الكتاب: جواهر الأصول
المؤلف: تقرير بحث السيد الخميني ، للنگرودي
الجزء: ٢
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الثانية ١٤٢١ - شهريور ١٣٧٩
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج
الناشر: مؤسسه تنظيم ونشر آثار الامام الخميني
ردمك:
ملاحظات:

جواهر الأصول
الجزء الثاني
تقرير أبحاث الأستاذ الأعظم والعلامة الأفخم
آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي
الإمام الخميني قدس سره
تأليف
آية الله العظمى السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي (دام ظله)
مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
1

هوية الكتاب
اسم الكتاب: جواهر الأصول / ج 2 *
المؤلف: السيد محمد حسن المرتضوي اللنگرودي *
تحقيق ونشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره *
سنة الطبع: شهريور 1379 - جمادي الثانية 1421 *
الطبعة: الأولى *
المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج *
الكمية: 3000 نسخة *
السعر: 9500 ريال *
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن
العسكري، صلواتك عليه وعلى
آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة،
وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا
وعينا؛ حتى تسكنه أرضك طوعا
وتمتعه فيها طويلا.
5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لوليه، والصلاة والسلام على أشرف
بريته، وعلى الأصفياء من عترته؛ سيما القائم
بإحياء شريعته، سيدنا ومولانا حجة بن
الحسن العسكري. اللهم عجل فرجه، واجعلنا
من أنصاره وأعوانه.
وبعد: ما بين يديك هو الجزء الثاني من كتاب
" جواهر الأصول "، تقرير ما ألقاه سماحة
أستاذنا الأكبر آية الله العظمى، نائب
الإمام (عليه السلام)؛ الإمام الخميني (قدس سره) في مباحث
الألفاظ.
نسأل الله التوفيق والتسديد، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين.
[المؤلف]
7

الأمر الثاني عشر
في الاشتراك (*)
وقع البحث فيه تارة في إمكانه، وأخرى في وقوعه، وثالثة في كيفية وقوعه؛
فالكلام يقع في جهات:
الجهة الأولى: في إمكان الاشتراك
يظهر من بعض الوجوه التي استدل بها القائل بامتناع الاشتراك: أن الاشتراك
ممتنع عقلا.
كما أنه يظهر من بعضها الآخر - الذي أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) - من
لزوم اللغوية والإجمال (1) أن امتناعه عقلاني.
وكيف كان: ما يمكن أن يستدل به القائل بامتناع الاشتراك عقلا وجهان:
الوجه الأول: ما أشار إليه المحقق العراقي (قدس سره) وأجاب عنه.
هذا الوجه ملتئم من مقدمتين:

* - كان تاريخ الشروع في هذا الأمر 23 رجب / 1378 ه‍. ق.
1 - كفاية الأصول ج 1: 51.
9

الأولى: أن في وضع اللفظ لمعنى لا يكون شخص اللفظ موضوعا لشخص
المعنى؛ ضرورة أن تشخص اللفظ باستعماله، وهو متأخر عن الوضع، بل الوضع
يتعلق بطبيعي اللفظ بنحو القضية الحقيقية، بإزاء طبيعي المعنى أيضا بنحو القضية
الحقيقية؛ ولذا يكون كل فرد من أفراد طبيعي اللفظ موضوعا بإزاء فرد من أفراد
طبيعي المعنى.
الثانية: أن الوضع ليس جعل اللفظ علامة للمعنى، بل هو عبارة عن جعل
اللفظ مرآة للمعنى وفانية فيه؛ بحيث لا يرى السامع وجود اللفظ في الخارج إلا
وجود المعنى؛ ولذا يسري استهجان المعنى إلى اللفظ، ويصير اللفظ مستهجنا.
إذا تمهد لك هاتين المقدمتين: فلازم تعدد الوضع والاشتراك هو كون لفظ من
أفراد طبيعي اللفظ مرآة وفانيا دفعة واحدة؛ فناءين في أمرين متباينين، كما لا يعقل
أن يكون وجود واحد وجود ماهيتين.
ولا يمكن أن يقال: إن الواضع خصص طائفة من أفراد طبيعي اللفظ بمعنى،
وطائفة أخرى منها بمعنى آخر؛ لما قلنا في المقدمة الأولى: أن الوضع يسري إلى
جميع وجودات طبيعي اللفظ بنحو القضية الحقيقية - أي جميع الأفراد المقدرة
والمحققة - ومعه كيف يعقل اختصاص طائفة من أفراد طبيعي اللفظ بمعنى، والطائفة
الأخرى منها بمعنى آخر؟! لأن التخصيص إن كان مع تمييز تلك الطائفة عن غيرها
- بمائز يتقوم به اللفظ الموضوع - خرج اللفظ عن الاشتراك، وإن كان المائز
الاستعمال المتعلق باللفظ فلا يعقل أن يتقوم اللفظ الموضوع بما هو متوقف على
الوضع؛ لأن استعمال اللفظ الموضوع فيما وضع له متأخر عن اللفظ ووضعه (1)
فتدبر.

1 - بدائع الأفكار ج 1 / 144.
10

يظهر من الجواب الثاني من المحقق العراقي (قدس سره) عن الإشكال: بأنه يرى
تمامية المقدمة الأولى وكبرى المقدمة الثانية، ولكن ناقش في كون ما نحن فيه من
صغرى تلك الكبرى؛ لأنه قال: لا نسلم أن وضع اللفظ للمعنى يوجب كونه مرآة له
بالفعل، بل الوضع يوجب استعداد اللفظ الموضوع للحكاية عن المعنى عند
الاستعمال، وبالاستعمال يخرج من القوة إلى الفعلية في الحكاية المرآتية.
فعلى هذا: إذا استعمل اللفظ في المعنى الآخر ثانيا يوجد فرد جديد من
طبيعي اللفظ، ويصير مرآة للمعنى الآخر، فلم يكن لفظ واحد شخصي مرآتين
لمعنيين، ولو في آنين (1).
ولكن الذي يقتضيه التحقيق: هو عدم استقامة كلتا المقدمتين، مع عدم
الاحتياج في أصل الإشكال إلى المقدمة الأولى؛ وذلك:
أما المقدمة الأولى ففيها:
أولا: أنه لو كان وضع اللفظ للمعنى بالكيفية التي ذكرها يلزم أن يكون
الوضع والموضوع خاصين في جميع الأوضاع - حتى في أسماء الأجناس - وهو
كما ترى.
بل الوضع عبارة عن جعل نفس طبيعة اللفظ لطبيعة المعنى، من دون لحاظ
الكثرات؛ لا من ناحية اللفظ ولا من ناحية المعنى بنحو القضية الحقيقية.
ألا ترى أن وضع لفظة " الإنسان " مثلا للماهية المعلومة لم يلحظ في ناحية
اللفظ كل ما يوجد للإنسان لفظ، ولا في ناحية المعنى كذلك، بل وضعت طبيعي
تلك اللفظة لطبيعي تلك المعنى والماهية فتدبر.

1 - بدائع الأفكار ج 1 / 145.
11

وثانيا: - كما أشرنا وسيمر بك مفصلا - أن تفسير القضية الحقيقية بما ذكره لا
تخلو عن إشكال، وأنه غير ما اصطلحوا عليه فيها أرباب المعقول، الذين هم المأخذ
فيها، فارتقب.
وثالثا: النقض بالأعلام الشخصية؛ بداهة أنها لم تكن كذلك، كما لا يخفى.
ورابعا: أن المستعمل لا يستعمل شخص اللفظ في المعنى، بل يستعمل
طبيعي المعنى، مثلا عندما قال المستعمل: " هذه حنطة " استعملت طبيعي لفظة
" الحنطة " في طبيعي المعنى، لكن حمل الطبيعي على الموضوع حملا شائعا يقضي
بانطباق طبيعي المعنى على الهذية، لا استعمال اللفظة الشخصية في معنى شخصي،
كما لا يخفى.
وبالجملة: فرق بين تطبيق المعنى على المصداق وبين استعمال اللفظ الجزئي
في المعنى الجزئي.
فظهر مما ذكرنا: أن المقدمة الأولى مخدوشة. مع أنها غير محتاجة إليها
لإتيان الإشكال؛ بداهة أنه يمكن تنظيم صورة الإشكال أيضا على مذهبنا - من
كون الوضع عبارة عن جعل طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى - كما لا يخفى.
وأما المقدمة الثانية ففيها: أنه إن أريد بفناء اللفظ في المعنى فناء الكيف
المسموع في المعنى، ولا يخفى أنه لا محصل له؛ لأن مرجعه إلى فناء موجود
خارجي في موجود آخر، وهو غير معقول.
وإن أريد بالفناء: أنه عند الاستعمال يكون التوجه والالتفات إلى المعنى - كما
لعل هذا هو الظاهر من قولهم بالفناء - ففيه: أن هذا في الحقيقة إشكال على استعمال
اللفظ في الأكثر من معنى واحد، وسيظهر لك جليا في الأمر التالي إمكانه، وأنى له
وللوضع للأكثر من معنى واحد؟ ضرورة أن الوضع - كما تقدم - هو جعل اللفظ قبال
المعنى وعلامة له، لا إفناء اللفظ في المعنى.
12

ولا يعقل الإفناء في ناحية الوضع؛ بداهة أن الواضع عند وضعه اللفظ للمعنى
لابد وأن يلاحظ كلا من اللفظ والمعنى مستقلا، ومنحازا كلا منهما عن الآخر، ثم
جعل اللفظ علامة للمعنى، وهذا المعنى غير حاصل فيما لو كان اللفظ فانيا في
المعنى؛ ضرورة أنه لم يلحظ الفاني إلا مرآة وتبعا للمعنى.
فظهر: أن الواضع بوضعه - مع قطع النظر عن الاستعمال - لا يمكنه إفناء
اللفظ في المعنى، وبلحاظ استعمال المستعملين اللاحق للوضع؛ حيث إنه بمنزلة
ملاحظة الشرط الخارج عن متن العقد لا يجب اتباعه، كما لا يخفى.
مضافا إلى أنه سيمر بك: أن الاستعمال لا يكون إفناء اللفظ في المعنى؛
خصوصا في أوائل الاستعمالات بعد الوضع.
نعم، توجب كثرة الاستعمال وأنس الذهن غفلة الشخص عن اللفظ وتوجهه
إلى المعنى، وهذا غير إفناء اللفظ في المعنى، كما لا يخفى.
وبما ذكرنا تظهر: المناقشة في جواب المحقق العراقي (قدس سره)؛ فإنه لم يكن باب
الاستعمال باب إفناء اللفظ في المعنى، بل لو كثرت الاستعمالات توجب ذلك غفلة
المستعمل عن اللفظ، وقد أشرنا أنه غير الفناء، فتدبر.
الوجه الثاني: أن الوضع عبارة عن جعل الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى
أو ما يستلزمها؛ فإذن بوضع اللفظ لمعنيين يوقع ملازمتين مستقلتين: إحداهما
ملازمة بين اللفظ ومعنى.
والأخرى ملازمة أخرى بين ذلك اللفظ ومعنى آخر.
فعليه: لو تصور ذلك اللفظ يلزم انتقالان مستقلان، وحضور المعنيين دفعة
واحدة في الذهن، وهو محال (1).

1 - أنظر تشريح الأصول: 47 / السطر 19.
13

وفيه أولا: أن غاية ما يقتضيه وضع اللفظ لمعنى هو جعل اللفظ قبال المعنى
وعلامة له، ولم يكن هناك من الملازمة عين ولا أثر.
وثانيا: أنه لو سلم ذلك، وأن الواضع بوضعه اللفظ للمعنى يوقع ملازمة ذهنية
بينهما فنقول: مرادكم بعدم إمكان حضور المعنيين إن كان عدم إمكان تصور معنيين،
وأكثر دفعة واحدة فالحق - كما يتضح في الأمر التالي - عدم امتناعه.
وإن كان أنه بعد الوضع لابد وأن يوجد كل من المعنيين مستقلا بدون الآخر
- كما كانا حال الوضع - ففيه: أن معنى استقلال المعنى هو أن لا يكون معناه مرتبطا
بالآخر، وهذا لا ينافي حصول المعنى الآخر مقارنا لحصوله.
وبالجملة: فرق بين الاستقلال والانحصار، والأول لا ينافي حضور المعنى
الآخر مقارنا له بخلاف الثاني، وهو أول الكلام، فتدبر.
والحاصل: أنه لم يقم دليل على كون الاستقلال بمعنى عدم وجود انتقال آخر
معه - الذي هو معنى الانحصار - بل معناه أن معناه لم يكن مرتبطا بالمعنى الآخر؛
فلا ينافي حصول المعنى الآخر مقارنا لحصوله.
مضافا إلى أن مرجع هذا الإشكال إلى عدم جواز استعمال اللفظ في الأكثر
من معنى واحد، وهذا غير الوضع للكثير، الذي بصدد إثبات إمكانه فعلا؛ لأن غاية
ما يقتضيه ذلك هي صيرورة اللفظ مجملا.
فظهر مما ذكر: أنه لا محذور عقلا في الاشتراك.
ولكن ربما يظهر من بعضهم (1): أن الاشتراك واجب، بلحاظ أن الألفاظ

1 - أنظر كفاية الأصول: 52، بدائع الأفكار 1: 145.
14

والتراكيب المؤلفة منها متناهية؛ لتركبها من الحروف الهجاء، وهي متناه،
والمركب من المتناهي متناه. وأما المعاني فغير متناهية، والحاجة ماسة إلى تفهيم
المعاني جميعا بالألفاظ؛ فلابد من الاشتراك لئلا يبقى معنى بلا لفظ دال عليه (1).
وفيه: أنه إن أريد من عدم التناهي معناه الحقيقي فيرد عليه أولا: أنه لا معنى
لعدم تناهيها في نفس الأمر، كما لا يخفى (2).
وثانيا - لو سلم عدم تناهي المعاني في نفس الأمر وإمكان صدور الوضع لها
من الله تعالى غير المتناهي - فنقول: بعدم الحاجة إلى تفهيمها جميعا؛ لأن الحاجة إلى
تفهيمهم ما يتعلق بأغراضهم متناهية (3).
وإن أريد بعدم التناهي: معناه العرفي - وهو الكثير كما هو الظاهر - فتمنع
كون الألفاظ من المعاني والطبائع الكلية كذلك.
نعم بالنسبة إلى المعاني الجزئية، وإن كانت المعاني كثيرة بالنسبة إلى
الألفاظ؛ ولذا يوجد الاشتراك في الأعلام الشخصية.
فتحصل مما ذكر: أنه لا دليل على امتناع الاشتراك، كما لا دليل على وجوبه.
فالحق إمكان الاشتراك.

1 - قلت: وربما يضاف على ذلك بأنه لو قلنا بتناهي المعاني ولكنها كثيرة تزيد على الألفاظ
وتراكيبها بكثير، فلابد من الاشتراك.
2 - قلت: وبعبارة أخرى - كما أفيد - أن وضع الألفاظ بإزاء المعاني غير المتناهية غير معقول؛
لاستلزامه أوضاعا غير متناهية، وصدورها من واضع متناه محال.
3 - قلت: وبالجملة - كما أفيد - إن أمكن ذلك منه تعالى ولكن المقدار الواقع منه تعالى في الخارج
بالمقدار الممكن؛ لأن الوضع إنما يكون بمقدار الحاجة إلى الاستعمال، وهو متناه؛ فالزائد عليه
لغو لا يصدر من الواضع الحكيم.
15

الجهة الثانية: في وقوع الاشتراك
لا ينبغي الإشكال في وقوع الاشتراك، وهو من الوضوح بمكان لا يترتب فيه
أحد؛ لما ترى من وجود ألفاظ مشتركة في اللغات الحية العالمية؛ خصوصا في لغة
العرب، التي هي المقصد الأسنى والغاية القصوى من هذه المباحث. ولعله لوضوح
الأمر لم يتعرض سماحة الأستاذ - دام ظله - لهذه الجهة.
الجهة الثالثة: في كيفية وقوع الاشتراك ومنشأ حصوله
ويظهر فيما مر وقوع الترادف.
قد يشكل في وقوع الاشتراك والترادف في اللغة: بأنه لأي سبب وضعت
لفظة " العين " مثلا لسبعين معنى، ولم توضع لفظة أخرى إلا لمعنى واحد، مع أن
دلالة الألفاظ لم تكن ذاتية؟ ولأي سبب وضعت للأسد أو الجمل - مثلا - ألفاظ
كثيرة، ولم توضع للإنسان، مع أنه أشرف المخلوقات والاعتبار يساعد وضع ألفاظ
كثيرة لما يكون أشرف؟
والذي أظنه في ذلك: هو أن الأمم - ومنهم الأعراب مثلا - كانوا في ابتداء
الأمر طوائف وقبائل منتشرة في فسيح الأرض لم ترتبط إحداها بالأخرى. فلم
تكونوا مرؤوسي رئيس واحد ومطاع أمير فارد، بل كانوا ملوكا وطوائف متعددين،
وكان لكل طائفة وقبيلة واضع أو واضعون تخصها. فوضع كل طائفة ألفاظا لمعاني
بمقدار احتياجاتها إلى تفهيمها وتفهمها؛ قلة وكثرة.
ثم بعد لحوق الطوائف بعضها ببعض، ومقهورية طائفة وقاهرية الأخرى،
16

واختلاط بعضها ببعض مدى الأعوام والقرون، بل لحوق غير الأعراب بهم
واختلاطهم وامتزاجهم معهم أورثت وقوع ألفاظ متعددة لمعنى واحد، أو لفظة
واحدة لمعاني متعددة.
ويحتمل وجه آخر لحدوث الاشتراك: وهو أن لفظة واحدة قد وضعت لمعنى
واحد، ولكنه استعملت - مجازا - في غير ما وضعت له؛ لعلاقة بينهما أو مناسبة
طبيعي حاكمة بينهما، واستعملت فيها كثيرا إلى أن وصلت حد الحقيقة؛ فحصل
الاشتراك.
ويمكن تقريب هذا الوجه بنحو لحصول الترادف أيضا، كما لا يخفى.
والحاصل: أن وقوع الاشتراك والترادف إما لاختلاط الطوائف وامتزاج
بعضها ببعض، أو لكون الاستعمال في ابتداء الأمر مجازيا إلى أن صار حقيقيا، أو
لكلا الأمرين (1).

1 - قلت: وقريب مما أفاده سماحة الأستاذ - دام ظله - ما في " أجود التقريرات "؛ حيث قال: إنه
يظهر من بعض المؤرخين: أنهما - أي الاشتراك والترادف - حدثا من خلط بعض اللغات ببعض.
مثلا كان يعبر عن معنى في لغة الحجاز بلفظ، ويعبر عن ذلك المعنى في لغة العراق بلفظ آخر،
وبذلك اللفظ عن معنى آخر، ومن جمعهما أخيرا وجعل الكل لغة واحدة حدث الاشتراك
والترادف، انتهى [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] أجود التقريرات 1: 51.
17

الأمر الثالث عشر
في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد (*)
الحق: جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد.
ولكن ذهب جماعة إلى امتناعه عقلا (1)، كما ذهب بعضهم إلى امتناعه
بحسب القواعد الأدبية (2).
وليعلم: أن محل البحث وما ينبغي أن يكون موردا للنقض والإبرام - كما
أشار إليه المحقق الخراساني (قدس سره) (3) - هو أن يستعمل اللفظ ويراد به كل من المعنيين أو
المعاني مستقلا ومنفردا؛ بحيث يكون كل من المعنيين أو المعاني متعلقا للنفي أو
الإثبات بحياله.
فاستعمال اللفظ في الجامع القابل للانطباق على أفراد متكثرة، أو في المركب
ذي أجزاء - نظير العام المجموعي - خارج عن محل البحث.

* - كان تاريخ الشروع في هذا الأمر يوم 23 رجب 1378 ه‍. ق.
1 - كفاية الأصول: 53. حاشية كفاية الأصول، المشكيني 1: 207، نهاية الدراية 1: 152.
2 - معالم الدين: 23، قوانين الأصول 1: 67 / السطر 23.
3 - راجع كفاية الأصول: 53.
19

ولا يخفى: أن عدم جواز استعمال اللفظ في الأكثر - نظرا إلى اعتبار الوحدة
في المعنى الموضوع له، أو كون الوضع تحقق في حال الوحدة واستعمال اللفظ في
الأكثر استعمال له في غير ما وضع له، أو في خلاف ما هو المعهود من الوضع - مما
لا يعتنى به؛ لما تقرر في محله: أنه لا دليل على اعتبار الواضع قيد الوحدة في
المعنى الموضوع له، كما لا دليل على أن تحقق الوضع حال وحدة المعنى لا يمنع
عن استعماله في الأكثر.
وعمدة ما يمكن أن يناقش في الجواز: هو الإشكال العقلي الذي أشار إليه
المحقق الخراساني (قدس سره) وغيره:
حاصله: أن الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى، بل عبارة
عن إفناء المستعمل اللفظ في المعنى؛ بحيث يكون اللفظ عنوانا للمعنى، بل بوجه
نفسه؛ ولذا يسري قبح المعنى وحسنه إلى اللفظ، كما لا يخفى.
فإذا كان اللفظ وجها فانيا في معنى لا يمكن أن يكون فانيا في معنى آخر في
نفس الوقت؛ لاستلزام ذلك إلى جمع اللحاظين في زمان واحد، ولا يكاد يمكن أن
يكون في استعمال واحد أن يلاحظ لفظ واحد وجها لمعنيين وفانيا في اثنين إلا أن
يكون اللاحظ أحول العينين (1).
ويمكن تقريب الإشكال بوجوه، وإن كان بعضها لا يساعد ظاهر هذا الكلام:
التقريب الأول - ولعله الظاهر من هذا الكلام - وهو: أن الاستعمال جعل
اللفظ فانيا في المعنى، ففي استعمال اللفظ في المعنى يلاحظ اللفظ تبعا لملاحظة
المعنى الملحوظ مستقلا. فلو جاز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد يلزم
اجتماع اللحاظين التبعيين، وهما - كلحاظ الأمرين المستقلين - محال.
التقريب الثاني: هو أنه لابد في استعمال اللفظ في المعنى أن يلاحظ كل من

1 - كفاية الأصول: 53.
20

اللفظ والمعنى، غاية الأمر يلاحظ اللفظ آلة لملاحظة المعنى، والمعنى
ملحوظ مستقلا. فلو استعمل لفظ واحد في معنيين يلزم لحاظ اللفظ مرتين؛ فيجتمع
اللحاظان في زمان واحد.
والفرق بين التقريبين واضح؛ فإن لحاظ اللفظ تبعا لملاحظة المعنى عبارة
عن اندكاك لحاظه في لحاظ المعنى، وهذا بخلاف لحاظ اللفظ آلة لملاحظة المعنى؛
فإنه يلحظ اللفظ مستقلا، كما يلحظ المعنى، غايته: أن لحاظه آلة وواسطة للحاظ
المعنى.
وكيف كان: وجه استحالة الجمع بين اللحاظين هو أن الملحوظ بالذات في
الذهن قبل الاستعمال هو المعنى، وبعد تصور المعنيين فالملحوظ بالذات اللفظ
بوجوده الذهني.
والملحوظ بالذات يتشخص باللحاظ، كما أن اللحاظ يتعين بالملحوظ. نظير
ما في الخارج؛ فإن الماهية في الخارج تتشخص بالوجود حقيقة، والوجود يتعين
بالماهية عرضا.
وبالجملة: وزان الماهية الذهنية وزان الماهية الخارجية؛ فكما أن الماهية
الخارجية تتشخص بالوجود فكذلك الماهية الذهنية تتشخص باللحاظ. فنفس
اللحاظ توجد الشيء في الذهن، لا أن هناك شيئا تعلق به اللحاظ، فإذا اجتمع
لحاظان في شئ واحد يلزم أن يكون شئ واحد شيئين. هذا في المعلوم بالذات.
وكذلك بالنسبة إلى المعلوم بالعرض؛ وذلك أن المعلوم بالعرض تابع للمعلوم
بالذات في الانكشاف؛ فيلزم أن يكون الموجود الخارجي منكشفا بانكشافين:
أحدهما بلحاظ، والآخر بلحاظ آخر في آن واحد، وهو محال.
التقريب الثالث: هو أن استعمال اللفظ في المعنى إفناؤه فيه؛ فلو أفنى اللفظ
في معنيين يلزم أن يكون شئ واحد موجودا بوجودين.
21

وبعبارة أخرى: استعمال اللفظ في المعنى هو إفناؤه بتمامه في المعنى؛ فلو
استعمل في معنيين يلزم إفناؤه بتمامه في آن واحد في معنيين، وهو غير معقول.
التقريب الرابع: هو أن اللفظ وجود تنزيلي للمعنى - ولذا يقال: إن للشيء
وجودات: 1 - وجود عيني 2 - وجود ذهني 3 - وجود كتبي 4 - وجود لفظي - فلو
استعمل اللفظ في معنيين - مثلا - يلزم أن يكون لفظ واحد وجودا تنزيليا لاثنين؛
فكما لا يعقل لشيء واحد وجودين خارجيين فكذلك ما هو منزل بمنزلته.
ولكن الإشكال - بتقاريره الأربعة - غير وجيه؛ لأنه لم يكن للاستعمال ذلك
المقام.
وحديث فناء اللفظ في المعنى أجنبي عن باب الاستعمال؛ لأن الاستعمال
جعل اللفظ علامة للمعنى، والمتلفظ بلفظ يتوجه إليه؛ توجها تاما، كما يكون
متوجها إلى المعنى كذلك.
نعم، قد توجب كثرة الاستعمال والممارسة الغفلة عن اللفظ وعدم الالتفات
إليه حين التلفظ به؛ ولذا قد يعد بعض الألفاظ قبيحا أو حسنا، وهذا غير الفناء.
وإلا لو كان ذلك لأجل السراية وفناء اللفظ في المعنى ينبغي أن يسري كل ما
للمسمى إلى اللفظ. مثلا لابد وأن تسري نجاسة العذرة أو الكلب والخنزير وقذارتها
إلى ألفاظها، وهو كما ترى.
وبالجملة: الاستعمال لم يكن إفناء اللفظ في المعنى حتى تلزم تلك المحاذير
المتوهمة، بل حين الاستعمال يكون اللفظ والمعنى ملحوظين؛ خصوصا في ابتداء
تعلم لغة وتمرنها، وهو من الوضوح بمكان. فيجعل اللفظ علامة لمعنى وكاشفا عنه؛
بسبب وضع الواضع اللفظ للمعنى، أو كثرة استعمال اللفظ في معنى، ومن الواضح
إمكان جعل شئ علامة لأشياء متعددة.
فإذن: لا يجتمع اللحاظان؛ لا من جانب المتكلم، ولا من جانب المخاطب:
22

أما من جانب المتكلم؛ فلأنه يرتب المعاني في ذهنه أولا، ثم ينتقل منها إلى
الألفاظ، فيعبر عن مقصوده بالألفاظ.
وأما من جانب المخاطب: فهو بعكس المتكلم؛ فهو يتوجه أولا إلى الألفاظ،
ثم إلى المعاني. فإذا كان للفظ واحد معنيان فالانتقال من كل من المعنيين إلى اللفظ
نظير الانتقال من لازمين إلى ملزوم واحد، كالحرارة والضوء بالنسبة إلى الشمس؛
فكما أنه تارة ينتقل من ملاحظة كل من اللازمين مع الغفلة عن الآخر إلى الملزوم،
فكذلك فيما نحن فيه قد ينتقل المتكلم من ملاحظة معنى إلى اللفظ كما ربما ينتقل
من ملاحظة المعنيين إلى اللفظ. هذا حال الانتقال من المعنى إلى اللفظ.
وكذا الانتقال من اللفظ إلى المعنى، نظير الانتقال من الملزوم إلى اللازم؛
فكما أنه ينتقل تارة من ملزوم إلى لازم واحد، وأخرى منه إلى لازميه، فكذلك
ينتقل المخاطب من اللفظ تارة إلى معنى واحد، وأخرى ينتقل منه إلى معنييه دفعة
واحدة.
فبعدما أحطت خبرا بما ذكرنا: ظهر لك الخلل في التقريبين الأوليين، بل يظهر
لك الخلل في التقريب الثالث أيضا؛ لأن الاستعمال - كما أشرنا - هو إلغاء اللفظ
وإرادة المعنى، لا إفناؤه فيه.
وبعبارة أخرى: الاستعمال طلب عمل اللفظ لإفهام المعنى، ومن الممكن ذكر
لفظ وإرادة معنيين، أو إفهام معنيين.
وأما التقريب الرابع: فهو أشبه بالخطابة من البرهان؛ لأنه إن أريد بذلك: أن
اللفظ وجود تنزيلي للمعنى غير كون اللفظ موضوعا للمعنى فلا نسلمه؛ بداهة أنه
أنى للفظ " زيد " وأن يكون وجودا تنزيليا للمسمى بزيد؟! وبينهما من المباينة ما
لا يخفى.
23

وإن أريد بذلك: أن اللفظ بعد وضعه للمعنى يحكي عنه فواضح أنه لا يمتنع
أن يحكي لفظ واحد عن معنيين، ولولا ذلك لامتنع وضع اللفظ للأكثر من معنى
واحد، وقد فرغنا عن إمكانه ووقوعه.
فتحصل مما ذكرنا كله: أن الوجدان حاكم بعدم محذور عقلي في استعمال
اللفظ في أكثر من معنى واحد. مضافا إلى وقوع ذلك في كلمات الأدباء والشعراء.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا: يظهر لك الضعف في التفصيل الذي ذكره المحقق
العراقي (قدس سره)؛ وهو عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى بحسب القواعد
الأدبية لو كان كل من المعنيين أو المعاني ملحوظا بلحاظ خاص به، والجواز لو كان
المعنيين أو المعاني ملحوظا بلحاظ واحد؛ بحيث يكون اللفظ حاكيا عن مفهومين
ملحوظين بلحاظ واحد (1)، انتهى.
وهو من عجيب القول في المسألة وخروج عن موضوع البحث، فلا ينبغي
التعرض لرده بعدما أشرنا، وقد أشرنا بوقوع استعمال اللفظ في الأكثر في كلمات
الشعراء والبلغاء.
فالحق - كما أشرنا إليه - جواز استعمال اللفظ في الأكثر من معنى واحد
مطلقا.

1 - أنظر بدائع الأفكار 1: 146 و 150.
24

الأمر الرابع عشر
في المشتق (1)
اختلفوا في أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ في الحال، أو
الأعم منه ومما انقضى عنه المبدأ. وأما بالنسبة إلى ما يتلبس بعد في المستقبل
فاتفقوا على مجازيته.
تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم في جهات:
الجهة الأولى: في أن النزاع في هذه المسألة لغوية
الظاهر: أن النزاع في كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ أو
الأعم منه ومن انقضى عنه نزاع في أمر لغوي، لا في أمر عقلي؛ أعني أن النزاع في
أن الموضوع له للفظ المشتق هو معنى لا ينطبق إلا على خصوص المتلبس فعلا أو
على الأعم منه ومن انقضى عنه، لا في عدم معقولية صدق المشتق إلا على من
تلبس بالمبدأ، أو على الأعم منه ومن انقضى عنه؛ بداهة أنه لا يكاد

1 - كان تاريخ الشروع في هذا الأمر 25 رجب 1378 ه‍. ق.
25

يعقل صدق عنوان المشتق عقلا على الفاقد للمبدأ بعدما كان واجدا له.
وأما إذا كان البحث لفظيا فللنزاع فيه مجال، بلحاظ أن للواضع تحديد حدود
الموضوع له سعة وضيقا؛ فله الوضع لخصوص المتلبس بالمبدأ، أو للأعم منه ومن
انقضى عنه.
ولكن يظهر من المحقق النائيني (قدس سره): أن النزاع فيه أمر عقلي؛ لأنه قال في
الأمر الأول ما حاصله: إن السر في اتفاقهم على المجازية في المستقبل والاختلاف
فيما انقضى عنه: هو أن المشتق لما كان عنوانا متولدا من قيام العرض بموضوعه -
من دون أن يكون الزمان مأخوذا في حقيقته - أمكن النزاع والاختلاف فيما انقضى
عنه، دون من يتلبس بعد؛ لتولد عنوان المشتق في الأول؛ لمكان قيام العرض بمحله
في الزمان الماضي.
فيمكن أن يقال فيما تولد عنوان المشتق: إن حدوث التولد في الجملة - ولو
فيما مضى - يكفي في صدق العنوان على وجه الحقيقة. كما يمكن أن يقال ببقاء
التولد في الحال في صدق العنوان على وجه الحقيقة، ولا يكفي حدوثه مع انقضائه.
وأما فيما لم يتلبس بعد: فحيث إنه لم يتولد له عنوان المشتق - لعدم قيام
العرض بمحله - فلا مجال للنزاع في أنه على نحو الحقيقة، بل لابد وأن يكون على
وجه المجاز بعلاقة الأول والمشارفة (1).
ويظهر منه (قدس سره) أيضا كون النزاع في أمر عقلي في الأمر الثاني، حيث تشبث
لاختصاص النزاع بالعناوين العرضية المتولدة من قيام أحد المقولات بمحالها،
وخروج العناوين التي تتقوم به الذات، وما به قوام شيئيته بالصورة النوعية، وأن
إنسانية الإنسان - مثلا - بالصورة النوعية، ولا يكاد يصدق على ما لا يكون متلبسا
بالإنسانية فعلا (2)، فلاحظ.

1 - فوائد الأصول ج 1 / 82 الطبعة الأولى.
2 - فوائد الأصول 14 / 83 الطبعة الأولى.
26

وكيف كان: لا سبيل إلى كون النزاع في المشتق في أمر عقلي؛ وذلك لأن
صدق العنوان وعدمه عقلا دائر مدار اشتماله على المبدأ وعدمه، ولا يعقل صدقه
على الفاقد في الواقع ونفس الأمر؛ بداهة أن الاتصاف بصفة كالعالمية - مثلا إنما
هو لمن وجد صفة العلم، وأما من لم يكن متصفا بالعلم - سواء كان متصفا به فيما
مضى، أو لم يتلبس به بعد، ويتلبس به في المستقبل - فلا يتصف بصفة العلم عقلا.
فاشترك كل من انقضى عنه وما يتلبس بعد في عدم معقولية الصدق. هذا
على تقدير كون البحث عقليا.
وأما على كون البحث لفظيا: فللواضع تحديد دائرة الموضوع سعة وضيقا،
فكما يمكنه وضع المشتق للمتلبس بالمبدأ فعلا أو للأعم منه ومن انقضى عنه،
يمكنه الوضع للأعم منهما ومن يتلبس بعد.
وسر عدم نزاعهم واتفاقهم في عدم الوضع للأخير لأجل أنهم علموا أن
المشتق لم يوضع لمن يتلبس بالمبدأ في المستقبل، لا لأجل عدم الاتصاف به واقعا،
وإلا لابد وأن لا يتصف واقعا بالمبدأ من انقضى عنه المبدأ؛ ضرورة أن الاتصاف
بحسب الواقع دائر مدار واجدية المبدأ فعلا، ومن لم يكن واجدا به - سواء كان
متلبسا به وانقضى عنه، أو يتلبس به بعد - لا يعقل الاتصاف به.
ولعل سر عدم نزاعهم بالنسبة إلى ما يتلبس بعد ونزاعهم بالنسبة إلى من
انقضى هو إمكان انقداح الصدق بالنسبة إلى من انقضى عنه؛ ولذا قد يصدق المشتق
- ولو انقضى عنه المبدأ - فيما لو كان ذا ملكة فانقضى عنه؛ فصار محلا للبحث.
وأما بالنسبة إلى ما يتلبس بعد فلم ينقدح في ذلك، ولا يقبله الذوق السليم أصلا،
كما لا يخفى.
ولعل ما ذكرنا هو مراد المحقق الثاني (1) (قدس سره)، فإن كانت عباراته قاصرة عن
إفادته، والله العالم.
27

ذكر وتعقيب
إذا أحطت خبرا بما تلونا عليك - من كون البحث في المشتق في أمر لغوي
لفظي، لا في أمر عقلي - تعرف النظر فيما يظهر من العلامة المدقق الطهراني صاحب
" المحجة " (قدس سره)؛ فإنه - على ما حكي عنه المحقق الأصفهاني (قدس سره) - قال: إن وجه
الخلاف في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدأ أو في الأعم - مع عدم
الاختلاف في المفهوم والمعنى - هو الاختلاف في الحمل:
فإن القائل بعدم صحة الإطلاق على ما انقضى عنه المبدأ يربها وحدة سنخ
الحمل في المشتقات والجوامد.
فكما لا يصح إطلاق الماء على الهواء، بعدما كان ماء وزالت عنه صورة
المائية فانقلبت هواء، كذلك لا يصح إطلاق المشتق على ما زال عنه المبدأ بعد
تلبسه به؛ فإن المعنى الانتزاعي تابع لمنشأ انتزاعه حدوثا وبقاء، والمنشأ مفقود بعد
الانقضاء، والانتزاع بدونه على حد المعلول بلا علة.
والقائل بصحة الإطلاق يدعي تفاوت الحملين فإن الحمل في الجوامد حمل
هو هو؛ فلا يصح أن يقال للهواء: إنه ماء. والحمل الاشتقاقي حمل ذي هو وحمل
الانتساب، ويكفي في النسبة مجرد الخروج من العدم إلى الوجود؛ فيصح الحمل
على المتلبس وعلى من انقضى عنه، دون ما يتلبس، انتهى (1).
فإن ظاهر كلامه (قدس سره) هذا يعطي كون النزاع في مسألة المشتق في أمر عقلي؛
خصوصا قوله (قدس سره): " والانتزاع بدونه على حد المعلول بلا علة... " إلى آخره؛ حيث
تشبث لإثبات مرامه بأمر عقلي؛ فإنه لا يلائم لفظية البحث

1 - نهاية الدراية في شرح الكفاية 1 / 164 - 165.
28

كما لا يخفى. فإن أمكن إرجاع مقالته - بوجه - إلى ما ذكرنا فبها.
فظهر وتحقق: أن الظاهر أن النزاع في المشتق لغوي وفي أمر لفظي؛ وهو أن
زنة المشتق هل وضعت للمتلبس بالمبدأ فعلا، أو للأعم منه وممن انقضى عنه، أو
للأعم منهما ومن يتلبس بعد؟ ولا يكون النزاع في أمر عقلي حتى يتشبث بأمور
عقلية، فتدبر.
الجهة الثانية
في تعيين محل النزاع من العناوين
إن العناوين الجارية على الذوات والمحمولة عليها على أقسام:
منها: ما يكون عنوانا مأخوذا من الذات؛ بحيث لا يحتاج انتزاعه عنها إلى
لحاظ أمر وجودي أو عدمي، بل ذاته بذاته يكفي للانتزاع، كعنوان الحيوان
والإنسان والناطق، وانتزاع مفهوم الوجود عن نفس الوجود الخارجي.
وبعبارة أخرى: العنوان الذي ينتزع من حاق الذات من غير دخالة شئ
أصلا؛ سواء كان الخارج مصداقيا ذاتيا له كالأجناس والأنواع والفصول، أو
كالمصداق الذاتي له كما في انتزاع الوجود عن الموجود الخارجي.
وبالجملة: كل عنوان بالقياس إلى مصداقه الذاتي، أو لمصداقه الذاتي.
ومنها: ما لابد من انتزاعه من لحاظ أمر وجودي - سواء كان حقيقيا أو
اعتباريا أو انتزاعيا - أو أمر عدمي.
والأول: كانتزاع عنوان العالم والأبيض - مثلا - من زيد؛ فإنه بملاحظة
مبدئهما - وهو العلم والبياض - فيه، وهما أمران حقيقيان.
والثاني: كانتزاع الملكية والرقية والزوجية ونحوها من الأمور الاعتبارية
التي لا وجود لها إلا في وعاء الاعتبار من محالها.
والثالث: كانتزاع الإمكان من الماهيات الممكنة - بناء على أن المراد
بالإمكان تساويهما بالنسبة إلى الوجود والعدم - وإن أريد بالإمكان سلب ضرورة
الطرفين عن
29

الماهية - سلبا تحصيليا - فيكون الإمكان مثالا لما يكون بواسطة أمر عدمي،
ونظيره الأعمى والأمي.
ومنها: ما يكون من العناوين الاشتقاقية كالناطق والممكن والموجود، وقد لا
يكون كذلك بل من الجوامد كالإنسان والماء والهواء والنار والزوج.
ومنها: ما يكون ملازما للذات؛ إما في الخارج والذهن أو في أحدهما، وقد
لا يكون كذلك كالأعراض المقارنة.
منها: غير ذلك من الأقسام التي لا يهم ذكرها.
وبالجملة: العناوين الاشتقاقية لا تخلو إما أن تكون لوازم الذات كعنوان
العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى، أو لازم له في بعض الأحيان كعنوان العالم بالنسبة إلى
غيره تعالى، أو لا ينفك العنوان عن المصاديق أصلا كالممكن؛ فإنه لا يمكن إزالة
صفة الإمكان من المصاديق الخارجية أصلا.
عدم دخول العناوين المنتزعة عن مقام الذات في محل البحث
وكيف كان: فهل جميع هذه العناوين داخلة في محل النزاع أو بعضها؟ وعلى
الثاني أي البعض منها محل النزاع؟
قالوا: إن العناوين غير الاشتقاقية المنتزعة عن مقام الذات والذاتيات الصادقة
على الذوات بذاتها لا بلحاظ أمر - كعنوان الإنسان أو الماء أو النار أو الحجر إلى
غير ذلك - خارجة عن حريم النزاع، وهو كذلك.
والكلام في وجه خروجها:
يظهر من المحقق النائيني (قدس سره): أن وجه خروجها لأمر عقلي؛ حيث قال: إن
إنسانية الإنسان - مثلا - ليست بالتراب، بل إنما تكون بالصورة النوعية التي بها
يمتاز
30

الإنسان عن غيره، بل التراب لم يكن إنسانا في حال من الأحوال؛ حتى في
حال تولد الإنسان منه، فضلا عن حال عدم التولد؛ فلا يمكن أن يقال الإنسان لما
انقضى عنه.
وبالجملة: حال كون الإنسان إنسانا لم يكن إنسانيته بالتراب - الذي هو أحد
عناصره - بل إنسانيته إنما هي بالصورة النوعية. فإذا لم يكن التراب حال كونه
عنصر الإنسان مما يصح إطلاق اسم الإنسان عليه فكيف يصح إطلاق اسم الإنسان
عليه في غير ذلك الحال؟! (1).
وظاهر كلامه فهو يعطي بعدم صدق العناوين الذاتية على من انقضى عنه؛ لا
حقيقة ولا مجازا، بخلاف العناوين الاشتقاقية العرضية كالضارب؛ فيمكن صدقه
عليه بلحاظ من انقضى عنه؛ لأن المتصف به هو الذات، وهو باق بعد انتفاء وصفه.
وبالجملة: يظهر من كلامه - حيث تشبث بالصور النوعية - كون النزاع عنده
في العناوين الذاتية إلى أمر عقلي؛ بداهة أنه لو كان النزاع عنده في أمر لغوي
فيمكن أن يقال بوضعها للأعم، كما صح أن يقال بوضعها لخصوص المتلبس
بالعنوان؛ لأن عنان الوضع بيد الواضع سعة وضيقا؛ لعدم دوران التسمية مدار الهوية.
مثلا كما يصح أن يقال: إن اسم " الكلب " موضوع لخصوص ما يكون واجدا
لصورة الكلبية فعلا، فكذلك يصح أن يقال: إنه موضوع للأعم منه وما استحال منه
إليه وصار ملحا.
وكيف كان: الحق - كما أشرنا إليه آنفا - أن النزاع في أمر لغوي، ولا وجه
للتمسك بذيل المطالب العقلية في تحكيم المعاني اللغوية؛ بأن شيئية الشيء
بصورتها النوعية، وأن فعلية الشيء بصورته لا بمادته.
والدليل القويم لإخراج العناوين الذاتية عن محل البحث هو التبادر، وهو
أصدق شاهد بخروج تلك العناوين عن محل البحث.

1 - فوائد الأصول 1 / 83.
31

أضف إلى ذلك: أن انقضاء المبدأ لا يوجب مطلقا زوال الصورة النوعية - ولو
عرفا - كما في تبدل الخمر خلا؛ فإنهما ليسا حقيقتين مختلفتين بالجنس والفصل،
بل هما متحدان في الذاتيات متفارقان في الأوصاف عرفا. ومثلهما الماء والثلج؛
فإنهما أيضا ليسا حقيقيتين متباينين، بل الاختلاف بينهما من ناحية الوصف؛ وهو
اتصال أجزائهما وعدمه.
فظهر مما ذكرنا: أن العناوين المأخوذة من ذات الشيء وذاتياته خارجة عن
محل البحث. ووجهه التبادر، لا التشبثات العقلية.
دخول هيئات المشتقات في محل البحث
وأما هيئات المشتقات فهل هي داخلة في محل البحث مطلقا، أو فيه تفصيل؟
وجهان، بل وجوه:
ذهب المحقق العراقي (قدس سره) إلى أنه لابد في محل البحث من فرض كون الذات
التي تلبست بالمبدأ مما يمكن أن تبقى شخصها بعد انقضاء المبدأ عنها، أو كون
المبدأ مما ينقضي عن الذات، مع بقائها بشخصها.
ضرورة أن البحث لا يتمشى في هذه المسألة إلا مع تحقق هذا القيد فيها؛ إذ
لو كانت الذات التي يكون المشتق عنوانا حاكيا عنها وجاريا باعتبار تلبسها بمبدئه
باقية بشخصها ما دامت متلبسة بالمبدأ وفانية بانقضائه، أو أن المبدأ الذي اشتق منه
العنوان الجاري على الذات باق ببقائها، لما أمكن النزاع في أن المشتق هل هو
حقيقة في خصوص المتلبس بمبدئه، أو في الأعم منه وممن انقضى عنه المبدأ.
ومن هنا ظهر: خروج العناوين الاشتقاقية الذاتية مثل " الناطق " و " الضاحك "
عن محل النزاع؛ لأن بقاء الهيولى في ضمن الصور المتواردة عليها لا يحقق بقاء
الذات التي كانت متلبسة بالمبدأ؛ فإن شيئية الشيء بصورته
32

النوعية، ومع فناء تلك الصورة لا تبقى شئ يشار إليه.
وبالجملة: يعتبر في دخول العناوين في محل البحث وخروجها عنه إمكان
فرض الذات بعد انقضاء المبدأ عنها وعدمه؛ من غير فرق بين كون ذلك العنوان
مشتقا من ذلك المبدأ حسب الاصطلاح، كعنوان العالم من العلم والقائم من القيام، أم
جامدا بحسبه، كعنوان الزوج والرق.
ولذا خرج عن محل البحث مثل " الناطق " و " الضاحك " مما يندرج تحت
عنوان المشتق. ودخل فيه ما لا يندرج تحته، ك‍ " الزوج " و " الرق " (1).
وفصل المحقق الأصفهاني (قدس سره) بين عنوان لا يطابق له إلا ما هو ذاتي،
كالموجود والمعدوم؛ حيث إن مطابقهما بالذات نفس حقيقة الوجود والعدم، دون
الماهية؛ فإنها موجودة أو معدومة بالعرض.
وبين ما يكون بعض مصاديقه ذاتي له وبعضها غير ذاتي له، كالعالم فإن في
بعض مصاديقه - كالله تعالى - تكون ذاته بذاته ولذاته مطابقا لصفاته بلا حيثية
تعليلية ولا تقييدية. وبالنسبة إلى غيره تعالى لا يكون ذاتيا له (2).
فقال بخروج الأول عن حريم النزاع، ولا مجال للنزاع فيه؛ لأن مطابق

1 - بدائع الأفكار 1 / 160.
2 - قلت: وليعلم أن هذا التفصيل منه (قدس سره) بعد أن دفع ما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره)؛ فإن جميع
الأسماء الحسنى والصفات العليا الجارية عليه تعالى، وبعض الأوصاف الأخر كالإمكان ونحوه
وإن لم يكن لها دوال عن موردها؛ فبلغوا النزاع بالنسبة إليها، إلا ان المفهوم بما هو غير مختص
بما لا زوال له؛ كي بلغوا النزاع فيصح النزاع باعتبار ما هو غير ذاتي له [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] نهاية الدراية 1: 167.
33

الموجود - مثلا - نفس حقيقة الوجود لا الماهية؛ لأنها موجودة أو معدومة
بالعرض.
بل لا يمكن النزاع فيه حتى بالإضافة إلى الماهية؛ فإن الماهية إنما توصف
بالموجودية بالعرض، فما لم يكن الموجود بالذات لا موجود بالعرض، ومع ثبوته
لا انقضاء هناك، فتدبر جيدا.
وأما الثاني فقال بوقوعه في محل البحث؛ لأن النزاع في المفهوم، وهو غير
مختص بما لا زوال له؛ كي يلغوا النزاع باعتبار ما هو غير ذاتي له، انتهى محررا (1).
ويظهر من المحقق النائيني (قدس سره) هذا التفصيل أيضا، لاحظ " فوائد الأصول " (2)
و " أجود التقريرات " (3).
ولكن التحقيق يقتضي دخول جميع هيئات المشتقات غير هيئة اسم الزمان
في محل النزاع مطلقا، من غير فرق بين كون الصفة منتزعة من نفس الذات -
كالموجود من الوجود - أو لا. وسواء كان المبدأ لازما للذات؛ بحيث ينتفي بانتفائه
كالممكن، أو مقوما للموضوع كالوجود بالنسبة إلى الماهية، أم لا. وكذا لو كانت
الصفة منتزعة من رتبة الذات في بعض مصاديقه - كالعالم بالنسبة إلى الباري تعالى
- أو لا.
ولا يختص النزاع بالذات التي تلبست بالمبدأ مما يمكن أن يبقى تشخصها
بعد انقضاء المبدأ عنها، أو كون المبدأ مما ينقضي عن الذات مع بقائها بشخصها.
والسر في وقوع جميع الهيئات في محل النزاع هو أن النزاع في هيئة المشتق
- أي زنة الفاعل أو المفعول أو غيرهما - نفسها في أي مادة كانت، لا في الهيئة
المقرونة بالمادة حتى يتوهم ما ذكر.
ومن الواضح أن وضع هيئات المشتقات نوعي، مثلا وضعت زنة الفاعل أو
زنة

1 - نهاية الدراية 1 / 166 - 167.
2 - فوائد الأصول 1 / 83 - 84.
3 - أجود التقريرات 1 / 53.
34

المفعول - وضعا نوعيا - لاتصاف خاص، من غير نظر إلى الموارد
وخصوصيات المصاديق. فبطل القول بخروج الناطق والممكن وما أشبههما مما
ليس له معنون باق بعد انقضاء المبدأ عنها، أو لا يكون له انقضاء أصلا.
وبالجملة: جميع هيئات المشتقات يكون محل النزاع؛ لأن النزاع في وضع
نوعي هيئاتها أنفسها، لا في هيئاتها المقرونة بالمواد حتى يتوهم خروج مثل الناطق
والممكن ونحوهما - حيث لا يكون هناك معنون باق بعد انقضاء المبدأ عنها، أو
فيما لا يكون لها البقاء - عن محل النزاع.
فإذن يصح النزاع في زنة الفاعل - مثلا - أنها هل وضعت وضعا نوعيا لعنوان
لا ينطبق إلا على المتلبس بالمبدأ فعلا، أو لما هو الأعم منه ومن انقضى عنه.
نعم، الموضوعات الخارجية والمصاديق على قسمين: فقد يكون العنوان
والمبدأ لازم ذات جميعها أو بعضها، وقد لا يكون لازما لها كذلك.
ولا يخفى: أن ذلك من الأمور الطارئة على المواد، وقد أشرنا أن المواد
خارجة عن حريم النزاع، والنزاع إنما هو في زنة الفاعل أو المفعول أو نحوهما
فقط، فتدبر جيدا حتى لا يختلط لديك ما اختلط على الأعلام.
الجهة الثالثة
في دخول بعض العناوين الجامدة في حريم النزاع
قد عرفت: أنه لا إشكال في دخول هيئات اسم الفاعل واسم المفعول
ونحوهما من العناوين المشتقة الجارية على الذوات بلحاظ أمر وجودي أو عدمي
في حريم النزاع.
وأما العناوين العرضية التي تكن من العناوين الاشتقاقية، لكنها منتزعة من
الذات بعناية أمر حقيقي أو اعتباري أو عدمي، كالزوجية والرقية ونحوهما - سواء
35

كانت موضوعة بالوضع الشخصي أو النوعي، كهيئة الانتساب، كالقمي
والسلماني والحمامي ونحوها - فيظهر منهم دخولها في محل النزاع أيضا، وهو
كذلك.
وقد مثلوا لذلك بما عن فخر المحققين والشيخ الشهيد (قدس سرهما) (1) في مسألة من
كانت له زوجتان أرضعتا زوجته الصغيرة مع الدخول بإحداهما:
قال فخر المحققين في " إيضاح الفوائد ": تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع
الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع. وأما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف.
واختار والدي المصنف (2) وابن أبي إدريس (3) تحريمها؛ لأن هذه يصدق عليها أنها أم
زوجته؛ لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه؛ فكذا هنا (4).
ومن هنا قالوا: إن الزوجية ونحوها داخلة في حريم النزاع.
تذنيب
حيث يظهر من كلام فخر المحققين (قدس سره): أن تحريم المرضعة الأولى لا يبتني
على كون المشتق وما يلحق به حقيقة في المتلبس بالمبدأ، دون المرضعة الثانية،
صار كلامه معركة للآراء؛ فلا بأس بعطف عنان الكلام نحوه، وتحقيق الأمر:
يظهر من المحقق الأصفهاني (قدس سره): أن وزان المرضعة الأولى وزان المرضعة
الثانية ملاكا وحكما؛ فإنه قال: تسليم حرمة المرضعة الأولى والخلاف في الثانية
مشكل؛ لاتحادهما في الملاك؛ وذلك لأن أمومة المرضعة الأولى وبنتية المرتضعة
متضائفتان متكافئتان في القوة والفعلية، وبنتية المرتضعة وزوجيتها متضادتان
شرعا.

