لمن راجعه.
وان كان منشأه احتمال وجود القرينة المتصلة ولم يصل إلى المكلف للتقطيع،
فعن المحقق القمي (ره)، انه مع هذا الاحتمال لا تجرى أصالة عدم القرينة ومعه يكون
الكلام مجملا، ولكن قد تقدم ان هذه الكبرى الكلية في نفسها تامة الا انها غير منطبقة
على الروايات المقطعة، بعد كون المقطع لها من قبيل الكليني واشتباهه.
حجية قول اللغوي
المبحث الثاني: في حجية قول اللغوي وعدمها، وقد نسب إلى المشهور حجيته،
109

واستدل لها بوجوه.
الأول: الاجماع على العمل بقول اللغوي، إذا العلماء خلفا عن سلف يراجعون
كتب اللغة ويعملون بها.
وفيه: أولا، ان تحصيل الاجماع في هذه المسألة التي لم يتعرض لها الأكثر في
غاية الاشكال - انه لاعتمادهم على الوجوه الاخر، ولا أقل من احتمال ذلك
لا يكون اجماعا تعبديا.
الثاني: ان اللغوي من أهل خبرة هذه المقام، وقد بنى العقلاء على الرجوع إلى أهل
الخبرة في كل فن في ذلك الفن من دون اعتبار التعدد والعدالة.
وفيه: ان المخبر به ان كان أمرا محسوسا يعتبر في قبول الخبر كون المخبر ثقة،
ومتعددا، على المشهور، وان كان من الأمور الحدسية فان كان ذلك في باب الترافع،
والتنازع يعتبر فيه التعدد والعدالة، والا فان كان المخبر به من أهل الخبرة لا يعتبر فيه
ذلك، نعم يعتبر كون خبره مفيدا لمرتبة من الوثوق والاطمينان، لتسكن معه النفس والا
ففي حجيته اشكال، والرجوع إلى أهل اللغة لتعيين موارد الاستعمال، وان صح الا انه من
المحسوسات فيعتبر في قبول خبره ما يعتبر في قبول خبر غيره بلا خصوصية فيه،
والرجوع إليهم لتعيين المعنى وتمييزه عن المعنى المجازى، لا يصح لعدم كونهم
من أهل خبرة ذلك.
الثالث: انه فرض عدم حجيته يلزم انسداد باب العلم في خصوص اللغات إذ
غالب معاني الألفاظ مجهولة لغير أهل اللسان اما، أصلا، أو سعة وضيقا، ووجه ذلك
بعضهم بأنه يلزم من اجراء البراءة في تلك الموارد المخالفة القطعية فيلزم التنزل إلى
حجية الظن الحاصل من قول اللغوي.
وفيه: أولا ان مقدمات الانسداد لا تنحصر فيما ذكر بل يتوقف الانسداد الموجب
للتنزل إلى العمل بالظن، على أن يكون الاحتياط غير واجب، أو غير جائز، ولا يكون
الاحتياط مع انسداد باب العلم باللغات غير جائز أو غير واجب. وثانيا: انه لا يلزم من هذا
الانسداد، الانسداد باب العلم بالأحكام، إذ قل لفظ لا يكون معناه، مبينا، فهل بسبب عدم
110

معلومية معاني جملة قليلة من الألفاظ يلزم انسداد باب العلم. وثالثا: انه لو سلم تلازم
انسداد باب العلم باللغات مع انسداد باب العلم بالأحكام، كان اللازم هو التنزل إلى كل
ما يفيد الظن بالحكم كان ذلك قول اللغوي أو غيره كما لا يخفى.
الرابع: ان أدلة حجية خبر الواحد تدل على حجية قول اللغوي.
وفيه: ان اللغوي ان أخبر عن موارد الاستعمالات فغاية ما يثبت من تلك الأدلة،
بعد اجتماع الشرائط هو ثبوت الاستعمال، وهو أعم من الحقيقة، وان أخبر عن كون لفظ
موضوعا لمعنى خاص، فالمخبر عنه امر حدسي، ولا دليل على حجية خبر الواحد في
الأمور الحدسية.
الخامس: انه يرجع إلى اللغة ويعين بها مورد الاستعمال فيرجع إلى أصالة عدم
القرينة ويحرز بها ان المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي.
وفيه: مضافا إلى عدم تمامية ذلك، فيما ذكر للاستعمال موارد متعددة ان أصالة
عدم القرينة حجة فيما أحرز المعنى وشك في المراد، لا فيما إذا أحرز المراد، وشك
في المعنى، كما في المقام، فتحصل ان الأظهر عدم حجية قول اللغوي ما لم يحصل منه
الاطمينان.
مدرك حجية الاجماع
المبحث الثالث: في حجية الاجماع المنقول، وحيث انه لا دليل على حجيته سوى
توهم اندراجه في الخبر الواحد فيعمه أدلة حجيته كان ينبغي تأخير البحث عنها عن
حجية خبر الواحد، لكن الشيخ الأعظم قدم البحث عنها وتبعه ساير المحققين ونحن أيضا
نقتفي اثره، وقبل الدخول في البحث عنها لا بد من التعرض لمدرك حجية الاجماع
المحصل.
وملخص القول فيه، انه لا ريب في أن مدرك حجية الاجماع ليس هو الاجماع
ولا بد وأن يكون غيره كما هو واضح، وليس هو الكتاب كما لا يخفى، ولا السنة لعدم
111

ورود نص بذلك، ولا العقل لعدم تصور حكم عقلي يتوصل به إلى حكم شرعي يكون
مخفيا علينا، فعلى هذا الاجماع بما هو اجماع ليس بحجه وانما ينحصر وجه حجيته
باستكشاف رأى المعصوم والقطع به فلا فائدة في إطالة الكلام في بيان المراد من لفظ
الاجماع، فالصفح عنه أولى، بل لا بد من التكلم في مستند القطع، وقد ذكروا فيه وجوها.
منها: الملازمة العقلية، وتقريبها من وجهين. الأول: قاعدة اللطف وقد اعتمد عليها
شيخ الطائفة وتبعه جماعة وتقريبها، ان الواجب على الإمام (ع) الذي هو الحجة على الأنام
تبليغ الأحكام الشرعية الموجبة لتكميل النفوس، وتوصل العباد إلى مناهج الصلاح،
وهذه هي وظيفته المحولة إليه من قبل الله سبحانه الذي يجب عليه تكميل نفوس البشر،
وارشادهم إلى مناهج الصلاح، بانزال الكتب وبعث الرسل - وعلى ذلك - فإذا اتفقت
الأمة على حكم فان كان موافقا لرأيه (ع) فهو المطلوب، والا فيجب عليه القاء الخلاف
بينهم فمن عدم الخلاف يستكشف موافقة رأيه لما أجمع الأصحاب عليه.
وفيه: ان الواجب على الإمام (ع) انما هو تبليغ الأحكام الشرعية على النحو
المتعارف لا ايصاله إلى العباد ولو بنحو غير متعارف، وهم (عليهم السلام) قد بينوا الأحكام
جميعها وانما لم يصل إلينا مثلا بواسطة اخفاء الظالمين وخوف الأصحاب المعاصرين
لهم عن بيانها تقية، فلا يجب عليه (ع) القاء الخلاف من طريق غير متعارف، وإلا لزم بيان
الحكم على كل فرد فرد، لا على المجموع من حيث المجموع إذ قاعدة اللطف تقتضي،
بيان الأحكام على كل فرد والالتزام بالاستكشاف من رأى كل فرد كما ترى - مع - انه
يلزم حجية قول فقيه واحد لو انحصر الفقيه فيه في عصر.
الثاني: القطع بالحكم الحاصل من تراكم الظنون كما يحصل القطع من الخبر
المتواتر.
وفيه: ان ذلك يتم في الاخبار عن المحسوسات، كما في الخبر المتواتر، فان
التواطئ على الكذب بعيد غايته وكذلك احتمال الخطأ في الكل، واما في الاخبار عن
الحدسيات التي لا بد فيها من اعمال النظر، فاحتمال الخطأ إذا كان متمشيا في واحد يكون
متمشيا في الكل، والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى.
112

ومنها: الملازمة العادية، لقضاء العادة باستكشاف رأى الرئيس عن آراء
المرؤوسين.
وفيه: ان ذلك يتم فيما إذا كان اتفاق المرؤوسين في حال الحضور وامكان
الوصول إلى شخصه، فان اتفاقهم في هذه الصورة، يكشف عن رأيه لا محالة، وهذا
بخلاف ما لو لم يكن كذلك، بل كان الاتفاق اتفاقيا، ولم يمكن الوصول إلى شخص
الرئيس عادة، فان في مثل ذلك لا يكشف عن رأيه قطعا، ومن الضروري ان اتفاق العلماء
من قبيل الثاني.
ومنها: دخول الامام في المجمعين، اما بدخوله في جماعة أفتوا بفتوى معين مع
عدم معرفته بشخصه، واما بالسماع منه (ع) ولو بالواسطة لقرب عصرهم بعصر الحضور ثم
ينضم إليه فتوى بقية العلماء، وينقل الجميع بعنوان الاجماع، واما بالتشرف بحضوره
وسماع الحكم منه ونقل الاجماع عليه لئلا يتوجه الناس إلى التشرف.
أقول، اما الوجه الأول: فيرد عليه انه لو كان محتملا في زمان الحضور، لما كان
يحتمل في عصر الغيبة، واما الوجه الثاني: فيرد مضافا إلى عدم تحققه في الخارج، ان
النقل كذلك يشبه بالاكل من القفاء إذ لو نقل رأيه (ع) كان أولى، واما الوجه الثالث: فقد
أمرنا بتكذيب من ادعى الحضور عملا فلا يعتنى به.
ومنها: الملازمة الاتفاقية، ولا يمكن انكارها رأسا، وتفصيل القول فيه ان الاتفاق
ان كان في مورد وجود، أصل، أو قاعدة، أو اطلاق، أو خبر، فهو في نفسه لا يكشف عن
رأى المعصوم، ولا عن وجود دليل معتبر غير ذلك في البين، ولو لم يكن في البين ذلك،
فلا محالة يكشف الاتفاق بل افتاء شخص واحد عن وجود دليل معتبر عندهم: إذ
عدالتهم مانعة عن الافتاء بغير دليل فحينئذ، تارة يحتمل اعتمادهم على، أصل، أو قاعدة،
ولم يذكروها في كتبهم ففي مثل ذلك لا يستكشف رأى المعصوم، والا فيختلف حسب
اختلاف الأشخاص فرب شخص يحصل له القطع برأي المعصوم (ع) من افتاء جماعة
معدودين، وآخر لا يحصل له القطع، الا من اتفاق الكل، وثالث، لا يحصل له القطع أصلا
من جهة احتماله اعتمادهم على خبر لو وصل إليه، لما كان يرى ظهوره في هذا الحكم،
113

فهذا يختلف باختلاف الموارد والأشخاص.
حجية الا جماع المنقول
إذا تبين مدرك حجية الاجماع المحصل، فيقع الكلام في ما انعقد البحث له،
وهو حجية المنقول من الاجماع، وملخص القول فيها، انه حيث عرفت ان لا دليل لها
سوى توهم شمول أدلة حجية خبر الواحد له، فالمتعين هو البناء على حجيته في بعض
الموارد، توضيح ذلك أن المخبر عنه ربما يكون أمرا حسيا وربما يكون حدسيا، والثاني
قد يكون منشأه تام السببية في نظر المنقول إليه بحيث لو فرض اطلاعه على ذلك السبب،
لقطع بذلك الامر الحدسي، وقد لا يكون كذلك والمدعى حجية الخبر في الموردين
الأولى، دون الا خبر كما ذهب إليه المحقق الخراساني: والوجه في ذلك.
ان أدلة حجية الخبر الواحد انما تدل على حجية الاخبار عن حس، لان عمدة أدلة
حجية خبر الواحد هي، اية النبأ، وبناء العقلاء والا فبقية الأدلة اما لا تدل عليها، أولا
اطلاق لها ولها قدر متيقن، وهما مختصان بالاخبار عن حس.
اما الآية فبقرينة التفصيل بين العادل والفاسق، والتعليل بقيام احتمال الندم مع عدم
التبين عن خبر الفاسق، تدل على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب، ولا تدل على
تصويبه في حدسه، لان احتمال الخطاء في الحدس مشترك بين العادل والفاسق فلا
يصح الفرق بينهما في ذلك، فالآية متكلفة لالغاء احتمال تعمد الكذب، فحينئذ ان كان
المخبر عنه حسيا، وكان المخبر موثوقا به، وضابطا أي لم يكن آفة في حاسته يكون
خبره لا محالة كاشفا نوعيا عن الواقع.
وهذه الكاشفية هي المقتضية لبناء العقلاء على أصالة عدم الخطاء واتباع الخبر،
وأما إذا كان المخبر عنه حسيا ولم يكن المخبر له الضبط، أو كان المخبر عنه حدسيا فبما
ان الخبر لا كاشفية نوعية له عن الواقع فلا بناء من العقلاء على أصالة عدم الخطاء له فلا
يكون الخبر حجة فيهما.
114

ولذلك ترى ان الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم يعتبرون في الراوي، والشاهد
الضبط، وليس ذلك لأجل دليل خاص مخرج لخبر غير الضابط عن تحت أدلة حجية
الخبر الواحد بل انما يكون لأجل عدم المقتضى لها لاحتمال الخطاء، والآية لا نظر لها
إلى عدم الاعتناء به، ولا بناء من العقلاء على عدمه.
وكذلك لو كان المخبر عن حدسيا، فان الآية لا نظر فيها إليه، وبناء العقلاء ليس على
تصويبه، فلا يكون الخبر حينئذ حجة.
نعم إذا كان المخبر عنه حدسيا، وكان المنقول إليه جازما بإصابة الحدس على
تقدير تحقق المنشأ يكون الخبر حجة، لان عدم ثبوت المخبر عنه لا بد وان يستند اما إلى
الخطاء في الحدس، والمفروض الجزم بعدمه وكونه مصيبا، أو إلى عدم تحقق المنشأ،
واحتمال تعمد الكذب، فالآية وبناء العقلاء تدلان على عدم الاعتناء به فلا محالة يثبت
المخبر عنه هذا كله فيما يدل عليه أدلة حجية خبر الواحد.
وبه يظهر في نقل الاجماع توضيحه، ان الناقل ربما ينقل المسبب، وهو رأى
المعصوم (ع) وربما ينقل السبب، وهو فتاوى الفقهاء.
فان نقل المسبب فان علم أنه ينقله عن حس كما في العلماء في عصر الحضور،
فهو حجة.
وان أحرز ان المخبر عنه حدسي كما في العلماء في هذا العصر، فان كان المنقول
إليه يرى سببية ما يراه الناقل سببا لاستكشاف رأى المعصوم (ع) فنقله حجة والا فلا.
فتفصيل المحقق الخراساني بين ما إذا كان السبب تاما في نظر المنقول إليه، وبين ما
إذا لم يكن كذلك والبناء على الحجية في الأول خاصة، مع اشتراكهما في كونه اخبارا عن
المسبب بالالتزام، وعن السبب بالمطابقة، هو الصحيح ولا يرد عليه شئ مما أورد عليه.
وان لم يحرز كونه حدسيا أو حسيا، فان لم يكن امارة ظنية على كونه حدسيا فهو
حجة، لبناء العقلاء عليه، من جهة الكاشفية النوعية عن الواقع، إذ ظاهر حال العاقل في
دعوى الجزم بشئ كونه مستندا إلى سبب عادى متعارف، نعم مع الامارة على كونه
حدسيا لأبناء من العقلاء على كونه حسيا لعدم الكاشفية المشار إليها.
115

وان نقل السبب فهو يختلف من حيث كونه، تارة حسيا، وأخرى حدسيا ناشئا من
لحاظ اتفاق جمع من الأساطين، بنحو استكشف منه كونه من المسلمات عند الكل،
وهذا المعنى يختلف بحسب اختلاف الناقلين من حيث الإحاطة بكلمات الأصحاب
وعدمها، وعلى كل تقدير قد يقال ان نقل السبب حجة في المقدار الذي علم أو احتمل
مع عدم الامارة على الخلاف، استناده إلى الحس، وحينئذ ان بلغ ذلك في نظر المنقول
إليه حدا يكشف عن رأى المعصوم (ع) فهو والا فيحتاج في كشفه إلى ضم ما يتم به
السبب، ولكن بشرط ضم ما علم أنه غير ما نقله الناقل كما لا يخفى.
ولكن الأظهر البناء على عدم حجية نقل السبب الا إذا كان المنقول تام السببية في
نظر المنقول إليه، وذلك لأنه يعتبر في شمول أدلة الحجية لشئ كونه اثرا شرعيا، أو
موضوعا لاثر شرعي، وكونه ملازما لشئ هو اثر شرعي أو موضوع له لا يكفي، وحجية
الامارة في مثبتاتها انما هو باعتبار كونها اخبارا بالالتزام عن اللازم أيضا، كما أنه اخبار عن
الملزوم وفى المقام الاخبار عن اللازم وهو رأى المعصوم غير مشمول لأدلة الحجية
لكونه خبرا حدسيا، والاخبار عن الملزوم غير مشمول له لعدم الأثر - مع - انه لو اغمض
عن ذلك يكون المخبر عنه من الموضوعات، والمشهور اعتبار التعدد فيه، وأما إذا كان
المنقول تام السببية في نظر المنقول إليه فقد تقدم ان أدلة الحجية حينئذ تشمل ما ينقله من
رأى المعصوم (ع) أو الحجة المعتبرة، وبما ذكرناه ظهر حال نقل السبب والمسبب معا
بقى أمران لا بد من التعرض لهما. أحدهما: ان الاجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها
أو أكثر، فتارة ينقل كل من الناقلين، المسبب، وأخرى ينقل السبب، وثالثة: يختلفان في
النقل.
اما الأول: فان كان النقلان غير حجتين كما إذا كانا عن حدس وعن منشأ لا منشأية
له في نظر المنقول إليه، فلا كلام، وان كان أحدهما حجة دون الاخر كان، هو المتبع، وان
كان كل منهما حجة لو كان وحده، كان من باب تعارض الامارتين، فلا بد من الأعمال
ما يقتضيه القاعدة من التساقط، أو التخيير.
وان نقلا معا السبب، فان كان المنقول إليه لكل منهما غير ما ينقله الاخر، كما إذا
116

نقل أحدهما اتفاق علماء عصر، ونقل الاخر اتفاق علماء عصر آخر، فلا تعارض بينهما،
بلا لا بد للمنقول إليه من ملاحظة لكل الأقوال وفرضها كأنه حصلها، وان كان المنقول
لهما شيئا واحدا يقع التعارض بينهما.
وبما ذكرناه ظهر حال ما إذا نقل أحدهما المسبب والاخر السبب.
الثاني: في حكم نقل التواتر - من حيث المسبب والسبب - وملخص القول فيه ان
نقل التواتر، قد يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به، لو علم به، ولو لم يكن بينهما ملازمة
عادية وقد لا يوجب ذلك، وفى الأول يكون النقل حجة دون الثاني، كما يظهر لمن راجع
ما ذكرناه في الاجماع المنقول، هذا فيما إذا لم يترتب الأثر على الخبر المتواتر من حيث
هو، والا وجب ترتيبه.
في حجية الشهرة الفتوائية وعدمها
المبحث الرابع: في حجية الشهرة الفتوائية وعدمها، وملخص القول في المقام، ان
الشهرة على اقسام، الأول الشهرة في الرواية، ويقابلها الشاذ النادر الذي لم ينقله المشهور.
الثاني: الشهرة في الاستناد وهي المعبر عنها بالشهرة العملية، أي يكون استنادهم في
الفتوى إلى تلك الرواية، ويقابلها الشاذ النادر الذي لم يستند المشهور في الفتوى إليه بل
أعرضوا عنه. الثالث: الشهرة في الفتوى من دون ان يعلم مستندهم، ويقابلها الشاذ النادر
الذي لم يفت به المشهور، اما الأولان فسيأتي الكلام فيهما في مبحث التعادل والتراجيح.
انما الكلام في المقام في القسم الثالث، وقد استدل لحجية تلك الشهرة أي الشهرة
الفتوائية، بوجوه.
الأول: قوله (ع) في مقبولة ابن حنظلة بعد الامر بأخذ المشهور وترك الشاذ النادر،
فان المجمع عليه لا ريب فيه (1) إذ المراد به المشهور لا الاجماع المصطلح للامر بترك

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
117

الشاذ النادر، فيكون مفاد التعليل، ان المشهور مما لا ريب فيه، ومقتضى عموم العلة
حجية كل شهرة لا خصوص الشهرة الروائية التي هي المعللة.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان هذه العلة ليست من قبيل العلة المنصوصة، التي
تعمم وتخصص، إذ العلة المنصوصة، التي تكون كبرى كلية هي ما يصح التكليف بها
ابتداءا، بلا ضم المورد إليها، نظير لا تشرب الخمر لأنه مسكر، إذ يصح النهى عن شرب
كل مسكر، وهذه العلة لا تصلح لذلك، إذ المراد من لا ريب فيه ليس هو ما لا ريب فيه
بقول مطلق، لعدم كون المشهور كذلك، بل المراد منه لا ريب فيه بالإضافة، ولا يصلح ان
يقال لذلك ما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره، والالزام بذلك راجع بالقياس إلى
غيره، ولو كان هو الاحتمال المتساوي الطرفين، وعلى ذلك فالتعليل أجنبي عن الكبرى
الكلية التي يتعدى عنها.
أقول يمكن تصحيح كونها كبرى كلية.
ولكن مع ذلك أجنبية عن المقام، وذلك لوجهين أحدهما ان المراد من
لا ريب فيه هو عدم الريب فيه بقول مطلق لان الامام طبق الامر البين الرشد على الخبر
المجمع عليه، ولا ينافي ذلك فرض الراوي الشهرة في المتعارضين، إذا المراد من عدم
الريب عدمه من حيث الصدور خاصة، وبديهي انه يمكن ان يكون المتعارضان صادرين
عن المعصوم، أحدهما لبيان الحكم الواقعي، والاخر للتقية وجعل هذه كبرى كلته يتعدى
عن موردها إلى كل مورد اطمئن بصدور الخبر، لا مانع منه، وبه يظهر عدم صحة
الاستدلال به في المقام. ثانيهما: ان العلة علة للاخذ بإحدى الحجتين لا لجعل الحجية
لشئ، والتعدي عن المورد إلى كل متعارضين كان الريب في أحدهما أقل لا محذور فيه
وقد التزم الشيخ (ره) بذلك وبه يظهر جواب آخر عن الاستدلال، فان العلة علة للترجيح
لا لجعل الحجية.
الثاني: اطلاق قوله (ع) في مرفوع زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك (1) حيث إن

1 - مستدرك الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 2.
118

الموصول من المبهمات، ومعرفة الصلة، واطلاقها يشتمل الشهرة الفتوائية، ومورده وان
كان الشهرة الرواية بقرينة السؤال، الا ان العبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بجوابين - أحدهما - انه ضعيف السند، وهو متين كما
سيمر عليك.
الثاني: ان المراد بالموصول هو خصوص الرواية المشهورة، بقرينة ان السؤال
عن الخبرين المتعارضين فيكون معرف الموصول ومبين المراد منه غير صلته، كما يظهر
لمن تأمل في نظائره من الأمثلة، فإذا قيل أي المسجدين تحب فأجاب ما كان الاجتماع
فيه أكثر كان ظاهرا في خصوص المسجد الذي كان الاجتماع فيه أكثر لا مطلق المكان
الذي كان كذلك.
أضف إليه ان الشهرة الفتوائية لا تقبل ان يكون في طرفي المسألة فقول الراوي بعد
ذلك انهما مشهوران مأثوران، أوضح شاهد على المراد هو الشهرة في الرواية، وسيأتي
الكلام في ذلك في محله.
والحق في الجواب ان يقال ان الامر بالأخذ لا يكون ارشادا إلى الحجية، بل إلى
ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى فلا وجه للتمسك باطلاقه لحجية الشهرة الفتوائية،
نعم لا بأس بالتمسك به لمرجحيتها أيضا.
الثالث: فحوى ما دل على حجية خبر الواحد لان ملاك حجيته المستفاد من
الأدلة هو حصول الظن والظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى فيدل دليل حجية خبر
الواحد على حجيتها بالأولوية.
وفيه: انه لم يثبت كون ملاك حجية الخبر ذلك بل لعله كونه غالب المطابقة
للواقع باعتبار كونه اخبارا عن حس واحتمال الخطأ في الحس بعيد بخلاف الاخبار عن
حدس كما في الفتوى فان احتمال الخطاء في الحدس غير بعيد ويحتمل ان يكون
الملاك خصوصية أخرى في الخبر ومع احتمال ذلك لا تتم دعوى الأولوية، بل الثابت
عدم كون الملاك ما ذكر، لان الخبر حجة مع عدم الظن بل مع الظن بخلافه.
الرابع العليل في ذيل آية البناء وهو قوله تعالى ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا
119

على ما فعلتم نادمين - فان تعليل عدم حجية خبر الفاسق بإصابة القوم بجهالة أي السفاهة
والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه، يدل على حجية المشهور، فان الاعتماد عليه
ليس من هذا الباب، - وبعبارة أخرى - المورد وان كان هو الخبر الا ان العلة كما تخصص
تعمم.
وفيه: ان مقتضى تعميم العلة، عدم حجية كل ما يكون الاعتماد عليه سفاهة
وجهالة، ولا تقتضي حجية كل ما يكون كذلك لعدم ثبوت المفهوم له، كما لا يخفى،
فكون العلة مخصصة ومعممة أجنبي عن المقام - مع - ان كون الاعتماد على الشهرة
اعتمادا على ما ينبغي الاعتماد عليه أول الكلام، واثباته به دور واضح، فالمتحصل عدم
حجية الشهرة الفتوائية.
المبحث الخامس في حجية خبر الواحد
وقبل الدخول في البحث، لا بد وان يعلم أن البحث عن حجية الخبر الواحد، انما
يكون من أهم المسائل الأصولية، فان أساس القول بانفتاح باب العلمي، وانسداده هو
حجية الخبر الواحد وعدمها.
ثم إن اثبات الحكم الشرعي من الخبر الواحد، يتوقف على أمور، الأول: - ثبوت
صدوره عن المعصوم (ع) - الثاني صدوره لبيان الحكم الواقعي لا للتقية وغيرها، الثالث
ظهوره في معنى وحجية ظهوره والمتكفل للبيان من الجهة الأولى هذه المسألة.
واما الجهة الثانية: فلا تحتاج إلى البحث: لقيام العقلائية على عدم الاعتناء
باحتمال صدوره لغير بيان الحكم الواقعي.
والمتكفل للبيان من الجهة الثالثة الفصل المتقدم المنعقد لا ثبات ذلك فراجع.
وعلى ذلك فعدم انطباق ما جعل موضوعا لعلم الأصول، وهي الأدلة الأربعة
- بضميمة - ما قيل إن مسائل كل علم ما يبحث فيها عن عوارضه الذاتية لموضوعاتها،
على مسالة الخبر الواحد يكشف عن فساد الضابط، لا عن عدم كون هذه المسألة من
120

المسائل الأصولية، لما عرفت خصوصا، بضميمة ان الخواص المذكورة للمسألة
الأصولية التي ذكرناها في أول الكتاب ثابتة لها، والشيخ الأعظم (ره) تصدى لتطبيق الضابط
المذكور على هذه المسألة، وقد تعرضنا له ولجوابه ولما ذكر انتصارا له والجواب عنه في
أول الكتاب فراجع.
أدلة عدم حجية الخبر والجواب عنها
وقد استدل لعدم حجية الخبر الواحد بوجوه.
الأول: الاجماع على ذلك، وفيه ان المحصل منه غير حاصل، والمنقول منه كما
بيناه غير حجية خصوصا في المقام حيث إنه فرع حجية الخبر الواحد فكيف يستدل به
على عدم حجية الخبر الواحد، والخبر الواحد، الذي ادعى السيد المرتضى وشيخ الطائفة
وجمع من القدماء، عدم حجيته، غير ما هو المصطلح عندنا، ومرادهم به الخبر الضعيف:
والشاهد عليه ادعاه الشيخ (ره) الاجماع على حجية خبر الثقة، ويؤيده ابتلاء الشيخ (ره) في
زمانه بالعامة واخبارهم المروية بطرقهم غير المعتبرة - وقوله - في تعارض الروايتين
ورجحان إحداهما على الأخرى ان المرجوح لا يعمل به لأنه خبر الواحد.
الثاني: الآيات منها التعليل المذكور في ذيل آية النباء على ما ادعاه الطبرسي
وسيأتي تقريب كلامه والجواب عنه.
ومنها: ما دل على النهى عن العمل بالظن كقوله تعالى - ان الظن لا يغنى من الحق
شيئا (1) وفيه: انه يدل على عدم حجية الظن بما هو ظن، ومحل الكلام هو حجية خبر
الواحد بما هو وان لم يفد الظن - وبعبارة أخرى - الآية تدل على أن الظن من حيث هو
ليس فيه اقتضاء الحجية وأدلة حجية خبر الواحد تدل على وجود المقتضى في هذا
العنوان فلا تنافى بينهما.

1 - سورة يونس آية 101.
121

ومنها: ما دل على النهى عن اتباع غير العلم كقوله سبحانه ولا تقف ما ليس به
علم (1).
وأورد عليه باختصاصه بالاعتقاديات، اما بدعوى ان مساق هذه الآيات ذلك كما
عن المحقق النائيني (ره) أو بدعوى، ان تلك الآيات منصرفة إلى الاعتقاديات، أو ان المتيقن
منها ذلك كما عن المحقق الخراساني (ره).
وفيه: ان الآية انما ذكرت في ذيل آيات الأحكام في سورة بين إسرائيل،
والانصراف لا شاهد به والتيقن، ان كان باعتبار عدم ذكر المورد فلا اطلاق لها، يدفعه ان
حذف المتعلق يفيد العموم، وان كان باعتبار ان من مقدمات الحكمة عدم وجود القدر
المتيقن، فيدفعه انه ليس كذلك كما حقق في محله.
والحق في الجواب عن هذه الآيات ان يقال انها معارضة بما يدل على حجية الخبر
الواحد مما سيجيئ ذكره فتخصص به لكونه أخص منها، مع أنه يمكن ان يقال انه حاكم
عليها لأنه يخرجه عن غير العلم ويدخله في العلم، فلو كانت النسبة عموما من وجه كان
مقدما عليها.
الثالث: النصوص الكثيرة المتواترة اجمالا الدالة على ذلك (2).
وفيه: انه تلك النصوص على طائفتين الأولى ما تدل على الاخذ بما علم صدوره
مهم وعدم الاخذ بما لم يعلم صدوره، والجواب عنها هو الجواب عن الآيات.
الثانية: ما تدل على عرض الخبر على الكتاب - وألسنتها مختلفة - منها ما تضمن
ان ما لا يوافق كتاب الله لم يصدر منهم. ومنها: ما تضمن ان ما لا يوافق كتاب الله غير
حجة - ومنها - ما تضمن ان ما خالف كتاب الله غير صادر عنهم. ومنها: ما تضمن ان ما
خالف كتاب الله غير حجة.
والجواب عنها ان كل طائفة منها اخبار آحاد، لا يصح الاستدلال بها على عدم
حجية الخبر الواحد، ومجموعها وان كانت متواترة اجمالا، الا ان لازم تلك ذلك هو الاخذ

1 - سورة الإسراء آية 36.
2 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي.
122

بالمتيقن، وما هو أخص مضمونا، وهو الخبر المخالف للكتاب والمراد من المخالفة، هي
المخالفة بالتباين: إذ المخالفة بالعموم والخصوص حيث إن أهل العرف يرون الثاني
قرينة، على الأول، ليست مخالفة عند العرف - مع - انه إذا قيل بشمولها لها، يلزم
تخصيص الأكثر لوجود كثير من المخصصات والمقيدات وغيرهما في الاخبار قطعا، مضافا: إلى أن سياق هذا النصوص آب عن التخصيص، مع العلم اجمالا بل تفصيلا
بوجود المخصص.
وبهذا ظهر حال نصوص المخالفة على فرض كونها متواترة في أنفسها.
واما نصوص الموافقة على فرض التواتر فهي تخصص بما يدل على حجية الخبر
الواحد: إذ الالتزام بان تلك الأدلة مختصة بالخبر الموافق للكتاب خاصة كما ترى، لان
ذلك الخبر حجيته لا يترتب عليها اثر، مضافا إلى العلم بصدور الخبر غير الموافق عنهم
(عليهم السلام) متكفل لبيان الاجزاء والشرائط لكل عبادة ومعاملة، فالمتعين هو حملها
على عدم المخالفة بالتيان، أو على صورة المعارضة، أو الاعتقاديات، كما يشهد لكل
ذلك بعض تلك النصوص.
أدلة حجية الخبر الواحد - آية النبأ
وقد استدل لحجيته بوجوه. الأول: " آية النبأ ان جائكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا
قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (1) " وتقريب الاستدلال بها من وجوه.
الأول: مفهوم الوصف حيث إنه تعالى أوجب التبين عن خبر الفاسق فيستكشف
من ذلك عدم وجوب التبين عن خبر غيره، وحيث إن وجوب التبين وجوب شرطي
للعمل لا نفسي لان التفحص عن كونه صادقا، أو كاذبا، تفحص عن عيوب الناس، وهو
لا يكون واجبا قطعا، مضافا إلى ما في ذيل الآية من التعليل الدال على ذلك - وبالجملة -

1 - سورة الحجرات آية 6.
123

لا ريب ولا كلام في أن وجوب التبين شرطي للعمل، فمفهومه عدم لزوم التبين عن خبر
غير الفاسق في مقام العمل فيعمل به من غير تبين.
وفيه: ما تقدم في مبحث المفاهيم من عدم حجية مفهوم الوصف خصوصا غير
المعتمد على موصوفه.
الثاني: دلالة الاقتضاء وهي ما افاده الشيخ الأعظم (ره) - وحاصله - انه في خبر
الفاسق حيثيتين حيثية ذاتية، وهي كونه خبر واحد وحيثية عرضية، وهي كونه خبر فاسق،
وقد علق وجوب التبين على الحيثية الثانية، فلو كانت الأولى صالحة لذلك كان المتعين،
التعليق عليها: إذ العدول عن الامر الذاتي إلى العرضي، قبيح وخارج عن الطريقة المألوفة،
نظير تعليل نجاسة الكلب بملاقاته مع النجس فيستكشف من ذلك، ان وجوب التبين
ينتفى، بانتفاء العنوان العرضي وهو الفسق، فيعمل بخبر غير الفاسق من دون تبين.
وأورد على بايرادين من. الأول: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو ان لازم هذا
التقريب حجية الخبر في نفسه ومانعية الفسق، فلا بد من الالتزام بحجية خبر غير الفاسق
مطلقا ولو لم يكن عادلا كالصغير، والوسط بين العادل والفاسق، ولم يلتزم به أحد.
وفيه: انه يقيد اطلاق المفهوم بالأدلة الأخر الدالة على اعتبار العدالة والوثوق.
الثاني: ما افاده بعض الأعظم (ره) وهو ان الخبر عبارة، عن المبتدأ، والخبر،
والنسبة، وهذا المعنى يعرض له عوارض قد ينقله شخص واحد، وقد ينقله أشخاص
متعددة، والناقل له، قد يكون عادلا، وقد يكون فاسقا فكما ان كون الراوي عادلا أو
فاسق من العوارض كذلك كونه واحدا أم متعددا منها.
وفيه: ان المراد من خبر الواحد الخبر الذي يحتمل الصدق والكذب، ومن كون
عنوان خبر الواحد ذاتيا للخبر، ليس هو الذاتي في كتاب الكليات، بل المراد به الذاتي في
كتاب البرهان، وهو ما يكفي في انتزاعه مجرد وضع الشئ من دون احتياجه إلى ضم
شئ آخر إليه، كالزوجية للأربعة، وخبر الواحد أي الخبر الذي لا يفيد القطع ويحتمل
فيه الصدق والكذب كذلك: إذ الخبر في ذاته يحتمل الصدق والكذب، وان لم يضم إليه شئ خارجي.
124

والحق في الايراد عليه (قده)، ان يقال ان هذا التقريب ليس شيئا وراء مفهوم الوصف
وهذا يجرى في جميع الأوصاف كما لا يخفى بل هو غيرها، فلو قال أكرم الانسان، يقال
ان الحيوانية ذاتية للحيوان، والناطقية عرضي له، فتعليق الحكم على العنوان العرضي
يكشف عن عدم ثبوت الحكم لغير ذلك المورد. نعم، لا بد وأن يكون ذكر الفاسق لفائدة
كما في جميع الأوصاف، ويمكن ان تكون تلك الفائدة التنبيه على فسق الوليد، أو غير
ذلك من الاغراض الداعية إلى التصريح به.
الثالث: من الوجوه، الاستدلال بمفهوم الشرط بتقريب ان التبين علق على كون
الجائي بالخبر فاسقا، فيدل على انتفاء التبين، عند عدم كون الجائي به فاسقا وحيث إن
وجوب التبين شرطي، فمفهومه جواز العمل بخبر غير الفاسق من غير تبين واعتبار العدالة
انما يكون بدليل خارجي.
وأورد عليه بوجوه الأول، ان هذه القضية ليس لها مفهوم إذ هي سيقت لبيان
تحقق الموضوع فان المعلق عليه هو الموضوع وهو النبأ المقيد بكون الجائي به فاسقا،
فعند انتفاعه ينتفى الموضوع، فتكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فلا مفهوم لها.
وأجاب عنه المحقق صاحب الكفاية، بان الموضوع، انما هو النبأ الذي جيئ به،
وكون الجائي به فاسقا هو الشرط فلا يكون من هذا القبيل.
أقول ينبغي أولا تعيين محل النزاع ثم بيان ما هو الحق عندنا. اما الأول: فتوضيحه
يتوقف على بيان مقدمة.
وهي، ان القيود التي تكون دخيلة في ثبوت الحكم، ربما تؤخذ قيدا للموضوع،
نحو زيد الجائي أكرمه، وربما ترجع إلى المتعلق نحو الصلاة مع الطهارة واجبة، وربما
ترجع إلى الحكم نحو ان جاء زيد فأكرمه والثالث على قسمين. الأول: ان يكون تعليق
الجزاء على الشرط عقليا من غير دخل للمولى فيه مثل - إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن
منها أو ردوها. الثاني ان يكون شرعيا وثبوت الجزاء في نفسه لا يتوقف عليه، والقضية
التي لها مفهوم، هي ما كان القيد فيها قيدا للحكم وكان دخله شرعيا، واما في باقي الصور
فلا مفهوم لها.
125

إذا عرفت ذلك، فاعلم أن النزاع في المقام انما يكون في أن هذه القضية هل تكون
من القسم الثالث، فلا مفهوم لها أم من قبيل القسم الرابع فلها مفهوم، والمحقق الخراساني
يدعى كونها من قبيل القسم الرابع، والشيخ الأعظم (ره) يدعى انها من قبيل القسم الثالث.
وقد رجح المحقق النائيني قول صاحب الكفاية، وأفاد في وجه ذلك أن الآية
الشريفة نزلت في الوليد حيث أخبر بارتداد بين المصطلق، ولا بد وأن يكون المورد من
صغريات الكبرى الكلية المذكورة في الآية، وعليه فحيث انه في المورد اجتمع عنوانان،
أحدهما كون الخبر واحدا ثانيهما كون المخبر فاسقا وعلق الحكم على أحد العنوانين،
وهو الثاني، فكان الجزاء مترتبا على خصوص ذلك، وهو كون المخبر فاسقا مع فرض
وجود العنوان الاخر، وعدم دخله في الجزاء والا لعلق عليه، فيكون مفاد المنطوق بعد
ضم المورد إليه ان الخبر الواحد ان كان الجائي به فاسقا فتبينوا، فمفهومه ان لم يكن
الجائي به فاسقا فلا تبينوا.
أقول ان هذا المقدار لا يكفي في اثبات هذا القول إذ الشيخ (ره) يدعى ان الكبرى
الكلية المذكورة في الآية، هي كون النبأ المقيد بكون الجائي به فاسقا واجب التبين،
- وبعبارة أخرى - ان الشرط هو المقيد وعليه فهي منطبقة على المورد أيضا.
واما الثاني: وهو بيان ما هو الحق عندنا فأقول، ان الظاهر من الآية الشريفة كون
الموضوع هو النبأ ومجئ الفاسق به هو الشرط لوجوب التبين: وذلك لان الموضوع هو
الضمير المستتر في تبينوا، وهو انما يرجع إلى مفعول جاء وهو ذات النبأ، لا النبأ الذي
جاء به الفاسق، إذ مضافا إلى أنه لا وجه لتقييده به، لا يعقل ذلك لأنه جعل مفعولا لجاء،
والنبأ المضاف إلى الفاسق أي الذي أخبر به الفاسق، لا معنى لجعله مفعولا له، والالزام
تحصيل الحاصل كما لا يخفى، فلا محالة لا يكون النبأ مقيدا ويكون مطلقا، فيكون
الموضوع ذات النبأ.
والايراد عليه بأنه ان كان الموضوع ذات النبأ المقسم لما جاء به الفاسق، أو
العادل، لزم وجوب التبين في طبيعة النبأ وان كانت متحققة في ضمن خبر العادل على
تقدير تحقق الشرط، كما عن المحقق صاحب الدرر.
126

فيه: ان دخالة كل قيد مأخوذ في الدليل سواء جعل قيدا للموضوع، أو الحكم في
ثبوت الحكم حدوثا وبقاءا ورجوعه إلى الموضوع ثبوتا لا ينكر، والاختلاف انما هو
في مقام الاثبات لا الثبوت والواقع واللب مع أنه لو لم يكن الموضوع ذات النباء - يمكن
ان يقال ان الموضوع هو النبأ المحقق المردد بين القسمين فيصير المعنى يجب التبين عن
النبأ المحقق إذا جاء به الفاسق فيدل على المفهوم.
ودعوى انه على هذا لا بد وان يعبر بما يدل على المضي لا الاستقبال - مندفعة -
بأنه لا وجه لذلك الا دعوى ان ما لم يوجد لعدم تشخصه، وعدم وقوعه على وجه، لا
وجه لدعوى انه لا يكون هناك مجال الا للترديد بخلاف ما وجد، وهي مندفعة بان ما
فرض في المستقبل إذا كان واحدا شخصيا، فهو بحسب الفرض جزئي لا يعقل وقوعه الا
على وجه واحد، فهو غير قابل للانقسام إلى أمرين بل امره مردد بين الامرين بلحاظ جهل
الشخص.
ويمكن ان يقرر دلالة الآية على المفهوم بجعل الشرط مركبا من جزئين، النباء،
وكون الآتي به فاسقا، وتوضيحه يتوقف على مقدمة.
وهي، ان المقدم في القضية الشرطية، قد يكون أمرا واحدا، وقد يكون مركبا من
أمور، وقد عرفت ان الأول على قسمين أي قد يكون لتحقق الموضوع، وقد لا يكون
كذلك، واما الثاني فهو على قسمين. الأول: ما إذا كان الحكم بالنسبة إلى كل منها قابلا
للاطلاق والتقييد - مثل - ان جاء زيد، وكان على رأسه عمامة، وفى يده عصا، فأكرمه.
الثاني: ما إذا كان بالنسبة إلى بعضها كذلك، وبالنسبة إلى الاخر لبيان تحقق الموضوع، مثل
ان رزقت ولدا في يوم الجمعة فاختنه، حيث إن رزق الولد ذكر لبيان تحقق الموضوع،
بخلاف يوم الجمعة، وفى القسم الأول يكون الحكم مقيدا بمجموع القيود وتدل
القضية على انتفاء الحكم بانتفاء كل واحد من القيود، واما في القسم الثاني فبالنسبة إلى ما
سبق لتحقق الموضوع لا مفهوم لها، وينحصر مفهومها بالقياس إلى التقيد الاخر.
وعليه، فما يتوفق عليه الجزاء في المقام عقلا انما هو النبأ ولا مفهوم للآية
بالقياس إليه، وما هو قيد للحكم شرعا انما هو القيد الثاني فينتفى الحكم بانتفائه.
127

وبذلك كله ظهر ما في كلام المحقق الخراساني (ره) حيث قال إنه لو كان الشرط هو
نفس تحقق النبأ ومجئ الفاسق به كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع.
واما ما ذكره المحقق الخراساني (ره) بقوله مع أنه يمكن ان يقال ان القضية ولو
كانت مسوقة لذلك الا انها ظاهرة في انحصار موضوع التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق
فيقتضى انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر انتهى.
فيندفع بان القضية الشرطية تدل على انحصار ثبوت الجزاء في الموضوع
المفروض على فرض تحقق الشرط ولا تدل على انحصار الموضوع بما اخذ في لسان
الدليل فتدبر فإنه دقيق.
الايراد الثاني: ان صدر الآية الشريفة وان كان ظاهرا في المفهوم الا انه من جهة
التعليل، لعدم حجية خبر الفاسق بإصابة القوم بالجهالة، أي عدم العلم بصدق المخبر،
وهو عام شامل لخبر العادل غير المفيد للعلم أيضا ومقتضاه عدم حجية خبر العادل، أي
كل خبر لا يفيد العلم، لا بد من الالتزام بعدم المفهوم للقضية، إذ يقع التعارض، بين ظهور،
القضية في المفهوم، وعموم التعليل، ولا بد من رفع اليد عن أحدهما، وعليه فبما ان ظهور
التعليل في العموم أقوى من ظهور القضية في المفهوم فيقدم، ولا أقل من التساوي وعدم
أظهرية أحدهما عن الاخر فيتساقطان فلا يصح التمسك بالمفهوم، والفرق بين هذا الايراد
وسابقه ان السابق كان بملاك عدم المقتضى للمفهوم، وهذا يكون بملاك ثبوت المانع
عن انعقاد الظهور في المفهوم.
ويمكن الجواب عن ذلك بوجهين، أحدهما: ان المراد بالجهالة السفاهة، أي فعل
ما يكون شأن أرباب الجهل، ولا يكون من زي العقلاء، - وبعبارة أخرى - الجهالة العملية
نظير قوله تعالى " انى أعظك ان تكون من الجاهلين "، والشاهد على ذلك مضافا إلى ظهور
الآية، انه لو أريد به عدم العلم لزم تخصيص التعليل، بما دل على حجية الفتوى، والبينة،
وغير ذلك من الامارات التي ثبتت حجيتها، مع أن سياق الآية آب عن التخصيص فلا
مناص عن حمله على إرادة السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.
وأورد على هذا الجواب الشيخ الأعظم (ره) بان أصحاب النبي (ص) الذين هم من
128

العقلاء قد عملوا بخبر الوليد حتى نزلت الآية فحمل الجهالة على السفاهة يلزم، اما
الالتزام بعدم كونهم من العقلاء، أو عدم شمول الآية للمورد، وهما كما ترى، فلا محالة
يكون المراد بها عدم العلم.
وفيه: ان السفاهة على قسمين. الأول: فعل ما لا يصدر من العقلاء أصلا. الثاني: انه
يصدر ولكنه مع الغفلة عن كونه من مصاديق كبرى كلية خاصة، نظير من يعلم أنه لا يقدر
على أن يسبح في الشط الذي عرضه مائة ذراع، ولكنه غفلة عن كون هذا الشط عرضه هذا
المقدار يقدم على ذلك - وبالجملة - صدور عمل السفهاء من العقلاء في غاية الكثرة،
كما يظهر من ملاحظة حال العصاة، أترى العصيان من ذي العقلاء بما هم عقلاء كلا.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) من حكومة المفهوم على عموم العلة - توضيح
ذلك - ان العلة بعمومها متعرضة لبيان الردع عن العمل بغير العلم ولا نظر له إلى عقد
الوضع، كما هو الشأن في كل دليل، والمفهوم الدال على حجية خبر العادل المستلزم
لتنزيل خبر العادل منزلة العلم، وجعله من افراد العلم، يوجب، خروج خبر العادل عن
موضوع التعليل، فيكون حاكما عليه،
ولا يلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم، بل
الحاكم يقدم في جميع الصور.
وأورد عليه بايرادات أحدهما ما افاده المحقق البروجردي، وهو انه على فرض
ثبوت المفهوم، يكون حاكما على عموم العلة، ولكن الكلام في ثبوته، والمدعى ان
عموم العلة مانع عن انعقاد الظهور لهذه القضية الشرطية.
وفيه: ان مانعيته عن انعقاد الظهور لها، فرع ثبوت التنافي بين المفهوم، وعموم
العلة، والا فلا وجه لمانعيته كما لا يخفى، ونحن تبعا للمحقق النائيني (ره)، ندعي انه لا تمانع
ولا تدافع بينهما إذ كل منهما متكفل لبيان شئ، ولا ربط لمفاد أحدهما بالآخر، إذ
المفهوم انما يثبت الحجية لخبر العادل، ويجعله علما تعبدا وطريقا تاما، والعلة متكفلة
لبيان الحكم، وانه لا يجوز اتباع ما ليس بعلم - وبعبارة أخرى - أحدهما متكفل لعقد
الوضع، والاخر لعقد الحمل، فأي تمانع بينهما ومع عدمه كيف يعقل ان يكون عموم
العلة مانعا عن انعقاد الظهور للشرط في المفهوم وبالجملة الظاهر أنه خلط بين دعوى
129

حكومة المفهوم على العلة وتحصيصها به - وما ذكره يتم في الثاني دون الأول -.
ثانيهما: ما افاده بعض الأعاظم - وهو - ان الحكم في الآية الشريفة علل بالاصباح
العادل، وهذه العلة تشترك بين خبر العادل والفاسق حتى مع الدليل على حجية خبر
العادل، فان مخالفة الواقع موجبة للندم مطلقا فلا محالة تكون مانعة عن انعقاد الظهور
في المفهوم.
وفيه: ان الظاهر من العلة التعليل بما يصلح رادعا عند العقلاء وهو انما يكون في
الندم على عدم العمل بالوظيفة لا في الندم على مخالفة الواقع مع العمل بالوظيفة
- وبعبارة أخرى - ان الندم تارة يكون مع اللوم والعقوبة وأخرى يكون بدون ذلك وما
يصلح ان يكون رادعا عند العقلاء هو الأول، دون الثاني، وحيث إن الظاهر كون التعليل
بما يصلح ان يكون رادعا عند العقلاء فلا محالة يكون الظاهر من الندم هو القسم الأول
منه، ومن المعلوم ان خبر العادل على فرض حجيته لا يوجب العمل به الندم، فالمفهوم
يصلح رافعا لموضوع العلة.
ثالثها: ان المفهوم متفرع على المنطوق، ومترتب عليه ترتب الدلالة الالتزامية على
الدلالة المطابقية، والمنطوق مترتب على عموم التعليل ترتب المعلول على علته فلا يعقل،
ان يكون المفهوم حاكما على التعليل، إذ ما يكون متأخرا عن الشئ رتبة لا يعقل ان
يكون حاكما عليه.
وفيه: أولا ان تأخر المفهوم عن المنطوق انما هو في مقام الكشف والدلالة لا في
مقام المدلول، - وبعبارة أخرى - حجية خبر العادل لا تكون متأخرة عن عدم حجية خبر
الفاسق، بل المتأخر هو كشف القضية عن حجية خبر العادل عن كشفها عن عدم حجية
خبر الفاسق، والحاكم انما هو نفس المفهوم لا كشفه، وثانيا ان الحكومة لا تنحصر في ما
إذا كان الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له بل هناك قسم آخر من الحكومة، وهو ما
إذا كان دليل الحاكم متضمنا لبيان موضوع مستقل يكون نتيجته التوسعة أو التضييق في
دليل المحكوم كما في المقام.
وبما ذكرنا ثانيا يظهر اندفاع، ما ربما يورد على الحكومة من أن الحكومة انما
130

هي فيما إذا كان لسان الدليل نفى الموضوع، وكان الغرض منه نفى الحكم كما في قوله (ع)
لا ربا بين الوالد والولد، واما لو كان لسان الدليل نفى الحكم ابتداءا فليس هناك حكومة
والمقام كذلك إذ المستفاد من المفهوم عدم وجوب التبين عن خبر العادل، وعموم العلة
يدل على وجوبه، فيكون المفهوم مخصصا لعموم العلة لا انه يكون حاكما عليه.
وجه الاندفاع ان الموضوع في المقام بنفسه قابل للتعبد به بلا احتياج إلى لحاظ اثر
شرعي فالمفهوم تعبد بالموضوع، وهو العلم ويترتب عليه آثاره العقلية من التنجيز
والتعذير ويكون خارجا عن عموم التعليل موضوعا بالتعبد وهو من الحكومة بالمعنى
الثاني فتدبر فإنه دقيق.
الايراد الثالث: على الاستدلال بالآية الشريفة، ان مورد الآية هو الاخبار بارتداد
بنى المصطلق ولا اشكال في أن الخبر لا يفيد في الاخبار بارتداد شخص واحد
فضلا عن الاخبار بارتداد جماعة فلو كان للآية مفهوم لزم تخصيص المورد المستهجن
فلا مفهوم لها.
وفيه: أولا ما افاده الشيخ الأعظم (ره) - وحاصله - ان المستهجن تخصيص المورد،
واما تقييد اطلاق الدليل بالقياس إلى المورد فلا قبح فيه أصلا - مثلا إذا سال عن وجوب
اكرام زيد، وأجيب بما يكون مختصا بغيره يكون هذا مستهجنا، واما لو أجيب بكبرى
كلية، لزم تقييدها بالإضافة إلى زيد، فلا استهجان فيه، والمقام من قبيل الثاني: فان المورد
لا يكون خارجا عن الكبرى المذكورة في الآية، بل لا بد من تقييدها في خصوص المورد
بالتعدد ولا يخرج بذلك عن تحت الكبرى الكلية كي يكون مستهجنا.
وأورد عليه بعض المحققين: بان المراد من التبين ان كان هو العلم، كان الامر
ارشاديا، إذ وجوب العمل على طبق العلم عقلي، فالامر به لا محالة يكون ارشاديا، لا
شرطيا، فلا مفهوم له: لعدم استفادة المفهوم من الامر الارشادي، وان كان المراد منه
الوثوق لزم خروج المورد عن تحت الحكم المذكور في المنطوق، إذ لا يكفي الوثوق
الحاصل من خبر الفاسق في مثل ذلك فلا يمكن التحفظ على كون وجوب التبين شرطيا
مع عدم لزوم تخصيص المورد.
131

وفيه: أولا ان وجوب العمل على طبق العلم عقلي والواجب هو تحصيل العلم لا
العمل به وتحصيله ليس واجبا عقليا بل هو شرعي - وثانيا - ان التبين انما هو بمعنى
الظهور والوضوح فالمستفاد من المنطوق هو عدم العمل بخبر الفاسق الا بعد ظهوره و
وضوحه، وهذا المعنى في نفسه ظاهر في العلم الوجداني، الا انه كلما ثبت بدليل حجيته،
دخل في هذا العنوان بعنوان الحكومة كان هو خبر العادل الثابت حجيته بالمفهوم، أو
غيره من الامارات الثابتة حجيتها بدليل خارجي - وبالجملة - ليس المراد به خصوص
العلم الوجداني، ولا الوثوق، بل هو الظهور والوضوح فتدل الآية على إناطة جواز العمل
بخر الفاسق بالظهور وانكشاف الواقع، وهذا معنى عدم حجيته في نفسه، كما أن مفهومه
جواز العمل بخبر العادل بلا اعتبار ذلك وهو معنى حجيته، وحينئذ كلما ثبت حجيته
دخل في عنوان التبين والظهور والا فلا.
هذا كله في الجواب الأول عن هذا الايراد، ويمكن ان يجاب عنه بجواب ثان،
وهو ان المورد مورد للمنطوق لا المفهوم، وهو لم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود
لعدم ورود الآية مورد اخبار العادل بالارتداد، بل يكون المفهوم من هذه الجهة كساير
الكليات الابتدائية ولا ملازمة بين المنطوق والمفهوم في المورد.
الايراد الرابع: ما افاده بعض الأعاظم، وهو ان المراد ان كان هو خصوص العلم
الوجداني، لا يمكن ان يكون وجوب التبين نفسيا، أو شرطيا، أو مقدميا، لان مقسم هذه
الأقسام الوجوب المولوي، ولزوم اتباع العلم عقلي وامر الشارع به لا محالة يكون
ارشاديا فلا مفهوم للآية وان كان المراد به الوثوق، يكون المستفاد من مجموع منطوق
الآية ومفهومها حكما مخالفا للاجماع، فان العلماء اختلفوا على قولين أحدهما حجية
قول العادل، أفاد الوثوق أم لا؟ ثانيهما حجة الخبر الموثق، والآية على هذا بمفهومها
تدل على حجية خبر العادل، وان لم يفد الوثوق، وبمنطوقها تدل على حجية الموثق، وان
لم يكن المخبر عادلا وهذا احداث قول ثالث، فلا محالة يقع التعارض بين المنطوق
والمفهوم.
وفيه: أولا - انه يمكن ان يكون المراد من التبين، العلم الوجداني، ويكون الامر به
132

مولويا، فان اتباع العلم والعمل على طبقه لا يعرضه الوجوب المولوي، واما تحصيل العلم
فلا بد من كون وجوبه مولويا، والمقام من قبيل الثاني، لا الأول، فمنطوق الآية حينئذ ان
العمل بخبر الفاسق مشروط بحصول العلم فمفهومه عدم اشتراط العمل بخبر العادل
بذلك، وثانيا ان البناء على حجية خبر العادل سيما بعد تقييد الحجية بما إذا لم يكن
معرضا عنه عند الأصحاب، وان لم يفد الوثوق، وحجية الخبر الموثق وان لم يكن
المخبر عادلا، ليس احداثا للقول الثالث، بل الظاهر أن بناء المشهور على ذلك.
حجية الخبر الواحد في الموضوعات
وينبغي التنبيه على أمور. الأول: ان مقتضى عموم مفهوم الآية الكريمة حجية
الخبر الواحد في الموضوعات أيضا الا ما خرج بالدليل: ويشهد لها مضافا إلى ذلك
استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على اخبار الثقات فيما يتعلق بمعاشهم ومعادهم،
وسيرة المتشرعة على اخذ معالم دينهم عن الثقات، ولم يرد عن الشارع ردع عن ذلك.
وقد استدل لعدم حجيته فيها بموثق مسعدة عن الإمام الصادق (ع) في حديث
" والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة (1) " فإنه يدل على
انحصار الحجة في الموضوعات، بالعلم الوجداني، والبينة، فيكون راعا عن بناء العقلاء،
والسيرة، ومقيدا لاطلاق مفهوم الآية، فان النسبة بينهما وان كانت عموما من وجه، الا ان
دلالة الموثق تكون بالعموم، ودلالة الآية بمفهومها بالاطلاق، وقد حقق في محله ان ما
دلالته بالعموم مقدم على ما يكون دلالته بالاطلاق.
ويرد عليه، أولا: انه بناءا على ما هو الحق المتقدم في محله، ان مفاد دليل حجية
الخبر جعل ما ليس علما وظهورا، علما - يصير خبر الواحد بمقتضى مفهوم الآية من
مصاديق الاستنابة بالحكومة، ويشمله الشق الأول المذكور في الموثق، فان قيل على هذا

1 - الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به كتاب البيع حديث 4.
133

يلغو ذكر البينة، أجبنا عنه بأنها انما ذكرت للتنبيه على حجيتها، مع أن ذكرها من قبيل ذكر
الخاص بعد العام.
وثانيا: انه يمكن ان يقال ان الاستبانة هي التفحص والاستكشاف، والبينة ما يظهر
بقيام دليل من الخارج، - وبعبارة أخرى - ان المراد من البينة الحجة وما يكون مثبتا
للشئ، واطلاق البينة على هذا المعنى انما هو من جهة كونه معناها اللغوي واستعمالها فيه
ليس بعزيز، بل ورود في القرآن الكريم وكلمات العلماء قال الله تعالى " وآتينا عيسى بن
مريم البينات (1) " وقال " وشهدوا ان الرسول حق وجائهم البينات (2) " وقال " ولقد جائتهم
رسلهم بالبينات " (3) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فالأدلة المتقدمة حاكمة، أو واردة
على الموثق فإنها تدل على أن خبر الواحد من مصاديق البينة حقيقة بعد الجعل.
وثالثا: ان عدم حجية الخبر في مورد الموثق مما يكون الحلية مستندة إلى اليد
والاستصحاب لا يلازم عدم حجيته فيما لا معارض له.
ورابعا: انه قد تقدم في محله عدم تسليم تقدم ما دلالته بالعموم على ما يكون دلالته
بالاطلاق، بل يعامل معهما معاملة المتعارضين، وحيث إن أحد طرفي التعارض الآية
الشريفة فلا وجه للرجوع إلى المرجحات غير الموافقة للكتاب فيقدم الكتاب.
فالأظهر حجية الخبر الواحد في الموضوعات مطلقا الا ما خرج بالدليل، ويعضد
ما ذكرناه النصوص الواردة في الأبواب المتفرقة الدالة على ثبوت الموضوعات الخاصة
به، مثل ما ورد في ثبوت الوقت باذان الثقة العارف (4) وما دل على جواز وطء الأمة إذا
كان البايع عادلا أخبر باستبرائها (5) وما دل على ثبوت عزل الوكيل به (6) إلى غير ذلك من
الموارد، فلا ينبغي التوقف في حجيته في الموضوعات الا ما خرج بالدليل.

1 - البقرة / 253.
2 - آل عمران 86.
3 - المائدة 32.
4 - الوسائل باب 3 من أبواب الأذان والإقامة.
5 - الوسائل باب 11 من أبواب بيع الحيوان.
6 - الوسائل باب 2 من أبواب الوكالة.
134

تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة
الثاني: ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) قسموا الأخبار المعتبرة إلى اقسام. الأول:
الصحيح وهو ما كان رواته عدولا زكاهم الثقات. الثاني: الخبر الضعيف المنجبر بعمل
المشهور. الثالث: الموثق وهو ما كان رواته موثقين وان لم يكونوا إماميين، ويدخل فيه
خبر الفاسق الموثق. الرابع: الحسن وهو ما كان رواته إماميين ممدوحين من دون ان
يصرح بعدالتهم.
أقوال اما الخبر الصحيح فهو المتيقن ارادته من المفهوم.
واما الضعيف المنجبر فهو يثبت حجيته بمنطوق الآية: لان التبين، هو طلب
الوضوح عن صدق الخبر وكذبه، وعمل الأصحاب من طرق ذلك.
واما الموثق فيمكن ان يستدل لحجيته بوجهين - الأول - ان ظاهر تعليق هذا
الحكم على الفاسق بواسطة مناسبة الحكم والموضوع المغروسة في أذهان أهل العرف،
ان الموضوع هو غير المتحرز عن الكذب، إذ لا مدخلية لارتكاب ساير المحرمات من
شرب الخمر وعدمه في مثل هذا الحكم الذي يكون مناطيه صدق المخبر ومطابقة خبره
للواقع فمفهوم الآية حجية خبر المتحرز عن الكذب.
ودعوى ان هذه حكمة جعل الحكم على خبر الفاسق فالمتبع هو ظاهر الآية وهو
عدم حجية خبر الفاسق مطلقا، مندفعة بان ما ذكرنا من المناسبة انما تكون قرينة صارفة
للظهور وموجبة لانعقاد الظهور الثانوي فيما ذكرناه.
ودعوى، ان غير العادل المأمون في نوع اخباره لا وثوق بصدقه في خصوص هذا
الخبر، مندفعة بان الموضوع لعدم الحجية غير المتحرز عن الكذب في نوع اخباره،
وموضوع الحجية المتحرز عنه في نوع اخباره، - وبعبارة أخرى - الموضوع هو خبر
الفاسق، وغير الفاسق، مع قطع النظر عن هذا الخبر بالخصوص.
الثاني: الاستدلال بمنطوق الآية الشريفة، إذ التبين الذي هو شرط للعمل بخبر
135

الفاسق الذي هو طلب الوضوح والظهور أعم من تبين الرواية وتبين حال الراوي، واحراز
وثاقته نوع من التبين، فيكون العمل بالموثق عملا بالمبين الواضح، ويؤكده بناء العقلاء
هذا بناءا على اطلاق الفاسق على غير الامامي العامل بوظائف ما تدين به، والا كما عن
الشيخ البهائي في زبدة الأصول حيث التزم باطلاق العادل عليه فالامر في غاية الوضوح.
واما الحسن فان كان المدح المذكور للراوي موجبا للاطمينان والوثوق بكونه
متحرزا عن الكذب، فحكمه حكم الموثق طابق النعل والا فلا تدل الآية الشريفة
لا بمفهومها، ولا بمنطوقها على حجيته.
التنبيه الثالث
وقد أورد على حجية خبر الواحد بايرادين، أحدهما: انه لو كان حجة، كان خبر
السيد بالاجماع على عدم حجية خبر الواحد حجة، فيلزم عدم حجية غيره.
وفيه أولا: انه قد عرفت اختصاص حجية الخبر الواحد بالاخبار عن حس، ولا
تشمل الاخبار عن الحدس كما في نقل الاجماع.
وثانيا: انه معارض بخبر الشيخ المدعى للاجماع على حجية الخبر الواحد.
وثالثا: انه لا يمكن شمول الدليل لخبر السيد لأنه يلزم ان لا يكون حجة لكونه
خبرا، فيلزم من حجية خبر السيد عدم حجيته، وما يلزم من وجوده عدمه محال.
وبهذا البيان يظهر اندفاع ما قيل في تقريب الاشكال انه من حجية المفهوم، في
الآية الشريفة، ودلالتها على حجية الخبر الواحد بما انه يلزم عدمها، فتكون محالا: إذ
لازم حجية الخبر الواحد حجية خبر السيد، ولازمه عدم حجية الخبر الواحد، وما يلزم
من وجوده عدمه محال، فحجية الخبر الواحد محال.
وجه الاندفاع ان المحال لا يترتب على حجية الخبر الواحد، بل انما يترتب على
شمول الدليل لخبر السيد (ره) وحيث إن الضرورات تتقدر بقدرها، فيقتصر في رفع اليد
عن الدليل بمقدار يترتب عليه المحال، وهو شمول دليل الحجية واطلاقه لخبر السيد،
136

وهو محال لا أصل حجية الخبر.
وأورد على هذا الوجه بان اخبار السيد بعدم حجية الخبر الواحد لا يشمل نفسه،
إذ خبر السيد حاك والمحكى به عدم الحجية، والمحكى يكون في مرتبة سابقة على
الحاكي، فلو شمل المحكى لخبر السيد لزم تأخره عنه تأخر الحكم عن موضوعه، فيلزم
تأخر ما هو متقدم وهو محال.
وفيه: ان المحكى بخبر السيد عدم الحجية انشاءا وهو غير متوقف على وجود
الموضوع خارجا فضلا عن تأخره عنه، وهو المتقدم عليه، وما يترتب على خبره، ويكون
متأخرا عنه هو عدم الحجية الفعلية.
وأجيب عن هذا الاشكال بوجه آخر وهو انه كما لا يشمل عدم الحجية المحكى
لخبر السيد له من جهة لزوم تأخر ما هو متقدم كذلك لا يشمله الحجية لأنهما نقيضان
والنقيضان في مرتبة واحدة، فإذا كان عدم الحجية في مرتبة سابقة على خبر السيد، تكون
الحجية أيضا كذلك لتساويهما رتبة.
وفيه: مضافا إلى ما تقدم من أن المتقدم عدم الحجية الانشائية، والمتأخر عدم
الحجية الفعلية فكذلك في الحجية، ما تقدم في مبحث الضد من أنه في المتقدم والتأخر
الزماني، يصح ان يقال ان المتأخر، عن أحد المتقارنين زمانا متأخر عن الاخر أيضا، وهذا
بخلاف التقدم والتأخر الرتبي إذ تأخر شئ رتبة عن أحد المتساويين في الرتبة من جهة
كونه معلولا له مثلا، لا يلزم تأخر الاخر عنه بعد فرض عدم وجود مناط التأخر فيه، وتمام
الكلام في محله.
ورابعا: انه من شمول أدلة الحجية لخبر السيد، يلزم انحصار المطلق في فرد واحد،
وهو قبيح، بل المقام أسوء حالا من ذلك فان خبر السيد ليس عن ثبوت شئ في الواقع،
بل انما هو عن عدم حجية الخبر، ففي الحقيقة يلزم بيان عدم الحجية بلسان الحجية وهو
كما ترى.
ودعوى انه لا يلزم ذلك فان الاخبار التي تكون قبل خبر السيد أيضا مشمولة لأدلة
الحجية، مندفعة بالاجماع على عدم الفرق بين ما هو قبل خبر السيد وما يكون بعده، مع
137

ان السيد يخبر عن عدم الحجية من الأول فلا يمكن التفكيك، وبهذا يظهر ان دعوى
امكان التفكيك ظاهرا، وان لم يكن واقعا، مندفعة بان السيد يخبر عن الحكم الواقعي لا
الظاهري، فالمتحصل ان الأظهر عدم شمول الأدلة لخبر السيد خاصة.
شمول أدلة الحجية للاخبار مع الواسطة
الايراد الثاني: الذي أورد على أصل حجية الخبر الواحد، ما يكون مختصا
بالاخبار الحاكية مع الواسطة، كالأحاديث التي بأيدينا - وتقريبه - انما يكون من وجوه.
الأول: ان أدلة حجية الخبر منصرفة إلى الاخبار الحاكية عن قول المعصوم (ع)
بلا واسطة.
وأجيب عنه بجوابين أحدهما ما افاده الشيخ الأعظم (ره)، وتبعه المحقق النائيني (ره)
وهو ان كل شخص من الوسائط انما ينقل خبرا بلا واسطة مثلا إذا قال الكليني حدثني
على بن إبراهيم، قال حدثني أبي، قال حدثني حماد بن عيسى، قال سمعت العسكري (ع)
يقول، فهناك اخبار عديدة حسب تعدد الوسائط وكل منهم ينقل خبرا عن من يسمع منه
بلا واسطة.
وفيه: ان المستشكل انما يدعى ان الأدلة منصرفة عن الاخبار مع الواسطة عن
الامام، - وبعبارة أخرى - يدعى انصرافها إلى الخبر الحاكي عن قول الإمام بلا واسطة،
ولا يدعى انصرافها إلى الاخبار بلا واسطة في مطلق النبأ.
ثانيهما: ان كل واحد من الوسائط بما انه مجاز عن شيخه، فخبره بمنزلة خبره إلى أن
ينتهى إلى الشخص الذي ينقل عن الإمام (ع) فيكون خبر كل منهم داخلا في الخبر
المروى بلا واسطة عن الامام.
وفيه: ان الإجازة انما تفيد لنقل الخبر مع الغاء الواسطة، ولا توجب كونه خبرا
بلا واسطة، - وبعبارة أخرى - كون الخبر بلا واسطة اما ان يكون حقيقة، أو يكون تعبدا،
وشئ منهما لا يكون متحققا، اما الأول فواضح، واما الثاني: فلانه لا دليل على أن
138

الإجازة موجبة لذلك، فالحق في الجواب منع الانصراف.
التقريب الثاني ان موضوع كل حكم متقدم رتبة على حكمه، ولذا قالوا ان نسبته
إليه نسبة العلة إلى المعلول، وعليه فإذا صار الحكم علة لثبوت فرد من افراد ذلك
الموضوع، لا يعقل شمول ذلك الحكم له، وإلا لزم تقدم ما هو متأخر، ففي المقام الخبر
المحرز وجدانا هو خبر الكليني في المثال، واما خبر على بن إبراهيم فليس بوجداني وانما
يثبت بنفس الحكم بوجوب التصديق فلا يعقل شمول هذا الحكم له.
وأجاب عنه المحقق الخراساني بأجوبة ثلاثة الأول انه إذا كانت القضية طبيعية،
فالحكم بوجوب التصديق يسرى إليه سراية حكم الطبيعة إلى افرادها، بلا محذور لزوم
اتحاد الموضوع والحكم، ومراده من القضية الطبيعية، ليس هو ما إذا كان الموضوع في
القضية، نفس الطبيعة الكلية من حيث هي كلية كما هو المصطلح عند أهل المعقول
- وبعبارة أخرى - الطبيعة بشرط لا، كقولنا الانسان نوع، بل المراد هو الطبيعي الأصولي،
بمعنى الطبيعة بشرط الوجود السعي، والفرق ان الأول يكون الطبيعة ما فيها ينظر وفى
الثاني يكون ما بها ينظر، ويكون آلة ملاحظة الافراد، وجعل الحكم لكل ما يصدق عليه
انه فرد من الطبيعة.
الثاني: دعوى القطع بتحقق ما هو المناط في ساير الآثار في هذا الأثر أي وجوب
التصديق بعد تحققه بهذا الخطاب وان لم يشمله لفظا.
الثالث: عدم القول بالفصل بين هذا الأثر، وبين ساير الآثار، في وجوب الترتيب،
لدى الاخبار بموضوع صار اثره الشرعي، وجوب التصديق، ولو بنفس الحكم في الآية،
- وبعبارة أخرى - عدم القول بالفصل بين حجية الخبر بلا واسطة أو مع الواسطة.
وأورد عليه بان المانع ليس مانعا اثباتيا حتى تصح هذه الأجوبة، بل المناع ثبوتي.
والصحيح في الجواب ان يقال ان هذه القضية أي المتضمنة لحجية الخبر الواحد،
كساير القضايا المتكفلة لبيان الأحكام الشرعية، انما تكون على نحو القضية الحقيقية،
فهي بحسب الظاهر جعل لحكم واحد، ولكن في عالم اللب والواقع جعل لاحكام
عديدة حسب ما للخبر من الافراد، من غير فرق بين الافراد الطولية والافراد العرضية،
139

وعليه فالحكم الثابت لخبر الكليني، وان كان يوجب تحقق فرد آخر من الخبر، وهو خبر
على بن إبراهيم، الا ان الحكم الثابت له ليس شخص هذا الحكم، حتى يلزم المحذور
المذكور بل فرد آخر من الحكم متحد مع هذا سنخا، فلا يلزم تأخر ما هو متقدم - مع -
ان شمول الحكم لخبر الكليني لا يثبت خبر على بن إبراهيم بل به يحرز تحققه، لا أصل
وجوده فلا مورد لهذا الاشكال.
التقريب الثالث ان المعتبر في شمول دليل الحجية لمورد كونه اثرا شرعيا أو
موضوعا ذا اثر شرعي إذا لا يصح التعبد الا بلحاظ ذلك وإلا لزم كونه لغوا، والاخبار مع
الواسطة التي يدعى كونها مشمولة لأدلة الحجية لا اثر لها سوى وجوب التصديق، فلا
يعقل شمول أدلتها لها - فان قلت - انه يكفي في الأثر نفس وجوب التصديق وهو بنفسه
من الآثار الشرعية قلت إن وجوب التصديق وان كان المجعولات الشرعية، الا انه
يعتبر في ترتبه على موضوعه كونه ذا اثر شرعي مع قطع النظر عن هذا الحكم ليكون
شموله غير لغو.
والجواب: عن ذلك مضافا إلى ما مر أمور، الأول ان هذا الاشكال ان ورد، كان
على مسلك من يرى أن المجعول في باب الطرق والامارات، هو تنزيل المؤدى منزلة
الواقع، فان التنزيل لا بد وأن يكون بلحاظ الأثر والحكم الشرعي، واما على المسلك
الحق من أن المجعول فيه هو الكاشفية والطريقية، وجعل ما ليس بعلم علما، فلا أساس له
أصلا، فان المجعول نفس الطريقية والكاشفية بلا حاجة إلى كون المؤدى حكما شرعيا أو
موضوعا ذا اثر شرعي.
الثاني: انه بناءا على الانحلال في القضايا الحقيقية وكون كل فرد من افراد
الموضوع له حكم واحد مستقل، غير مربوط باحكام الافراد الاخر، يكون وجوب
التصديق الشامل لخبر على بن إبراهيم مثلا الذي هو اثر له، وبلحاظ يكون خبر الكليني
مشمولا لأدلة الحجية ويترتب عليه صدق العادل، غير ذلك الذي يترتب على خبر
الكليني، فوجوب التصديق لكل خبر انما يكون بلحاظ فرد آخر من الحكم الثابت
للمخبر عنه.
140

الثالث: انه لم يرد آية ولا رواية دالة على أنه يعتبر في شمول دليل الحجية كون
المخبر عنه اثرا شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي، وانما يعتبر ذلك للخروج عن اللغوية،
وعليه فإذا فرضنا ترتب اثر شرعي من وجوب شئ أو حرمته أو غيرهما على مجموع الاخبار
الواقعة في سلسلة حكاية قول المعصوم (ع) كفى ذلك لصحة التعبد بحجية جميع تلك الأخبار.
التقريب الرابع، ان شمول الدليل لمورد يتوقف على احراز صدق موضوعه عليه،
اما بالوجدان أو بالتعبد، واخبار الوسائط بما انها غير محرزة بالوجدان كما هو واضح،
ولا بالتعبد إذ ليس هناك دليل يمكن التمسك به لذلك سوى التعبد بتصديق العادل
الشامل للخبر الأول، وهو لا يصلح لذلك وإلا لزم حكومة وجوب تصديق العادل على
نفسه وهو غير صحيح كما لا يخفى، فلا تكون مشمولة لأدلة الحجية.
وفيه: ان الحكومة على اقسام ثلاثة. الأول: ان يكون الحاكم بمدلوله اللفظي
شارحا للمحكوم ومبينا لما أريد منه، بلفظ عنيت أو ما شابهه.
الثاني: ان يكون دليل الحاكم متعرضا لدليل المحكوم لا بهذا اللسان، بل
بالتصرف في عقد حمله كلا ضرر، أو في عقد وضعه توسعة، كقوله (ع) الفقاع خمرة
استصغرها الناس، أو تضييقا نحو لا شك لكثير الشك.
الثالث: ان تكون الحكومة في تطبيق الموضوع على فرد اثباتا أو نفيا، وهذا القسم
من الحكومة خلافا للأولين تتصور في دليل واحد: والسر فيه ان الحكومة انما تكون بين
الحكمين، لا بين الدليلين، افرض انه إذا قال المولى لا تشرب الخمر، لزم منه تحقق خمر
في الخارج تكوينا، لا محالة تكون تلك الخمر أيضا مشمولة لذلك، فإذا أمكن ذلك في
التكوين، أمكن في التشريع فإذا تحقق شرعا فرد من الخبر من شمول صدق العادل لفرد
ترتب عليه فرد آخر، من صدق العادل، وهكذا، ومن هذا القبيل حكومة الأصل السببي
على الأصل المسببي، وتمام الكلام في محله.
الاستدلال باية النفر لحجية خبر الواحد
الثاني: من أدلة حجية خبر الواحد، آية النفر قال الله عز وجل " فلو لا نفر من كل
141

فرقه منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (1) "
وتقريب الاستدلال بها من وجوه.
الأول: ان كلمة لعل، ظاهرة في الترجي الحقيقي اما لكونها موضوعة له كما هو
المعروف، أو لانصرافها إلى كون الداعي إلى استعمالها في معناها الحقيقي، وهو الترجي
الايقاعي الانشائي هو ذلك، وحيث إن الترجي الحقيقي لتقومه بالجهل، يستحيل في حقه
تعالى، فلا بد وان تحمل على أقرب المجازات والمعاني إليه، وهو المحبوبية، فجملة
لعلهم يحذرون تدل على محبوبية التحذر، وهو التحفظ والتجنب العملي، والآتيان بما
أخبر به لو كان واجبا والانتهاء عنه لو كان حراما، - وبعبارة أخرى - تطبيق العمل على ما
انذر به، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه، اما عقلا كما افاده صاحب المعالم (ره) نظرا إلى أن
التعبد بما لا يكون حجة قبيح وبما هو حجة واجب، - وبعبارة أخرى - مع وجود
المقتضى للعقاب يجب التحذر، ومع عدمه يستقل العقل بقبح العقاب بلا بيان، أو شرعا
لعدم الفصل واقعا، فالآية الكريمة تدل على وجوب التحذر عند انذار المنذر ولو لم يفد
قوله العلم وهذا معنى حجية الخبر الواحد.
وأورد عليه بايرادات 1 - ان المراد بالنفر إلى الجهاد، بقرينة صدر الآية الذي
هو في الجهاد وسياق ساير الآيات التي تكون قبل هذه الآية، ومعلوم ان النفر إلى الجهاد،
لا يترتب عليه التفقه، نعم ربما يترتب عليه بناءا على ما قيل، من أن المراد منه البصيرة في
الدين من مشاهدة آيات الله تعالى. من غلبة المسلمين على أعداء الله وظهور علائم عظمة
الله تعالى وساير ما يتفق في الحرب، ويخبروا بذلك المتخلفين فاللام - في - ليتفقهوا في
الدين للعاقبة لا للغاية، ويكون التفقه والانذار والتحذر من قبيل الفائدة التي قد تترتب وقد
لا تترتب لا من قبيل الغاية.
ويرد عليه ان ليتفقهوا بحسب ظاهر اللفظ يكون متعلقا بقوله - نفر - فيكون النفر
للتفقه لا للجهاد والا لزم ان يكون متعلقه محذوفا.

1 - التوبة آية 122.
142

توضيح ذلك أن المفسرين ذكروا في الآية وجوها أحدها: كون المراد النفر إلى
الجهاد فالمراد من التفقه مشاهدة آيات الله، وظهور أوليائه على أعدائه وما إلى ذلك
ثانيها كون المراد النفر إلى الجهاد، وإرادة تفقه المتخلفين من ليتفقهوا. ثالثها: كون المراد
النفر للتفقه.
والظاهر خصوصا بعد ملاحظة الروايات هو الا خبر، لا بنحو لا يكون مربوطا بما
قبل هذه الآية من آيات الجهاد، بل بتقريب ان صدر الآية ينهى عن نفر المؤمنين كافة
والمراد منه والله العالم، ان قصر النفر إلى طائفة وجماعة، ليس مقابل تخلف الباقين، بل
في مقام المنع عن قصر النفر إلى الجهاد، نظرا إلى أنه كما يكون النفر للجهاد، مهما كذلك
النفر للتفقه، فليكن نفر جماعة إلى النبي للتفقه، ونفر الباقين إلى الجهاد، فصدر الآية ينهى
عن نفر الجميع إلى الجهاد، ويبين ذلك في ذيلها بقوله فلو نفر... فالنافر، والمتفقه،
والمنذر جماعة خاصة، لا ان النافرين غير المتفقهين، كما هو لازم الوجه الثاني، ولا كون
الآية غير مربوطة باية الجهاد كما هو مقتضى الوجه الثالث، ولا ان المراد بالتفقه غير تعلم
احكام الدين كما هو مقتضى الوجه الأول.
وهذا المعنى يساعده الاعتبار مع التحفظ على ظواهر ألفاظ الآية: إذ النافرين إلى
الجهاد إذا رجعوا كان ينذرهم النبي (ص) ولم يكن حاجة إلى انذار المتخلفين، وعلى
الجملة الظاهر أن المراد بالآية ان النفر للتفقه كالنفر إلى الجهاد واجب على المسلمين
كفائيا فليس لهم ان ينفروا بأجمعهم إلى الجهاد، بل ينفر طائفة له وطائفة للتفقه، ولو بان
يتخلفوا عند النبي (ص) ويتعلموا منه مسائل الحلال والحرام، وقد فسرت الآية في جملة
من الروايات بالنفر للتفقه.
2 - ما عن المحقق العراقي وهو ان مثل أدوات الترجي، والاستفهام، والتمني
ونحوها موضوعة لمعانيها الايقاعية الانشائية التي يوقعها المتكلم، والمستحيل في حقه
تعالى هو وجود صفة الترجي حقيقة لا انشائه.
وفيه: ان الظاهر منه كون الداعي لانشاء الترجي، هو وجود هذه الصفة حقيقة في
نفس المتكلم لأصالة تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، فإذا استحال ذلك في
143

حقه تعالى لا بد من البناء على أن الداعي أقرب المعاني إليه وهو محبوبية التحذر كما أشار
إليه المحقق الخراساني في الكفاية.
3 - ما ذكره المحقق الخراساني وتبعه صاحب الدرر قال في الكفاية ان التحذر
لرجاء ادراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في
المفسدة حسن وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف ولم يثبت هيهنا
عدم الفصل غايته عدم القول بالفصل انتهى.
ويمكن الجواب عنه بوجهين - الأول - ان التحذر المطلوب في الآية ان أريد به
التحذر في صورة احتمال المصادفة للواقع كان ما ذكر تاما، ولكن الظاهر منها هو مطلوبية
التحذر استنادا إلى قول المنذر - وعليه - فان كان قوله حجة لزم لزوم التحذر، والا لم
يحسن ذلك، - وبعبارة أخرى - ان الظاهر كون ما يتحذر منه هو ما انذر به واتحادهما.
والمنذر به انما هو مخالفة التكليف بما انها موجبة للعقاب، فلا محالة يكون التحذر
المحبوب هو التحذر من العقاب، واحتمال العقاب الذي يحسن الحذر منه ملازم لحجية
قول المنذر، ومعها يجب التحذر فتدبر فإنه دقيق.
الثاني: ان مقتضى اطلاق الآية محبوبية التحذر حتى لو احتمل وجدانا ثبوت ضد
ما انذر به كما لو أخبر المنذر بوجوب المحتمل حرمته واقعا فحينئذ لو كان قول المنذر
حجة حسن التحذر، ووجب، والا لم يحسن لفرض تساوى الاحتمالين.
فالأولى في مقام الجواب عن هذا الاستدلال ان يقال ان مبنى ذلك كون كلمة
- لعل - موضوعة للترجي المساوق لكلمة - اميد - في الفارسية، لكن التدبر في موارد
استعمالها في القرآن الكريم، والأدعية المأثورة عن المعصومين (ع) وكلمات أهل العرف
يوجب عدم كونه موضوعا لها لا حظ قوله تعالى " ولعلك باخع نفسك على اثارهم " وقوله
عز من قائل " ولعلك تارك بعض ما يوحى إليك " وقول الإمام السجاد (ع) في دعاء أبى
حمزة، لعلك عن بابك طردتني وعن خدمتك نحيتني أو لعلك رأيتني مستخفا بحقك
فأقصيتني إلى اخر ما في ذلك الدعاء من استعمال هذه الكلمة التي من المعلوم عدم
ملائمتها مع اظهار الرجاء وقول أهل العرف، لعل الشدة نازلة وغير ذلك من الموارد التي
144

لا شك في عدم التجوز فيها، فالظاهر أن كلمة لعل وضعت لتستعمل في موارد احتمال
الوقوع سواء أكان مرجوا أم لا.
الوجه الثاني: من وجوه الاستدلال بالآية الشريفة لحجية خبر الواحد، ان الغاية
للانذار الواجب، الذي هو غاية للنفر الواجب، بمقتضى لولا التحضيضية، انما هو التحذر
أي التجنب في مقام العمل: لان الظاهر من كلمة لعل في جميع موارد استعمالها، كون
ما بعدها علة غائية لما قبلها، وغاية الواجب إذا كان أمرا اختياريا واجبة: لان ظاهر
الكلام كون حكم ما جعل علة غائية حكم ما قبلها من وجوب، أو استحباب، وان شئت
فقل ان الغاية التي أوجبت ايجاب امر، لا محالة تكون واجبة إذا كانت اختيارية وأورد
عليه بايرادات خمسة.
الأول: ما ذكره الشيخ الأعظم وتبعه المحقق الخراساني وغيره، وهو ان الآية
مسوقة لبيان وجوب التفقه والانذار، لا لبيان وجوب الحذر، وانما ذكر الحذر باعتبار
كونه فائدة من فوائد التفقه، والانذار، فلا اطلاق لها بالنسبة إلى وجوب الحذر، لان أول
مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام البيان من الجهة التي يراد التمسك بالاطلاق
بالنسبة إليها، ومع عدم الاطلاق لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن، وهو ما إذا حصل
العلم بمطابقة قول المنذر للواقع.
وفيه، أولا: انه لو شك في كون المتكلم في مقام البيان مقتضى السيرة العقلائية هو
البناء على كونه في مقام البيان، وقد اعترف المحقق الخراساني بذلك في محله.
وثانيا: ان ظاهر الآية الكريمة بقرينة قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة،
وقد بين ذلك بقوله فلولا نفر الخ، كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين، وانه يجب
على طائفة منهم التفقه والانذار، وعلى الباقين التحذر، فكما انه تكون الآية مطلقة بالنسبة
إلى وظيفة المنذرين وانه يجب عليهم الانذار، أفاد قولهم العلم، أم لم يفد كذلك بكون
مطلقة بالنسبة إلى وظيفة المنذرين بالفتح، وانه يجب عليهم التحذر في كل مورد يجب
الانذار لكونه غاية له.
وثالثا: ان ظاهر الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار، فلو اختص وجوب الحذر
145

بصورة حصول العلم كان ذلك مستلزما لالغاء عنوان الانذار إذ التحذر حينئذ يكون للعلم
لا للانذار غاية الامر يكون الانذار من مقدمات حصول العلم.
ورابعا: ان لازم ذلك حمل اطلاق الآية على الفرد النادر إذ ظاهر الآية الشريفة،
بقرينة تقابل الجمع بالجمع، هو انذار كل واحد من الطائفة، بعضا من قومه، كما هو
مقتضى طبع الحال، لا انذار مجموع الطائفة مجموع القوم، وعليه فإفادة انذاره العلم في
غاية الندرة.
وخامسا: انه يستكشف اطلاق وجوب التحذر من اطلاق وجوب الانذار، لان
الانذار واجب على كل أحد، سواء أفاد قوله العلم، أم لم يفد ومع انحصار فائدة الانذار
في التحذر، يكون التحذر واجبا مطلقا، والا يلزم اللغوية أحيانا، كما أن غاية وجوب
الانذار لو كان هو التحذر، فوجوب الانذار لتلك الغاية، لو كان مطلقا، لا محالة يكشف
عن اطلاق وجوب الغاية المترتبة عليه، لاستحالة اطلاق أحدهما، واشتراط الاخر كما هو
واضح.
الايراد الثاني ما افاده الشيخ الأعظم أيضا - وهو - ان الانذار هو الابلاغ مع
التخويف، والتحذر هو التخوف الحاصل عقيب هذا التخويف، ومن المعلوم ان
التخويف لا يجب الا على الوعاظ في مقام الايعاد على الأمور التي يعلمها المخاطبون
بحكمها، وعلى المرشدين في مقام ارشاد الجاهلين، ومن المعلوم ان تصديق الحاكي،
فيما يحكيه من لفظ الخبر خارج عن الامرين، وخبره ان اشتمل على التخويف، لا يجب
على المجتهد العمل به فان فهمه ليس حجة عليه، وهذا بخلاف المجتهد بالنسبة إلى
مقلديه كما لا يخفى.
وفيه: ان قوله تعالى ليتفقهوا في الدين قرينة على إرادة بيان الأحكام من، ولينذروا
لا سيما مع ملاحة ايجاب النفر كما لا يخفى - وعليه - فلا بد وان يحمل الانذار على
الانذار الضمني وهو كما يكون بالافتاء بوجوب شئ أو حرمته كذلك يكون بالاخبار
بأحدهما كما لا يخفى، فلا وجه لدعوى اختصاص الآية الشريفة بالوعاظ أو المفتين.
الايراد الثالث ان التفقه اخذ عنوانا في الآية فالموضوع هو الفقيه فهي تدلى على
146

حجية انذار الفقيه لا انذار كل راو.
وفيه: ان الفقه في اللغة هو الفهم لا الاستنباط فالمراد بها هو، تعلم الأحكام الشرعية
، ويؤيده بل يشهد له، ملاحظة نزول الآية، أضف إليه ان الموضوع هو المتفقه، لا
الفقيه، ومن الواضح انه يصدق على الراوي، مع أن الاستنباط في صدر الاسلام لم يكن
الا بسماع الحديث وتحمله، وفهمه معناه الظاهر، ولم يكن بهذه الصعوبة، فالرواة في
صدر الاسلام، كانوا فقهاء، فيها يروون، فالآية تدل على حجية روايتهم، وإذا ثبت ذلك
في روايتهم ثبت في رواية غيرهم، لعدم القول بالفصل.
فتأمل فإنه إذا دل الآية على حجية قول الفقيه بما هو فقيه على نحو دخل هذا
العنوان لا محالة تدل على حجيته لمقلديه، وعدم الفصل انما يثبت حجية رأى الفقيه في
هذه الأزمنة، لا حجية الخبر، ومجرد سهولة الفقاهة في الصدر الأول لا يصلح لذلك.
الرابع: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) أيضا - وحاصله - ان التفقه الواجب، هو معرفة
الأمور الواقعية من الدين، فالانذار الواجب هو الانذار بهذه الأمور المتفقه فيها، فالحذر
لا يجب الا عقيب الانذار بها، فإذا لم يحزر المنذر بالفتح، ان الانذار هل وقع بتلك الأمور
أم بغيرها تعمدا أو خطاءا لم يجب التحذر، فينحصر وجوب التحذر بما إذا علم المنذر
صدق المنذر، بالكسر.
وفيه: ان اللازم هو الانذار بما علم إذا المأمور به هو الانذار بما تفقه أي تعلم من
الأحكام لا الانذار بالحكم الواقعي، وهو لا يقتضى ان يكون الانذار مفيدا للعلم ليتقيد به
الانذار، فيتقيد به التحذر - نعم - لا بد وان يحرز انه انذار بما علم، ويحرز ذلك، باحراز
انه متحرز عن الكذب، بضميمة أصالة عدم الغفلة التي هي من الأصول العقلائية كما
لا يخفى.
واما ما عن المحقق النائيني (ره) من الجواب عن ذلك، بان نفس الآية تدل على أن ما
انذر به المنذر يكون من الأحكام لان قول المنذر إذا جعل طريقا إليها، يجب اتباع قوله،
والبناء على أنه هو الواقع، فالآية بنفسها تدل على أن ما انذر به المنذر يكون من الأحكام
الواقعية.
147

ففيه ان أساس الايراد انما هو تقييد الموضوع، أي الانذار بكون المنذر به من
الدين، وهذا القيد لا يحرز بشمول دليل الحكم، - وبعبارة أخرى - إذا تم الموضوع وصار
الانذار حجة يتم ما ذكر ولكن المستشكل من جهة انه يدعى تقييد الموضوع يدعى عدم
شمول الدليل للانذار ما لم يحرز كونه انذارا بالأحكام الواقعية، فالحق ما ذكرناه.
الخامس: ان الإمام (ع) طبق الآية الشريفة على أصول العقائد - كصحيح - يعقوب
بن شعيب عن الإمام الصادق (ع) قال قلت له إذا حدث على الامام حدث كيف يصنع
الناس قال (ع) أين قول الله عز وجل فلو لا نفر الخ (1) ونحوه غيره ولا ريب في أن اللازم في
الأصول العلم فلا تدل الآية على حجية الخبر غير المفيد للعلم.
وفيه: أولا ان هذه الآية الشريفة تدل على كفاية الخبر الواحد في العقائد وانما
يقيد اطلاقها بالنسبة إليها بواسطة دليل خارجي. وثانيا: ان هذه الأخبار بما انها اخبار
آحاد لا تصلح لان يرفع اليد لأجلها عن ظهور الآية الشريفة في حجية الخبر الواحد، فإنه
يجرى فيها ما ذكرناه في خبر السيد في آية النباء فراجع. وثالثا: ان الآية الشريفة متكفلة
لبيان احكام - وهي - وجوب النفر والتفقه ووجوب الانذار، ووجوب التحذر، والذي
طبقه الإمام (ع) على أصول العقائد انما هو الحكم الأول ولا ربط للحكم الثاني به، ورابعا
انها اخبار آحاد لا يصح الاستدلال بها لعدم حجية خبر الواحد.
والحق ان يورد على هذا الوجه بأنه كون كلمة لعل ظاهرة في كون ما بعدها غاية
لما قبلها غير ثابت، بل في كثير من الموارد - كقولنا - لا تهن الفقير علك ان تركع يوما
والدهر قد رفعه - والأمثلة المتقدمة من الآيات والروايات، ليست كذلك، وبالجملة بعد
كون كلمة لعل للتشكيك والترديد لا مورد لهذا الوجه.
الوجه الثالث: ان الانذار بمقتضى الآية واجب، للامر به، ولجعله غاية للنفر
الواجب كما هو قضية كلمة لولا التحضيضية، فيجب التحذر وان لم يفد قول المنذر
العلم، وإلا لغي وجوبه.

1 - أصول الكافي ج 1 ص 378.
148

وفيه: انه لا ينحصر فائدة الانذار في خصوص التحذر، بل يتصور له فائدة أخرى،
وهي انشاء الحق وظهوره بكثرة انذار المنذرين، كما افاده المحقق الخراساني (ره) في
الحاشية، وان شئت قلت إنه إذا كانت الغاية الأقصى هو التحذر بعد حصول العلم يكون
كل انذار جزءا مما يترتب عليه الغاية فيكون الغاية المترقبة منه تأثيره في الغاية الأقصى
بهذا المقدار، وهذه الغاية مترتبة مطلقا فتدبر.
ومع ذلك كله يمكن الاستدلال بالآية الكريمة لحجية خبر الواحد، بتقريب ان
كلمة لعل وضعت لجعل مدخولها واقعا موقع الاحتمال، فحاصل الآية ايجاب الانذار
لاحتمال تأثيره في التحذر نظرا إلى اقتضاء الانذار للتحذر، ومن الواضح ان ذلك يلازم
حجية الخبر، والا يقطع بعدم العقاب، وعلى هذا تكون الآية كاشفة عن حجية خبر
الواحد السابقة على نزول الآية ويكون مسوقة على نحو تكون حجية الخبر مفروغا عنها،
وعليه تكون الآية كاشفة عن حجية الخبر مطلقا، وان وجوب الحذر عند الانذار انما هو
من باب تطبيق الكبرى الكلية على بعض المصاديق.
آية الكتمان
الثالث: مما استدل به لحجية خبر الواحد آية الكتمان وهي قوله تعالى " ان الذين
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون (1) ".
وتقريب الاستدلال بها ان ظاهر الآية الشريفة لأجل لعن الكاتمين، هو حرمة
الكتمان ووجوب الاظهار، وحيث لا فائدة للاظهار سوى القبول لزم ذلك وجوب
القبول مطلقا، نظير ما ذكرناه في آية النفر، ونظير ما استدلوا لحجية اخبار المرأة عن
كونها حاملا بقوله تعالى ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن.