1 - مسالك الأفهام 7: 268.
2 - قواعد الأحكام 2: 11 / السطر 22.
3 - السرائر 2: 556.
4 - إيضاح الفوائد في شرح القواعد 3: 52.
36

ففي مرتبة حصول أمومة المرضعة تحصل بنتية المرتضعة، وتلك المرتبة
مرتبة زوال زوجية المرتضعة. فليست في مرتبة من المراتب أمومة المرضعة مضافة
إلى زوجية المرتضعة حتى تحرم بسبب كونها أم الزوجة (1).
وبعبارة أخرى - لعلها أوضح مما ذكره (قدس سره) - أنه إذا تمت الرضعات تتحقق في
الخارج عناوين ثلاث:
1 - أمومة المرضعة الأولى.
2 - بنتية المرتضعة، وهما متضائفتان، والمتضائفتان قوة وفعلا، وحيث إن
بنتية المرتضعة مضادة مع زوجيتها ففي رتبة تحقق البنتية.
3 - ترتفع وتزول زوجيتها، وإلا يلزم اجتماع الضدين. فصدق عنوان الأمومة
على الزوجة المرضعة ملازم لعدم صدق عنوان الزوجية على المرتضعة؛ فلا يمكن
صدق عنوان الأمومة على الزوجة المرضعة في فرض صدق عنوان الزوجية على
المرتضعة إلا على القول بوضع المشتق وما يلحق به للأعم.
فابتناء فخر المحققين (قدس سره) حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق دون
الأولى غير وجيه، بل كلتاهما مبتنيان على مسألة المشتق.
وقد أجاب المحقق العراقي (قدس سره) عن هذا الإشكال؛ انتصارا عن فخر
المحققين (قدس سره): بأن الرضاع المحرم علة لتحقق عنوان الأمومة وعنوان البنوة، وتحقق
عنوان البنوة للزوجة المرتضعة علة لانتفاء عنوان الزوجية عنها.
فانتفاء عنوان الزوجية عن المرتضعة متأخر رتبة عن عنوان البنوة لها، ولا
محالة أنها تكون زوجة في رتبة عنوان البنوة؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين في تلك
الرتبة.

1 - نهاية الدراية 1: 168.
37

وبما أن عنوان أمومة المرضعة ملازم لعنوان بنوة المرتضعة وفي رتبته تكون
المرضعة ملازم لعنوان بنوة المرتضعة وفي رتبته تكون المرضعة أما للزوجة
المرتضعة في رتبة بنوتها، لا في رتبة انتفاء زوجيتها المتأخرة عن رتبة البنوة؛
فيصدق أنها أم زوجة في رتبة بنوتها، وهذا القدر من الصدق كاف في شمول دليل
تحريم أم الزوجة لمثل الفرض (1).
وبالجملة: الرضاع المحرم علة لتحقق الأمومة والبنتية، وهما متضائفتان
متكافئتان قوة وفعلا، والبنتية علة لارتفاع الزوجية. فارتفاع الزوجية متأخرة
عنهما؛ تأخر المعلول عن علته.
فإذا لم يكن عدم الزوجية في رتبة البنتية فلابد وأن تكون الزوجية متحققة
هناك؛ لأن ارتفاع النقيضين محال؛ فاجتمعت الأمومة والبنتية والزوجية في رتبة
واحدة. وهذا المقدار كاف في شمول دليل تحريم أم الزوجة؛ فلا يبتني حل المسألة
على مسألة المشتق.
والتحقيق في أصل المطلب هو أن يقال: إن فتوى فخر المحققين (قدس سره) بحرمة
المرضعة الأولى والبنت، والإشكال في المرضعة الثانية ليست مبتنية على النزاع في
مسألة المشتق حتى يشكل بعدم الفرق.
ومثله في صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2)؛ وذلك لأنه كما يحتمل
رجوع الضمير في قوله (عليه السلام) " فسد النكاح " إلى نكاح الصغيرة، فكذلك يحتمل
رجوعه إليها وإلى امرأته الكبيرة معا، ولا يبعد الأخير.

1 - بدائع الأفكار 1 / 161.
2 - الكافي 6: 444 / 4. وسائل الشيعة 14: 302، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 10، الحديث 1.
38

وأما إشكاله (قدس سره) في حرمة المرضعة الثانية: فلعدم ثبوت الإجماع فيها،
واستشكاله في النص الوارد فيها؛ لعدم خلوه عن الإرسال (1)، وضعف السند (2)
المصرح بحرمة المرضعة الأولى، دون الثانية (3)، ولذا لم يعتني به العلامة وابن
إدريس (قدس سرهما) وأفتيا بخلافه.
فلم تكن المسألة عند فخر المحققين (قدس سره) إجماعية، ولا منصوصة؛ ولذا
تصدى لتحليل هذه المسألة من طريق المشتق، فتدبر.
فظهر وتحقق: أنه لم يرد فخر المحققين (قدس سره) تصحيح حكم المرضعة الأولى
على مسألة المشتق أصلا، بل بالإجماع والنص. ولم يظهر منه (قدس سره) خروجها عن
بحث المشتق لولا النص والإجماع.
فإشكال المحقق الأصفهاني (قدس سره) بتسليم حرمة المرضعة الأولى والخلاف في
الثانية غير وجيه، كما أن دعواه وحدة الملاك غير مسموعة.
كما أن ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) في توجيه التفرقة بينهما غير سديد؛ لعدم

1 - قلت: لقول ابن مهزيار " قيل له "؛ أي لأبي جعفر (عليه السلام) ولم يعلم القائل به، الظاهر: أن المراد
بالإرسال هو هذا، لا ما وقع في تعليقة مناهج الوصول 1: 195، فلاحظ. [المقرر حفظه الله].
2 - لوقوع صالح بن أبي حماد في السند، وأمره - كما عن النجاشي - ملبس يعرف وينكر.
رجال النجاشي: 198 / 526.
3 - قلت: وإليك نص الخبر: عن علي بن مهزيار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل له: إن رجلا
تزوج بجارية صغيرة؛ فأرضعتها امرأته، ثم أرضعتها امرأة له أخرى. فقال ابن شبرمة: حرمت
عليه الجارية وامرأتاه.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): " أخطأ ابن شبرمة، تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا، فأما
الأخيرة فلم تحرم عليه، كأنها أرضعت ابنته " [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] الكافي 5: 446 / 13. وسائل الشيعة 14: 305، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالرضاع، الباب 14، الحديث 1.
39

كون البنتية علة تكوينية لرفع الزوجية، وهو واضح.
مع أنه لا معنى لعلية شئ لأمر عدمي، كعدم الزوجية في المثال؛ لما تقرر في
محله: أنه لا علية بين الأعدام. وغاية ما يستفاد من الأدلة الشرعية هو التمانع
الوجودي والتضاد الاعتباري بين البنتية والزوجية وعدم اجتماعهما، وأنى له ولعلية
أحدهما لانتفاء الآخر؟! بل هما في رتبة واحدة.
ألا ترى أن الضدين الحقيقيين لا يجتمعان في موضوع واحد، وبوجود أحد
الضدين يرتفع الآخر، ولكن مع ذلك لا يقال: إن وجود الضد سبب لانتفاء الآخر؟!
مضافا إلى أن استفادة العلية الاعتبارية التي مرجعها إلى موضوعيتها للحكم
مرهونة بالمراجعة إلى لسان الدليل الشرعي، وغاية ما يستفاد من الدليل هي عدم
اجتماع الزوجية مع الأمومة.
أضف إلى ذلك كله: أنه لم تترتب الأحكام الشرعية على الرتب العقلية التي
لا حظ لفهم المتتبع في ذلك.
وأما ما أفاده صاحب " الجواهر " (قدس سره) في حرمة المرضعة: بأن ظاهر النص
والفتوى الاكتفاء في الحرمة بصدق الأمية المقارنة لفسخ الزوجية لصدق البنتية؛ إذ
الزمان وإن كان متحدا بالنسبة إلى الثلاثة - أي البنتية والأمية وانفساخ الزوجية -
ضرورة كونها معلولات لعلة واحدة، لكن آخر زمان الزوجية متصل بأول زمان
صدق الأمية؛ فليس هي من مصاديق " أم من كانت زوجتك ". بل لعل ذلك كاف في
الاندراج تحت " أمهات النساء " بخلاف من كانت زوجتك (1).
ففيه: أنه إن أراد (قدس سره) الصدق الحقيقي فنمنع صدقه، وإن أراد الصدق
المسامحي فنمنع كفايته؛ فلابد من تتميم المسألة من طريق كون المشتق موضوعا
للأعم من المتلبس، فتدبر.

1 - جواهر الكلام 29: 329.
40

إيقاظ
لا يذهب عليك أن الظاهر: أن الحكم في لسان الدليل إنما علق على " أمهات
النساء "، لا على عنوان أم الزوجة؛ فتحليل المسألة من طريق المشتق فرضي ساقط
من أصله.
والقول بجريان النزاع في المشتق في " أمهات نسائكم " باعتبار كونها بمعنى
أمهات زوجاتكم كما ترى.
فتحصل مما ذكرنا في الجهتين: أن العناوين المنتزعة عن مقام الذات
والذاتيات الصادقة عليها - من دون لحاظ شئ - خارجة عن حريم النزاع.
وأما هيئات المشتقات - سواء كانت الصفة لازمة للذات أو مقارنة عنها،
وسواء كانت ملازمة لجميع الأفراد أو بعضها - فداخلة في محل النزاع؛ لما أشرنا أن
البحث والنزاع في هيئتها وزنتها أنفسها، لا في الهيئات المقارنة للمواد.
وكذا العناوين الانتزاعية التي لم تكن من العناوين المشتقة، كالزوجية والرقية
ونحوهما فداخلة في حريم البحث.
41

الجهة الرابعة
في خروج أسماء الزمان عن حريم البحث
وليعلم: أن محط البحث في المشتق لابد وأن يكون فيما تكون الذات هناك
باقية ومحفوظة، ولكن انقضى عنه المبدأ.
ولا يتصور ذلك في اسم الزمان؛ لأن جوهر ذاته وحقيقته متصرمة مقتضية، لا
يتصور فيه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ - حتى في الواهمة - ولا معنى لحفظ ذاته مع
تصرمه وتقضيه بالذات؛ فلا يتصور له مصداق - لا في الخارج ولا في الزمن - حتى
يوضع له هيئة اسم الزمان (1).
نعم، غاية ما يمكن أن يقال فيه: هو إمكان وضع اللفظ للمعنى الأعم عقلا،
وإن لم يكن عقلائيا؛ لعدم ترتب ثمرة عليه؛ فلم ينفع البحث فيه للأصولي من حيث
هو أصولي الباحث عن مسائل تنفعها في الفقه، ولو ارتكازا وتصورا.
إن قلت: ما الفرق بين اسم الزمان وبين لفظي الممكن والموجود ونحوهما؟
حيث قلتم بدخولها في حريم النزاع، مع كون الإمكان صفة لازمة للماهيات
الممكنة لا يكاد يفارقها، وصفة الموجود ملازم لجميع الأفراد غير منفك عنها.

1 - قلت: وبعبارة أخرى: محط النزاع في الشيء إنما هو بعد تصوير النزاع فيه؛ حتى يمكن ذهاب
أحد إلى طرف والآخر إلى طرف آخر، ولا يتصور ذلك في اسم الزمان؛ لأن الذات المأخوذة فيه
هو الزمان نفسه، وهو متصرم، لا دوام ولا بقاء له مع انتفاء المبدأ حتى يصح أن يقال: إن الذات
المتصفة بالمبدأ حقيقة في خصوص المتلبس بالحال، أو فيما يعمه ومن انقضى عنه. وما هذا
شأنه لا يصح النزاع فيه. [المقرر حفظه الله].
42

قلت: قد أنبهناك على أن النزاع في الأوزان وهيئات المشتقات، لا في المواد
ولا في الهيئات المقرونة بالمواد؛ ولذا قلنا بدخول الممكن والموجود ونحوهما في
محط البحث؛ لأن وجه توهم خروجهما عنه هو ملاحظة مادتهما لا زنتهما
وهيئتهما.
وهذا بخلاف اسم الزمان؛ فإن له زنة وهيئة خاصة، ولا بقاء للزمان حتى
يتصور له الانقضاء، فلا يمكن إدخال زنة اسم الزمان في محط النزاع.
وبهذا يظهر الضعف فيما أفاده العلامة القوچاني (قدس سره) في " تعليقته على
الكفاية "؛ حيث قال: إن النزاع فيما نحن فيه لم يقع في خصوص اسم الزمان، بل في
مطلق المشتقات. فلا بأس بانحصار بعض مصاديقها في الفرد (1)، انتهى.
توضيح الضعف: هو أن النزاع ليس في مفهوم المشتق، الصادق على زنة
الفاعل والمفعول واسم الزمان وغيرها؛ حتى يتم ما أفاده، بل في زنة كل واحد من
المشتقات؛ من زنة الفاعل وزنة المفعول وزنة اسم الآلة وهكذا. وواضح: أنه لا
يتصور لزنة اسم الزمان مصداق تكون الذات فيه باقية وانقضى عنه المبدأ.
ذكر وتعقيب
وقد تصدى جملة من الأعاظم لدفع الإشكال ودخول اسم الزمان في محط
البحث بوجوه، لا تخلو جميعها عن الإشكال:
منها: ما أفاده المحقق الخراساني (قدس سره) (2) - وهو أحسن ما أجيب به عن الإشكال
- وهو: أن انحصار مفهوم عام بفرد - كما في المقام - لا يوجب أن يكون وضع
اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة، مع أن

1 - حاشية كفاية الأصول، العلامة القوچاني 1: 34 / التعليقة 67.
2 - كفاية الأصول: 58.
43

الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تعالى (1).
وفيه: أن غاية ما يقتضيه مقالته هو إمكان وضع اللفظ لمعنى لا يكون له
مصداق لا في الخارج ولا في الذهن.
وأنت خبير: بأن مجرد ذلك لا يقتضي كون الوضع كذلك عقلائيا؛ ضرورة أن
الوضع لابد وأن يكون لغرض الإفادة والاستفادة، فإذا لم يكن للزمان مصداق
خارجي ولا ذهني فيكون الوضع له لغوا وعبثا.
وأما تنظير العام بالواجب ففي غير محله؛ لعدم انحصار مفهوم الواجب فيه
تعالى؛ ضرورة أنه كما يصدق على الواجب بالذات - وهو ذاته المقدسة - فكذلك
يصدق على ما يكون واجبا للغير وبالقياس إلى الغير.
نعم، مفهوم الواجب بالذات مصداقه منحصر فيه تعالى، ولكن لم يكن
للمركب من اللفظين - أعني الواجب بالذات - وضع على حدة، فتدبر.
إن قلت: ما تقول في لفظتي الشمس والقمر؛ حيث إنهما موضوعتان للمعنيين
الكليين، ومع ذلك لا يكون لهما في الخارج إلا مصداق واحد؟ فليكن اسم الزمان
كذلك.
قلت: لا يبعد أن يكون لفظة الشمس والقمر اسمين للجرمين النيرين
المعلومين، نظير الوضع في الأعلام الشخصية، كلفظ " الله " حيث تكون علما لذاته
المقدسة.

1 - قلت: إن شئت توضيحه فنقول: إن الموضوع له في اسم الزمان عام - وهو الزمان الذي يقع فيه
الحدث - فالقتل موضوع لزمان يقع فيه القتل، فهو بمفهومه يعم المتلبس ومن انقضى عنه، لكنه
في الخارج حيث إنه غير قار الذات فله مصداق واحد، فانحصاره في الفرد المتلبس خارجا لا
يضر بعمومه. كما هو الشأن في لفظ الجلالة؛ حيث يكون موضوعا للمفهوم العام مع انحصاره فيه
تعالى [المقرر حفظه الله].
44

ولو سلم كونهما موضوعين للمفهومين الكليين، ولكن نقول بالفرق بينهما
وبين اسم الزمان؛ وذلك لأن الوضع فيهما لعله للاحتياج إلى إفهام معانيهما العامة
أحيانا، فملاك الوضع موجود هناك. بخلاف الزمان فإنه ذات متصرمة آبية عن البقاء
مع انقضاء المبدأ عنه عند العقل والعرف، فالفرق بينهما واضح.
ومنها: ما أفاده المحقق الثاني (قدس سره)، وقد سبقه إلى ذلك المحقق صاحب
الحاشية (قدس سره) في أحد وجهيه (1): وهو أن اسم الزمان كالمقتل - مثلا - عبارة عن
الزمان الذي وقع فيه القتل؛ وهو اليوم العاشر من المحرم.
واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الذي وقع فيه
القتل، بل وضع لمعنى كلي متكرر في كل سنة، وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل
فردا من أفراد ذلك المعنى العام المتجدد في كل سنة. فالذات في اسم الزمان إنما هو
ذلك المعنى العام، وهو باق حسب بقاء الحركة الفلكية، وقد انقضى عنه المبدأ، الذي
هو عبارة عن القتل.
فلا فرق بين الضارب وبين المقتل؛ إذ كما أن الذات في مثل الضارب باقية
وقد انقضى عنها الضرب، فكذلك الذات في مثل المقتل، الذي هو عبارة عن اليوم
العاشر من المحرم؛ لتجدد ذلك اليوم في كل سنة، وقد انقضى عنها القتل (2)، انتهى.
وفيه أولا: أن ما أفاداه من باب خلط مفهوم بمفهوم آخر؛ لأن الكلام في
مفهوم المقتل - الذي هو اسم الزمان - لا في اليوم العاشر من المحرم، وواضح: أن
مفهوم المقتل هو زمان الذي وقع فيه الحدث، لا مفهوم اليوم العاشر.
وثانيا: أن كلي عاشر المحرم غير وعاء الحدث، وما يكون وعاؤه هو مصداق
منه - الذي تحقق فيه القتل؛ وهو عاشر محرم سنة 61 هجرية - ومن الواضح: أنه

1 - حاشية كفاية الأصول، العلامة القوچاني 1: 34 / التعليقة 67.
2 - فوائد الأصول 1 / 89.
45

غير باق قطعا، وما يوجد في كل سنة هو مصاديقه الآخر؛ فلم تكن الذات
باقية.
ولازم ما أفاداه: أنه لو ارتكب زيد قتلا - مثلا - فيصدق على طبيعي الإنسان
أنه قاتل باعتبار ارتكاب مصداق منه، فبعد موته فحيث يصدق على عمرو طبيعي
القاتل؛ فلابد من قصاصه، وهو كما ترى.
ومنها: وهو وجه آخر للمحقق صاحب " الحاشية " (قدس سره) (1)، وقال بعض (2)
حاصله: أن الزمان له اعتباران:
1 - الزمان المنطبق على الحركة القطعية، وهي متصرمة الوجود.
2 - الآن السيال المعبر عنه بالحركة التوسطية.
والإشكال إنما يتوجه لو أخذ الزمان بنحو الحركة القطعية المتصرمة. وأما لو
أخذ بنحو الآن السيال فله بهذا الاعتبار تحقق وبقاء، وبهذا اللحاظ يجري
الاستصحاب في الزمان والزمانيات على ما يأتي - إن شاء الله - في الاستصحاب.
فإذا اتصف جزء من النهار بحدث كالقتل - مثلا - صح أن يقال بلحاظ ذلك
الجزء: يوم القتل، مع أن الآن المتصف بذلك العرض قد تصرم وانعدم.
وفيه أولا: أن الآن السيال وإن قاله بعض ولكن لم نفهمه، بل لا وجود له في
الخارج.
وثانيا: لو سلم تعقل الآن السيال، لكنه كلي يصدق على الآنات المتبادلة.
فالآنات متصرمة متبادلة، لا استقرار لها ولا ثبات. فالآن الذي وقع فيه الحدث غير
باق.
وهذا نظير بقاء الإنسان من لدن خلق الله تعالى آدم - على نبينا وآله وعليه
السلام - إلى زماننا هذا؛ حيث إن المراد ببقاء الإنسان لم يكن بقاء الفرد

1 - حاشية كفاية الأصول، العلامة القوچاني 1: 34 / التعليقة 67.
2 - حاشية كفاية الأصول، المشكيني 1: 225.
46

منه إلى زماننا، بل معناه: أن للإنسان في عمود هذه الأزمان مصداق في
الخارج.
ولا يخفى: أن هذا الوجه عبارة أخرى من الوجه السابق، ولكنه بوجه معقول
فلسفي، وقد عرفت ضعفه، إجماله: أن الآنات متصرمة، والآن الذي وقع فيه الحدث
قد تصرم، والآنات المتبادلة لا استقرار لها.
ومنها: ما أفاده بعض المحققين (قدس سره) من أن الزمان هوية متصلة باقية عرفا
وعقلا:
أما بقاؤه عرفا فواضح.
وأما عقلا: فلأنه لو لم يكن باقيا بالوحدة الوجودية يلزم تتالي الآنات،
واستحالته معلومة مقررة في محله، كاستحالة الأجزاء الفردية والجزء الذي لا
يتجزئ.
فمع بقاء الزمان عرفا وعقلا فإذا وقعت حادثة في قطعة منه يصح أن يقال: إن
الوجود الباقي تلبس بالمبدأ وانقضى عنه. فكما إذا وقع العقل - مثلا - في حد من
حدود يوم يرى بقاءه إلى الليل متلبسا بالمبدأ ومنقضيا عنه مع بقائه، فكذلك يطلق
المقتل على اليوم بعد انقضاء التلبس، كإطلاق العالم على زيد بعد انقضاء العلم (1).
وفيه: أن العرف - كالعقل - كما يحكم بالوحدة الاتصالية للزمان يرى له
تجدد وتصرم وانقضاء. فللزمان هوية اتصالية متصرمة متقضية؛ فإذا وقعت حادثة
في جزء منه - كما إذا وقعت في أول النهار - لا يرى زمان الوقوع باقيا وقد انقضى
عنه المبدأ، بل يرى انقضاءه، نعم يرى اليوم باقيا. وكم فرق بينهما! والمعتبر في بقاء
الذات في المشتق هو الأول، وقد عرفت عدم بقائه، دون الثاني.
وبالجملة: البقاء الذي يعتبر في المشتق هو بقاء الشخص الذي يتلبس بالمبدأ
عينا، وهو غير باق في الزمان، والبقاء التصرمي التجدد التجددي لا يدفع الإشكال،
فتدبر.

1 - نهاية الأصول 1: 162 - 164.
47

ومنها: ما قاله بعض، وهو أن اسم الزمان موضوع لوعاء الحدث، من دون
ملاحظة خصوصية الزمان والمكان؛ فيكون مشتركا معنويا موضوعا للجامع بينهما.
فالمقتل - مثلا - موضوع لوعاء القتل، من دون لحاظ خصوص الزمان
والمكان. فعلى هذا: عدم صدقه على ما انقضى عنه المبدأ في خصوص الزمان لا
يوجب لغوية النزاع (1).
وفيه: أنه لا جامع ذاتي بين الزمان والمكان، وكذا بين دعائيتهما للمبدأ؛ لأن
الوقوع في كل على نحو يباين الآخر، فلابد وأن يكون الجامع المتصور بينهما
جامعا انتزاعيا؛ وهو مفهوم الوعاء أو الظرف مثلا.
والالتزام بوضعه لذلك خلاف المتبادر؛ بداهة أنه لا ينقدح في ذهن أحد من
اسمي الزمان والمكان مفهوم الوعاء أو الظرف، ولا يكاد يفهم من لفظ المقتل مفهوم
وعاء القتل أو مفهوم ظرفه، وهو من الوضوح بمكان.
مضافا إلى أن وعائية الزمان إنما هي بضرب من التشبيه والمسامحة، بدعوى
كون الزمان كالمكان محيطا بالزماني؛ إحاطة المكان بالمتمكن؛ لعدم كون الزمان
ظرفا للزماني حقيقة، بل هو منتزع أو متولد من تصرم الطبيعة وسيلانها، توضيحه
يطلب من محله.
فتحصل مما ذكرنا: خروج أسماء الزمان عن محط البحث؛ لعدم وجود ملاك
البحث فيها، فتدبر.

1 - نهاية الأصول: 72.
48

الجهة الخامسة
في كيفية وضع المشتقات
وقع الخلاف في أنه هل وضع كل من المادة والهيئة وضعا مستقلا، أو أنهما وضعتا معا.
لا ينبغي الإشكال في أنه بعد ملاحظة المشتقات يرى أن هيئة واحدة - كزنة
الفاعل مثلا - جارية في مواد، كالضاحك والتاجر والقادر ونحوها؛ فإنها تشتركان
في أن هيئتها واحد؛ وهي زنة الفاعل، وتختلفان من حيث المواد، وهو واضح.
كما أنه يرى لهيئات مختلفة مادة واحدة كضرب ويضرب وضارب ومضرب
وهكذا؛ فإنهما تشتركان في مادة واحدة؛ وهي " الضاد والداء والباء ".
وبالجملة: إنا بعد ملاحظة المشتقات نرى هيئة واحدة سارية في المواد
المختلفة، ومادة واحدة مندكة في هيئات متعددة.
ومعنى وضع المادة والهيئة معا هو وضع كل من المشتقات وضعا على حدة،
نظير وضع الجوامد. فلكل من الضاحك والتاجر والقادر، والمضروب والمقدور
والمشكور، إلى غير ذلك وضع يخصه، كما يخص ذلك كل من زيد وعمرو وبكر
وغيرهم.
فعلى هذا: لابد من تخلل أوضاع شخصية بعدد المشتقات، من دون أن يكون
هناك اشتقاق، بل تكون المادة والصورة فيها نظير المادة والصورة في ألفاظ
الجوامد؛ فكما أن لفظة زيد - مثلا - وضعت بمادته وصورته لمعنى، فكذلك ضارب
وضع بمادته وهيئته لمعنى.
كما أن معنى وضع كل من المادة والهيئة لمعنى هو أنه لكل من المادة أو
الهيئة
49

وضع يخصه، فعليه يقع البحث في ما وضع له المادة والهيئة؛ فإن المادة لأي
شئ وضعت؟ والهيئة لأي أمر وضعت؟
فنقول: لا يخلو في مقام الثبوت: إما أن نقول بوضع المادة عارية عن جميع
الجهات إلا عن جهة ترتب حروفها لمعنى لا بشرط، أو لم نقل كذلك. وعلى الثاني
لابد من تجشم وضع المادة في ضمن كل سيئة لمعنى؛ لأن دلالة الألفاظ بعدما لم
تكن ذاتية تكون تابعة للوضع، وواضح: أن مادة " ضرب " تدل على معنى غير ما
تدل عليه مادة " يضرب "؛ لعدم محفوظية ما تدل على المادة لولا وضعها للمادة
المشتركة.
وأما لو قلنا بوضع المادة لمعنى لا بشرط فلا نحتاج إلى تكلف وضع لكل
واحد منها، بل لو أمكن الوضع كذلك يكون الوضع على النحو الآخر لغوا مستهجنا.
فيقع الكلام: في إمكان الوضع لكل من المادة والصورة، بعد عدم انفكاك
إحداهما عن الأخرى، بل يكون احتياج إحداهما إلى الأخرى نظير احتياج الهيولى
إلى الصورة في الحقائق الخارجية.
فكما أن كلا من الهيولى والصورة محتاجة إلى الأخرى في التحقق، ولا
يمكن أن يقال إن وجود الصورة مقدم على الهيولى أو بالعكس، فكذلك المادة
والهيئة فيما نحن فيه؛ فلا يصح أن يقال إن المادة مع الهيئة الموضوعة وضعت
لمعنى، أو الهيئة مع المادة الموضوعة وضعت لكذا.
بل يمكن أن يقال: إن المحذور فيما نحن فيه أشد من المحذور في باب
الهيولى والصورة؛ لأنه يمكن أن يقال هناك: إن الهيولى والصورة وجدتا معا، من
دون تقدم وتأخر، وأما فيما نحن فيه فحيث إن الغرض إرادة الوضع لكل من المادة
والهيئة على حدة ومستقلا فلا يمكن أن يقال إنهما وضعتا معا، وهو واضح.
50

فتحصل: أنه لا يمكن انفكاك كل من المادة والهيئة عن الأخرى؛ فلا يصح
وضع المادة في ضمن الهيئة الموضوعة، أو بالعكس.
نعم، يمكن تصوير ذلك بأحد الوجوه:
إما بأن يقال: إن المشتقات في ابتداء الأمر كانت جامدة؛ بأن وضعت لفظة
" الضرب " مثلا لمعنى كما وضعت " الإنسان " لمعنى، ثم بمرور الزمان وتوفر
الدواعي وكثرة الاحتياج إلى تفهيم المقاصد والمطالب وتفهمها وجدت الاشتقاقات.
أو يقال: إن المادة وضعت أولا في ضمن هيئة غير موضوعة، ثم وضعت
الهيئة في ضمن المادة الموضوعة.
أو يقال بالعكس؛ بأن وضعت الهيئة أولا في ضمن مادة غير موضوعة، ثم
وضعت المادة في ضمن الهيئة الموضوعة، هذا.
وحيث لم يكن لنا طريق إلى معرفة كيفية الوضع في ابتداء الأمر فإذا أريد
إفادة المادة بمعناها في تطورها بكل هيئة من الهيئات - من غير تجريد ولا زيادة -
فلا مناص إلا أن يقال: إن الواضع تصور المادة في ضمن هيئة ما، وجعل الهيئة آلة
للحاظ المادة المجردة عن جميع الجهات إلا كونها متوالية، فوضعها للمعنى الحرفي
اللا بشرط الساري في الهيئات.
وبما ذكرنا ظهر: أنه لا يصلح أن يكون المصدر أو اسمه أو الفعل مبدأ
الاشتقاق؛ وذلك لأن كلا منها له هيئة وصورة، ولا يمكن أن يقبل الصورة صور
أخرى (1).

1 - قلت: وبعبارة أخرى: الماهية بمنزلة الصورة النوعية للشيء، فكما أن شيئية الشيء بصورته،
ومع قبوله صورة لا يطرأ عليها صورة أخرى، فكذا فيما نحن فيه. فلهيئة المصدر أو اسمه أو
للفعل صورة وفعلية، فلا يطرأ صورة أخرى عليها [المقرر حفظه الله].
51

ولا أظن نحوي فهيم يرى أن المصدر بهيئته - مثلا - مبدأ للمشتقات؛ لأن
هيئة المصدرية أيضا، وإن حكي عن الكوفيين: أنه المصدر، كما حكي عن
البصريين: أنها الفعل، إلا أن يريد معنى سنشير إليه بيانه. هذا كله في جانب المادة.
وهكذا في جانب الهيئة؛ بأن تصور زنة الفاعل - مثلا - في ضمن مادة من
المواد؛ بحيث لم تكن المادة ملحوظة إلا آلة وعبرة للحاظ الهيئة. فوضع الهيئة
للمعنى نظير ما ذكرنا في وضع المعاني الحرفية؛ حيث يلحظ المعنى الاسمي،
فيوضع اللفظ للمعنى الحرفي وما يكون مصداقا له، هذا كله بحسب مقام الثبوت
والإمكان.
فظهر وتحقق لك: إمكان وضع المادة في ضمن هيئة للمعنى اللا بشرط،
وإمكان وضع الهيئة في ضمن معنى اسمي للمعنى الحرفي.
وأما بحسب مقام الإثبات والتصديق:
فنقول: لا يهمنا إثبات حالها في أول الأمر، وأما بعدما صارت اللغة حية
ووقعت بأيدينا فنقول: إن القول بوضع المادة والهيئة معا لكل واحد واحد من
المشتقات خلاف الوجدان والضرورة، مضافا إلى لزومه الوضع الشخصي في المادة
والهيئة. ولا أظن الالتزام به من أحد.
مع أنا قد نعلم معنى المادة ونجهل معنى الهيئة، وقد يكون بالعكس، مثلا:
تارة يعلم أن القرض بمعنى القطع، لكن لم يعلم أن زنة المقراض لأي شئ، وأخرى
يعلم أن زنة المقراض اسم الآلة، ولكن لم يعلم معنى القرض. فانفكاك كل من المادة
والهيئة في الدلالة دليل على أن لكل من المادة والهيئة وضع على حدة، ولم يوضعا
معا بالوضع الشخصي.
52

تنبيه
لا يخفى: أن المادة موضوعة بالوضع الشخصي بنحو الوضع العام والموضوع
له العام.
فما يظهر من المحقق العراقي (قدس سره): من أن وضع مادة المشتق لوضع هيئته
وضع نوعي، بخلاف وضع الجوامد فإنه وضع شخصي؛ لأنها بمادتها وهيئتها معا
موضوعة للدلالة على معنى واحد (1).
كأنه غير وجيه، إلا أن يراد بالوضع الشخصي ما يكون نظير الأعلام، فتخرج
المادة عن كونها كذلك؛ لتطورها في ضمن هيئات متعددة، ولا مشاحة في
الاصطلاح.
إشكالات وأجوبة
فبعدما أحطت خبرا بما تلوناه عليك، وما هو الحق في المقام: لابد لتشحيذ
الأذهان ورفع الإشكال في المسألة من الإشارة إلى بعض الإشكالات الواردة في
ألسنة القوم، والجواب عنها:
الإشكال الأول: أنه لم يمكن التلفظ بمادة المشتقات إلا في ضمن هيئة من
الهيئات، فكيف يقال: إن المادة لفظة موضوعة لمعنى؟ وكذا في جانب الهيئة؛ حيث
لا يمكن التلفظ بها إلا في ضمن مادة من المواد، كيف يقال: إنها لفظة موضوعة
لكذا؟
وبالجملة: اللفظ الموضوع لابد وأن يكون قابلا للتلفظ والتنطق به مستقلا،
فإذا لم يمكن التلفظ بشيء من المادة والهيئة مستقلة عن الآخر فكيف يعقل
وضعهما لمعنى.

1 - بدائع الأفكار 1: 155.
53

وفيه: أن غاية ما تقتضيه حكمة الوضع هي وقوع ما وضع له في طريق
الإفادة والاستفادة ورفع الاحتياج به - وإن كان في ضمن أمر آخر - وأما الإفادة
والاستفادة منه مستقلا فلا. فإذا رفع الاحتياج واستفيد منه - ولو بازدواج المادة
والهيئة معا - فلا محذور فيه. وواضح: أن الإشكال إنما يتوجه إذا لم يمكن التنطق بالمادة
أو الهيئة أصلا
- ولو متفرعا بالأخرى - وقد عرفت بما لا مزيد عليه إمكان التنطق بكل منهما
مزدوجا بالأخرى.
الإشكال الثاني: أنه كيف يجمع بين قولهم: إن المصدر واسمه موضوعان
للماهية اللا بشرط - وهي كون مادة المشتقات موضوعة لذلك - مع أن المشتق لابد
وأن يؤخذ فيه مبدأ الاشتقاق وشئ آخر؛ قضاء لحق الاشتقاق، وإلا لاتحد المشتق
والمشتق منه.
مع أنه لو كانت هيئة المصدر واسمه موضوعين لنفس الطبيعة اللا بشرط فلزم
التكرار في الدلالة؛ في دلالة المصدر واسمه، إحداهما دلالة هيئتهما، والثانية دلالة
مادتهما. والوجدان حاكم بأنه ليس هناك إلا دلالة واحدة.
وفيه: أن الإشكال - على القول بكون المصدر واسمه مبدأ المشتقات - إنما
هو في المصادر المجردة، وأما المصادر غير المجردة فلم يقل أحد بدلالتها على
نفس الطبيعة الا بشرط فقط.
مع أن جريان الإشكال في المصادر المجردة إنما هو إذا لم يكن المصدر دالا
على الطبيعة المنتسبة واسمه على نفس الطبيعة، وإلا يحصل الفرق بينهما.
وبالجملة: لا يتوجه صورة الإشكال إذا قلنا بأن مدلول المصدر الطبيعة
المنتسبة، ومدلول اسمه نفس الطبيعة.
نعم، يتوجه على ما هو المشهور بين أهل الأدب من أن مدلول المصدر
واسمه الطبيعة اللا بشرط.
54

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنه وضعت هيئة المصدر واسمه لإمكان التنطق
بالمادة، لا لإفادة للمعنى وراء ما أفيد مادتهما؛ وذلك لما عرفت: أن المادة من حيث
هي هي لا يمكن التنطق بها، وحيث إنه قد تمس الحاجة إلى إظهار نفس المادة -
أي الطبيعة اللا بشرط - فوضعت هيئة المصدر واسمه من المشتقات اللفظية فقط،
بخلاف سائر المشتقات؛ فإنها تكون من المشتقات المعنوية؛ لعدم دلالة هيئة
المصدر واسمه على معنى غير معنى المادة، بخلاف سائر الهيئات.
إن قلت: لو كانت هيئة المصدر وضعت لإمكان التنطق بالمادة فما السبب إلى
وضع اسم المصدر لذلك أيضا؟
قلت: يمكن أن يقال: إن ذلك من جهة إلحاق بعض اللغات ببعض.
إن قلت: غاية ما تقتضيه مقالتكم إنما هي بالنسبة إلى وضع هيئة واحدة
للمصدر، مع أنه ترى لبعض المصادر المجردة أوزان متعددة؛ فلا يصح القول بكون
وضع هيئات المصادر المجردة لإمكان التنطق بالمادة.
قلت: لم يثبت أن الأوزان المتعددة من واضع واحد وشخص فارد، ولعلها من
أشخاص وطوائف مختلفة، فاختلطت بعضها ببعض؛ فصارت لغة واحدة.
مع أن مرجع هذا الإشكال إلى الإشكال على وجود الترادف في اللغة لا
اختصاص له بما نحن فيه، والجواب عن إشكال الترادف في اللغة هو الجواب في
المقام.
فتحصل مما ذكرنا: صحة وضع هيئة المصدر واسمه على نفس الطبيعة
اللا بشرط، مع دلالة المادة على ذلك، فتدبر.
الإشكال الثالث: هو أنه لو كان لكل من المادة والهيئة وضع على حدة تلزم
دلالة المادة على معناها لو تحققت في ضمن هيئة مهملة، وكذا تلزم دلالة الهيئة
على معناها لو تحققت في ضمن مادة غير موضوعة، مع أنه ليس كذلك.
55

الإشكال الرابع: هو أن لازم كون كل واحد منهما موضوعا بوضع مستقل
للمعنى هو التركب في المشتق؛ بحيث تدل هيئته على معنى مستقل، ومادته على
معنى آخر كذلك، مع أنه لم يلتزم أحد - حتى القائلين بتركب المشتق بذلك؛ لأنهم
لم يقولوا بدلالة المشتق على معنيين متعددين مستقلين غير مركبين.
والجواب عن الإشكالين يتضح بعد بيان مقدمة، وهي: أن لوضع المشتقات
ودلالتها وكيفية لطبيعتها شأنا ليس لغيرها؛ وذلك لما عرفت أن هيئة المشتق لا
تنفك عن المادة، كما أن مادته لا تنفك عن الهيئة، فكأنهما تركبتا معا؛ تركيبا
اتحاديا. فالمشتق شئ واحد مركب، فدلالته أيضا كذلك؛ أي تدل على معنى واحد
مركب.
وسيظهر لك جليا: أن شأن المركب بين التركيب والبساطة؛ لا يكون مركبا
بحيث تكون هناك دلالتين مستقلتين، ولا بسيط، كهمزة الاستفهام. بل كما أن وضع
كل من المادة والهيئة وضع تهيئي لازدواج الأخرى، ومعناهما مزدوج بالأخرى،
فدلالتهما أيضا كذلك.
فالمشتق شئ واحد ينحل بحسب العقل إلى شيئين، فتكون لفظة واحدة
تقبل الانحلال إلى المتعدد ومعنى فاردا إلى معنيين، فله دلالة واحدة تنحل إلى
دلالتين ومدلولين كذلك.
إذا تمهد لك ما ذكرنا: يظهر لك ضعف كلا الإشكالين:
لأن إشكال الأول إنما يرد إذا لم يكن وضع كل من المادة والهيئة وضعا تهيئيا
لازدواج الأخرى به، فإذا كان وضع كل منهما وضعا تهيئيا لازدواجها مع الأخرى
فتكون لدلالة كل منهما ضيق ذاتي، فلا مجال لتوهم دلالة كل من المادة والهيئة في
ضمن الأخرى لو كانت مهملة.
وأما الإشكال الثاني فإنما يتوجه إذا كان لكل منهما دلالة مستقلة، وقد
عرفت: أن المشتق لفظ واحد ومعنى فارد ودلالة واحدة، لكنه قابل للانحلال.
56

وتوهم: أن هذا مناف لما أسلفناه؛ من أنه يفهم من زنة اسم الآلة بدون المادة
معنى، ومن المادة بدون الهيئة معنى آخر.
مدفوع: بأن غاية ما أسلفناه هي أنه إذا لوحظ زنة اسم الآلة - مثلا - فيفهم
أن له تطورا ومعنى إجماليا، ولا يدل على أنها تدل على المعنى مستقلا. وكذلك في
جانب المادة؛ فإنها تدل على المعنى إجمالا، لا على المعنى مستقلا، فتدبر.
ذكر وتعقيب
أجاب سيد مشايخنا المحقق الفشاركي (قدس سره) - على ما حكي عنه (1) - عن
الإشكال الأخير: بأن المادة ملحوظة أيضا في وضع الهيئات، فيكون الموضوع هي
المادة المتهيئة بالهيئة الخاصة - وهو الوضع الحقيقي الدال على المعنى - وليس
الوضع الأول إلا مقدمة لهذا الوضع وتهيئة له. ولا نبالي بعدم تسمية الأول وضعا؛ إذ
تمام المقصود هو الوضع الثاني.
ولكن فيه - مضافا إلى أنه يزيد في الإشكال - لا يتم في نفسه؛ وذلك لأنه لو
كانت المادة موضوعة للمعنى أولا فدلالتها عليه قهرية، ولا معنى لوضع اللفظ
لمعنى لا يدل عليه.
مع أنه لو لم تكن للمادة الكذائية معنى لا يصح جعلها مادة للمشتقات؛ لأن
المبدأ لابد وأن يكون له معنى ساريا في جميع المشتقات، والمفروض أن المادة
الكذائية لم تكن لها معنى.
مع أن غاية ما يقتضي وضعها تهيئته هي عدم دلالتها مستقلة، وأما أصل
الدلالة - ولو تبعا - فلا. فيلزم التعدد في الدلالة على نفس الحدث؛ لأنه يفهم

1 - الحاكي شيخنا العلامة أبو المجد صاحب الوقاية. أنظر وقاية الأذهان: 161 - 162.
57

من الوضع الأول ذات الحدث، ومن الوضع الثاني الحدث المتحيث بمفاد
الهيئة.
ثم إن الوضع الثاني - أي المادة المتهيئة - لو كان في كل مورد على حدة
بأوضاع متعددة فيستلزم كون الوضع في المشتقات شخصيا، وهو خلاف الوجدان.
ولو صح ذلك فلا يحتاج إلى تصوير مبدأ الاشتقاق؛ لصيرورته من الجوامد،
مع أنه حينئذ لا يحتاج إلى وضع المادة مستقلا بدون الهيئة، فتدبر.
الجهة السادسة
في وضع هيئات المشتقات الفعلية
الحق: أن الوضع في هيئات الأفعال مطلقا عام والموضوع له خاص؛ لأن
معنى هيئات الأفعال معنى حرفيا؛ لأن بعضا منها يدل على معنى حكائي كهيئة
" ضرب " و " يضرب " مثلا، وبعضها إيجادي كهيئة " اضرب " مثلا؛ فإنه بنفس هيئة
" اضرب " يوجد معناه في عالم الاعتبار، كما هو الشأن في الحروف؛ فبعضها
حكائي ك‍ " من " و " إلى "، وبعضها إيجادي ك‍ " ياء النداء ".
سيأتي الكلام مستوفى في إثبات معنى حرفية هيئات الأفعال الإيجادية في
مبحث الأوامر إن شاء الله.
ومحط البحث هنا: إثبات حرفية هيئات الأفعال الحاكيات كالماضي
والمضارع؛ فنقول: المتبادر من هيئة الماضي هي الحكاية عن تحقق صدور الحدث
من الفاعل كضرب، أو حلوله فيه كبعض الأفعال اللازمة كحسن وقبح. والمتبادر من
هيئة المضارع هي الحكاية عن لحوق صدور الحدث.
ومعلوم: أن تحقق صدور الحدث من الفاعل أو حلوله فيه، وكذا لحوق
صدور الحدث معنى حرفيا وكونا رابطيا غير مستقل بالمفهومية والوجود.
وبعبارة أخرى: هيئتي الماضي والمضارع تحكيان عن تحقق الحدث أو
لحوقه مع
58

الانتساب والإضافة إلى الفاعل، ولا تحكي عن نفس الحدث ولا عن الفاعل،
بل لا عن مفهوم كلي الصدور واللحوق، وإنما تحكيان عن شئ واحد، لا بنحو
حكاية لفظ الجامد ودلالته على معناه، بل عن معنى واحد منحل إلى كثيرين؛ فإنه
بنفس هيئتهما يفهم السبق واللحوق والانتساب إلى الفاعل.
مثلا: من تكلم بكلام فهناك شئ واحد - وهو صدور الكلام - ولكنه ينحل
إلى أصل الصدور والانتساب إلى الفاعل، وهيئة الماضي تحكي عن ذلك المعنى
الواحد الكذائي، فلفظة " تكلم " تحكي عن الواقع على ما هو عليه؛ وهو معنى
حرفي. وكذا هيئة المضارع تحكي عن لحوق الصدور على ما هو عليه.
والحاصل: أن هيئتي الماضي والمضارع وضعتا لحصته من الوجود المنحل
إلى تلك الأمور.
فلم تؤخذ الزمان الماضي والمضارع بمعناهما الاسمي في موضوع له هيئة
الماضي أو المضارع، بل ولم يؤخذ فيهما السبق واللحوق بمعناهما الاسمي.
نعم، تلك الأمور من لوازم مدلول الماضي والمضارع؛ لأن حكاية وقوع
الشيء على ما هو عليه يستلزم الزمان والسبق طبعا، كما أن حكاية لحوق الشيء
على ما هو عليه يستلزم الزمان واللحوق قهرا.
فتحصل: أنه لا إشكال ولا كلام في استفادة الزمان والسبق واللحوق من
هيئتي الماضي والمضارع، وإنما الكلام والادعاء: أن المتبادر منهما ليست المعاني
على نعت الكثرة بالمعنى الاسمي، بل المتبادر منهما إنما هو أمر وحداني وهو
حقيقة هذه المعاني بالحمل الشائع، واستفادة تلك المعاني بلحاظ التحليل العقلي،
وهو أوسع من متن الواقع، فتدبر.
59

الجهة السابعة
لا إشكال في أن المتبادر من بعض صيغ المضارع هو المعنى الاستقبالي، ولا
يطلق على المعنى الحالي إلا نادرا، وهو الكثير منها، كيقعد ويقوم ويذهب ويجلس
وينام، إلى غير ذلك. كما أن المتبادر من بعضها الآخر المعنى الحالي، كقولك: " يعلم
زيدا " إذا سئلت عن علمه. ومنه قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (1).
ومن هذا النحو: يحسب ويظن ويقدر ويشتهي ويريد؛ فإن المتبادر منها
المتلبس بالمبدأ في الحال، كما لا يخفى؛ حتى بالنسبة إلى معاني تلك الصيغ في
اللغة الفارسية؛ فإن معنى اعلم " ميدانم "، وأظن " گمان ميكنم " وهكذا، كما
لا يخفى.
فيقع السؤال عن وجه الاختلاف فيها:
فنقول: يبعد أن يكون منشأ الاختلاف تعدد الوضع؛ بأن يقال: إنه وضعت
هيئة المضارع في بعض الموارد للدلالة على المعنى الاستقبالي، وفي بعض آخر
للدلالة على المعنى الحالي. أو وضعت هيئة المضارع مقارنة لمادة كذا للدلالة على
المعنى الاستقبالي، ومقارنة للمادة الأخرى للدلالة على المعنى الحالي.
ولا يصح أن يقال: إن الهيئة موضوعة للجامع بين الحال والاستقبال؛ لما
أشرنا في الجهة السابقة أن مدلولها معنى حرفيا، ولا يكون بين المعاني الحرفية
جامعا كذلك.
نعم، لا يبعد أن يقال: إن هيئة المضارع وضعت للمعنى الاستقبالي، إلا أنه
استعملت؟ في بعض الموارد في المتلبس بالحال مجازا، إلى أن صارت حقيقة فيه.
وإن أبيت عما ذكرنا فنقول: لا طريق لنا إلى إحراز ذلك، ولا نعلم نكتة
اختلاف هيئات المضارع في ذلك، ولا يهم ذلك.

1 - سورة الأنعام (6): 124.
60

الجهة الثامنة
في اختلاف مبادئ المشتقات
لا إشكال في اختلاف مبادئ المشتقات من جهة كون بعضها حرفة وصنعة
كالبقال والعطار والتاجر والحائك، وبعضها قوة وملكة كالمجتهد والطبيب، وبعضها
من الأفعال كالمتحرك والساكن والضرب والأكل ونحوها من الأفعال. إلا أن ذلك لا
يوجب اختلافا في الجهة المبحوث عنها - وهي أنها هل هي حقيقة في خصوص
المتلبس بالمبدأ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه؟ - وإنما الاختلاف في أنحاء التلبس
والانقضاء.
مثلا: يطلق التاجر والحائك على من اتخذ التجارة والحياكة حرفة وصنعة له،
وانقضاء المبدأ عنهما ليس بمجرد ترك عملية التجارة والحياكة حتى يكون إطلاقهما
عليه حال كونه قائما ومشغولا بالأكل - مثلا - إطلاقا على من انقضى عنه، بل
بذهاب حرفة التجارة وصنعة الحياكة من يده.
كما هو الشأن في أسماء الآلات والأمكنة؛ فإنها قد تدل على كون الشيء
معدا لتحقق الحدث بها أو فيها بنحو القوة، لا بنحو فعلية تحقق الحدث بها أو فيها؛
فالمفتاح مفتاح قبل أن يفتح به، والمسجد مسجد قبل أن يصلى فيه، وهكذا.
وبالجملة: اختلاف مبادئ المشتقات - قوة وملكة وحرفة وصنعة - لا يوجب
اختلافا في الجهة المبحوث عنها؛ لأن ذلك راجع إلى كيفية التلبس.
ولعل خلط جهة البحث دعى الأعمي الاستدلال لمقالته: بأنه لو لم يكن
المشتقات موضوعة للأعم لما صح إطلاق التاجر والحائك والمجتهد والطبيب إلى
غير ذلك على من لم يكن مشتغلا بالتجارة والحياكة والاجتهاد والطبابة فصلا، وكان
نائما أو
61

قائما وماشيا، مع أن الوجدان أصدق شاهد على صحة الإطلاق حقيقة.
ولكن في الاستدلال نظر؛ لأنه لو كانت الألفاظ موضوعة للأعم لابد وأن
يصح بإطلاق التاجر والحائك - مثلا - على من هجر التجارة والحياكة ورفضهما،
وصار من طلبة العلم مشتغلا به ليلا ونهارا، مع أنه لا يطلق عليه حقيقة، هذا أولا.
وثانيا: لو تم ما ذكره الأعمي لابد وأن يعم المشتقات، مع أنه ليس كذلك،
وهو واضح.
وثالثا: أن مجرد الإطلاق لا يدل على كونه حقيقة فيه؛ لأنه قد يطلق عليه
مع عدم التلبس بالمبدأ خارجا؛ فيطلق التاجر - مثلا - على من لم يتلبس بالتجارة
بعد، ولكنه أعد مقدماته. فلو تم ما ذكر يلزم كون المشتق حقيقة في الأعم مما
انقضى عنه المبدأ وما يتلبس به بعد، مع أنه لم يقل به أحد.
فظهر: أن تلك الاختلافات ترجع إلى كيفية التلبس بالمبدأ، ولا يضر بالجهة
المبحوث عنها.
فحينئذ: يقع الكلام في سر الاختلاف ووجهها:
يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره): أن سر اختلاف المشتقات هو الاختلاف
في المبادئ؛ لأنه بإشراب الجهات المذكورة - من القوة والملكة، والاستعداد
والفعلية ونحوها - في ناحية المبادئ يختلف التلبس في كل منها بحسبه (1).
ولكن فيه أولا: أن لازم ذلك هو وضع المواد تارة للدلالة على إفادة الملكة
والقوة، وأخرى للدلالة على الحرفة والصنعة، وثالثة للدلالة على الفعلية. فيوجب
الالتزام بأوضاع متعددة في ذلك، وهو بعيد.
إلا أن يقال: إن ما أفاده لا يثبت تعدد الوضع في ناحية المبادئ. وغاية ذلك:

1 - كفاية الأصول: 62.
62

هو أن اختلاف المبادئ موجب لاختلاف المشتقات؛ فكما يمكن أن يكون
ذلك بالوضع والحقيقة، فكذلك يمكن أن يكون ذلك بنحو العناية والمجاز.
وثانيا: أنه نرى مواد تلك المشتقات ولم يؤخذ فيها ذلك؛ ضرورة أن المفتاح
يدل على كون الشيء معدا لتحقق الحدث به - وهو الفتح - بنحو القوة، ولم يؤخذ
في فتح يفتح ذلك، وهو واضح. وهكذا غيرها (1).
ويظهر من المحقق الأصفهاني (قدس سره) وجها آخر؛ فإنه (قدس سره) - بعد أن نفي كون
الوجه في ما أشار إليه أستاده المحقق في " الكناية " - كما هو ظاهر غير
واحد من الأصحاب - من إشراب الفعلية والقوة والملكة والاستعداد ونحوها
في ناحية المبادئ، ولم يلتزم بالتصرف في ناحية المبادئ أيضا - قال: بل بوجه
آخر يساعده دقيق النظر، فقد ذكر في عبارته الطويلة عناوين أربع، لا يرتبط بما نحن فيه
إلا عنوانين منها، فقال ما ملخصه:
أحدها: ما يكون مثل حمل المقتضى - بالفتح - على المقتضي - بالكسر - مثل
" النار حارة " و " الشمس مشرقة " و " السم قاتل "، إلى غير ذلك.

1 - قلت: وبعبارة أوضح أشار إليها المحقق العراقي (قدس سره) وهو: أنه لو ثبت ذلك
يستلزم عدم تفاوت الأفعال المشتقة من تلك المبادئ أيضا، مع ما نرى بالوجدان:
أن الأفعال المشتقة منها مطلقا لا تستعمل في المعنى غير الحدثي؛ فلا يقال: اتجر أو
صاغ - مثلا -؛ بمعنى صار ذا حرفة في التجارة أو ذا ملكة في الصياغة، بل تستعمل
هذه الأفعال في المعنى الحدثي الفعلي.
وعليه: يبعد كل البعد كل البعد أن تكون الأفعال مشتقة من مبدأ غير المبدأ الذي اشتقت منه الأسماء
المشتقة [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] بدائع الأفكار 1: 181.
63

والنظر في هذا القسم من العناوين ليس إلا مجرد اتحاد الموضوع والمحمول
في الوجود، لا إلى اتحادهما في حال؛ ليقال: إنه إطلاق على غير المتلبس.
الثاني: ما يكون مثل أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات ك‍ " هذا مذبح، أو
مسلخ، أو مفتاح "؛ فإن الجري فيها بلحاظ القابلية والاستعداد؛ لأن التصرف في
المادة أو الهيئة غير ممكن فيها:
أما في المادة؛ فلأن الآلة - مثلا - فاعل ما به الفتح في المفتاح، وفاعل ما به
الكنس في المكنسة، ولا معنى لكون الشيء فاعلا لقابلية الفتح أو الكنس، أو
لاستعدادهما. فلا معنى لإشراب القابلية والإعداد والاستعداد في المادة.
وأما في الهيئة؛ فلأن مفاد الهيئة نسبة الفاعلية في اسم الآلة، ونسبة الظرفية
الزمانية والمكانية في اسمي الزمان والمكان.
الثالث: ما يكون مثل الخياط والنساج والكاتب - إذا كانت الكتابة حرفة له -
ونحوها من الأوصاف الدالة على الصنعة والحرفة، وكان المبدأ فيها قابلا للانتساب
إلى الذات بذاته.
وسر الإطلاق فيها مع عدم التلبس بنفس المبدأ: أنه باتخاذه تلك المبادئ
حرفة فكأنه ملازم للمبدأ دائما.
الرابع: ما يكون كالتاجر واللابن والبقال مما لم يكن المبدأ فيها قابلا
للانتساب بذاته؛ لأن مبادئها أسماء الأعيان؛ فلابد من الالتزام بأن الربط الملحوظ
بينها وبين الذات ربط تبعي لا بالذات؛ بمعنى أن طبيعة الربط أولا وبالذات بين
الذات واتخاذه بيع التمر واللبن والبقل حرفا وشغلا، إلا أن التمر واللبن والبقل
صارت مربوطة بالذات بالتبع، لا بالذات.
ومن هذا القبيل الحداد؛ فإن الحديد مربوط بالذات باتخاذ صنعة الحديد
حرفة بالذات، فهذه الهيئة كسائر الهيئات في أصل المفهوم والمعنى، غاية الأمر: أن
الربط
64

فيها ربط مخصوص من شأنه صدق الوصف على الذات ما دام الربط الذاتي
المصحح لهذا الربط باقيا، لا أن المبدأ اتخاذ الحرفة، ولا أن الهيئة موضوعة للأعم،
انتهى (1).
أقول: لعله - كما أشرنا - لم يخف عليك أن العنوان الأول والرابع المذكورين
في كلامه (قدس سره) خارجان عما نحن فيه، فلا نحوم حوله فعلا. والمربوط بما نحن فيه
العنوان الثاني والثالث.
وحاصل ما أفاده في العنوان الثاني في سر الاختلاف إنما هو بلحاظ
الاختلاف في الجري على الذات.
وأما في الثالث فسر الإطلاق مع عدم التلبس بنفس المبدأ: أنه باتخاذه تلك
المبادئ حرفة فكأنه ملازم للمبدأ دائما، هذا.
ويظهر من المحقق العراقي وشيخنا العلامة الحائري (قدس سرهما): أن سر الاختلاف
هو الذي أشار إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره) في العنوان الثالث.
فإنه قال المحقق العراقي (قدس سره): إن العرف يرى أن من يزاول هذه الأعمال عن
ملكة أو حرفة؛ متلبسا بتلك الأعمال دائما، ولا يرون تخلل الفترات بين تلك
الأعمال موجبا لانقطاعها لينتفي التلبس بها، فيبطل الصدق على القول بكون
المشتق حقيقة في المتلبس.
وهذا هو السر في صدق مثل التاجر والصائغ والشاعر على متخذ التجارة
والصياغة والشعر حرفة، ولا يستلزم ذلك صحة إسناد الأفعال المشتقة من تلك
المبادئ في تلك الفترات؛ لكي يقال: إنه لا يصح ذلك بالوجدان؛ وذلك لأن النظر في
الأفعال متوجه إلى نفس صدور الحدث، ومعه لا يبقى موقع لإسناد الأفعال في حال
الفترات المزبورة. بخلاف الأسماء المشتقة؛ فإن النظر فيها متوجه إلى الذات
المتصفة بالمبدأ، وحيث لا يرى العرف تلك الفترات بين الأعمال موجبا لانقطاعها
كانت الذات متلبسة بالمبدأ في نظره؛ حتى في حال الفترة المتخللة (2).

1 - نهاية الدراية 1: 183 - 186.
2 - بدائع الأفكار 1: 181.
65

وقال شيخنا العلامة الحائري (قدس سره): إن صحة إطلاقها على من ليس متلبسا
بالمبدأ فعلا - بل متلبسا قبل ذلك من دون إشكال - من جهة أحد أمرين:
إما استعمال اللفظ الدال على المبدأ في ملكه ذلك أو حرفته أو صنعته.
وإما من جهة تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدأ دائما؛ لاشتغاله به غالبا؛
بحيث يعد زمان فراغه كالعدم، أو لكونه ذا قوة قريبة بالفعل؛ بحيث يتمكن من
تحصيله عن سهولة؛ فيصح أن يدعى: أنه واجد له.
والظاهر هو الثاني، انتهى (1).
أقول: أما ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) فيما يرتبط بالمقام: فلنا كلام معه؛
تارة في الوجه المختص به، وأخرى في الوجه الذي اشترك معه العلمين:
أما فيما اختص به فنقول: لازم ما أفاده هو أنه لا تكون للمشتقات المذكورة
مع قطع النظر عن الجري والحمل - أي بمفاهيمها التصورية - هذه المعاني
المتعارفة، مع أن الضرورة قاضية بأنه يفهم منها تلك المعاني مع عدم الجري والحمل
أيضا؛ ضرورة أن من تصور المسجد بمفهومه التصوري ينتقل ذهنه إلى المكان
المتهيئ للسجدة.
وأما الوجه الذي اشترك معه (قدس سره) العلمان - مع اختلاف عبائرهم - فهو: أن
لازم قوله: " اتخاذ تلك المبادئ حرفة كأنه ملازم للمبدأ دائما "، وقول المحقق
العراقي: " عدم رؤية تخلل الفترات بين تلك الأعمال موجب لانقطاعها "، وقول
شيخنا العلامة: " تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدأ دائما؛ لاشتغاله به دائما ". هو
أن إطلاق التاجر والحائك على من لم يتلبس فعلا بالمبدأ؛ بمعنى كونه الآن مشغولا
بالتجارة والحياكة، مع أن المتبادر من إطلاق التاجر والحائك على شخص هو كون
التجارة والحياكة شغلا له، لا أنه مشغول بهما فعلا، كما لا يخفى.
فتحصل: أن ما أفادوه في وجه ذلك غير وجيه.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 61.
66

والذي يمكن أن يقال: إن بعض المشتقات - وهو الكثير منها - قد ألغي عنها
معنى الوصفية وصارت بمنزلة أسماء الجوامد أسماء أجناس كالمنارة والمسجد
والمحراب ونحوها؛ فإنه لا ينقدح في الذهن بسماع تلك الألفاظ موضع النور من
المنارة، ومحل السجدة من المسجد، ومكان الحرب من المحراب، بل المتبادر منها
عند العرف ذوات تلك الحقائق، ولا ينسبق المبادئ إلى الذهن أصلا. بل المفتاح
أيضا كذلك؛ لأنه لا يفهم منه إلا الشيء المخصوص.
وأما المشتقات التي لم يلغ عنها معنى الوصفية - كالتاجر والصائغ ونحوهما -
ويتبادر منها الصنعة والحرفة، فبعد كون الالتزام بتعدد الوضع بعيدا يمكن أن يقال:
إنه استعملت مجموع المادة والهيئة في تلك المعاني أولا بنحو المجاز بمناسبة - مثل
مجاز المشهور - حتى صارت حقيقة فيها.
هذا ما ذهبنا إليه في الدورة السابقة، ولكنه لا يتم على طريقتنا في باب
المجاز؛ لأنه قلنا: إنه لم يستعمل اللفظ في المجاز في غير ما وضع له، بل استعمل
فيما وضع له، من دون تأول وادعاء، والادعاء إنما هو في التطبيق.
ويشكل التفكيك بين أقسام المجاز بأن يقال: إنه في غير ما نحن فيه يكون
الادعاء في التطبيق، وأما في ما نحن فيه فاستعملت في غير ما وضع له. بل الأمر
في جميع المجازات واحد، وجميعها ترتضع من ثدي واحد، وعلى وزان واحد.
والذي ينبغي أن يقال على طريقتنا: هو أنه كثر تطبيق معانيها المستعملة فيها
على تلك المعاني المجازية؛ حتى صارت بواسطة كثرة الاستعمال مصاديق حقيقة
لها.
وبالجملة: لم يستعمل اللفظ في الحرفة أو الصنعة مجازا، بل استعمل في
معناه الموضوع له، لكنه انطبق المعنى الموضع له عليها مجازا. وتكرر ذلك الانطباق
حتى صارت مصداقا حقيقيا له، من دون تأول ومجاز، فتدبر.
67

الجهة التاسعة
في المراد ب‍ " الحال " في عنوان البحث
لعله ظهر مما أسلفنا: أن النزاع في المشتقات الاسمية إنما هو في معانيها
التصورية اللغوية، وأنه هل وضعت لفظة " الضارب " مثلا لخصوص المتلبس
بالضرب فعلا، أو للأعم منه وممن انقضى عنه؟ لا في حمل المشتق وجريه على
الشيء.
فحان التنبه على أن المراد ب‍ " الحال " في عنوان البحث ليس زمان النطق
والانتساب والجري أو الإطلاق، بل ولا زمان التلبس؛ لعدم كون الزمان مأخوذا في
المشتق؛ وذلك لأن ذلك كله متأخرة عن الوضع.
بل المراد: هو المفهوم الذي لا ينطبق إلا على المتصف بالمبدأ، أو الأعم منه.
وبعبارة أخرى: محل البحث في مفهوم تصوري المشتق، وأنه هل وضع
لمعنى لا ينطبق إلا على المتصف بالمبدأ، أو لمفهوم أعم منه؟
فالأولى: عقد عنوان البحث هكذا: " هل المشتق وضع لعنوان المتصف
بالمبدأ بالفعل، أو للأعم منه؟ " لئلا يشتبه الأمر.
ولأجل ما ذكرنا - أن النزاع في المفهوم التصوري - يتمسك لإثبات المدعى
بالتبادر، الذي هو الدليل الوحيد في إثبات الأوضاع والمفاهيم اللغوية.
نعم، ربما يتمسك لإثبات المطلوب بوجوه عقلية لعلها ترجع إلى التبادر،
فتدبر.
وبعدما تمهد لك ما ذكرنا في محل البحث نقول:
قد يقال: إنه يمتنع عقلا وضع المشتق للمتلبس بالمبدأ فعلا فيما إذا امتنع
تلبس الذات بالمبدأ في الخارج، مثل " زيد معدوم "، و " شريك الباري تعالى ممتنع "؛
فإنه لو وضع
68

لذلك يلزم أن يكون العدم أو الامتناع شيئا ثابتا لزيد ولشريك الباري تعالى؛
فيلزم انقلاب العدم إلى الوجود، والامتناع إلى الإمكان.
فأجيب عنه: بأن ثبوت شئ لشيء - الذي هو عبارة عن الكون الرابط - لا
ينافي مع عدم تحقق المحمول ووجوده خارجا، وهذا نظير ما يقال: إن القضية
الشرطية لا تستلزم صدق الطرفين.
ولا يخفى: أن الإشكال غير تمام في نفسه، وما أجيب عنه غير صالح
للجواب:
أما الإشكال: فإنما يتوجه لو كان معنى المشتق معنى تصديقيا حاكيا عن واقع
ثابت، وأما لو كان مفهومه معنى تصوريا فلم يكن فيه حكاية عن الواقع الثابت.
وبعبارة أخرى: لو كان مفهوم المعدوم أو الممتنع ذات ثبت له العدم أو
الامتناع يمكن الإشكال في " زيد معدوم " و " شريك الباري ممتنع "؛ بأن الحكاية -
وهي ثبوت العدم والامتناع لزيد وشريك الباري - تقتضي ثبوت المثبت له؛ فيلزم
انقلاب العدم إلى الوجود، والامتناع إلى الإمكان.
وأما لو كان مفهوم المشتق معنى تصوريا - كما هو الحق، وسنبينه في كيفية
بساطة المشتق - فلا يحكي عن ثبوت شئ حتى يشكل؛ فإنه على هذا لا يزيد
تصور مفهوم " ضارب " مثلا على تصور " زيد "، فكما لا يكون في " زيد " حكاية
تصديقية حتى يكون فيها صدق وكذب، فكذلك في مفهوم " الضارب " - وهو العنوان
الذي لا ينطبق إلا على المتلبس بالفعل - لأن هذا العنوان عنوان تصوري تركيبي،
ك‍ " غلام زيد " مثلا؛ فكما لا يكون ل‍ " غلام زيد " مطابق يحكيه، فكذلك في
" ضارب ".
فتحصل: أن منشأ الإشكال هو توهم أن المشتق وضع لمعنى تصديقي. وقد
عرفت: أن الموضوع له هو المعنى التصوري التركيبي، وأما إثبات العدم والامتناع
للموضوع في القضايا التصديقية فإشكال آخر على حدة سندفعه قريبا إن شاء الله.
مع أنه لو كان المشتق موضوعا لمعنى تصديقي لا يختص الإشكال بصورة
كونه
69

موضوعا للمتلبس بالمبدأ، بل يجري ولو كان موضوعا للأعم أيضا، كما
لا يخفى.
وأما عدم صلاحية ما أجيب للجواب؛ فلأنه لو كان مفهوم المشتق معنى
تصديقيا لا يصلح للجواب عنه؛ لأن ثبوت شئ لشيء فرع ثبوت المثبت له؛ فلابد
من تحقق الشيئية له، والمحمول يفيد انعدام الموضوع وامتناعه؛ أي يدل على أنه لم
يكن في القضية في الواقع ونفس الأمر موضوعا، فتدبر.
كلمة نفيسة: في مفاد قضية «شريك الباري ممتنع»
وحيث انجر الكلام إلى هنا لا بأس بصرف عنان البحث إلى تنقيح مسألة
أخرى؛ لمناسبة اقتضت في البين؛ وهي أنه أشكل على بعض أرباب المعقول: بأن
الحمل في قولنا: " شريك الباري ممتنع " مثل قولنا: " الله تعالى موجود " حمل شائع،
ولابد في الحمل الشائع من الاتحاد الوجودي بين الموضوع والمحمول، والاتحاد
يتوقف على وجود الموضوع والمحمول خارجا، والمفروض عدم تحقق الموضوع
هنا.
فيلزم في قضية " شريك الباري ممتنع " أحد أمرين: إما انقلاب القضية
الممتنعة إلى الممكنة، أو كون القضية كاذبة، ودون إثباتهما خرط القتاد.
فأجابوا أصحاب الفن: بأن القضايا على قسمين: بتية، وغير بتية:
والقضايا البتية: هي التي لها واقعية تحكي عنها؛ إما خارجية، كقولك: " زيد
موجود "؛ فإنه قضية تحكي عن اتحاد الوجود مع زيد خارجا، أو ذهنية، كقولك:
" الإنسان نوع "؛ فإنه حيث إنه لم يكن للنوع خارجية فظرف اتحادها مع الإنسان
إنما هو في الذهن، فتحكي هذه القضية عن أمر له نفس أمرية.
وأما القضايا غير البتية: فهي التي لا تكون لها مطابق؛ لا في الخارج، ولا في
الذهن.
ومعنى عدم البتية: هو أن النفس بواسطة القدرة التي فوضت إليها يمكنه
فرض شئ لم يكن موجودا، ويخبر عن ذات باطلة.
70

وقضية " شريك الباري ممتنع " من هذا القسم؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن
الامتناع بلحاظ مفهوم " شريك الباري "؛ لقضاء البداهة بوجوده في الذهن، ولا
يكون للموضوع وجود في الخارج؛ فالإخبار فيها إنما هو بفرض النفس فردا
لشريك الباري في الذهن، ثم يحكم عليه بالامتناع خارجا.
وبالجملة: في القضايا غير البتية لا تحتاج إلى وجود الموضوع؛ لا في
الخارج ولا في الذهن، بل للنفس اختراع الموضوع.
أقول: ولا يخفى أن هذا الجواب غير وجيه؛ لأن هذه القضية إخبار عن
امتناع تحقق شريك الباري في متن الواقع.
وغاية ما تقتضيه القضية غير البتية: هي أن ما فرضته شريكا للباري تعالى
باطل وممتنع، والبرهان المقتضي لامتناع شريك الباري هو غير شريك الباري
المفروض؛ لأن المفروض منه غير ممتنع، فتدبر.
والذي يمكن الجواب به عن الإشكال: هو أن القضايا قد تكون موجبة صورة،
ولكنها في حكم السالبة لبا، وذلك مثل القضية المذكورة؛ فإن معنى الامتناع هو أنه
ليس بموجود البتة.
فكما لا نحتاج في القضية السالبة إلى وجود الموضوع، ويصح أن يقال: إن
شريك الباري ليس بموجود، وتكون القضية صادقة؛ لأن صدق القضية هو مطابقتها
للواقع، لا لما فرض أنه واقع، ومعلوم: أن في الواقع ونفس الأمر لا يكون الشريك
للباري تعالى موجودا، وإلا - والعياذ بالله - لو كان موجودا يكون قولك: " شريك
الباري ليس بموجود " قضية كاذبة.
فكذلك الكلام في القضايا التي تكون موجبة صورة، وسالبة لبا، كقولنا:
" شريك الباري ممتنع "؛ لما أشرنا: أن معناه ليس بموجود البتة، فافهم واغتنم.
71

الجهة العاشرة
في تحقيق الحال في المقام
وليعلم: أن من يرى كون المشتق للأعم من المتلبس بالمبدأ ومن انقضى عنه
إما يقول بوضعه لكل من المتلبس والمنقضي عنه بنحو الاشتراك اللفظي أو بنحو
الوضع العام والموضوع له الخاص، أو يقول بكون الوضع والموضوع له كليهما
عاما؛ أي يقول بالاشتراك المعنوي.
والظاهر: أن القائل بالأعم لا يقول بالأولين، بل يرى فسادهما؛ فيتعين طريق
إثباته بالوجه الأخير.
فعليه: لابد أولا من إثبات إمكان تصوير جامع بين المتلبس والمنقضي عنه،
بنحو يكون صدق الجامع على من انقضى عنه بعنوان تلبسه فيما انقضى، كصدقه
على المتلبس فعلا بعنوان أنه متلبس فعلا.
وبعبارة أخرى: لابد للأعمي من تصوير الجامع العنواني التصوري بين
المتلبس فعلا ومن انقضى عنه؛ بحيث يكون إطلاق المشتق على من تلبس بالمبدأ
وانقضى عنه فعلا كإطلاقه على المتصف به فعلا - سواء كان بلحاظ الحال أو
الاستقبال أو الماضي - فكما أنه يطلق على المتصف فعلا بالعلم عنوان العالم فلابد
وأن يصدق أيضا على من انقضى عنه العلم بلحاظ الانقضاء، كصدق مفهوم الإنسان
على كل من زيد وعمرو.
وأما مجرد إطلاق المشتق بلحاظ تلبسه فيما مضى عنه فلا؛ لأن القائل
بوضعه لخصوص المتلبس يرى " زيد قائم أمس " حقيقة.
والحاصل: أن الأعمي لابد له من تصوير جامع حقيقي أو انتزاعي؛ بحيث
يصدق على من انقضى عنه المبدأ بعنوان أنه انقضى عنه، وعلى المتلبس به بعنوان
أنه
72

متلبس به فعلا، ولا يصدق على من لم يتلبس بعد.
فإن أمكنه تصوير جامع ذاتي أو انتزاعي فيقع البحث في تبادر الأعم أو
خصوص المتلبس، وأما إن لم يمكنه تصوير الجامع الكذائي فيتعين القول بوضع
المشتق لخصوص المتلبس.
ذكر وتعقيب
يظهر من المحقق العراقي (قدس سره): أنه يمكن تصوير الجامع بين المتلبس
والمنقضي عنه على بعض الأقوال في المشتق، ولا يمكن تصويره على بعض آخر.
وذلك لأنه لو قلنا: إن المشتق موضوع لمفهوم مركب من الذات والمبدأ
والنسبة، أو قلنا بأنه موضوع للحدث المنتسب إلى الذات؛ بحيث تكون النسبة
داخله والذات خارجه، أو قلنا بأنه موضوع للحدث المنتسب إلى ذات ما بنحو
تكون الذات والنسبة معا خارجين عن مفهومه، ويكون الموضوع له عبارة عن
الحصة من الحدث المقترنة بالانتساب إلى ذات ما، فيمكن تصوير الجامع بين
المتلبس والمنقضي عنه.
وأما لو قلنا بأن مفاده الحدث الملحوظ لا بشرط، في قبال المصدر واسمه -
اللذين يكون مفادهما الحدث الملحوظ بشرط شئ - فيشكل تصوير الجامع.
أما إمكان تصوير الجامع على الأقوال الثلاثة الأول؛ فلأنه:
على الأول منها: يكون تصوير الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه في غاية
الوضوح؛ لأن مفهوم المشتق عليه عبارة عن الذات المنتسب إليها المبدأ نسبة ما،
ولا ريب أن هذا المفهوم قدر جامع بين المتلبس والمنقضي عنه؛ لانطباقه على كل
منهما بلا عناية.
وأما على القول الثاني: فلأن المشتق عبارة عن الحدث المنتسب - نسبة ما -
إلى ذات ما، وهو القدر الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه.
73

وأما على القول الثالث: فتصوير الجامع فيه نفس تصوره على القول الثاني.
غاية الأمر تكون النسبة على الثاني داخلة في المفهوم، وعلى القول الثالث خارجة
عنه، وخروجها لا يضر بتحديد المفهوم.
هذا كله على الأقوال الثلاثة.
فظهر: أن إمكان تصوير الجامع على القول الثاني والثالث بمكان من
الإمكان، فضلا عن القول الأول.
وأما وجه إشكال التصوير على القول الرابع - وهو كون المشتق عبارة عن
الحدث الملحوظ لا بشرط - فلعدم إمكان تصوير الجامع بين وجود الشيء وعدمه،
انتهى ملخصا (1).
أقول: فيما أفاده نظر:
فأولا: أنه لا يمكن تصوير الجامع الذاتي بين المتلبس والمنقضي؛ بداهة أنه
لا جامع بين الواجد والناقد، والموجود والمعدوم.
بل لا يمكن تصوير الجامع العنواني والانتزاعي أيضا؛ بحيث يشمل ما تلبس
بالمبدأ وما انقضى عنه بحيثية واحدة ومعنى فارد، بل صدق العنوان على المتلبس
بحيثية غير ما يصدق على المنقضي عنه.
ولا فرق في ذلك بين كون المشتق حدثا لا بشرط وبسيطا، وبين أحد
الأقوال الثلاثة، كما لا يخفى على المتأمل. فليت هذا المحقق لم ينحصر وجه عدم
صحة تصوير الجامع بالقول الرابع، بل يعمم سائر الأقوال؛ لاشتراك الكل من تلك
الجهة.
بل ولا فرق بين أخذ النسبة قيدا وجزءا؛ فما قاله (قدس سره): إنه على تقدير كون
النسبة جزءا في كمال الوضوح لا يخلو عن تأمل، فتدبر.
وثانيا: لو صح تصوير الجامع لكن لا يصلح ما ذكره جامعا لذلك؛ لأنه إما

1 - قلت: أورده (قدس سره) في مقام الاستدلال لمرامه؛ ردا على مقالة بعض الأعاظم (قدس سره)، لاحظ
بدائع الأفكار: 1 / 188. [المقرر حفظه الله].
74

يريد بالانتساب الانتساب الفعلي، فينطبق على مذهب الأخص؛ وهو كون
المشتق حقيقة في المتلبس فعلا.
وإن أراد غير المتلبس فعلا فهو خلاف ما يقصده؛ من كون المشتق حقيقة فيه
أيضا.
وإن أراد انتساب ما فلا يكون جامعا لخصوص المتلبس والمنقضي عنه، بل
يشملهما وما لم يتلبس بعد، وهو خلاف ما يقصده أيضا، مع أنه لم يقل به أحد.
وإن أراد ما خرج من العدم إلى الوجود فيستلزم كونه حقيقة في من انقضى.
وإن أراد مطلق الخروج من العدم إلى الوجود فيشمل ما يتلبس بعد.
وإن أراد الخروج الفعلي فلا يثبت المقصود أيضا.
فتحصل مما ذكرنا كله: عدم إمكان تصوير جامع للمتلبس بالمبدأ والمنقضي
عنه المبدأ، فتدبر.
الجهة الحادية عشر
فيما استدل به لكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس
التبادر وصحة السلب
إذا تمهد لك ما أشرنا إليه في الحرمة السابقة - من عدم إمكان تصوير جامع
بين المتلبس بالمبدأ ومن انقضى عنه - ظهر لك: أن مقتضى القاعدة أن يكون
المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ.
ولا يحتاج إلى تجشم الاستدلال للدلالة على خصوص المتلبس بالتبادر؛
لأن ذلك بعد إمكان دعوى الأعم، وقد عرفت عدم إمكان تصوير الجامع.
نعم، لو سلم إمكان دعوى الأعم فالتمسك بالتبادر وجيه، بل هو الدليل
75

الوحيد في إثبات المعاني اللغوية. والمتبادر من المشتق خصوص المتلبس
منه؛ بداهة أن المتبادر من " زيد عالم " تحقق مبدأ العلم فيه فعلا. ولا يصدق عليه لو
كان متلبسا به وانقضى عنه، إلا عناية ومجازا.
وربما يستدل لذلك: بصحة السلب عن من انقضى عنه، وصحة الحمل
للمتلبس به.
ولكنه غير وجيه؛ لأنه إما ساقط، أو مسبوق بالتبادر، كما عرفته بما لا مزيد
عليه في باب تشخيص المعنى الموضوع له.
وقد أسمعناك: أن البحث في المشتق بحث لغوي، وفي مفهومه التصوري؛
فالاستدلال لإثبات المدعى بالوجوه العقلية وبالجري والإطلاق انحراف للمسألة
عن مسيرها؛ بداهة أنه لا محذور عقلا في وضع المشتق للأعم من المتلبس بالمبدأ
على من انقضى عنه وما يتلبس بعد، ويكون محل البحث والنزاع في مفهومه
التصوري. نعم تكون تلك الوجوه مؤيدات لإثبات المطلب.
وبالجملة: الدليل الوحيد اللائق بالبحث في إثبات المعاني الحقيقية هو
التبادر. والوجوه العقلية إن كانت تقريبات للتبادر فوجيه، وإلا فغير سديد.
فلا بأس بذكر تلك الوجوه التي استدلت لكون المشتق حقيقة في المتلبس
فعلا، والإشارة إلى ما فيها.
الوجه الأول
إنه لا شبهة في أن العناوين المشتقة من المبادئ المتضادة - كالقيام والقعود،
والسواد والبياض مثلا - متضادة في نظر العرف؛ بحيث يرون امتناع اجتماعها في
موضوع واحد في وقت واحد.
فإذا أخبر أحد عن زيد - مثلا - بكونه قائما، وآخر بأنه قاعد في وقت واحد،
يرون هذين الخبرين متنافيين لا يمكن تصديقهما، وما ذاك
76

إلا لاعتقادهم بكون مدلول هذه العناوين هو المتلبس بالمبدأ الذي اشتقت
منه (1).
وفيه: أنه إن أراد بذلك: أنه حيث يكون المنسبق من عنوان " القائم " مثلا
المتلبس بالقيام الفعلي، وكذا من عنوان " القاعد " المتلبس بالقعود فعلا، يفهم العرف
التضاد بينهما. وإن لم يفهم منهما المتلبس بالقيام أو القعود الفعلي لم يكن بينهما
تضاد؛ لأن التضاد في كيفية القيام والقعود الواقعيين، فهو خارج عن مسألة المشتق.
وإن أراد: أن المشتقات الحاكية عن تلك الكيفيات بحسب ارتكاز العرف
والعقلاء يكون بينهما تضاد؛ بحيث لو أخبر أحد بأن زيدا قائم في وقت، وشخص
آخر بأنه قاعد في ذاك الوقت يكون إخبارا بالضدين، فكلام صحيح لا غبار عليه.
لكنه تمسك بالتبادر لا بشيء آخر؛ لأنه حيث يتبادر من " القائم " من له القيام، ومن
" القاعد " من له القعود، لذلك يكون بينهما تضاد، وإلا فلا.
الوجه الثاني
إن صحة انتزاع عنوان عن موضوع، وصحة حمله وجريه عليه لابد وأن
يكون لخصوصية وحيثية موجودة في الموضوع، وإلا لصح انتزاع كل عنوان ومفهوم
من كل موضوع، وحمل كل عنوان ومفهوم على كل شئ، وهو خلاف الضرورة.
فمدعي كون المشتق موضوعا للأعم: إما ينكر أن انتزاع عنوان من موضوع
وحمله عليه لا يحتاج إلى حيثية وخصوصية، وقد عرفت كونه مخالفا للضرورة. أو
يقول: إنه يكفي في الانتزاع والجري في الأمور الاعتبارية مجرد صدق الحيثية
والخصوصية - وإن لم يكن باقيا - وهو أيضا خلاف الضرورة.

1 - استدل المحقق العراقي (قدس سره) فيما أحضره عجالة بهذا الوجه؛ ولذا نقلنا عين عبارته التي استدل
بها، لاحظ بدائع الأفكار 1: 183.
77

وفيه: أن هذا تمام في الأمور الواقعية، ويكون وجها عقليا لها؛ بداهة أنه إذا
لم يكن زيد - مثلا - واجدا لمبدأ العلم لا يصح صدق العالم وإطلاقه عليه حقيقة،
ولكن هذا لا يوجب امتناع إطلاق لفظ المشتق وجريه على من انقضى عنه؛ لإمكان
وضع اللفظ لمعنى أعم، ولا يلزم من الوضع لذلك محذور.
مع أنه لنا ألفاظ موضوعة لمعاني متضادة، كلفظ " القرء " للطهر والحيض.
وغاية ما يمكن أن يقال هنا: إن المتبادر من صحة انتزاع عنوان من موضوع
وجريه عليه هو فعلية الحيثية والخصوصية في الموضوع، وهو تمام لا غبار عليه،
لكنه تمسك بالتبادر، لا بشيء آخر (1).
الوجه الثالث
ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) من أن مفهوم الوصف بسيط؛ إما على ما يراه
المحقق الدواني من اتحاد المبدأ والمشتق ذاتا واختلافهما اعتبارا، أو على نحو آخر
على ما يساعده النظر من كون مفهوم المشتق صورة مبهمة متلبسة بالقيام على النهج
الوحداني. ومع البساطة بأحد الوجهين لا يعقل الوضع للأعم، ثم أخذ في
الاستدلال على الامتناع (2).
وفيه: أنه - كما سنشير إليه قريبا إن شاء الله - أن مسألة بساطة المشتق
وتركبه ليست عقلية، والوجوه التي أقيمت لبساطته مخدوشة. بل مسألة لغوية تابعة
لوضع المشتق لمعنى بسيط أو مركب، وقد أشرنا أن الطريق الوحيد لإتيانه التبادر.
فتحصل مما ذكرنا: أن هذه المسألة لغوية راجعة إلى مفهوم اللفظ، والدليل
الوحيد في إثبات الأوضاع والمعاني اللغوية هو التبادر، لا العقل.

1 - قلت: مضافا إلى محل البحث، كما أفاده سماحة الأستاذ - دام ظله - في الدورة السابقة في
لفظة المشتق ومعناها التصوري الإفرادي، فالحمل والجري متأخران عن الوضع، فتدبر.
2 - نهاية الدراية 1: 194 - 195.
78

وغير خفي على من لاحظ المشتقات نفسها - من دون كونها محكومة عليها
أو بها - يرى أن تلك الماهيات لأجل تلاعب المواد وتشكلها بها، فهيئات المشتق
مورد تلاعب المادة بها وتلبسها بها. والإنصاف تبادر التلبس الفعلي منها، لا الأعم،
على فرض تصوره.
والاستدلال بالوجوه الفعلية بمراحل عن الواقع، إلا أن يكون المقصود منها
تقريبات لإثبات التبادر، والله العالم.
ذكر ودفع: في التفصيل بين هيئة اسم المفعول وغيرها
قد يفصل بين هيئة اسم المفعول وبين غيرها؛ فيقال: إن التبادر من اسم
المفعول الأعم، بخلاف غيره فإنه لخصوص المتلبس.
وكأن هذا صار سببا لإخراج بعض الأعاظم (قدس سره) اسم المفعول عن محل
النزاع؛ حيث قال: إنه موضوع لمن وقع عليه الفعل، وهو أمر باق لا يعقل الانقضاء
فيه (1).
وفيه: أن الفاعلية والمفعولية كالضاربية والمضروبية متضائفان، فلا يكاد
يفرق بينهما مع أنه لو كان معنى اسم المفعول ما ذكره فنقول: إن اسم الفاعل موضوع
لمن صدر عنه الفعل، وهو أيضا أمر باق لا يعقل فيه الانقضاء.
والظاهر: أن منشأ هذا الكلام وأمثاله انحراف المسألة عن مسيره، والتكلم
فيها فيما هو خارج عن محل النزاع؛ وذلك لأنه - كما ذكرنا غير مرة - أن محل
النزاع معانيها التصورية اللغوية، وما ذكره هذا القائل إنما هو ملاحظة معانيها
التصديقية.

1 - أجود التقريرات 1: 83 - 84.
79

وواضح: أن مفهوم المضروب - مثلا - لم يكن من وقع عليه الضرب؛ لأنه
معنى تصديقي، كما أن الضارب أيضا ليس معناه من صدر عنه الضرب لذلك، بل
معنى الضارب سنخ معنى تصوري يعبر عنه بالفارسية ب‍ " زننده "، كما أن المضروب
سنخ معنى يعبر عنه بالفارسية ب‍ " زده شده " فتدبر.
تذييل
فيما يستدل به لكون المشتق موضوعا للأعم
قد تمهد لك مما تقدم: أنه لا وقع لدعوى وضع المشتق للأعم؛ إما لعدم
الالتزام بالاشتراك اللفظي بينهما، أو لعدم كون الوضع عاما والموضوع له خاصا، أو
لعدم إمكان تصوير جامع ذاتي أو انتزاعي بين المتلبس والمنقضي عنه.
ولكن - مع ذلك - لا بأس بذكر بعض ما استدل به لذلك على فرض إمكان
تصوير الجامع بين المتلبس والمنقضي عنه، والإشارة إلى الخدشة فيه:
قد يستدل (1) لكون المشتق حقيقة في الأعم بقوله تعالى: (السارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما...) الآية (2)، وقوله تعالى: (الزانية والزاني
فاجلدوا...) الآية (3).
بتقريب: أن القطع والجلد إنما هما ثابتان للسارق والزاني بعد ارتكابهما
السرقة والزنا؛ فلو كان المراد بهما السارق والزاني الفعليين فلابد وأن لا يقطع يد من
سرق شيئا إلا حين ارتكابه للسرق، ولا يجلد إلا من كان مباشرا للعمل الشنيع، مع
أن القطع والجلد ثابتان لهما بضرورة من الدين بعد ارتكابهما؛ فينكشف هذا عن
كون المشتق للأعم من المتلبس الفعلي ومن انقضى عنه.

1 - أنظر هداية المسترشدين: 84 / السطر 21.
2 - المائدة (5): 38.
3 - النور (24): 2.
80

وفيه: أنه من عجيب الاستدلال؛ ضرورة أن القائل بوضع المشتق لخصوص
المتلبس يرى جواز استعماله في الأعم إذا كانت هناك قرينة عليه، والضرورة من
الدين على ثبوت الحد على من ارتكب السرقة أو الزنا، وإن لم يكن متلبسا به.
وكذا مناسبة الحكم والموضوع تقضي بذلك أيضا؛ لأن المفهوم من هذه
الأحكام السياسية في الشريعة المقدسة هو أن العمل الخارجي موجبا للسياسة، لا
صدق العنوان الانتزاعي؛ فالسارق يقطع يده لأجل سرقته، والزاني يجلد لزناه، وفي
مثل ذلك يكون " السارق " و " الزاني " إشارة إلى من هو موضوع للحكم مع التنبيه
على علته؛ وهو العمل الخارجي، لا العنوان الخارجي.
وإن شئت قلت: إن المراد ب‍ " السارق والسارقة " أو " الزانية والزاني " بمعونة
القرينة من صدر عنه السرقة أو الزنا، وهو عنوان باق لا تصرم فيه، نظير ما يقال
- كما تقدم - إن المراد باسم المفعول من وقع عليه الفعل، فتدبر.
ومما ذكرنا يظهر: ضعف استدلال الأعمي لمدعاه باستدلال الإمام (عليه السلام) بقوله
تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) (1) على عدم لياقة من عبد صنما لمنصب
الإمامة؛ ردا على من تصدى لها وتقمصه، مع كونه عابدا للصنم مدة، بزعم أنهم غير
عابدين للصنم حين التصدي (2).
توضيح الضعف: هو أن المراد بالظالم في الآية الشريفة - بمعونة القرينة - من
صدر عنه الظلم، وهو عنوان باق لا تصرم فيه.
مضافا إلى وجود القرينة على إرادة الأعم؛ وذلك لأن منصب الإمامة
والزعامة

1 - البقرة (2): 23.
2 - أنظر مفاتيح الأصول: 18 / السطر 11، كفاية الأصول: 68.
81

والسلطنة على النفوس والأعراض والأموال منصب جليل، لا يكاد تنالها ولا
يصح إشغالها إلا من امتحنه الله بشدائد وكان معصوما من الزلل والخطأ.
بل لم تعط ذلك المنصب الرفيع لكل معصوم، بل للأوحدي منهم؛ ولذا لم يعط
إبراهيم (عليه السلام) - مع عصمته ورسالته وخلته - إلا بعد ابتلائه بالامتحانات والابتلاءات
العظيمة في أخريات عمره المبارك.
فمناسبة الحكم والموضوع وسوق الآية الشريفة تشهدان بأن الظالم - ولو آنا
ما - والعابد للصنم - ولو آنا ما من الزمان - غير لائقين لمنصب الإمامة، فما ظنك
في من عبد الصنم مدة (1).
أضف إلى ذلك: أن الاستدلال بالآية الشريفة لا تزيد عن دائرة الاستعمال،
وقد قرر في محله: أنه أعم من الحقيقة، فتدبر.

1 - يعجبني ذكر تقريب لطيف موجز لدلالة الآية المباركة على عصمة الإمام، أفاده بعض
أساتذة أستاذنا العلامة الطباطبائي قدس سره وهو الحكيم المتأله السيد حسين البادكوبئي، وهو أن
الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: 1 - من كان ظالما في جميع عمره، 2 - ومن
لم يكن ظالما في جميع عمره، 3 - ومن هو ظالم في أول عمره دون آخره، 4 - ومن هو
بالعكس، وإبراهيم عليه السلام أجل شأنا أن يسئل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته، فيبقى
قسمان وقد نفى الله تعالى أحدهما، وهو الذي يكون ظالما في أول عمره دون آخره، فبقي
الآخر وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره [1]، انتهى. [المقرر حفظه الله].
[1] راجع الميزان 1: 274.
82

الجهة الثانية عشر
في بساطة المشتق وتركبه
اختلفوا في أن مفهوم المشتق هل هو بسيط محض لا يقبل الانحلال إلى
الأجزاء، أو مركب حقيقي، نظير " غلام زيد " في الدلالة على معنيين متميزين - من
الذات والحدث والنسبة، أو الحدث والنسبة، أو الحدث والذات - أو بسيط قابل
للإنحلال؟ وجوه، بل أقوال.
ومنشأ الاختلاف الكذائي في المشتقات دون الجوامد بلحاظ اشتمال
المشتق على المادة والهيئة الموضوعتين كل واحدة منهما لمعنى؛ فتوهم بعض: أن
لكل منهما دلالة مستقلة على معناه.
ولكن يمكن أن يقال: إن الهيئة وضعت لتهيؤ المادة بها، لا لإفادة المعنى.
وبعبارة أخرى: المادة موضوعة لنفس الحدث، وهو غير قابل للحمل
ومتعص إياه. والهيئة وضعت لتصحيح الحمل ورفع تعصي الحمل، لا لإفادة معنى
آخر، كما احتملناه في هيئة المصدر بأنها وضعت للتمكن من التنطق بالمادة.
ولذا ذهب بعض بأن مادة المشتقات أخذت بشرط لا وهيئتها لا بشرط؛
فصار الالتزام بذلك سببا للقول ببساطة المشتق.
ثم إنه ذهب ثالث إلى أمر متوسط بين المذهبين؛ وهو أن المشتق وضع
لمعنى واحد انحلالي.
لا نظن: وجود قائل بكون المشتق موضوعا لمعنى تركيبي بأحد الوجوه
الثلاثة - من الذات والحدث والنسبة، أو الحدث والنسبة، أو الحدث والذات - ومن
قال بالتركيب فمراده التركيب الانحلالي، نظير انحلال الجسم في التعمل العقلي إلى
الهيولى
83

والصورة؛ فكما أن الجسم ينحل إليها بالنظر العقلي فكذلك المشتق ينحل
إليها.
فعلى هذا: تكون المسألة ذات قولين: أحدهما البسيط غير القابل للإنحلال،
والثاني: البسيط القابل لذلك.
بل يمكن أن يقال: إن في المسألة في الواقع ونفس الأمر قولا واحدا؛ وهو
البسيط الانحلالي؛ لأن مرجع القول بالبساطة المحضة إلى الانحلال عقلا - وإن
غفل قائله عنه - وذلك لأن اللا بشرطية وبشرط اللائية الموجودة في الهيئات
والأجناس والفصول لم يكن اعتباريا تخيليا وجزافا صرفا؛ بحيث تكون زمام
أمرها بيد المعتبر؛ إن شاء اعتبر الشيء بشرط لا حتى تعصي عن الحمل، وإن شاء
اعتبره لا بشرط فيصح الحمل.
وذلك لأنه يعتبر في الحمل الاتحاد بين الموضوع والمحمول بحسب الواقع
ونفس الأمر، لا مجرد الاعتبار. بل جميع المعقولات الثانوية التي اعتبرها
المنطقيون تكون صورة ومرآة لإرائة الواقع على ما هو عليه.
فظهر: أن ما يظهر من بعضهم في تفسير اللا بشرطية والبشرط اللائية بغير ما
ذكرنا خال عن التحقيق، فتدبر.
نعم، توجد اللفظين في عبارات أهل المعقول، ومراد محققيهم غير ذلك.
والتعرض حوله وتبيين الأمر في ذلك وإن كان خارجا عما نحن بصدده إلا أنه حيث
أورث عدم فهم مغزى المراد من اللفظين اشتباهات في موارد كثيرة فلا بأس
بالإشارة الإجمالية إلى مغزى المراد؛ لكي ينفعك - إن شاء الله تعالى - فنقول:
فائدة نفيسة
لو ثبت الهيولى الأولى - كما هو مذهب المشائين - وأنها هي التي تتصور
بصور العنصرية والنباتية والحيوانية والإنسانية، وتتحد مع كل صورة؛ اتحادا حقيقيا:
فقد تقف عند صورة ولا تتعديها.
84

وقد لا تقف عندها، بل تندرج في طريق الاستكمال بالحركة الجوهرية، إلى
أن يفاض عليها صورة أخرى، فيقف عند الصورة النباتية.
وقد تتجاوزها إلى صورة الحيوانية، فتقف عندها.
وقد لا تقف عندها أيضا، بل تفيض عليها صورة الإنسانية التي ينتهي إليها
العالم الطبيعي، وهي أكمل الموجودات الكونية؛ ولذا كان الإنسان أشرف
المخلوقات الكونية.
ولعل المراد بقوله تعالى: (خلق الإنسان ضعيفا) (1) هو أنه كان الإنسان في
ابتداء أمره وخلقه هيولى صرفة وقوة محضة، فقد رقيت في طريق الاستكمال وقطع
المنازل، إلى أن أفيضت عليه صورة الإنسانية.
والحاصل: أن الهيولى قد تقطع جميع المراحل والمنازل الطبيعية بالحركة
الجوهرية، وتصل إلى صورة لا تكون فوقها صورة طبيعية - وهي الصورة
الإنسانية - وقد تقف دونها فقطعها المراحل طويل وقصير.
فلو أريد: حكاية الواقع وإراءته على ما هو عليه فالحاكي عما لا تقف
بصورة، بل لا بشرط عن تطورها وتصورها هو اللا بشرط. والحاكي عنها بلحاظ
وقوفها بصورة يقال لها بشرط لا.
فظهر: أن العناوين والمفاهيم هي ترسيم الواقع وتبيين صورته؛ فالعنوان
الحاكي عما هو الساري اللا بشرط عن تصورها بصورة يعبر عنها ب‍ " اللا بشرط "،
والحاكي عنه بلحاظ وقوفها عند صورة " بشرط لا ".
فاللا بشرطية أو البشرط اللائية تابعة للواقع وحاكية عنه. فالأجناس
والفصول مأخذهما المادة والصورة المتحدتان في نفس الأمر.

1 - النساء (4): 28.
85

إذا تمهد لك ما ذكرنا: ففيما نحن فيه - أي في العناوين الاشتقاقية - لا تكون
الماهية مصححة للحمل بمجرد اعتبار المعتبر اللا بشرط جزافا، بل إنما هو لأجل
أنها حاكية لحيثية بها صار المشتق قابلا للحمل، بعدما كان نفس الحدث غير قابل
له وغير متحد مع الذات في نفس الأمر.
فصحة الحمل وقابليته في المشتق تابعة لحيثية زائدة على نفس الحدث
المدلول عليه بالمادة.
فتحقق: أنه يكون لكل من المادة والهيئة معنى غير ما للآخر: أما المادة
فدلالتها على نفس الحدث، والهيئة فتدل على معنى آخر به صار مستحقا للحمل،
وهذا غير التركيب الانحلالي.
فظهر بما ذكرنا كله: أن القول بكون المشتق بسيطا محضا لا يقبل الانحلال
ساقط، كما أن القول بكونه مركبا تركيبا نظير تركيب " غلام زيد " باطل.
فالحق: أن في المسألة في الواقع ونفس الأمر قولا واحدا؛ فمن قال بالبساطة
الحقيقية أو قال بالتركيب الحقيقي فقد أخطأ، فتدبر.
فبعد أن ظهر لك أن مفهوم المشتق واحد انحلالي: يقع الكلام في أنه هل
ينحل إلى الذات والحدث والنسبة، أو الحدث والنسبة، أو النسبة والذات؟ فنقول:
اختار المحقق العراقي (قدس سره) - بعد ذكر أقوال في المسألة، وأنهاها إلى أربع (1) -
أن المشتق عبارة عن الحدث المنتسب إلى ذات ما؛ بمعنى أن الحدث

1 - قلت: الأقوال التي ذكرها عبارة عن:
أ - كون المشتق مركبا من الذات والحدث والنسبة.
ب - وكونه الحدث المنتسب إلى ذات ما؛ أي الحدث والنسبة.
ج - والحدث حين انتسابه إلى الذات؛ أي الحصة من الحدث.
د - الحدث الملحوظ لا بشرط، في قبال المصدر واسمه، الذين يكون مفادهما الحدث الملحوظ
لا بشرط. [المقرر حفظه الله].
86

ونسبته يكونان مدلولين للفظ المشتق. وأما دلالته على الذات المنتسب إليها
المحدث فبالملازمة العقلية.
واحتج لمقاله بأمرين:
الأول: أن المتبادر من لفظ المشتق هو المبدأ المتحد مع الذات.
والثاني: أن المشتق له مادة وهيئة، وكل منهما موضوع للدلالة على معنى
غير ما للآخر. والمادة تدل على المبدأ، والهيئة تدل على انتساب مدلول المادة إلى
ذات ما.
ثم أورد على نفسه: بأنه يمكن أن يقال: إن الهيئة دالة على الذات المنتسب
إليها المبدأ.
فأجاب: بأن ما ثبت بالاستقراء والفحص في اللغة العربية أن الهيئات التي
تدل على معنى ما دائما يكون مدلولها شيئا من النسب التي تلحق المعاني الاسمية،
وهذا الاستقراء يوجب القطع بكون هيئة المشتق لم تشذ عن طريقة أمثالها بالوضع
للدلالة على معنى اسمي مستقل، فلم يبق في البين ما يدل على الذات.
ونتيجة جميع ذلك: هو أن المشتق يدل على المبدأ المنتسب إلى ذات ما
بالمطابقة، وعلى الذات بالاستلزام العقلي، انتهى (1).
أقول: لا يخفى أن مراده (قدس سره) بقوله: " إن الهيئة دالة على انتساب مدلول المادة
إلى ذات ما " هو الحدث المنتسب، ففي العبارة قصور، فتدبر.
وكيف كان: يرد على ما أفاده:
أولا: أن ما ذكره أولا غير مطابق لمدعاه؛ لأن مدعاه: هو أن المشتق دال
على الحدث المنتسب؛ بحيث تكون النسبة والحدث مدلولي اللفظ، وأما الذات
فمدلول عليها بالعقل. وما ادعاه هو تبادر المبدأ المتحد مع الذات من لفظ المشتق،
وواضح: أن اتحاد المبدأ مع الذات غير انتساب المبدأ معها، كما لا يخفى.

1 - بدائع الأفكار 1: 170.
87

وثانيا: أن الاستقراء على خلاف مراده أدل؛ وذلك لأن الهيئات على قسمين:
هيئة إفرادي، وهيئة جملي.
وواضح: أن هيئات المفردة على قسمين: إما فعل أو اسم، وما يدل على
الانتساب هو هيئتي الماضي والمضارع فقط، وهيئة الأسماء المشتقة عبارة عن
هيئة اسمي الفاعل والمفعول، واسمي الآلة والمكان، وصيغ المبالغة والصفة المشبهة،
إلى غير ذلك.
فإذا كانت هيئات المشتقات - التي هي محل النزاع - أكثر مما يدل على
الانتساب فكيف يصح إلحاق هيئات الأسماء المشتقة بهيئات الأفعال، ويقال: إن
مقتضى الاستقراء والفحص في اللغة تدل على أن الهيئات التي تدل على معنى ما
دائما يكون مدلولها شيئا من النسب؟!
وأما في هيئات الجمل: فقسم منها - وهو الكثير منها - لا تدل على النسبة
أصلا، بل تدل على الهوهوية والاتحاد، وهي غير النسبة، كما سبق.
والحاصل: أن ادعاء الاستقراء على أن الهيئات تدل على النسبة في غير
محله. والتبادر الذي ادعاه - مضافا إلى أنه على خلاف مدعاه - غير تام، فتدبر.
وثالثا: أنه إن أراد بقوله: " إن المشتق موضوع للحدث المنتسب " أنه موضوع
لمفهوم الحدث المنتسب فيلزم أن لا يكون فرق في المشتقات أصلا؛ لاشتراك الكل
في ذلك المفهوم؛ بداهة أن هذا المفهوم كما يصدق على اسم الفاعل - مثلا - كذلك
يصدق على اسم المفعول، من دون زيادة ونقيصة؛ فيلزم أن لا يكون بين اسمي
الفاعل والمفعول فرق، وهو كما ترى.
ولو قال: إن الفرق بينهما هو أن اسم الفاعل موضوع للحدث المنتسب إلى
الفاعل، واسم المفعول موضوع للحدث المنتسب إلى المفعول.
فهو كر على ما فر؛ لأنه (قدس سره) ذهب إلى أن مفاد المشتق الحدث المنتسب إلى
88

الذات؛ بحيث تكون الذات خارجة عن حريم الموضوع له، وإنما يدل عليه
المشتق بالملازمة العقلية.
وإن أراد بقوله ذلك: أنه موضوع لحصة من الوجود المشترك - كحيثية
الصدور من الفاعل، وحيثية الوقوع على المفعول، وهكذا - فنقول: إن الضرب الواقع
على شخص - مثلا - شئ واحد في متن الواقع، ولم يكن هناك بين الفاعل
والمفعول فرق، نعم الفرق بينهما اعتباري.
وذلك لأنه إن اعتبر تلبس ذلك الشيء بالفاعل تتحقق نسبة الصدورية، وإن
اعتبر تلبس ذلك بالمفعول تتحقق نسبة الوقوعية. كما أنه إذا لوحظ أصل النسبة
وواقعها لا يكون بين الفاعل والمفعول فرق، هذا.
ولكن يمكنه (قدس سره) أن يقول: إن الفاعل موضوع للنسبة الصدورية - أي دافع
تلك النسبة - لا مفهومها، والمفعول موضوع للنسبة الوقوعية كذلك؛ فأخذ الانتساب
إلى الصادر - أي واقع النسبة الصدورية - في مفهوم الفاعل وكذا أخذ واقع النسبة
الوقوعية في مفهوم المفعول؛ فحصل الفرق بينهما ذاتا.
ولكن على هذا: يدل المشتق على الذات؛ فلابد من أخذ الذات في المشتق،
فتدبر.
ورابعا: لو أمكنه أن يقول بالحدث المنتسب في مثل اسمي الفاعل والمفعول
فهل يمكنه أن يقول ذلك في اسم التفضيل والصيغ المبالغة؟! وهل ترى من نفسك أن
تقول: إن " أعلم " و " علام " تدلان على الحدث المنتسب؟!
حاشاك! بل الذي يفهم من " أعلم " هو معنى غير ما يفهم من " علام ".
وبالجملة: الدليل الوحيد في أمثال هذه المباحث هو التبادر، لا الوجوه
والبراهين العقلية، ومقتضى وجود هذه الاختلافات في المشتقات وصحة حمل
بعضها على بعض، وصيرورة بعضها مستندا إليه وبعضها مستندا به، إلى غير ذلك، هو
عدم كون مقتضاها الحدث المنتسب.
89

فالتحقيق أن يقال: إن المشتقات الاسمية - كأسماء الفاعل والمفعول والزمان
والمكان وغيرها - موضوعة لمعنى واحد قابل للانحلال إلى معنون وعنوان.
ولتوضيح ذلك ينبغي تقديم مقدمة: وهي أنه تارة يراد التعبير عن ذات
الشيء، للفظ الحاكي عنه اسم الذات كالجوامد. وأخرى يراد التعبير عن نفس اللفظ
الحاكي عنه اسم الوصف، ك‍ " الضرب " فإنه اسم لنفس الوصف من حيث هو هو.
وثالثة يراد الحكاية عن الذات بما أنها موصوفة بصفة.
فاللفظ الحاكي عن معنون هذا العنوان - لا مفهوم المعنون - هو المشتق؛ فإن
الضارب - مثلا - لفظ يحكي عن معنونية زيد - مثلا - وفاعليته بعنوان المادة التي
فيه - وهي الضرب - فالضارب - مثلا - يحكي عن المعنون بعنوان الفاعلية،
والمضروب يحكي عن المعنون بعنوان المفعولية، وهكذا...
فعلى هذا: لم تكن المشتقات أسام الذات، ولا أسامي الفعل والوصف، بل
للمعنون بالعنوان.
فأحسن التعبير الحاكي عن هوية حالها: ما هو المعروف بين أهل العربية؛
فإنهم يعبرون عن المعنون بعنوان الفاعلية باسم الفاعل، وعن المعنون بعنوان
المفعولية باسم المفعول، وهكذا اسمي الزمان والمكان وغيرهما؛ بداهة أن الضارب
- مثلا - اسم للمعنون بعنوان الفاعلية، لا الذات ولا العنوان، وهكذا المضروب
والمضرب.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا: يظهر لك لافرق بين الجامد والمشتق، ك‍ " الحجر "
و " الضارب " مثلا.
فإن لفظ " الحجر " بسيط؛ دالا ومدلولا ودلالة غير قابل للانحلال، وانحلال
الحجر إلى المادة والصورة إنما هو بلحاظ ذات الحجر وماهيته، لا للفظ الحجر.
وهذا بخلاف " الضارب " فإنه يفيد معنى واحدا قابلا للانحلال إلى المعنون
90

بعنوان الفاعلية - مثلا - ولذا يصح الحمل؛ لأن الحمل يحكي عن الاتحاد
والهوهوية في الواقع، والشيء المتحد مع الذات هو المعنون الذي إذا أريد التعبير عنه
في عالم التفصيل يقال: إنه ذات ثبت له كذا. وإلا لو كانت الذات مأخوذة في المشتق
أو كان مفاده الحدث المنتسب إلى الذات لا يصح الحمل.
فتحصل: أن الذي يقتضيه فهم العرف والعقلاء في هيئات المشتقات المفردة،
والمتبادر منها هو المعنون بعنوان؛ بداهة أن المتبادر من لفظ التاجر أو الضارب
- مثلا - هو المعنون بعنوان التاجرية أو الضاربية، القابل للانحلال إلى معنيين.
فكما أن المادة والصورة في المشتق كأنهما موجودان بوجود واحد فكذلك
في مقام الدلالة كأنهما دلالتان في دلالة واحدة.
فعلى ما ذكرنا: لا إشكال في المسألة من حيث كون المشتق محكوما عليه أو
به، فتدبر جيدا.
تقريب لبساطة المشتق
ثم إنه يحكى عن المحقق الشريف: أنه أقام برهانا على بساطة المشتق: بأنه
يمتنع أخذ الشيء والذات في المشتق؛ وذلك لأن المأخوذة فيه.
إما مفهوم الشيء، وهو عرض عام ولازمه أخذ العرض العام في الفصل في
قولك: " الإنسان ناطق "، فيدخل مفهوم الشيء في الناطق، الذي هو فصل تقوم
للإنسان ولا يعقل دخول العرضي في الذاتي.
أو ما صدق عليه الشيء؛ فيلزم انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية
في قولك: " الإنسان ضاحك "؛ فإن الشيء الذي به الضحك هو الإنسان، وثبوت
الشيء لنفسه ضروري؛ وذلك لأن المصداق الذي ثبت له الضحك في المثال ليس
هو إلا الإنسان. فيرجع الأمر في القضية الحملية إلى ثبوت الإنسان للإنسان، ومن
المعلوم
91

أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري، فينقلب القضية من الإمكان إلى الضرورة (1).
وفيه أولا: أنه لو تم ما أفاده فإنما يكون دليلا على عدم أخذ الذات في
المشتق، لا على باطنه؛ لأنه من الممكن أن يقال: إن مفاد المشتق الحدث المنتسب
إلى الذات، كما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره)، كما تقدم آنفا.
وثانيا: أنه إن أراد بقوله: " ذلك " أنه يلزم من ذلك دخول العرض العام في
الذاتي، والانقلاب في الواقع ونفس الأمر، فواضح أن مجرد أخذ الشيء معرفية
شئ لا يلزم أن يكون المعرف - بالفتح - كذلك، ولا يكون ذلك ممتنعا.
وبعبارة أخرى: لا يلزم من كون المشتق موضوعا لذات ثبت له المبدأ امتناع
ذاتي، والممتنع هو انقلاب الإمكان الواقعي إلى الضرورة، ودخالة العرضي في
الذاتي كذلك.
وغاية ما يتوجه على القائل بأخذ الشيء في مفهوم المشتق: هي عدم صحة
الحمل في " زيد ضاحك " مثلا، إلا بالتجريد، فيكون مرجع ما ذكره إلى أن ما قاله
المنطقيون والمتبادر عندهم هو عدم أخذ الذات في المشتق.
فالأولى في تقريب استدلاله أن يقال: إنه لو أخذ مفهوم الشيء والذات في
المشتق يلزم عدم صحة معرفية الناطق، الذي يكون فصلا مميزا. وإن أخذ ما صدق
عليه الذات يلزم أن لا تكون القضية موجهة بالإمكان أصلا، بل بالضرورة دائما.
فيرجع حاصل الكلام إلى التبادر، وهو: أنه لو كان مفهوم الشيء معتبرا في
المشتق يلزم أن لا يجعل المنطقي الناطق معرفا للإنسان. ولو اعتبر فيه ما صدق
عليه الشيء يلزم أن لا يوجه القضية بالإمكان. والتبادر قاض بصحة كليهما، فلم
تكن المسألة مبنية على الدليل العقلي، فتدبر.