1 - البقرة آية 159.
149

وأجاب عن الاستدلال بها الشيخ الأعظم بجوابين الذين أوردهما على الاستدلال
باية النفر من عدم اطلاقها بالنسبة إلى صورة عدم حصول العلم، لعدم كونها في مقام
البيان من هذه الجهة، أو دلالتها على وجوب الاخبار بالحكم الواقعي، فيجب القبول مع
احراز انه اظهار لما انزل، فمع الشك يكون الشك في الموضوع فلا يجب القبول.
وأورد عليه المحقق الخراساني، بان الملازمة لو سلمت تنافى الوجهين، وحاصله
انه مع حكم العقل بالملازمة لا معنى للايراد بما يرجع إلى مقام الاثبات.
ولكن الظاهر أن مراد الشيخ الأعظم: انه ان كان الاظهار ملازما عاديا لعدم
حصول العلم كما في كتمان المرأة ما في بطنها، لان طريق احراز ما في الأرحام منحصر
في اخبارهن واخبار المرأة مما لا يفيد العلم غالبا، كان الاستدلال متينا، والا كما في
المقام الذي يكون الموضوع لحرمة الكتمان عاما استغراقيا بمعنى حرمة الكتمان على كل
أحد، ويكون الغاية القصوى والغرض الأقصى، هو العمل عن علم فيكون اظهار كل
واحد وعدم كتمانه مؤثرا في حصول هذا الغرض، ويترتب على اظهار كل واحد تلك
القابلية والاستعداد فيخرج عن اللغوية، وان شئت قلت إن ظهور الحق وحصول العلم انما
يكون حكمة لحرمة الكتمان والحكمة الداعية للتكليف لا يلزم ان تكون سارية في جميع
الموارد.
ولكن الذي يرد على الاستدلال ان الآية أجنبية عن المقام لان الكتمان انما هو في
مقابل ابقاء الواضح، والظاهر على حاله لا ما يقابل الايضاح والاظهار، ويؤيده ان موردها
ما كان فيه مقتضى القبول لولا الكتمان لقوله تعالى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، مع:
ان فائدة عدم الكتمان لا تنحصر في القبول تعبدا، بل يمكن ان يكون هي اظهار الحق
وافشائه، ويشهد له ملاحظة مورد نزول الآية وهي اما نزلت في مقام الرد على اليهود
حيث إنهم أخفوا علامات النبي (ص) التي رأوها في التوراة، أو أهل السنة، والمراد بالبينات
حينئذ علامات ولاية الإمام علي (ع) فلا تدل الآية على وجوب القول تعبدا.
150

الاستدلال بآية الذكر لحجية خبر الواحد
الرابع: آية الذكر، وهي قوله تعالى " فاسئلوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون (1) "
وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.
وأورد عليه بايرادات الأول ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الراوي بما هو راو،
لا يصدق عليه أهل الذكر، وانما يصدق هذا العنوان على فالآية لو تمت دلالتها،
لدلت على جواز التقليد لا حجية الخبر.
ورده المحقق الخراساني بان كثيرا من الرواة يصدق عليهم أهل الذكر، كزرارة
ومحمد بن مسلم ويصدق على السؤال عنهم السؤال عن أهل الذكر، ولو كان السائل من
اضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول
رواية غيرهم من العدول مطلقا، لعدم القول بالفصل جزما.
وأجيب عنه، بان قبول قول الرواة في الفرض حينئذ ليس بما هم رواة حتى يثبت
في غيرهم بعدم القول بالفصل بل بما هم علماء، وأهل الذكر.
أقول يمكن تأييد المحقق الخراساني بان يقال ان مراده ان أساس الاشكال ان من
كان عالما بأحاديث قليلة لا يصدق عليه أهل الذكر، فلو كان الشخص عالما بأحاديث
كثيرة كزرارة يصدق عليه أهل الذكر، فإذا وجب قبول رواية هذا الشخص، والمفروض
انه يقبل روايته بما هو راو، لا بما مفت، ثبت حجية رواية غيره لعدم الفصل.
الثاني: ان المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب بقرينة السياق، وفى بعض
الروايات ان المراد بهم الأئمة الطاهرين عليهم السلام.
وفيه: ان الظاهر أن، أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع ويختلف باختلاف
الموارد، فأهل الذكر لا ثبات النبوة هم علماء أهل الكتاب، وأهل الذكر للشيعة، هم

1 - النحل آية 43.
151

الأئمة، وفى الغيبة أهل الذكر للناس، هم الفقهاء وللفقهاء، الرواة، فلا وجه
لتخصيص أهل الذكر بطائفة خاصة منهم.
الثالث: ان ظاهر تعليق الامر بالسؤال على عدم العلم ان الغاية منه حصول العلم
بالجواب لا متابعة الخبر مع عدم حصوله.
وفيه: أولا انه لم يظهر وجه هذا الاستظهار، إذ لا شبهة في أن حجية الخبر انما هي
في ظرف عدم العلم، وهذا هو الذي صرح به الآية الشريفة فمن أين يستفاد ان الغاية
هي حصول العلم، وثانيا ان نفس الآية الشريفة الدالة على حجية الخبر الواحد مع قطع
النظر عن هذا الايراد كما هو المفروض، تدل على كون الخبر من افراد العلم، بناءا على
مسلك تتميم الكشف كما هو الحق.
فالصحيح ان يورد على الاستدلال بها انها لا تدل على أن غاية السؤال، هو العمل،
حتى مع عدم العلم، وليس واردا في مقام البيان من هذه الجهة ولعل المطلوب هو قبول
قول أهل الذكر في صورة حصول العلم أو الاطمينان.
الاستدلال باية الاذن لحجية خبر الواحد
الخامس: آية الاذن - وهي - قوله تعالى " ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو
اذن قل اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " (1) تقريب الاستدلال بها ان الله تعالى
مدح نبيه، بتصديقه للمؤمنين، وقرنه بتصديقه بالله، فهو كاشف عن حسنه، وإذا ثبت
حسنه، لزم القول بوجوبه: للملازمة العقلية، ولعدم الفصل.
وأورد عليه الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني بان المراد من الاذن السريع
التصديق والاعتقاد لا الاخذ بقول الغير تعبدا.
وفيه: ان كون الشخص، سريع الاعتقاد والقطع، وحصوله من سبب، لا ينبغي،

1 - التوبة آية 61.
152

حصوله منه انما يكون نقصا فيه فضلا عن النبي (ص)، فضلا عن كونه كمالا له، وموجبا
لمدح الله سبحانه إياه.
فالصحيح: ان يورد عليه بان المراد من تصديقه للمؤمنين هو عدم تكذيبهم ورد
قولهم واظهار القبول الذي هو امر أخلاقي لا تصديقهم بجعل المخبر به واقعا وترتيب
جميع الآثار عليه، وذلك لوجهين - الأول - انه لو كان المراد ذلك لم يكن اذن خير
للجميع بل كان اذن خير لخصوص المخبر واذن شر لغيره - الثاني - ملاحظة مورد نزول
الآية الشريفة وهو انه نم منافق على النبي (ص) فأخبره الله ذلك، فأحضره النبي (ص) وسأله
فحلف انه لم يكن شئ مما ينم عليه، فقبل منه النبي (ص) فاخذ هذا الرجل بعد ذلك يطعن
على النبي (ص) ويقول إنه يقبل كل ما يسمع اخبره الله انى انما عليه، فقبل، وأخبرته انى لم
افعل فقبل، فرده الله تعالى بنزول هذه الآية، فإنه من البديهي ان تصديق المنافق في مقابل
اخباره تعالى لم يكن الا بهذا المعنى.
واستشهد له الشيخ الأعظم (ره) وتبعه صاحب الدرر بتعدية الايمان في الفقرة
الأولى بالباء، وفى الفقرة الثانية باللام فان ذلك آية اختلاف المراد به.
وفيه: ان الايمان الذي هو عبارة أخرى عن التصديق ان تعلق بوجود الشئ كان
يتعدى بالباء، ومنه قوله تعالى والمؤمنون كل آمن بالله، وان كان متعلقا بالقول والاخبار،
يتعدى باللام، ومنه قوله تعالى وما أنت بمؤمن لنا، ولا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم، وعليه
فحيث انه أريد في الفقرة الثانية الايمان بقول المؤمنين، فتعداه باللام، وفى الفقرة الأولى،
وان كان المراد به أيضا الايمان بقوله تعالى، الا انه انما تعدى بالباء للتنبيه على امر، وهو
ان الايمان والتصديق باخبار الله تعالى، وقوله، ملازم للتصديق بوجوده، ولهذا النكتة
تعدى بالباء.
وبهذا يظهر انه لا وجه للاستشهاد لما ذكرناه، بان الظاهر من التعدية باللام هو
التصديق فيما ينفعهم لا تصديقهم ولو فيما عليهم ويضرهم، فالصحيح ما ذكرناه.
ولا يخفى انه بناءا على ما ذكرناه من عدم دلالة الآيات، غير آية النبأ على حجية
خبر الواحد، لا كلام فإنه قد عرفت ان المستفاد منها حجية الخبر الواحد في الأحكام
153

والموضوعات، من غير فرق بين أنواع الخبر، ودعوى ان المفهوم منصرف إلى الخبر
المفيد للوثوق كما عن الشيخ الأعظم، من الغرائب، لان المفهوم كما مر دلالة عقلية،
والانصراف من عوارض الألفاظ، وان قيل إن مدعاه انصراف المنطوق، توجه عليه انه
غير منصرف قطعا، لعدم احتمال اختصاص عدم الحجية بالخبر المفيد للوثوق.
واما على القول بدلالة غير آية النباء عليها، فالنسبة بين تلك الآية، ومنطوق آية
البناء عموم من وجهة إذا المنطوق يشمل الخبر في الأحكام والموضوعات، وتلك الآية
مختصة بالأحكام، الا انها أعم منه من جهة شمولها للعادل، والفاسق، والمجمع خبر
الفاسق في الأحكام.
وحيث إن المتعارضين من الكتاب لا معنى للرجوع إلى اخبار الترجيح فلا محالة
يتعارض الاطلاقان ويتساقطان، فيرجع إلى أصالة عدم الحجية.
واما مفهوم آية النباء فحيث انه مع الآيات الاخر من قبيل المثبتين، فلا يقيد
أحدهما بالأخرى.
وبه يظهر ان ما افاده الشيخ الأعظم من أنه بعد دعوى انصراف مفهوم الآية بالخبر
العادل المفيد للوثوق، يقيد ساير الآيات به، غير تام.
النصوص الدالة على حجية خبر الواحد
السادس: من أدلة حجية الخبر الواحد، النصوص الكثيرة الواردة في موارد
مختلفة، وقبل بيان هذا الاستدلال لا بد من تقديم مقدمة، وهي ان التواتر على اقسام.
الأول: التواتر اللفظي وهو ما لو كان جميع الاخبار لفظها واحدا كخبر غدير
الخم، فان هذه العبارة - من كنت مولاه فعلى مولاه - نقلها الجميع.
الثاني: التواتر المعنوي، وهو ما إذا اتفقوا على نقل مضمون واحد بالمطابقة أو
بالتضمن أو بالالتزام، كالاتفاق على شجاعة الإمام علي (ع).
الثالث: التواتر الاجمالي وهو ما إذا كانت الاخبار مختلفة لفظا ومعنى، ولكن
154

يعلم بصدور واحد منها.
وقد اختار المحقق النائيني (ره) عدم وجوده، بدعوى ان الاخبار وان بلغت من
الكثرة ما بلغت فان كان هناك جامع بينها، يكون الكل متفقا على نقله، فهو يرجع إلى
التواتر المعنوي، والا فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز كذب كل
واحد منها في حد نفسه وعدم ارتباط بعضه ببعض.
وفيه: ان مقتضى هذا البرهان انكار التواتر اللفظي والمعنوي أيضا: إذ كل واحد
من الاخبار في نفسه محتمل للصدق والكذب، فكما يقال هناك انه يمتنع عادة تواطئهم
على الكذب، كذلك يقال في المقام - وبالجملة - انكار ذلك مكابرة، وهذا القسم من
التواتري التواتر الاجمالي على قسمين - الأول - ما لا يكون هناك جهة مشتركة بين تلك الأخبار
الثاني ما يكون هناك جهة مشتركة ودعوى رجوع ذلك إلى التواتر المعنوي،
فاسدة بعد الاخذ في كل منها قيدا غير ما اخذ في الاخر، والمدعى في المقام ثبوت القسم
الثاني من التواتر الاجمالي كما ستعرف.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن النصوص الواردة في المقام على طوائف.
الأولى: الاخبار العلاجية الواردة في الاخبار المتعارضة (1) وهي كثيرة، وموردها
الخبرين غير مقطوعي الصدور وذلك لصراحة جملة منها في ذلك كقوله (ع) في خبر أبي
الجهم يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين، وظهور غيرها فيه، فان قول السائل يأتي
عنكم خبران متعارضان، ظاهر في مشكوكي الصدور: ولأن الترجيح بصفات الراوي من
الأوثقية والأصدقية وغيرهما انما يناسب مع الشك في الصدور ولا يلائم مع القطع به
ويظهر من هذه النصوص ان حجية الخبر الواحد في الجملة كانت أمرا مفروغا عنه بين
أصحاب الأئمة عليهم السلام، وهم عليهم السلام لم يردعوا عنه، بل قرر واما كان
مغروسا في أذهانهم بل صرحوا بالحجية اما تعيينا أو تخييرا.
الطائفة الثانية ما تضمن الارجاع إلى أشخاص من الرواة كالجالس، أي زرارة،

1 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي.
155

والثقفي، والأسدي وغيرهم (1) الثالثة ما تضمن الامر بالرجوع إلى الثقات كقوله (ع) لا عذر
لاحد في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا (2).
الرابعة: النصوص الواردة بالنسبة مختلفة المستفاد منها ذلك (3) وهذه النصوص وان
لم تكن متواترة لفظا ولا معنا، الا انها متواترة اجمالا، فلا بد من الاخر بالمتيقن منها وهو
خبر العدل الامامي الذي يعبر عنه بالثقة، لاما افاده المحقق النائيني (ره) من كونه الخبر
الموثوق به، إذ بعد فرض اخذ عنوان المأمون على الدين والدنيا، والثقة في الموضوع،
والترجيح بالأعدلية في عرض، الأوثقية، لا يبقى مجال لدعوى ان أخصها مضمونا الخبر
الموثوق به ومع عدم كونه أخص مضمونا لما كان وجه لدعوى القطع باستفادة حجيته
من هذه النصوص.
الا انه يمكن القول بحجية الخبر الموثوق به واستفادته من هذه النصوص بتقريبين
آخرين.
الأول: انه بمناسبة الحكم والموضوع المغروسة في الأذهان التي هي كالقرينة
المتصلة يحمل الثقة، والعدل على إرادة المتحرز عن الكذب إذ هذا هو الدخيل في ثبوت
الصدور من المعصوم (ع) واما العدالة في الأمور الاخر وصحة العقيدة، فهما غير دخيلين
في ذلك قطعا، وليس المقام نظير باب الفتوى والحكومة حيث يدعى، انهما منصبان
لا يليق للتصدي لهما الا العادل الورع كما لا يخفى.
الثاني: ما افاده المحقق الخراساني من أن المتيقن من هذه الأخبار هو الخبر
الصحيح، الا انه من جملة تلكم الاخبار، خبر صحيح يدل على حجية الموثق مطلقا.
تقرير الاجماع على حجية خبر الواحد
السابع: من أدلة حجية الخبر الواحد الاجماع، وتقريبه من وجوه - أحدها -

1 - الوسائل باب 8 من أبواب صفات القاضي.
2 - المصدر المتقدم.
3 - المصدر المتقدم.
156

الاجماع المنقول من شيخ الطائفة على حجيته.
الثاني: الاجماع القولي عدا السيد واتباعه كما يظهر ذلك بالتتبع في فتاوى
الأصحاب وكلماتهم وخلافهم لا يضر.
الثالث: الاجماع القولي من الجميع حتى السيد واتباعه، اما غير السيد واتباعه
فواضح، واما هم فيمكن ان يذكر له وجهان.
الأول: ان انكار السيد (ره) حجية الخبر المجرد عن القرائن القطعية انما هو لأجل
انفتاح باب العلم لديه ومعلومية معظم الفقه عنده بالضرورة، والاجماع القطعي، والأخبار المتواترة
كما يصرح بذلك في جواب ما أورده على نفسه بأنه إذا لم يكن الخبر الواحد
حجة فعلى أي شئ تعولون في الفقه كله وظاهر ذلك أن الخبر حجة على فرض انسداد
باب العلم.
الثاني: ان يكون المراد من العلم ما يشمل الوثوق والاطمينان كما يشهد له ما ذكره
(قده) في تعريف العلم بأنه ما يقتضى سكون النفس، فمراده من القرائن الموجبة للعلم هي
ما توجب الوثوق والاطمينان الموجب لسكون النفس فيكون قوله قبال من يدعى حجية
الخبر الواحد تعبدا و، ان لم يحصل الوثوق، وعلى ذلك فهو أيضا قائل بحجية الخبر
الواحد غاية الامر يعتبر فيها إفادته الوثوق.
الرابع: الاجماع العملي من العلماء كافه بل من جميع المتشرعة.
ولكن يرد على الوجه الأول ان حجية الاجماع المنقول على القول بها، انما هي
من جهة كونه من افراد الخبر، فكيف يصح الاستدلال به على حجية الخبر، أضف إلى
ذلك ما تقدم من عدم شمول أدلة حجية الخبر الواحد لنقل الاجماع.
ويرد على الوجه الثاني، مضافا إلى أن عدم مضربة مخالفة السيد انما يتم على
القول بالاجماع الدخولي دون الحدثي، أو قاعدة اللطف: انه لمعلومية مدرك
المجمعين لا يكون هذا الاجماع كاشفا عن رأى المعصوم عليه السلام.
ويرد على الوجه الثالث: مضافا إلى ما أورد على الثاني، انه اجماع تقديري
157

احتمالي، لأنه من المحتمل ان السيد واتباعه على تقدير الالتزام بالانسداد لا يلتزمون
بحجية خبر الواحد، بل يرونه من افراده الظن المطلق كالمحقق القمي (ره).
ويرد على الوجه الرابع ان عمل المجمعين لا يكون كاشفا عن كون رأيهم حجية
الخبر الواحد، فان عمل جماعة منهم يكون من جهة انهم يرون كون ما في الكتب الأربعة
مقطوع الصدور.
واما عمل المتشرعة فهو وان كان مما لا ينبغي انكاره، كما يظهر لمن لا حظ اخذ
أهل البوادي والقرى والبلدان والبعيدة والنساء، الفتاوى من الوسائط بينهم وبين
المعصومين، ونوابهم من صدر الاسلام إلى زماننا الا انه لم يثبت كون ذلك سيرة
المتشرعة بما هم متشرعون، بل الظاهر كون سيرتهم عليه، بما هم عقلاء فالعمدة هو
بناء العقلاء.
تقرير بناء العقلاء على حجية خبر الواحد
الثامن: سيرة العقلاء فإنها قد استقرت على العمل بخبر الواحد في جميع أمورهم
ولم يردع الشارع الأقدس عنها، والا لبان كما وصل منعه عن العمل بالقياس، مع أن
العامل بالقياس أقل من العامل بخبر الثقة بكثير، ومع ذلك قد بلغت الروايات المانعة عن
العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريبا، ولم يصل المنع عن العمل بخبر الثقة رواية
واحدة، وهذا قوى كاشف عن امضاء الشارع إياه.
وغاية ما توهم ان الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم رادعة عن هذه
السيرة، وأفاد القوم في دفع هذا التوهم وجوها.
منها: ما في هامش الكفاية من أن نسبة السيرة إلى تلك الأدلة نسبة الخاص المتقدم
إلى العام المتأخر، في أن الامر يدور بين تخصيص العام بالخاص المقدم، وبين جعل
العام ناسخا، وقد ذكرنا في بحث العموم والخصوص، ان المتعين هو الأول إذ الخاص
قرنية على المراد من العام، وتقديم البيان على وقت الحاجة لا محذور فيه فتدبر.
158

وفيه: ان كون السيرة مخصصة للعام المتأخر متوقف على حجيتها، وهي تتوقف
على احراز تمكن الشارع من الردع قبل نزول الآيات الناهية، لتكون السيرة حجة حينئذ
وقابلة لتخصيص العام، وانى لنا باثبات ذلك كيف ولم يكن (ص) في أول البعثة متمكنا من
الردع عن المحرمات القطعية كشرب الخمر مثلا، ولا من الامر بالواجبات الضرورية
كالصوم والصلاة ومع عدم التمكن لا يكون السيرة حجة.
ومنها: ما في الكفاية متنا، قال لا يكاد يكون الردع بها الا على وجه دائر وذلك لان
الردع بها يتوقف على تخصيص عمومها أو تقييد اطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة
وهو يتوقف على الردع عنها بها والا لكانت مخصصة أو مقيدة لها ثم أورد على نفسه بأنه
على هذا يكون اعتبار خبر الثقة أيضا دوريا، لتوقفه على عدم الردع بها المتوقف على
تخصيصها بها المتوقف على عدم الردع، وأجاب عنه بأنه يكفي في حجيته بها عدم
ثبوت الردع عنها، ولا يتوقف على ثبوت عدم الردع.
وأورد عليه المحقق صاحب الدرر (ره) والأستاذ الأعظم: بان عدم ثبوت الردع
لا يكفي في تخصيص العمومات بالسيرة بل لا بد من ثبوت الامضاء المنكشف بثبوت
عدم الردع، فان سيرة العقلاء ما لم يمضها الشارع لا تكون حجة.
ويمكن رد ذلك، بان هذا الايراد لا يرد عليه (قده) على مسلكه في حجية طريقة
العقلاء، إذ ليس مبناه فيها الملازمة بين حجية شئ عند العقلاء وحجيته عند الشارع
حتى يحتاج إلى امضاء الشارع كي يكون المقتضى للحجية امضاء الشارع، ويكون ثبوت
عدم الردع أحد الطرق الكاشفة عن امضائه بل مبناه، ان الشارع بما انه رئيس العقلاء وهو
منهم متحد المسلك مع العقلاء، فهذا مقتض لاتحاد المسلك - وبعبارة أخرى - نفس بناء
العقلاء مقتض لحجية الخبر لفرض كونه منهم، وردعه كاشف عن اختلاف مسلكه معهم
من حيث إنه منهم، فعدم ثبوت الردع كاف في الحكم باتحاد المسلك لعدم المانع عن
الحكم بالاتحاد.
فالصحيح ان يورد عليه بان، عدم ثبوت التخصيص يكفي في حجية العمومات
أيضا وصلوحها رادعة عن السيرة إذ الدليل حجة ما لم يثبت خلافه.
159

ومنها: ما عن المحقق الخراساني وهو ان الأدلة منصرفة ولا أقل ان المتيقن منها
خصوص الظن الذي لم يقم دليل على حجيته بالخصوص.
وفيه: ان دعوى الانصراف باطلة إذ لا منشأ له في المقام، حتى من المناشئ التي
ذكرها القوم، ونحن لا نسلهما من، غلبة الوجود، وكثرة الاستعمال الموجبتين لانس
الذهن، واما دعوى التيقين فان أريد به الانصراف، فيرد عليه ما تقدم، والا فيرد عليه ان
مجرد وجود المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق.
ومنها: ما عن المحقق الخراساني في مجلس بحثه وهو انه بعد تسليم صلاحية كل
من العمومات والسيرة لرفع اليد بها عن الأخرى، وتعارضهما، وتساقطهما، يرجع إلى
استصحاب الحجية الثابتة للسيرة قبل ورود الآيات الناهية عن العمل بغير العلم.
وفيه: ان هذا يتم لو أحرز تمكن الشارع الا قدس من الردع عن العمل به قبل
ورودها ولم يكن يترتب عليه محذوراتهم، والا فلا يكون امضائه محرزا به فلا تكون
حجية السيرة محرزة قبل نزول الآيات كي تستصحب مع أن دليل حجية الاستصحاب،
اما السيرة العقلائية أو الاخبار الآحاد فعلى الثاني كيف يمكن التمسك لحجية خبر
الواحد بالاستصحاب المتوقف حجيته على حجية الخبر الواحد بعد عدم كونها متواترة،
وعلى الأول تكون الأدلة الناهية عن العمل بغير العلم ناهية عن العمل بالاستصحاب فكل
ما يقال في السيرة القائمة على العمل بخبر الواحد مع الآيات الناهية عن العمل بغير العلم
يقال في السيرة القائمة على العمل بالاستصحاب.
كيف وقد صرح المحقق الخراساني في مبحث الاستصحاب من الكفاية بان تلك
الآيات رادعة عن العمل بالاستصحاب.
أضف إلى ذلك كله ان المختار عدم حجية الاستصحاب في الأحكام الكلية.
ومنها: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) وحاصله ان دليل حرمة العمل بغير العلم أحد
أمرين والعمومات راجعة إلى أحدهما - الأول - ان العمل بغير العلم تشريع محرم
- الثاني - ان العمل بغير العلم مستلزم لطرح أدلة الأصول العملية واللفظية التي اعتبرها
الشارع عند عدم العلم بالخلاف، وشئ من هذين الوجهين الردع عن العمل
160

في المقام إذ حرمة التشريع، وعدم جواز طرح الأصول مركوزان في أذهان العرف
والعقلاء، ومع ذلك يعملون بخبر الثقة فيستكشف من ذلك أن العمل به لا يعد تشريعا
عند العرف بل يرونه إطاعة، ولذا يعولون عليه في أوامرهم العرفية، اما الأصول التي
مدركها حكم العقل، فلا تجرى في مقابل خبر الثقة، بعد الاعتراف ببناء العقلاء على
العمل به، واما الأصول اللفظية، فلان مدركها بناء العرف والعقلاء، ولا بناء منهم على
اعتبارها، فأدلتها لا تشمل صورة وجود الخبر الموثوق به في مقابلها.
وفيه: ان العرف والعقلاء انما لا يرون العامل بخبر الثقة في أموراتهم مشرعا لما
يرونه حجة فعدم كونه تشريعا انما يترتب على حجيته، فلا يمكن اثبات الحجية بعدم
التشريع، - وبعبارة أخرى - عدم كونه مشرعا انما يكون من جهة كون الخبر حجة
عندهم، فلو كان ذلك كاشفا عن امضاء الشارع، كان العامل غير مشرع عنده أيضا والا
كان مشرعا، والكلام الان في كاشفيته عن امضاء الشارع بعد ورود ما يصلح للرادعية
فتدبر فإنه دقيق، مع أن حمل جميع الاخبار والآيات المتضمنة للنهي عن اتباع غير العلم
على إرادة أحد الامرين الذين أشار إليهما خلاف الظاهر، فان الظاهر من كل عنوان مأخوذ
في دليل دخله في الحكم بنفسه.
فالصحيح في الجواب ان يقال ان عمل العقلاء بخبر الثقة انما هو من جهة الغائهم
احتمال الخلاف، وفرضه كالعدم والمعاملة العلم - وعليه - فلا يعقل رادعية
العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم عنه إذ الرادعية فرع كون مورد البناء ومفاد
العمومات شيئا واحدا و، الا فلو كان كل منهما متكفلا لبيان امر غير ما يكون الاخر
متكفلا له، لا معنى للرادعية وهو واضح، والعمومات متضمنة لبيان عقد الحمل، وان كل
ما صدق عليه غير العلم لا يجوز اتباعه، واما انه في أي مورد يصدق هذا العنوان فتلك
العمومات غير متكفلة لبيانه، بل لا بد من التماس دليل آخر كما هو الشأن في جميع
الأدلة المتضمنة للأحكام على الموضوعات، وبناء العقلاء متكفل لبيان عقد الواضح وان
خبر الثقة ليس بغير علم، وعليه فالعمومات غير رادعة عنه بل لا يعقل رادعيتها.
فتحصل انه بمقتضى بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة، بضميمة عدم الردع يبنى
161

على حجية خبر الثقة.
ثم إن مقتضى هذا الدليل حجية كل خبر ثقة كان اماميا، أم غير إمامي، بل كل خبر
موثوق به كان الراوي ثقة، أم لا؟ فيستفاد منه حجية الخبر باقسامه الأربعة، وكذلك يدل
على حجية الخبر الواحد في الموضوعات، وما يتوهم ان يكون رادعا عنه، ودالا على
عدم حجيته في الموضوعات قد تقدم انه لا يصلح لذلك في ذيل آية النباء فراجع.
الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر
التاسع: الوجوه العقلية وهي أمور أحدها انه يعلم اجمالا بصدور كثير مما بأيدينا
من الاخبار من الأئمة الأطهار، ولازم ذلك العمل بجميع النصوص التي هي طرف العلم
- توضيح ذلك - انه بعد مراجعة أحوال الرواة وملاحظة شدة اهتمامهم بضبط الأحاديث
الواردة عن المعصومين عليهم السلام، واهتمامهم بتنقيح ما أودعوه في كتبهم عن
الاخبار المدسوسة، حتى أنهم من جهة هذا الاهتمام كانوا لا يعتنون باخبار من يعتمد في
عمل نفسه على المراسيل، وكان يروى عن الضعفاء، وان كان بنفسه ثقة كالبرقي، ولا
يعتنون باخبار من عمل بنفسه بالقياس كالإسكافي، مع أن العمل لا ربط له بالخبر، ولذا
ترى ان على ابن الحسين بن الفضال لم يرو كتب أبيه معتذرا بأنه كان صغير السن عند
سماعه الأحاديث منه فقرأ كتب أبيه، على أخويه محمد واحمد، وكانوا يتوقفون في
روايات من كان على أحق، ثم انحرف كبني فضال، أو ارتد عن مذهب الشيعة كابن
عذافر، يظهر صدور جملة من الاخبار المتضمنة للأحكام المودعة في الكتب الأربعة
وغيرها من الكتب، ومقتضى هذا العلم الاجمالي العمل بجميع النصوص التي تكون
طرفا لهذا العلم الاجمالي.
وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) بأمرين. الأول: ان لنا علمين اجماليين ومعلومين
كذلك أحدهما ثبوت الأحكام في الاخبار بالتقريب المتقدم. ثانيهما: ثبوت احكام في
مجموع الاخبار وساير الأمارات الظنية الاخر فسائر الامارات طرف للعلم الاجمالي
162

الثاني: الذي يكون دائرته أوسع من دائرة العلم الاجمالي الأول، ولا يكون ذلك العلم
الاجمالي منحلا بالعلم الاجمالي الصغير إذ الميزان في تشخيص الانحلال وعدمه هو ان
يفرز من أطراف العلم الاجمالي الصغير بالمقدار المتيقن، فان بقى علم اجمالي بوجود
الأحكام في بقية أطراف الشبهة من ساير الأخبار، والامارات يكشف ذلك عن عدم
الانحلال، وان لم يبق العلم الاجمالي لا محالة يكون منحلا، ويحث انه في المقام لا ريب
في انا لو فرزنا قدرا من الاخبار لا يزيد عن المعلوم بالاجمال، من الأحكام في ما بين
الاخبار من الأحكام، لا ريب في بقاء العلم الاجمالي بوجود احكام فيما بين بقية الاخبار
وساير الأمارات الظنية، فلا مناص عند عدم الانحلال.
ولا يكفي في الجواب عن ذلك مجرد دعوى الانحلال، وعدم بقاء العلم
الاجمالي كما في الكفاية وتبعه الأستاذ الأعظم فان انكار بقائه مكابرة.
فالحق في الجواب ان يقال ان العلم الاجمالي وان كان باقيا الا ان الذي يفيد، لعدم
الانحلال هو كون المعلوم بالاجمال وجوده من الأحكام في مجموع الاخبار وساير
الامارات، غير المعلوم بالاجمال وجودها في الاخبار المروية في الكتب المعتبرة، وهذا
انما يكون مع عدم احتمال اتحاد مؤديات ساير الامارات مع الاخبار المفروزة، أو
المفروز منها، وحيث انه لاعلم بوجود احكام غير ما في الاخبار المروية في الكتب
المعتبرة من الأحكام فلا محالة يكون العلم الاجمالي الكبير منحلا بالعلم الاجمالي
الصغير والشك البدوي في ساير الامارات.
بقى الكلام في أن مقتضى هذا الوجه، هل هو حجية الخبر بنحو يقيد به المطلق،
ويخصص به العام، وبه يرفع اليد عن الأصول العملية، أم ليس الا وجوب العمل بالاخبار
المثبتة فقط. والكلام في هذا المقام يقع في موردين - الأول - في معارضة الخبر مع
الأصول اللفظية. الثاني: في معارضته مع الأصول العملية.
اما المورد الأول: فظاهر الشيخ الأعظم، والمحقق الخراساني، وصريح
المحقق الأصفهاني، عدم تقديمه على العمومات والمطلقات، والمنسوب إلى
المحقق العراقي (ره) هو العمل به في مقابلها وتقديمه عليها.
163

وقد استدل للأول بان العمومات والمطلقات حجج لا يرفع اليد عنها الا بحجة
أقوى ومع عدم حجية الخبر كيف رفع اليد عنها.
واستدل للثاني بان مقتضى أصالة الظهور الجارية في الاخبار الصادرة المعلومة
بالاجمال هو خروج العمومات المثبتة والنافية عن الحجية، لانتهاء الامر فيها إلى العلم
الاجمالي بإرادة خلاف الظاهر في بعض تلك العمومات والمطلقات من المثبت والنافي
ولازمه بعد عدم المرجح هو اجراء حكم التخصيص والتقييد عليها، لسقوطها بذلك عن
الاعتبار.
وحق القول في المقام هو التفصيل بين الصور، لأنه تارة يكون مفاد العام أو
المطلق حكما الزاميا، كقوله تعالى " وحرم الربوا " (1) ومفاد الخبر حكما غير الزامي كقول
أمير المؤمنين عليه السلام ليس بين الرجل وولده ربا وليس بين السيد وعبده ربا (2) وأخرى
يكون عكس ذلك فيكون مفاد العام أو المطلق حكما غير الزامي كقوله تعالى " أحل الله
البيع " (3) ومفاد الخبر حكما الزاميا كالنبوي المشهور نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر (4).
اما في الصورة الأولى فالصحيح هو ما افاده الشيخ وتابعوه، إذ العلم الاجمالي
بورود التخصيص على العام، والعلم الاجمالي بعدم إرادة أصالة العموم، في بعض تلك
العمومات لا يمنع من جريانها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانها، - وبعبارة أخرى -
لا اثر للعلم الاجمالي إذا لم يكن متعلقه حكما الزاميا.
واما في الصورة الثانية فالصحيح ما افاده المحقق العراقي (ره) لما أشار إليه من العلم
الاجمالي الذي متعلقه حكم الزامي، - وبعبارة أخرى - يلزم من جريان الأصول اللفظية
في جميع الموارد، العلم بمخالفة التكليف الواصل بالعلم وجريانها في بعض الموارد
دون بعض ترجيح بلا مرجح فلا يجرى الأصل اللفظي في شئ من الموارد.

1 - البقرة آية 275.
2 - الوسائل باب 7 من أبواب الربوا حديث 1 ج 12.
3 - البقرة آية 275.
4 - الوسائل باب 40 من أبواب آداب التجارة حديث 3.
164

واما في المورد الثاني: وهو معارضة الخبر مع الأصول العملية، فملخص القول
فيه، ان الخبر، اما ان يكون مثبتا للتكليف كما لو دل الخبر على وجوب السورة
في الصلاة، أو يكون نافيا له كما لو دل الخبر على عدم وجوب صلاة الجمعة في زمان
الغيبة، والأصل قد يكون نافيا كاصالة البراءة، وقد يكون مثبتا كقاعدة الاشتغال،
واستصحاب بقاء التكليف كنجاسة الماء المتغير الزايل تغيره من قبل نفسه.
فان كان الخبر مثبتا للتكليف يعمل به كان الأصل مثبتا له أو نافيا كما هو واضح،
وكذلك يعمل به لو كان نافيا له وكان الأصل أيضا كذلك أي نافيا.
وأما إذا كان الخبر نافيا، والأصل مثبتا له، وكان الأصل هو قاعدة الاشتغال، كما لو
علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة، ودل الخبر على عدم وجوب الجمعة في زمان
الغيبة، لا اشكال في أنه لا يعمل بالخبر في هذا المورد الذي يقتضى العلم الاجمالي لزوم
الاتيان بالجمعة بعد كون الوجه المتقدم مقتضيا للاتيان بما أدى إليه الخبر من باب
الاحتياط لا الحجية، فإنه لا اقتضاء له مع كون الخبر نافيا، والمقتضى لا يعارض مع ما لا
اقتضاء له.
واما لو فرضنا كون الأصل المثبت هو الاستصحاب فان لم يبلغ حدا يعلم اجمالا
بمخالفة بعضها للواقع فكذلك أي لا بد من العمل بالاستصحاب وان بلغ إلى هذا الحد،
فجريان الاستصحاب، ومنعه عن العمل بالخبر، يبتنيان على القول بجريان الاستصحاب
في أطراف العلم الاجمالي مع عدم لزوم المخالفة العملية كما هو الأظهر، واما على القول
بعدم جريانه في أطراف العلم الاجمالي كما اختاره الشيخ الأعظم (ره) والمحقق النائيني (ره)
فلا يجرى الاستصحاب، ويعمل بالخبر حينئذ كما لا يخفى.
الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الوافية (ره) لحجية الاخبار الموجودة في الكتب
المعتمدة للشيعة مع عمل جمع به، من غير رد ظاهر - وحاصله - انه لا ريب في حدوث
التكليف بعدة أمور سيما بالأصول الضرورية كالصلاة والحج ونحوهما، وبقاء ذلك إلى
يوم القيامة وحيث إن أغلب اجزائها وشرائطها وموانعها انما تثبت بالخبر غير القطعي
الصدور بحيث لو لم يعمل به خرج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور، فلا مناص
165

عن العمل بالخبر الواحد.
وأورد عليه الشيخ الأعظم وتبعه المحقق النائيني (ره) وغيره، بان العلم الاجمالي انما
هو تعلق بوجود الاجزاء والشرائط، والموانع، للأصول الضرورية في مطلق الاخبار، بل
مطلق الامارات، فاللازم هو الاحتياط بالعمل بكل ما يدل على جزئية شئ، أو شرطيته،
أو مانعيته لاحد تلكم الأصول.
ويمكن الجواب عنه بان صاحب الوافية، يدعى العلم الاجمالي بصدور الاخبار
الموجودة في تلك الكتب المشتملة على القيود المذكورة بمقدار المعلوم بالاجمال منها،
وعليه فيوجب ذلك انحلال العلم الاجمالي بثبوتها في مطلق الامارات، ودعوى العلم
الاجمالي بمصادفة بعض الامارات الاخر للواقع وصدور اخبار اخر غير الاخبار
الموجودة في الكتب المعتمدة، لا تفيد بعد احتمال انطباق الصادر منها والمصادف
للواقع على ما في تلكم الاخبار مضمونا.
فالصحيح في الجواب عنه ان يقال ان لازم هذا الوجه، العمل بالاخبار المثبتة لها
دون النافية، أضف إليه انه يرجع إلى الوجه الأول غير أن دائرة العلم الاجمالي في المقام
أضيق منه في ذلك الوجه، فيرد عليه ما أوردناه عليه أخيرا، مضافا إلى أنه لا يثبت به حجية
الخبر القائم على أصل التكليف.
الوجه الثالث: ما افاده بعض الأساطين، وحاصله ان الثابت يقينا بالضرورة،
والاجماع، والخبر المتواتر: انا مكلفون بالرجوع إلى السنة إلى يوم القيامة فان تمكنا من
الرجوع إليها على وجه يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بد من الرجوع إليها
كذلك، والا فلا بد من الرجوع إلى الظن في تعيينها.
وأورد عليه الشيخ الأعظم وتبعه المحققون بأنه ان أريد بالسنة نفس قول المعصوم
أو فعله، أو تقريره، فوجوب الرجوع إليها ضروري، الا انه لا يلزم مع وجوب العمل
بالخبر الحاكي عنها، مع عدم العلم بالمطابقة، الا إذا انضم إليها بقية مقدمات الانسداد،
وان أريد بها الاخبار الحاكية، فلا دليل على وجوب العمل بها سوى العلم الاجمالي
بصدور جمله كثيرة منها فهو يرجع إلى الوجه الأول.
166

وأورد عليهم المحقق الخراساني، بان ملاك هذا الوجه هو دعوى العلم بالتكليف
بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة.
وفيه: انه إذا كان هناك دليل قطعي على ذلك، سوى الدليل على حجية الخبر
بالخصوص المفروض عدمه، والعلم الاجمالي بصدور جملة منها، واستقلال العقل من
جهة التنزل إلى الامتثال الظني، مع عدم امكان الامتثال القطعي كان لما ذكره
المحقق الخراساني (ره) وجه ولكنه ليس فلا يتم ذلك فالصحيح ما افاده المحققون.
أدلة حجية مطلق الظن
وقد استدل لحجية الظن مطلقا من غير خصوصية للظن الحاصل من الخبر الواحد
بأمور، وهي أربعة.
الأول: ان في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي، أو التحريمي مظنة
للضرر: لان الوجوب والحرمة يقتضيان العقاب على الترك في الأول، والفعل في الثاني،
فالظن بأحدهما ظن بترتب العقاب على مخالفته: ولأن الظن بالوجوب ظن بوجود
المفسدة في الترك، كما أن الظن بالحرمة ظن بالمفسدة في الفعل، بناءا على قول العدلية
بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد، وبذلك يظهر ان ما افاده في النهاية من جعل كل من
الضررين دليلا مستقلا على المطلب، هو الأحسن في التقريب، وكيف كان فلو انضم إلى
ذلك الكبرى الكلية، وهي لزوم دفع الضرر المظنون لاستقلال العقل بذلك يستنتج حجية
الظن.
وأجيب عنه بأجوبة. أحدها: ما عن الحاجبي وتابعيه، من منع الكبرى، لان لزوم
دفع الضرر المظنون انما يبتنى على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، ولا نقول به إذ غاية
ما يمكن ان يقال كون ذلك احتياطا مستحسنا لا واجبا.
ويرد عليه أولا انه لا سبيل إلى انكار لزوم الحكم المذكور بعد اطباق العقلاء عليه
167

في جميع أمورهم، ولذا استدل به المتكلمون على وجوب شكر المنعم، الذي هو
الأساس لوجوب معرفة الله تعالى، واستدلوا به أيضا لوجوب النظر إلى معجزة النبي (ص)
وثانيا ان ملاك وجوب دفع الضرر المظنون، ليس هو التحسين والتقبيح العقليين، بل
ملاكه كون الضرر منافرا للطبع، والفرار من ما ينافر الطبع مما يستقل به العقل، وملاك
التحسين والتقبيح العقليين، كون بعض الأفعال على وجه يحسن فاعله ويمدح عليه،
وبعضها الاخر على نحو يقبح عليه ويذم، ولا ربط لأحدهما بالآخر ولذلك اتفق العقلاء
على لزوم دفع الضرر المظنون، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح.
واما ما أجاب به الشيخ الأعظم من أن تحريم تعريض النفس للمهالك والمضار
الدنيوية والأخروية مما دل عليه الكتاب والسنة مثل قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة وغيره.
فهو غريب لان، ما يحذر عن العقوبة الأخروية، لا يوجب الحكم الشرعي،
ولذلك اتفقوا على أن أوامر الإطاعة ارشادية لا مولوية، وما يحذر عن الوقوع في المضار
الدنيوية لم نعثر عليه والآيات المشار إليها كلها من قبيل الأول - أضف إليه - ان التمسك
بتلك الأدلة مع عدم احراز الموضوع، لهم يظهر وجهه مع أنه يخرج عن الدليل العقلي
والكلام انما هو فيه.
ثانيها: ما عن الشيخ في العدة والسيد في الغنية من أن الحكم المذكور مختص
بالأمور الدنيوية فلا يجرى في الأخروية مثل العقاب، وأورد عليه بان المضار الأخروية
أعظم، ويمكن ان يقال ان مراد هؤلاء، ان وجوب دفع الضرر المظنون بالوجوب
المولوي النفسي الذي يراد استكشافه من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون يختص
بالمضار الدنيوية: إذ حكم العقل بلزوم دفع العقاب المظنون لا يكون، الا حكما ارشاديا
لوقوعه في سلسلة معاليل الأحكام، بخلاف وجوب دفع الضرر الدنيوي، فإنه يمكن ان
يكون مولويا لوقوعه في سلسلة علل الأحكام.
ويمكن ان يكون مرادهم ان الضرر الأخروي قسمان: عقاب، وغير عقاب.
والأول: مأمون ما لم ينصب الشارع دليلا على التكليف به، بخلاف الضرر الدنيوي التابع
168

لنفس الفعل أو الترك، علم حرمته أو لم يعلم. والثاني: دل العقل والنقل على وجوب
اعلامه على الحكيم وهو الباعث له على التكليف، ولكن ذلك يرجع إلى منع الصغرى
كما نبه عليه الشيخ الأعظم.
ثالثها: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو منع الصغرى اما العقوبة فهي لا تلازم
الحكم ليكون الظن به ظنا بها، فان العقاب يكون مترتبا على تنجز الحكم ومعصية
الحكم، ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به كي يكون مخالفته عصيانا، ثم
قال الا ان يقال ان العقل وان لم يستقل بتنجزه بمجرده، الا انه لا يستقل أيضا بعدم
استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة، ودعوى استقلاله بدفع الضرر
المشكوك كالمظنون قريبة جدا، واما المفسدة فالظن بالحكم وان كان يوجب الظن
بالوقوع فيها لو خالفه الا انها ليست بضرر على كل حال: لان تفويت المصلحة ليس فيه
مضرة بل ربما يكون في استيفائها مضرة كما في الاحسان بالمال، والمفسدة في الفعل
الحرام، لا يلزم ان يكون من الضرر على فاعله، بل ربما يوجب منقصة في الفعل بلا ضرر
على فاعله، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهى عنها
بل انما هي تابعة لمصالح فيها.
ولكن ما افاده في العقاب من عدم استقلال العقل، بعدم استحقاقه مع الظن
بالحكم فيحتمل العقاب حينئذ على المخالفة، والعقل مستقل بوجوب دفع العقاب
المحتمل، غير تام فان منشأ احتمال العقاب ان كان هو احتمال حجية الظن بالحكم
فيحتمل وجود الحكم المنجز، ففيه ما حققناه وصرح هو (قده) به، من أن الظن المجرد
مما يقطع بعدم حجيته، فيقطع بعدم تنجز الحكم، أضف إليه انه (قده) في مبحث البراءة
يصرح بان أدلة البراءة توجب القطع بعدم العقاب، وبها يرتفع موضوع وجوب دفع
الضرر المحتمل، وما افاده في ذلك المبحث متين.
وما افاده من عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، يرده
النصوص والروايات الواردة في علل الشرايع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد
للأحكام.
169

رابعها: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) بعد تسليم ان الظن بالحكم ظن بترتب الضرر
الدنيوي على مخالفته بما حاصله ان الضرر المظنون مما يقطع أو يظن بتداركه، والعقل
لا يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب الضرر مع القطع بتداركه أو الظن به: إذ الظن
بالحكم الذي لم يدل دليل على حجيته مشمول لأدلة الأصول العملية الشرعية من
الاستصحاب والبرائة الشرعية، وتلك الأدلة اما ان تكون مقطوعة الصدور عنهم صلوات
الله عليهم، أو تكون مظنونة الصدور، ولازم شمولها له تدارك المفسدة المظنونة حتى
لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية، أد مع عدم احراز التكليف لا بد
لشارع، اما من ايجاب الاحتياط، أو تدارك الضرر، وحيث لم يوجب الاحتياط عند الظن
بالتكليف فلا يظن بالمفسدة غير المتداركة، بل يقطع أو يظن بالتدارك، والعقل لا يستقل
بقبح الاقدام على المفسدة المتداركة.
وفيه أولا: انه (قده) يصرح في مبحث البراءة بان الظن بالضرر غير العقاب، قد جعله
الشارع الأقدس طريقا شرعيا، إلى الضرر الواقعي، ويجب التحرز عنه، ولا تجرى فيه
البراءة، كساير موارد الطرق الشرعية: لان هذا الحكم العقلي أي وجوب دفع الضرر
المظنون، يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية والاستصحاب، ومع ذلك
كيف يحكم بشمولها له وتدارك الضرر.
وثانيا: انه لم يقم دليل على لزوم تدارك المفسدة الواقعية في ظرف انسداد باب
العلم والعلمي، الذي هو فرض جريان الأصول العملية، فإنها انما تكون في مورد انسداد
باب العلم، وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع بالعلم أو العلمي: فإنه في فرض الانسداد
لا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع.
وثالثا: ان شمول أدلة الأصول لذلك المورد أي الظن بالضرر بما انه يتوقف على
اثبات تدارك الضرر والمفسدة وهو غير ثابت فلا تشمله، ولا يلزم من عدم شمولها له
بقاء العموم بلا مورد بعد كون المشكوكات والموهومات باقية تحته.
والحق في الجواب يبتنى على بيان أمور. الأول: ان المشهور بين العدلية تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وخالفتهم المحقق الخراساني والتزم بأنها تابعة
170

للمصالح في نفس الجعل.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بأنه لو كانت المصلحة في نفس الامر والجعل، كان
اللازم حصولها بمجرد الامر، ولم يبق موقع للامتثال.
وفيه: ان لزوم الامتثال غير مربوط بالمصلحة والمفسدة، بل يجب الامتثال حتى
بناءا على مسلك الأشعري القائل بجواز جعل الأحكام جزافا، لأنه انما يجب لكونه مما
يقتضيه قانون العبودية والمولوية.
فالحق في الجواب عنه ان هذا في نفسه وان كان ممكنا، الا انه يرده
النصوص والروايات الواردة في علل الشرائع المتضمنة لبيان المصالح والمفاسد
للأحكام.
ثم إن المصالح والمفاسد ربما تكون شخصية كمصلحة الصوم ومفسدة شرب
المسكر ونحوهما وربما تكون نوعية كمصالح الواجبات النظامية، ومفاسدا كل مال الغير
وقتل النفس المتحرمة وغيرهما.
الامر الثاني: ان للعقل حكمين في باب الإطاعة والعصيان. أحدهما: انه يجب على
المولى انزال الكتب وارسال للرسل وبيان الأحكام وجعلها في معرض الوصول إلى العبد،
وان لا يعاقب على المخالفة بدون ذلك. ثانيهما: انه يجب على العبد الفحص عن تكاليف
المولى في مظان وجودها، ويترتب على ذلك أنه لو خالف العبد التكليف الواقعي، فان
كان ذلك لقصور من ناحية المولى، لا يصح له عقاب العبد، ويعبر عن هذا بقبح العقاب
من غير بيان، فلو تفحص العبد ولم يصل إليه التكليف من جهة هذا الحكم العقلي يقطع
بعدم العقاب، وان كان لقصور من ناحية العبد، بان لم يفتحص عنه، صح عقابه على
مخالفة التكليف، وكان قبل الفحص موردا لقاعدة، وجوب دفع الضرر المحتمل،
الشامل للمظنون، والموهوم، فبذلك يظهر انه لا يعقل ورود القاعدتين في مورد واحد.
فما احتمله الشيخ الأعظم، من أنه لو ظن بالتكليف، لا تجرى قاعدة قبح العقاب
بلا بيان، وان العقل لا يستقل بعدم العقاب، فلا محالة يحتمل العقاب، فيكون موردا
لقاعدة وجوب الدفع.
171

في غير محله، إذ الظن الذي لم يثبت حجيته، لا يكون بيانا من قبل المولى ومع
عدم البيان تجرى قاعدة قبح العقاب.
الامر الثالث: ان تحمل الضرر الدنيوي المقطوع لا دليل على حرمته الا في موارد
خاصة، كما سيأتي تفصيل القول فيه في مبحث لا ضرر، وعلى فرض كونه حراما، لم يدل
دليل على حرمة تحمل الضرر المظنون وجوده، لأصالة البراءة الجارية في الشبهات
الموضوعية، بلا خلاف في غير الموارد الخاصة التي أوجب الشارع فيها الاحتياط تحفظا
للملاك الذي لا يرضى الشارع الا قدس بتوفيته حتى في مورد الشك، فمن عدم جعل
وجوب الاحتياط وعموم أدلة البراءة يستكشف ان الملاك ليس بمثابة من الأهمية في
نظر الشارع بنحو لا يرضى بفوته في فرض الشك، ومعه لا مورد لقاعدة وجوب الدفع.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم، ان المراد بالضرر في كلام المستدل ان كان هو
الضرر الأخروي، أي العقاب، فهو لا يكون محتملا، فضلا عن كونه مظنونا، لما عرفت
من أنه لا ملازمة بين ثبوت التكليف الواقعي، والعقاب على مخالفته، بل العقاب انما
يكون على مخالفة التكليف الواصل، فلا يكون الظن بالتكليف ظنا بالعقاب على
المخالفة، بل مع عدم حجية الظن يكون العقاب مقطوع العدم لقاعدة قبح العقاب بلا
بيان، فالصغرى ممنوعة.
وان كان المراد به الضرر الدنيوي، فهو في موارد الواجبات لا يحتمل، فان في
مخالفتها تفويت للمصالح خاصة لا تحملا للضرر، فالصغرى ممنوعة أيضا وفى موارد
الأحكام التحريمية، فما يكون من قبيل الأحكام الناشئة عن المفاسد النوعية، لا يكون
الضرر محتملا ولا مظنونا، فالصغرى ممنوعة أيضا، وما يكون من قبيل الأحكام الناشئة
عن المفاسد الشخصية، فالصغرى وان كانت ثابتة وتامة، الا ان الكبرى ممنوعة كما
عرفت في الامر الثالث.
الدليل الثاني من أدلة حجية مطلق الظن
الوجه الثاني: انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح وهو قبيح، ولتوضيح
172

هذا الوجه لا بد من بيان أمور، الأول: انه ليس المراد من الراجح المرجوح ما هو كذلك
بحسب الاغراض الشخصية فإنه محال لا قبيح لاستحالة تأثير الأضعف دون الأقوى،
ولذلك أفاد المحقق القمي (ره) ان لفظ الترجيح بمعنى الاختيار والراجح والمرجوح، هو
القول بان المظنون، أو الموهوم حكم الله أو العمل بمقتضاه. الثاني: ان الوجه المذكور
في كلماتهم محتمل للوجهين، فإنه قد يقرر بالنسبة إلى الحكم بمقتضى الظن، وجعل
حكم الله الظاهري ما اقتضاه، وآخر يقرر بالنسبة إلى العمل بمقتضاه. الثالث: ان الوجه
المذكور قياس استثنائي وانتاجه يتوقف على ثبوت الملازمة بنفسها أو بالدليل، بين عدم
الاخذ بالظن وبين ترجيح المرجوح على الراجح، وثبوت رفع التالي بأحد الوجهين،
فتمامية هذا الوجه تتوقف على ثبوت أمرين، والامر الثاني واضح، اما الأول فغاية ما يقال
في تقريبه ان الظن أقرب إلى الواقع والوهم أبعد فإذا لم يعمل بالظن فلا محالة يعمل
بالوهم.
وأورد على ذلك بوجوه 1 - ما عن صاحب حاشية المعالم وهو ان المرجوح ربما
يوافق الاحتياط كما لو ظن عدم وجوب شئ أو عدم جزئيته، فان الوجوب أو الجزئية
يوافق الاحتياط الذي هو حسن عقلا فلو اتى به وعمل بالمرجوح لا محالة يكون أولى من
العمل بالراجح وترك ذلك الشئ.
ويرد على أن المراد من ترجيح المرجوح ان كان هو العمل على طبقه ولو من باب
الاحتياط ففي الفرض لو اتى بذلك الشئ يكون عاملا بهما معا إذا الراجح لا يلزم بترك
ذلك الشئ بل يرخص في فعله وتركه، فالفعل عمل بهما معا لا تقديم للمرجوح، وان
كان هو الحكم بان مفاد هو حكم الله فلا ريب في كونه خلاف الاحتياط - وبعبارة
أخرى - الاتيان بذلك الشئ بقصد الوجوب لا بقصد احتمال الامر يكون خلاف
الاحتياط، والآتيان بداعي احتمال الامر لا يكون طرحا للراجح لان الاتيان لا ينافي عدم
الوجوب.
2 - ما هو معروف بين الأصحاب قالوا ان ذلك فرع وجوب الترجيح فلا يرجح
المرجوح، وأما إذا لم يثبت وجوب الترجيح فلا يرجح المرجوح ولا الراجح، والظاهر
173

ان مرادهم من ذلك ما أجاب به الشيخ الأعظم (ره)، وحاصله ان هذا الوجه يتم لو تعلق
الغرض بالواقع وتنجز التكليف، ولم يمكن الاحتياط، وأما إذا لم يتنجز التكليف لا مانع
من الرجوع إلى الأصول النافية للتكليف، وليس فيه ترجيح للمرجوح، وكذا لو تنجز
التكليف، وأمكن الاحتياط فيجب العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال فليس فيه أيضا
ترجيح للمرجوح. نعم، لو تنجز التكليف ولم يمكن الاحتياط كما لو دار، امر القبلة في
آخر الوقت بين جهتين يظن كون القبلة في إحداهما، ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت
تعين الاخذ بالظن، والا لزم ترجيح المرجوح، وعليه فتمامية هذا الوجه تتوقف على
تمامية مقدمات الانسداد من بقاء التكليف وعدم جواز الرجوع البراءة، وعدم لزوم
الاحتياط أو عدم امكانه وغير ذلك من المقدمات، وبدونها لا يتردد الامر بين الاخذ
بالراجح والاخذ بالمرجوح، وهو تام.
ولا يرد عليه ما افاده الشيخ الأعظم (ره) بقوله ان التوقف عن ترجيح الراجح أيضا
قبيح كترجيح المرجوح، فان الظاهر أن الشيخ (ره) زعم أن المراد من هذا الوجه كون
المراد منه مجرد عدم ترجيح المرجوح، فأجاب بذلك ولكن بعدما عرفت مراد القوم،
لا يرد عليه هذا الوجه.
الوجه الثالث: ان العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات كثيرة بين
المشتبهات يقتضى وجوب الاحتياط في جميع الشبهات باتيان كل ما يحتمل وجوبه ولو
موهما وترك ما يحتمل الحرمة كذلك ولكنه موجب للعسر المنفى في الشريعة، فلا بد
من التبعيض في الاحتياط، والاخذ بالمظنونات، - وبعبارة أخرى - الجمع بين قاعدتي
الاحتياط وانتفاء الحرج، بالعمل بالاحتياط، في المظنونات خاصة: لان الجمع على غير
هذا الوجه، باخراج بعض المظنونات، وادخال بعض المشكوكات والموهومات باطل
اجماعا.
ويرد عليه ان الامرين المشار إليهما بعض مقدمات الانسداد، فلو لم ينضم إليهما
ان باب العلم والعملي منسد، والرجوع إلى ما ينفى التكليف في جميع الوقائع مع
الانسداد أو إلى الأصول لا يجوز، لا ينتج ذلك وجوب العمل بالظن كما هو واضح.
174

حول دليل الانسداد
الوجه الرابع: هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وتنقيح القول فيه بالبحث في
جهات، الأولى في بيان أصل المقدمات التي يتألف منها هذا الدليل، الثانية في النتيجة
المرتبة عليها، الثالثة في تمامية المقدمات وعدمها.
اما الجهة الأولى: فأفاد الشيخ الأعظم انها أمور أربعة. الأول: انسداد باب العلم
والظن الخاص في معظم المسائل الفقهية. الثاني: انه لا يجوز لنا اهمال الأحكام المشتبهة
وترك التعرض لامتثالها أصلا. الثالث: انه لا يجب الاحتياط التام في جميع الشبهات، اما
لعدم امكانه، أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل الجاري
في كل مسالة ولا إلى القرعة، ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي - الرابع -
انه لا يجوز التنزيل إلى الشك أو الوهم لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
وأضاف إليها المحقق الخراساني (ره) أمرا آخر، وجعل المقدمات خمسا وهو انه
يعمل اجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.
والحق مع المحقق الخراساني إذ مع اسقاط تلك المقدمة لا يبقى مجال للمقدمات
الاخر الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، ومجرد كونها واضحة لدلالة ساير المقدمات
عليها لا يصلح وجها لاسقاطها، والا كان بعضها الاخر كذلك.
واما ما افاده الأستاذ تبعا للمحقق النائين (ره) بان المراد من العلم بثبوت التكاليف
ان كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها، فهذا من البديهيات التي لا ينبغي
عدها من المقدمات، فان العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع، وان كان المراد منه هو
العلم بثبوت احكام في الوقايع المشبهة التي لا يجوز اهمالها فهذه المقدمة هي بعينها
المقدمة الثالثة في كلام المحقق الخراساني الثانية في كلام الشيخ.
فيرد عليه ان المراد به هو العلم بفعلية الأحكام، وهو لا يرجع إلى الامر الثالث فان
ذلك الامر انما هو لزوم امتثال الأحكام على فرض وجودها وهذا انما يكون هو العلم
175

بثبوت الأحكام فالمقدمات خمس.
ثم إن المتعين جعل المقدمة الرابعة في كلام الشيخ هي عدم جواز الاكتفاء
بالامتثال الشكى والوهمي لكونه، مستلزما لترجيح المرجوح على الراجع، وهو قبيح كما
صنعناه، لا لزوم الامتثال الظني كما افاده الشيخ فإنه نتيجة المقدمات.
واما الجهة الثانية: ففي تعيين نتيجة المقدمات المذكورة على تقدير تماميتها من
حيث إنها الكشف أو الحكومة.
وقبل بيان ما هو الحق في المقام لا بد وان يعلم أن المراد بالكشف هو استكشاف
جعل الشارع الا قدس الظن حجة شرعية، في تلك الحال، وان المراد بالحكومة ان العقل
يدرك كون المكلف معذورا غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع مع الاخذ بالظن،
ويراه مستحقا للعقاب على مخالفة الواقع على تقدير عدم الاخذ بالظن والاقتصار على
الامتثال الشكى والوهمي، فيحكم بتبعيض الاحتياط، في فرض عدم التمكن من
الاحتياط التام، فالمراد بالحكومة، هو التبعيض في الاحتياط، لا استقلال العقل بحجية
الظن، كما يوهمه ظاهر عبارة المحقق الخراساني فلنا دعويان.
الأولى: ان المراد من الحكومة، هو التبعيض في الاحتياط، وتوضيحه، ان العقل
انما يستقل بلزوم الإطاعة في الأحكام المولوية، واحراز امتثالها تفصيلا أو اجمالا، فان
تعذر ذلك وأحرز انه لا يجوز ترك التعرض لها رأسا فلا محالة يستقل بالتبعيض في
الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظني.
الثانية: انه ليس المراد استقلال العقل بحجية الظن: والدليل على ذلك عدم
معقوليته إذ شان القوة العاقلة هو الدرك، ولا تكون مشرعة وجعل الأحكام تكليفية
كانت، أم وضعية انما هو وظيفة الشارع، ولا يكون ذلك شان العقل، وهذا من الوضوح
بمكان.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن النتيجة المترتبة على هذه المقدمات، على فرض
تماميتها انما تختلف المدرك للمقدمة الثالثة في كلام الشيخ والرابعة فيما
اخترناه: إذ لو كان مدرك عدم وجوب الاحتياط ان الشارع الا قدس لا يرضى بابتناء
176

أساس الدين وأكثر احكامه على الاحتياط، للاجماع، والضرورة، فان الاحتياط وان كان
حسنا في نفسه، الا انه لا يكون حسنا فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في أكثر الأحكام
على الامتثال الاجمالي، المنافى لقصد الوجه والجزم، فلا محالة تكون النتيجة هي
الكشف: إذ بعد فرض بقاء الأحكام، وعدم جواز اهمالها وعدم حسن الاحتياط فيها
لا محالة يكشف جعل الشارع الظن حجة إذ لا طريق غيره ومع عدم نصب الطريق تكون
الأحكام تكاليف بما لا يطاق، وان كان المدرك هو استلزامه العسر والحرج واختلال
النظام فلا طريق إلى كشف العقل جعل الشارع الظن حجة بعد حكمه بكفاية الاحتياط
بالامتثال الظني.
واما الجهة الثالثة: فملخص القول فيها ان المقدمة الأولى، وهي العلم الاجمالي
بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة، قطعية.
ولكن هذا العلم الاجمالي منحل إلى علم اجمالي آخر دائرته أضيق من دائرة هذا
العلم الاجمالي، وهو العلم بثبوت التكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال، فيها بين الاخبار،
ولازم ذلك هو الاحتياط في خصوص الاخبار وقد تقدم تفصيل ذلك في الدليل العقلي
الأول الذي أقيم على حجية الخبر الواحد.
واما المقدمة الثانية: فتماميتها بالنسبة إلى انسداد باب العلمي تتوقف على أحد
أمور، اما عدم حجية الخبر الواحد، أو عدم حجية الظواهر اما مطلقا، أو لغير المقصودين
بالافهام، أو عدم وفاء الاخبار بمعظم الفقه.
والكل فاسدة: لما تقدم من حجية الخبر: والظواهر مطلقا، والاخبار بحمد الله
وافية بمعظم الفقه فهي غير تامة.
واما ما افاده المحقق القمي (ره) من تمامية مقدمات الانسداد حتى بناءا على حجية
الخبر والظواهر بدعوى ان الظاهر من أدلة حجية الخبر حجية مطلق الظن وانه
لا خصوصية لخبر الواحد.
فغير تام، إذ يرد عليه، أولا: ان هذا احتمال محض لا دليل على الاعتناء به. وثانيا:
انه لو كانت أدلة حجية الخبر بأنفسها، دليل حجية الظن لا دليل الانسداد.
177

واما المقدمة الثالثة: فان بنينا على أن العلم الاجمالي منجز فيما إذا لم يتمكن
المكلف من الموافقة القطعية للاضطرار إلى بعض افراده غير المعين تركا أو فعلا،
فملاكها واضح فان مقتضى العلم الاجمالي، الاحتياط بالمقدار الممكن، واما ان بنينا على
عدم كونه منجزا في هذا المورد كما اختاره المحقق الخراساني، فمدركها، انه من عدم
التعرض لامتثالها بالمرة، يلزم الخروج عن الدين، بمعنى المخالفة الكثيرة للأحكام، التي
علمت بضرورة من الدين انها مرغوب عنها شرعا فلا يجوز، ففي الحقيقة مدرك هذه
المقدمة غير الاجماع، أحد أمرين، العلم الاجمالي بوجود الأحكام، ولزوم الخروج عن
الدين من اهمالها، فلو كان المدرك هو الأول، لزم الالتزام بكون النتيجة هو الحكومة
ولو كان هو الثاني كانت النتيجة هو الكشف كما عرفت.
فعلى هذا يمكن ان يقال بفساد مسلك الحكومة، لابتنائها على منجزية العلم
الاجمالي، وهي متوقفة على بقائه وعدم انحلاله، فإذا فرضنا انه من عدم التعرض لامتثال
الأحكام، يلزم الخروج عن الدين، فيكشف ذلك عن جعل الشارع طريقا إلى احكامه،
وليس هو غير الظن، وجعله طريقا يوجب انحلال العلم الاجمالي وعدم بقائه.
واما المقدمة الرابعة: وهي، عدم جواز التقليد، والرجوع إلى القرعة، والاحتياط،
والرجوع إلى الأصول فملخص القول فيها، ان بطلان التقليد لا يحتاج إلى إقامة دليل فان
المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم يرى كون المجتهد القائل بالانفتاح جاهلا فكيف
يجوز الرجوع إليه، مضافا إلى ما ادعاه الشيخ (ره) من الاجماع القطعي على عدم جوازه،
وبه يظهر حال الرجوع إلى القرعة، مضافا إلى قصور أدلتها عن الدلالة على الرجوع إليها
لاستنباط الأحكام الشرعية.
واما الاحتياط التام، فان كان غير ممكن، فلا اشكال في عدم وجوبه لقبح تكليف
العاجز، وان كان مخلا بالنظام فلا اشكال في قبحه عقلا وعدم جوازه شرعا، واما ان كان
موجبا للعسر والحرج، فهل لا يكون واجبا لأدلة نفى العسر والحرج كما ذهب إليه الشيخ
الأعظم (ره)، أم لا يمكن نفى وجوب الاحتياط بأدلة نفى العسر والحرج كما اختاره
المحقق الخراساني (ره)، وجهان.
178

أفاد الشيخ الأعظم (ره) ان تلك الأدلة انما تدل على نفى الحكم الذاتي ينشأ من قبله
الحرج، ووجوب الاحتياط، وان كان عقليا، لا يمكن رفعه الا برفع منشأ انتزاعه الا انه
ناش من بقاء الأحكام الواقعية على حالها، فهي المنشأ للحرج الشئ إلى أسبق
علله، فبأدلة نفى العسر يرفع الأحكام الشرعية الواقعية، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع
موضوعه.
وأورد عليه المحقق الخراساني بان معنى دليل نفى الحرج ليس نفى الحكم الناشئ
من قبله الحرج، بل مفاده نفى الحكم بلسان نفى الموضوع، بدعوى ان ظاهر الأدلة توجه
النفي إلى العمل الحرجي، ويكون المراد نفيه في عالم التشريع، وهو عبارة أخرى عن
نفى حكمه، نظير قوله (ع) لا ربا بين الوالد والولد، وعليه فلا يكون دليل نفى الحرج حاكما
على ما يقتضى الاحتياط: لان الأحكام الواقعية متعلقة بأفعال خاصة مرددة بين أطراف
الشبهة وتلك الأفعال لا تكون حرجية كي ترتفع بأدلة نفى الحرج، ووجوب الاحتياط
ليس حكما شرعيا كي يرتفع بأدلة نفى الحرج فلا بد من الاحتياط وان استلزم الضرر.
أقول يرد على ما افاده أمران. أحدهما: ان لسان دليل نفى الحرج ليس نفى الحكم
بلسان نفى الموضوع فإنه انما يكون فيما إذا كان الحكم مترتبا على موضوع وتعلق النفي
بنفس ما تعلق به الحكم كما في مثل لا ربا بين الوالد والولد: فان الربا بنفسه متعلق للحرمة
فالرواية الشريفة تنفى حكمه بلسان نفيه واما في المقام فالفعل الحرجي لم يذكر في
الدليل، وانما المذكور فيه هو الحرج، وليس ذلك عنوانا للفعل، ليكون النفي راجعا إليه،
فلا محالة يكون مفاد تلك الأدلة ما افاده الشيخ الأعظم (ره) فتكون حاكمة على قاعدة
الاحتياط.
ثانيهما: ان قاعدة نفى الحرج تكون حاكمة على قاعدة الاحتياط حتى على مسلك
المحقق الخراساني (ره) في مثل المقام مما كانت أطراف الشبهة من التدريجيات إذ الحرج
لا محالة يكون في الافراد الأخيرة، وعليه كان الحكم في الواقع مترتبا على الافراد
المتقدمة فقد امتثله المكلف على الفرض، وان كان متعلقا بالافراد الأخيرة كان متعلقه
حرجيا فيرتفع بقاعدة نفى الحرج.
179

وان شئت قلت إنه في التدريجات لو احتاط في أطراف الشبهة المتقدمة إلى أن
وصل إلى حد الحرج، يعلم ثبوت الحكم في أطراف الشبهة المتأخرة، اما لكون
التكليف في الأطراف المتقدمة أو لأنه ان كان متعلقا بالفرد المتأخر، فهو لكونه حرجيا
مرفوع بقاعدة نفى الحرج، وان شئت توضيح ذلك بالمثال فلا حظ ما لو نذر صوم يوم
معين وتردد ذلك بين يوم الخميس، ويوم الجمعة، وفرضنا كون الصوم فيهما حرجيا على
الناذر، فإذا صام يوم الخميس يعلم بعدم وجوب صوم ثوم الجمعة اما لكون المنذور
صوم يوم الخميس، أو لكون صوم يوم الجمعة حرجيا مرفوعا بقاعدة نفى الحرج
والمقام من هذا القبيل كما هو واضح فلا يظهر الثمرة بين المسلكين في المقام.
ولكن يمكن ان يورد على حكومة قاعدة نفى الحرج، على قاعدة الاحتياط
في المقام بوجهين آخرين. الأول: ان العسر والحرج ليس في الجمع بين محتملات كل
تكليف من التكاليف الواقعية كي يرتفع ذلك الحكم بدليل نفى الحرج، بل العسر والحرج
في الجمع بين محتملات مجموع التكاليف وليس مجموعها تكليفا وحدانيا، يكون
الحرج في الجمع بين محتملاته، ويكون المقام نظير ما لو فرض كون امتثال مجموع
التكاليف حريجا، فإنه لا يرتفع المجموع بقاعدة نفى الحرج، والمقام كذلك فيجب
الاحتياط بالنسبة إلى كل تكليف، إلى أن يتحقق الحرج في الاحتياط بالنسبة إلى التكاليف
الاخر فتدبر فإنه دقيق. الثاني: ان لازم الحكم بحكومة قاعدة الحرج نفى الأحكام
الواقعية وهذا مما يقطع بأنه مرغوب عنه شرعا ومجمع على بطلانه، فتدبر حتى لا تبادر
بالاشكال، فالأحكام الشرعية الواقعية غير مرتفعة بل هي باقية في حال الانسداد، ومعه
لا معنى لرفع وجوب الاحتياط الذي هو يحكم العقل، فهذه المقدمة أيضا غير تامة.
واما الأصول، فهي على قسمين 1 - ما يكون مثبتا للتكليف كالاحتياط
والاستصحاب المثبت 2 - ما يكون نافيا للتكليف كالبرائة والاستصحاب النافي والتخيير،
اما ما كان مثبتا للتكليف، فان كان من الأصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال، فلا مانع
من جريانها في مواردها، واما ان كان من الأصول المحرزة كالاستصحاب، فعلى القول
بان المانع عن جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي هو لزوم المخالفة العملية
180

كما اخترناه تبعا للأستاذ، والمحقق الخراساني، فلا مانع من جريانه أيضا كما لا يخفى،
واما على ما اختاره الشيخ الأعظم والمحقق النائيني (ره)، من أن العلم الاجمالي بانتقاض
الحالة السابقة بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب، فلا يجرى الاستصحاب المثبت
للتكليف في المقام للعلم بانتفاض العلم الاجمالي في الجملة كما هو المفروض.
وأفاد المحقق الخراساني (ره) انه على هذا المسلك أيضا لا مانع ما جريان
الاستصحاب في المقام لأنه انما يلزم فيما إذا كان الشك في الطرافة فعليا وأما إذا لم يكن
كذلك، بل لم يكن الشك فعلا الا في بعض أطرافه وكان بعض أطرافه الاخر غير ملتفت
إليه أصلا، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام الشرعية فلا يكاد يلزم، لان
الاستصحاب انما يجرى في خصوص الطرف المشكوك فيه، ولا يجرى في الطرف الآخر
للغفلة وعدم الشك الفعلي، وليس فيه علم بالانتقاض.
وفيه: ان الاستنباط، وان كان تدريجيا والمجتهد حين استنباط كل حكم يكون
غافلا عن المورد الاخر، الا انه بعد الفراغ عن استنباط الجميع وجمعها في رسالة يعلم
اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي اجرى فيها الاستصحاب فليس له
الافتاء بها، فعلى مسلك الشيخ لا يجرى الاستصحاب المثبت في الموارد المشتبهة.
واما ما كان من الأصول نافيا للتكليف كالبرائة واستصحاب عدم التكليف، فعلى
مسلك الشيخ الأعظم من أن الاضطرار إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يمنع من
تنجيز العلم الاجمالي، لا يجوز الرجوع إلى تلك الأصول النافية كما هو واضح، وعلى
مسلك المحقق الخراساني من كونه موجبا لسقوط العلم الاجمالي عن التنجيز، فلا مانع
من الرجوع إليها، الا إذا لزم من اجرائها في الموارد المشتبهة المخالفة للأحكام الكثيرة
المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين فلا تجرى.
وما افاده المحقق الخراساني (ره) من أنه لا مانع من جريانها لو كانت موارد الأصول
المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم بالاجمال لا ينطبق على
المورد إذ بعد كون المعلوم بالاجمال كثيرا ويعلم بثبوت جملة منها في موارد الأصول
النافية لا سبيل إلى هذا الكلام، مع أن كون تلك الموارد بمقدار المعلوم بالاجمال كما
181

ترى.
اللهم الا ان يقال ان نظره الشريف إلى أنه لا يلزم حينئذ الخروج عن الدين فلا مانع
من جريانها والله العالم.
فالمتحصل عدم تمامية أكثر مقدمات الانسداد، وعليه فلا وجه لا طالة الكلام في
بيان تنبيهات المسألة.
والحمد لله أولا وآخرا
182

المقصد الثامن
الأصول العملية
183

المقصد الثامن في الأصول العملية
وهي القواعد المجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي وعدم امارة عليه،
وقبل الشروع في مباحث هذا المقصد لا بد من بيان أمور.
الأول: ان المحقق الخراساني عرف الأصول العملية بقوله، وهي التي ينتهى إليها
المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل
انتهى.
وذلك انما يكون من جهة ما ذكره في أول الكفاية، من أن تعريف القوم للمسائل
الأصولية بأنها القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية، غير تام، لاستلزامه استطرادية
مسائل الأصول العملية.
وقد مر في أول الجزء الأول من هذا الكتاب، انه بعد تعميم الأحكام الشرعية إلى
الواقعية، والظاهرية، تدخل الأصول العملية في القواعد الممهدة للاستنباط فكما ان
حجية خبر الواحد تقع كبرى لقياس الاستنباط، ويستنبط منها الأحكام الواقعية، كوجوب
جلسة الاستراحة، ووجوب السورة في الصلاة وما شاكل، كذلك حجية أصالة البراءة، أو
الاستصحاب، تقع كبرى لقياس الاستنباط، ويستنبط منها الأحكام الظاهرية، كجواز
شرب التتن وما شاكل، بلا فرق بينهما، غاية الامر ان الحكم المستنبط من الأولى واقعي،
ومن الثانية ظاهري.
فان قيل إن ما ذكر انما يتم في الأصول الشرعية، واما الأصول العقلية، كقاعدة قبح
العقاب بلا بيان في الشبهة البدوية، ووجوب دفع الضرر المحتمل، في الشبهة المقرونة
185

بالعلم الاجمالي، فلا يتم فيها فإنه لا يستنبط الحكم منها، لا الظاهري، ولا الواقعي، ولذا
ليس للفقيه، الافتاء بالإباحة مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
أجبنا عنه بما يظهر ببيان أمرين - أحدهما - ان المسألة الأصولية هي ما يقع أحد
طرفي المسألة في طريق الاستنباط، ولا يعتبر فيها وقوع النتيجة على جميع التقادير في
طريق الاستنباط مثلا، البحث عن حجية خبر الواحد لا يقع نتيجته على تقديري الحجية
وعدمها في طريق الاستنباط بل انما تقع في طريقه على التقدير الأول خاصة.
الثاني: ان البحث في البراءة التعقلية ليس عن تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان،
وعدمها لان محل البحث في ذلك هو علم الكلام، ولم يخالف في هذه القاعدة أحد الا
الأشعري، وانما يبحث في الأصول، عن انه هل تدل اخبار الاحتياط، والتوقف وما شاكل
على لزوم الاحتياط في الشبهة البدوية كما يدعيه الاخباري، أم لا تدخل على ذلك كما هو
مدعى الأصوليين، واما كون المرجع على تقدير عدم الدلالة هو قاعدة القبح فهو متفق
عليه بين الفريقين، وبديهي ان البحث في ذلك يكون من المسائل الأصولية لوقوع النتيجة
على تقدير الدلالة في طريق الاستنباط.
وبذلك يظهر الحال في قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، إذ في الأصول
لا يبحث عن هذه القاعدة، وانما يبحث عن أن اخبار الحل والإباحة هل تشمل أطراف
العلم الاجمالي أم لا؟ ولا كلام في أنه على فرض عدم الشمول يكون المرجع القاعدة
المشار إليها، وبديهي ان البحث في ذلك يكون من المسائل الأصولية، وعلى الجملة، بعد
تعميم الأحكام إلى الظاهرية، وتعيين مورد البحث في الأصول العملية العقلية، دخول
مسائل الأصول العملية مطلقا في المسائل الأصولية من دون ان يضم القيد المزبور،
واضح.
اقسام المسائل الأصولية
الامر الثاني: ان المسائل الأصولية تنقسم إلى اقسام خمسة.
القسم الأول: ما يوجب القطع الوجداني بالحكم الشرعي، كالبحث عن الملازمة
186

بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته، والبحث عن امكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه،
وما شاكل، وتسمى هذه المباحث بالبحث عن الاستلزامات العقلية، والبحث عن
المداليل.
القسم الثاني: ما يوجب العلم التعبدي بالحكم الشرعي، وهذا قسمان. أحدهما:
ما يكون البحث صغرويا كمباحث الألفاظ، من قبيل البحث عن أن الامر ظاهر في
الوجوب، أم لا؟ وما شاكل. ثانيهما: ما يكون البحث كبرويا، أي يكون البحث فيه عن
حجية شئ لا ثبات الأحكام الشرعية كالبحث عن حجية الخبر الواحد وساير مباحث
الحجج، وقد مر الكلام في هذه الأقسام الثلاثة.
القسم الرابع: ما لا يوصلنا إلى الحكم الواقعي بالقطع الواجداني ولا بالعلم التعبدي،
بل يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لبيان الأحكام الظاهرية في فرض الشك في الحكم
الواقعي، وتسمى هذه القواعد بالأصول العملية الشرعية، ويعبر عن الدليل الدال
على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي، كما يعبر عن الدليل الدال على الحكم الواقعي
بالدليل الاجتهادي، وانما يعبر عن الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي
بالحكم الظاهري لتمييزه عن الحكم المجعول للشئ بعنوانه الأولى، لا بعنوان انه
مشكوك فيه، والا فالحكم الظاهري أيضا حكم واقعي مجعول للشئ بعنوان انه
مشكوك فيه.
والقسم الخامس: ما يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لتعيين الوظيفة العقلية عند
العجز عن ما تقدم، وتسمى هذه القواعد بالأصول العملية العقلية، ومحل الكلام
في المقام هو القسمان الأخيران وحيث إن الأصوليين أدرجوا الخامس في الرابع وتعرضوا
للبحث عنهما في عرض واحد ونحن نتبعهم في ذلك.
انحصار الأصول العملية في أربعة
الامر الثالث: ان الأصول العملية التي هي محل البحث فعلا، والمرجع عند الشك
187

منحصرة في أربعة، وهي الاستصحاب، والتخيير، وهذا الحصر
استقرائي بلحاظ نفس الأصول، وعقلي بحسب المورد: إذ الشك اما ان تعلم له حالة
سابقة وقد اعتبرها الشارع. أولا: بان لم تعلم له حالة سابقة، أو علمت ولم يعتبرها الشارع
كما إذا كان الشك في بقاء ناشئا من الشك في المقتضى على القول بعدم جريان
الاستصحاب في الشك في المقتضى. والثاني: قد يكون الشك في أصل التكليف، وقد
يكون الشك في المكلف به، والثاني ربما يمكن الاحتياط وربما لا يمكن كما في موارد
دوران الامر بين المحذورين، الأول مورد للاستصحاب، والثاني يكون مجرى للبرائة،
والثالث يكون مجرى للاشتغال، والرابع مورد التخيير.
وذكر الأصحاب في وجه عدم ذكر أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة، في علم
الأصول، وجوها.
الأول: ان الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية فالشك فيهما شك في الموضوع
دائما.
أقول تقريب كونهما منها، ان مقابل الطهارة أي الحديث والخبث، من الأمور
الواقعية ومن مقولة الكيف، ويكون الخبث كيفا قائما بالجسم، والحديث كيفا قائما
بالنفس، كما هو المعروف من أنه حالة معنوية بدعوى: ان القذارة ما يوجب تنفر الطبع
وموجبيتها لذلك انما تكون لعدم الملائمة لقوة من القوى الظاهرية، فيما فيه رائحة منتنة
غير ملائم للشامة، وهكذا بالنسبة إلى ساير القوى، ولا يختص ذلك بالأعيان الخاصة بل
القلب المشحون بالعقائد الباطلة، نجس لتنفر الطبع السليم منه، فإنه نقص للنفس، وبهذا
الاعتبار تكون التوبة مطهرة للعاصي، وعلى هذا فتكون الأمور المعلومة، موجبة لحصول
اثر في الجسم، أو النفس، موجب لتنفر الطبع، ويزول ذلك الأثر باستعمال الطهور،
فدائما يكون الشك فيهما من الشبهة الموضوعية، ومن الواضح ان البحث عن حكم
الشبهة الموضوعية ليس من المسائل الأصولية.
أقول هذا تقريب حسن، الا انه لا يدل على كونهما من الأمور الواقعية بل بلائم مع
كونهما من الأحكام الشرعية الناشئة عن ما يكون في المتعلقات من المصالح والمفاسد
188

كما لا يخفى، بل يعقل ان تكونا منها: إذا المتنجس انما ينجس بذاته على ما هو عليه من
دون عروض كيف حقيقي عليه ليكون منطبق عنوان نجس وهل يتوهم ان يكون في بدن
الكافر شئ موجود خارجي، ويرتفع اظهار الاسلام، إذ بدن هذا الشخص قبل
الاسلام وبعده حسا وعيانا على حد سواء، فما ذلك الكيف القائم بالجسم في حال الكفر
الذي لا يحس بقوة من القوى.
اللهم الا ان يقال، ان دعوى ان المتنجس ينجس بذاته على ما هو عليه من دون
عروض كيف حقيقي عليه، تندفع بان ذلك أول الدعوى فالخصم يدعى عروضه، غاية
الامر انه لا يرى بدون الأسباب، وكم له نظير في الموجودات، والمكروبات، - وبعبارة
أخرى - انهما من قبيل الخواص والآثار كخواص الأدوية التي لا يعرفها الا الأطباء، واما
بدن الكافر، فيمكن ان يقال ان الشارع حكم بنجاسته تنزيلا وحكومة، أي نزل بدنه منزلة
النجاسة لقانون تعاكس النفس والبدن، والكفر موجب لكثافة النفس ولذلك حكم
بنجاسة بدنه، والاسلام يرفع تلك الحالة النفسانية.
والحق في الجواب ان يقال انهما لو كانا أمرين واقعيين لما اختلفت الشرايع في
عدد النجاسات، ولا اختلفت في المطهرات، مع أن الشرايع مختلفة في ذلك كله.
أضف إلى ذلك أن ظاهر الأدلة جعلهما لا كشفهما، سيما المتضمنة لجعل الطهارة
الظاهرية، إذ لو كانتا من الأمور الواقعية، لزوم حمل تلك الأدلة على جعل الآثار، وهو
خلاف الظاهر.
واما الكيف القائم بالنفس في الحدث فحيث لا ريب في عدم كونه من
الاعتقاديات فلو كان فلا محالة يكون من الأوصاف الرذيلة النفسانية نظير ساير الملكات
والصفات غير الحميدة، إذ لا ثالث لصفات النفس، ولا شبهة في عدم كونه منها لوجهين.
الأول: ان الحدث حالة تحصل للأنبياء والأوصياء وحاشاهم من اتصاف نفوسهم بصفة
نقص. الثاني: ان أسبابه قد تقع على وجه العبادية المكملة للنفس.
فالحق ان الطهارة وما يقابلها ليستا من الأمور الواقعية وانما هما من الأحكام الشرعية
مع أنه لو سلم كونهما منها الا ان كاشفهما لا محالة يكون هو الشارع وعند الشك
189

لا بد من السؤال عنه وهذا معنى الشبهة الحكمية.
الثاني: ما في الكفاية وهو اختصاص القاعدة ببعض أبواب الفقه، والمسألة
الأصولية ما تفيد في جميع الأبواب.
وفيه: ان ضابط المسألة الأصولية استنباط الحكم الشرعي منها، واما اعتبار كونها
جارية في جميع أبواب الفقه، فمما لم يدل عليه دليل، كيف وجملة من المسائل
الأصولية تختص بأبواب خاصة، لا حظ مسالة دلالة النهى على الفساد.
الثالث: ان الطهارة والنجاسة عين التكليف، أو متنزعتان عنه، وعليه فالشك فيهما
شك في الحكم ومورد للبرائة فقاعدة الطهارة عين البراءة ولذا لم يعد فسما برأسه.
ويرده ما حققناه في مبحث الاستصحاب من أن الأحكام الوضعية، ومنها الطهارة
والنجاسة مستقلة في الجعل، لا منتزعة من التكليف ولا عينه.
والصحيح ان يقال انها من المسائل الأصولية، وانما لم تذكر في العلم الأصول
لعدم وقوع الخلاف فيها، لا لعدم كونها منها.
الفرق بين هذه المسألة ومسألة الحظر والإباحة
الامر الرابع: في بيان الفرق بين هذه المسألة، ومسألة ان الأصل في الأشياء والافعال
هو الحظر أو الإباحة، وقد أفاد المحقق النائيني في مقام الفرق بينهما وجهين.
الأول: ان البحث عن الخطر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان
الخارجية، من حيث كونه تصرفا في ملك الله تعالى، وسلطانه، والبحث عن البراءة
والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله، وان لم يكن
له تعلق بالأعيان الخارجية.
وفيه: انه البحث عن الحظر والإباحة لا يختص بالأعيان الخارجية، بل ما ذكره
القوم وجها لكل من القولين، يعم جميع أفعال العباد.
فان القائلين بالحظر، استدلوا له بان العبد حيث إنه مملوك، لا بد وأن يكون
190

صدوره ووروده، عن اذن المولى ومالكه، فما لم يأذن مالكه اذنا مالكيا يكون تصرفه
خروجا عن ذي الرقية ورسم العبودية، ويكون تصرفا في سلطان المولى وقبيحا،
ومذموما عليه عقلا.
واستدل القائل بالإباحة لما اختاروه، بان الفعل حيث لم يمنع عنه الشارع،
لا شرعيا، ولا مالكيا، فهو ليس خروجا عن ذي الرقية ورسم العبودية.
وبديهي جريان هذين الوجهين في كل فعل من أفعال المكلف وان لم يكن له
تعلق بالأعيان الخارجية، فإنه لا محالة يكون تصرفا في بدنه - كلسانه - مثلا، فيجرى فيه،
ما تقدم من الوجهين.
الثاني: ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها
الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية، والبحث عن البراءة والاشتغال، ناظر إلى
حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية.
وفيه: ان مسالة الحظر والإباحة، انما تكون بلحاظ عدم ورود الدليل من الشارع
لا بلحاظ ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية.
فالصحيح في مقام الفرق بينهما، ان بحث الحظر والإباحة انما هو فيما يستقل به
العقل في حكم الأشياء، مع قطع النظر عن ورود حكم من الشارع، وبحث البراءة
والاشتغال، انما هو بعد ورود حكم الأشياء من قبل الشارع.
ثم انه ربما يتوهم ان الأصل في الأشياء بحسب الأدلة الاجتهادية هي الإباحة،
وعليه فلا يبقى مجال لهذا المبحث في الشبهات التحريمية الحكمية لفقد النص التي هي
العمدة في المقام، واستندوا في ذلك إلى الآية الشريفة " خلق لكم ما في الأرض جميعا "
وفى بعض الكلمات ذكروا الآية كذلك أحل لكم ما في الأرض جميعا - والى - قوله
تعالى " كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ".
وفيهما نظر. اما الآية الأولى: فبالكيفية الثانية ليست، وبالكيفية الأولى لا تدل على
المطلوب، بل ظاهرها ان ما في الأرض خلق لمانع العباد الدينية والدنيوية، بأي وجه
اتفق، وذلك لا يلازم إباحة كل شئ، إذا لا شئ من الأشياء الا وفيه منافع - مع - انه قد
191

ورد النص عن الإمام (ع) في تفسيرها خلق لكم ما في الأرض فتعتبروا به الحديث،
مع أنها مختصة بالافعال المتعلقة بالأعيان الخارجية، ولا تعم غيرها.
واما الثانية: فالظاهر أنها أجنبية عما استدل بها له فإنها تتضمن الامر بالاكل مما في
الأرض حلالها طيبا لا حراما خبيثا، وليست في مقام بيان ان أي شئ حلال وحرام،
ويؤيد، ذلك ورودها في جماعة من الأصحاب حيث حرموا على أنفسهم من الحرث
والانعام وغير ذلك.
مع أنها مختصة بالمأكل: فإذا لا دليل على إباحة الأشياء مطلقا الا ما خرج بالدليل
حتى يقال انه لا مورد للنزاع في البراءة والاحتياط إذ يتمسك باطلاق ذلك الدليل ويحكم
بالإباحة، مضافا إلى أن الاخباري يدعى ان المرجع في الشبهات التحريمية، انما هو اخبار
الاحتياط الدالة على لزوم الاحتياط والتوقف عند الشبهة.
الامر الخامس: ان اقسام الشك في أصل التكليف وان كانت عديدة إذ ربما يكون
الشك في التكليف الاستقلالي وربما يكون في التكليف الضمني، وعلى كل تقدير،
قد يكون الشبهة تحريمية، وقد يكون وجوبية وعلى كل تقدير ربما يكون منشأ الشك
فقد النص، وربما يكون اجمال النص، وثالثا يكون تعارض النصين، ورابعا الأمور
الخارجية.
وخلاف الأخباريين مع الأصوليين انما يكون في خصوص الشبهة التحريمية،
وقد اتفقوا على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية، الا ما عن الاسترآبادي،
حيث ذهب إلى وجوب الاحتياط، وبعض الأدلة يختص ببعض اقسام الشبهة الا انه مع
ذلك كله الصحيح ما ذكره المحقق الخراساني (ره) من جعل محط البحث مطلق الشك
في الحكم الجامع بين الأقسام، لان عمدة أدلة البراءة جارية في مطلق الشك في التكليف
واختصاص بعضها بدليل خاص لا يوجب افراده بالبحث. نعم، في خصوص تعارض
الخبرين كلام سيأتي في التعادل والترجيح، إذا عرفت هذه الأمور، فاعلم أن تمام الكلام
في هذا المقصد في طي فصول.
192

الآية الأولى من الآيات التي استدل بها للبرائة
الفصل الأول: لو شك في وجوب شئ أو حرمته ولم تنهض عليه حجة، فالمشهور
بين الأصحاب انه يجوز شرعا وعقلا ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة
مخالفته، من غير فرق بين كون منشأ الشك فقدان النص، أو اجماله واحتماله الكراهة أو
الاستحباب، أو الأمور الخارجية وقد استدلوا لذلك بالأدلة الأربعة، فمن الكتاب بآيات.
منها: قوله عز وجل " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " (1) وتقريب الاستدلال به: ان
بعث الرسل بحسب الارتكاز والفهم العرفي كناية عن ايصال الحجة والبيان، وعليه فمفاد
الآية الشريفة نفى العقاب على مخالفة التكليف ما لم يصل وأورد عليه بايرادات.
الأول: ان المراد بالعذاب في الآية، العذاب الدنيوي، وهي راجعة إلى الأمم
السابقة فالمستفاد منها ان عادة الله كانت جارية على عدم انزال العذاب على الأمم
السالفة الا بعد اتمام الحجة عليهم فلا ربط لها بالمقام.
وفيه: ان الله تعالى اما ان يكون في مقام بيان حد رأفته بالعباد، وان العذاب قبل
اتمام الحجة غير لائق بشأنه مع كونه رؤوفا، أو يكون في مقام بيان عدالته وعدم كونه
ظالما. ولا ثالث: بعد ظهور، ما كنا في أن هذا الفعل لا يناسب صدوره من الفاعل كما يظهر
من ملاحظة موارد استعماله وعلى كل تقدير تدل على المطلوب، بالأولوية، بعد كون
العذاب الأخرى أشد من العذاب الدنيوي وكونه رؤوفا بنا كرأفته بالأمم السابقة أو أكثر.
الايراد الثاني: ان الآية الشريفة تدل على نفى الفعلية، وهو أعم من نفى
الاستحقاق المطلوب اثباته في المقام.
وأجيب عن هذا بأجوبة. منها: ما عن الشيخ الأعظم (ره) وهو ان نفى الفعلية يكفي
في المقام إذا الخصم يسلم الملازمة بين نفى الفعلية ونفى الاستحقاق.
193

وأورد عليه المحقق الخراساني بايرادين. أحدهما: ان ما شك في وجوب أو حرمته
عند الخصم، ليس بأعظم مما علم حكمه، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه الا كالوعيد به
فيه.
وفيه: ان الآية الشريفة إذا دلت على عدم الفعلية، وقطع بعدم العقاب لا يبقى
مجال للتمسك، بقاعدة دفع الضرر المحتمل، واخبار التوقف المعللة للامر بالتوقف،
باحتمال الوقوع في الهلاكة والعقاب، ومع عدم كون المورد من مواردهما، لا خلاف بيننا
وبين الاخبارين في أن المرجع هو اخبار الحل، وهي تدل على نفى الاستحقاق، فيكون
عدم الاستحقاق مع عدم الفعلية في محتمل التكليف لأجل دليل آخر، لا للملازمة بين
نفيهما، وهذا بخلاف موارد القطع بالحكم إذ لو دل دليل على نفى فعلية العقاب فحيث
ان الدليل على ثبوت الحكم موجود فهو لا محالة يدل على الاستحقاق وعدم الملازمة،
بين النفيين.
وبهذا البيان يظهر الجواب عما أورد على من جمع بين التمسك بالآية الشريفة
على البراءة، وبين الرد على من استدل بها على عدم الملازمة بين الحكم العقلي والشرعي
- بدعوى - انها تدل على عدم العقاب ما لم يصل بيان من الشارع واطلاقها يشمل ما لو
حكم العقل بقبحه أو حسنه، فتدل على عدم الملازمة.
بان الآية تدل على عدم فعلية العقاب، لا على عدم استحقاقه، والذي يفيد في مقام
الاستدلال على عدم الملازمة عدم الاستحقاق.
بان هذا مستلزم للتناقض إذ الآية ان دلت على نفى الفعلية، فلا تدل على البراءة وان
دلت على نفى الاستحقاق فالجواب عن الاستدلال بها على عدم الملازمة غير سديد.
وحيث عرفت ان الاستدلال بها على البراءة ليس بها وحدها بل بضميمة اخبار
الحل فلا تناقض فتدبر جيدا.
ثانيهما: انه لو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية، لما صح
الاستدلال بها إلا جدلا.
وفيه: ما عرفت من أنه إذا قطع بعدم العقاب يكون المرجع عند الطرفين اخبار
194

الحل فليس الاستدلال جدليا.
ومنها: الاجماع من الفريقين على التلازم بين نفى الفعلية ونفى الاستحقاق.
وفيه: انه لمعلومية مدرك المجمعين ليس هذا الاجماع اجماعا تعبديا كاشفا عن
رأى المعصوم (ع).
ومنها: ان الظاهر من الآية الشريفة نفى الاستحقاق: والشاهد على ذلك أن الآيات
المتضمنة للعقاب والعذاب، انما يخبر عن الاستحقاق والاقتضاء لا عن الفعلية، وتكون
تلك الآيات من قبيل قولنا السم قاتل، فبقرينة المقابلة يكون السلب أيضا سلبا للاستحقاق
ونفيا له، فتكون الآية بنفسها دليلا على نفى الاستحقاق من دون احتياج إلى ضم مقدمة
أخرى.
أقول ان مبدأ المشتق المحمول على الذات، قد يكون اثرا لموضوعه، نظير السم
قاتل، فيكون ظهور الأولى لهذه القضية استناده إليه بنحو الاقتضاء، وقد يكون فعله
الاختياري، وهو قابل لان يستند إليه بنحو الاقتضاء وان يستند إليه بنحو الفعلية، ولكن
الظاهر من تلك القضايا هو الثاني: والشاهد عليه في المقام استهجان ان يخبر عن ترتب
العذاب، ويعقبه بعدم الفعلية - مثل - ان يقول انى أعذب تارك الصلاة، ولو لم يتحقق
العذاب في الخارج، وهذا بخلاف التركيب الأول، فإنه يصح ان يقال ان النار محرقة، وان
لم يحرق في الخارج - وبالجملة - من الاستهجان المزبور يستكشف ان الآيات المتضمنة
للعذاب تدل على الفعلية، فبقرينة المقابلة أيضا، يكون النفي نفيا للفعلية.
لا يقال انه على هذا يلزم الكذب تعالى الله عن ذلك: فان التائب لا يعاقب ومن
شفع له أو عفى عنه لا يعاقب.
فإنه يقال ان تلك الآيات يكن استعمالها كنائيا وبصدد بيان الأحكام، ومن
المعلوم ان الصدق والكذب في الكنايات يدوران مدار ما سيق الكلام لبيانه لا ما هو
مفاد القضية بالمطابقة - الا ترى - ان زيدا كثير الرماد صدق إذا كان جوادا وان لم يكن له
رماد، وكذب إذا لم يكن جوادا، فظهر ان جواب الشيخ الأعظم وحده تام.
ويمكن الجواب عنه بجواب آخر، وهو ان الظاهر من الآية نفى الاستحقاق إذ
195

الظاهر منها هو كونها بصدد بيان ان سنة الله جارية على ذلك، وان العقاب غير لايق
بمقامه ولا يناسب صدوره منه، ومن البديهي ان العقاب مع عدم الاستحقاق لا يليق بشأنه،
واما العقاب مع الاستحقاق فهو لايق بشأنه فمن نفى العقاب بهذا البيان يستكشف عدم
الاستحقاق.
الايراد الثالث: ان هذه الآية لا تنفع في مقابل الاخباري فإنه يزعم صلاحية اخبار
الاحتياط لكونه بيانا فيكون نسبة هذه الآية إلى دليلهم نسبة الأصل إلى الدليل.
وفيه: ان المراد ببعث الرسل بيان الحكم الواقعي، إذ الظاهر منه بيان ما يكون على
مخالفته العقاب وليس هو الا الحكم الواقعي ولا شبهة في أن اخبار الاحتياط ليست بيانا
له.
الايراد الرابع: ان المراد من بعث الرسل، ان كان وصول الحكم، صح ما ذكر،
ولكن من الممكن لو لم يكن هو الظاهر أن المراد به البيان في مقابل السكوت، فيكون
مفادها عدم العقاب على مخالفة ما لم يبينه الشارع وسكت عنه، فيكون مفادها مفاد
اسكتوا عما سكت الله فلا تدل على البراءة.
الآية الثانية التي استدل بها للبرائة
ومن الآيات، قوله سبحانه " لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها (1) " وتقريب الاستدلال بها
ان المراد من الموصول هو الحكم، فيكون المراد من الايتاء الاعلام والوصول، فيكون
المراد بها ان الله تبارك وتعالى لا يكلف بالتكليف غير الواصل إلى المكلف.
وأورد عليه بايرادات. الأول: ما عن الشيخ الأعظم (ره) - وحاصله - ان ما الموصولة
تحتمل معان ثلاثة أحدها خصوص الحكم، فيكون المراد من الايتاء الاعلام. ثانيها:
خصوص المال بقرينة قوله تعالى قبل ذلك ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله

1 - الطلاق / آية 7.
196

فيكون المراد بالايتاء الملكية والسلطنة. ثالثها: مطلق الفعل فيكون المراد بالايتاء الاقدار
عليه فتدل على عدم جواز التكليف بما لا يطاق، وحيث لا ريب في عدم جواز إرادة
خصوص الحكم منها، لمنافاته لمورد الآية، واردة المعنى الأعم الجامع بين المعان
الثلاثة لا تعقل، إذ على الأول يكون الموصول مفعولا مطلقا، وعلى الأخيرين يكون
مفعولا به، وإضافة الفعل إلى كل منهما تباين اضافته إلى الاخر، ولا جامع بين النسبتين،
فان المفعول المطلق يحتاج في إضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه من شؤون الفعل، وكيفياته
وموجودا بوجوده، والمفعول به يحتاج في إضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا
في الخارج قبل الفعل، وتعلق الفعل به موجبا لايجاد الفعل وصفا عليه فلا يمكن إرادة
الجامع، فيتعين إرادة أحد الأخيرين أو الجامع بينهما كما اختاره هو ره.
وفيه: انه يمكن إرادة الجامع وأن يكون ذلك مفعولا به ولا يلزم كونه مفعولا
مطلقا، بان لا يكون المراد من التكليف الحكم، بل المراد معناه اللغوي وهو الكلفة
والمشقة، فيكون المراد ان الله تعالى لا يوقع عباده في الكلفة من ناحية شئ حكما كان
بان ينجزه، ويعاقب عليه أم فعلا بان بأمر به الا ما آتاه أي أعطاه، فيكون الجامع هو المراد
من الموصول ويكون مفعولا به.
الايراد الثاني: ان الايتاء المنتسب إلى الحكم يراد به الاعلام والمنتسب إلى المال
يراد به الملكية والمنتسب إلى الفعل يراد به الاقدار ولا جامع بينها.
وفيه: ان المراد به هو الاعطاء غاية الامر اعطاء كل شئ بحسبه.
الايراد الثالث: هو الحق ان الايتاء بما انه استند إليه تعالى، يكون المراد به اعلامه
سبحانه بالطريق المتعارف بين الموالى والعبيد، بتوسيط الوحي إلى سفرائه، وابلاغ ما
أوحى الله إلى العباد، فيكون مفادها مفاد الآية المتقدمة، وهو انه تعالى لا يوقع العباد في
كلفة حكم لم يبينه وسكت عنه فتكون أجنبية عن المقام.
الآية الثالثة التي استدل بها للبرائة
ومن الآيات قوله تعالى مخاطبا لنبيه ملقنا إياه طريق الرد على الكفار حيث حرموا
197

على أنفسهم أشياء " قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة
أو دما مسفوحا " (1) حيث إنه تعالى أبطل تشريعهم، بعدم وجدان ما حرموه فيما أوحى الله
تعالى إليه، فلو لم يكن عدم الوجدان كافيا في الحكم بالإباحة وعدم الحرمة، لما صح
هذا الاستدلال.
وأورد على الشيخ الأعظم وتبعه المحقق النائين (ره)، بان عدم وجدانه (ص)، دليل
على عدم الوجود، وكاشف عنه، فلا يصح الاستدلال بها للحكم فيما لم يعلم وجوده،
والشيخ الأعظم (ره) قال إنه مشعر بذلك لما فيه من العدول عن التعبير بعدم الوجود إلى
عدم الوجدان، وأنكر ذلك المحقق الخراساني (ره) وقال إنه لعل النكتة في التعبير هو تلقين
ان يجادلهم بالتي هي أحسن، فإنه في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة الأدب ما ليس في
التعبير بعدم الوجود.
أقول الأظهر تمامية الاستدلال بها، إذ هذه الآية نزلت في مقام المحاجة مع الكفار
غير المعرفين بنبوته، المعلوم ان علمه (ص) بعدم الحرمة لا يفيد لهم، وفى هذا المقام لقنه،
بان يلزمهم بما هو من الأصول المسلمة عند العقلاء، وهو ان ما لم يعلم حرمته لا يجوز
الالتزام بتركه، وترتيب آثار الحرام عليه، فهذه الآية تدل على البراءة فتأمل.
الآية الرابعة التي استدل بها للبرائة
ومن الآيات قوله سبحانه " وما لكم الا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل
لكم ما حرم عليكم " (2) وتقريب الاستدلال بها، في سابقتها، لورودها في الرد على الكفار
الملتزمين بترك الفعل الذي ليس فيما فصل دليل على حرمته، فان الاستدلال لبطلان
مقالتهم بعدم وجود ما حرموه على أنفسهم فيما فصل من المحرمات دليل على إباحة
ما لم يعلم حرمته.

1 - الانعام آية 145.
2 - الانعام آية 119.
198

وأورد على الشيخ الأعظم (ره) بان ظاهر الموصول العموم، فالتوبيخ على الالتزام
بترك الشئ مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها، ومن
المعلوم ان لازم ذلك عدم كون المتروك من المحرمات الواقعية فالتوبيخ في محله.
وفيه: ان كون المحرمات الواقعية مفصلة بأجمعها، وعدم كون المتروك منها
بنفسه، لا يوجب العلم بعدم حرمة المتروك، ما لم يحرز ذلك، وليس في الآية الشريفة ما
يدل على أنهم كانوا عالمين بذلك، فالتوبيخ، يكون على الالتزام بترك شئ، مع عدم
كون المتروك فيما فصل وان احتملوا كونه من المحرمات الواقعية ولم يفصل.
ولكن يرد على الاستدلال بالآية الشريفة انها تدل على التوبيخ على ترك ما أحرز
عدم كونه من المحرمات المفصلة أي المبينة التي اعلم بها، وان احتمل كونه محرما
واقعيا، ولا كلام في ذلك، انما الكلام في إباحة ما احتمل كونه من المحرمات المفصلة.
الآية الخامسة التي استدل بها للبرائة
ومن الآيات قوله سبحانه " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم
ما يتقون " (1) أي ما يجتنبوه من الافعال والتروك، وتقريب الاستدلال بهذه الآية ما في آية
التعذيب وأورد عليه بايرادات.
الأول: ما عن الشيخ الأعظم (ره)، وهو ان هذه الآية كآية التعذيب، ظاهرة في
الاخبار عن حال الأمم السابقة بالإضافة إلى العذاب الدنيوي فلا تشمل الأمة المرحومة
والعذاب الأخروي.
والجواب عنه ما تقدم في تلك الآية من أن الآية لم ترد في مقام الحكاية فقط، بل
اما ان تكون في مقام، اظهار العدل، أو الرأفة بالعباد وعلى كل تقدير تدل على المطلوب
بالأولوية.

1 - التوبة 115.
199

الثاني: ما افاده المحقق الخراساني في حاشيته على الكفاية - وحاصله - ان اضلاله
تعالى انما هو بخذلانه وسد باب التوفيق بالطاعة، وايكاله إلى نفسه الموجب للعقاب
الدائمي والخلود الأبدي، وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف غيرها من
المراتب عليه.
وفيه: ان الظاهر من الآية كما ذكرناه في آية نفى التعذيب، كون ما تضمنته الآية
مما جرت عليه سنة الله وعادته، وان خلافه لا يليق بشأنه، وعليه فلا فرق في ذلك بين
مراتب العذاب والعقاب.
الثالث: ما ذكره المحقق الخراساني (ره)، من أن مفادها مساوق لكبري قبح العقاب
بلا بيان فلا ينفع التثبت بها في قبال الخصم المدعى لوجوب الاحتياط بمقتضى اخبار
التوقف والاحتياط، فان الخذلان على زعمه يكون عن البيان.
وفيه: ان الظاهر منها عدم العقاب على مخالفة التكليف غير المبين واخبار التوقف
والاحتياط انما تكون بيانا لوجوب الاحتياط الذي لا عقاب على مخالفته، ولا تكون بيانا
على التكليف الواقعي، بل توجب تنجيزه مع عدم مبينيته - وعليه - فالآية تعارض تلك
الأدلة.
فالصحيح ان يورد عليه بما أوردناه على الاستدلال باية نفى التعذيب، من أن بيان
الله تعالى، انما يكون بانزال الكتب، وارسال الرسل وتبليغ رسله احكامه بالطريق
المتعارف بين الموالى والعبيد، وعليه فيكون مفاد هذه الآية مفاد ما تضمن، اسكتوا عما
سكت الله عنه، ولا تتضمن حكم ما لو شك في حكم مبين.
الاستدلال للبرائة بحديث الرفع
واما من السنة فقد استدل للبرائة بروايات. منها حديث الرفع وهو الحديث
المروى عن الخصال بسند صحيح عن حريز عن الإمام الصادق (ع) قال، قال رسول
الله (ص) رفع عن أمتي تسعة: الخطاء، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما
200

لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد - والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم
ينطقوا بشفتيه (1).
وحيث إن الخبر من الصحاح والأصحاب اعتمدوا عليه في الفقه، فلا مورد
للبحث في سنده، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه وانه هل يدل على البراءة أم لا؟
وذلك يتم بالبحث في مواضع.
الأول: في بيان الأمور التي يتوقف عليها فهم المراد من الحديث. الثاني: في
جملة (ما لا يعلمون). الثالث: في ساير جملات الحديث.
اما الموضع الأول: ففي بيان أمور. الأول: ان الدفع والرفع وان اشتركا في أنهما انما
يصدقان مع وجود المقتضى، والا فعدم المعلول يستند إلى عدم المقتضى لا إلى وجود
المانع، وأيضا هما مشتركان في المنع عن تحقق المقتضى في الزمان اللاحق، الا ان بينهما
فرقا، وهو ان الرفع يعتبر في صدقه وجود المعلول سابقا كي، يكون الرافع مزيلا للشئ
الثابت، واما الدفع فيعتبر في صدقه عدم وجوده سابقا كي يكون سدا لباب المقتضى عن
التأثير.
وعلى ذلك فقد يشكل على الرواية بأنه كيف استعمل الرفع في المقام مع عدم
ثبوت المرفوع في زمان، وأجيب عنه بأجوبة.
أحدها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان مانعية شئ عن تأثير شئ آخر دائما
يكون بنحو الدفع، لان الرافع ما يمنع عن تحقق المقتضى بقاءا، ومن حينه ولا يمنع عن
الوجود السابق، لان وجود شئ في زمان غير مربوط بوجوده في السابق، ولا يعقل تأثير
المانع في الوجود السابق، فدائما يكون المانع مانعا عن تحقق المقتضى، وعليه فكل
رافع فهو دافع، مضافا إلى استعمال كل منهما في موضع الاخر في كلمات العرب.
أقول: قد ظهر الجواب عن ذلك مما ذكرناه في تقريب الايراد، إذ هذا وان كان
مطلبا صحيحا، الا ان المدعى هو اختلافهما في الموضع حيث إن الرفع وضع ليستعمل، فما

1 - الوسائل باب 56 من أبواب جهاد النفس، من كتاب الجهاد.
201

يمنع عن تأثير المقتضى مع فرض تأثيره في تحقق المقتضى في الزمان السابق، والدفع
وضع ليستعمل فيما يمنع عنه مع فرض عدم وجود المقتضى بالفتح سابقا.
ثانيها: ما عنه أيضا وهو ان العلاقة المصححة في الشبهة الموضوعية، انما هي
ثبوت الحكم واقعا كحرمة شرب الخمر، وهذا المقدار من سبق الوجود يكفي.
وفيه: انه بعد ما ليس المرفوع هو الحكم الثابت المنشعب عن لا تشرب الخمر،
والا يلزم ان يكون المرفوع هو الحكم الواقعي وهو (قده) غير ملتزم به، فلا محالة يكون
المرفوع هو ايجاب الاحتياط، فما سبق وجوده غير مرفوع، وما رفع لا يكون له سبق
وجود.
ثالثها: ما عن المحقق العراقي (ره)، وهو ان المصحح لاطلاق الرفع في المقام هو
وجود المقتضى لمثل هذا الانشاء في ظرف الجهل إذ مع وجود المقتضى يعتبرون
العقلاء كأنه موجود بالعناية.
وفيه: ان لازم هذا البيان ان الدفع يكون، بمعنى الرفع، ولا يكون بينهما فرق إذ
يعتبر في صدقه أيضا وجود المقتضى وهو خلف الفرض.
رابعها: وهو الحق وهو ان استعمال الرفع في الآية انما يكون باعتبار ان هذه
العناوين كانت في الشرايع السابقة ذووا احكام شرعية وموجودة في عالم التشريع،
فرفعت عن هذه الأمة فقد استعمل الرفع في معناه بهذه العناية.
والامر الثاني: انه قد يتوهم انه لا بد من تقدير امر في الفقرات التسع لشهادة
الوجدان بوجود الخطاء والنسيان وغيرهما من المذكورات، فلا محالة يكون المرفوع
أمرا آخرا، وقد وقع الخلاف في أنه، هل هو المؤاخذة والعقوبة، أو جميع الآثار، أو أظهر
الآثار، وقد ذكر لتعيين كل منها وجوده مذكورة في الرسائل، ولكن الظاهر عدم الاحتياج
إلى التقدير إذ الرفع فيها ليس رفعا تكوينيا كي يرد المحذور المذكور، بل هو رفع
تشريعي، وعليه فلا حاجة إلى التقدير أصلا - نعم - لا بد وأن يكون الأثر المرفوع من
الآثار الشرعية التي تكون قابلة للرفع والوضع، واما الآثار العقلية غير القابلة لذلك، فلا
تكون مرفوعة بالحديث، الا ما كان منها مترتبا على الأثر الشرعي.
202

الثالث: ان الرفع بالنسبة إلى غير ما لا يعلمون واقعي، وبالنسبة إلى ما لا يعلمون
رفع ظاهري توضيح ذلك أن الرفع في غير ما لا يعلمون يكون واقعيا لظهوره في ذلك
وعدم معقولية كونه ظاهريا في جملة منها - ودعوى - انه على هذا تكون النسبة بين كل
واحد من أدلة الأحكام الواقعية، وبين الحديث عموما من وجه فلا وجه لتقديمه
- مندفعة - بان الحديث حاكم عليها لأنه بلسان نفى الموضوع وتضييقه بالنسبة إلى تلك
الأدلة، وقد ثبت في محله تقديم الحاكم على المحكوم - مع - ان النسبة بين كل واحد
منها وبين الحديث، وان كانت عموما من وجه، الا ان النسبة بينه وبين جميعها عموم
مطلق، فيدور الامر بين تقديم جميعها عليه - وتقديمه عليها - وتقديم بعضها عليه تقديمه
على بعضها، والأول مستلزم لعدم بقاء المورد له، والأخير مستلزم للترجيح بلا مرجح
فيتعين الثاني.
واما فيما لا يعلمون ففي موارد الشبهة الحكمية، لا يعقل كون الرفع واقعيا،
لاستلزامه اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها، وقد عرفت في أوائل هذا الجزء، ان
اخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه مستلزم للخلف ولا يمكن - مضافا - إلى الأدلة
الدالة على اشتراك الأحكام بين العالمين والجاهلين.
واما في موارد الشبهة الموضوعية وان كان لا يلزم من الالتزام بكون الرفع واقعيا
المحذور المتقدم، الا ان المعلوم من مذاق الشارع والأئمة عليهم السلام، بل المستفاد من
الأدلة ثبوت الأحكام في حال الجهل مطلقا ولو كان الشك بنحو الشبهة الموضوعية،
فيكون الرفع ظاهريا.
والمراد به رفع وجوب الاحتياط، توضيح ذلك أنه حيث يكون وضع الحكم
الواقعي في حال الجهل على رقبة العبد بايجاب الاحتياط، فكذلك، له ان يرفعه بعدم
ايجابه، وان شئت فقل انه كما أن ايجاب الاحتياط وضع للواقع بجعل الحكم الطريقي
كذلك عدم ايجابه مع ثبوت المقتضى للوضع رفع للواقع، فالرفع فيه أيضا مستند إلى
الواقع ولا يكون المقدر وجوب الاحتياط.
ثم انه لا مانع من الالتزام بكون الرفع واقعيا بالمعنى الأول فيما إذا كان الشك في
203

المتعلق مع كونه موضوعا لحكم آخر نظير الشك في شرب الخمر بالنسبة إلى وجوب
الحد فمن شرب الخمر عن جهل بالخمرية لا يجب اجراء الحد عليه واقعا.
ويترتب على ما ذكرناه من كون الرفع فيما لا يعلمون ظاهريا - وفى غيره واقعيا -
انه بالنسبة إلى غير ما لا يعلمون لو كان هناك عموم أو اطلاق مثبت للحكم في تلك
الموارد، لزم تخصيصه أو تقييده، بحديث الرفع، ويكون ارتفاع تلك العناوين موجبا
لتبدل الحكم واقعا من حينه، فاجزاء الماتى به في حال الاضطرار مثلا واضح، واما فيما
لا يعلمون فلو كان هناك عموم أو اطلاق مثبت للحكم لزم الاخذ به ولا يبقى معه
موضوع لحديث الرفع، لارتفاع الجهل به، ويكون ارتفاع الجهل لو عثر على الدليل
المثبت للتكاليف بعد العمل موجبا لكشف الخلاف، وظهور ثبوت الحكم من الأول
فالاجزاء يبتنى، على اجزاء الامر الظاهري، أو على دلالة دليل آخر عليه كحديث (لا تعاد
الصلاة) (1).
الامر الرابع: ان لسان الحديث كما هو مفاد الظاهر فيه، رفع الحكم لا وضعه،
وعليه فليس لسانه تنزيل الموجود، منزلة المعدوم، كما عن المحقق النائيني (ره) لان تنزيل
شئ منزلة غيره، يستدعى ترتيب آثار ذلك الشئ عليه، وعرفت ان الحديث ليس شانه
الوضع بل انما يرفع الحكم الثابت لولاه، كما أن الظاهر من الحديث انما هو رفع الحكم،
لا نفى المتعلق، إذ ليس لسانه لسان النفي كما في لا شك لكثير الشك، فإنه نفى للحكم
بلسان نفى الموضوع، وهذا بخلاف الحديث، فإنه انما يرفع موضوعية الموضوع الذي
مرجعه إلى رفع الحكم فاحفظ ذلك فإنه يترتب عليه فائدة مهمة.
الامر الخامس: ان متعلق الرفع ليس نفس العناوين المذكورة في الحديث بل
المرفوع هو الفعل المتصف بأحدها، اما في غير الخطاء والنسيان فواضح، واما فيهما
فلو حدة السياق، ولأن رفع نفس العناوين مناف للامتنان وضد للمقصود، مضافا إلى أنه
لا يتصور جعل الحكم لهما بما هما كمالا يخفى، فالمرفوع هو الفعل المتصف بهما.

1 - الوسائل باب 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث 4.
204

ثم انه يقع الكلام في أن المرفوع بالحديث هل هو الأحكام الثابتة للفعل المعنون
بأحد العناوين المزبورة، أو الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأولى، أو هما معا.
قد يقال بالثاني واستدل له المحقق الخراساني تبعا للشيخ الأعظم (ره)، وتبعه غيره،
بأنه لا يعقل رفع الآثار المترتبة على الفعل المعنون بأحد العناوين، إذ الظاهر أن هذه
العناوين صارت موجبة للرفع والموضوع للأثر مستدع لوضعه فكيف يكون موجبا
لرفعه.
وفيه: انه قد عرفت انه يعتبر في صدق الرفع كون الموضوع مقتضيا للوضع فكونه
مقتضيا له، مما يعتبر في صدق الرفع، لا انه ينافيه - وبعبارة أخرى - بعد ما عرفت من أن
المراد من الرفع هو الدفع، أو رفع الآثار الشرعية الثابتة في الشرايع السابقة، لا يبقى مجال
لهذا الاشكال. نعم، يكون الحديث معارضا للأدلة المتكفلة للأحكام الثابتة للفعل
المعنون بأحد العناوين، وبما ان تلك الأدلة أخص تقدم فثبوت سجدتي السهو وكفارة
القتل الخطائي مثلا انما يكون من قبيل التخصيص.
ويمكن ان يوجه عدم المعقولية بان ورود الخبر مورد الامتنان يقتضى ان تكون
الجهات الموجبة للمنة برفع الأحكام، هي هذه العناوين المأخوذة في الخبر من الجهل
وغيره، فإذا كانت هذه الجهات مقتضية لرفع تلك الأحكام، فلا محالة ليست بما هي
مقتضية لثبوتها، لأنه لا يقل كون عنوان واحد مقتضيا، للوضع، والرفع، ولا ينافي ذلك
اعتبار اقتضاء الوضع في صدق الرفع فان المعتبر وجود المقتضى فيما يرفع، وهو الفعل،
لا كون الجهة المقتضية للرفع بعينها مقتضية للوضع فتدبر.
وعليه فالمرفوع هي الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأولى. مع، انه لو تنزلنا عن
ذلك وسلمنا معقولية ان يكون المرفوع الآثار المترتبة على الفعل المعنون بأحد العناوين،
بما انه لا جامع بين كلا القسمين من الأثر والامر يدور بينهما، فيكون الترجيح مع
ما ذكرناه لفهم الأصحاب ولاستشهاد الإمام (ع) على ما في رواية المحاسن (1) بمثل هذا

1 - الوسائل باب 16 من كتاب الايمان ج 16 ص 144.
205

الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق.
الامر السادس: ان الظاهر من الحديث رفع الآثار المترتبة على فعل المكلف، واما
الآثار المترتبة على الموضوع الخارجي، بلا دخلا لفعل المكلف فيه فالحديث لا يرفع
تلك الآثار لان ما يتعلق به الاضطرار والاكراه وأخواتهما انما هو فعل المكلف،
لا الموضوع الخارجي - وعليه - فلو لاقى يد الانسان مع شئ نجس اضطرارا أو خطاءا
لا يمكن رفع النجاسة بالحديث، إذ الأثر لم يترتب على فعل المكلف، بل على الموضوع
الخارجي، وهو الملاقاة ولو بغير اختيار، وبما ذكرناه يظهر عدم شمول الحديث لوجوب
قضاء الفائت من المكلف اضطرارا أو اكراها.
لان وجوب القضاء مترتب على الفوت بما هو من غير دخل لفعل المكلف فيه.
ولا يتوهم انا ندعي عدم شمول الحديث للموضوعات فان ذلك غير صحيح، إذ
لو كان فعل المكلف موضوعا لحكم يشمله الحديث كالافطار الذي جعل موضوعا
لوجوب الكفارة إذ لا وجه لاختصاصه بالمتعلقات، بل ندعي عدم شموله للموضوع
الخارجي.
الامر السادس: يعتبر في جريان حديث الرفع ان يكون في رفع الحكم منة على
العباد فبيع المضطر لا يرفع صحته بالحديث، إذ رفعها خلاف المنة، ويعتبر ان يكون في
رفعه منة على الأمة فلو كان منة على شخص، وضيقا على آخر، لا يشمله الحديث، فلو
أتلف مال الغير بغير اختياره، لا يمكن اجراء الحديث، والحكم بعدم الضمان، فان في
رفعه وان كان منة على المتلف الا انه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك.
فهل يعتبر ان يكون في وضعه خلاف الامتنان كما عن المحقق العراقي (ره) أم
لا يعتبر ذلك وجهان، أقواهما الثاني، لاطلاق الحديث ووروده في مقام الامتنان
لا يقتضى ذلك ولا اجمال الحديث، وما رتبه على ما ادعاه من عدم رفع الحكم الواقعي
فيما لا يعلمون لعدم كونه بوجوده الواقعي مما فيه ضيق على المكلف - غير تام - إذ عدم
رفعه انما يكون لوجه آخر تقدم آنفا ولو تم هذا الوجه لاقتضى عدم رفعه حتى على
المسلك الاخر، إذ ليس في رفعه امتنان.
206

فيما يستفاد من جملة ما لا يعلمون
الموضع الثاني: في جملة ما لا يعلمون وبيان ما يصلح ان يكون مرفوعا فيها، وتنقيح
القول فيها بالتكلم في جهات. الأولى: ان المرفوع ليس هو الحكم الواقعي لما تقدم، في
الامر الثالث في الموضع الأول، ولا المؤاخذة، ولا استحقاقها، لما تقدم في الامر الثاني،
ولا فعلية الحكم الواقعي، لما تقدم فالجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من عدم
معقولية نفى الفعلية بعد الانشاء الا بالتصرف في الجعل.
بل المرفوع هو ايجاب الاحتياط لا بتقدير ذلك، بل من جهة ان ايجاب الاحتياط
انما يكون من مقتضيات نفس التكليف الواقعي، فثبوته انما يكون نحو ثبوت للحكم
الواقعي، ولهذا يصح في مقام التعبير عن رفعه، برفع الحكم الواقعي في الظاهر وقد تقدم
توضيح ذلك في الامر الأول من الموضوع الأول.
فان قلت إنه إذا كان المرفوع هو ايجاب الاحتياط فحيث ان احتمال التكليف
الواقعي موجود واحتمال المؤاخذة على مخالفته لا دافع له فيكون موضوع وجوب دفع
الضرر المحتمل باقيا فيجب الاحتياط بحكم العقل، والشرع.
قلت إن العقاب على الواقع غير الواصل مقطوع العدم ولو بضميمة قبح العقاب بلا
بيان فاحتمال ثبوته انما يكون بواسطة احتمال جعل الطريق إليه وايجاب الاحتياط، فإذا
رفع ايجاب الاحتياط، لزم منه رفع المؤاخذة لرفع منشأه، وان شئت قلت إن المؤاخذة
كوجوب الطاعة وحرمة المخالفة من الأحكام الواقعية المترتبة على المجعولات الشرعية
أعم من الظاهري والواقعي، فكما ان عدم الحكم الواقعي مستلزم لعدم العقاب كذلك
التعبد بعدمه في الظاهر فتدبر.
واما ما افاده الأستاذ من أنه لا يكون المرفوع ايجاب الاحتياط بل هو نفس الالزام
ظاهرا، وأوضحه: بان الحكم سواء كان واقعيا أم ظاهريا يكون امر وضعه ورفعه بيد
الشارع، فكما ان للمولى ان يجعل الوجوب أو الحرمة واقعيا كذلك له ان يجعل
207

الوجوب، أو الحرمة في ظرف الشك في الواقع، فإذا لم يفعل مع وجود المقتضى له فقد
رفعه، ولازمه ثبوت الترخيص في اقتحام الشبهة، وعدم وجوب الاحتياط، فان الأحكام
متضادة في مرحلة الظاهر أيضا، فكما ان عدم الالزام واقعا يستلزم الترخيص كذلك عدم
الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا، ومعه لا يبقى مورد لاحتمال العقاب.
فيرد عليه ان المراد من الالزام الظاهري، ان كان هو الحكم الطريقي المجعول
للمشتبه بما هو مشتبه بداعي تنجز الواقع، فليس هو الا ايجاب الاحتياط، وان كان المراد
هو الحكم الواقعي المجعول له بما هو كذلك فرفعه لا يفيد كما لا يخفى، وان كان المراد
غير ذلك فلا بد من توضيح أزيد من ذلك.
عموم الحديث للشبهة الحكمية والموضوعية
الجهة الثالثة: في بيان الحديث هل يختص بالشبهة الموضوعية، أو الحكمية، أم
يعم كلتا الشبهتين، ويتوقف بيان ما هو الحق على بيان ان المراد بالموصول، هل هو الفعل
الخارجي، أم يكون المراد منه الحكم، أو الجامع بينهما، وعلى الأول هل المراد من
لا يعلمون، عدم العلم بعنوان الفعل، وانه مصداق عنوان محرم، أم مصداق عنوان محلل،
أم يكون المراد عدم العلم بحكمه، أو الجامع بينهما، وجوه، فمجموع محتملات الرواية
خمسة.
أقول انه لو كان المراد من الموصول الفعل كان الظاهر من لا يعلمون الجهل بعنوان
الفعل واحتمال إرادة الجهل بحكمه أو الجامع خلاف الظاهر، لظهور الوصف في كونه
وصفا بحال نفس الموصوف لا متعلقه.
وتوجيه إرادة الجهل بالحكم أيضا بان يقال ان الجهل بالشئ قد يكون باعتبار
صدوره، وقد يكون باعتبار عنوانه، ومن الواضح ان عدم العلم والجهل، انما هو بالاعتبار
الثاني، وإذا كان التقدير هو العنوان وكان معنى حديث الرفع رفع ما لا يعلم عنوانه، فليكن
العنوان أعم من الذاتي والعرضي فحينئذ يكون المراد كل جنس فعل كالشرب مثلا لم
208

يعلم عنوانه الذاتي كما إذا لم يعلم أنه شرب خمر أو شرب ماء، أو لم يعلم عنوانه العرضي
كان لم يعلم أنه حرام أو مباح فهو مرفوع.
غير صحيح لان المراد من الرفع التشريعي، فمعنى رفع الموضوع الخارجي،
رفع حكمه، فلا بد فيما يستند إليه الرفع، ان يكون ذا حكم شرعي حتى يكون معنى رفعه
رفع حكمه، ومن المعلوم ان الموضوع للأحكام، انما هو أنواع الافعال لا أجناسها فطبيعي
الشرب لا يكون متعلقا لحكم حتى يستند الرفع إليه، بل الحكم مترتب على أنواعه، فلا بد
وأن يكون المراد من الموصول نوع الفعل الذي هو متعلق الحكم حتى يرتفع حكمه
- وبعبارة أخرى - بعد كون المراد من الرفع، رفع الحكم لو كان المراد من الموصول نوع
الفعل يكون الرفع مستندا إليه، ولو كان المراد جنسه لكان مستندا إلى نوعه ومحتاجا إلى
تقدير النوع وكلما دار الامر بين التقدير وعدمه يكون عدمه أظهر، وأوفق بالقواعد،
وعليه فالمراد من الجهل الجهل يتحققه، لا بعنوانه، فلا يكون المراد من لا يعلمون الجهل
بعنوان الفعل، فيدور الامر بين احتمالات ثلاثة - الأول - إرادة الفعل من الموصول
فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية - الثاني - إرادة الحكم منه - الثالث - إرادة الجامع
بينهما فيعم كلتا الشبهتين.
وقد استدل لان المراد منه الفعل بوجوه، أحدها، ما افاده الشيخ الأعظم، وهو
وحدة السياق، إذ المراد من الموصول في ساير الجملات، هو الفعل كما هو واضح،
فيكون مقتضى وحدة السياق، ارادته من الموصول في هذه الجملة أيضا.
وفيه: ان لفظة، ما، تكون من الموصولات والألفاظ المبهمة المستعملة دائما في
معنى واحد سواء أريد بها الفعل، أو الحكم، والاختلاف انما يكون في المراد الجدي
لا في المستعمل فيه، ووحدة السياق انما تصلح ان تكون معينة للمستعمل فيه، لا المراد
الجدي - وبالجملة - وحدة المستعمل فيه التي توجب وحدة السياق مفروضة في المقام،
واما تعيين المصداق، والمراد الجدي، بملاحظة تعينه في ساير الجملات، فلا تكون
وحدة السياق صالحة لذلك.
مع أنه لو سلم ان وحدة السياق تعين المراد الجدي، فإنما هو فيما إذا كان القيد
209

الثابت شرعيا، كما إذ رتب الحكم على جملة أمور، وقيد عدة منها بقيد شرعا، يستكشف
بمقتضى وحدة السياق، تقيد الجميع بذلك القيد، واما لو كان القيد الثابت لتلك الأمور
عقليا لا بحكم الشارع، فلا وجه للحكم بان وحدة السياق تدل على تقيد غيره به كما هو
واضح، والمقام من قبيل الثاني إذ إرادة الفعل بخصوصه من لفظة - ما - في ساير الجمل،
انما تكون لأجل عدم تعقل تعلق العناوين المذكورة في صلتها، من الاضطرار - والاكراه -
وما لا يطاق بالحكم، فلا وجه للحكم بإرادة الفعل من جملة ما لا يعلمون.
ثانيها: ان الرفع لا بد وان يستند إلى ما فيه الثقل، ومن الواضح ان الحكم ليس فيه
ثقل بل انما هو يوجب الثقل، فالثقل انما يكون في الفعل، باعتبار ان اتيان الفعل بعنوان
كونه ملزما عليه شاق، أو باعتبار ان الاتيان به على خلاف مقتضى الطبع خوفا من العقاب
شاق وثقيل على المكلف، فالرفع يستند إليه لا إلى الحكم.
وفيه: ان الرفع انما يكون في مقابل الوضع، فكلما يصح اسناد الوضع إليه، يصح
اسناد الرفع إليه ومن الواضح، ان الحكم الشرعي مما يكون قابلا لاسناد الوضع إليه،
فكذلك يستند الرفع إليه.
مع أنه لو سلم اعتبار كون المرفوع ثقيلا، فلا يكون مختصا به، بل كما يصح
اسناده إلى ما فيه الثقل، يصح اسناده إلى الموجب له، والى ما هو اثره وهو المؤاخذة كما
لا يخفى.
ثالثها: انه لا شبهة في شمول الحديث للشبهات الموضوعية، فالموصول أريد به
الفعل يقينا، فلو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله في معنيين، وهو لا يجوز.
وفيه، أولا: انه لو أريد به الجامع بينهما، المنطبق على الفعل تارة، وعلى الحكم
أخرى، وكان الاختلاف في المصداق، دون المفهوم، لا يلزم المحذور المذكور. وثانيا:
انه ستعرف انه لو أريد به الحكم، كان الحديث شاملا للشبهتين.
رابعها: ما افاده الشيخ الأعظم، وهو ان ظاهر الحديث رفع المؤاخذة، ومن
الواضح ان المؤاخذة انما تكون على الفعل أو الترك، ولا معنى للمؤاخذة على الحكم،
فتقديرها يوجب إرادة الفعل من الموصول.
210

وفيه: مضافا إلى ما مر من عدم تقديرها، وان المرفوع هو نفس ما لا يعلم أريد به
الحكم أو الفعل، لان الرفع تشرعي لا تكويني: انه قد مر ان المؤاخذة لا تقدر بنفسها فإنها
من الآثار العقلية، بل المرفوع منشاها، وهو وجوب الاحتياط، وعرفت انه من مقتضيات
الحكم، لا الفعل فهذا الوجه لو تم لاقتضى إرادة الحكم من الموصول لا الفعل.
خامسها: ما افاده المحقق الخراساني في التعليقة وحاصله ان اسناد الرفع إلى الحكم
حقيقي، والى الفعل مجازي لكونه اسنادا إلى غير ما هو له، إذ لا معنى لرفع الفعل،
فالمرفوع حكمه، فلو أريد من الموصول الفعل كان الاسناد في جميع الفقرات مجازيا
لإرادة الفعل من الموصول فيها قطعا ولو أريد منه الحكم كان الاسناد بالإضافة إليه
حقيقيا وبالإضافة إلى ساير الجمل مجازيا، وحيث إن الرفع في الحديث أسند إلى
المجموع، باسناد واحد لزم ان يكون حقيقيا أو مجازيا، ولا يعقل ان يكون بالنسبة إلى
بعضها حقيقيا وبالنسبة إلى بعض آخر مجازيا، وحيث انه بالنسبة إلى ساير الفقرات يكون
مجازيا فلا بد وان يراد من الموصول في هذه الفقرة، الفعل ليكون بالنسبة إليها أيضا
مجازيا.
وفيه: أولا ان منشأ هذا التوهم هو الخلط بين الرفع التكويني والتشريعي، حيث إنه
لا يصح رفع الفعل تكوينا فلو أسند الرفع إلى الفعل لا محالة يكون المرفوع في الحقيقة
هو حكمه، ولكن الرفع التشريعي الذي هو المراد من الحديث فتعلقه بالفعل واخراجه
عن عالم التشريع ممكن حقيقة.
توضيح ذلك أن الصفات التعلقية كالشوق والحب، وكذلك الاعتباريات لا يعقل
ان تتحقق الا مضافة إلى الماهيات وتلك الماهيات تتحقق بنفس تحقق هذه الأمور نظير
تحقق الماهية بالوجود الخارجي والذهني، فوجودها انما يكون بوجود هذه واعدامها
باعدام هذه نظير اعدام الماهية في الخارج، فإنه انما يكون باعدام الوجود، وعلى الجملة
الرفع التشريعي نسب إلى الفعل حقيقة كما ينسب إلى الحكم كذلك فإنه عبارة عن عدم
جعل الفعل متعلقا للاعتبار التشريعي، نظير لا صيام في السفر، ولا ربا بين الوالد والوالد
وما شاكل، فالاسناد بالنسبة إلى جميع الفقرات حقيقي، وان أريد بالموصول الفعل.
211

وثانيا: انه لو سلم كون اسناد الرفع إلى الفعل مجازيا يكون اسناد الرفع إلى التسعة
مجازيا، حتى لو أريد من الموصول فيما لا يعلمون، هو الحكم لان اسناد الرفع إلى
الحكم وان كان حقيقيا، ولكنه بالنسبة إلى اللب والتحليل، والميزان في كون الاسناد
حقيقيا أو مجازيا، انما هو الاسناد الكلامي، لا الاسناد التحليلي، وليس في الكلام الا
اسناد واحد بحسب وحدة الجملة، وهو اسناد الرفع إلى عنوان جامع بين جميع
المذكورات وهو عنوان التسعة، ومعلوم ان الاسناد الواحد إلى المجموع المركب مما هو
له، ومن غير ما هو له اسناد إلى غير ما هو له، وعليه فاسناد الرفع إلى التسعة مجازي، وان
أريد من الموصول في جملة ما لا يعلمون الحكم، وان أبيت عن ذلك وقلت إنه ينحل إلى
اسنادات عديدة، فلا مانع من كون هذا الاسناد حقيقيا بالنسبة إلى بعض التسعة ومجازيا
بالنسبة إلى بعض آخر أي باعتبار كونه متعلقا بالحكم حقيقيا وباعتبار كونه متعلقا بالفعل
مجازيا.
واما الاحتمال الثاني وهو ان يكون المراد من الموصول الحكم، فلا محذور فيه
سوى انه لا وجه للالتزام به في مقابل إرادة الفعل، والا فيمكن ان يبنى على ارادته منها مع
شمول الحديث للشبهات الموضوعية والحكمية معا بان يبنى على الاطلاق من حيث
المنشأ.
ودعوى انه في الشبهة الموضوعية حيث لا يكون الحكم حقيقة مجهولا، بل
المجهول هو انطباق الموضوع على المشكوك فيه، وينسب الجهل إليه بالعرض، والا
فالحكم في الحقيقة معلوم، فيكون خارجا عن مورد الرواية إذ الرفع حكم لما كان
الحكم حقيقة مجهولا.
مندفعة: بان ذلك وان كان يتم فيما إذا كان التكليف بنحو صرف الوجود، ولم
يدع جريان البراءة فيه أحد، كما إذا كان وجوب الصلاة إلى القبلة معلوما، وشك في كون
جهة قبلة فإنه لا مورد للبرائة، ولا يتم فيما إذا كان التكليف انحلاليا نظير حرمة شرب
الخمر، فان كل فرد من افراد الخمر محكوم بحكم غير احكام ساير الافراد، فلا محالة
يكون الشك في المصداق شكا في الحكم حقيقة.
212

فالمتعين هو الاحتمال الثالث، أي إرادة الجامع بين الحكم والفعل، وتقريبه ان
لفظة (ما) من الموصولات وموضوعة لمفهوم جامع بين جميع الأشياء نظير لفظ الشئ
المنطبق، على الفعل تارة، وعلى الحكم أخرى، ومقتضى الاطلاق إرادة ذلك، فان عدم
امكان إرادة غير الفعل من لفظة ما في ساير الجمل لا ينافي ارادته منها في هذه الجملة.
فان قلت إنه من ارادتهما معا يلزم الجمع بين الاسناد الحقيقي والمجازي، حيث إن
اسناد الرفع إلى الفعل اسناد مجازي إذ المرفوع في الحقيقة حكمه، والى الحكم
حقيقي ولو كان المراد من الموصول هو الأعم لزم اجتماع اسنادين وهو غير معقول،
أجبنا عنه بما تقدم مفصلا فراجع، وعليه فالحديث يشمل الشبهة الحكمية، والموضوعية
معا.
ثم إن بعض الأعاظم أفاد انه يمكن بشمول الحديث لكلتا الشبهتين، مع
فرض كون المراد من الموصول هو فعل المكلف، بان يقال ان المراد هو الفعل بما انه
متعلق التكليف فحينئذ الشك فيه كما يمكن ان يكون باعتبار الجهل بعنوانه الذاتي،
يمكن ان يكون باعتبار الشك في حكمه مثلا، شرب المايع الخارجي قد يكون مجهولا
بعنوانه الذاتي، وهو كونه شرب الخمر الملازم للجهل بحكمه، وقد يكون عنوانه الذاتي
معلوما، والجهل، انما يكون في وصفه العرضي وهو الحرمة فهو بكل اعتبار تعلق به
الجهل مرفوع.
وفيه: ان العنوان الذي يحتمل كونه مرادا من الموصول ان اخذ مرآة إلى
المتصف به وهو الذات إلى فعل المكلف، رجع ذلك إلى إرادة الفعل منها، وان اخذ
في الموضوع باعتبار نفسه رجع إلى إرادة الحكم منها، وان اخذ باعتبار كليهما رجع إلى
ما اخترناه.
الجهة الثالثة: في شمول الحديث للأحكام الضمنية والكلام في هذه الجهة موكول
إلى مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين وسيظهر لك جريان البراءة فيها.
الجهة الرابعة: الظاهر اختصاص الحديث بالأحكام التكليفية وعدم جريانها في
الوضعيات إذ لو لم يعلم سببية معاملة خاصة وامضائها شرعا كان مورد الأصالة الفساد
213

ولا معنى لاجراء حديث الرفع فيها فإنه ان أريد اثبات امضائها فالحديث لا يصلح لذلك،
وان أريد رفعه لم يكن فيه منة، وان شك في جزئية شئ أو شرطيته لمعاملة خاصة ولم
يكن لدليلها اطلاق مقتضى لعدم الاعتبار، فحيث ان شان حديث الرفع رفع الحكم أو
الوضع المتعلق بالمجموع من المعلوم والمجهول، وامضاء المشتمل على المشكوك
اعتباره لا شك فيه، فلا معنى لرفعه، ورفع جزئية المشكوك اعتباره وحدها لا يمكن كما
ستعرف.
في جريان البراءة في الأحكام غير الالزامية وعدمه
ثم انه لا ريب في اختصا البراءة العقلية بموارد الشك في التكاليف الالزامية كما
لا يخفى.
واما البراءة الشرعية ففي اختصاصها بها خلاف. ثالثها - التفصيل بين ما لو شك في
التكليف الاستقلالي وما لو شك في التكليف الضمني، فتجري في الثاني دون الأول.
وهو الأظهر: لأنه في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية ما يكون قابلا للرفع
انما هو حسن الاحتياط لما عرفت من أن رفع التكليف في الظاهر انما هو رفع للاحتياط،
فان كان الشك في التكليف الإلزامي، فالمرفوع ايجاب الاحتياط، وان كان في غير
الإلزامي، فالمرفوع انما هو استحبابه وحسنه، وحيث إن الاحتياط حسن ومستحب على
كل حال، ويعلم عدم ارتفاعه فالتكليف غير الإلزامي المحتمل غير مرفوع ظاهرا.
واما في مورد الشك في التكليف الضمني، فبما ان تقيد المستحب بالقيد المجهول
مشكوك فيه فلا مانع من شمول الحديث له لنفيه، واثبات عدم التقييد ظاهرا، فيكون
المرفوع هو الوجوب الشرطي، المترتب عليه عدم جواز الاتيان بالفاقد للشرط بداعي الامر.
عنوان الخطاء والنسيان من العناوين المرفوعة
الموضع الثالث: في ساير جملات الحديث انها على اقسام ثلاثة ولكل
214

منها آثار خاصة كما ستعرف فالكلام يقع في موارد.
الأول: في الخطأ والنسيان وقبل الشروع في البحث فيهما ينبغي ان يعلم أن النسيان
عبارة عن الذهول وانمحاء صورة الشئ عن صفحة الذهن في مقابل الحفظ، ولازم
ذلك ترك الفعل، واما اتيان شئ آخر مكان المنسى، فهو لا يستند إلى النسيان، إذ
لا يعقل ان يكون ذهول شئ عن الذهن وانعدامه علة باعثة لايجاد شئ آخر كيف ومن
مبادئ وجود الشئ حضوره عند النفس، بل وجود شئ آخر مانه مستند إلى ارادته
بما لها من المبادئ، مثلا لو نسى خمرية مايع، وتخيل انه ماء فشربه، نسيان الخمرية
لا يصير علة لشربه، بل العلة له إرادة شرب الماء.
فعلى هذا يختص النسيان بالواجبات بان يتعلق النسيان بها فيتركها، ولا مورد له في
المحرمات إذ ارتكاب المحرم لا يمكن بسبب النسيان، واما الخطاء فهو عبارة عن ايجاد
شئ مع عدم تعلق القصد به بان يكون القصد متعلقا بايجاد شئ ويقع شئ آخر وهو
على قسمين شبه العمد والخطاء المحض، والأول عبارة عما لو اتى بفعل وقصد عنوانا
وتحقق شئ آخر، كما لو ضرب زيدا بقصد التأديب فمات، ولم يكن يحتمل ان يموت،
والثاني عبارة عما لو قصد فعلا ولم يتحقق ذلك، ووقع فعل آخر كما لو قصد رمى صيد
فأصاب انسانا وقتله، وكلا القسمين يختصان بالمحرمات ولا مورد لهما في الواجبات الا
في التكليف الضمني بايجاد المانع خطاءا.
ثم إن المنة في رفعهما مع أن ترك الواجب وفعل الحرام في موردهما خارجان
عن سوء اختيار المكلف، ولا مقتضى للوضع، انما هو من جهة مقدورية المقدمة وهي
التحفظ، وعلى ما ذكرناه ما افاده المحقق النائيني (ره)، فيما لو نسى الصلاة في تمام الفوت
من أنه لو نسيها بما انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله الحديث.
يرد عليه مضافا إلى ما سنذكره، ان النسيان تعلق بالصلاة فتركها فالمنسي هو
الصلاة فيرتفع وجوبها.
وكيف كان فالكلام في المورد الأول، وهو الخطاء والنسيان يقع في مقامين.
أحدهما: في الأحكام التكليفية. ثانيهما: في الأحكام الوضعية.
215

اما المقام الأول: فالكلام يقع تارة في التكاليف الاستقلالية، وأخرى في التكاليف
الضمنية.
اما التكاليف الاستقلالية، فحيث ان متعلق التكليف في المحرمات بحسب الغالب
الطبيعة السارية، وفى الواجبات صرف وجود الطبيعة، وعرفت ان النسيان مختص
بالواجبات والخطاء بالمحرمات، فالكلام في موضعين، اما في المحرمات فسقوط
التكليف بعروض الخطاء على فرد كما لو شرب الخمر خطائا، لا اشكال ولا كلام فيه،
واما في الواجبات فلو عرض النسيان على فرد من الواجب كما لو نسى الاتيان بالصلاة في
ساعة من الوقت لا يكون ذلك الفرد مشمولا للحديث ولا يرتفع الحكم المتعلق بالصلاة
في المثال إذ ما تعلق به التكليف وهو طبيعي الصلاة الواقعة ما بين المبدأ والمنتهى لم يطرأ
عليه النسيان، وما طرأ عليه النسيان وهو الفرد لا يكون متعلق التكليف.
نعم لو طرأ النسيان على الطبيعة كما لو نسى الصلاة في تمام الوقت كان التكليف
ساقطا.
واشكل المحقق النائيني في ذلك بان شان حديث الرفع انما هو تنزيل الموجود
منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه يكون وضعا لا رفعا، فلو نسى
الصلاة فبما انه لم يصدر منه امر وجودي قابل للرفع فلا يشمله الحديث.
وفيه: ما تقدم من أن لسان الحديث ليس هو التنزيل والا كان وضعا لا رفعا، من
غير فرق فيه بين تنزيل المعدوم منزلة الموجود أو العكس، بل شان الحديث انما هو رفع
الحكم، وهو قابل لتعلقه بالفعل كما في الصلاة المنسية.
واما التكاليف الضمنية، فالكلام تارة في نسيان جزء أو شرط في فرد، وأخرى في
نسيانه في المأمور به وهو الطبيعة ما بين المبدأ والمنتهى، وثالثة في ايجاد المانع، اما الأول
فلو نسى فترك جزءا أو شرطا في فرد، فقد عرفت ان الحديث لا يشمله لان متعلق
التكليف هو الطبيعة ومتعلق النسيان هو الفرد مع أن المعتبر هو تعلق النسيان بما هو متعلق
التكليف.
وقد يقال ان هذا يتم في غير الصلاة، ولا يتم فيها بناءا على حرمة ابطالها و
216

وجوب الاتمام، إذ معنى وجوب الاتمام تعين الطبيعة المأمور بها في الفرد، وعليه فيكون
الفرد مأمورا به فلو نسى جزءا منه يكون متعلق النسيان عين متعلق التكليف.
ويرد عليه انه لا وجه لارجاع الامرين إلى امر واحد، بل الامر بالطبيعة، والامر باتمام
الفرد على تقدير الشروع في الصلاة أمران مستقلان، لكل منهما إطاعة مستقلة وعصيان
كذلك، وكل منهما ناش عن مصلحة خاصة غير مربوطة بما في متعلق الاخر من
المصلحة.
نعم يرتفع بالحديث حرمة الابطال من ناحية ترك المنسى، وهذا نظير ما إذا وقع
أحد الافراد متعلقا للنذر، ونسي اتيان الجزء في ذلك الفرد، فإنه يرتفع الوجوب المدلول
للامر النذري دون وجوب الصلاة.
واما الثاني: كما لو كان نسيان الجزء أو الشرط مستوعبا للوقت، فالظاهر شمول
الحديث له، غاية الأمران الجزء وكذا الشرط، بما انه ليس متعلقا لحكم مستقل بل هو
متعلق حكم ضمني ورفع ذلك انما يكون برفع الامر بالمركب والكل كما أن وضعه انما
يكون بوضعه ولا يعقل الرفع بدونه ويرتفع به التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على
المنسى.
واما الفاقد للمنسي فثبوت التكليف متعلقا به يحتاج إلى دليل، والحديث لا يدل
عليه لعدم كونه في مقام الوضع.
وعن المحقق النائيني الاشكال في شمول الحديث للمورد بأنه لا محل لورود
الرفع على الجزء المنسى - كالسورة في الصلاة - لان شان الرفع تنزيل الموجود منزلة
المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود لأنه انما يكون وضعا لا رفعا، وفى مورد نسيان
الجزء لخلو صفحة الوجود عن الجزء لا محل لورود الرفع، أضف إليه انه لا يترتب اثر
شرعي على المنسى حتى يرتفع بالحديث، لان جزئية الجزء لا تكون منسية والا كان ذلك
من نسيان الحكم لا نسيان الموضوع فلا تكون مرفوعة بالحديث.
ويرد على ما افاده أولا ما تقدم من أن شان الحديث ليس هو التنزيل والا كان ذلك
وضعا، بل يرفع حكم ما تعلق به النسيان، ويرد على ما افاده ثانيا ان النسيان وان لم يتعلق
217

بالجزئية بل تعلق باتيان الجزء، ولكن معنى رفع الجزء رفع حكمه، ولا يعتبر في شمول
الحديث تعلق ما فيه من العناوين في الحديث بالحكم، بل بعضها كالاضطرار والاكراه
لا يعقل تعلقه به كما لا يخفى.
فالمتحصل شمول الحديث للجزء والشرط إذا تعلق النسيان بهما وكان النسيان
مستوجبا للوقت، ويترتب عليه رفع الامر بالمركب والكل، ولا يثبت به الامر بالفاقد
للمنسي لعدم كونه في مقام الوضع.
وما افاده المحقق صاحب الدرر (ره) من أن الحديث انما يرفع الجزئية والشرطية
والامر بساير الاجزاء يكون باقيا قد عرفت ما فيه.
وحاصله ان الجزئية، والشرطية انما تنتزعان، من الامر الضمني المتعلق بالقيد أو
التقيد، وحيث إن ذلك الامر لا يثبت له استقلالا، بل بتبع ثبوت الامر بالكل، فحدوثه
وبقائه تابعان لحدوث ذلك وبقائه فلا محالة يكون المرفوع هو الامر بالمركب، وتعلق
الامر ببقية الاجزاء والشرائط يحتاج إلى دليل آخر، والحديث لا يكون متكفلا لبيانه.
نعم، في خصوص الصلاة دل الدليل على ذلك.
فان قيل إن وجوب القضاء في خارج الوقت من آثار الاخلال بالواجب أو ببعض
ما اعتبر فيه، فلو أخل بجزء أو شرط نسيانا يكون ذلك الأثر أيضا مرفوعا بالحديث وليس
معنى الصحة الا ذلك.
أجبنا عنه بان وجوب القضاء من آثار فوت الواجب في الوقت، وهو لا يرتفع
بالحديث، فالحكم بعدم وجوب القضاء لا يمكن الا بواسطة الحكم بصحة الماتى به
الفاقد للمنسى المتوقف على اثبات الامر به، وقد عرفت ان الحديث لا يثبت ذلك.
ودعوى ان لازم ما ذكر، ما جهة انه يجرى في جملة ما لا يعلمون، جميع ما أفيد
انه لو كانت جزئية شئ مجهولة، وأجرينا الحديث فيها، سقوط الامر بالكل ولم يلتزم به
أحد.
مندفعة: بان النسيان أو الخطاء يوجب الرفع واقعا فيجرى فيه ما ذكرناه، واما في
مورد الجهل فالامر المتعلق بالمجموع باق على حاله وانما يرفع وجوب الاحتياط،
218

وحيث إن التكليف بساير الاجزاء معلوم، وبهذا الجزء مشكوك فيه فبالنسبة إلى هذا
الجزء يرفع التكليف ظاهرا، وبالنسبة إلى غيره يكون التكليف باقيا فلا وجه لرفعه ظاهرا
كما لا وجه له واقعا وتفصيل ذلك في مبحث الاشتغال، في الأقل والأكثر الارتباطيين.
واما الثالث: فعن المحقق النائيني بعد الاشكال في شمول الحديث للجزء أو
الشرط المنسى انه يشمل للمانع، وانه في صورة ايجاد المانع خطاءا يصح التمسك
بحديث الرفع، وهذا منه (قده) مبنى على أن يكون لسان الحديث نفى الموضوع ورفع
انطباقه على فرده، نظير لا شك لكثير الشك الا ان المبنى ضعيف كما تقدم.
وحاصله: انه لو أريد نفى ذات الفعل ليكون معناه ان الفعل الخطائي كالعدم
فالفعل الصادر خطأ، ليس بكلام شرعا، فهو خلاف ظاهر الدليل، وان أريد به نفى
الفعل المعنون بهذا العنوان فهذا لا يتصور له معنى، الا عدم كونه متعلقا للحكم الشرعي
فضعف هذا واضح.
مع أنه يرد عليه ما أورده (قده) على شمول الحديث للاجزاء والشرائط من أن
الجزئية أو الشرطية غير منسية فلا وجه لرفعها بالحديث: فإنه يجرى هذا الكلام بعينه في
المانع إذ لم يتعلق العنوان بالمانعية، بل أوجد المانع خطاءا.
ودعوى انه يمكن القول بعدم ابطال المانع الماتى به خطئا للعمل، بدعوى ان ما
تحقق ليس بفعل لحديث الرفع فلا يكون مبطلا.
قلت قد عرفت في بعض المقدمات ان لسان الحديث ليس نفى الموضوع وعدم
انطباقه على الفرد بل لسانه رفع الحكم خاصة، وفى الاتيان بالمانع خطاءا ليس هناك
شئ قابل للرفع سوى التكليف الضمني المتعلق بعدمه وقد مر ان رفع ذلك انما يكون
برفع الحكم المتعلق بالكل، فالمرفوع انما هو التكليف المتعلق بالمجموع، واما ثبوته
متعلقا بباقي الاجزاء فيحتاج إلى دليل آخر.
فظهر من مجموع ما ذكرناه انه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الاجزاء
والشرائط لنسيان أو اكراه أو ما شاكل بحديث الرفع ولذلك لم ينقل عن فقيه من الفقهاء
التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من ساير المركبات بل افتاء القوم في الصلاة
219

بالفرق بين كون المنسى من الأركان ومن غيرها بالالتزام بالصحة في خصوص الثاني
أقوى شاهد على أن مستندهم ليس هو حديث الرفع بل هو حديث لا تعاد الصلاة، إذ لو
كان المدرك هو حديث الرفع لم يكن فرق بين الأركان وغيرها هذا كله في الأحكام التكليفية.
واما الأحكام الوضعية كالعقود والايقاعات، فلا مجال لجريان حديث رفع
الخطاء والنسيان فيها: وذلك فيما إذا تعلق النسيان بعنوان المعاملة واضح: لما عرفت في
ما تقدم من أن حديث الرفع انما يجرى في الأمور التي لا يعتبر في تحققها عنوان العمد
والقصد وفى العقود والايقاعات يعتبر ذلك - مع - ان ما يمكن رفعه في الوضعيات ليس
الا امضاء الشارع، والحكم بلزوم الوفاء، وعليه فما تحقق، في الخارج اما لا يترتب عليه
ذلك فلا اثر كي يرفعه الحديث، واما يترتب عليه فالحديث ان رفعه كان خلاف
المقصود، وان أريد اثبات الامضاء له به، فيرده انه غير مربوط بلسان الحديث فان لسانه
الرفع لا الوضع.
وبهذا يظهر عدم شمول الحديث لما إذا تعلق النسيان بجزء من المعاملة أو شرط
منها.
الاكراه والاضطرار
المورد الثاني: في الاكراه والاضطرار وما لا يطاق، وقبل الدخول في البحث لا بد
من بيان حقيقة كل من هذه الثلاثة، اما الاكراه فهو عبارة عن حمل الغير على ما يكرهه،
ويعتبر في صدقه أمور - منها - ان يكون بحمل الغير فلو فعل فعلا لترضية خاطر الغير من
غير حمله عليه لا يصدق الاكراه، كما أنه لو حمله حيوان لا يصدق الاكراه - منها - ان
يكون حمل الغير مقترنا بالوعيد، ولو بالالتزام فلو حمله الغير مع وعده بالنفع لا يصدق
الاكراه. منها: ان يكون الضرر المتوعد به مما لا يكون مستحقا عليه فلو حمله عليه و
وعده على ما يستحقه من القصاص، أو طلب الدين لا يكون مكرها عليه. منها: ان يكون
220

الحمل متعلقا بالفعل نفسه فلو حمله على اعطاء مال وتوقف ذلك على بيع داره لا يكون
بيع الدار مكرها عليه. منها: ان يكون الضرر المتوعد به مما يحتمل ترتبه.
واما الاضطرار فهو عبارة عن الالجاء على فعل أو ترك بحيث يكون مخالفته
مشقة وضررا عليه من غير حمل الغير عليه.
واما ما مالا يطاق فهو مع الاضطرار متعاكسان دائما فكل فعل مضطر إليه يكون
تركه مما لا يطاق وكل ترك مضطر إليه يكون فعله مما لا يطاق.
إذا عرفت ذلك فالكلام يقع، تارة في الأحكام التكليفية، وأخرى في الأحكام الوضعية
، اما الأحكام التكليفية فالكلام فيها قد يكون في الاستقلالية منها، وقد يكون في
الضمنية.
اما التكاليف الاستقلالية، فان كان متعلق أحد هذه العناوين موافقا لمتعلق
التكليف، كما لو أكره على الصلاة، أو كان شرب الخمر مما لا يطاق واضطر إلى تركه فلا
يشمله الحديث لان الظاهر منه كونه في مقام بيان ان مخالفة التكليف مع طرو أحد هذه
العناوين لا باس بها، أضف إليه ان رفعه مناف للامتنان والحديث يختص بما في رفعه منه
كما مر.
واما ان كان مخالفا له، فان تعلق بما هو متعلق لحكم تحريمي كما لو أكره على
شرب الخمر أو اضطر إليه سقط التكليف المتعلق به وان تعلق بما هو متعلق لحكم
وجوبي فان لم يكن ذلك مستوعبا للوقت كما اضطر التي ترك الصلاة في ساعة من
الوقت، أو أكره عليه فالحديث لا يشمله، فان ما تعلق به التكليف غير ما تعلق به الاكراه أو
الاضطرار، فان التكليف متعلق بالطبيعي والعنوان متعلق بالفرد والفرد غير متعلق
للتكليف.
وان كان مستوعبا للوقت فالظاهر هو الفرق بين الاكراه والاضطرار.
فإنه لو أكره على ترك الصلاة، فالحديث لا يشمله لان التكليف متعلق بالفعل
والاكراه تعلق بالترك. نعم، على القول بان الامر بالشئ يقتضى النهى عن ضده العام
يصير ترك الصلاة حراما، فيرتفع الحرمة بالحديث ويثبت عدم الامر بالصلاة، لكنه
221

خلاف التحقيق.
واما لو اضطر إلى ترك الصلاة فمن حيث الاضطرار وان كان يجرى فيه ذلك لكن
الاضطرار ملازم لكون الصلاة مما لا يطاق، فيشملها هذه الجملة من الحديث، وتدل على
سقوط وجوب الصلاة، ولا يبعد دعوى دلالة بعض الروايات على أن مخالفة التكليف
عن اضطرار لا باس بها، كما لا مانع من التمسك بحديث لا ضرر على رفع الوجوب كما
هو واضح.
وبذلك يظهر الحال فيما إذا تعلق أحد هذين العنوانين بترك جزء أو شرط من
المأمور به وان تعلق بالمانع فحكمه حكم ما إذا تعلق النسيان به الذي عرفت آنفا.
واما في الوضعيات فلو أكره على معاملة يكون نفوذها مرفوعا بالحديث فلا تكون
صحيحة، واما لو اضطر إليها كما لو اضطر إلى بيع داره فلا يشمله الحديث لعدم كون رفع
الصحة والنفوذ موافقا للامتنان.
واما لو أكره على ترك معاملة فلا يمكن الحكم بترتب اثر المعاملة وتحققها، فان
المكره، عليه غير ما رتب الأثر عليه فلا يشمله الحديث.
واما لو اضطر إليه فحيث ان فعل المعاملة يصير مما لا يطاق فقد يتوهم شمول
الحديث له لكنه غير تام فان في رفعه خلاف الامتنان.
وبما ذكرناه يظهر انه لو أكره على ايجاد معاملة فاقدة للجزء أو الشرط كايجاد
النكاح بالفارسي - على القول باعتبار العربية - لما أمكن الحكم بصحة هذا النكاح لان ما
وقع الا حكم له، وما له حكم لم يتعلق الاكراه به.
فان قلت إنه يرتفع شرطية العربية لأنها حكم شرعي يمكن القول بارتفاعه.
قلت قد عرفت ان الشرطية منتزعة من حكم آخر وفى رفعها لا بد من رفع منشأ
انتزاعها وهو في المقام حكم الشارع بنفوذ النكاح إذا وجد عربيا، ومن البديهي انه غير
مرتفع في الفرض، لعدم تعلق الاكراه به وانما هو متعلق بتركه وتعلقه بترك موضوع
الحكم لا اثر له كما عرفت.
فان قلت إن المترتب على النكاح بالفارسي انما هو البطلان وهو يرتفع بالحديث.
222

قلت إن البطلان ليس حكما شرعيا، وانما هو ينتزع من عدم انطباق موضوع
الحكم على الموجود الخارجي، وعدم تحقق الزوجية انما يكون من آثار عدم تحقق
موضوعها لا تحقق غيره فلا يكون من آثار ما وقع ليرتفع بالحديث.
الحسد والطيرة و...
المورد الثالث: في الثلاثة الأخيرة المذكورة في الحديث، الحسد، والطيرة
والوسوسة في التفكر في الخلق، وملخص القول فيها ان المرفوع فيها انما هو نفس
الحكم المترتب عليه لولا الرفع.
توضيح ذلك أن الحسد عبارة عن صفة رذيلة في النفس موجبة لكراهة كون غيره
من الاخوان متنعما، وحب زوال النعمة عنهم، أو مقتضاها واثره، وهذا من حيث إنه
يمكن رفعه بالمجاهدات وعدم التفتيش في أمور الناس والتدبير فيما يترتب عليه من
المفاسد الدينية والدنيوية وما يصل إلى المحسود من المنافع قابل لتعلق التكليف
بتحريمه أو وجوب رفعه، فقد رفعه الشارع الا قدس ما لم يظهر باللسان أو اليد ولم يتبع،
ويؤيد ذلك النصوص الكثيرة الواردة في الحسد.
واما الطيرة وهي التشام بالطير أو غيره وكان ذلك يصد هم عن مقاصدهم، فقد
رفعها الشارع وأخبر، انه ليس لها التأثير في جلب النفع أو دفع الضرر، وان هذا المعنى
بنفسه وان كان فيه مقتضى وضع الحرمة لكونه موجبا للشرك واختياري، الا ان الشارع
الا قدس رفع الحرمة عنه، ما لم يعمل على طبقه، ويمكن ان يكون المراد برفعه ان الشارع
الأقدس لم يمض ما كان عليه بناء العرف من الالتزام بالصد عن المقاصد عنه التطير.
واما الوسوسة في التفكر في الخلق، فيمكن ان يكون المراد بها وسوسة الشيطان
عند التفكر في مبدأ الخلق، وانه من خلق الخالق ونحوه، وعلى أي تقدير فقد رفع الشارع
حرمتها وحكمها، وتمام الكلام في كل واحد من هذه الثلاثة موكول إلى محل آخر.
223

الاستدلال للبرائة بحديث الحجب
ومما استدلوا به للبرائة من السنة حديث الحجب الذي رواه الصدوق في كتاب
التوحيد في باب التعريف والبيان والحجة والهداية والكليني (قده) في الكافي في باب
حجج الله على خلقه وهو مذكور في الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي، وهو
خبر أبي الحسن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله (ع) قال ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم، وفى الكافي أسقط كلمة علمه.
وتقريب الاستدلال به ان حرمة ما يشك في حرمته كشرب التتن علمها محجوب
عن العباد فتكون موضوعة عنهم، وأورد على الاستدلال به بايرادات.
1 - ان المراد من كلمة ما ان كان هو الفعل فالحديث مختص بالشبهة الموضوعية،
وان كان هو الحكم يختص بالشبهة الحكمية أو يعم كلتا الشبهتين على ما تقدم، وحيث إن
ارادتهما معا مستلزمة لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى، ولا قرينة على تعيين إحداهما
فيصير الحديث مجملا لا يصح الاستدلال به.
وفيه: ما تقدم في حديث الرفع من أن المراد به الجامع كما هو مقتضى الاطلاق
ولا يرد محذور.
2 - ما افاده الشيخ الحر العاملي في الوسائل وهو ان الحديث مختص بالشبهة
الوجوبية، مدعيا ان قوله (ع) موضوع عنهم قرينة ظاهرة في ذلك - وقيل - ان مراده، ان
الوضع عن الشئ مقابل لوضعه عليه، وهو يناسب الوجوب هو الفعل الثابت
على المكلف فيناسب رفعه بخلاف الحرام فان المكلف مزجور عنه لا انه ثابت عليه.
وفيه: ان التكليف اللزومي بما انه ثقيل على المكلف يكون على المكلف، ولذلك
يتعدى الحرمة بحرف الاستعلاء كالوجوب ويقال يحرم عليه كما تشهد له الاستعمالات
القرآنية حتى في المحرمات التكوينية لا حظ قوله تعالى ان الله حرمهما على الكافرين.
3 - ما في الوسائل أيضا قال إن هذا الحديث لا ينافي وجوب الاحتياط لحصول
224

العلم به بالنص المتواتر.
وفيه: ان هذا الحديث يدل على أن الحكم الواقعي المحجوب علمه عن العباد
مرفوع في الظاهر وعرفت ان المراد من رفع الحكم الواقعي في الظاهر رفع وجوب
الاحتياط، فالحديث دال على عدم وجوب الاحتياط فيعارض مع أدلة الاحتياط لو تمت
دلالتها.
4 - ما افاده الشيخ الأعظم، وتبعه المحقق الخراساني وغيره من المتأخرين عنه بان
الظاهر من الحديث بواسطة اسناد الحجب إلى الله سبحانه إرادة رفع الأحكام التي لم
يبينها الله سبحانه لأجل التسهيل ان لأجل مانع عن البيان مع وجوده المقتضى لها، فيكون
الخبر من قبيل قوله (ع) اسكتوا عما سكت الله عنه، ولا يشمل الحكم الذي بينه ولم يصل
إلينا وأخفاه الظالمون، وعلى الجملة مفاد هذا الخبر ان الأحكام التي اقتضت المصلحة
الإلهية اخفائها ليس للعباد التعرض لها.
ويرد عليه: ان الأحكام أخفاها الظالمون بما انه لله تعالى ان يظهرها فإذا لم
يوصلها إلى العباد صح ان يقال ان الله تعالى حجبها أضف إلى ذلك أن الحكم لا واقعية له
وراء الابراز والانشاء فما لم يبينه الله تعالى وسكت عنه لا واقعية له كي يعقل ان يصير
علمه محجوبا عن العباد: إذ ما من حكم الا وبينه الله تعالى لنبيه وهو لوصيه ولا يعقل
وجود الحكم مع عدم البيان رأسا، فالمراد بما حجب علمه ليس الا الأحكام المبينة غير
الواصلة إلى العباد أي التي حجب علمها عن العباد لا أنفسها وعليه فدلالة هذا الحديث
على البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية تامة، الا ان الذي يرد عليه انه
ضعيف السند لزكريا بن يحيى الذي هو مجهول.
الاستدلال على البراءة بروايات الحل
ومما استدلوا به على البراءة، اخبار الحل، وهو أربعة، أو ثلاثة.
الأول: ما رواه في الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة ورواه عنه في الوسائل باب
225

4 من أبواب ما يكتسب به حديث 4 - عن أبي عبد الله (ع) قال سمعته يقول كل شئ هو
لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك
وقد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو
امرأة تحتك ولعلها أختك أو رضيعتك والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك
أو تقوم به البينة.
الثاني: ما رواه لشيخ الطائفة بسنده عن عبد الله بن سليمان، راجع الوسائل باب
61 من أبواب الأطعمة المباحة حديث 1 - قال سألت أبا جعفر (ع) عن الجبن إلى أن قال
سأخبرك عن الجبن وغيره كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه.
الثالث: ما رواه البرقي بسنده عن معاوية بن عمار عن رجل قال كنت عند أبي
جعفر (ع) فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر (ع) انه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن
وغيره كل شئ فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه راجع
الوسائل باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة حديث 7 - ويحتمل اتحاده مسابقة وان
عبد الله بن سليمان رواه عن أبي جعفر ومعاوية رواه عن بعض أصحابنا ويكون المراد به
عبد الله.
الرابع: ما رواه الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان والكليني بسند صحيح (راجع
الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به حديث 1) عن أبي عبد الله (ع) كل شئ فيه حلال
وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه، هذه هي الروايات الواردة
في الباب.
وقد استدل الشيخ الأعظم (ره) بالخبر الثاني والرابع على البراءة في الشبهة الحكمية
ولم يستدل بموثقة مسعدة ولعل نظره الشريف إلى اختصاص الموثقة بقرينة ما فيها من
الأمثلة بالشبهة الموضوعية.
والمحقق الخراساني استدل بخصوص الموثقة ولم يستدل بالخبرين ولعل وجهه
ظهور قوله (ع) فيهما (فيه حلال وحرام) في فعلية الانقسام إلى القسمين المختصة
226

بالشبهات الموضوعية لأنه لا معنى لانقسام المجهول حرمته وحليته إلى القسمين
المختلفين.
وقد يقال ان الظاهر من الكفاية اخذا من الشيخ الأعظم (ره)، الاستدلال برواية
أخرى غير ما تقدم حيث قال ومنها قوله (ع) كل شئ لك حلال حتى تعرف انه حرام
بعينه، وعليه فيرده انه لا وجود لها في كتب الحديث ولكن الظاهر أن نظره الشريف إلى
الموثقة وانما أخطأ في نقل متن الحديث أو ان الناسخ أخطأ.
ثم إن المحقق الخراساني وان استدل بهذا الخبر في المقام على أصالة الحل، لكنه
في مبحث الاستصحاب عند بيان أدلته يذكر هذا الخبر وينكر دلالته على أصالة الإباحة،
وانما يدعى ظهوره في كونه واردا في مقام بيان ان حكم الأشياء بعناوينها الأولية هي
الإباحة وانها تستمر إلى أن يعرف خلافها، فيدل على الإباحة الواقعية واستصحابها،
وكيف كان فلا بد من التكلم في كل واحدة منها.
أقول اما موثق مسعدة فالكلام فيه يقع في جهتين - الأولى - انه هل يدل على
إباحة المشكوك حرمته أم لا؟ - الثانية - انه على فرض دلالته هل يختص بالشبهات
الموضوعية أم يشمل الشبهات الحكمية.
اما الجهة الأولى: فالاحتمالات المتصورة في قوله (ع) كل شئ حلال، أربعة.
الأول: إرادة الحلية الظاهرية، فيكون الخبر على هذا في مقام جعل أصالة الإباحة،
ويكون على هذا ذكر الأمثلة في ذيلها المستندة حلية تلك الأمور إلى أدلة اخر، مثل اليد،
والاستصحاب من باب التنظير لا التمثيل.
الثاني: إرادة الحلية المستندة إلى دليل آخر غير أصالة الإباحة ويكون الأمثلة
حينئذ تمثيلا لا تنظيرا للحلية المحكوم بها.
الثالث: إرادة الحلية الثابتة في موارد الشك مطلقا، من غير فرق بين أصالة الإباحة،
والحلية الثابتة باليد وما شاكل.
الرابع: إرادة معناها اللغوي وهو الارسال وهذا أيضا ينطبق على الحلية الثابتة
بأصالة الإباحة والمستفادة من الدليل - وبعبارة أخرى - يكون قوله (ع) كل شئ حلال
227

حاكيا عن الانشاءات المتعددة الثابتة بعناوين مختلفة، ودلالة الموثق على أصالة الحل
مبتنية على كون الاحتمال الثاني خلاف الظاهر كما لا يخفى.
أقول اما الاحتمال الأول، فهو مناف لظهور قوله (ع) وذلك مثل الثوب الخ فإنه
ظاهر في كونه تمثيلا لا تنظيرا.
واما الاحتمال الثاني فعن الأستاذ الأعظم تعينه من جهة الغاية المذكورة في ذيله
إذ انحصار رافع الحلية، في الاستبانة الظاهرة في العلم الواجداني وفى البينة، كاشف عن أن
الحلية فيها أريد بها المستندة إلى اليد والاستصحاب، لا مطلق الحلية المرتفعة بغيرهما
فان الحلية المستندة إليهما لا ترتفع الا بالعلم والبينة، وما في بعض الاخبار من اعتبار خبر
الواحد بتحقق الرضاع، أو النسب يكون معارضا بما يدل على عدم اعتباره، واما الاقرار
فهو وان كان رافعا للحلية الا انه خلاف المفروض في الموثق وعليه فهو أجنبي عن
المقام.
وفيه: ان المراد بالبينة هو معناها اللغوي أي ما يتبين به الشئ وهو مطلق الدليل
فالمراد حينئذ ان الأشياء كلها على الإباحة حتى تستبين وتستكشف أنت حرمتها أو تظهر
حرمتها من الخارج بلا تفحص واستكشاف وقد مر توضيح ذلك في مبحث حجية الخبر
الواحد، أضف إلى ذلك أن الاستبانة لو كانت بمعنى العلم الوجداني يكون دليل ما ثبت
حجيته حاكما على الموثق وموسعا للاستبانة ويكون ذكر البنية بالخصوص من قبيل ذكر
الخاص بعد العام.
وقد يقال تبعين هذا الاحتمال من جهة على الاحتمال الثالث أو الرابع
مستلزم لحمل قوله كل شئ حلال على الحكاية عن انشائات متعددة، لا على مقام
الجعل والتشريع.
وفيه: ان هذا لازم على كل حال فان المجعول في باب اليد غير المجعول في باب
الاستصحاب، فلا يمكن جعلهما بدليل واحد، فيدور الامر بين الاحتمالين الأخيرين وعلى
التقديرين يدل على المطلوب.
الا ان الأظهر هو الأخير اخذا بالعموم، فيدل الخبر على جعل الإباحة والحلية،
228

وانه لا يعتنى باحتمال الحرمة في جميع موارد الشك فيها لمكان جعل الحلية الظاهرية
فيها بعناوين مختلفة.
عدم اختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية
واما الجهة الثانية: فقد استدل لاختصاص الموثق بالشبهة الموضوعية بوجوه.
أحدها: ما افاده أكثر المحققين وهو ان الأمثلة المذكورة فيه من قبيل الشبهة
الموضوعية، وهذه قرينة أو صالحة للقرينية على الاختصاص بالشبهات الموضوعية، وان
شئت قلت، ان الإمام (ع) طبق الكبرى الكلية على الشبهة الموضوعية بقوله (ع) وذلك الخ،
وهذا قرينة الاختصاص أو صالح لتلك.
وفيه: ان جعل هذا قرينة لعدم كون المجعول في الصدر أصالة الحل، متين، وقد
بيناه، واما بناءا على كون الصدر ظاهرا في كونه حاكيا عن انشائات متعددة فلا يكون
التمثيل منافيا له، بل يكون حينئذ تمثيلا لبعض افراد الكبرى الكلية، ولا محذور في ذلك،
ولا يكون ذلك قرينة ولا صالحا للقرينية. مع، انه لو تم هذا الوجه لزم حمل الصدر على
غير أصالة الحل لا الحلية في الشبهات الموضوعية.
الثاني: ما افاده المحققون المشار إليهم آنفا - وهو - ان حصر الغاية في الاستبانة
التي هي بمعنى العلم الوجداني، وقيام البينة يدل على أن المراد بلفظ الأشياء في الموثق
ما يكون من قبيل المذكورات في الخبر من الشبهات الموضوعية المحكومة بالحل،
بحكم الاستصحاب واليد، فان الرافع في امتثال ذلك هو العلم والبينة، واما الرافع لها
في الشبهات الحكمية، فهو قد يكون غيرهما من استصحاب الحرمة وخبر الواحد.
وفيه: ما عرفت من حجية خبر الواحد في الموضوعات أيضا، وعرفت هناك ان
المراد بالاستنابة ما هو الظاهر بنفسه، والمراد بالبينة ما يظهر بالحجة والبرهان فراجع ما
ذكرناه، وعليه فلا مورد لهذا الوجه أصلا.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني (ره) والأستاذ الأعظم - وهو - ان قوله (ع) بعينه
229

يشهد بذلك لان العناوين الكلية كشرب التتن، اما ان تكون معلومة الحرمة، أولا تكون،
وعلى الأول فهي معلومة بعينها، وعلى الثاني فهي غير معلومة، واما العلم بكونها محرمة
لا بعينها فهو لا يتحقق الا في مورد العلم الاجمالي، مع كون الشبهة محصورة وظاهر انه
لا يحكم فيه بالحلية، واما الشبهات الموضوعية فالشك فيها غالبا يلازم العلم بالحرام
لا بعينه مثلا من شك في حرمة مايع خارجي لاحتمال كونه خمرا، فذلك يلازم غالبا العلم
بوجود الخمر خارجا المحتمل انطباقه على ما في الخارج من المايع المحتمل كونه خمرا
- وعليه - فيكون الحرام معلوما لا بعينه، ولكن يكون أطرافه غير محصورة، ولا يكون هذا
العلم موجبا للتنجز، فيجوز ان يقال ما هو محل الابتلاء من أطرافه لا يعلم أنه حرام
بعينه، فهذه الكلمة، قرينة لاختصاص الخبر ببعض موارد الشبهات الموضوعية، ويثبت
في البقية، بعدم الفصل، فيختص الحديث بالشبهة الموضوعية.
وفيه: ان القيد انما يكون مذكورا في الغاية، ولا يكون شاهدا على أن ما قبل الغاية
مقيد بكونه لا بعينه، بل يلائم مع العلم بالحرمة لا بعينه، وعدم العلم بالحرمة كما في
الشبهة الحكمية.
فالحق ان الخبر يدل على أصالة الإباحة في الشبهات الحكمية والموضوعية
جميعا.
واما غير الموثقة من الاخبار الاخر فدلالتها على أصالة الحل واضحة، انما الكلام
في أنه هل يختص تلك الأخبار بالشبهة الموضوعية كما عليه الشيخ الأعظم وغيره من
أساطين الفن، أم تعم الشبهة الحكمية كما ذهب إليه شارح الوافية: نظرا إلى أن الظاهر منها
ان كل شئ فيه الحلال والحرام عندك بمعنى انك تقسمه إلى هذين، وتحكم عليه
بأحدهما لا على التعيين، ولا تدرى المعين منهما فهو لك حلال، وشمول ذلك لمثل شرب
التتن وغيره مما اشتبه حكمه واضح.
وقد استدل للاختصاص بالشبهة الموضوعية بوجهين.
1 - ان كلمة بعينه الموجودة فيها تشهد بذلك بالتقريب المتقدم، والجواب عنه
ما مر.
230

ما افاده الشيخ الأعظم، وهو ان المراد من قوله (ع) فيها (فيه حلال وحرام) كونه
منقسما إليهما ووجود القسمين فيه بالفعل، لا مرددا بينهما إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا
لا ذهنا ولا خارجا، وذلك لا يتصور الا في الشبهة الموضوعية، كالمايع المشكوك كونه
خمرا أو خلا: إذ لا قسمة فعلية في الشبهة الحكمية، كما لو شك في حلية شرب التتن فان
فيه احتمال الحرمة والحلية لا وجود القسمين فيه.
وأورد عليه بوجهين أحدهما: ما افاده المحقق العراقي وهو ان التقسيم الفعلي
يتصور في الشبهة الحكمية مثلا اللحم فيه حلال، وهو لحم الغنم، وفيه حرام، وهو لحم
الأرنب وفيه مشكوك فيه، وهو لحم الحمار الوحشي مثلا، فإذا عم الحديث هذه الشبهة
وحكم بالحلية فيها، تثبت الحلية في ساير الموارد بضميمة عدم القول بالفصل.
وفيه: ان الشيخ يدعى ظهور الاخبار في كون وجود القسمين بالفعل، منشئا للشك
في حلية المشكوك فيه، وهذا يختص بالشبهة الموضوعية، فإنه إذا شك في كون شئ
ماءا أو خمرا، لا محالة يشك في حليته، وحرمته، ومنشأ الشك حرمة الخمر، وحلية
الماء، إذ لو كانا حلالين، أو حرامين، لما كان هناك شك في الحلية والحرمة، وهذا
بخلاف الشبهة الحكمية، فان منشأ الشك فيها ليس وجود القسمين فعلا، بل فقدان
النص، أو اجماله، كان القسمان حلالين، أم حرامين، أم مختلفين.
ثانيهما: ما افاده المحقق النائيني، وهو ان لفظ الشئ، هو الموجود الشخصي
الخارجي لا المفهوم الكلى، وحيث انه لا يعقل انقسامه إلى الحلال، والحرام، كان ذلك
قرينة على أن المراد من التقسيم قرينة
على اختصاصه بالشبهات الموضوعية.
وفيه: ان لفظ الشئ من الألفاظ التي تطلق، على جميع الأمور، كليا كان ذلك
الامر، أم شخصيا، بل وان كان ممتنعا كشريك الباري.
مع أنه لو سلم إرادة الموجود الخارجي منه نلتزم بالاستخدام في الضمير في قوله:
فيه حلال وحرام، والقرينة على هذا الاستخدام نفس التقسيم، كما أشار إليه الشيخ،
فالأظهر اختصاصها بالشبهة الموضوعية.
231

الاستدلال بحديث الناس في سعة
ومن ما استدلوا به على البراءة قوله (ص) ان الناس في سعة ما لم يعلموا هكذا روى
في عوالي اللئالي وقد حكى عنه في المستدرك ج 3 ص 218 وفى جامع الأحاديث ج
1 ص 326.
واما خبر السفرة المروى في الوسائل في كتاب اللقطة باب 23 وهو خبر
السكوني عن الإمام الصادق عن أمير المؤمنين (ع) في السفرة التي وجدت في الطريق وفيها
لحم وخبز وبيض وجبن وسكين - يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد وليس له بقاء فان
جاء طالبها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي
فقال (ع) هم في سعة حتى يعلموا، وقريب منه ما في المستدرك في ذلك الباب عن
الجعفر بات والدعائم الذي توهم موافقته معنى مع هذا الخبر فهو أجنبي عن المقام فإنه
يدل على امارية ارض المسلمين لحلية اللحم المطروح فيها.
والظاهر حجية الخبر نفسه فإنه في عوالي اللئالي نسب الخبر إلى النبي (ص) جزما.
وتقريب الاستدلال به انه يدل على أن الناس في سعة من ناحية الحكم المجهول
ومن الواضح ان الاحتياط لو وجب لما كانوا في سعة أصلا.
وأورد عليه الشيخ بان الأخباريين لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم
يعلم بوجوب الاحتياط من العقل والنقل.
وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بأنه لو كان وجوب الاحتياط نفسيا تم ما أفيد
ولكن بما ان الاحتياط على تقدير وجوبه واجب طريقي لأجل ان لا يقعوا في مخالفة
الواجب أو الحرام أحيانا فلا يتم فإنه وان علم وجوب الاحتياط الا انه لم يعلم الوجوب
أو الحرمة بعد فكيف يقع في ضيق الاحتياط من اجله.
وأفاد الأستاذ الأعظم ان ما افاده الشيخ يتم على تقدير كون كلمة ما مصدرية
زمانية، إذ المعنى ان الناس في سعة ما داموا لم يعلموا، فإذا علموا بوجوب الاحتياط
232

فليسوا في سعة، وأما إذا كانت موصولة فلا يتم فإنه يكون مفاده حينئذ ان الناس في سعة
من الحكم المجهول ويكون حينئذ معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها:
والحق ان يقال ان الضمير المستتر في لا يعلمون، يرجع إلى الحكم، ويكون مفاد
الحديث ان الناس في سعة ما دام لا يعلمون الحكم الواقعي، لا في سعة من الحكم الذي
لا يعلمونه ولا يعلمون الوظيفة عند عدم العلم به، ليكون مفاد الحديث مفاد قبح العقاب
بلا بيان، من غير فرق بين ان تكون كلمة ما مصدرية زمانية أو موصولة مضافا إليها كلمة
السعة، ومن غير فرق بين كون وجوب الاحتياط طريقيا أم نفسيا.
أضف إليه ان وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي، وان الظاهر كون كلمة ما
موصولة: إذ ما المصدرية الزمانية على ما يظهر من موارد استعمالها تدخل على فعل
الماضي، ولا تدخل على فعل المضارع فتأمل: فإنه على ما صرح به في شرح الصمدية، انها
تدخل على المضارع المصدر بلم كما في الحديث لكون الفعل حينئذ ماضيا معنى، وعلى
الجملة فالحديث على جميع التقادير يدل على كون الناس في سعة من ناحية الحكم
الذي لا يعلمونه، فيكون معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها.
الاستدلال برواية الاطلاق
ومن ما استدلوا به على البراءة قوله (ع) كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى - روى
الصدوق في الفقيه انه قال الصادق (ع) كل شئ... الخ راجع الوسائل باب 19 من القنوت
حديث 3 وباب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 60 وهو مضافا إلى كونه معتبرا
من جهة ان الصدوق نسبه إلى المعصوم جزما. قد اعتمد عليه في أماليه حيث جعل إباحة
الأشياء حتى يثبت الحظر من دين الإمامية - وصرح في الفقيه في مبحث جواز القنوت
بالفارسي بأنه معتبر قال لولا العمومات الدالة على جوازه لكنت أفتي بالجواز لهذه الرواية
فهو معتبر سندا. وقريب منه خبران آخران مرويان في المستدرك في ذلك الباب من
القضاء أحدهما ما عن أمالي الطوسي وهو قوله (ع) الأشياء مطلقة حتى يرد فيها نهى أو امر
233

- والاخر عن عوالي اللئالي وهو قوله (ع) كل شئ مطلق حتى يرد فيه نص -.
قال الشيخ الأعظم ان دلالته على المطلوب أوضح من الكل وظاهره عدم وجوب
الاحتياط لان الظاهر إرادة ورود النهى في الشئ من حيث هو لا من حيث كونه مجهول
الحكم، ولعل نظره الشريف في الا وضحية إلى اختصاصه بالشبهة الحريمية التي هي
محل الخلاف بين الأصوليين والأخباريين - ويكون أخص من اخبار الاحتياط فلا شك
في تقدمه عليها.
وكيف كان فقد أورد على الاستدلال بالحديث في الحدائق والوسائل. تارة، بأنه
خبر واحد لا يعتمد عليه في الأصول. وأخرى، بأنه موافق للعامة فيحمل على التقية.
وثالثة، بحمله على الشبهة الوجوبية بان يكون المراد حتى يرد فيه نهى عن تركه - ورابعة -
بالحمل على الشبهة الموضوعية - وخامسة - بان المراد ان كل شئ من الخطابات
الشرعية يتعين حمله على اطلاقه أو عمومه حتى يرد فيه نهى يخص بعض الافراد
ويخرجه من الاطلاق، ولعل نظرهما إلى أن دلالته على أن الأصل في كلام الشارع الحمل
على أنه في مقام البيان لا الاجمال والاهمال.
ولكن الخبر الواحد لا يعتمد عليه في أصول العقائد لا في أصول الفقه، وموافقة
العامة من مرجحات إحدى الروايتين الحجتين على الأخرى عند فقد جملة من
المرجحات لا من مميزات الحجية عن اللاحجة، والحمل على الشبهة الوجوبية خلاف
الظاهر سيما وان ترك الواجب ليس منهيا عنه، والحمل على الشبهة الموضوعية يحتاج
إلى قرينة، وإرادة الخطاب من الشئ لا يلائم مع قوله حتى يرد فيه نهى أي في ذلك
الشئ إذ النهى لا يرد في الخطاب.
ثم إن المحقق الخراساني والمحقق النائيني لم يسلما دلالة الخبر على البراءة وذكر
كل منهما وجها لذلك غير ما ذكره الاخر.
اما المحقق الخراساني فأفاد ان دلالته تتوقف على عدم صدق الورود الا بعد العلم
أو ما بحكمه بالنهي عنه وان صدر عن الشارع ووصل غير واحد مع أنه ممنوع لوضوح
صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد وقد خفى على من لم يعلم
234

بصدوره انتهى.
واما المحقق النائيني (ره) فأفاد ان مفاد هذه الرواية هو اللاحرجية العقلية الأصلية
قبل ورود الشرع والشريعة فهي أجنبية عن محل الكلام وهو اثبات الإباحة الظاهرية لما
شك في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.
أقول الحق مع الشيخ (قده) وان شيئا أفاداه لا يتم وقبل بيان ما ذكره المحققان
وتوضيحه وبيان ما يرد عليهما، لا بد من تقديم مقدمة.
وهي ان الإباحة لها اقسام ومعان. أحدها: اللاحرجية الأصلية في قبال الحظر
العقلي من جهة كونه عبدا مملوكا، - وبعبارة أخرى - الإباحة المالكية. ثانيها: الإباحة
الواقعية الشرعية الناشئة عن لا اقتضائية الفعل لخلوه عن المصلحة والمفسدة أو عن
تساويهما. ثالثها: الإباحة الشرعية الظاهرية الثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة
والحلية الناشئة عما يقتضى التسهيل على المكلف بجعله مرخصا فيه.
ومبنى الاستدلال به في المقام على دلالته على الإباحة بالمعنى الثالث،
والمحقق النائيني (ره) يدعى دلالته على الإباحة بالمعنى الأول، والمحقق الخراساني يدعى
دلالته على الإباحة بالمعنى الثاني.
اما المحقق النائيني، فقد قال إن المراد بالاطلاق معناه اللغوي فيكون مفاد
الحديث ان الأشياء بعناوينها الأولية مرسلة حتى يرد من الشارع نهى فيكون أجنبيا عن
المقام.
وفيه: مضافا إلى أن حمل ما صدر من الشارع من الحكم على عدم كونه مولويا بل
على كونه عقليا أو ارشاديا خلاف الظاهر جدا، ان بيان اللاحرجية الأصلية الثابتة قبل
ورود الشرع وبيان الحلال والحرام، وورود حكم من الشارع في كل مورد، إباحة أو
غيرها، لغو لا يترتب عليه اثر، فلا يصدر من الامام.
واما المحقق الخراساني فقد أورد على الشيخ (ره) بأنه لو كان الورود بمعنى
الوصول كان الاستدلال تاما ولكن حيث يحتمل ان يكون المراد منه الصدور لصدقه
عليه فلا يثبت به حينئذ الا ما ادعيناه.
235

وفيه: ان المراد بالاطلاق ليس هو الارسال وعدم التقييد الواقعي، كان المراد
بالورود هو الوصول أو الصدور، اما على الأول فلانه يلزم اختصاص الأحكام بالعالمين
والتصويب الباطل، واما على الثاني فلانه يلزم جعل أحد الضدين غاية للضد الاخر، وهو
من الاستهجان بمكان لكونه، من الواضحات، فلا محالة يكون المراد عدم التقييد ظاهرا،
وحيث إن تقييد الحكم الظاهري بوجود الحكم الواقعي أو عدمه غير صحيح: إذ
موضوعه الشك في الحكم الواقعي، والحكم الواقعي ليس غاية للشك، بل العلم غاية له،
مع أن مفاده حينئذ ان كل شئ مباح ظاهرا ما لم يكن في الواقع حراما وهو كما ترى، فلا
محالة يكون المراد بالورود الوصول.
مع أن الحكم بالإباحة انما يكون ناشئا عن لا اقتضائية الموضوع، فلا يمكن ورود
الحرمة في موردها لاستلزامها فرض اقتضائية الموضوع - ودعوى - انه لا ينافي كون
الفعل لا اقتضاء بذاته، ومقتضيا لانطباق عنوان عليه - مندفعة - بان النهى على هذا انما يرد
على ذلك العنوان، لا انه يرد في مورد الإباحة، مضافا إلى منافاة الخبر حينئذ لما دل على أن
حلال محمد (ص) حلال إلى يوم القيامة.
هذا كله إذا أريد بالخبر ما هو ظاهره من كون الإباحة مغياة بورود النهى في
موردها، واما ان قيل إنه أريد به تحديد الموضوع بان يراد ما لم يرد فيه نهى مباح وما ورد
فيه النهى ليس بمباح، بان يكون القيد بنحو المعرفية، فيرد عليه مضافا إلى كونه خلاف
الظاهر أنه يكون حملا للخبر على ما هو بديهي ولا يناسب مقام الإمامة التصدي لبيانه.
ويرد على المحقق الخراساني مضافا إلى ذلك: ان الورود بحسب معناه اللغوي
ليس مساوقا للصدور، بل هو مفهوما مقارب للوصول، فإنه متعد بنفسه، والصدور لازم
يقال الحياض تردها الكلاب وفى الآية الكريمة " وان منكم إلا واردها " وقد فسرت الآية
في المجمع عن الإمام الصادق (ع) بالاشراف عليها ويقال، وردني كتاب، وانما يتعدى
بعلى فيما إذا أريد تفهيم الاشراف، وربما يكون الوارد أمرا له محل في نفسه، كالأمر
والنهى فيقال ورد فيه امر أو نهى، فالموضوع محل الوارد، والمورد هو المكلف.
وعليه فهو في نفسه ظاهر في الإباحة الشرعية الظاهرية مع قطع النظر عن البرهان
236

المذكور، إذ الإباحة الثابتة إلى حين وصول النهى ليست الا الإباحة الظاهرية.
فان قيل إنه من المحتمل ان يكون المراد من النهى مطلق النهى المتعلق بالشئ،
ولو من حيث كونه مجهول الحكم، فيكون الخبر حينئذ مورود الأدلة الاحتياط.
قلنا ان الظاهر من قوله حتى يرد فيه نهى، ورود النهى في الشئ بعنوانه، لا بعنوان
آخر منطبق عليه فتدبر.
وحيث انه مختص بالشبهة التحريمية، فعلى فرض تمامية دلالة أدلة وجوب
الاحتياط عليه، يكون هذا الخبر أخص مطلق منها فيقدم عليها.
الاستدلال للبرائة بحديث الاحتجاج
ومما استدل به على البراءة ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبد الله (ع) راجع
أصول الكافي ج 1 ص 162 وص 164. قال إن الله احتج على الناس بما آتاهم
وعرفهم هكذا في أحد النقلين وفى الاخر ان الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم (1)
ودلالته على عدم المؤاخذة على الحكم الذي لم يعرف ولم يصل إلى المكلف واضحة.
قال الشيخ وفيه ان مدلوله كما عرفت في الآيات وغير واحد من الاخبار لا ينكره
الاخباري.
أقول ان وجوب الاحتياط ان كان نفسيا كان ما أفيد تاما ولكن لا قائل به، ومن
يرى وجوب الاحتياط، يلتزم بان وجوبه طريقي بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول
فعلى فرض ثبوت وجوب الاحتياط لا معرفة بالحكم، اما الحكم الواقعي فلعدم الطريق
إليه، لان وجوب الاحتياط وظيفة مجعولة في فرض الجهل بالحكم، واما وجوب
الاحتياط فلعدم كونه حكما حقيقيا.
وقد يقال ان الظاهر من التعريف في الخبر، هو التوحيد الفطري بالله وصفاته لا

1 - رواه الصدوق في التوحيد ص 410 و 411 و 413 الطبعة الحديثة.
237

المعرفة بأحكام الله تعالى بقرينة انه فرع عليه في أحد النقلين، ثم ارسل رسولا وانزل
عليهم الكتاب فامر الخ، فيكون وزانه وزان ما رواه المحدث الكاشاني في باب البيان
والتعريف باسناده عن اليماني عن أبي عبد الله (ع) ان امر الله عجيب الا انه قد احتج عليكم
بما عرفكم من نفسه الحديث يعنى ان صفات الله وأفعاله عجائب وغرائب لا يصل إلى
كنهها ولا يدرك اسرارها الا الأقلون ولكن سبحانه لا يريد منكم البلوغ إليها ولم يطلب
من لم يبلغ إليها ان يعبده بحسبها بل بحسب ما بلغ إليه منها وعرفه الله تعالى من نفسه
فحسب وانما يحتج عليكم بمقدار معرفتكم التي عرفكم.
وفيه: ان ما بعد ذلك الذيل شاهد على أن المقصود هو المعرفة بالأحكام الفرعية
لا حظ الخبر، فالمراد منه انه حيث جرت سنة الله تعالى وعادته على الاحتجاج على العباد
بما عرفهم فذلك منشأ ارسال الرسل وانزال الكتب، فهذا الخبر صحيح سندا ويدل على
البراءة.
ودعوى انه لا يدل على عدم الاحتجاج بما لم يعرف الا بالمفهوم ولا يقولون به
في أمثال المقام، لأنه من قبيل مفهوم الوصف واللقب.
مندفعة بأنه لوروده في مقام الامتنان والتحديد وبظهوره في أن الاحتجاج بما
عرفه مناسب لمقام الألوهية، يدل على المفهوم.
ومن الاخبار خبر عبد الا على بن أعين عن أبي عبد الله (ع) عمن لم يعرف شيئا هل
عليه شئ قال (ع) لا، راجع أصول الكافي ج 1 ص 164 باب حجج الله على خلقه،
ورواه الصدوق في التوحيد ص 412 الطبعة الحديثة.
وتقريب دلالته على البراءة ان الظاهر من الشئ الأول هو مطلق ما لا يعرفه من
الأحكام - وبعبارة أخرى - فرد واحد، ومن الشئ الثاني الكلفة والعقوبة من قبل الحكم
المجهول، فيستفاد منه عدم وجوب الاحتياط.
وأورد عليه باحتمال ان يكون المراد منه العموم في النفي فيدل على عدم مؤاخذة
من لم يعرف من الأحكام ولو واحدا منها وهو الجاهل القاصر الغافل عن الأحكام كاهل
البوادي والسودان.
238

وفيه: أولا انه لو سلم كونه بنحو العموم في النفي يشمل الجاهل المطلق الملتفت
مع كونه غير قادر على الفحص ويدل على أنه لا يعاقب على المخالفة وبالالتزام على عدم
وجوب الاحتياط وبعدم الفصل يتعدى إلى الجاهل بالبعض بعد الفحص، وثانيا ان
الظاهر منه إرادة فرد معين مفروض في الخارج فلا يفيد العموم في النفي.
ومن ما استدلوا به على البراءة خبر عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله (ع) المروى
في الوسائل باب 45 من أبواب تروك الاحرام حديث 3 المتضمن لقضية الأعجمي
الذي حج وأحرم في ثيابه الذي أفتى أصحاب ابن حنيفة عليه بفساد الحج ولزوم البدنة
أي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شئ عليه، حيث إنه يدل على عدم العقوبة ونفى الباس
على ارتكاب المحرم عن جهل.
وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره) بان الظاهر من الرواية هو اعتقاد الصواب والغفلة
عن الواقع فلا يعم صورة التردد في كون فعله صوابا أو خطئا، ولعل نظره الشريف إلى أن
الباء في قوله بجهالة ظاهر في السببية للارتكاب، فيختص بالجاهل المركب والغافل، ثم
أيده بان تعميم الجهالة بصورة التردد يحوج الكلام إلى التخصيص بالشاك غير المقصر
وسياقه آب عن التخصيص.
وأورد عليه بان الجاهل البسيط أيضا إذا فعل فعلا يكون فعله ناشئا من جهله، غاية
الامر بواسطة ما يحكم به عقله بقبح العقاب بلا بيان، ودعوى ظهور الباء في السببية بلا
واسطة كما ترى.
أقول ما أورده المورد وان كان متينا الا انه من جهة ظهور الجهالة في الجهل
بمطلق الوظيفة الفعلية، لا يمكن الاستدلال به في المقام، لورود اخبار الاحتياط على
تقدير تمامية دلالتها على وجوبه عليه.
واما ما افاده الشيخ من التأييد فيرده ان التخصيص مما لا بد منه للزوم اخراج
الجاهل المقصر، وان كان معتقدا للخلاف.
وقد استدل للبرائة بروايات اخر ضعيفة السند أو قاصرة الدلالة وفيما تقدم غنى
وكفاية.
239

الاستدلال للبرائة بالاجماع
الثالث: من الوجوه التي استدل بها للبرائة، الاجماع، وتقريبه بوجوه.
الأول: دعوى اتفاق الكل على عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف غير
الواصل.
الثاني: دعوى الاتفاق على أن الحكم الشرعي في مورد التكليف الذي لم يصل
بنفسه ولا بطريقه هو الترخيص.
الثالث: دعوى الاتفاق على أن الحكم الظاهري المجعول في مورد الجهل بالواقع
هو الإباحة.
وفى الكل اشكال: اما الأول فلانه اجماع على امر عقلي فليس تعبديا كاشفا عن
رأى المعصوم.
واما الثاني: فلان الأخباريين يدعوى وصول التكليف في مورد الجهل مطلقا أو في
خصوص الشبهة التحريمية بطريقه.
واما الثالث: فلان الأخباريين ذاهبون إلى أن الحكم المجعول هو التوقف
والاحتياط - مع - انه لو تم فحيث ان مدرك المجمعين معلوم فلا يكون اجماعا تعبديا.
الاستدلال بحكم العقل
الرابع: من أدلة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وتنقيح القول فيه
بالبحث في جهات، الأولى في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمها، الثانية في
ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل الثالثة، في لحاظها مع أدلة وجوب
الاحتياط.
اما الجهة الأولى: فلا ريب في أن وظيفة المولى جعل الأحكام وجعلها في معرض
240

الوصول إلى المكلفين، وبذلك يتم وظيفة، واما لزوم الامتثال فليس ذلك موكولا إليه،
بل انما هو بحكم العقل والمراد به دركه حسن العقاب على مخالفة التكليف، ومن
الواضح ان ذلك انما هو في مورد وصول التكليف، وأما إذا لم يصل سواء لم يبينه أصلا،
أو بينه ولم يجعله في مظان وجوده، أو جعله ولكن خفى عنا بواسطة اخفاء الظالمين، فلا
يحكم العقل بقبح المخالفة ولا يدرك حسن العقاب عليها، بل يحكم بقبحه، اما في
مورد عدم البيان فواضح، واما في مورد البيان وعدم الوصول: فلان حكم العقل بقبح
المخالفة انما يكون من جهة دركه قبح الظلم، حيث إن مخالفة المولى ظلم عليه وخروج
عن رسم العبودية وذي الرقية، ومن الواضح ان ذلك انما يكون في مورد الوصول، والا،
فلا تكون المخالفة ظلما ولا يكون مجرى لهذا الحكم من العقل.
واما ما افاده الأستاذ الأعظم في وجه هذا الحكم من أن ما يكون محركا للعبد أو
زاجرا له انما هو الوجود العلمي لا الوجود الواقعي فالتكليف ما لم يصل إلى المكلف
لا يمكنه التحرك منه ومعه كان العقاب على مخالفته عقابا بلا مقتض كما إذا لم يكن
حكم من المولى أصلا.
فيرد عليه، ان الوجود الواقعي وان لم يكن محركا الا انه كما يكون وجوده
العلمي محركا كذلك يمكن ان يكون وجوده الاحتمالي محركا، فمع فرض الشك
واحتمال التكليف يمكن ان يتحرك العبد بالاحتياط.
واما الجهة الثانية: فالمعروف بينهم ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع
حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، إذ مع حكم العقل بقبح العقاب لا يبقى
احتمال الضرر ليجب دفعه.
واشكل عليه بامكان العكس بان تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا
للتكليف ورافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان - وبعبارة أخرى - ان موضوع كل
منهما مع قطع النظر عن الأخرى، موجود في مورد التكليف المحتمل لمساوقة احتمال
التكليف لاحتمال الضرر، وكل منهما تصلح رافعة لموضوع الأخرى: إذ كما يقال قبح
العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب كذلك يمكن ان يقال وجوب دفع الضرر
241

المحتمل بيان عقلي، فالعقاب ليس بلا بيان.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بان الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا
للتكليف المجهول المعاقب عليه وانما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية، وان لم يكن تكليف
في الواقع، فلو تمت عوقب على مخالفتها وان لم يكن تكليف في الواقع لا على التكليف
المحتمل على فرض وجوده، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكور، بل
قاعدة القبح واردة عليها لأنها فرع احتمال الضرر ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان انتهى.
وأورد عليه بايرادين. أحدهما: ما عن جماعة بان امر وجوب دفع الضرر المحتمل
لا ينحصر، بالدوران بين ان يكون نفسيا، أو ارشاديا على ما يختار الشيخ (ره) بل هناك
قسم الثالث وهو الوجوب الطريقي أي ما جعل تحفظا على الملاك الواقعي، نظير وجوب
الاحتياط المجعول في الموارد الثلاثة على ما هو المعروف، ويترتب عليه تنجيز الواقع
ولعل وجوب دفع الضرر المحتمل من هذا القبيل.
وفيه: ان الوجوب الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب على مخالفة
الواقع ويكون منشئا له كما في وجوب الاحتياط الشرعي في الموارد الثلاثة، ووجوب
دفع الضرر المحتمل لا يتصور فيه ذلك، فان احتمال العقاب مأخوذ في موضوعه، وفى
الرتبة السابقة عليه، فلا يعقل ترتبه عليه، والا لزم الدور، فلا يكون وجوب طريقيا قطعا،
فيدور الامر بين القسمين الذين أفادهما الشيخ (ره) فما افاده مطلب برهاني لا ادعاء
صرف كما قبل قيل.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان هذا الحكم من العقل ارشاد محض
لا يمكن ان يستتبع حكما مولويا شرعيا فكيف يمكن ان يكون العقاب على مخالفته وان
لم يكن في مورده تكليف واقعي، وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية
مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع.
وفيه: ان الظاهر أن مراد الشيخ، انه حيث لا يمكن ان يكون هذا الحكم طريقيا
منجزا للواقع، فلو تمت القاعدة لا بد وأن يكون وجوبه نفسيا موجبا للعقاب على
242

مخالفته، والتعبير عن ذلك بالقاعدة الظاهرية انما هو من جهة اخذ الاحتمال في موضوع
هذا الوجوب النفسي، فالمتحصل ان ما افاده الشيخ الأعظم متين جدا لا يرد عليه شئ.
وأجاب القوم عن أصل الاشكال بأجوبة اخر. أحدها: ما افاده المحقق الخراساني
- وهو - ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل
إذ لا يبقى معها احتمال الضرر.
ويرد عليه انه يمكن ان يعكس إذ كل ما القاعدتين لا تتكفل بيان موضوعها، وكل
منهما صالحة لرفع موضوع الأخرى.
ثانيها: ما افاده المحقق النائيني (ره) - وحاصله - ان قاعدة وجوب الدفع لا تصلح
للبيانية، لعدم كونها رافعة للشك، وتمام الموضوع لقاعدة قبح العقاب هو نفس الشك في
التكليف، فموضوع قاعدة القبح يكون باقيا، وهذا بخلاف العكس فان قاعدة القبح
توجب رفع موضوع تلك القاعدة وهو احتمال الضرر.
وفيه: ان موضوع قاعدة قبح العقاب، عدم البيان، وهو كما يرتفع بجعل الطريق،
ورفع الشك، يرتفع بجعل الحكم الطريقي الموجب لتنجز الواقع وصحة المؤاخذة عليه،
كما في موارد جعل وجوب الاحتياط كباب الأنفس.
ثالثها: ما افاده المحقق الخراساني (ره) - وحاصله - ان بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل
دورية لأنها تتوقف على احتمال الضرر، توقف الحكم على موضوعه، وهو يتوقف على
عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها، وهو يتوقف على بيانية قاعدة
دفع الضرر المحتمل فبيانيتها دورية.
وفيه: انه يمكن ان يعكس إذ جريان قاعدة قبح العقاب يتوقف على عدم البيان
توقف الحكم على موضوعه، وهو يتوقف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر، وهو
يتوقف على عدم احتمال الضرر، المتوقف على جريان قاعدة القبح، فالصحيح ما افاده
الشيخ الأعظم (ره) هذا كله لو أريد بالضرر العقاب.
وان أريد به الضرر الدنيوي: فيدفعه ان احتمال التكليف لا يكون ملازما لاحتمال
الضرر، مع أن دفع المقطوع منه غير لازم فضلا عن محتمله، ولذا ترى تحمل العقلاء
243

المضار الدنيوية للمنافع، مضافا: إلى اتفاق الفريقين الذين هما من العقلاء، على جريان
البراءة في الشبهات الموضوعية، مع احتمال الضرر الدنيوي، وان أريد به المفسدة،
فيدفعه انه لا دليل على وجوب دفع المحتمل منها، ولذا ترى جريان البراءة في الشبهة
الموضوعية مع وجود هذا الاحتمال.
واما الجهة الثالثة: فالظاهر أنه لو تمت أدلة وجوب الاحتياط تكون واردة على
القاعدة، وسيجيئ الكلام فيه مفصلا.
الاستدلال على البراءة بالاستصحاب
ثم انه ربما يستدل على البراءة بالاستصحاب، وتقريبه على نحوين.
الأول: استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر وعدم استحقاق العقاب
على الفعل أو الترك وأورد عليه بايرادات.
الأول: ان المستصحب لا بد وأن يكون اثرا شرعيا أو موضوعا لاثر شرعي، وعدم
التكليف ليس له اثر شرعي، ولا بنفسه اثر فإنه أزلي، وعدم العقاب من لوازمه العقلية فلا
ينالهما يد الموضع والرفع، وقد وجه المحقق الخراساني كلام الشيخ الأعظم (ره) بذلك.
وفيه: انه لم يدل دليل على اعتبار كون المستصحب مجعولا شرعيا أو موضوعا
له، بل المعتبر كون المستصحب قابلا للتعبد به، وعدم التكليف، وان كان أزلا غير قابل
للوضع والرفع، الا انه بقاءا بيد الشارع.
الثاني: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو ان المتحقق في السابق عدم المنع،
واستصحاب لا يفيد لأنه لا يقطع معه بعدم العقاب، فيحتاج إلى ضم قاعدة قبح العقاب
بلا بيان، ومعها لا حاجة إلى الاستصحاب - نعم - لو كان الاستصحاب حجة في مثبتاته، أو
كان من الامارات صح التمسك به، إذ على الأول كان يثبت به الإباحة والترخيص، ومعه
يقطع بعدم العقاب، وعلى الثاني كان يظن بعدم العقاب، وهو في حكم القطع بالتعبد،
ولكن المبنيين فاسدان، فهذا الاستصحاب لا يفيد.
244

وفيه: انه ان كان مراده ان استصحاب عدم المنع لكونه غير مجعول شرعي ولا له
اثر شرعي لا يجرى، فهو يرجع إلى الوجه الأول وجوابه ما تقدم، وان كان مراده ان عدم
العقاب ليس اثرا شرعيا لعدم المنع فلا يترتب عليه، فيرد عليه ان الآثار العقلية المترتبة
على الامر الشرعي، يترتب باستصحابه، ولذا التزم (قده) بترتب عدم العقاب على الإباحة
المستصحبة، وان كان مراده ان عدم العقاب ليس لازما لعدم المنع بل للاذن والترخيص
فيرد عليه. ان العقاب من لوازم الحرمة، وعدمه من لوازم عدمها فاستصحابه يكفي لترتبه،
مع أن عدم المنع قبل البلوغ بعد قابليته لتوجه الخطاب إليه انما يكون بحكم الشارع
الثابت بحديث رفع القلم ونحوه، وحيث: ان هذا الحديث وأمثاله من الامارات فيثبت به
الاذن والترخيص، فيستصحب نفس ذلك الترخيص الشرعي.
الثالث: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو، ان المتيقن هو اللاحرجية العقلية، أي
العدم المحمولي غير المنتسب إلى الشارع، والعدم بعد البلوغ لو كان فهو عدم نعتي أي
المنتسب إلى الشارع، واستصحاب العدم المحمولي لا ثبات العدم النعتي من الأصل
المثبت الذي لا نقول به.
وفيه: ان عدم التكليف في الصبي غير المميز، لا يكون منتسبا إلى الشارع، الا انه
في المميز منتسب إليه وهو قابل لتعلق التكليف به وقد رفعه الشارع امتنانا وعليه فالمتيقن
أيضا عدم نعتي، مع أن استناد العدم إلى الشارع، انما يكون بنفس دليل الاستصحاب، وقد
ذكرنا في محله ان الأصل المثبت انما هو في لوازم المستصحب، لا لوازم الاستصحاب،
وبالجملة لوازم الاستصحاب تكون مترتبة وليس ذلك من الأصل المثبت.
الرابع: ما افاده المحقق النائيني (ره) به أيضا - وحاصله - ان الاستصحاب انما يجرى
لترتيب اثر واقع المستصحب، واما الأثر المترتب على نفس الشك في الواقع فلا يجرى
الاستصحاب، لترتبه، فإنه بمجرد الشك يترتب ذلك الأثر فاجراء الاستصحاب لترتبه، من
قبيل تحصيل الحاصل، بل من أردأ أنحائه، فإنه تحصيل تعبدي للحاصل وجدانا، والمقام
نظير ما لو فسرنا التشريع، بادخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين، فلو شك في مشروعية
شئ يترتب عليه حرمة استناده إليه تعالى، فاجراء استصحاب عدم المشروعية لا ثبات
245

حرمة الاستناد لغو وتحصيل للحاصل، والمقام من هذا القبيل فان الشك فيه بنفسه
موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فاستصحاب عدم المنع الذي اثره المرغوب عدم
العقاب لا يجرى.
وفيه: انه من جهة كون الأثر غير مختص بالشك بل مترتب عليه وعلى الواقع،
فالاستصحاب يجرى وحيث انه أصل محرز، يوجب رفع موضوع قاعدة القبح، ويترتب
حينئذ عليه عدم العقاب، وليس من قبيل تحصيل الحاصل، وهذا نظير استصحاب
الطهارة، وقاعدتها، فان القاعدة بمجرد الشك تجرى، ومع ذلك لا تكون مانعة عن جريان
استصحابها، والسر فيه ما ذكرنا.
الخامس: وهو الحق، وملخصه انه يعتبر في الاستصحاب، وحدة القضية المتيقنة،
والمشكوك فيها، فيعتبر وحدة الموضوع، وفى المقام لا يجرى الاستصحاب لتبدل
الموضوع فان الموضوع في القضية المتيقنة عنوان الصبي وقد تبدل، توضيح ذلك أنه
لا شبهة في أن العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام بنظر العرف تنقسم إلى قسمين.
أحدهما: ما يكون مقوما لموضوع الحكم كالعدالة بالإضافة إلى جواز الاقتداء والاجتهاد
بالنسبة إلى جواز التقليد. ثانيهما: ما لا يكون مقوما له بل يكون علة لعروض الحكم على
المعنون كالتغير المأخوذ في موضوع نجاسة الماء، وفى القسم الأول بانعدام العنوان
يرتفع الموضوع بنظر العرف، ويكون المشكوك ثبوت الحكم له غير ما يتقن ثبوته له،
وهما متعددان بنظر العرف فلا يجرى الاستصحاب، والمقام من هذا القبيل، فان عنوان
الصبي والمجنون ونحوهما في نظر العرف من العناوين المقومة للموضوع فلا يجرى
الاستصحاب.
ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كونهما من قبيل القسم الثاني، لكن انما يكون
الاستصحاب جاريا في هذا القسم، إذا لم يحرز كون القيد علة للحدوث والبقاء، وشك
في أنه هل يكفي حدوث القيد في ثبوت الحكم حدوثا وبقاءا أم لا؟ واما مع الاحراز فلا
يجرى الأصل والمقام كذلك فان الذي يستفاد من الأدلة ان الصباوة والجنون من القيود
التي يدور ارتفاع القلم مدارها حدوثا وبقاءا فلا يجرى الاستصحاب.
246

التقريب الثاني: التمسك باستصحاب عدم جعل الشارع هذا الحكم الإلزامي
توضيحه، انه لا ريب في أن الأحكام الشرعية تكون تدريجية في جعلها، فهذا الحكم
المشكوك فيه لم يكن مجعولا في زمان قطعا فيشك في ذلك فيجرى استصحاب عدم
الجعل ما لم يتيقن به وأورد عليه بايرادات.
الأول: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان المتيقن هو، العدم غير المنتسب إلى
الشارع، أي العدم المحمولي الثابت قبل الشرع والشريعة، والعدم المشكوك فيه هو
العدم النعتي المنتسب إلى الشارع، واستصحاب العدم المحمولي لا ثبات العدم النعتي من
الأصل المثبت الذي لا نقول به.
وفيه: ما عرفت من أن جعل الأحكام كان تدريجيا، فأول البعثة لم يكن هذا
الحكم المشكوك فيه مجعولا قطعا فالمتيقن هو العدم النعتي.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو ان الباعث أو الزاجر انما هو التكليف
الفعلي لا الانشائي، فلا بد من اثبات عدم ذلك، واستصحاب عدم الجعل لا ثبات عدم
المجعول من أوضح أنحاء الأصول المثبتة.
وفيه: مضافا إلى النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي اتفق الكل
على جريانه، فلو كان نفى الحكم باستصحاب عدم الجعل مثبتا كان اثباته باستصحاب
بقاء الجعل وعدم النسخ أيضا مثبتا.
انه لا تعدد للاعتبار والمعتبر والانشاء المنشأ كما في الايجاد والوجود، وانما
لا يجب امتثال الأحكام قبل وجود الموضوع من جهة تعلقه به في ظرف وجوده على
نحو القضية الحقيقية، فمع عدم الموضوع لا حكم في حق المكلف من الأول، والا فمن
جهة عدم الوجود للحكم الا بالاعتبار يكون لا محالة متحققا من حين الاعتبار، فلا مانع
من استصحابه، أو عدمه فتدبر فإنه دقيق.
الثالث: معارضة استصحاب عدم جعل الحكم الإلزامي مع استصحاب عدم جعل
الترخيص للعلم بتحقق أحدهما.
وفيه: انه لا مانع من اجرائهما معا، بعد فرض عدم لزوم المخالفة العملية من
247

جريانهما معا، وفى المقام اشكالات اخر تقدم بعضها مع الجواب عنه في التقريب الأول،
وبعضها واضح الدفع، فالأظهر جريانه وثبوت البراءة به - نعم - لا يثبت به الإباحة فلو كان
هناك اثر مترتب على الإباحة لما كان يترتب على الاستصحاب ولزم الرجوع إلى أصالة
الإباحة.
وقد يتوهم اختصاص هذا الوجه بالشبهات الحكمية، من جهة انه في الشبهة
الموضوعية يكون الجعل معلوما فلا يجرى استصحاب عدم الجعل.
ويندفع بأنه من جهة ان جعل الأحكام انما يكون على نحو القضية الحقيقية دون
الخارجية فكل موضوع خارجي من افراد الموضوع يكون مخصوصا بحكم خاص فعند
الشك، لا مانع من استصحاب عدم جعل الحكم لهذا الموضوع الشخصي الخارجي.
الاستدلال بالآيات للزوم الاحتياط
وقد استدل للزوم الاحتياط، بالكتاب، والسنة، والعقل، اما الكتاب، فبطوائف من
الآيات.
الأولى: ما دل على حرمة القول بغير علم، كقوله تعالى " وان تقولوا على الله ما لا
تعلمون " (1) إذ القول بالترخيص في محتمل التحريم قول بغير علم.
الثانية: ما دل على لزوم التقوى كقوله تعالى " اتقوا الله حق تقاته " (2) بدعوى ان
ترك محتمل التحريم من التقوى.
الثالثة: ما دل على حرمة القاء النفس النفس في التهلكة كقوله تعالى " ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة " (3).
الرابعة: ما دل على المنع عن متابعة ما لا يعلم، كقوله عز وجل " ولا تقف ما ليس

1 - الأعراف آية 33.
2 - آل عمران آية 102.
3 - البقرة آية 195.
248

لك به علم " (1) بتقريب انه ظاهر في وجوب التوقف وعدم المضي.
الخامسة: ما يدل على التوقف ورد ما لم يعلم حكمه إلى الله تعالى كقوله تعالى
" فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " (2).
ولكن الظاهر عدم صحة الاستدلال بشئ من الطوائف، اما الأولى، فلان الحكم
بالترخيص الواقعي وان كان قولا بغير علم، الا انا لا ندعيه، والحكم بالترخيص الظاهري
مستندا إلى الحجة كالقول بوجوب الاحتياط مستندا إليها ليس قولا بغير علم بل عن علم.
واما الطائفة الثانية فلان المراد بالتقوى ان كان هو الوقاية من عذاب الله، فارتكاب
محتمل التحريم مع الدليل على جوازه، وعدم العقاب عليه ليس مشمولا للآية، وان كان
المراد به المرتبة العالية من التقوى الشاملة، لترك المكروهات، وفعل المندوبات،
والاحتياط باتيان ما يحتمل وجوبه مع الدليل على عدمه كموارد جريان قاعدة الفراغ
وشبهها، فالامر به لا محالة يكون غير الزامي - والالتزام - بابقائه على ظهوره وخروج هذه
الموارد بالدليل الخاص، كما ترى.
واما الطائفة الثالثة فلان المراد بالهلاكة ان كان هو العقاب فأدلة البراءة توجب
القطع بعدم العقاب فلا يكون مشمولا لهذه الآية الشريفة، وان شئت قلت إن هذا النهى
بعد ما لم يكن نفسيا، لان فعل ما يترتب عليه العقاب لا يكون محرما بحرمة أخرى، غير
الحرمة المترتب عليها العقاب على مخالفتها، ولا طريقيا إذا الحكم الطريقي انما يكون
لتنجيز الواقع، ومع فرض تنجزه لفرض الهلاكة في موضوعه، وهو العقاب، فلا يعقل ان
يكون النهى موجبا له فلا محالة يكون ارشاديا فهو تابع لثبوت العقاب من دليل آخر،
وأدلة البراءة تنفيه، وان كان المراد الهلاكة الدنيوية فهي مقطوع العدم، مع أن الشك من
هذه الجهة من قبيل الشبهة الموضوعية لا يجب فيها الاحتياط بالاتفاق.
واما الطائفة الرابعة، فلان محتمل التحريم مع قيام الدليل على الترخيص فيه ظاهرا
ليس مشمولا له لأنه وان لم يعلم التكليف الواقعي، الا ان الوظيفة الظاهرية معلومة.

1 - الاسراء آية 36.
2 - النساء 59.
249

واما الطائفة الخامسة فلان الظاهر منها رد الحكم الواقعي إلى الله تعالى، مع أنها
لو شملت المقام تكون مختصة بما يمكن فيه رفع الشبهة ولا تشمل الشبهات بعد
الفحص كما هو واضح.
الاخبار التي استدل بها للزوم الاحتياط
واما السنة، فقد استدل الأخباريون الاحتياط في الشبهة البدوية التحريمية،
بطوائف منها.
الأولى: ما يدل على حرمة القول والافتاء بغير العلم، كخبر زرارة، سألت أبا جعفر
(ع) ما حجة الله على العباد قال (ع) ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون،
ونحوه غيره (1).
والجواب عن الاستدلال بها واضح، لان القول بالحلية الواقعية وان كان قولا بغير
علم الا انا لا نقول بها، والقول بالحلية الظاهرية مستندا إلى أدلة البراءة قول عن علم.
الثانية: ما دل على وجوب التوقف فيما لا يعلم ورد حكمه إلى الأئمة (ع) كخبر
جابر عن الإمام الباقر (ع) إذا اشتبه الامر عليكم فقفوا عنده وروده إلينا حتى نشرح لكم
من ذلك ما شرح لنا الحديث ونحوه غيره (2) ولكنها مختصة بصورة امكان إزالة الشبهة ولا
تعم ما هو محل الكلام وهو الشبهة بعد الفحص.
الثالثة: ما دل على أن الوقوف عند الشبهة من الورع، كقول الإمام علي (ع) لا ورع
كالوقوف عند الشبهة، وخبر أبي شعيب عن الإمام الصادق (ع) أورع الناس من وقف عند
الشبهة الحديث ونحوهما غيرهما (3).

1 - الوسائل - باب 12 من باب صفات القاضي خبر 4 و 27 منها خبر 9 و 10
كتاب القضاء.
2 - الوسائل باب 4 - من أبواب صفات القاضي حديث 14 وباب 12 منها حديث 1 و 3
و 23 و 43.
3 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي 20 و 24 و 25 و 33.
250

ولكن يرد على الاستدلال بها ما أوردنا على الاستدلال بالطائفة الثانية من الآيات
من تعين حملها على الاستحباب وعدم اللزوم.
الرابعة: ما يدل على أن طلب ترك المشتبه انما هو من جهة ان الاتيان به يهون فعل
المعصية، كمرسل الصدوق خطب أمير المؤمنين (ع) فقال إن الله حد حدودا فلا تعتدوها
إلى أن قال فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك (1) والاستدلال بها كما
ترى.
الخامسة: ما تضمن النهى عن الاتكال على الاستنباطات العقلية الظنية في
الاعتقاديات، كخبر زرارة عن الإمام الصادق (ع) لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم
يجحدوا لم يكفروا (2) والجواب عنها واضح.
الاستدلال باخبار التوقف لوجوب الاحتياط
السادسة: ما تضمن الامر بالوقوف عند الشبهة، معللا بان الوقوف عند الشبهة خير
من الاقتحام في الهلكة وفى بعضها التعليل خاصة كموثق مسعد بن زياد عن النبي (ص) انه
قال لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة إلى أن قال فان الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وقول الإمام الصادق (ع) في مقبولة ابن حنظلة بعد ذكر
جملة من المرجحات إذا كان كذلك فارجئه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة، وفى روايات الزهري والسكوني وعبد الا على، الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ونحوها غيرها (3).
وتقريب الاستدلال بها، ان ظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي فيكون

1 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 61.
2 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 11.
3 - الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي حديث 1 و 35 - وباب 12 منها حديث 2
و 15 و 50.
251

كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل، وأورد على الاستدلال بها بايرادات.
منها: انها ضعيفة السند، وفيه انه لو تم في بعضها لا يتم في جميعها فان فيها الموثق
والصحيح.
ومنها: ان التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند الفريقين - والافتاء بالحكم
الظاهري منعا وترخيصا مشترك بينهما والتوقف في العمل لا معنى له، ويرده ما ذكرناه في
تقريب الاستدلال.
ومنها: انها ظاهرة في الاستحباب - ويرده - ان الاقتحام في الهلكة لا خير منه أصلا
مع أنه جعل علة لوجوب الارجاء في المقبولة وتمهيد الوجوب طرح المخالف للكتاب
في الصحيحة.
ومنها: منها في مقام المنع عن العمل بالقياس وانه يجب التوقف عن القول إذا لم
يكن هناك نص عن المعصوم (ع).
وفيه: انه مخالف لظهورها ولا يلائم مع مورد بعضها كما لا يخفى.
ومنها: ما احتمله قريبا المحقق النائيني (ره)، وهو انها تدل على أن الاقتحام في
الشبهة، يوجب وقوع المكلف في المحرمات باعتبار ان من لم يتجنب عن الشبهات،
وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية، وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل
المحرمات، وقد ورد نظير ذلك في المكروهات - وعليه - فهي لا تدل على أن نفس
الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام.
وفيه: مضافا إلى منافاته لظهورها: فإنها ظاهرة في أن فعل الشبهة وترك الوقوف
بنفسه اقتحام في الهلكة، لا انه موجب له وتبعه لذلك كما لا يخفى: انه لا صارف عن
ظهور الامر في الوجوب حينئذ ومجرد كون الحكمة المذكورة فيها جارية في
المكروهات لا يصلح لرفع اليد عن هذا الظهور.
ومنها: ما افاده المحقق صاحب الدرر (ره) وهو انا نعلم من الخارج عدم وجوب
التوقف في بعض الشبهات كالشبهة الموضوعية، فيدور الامر بين تخصيص الموضوع
بغيرها، وبين حمل الهيئة على مطلق الرجحان، ولا ريب في عدم رجحان الأول ان لم
252

نقل بالعكس.
وفيه: ان بناء القوم حتى هو (قده)، على حمل المطلق على المقيد في هذه الموارد،
والا فيجرى هذا الكلام في جميع موارد المطلق والمقيد كما هو واضح.
ومنها: ما افاده الأستاذ الأعظم وهو ان الموضوع فيها عنوان الشبهة، وهي ظاهرة
فيما يكون الامر فيه ملتبسا بقول مطلق ظاهرا وواقعا، فالشك الذي يكون حكمه
الظاهري معينا لا يكون شبهة، ويختص هذه الأخبار بالشبهات قبل الفحص ويظهر من
بعضها في نفسه الاختصاص بها.
وفيه: ان الشبهة قد أطلقت في موارد معلومية الوظيفة الظاهرية كما في موثق
مسعدة، حيث أطلقت في موارد الشك في جواز النكاح مع أن الأصل الموضوعي يقتضى
الجواز.
ومنها: ما افاده جمع من المحققين وحاصله ان الامر بالتوقف علل بان في تركه
احتمال الوقوع في الهلاكة، وظاهرها في نفسها العقاب، فقد اخذ في المرتبة السابقة على
هذا الامر احتمال العقاب، وتنجز التكليف، فلا محالة لا يكون هذا موجبا له، والا لزم
تأخر ما هو متقدم فتختص الاخبار بالشبهات التي يحتمل العقاب على ترك التوقف
فيها، وهي الشبهات قبل الفحص، والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي، واما في الشبهات
البدوية بعد الفحص فلا يحتمل العقاب فلا تشملها هذه الأخبار.
وأورد عليه بان هذه الجملة ظاهرة في احتمال الهلكة في كل شبهة فتكون واردة
في مقام جعل وجوب الاحتياط - توضيحه - انه كما يمكن انشاء الحكم بالدلالة
المطابقية يمكن انشائه بالدلالة الالتزامية، بان يخبر عن ترتب العقاب على فعل خاص فإنه
يستكشف منه حرمته إذ لولا الحرمة، لما كان وجه للعقاب على الفعل، فليكن المقام من
هذا القبيل إذ بعد فرض عموم الشبهة لكل شك، الاخبار بان الوقوف عند الشبهة خير من
الاقتحام في الهلكة، الدال بالمطابقة على أنه في مورد كل شبهة لو كان تكليف يعاقب
على مخالفته ومخالفته، موجبة للوقوع في الهلكة، يدل بالالتزام على جعل وجوب
الاحتياط في كل شبهة.
253

وفيه: ان دلالة ما تضمن ترتب العقاب على فعل على الحرمة انما تكون من جهة
صون الكلام عن اللغوية فلو فرضنا في مورد عدم لزوم اللغوية لما كان يستكشف
الحرمة، وفى المقام بما انه في بعض موارد الشبهة احتمال العقاب موجود، والكلام قابل
للحمل على تلك الموارد كما هو مورد بعضها، فلا يلزم اللغوية، من عدم الالتزام بالحكم
فلا كاشف جعل وجوب الاحتياط.
وأورد على هذا الجواب بان ظاهر هذه الجملة احتمال الهلكة في مطلق الشبهة،
لا خصوص الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي فحيث انه في بعض مواردها،
لا يعقل ذلك بلا جعل وجوب الاحتياط فيستكشف من اطلاقها ذلك.
وأجيب عنه بأجوبة. الأول: ما عن الشيخ الأعظم (ره) وهو ان ايجاب الاحتياط ان
كان مقدمة للتحرز عن العقاب، فهو مستلزم للعقاب على التكليف المجهول وهو قبيح،
وان كان حكما ظاهريا نفسيا فالهلكة مترتبة على مخالفة نفسه لا مخالفة التكليف الواقعي
وصريح الاخبار إرادة الهلكة المترتبة على مخالفة الواقع.
وفيه: ان التكليف لا ينحصر بهذين القسمين بل هناك قسم ثالث، وهو الوجوب
الطريقي وهو يوجب تنجز الواقع ويمكن حمل الاخبار عليه.
الثاني: ما افاده العلمان المحقق الخراساني والأستاذ الأعظم، وهو ان ايجاب
الاحتياط ان كان واصلا بنفسه، فلا يعقل ان يكون هذه العلة كاشفة عنه، وان لم يكن
واصلا، فلا يعقل كونه منجزا للواقع: إذ التكليف غير الواصل لا يكون بيانا ومنجزا.
وفيه: ان المدعى هو كشف ايجاب الاحتياط غير الواصل بنفسه، فيكون وصوله
بهذه الجملة وصول الشئ بوصول معلوله.
الثالث: انه لا مجال في المقام للتمسك بالاطلاق، وكشف جعل وجوب الاحتياط،
فإنه ان كان المولى في مقام جعل وجوب الاحتياط، ويكون هذه دليلا هذه دليلا عليه، فلا بد من
الالتزام بان هذا الوجوب في بعض الموارد ارشادي محض، لأنه في الشبهات قبل
الفحص الذي يكون التكليف منجزا بحكم العقل، لا معنى لجعل وجوب الاحتياط
الطريقي فلا بد من الحمل على الجامع بين الارشادي والطريقي، وهذا ليس بأولى وأظهر
254

من الالتزام بالاختصاص بالشبهات قبل الفحص وانه ليس في مقام جعل وجوب
الاحتياط أصلا بل الثاني أولى ولا أقل من الاجمال وعدم الظهور في الأول.
وفيه: ان لهذه الجملة مطابقية، ودلالة التزامية وهي تنجز التكليف عند كل
شبهة، وحيث انه في بعض موارد الشبهة لا يعقل التنجز ما لم يوجب الشارع الاحتياط،
فيستكشف جعله في تلك الموارد خاصة - وبالجملة - ليس المدعى جعل وجوب
الاحتياط عند كل شبهة حتى يجرى فيه ما ذكر.
والحق في الجواب ان يقال ان نصوص التوقف طائفتان - الأولى - ما تضمن الامر
بالتوقف بلا تعليل بالعلة المذكورة - الثانية - ما يكون الامر فيه معللا بها.
اما الأولى: فيرد على الاستدلال بها: ان الامر بالتوقف يدور امره، بين ان يكون
للارشاد ويؤخذ باطلاق الشبهة وبين حمله على مطلق الرجحان، وبين حمله الجامع
بين الارشادية والطريقية ليكون في موارد تنجز الكيف ارشاديا وفى موارد اخر منجزا،
وبين حمله على الطريقية، واختصاص الشبهة بالشبهات بعد الفحص، إذ لا يمكن حمل
الامر على الطريقية مع الاخذ باطلاق الشبهة إذ فيما تنجز التكليف، لا معنى لكونه طريقيا،
لان المتنجز لا يتنجز ثانيا، وحيث إن الاستدلال بها يتوقف على أحد الاحتمالين
الأخيرين، والالتزام بأحدهما ليس أولى، من الالتزام بأحد الأولين، بل لا يبعد دعوى
أولويتهما فلا يصح الاستدلال بها.
واما الطائفة الثانية فيرد على الاستدلال بها، ان المراد بالهلكة ليس هو خصوص
العقاب الأخروي كيف، وقد استعمل هذه الجملة في موارد عدم احتمال العقاب، وعدم
لزوم الاحتياط قطعا، لا حظ موثق مسعد بن زياد المتقدم، وفيه قول النبي (ص) لا تجامعوا
في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة، فان الإمام الصادق (ع) فسره في الموثق بقوله، إذا
بلغك انك قد رضعت من لبنها أو انها لك محرمة وما أشبه ذلك فان الوقوف عند الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة، ولا ريب في أن الاحتراز عن النكاح المفروض ليس بلازم
باتفاق الفريقين، لأصالة عدم تحقق مانع النكاح، ولكون الشبهة موضوعية، ولا حظ خبر
الزهري المتقدم الذي ذكر فيه هذه العلة تمهيدا لترك رواية الخبر، غير معلوم الصدور،
255

أو الدلالة، ومن البديهي رجحان ذلك لا لزومه، وعلى الجملة ان الاحتياط في بعض
موارد احتمال الهلكة لازم باتفاق الفريقين، وهو ما إذا احتمل العقاب، وغير لازم كذلك
في موارده الاخر، وهو ما لو احتمل مفسدة أخرى غير العقاب، لكون الشبهة حينئذ
موضوعية، لا يجب فيها الاحتياط، وعليه فلا يستفاد من هذه العلة لزوم الاحتياط
بالتقريب المتقدم، والامر بالتوقف المعلل بذلك يكون ارشاديا لا محالة لتعليل الامر بما
ذكر فتدبر فإنه دقيق.
الاستدلال باخبار التثليث لوجوب الاحتياط
السابعة: اخبار التثليث المروية عن المعصومين عليهم السلام ففي مقبولة ابن حنظلة عن
الإمام الصادق (ع) وانما الأمور ثلاثة امر بين رشده فيتبع وامر بين غيه فيجتنب وامر
مشكل يرد علمه إلى الله والى رسوله، قال رسول الله (ص) حلال بين وحرام بين وشبهات
بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن اخذ بالشبهات ارتكب المحرمات
وهلك من حيث لا يعلم (1).
وتقريب الاستدلال بها من وجهين. أحدهما: ان الإمام (ع) بعد ما أوجب طرح
الشاذ من حيث وجود ريب فيه لا يوجد في مقابله وهو المشهور استدل بالنبوي، وهذه
قرينة قطعية على إرادة وجوب اجتناب الشبهات المرددة بين الحلال والحرام من النبوي،
ودعوى ان الشاذ من البين الغى من حيث الصدور، مندفعة بان القطع بعدم الصدور يمنع
عن التعارض والترجيح، أضف إليه انه لا معنى حينئذ لتثليث الأمور، ولا لفرض الراوي
كون الخبرين معا مشهورين، ولا لتقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة.
ثانيهما: ان النبوي بنفسه ظاهر في وجوب الاجتناب لقوله (ع) فمن ترك الشبهات
نجا من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم، فإنه

1 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 9 كتاب القضاء.
256

اخبار عن لازم ترك الشبهة وارتكابها مستتبع لا محالة لحكم انشائي، وطلب من الشارع،
وفى خبر جميل بن صالح عن الإمام الصادق (ع) عن ابائه عليهم السلام، قال رسول الله (ص) في
كلام طويل الأمور ثلاثة امر بين لك رشده فاتبعه وامر بين لك غيه فاجتنبه وامر اختلف
فيه فرده إلى الله عز وجل (1) ومرسل الصدوق قال إن أمير المؤمنين (ع) خطب الناس فقال
في كلام ذكره حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم
فهو لما استبان له اترك (2) ونحوها غيرها.
والجواب عن ذلك على التقريب الثاني الجاري في جميع الاخبار مع اختلاف في
الظهور: ان المراد بالحرام في قوله ارتكب المحرمات، ان كان هو الحرام المتحقق في
ضمن المشتبه على تقدير المصادفة، فيكون المراد الوقوع على هذا التقدير لا مطلقا
ومعلوم ان الوقوع في الحرام الواقعي ولو مع عدم البيان ومعذورية المكلف في
المخالفة، لا يلازم العقاب والهلكة الأخروية، لتطابق الأدلة على عدم العقاب من دون
بيان، فلا محالة يكون المراد من الهلكة أعم من المفسدة الدنيوية والأخروية، وحيث إن
الفريقين، متفقان على عدم لزوم الاحتياط في جميع موارد ذلك، لان هذا الاحتمال
موجود في الشبهة الموضوعية، والوجوبية ولا يجب فيهما الاحتياط، فلا بد وان يحمل
على إرادة الرجحان والمطلوبية الملائمة مع عدم الوجوب، وان أصر على ظهور الهلكة
في العقاب فلا محالة يقيد الشبهات بالشبهات قبل الفحص، والمقرونة بالعلم الاجمالي.
وان كان المراد بالحرام الحرام المحقق المعلوم، فلا بد وان يراد بالوقوع الاشراف
وتقريب النفس إلى ارتكاب الحرام، كما هو الظاهر من مرسل الصدوق، وعليه فغاية ما
يستفاد منه حينئذ، رجحان الترك ومطلوبية الاحتياط إذ لم يقل أحد بان اشراف النفس
إلى الحرام من المحرمات الشرعية كيف، فان ذلك موجود في ارتكاب المكروه، إذا كثر
كما صرح به في الاخبار، وفى الشبهات الموضوعية، فالنبوي على هذا في مقام بيان
الصغرى، والكبرى المطلوبة المسلمة انما هو رجحان تبعيد النفس من الوقوع في الحرام

1 - 2 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 23 و 22.
257

ارشادا.
والجواب عنه على التقريب الأول، انه ليس في الخبر ما يشهد بكون الامام في
مقام الاستدلال، بل الظاهر خصوصا بقرينة ما ذكرناه كونه في مقام التقريب وذكر
ما يسهل بملاحظة قبول المطلب.
وأجاب عنه الشيخ (ره) بأنه لا مانع من الاستدلال برجحان ترك المشتبه المردد بين
الحلال والحرام للزوم ترك الشاذ من الخبرين في مقام الطريق المترتب على العمل به
الخطاء كثيرا، والاخذ بما ليس طريقا شرعا.
وقربه تلميذه المحقق بقوله ان هو الا نظير الاستدلال بكراهة الصلاة، في ثوب من
لا يتحرز عن النجاسات على عدم جواز الصلاة في الثوب النجس وهو كما ترى ولكن
الذي يسهل الخطب أمره (قده) بالتأمل.
فالمتحصل من هذه الأخبار هو رجحان الاحتياط مطلقا، ويؤيد ذلك الاخبار
المساوقة للنبوي الشريف الظاهرة في الاستحباب لقرائن مذكورة فيها، كالعلوي المتقدم
وخبر النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (ص) يقول إن لكل ملك حمى وان حمى الله
حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت
غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات (1) وبمضمونه روايات اخر.
الاستدلال باخبار الاحتياط لوجوب الاحتياط
الثامنة: الأخبار الآمرة بالاحتياط، كقوله (ع) في صحيح ابن الحجاج الوارد في
رجلين أصابا صيدا وهما محرمان وقد سأله عن أن على كل منهما جزاء أو عليهما جزاء
واحد - إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه وتعلموا (2)
وقوله (ع) في موثق عبد الله بن وضاح الذي كتبه في جواب السؤال عن وقت المغرب