1 - شرح المطالع: 11 / السطر الأول من الهامش. كفاية الأصول: 70 - 71، وبدائع الأفكار
، المحقق الرشتي: 174 / سطر 8.
92

وثالثا: أن غاية ما تقتضيه مقالته هي عدم أخذ الذات في المشتق، لا امتناع
جعل المشتق معرفا، مع أن المحذور الذي يلزم عليه يكون أشد من تركب المشتق.
وذلك لأن الناطق - مثلا - مشتق، وله مبدأ - وهو الحدث أو ما بحكمه - فلو جعل
معرفا لماهية جوهرية بما لها من المعنى يلزم أن يكون المعنى الحدثي من الجواهر،
وذلك لا يعقل.
وبالجملة: لو كان المشتق عبارة عن الحدث اللا بشرط - وقد يظهر منه
دخول الانتساب فيه - فالمحذور العقلي الذي توهمه على تقدير أخذ الذات في
المشتق يلزمه بنحو أشد؛ لأن المبدأ اللا بشرط من الأحداث، فلازم جعله معرفا
لماهية جوهرية هو كون الجوهر حدثا، وكون المعنى الحدثي من مقولة الجوهر،
وكلاهما غير معقولين.
والذي يسهل الخطب: عدم لزوم محذور عقلي وانقلاب واقعي لو أخذت
الذات في المشتق، بل غاية ما هناك هي كونها خلاف التبادر.
بل يمكن أن يقال - مع الغض عما ذكرنا - إن ما ذهبنا إليه - من كون المتبادر
من المشتق المعنى المبهم القابل للانحلال - أولى من كونه الحدث اللا بشرط؛ لأن
الحد ينبغي أن يكون تاما، وذلك إنما يكون إذا عرفت الهيئة على ما هي عليه في
نفس الأمر. فإن تخلف المعرف - بالكسر - عن إراءة الواقع في حيثية من الحيثيات،
وعدم معرفية الماهية - بالفتح - على ما هي عليها في الواقع، يكون حدا ناقصا، هذا.
وقد ثبت في محله: أن تركب الجنس والفصل اتحادي لا انضمامي؛ لأن
الهيولى الأولى - كما أشرنا آنفا - إذا انسلكت وتوجهت إلى كمالاتها تتوارد عليها
صور طولية - من الصور العنصرية والجمادية والنباتية والإنسانية - تكون في كل
مرتبة عين صورتها، لا أنها شئ انضم إليها الصورة.
وبعبارة أوضح: تتبدل القوة إلى الفعلية، لا أنها قوة انضمت إليها الفعلية.
93

وبالجملة: المادة الأولى هي الحصة المتبدلة إلى فعلية وصورة، ومنها إلى
فعلية وصورة أخرى، إلى أن تصل إلى صورة وفعلية لا تكون فوقها صورة، وهي
جامعة لجميع فعليات المراتب الأولية على نعت الجمعية والبساطة. فالإنسان هو
الموجود الفعلي الذي تبدل إليه الهيولى الأولى.
فحكاية الإنسان على ما هو عليه إنما يكون بحكاية الهيولى المتبدلة إلى
الصورة الإنسانية. والحاكية عن هذه هو الفصل التام - الذي عبارة عن الناطق - فإنه
الذي يحكي عن اتحاد المادة المبهمة مع الصورة والهيولى المتحصلة بصورة
الناطقية.
فالذات المبهمة أخذت على نحو الوحدة مع العنوان في المشتق، وواضح أن
هذا إنما يكون إذا كان المشتق هو المعنى المبهم القابل للانحلال، لا الماهية
اللا بشرط؛ فإنها لا تحكي الواقع على ما هو عليه؛ بداهة عدم حكايتها عن اتحاد
الهيولى مع الصورة، تدبر جيدا.
ثم إنه أضف إلى ما ذكرنا كله: أن الحق - كما عليه المحققون وثبت في محله -
أن الناطق - سواء أريد منه المتكلم أو المدرك للكليات - لا يصح أن يكون حدا
وفصلا مميزا للإنسان (1).
هذا كله بالنسبة إلى الشق الأول من كلامه؛ وهو لزوم أخذ العرض العام في
الفصل على تقدير أخذ مفهوم الشيء في المشتق.
وأما بالنسبة إلى الشق الثاني من كلامه؛ من انقلاب القضية الممكنة إلى
الضرورية على تقدير أخذ ما صدق عليه الشيء في المشتق.
ففيه أولا: كما أشرنا أنه لا يلزم من ذلك انقلاب مادة الإمكان إلى الضرورة
في الواقع ونفس الأمر، بل غايته كونه خلاف المتبادر منه.
وثانيا: أنه لا يكون ذلك على تقديره إشكالا عقليا في المسألة - كما هو
المدعى - بل خلاف التبادر.

1 - الحكمة المتعالية 2: 25 - 37، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 100.
94

وثالثا - وهو العمدة - أن الانقلاب إنما يلزم لو كانت الذات مأخوذة في
المشتق تفصيلا؛ بحيث يكون قولنا: " زيد ضارب " مثلا إخبارين: أحدهما الإخبار
عن كون زيد زيدا، وثانيهما الإخبار عن كونه ضاربا. وقد أشرنا أن التركيب في
المشتق انحلالي؛ فلا يلزم ذلك؛ لأن الضارب - مثلا - اسم فاعل حاك عن الفاعل
بما أنه فاعل، ولا يشك أن حيثية الفاعلية لا تكون ضرورية للإنسان.
ورابعا: لو سلم أخذ الذات في المشتق تفصيلا فإنما يلزم ذلك لو كان ذلك
إخبارين وقضيتين:
أحدهما ممكنة، والأخرى ضرورية. وأما إذا كان إخبارا عن الذات التي له
المبدأ - كما هو الظاهر - فلا تنحل إلى قضيتين خبريتين، بل قضية واحدة؛ ضرورة
أن القائل بأن زيدا شئ له القيام ما أخبر إلا عن ثبوت القيام له، لا عن شيئيته.
وخامسا: لو فرض أن ذلك إخباران وقضيتان: إحداهما ضرورية والأخرى
ممكنة فأين الانقلاب، فتدبر جيدا.
تقريب آخر لبساطة المشتق ورده
قريب من كلام المحقق الشريف في بساطة المشتق ما قاله بعض: بأنه لو كان
مفهوم الذات أو مصداقها مأخوذا في المشتق يلزم أن يكون قولك: " الإنسان شئ
أو ذات " بعد قولك: " الإنسان قائم " تكرار لها. كما أنه يلزم التناقض لو قلت بعدها:
" الإنسان ليس بشيء وذات ". مع أن الوجدان أصدق شاهد وحاكم بعدم لزومهما.
فيستكشف من عدم لزوم التكرار في الأول وعدم التناقض في الثاني عدم
أخذ الذات أو مصداقها في المشتق؛ فيكون المشتق بسيطا (1).

1 - فوائد الأصول 1: 106 - 107.
95

وفيه - مضافا إلى أنه كما أشرنا في رد دليل المحقق الشريف أنه لو تم يدل
على عدم أخذ الذات في المشتق لا إثبات البساطة، وإلى أن هذا في الحقيقة رجوع
إلى التبادر وتمسكا به، لا بدليل عقلي - أن التكرار والتناقض إنما يلزمان القول
بأخذ الذات أو مصداقها تفصيلا في المشتق؛ بحيث يكون هناك إخبارين وقضيتين.
وأما على المختار من أنه إخبار واحد؛ وهو الإخبار عن فاعلية الفاعل
- مثلا - لا عن شيئيته وفاعليته.
ولا يخفى: أنه لو رجع الأمر إلى التبادر فلا أظن أن من يسمع لفظ " التاجر "
أو " الضارب " ينقدح في ذهنه الحدث اللا بشرط - وإن كنت في شك من ذلك
فاختبر من نفسك - بل المنقدح في نفسه هو الأمر الواحد القابل للانحلال، كما
أشرنا، فتدبر.
إيقاظ
ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) بعدما ذهب إلى بساطة المشتق قال تحت
عنوان " إرشاد ": لا يخفى أن معنى البساطة بحسب المفهوم وحدته إدراكا وتصورا،
بحيث لا يتصور عند تصوره إلا شئ واحد لا شيئان، وإن انحل بتعمل من العقل إلى
شيئين، كانحلال مفهوم الشجر أو الحجر إلى شئ له الحجرية أو الشعرية، مع
وضوح بساطة مفهومهما (1).
ولك أن تستظهر من كلامه هذا ما ذهبنا إليه في المشتق من أنه موضوع
لمعنى واحد قابل للانحلال إلى شيئين. ولكن تشبهه (قدس سره) مفهوم المشتق بمفهوم
الشجر أو الحجر ربما يوهن الاستظهار؛ لأن انحلال الشجر أو الحجر إنما هو
بلحاظ ذاتهما لا للفظهما، بخلاف المشتق؛ فإن الانحلال فيه في مقام الدلالة، فتدبر.

1 - كفاية الأصول: 74.
96

الجهة الثالثة عشر
في الفرق بين المشتق ومبدئه
قد اشتهر بينهم: أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو أن المشتق قابل للحمل،
بخلاف مبدئه فإنه غير قابل له.
ولا يخفى: أن هذا أمر واضح لا يحتاج إلى الذكر. وما يحتاج إلى الذكر
ويكون عمدة ما في الباب هو بيان سر ذلك.
وممن أشار إلى ذلك الأمر البديهي المحقق الخراساني (قدس سره)؛ حيث قال: إن
الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما هو أنه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما
تلبس بالمبدأ، بخلاف المبدأ؛ فإنه يأبى عن ذلك، بل إذا قيس إليه كان غيره
لا هو هو (1)، انتهى ملخصا.
ولو اكتفى بهذا المقدار كان كلامه مجملا قابلا للحمل على الصحة، وإن لم
يكن مفيدا؛ لما أشرنا أن قابلية حمل المشتق ليست مجهولة، وكذا عدم قابلية حمل
المبدأ؛ فكان عليه بيان لمية قابلية حمل ذلك وعدم قابلية هذا.
ولكن قال بعد ذلك: وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول (2) في الفرق بينهما:
من أن المشتق يكون لا بشرط، والمبدأ يكون بشرط لا... إلى آخره (3).
وهو - مضافا إلى عدم انحلال العقدة به - غير صحيح في نفسه؛ لأن المبدأ
والمادة لابد وأن تكون موجودة في جميع المشتقات بتمامه وكماله، وإلا لم يكن ما

1 - كفاية الأصول: 74 - 75.
2 - الحكمة المتعالية 2: 16 - 46، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 99.
3 - كفاية الأصول: 74 - 75.
97

فرضت مادة مادة. فإذا وجد فيها يلزم الجمع بين المتباينين؛ لأن المبدأ -
حسب الفرض - كان بشرط لا، فكيف يطرأ عليه اللا بشرطية. ومقتضى كون
المشتق لا بشرط هي أنه لا يكون بحسب ذاته بشرط لا.
وبالجملة: إذا كانت المادة بشرط لا، وهي مأخوذة في المشتق اللا بشرط
يجتمع فيه المتنافيان؛ لاقتضاء أحدهما الحمل والآخر عدمه.
والقول بأن الهيئة تقلب المادة التي تكون بشرط لا إلى اللا بشرط، لا محصل
له.
نعم، إن أراد بذلك استعمال المادة في ضمن هيئة المشتق في الماهية
اللا بشرط مجازا وإن كان له معنى محصلا إلا أنه كر على ما فر، وهدم لدعوى الفرق
بين المبدأ والمشتق، كما لا يخفى.
وبالجملة: مبدأ المشتقات إن كان بشرط لا فلازمه أحد أمرين: إما كون
المشتقات بشرط لا وغير قابل للحمل إذا كان المبدأ موجودا فيها، أو عدم كون
المبدأ مبدأ للمشتقات، إذ لم يوجد المبدأ بتمامه فيها، وتجريد المبدأ عن بشرط
اللائية. وكلاهما خلاف الوجدان.
والتحقيق في الفرق بينهما هو أن يقال: إن مادة المشتقات ومبدأها موضوعة
لمعنى وعنوان مبهم من جميع الجهات، ولا تحصل لها أصلا، وتحصلها إنما تكون
بمعاني الهيئات. كما أن نفس المادة ولفظها أيضا مبهم كذلك، وتحصلها بالهيئة
الطارئة عليها.
وما هذا شأنه من حيث المعنى واللفظ ويكون ساريا في جميع المشتقات
لابد وأن يكون عاريا من جميع الصور والهيئات، فلا يكاد تتصف مع هذا الانغمار
في الإبهام وعدم التحصل بقابلية الحمل أو عدمها، إلا على نحو السلب التحصيلي،
لا الإيجاب العدولي أو السالبة المحمول؛ لعدم شيئية لها بنحو التحصل والاستقلال.
فهي مع كل مشتق متحصلة بنحو من التحصل.
98

وأما هيئات المشتقات الاسمية: فقد عرفت أنها موضوعة للمعنون بما هو
معنون، وقد عرفت أن المادة موضوعة للعنوان المبهم بالحمل الشائع. فإذا اتحدت
مع الهيئة الموضوعة لإفادة معنونية شئ ما بالمبدأ فتتحصل بها، فيصلح بذلك
للحمل.
فحاصل الفرق بين المشتق ومبدئه: هو أن المبدأ هو العنوان المبهم من جميع
الجهات ولا تحصل له أصلا، والمشتق عنوان متحصل.
ثم إن الفرق بين المصدر - لو كان مفاده الحدث اللا بشرط - وبين مبدأ
الاشتقاق لا يكون معنويا، وإنما هو لفظيا. وذلك لأنه قد عرفت آنفا أن مبدأ
الاشتقاق هو العنوان المبهم من جميع الجهات، ولا تحصل له أصلا. وأما المصدر
فقد عرفت سابقا - عند التكلم في مبدأ المشتقات - أن هيئته كهيئة اسمه وضعت
لإمكان التنطق بالمادة، فالمصدر هو الحدث المتحصل.
فظهر: أن الفرق بينهما - بعد اشتراكهما في المعنى؛ وهو الحدث اللا بشرط -
أن مبدأ الاشتقاق هو المعنى المبهم غير المتحصل، بخلاف المصدر فإنه الحدث
المتحصل، فتدبر.
ولعله بما ذكر يظهر الفرق بين المصدر وسائر المشتقات الاسمية؛ فإن
المصدر لا تحصل له إلا من جهة اللفظ والتنطق بالمادة، بخلاف المشتقات فإنها
تحكي عن معنونية الشيء بالعنوان.
99

الجهة الرابعة عشر
في الصفات الجارية على ذاته تعالى
اختلفوا في إطلاق المشتق على ذاته تعالى، كالعالم والقادر ونحوها:
فقد يقال: إنه لا يصح حمل المشتق بماله من المعنى حيث يدل على الذات
المتلبسة بالعنوان عند التحليل على ذاته المقدمة؛ وذلك لجهتين:
الجهة الأولى من حيث الهيئة؛ حيث إنه للمشتق مادة وهيئة؛ ففيه نحو كثرة،
ويستفاد منه قيام المبدأ بالذات، وبعبارة أخرى: يستفاد منه زيادة العنوان على ذات
المعنون، ولا يكون ذلك بالنسبة إليه تعالى؛ لأن صفاته المقدسة عين ذاته تعالى؛
ضرورة أنه لا تكون ذاته المقدسة عالما - مثلا - بعلم زائد على ذاته، وهكذا سائر
صفاته المقدسة.
الجهة الثانية من جهة المادة؛ حيث إن المشتق بما أنه مشتمل على المبدأ
- وهو أمر حدثي - وذاته تعالى كصفاته فوت الجواهر والأعراض، فضلا عن
الأحداث؛ فذاته تعالى بريء عن طرو الأمور الحدثية.
ومن أجل هذا التزم بعضهم بأن إطلاق المشتق - كالعالم أو القادر ونحوهما -
عليه تعالى لابد وأن يكون فيه نحو تجوز وتجريد عن معناه الحقيقي.
ولكنه بعيد عما هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء؛ حيث يطلقون العالم
- مثلا - عليه تعالى بلا تأول، كما يطلقونه على غيره تعالى. ولا نرى بالوجدان تأولا
في حمله عليه تعالى، بل الوجدان أصدق شاهد بعدم الفرق بين جريانه على ذاته
المقدسة وعلى غيره.
100

وأشكل المحقق الخراساني (قدس سره) على القائل بالتجوز والنقل: بأن إطلاق
المشتق عليه تعالى - كالعالم مثلا - لو لم يكن بمعناه الذي نفهم من إطلاقه على
غيره تعالى - من أنه من ينكشف لديه الشيء فإما يراد منه المعنى المقابل لذلك -
يعني الجاهل - فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، أو لم يرد معنى أصلا؛ فتكون لقلقة
اللسان (1)، انتهى.
ولكنك خبير: بأن هذا الإشكال إنما يتوجه على ما يحكى عن المعتزلة النافية
للصفة عنه تعالى. مع أن المظنون أنهم أيضا غير قائلين به، ولا يساعد المجال بيانه.
لا على من يقول بالتأول والتجوز؛ فإنه لا يرى أنه تعالى غير موصوف بصفة،
بل يرى تنزيهه تعالى عن الكثرات بزعم أنه يفهم من المشتق قيام الحدث بالذات،
وعلمه تعالى لم يكن زائدا على ذاته المقدسة، ولم يكن من الأحداث؛ نعلمه تعالى
منزه عن هذه الكثرات (2).
نعم يتوجه على مقاله: بأن القول بالنقل أو التجوز خلاف الوجدان، ولا نرى
فرقا بين إطلاق الصفة - كالعلم مثلا - عليه تعالى، وبين إطلاقها على غيره تعالى من
حيث عدم التأول والمجازية.

1 - كفاية الأصول: 77 - 78.
2 - قلت: وبعبارة أخرى لم يتوجه على القائل بالنقل والتجوز في إطلاق الصفات عليه تعالى شئ
من المحذورين اللذين ذكرهما المحقق الخراساني (قدس سره)؛ لأنه اعتبر في قيام المبدأ بالذات الجامع
بين الحلولي والصدوري، ولما كان هذا السنخ من القيام ممتنعا فيه تعالى التزم بالنقل والتجوز؛
بمعنى إرادة معنى من العلم - مثلا - يكون عين ذاته تعالى، ولا يكون زائدا عليها، كما يكون زائدا
في غيره تعالى. فلا يلائم رفض القائل بالنقل أو التجوز بلزوم الجهل أو كون الصفات لقلقة اللسان. والملائم في رده
أن يقال: عدم انحصار قيام المبدأ بالذات بالصدوري والحلولي، بل بنحو العينية أيضا؛ نحو قيام،
بل يكون القيام عليها أقوى منهما.
[المقرر حفظه الله].
101

وبالجملة: وزان حمل العناوين الاشتقاقية - كالعالم والقادر ونحوهما - عليه
تعالى - بمالها من المعاني والمفاهيم - وزان حملها على أحد من عبادة الذين قام
بهم المبادئ، من دون تصرف وتجوز، فتدبر.
ذكر وتعقيب
تصدى المحقق العراقي (قدس سره) لدفع القول بالنقل أو التجوز في إطلاق الصفات
عليه بقوله: التحقيق في الجواب أن يقال: إن أهل العرف لغفلتهم عن اتحاد ذاته
تعالى مع مبادئ صفاته الحسنى - التي نطق بها البرهان الصادق - يحملون عليه
تعالى هذه العناوين المشتقة بمالها من المفاهيم، ويتخيلون أن مطابقها في ذاته
المقدسة، كما هو مطابقها في ذات غيره.
وليس ذلك إلا لإفادة المعاني التي تحصل من حمل هذه العناوين المشتقة
على ذات ما من الاتصاف بمبادئها؛ من العلم والقدرة والوجود... إلى آخر ما
ذكره (1).
وفيه: أنه لو سلم ما ذكره بالنسبة إلى العرف والعقلاء، ولكن نسأل من جنابه
غير الغافل بكون صفاته الحسنى عين ذاته، فهل يرى أن إطلاقه العالم - مثلا - عليه
تعالى، مع التوجه بعينية الصفة للذات يكون مع التأول والمجازية؟!
والوجدان شاهد صدق على خلافه، بل - كما أشرنا - لا نرى فرقا في إطلاق
العالم عليه تعالى، وبين إطلاقه على أحد من عباده؛ فكما لا يكون تأول ومجازية
في إطلاقه على من قام به المبدأ من أفراد الآدميين، فكذلك في إطلاقه عليه تعالى.

1 - بدائع الأفكار 1: 190.
102

ثم إنه لو كان إطلاق الصفات عليه تعالى مجازيا يلزم أن تكون الإطلاقات
الواردة في الكتاب والسنة كلها مجازية، وذلك مستبعد جدا، كما لا يخفى.
ذكر وإرشاد
قد يقال في إطلاق العالم عليه تعالى: إن العالم معناه واجد المبدأ، ومراتب
الواجدية متفاوتة؛ فإنه قد يطلق العالم على واجد الشيء لعرض وصفة - كما في
علم غيره تعالى - وقد يطلق على واجدية الشيء لنفسه وذاته.
وواجديته تعالى لذاته أعلى مراتب الواجدية؛ فإذن إطلاق العالم عليه تعالى
كإطلاقه على غيره، بل إطلاقه عليه تعالى أولى من غيره؛ لأنه فوق الجواهر
والأعراض (1).
وفيه: أن هذا أيضا لا يصحح المطلب؛ لأنه لو تم ما ذكره فإنما هو أمر
فلسفي، غير مربوط بمحيط العرف والعقلاء. والذي يكون في محيطهم هو أن
الإطلاق في جميع الموارد بنحو واحد، من دون أن يكون فرقا بين حمل العالم
وإطلاقه عليه تعالى، وبين حمله وإطلاقه على غيره تعالى. ولازم ما ذكر هو وضع
المشتق لمعنى يأباه العرف والعقلاء.
وبالجملة: لو سلم تصوير جامع بين واجدية الشيء لعرض ولنفسه وذاته
ولصفاته، لكنه خلاف متفاهم العرف والعقلاء في إطلاقهم، وخلاف المتبادر؛ فإن
المفهوم المتبادر من العالم هو معنى واحد يختلف في الانطباقات.
والتحقيق أن يقال - كما أشرنا إليه - هو أن المتبادر من المشتق ليس إلا
المعنون بعنوان المبدأ بما أنه معنون. وأما كون المعنون عنوانا زائدا على الذات أو
عينها فغير مربوط بمفهوم المشتق، ولا يكون مدلولا عليه للفظ المشتق، وإنما هو
من خصوصيات المصاديق.

1 - الغاشية (88): 17.
103

نعم، كيفية التعنون إنما يستفاد عند التحليل والتجزئة العقلية، وذلك غير مضر
ببساطة المشتق. ألا ترى أنه يعرف الكيف الموجود في الخارج الذي يكون بسيطا
- كالبياض مثلا - بكثرات لا تكون داخلة في ذاته؛ فيقال بأنه لون مفرق للبصر؟!
بداهة أن اللونية التي تكون بمنزلة الجنس مأخوذة في تعريف البياض، ومع ذلك لا
تكون موجودة في الخارج، ولا تحكي اللونية عن غير المفرقية للبصر.
بل هو كذلك في المركبات التحليلية أيضا؛ لأن الهيولى والصورة موجودتان
بوجود واحد، ولا تحكي الجوهر المأخوذ في تعريف شئ عن حقيقة نفس أمرية
غير الجسمية والنباتية والحيوانية والناطقية؛ لأن المادة بحركتها الجوهرية تكون
عين الصورة التي تكون في مرتبتها ومتحدة بها.
فالتعبير عن الجوهرية مع عدم وجودها منحازا في الخارج لأجل الحكاية
عن تدرج الوجود.
وكيف كان: لم يكن مفهوم المشتق معنى مركبا. وما قلنا إنه موجودان بوجود
واحد إنما هو في مقام التحليل والتجزئة. بل غاية ما يدل عليه لفظ المشتق هو
تعنون الذات بالعنوان، وأما كيفية التعنون فلا.
وانسباق كون العنوان زائدا على ذاته من لفظ المشتق إنما هو بلحاظ كثرة
وجود هذا القسم في الخارج وغلبة استعماله فيه.
ولعله لأنس الذهن وقصور فهمهم عن إدراك الحقائق قال الله تعالى: (أولم
ينظروا إلى الإبل كيف خلقت...) الآية (1).
ولذا ورد النهي عن الخوض في تلك الأمور؛ لأن تنزيه عامة الناس لذاته
المقدسة نظير تنزيه النملة؛ حيث يرى أن لربها زبانيتين؛ لأنهما كمال له، كما في

1 - الغاشية (88): 17.
104

الخبر (1)، والتنزيه الكذائي يوجب الإلحاد، فتدبر.
فظهر: أن المتبادر في أذهاننا من إطلاق العناوين الاشتقاقية عليه تعالى هو
المتبادر من إطلاقها على غيره تعالى من حيث التعنون بالعنوان، وأما كيفية التعنون
فلا.
والحمد لله أولا وآخرا (2).
هذا تمام الكلام في المشتق، وبه تم نطاق ما أفاده سماحة الأستاذ - دام
ظله - في مقدمات علم الأصول في هذه الدورة. والحمد لله.
فحان الشروع فيما هو المقصود من علم الأصول فنقول، وبالله الاستعانة:

1 - الأربعون حديثا، الشيخ البهائي: 81، بحار الأنوار 66: 293.
2 - وليعلم: أن بعض ما أوردناه في مسألة المشتق، بل في غيرها مما تقدم ويأتي إن شاء الله
تعالى مقتبس من تقريرات بعض أجلاء تلامذة سيدنا الأستاذ - دامت بركاته - فليكن على
ذكر منكم. [المقرر حفظه الله].
105

المقصد الأول
ففي الأوامر
والكلام فيها يقع في فصول:
107

الفصل الأول
فيما يتعلق بمادة الأمر (*)
وفيه جهات من البحث
الجهة الأولى: في معنى مادة الأمر (1)
قد يقال - ولعله المعروف بينهم - إن لفظ الأمر مشترك لفظي بين معاني
متعددة (2)، منها الطلب الذي هو أمر حدثي قابل للتصريف، وبين غيره الذي ليس
كذلك (3). وبلحاظ هذا المعنى الحدثي صح مه الاشتقاق.

* - كان تاريخ شروع هذا البحث يوم السبت / شوال 1378 ه‍. ق.
1 - قلت: أفيد أن لفظ الأمر بالمعنى المبحوث عنه في المقام يجمع على الأوامر، على خلاف
القياس؛ لأنه لا يجمع الثلاث على هذا الوزن إلا سماعا. ويكفي في ثبوت السماع ما في دعاء
كميل: " وخالفت بعض أوامرك ". مضافا إلى ما عن " المصباح ": أن " الأوامر " جمع
" أمر " [1] [المقرر حفظه الله].
2 - قلت: من الفعل، والفعل العجيب، والشيء، والشأن، والحادثة، إلى غير ذلك مما هو مذكور
في الكتب المفصلة [المقرر حفظه الله].
3 - الفصول الغروية: 62 / 35، بدائع الأفكار 1: 194.
[1] المصباح المنير: 21.
109

وقال بعض آخر: إن لفظ الأمر مشترك معنوي بين الطلب وغيره من
المعاني (1).
والذي يقتضيه التحقيق: عدم استقامة كلا القولين، بل يتعجب من قائلهما؛
وذلك لأن الذي يشتق منه ويكون مادة المشتقات - كما عليه المحققون - هو مادة
الأمر غير المتهيئة؛ حتى هيئة المصدرية أو اسمها؛ أعني " أ م ر ".
فالموضوع لنفس الطلب هو مادة " أمر " غير المتهيئة. وأما الموضوع لسائر
المعاني فهو نفس لفظ " الأمر " بمادته وهيئته. وبعبارة أخرى: لفظ الأمر جامدا وضع
لسائر المعاني، فلم يكن الموضوع هنا شيئا ولفظا واحدا حتى يصح أن يقال بأنه
مشترك لفظي أو معنوي بين الطلب وسائر المعاني.
والحاصل: أنه لا معنى محصل لأن يقال: إن لفظ الأمر موضوع لمعاني - منها
الطلب - بالاشتراك اللفظي، أو لمعنى جامع بين المعاني بالاشتراك المعنوي.
وبلحاظ هذا المعنى الحدثي صح الاشتقاق منه. وذلك لفظ الأمر بما له من الهيئة لم
يكن مبدأ للاشتقاق، بل مادته - من دون تهيؤها بهيئة وصورة - مبدأ له، هذا.
مضافا إلى أن لازم القول بالاشتراك المعنوي وجود جامع ذاتي بين الحدث
وغيره، وهذا - مع أنه غير معقول - لا يصح الاشتقاق منه إلا بلحاظ المعنى الحدثي،
وهو غير المعنى الجامع. نعم الاشتقاق مجازا وبالتسامح، فتدبر.
فظهر بما ذكرنا: أن مادة الأمر موضوع للحدث اللا بشرط السارية في جميع
هيئات المشتق. ولفظة الأمر بمادتها وهيئتها موضوعة لسائر المعاني. فالقول
بالاشتراك بقسميه ساقط من أصله.

1 - فوائد الأصول 1: 128.
110

نعم، لعله ربما يتوهم: أن غاية الوضع لابد وأن تكون بحيث يصح التلفظ
بالموضوع مستقلا، ولا يمكن التلفظ بمادة الأمر إلا في ضمن الهيئة.
ولكنه يندفع بما ذكرنا آنفا: أن مقتضى حكمة الوضع إنما هي وقوعها في
طريق الإفادة والاستفادة - ولو في ضمن أمر آخر - لا التلفظ بها مستقلا.
ومن الواضح: أن مجرد عدم إمكان التنطق بها مستقلا لا يوجب الاشتراك
اللفظي أو المعنوي، بل يؤكد العدم؛ لكون الموضوع لنفس الحدث هو ما لا يمكن
التلفظ به مستقلا، وما يمكن التلفظ به مستقلا موضوع لسائر المعاني.
ولعل منشأ القول بالاشتراك بقسميه هو قول القدماء القائلين بأن المصدر
أصل المشتقات، فتبعهم من لم يوافقهم في المبنى، فتدبر.
الجهة الثانية: في ما وضع له مادة الأمر، وهي " أ م ر "
ذهب بعض إلى أن مادة " أمر " موضوعة للطلب، كما أنه ذهب آخر إلى
أنها موضوعة للإرادة المظهرة، كما ذهب ثالث إلى أنها موضوعة للبحث، إلى
غير ذلك من الأقوال.
ولكن الذي يتبادر منها: أنها موضوعة لمعنى اسمي منتزع من هيئات الصيغ
الخاصة بما لها من المعنى الحرفي.
وبعبارة أخرى: أن الهيئات صيغ الأمر وإن كانت معاني حرفيا آليا لإيجاد
البعث - كهيئة " اضرب " لإيجاد بعث الضرب، وهيئة " أكرم " لإيجاد بعث الإكرام،
وهكذا - إلا أنه يمكن تصوير جامع اسمي بينها، كما صح انتزاع مفهوم الربط - الذي
هو مفهوم اسمي - من المعاني الحرفية والروابط بالحمل الشائع.
فكما صح وضع لفظ الربط لمفهوم اسمي انتزاعي من المعاني الحرفية فكذلك
صح وضع لفظ الأمر لمعنى اسمي منتزع من الهيئات بما لها من المعاني الحرفية؛ أي
111

يكون لفظ الأمر موضوعا لمعنى تكون مصاديقه: " اضرب " و " أكرم "
و " انصر " وهكذا.
فالطلب والبعث والإرادة المظهرة وغير ذلك لم يكن أمرا، بل هي إما من
مقدمات الأمر، أو مظهراته، أو لواحقه.
فما يتبادر من مادة الأمر هو الجامع المنتزع، كما أن لفظة هيئة الأمر جامع
بين هيئات اضرب وأكرم ونحوهما. ولفظة الهيئة جامع بين هيئات ضرب ويضرب
وضارب وهكذا.
وبالجملة: المتبادر من مادة الأمر هي الحصة من الشيء.
فتحصل: أن المتبادر من مادة الأمر هو الجامع الانتزاعي من هيئات صيغ
الأمر بما لها من المعاني، لا نفس تلك الهيئات ولو استعملت لغوا أو في غير
معانيها.
فإذا كان مفهوم الأمر معنى اسميا انتزاعيا من المعاني الحرفية الحدثية فله
معنى اشتقاقي يصح الاشتقاق منه. كما أن للفظة القول واللفظ معنى اسميا، ومع ذلك
صح الاشتقاق منه بلحاظ المعنى الحدثي.
هذا كله بحسب معنى الأمر لغة.
ولا يبعد أن يكون معناه الاصطلاحي أيضا هو هذا؛ وذلك لأن معناه
الاصطلاحي هو الطلب بالصيغة؛ فيصح الاشتقاق منه بلحاظ كونه حدثا صادرا عن
المتكلم.
فظهر: أن وزان الأمر وزان اللفظ والقول؛ فكما أن لهما معنى اسميا، ومع ذلك
صح الاشتقاق منهما بلحاظ المعنى الحدثي، فكذلك الأمر يصح الاشتقاق منه
بلحاظ معناه الحدثي، ولو كان معنى اسميا.
ولا يخفى: أن قوله: " آمرك بكذا... " يستعمل تارة في الجامع الانتزاعي حين
إظهار الطلب الحقيقي بأحد الأدوات - من قول أو فعل - وأخرى في مقام إنشاء
112

البعث. فعلى الأول لا يكون أمرا بالحمل الشائع، وإنما يفيد ذلك بالحمل
الأولي، وعلى الثاني - فمضافا إلى كونه أمرا بالحمل الأولي - يكون مصداقا لعنوان
نفسه.
وبالجملة: لفظة الأمر وضعت لكل ما يدل على البعث والإنشاء. فقولك:
" آمرك بكذا... " إن أردت بذلك إنشاء البعث بنفس ذلك اللفظ فيكون هذا مصداقا
وحملا شائعا لنفسه، ولا مانع من أن يكون شئ مصداقا لعنوان نفسه.
وذلك مثل " اللفظ " فإن معناه ما يتلفظ به الإنسان؛ فكما أن المتلفظ بكلمة
" زيد لفظ " فكذلك التلفظ بكلمة " اللفظ لفظ " لأنه أيضا ما يتلفظ به الإنسان. ونظير
ذلك " القول " و " الشيء " و " الموجود " وأمثال ذلك.
ذكر وتعقيب
فقد ظهر لك مما ذكرنا: أنه قد يكون بعض الأشياء حملا شائعا مصداقا
لعنوان نفسه، ولا إشكال في ذلك، وكم له من نظير! ولفظ الأمر كذلك.
ولكن أورد المحقق العراقي (قدس سره) على ذلك - أي في صدق الأمر فيما لو أظهر
الطالب طلبه بلفظ الأمر؛ فقال: " آمرك بكذا " قاصدا بذلك إظهار طلبه بهذا اللفظ -
إشكالين، أجاب عن أحدهما ولم يجب عن الآخر، فليراجع إشكاله الأول وجوابه
إلى تقريرات بحثه (1).

1 - قلت: حاصل إشكاله الأول: هو أن معنى الأمر هو الطلب في حال إظهاره للمخاطب بما يدل
عليه، فإذا كان إظهار الطلب بنفس هذا القول لزم تحقق معنى اللفظ بنفس استعماله فيه؛ فيكون
تحقق المعنى متوقفا على الاستعمال، وهو متوقف على تحقق المعنى المستعمل فيه؛ فيلزم الدور.
فأجاب عنه: بأن اللفظ مستعمل في نفس المفهوم؛ فيكون الاستعمال متوقفا على تحقق المفهوم في
مرحلة مفهوميته، لا في مرحلة وجوده خارجا.
وفي مثل المقام يتوقف تحقق وجود مطابقه في الخارج على استعمال اللفظ في مفهومه.
وبعبارة أخرى: الاستعمال متوقف على تحقق المستعمل فيه - أعني به المفهوم - ووجود مطابق
المفهوم في الخارج متوقف على الاستعمال، فلا دور؛ لمغايرة المتوقف مع المتوقف عليه،
انتهى. [المقرر حفظه الله].
113

وأما إشكاله الثاني - الذي لم يتفص عنه - فحاصله: أن مفهوم مادة الأمر
منتزع عن إبراز الطلب، فلا محالة يكون هذا المفهوم في عالم التصور حاكيا وطريقا
إلى الإبراز، ومعه يستحيل أن يكون واسطة لثبوته؛ ضرورة أن مرجع الطريقية إلى
كونها من وسائط إثباته؛ بحيث يرى المحكي عنه مفروغ الثبوت. وفي هذا النظر
يستحيل توجه النفس إلى إثباته بهذه المادة المستعملة في معناها.
وحينئذ: لو أريد إظهار الطلب بهذه المادة فلا محيص من تجريد المعنى عن
قيد الإبراز، فيراد منه حينئذ صرف الطلب. وإنما يراد منه الطلب بقيد الإبراز عند
الإخبار بهذه المادة عن إظهار الطلب بمظهر آخر (1)، انتهى.
وفيه أولا: أن الوجدان أصدق شاهد بأن قولك " آمرك بكذا... " في صورة
إنشاء الطلب به مثل قولك ذلك في صورة إخبارك عن إظهار الطلب بمظهر آخر في
أنه لا يكون فيه مجازية وتجريد، ولا ينقدح المجازية في الذهن أصلا.
ومن هنا صح أن نتخذ ذلك سندا ودليلا على مقالته، ونقول: إن معنى مادة
" أمر " لم تكن الإرادة المظهرة بالوجدان، فتدبر.
وثانيا: أنه لو كان معنى مادة الأمر منتزعا عن إبراز الإرادة والطلب فغاية ما
هناك هي حكاية مادة الأمر عن مفهوم إبراز الإرادة، وواضح أن ذلك لا ينافي إيجاد
مصداق منه من نفس " آمرك بكذا... ".

1 - بدائع الأفكار 1: 195.
114

ولك أن تقول: إن ما أفاده على مبناه في معاني الهيئات تمام؛ لأنه - كما
تقدم - يرى أن معاني الهيئات كلها حكائي لا إيجادي. وأما على المختار - من أن
الهيئات على قسمين: إيجادي وحكائي - فلا يتم، فتدبر.
الجهة الثالثة: في اعتبار العلو والاستعلاء في مادة الأمر
هل مادة الأمر موضوعة لمطلق ما يطلب، أو للجامع بين الطلبات الصادرة
من العالي ولو لم يكن مستعليا - بأن كان طلبه بصورة الالتماس والاستدعاء - أو
لمطلق ما يطلب مستعليا ولو لم يكن عاليا، أو لما يصدر من العالي بما أنه عال،
فيستفاد منه الاستعلاء؟ وجوه، بل أقوال.
والذي يتبادر من مادة الأمر السائدة في هيئات أمر ويأمر وآمر وهكذا هو
اعتبار العلو فيها. بل اعتبار العلو بما هو عال، ولا يقال لمن طلب ولم يكن عاليا إنه
أمر. وكذا العالي لو طلب بنحو الالتماس والاستدعاء، لا يعد طلبه أمرا.
ولذا يذم العقلاء خطاب المساوي والسافل لمن هو مساو معه أو أعلى منه
بلفظ الأمر، وهو آية أخذ العلو فيه. ولا يقال لطلب العالي إذا كان بصورة الالتماس
والاستدعاء أمرا.
ولا يخفى: أن العلو أمر اعتباري، له منشأ عقلائي يختلف بحسب الزمان
والمكان. والملاك في ذلك هو كون الشخص نافذ الكلمة والسلطة والقدرة؛ بحيث
يقتدر على إجراء أوامره وتكاليفه.
فالسلطان المحبوس المتجرد من النفوذ وإعمال القدرة لا يعد إنشاؤه أمرا، بل
طلبا والتماسا. بل رئيس المحبس النافذ رأيه في محيطه يكون أمرا بالنسبة إليه.
وواضح: أنه لا تعد مكالمة المولى مع عبيده على طريق الالتماس والاستدعاء أمرا.
115

وبالجملة: معنى الأمر بالفارسية هو " فرمان "، ولا يطلق ذلك لكل طلب من
كل أحد، ولو لم يكن عاليا، أو كان عاليا ولم يكن مستعليا، بل إنما يطلق إذا طلب
العالي؛ مستعليا.
ولعل ما ذكرنا واضح لمن تأمل موارد استعمالهما في اللغتين العربية
والفارسية.
فعلى هذا: لابد وأن يقال: إن مفهوم مادة الأمر معنى مضيق، لا ينطبق إلا على
الطلب الصادر من العالي المستعلي عند التحليل.
نقل وتعقيب
ولبعض الأكابر (1) - دامت بركاته - هنا مقالا لا بأس بذكره والإشارة إلى ما
فيه.
فقال ما حاصله: إن حقيقة الأمر بنفسه يغاير الالتماس والدعاء، لا أن
المغايرة بينهما باعتبار كون الطالب عاليا أو مستعليا؛ بحيث تكون مادة الأمر
موضوعة للطلب من العالي بما أنه عال؛ بحيث يكون هناك قيدا.
وذلك لأن الطلب بنفسه ينقسم إلى قسمين:
الأول: الطلب الذي قصد الطالب انبعاث المطلوب منه من نفس هذا الطلب؛
بحيث يكون داعيه ومحركه إلى الامتثال نفس هذا الطلب، من دون شئ آخر.
ويسمى هذا القسم من الطلب أمرا.
والثاني: الطلب الذي لم يقصد الطالب فيه انبعاث المطلوب منه من نفس
طلبه، بل قصد انبعاث مطلوبه منه من هذا الطلب منضما ببعض المقارنات التي
توجب وجود الداعي في نفسه، كطلب الفقير من الغني شيئا؛ فإنه لا يقصد انبعاث

1 - عنى به أستاذنا الأعظم العلامة البروجردي، دام ظله. [المقرر حفظه الله].
116

الغني من نفس طلبه وتحريكه؛ لعلمه بعدم كفاية بعثه في تحريك الغني؛ ولذا
يقارنه ببعض ما له دخل في انبعاثه، كالتضرع والدعاء لنفس الغني وما يتعلق به.
ويسمى هذا القسم من الطلب التماسا أو دعاء.
فظهر: أن الطلب حقيقة على قسمين، غاية الأمر: أن القسم الأول منه حق
من كان عاليا ولا ينبغي صدوره إلا من العالي المستعلي، وهو غير الأخذ
في المفهوم. كما أن القسم الثاني شأن من يكون سافلا ولو صدر من العالي يعد ذلك
منه تواضعا.
ومع ذلك لو صدر القسم الأول من السافل بالنسبة إلى العالي كان أمرا، ولكن
يذمه العقلاء على طلبه الذي ليس شأنا له؛ فيقولون له: أتأمره؟! كما أنه لو صدر
القسم الثاني من العالي لم يكن أمرا عندهم، بل التماسا منه، ويرون أن هذا منه
تواضعا.
فحقيقة الطلب على قسمين: فقسم منه يناسب العالي؛ وهو الذي يسمونه
أمرا؛ وهو الذي يعبر عنه بالفارسية ب‍ " فرمان ". كما أن القسم الآخر منه يناسب
السافل؛ وهو الذي يسمونه التماسا أو دعاء؛ وهو الذي يعبر عنه فيها ب‍ " خواهش و
درخواست " (1)، انتهى.
وفيه: أن هذا منه عجيب، وكأنه لا يرجع إلى محصل؛ وذلك لأنه - دامت
بركاته - لا يرى كون الوضع في مادة الأمر بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص،
ولم يلتزم به أحد - مع أنه لو التزم به أيضا لا يتم ما أفاده - بل يرى أن الوضع
والموضوع له فيها كلاهما عامان.
فإذا كانت مادة الأمر موضوعة لمطلق الطلب فلا معنى لعدم صدقه على

1 - لاحظ نهاية الأصول: 86.
117

الطلب الصادر من السافل أو المساوي؛ ضرورة أن دلالة الألفاظ على معانيها
- بعدما لم تكن ذاتية - لم تكن جزافية، بل تكون مرهونة بالوضع.
فعدم صدق الأمر إلا على الطلب من العالي المستعلي لا يكاد يعقل إلا مع
تقييد في مدلوله ومفهومه، مثل تقييد مدلوله بالطلب الصادر من العالي المستعلي، أو
الطلب الذي ليس من السافل أو المساوي، إلى غير ذلك. وإلا فمع عدم تقييد مدلوله
بقيد لا يصلح أن لا ينطبق إلا على فرد منه؛ وهو الطلب من العالي المستعلي.
فعدم صدق الأمر على الصادر من السافل أو المساوي يكشف عن تضيق في
مفهومه، وإلا كان ذلك - مع كون الوضع فيه عاما والموضوع له كذلك - جزافيا بلا
وجه.
وبالجملة: الأمر يدور بين وضع مادة الأمر لمطلق الطلب أو لخصوص الطلب
الصادر من العالي المستعلي.
فعلى الأول لا يتم قوله - دامت بركاته - إن الأمر الكذائي لا ينبغي صدوره
خارجا إلا من العالي المستعلي، وكأنه لا يرجع إلى محصل.
وعلى الثاني لا محيص عن الالتزام بتقييده بقيد حتى لا يصدق على غيرها.
فإن كنت مع ذلك في ريب مما ذكرنا فاختبر نفسك حال الحيوان؛ فإن له
أنواعا كثيرة، فلو لم يقيد الحيوان بالناطقية - مثلا - لا يمكن أن لا يصدق إلا على
الإنسان، بل يكون صدقه على الإنسان في عرض صدقه على الفرس والبقر والإبل
وسائر الأنواع.
فظهر: أن عدم صدق الأمر - على الطلب الذي لم يصدر من العالي مستعليا،
وذم العقلاء على طلبه يكشف إنا عن تضييق في المفهوم. وكذلك بالنسبة إلى
الالتماس والدعاء.
118

الجهة الرابعة: في معنى الحقيقي لمادة الأمر
بعدما عرفت: أن مادة الأمر موضوعة لمفهوم جامع منتزع من الهيئات
الصادرة من العالي المستعلي، فيقع الكلام في أن الموضوع له هل هو الجامع المنتزع
من الهيئات الصادرة منه على نعت الوجوب والإلزام، أو مطلق ذلك، وإن لم يصدر
على نعت الوجوب؟ وجهان:
وليعلم: أن عمدة الدليل في المسألة هي التبادر - بل هو الدليل الوحيد في
أمثال ذلك، كما تقدم منا مكررا - والظاهر تبادر الجامع المنتزع من الهيئات الصادرة
من المعاني المستعلي على نعت الوجوب من مادة الأمر.
وربما يستدل لهذا القول بقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (1)، وبقوله (صلى الله عليه وآله): " لولا أن أشق على أمتي
لأمرتهم بالسواك " (2)؛ حيث يكون ظاهرا في أن الأمر يوجب المشقة والكلفة، وهذا
مساوق للوجوب، دون الاستحباب.
مضافا إلى أن الطلب الاستحبابي وارد في السواك، فلو كان ذلك كافيا في
صدق الأمر لما صدر منه (صلى الله عليه وآله) ذلك الكلام.
إلى غير ذلك من الآيات والروايات. إلا أنها مؤيدات في المسألة، كما نبه
عليه المحقق الخراساني (قدس سره) (3)؛ لأنها لا تزيد عن الاستعمال، والاستعمال أعم من
الحقيقة. الاستعمال إنما يكون علامة الحقيقة فيما إذا علم المعنى الموضوع له ولم
يعلم إرادته من اللفظ، لا فيما إذا علم المراد وشك في أن المعنى المراد معنى حقيقي
أو مجازي.

1 - النور (24): 63.
2 - الفقيه 1: 34 / 123، وسائل الشيعة 1: 354، كتاب الطهارة، أبواب السواك، الباب 3،
الحديث 4.
3 - كفاية الأصول: 83.
119

والسر في ذلك: هو أن أصالة الحقيقة من الأصول المرادية، وهي جارية في
مورد الشك في المراد، لا في إحراز المعنى الحقيقي بعد العلم بالمراد، كما فيما نحن
فيه، فتدبر.
ذكر وإرشاد
ولا يخفى: أن ما ذكرناه كأنه لا سترة فيه، إلا أن للمحقق العراقي (قدس سره) مقالا لا
ينبغي صدوره منه؛ فإنه - بعد أن اختار: أن لفظ الأمر حقيقة في مطلق الطلب؛
لصدق الأمر على طلب العالي بلا عناية، ولو كان بنحو الندب، وأيده بتقسيمه إلى
الوجوب والندب - قال: لا شبهة في ظهوره حين إطلاقه في خصوص الطلب
الوجوبي؛ بحيث لو أريد به الاستحباب لافتقر إلى قرينة، وهذا في الجملة مما لا
إشكال فيه. وإنما الإشكال في منشأ الظهور، بعد كون الوضع لمطلق الطلب.
ثم تفحص عن منشأ الظهور: بأنه هل لغلبة الاستعمال في الوجوب، أو هو
قضية الإطلاق ومقدمات الحكمة؟
ورد الوجه الأول مستشهدا بكثرة استعماله في الاستحباب، كما صرح بذلك
صاحب " المعالم " (قدس سره) (1)، واختار الوجه الثاني.
ثم حاول تقريبه بوجهين (2).

1 - معالم الدين: 48.
2 - قلت: وحاصل الوجه الأول: هو أن الطلب الوجوبي هو الطلب التام الذي لا حد له من جهة
النقص والضعف، بخلاف الطلب الاستحبابي فإنه مرتبة من الطلب المحدود بحد النقص والضعف.
ولا ريب في أن الوجود غير المحدود لا يفتقر إلى البيان والإشارة إليه أكثر مما يدل عليه، بخلاف
الوجود المحدود فإنه مفتقر إلى بيان حده، كما هو مفتقر إلى أصله. وعلى هذا يلزم حمل الكلام
الذي يدل على الطلب على ما لا حد له - وهو الوجوب - كما هو الشأن في كل مطلق.
وحاصل الوجه الثاني: هو أنه لا ريب في أن كل من يطلب أمرا من غيره فإنما يأمره به لأجل إيجاده
في الخارج؛ فلابد وأن يكون طلبه إياه في حد ذاته لا قصور فيه في مقام التوسل إلى إيجاده.
وليس ذلك إلا الطلب الإلزامي الذي يستلزم امتثاله الثواب وعصيانه العقاب. ولو كان هناك ما يقتضي
قصوره عن التأثير التام في وجود المطلوب - ولو لقصور المصلحة الموجبة لطلبه، أو المانع عنها
- لوجب أن يطلبه بتلك المرتبة؛ فإن أشار إليها في مقام البيان فهو، وإلا فقد أخل في بيان ما
يحصل به غرضه.
فعليه: يكون إطلاق الأمر دليلا على طلبه الذي يتوسل به الطالب إلى إيجاد مطلوبه بلا تسامح فيه،
وليس هو إلا الطلب الوجوبي.
ثم قال (قدس سره): فاتضح مما ذكرنا: أن مادة الأمر وإن لم تكن حقيقة في الوجوب ولكن بمقتضى
الوجهين تكون ظاهرة فيه [1]، انتهى ملخصا [المقرر حفظه الله].
[1] بدائع الأفكار 1: 196 - 197.
120

وفيه: أنه غير خفي أن محل البحث عجالة في مفهوم مادة الأمر الموجودة
في ضمن " أمر، يأمر، وآمر " وهكذا، لا في مفهوم الأمر بالصيغة، وما قاله صاحب
" المعالم " (قدس سره) إنما هو في الأمر بالصيغة... إلى آخره، لا في مادة الأمر، كما هو
واضح. فلاحظه؛ فقد خلط (قدس سره) بين مفاد مادة الأمر وبين مفاد صيغ الأمر، وهذا منه
عجيب.
كما أن مورد التمسك بالإطلاق ومقدمات الحكمة إنما هو في الأمر بالصيغة،
لا في مادة الأمر. وبعبارة أخرى: مقدمات الحكمة إنما هي في مقام إنشاء الطلب
بالصيغة في مثل
121

قوله: " أكرم زيد "، ولا معنى لجريانها فيما لو قيل: " آمرك بكذا " أو " يأمرك
بكذا "، ولعله أوضح من أن يخفى.
أضف إلى ذلك: أن الوجهين اللذين ذكراهما غير تمام في نفسه، بل ضعيف.
وسنشير إليه في مستقبل الأمر (1)، فارتقب.
وبالجملة: ما ذكره هذا المحقق - على فرض تماميته - إنما هو في الأمر
بالصيغة لا في مادة الأمر، ومحل النزاع عجالة في الثاني لا الأول، فما ذكره من باب
اشتباه المفهوم بالمصداق، والكلام في المفهوم دون المصداق.

1 - يأتي في الصفحة 146 و 152.
122

الفصل الثاني
فيما يتعلق بصيغة الأمر
والكلام فيه أيضا في جهات
الجهة الأولى: فيما وضعت له هيئة الأمر
قد تقدم: أن مفاد الهيئات على قسمين: فقسم منها حكائي، والقسم الآخر
إيجادي. وسبق الكلام في هيئات الفعل الماضي والفعل المضارع والمشتقات
الاسمية، كما مضى الكلام في النداء والقسم والتعجب ونحوها، وقد أشرنا: أن
مفادها إيجادي، وقد أوعدناك التكلم في هيئة الأمر؛ فنقول:
لا يبعد أن يكون الوضع والموضوع فيها خاصين.
وإن كنت في شك في ذلك فلا أقل من كون الموضوع له خاصا؛ وذلك لأن
المتبادر من هيئة الأمر ك‍ - اضرب مثلا - هو المتبادر من إشارة الأخرس حيث يشير
إلى المخاطب ويغريه نحو مطلوبه. بل مثل إغراء الكلاب المعلمة والطيور الجارحة
إلى المقصود بالألفاظ والأصوات والحركات المناسبة الموجبة لتشجيعها وتحريكها
نحو المطلوب.
ولا فرق بين هيئة الأمر وإشارة الأخرس وتلك الألفاظ والأصوات في
تحصيل البعث والإغراء بها.
123

غاية الأمر: يكون الإغراء والبعث بالهيئة وضعيا، بخلاف إشارة الأخرس
وتلك الأمور؛ فإنها ليست بالوضع.
فكما لا دلالة لإشارة الأخرس - مثلا - للطلب ولا للإرادة أو الشوق
ونحوها، فكذلك لا دلالة لهيئة الأمر على ذلك الأمور، بل هي من المقدمات؛ فإن
من يبعث ويغري نحو مطلوبه فيتصوره أولا، ثم يصدق بفائدته؛ فيشتاقه، ثم يريده،
ثم يبعث المكلف ويغريه نحوه.
فكما قلنا: إن الحروف على قسمين: حكائي وإيجادي، فكذلك تكون
الهيئات على قسمين: فقسم منها حكائي، كهيئتي الماضي والمضارع، فإن الأولى
تحكي عن سبق تحقق الحدث خارجا، والثانية تحكي عن لحوقه كذلك. وقسم
آخر منها إيجادي، كهيئة الأمر؛ فإنه بنفس هيئة " اضرب " مثلا يبعث ويغري
المخاطب نحو مطلوبه اعتبارا.
والقول: بعدم إمكان إيجاد اللفظ معنى، بزعم أن استعمال لفظ في معنى لابد
وأن يكون هناك معنى متحقق؛ ليستعمل اللفظ.
مدفوع بما ذكرنا مكررا؛ أنه توهم مردود، منشأه قولهم: استعمال اللفظ في
المعنى؛ فتوهم أنه لابد وأن يكون هناك معنى ليستعمل اللفظ فيه؛ قضاء لحق
الظرفية. وهذا فاسد، بل يوجد المعنى بنفس اللفظ، كما قلنا نظيره في " ياء " النداء
و " كاف " الخطاب؛ فإنه يوجد بهما النداء والخطاب.
فظهر مما ذكرنا: أن مفاد هيئة الأمر لم يكن طلبا ولا إرادة ولا شوقا ولا
تصديقا بالفائدة إلى غير ذلك، وإنما هي من مقدماته ومن ملازماتها، وإنما مفادها
البعث والإغراء الاعتباري.
وليعلم: أن ما يحصل بهيئة الأمر هو البعث والإغراء بالحمل الشائع لا
مفهومهما؛ لأن البعث والإغراء الكليين لا باعثية لهما، كما لا يخفى، فتدبر.
124

فتحصل: أن المتبادر من هيئة الأمر كونها موضوعة بالوضع العام أو الخاص
والموضوع له الخاص للبعث والإغراء الشخصي. والقول بأن الموضوع له فيها هو
الإغراء الكلي، وإن الاستعمال في جميع الموارد مجازي خلاف التبادر، فتدبر
واغتنم.
ذكر وتعقيب: إشكال العلامة الحائري في الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية
أشكل شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) فيما قد يقال في الفرق بين الجمل الخبرية
والإنشائية: بأن الأولى موضوعة للحكاية عن مداليلها في نفس الأمر وفي طرف
ثبوتها؛ سواء كان المحكي بها مما كان موطنه في الخارج كقيام زيد، أم كان موطنه
في النفس كعلمه.
بخلاف الجمل الإنشائية كهيئة " افعل " مثلا؛ فإن المستفاد منها ليس حكاية
عن تحقق الطلب في موطنه، بل هو معنى يوجد بنفس القول، بعدما لم يكن قبل هذا
القول له عين ولا أثر.
وقال (قدس سره): ولي فيما ذكر نظر.
وحاصل إشكاله في الجمل الخبرية: هو أن مجرد حكاية اللفظ عن المعنى
في موطنه لا يوجب إطلاق الجملة الخبرية عليه، ولا يصير بذلك قابلا للصدق
والكذب، فإن قولنا: " قيام زيد في الخارج " يحكي عن معنى قيام زيد في الخارج
حكاية اللفظ عن معناه بالضرورة، ومع ذلك لا تكون جملة خبرية.
فلابد من اعتبار أمر زائد على ذلك حتى تصير الجملة جملة يصح السكوت
عليها؛ وهو وجود النسبة التامة.
ولا شبهة في أن النسب المتحققة في الخارج ليست على قسمين: قسم منها
تامة، وقسم منها ناقصة، بل النقص والتمام إنما هما باعتبار الذهن؛ فكل نسبة ليس
فيها إلا مجرد التصور تسمى نسبة ناقصة، وكل نسبة تشتمل على الإذعان بالوقوع
تسمى نسبة تامة.
125

والمراد بالإذعان بالوقوع في الجملة الخبرية ليس هو العلم الواقعي بوقوع
النسبة؛ ضرورة أنه قد يخبر المتكلم وهو شاك، بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع.
بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع؛ جعلا على نحو يكون القاطع
معتقدا. وكان سيدنا الأستاد - نور الله ضريحه - (1) يعبر عن هذا المعنى ب‍ " التجزم ".
وحاصل إشكاله في الجمل الإنشائية: هو أن كون الألفاظ علة لتحقق معانيها
لم يكن له معنى محصلا عندي؛ بداهة أن العلية المذكورة ليست من ذاتيات اللفظ،
وما ليس علة ذاتا لا يمكن جعله علة؛ لعدم قابلية العلية وأمثالها للجعل، كما تقرر
في محله.
والذي أتعقله في الجمل الإنشائية: هي أنها موضوعة للحكاية عن حقائق
موجودة في النفس، مثلا هيئة " افعل " موضوعة للحكاية عن حقيقة الإرادة
الموجودة في النفس؛ فمن قال: " اضرب زيدا " وكان في نفسه مريدا لذلك فقد
أعطت الهيئة المذكورة معناها، بخلاف ما إذا قاله ولم يكن مريدا واقعا؛ فإن الهيئة
المذكورة ما استعملت في معناها.
نعم، بملاحظة حكايتها عن معناها ينتزع عنوان آخر لم يكن متحققا قبل
ذلك؛ وهو عنوان يسمى بالوجوب.
وواضح: أن هذا العنوان المتأخر ليس معنى الهيئة؛ لما عرفت أنه منتزع من
كشف اللفظ عن معناه، ولا يعقل أن يكون عين معناه.
إن قلت: يلزم على ما ذكر أنه لو أتى بألفاظ دالة على المعاني الإنشائية،
ولكن لم يكن في نفس المريد معانيها - كالأوامر الصادرة في مقام الامتحان
والتعجيز ونحو

1 - عنى بأستاذه العلامة المحقق؛ السيد محمد الفشاركي (قدس سره). [المقرر حفظه الله].
126

ذلك - أنها غير مستعملة أصلا، أو مستعملة في غير ما وضعت له، والالتزام
بكل منهما - لا سيما الأول - خلاف الوجدان.
قلت: تحقق صفة الإرادة - مثلا - في النفس على قسمين:
فقد تكون لتحقق مبادئها في متعلقاتها، كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد؛
فتحققت في نفسه إرادته.
وقد يكون من جهة مصلحة في نفسها، لا من جهة متعلقاتها، بل توجد النفس
تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها.
كما نشاهد ذلك القسمين وجدانا في الإرادة التكوينية.
والإرادة التشريعية ليست بأزيد مؤونة منها؛ وذلك لأنها قد توجدها النفس
لمنفعة فيها، مع القطع بعدم منفعة في متعلقها، ويترتب عليها الأثر.
مثل إتمام الصلاة من المسافر؛ فإنه يتوقف على قصد إقامة عشرة أيام في
بلد، من دون مدخلية لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجودا وعدما.
ولذا لو بقي في بلد بالمقدار المذكور من دون القصد لا يتم، وأما لو لم يبق
بذلك المقدار ولكن قصد من أول الأمر بقاءه بذلك المقدار يتم. ومع ذلك يتمشى
قصد البقاء من المكلف، مع علمه بأن ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهم، وإنما
يترتب الأثر على نفس القصد، ومع تمشي القصد منه - مع هذا الحال - خلاف ما
نشاهد من الوجدان، كما هو واضح، انتهى ملخصا (1).
وفيه: أنه إن قلنا إن مناط الصدق والكذب في الجمل الخبرية هو حكاية
الجملة؛ حكاية تصديقية عن المعنى والواقع - أي حكايتها عن الثبوت واللاثبوت -
فالمفردات والمعاني التصورية وإن كانت معاني مركبة إلا أنها لا تكون لها

1 - درر الفوائد المحقق الحائري: 70 - 72.
127

حكاية عن الخارج الثابت، بل تحكي عن معاني تصورية مقيدة.
مثلا: لغلام زيد معنى تصوري لا حكاية له عن الخارج، والحكاية عن ذلك
إنما هي فيما يحكي عن الواقع؛ حكاية تصديقية.
فظهر: أن مناط الصدق والكذب إنما هو باعتبار مطابقته للواقع وعدمه، لا
باعتبار حكايته عن التجزم.
مضافا إلى: أن التجزم وتزريق الجزم لا معنى له؛ لأن الجزم من الصفات
النفسانية، فإن كانت موجودة فيها فهو، وإلا فلا يكاد يوجد بصرف اعتبار وجوده
فيها.
فتحصل: أن هيئة الجملة الخبرية تحكي عن الثبوت واللاثبوت - ولو في
القضايا المشكوكة - من دون دخالة للتجزم فيها أصلا.
نعم، لو أظهر الجملة بصورة الترديد - بأن أوقعها فلو أداة الشرط - وقال: " إن
كان زيد عالما فأكرمه " فيسقط عن الحكاية التصديقية، ويكون مفادها الحكاية
التصورية، نظير مفاد " غلام زيد "، فتدبر.
هذا كله فيما أفاده (قدس سره) في الجمل الخبرية.
وأما الذي قاله في الجمل الإنشائية ففيه:
أولا: أن معنى علية لفظ لمعنى ليس علة تكوينية نظير علية النار للإحراق؛
حتى يقول (قدس سره) بأننا لا نتصور له معنى محصلا.
ولذا قال شيخنا صاحب " الوقاية " (قدس سره): إن إيقاعه خارجا لو كان فإنما هو
شأن الرمال (1)، بل المراد إيجاد أمر اعتباري في دائرة المولوية والعبودية، نظير
إغراء الكلاب المعلمة والطيور الجارحة إلى المقصود، كما أشرنا آنفا.
وهذا الكلام من شيخنا العلامة (قدس سره) عجيب؛ لأنه لم يدع أحد إثبات العلية
الذاتية التكوينية للألفاظ، بل مراد من قال ذلك: هو إيجاد أمر اعتباري في محيط
الاعتبار، وهذا لا محذور فيه.
128

والظاهر: أنه (قدس سره) غفل عن هذا المعنى، وإلا كان تصديقه لما ذكرنا قطعيا؛
لانشراح صدره وجودة فكره.
وثانيا: إن أراد بقوله: إن الإنشائيات موضوعة للحكاية عن حقائق موجودة
في النفس - حكاية اللازم عن ملزومه - فلا غبار عليه.
وإن أراد حكاية اللفظ الدال على المعنى الموضوع له عنه ففيه: أن الذي يفهم
العرف من هيئة الأمر - مثلا - إنما هو البعث الاعتباري لا الإرادة الموجودة في
النفس.
وبالجملة: فرق بين كشف اللازم عن ملزومه، وبين كشف اللفظ الموضوع
عن معناه الموضوع له، والكلام إنما في الثاني. وغاية ما يساعد عليه العرف فيما
أفاده إنما هو في الأول، فتدبر.
وثالثا: أن ما ذكره أخيرا في قصد الإقامة نظر وجيه؛ لأن قصد إقامة عشرة
أيام لا يمكن تحققه إلا مع الجزم ببقاء عشرة أيام في مكان، ولا يتمشى منه قصد
إقامة عشرة أيام مع عدم الجزم بالبقاء، فضلا عن الجزم بالعدم، هذا.
مضافا إلى أنه لو صح منه ذلك لا يكون الإتمام من آثار نفس قصد الإقامة،
وإلا لابد وأن يتم صلاته لمن قصد إقامة عشرة أيام في بلد، مع علمه بعدم توقفه
هناك إلا يوم واحد، وهو كما ترى.
كما أنه لم يترتب الإتمام على نفس بقائه في ذلك البلد من دون قصد الإقامة
فيه، بل الإتمام من آثار القصد وإقامة عشرة أيام في محل كليهما.
نعم، إقامة العشرة تارة تكون مقصودة بالذات، وأخرى لا تكون كذلك، بل
للتوصل إلى أمر آخر، كأن يقصد إقامة عشرة أيام للتوصل إلى درك أفضل فردي
الصلاة؛ وهي الصلاة التمام. ولكن لا فرق بينهما في إيجاب القصد شيئا في الموارد،
غايته يكون القصد في أحدهما ذاتي دون الآخر، فتدبر.
129

ثم إنه يكون للمحققين النائيني والعراقي (قدس سرهما) مقالا هنا، فمع أنهما تبعيدان
للمسافة لا يرجعان إلى محصل، فالأولى الصفح عنهما، وإن شئت فلاحظهما (1).

1 - قلت: لا بأس بالإشارة إلى حاصل ما أفاده؛ تسهيلا للمراجعة، من غير تعرض للرد أو القبول.
وحاصل ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره): هو أن صيغة الأمر - كصيغة الماضي والمضارع - تشتمل على
مادة وهيئة. وليس للمادة معنى سوى الحدث، كما أنه ليس للهيئة معنى سوى الدلالة على نسبة
الفاعل. نعم تختلف كيفية انتساب المادة إلى الفاعل حسب اختلاف الأفعال.
إلى أن قال: وأما فعل الأمر فهيئته إنما تدل على النسبة الإيقاعية، من دون أن يكون الهيئة مستعملة
في الطلب أو التهديد أو غير ذلك من المعاني للهيئة... إلى آخره [1].
وحاصل ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره): هو أنه ليس لصيغة الأمر إلا معنى واحد في جميع الموارد؛
وهو البعث الملحوظ نسبة بين المادة التي طرأت عليها الصيغة، وبين المخاطب بها. وهذه النسبة
قائمة بين مفهوم المادة ومفهوم ذات ما، كما هو الشأن في جميع المفاهيم الحرفية. وتحكي تلك
عن بعث خارجي في مقام التصور، وإن لم يكن لها مطابق في الخارج في مقام التصديق. والبعث
الخارجي لو اتفق تحققه ملازم لإرادة منشأ هذا البعث. وهذا المعنى الواحد قد ينشأه المتكلم
بداعي الطلب الحقيقي فيكون بعثا حقيقيا، وقد ينشأه بداعي التهديد - مثلا - فيكون ذلك تهديدا...
إلى آخره [2]. [المقرر حفظه الله].
[1] فوائد الأصول 1: 129.
[2] بدائع الأفكار 1: 210.
130

الجهة الثانية
في أن صيغة الأمر موضوعة لمعنى واحد، أو لمعاني متعددة؟
ذكر لصيغة الأمر معان (1)، كما ذكر لهمزة الاستفهام معاني.
فيقع الكلام في أن تلك المعاني هل معانيها بنحو الاشتراك اللفظي، أو لها
معنى واحد - وهو البعث أو إنشاء الطلب - والدواعي الكثيرة لا توجب المجازية، أو
أن في واحد منها حقيقة وفي الباقي مجاز؟ وجوه، بل أقوال.
والظاهر المتبادر من صيغة الأمر: هو البعث والإغراء الاعتباري في عالم

1 - قلت: وقد أنهاها بعض - كما حكي - إلى نيف وعشرين معنى [1]، نشير إلى بعضها:
منها: التمني، كقول امرء القيس:
ألا أيها الليل الطويل الأ انجلي * بصبح وما الأصباح منك بأمثل [2]
ومنها: التهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) [فصلت (41): 40].
ومنها: الإنذار، كقوله تعالى: (قل تمتعوا) [إبراهيم (14): 30]، ويمكن رجوعه إلى التهديد.
ومنها: الإهانة، كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) [الدخان (44): 49].
ومنها: التعجيز، كقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) [البقرة (2): 23].
ومنها: التسخير، كقوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) [الأعراف (7): 166].
ومنها: الدعاء، كقوله تعالى: (رب اغفر لي) [ص (38): 35].
إلى غير ذلك. [المقرر حفظه الله].
[1] مفاتيح الأصول: 110 / سطر 18.
[2] جامع الشواهد: 161.
131

الاعتبار - أعني في دائرة المولوية والعبودية - والمعاني الكثيرة التي عدت
لصيغة الأمر ليست معانيها، ولم توضع الهيئة لها، ولم تستعمل فيها في عرض
استعمالها في البعث والإغراء.
بل هي مستعملة فيها مجازا على حذو سائر الاستعمالات المجازية؛ حيث
لم يستعمل اللفظ فيها في غير ما وضع له، بل استعمل فيما وضع له؛ ليتجاوز منه إلى
المعنى المراد جدا؛ للعلاقة.
مثلا: لفظ " الأسد " في قوله: " رأيت أسدا يرمي " لم يستعمل في الرجل
الشجاع، بل استعمل في معناه الواقعي، كما في قوله: " رأيت أسدا ".
نعم، يستعمل لفظ " الأسد " تارة ويريد منه الأسد الواقعي؛ فيكون حقيقة فيه،
من " حق الشيء " إذا ثبت، فكأنه أريد أن يثبت ذهن السامع فيه، ولا يتجاوزه إلى
غيره.
كما يستعمل أخرى ويريد منه التجاوز منه إلى غير معناه الموضوع له، بادعاء
أنه عينه؛ فيكون مجازا، من " جاز " إذا تعدى، فكأن المتكلم بحسب القرينة يريد
انصراف ذهن السامع من الأسد الواقعي إلى الرجل الشجاع.
وما أسمعناك في الاستعمالات المجازية هو الذي ذكره المشهور في
خصوص الكناية؛ حيث قالوا: إن اللفظ في باب الكناية يستعمل فيما وضع له؛
لينتقل منه إلى المعنى المراد بذلك اللفظ.
مثلا قوله: " زيد كثير الرماد " إذا استعمل ذلك وأريد منه انتقال ذهن السامع
إلى لازمه - الذي هو عبارة عن جوده وكرمه - تكون كناية. وأما إذا استعمل وأريد
منه إفادة معناه فقط لا يكون كناية.
وقد استعملت في قوله تعالى (فأتوا بسورة من مثله) (1) في معناه لينتقل

1 - البقرة (2): 23.
132

الذهن منه إلى عدم قدرتهم على إتيان مثله.
وأما في غير باب الكناية - من سائر أنواع المجازات - فيرون أن اللفظ فيها
مستعمل في غير ما وضع له.
ولكن الذي يحكم به الذوق السليم، وتقتضيه البلاغة: أن اللفظ في غير باب
الكناية - من سائر أنواع المجازات - أيضا استعمل فيما وضع له، ولا فرق بين
الكناية سائر أنواع المجازات من هذه الجهة.
ولذا يسري الصدق والكذب في هذه القضايا أيضا؛ فإن من يقول: " كنت أقدم
رجلا وأؤخر أخرى " مثلا فإما يريد معناه الحقيقي، أو يريد منه لازمه، الذي هو
عبارة عن التحير والاضطراب.
وصدقه على الأول إنما هو إذا تقدم أحد رجليه وأخر أخراه، وكذبه عدم
ذلك. وأما صدقه على الثاني فإنما هو إذا حصلت منه حالة التحير والاضطراب،
وكذبه إنما هو فيما لم يحصل منه تلك الحالة، وإن تقدم أحد رجليه وأخر أخراه.
وبالجملة: أن الاستعمالات المجازية برمتها لم تكن استعمالات الألفاظ في
غير ما وضعت لها حتى يكون التلاعب بالألفاظ، بل استعمالات لها فيما وضعت
لها؛ فالتلاعب إنما هو في المعاني حسب ما فصلناه.
ولم يشذ منها صيغة الأمر وهمزة الاستفهام، بل استعمل كل منهما في
معناهما الموضوع له؛ من إيجاد البعث الاعتباري والاستفهام.
غاية الأمر: استعملت هيئة الأمر - مثلا - في البعث ليحق ويثبت ذهن السامع
عليه، ويفهم منها ذلك، فيبعث إلى المطلوب، فيكون حقيقة. وربما تستعمل فيه، لكن
ليتجاوز ذهنه إلى المعنى المراد جدا بعلاقة ونصب قرينة.
133

ففي قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (1)
استعملت هيئة الأمر في البعث، لكن لا لغرض البعث، بل للانتقال منه إلى خطأهم
في التقول على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو لتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن، فتدبر.
إشكال وحل
فإن أحطت خبرا بما ذكرنا يرفع عنك إشكال استعمال أدوات التمني
والترجي والاستفهام وأمثالها في الكتاب العزيز:
أما الإشكال: وهو أن صدورها من المبادئ التي تكون مستلزمة للجهل
والنقص والانفعال ممتنعة عليه تعالى.
وأما الحل: فهو أنه وضعت تلك الحروف لإيقاع الاستفهام والتمني والترجي
وغيرها، ولا يلزم على هذا المحالية بالنسبة إليه تعالى؛ لأن المحالية إنما تلزم إذا
أريدت منها بالإرادة الجدية، وأما بالنسبة إلى الإرادة الاستعمالية فلا، فتدبر.
وبالجملة: الأدوات الموضوعة لإنشاء تلك المعاني مستعملة فيما وضعت لها
لأجل الانتقال إلى معاني أخرى، حسب مناسبة الموارد والمقامات؛ فلا يستلزم
الجهل والنقض والانفعال حتى يستحيل في حقه تعالى.
تذنيب: في تضعيف القولين الآخرين في معنى صيغة الأمر
وفي قبال ما ذكرنا في معنى صيغة الأمر قولان آخران:
أحدهما: أن صيغة الأمر مستعملة في تلك المعاني على نحو الاشتراك
اللفظي، وقد أشرنا أن التبادر على خلاف ذلك.

1 - هود (11): 13.
134

والثاني: ما ذهب إليه المحقق العراقي (قدس سره): من أنه ليس لصيغة الأمر إلا معنى
واحدا في جميع موارد استعمالها؛ وهو البعث الملحوظ نسبة بين المادة التي جرت
عليها الصيغة، وبين المخاطب بها.
وهذه النسبة قائمة بين مفهوم المادة ومفهوم ذات ما، وتحكي النسبة
المذكورة عن بعث خارجي في مقام التصور، وإن لم يكن لها مطابق في الخارج في
مقام التصديق. وهذا المعنى الواحد ينشأه المتكلم بداعي الطلب الحقيقي فيكون بعثا
حقيقيا، وبداعي التهديد فيكون تهديدا، وبداعي الترجي فيكون ترجيا، إلى غير
ذلك من الأمور التي زعم أنها معاني الصيغة.
وواضح: أن اختلاف الدواعي في مقام استعمال اللفظ في معناه لا يوجب
اختلاف المستعمل فيه وتعدده؛ ليكون مشتركا، أو حقيقة ومجازا، انتهى ملخصا (1).
وفيه: أنه قد أشرنا أنه - مع كونه تبعيدا للمسافة - لا يرجع إلى محصل.
ومنشأ ما ذكره هو توهم أن المجاز استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع
له، كما لعله المشهور بينهم، ويرون أن كل لفظ إذا استعمل في معناه الموضوع له
- لأي غرض كان - فهو حقيقة.
فلو تم المبنى لا غبار للبناء عليه، وإن كان مثاله لا يخلو عن مناقشة.
ولكن المبنى - كما أشرنا - غير تام؛ لما أشرنا: أن في المجاز أيضا استعمل
اللفظ في معناه الحقيقي؛ ليتجاوز عنه إلى غيره. فالمجازية باعتبار تجاوزه عن معناه
الحقيقي إلى غيره بالقرائن؛ فلا يتم ما أفاده، فتأمل.

1 - بدائع الأفكار 1: 210.
135

الجهة الثالثة
في أن الصيغة موضوعة لخصوص الوجوب أم لا؟
قد عرفت مما تقدم: أن صيغة الأمر وضعت للبعث والإغراء، فيقع البحث في
أنها هل وضعت للبعث الوجوبي، أو الاستحبابي، أو القدر المشترك بينهما، أو لهما
على سبيل الاشتراك اللفظي؟
ينبغي ذكر أمرين؛ مقدمة لتوضيح الأمر وتنتج محط البحث، ومعنى الوضع
للوجوب أو الاستحباب أو للجامع بينهما:
الأمر الأول: في قبول الإرادة مع بساطتها للشدة والضعف
قال المحقق النائيني (قدس سره) ما حاصله: إن الإرادة بما أنها شوق مؤكد مستتبع
لتصدي النفس لحركة العضلات لا تقبل الشدة والضعف، بل هي في جميع الأفعال
الصادرة من الإنسان على نسق واحد.
وليس هذا من الأمور التي ترجع فيها إلى اللغة، بل العرف ببابك، فهل ترى
من نفسك اختلاف تصدي نفسك وحملتها نحو ما كان في منتهى درجة المصلحة
وقوة الملاك؟ كتصدي نفسك نحو شرب الماء الذي به نجاتك. أو نحو ما كان في
أول درجة المصلحة، كتصدي نفسك لشرب الماء لمحض التبريد.
كلا! لا يختلف تصدي النفس المستتبع لحركة العضلات باختلاف ذلك، بل
بعث النفس للعضلات في كلا المقامين على نسق واحد، انتهى (1).
وفرق المحقق العراقي (قدس سره) بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، فقال: إن

1 - فوائد الأصول 1: 135.
136

الإرادة التي لا يتصور فيها الشدة والضعف هي الإرادة التكوينية. وأما الإرادة
التشريعية فهي تابعة للمصلحة التي تنشأ منها؛ فإن كانت المصلحة لزومية كانت
الإرادة الناشئة منها إلزامية، ويعبر عنها بالإرادة الوجوبي، وإن كانت المصلحة غير
لزومية كانت الإرادة أيضا غير إلزامية، ويعبر عنها بالإرادة الاستحبابي (1).
أقول: لم يقيما العلمان دليلا وبرهانا على مدعاهما، وغاية ما يظهر منهما هي
أن الإرادة هي الشوق المؤكد الذي لا تكون فوقها مرتبة. نعم ادعى المحقق
النائيني (قدس سره) الوجدان على مقالته.
فنقول: من رأس كون الإرادة عبارة عن الشوق المؤكد وإن وقع في كلام
كثير (2) - حتى من الفلاسفة (3) - ولكنه غير صحيح؛ وذلك لأنه قد تريد شيئا ولا
تكون مشتاقا إليه، فضلا عن تأكده، بل كنت تكرهه، هذا.
مضافا إلى اختلافهما من حيث المقولة؛ لأن الإرادة صفة فعلية - ويعبر عنها
بتجمع النفس وهمته ونحوهما - والاشتياق صفة انفعالية.
وإن كنت في ريب فيما ذكرنا: فاختبر نفسك حال من فسد عينه، وقال
الطبيب الحاذق: إن أردت السلامة والعافية فلابد من قلعها.
فالمريض العاقل يتصور قلع عينه ويصدق بفائدته، فيرجح القلع على بقائها؛
لأن سلامته وعافيته على قلعها. ولكنه مع ذلك لم يكن مشتاقا إلى قلعها، وهذا
أوضح من أن يخفى.
نعم، قد يريد شيئا، ويكون مشتاقا إليه أيضا، كمن يريد إنقاذ محبوبه من
الغرق.

1 - بدائع الأفكار 1: 212.
2 - كفاية الأصول: 86. فوائد الأصول 1: 132. نهاية الدراية 1: 279
3 - أنظر الحكمة المتعالية 4: 113 - 114، شرح المنظومة (قسم الحكمة): 184.
137

وبالجملة: قد يريد الإنسان ما يشتاق إليه نفسه، وقد يريد ما يكرهه؛ لحكم
العقل وإغرائه على ترجيح المصلحة القوية على المصلحة الضعيفة، وكم فرق بين
ترجيح العقل أحد طرفي الفعل على الآخر، وبين اشتياقه لأحدهما دون الآخر!
بداهية أن الترجيح حكم العقل، والاشتياق من صفات النفس.
فتحصل: أن الشوق المؤكد غير الإرادة، بل لم يكن من مبادئها دائما، ونفس
الاشتياق - بلغ ما بلغ - ما لم تضم إليه أمر آخر لا يوجب إتيان الفعل خارجا.
ولو سلم كون الاشتياق من مبادئ الإرادة، أو أنها هي الشوق المؤكد لكن
الضرورة قاضية بوجود الشدة والضعف في الإرادة؛ بداهة أن إرادة إنقاذ المحبوب
عن الغرق أقوى من إرادة شرب الماء للتبريد.
وكم فرق بين إرادة الحكومة والسلطنة على الناس، وبين إرادة كنس البيت!
ولذا قد لا يبالي للوصول إلى مراده في الأولى من لا تقوى له لهلاك نفس أو نفوس،
دون الثانية.
وبالجملة: يختلف إرادة الفاعل فيما يصدر منه قوة وضعفا حسب اختلاف
أهمية المصالح والغايات المطلوبة منه؛ فالإرادة المحركة لنجاة نفسه أقوى من
المحركة لها للقاء محبوبه، وهي أقوى من المحركة لها للتفرج والتفريح، وهكذا...
فظهر: أن الذي يقتضيه الوجدان، بل عليه البرهان هو أن الإرادة لها مراتب،
وهي غير الاشتياق، والاشتياق - بأي مرتبة كانت - لا يوجب بعثا، وهذا مما لا
إشكال فيه.
والإشكال إنما هو في كيفية قبول الإرادة للشدة والضعف، مع أنها حقيقة
بسيطة، كما أورد ذلك الإشكال في الوجود والعلم وغيرهما من الحقائق البسيطة.
138

وقد أجابوا عن الإشكال في جميع الموارد: بأن ما به الاشتراك فيها عين ما به
الامتياز.
ولا يكون الاختلاف بينهما بتمام الذات المستعملة في الماهيات أو بعضها أو
بأمر خارج عنها؛ ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القوية والضعيفة. ولا يكون
اختلافهما ببعض الذات؛ لبساطتها. ولا بأمر خارج حتى تكونا في مرتبة واحدة،
والشدة والضعف لاحقان به.
فالإرادة - كسائر الحقائق البسيطة - تكون افتراق مراتبها كاشتراكها بتمام
الذات، وتكون ذات عرض عريض ومراتب شتى. ولا يهمنا التعرض لتحقيق الأمر
في ذلك هنا، ومن أراد حقيقة الحال فليراجع مظانه.
الأمر الثاني: في اختلاف الإرادة التشريعية باختلاف المصالح
إن الأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان - برمتها - لابد وأن تكون
مسبوقة بالتصور، والتصديق بالفائدة، والتصميم، والإرادة، وتحرك العضلات
والرباطات، فإذا تحققت الجميع يوجد الفعل خارجا.
ولا فرق في ذلك بين كون الفعل الصادر من الأمور الخارجية - أعني الأمور
التكوينية - أو من الأمور التشريعية؛ فإن وضع القانون وصدور الأمر من الآمر فعل
اختياري له؛ فلابد له - بما أنه فعل اختياري له - ما لغيره من سائر أفعاله
الاختيارية، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة.
فكما أنه في الأفعال الخارجية والإرادات التكوينية - على زعمهم - تكون
شدة الإرادة وضعفها تابعة لإدراك أهمية المراد والمصالح والأغراض فيه، فكذلك
في الإرادة التشريعية تختلف حسب إدراك المصالح والغايات التي تكون في
متعلقها.
139

وواضح: أن إرادة التشريعية المحرمة لقتل النفس المحترمة وشرب الخمر
أقوى - مثلا - من إرادة ترك النظر إلى الأجنبية؛ لأقوائية المصالح والمفاسد فيهما،
دون الأخير.
وليس لنا غالبا طريق إلى إدراك المصالح والمفاسد لو خلينا وأنفسنا إلا ببيان
الشارع الأقدس. فقد يستفاد الأهمية من اقتران البعث بالتأكيدات، وتعقبه بالوعد
بنعيم الجنة لو آتاه، والوعيد بلهيب النار لو تركه. كما يستفاد ضعف الإرادة وفتورها
من مقارنة البعث بالترخيص في الترك - مثلا - إلى غير ذلك.
ولعمر الحق: إن ما ذكرناه واضح لا سترة فيه.
فإن كان - مع ذلك - في خواطرك ريب فلاحظ حال الموالي العرفية مع
عبيدهم؛ فترى ما ذكرنا بوضوح، ويكون أصدق شاهد على ذلك.
فإنه يمكن استفادة أقوائية إرادة المولى إنفاذ ابنه العزيز عنده من الغرق
والحرق من إرادته شراء الماء للتبريد من جهة أدائه ذلك بلحن شديد، واقترانه
بأنواع التأكيدات، وتحريك أياديه ورباطاته إلى غير ذلك، ولم يكن شئ من ذلك
في شراء الماء للتبريد.
إذا تمهد لك ما ذكرنا: فيقع الكلام في أنه هل وضعت صيغة الأمر وهيئته
للإغراء والبعث اللزومي، أو بانصرافها إليه، أو لا هذا ولا ذاك، بل لكشفها عن ذلك؛
كشفا عقلائيا نظير سائر الأمارات العقلائية، أو لكون ذلك بمقدمات الحكمة، أو
ليس لشيء من ذلك، بل من جهة أن بعث المولى حجة على العبد بحكم العقل
والعقلاء، ولا عذر للعبد في تركه لو طابق الواقع؟ وجوه.
140

لا وجه للقول: بوضع هيئة الأمر للبعث الوجوبي - بأي معنى فرض - وذلك
لأنه:
إما يراد: أنها موضوعة له بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص؛ فنقول: إن
الوضع كذلك وإن كان ممكنا، كما سبق منا في وضع الحروف؛ بأنه وإن لا يمكن
تصوير جامع حقيقي بين معاني الحروف برمتها؛ لأن الجامع الحرفي لابد وأن يكون
ربطا بالحمل الشائع، وإلا يصير جامعا اسميا، والربط الكذائي أمرا شخصيا لا يقبل
الجامعية، إلا أنه يمكن تصوير جامع اسمي عرضي.
فعلى هذا: يمكن تصوير جامع عرضي بين أفراد البعوث الناشئة عن
الإرادات الجدية، ثم توضع الهيئة بإزاء مصاديقه.
ولكنه خلاف التبادر؛ لأن المتبادر من هيئة الأمر - كما تقدم - هو الإغراء
بالحمل الشائع، نظير إشارة الأخرس؛ فكما لا يستعمل إشارة الأخرس في المعنى
الكلي، ويكون المتبادر منها الإغراء بالحمل الشائع، فكذلك المتبادر من هيئة الأمر
البعث والإغراء بالحمل الشائع.
فعلى هذا: لا معنى لتقييد البعث بالوجوب؛ فإن التقييد إنما يتصور فيما إذا
تصور أمرا مطلقا، ففيما يكون الشيء آلة لإيجاد أمر خارجي فلا معنى لتقييده بعد
إيجاده. نعم يمكن أن يوجد أمرا مقيدا.
وبالجملة: لو كانت هيئة الأمر بعثا بالحمل الشائع فلا يكون قابلا للتقييد
بالإرادة الحتمية أو بالوجوب؛ لعدم تقييد المصداق الخارجي الوجود الكذائي
بالمفهوم والعنوان.
وبعبارة أخرى: القابل للتقييد هو العناوين والمفاهيم الكلية لا المصاديق
والموجودات الخارجية، فتدبر.
وإما يراد: بأن الموضوع البعث المتقيد بالإرادة الواقعية الحتمية.
ففيه أيضا إشكال؛ لأن الإرادة من مبادئ البعث، والبعث متأخر عنها، بل
141

الإرادة بمنزلة العلة للبعث؛ فلا يعقل أن يتقيد البعث المتأخر ذاتا بما يكون
متقدما عليه برتبة أو رتبتين.
وبالجملة: لا يعقل تقييد المعلول بعلته، فضلا عن علة علته، أو كعلته في
التقدم؛ للزوم كون المتأخر متقدما أو بالعكس.
مضافا إلى أنه - كما أشرنا آنفا - لا معنى لتقييد الموجود الخارجي بما هو
موجود بالمفهوم، وما يقبل التقييد هو المفهوم. نعم يمكن أن يوجد الشيء مقيدا،
وهو غير ما نحن بصدده، هذا.
ولكنه يمكن أن يتصور بنحو لا يكون فيه إشكال ثبوتي، ولكنه خلاف
التبادر؛ وذلك لأن الإنسان قد يريد شيئا بإرادة قوية؛ بحيث يصح انتزاع الوجوب
منه، وقد يريده بإرادة ضعيفة يصح انتزاع الاستحباب منه.
فالأوامر في متن الواقع على قسمين: إما من إرادة قوية وجوبية، أو من إرادة
ضعيفة استحبابية.
فللواضع تصور قسم منه؛ وهو الصادر من إرادة وجوبية: إما بالنحو الكلي
فيضع الهيئة لكل ما يكون مثلا له حتى يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا.
كما له تصور قسم آخر منه؛ وهو خصوص الصادر من إرادة وجوبية ويعطف
غيره عليه، حتى يكون الوضع والموضوع خاصين.
وبالجملة: الإرادة حيث تكون بحسب التكوين والتشريع على قسمين فللأمر
الصادر من الإرادة القوية - التي لا يرضى بتركها - تحصل، غير ما يكون متحصلا
عما يصدر عن إرادة غير قوية.
فيمكن وضع هيئة الأمر لخصوص قسم منه؛ إما بنحو الوضع العام والموضوع
له الخاص، أو بنحو الوضع والموضوع له الخاصين، فلا يكون في المسألة محذور
ثبوتي.
142

ولكنه - كما أشرنا - خلاف التبادر والمتفاهم العرفي؛ ضرورة أن المتفاهم من
هيئة الأمر ليس إلا البعث والإغراء، كإشارة المشير لإغراء غيره، وكإغراء الجوارح
من الطيور وغيرها. فكأن لفظة هيئة الأمر قائمة مقام الإشارة، وذلك الإغراء، فتدبر.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا: تعرف النظر فيما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره)؛
من تبادر الوجوب من استعمال صيغة الأمر مع قوله بوضعها للوجوب (1)؛ لما أشرنا
من عدم إمكان ادعائه ثبوتا، فكيف يدعي التبادر في مقام الإثبات؟! فتدبر.
هذا كله بالنسبة إلى وضع صيغة الأمر للوجوب.
وأما القول بكون صيغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب أو البعث، لكنه ينصرف
إلى الطلب والبعث الوجوبي، ولعل هذا أحد محتملات كلام صاحب
" الفصول " (قدس سره) (2).
ففيه أولا: أن دعوى الانصراف بمعناه المعروف إنما يمكن لو كان الموضوع
له صيغة الطلب الكلي، وأما لو كان الموضوع له الطلب بالحمل الشائع فلا يمكن
دعواه، ولعله أوضح من أن يخفى، فتدبر.
وثانيا: أنه لو سلم إمكان دعوى الانصراف فلابد وأن يكون في مورد يكثر
استعماله فيه؛ بحيث يوجب أنس الذهن به؛ بحيث يوجب انقلاب الذهن وتوجهه
إليه متى انقدح في ذهنه ذلك اللفظ، ويكون المعنى مغفولا عنه ومهجورا.
وواضح: أن هذا المعنى مفقود فيما نحن فيه؛ لكثرة استعمال صيغة الأمر في
الطلب الندبي أيضا، كاستعمالها في الطلب الوجوبي؛ فلا وجه لدعوى الانصراف
إلى الطلب الوجوبي.

1 - كفاية الأصول: 92.
2 - الفصول الغروية: 64 / سطر 31.
143

بل كما صرح صاحب " المعالم " (قدس سره): أن استعمال صيغة الأمر في الاستحباب
أكثر منه في الوجوب (1)، فكان ينبغي انصرافها إلى الطلب الندبي.
إلا أن يقال: إن أكثرية استعمالها في الاستحباب إنما هو في الأوامر الشرعية.
وأما في الأوامر العرفية فلا يبعد دعوى أكثرية استعمالها في الوجوب ولعله مراد
القائل به.
ولكن ذلك لا يثبت الانصراف، بل لا معنى له بعد معهودية استعمالها، بل
أكثريتها في الأوامر الشرعية، فتدبر.
ومن هنا يظهر الخلل في القول بكون صيغة الأمر منصرفة إلى البعث الناشئ
من الإرادة الحتمية - وهو الوجوب - لما أشرنا أن منشأ الانصراف لابد وأن يكون
لأنس الذهن الحاصل من كثرة الاستعمال فيه؛ بحيث يوجب انصراف الذهن عن
غيره؛ بحيث يكون احتماله عقليا لا عقلائيا.
وقد أشرنا آنفا: أن استعمال صيغة الأمر في الاستحباب لو لم يكن أكثر منه
في الوجوب يكون في رتبة استعمالها في الوجوب؛ فلا معنى لدعوى انصرافها إلى
الوجوب.
ولو أراد مدعى الانصراف: أكملية البعث الناشئ من الإرادة الحتمية من غيره
من أفراد البعث، فينصرف الذهن إليه عند إطلاق الصيغة.
ففيه: أن مجرد الأكملية لا تصلح لذلك، ولا يوجب الانصراف، ولعله أوضح
من أن يخفى.
ذكر وتعقيب
وأما القول بأن منشأ ظهور الصيغة في الوجوب مقدمات الحكمة فهو مختار
المحقق العراقي (قدس سره)، وقد قربه بتقريبين، وذكر التقريبين في كل من مادة الأمر
وصيغته، لكن مع تفاوت بينهما:

1 - معالم الأصول: 48 - 49.
144

التقريب الأول
في جريان مقدمات الحكمة في استفادة الوجوب من مادة الأمر
فحاصله: أن مادة الأمر وإن كانت موضوعة للجامع ومطلق الطلب - بشهادة
التبادر وغيره - إلا أن جريان مقدمات الحكمة في الطلب الإلزامي أخف من
جريانها في الطلب غير الإلزامي.
فلو كان المتكلم في مقام البيان فإذا ألقت مادة الأمر بدون القيد فينقدح في
الذهن ما يكون أخف مؤونة؛ وهو الطلب الإلزامي.
أما كون الإرادة الإلزامي أخف؛ فلأن امتيازها عن الإرادة الندبية بالشدة؛
فيكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك، بخلاف الإرادة الندبية فإنما تفترق عن
الوجوبية بالضعف، فكأنه طلب وإرادة ناقصة؛ فما به الامتياز غير ما به الاشتراك.
فإرادة الضعيفة محتاجة إلى بيان زائد، ففي صورة إطلاق الأمر يحمل على الإرادة
القوية.
وأما جريان مقدمات الحكمة في صيغة الأمر: فقد يشكل جريانها من جهة أن
مفهوم الصيغة هو البعث الملحوظ نسبة بين الذات - أعني به المبعوث - وبين
المبعوث إليه - أعني به المادة - والبعث المزبور لا يقبل الشدة والضعف؛ لكونه في
الأمر الوجوبي مثله في الأمر الندبي، فلا إطلاق ولا تقييد؛ فلا تجري مقدمات
الحكمة من هذه الجهة.
وكذا في الإرادة؛ لكونها أمرا شخصيا جزئيا لا يتصور فيه الإطلاق والتقييد
ليتوسل بمقدمات الحكمة إلى بيان ما أريد منهما فيها.
وتوهم: أن الأمر بلحاظ المفهوم وإن لم يكن موضوعا للإطلاق والتقييد لكنه
بلحاظ الأحوال يكون موضوعا لها، ويمكن أن تكون الشدة والضعف المتواردين
على الإرادة الخارجية من أحوالها وطواريها؛ فتكون باعتبارهما مجرى مقدمات
الحكمة.
145

مدفوع: بأن الشدة والضعف ليستا من أطوار الإرادة بعد وجودها، بل هما من
مشخصات وجودها؛ لأنها إذا وجدت فإما شديدة أو ضعيفة.
ولكن التحقيق في حل الإشكال: هو أن يقال بجريان مقدمات الحكمة بنحو
آخر؛ وذلك لأن مقدمات الحكمة كما يجري في مفهوم الكلام؛ لتشخصه من حيث
سعته وضعفه، كذلك تجري في تشخيص الفرد الخاص فيما لو أريد بالكلام فردا
مشخصا، ولم يكن فيه ما يدل على ذلك بخصوصه، وكان أحدهما يستدعي مؤونة
في البيان أكثر من الآخر.
وذلك مثل الإرادة الوجوبية والندبية؛ فإن افتراق الأولى عن الثانية بالشدة؛
فيكون ما به الامتياز عين ما به الاشتراك. وأما افتراق الإرادة الندبية عن الوجوبية
إنما هي بالضعف؛ فما به الامتياز فيها غير ما به الاشتراك.
فالإرادة الوجوبية مطلقة من حيث الوجود الذي به الوجوب، بخلاف الإرادة
الندبية فإنها محدودة بحد خاص. فالإرادة الندبية محتاجة إلى دالين، بخلاف الإرادة
الوجوبية، انتهى محررا (1).
وفيه أولا: أنه سبق الكلام على المادة، وأن البحث فيها في مادة " أ م ر "
الموجودة في " أمر يأمر آمر " وهكذا، لا في الأمر بالصيغة، فالبحث غير مربوط
بجريان مقدمات، وقد أشرنا أن ذلك منه عجيب، فراجع (2).
وثانيا: لو سلم جريان مقدمات فمقتضاها هي كون صيغة الأمر والطلب
الجامع بين الوجوب والندب مطلوبا، لا الطلب الوجوبي؛ لأنه محتاج إلى بيان زائد،
كما لا يخفى.

1 - بدائع الأفكار 1: 197 و 213 - 214.
2 - تقدم في الصفحة 121 - 122.
146

وثالثا: أن قوله (قدس سره): إن الإرادة الوجوبية حيث لا حد لها لا يحتاج إلى البيان،
بخلاف الإرادة الندبية فإنها محتاجة إلى البيان؛ فلو أطلق يحمل على الإرادة
الوجوبية.
غير سديد؛ لأنه إما يرى أن بين المقسم والقسم فرقا في عالم القسمة، أم لا.
وبعبارة أخرى: هل يرى بين أصل الإرادة والإرادة الوجوبية في لحاظ التقسيم - وإن
كانت متحدة في الخارج - فرق أم لا؟
من الواضح: أنه لا سبيل له إلى القول بعدم الفرق، وإلا لا معنى للتقسيم؛
لاتحاد القسم مع مقسمه، فإن كان بينهما - كما هو كذلك - فعلى رغمه لو تمت
مقدمات الحكمة فمقتضاها وجود الإرادة بنفسها، وأما كونها وجوبية أو ندبية فلا.
وإن كان بعدما ذكرنا في نفسك ريب فلاحظ الوجود الذي أنيط به الأشياء،
فترى أنه في مقام التقسيم يقسم الوجود إلى الواجب والممكن، وإن كان في الخارج
متحدا مع أحدهما.
ولابد وأن يكون بين نفس الوجود، والوجود الواجب والوجود الممكن فرق،
كما يكون بين الأخيرين فرق. وإلا لو لم يكن بينهما فرق في مقام التقسيم يلزم
تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره، وهو فاسد.
فالوجود الجامع غير وجود الواجب ووجود الممكن، ولا ينطبق الجامع بما
هو جامع إلا على أحدهما، لا خصوص الواجب منهما.
فإذن نقول: نفس الإرادة لا وجوبية ولا ندبية؛ ولذا تكون وجوبية تارة
وندبية أخرى، فنفس الجامع لا يحتاج إلى البيان. وأما الإرادة الوجوبية أو الندبية
فمحتاجة إلى البيان، ومقدمات الحكمة لو جرت فمقتضاها إثبات الجامع بين
الإرادتين، لا خصوص الإرادة الوجوبية.
147

ورابعا: نقطع بعدم وجود الجامع بين الإرادتين في متن الواقع؛ لأن ما فيه إما
إرادة وجوبية أو إرادة ندبية؛ بداهة أن صيغة الأمر بعث وإغراء خارجي، نظير إشارة
الأخرس، فهو إما بعث وجوبي أو ندبي، ولا معنى لوجود الجامع بين الإرادتين،
والجامع إنما هو في الماهيات والمفاهيم.
فعلى هذا: تسقط مقدمات الحكمة؛ لأن مقتضاها أمر نقطع بعدمه في
الخارج.
وخامسا: أنه يتوجه عليه إشكال آخر، ولعله عبارة أخرى عما ذكرنا،
حاصله: أنه لو سلم أن ما به الامتياز في الإرادة الوجوبية عين ما به الاشتراك -
بخلاف الإرادة الندبية؛ فإنها غيره - فإنما هو في الواقع ونفس الأمر، ولكن لا
يوجب ذلك عدم احتياج إفهام الإرادة الوجوبية إلى البيان في مقام المعرفية، بل كل
منهما في مقام المعرفية يحتاج إلى البيان، ألا ترى أنه تعالى وجود صرف لا يشوبه
نقص أصلا، وغيره تعالى وجود ناقص، ومع ذلك إذا أريد بيان أحدهما فيحتاج إلى
البيان، فتدبر.
وسادسا: أن قوله: إن ما به الامتياز في الإرادة الوجوبية عين ما به الاشتراك
دون الإرادة الندبية، لا يرجع إلى محصل؛ لأن مورد قولهم بعينية ما به الامتياز مع ما
به الاشتراك إنما هو فيما لم يكن هناك تركب، وفي الحقائق كالنور، فكما أن امتياز
النور القوي عن النور الضعيف بنفس ذاته، فكذلك امتياز نور الضعيف عن النور
القوي بنفس ذاته؛ فالنور - مثلا - موجود وحقيقة ذات مراتب تمتاز كل مرتبة منه
عن المرتبة الأخرى.
فعلى هذا: لو كان ما به الامتياز في الإرادة الوجوبية عين ما به الامتياز
فليكن كذلك في الإرادة الندبية، فلا وجه للتفصيل، فتدبر واغتنم.
هذا كله في تقريبه الأول.
148

التقريب الثاني:
وليعلم: أن ما قرره مقرره - دام بقاءه - غير ما ذكره المحقق العراقي (قدس سره) في
" مقالاته "، وإن كان قريبا منه:
أما ما ذكر في تقرير بحثه فحاصله: أن كل أحد إذا طلب من غيره أمرا فغرضه
هو حصوله في الخارج وتحققه، فلابد وأن يكون طلبه إياه في حد ذاته لا قصور فيه
في مقام التوسل إلى إيجاده.
وليس ذلك إلا الطلب الإلزامي الموجب فعله الثواب وتؤكد استحقاق
العقاب. وأما الطلب الاستحبابي فلا يصلح لذلك، وإنما يصلح مجرد الثواب لفعله.
ولو كان هناك ما يقتضي قصوره عن التأثير التام في وجوب المطلوب - ولو
لقصور المصلحة أو لمانع يوجب قصورها عرضا - لوجب عليه أن يطلبه بتلك
المرتبة؛ فإن أشار إليها في مقام البيان فهو، وإلا فقد أخل في بيان ما يحصل به
غرضه.
فعليه: يكون إطلاق الأمر دليلا على طلبه الذي يتوسل به الطالب إلى إيجاد
مطلوبه بلا تسامح فيه، وليس هو إلا الطلب الوجوبي (1).
وأما الذي ذكره المحقق العراقي (قدس سره) في " المقالات " فهو أسلم مما ذكر في
تقرير بحثه؛ لأنه قال: يكفي لإثبات الوجوب ظهور إطلاقه في كونه في مقام حفظ
المطلوب، ولو بكونه حافظا لمبادئ اختياره من جهة إحداثه الداعي على فرار
العقاب أيضا.
بخلاف الاستحبابي فإنه لمحض إحداث الداعي على تحصل الثواب؛ فلا
يوجب مثله حفظ مبادئ اختيار العبد للإيجاد بمقدار ما يقتضيه الطلب الوجوبي؛
ولذا يكون في مقام الوجود أنقص.
فإطلاق الحافظية يقتضي حمله على ما يكون حافظيته أشمل (2).