1 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 40.
2 - الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 1.
258

والافطار أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك (1) وقول
أمير المؤمنين (ع) في خبر داود بن القاسم الجعفري عن الإمام الرضا (ع) لكميل بن زياد
أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (2) وقول الإمام الصادق (ع) في خبر عنوان البصري
وخذ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا (3). والنبوي دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك (4) ونحوها غيرها.
ويمكن الجواب عن هذا الوجه بوجوه. الأول: ما ذكرناه في اخبار التوقف غير
المعللة.
الثاني: انه يمكن ان يقال بعد عدم امكان حمل الامر بالاحتياط على النفسية
- وتردد الامر - بين حمله على الطريقية، أو الارشادية لا تعين لاحد الاحتمالين،
ولا شاهد يعين كونه طريقيا، بل لا يبعد في المقام دعوى وجود الشاهد على الارشادية وهو
حسن الاحتياط عقلا.
الثالث: انه لا ريب في أن الاحتياط في الشبهات الوجوبية والموضوعية غير واجب
بل حسن، ومن المستبعد جدا - الالتزام بتخصيص - أخوك دينك فاحتط لدينك فيتعين
البناء على أنه للطلب المشترك بين الوجوب والاستحباب، أو للارشاد.
أضف إلى ذلك، ان المشار إليه في صحيح ابن الحجاج اما نفس واقعة الصيد أو
السؤال عن حكمها، وعلى الأول يكون المورد من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر
الارتباطين، فلا ربط له بما نحن فيه، مع أن الشبهة الوجوبية لا يجب الاحتياط فيها ان
كان الشبهة بدوية باتفاق الفريقين، مع أن ظاهر الخبر التمكن من استعلام حكم الواقعة
بالسؤال والتعلم فلا ربط له بما هو محل الكلام، وهو الشبهة بعد الفحص.
وبذلك يظهر انه على الثاني كان المراد من الاحتياط فيه الاحتياط عن الافتاء حتى

1 - المصدر المتقدم.
2 - المصدر المتقدم.
3 - المصدر المتقدم.
4 - المصدر المتقدم.
259

بالاحتياط، أو الافتاء بالاحتياط، لا يكون مربوطا بالمقام مع امكان التعلم، واما موثق ابن
وضاح، فظاهره لزوم الاحتياط مع كون الشبهة موضوعية لاحتمال عدم استتار القرص: إذ
لو كانت الشبهة حكمية كان عليه بيان الحكم لا الامر بالاحتياط، ومن المعلوم ان الانتظار
مع الشك في الاستتار واجب بحكم الاستصحاب، وعليه فهو أجنبي عما هو محل الكلام.
فتحصل ان شيئا من هذا الطوائف الثمان لا تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة
البدوية بعد الفحص.
ثم انه لو سلم دلالة الاخبار على لزوم الاحتياط في الشبهة التحريمية يقع الكلام
في الجمع بينها وبين ما دل من الاخبار على جريان البراءة فيها.
وملخص القول في ذلك أن اخبار البراءة من جهة كونها أخص من جهتين من تلك الأخبار
لا بد من تقديمها.
الأولى: اختصاصها بالشبهات بعد الفحص اما بنفسها أو للاجماع وحكم العقل
الذين هما بحكم المخصص المتصل المانع عن انعقاد الظهور في العموم، ودعوى
اختصاص اخبار التوقف والاحتياط أيضا بالشبهات بعد الفحص لوجوب الاحتياط في
غيرها مع قطع النظر عنها، مندفعة بان وجوبه في الشبهات قبل الفحص لا يمنع عن كونها
جعلا لايجاب الاحتياط في جميع الموارد على ما هو مقتضى اطلاقها.
الثانية: ان من جملة اخبار البراءة ما هو مختص بالشبهات التحريمية، كحديث،
كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى، فتقدم اخبار البراءة على اخبار الاحتياط للأخصية.
واما دعوى حكومة اخبار الاحتياط على اخبار البراءة، فقد تقدم تقريبها ودفعها
عند الاستدلال بنصوص البراءة.
أضف إلى ذلك كله ان الاستصحاب الذي قربناه يكون حاكما على أدلة الاحتياط
والتوقف.
الاستدلال بحكم العقل لوجوب الاحتياط
الثالث: مما استدل به لوجوب الاحتياط حكم العقل، وتقريبه بوجوه أحدهما - انه
260

لا ريب في وجود العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الشريعة المقدسة
ومقتضى هذا العلم الاجمالي لزوم فعل كل ما احتمل وجوبه وترك كل ما احتمل
حرمته، غاية الامر ثبت بدليل آخر عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية
والموضوعية وتكون الشبهات التحريمية الحكمية باقية تحت ما يقتضيه العلم الاجمالي،
وأجيب عن هذا بأجوبة.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني وحاصله بعد النقض والابرام، ان العلم
الاجمالي كما ينحل حقيقة بالعلم التفصيلي والشك البدوي، كذلك ينحل حكما بقيام
الحجة التي حقيقتها المنجزية والمعذورية على أحد الأطراف، إذا كان بمقدار ينطبق عليه
المعلوم بالاجمال، إذ حقيقة جعل الحجية على هذا، جعل المنجزية إذا كان الواقع في
مورد الحجة والمعذورية إذا كان في الطرف الآخر، ففي الحقيقة يصرف تنجز الواقع
الثابت بالعلم، إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ويعذر إذا كان في ساير الأطراف، ونظير
المقام قيام الامارة على كون أحد الانائين المعلوم كون أحدهما الذي هو اناء زيد نجسا
اناء زيد.
وفيه: ان لسان الحجة القائمة في بعض الأطراف، ان كان كون الواقع المعلوم
بالاجمال في هذا، الذي كون لازمه عدم كونه في ساير الأطراف، كما هو الشأن
في المثال فإنها كما تدل على أن هذا اناء زيد تدل بالالتزام على عدم كون الاخر انائه، تم
ما ذكر، وكان من قبيل جعل البدل، وأما إذا لم يكن كذلك كما هو الصحيح، فان الحجة
انما تدل على ثبوت الحكم في مؤداها بلا عنوان ولا علامة غير المنافى لثبوته في ساير
الأطراف، فلا تكون الحجة صارفة للتنجز وموجبة للعذر إذا كان هناك حكم في ساير
الأطراف.
الثاني: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل
العلم، الا بما أدى إليه الطرق، فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو مكلف به فعلا على
تقدير حرمته واقعا.
وفيه: ان مجرد نصب الطرق لا يفيد ان الشارع لم يرد من الواقع الا ما ساعد عليه
261

الطرق، بل غاية ما يفيد لزوم العمل على طبقها وعليه فالتكاليف الواقعية المعلومة اجمالا
تنجز بالعلم للقدرة على امتثالها، فلا وجه لدعوى عدم كون التكليف في الموارد
المشكوك فيها فعليا.
الثالث: ما افاده الشيخ (ره) أيضا، أيضا، وهو انه إذا ثبت بدليل آخر وجوب الاجتناب
عن جملة من أطراف العلم، ولو كان ذلك الدليل لا حقا اقتصر في الاجتناب على ذلك
المقدار، لاحتمال كون المعلوم بالاجمال، هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا،
فأصالة الاحتياط في البعض الاخر غير معارضة بالمثل وما نحن فيه من هذا القبيل.
وفيه: ان الدليل المزبور، لو كان سابقا على العلم الاجمالي، كان ما ذكر متينا، وأما إذا
كان لا حقا، فهو لا يكون قابلا لرفع اثر العلم بعد ما لم يصر موجبا لانحلاله وتمام
الكلام في محله.
الرابع: ان العلم بوجود الأحكام ينحل بالعلم الاجمالي، بوجودها في موارد
الامارات، أو الاخبار - توضيحه - ان لنا علوما ثلاثة. الأول: العلم الاجمالي بثبوت احكام
في الشريعة المقدسة. الثاني: العلم الاجمالي بوجود الأحكام في موارد الامارات من خبر
الواحد وغيره. الثالث: العلم الاجمالي بوجود الأحكام في خصوص الاخبار، للعلم بعدم
مخالفة جميعها للواقع بل جملة منها مصادفة للواقع قطعا، فحينئذ يمكن ان يدعى ان
المعلوم بالاجمال من الأحكام الذي كون ثابتا في خصوص الاخبار أو في الامارات
انما يكون بمقدار المعلوم بالاجمال ثبوته في الشريعة فلا ريب في الانحلال.
الخامس: ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي يتوقف تنجيزه على بقائه، فكما ان
العلم التفصيلي لو انقلب إلى الشك الساري، يسقط عن التنجيز كذلك العلم الاجمالي،
وانقلابه إليه وانعدامه، انما يكون بتبدل القضية المتيقنة الشرطية المانعة الخلو مثلا لو علم
اجمالا بنجاسة أحد الانائين يكون هناك قضايا ثلاث قضية متيقنة وقضيتان مشكوكتان،
وهي العلم بنجاسة أحدهما على سبيل منع الخلو، والشك في نجاسة كل منهما، - وبعبارة
أخرى - الشك في انطباق المعلوم على كل من الطرفين، وهذا هو حقيقة العلم الاجمالي،
وانعدامه انما يتحقق بعدم الشك في انطباق المعلوم ولو في طرف من الطرفين، كما لو
262

علم بنجاسة أحدهما بعينه فإنه يتبدل ذلك إلى العلم بنجاسة أحدهما المعين، والشك في
نجاسة الاخر، ولا شك في نجاسة المعلوم بالتفصيل، وهذا من قبيل الشك الساري بالنسبة
إلى العلم التفصيلي، ولا يكون ذلك من باب عدم العلم بقاءا حتى ينتقض بما لو خرج
أحدهما عن محل الابتلاء، بل من باب عدمه بقاءا حتى في الحدوث.
وعلى ذلك، نقول، في الامارات بناءا على جعل الطريقية الانحلال الحكمي
واضح، إذا الامارة وان لم تكن علما تفصيلا حتى يوجب الانحلال الحقيقي لكنها تكون
علما تعبديا، فكما ان العلم الحقيقي يوجب انحلال كذلك العلم التعبدي - وبالجملة -
بعدا عطاء الشارع صفة الطريقية للامارة تكون الامارة علما في حكم الشارع فتوجب
انحلال العلم الاجمالي وينعدم الترديد الذي به قوام العلم الاجمالي تعبدا.
واما بناءا على جعل المنجزية كما هو مسلك المحقق الخراساني أو جعل الحكم
الظاهري، والالتزام بالسببية بالنحو المعقول فعن المحقق النائيني القول بان الانحلال في
غاية الصعوبة، بل لا ينحل ويكون الاشكال باقيا بحاله: إذ على مسك جعل التنجيز،
الامارة توجب تنجز الحكم لو أن في ذاك الطرف، وهذا ليس اثرا زايدا على العلم
الاجمالي، لأنه موجب أيضا، وعلى مسلك جعل الحكم الظاهري غاية مفاد الامارة
حدوث حكم ظاهري في مؤداها، ولا توجب تمييز القضية المتيقنة عن المشكوك فيها
فالعلم باق بحاله.
ولكن الأظهر هو الانحلال حتى على هذين المسلكين أيضا، إذ لو كان تنجيز
الامارات وثبوت الحكم بها بعد تنجيز العلم الاجمالي، بان كان تنجيزها متوقفا على
الوصول وقبله كان العلم الاجمالي منجزا كان ما افاده وجيها، ولكن لا يتوقف ذلك على
الوصول، بل يكفي بيان الشارع ووجود الامارات في الكتب المعتبرة التي بأيدينا، إذ
التكاليف المحتملة تنجز بذلك، ولذا بنينا على عدم جريان قبح العقاب بلا بيان في
الشبهات قبل الفحص لاحتمال البيان ووجود الامارة في الكتب المعتبرة، فالأمارات
بوجوداتها الواقعية المدونة في الكتب توجب التنجيز أو تثبت الحكم الظاهري على
اختلاف المسلكين، وعليه ففي أول البلوغ الذي يعلم بوجود احكام يعلم أيضا بوجود
263

امارات منجزة أو مثبتة للحكم الظاهري بذلك المقدار، يكونان متقارنين، ومثل هذا العلم
الاجمالي لا يكون منجزا من الأول، إذ التكليف لو كان في أحد أطراف العلم منجزا قبل
العلم أو مقارنا معه، أو محكوما بحكم آخر كذلك، والجامع عدم جريان الأصل النافي
في ذلك الطرف، كما لو علم بنجاسة أحد الانائين وقبله أو مقارنا معه علم تفصيلا بنجاسة
أحدهما المعين، أو كانت نجاسته موردا للاستصحاب يجرى الأصل في الطرف الآخر،
بلا معارض وبيان السر في ذلك موكول إلى محله.
وعليه ففي المقام بما انه لا يجرى الأصل النافي في جملة من الموارد وهي موارد
قيام الامارات يجرى الأصل النافي في الأطراف الاخر بلا معارض.
فتحصل ان العلم الاجمالي لا يمنع من جريان الأصل، والغريب ان عين هذا
البرهان يقتضى عدم جريان الأصل في الشبهة الوجوبية، مع أن الأخباريين قائلون بجريانه
فيها، ولعلهم لم يستندوا في المقام إلى هذا الوجه.
الوجه الثاني من تقريب حكم العقل
هو ما ذكره بعضه من استقلال العقل بالحظر في الافعال غير الضرورية قبل
الشرع، ولا أقل من الوقف، إذ هو في مقام العمل مثل الحظر فيعمل به، حتى يثبت من
الشرع الإباحة، ولم يرد الإباحة فيما لا نص فيه، وما دل على الإباحة على تقدير تسليم
دلالته معارض بما ورد من الامر بالتوقف والاحتياط فالمرجع هو الأصل.
ويرد عليه، أولا: ان الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الإباحة دون الحظر كما
ذهب إليه الأكثر. وثانيا: انه قد مر ثبوت الترخيص فيما لا نص فيه، وعدم معارضته بما دل
على التوقف أو الاحتياط.
وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بجوابين آخرين وتبعه غيره. أحدهما: انه
لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال، والا لصح الاستدلال على البراءة بما
قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.
264

وفيه: ان مناط الحظر وهو عدم ثبوت الاذن موجود فيما هو محل الخلاف، واما
مناط الإباحة فليس كذلك، فان عدم المنع عن فعل علم عدم ورود المنع عنه شرعا،
لا يستلزم عدم المنع عنه مع فرض احتمال المنع عنه.
الثاني: ما محصله ان العقل انما يحكم بالحظر في تلك المسألة لعدم قابلية المورد
للبيان لكونه قبل الشرع والشريعة، فلا تجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهذا بخلاف، ما
هو محل الخلاف المفروض فيه ثبوت الشرع والشريعة، وقابلية المورد للبيان، فمع عدم
بيان الشارع، يستقل العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وفيه: ان استقلال العقل بذلك، واحراز عدم العقاب على مخالفة المنع الشرعي
على فرض وجوده، لا ينافي مع الخطر، والمنع المالكي، الذي هو بمناط انه بمقتضى
قانون المملوكية والعبودية، لا بد وأن يكون جميع أفعال المملوك عن اذن سيده، لئلا
يخرج عن ذي الرقية، إذ هذا المناط بعينه موجود فيما هو محل الخلاف، وعدم العقاب
لعدم المنع الشرعي، لا ينافي المنع لجهة أخرى، فتدبر.
الوجه الثالث: ان الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم
المفسدة فيه، وهذا الوجه ربما يستدل به للاحتياط فيما هو محل الكلام، وهو الظاهر من
الكفاية، وربما يستدل به للقول بالحظر في مسالة الحظر والإباحة، كما نسب إلى
الشيخين وغيرهما على ما في رسائل الشيخ الأعظم (ره) اما الأول: فقد مر في ذيل قاعدة
قبح العقاب تقريبه وما يرد عليه.
واما الثاني: فيرد عليه ان المفسدة ان كانت بالغة مرتبة التأثير في الحرمة، فلا ربط
له بتلك المسألة، إذ هي انما تكون في فرض خلو الواقعة عن الحكم الشرعي، وانه هل
يستقل العقل بالحظر ان الإباحة، مع احراز عدم المنع من الشارع، وان لم تكن بالغة تلك
المرتبة، فلا يكون الاقدام على ما فيه المفسدة فضلا عما يحتمل فيه ذلك منافيا لغرض
المولى ليكون خروجا عن ذي الرقية، وبدونه لا استقلال للعقل على قبح الاقدام المذكور،
ودعوى ان أصل الاقدام من دون اذن المولى خروج عن ذي الرقية لأنه تصرف في ملك
المولى بدون اذنه، مندفعة بان ذلك يرجع إلى الوجه الثاني وهو باطل على ما حقق في محله.
265

أصالة عدم التذكية
بقى أمور مهمة لا بد من التنبيه عليها. الأول: ان موضوع البراءة هو الشك وعدم
العلم، وعليه فكل أصل كان رافعا للشك تعبدا يكون مقدما على البراءة الشرعية بالحكومة
من غير فرق بين الشبهة الموضوعية كما لو شك في انقلاب ما علم خمريته خلا، فان
استصحاب الخمرية يرفع الشك في حرمة شربه الذي هو الموضوع للبرائة، أم كانت
حكمية كما إذا شك في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، إذ
استصحاب الحرمة على القول بجريانه، يرفع موضوع أصالة البراءة، وقد عبر
المحقق الخراساني تبعا للشيخ عن هذا الأصل، بالأصل الموضوعي، باعتبار انه رافع
لموضوع أصالة البراءة.
ثم إن جماعة من المحققين منهم الشيخ الأعظم، وصاحب الكفاية، رتبوا على
ذلك، انه لا تجرى أصالة الإباحة والحل، في حيوان شك في حليته مع الشك في قبوله
التذكية، أو ورود التذكية عليه، لارتفاع الشك في الحلية باستصحاب عدم التذكية وتنقيح
القول في ذلك يتوقف على بيان مقدمات.
الأولى: ان الموت وان لم يكن مختصا بزهاق الروح حتف الانف، ولكنه ليس
عبارة عن، زهاق الروح غير المستند إلى سبب شرعي، بل هو عبارة عن الزهاق المستند
إلى غير السبب الشرعي، كما صرح به في مجمع البحرين، فهو امر وجودي لا عدمي.
واما التذكية، فقد وقع الخلاف في أنها، هل تكون أمرا بسيطا معنويا حاصلا من
فرى الأوداج الأربعة بشرائطه، أم هي عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط
الخاصة، الوارد على المحل القابل، بنحو يكون قابلية المحل شرطا للتأثير، أو جزءا
للتذكية.
وقد اختار المحقق النائيني الثاني، واستدل له: باستناد التذكية في الآية الشريفة " الا
ما ذكيتم " إلى المكلف فان نسبة التذكية إلى الفاعلين تدل على انها من فعلهم.
266

وفيه: انه لا شبهة في أنها من فعلهم، سواء كانت عبارة عن المسبب، أو عن نفس
الافعال الخارجية، غاية الامر على الأول تكون فعلهم التسبيبي، وعلى الثاني فعلهم
المباشري، وليس الاستناد ظاهرا في إرادة المعنى المباشري، دون التسبيبي.
فالصحيح ان يستدل له مضافا إلى أن الظاهر من الأدلة ترتب الحلية والطهارة على
نفس الافعال كقوله (ع) إذا رميت وسميت فانتفع بجلده (1) انه في جملة من النصوص ورد
ان، ذكوة الجنين ذكوة أمه (2)، ولو كانت التذكية اسما للمسبب، لما صح هذا الاطلاق، إذ
الحاصل لكل منهما فرد من ذلك الامر المعنوي غير ما هو حاصل للاخر قطعا، وهذا
بخلاف ما إذا كانت اسما لنفس الافعال الخارجية.
ثم إن ظاهر الاسناد في الآية خروج القابلية عن حقيقتها، وانها تكون شرطا للتأثير
كما هو واضح.
الثانية: انه وان وقع الخلاف في أن ما يقبل التذكية من الحيوان، هل هو خصوص
ما يحل اكل لحمه، أو ان كل حيوان يقبل التذكية الا المسوخ، أو ان كل حيوان يقبل تلك
الا حشرات، أو ان كل حيوان قابل لها إلا نجس العين، ولكن الأظهر هو الأخير، اما
قبول غير مأكول اللحم لها في الجملة فيشهد له قوله (ع) في ذيل موثق ابن بكير، وان كان
غير ذلك مما قد نهيت عن اكله وحرم عليك اكله فالصلاة في كل شئ منه فاسدة ذكاه
الذبح أو لم يذكه، وقد استدل به صاحب الجواهر (ره) للقول بقبول كل حيوان للتذكية
الا ما خرج بالدليل، ويشهد لقبول السباع للتذكية موثق سماعة عن جلود السباع ينتفع بها
قال (ع) إذا رميت وسميت فانتفع بجلده (3) وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله.
المقدمة الثالثة ان موضوع النجاسة هو عنوان الميتة الذي هو امر وجودي كما
يظهر لمن راجع النصوص.
واستدل لكون موضوعها غير المذكى بخبر القاسم الصيقل، قال كتبت إلى
الرضا (ع) انى اعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فيصيب ثيابي أفأصلي فيها

1 - الوسائل باب 49 من أبواب النجاسات حديث 1.
2 - الوسائل باب 18 من أبواب الذبائح.
3 - الوسائل باب 49 من أبواب النجاسات حديث 2.
267

فكتب إلى اتخذ ثوبا لصلاتك فكتب إلى أبى جعفر الثاني كنت كتبت إلى أبيك بكذا وكذا
فصعب على ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشية الذكية فكتب إلى كل اعمال
البر بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا باس (1) بدعوى ان جملته الأخيرة
تدل بالمفهوم على أن غير المذكى فيه باس، ومعلوم ان المراد بالباس النجاسة.
وفيه: ان السائل حيث فرض عمله من شيئين أحدهما من جلود الحمر الميتة
ثانيهما من جلود الحمر الوحشية الذكية، فاجابه (ع) انه ان كان من القسم الثاني لا باس،
فمفهومه ثبوت الباس لو كان من القسم الأول، - وبعبارة أخرى - ان الإمام (ع) في مقام
بيان حكم كلا العملين، والشاهد على ذلك تقييده (ع) بقوله وحشيا، مع أنه لا ريب في عدم
مدخلية الوحشية في الحكم، وعليه فغاية ما يثبت بهذا الخبر ثبوت الباس وهو النجاسة
في الميتة دون غير المذكى.
إذا عرفت هذه المقدمات، فاعلم أن الشبهة، تارة تكون موضوعية، وأخرى تكون
حكمية، اما الأولى ففيها صور.
إحداها: ان يعلم بقبول الحيوان للتذكية ووقوع التذكية عليه، ويشك في حلية
لحمه وحرمته من جهة الشك في أنه من القسم الذي يحل لحمه بعد التذكية، أو من غيره
كما لو اشتبه الموجود الخارجي وتردد الامر بين ان يكون، غنما أو أرنبا، مع قبول كليهما
للتذكية، ففي مثل هذه الصورة تجرى أصالة الإباحة، فان كان كلام الشهيد الذي نقله
الشيخ الأعظم (ره)، من أن الأصل في اللحوم الحرمة شاملا لهذه الصورة، فغير تام: لما
عرفت من أصالة الإباحة.
ودعوى انه يستصحب حرمة اكل لحمه الثابت في حال الحياة فيثبت به حرمة
لحمه.
مندفعة: بعدم ثبوت حرمة اكل الحيوان الحي، وفى الجواهر دعوى الشهرة على
جوازا كل السمك وبلعه حيا، مع، انه لو سلم الحرمة فإنما موضوعها، لحم حيوان حي، أو
القطعة المبانة منه، وهذان العنوانان يرتفعان بالموت فلو ثبتت الحرمة يكون موضوعها

1 - المصدر المتقدم.
268

شيئا آخر فلا يجرى الاستصحاب.
ثانيتها: ما إذا شك في التذكية لأجل احتمال عروض المانع مع قبوله في نفسه
للتذكية، ووقوعها كما لو شك في صيرورة الغنم موطوئة، وفى هذه الصورة أيضا
لا تجرى أصالة عدم التذكية، بل تجرى أصالة عدم عروض المانع الحاكم عليها ويثبت
الحلية والتذكية، ولو كان كلام الشهيد شاملا لهذا الصورة لا يكون تاما.
ثالثتها: ما لو شك في ذلك من جهة الشك في أن الحيوان المذبوح من ما يقبل
التذكية كالشاة، أو مما لا يقبل، أو من جهة تردد الجلد بين ان يكون من الحيوان المذبوح
في الخارج المعلوم كونه كلبا، أو من الاخر الواقع عليه الذبح الجامع للشرائط المعلوم
كونه غنما، وفى هذه الصورة بناءا على وجود دليل عام يدل على قبول كل حيوان
للتذكية، الا ما خرج بالدليل كما تقدم منا وجريان استصحاب العدم الأزلي حتى في
العناوين الذاتية كما حققناه في محله يحكم بالطهارة، لاستصحاب عدم تحقق العنوان
الذي خرج فيثبت انه حيوان لا يكون معنونا بعنوان الخاص، فيشمله العموم، ودعوى
عدم تمامية ذلك في القسم الثاني لعدم كون حيوان في الخارج مشكوك كلبيته كي يجرى
الأصل فيه، ويحكم بعدم كونه كلبا، مندفعة بان ما يكون هذا جلده بهذا العنوان يشك في أنه
كلب أو غنم ومقتضى الأصل عدم كونه كلبا.
واما لو بنينا على عدم العموم، فان بنينا على أن التذكية عبارة عن الافعال الخاصة
عن خصوصية في المحل كما اخترناه يجرى استصحاب، عدم الخصوصية، ويحكم
بعدم التذكية لانتفاء المركب بانتفاء شرطه أو جزئه، هذا بناءا على جريان استصحاب
العدم الأزلي، واما بناءا على عدمه فلا يجرى أصالة عدم التذكية لعدم الحالة السابقة
لجزئها أو شرطها، والمجموع من حيث المجموع ليس شيئا آخر وراء الاجزاء كي
يجرى الأصل فيه وعليه فيتعين الرجوع إلى أصالة الإباحة والطهارة.
وبما ذكرناه ظهر ان ما افاده المحقق الخراساني من جريان أصالة عدم التذكية مع
بنائه على كون التذكية عبارة عن الافعال الخاصة، يكون مراده بها أصالة عدم
الخصوصية، لبنائه على جريان استصحاب العدم الأزلي لا أصالة عدم المجموع.
269

وان بنينا على أن التذكية عبارة عن الامر التوليدي المسبب عن الافعال الخاصة عن
خصوصية في المحل، يجرى أصالة عدم التذكية ويحكم بعدمها.
ثم انه في مورد جريان أصالة عدم التذكية يترتب عليها، عدم جواز الصلاة،
وحرمة اكل لحمه: لأنهما من آثار عدم التذكية ولا يترتب عليها النجاسة فإنها كما عرفت
مترتبة على الميتة، والموت امر وجودي كما تقدم، لا يثبت بأصالة عدم التذكية، ففيها
يرجع إلى أصالة الطهارة، فالالتزام بان الأصل في اللحوم الحرمة والطهارة، متين على
هذا، ولا يرد عليه اشكال أصلا.
رابعتها: ان يكون الشك من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه خارجا، أو قطعنا
يكون الحيوان المعين الواقع عليه الذبح مذكى، والاخر المعين ميتة، وشك في أن الجلد
من أيهما اخذ، وفى هذه الصورة أيضا تجرى أصالة عدم التذكية ويترتب عليها الحرمة،
وفى النجاسة يرجع إلى أصالة الطهارة، فالأصل هو الحرمة والطهارة.
فعلى هذا الجلود التي يؤتى بها من بلاد الإفرنجية، ويعمل بان يد المسلم يد عمياء
ومع ذلك يحتمل التذكية تكون محكومة بالطهارة.
اما الثانية: أي صورة كون الشبهة حكمية، فلها أيضا صور.
الأولى: ان يعمل بقبوله للتذكية ويشك في حليته وحرمته وفى هذه الصورة تجرى
أصالة الحل ويحكم بالحلية، ولا تجرى أصالة الحرمة الثابتة في حال الحياة لما تقدم، في
الصورة الأولى من صور الشبهة الموضوعية.
الثانية: ما لو شك في قبوله للتذكية من جهة احتمال عروض المانع، كما لو شك
في أن شرب لبن الخنزيرة مرة واحدة يمنع عن قبوله للتذكية أم لا؟ وفى هذه الصورة
يجرى استصحاب بقاء القابلية، فان كانت التذكية عبارة عن الافعال الخاصة عن
خصوصية في المحل فقد أحرز بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل، ولو كانت أمرا بسيطا
حاصلا من الافعال، فحيث انه يكون بحكم الشارع، وتكون من الأحكام الوضعية
وموضوعها الافعال الخاصة مع القابلية، فقد أحرز، بعض الموضوع بالوجدان، وبعضه
بالأصل، ويترتب عليه التذكية، ويكون هذا الأصل حاكما على أصالة عدم التذكية.
270

الثالثة: ما لو شك في القابلية ابتداءا كما لو تولد حيوان من طاهر ونجس، ولم
يتبعهما في الاسم، فعلى المختار من وجود عموم دال على قبول كل حيوان للتذكية
يتمسك به ويحكم بها، واما بناءا على عدمه، فان كانت التذكية أمرا بسيطا معنويا يجرى
أصالة عدم التذكية، وان كانت عبارة عن الافعال الخاصة مع قابلية المحل يجرى
استصحاب عدم القابلية بناءا على جريان الأصل في العدم الأزلي، والا فلا، وعلى
التقديرين لا يجرى استصحاب عدم المجموع لما تقدم من عدم كونه بما هو مركب
موضوع الحكم بل ذوات الاجزاء تكون موضوعا، ولا استصحاب عدم تحقق السبب،
لان السبب هو ذوات الاجزاء، وعنوان السببية مضافا إلى كونه عبارة عن الحكم، لا يكون
دخيلا في الموضوع، وقد عرفت انه لا يترتب على أصالة عدم التذكية النجاسة.
فما ذكره الشهيد والمحقق الثانيان فيما لو تولد حيوان من طاهر ونجس لم يتبعهما
في الاسم وليس له مماثل ان الأصل فيه الحرمة والطهارة، متين بناءا على عدم وجود
عموم دال على قبول كل حيوان للتذكية، اما الحرمة فلا صالة عدم التذكية، أو عدم
القابلية، واما الطهارة فلأصالتها.
وايراد الشيخ الأعظم (ره) بان وجه الحكم بالحرمة إن كان أصالة عدم التذكية،
فلا بد من الالتزام بالنجاسة، غير تام.
لا يقال انه بناءا على كون الميتة أمرا وجوديا كما يجرى أصالة عدم التذكية
ويترتب عليها الحرمة، يجرى أصالة عدم الموت، ويترتب عليها الطهارة فتتعارضان
وتتساقطان، فيرجع إلى أصالة الحل والطهارة، فلا وجه للحكم بالطهارة والحرمة كما
افاده المحقق النراقي (ره)، فإنه يقال: انه سيأتي في محله ان العلم الاجمالي بمخالفة أحد
الأصلين للواقع، لا يمنع من جريانهما ما لم يلزم منهما المخالفة العملية لتكليف لزومي،
كما في المقام فإنه لا مانع من جريانهما معا ويحكم بالحرمة لأصالة عدم التذكية
والطهارة، وعدم النجاسة، لأصالة عدم الموت.
ثم إن الوجه في ذكر هذا التنبيه في المقام، ان صاحب الحدائق، أورد على
الأصوليين وتعجب منهم حيث إنهم يحكمون بحرمة اللحم المشكوك تمسكا بأصالة
271

عدم التذكية، مع أنهم يقولون بعدم جريان الأصل مع وجود الدليل، والدليل على الحل،
موجود في المقام، وهو قوله (ع) كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام منه بعينه.
ويرد على ما افاده ان الدليل الذي يكون مقدما على الأصل، هو الدليل
على الحكم الواقعي، والدليل الذي ذكره الذي هو من أدلة البراءة دليل على الحكم
الظاهري المأخوذ في موضوعه المرتفع تعبدا مع أصالة عدم التذكية، ولذلك يقدم عليه.
جريان الاحتياط في العبادات
التنبيه الثاني: لا اشكال في جريان الاحتياط، في الواجبات التوصلية، وكذلك في
العبادات إذا أحرز الرجحان وتردد بين ان يكون واجبا أو مندوبا، لامكان الاحتياط
بداعي امره الواقعي، والاشكال فيه من ناحية قصد الوجه، قد مر دفعه في أوائل هذا
الجزء.
وانما الكلام والاشكال في جريان الاحتياط في العبادات، إذا لم يحرز محبوبية
العمل ودار الامر بين الوجوب وغير الاستحباب، ومنشأ الإشكال ان الاحتياط عبارة عن
الاتيان بكل ما يحتمل دخله في المأمور به على فرض الامر به على وجه يحصل العلم بعد
الاحتياط بتحقق ما احتاط فيه بجميع قيوده، ومن جملة الشرائط المعتبرة قصد أمرها
والتقرب به، وحينئذ ان اتى به بداعي الامر كان تشريعا محرما، وان اتى به بغير ذلك
الداعي، فلم يأت بالمأمور به قطعا وللقوم في الجواب عن هذا الشبهة مسالك.
الأول: انه يستكشف الامر بالاحتياط من حسن الاحتياط عقلا بقاعدة الملازمة،
أو من جهة ترتب الثواب عليه، فيأتي بالعمل بداعي ذلك الامر الاحتياطي.
الثاني: ان الامر بالاحتياط الذي ورد في الاخبار امر مولوي نفسي، وهو يكفي
في العبادية.
الثالث: ان الاحتياط في العبادات امر ممكن بلا احتياج إلى امر آخر، فالكلام يقع
272

في موارد ثلاثة.
اما الأول: فيرد عليه ان حكم العقل بحسن الاحتياط انما يكون بيانا للكبرى
وجاريا على نحو القضية الحقيقية المتضمنة لثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع،
ولا تعرض له لبيان الموضوع، فهو لا يصلح ان يكون مبينا للموضوع وسببا لامكان
الاحتياط، وبالجملة على فرض عدم امكان الاحتياط في العبادات لا مورد لحكم العقل
بحسنه، ولا يفيد ما دل على ترتب الثواب عليه، وان شئت قلت إنه لو ثبت الملازمة بين
حكم العقل بحسن الاحتياط والامر به شرعا بما انه حينئذ يتوقف الامر على موضوعه
توقف العارض على معروضه، فلا يعقل ان يكون من مبادئ ثبوته فلا امر به.
واما المورد الثاني: فملخص القول فيه ان محتملاته بعد عدم كون الامر به طريقيا
كما مر ثلاثة - الأول - كونه ارشادا إلى عدم الوقوع في المفاسد الواقعية، وعدم فوت
المصالح نظير امر الطبيب، ونهيه - الثاني - كونه ارشادا إلى حسن الاحتياط والانقياد عقلا
- الثالث - كونه أمرا مولويا نفسيا، فان قيل إنه يحتمل كونه طريقيا استحبابا، أجبنا عنه بانا
لا نتصور معنى معقولا للطريقية، التي هي عبارة عن الحكم بداعي تنجيز الواقع، غير
اللزوم.
وقد اختار جماعة منهم المحقق الخراساني، والمحقق النائيني الثاني، وعللوه بأنه
كالأمر بالإطاعة، وحاصله ان نفس البرهان المقتضى لعدم كون الامر بالإطاعة، مولويا،
يقتضى عدم كون هذا الامر مولويا، وأوضحه المحقق النائيني - بما حاصله - ان الأحكام
العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام، وملاكاتها، كحكم العقل بحسن الاحسان، وقبح
الظلم، تكون مستتبعة للأحكام الشرعية المولوية، وان كانت واقعة في سلسلة معاليل
الأحكام وفى مرحة الامتثال، كحكم العقل بلزوم الإطاعة، لا تكون مستتبعة لها، ولو
كان هناك حكم، كان ارشاديا، إذ الحكم الشرعي في نفسه لولا الحكم العقلي بالامتثال
لا يكون باعثا وزاجرا، فمقام الامتثال، لا معنى لورود الحكم الشرعي فيه، والمقام من
قبيل الثاني لأنه انما يكون لأجل ادراك الواقع فيكون واقعا في مرحلة الامتثال غاية
الامر كونه امتثالا احتماليا.
273

وأورد عليه الأستاذ الأعظم بما حاصله ان وجه كون الامر بالإطاعة ارشاديا ليس
مجرد وقوعه في مرحة الامتثال، بل الوجه ان الامر المولوي ولو لم يكن متناهيا لا يكون
محركا للعبد، ما لم يكن له الزام من ناحية العقل، فلا بد وان ينتهى الامر المولوي في مقام
المحركية إلى الزام من العقل، فلا مناص من جعل الامر الوارد في مورده ارشادا إلى
ذلك، وهذا بخلاف الامر بالاحتياط، إذ العقل بما انه لا يستقل بلزوم الاحتياط، فلا مانع
من أن يأمر به المولى مولويا حرصا على ادراك الواقع.
أقول، قد مر في أول هذا الجزء ما في هذه الكلمات، وعرفت ان وجه كون الامر
بالإطاعة ارشاديا ارتباط الموضوع بنفسه بالمولى، وان كلما يترقب من الآثار للحكم
المولوي، من الثواب على الموافقة والعقاب على المخالفة، والتقرب باتيان المأمور به إلى
الله تعالى، تكون مرتبة على الموضوع، فلا يترتب على الامر بالإطاعة اثر فيكون لغوا،
وهذا البرهان في بادي النظر جار في المقام، فلا يكون امره مولويا.
نعم يمكن تصوير كونه مولويا بالتقريب الذي افاده المحقق النائيني (ره) في آخر
كلامه، قال إنه يمكن ان لا يكون الامر بالاحتياط ناشئا عن مصلحة ادراك الواقع، بل
يكون ناشئا عن مصلحة في نفس الاحتياط كحصول قوة للنفس باعثة على ترك المعاصي
وعلى الطاعات وحصول التقوى للانسان، والى هذا المعنى أشار (ع) بقوله من ترك ما
اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك، فيكون الامر بالاحتياط بهذا الملاك، وهو
ملاك واقع في سلسلة علل الأحكام فيكون الامر الناشئ عنه مولويا.
ثم إن الشيخ الأعظم بعد اختياره عدم امكان الاحتياط في العبادات بلحاظ
الأوامر المتعلقة بها على ما ستعرف في المورد الثالث.
أفاد انه يمكن تصحيح الاحتياط في العبادات بالامر بالاحتياط في الاخبار، بدعوى
ان ذلك الامر مولوي نفسي، ومتعلق بذات الفعل العبادي ولا يكون في طول الامر
الواقعي، فالمكلف يأتي بالعمل الذي يحتمل كونه مأمورا به بالامر التعبدي، بداعي ذلك
الامر الجزمي بالاحتياط، وهذا يكفي في العبادية.
وتوضيح ذلك انما يكون ببيان أمور 1 - ان الامر ليس على قسمين، تعبدي،
274

وتوصلي، بل الفرق بين القسمين، انما يكون في المتعلق، حيث إنه ربما يؤخذ في المتعلق
قصد القربة فالواجب تعبدي، وربما لا يؤخذ فيه ذلك فالواجب توصلي، ومعنى الاحتياط
في جميع الموارد واحد، وهو اتيان المتعلق بجميع ما يعتبر فيه 2 - انه قد تقدم ان
المأخوذ في المتعلق في التعبديات، هو إضافة الفعل إلى المولى بأي إضافة كانت، ولا يعتبر
فيها الإضافة إليه بقصد امره المعين، فلو كان عمل عبادة وصالحا للاستناد إلى الله تعالى،
واضافه العبد إليه في مقام العمل من غير قصد امره، بل تخيل وجود امر آخر وإضافة إليه
بتلك الإضافة صح ووقع عبادة. 3 - ان الامر بالاحتياط في العبادات متعلق بذات الفعل
المضاف إلى المولى سبحانه.
إذا تبين هذه الأمور، يظهر انه لو اتى بعمل خاص يحتمل كونه مأمورا به، بداعي
الامر الاحتياطي الاستحبابي فقد تحقق الاحتياط، فإنه على الفرض اتى بالعمل مضافا إلى
الله تعالى، فحال الامر الاحتياطي، حال الامر النذري، فكما انه لو نذر ان يصلى صلاة
الليل، وغفل عن أمرها النفسي وقصد الامر النذري في صلاته، لا اشكال في سقوط الامر
بصلاة الليل وامتثاله، للاتيان بها مضافا إلى الله تعالى فكذلك في المقام.
وهذا الوجه متين، اما على القول بعدم امكان الاحتياط في العبادة بلحاظ أمرها
الواقعي على فرض وجوده، فواضح، واما بناءا على المختار من امكانه كما ستعرف، فلما
مر نقله من المحقق النائيني (ره) من أن الامر بالاحتياط يمكن ان يكون مولويا، وحيث إن
ظاهر الامر كونه مولويا، فيؤخذ بما هو ظاهر الاخبار من كون الاحتياط مستحبا نفسيا.
ويترتب عليه، انه يتجه الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل كونه مأمورا به
بالامر الواقعي، وان لم يعلم المقلد كون ذلك الفعل مما شك في كونها عبادة، ولم يأت به
بداعي احتمال المطلوبية، بل قصد الامر الجزمي.
واما المورد الثالث: وهو امكان الاحتياط في العبادات بلا احتياج إلى امر آخر،
وعدمه، فقد قوى جماعة منهم الشيخ الأعظم (ره) العدم، وعللوه، بتوقف العبادة على
قصد القربة، المتوقف على العلم بالامر، إذ مع الجهل به لو اتى بها بقصد الامر فهو تشريع
محرم، ولو اتى بها بدون قصد الامر، فلم يأت بالمأمور به قطعا.
275

وفيه: انه بناءا على أي مسلك من المسالك، فيما هو المناط في عبادية العبادة، من
كون اعتبار قصد القربة في المتعلق، بالامر الأول، أو الامر الثاني، أو حكم العقل، لا ريب
في أن قصد القربة المعتبر، ليس عبارة عن قصد الامر الجزمي، بل هو عبارة عن إضافة
الفعل إلى الله تعالى، وحيث إن هذا المعنى يتحقق فيما لو أتى بما يحتمل ان يكون
مأمورا به، برجاء المطلوبية، بل هذه الإضافة من أقوى الإضافات، ولا يلزم منه التشريع،
فامكان الاحتياط ظاهر لا سترة عليه.
وان شئت فقل ان مدرك اعتبار قصد القربة كان، هو حكم العقل، أو النص
المتضمن لاعتبار النية الصالحة، أو الاجماع، لا دليل على اعتبار أزيد من إضافة الفعل إلى
الله سبحانه، وهذا يتحقق فيما لو اتى به برجاء المطلوبية، فلا اشكال في امكان الاحتياط
في العبادة، بلا احتياج إلى امر آخر.
قاعدة التسامح في أدلة السنن
التنبيه الثالث: إذا كان منشأ احتمال الوجوب، أو الاستحباب خبرا ضعيفا، يمكن
ان يقال باستحباب ذلك الفعل بلا حاجة إلى اخبار الاحتياط، لورود جملة من الاخبار
دالة على استحباب فعل دل خبر ضعيف على ترتب الثواب عليه لا حظ، صحيح هشام عن
الإمام الصادق (ع) من يقله عن النبي (ص) شئ من الثواب فعمله كان اجر ذلك له وان كان
رسول الله (ص) لم يقله (1)، وعن البحار ان هذا الخبر من المشهورات رواه العامة والخاصة
بأسانيد - وخبر محمد بن مروان عن الإمام الباقر (ع) من بلغه ثواب من الله على عمل
فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أو تيه وان لم يكن الحديث كما بلغه (2) ونحوهما
غيرهما ولا مورد للبحث في سند هذه النصوص لان منها ما هو صحيح، انما المهم
البحث فيما يستفاد منها.

1 - الوسائل باب 18 من أبواب مقدمة العبادات حديث 3.
2 - المصدر المتقدم.
276

وملخص القول فيه ان المحتمل فيه وجوه - الأول - ان يكون مفادها مجرد
الاخبار عن فضل الله سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وانه على أي وجه يقع - وبعبارة
أخرى - تكون ناظرة إلى حال العمل بعد الوقوع وانه إذا بلغ عن الله سبحانه الثواب يعطيه
الله الثواب الذي بلغ العامل وان لم يكن الامر كما اخبره من غير أن تكون ناظرة إلى
العمل وانه مستحب أو راجح، ولا يثبت بها استحباب، فيعتبر في الخبر الذي يتمسك به
للاستحباب، ان يكون واجدا لشرائط الحجية - وعليه - فحيث انها ليست ناظرة إلى حال
العمل فلا اطلاق لها من هذه الجهة كي يتمسك به بل الظاهر منها العمل معتمدا على
البلوغ والعامل لا يعتمد على قول المبلغ الا إذا كان قوله واجدا لشرائط الحجية، فكان
واجديته لها اخذت في القضية مفروض الوجود والا لم يصح تفريع العمل على البلوغ.
الثاني: ان يكون مفادها الغاء شرائط الحجية في باب المستحبات، وعدم اعتبار
العدالة والوثاقة في حجية الخبر في المستحبات.
الثالث: ان تكون ارشادا إلى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب
واحتمال المطلوبية.
الرابع: ان يكون مفادها الاستحباب بعنوان بلوغ الثواب بحيث يكون هذا العنوان
من العناوين الموجبة لحدوث المصلحة في الفعل الموجبة لتعلق امر استحبابي به.
اما الاحتمال الأول: فيدفعه ان الظاهر من الاخبار ورودها في مقام الحث
والترغيب إلى الفعل لا بيان العمل بعد وقوعه والموضوع المأخوذ في النصوص البلوغ
عن النبي (ص) أو الله تعالى لا الصدور حتى تكون ظاهرة في الوصول الجزمي حقيقة أو
حكما.
واما الاحتمال الثاني: فيدفعه ان جعل الحجية عبارة عن جعل الطريقية والكاشفية،
ويكون لسان دليله، لسان الغاء الشك، وإرائة الواقع لا ترتب شئ على المشكوك فيه،
مع بقاء الشك كما في المقام، لا حظ قوله (ع) وان كان رسول الله (ص) لم يقله.
واما الاحتمال الثالث: فيدفعه ان نصوص الباب سيما صحيح هشام انما تدل على
ترتب الثواب على نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب برواية ضعيفة غير معتبرة ولا اشكال
277

في أنه لا يترتب عليه الثواب بحكم العقل بل الثواب بحكمه مترتب على العمل الماتى به
بداعي احتمال المطلوبية فحكم الشارع بترتب الثواب على نفس الفعل مطلقا، لا يمكن ان
يكون ارشادا إلى حكم العقل.
فيتعين الرابع وقد ظهر وجهه مما أسلفناه، وحاصله ان هذه الأخبار انما تدل على
ترتب الثواب على نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب، فحيث ان نفس العمل من دون
الاستحباب لا معنى لترتب الثواب عليه فلا محالة يستكشف منها استحباب العمل، فما
عن المشهور من التسامح في أدلة السنن مرادهم ذلك.
وأورد على ذلك بايرادات - الأول - انه يعارض هذه النصوص ما دل على عدم
حجية خبر غير الثقة.
وفيه: أولا ان هذه الأخبار مختصة بباب المستحبات، فالنسبة عموم مطلق، فعلى
فرض التعارض تقدم هذه - وثانيا - انه قد عرفت ان مفاد هذه النصوص ليس حجية خبر
الضعيف في باب المستحبات، بل استحباب العمل بالعنوان الثانوي، فلا تنافى بينهما لعدم
ورود النفي والاثبات على شئ واحد، فكما لا تعارض بين ما دل على عدم حجية قول
الفاسق، وبين استحباب قضاء حاجته كذلك، لا تنافى بين ما دل على عدم حجيته،
ونصوص الباب.
الثاني: ان هذه المسألة مسالة أصولية لا يكتفى فيها باخبار الآحاد.
وفيه: أولا ان مالا يكتفى فيه بخبر الواحد، هو أصول العقائد لا أصول الفقه، كيف
وان حجية الاستصحاب تثبت بخبر الواحد، وثانيا: ان صاحب الحدائق (ره) ادعى تواتر
هذه النصوص، وثالثا: انه قد مر انها لا تدل على حجية ما دل على الاستحباب، بل على
استحباب نفس العمل فمفادها قاعدة فقهية، غاية الامر من القواعد الفقهية التي يكون امر
تطبيقها على مواردها بيد المجتهد، والمقلد لا يقدر على ذلك بحسب الغالب نطير قاعدة
لا ضرر.
الثالث: انه في بعض النصوص فرع العمل على بلوغ الثواب، وظاهر ذلك ترتب
الثواب على العمل الماتى به بعنوان الرجاء والاحتياط الذي يحكم العقل بترتب الثواب
278

عليه.
وفيه: انه بناءا على كون مفاد النصوص استحباب العمل لا ريب في كون بلوغ
الثواب من مقومات الموضوع ويكون ذلك متقدما على الحكم وعليه فيكون مفاد هذا
النص منطبقا على ساير النصوص ولا يدل على أن المستحب بعد البلوغ اتيان العمل
بكيفية خاصة كاتيانه بداعي احتمال الامر بل من ترتب الثواب عليه بقول مطلق
يستكشف استحبابه كذلك وبالجملة فرق بين اتيان العمل برجاء المطلوبية وبين ترتب
العمل على البلوغ الذي هو مفاد هذا النص.
الرابع: انه في بعض النصوص قيد اتيان العمل بقوله التماسا للثواب وطلبا لقول
النبي (ص) وهذا يقتضى اختصاص الحكم بما إذا اتى به برجاء المطلوبية.
أقول بعد التحفظ على أمرين أحدهما ان الفعل الذي لا نفع دنيوي فيه ولا يكون
للمكلف داع، من قبل نفسه لاتيانه، لا بد في الاتيان به من داع آخر، وذلك الداعي
بحسب الغالب في الواجبات هو الطمع في الثواب، أو الفرار من العقاب، وفى
المستحبات خصوص الأول - ثانيهما - ان الطمع في الثواب بنفسه لا يكون داعيا إلى
العمل بلا وساطة شئ آخر لأنه لا يترتب على العمل الماتى به بداعي درك الثواب، لأنه
مما يترتب على العمل الماتى به قريبا، فلا بد من توسيط القربة وإضافة الفعل إلى المولى
بوجه.
ان النص، انما يدل على ترتب الثواب على ما لو اتى بالفعل بداعي ترتب الثواب،
وهذا لا ينافي استحبابه مطلقا وفى نفسه لأنه إذا لم يكن الفعل مما يشتاق إليه الانسان
بطبعه كان داعيه إلى الاتيان به ترتب الثواب عليه بتوسيط قصد القربة واتيانه مضافا إلى
المولى كما هو الشأن في المستحبات القطعية بحسب الغالب إذ فرض كون الداعي أهلية
المولى للعبادة فرض نادر، والخبر ناظر إلى حال الغالب، فالخبر قيد فيه هذا القيد لبيان
امر واقعي، وهو كون الداعي لاتيان المستحب ترتب الثواب عليه، وحيث انه لم يقيد
العمل في النص بما إذا اتى به برجاء المطلوبية فيستفاد منه ترتبه عليه لو اتى به بداعي
الامر الجزمي، فيكون كاشفا عن الامر الاستحبابي، فيكون وزان هذه النصوص حينئذ
279

وزان ما دل على استحباب جملة من الأشياء بلسان ترتب الثواب عليها.
مع أنه لو سلم كون مفاد هذه النصوص المتضمنة لتفريع العمل على بلوغ الثواب،
واتيانه طلبا لقول النبي (ص) والتماسا للثواب الموعود ترتب الثواب على العمل الماتى به
برجاء درك الواقع لا محالة يكون ارشادا محضا إلى ما يحكم به العقل من حسن
الانقياد، ومعه لا معنى لكونه مقيدا للنصوص المطلقة المستفاد منها الحكم المولوي من
ترتب الثواب على ذات العمل، لعدم الارتباط بينهما.
وما ذكرناه في الجواب عن الاشكالين الأخيرين، انما هو على ما سلكناه في
مبحث التجري من أن الثواب والعقاب على الانقياد والتجري، انما يكونان على الفعل
المتجرى به أو المنقاد به.
واما على مسلك الشيخ الأعظم (ره) من عدم الثواب والعقاب عليهما وانما هما
كاشفان عن حسن سريرة الفاعل وقبحها، ومسلك المحقق الخراساني من أنهما على
مقدمات الفعل لا على نفسه فلا يحتاج إلى هذا التطويل، فإنه في الاخبار بأجمعها حتى
المقيد منها لو كان انما رتب الثواب على الفعل، وحيث إن الثواب على الفعل مختص بما
إذا كان واجبا أو مستحبا فلا محالة يستكشف استحبابه.
وبذلك يظهر ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) من حمل هذه الأخبار بأجمعها على
الارشاد إلى احكم العقل لا يتم على مسلكه.
كما أن ما ذكره المحقق الخراساني في الاخبار المتضمنة للقيد من كونها ارشادا
إلى حكم العقل لكنها لا توجب تقييد اطلاق الاخبار الاخر لا يتم على مسلكه.
تتميم في بيان أمور
وتمام الكلام في هذا التنبيه، ببيان أمور، الأول: ان الظاهر من الاخبار بناءا على
المختار من استفادة الاستحباب منها، انما هو موضوعية، البلوغ لهذا الحكم، وعليه
فيشكل افتاء الفقيه باستحباب عمل قام على استحبابه خبر ضعيف مطلقا، بل لا بد وان
280

يفتى به لمن بلغه الثواب، فالمقلد الذي لم يبلغه الثواب لا يكون هذا الحكم ثابتا له فكيف
يفتى بالاستحباب - نعم - لو أخبر أولا بورود ضعيف على رجحانه صح له الافتاء
باستحبابه بعده - ودعوى - ان المجتهد انما يكون نائبا عن المقلد في استنباط الأحكام
منها هذا الحكم - مندفعة - بأنه انما يكون نائبا عنه في الحكم الثابت للمقلد أيضا، واما
الحكم المختص بطائفة خاصة فنيابة المجتهد لا تجدي في ثبوت الحكم لغير تلك
الطائفة وحيث إن هذا الحكم مختص بمن بلغه الثواب فلا يثبت الاستحباب لغير من بلغه
وليس للمجتهد الافتاء به له - اللهم - الا ان يستفاد من الاخبار ان البلوغ أعم من البلوغ
للمقلد نفسه والبلوغ للمجتهد الذي يقلده.
الثاني: ان هذه الأخبار كما تشمل ما لو قام خبر ضعيف على الثواب، كذلك
تشمل ما لو قام على استحبابه أو وجوبه، إذ في الموردين يخبر الراوي عن الاستحباب أو
الوجوب مطابقة، وعن ترتب الثواب على فعله التزاما، فيكون مشمولا لاخبار من بلغ لان
الموضوع فيها أعم من كون البلوغ بالمطابقة أو الالتزام، وكونه دالا بالالتزام في المورد
الثاني على ترتب العقاب على تركه أيضا، لا يمنع من ذلك لأنه لا يثبت بالخبر الضعيف.
الثالث: عنوان المسألة في كلمات القوم يقتضى اختصاص الحكم بالمستحبات
فلا يتسامح في أدلة المكروهات، ولكن الشيخ الأعظم (ره) قال في الرسالة التي صنفها في
هذه المسألة ان المشهور الحاق الكراهة بالاستحباب، وصاحب الفصول قال في عنوان
المسألة قد تداول بين أصحابنا التسامح في أدلة السنن والمكروهات، وعن الشهيد
في الذكرى دعوى الاجماع عليه.
قد استدل للتعميم بوجوه 1 - ان دليل الكراهة يدل بالالتزام على ترتب الثواب
على الترك فيشمله الاخبار 2 - تنقيح المناط فان المستفاد من النصوص التسامح في أدلة
الأحكام غير اللزومية وانه لا يعتبر في اثباتها ما يعتبر في الأحكام اللزومية 3 - عموم لفظ
الفضيلة في النبوي المروى عن طرق العامة عن عبد الرحمن الحوائي رفعا عن جابر بن
عبد الله الأنصاري قال رسول الله (ص) من بلغه من الله فضيلة فاخذ بها وعمل بها ايمانا بالله
ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وان لم يكن كذلك 4 - عموم لفظ الشئ في الاخبار للفعل
281

والترك 5 - عموم قول الإمام الصادق (ع) في ما عن كتاب الاقبال لابن طاووس - من بلغه
شئ من الخير - فإنه أعم من بلوغه على الفعل أو الترك 6 - ان ترك المكروه مستحب
فيشمله الاخبار 7 - ظاهر اجماع الذكرى.
وفى الكل مناقشة اما الأول: فلا ظاهر الاخبار ترتب الثواب على الفعل كما
يشهد له التفريع عليه بقوله (ع) فعمله أو فصنعه فلا تشمل البلوغ على الترك واما الثاني
فلان المناط المشار إليه ظني لا يصلح لاثبات الحكم الشرعي. واما الثالث: فلعدم الاعتماد
على سنده، مع أنه مذيل بقوله وعمل بها الظاهر في الفضيلة في الفعل، وبه يظهر ما في
الرابع والخامس: واما السادس: فلان ترك المكروه ليس مستحبا، واما السابع: فلعدم
ثبوت الاجماع وعدم حجيته على تقدير ثبوته لمعلومية المدرك، فالأظهر هو
الاختصاص بالفعل المستحب كما هو ظاهر الاخبار.
الرابع: هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه كما هو ظاهر المحقق في المعتبر
في مسالة الصلاة إلى انسان مواجه فيثبت استحباب العمامة مع التحنك في الصلاة لفتوى
مشايخ الصدوق أم لا؟ كما هو ظاهر الأكثرين وجهان، أقواهما الثاني: لان الظاهر من
البلوغ هو البلوغ بطريق الحس دون الحدس والاجتهاد.
نعم يلحق بالخبر فتوى من لا يفتى الا بمتون النصوص كما في كثير من القدماء فان
فتواه حينئذ ابلاغ للخبر، ولو شك في ذلك فالأظهر عدم ثبوت الاستحباب للشك في
صدق الموضوع.
وبذلك يظهر ما في كلام الشيخ الأعظم في الرسالة حيث قال إن كان يحتمل ذلك
استناده في ذلك إلى الشارع اخذ به لصدق البلوغ باخباره.
فإنه يرده انه مع هذا الاحتمال يحتمل البلوغ لا انه يصدق البلوغ، وأولى من ذلك
في عدم الثبوت ما لو علم استناد المفتى إلى قاعدة عقلية نظير ما حكى عن الغزالي
من الحكم باستحقاق الثواب على فعل مقدمة الواجب فان الظاهر استناده في ذلك إلى
قاعدة تحسين العقل للاقدام على تهيئ مقدمات الواجب.
وبه يظهر ضعف ما افاده المحقق القمي في القوانين من امكان كون ذلك منشئا
282

للتسامح.
وأولى من الكل ما لو علم خطأ المجتهد في المستند بان علمنا أنه استند إلى رواية
لا دلالة فيها.
الخامس: إذا ورد خبر ضعيف دال على استحباب عمل ودل خبر آخر على عدم
استحبابه، فان كان ذلك الخبر غير معتبر فلا اشكال في شمول الاخبار له.
وان كان معتبرا فقد يتوهم عدم شمول الاخبار له نظرا إلى أن مقتضى دليل اعتباره
تتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف والقطع التعبدي بعدم الاستحباب ولازمه رفع
موضوع اخبار التسامح وهو البلوغ مع احتمال المصادفة فلا تجرى تلك الأخبار.
وأجاب عنه المحقق العراقي بأنه لا تعارض بينهما حيث لا يرد النفي والاثبات فيهما
على موضوع واحد لان ما تثبته اخبار التسامح هو استحباب العمل بعنوان بلوغ الثواب
وهذا مما لا ينفيه ذلك الدليل المعتبر فان ما ينفيه انما هو استحبابه بعنوانه الأولى.
وفيه: ان المدعى ليس هو التنافي بين الدليلين، بل إن دليل اعتبار ذلك الخبر
المعتبر يوجب رفع موضوع اخبار التسامح.
وبه يظهر ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) من أن التنافي انما يكون بين أدلة حجية
ذلك الدليل واخبار الباب وانهما يتساقطان، في غير محله.
والحق في الجواب ان يقال انه لم يؤخذ احتمال المصادفة للواقع في موضوع
اخبار الباب حتى يكون ذلك الدليل رافعا لموضوع اخبار التسامح، بل الموضوع هو بلوغ
الثواب غاية الامر يكون منصرفا عما لو علم وجدانا بخطائه، وانه يعتبر الاحتمال
الوجداني غير المرتفع بذلك الدليل، وعليه فمقتضى اطلاق اخبار التسامح ثبوت
الاستحباب في الفرض، وحيث إن الخبر المعتبر يدل على عدم استحباب الفعل بعنوانه
الأولى، واخبار الباب تدل على استحبابه بالعنوان الثانوي وهو بلوغ الثواب عليه فلا
تعارض بينهما، وكما تعارض بين ذلك الدليل المعتبر واخبار الباب كذلك، لا تعارض
بين أدلة حجية ذلك الخبر واخبار التسامح، فما افاده الشيخ من تسليم التعارض والحكم
بالتساقط، في غير محله كما مر.
283

السادس: إذا دل خبر ضعيف على استحباب عمل دل الدليل المعتبر بعمومه أو
اطلاقه على حرمته كما لو دل خبر ضعيف على استحباب ايذاء المؤمن في ليلة التاسع من
الربيع، فهل يشمله اخبار الباب لاطلاقها، أم لا؟ وجهان.
قد استدل للثاني بوجهين أحدهما انصراف النصوص عما دل الدليل على عدمه.
وفيه: ان الانصراف عما علم وجدانا خطأه لا اشكال فيه - واما الانصراف عما
علم عدمه تعبدا - فلو سلم فهو بدوي لا اعتبار به.
الثاني: انه بالدليل المعتبر يعلم بعدم الثواب عليه تعبدا فكيف يمكن القول
بشمول الاخبار له المتوقف على احتمال الثواب.
وفيه: ان الموضوع بلوغ رواية ضعيفة دالة على ترتب الثواب عليه مع الاحتمال
الوجداني بالاستحباب كما مر وهذا لا ينفيه دليل التحريم - فالأظهر شمول الاخبار له -.
وعليه فيقع التعارض بين دليل الحرمة ودليل الاستحباب.
وقد يقال كما عن الشيخ الأعظم (ره) في مبحث الغناء من مكاسبه بأنه يقدم الأول:
فان دليل الاستحباب، انما يتضمن ثبوت الحكم لوجود جهته المقتضية له مع عدم تحقق
ما يقتضى الالزام بترك مورده، فالفعل انما يتصف بالاستحباب إذا خلى في طبعه عما
يقتضى الحرمة، فمع طرو عنوان ملزم لتركه يكون محرما ولا يقاومه دليل الاستحباب.
أقول ان ما ذكره يتم في موارد، أحدها ما إذا وقعت المزاحمة بين الدليلين في
مقام الامتثال من دون ان يتصادفا على مورد واحد، كما لو وقعت المزاحمة بين وجوب
الصوم واستحباب قرائة القرآن إذا لم يتمكن من الجمع بينهما، إذا دليل الالزام يكون
معجزا عن دليل الاستحباب، ثانيها: ما إذا كان الموضوع واحدا ولكن كان الحكم غير
الإلزامي مشروطا بان لا يلزم من موافقته مخالفة حكم الزامي كقضاء حاجة المؤمن، لان
استحبابه مقيد بعدم لزوم فعل الحرام من امتثاله، وعليه يبتنى عدم توقف أحد في أنه
لا يجوز شئ من المحرمات بعنوان قضاء حاجة المؤمن، ثالثها: ما إذا كان الحكم غير
الإلزامي، مترتبا على الشئ بعنوانه الأولى والحكم الإلزامي متعلقا به بعنوانه الثانوي.
واما في غير هذه الموارد، وهو ما إذا كان الثابت في الواقع حكما واحدا، وكانت
284

الأدلة متعارضة في ثبوت الحكم الإلزامي أو غير الإلزامي، بنحو التباين أو العموم من
وجه، فلا وجه لدعوى تقديم دليل الحكم الإلزامي، الا دعوى أحد أمور ثلاثة على سبيل
منع الخلو، أحدها: عدم ثبوت الاطلاق لدليل الحكم غير الإلزامي بنحو يشمل موردا قام
فيه دليل على حكم الزامي، ثانيها انصرافها عن هذا المورد، ثالثها: ظهوره في تقييد ما
تضمنه من الحكم بعدم المخالفة للحكم الإلزامي: والكل كما ترى.
واما دعوى ان مقتضيات الأحكام الترخيصية لا تصلح لمزاحمة مقتضيات
الأحكام الالزامية، فأجنبية عن المقام إذ تلك انما هي فيما إذا ثبت المقتضيان، وهو في
الفرض معلوم العدم لفرض التعارض بين الدليلين، ولا أقل من عدم المعلومية، وعليه
فحيث ان ما نحن فيه ليس من قبيل الموارد الثلاثة، الأول كما هو واضح، فان قلنا بأنه في
التعارض بالعموم من وجه بين الدليلين يتساقط الاطلاقان ففي المقام يتساقط الدليلان،
ويرجع إلى أصالة الإباحة، وان قلنا انه يرجع إلى اخبار الترجيح، فيقدم دليل الحرمة
للشهرة التي هي أول المرجحات.
السابع: لو دل خبر ضعيف على موضع من الموضوعات التي يترتب عليها الحكم
الاستحبابي كما لو دل خبر ضعيف على مسجدية موضع خاص، فهل يشمله اخبار من
بلغ من جهة انه بالملازمة يخبر عن الحكم الاستحبابي المترتب عليه كاستحباب الصلاة
في ذلك الموضع في المثال، أم لا؟
قد استدل للثاني: بان الظاهر من اخبار الباب اختصاصها بما إذا أخبر عن النبي (ص)
بما هو نبي، لا بما انه بشر، والاخبار عن مسجدية موضع خاص ليس من شانه بما انه نبي،
كما أن اخباره باستحباب الصلاة فيه بالملازمة ليس من شؤون النبي، فان وظيفته بيان
الأحكام الكلية مثل استحباب الصلاة في المسجد.
وفيه: ان كثيرا من الاخبار ليس فيها من بلغه عن النبي، بل هي مطلقة لا حظ
صحيح هشام عن الإمام الصادق (ع) من سمع شيئا من الثواب على شئ فصنعه كان له وان
285

لم يكن على ما بلغه (1)، ومثله ما رواه الصدوق عن الكليني بطرقه إلى الأئمة عليهم السلام (2)
ونحوهما غيرهما - وعليه فالأظهر هو الشمول لاطلاق الاخبار نظرا إلى الملازمة
المشار إليها.
أضف إليه ما افاده الشيخ (ره) من تنقيح المناط على القول بعدم شمولها باطلاقها
له، إذ من المعلوم عدم الفرق بين ان يعتمد على خبر الشخص في استحباب العمل الفلاني
في هذا المكان كبعض أماكن مسجد الكوفة وبين ان يعتمد عليه في أن هذا المكان هو
المكان الفلاني الذي علم أنه يستحب فيه العمل الفلاني انتهى، وعلى ذلك فيشمل اخبار
الباب النصوص الضعيفة الواردة في تشخيص مدفن الأنبياء والأولياء وأولادهم،
والواردة في تشخيص المقامات في مسجد الكوفة، والوارد في رأس سيد الشهداء عند
أمير المؤمنين عليهما السلام وما شاكل.
الثامن: هل يشمل الاخبار لنقل فضيلة من فضائل المعصومين عليهم السلام، أو مصيبة
من مصائبهم التي لم يقم على ثبوتها دليل معتبر، بل وردت بها رواية ضعيفة فيتنقل من
دون ان تنسب إلى الحكاية على حد الاخبار بالأمور الواردة بالطرق المعتبرة، بان يقال
كان أمير المؤمنين يقول كذا ويفعل كذا ويبكي كذا، ونزل على سيد الشهداء كذا وكذا،
كما عن غير واحد، بل ظاهر الشهيد في الذكرى حيث قال إن اخبار الفضائل يتسامح فيها
عند أهل العلم، كونه مسلما عند القائلين بالتسامح، وعن الشهيد الثاني في الدراية جوز
الأكثر العمل بالخبر الضعيف في القصص والمواعظ وفضائل الأعمال إلى أن قال وهو
حسن حيث لم يبلغ الضعيف حد الوضع والاختلاق أم لا؟ وجهان.
قد استدل للثاني بوجهين أحدهما: ان الخبر الضعيف في المورد لا يكون متضمنا
لترتب الثواب على شئ وانما مفاد ثبوت الموضوع لما دل على نقل فضائلهم
ومصائبهم، وما دل على استحباب ذلك انما هو اخبار صحيحة معتبرة لا حاجة معها إلى
اخبار من بلغ الا انه لا تثبت الموضوع.

1 - الوسائل باب 18 من أبواب العبادات.
2 - المصدر المتقدم.
286

الثاني: ان نقل ما لم يثبت حرام شرعا، لكونه من الكذب المحرم، وقد مر ان
الاخبار لا تشمل ما لو كان العمل الذي دل الخبر الضعيف على ترتب الثواب عليه محرما
بمقتضى عموم دليل معتبر أو اطلاقه، ولكن يرد على الثاني: ان الكذب المحرم هو ما لو
كان الخبر بما له من المراد الاستعمالي للمتكلم مخالفا للواقع فما لا علم بمخالفة للواقع
لا يصدق عليه الكذب، بل هو محتمل لكونه كذبا فمع الشك في الموضوع لا يشمله أدلة
حرمة الكذب، فان قيل لازم ذلك جواز الاخبار به حينئذ للشك في الحرمة فيشمله أدلة
البراءة، أجبنا عنه: بان العلم الاجمالي بمخالفته أو الاخبار بنقيضه للواقع، يمنع عن
الاخبار به، فعلى هذا حيث تكون اخبار من بلغ مرخصة في المخالفة الاحتمالية لهذا
العلم الاجمالي، وقد مر انه لا مانع من الترخيص في المخالفة الاحتمالية فلا محذور
في الحكم باستحباب نقل الفضائل والمصائب مستندا إلى تلكم الاخبار.
ويرد على الأول ما تقدم في التنبيه السابق من أن النصوص تشمل الاخبار عن
الموضوع.
وعلى هذا فما افاده الشيخ الأعظم في رسالة التسامح ان العمل بكل شئ على
حسب ذلك الشئ وهذا امر وجداني لا ينكر ويدخل فيها فضائل أهل البيت ومصائبهم
ويدخل في العمل الاخبار بوقوعها من دون نسبة إلى الحكاية - إلى أن قال - والدليل على
جواز ما ذكرناه من طريق العقل حسن العمل بهذا مع امن المضرة فيها على تقدير الكذب
واما من طريق النقل فرواية ابن طاووس والنبوي مضافا إلى اجماع الذكرى المعتضد
بحكاية ذلك من الأكثر انتهى، حسن ومتين.
وربما يستدل له كما عن الفاضل النراقي بما دل على رجحان الا بكاء، وذكر
الفضائل والمناقب، والإعانة على البر والتقوى، ولكن بما ذكرناه في الاستدلال لعدم
الشمول يظهر ما فيه.
التاسع: الظاهر عدم الفرق - كما صرح به غير واحد - بين وجود الخبر في كتب
الخاصة ومرويا من طرقهم، أو كونه مرويا من طرق العامة، لاطلاق الاخبار.
واستدل للاختصاص بان لازم التعميم العمل بما رواه المخالفون وقد ورد المنع
287

من الرجوع إليهم.
ويرد عليه أولا انه لو تم لكان واردا على من يرى أن مرجع التسامح إلى حجية
خبر الضعيف في باب السنن، واما على ما اخترناه من أن مفاد النصوص استحباب العمل
بالعنوان الثانوي فلا مورد له أصلا لعدم كونه رجوعا إليهم أصلا، وثانيا: انه لا يتم لما افاده
الشيخ (ره) من أن الممنوع هو الرجوع إليهم في اخذ الفتوى واما مجرد الرجوع إلى كتبهم
لاخذ الروايات والآداب والسنن فنمنع قيام الدليل على منعه وتحريمه.
العاشر: لو ورد خبر ضعيف على اعتبار خصوصية في المستحب الثابت في الشريعة
كالوارد مثل في اعتبار الغسل في الزيارة الجامعة، فهل يحمل المطلق عليه، أم لا؟ قد يقال
بأنه على القول بان اخبار التسامح تدل على الغاء شرائط الحجية وتدل على حجية الخبر
الضعيف لا بد من البناء على الحمل وهو واضح، واما على القول بأنها تدل على
الاستحباب بالعنوان الثانوي فيشكل الحكم بالتقييد فان غاية ما يثبت بها حينئذ هو
الاستحباب بالعنوان فيكون ما قام الخبر على استحبابه مستحبا في مستحب.
ولكن يرد عليه ان الظاهر من الاخبار استحباب الشئ على النحو الذي دل الخبر
الضعيف عليه من كونه نفسيا أو قيدا لمركب، وعليه فيثبت بالاخبار التسامح قيدية ما تضمنه
الخبر الضعيف غاية الامر بالعنوان الثانوي.
الحادي عشر: إذا دل خبر ضعيف على استحباب عمل ودل خبر ضعيف آخر على
حرمته أو كراهته، فان بنينا على عدم شمول النصوص للخبر الضعيف الدال على
مرجوحية فعل لا اشكال في ثبوت الاستحباب في الفرض لان ما دل على المرجوحية
حينئذ كالعدم، وما افاده المحقق النائيني من انصراف النصوص إلى مورد ورد فيه الثواب
خاصا ولا يشمل المقام، غير ظاهر الوجه، وان بنينا على شمولها له وثبوت استحباب
الترك بها، فعن الشهيدين والشيخ وقوع التزاحم بين ما دل على استحباب الفعل وما دل
على استحباب الترك فيكون المقام من قبيل صوم يوم عاشوراء الذي يكون فعله وتركه
مستحبين.
ولكن الأظهر ان ما افاده وان تم فيما إذا كان الفعل عباديا فان الفعل والترك
288

حينئذ من الضدين الذين لهما ثالث فيمكن الالتزام باستحبابهما بنحو الترتب، ولكنه لا يتم
فيما إذا كان الفعل كالترك غير عبادي فإنه لا يعقل استحباب النقيضين بنحو الترتب في
مقام الثبوت فلا محالة يقع التعارض بينهما ولا بد من اعمال قواعد ذلك الباب.
ثمرة هذا البحث
الثاني عشر: في بيان ثمرة هذا البحث وذكر الشيخ في بيان الثمرة موردين.
الأول: جواز المسح ببلة المسترسل من اللحية لو دل خبر ضعيف على استحباب
غسله في الوضوء، بناءا على ثبوت الاستحباب الشرعي بالخبر الضعيف، وعدم جواز
المسح بها بناءا على عدم ثبوته لعدم كونه من اجزاء الوضوء حينئذ، وأورد على ذلك
بوجهين.
1 - ما افاده المحقق الخراساني في التعليقة قال إن المسح لا بد من أن يكون من بلل
الوضوء ولا يصح ببلل ما ليس منه ولو كان مستحبا فيه انتهى، وحاصله ان المسح لا يصح
ببلة غير ما ثبت جزئيته للوضوء وغسل المسترسل لو ثبت استحبابه فهو مستحب مستقل
لا جزء للوضوء.
وفيه: ان الظاهر من اخبار المسألة استحباب الشئ على النحو الذي دل عليه الخبر
الضعيف، من كونه مطلوبا مستقلا، أو جزءا للمركب، فإذا دل الخبر على استحباب غسل
المسترسل بالامر الضمني وجزءا للوضوء كان مفاد اخبار من بلغ ثبوته كذلك، وان شئت
فقل انه يثبت بالاخبار استحباب الشئ بعنوان بلوغ الثواب به، ومنه يستكشف امر به،
والامر بالجزء ظاهر في الجزئية كما هو الشأن في جميع الموارد.
2 - انه لم يدل على جواز المسح برطوبة كل جزء من اجزاء الوضوء، بل دل
على المسح برطوبة الوجه والمسترسل من اللحية خارج عن حد الوجه، ولعل هذا مراد
الشيخ الأعظم (ره) حيث قال ويحتمل قويا المنع من اخذ البلل حتى بناءا على كونه
مستحبا شرعيا، وتمام الكلام في ذلك في الفقه.
289

الثاني: لو دل خبر ضعيف على استحباب الوضوء لغاية من الغايات، إذ بناءا على
ثبوت الاستحباب يكون ذلك الوضوء مستحبا ورافعا للحدث، وبناءا على عدمه لا يكون
رافعا - والايراد عليه - بأنه ليس كل وضوء مستحب رافعا، فان وضوء الجنب للنوم
مستحب غير رافع، وكذا لإعادة الجماع، مندفع: بان ما ذكر من موارد النقض فإنما هو
في فرض عدم امكان رفع الحديث بالوضوء لأنه الأكبر، وأما إذا كان الحدث أصغر فلا
اشكال في ارتفاعه بالوضوء المستحب.
ولكن الذي يرد على ذلك أن الوضوء مستحب نفسي فلو توضأ للغاية المفروضة
بما انه يقصد الوضوء، لا محالة يكون وضوئه رافعا للحدث، وان لم يثبت الاستحباب
باخبار الباب.
فتحصل انه لا ثمرة لهذا البحث الا من ناحية فتوى الفقيه باستحباب العمل، واتيان
المقلد به بقصد الامر على القول بثبوت الاستحباب، ولا يجوز شئ منهما على القول
الاخر.
جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية
التنبيه الرابع: اتفق الأصولين والأخباريون، على أن مقتضى الأصل في الشبهة
الموضوعية التحريمية هو الإباحة، وعدم وجوب الاجتناب عنها، ويشهد به مضافا إلى
اطلاق أدلة البراءة خصوص جملة من الاخبار على ما تقدم، وقد يتوهم عدم جريان
قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيها، وانها تختص بالشبهات الحكمية: لان مورد القاعدة ما إذا
لم يبين الشارع الحكم أصلا، وفى الشبهة الموضوعية بين الشارع الحكم، مثلا لو شك في
كون مايع خمرا أو ماءا، فقد بين الشارع حكم الخمر وانما الشك يكون في امتثال ذلك
التكليف فيجب حينئذ الاجتناب عن كل ما يحتمل خمريته من باب المقدمة العلمية،
فالعقل لا يقبح العقاب إذا صادف الحرام الواقعي.
- وبعبارة أخرى -: ان مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما هو ما إذا لم يردد بيان
290

من الشارع وفى الشبهة الموضوعية البيان الذي وظيفة الشارع تحقق ووصل إلى
المكلف، لان وظيفة بيان الأحكام الكلية، والشك في الحكم ليس لأجل الشك في
البيان من جهة الشك في صدق الصغرى، وبيان الصغريات ليس وظيفة الشارع فلا
مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل المرجع قاعدة الاشتغال، إذ العلم باشتغال الذمة
بالكبرى الكلية المجعولة يقتضى العلم بالبرائة اليقينية، والفراغ اليقيني، وذلك لا يحصل
الا باجتناب المشكوكات أيضا.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بالنقض بالشبهات الحكمية، وان ما ذكر من التوهم
جار فيها أيضا لان العمومات الدالة على حرمة الخبائث والفواحش وما نهيكم عنه فانتهوا
تدل على حرمة أمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها.
ويرد على أن منشأ الاشكال لو كان هو ما افاده من أن الترك في الشبهة
الموضوعية مقدمة علمية للامتثال صح ما افاده، ولكن قد عرفت ان منشأ الاشكال شئ
آخر، وهو ان بيان المصاديق ليس وظيفة المولى، وعليه فالشبهة المصداقية في مورد
النقض بما ان رفع الشبهة فيها وبيان الحكم وظيفة المولى، فمع الشك يجرى قاعدة قبح
العقاب بلا بيان وهذا بخلاف الشبهة المصداقية في موارد الشبهات الموضوعية كما
تقدم.
وأجاب عنه المحقق الخراساني (ره) بما حاصله ان النهى الذي هو طلب للترك،
يتصور على وجهين - الأول - طلب ترك الطبيعة السارية بان يكون الملاك في كل
ترك، ويكون الحكم انحلاليا، وفى مثل ذلك تعلق التكليف بالافراد المعلومة معلوم،
وتعلقه بالمشكوك فيه، غير معلوم، فيجرى فيه البراءة - الثاني - طلب ترك الطبيعة بنحو
يكون المطلوب شيئا واحدا، وهو ترك جميع الافراد، وخلو صفحة الوجود عنها وفى
مثله لا بد من الاحتياط ولا تجرى البراءة عن الفرد، لفرض ان المطلوب شئ واحد
واللازم احراز الترك ولا يكاد يحرز الا بترك المشتبه.
ويرد عليه أمران 1 - ان النهى ليس عبارة عن طلب الترك بل عبارة عن الزجر عن
الفعل، إذا الطلب ناش عن المصلحة في المطلوب كان هو الفعل أو الترك، وهو الامر،
291

والنهى انما يكون ناشئا عن المفسدة في المنهى عنه وهو زجر عن الفعل.
2 - انه لو سلم كون النهى هو طلب الترك كما تجرى البراءة في الصورة الأولى
كذلك تجرى في الثانية وذلك يبتنى على بيان مقدمة.
وهي انه كما يكون وجود الطبيعي بوجود افراده لا أمرا متحصلا عنها كذلك
يكون عدم الطبيعي باعدام افراده لا أمرا متحصلا عنها، وعليه فإذا كان المطلوب عدم
الطبيعة بالنحو الثاني كان المطلوب هو اعدام افراده، وحيث انها متعددة وكل عدم
مطلوب بطلب ضمني، فعلى القول بجريان البراءة في الشك في الأقل والأكثر تجرى
البراءة عن مطلوبية عدم ما شك في فرديته للعلم بمطلوبية ساير الاعدام، والشك في
مطلوبيته والبرائة تقتضي عدم مطلوبيته.
وأجاب المحقق النائيني (ره) عن الاشكال، بما حاصله: ان النهى المتعلق بطبيعة
متعلقة بموضوع خارجي كلا تشرب الخمر تتصور على نحوين - أحدهما - السالبة
المحصلة بان يكون كل فرد من افراد الخمر فيه مفسدة مستقلة موجبة للزجر عنه، وفى
مثله تجرى البراءة في الشبهة الموضوعية إذ العقاب، انما يترتب فيما إذا علم بوجود ذلك
الموضوع في الخارج، وما لم يعلم لا يصح العقاب على مخالفة ذلك التكليف، لان تنجز
التكليف في هذه الموارد، انما يكون بالعلم بالكبرى، والعلم بالصغرى معا ومجرد العلم
بالكبرى لا يجدى، إذ العقاب انما يترتب على العلم بالتكليف الفعلي، وعليه فلا محالة
ينحل التكليف المجعول بالنحو الكلى إلى احكام عديدة مجعولة على نحو القضية
الحقيقية، فمع الشك في صدق الموضوع يشك في فعلية الحكم ومعه يرجع إلى البراءة
- ثانيهما - الموجبة المعدولة المحمول، كان يقال كن لا شارب الخمر، وفى مثله لا تجرى
البراءة، إذ متعلق هذا التكليف هو كان المكلف واجدا لوصف اللا شاربية، فلو شك في
خمرية شئ يشك لا محالة في حصول هذا الوصف مع عدم تركه فيرجع الشك إلى
الشك في الامتثال.
ويرد عليه أولا، ان التكليف الفعلي إذا لم يكن معلوما انما يقبح العقل العقاب
على مخالفته إذا كان ذلك عن قصور من ناحية المولى في مقام الجعل أو الايصال، واما
292

إذا فرضنا ان المولى عمل بوظيفته وبين الحكم وجعله في معرض الوصول إلى المكلف
ووصل، وكان منشأ الشك اشتباه الأمور الخارجية فلا يقبح من المولى العقاب على
مخالفته إذ ليس بيان المصاديق وتعيين الجزئيات وظيفة المولى ولا يقبح منه ترك هذا
البيان فإذا تم من قبله البيان انقطع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وثانيا: يرد عليه ما أوردنا على المحقق الخراساني، فان عدم الطبيعة إذا كان عين
اعدام افراده، كان معنى، كن لا شارب الخمر، كن متصفا باعدام افراد تلك الطبيعة، فكل
عدم لا محالة يكون محكوما بحكم ضمني، وعليه فلو شك في خمرية شئ لا محالة
يكون من قبيل دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطين والمرجع في ذلك المورد هو
البراءة كما سيأتي.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأظهر عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات
الموضوعية.
واما البراءة الشرعية فالظاهر شمولها، وتفصيل القول القول في ذلك يقتضى ان يقال ان
التكليف التحريمي المتعلق بالشئ الناشئ عن المفسدة في المتعلق، يتصور على وجوه
أربعة.
الأول: ان يكون في كل وجود مفسدة، غير ما يكون في الافراد الاخر فلا محالة
يكون كل فرد متعلقا لنهى مستقل فالافراد تعلق النهى بها معلوم، وما شك في
فرديته يشك في تعلق النهى به فتجري فيه البراءة.
الثاني: ان يكون مفسدة واحدة في مجموع الوجودات بحيث يكون الجميع
متعلقا لنهى واحد شخصي، وفى هذا الفرض يجوز ارتكاب جملة من الافراد المعلومة
أيضا، فضلا عما شك في فرديته، إذ المفروض ان المفسدة انما تكون في مجموع
الوجودات لا في كل واحد منها، وهل يجوز ارتكاب الافراد المعلومة وترك الفرد
المشكوك فيه، أم لا يجوز؟ وجهان، أقواهما الأول، إذ لو ارتكب المجموع من الافراد
المعلومة، والفرد المشكوك فيه يعلم بارتكاب الحرام، اما لأنها الحرام، أو لاشتمالها
عليه، واما الافراد المعلومة خاصة فلا محالة يشك في حرمتها ومقتضى أصالة البراءة هو
293

عدم الحرمة.
والى هذا نظر الشيخ الأعظم حيث قال في أواخر مبحث الأقل والأكثر ان حال
الأقل والأكثر في المحرمات بعكس الأقل والأكثر في الواجبات أي انه في الواجبات
تعلق التكليف بالأقل معلوم وفى المحرمات تعلقه بالأكثر معلوم ففي الأولى تجرى البراءة
عن الأكثر، وفى الثانية عن الأقل.
الثالث: ان يكون متعلق النهى هو صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول
الوجودات بحيث لو عصى وأوجد فردا واحدا، لا يكون ساير الافراد مبغوضة، وهذا
يتصور فيما إذا كان المتعلق اختياريا لا تعلق له بموضوع خارجي كالتكلم، ولا يتصور فيما
كان له تعلق به.
اما الأول: فلانه يتصور فيما إذا كان ما فيه المفسدة أول الوجودات، ولا يبعد ان
يكون النهى عن بعض أنواع المفطرات في بعض اقسام الصوم من هذا القبيل، ومثاله
العرفي ما لو نام المولى ونهى عن التكلم من جهة ان أول وجوده يوقظه من النوم
ولا مفسدة بعد ذلك في ساير الافراد، وفى مثل ذلك يكون متعلق النهى صرف وجود
الطبيعة المنهى عنها.
فدعوى عدم معقولية ذلك من جهة ان الحكم التحريمي لا ينشأ الا عن مفسدة في
متعلقه، فتلك المفسدة، ان كانت في الطبيعة السارية فلا بد من تعلق الحكم بكل وجود
بنحو الاستغراق، وان كانت في مجموع الوجودات، فلا مناص عن تعلق حكم شخصي
بالمجموع كما عن بعض المحققين.
ممنوعة كما عرفت، وفى هذا الفرض لو أراد المكلف ارتكاب المشكوك فيه،
لا محالة يشك في صدق أول الوجود عليه ليكون حراما فيرجع فيه إلى البراءة.
واما الثاني: مثل النهى عن اكرام الفاسق، فلان ما فيه المفسدة، اما ان يكون، هو
جميع الوجودات أو مجموعها، أو وجود واحد، وعلى الأولين كيفية ورود الحكم
معلومة، وعلى الأخير لا بد وان ينهى عن جميع الوجودات لئلا توجد الطبيعة في الخارج،
فان الانزجار عن الطبيعة لا يكون الا بالانزجار عن كل فرد، وترك جميع الافراد فتدبر
294

حتى لا تشتبه عليك الامر، وتعرف الفرق بين القسمين، وفى هذا الفرض ان شك في
وجود الموضوع يكون المرجع هو أصالة البراءة.
الرابع: ان يكون النهى المتعلق بالافراد الخارجية، باعتبار ان المطلوب هو الامر
البسيط المتحصل من مجموع التروك، كما لو فرضنا ان المطلوب بالأصالة في النهى عن
الصلاة في مالا يؤكل لحمه هو وقوع الصلاة في غير مالا يوكل لحمه، وفى هذا الفرض
بما ان الشك يكون في المحصل، يكون مورد القاعدة الاشتغال دون البراءة، الا ان يكون
ذلك العنوان موجودا سابقا فإنه حينئذ لو اتى بالمشكوك فيه يشك في ارتفاعه
فيستصحب بقائه، فلا يكون اتيانه غير جائز، إذا المفروض تعلق التكليف بالعنوان
المتحصل دون المحصل دون المحصل وحيث انه محرز بالأصل فلا وجه لعدم جواز المشكوك فيه.
فان قيل لا يجرى هذا الأصل لعدم كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا
حكم، إذ المترتب عليه فراغ الذمة، وهذا انما هو في مترتبة الامتثال.
أجبنا عنه: بأنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب حكما أو
موضوعا ذا حكم، بل المعتبر كونه مما يكون امر وضعه ورفعه بيد الشارع أو موضوعا
لذلك، ولذا يجرى الاستصحاب في عدم الحكم، ولا ريب في أن التعبد بتحقق الامتثال
مع الشك فيه من هذا القبيل كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز، ففي المقام يجرى
الاستصحاب ويحكم بتحقق الامتثال وفراغ الذمة ولو مع الاتيان بالمشكوك فيه.
وهذه الفروض الأربعة تتصور في التكليف الوجوبي كان متعلقا بالفعل أو الترك،
إذ قد يكون المصلحة في كل فرد من افراد الطبيعة فتعلق التكليف بها على نحو الطبيعة
السارية ويتعدد التكليف بتعدد افرادها، وقد يكون المصلحة في مجموع الافراد ويتعلق
تكليف واحد بها، وقد تكون المصلحة في صرف وجود الطبيعة، وقد تكون في الامر
المتحصل من الافعال الخارجية.
ففي الفرضين الأولين تجرى البراءة في الشبهة الموضوعية، ويظهر وجهه مما مر.
ولا تجرى البراءة في الفرضين الأخيرين إذ الشك حينئذ يكون في الامتثال وهو
مورد لقاعدة الاشتغال، اما في الثاني منهما فلما مر، واما في الأول كما لو وجب اكرام
295

عالم، فأكرم من شك في عالميته فواضح.
ومما ذكرناه يظهر ما في كلام المحقق الخراساني حيث إنه قال في آخر هذا التنبيه
والفرد المشتبه وان كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه الا ان قضية لزوم احراز
الترك اللازم وجوب التحرز عنه ولا يكاد يحرز الا بترك المشتبه انتهى.
فإنه ان كان مورد كلامه فرض تعلق التكليف بمجموع التروك فقد عرفت انه
مورد البراءة لا الاشتغال وان كان فرض تعلقه بعنوان بسيط مترتب على التروك، فقد مر
انه مورد لقاعدة الاشتغال، دون البراءة لعدم كون الترك بنفسه موردا للحكم كي يشك
في حكم المشكوك فرديته فتجري البراءة، فلا يتصور صورة تكون موردا للبرائة
والاشتغال معا.
ثم لا يخفى ان ما ذكرناه لا فرق فيه بين التكاليف النفسية والضمنية، وعليه فهذه
المسألة أحد أركان الوجه لجواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه وقد أشبعنا الكلام في
تلك المسألة في رسالة مستقلة من أراد الاطلاع فليراجعها.
التنبيه الخامس
بعد ما عرفت من حسن الاحتياط عقلا مطلقا يقع الكلام في أمور لا باس بتفصيل
القول فيها.
الأول: ان حسن الاحتياط عقلا واضح معناه إذ العقل يرى حسن الفعل الذي
يتحقق به الانقياد للمولى ويمدح فاعله، واما معنى حسنه شرعا، فليس هو كونه ممدوحا
عليه عنده بما هو رئيس العقلاء وأرشد إليه، بل معناه ثبوت مصلحة وغرض شرعي فيه
المستتبع لجعل حكم مولوي شرعي، فمن ينكر استحباب الاحتياط شرعا ويحمل أوامر
الاحتياط على الارشاد ليس له القول بحسنه شرعا، ولكن حيث عرفت في التنبيه السابق،
امكان كون الامر بالاحتياط مولويا نفسيا، وانه الظاهر منه، فيكون حسنا شرعا أيضا.
الثاني: قد يقال ان الاحتياط انما هو فيما لم يكن هناك امارة على عدم الامر،
296

وعدم المطلوبية شرعا، لان موضوع حسنه الشبهة واحتمال الامر، والامارة رافعة لذلك،
ومعها لا مورد للاحتياط وهذا بخلاف أصالة الإباحة التي هي حكم في موضوع الشبهة
- ولكن يدفعه - ان أدلة الاحتياط لا تنحصر فيما اخذ في موضوعها الشبهة، بل العقل
مستقل بحسنه بمجرد احتمال الامر وجدانا، لأجل كون الفعل انقيادا للمولى وجملة من
الأدلة الشرعية لم يؤخذ في موضوعها الشبهة فالحق حسن الاحتياط مطلقا.
الثالث: ان الاحتياط انما يكون حسنا ما لم يخل بالنظام، والا فلا حسن فيه لا عقلا
ولا شرعا، فان ما يخل بالنظام قبيح عقلا بل موجب للاخلال بالغرض شرعا، ومعه لا حسن
فيه لا شرعا ولا عقلا.
الرابع: انه إذا كان الاحتياط مخلا بالنظام لا بد من التبعيض، اما بالاحتياط إلى أن
يوجب الاختلال فيتركه، واما بان يحتاط في الأمور مع رعاية الأهم فالأهم، مثلا يحتاط
في حقوق الناس دون حقوق الله تعالى، واما بان يحتاط في الموارد التي كان ثبوت
التكليف فيها مظنونا أو مشكوكا فيه، ولا يحتاط فيما كان هناك احتمال موهوم، واما بان
يحتاط في الموارد التي لم يقلم امارة على عدم التكليف، واما بغير ذلك، والكل حسن.
دوران الامر بين المحذورين
الفصل الثاني: في أصالة التخيير وقبل الدخول في هذا المبحث لابد من التنبيه على
أمور.
1 - ان مورد النزاع ما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته ولم يحتمل غيرهما،
والا فلو احتمل الإباحة مثلا لا شك في جريان البراءة بالنسبة إلى كليهما ويحكم بالإباحة
ظاهرا، بل جريان البراءة حينئذ أولى من جريانها في الشبهة التحريمية المحضة أو
الوجوبية كذلك: لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه لعدم امكانه.
2 - ان محل البحث ما لو لم يكن أحد الحكمين بخصوصه مسبوقا بالوجود، و
موردا للاستصحاب، إذ عليه يجرى الاستصحاب فيه، وفى عدم الحكم الاخر، وبه ينحل
297

العلم الاجمالي.
3 - هذا البحث انما يختص بالشبهة الموضوعية، كما لو ترددت المرأة الواحدة في
وقت واحد، بين ان تكون محلوفا على وطئها أو على الترك، واما في الشبهة الحكمية
فلم أظفر بمورد يكون الامر دائرا بين الوجوب والحرمة.
ثم انه في دوران الامر بين المحذورين لا بد من البحث في مواضع، الأول: دوران
الامر بينهما في التوصليات مع وحدة الواقعة فبالطبع لا يمكن الموافقة القطعية ولا
المخالفة القطعية، وهذا هو أساس البحث ومحل النزاع وفيه اختلفت الأقوال، الثاني:
دوران الامر بين المحذورين في التعبديات بمعنى ان يكون أحد الحكمين أو كلاهما
تعبديا مع وحدة الواقعة، فقهرا لا يمكن المخالفة القطعية ويمكن الموافقة القطعية،
الثالث: دوران الامر بين المحذورين مع تعدد الواقعة.
اما الموضوع الأول: وهو دوران الامر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة
الواقعة فالأقوال فيه خمسة.
الأول: جريان البراءة الشرعية، والأصول التنزيلية.
الثاني: الحكم بالتخيير بينهما عقلا من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعا اختاره
المحقق النائيني.
الثالث: تقديم جانب الحرمة.
الرابع: الحكم بالتخيير بينهما عقلا، والإباحة شرعا لأصالة الحل، دون البراءة
العقلية، اختاره المحقق الخراساني (ره).
الخامس: الحكم بالتخيير بينهما شرعا.
والمختار عندنا هو الأول: لعموم أدلة البراءة الشرعية، وعدم المانع عن شمولها.
اما عموم الأدلة فلان الأصل كان تنزيليا أم غيره انما يجرى في خصوص كل من
الوجوب والحرمة. نظرا إلى أن كلا منهما مشكوك فيه ولا ربط لأحدهما بالآخر،
ولا يجرى الأصل فيهما معا، وعليه فتشمل الأدلة كلا منهما ويحكم بعدم الوجوب وعدم
الحرمة في الظاهر، ولا ينافي ذلك مع العلم بأحدهما واقعا بعد الجمع بين الحكم
298

الظاهري والواقعي.
واما عدم المانع فيظهر بعد بيان ما استدل به للأقوال الاخر وما يرد عليه.
واما القول الثاني، وهو الحكم بالتخيير بينهما عقلا، من دون التزام بحكم ظاهري
شرعا، وانه لا يجرى فيه الأصول التنزيلية وغير التنزيلية وانه ليس هناك الا اللاحرجية
العقلية، اختاره المحقق النائيني.
فقد استدل له بوجوه، منها: ان الرجوع إلى الأصول باجرائها في الطرفين ينافيه
العلم الاجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع، واجراء الأصل في أحد الطرفين ترجيح
بلا مرجح.
وفيه: ان العلم الاجمالي المشار إليه لعدم ترتب الأثر عليه لا يمنع عن جريانها.
ومنها: ان الأصول انما تجرى في الشك الساذج، لا الشك المقرون بالعلم الاجمالي
بالالتزام كما في المقام.
وفيه: انه ستعرف في مبحث الاشتغال، ان المانع عن جريان الأصول في أطراف
العلم الاجمالي، هو لزوم الترخيص في المعصية وذلك يختص بما إذا لزم من جريان
الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية لحكم لزومي، والا فلا مانع عن
جريانها، والمقام من قبيل الثاني لعدم التمكن من المخالفة، والموافقة القطعيتين،
والموافقة الاحتمالية لا بد منها، فان قيل إنه يلزم من جريانها في الأطراف المخالفة
الالتزامية، أجبنا عنه بان الموافقة الالتزامية غير واجبة أولا، ولا منافاة بين الالتزام بالزام
واقعا والترخيص ظاهرا ثانيا.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني، وهو انه يعتبر في جريان الأصول العملية ترتب اثر
عملي عليها، والا فلا تجرى، وفى المقام لا يترتب عليها ذلك، لعدم امكان الموافقة
والمخالفة القطعيتين، ولا بدية الاحتمالية.
وفيه: ان الأصل انما يجرى بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه لا فيهما معا، لان
الأصول تكون انحلالية وتعدد بتعدد الموضوع، وموضوعها في المقام متعدد، وهو
الوجوب بخصوصه، والحرمة بخصوصها لمشكوكية كل منهما، ويترتب على كل واحد
299

من الأصلين اثر عملي، إذا الأصل الجاري بالنسبة إلى الوجوب يرخص في الترك ويثبت
به انه لا الزام من المولى بالنسبة إلى الفعل، كما أن الأصل الجاري بالنسبة إلى الحرمة
يرخص في الفعل خاصة فكل منهما يترتب عليه اثر عملي.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو ان مفاد هذه الأصول رفع التكليف
في مورد يمكن الوضع بجعل وجوب الاحتياط، وحيث إن الوضع في المقام غير ممكن،
لعدم التمكن من الاحتياط، فيكون رفعه أيضا كذلك، وفى تقريرات المحقق الكاظمي (ره)
في تقريب هذا الوجه، ان جعل الوجوب والحرمة كليهما لا يعقل لا على نحو التعيين، ولا
على نحو التخيير فلا يمكن رفعهما.
وفيه: ان الممتنع جعلها واحد، واما جعل كل منهما بالخصوص الذي هو
الموضوع للأصل كما عرفت آنفا، فامر معقول، إذ للمولى ان يحكم بوجوب الاحتياط
بترك الفعل فيما احتمل حرمته، ولو كان المحتمل الاخر هو الوجوب، كما أن له ان يلزم
باتيان الفعل فيما احتمل حرمته، ولو كان المحتمل الاخر هو الحرمة، فحيث ان له ذلك
فله رفع كل منهما.
وبالجملة الذي لا يمكن وضع التكليفين معا، واما كل منهما بالخصوص فيمكن
وضعه، ولا يعتبر في صحة رفع التكليف عنهما أزيد من امكان وضع كل منهما
بالخصوص، نظير ذلك ما لو امر المولى عبده بعدم دخول دار أحد في أول طلوع
الشمس، وهذا التكليف معقول ممكن، مع أن العبد لا يقدر على دخول دار كل أحد في
أول طلوع الشمس، وليس ذلك الا من جهة انه حيث يكون العبد قادرا على دخول كل
دار بالخصوص، فللمولى ان يأمر بترك الجميع - وبعبارة أخرى - انه لا يعتبر في رفع
التكليف عن شيئين أو الامر بتركهما، الا القدرة على كل واحد بالخصوص ولا يعتبر
القدرة عليه حتى في حال انضمام الاخر، وفى المقام حيث إنه للمولى ان يضع كلا من
التكليفين بالخصوص فله الرفع عن كل منهما.
ومنها: ما عن المحقق العراقي (ره) وهو ان أدلة البراءة انما تجرى فيما إذا لم يكن
هناك ما يقتضى الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين، ومع وجوده
300

لا ينتهى الامر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان، وفى المقام العقل مستقل
بالترخيص بمناط الاضطرار والتكوين.
وفيه: ان المكلف بالنسبة إلى كل تكليف بالخصوص الذي هو مورد الأصل،
لا يكون مضطرا في مخالفته، وانما الاضطرار بالنسبة إلى مخالفة أحدهما بنحو التخيير،
والأصل انما يجرى بلحاظ الأول كما لا يخفى.
واما القول الثالث: فقد استدل له بوجوه منها: ان دفع المفسدة أولى من جلب
المنفعة، فحيث انه لو كان حراما، ففي فعله المفسدة ولو كان واجبا لزم من تركه فوت
المصلحة، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة، إذ اهتمام الشارع والعقلاء بدفع
المفسدة أتم، فيتعين الترك وتقديم جانب الحرمة.
وفيه: ان العقل لا يحكم بذلك إذ ربما يكون الواجب أهم فيحكم العقل بتقديمه،
ولم يرد من الشارع ما يدل عليه من آية أو رواية، مع أن هذا لو تم فإنما هو فيما إذا كانت
مفسدة محرزة ومصلحة كذلك وتردد الامر بينهما، واما في المقام الذي يجرى البراءة
كما هو الحق، ويدفع الحرمة فكيف يمكن ان يحكم العقل بتقديم جانب الحرمة، كيف
ولو لم يحتمل الا الحرمة وكان المحتمل الاخر هو الإباحة لجاز الفعل ومخالفة الحرمة
على تقدير وجودها، ولا يجوز ذلك فيما لو كان المحتمل الاخر هو الوجوب.
ومنها: المرسل المروى عن الامام على أمير المؤمنين (ع) اجتناب السيئات أولى من
اكتساب الحسنات، وقوله (ع) أفضل من اكتساب الحسنات اجتناب السيئات.
وفيه: أولا انه ضعيف السند - وثانيا - انه انما هو فيما كانت الحرمة والوجوب
محرزتين، لا في مثل المقام مما دار الامر بينهما، وثالثا انه بهذه الكلية لا تتم قطعا،
ورابعا، انه لا يدل على التعيين.
ومنها: ان افضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من افضاء الوجوب إلى مقصوده، لان
مقصود الحرمة يتأتى بالترك سواء كان مع قصد، أم غفلة بخلاف فعل الواجب.
وفيه: ان هذا لا يوجب أهمية الحرمة وتعين تقديمها.
ومنها: الاستقراء فإنه في موارد اشتباه مصاديق الواجب والحرام غلب الشارع
301

لجانب الحرمة، ومثل له بأيام الاستظهار حيث إن الشارع الأقدس قدم جانب الحرمة
وحكم بترك الصلاة - وتحريم استعمال الماء المشتبه بالنجس والامر بترك الوضوء.
وفيه: أولا مجرد تقديم الحرمة في هذين الموردين لا يوجب الغلبة والاستقراء،
وثانيا: ان وجوب الصلاة والوضوء تعبد لا توصلي فهما خارجان عما هو محل البحث،
وثالثا: ان الاستظهار ليس على الوجوب عند المشهور كما افاده الشيخ الأعظم ولو قيل
بالوجوب فلعله يكون لاستصحاب بقاء الحيض وحرمة العبادة في ذات العادة، واما غير
ذات العادة الوقتية التي تترك الصلاة بمجرد الرؤية فهو للاطلاقات وقاعدة الامكان،
واما الانائان المشتبهان فليس من مصاديق الباب لان الوضوء بالنجس حرمته تشريعية
لا ذاتية وانما منع من التطهير به مع الاشتباه للنص (1).
ومنها: ظاهر ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، المتقدم فان الظاهر من
التوقف ترك الدخول في الشبهة.
وفيه: أولا: ان ظاهر تلك الأخبار، الاختصاص بالشبهة التحريمية المحضة، ويظهر
ذلك من ملاحظة ما فيها من التعليل، وثانيا: ان تلك النصوص، اما ان تشمل مورد احتمال
الوجوب، فلا بد من أن يكون المراد بالتوقف أعم من ما ذكر - واما ان لا تشمل فلا تشمل
دوران الامر بين الوجوب والحرمة.
واما القول الرابع: وهو جريان أصالة الحل وعدم جريان البراءة العقلية - فقد
استدل في الكفاية للأول: بشمول مثل كل شئ لك حلال حتى تعرف انه حرام له المتقدم
ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا، وذكر في وجه عدم المانع بان موافقة الأحكام التزاما
لا تجب، ولو وجب لكان الالتزام اجمالا بما هو الواقع معه ممكنا، والالتزام التفصيلي
بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا، ثم قال وقياسه
بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والاخر على الوجوب باطل، وظاهر العبارة
كما هو صريح الشيخ الأعظم ان القياس بالخبرين ونقده لتتميم البحث عن عدم وجوب
الالتزام بأحد الحكمين، بنحو التخيير كي يمنع عن اجراء البراءة شرعا، لا لاثبات التخيير

1 - الوسائل باب 8 من أبواب الماء المطلق.
302

شرعا كما أفيد وسيأتي تقريبه.
وتقريب القياس، اما ان الخبرين لا خصوصة لهما الا احداث احتمال الحكمين
واقعا وهو موجود في دوران الامر بين المحذورين، واما ان الملاك للتخيير، وهو رعاية
الحكم الظاهري الأصولي وهي الحجية ورعاية الحكم الواقعي أولى، ولم يجب عن
الأول، لوضوح فسده، وأجاب عن الثاني: بان الخبر ان كان حجة من باب السببية
فالتخيير بينهما من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وان كان حجة من باب الطريقية
فالتخيير انما يكون من جهة وجود مناط الطريقية في أحدهما تعيينا أو تخييرا وأين ذلك
من المقام الذي لا يكون المطلوب الا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا وهو حاصل.
واستدل للثاني بقوله ولا مجال ههنا لقاعدة قبح العقاب، بلا بيان فإنه لا قصور فيه
ههنا وانما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها
والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة انتهى.
ويرد على ما افاده في الدعوى الأولى مضافا إلى ما يصرح به في مبحث
الاستصحاب، من عدم دلالة مثل الخبر المشار إليه على أصالة الباحة، وان صدره
متضمن لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية وذيله لبيان الاستصحاب.
ومضافا إلى اختصاص أصالة الإباحة بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحل
لاختصاص دليلها به، ولا يشمل دوران الامر بين المحذورين.
ومضافا إلى اختصاصها بالشبهة الموضوعية كما مر.
ان الحكم الظاهري انما يصح جعله ما لم يقطع بخلافه ومعه لا معنى لجعله
لفرض اخذ الشك في موضوعه، وفى المقام حيث إنه يقطع بالالزام وعدم إباحة هذا
الفعل فلا مورد لجريان أصالة الحل - مع - ان الدليل أخص من المدعى لاختصاص هذه
الأدلة بالشبهات الموضوعية، وعلى الجملة فرق بين أصل البراءة الجاري في كل من
الاحتمالين مستقلا، وبين أصالة الإباحة التي هي أصل واحد يرخص في الفعل والترك،
فمفادها ينافي المعلوم بالاجمال.
واما دعواه الثانية وهو عدم جريان البراءة العقلية، فهو تام، فالأظهر عدم جريانها
303

لتمامية البيان للعلم بالالزام، وانما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة
القطعية، والمخالفة القطعية، - وبعبارة أخرى - تنجز التكليف متوقف على أمرين أحدهما
وصول التكليف، والاخر التمكن من الموافقة والمخالفة، وفى المقام عدم التنجيز انما
يكون للثاني لا الأول، فلا ربط للقاعدة بالمقام.
والظاهر أن هذا هو مورد المحقق الخراساني (ره) فلا يرد عليه ما افاده بعض
المحققين، من أن ما تم بيانه ووصل انما هو جنس الالزام، ولا يترتب عليه الأثر فلا يحكم
العقل بتنجيزه، واما خصوص الوجوب أو الحرمة فحيث انه مشكوك فيه ولم يتم البيان
بالنسبة إليه ولم يصل فالعقاب عليه عقاب بلا بيان.
واما ما افاده المحقق النائيني (ره) في وجه عدم الجريان من أن القطع بالمؤمن
حاصل في المقام، لان وجود العلم الاجمالي كعدمه لا يقتضى التنجيز والتأثير فلا مورد
للقاعدة.
فيرد عليه ان القطع بعدم العقاب انما هو لأجل القاعدة، والا فمع قطع النظر عنها
لا قطع بعدم العقاب، على الترك، أو الفعل معينا.
واما القول الخامس: - فقد استدل له بوجهين - أحدهما قياس المورد بالخبرين
المتعارضين المشتمل أحدهما على الامر والاخر على النهى، بدعوى ان مناط الحكم
بالتخيير هناك هو احداث الخبرين احتمال الحكمين واقعا والترديد بينهما إذ لا شان
للخبرين بناءا على الطريقية المحضة الا احداث الاحتمال وهو موجود فيما نحن فيه،
وان شئت قلت إن مفاد على حجية الخبر علما تعبدا وتتميم كشفه، فإذا ثبت
في العلم التعبدي ثبت في الوجداني بطريق أولى.
ويرده ان هناك، اما ان نقول بالتخيير في المسألة الفرعية، أو نقول بالتخيير في
المسألة الأصولية، والأول غير صحيح في المقام لعدم امكان الموافقة والمخالفة
القطعيتين ولا بدية الاحتمالية والتخيير العقلي، فجعله من قبيل طلب الحاصل، بل من
أردأ أنحائه فإنه تحصيل تعبدي للحاصل وجدانا، وعلى الجملة جعل الحكم لا اثر عملي
له لغو وصدوره من الحكيم محال، والثاني لا مورد له في المقام لأنه هناك ملاك
304

الطريقية موجودا في كل منهما وفيما نحن فيه غير موجود، وان شئت قلت إن حجية كل
منهما في ذلك المورد جعلية فيمكن جعل الحجية لهما تخييرا وفى المقام حجية العلم
ذاتية غير قابلة للجعل، مع أن هناك فردين من العلم وفى المقام فرد واحد، أضف إليه ان
التخيير هناك لدليل خاص غير معلوم الملاك فلا وجه للتعدي إلى المقام.
الوجه الثاني: انه يجب الالتزام بالحكم الواقعي، بعنوانه فان كان الثابت في الواقع
هو الوجوب، كان اللازم به بخصوصه، وان كان هو الحرمة كان اللازم
الالتزام بها كذلك، وحيث انه لا يمكن الموافقة القطعية في المقام، كان المتعين هو
الموافقة الاحتمالية، وهو الالتزام بالوجوب أو الحرمة.
وفيه: ما تقدم في مبحث العلم الاجمالي من مباحث القطع من عدم وجوب
الموافقة الالتزامية أولا، وعدم وجوبها في موارد العلم الاجمالي ثانيا للتشريع، مع أنه
سيأتي في مبحث الاشتغال انه إذا لم تجب الموافقة القطعية لم تجب الاحتمالية.
فتحصل مما ذكرناه ان الأظهر جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى كل من الوجوب
والحرمة.
وهل تجرى الأصول التنزيلية، أم لا؟ الأظهر ذلك بناءا على جريانها في اعدام
الأحكام، وما ذكره الشيخ الأعظم وتبعه المحقق النائيني، من مانعية العلم الاجمالي
بالحرمة أو الوجوب، سيجيئ دفعه في مبحث الاستصحاب وتعرف انه إذا لم يلزم
المخالفة العملية من جريانها في أطراف العلم الاجمالي لا مانع من جريانها وسيجيئ
تفصيل القول فيه في مبحث الاستصحاب.
فالمتحصل ان الحق هو جريان الأصول الشرعية التنزيلية وغيرها في موارد دوران
الامر بين المحذورين سوى أصالة الحل - وعدم جريان البراءة العقلية -.
دوران الامر بين التعيين والتخيير
ثم انه لو احتمل أهمية أحد الحكمين، فهل يحكم بالتعيين كما اختاره
المحقق الخراساني، أم لا؟ وجهان.
305