1 - بدائع الأفكار 1: 197.
2 - مقالات الأصول 1: 208.
149

أقول: وفي كلا التقريبين إشكال، وإن كان فيما ذكره المقرر - دام بقاه -
إشكالات؛ وذلك لأنه:
إن أراد بقوله: " إنه لا ريب أن كل طالب أمرا من غيره فإنما يأمره به لأجل
إيجاده في الخارج " التحقق والوجود الحتمي في الخارج.
ففيه: أنه ليس كذلك؛ بداهة أن الأوامر الصادرة من الموالي على صنفين: 1 -
أوامر وجوبية 2 - أوامر ندبية؛ فانتقض كلية قوله: " إن كل طالب من غيره يريد
تحقق مطلوبه على سبيل التحتم ".
مضافا إلى: أن كلامه لا يخلو عن مصادرة؛ لأن النزاع إنما هو في ذلك، ولو
علمنا ذلك لما كان للنزاع موقف.
وإن أراد بذلك: إيجاد مطلوبه بالأعم من الحتم وغيره فكلام لا غبار عليه؛
فتكون مفاد هذه المقدمة: أن من يأمر غيره يريد تحقق مطلوبه في الخارج بالأعم
من الوجوبي والندبي، ومقتضاه: أن أوامر المولى قسمين: فبعضها لزومي وبعضها
ندبي.
ولكن لا تتم قوله: لابد وأن يكون طلبه إياه في حد ذاته لا قصور فيه في
مقام التوسل إلى إيجاده في الخارج، وهو واضح.
مضافا إلى: أنه غير مربوط بالمقدمة الأولى. ولو تمت المقدمة الأولى يتم
المطلب، من دون احتياج إلى ضم هذه المقدمة إليها، فتدبر.
وإن أراد بقوله في المقدمة الثانية: إن الطلب الوجوبي تام لا نقص فيه،
بخلاف الطلب الاستحبابي فإنه ضعيف؛ فيرجع إلى التقريب الأول، فقد عرفت بما
لا مزيد عليه ضعفه، فلا يكون تقريبا آخر.
ثم إن قوله: لو كان هناك ما يقتضي قصوره عن التأثير التام في وجود
المطلوب... إلى قوله: فقد أخل في بيان ما يحصل به غرضه... إلى آخره.
150

لا يخلو عن النظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الأمر بعكس ما ذكره؛ وذلك لأن
الآمر الملتفت إلى أن الأمر المطلق البعث الجامع بين الوجوب والندب لو كان
غرضه الإلزام فلابد له البيان، وإلا لأخل بغرضه، وحيث لم يبين فيستكشف عدمه
إنا. بخلاف ما لو لم يكن غرضه الإلزام؛ فإنه لا يحتاج إلى البيان؛ لأن الإخلال به
غير مضر.
وبالجملة: الأمر دائر بين الوجوب والندب بعد كون الأمر موضوعا للجامع،
فلو كان غرضه تحققه في الخارج حتما فلابد له من بيانه، وإلا لأخل بغرضه،
والإخلال بالغرض الإلزامي غير جائز. وأما لو لم يكن غرضه تحققه في الخارج
حتما فالإخلال به غير ضائر، ولا إشكال.
فظهر: أن كلامه لو تم فإنما هو لإثبات الاستحباب أولى من إثبات الوجوب،
فتدبر واغتنم.
وأما ما أفاده في " المقالات " وإن كان أسلم مما ذكر في " التقريرات " إلا أنه
يتوجه عليه أنه:
إن أراد بطلب إرادة العبد نحو مطلوبه الأعم من الوجوب والاستحباب فهو
وإن كان كذلك إلا أنه لا ينفعه لإثبات الوجوب.
وإن أراد: أن مقتضى إطلاق الطلب حمله على ما يكون أشمل فهو أول
الكلام. ومجرد الأشملية لا يوجب صرف الإطلاق إليها. هذا إذا أريد بقوله ذلك بيان
وجه مستقل لإثبات مقصوده.
وأما إن لم يرد بذلك بيان وجه مستقل، بل أراد تتميم الوجه الأول: فقد أشرنا
أن وجه الأول غير تام، فتدبر.
151

ذكر وتعقيب
ثم إن شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) - بعد أن قوى كون صيغة الأمر حقيقة في
الوجوب والندب بالاشتراك المعنوي - ذهب إلى أنه عند إطلاق الصيغة تحمل على
الوجوب.
وقال: لعل السر في ذلك: أن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس
إلا، والندب إنما يأتي من قبل الإذن في الترك - منضما إلى الإرادة المذكورة -
فاحتاج الندبي إلى قيد زائد. بخلاف الوجوب فإنه يكفي فيه تحقق الإرادة وعدم
انضمام الرخصة في الترك إليها.
ثم قال: إن الحمل على الوجوب عند الإطلاق غير محتاج إلى مقدمات
الحكمة، بل تحمل عليه عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور؛ فإن العرف
والعقلاء أقوى شاهد بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال الندب وعدم
كون الأمر في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.
وهذا نظير القضايا المسورة بلفظ " الكل " وأمثاله؛ لأنها موضوعة لبيان عموم
أفراد مدخولها؛ سواء كان مطلقا أو مقيدا (1).
وفيه: أنه قد أشرنا أن لازم القول بالاشتراك المعنوي هو كون الوضع
والموضوع عامين، وقد عرفت: أن مفاد الهيئة ليس إلا البعث والإغراء، نظير إشارة
الأخرس. فالموضوع لابد وأن يكون خاصا لو لم يكن الوضع أيضا خاصا.
ثم إن مراده (قدس سره) بالإرادة المتوجهة إلى الفعل الإرادة الواقعية؛ لأنه كان ينكر
الإرادة الاعتبارية والإنشائية.
فإذن نسأل من سماحته: هل واقع الإرادة الوجوبية عين الإرادة الندبية، أو
غيرها؟

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 74.
152

لا مجال للعينية؛ بداهة أن الإرادة الملزمة غير الإرادة غير الملزمة؛ لعدم
إمكان الترخيص في الترك في الإرادة الملزمة، وإمكانه في غير الملزمة. فكل منهما
منبعثة ن مبادئ مخصوصة بها.
وبعبارة أخرى: الإرادة الندبية مرتبة ضعيفة من الإرادة، كما أن الإرادة
الإلزامية مرتبة قوية منها؛ فلا تكون الإرادة فيهما واحدة والاختلاف بأمر خارجي؛
فهما مختلفتان بالذات في الرتبة.
فللإرادة اللزومية نحو اقتضاء غير ما تقتضيه الإرادة الندبية؛ فلا يلائم
بإحداهما دون الأخرى بمجرد الإطلاق، كما لا يخفى، فتدبر.
ثم إن ما أفاده - من عدم احتياج الحمل على الوجوب إلى مقدمات الحكمة،
نظير القضية المسورة بلفظة " كل " - قياس مع الفارق. إجماله - وسيوافيك تفصيله
في مباحث المطلق والعموم - أن الألفاظ الدالة بالوضع على الاستغراق إذا
استعملت فلا محالة بكون المتكلم بها في مقام بيان حكم الأفراد المدخولة لها؛
فإنها بمنزلة تكرار الأفراد.
وبالجملة: القضية المسورة بها بيان لفظي، ومتعرضة لكل فرد فرد بنحو
الجمع في التعبير، ومع ذلك لا معنى لإجراء مقدمات الحكمة، بخلاف المقام.
نعم، أحوال الأفراد في القضايا المسورة لابد لها من إجراء مقدمات الحكمة،
وهو كلام آخر، فتدبر.
فذلكة البحث
إذا أحطت النظر فيما ذكرنا في هذه الجهة دريت: أنه لا يفهم من صيغة الأمر
إلا كونها آلة للبعث والإغراء، نظير إشارة الأخرس.
ولا دلالة لها على الإرادة الحتمية أو الندبية أو الجامع بينهما؛ لا لفظا بأن
تكون
153

الصيغة مستعملة فيه، ولا عقلا، ولا بانتزاع معنى من الإرادة الإلزامية - أي
حتمية الإرادة - ولا من غيرها.
لما أشرنا أن الإرادة من مبادئ الطلب والبعث تكون الصيغة دالة عليها،
وحتمية الإرادة متأخرة عن الاستعمال، وعرفت: أن مقدمات الحكمة لم تتم في
المقام، ولو تمت تفيد غير ما عليه المحقق العراقي (قدس سره) وغيره؛ لأن غاية ما تقضيه
المقدمات: هي أن المولى إذا كان في مقام بيان أمره ولم يقيده بقيد يستكشف منه أن
الشيء من حيث هو مراده، ففيما نحن فيه لو جرت المقدمات فيمكن استكشاف
إرادة الجامع بين الإرادتين عند إطلاق الصيغة، لا الإرادة الحتمية.
ولكن عرفت: أنه لم يكن لنا في الواقع ونفس الأمر بعنوان الجامع بين
الإرادتين شئ؛ لأن الذي هناك إما إرادة وجوبية أو ندبية، وكل منهما غير الأخرى.
نعم مفهوم الإرادة مشترك بينهما.
وواضح: أنه لم تكن حقيقة الإرادة وواقعها الجامعة بين الإرادتين موجودة
في الخارج، فلا يمكن احتجاج العبد على مولاه أو بالعكس في إرادة الجامع.
والذي يمكن أن يقال ويقتضيه العقل والعقلاء - ولعله مراد الأعلام، كالنائيني
والعراقي والحائري وغيرهم (قدس سرهم)، وإن كانت عباراتهم غير خالية عن الإشكال
والنظر، كما أشرنا - هو أن الأوامر الصادرة من المولى واجب الإطاعة، وليس للعبد
الاعتذار باحتمال كونه ناشئا من المصلحة غير الملزمة والإرادة غير الحتمية. ولا
يكون ذلك لدلالة لفظية أو انصراف أو مقدمات الحكمة.
وبعبارة أخرى: استقرت ديدن العقلاء فيما إذا أمر المولى عبده بصيغة الأمر
كما إذا أشار إليه باليد على لزوم امتثاله؛ ولا يرونه معذورا في تركه، بل يوبخونه ما
لم يرد فيه ترخيص.
فنفي صدور البعث والإغراء من المولى - بأي دال كان - موضوع حكمهم
154

بلزوم الطاعة، مع عدم وضع لها، وعدم كشفه عن الإرادة الحتمية، ولم تجر
فيه مقدمات الحكمة.
بل يكون لزوم الامتثال بمجرد البعث والإغراء - بأي دال كان - أشبه شئ
بلزوم مراعاة أطراف المعلوم بالإجمال.
فكما أن لزوم إتيان جميع الأطراف لا يكشف عن إرادة حتمية في كل طرف،
ولكن لو ترك طرفا منها فصادف الواجب الواقعي يعاقب عليه، فكذلك فيما نحن فيه
لا عذر للعبد عند بعث المولى وإغرائه في تركه.
فظهر لك: الفرق بين كون شئ أمارة على الواقع، وبين كونه حجة عليه.
ولعل ما ذكرنا كله لا سترة فيه عند العرف والعقلاء، وإن لم نفهم وجه ذلك وسره،
وهو لا يضر بما نحن بصدده، فتدبر واغتنم.
تذييل: في كيفية دلالة الجمل الخبرية على الطلب والوجوب
كثيرا ما يستعمل الجمل الخبرية في الكتاب والسنة في مقام الإنشاء، كقوله
تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) (1)، (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء) (2)، وقوله (عليه السلام): " يسجد سجدتي السهو " (3)، أو " يعيد صلاته " (4)، أو
" يتوضأ " (5)، أو " يغتسل " (6)، إلى غير ذلك.

1 - البقرة (2): 233.
2 - البقرة (2): 228.
3 - وسائل الشيعة 4: 970، كتاب الصلاة، أبواب السجود، الباب 14، الحديث 7.
4 - وسائل الشيعة 2: 1064، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 42، الحديث 5.
5 - وسائل الشيعة 1: 518، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 36، الحديث 8.
6 - نفس المصدر، الحديث 6.
155

ولا إشكال: في أنها كهيئة الأمر في الدلالة على البعث والإغراء، وقد أشرنا
أن تمام الموضوع لحكم العقلاء بلزوم الإطاعة نفس البعث والإغراء - بأي دال
صدر من المولى - من غير فرق بين هيئة الأمر والإشارة وغيرهما. فحال الجمل
الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء حال هيئة الأمر وإشارة الأخرس في
إفادة الوجوب. وهذا مما لا كلام فيه.
وإنما الكلام: في كيفية دلالتها على الطلب والوجوب:
فقال المحقق العراقي (قدس سره): إنه ذكر لتشخيص كيفية دلالة الجمل الخبرية على
الطلب وجوه:
الأول: ما يظهر من كلمات القدماء من أنها قد استعملت في الطلب مجازا.
فرده: بأن الوجدان حاكم بعدم عناية في استعمالها حين دلالتها على الطلب،
بل لا فرق بين نحو استعمالها حين الإخبار بها ونحو استعمالها حين إفادة الطلب
بها، انتهى (1).
ولكن فيما أفاده نظر؛ وذلك لأن مراد القدماء بالمجاز أن هيئة الجملة الخبرية
استعملت في المعنى الإنشائي؛ بأن يكون معنى " تغتسل " مثلا " اغتسل ".
فالكلام فيه هو الكلام في باب المجاز من أنه لم يكن كذلك. وإن أرادوا: أنها
استعملت في معناها، لكن بداعي الإنشاء فلا غبار عليه، فلاحظ ما ذكرناه في
الاستعمالات المجازية.
ثم ذكر (قدس سره) الوجه الثاني (2)، وأشار إلى ضعفه.

1 - بدائع الأفكار 1: 215.
2 - قلت: وإليك حاصل ما ذكره في الوجه الثاني، وهو: أنه كما أن كثيرا ما يخبر العقلاء بوقوع
بعض الأمور في المستقبل؛ لعلمهم بتحقق مقتضيه - إما للغفلة عن مانعه، أو لعدم اعتنائهم به؛
لندرة وجوده - كإخبار بعض المنجمين بحدوث بعض الحوادث في المستقبل.
فيمكن أن يقال: إن من له الأمر حيث يعلم أن من مقتضيات وقوع فعل المكلف في الخارج وتحققه
هو طلبه وإرادته ذلك منه، فإذا علم بإرادته ذلك الفعل وطلبه من المكلف فقد علم بتحقق
مقتضيه، وصح منه أن يخبر بوقوع ذلك الفعل تعويلا على تحقق مقتضيه.
وبما أن سامع هذا الخبر يعلم: أن المخبر ليس بصدد الإخبار بوقوع الفعل من المكلف في المستقبل،
بل بداعي الكشف عن تحقق مقتضي وقوعه - أعني إرادة من له الأمر وطلبه منه - يكشف ذلك
الخبر بتلك الجملة عن تحقق إرادة المولى وطلبه لذلك الفعل من المكلف، انتهى.
فرده أولا: بأن إخبار المنجم بوقوع بعض الحوادث في المستقبل إنما يكون بداعي الكشف عن
تحققه في المستقبل؛ اعتمادا منه على تحقق علته، لا أنه يخبر بذلك بداعي الكشف عن تحقق
مقتضيه من باب الإخبار عن وجود أحد المتلازمين بالإخبار عن الآخر؛ ليكون كناية.
ولا ريب في أن من يريد وقوع فعل ما من الآخر في المستقبل لا يخبر به بداعي الكشف عن وقوعه
في المستقبل، بل بداعي الكشف عن إرادته ذلك الفعل منه.
وبذلك يكون الإخبار بالوقوع كناية عن طلب المخبر وإرادته لوقوع الفعل من المخاطب. وعلى هذا:
لا يكون وقع للمقدمة التي قدمها، ولا ربط لها بهذا الوجه.
وثانيا: لو أغضينا عن ذلك لما صح الإخبار بوقوع الفعل؛ لعلم المخبر بتحقق مقتضيه؛ لأن مقتضى
الفعل هي إرادة المولى ذلك الفعل من المكلف، وهي لا تكون مقتضية لوقوعه وصدوره من
المكلف وداعيا إليه إلا في حال علمه بها، لا بوجوده الواقعي محضا. وعلمه بها متوقف على
الإخبار بوقوع الفعل.
وعليه يلزم الدور؛ لأن الإخبار بوقوع الفعل متوقف على تحقق مقتضيه في الخارج، وتحقق مقتضيه
متوقف على الإخبار بوقوعه.
156

ثم ذكر وجها ثالثا واختاره، وحاصله: أن الجمل الخبرية الفعلية، ك‍ " بعت "
و " يغتسل " تستعمل دائما - سواء قصد بها حكايتها عن وقوع شئ في الخارج، أم
قصد بها إنشاء أمر ما - في إيقاع النسبة بين الفاعل المسند إليه ذلك الحدث، وبين
مادة ذلك الفعل.
157

غاية الأمر: الداعي إلى إيقاع النسبة المذكورة إن كان هو الكشف عن وقوعها
في الخارج كانت الجملة خبرية محضة، وإن كان الداعي إلى إيقاع النسبة هو
التوسل والتسبب إلى وقوعها في الخارج كانت الجملة خبرية قائمة مقام الجملة
الإنشائية في إفادتها الطلب؛ لدلالته بالملازمة على طلب المخبر للفعل الذي أخبر
بوقوعه (1)، انتهى.
وفيه: أن ظاهر كلامه، بل صريحه يعطي بأن الجمل الخبرية لم توضع
للإخبار والحكاية، بل وضعت لإيقاع النسبة بين الفاعل ومادة الفعل.
مع أن الوجدان أصدق حاكم بخلافه؛ ضرورة أنه إذا كانت الجملة الخبرية
موضوعة لإيقاع النسبة لصح أن يقال في تفسير " يضرب زيد " مثلا: أوقعت النسبة
بين مادة " ضرب " و " زيد "، مع أنه كما ترى. بل معناه الإخبار عن وقوع الضرب من
زيد؛ ولذا يصح التعبير عنه بالجملة الاسمية؛ فيقال: " زيد ضارب غدا ".
نعم، في الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء توضع النسبة
بتلك الجملة، وكم فرق بين ذلك وبين كون الجملة معناها ذلك، كما لا يخفى! هذا
أولا.
وثانيا: كون مفاد تلك الجمل إيقاع النسبة وتلك من دواعيها، لكن كيف صح
أن يقال: إنها خبرية قائمة مقام الجملة الإنشائية؟! لأن داعي كشفها عن وقوعها في
الخارج وداعي التسبب إلى وقوعها في الخارج خارجان عن حريم الموضوع له؛
فوجودهما كعدمهما.
فعلى هذا: لابد وأن تكون تلك الجمل لا خبرية ولا إنشائية، وهو كما ترى.
وثالثا: أن المقام مقام إثبات كيفية دلالة تلك الجمل على الطلب، لا أصل
استعمالها فيه؛ ضرورة أن استعمال تلك الجمل في ذلك - كما أشرنا - أمر معلوم لا
سترة فيه.

1 - بدائع الأفكار 1: 216.
158

فإذن: لم يتحصل من كلامه (قدس سره) إلا أن الجمل الخبرية استعملت في الإنشائية،
وهو عين الدعوى.
والذي ينبغي أن يقال في الجمل الخبرية المستعملة في مقام البعث والإغراء،
ويساعده الذوق السليم والارتكاز العرفي - الذي هو الدليل الوحيد في أمثال هذه
الأمور - إن هيئة الجملة الخبرية الفعلية وضعت للحكاية عن وقوع النسبة ولحوقها،
فبعد حكايتها عن ذلك تارة يريد استقرار ذهن السامع عليه، ولعله الغالب في
استعمال تلك الجمل، فتكون إخبارا عن الواقع.
وأخرى يخبر عن الواقع، ولكن مشفوعا بادعاء الوقوع. فعلى هذا استعملت
الجملة الخبرية في معناها الإخباري، لكن لأجل تحريك المخاطب نحو الواقع.
فإذن: الجمل الخبرية المستعملة في مقام الإنشاء مجاز بالمعنى الذي ذكرناه
في محله، والطلب بهذا اللسان أبلغ من الطلب بهيئة الأمر، كما لا يخفى.
الأقوى: أنك إذا أردت تحريك ابنك إلى فعل بحفظ مقامات فقلت له: ابني لا
يفعل ذلك، أو ابني يحفظ مقام أبيه، فترى أنه أبلغ وأوفى من قولك له: افعل كذا.
وبالجملة: قولك لابنك: ابني يصلي - مثلا - في مقام البعث والإغراء لا تريد
منها إلا أمرك ابنك بالصلاة، لكن بلسان الإخبار عن وقوعها وصدورها منه وعدم
قابليتها للقول؛ فكأنك أوكلت إتيانها إلى عقله وتمييزه، فتدبر.
159

الجهة الرابعة
في التعبدي والتوصلي
وفيها بيان مقتضى الأصل عند الشك في التعبدي والتوصلي.
ولتوضيح المثال في ذلك نقدم أمورا:
الأمر الأول: في أقسام الواجبات والمستحبات
منها: ما يترتب عليه غرض البعث بمجرد حصوله - بأي نحو حصل -
ويسقط الأمر كيف ما اتفق، ولو لم يقصد العنوان، فضلا عن قصد التعبد والتقرب.
وذلك كغسل الثوب النجس؛ فإن الأمر به لأجل تحقق الغسل والطهارة، وإن
لم يقصد الأمر والعنوان.
ومنها: ما يعتبر في تحققه قصد العنوان فقط، من دون احتياج له في تحققه
إلى قصد التقرب والتعبد.
وذلك مثل رد السلام؛ فإن سقوط التكليف برد السلام بما إذا قصد هو له
سلام عليكم - مثلا - رد السلام، وإلا فإذا لم يقصد شيئا أو قصد السلام ابتداء لا
يسقط التكليف؛ بل يكون آثما لو اكتفى به إذا أخر رده. بل إذا قصد السلام ابتداء
يجب على كل منهما رد السلام.
ومن هذا القسم النكاح إذا وجب أو استحب؛ لأن الموجب إذا لم يقصد
بقوله: أنكحت المرأة... إيجاد عنوان النكاح والزوجية لا يكاد يتحقق النكاح
والزوجية بمجرد التلفظ بذلك، ولا يكون ممتثلا.
ومنها: ما يعتبر فيه - مضافا إلى قصد العنوان - قصد التقرب، من دون أن يعد
العمل عبادة. كأداء الخمس والزكاة ونحوهما؛ فإنه لا يحصل الامتثال بأداء الخمس
160

- مثلا - كيف اتفق، بل لابد فيه من قصد التقرب. ولكن - مع ذلك - لا يعد ذلك
منه عبادة، وبإتيانه لم يعبد الرب تعالى، وإنما تقرب إليه.
ومنها: ما يعتبر فيه - مضافا إلى قصد العنوان - قصد التقرب، وينطبق عليه
كونه عبادة لله تعالى.
كالصلاة، وهي أظهر مصاديقها، كما تشعر بذلك الأذكار والأوراد الواردة فيها؛
فإنها وظيفة شرعت لتعبد الرب والثناء له بالربوبية، وسائر الصفات الجمالية،
وتنزيهها عن النقص والصفات الجلالية، وتخشع العبد بالنسبة إلى ربه تعالى. ويقال
لهذا القسم: العبادة، ويعبر عنه بالفارسية ب‍ " پرستش ".
ولا يخفى: وجود الفرق بين القسمين الأخيرين؛ وذلك لأن الابن إذا امتثل
أمر والده وأطاعه لا يقال: إنه عبده، بل يقال: إنه أطاعه وتقرب إليه.
فإذن لم يكن كل فعل قربي وإطاعة عبادة؛ فإن العبادة المرادفة لكلمة
" پرستش " مختص بالرب تعالى، ولا يجوز عبادة غيره، ومن عبد غيره تعالى يكون
مشركا.
فهي أخص من مطلق التقرب والإطاعة؛ ولذا لا يكون صرف الإطاعة
والتقرب إلى غيره تعالى مشركا ومحرما، بل يكون جائزا، وربما يكون واجبا.
فظهر: أن التعبديات وما يكون قصد التقرب معتبرا فيها على قسمين: قسم
منها ما يعد العمل من الشخص عبادة؛ وهو التعبدي بالمعنى الأخص، وقسم لا يطلق
عليه ذلك، بل يعد ذلك منه تقربا وإطاعة.
فعلى هذا: الأولى - دفعا للاشتباه - تبديل عنوان التعبدي بعنوان التقرب.
فعند ذلك: ينقلب التقسيم الثنائي إلى التقسيم الثلاثي؛ فيقال: الواجب إما
توصلي؛ وهو الذي لا يعتبر فيه إلا قصد العنوان، أو تقربي؛ وهو الذي يعتبر فيه قصد
الإطاعة والتقرب.
والتقربي - القربى - إما تعبدي؛ وهو الذي يؤتى به لأجل عبادته تعالى والثناء
161

عليه بالعبودية، أو غير تعبدي؛ وهو الذي يؤتى به إطاعة له تعالى، لا بعنوان
الثناء عليه بالعبودية، فتدبر واغتنم.
فتحصل مما ذكرنا: أن المقابل للتوصلي إنما هو التقربي أو التعبدي بالمعنى
الأعم، لا التعبدي بالمعنى الأخص، المعبر عنه بالفارسي ب‍ " پرستش "، كما ربما
يظهر من بعضهم.
فإذن: حان التنبه على ما في مقالة المحقق النائيني (قدس سره) فإنه قال: التعبدية
عبارة عن وظيفة شرعت لأجل أن يتعبد بها العبد لربه، ويظهر عبوديته، وهي المعبر
عنه بالفارسية ب‍ " پرستش ". ويقابلها التوصلية، وهي التي لم تكن تشريعها لأجل
إظهار العبودية (1).
توضيح النظر: أنه لم يكن جميع التعبديات شأنها ذلك؛ أي لا يكون بحيث
تطلق عليها العبادة المعبرة عنها في لغة الفرس ب‍ " پرستش "؛ لأن بعضا منها لا
يكون عبادة، بل يعد إطاعة له تعالى، وتقربا إليه.
فإذن: إطلاق التعبدي قبال التوصلي إنما هو بمعناه الأعم الشامل لما لا يكون
عبادة، بل طاعة وتقربا إليه تعالى. وإطلاق التعبدي على هذا القسم بعنوان المجازية.
فالحقيق أن يطلق على هذا القسم القربى، كما أشرنا إليه، فتدبر.
ذكر وتعقيب
قال المحقق العراقي (قدس سره): التحقيق أن يقال: إن العبادة على نحوين:
الأول: ما تباني العقلاء على فعله في مقام تعظيم بعضهم بعضا، كالسجود
والركوع وغيرهما، وربما أمضى الشارع بعضها فاعتبره عبادة.

1 - فوائد الأصول 1: 137 - 138.
162

ومثل هذه العبادة يفتقر كونها عبادة بالفعل إلى قصد العنوان الذي صار الفعل
عبادة في بناء العرف، وإلى إضافته إلى شخص بخصوصه.
ولذا لا يكون وضع الجبهة على الأرض لا بقصد السجود سجودا، كما أنه لو
قصد هذا العنوان ولكن لم يقصد به تعظيم شخص بخصوصه لا يكون عبادة بالفعل.
ويعتبر في كون هذه العبادة مقربا من المتعبد له - مضافا إلى الأمرين - عدم
كونها منهيا عنها؛ إذ يجوز أن يكون مثل هذه مبغوضة للمتعبد له - لما فيها من
المفسدة - مع كونها عبادة بالفعل.
ومن آثار هذا القسم من العبادة: تحقق الاستنابة فيها؛ ضرورة أن العقلاء
يعدون من استناب غيره عنه في تقبيل يد من يريد أن يعظمه أنه قد عظمه بهذا
التقبيل المنوي به النيابة عنه.
بل يتحقق تعظيمه إياه ولو لم يستنبه بالتقبيل المذكور إذا فعله المقبل ناويا
النيابة عن الغير، وكان المنوب عنه راضيا بهذه النيابة المتبرع بها.
الثاني: ما يتقوم عباديته بإطاعة لطلب من طلبه من فاعله؛ لأن إطاعة العالي
عبادة بذاتها. وكل فعل يصدر من فاعله؛ معنونا بعنوان إطاعة شخص ما يكون
عبادة بالعرض.
ولا تتحقق الإطاعة إلا بعد تعلق طلب المطاع بفعل المطيع، وقصد المطيع
بفعله امتثال طلب المطاع، أو بإتيان الفعل به بداعي حب المولى، أو بداعي كون
الفعل ذا مصلحة للمولى.
وبالجملة: لا تتحقق العبادة إلا إذا صدر الفعل من فاعله بأحد الدواعي
القربية.
ومن خواص هذا القسم: عدم إمكان النيابة فيه؛ لعدم إمكان صدور الفعل من
النائب أو المنوب عنه بإحدى الدواعي القربية:
163

أما المنوب عنه؛ فلأنه لم يكن مأمورا بهذه العبادة مباشرة وتسببا؛ لتكون
استنابته أو استنابة وكيله أو وصيه تسبيبا منه إلى فعله.
وأما النائب؛ فلأنه ليس مأمورا بهذه العبادة نيابة عن غيره؛ ليكون الأمر
مصححا لعباديتها، ولا أن الفعل محبوب للمولى، أو ذو مصلحة ترجع إليه؛ ليتسنى
له إتيانه بها بداعي المحبوبية أو المصلحة، انتهى محررا (1).
وفيه: أن هذا المحقق كأنه خلط باب النيابة بباب التسبيب والمباشرة، مع
وجود الفرق بينهما؛ لأن باب النيابة في اعتبار العقلاء هو تنزيل النائب نفسه منزلة
المنوب عنه.
فالنائب بعد التنزيل هو المنوب عنه، والأفعال الصادرة عنه بعد التنزيل أفعال
المنوب عنه بحسب الاعتبار؛ ولذا يعتبر في فعل النائب ما اعتبر في فعل المنوب
عنه بالنسبة إلى أحكام مخصوصة، كالقصر والتمام والظهرية والعصرية وغيرها.
ولذا ذهب بعض الأكابر (2) - دام ظله - إلى عدم جواز الايتمام بمن يكون
نائبا عن الميت؛ زاعما أن الاقتداء لابد وأن يكون بالحي، والنائب عن الميت
بحسب الاعتبار يكون ميتا، فلا يصح الايتمام به (3).
ونحن وإن لم نساعده في هذه المسألة؛ لعدم توسعة دائرة النيابة عند العقلاء
بنحو يرون النائب ميتا، كما لا يخفى.
وبالجملة: العقلاء يرون النائب اعتبارا هو المنوب عنه، ولا يكون النائب بما
هو نائب مأمورا به أصلا، بل المأمور هو المنوب عنه. فإذن النائب عمن كان
مستطيعا واستقر عليه الحج ولم يحج لم يكن

1 - بدائع الأفكار 1: 218.
2 - عنى به أستادنا الأعظم البروجردي، دام ظله. [المقرر حفظه الله].
3 - راجع نهاية التقرير 3: 381، العروة الوثقى 3: 91، الهامش 3 (ط. مؤسسة النشر
الإسلامي).
164

مأمورا بالحج، بل المستطيع والمأمور به هو المنوب عنه، والنائب بعد التنزيل
هو المنوب عنه اعتبارا.
وأما باب التسبيب والمباشرة: فهو إيكال ما أمر به على الغير، أو إتيانه
مباشرة، والوكالة هي إيكال أمر الموكل إلى الوكيل.
فإذن فباب التسبيب والمباشرة هو أنه إذا أمر شخص بفعل فإما يعتبر إتيان
الفعل منه بخصوصه ومباشرة، أو يجوز تسبيب الغير وإتيانه من قبله. فبابه باب
المغايرة بين المأمور والذي يأتيه الغير، وإلا لا يصدق التسبيب.
فإذا تمهد لك ما ذكرنا: يظهر لك أن باب النيابة غير باب التسبيب. فالقول بأن
النائب حيث لم يكن مأمورا فلا مصحح لعباديته لا وجه له؛ لما أشرنا أن النائب في
عالم الاعتبار هو المنوب عنه، فيصح تصوير النيابة في كل عبادة متوجهة إلى
المنوب عنه؛ حتى في العبادة التي تتقوم عباديتها بالأمر، لو دل الدليل على جواز
النيابة فيها.
ولا وجه للقول بعدم إمكان تحقق النيابة في هذا القسم؛ معللا بعدم إمكان
صدور الفعل من النائب أو المنوب عنه، هذا.
مضافا إلى أنه يتوجه عليه ما أشرنا إليه آنفا من عدم صدق العبادة المعبرة
عنها في لغة الفرس ب‍ " پرستش " على كل إطاعة، وإن كانت تتوقف على الأمر
وقصد الإطاعة، فتدبر.
الأمر الثاني: في إمكان أخذ قصد امتثال الأمر ونحوه في متعلق الأمر
هل يمكن أخذ قصد امتثال الأمر أو قصد التقرب أو قصد المحبوبية أو قصد
المصلحة إلى غير ذلك - لو كانت تلك الأمور دخيلة في الغرض - في متعلق الأمر
مطلقا، أو لا يمكن أخذها كذلك، أو يفصل بين الدواعي؛ بأنه إذا كان الداعي مما
165

يعتبر في الطاعة عقلا ويعد من كيفيات طرق الإطاعة، لا مما أخذ في نفس
العبادة شرعا - كقصد الأمر وإطاعته - فلا يمكن أخذه في متعلق الأمر، وأما إذا كان
مثل قصد حسنه أو قصد المصلحة أو له تعالى فيمكن اعتباره في متعلق الأمر، كما
عليه المحقق الخراساني (قدس سره) (1)؟ وجوه.
والحق: إمكان أخذه مطلقا.
ولكن ذكر لعدم إمكان أخذ قصد الأمر أو الامتثال وجوه. يظهر من بعضها
- كالاستدلال بالدور؛ وتقدم الشيء على نفسه - أن الأخذ ممتنع ذاتا، كما أنه يظهر
من بعضها الآخر - كالاستدلال بعدم قدرة العبد على الامتثال - أن الأخذ وإن كان
ممكنا ذاتا لكنه ممتنع بالغير، فلو أخذ يكون تكليفا بالمحال.
وبالجملة: يظهر من بعض الأدلة أنه تكليف محال، كما يظهر من بعضها الآخر
أنه تكليف بالمحال.
فالكلام يقع في موردين:
المورد الأول: فيما يمكن أن يستدل به للقائلين بامتناع الأخذ ذاتا
وهو وجوه:
الوجه الأول: أن نسبة الحكم لمتعلقه نسبة العرض إلى معروضه؛ فالمتعلق
متقدم على حكمه؛ تقدم الجوهر على غرضه.
فوجوب الصلاة - مثلا - منتزع من البعث المتعلق بالصلاة؛ فيكون متأخرا
عن الصلاة وعن الأمر بها، كما أن الصلاة متقدمة على الأمر بها.
فإذن: كلما يكون قيدا للمتعلق - كالصلاة مثلا - فلابد وأن يكون متقدما

1 - كفاية الأصول: 95 و 97.
166

على الأمر به، وعلى ما ينتزع من تعلق الأمر به. فالصلاة - مثلا - بجميع
قيودها متقدمة على الأمر بها وعلى الوجوب المنتزع من تعلق الأمر بها.
وواضح: أن قصد الأمر وامتثاله وإطاعته يتوقف على الأمر ومتأخر عنه؛ لأنه
لو لم يكن هناك أمر لا يكون لقصده أمر، والأمر متأخر عن متعلقه.
فلو أخذ قصد الأمر في موضوعه يلزم أخذ ما يكون متأخرا عن الأمر في
متعلق الأمر، فيلزم أن يكون الشيء المتأخر عن ذاته برتبتين متقدما عليها.
وفيه: أن الأحكام الشرعية - كما سيظهر لك - ليست من قبيل الأعراض؛
لأنها من الحقائق المتأصلة المتحققة في الخارج، والأحكام أمور اعتبارية جعلها
الشارع الأقدس - أو كل مقنن - في عالم التشريع والاعتبار.
فظهر: أن ترتيب آثار الأعراض على الأحكام غير صحيح، هذا أولا.
وثانيا: لو سلم أن الأحكام من قبيل الأعراض للموضوعات ولكن لا يلزم
الدور وتقدم العرض على موضوعه؛ لأن الحكم لو كان عرضا لكنه لم يكن عرضا
للموضوع المتحقق خارجا، بل عرضا للموضوع الذهني؛ وذلك لأنه ربما يتصور
الشيء غير الموجود في الخارج بالعنوان، ويعلق عليه الحكم، بل متعلقات الأحكام
برمتها كذلك؛ حيث لم تكن خارجية.
نعم، بعد تعلق الأمر بها يوجدها المكلفون في الخارج. فالأمر تعلق بعنوان
الصلاة - مثلا - ولم تكن موجودة في الخارج، وإنما يوجدها المكلف.
وبالجملة: لا يحتاج الأمر والبعث إلى موضوع متحقق في الخارج؛ لأن
الأوامر - كما قرر في محله (1) - متعلقة بالطبائع نفسها، لا بلحاظ وجودها الخارجي،
بل بلحاظ تقررها الذهني.
فموضوع التكليف هي نفس الطبيعة من حيث هي هي، التي لا تقرر لها إلا
في

1 - مناهج الأصول 2: 65.
167

الذهن، لكن لا مقيدة بوجودها في الذهن، وإلا لما صح الحكم عليها؛ حتى
قولهم: الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي.
فإذن: الأمر إنما يتعلق بوجود الطبيعة المتقررة في الذهن، ويريد إيجادها
خارجا، وواضح أن تقرر الطبيعة في الذهن لا يتوقف على الأمر؛ لما أشرنا أنه ربما
يتصور أمور لا خارجية لها.
فعلى هذا: كما يمكن تصور الصلاة - مثلا - من حيث هي هي، والتصديق
بفائدتها، والاشتياق بها، ثم الإرادة المحركة نحوها، ويمكن تصورها والتصديق
بفائدتها والاشتياق وإرادتها مقيدة بكونها إلى القبلة، وكونها بعد الوقت ونحوهما.
فكذلك يمكن تصورها مقيدة بالأمر بها؛ بداهة أنه للآمر أن يتصور طبيعة ما،
فيتصور كونها بقصد الأمر، ثم يأمر بها مقيدة به.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا ظهر لك: أن ما يتوقف على الأمر هو وجوده
الخارجي للمأمور به بقصد الأمر، وأما الذي يتوقف عليه الأمر هو وجوده الذهني؛
فالموقوف غير الموقوف عليه.
فتحصل: أن ما يتوقف الأمر عليه هو تصور الطبيعة؛ إما مطلقة أو مقيدة بقيد
أو قيود، وما يتوقف على الأمر هو وجودها الخارجي؛ فلا توقف في البين.
والإشكال نشأ من خلط الموضوع الخارجي بالموضوع الذهني.
وبعبارة أخرى: الاختلاط بين المصداق الخارجي المتوقف على الأمر وبين
العنوان الذهني المتوقف عليه الأمر أوجب الإشكال، وكم له من نظير! كما لا يخفى
على من له وقوف بالمسائل.
الوجه الثاني: قريب من الوجه الأول؛ وهو أن كل حكم يتوقف على
موضوعه، والموضوع هنا متوقف على الحكم؛ لأن قصد الأمر قيد للموضوع؛ فيلزم
تقدم الشيء على نفسه.
168

وبالجملة: موضوع الأمر - مثلا - الصلاة مقيدة بقصد الأمر؛ فقصد الأمر جزء
لموضوع الأمر، فالأمر متوقف على موضوعه المتوقف جزئه على الأمر، وهو دور
باطل.
وفيه: أنه يظهر النظر في هذا الوجه مما ذكرناه في الوجه الأول.
أضف إلى ذلك: أن قصد الأمر في مقام الامتثال وإن كان يتوقف على الأمر
لكن الأمر لا يتوقف على قصده، فتدبر.
الوجه الثالث: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره)، وهو طويل الذيل، وحاصله:
أنه (قدس سره) بعد أن ذكر: أن لكل من الموضوع والمتعلق (1) انقسامات عقلية سابقة على
مرحلة ورود الحكم عليه، ككون المكلف عاقلا بالغا قادرا روميا زنجيا، إلى غير
ذلك، وككون الصلاة إلى القبلة أو في المسجد أو في الحمام، إلى غير ذلك.
وانقسامات لاحقة بعد ورود الحكم عليه؛ بحيث لولا الحكم لما أمكن لحوق
تلك الانقسامات، ككون المكلف عالما بالحكم أو جاهلا به، وككون الصلاة مما
يتقرب ويمتثل بها.
فأنتجت إمكان التقييد والإطلاق في الانقسامات السابقة على كل من
الموضوع والمتعلق.
قال بعدم إمكان التقييد في الانقسامات اللاحقة ثبوتا، وإذا امتنع التقييد امتنع
الإطلاق أيضا؛ لما بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة. ثم ورد في

1 - قلت: وذكر الفرق بينهما وحاصله: أن المراد بالمتعلق ما يطالب به العبد من الفعل أو الترك،
كالحج والصلاة وغيرهما. والمراد بالموضوع هو ما يؤخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم،
كالعاقل البالغ المستطيع.
وبعبارة أخرى: المراد بالموضوع هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من القيود والشرائط؛
من العقل والبلوغ وغير ذلك. [المقرر حفظه الله].
169

بيان عدم إمكان تقييد الموضوع في مرحلتي الإنشاء والفعلية.
إلى أن قال: أما الانقسامات اللاحقة للمتعلق فيمتنع أخذها في المتعلق في
مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعلية ومرحلة الامتثال.
وحاصل ما أفاده في امتناع التقييد في مرحلة الإنشاء: هو أن قصد الامتثال
من الانقسامات اللاحقة للحكم؛ فإن أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق نفس ذلك
الأمر يستلزم تصور الأمر قبل وجود نفسه.
وقال في بيانه: إن فعل المكلف إذا كان له تعلق بما هو خارج عن قدرته
فلابد من أخذ ذلك الشيء مفروض الوجود؛ ليتعلق به فعل المكلف، ويرد عليه
الأمر. وقصد الأمر كذلك؛ لأن قصد الامتثال - الذي هو فعل المكلف - إنما يتعلق
بما هو خارج عن قدرته - وهو فعل الشارع - فلابد وأن يكون موجودا ليتعلق
القصد به؛ إذ لا يعقل تعلق الأمر بالاستقبال، مع عدم وجود المستقبل إليه.
فليس في المقام إلا أمر واحد تعلق بالقصد، وتعلق القصد به. وهذا - كما
ترى - يلزم منه وجود الأمر قبل نفسه (1).
وفيه - مضافا إلى بعض ما ذكرناه في الوجهين الأوليين - أنه (قدس سره) قال أولا: إنه
لو أخذ قصد الامتثال يستلزم تصور الأمر قبل وجود نفسه، ومقتضى تقريبه الذي
ذكرناه وصرح هو (قدس سره). أيضا هو وجود الأمر قبل نفسه، لا تصور الأمر قبل وجود
نفسه (2).
ثم إنه (قدس سره) صرح: بأنه لو كان لفعل المكلف تعلق بما هو خارج عن قدرته
يلزم أخذها مفروض الوجود. واستنتج منه في النهاية: وجود المعلق عليه خارجا،
وهو عجيب، فلاحظ.

1 - فوائد الأصول 1: 145 - 149.
2 - قلت: الظاهر - بقرينة صدر كلامه وذيله والقرائن المكتنفة بالكلام - هو أن كلمة " تصور "
تصحيف كلمة " تقدم "، فلا تخالف في العبارتين، فتدبر. [المقرر حفظه الله].
170

مع أنه لا دليل على لزوم فرض وجود الموضوع، إلا أن يرجع إلى ما ذكرناه؛
من أنه لابد من تصور الموضوع ثم تعلق الأمر به، فتدبر.
وحيث إن مرجع امتناع الأخذ في كلامه (قدس سره) إلى الامتناع بالغير فيظهر ضعفه
عند ذكر الوجوه التي أقيمت للامتناع بالغير، التي نشير إليها في المورد الثاني،
فارتقب.
الوجه الرابع: أن خصوصية الحكم لا تكاد تسري إلى الموضوع المتقيد إلا
إذا كان الموضوع المتقيد مع قيده متحققا قبل الحكم ليتوجه البعث إليه، فإن جاء
القيد من ناحية الحكم يلزم منه مفسدة الدور؛ وهي تقدم الشيء على نفسه.
وبالجملة: الأمر الفعلي المتقيد بقيد لا يعقل إلا مع وجود المتقيد به، فإن جاء
القيد من ناحية الأمر تلزم مفسدة الدور.
وفيه: أن لزوم تقدم المتقيد بقيد قبل تعلق الحكم وإن كان صحيحا ومما لابد
فيه إلا أنه لا يلزم ذلك وجوده خارجا. وغاية ما يلزم هي وجوده في الذهن. نعم
في بعض الموارد يكون المتقيد به موجودا قبل تعلق الحكم، كمسألة الاستقبال.
وبالجملة: لا يلزم تحقق القيود أولا في الخارج ثم تعلق التكليف متقيدة بها،
بل المقدار اللازم هو وجودها في ظرف إتيانها.
أضف إلى ذلك: ما ذكرناه في الوجوه الثلاثة. فإن أحطت خبرا بما تلوناه
تكون في فسحة من دفع الإشكال، كما لا يخفى.
توضيح فيه تكميل
فإن كان في خواطرك - مع ما تلوناه عليك - ريب وشبهة ينبغي الإشارة
الإجمالية إلى كيفية التشريع والتقنين، وأن أي أمر يقصد به الشارع الأقدس قبل
الجعل وحينه؛ حتى ينكشف لك حقيقة الأمر وترتفع كل شبهة وإبهام.
171

وليعلم أولا: أن تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية لا يخلو عن تسامح؛
لأن كل تقسيم لابد وأن يكون للاختلاف في ذات الشيء وحقيقته، وإلا يتمكن
تقسيم الشيء إلى أقسام غير متناهية؛ لأن الإرادتين لم تختلفا هوية؛ فإن الإرادة
التشريعية عبارة عن إرادة جعل القانون، والجعل فعل تكويني للمقنن، نظير سائر
أفعاله الاختيارية؛ من الأكل والشرب وغيرهما، من دون تفاوت أصلا.
فلم تفترق ذات الإرادة التشريعية عن ذات الإرادة التكوينية، ولا يكون
اختلاف في حقيقتي الإرادتين، كما يوهمه ظاهر التقسيم.
وإنما الاختلاف بينها في المتعلق؛ لأنه إذا كان متعلق الإرادة حكما شرعيا
قانونيا، فيسمونها إرادة تشريعية، وإن كان غيره من الأمور التكوينية فيسمونها إرادة
تكوينية.
فبعدما ظهر لك عدم الاختلاف في حقيقتي الإرادتين فالأولى أن يقال: إرادة
التشريع وإرادة التكوين، لا الإرادة التشريعية والإرادة التكوينية، كما لا يخفى.
فإذا تبين لك ما ذكرنا فواضح: أن كل فعل اختياري - كالأكل والشرب
وغيرهما - إنما يصدر عنا بعد تصوره والتصديق بفائدته والاشتياق نحوه أحيانا، ثم
الإرادة المحركة نحوه.
وواضح: أن المتصور أولا قد يكون فيه من حيث هو هو مصلحة، وقد لا
يكون فيه صلاح إلا إذا قيد بقيد وشرط خاص.
مثلا: قد يكون لإكرام العالم نفسه مصلحة، وقد لا يكون فيه صلاح إلا إذا
قارن علمه بالعدالة مثلا، فكما أن إرادة إكرام العالم نفسه مسبوقة بتصورها - مثلا -
فكذلك إرادة إكرام العالم مقيدا بالعدالة مسبوقة بتصورها.
وواضح: أنه لا يتوقف إرادة إكرام العالم أو مقيدا بالعدالة ولا سائر مبادئها إلى
وجود العالم أو العالم العادل في الخارج، بل قد تتعلق بهما الإرادة، وإن لم تكن لهما
في
172

الخارج عين ولا أثر. وتعلق الإرادة وتحرك العضلات نحوها توجد مطلقة أو
مقيدة، هذا حال التكوين. والأمور التي يصدر منا في الخارج، ويجري جميع ما
ذكرناه فيه في التشريع أيضا (1)؛ وذلك لأنه إذا رأى الشارع الأقدس كون ذات شئ
في صلاح فيريده بلا قيد وشرط، وينحدر البعث والحكم نحوه.
ولكن إن رأى أن المصلحة قائمة بالمتقيد بالقيد فيريده مقيدا، وينحدر البعث
والحكم كذلك. مثلا لو رأى الشارع الأقدس أن الصلاة لم تكن لها مصلحة إلا إذا
كانت مقرونة بالطهارة والاستقبال - مثلا - فلابد من تصورهما قيدا للصلاة،
والتصديق بأن المصلحة قائمة بالصلاة المتقيدة بهما لا مطلقا، فيريدها كذلك، فيأمر
بالصلاة متقيدة بالطهور والاستقبال.
ولا فرق في القيود بين كونها تحت اختيار المكلف وبين كونها خارجة عن
اختياره - كإتيان الصلاة في الوقت مثلا - كما لا فرق بين كون القيود موجودة في
الخارج عند الأمر بها - كالقبلة - أو غير موجودة فيها.
والسر في ذلك: هو أن القيود المعتبرة إنما هي بلحاظ ظرف الامتثال، لا
ظرف الأمر؛ فمجرد تصور كون القيد دخيلا في المصلحة كاف في تعلق الإرادة، وإن
كان غير موجودة في الخارج عند الأمر. نعم لابد وأن يكون مما يمكن إيجاده في
ظرف الامتثال.
فإذا تبين لك: أن المعتبر في مقام تعلق الأمر هو لحاظ الشيء ووجوده
الذهني، لا وجوده الخارجي، فكما تصح ملاحظة الطهارة من دون وجود لها في
الخارج، ونلاحظ أن الصلاة بلا طهور لا مصلحة لها؛ فيريدها متقيدة، وينحدر
الحكم والبعث نحوها كذلك، فيوجدها المكلف كذلك خارجا.

1 - قلت: وليعلم أن ما نذكره في إرادة التشريع إنما هو حال الموالي العرفية بالنسبة إلى عبيدهم،
والمقننين البشريين؛ لأنه لم يكن لنا طريق إلى كيفية جعل القوانين الشرعية بالنسبة إلى المبادئ
العالية. ولعله يظهر حالها من المقايسة، والله العالم [المقرر حفظه الله].
173

فكذلك حيث يرى: أن الصلاة بدون قصد الأمر والإطاعة لا تكون وافية
بالصلاح؛ فيتصورها متقيدة بقصد أمرها غير المتحقق بعد في الخارج؛ فيبعث
نحوها كذلك.
وبالجملة: لا شبهة في إمكان تصوير ما لم يكن موجودا في الخارج المتحقق
في الآجل؛ فإذا تصور أن الصلاة - مثلا - من حيث هي - من دون قصد أمرها - غير
واجدة للمصلحة ولا محصلة لمطلوبه، فلا يصدق بفائدتها مطلقة، فضلا عن إرادتها
كذلك. فما ظنك بانحدار البعث نحوها! بل يصدق بأن المصلحة إنما هي في المقيدة
بقصد الأمر، فضلا عن استحالة تعقلها بها مقيدة.
وتوهم من توهم استحالة تعلق الإرادة بها؛ للزوم مفسدة الدور إنما هو لبعده
عن مسير البحث، وتوهمه لزوم تقييد الصلاة - مثلا - بأمر جارحي.
فمن تنبه على أن للإرادة مبادئ مضبوطة تجب عندها وتمتنع دونها، فإذا
لاحظ المقنن أن المصلحة قائمة بالصلاة المتقيدة بقصد الأمر فيصدق بها، فيتحقق
الإرادة نحوها أيضا.
ولا يكاد يعقل تعلق الإرادة بالمجردة بعد التصديق بأن المصلحة غير قائمة
بها وحدها. وعدم وجود الأمر خارجا غير مضر في ذلك بعد وجوده قطعا في ظرف
الامتثال.
فظهر لك مما ذكرنا: استحالة عدم أخذ قصد الأمر في متعلق الإرادة لو كانت
المصلحة قائمة بالطبيعة المتقيدة بقصد الأمر، فضلا عن إمكانه، فما ظنك باستحالة
أخذه؟!
ومنشأ الإشكال - كما أشرنا - هو الخلط بين الحمل الشائع والحمل الأولي،
وخلط الموجود الخارجي بالموجود الذهني.
هذا كله في مقام التصور والثبوت، فقد ظهر وجوب تعلق الإرادة أحيانا
بالطبيعة المتقيدة بقصد الأمر.
174

وأما مقام الإثبات وإظهار أن المطلوب نفس الطبيعة أو المتقيدة بقصد الأمر
فلابد من دال يدل عليه.
وحيث إن القيود على قسمين:
قسم منها قيود ما هوية ومن مقومات ذات الطبيعة؛ وهي الأجزاء، كالحيوان
والناطق بالنسبة إلى الإنسان، وكالتكبير والقراءة والقيام والركوع والسجود والتشهد،
إلى غير ذلك من الأجزاء بالنسبة إلى الصلاة.
وقسم آخر قيود خارجة عن قوام الماهية، ولكن تكون دخيلة في المصلحة،
وهي الأكثر.
أما القسم الأول: فحيث إن القيود دخيلة في ماهية الشيء فكما أن تصورها
بتصور الماهية، بل هي عين تصورها، فكذلك الدال على نفس الطبيعة دال عليها
أيضا، ولا يحتاج إلى لفظ آخر غير ما يدل على أصل الطبيعة للدلالة عليها.
وأما القسم الثاني: فحيث إنها خارجة عن قوام الماهية فلابد من لفظ يتكلف
لإفادتها.
فحينئذ حيث إن التكبير والقراءة ونحوهما من أجزاء ماهية الصلاة - مثلا -
فالبعث إليها بعث إليها أيضا.
وأما الطهارة وسائر الشرائط: فحيث إنها خارجة عن ماهيتها وإن كانت
دخيلة في قوام المصلحة فلا تكاد تدعو وتبعث الأمر بالصلاة إليها من مجرد اللفظ
الدال عليها، بل لابد من لفظ آخر يدل عليها. وحيث إن قصد الأمر والإطاعة
ونحوهما كالطهارة خارجة عن قوام الصلاة ودخيلة في المصلحة فلابد في مقام
الدلالة من لفظ يدل عليها؛ بأن يقول بصل مع قصد الأمر، ولا يلزم من ذلك محذور
أصلا.
فإذا أحطت خبرا بما ذكرنا ينقدح لك: أن إشكال مفسدة الدور من تقدم الشيء
على نفسه مندفع من رأس؛ لعدم الفرق في أخذ العناوين العرضية،
175

كالطهارة والاستقبال ونحوهما، وبين العناوين الطولية على مصطلحهم، لقصد
الأمر ونحوه في المتعلق.
بل قد يجب أخذ ما لو تستوف المصلحة من نفس الطبيعة المجردة فيما إذا
كان المولى بصدد بيان ما تعلقت إرادته الجدية بها.
الوجه الخامس: أنه لو أخذ قصد الأمر في متعلقه يلزم اجتماع اللحاظين
المتنافيين: اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي في زمان واحد، وهو محال.
وذلك لأن التكليف إنما يتعلق بشيء بعد تصور ذلك الشيء ولحاظه بجميع
قيوده، وإلا يلزم الحكم على ما لم يلحظ، ومن القيود قصد الأمر، وحيث إن قصد
الأمر متوقف على الأمر فلابد من لحاظه وقصده بالاستقلال.
ولكن حيث إن الأمر آلة لإيقاع البعث الخارجي وإيجاده فلابد من لحاظه
آلة وقنطرة لغيره، كما هو الشأن في المعاني الآلية.
فيلزم من أخذ قصد الأمر في متعلق التكليف أن يلحظ آليا واستقلاليا، وهو
محال، وما يلزم من وجوده المحال فهو أيضا محال؛ فقصد الأمر في المتعلق محال.
وفيه: أنه يظهر وجه ضعف هذا الإشكال مما ذكرناه سابقا؛ وذلك لأن الجمع
بين اللحاظين إنما يلزم ويستحيل إذا كان في زمان واحد، ولا يلزم الجمع بينهما
كذلك فيما نحن فيه؛ لا قبل جعل الحكم وإنشائه على الموضوع، ولا عند الإنشاء.
وبالجملة: هناك لحاظات متعددة في آنات متعددة؛ وذلك لأن قبل الجعل
والإنشاء يتصور الموضوع بما له من القيود مستقلا - ومنها قصد الأمر - من دون أن
يكون هناك لحاظ آلي.
ثم بعد ذلك إذا تمت مبادئ الإنشاء ينحدر البعث نحو الطبيعة المقيدة بقصد
الأمر، وينشأه في محيط التشريع. وفي هذا اللحاظ حيث يكون الأمر آلة التشريع
والبعث يكون ملحوظا آليا؛ فلم يلزم الجمع بين اللحاظين في زمان واحد.
176

وبالجملة: كل فعل من الأفعال الاختيارية - حتى التكلم - لابد له من مبادئ
تجب عندها وتمتنع دونها.
نعم، في بعض الموارد لكثرة الأنس وكثرة ورودها على المشاعر يغفل
الإنسان عن المبادئ، كالتكلم.
ولا فرق في الأفعال الاختيارية بين كونها آليا في مقام العمل كالألفاظ، أو
فعلا استقلاليا كالأكل والشرب من حيث احتياجها إلى المبادئ؛ من التصور
والتصديق بالفائدة والشوق أحيانا والإرادة.
فكما يحتاج الأكل - مثلا - إلى المبادئ فكذلك التكلم يحتاج إليها أيضا،
ولكن حيث إن الآمر يرى أن الألفاظ حاكيات فيلاحظها ثانيا لاستعمالها آليا.
مثلا: قبل إنشاء الزوجية - مثلا - يلاحظ كل من ألفاظ " أنكحت هذه من
هذا " مستقلا، ثم يلاحظها بما أنها آلة لإيقاع العلقة الزوجية.
فظهر: أنه لم يلزم اجتماع اللحاظين في آن واحد قبل الإنشاء.
وأما عند الإنشاء: فكذلك أيضا؛ لما عرفت أن إبراز ما لا يكون من مقومات
الموضوع - سواء كان قيدا عرضيا أو طوليا - لا يمكن بإلغاء نفس الموضوع،
بخلاف ما يكون من مقوماته؛ فإنه بمكان من الإمكان، فلابد من دال آخر يدل
عليه.
مثلا: إذا قال: " صل بقصد هذا الأمر " فعند قوله: " صل " يكون الأمر آلة
للبعث وملحوظا آليا. وحينما يقول بقصد هذا الأمر يكون ملحوظا استقلاليا.
وكم له من نظير من انقلاب المعنى الآلي الأدوي إلى الاسمي الاستقلالي
بلحاظ مستأنف!
بل كما أشرنا إليه سابقا في المعاني الحرفية: أن غالب القيود الواقعة في
الكلام إنما هي في المعاني الحرفية. مثلا قولك: " ضربت زيدا أمام الأمير يوم
الجمعة؛ ضربا
177

شديدا " لم تقيد مادة الضرب وزيد بكونهما في الجمعة، بل المقيد هو الضرب
عليه، وهو معنى حرفي.
وبالجملة: الطريق في تقييد المعاني الحرفية هو بأن يلحظ المعنى الحرفي
في وقت التقييد مستقلا وفي صورة المعنى الاسمي.
مثلا: القيد في قولك: " كنت على السطح يوم الجمعة " لم يكن قيدا للكون
التام، ولا للسطح، بل للكون الناقص الذي هو الكون عليه ولكن بلحاظه مستقلا بعد
أن كان ملحوظا بالتبع، فتدبر جيدا.
الوجه السادس: ما قربه المحقق العراقي (قدس سره)؛ فإنه بعد أن أجاب عن الوجوه
التي استدلت لامتناع أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر قال: إن في المقام وجها
صحيحا ينبغي أن يستدل به على الدعوى المذكورة.
وحاصل ما أفاده: هو أن لحاظ الموضوع مقدم على لحاظ الأمر، كما أن ذات
الموضوع مقدم على الأمر ولحاظ الأمر مقدم على لحاظ قصد الأمر؛ فلحاظ قصد
الأمر متأخر عن لحاظ الموضوع برتبتين، ولحاظ الموضوع متقدم على لحاظ
قصد الأمر كذلك برتبتين.
فإذا أخذ قصد الأمر في الموضوع جزءا أو قيدا يلزم أن يكون الشيء الواحد
في اللحاظ الواحد متقدما ومتأخرا في اللحاظ، وهذا سنخ معنى في نفسه غير
معقول وجدانا؛ إما للخلف أو لغيره، كالتهافت والتناقض في نفس اللحاظ. لا في
الملحوظ حتى يقال بإمكان لحاظ الأمور المتناقضة، انتهى (1).
وفيه: أنه كما قرر في محله أن للتقدم والتأخر ملاكا وضابطا معينا، وليس في
المقام شئ من ذلك:
أما عدم التقدم والتأخر الزماني فواضح. والظاهر: أنه (قدس سره) لا يقول بهذا التقدم

1 - بدائع الأفكار 1: 229 - 230.
178

هنا أيضا؛ لأن ذات العلة وإن كانت متقدمة على المعلول، ولكن - مع ذلك -
لا يتقدم لحاظ العلة على لحاظ المعلول زمانا، هذا.
وأما عدم التقدم العلي والرتبي: فلوضوح أن التقدم الكذائي إنما يتصور فيما
إذا كان هناك ترتب عقلي أو غيره، ولا يكون شئ منهما فيما نحن فيه. ولو كان بين
اللحاظين ترتبا يلزم أن يكون لحاظ ما يكون علة لأمر علة للحاظ المعلول، مع أنه
ليس كذلك.
ألا ترى أن ذات الواجب تعالى علة للموجودات، ومع ذلك لا يكون لحاظه
تمام العلة للحاظ الموجودات، ولا جزء العلة للحاظها؟! كما هو أوضح من أن
يخفى.
فإذن: الترتب والعلة في ذاتي العلة والمعلول لا في لحاظهما، وإلا لو تم ما
ذكره وثبت الترتب بين اللحاظين يلزم أن لا يمكن لحاظ الأثر والمعلول قبل المؤثر
والعلة؛ فيلزم إنكار البرهان الإني وإبطاله - لأنه عبارة عن العلم بالعلة من ناحية
العلم بالمعلول - فتدبر.
وبالجملة: الوجدان بل البرهان قائمان على أن تقدم الرتبي إذا كان في ذاتي
الشيئين لا يوجب ذلك أن يكون بين لحاظيهما أيضا ترتبا. ولم يأت هذا المحقق (قدس سره)
بما يدل على الترتب بين اللحاظين إلا من ناحية الترتب في الملحوظين، وقد
عرفت فساده.
فإذن: ليس الإشكال في البين إلا محذور تقدم أحد الملحوظين على الآخر.
وجوابه: هو الذي أفاد (قدس سره) وأجبنا.
ولعمر الحق: إن هذا الوجه أوهن وجوه الباب، ولا ينبغي التوجه إليه.
والعجب منه (قدس سره) حيث حصر الإشكال الصحيح فيه.
هذا كله فيما يتعلق بالمورد الأول؛ وهو امتناع أخذ قصد الأمر في المتعلق
ذاتا، وأنه تكليف محال. وقد عرفت لعله بما لا مزيد عليه إمكان أخذه، فتدبر.
179

المورد الثاني: فيما يمكن أن يستدل به للقائلين بامتناع أخذ امتناعا بالغير
ما يمكن أن يستدل به لامتناع أخذ قصد الأمر في المتعلق امتناعا بالغير؛ أي
يستلزم التكليف بالمحال، لا أنه محال في نفسه وجوه:
الوجه الأول: أن جعل كل تكليف يتوقف على فعلية موضوعه - أعني يتعلق
متعلق التكليف - بتمام قيوده؛ ضرورة أنه لا يمكن الأمر والتكليف الفعلي
بالاستقبال إلى الكعبة - مثلا - إلا مع تحقق الكعبة.
وفعلية الموضوع فيما نحن فيه تتوقف على فعلية التكليف؛ ضرورة أن قصد
الأمر يتوقف على الأمر الذي عبارة عن التكليف، فما لم يكن أمر لا يمكن قصده،
فالآمر الملتفت إلى لزوم هذا المحذور في مقام فعلية التكليف لا يمكنه التكليف؛
لأنه تكليف بالمحال.
وبالجملة: أن التكليف إنما هو بلحاظ صيرورته فعليا ليعمل به المكلف، فإذا
كانت فعلية الحكم ممتنعة يصير التكليف ممتنعا بالغير.
وقريب من هذا الوجه: ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) في وجه استحالة قصد
الأمر بالصلاة - مثلا - في مقام الفعلية (1).
الوجه الثاني: أن قدرة المكلف شرط للتكليف، فقبل التكليف لابد من
تشخيص المولى قدرة المكلف حتى يبعثه نحو المأمور به.

1 - قلت: حاصل ما أفاده (قدس سره): هو أنه لو أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلق في مرحلة فعلية الأمر
- كالصلاة مثلا - فلابد من وجود الأمر ليتعلق الأمر بقصد امتثاله، مع أنه ليس هناك إلا أمر
واحد؛ فيلزم وجود الأمر قبل نفسه [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] فوائد الأصول 1: 149 - 150.
180

فالتكليف يتوقف على قدرة العبد لا محالة، وقدرة العبد يتوقف على التكليف
حسب الفرض؛ لأنه لولا الأمر والتكليف لما أمكن قصد الأمر الذي هو من قيود
المأمور به، وهذا دور.
وسر عد هذا الوجه للامتناع بالغير: هو أنه لولا ملاحظة قدرة المكلف
المتوقفة على التكليف لا استحالة له في نفسه.
وفيهما: أن الوجهين يرتضعان من ثدي واحد؛ وذلك لأن توقف فعلية الأمر
والتكليف على فعلية موضوعه وبالعكس ليس توقف المعلول على علته، وكذلك
الأمر في القدرة؛ لأن العقل إنما يحكم بمحالية التكليف الفعلي بالعاجز في ظرف
الامتثال. ومحاليته لا تكون لأجل لزوم الدور، بل لأجل عدم القدرة على الامتثال
في التكليف.
وبالجملة: مرجعه إلى محالية التكليف الفعلي بغير القادر.
وحاصل جواب الوجهين: هو أن فعلية الأمر والتكليف وإن كانت متوقفة على
فعلية المتعلق بتمام قيوده، إلا أنه إذا صار بعض القيود معلقا بنفس الأمر والتكليف
فلا محذور.
ولازمه في المقام حصول الأمر حتى يتمكن قصده، وإن كان حصوله بمجرد
الأمر والتكليف. كما أن اللازم في المثال المفروض حصول الكعبة حين إتيان
الصلاة حتى يمكن الاستقبال إليها.
والأمر والتكليف لا يتوقف على قدرة العبد حين الأمر والتكليف، وإنما
يتوقف على قدرته حين العمل والامتثال، والمفروض أنها ستوجد.
الوجه الثالث - وهو عمدة الإشكال في هذه المرحلة، وهو ما أفاده المحقق
الخراساني (قدس سره) - وحاصله: أن تصور قصد الأمر في المتعلق وإنشاء البعث ونحوه
وإن كان بمكان من الإمكان إلا أنه لا يكاد يمكن الامتثال؛ لا بالنسبة إلى أصل
الطبيعة
181

وهو واضح؛ لعدم الأمر بها مجردة عن قصد إتيانها بداعي امتثال الأمر؛ لأن
المفروض: أن الأمر تعلق بالطبيعة مقيدة بداعي الامتثال، والأمر لا يكاد يدعو إلا
إلى متعلقه.
ولا بالنسبة إلى الطبيعة المتقيدة؛ لأنه يلزم أن يكون الأمر داعيا إلى داعوية
نفسه ومحركا إلى محركية نفسه. ومحذوره أشد من محذور تقدم الشيء على نفسه؛
لأنه يلزم أن يكون الشيء علة لعلية نفسه.
وبالجملة: لا ريب في أن الأمر يدعو إلى متعلقه، فلو جعلت دعوة الأمر إلى
متعلقه بعض متعلقه؛ لاستلزام ذلك كون الأمر داعيا إلى جعل نفسه، وذلك أوضح
فسادا من كون شئ علة لنفسه.
ثم أورد (قدس سره) على نفسه أولا: بأنه يمكن تصوير الأمر الانحلالي بالنسبة إلى
نفس الطبيعة؛ فإنها صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيدة.
فأنكر ذلك، وقال: كلا! لا يمكن ذلك؛ لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها؛
فإن الجزء التحليلي لا يتصف بالوجوب أصلا، وليس لنا إلا أمر واحد متعلق
بالموضوع المقيد، وسيأتي توضيحه في باب مقدمة الواجب.
ثم أورد على نفسه ثانيا: بأن ما أجبتم إنما يتم لو كان أخذ قصد الامتثال
شرطا، وأما إذا أخذ جزءا فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا
القصد يكون متعلقا للوجوب؛ إذ المركب ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر، ويكون
تعلقه بكل بعين تعلقه بالكل، ويصح أن يؤتى به بداعي ذلك الوجوب؛ ضرورة
صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه.
فأجاب: بأنه مع امتناع اعتباره كذلك فإنه يوجب تعلق الوجوب بأمر غير
اختياري؛ فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا إلا أن إرادته حيث لا تكون بإرادة
أخرى - وإلا لتسلسلت - ليست باختيارية، كما لا يخفى إنما يصح الإتيان بجزء
182

الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي، ولا يكاد يمكن الإتيان
بالمركب من قصد الامتثال بداعي امتثال أمره، انتهى (1).
أنكر المحقق العراقي (قدس سره) على أستاذه: بأن الأمر المتعلق بالمركب يتحصص
بعد أجزاء المركب، فكل جزء منه تتعلق به حصة من الأمر المتعلق بالكل.
إلى أن قال: فإذا قلنا بانحلال الأمر المتعلق إلى حصص بعدد أجزاء المركب
لزم أن يكون الأمر المتعلق بالصلاة بقصد امتثال أمرها منحلا إلى الأمر بالصلاة
نفسها، وإلى الأمر بقصد امتثال أمرها؛ فيكون بعض حصص الأمر المتعلق بالمركب
موضوعا للحصة الأخرى منه؛ فيكون الأمر الانحلالي الأول موضوع الأمر
الانحلالي الثاني.
نظير الأمر في قوله: " صل متطهرا " فإن الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة
بالطهارة ينحل إلى الأمر بنفس الصلاة، وإلى الأمر بإتيانها في حال الطهارة، لا إلى
الأمر بالصلاة نفسها.
وعلى هذا: لا فرق بين كون قصد الامتثال مأخوذا في متعلق الأمر بجعله
جزءا منه، وبين كونه مأخوذا شرطا فيه، انتهى (2).
وأفاد قريبا مما ذكر. من المحقق تلميذه الآخر؛ وهو شيخنا العلامة
الحائري (قدس سره)؛ حيث قال: إن الأمر المتعلق بالمقيد ينسب إلى الطبيعة المهملة حقيقة؛
لأنها تتحد مع المتقيد بهذا الأمر المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة المهملة
يوجب قدرة المكلف على إتيانها بداعيه (3).

1 - كفاية الأصول: 95 - 96.
2 - بدائع الأفكار 1: 226.
3 - درر الفوائد: 95.
183

وفيه: أنه يمكن دفع الإشكال ولو لم نقل بالانحلال، كما سيظهر لك. ولكن لا
بأس بدفع الإشكال بحذافيره من جميع النواحي:
فنقول من رأس:
إما نقول بانحلال الأمر المتقيد إلى أمرين: أمر بالطبيعة وأمر آخر بالطبيعة
المتقيدة، كما يراه المحقق العراقي (قدس سره).
أو لم نقل بالانحلال كذلك، كما يراه المحقق الخراساني (قدس سره).
فإن لم نقل بالانحلال فالإشكال:
إما من ناحية عدم إمكان أخذ القيد الكذائي في المأمور به.
أو من ناحية أن الأمر حيث يكون له داعوية ومحركية تكوينية يمتنع أن
يكون له داعوية كذلك.
أو من ناحية الامتثال.
والإشكال بحذافيره غير وجيه:
أما إشكال عدم إمكان أخذه في المأمور به: فقد عرفت لعله بما لا مزيد
عليه: أن أخذها بمكان من الإمكان، والمحقق الخراساني (قدس سره) أيضا يرى إمكانه.
وأما حديث داعوية الأمر محركيته التكوينية فواضح أن الأمر لا داعوية له
ولا محرك تكويني، وإنما هو أمر اعتباري، ومعناه ليس إلا الإنشاء والبعث
الاعتباري على طبيعة متقيدة. نظير البعث بالإشارة؛ فكما يمكن الإشارة إلى طبيعة
متقيدة فكذلك يمكن البعث إلى طبيعة كذلك.
وبالجملة: لم يكن للأمر داعوية وتأثير تكويني. ولو كان فلم يكن له محركية
بنحو العلل الخارجية، نظير الحركات والعلل التكوينية، وإلا يلزم أن لا يتحقق
العاصي في الخارج.
فمراد من قال به: هو أنه لو تصور فائدة الأمر وصدق بفائدتها واشتاق إليها
أحيانا وأرادها يأتي بها.
184

فغاية ما يقتضيه الأمر والبعث هي إيجاد الداعي لإتيان المكلف، ولإتيان
العمل مبادئ مضبوطة، كالخوف من النار، والرغبة في الجنة، إلى غير ذلك.
وبالجملة: ليس للأمر داعوية تكوينية، وغايته أنها اعتبارية، ومعناها ليس إلا
إنشاء البعث.
فداعوية الأمر إنما هي من دواعي المكلف إلى إتيان العمل، ولإتيان العمل
وإتيانه دواعي مقررة؛ من الخوف عن النار، والفوز بالجنة، وحبه تعالى ووجدانه
أهلا للعبادة، إلى غير ذلك من المبادئ.
فظهر: عدم تمامية الإشكال من هاتين الناحيتين؛ بقي الإشكال من ناحية
الامتثال.
فنقول: إن الأمر المتعلق بعنوان بسيط؛ سواء كان المتعلق بسيطا أو مركبا، ولا
يكاد يسري تركب المتعلق إلى الأمر حتى ينحل الأمر بعدد أجزاء المتعلق
وشرائطه، بل إنما له دعوة واحدة إلى متعلقه، ويكون البعث متوجها إليه فقط.
مثلا: لو أمر المولى عبيده ببناء مسجد يكون له أمر واحد بسيط متعلق
بعنوان واحد كذلك، من دون أن يكون له انحلال بعدد اللبنات والخشبات والرواشن
والأحجار وغيرها.
نعم، كيفية امتثال ذلك الأمر البسيط بجمع تلك الأمور ووضعها على كيفية
مناسبة.
فالأجزاء غير ملحوظة عند الأمر ببناء المسجد، بل وكذا عند الإخبار عنه،
كقولك: إن هذا المسجد أعظم من ذاك أو أحسن، بل قد لا يعلم أجزاؤه.
وبالجملة: لو تعلق أمر بطبيعة - سواء كانت بسيطة أو مركبة - فلا يكاد يدعو
إلا إلى نفس ما تعلق به، من دون أن ينحل إلى أجزائها أو إليها، وإلى شرائطها.
نعم، كيفية امتثال التعلقات مختلفة؛ فإن كانت بسيطة فواضحة، وأما إن كانت
185

مركبة فلابد من إتيانها حسب ما هو المعهود منها، ولم يكن لكل جزء أو
شرط منها أمر يخصه؛ لا نفسا ولا ضمنا، بل المكلف حين اشتغاله بالأجزاء مشغول
بإتيان الماهية المركبة.
ففيما نحن فيه: حيث يرى المولى الخبير أن مجرد إتيان أجزاء الصلاة - مثلا
كيف اتفق من دون قصد الأمر لها، لم يكن لها مصلحة ولم تكن مقربة، فإذا أمكن
تصور المولى الصلاة المتقيدة بقصد أمرها - وقد عرفت أن تصوره بمكان من
الإمكان - فيصدق بفائدتها، ثم يريدها كذلك.
ويستحيل - حسب الفرض - تعلق الإرادة على الصلاة المجردة عن قصد
الأمر؛ لعدم معقولية الجزاف في الإرادة؛ فيبعث نحو الصلاة المتقيدة بقصد الأمر،
ويوقع العبد نحو العمل إيقاعا تعبديا، فتصل النوبة إلى امتثال الأمر.
وللعبد دواعي إلى امتثال أمر مولاه؛ من حبه للجنة، أو خوفه من النار، إلى
غير ذلك من الدواعي، فإن أتى العبد بالصلاة بقصد أمرها يصدق امتثال الأمر، بل لا
يعقل عدم الصدق؛ فيسقط الأمر المتعلق بها بقصد أمرها.
وبالجملة: إذا رأى المولى أن الصلاة - مثلا - بقصد أمرها فيها الصلاح،
فيتصورها ويصدق بفائدتها فيريدها، ثم ينحدر الأمر نحوها كذلك. والعبد بعد
تحقق موضوع الإطاعة يأتي بالصلاة بقصد أمرها حسب ما له من مبادئ إيفائها -
من خوفه من النار، أو طمعه في الجنة، إلى غير ذلك - فيحصل غرض المولى.
فظهر مما ذكرنا: أنه لا إشكال في أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر لو كان
الأمر محركا اعتباريا. وأما لو كان له محركية واقعية فظاهر أنه لم يكن له محركية
بنحو العلل الخارجية، نظير الحركات والعلل التكوينية، وإلا يلزم أن لا تتحقق
العصات في الخارج، وهو كما ترى ولم يدعه أيضا أحد.
فمراد من يقول بأن الأمر محرك واقعي: هو أن تصور فائدة الأمر والتصديق
بها
186

وغير ذلك من مبادئ الاختيار من دون شئ آخر يوجب إتيان العمل
خارجا، وهو ليس إلا إتيان الصلاة بقصد الأمر.
هذا كله على تقدير عدم انحلال الأمر المتعلق بالمركب ذي أجزاء وشرائط
بعددها، كما هو الحق، وأشرنا إلى وجهه. وقد عرفت: أنه لا محذور في أخذ قصد
الأمر في المتعلق؛ لا في ناحية الأمر، ولا في ناحية المأمور به، ولا في ناحية
الامتثال، فتدبر.
وأما لو قلنا بانحلال الأمر بالمركب إلى الأمر بنفس الطبيعة والطبيعة
المتقيدة.
كما يراه المحقق العراقي (قدس سره)؛ فإنه بعد أن تصدى لتصحيح الإشكال بالحصة
فأورد على نفسه إشكالات، وأجاب عنها، إلا عن إشكال واحد؛ وهو أن تحصص
الأمر وجعل بعض حصته موضوعا لبعضه الآخر لا يجدي في رفع الإشكال
المزبور؛ لأنه لنا أن نعيد الكلام في نفس الحصة المتعلقة بنفس الصلاة المطلقة؛
فنقول: إن تلك الحصة إما تكون متعلقة بنفس الصلاة المطلقة؛ فحينئذ لا يبقى مجال
لتعلق الحصة الأخرى من الأمر بإتيان الصلاة بداعي أمرها، وإنا أن تكون متعلقة
بالصلاة المأتي بها؛ فقد عاد المحذور المزبور.
فنقل جوابا عنه، ولكن لم يرتض بها (1).
فقال: التحقيق في الجواب هو أن يقال: إن الصلاة المتعلقة لحصة من الأمر

1 - قلت: وقال في وجهه: إن المحذور المزبور ثبوتي، لا إثباتي ليرتفع بالجواب المذكور؛ لأن
المحذور كما يتحقق في صورة تعلق الأمر بالصلاة بداعي أمرها، كذلك يتحقق في صورة
تعلق الإرادة، بل في مرحلة تعلق المصلحة التي تشتمل عليها المراد؛ لأن المصلحة متعلقة
بالصلاة المأتي بها بداعي أمرها. فالصلاة لا تكون ذات مصلحة... إلى آخر ما أفاده.
[المقرر حفظه الله].
187

لم يكن مطلق الصلاة، ولا المقيد؛ ليستلزم شيئا من تلك المحاذير، بل متعلق
تلك الحصة من الأمر هي الحصة من طبيعة الصلاة - أعني الصلاة المقترنة بدعوة
الآمر إليها؛ بحيث لو فعل المكلف الصلاة لا بداعي أمرها لما كان ممتثلا لأمرها،
وإن قلنا بخروج قصد الامتثال عن حيز الأمر.
وما ذاك إلا لأن المطلوب أمر خاص معرفه، أو الموجب لصيرورته شيئا
خاصا؛ هو اقترانه بدعوة الأمر إليه، بلا أن يكون التقيد نفسه دخيلا في متعلق
المصلحة.
بل يكون شأنه شأن اليد في المطلوب المقيد؛ فكما أن القيد في المقيد غير
دخيل في الواجب النفسي، بل الدخيل فيه هو نفس التقيد ويكون القيد واجبا غيريا،
كذلك التقييد في المقام لا يكون دخيلا في الواجب النفسي، بل يكون ملحوظا آليا،
فالشئ الخاص بذاته لا مع خصوصية تكون متعلق المصلحة والإرادة والأمر،
انتهى (1).
وفيه: أنه قد تكرر ويأتي منه (قدس سره) التمسك بالحصة، وقد سبق ويأتي منا القدح
فيها.
ومجمله: أن الحصة لا توجد بمجرد المقارنة، بل لابد من تقيد الطبيعة؛ لأن
بالتقيد تحصل في الطبيعة ضيقا؛ ضرورة أن مجرد المقارنة لو أوجب ضيقا للزم
انحصار الطبيعة بالفرد؛ لمقارنة الطبيعة بأمور كثيرة لا تعد ولا تحصى؛ من إشراق
الشمس وهبوب الرياح وكونه في مكان معين بكيفية خاصة، إلى غير ذلك. وواضح:
أنه لا خصوصية لشيء منها.
وبالجملة: إذا لم يكن بين شيئين علاقة لزومية - من العلية أو السببية أو
الشرطية ونحوها - لا يؤثر مقارنة أحدهما للآخر شيئا، ويكون مقارنته له مثل وضع
الحجر جنب الإنسان.

1 - بدائع الأفكار 1: 228.
188

فإذا لم يكن لدعوة الآمر المقترنة بالصلاة - مثلا - تأثير فيها وتأثر منها فلا
معنى لقوله (قدس سره): إن المكلف لو فعل الصلاة لا بداعي أمرها لما كان ممتثلا لأمرها.
وذلك لأنه على ما أفاده لا يعقل عدم الامتثال؛ لما أشرنا أن المقارنات غير
مؤثرة؛ ضرورة أن من مقارنات تعلق الأمر إشراق الشمس وهبوب الرياح وكونه
بكيفية خاصة ومكان مخصوص ووضع ومحاذاة كذائية، إلى غير ذلك. وواضح: أنه
لا خصوصية لشيء منها، كما لا يخفى.
وسنتعرض في تصحيح إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمرين عند
التعرض لمقال المحقق الخراساني (قدس سره) بعض ما ينفع لهذا الجواب، فارتقب حتى حين.
فتلخص من جميع ما ذكرنا بطوله: أن أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر بمكان
من الإمكان ليس محالا وممتنعا ذاتا، ولم يكن تكليف محال، ولا محالا وممتنعا
بالغير وتكليف بالمحال، من دون احتياج إلى تكلف انحلال أمر واحد إلى أمرين أو
أوامر، فافهم واغتنم وكن من الشاكرين.
تكملة: في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمرين مستقلين
ما تقدم كله بالنسبة إلى إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر بأمر واحد،
وقد عرفت لعله بما لا مزيد عليه: أنه بمكان من الإمكان.
ولكن حيث يمكن أن يرى امتناع ذلك بأمر واحد - مع ما ذكرنا - فينبغي أن
يبحث في ذلك على سبيل الفرض: بأنه لو فرض امتناع أخذ قصد الأمر في التعلق
بأمر واحد فهل يمكن تصحيح ذلك بأمرين مستقلين؛ بأن يتعلق أحدهما بنفس
الطبيعة والآخر بإتيانها بقصد الأمر، أم لا؟
وبالجملة: هل يمكن أن يتوسل الآمر إلى غرضه من إتيان المتعلق بقصد أمره
بهذه الوسيلة، أم لا؟ وجهان، بل قولان:
189

فعن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) تصحيحه بأمرين؛ حيث يرى أن الأوامر
المتعلقة بالعبادات متعلقة بنفس الأجزاء والشرائط، واستفاد قصد القربة وقصد الأمر
بالإجماع وغيره (1).
ولكن ناقش في ذلك المحقق الخراساني (قدس سره)، وحاصل مناقشته يرجع إلى
أمرين: الأول إلى منع الصغرى، والثاني إلى منع الكبرى.
فحاصل ما أفاده في منع الصغرى: هو القطع بأنه ليس في العبادات إلا أمر
واحد، كغيرها من الواجبات والمستحبات.
غاية الأمر: يدور المثوبات والعقوبات فيها مدار الامتثال وجودا وعدما،
بخلاف ما عداها فيدور فيه خصوص المثوبات، وأما العقوبة فمرتبة على ترك
الطاعة ومطلق الموافقة.
وحاصل ما أفاده في منع الكبرى: هو أن الأمر الأول إن كان فقط بمجرد
موافقته، وإن لم يقصد به الامتثال - كما هو قضية الأمر الثاني - فلا يبقى مجال
لموافقة الأمر الثاني مع موافقة الأمر الأول بدون قصد امتثاله؛ فلا يتوسل الآمر إلى
غرضه بهذه الحيلة والوسيلة، وإن لم يكد يسقط بذلك.
فلا يكاد يكون له وجه إلا عدم حصول غرضه بذلك من أمره؛ لاستحالة
سقوطه مع عدم حصوله، وإلا كان موجبا لحدوثه. وعليه فلا حاجة في الوصول إلى
غرضه إلى تعدد الأمر؛ لاستقلال العقل مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة
الأمر بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرضه؛ فيسقط أمره (2).
وفيه أولا: أن الكلام في إمكان أخذ الأمرين واستحالته في مقام الثبوت،

1 - أنظر مطارح الأنظار: 60 / السطر الأخير.
2 - كفاية الأصول: 96 - 97.
190

فدعوى القطع بعدم الأمرين في مقام الإثبات غير وجيه.
وثانيا: أن دعوى القطع بالعدم أيضا غير وجيه؛ لأنه إذا فرض أنه في مقام
الثبوت لا يحصل غرض المولى بإتيان الطبيعة - كيف اتفقت - بل لابد فيها من قصد
أمرها، فلابد له في مقام إثبات من إبراز مقصوده وإلا لأخل بغرضه.
ضرورة: أن الصلاة - مثلا - على كل من مذهب الصحيحي والأعجمي لم
توضع للقيود الجائية من قبل الأمر، فإذا فرض استحالة أخذه في المتعلق بأمر
واحد فلابد وأن يلتزم بأمر آخر يدل على اعتباره فيها.
وثالثا: أن الإجماع ثابت في بعض الأعمال على أنه لو أتي به بدون قصد
القربة يقع باطلا، وهو (قدس سره) أيضا قائل باعتبار قصد الأمر في العبادات؛ فيكشف ذلك
عن أن الأمر المتعلق بنفس الطبيعة في ظاهر الدليل لم يكن مرادا بالإرادة الجدية،
فلابد من وجود دليل آخر أوجب ذلك.
وليت شعري كيف يدعي القطع بعدم أمر آخر متكفل لذلك، مع عدم إمكان
اعتبار القيد بأمر واحد، مع دخالة القيد في تحصيل غرضه؟!
ولا يلزم أن يكون طريق إثباته لفظا، كالسماع من المعصوم (عليه السلام) أو النقل
عنه. بل يمكن إثباته من طريق اللب، كالإجماع أو الضرورة أو بناء المتشرعة؛
بحيث يوجب القطع بإرادة ذلك.
وتوهم: اعتبار قصد الأمر في العبادة من باب الاشتغال، كما أشار إليه (قدس سره) في
آخر كلامه.
مدفوع: بأنه لو وصلت النوبة إلى الأصل وحكم العقل فلنا أن نقول بالبراءة
دون الاشتغال. ولو سلم أن مقتضى القاعدة الاشتغال ولكن لا يكون واضحا لا
يحتاج إلى البيان؛ ولذا وقع الخلاف في ذلك؛ فإذن لا يكفي مجرد ذلك مصححا
لادعاء القطع بعدم أمر آخر.
191

وبالجملة: لو لم تكن نفس إتيان الطبيعة محصلة للغرض، بل لابد لحصوله
من قصد أمره فإذا لم يكن أخذه في متعلق الأمر بأمر واحد فيكشف ذلك عن
اعتباره بأمر آخر، فتدبر.
ورابعا: أنه يمكن لنا اختيار كل واحد من شقي الترديد وإنكار الملازمة.
وذلك لأنه لو اخترنا الشق الأول - وقلنا بأن إتيان الطبيعة مجردة عن قصد
الأمر يوجب سقوط الأمر؛ لانتفاء موضوعه - لكنه لا يثبت الامتثال؛ لأن سقوط
التكليف كما يكون بامتثاله يكون بفقدان الموضوع أو عصيانه.
مثلا: لو احترق الميت المسلم أو أدركه الغرق قبل الغسل والصلاة عليه سقط
الأمر بالغسل والصلاة عليه. وواضح: أن ذلك ليس لأجل الامتثال، بل لفقدان
الموضوع الموجب لسقوط الأمر قهرا.
ففيما نحن فيه نقول: إن إتيان الطبيعة مجردة عن قصد الأمر وإن كان يوجب
عدم إمكان إتيانها بقصد الأمر لتفويت الموضوع، ولكن للمولى التوسل إلى غرضه
بالتوعيد والعقوبة على ترك المأمور به عصيانا.
مثلا: لو قلنا بأن قاعدة لا تعاد (1) تشمل الترك العمدي بالنسبة إلى غير
الخمسة المستثناة فغاية ما تدل عليه قاعدة لا تعاد: هي أنه لو ترك الخمسة
- كالسورة مثلا - عمدا لا يمكن إعادتها ثانيا، ويعاقب عليه؛ فلا ينافي ذلك الأدلة
المثبتة لجزئيتها.

1 - قلت: مدرك القاعدة هو قول أبي جعفر (عليه السلام) في الخبر الصحيح: " لا تعاد الصلاة إلا من خمسة:
الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع والسجود " [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] وسائل الشيعة 3: 227، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الباب 9 الحديث 1.
192

بل يمكن أن يقال: إن ذلك يوجب تشديد جزئيتها؛ لأن المكلف إذا توجه إلى
أنه لو ترك السورة عمدا لا يمكنه تداركها لا ينقدح في نفسه تركها أصلا، بخلاف ما
لو ترك ما يصلح لذلك؛ فإن له تركها عمدا ثم الإتيان بها ثانيا مع المتروك.
ولذا قلنا بعدم استقامة كلام شيخنا العلامة الحائري (قدس سره)؛ حيث قال: بأن
حديث لا تعاد لو عم وشمل ترك الجزء عمدا يوجب العطلة والتكاسل عن
الصلاة، فتدبر.
ومثل ذلك: الجهر بالقراءة في مورد الإخفات؛ جهلا تقصيريا بالحكم مثلا، أو
الإخفات بها في مورد يجب الجهر كذلك؛ فإن من لم يخفت في الصورة الأولى، أو
لم يجهر في الصورة الثانية يعاقب عليه، ولكن مع ذلك لا يمكن إعادتها جهرا أو
إخفاتا.
فظهر مما ذكرنا: أنه يمكن للمولى أن يتوسل إلى غرضه بأمر مستأنف.
ومجرد إتيان الطبيعة مجردة وإذهاب موضوع أمر الثاني لا تكاد توجب أن لا
يتوسل إلى غرضه بالتوعيد والعقوبة على تركه.
ولنا اختيار الشق الثاني، ونقول بعدم السقوط لأجل عدم حصول الغرض.
ولكن لا يخفى: أنه لا يكون ذلك من ضروريات العقل؛ بحيث لا يحتاج إثبات
الاشتغال إلى تجشم البيان. كيف، وقد ذهب جمع من المحققين إلى البراءة في
ذلك (1)؟!
فعلى هذا: يكون الأمر نظريا، فللشارع أن يرشد عباده إلى ما له دخل في
تحصيل غرضه؛ وهو إتيان الطبيعة بقصد الأمر، فيقيد ذلك بالأمر المستأنف؛ دفعا
لتوهم البراءة.
فظهر: أنه لا تلازم بين عدم سقوط الأمر، وبين عدم لزوم الأمر بتوهم حكم
العقل بالاشتغال، فتدبر واغتنم.

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 101، نهاية الأصول: 123.
193

إشكال ودفع
ربما توهم في المسألة إشكال عقلي، وهو مشترك الورود على كل من القول
بتعدد الأمر؛ بحيث يكون تعلق أحدهما بنفس الطبيعة، والثاني بالطبيعة المتقيدة
بداعي أمرها. والقول بأمر واحد منحل إلى أمرين، كما يراه المحقق العراقي (قدس سره).
وحاصله: أن المصلحة إذا كانت قائمة بالطبيعة المتقيدة بقصد الأمر فبحسب
اللب يستحيل تعلق الإرادة بإيجاد الطبيعة المجردة؛ لأن للإرادة مبادئ مضبوطة
تجب عندها وتمتنع دونها.
فإذا لم تكن للطبيعة المجردة مصلحة فلا تكون موردا ومركبا للإرادة، ولو
فرض تعلق الإرادة بها فإنما هي إرادة صورية غير جدية لا يمكن التقرب بها.
فإذن: الأمر بالطبيعة المجردة لا يكون فيه مصلحة ومقربية أصلا؛ سواء قلنا
بأمرين مستقلين، أو قلنا بالانحلال.
بل المحذور في الانحلال أشد؛ لأنه لو قلنا بأمرين مستقلين يمكن تعلق كل
أمر بموضوع. وأما لو قلنا بالانحلال العقلي فمعناه أنه لا يكون في البين إلا أمر
واحد متعلق بالطبيعة المتقيدة، ولكن العقل يحلله إلى أمرين؛ فلا يصح أن يقال: إن
الحصة المجردة فيها مصلحة وداعوية.
وكيف كان: لا تكون الطبيعة المجردة ذات مصلحة، فلا تكون مرادة بالإرادة
الجدية، فلا يصح البعث نحوها. فإذا لم يصح البعث نحوها فلا يصح الانبعاث.
فلا يمكن أن تكون موضوعة للأمر الثاني؛ ضرورة أن موضوعيته فرع إمكان
باعثيته؛ فإذا فرض عدم الباعثية لا يمكن الأمر بقصدها. ولو فرض تعلق الأمر بها
جدا، ولكن لم يتعلق بتمام المأمور به، بل تعلق بجزء منه؛ فيكون الأمر غيريا لا
يكون مقربا، ومعه لا يحصل القرب الذي هو غرض المولى.
وقد دفع الإشكال: من جهة كون المأمور به الحصة المقارنة لقصد الأمر، كما
194

سبق تصويره من المحقق العراقي (قدس سره) عند كلامه في الانحلال (1).
ولكن قلنا: بأن المقارنات غير محصصة للحصة، وإلا يلزم وجود حصص
غير متناهية؛ ضرورة أن مجرد لحاظ مقارنة الطبيعة بمقارنات ما لم يتقيد بها لا
يصير حصة.
وهل يعقل أن لا تصدق طبيعة الإنسان الموجودة في الذهن المقارنة لأمور
على طائفة من الأناسي، دون طائفة أخرى؟!
مضافا إلى: أن الحصة المقارنة إنما تحصل بعد تعلق الأمر، وأما قبل تعلق
الأمر فلا مقارنة في البين، فتدبر.
والتحقيق في الجواب عن الإشكال هو أن يقال: إن ملاحظة الأوامر القربية بين
الموالي والعبيد يسهل الخطب ويرفع غائلة الإشكال ومنشأ الإشكال هو خلط
صورة إرادة الآمر وقصده الطبيعة المجردة؛ مكتفيا به مقتصرا به لصورة ما لو كان
بصدد إفهام التقيد به بدليل آخر.
والممتنع هو تعلق الإرادة والبعث بالطبيعة؛ مكتفيا بها. وأما لو كان بصدد
إفهام التقيد به بدال آخر فلا امتناع فيه، بل ينقدح في ذهنه مبادئ إرادتها.
فإشكال عدم تعلق الإرادة بالطبيعة المجردة لا وجه له.
نعم، يتوجه إشكال أن الأمر بها حيث يكون غيريا لا قربيا فكيف يتقرب به؟
ولكن يمكن أن يقال: إن قصد الأمر حيث يكون متمما للغرض حيث لا
يمكن أن يكون للطبيعة بدون قصد الأمر مصلحة فيكون قصد الأمر المتعلق
بالطبيعة محصلا للغرض ومقربا للمولى.
فيكون فرق بين هذا القيد وسائر القيود؛ لأن الطبيعة المجردة عن قصد الأمر
لا يكون فيها مصلحة، وأما سائر القيود فلا تكون بهذه المثابة، كالطهارة (2).

1 - تقدم في الصفحة 187.
2 - قلت: كذا استفدنا من سماحة الأستاد - دام ظله - في مجلس الدرس، ولم يتحصل لنا حقيقته.
ولكن في تقرير بعض الأصدقاء الأعلام - دامت بركاته - أن الأمر به وإن كان غيريا غير مقرب،
لكنه إذا أتي بهذا الداعي يكون مقربا بمقتضى الأمر الثاني؛ إذ الأمر مع كونه غير قربي تمام
الموضوع للأمر الثاني، ومعه يحصل القرب.
ولا يخفى: أن معنى كون الأمر الأول غير قربي هو أنه بإتيان المأمور به لا يحصل القرب، لا أن
إتيانه بداعي الأمر أيضا لا يحصل القرب، انتهى، فتدبر [المقرر حفظه الله].
195

نقل وتعقيب
قال المحقق العراقي (قدس سره): يمكن أن ننفرد عن القوم بتحرير وتقرير نفيد بهما
إمكان أخذ قصد الأمر والامتثال أو دعوة الأمر في متعلق شخصه شطرا أو شرطا.
وذلك يتوقف على تمهيد مقدمة، حاصلها: أنه كما يمكن إظهار الإرادات
التشريعية - عرضية كانت أو طولية - بإنشاءات متعددة، كأن يقول: " أكرم زيدا "
و " أكرم عمروا " و " ادخل السوق واشتر اللحم "، فكذلك يمكن إظهارها بإنشاء
واحد، كأن يقول في الأحكام العرضية: " أكرم العلماء "، وفي الطولية: " صل مع
الطهارة ". وطولية الإرادة تارة تكون باعتبار كون متعلقاتها طولية - كالطهارة والصلاة -
وأخرى باعتبار كون نفسها طولية - كما في " صدق العادل " - لأن هذا الخطاب لا
يتوجه إلى المكلف إلا عند الخبر الذي له أثر شرعي. وبانتفاء كل منهما - فضلا عن
كليهما - ينتفي الأثر.
ولذا أشكل الأمر في شمول خطاب " صدق العادل " للإخبار مع الواسطة أو
الوسائط، كخبر الشيخ عن الصفار عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام)؛ لأن خبر الشيخ
- مثلا خبر عادل محرز بالوجدان، لكن لم يكن له أثر شرعي، وخبر زرارة وإن
كان له أثر شرعي لكنه غير محرز بالوجدان، وخبر صفار لا يكون محرزا بالوجدان
ولا يكون ذا أثر شرعي.
196

ولكن إذا عممنا الأثر الشرعي إلى كل حكم شرعي - ولو كان حكما طريقيا -
يمكن حل الإشكال؛ لأن خطاب " صدق العادل " وإن كانت قضية واحدة مشتملة
على إنشاء واحد؛ إلا أنه بها تنشئ طبيعي وجوب تصديق العادل الجامع بين الأفراد
الطولية؛ بحيث يكون أحد الأفراد محققا لموضوع الفرد الآخر؛ فموضوعها خبر
العادل المتحقق وجدانا أو تعبدا.
وحينئذ: يتحقق بانطباق هذه القضية على خبر الشيخ - مثلا - الذي هو خبر
عادل وجدانا خبر الصفار تعبدا، وخبر زرارة كذلك باعتبار ما لهما من الأثر
الشرعي؛ فإن أثر الشرعي في خبر صفار وجوب تصديقه إذا تحقق، وفي خبر
زرارة وجوب غسل الجمعة - مثلا - إذا تحقق.
وبانطباق قضية " صدق العادل " على خبر الشيخ - الذي هو خبر عادل -
صار سببا لحدوث أخبار عدول بالتعدد والحكومة في آن واحد، بلا تقدم ولا تأخر
في الزمان، وإن كان صدقها على بعض في طول صدقها على الآخر.
وبهذا يندفع: إشكال الدور في شمول الخطاب للإخبار مع الواسطة.
أما الإشكال؛ فلأن وجوب تصديق العادل لا يثبت بخبر الشيخ - مثلا - إلا إذا
كان له أثر شرعي، وليس له أثر شرعي غير وجوب التصديق؛ فيتوقف ثبوته
لموضوعه على ثبوته له.
وأما الجواب؛ فلأنه إنما يلزم الإشكال لو كان الحكم المنشأ في قضية " صدق
العادل " حكما واحدا شخصيا، وأما لو كان المنشأ فيها أحكاما متعددة حقيقة،
وواحدا عنوانا وإنشاء فلا يلزم الإشكال.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أنه يمكن أن ينشأ المولى وجوبين طوليين:
أحدهما محقق موضوع الآخر بإنشاء واحد، كما لو قال مثلا: " صل مع قصد امتثال
وجوب الصلاة "، أو " صل على أن يكون الداعي هو وجوبها ".
فتكون هذه العبارة
197

ونحوها إنشاء واحدا لوجوبين: أحدهما متعلق بالحصة المقارنة لدعوة الأمر،
أو لقصد امتثال الأمر من طبيعة الصلاة. وثانيهما وجوب إتيان تلك الحصة بدعوة
أمرها ووجوبها. وبذلك يرتفع المحاذير المزبورة برمتها، انتهى ملخصا (1).
وفيه أولا: أن ما ذكره هنا ليس إلا تكرارا لما اختاره (قدس سره) في الجواب عما
أفاده المحقق الخراساني (قدس سره)؛ من انحلال الأمر إلى الأمر بحصة من الصلاة، وهي
الأمر بإتيانها بدعوة الأمر بها.
نعم، أضاف هنا إلى ما ذكره هناك مثالا، ولكن مع الأسف لا ارتباط له
بالممثل؛ وذلك لأنه لو قلنا: إن خطاب " صدق العادل " جار مجرى القضية الحقيقية
فتنحل إلى وجوب تصديقات بعدد أخبار العدول، ويكون هناك أحكام مستقلة
متعددة بتعدد الموضوعات المستقلة؛ عرضية كانت أو طولية.
فإذا شمل " صدق العادل " خبر الشيخ - الذي هو رأس السلسلة فبشموله
يتحقق موضوع خبر الصفار، وهكذا إلى آخر السلسلة.
ولكن ما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنه لا يمكن تصحيح الأمر بأمر واحد إلى
أوامر متعددة، بل لابد لتتميمه بالأمر بها مقيدة بقصد الأمر، فلابد من دال آخر.
وبالجملة: حيث إن المفروض أن نفس الطبيعة غير واجدة للمصلحة، بل هي
قائمة بإتيانها بقصد الأمر فكل من الصلاة - مثلا - والصلاة بقصد الأمر جزء من
الموضوع.
وإن شئت قلت: إن الحكم هنا متعلق بالماهية المتقيدة، ولم يكن لكل من
الماهية وتقيدها حكما على حدة، بل كل منهما جزء الموضوع لحكم واحد، لا
حكمان مستقلان بإنشاء واحد، كما هو الشأن في " صدق العادل ".
فإذن: فرق بين ما نحن فيه - وهو إثبات حكم واحد لموضوع واحد - وبين

1 - بدائع الأفكار 1: 232 - 234.
198

الحكم في باب قضية " صدق العادل "؛ فإنه إنشاء إحكامات مستقلة على
موضوعات كذلك بإنشاء واحد. فغاية الانحلال الذي يمكن دعواه هنا هو انحلال
حكم واحد إلى حكمين ضمنيين بحسب حكم العقل، وهو غير الانحلال في القضية
الحقيقية، كما لا يخفى، فتدبر.
وثانيا: كما أشرنا إليه آنفا أن المقارنة التي يعتبرها في الحصة، هل المراد
منها المقارنة الخارجية بعد تعلق الحكم، أو المقارنة الذهنية قبل تعلق الحكم؟
فإن أراد المقارنة الخارجية ففيه: أن المقارنة كذلك إنما تحصل بعد تعلق
الأمر. ولا يعقل أن يؤخذ ما يكون متأخرا عن الحكم في موضوع حكمه.
وإن أراد بها المقارنة الذهنية فنقول: مجرد التقارن في اللحاظ لا يصحح
الحصة، إلا إذا قيد الموضوع به؛ ضرورة أنه لو كان مجرد الصحابة الاتفاقية
محصصة فلابد وأن يتحصص بحصص غير متناهية؛ لأنه كما يكون الموضوع مقارنا
لدعوة الأمر، كذلك يكون مقارنا للحاظ إشراق الشمس وهبوب الرياح، إلى غير
ذلك.
وبالجملة: إذا لم يكن لما به تحصص الماهية دخلا - قيدا وتقيدا - لكان
المتعلق هو نفس الماهية، وإن كان له دخل بنحو ما في معنى الحصة فيعود المحاذير
المذكورة.
فإذن: الصحابة الاتفاقية بين ماهية الصلاة ودعوة الأمر لا توجب تحصصها
بحصة خاصة، وإلا لكان لغير تلك الخصوصيات من المتخيلات - حتى لحاظ
الماهية - دخالة فيه.
والحصة معناها هي الماهية المضافة إلى خصوصية ما؛ بحيث تكون تلك
الإضافة بما هي إضافة دخيلة فيها، وإن كان المضاف إليه وكذا الإضافة - بما هي
قيد - خارجا، وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مقامات، إن شاء الله.
وثالثا: كما قرره بعض الأعلام من الأصدقاء - دامت بركاته - مقال سماحة
الأستاد - دام ظله - أن تحقق الحصة المقارنة لدعوة الأمر يتوقف على تحقق دعوة
199

الأمر خارجا؛ إذ الحصة - على الفرض - خارجة، وهي متوقفة على تحقق
الحصة العينية؛ لتوقف الحكم على الموضوع، مع استحالة الامتثال أيضا؛ لعدم
إمكانه إتيان الحصة المقارنة بدعوة الأمر، فتدبر.
تذنيب
ما سبق إشكالا وحلا وتحقيقا إنما هو بالنسبة إلى قصد الأمر والامتثال في
متعلق الأمر، وقد عرفت لعله بما لا مزيد عليه إمكان أخذها في المتعلق.
وأما أخذ قيود أخر - كقصد حسن الفعل، أو قصد المصلحة، أو المحبوبية، أو
له تعالى، ونحو ذلك - فقد صرح المحقق الخراساني (قدس سره): بأن التقرب المعتبر في
العبادة إذا كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى،
فاعتباره في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلا أنه غير معتبر فيه قطعا؛
لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بداهة (1).
وفيه: أن بعض الإشكالات المتقدمة في أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر -
كإشكال امتناع الذاتي ببعض التقاريب - وإن لم يجر هنا إلا أن لجريان كثير منها
مجالا واسعا، لا بأس بالإشارة إلى بعضها:
منها: أنه لو أخذ داعي المصلحة في متعلق الأمر يلزم أن يكون الشيء داعيا
لداعوية نفسه، أو محركا إلى محركية نفسه.
وذلك لأنه لو أخذت داعوية قصد الأمر في المأمور به فلازمه: أن ذات
الصلاة لم تكن لها داعوية ومحركية؛ لعدم وجود المصلحة فيها نفسها، بل الداعي أو
المحرك هو الذي فيه المصلحة؛ وهي ليست إلا الصلاة المقيدة بقصد المصلحة،
فتكون الصلاة

1 - كفاية الأصول: 97.
200

بداعي أمرها داعية إلى نفسها ومحركة إلى محركية نفسها.
ومنها: لزوم الدور الذي ذكره بعض الأعاظم (قدس سره)؛ وهو أن قصد المصلحة
يتوقف على كون الشيء ذا مصلحة خارجا، وإلا يكون القصد جزافيا، ولو توقف
المصلحة على قصدها - كما فيما نحن فيه - يلزم الدور.
فإن شئت قلت: إن الشيء حسب الفرض لا يكون فيه المصلحة إلا إذا قصده؛
فيتوقف قصد المصلحة على ما يتوقف عليه (1).
ومنها: تجافي العلة عن رتبتها إلى رتبة المعلول؛ وذلك لأن الأفعال بجميع
قيودها معلولة للإرادة التي هي متأخرة عن الدواعي والمصالح والمفاسد؛ فالدواعي
واقعة في سلسلة علل وجود الأفعال، فلو أخذت في المتعلق والمأمور به يلزم تنزل
العلة عن رتبتها، وتنزلها إلى مرتبة معلولها أو معلول معلولها (2).
فظهر مما ذكرنا: أن ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره): أن أخذ هذه القيود في
المتعلق بمكان من الإمكان، ليس على إطلاقه تمام؛ لتطرق الإشكالات على لحاظ
بعضها، فتدبر.
ولكن الذي يسهل الخطب: إمكان التفصي عن الإشكالات على أخذ هذه
القيود في المتعلق، كما عرفت إمكان التفصي عنها على فرض أخذ قصد الأمر
وقصد الامتثال في المتعلق.
وذلك لأن الوجدان كما يكون حاكما بأن المعجون المركب من عدة أجزاء
مختلفة يكون لكل جزء منها دخل وتأثير في استرداد الصحة وتحصيلها؛ بحيث لو
لم يكن جزء منها ربما لا تحصل النتيجة المطلوبة من المعجون. نعم ليس مستقلا
في استرداد الصحة، بل لابد له من انضمام سائر الأجزاء.