أقول بناءا على ما اخترناه من جريان الأصول الشرعية النافية للحكم في موارد
دوران الامرين المحذورين، لا بد من البناء على التخيير، لاطلاق الأدلة فان كلا من
الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة واستصحاب عدمه سواء كان أحدهما على
تقدير ثبوته في الواقع أهم من الاخر، أم لم يكن، وكذلك بناءا على ما اختاره
المحقق الخراساني من جريان أصالة الحل في المقام، وبه يظهر ان محل كلامه في المقام
مع الغض عما افاده من اجراء أصالة الحل.
واما بناء على كون الحكم فيه هو التخيير العقلي، ففي الكفاية موافقا لغيره ومع
احتماله لا يبعد دعوى استقلاله، بتعينه كما هو الحال في دوران الامر بين التخيير والتعيين
انتهى.
وأورد عليه بايرادين، أحدهما: ما عن الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الحاكم هو العقل
فلا يعقل تردده بين التعيين والتخيير بل هو ان مستقل بالتعيين أو بالتخيير فلا يكون
المقام داخلا في كبرى دوران الامر يبن التعيين والتخيير.
وفيه: انه يمكن ان يقال ان العقل مستقل بالتعيين عند الأهمية لقبح التساوي بين
الراجح والمرجوح، ومستقل بالتخيير عند التساوي لقبح الترجيح بلا مرجح، وان لم
يحرز أحدهما ولم يدرك الأهمية، فلا محالة يتردد العقل بين التعيين والتخيير، ولكن
لا بما هو حاكم بتلك الكبريين، بل إنه لم يدرك الملاك للحكم الشرعي الواقعي
وهذا لا محذور فيه.
ثانيهما: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو انه وان اخترنا في باب التزاحم ان الأصل
هو التعيين، الا ان الأصل في المقام هو التخيير، وذلك لأنه في باب التزاحم، تارة يكون
لكل من دليلي الحكمين اطلاق، وأخرى لا يكون لشئ منهما ذلك، اما في الصورة
الأولى فحيث ان التزاحم انما ينشأ من اطلاق كل من الخطابين لحال الاتيان بمتعلق
الاخر مع عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما، فلا بد من سقوط أحد الاطلاقين، فان
كانا متساويين سقط الاطلاقان، لبطلان الترجيح بلا مرجح، فيقيد كل منهما بعدم الاتيان
بالآخر، وهذا معنى التخيير وإذا كان أحدهما أهم سقط اطلاق الاخر وبقى
306

اطلاقه، ولو احتمل الأهمية فحيث ان سقوط اطلاق غيره معلوم على كل حال، ويشك
في سقوط اطلاق محتمل الأهمية، وكلما شك في سقوط اطلاق يؤخذ به وعليه فيحكم
بالتعيين.
واما في الصورة الثانية، فلان ثبوت كل من الحكمين كاشف عن اشتمال متعلقه
على الملاك الملزم، وعليه فان كانا متساويين، جاز بحكم العقل تفويت كل منهما
باستيفاء الاخر ولو كان أحدهما أهم لم يجز تفويته خاصة، ولو احتمل الأهمية فيشك في
جواز تفويت ملاكه باستيفاء الاخر مع القطع بجواز تفويت الاخر باستيفاء فلا مناص
حينئذ من الاخذ به وتفويت ملاك غيره فيحكم بالتعيين.
وشئ من هذين الوجهين لا يجرى في المقام لان الحكم المجعول واحد، فليس
هناك اطلاقان، ولا ملاكان، بل الثابت انما هو أحدهما ونسبة العلم الاجمالي إلى كل
منهما على حد سواء، فالحكم باللاحرجية العقلية باق على حاله، نعم لو كان أحد
التكليفين المحتملين مما يكون احتماله موجبا للاحتياط والشارع حكم به يجب
الاحتياط لكنه من جهة الحكم الشرعي لا من جهة حكم العقل.
ولكن الأظهر هو الحكم بالتعيين على هذا المسلك، إذ بعد فرض عدم جريان
الأصول الشرعية، والعقلية في أطراف هذا العلم، واحرازه عدم العقاب، على مخالفة ما
علم عدم أهميته، يشك في أنه، هل يعاقب على مخالفة محتمل الأهمية، أم لا؟ وحيث
لا مؤمن من هذه الجهة، فلا محالة يكون المرجع، قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل،
وان شئت فقل، انه بما ان الحاكم بالتخيير واللاحرجية، هو العقل، من باب الاضطرار
والالجاء، فمع احتمال أهمية أحدهما، لا يستقل العقل بالتخيير.
لو كان أحدهما تعبديا مع وحدة الواقعة
الموضع الثاني: ما لو كان أحدهما أو كلاهما تعبديا، مع وحدة الواقعة كما إذا دار
امر المرأة بين الطهر والحيض، مع عدم احراز أحدهما، والبناء على حرمة العبادة على
307

الحائض ذاتا وان لم يقصد القربة: فإنه حينئذ يدور امر الصلاة عليها بين الوجوب
والحرمة، ووجوبها على تقدير ثبوته تعبدي، وفى مثل ذلك وان لم يمكن الموافقة
القطعية، الا انه يمكن المخالفة القطعية باتيان الصلاة بلا قصد القربة فإنها لو كان حائضا
فقد أتت بالمحرم ولو كانت طاهرا فقد تركت الواجب.
والحق عدم جريان البراءة في هذا الصورة في شئ من الطرفين: للعلم الاجمالي
ومنجزيته بناءا على ما سيأتي تحقيقه في مبحث الاشتغال من أن العلم الاجمالي له اثر ان
- الموافقة القطعية - والمخالفة القطيعة، وقد يترتب عليه هما معا، وقد يترتب عليه
أحدهما دون الاخر، وقد لا يترتب عليه شئ منهما، وفى الصور الثلاث الأول يكون
العلم منجزا وموجبا لتساقط الأصول في أطرافه، وعليه فإذا أمكن المخالفة القطعية
خاصة كما في المقام لم تجر الأصل ووجب الاجتناب عن تلك فيتعين عليها ترك الصلاة
رأسا، أو الاتيان بها بقصد القربة بالنحو المشروع عليها.
ولا يخفى ان المحقق الخراساني في مبحث الاضطرار يصرح بأنه لو اضطر إلى
أحد أطراف العلم الاجمالي لا بعينه لا يكون هذا العلم منجزا، ولا محذور في مخالفته
القطعية، وهذا لا يلائم مع ما ذكره في المقام من تنجز العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة
القطعية، ولكن حيث إنه ستعرف ان المختار عندنا تنجزه بالإضافة إليها في تلك المسألة
فهو منجز في المقام.
دوران الامر بين المحذورين في العبادات الضمنية
ثم إن الشيخ الأعظم (ره) أفاد انه إذا دار الامر بين كون شئ شرطا أو مانعا، أو بين
كونه جزءا وكونه زيادة مبطلة يكون من هذا الباب، واختار التخيير فيه على حذر ما تقدم
من دوران الامر بين المحذورين في التكاليف الاستقلالية، ومثل له بالجهر بالقراءة في
ظهر يوم الجمعة حيث، قيل بوجوبه، وقيل بوجوب الاخفات وابطال الجهر وبالجهر
بالبسملة في الركعتين الأخيرتين، وبتدارك الحمد عند الشك فيه بعد الدخول في السورة،
308

ويضاف إليها ما لو شك بعد النهوض للقيام في الاتيان بالسجدة الثانية إذ لو كان النهوض
إلى القيام من الغير المترتب لا بد من البناء على تحقق السجدة فالاتيان بها زيادة مبطلة،
ولو كان مقدمة للجزء كان الاتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها.
والحق عدم تمامية ما افاده (قده)، لان الحكم بالتخيير في التكاليف الاستقلالية انما
كان من جهة عدم تنجز الحكم اللزومي المردد بين الوجوب والحرمة: لاستحالة الموافقة
والمخالفة القطعيتين، وهذا بخلاف الحكم اللزومي المعلوم في المقام، فإنه يمكن
موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية، فيكون العلم منجزا، توضيح ذلك أنه في
دوران الامر بين المحذورين في العبادات الضمنية تتصور صورتان، إحداهما: ما يتمكن
المكلف من الامتثال العلمي التفصيلي، ولو برفع اليد عن ما هو مشتغل به، ثانيهما: ما
يتمكن فيه المكلف من الامتثال الاجمالي، اما بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل، كما
في دوران امر القراءة بين الجهر والاخفات.
اما في الصورة الأولى فلا ينبغي التوقف في وجوب احراز الامتثال لفرض
التمكن منه وعدم المانع عنه، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين لأنه لا يحرز الامتثال
به، ومعلوم ان الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية، فله ان يرفع اليد عن ما بيده من
الصلاة واعادتها أو اتمامها على أحد الاحتمالين ثم اعادتها.
ودعوى ان الامر دائر بين المحذورين من جهة حرمة قطع الصلاة، بدعوى ان
الامر يدور بين الاتمام مع الاحتمال، والابطال، وتحصيل الامتثال التفصيلي، فكما
يمكن ان يكون وجوب الامتثال التفصيلي موجبا لتعذر اتمام العمل، يمكن ان يكون
حرمة الابطال موجبة لتعذر الامتثال التفصيلي فيسقط ويكتفى بالامتثال الاحتمالي.
مندفعة أولا: بان حرمة قطع الصلاة من جهة اختصاص مدركها بالاجماع على ما
حققناه في الجزء الرابع من كتابنا فقه الصادق يختص بما يجوز للمكلف الاقتصار عليه
في مقام الامتثال، واما الصلاة المحكوم بوجوب اعادتها فلا دليل على حرمة قطعها.
وثانيا: بان كلا من فعل السجدة وتركها في المثال محتمل الحرمة من هذه الناحية
فإنه لو كانت السجدة مأتيا بها يحرم اتيانها فإنه يوجب بطلان الصلاة، والا يكون تركه
309

كذلك، وحيث إن المكلف لا يتمكن ما الموافقة القطعية من جهة حرمة قطع الصلاة
فيتخير المكلف، وهذا لا ربط له بالامر بالصلاة.
- وبعبارة أخرى - ان في المقام علمين اجماليين أحدهما العلم الاجمالي بلزوم
العمل المردد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه، وما يكون فاقدا له - ثانيهما - العلم
بوجوب الجزء المشكوك فيه لعدم الاتيان به وحرمته من ناحية حرمة قطع الصلاة
للاتيان به، فتكون زيادة مبطلة، والعلم الثاني وان لم يمكن موافقته القطعية ولا المخالفة
كذلك فيكون المكلف مخيرا، ولكن العلم الأول يقتضى إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ
اليقيني.
أضف إلى ذلك كله انه لو التزمنا بثبوت الاطلاق لما دل على حرمة قطع الصلاة
بنحو يشمل مثل ما بيده من الصلاة، وبنينا على أن العلم الاجمالي الذي لا يجب موافقته
القطعية: لعدم امكانها، لو أمكن مخالفته القطعية حرمت، لا بد في المقام من اتمام الصلاة
مع أحد الاحتمالين ثم اعادتها، وبذلك يمتثل كلا التكليفين بالمقدار الممكن.
واما في الصورة الثانية: وهي ما يتمكن المكلف من الامتثال العلمي الاجمالي
بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل، فلا وجه يتصور لجواز الاقتصار على الامتثال
الاحتمالي الذي هو لازم القول بالتخيير، فيجب عليه احراز الامتثال ولو بالاجمال لان
اشتغال الذمة يقينا يقتضى الفراغ اليقيني.
هذا كله فيما إذا أمكن التكرار والا كما في ضيق الوقت، فبالنسبة إلى اتيان الصلاة
في الوقت وان كان التخيير مما لا بد منه لعدم التمكن من الامتثال القطعي، ولكن بالنسبة
إلى أصل الصلاة يمكن ان يقال انه يحصل له العلم الاجمالي، بوجوب الاتيان بالصلاة
على أحد الاحتمالين في الوقت والآتيان بها مع الاحتمال الاخر خارج الوقت، فعلى
القول بتنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات هذا العلم يقتضى الموافقة القطعية بهذا
النحو.
اللهم الا ان يقال ان القضاء انما يكون بأمر جديد، وتابعا لصدق فوت الفريضة
في الوقت، فإذا لم يكن العلم الاجمالي بالجزئية أو المانعية في الصلاة في الوقت مقتضيا
310

الا للموافقة الاحتمالية ووجوب الاخذ بأحد المحتملين، دون الاخر لعدم امكان
الموافقة القطعية، فلا يحرز الفوت، لا بالعلم، ولا بالامارة، ولا بالأصل فلا يجب القضاء
فتدبر فان في النفس شيئا.
دوران الامر بين الوجوب والحرمة مع تعدد الواقعة
الموضع الثالث: ما لو كانت الواقعة متعددة، والكلام فيه، تارة فيما إذا كان التعدد
دفعيا، وأخرى فيما إذا كان تدريجيا.
أم المورد الأول: فكما لو علم اجمالا بصدور حلفين منه أحدهما تعلق بفعل
شئ والاخر تعلق بترك شئ آخر، واشتبه الامر ان في الخارج فيدور الامر في كل منهما
بين المحذورين.
فقد يقال بالتخيير من جهة ان كلا من الموضوعين، يدور امره بين المحذورين،
ولا يمكن المالفة القطعية، ولا الموافقة القطعية فيحكم بالتخيير فيجوز له فعل كل
منهما وتركهما معا، غاية الامر لو فعلهما، أو تركهما، يحصل له العلم بالمخالفة في
أحدهما والعلم اللاحق لا يكون مؤثرا بعد عدم تنجز التكليف حين العمل.
ولكن يرد عليه انه من العلم بصدور حلفين منه متعلق أحدهما بفعل شئ، والاخر
بترك شئ آخر، يتولد علمان اجماليان أحدهما العلم بوجوب أحد الفعلين والاخر
العلم بحرمة أحدهما، وكل من هذين العلمين يمكن موافقته القطعية ومخالفته كذلك،
فيكون منجزا، ولكن المكلف لا يتمكن من الموافقة القطعية لكلا العلمين، ومتمكن من
المخالفة القطعية، فيتزاحم العلمان من الجهة الأولى ويتساقطان من تلك الجهة، واما من
الناحية الأولى فلا مانع من بقاء تنجيزهما وعليه، فليس له فعلهما، ولا تركهما، بل يتعين
عليه اختيار فعل أحدهما وترك الاخر.
اما المورد الثاني: فهو كما لو علم بتعلق الحلف بفعل شئ في زمان وترك ذلك
الفعل في زمان آخر، واشتبه الزمانان، فهل يحكم بالتخيير في كل من الزمانين ويكون
311

التخيير استمراريا، أم يحكم به في الأول، وفى الزمان الثاني لا بد من اختيار خلاف ما
اختاره في الزمان الأول وجهان.
ذهب المحقق النائيني (ره) إلى الأول بدعوى انه في الوقايع المتعددة كل واقعة
برأسها يدور أمرها بين المحذورين، ولا علم فيها بالملاك الملزم لا بالنسبة إلى الفعل ولا
بالنسبة إلى الترك، وليس هناك خطاب قابل للداعوية، غاية الامر إذا اختار في الزمان
الثاني عين ما اختاره في الزمان الأول يحصل له العلم بالمخالفة وهذا لا اثر له.
وفيه: انه على القول بتنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات، يجرى في هذا المورد
ما ذكرناه في سابقه، فإنه يتولد حينئذ علمان اجماليان فتعلق أحدهما بوجوب الفعل في
أحد الزمانين، والاخر بحرمته فيه، وكل من العلمين له مقتضيان الموافقة القطعية،
والمخالفة القطعية، والتزاحم بينهما انما يكون من الناحية الأولى، ولا تزاحم بينهما من
الناحية الثانية، فلا بد من البناء على تنجيز كل منهما بالإضافة إلى المخالفة القطعية، فيتعين
عليه في الفرض في الزمان الثاني اختيار خلاف ما اختاره في الزمان الأول، إذ لو اختار عينه
يحصل له العلم بمخالفة أحد التكليفين.
والغريب ان المحقق النائيني (ره)، مع ذهابه إلى تنجيز العلم الاجمالي،
في التدريجيات، اختار في المقام ان التخيير استمراري لا بدوي، نعم ما افاده تام، على
مسلك من يرى عدم تنجيز العلم الاجمالي فيها كما عرفت.
حكم ما لو احتمل أهمية أحد الالزامين
ولو احتمل أهمية أحد التكليفين، في الوقايع المتعددة، فهل يكون كالمسألة
السابقة، فلا يحكم بالتعيين، ليوافقه قطعا، ويخالف التكليف الاخر كذلك، من جهة ان
التكليف في كل من الواقعين غير معلوم، وكذلك الملاك، أو يكون على خلاف تلك
المسألة ويحكم بالتعيين وجهان بل قولان، وقد اختلفت كلمات المحقق النائيني، ففي
المقام يبنى على أصالة التخيير، وفى مسالة دوران الامر بين شرطية شئ ومانعية اختار
312

تقدم محتمل الأهمية.
ومحصل ما افاده في وجه تقديم محتمل الأهمية، ان المقام من صغريات باب
التزاحم واحتمال الأهمية مرجحات ذلك، وذكر في وجه كونه من صغريات ذلك
الباب ان لكل حكم اثرين ومقتضيين 1 - امتثاله 2 - احراز امتثاله والعقل مستقل بهما،
فكما انه إذا لم يتمكن من امتثال الحكمين معا يكون من ذلك الباب، كذلك إذا لم يتمكن
من ترتيب الأثر الثاني، بالنسبة إلى الحكمين، أو لم يتمكن من ترتيب الأثر الأول لا حد
الحكمين مع ترتيب الأثر الثاني للاخر، يكون من باب التزاحم، لان حقيقته هو التنافي
بين مقتضيات الأحكام وآثارها، والمقام كذلك: فان المكلف لا يتمكن من امتثال كل من
الحكمين، وامتثال الاخر واحرازه، فيقع بين الحكمين التزاحم.
وفيه: أولا النقض بان لازم ما افاده من الدخول في باب التزاحم هو الحكم
بالتخيير بين الموافقة القطعية لأحدهما والمخالفة القطعية للاخر، وبين الموافقة
الاحتمالية لكل منهما في صورة التساوي مع أنه (قده) غير ملتزم بذلك.
وثانيا: بالحل بان تقديم محتمل الأهمية في باب التزاحم لم يدل عليه دليل تعبدي
كي يدور الحكم مدار صدق التزاحم ويتعب النفس في اثبات صدقه وعدمه، وانما
يحكم بالتخيير عند التساوي، ويحكم بالتعيين إذا أحرز أهمية أحدهما، أو احتمل ذلك
في ما لو كان الملاكان تامين، والمكلف غير قادر على استيفائهما، فالامر بهما معا تكليف
بما لا يطاق، فلا بد من سقوط أحد التكليفين اما تعيينا أو تخييرا على اختلاف الموارد،
وفى المقام الملاكان تامان، والمكلف قادر على امتثالهما، والتكليف بهما ليس تكليفا بما
لا يطاق، والتنافي انما يكون بين ما يحكم العقل به لكل منهما من وجوب الموافقة
القطعية، والعقل كما يحكم بوجوب موافقة الأهم يحكم بوجوب موافقة المهم بلا
ترجيح لأحدهما على الاخر، فان الأهمية والمهمية انما يكون في حكم الشارع والفرض
عدم التنافي بينهما دون ما يحكم به العقل.
وبالجملة ان العقل في جميع موارد الأحكام الفعلية، من أهم الأحكام كالصلاة،
إلى ما دونها، يحكم بوجوب الموافقة بملاك واحد، والتنافي في هذا المقام لا يوجب
313

التنافي في جعل الحكمين، ولا يسرى إليه كما هو كذلك في باب التزاحم: فان التكليف
بهما هناك تكليف بما لا يطاق.
نعم لو كان أحد التكليفين مما أوجب الشارع الاحتياط عند احتمال وجوده كما
في الأبواب الثلاثة، مثل ما لو حلف على ذبح شاه، له في ليلة معينة واشتبهت الشاة
بالنفس المحترمة لظلمة ونحوها، لا ريب في تقديم حرمة القتل ولا يحكم بالتخيير:
والسر فيه انه يقع التزاحم بين ايجاب الاحتياط والتكليف الآخر ويقدم الأول.
هل التخيير في صورة تعدد الواقعة بدوي أو استمراري
تذييل إذا تعددت الواقعة وكان حكم جميع الوقائع متحدة، كما لو علم بأنه
حلف على فعل في كل ليلة جمعة أو على تركه فيها، فهل التخيير بين تلك الافراد بدوي،
بمعنى انه كلما اختاره في الليلة الأولى، لا بد وان يختاره في الليالي المتأخرة، أم يكون
استمراريا، فله ان يختار في الليلية الثانية خلاف ما اختاره في الأولى كما ذهب إليه
المحقق النائيني وجهان.
ومحصل ما افاده المحقق النائيني (ره) في وجه كون التخيير استمراريا، ان كل
واقعة لها حكم مستقل مغاير لحكم الوقايع الاخر، وقد دار الامر فيه المحذورين
فيحكم العقل فيه بالتخيير ولا يترتب عليه محذور، إذا المحذور المتوهم ترتبه، أحد
أمرين أحدهما، انه إذا اختار في الواقعة الثانية خلاف ما اختاره في الأولى، يحصل له
العلم بالمخالفة ثانيهما، ملاحظة المجموع واقعة واحدة، فمن تبعيض الوقايع بالنحو
المتقدم يلزم مخالفة التكليف وكلاهما محل منع، اما الأول فلعدم حرمة المخالفة
القطعية شرعا، ليجب الاجتناب والفرار عن حصولها، ولو بعد ذلك، فيجب على المكلف
عدم ايجاد ما يلزم منه المخالفة القطعية ولو لم يكن التكليف منجزا كما في المقام، واما
الثاني: فلان كل واقعة موضوع مستقل، له حكم مختص به كما هو واضح.
وأورد عليه بعض أكابر المحققين، بان ما افاده وان كان تاما الا انه لا يمكن البناء
314

على استمرارية التخيير من جهة أخرى، وهي انه من العلم الاجمالي بالالزام المردد بين
الوجوب والحرمة، والعلم بتساوي الافراد في الحكم، يتولد علمان اجماليان آخران،
أحدهما: العلم بوجوب الفعل في ليلة الجمعة الأولى، أو حرمته في الليلة الثانية، ثانيهما
عكس ذلك، وهذان العلمان وان لم يمكن موافقتهما القطعية الا انه يمكن مخالفتهما
القطعية، بالفعل في الأولى، والترك في الثانية أو العكس، وقد مر ان العلم الاجمالي ينجز
بالمقدار الممكن من الموافقة أو المخالفة وعليه، فلا مناص عن كون التخيير بدويا.
ولكن يمكن ان يقال ان هذين العلمين يتعارض المخالفة القطعية لكل منهما مع
الموافقة القطعية للاخر، وحيث إن المكلف مضطر إلى أحدهما إذ لو اتى بالفعل في
إحدى الليلتين وتركه في الأخرى، فقد وافق أحد العلمين، وخالف الاخر، فوجوب
الموافقة القطعية لكل منهما يزاحم المخالفة القطعية للاخر، فيتساقطان، فلا اثر لهذين
العلمين أيضا، فالأظهر ان التخيير استمراري لا بدوي.
في الشك في المكلف به
الفصل الثالث: في المكلف به مع العلم بالتكليف اجمالا وملخص القول فيه انه لو
علم اجمالا بتعلق التكليف من الايجاب والتحريم بشئ، فتارة يتردد ذلك الشئ بين
المتباينين، وأخرى بين الأقل والأكثر فلا مناص من البحث في مقامين.
الأول: في دوران الامر بين المتباينين وقبل الشروع في بيان ما هو الحق لا بد وان
يعلم أنه قد مر في مبحث العلم الاجمالي في القطع ان هذه المسألة معنونة في مباحث
القطع وفى مباحث الشك، وان المناسب للبحث في القطع هو البحث عن كون العلم
الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، وحرمة المخالفة القطعية، هل يكون بنحو
العلية، أو بنحو الاقتضاء، ثم بعد الفراغ عن كونه مقتضيا بالنسبة إلى كلا الحكمين أو
خصوص الأولى منهما يبحث في مبحث الاشتغال عن ثبوت المانع وعدمه.
لا ما افاده الشيخ الأعظم من أن المناسب لمباحث العلم هو البحث عن الحكم
315

الأول ولمباحث الشك هو البحث عن الحكم الثاني فراجع.
وأيضا قد مر هناك مفصلا ان العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية
يكون مقتضيا وبالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون علة تامة.
وأيضا قد مر في ذلك المبحث انه قد يتوهم التنافي بين كلمات المحقق الخراساني
في البابين حيث إنه يرى في باب العلم الاجمالي ان العلم الاجمالي مقتض للتنجز وهو
يصرح في المقام بكونه علة تامة له، وبينا مراده يندفع به هذا التوهم.
وحاصله ان المعلوم بالاجمال ان كان فعليا من جميع الجهات يكون العلم علة
تامة لتنجزه، وان كان فعليا من جهة يكون مقتضيا له، هذا ما يفيده في المقام، وفى مبحث
العلم الاجمالي أفاد انه يستكشف من أدلة الأصول كون كل حكم فعليا من جهة، الا ما
دل دليل على كونه انه فعليا جميع الجهات فراجع ما بيناه.
ولكن يرد عليه مضافا ما ذكرناه في ذلك الباب، انه ان لم يؤخذ العلم دخيلا
في الموضوع لا يعقل عدم فعلية الحكم الا ان يتعلق به العلم التفصيلي: فان ترتب الحكم
على موضوعه وفعليته عند فعلية موضوعه، انما يكون بنحو ترتب المعلول على علته
التامة، ولا يعقل التخلف، مثلا لو قال الخمر حرام بلا اخذ شئ آخر في الموضوع لو
وجد الخمر لا محالة يصير حكمها، وهو الحرمة فعليا، والا يلزم الخلف، وبالجملة
لا يعقل اخذ العلم بمرتبة من الحكم كالانشاء دخيلا في مرتبة أخرى وهي الفعلية للتلازم
بينهما، وان اخذ في الموضوع يلزم الدور على المشهور أو الخلف على قول آخر،
والاجماع والضرورة قائمان على عدمه كما حقق في محله، نعم في القطع الموضوعي
يمكن اخذ العلم التفصيلي في الموضوع لكنه خارج عن محل الكلام: إذ الكلام في المقام
في القطع الطريقي.
وكيف كان فتحقيق القول يقتضى البحث في مقامين، الأول في أن العلم
الاجمالي بالنسبة إلى كل من المخالفة القطعية والموافقة القطعية، هل يكون مقتضيا
للتنجيز، أم علة تامة، أم لا يكون له اقتضاء، أم هناك تفصيل، المقام الثاني في أنه على
فرض كونه مقتضيا هل أدلة الأصول تصلح للشمول لأطرافه أم لا؟ وعلى فرض العدم هل
316

يشمل بعض الأطراف بنحو التخيير أم لا؟
اما المقام الأول: فقد أشبعنا الكلام فيه في ضمن مباحث أربعة في مبحث العلم
الاجمالي من مباحث القطع - وقد عرفت هناك ان المناسب في ذلك المبحث هو البحث
في المقام الأول: والمناسب لمباحث الشك البحث في المقام الثاني.
شمول أدلة الأصول والامارات لأطراف العلم وعدمه
واما المقام الثاني: فالكلام فيه في موردين - أحدهما - في شمول أدلة الامارات،
والأصول لأطراف العلم الاجمالي، وعدمه - ثانيهما - في أنه على فرض عدم الشمول
لجميع الأطراف، هل تشمل بعضها أم لا؟
اما المورد الأول: فحيث عرفت ان العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة
القطعية، انما يكون من قبيل العلة التامة، فعدم شمولها لجميع الأطراف مع استلزام
جريانها فيها المخالفة القطعية واضح، وانما يصح هذا البحث على مسلك من يرى أنه
بالنسبة إليها انما يكون مقتضيا، وأيضا يصح فيما إذا لم يلزم من جريانها في جميع
الأطراف المخالفة القطعية العملية، كما لو كان إنائان معلومي النجاسة، سابقا، وعلم
بطهارة أحدهما لا حقا واشتبه الطاهر بالنجس، فإنه لا يلزم من اجراء استصحاب النجاسة
في كل منهما مخالفة عملية لتكليف لزومي.
والمختار عدم جريان الامارات فيها، وجريان الأصول من غير فرق بين التنزيلية
وغيرها.
اما عدم جريان الامارات، فلان الامارة حجة في مثبتاتها ولو لم يلتفت المخبر
إليها، وعليه فيلزم من جريانها في جميع الأطراف التعبد المتضادين، مثلا لو علم بطهارة
أحد الانائين، وأخبر بنجاسة أحدهما، وأخبر آخر بنجاسة الاناء الاخر، فلو شمل
دليل حجية الخبر الواحد لكلا الخبرين لزم التعبد بان كل اناء نجس وطاهر، فان من يخبر
عن نجاسة أحد الانائين بالملازمة يخبر عن طهارة الاخر وكذلك من يخبر بنجاسة الاخر،
317

فيلزم من التعبد بهما، البناء على أنهما نجسان وطاهران، وهو كما ترى.
اما جريان الأصول فيها، فلوجود المقتضى، وعدم المانع، بعد عدم كون الأصل
حجة في مثبتاته.
وقد اختار الشيخ الأعظم والمحقق النائيني، عدم جريان الأصل التنزيلي وهو
الاستصحاب في جميع الأطراف، واستدلاله بوجهين، الأول ما افاده الشيخ، وهو ان
الشك المأخوذ في صدر دليله، وان كان يعم المقرون بالعلم الاجمالي الا ان اليقين
المجعول في ذيله ناقضا، يشمل العلم الاجمالي أيضا، وبديهي ان الحكم بحرمة النقض
في جميع الأطراف، يناقض الحكم بالنقض في بعضها.
وفيه ان هذا الوجه يجرى في جميع الأصول حتى غير التنزيلية مثل قاعدة
الحل، حيث إنه جعل الغاية فيها العلم، الشامل للعلم الاجمالي، مع أنه لو سلم التناقض
والتنافي ولأجله حكم بالاجمال، فيمكن الاستدلال بساير الأدلة التي لا تكون مذيلة بهذا
الذيل، أضف إلى ذلك، ان الناقض هو اليقين المتعلق، بعين ما تعلق به اليقين السابق، فإذا
علم بنجاسة أحد الانائين، ثم علم بغسله اجمالا يكون العلم الثاني ناقضا له، وأما إذا كان
اليقين السابق متعلقا بكل واحد بخصوصه، واليقين اللاحق متعلقا بأحدهما لا بعينه فمثل
هذا اليقين لا يصلح للناقضية لليقين السابق لتعدد المتعلق.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو ان هناك مانعا ثبوتيا عن جريانه، وحاصله،
ان جعل الاستصحابين يضاد مع العلم الاجمالي نفسه، إذ المجعول في باب الاستصحاب
هو البناء العملي على وفق الاحراز السابق، أي بقائه عملا، ومن المعلوم ان الحكم ببقاء
الاحرازين تعبدا، وعملا، يناقض الاحراز الواجداني لعدم بقائهما.
وفيه: ان الاستصحاب انما يجرى في كل منهما بخصوصه ويتعبد ببقاء الاحراز
السابق عملا فيه، ولا نظر له إلى الطرف الآخر، لفرض عدم حجيته في مثبتاته وعليه فلا
مانع من جريانهما والعلم بمخالفة أحدهما للواقع، لا يمنع من جريانهما وتمام الكلام في
مبحث الاستصحاب فانتظر.
فالحق انه لا منع من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي تنزيلية كانت أم
318

غير تنزيلية الا من ناحية منجزية العلم الاجمالي ولزوم المخالفة القطعية فإذا فرض عدم
المانع من جهته تجرى الأصول.
شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه
واما المورد الثاني: فقد عرفت ان العلم الاجمالي، ليس علة تامة لوجوب الموافقة
القطعية، بل يكون مقتضيا له - وعليه - فيقع الكلام في أن أدلة الأصول وغيرها من الأدلة،
هل تشمل بعض الأطراف، بنحو يكون لازمه جواز ارتكاب ما زاد عن مقدار الحرام كما
عن بعض أم لا تشمل؟ كما عن المشهور.
والكلام في هذا المورد يقع في جهتين - الأولى - في شمول العمومات، الثانية
فيما يقتضيه النصوص الخاصة في العلم الاجمالي.
اما الأولى: فالمختار عدم شمول أدلة الأصول لبعض المعين، ولا للبعض غير
المعين، وشمولها لبعضها تخييرا، بان تشمل جميع الأطراف بنحو التخيير.
اما عدم شمولها للمعين، فلانه يلزم منه الترجيح بلا مرجح، ولا يرتفع هذا
المحذور بتعليق الشمول على ما يختاره أولا، فإنه يسئل عن المرجح لشمولها له دون
الذي لم يختره، مع كون نسبة الدليل إليهما على حد سواء.
واما عدم شمولها لغير المعين، فلانه اما لا مورد لها، أو لا يفيد شمولها له، مثلا لو
علمنا بنجاسة أحد المائين فاما ان يكون طهارة الاخر معلومة، أو تكون مشكوكا فيها،
فعلى الأول لا مورد للأصل، وعلى الثاني لا يفيد، إذ الطهارة الظاهرية لا تزيد على الطهارة
المعلومة فكما ان الطهارة الواقعية المعلومة، لا توجب عدم وجوب الموافقة القطعية
كذلك الطهارة الظاهرية الثابتة بها.
وبالجملة وجوب الاجتناب عن كل منهما ليس لأجل حكم الشارع بنجاسة
كليهما حتى يرتفع بجريان أصالة الطهارة مثلا في أحدهما، وانما يكون بحكم العقل من
باب احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه، وهذا الاحتمال الذي يكون موضوع حكم
319

العقل بوجوب دفعه لا يرتفع بالتعبد بطهارة أحدهما غير المعين، فان كل واحد منهما بعد
ذلك يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه، فلا بد وان يدفع هذا الاحتمال، أو يجتنب
بحكم العقل، هذا لو أريد به غير المعين عندنا، ولو أريد به غير المعين في الواقع، فهو
لا حقيقة له، ولا تحقق كي يجرى فيه الأصول.
شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف تخييرا
واما شمولها لبعض أطراف العلم الاجمالي تخييرا، بان تشمل جميع الأطراف
بنحو التخيير، فتقريبه يتوقف على بيان مقدمة، وهي ان التخيير على ثلاثة اقسام، الأول:
التخيير الشرعي الذي يحكم به الشارع ابتداءا كما في تعارض الخبرين مع عدم المجح،
الثاني: التخيير الثابت في مورد التزاحم الذي يحكم به العقل فإنه إذا لم يتمكن المكلف
من امتثاله التكليفين معا لا محالة يسقط الاطلاق من كل من الدليلين، فتكون النتيجة
ثبوت التكليف في كل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر، أو يسقط الخطابان
ويستكشف خطاب تخييري من الملاكين الملزمين، على اختلاف المسلكين، الثالث:
التخيير الثابت من جهة الاقتصار على المتيقن في رفع اليد عن ظواهر خطابات المولى،
كما لو ورد عام افرادي له اطلاق أحوالي مثل ما لو قال أكرم كل عالم فان مقتضى اطلاقه
الأحوالي لزوم اكرام كل فرد، في كل حال، حتى في حال اكرام الاخر، ثم علمنا عدم
وجوب اكرام فردين من العلماء كزيد وعمر مثلا معا، ودار الامر بين ان يكون كل
منهما خارجا عن تحت العام رأسا فلا يجب اكرامهما، وبين ان يفيد اطلاقه الأحوالي
فيجب اكرام كل منهما عند ترك اكرام الاخر، ومن المعلوم ان المتعين هو الثاني،
- وبعبارة أخرى - الضرورات تتقدر بقدرها، فالمقدار المعلوم خروجه عن تحت العام
هو عدم وجوب اكرامهما معا، واما الزايد عن ذلك فمقتضى عموم العام، هو لزوم اكرام
كل منهما منفردا ويترتب على هذا ثمرات مهمة في الفقه.
إذا عرفت هذ المقدمة، فاعلم أن المدعى جريان القسم الثالث في المقام دون
320

الأولين، بدعوى ان مقتضى اطلاق أدلة الأصول ثبوت الترخيص في كل واحد من
أطراف العلم الاجمالي، سواء ارتكب الأطراف الاخر أم لم يرتكب، وقد علمنا من حكم
العقل بقبح الترخيص في المعصية، انه لم يرخص الشارع في ارتكاب جميع الأطراف،
ودار الامر بين ان يرفع اليد عن الترخيص في الجميع رأسا، وبين أن يرفع اليد عن اطلاق
الترخيص في كل طرف وتقييده بما إذا يرتكب الأطراف الاخر، وقد عرفت ان
المتعين هو الثاني.
ولازم ذلك هو التخيير في أن يطبق الترخيص على أي طرف شاء المكلف، وبهذا
البيان يظهر انه لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أدلة الأصول في المعنيين أي، الترخيص
التعييني في الشبهات البدوية، والتخييري في المقرونة بالعلم الاجمالي.
وأورد عليه بايرادات.
أحدهما: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو انه في المقام حيث يستحيل الاطلاق
فيستحيل التقييد أيضا، لان التقابل بين الاطلاق والتقييد انما يكون من تقابل العدم
والملكة فإذا لم يمكن الاطلاق ثبوتا كيف يمكن التقييد في مقام الاثبات.
وفيه: انه في موارد العدم والملكة، امتناع أحدهما لا يستلزم امتناع الاخر، بل ربما
يكون الاخر ضروريا، مثلا الجهل في المبدأ الا على محال، والعلم ضروري، والغنى في
الممكن محال، والفقر ضروري، وهكذا.
اما في الاطلاق والتقييد، فإذا امتنع أحدهما لمحذور فيه، وكان ذلك في الاخر
يكون هو أيضا محالا - مثلا - تقييد وجوب الصلاة بخصوص العاجزين محال،
والاطلاق أيضا محال لعين ذلك المحذور، وهو قبح التكليف بما لا يطاق، ولو لم يكن
ذلك المحذور في الاخر كما في تقييد الولاية بالفاسق. فإنه ممتنع لكونه ترجيحا
للمرجوح على الراجح، يكون الاطلاق أو التقييد بمقابلة ضروريا بعد امتناع الاهمال في
الواقع، وفى المقام بما انه يترتب محذور على الاطلاق وهو لزوم الترخيص في المعصية،
وهذا المحذور ليس في التقييد لا يكون محالا.
ثانيها: ان دليل عدم الاطلاق بما انه كالمتصل لكونه من البديهيات، وهو يكون
321

مجملا مرددا بين ان يقيد به الاطلاق الأحوالي أو الافرادي، واجماله يسرى إلى العام فلا
وجه للتمسك بالاطلاق الافرادي لأدلة الأصول.
وفيه: ان المقيد في المقام ليس مجملا فان الترخيص في المعصية ليس أمرا
مجملا، بل من المفاهيم الواضحة، وهو انما يترتب على الاطلاق الأحوالي دون
الافرادي، فلا محالة يوجب تقييده خاصة.
ثالثها: ما افاده المحقق الأصفهاني (ره) وحاصله ان المأخوذ في أدلة الأصول
موضوعا لها، هو عدم العلم لا الشك، اما في مثل - رفع ما لا يعلمون - والناس في سعة
ما لا يعلمون - فواضح، واما مثل - كل شئ حلال حتى تعرف انه حرام - فلانه من
جعل الغاية العرفان والعلم، يستكشف، ان المغيا، هو ما لم يعلم وحيث إن العلم المجعول
غاية أعم من الاجمالي والتفصيلي فكذا عدم العلم المأخوذ موضوعا هو عدم العلم
الاجمالي والتفصيلي، وعليه فلا يشمل أدلة الأصول أطراف العلم الاجمالي أصلا.
وفيه: انه لو كان المقصود اجزاء أصل واحد في جميع الأطراف كان ما ذكر متينا،
ولكن الذي يجرى فيه الأصل هو كل طرف بخصوصه، وهو كما يكون مشكوكا فيه
يكون غير معلوم: إذ المعلوم بالاجمال هو الجامع وكل خصوصية وطرف غير معلوم،
فلا فرق بين كون الموضوع هو الشك أو عدم العلم.
رابعها: ما افاده المحقق صاحب الدرر (ره)، وهو ان الأدلة الدالة على أن العالم
يحتج عليه ما علم، وانه في غير سعة من معلوماته يقتضى الاحتياط بحكم العقل وينافي
الترخيص الذي استكشفناه من الاطلاق - مضافا - إلى منع اطلاق الأدلة المرخصة، بل
هي متعرضة لحكم الشك من حيث إنه شك.
وفيه: اما الأدلة الدالة على أن العالم في غير سعة من معلوماته، فهي متضمنة لبيان
حكم ارشادي إلى ما يحكم به العقل، وليست في مقام بيان حكم مولوي، لما مر من أن
الامر بإطاعة والنهى عن المعصية لا يكونان مولويين، واما حكم العقل فهو حكم
تعليقي يرتفع بورود الترخيص ولا ينافيه، واما ذكره من منع الاطلاق، فيرد عليه انه لم
يشك أحد في التمسك باطلاقها في موارد الشبهات البدوية، ويتمسك بها فيها بكلا
322

اطلاقيها.
خامسها: ما افاده المحقق وحيد عصره الخوئي، وهو ان المانع عن جريان الأصول
في أطراف العلم الاجمالي ليس استلزامه الترخيص في الجمع، وإلا لزم الالتزام بشمول
الأدلة لجميع الأطراف ابتدأ فيما إذا كانت أمورا متضادة، مع أن المفروض خلافه، بل
المانع هو الجمع في الترخيص، وذلك لا يرتفع بتقييد الترخيص في كل منها بعدم
ارتكاب الاخر فان المكلف إذا لم يرتكب شيئا من الأطراف كان الترخيص في جميعها
فعليا لا محالة، وهو مستلزم للعلم بترخيص ما علم حرمته بالفعل.
وبتقريب آخر إذا علمنا حرمة أحد المائين وإباحة الاخر، فالحرمة المعلومة غير
مقيدة بترك المباح يقينا كما أن الإباحة غير مقيدة بترك الحرام قطعا، فالحكم بإباحة كل
منهما المقيدة مناف للحكم بالحرمة، والإباحة المطلقتين، وقد مر غير مرة ان الحكم
الظاهري لا بد وان يحتمل مطابقته للواقع والإباحة المشروطة لا يحتمل مطابقتها للواقع
بالضرورة.
وبعبارة أوضح ان الإباحة الظاهرية انما لا تنافى الحرمة الواقعية إذا لم تصل
الحرمة، والا كانت منافية معها وقد مر توضيح ذلك في محله، وإذا فرض وصول الحكم
الواقعي ولو كان متعلقه مرددا بين أمرين أو أمور، ولم يكن متميزا في الخارج عن غيره،
فكيف يعقل ثبوت حكم آخر على خلافه، وهل هو الا من الجمع بين المتضادين.
ولكن يرد على ما افاده أولا ان المحذور هو الترخيص في المعصية، وهذا لازم
الترخيص في الجمع، لا الجمع في الترخيص، فالمانع هو الأول دون الثاني، وما ذكره من
النقض نلتزم به ولا نرى فيه محذورا.
ويرد على ما افاده بتقريب آخر، انه يشترط في صحة جعل الحكم الظاهري
احتمال مصادفة المجعول بنفسه للواقع، واما مصادفة قيده له فلم يدل دليل عليها،
وإباحة كل من الطرفين في فرض عدم ارتكاب الاخر يحتمل مصادفتها للواقع، غاية
الامر على فرض المصادفة يكون الإباحة الواقعية ثابتة حتى في فرض ارتكاب الاخر.
ويرد على ما افاده أخيرا، أولا بالنقض بما إذا لم يلزم من جريان الأصول في
323

أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فإنه دام ظله ملتزم بالجريان، مع أن لازم ما افاده
عدم الجريان.
وثانيا: انه دام ظله في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، أفاد ان الحكمين من
حيث أنفسهما لا تضاد بينهما، بل التنافي بينهما انما يكون بالعرض ومن ناحية المبدأ أو
المنتهى وشئ منهما لا يكون في المقام، اما من ناحية المبدأ فلان الأحكام الواقعية ناشئة
من المصالح والمفاسد في المتعلقات، والأحكام الظاهرية ناشئة من المصالح في الجعل،
واما من ناحية المنتهى فلان جعل الترخيص مقيدا الذي نتيجته جواز ارتكاب أحدهما
لا ارتكابهما معا، ليس ترخيصا في المعصية، وقد اعترف دام ظله بان الترخيص في
المخالفة الاحتمالية لا محذور فيه.
فتحصل مما ذكرناه ان مقتضى اطلاق أدلة الأصول جواز ارتكاب ما زاد عن
مقدار الحرام.
واما الجهة الثانية: فمقتضى النصوص الخاصة الواردة في موارد مخصوصة
وجوب الموافقة القطعية لا حظ. موثق عمار الوارد في الانائين المعلوم نجاسة أحدهما
المشتبه بالآخر الدال على لزوم الاجتناب عنهما. وحصن صفوان في الثوبين المعلوم
نجاسة أحدهما المتضمن للامر بالصلاة فيهما (1) والنصوص الدالة على غسل تمام الثوب
المعلوم نجاسة بعضه (2) وبعض النصوص الوارد في الجبن (3) ويؤيده ما روى عن الإمام علي
(ع) انه ما اجتمع الحرام والحلال الأغلب الحرام الحلال (4).
ولا يعارضها ما ورد في قطيع غنم نزى الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم
حيث قال (ع) يقسم الغنم نصفين ثم يقرع بينهما فكلما وقع السهم عليه قسم غيره قسمين
وهكذا حتى يبقى واحدة (5) وما دل على الاكتفاء بصلاة واحدة إلى بعض الجهات

1 - الوسائل بال 8 من أبواب الماء المطلق حديث 14 كتاب الطهارة.
2 - الوسائل باب 7 من أبواب النجاسات كتاب الطهارة.
3 - الوسائل باب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة.
4 - رواه المجلسي في البحار في باب 23 من كتاب العلم.
5 - الوسائل باب 30 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 1 - 4.
324

المشتبه (1) وغير ذلك من النصوص فان بعضها مطروح وبعضها مؤول، وبعضها مختص
بمورده، فالأظهر وجوب الموافقة القطعية.
عدم وجوب الموافقة القطعية مع عدم امكان المخالفة
ثم انه ينبغي التنبيه على أمور، الأول: انه إذا لم يحرم المخالفة القطعية في مورد
لأجل عدم القدرة عليها، كما لو علم بحرمة الجلوس في إحدى الدارين في أول طلوع
الشمس، فهل تجب الموافقة القطعية كما عن بعض الأساطين، أم لا تجب؟ كما عن
المحقق النائيني (ره) وجهان.
قد استدل للأول: بان وجوب الموافقة القطعية انما يكون بحكم العقل من جهة
انه في كل طرف يحتمل التكليف يكون ذلك الاحتمال مورد الوجوب دفع الضرر
المحتمل، ويكون الاحتمال منجزا ما لم يكن هناك مؤمن شرعي أو عقلي، وعدم
المؤمن الشرعي في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي انما يكون لأجل التعارض من غير
توقف لذلك على حرمة المخالفة القطعية.
وفيه: أولا ان التعارض بين الأصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي انما يكون
لأجل انه من جريانهما معا يلزم الترخيص في المعصية فهما معا لا يجران فيقع التعارض
بينهما، وإذا فرض انه من جريانهما معا لا يلزم الترخيص في المعصية كما في المقام،
لفرض عدم القدرة على المعصية القطعية فلا مانع من جريانهما معا، فلا تعارض بينهما
فيجريان، ونتيجة الأصلين عدم وجوب الموافقة القطيعة، ودعوى. ان جريان الأصل
فيهما، مستلزم للترخيص في المبغوض الواصل، قد عرفت ما فيها وان هذا من حيث هو
لا محذور فيه.
فالمتحصل انه في كل مورد لم يتمكن من المخالفة القطعية لا يجب الموافقة

1 - الوسائل باب 8 من أبواب القبلة.
325

القطعية.
حدوث المانع بعد العلم
الامر الثاني: قد عرفت ان عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ليس
لمانع ثبوتي، وانما يكون لأجل التعارض، فلو لم يجر الأصل النافي في أحد الأطراف،
اما من جهة كونه موردا لأصل ثبوتي من الاستصحاب، كما لو علم بنجاسة أحد المائين،
الذين يكون أحدهما مستصحب النجاسة، أو قاعدة الاشتغال، كما لو علم بعدم الاتيان
بإحدى الصلاتين، مع كون إحداهما موردا لقاعدة الاشتغال، أو تنجز التكليف فيه بمنجز
آخر قبله، كما لو علم بنجاسة ما في أحد المائين ثم علم بإصابة النجاسة بأحدهما أو اناء
آخر، أو غير ذلك من الموانع، يجرى الأصل في الطرف الآخر بل معارض، وهذا مضافا
إلى وضوحه سيأتي الكلام فيه في مبحث الاضطرار، والخروج عن محل الابتلاء فانتظر.
انما الكلام في هذا التنبيه في أنه إذا حدث أحد الموانع بعد تنجيز العلم الاجمالي،
- وبعبارة أخرى - ما لو طرأ أحد الموانع على العلم وهو على قسمين - أحدهما - ما لو كان
متعلق هذه الأمور مقارنا للعلم، أو متقدما عليه، كما لو علم بنجاسة أحد الانائين ثم بعد
ذلك علم تفصيلا بان أحد الانائين معينا كان حين إصابة النجاسة المعلومة أو قبلها نجسا
للملاقاة مع نجاسة أخرى - ثانيهما - ما لو كان متعلقها متأخرا عنه كما لو علم بإصابة الدم
بأحد الانائين - ثم علم تفصيلا بأنه صار أحدهما معينا نجسا - أو فقد أحدهما أو انعدام، أو
علم بوجود أحد الفعلين واتى بأحدهما، والمختار جريان الأصل النافي في القسم
الأول، دون الثاني.
اما الأول: فيتضح ببيان أمرين 1 - ان المنجز كان هو العلم التفصيلي، أو الاجمالي،
أو الامارة، أو الاستصحاب يعتبر في بقاء منجزيته، بقائه، فلم علم تفصيلا أو اجمالا
بنجاسة شئ أو أحد الشيئين أوقات الامارة عليها أو استصحبت، ثم شك فيها بنحو
الشك الساري يزول تنجيزه، ولا يجب الاجتناب عما علم نجاسته وجدانا أو تعبدا، نعم لو
326

كان العلم باقيا وشك في رفعه يجب الاجتناب عنه بقاءا 2 - ان زوال العلم الاجمالي كما
يكون بالشك فيما علم بالشك الساري، كذلك يكون بالعلم الوجداني أو التعبدي بان أحد
طرفي العلم حين حدوث العلم أو قبله كان محكوما بحكم مماثل لما علم بثبوته، لان
ذلك يوجب الشك في ثبوت تكليف آخر غير ما ثبت في ذلك الطرف المعين فالحجة
المتأخرة توجب الشك الساري في العلم الاجمالي فلا محالة يزول تنجيزه.
فالمتحصل انه لو كان المانع الطارئ متعلقه مقارنا أو متقدما على المعلوم
بالاجمال، لا محالة يسقط العلم عن التنجيز لزوم العلم بقاءا.
وبما ذكرناه يظهر انه لو علم بنجاسة أحد الشيئين في يوم الجمعة مثلا ثم في يوم
السبت علم بان أحدهما المعين كان في يوم الخميس نجسا واحتمل طهارته في يوم
الجمعة: فإنه يجرى الاستصحاب فيه فبقاءا لا علم بحدوث تكليف زايد فينقلب الشك
في انطباق المعلوم بالاجمال إلى الشك في حدوث نجاسة أخرى.
واما في القسم الثاني: فلا يجرى الأصل في الطرف الآخر بل هو مورد لقاعدة
الاشتغال، إذا العلم الاجمالي يكون باقيا، والشك يكون شكا في الامتثال بعد العلم
بحدوث التكليف، وعدم الشك فيه، والشك في الامتثال مورد لقاعدة الاشتغال.
وبتقريب آخر، ان المانع عن جريان الأصل وان كان هو التعارض وهو لا يكون
باقيا، الا انه حيث يكون الشك في الزمان اللاحق بعينه الشك السابق، ولا يكون فردا آخر،
ولم ينقلب إليه كما في القسم الأول، والمفروض انه لم يشمله في الزمان السابق أدلة
الأصول فلا تشمله إلى الأبد، فإنه ليس لأدلة الأصول عموم أزماني حتى يقال بان كل
زمان موضوع مستقل فلا مانع من عدم الشمول في زمان والشمول في زمان آخر، وانما
شمولها له في جميع الأزمان يكون بالاطلاق فكل واحد من افراد الشك موضوع واحد
في جميع الأزمنة، فحينئذ إذا خرج فرد لا معنى لشمول الأدلة له بعد ذلك، فإنه ليس فردا
آخر.
وهذا الوجه مع اصرار الأستاذ عليه غير خال عن المناقشة فإنه قد عرفت ان لدليل
الأصل عموم افرادي، واطلاق أحوالي وزماني، فإذا ورد التقييد على الثاني يؤخذ
327

بالمقدار الثابت، وفى الزايد عليه يرجع إلى الاطلاق كما هو الشأن، في كل اطلاق وعام،
وقد اعترف دام ظله بذلك في دليل الأصل في مبحث شموله لأطراف العلم الاجمالي
بنحو التخيير.
والحق ان يقال انه في القسم الثاني وهو ما لو علم بطرو أحد تلكم الأمور بعد
تحقق العلم الاجمالي، كما لو علم بنجاسة ما في أحد الانائين ثم انعدم أحدهما أو خرج
عن محل الابتلاء أو أهريق ما فيه وانعدم أو علم بوجوب القصر أو التمام صلى القصر أو
التمام، يجرى استصحاب بقاء الحكم المعلوم بالاجمال من وجوب الاجتناب، أو لزوم
الاتيان، فإنه حين ما علم اجمالا بنجاسة ما في أحد الانائين أو وجوب أحد الفعلين، علم
بتوجه خطاب لزومي إليه، وبعد طرو المانع يشك في بقائه إذ لو كان في ذلك الطرف،
فقد ارتفع، ولو كان في الطرف الآخر فهو باق، فلا محالة يجرى الاستصحاب وحيث إن
المستصحب حكم شرعي لا يتوقف جريان الاستصحاب على وجود اثر شرعي آخر بل
يتوقف على ترتب اثر عملي عليه، وهو يتحقق في المقام وهو الاجتناب عن الطرف الآخر
، أو الاتيان به حيث إن العقل يحكم بذلك تحقيقا للامتثال القطعي.
وبهذا البيان يظهر انه لا نحتاج إلى اثبات ان هذا الفرد لازم الاجتناب، أو يجب
الاتيان به، حتى يقال ان الاستصحاب المذكور لا يثبت ذلك لكونه لازما عقليا، بل
المستصحب بنفسه حكم شرعي مجرى الاستصحاب والعقل في مقام امتثاله والقطع
بفراغ الذمة، يحكم بلزوم الاجتناب في العلم بالحرمة، ولزوم الاتيان في العلم بالوجوب.
فان قلت إن الشك في بقاء ذلك التكليف مسبب عن الشك في تعلق التكليف بهذا
الطرف، والأصل ينفى ذلك فلا مورد للأصل المسببي.
قلت إن الأصل على فرض جريانه انما ينفى كون هذا الفرد موردا للتكليف من
الان ولا يجرى بالنسبة إلى ما قبل ذلك فإنه يكون معارضا، مثلا لو علم بوجوب الظهر أو
الجمعة فصلى الجمعة فان الشك في وجوب الظهر، لو جرى فيه الأصل فإنما يدل على
عدم وجوبه فعلا، ولا يكون مفاد الأصل عدم وجوبه من الأول، فإذا لم يدل على عدم
تعلقه به من الأول، فاحتمال وجوبه قبل ذلك ليس موردا للأصل، ومن البديهي ان بقاء
328

الوجوب المعلوم تعلقه بأحدهما ليس مسببا عن كون هذا الفرد واجبا فعلا وانما يكون
مسببا عن تعلقه به أولا وحيث لا يجرى فيه الأصل للتعارض فيجرى في المسبب.
فان قلت إذا جرى الأصل في الظهر مثلا وحكم الشارع بعدم العقاب من ناحية
ترك الظهر، فما فائدة الاستصحاب، وجريانه، لا يوجب حكم العقل بلزوم الاتيان بالظهر.
قلت إنه في صلاة الظهر جهتين، إحداهما كونها مصداقا للجامع الذي علم تعلق
التكليف به، ثانيتهما: خصوصية الظهرية والبرائة من الجهة الثانية، تجرى، وتدل على عدم
اقتضاء العقاب من هذه الناحية، واما من الجهة الأولى فهي ساكتة، عنها والاستصحاب
يدل على اقتضائه من تلك الناحية، ومن البديهي ان مالا اقتضاء له لا يزاحم ما له اقتضاء.
ويمكن ان يذكر وجه آخر لعدم جريان الأصل النافي فيه، وهو ان الأصل في كل
طرف من أطراف العلم الاجمالي، من الأول إلى الأبد يعارض مع الأصل الجاري
في الطرف الآخر، وان كان أقصر زمانا منه، كما لو علم بحرمة الجلوس من الطلوع إلى
الزوال في محل، أو حرمته من الطلوع إلى الغروب في محل آخر.
وان شئت فعبر عنه بأنه ينحل هذا العلم إلى علمين اجماليين، أحدهما العلم بحرمة
الجلوس من الطلوع إلى الزوال في هذا المحل، أو الجلوس من الطلوع إلى الزوال في
محل آخر، ثانيهما: العلم بحرمته من الطلوع إلى الزوال، أو حرمته من الزوال إلى الغروب
في محل آخر، وحيث انهما مقارنان فينجزان معا، وفى المقام نقول انه لو فرضنا العلم
بوجوب الجمعة أو الظهر مثلا - فصلى الجمعة - لا يجرى الأصل في الظهر لان العلم
الاجمالي ينحل إلى العلم بوجوب الجمعة إلى حين الاتيان بها أو النظر إلى ذلك الزمان،
والعلم بوجوب الجمعة إلى ذلك الحين، أو الظهر من ذلك الحين إلى الغروب، فلا محالة
أصالة عدم وجوب الظهر من ذلك الحين تعارض مع أصالة عدم وجوب الجمعة
فتتساقطان فتدبر فإنه دقيق.
لو كان المعلوم الاجمالي واجبا تعبديا
الامر الثالث: إذا تردد الواجب بين أمرين أو أمور، واتى المكلف ببعض
329

المحتملات فانكشف مصادفته للواقع، فان كان الواجب توصليا لا كلام في سقوطه، وهو
واضح، وان كان تعبديا، فهل يسقط، أم لا؟ أم يفصل بين ما إذا كان المكلف عازما على
الموافقة القطعية باتيان جميع المحتملات، فيسقط، وبين ما إذا كان قاصدا للاتيان ببعض
المحتملات فلا يحكم بالصحة وجوه وأقوال.
وقد اختار الشيخ الأنصاري (ره) الوجه الثالث: وعلل ذلك بأنه يعتبر في العبادة
الجزم في نيتها فان أمكن تفصيلا والا فاجمالا، وحيث انه في الصورة الأولى يكون
الجزم موجودا، دون الثانية فتصح الأولى دون الثانية.
ولكن حيث لم يدل دليل على اعتبار شئ في العبادة سوى كون الداعي غير
نفساني، وعرفت في محله من مبحث التعبدي والتوصلي: انه إذا شك في اعتبار قصد
القربة أو الوجه أو التمييز أو الجزم في النية أو نحوها مما لم يدل دليل على اعتباره، يكون
المرجع هو اطلاق دليل ذلك المأمور به ومع عدمه هو البراءة، فلو اتى المكلف ببعض
المحتملات برجاء إصابة الواقع وصادف الواقع فقد قصد القربة بفعله واتى بالعبادة على
وجهها، فتكون صحيحة ومجزية.
ويترتب على ذلك أنه لو دار امر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين أفعال
متعددة كما لو علم بنجاسة أحد ثوبيه لا يعتبر في صحة الثانية، الفراغ اليقيني من الأولى،
بل يكفي الاتيان ببعض محتملاتها فإذا صلى الظهر في أحد ثوبيه، له ان يصلى العصر في
ذلك الثوب، ولا يتوقف الاتيان بالعصر على الاتيان بالظهر في كلا ثوبيه، نعم ليس له ان
يصلى العصر في الثوب الاخر: فإنه يحتمل ان يكون هو الطاهر فيكون قد اتى بالعصر قبل
الظهر.
وان شئت قلت إنه يعمل اجمالا بعدم الامر بالعصر في ذلك الثوب، اما لنجاسته أو
لوقوع العصر قبل الظهر.
لو كان متعلق العلم عنوانا مرددا بين عنوانين
الامر الرابع: لا فرق في منجزية العلم الاجمالي بين ان يكون المعلوم عنوانا معينا
330

ذا حقيقة واحدة، كما لو كان المعلوم خصوص نجاسة أحد المائين أو غصبية أحدهما، أو
ماشا كل، وبين ان يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو علم
اجمالا بنجاسة أحد المائين أو غصبيته، وذلك لان الميزان في تنجيز العلم الاجمالي
وحرمة مخالفته القطعية، ووجوب موافقتها كذلك هو كونه وصولا للالزام المولوي بعثا
أو زجرا، وتردد المعلوم بين عنوانين، لا يوجب قصورا في كشفه ووصوله فإنه يعلم
بخطاب مولوي موجبه إليه، والعقل يلزم بامتثاله وإطاعته، وان شئت فاختبر ذلك بما لو
علم بتوجه امر باكرام زيد إليه، ولم يعلم أنه يجب اكرامه لعلمه أو لورعه، فإنه لا يشك
أحد في لزوم امتثال هذا الحكم.
فما افاده صاحب الحدائق على ما نسب إليه من أنه لو كان المعلوم بالاجمال
مرددا بين العنوانين، لا يجب موافقته القطعية، ولا يحرم مخالفته القطعية، في غير محله.
إذا كان اثر أحد الأطراف أكثر
الامر الخامس: انه لا فرق فيما ذكرناه من تنجيز العلم الاجمالي ولزوم الموافقة
القطعية، ولزوم ترتيب الأثر على كل طرف، بين ما لو كان اثر كل واحد شيئا واحدا كما لو
علم بغصبية أحد المايعين، وبين ما لو كان اثر أحدهما أكثر، وفى الفرض الثاني لا فرق بين
ان لا يكون بينهما قدر مشترك كما لو علم بوجوب قرائة يس، أو التوحيد في ليلة الجمعة
بنذر ونحوه، فان سورة يس وان كان أكثر من التوحيد، الا انه لا قدر مشترك بينهما كي
يكون هو المتيقن، وبين ان يكون بينهما قدر مشترك، كما لو علم بوقوع النجاسة في
الاناء الذي فيه ماء مطلق أو في الاناء الذي فيه مايع مضاف، فان اثر النجاسة في كلا
الطرفين، هو حرمة الشرب وهي الأثر المشترك، ولكن للماء المطلق اثر آخر يخصه
وهو عدم جواز التوضي به على تقدير وقوع النجاسة فيه، فان العلم الاجمالي يكون
منجزا في جميع الصور من حيث جميع الآثار، فإنه في جميع الصور يتعارض الأصول
في أطرافه وتتساقط فاحتمال التكليف في كل طرف بالنسبة إلى كل اثر موجود، ولا
331

مؤمن له فمقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل ترتيب جمع الآثار.
وعن المحقق النائيني (ره) انه في الصورة الأخيرة يكون العلم الاجمالي منجزا
بالنسبة إلى الأثر المشترك، واما بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض الأطراف، فيجرى فيه
الأصل بلا معارض، وفى المثال المتقدم لا يجوز شرب الماء المطلق، ولا شرب المايع
المضاف، ولكن لا مانع من التوضي بالماء المطلق: وعلل ذلك بان توجه تكليف لا تشرب
معلوم، فلا مجرى للأصل بالنسبة إليه، واما توجه لا تتوضأ فهو مشكوك فيه فيجرى فيه
الأصل بلا معارض.
ولكن يرد عليه ان جواز التوضي متفرع على جريان قاعدة الطهارة في الماء،
والمفروض سقوطها للمعارضة، فلا طريق إلى الحكم بطهارته كي يحكم بجواز التوضي
به، - وبعبارة أخرى - كلا الحكمين في أحد الطرفين، معارض مع الحكم الواحد
في الطرف الآخر فلا يجرى الأصل في شئ منهما.
وان شئت قلت إن هذا العلم الاجمالي ينحل إلى علمين اجماليين مقارنين،
أحدهما: العلم بتوجه لا تشرب المايع المضاف، أو لا تشرب الماء المطلق، والاخر العلم
بتوجه خطاب لا تشرب المايع المضاف، أو لا تتوضأ من الماءا لمطلق، وهذا العلمان
متقارنان، ويوجبان سقوط الأصول في كل طرف بالنسبة إلى جميع الآثار، ولا يمكن
اجراء أصالة البراءة عن خصوص عدم جواز التوضي، فلا فرق بين ان يكون في كل طرف
حكما واحدا أو في أحدهما حكما واحدا، وفى الاخر حكمين، فمن علم اجمالا بأنه اما
مديون بزيد درهما أو بعمرو درهمين، لا يجرى الأصل في الدرهم الزايد.
نعم يتم ما افاده فيما لو كان الموضوع واحدا وكان الترديد في السبب الذي تعلق
به العلم الاجمالي كما لو علم بأنه مديون من زيد اما درهما، أو درهمين من جهة العلم
الاجمالي بأنه اما استقرض من زيد درهما أو أتلف ماله الذي يسوى درهمين، إذا اشتغال
الذمة بدرهم لزيد معلوم لا يجرى الأصل فيه، والزايد مشكوك الحدوث فيجرى فيه
الأصل بلا معارض.
332

تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات
الامر السادس: لو كانت الأطراف تدريجية الوجود، بان تعلق العلم الاجمالي
بالأمور التدريجية، فهل هو كالعلم الاجمالي المتعلق بالأمور الدفعية، أم لا؟
وقبل الشروع في البحث لا بد وان يعلم أن محل الكلام في هذا البحث، هو ما إذا
لم تكن الأطراف مورد الاحتياط في أنفسها مع قطع النظر عن العلم الاجمالي، فما مثلوا
به للمقام بما لو علم اجمالا بأنه يبتلى في يومه هذه بمعاملة ربوية من جهة الشبهة
الحكمية، غير صحيح، إذا في مثله يجب الاحتياط كان العلم الاجمالي منجزا في
التدريجيات، أم لم يكن كذلك، إذ كل معاملة يحتمل ان تكون ربوية في نفسها، مع قطع
النظر عن العلم الاجمالي مورد لأصالة الاحتياط، لكون الشبهة حكمية، لا يجوز الرجوع
فيها إلى أصالة البراءة قبل الفحص، ومن جهة الحكم الوضعي مورد لأصالة عدم النقل
والانتقال، والفساد، ودعوى - انه يمكن الرجوع إلى عموم ما دل على صحة كل معاملة،
مندفعة: بان العمومات قد خصصت بما دل على فساد المعاملة الربوية فالشك انما هو في
مصداق المخصص، ولا يصح التمسك بالعمومات في مثله.
وأيضا محل الكلام في المقام فيما لم يرد فيه نص خاص، فما مثل به من أنه لو
علمت المرأة المستمرة الدم انها تحيض، اما في أول الشهر أو آخره، غير تام لورود
روايات خاصة في المسألة وقد أشبعنا الكلام فيها في الجزء الثاني من كتابنا فقه الصادق.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن تدريجية أطراف العلم الاجمالي انما تكون على اقسام.
الأول: ان يكون ذلك مستندا إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينهما، كما
إذا علم بنجاسة أحد الانائين فشرب ما فيهما تدريجا مع تمكنه من شرب الجميع دفعة، لا
اشكال ولا كلام في تنجيز العلم الاجمالي في هذا القسم، وهو واضح، ويلحق به القسم
الثاني.
وهو ما إذا كانت التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف في الجمع بينهما، مع
333

تمكنه من ارتكاب كل منهما بالفعل مع ترك الاخر، كما لو علم بحرمة أحد الضدين
الذين لهما ثالث: وذلك للعلم بالتكليف الفعلي وتعارض الأصول في الأطراف وتساقطها.
الثالث: ما لو كانت التدريجية في المتعلق مع العلم بالتكليف الفعلي على كل
تقدير، كما لو علم بتعلق النذر بقرائة سورة خاصة في يوم الخميس، أو في يوم الجمعة
بناءا على القول بالوجوب المعلق، وان وجوب الوفاء بالنذر انما يكون فعليا، لان الملاك
يتم بالنذر، ويكون التكليف المتعلق بالوفاء به فعليا على كل تقدير، ويكون ظرف
الامتثال والآتيان بالمتعلق متأخرا على تقدير، وفى هذا القسم أيضا لا اشكال في تنجيز
العلم الاجمالي، وتساقط الأصول في أطرافه، لمعلومية التكليف واستلزام جريان الأصل
في الطرفين للترخيص في المعصية.
الرابع: ما لو كانت التدريجية في التكليف، ولم يكن المعلوم فعليا على كل تقدير
كما لو علم بوجوب مردد بين كونه فعليا الان، وكونه فعليا فيما بعد كما في مثال النذر
على القول بعدم معقولية الواجب المعلق، وكما لو تردد الواجب بين كونه مطلقا أو
مشروطا بشرط يحصل فيما بعد.
وفيه أقوال 1 - جريان الأصل في كل من الطرفين مطلقا ذهب إليه
المحقق الخراساني في الكفاية 2 - عدم جريانه في شئ من الطرفين مطلقا اختاره
المحقق النائيني (ره) 3 - التفصيل بين ما إذا كان الملاك تاما على كل تقدير كما في مثال
النذر، فلا يجرى الأصل في شئ من الطرفين، وبين ما إذا لم يكن تاما على كل تقدير كما
في المثال الثاني، فيجرى فيه الأصل اختاره الشيخ الأعظم (ره).
وتنقيح القول بالبحث في موردين - الأول - فيما لو كان الملاك تاما على كل
تقدير، كما في مثال النذر، وانما لا يلتزم بالوجوب لو كان النذر متعلقا بالامر المتأخر
لعدم معقولية الواجب المعلق - الثاني - ما إذا كان الملاك على تقدير تاما، وعلى تقدير
غير تام، لعدم تحقق ما له دخل في تماميته كأكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية
التكليف، ومثل له الشيخ بما لو علمت المرأة بأنها تحيض في الشهر ثلاثة أيام مرددا بين
أيامه.
334

اما المورد الأول: فلا ينبغي التوقف في منجزية العلم الاجمالي، لان الترخيص في
تفويت الملاك الملزم قبيح عقلا كالترخيص في مخالفته التكليف، فلا يجرى الأصل في
شئ من الطرفين.
واما في المورد الثاني: فأفاد الشيخ انه يرجع إلى الأصل النافي للحكم إلى أن يبقى
مقدار الحيض، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ولا يتعارضان اما قبل بقاء ثلاثة أيام، فلعدم
المعارض للأصل النافي لعدم التكليف في ذلك الزمان بالنسبة إلى تلك الأيام قطعا فلا
حاجة إلى الأصل، واما الثلاثة الأخيرة فالأصل النافي للحكم، لا يعارضه الأصل الجاري
فيما قبلها لعدمه فعلا غاية الامر بعد جريان الأصل فيه يقطع بمخالفة أحد الأصلين للواقع
ولا محذور فيه.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) مبتنيا على ما ذكره في بحث مقدمة الواجب، من
حكم العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجئ وقته
كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي، بدعوى انه لا فرق في ذلك بين
كون التفويت مستندا إلى العبد، وبين كونه مستندا إلى المولى فلا يجوز للمولى ان
يرخص في تفويت الملاك الملزم، وبما ان ترخيصه في الاقتحام في كل واحد من
أطراف الشبهة في ظرف الابتلاء به يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه فيكون قبيحا،
وان شئت قلت إنه لا فرق في قبح تفويت الملاك الملزم بين العلم الاجمالي والتفصيلي،
فكما ان من يعلم تفصيلا بان الاقتحام في فعل يستلزم فوت الملاك الملزم في ظرفه
لا يجوز له ذلك ويقبح للمولى الترخيص فيه، كذلك من يعلم اجمالا بان أحد الفعلين
التدريجيين مفوت للملاك الملزم، كما في المقام، لا يجوز له ذلك، وليس للمولى ان
يرخص فيه.
وما افاده وان كان حقا، الا ان الظاهر عدم جريان الأصل، حتى مع عدم البناء على
استقلال العقل بقبح ذلك، إذ من يعلم بتوجه التكليف إليه اما في أول الشهر، أو آخره،
لا يمكن للمولى ان يرخص في عدم امتثاله لأنه ترخيص في المعصية - وبالجملة - الأصل
الجاري في أحد الطرفين في أول الشهر يعارض، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر في
335

آخر الشهر، إذ لا يعتبر في التعارض كونهما عرضيين وفى زمان واحد.
مانعية الاضطرار عن تنجيز العلم الاجمالي
الامر السابع: لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف، فهل يمنع ذلك عن تنجيز
العلم الاجمالي أم لا؟ وقبل الشروع في البحث لا بد من بيان امر به يتضح محل البحث
في هذا التنبيه.
وهو ان محل الكلام ما لو كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالاجمال
كما لو علم بنجاسة أحد المايعين المضافين، ثم اضطر إلى شرب أحدهما، فان الأثر
المترتب على هذا المعلوم بالاجمال ليس الا الحرمة المرتفعة بالاضطرار، فيقع الكلام في أنه
هل ينحل العلم الاجمالي بذلك أم لا؟ وأما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار
كما لو علم بنجاسة أحد المائين المطلقين ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين أو
علم بنجاسة الماء أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب الماء فان الأثر المترتب على هذا
المعلوم بالاجمال حرمة الشرب، وعدم جواز التوضي به، والاضطرار انما يرفع الحكم
الأول، ويكون الأثر الاخر باقيا فلا وجه لتوهم انحلال العلم الاجمالي، وهو واضح، فلا
يجوز التوضي بشئ منهما.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاضطرار، قد يكون إلى أحدهما المعين، وقد يكون إلى
أحدهما لا بعينه فالكلام في مقامين، الأول ما لو كان الاضطرار إلى أحدهما المعين، كما
لو علم بنجاسة الماء أو الحليب واضطر إلى شرب الماء، الثاني ما لو كان الاضطرار إلى
أحدهما لا بعينه كما لو علم بنجاسة أحد المائين واضطر إلى شرب أحدهما لا بعينه.
اما المقام الأول: فالصور المتصورة التي بها يختلف الحكم ثلاث.
الأولى: ان يكون الاضطرار حادثا بعد التكليف وبعد العلم به كما لو علم بنجاسة
أحد المايعين ثم اضطر إلى شرب الماء منهما.
الثانية: ان يكون الاضطرار حادثا قبل التكليف، وقبل العلم به كما لو اضطرار إلى
336

استعمال أحد مقطوعي الطهارة والحلية ثم حدث نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها.
الثالثة: ما لو كان الاضطرار حادثا بعد التكليف وقبل العلم به، كما إذا كان أحد
المائين نجسا في الواقع ولكنه لم يكن عالما به فاضطر إلى شرب أحدهما ثم علم بأنه كان
نجسا قبل الاضطرار.
اما في الصورة الأولى فقد اختار الشيخ الأعظم (ره) والمحقق النائيني عدم انحلال
العلم الاجمالي: لان التكليف قد يتنجز بالعلم الاجمالي قبل عروض الاضطرار، وأقصى
ما يقتضيه الاضطرار هو الترخيص فيما اضطر إليه ورفع التكليف عنه لو كان متعلقا به،
ولا رافع له في الطرف غير المضطر إليه، لان الضرورات تتقدر بقدرها.
وذهب المحقق الخراساني في الكفاية إلى الانحلال وعدم بقاء التنجيز، واستدل
له بان العلم الاجمالي علة للتنجيز حدوثا وبقاءا، وبعد الاضطرار لا يكون العلم بالتكليف
باقيا، إذ لو كان التكليف في الطرف المضطر إليه، فقد ارتفع لكون التكليف كان محدودا
بعدم الاضطرار إلى متعلقه، ومع عدم بقاء العلم يرتفع اثره، وهو التنجيز كما هو الحال
في العلم التفصيلي فإنه لو زال بالشك الساري لا يبقى تنجيزه، ثم أورد على نفسه
بالانتقاض بما لو فقد بعض الأطراف، فكما لا اشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي
هنا، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعاية الاحتياط مع الاضطرار، وأجاب عنه بالفرق
بين الاضطرار والفقدان، فان الاضطرار من حدود التكليف، ولا يكون الاشتغال به من
الأول، الا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به الا إلى هذا الحد، فلا
يجب رعايته فيما بعده، بخلاف فقدان المكلف به، فإنه ليس من حدود التكليف وقيوده
فالتكليف المتعلق به مطلق، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه
كذلك.
ويرد عليه أولا انه كما يكون الاضطرار من حدود التكليف وبحدوثه يرتفع
التكليف، كذلك يكون فقدان الموضوع من حدود التكليف وينتفى التكليف بانتفاء
موضوعه، لان فعلية التكليف تدور مدار وجود الموضوع، بما له من القيود وبانتفائه أو
انتفاء قيد من قيوده ينتفى الحكم.
337

وثانيا: ان العلم الاجمالي بالتكليف لا يكون منتقيا بحدوث الاضطرار نظير انتفاء
العلم التفصيلي بالشك الساري بل هو باق بحاله، غاية الامر يكون متعلقه مرددا بين ان
يكون من الطرف غير المضطر إليه فهو باق إلى آخر الا زمان أو يكون في الطرف المضطر
إليه فهو محدود بحدوث الاضطرار فيكون المعلوم بالاجمالي مرددا بين المحدود و
المطلق.
ويصير نظير ما لو علم بحرمة الجلوس في مكان خاص إلى الزوال، أو في محل
آخر إلى الغروب، فكما لا سبيل إلى القول بارتفاع التنجيز بالزوال كذلك في المقام.
والى ذلك نظره الشريف في هامش الكفاية حيث التزم ببقاء التنجيز في الطرف
غير المضطر إليه، بتقريب ان العلم الاجمالي تعلق بالتكليف المردد بين المحدود
والمطلق ويكون من قبيل تعلق العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين القصير والطويل،
فكما ان العلم الاجمالي، يكون منجزا هناك، كذلك في المقام.
واما في الصورة الثانية: وهي ما إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل حدوث
التكليف، كما لو اضطر إلى شرب ما في أحد الانائين معينا، ثم علم بنجاسته أو نجاسة،
ما في الاناء الاخر فلا كلام ولا اشكال في عدم منجزية هذا العلم الاجمالي، إذ النجاسة
لو كانت واقعة فيما اضطر إلى شربه، لم يحدث تكليف، وهو مقطوع الحلية على كل
تقدير، فلا يجرى فيه الأصل، فيجرى في الطرف الآخر بلا معارض.
وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان الاضطرار، وحدوث التكليف مقارنين، فإنه
يجرى الأصل في غير المضطر إليه بلا معارض.
واما في الصورة الثالثة: وهي ما لو كان الاضطرار إلى المعين بعد حدوث التكليف
وقبل العلم، كما لو اضطر إلى شرب أحد المايعين ثم علم بان أحدهما كان نجسا قبل
عروض الاضطرار، فقد اتفقت كلمات المحققين في هذه الصورة على عدم تنجيز العلم
الاجمالي.
وما افاده في المقام يكون مبتنيا على ما بنوا عليه ونحن تبعناهم من أن، عدم
جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي انما هو لأجل التعارض لا لمانعية نفس العلم،
338

وانه لو كان الأصل النافي للتكليف جاريا في بعض الأطراف، دون بعض آخر، فلا مانع
من جريانه، ولا يكون العلم الاجمالي حينئذ منجزا من غير فرق بين سبق التكليف
وعدمه، وعليه. فلو كان عروض الاضطرار قبل العلم وبعد توجه الخطاب، فاما ان يكون
حين الاضطرار غافلا عن نجاسة المائين أو معتقدا طهارتهما، أو يكون شاكا في النجاسة،
فعلى الأولين لا يجرى الأصل في شئ منهما لعدم الموضوع، وعلى الثالث يجرى الأصل
في الطرفين إذ الترخيص في مخالفة التكليف غير الواصل، لا يكون ترخيصا في المعصية
ولا محذور فيه - هذا حال الطرفين قبل الاضطرار.
واما بعده فحين ما يعلم بالنجاسة، فالطرف المضطر إليه لا يجرى الأصل فيه للعلم
بجواز ارتكابه وحليته حتى لو كانت النجاسة واقعة فيه، ومع العلم بالجواز لا موضوع
للأصل، فيجرى الأصل في الطرف الآخر بلا معارض.
وعلى الجملة في زمان المنكشف والمعلوم كلا الأصلين يجريان على فرض
الشك، وفى زمان العلم والكاشف يجرى أحدهما دون الاخر فليس زمان يتعارض
الأصلان فيه، فمثل هذا العلم الاجمالي لا يكون منجزا.
ودعوى ان العلم بعد حدوثه يوجب ترتيب آثار المعلوم من حين حدوثه لا من
حين العلم، مثلا لو علمنا بنجاسة الماء الذي توضأنا به قبل التوضي، يجب ترتيب آثار
النجاسة حين الوضوء، وان لم يكن عالما بها حينه ففي المقام لا بد من ترتيب آثار العلم
الاجمالي من حي حدوث المعلوم لعدم الفرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي.
مندفعة: بان ذلك يتم بالنسبة إلى آثار المعلوم، لا آثار العلم، وتساقط الأصول من
آثار العلم كما لا يخفى.
ويلحق بهذه الصورة ما لو كان الاضطرار مقارنا للعلم وبعد حدوث التكليف.
وغاية ما يمكن ان يورد عليهم: انه انما لا يجرى الأصل في الطرف الآخر من جهة
أخرى، وهي ان مقتضى استصحاب بقاء التكليف المقطوع حدوثه قبل الاضطرار
المشكوك بقائه، لاحتمال كونه في الطرف المضطر إليه المرتفع بالاضطرار، وكونه في
الطرف الآخر الباقي، بقاء التكليف وهو من قبيل القسم الثاني من اقسام استصحاب
339

الكلى وحيث إن المستصحب بنفسه من الأحكام، فلا يتوقف جريانه على ترتب اثر
شرعي عليه، وليس المقصود اثبات كون متعلق الحكم الطرف الآخر، حتى يقال انه مثبت
بل العقل يحكم بأنه يجب اجتناب الطرف الآخر في المحرمات، والآتيان به في
الواجبات تحصيلا لليقين بالفراغ.
وفيه: ان هذا الأصل محكوم لأصل آخر، فان الشك في بقاء الكلى الذي لا وجود
له الا بوجود افراده، يرتفع باجراء أصالة عدم الحدوث في فرد مع العلم بعدم الفرد
الاخر في صورة دوران امر الموجود بينهما كما في المقام فان المضطر إليه لو كان موردا
للتكليف، فقد ارتفع التكليف قطعا فلو أجرينا أصالة عدم حدوث التكليف في الطرف الآخر
لا يبقى شك في عدم بقاء الكلى.
لا يقال: ان لازم ذلك عدم بقاء تنجيز العلم في صورة كون الاضطرار بعد التكليف
والعلم: به فإنه يجرى الأصل في الطرف الآخر، والمضطر إليه حلال قطعا.
فإنه يقال انه في تلك الصورة لا يجرى أصالة عدم حدوث التكليف لفرض تنجيز
العلم قبل ذلك وسقوط الأصل في كلا الطرفين، وهذا بخلاف المقام فإنه قبل الاضطرار
لا علم بالتكليف، فيجرى الأصل في الطرفين بلا معارضة بينهما، وبعده لا علم بالتكليف
ولا يجرى الأصل في المضطر إليه كي يعارض مع الجاري في الطرف الآخر، ولو ضم
أصالة عدم حدوث التكليف في طرف بالعلم الوجداني بعدم وجوده في الطرف الآخر،
والمفروض ان لا وجود للكلي الا في ضمن أحدهما، لا شك في عدم بقاء الكلى، وان
شئت عبر - بأنه شك له مؤمن شرعي - وهذا نظير - دوران الامر بين الأقل والأكثر فإنه وان
كان بعد الاتيان بالأقل يشك في بقاء التكليف المعلوم تعلقه بالأقل أو الأكثر،
والمشكوك بقائه لعدم الاتيان بالأكثر ولكن لأجل جريان الأصل في الأكثر وعدم
معارضته بالأصل في الأقل لا يبقى شك في عدم بقاء الكلى - فالحق - ما افاده الأساطين
من عدم تنجيز العلم الاجمالي في هاتين الصورتين أيضا.
340

حكم الاضطرار إلى غير المعين
واما المقام الثاني: وهو ما لو كان الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه ففيه مسالك.
الأول: ما اختاره المحقق الخراساني في الكفاية وهو ان الاضطرار إلى غير معين
مانع علم العلم بفعلية التكليف فإنه موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تخييرا
وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.
أقول ان مراده (قده) من ذلك، ان كان ان الترخيص الواقعي ينافي العلم بحرمة
المعلوم، فيرد عليه ما ستعرفه عند بيان المختار، وان كان مراده ان الترخيص الظاهري
ينافي معه من جهة ان العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية، ولا يجوز
الترخيص في تركها، فقد مر ما فيه مفصلا فراجع.
الثاني: ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) وهو البناء على التوسط في التكليف
والحكم بوجوب الاجتناب عن غير ما يرفع به الاضطرار في المحرمات والآتيان بغيره
في الواجبات، حتى في صورة تقدم الاضطرار على حدوث التكليف، بدعوى ان
الاضطرار انما تعلق بالجامع بين الحلال والحرام، ولم يتعلق بخصوص الحرام، فنفس
الاضطرار لا يكون موجبا لرفع الحرمة، ولا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم
بالاجمال الا ترى انه لو اضطر إلى شرب أحد المائين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما
لا يتوهم أحد رفع الحرمة عن الحرام المعلوم بالتفصيل لأجل الاضطرار إلى الجامع،
فكذلك في المقام، غاية الامر ان الذي يختاره المكلف في مقام رفع الاضطرار حيث إنه
مصداق للمضطر إليه فبالاختيار يرتفع حرمته ان كان هو الحرام وان كان الحرام غيره فهو
باق.
وأورد على نفسه بأنه على هذا لا يبقى فرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار
إلى غير المعين في أن كلا منهما يوجب التوسط في التكليف أي عدم التكليف على فرض
مصادفته للمضطر إليه ووجوده إذا كان غيره، فما الفارق بينهما حيث يحكم في الأول
341

بعدم لزوم الاجتناب عن الطرف الآخر إذا كان الاضطرار قبل العلم، والتزم في الثاني
بلزومه.
وأجاب عنه بأنه في الاضطرار إلى المعين إذا كان قبل التكليف وقبل العلم به فبعد
حدوث سبب التكليف والعلم به، يقطع بحلية المضطر إليه وعدم حدوث التكليف ان
صادف المضطر إليه، فيبقى الشك في الطرف الآخر موردا للأصل بالتقريب المتقدم، واما
في الاضطرار إلى غير المعين فحيث ان نفس الاضطرار لم يتعلق بما هو متعلق التكليف
فقبل ان يختار أحدهما، ويحدث سبب التكليف كإصابة النجاسة إلى أحدهما يكون
التكليف فعليا على كل حال ومنجزا، وبعد ذلك إذا اختار أحدهما، فحيث انه يصير
مضطرا إليه فيرتفع التكليف ان كان ثابتا في مورد الاختيار، وان كان في غيره فهو باق،
فيكون حاله حال الاضطرار إلى المعين بعد العلم بحدوث التكليف.
وفيه: أولا ان ما يختاره ليس مصداقا للمضطر إليه حتى يكون الترخيص الثابت
بدليل الاضطرار ترخيصا واقعيا، فينا في الحرمة فالحمرة ثابتة على كل حال، وانما يكون
الترخيص ظاهريا موجبا للتوسط في التنجيز، وثانيا: انه لو سلمنا ذلك، فلازمه عدم
وجوب الاجتناب عن الاخر، إذ ما يختاره أولا لو كان هو الذي اصابه النجاسة لم يحدث
فيه التكليف من الأول لا انه حدث وارتفع بالاختيار: وذلك لعدم معقولية مثل هذا
التكليف وكونه لغوا، إذ التحريم انما يكون لأجل ان يكون زاجرا عن الاختيار فجعل
الحرمة وتعلقها بفعل، ترتفع عند اختيار الفعل وصيرورته مباحا لغو - وبعبارة أخرى -
الحرمة انما تكون لأجل ان تصير زاجرة عن الاختيار، فصيرورته الفعل مباحا حينه
يوجب لغوية جعل تلك الحرمة، فلو كان في الطرف المختار لم يحدث التكليف من
الأول فيكون التكليف في الطرف الآخر، مشكوك الحدوث، فيجرى فيه الأصل فيكون
كلام المستشكل متينا.
الثالث: ما هو الحق، وهو التوسط في التنجيز، فالمدعى ثبوت التكليف على كل
تقدير، وتنجيزه على تقدير دون آخر، وهو يبتنى على بيان مقدمات.
الأولى: ان الترخيص أعم من الظاهري والواقعي، كالحكم الإلزامي، قد يتعلق
342

بصرف وجود الطبيعة، المنطبق على أول الوجودات، وقد يتعلق بجميع الوجودات،
والإباحة الواقعية المتعلقة بجميع الوجودات ظاهرة، واما الإباحة المتعلقة بصرف
الوجود، فهي انما تكون، فيما لو أباح المالك الدخول في داره مرة مثلا ويتصور ذلك في
الإباحة الظاهرية أيضا.
الثانية: ان المضطر إلى استعمال أحد المائين المعلوم نجاسة أحدهما انما يكون
مضطرا إلى استعمال الجامع لا خصوص الحرام، وحيث إن أحد فردي الجامع حرام
والاخر مباح فلا بد وان يرفع اضطراره بما لا يكون حراما - وبعبارة أخرى - الحكم
المترتب على الفعل المضطر إليه انما يترتب على ما لا مانع فيه، وهو المباح، ولذا ترى انه
لو كان الحرام متميزا عن الحرام في الخارج لما كان يجوز دفع الاضطرار بالحرام، والسر
فيه ما ذكرناه، وعليه فالحرام يتمكن المكلف من مخالفته ولم يطرأ عليه الاضطرار حتى
يرفع حكمه.
الثالثة: انه لا يمكن للشارع الترخيص في كليهما لكونه ترخيصا في المخالفة
القطعية.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: ان مقتضى ما ذكرناه في المقدمة الثانية عدم جواز
ارتكاب أحدهما أيضا في الفرض، الا ان العقل يحكم بان الاضطرار الموجب لصيرورة
الحرام مباحا إذا تعلق به، لو تعلق بأحد الامرين المعلوم حرمة أحدهما، ولم يكن الحرام
متميزا عما عداه يوجب عدم العقاب على ارتكاب أحدهما، ولازم ذلك ترخيص الشارع
في ارتكاب أحدهما، وبمقتضى المقدمة الأولى يكون المرخص فيه صرف الوجود
المنطبق على أول الوجودات، والجمع بين هذا الحكم وبقاء الحرمة الواقعية، يقتضى
الالتزام بالترخيص الظاهري - وبعبارة أخرى - الضرورات تتقدر بقدرها فلا وجه لرفع
اليد عن الحرام الواقعي لان المضطر إليه هو ترك الموافقة القطعية فالمرتفع هو وجوبها،
وبمقتضى المقدمة الثالثة يحرم المخالفة القطعية، وليس للشارع الترخيص فيها، فنتيجة
ذلك هو التوسط في التنجيز.
ومما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحققين واليك طائفة منها 1 - ما افاده
343

المحقق الأصفهاني، من أن المعذورية في ارتكاب أحد الأطراف ورفع عقاب الواقع عند
المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى يحرم المخالفة القطعية.
فإنه يرد عليه انه بعد تسليم وجود التكليف الواقعي على حاله، غاية ما يمكن
للشارع الترخيص في المخالفة الاحتمالية، واما الترخيص في المخالفة القطعية وعدم
العقاب على ارتكابهما فليس له ذلك ثوبتا، من غير فرق بين ان يكون الترخيصان بدليل
واحد، أو بدليلين.
2 - ما ذكره المحقق النائيني من أن ارتكاب المكلف للحرام هذا الحال يكون
مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي.
فإنه يرد عليه ان متعلق الاضطرار وما يترتب عليه الضرر هو الموافقة القطعية
والجمع في الترك، وحيث إن وجوب الموافقة القطعية انما يكون بحكم العقل، ومن
باب وجوب دفع الضرر المحتمل، ولا يرتفع حكم العقل الا بارتفاع منشأ انتزاعه، فلا بد
من كون العقاب مرفوعا عن أحد الفعلين في المحرمات وترك أحدهما في الواجبات،
ولا يكون ذلك لا بجعل الترخيص، وحيث إن الترخيص الظاهري يكفي في ذلك،
والضرورات تتقدر بقدرها، فلا محالة يكون هو المجعول الواقعي كي ينافي
مع اطلاق دليل الحرمة.
أضف إلى ذلك أن الترخيص انما جئ من ناحية الجهل بمتعلق التكليف ومثل
هذا الحكم لا محالة يكون ظاهريا، ومتعلقه انما هو أحدهما بنحو صرف الوجود المنطبق
على أول الوجودات، إذ به يرفع الاضطرار فيكون هو المرخص فيه دون الثاني، ولا يلزم
الترجيح بلا مرجح.
3 - ما افاده المحقق الخراساني المتقدم ذكره، فإنه يرد عليه ان الترخيص ليس
واقعيا فلا ينافي مع الالزام المعلوم.
ثم لا يخفى انه فرق بين الواجبات والمحرمات من جهة انه في الثانية يكون أول
الوجودات مرخصا فيه لما مر، وفى الأولى يكون المرخص فيه ترك آخر الوجودات إذ
الضرر في الواجبات انما يترتب على الجمع في الفعل، وفى باب المحرمات على الجمع
344

في الترك، والا فهما مشتركان في جميع ما تقدم كما لا يخفى.
ثم إن ما ذكرناه انما هو في الاضطرار الموجب لإباحة الحرام، واما الاضطرار
الموجب لوجوب ارتكاب الحرام، فلو حدث فبما ان أحد الفعلين حرام والاخر مباح،
فالوجوب يتعلق بالمباح لأنه في الاخر مانع عن تعلقه وهو الحرمة فيصير أحد الفعلين
حراما والاخر واجبا وقد اشتبه أحدهما بالآخر، فكل فعل يدور امره بين الوجوب
والحرمة، فيدخل في المسألة المتقدمة، وهي دوران الامر بين الوجوب والحرمة، وقد مر
ان مقتضى القاعدة، هو فعل أحدهما وترك الاخر كي لا يخالف أحد التكليفين قطعا.
خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
الامر الثامن: قد طفحت كلمات المحققين تبعا للشيخ الأعظم بأنه يعتبر في تأثير
العلم الاجمالي كون جميع الأطراف داخلة في محل الابتلاء فلا اثر للعلم الاجمالي إذا
كان بعض أطرافه خارجا عن محل الابتلاء وان كان مقدورا للمكلف، ولكن صريح كلام
الشيخ الاختصاص بالشبهة التحريمية وتبعه جمع، وذهب آخرون إلى أنه لا فرق في ذلك
بين الشبهات التحريمية والوجوبية.
وكيف كان فتنقبح القول في المقام يقتضى ان يقال انه حيث لا ريب ولا كلام في أنه
يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي ان يكون جميع أطرافه مقدورة للمكلف، لأنه يعتبر
القدرة في التكليف، فلو كان بعض الأطراف خارجا عن تحت القدرة، كان التكليف
بالنسبة إليه ساقطا يقينا فيكون التكليف في الطرف الآخر مشكوك الحدوث فيجرى فيه
الأصل النافي للتكليف بلا معارض.
فيعلم من ذلك أن عمدة الكلام في المقام في، انه هل يعتبر في فعلية التكليف
وتنجزه دخول المكلف به في محل الابتلاء، أم لا يعتبر ذلك والا فمع فرض الاعتبار،
يكون حكم ما لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، حكم الاضطرار إلى أحد
الأطراف معينا، أو خروجه عن تحت القدرة عقلا، كما أنه على فرض عدم الاعتبار يكون
345

العلم الاجمالي منجزا قطعا، فالمهم البحث في ذلك.
وقد استدل الشيخ الشيخ الأعظم لدخل الدخول في محل الابتلاء في التكليف
التحريمي، بقوله والحاصل ان النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة
بحكم العقل والعرف بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهى عنها ولذا يعد خطاب غيره بالترك
مستهجنا الا على وجه التقييد بصورة الابتلاء، ولعل السر في ذلك أن غير المبتلى تارك
للمنهى عنه بنفس عدم ابتلائه فلا حاجة إلى نهيه انتهى.
وحاصل ما افاده يرجع إلى أمرين، أحدهما: استهجان الخطاب بترك ما هو خارج
عن محل الابتلاء - ثانيهما - كون الخطاب مع عدم الابتلاء من قبيل طلب الحاصل، إذ
الترك حاصل بنفسه.
وأورد عليه بايرادين - الأول - النقض بالموارد التي لا ينقدح الداعي للمكلف إلى
فعلها دائما أو غالبا، كنكاح الأمهات واكل العذرة، وما شاكل.
وأجاب: عنه المحقق النائيني بما حاصله، ان المعتبر في صحة الخطاب امكان
انتساب الفعل، أو الترك إلى الاختيار، والإرادة، فان الخطاب لتحريك الإرادة وبعثها
نحو الفعل أو الترك، وعليه ففي الموارد المذكورة في النقض، حيث يكون بقاء الترك
مستندا إلى الاختيار والإرادة، فلا مانع من الخطاب، واما في مورد الخروج عن محل
الابتلاء، فبقاء الترك ليس مستندا إلى الاختيار والإرادة، بل إلى جهات اخر، فلا يصح
التكليف، وان شئت فقل، انه يعتبر في صحة التكليف، امكان الداعوية، وهذا لا ينافي
ضرورة الفعل، أو الترك الناشئة من ارادته كما في موارد النقض، بخلاف الضرورة
الناشئة من غير جهة الإرادة، كما في المقام، فإنها توجب لغوية الحكم، وجعل الداعي إلى
الفعل، أو الترك.
وفيه: ان المستشكل يدعى ان الضرورة في موارد النقض، ناشئة عن تنفر الطبع،
لا عن الإرادة، فكما انه في المقام يدعى ان التكليف لغو، كذلك في موارد النقض بلا
تفاوت.
الايراد الثاني: ما افاده المحقق الخراساني (ره) وهو انه إذا كانت القدرة العادية
346

على الفعل معتبرة في فعلية التكليف التحريمي كانت القدرة على الترك معتبرة في
الواجبات لوحدة الملاك، فإذا كان المعلوم بالاجمال مرددا بين ما لا يتمكن المكلف
من تركه وبين غيره لم يكن هذا العلم الاجمالي منجزا.
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بأنه في باب المحرمات لا كلام في استهجان
الخطاب بالترك وكونه طلبا للحاصل، لان الغرض من النهى ليس إلا عدم تحقق المنهى
عنه، وهذا حاصل مع عدم الابتلاء، بخلاف الواجبات إذا الامر انما هو لأجل اشتمال
الفعل على المصلحة الملزمة، وليس التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه
أمكن ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي
مستهجنا، ولا، طلبا للحاصل.
وفيه: ان المحقق الخراساني يدعى انه لو كان يعتبر في صحة النهى التمكن العادي
من الفعل لكان يعتبر في الامر، التمكن العادي من الترك، لا التمكن العادي من الفعل، فلو
تم ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) تم ما افاده لجريان الوجهين المذكورين في الواجبات أيضا
ولكن الحق عدم اعتبار الدخول في محل الابتلاء، في شئ من المورد ويظهر ذلك ببيان
أمور.
الأول: ان الحكم الذي هو امر اعتباري، لا يعتبر في صحة جعله سوى ما يخرجه
عن اللغوية، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في هذا الكتاب.
الثاني: ان الغرض الأقصى من التكاليف أعم من التوصلية والتعبدية، انما هو
تكميل النفوس البشرية، ونيلها الكمالات بجعل التكليف داعيا إلى الفعل والترك،
ويحصل له بذلك القرب من الله تعالى، وليست هي كالتكاليف العرفية التي ينحصر
الغرض فيها بحصول متعلقاتها في الخارج فعلا أو تركا، ومن أقوى الشواهد على ذلك
الزجر عما لا يوجد الداعي إلى فعله ابدا كأكل العذرة.
الثالث: ان الداعي القربى إذا انضم إلى الداعي النفساني يتصور على وجوه،
أحدها، ان يكون الداعي القربى مستقلا في الداعوية ويكون الداعي النفساني تبعيا
ومندكا فيه، لا اشكال في صحة العبادة في هذا القسم، ثانيها عكس ذلك لا كلام في
347

بطلان العبادة فيه، ثالثها: ان يكونا معا داعيا إليه، وهذا يتصور على وجهين، 1 - ان
لا يكون كل منهما داعيا مستقلا في نفسه بل يكون جزء السبب، الأظهر البطلان في هذه
الصورة، 2 - ان يكون كل منهما داعيا مستقلا ولكن لعدم قابلية المحل يسقط كل واحد
منهما عن الاستقلال، ولا يبعد البناء على الصحة كما ذهب إليها جماعة في هذه الصورة.
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: انه في مورد الخروج عن محل الابتلاء مع فرض
القدرة العقلية على الفعل والترك إذا نهى المولى عن الفعل في المحرمات، أوامر به في
الواجبات للمكلف ان يجعل ذلك التكليف داعيا إلى الفعل أو الترك، ويحصل له بذلك
الغاية القصوى من التكليف، ولتمام الكلام محل آخر وعلى ذلك فالعلم الاجمالي
بالتكليف المردد بين ما هو خارج عن محل الابتلاء وما هو داخل فيه علم بتكليف فعلى
ويكون منجزا.
الشك في الخروج عن محل الابتلاء
ثم إن تمام الكلام في المقام بالبحث في الموارد، الأول ما لو شك في اعتبار الدخول
في محل الابتلاء، الثاني لو شك في الابتلاء، وعدمه على فرض اعتبار الدخول في محل
الابتلاء، من جهة عدم تعيين مفهوم الابتلاء والترديد في حده، الثالث لو شك في القدرة
العقلية من جهة الشبهة المصداقية.
اما المورد الأول: فالشك في ذلك وان كان يلازم الشك في صحة التكليف
وعدمها وبالتبع يشك في أن اطلاق الدليل هل يكون شاملا لهذا الفرد أم لا؟ ولو كان
ذلك أحد أطراف العلم الاجمالي، لا علم بتكليف فعلى، الا ان اطلاق دليل ذلك التكليف
يشمل هذا المورد ويتمسك به، ومجرد احتمال الاستحالة أو القبح في شمول الاطلاق
لمورد لا يوجب عدم العمل بالاطلاق، ورفع اليد عنه، لأنه لا بد من اتباع ظاهر كلام
المولى ما لم يقطع بالاستحالة أو القبح، الا ترى انه بعد ورود آية البنا وغيرها من أدلة
حجية خبر الواحد، لو احتمل أحد ان تكون شبهة ابن قبة تامة، أو لم يطمئن بعدم ترتب
348

محال عليه، هل يمكن له ان لا يعمل بخبر الواحد، ويترك ما دل الخبر على وجوبه
ويفعل ما دل على حرمته، وهل يكون مثل هذا العبد معذورا.
وبالجملة دعوى ان الاطلاق انما يرجع إليه بعد الفراغ عن مقام الثبوت، وانه
يصح شموله لمورد ثبوتا، ولو شك في ذلك لا يتمسك بالاطلاق كما في الكفاية، قال (قده)
ضرورة انه لا مجال للتشبث به، الا فيما إذا شك في التقييد بشئ بعد الفراغ عن صحة
الاطلاق بدونه، لا فيما شك في اعتباره في صحته انتهى، مندفعة بأنه يستكشف من
الاطلاق صحته ثبوتا لأنه على ذلك بناء العقلاء كما عرفت.
وقد ذهب الشيخ الأعظم (ره) إلى أنه يلحق بهذا المورد ما لو علم بان الدخول في
محل الابتلاء شرط للتكليف، لكن شك في مورد من جهة الشبهة المفهومية، وهو
المورد الثاني من البحث.
وقد استدل له: بان المتبع في غير المقدار المتيقن من التقييد هو اطلاق الدليل لما
حقق في محله في العام والخاص، من أن التخصيص أو التقييد بالمجمل مفهوما المردد
بين الأقل والأكثر، لا يمنع عن التمسك بالعام أو الاطلاق فيما عدا المتيقن من التقييد وهو
الأقل، إذا كان الخاص أو المقيد منفصلا عن العام أو المطلق وأورد عليه بايرادات.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني وقد تقدم نقل كلامه، وما يرد عليه آنفا فلا
نعيد.
الثاني: انه قد مر في مبحث العام والخاص، ان المخصص إذا كان مجملا دائرا بين
الأقل والأكثر، فان كان لفظيا متصلا بالعام، أو كان عقليا ضروريا يسرى اجماله إلى العام،
ولا يصح التمسك بأصالة العموم في الافراد المشكوك فيها، والمخصص في المقام عقلي
ضروري، فان اعتبار امكان الابتلاء بما تعلق التكليف به من المرتكزات العرفية
والعقلائية ويكون كالمتصل بالعام، فاجماله يمنع عن التمسك بالعام وبالاطلاق.
وفيه: أولا المنع من كون المخصص في المقام من الأحكام العقلية الضرورية
المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء كيف، وقد عرفت ان الأظهر عدم اعتباره.
وثانيا: ان الأحكام العقلية لا يتطرق إليها الاهمال والاجمال: لان العقل لا يستقل
349

بشئ الا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من الخصوصيات والقيود.
وثالثا: ان العنوان الخارج عن العام إذا كان بنفسه ذو مراتب كالخروج عن محل
الابتلاء، فالدليل المخرج وان كان عقليا ضروريا لا يسرى اجماله إلى العام، وانما السراية
فيما إذا كان الخارج عنوانا واحدا مرددا بين الأقل والأكثر، لم سلم الاجمال في الحكم
العقلي.
الثالث: ما افاده المحقق الخراساني في الحاشية على الرسائل، قال انما يجوز
الرجوع إلى الاطلاقات في دفع قيد كان التقييد به في عرضه ومرتبته بان يكون من أحوال
ما أطلق وأطواره لا في دفع ما لا يكون كذلك وقيد الابتلاء من هذا القبيل فإنه بحكم
العقل والعرف من شرائط تنجز الخطاب المتأخر من مرتبة أصل انشائه فكيف يرجع إلى
الاطلاقات الواردة في مقام أصل انشائه في دفع ما شك في اعتباره في تنجزه انتهى.
وفيه: انه لو كان معتبرا في التكليف كان معتبرا في الفعلية، لا في التنجز، بل لا يعقل
ذلك، إذ المراد من عدم التنجز إذا كان المتعلق خارجا عن محل الابتلاء، لو كان انه في
صورة الترك وعدم الاتيان بما تعلق النهى به، لا يعاقب عليه فهذا في جميع المحرمات
الداخلة في محل الابتلاء كذلك، وان كان المراد ان التكليف يكون بنحو لو خولف
لا يعاقب عليه، فهذا مما لا يمكن الالتزام به، إذ فرض ذلك فرض الابتلاء.
الرابع: ما افاده المحقق صاحب الدرر، وهو انه لا يمكن القطع بحكم ظاهري
بواسطة الاطلاق والعموم، لأن المفروض الشك في أن خطاب الشرع في هذا المورد
حسن أم لا؟ ولا تفاوت بين الخطاب الظاهري والواقعي.
وفيه: مضافا إلى: ان الالتزام بجعل الحكم المماثل في حجية الامارات غير
العلمية خلاف التحقيق وخلاف ما بنى عليه، انه لو سلم فإنما هو في الامارات غير العلمية
سندا، واما غير العلمية دلالة كالظهور العمومي فهي ليست بمعنى جعل الحكم المماثل
قطعا، بل بمعنى بناء العقلاء على اتباعها عملا، والحكم باستحقاق المؤاخذة على
مخالفتها، فليس هناك حكم ظاهري، ليكون حاله حال الحكم الواقعي في القيد
المزبور، فالحق ان ما افاده الشيخ الأعظم (ره) تام لا يرد عليه شئ مما أورد عليه.
350

لو شك في القدرة العقلية
واما المورد الثالث: وهو ما لو شك في القدرة العقلية بالشبهة المصداقية، أو شك
في الخروج عن محل الابتلاء بهذا النحو على القول باعتبار الدخول في محل الابتلاء.
فقد يقال ان مقتضى اطلاق أدلة التكاليف ثبوتها في هذه الموارد، ولكن قد تقدم
في مبحث العام والخاص، ان التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لا يجوز مطلقا
خصوصا إذا كان المخصص لبيا ضروريا.
وعن بعض المحققين انه وان لم يصح التمسك بالاطلاقات الا انه لا يصح الرجوع
إلى البراءة أيضا لتسالم الأصحاب على أن الشك في القدرة ليس موردا للبرائة بل يجب
الفحص ليحرز العجز أو يتحقق الامتثال، الا ترى انه لو شك في القدرة على حفر الأرض
لدفن ميت أو شك الجنب في كون باب الحمام مفتوحا حتى يكون قادرا على الغسل أم
لا؟ لا ريب في لزوم الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الدفن أو
وجوب الغسل، وعليه فيتعين الرجوع إلى قاعدة الاشتغال وأصالة الاحتياط.
وفيه: أولا ان هذا لو تم فإنما هو في التكاليف الوجوبية ولا يتم في المحرمات فإنه
لا يلزم من جريان البراءة فوت الغرض الملزم الذي هو المانع عن جريان البراءة في
الواجبات كما ستعرف.
وثانيا: انه لا تسالم من الأصحاب على عدم جريان البراءة عند الشك في القدرة الا
فيما علم فوات غرض المولى الملزم على كل حال أي حتى مع العجز عن الامتثال، غاية
الامر مع العجز لا يستند الفوت إلى المكلف فلا شئ عليه، فيجب الفحص حينئذ لئلا
يكون فوت الغرض الملزم مستندا إلى التقصير العبد، لان العلم بالغرض بمنزلة العلم
بالتكليف، واما لو لم يحرز وجود الغرض الملزم، اما لاحتمال دخل القدرة فيه، أو لعدم
كون المورد محله كما في المقام إذ لم يحرز وجود الغرض الملزم في مورد الشك في
التكليف فلا مانع من جريان البراءة، الا إذا كان للتكليف المشكوك قدرته على امتثاله
351

بدل كما في مثال الغسل أو الوضوء، فإنه حينئذ للعلم الاجمالي بتوجه أحد الخطابين اما
المبدل أو البدل إليه لا يجرى البراءة في شئ منهما.
وبه يظهر انه في مثل غسل الجنب لا يجرى أصالة البراءة للعلم الاجمالي بوجوبه
أو وجوب التيمم لا لكون الشك شكا في القدرة.
وثالثا: انه لو تم ما ذكر فلازمه عدم جريان البراءة في الطرف المشكوك كونه
مقدورا أو مبتلا به، وعليه فيجرى الأصل في الطرف الآخر بلا معارض بناءا على ما هو
الحق من أن عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي للتعارض.
فالمتحصل مما بيناه انه في المقام ان كان المعلوم بالاجمال تكليفا وجوبيا، وعلم
بوجود الغرض الملزم، كوجوب غسل أحد الميتين لكونه مسلما، أو دفنه لا يجرى البراءة،
بل لا بد من الفحص عن القدرة، والا كما لو علم بكون أحد المايعين خمرا مع احتمال
عدم القدرة على شرب أحدهما بالخصوص، فإنه يجرى البراءة عن حرمة شرب ما علم
كونه مقدورا بلا مانع: إذ من جريان البراءة لا يلزم تفويت الغرض الملزم، ولا علم بتكليف
فعلى على كل حال، إذ لعله يكون في الطرف المشكوك قدرته عليه، ويكون في الواقع
غير مقدور فلا تكليف.
ولا يعارضها أصالة البراءة في الطرف الآخر، لما ذكرناه، ولأنه لا يجرى الأصل فيه
من جهة أخرى: لأنه بعدما عرفت من عدم جواز التمسك باطلاق الدليل المتضمن
للحكم، لا محالة لا يجرى البراءة لان كل مورد لا يكون قابلا لوضع التكليف لا يكون
قابلا للرفع أيضا.
ثم انه بعد ما عرفت من أنه لو علم بتعلق مقدورا، أو ما يشك
في القدرة عليه في المحرمات، لا يكون العلم الاجمالي منجزا، تعرف انه لا يبقى ثمرة
مهمة للنزاع في أن الخروج عن محل الابتلاء مانع عن الفعلية أم لا؟ إذ في غالب موارد
الخروج عن محمل الابتلاء يشك في القدرة العقلية.
352

لو كان أحد أطراف العلم غير مقدور شرعا
بقى الكلام في أمرين، أحدهما: انه ذهب جماعة منهم المحقق النائيني
والمحقق الخوئي، إلى أن ما لا يكون مقدورا شرعا، مثل ما لا يكون مقدورا عقلا، في أنه
إذا كان أحد أطراف العلم الاجمالي كذلك، كما إذا كان أحد الانائين أو الثوبين المعلوم
نجاسة أحدهما ملكا للغير الذي يبعد جواز استعماله ولو بالشراء ونحوه، لا مانع من
الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر، ولا يعارضه الأصل في غير
المقدور، لعدم ترتب اثر عملي على جريانه فيه بعد العلم بحرمة التصرف فيه على
التقديرين فينحل به العلم الاجمالي ولا يكون منجزا.
ولكن يرد عليهم انه لا ريب في صحة اجتماع النواهي المتعددة في شئ واحد
من الجهات العديدة، ويترتب عليها آثارها - مثلا - لو شرب الخمر التي هي ملك للذمي
بغير اذنه يعاقب عقابين ويحد حد شارب الخمر، ويكون ضامنا للقيمة، وكذا لو وطء
الأجنبية في حال طمثها، كما لا اشكال في جريان الأصل في شئ علم حرمته من جهة
وشك فيها من جهة أخرى ورفع اثر الحرمة الثانية به - وعليه - فلا وجه لعدم تنجيز العلم
الاجمالي في المثال إذ لا يعتبر في التنجيز سوى كونه علما بتكليف فعلى منجز على كل
تقدير، وتعارض الأصول في أطرافه، وهذا الملاك موجود في المقام، فالحق عدم
اللحوق - نعم يتم ما أفادوه في المحرمين الذين لهما اثر واحد كالفردين من طبيعة
واحدة.
العلم الاجمالي في الطوليين
الثاني: إذا كان المعلوم بالاجمال مرددا بين أمرين طوليين، كما لو علم بنجاسة
الماء، أو الترب مع انحصار الطهور بالمشتبهين، فعن المحقق النائيني (ره) وجوب الوضوء
353

والاكتفاء، به وانه لا يكون هذا العلم منجزا بدعوى ان تنجيز العلم الاجمالي متوقف على
كونه منشئا للعلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير، وهذا غير ثابت في المقام، إذ على
تقدير كون النجس هو التراب، لا يترتب عليه شئ، لان عدم جواز التيمم حينئذ من جهة
التمكن من الوضوء بالماء الطاهر، لا لنجاسة التراب، وان شئت قلت إن النجاسة المعلومة
لم تؤثر في عدم جواز التيمم على كل تقدير، اما على تقدير كون النجس هو الماء
فواضح، واما على تقدير كون النجس هو التراب فلان عدم جواز التيمم حينئذ مستند إلى
وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب، وعليه فتجري أصالة الطهارة في الماء بلا
معارض، وبها يرتفع موضوع جواز التيمم، وهو عدم التمكن من الماء.
وفيه: انه انما يتم ذلك إذا لم يكن للتراب اثر آخر غير جواز التيمم كما إذا كان
التراب في مكان مرتفع لا يمكن السجود عليه، أو كان مملوكا للغير لم يأذن في ذلك،
ولا يتم فيما كان الابتلاء به من غير تلك الجهة أيضا، وكان له اثر آخر كالسجود عليه، فإنه
حينئذ تعارض أصالة الطهارة في الماء مع أصالة الطهارة في التراب، فتتساقطان، وعليه
فيجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمم.
الشبهة غير المحصورة
الامر التاسع: قد اشتهر بين الأصحاب ان أطراف العلم الاجمالي إذا كانت غير
محصورة لا يكون العلم منجزا والكلام في هذا الامر انما هو في أن عدم الحصر بنفسه،
هل يكون من موانع تنجيز العلم الاجمالي أم لا؟ فلا بد من فرض الكلام في ما إذا كان
المورد خاليا عن جميع ما يوجب المنع عن تنجيز العلم، ولو في غير المقام من موانع
التكليف، من العسر والحرج، والخروج عن القدرة وما شاكل، وعلى ذلك فتسقط جملة
مما استدل به على عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة.
وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في موردين، الأول: في ضابط الشبهة غير
المحصورة الثاني: في بيان حكمه.
354

اما الأول: فقد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك وذكروا لها ضوابط.
منها: ما عن جماعة وهو تحديدها، ببلوغ الأطراف إلى حد يعسر عدها أو يمتنع،
وزاد بعضهم قيد في زمان قليل.
وفيه: ان تحديدها بذلك إحالة على المجهول، إذ في أي مقدار من الزمان يعسر
عده والزمان القليل أيضا غير ظاهر المراد.
ومنها: الارجاع إلى العرف، وفيه: أولا ان أهل العرف لا يفهمون حده، وثانيا، ان
هذا اللفظ لم يرد في رواية أو آية حتى يرجع إلى العرف في مفهومه، وانما تكون
المسألة عقلية.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني: وهو ان غير المحصورة ما لا يمكن فيها المخالفة
القطعية بارتكاب جميع الأطراف وان تمكن من ارتكاب كل واحد، ولهذا تختص
الشبهة غير المحصورة عنده (ره) بالشبهات التحريمية فإنه في الشبهات الوجوبية يتمكن
المكلف من المخالفة القطعية، وان بلغت الأطراف في الكثرة ما بلغت.
وفيه: أولا: ان عدم التمكن منها ربما يكون مع كون الشبهة محصورة قطعا، كما
لو علم بحرمة الجلوس في زمان معين في إحدى الدارين، وثانيا: ان المراد من القدرة
على المخالفة هي القدرة دفعتا أو تدريجا، فعلى الأولى كثير من الشبهات المحصورة
كذلك، وعلى الثاني قل شبهة غير محصورة تكون كذلك، وثالثا: ان التمكن من المخالفة
وعدمه يختلف باختلاف الأشخاص، والموارد، وقلة الزمان، وكثرته كما لا يخفى فليس
له ضابط كلي.
ومنها: ما افاده الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الشبهة غير المحصورة ما يكون احتمال
وجود التكليف في كل طرف من أطرافها موهوما لكثرة الأطراف.
وأورد عليه بايرادين أحدهما: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان الوهم له مراتب
فالمراد أي مرتبة منه فهذا إحالة على المجهول.
ثانيهما: ما عن المحققين العراقي والخوئي وهو ان موهومية احتمال التكليف،
لا تمنع من التنجيز، لان مجرد احتمال التكليف بأي مرتبة كان يستلزم احتمال العقاب
355

الذي هو الملاك في تنجز التكليف لولا المؤمن.
ولكن الظاهر عدم الظاهر عدم ورود شئ من الايرادين عليه وتمامية ما افاده، وهو يظهر ببيان
مراده، وحاصله: انه إذا وصل كثرة الأطراف إلى حد كان احتمال انطباق المعلوم
بالاجمال على كل طرف احتمالا موهوما في مقابل الاطمينان كما يظهر من الأمثلة التي
ذكرها، بمعنى انه يطمئن العرف بعدم كونه في ذلك الطرف والعقلاء: لحجية الاطمينان
عندهم لا يعتنون باحتمال خلافه، ولهذا الاحتمال الموهوم ليس مراتب، فالصحيح
تمامية ما افاده الشيخ (ره).
أدلة عدم وجوب الاحتياط في الشبهة غير المحصورة
واما المورد الثاني: فالكلام فيه يقع، أولا في وجوب الاحتياط فيها وعدمه، وثانيا:
في حرمة المخالفة القطعية وعدمها.
اما الأول: فقد استدل لعدم وجوبه، بوجوه.
1 - الاجماع على ذلك، ويتوجه عليه ان القدماء لم يتعرضوا للمسألة بل هي
معنونة في كلمات متأخرين فكيف يعرف اتفاقهم عليه، أضف إليه ان مدرك
المجمعين معلوم وهو أحد الوجوه الآتية فلا يكون اجماعا تعبديا كاشفا عن رأى
المعصوم (ع).
2 - ان الاحتياط في الشبهة غير المحصورة مستلزم للعسر والحرج، وهما في
الشريعة منفيان.
وفيه: ان المنفى هو العسر الشخصي لا النوعي، وعليه فهذا يختلف باختلاف
الأشخاص والأزمان، وغير ذلك من الخصوصيات، فلازمه وجوب الاحتياط مع عدم
لزومه في مورد.
مع أنه في شمول أدلة نفي العسر والحرج لوجوب الاحتياط أي فيما إذا لم يكن
متعلق التكليف الواقعي حرجيا كلام سيأتي عند التعرض لقاعدة لا ضرر فانتظر.
356

3 - ان ما في رواية الجبن من قوله (ع)، امن اجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم
ما في الأرض جميعا (1) يدل على ذلك فإنه يدل على أن وجود الميتة في مورد في الجبن
المردد بين جميع ما في البلد لا يوجب لزوم الاجتناب عن الجميع.
وفيه: أولا ان جميع ما في البلد من الجبن لا تكون داخلة في محل الابتلاء، فلعل
عدم التنجيز لذلك لا لكون الشبهة غير محصورة - وثانيا - انه يحتمل ان يكون المسؤول
عنه هو الشبهة البدوية، ومنشأ شك السائل ما رآه من جعل الميتة فيه في مورد، فيكون
أجنبيا عن المقام.
4 - ما عن المحقق النائيني (ره) وهو انه إذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن
منها، لا تجب الموافقة القطعية.
وقد مر ما في جعل عدم التمكن من المخالفة القطعية ضابطا للشبهة غير
المحصورة، ولكنه على فرض الاغماض عنه يتم ما افاده في المقام، لما تقدم في التنبيه
الأول.
5 - ما افاده الشيخ الأعظم، وهو عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان
موهوما، وقد مر تقريب ما افاده عند بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة، وعرفت انه
متين: إذ الاطمينان حجة عقلائية.
ويمكن ان يستدل لعدم وجوب الاحتياط مضافا إلى ذلك: بان الدليل على لزومه
في أطراف العلم الاجمالي منحصر في النصوص الخاصة كما تقدم، وعليه فحيث ان
موارد تلك النصوص من قبيل الشبهة المحصورة فالتعدي عنها، واثبات لزوم الاحتياط
في الأطراف الشبهة غير المحصورة، يحتاج إلى دليل آخر مفقود، وعرفت ان القواعد
تقتضي عدم لزوم الاجتناب، فالأظهر عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير
المحصورة كما هو المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه كما قيل.
واما الثاني: وهو انه هل يحرم المخالفة القطعية، أم لا؟ فملخص القول فيه، ان

1 - الوسائل باب 61 من الأطعمة المباحة حديث 5 ج 17.
357

الأدلة المتقدمة لا تدل على عدم الحرمة، ولكن يمكن ان يستدل له بان أطراف الشبهة إذا
كانت كثيرة بحد كان احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على كل طرف احتمالا موهوما،
بالنحو الذي عرفته لا يكون مثل هذا العلم بيانا عند العقلاء، وعليه فهو في حكم العدم فلا
يحرم المخالفة القطعية.
ومما ذكرناه يظهر انه في الشبهة غير المحصورة يسقط حكم الشك عن كل واحد
من الأطراف أيضا، بحيث يكون الشك في كل واحد منها كلا شك، فلو كان حكم الشك
في نفسه لزوم الاحتياط، كما في الأموال والدماء والفروج حيث لا يجوز على المشهور
الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة، لا يترتب على الشك في أطراف
الشبهة غير المحصورة، وعلى هذا بنينا على جواز الوضوء من الأواني غير المحصورة
عند العلم الاجمالي بإضافة أحدها مع أنه لا يجوز التوضي بما يشك في أنه مضاف أو
مطلق، لعدم احراز الشرط في صحة الوضوء من اطلاق الماء.
واما على ما افاده المحقق النائيني في وجه عدم وجوب الاحتياط في المقام من
التعليل بأنه لا يحرم المخالفة القطعية لعدم التمكن منها، ولا تجب الموافقة لأنه تابع لها،
يكون العلم كلام علم، فالشك متحقق، وبنفسه مورد لقاعدة الاشتغال، فحكمه بصحة
الوضوء بأحد الإناءات في المثال لا يبنى على ما أسسه، وتعليله ما أفتى به بان المعلوم عند
العقلاء كالتالف، لا يظهر معناه مع وجوده بجميع خصوصياته الشخصية.
تذييل إذا كانت الشبهة كثيرة في كثير، كما لو كان المعلوم مائة وأطراف الشبهة
خمسمائة، فهل يجب الاحتياط، أم لا؟ الظاهر أن ذلك يختلف باختلاف المباني، فإنه
على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم (ره) وتبعناه يجب الاحتياط، في المقام لان احتمال انطباق
المعلوم بالاجمال على كل طرف ليس احتمالا موهوما لا يعتنى به العقلاء، فإنه من قبيل
تردد الواحد في الخمسة، وعلى مسلك المحقق النائيني من أن الضابط عدم التمكن من
المخالفة القطعية، لا يجب لعدم التمكن منها فان المخالفة القطعية، انما تكون بارتكاب
أربعمائة وواحد.
358

الامر العاشر
قد طفحت كلماتهم بأنه لا يجب الاجتناب عن ملاقي بعض أطراف الشبهة
المحصورة، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعى تقديم أمور.
الأول: ان محل البحث ما إذا لم يكن لجميع الأطراف ملاق، بل كان لاحدها
مثلا والا فلا ريب في وجوب الاجتناب عن الملاقى: للعلم الاجمالي بنجاسة أحد افراد
الملاقى بالكسر.
الثاني: ان محل البحث ما إذا لم يكن في البين ما يقتضى نجاسة الملاقى
كالاستصحاب، فإنه إذا جرى استصحاب النجاسة في الملاقى بالفتح، يترتب عليه نجاسة
الملاقى لكونها من الآثار الشرعية المترتبة على نجاسة الملاقى بالكسر.
حكم العلم الاجمالي بجزء الموضوع
الثالث: انه يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي ان يكون علما بالحكم، اما ابتداءا، أو
بواسطة العلم بتمام الموضوع، واما لو لم يكن كذلك بان تعلق العلم الاجمالي بجزء
الموضوع، فلا يكون مثل هذا العلم منجزا لعدم تعارض الأصول وعدم تساقطها، فلو علم
بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة، أو علم بخمرية أحد المايعين يكون هذا
العلم الاجمالي منجزا في المثال الأول، وفى المثال الثاني بالنسبة إلى ما يكون الخمر تمام
الموضوع له وهو حرمة الشرب، واما بالنسبة إلى ما يكون الخمر جزء الموضوع وجزئه
الاخر الشرب، وهو وجوب الحد فلا يكون العلم الاجمالي موجبا لترتبه لو شرب
أحدهما، وكذا لو علم بان أحد الجسدين ميت انسان والاخر جسد حيوان مذكى مأكول
اللحم فان هذا العلم الاجمالي، وان كان يقتضى وجوب غسل كل منهما، ووجوب
الاجتناب عن اكل لحم كل من الجسدين، الا انه إذا مس شخص أحدهما، لا يحكم عليه
359

بوجوب الغسل، لان تمام الموضوع مس بدن ميت الانسان، وهو مشكوك التحقق
والأصل عدمه
والسر فيه انه إذا تعلق العلم الاجمالي بالحكم الفعلي يكون الشك في كل من
الأطراف شكا في انطباق المعلوم بالاجمال عليه، فلا يكون مجرى للبرائة، وأما إذا تعلق
بما هو جزء الموضوع وكان الشك في تمامية الموضوع، فلا محالة يشك في أصل
التكليف فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة، وهذا بحسب الكبرى واضح لا اشكال
فيه، وانما وقع الاشكال والخلاف في بعض الموارد من حيث الصغرى.
ومن ذلك ما لو علم بغصبية إحدى الشجرتين ثم حصلت الثمرة لإحداهما دون
الأخرى، فقد يقال بأنه لا اثر لهذا العلم بالنسبة إلى الثمرة الموجودة لا تكليفا ولا وضعا،
لان المحرم هو التصرف في نماء المغصوب وهو في المثال مشكوك فيه، كما أن
موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير، وهو أيضا مشكوك فيه والأصل عدمه - وعلى
الجملة - ان هذا العلم الاجمالي انما يؤثر بالنسبة إلى ما يترتب على غصبية الشجرة،
ولا يؤثر بالنسبة إلى آثار غصبية الثمرة لتوقفها على تحقق موضوعها وهو غصب الثمرة
غير المحرز في المثال، واحراز غصبية العين، يوجب ترتب احكام غصب العين لا ترتيب
احكام غصب الثمرة، فبالنسبة إلى احكام غصب الثمرة من الضمان وحرمة التصرف
تجرى أصالة، الإباحة، والبرائة، وعدم الضمان.
ولكن المحقق النائيني (ره) أفاد ان العلم الاجمالي المذكور بالنسبة إلى آثار غصب
الثمرة انما يكون من قبيل العلم بتمام الموضوع لا جزئه، بدعوى ان ضمان المنفعة
والثمرة حكم مجعول مترتب على غصب العين من الدار والشجرة وما شاكل، فان اخذ
العين المغصوبة كما يوجب ضمانها، كذلك يوجب ضمان منافعها إلى الأبد إذ اخذ
المنافع وان لم تكن موجودة انما يكون بأخذ العين، ولذلك جاز للمالك الرجوع إلى
الغاصب الأول في المنافع المتجددة بعد خروج العين عن تحت يده ودخولها تحت يد
غيره فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يقتضى ضمان العين المغصوبة كذلك يقتضى
ضمان منافعها المتجددة، هذا من حيث الحكم الوضعي.
360

واما من حيث الحكم التكليفي أي حرمة التصرف في الثمرة ووجوب الاجتناب
عنها: فلان وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب، مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن
المغصوب لان النهى عن التصرف في المغصوب نهى عنه وعن توابعه ومنافعه، فيكفي في
وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه
بالعلم التفصيلي أو الاجمالي، لا بمعنى فعلية وجوب الاجتناب عن الثمرة قبل وجودها
فان ذلك بديهي البطلان لامتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه، بل بمعنى ان ملاك
حرمة التصرف في الثمرة انما يكون تاما من حين غصب العين الموجب لضمانها وضمان
منافعها الموجودة وغير الموجودة، وان النهى عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه
يقتضى النهى عن التصرف في الثمرة عند وجودها، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة
إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه فحرمة التصرف في الثمرة من
شؤون حرمة التصرف في الشجرة، فكما يكون العلم الاجمالي موجبا لتنجز الأحكام
المترتبة على الأعيان من الشجرة وما شاكل، يوجب تنجز الأحكام المترتبة على ما يعد
من شؤونها التابعة لها خطابا وملاكا، ومجرد تأخر وجود الشئ عن ظرف وجود العلم
بعد تمامية ملاك حكمه لا يكون مانعا عن تنجيزه كما مر تحقيقه في العلم الاجمالي في
التدريجيات.
ولكن ما افاده لا يتم، لا من ناحية الحكم الوضعي، ولا من ناحية الحكم التكليفي.
اما من الناحية الأولى: فلان الحكم بضمان المنافع المتجددة بغصب العين يتوقف
على أمرين، أحدهما: احراز وضع اليد على العين المغصوبة، فمع وضع اليد على أحدهما
لا يكون ذلك محرزا، ثانيهما: احراز كون المنافع للعين المغصوبة، ومع الشك في ذلك
كما في المقام يكون مقتضى أصالة البراءة عدم الضمان.
واما من الناحية الثانية فلان ما افاده من تمامية الملاك قبل وجود المنفعة، فمما
لا نتعقله، فإنه مع عدم وجود الموضوع كيف يكون الملاك تاما، وبعد وجود المنفعة
يكون الموضوع لحرمة التصرف مشكوك الوجود، فلا محالة يكون الملاك أيضا
مشكوكا فيه.
361

والحق انه تارة يكون الشيئين الذين علم غصبية أحدهما: مسبوقين بملكية الغير
لهما فدخل أحدهما في ملكه دون الاخر، ففي هذا الصورة يحكم بضمان المنافع،
وحرمة التصرف فيها لاستصحاب بقاء أصل الشجرة على ملك الغير وعدم انتقالها إليه
ويترتب عليه، كونه مالكا لمنافعها، فلا بد من ترتيب اثار ذلك، ولا يعارضه استصحاب
بقاء الأخرى على ملك مالكها لعدم لزوم المخالفة العملية من جريانهما معا.
وأخرى لا يكونان مسبوقين بذلك كما لو حازا شخصين للشجرتين التين هما من
المباحات الأصلية، فغصب أحدهما مال الاخر واشتبهتا فحصل لأحدهما نماء، فالظاهر أنه
لا يحكم في هذه الصورة بالضمان، فان استصحاب عدم دخول الشجرة ونمائها في
ملكه لا يجدى لا ثبات ما لم يحرز كونها مملوكة للغير، لان موضوع الضمان وضع اليد
على مال الغير غير المحرز في المقام فيرجع إلى أصالة البراءة ويحكم بعد الضمان.
واما جواز التصرف وعدمه، فيبتنيان على أنه، هل الأصل في الأموال هو الاحتياط
وان لم يكن هناك أصل موضوعي، مثبت لعدم الجواز، أو البراءة وحيث إن المختار هو
الثاني كما حقق في محله فالأظهر جواز التصرف أيضا.
ومن صغريات هذه الكبرى الكلية ملاقي بعض أطراف الشبهة في العلم الاجمالي
وستعرف ما هو الحق فيه.
بيان وجه نجاسة الملاقى
الرابع: بعد ما لا شبهة ولا كلام في نجاسة ملاقي النجس، وقع الكلام في وجه
نجاسته، والمحتملات ثلاثة.
الأول: ان يكون نجاسته لأجل السراية الحقيقية، بمعنى الانبساط، بان يكون
الملاقاة سببا لاتساع دائرة نجاسة الملاقى، كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس
بغيره، وامتزاجه به، فيكون حال الملاقاة، حال الاتصال والامتزاج.
الثاني: ان تكون نجاسته بالسراية بمعنى الاكتساب بان تكون نجاسة الملاقى ناشئة
362

ومسببة عن نجاسة الملاقى، وفى طولها.
الثالث: ان تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي، ويكون نجاسة الملاقى فردا من
النجاسة، في قبال نجاسة الملاقى وفى عرضها، ويكون كل منهما موضوعا مستقلا، نظير
نجاسة الكلب، والخمر، غاية الامر كان هذا الحكم في ظرف ملاقاته للنجس.
وقد استدل للأول بوجوه 1 - ما عن الغنية، وهو قوله تعالى " والرجز فاهجر " (1)
بدعوى ان هجر الشئ لا يتحقق الا مع الاجتناب عن الملاقى.
وفيه: انه لا يدل الكريمة على نجاسة الملاقى، فضلا عن كونها بالنحو الأول.
2 - ان أهل العرف يفهمون من حكم الشارع بالنجاسة ذلك، وهو كما ترى
وستعرف ما فيه.
3 - خبر جابر عن الإمام الباقر (ع) قال اتاه رجل فقال وقعت فارة في خابية فيها
سمن أو زيت فما ترى في اكله قال فقال أبو جعفر (ع) لا تأكله فقال له الرجل الفارة أهون
على من أن اترك طعامي من اجلها قال فقال أبو جعفر (ع) انك لم تستخف بالفارة وانما
استخففت بدينك ان الله حرم الميتة من كل شئ (2) بقريب انه (ع) جعل عدم الاجتناب عن
الطعام الملاقى للفارة استخفافا بتحريم الميتة، فلو لم يكن حرمة الملاقى ووجوب
الاجتناب عنه من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح لما صح جعله استحفافا
بالميتة.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم بان الظاهر من الحرمة فيه النجاسة: لان مجرد التحريم
لا يدل على النجاسة فضلا عن تنجس الملاقى، فالملازمة بين نجاسة الشئ ونجاسة
ملاقيه لا حرمة الشئ وحرمة ملاقيه.
وفيه: ان أساس الاستدلال انما يكون مبتنيا على، ملازمة الحرمة الملزومة للنجاسة،
لحرمة ملاقيه وتقريبه ما عرفت من أن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لو لم يكن
من شؤونه لما صح جعله استخفافا بحرمة الملاقى من جهة نجاسته، فهذا الذي افاده

1 - سورة المدثر آية 6.
2 - الوسائل باب 5 من أبواب الماء المضاف حديث 2 كتاب الطهارة.
363

لا يجدى في دفع الاستدلال.
فالحق في الجواب مضافا إلى ضعف سنده لعمرو بن شمر الذي ضعفه علماء
الرجال ورموه بالوضع والكذب: انه يحتمل ان يكون وجه السؤال، الجهل بنجاسة
الفارة لا تنجيسها فسال عن نجاستها، ولكن حيث إنه كان نجاسة الملاقى بالكسر للنجس
مغروسة في ذهنه سال عن نجاسة الطعام الذي وقعت النجاسة فيه، فاجابه (ع) بنجاسة
الفارة على طبق ما كان مغروسا في ذهنه، فالرواية مسبوقة لبيان نجاسة الفارة لا ملاقيها.
أضف إلى ذلك: انه يحتمل ان يكون مورد السؤال تلاشى اجزاء الفارة وامتزاجها
بما في الخابية، وعلى هذا أيضا تكون الرواية أجنبية عن المقام فإذا لا دليل على السراية
بالمعنى الأول، ولا شاهد له من العرف والشرع.
بل الذي يساعده فهم العرف قياسا بالقذارات العرفية، وهو الظاهر من النصوص
الواردة في الموارد المتفرقة المتضمنة لقولهم عليهم السلام للاتنجسه، ونجسه وما شابههما
والمستفاد من كلمات علمائنا الأبرار رضوان الله تعالى عليهم هو السراية بالمعنى الثاني.
حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن الأقوال في المسألة أربعة 1 - عدم وجوب
الاجتناب عن الملاقى مطلقا 2 - لزومه كذلك 3 - انه في بعض الموارد يجب الاجتناب
عن الملاقى والملاقى، وفى بعض الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقى بالفتح
ولا ثالث - اختاره الأستاذ - 4 - انه في بعض الموارد يجب الاجتناب عنهما، وفى بعض
الموارد يجب الاجتناب عن خصوص الملاقى بالفتح، وفى بعض الموارد يجب
الاجتناب عن خصوص الملاقى بالكسر، ولا يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح اختاره
المحقق الخراساني، وتنقيح القول في المقام، بالبحث في صور.
364

الصورة الأولى
ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الشيئين ثم حصلت الملاقاة، والظاهر أن أكثر المحققين
على أنه لا يجب الاجتناب عن الملاقى بالكسر، في هذه الصورة، والوجه فيه انه
مشكوك الطهارة والنجاسة وليس طرفا للعلم الاجمالي فيجرى فيه أصالة الطهارة بلا
معارض.
وقد استدل لوجوب الاجتناب عن الملاقى بوجهين.
أحدهما: ان نجاسة الملاقى بالكسر عين الملاقى بالفتح غاية الامر انها
توسعت بالملاقاة، وثبتت لامرين بعد ما كانت ثابتة لأمر واحد فهو نظير ما لو قسم ما في
أحد الانائين قسمين، فيجب الاجتناب عن الملاقى بالكسر، تحصيلا للقطع بالاجتناب
عن النجس المعلوم بالاجمال.
ويرد عليه: ما حققناه في المقدمة الثالثة من أن نجاسة الملاقى ليست بسراية
النجاسة سراية حقيقية، بل هي حكم آخر مستقل مترتب على الملاقاة.
ثانيها: انه بالملاقاة يحدث علم اجمالي آخر بنجاسة الملاقى، أو الطرف الآخر
ومقتضاه الاجتناب عن الملاقى أيضا.
وأجيب: عن ذلك بان العلم الاجمالي الثاني لا يكون منجزا فان أحد طرفيه
لا يجرى فيه الأصل لمنجز آخر، وهو العلم الاجمالي الأول، فيجرى في هذا الطرف بلا
معارض - ولكن الحق هو التفصيل في المقام - وهو يبتنى على بيان مقدمة - وهي مع
أهميتها وترتب فروع عليها لم تنقح في كلماتهم - وحاصلها.
لو اختص بعض الأطراف بأصل طولي
انه إذا اختص بعض الأطراف بأصل طولي، فهل يكون هو أيضا ساقطا، أم لا؟ أم
365

هناك تفصيل وجوه.
والحق انه ان كان الأصل في ما يجرى فيه أصل واحد مسانخا مع الأصل
الحاكم في ذلك الطرف، كما لو علم بوقوع النجاسة في الماء أو على الثوب، إذ الأصل
الحاكم في الماءة هو أصالة الطهارة، وهي مسانخة مع أصالة الطهارة في الثوب وفى الماء
يجرى أصل طولي هو أصالة الحل فإنه يشك في الحلية والحرمة من جهة النجاسة.
وفى هذه الصورة لا وجه لسقوط الأصل الطولى: فان الأحكام الشرعية مجعولة
بنحو القضية الحقيقية فقاعدة الطهارة على سعة دائرة مصاديقها مجعولة بجعل واحد،
وعليه فحيث ان جعلها بنحو يشمل كلا طرفي العلم الاجمالي في أمثال المثال، غير
ممكن وبنحو يشمل أحدهما دون الاخر ترجيح بلا مرجح، فلا محالة لا تكون مجعولة
في شئ من الطرفين، فالشك في الحلية والحرمة شك واحد مورد لأصالة الحل
بلا معارض.
وبتقريب آخر - ان دليل أصالة الطهارة نعلم بتخصيصه، وعدم شموله للمقام،
واما دليل أصالة الحل فهو باطلاقه يشكل الطرف المعين، لا موجب لرفع اليد عنه، وقد
التزم الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية التي هي نظائر للمقام، منها ما لو علم بطهارة شئ
في زمان ونجاسته في زمان آخر، وشك في المتقدم منهما، والمتأخر فبعد تعارض
الاستصحابين يرجع إلى قاعدة الطهارة، ومنها ما إذا علم حلية شئ وحرمته في زمانين،
ولم يعلم المتقدم منهما فإنهم يرجعون إلى أصالة الحل بعد تساقط الاستصحابين، وهكذا
في ساير الموارد.
وان كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مسانخا مع الأصل المحكوم في الطرف الآخر
كما لو علم بغصبية أحد المائين، أو نجاسة الاخر، فان أصالة الحل فيما يحتمل
غصبيته مسانخة مع أصالة الحل في الاخر التي هي محكومة لأصالة الطهارة، أو كان غير
مسانخ لشئ منهما.
وفى هاتين الصورتين العلم الاجمالي يوجب تنجز الواقع على كل تقدير وسقوط
جميع الأصول حتى الطولية، وانما لا يجرى شئ من الأصول، لان كل واحد منها طرف
366

للعلم الاجمالي، ولا يصح ان يقال ان أصالة الطهارة فيما يحتمل نجاسته، تعارض مع
أصالة الحل في الطرف الآخر، وتتساقطان، فيرجع إلى أصالة الحل فيه: فان الترخيص فيه
بأي لسان كان لا يصح لمخالفته للمعلوم بالاجمال، هذا كله إذا كان الأصل الطولى موافقا
في المؤدى مع الأصل الجاري في المرتبة السابقة.
واما ان كان مخالفا له فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية مطلقا، فلو علم
نقصان ركعة من المغرب، أو عدم الاتيان بصلاة العصر، تعارض قاعدة الفراغ في
المغرب، مع قاعدة الحيلولة في العصر، فيرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركعة
المشكوك فيها، أو إلى قاعدة الشك في الركعات المقتضية للبطلان، وبالنسبة إلى صلاة
العصر، يرجع إلى أصالة البراءة عن وجوب القضاء بناءا على أن موضوعه الفوت لا مجرد
عدم الاتيان - وتمام الكلام في شقوق هذه المسألة موكول إلى محله -.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أنه يتم ما أفادوه في مقام الجواب إذا لم يكن
في الطرف الآخر الذي لا ملاقي له أصل طولي غير ساقط والا فيقع التعارض بينه وبين
الأصل الجاري في الملاقى للعلم الاجمالي بنجاسته، أو حرمة استعمال ذلك الطرف
مثلا، وهذا العلم يمنع عن جريان كلا الأصلين.
الصورة الثانية
ما إذا حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة، وفى هذه الصورة أقوال 1 - ما
عن المحقق الخراساني وهو لزوم الاجتناب عن الملاقى أيضا 2 - ما اختاره
المحقق النائيني تبعا للشيخ الأعظم وهو عدم لزوم الاجتناب مطلقا 3 - ما عن الأستاذ وهو
التفصيل بين ما إذا كان زمان المعلوم مقارنا لزمان الملاقاة، وبين ما إذا كان سابقا عليه
فاختار لزوم الاجتناب عنه في الأول دون الثاني.
وقد استدل المحقق النائيني (ره) لما ذهب إليه، بان الأصل الجاري في الملاقى
مقدم رتبة على الأصل الجاري فيما لاقاه، لأن الشك في نجاسته ناش عن الشك في
367

نجاسته، وفى المرتبة المتقدمة، يعارض الأصل الجاري في الملاقى مع الأصل الجاري
في الطرف الآخر فيتساقطان، وفى المرتبة اللاحقة، يجرى الأصل في الملاقى بالكسر بلا
معارض.
وفيه: أولا ان هذه الأحكام ليست أحكاما للرتبة، وانما هي احكام للزمان، وحيث إن
الأصل في الملاقى والملاقى متحدان زمانا، فكلاهما طرف للمعارضة. وثانيا: ان
الأصل في الملاقى وان كان متأخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى بالفتح لكنه ليس
متأخرا عن الأصل الجاري في الطرف الآخر، بل هما في رتبة واحدة، ولا وجه لتوهم
التأخر سوى، توهم ان المتأخر عن شئ رتبة متأخر عما في رتبته، وهو فاسد، فان وجود
العلة متحد رتبة مع عدمها ووجود المعلول متأخر عن وجود العلة، وهل يتوهم ان
يكون وجود المعلوم متأخرا عن عدم علته - وبالجملة - التأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك
وجهة وهو مفقود في المقام.
واستدل للثالث: بأنه إذا كان زمان المعلوم متقدما كما لو لاقى الثوب أحد الانائين
يوم الجمعة، ثم علم يوم السبت، بنجاسة أحد الانائين يوم الخميس، فالشك في طهارة
كل من الانائين شك في انطباق المعلوم بالاجمال عليه، فلا يجرى فيه الأصل، واما الشك
في نجاسة الثوب فهو شك في حدوث نجاسة أخرى، ولا مانع من شمول دليل الأصل له
بعد فرض تنجز النجاسة السابقة بالعلم المتأخر، وأما إذا كان زمان الملاقاة متحدا مع
زمان المعلوم، فالعلم الاجمالي كما تعلق بنجاسة أحد الانائين تعلق بنجاسة الثوب، أو
الاناء الاخر، فيسقط الأصل في الثوب أيضا.
وفيه: ان المدار وان كان على المنكشف لا الكاشف، لكن ذلك بالنسبة إلى الآثار
المترتبة على المعلوم المنجزة بالعلم، واما بالنسبة إلى آثار العلم كالتنجيز، فالمدار على
الكاشف لا المنكشف، ففي المقام نقول قبل العلم بالنجاسة اما لا شك في الطهارة في
شئ من الملاقى والملاقى والطرف، أو يجرى الأصل في الجميع لعدم العلم بالنجاسة،
والتعارض انما يكون في زمان حدوث العلم وفى ذلك الزمان كما يعارض الأصل
الجاري في الملاقى بالفتح، مع الأصل الجاري في الطرف الآخر كذلك يعارض الأصل
368

الجاري في الملاقى بالكسر معه، فيتساقط الجميع، فحكم الفرض الأول حكم الثاني
فالمتحصل ان الأقوى هو القول الأول.
الصورة الثالثة
قال المحقق الخراساني في الكفاية وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه فيما لو
علم اجمالا نجاسته أو نجاسة شئ آخر ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى
أو ذاك الشئ أيضا، فان حال الملاقى في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة
السابقة في عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي وانه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير
معلوم النجاسة أصلا لا اجمالا، ولا تفصيلا، وكذا لو علم بالملاقات ثم حدث العلم
الاجمالي ولكن كان الملاقى خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلا به
بعده انتهى، فهو (قده) ذكر موردين لصورة وجوب الاجتناب عن الملاقى بالكسر دون
الملاقى.
اما في المورد الأول: فقد أورد عليه المحقق النائيني والأستاذ وغيرهما بان تنجيز
العلم الاجمالي بقاءا يدور مدار بقاء العلم فلو تبدل وانعدم لا معنى لبقاء التنجيز وعليه
- فالعلم الاجمالي الحادث ثانيا يوجب انحلال العلم الأول - فان الشك في نجاسة
الملاقى قبل العلم الثاني كان شكا في انطباق المعلوم بالاجمال عليه فلا يجرى فيه
الأصل، الا انه بعد فرض العلم الثاني، يكون الشك في حدوث نجاسة أخرى غير ما هو
معلوم بالاجمال، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه.
أقول بناءا على ما عرفت من أن العبرة في اثر العلم، وهو التنجيز بالكاشف
لا المنكشف، العلم الأول ترتب عليه التنجيز وسقط الأصل في طرفيه، والعلم الثاني،
لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقى بالفتح، لفرض سقوط الأصل في الطرف الآخر
لمنجز آخر، فيجرى فيه الأصل بلا معارض، وكون المعلوم الثاني مقدما غير مربوط بما
هو مورد الأثر، فما افاده المحقق الخراساني في هذا المورد تام لا ايراد عليه.
369

ولكن ما افاده في المورد الثاني لا يتم لان الأصل انما لا يجرى فيما هو خارج عن
محل الابتلاء إذا لم يترتب عليه اثر، واما مع ترتبه، كما في المقام فان نجاسة ما لاقاه من
آثار نجاسته، فيجرى، مثلا إذا غسل شئ نجس بماء حين الغفلة عن نجاسته وطهارته،
ثم انعدم الماء فشك في نجاسته وطهارته، فهل يتوهم أحد انه لا يجرى أصالة الطهارة في
الماء ويرجع إلى استصحاب النجاسة - وبالجملة - لا ريب في جريان الأصل فيه مع
ترتب الأثر عليه، وفى المقام بما انه يترتب عليه عدم نجاسة ملاقيه فيجرى فيه الأصل
ويعارض مع الطرف الآخر، فهل يجرى الأصل في الملاقى بالكسر، أم لا وجهان تقدما
في الصورتين السابقتين، ومنه تعرف انه لا يجرى فيه الأصل، ففي هذا المورد أيضا يجب
الاجتناب عن الملاقى والملاقى.
دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
المقام الثاني: في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين، وقبل الدخول في
البحث واستقصاء الكلام فيه لا بد من تقديم أمور.
الأول: انه قد ظهر من أبحاثنا السابقة ان الشك ان كان في التكليف والجعل
الشرعي فهو مورد لأصالة البراءة، وان كان في انطباق المجعول بعد العلم بالجعل، وفى
الامتثال فهو مورد لقاعدة الاشتغال - وبعبارة أخرى - ان الشك في التكليف مورد للبرائة
والشك في المكلف به مورد لقاعدة الاشتغال، والكلام في هذا المقام بعد الفراغ عن
هذين الامرين يقع في الأقل والأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الشك في وجوب الأكثر من
حيث الصغرى وانه، هل يكون من قبيل الشك في التكليف: نظرا إلى العلم بتعلق التكليف
بالأقل والشك في تعلقه بالزايد عليه، أو انه من قبيل الشك في المكلف به: نظرا إلى وحدة
التكليف المعلوم بالاجمال، وتردده بين ان يكون متعلقا بالأقل أو الأكثر، فيكون الشك
في الانطباق وفى المكلف به.
الثاني: ان الأقل والأكثر اما استقلاليان، أو ارتباطيان، والفرق بينهما انما هو من
370

جهة انه، تارة يكون غرض واحد مترتبا على الأقل على كل تقدير وبتبعه يكون موردا
لتكليف خاص، وعلى فرض وجوب الأكثر فإنما هو من جهة كون الأكثر ذا مصلحتين،
ويتبع ذلك يتعدد التكليف والمثوبة والعقوبة عند الموافقة والمخالفة، ويتحقق الإطاعة
باتيان الأقل على كل تقدير، وان لم يكن في ضمن الأكثر، وهذا هو الأقل والأكثر
الاستقلاليان، وتارة أخرى يكون الغرض المترتب على الأكثر على فرض وجوبه واحدا
وبتبعه يكون التكليف أيضا واحدا، فامر المعلوم مردد بين كونه متعلقا بالأقل أو الأكثر،
وهذا هو الأقل والأكثر الارتباطيان، ومحل الكلام هو الثاني، واما في الأول فلا اشكال
في جريان البراءة عن الأكثر لانحلال العلم الاجمالي فيه حقيقة على جميع المسالك.
الثالث: ان محل الكلام ما إذا كان الأقل على فرض كونه متعلقا للتكليف مأخوذا
بنحو اللابشرط القسمي بالنسبة إلى الزايد الذي يكون الأكثر واجدا له، فلا يضره الاتيان
بالأكثر، وأما إذا كان مأخوذا بنحو بشرط لا عن الزايد حتى يضره الاتيان بالأكثر كما في
دوران الامر بين القصر والتمام، فهو خارج عن محل الكلام، ويكون من قبيل دوران
الامر بين المتباينين لكون الأقل المعلوم وجوبه مرددا بين ان يكون هو الأقل بشرط شئ
أو بشرط لا - وبعبارة أخرى - محل الكلام في المقام انما هو فيما إذا كان الاتيان بالأكثر
مما يقتضيه الاحتياط، ويوجب سقوط التكليف وامتثاله على كل تقدير، وإذا كان الأقل
مأخوذا بشرط لا لا يمكن الاحتياط باتيان الأكثر، ولا يحرز به الامتثال لاحتمال كون
الزايد مبطلا، ولذلك يكون مقتضى الاحتياط عند العلم الاجمالي بوجوب القصر أو
التمام، هو الجمع بينهما، لا الاتيان بالتمام فقط.
إذا عرفت هذه الأمور فتحقيق المقام يقتضى البحث في موضعين.
الأول: في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء الخارجية كالشك في
وجوب السورة في الصلاة.
الثاني: في دوران الامر بينهما في الاجزاء التحليلية كدوران الامر بين الاطلاق
والتقييد أو دوران الامر بين الجنس والنوع كما لو علم بوجوب اطعام الحيوان أو
خصوص الانسان.
371

اما الأول: فالأقوال فيه ثلاثة. 1 - جريان البراءة العقلية والنقلية في الأكثر، ذهب
إليه الشيخ الأعظم (ره) وجماعة 2 - عدم جريان البراءة العقلية والنقلية 3 - التفصيل بين
البراءة العقلية فلا تجرى وبين البراءة النقلية فتجري، اختاره، المحقق الخراساني
والمحقق النائين، فالكلام في جهتين، الأولى في جريان البراءة العقلية وعدمه، الثانية في
جريان البراءة النقلية وعدمه.
جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر
اما الجهة الأولى: فقد استدل له الشيخ الأعظم (ره) بانحلال العلم الاجمالي بوجوب
الأقل والأكثر، بالعلم بوجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري، إذ لو كان الأقل واجبا،
فوجوبه نفس، ولو كان الأكثر واجبا، فوجوب الأقل غيري، والشك في وجوب الأكثر
فيجرى فيه البراءة العقلية.
ويرد عليه ما حققناه في بحث وجوب المقدمة من استحالة اتصاف الاجزاء
بالوجوب الغيري، إذ ليس للمركب وجود غير وجود الاجزاء كي يتوقف عليه توقف
وجود الشئ على وجود غيره، والوجوب الغير ناش عن توقف وجود على آخر،
وتمام الكلام في محله.
واما الايراد عليه بعد تسليم كون وجوب الأقل معولما اما نفسيا أو غيريا، بأنه
لا يوجب انحلال العلم الاجمالي، لأنه يعتبر في الانحلال كون المعلوم بالتفصيل من سنخ
المعلوم بالاجمال، والمقام ليس كذلك، لان المعلوم بالجمال هو الوجوب النفسي،
والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين النفسي والغيري.
فيمكن دفعه لان ذلك وان لم يكن انحلالا حقيقيا ولكنه انما يكون في حكم
الانحلال: فان الميزان هو جريان الأصل في أحد الطرفين دون الاخر، وفى المقام مع قطع
النظر عن ما ذكرناه بما ان الأقل وجوبه معلوم، لا يجرى فيه الأصل، فيجرى في الأكثر بلا
معارض.
372

والصحيح في تقريب الانحلال ما افاده جماعة ويمكن استفادته من كلمات
الشيخ وهو ان تعلق الوجوب النفسي الجامع بين الاستقلالي والضمني بالأقل معلوم، اما
لكونه هو الواجب، أو لكونه جزء الواجب، والزيد عليه مشكوك الوجوب، فيجرى فيه
قبح العقاب بلا بيان ن، - وبعبارة أخرى - ترك الواجب بترك الاجزاء المعلوم وجوبها،
يوجب العقاب، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه، فالعقاب عليه غير معلوم،
والقاعدة مقتضية لقبحه، وأورد بايرادات.
الأول: ما عن المحقق الخراساني من استلزام الانحلال عدمه وهو محال، فان
وجوب الأقل فعلا على كل تقدير متوقف على تنجز التكليف مطلقا، ولو كان متعلقا
بالأكثر، فلو كان وجوبه كذلك مستلزما لعدم تنجزه الا إذا كان متعلقا بالأقل كان خلفا،
مع أنه يلزم من وجوده عدمه: لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزم، لعدم
لزوم الأقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال.
وفيه: ان فعلية وجوب الأقل على كل تقدير لا تتوقف على تنجزه حتى على فرض
تعلقه بالأكثر، بل تتوقف على فعليته على ذلك التقدير، واما تنجز وجوبه فهو
متوقف على العلم به، لا على تنجز التكليف حتى على تقدير تعلقه بالأكثر، وان شئت
قلت: ان التنجز عبارة عن استحقاق العقاب على ترك المأمور به، والمأمور به بما انه
مركب من وجودات متعددة، فلا محالة يكون تركه، تارة بترك جميع الاجزاء، وأخرى
بترك بعضها، وعليه فتركه بترك الجميع، أو بترك الاجزاء المعلومة موجب لاستحقاق
العقاب، واما تركه بترك الجزء المشكوك فيه، فلا علم بأنه موجب للعقاب فمقتضى
قبح العقاب بلا بيان عدمه.
الثاني: ان التكليف المعلوم في المقام تكليف واحد على التقديرين لكونه ارتباطيا
فتعلقه بكل جزء ملازم لتعلقه بالاجزاء الاخر ثبوتا وسقوطا، ولا معنى لسقوطه بالإضافة
إلى بعض الاجزاء، دون بعض، فاحتمال تعلقه بالأكثر مستلزم لاحتمال عدم سقوطه
باتيان الأقل، والشك في السقوط مورد لقاعدة الاشتغال دون البراءة.
وفيه: ان الواجب بحكم العقل الاتيان بما ثبت تعلق التكليف به، وعليه فان كان
373

ترك الواجب مستندا إلى ترك الاجزاء المعلومة كان المقصر هو العبد، وان كان مستندا
إلى ما لم يبينه الشارع، شمله قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
الثالث: ما افاده المحقق النائيني، وحاصله ان معنى الانحلال تبدل القضية
المنفصلة المانعة الخلو إلى قضية متيقنة، وقضية مشكوك فيها، وهذا مفقود في المقام:
فان وجوب الأقل لا يكون معلوما الا بنحو الاهمال الجامع بين كونه بشرط شئ
بالإضافة إلى الجزء المشكوك فيه أو لا بشرط، وهو مقدم للعلم الاجمالي، ولا يعقل ان
يكون موجبا لانحلاله، وإلا لزم انحلال العلم بنفسه وهو محال، ثم انه (ره) أيد ذلك
بالوجه الثاني المتقدم.
وفيه: ان ما افاده من عدم انحلال الحقيقي متين، ولكن ذلك لا يمنع من
الانحلال الحكمي، وهو جريان الأصل في أحد الطرفين دون الاخر، وفى المقام وان كان
كل من خصوصيتي وجوب الأقل، أي الاطلاق، والتقييد مشكوكا فيها، ولكن لا يجرى
الأصل في الاطلاق، لعدم الأثر فإنه يجب الاتيان به كان واجبا مطلقا أو مقيدا، فيجرى
الأصل في خصوصية التقييد بلا معارض، ولا نعنى بالانحلال الا ذلك، - وبعبارة أخرى -
: ان القضية المهملة في المقام ليست كالقضية المهملة في المتباينين التي لا يترتب عليها
الأثر الا في ضمن إحدى الخصوصيتين: فإنه يعلم بترتب العقاب على ترك الأقل، فلا
معارض للأصل الجاري في الخصوصية الزايدة التي يترتب عليها الأثر، فيجرى.
واما ما ذكره من التأييد، فيرد عليه ان الشك في سقوط التكليف ليس مطلقا موردا
لقاعدة الاشتغال، بل انما يكون موردا لها إذا لم يكن منشأ الشك في التكليف كما
في المقام.
الرابع: ما افاده صاحب الحاشية (ره)، وهو ان العلم الاجمالي بالجامع ملازم للعلم
الاجمالي بإحدى الخصوصيتين، أي خصوصية اللابشرطية، وخصوصية بشرط شئ،
بالإضافة إلى الجزء المشكوك فيه، والعلم الاجمالي الأول وان انحل، الا ان الثاني باق
فيجب الاحتياط، وهذا نظير العلم بوجوب الظهر أو الجمعة، فان العلم بوجوب الجامع
بينهما وان كان ينحل، الا ان العلم بإحدى الخصوصيتين لا ينحل.
374

وفيه: ان معنى اللابشرطية هو رفض القيود، ولا يكون هو بنفسه من القيود،
والخصوصيات اللازم تحصيلها، والآتيان بها، وهذا بخلاف المثال، فان كلا من
الخصوصيتين لازم الاتيان على فرض كونها متعلقة للتكليف.
الخامس: انه بناءا على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في
المتعلقات، نعلم ثبوت مصلحة ملزمة في الأقل، أو الأكثر، وحيث انه لازم الاستيفاء
بحكم العقل، وليست ذات اجزاء بل هو امر واحد مترتب على تمام المأمور به، فلا بد
من الاحتياط باتيان الأكثر، إذ لا يعلم بحصولها عند الاقتصار على الاتيان بالأقل.
وأجاب عنه الشيخ الأعظم (ره) بجوابين، الأول: ان البحث عن جريان البراءة ليس
مبتنيا على خصوص مسلك العدلية القائلين بالتبعية، فلنفرض الكلام على مسلك الأشعري
الذي لا يكون قائلا بالتبعية.
والظاهر أن هذا الجواب سهو من قلمه الشريف فان مسلكه (قده) مسلك العدلية.
الثاني: ان الغرض لا يمكن تحصيل القطع بحصوله على التقديرين، اما على تقدير
الاقتصار على الأقل فواضح، واما على تقدير الاتيان بالأكثر فلانه، اما ان يأتي به بقصد
الامر الجزمي، أو يأتي به بقصد الامر الاحتمالي، اما الأول فتشريع محرم، لا يحتمل معه
حصول الغرض، واما الثاني فلاحتمال اعتبار قصد الوجه في حصوله - وعليه - فلا يجب
تحصيل القطع بحصول الغرض فلا يبقى إلا رعاية الامر وقد مر الانحلال فيه.
وفيه أولا: ان لازم ذلك لزوم الاحتياط في التوصليات، دون التعبديات، لامكان
تحصيل القطع بحصول الغرض فيها، باتيان الأكثر، وثانيا: ان قصد الوجه لا يكون معتبرا
- وعلى فرض الاعتبار انما يكون في الواجب النفسي الاستقلالي، ولا يعتبر قصد وجه
الجزء أيضا، كما مر في أوائل هذا الجزء.
واما ما في الكفاية من أن لازم احتمال عدم حصول الغرض، لاحتمال دخل قصد
الوجه، احتمال بقاء الامر وعدم سقوطه باتيان الأقل لكونه معلولا له، وعليه فلا علم
بسقوط الامر باتيان الأقل، حتى يوجب انحلال العلم.
فيرد عليه: ان الشيخ يدعى ان تحصيل الغرض لعدم التمكن من احرازه لا يجب
375

فاللازم هو مراعاة الامر خاصة، وهي تقتضي الاتيان بالأقل على كل تقدير، وهو يوجب
الانحلال، وان شئت قلت إن ترك تحصيل الغرض بترك الأقل معاقب عليه قطعا وبترك
الزايد مشكوك فيه فيقبح العقاب عليه.
وأجاب المحقق النائيني (ره) عن أصل الاشكال بأنه قد يكون الغرض الداعي إلى
الامر بشئ مترتبا على المأمور به ترتب المعلول على علته التامة كترتب القتل على فرى
الأوداج، وقد يكون كترتب المعلول على علته المعدة بحيث يتوسط بينهما امر غير
اختياري كترتب حصول الثمرة على الزرع، وفى الأول بما ان الغرض اختياري، وهو
المطلوب بالأصالة، لا بد من تحصيله من غير فرق بين ان يتعلق الامر، بالسبب، أو
المسبب، وفى الثاني لا يجب تحصيله، ولا يصح تعلق التكليف به، هذا بحسب مقام
الثبوت.
واما في مقام الاثبات فان أحرز أحد الامرين فهو، والا فمن تعلق الامر بالسبب
دون المسبب، يستكشف انه من قبيل الثاني، إذ لو كان من قبيل الأول كان المتعين هو
الامر بالمسبب، ويترتب على ذلك أن نسبة المصالح إلى الواجبات الشرعية نسبة المعاليل
إلى علله المعدة، وحينئذ فالواجب على المكلف الاتيان بالمأمور به، ولا يكون مكلفا
بتحصيل الغرض، فلو تردد الامر بين الأقل والأكثر لم يكن مانع من الرجوع إلى البراءة
في الأكثر.
وفيه: ما مر في مبحث الصحيح والأعم، ان الغرض المترتب على المأمور به
غرضان، الغرض الأقصى، والغرض الاعدادي والذي يتخلف عن المأمور به هو الأول
دون الثاني، وترتب الثاني على المأمور به انما يكون من قبيل ترتب المعلول على علته
التامة، فلا بد من تحصيله، وانما لم يأمر به الشارع من جهة ان المكلفين لا يفهمونه،
ولا يدرون ما يحصله، وبالجملة: ان المعد لذلك الغرض الأقصى الخارج عن تحت
اختيار المكلف، هو الحصة الخاصة من الفعل، وهي التي تكون معدة، و هذا الغرض
الاعدادي سبب للامر بالفعل، وهو داخل تحت الاختيار، فلا بد من تحصيله، فراجع ما
حققناه، فإذا تردد المأمور به بين الأقل والأكثر فلا محالة يشك في أن الأقل هل يكون
376

موجبا لحصول الغرض أم لا؟ فيجب الاتيان بالأكثر تحصيلا للقطع بحصوله.
والصحيح في الجواب عن أصل الاشكال ان الغرض والمسبب المترتب على
الفعل، تارة يكون بنفسه متعلقا للحكم كما إذا امر المولى بقتل شخص أوامر بتمليكه،
ففي مثل ذلك لا بد للمكلف من احراز حصوله باتيان ما يكون محصلا قطعا، وأخرى
يكون متعلق التكليف هو الفعل المحصل والسبب، وهو على قسمين 1 - ما يكون
المكلف به هو المسبب والغرض بحسب المتفاهم العرفي، ويكون التكليف به عرفا
تكليفا بالغرض والمسبب كما لو امر المولى بضرب عنق زيد فإنه يفهم العرف ان
المكلف به هو القتل، وفى مثل ذلك أيضا لا بد للمكلف من احراز حصوله باتيان ما
يحصله يقينا فلو شك في حصول القتل بضرب عنقه مرة واحدة لا بد من تحصيل العلم
بتحقق القتل 2 - ما يكون المكلف به عند العرف هو السبب والمحصل دون الغرض
والمسبب، بل هما مما يغفل عنه العامة ولا يلتفت إليه الا الأوحدي من الناس كما في
العبادات، أو وان كان مما يلتفت إليه كما في الطهارة الحدثية على القول بأنها امر معنوي
متحصل من الافعال الخاصة ولكن المحصل لها بيانه وظيفة المولى ولا يفهمه العرف،
ففي مثل ذلك لا بد للمكلف من الاتيان بما امر به، واما كون الماتى به وافيا بغرض المولى
فهو من وظائف المولى.
- وبعبارة أخرى -: ان العقل يحكم بوجوب الاتيان بما بينه المولى، وعلى فرض
عدم تمامية البيان من قبل المولى لا يكون تفويت الغرض مستندا إلى العبد، فلا يكون
مستحقا للعقاب، فحينئذ بالمقدار الواصل من المحصل وهو الأقل حيث إنه وصل
وبتركه يفوت الغرض قطعا ليس للعبد تركه، واما المقدار الذي لم يصل وهو الأكثر،
فالعقل لا يلزم العبد بتحصيله، ولا يحكم بحرمة تفويته إذا التفويت المستند إلى عدم بيان
المولى يقبح العقل العقاب عليه، - وبعبارة أخرى -: ان الغرض كالأمر والتكليف، فكما ان
التكليف الذي قام عليه البيان لا بد من اطاعته وما لم يقم عليه بيان من المولى مورد
لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وفى ما نحن فيه حيث إن التكليف بالقياس إلى الأقل واصل فلا بد للمكلف من
377

اطاعته ويصح العقاب على مخالفته، وبالنسبة إلى الأكثر لم يصل فيقبح العقاب عليه،
كذلك بالقياس إلى الغرض فإنه على تقدير ترتبه على الأقل كان الحجة عليه تامة وبتركه
يفوت الغرض قطعا فيصح العقاب عليه، وعلى تقدير ترتبه على الأكثر لم يقم عليه بيان
من المولى، فلا يلزم العقل بالاتيان به وكان العقاب على تفويته بترك الأكثر عقابا بلا بيان
: لكونه مستندا إلى عدم بيان المولى لا إلى تقصير العبد وتحصيل الغرض الذي لم يبينه
المولى غير واجب، والعقل يرى العقاب على تفويت هذا الغرض عقابا بلا بيان.
وبالجملة الغرض لا يزيد على الامر فإذا لم يصل محصله إلى العبد، ولم يجعل
الشارع وجوب الاحتياط عند احتماله يستكشف من ذلك أن هذا الغرض ليس بحد من
اللزوم يجب تحصيله على كل حال، بل لو وصل يجب تحصيله، وما دام لم يصل يكون
العبد في فسحة منه وتفويته غير موجب للعقاب، وحيث إن وجوب الأكثر لم يصل
ففوت الغرض ان كان مستندا إلى تركه لا يكون موجبا للعقاب.
هذا كله بناءا على تبعية الأحكام للمصالح في المتعلقات، واما بناءا على تبعيتها
لمصالح في الجعل وفى أنفسها كما هو الشأن في الأحكام الوضعية، ومال إليه
المحقق الخراساني (ره) فالاشكال مندفع من أصله.
فالمتحصل انه لا مانع من جريان البراءة العقلية في الأكثر، أي الزايد عن الأقل.
جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر
واما الجهة الثانية: وهي جريان البراءة الشرعية وعدمه فبناءا على ما اخترناه من
جريان البراءة العقلية، فلا ريب في جريان البراءة الشرعية، لان تعلق التكليف بالجزء
المشكوك فيه غير معلوم، فيرفعه حديث الرفع وغيره من أدلة البراءة، ولا يعارضه ان
تعلق التكليف بخصوص الأقل غير معلوم فهو مرفوع، لان تعلقه بالأقل، اما استقلالا أو
ضمنا معلوم، والشك انما هو في تعلقه بالأكثر.
والايراد على شمول دليلها للجزء المشكوك فيه، تارة بان الجزئية ليست
378

بمجعولة ولا لها اثر مجعول فلا تشملها أدلة البراءة، وأخرى: بان ارتفاعها انما يكون برفع
منشأ انتزاعها وهو الامر بالمركب، ولا دليل آخر على الامر بالخالي عنه، تقدم الجواب
عنهما في حديث الرفع.
واما بناءا على عدم جريان البراءة العقلية فهل تجرى البراءة الشرعية أم لا؟ وجهان
ذهب المحقق الخراساني (ره) والمحقق النائيني (ره) إلى الأول.
أقول ان المانع المهم عن جريانها أحد الامرين، لزوم تحصل الغرض، وأفاده
المحقق النائيني (ره) من أنه يلزم منه انحلال العلم الاجمالي بنفسه، ولو تم هذان الوجهان
أو أحدهما لزم عدم جريان البراءة الشرعية أيضا.
ولو يفد ما افاده المحقق الخراساني (ره) من أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع
جزئية ما شك في جزئيته فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد امره بين الأقل والأكثر
ويعينه في الأول.
ولا ما افاده المحقق النائيني (ره) من أن مفاد حديث الرفع ونحوه عدم التقييد في
مرحلة الظاهر فيثبت الاطلاق ظاهرا: لان الاطلاق والتقييد ليسا من قبيل المتضادين كي
يكون اثبات أحد الضدين برفع الاخر من الأصل المثبت، بل بما ان التقابل بينهما من قبيل
تقابل العدم والملكة، فالاطلاق عدم التقييد في مورد كان صالحا للتقييد، فحديث الرفع
بمدلوله المطابقي يدل على اطلاق الامر بالأقل وعدم قيدية الزايد، وبذلك يتحقق
الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالاجمال.
اما الوجه الأول: فلان غاية ما يرفع بحديث الرفع ونحوه، انما هو جزئية ما شك
في جزئية ظاهرا، واما ان الغرض مترتب على الأقل فلا يثبت بذلك لان كون الغرض
مترتبا على الأقل لازم عقلي لرفع الجزئية واقعا، وحيث إن الأصول لا تكون حجة في
مثبتاتها، فلا يثبت بحديث الرفع ونحوه ترتب الغرض على الأقل فإذا لم يثبت ذلك
ومقتضى العلم الاجمالي لزوم تحصيله والقطع به باتيان الأكثر فلا يفيد جريان البراءة
الشرعية شيئا، وعلى الجملة حديث الرفع ونحوه لا يوجب عدم جواز اتيان الأكثر وانما
يدل على عدم وجوبه ومقتضى العلم الاجمالي بالغرض الملزم لزوم الاتيان بالأكثر فلا
379

تنافى بينهما لان ما لا اقتضاء فيه لا يعارض ما له الاقتضاء.
- وبعبارة أخرى - حيث إنه لا يثبت بحديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة ترتب
الغرض على الأقل، وانما تدل على رفع جزئية المشكوك فيه ظاهرا وانه من ناحية
التكليف لا عقاب على ترك الأكثر، واما من ناحية الغرض فلا تعرض لها، ومقتضى لزوم
تحصيل الغرض والقطع به على كل حال لزوم الاتيان بالأكثر، فبناءا على عدم جريان
البراءة العقلية لأجل لزوم تحصيل الغرض، لا تجرى البراءة الشرعية أيضا فالتفكيك في
غير محله.
واما الوجه الثاني: فلان جريان البراءة عن تقييد الأقل بانضمام الجزء المشكوك
فيه لا يثبت تعلق التكليف بالأقل على نحو الاطلاق فلا ينحل العلم الاجمالي بذلك ومع
بقاء العلم الاجمالي، لا بد من القطع بامتثاله باتيان الأكثر، وكون التقابل بين الاطلاق
والتقييد من قبيل تقابل العدم والملكة، لا يغنى شيئا في المقام لان ذلك انما هو في مقام
الاثبات، واما في مقام الثبوت فالتقابل بينهما من قبيل تقابل التضاد، لان الاطلاق بحسب
مقام الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة بنحو السريان واللابشرط القسمي، والتقييد عبارة
عن لحاظها بشرط شئ، وعلى هذا فلا يمكن اثبات الاطلاق بنفي التقييد ومعه لا ينحل
العلم الاجمالي، وهو يقتضى لزوم الاحتياط فلا تجرى البراءة النقلية كالبرائة العقلية.
فالمتحصل مما ذكرناه ان التفكيك بين البراءة العقلية والنقلية، وجريان الثانية دون
الأولى كما اختاره العلمان في غير محله.
كما ظهر مما ذكرناه من انحلال العلم الاجمالي حكما، وعدم لزوم تحصيل
الغرض الا باتيان ما بينه الشارع محصلا، انه تجرى البراءة العقلية والنقلية.
حول التمسك بالاستصحاب لكل من القولين
ثم انه ربما يتمسك بالاستصحاب في المقام لكل من القول، بالبرائة، والاشتغال.
اما الأول: فتقريبه ان جزئية المشكوك فيه، وتعلق الامر به لم تكن في أول
380

الشريعة مجعولة قطعا، والشك انما هو في الجعل فيجرى استصحاب عدم الجعل، ويثبت
به عدم المجعول، وقد مر في مبحث البراءة ما يمكن ان يورد على هذا الأصل والجواب
عنه.
والايراد عليه، كما عن الأستاذ بأنه بعد العلم بتعلق التكليف بالأقل، اما مطلقا، أو
مقيدا بالجزء المشكوك فيه يقع التعارض بين استصحاب عدم التقييد، واستصحاب عدم
جعل التكليف بالأقل على نحو الاطلاق فيتساقطان.
يندفع بان استصحاب عدم جعل التكليف على نحو الاطلاق لا اثر له، لوجوب
الاتيان بالأقل على كل تقدير، وفى جريان استصحاب الحكم، وعدمه يعتبر وجود اثر
عملي وترتبه عليه، فلا يجرى، فيجرى أصالة عدم جعل التكليف بالمقيد بلا معارض.
واما الثاني: فتقريبه ان وجوب الواجب المردد بين الأقل والأكثر معلوم، وأمره
بعد الاتيان يدور بين ما هو مقطوع الارتفاع: إذ على تقدير تعلقه
بالأقل فقد ارتفع، وعلى تقدير تعلقه بالأكثر، فهو باق فيستصحب ويحكم ببقائه بناءا
على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في القسم الثاني من اقسام استصحاب الكلى.
وفيه: ان هذا الأصل وان كان في نفسه جاريا الا ان في المقام أصلا آخر حاكما
عليه وهو أصالة عدم تعلق التكليف بالأكثر، غير المعارض بأصالة عدم تعلقه بالأقل لأنه
لا يجرى: لعدم الأثر، وللبحث في أن استصحاب الكلى في الأحكام، محكوم للأصل
الجاري في الفرد محل آخر وقد أشبعنا الكلام فيه في الجزء الرابع.
فالمتحصل مما ذكرناه ان مقتضى، البراءة العقلية، والنقلية، والاستصحاب عدم
وجوب الاحتياط باتيان الأكثر.
دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء التحليلية
واما الموضع الثاني: وهو دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية
فملخص القول فيها انها على اقسام.
381

الأول: ان يكون ما يحتمل دخل التقييد به في المأمور به موجودا مستقلا منحاذا
عنه كالطهارة للصلاة، الثاني: ان لا يكون له وجود منحاذ، ولا يكون من مقوماته، بل
يكون نسبته إليه نسبة الصفة إلى الموصوف كالايمان بالنسبة إلى الرقبة، الثالث: ان يكون
مقوما له ويكون نسبته إليه نسبة الفصل إلى الجنس، كما إذا دار الامر بين وجوب اطعام
الحيوان، أو خصوص الانسان، والشيخ الأعظم عبر عن الجميع بالمركبات التحليلية،
والمحقق الخراساني في التعليقة، عبر عن القسم الأول والثاني بالاجزاء الذهنية، وعن
الثالث بالجزء التحليلي، وفى الكفاية تبع الشيخ، والمحقق النائيني خص المركب التحليلي
بالقسم الثالث، ولا يهمنا البحث في ذلك، انما المهم هو البحث في جريان البراءة
وعدمها.
اما البراءة العقلية ففي الكفاية بعد اختياره عدم جريانها في شئ من الأقسام، قال
بداهة ان الاجزاء التحليلية لا تكاد تتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا، فالصلاة مثلا في
ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها، وفى ضمن صلاة أخرى
فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون مباينة للمأمور بها انتهى.
ويرد عليه ما عرفت من أن جريان البراءة لا يتوقف على الانحلال، بل يتوقف على
العلم بتعلق التكليف بالطبيعي والشك في تعلقه بالخصوصية الزايدة، وعدم معارضة
الأصل الجاري في المقيد، والمشروط، والخاص بالأصل الجاري في المطلق، والمقام
كذلك، فان تعلق التكليف في هذه الأقسام بالطبيعي معلوم، وأمره مردد بين تعلقه بالمطلق
أو المقيد، وحيث إن التقييد كلفة زايدة، فيرتفع بالأصل، ولا يجرى الأصل في الاطلاق،
لأنه يقتضى التوسعة لا التضييق، وليس فيه كلفة زايدة حتى ترتفع بالأصل.
وان شئت قلت إن عدم الاتيان بالطبيعي الجامع موجب لاستحقاق العقاب قطعا
لأنه يوجب ترك الواجب على كل تقدير، واما لو اتى به من دون القيد فالعقاب عليه
لا يكون عقابا مع البيان فيكون قبيحا، - وبعبارة أخرى - ترك الواجب على فرض لزوم
المقيد مستند إلى عدم البيان لا إلى تقصير العبد كي يستحق العقاب.
مع أن الكلى الطبيعي موجود في الخارج، ونسبته إلى الافراد نسبة الأب الواحد
382

إلى الأبناء لا نسبة الاباء إلى الأبناء، وعليه فهو يتصف في الخارج بوصف الكثرة،
لا بوصف التباين إذ الطبيعي من حيث هو لا واحد ولا متعدد، وانما يكون مع الواحد
واحدا ومع المتعدد متعددا، مثلا الانسان الموجود في الخارج في ضمن زيد ليس مغايرا
ومبائنا لما هو الموجود في ضمن بكر، بل الطبيعي متكثر في ضمنها لا متباين، وعليه
فيصح ان يقال ان تعلق التكليف بالطبيعي معلوم، وبالخصوصية مشكوك فيه فيجرى فيه
البراءة.
أضف إلى ذلك كله ان متعلق التكاليف انما هو الماهيات والعناوين دون
المصاديق الخارجية كما مر تحقيقه، والبرائة انما تجرى في متعلق التكليف لا فيما يحصل
به الامتثال فلا يكون مجرى البراءة من قبيل المتباينين بل من قبيل الأقل والأكثر،
فالمتحصل مما ذكرناه انه لا مانع من جريان البراءة العقلية في شئ من الأقسام الثلاثة.
واما البراءة الشرعية فلم يستشكل أحد في جريانها في القسمين الأولين، وقد
استشكل المحققان الخراساني والنائيني (ره) في جريانها في القسم الثالث وذهبا إلى أنه
لا تجرى البراءة الشرعية فيه.
وقد استدل المحقق الخراساني (ره) له: بان خصوصية الخاص ليست كخصوصية
الاقتران بالطهارة مثلا جعلية، كي يمكن رفعها بأدلة البراءة وانما تكون منتزعة عن نفس
الخاص فيكون الدوران بينه وغيره من قبيل الدوران بين المتباينين.
وفيه: ان المأمور به يمكن ان يكون هو الطبيعي بلا دخل للخصوصية فيه، ويمكن
ان يكون الخاص، والخصوصية وان كانت منتزعة عن نفس الخاص غير قابلة للرفع
والوضع، الا انها بالاعتبار المذكور يكون اعتبارها في المأمور به قابلا لهما، وعليه
فمقتضى حديث الرفع عدم دخلها فيه فيكتفى باتيان الطبيعي.
- وبعبارة أخرى - ان الشرطية في المقام وان لم تكن منتزعة عن الامر بالخصوصية
كما يتوهم ذلك في الشرط الذي يكون له وجود مغاير كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة،
وأيضا لا تكون منتزعة من الوجود المختص به: فان الخصوصية والمشروط موجودان
بوجود واحد، الا انه في مقام تعلق الامر قبل الوجود يكون المتعلق، وهو المفهوم
383

والعنوان متعددا، وتعلق الامر بأحدهما وهو ذات المشروط معلوم، وتعلقه بالشرط، وهو
الخصوصية مشكوك فيه فيجرى فيه البراءة.
أضف إلى ذلك أنه لو تم هذا الاشكال لزم منه عدم جريان البراءة في الشك في
الجزئية أيضا لان كل واحد من الاجزاء له اعتباران، الأول اعتبار الجزئية وان التكليف
المتعلق بالمركب متعلق به ضمنا، الثاني اعتبار الشرطية لان ساير الاجزاء مقيدة به فيكون
الشك في الجزئية شكا في الشرطية بالاعتبار المذكور.
هذا كله مضافا إلى ما عرفت مرارا من أن الملاك في جريان الأصل في بعض
الأطراف عدم جريانه في الاخر، والمقام كذلك، لان تعلق التكليف باطعام جنس
الحيوان المردد بين الانسان وغيره معلوم، والشك انما هو في تقيده بكونه انسانا فيجرى
فيه الأصل، ولا يعارضه الأصل في الاطلاق لعدم جريانه كما مر.
واما المحقق النائيني (ره) فقد استدل له على ما نسب إليه بوجهين.
أحدهما: ما في تقريرات شيخنا المحقق الكاظميني (ره)، وهو ان الترديد بين
الجنس والفصل وان كان بالتحليل العقلي من دوران الامر بين الأقل والأكثر الا انه بنظر
العرف خارجا يكون من الترديد بين المتباينين، لان الانسان بما له من المعنى المرتكز في
الذهن مباين للحيوان عرفا فلو علم اجمالا بوجوب اطعام أحدهما لا بد من الاحتياط،
ولا يحصل ذلك الا باطعام خصوص الانسان، لأنه جمع بين الامرين فان اطعام الانسان
يستلزم اطعام الحيوان أيضا.
وفيه: ان الكلام ليس في خصوص المثال ومحل الكلام هو ما لو كان الترديد بين
الجنس، والنوع، مع فرض صدق الجنس على النوع أيضا، وكونه بنظر العرف شاملا له
كما لو علم بوجوب اطعام الحيوان أو الغنم.
مع أنه لو سلم عدم شمول الجنس له كما في المثال لا بد من الاحتياط باطعام
الانسان، واطعام حيوان آخر، إذ على الفرض لو كان الواجب اطعام الحيوان يكون المراد
به غير الانسان.
ثانيهما: ما ذكره سيدنا المحقق الخوئي دام ظله وهو ان الجنس حيث لا يوجد الا
384

في ضمن الفصل فلا يتعلق الحكم به، الا متفصلا بفصل معين، أو بفصل ما، فلو علم
بتعلق التكليف اما بنوع خاص، أو بالجنس، فيكون من موارد دوران امر الواجب بين
التعيين والتخيير، والمختار عنده (قده) في جميع صوره، التعيين وعدم جواز الرجوع إلى
البراءة عن كلفة التعيين، ولا باس بذلك تلك المسألة اجمالا ليتضح الحكم في المقام.
دوران الامر بين التعيين والتخيير
وملخص القول فيها، ان دوران الامر بين التعيين والتخيير بحسب الموارد ينقسم
إلى اقسام.
الأول: ما إذا دار الامر بينهما في الحجية، كما لو علم بأنه يجب تقليد الأعلم اما
تعيينا، أو تخييرا بينه وبين تقليد غير الا علم.
قد يقال ان الأصل يقتضى البناء على التخيير، وذلك لوجهين.
أحدهما: ان الشك في حجية الراجح، وهو فتوى الأعلم في المثال، تعيينا أو
حجية المرجوح، وهو فتوى غير الأعلم تخييرا، مسبب عن الشك في اعتبار المزية شرعا
فيجرى أصالة العدم في السبب، ويترتب عليه عدم حجية الراجح تعيينا، وحجية
المرجوح تخييرا.
وفيه: ان معنى اعتبار المزية شرعا دخلها في جعل الشارع الحجية للراجح تعيينا،
وسيأتي في مبحث الاستصحاب، عدم جريان الأصل في أمثال هذه الأمور لعدم كونها
مجعولة شرعا، ولا يترتب عليها اثر شرعي، لان ترتب الجعل عليها ترتب عقلي نحو ترتب
المقتضى على المقتضى، لا ترتب شرعي.
الثاني: ان المفروض حجة كل منهما شانا، وانما الشك في الحجية الفعلية، وعدم
حجية المرجوح بهذا المعنى، مسبب عن الشك في مانعية المزية، فتجري أصالة عدمها،
ويترتب عليها الحجية الفعلية.
وفيه: ان معنى مانعية الزيادة، مانعيتها عن الجعل، إذ لا يعقل المنع عن الفعلية من
385

دون ان يؤخذ عدمها دخيلا في مقام الجعل، لما مر عدم معقولية دخل شئ في مقام
الفعلية من دون ان يؤخذ في مقام الجعل، فيرد عليه ما أوردنا على سابقه.
فالأظهر ان الأصل هو التعيين، للعلم بحجية الراجح كفتوى الأعلم في مفروض
المثال اما تعيينا أو تخييرا، والشك في حجية المرجوح وقد مر في أول مباحث الظن، ان
الشك في الحجية مساوق للقطع بعد الحجية.
الثاني: ما إذا دار الامر فيه بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم،
كما إذا كان غريقان، لا يتمكن المكلف من انقاذ كليهما، فلا ريب في أنه مع التساوي
يجب عليه تخييرا انقاذ أحدهما، كما أنه لو كان أحدهما أهم يتعين عليه انقاذه خاصة،
فحينئذ لو احتمل ان يكون أحدهما أهم فيتعين انقاذه معينا، أو يكونا متساويين فيتخير
بين انقاذ أيهما شاء فالامر يدور بين وجوب انقاذ المحتمل الأهمية معينا، وبين وجوب
انقاذه أيهما شاء مخيرا.
قد يقال ان الحكم في هذا القسم أيضا التعيين، لان التزاحم وان كان يوجب
سقوط أحد التكليفين بامتثال الاخر، الا انه لا يوجب سقوط الملاكين عما هما عليه من
حد الالزام، وحيث إن المحقق في محله، ان تفويت الغرض الملزم بعد احرازه قبيح
بحكم العقل، كمخالفة التكليف الواصل، وهذا القبح لا يرتفع الا بعجز المكلف تكوينا،
أو تشريعا بأمر المولى بشئ لا يتمكن المكلف من الجمع بين ما فيه الملاك وذلك
الشئ، والا فما لم يثبت ذلك يحكم العقل بقبح التفويت، وأيضا قد مر في محله من هذا
الكتاب انه إذا كان المتزاحمين أهم فالتكليف يكون متعلقا به وصارفا لقدرة
المكلف نحوه، والملاك في الطرف الآخر مع كونه ملزما في نفسه لا يكون تفويته قبيحا
بحكم العقل، لاستناده إلى تعجيز المولى إياه، وان كان كل من المتزاحمين مساويا مع
الاخر في الملاك، فبما انه لا يجوز الترجيح بلا مرجح، فلا يصح التكليف بأحدهما
معينا مطلقا فلا بد من التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخرة، أو بالجامع
بينهما، على الخلاف المحرر في محله وعلى كل حال يجوز الاكتفاء بأحدهما وتفويت
الاخر، فمع احتمال أهمية أحدهما يكون الاتيان به وتفويت ملاك الاخر جائزا قطعا،
386

ومجزيا في مقام الامتثال كما هو واضح، واما الاتيان بالآخر، وتفويت ملاك الاخر
المحتمل أهميته، مع القدرة على تكوينا، فلم يثبت جوازه، فالعقل يحكم بقبحه، لأنه
تفويت للغرض الملزم من غير عذر فلا محالة الرجوع إلى قاعدة الاشتغال تحصيلا
للفراغ اليقيني.
ولكن يمكن ان يورد عليه بأنه بعد فرض قدرة المكلف على تحصيل كلا
الغرضين، ان أحرز ان لأحدهما مزية يجب بحكم العقل تحصيله بمعنى انه مع عدمه
يستحق العقاب، وان لم يحرز ذلك فتفويت كليهما يوجب استحقاق العقاب، - وبعبارة
أخرى - استحقاق العقاب في صورة تفويت الغرض المحتمل أهميته في ظرف تفويت
غير الأهم معلوم،
واما استحقاق العقاب على تفويته مع تحصيل غير الأهم فغير معلوم،
ومقتضى أصالة البراءة عدم الاستحقاق، فالأظهر هو أصالة التخيير في هذا القسم،
فاحتمال الأهمية لا يوجب التعيين.
القسم الثالث: ما لو دار الامر بين التعيين والتخيير في مرحة الجعل في الأحكام
الواقعية كما إذا شك في أن الواجب في الكفارة في مورد خاص، هلا هو العتق معينا، أم
يكون مخيرا بينه، وبين الصوم، ولم يكن امارة أو أصل موضوعي، يرفع بها الشك، ولهذا
القسم صور ثلاث.
الأولى: ما إذا علم وجوب فعل، وعلم سقوطه باتيان فعل آخر، ودار الامر بين
كون المسقط عدلا للواجب الأول، فيكون وجوبه تخييريا، أو مسقطا له لاشتراط
التكليف بعدمه، كالقراءة في الصلاة المردد وجوبها بين ان يكون تعيينا مشروطا بعدم
الايتمام أو تخييريا بينهما، وتظهر الثمرة فيما لو عجز القراءة فإنه على الأول لا يجب
عليه الايتمام، وعلى الثاني يتعين ذلك كما لا يخفى، وفى هذه الصورة الأصل هو التعيين،
لأنه يرجع الشك المزبور إلى الشك في وجوب ما علم مسقطيته عند تعذر ما علم وجوبه،
وهو مورد للبرائة.
ثم إن المحقق النائيني اختار في خصوص مسالة القراءة والايتمام، عدم كون الوجوب
تعيينا، واستدل له، بان الايتمام وان كان عدلا للواجب الا انه عدل للصلاة فرادى بما لها
387

من المراتب الطولية، لما دل على أن " سين بلال عند الله شين " (1)، والنبوي الاخر ان الرجل
الأعجمي ليقرأ القران بعجميته فيرفعه الملائكة على عربية (2) وللاطلاقات الامرة بقرائة ما
تيسر (3) الشاملة لصورة التمكن من الايتمام، فلا يتعين عليه الايتمام حتى على هذا المسلك.
وبهذا البيان يندفع ما أورده الأستاذ عليه، بان ما يحتمله الامام من المأموم انما هي
القراءة وليس فيها حرف الشين ليتعين عليه الايتمام عند تعذر التلفظ به على تقدير كون
الوجوب تخييريا: فإنه وان ذكر من الروايات خصوص النبوي المشهور الا ان الظاهر أن
مراده ما ذكرناه.
ويمكن ان يستدل لأصالة التخيير بالمعنى المشار إليه فيما لو عجز في الأثناء، كما
إذا تعذرت القراءة لأمر طار من ضيق الوقت ونحوه: باستصحاب بقاء الوجوب المتعلق
بخصوص ما علم تعلق التكليف به كالقراءة، أو بالأعم منه ومن ما علم مسقطيته،
كالايتمام، ولا نريد اثبات وجوب المسقط تعيينا، كي يرد عليه ما افاده المحقق النائيني من أنه
من الأصول المثبتة، بل بما ان المستصحب بنفسه من الأحكام الشرعية لا يتوقف
جريان الاستصحاب الا على ترتب اثر عقلي عليه، وهو في المقام تعين الاتيان بما علم
مسقطيته وشك في تعلق التكليف به، فيتعين ذلك، ويكون هذا الأصل حاكما على أصالة
البراءة المتقدمة.
فالمتحصل مما ذكرناه ان الأظهر هو التفصيل بين كون العجز من الأول فالأصل
هو التعيين، وبين كونه طاريا في الأثناء فالأصل هو التخيير.
الصورة الثانية: ان يعلم وجوب كل من الفعلين، ويدور الامر بين ان يكون
وجوب كل منهما تعيينا فيجب الاتيان بهما معا مع التمكن، أو تخييريا يجتزى باتيان
أحدهما، والأصل في هذه الصورة هو التخيير، ويظهر وجهه مما سنذكره في.
الصورة الثالثة: وهي ما إذا علم وجوب فعل بخصوصه واحتمل كون فعل آخر

1 - المستدرك باب 23 من أبواب قرائة القران حديث 3 كتاب الصلاة.
2 - الوسائل باب 30 من أبواب قرائة القران حديث 4 من كتاب الصلاة.
3 - الوسائل باب 59 من القراءة في الصلاة.
388

عدلا له حتى يكون ما علم تعلق التكليف به أحد فردي الواجب التخييري، أو انه ليس
عدله بل يتعين هو لا يقوم شئ آخر مقامه ولا يسقطه كما لو علم بوجوب العتق، وشك
في أنه واجب تعييني أو مخيرا بينه وبين الصوم، فقد ذهب جماعة منهم المحقق صاحب
الكفاية، والمحقق النائيني، إلى أن الأصل فيها هو التعيين، وعليه يبتنى الحكم في مسألتنا
التي هي محل الكلام في كونها مجرى لقاعدة الاشتغال، أو البراءة.
اما المحقق الخراساني، فقد استدل له بوجهين أحدهما: ما في الكفاية، وهو
مختص بما إذا كان المحتمل دخل خصوصية ذاتية في الواجب وهو ان خصوصية
الخاص منتزعة من نفس الخاص ولا يمكن معه الرجوع إلى البراءة وقد مر الجواب عنه.
ثانيهما: ما ذكره في حاشيته على البراءة وهو التمسك باستصحاب عدم وجوب ما
يحتمل كونه عدلا، واستصحاب بقاء التكليف بعد الاتيان به.
ويرد على الاستصحاب الأول انه لا يثبت به التعيين، الا على القول بالأصل المثبت
مع أنه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني لما يحتمل تعيينيته.
ويرد على الثاني ان الشك في بقاء الوجوب بعد الاتيان بما يحتمل كونه عدلا
مسبب عن احتمال كون الواجب تعيينا، فإذا جرى الأصل فيه، وارتفع هذا الاحتمال،
وحكم بكون الواجب تخييريا، لا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب.
واما المحقق النائيني، فقد استدل له بان صفة التعيينية، ليست من الأمور الوجودية
المجعولة ولو بالتبع، كي يرفعها حديث الرفع، بل هي عبارة عن عدم جعل العدل
والبدل، - وبعبارة أخرى - في مقام الثبوت التعيينية عبارة عن تعلق الإرادة المولوية
بشئ، وليس لها فصل وجودي، بل حدها عدم تعلق الإرادة بشئ آخر يكون عدلا لما
تعلقت الإرادة به، فلا يجرى فيها البراءة، لأنه يعتبر في جريانها كون المرفوع أمرا وجوديا
موجبا لالقاء المكلف في الضيق والكلفة، وبالجملة الشك في التعيينية والتخييرية يرجع
إلى الشك في وجوب العدل وعدمه، وبديهي ان عدم جعل الوجوب لا يكون موردا
للبرائة، وعليه فالمرجح عند الشك في التعيين والتخيير هو قاعدة الاشتغال لرجوع الشك
فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به، بفعل ما يحتمل كونه عدلا له.
389

وفيه: ان متعلق التكليف في الواجب التخييري، اما ان يكون كل من فردي
الواجب متعلقا للتكليف مشروطا بعدم الاتيان بالآخر، أو يكون هو الجامع بينهما، غاية
الامر ان كان بين الفردين جامع حقيقي فهو المتعلق للتكليف، والا فالمتعلق هو الجامع
الانتزاعي المعبر عنه بأحد الشيئين، أو أحد الأشياء على اختلاف المسلكين في الواجب
التخييري.
اما على الأول: فالشك في كون شئ واجبا تعيينيا، أو تخييريا، يرجع إلى الشك
في وجوبه مع الاتيان، بما يحتمل كون عدلا له، بعد العلم بوجوبه في صورة عدم الاتيان
به، ولا ريب في أن ذلك وجودي، ومورد للبرائة، وان شئت فقل ان وجوبه عند ترك
ما يحتمل كونه عدلا له، معلوم، ووجوبه في فرض عدم الاتيان به مشكوك فيه، فيجرى
فيه البراءة ويثبت بها عدم وجوبه في تلك الحالة، فيثبت التخيير.
واما على الثاني: فالعلم بكون الواجب تعيينيا، أو تخييريا، عبارة عن العلم بتعلق
التكليف بالجامع، والشك في كونه لا بشرط، أي كونه مطلقا، أو بشرط شئ وبنحو
التقييد، والاعتباران أي اللابشرطية، وبشرط شيئية وان كان متقابلين ولا يكون شئ
منهما متيقنا، الا انه عرفت غير مرة، ان أصالة البراءة عن التقيد، غير معارضة بأصالة البراءة
عن الاطلاق لان الاطلاق يوجب التوسعة، لا التضييق، فلا يشمله دليل البراءة، فيجرى
الأصل في التقيد، وبه ينحل العلم الاجمالي، فإذا ثبت عدم التقيد، لا يكون الشك شكا
في سقوط التكليف المنجز، فلا يكون مورد القاعدة الاشتغال، بل بعد ارتفاع احتمال
التقيد لا يبقى شك في الامتثال.
فالمتحصل مما ذكرناه انه لا وجه للقول بأصالة التعيين في هذا القسم، بل المرجع
أصالة البراءة عن الالزام باتيان خصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينيا.
وبذلك يظهر ان الوجه الثاني الذي ذكره المحقق النائيني (ره) لعدم جريان البراءة
الشرعية في المركبات التحليلية فيما إذا كان يحتمل دخله في المأمور به مقوما له
- غير تام - ففي جميع موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر تجرى البراءة العقلية،
والشرعية عن وجوب الأكثر.
390

الشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة
ثم انه ينبغي التنبيه على أمور، الأول: إذا ثبت جزئية شئ للمأمور به، أو شرطيته له
في الجملة، ودار الامر بين كونها مطلقة شاملة لحال النسيان، فيبطل المأمور به بتركه ولو
نسيانا، أم يختص بحال الذكر فلا يبطل، وقد عنون ذلك في كلمات الأصحاب بأنه إذا
ثبت جزئية شئ للمأمور به وشك في ركنيته، وكيف كان فتنقيح القول بالبحث في
جهات، الأولى في امكان تكليف الناسي بغير المنسى، واستحالته، الثانية، فيما تقتضيه
الأصول اللفظية، الثالثة فيما تقتضيه الأصول العملية.
في امكان التكليف الناسي بما عدى المنسى
اما الجهة الأولى: فعن جماعة منهم الشيخ الأعظم استحالته: لان الناسي لا يرى
نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن
عنوان الناسي ويدخل في عنوان الذاكر، فلا يعقل انبعاثه عن ذلك البعث لان الالتفات إلى
ما اخذ عنوانا للمكلف مما لا بد منه في الانبعاث وانقداح الإرادة، وعلى هذا يستحيل
فعلية مثل هذا الحكم في حقه سواء التفت إليه، أم لم يلتفت، اما على الأول فلعدم بقاء
العنوان وتبدله، واما على الثاني فلعدم امكان الانبعاث، وقد ذكر الأصحاب في وجه
امكانه أمورا.
الأول: ما افاده المحقق الخراساني بان يوجه الخطاب إلى الناسي بعنوان آخر عام
أو خاص، لا بعنوان الناسي ويكون ذلك العنوان ملازما لعنوان الناسي، وهو مما يمكن
الالتفات إليه: فان التفكيك بين المتلازمين بمكان من الامكان فلا محذور.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان العنوان الملازم للنسيان انما اخذ معرفا لما هو
العنوان حقيقة، فالعنوان الحقيقي انما هو عنوان الناسي والذي لا بد منه في صحة التكليف
391

هو امكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ولا يكفي الالتفات إلى المعرف.
وهو غريب فان العناوين المأخوذة جزءا للموضوع وقيدا للمكلف ليست من
العناوين القصدية كي يلزم قصدها.
والصحيح ان يود عليه بان المنسى يختلف، فتارة يعرض للمكلف نسيان
السورة، وأخرى يعرض له نسيان التشهد، وثالثة يعرض له نسيان الذكر الواجب، وهكذا
ولا يكون معينا مضبوطا كي يؤخذ عنوان ملازم له، ودعوى كون عنوان ملازما لنسيان
الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا، مع أنه مجرد فرض لا واقع له.
الثاني: ما افاده المحقق الخراساني أيضا وهو ان يوجه الخطاب على نحو يعم
الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا، وقد دل دليل آخر على دخله في حق
الذاكر، وارتضاه المحقق النائيني (ره).
وأورد عليه بعض أعاظم المحققين (ره) بأنه لا تعين للمنسي حتى يؤمر بما عداه
مطلقا، وبه مقيدا بالالتفات، فلا بد من الالتزام بتعدد البعث بعدد ما يتصور من أنحاء نسيان
الجزء اطلاقا أو تقييدا.
وفيه: ان التكليف بكل واحد من الاجزاء والشرائط غير ما يتقوم به العمل يقيد
بالالتفات ولا محذور في ذلك، كيف وقد وقع ذلك في باب الصلاة فإنه بواسطة حديث
لا تعاد الصلاة خصص أدلة الاجزاء والشرائط غير الخمسة المعينة بحال الذكر.
واما الايراد عليه بان الناسي لعدم توجهه إلى كونه ناسيا يقصد الامر المتوجه إلى
الذاكرين، فما قصده لا واقع له، وما له واقع له يقصده.
فيندفع: بان الناسي وان كان يعتقد مماثلة امره لأمر الذاكرين، ولكنه لأجل قصده
امتثال الامر الفعلي المتوجه إليه، ووجود امر فعلى كذلك، لا يضر ذلك بصحة عمله، بل
يكون من قبيل الخطاء في التطبيق.
الثالث: ما عن تقريرات بعض الأعاظم لبحث الشيخ (ره)، وهو ان الناسي يمكن ان
يختص بخطاب، ولا يلزم محذور عدم امكان كون الناسي ملتفتا إلى نسيانه فلا يمكنه
امتثال الامر المتوجه إليه، فان الامتثال لا يتوقف على أن يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ
392

عنوانا له بخصوصه، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان
من باب الخطاء في التطبيق فيقصد الامر المتوجه إليه بالعنوان الذي يتخيل كونه واجدا له
وان أخطاء في اعتقاده، فالناسي يقصد الامر المتوجه إليه بتخيل انه امر الذاكر فيؤول إلى
الخطاء في التطبيق.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بأنه يعتبر في صحة البعث ان يكون قابلا للانبعاث
عنه ومثل هذا التكليف لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للإرادة في وقت من الأوقات،
لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد.
وفيه: انه لا يعتبر في صحة التكليف سوى الخروج عن اللغوية يترتب اثر عليه،
وهذا الأثر أي الامتثال من باب الخطاء في التطبيق يكفي في ذلك.
فالمتحصل مما ذكرناه امكان تكليف الناسي بما عدى المنسى وطريق اثباته أحد
الامرين، اما ما في تقريرات الشيخ (ره)، أو الوجه الثاني الذي افاده المحقق الخراساني.
الكلام حول اطلاق دليل الجزء المنسى
واما الجهة الثانية: وهي البحث حول قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية
الاجزاء والشرائط وسقوط التكليف عن خصوص الجزء أو الشرط المنسى.
فنخبة القول فيها انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط المنسى اطلاق يشمل حال
النسيان نظير قوله (ع) (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) أو (الا بطهور) فلا بد من الاخذ به،
والحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة، سواء كان لدليل الواجب اطلاق، أو لم يكن له
ذلك: لأنه لا ريب في أن اطلاق دليل المقيد مقدم على اطلاق دليل المطلق.
ولا يتوهم انا ندعي ثبوت الجزئية أو الشرطية في حال النسيان، وتعلق الامر
بالمركب، أو المقيد حتى يقال انه غير معقول لكونه تكليفا بما لا يطاق، بل ندعي ثبوتها
في جميع آنات الامر بالمركب أو المقيد، فلازم الاطلاق سقوط الامر عند نسيان الجزء
أو الشرط، ولازمه فساد الفاقد له.
393

فان قيل إن ما ذكر يتم إذا كان الدليل المثبت للجزئية أو الشرطية بلسان الوضع مثل
لا صلاة الا بفاتحة الكتاب، وأما إذا كان بلسان الامر والتكليف كقوله اركع في الصلاة
فلا يتم: لان هذا التكليف كساير التكاليف مختص بحكم العقل بحال التذكر، ولا يعقل
شموله لحال النسيان فالجزئية المستفادة منه تبعية وتختص بحال الذكر أيضا.
أجبنا عنه بان هذه الأوامر ليست أوامر بعثية ومستقلة، بل تكون ارشادية إلى دخالة
متعلقاتها في المركب، وفى الملاكات.
ودعوى: ان مقتضى حديث رفع النسيان الغاء جزئيته أو شرطيته في هذه الحال،
وبه يثبت صحة الماتى به ومطابقته للمأمور به.
مندفعة: بما تقدم من أنه لا يترتب عليه، سوى رفع الامر بالمركب من المنسى، ولا
يثبت به الامر بغيره لان رفع الجزئية انما يكون برفع منشأ انتزاعها وهو الامر بالمركب.
مع أن نسيان جزء أو شرط في فرد من الواجب ليس موردا لحديث الرفع راجع ما
حققناه في ذلك المبحث.
ثم انه قد أجيب عن أصل الاشكال بوجوه، الأول: ما يظهر من الشيخ الأعظم (ره)
وهو ان الجزئية لا تكون منتزعة عن الامر الغيري، بل هو مسبب عنها فانتفائه في حق
الغافل عنه لا يقتضى انتفاء الجزئية - نعم - لو كانت الجزئية أو الشرطية منتزعة عن الحكم
التكليفي كوجوب ليس غير الحرير صح ما ذكر.
وفيه: - أولا ان الجزئية للوافي بالغرض وان كان سببا للامر الغيري وليس الامر
مسببا عنها، الا ان الجزئية للمطلوب والمأمور به التي هي مورد الأثر في المقام تكون
مسببة عن تعلق حصة من الامر بالجزء - وثانيا - انه لو تم ذلك وسلم كون الامر مسببا عن
الجزئية، فعدم الامر وان لم يكن كاشفا عن عدم الجزئية لكنه لا كاشف عن الجزئية: فان
سعة دائرة المنكشف وضيقها في مقام الاثبات تابعتان لسعة دائرة الكاشف وضيقها.
الثاني: ما عن المحقق العراقي (ره) وهو ان حكم العقل بقبح تكليف الناسي انما
يكون من قبيل الأحكام النظرية التي لا ينتقل الذهن إليها الا بعد، الالتفات والتأمل
في المبادئ التي أوجبت حكم العقل فيدخل حينئذ في القرائن المنفصلة المانعة عن
394

حجية ظهور الكلام لا عن أصل ظهوره، وعليه يمكن ان يقال ان غاية ما يقتضيه الحكم
العقلي المزبور انما هو المنع عن حجية ظهور تلك الأوامر في الاطلاق بالنسبة إلى الحكم
التكليفي، واما بالنسبة إلى الحكم الوضعي وهو الجزئية المطلقة فهي باقية ولا مانع عنها
فيؤخذ بظهورها في ذلك.
وفيه: أولا ان حكم العقل بقبح الناسي من قبيل الأحكام العقلية التي
تكون بمثابة القرينة المحتفة بالكلام بحيث يمنع عن انعقاد الظهور في الاطلاق - وثانيا -
ان دلالة هذا الكلام على الجزئية انما تكون بالالتزام، وقد حقق في محله ان الدلالة
الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية وجودا وحجة، فمع اختصاص المطلوب المطابقي بحال
الذكر، يكون المدلول الالتزامي أيضا مختصا بتلك الحالة.
فالصحيح في الجواب ما ذكرناه من أن هذه الأوامر انما تكون ارشادا إلى جزئية
متعلقاتها للمركب، ودخلها في الملاكات والمصالح وعليه، فحال هذه الأدلة حال
ما يكون بلسان الوضع بلا فرق بينهما أصلا.
فالمتحصل انه ان كان لدليل الجزء أو الشرط اطلاق كان لازمه فساد الفاقد له ولو
في حال النسيان، وقد خرج عن ذلك باب الصلاة: فإنه دل حيث لا تعاد الصلاة على
اختصاص قيودها غير الخمسة المستثناة بحال الذكر، فتصح مع فقدها نسيانا.
وان لم يكن لدليل الجزء أو الشرط اطلاق، فان كان لدليل الواجب اطلاق فيؤخذ
به ويحكم بصحة العمل الفاقد للمنسي والوجه فيه ظاهر. وان لم يكن له أيضا اطلاق
فتصل النوبة إلى البحث عن الأصول العملية.
ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في الجزئية المطلقة
وهي الجهة الثالثة: من جهات البحث في المقام، ومحصل القول فيها انه ذهب
جماعة منهم المحقق الخراساني (ره) إلى أن مقتضى حديث الرفع وغيره من أدلة البراءة
صحة الماتى به فاقدا للمنسي أو شرطيته، فيصح العمل
395

لموافقته للمأمور به.
ولكن الحق في المقام هو التفصيل الانحلالي، وما يكون متعلقا
بصرف وجود الطبيعة.
فان كان من قبيل الثاني، وكان النسيان في فرد منه، كما هو المفروض، فالتكليف
بأصل الطبيعي، معلوم، والشك يرجع إلى جواز الاكتفاء بالمأتي به وعدمه، فبناءا على
استحالة تعلق خطاب خاص بالناسي، فالمأتي به غير مأمور به قطعا، فالشك في جواز
الاكتفاء به، ناش من الشك في وفائه بالغرض، فلا محيص من الرجوع إلى قاعدة
الاشتغال فيلزم الإعادة.
واما بناءا على امكانه فيدخل في كبرى دوران الامر بين الأقل والأكثر للعلم بتعلق
التكليف بالطبيعة، كالصلاة، والعلم بدخالة المنسى، كالسورة في حال التذكر، والشك في
دخالة المنسى في حال النسيان، فالواجب مردد بين ان يكون هي خصوص الطبيعة
المشتملة على القيد، أو الجامع بينها وبين الفاقدة لها في حال النسيان، فيرجع الامر إلى
العلم بالقدر الجامع والشك في اعتبار القيد على الاطلاق، ففي فرض الشك يرجع إلى
البراءة، ويحكم بعدم قيدية المنسى في حال النسيان، ومطابقة الماتى به للمأمور به.
وما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن أقصى ما يقتضيه أصالة البراءة عن الجزء
المنسى هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط، ولا يقتضى رفعها في تمام الوقت، الا مع
استيعاب النسيان لتمام الوقت، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت بمقدار يمكنه ايجاد
الطبيعة بتمام مالها من الاجزاء فأصالة البراءة عن الجزء المنسى لا تقتضي، عدم وجوب
الفرد التام في ظرف التذكر.
يرد عليه ان التمسك في المقام لرفع الجزئية في حال النسيان انما هو بعنوان ما لا
يعلم، لا بعنوان النسيان، وعليه فالرفع وان كان ما دام بقاء الموضوع الا ان موضوعه،
وهو الشك يكون باقيا بعد رفع النسيان، وحال التذكر، فإنه يشك في الجزئية لو اتى بها في
حال النسيان ومع بقاء الموضوع لا معنى للالتزام بان المرفوع هو الجزئية في خصوص
حال النسيان فتدبر فإنه دقيق.
396

واما ان كان التكليف من قبيل الأول، أي كان التكليف انحلاليا، فان كان كل فرد
محكوما بحكم مستقل، كما في المحرمات، والعام الاستغراقي، فلو نسى فردا من متعلق
الحكم يرفع حكمه بحديث الرفع وساير ما يدل على عدم تعلق التكليف بالمنسي.
واما ان كان بنحو العام المجموعي وما شاكله، كما لو وجب البيتوتة في محل
خاص من أول غروب الشمس إلى طلوعها، فان كل ساعة من الليل مشمولة لما دل على
وجوب البيتوتة الا ان الواجب واحد لا متعدد، وليس من قبيل مطلوبية صرف وجود
البيتوتة في الليل في ذلك المحل، فلو نسى المكلف الواجب في الساعة الأولى، وشك في أن
جزئية البيتوتة في هذه الساعة هل تكون مقيدة بحال الذكر، فيجب عليه البيتوتة في
الساعات اللاحقة أو تكون مطلقة، فالامر بالبيتوتة ساقط رأسا فلا تجب في الساعات
المتأخرة، فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في التكليف، فيكون المرجع هو أصالة البراءة
عن أصل التكليف، وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام، فإنها مشوشة
مضطربة، واجعل ما ذكرناه مقياسا، لما قبل في المقام.
الكلام حول حكم الزيادة عمدا أو سهوا
الامر الثاني: في حكم الزيادة عمدا أو سهوا في المركبات الاعتبارية، وتنقيح
القول بالبحث في جهات.
الأولى: في أنه هل يمكن تحقق الزيادة حقيقة في المركب الاعتباري أم لا؟
الثانية: في اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.
الثالثة: فيما تقتضيه القاعدة الأولية في الزيادة العمدية.
الرابعة: فيما تقتضيه القاعدة الثانوية في خصوص باب الصلاة في الزيادة العمدية.
الخامسة: في حكم الزيادة السهوية من حيث الصحة والبطلان.
اما الجهة الأولى: فقد يقال باستحالة تحقق الزيادة حقيقة وان كانت متحققة
بالمسامحة العرفية لان الزايد ان لم يكن من سنخ ما اعتبر جزءا أو شرطا للمركب
397

الاعتباري لما صدق عليه الزيادة كما هو الشأن في غير المركب الاعتباري، الا ترى: ان
الدهن الذي أضيف إليه مقدار من الدبس، لا يصح ان يقال انه زاد فيه، وان كان يصدق
عليه عنوان الزيادة على ما في الظرف، وان كان من سنخه فان كان ذلك الجزء الذي من
سنخ الزايد مأخوذا على نحو الا بشرط من غير تقييد بالوجود الواحد فحيث ان كل ما
اتى به بفرد من طبيعي ذلك الجزء كان مصداقا للمأمور به كان المأتى به واحدا أو متعددا
فلا زيادة هناك، وان كان مأخوذا بشرط لا عن الوجودات المتأخرة فالاتيان به مرة أخرى
موجب لفقد قيد الجزء المستلزم لنقصه مثلا إذا اخذ الركوع غير الملحوق بمثله جزءا
للصلاة لو لحقه مثله لم يتحقق ما هو جزء للصلاة.
وفيه أولا: ان اعتبار اللابشرطية في الجزء انما يتصور على وجهين 1 - اخذ طبيعة
الجزء في المتعلق بنحو تصدق على الواحد والمتعدد 2 - اخذه بنحو اللابشرط القسمي
أي لا مقترنا بلحوق مثله ولا مقترنا بعدمه، وقى القسم الأول لا يتصور الزيادة كما أفيد،
واما في الثاني فحيث ان الجزء حينئذ صرف وجود الطبيعة المنطبق على أول الوجودات،
فالوجود الثاني غير دخيل فيه، ولا مانع عن تحققه فيتحقق الزيادة.
وبذلك يظهر صدق الزيادة إذا كان الزايد غير مسانخ لما اعتبر في المأمور به.
وثانيا: ان عدم صدق الزيادة بالدقة الفلسفية لا يترتب عليه اثر بعد صدقها عرفا
وتبعية الأحكام للصدق العرفي، ووضوح صدق الزيادة عرفا.
واما الجهة الثانية: فالظاهر اعتبار قصد كون الماتى به من اجزاء المأمور به في
الزيادة إذ المركب الاعتباري كالصلاة مركب من وجودات متباينة ووحدته انما تكون
بالاعتبار ولا يكاد يتحقق الا بالقصد وتفصيل القول في ذلك في الجزء الخامس من فقه
الصادق.
واما الجهة الثالثة: فالشك في بطلان العمل من جهة الزيادة انما يكون ناشئا
من الشك في اعتبار عدمه في المأمور به، ومقتضى الأصل عدم اعتباره فيه ما لم يقم على
اعتباره دليل، فلا باس بالزيادة العمدية فضلا عن السهوية نعم ربما يوجب الزيادة البطلان
من جهة أخرى كما لو كان الواجب تعبديا وقصد المكلف امتثال خصوص الامر المتعلق
398

بالمركب من الزايد وغيره، فإنه لا اشكال في البطلان من جهة ان ما قصده من الامر لا
واقع له وما له واقع لم يقصده، أو أوجبت الزيادة الاخلال بالهيئة الاتصالية المعتبرة في
بعض الواجبات فإنه حينئذ يوجب البطلان، وعلى الجملة الزيادة من حيث هي لا توجب
البطلان عمدا أو سهوا.
واما الجهة الرابعة: فقد دلت النصوص على مبطلية الزيادة العمدية للصلاة مطلقا
كما هو المشهور بين الأصحاب لا حظ صحيح أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) من زاد في
صلاته فعليه الإعادة (1).
وأورد عليه بوجهين أحدهما: ما افاده المحقق الهمداني (ره) وهو ان الزيادات
السهوية خارجة عن هذا الحكم، وعليه، فيدور الامر بين إرادة الزيادة العمدية منه، وبين
إرادة زيادة الأركان أو الركعات، وحيث إن حصول الزيادة العمدية نادر وكون زيادة
الركعة هو الفرد الواضح مما يطلق عليه انه زاد في صلاته، فلو لم يكن الحديث منصرفا
إلى الثاني لا ريب في اجماله والمتيقن هو ذلك، والى ذلك نظر بعض المعاصرين حيث
قال إنه منصرف إلى زيادة الركعة أو محمول على ذلك بقرينة ما دل على عدم قدح زيادة
الجزء سهوا الموجب لرفع اليد عن اطلاقه على كل حال.
وفيه: ان مقتضى الصحيح مبطلية كل زيادة كانت هي، الركعة، أو الركن، أو
غيرهما، من غير فرق بين العمد والسهو، ومن غير فرق بين العلم والجهل خرج عن هذا
العموم زيادة غير الأركان ان كانت سهوية، وقد حقق في محله ان العام حجة في غير
افراد المخصص، فالباقي تحته زيادة الأركان والركعة مطلقا، وزيادة غيرهما ان كانت
عمدية، ولا يدور الامر بعد التخصيص بين إرادة العمد وبين إرادة زيادة الأركان أو
الركعة كي يتم ما ذكراه.
ثانيهما: ما افاده المحقق اليزدي (ره) وهو ان الزيادة في الصلاة، اما ان تكون من
قبيل الزيادة في العمر فيكون المقدر الذي جعلت الصلاة ظرفا له هو الصلاة فينحصر

1 - الوسائل باب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 2.
399

المورد بما إذا كان الزايد مقدارا يطلق عليه الصلاة مستقلا كالركعة، واما ان يكون المقدر
شيئا من الصلاة سواء كان ركعة أم غيرها، واما ان يكون مطلق الشئ، لا يبعد ظهور اللفظ
في الأول ولا أقل من الاحتمال فالقدر المتيقن من الحديث بطلان الصلاة بزيادة الركعة.
وفيه: ان مقتضى الاطلاق هو الثالث: وان شئت قلت حذف المتعلق يفيد العموم
فعدم التصريح بالزايد يوجب اطلاق الخبر وإرادة كل زيادة، غاية الامر بواسطة الاجماع
والروايات يقيد اطلاقه بالزيادة السهوية في غير الأركان.
ويمكن ان يستدل له: بمصحح زرارة عن أحدهما عليهما السلام لا تقرأ في
المكتوبة بشئ من العزائم فان السجود زيادة في المكتوبة (1) إذ لو لم تكن الزيادة مطلقا
مبطلة لما صح هذا التعليل - الا ترى - انه لو قال الفقاع خمرة استصغرها الناس في مقام
بيان الحرمة لما صح ذلك إذا لم يكن الخمر حراما.
ودعوى اجمال التعليل لا السجدة التي لا يؤتى بها بقصد الجزئية لا تصدق عليها
الزيادة في الصلاة كما عن المحقق الهمداني (ره) وغيره.
مندفعة: بان لسان هذا الحديث لسان الحكومة ويدل على أن مطلق وجود السجدة
زيادة وان لم يقصد بها الجزئية.
ويمكن ان يستدل له: بالتعليل في خبر الأعمش عن جعفر (ع) في حديث شرايع
الدين ومن لم يقصر في السفر لم تجز صلاته لأنه زاد في فرض الله عز وجل (2) وتمام
الكلام في الجزء الخامس من فقه الصادق.
واما الجهة الخامسة: فالمستفاد من الروايات ان زيادة الركوع أو السجود سهوا
توجب البطلان وزيادة غيرهما من الاجزاء لا توجبه.
وملخص القول فيها ان النصوص الواردة فيها على طوائف الأولى: ما دل على
بطلانها بالزيادة مطلقا، كقوله (ع) في صحيح أبي بصير المتقدم من زاد في صلاته فعليه
الإعادة.

1 - الوسائل باب 40 من أبواب القراءة في الصلاة حديث 1.
2 - الوسائل باب 17 من أبواب صلاة المسافر حديث 8.
400

الثانية: ما دل على مبطلية الزيادة السهوية كقوله (ع) إذا استيقن انه زاد في صلاته
المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا (1).
الثالثة: ما يدل على بطلانها بالاخلال سهوا بالأركان أي الركوع والسجود وعدم
بطلانها بالاخلال سهوا بغيرها، كقوله (ع) لا تعاد الصلاة الا من خمس... الحديث (2).
وتوهم اختصاص الحديث بالنقيضة وعدم شمولها للزيادة كما عن
المحقق النائيني (ره)، مندفع بما حققناه في الجزء الخامس من فقه الصادق، ومقتضى
الجمع بين هذه الطوائف ما ذكرناه: لان النسبة بين الثالثة والأولى وان كانت عموما من
وجه لاختصاص الأولى بالزيادة وشمول الثالثة للنقيضة واختصاص الثالثة بالأركان
وعموم الأولى لغيرها، الا ان الثالثة حاكمة على الأولى كحكومتها على أدلة الاجزاء
والشرائط والموانع، لأنه من الموانع الزيادة.
واما الطائفة الثانية، فقد أورد عليها بايرادين - أحدهما - انه ضعيف السند.
وفيه: انه حسن كالصحيح بإبراهيم بن هشام بل هو صحيح.
الثاني: ان الرواية، في نسخة الكافي هكذا، إذا استيقن انه زاد في المكتوبة ركعة
لم يعتد بها، وصاحب الكافي أضبط من صاحب التهذيب، مع أن الثابت في محله انه لو
دار الامر بين الزيادة، والنقيصة يبنى على وجود الزيادة، ومع التنزل لا أقل من الاجمال
والمتيقن زيادة الركعة.
وفيه: ان في الكافي روايتين، إحداهما في باب السهو في الركوع، وهي ما ذكر في
الايراد، ثانيتهما في باب السهو في الأربع والخمس وهي ما ذكره في التهذيب، والثانية
ممتازة عن الأولى بسندها ومتنها فهما روايتان، وحيث انهما مثبتتان لا تنافى بينهما فلا
يحمل إحداهما على الأخرى.
والنسبة بينها وبين الثالثة عموم من وجه لاختصاص الثالثة بغير الأركان
واختصاص الثانية بالزيادة، الا ان حديث لا تعاد الصلاة حاكم على جميع أدلة الاجزاء

1 - الوسائل باب 19 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث 1.
2 - الوسائل باب 1 من أبواب قواطع الصلاة حديث 4.
401

والشرائط والموانع فيقدم عليها والمسألة طويلة الذيل قد أشبعنا الكلام فيها في الجزء
الخامس من فقه الصادق فليراجع.
الكلام حول حكم تعذر بعض القيود للمأمور به
الامر الثالث: إذا تعذر بعض ما له الدخل في المأمور به وجودا كالجزء والشرط أو
عدما كالمانع باضطرار ونحوه، فهل يسقط التكليف عن المقيد، أم لا؟ وجهان: وتنقيح
القول فيه يقتضى البحث في مقامين، الأول: فيما يقتضيه القاعدة الأولية، الثاني: فيما
يقتضيه الأصل الثانوي.
اما المقام الأول: فما ذكرناه في التنبيه السابق يجرى في المقام، وحاصله انه ان كان
لدليل القيد اطلاق يشمل حال التعذر يؤخذ به ويحكم بسقوط الامر بالمقيد لتعذر القيد،
سواء كان لدليل المقيد اطلاق، أو لم يكن: لتقدم اطلاق المقيد على اطلاق المطلق، وان
لم يكن له اطلاق.
فان كان لدليل المقيد اطلاق كما في الطمأنينة بالإضافة إلى الصلاة، فيؤخذ
باطلاقه ويحكم بسقوط القيد وتعلق الامر بالفاقد منه.
وان لم يكن له أيضا اطلاق فتصل النوبة إلى الأصل العملي وحينئذ، ان كان التعذر
في فرد من الطبيعة المأمور بها كما إذا تعذر عليه اتيان الصلاة في أول الوقت مع ذلك
القيد، فلا اشكال في أنه ليس مورد الحديث نفى الاضطرار: لعدم تعلق الاضطرار بما تعلق
به التكليف، فان التكليف متعلق بالطبيعة، والاضطرار متعلق بالفرد، واما ان كان التعذر
مستوعبا للوقت، فيجرى حديث الرفع عن وجوب المقيد.
ولا مورد لتوهم ان حديث الرفع يرفع الجزئية أو الشرطية الا في حال التمكن،
فيجب الاتيان بالباقي: لان الجزئية أو الشرطية أو المانعية منتزعة عن الامر الضمني
المتعلق بالجزء أو التقيد بالشرط أو عدم المانع، ولا يعقل رفعها بدون رفع منشأ انتزاعها،
والامر الضمني لا ثبوت له استقلالا وانما هو ثابت بتبع ثبوت الامر بالكل، فلا بد من رفع
402

الامر بالمقيد، ومعه لا دليل على ثبوت الامر بالفاقد، وتمام الكلام محرر في ذيل حديث
الرفع، وفى التنبيه السابق.
واما ما في الكفاية في مقام الجواب عن هذا التوهم بقوله، بداهة انه ورد في مقام
الامتنان فيختص بما يوجب نفى التكليف لا اثباته انتهى.
فيرد عليه انه إذا علم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحال، فإنه لو
كان التكليف بنحو صرف الوجود وكان التعذر في بعض المصاديق كما لو تعذر الصلاة
مع القراءة في مقدار من الوقت، تكون نتيجة جريان الحديث التوسعة والاكتفاء بما يؤتى
به في حال التعذر، وعدم لزوم الإعادة أو القضاء، ووجوب الباقي انما يكون للعلم
الاجمالي بوجوبه، ولو كان التكليف انحلاليا فبما انه تعذر بعض اجزائه لا علم
بالتكليف فتجري البراءة عن أصل التكليف فلا تجرى البراءة عن الجزئية والشرطية، نعم
لو لم يعلم بتعلق الوجوب بالطبيعة الجامعة حتى في هذه الحالة مقتضى أصالة البراءة عن
بقية الاجزاء والشرائط عدم وجوب شئ عليه.
ما يقتضيه الأصل الثانوي
واما المقام الثاني: فقد استدلوا لان الأصل الثانوي يقتضى لزوم الاتيان ببقية
الاجزاء والشرائط غير القيد المتعذر بوجوه.
منها: الاستصحاب وقبل بيان تقريب الاستصحاب لا بد وان يعلم، ان
المحقق الخراساني خصه بصورة طرو التعذر والشيخ الأعظم والمحقق النائيني عمماه.
وأفاد المحقق النائيني (ره) في وجه التعميم ان جريان الاستصحاب في الأحكام
الكلية التي يكون أعمالها وظيفة المجتهد لا يتوقف على تنجز التكليف خارجا، بل يكفي
فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع كما في بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه
التغير، وحيث إن فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء
في أول الوقت وطرو العجز في أثناء الوقت، فيجرى الاستصحاب في المقام لفرض
403

دخول الوقت مع كون المكلف واجدا لشرائط التكليف.
وفيه: ان المستصحب إذا لم يكن حكما جزئيا ثابتا لموضوع شخصي، بل كان من
الأحكام الكلية انما يكون على قسمين، الأول هو الحكم في مقام الجعل والتشريع الذي
لا رافع له الا النسخ، الثاني الحكم الفعلي، ولا يشك في بقائه الا عند الشك في سعته وضيقه
لأجل الشك في حده كالمثال المفروض، والفرق بين القسمين بعد اشتراكهما في عدم
الاحتياج في جريان الاستصحاب، إلى وجود الموضوع خارجا: ان الشك في القسم الأول
انما يكون شكا في بقائه في عمود الزمان، على ما للموضوع من الحد، وفى القسم الثاني يكون
شكا في مقدار المجعول وحده، ومنشأ الشك في الأول احتمال النسخ، وفى الثاني تبدل
خصوصية في الموضوع كزوال التغير في المثال، وفى المقام لو كان العجز من الأول لا يقين
بالحكم حتى يستصحب، فان اليقين بثبوت الحكم في مقام الجعل موجود، الا انه لا شك
في بقائه لعدم احتمال النسخ، والحكم في مقام الفعلية غير متيقن، حتى لو فرض مكلف
تعذر عليه الاتيان بتمام المركب من أول الامر، وليس من قبيل الماء المتغير الذي زال
تغيره من قبل نفسه، إذ ذلك الماء قبل التغير تكون نجاسته فعلية، بخلاف المقام.
تقريب التمسك بالاستصحاب
واما تقريب الاستصحاب فيكون من وجوه: الأول: ان يستصحب الوجوب
الجامع بين الغيري والنفسي الثابت للاجزاء غير المتعذر قبل التعذر: لان الوجوب الغيري
كان متعلقا بها ويشك في ارتفاع الوجوب فيستصحب.
وفيه: أولا ما تقدم من أن الاجزاء لا تكون متصفة بالوجوب الغيري، وثانيا: انه من
قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلى كما لا يخفى ولا نقول بجريانه.
الثاني: ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للمركب فيما إذا لم يكن
المتعذر من الاجزاء المقومة، بان يقال ان المركب الفاقد للجزء المتعذر الذي، هو متحد
مع الواجد له عرفا، كان واجبا قبل التعذر فيستصحب بقائه.
404

وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان هذا متوقف على احراز كون المتعذر غير مقوم
للواجب، وتشخيص ذلك في العناوين المأخوذة في الموضوع كالعدالة والاجتهاد
والتغير، وان كان واضحا بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، ولكن في المخترعات
الشرعية لا سبيل لنا إلى معرفة المقوم، وتمييزه عن غيره، وعليه فلا يجرى الاستصحاب إذ
ما غاية ما هناك الشك في كونه مقوما، أو غير مقوم، لعدم احراز اتحاد القضية المتيقنة،
والمشكوك فيها.
وفيه: انه لم يرد دليل من الشارع على كون جزء أو شرط مقوما للمركب، فالظاهر
ايكال ذلك إلى العرف، فإذا كانت نسبة المتعذر إلى غيره كنسبة الواحد إلى العشرة، مثلا
كان الاتحاد متحققا فيجرى الاستصحاب.
والأولى: في الايراد عليه ان يقال ان الاستصحاب في الأحكام الكلية، انما يجرى
إذا لم يكن الشك في بقائه من جهة الشك في ضيق المجعول الشرعي وسعته، والا فلا
يجرى كما يأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب والمقام من قبيل الثاني.
مع أنه محكوم لاستصحاب بقاء جزئية المتعذر المستلزم لسقوط الامر بالمركب
فتأمل.
الثالث: ان يستصحب الوجوب النفسي المردد بين تعلقه سابقا بالمركب على أن
يكون المفقود جزءا له مطلقا، فيسقط الوجوب بتعذره، وبين تعلقه بالمركب على أن
يكون الجزء جزءا اختياريا يبقى التكليف بعد تعذره، والأصل بقائه فثبت به تعلقه
بالمركب على الوجه الثاني.
وفيه: انه من الأصل المثبت الذي لا نقول به نظير استصحاب وجود الكر لاثبات
كرية الباقي.
الرابع: ما عن المحقق النائيني (ره) وهو ان يستصحب الوجوب الضمني المتعلق
بكل واحد من الاجزاء قبل التعذر إذ بتعلق الامر بالمركب قد انبسط الامر على الاجزاء
بالأسر وبعد ارتفاع تعلقه وانبساطه عن الجزء المتعذر يشك في ارتفاع انبساطه على ساير
الاجزاء، فيستصحب، بلا مسامحة في الموضوع، ولا في المستصحب ولا حاجة إلى اخذ
405

الجامع.
وفيه: مضافا إلى ما أوردناه على الوجه الثاني، ان ثبوت الوجوب الضمني
وسقوطه تابعان لثبوت الامر بالكل وسقوطه، وعليه فإذا فرض تعذر الجزء فلا محاله يسقط
امره، ولازمه سقوط الامر بالكل، فتلك الوجوبات الضمنية الثابتة في حال التمكن قد
يقطع قطعا، فلو كان ثابتة فهي وجوبات ضمنية اخر بتبع الامر بما عدى المعتذر فتلك
الافراد منها زالت قطعا، والافراد الاخر مشكوك الحدوث واستصحاب الجامع من قبيل
القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلى.
بيان مدرك قاعدة الميسور
ومما استدلوا به على وجوب بقية الاجزاء، غير القيد المتعذر، قاعدة الميسور،
وقد استدل بها جماعة في موارد مختلفة، وعمدة المدرك لها الروايات.
منها: النبوي المعروف، إذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم، الذي روى عن
أمير المؤمنين (ع) وأبى امامة الباهلي، وأبي هريرة في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن
وجوبه في كل عام واعراضه عن الجواب حتى كرر السائل سؤاله مرتين أو ثلاث
فقال (ص) ويحكم وما يؤمنك ان أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ولو وجب ما استطعتم
إلى أن قال فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم (1) وروى في عوائد النراقي والجواهر
عن عوالي اللئالي مستقلا، والخبر وان كان ضعيف السند، لان ما في المجمع وعوالي
اللئالي مرسل، وما رواه العامة راويه أبو هريرة، الا ان اشتهار التمسك به بين الأصحاب
يوجب جبر ضعفه، هكذا قيل وستعرف ما فيه.
وتقريب الاستدلال به، ان لفظة، من اما تبعيضية، أو بيانية، أو بمعنى الباء، واما
ساير معانيها، من الابتداء، والتعليل فلا تحتمل ارادتها في المقام، وحيث لا يمكن كونها

1 - مجمع البيان في ذيل آية 101 من المائدة، وسنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 326
وعوالي اللئالي ج 4 ص 58.
406

بيانية، لان مدخولها الضمير وهو لا يمكن ان يكون بيانا لشئ لكونه مبهما، وكونها
بمعنى، الباء، خلاف الظاهر، فيتعين ان تكون تبعيضية، كما أن كلمة، ما في قوله ما
استطعتم ظاهرة في كونها موصولة لا مصدرية زمانية فتكون مفعولا لقوله فاتوا، فيكون
المراد من الجملة، إذا أمرتكم بمركب ذي اجزاء وابعاض فاتوا ما تستطيعونه منه، لا فاتوا
به مدة استطاعتكم.
وأورد على الاستدلال به المحقق الخراساني بان ظهور من في التبعيض لا ينكر، الا
ان كونه بحسب الاجزاء غير واضح لاحتمال ان يكون بحسب الافراد، بل لورودها في
مقام الوجوب عن السؤال عن تكرار الحج بعد امره به لا محيص عن كونه بهذا اللحاظ.
وفيه: مضافا إلى ما ستعرف، انه يمكن ان يكون المراد بالشئ أعم من الكل
والكلي، ومجرد كون المورد من قبيل الثاني لا يوجب تخصيص الجواب به، إذا الميزان
في استفادة عموم الحكم، انما هو بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد، فمع عموم الجواب
في نفسه لا وجه للتخصيص من جهة المورد.
وما افاده المحقق النائيني (ره) في مقام دفع هذا الوجه بعدم الجامع بينهما من جهة
ان لحاظ الافراد يباين لحاظ الاجزاء، ولا يصح استعمال كلمة من، في الأعم، من
الاجزاء، والافراد، وان صح استعمال الشئ فيه.
غير تام: فإنه لو كان المراد بالشئ الكلى كان كلمة من تبعيضية أيضا، ولا ملزم
لحملها على غير ذلك على هذا فان كل فرد بعض من الطبيعة من جهة تبعض الحصص
الموجودة منها في ضمن افرادها - وبالجملة - كما أن الجزء بعض المركب، كذلك الفرد
بعض الطبيعة.
وما افاده المحقق العراقي (ره) من أن القدر المتيقن في مقام التخاطب، وهو كون
المورد الكلى ذي افراد، مانع عن التمسك بالاطلاق.
يدفعه ما حققناه في محله من أنه غير مانع عن التمسك بالاطلاق.
ولكن يرد على الاستدلال به وجوه 1 - انه مروى في سنن النسائي بنحو آخر،
وهو فإذا أمرتكم بالشئ فخذوا به ما استطعتم، فيكون مفاد الحديث لزوم الاتيان
407

بالمأمور به عند القدرة والاستطاعة فحيث انه مروى بطريقين والخاصة كما تمسكوا به
ونقلوه بالطريق الأول تمسكوا به ونقلوه بالطريق الثاني (1) فهو مجمل لا يصح الاستدلال به
هذا على فرض تسليم تلقى الأصحاب إياه بالقبول وهو أيضا محل نظر.
2 - انه كما أن حمل كلمة من على التبعيض، وكون ما موصولة، وإرادة المركب
ذي الاجزاء من لفظ الشئ لا ينطبق على مورد الرواية: فان السؤال فيه عن تكرار الحج
وعدمه، ولزوم الاتيان بالمقدار الميسور من اجزاء المركب المأمور به، أجنبي عن ذلك،
كذلك حمل كلمة من على التبعيض، وإرادة الطبيعي ذي افراد من ذلك اللفظ لا ينطبق
على مورد الرواية فإنها وإرادة في مقام بيان عدم وجوب الحج الامرة واحدة، وفى هذا
المقام لا يناسب مثل هذه الجملة، مع أنها ظاهرة في اعطاء ضابطة كلية غير مختصة بباب
الحج فلا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى.
فعلى هذا تكون كلمة من اما زايدة، أو بمعنى الباء ويكون الضمير مفعولا فاتوا
ولفظة ما زمانية فيكون المعنى إذا أمرتكم بشئ فأتوه عند القدرة والاستطاعة، وهذا
المعنى وان كان خلاف الظاهر، الا انه لا مناص عن الالتزام به، بعد عدم انطباق غيره على
مورد الرواية، وعلى هذا الوجه تدل الرواية على اشتراط التكليف بالقدرة فتكون أجنبية
عن المقام.
3 - انه لو سلم كون كلمة (من) للتبعيض وأغمض عما ذكرناه، الا ان امر الرواية
عليه يدور، بين ان تحمل على موارد تعذر المركب مع التمكن من بعض اجزائه، فيكون
الامر حينئذ مولويا ويستفاد منه الوجوب بعد تعذر المركب، وبين ان تحمل على موارد
تعذر بعض افراد الواجب، مع التمكن من الاخر فيكون الامر ارشاديا إلى بقاء وجوب
ذلك الفرد، وحيث لا جامع بين الامرين فلا يمكن ان يكون المراد بالشئ الأعم من
الكلى والكل، ولا قرينة على تعين أحد الاحتمالين، لو لم يكن الصدر قرينة على الثاني،
فلا محالة تكون الرواية مجملة لا يصح الاستدلال بها.

1 - راجع البحار باب صلاة العراة ص 95.
408

الكلام حول حديث الميسور لا يسقط بالمعسور
ومنها: ما رواه في كتاب عوالي اللئالي على ما روى عنه صاحب العوائد عن
أمير المؤمنين (ع) الميسور لا يسقط بالمعسور (1).
ومحصل القول في هذا العلوي: انه قد استدل به لوجوب بقية الاجزاء إذا تعذر
بعضها، بتقريب ان لا يسقط ليس نهيا ابتداءا، ولا نفيا أريد به الانشاء لان متعلق النهى كان
مولويا أو ارشاديا، لا بد وأن يكون مقدورا وفعل المكلف، ومعلوم ان سقوط الواجب
عن ذمة المكلف كثبوته يكون راجعا إلى الشارع، ولا معنى لنهى المكلف عنه، بل
لا مناص عن حمل لا يسقط على كونه جملة خبرية محضة، أريد بها الاخبار عن عدم
سقوط الحكم، وحيث إن الحكم بعدم السقوط والاخبار عنه، انما يصح فيما يكون
موردا للسقوط أو لتوهمه وانه لا يكون وجه لسقوط الحكم عن فرد، ولا موهم له بسبب
سقوطه عن فرد آخر كي يحكم بعدم سقوطه، ومجرد الجمع في العبارة لا يوجب ذلك،
فلا مناص عن إرادة الميسور من الاجزاء، مع أنه لو سلم انه يصح الحكم بعدم السقوط
في الميسور من الافراد لا وجه لتخصيص الكلام به، بل يكون عاما شاملا له وللميسور
من الاجزاء وما يمكن ان يورد على هذا التقريب أمران.
الأول: ان بقية اجزاء المركب قبل تعذر المتعذر كانت واجبة، بوجوبات ضمنية،
وهي قد سقطت بسقوط الامر بالمركب فلو ثبت بعده، وجوب، فهو ثبوت جديد، وجعل
حادث، ولا معنى للاخبار عن حدوثه بعدم سقوطه الا بالعناية والمسامحة، وهذا بخلاف
تعذر بعض الافراد فان غير المتعذر يكون وجوبه الثابت له قبل التعذر باقيا على ما كان
عليه، فلفظ السقوط، قرينة على اختصاص الخبر بموارد تعذر بعض الافراد، ولا يشمل
تعذر بعض اجزاء المركب: لان شموله له يحتاج إلى مسامحة لا يصار إليها الا بالقرينة.

1 - عوالي اللئالي ج 4 ص 58.
409

وأفاد الشيخ الأعظم (ره) في دفع هذا الايراد وجهين، أحدهما: ان عدم السقوط
محمول على نفس الميسور لا على حكمه، ومعنى عدم سقوطه عدم سقوطه التشريعي
فإنه المناسب لاخبار الشارع، فالمراد ان الميسور باق على موضوعيته لما كان له من
الحكم، وفى الميسور من الاجزاء وان كان حكمه السابق قد سقط حقيقة، ولو كان حكم
ثابتا له، فهو حكم آخر الا ان موضوعيته للحكم مستمرة غير ساقطة، فان سقوط حكمه
وقيام حكم آخر مقامه يوجب بقائه على صفة الموضوعية، وعلى ذلك فحيث ان هذا
الكلام انما يقال في مورد ارتباط وجوب الشئ بالمتمكن من ذلك الشئ الاخر كما في
الامر بالكل، أو توهم ارتباطيته كما في الامر بما له عموم افرادي فيعم الخبر كليهما معا.
وفيه: ان تشخص الحكم انما هو بتشخص موضوعه، وحيثية موضوعته لحكم،
غير حيثية موضوعيته لحكم آخر فمع عدم العناية، لا يصح اطلاق عدم السقوط، وهي
تتوقف على دليل، ومع عدم القرينة على هذه العناية لا مورد للالتزام به.
وبالجملة حيث إن ظاهر الخبز هو عدم السقوط الحقيقي لا العنائي، إذ نظر العرف
متبع في تعيين المفاهيم، لا في تطبيقها على المصاديق، ومن المعلوم ان المسامحة
في المقام انما هو في التطبيق فلا محالة يختص الخبر بما له افراد لا ماله اجزاء.
ثانيهما: ان عدم السقوط ان حمل على عدم سقوط الحكم وفى الميسور من
الاجزاء يكون الحكم الثابت غير ما كان ثابتا سابقا، الا ان العرف لعدم مداقتهم يعبرون
عن وجوب باقي الاجزاء بعد تعذر غيرها من الاجزاء ببقاء وجوبها وعن عدم وجوبها
بارتفاعه، فيصدق على وجوب بقية الاجزاء عدم سقوط وجوبها فلا مانع عن شمول
الخبر لكلا الموردين.
ومما ذكرناه في الوجه السابق يظهر الايراد على هذا الوجه، فالمتحص تمامية
هذا الايراد.
الثاني: ان المراد من عدم السقوط وثبوت الامر ان كان خصوص الاستحباب، أو
مطلق الرجحان، فهو لا يدل على الوجوب، وان أريد به الوجوب لزم خروج الأحكام
الاستحبابية عن عموم القاعدة.
410

وفيه: ان الوجوب والاستحباب ليسا متباينين بل الوجوب انما هو بحكم العقل
وخارج عن المستعمل فيه والصيغة مستعملة مطلقا في معنى واحد، والفرق بينهما انما هو
في ورود الترخيص في ترك المأمور به وعدمه، وعليه فالخبر يشمل المستحبات وثبوت
الترخيص بترك المقدور من اجزائها، لا ينافي حكم العقل بلزوم الاتيان بالاجزاء
المقدورة من الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص فيه، فالعمدة هو الايراد الأول.
أضف إليه ان الخبر لم يثبت انجباره بعمل الأصحاب لأنه لم يوجد في كتب من
تقدم على صاحب عوالي اللئالي.
الكلام حول حديث ما لا يدرك
ومنها: المرسل المحكى عن عوالي اللئالي عن الامام على أمير المؤمنين (ع) ما لا
يدرك كله لا يترك كله (1) وتقريب الاستدلال به ان لفظ - كل - في الموردين لا يمكن ان
يراد منه العموم الاستغراقي ولا المجموعي لعدم صحة الحكم بوجوب اتيان ما لا يتمكن
المكلف من مجموعه أو جميعه، فلا بد وان يراد منه في الأول المجموعي، وفى الثانية
الاستغراقي، فيكون المراد النهى عن ترك الجميع عند تعذر المجموع، وهذا لو سلم
شموله للكلي ذي افراد، لا شبهة في شموله للكل ذي اجزاء، إذا لعام إذا لوحظ بنحو
العموم المجموعي لا يفرق فيه بين كون اجزائه متفقة الحقيقة، أو مختلفتها فيدل المرسل
على لزوم الاتيان بما هو المقدور من اجزاء وقيود المركب الذي له اجزاء تعذر بعضها،
وما هو الميسور من افراد الواجب ذي افراد تعذر بعضها.
وما في الكفاية لا دلالة له الا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به واجبا
كان أو مستحبا عند تعذر بعض اجزائه لظهور الموصول فيما يعمهما، وليس ظهور
لا يترك في الوجوب لو سلم موجبا لتخصيصه بالواجب لو لم يكن ظهوره في الأعم

1 - ج 4 ص 58.
411

قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية وكيف كان فليس ظاهرا في
اللزوم هيهنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام انتهى.
يرد عليه أولا، انه لو ثبت رجحان الاتيان بالميسور من اجزاء الواجب ثبت
وجوبه، لعدم القول بالفصل، وثانيا: ما تقدم في محله من أن الوجوب، والحرمة ليسا
داخلين تحت دائرة المستعمل فيه، والهيئة مطلقا تستعمل في معنى واحد، ولو دل دليل
آخر على الترخيص في الترك أو الفعل، يحكم بالاستحباب أو الكراهة، والا فالعقل
يحكم بلزوم الامتثال، وعليه فالموصول وان كان شاملا للمستحبات، الا ان ثبوت
الترخيص في ترك الميسور من اجزاء المستحب، لا ينافي حكم العقل بلزوم الاتيان
بالميسور من اجزاء الواجب مع عدم ثبوت الترخيص في تركها، وثالثا: ما افاده الشيخ
الأعظم (ره) من أن المراد بالموصول ليس هو العموم قطعا لشموله للأفعال المباحة بل
المحرمة فكما يتعين حمله على الافعال الراجحة بقرينة، قوله لا يترك كذلك يتعين حمله
على الواجبات بنفس هذه القرينة الظاهرة في الوجوب.
والحق في الايراد على الاستدلال بهذا العلوي، ان يقال: انه مضافا إلى ضعف
سنده لما ذكرناه في سابقه: انه لا يمكن إرادة موارد تعذر بعض اجزاء المركب، وموارد
تعذر بعض الافراد جميعا منه: لان الحكم في الأول مولوي وفى الثاني ارشادي، وحيث
لا جامع بينهما، فلا تكون الرواية شاملة لكلا الموردين، وحيث لا قرينة على تعيين
أحدهما، فتكون مجملة لا يصح الاستدلال بها.
وظهور الصيغة في المولوية لا يعين الاحتمال الأول، لان ظهورها ليس وضعيا
ليكون قرينة على تعيين المتعلق، وانما هو ظهور مقامي ناش من التصدي للجعل، فلا
يصلح قرينة لتعيين المتعلق، نعم لو علم المتعلق وشك في كونه مولويا تكون ظاهرة في
الولوية، بخلاف ما لو دار المتعلق بين ما لا يصح تعلق الحكم به الا ارشاديا، وبين ما
لا يصح تعلقه به الا مولويا فإنه لا ظهور له في تعيين المتعلق.
فتحصل ان شيئا من الروايات الثلاث لا دلالة له، على لزوم الاتيان بالميسور من
اجزاء الواجب عند تعذر بعضها هذا في غير الصلاة.
412

واما فيها: فمقتضى الاجماع المحقق وقوله (ع) في مرسل يونس (فإنها لا تدع
الصلاة بحال) لزوم الاتيان بالميسور من الاجزاء والشرائط.
ثم انه قد أورد على الاستدلال بالقاعدة لوجوب ما عدا القيد المتعذر وانه يجب
الباقي عند تعذر بعض الاجزاء أو الشرائط بايرادين.
1 - ما عن المحقق النائيني وهو انه قد يقع الاشكال في تشخيص الميسور في
الموضوعات الشرعية، لان تشخيص الركن عن غيره والميسور عن المبائن، في غاية
الاشكال مثلا كون ثلاث ركعات ميسور الأربع عند تعذر الأربع مما لا طريق إلى احرازه،
إذ من المحتمل ان تكون خصوصية الأربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها، ولذا قيل إن
التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الأصحاب، والوجه في
اعتباره تشخيص الركن في العبادة، ليكون الباقي ميسور المتعذر.
وفيه: انه إذا علق الشارع الحكم بعدم السقوط على الميسور الواقعي، ولم يعين
طريقا إليه كان نظر العرف طريقا إليه، والا لزم نقض الغرض، فنظر العرف حجة باطلاق
المقام وعدم نصب الطريق ولا ريب انه بنظر العرف الثلاث ميسور الأربع وليست
خصوصية الأربع ركنا بنظرهم.
وبذلك يظهر اندفاع ما أورد على ما ذكره المحقق الخراساني بقوله إذا لم يكن
دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق الخ من أنه إذا كان صدق
الميسور مشكوكا فيه فلا معنى للتمسك بالاطلاق.
وجه الاندفاع ان مراده من الاطلاق، الاطلاق المقامي لا الكلامي، وتقريبه ما عرفت.
2 - انه لكثرة ورود التخصيص عليها حصل وهن في عمومها بنحو يحتاج
في العمل بها إلى عمل الأصحاب، فبدونه لا يعمل بها.
وأجيب: عنه بان ذلك يتم لو كان الخارج تخصيصا في الحكم، وأما إذا كان تخطئة
للعرف في عدم كون ما يرونه ميسورا، ميسورا فلا يتم ذلك: إذ مقتضى الاطلاق المقامي
كما مر هو ايكال الشارع فهم الميسور إلى نظر العرف في جعل ما يرونه ميسورا لشئ
صورة، طريقا إلى الميسور الواقعي في مقام الوفاء بالغرض، ولازم ذلك هو الاخذ بما يراه
413

العرف كونه ميسورا لشئ الا في الموارد التي ثبت الردع فيها ببيان الشارع.
وفيه: ان الموارد الخارجة ليست بعنوان التخطئة المشار إليها، لعدم كون المعيار
الميسور في مقام وفاء الغرض، لعدم الدليل على ذلك، بل لعدم فهم العرف الاغراض،
لا معنى لمثل ذلك فالظاهر من الدليل هو الميسور بحسب الصورة - فتأمل - فالأظهر انه
اشكال لا ذاب عنه.
دوران الامر بين الجزئية والمانعية
الامر الرابع: إذا تردد الامر بين جزئية شئ أو شرطتيه، وبين مانعية أو قاطعيته، بان
علم اجمالا اعتبار وجود شئ في المأمور به أو عدمه، فللمسألة صور ثلاث.
الأولى: ما إذا كان الواجب واحدا شخصيا ولم يكن له افراد طولية ولا عرضية كما
في ما إذا ضاق الوقت ولم يتمكن المكلف الا من صلاة واحدة، ودار الامر بين الصلاة
عاريا أو في الثوب المتنجس، قال الأستاذ ان الحكم فيه هو التخيير بلا شبهة ولا اشكال:
إذ الموافقة القطعية متعذرة، والمخالفة القطعية بترك الصلاة غير جائزة يقينا، فلم يبق الا
الموافقة الاحتمالية الحاصلة بكل واحد من الامرين.
وفيه: انه إذ لم يكن القضاء واجبا تم ما أفيد، واما مع وجوبه فهو يتمكن من
الموافقة القطعية باتيان صلاة في الفوت بإحدى الكيفيتين وصلاة أخرى خارج الوقت
بكيفية أخرى، وعليه فمقتضى العلم الاجمالي ذلك.
الثانية: ما إذا كانت الوقايع متعددة، وان لم يكن للواجب افراد طولية ولا عرضية
كما إذا دار الامر بين كون شئ شرطا في الصوم أو مانعا عنه، قال الأستاذ حيث إن
المكلف به متعدد فالحكم فيه هو التخيير الابتدائي، فله ان يختار الفعل في جميع الأيام
أو الترك كذلك.
أقوال ما افاده من عدم استمرارية التخيير متين، لأنها مستلزمة للمخالفة القطعية
وهي غير جائزة، وكذا ما افاده من التخيير في كل يوم متين لعدم تمكنه من الموافقة
414

القطعية، ولكن بما انه يجب قضاء الصوم فيحصل له علم اجمالي آخر، وهو وجوب
الصوم بأحد النحوين أو قضائه بالنحو الاخر، فيجب ذلك تحصيلا للموافقة القطعية لهذا
العلم الاجمالي.
الثالثة: ما إذا كان الواجب واحدا ذا افراد طولية بحيث يكون المكلف متمكنا
من الاحتياط وتحصيل العلم بالموافقة بالاتيان بالواجب مع هذا الشئ مرة وبدونه
أخرى، كما في الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة المردد بي كونه لازما أو مانعا، وكما
لو شك في السجدة وهو في حال النهوض إلى القيام، فإنه يدور الامر بين كون النهوض
من اجزاء الصلاة، فالشك في السجدة شك فيها بعد مضى المحل فلا يجوز الاتيان
بالسجدة ويكون موجبا لبطلان الصلاة، وبين ان لا يكون من الاجزاء فالشك فيها شك في
المحل فلا بد من الاتيان بالسجدة، فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير، أو الاحتياط
وتكرار العمل.
فعن الشيخ الأعظم اختيار التخيير قال والتحقيق انه لو قلنا بعدم وجوب الاحتياط
في الشك في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة للواقع إذا لم تكن عملية فالأقوى
التخيير هنا انتهى.
وقد مر في ذيل مبحث دوران الامر بين المحذورين هذه المسألة مفصلا،
وعرفت ان الأظهر هو تعين الجمع بتكرار العبادة فراجع ما حققناه ولا نعيد.
فيما يعتبر في العمل بالاحتياط
خاتمة في بيان ما يعتبر في العمل بالاحتياط، والاخذ بالبرائة، والبحث عن ذلك
يقع في مقامين، المقام الأول فيما يعتبر في العمل بالاحتياط، والكلام فيه في مواضع
1 - انه لا اشكال ولا كلام في أن حسن الاحتياط شرعا وعقلا، مشروط بان لا يكون مخلا
بالنظام، والا فلا يحسن لان ما يخل بالنظام قبيح عقلا، بل موجب للاخلال بالغرض شرعا
ومعه لا حسن فيه لا عقلا ولا شرعا.
415

2 - انه لا فرق في حسن الاحتياط بين ما لو كان هناك امارة على عدم الامر وما لم
يكن كما ذكرناه في آخر مسالة البراءة قبل مسالة دوران الامر بين المحذورين.
3 - انه قد أفاد المحقق النائيني (ره) انه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه
حجة شرعية ان يعمل المكلف أولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما
اقتضته الحجة احرازا للواقع وليس للمكلف العكس.
واستدل له بأمرين أحدهما: ان معنى اعتبار الطريق الغاء احتمال مخالفة الواقع
عملا وعدم الاعتناء به، والعمل أولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع، ينافي الغاء
احتمال الخلاف فان ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف ما لو قدم أولا ما
يقتضيه الحجة: فان العقل يستقل حينئذ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع.
وفيه: ان مقتضى حجية الامارة وجوب العمل على طبقها، ولا يكون مقتضاها
عدم جواز العمل بما يخالف مفادها احرازا للواقع، والا لزم عدم جواز العمل بما
يخالف مفادها حتى بعد العمل بما تقتضيه الامارة، وعليه فكما ان العقل يستقل بحسن
الاحتياط احرازا للواقع بعد العمل بمفادها كذلك يستقل بحسنه قبله.
ثانيهما: انه يعتبر في حسن الإطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الإطاعة التفصيلية،
وبعد قيام الطريق المعتبر على شئ، كوجوب صلاة الجمعة، يكون المكلف متمكنا من
الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدى الطريق فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي باتيان
مخالفه وهو الظهر في المثال.
وفيه: مضافا إلى عدم صحة المبنى كما مر، ان اعتبار الامتثال التفصيلي انما هو في
صورة التمكن منه في العمل الذي يأتي به بداعي الاحتمال، واما العمل الذي لا يمكن فيه
ذلك فلم يستشكل أحد حتى هو (قده) في حسنه، وفى المقام اتيان العمل بما يخالف
مؤدى الامارة، لا يمكن الطاعة التفصيلية سواء اتى به بعد العمل بمفادها، أو قبله، وما
يمكن فيه الامتثال التفصيلي هو العمل بمفاد الامارة سواء اتى به قبل المخالف أو بعده،
وعلى الجملة ما يمكن فيه الإطاعة التفصيلية، غير ما لا يمكن فيه تلك، من غير فرق بين
الصورتين، وامكان الامتثال التفصيلي بالعمل بمؤدى الامارة، لا يكون شرطا في الاحتياط
416

بالعمل بما يخالف مؤداها.
4 - هل يعتبر في حسن الاحتياط في العبادات، عدم تمكن المكلف من الامتثال
التفصيلي وإزالة الشبهة كما عن جماعة، أم لا يعتبر ذلك كما هو الحق؟ أم يفصل بين كون
الاحتياط مستلزما للتكرار فيعتبر وبين عدمه فلا يعتبر، أم يفصل بين موارد العلم
الاجمالي بثبوت التكليف وعدمه وجوه وأقوال.
أقواها الثاني: وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في مبحث القطع، واجماله انه
لا يعتبر في صحة العبادات سوى الاتيان بجميع ما امر به المولى مضافا إليه - وبعبارة
أخرى ظ عن نية صالحة وعدم كون الداعي غير الداعي الإلهي واما نية الوجه والتمييز
وغيرهما مما ذكروه وجها لعدم جواز الاحتياط فلا دليل على اعتباره وتمام الكلام
في محله.
فيما يعتبر في الاخذ بالبرائة
المقام الثاني: فيما يعتبر في جريان البراءة والاخذ بها، وقد طفحت كلماتهم بأنه
يعتبر في جريانها الفحص، وانه لا يجوز العلم بها الا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما
يخالفها، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعى البحث في مواضع، الأول في اعتبار
الفحص وعدمه، الثاني: في مقدار الفحص المعتبر، الثالث: في استحقاق التارك للفحص
للعقاب وعدمه، الرابع في صحة العمل الماتى به قيل الفحص وفساده.
اما الأول: فالكلام فيه في موردين 1 - في البراءة العقلية 2 - في البراءة الشرعية.
اما المورد الأول: فلا اشكال في اعتبار الفحص في جريان البراءة العقلية: لان
العقل انما يحكم بقبح العقاب على مخالفة التكليف إذا استندت إلى المولى بان لم يعمل
بما هو وظيفته من البيان وجعله في معرض الوصول إلى المكلف، وأما إذا عمل المولى
بما هو وظيفته، وكان الحكم في معرض الوصول ولم يتفحص العبد عنه، ولم يعمل بما
هو وظيفته، فلا يكون العقاب حينئذ قبيحا لعدم كونه عقابا بلا بيان، وبالجملة المراد من
417

البيان الذي كون عدمه موضوع هذا الحكم العقلي ليس هو ايصال التكليف إلى العبد
قهرا، بل المراد بيانه على الوجه المتعارف وجعله مبرئ من العبد ومسمح، بحيث لو
تفحص عنه لظفر به، فلو كان الحكم مبينا من قبل المولى ولم يتفحص عنه العبد صح
العقاب على مخالفته فلا يكون عقابه بلا بيان.
واما المورد الثاني: فلا اشكال أيضا في عدم اعتبار الفحص في جريان البراءة
الشرعية في الشبهات الموضوعية: لاطلاق أدلتها، وعدم ما يوجب تقييده، واما في
الشبهات الحكمية فقد استدل للزوم الفحص بوجوه.
الأول: انصراف الاطلاقات إلى الشك المستقر الذي لا يكون في معرض الزوال
بالفحص عن الأدلة فلا تشمل الشبهات قبل الفحص.
وفيه: ان هذه دعوى بلا بينة ولا برهان كيف وقد تمسك الأصحاب بها في
الشبهات الموضوعية قبل الفحص، وهذه آية عدم الانصراف، فمقتضى الاطلاقات هو
عدم لزوم الفحص، وبه يظهر ان عدم لزوم الفحص في الشبهات الموضوعية انما يكون
على القاعدة، نعم ورد الدليل الخاص على لزومه في بعض الموارد كمسألة النصاب في
الزكاة وغيرها.
الثاني: الاجماع، وفيه: انه لمعلومية مدرك المجمعين لا يكون كاشفا عن رأى
المعصوم (ع).
الثالث: العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات في الموارد المشتبهة في
مجموع ما بأيدينا من الاخبار مع كونها على نحو لو تفحصنا عنها لظفرنا بها، ومقتضى
ذلك عدم جريان البراءة في شئ من المسائل قبل الفحص.
وأورد عليه بايرادين 1 - انه أعم من المدعى إذ المدعى لزوم الفحص في
خصوص ما بأيدينا من الاخبار، والمعلوم بالجمال أعم من ذلك: فان من أطراف هذا
العلم الاخبار غير المدونة في الكتب المعتبرة فالفحص فيما بأيدينا من الاخبار غير نافع.
وفيه: ان العلم الاجمالي الكبير ينحل إلى علم اجمالي صغير، وهو وجود واجبات
ومحرمات في خصوص ما بأيدينا من الاخبار والشك في وجود غيرها في غير ما بأيدينا:
418

إذ من المحتمل تطابق النصوص غير الواصلة إلينا، مع ما بأيدينا من حيث المضمون، وعليه
فلا مانع من هذه الجهة.
2 - ما ذكره المحقق الخراساني وهو انه أخص من المدعى: فان لازمه جواز
الرجوع إليها قبل الفحص بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان المعلوم بالاجمال المردد بين الأقل والأكثر إذا
كان ذا عنوان وتمييز، غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم، فان الواقع تنجز بما له
من الافراد في الواقع، كما لو علم بحرمة البيض من قطيع الغنم، وتردد البيض بين العشرة
والعشرين، فهل يتوهم أحد جواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص، بعد العلم تفصيلا
بحرمة عشرة منها، والمقام من هذا القبيل فان التكاليف المعلومة بالاجمال، نعلم
بوجودها في الكتب المعتبرة، وعليه فبعد الظفر بالمقدار المعلوم اجمالا، لا يجوز
الرجوع إلى البراءة قبل الفحص نعم، لو كان المعلوم بالاجمال من أول الامر مرددا بين
الأقل والأكثر، ولم يكن ذا علامة وتمييز جاز الرجوع إلى البراءة في مثل ذلك بعد الظفر
بالمقدار الأقل، ولكن المقام ليس كذلك.
ويرد عليه: ان الميزان في عدم جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي هو
التعارض، وإذا كان المعلوم بالاجمال الذي له علامة وتمييز، مرددا بين الأقل والأكثر
وظفرنا بالمقدار المعلوم بالاجمال، فلا مانع من جريان الأصول في ساير الأطراف لأنها
بلا معارض كما لا يخفى.
وان شئت قلت: ان العلم بتعلق التكليف بعنوان في التكاليف الانحلالية لا يوجب
تنجزه بالنسبة إلى جميع افراده الواقعية، بل التنجيز يدور مدار ذلك مع العلم بالصغرى،
الا ترى ان الشارع الا قدس حرم الخمر والمكلف عالم بذلك ولكن ذلك لا يوجب
تنجزه في الموارد المشكوك فيها، وفى المقام وان علم بوجود التكاليف في الاخبار
المدونة في الكتب المعتبرة، الا ان هذا العنوان له افراد معلومة، وافراد ومصاديق
مشكوك فيها، وفى القسم الثاني تجرى البراءة بلا كلام ولا اشكال.
الثالث: ان عادة الشارع الأقدس جارية على ايصال التكاليف، لا بالقهر والاجبار
419

بل بجعلها في معرض الوصول إلى المكلفين، وعليه فمقتضى قانون العبودية والمولوية
لزوم الفحص عن الأحكام الشرعية، ففعلية الوصول تكون من وظائف المكلفين بحكم
العقل، وهذا الحكم الفعلي، بمنزلة القرينة المتصلة، ويكون مانعا عن ظهور أدلة البراءة
في الاطلاق وعليه فالأدلة لا تشمل الشبهات قبل الفحص.
الرابع: ما دل من الاخبار على لزوم التوقف في الشبهات قبل الفحص ورد
حكمها إلى الإمام (ع) (1)، وحيث انها أخص من أدلة البراءة، فتقدم عليها، فتختص أدلة
البراءة بالشبهات بعد الفحص.
الخامس: الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم، وهي طائفتان، الأولى ما
تضمن الامر بالتفقه، والحث والترغيب على فعله، والذم على تركه، كآية النفر (2)
والنصوص الكثيرة (3) وتقريب الاستدلال بها انه لو لم يكن الفحص واجبا لم يكن وجه
للامر بالسؤال والتفقه والذم على تركه، والثانية ما تضمن مؤاخذة الجاهل بفعل المعصية
لترك التعلم، لا حظ ما عن الأمالي عن الإمام الصادق (ع) انه سئل عن قوله تعالى فلله
الحجة البالغة فقال إن الله تعالى يقول للعبد يوما القيامة عبدي أكنت عالما فان قال نعم
قال له أفلا عملت بما علمت، وان كان جاهلا قال له أفلا تعلمت حتى تعمل فيخصمه
فتلك الحجة البالغة (4) وتقريب الاستدلال بها واضح.
وأورد على الاستدلال بها المحقق العراقي بايرادين الأول، اختصاصها بالفحص
الموجب للعلم بالواقع، والمطلوب أعم من ذلك، الثاني، انها ظاهرة في الارشاد إلى حكم
العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره، فعموم أدلة البراءة حينئذ،
واردة عليهما.
وفيهما: نظر، اما الأول فلقيام الامارات مقام العلم، واما الثاني، فلأنها ظاهرة في

1 - الوسائل باب 4 و 12 من أبواب صفات القاضي كتاب القضاء.
2 - التوبة اية 122.
3 - أصول الكافي ج 1 ص 30 باب فرض العلم.
4 - تفسير الصافي ج 2 ص 169 - ذيل آية 149 سورة الأنعام، ونحوه في تفسير
البرهان.
420

الارشاد إلى حكمه بلزوم الفحص عما جعله الشارع.
الموضع الثاني: في مقدار الفحص اللازم، والظاهر أنه لا حد مضبوط له، بل حده
حصول الاطمينان، الذي هو حجة عقلائية بعدم وجود دليل من خبر أو اجماع
تعبدي، فاللازم هو تتبع كتب الاخبار، وكلمات الأبرار، لتحصيل العلم العادي بعدم
الخبر وعدم اجماع تعبدي، ولا وجه للاكتفاء بالظن، لأنه يغنى من الحق شيئا، واما
تحقق الصغرى أي حصول الاطمينان بعدم الدليل، فهو سهل لمن تصدى لاستنباط
الأحكام الشرعية.
في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه
واما الوضع الثالث: وهو استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه، فملخص
القول فيه ان الأقوال فيه ثلاثة - الأول - ما هو المشهور بين الأصحاب، وهو استحقاق
العقاب على مخالفة الواقع لو اتفق، الثاني: ما عن ظاهر الشيخ الأعظم وصريح
المحقق النائيني، وهو استحقاق العقاب على ترك الفحص المؤدى إلى مخالفة الواقع،
الثالث: ما عن المحقق الأردبيلي، وصاحب المدارك، وهو استحقاق العقاب على ترك
الفحص والتعلم مطلقا وان لم يؤد إلى مخالفة الواقع.
ومنشأ الخلاف ان وجوب الفحص والتعلم هل يكون وجوبا نفسيا، أو طريقيا، أو
ارشاديا: أو مقدميا: إذ على الأول يكون الفحص كساير الواجبات النفسية يعاقب على
مخالفته، وعلى الثاني يكون وجوب الفحص كساير الأحكام الطريقية الموجبة لتنجز ذي
الطريق، واستحقاق العقاب على مخالفتها عند ترك الواقع، وعلى الثالث يكون العقاب
على مخالفة الواقع.
والأظهر عدم كون وجوبه نفسيا: لان الظاهر من الأدلة كون التعلم مقدمة للعمل،
كما هو صريح الخبر الوارد في تفسير قوله تعالى فلله الحجة البالغة، لا انه واجب نفسي،
بل ظاهر ذلك الخبر كونه ارشاديا، فإنه متضمن لافهام العبد بما يقال له هلا تعلمت، ولو
421

لم يكن وجوبه ارشاديا، وكان نفسيا، أو طريقيا كان له ان يجيب بعدم علمه بوجوب
الفحص والتعلم، كما أجاب عن الاعتراض بعدم العمل بعدم العلم بالحكم.
مع أنه إذا ثبت عدم كونه واجبا نفسيا لا مثبت لكونه طريقيا: إذا دوران الامر
بين كون الامر طريقيا، أو ارشاديا لا معين لأحدهما.
ثم انه لا كلام في الواجبات المطلقة، انما الكلام في وجوب التعلم إذا كان
الواجب مشروطا بشرط غير حاصل، من جهة انه في ظرف امكان التعلم لم يثبت وجوب
الواجب كي يجب تعلمه مقدمة له، وفى ظرف حصول الشرط، لا قدرة على الامتثال،
وقد مر الكلام في ذلك مستوفى في مبحث وجوب مقدمة الواجب.
حكم العمل الماتى به قبل الفحص
واما الموضع الرابع: وهو البحث حول صحة العمل الماتى به قبل الفحص
وفساده، فملخص القول فيه ان من ترك الفحص وعمل فان كان عباديا ولم يتمش منه
قصد القربة لا اشكال في فساده، والا فان انكشف مخالفته للواقع، أو لم ينكشف
الخلاف والوفاق فكذلك، وان انكشف موافقته للواقع أو لما هو وظيفته صح لفرض
الاتيان بالوظيفة، فالصحة وسقوط الامر حينئذ من القضايا التي قياساتها معها.
كما أنه لا اشكال في الصحة إذا انكشف موافقة عمل الجاهل قبل التقليد للواقع
على فتوى كلا المجتهدين، أي الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل ومن يجب
الرجوع إليه فعلا.
انما الكلام في موردين، الأول: فيما إذا انكشف موافقته لفتوى من كان يجب
عليه الرجوع إليه حال العمل مع عدم مطابقته لفتوى المجتهد الفعلي أو مخالفته لها،
الثاني: فيما إذا انكشف موافقته لفتوى المجتهد الفعلي، ومخالفته لفتوى المجتهد -
الأول.
والأظهر هي الصحة فيهما: فان متعلق رأى المجتهد الفعلي هو الحكم الكلى
422

والتقليد طريق إليه فبعد مطابقة عمله، لفتوى من يجب الرجوع إليه يكون عمله مطابقا
للواقع بحسب الطريق، كما أن عمله ان كان مطابقا لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين
العمل كان عمله مطابقا للحجة، إذ لا يعتبر في الموافقة للحجة العلم بالمطابقة ولا الاستناد
إليها وتمام الكلام في مبحث الاجتهاد والتقليد.
حكم ما لو احتمل الابتلاء
بقى التنبيه على أمور الأول: انه بعد ما لا ريب في عدم لزوم الفحص فيما إذا
اطمئن بعدم الابتلاء بالواقعة التي لا يعلم حكمها، يقع الكلام فيما إذا احتمل الابتلاء،
وقد استدل لعدم لزوم الفحص حينئذ باستصحاب عدم الابتلاء، بناءا على جريانه في
الأمور الاستقبالية كما هو الحق.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره)، بان الاستصحاب انما يجرى فيما إذا كان
المستصحب بنفسه اثرا شرعيا أو موضوعا ذا اثر شرعي، واما إذ كان الأثر مترتبا على
نفس الشك والاحتمال، فلا مورد لجريان الاستصحاب، والمقام من قبيل الثاني: فان الأثر
المرغوب هو وجوب التعلم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، وهذا مترتب على
احتمال الابتلاء دون واقعه فلا يجرى فيه الأصل.
وفيه: ان وجوب التعلم انما ثبت من باب إطاعة المولى، ويكون وجوبه ارشاديا
كما مر آنفا - وعليه - فإذا جرى الاستصحاب وحكم بعدم الابتلاء يترتب عليه الأثر
- وبعبارة أخرى - ان الموضوع لوجوب الفحص والتعلم هو الابتلاء.
وأورد عليه بعض الأكابر بان الاستصحاب يختص بالأمور الماضية، فعدم الابتلاء
في المستقبل لا يكون مشمولا لأدلته.
وفيه: ان الميزان في جريان الاستصحاب تقدم زمان المتيقن على زمان
المشكوك فيه من غير فرق بين الأمور الماضية والاستقبالية وسيجئ تحقيق القول فيه
في بحث الاستصحاب.
423

واستدل الأستاذ للزومه باستهجان تخصيص الأدلة الدالة على وجوب التعلم
بموارد العلم أو الاطمينان بالابتلاء لندرتها فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء
ثابتا بالدليل، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل العملي.
وفيه: ان المسائل التي يعلم الابتلاء بها في غاية الكثرة.
فالحق ان يستدل لوجوبه بالعلم الاجمالي بابتلائه فيما بقى من عمره بما لا يعلم
حكمه، وهو مانع عن جريان الأصل في موارد الشك.
معذورية الجاهل المقصر في الجهر والاخفات
الثاني: المشهور بين الأصحاب صحة صلاة من اجهر في موضع الاخفات،
وبالعكس، ومن أتم في موضع القصر إذا كان منشأه الجهل بالحكم وان كان عن تقصير،
ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك الفحص.
وصار ذلك عويصة بأنه كيف يعقل الجمع بين الحكم بالصحة، وعدم وجوب
إعادة الواجب مع بقاء الوقت، والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب.
وذكروا وجوها في رفع هذه العويصة، منها: ما افاده المحقق الخراساني
- وحاصله - انه يمكن ان يكون الماتى به في حال الجهل خاصة مشتملا على مقدار من
المصلحة ملزمة في نفسه، ويكون الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة وزيادة
ملزمة أيضا، ولكن لا يمكن تداركها عند استيفاء تلك المصلحة، فالمأتي به غير مأمور به
للامر بالأهم، ويحكم بصحته لاشتماله على المصلحة، ولا يجب إعادة الواجب الواقعي
لعدم امكان استيفاء الباقي، ويحكم باستحقاقه العقاب، لأجل ان فوت المصلحة الملزمة
مستند إلى تقصير العبد في ترك التعلم.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بان الخصوصية الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل
الماتى به في حال الجهل ان كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب فلا يعقل
سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية خصوصا مع امكان استيفائها في الوقت.
424

ودعوى عدم امكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء، واضحة الفساد: إذ لا يعتبر
في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها الموجودة في المقام، الا إذا كان ثبوت
المصلحة في الواجب مشروطا بعدم سبق الماتى به من المكلف، وهو خلف إذ يلزم منه
خلو الواجب عن المصلحة في حال الجهل، فلا موجب لاستحقاق العقاب، وان لم يكن
لتلك الخصوصية، دخل في حصول الغرض فاللازم هو الحكم بالتخيير بين العلمين غايته
ان يكون الواجب أفضل فردي التخيير ولا وجه لاستحقاق العقاب.
وفيه: ان الخصوصية الزائدة، وان كانت دخيلة، الا انها دخيلة في كمال المصلحة
لا في أصلها، وانما يسقط الواجب لعدم استيفاء الكامل، ودعوى: ان المصلحتين
لا تضاد بينهما الا من ناحية عدم القدرة على متعلقهما وهي متحققة على الفرض، مندفعة:
بان المقدور هو صورة العمل دون حقيقته.
ومنها: ما افاده الشيخ الكبير وهو الالتزام بالترتب، بتقريب ان الواجب على
المكلف، أولا هو القصر مثلا، وعلى تقدير تركه فالتمام مأمور به فلا تنافى بين الحكم
بالصحة، واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأول.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بوجوه 1 - ان الخطاب المترتب لا بد وأن يكون
موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه، وفى المقام إذا التفت إلى كونه عاصيا ينقلب
الموضوع، والا لا يعقل ان يكون الحكم محركا له.
وفيه: انه لم يرد دليل على لزوم كون الموضوع هو العصيان، بل الترتب ممكن مع
كون الموضوع للخطاب المترتب هو الترك، كما مر تفصيل ذلك في الجزء الثاني من هذا
الكتاب، والالتفات إلى الترك مع عدم انقلاب الموضوع ممكن.
2 - ان وجوب الصلاة لا يكون مختصا بوقت خاص، بل هو ثابت موسع بين
المبدأ والمنتهى فعصيانه لا يمكن الا بخروج الوقت وانقضائه ففي أثناء الوقت لا يعقل
فعلية الحكم الثاني، وقد ظهر مما أوردنا على الأول، الايراد على ذلك أيضا.
3 - ان الالتزام بالترتب لو أمكن لا دليل على وقوعه، وفى المتزاحمين انما يقتضى
اطلاق الخطابين بالتقريب المتقدم الترتب، وهذا بخلاف المقام.
425

وفيه: ان صحة الماتى به في المقام مفروغ عنها، وقد دلت النصوص عليها، وانما
الكلام في امكان ذلك مع البناء على استحقاق العقاب، فالمهم تصوير الامكان وفى هذا
المقام يكفي ما افاده (ره).
وأورد على الأستاذ بان ما ورد من أن الواجب على المكلف في كل يوم خمس
صلوات يكفي في ابطال القول بالترتب في المقام.
وفيه: ان مفاد تلك الأخبار عدم وجوب صلاة سادسة في عرض تلك الصلوات،
وهي كما لا تنافى التخيير بين القصر والاتمام في مواضع التخيير لا تنافى الترتب
في المقام.
ومنها: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو انكار استحقاق العقاب، توضيحه: ان
الجاهل بوجوب الصلاة قصرا، أو اخفاتا في مورد ثبوته، لو فرضنا انه صلى قصرا، أو
اخفاتا، وحصل منه قصد القربة، فلا يخلو الامر من الحكم بصحة صلاته أو فسادها،
فعلى الأول لا مناص من الالتزام بان الحكم الواقعي هو التخيير بين القصر والتمام، أو
الجهر والاخفات، وعليه فلا موجب للعقاب لو اتى بأحد طرفي التخيير، وعلى الثاني
لا مناص عن الالتزام بكون الصلاة، تماما أو جهرا، هو الواجب على التعيين في ظرف
الجهل، ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر أو الاخفات،
ودعوى: الاجماع عليه، مجازفة لعدم تعرض أكثر الأصحاب له، مع أنها ليست مسالة
شرعية ليصح الاستدلال به.
وما افاده (ره) وان كان لا يخلو عن اشكال، الا ان ما افاده في ذيل كلامه من عدم
الدليل على استحقاق العقاب متين جدا.
الثالث: قد عرفت ان مقتضى اطلاق أدلة الأصول خصوصا ما ورد في خصوص
الشبهة الموضوعية وصريح بعض ما ورد في الاستصحاب كصحيح زرارة، عدم اعتبار
الفحص في الرجوع إليها، الا انه ذكر جماعة ان ذلك يختص بالأحكام التي لا يتوقف
العلم بها متوقفا على الفحص، والا فيجب الفحص بدعوى ان جعل الحكم في مورد
يتوقف العلم به على الفحص، يدل بالدلالة الالتزامية وبالملازمة العرفية على وجوب
426

الفحص والا لزم اللغو في الشريعة ومثلوا لذلك 1 - ما إذا شك في تحقق الاستطاعة إلى
الحج من حيث المال أو من جهة أخرى 2 - ما إذا شك في زيادة الربح عن مؤنة السنة
3 - ما إذا شك في المسافة فقالوا يجب الفحص مع كون المورد مجرى لاستصحاب عدم
تحقق المسافة.
أقول ان الكبرى الكلية مسلمة الا ان الظاهر أنه ليست الموارد المذكورة من
صغرياتها لان حصول العلم في كل من تلك المسائل بأحد الطرفين كثير كما لا يخفى.
وقد أفاد المحقق النائيني انه يعتبر في جريان الأصول في الشبهات الموضوعية ان
لا تكون مقدمات العلم بأجمعها تامة بحيث لا يحتاج حصول العلم الا إلى مجرد النظر،
والا كما لو فرضنا ان المكلف بالصوم على السطح، ولا يتوقف علمه بطلوع الفجر الا
على مجرد النظر إلى الأفق فلا يجوز الرجوع إلى البراءة أو استصحاب عدم طلوع الفجر
بدون النظر: لان مجرد النظر لا يعد فحصا عرفا ليحكم بعدم وجوبه.
وفيه: ان مدرك عدم وجوب الفحص لو كان هو الاجماع، أو خبر دال عليه كان
ما أفيد في غاية المتانة، ولكن بما ان مدركه اطلاق الأدلة وخصوص بعض الروايات
فلا يتم ذلك لعدم اخذ عنوان الفحص أو عدمه في لسان دليل كي يرجع في تعيين مفهومه
إلى العرف، ولو استدل له بعدم صدق عنوان الجاهل والشاك وغير العالم على ذلك
المكلف، كان الولي، وان كان ذلك أيضا محل تأمل ونظر.
الكلام حول ما أفاده الفاضل التوني
ثم انه ذكر الفاضل التوني على ما نسب إليه الشيخ الأعظم (ره) انه يعتبر في جريان
أصل البراءة شرطان آخران، أحدهما: ان لا يكون اعمال الأصل موجبا لتضرر مسلم،
والا فلا يجرى ومثل له بما لو فتح انسان قفس فطار، أو حبس شاة فمات
ولدها، أو أمسك رجلا فهرب دابته فان اعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك في هذه
الموارد.
427

وأجاب عنه الشيخ وتبعه المحقق الخرساني (ره) بأنه وان لم تجر البراءة في موارد
جريان قاعدة نفى الضرر الا انه حقيقة لا يبقى لها مورد بداهة ان الدليل الاجتهادي يكون
بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا، فان كان المراد من الاشتراط ذلك فلا بد من
اشتراط ان لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر.
أقول: الظاهر أن نظر الفاضل التوني ليس إلى أن قاعدة نفى الضرر جارية في تلك
الموارد، ولذلك لا تجرى البراءة، فإنه لا تكون مجرى قاعدة نفى الضرر لوقوع الضرر فيها
لا محالة اما على المالك أو على المتلف، إذ لو حكم بالضمان تضرر المتلف ولو حكم
بعدمه تضرر المالك.
بل الظاهر أن نظره إلى ما ذكرناه في حديث الرفع من أنه وارد مورد الامتنان، وهو
انما يرفع الحكم الذي في رفعه منة على الأمة، فبالطبع لا يجرى فيما إذا لزم من جريان
البراءة تضرر مسلم أو من بحكمه: إذ لا امتنان في مثل ذلك على الأمة في رفع الحكم،
وعليه فما افاده متين لا يرد عليه ما ذكراه، واما البحث في أنه في تلك الموارد هل يكون
مقتضى قاعدة الاتلاف هو الضمان أم لا؟ فهو موكول إلى محل آخر، وعلى أي تقدير
لا تجرى البراءة عن الضمان.
الشرط الثاني: ان لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى، ومثل لذلك
بان يقال في أحد الانائين المشتبهين الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه، فإنه يوجب
الحكم بوجوب الاجتناب عن الاخر، أو عدم بلوغ الملاقى للنجاسة كرا، أو عدم تقدم
الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة: فان اعمال الأصول يوجب الاجتناب
عن الاناء الاخر أو الملاقى أو الماء.
أقول: ان ثبوت حكم شرعي من جهة أخرى يتصور على اقسام.
الأول: ان لا يكون بينهما ترتب شرعا ولا عقلا الا ان العلم الاجمالي أوجب ذلك
بينهما، كما في المثال الأول الذي ذكره الفاضل التوني، فإنه لا ترتب بين طهارة أحدهما
ونجاسة الاخر الا من ناحية العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ففي مثل ذلك لا تجرى
البراءة، لا لما افاده فان الأصل ليس حجة في مثبتاته، بل لابتلائه بالمعارض، واما المثالان
428

الآخران في كلامه فهما مثالان للاستصحاب ولا ربط لهما بالبرائة.
الثاني: ان يكون الترتب عقليا كترتب وجوب المهم على عدم وجوب الأهم بناءا
على القول بعدم امكان الترتب، فان الموجب لرفع اليد عن اطلاق دليل المهم انما هو
فعلية التكليف بالأهم الموجب لعجز المكلف عن الاتيان بالمهم، وفى مثل ذلك لو
فرض الشك في تعيين التكليف بالأهم للشك في أهميته وجرى الأصل في تعينه ولازمه
ترخيص الشارع في ترك الأهم، كان المهم واجبا لاطلاق دليله، فهو المثبت لوجوبه لا
البراءة وانما هي ترفع المانع وهو عجز المكلف، فلا مورد لاشتراط جريان البراءة بعدم
اثباته للحكم الإلزامي.
الثالث: ان يكون الترتب شرعيا بان اخذ جواز شئ مأخوذا في موضوع وجوب
شئ آخر وهذا أيضا يختلف فإنه، تارة يكون الحكم الإلزامي مترتبا على الإباحة
الواقعية ومثل المحقق النائيني (ره) لذلك بترتب وجوب الحج على عدم اشتغال ذمة
المكلف بمال الناس، وأخرى يكون الحكم الإلزامي حكما واقعيا مترتبا على مطلق
الإباحة واقعية كانت أم ظاهرية، كما في ترتب وجوب الوضوء بالماء فإنه مترتب على
اباحته سواء كانت واقعية أم ظاهرية، وثالثة يكون الحكم الإلزامي أعم من الواقعي
والظاهري مترتبا على الإباحة أعم من الواقعية والظاهرية، كما في ترتب وجوب الحج
على الاستطاعة وإباحة المال الذي به صار المكلف مستطيعا، فلو حكم بإباحة المال
لأصل من الأصول وجب الحج ظاهرا، ولو انكشف الخلاف وعدم اباحته انكشف عدم
كونه مستطيعا من الأول.
ففي الصورة الأولى لا يترتب على الأصل الجاري الحكم الإلزامي: لعدم ثبوت ما
يترتب عليه بالأصل، وهذا ليس بالاشتراط، وفى الصورة الثانية يترتب على الأصل ذلك
الحكم الإلزامي لتحقق موضوعه غاية الامر يكون الالزام ظاهريا، وفى الصورة الثالثة
يترتب الحكم الإلزامي.
والى ما ذكرناه في هذه الصور نظر المحقق الخراساني (ره) حيث قال، والإباحة أو رفع
التكليف الثابت بالبرائة النقلية لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن
429

ترتبه عليه بعد احرازه فان لم يكن مترتبا عليه بل على نفى التكليف واقعا فهي وان كانت
جارية الا ان ذلك الحكم لا يترتب لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها وهذا ليس بالاشتراط
انتهى.
ختام
نتعرض فيه لبيان قاعدة لا ضرر تبعا للشيخ الأعظم والمحقق الخراساني (ره)
في الكفاية.
430

قاعدة لا ضرر
431

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين وأفضل الصلوات وأكمل التحيات على أشرف الخلائق
محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد فلما كانت، قاعدة لا ضرر، من أهم القواعد الفقهية،
لابتناء كثير من الأحكام الشرعية عليها، ولهذا صنف فيها جمع من الفحول منهم الشيخ
الأعظم، رسالة مستقلة، وقد حررت في سالف الزمان، فيها رسالة، بعد القاء ما يتعلق بها
إلى فريق من أرباب العلم والفضل، فأحببت الحاقها بالكتاب، والله الموفق للصواب.
وتنقيح القول في هذه القاعدة بالبحث في مقامات 1 - في مدركها 2 - في مفادها
ومعنى العبارات التي في النصوص، - وبعبارة أخرى - في فقه الحديث 3 - في دفع ما
أورد عليها من الايرادات 4 - في التنبيهات المبينة لحدود هذه القاعدة، والمشتملة على
بعض ما يتفرع عليها مما عنونه الفقهاء، مستدلين عليها بها 5 - في بيان حالها مع الأدلة
الاخر المعارضة لها 6 - في حكم الاضرار بالنفس.
بيان مدرك القاعدة
اما المقام الأول: فقد ورد فيها روايات كثيرة، ففي الرسائل قد ادعى فخر الدين
في الايضاح في باب الرهن تواتر الاخبار على نفى الضرر والضرار، ولكن في الرسالة
المستقلة المعمولة في هذه القاعدة بعد نقل ذلك عن الفخر، ذكر انه لم يعثر عليه، وكيف
كان فالروايات الواردة في القاعدة كثيرة.
منها: موثق ابن بكير الذي رواه المشايخ الثلاثة باسناد بعضها صحيح عن زرارة
عن الإمام الباقر (ع) ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار وكان
433

منزل الأنصاري بباب البستان يمر به إلى نخلته ولا يستأذنه فكلمه الأنصاري ان يستأذن إذا
جاء فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (ص) فشكا إليه وخبره الخبر
فأرسل إليه رسول الله (ص) وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال إذا أردت الدخول
فاستأذن فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى ان يبيع فقال (ص) لك به
عذق يمد لك في الجنة فأبى ان يقبل فقال رسول الله (ص) للأنصاري اذهب فاقلعها وارم
بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار (1).
ومنها: ما رواه ابن مسكان عن أبي جعفر (ع) المتضمن لقضية سمرة، وهو نحو ما
تقدم الا انه قال، فقال له رسول الله (ص) انك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن،
قال ثم امر بها فقلعت ورمى بها إليه فقال له رسول الله (ص) انطلق فاغرسها حيث شئت (2).
ومنها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن الصيقل عن أبي عبيدة الحذاء قال أبو
جعفر (ع) وقد نقل القضية نحو ما تقدم، الا انه قال (ص) بعد الامتناع، ما أراك يا سمرة
الا مضارا، اذهب يا فلان، فاقطعها - فاقلعها خ - واضرب بها وجهه (3)، وهذا الخبر وان لم
يشتمل على جملة - لا ضرر ولا ضرار - الا انه متضمن لصغرى القاعدة، واستنتج منها،
الامر بقلع الشجرة.
ثم انه لا كلام في أن هذه الأخبار الثلاثة تحكي عن قصة واحدة، والظاهر منها انه
كان لسمرة حق العبور إلى نخلته من البستان، وكان استيفاء حقه، بلا اذن من الأنصاري،
اضرارا به، ولم يرض سمرة، بالجمع بين الحقين.
ومنها: ما رواه المشايخ الثلاثة باسنادهم عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قضى
رسول الله (ص) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال لا ضرر ولا ضرار، وقال
إذا ارفت الارف وحدت الحدود فلا شفعة (4).

1 - الوسائل ج 17 - ص 341 و 340 - باب 12 من أبواب احياء الموات.
2 - المصدر المتقدم.
3 - المصدر المتقدم.
4 - الوسائل ج 17 - ص 319 - باب 5 من أبواب الشفعة.
434

ومنها: ما رواه في الكافي باسناده عن عقبة بن خالد عن الإمام الصادق (ع) قضى
رسول الله (ص) بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نقع الشئ وقضى بين أهل
البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء فقال لا ضرر ولا ضرار (1).
ومنها: خبر هارون بن حمزة الآتي، في بيان معنى الضرار.
ومنها: ما رواه الصدوق في الفقيه، قال النبي (ص) لا ضرر ولا ضرار في الاسلام
فالاسلام يزيد المسلم خيرا، ولا يزيد شرا (2).
ومنها: خبر دعائم الاسلام عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه عن ابائه عن أمير المؤمنين
عليهم السلام ان رسول الله (ص) قال لا ضرر ولا ضرار (3).
ومنها: خبر الدعائم عن أبي عبد الله (ع) انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه
وبين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه قال (ع) ليس يجبر على ذلك إلى أن قال، قيل له وان
كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه أو أراد هدمه اضرارا بجاره لغير حاجة منه قال (ع)
لا يترك وذلك أن رسول الله (ص) قال، لا ضرر ولا ضرار، وان هدمه كلف ان يبنيه (4).
ومنها: مرسل العلامة، انه (ص) قال، لا ضرر ولا ضرار في الاسلام (5).
منها: ما رواه شيخ الطائفة عن النبي (ص) انه قال ضرر ولا ضرار (6).
ومنها: ما رواه سيد ابن زهرة في الاحتجاج على حكم الأرش، قال ويحتج على
المخالف بقوله (ص) لا ضرر ولا ضرار (7) هذه هي الروايات الواصلة إلينا من طرق الشيعة،
وفى المقام روايات من طرق العامة أيضا.
لا حظ ما رواه أحمد بن حنبل من طريق ابن عباس، ومن طريق عبادة بن صامت

1 - الوسائل ج 17 - ص 333 - باب 7 من أبواب احياء الموات حديث 2.
2 - الوسائل ج 17 ص 377 - باب 1 من أبواب موانع الإرث حديث 10.
3 - مستدرك الوسائل، المجلد الثالث 3 ص 150.
4 - المصدر المتقدم.
5 - التذكرة في المسألة الأولى من خيار الغبن.
6 - الخلاف، كتاب البيع - باب حكم خيار الغبن.
7 - الغنية أواخر أبواب الخيار، في حكم الأرش.
435

عن النبي (ص) انه قال (ص) لا ضرر ولا ضرار راجع المسند ج 5 ص 326 و 327.
ورواه النووي في الأربعين عن أبي سعيد سعد بن مالك الخزرجي، وذكر ان ابن
ماجة، والدار قطني، رويا الحديث مسندا.
ورواه مالك في الموطأ عن عمر بن يحيى عن النبي (ص) مرسلا ثم قال وله طرق
يقوى بعضه بعضا، راجع المجالس السنية في شرح الأربعين النووية ص 98 مجلس 32.
وما رواه ابن الأثير في النهاية انه (ص) قال، لا ضرر ولا ضرار في الاسلام.
هذه جميع ما وصلنا من النصوص وهناك نصوص متضمنة للنهي عن الاضرار
بالغير، كجملة من الآيات، نتعرض لها في آخر الرسالة، وانما المهم في المقام تنقيح
القول في الجملة المذكورة في هذه النصوص، وتمام الكلام في هذا المقام في جهات.
سند الحديث
الأولى: لا ينبغي التوقف في أن هذه الجملة صدرت عن النبي (ص)، وذلك لوجوه.
الأول: صحة بعض طرق الحديث كالخبر الثاني: فان رجال سنده كلهم عدول،
ثقات، اما ميون بالاتفاق عدى ابن بكير، وهو من الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما
يصح عنهم فهو بمنزلة الصحيح أو أعلى منه، وبعض آخر منها وستقف عليه.
الثاني: اشتهار الحديث بين الفريقين حتى ادعى بعض أصحابنا تواتره.
الثالث: استناد الأصحاب إليه ونقله في كتبهم على وجه الاعتماد عليه.
متن الحديث
الثانية: في تشخيص متن الحديث المروى في أكثر النصوص قوله (ص) لا ضرر
ولا ضرار بلا زيادة كلمتي - في الاسلام - و - على مؤمن، وقد أضيف كلمة على مؤمن في
الخبر الأول، وحيث انه ضعيف لأنه رواه محمد بن خالد عن بعض أصحابنا عن ابن
436

مسكان عن زرارة، فهو مرسل، فلا يعتمد عليه.
واما كلمة في الاسلام، فقد أصر شيخ الشريعة الأصفهاني (قده)، على عدم وجودها
في شئ من طرق الخاصة والعامة.
وفى مقابله ادعى بعض معاصريه، استفاضة الحديث مع هذا القيد، واسند إلى
المحققين دعوى تواتر هذا الحديث مع هذه الزيادة.
والحق ان القولين افراط وتفريط: لوجودها في جملة من الاخبار، منها مرسل
الصدوق الذي هو حجة، فان الارسال على نحوين - أحدهما - ما إذا كان التعبير بلفظ
روى ونحوه، ثانيهما: ما إذا كان بلفظ قال وما شاكل - وبعبارة أخرى - أسند المرسل الخبر
جزما إلى من روى عنه الواسطة - والأول لا يكون حجة - والثاني حجة فان المرسل إذا
كان ثقة، اسناده إلى من روى عنه الواسطة كاشف عن ثبوت الرواية عنده إذ لا يجوز
الاسناد بغير ذلك، والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى.
ودعوى، ان التعبير بلفظ قال انما يصح مع ثبوت صدور الرواية عند المرسل ولو
من جهة القرائن، وحيث يحتمل ان تكون تلك القرائن غير موجبة للاطمينان عندنا فلا
يعتمد عليه.
مندفعة: بأنه إذا فرضنا ان الخبر الذي يراه المرسل حجة نراه حجة، ولا اختلاف
بيننا وبينه في المبنى، وحيث إن تشخيص موضوع ذلك ليس متوقفا على مقدمات بعيدة
كي يحتمل ان يكون التشخيص غلطا، فلا محالة نكتفي بثبوت الصدور عنده.
لا يقال انه يحتمل ان يكون ما رواه الصدوق إشارة إلى ما افاده النبي (ص) في ذيل
قضية سمرة، والمروى هناك يكون مجردا عن هذه الكلمة، فإنه يجاب عنه، أولا بان
مجرد الاحتمال، لا يصلح دليلا، لرفع اليد، لما يكون الخبر متضمنا له، فلعله صدر هذه
الجملة عن النبي (ص) مرتين، تارة مع الزيادة، وأخرى بدونها.
وثانيا: انه لو دار الامر، بين الزيادة، والنقيصة، يكون الترجيح لما تضمن الزيادة
فان احتمال الغفلة في الزيادة، أبعد من احتمال الغفلة في النقيصة.
وما افاده المحقق النائيني (ره) من أن تقدم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم
437

النقيصة لا يكون تعبديا صرفا بل هو من باب بناء العقلاء، وأبعدية الغفلة بالنسبة إلى
الزيادة عن الغفلة بالنسبة إلى النقيصة، وهذا انما يتم في الزيادات البعيدة عن الأذهان دون
المعاني المانوسة كما في المقام، فان نفى الضرر حيث إنه من المجعولات الشرعية،
فيتوهم الراوي اقترانه بهذه الكلمة، سيما مع ثبوتها في أغلب اقتضيته (ص).
غير تام فان الراوي إذا كان ثقة معتمدا في النقل لا يضيف إلى ما يرويه شيئا من
عنده فينحصر وجه الزيادة في الغفلة فيجرى فيه الوجه المذكور.
ولا يتوهم، ان وجود هذه الكلمة وعمه سيان لعدم الفرق في معنى لا ضرر
ولا ضرار بزيادتها ونقصها: إذ لو لم تكن في ذيل الحديث المبارك لكان المنفى أيضا هو
الحكم المجعول في الاسلام كما افاده المحقق النائيني (ره).
: لأنه إذا ثبت ان مفاد لا ضرر، نفى الحكم الضرري كان ما افاده تاما، ولكن سيأتي
ان جماعة ذهبوا إلى أن مفاده النهى عن الاضرار بالغير، ووجود كلمة في الاسلام يصلح
ردا عليهم كما سيمر عليك في محله.
فالمتحصل ان الصادر عن النبي (ص) - لا ضرر ولا ضرار - تارة مجردا وأخرى مع
زيادة كلمة في الاسلام.
موقع صدور الحديث
الثالثة: في موقع صدور الحديث، المتيقن وروده في ذيل قضية سمرة، ويحتمل
وروده مستقلا، وظاهر الأخبار المتقدمة وروده في ثلاثة مواضع اخر، أحدها ذيل قضائه
في الشفعة - ثانيها - ذيل قضائه (ص) في منع فضل الماء - ثالثها - ذيل، ما تضمن حكم
جدار الرجل الذي هو سترة بينه، وبين جارة وقد سقط عنه فامتنع من بنائه.
اما الموضع الثالث: فحيث ان الخبر المتضمن له هو خبر دعائم الاسلام، وهو
ضعيف للارسال، ولعدم ثبوت وثاقة صاحب الكتاب فلا وجه للتعرض له. واما
الموضعان الأولان، فلقد أصر شيخ الشريعة (ره) على عدم كون حديث الشفعة والناهي عن
438

منع الفضل حال صدورهما من النبي (ص) مذيلين بحديث الضرر، وان الجمع بينهما وبينه
جمع من الراوي بين روايتين صادرتين عنه (ص) في وقتين مختلفين، وتبعه في ذلك جماعة
منهم المحقق النائيني (ره)، وقد ذكروا في مقابل ظهور السياق في كون الجمع، من الجمع
في المروى لا من الجمع في الرواية، وجوها.
الأول: ما افاده شيخ الشريعة وحاصله، ان اقضية النبي (ص) مروية من طريق أهل السنة
برواية عبادة بن صامت مجتمعة وهي بعينها مروية من طرقنا برواية عقبة متفرقة
على حسب تفرق الأبواب، وحديث الشفعة، والنهى عن منع فضل الماء، ليسا مذيلين
بحديث الضرر في نقل عبادة بل هو مذكور مستقلا، وفى نقل عقبة لم يذكر مستقلا بل
في ذيلهما، وبعد كون عبادة من أجلاء الشيعة، مع ما علم من استقراء رواياته من، اتقانه،
وضبطه وان المروى عن عقبة قطع، وذكر كل قطعة منه في باب، يقطع الانسان ان حديث
الضرر مستقل.
- وبعبارة أخرى ظ انه من توافق النقلين حتى في العبارات يحدس الانسان قطعيا ان
الأقضية كما كانت مجتمعة في رواية عبادة، وكان من قبيل الجمع في الرواية لا في
المروى كما هو واضح، كانت مجتمعة في خبر عقبة بن خالد، لا سيما ان الراوي عن عقبة
في جميع الأبواب المتضمنة لتلك الأقضية المتشتة محمد بن عبد الله بن هلال، والراوي
عنه محمد بن الحسين والراوي عنه محمد بن يحيى، وهذا كله يوجب الاطمينان بعدم
وجود الذيل في حديث الشفعة والمنع من فضل الماء في خبر عقبة بل كان قضاءا
مستقلا خصوصا بعد ملاحظة ان الغاء هذا الذيل من الحديثين لا يجر نفعا، ولا يدفع ضررا
عن عبادة.
الثاني: ما افاده المحقق النائيني (ره) وهو انه لو كان من تتمة قضية أخرى في رواية
عقبة لزم خلو رواياته الواردة في الأقضية عن هذا القضاء الذي هو من أشهر قضاياه (ص).
الثالث: ما عن المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو ان لا ضرار على ما ستعرف معناها
لا يناسب، حديث الشفعة، ومنع فضل الماء.
الرابع: ان بيع الشريك ليس علة للضرر، بل ولا مقتضيا، وهكذا منه فضل الماء
439

لا يوجب الضرر، نعم لا ينتفع الممنوع، وليس عدم النفع ضررا.
الخامس: ان تضرر الشريك ببيع شريكه حصته من غيره لا يكون ضرريا الا في
بعض الموارد فبين مورد ثبوت الخيار، وتضرر الشريك بالبيع، عموم من وجه.
السادس: ان الضرر لو كان في بيع الشريك فإنما هو آت من قبل البيع نفسه فلو
كان ذلك موردا للقاعدة لزم الحكم بالبطلان، فان ثبوت الخيار جابر للضرر على تقدير
وجوده.
السابع: ان النهى في المنع من فضل الماء انما يكون تنزيهيا، فلا يندرج تحت كبرى
لا ضرر، والكل قابلة للخدشة.
اما الأول: فمضافا إلى أن عبادة وان كان من أجلاء الشيعة الا ان الرواة عنه عاميون
لم يثبت وثاقتهم: ان عبادة لم يذكر جميع أقضية النبي (ص) كيف وهو لم ينقل قضائه في
قضية سمرة، وما ذكره من لا ضرر ولا ضرار مستقلا الظاهر أنه قطع قضية سمرة، ونقل ما
في ذيلها، فلعله لم يذيل حديث الشفعة والمنع من فضل الماءة، بهذه الجملة لبنائه على
التقطيع، واتكاءا على ذكرها مستقلا.
واما الثاني: فلانه لا محذور في الالتزام بان عقبة لم ينقل هذه القضية المشهورة
كما لم ينقل قضية سمرة.
واما الثالث: فلانه ستعرف ان ضرار بمعنى التعمد في الضرر، وهذا يلائم مع
قضائه (ص) في الموردين.
مع أن الاستشهاد بالكبرى الكلية لا يجب ان يكون جميع تلك الكبرى منطبقة على
ما استشهد بها له - مثلا - نرى انه (ع) في خبر البزنطي وصفوان استشهد (ع) في رجل أكره
على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق، وصدقة ما يملك بقوله (ص) رفع ما أكرهوا عليه وما
لم يطيقوه وما أخطأوا (1)، مع أن المنطبق على المورد خصوص ما أكرهوا، ونرى أيضا، صحة
ان يجاب عمن سئلنا عن من ترك صلاته وهو نائم: بأنه رفع القلم عن الصبي والمجنون

1 - الوسائل ج 16 ص 136.
440

والنائم فليكن المقام من هذا القبيل.
واما ساير الوجوه: فلانه يمكن ان يلتزم بان لا ضرر ولا ضرار في الخبرين من قبيل
حكمة التشريع لا العلة والوجه في الالتزام بذلك مع أن الظاهر من القضية كونها علة لزوم
المحاذير المذكورة.
ودعوى انه كيف يمكن ان يكون شئ واحد مجعولا ضابطا كليا في مورد
وحكمة للتشريع في مورد آخر.
تندفع بأنه لا محذور في ذلك - الا ترى - ان نفى الحرج جعل ضابطا كليا ويرفع كل
حكم لزم منه الحرج، ومع ذلك جعل حكمة لتشريع طهارة الحديد.
فان قيل إنه يلزم ان تكون الحكمة غالبية والضرر في بيع الشريك ليس غالبيا بل
هو اتفاقي، أجبنا عنه، بان ذلك أيضا غير لازم.
ويمكن دفع الوجه الأخير، بأنه لا محذور في الالتزام بكون النهى لزوميا كما التزم
به شيخ الطائفة، توضيحه ان المعروف في تفسير حديث المنع من فضل الماء، انه يراد
منه ما إذا كان حول البئر كلاء، وليس عنده ماء غيره، ولا يتمكن أصحاب المواشي من
الرعى الا إذا تمكنوا من سقى بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعى،
فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعى، وفى هذا المورد قال الشيخ في المبسوط.
كل موضع قلنا انه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته
من السابلة وغيرهم وليس له منع الفاضل من حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعى الكلاء
الذي يقرب ذلك الماء، وانما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ما شيته فاما
لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك لكنه يستحب انتهى، ولتمام الكلام في هذه المسألة
محل آخر.
فالمتحصل انه لا محذور في كون هذه الجملة من تتمة الروايتين، فلا دافع
لظهورهما في ذلك.
ولكن الذي يرد عليهما، ان الراوي فيهما عن عقبة هو محمد بن عبد الله بن هلال
وهو مهمل، فعلى هذا المتيقن هو ورود هذه الجملة في ذيل قضية سمرة، ويحتمل
441

ورودها مستقلة أيضا.
مفاد الحديث ومعنى مفرداته
واما المقام الثاني: فالكلام فيه في موردين 1 - في مفردات الحديث أعني كلمتي،
الضرر، والضرار 2 - في معنى الجملة، من جهة دخول كلمة لا على الكلمتين.
اما الأول: فالضرر، من الألفاظ التي لها معان ظاهرة عند أهل العرف، ويعرفها كل
من مارس اللغة العربية ولا حظ موارد استعمال هذا اللفظ، وهو خلاف النفع، ويوافقه
اللغة، ففي معجم مقاييس اللغة، الضر ضد النفع، ويقال ضره يضره ضرا، ونحوه عن
الصحاح، والنهاية الأثيرية، والقاموس.
واليه يرجع ما عن المصباح ضره يضره من باب قتل إذا فعل به مكروها واضربه
يتعدى بنفسه ثلاثيا والباء رباعيا والاسم الضرر، وجعل الكراهة أعم من المعنى المذكور
خلاف ظاهر كلامه.
كما أنه يمكن ارجاع ما عن القاموس من قوله بعد تفسير الضرر بما مر، الضرر سوء
الحال، إلى ذلك.
واما ما عن المصباح، من أنه قد يطلق على نقص في الأعيان، فهو على خلاف
وضعه:
كما أن ما في معجم مقاييس اللغة، من اطلاقه على اجتماع الشئ، وعلى القوة،
خلاف وضعه ذلك كما صرح به.
وكيف كان فبما ان للضرر معنى مبينا عند العرف ويتبادر إلى الذهن عند اطلاقه،
لا وجه للرجوع إلى اللغويين، فإنه مع قطع النظر عن عدم حجية قول اللغوي: انه لو سلم
حجيته فإنما هي بملاك رجوع الجاهل إلى العالم، والرجوع إلى أهل الخبرة، فمع فرض
كون المعنى معلوما، لا مورد للرجوع كما لا يخفى.
والذي يظهر من تتبع موارد استعمال هذا اللفظ، انه عبارة عن النقص في النفس،
442

أو العرض، أو المال، وما شاكل من مواهب الحياة، بل لا يبعد دعوى صدقه، في موارد
اجتماع الأسباب، وحصول المقتضى لبعض تلك المواهب إذا منع عنه مانع.
ثم إن ظاهر جماعة من اللغويين، ان تقابل الضرر والنفع تقابل التضاد، وصريح
المحقق الخراساني في الكفاية ان تقابلهما تقابل العدم والملكة.
ولا يتم شئ منهما، اما الأول فلان الضرر كما عرفت هو النقص في المال أو
النفس أو العرض، وهو ليس أمرا وجوديا حتى يكون ضد النفع.
واما الثاني: فلان النفع ليس عبارة عن التمامية كي يكون التقابل بينه وبين النقص
الذي هو عبارة عن عدم ما من شانه التمامية، تقابل العدم والملكة، بل هو عبارة عن
الزيادة العائدة إلى من له علاقة بما فيه الفائدة العائدة إليه، فبين النفع والضرر واسطة، مثلا
لو اتجر شخص ولم يربح، ولم ينقص من ماله شئ، لا يكون هناك نفع، ولا ضرر.
واما الضرار، فالظاهر أنه مصدر باب المفاعلة من ضاره يضاره، وقد ذكر في معناه
أمور.
1 - انه المجازاة على الضرر، ففي المجمع، الضرار فعال من الضر، أي لا يجازيه
على اضراره.
2 - انه فعل الاثنين والضرر فعل الواحد، واحتمل الشيخ رجوعه إلى المعنى
الأول.
3 - انه بمعنى الضرر جئ به للتأكيد، كما صرح به جمع من اللغويين لا حظ
القاموس والمصباح.
4 - انه الا ضرار بالغير من دون ان ينتفع به، والضرر ما تضربه صاحبك وتنتفع أنت به.
5 - انه بمعنى الضيق وأطلقه عليه في الصحاح بعد اطلاق الضرر على سوء الحال.
6 - انه التصدي للاضرار، ذكره المحقق الأصفهاني، واليه يرجع ما افاده
المحقق النائيني (ره) من أنه الا ضرار العمدي، والتعمد على الضرر والقصد إليه.
أقول الظاهر إرادة المعنى الأخير منه - لا - لما افاده المحقق الأصفهاني (ره) من أن
ما اشتهر بين القوم من أن الأصل في باب المفاعلة انه فعل الاثنين وان الفرق بينه وبين
443

باب التفاعل بعد اشتراكهما في أنهما فعل الاثنين، ان باب المفاعلة هو فعل الاثنين، مع
الأصالة من طرف والتبعية من طرف آخر، وباب التفاعل هو فعل الاثنين مع الأصالة
والصراحة من الطرفين مما لا أصل له، كما يشهد به الاستعمالات الصحيحة القرآنية
وغيرها، فان فيها ما لا يصح ذلك فيه، وفيها ما لا يراد منه ذلك منه ذلك كقوله تعالى " يخادعون الله
والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم " (1) فان الغرض نسبة الخديعة منهم إلى الله تعالى،
والى المؤمنين لا منهما إليهم، وقوله تعالى " ومن يهاجر في سبيل الله " (2) ويرائون، وناديناه،
ونافقوا، وشاقوا، ولا تؤاخذني، إلى غير ذلك، وان مفاد هيئة المفاعلة غير مفاد هيئة
التفاعل، وانه لا يتقوم بطرفين، بل هيئة المفاعلة وضعت لإفادة ان التعدية إلى الاخر
ملحوظة في مقام إفادة النسبة، بخلاف هيئة المجرد، فان تلك الحيثية ولو كانت داخلة في
مفادها كما في الفعل المجرد الثلاثي، كخدع غير ملحوظة، فإذا فعل فعلا كان اثره خداع
الغير، صدق عليه انه خدعه لا انه خادعه، الا إذا تصدى لخديعته فالضرار هو التصدي
للاضرار.
فان هذه الأمور ليست برهانية بل لا بد فيها من الرجوع إلى أهلها، وقد صرح أهل
الفن، بان الأصل في باب المفاعلة ان يكون فعل الاثنين، واستعمال تلك الهيئة في غير
ذلك انما يكون مع القرينة، كما في الأمثلة المشار إليها.
بل الوجه في إرادة المعنى الأخير في الحديث، ان فعل الاثنين لا ينطبق على
مورده للتصريح فيه بان سمرة مضار، ولم يقع المضارة بين الأنصاري، وسمرة، كما أن
إرادة المجازاة لا تنطبق عليه، مضافا إلى عدم تعاهدها من هذه الهيئة، والتأكيد المحض
خلاف الظاهر، والضيق ليس معناه قطعا كما هو واضح.
فيتعين ما افاده وهو الذي يظهر بالتتبع في موارد استعماله، مع القرينة على عدم
إرادة فعل الاثنين، كقوله تعالى " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا (3) " فان قوله لتعتدوا شاهد

1 - البقرة آية 9.
2 - النساء آية 100.
3 - البقرة آية 232 و 234.
444

كون الضرار هو التعمد للاضرار بقصد الاعتداء وقوله تعالى " لا تضار والدة بولدها ولا
كولود له بولده " (1) فان المراد به النهى عن اضرار الام بالولد بترك الارضاع غيظا على أبيه
وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه من أمه طلبا للاضرار وقوله تعالى " وما هم بضارين به من
أحد الا بإذن الله " (2) وكونه بمعنى التعمد في الاضرار بالسحر مما لا يخفى. وقوله تعالى
" من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار (3) " فان المراد النهى عن الاضرار بالورثة،
بالاقرار بدين ليس عليه، وقوله عز وجل " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا (4) "، وقد أخبر الله
تعالى ان المنافقين بنوا المسجد الذي بنوه ضرارا وقصدوا به المضارة ولذلك كان قبيحا
ومعصية، وفى التبيان، الآية تدل على أن الفعل يقع بالإرادة على وجه القبح دون الحسن،
أو الحسن دون القبح.
وقوله عز وجل " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (5) " في التبيان معناه لا تدخلوا الضرر
عليهن بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة لتضيقوا في السكنى والنفقة
وامر بالسعة والمضارة المعاملة بما يطلب به ايقاع الضرر بصاحبه.
وقول الإمام الصادق (ع) في خبر هارون بن حمزة الغنوي في بعير مريض اشتراه
رجل بعشرة دراهم وشاركه الاخر بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى ان برأ البعير وبلغ
ثمنه ثمانية دنانير، لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فان قال أريد الرأس والجلد فليس له
ذلك هذا الضرر (6) فان طلب الرأس والجلد في الفرض ليس الا بقصد الاضرار بالشريك،
وقد أطلق (ع) على الضرار.
وقول النبي (ص) في الحديث مخاطبا لسمرة، انك رجل مضار، فان المراد به انك
متعمد في الاضرار بالأنصاري.

1 - المصدر المتقدم.
2 - البقرة آية 97.
3 - النساء آية 16.
4 - التوبة آية 107.
5 - التوبة آية 107.
6 - الوسائل ج 13 ص 49.
445

وبالجملة التتبع في موارد استعمال هذه المادة المتهيئة بهيئة باب المفاعلة مع
القرينة على عدم إرادة فعل الاثنين، والتأمل في الخبر يوجبان الاطمينان بان المراد بكلمة
ضرار في الحديث ما افاده العلمان، فيكون حاصل قوله (ص) لا ضرر، ولا ضرار نفى أصل
الضرر ولو مع عدم التصدي للاضرار، ونفى التصدي للاضرار.
مفاد الجملة بالحاظ تصدرها بكلمة لا
واما الثاني: وهو مفاد الجملة بلحاظ كونها متصدرة بكلمة - لا - ودخولها على
الكلمتين، فقد ذكروا فيه وجوها.
1 - ما يظهر من اللغويين وشراح الحديث، واختاره صاحب العناوين، وشيخ
الشريعة الأصفهاني (ره) وهو إرادة النهى من النفي ومرجعه إلى تحريم الاضرار.
2 - ما نسبه الشيخ الأعظم (ره) إلى بعض الفحول، وهو ان المنفى الضرر المجرد غير
المتدارك، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر.
3 - ما اختاره المحقق الخراساني، وهو كونه من قبيل نفى الحكم بلسان نفى
الموضوع، كما في قوله لا رهبانية في الاسلام - ولا ربا بين الوالد والولد - وما شاكل،
فمفاد الحديث، نفى الأحكام إذا كانت موضوعاتها ضررية.
4 - ما اختاره الشيخ الأعظم وتبعه جمع من الأساطين منهم المحقق النائيني، وهو
ان المفاد كل حكم ينشأ منه الضرر سواء أكان الضرر ناشئا من نفس الحكم كما في لزوم
العقد الغبني، أم من متعلقه كما هو الغالب. اما بان يكون مجازا من باب ذكر المسبب،
وإرادة السبب كما يظهر من الشيخ (ره)، أو من باب الاطلاق الحقيقي نظرا إلى كون النفي
تشريعيا لا تكوينيا، كما افاده المحقق النائيني، واما بان يكون اطلاق الضرر على الحكم
الموجب له من باب الحقيقة الادعائية.
5 - ما هو المختار، وهو ان المنفى كل حكم نشأ منه الضرر، أو كان موضوعه
ضرريا.
446

6 - ما عن بعض الأعاظم وهو ان الحكم سلطاني، سيمر عليك توضيحه.
اما الوجه الأول
فغاية ما قيل في توجيه انه كما يصح الاخبار عن وجود الشئ في مقام الامر به،
كذلك يصح الاخبار عن عدم شئ في مقام النهى عنه، وقد شاع استعمال النفي وإرادة
النهى، كما في قوله تعالى لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج (1) وقول رسول الله (ص)
لا سبق الا في خف أو حافر (2) وقوله (ص) لا هجرة فوق ثلاث (3) وقوله (ص) لا جلب ولا جنب
ولا شغار في الاسلام (4) وقوله (ص) لا منع، ولا اسراف، ولا بخل، ولا اتلاف (5) ونحوها
غيرها من الجملات الناهية بلسان النفي، وهي كثيرة.
وهذا الوجه وان كان يكفي في رد المحقق الخراساني حيث قال، وإرادة النهى من
النفي لم يعهد من مثل هذا التركيب، الا انه لا يفي باثبات المطلوب: وذلك لان إرادة النهى
من النفي انما يكون بأحد وجهين.
أحدهما: استعمال الجملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق ما تصدر بكلمة لا،
في الخارج كناية عن مبغوضيته، وحرمته، نظير الاخبار عن ثبوت الشئ في الخارج كناية
عن محبوبيته، وفى هذا التعبير الكنائي لطف، ويفيد المراد بوجه آكد، الا ترى انه لو كان
الأب في مقام بيان زجر ابنه عن الكذب، قال لا كذب في بيتي، يكون آكد في إفادة
المراد بحسب المتفاهم العرفي.
ثانيهما: ان يكون ما صدره لا النافية، محكوما بالجواز في الشرايع السابقة، أو عند
العقلاء، وأريد نفى ذلك الحكم في الشريعة المقدسة كما في لا شغار في الاسلام، ولا

1 - البقرة آية 197.
2 - الوسائل ج 13 ص 348.
3 - الوسائل ج 8 ص 584.
4 - الوسائل ج 14 ص 229.
5 - عوالي اللئالي ج 1 ص 296 الطبع الحديث.
447

رهبانية في الاسلام (1) ولا رأى في الدين (2) فان الأول، وهو ان يقول الرجل للرجل زوجني
ابنتك حتى أزوجك ابنتي على أن لا مهر بينهما كان أمرا متعارفا عند العقلاء، وكذلك
القياس والرأي وقد نفاهما الشارع، والرهبانية كانت مشروعة في الشريعة السابقة، فقد
نفى شرعيتها في الاسلام.
وشئ منهما لا مورد له في الحديث، اما الأول: فلان حمل اللفظ، أو الهيئة
والجملة على إرادة المعنى الكنائي، خلاف الظاهر لا يلتزم به الا مع عدم امكان إرادة
المعنى الحقيقي، أو القرينة على عدم ارادته، كما في قوله تعالى، لا رفث، ولا فسوق، ولا
جدال في الحج.
واما الثاني: فلان الاضرار بالغير لم يكن جائزا في شريعة من الشرايع السابقة، ولا
عند العقلاء، فإرادة النهى من النفي في الحديث لا تصح.
أضف إلى ذلك كله، انه في بعض الروايات كلمة، في الاسلام، موجودة في ذيل
قوله (ص) لا ضرر ولا ضرار، وهي ظرف لغو متعلق بفعل عام مقدر، وهو، موجود، وهذا
لا يلائم مع إرادة النهى من كلمة لا، بان يكون معنى الحديث، حرمة الاضرار في الاسلام:
إذ الاسلام لا يكون ظرفا لا ضرار الناس بعضهم ببعض، الا على تكلف بعيد.
مع أن إرادة النهى من الحديث، لا يلائم مع قضية سمرة، إذ حرمة الاضرار،
لا تنطبق على ما امر (ص) به، من قلع الشجرة، والرمي بها وجهه كما هو واضح، فهذا الوجه
ضعيف.
واما الوجه الثاني
فغاية ما قيل في توجيهه، ان الأصحاب ذكروا في باب الضمان انه لو تلف العين
المضمونة يجب على الضامن تداركها اما بالمثل أو القيمة، وذكروا ان ذلك بمنزلة أداء

1 - مجمع البيان ج 10 ص 242 ومجمع البحرين في ذيل كلمة رهب.
2 - الوسائل ج 18 ص 33.
448

نفس العين التي يجب أدائها، بمقتضى حديث على اليد - وعليه - فإذا حكم الشارع
الأقدس بلزوم تدارك الضرر، صح تنزيل الضرر الموجود منزلة المعدوم، ويقال لا ضرر.
وأورد عليه الشيخ الأعظم (ره)، بان الضرر الخارجي، لا ينزل منزلة العدم بمجرد
حكم الشارع بلزوم تداركه، وانما المنزل منزلته الضرر المتدارك فعلا.
وفيه: ان المدعى يدعى ان الشارع يحكم باشتغال الذمة بالبدن، فكأنه يكون
البدل موجودا في الخارج فعلا، لا انه حكم بوجوب التدارك تكليفا محضا.
والصحيح ان يورد عليه: بان اشتغال الذمة، وان صح جعله، منشئا للتنزيل لكنه نفى
تنزيلي لا حقيقي، وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه الا مع القرينة.
مع أنه يلزم من الالتزام بذلك تأسيس فقه جديد: فان مجرد الاضرار بالغير من
دون اتلاف مال منه لا يوجب الضمان - الا ترى - انه لو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر
أموالا كثيرة، لم يجب تداركه لا تكليفا، ولا وضعا.
واما الوجه الثالث
فقد أفاد المحقق الخراساني في توجيه كونه الظاهر من الحديث، بان الظاهر أن
يكون لا لنفى الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقة أو ادعاءا كناية عن نفى
الآثار كما هو الظاهر من مثل لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد (1) ويا أشباه الرجال
ولا رجال (2) فان قضية البلاغة في الكلام هو إرادة نفى الحقيقة ادعاءا لا نفى الحكم أو
الصفة، والمنفى في الحديث هو الضرر، وحيث لا يمكن إرادة نفى الحقيقة، حقيقة
فليكن من قبيل نفى الحقيقة ادعاءا بلحاظ نفى الحكم والآثار، فمفاد الحديث، نفى
الموضوع الضرري بلحاظ نفى حكمه.
والمتأخرون عنه أوردوا عليه بايرادات 1 - ما افاده جماعة، وحاصله، ان نفى

1 - الوسائل ج 3 ص 478.
2 - نهج البلاغة ص 65 خطبة 25.
449

الحكم بلسان نفى الموضوع، انما يصح في موارد ثلاثة.
الأول: كون الموضوع المنفى بنفسه، ذا حكم شرعي بحسب، عموم دليل أو
اطلاق شامل له كما في قول الإمام أمير المؤمنين (ع) ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين
السيد وعبده ربا (1) فان الربا محكوم بالحرمة بحسب الأدلة، فيكون حينئذ دليل النفي
ناظرا إلى نفى شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه.
الثاني: كون العنوان المنفى علة للفعل الذي هو موضوع للحكم بحسب عموم
دليل أو اطلاق، كما في قول رسول الله (ص) رفع عن أمتي تسعة أشياء، الخطاء، والنسيان
الحديث (2) فيكون النفي، نفيا للمعلول، بلسان نفى علته فيدل على أن الفعل الصادر في
حال الخطاء أو النسيان، كأنه لم يصدر في الخارج فيرتفع عنه الحكم.
الثالث: ما إذا كان العنوان المنفى عنوانا ثانويا للموضوع ذي حكم، كعنوان
الطاعة، في قوله (ع) لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).
والمقام لا يكون من قبيل شئ من هذه الموارد، اما الأول فلانه ان أريد نفى
الحكم المترتب على الضرر بنفسه، لادى ذلك إلى خلاف المقصود، ويستلزم جواز
الاضرار بالغير، لعدم كونه حينئذ ضررا شرعا، أضف إليه ان موضوع الحكم يمتنع ان
يكون رافعا له لكونه مقتضيا له، وان أريد منه نفى الحكم المترتب على الفعل المعنون
بعنوان الضرر، فيرده ان الضرر ليس عنوانا للفعل، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه.
واما الثاني: فلان الضرر ليس علة للفعل، بل هو معلول له ومسبب عنه.
واما الثالث: فلما أشير إليه من أن الضرر لا يحمل على الفعل الخارجي، كالوضوء،
والصوم، وما شاكل، بل هو مسبب عنه ومترتب عليه، وعلى الجملة ما هو موضوع
الحكم، هو العنوان المنطبق على الفعل الخارجي لم يرد عليه النفي، وما ورد عليه النفي
لم يرفع حكمه قطعا.

1 - الوسائل ج 12 ص 436.
2 - الوسائل ج 11 ص 295.
3 - الوسائل ج 8 ص 111.
450

ويتوجه عليه ان نفى العنوان الثانوي تشريعا واخراجه عن عالم التشريع، تارة
يكون حقيقيا، وأخرى يكون من قبيل نفى المسبب بلسان، والمقام من قبيل
الثاني، لان هذا المقدار من خلاف الظاهر مما لا بد من الالتزام به، حتى على مسلك
المستشكلين، الذي اختاروه تبعا للشيخ، من أن المنفى هو الحكم الضرري، إذ الحكم
أيضا سبب للضرر، فلو أريد نفى الحكم الضرري لا محالة يكون نفيا للمسبب بلسان نفى
سببه.
ودعوى ان الحكم سبب توليدي وعلة للضرر، والمسبب التوليدي من العناوين
المنطبقة على السبب مثلا الاحراق الذي هو مسبب توليدي ينطبق على سببه وهو الالقاء،
فإذا كان الحكم سببا للضرر، ينطبق عنوان الضرر على الحكم فعلى هذا المسلك لا يلزم
الالتزام بخلاف الظاهر بخلافه على المسلك الاخر، كما عن المحقق النائيني (ره).
غريبة، فان المسبب التوليدي في المثال ليس هو الاحراق، فإنه وصف منتزع من
ترتب الحرقة، عليه بل المسبب هو الخرقة، وهي لا تنطبق على الالقاء، وبالجملة، السبب،
والمسبب موجودان منحاذان لا يعقل انطباقهما على شئ واحد، فالضرر ينشأ من الحكم
ولا ينطبق عليه وانما المنطبق على الحكم عنوان المضر والضار.
بل إرادة نفى الموضوع الضرري، أظهر من إرادة نفى الحكم الضرري، فان
الموضوع سبب للضرر ونفى المسبب بنفي سببه شايع، واما الحكم فقد يكون سببا كما
في لزوم العقد في المعاملة الغبنية، وقد يكون من قبيل المعدلة لوساطة إرادة المكلف
واختياره، كايجاب الوضوء على من يتضرر به فان الحكم ليس سببا للضرر لوساطة إرادة
المكلف فان له لا يتوضأ فلا يقع في الضرر.
ودعوى ان إرادة المكلف حيث تكون مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث،
فبالآخرة ينتهى الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول الأخير إلى العلة الأولى، لا
كانتهائه إلى المعد كما عن المحقق النائيني.
مندفعة، بان الإرادة، ليست معلولة للحكم، بل هي ناشئة عن مباديها، والحكم انما
يكون جعلا لما يمكن ان يكون داعيا لها، من قبيل المعد للإرادة، لا العلة.
451

وعليه، فلو أريد من الحديث نفى الحكم الضرري بنحو يلتزم به هؤلاء الا علام
لا بد من الالتزام بكونه نفيا، للجامع بين السبب والمعد، بلسان نفى المسبب، ولا أظن كون
هذا الاستعمال متعارفا، أو له مماثل.
2 - ما افاده المحقق النائيني، وحاصله ان نفى الحكم بلسان نفى الموضوع، تارة
يكون نفيا بسيطا واردا لسلب ذات الشئ، وأخرى يكون نفيا تركيبيا واردا لسلب شئ
عن شئ.
فان كان من قبيل الأول، يعتبر في صحته قيود ثلاثة. الأول كون الموضوع ذا
حكم، اما في الجاهلية، أو في الشرايع السابقة أو في هذه الشريعة بحسب عموم دليل، أو
اطلاق شامل له - والا - فلا معنى لنفى الحكم بلسان نفى موضوعه. الثاني: كونه عنوانا
اختياريا، كالرهبانية، حتى يكون نفيه التشريعي، موجبا لنفيه التكويني. الثالث: كون
الحكم المنفى هو الحكم الجائز، والا، أنتج نفى الحكم بلسان نفى الموضوع، ضد
المقصود في بعض المقامات، كما في مورد اتلاف مال الغير، فإنه لورود في هذا المقام،
قوله لا ضرر يكون مفاده، ان هذا الفرد الصادر خارجا من المتلف لا حكم له، كما هو
مفاد قوله (ع) لا سهو في سهو.
وان كان من قبيل الثاني، أي كان النفي تركيبيا، واردا لسلب شئ عن شئ، فهو
يكون تخصيصا بلسان الحكومة، - وبعبارة أخرى - النفي تحديد لما اخذ موضوعا لذلك
الحكم المنفى بما عدى مورد النفي، فمثل قوله (ع)، لا شك لكثير الشك، يدل على
اختصاص البناء على الأكثر بغير كثير الشك.
ولا يمكن الالتزام بشئ منهما في - لا ضرر - اما الثاني: فلعدم كون السلب سلبا
تركيبيا، نعم لو كان الخبر بلسان، لا موضوع ضرريا، لكان من قبيل لا شك لكثير الشك.
واما الأول: فلان الضرر وان كان اختياريا، الا ان حكمه السابق، حيث لا يكون
بالنسبة إلى الاضرار بالغير إباحة، بل هو اما تحريم، أو قبح، فإرادة نفى الحكم بلسان نفى
الموضوع، ينتج ضد المقصود في الموارد المشار إليها، كما في مورد اتلاف مال الغير.
وفيه: انه بعد فرض كون الحديث نفيا للسبب بلسان نفى المسبب، كما هو أساس
452

هذا الوجه، فقوله (ص) لا ضرر، في قوة لا وضوء ضرريا، ولا عقدا ضرريا، وهكذا ساير
الموضوعات الضررية، فيكون سلبه تركيبيا، ولا محذور فيه.
3 - ان كلمة، ى الاسلام، الموجودة في بعض النصوص المعتبرة، تدل على أن
المنفى هو الحكم الضرري، إذ لا معنى لكون الموضوع ضرريا في الاسلام.
وفيه: ان هذه الكلمة تنفى احتمال كون، لا، نهيا كما مر مفصلا، ولا تصلح قرينة
لتعين كون المنفى هو الحكم، بل هي قرينة على كون النفي تشريعيا لا حقيقيا، والنفي
التشريعي كما يتعلق بالحكم حقيقة، يتعلق بالموضوع كذلك ويخرج الموضوع عن عالم
التشريع، فهذه الكلمة تلائم مع كون المنفى كل من الحكم أو الموضوع.
فالمتحصل مما ذكرناه، ان شيئا مما أورد على ما اختاره المحقق الخراساني لا يرد
عليه.
نعم، يرد عليه ان هذا الاستعمال وان كان صحيحا وشايعا، الا انه لا وجه
لتخصيص المنفى بالموضوع الضرري، بل مقتضى اطلاقه البناء على ارتفاع كل ما هو
ضرري كان هو الحكم أو الموضوع.
ودعوى ان اسناد النفي إلى الحكم حقيقي واسناده إلى الموضوع مجازي حيث إن
المنفى في الحقيقة حكمه فلو كان المراد من الحديث هو الأعم لزم اجتماع اسنادين،
مجازي، وحقيقي في اسناد واحد، وهو غير معقول.
مندفعة: بان المراد بالنفي النفي التشريعي وهو كما يستند حقيقة إلى الحكم يستند
حقيقة إلى الموضوع باخراجه عن عالم التشريع، وبما ذكرناه ظهر ما في.
الوجه الرابع
الذي اختاره الشيخ والمحقق النائيني، فإنه لا وجه لجعل المنفى خصوص الحكم
الضرري.
وقد استدل المحقق النائيني (ره) لهذا القول، أي كون المنفى هو كل حكم أوجب
453

الضرر، بما يتضح ببيان أمور.
الأول: ان النفي إذا تعلق بشئ، فان كان ذلك حكما شرعيا، كان النفي نفيا بسيطا:
لان الأحكام الشريعة من الأمور الاعتبارية النفس الامرية، ووجودها التكويني، عين
تشريعها، فاثباتها، أو نفيها، راجع إلى إفاضة حقيقتها، وإيجاد هويتها، أو اعدامها عن
قابلية التحقق، فعلى هذا يكون نفيها من السلب البسيط، وان كان من الأمور الاختراعية،
أو الأمور الدائرة بين العقلاء، المتعلق بها الامضاء، فحيث ان قابليتها للجعل اختراعا، أو
تأسيسا، أو امضاءا أو تقريرا، عبارة عن تركيب أنفسها، أو محصلاتها، دون إفاضة هويتها
وإيجاد حقائقها، فلا محالة، يكون النفي الوارد عليها من السلب التركيبي، فالمجعول
فيها نفس النفي دون المنفى.
ثم إن السلب التركيبي على قسمين، قسم ينفى فيه هذه المهيات عن شئ،
كقوله (ع) لا صلاة الا بطهور، وقسم عكس ذلك، أي ينفى فيه شئ عن هذه المهيات، كما
في لا شك في المغرب، ولا رفث في الحج وما شاكل، وفى القسم الأول: يفيد النفي،
الجزئية، أو الشرطية، وفى القسم الثاني، المانعية: فان نفى الماهية عن شئ، معناه عدم
تحقق الماهية بدون ذلك، واما نفى شئ عن الماهية، فمعناه ضدية وجود هذا الشئ
فيها، أي الماهية قيدت به، وكيف كان فينتج النفي في القسمين الفساد من غير استعمال
النفي في نفى الصحة، وفى نفى الكمال، في مثل لا صلاة لجار المسجد الا في غير المسجد،
هذا فيما يكون قابلا لان يتعلق به الجعل من حيث النفي أو المنفى، واما ما لا يقبل ذلك
كالأمور الخارجية، فلا بد وأن يكون ذا حكم، لولا هذا النفي ليكون النفي بلحاظه، وهو
انما يكون بأحد وجهين، اما بان يكون بنفس عنوانه موضوعا لحكم عند العرف
والعقلاء، أو في الشرايع السابقة، والنفي واردا لا لغاية كقوله (ع) لا رهبانية في الاسلام
وما شاكل مما ورد لنسخ الأحكام السابقة، والغائها عن الاعتبار، واما بان يكون مندرجا
لولا هذا النفي في عموم، أو اطلاق، وكان النفي واردا لاخراج ذلك الفرد عن موضوع
العام أو المطلق كقوله (ع) لا شك لكثير الشك، ولا شك في نافلة، والقسم الأول من النفي
البسيط، والثاني من النفي التركيبي.
454

الثاني: ان الضرر من العناوين الثانوية للحكم، لأنه من المسببات التوليدية،
والمسبب التوليدي ينطبق على السبب، فان قيل إن ما ذكر يتم في مثل لزوم العقد الذي
هو السبب للضرر، ولا يتم في مثل وجوب الوضوء على من يتضرر به، فان السبب
هو الوضوء، ووجوبه من قبيل المعد، قلنا: ان إرادة المكلف حيث كانت مقهورة في عالم
التشريع لهذا البعث والجعل، وقد اشتهر ان الممتنع الشرعي، كالممتنع العقلي، واللابدية
الشرعية، كاللابدية العقلية، فبالآخرة ينتهى الضرر إلى البعث والجعل كانتهاء المعلول
الأخير إلى العلة الأولى لا كانتهائه إلى المعد، فالعلة التامة لوقوع المكلف في الضرر هي
الجعل الشرعي.
الثالث: ان اسناد النفي إلى الحكم حقيقي، ويكون النفي مستعملا في معناه
الحقيقي بلا رعاية عناية، بخلاف اسناده إلى الموضوع فإنه يحتاج إلى رعاية عناية.
فنتيجة هذه الأمور ظهور قوله (ص) لا ضرر ولا ضرار، في إرادة نفى الحكم
الضرري، فإنه بذلك يتحفظ على ظهور لا النافية في ما هو معناه الحقيقي، من دون ان
يلتزم بخلاف الظاهر في مدخولها، بان يكون من قبيل استعمال المسبب وإرادة سببه، كي
: يرد عليه ما افاده المحقق الخراساني، بأنه ليس من الشايع المتعارف في المحاورات
التعبير عن نفى السبب بنفي مسببه، لما ذكرناه من أن الضرر عنوان ثانوي للحكم، ونفى
العنوان الثانوي وإرادة العنوان الأولى، ليس من باب المجاز فان اطلاق المسبب التوليدي
على سببه شايع متعارف في المحاورات العرفية.
في كلامه مواقع للنظر 1 - ما افاده من انطباق المسبب التوليدي على سببه الذي قد
مثل، له بانطباق الا يلام على الضرب، والاحراق على الالقاء في النار: فإنه يرد عليه ما تقدم
من أنهما موجودان بوجودين، وليسا من قبيل العنوانين المنطبقين على المعنون الواحد،
والا يلام، والاحراق ليسا مسببين، بل المسبب هو الا لم، والحرقة، وبديهي عدم انطباقهما
على الضرب والالقاء.
2 - ما ذكره من أنه من جهة مقهورية العبد في الإرادة، يكون وساطتها، كوساطة
الامر غير الاختياري، غير مانع من استناد المعلول إلى علته الأولى، فإنه يرد عليه، ما تقدم
455

من أن الحكم انما يكون داعيا إلى الإرادة، واختياريتها محفوظة، فهو من قبيل المعد.
3 - ما افاده من ظهور النفي في إرادة نفى الحكم، فإنه بعد فرض كونه النفي
تشريعيا، لا تكوينيا، يكون نسبته إلى الحكم والموضوع على حد سواء، وسيأتي زيادة
توضيح لذلك، وعليه فلا وجه لجعل المنفى خصوص الحكم.
الوجه الخامس
ومما ذكرناه ظهر ان مفاد الحديث نفى مطلق الامر الضرري موضوعا كان أم
حكما، وهو الوجه الخامس ونزيده ظهورا ببيان أمرين.
الأول: ان المنفى في المقام هو ما يوجب الضرر، وهذا المقدار من العناية مما لا بد
منه، كان المنفى هو الحكم الضرري، أو الموضوع الضرري وقد مر توضيحه، وعرفت ان
ما افاده المحقق النائيني من أن الضرر من العناوين الثانوية للحكم غير تام.
الثاني: ان وجود الضرر في الخارج غير ملازم لاستعمال النفي، في غير معناه
الحقيقي، أو ظهوره في نفى الحكم، بل النفي متعلق بالضرر في عالم التشريع، فاستعمل
في معناه، أريد بالمنفي الحكم، أو الموضوع، اما على الأول فواضح، واما على الثاني،
فلان المراد من النفي، هو اخراج الموضوع عن عالم التشريع، توضيحه، ان الصفات
التعلقية، كالشوق، والحب وكذلك الاعتبارات، لا يعقل ان تتحقق الامضائه إلى
الماهيات، وتلك الماهيات تتحقق بنفس تحقق هذه الامر ونظير تحقق الماهية بالوجود
الخارجي، والذهني، فوجودها انما يكون بوجود هذه، واعدامها في الحقيقة انما يكون
باعدام هذه، نظير اعدام الماهية في الخارج، فإنه يكون باعدام الوجود.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه ان الحديث ظاهر في إرادة نفى الامر الضرري
سواء كان موضوعا أم حكما.
456

بقى الكلام في الوجه السادس
وحاصل ما أفيد في وجهه، ان هذه الحكم ليس حكما تشريعيا بل هو حكم
سلطاني حكم به (ص) لمقام سلطنته الممضاة، من قبل الله تعالى، بمنع اضرار الناس بعضهم
ببعض.
توضيحه ان للنبي (ص) مقامات ثلاثة 1 - مقام النبوة، وتبليغ الرسالة، وهو من هذه
الجهة مبين للمعارف وحاك للأحكام الشرعية 2 - مقام القضاوة، وهو انما يكون في
مقام تنازع الناس في الحقوق والأموال 3 - مقام السلطنة والرئاسة، كنصب امراء الجيوش
والقضاء وأشباه ذلك.
ومن المعلوم ان حكمه (ص) في قضية سمرة بنفي الضرر ليس من الأول، ولا الثاني:
إذ لم يكن لسمرة ولا للأنصاري، شك في الحكم التكليفي أو الوضعي، أو تنازع في حق
اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أو الحكم، وانما اشتكى الأنصاري وتظلم
وانتصر منه (ص) بما انه سلطان على الأمة، فامر (ص) بقلع النخلة حسما لمادة الفساد، وعقبه
بلا ضرر ولا ضرار، فهذا حكم سلطاني عام بعد الحكم الخاص، ومفاده انه لا يضر أحد
غيره في حوزة رعيتي والتابعين لي، لا بما انه حكم من الأحكام الشرعية بل بما انه حكم
من قبل السلطان.
ويرد على أمور 1 - ان مال هذا الوجه، إلى الوجه الأول وهو، إرادة النهى من
النفي، وكونه في مقام بيان تحريم الا ضرار، فيرد عليه جميع ما أوردناه على الوجه الأول.
2 - ان هذا الموضوع الكلى الذي حكم عليه، بحكم سلطاني، هل له حكم شرعي،
أم لا حكم له؟ لا سبيل إلى الثاني: لما ثبت بالضرورة انه (ص) لم يدع موضوعا الا وبين
حكمه وعلى الأول، كان حكمه الجواز، أو المنع، لا وجه لتوهم الأول، فيتعين الثاني،
ومعه لا يبقى مورد للحكم السلطاني.
3 - ان اعمال السلطنة انما يكون في الموارد الخاصة التي ترتبط بمصالح الأمة مما
457

لا يندرج تحت ضابطه كلية القضاة، وأمراء الجيوش، وما شاكل فان تعيين ذلك
وتطبيقها على مواردها الجزئية التي لا ضابطة لها بيده (ص) على ما يراه مصلحة للعباد،
ولا سبيل إلى جريان ذلك في الموضوعات الكلية.
4 - ان الظاهر من قضية سمرة ان النزاع بينه وبين الأنصاري كان من ناحية
الاختلاف في الحكم، فان سمرة كان يرى الاستيذان من الأنصاري، منافيا لسلطنته، فيما
كان له من حق العبور إلى نخلته، ولذا قال استأذن في طريقي إلى عذقي، والأنصاري كان
يرى أن له الزامه بذلك، فرجعا إلى النبي (ص) فحكمه انما يكون من باب القضاء، والظاهر أن
الأصحاب أيضا فهموا منه ذلك ولذلك ذكروا هذه أقضية في أقضية النبي (ص).
تطبيق حديث لا ضرر على قضية سمرة
اما المقام الثالث: وهو في دفع ما أورد على الاستدلال بالحديث من الايرادات،
وهي متعددة جملة منها واضحة الدفع لا حاجة إلى التعرض لها، وانما المهم منها اثنان.
الأول: ان حديث لا ضرر لا ينطبق على ما ذكر من مورده وهو نزاع سمرة، مع
الأنصاري - وبعبارة أخرى - ان الميزان الكلى المبين بقوله (ص) لا ضرر ولا ضرار، لا ينطبق
على مورده، فلا بد اما من رفع اليد عن ظاهره، أو اخراج المورد، وعلى التقديرين لا يصح
الاستدلال به.
والوجه في ذلك ما افاده الشيخ في رسالته المعمولة في هذه القاعدة، وحاصله، ان
الضرر في تلك القضية انما كان في دخول سمرة بغير استيذان من الأنصاري، ولم يكن في
بقاء عذق سمرة في البستان ضرر، ولذا امره (ص) أولا بالاستيذان من الأنصاري، ومع ذلك
امر (ص) بقلع العذق، فالكبرى الكلية المذكورة في الحديث لا ينطبق على مورده، فكيف
يستدل بها في غيره، وأجابوا عنه بأجوبة.
1 - ما عن الشيخ (ره) وهو ان عدم انطباق التعليل على الحكم المعلل، لا يخل
بالاستدلال.
458

وفيه: ان عدم انطباق الكبرى على ما ذكر موردا لها، يكشف عن عدم إرادة
ما يكون الكبرى ظاهرة فيه، والا لزم خروج المورد، فلا محالة تصير مجملة ومعه
لا يصح الاستدلال بها.
2 - ما افاده المحقق النائيني (ره)، وهو ان جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير
اذن منه، معلول لكون سمرة مستحقا لا بقاء عذقه في البستان، فإذا كان المعلول ضرريا
فكما يرتفع هو بنفي الضرر كذلك يرتفع علته بنفيه، ونظير ذلك ما إذا كانت المقدمة
ضررية، فإنه كما يرتفع وينفى به وجوب المقدمة كذلك ينتفى به وجوب ذي المقدمة
فحق سمرة يسقط لكون معلوله ضرريا.
وفيه: أولا بالنقض بما إذا كانت إطاعة الزوج ضررية للزوجة، فان لازم ما افاده
نفى الزوجية التي هي العلة لوجوب الإطاعة، أو إذا اضطر إلى شرب النجس، فان لازم ما
افاده نفى النجاسة به وغير ذلك من الموارد.
وثانيا: - بالحل - وهو انه لا يستلزم ضررية المعلول، ضررية العلة كي ترتفع بنفي
الضرر فلا وجه لنفيها، وهذا بخلاف المقدمة الضررية: فان ضرريتها تستلزم ضررية ذي
المقدمة فيرتفع وجوبه ابتداءا لكونه ضرريا.
3 - ما افاده المحقق النائيني (ره) أيضا وتبعه غيره، وهو ان المستفاد من الرواية
أمران، الأول عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري بغير استيذانه، الثاني حكمه (ص) بقلع
العذق والمستند إلى الضرر، والصغرى لهذه الكبرى انما هو الحكم الأول خاصة،
والحكم الثاني انما هو من جهة ولايته (ص) على أموال الأمة وأنفسهم دفعا لمادة الفساد أو
تأديبا له لقيامه مقام العناد واللجاج.
وفيه: ان الظاهر من الحديث كون المستند إلى الضرر هو الحكم الثاني كما يظهر
لمن راجعه.
فالحق في الجواب ان يقال انه بعد ما لم يرض سمرة بالاستيذان وكان حفظ
عرض الأنصاري متوقفا على قلع العذق وكان حفظ العرض أهم في نظر الشارع من حفظ
المال طبق (ص) نفى الضرر على حفظ سلطنة الأنصاري لعرضه المقتضى ذلك لقلع العذق،
459

فما هو المستند إلى الضرر حفظ الأنصاري لعرضه لا نفى سلطنة سمرة على عذقه.
وان شئت فقل انه بعد ما لم يرض سمرة، بالاستيذان ولا بالمعاملة على عذقه، كان
الموجب للضرر، هو بقاء عذقه، وعدم جواز قلعه، فعموم نفى الضرر طبق عليه، ولأجله
جاز.
مع أن اجمال ما تضمن قضية سمرة، من النصوص غير مضر بالاستدلال
بالنصوص المتضمنة لهذه الجملة خاصة كمرسل الصدوق المتقدم الذي عرفت اعتباره.
هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات
الايراد الثاني: ما ذكره الشيخ في الرسائل، بقوله، ان الذي يوهن فيها، هي كثرة
التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها اضعاف الباقي، إلى أن قال بل لو بنى على
العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد.
والظاهر أن نظره في الموارد الخارجة، إلى أبواب، الحدود، والديات، والقصاص،
والتعزيرات، والضمانات، والخمس، والزكاة، والحج، والجهاد، وما شاكل، وأجيب عنه
بوجهين.
الأول: ان استقرار سيرة الفريقين، على العمل بها في مقابل العمومات المثبتة
للأحكام، وعدم رفع اليد عنها الا بمخصص قوى، يوجب جبر وهنها.
وأورد عليه بان كثرة التخصيص كاشفة عن عدم إرادة المعنى الذي استظهرناه من
أدلتها، وعملهم يكشف عن فهمهم معنى شاملا للموارد التي عملوا بها فيها، وحيث إن
ذلك المعنى ليس ظاهرا، وفهم الأصحاب ليس حجة لنا، فلا يصلح ذلك لجبر وهنها.
بعد فرض انه لا يحتمل ان يكون عمل الأصحاب كاشفا عن وجوه قرينة واصلة
إليهم غير واصلة إلينا، وان الصادر عن المعصوم (ع) هو الذي بأيدينا، جعل كثرة
التخصيص كاشفة عن عدم إرادة المعنى الظاهر، غريب: فان إرادة معنى غير ما هو الظاهر
بلا قرينة عليها، غير محتملة بالنسبة إلى المتكلم الحكيم، الذي هو في مقام بيان الحكم
460

الشرعي، فكثرة التخصيص لمعنى ان كانت مستهجنة، لا ريب في أن ذلك أشد استهجانا،
نعم ما ذكر من عدم حجية فهم الأصحاب، متين.
الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم (ره) وهو ان الموارد الكثيرة الخارجة عن العام انما
خرجت بعنوان واحد جامع لها وان لم نعرفه تفصيلا، وقد تقرر في محله ان تخصيص
الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد.
وأورد عليه المحقق الخراساني (ره) بان عدم الاستهجان فيما إذا كان الخارج بعنوان
واحد انما هو فيما إذا كان افراد العام أنواعا، والسر فيه حينئذ ان خروج عنوان واحد عن
تحت الأنواع الكثيرة ليس تخصيصا للأكثر، وان كانت افراده أكثر من افراد ساير الأنواع:
لان الملحوظ على الفرض هو الأنواع دون الافراد، وأما إذا كان افراده أشخاصا بما، ان
الملحوظ استقلالا والمجعول موضوعا هو الاشخاص، والنظر إلى الأنواع آلى، فلا
يتفاوت في الاستهجان بين كون الخارج بعنوان واحد أو بعناوين عديدة، وفى القاعدة
بما ان افراد لا ضرر، اشخاص فكثرة الخارج مستهجن، وان كان بعنوان واحد.
والصحيح ان يقال ان دليل العام إذا كان من قبيل القضية الخارجية وكان الحكم
مترتبا وواردا على كل شخص من الافراد بلا جامع بينها بحسب الملاك - مثل - قتل من
في العسكر - ونهب ما في الدار - تم ما افاده المحقق الخراساني (ره) وأما إذا كان من قبيل
القضية الحقيقية غير الناظرة إلى الافراد الخارجية المتضمنة لورود الحكم على الطبيعة،
وبلحاظ انطباقها على الافراد يشمل الحكم للافراد، فلا يتم فإنه لا نظر في القضية الحقيقية
إلى الافراد، فلا استهجان في كثرة افراد المخصص، إذ لم يلاحظ الخارج، إلى على نحو
الفرض والتقدير، ويزيد عدم الاستهجان وضوحا، إذا كان المخصص متصلا، أو متحققا
حين صدور العام، كما في المقام.
فهل المقام من قبيل الأول، أو الثاني قد يقال انه من قبيل القضية الخارجية من
جهة ان المنفى هو الضرر الناشئ من الأحكام المجعولة في الخارج كما عن
المحقق النائيني (ره).
وفيه: ان المنفى كل حكم ضرري ولا يكون الحديث ناظرا إلى خصوص الأحكام
461

التي كانت مجعولة حين صدور الحديث كما هو واضح، فهو انما يكون من قبيل القضية
الحقيقية، وعليه فيتم ما افاده الشيخ (ره) ويؤيد عدم الاستهجان، ان تلك الأحكام
المشار إليه كانت صادرة عن النبي (ص) في زمان قضية سمرة ومع ذلك لم يعترض عليه
أحد من الصحابة بجعلها في الشريعة.
ويمكن ان يجاب عن الاشكال بوجوه اخر 1 - بظهور لا ضرر ولا ضرار في نفسه
في نفى الأحكام التي لم تقتض بطبعها ضررا، فهذه الموارد خارجة عن القاعدة
بالتخصص لا بالتخصيص.
2 - ان الحكم في جملة من تلك الموارد ليس ضرريا كأبواب، الغرامات،
والجنايات، والزكاة، والخمس: فان وجوب تدارك ما أتلفه، ووجوب الدية على من
جنى أو قتل نفسا، ووجوب اخراج حق الإمام (ع) والسادات والفقراء من جهة كونهم
شركاء، انما يكون من قبيل أداء الدين، ولا يصدق عليها الضرر الذي هو عبارة عن النقص
في المال.
3 - ان الحكم المبين بحديث لا ضرر، من الأحكام الاجتماعية الاسلامية، وتلك الأحكام
انما تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامتهم، لا بلحاظ الافراد، وعليه فأكثر
الأحكام التي توهم كونها ضررية وخارجة عن تحت عموم الحديث لا تكون ضررية
بحسب النوع، الذي هو الميزان في المقام، فلا اشكال في التمسك بعموم الحديث.
الميزان هو الضرر الشخصي
واما المقام الرابع: فملخص القول فيه في ضمن تنبيهات، الأول، ان الميزان، هل
هو الضرر الشخصي فلو كان فعل واحد ضرريا على عامة المكلفين، ولم يكن ضرريا
على شخص واحد، ولم يكن من الأحكام الاجتماعية لا يحكم بارتفاعه بالنسبة إليه
خاصة، أم تكون العبرة بالضرر النوعي فالحكم في الفرض يكون مرتفعا بالنسبة إلى غير
المتضرر أيضا. والأظهر هو الأول: فان الظاهر من اخذ عنوان في الموضوع دوران فعلية
462

الحكم مدار فعلية ذلك العنوان، ولا يكفي لفعلية الحكم بالنسبة إلى شخص فعلية
الموضوع بالإضافة إلى أشخاص اخر، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية المأخوذة
في الموضوعات - الا ترى - ان وجوب الحج رتب على الاستطاعة فلو فرضنا ان أكثر أهل البلد
صاروا مستطيعين في سنة، غير واحد منهم، فهل يتوهم النباء على وجوبه عليه أيضا،
وهذا من الوضوح بمكان وقد استدل للثاني بوجهين.
1 - ان الأصحاب استلوا بها على خيار الغبن، مع أن المعاملة الغبنية لا تكون
ضررية دائما، بل ربما تكون المصلحة في بيع المتاع بأقل من ثمن المثل، كما إذا كان في
معرض السرقة أو الحرقة، أو لم يقدر مالكه على حفظه ولا على بيعه بأكثر من ذلك: فان
هذه المعاملة غبنية وليست بضررية، ومقتضى اطلاق كلمات الأصحاب ثبوت الخيار فيها
أيضا فيستكشف من ذلك أن الميزان هو الضرر النوعي لا الشخصي.
وفيه: أولا، ان منشأ ثبوت خيار الغبن ليس هو قاعدة لا ضرر كما حقق في محله.
وثانيا: ان الظاهر صدق الضرر في الفرض، فان هذه المعاملة بملاحظة الجهات
الخارجية وان كانت أقل ضررا من حفظ المتاع، الا انها من حيث إنها معاملة تكون
ضررية، إذ لا يتصور الغبن من دون الضرر.
وثالثا: ان التزام الفقهاء في المورد المفروض، بالخيار مع قطع النظر عن الأدلة
الاخر، غير ثابت.
ورابعا: ان الظاهر من الحديث، نفى الحكم الموجب للضرر اما في النفس أو
المال، والضرر المالي قد يكون موجبا للضرر الحالي، وقد لا يكون كذلك، فشخصية
الضرر، انما هي بلحاظ المال، لا بلحاظ الشخص.
2 - انه لا ريب في أن الضرر في موارد ثبوت حق الشفعة انما يكون غالبيا ومع
ذلك أفتى الأصحاب بثبوته مطلقا، بل الإمام (ع) طبق حديث لا ضرر عليه كما تقدم فيعلم
من ذلك أن العبرة بالضرر النوعي لا الشخصي.
وفيه: ان دليل ثبوت ذلك الحق ليس هو قاعدة لا ضرر، بل النصوص الخاصة
الدالة عليه، وقد تقدم ان النص الذي في ذيله لا ضرر ولا ضرار، ضعيف السند.
463

مع أنه لو سلم تذيل تلك النصوص بهذا الذيل، ثبوت الخيار في غير مورد الضرر
لازمه فرض الضرر حينئذ حكمة التشريع، وهذا امر يمكن الالتزام به في تلك النصوص،
بخلاف الأحكام التي يلتزم بنفيها من جهة كونها ضررية لما دل على نفى الضرر، فتدبر
فإنه دقيق.
العبادات الضررية مشمولة للحديث
التنبيه الثاني: هل الحديث يشمل العبادات الضررية، أم لا؟ وجهان وقد استدل
للثاني بوجهين.
1 - انه في بعض النصوص كلمة، على مؤمن، موجودة في ذيل جملة لا ضرر
ولا ضرار، والظاهر منها، حينئذ ان المنفى هو الحكم الذي يتضرر به الغير، واما ما يتضرر
به الانسان نفسه، كما في العبادات الضررية، فخارج عن تحت تلك الجملة.
وفيه: انه قد عرفت عدم وجود كلمة على مؤمن في شئ من الاخبار، الا في
مرسل ضعيف غير حجة، فالقيد الموجب لخروج العبادات الضررية، غير ثابت.
مع أنه لو سلم وجودها في نص معتبر، بما ان هناك ما يكون مطلقا ولا يحمل
المطلق على المقيد في المثبتين، ففي العبادات الضررية يتمسك بالنص المطلق لنفى
أحكامها.
2 - ان الضرر هو النقص في المال أو النفس أو ما يتعلق به مع عدم حصول نفع في
مقابله، واما ما يحصل في مقابله نفع، فلا يكون ضررا، ومعلوم ان الامر بالشئ في حال
الضرر. الثابت بعموم الدليل أو اطلاقه، يدل على العوض، فلا يكون ضررا.
وأجيب عنه: بان الامر متعلق بنفس تلك الماهية كالصلاة ولازمه تحقق الاجر في
مقابل تلك الماهية، واما حصول عوض في مقابل الضرر واجر له فلا دليل عليه.
وأورد عليه الشيخ الأعظم بأنه لو سلم وجود النفع في ماهية الفعل أو في مقدماته،
كان الامر بذلك الفعل أمرا بالتضرر أمرا بالتضرر والاجر بإزائه.
464

والحق في الجواب ان الضرر هو النقص الدنيوي غير المتدارك بنفع كذلك، واما
النفع الأخروي فهو الموجب للامر بالتضرر ولا يكون مخرجا له عن كونه ضررا، فالأظهر
شموله لها، مع: ان المراد بالعوض اما الاجر الأخروي، أو المصلحة الكامنة في فعل
العبادة، اما الاجر فثبوته تابع للامر وبعد تقييد اطلاق دليل الامر بالعبادة بحديث لا ضرر
يكون الامر تابعا ومتوقفا على عدم كون العبادة ضررية، فلو توقف ذلك على الاجر كان
ذلك دورا واضحا، واما المصلحة فحيث ان الدليل ليس في مقام بيانها بل في مقام بيان
الامر وانما تستكشف هي من ثبوت الامر بناءا على مسلك العدلية من تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد في المتعلقات، فثبوت المصلحة انما يتوقف على ثبوت الامر، وهو
يتوقف على عدم الضرر، فلو كان ذلك متوقفا على ثبوت المصلحة لزم الدور، فالعوض
الأخروي، والمصلحة لا يصلحان لجبر الضرر فتدبر فإنه دقيق.
الاقدام لا يمنع عن شمول الحديث
التنبيه الثالث: لا اشكال في شمول الحديث، لما إذا كان السبب للتضرر، هو
الحكم الشرعي بلا دخل لما هو فعل اختياري للمكلف فيه.
انما الكلام فيما إذا كان للفعل الاختياري دخل فيه فإنه قد اختلفت كلمات القوم
في موارده، ويتوهم التنافي بين فتاوى القوم فيها.
وقد صرح غير واحد في جملة من التكليفيات بان الاقدام على الضرر لا يوجب
عدم حكومة القاعدة عليها.
وقالوا انه من أجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل مضرا له ان هذا الاقدام لا يوجب
عدم جريان قاعدة لا ضرر.
وانه إذا صار المكلف باختياره سببا لمرض أو عدو يتضرر به سقط وجوب الصوم
والحج.
وانه لو أحدث المتوضئ مع كون الوضوء ضرريا لا يجب عليه الوضوء.
465

وأيضا صرح غير واحد في الوضعيات وفى غير مورد من التكليفيات بان الاقدام
يمنع عن حكومة القاعدة لا حظ.
مسالة ما لو اقدام انسان ونصب اللوح المغصوب في سفينته: فإنه قالوا انه يجوز
لمالك اللوح نزع لوحه وان تضرر مالك السفينة بنزعه بلغ ما بلغ، وانه يجب على مالك
السفينة رد اللوح وان تضرر، وعللوه بأنه أقدم على الضرر.
ومسألة العلم بالغبن، فإنهم يفتون بثبوت اللزوم، ويعللون عدم شكول القاعدة له
: بأنه أقدم على الضرر.
ومسألة ما لو استأجر شخص أرضا إلى مدة وبنى فيها بناءا أو غرس فيها شجرا،
يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة: فإنهم قالوا ان لمالك الأرض هدم البناء وقلع الشجر وان
تضرر به المستأجر.
وكذا لو غرس أو بنى من عليه الخيار في الملك الذي تعلق به حق الخيار، فإنهم
أفتوا بأنه لذي الخيار هدمه أو قلعه إذا فسخ العقد الخياري وان تضرر به من عليه الخيار
إلى غير ذلك من الفروع.
وكيف كان ففي المقام أقوال 1 - ما ذهب إليه جمع من متأخري المتأخرين، وهو
ان الاقدام يمنع عن شمول القاعدة مطلقا 2 - ما اختاره جماعة، وهو عدم المانعية كذلك
3 - التفصيل بين الاقدام بفعل محرم، والاقدام بفعل جائز، وان الأول مانع عن الشمول
دون الثاني 4 - التفصيل بين التكليفيات، والوضعيات، وهو مانع في خصوص الأولى 5 -
التفصيل الذي اختاره المحقق النائيني.
وقد استدل للأول: بان الحديث انما يرفع الحكم الذي يكون سببا للضرر، وفى
الفرض، السبب هو الاقدام لأنه الجزء الأخير للعلة دون الحكم.
: وبان جماعة من الأصحاب أفتوا بلزوم الغسل على من أجنب نفسه مع العلم
بكون الغسل ضرريا.
: وبتسالم الأصحاب على أن خياري العيب، والغبن، يسقطان، في صورة علم
المغبون بغبنه، وما لو علم المشترى بالعيب، ولا وجه لذلك سوى الاقدام.
466

وفى الكل نظر، اما الأول: فمضافا إلى كونه أخص من المدعى، لما سيمر عليك
عند بيان ما افاده المحقق النائيني.
يرد عليه: انه قد عرفت ان المنفى بحديث لا ضرر، كل ما أوجب الضرر كان هو
الحكم أو الموضوع، فعدم استناد الضرر إلى الحكم مع كون المتعلق أو الموضوع
ضرريا، لا يوجب عدم شمول الحديث.
واما الثاني: فلان من أفتى بوجوب الغسل في الفرض انما استند إلى النص
الخاص (1) فلا يقاس ساير الموارد به.
واما الثالث: فلان مدرك ثبوت خياري العيب والغبن، ليس هو قاعدة لا ضرر، بل
المدرك فيهما، الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء في معاملاتهم من سلامة المبيع،
وتساوى المالين في المالية مع التبدل في الأشخاص، والأخبار الخاصة في خيار العيب (2)
واختصاص الوجهين بصورة الجهل واضح.
مع: انه لو سلم كون المدرك هو قاعدة لا ضرر فبما ان القاعدة انما تنفى الحكم
الذي في رفعه منة، ومع العلم بالغبن، والعيب لا يكون رفع اللزوم امتنانيا فلا تشمله
القاعدة.
واستدل للثالث وهو ان الاقدام بفعل حرام مانع عن شمول القاعدة بخبر عبد
العزيز الآتي، عن الإمام الصادق (ع) عمن اخذ أرضا بغير حقها وبنى فيها قال يرفع بنائها
وتسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق، بدعوى ان الجملة الأخيرة كناية عن كل
ما وضع بغير حق، فكل موضوع بغير حق وعلى وجه محرم لا احترام له، فلا تشمله
القاعدة لخروج هذا المال عنه تخصصا، إذ القاعدة تنفى الضرر على المال المحترم.
وبقول الإمام علي (ع) في نهج البلاغة الآتي، الحجر الغصب في الدار رهن على
خرابها.
لكنهما أخصان من المدعى لاختصاصهما بالأموال، وعدم شمولها لما إذا تضرر

1 - الوسائل ج 2 ص 986.
2 - الوسائل ج 12 ص 362.
467

الغاصب بغير ما وضع على المغصوب، واستدل للرابع، بان القاعدة امتنانية، ولا امتنان في
رفع الصحة واللزوم مع العلم بالضرر بخلاف باب التكليفيات، وقد ظهر ما فيه مما قد مر
واما لقول الخامس: الذي اختاره المحقق النائيني، فملخصه انه للاقدام صور ثلاث،
الأولى، الاقدام على موضوع يتعقبه حكم ضرري، كما لو أجنب نفسه مع العلم بان
الغسل يضره، أو شرب دواءا يعلم بأنه يصير سببا لمضرية الصوم، الثانية، ان يكون
الاقدام على نفس الضرر، كالاقدام على البيع الغبني، الثالثة ان يكون اقدامه على امر
يكون مستلزما لتوجه الحكم الضرري إليه، سواء كان الحكم قبل الاقدام فعليا، كما لو
غصب لوحا ونصبه في سفينته، أو لم يكن كذلك، ولكنه يعلم بتحققه بعد ذلك، كما لو
بنى في الأرض المستأجرة سنة مثلا، أو غرس فيها شجرا يبقى فيها بعد انقضاء مدة
الإجارة.
واختار عدم مانعية الاقدام في الصورة الأولى، وكونه مانعا في الأخيرتين.
وذكر في وجه المانعية في الصورة الأولى، ان السبب للضرر فيها، هو الحكم
الشرعي، والاقدام انما هو من قبيل المعد وفى المرتبة السابقة على الحكم، ولا يكون
واسطة بين الحكم والضرر، مثلا في المثالين لولا حكم الشارع بوجوب الغسل، والصوم
لم يكن الشخص متضررا بالاجناب، وشرب الدواء.
وذكر في وجه المانعية في الصورة الثانية: بان منشأ الضرر إذا كان حكم الشارع
يكون منفيا بالحديث، وان كان فعل المكلف لا يكون حكمه مشمولا له، ومع العلم
بالضرر واقدامه عليه يكون منشأ الضرر فعل المكلف، فلا يشمله الحديث.
- وبعبارة أخرى -: ان الحكم في هذه الصورة ليس الا مقدمة اعدادية والمكلف
بنفسه أقدم على الضرر سواء كان العقد لازما أم جائزا، فالضرر لم ينشأ من لزوم العقد،
بل لا يصح نسبة الضرر إليه، لان الضرر الذي أقدم عليه في رتبة الموضوع للزوم فلا
يعقل ان يكون موضوعا له.
وأفاد في وجه المانعية في الصورة الثالثة، بان اختيار المكلف واقدامه ليس واقعا
في طريق امتثال الحكم حتى ينتهى الضرر بالآخرة إلى الحكم، بل الضرر مستند إلى
468

اختياره واقدامه، مثلا في المثالين، الضرر انما ينشأ من اقدام المكلف على البناء، أو الزرع
لا من وجوب رد المغصوب إلى مالكه فارغا ووجوب رد الأرض المستأجرة فارغة مع
العلم بانقضاء زمان الاستحقاق قبل كمال الزرع والشجر في نفسه، هذا ملخص ما افاده
بتوضيح منا.
ويرد عليه أمور 1 - ما تقدم من أن المنفى ليس خصوص الحكم الضرري، بل لو
كان موضوع الحكم ضرريا يرفع حكمه بالحديث.
2 - انه في الاقدام على المعاملة الغبنية لو تم ما افاده فإنما هو بالنسبة إلى الصحة،
واما لزومها فهو يكون منشئا لبقاء الضرر، إذ لو كانت المعاملة جائزة وتمكن المكلف
من التخلص عن الضرر بالفسخ لا يكون الضرر باقيا، فحكم الشارع باللزوم ضرري يكون
مشمولا للحديث.
3 - انه في الصورة الثالثة يكون المقدم عليه هو الموضوع لوجوب تخليص
الأرض، الذي هو ضرري، ومن المعلوم ان وجوب التخليص غير وجوب رد المال إلى
صاحبه، وهو انما يتوجه بعد الاقدام، فالاقدام من قبيل المعد لا من قبيل الجزء الأخير
للعلة، فلا بد من الالتزام بشمول الحديث له حتى على مسلكه.
فالمتحصل من مجموع ما ذكرناه أظهرية القول الثاني وان الاقدام من حيث هو
لا يكون مانعا عن شمول الحديث.
ويمكن ان يستدل له مضافا إلى ما مر بان المنفى في الحديث عنوانان، الضرر،
والضرار، وقد مر ان الضرار، هو التعمد إلى الضرر والقصد إليه، فيمكن ان يقال ان
قوله (ص) لا ضرار باطلاقه يدل على نفى الحكم الضرري مع الاقدام، فتأمل.
رد المغصوب مع تضرر الغاصب
ثم انه لا باس بالتعرض لفرع مناسب للمقام، وهو انه ذهب جماعة من الأصحاب
إلى وجوب رد اللوح المغصوب، إذا نصبه الغاصب في السفينة، وان تضرر منه الغاصب،
469

واستدلوا له بوجوه.
1 - ما افاده المحقق النائيني، وهو ان الهيئة الحاصلة من نصب اللوح، لا تكون
مملوكة للغاصب، لأنه لا يكون مالكا لتركيب السفينة مع غصبية اللوح، فرفعه لا يكون
ضرريا، لان الضرر عبارة عن نقص ما كان واجدا له.
وفيه: انه وان لم يصدق الضرر من هذه الجهة، الا انه ربما يوجبه من نواح اخر،
كما إذا حصل من رفع الهيئة النقص في ساير اجزائها، أو الخلل في محمولاتها، ومقتضى
اطلاق كلمات الأصحاب جواز الرفع حتى في تلك الموارد.
2 - ما افاده الشيخ الأعظم، وهو انه كما يكون احداث الغصب حراما، وان تضرر
الغاصب بتركه، ولا يصح ان يقال ان الغاصب يتضرر بتركه، فحرمة الغصب منفية
بالحديث، كذلك يكون ابقائه حراما، لان دليل حرمة الابقاء هو دليل حرمة الاحداث،
فلا يصح ان يقال بجواز الابقاء من جهة تضرر الغاصب بتركه، فيجب الرد لذلك.
3 - خبر عبد العزيز محمد الدراوردي عن الإمام الصادق (ع) عمن اخذ أرضا بغير
حقها، وبنى فيها قال (ع) يرفع بنائه وتسليم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق ثم قال
قال رسول الله (ص) من اخذ أرضا بغير حق كلف ان يحمل ترابها إلى المحشر (1).
وما عن نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (ع) الحجر الغصب في الدار رهن على
خرابها (2).
هل الضرر مانع عن صحة العبادة، أو العلم به مانع
التنبيه الرابع: هل المنفى بقاعدة لا ضرر، هو الضرر الواقعي وان لم يعلم به، فلو
توضأ باعتقاد عدم الضرر، أو صام كذلك، وكان مضرا واقعا لم يصح وضوئه ولا صومه،
أم يكون المنفى هو الضرر المعلوم، فلو اعتقد عدم تضره بالوضوء فتوضأ ثم انكشف

1 - الوسائل ج 17 ص 311 باب 3 من أبواب الغصب.
2 - الوسائل ج 17 ص 309 باب 1 من أبواب الغصب.
470

انه تضرر به صح وضوئه، أم يكون المنفى هو الضرر المعلوم بان يكون العلم جزء
الموضوع، كما هو ظاهر الشيخ الأعظم في الرسالة حيث إنه قال بعد كلام له متعلق بالمقام
فتحصل ان القاعدة لا تنفى الا الوجوب الفعلي على التضرر العالم بتضرره، وجوه
وأقوال.
أقواها الأول: لان المنفى في الحديث هو الضرر، والظاهر منه هو الضرر الواقعي
كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات، لان الألفاظ موضوعة
للمعاني النفس الامرية، من غير دخل للعلم فيها، فالعبرة في رفع الحكم، كونه،
أو موضوعه ضرريا في المواقع، وان لم يعلم به المكلف.
وقد استدل الشيخ لدخل العلم بالضرر في النفي، بأنه مع اعتقاد عدم الضرر
الحكم الواقعي لم يوقع المكلف في الضرر ولذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب واقعا على
هذا المتضرر، كما لو توضأ باعتقاد عدم تضرره لوقع في الضرر فلم يستند تضرره إلى
جعل هذا الحكم، والحديث انما يرفع الحكم الذي يكون سببا وعلة للضرر، فالحديث
لا يشمله.
وفيه: ان الحديث كما يرفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر كذلك ينفى كل حكم
كان موضوعه ضرريا، ومن الواضح ان الوضوء في الفرض ضرري.
مع أنه يرد عليه انه لو سلم كون المرفوع هو الحكم الذي ينشأ منه الضرر، يكون
العبرة في الرفع بكون الحكم بنفسه، أو بامتثاله ضرريا، ولا ينظر إلى ما في الخارج من
الضرر، وانه من أي سبب تحقق، ومعلوم ان الحكم المزبور ضرري بامتثاله.
وأضف إليه ان هذا الوجه لو تم لدل على مانعية اعتقاد الضرر عن شمول القاعدة
ولا يدل على شرطية العلم بالضرر.
ويظهر من كلمات الشيخ، وجه آخر لذلك، قال في الرسالة بعد ذكر الوجه
المتقدم، فنفيه ليس امتنانا على المكلف وتخليصا له من الضرر، بل لا يثمر الا تكليفا له
بالإعادة بعد العمل والتضرر انتهى.
وحاصله، ان حديث نفى الضرر لوروده في مقام الامتنان يختص بما في رفعه
471

تسهيل وارفاق ومن المعلوم ان رفع الحكم في الفرض يستلزم التكليف بالإعادة بعد
العمل والتضرر فلا يشمله الحديث.
ولكن يرد عليه مضافا إلى أنه مختص بما يكون له البدل وما يستلزم الإعادة كما
في الوضوء، فإنه لو شمله الحديث وانكشف الضرر لا بد من التيمم وإعادة الصلاة التي
صلاها مع ذلك الوضوء، وكما في الصوم فإنه لو صام وانكشف الضرر لا بد من قضائه
على فرض شمول الحديث ولا يتم في غيرهما، وفيهما دل الدليل على أن العبرة باعتقاد
الضرر، فان موضوع جواز الافطار المأخوذ في الاخبار (1) هو خوف الضرر الشامل
للاعتقاد بالأولوية، كما أن الروايات الخاصة (2) الواردة في موارد خاصة كالمجروح،
والمقروح، ومن يخاف العطش، تدل على كون الموضوع للتيمم هو اعتقاد الضرر أو
خوفه.
: ان هذا الوجه، كالنصوص المشار إليها لا يدل على أن الضرر الواقعي ليس
موضوعا، بل يدل على تخصيص موضوع الحديث، كما أن الجمع بين الاخبار
المشار إليها، وحديث لا ضرر، يقتضى البناء على كون كل من الضرر والعلم به موضوعا
مستقلا، وعليه فلو اعتقد عدم الضرر فتيمم، ثم تبين وجوده، صح تيممه على المختار
وبطل على المسلك الاخر، كما أنه لو اعتقد عدم مضرية الصوم، ولم يصم فإنه على
المختار لم يفعل محرما ولم يترك واجبا وان تجرى، بخلافه على المسلك الاخر.
فالمتحصل ان القاعدة انما تنفى الحكم الضرري وحكم الفعل الضرري، غاية
الامر في بعض الموارد يقيد بان لا يكون معتقدا لعدم الضرر.
هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة
التنبيه الخامس: هل الحكم بنفي الضرر من باب العزيمة، فلا يجوز الاتيان بما

1 - الوسائل ج 7 ص 153 و 155.
2 - الوسائل ج 2 ص 968 وص 997.
472

هو ضرري ولو كان عبادة لا تصح، فلو تحمل الضرر وتوضأ بطل وضوئه، أم يكون من
باب الرخصة، فيجوز الاتيان به، فلو توضأ في الفرض يصح، وجهان، بل وجوه.
وقد استدل لكونه من باب العزيمة، بوجوه بعضها يدل على حرمة ذلك الفعل،
وبعضها استشهد به لعدم الامر به فلو كان عبادة لا تصح ولا يكون الفعل الضرري حراما
الا من باب التشريع، وبعضها يختص بخصوص الوضوء.
1 - ما في الجواهر، وهو ان الاضرار بالنفس حرام، فالمأمور به إذا كان ضرريا
يكون محرما فلا محالة يرتفع امره لامتناع اجتماع الأمر والنهي، وقد استدل بذلك
لبطلان الوضوء في مفروض المثال.
وأورد عليه بان المحرم هو الضرر المترتب على الوضوء، فالوضوء محرم بالحرمة
المقدمية غير الموجبة للبعد، فلا مانع من التقرب بالوضوء.
وفيه: ان الحرمة لا بد وان تتعلق بما هو داخل تحت الاختيار وفعل المكلف، وهو
الاضرار لا الضرر، والا ضرار منطبق على الوضوء لا مترتب عليه.
فالصحيح ان يورد عليه بما سيأتي من عدم الدليل على حرمة الاضرار بالنفس
فانتظر.
2 - ما افاده المحقق النائيني، وهو انه لا ريب في صحة التيمم في الفرض، ولا ريب
أيضا في أن التيمم في طول الوضوء: فإنه علق على عدم وجدان الماء، والوضوء معلق
على الوجدان، فلو كان الوضوء أيضا مشروعا، يلزم كون ما في طول الشئ في عرضه
وكون المكلف واجدا وغير واجد، في زمان واحد، وهو محال.
وفيه: ان مشروعية التيمم علقت على عدم وجدان الماء، أو كون الماء مضرا فمع
مشروعيتهما معا، لا يلزم شئ من المحذورين.
3 - ان حديث لا ضرر، انما يوجب تقييد متعلقات الأحكام، ويدل على أن كل
حكم ضرري منفى في الاسلام، فلو كان الفعل الضرري أمرا عباديا، كالوضوء، لا يكون
مأمورا به ومع عدم الامر لا محالة لا يصح، فالوضوء الضرري باطل، وأورد عليه
بايرادات.
473

الأول: ان دليل حكم ذلك الفعل، كدليل وجوب الوضوء، انما يدل باطلاقه
بالدلالة المطابقية على أنه واجب حتى في حال الضرر، وبالدلالة الالتزامية يدل على أنه
ذو ملاك في تلك الحال، وحديث لا ضرر انما يوجب تقييد ذلك الدليل من الناحية
الأولى أي من حيث دلالته على الوجوب، واما دلالته على كونه واجدا للملاك فلا مقيد
له، إذ لو كان للكلام دلالات وظهورات سقط بعضها عن الحجية لا موجب لسقوط غيره،
فلو اتى بالوضوء بداع الملاك صح.
وفيه: ان التمسك بالاطلاق فرع كون الكلام مسوقا للبيان، وأدلة الأحكام سيقت
لبيان الأحكام، لا الملاكات غاية الامر بالبرهان العقلي يستكشف من وجود الحكم
وجود الملاك، فإذا قيد الحكم لا كاشف عن وجود الملاك أيضا.
الثاني: ان حديث لا ضرر انما ينفى اللزوم لا الجواز - وان شئت قلت - انه بناءا
على كون الاختلاف بين الوجوب والاستحباب من ناحية الترخيص في الترك وعدمه،
دليل نفى الضرر يرفع الوجوب، ويقتضي الترخيص، كما أنه بناءا على كون الوجوب
مركبا من طلب الفعل من المنع من الترك الحديث انما يرفع القيد الثاني، فالوضوء حينئذ
مطلوب ويصح لذلك.
وفيه: ان الوجوب كما حقق في محله ليس مركبا بل هو بسيط، كما أنه قد تقدم ان
الحديث لا يثبت الحكم فإنه ناف لا مثبت، وأيضا هو ينفى الحكم الشرعي دون الأحكام
العقلية، - وعليه - فلا معنى لنفى اللزوم وبقاء الجواز بمعنى نفى أحد الضدين وبقاء
الاخر، أو نفى الحكم العقلي.
الثالث: وهو يختص بالمستحب، وما هو من قبيل الوضوء، وهو ان حديث
لا ضرر، بما انه وارد في مقام الامتنان، فلا يصلح ان يكون رافعا للاستحباب إذ لا كلفة في
وضعه كي يرفعه، وانما يرفع التكاليف اللزومية، وعليه فبما ان الوضوء مع قطع النظر عن
وجوبه الغيري، مستحب نفسي على الأظهر، ومستحب غيري على المسلك المشهور بين
الأصحاب، من أن المطلوب النفسي هو الكون على الطهارة الحاصل من الوضوء، فالامر
اللزومي المتعلق به وان كان منفيا بالحديث، الا ان امره الاستحبابي يكون باقيا، فيصح
474

الوضوء الذي اتى به بداعي ذلك الامر النفسي.
فالمتحصل مما ذكرناه، ان حديث نفى الضرر، بالنسبة إلى الواجبات من قبيل
العزيمة، لا بمعنى الحرمة بل بمعنى عدم الامر بالفعل الضرري، وحيث لا يشمل
المستحبات، فالمستحبات الضررية، وما يكون فيه ملاكان، للوجوب، والاستحباب،
كالوضوء، يكون امر الاستحبابي باقيا، فيصح الاتيان به بداعي ذلك الامر لو كان عبادة،
فلو تحمل الضرر وتوضأ يصح وضوئه.
هل حديث لا ضرر يشمل عدم الحكم أم لا؟
التنبيه السادس: بعد ما لا اشكال في أنه يشمل الحديث الأحكام الوجودية
وينفيها، وقع الكلام في أنه، هل يشمل عدم الحكم لو كان ضرريا، أم لا يشمله؟، وفيه
وجهان بل قولان.
أظهرهما الثاني: فان ظاهر الحديث هو نفى ما يوجب الضرر، ومن الواضح ان
النفي لا يرد على العدم، بل لا بد وأن يكون مورده وجوديا.
والى ذلك نظر المحقق النائيني (ره) حيث قال إن حديث نفى الضرر ناظر إلى
الأحكام المجعولة في الشريعة وعدم الحكم بشئ وان كان تحت قدرة الحاكم الا انه
ليس حكما مجعولا فلا يشمله الحديث.
فلا يرد عليه ما افاده بعض المحققين من أن عدم جعل الحكم في موضع قابل
للجعل بمنزلة جعل العدم لا سيما مع ورود قوله (ع) ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم (1) فإنه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف.
: فان العدم حتى مع التصريح به ليس شيئا قابلا لورود النفي والعدم عليه، مع أن
المنفى كما مر، اما هو الحكم الموجب للضرر، أو الأعم منه ومن الحكم الذي يكون

1 - الوسائل ج 18 ص 119 باب 12 من أبواب صفات القاضي حديث 28.
475

متعلقه ضرريا، وعلى التقديرين لا يشمل عدم الحكم، فان العدم لا يكون سببا ومؤثرا، في
امر وجودي وهو الضرر في المقام، ولا شئ كي يكون له موضوع أو متعلق، وقد استدل
للأول بوجوه.
1 - ما عن الشيخ الأعظم وتبعه غيره، وحاصله ان المنفى انما هو كل ما يكون
من الاسلام، ويعامل عليه في الشريعة وجوديا كان أو عدميا، فكما انه يجب في حكمة
الشارع نفى الأحكام الضررية، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر.
ويرد عليه ان هذا الوجه انما يصلح وجها لبيان امكان ذلك، ولا يصلح وجها لبيان
شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم، إذ الظاهر تعلق النفي بما هو مجعول، ولا يكون العدم
شيئا، قابلا لان يكون متعلقا للنفي الا بالعناية وان شئت قلت، ان عدم العدم ونفيه لا يكون
مجعولا، الا بعناية جعل الوجود.
2 - ما افاده الشيخ الأعظم (ره) أيضا، وهو ان الأحكام العدمية تستلزم أحكاما
وجودية، فان عدم ضمان ما يفوته من المنافع يستلزم حرمة مطالبته ومقاصته والتعرض
له، وجواز دفعه عند التعرض له.
وفيه: ان الحديث انما يرفع ما هو ضرري، واما ما هو ملازم لأمر يكون ذلك
ضرريا، فالحديث لا يكون متكفلا لنفيه.
3 - ان العدم وان لم يستند بحسب بدوه ومفهومه إلى الشارع الا انه بحسب البقاء
مستند إلى الشارع: لأنه بقاءا قابل لان يناله يد الجعل بان يرفعه الشارع أو يبقيه، ولذا
تجرى الاستصحابات العدمية - وعليه - فالعدم بقاءا مستند إلى الشارع وإذا كان مستندا
إليه وكان ضرريا يشمله حديث لا ضرر.
وفيه: ان كون العدم بقاءا بيد الشارع، غير كونه مستندا إليه بالفعل، والذي لا بد منه
في شمول الحديث هو الثاني، فالأظهر عدم شمول الحديث للعدميات.
فرعان
وقد رتبوا على شمول الحديث للعدميات أمورا.
476

منها: انه لو حبس أحد حرا، حتى فات عمله، أو حبس حتى ابق عبده: فان حكم
الشارع بعدم ضمان الحابس ضرري على المحبوس، فينتفى ويثبت الضمان.
وفيه: ان ترخيص الحابس، وان كان ضرريا مرفوعا بالحديث ويثبت به حرمته،
بناءا على ما سيأتي من دلالة الحديث على حرمة الاضرار بالغير الا انه لو عصى الحابس
وحبسه وتضرر المحبوس، لا يدل الحديث على الضمان: لما مر من أنه لا يشمل
العدميات، وعرفت أيضا ان الاضرار ليس من موجبات الضمان.
نعم لو كان مفاد الحديث نفى الضرر غير المتدارك، كان دالا على الضمان فإنه
يتدارك به الضرر المتوجه إلى المحبوس، لكنك عرفت فساد المبنى.
ومنها: انه لو امتنع الزوج عن نفقة زوجته - قالوا - انه بناءا على شمول الحديث
للعدميات يكون يعدم جواز طلاقها بغير اذن الزوج ضرريا يشمله الحديث فيحكم بجواز
ان يطلقها الحاكم، أو غيره باذنه.
وقد تمسك الفقيه الطباطبائي في ملحقات عروته، بقاعدة نفى الضرر، لجواز
طلاق الحاكم الشرعي كل امرأة تتضرر ببقائها على الزوجية.
أقول، ان المسألة وردت فيها نصوص خاصة (1) فلا يبقى مورد للنزاع فيما يقتضيه
قاعدة نفى الضرر.
مع أنه على فرض شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم، يمكن ان يقال ان زوال
سلطنة الزوج ضرر عليه، فهو أيضا مشمول للحديث، ولا مرجح لاحد الضررين على
الاخر.
أضف إلى ذلك أن امتناع الزوج عن الانفاق ضرري، واما نفس الزوجية، وكون
امر الطلاق بيد الزوجة، فهما ليسا ضرريين.
نعم الحكم بجواز الطلاق، يوجب تدارك الضرر الناشئ من عدم الانفاق، ولو
كان المنفى هو الضرر غير المتدارك دل الحديث على جوازه ولكن قد مر ان الحديث

1 - الوسائل ج 15 ص 223، باب 1 من أبواب النفقات كتاب النكاح.
477

لا يختص به ولا يدل على لزوم التدارك، وبما ذكرناه يظهر ما في ساير ما رتبوا عليه.
حكم الشك في الضرر
التنبه السابع: إذا شك في مورد ان الحكم، أو المتعلق ضرري، أم لا؟ كما لو شك
في مضرية الصوم أو الوضوء وما شاكل ففيه وجوه وأقوال.
أحدهما: انه لو ظن بالضرر بالظن غير المعتبر يكون المورد مشمولا لحديث
لا ضرر، ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقق الخراساني.
قال في الكفاية في مبحث الانسداد نعم ربما يجرى نظير مقدمات الانسداد في
الأحكام في بعض الموضوعات الخارجية من انسداد باب العلم به غالبا واهتمام الشارع
به بحيث علم بعدم الرضا به بمخالفة الواقع باجراء الأصول فيه مهما أمكن وعدم وجوب
الاحتياط شرعا أو عدم امكانه عقلا كما في موارد الضرر انتهى.
وقال الشيخ في الرسائل نعم قد يوجد في الأمور الخارجية ما لا يبعد اجراء نظير
دليل الانسداد فيه كما في موضع الضرر الذي أنيط به احكام كثيرة من جواز التيمم
والافطار وغيرهما انتهى، وبذلك صرح في كتاب الصوم.
ولكن يرد على هذا الوجه انه يتم ان لم يكن باب العلمي مفتوحا وحيث إن قول
أهل الخبرة وهم الأطباء حجة فلا يتم ذلك.
ثانيها: انه حيث يشك في صدق الضرر، فالحديث لا يشمل فيرجع إلى عموم دليل
ذلك الحكم كدليل وجوب الوضوء والصوم، وهو الظاهر من السيد في العروة.
ولكنه لا يتم على ما هو الحق من عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية.
ثالثها: ما افاده المحقق العراقي (ره) وهو ان الحديث لا يشمل، والتمسك بدليل
الحكم لا يجوز، فيشك في الحكم والمرجع فيه حينئذ هو أصالة الاحتياط دون البراءة،
بدعوى ان مرجع هذا المانع إلى عدم قدرة الحاكم لتوسعة حكمه مع تمامية مقتضيه
478

فيكون نظير عدم قدرة المحكوم له على الامتثال حيث إن العقل حاكم بالأخذ باحتمال
الحكم، ولا يرى مجرى البراءة الا مورد الشك في أصل الاقتضاء.
وفيه: انه لم تم ذلك بالإضافة إلى البراءة العقلية، لا يتم بالإضافة إلى البراءة الشرعية
فان مقتضى اطلاق أدلتها، ارتفاع الحكم في كل مورد شك فيه، ومع الشك في الضرر
حيث إنه يشك في الحكم، فلا محالة تجرى البراءة، ولا مورد لأصالة الاحتياط.
فالصحيح ان يقال، انه إذا كان الواجب مما له بدل كالوضوء فإنه لو سقط وجوبه
ينتقل الفرض إلى التيمم، أو كان الواجب مما يجب قضائه لو سقط وجوبه كالصوم،
لا يجرى الحديث قطعا: فإنه لو بنينا على أن الميزان هو الضرر الواقعي، ففي هذه الموارد
بما ان لازم جريانه هو الجمع بين المبدل والبدل، وفعل الشئ وقضائه ولا تصل النوبة إلى
جريان البراءة عن المبدل، وفعل الشئ: العلم الاجمالي بوجوب أحدهما، وهو خلاف
الامتنان، فلا يجرى، نعم من لا يرى منجزية العلم الاجمالي في التدريجيات خصوصا
فيما إذا كان المعلوم بالاجمال على تقدير غير فعلى وبلا ملاك كما في قضاء الصوم،
لا محالة يشك في الوجوب ويجرى أصالة البراءة عنه، وعلى ما ذكرناه فمقتضى اطلاق
دليل الواجب وجوبه، ولعله إلى هذا نظر صاحب العروة.
ويمكن ان يذكر وجه آخر لكون المورد من موارد التمسك باطلاق دليل
الواجب لا البراءة حتى مع كون المنفى في الحديث هو الضرر الواقعي، وذلك لأنه يجرى
فيه استصحاب عدم حصول الضرر بفعله بناءا على ما هو الحق من جريان الاستصحاب
في الأمور الاستقبالية، على ما أشبعنا الكلام فيه في مبحث الاستصحاب.
فالمتحصل مما ذكرناه انه في موارد الشك في الضرر يبنى على عدمه فيرجع إلى
اطلاق، أو عموم دليل ذلك الحكم، كدليل وجوب الوضوء، والصوم، ونحوهما.
نعم في خصوص باب الصوم بنينا على جواز الافطار مع الظن بالضرر كما هو
المشهور، بل ومع احتماله، من جهة ان المأخوذ في جملة من النصوص موضوعا لجواز
479

الافطار الخوف من الضرر (1) وهو يصدق مع الظن بالضرر بل ومع الاحتمال المتساوي
الطرفين، وقد ذكرنا في كتابنا فقه الصادق وجها آخر لجواز الافطار مع الظن بالضرر،
لعدم ارتباطه بالمقام أغمضنا عن ذكره.
بيان وجه تقديم القاعدة على أدلة الأحكام
واما المقام الخامس: وهو بيان حال القاعدة مع ما يعارضها، فالكلام فيه في
موارد.
1 - في بيان نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأولية.
2 - في بيان نسبتها مع ساير الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية.
3 - في تعارض الضررين.
اما الأول: فبعد ما لا كلام في تقديم القاعدة على جميع العمومات الدالة بعمومها
على تشريع الحكم الضرري، كأدلة وجوب الوضوء على واجد الماء، وحرمة الترافع إلى
حكام الجور، وسلطنة الناس على أموالهم وما شاكل، وقع الكلام في وجه ذلك مع أن
النسبة بين دليل القاعدة، وبين كل واحد من تلك الأدلة عموم من وجه، وقد ذكروا في
وجه تقديمه أمورا.
1 - ما نقله الشيخ عن غير واحد من عدهما من المتعارضين، وانما يقدم القاعدة،
اما بعمل الأصحاب، أو بالأصول، كالبرائة في مقام التكليف، وغيرها في غيره.
وفيه: أولا ما ستعرف من حكومة دليل القاعدة، على جميع تلكم الأدلة،
ولا تعارض بينهما، والترجيح انما هو في غير موارد الجمع العرفي كما حقق في محله.
وثانيا: انه على فرض تسليم التعارض، الأصول ليست من مرجحات أحد الخبرين
على الاخر، واما عمل الأصحاب أي الشهرة الفتوائية فهو انما يكون من المرجحات، إذا

1 - الوسائل ج 7 ص 155 باب 19 من أبواب من يصح منه الصوم حديث 1.
480

كانت النسبة بينهما هو التباين، أو العموم من وجه، مع كون دلالة كل منهما على حكم
المجمع بالعموم، وان كانت دلالة أحدهما بالاطلاق والاخر بالعموم، أو كانت دلالة كل
منهما بالاطلاق فالمشهور هو التساقط في الثاني، وتقديم العام في الأول فتأمل فان
المختار خلافه.
2 - ان دليل القاعدة أخص من مجموع أدلة الأحكام، وحيث إن المنفى هو
الحكم أو الموضوع الضرري في الاسلام، فطرف المعارضة مجموع تلك الأدلة لا كل
واحد، فلا بد من لحاظ النسبة بين دليلها، ومجموع تلك الأدلة، ومن الواضح ان النسبة
هي العموم والخصوص المطلق فيقدم دليل، القاعدة.
وفيه: ان جميع الأحكام ليس لها دليل واحد، كي يلاحظ النسبة بين ذلك الدليل،
ودليل القاعدة، بل لكل واحد من الأحكام دليل مستقل غير مربوط بغيره، والنسبة لا بد
وان تلاحظ بين الأدلة، وعليه فلا محيص عن ملاحظتها بين دليل القاعدة، وكل واحد من
تلك الأدلة، والنسبة حينئذ هي العموم من وجه.
3 - انه يدور الامر لعلاج التعارض بين أمور ثلاثة. أحدها: تقديم دليل لا ضرر على
بعض تلك الأدلة، وتقديم بعضها عليه، ثانيها: تقديم تلك الأدلة بأجمعها، على دليله
- ثالثها - تقديم دليله على جميع تلك الأدلة.
لا سبيل إلى الأولين: إذا الأول، مستلزم للترجيح بلا مرجح، والثاني، يستلزم عدم
بقاء المورد له، فيتعين الثالث.
ويرد عليه انه لا محذور في الثاني، لولا الحكومة، فان طرح الدليل عند التعارض،
غير عزيز.
4 - ما افاده المحقق الخراساني (ره) - وحاصله - انه إذا ورد دليل مثبت لحكم
لعنوان أولى، وورد دليل لبيان حكم لعنوان ثانوي، وكانت النسبة بينهما عموما من وجه،
يوفق العرف بينهما بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي، والثاني على بيان الحكم
الفعلي، - وبعبارة أخرى - يجمع بينهما بحمل العنوان الأولى على كونه مقتضيا، والعنوان
الثاني على كونه مانعا، وحيث إن دليل نفى الضرر متضمن لتشريع حكم لعنوان ثانوي،
481

فيحمل لأجله الأدلة المثبتة للأحكام للعناوين الأولية على بيان الأحكام الاقتضائية،
فيكون المتحصل عدم وجود تلك الأحكام في موارد الضرر.
وفيه: ان المراد بالحكم الاقتضائي ان كان الحكم المجعول غير الفعلي، من جهة
دخل شئ في فعليته فهو غير معقول، إذ الحكم لا يعقل عدم فعليته بعد فعلية موضوعه،
وصيرورة الضرر مانعا عنها بمعنى اخذ عدمه في الموضوع، وان كانت ممكنة الا انه مع
عدم الدليل عليه لا وجه ودليلية حديث لا ضرر أول الكلام، وان كان المراد هو
الملاك، فيرد عليه ان حمل الجملة الانشائية على الاخبار مما لا يساعده الجمع العرفي.
5 - ما افاده الشيخ، والمحقق الخراساني، وهو ان حديث لا ضرر لوروده في مقام
الامتنان يقدم على العمومات.
ويمكن تقريبه بأنه إذا لم يكن، للحكم مقتضى الثبوت في مورد الضرر، فهو منفى
لعدم المقتضى، فلا معنى لنفيه امتنانا، فورود الحديث في مقام الامتنان يقتضى وجود
المقتضى له، كما أنه إذا لم يكن له مقتضى الاثبات من اطلاق دليل أو عموم لا محالة
يكون منفيا لعدم الحجة من دون حاجة إلى نفيه امتنانا، فمن ورود الحديث في مقام
الامتنان يستكشف وروده لتحديد مقتضى الاثبات بقصره على غير مورد الضرر.
6 - ما افاده الشيخ الأعظم، قال إن هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالة
بعمومها على تشريع الحكم الضرري كأدلة لزوم العقد، وسلطنة الناس على أموالهم و
وجوب الوضوء... وغير ذلك انتهى.
وأورد عليه المحقق الخراساني، بان حكومتها تتوقف على أن تكون بصدد
التعرض لبيان حال أدلة الأحكام المورثة للضرر باطلاقها أو عمومها، وحديث لا ضرر
ليس كذلك، بل هو لمجرد بيان ما هو الواقع من نفى الضرر فلا حكومة له، بل حاله
كساير أدلة الأحكام.
أقول الحق ما افاده الشيخ (ره)، وذلك، لعدم انحصار الحكومة بما إذا كان دليل
الحاكم متعرضا لبيان ما أريد من المحكوم بالمطابقة، كما في قول الإمام الصادق (ع) في
خبر عبيد بن زرارة في جواب سؤاله، أليس يقال لا يعيد الصلاة فقيه، انما ذلك في
482

الثلاث والأربع (1)، بل لو كان صالحا لذلك بان يبين شيئا لازمه بيان حال المحكوم، كان
ذلك من قبيل الحكومة، والمقام كذلك.
توضيح ذلك يقتضى البحث في موارد ثلاثة 1 - بيان ضابط الحكومة 2 - بيان وجه
تقديم الحاكم 3 - تطبيق ضابط الحكومة على المقام، وبيان كون دليل القاعدة حاكما على
الأدلة المثبتة للأحكام بعناوينها الأولية.
اما الأول: فضابط الحكومة، كون أحد الدليلين ناظرا إلى الاخر، أو صالحا لذلك.
اما بالتصرف في موضوعه سعة، كقوله (ع) الفقاع خمرة استصغرها الناس، بالنسبة
إلى أدلة حرمة شرب الخمر.
أو ضيقا، كقوله (ع) لا شك لكثير الشك، بالنسبة إلى أدلة الشكوك.
أو بالتصرف في متعلقه ضيقا كما لورود الضيافة ليست باكرام، بعد ورود ما دل
على وجوب اكرام العلماء.
أو سعة، كما في قوله (ع) الطواف في البيت صلاة بالنسبة إلى ما دل على شرطية
الطهارة للصلاة.
أو بالتصرف في محموله، بان يتلونه بلون، ويدل على عدم ثبوت ذلك الحكم في
بعض الحالات، والموارد.
واما الثاني: فوجه التقدم إذا كان دليل ناظرا إلى موضوع دليل المحكوم أو
متعلقه واضح، إذ كل من الدليلين متكفل لبيان شئ غير ما يكون الاخر متكفلا لبيانه: فان
دليل المحكوم لا نظر له إلى بيان الموضوع أو المتعلق، بل انما يثبت الحكم على فرض
تحقق الموضوع، وأما إذا كان ناظرا إلى المحمول، فلان التمسك بأصالة الظهور أي
الاطلاق أو العموم في دليل المحكوم فرع تحقق الشك في المراد، ودليل الحاكم يرفع
الشك، ويخصص الحكم بمورد خاص، فلا يبقى مورد للتمسك بأصالة الاطلاق أو
العموم.

1 - الوسائل ج 5 - ص 320 و 300.
483

واما الثالث: فان قلنا ان حديث لا ضرر انما يكون من قبيل نفى الحكم بلسان نفى
الموضوع أو يكون مفاد الحديث نفى الحكم إذا كان الموضوع ضرريا، فحكومة
الحديث على أدلة الأحكام واضحة: فإنه حينئذ يكون مضيقا لدائرة موضوعات أدلة
الأحكام.
وان قلنا انه انما يكون نافيا للحكم الضرري، فالحديث يوجب تلون ما تضمنه أدلة
الأحكام الأولية بلون مخصوص، فعلى أي تقدير يكون حديث لا ضرر حاكما على أدلة
الأحكام.
تعارض قاعدة لا ضرر، مع قاعدة نفى الحرج
واما المورد الثاني: فهو في بيان نسبة قاعدة لا ضرر، مع الأدلة المثبتة أو النافية
للأحكام بعناوينها الثانوية، ففي الكفاية، يعامل معهما معاملة المتعارضين، لو لم يكن من
باب تزاحم المقتضين والا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وان كان دليل الاخر أرجح وأولى
ولا يبعد ان الغالب في توارد العارضين ان يكون من ذلك الباب بثبوت المقتضى فيهما مع
تواردهما لا من باب التعارض لعدم ثبوته الا في أحدهما انتهى.
وفيه: مضافا إلى ما حققناه في أول التعادل والترجيح، من أن باب تزاحم
المقتضيين، غير باب تزاحم الحكمين، وانه لولا حكومة أحد الدليلين على الاخر لا بد من
اجراء ما يقتضيه قواعد باب التعارض.
: ان ما افاده يتم بناءا على ما افاده في وجه تقدم قاعدة نفى الضرر على أدلة
الأحكام الأولية، من التوفيق العرفي، ولا يتم على مسلك الحكومة، فان الوجه المتقدم
لحكومة دليلها على أدلة الأحكام الأولية، بعينه يقتضى تقديم دليلها على الأدلة المثبتة
للأحكام بعناوينها الثانوية، مثل دليل الشرط والنذر وما شاكل مما دل على ثبوت حكم
في مقابل حكم العنوان الأولى، كما لا يخفى.
فلا بد من ملاحظة نسبة دليل القاعدة مع الأدلة النافية للحكم بالعنوان الثانوي،
484

مثل دليل نفى الحرج، والاكراه ونحوهما، والعمدة هي قاعدة نفى الحرج (1).
فلو تعارض دليل قاعدة نفى الضرر، مع دليل قاعدة نفى الحرج، كما لو فرضنا ان
عدم تصرف المالك في ماله وان لم يوجب تضرره، الا انه حيث يكون تصرفه لجلب
منفعة وتعلق غرض عقلائي به يكون ذلك حرجا، - وبعبارة أخرى - حجر المالك عن
الانتفاع بما له حرج، وكان تصرفه في ملكه موجبا لتضرر جاره، ففيه وجوه وأقوال.
1 - تقديم قاعدة نفى الحرج لحكومة نفى الحرج على نفى الضرر اختاره الشيخ
الأعظم في الرسائل.
2 - تقديم قاعدة لا ضرر، نظرا إلى موافقة قاعدة نفى الحرج لها في أكثر مواردها،
فلو قدم قاعدة نفى الحرج في مورد التعارض لزم كون تأسيسها كاللغو.
3 - يعامل معهما معاملة المتعارضين الذين تكون النسبة بينهما عموما من وجه
فيقدم قاعدة نفى الحرج للشهرة، فان المشهور بين الأصحاب جواز التصرف في الفرض،
ولموافقة الكتاب، أو يحكم بتساقطهما فيرجع إلى قاعدة السلطنة، على الخلاف بين
المسلكين في التعارض بالعموم من وجه.
4 - المعاملة معهما معاملة المتزاحمين، فيقدم الأقوى منهما لو كان والا فيحكم
بالتخيير، اختاره المحقق الخراساني، وهناك وجوه اخر ستقف عليها.
وتنقيح القول في المقام، ان حكومة قاعدة نفى الحرج باطلة لوجهين.
أحدهما: ان كلا من القاعدتين حاكمة على عمومات الأحكام المجعولة في
الشريعة ومبينة للمراد منها من غير أن يكون فيها جعل وتشريع فجعل إحداهما ناظرة إلى
الأخرى وشارحة لها والحال هذه لا معنى له كما لا يخفى.
ثانيهما: ان كلا منهما ناظرة إلى نفى الأحكام في مرتبة واحدة، وليست قاعدة نفى
الحرج ناظرة إلى قاعدة نفى الضرر بنحو التصرف في موضوعها أو محمولها.
واما الوجه الثاني: وهو تقديم قاعدة لا ضرر لأقلية موردها، فيرده: انه ليس مورد

1 - الحج / 79.
485

الضرر أقل، إذ المراد بالحرج المشقة التي لا تتحمل عادة وبديهي ان الوقوع في الضرر
لا يستلزم ذلك مطلقا، أضف إليه ان أقلية المورد انما توجب التقديم لو كانا متضادين،
بحيث يلزم من تقديم الأكثر موردا، عدم بقاء المورد للأقل، لا في مثل المقام مما لو
قدمنا قاعدة نفى الحرج، لا يلزم طرح قاعدة لا ضرر، بل يبقى لها مورد وهو مورد
توافقهما.
واما الوجه الرابع: وهو المعاملة معهما معاملة المتزاحمين الذي اختاره
المحقق الخراساني، فيرد عليه: ان التزاحم انما هو بين الحكمين، والقاعدتان نافيتان
للأحكام ولا يثبت بشئ منهما حكم أصلا فلا معنى للتزاحم، وان أريد به التزاحم بين
المقتضيين، فيرده ان باب تزاحم المقتضيين غير مربوط بباب تزاحم الأحكام.
وعلى هذا فان تم ما يخطر بالبال عاجلا من أنه من جهة ان القاعدتين لهما
الحكومة على الأحكام المجعولة، ولا حكومة لهما على عدم الحكم، انه في موارد
الدوران بينهما كما في المثال، لا يخلو الامر من أن التصرف المذكور، اما ان يكون مباحا
غير محرم مع قطع النظر عن القاعدتين، وهو ما إذا لم يكن تصرفا في مال الجار ولا متلفا
لما له، كما إذا حفر بئرا في داره قريبا من بئر الجار وصار ذلك سببا لنقص ماء بئر الجار،
أو يكون محرما غير مباح كما لو استلزم تصرفا في مال الغير، وعلى التقديرين لا مورد الا
لإحدى القاعدتين إذ ليس إلا حكم واحد والاخر عدم الحكم، ففي الفرض الأول هو
السلطنة على المال، وفى الثاني حرمة الاضرار بالغير.
فإذا كان حكم، كسلطنة المالك على ما له، حرجيا أو ضرريا يشمله ما دل على نفى
الحرج أو دليل نفى الضرر، ويرفع ذلك، ولو فرضنا ان عدم ذلك الحكم كان كذلك كما
في المثال، لا يكون ذلك مشمولا لشئ منهما ولا يثبت به ذلك الحكم، لان عدم الحكم
وعدم السلطنة ليس مجعولا حتى يرتفع بإحدى القاعدتين، فالقاعدتان لا تجتمعان في
مورد.
وعلى فرض التنزل وتسليم تواردهما على مورد واحد واجتماعهما في محل
واحد، بالبناء على أنه كما يرتفع بكل من القاعدتين الأحكام المجعولة، كذلك يرتفع بهما
486

عدم الحكم أيضا، فالأظهر عدم شمول شئ منهما لذلك المورد المجمع: من جهة انهما
انما وردتا في مقام الامتنان على الأمة، فإذا كان تصرف المالك في ماله ضرريا على
الجار، وتركه حرجيا على نفسه لا يكون رفع السلطنة منة على الأمة، لكون خلاف
الامتنان على المالك كما، ان رفع حجر المالك عن التصرف في ماله ليس فيه منة على
الأمة لكونه خلاف الامتنان على الجار.
ولعله إلى أحد هذين الامرين نظر من قال، انهما لا يتواردان على مورد واحد
ولا يجتمعان في محل فارد.
وان لم يتم شئ منهما فالظاهر أن يعامل معهما معاملة المتعارضين، ولا مورد
لأعمال قواعد باب التزاحم، لان التزاحم انما هو بين الحكمين الوجوديين، ولا معنى له
في الاعدام، والمفروض ان كلا من القاعدتين نافية للحكم لا مثبتة، فلا يثبت بهما الحكم
كي يعامل معهما معاملة المتزاحمين.
وعليه فحيث ان النسبة بينهما عموم من وجه، والمختار في تعارض العامين من
وجه هو الرجوع إلى اخبار الترجيح والتخيير، ففي المثال بما ان المشهور بين الأصحاب
جواز تصرف المالك في ماله وان تضرر الجارية، يقدم قاعدة لا حرج: لان الشهرة أول
المرجحات، ومع الاغماض عنه فهي موافقة للكتاب فتقدم، فيحكم بجواز التصرف.
واما على المسلك الاخر من عدم الرجوع إلى اخبار الترجيح، فعلى المختار من أن
الأصل في تعارض الامارتين هو التخيير يحكم بالتخيير، فله ان يختار قاعدة لا حرج
ويقدمها ويبنى على جواز التصرف في المثال.
واما على القول بالتساقط، فيحكم به، فيرجع إلى قاعدة السلطنة وغيرها
من القواعد المبيحة وان وصلت النوبة إلى الأصل، فإنه البراءة في المقام.
فالمتحصل انه يحكم بجواز التصرف في مفروض المسألة على جميع المسالك،
ولعله إلى بعض ما ذكرناه نظر الأصحاب فإنهم أفتوا بالجواز فتدبر جيدا.
487

حكم تصرف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرر الغير به
ثم انه ينبغي التعرض لفرع يناسب المقام، وهو انه إذا كان تصرف المالك في ماله
مستلزما لتضرر جاره، ولم يكن التصرف لدفع ضرر متوجه إليه، ولا لجلب منفعة ولم
يكن له فيه غرض عقلائي، بل يكون عبثا ولغوا، فهل يجوز هذا التصرف لعموم دليل
السلطنة، أم لا يجوز لقاعدة نفى الضرر فإنها تنفى سلطنة المالك وإباحة تصرفه في ماله،
أم يجوز مع الضمان وجوه.
ظاهر كلمات الأصحاب هو الثاني، فان جماعة منهم كالعلامة في التذكرة،
والشهيد في الدروس، قيدوا جواز تصرف المالك فيما له، بما يتضرر به جاره، بما جرت
به العادة، وجماعة آخرين كالمحقق الثاني بصورة دعاء الحاجة، بل العلامة في التذكرة
استدل للجواز في المسألة المشار إليها: بان منعه عن عموم التصرف ضرر منفى، ولا شك
ان منعه عن هذا التصرف ليس ضررا.
وهذا هو الحق: فان قاعدة السلطنة وان اقتضت جواز تصرف المالك في ماله
كيف شاء وان تضرر الغير به، الا ان حديث لا ضرر حاكم عليه كحكومته على ساير أدلة
الأحكام.
وقد استدل بعض تبعا لسيد الرياض للجواز بعموم ما دل على تسلط الناس على
أموالهم (1) وأجاب عن ما في الكفاية من اشكال معارضته مع قاعدة لا ضرر بان النسبة
بنيهما عموم من وجه والترجيح مع الأول للشهرة، وانه لو سلم التكافؤ فالمرجع أصالة
الإباحة.
ولكن قد عرفت ان أدلة نفي الضرر حاكمة على دليل السلطنة فلا معنى للرجوع
إلى ما دل على الترجيح، ولا للتساقط والرجوع إلى الأصل.

1 - البحار ج 2 ص 272 الطبع الحديث، و ج 1 ص 154 الطبع القديم.
488

ومن غريب ما أفاد، ان ما دل على أن الناس مسلطون على أموالهم من الخبر
المتواتر، مع أنه خبر واحد مروى عن طرق العامة، ولكنه معمول به فضعفه منجبر
بالعمل، ثم إن الظاهر أنه لو تصرف فيه وتضرر الجار من دون ان يتلف منه مال، لا وجه
للحكم بضمانه، ولا يثبت بقاعدة نفى الضرر الضمان كما مر مفصلا.
واما معارضة القاعدة مع دليل نفى الاكراه فسيجئ الكلام فيها.
لو دار الامر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخص واحد
واما المورد الثالث: وهو ما لو تعارض حكمان ضرريان، فمسائله ثلاث. الأولى:
لو دار امر شخص واحد بين ضررين، بحيث لا بد من تحمل أحدهما، أو ايراد أحدهما،
كما لو أكره على الاضرار بشخص، اما بهذا الضرر، أو بذاك، الثانية، ما لو دار الامر بين
الاضرار بأحد الشخصين، كما لو أكره على ذلك، الثالثة ما لو دار الامر بين تحمل الضرر،
أو ايراد الضرر على الغير.
اما المسألة الأولى: فكلمات الأصحاب في فروع هذه المسألة التي تعرضوا لها في
كتاب الغصب، واحياء الموات وغيرهما مضطربة، ولكن الشيخ جزم في الرسالة بلزوم
الترجيح بالأقلية، ومع التساوي فالتخيير.
قال فان كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحد فلا اشكال في تقديم الحكم الذي
يستلزم ضررا أقل مما يستلزمه الحكم الاخر، لان هذا هو مقتضى نفى الحكم الضرري
عن العباد فان من لا يرضى بتضرر عبده لا يختار له الا أقل الضررين عند عدم المناص
عنهما انتهى، وقد جزم بذلك صاحب الكفاية (ره).
وملخص القول في المقام انه ان كان الضرران، مباحين تخير في اختيار أيهما شاء
وهو واضح.
وان كان أحدهما محرما، والاخر مباحا اختار المباح، إذ لا وجه لسقوط الحرمة
كما لا يخفى.
489

وان كانا محرمين يختار ما حرمته أضعف، ويجتنب عما حرمة أقوى وأهم، كما
هو الشأن في جميع موارد التزاحم ومع التساوي لابد من تقديم الحكم الذي يستلزم
ضررا أقل مما يستلزمه الحكم الاخر، لما افاده الشيخ، ومع التساوي فهو مختار، وبما
ذكرناه يظهر ما في اطلاق كلام العلمين.
لو دار الامر بين حكمين ضرريين بالنسبة إلى شخصين
واما المسألة الثانية: فقد جزم المحقق الخراساني بلزوم الترجيح بالأقلية، ومع
التساوي فالتخيير.
وقال الشيخ في الرسالة، وان كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن ان يقال أيضا بترجيح
الأقل ضررا إذ مقتضى نفى الضرر عن العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون
ضرره أكثر من ضرر الحكم الاخر لان العباد كلهم مساوون في نظر الشارع بل بمنزلة عبد
واحد، فالقاء الشارع أحد الشخصين في الضرر بتشريع الحكم الضرري فيما نحن فيه
نظير لزوم الاضرار بأحد الشخصين لمصلحته فكما يؤخذ فيه بالأقل كذلك فيما نحن فيه،
ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الاخر، ومع عدمها فالقرعة، لكن مقتضى هذا
ملاحظة الشخصين المختلفين باختلاف الخصوصيات الموجودة في كل منهما من حيث
المقدار ومن حيث الشخص فقد يدور الامر بين ضرر درهم وضرر دينار مع كون ضرر
الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه وقد يعكس حال
الشخصين في وقت آخر، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن
اضطراب انتهى.
وأورد على البناء على التخيير مع التساوي، بان حديث لا ضرر لوروده في مقام
الامتنان على الأمة لا يشمل المقام، إذ لا معنى للمنة على العباد برفع الضرر فيما كان نفيه
عن أحد مستلزما لثبوته على آخر، فيستكشف بذلك عن عموم ارادتهما، فيجب الرجوع
إلى ساير القواعد.
490

وعلى البناء على الترجيح باقوائية الضرر أو أكثريته. بان ذلك يوجب الترجيح في
الضررين بالنسبة إلى شخص واحد لا شخصين، إذ لا منة في نفى الضرر الأقوى على من
استلزم ذلك في حقه ثبوت الضرر، بل انما يكون منة على خصوص من نفى عنه، وكون
العباد بالنسبة إلى الله تعالى،
بمنزلة عبد واحد، لا يصحح المنة على جميعهم في نفى
الضرر الأكثر والأقوى، ولو على من استلزم ذلك بالنسبة إليه الضرر.
وتنقيح القول في المسألة ان فروعها ثلاثة 1 - ما لو دار الامر بين الاضرار بأحد
الشخصين، كما لو أكرهه المكره بذلك 2 - ما إذا كان الضرر متوجها إلى أحد الشخصين
مع قطع النظر عن الحكم الشرعي، كما إذا وقع دينار شخص في محبرة الغير، وكان ذلك
بفعل شخص ثالث 3 - ما إذا كان الضرر متوجها إلى أحدهما بآفة سماوية.
اما الفرع الأول: فلا اشكال في أنه يجوز أحدهما - ولا يجوز الاخر - وارتفاع
عدم الجواز عن أحدهما حيث يكون لأجل عدم تمكن المكلف فلا محالة يقع التزاحم بينهما
فلا بد من اعمال مرجحات ذلك الباب، ومن جملتها الأهمية، وحيث انها ربما تكون
بالأكثرية فما افاده الشيخ من الترجيح بالأقلية، يتم في هذا الفرع وليجعل ما استدل به
الشيخ الذي هو وجه اعتباري استحساني من مؤيدات ذلك.
واما الفرع الثاني: فيتخير في اتلاف أيهما شاء، ويضمن الشخص الثالث الذي هو
السبب لتوجه الضرر إلى أحد الشخصين بضمان المثل أو القيمة لصاحبه ولا يخفى وجهه.
واما الفرع الثالث: فالمشهور انه يلزم اختيار أقل الضررين، وان ضمان ذلك على
مالك الاخر.
واستدل له: بان نسبة جميع الناس إلى الله سبحانه نسبة واحدة، فالكل بمنزلة عبد
واحد فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد،
فيلزم اختيار أقل الضررين، ثم انه حيث تكون الخسارة المتوجهة إلى من أورد الضرر
عليه، لمصلحة الاخر، فهو يكون ضامنا لها.
ولكن مجرد كون الخسارة لمصلحته، لا يوجب استقرار تمام الخسارة عليه
فالصحيح: انه حيث يكون الضرر المتوجه، متوجها إليهما ونسبته إليهما على حد سواء،
491

فمقتضى قاعدة العدل والانصاف المصطادة من النصوص، وعليها بناء العقلاء، هو تقسيط
الخسارة عليهما بنسبة المالين.
ويؤيده قوى السكوني عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه (ع) في رجل استودع رجلا
دينارين فاستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها، قال (ع) يعطى صاحب الدينار دينارا
ويقسم الاخر بينهما نصفين (1).
لو دار الامر بين ضرر نفسه وضرر غيره
واما المسألة الثالثة: وهي ما لو دار الامر بين ضرر نفسه وضرر غيره ففروعها
أربعة.
1 - ما إذا كان الضرر متوجها إليه ابتداءا، وأمكن توجيهه إلى الغير.
2 - ما إذا كان الضرر متوجها إلى غيره، وأمكن تحمله.
3 - ما إذا كان متوجها ولم يكن متوجها إلى أحدهما بالخصوص، فهما في عرض
واحد.
4 - ما إذا تردد الضرر بين الشخصين، نفسه، وغيره، من جهة الحكم الشرعي، كما
لو فرضنا ان المالك يتضرر بعدم حفر البئر في داره، وان جاره يتضرر بحفرها.
إذا كان الضرر متوجها إلى نفسه
اما الفرع الأول: وهو ما لو كان الضرر متوجها إليه ابتداءا، كما لو أكرهه الجائر
على دفع مبلغ معين، أو كان السيل متوجها إلى داره، فلا ينبغي التوقف في عدم جواز
توجيهه إلى الغير، بأخذ المبلغ من الغير واعطائه إياه في المثال الأول، وصرف السيل إلى

1 - الوسائل ج 13 ص 171 باب 12 من أبواب الصلح.
492

دار غيره في الثاني: إذ الجواز حكم ضرري منفى في الشريعة.
لا يقال ان ترك الاضرار بالغير أيضا ضرري، فلزومه منفى بالشريعة.
فإنه يقال - أولا - ان عدم جواز الاضرار غير مشمول للحديث لما تقدم من عدم
كون الحديث حاكما على العدميات.
وثانيا: ان ترك الاضرار ليس ضرريا، فان المفروض توجه الضرر إليه بأسبابه وانما
يراد دفعه عن نفسه بايجاد المانع.
لو كان الضرر متوجها إلى الغير
واما الفرع الثاني: وهو ما لو كان الضرر متوجها إلى الغير ابتداءا، ومثلوا له بما إذا
أكرهه الجائر على نهب مال الغير، والا فيحمل أموال نفسه إليه، ففيه وجوه، وأقوال.
الأول: ما اختاره الشيخ الأعظم، وهو ارتفاع حرمة الاضرار بالغير مطلقا، ولو كان
الضرر المتوعد به على ترك المكره عليه، أقل بمراتب من الضرر المكره عليه.
الثاني: عدم ارتفاع حرمته كذلك، أي ولو كان الضرر المتوعد به أكثر من الضرر
المكره عليه.
الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الضرر الذي توعد به أعظم، أو مساويا، فترتفع
الحرمة، وبين ما إذا كان أقل فلا ترتفع.
الرابع: ما اختاره الأستاذ الأعظم، وهو التفصيل بين ما إذا كان الضرر المتوعد به
أمرا مباحا في نفسه، كما إذا أكره الجائر على نهب مال الغير وجبله إليه، والا فيحمل
أموال نفسه إليه، فلا ترتفع الحرمة، وبين ما إذا كان ذلك الضرر أمرا محرما، كما إذا أكرهه
على أن يلجئ شخصا آخر إلى فعل محرم كالزناء، والا أجبره على ارتكابه بنفسه، فتقع
المزاحمة، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم.
493

وقد استدل للأول بوجوه 1 - ان عموم حديث رفع الاكراه (1)، شامل لجميع
المحرمات حتى الاضرار بالغير، ما لم يبلغ الدم.
وفيه: ان الحديث لوروده مورد الامتنان على الأمة، والحكم بارتفاع الحرمة،
مناف للامتنان بالإضافة إلى ذلك الغير، وان كان موافقا للامتنان بالإضافة إلى المكره، فلا
يكون مشمولا للحديث.
2 - ان عموم نفى الحرج (2) يدل عليه، فان الزام الغير بتحمل الضرر، وترك ما أكره
عليه حرج.
وفيه: ان الحرج المنفى في الشريعة، هي المشقة التي لا تتحمل عادة، وبديهي ان
الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك مطلقا، فلا يصح التمسك لجواز الاضرار مطلقا بدليل نفى
الحرج.
أضف إليه، انه أيضا وارد في مقام الامتنان على الأمة، فيجرى فيه ما في سابقه.
3 - ان الضرر متوجه إلى الغير بحسب إرادة المكره بالكسر، والمكره بالفتح، وان
كان مباشرا الا انه ضعيف لا ينسب إليه توجيه الضرر إلى الغير، نعم لو تحمل الضرر ولم
يضر بالغير، فقد صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفا، والمستفاد من أدلة تشريع نفى
الاكراه انما هو لدفع الضرر فلا يجب تحمل الضرر لدفعه عن الغير.
وفيه: ان هذا وان كان تاما في بعض الفروض كما ستعرف، الا انه لا يتم في مورد
وساطة إرادة المكره بالفتح، فان الاكراه لا يوجب سلب اختيار المكره بالفتح وصيرورته
كالآلة بل هو بعد على كونه مختارا فيه، وعليه فهو يضر بالغير اختيارا دفعا للضرر
عن نفسه.
واستدل للثاني: باطلاق أدلة حرمة الاضرار بالغير الآتية، بعد عدم شمول أدلة نفي،
الاكراه، والحرج، والضرر للمقام كما تقدم.
وفيه: ان هذا الوجه وان كان تاما في نفسه، الا انه ربما يزاحم حرمة الاضرار،

1 - الوسائل ج 11 - ص 295 - باب 56 من أبواب جهاد النفس.
2 - سورة الحج آية 79.
494

محرم آخر، وهو ما إذا كان الضرر المتوعد به أمرا محرما، وحينئذ فلا بد من الرجوع إلى
مرجحات باب التزاحم، فالأظهر هو القول الرابع في مفروض المثال.
واستدل للثالث: بان نسبة جميع الناس إلى الله سبحانه نسبة واحدة، فالكل بمنزلة
عبد واحد، فالضرر المتوجه إلى أحد الشخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص
واحد فلا بد من ملاحظة أقل الضررين وعند التساوي يحكم بالتخيير.
وفيه: انه إذا كان الضرر المتوعد به أمرا مباحا في نفسه كيف يحكم بالتخيير بين
ذلك وبين الامر المحرم وهو الاضرار بالغير، مع أنه وجه اعتباري استحساني لا يعتمد
عليه.
والحق في المقام ان يقال انه إذا كان الضرر بحسب طبعه متوجها إلى الغير كما إذا
توجه السيل إلى دار الجار لا اشكال في عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عنه، فان الضرر
في الفرض ليس من فعله كي يشمله دليل حرمة الاضرار.
ولكن مسالة الاكراه ليست من هذا الباب، فان الاكراه انما يوجب تخيير المكره
بين الاضرار بالغير، وبين تحمل الضرر على فرض العدم، فلا يكون من توجه الضرر إلى
الغير ابتداء، واما في مسالة الاكراه فقد ظهر مما حققناه قوة الوجه الرابع.
حكم ما لو توجه الضرر من غير ناحية الحكم
واما الفرع الثالث: وهو ما إذا كان الضرر متوجها إلى أحد شخصين، وكان ذلك
مع قطع النظر عن الحكم الشرعي، كما إذا حصلت دابة في دار لا يخرج الا بهدم ولم
يكن حصولها من أحدهما ولا بتفريط منه، أو أدخلت دابة رأسها في قدر وافتقر اخراجها
إلى كسر القدر ولم يكن من أحدهما تفريط.
فهو خارج عما نحن فيه ولا يشمله حديث لا ضرر ولا ضرار، لأنه انما ينفى
الحكم الناشئ منه الضرر ان الموضوع الضرري، ولا يشمل ما إذا كان الضرر متوجها مع
قطع النظر عن الحكم.
495

فما في الجواهر في الفرع الأول من أنه يهدم الدار ويخرج الدابة ويضمن صاحب
الدابة الهدم، لان صاحب الدابة مكلف باخذها من دار الغير وتخليص ملكه منها فكل
ضرر حصل صاحب الدار بالنسبة إلى ذلك وجب جبره على صاحب الدابة لقاعدة
لا ضرر ولا ضرار انتهى.
ضعيف لما مر: ولأن قاعدة لا ضرر نافية للحكم لا مثبتة فلا يثبت بها الضمان،
وليس مفادها نفى الضرر غير المتدارك كما مر.
وكيف كان فالمشهور بين الأصحاب انه يهدم الدار ويخرج الدابة في الفرع
الأول، ويكسر القدر في الثاني ويضمن صاحب الدابة الهدم والكسر، وعللوه: بأنه
لمصلحته.
وأورد عليهم الشهيد الثاني في محمى المسالك، بان المصلحة قد تكون مشتركة
بينهما بل هو الأغلب وقد تكون مختصة بصاحب الدار أو القدر، وأيضا قد تكون الدابة
مأكولة اللحم فلا يفوت عليه بذبحها ما يقابل الهدم والكسر.
واحتمل الشهيد في الدروس على ما حكى في الفرع الثاني ذبح الدابة مع كون
كسر القدر أكثر ضررا من قيمة الدابة أو أرشها ترجيحا لا خف الضررين.
وفى رسائل الشيخ الأعظم انه يحمل اطلاق كلامهم على الغالب من أن ما يدخل
من الضرر على مالك الدابة إذا حكم عليه بتلف الدابة واخذ قيمتها أكثر مما يدخل على
صاحب القدر بتلفه واخذ قيمته - وبعبارة أخرى - تلف إحدى العينين وتبدلها بالقيمة
أهون من تلف الأخرى انتهى.
وحق القول في المقام بعد ما عرفت من أنه لا مورد لاحتمال قاعدة لا ضرر في
المقام حتى يراعى الترجيح بقلة الضرر، انه حيث يجب على صاحب الدابة الانفاق عليها
بالمأكول والمشروب، والمسكن، ولو امتنع يجبره الحاكم على الانفاق أو البيع، أو الذبح
ان كان مأكول اللحم، فيجب عليه اخراج الدابة من الدار، ورأسها من القدر، ان لم يمكن
ذلك بدون الاخراج أو لم يأذن صاحب الدار في ذلك، بل ابقاء الدابة في الدار تصرف
في مال الغير لا يجوز، فإذا توقف الاخراج على هدم الدار أو كسر القدر، وجب ذلك،
496

وحيث إن التصرف في مال الغير بلا عوض لا وجه له، فمقتضى الجمع بين الحقين، الهدم
أو الكسر، والضمان.
وأظن أن مراد المشهور من التعليل لذلك بأنه لمصلحته هو ذلك، أي انه لا يتمكن
من العمل بوظيفته الشرعية الا بذلك، وعليه فلا مورد للاعتراض عليهم بما في المسالك
من أنه قد يكون المصلحة لصاحب القدر أو الدار فقط، وقد يكون المصلحة مشتركة
بينهما.
ولصاحب الجواهر في الفرع الثاني كلام لا باس به مع الاغماض عما ذكرناه، قال
ولعل اطلاق الأصحاب ان المصلحة لصاحب القدر مبنى على اقتضاء بقاء القدر هلاكها
فالضرر عليه حينئذ بالبقاء دون القدر الذي يأخذ قدره بعد الموت تاما، ومن هذه الجهة
خصوا صاحب الدابة بالضمان انتهى.
لو كان الضرر متوجها إلى أحد شخصين نفسه أو غيره من ناحية الحكم
واما الفرع الرابع: وهو ما لو كان الضرر متوجها إلى نفسه، أو غيره من ناحية
الحكم الشرعي كما إذا كان تصرف المالك في ماله فيما تضرر جاره به، لدفع ضرر
يتوجه إليه بحيث يكون ترك التصرف موجبا لتضرره بفوت الحاجة.
فالمشهور بين الأصحاب هو جواز التصرف وان كان ضرر الجار اللازم منه أكثر،
بل الظاهر أنه لا خلاف فيه.
وفى رسالة الشيخ والظاهر عدم الضمان أيضا عندهم كما صرح به جماعة منهم
الشهيد.
فالكلام في موردين 1 - في الحكم التكليفي 2 - في الضمان.
اما الأول: فقد استدل للجواز بوجوه، الأول: ان إباحة التصرف توجب تضرر
الجار فتشملها قاعدة لا ضرر، وحرمته موجبة لتضرره فهي أيضا في نفسها مشمولة
للقاعدة، فيقع التعارض بينهما فلا يمكن شمولها لهما معا، وشمولها لأحدهما دون الاخر
497

ترجيح بلا مرجح فلا تشمل شيئا منهما، فيرجع إلى قاعدة السلطنة المقتضية للجواز.
وأورد عليه المحقق النائيني بان منشأ تضرر المالك هو حرمة التصرف الثابتة من
شمول حديث لا ضرر لإباحة التصرف وسلطنة المالك على ماله، ومعلوم ان الضرر الناشئ
من شمول الحديث المتأخر عنه رتبة لا يكون مشمولا له، والا فيلزم تقدم ما هو متأخر،
وعليه فحديث لا ضرر في المثال يشمل خصوص جواز التصرف الناشئ منه تضرر الجار.
ويتوجه على أولا ان حرمة التصرف الموجب لتضرر الجار ان لم تكن ثابتة مع
قطع النظر عن قاعدة لا ضرر، لا تثبت بها لأنها قاعدة نافية للحكم لا مثبتة.
وثانيها: انها لو ثبتت بها لا مانع من شمول القاعدة لها في نفسها، لان القاعدة من
قبيل القضية الحقيقية وتنحل إلى قضايا عديدة بحسب ما للتضرر من الافراد، وعليه فإذا
شملت القاعدة لجواز التصرف وثبت بها حرمة التصرف وكانت الحرمة موجبة لتضرر
الجار يتولد منه مصداق آخر للقاعدة فيشملها القاعدة ولا يلزم تقدم ما هو متأخر، فان
المتأخر غير ما هو متقدم وهو واضح.
اللهم الا ان يقال ان حديث لا ضرر بحسب المتفاهم العرفي لا ينفى الحكم الذي
أثبته الحديث، وعليه فالعمدة هو الايراد الأول.
ولكن يرد على هذا الوجه، انه حيث تكون القاعدة في مقام الامتنان على الأمة
ولا منة على العباد في الحكم بتحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير ولو كان ضرره أعظم
من ضرر نفسه فالحديث لا يشمل سلطنة المالك على التصرف في ماله ولا يقتضى حجره
عنه.
أضف إليه انه لو سلم تعارض الضررين وسقوط القاعدة بالنسبة إليهما يكون
مقتضى قاعدة نفى الحرج هو عدم حجر المالك عن التصرف في ماله.
ومن هذين الايرادين يظهر وجهان آخران لجواز التصرف.
الرابع: الاجماع، ولكنه لمعلومية مدرك المجمعين لا يعتمد عليه.
الخامس: ما ذكره بعض المحققين تبعا لسيد الرياض، بان عموم التسلط يعارض
عموم نفى الضرر والترجيح للأول للأصل والاجماع.
498

ويرده ان قاعدة لا ضرر حاكمه على قاعدة السلطنة كما مر مفصلا.
ويمكن ان يستدل للجواز مضافا إلى الوجهين المتقدمين ما افاده الشيخ في
الرسالة، من أن تجويز الاضرار بالغير مع الاكراه وعدم لزوم تحمل الضرر، يشهد بعدم
لزوم تحمل الضرر لدفع الضرر عن الغير.
وبما ذكرناه ظهر ان ما ذكره بعض المتأخرين من وجوب ملاحظة مراتب ضرر
المالك والجار وتقديم الجار على المالك فيما كان ضرره أعظم وأكثر من ضرر المالك،
غير تام، نعم إذا كان ضرر الجار من قبيل هلاك النفس المحترمة التي يجب على المالك
أيضا حفظها، لا اشكال في تقديم ضرر الجار لكنه خارج عن محل الكلام.
كما أنه ظهر ان ما افاده المحقق السبزواري ايرادا على الأصحاب من أنه يعارض
قاعدة السلطنة قاعدة نفى الضرر فيشكل الجواز، غير صحيح.
ولكن التحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق ان جميع هذه الكلمات منحرفة عن
طريق السداد، والصواب، فان تصرف المالك في ملكه ان كان موجبا لتضرر الجار وكان
ذلك علة له والمراد بالضرر هو، النقص في المال، أو العرض، أو النفس لا محالة يكون
ذلك التصرف حراما محضا ولا يكون متصفا بحكمين، الحرمة، والإباحة، ولا سبيل إلى
دعوى ان قاعدة السلطنة تدل على الجواز فإنها لا تدل على جواز التصرف في ملك الغير،
وهل التمسك بها في المقام الا كالتمسك بها لا ثبات جواز ان يذبح بمديته غنم الغير
بدعوى انه مسلط على مديته يتصرف فيها ما شاء، وذلك كما في حفر بئر قريبا من بئر
الجار في الأرض المعمورة، بناءا على أن ملك أرضا ملك قرارها إلى تخوم الأرض،
وفراغها إلى عنان السماء، كما عن جماعة، أو ان الاحتفار حيازة لما في تخوم الأرض من
المياه كما عن المحقق القمي، فان ذلك أن أوجب قلة ماء بئر الجار، لا يجوز قطعا.
واما ان لم يكن ما يتوجه إلى الجار ضررا، بل كان عدم النفع كما في المثال بناءا
على انكار المبنيين كما حققناه في محله، واخترنا ان الاحتفار ليس حيازة للمياه
الموجودة في عروق الأرض، وبينا ان من ملك أرضا وان كان يملك مقدار من الفراغ
الذي يتوقف عليه تصرفاته في ارضه، ولمقدار آخر منه بتبعية الأرض بمنزلة الحريم،
499

ومقدارا من قرارها كذلك ولا يملك ما تجاوز عن ذينك الحدين، فلا يكون حراما بل هو
مباح محض، وعلى التقديرين ليس الا حكم واحد وحيث إن المختار كما مر ان قاعدة
لا ضرر، لا تشمل عدم الحكم، ولا تكون مثبتة للحكم، فليس في الأمثلة المذكورة في
كتب القوم لتعارض الضررين، مورد يتم فيه ما أفادوه، ويتعارض قاعدة لا ضرر الجارية،
في أحد الطرفين مع الجارية في الطرف الآخر.
وعليك تطبيق الضابط الذي ذكرناه على الأمثلة المذكورة في الكلمات، مثلا في
حفر بئر قريب من بئر الجار الموجب لعدم جذب بئر الجار ما في عروق الأرض من
المياه، يكون ذلك جائزا غير محرم كما هو المشهور بين الأصحاب، وفى حفر بئر كنيف
أو بالوعة بقرب بئر ماء الجار، ان لم يوجب ذلك تغير ماء البئر ولكن كان الجار يستقذر
ماء بئره لقربه من الكنيف أو البالوعة، أو أوجب تغيير الماء ولكن كان من قبيل المعد لا
العلة التامة بان تمكن الجار من احكام جدار الماء بنحو لا يتغير ما بئره، جاز الحفر ولم
يكن حراما، وأما إذا كان بنحو العلة التامة أي الجزء الأخير منها لم يجز، ولم يكن ذلك
مباحا، وهكذا ساير الأمثلة، وعلى الجملة ليس المقام من باب التعارض بين فردين من
القاعدة في شئ، بل بما ذكرناه يظهر انه لا يتعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة لا ضرر في
مورد فإنه إذا أوجب التصرف تضرر الغير لم يجز ولم يكن مورد القاعدة السلطنة، وعليه
فلا مورد للبحث فيما يقتضيه قواعد باب التعارض، وقد خرجنا بما ذكرناه عما يقتضيه
الأدب بالنسبة إلى علماء الاسلام والله تعالى مقيل العثرات.
وبما ذكرناه يظهر الحال في المورد الثاني، أي الضمان، فإنه إذا أوجب تصرف
المالك في ماله اتلاف مال الغير، واستند الاتلاف إليه، كان ضامنا قطعا ولا مورد لأعمال
قاعدة لا ضرر، لأن الضمان حكم مبنى على الضرر فهو خارج عن مورد الحديث، ولا
يشمله حديث لا ضرر كما مر، والا كما في حفر البئر قريبا من بئره أعمق منها الموجب
لجذب المياه الموجودة في عروق الأرض، فلا ضمان، لما حقق في محله من انحصار
سبب ضمان الغرامة بالاتلاف، واليد، والاستيفاء.
500

حكم الاضرار بالغير
خاتمة في حكم الاضرار، بالغير، وبالنفس، فالكلام يقع في مسألتين، الأولى في
الاضرار بالغير، الثانية، في الاضرار بالنفس.
اما الأولى: فلا ينبغي التوقف في حرمة الاضرار بالغير، ويشهد به مضافا إلى عدم
الخلاف فيه، جملة من الآيات القرآنية، وكثير من النصوص، اما الآيات فهي في موارد
خاصة.
منها: قوله تعالى " ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده (1) " وقد نهى الله تعالى
في هذه الشريفة، ان يضر الوالدة بالولد، بترك الارضاع تعنتا، أو غيظا على أبيه، ونهى
أيضا عن أن يضر الأب بولده، بان ينزعه من أمه ويمنعها من ارضاعه، وقد مر ان المضارة
بمعنى الاضرار عن عمد.
وقد قيل في معنى الآية وجه آخر، وهو ان المنهى عنه اضرار الأب بالوالدة بترك
جماعها، خوفا من الحمل، واضرار الوالدة، بالامتناع من الجماع، خوفا من الحمل أيضا،
وفى كنز العرفان، الجزء الثاني ص 233، بد نقل هذا الاحتمال، وروى عن الباقر
والصادق (ع).
ومنها: قوله تعالى " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (2) " نهى الله تعالى عن الاضرار
والتضييق على المطلقات.
ومنها: قوله عز وجل " ولا تمسكوا هن ضرارا (3) نهى الله تعالى عن الرجوع لا للرغبة،
بل للاضرار.

1 - البقرة آية 233.
2 - الطلاق آية 7.
3 - البقرة آية 230.
501

منها: قوله تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد (1) " نهى الله عز وجل عن الاضرار
بالكتاب والشهود إذا أدوا حق الشهادة والكتابة، أو نهى عن اضرار الكاتب والشاهد
غيرهما على الاختلاف في كون الفعل مبنيا للفاعل، أو للمفعول، واما النصوص فكثيرة.
منها: ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن زياد عن الإمام الصادق (ع) لا ينبغي
للرجل ان يطلق امرأته ثم يراجعها وليس به فيها حاجة ثم يطلقها، فهذا الضرار الذي نهى
الله عز وجل عنه (2) قوله وهذا الضرار الذي نهى الله عنه، بيان للكبرى الكلية ويدل على
حرمة الاضرار مطلقا.
منها: ما عن عقاب الأعمال للصدوق باسناده عن النبي (ص)، في حديث من أضر
بامرأة حتى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار - إلى أن قال - من ضار
مسلما فليس منا ولسنا منه في الدنيا والآخرة (3).
منها: ما عن الكافي باسناده عن الحلبي عن الإمام الصادق (ع) في حديث انه نهى
ان يضار بالصبي أو تضار أمه في رضاعه (4) ومنها: خبر طلحة بن زيد عن الإمام الصادق (ع)
ان الجار كالنفس غير مضار ولا اثم (5) وسيأتي الكلام في فقه الحديث فيه.
ومنها: ما في الكافي عن طلحة بن زيد عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه (ع) قرأت في
كتاب لعلى (ع) ان رسول الله (ص) كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من
أهل يثرب ان كل غازية غزت بما بعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين المسلمين
فإنه لا تجار حرمة الا باذن أهلها وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم (6) الحديث والمراد
بالجار من اعطى الأمان لا المجاور للبيت كما يظهر من صدر الخبر، ثم إن قوله غير مضار
اما حال من المجير على صيغة الفاعل، أي يجب ان يكون المجير غير مضار ولا آثم في

1 - البقرة آية 284.
2 - الوسائل ج 15 ص 402 باب 34 من أبواب أقسام الطلاق حديث 1.
3 - الوسائل ج 15 ص 490 باب 2 من أبواب الخلع والمباراة حديث 1.
4 - الوسائل ج 15 ص 177 باب 70 من أبواب احكام الأولاد حديث 3.
5 - الوسائل ج 17 ص 341 باب 12 من أبواب احياء الموات حديث 2.
6 - الكافي ج 5 ص 31 باب اعطاء الأمان من كتاب الجهاد، الوسائل ج 11 ص 50.
502

حق المجاور، أو حال عن المجار، ويحتمل بناء المفعول أيضا.
ومنها: ما رواه الكليني (ره) باسناده عن محمد بن الحسين قال كتبت إلى أبى
محمد (ع) رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية ان يسوق
إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطل هذا الرحى اله ذلك أم لا؟ فوقع (ع) يتقى الله
ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن (1).
وغير ذلك من النصوص الواردة في الأبواب المختلفة - منها - ما ورد في باب
حريم العين والقناة والنهر في كتاب احياء الموات - ومنها - غير ذلك.
أضف إلى ذلك كله ان الاضرار بالغير ظلم في حقه - فيدل على حرمته - الأدلة
الأربعة الدالة على حرمة الظلم.
مع أنه ايذاء له فيدل على حرمته ما دل على حرمة الايذاء، ويمكن ان يستدل
لعدم جوازه بحديث لا ضرر ولا ضرار، فان الحكم بإباحته حكم ضرري فيكون منفيا في
الشريعة، فإذا لا ريب في حرمة الاضرار بالغير.
حكم الاضرار بالنفس
واما المسألة الثانية: ففي رسالة الشيخ الأعظم، قد استفيد من الأدلة العقلية،
والنقلية، تحريم الاضرار بالنفس، أقول لا كلام عندنا في حرمة الاضرار بالنفس، إذ أدى
ذلك إلى الوقوع في التهلكة، أو تحقق ما علم مبغوضيته في الشريعة كقطع الأعضاء
ونحوه أو كان يصدق عليه التبذير، والاسراف إذا كان الضرر ماليا.
انما الكلام في الاضرار بالنفس في غير هذه الموارد، وقد استدل لحرمته بوجوه.
1 - ان العقل مستقل بذلك.
وفيه ان العقل لا يأبى من تحمل الضرر إذا ترتب عليه غرض عقلائي كما في سفر

1 - الوسائل ج 17 ص 343 باب 15 من أبواب احياء الموات.
503

التجارة أو الزيارة وما شاكل.
2 - أدلة نفي الضرر، اما بدعوى إرادة النهى من النفي، أو بدعوى، ان جوازه
ضرري منفى في الشريعة.
وفيه: ان تلك الأدلة انما تنفى الأحكام الضررية، ولا يكون المراد من النفي النهى
كما تقدم تفصيل ذلك.
وجواز الاضرار بالنفس غير مشمول لها: لما تقدم من عدم شمول حديث لا ضرر،
للأحكام غير اللزومية المتعلقة بالشخص نفسه.
مع أن رفع جواز الاضرار بالنفس إذا ترتب عليه غرض عقلائي مخالف للامتنان
فلا يشمله الحديث.
أضف إلى ذلك أن الضرر الذي يترتب عليه غرض عقلائي لا يعد ضررا عرفا.
3 - خبر - مفضل بن عمر - قال قلت لأبي عبد الله (ع) لم حرم الله الخمر والميتة
والدم ولحم الخنزير قال إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم
ما سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق فعلم ما
تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم إباحة تفضلا عليهم لمصلحتهم وعلم ما يضرهم
فناهم عنه وحرمه عليهم - إلى أن قال - اما الميتة فإنه لا يد منها أحد الا ضعف بدنه ونحل
جسمه وذهبت قوته وانقطع نسله الحديث (1).
بتقريب ان قوله (ع) وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم، يدل على أن علة
تحريم الخمر، والميتة والدم ولحم الخنزير انما هي كونها مضرة، ومقتضى عموم العلة
حرمة كل ما يوجب الضرر على النفس.
وفيه: ان قوله (ع) وعلم ما يضرهم فناهم عنه، من قبيل حكمة التشريع، لا من
قبيل العلة التي يتعدى عنها، وذلك لان السؤال انما يكون عن وجه تحريم الله تعالى تلك
الأمور، فالسؤال انما يكون عن حكمة التشريع، ولا يكون سؤالا عن انطباق عنوان عام

1 - الوسائل ج 16 ص 310 باب 1 من أبواب الأطعمة المرحمة حديث 1.
504

محرم عليها، وعدمه هو واضح، فالجواب أيضا يكون ناظرا إلى ذلك، ولعل ما
ذكرناه ظاهر لا سترة عليه.
أضف إلى ذلك أنه لو كان ذلك علة يدور الحكم مدارها، لزم منه عدم حرمة
المذكورات إذا لم يترتب على استعمالها الضرر، كما في استعمال القليل منها، أو جواز
استعمال ما يقطع من الميتة بعدم الضرر فيها كما لو ذبح إلى غير القبلة، ولا يلتزم بذلك
فقيه.
مع أن ما ذكر في وجه حرمة الميتة رتب على ادمانها، فلو كان ذلك علة، لزم منه
عدم حرمة اكل الميتة مع عدم الادمان.
ومنها: ما رواه الصدوق باسناده عن الإمام علي (ع) في حديث الأربعمائة، ولا
تأكلوا الطحال فإنه بيت الدم الفاسد (1) والاستدلال به انما يكون بعموم العلة.
والجواب عنه انما هو بكون ذلك من قبيل الحكمة لا العلة، لو روده في مقام بيان
حكمة تحريم الله تعالى الطحال، لا في مقام بيان تحريم عنوان عام شامل للطحال.
ومنها: خبر محمد بن سنان عن الإمام الرضا (ع) فيما كتب إليه من جواب مسائله
وحرم الخنزير لأنه مشوه إلى أن قال وحرمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة إلى أن
قال حرم الله الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الا بدان وانه يورث الماء الا صفر
ويبخر الفم وينتن الريح ويسئ الخلق، ويورث قساوة القلب وقلة الرأفة والرحمة حتى
لا يؤمن ان يقتل ولده ووالده وصاحبه (2) وتقريب الاستدلال به، والجواب عنه ما في
سابقيه، ويضاف إليه ان ما ذكر في مقام الحكمة ليس هو الاضرار بالبدن خاصة، كما هو
واضح.
ومنها: خبر الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول عن الإمام الصادق (ع)
واما ما يحل للانسان اكله مما أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية إلى أن قال،

1 - الوسائل ج 16 ص 322 باب 3 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 10.
2 - الوسائل ج 16 ص 311 باب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 3.
505

وكل شئ يكون فيه المضرة في بدنه وقوته فحرام اكله الا في حال الضرورة الحديث (1).
وفيه: أولا انه ضعيف السند للارسال، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت فلا يكون
حجة.
وثانيا: انه يدل على حرمة الأطعمة والأغذية المضرة كالسموم وما شكل، لا حرمة
الاضرار بالنفس مطلقا، ولو كان باستعمال الأطعمة غير المضرة في أنفسها، لا حظ
قوله (ع) قبل الجملة التي هي محل الاستشهاد، صنف منها جميع الحب كله من الحنطة
والشعير والأرز والحمص وغير ذلك من صنوف الحب وصنوف السماسم وغيرهما كل
شئ من الحب مما يكون فيه غذاء الانسان في بدنه وقوته فحلال اكله، وكل شئ يكون
فيه المضرة إلى آخره.
ومنها: خبر دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد عليهما السلام انه قال في حديث
وما كان منها أي من صنوف الثمار والبقول فيه المضرة فحرام اكله الا في حال التداوي به
الخبر (2).
ويرد عليه، انه ضعيف السند للارسال ولعدم ثبوت وثاقة مؤلف ذلك الكتاب
وهو أبو حنيفة نعمان بن محمد بن منصور، والاستناد إليه غير ثابت، أضف إليه اختصاصه
بالأطعمة المضرة، كما في خبر تحف العقول.
ومنها: ما عن فقه الرضا اعلم يرحمك الله ان الله تبارك وتعالى لم يبح اكلا ولا
شربا الا لما فيه المنفعة والصلاح ولم يحرم الا ما فيه الضرر والتلف والفساد، فكل نافع
مقو للجسم فيه قوة للبدن فحلال وكل مضر يذهب بالقوة أو قاتل فحرام مثل السموم
والميتة والدم ولحم الخنزير إلى آخره (3).
والجواب عنه كما في سابقيه، مضافا إلى عدم ثبوت كونه كتاب رواية، ولعله
تأليف فقيه من أهل البيت.

1 - الوسائل ج 17 ص 61، باب 42 من أبواب الأطعمة المباحة حديث 1.
2 - المستدرك ج 3 ص 80 باب نوادر ما يتعلق بأبواب الأطعمة المحرمة حديث 1.
3 - مستدرك الوسائل ج 3 ص 71 باب 1 من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 5.
506

ومنها: خبر طلحة بن زيد عن الإمام الصادق (ع) الجار كالنفس غير مضار ولا آثم (1).
وفيه: انه يدل على أن الجار (أي من اعطى له الأمان كما مر) بمنزلة النفس، فكما
ان الانسان بطبعه لا يقدم على الضرر ولا يظهر عيوب نفسه، فليكن كذلك بالنسبة إلى
الجار، ولا يدل على حرمة الاضرار بالنفس.
وفى المقام روايات كثيرة اخر مذكورة في الوسائل ومستدرك الوسائل، يظهر
الجواب عنها مما تقدم، مضافا إلى ضعف اسناد جملة منها.
فإذا لا دليل على الحرمة، ومقتضى الأصل الجواز.
ويشهد به، توافق النص، والفتوى، والعمل على جواز عدة أمور مع كونها مضرة،
كادمان اكل السمك، وشرب الماء بعد الطعام، واكل التفاح الحامض، وشرب التتن
والتنباك، والجماع على الامتلاء من الاطعام، ودخول الحمام مع الجوع، وعلى البطنة
والاضرار بالنفس بسفر التجارة، وما شاكل ذلك، فيجوز الاضرار بالنفس، بغير ما يوجب
التهلكة أو قطع عضو من الأعضاء، الا ما استثنى بلا كلام، هذا آخر ما أوردنا في قاعدة
لا ضرر. والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا.

1 - الوسائل ج 17 ص 341 باب 12 من أبواب احياء حديث 2.
507