1 - فوائد الأصول 1: 151.
2 - نفس المصدر: 152.
201

فكذلك في أجزاء متعلقات التكاليف على مذهب العدلية أيضا؛ فإن لها حظ
من المصلحة، كما يكون لأصل التعلق مصلحة.
نعم، في مقام استيفاء تمام المصلحة لابد وأن يؤتى بها بقصد المصلحة.
فهل ترى من نفسك أن تقول: إن الإمساك من طلوع الشمس إلى غسق الليل،
أو أجزاء الصلاة مثلا لم تكن لها مصلحة، والمصلحة إنما تكون بقصد المصلحة؟!
حاشاك!! وإلا فلابد أن يستوفى المصلحة إذا قصد المصلحة مع إتيان فعل من
الأفعال.
وبالجملة: العقل والوجدان أصدق شاهدين على أن لكل جزء من أجزاء
الماهية المركبة المأمور بها كأجزاء المعجون المركب له مصلحة. ولا يعقل أن لا
يكون له مصلحة؛ لأن تعلق الحكم على موضوع مركب مرهون بتصوره والتصديق
بفائدته، ثم إرادته. فإذا لم تكن لجزء الموضوع مصلحة كيف يصدق بفائدته؟! فضلا
عن إرادته!
فالجزء لابد وأن يكون له مصلحة حتمية. فإذن في مقام استيفاء المصلحة
لابد وأن يؤتى به في ضمن الأجزاء الأخر بقصد المصلحة.
فماهية الصلاة - مثلا - واجدة للمصلحة، لا كلها بل بعضها، وبقصد المصلحة
يستوفى تمام المصلحة.
إذا تمهد لك هذا: فيظهر لك الجواب عن إشكال الأول؛ لأنه ليس المراد
باعتبار قصد المصلحة في المتعلق أن الماهية المجردة لا داعوية لها إلى إتيانها، بل
المراد لزوم إتيان الماهية بداعوية المصلحة.
فلم يلزم كون الشيء داعيا لداعوية نفسه، بل الداعي إلى قصد الداعوية هو
أصل الماهية.
وبهذا يمكن الجواب عن الإشكال الثاني أيضا؛ لأن قصد المصلحة الكذائية
202

متوقف على المصلحة التي تكون جزءا للماهية المأمور بها، وهي لا تتوقف
على قصدها.
وبالجملة: ما يتوقف على قصد المصلحة إنما هي المصلحة التامة، وما يتوقف
عليه قصد المصلحة هي المصلحة الناقصة القائمة بنفس الطبيعة، فأين الدور؟!
وأما الإشكال الثالث: فمنشأه الخلط بين الأمور الذهنية والخارجية؛ وذلك
لأن الآمر إذا رأى أن نفس الماهية غير وافية بتمام المصلحة، ولابد فيها من قصد
المصلحة؛ فيتصور الماهية المتقيدة وينشئ الحكم عليها مقيدة، ولا يلزم في هذه
المرحلة محذور.
وأما المأمور فيتصور الماهية المتقيدة بقصد المصلحة، ويتم المطلوب ولا
يلزم محذور في إتيان الماهية بقيد قصد المصلحة (1).
الأمر الثالث: في مقتضى الأصل اللفظي في المسألة
وليعلم أولا: أن النسبة بين الإطلاق والتقييد العدم والملكة؛ لأن الإطلاق
ليس هو عدم التقييد ولو مع عدم صلوح المورد له، بل هو عدمه في مورد قابل له؛
فإذا كان المورد صالحا للتقييد ولم يتقيد يصح التمسك بالإطلاق، وقد عرفت بما لا
مزيد عليه: أنه يصح أخذ قصد الأمر أو قصد الامتثال وقصد المصلحة ونحو ذلك
في متعلق الأمر.

1 - قلت: ويمكن أن يجاب عنه بنحو آخر أشار إليه سماحة الأستاد - دام ظله - في
الدورة السابقة، فلاحظ التهذيب [1]، [المقرر حفظه الله].
[1] تهذيب الأصول 1: 159.
203

فعلى هذا: لو أطلق الأمر ولم يقيده بشيء منها يصح التمسك به والحكم بأن
الواجب توصلي.
وبالجملة: بعد القول بإمكان أخذ قصد الأمر ونحوه في متعلق الأمر يكون
قصد الأمر وزان سائر القيود العرضية؛ فكما يؤخذ بالإطلاق لرفع قيد أو شرط
فكذلك يؤخذ بإطلاق الأمر ويرفع اليد عن قيد قصد الأمر مثلا. فإذا كان الآمر في
مقام بيان تمام المراد ولم ينصب قرينة على ذلك فيؤخذ بإطلاق الأمر.
فإذن: الأصل الأولي عند الشك في واجب أنه توصلي أو تعبدي كون
الواجب توصليا، إلا ما خرج بالدليل، فتدبر.
ذكر وإرشاد
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا: فينبغي عطف النظر إلى إشكال في إثبات
التوصلية.
ومقال لشيخنا العلامة الحائري (قدس سره) مقتضاهما كون الأصل الأولي عند الشك
كون الواجب تعبديا.
أما الإشكال فحاصله: أن التمسك بالإطلاق إنما يصح فيما إذا كان كل من
الإطلاق والتقييد ممكنا، وما نحن فيه ليس كذلك؛ لأن للمتعلق ضيق ذاتي.
وذلك لأن دعوة الأمر إلى متعلقه هي من شؤون الأمر ولوازمه التي لا تنفك
عنه، كما هو واضح؛ لأن الداعوية من اللوازم الذاتية للأمر. كما لا تنفك عن متعلقه؛
لأن الأمر لإيجاد الداعي إلى إتيان متعلقه.
فمتعلق الأمر هي طبيعة الفعل التي دعت المولى إلى بعث العبد إلى إيجاد
ذلك الفعل، لا مطلقه.
وبعبارة أخرى: يكون المتعلق مدعوا إليه بالضرورة.
فإذا كانت داعوية الأمر من لوازم ذات الأمر ومتعلقه فلا يعقل الانفكاك بين
204

المتعلق ولازمه الذاتي؛ وهو عنوان كونه مدعوا إليه. فإذن كيف يمكن رفع ما
لا يمكن الانفكاك عنه بإطلاق الدليل.
فينتج: أن الأصل في الأمر كون الواجب تعبديا (1).
ولكنه يندفع الإشكال: بأن منشأ الإشكال هو الخلط بين القيود المأخوذة في
متعلق الأمر والتكليف قبل تعلق التكليف، وبين بعض القيود والأوصاف الانتزاعية
التي تنتزع بعد تعلق الأمر والتكليف.
والكلام إنما هو بالنسبة إلى القيود الراجعة لما قبل التكليف، وأما بالنسبة إلى
القيود الراجعة لما بعده فلا؛ ضرورة أنه لا إشكال في استحالة انفكاك عنوان
الداعوية من الأمر، وعنوان المدعو إليه من المتعلق بعد تعلق الأمر به، فتدبر.
فإذا كان الكلام في القيود الراجعة لما قبل تعلق التكليف فنقول: هل الآمر
لاحظ المتعلق ماهية مرسلة، أو مقيدة بقصد الأمر مثلا؛ فإذا كان الأمر في مقام بيان
جميع ما له دخل في متعلق الأمر ولم يقيده بقصد الأمر أو قصد المصلحة أو
نحوهما فالأصل في مورد الشك يقتضي كون المتعلق مرسلا غير مقيد بقصد الأمر
ونحوه.
وواضح: أنه لا ربط له إلى أن الأمر له داعوية إلى متعلقه، وكون متعلقه
معنونا بذلك العنوان بالذات؛ لأنه بعد تعلق التكليف والأمر، كما أن اتصاف الآمر
بالآمرية أيضا بعد تعلق الأمر.
وبالجملة: أن الكلام إنما هو فيما يدعو إليه الأمر والتكليف، وأنه هل هو
نفس الطبيعة، أو هي مقيدة بقصد الأمر مثلا؟ ومقتضى جريان مقدمات الحكمة هو
أنه حيث كان الآمر في مقام بيان جميع ما له دخل في متعلق أمره، ولم يقيد بقصد
الأمر ونحوه فمقتضى الأصل عدمه؛ فينتج كون الواجب توصليا.

1 - لاحظ بدائع الأفكار 1: 236.
205

نعم، بعد تعلق الأمر والتكليف بطبيعة - سواء في التعبديات أو التوصليات -
فينتزع أمور، ككون الطبيعة مأمورا بها ومدعوا إليها، وكون المولى آمرا، وكون
المكلف مأمورا، إلى غير ذلك من الأمور المتأخرة المنتزعة عن تعلق التكليف
والبعث.
ولا يكاد يعقل توجه التكليف إلى هذه الأمور المتأخرة التي لا تكاد تنتزع
إلا بعد تعلق التكليف.
فظهر - بحمد الله - أن الإشكال نشأ من خلط القيود الجائية من قبل الأمر
والتكليف بالقيود المأخوذة قبل تعلق التكليف، والكلام نما هو في الثاني دون
الأول، فتدبر واغتنم.
وأما مقال شيخنا العلامة الحائري (قدس سره): فهو أنه (قدس سره) بعدما كان قائلا بأصالة
التوصلية عند الشك (1) - وفاقا لما عليه القوم - عدل عنها في أخريات عمره الشريف؛
فقال بأصالة التعبدية، ومهد لذلك مقدمات لم يكن بعضها صحيحة عنده من ذي
قبل، ولكن ساعده الاعتبار أخيرا:
الأولى: أن مختاره سابقا كان أن متعلق الأوامر صرف الوجود من الطبيعة أو
الوجود السعي غير القابل للتكرار.
فعدل عنه واختار أخيرا: أن متعلق الأوامر نفس الطبيعة؛ أي الماهية الكلية
اللا بشرط العارية عن كل قيد القابلة للتكرار.
ولا يخفى: أن ما عدل إليه حق لا سترة عليه، كما عليه أبناء التحقيق.
الثانية - وينبغي عليها أساس التعبدية - أن العلل التشريعية يحذو حذو العلل
التكوينية، وتطابقها مطابقة النعل بالنعل، والقذة بالقذة.
فكما أن المعلول لعلة تكوينية تدور مدار علته وجودا وعدما وحدة وكثرة،

1 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 100.
206

فكذلك المعلول لعلة تشريعية تدور مدار علتها كذلك. فكما أن العلة التكويني إذا
وجدت وجد المعلول بلا فصل بينهما، فكذلك العلة التشريعي بالنسبة إلى معلولها.
ومن هنا استفاد (قدس سره) الفورية من البعث والأمر.
وكما أن التداخل في العلل التكوينية المستقلة مستحيلة - لاستحالة تأثير
علل متعددة تامة في معلول واحد - فكذلك في العلل التشريعية. ومن هنا بنى على
عدم التداخل في الأوامر المستقلة التي هي أسباب مستقلة شرعية.
الثالثة: أن بعض القيود مما يمكن لحاظه في المتعلق وتقييد المتعلق به،
كالطهارة في الصلاة والإيمان والعدالة في الرقية، وبعضها مما لا يمكن أخذه في
المتعلق وتقييده به؛ إلا أنه لا ينطبق إلا على المتقيد به - يعني يكون له ضيق ذاتي لا
يعم غيره - كمقدمة الواجب - بناء على وجوبها - فإن الإرادة من الآمر المستتبعة
للبعث لا تترشح على المقدمة مطلقا؛ موصلة كانت أم لا؛ لعدم الملاك. ولا على
المقيدة بالإيصال، كما عليه صاحب " الفصول " (قدس سره) (1)؛ للزوم الدور، كما قرر في
محله. ولكن لها ضيق ذاتي لا تنطبق إلا على المقدمة الموصلة، من دون أن يكون
لحاظ الإيصال قيدا.
وقصد الامتثال والتقرب ونحوهما من هذا القبيل؛ فإن الأوامر وإن كانت
مطلقة في اللفظ ولم تكن مقيدة بها، لكنها متقيدة بها في نفس الأمر؛ فلها ضيق ذاتي
في الواقع. فهي لا مطلقة ولا مقيدة، إلا أنها لا تنطبق إلا على المتقيد بها.
وبالجملة: المأمور به على مقتضى المقدمة الأولى وإن كانت طبيعة قابلة
للتكرار، ولكن لا إطلاق لها حتى يتمسك به في المقام، بل له ضيق ذاتي لا ينطبق
إلا على المتقيدة بقصد الأمر ونحوه، كما هو الشأن في العلل التكوينية؛ ضرورة أن
النار

1 - الفصول الغروية: 86 / السطر 12.
207

- مثلا - لا تكون علة للإحراق الكلي القابل للصدق على المتولد منها
وغيرها، ولا للإحراق المقيد بكونه من قبلها، ولكنها تكون مؤثرة في الحرارة التي
لا تنطبق إلا على المتقيدة بها لبا.
فعلى هذا: إذا ورد أمر وشك في أنه تعبدي أو توصلي فلا موقع للتمسك
بالإطلاق والحكم بكونه توصليا، بل مقتضى الأصل هو الحكم بكونه تعبديا؛ لأن
المبعوث إليه والمنحدر عليه البعث لا يصلح للانطباق إلا على المتقيد بقصد الأمر.
هذا غاية التقريب في مقاله (قدس سره).
ولكن فيما أفاده نظر؛ وذلك لأن اتحاد علل التشريع مع علل التكوين وقياسها
بها ليس بينا في نفسه، وهو واضح، ولا مبينا؛ لعدم قيام برهان عليه.
بل يمكن إقامة البرهان على التغاير؛ ضرورة أن المعلول في العلة التكويني
لا وجود له قبل إيجاد العلة إياه؛ لا خارجا كما هو واضح، ولا نفسا.
وبالجملة: لا اسم ولا رسم ولا أثر للمعلول في الوجود في التكوينيات قبل
إيجاد العلة إياه؛ بداهة أن إشراق الشمس أو إحراق النار قبل إيجاد العلة إياه لا
تشخص له أصلا؛ لأن التشخص مساوق للوجود المنفي ذهنا وخارجا حسب
الفرض، وبإيجاد العلة يتشخص المعلول.
فعلى هذا: لا تضيق للمعلول أصلا، بل هو باق على سعته الأولية؛ من كونه
صالحا للانطباق على غير واحد.
هذا في العلل التكوينية.
وأما في العلل التشريعية: فبخلاف ذلك؛ وذلك لأن من يريد جعل حكم
وقانون على موضوع يلاحظ أولا الموضوع والمتعلق بجميع ما يكون دخيلا فيه،
ثم ينحدر البعث نحوه.
208

فربما يتصور نفس الموضوع والماهية مطلقة؛ لوجود الملاك والمصلحة فيها،
وقد يتصورها مقيدة بقيد أو قيود. فسعة المتعلق وضيقه مسبوقة بكيفية لحاظ
اللاحظ والمقنن؛ فإن لاحظها مطلقة تكون وسيعة، وإن لاحظها مقيدة يكون مضيقا.
ولا يكاد يمكن - حينئذ - أن يدعو إلى نفس الطبيعة مجردة، بل إليها مقيدة،
وهو واضح.
وبالجملة: قبل الأمر والإيجاد الاعتباري لابد وأن يتصور ويلاحظ
الموضوع، فإن كان الملحوظ نفس الطبيعة القابلة للتكثر فالبعث لا يكاد يدعو إلا
إليها، ولا يكون المأمور به والمتعلق مقيدا؛ لا لحاظا ولا لبا.
وإن كان الملحوظ الطبيعة المقيدة فالبعث يدعو إليها مقيدة.
فإذا كان كل من الطبيعة المطلقة أو المقيدة بقصد الأمر وبلحاظ اللاحظ
والمقنن فإذا كان في مقام بيان جميع ما له دخل في متعلقه، ومع ذلك لم يقيد الطبيعة
بقيد فيعلم من ذلك عدم دخل القيد في المتعلق، بل هو باق على اتساعه الذاتي.
ومن هنا يظهر لك: النظر فيما رتب (قدس سره) على اتحاد حكمي التكوين والتشريع؛
من عدم جواز تخلف المعلول الشرعي عن علته الشرعية؛ ضرورة جواز تعلق
الإرادة التشريعي بأمر استقبالي، كما يتعلق بأمر حالي، بخلاف العلة التكويني؛ فإنه
لا يجوز التخلف.
فعلى هذا: لا مجال لاستفادة الفورية من البعث، وكذا من عدم جواز تكثر
المعلول مع وحدة علته التشريعية، كما في العلل التكوينية؛ إذ من الجائز تعلق
الإرادة الواحدة بأكثر من أمر واحد، بل ربما يتعلق بأمور كثيرة، كما لا يخفى.
ولتوضيح المقال نقول: ليس الأمر كما زعمه (قدس سره) في العلل التكويني؛ لأن
المعلول التكويني قبل الإفاضة والتأثر لا يكون مضيقا كما لا يكون مقيدا، بل
209

لا يكون متصفا بالمعلولية. والتضيق والتقييد والاتصاف إنما هو بعد التأثير من
ناحية علته.
وإن كان في خاطرك ريب فاختبر نفسك ولاحظ النار - مثلا - فترى أنها
توجد الإحراق والإضاءة في محل خاص. والإحراق والإضاءة يتضيق بعد استضائة
نور الوجود، وما قبله فلا.
وكذا في العلل التشريعي؛ فإن الماهية التي تعلق بها الأمر وإن كانت تتضيق
بعد تعلق الأمر، إلا أنه غير دخيل في المأمور به؛ لأن ما هو المأمور به هو نفس
الماهية، فما تتضيق غير المأمور به والمدعو إليه، وما يكون مأمورا به ومدعوا إليه
غير متضيق.
فتحصل مما ذكرنا بطوله: أنه لا مانع من التمسك بالإطلاق عند الشك في
اعتبار قصد الأمر والامتثال في المأمور به إذا كان الآمر في مقام بيان جميع ما هو
دخيل في المأمور به.
فإذن: الأصل اللفظي في الشك في كون الواجب توصليا أو تعبديا هو كون
الواجب توصليا، إلا ما خرج.
ولو فرض عدم صحة التمسك في المقام بالإطلاق اللفظي لإثبات التوصلية
فالتمسك بالإطلاق المقامي بمكان من الإمكان، فتدبر.
ولو فرض عدم صحة التمسك بالإطلاق المقامي أيضا فتصل النوبة إلى
الأصل العملي.
وبالجملة: بعد عدم الإطلاق لاستحالة التقييد تصل النوبة إلى الأصل العملي؛
فلابد من البحث في أنه هل هناك أصل عملي يقتضي وجوب الإتيان بقصد الأمر
والامتثال أم لا؟ فلاحظ.
210

الأمر الرابع
في مقتضى الأصل العملي في المسألة
أشرنا: أن البحث في مقتضى الأصل العملي - على فرض استحالة أخذ قصد
الأمر والامتثال في المتعلق - فهل مقتضى الأصل في الشك في لزوم قصد الأمر
والامتثال في المأمور به البراءة، كما هو الشأن في سائر القيود العرضية؛ فتكون هذه
المسألة من فروع الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين، فحيث قلنا هناك بالبراءة
فنقول بها هنا أيضا؟
أو فرق بين المسألتين، ولمسألتنا هذه خصيصة توجب الاشتغال، وإن قلنا
هناك بالاشتغال؟
وجهان، بل قولان.
والحق: جريان البراءة العقلي والنقلي في المسألة، وعدم تمامية ما قيل
بالاشتغال.
ولتوضيح المقال: لابد من ملاحظة ما قيل بالاشتغال، وتوضيح النظر فيه.
فالكلام يقع في موردين: الأول في حكم العقل والبراءة العقلي، والثاني في
البراءة النقلي.
المورد الأول: في حكم العقل والبراءة العقلية
ذكر تقاريب للاشتغال هنا: وإن قيل بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر
الارتباطيين:
التقريب الأول: ما يستفاد من المحقق الخراساني (قدس سره) في " الكفاية "، وذلك
بتوضيح منا؛ وهو أنه لو قلنا بالبراءة العقلي في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين
211

ولكن لا مجال لذلك هنا؛ لأن مركز الشك هناك في نفس التكليف، وأنه هل
تعلق بتسعة أجزاء أو عشرة مثلا؟ فيقال: إن مقتضى حكم العقل الأخذ بالأقل
والبراءة عن الأكثر.
وأما فيما نحن فيه فمتعلق التكليف معلوم مبين؛ وهو ما عدا قصد القربة أو
قصد الأمر - مثلا - لأن المفروض امتناع أخذه في متعلق التكليف، إلا أن الشك في
ناحية الامتثال حيث يحتمل بقاء العهدة عند عدم الإتيان بذلك القيد وعدم الخروج
منها.
وبالجملة: بين المسألتين فرق، يمكن أن يقال بالبراءة في الأقل والأكثر
الارتباطيين؛ لأن الشك فيها في متعلق التكليف؛ وأنه الأقل أو الأكثر، فالأقل متيقن
والأكثر مشكوك فيه.
وأما هنا فمتعلق التكليف معلوم بين، ولا شك من هذه الجهة، بل الشك إنما
في مقام الامتثال، وأنه هل يسقط التكليف بدون إتيان الفعل بدون قصد الأمر
- مثلا - أو لا؟ فالعقل يقضي بالاشتغال إلى أن يقطع بالفراغ، وهو بإتيانه بقصد
الأمر (1).
وفيه: أن الفرق الذي ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) غير فارق من حيث
جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر، دون المقام؛ لأن ما هو العمدة في جريان
البراءة والاشتغال هو رجوع الشك إلى ثبوت التكليف أو سقوطه بعد إحراز أصل
الثبوت، وأما غير ذلك فلا دخالة له في ذلك.
وهذا التقريب بعينه أحد التقاريب اللآتي تذكر في مسألة الأقل والأكثر
للاشتغال.
مع فرق لا يكون فارقا؛ لأنه كما أن متعلق التكليف هنا معلوم مبين، وهو
غير المقيد بقيد، ويحتمل اعتباره في ناحية الامتثال، فكذلك هناك يكون الأقل
معلوما من باب القدر المتيقن، لكنه يشك في اعتبار الزائد عليه.

1 - كفاية الأصول: 98.
212

فإن صح جريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر نقول بها بعينه فيما نحن فيه،
بل لو قيل بالاشتغال هناك دون ما نحن فيه لكان أولى؛ لأن المفروض فيما نحن فيه
أن متعلق التكليف غير مشكوك فيه قطعا، وأما هناك فيحتمل تعلق التكليف بالزائد
على القدر المتيقن، كما لا يخفى.
ولكن هذا المقدار من الفرق غير فارق لا يوجب جريان البراءة في أحدهما
دون الآخر؛ فإن مرجع الشك فيهما إلى أصل ثبوت التكليف، لا في سقوطه المعلوم؛
فلم يكن فرق بينها، ولم يكن لإحداهما خصوصية زائدة على الأخرى.
والحاصل: أن هذا التقريب أحد التقاريب للقائلين بالاشتغال في مسألة
الأقل والأكثر الارتباطيين وما نحن فيه؛ لأنه كما يعلم هنا أن القيد الزائد لم يؤخذ
في المأمور به ولكن يشك في اعتباره في مقام الامتثال، فكذلك هناك يكون القدر
المتيقن معلوما ويشك في اعتبار قيد آخر فيه.
ففي كلا الموردين يعلم ثبوت التكليف الشخصي المعلوم ويشك في اعتبار
أمر آخر.
فالمسألتان ترتضعان من ثدي واحد؛ فإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقل
والأكثر - كما هو المختار - نقول بها هنا، وإلا فالاشتغال فيهما، فتدبر.
التقريب الثاني: ما يستفاد من المحقق الخراساني (قدس سره) ولكنه من محل آخر؛
وهو أن متعلق التكليف وإن كان معلوما حسب الفرض إلا أنه لا يكاد ينكر أن
الأحكام الشرعية جميعها معاليل للأغراض لا محالة - وإن لم نقل بأنها تابعة
للمصالح والمفاسد في متعلقاتها - بداهة أنه لو كانت خالية عن الأغراض يلزم أن
يكون الأحكام جزافيا وبلا غرض، فيتعلق الأمر على شئ يستكشف تعلق غرض
الآمر به.
فإذا شك في حصول الغرض وسقوطه بإتيان الماهية بدون قصد الأمر - مثلا
213

فلا يجوز له الاكتفاء به. فالشك في سقوط الغرض مساوق للشك في سقوط
الأمر، وقد عرفت: أن القاعدة في الشك في سقوط التكليف الاشتغال، فكذا فيما
يساوقه (1).
وفيه: أنه يظهر النظر فيه مما ذكرناه في التقريب الأول؛ لجريان ما ذكرناه فيه
في هذا التقريب أيضا.
وذلك لأنه لو صح إثبات الاشتغال فيما نحن فيه من ناحية الغرض - كما هو
أحد التقاريب في إثبات الاشتغال في مسألة الأقل والأكثر - يمكن إثباته في الأقل
والأكثر أيضا؛ فإن أمر الشارع معلول للغرض، فما لم يعلم حصول الغرض - الذي
هو غاية متعلق الحكم - لا يعلم سقوط الأمر.
فعند احتمال بقاء الغرض وعدم سقوطه - إما لأخصية غرض الآمر بالنسبة
إلى ما تعلق به الأمر واقعا كما فيما نحن فيه، أو بكون الأقل متيقنا - يحكم العقل
بالاشتغال؛ فالمسألتان ترتضعان من ثدي واحد اشتغالا وبراءة.
فتحصل مما ذكرنا: أنه لم يكن لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) هنا، ولا لما
استفدناه منه من غير هذا الموضع - في بيان الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الأقل
والأكثر - فارقا فيما يرجع إلى البراءة هناك دون ما نحن فيه، وإن كان بينهما فرقا من
جهة أخرى لا يرجع فيما هو المهم في المقام، فتدبر.
هذا كله فيما يتعلق في بيان الفرق بين الموردين؛ فقد ظهر عدم الفرق بينهما
فيما يرجع إلى البراءة أو الاشتغال.
والذي يقتضيه التحقيق: أن دعوى الاشتغال في المسألة ممنوعة؛ لأن العبد
مأخوذ بحجة المولى وبيانه فقط، ويدور الامتثال مدار الحجة لا غير؛ فإن قامت
الحجة على المجردة عن قصد الأمر والامتثال، ولم تقم على ذلك دليلا - ولو ببيان
مستأنف - لم يجب على العبد امتثال ما زاد على ما قام لديه الحجة.

1 - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 51.
214

وحديث الشك في سقوط الغرض بالإتيان بالمجردة عن قصد الأمر كذلك؛
لأن وظيفة المكلف إنما هي الإتيان بما أخذه الآمر موضوعا لأمره، طابق النعل
بالنعل؛ سواء علم حصول غرض الآمر بذلك، أم لا.
وبالجملة: كون الأوامر معللة بالأغراض مما لا ينكر؛ لعدم معقولية الجزاف
فيها، إلا أنه خارج عن إناطة الامتثال به؛ لأن الامتثال - كما أشرنا - دائر مدار
الحجة؛ فإذا لم تقم الحجة على الأزيد من المجردة عن القيد - ولو ببيان مستأنف -
لا تضر احتمال عدم حصول الغرض من الإتيان بالمجردة.
وهم وإرشاد
وربما يتوهم: أن مراد المحقق الخراساني (قدس سره) عدم جريان قاعدة قبح العقاب
بلا بيان في المقام؛ لأنها إنما تجري فيما إذا أمكن للآمر بيان القيد ولم يبين؛ حيث
يحكم العقل عند ذاك بالإطلاق. وأما في مورد لا يمكنه أخذ القيد - كما فيما نحن
فيه - فيكون خارجا عن موضوع القاعدة.
فلا مجرى للقاعدة هنا، بخلاف مسألة الأقل والأكثر؛ فحيث إنه للآمر بيان
الأكثر فيصح التمسك بالقاعدة. فالعقل يحكم بالاشتغال فيما نحن فيه، دون مسألة
الأقل والأكثر.
ولكنه يندفع أولا: أن هذا - لو تم - غير بيان الذي تصدى المحقق
الخراساني (قدس سره) لبيانه هنا وفي موضع آخر.
وثانيا: أنه لو لم يمكن بيانه بدليل واحد فإمكان بيانه بدليل آخر بمكان من
الإمكان؛ فيكون المقام مجرى القاعدة.
وثالثا: أن الاحتجاج إنما يدور مدار البيان فقط لا الواقع المحتمل أيضا،
وحيث إنه لا بيان حسب الفرض - ولو لعدم الإمكان، كما لو كان الآمر مسجونا -
215

فلا إيجاب على العقد عقلا إلا بالنسبة إلى ما قام عليه الحجة. ولم تقم الحجة
حسب الفرض على الزائد على المجردة؛ فلا مانع من جريان قاعدة القبح بلا بيان.
ولعل منشأ هذا التوهم: هو الخلط بين عدم البيان في استفادة الإطلاق اللفظي
من المطلق، وبين عدم البيان المستعمل في باب الاشتغال والبراءة، مع وجود الفرق
بينهما.
وذلك لأن المعتبر في باب الإطلاق اللفظي: هو أن الآمر إذا أخذ شيئا عنوانا
وموضوعا لحكم؛ مجردا عن القيد، وكان في مقام البيان، فبما أنه فاعل مختار وقد
جعل باختياره هذا الحكم للمجرد فيستكشف منه أن مراده غير مقيد بقيد.
ولا يخفى: أن هذا إنما هو في القيد الذي يمكن أخذه ولم يأخذه. وأما فيما
لو لم يمكن أخذه فلا يمكن أن يستكشف ذلك، فلا ينعقد الإطلاق عند ذلك، وهو
واضح.
وأما في المقام: فلا يعتبر في جريان قاعدة القبح بلا بيان ذلك؛ لأنه إذا لم
يبين الآمر - ولو ببيان مستأنف - القيد - ولو لعدم إمكان أخذه - فالعقل يقضي
بجريان القاعدة؛ لأن موضوع قبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما لم يقم هناك حجة،
وهو حاصل حسب الفرض.
فتحصل: أن الحق جريان البراءة العقلي في المقام، وعدم لزوم قصد الأمر في
الامتثال.
التقريب الثالث
ولعله يشير إليه ما أفاده العلامة القوچاني (قدس سره) في " تعليقته على كفاية
الأصول ".
وحاصله: أنه وإن لم يمكن أخذ القيود المذكورة في المأمور به ولكن لها
دخل واقعي في حصول الغرض، وحيث إنه لا يمكن أخذها في المأمور به ففي
مقام تعلق الأمر لا يكون المأمور به إلا واحدا.
وأما في مقام الامتثال والوجود الخارجي: فحيث إنه يدور أمره بين لزوم
216

الإتيان بالمقيد أو لزوم الإتيان بالمتعلق مجردة، وبين المصداقين تباين،
فالعقل يحكم بالجمع بينهما في مقام الامتثال.
وبالجملة: فاقد القيد وواجده في الوجود الخارجي متباينان، ولم يقل أحد
منهم بالبراءة في دوران الأمر بين المتباينين في مقام الامتثال.
فحصل الفرق بين المقام ومسألة الأقل والأكثر؛ لأن الحكم هناك تعلق بعنوان
لم يعلم انطباقه على الأقل فقط، أو عليه مع الأكثر معا. وأما في المقام فمتعلق
التكليف معلوم؛ وهو المجرد عن القيد، ولكن في مقام الامتثال يدور أمره بين
المتباينين (1).
ولعل هذا التقريب أوجب المحقق العراقي (قدس سره) لتصوير الحصة، كما ستقف
عليه قريبا إن شاء الله.
وفيه أولا: أنه لو تم كون المقام من المتباينين فمقتضاه الجمع بينهما؛ بأن
يأتي بصلاة مجردة عن قصد الامتثال - مثلا - ثم بصلاة أخرى بقصد الامتثال، لا
الاكتفاء بالمقيدة، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الأمر بين المتباينين، ولم
يلتزم به هو (قدس سره)، ولا غيره في المقام، فتدبر.
وثانيا: أنه لم يكن المقام من دوران الأمر بين المتباينين؛ لأن مدار تردد الأمر
بين المتباينين - الذي يحكم العقل بوجوب الاحتياط - هو ما إذا كان العنوان
والموضوع الذي تعلق به الأمر مردد الانطباق عليهما، فعند ذلك يحكم العقل
بالاشتغال.
مثلا: إذا قيل: " أكرم زيدا "، وتردد كونه هذا الفرد - أي زيد بن عمرو - أو ذاك
الفرد - أبي زيد بن بكر - فلا يعلم ما هو المتعلق للوجوب منهما، مع صلاحية زيد
للانطباق على كل من الفردين، فحيث إن الشك يرجع بنحو إلى ناحية الامتثال
يحكم العقل بوجوب الاحتياط بإكرامهما.

1 - حاشية كفاية الأصول، العلامة القوچاني 1: 62 / التعليقة 137.
217

وأما إذا كان المأمور به عنوانا معلوما صادقا بحسب الوجود على هذا الفرد
بعنوانه وعلى ذاك كذلك فلا يكون هناك إبهام؛ لا في المفهوم ولا في المصداق.
ولكن احتمل دخالة أمر آخر فيه لم يؤخذ في العنوان بلحاظ عدم إمكان أخذه؛
فليس من دوران الأمر بين المتباينين، كما لا يخفى.
فإذا قيل: " صل " مثلا فالذي تعلق به الأمر ماهية الصلاة، وهذا العنوان صادق
على كل من مصداق من الصلاة مجردة عن قصد الأمر، وعلى المصداق منها مع
قصد الأمر. ولا يكون لقصد الأمر دخالة في الصدق أصلا.
ففي المقام وإن كان المأتي به بقصد الأمر والمأتي به بدون ذلك يختلفان
وجودا، ولكن صدق العنوان على كل منهما - كفرسي رهان - مما لا إشكال فيه؛
لقضاء الضرورة على صدق عنوان الصلاة - مثلا - على المجردة عن قصد الأمر،
كصدقها على المقيدة به بلزوم الصلاة مع قصد الأمر أول الكلام، فتدبر.
ذكر وتعقيب
للمحقق العراقي (قدس سره) هنا كلام، لعل منشأه - كما أشرنا - توهم كون المقام من
باب المتباينين.
وذلك لأنه (قدس سره) تصدى أولا لدفع شبهة لزوم الاحتياط: بأن العقل لو كان في
حكمه ناظرا إلى تحصيل غرض المولى في نفس الأمر لكان له وجه.
ولكن لم يكن له شأن بالنسبة إليه، بل الذي يراه هو التخلص عن استحقاق
العقاب على مخالفه ذلك التكليف، واستحقاق العقاب إنما هو إذا قامت الحجة عليه
عند المكلف.
فالتكليف الذي لم تتم الحجة عليه عند المكلف لا يستحق العقاب بمخالفته،
ولا شبهة في كون التكليف التي قامت الحجة عليه عند المكلف هو التكليف بالأقل
أو
218

التكليف بطبيعي الصلاة - مثلا - لا الأكثر ولا حصة من الطبيعي.
ثم ذكر في بيانه ثانيا: بأن الحصة تطلق على ثلاثة معان:
أحدها: الحصة من الجنس؛ وهو النوع. ولا شبهة في تباين الحصص
الحاصلة بانضمام القيود إلى الجنس.
وثانيها: الحصة من النوع، كالحصة الموجودة في الفرد منه. ولا تكون هذه
الحصص متباينة، بل هي متماثلة في جميع الذاتيات، ولا فرق بينها إلا بالإضافة إلى
المشخصات التي بالإضافة إليها صار النوع حصصا.
ثالثها: الحصة من الجزئي الحقيقي بالإضافة إلى أحواله وعوارضه؛ فإنه كما
يكون الجزئي الحقيقي موضوعا باعتبار حال من أحواله، قد يكون بنفسه حين
اقتحامه مجال ما.
والأول مثل كون زيد الجائي موضوعا لوجوب الإكرام، والثاني بأن يكون
زيد بنفسه ولكن في حال المجيء موضوعا للحكم، فيكون المجيء مشخصا
لموضوع الحكم.
وبهذا ظهر الفرق بينهما؛ لأن القيد على الأول مقوم للموضوع، وعلى الثاني
مشخص له فقط.
والمراد بالحصة التي ندعي أنها متعلق الأمر في العبادات هي الحصة بالمعنى
الثالث؛ ضرورة أن الركوع المقارن للسجود لا يختلف شخصه عن نفسه فيما لو لم
يقارنه السجود.
وعليه: يكون الأقل الذي قامت الحجة عليه متعينا بشخصه؛ فتشتغل الذمة به
نفسه؛ لأن ارتباطيته بغيره لو كانت متحققة في الواقع لا توجب مغايرة نفسه إذا لم
تكن كذلك في الواقع؛ فلا يجب الاحتياط.
نعم، لو كان الأقل على فرض كونه مرتبطا بجزء أو قيد آخر يكون مغايرا
219

حقيقة وماهية للأقل الذي له ارتباط بشيء آخر لما كان فرق بين الأقل
والأكثر الارتباطيين، وبين المتباينين في لزوم الاحتياط في مقام الامتثال.
وبالجملة: المراد بالمقارنة فيما نحن فيه نحو مقارنة الصلاة مع قصد القربة
- مثلا وفي الأقل والأكثر هي المقارنة التي لم تكن من قيود الموضوع، بل من
مشخصات الموضوع؛ بأن يكون الحكم معلقا عليه حال المقارنة.
فإذن: يحصل الفرق بين الأخذ بهذا النحو في الموضوع، وبين الأخذ فيه
بنحو القيدية الذي يرجع إلى المتباينين. وكل ما يكون القيود من قبيل الثاني
فالاشتغال، وكل ما يكون من قبيل الأول فالبراءة، وما نحن فيه من هذا القبيل.
هذا إجمال الكلام، تفصيله يطلب من مبحث اشتغال، انتهى محررا (1).
وفيما أفاده مواقع للنظر:
منها: أن ما أفاده (قدس سره) في الحصة خلاف ما هو المصطلح عليه في الحصة؛ لأن
الحصة في الاصطلاح هي الكلي المقيد، وإن قيد بقيود لا ينطبق إلا على الفرد، ولا
تطلق الحصة على الجزئي الحقيقي المقيد، ولا المقترن بشيء.
ومن العجيب: أن هذا المحقق لم يعد ما هي الحصة حقيقة؛ وهي النوع المقيد
بقيود مصنفة لا مشخصة، كالفاسق والعالم ونحوهما. وعد ما لم يكن حصة؛ وهي
المقيد بقيود شخصه.
وبالجملة: ما ذكره في الحصة غير ما هو المعهود منها في كلماتهم، إلا أن
يجعل ذلك اصطلاح منه، فلا مشاحة فيه.
ومنها: أن الفرق الذي ذكره في الحصة من الجنس والحصة من النوع -
بلحاظ أن الحصص في الأولى متباينة، بخلاف الثانية - لا يرجع إلى محصل؛ لأنه
كما أن

1 - بدائع الأفكار 1: 241 - 243.
220

الطبيعة الجنسية إذا تقيدت وتنوعت يصير كل نوع مباين مع النوع الآخر،
فكذلك الطبيعة النوعية إذا تقيدت بقيود فردية يصير كل فرد مباين مع الفرد الآخر.
فكما أن الأنواع لا تختلفان في الجنسية - كالحيوانية في الإنسان والفرس
مثلا - وإنما الاختلاف في النوعية والفصل، فكذلك الأشخاص والأفراد - كزيد
وعمرو مثلا بالنسبة إلى الإنسانية - يشتركان في الحقيقة النوعية ويختلفان في
الفردية والشخصية.
وبالجملة: أن الفرق الذي ذكره في نحوي القيد غير وجيه؛ إذ كما أن القيود
في الأول توجب التباين النوعي، فكذلك في الثاني يوجب التباين الفردي. ومجرد
دخالة القيد في الأول في ماهية المقيد دون الثاني لا يوجب التفاوت فيما هو المهم؛
فهما يرتضعان من ثدي واحد، كما لا يخفى، فتدبر.
ومنها: أن تقسيم القسم الثالث من الحصة إلى قسمين؛ بأن بعضها مقدم
وبعضها الآخر مشخص غير صحيح؛ لأن المقارنة إما لها دخالة - ولو بنحو ما -
للجزء المعتبر تقارنه لهذا الجزء أم لا، فعلى الأول تكون مقوما؛ فتحصل المقارنة
بين الجزء المقترن وبين غير المقترن. وعلى الثاني يعلم بعدم اعتبارها، ويكون
اعتبارها أشبه شئ بوضع الحجر جنب الإنسان.
ومن الواضح: اعتبار المقارنة وارتباط بعضها ببعض في الموضوع، وإلا يلزم
أن يصح إتيانها غير مرتبطة أيضا.
فإذن: تكون المقارنة بالنسبة إلى الموضوع من قيوده؛ فلم يفترق القسمان من
حيث تقوم الموضوع - سواء قيل بالارتباط أو بالتقييد، فتدبر واغتنم.
ومنها: ما أفاده في أصل المطلب من أن الأقل إذا كان مرتبطا بجزء أو قيد
مغايرا حقيقة وماهية للأقل الذي له ارتباط بشيء آخر يلزم الاحتياط.
221

وذلك لما عرفت أن الاحتياط إنما يجب إذا كان متعلق التكليف مردد
الانطباق عليهما، كما في المتباينين.
وأما فيما نحن فيه فليس كذلك؛ ضرورة صدق الصلاة - مثلا - على كل من
المجردة والمقيدة.
وارتباطية بعض الأجزاء ببعض لا يضر بذلك؛ بداهة أن الصلاة كما تصدق
على المقيدة فكذلك تصدق على المجردة عن القيد، كما هو المفروض؛ لأن محل
البحث إنما هو بعد صدق الطبيعة على المجردة عن قصد الأمر، ولو على القول بأن
المسمى هو خصوص الصحيحة؛ لأن المعتبر هو ما عدا القيود الآتية من قبل الأمر.
فإذا كان صدقهما عليهما سيان فحيث إن المكلف مأخوذ بما قام عليه
الحجة، وواضح أن ما قم لديه الحجة إنما هو المجردة، وأما بالنسبة إلى القيد فحيث
إنه مشكوك فيه فينفي بالبراءة العقلية.
ولا يخفى: أن هذا ليس لأجل إطلاق الدليل، بل لأجل الإهمال، وأن المقدار
المعلوم الذي قامت عليه الحجة هو هذا المقدار.
ولا فرق في ذلك في النوع بالنسبة إلى الجنس، ولا في الفرد بالنسبة إلى
النوع، ولا المقيد بالنسبة إلى المطلق؛ لأن الملاك في الجميع واحد؛ وهو أن المعلوم
الذي قامت عليه الحجة هو عنوان الجنس أو النوع أو المطلق، وهو يصدق على
الموجود الخارجي - أعني الحيوان أو الإنسان أو الرقبة مثلا - وأما الزائد فمشكوك
فيه، فينفي بالأصل.
هذا إجمال المقال في المسألة، تفصيله يطلب من مبحث الاشتغال. هذا كله
في المورد الأول؛ وهو حكم العقل في المسألة.
فظهر مما ذكرنا: أن الأصل العقلي فيها هو البراءة عقلا؛ لقبح العقاب بلا بيان.
222

المورد الثاني: في البراءة الشرعية (1)
والبحث فيها يتصور على وجوه ثلاثة:
الأول: على إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلق بأمر واحد.
والثاني: على عدم إمكان الأخذ إلا بأمرين.
والثالث: على عدم إمكان الأخذ ولو بأمرين.
وعلى أي منها تارة: يبحث مع القول بجريان البراءة العقلية في قصد الأمر،
وأخرى مع عدم جريان البراءة العقلية. فالصور ستة.
تنقيح المقال يستدعي البحث في كل منها:
ذكر المحقق العراقي (قدس سره) وجهين لعدم جريان البراءة النقلية في المقام، ولو قلنا
بإمكان إذ قيد الدعوة في متعلق الخطاب، على تقدير حكم العقل في المقام
بالاشتغال:
أحدهما: ما يعم إمكان أخذه في متعلق الخطاب الأول.
وثانيهما: ما يختص بإمكان أخذه في الخطاب الثاني فقط.
وحاصل ما أفاده في الوجه الأول: هو عدم وجود ملاك جريان البراءة النقلي
في المقام بناء على جواز أخذ القيد في الخطاب الأول؛ وذلك لأن ملاك الجريان
فيما يكون إهمال المشكوك فيه ناقضا للغرض. وأما فيما لم يستلزمه لكفاية حكم
العقل بلزوم الاحتياط - كما في المورد - فلا مجرى للبراءة.
والناظر إلى هذا الوجه لا يدعي أن حكم العقل بلزوم

1 - وليعلم: أنه خطب بنا أمر في صبيحة يوم الخميس 20 ذي القعدة من 1378 ه‍. ق؛ وهو ارتحال
أبي زوجتنا، الشيخ الجليل، آية الله الشيخ محمد علي الحائري الكرماني - طاب ثراه - أحد
أساتيذ الحوزة العلمية بقم المقدسة، فعاقني الحضور في مجالس الدرس أياما قلائل. وله الحمد
لم يطل أمد الدرس إلى أن انعطل يوم الأحد 29 ذي القعدة.
فما نكتبه في البراءة الشرعية إلى مسألة دوران الأمر بين الواجب النفسي والغيري مقتبس من تقرير
بعض أصدقائنا الأعلام، دامت بركاته العالية. [المقرر حفظه الله].
223

الاحتياط في المقام بيان؛ فينتفي معه موضوع البراءة ليورد عليه باستلزام
ذلك الدور، كما قرر في محله. بل هو يدعي قصور دليل البراءة النقلية عن شمول
مثل المورد.
نعم، ذلك مخصوص بالقيود غير المغفول عنها غالبا؛ ليصح الإتكال على
حكم العقل، كالمقام فإن قيد الدعوة فحيث إنها ملتفت إليها - حسب الفرض -
فيجوز للحكيم أن يتكل في مقام استيفاء غرضه منها على حكم العقل بلزوم
الاحتياط في مورد الشك في شئ منها (1).
وفيه: أنه لا وجه لدعوى قصور أدلة البراءة النقلية أصلا، ولا انصرافها عنه
بعد كون الموضوع قابلا للوضع والرفع؛ وذلك لأن الانصراف لابد له من منشأ معتد
به، والظاهر عدمه.
ثم إنه لو صح دعوى الانصراف فالأولى دعواه بالنسبة إلى ما لا يحكم العقل
بالاشتغال، بل يحكم بقبح العقاب بلا بيان؛ لأن ظاهر الخطاب هو المولوية
والتأسيس، لا الإرشاد والتأكيد.
وبالجملة: يمكن دعوى الانصراف في نحو حديث " رفع عن أمتي تسع: ما لا
يعلمون... " إلى آخره (2)، الذي هو الدليل المعتمد عليه في البراءة النقلية؛ إذ ظاهره
الامتنان على الأمة، وهو إنما يلائم الموارد المحكوم عليها بالاشتغال. وأما الموارد
التي يحكم العقل الصريح بقبح العقاب فيها فالمسلم وغيره فيه شرع سواء، هذا.

1 - بدائع الأفكار 1: 243 - 244.
2 - الخصال 2: 417 / 9، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد،
أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
224

ولكنه لا يكاد يصح الاعتماد في دعوى الانصراف على مثل هذه الوجوه، أو
العمدة عدم القصور والانصراف عما يحكم العقل فيه بالاحتياط، فحينئذ لابد من
رفع اليد عنه؛ لعدم قيام الحجة على المشكوك فيه.
وحاصل ما أفاده في الوجه الثاني: هو أن جريان البراءة النقلية لنفي وجوب
قيد الدعوة بنحو الأمر الثاني لا يثبت كون متعلق الخطاب الأول تمام المطلوب، إلا
على القول بحجية الأصل المثبت.
ضرورة أن نفي الوجوب المستفاد من متمم الجعل، وإثبات أن الثاني واف
بالغرض بالأصل المذكور من أظهر مصاديق الأصل المثبت، بخلاف ما لو قلنا
بجواز أخذه في الخطاب الأول؛ فإن مرجع الشك فيه إلى انبساط الأمر على
المشكوك، فإذا جرت البراءة فيه استفيد أن ما في الأجزاء هو تمام المأمور به، ولا
محذور فيه؛ لخفاء مثل هذه الواسطة عند العرف (1).
وفيه أولا: أن العبد مأخوذ بما قام لديه الحجة، وهي ليست إلا ما أخذ في
لسان الدليل فقط، ومن المعلوم أنه ليس عنوان تمام المطلوب ونحوه كالوافي
بالغرض مما اعتبر واحد في لسان الدليل.
فعليه: إذا أتى بما تعلق به الخطاب الأول صدق الامتثال قطعا؛ لعدم قيام
الحجة على أزيد منه بعد كون ذلك الزائد مشكوكا فيه، وحكم الشارع برفع ما لا
يعلم.
وثانيا: لو سلم ذلك لكنه لا فرق بين إمكان الأخذ في الخطاب الأول أو
الخطاب الثاني من هذه الجهة، لو لم يكن الأمر في الخطاب الأول أصعب؛ إذ نفي
المشكوك وجوبه تتميم الجعل، مثل نفي وجوبه بالخطاب الأول في عدم إثبات
عنوان كون الباقي تمام المطلوب، أو الوافي بالغرض.

1 - بدائع الأصول 1: 244.
225

وثالثا: لو سلم خفاء الواسطة عند العرف فلا اعتداد به، كما قرر في محله (1)؛
لعدم الفرق في عدم الحجية بين خفاء الواسطة وعدمه.
فظهر مما ذكرنا: أن المرجع هو البراءة الشرعية، مع إمكان أخذ قصد الأمر
في الخطاب الأول أو في الخطاب الثاني، وإن قلنا بالاشتغال عقلا؛ فتدبر.
وأما مع عدم إمكان أخذ قصد الأمر في الخطاب مطلقا - حتى في الخطاب
الثاني - وقلنا بالاشتغال العقلي، فالحق فيه أيضا البراءة الشرعية.
خلافا للمحقق الخراساني (قدس سره) حيث قال: لا أظنك أن تتوهم وتقول: إن أدلة
البراءة الشرعية مقتضية لعدم الاعتبار، وإن كانت قضية الاشتغال عقلا هي الاعتبار؛
لوضوح أنه لابد من عموم أدلة البراءة الشرعية من شئ قابل للرفع والوضع شرعا،
وليس هاهنا؛ فإن دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس شرعي بل واقعي،
ودخل الجزء والشرط في الغرض وإن كان كذلك إلا أنهما قابلان للوضع والرفع
شرعا.
فبدليل الرفع - ولو كان أصلا - نكشف أنه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه
المشكوك بحسب الخروج عن عهدته عقلا، بخلاف المقام فإنه علم بثبوت الأمر
الفعلي، كما عرفت، فافهم (2).
وفيه أولا: أن الظاهر من حديث الرفع وإن كان ما استنبطه (قدس سره)؛ من لزوم كون
المشكوك فيه قابلا للوضع، بل لابد وأن يكون هناك وضع وتشريع، إلا أنه رفع إذا
لم يعلم امتنانا، لا أنه بمعنى الدفع حتى يعم ما لا يصلح للوضع.
ولكن الذي يسهل الأمر: عدم انحصار دليل البراءة الشرعية بما يكون لسانه
الرفع حتى لا يلائم المقام - لكونه مخصوصا بما يمكن بيانه وضعفه؛ فلا يعم

1 - الاستصحاب، الإمام الخميني: 158
2 - كفاية الأصول: 99.
226

لما لا يمكن بيانه - بل يكون بعض أدلتها على وزان حكم العقل بالبراءة؛
لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (1)؛ وقوله: " الناس في سعة ما لا
يعلمون " (2).
ولا شك في عدم اختصاص المستفاد منهما للبراءة عما يصح البيان والوضع،
بل المراد منهما: أن العذاب على ما لم تقم عليه الحجة ليس من دأبه تعالى، وإن كان
عدم قيامها لعدم الإمكان، وحيث إن قصد الامتثال مما لم تقم عليه الحجة على
وجوبه فالناس في سعة عدم الوجوب ونفي الكلفة الزائدة.
وواضح: أن هذا اللسان لسان البراءة العقلية ويجزم به؛ لأن عدم البيان
المأخوذ في حكم العقل بقبح العقاب معه أعم من أن يكون لعدم الإمكان، أو لعدم
البيان مع إمكان البيان.
وبالجملة: مفاد حديث " ما لا يعلمون " وإن كان مخصوصا بما يمكن وضعه
وبيانه؛ فلا يعم المقام، إلا أن قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)،
وقوله: " الناس في سعة ما لا يعلمون " على وزان حكم العقل بالبراءة العقلية؛ فيعم
المقام، فتدبر.
وثانيا: لو سلم كون مستند البراءة الشرعية خصوص حديث الرفع، ولكن
نقول: إن المرفوع إما خصوص المؤاخذة - كما ذهب إليه شيخنا الأعظم
الأنصاري (قدس سره) (3).

1 - الاسراء (17): 15.
2 - عوالي اللئالي 1: 424 / 109، مستدرك الوسائل 18: 20، كتاب الحدود والتعزيرات،
أبواب مقدمات الحدود، الباب 12، الحديث 4.
3 - فرائد الأصول: 195 / السطر 21.
227

أو الأعم منها ومن سائر الآثار، كما لعله الظاهر من بعض كلمات هذا
المحقق (قدس سره) (1).
وعلى أي تقدير: لا إشكال في أن المؤاخذة بيده وضعا ورفعا، فحينئذ يترك
ذلك القيد المشكوك وجوبه؛ اعتمادا على رفع المؤاخذة بتركه. ولا يلزم في المقام
إحراز عدم الحكم ورفع الموجود حتى يقال بأنه غير ممكن.
وثالثا: أنه لا ريب في كون بعض التكاليف عباديا، وقام عليه ضرورة
المسلمين - كالصلاة والصوم ونحوهما -، فهل ذلك بمقتضى حكم العقل بالاشتغال،
أو بلحاظ قيام أمر مولوي على ذلك؟
لا سبيل إلى الأول، ولا أرى ارتضاءه به؛ لأدائه إلى جواز احتمال كون
الصلاة ونحوها توصليا يؤتي بها بقصد الأمر؛ لحكم العقل بالاشتغال، وهو كما ترى.
بل عباديته لأمر شرعي كشف عنه ضرورة المسلمين.
فعليه: يصح التكليف، بل لابد وأن يجب الحكم بإمكان بيانه - ولو بدليل
آخر - بداهة أن الوقوع من أوثق الأدلة وأقواها على إمكان الأخذ.
ولعمر الحق: إنه لا ريب ولا إشكال، بل لابد من الجزم بالبراءة الشرعية؛
لشمول أدلتها للمقام؛ سواء أخذ في أدلتها عنوان الرفع أو لم يؤخذ، وإن قلنا
بالاشتغال كما هو المفروض، فتدبر.
وأنت خبير: بأن ما ذكرنا كله هنا مماشاة مع القوم، وإلا فقد تحقق وظهر لعله
لا خفاء فيه ولا إبهام في جواز أخذ قصد الأمر ونحوه في متعلق الخطاب الأول،
فضلا عن الخطاب الثاني؛ فإن الأصل اللفظي في المسألة عند الشك في اعتبار قصد
الأمر ونحوه في المتعلق هو التوصلية، ومع فقد شرائط الإطلاق فالأصل العملي
البراءة عقلا ونقلا، والله الهادي إلى سواء الطريق.

1 - كفاية الأصول: 387.
228

تذييل فيه مسائل:
قد تعرض بعض الأعلام هنا بعض مباحث لا دخل لها بمبحث التعبدي
والتوصلي، إلا أنه لاهتمامهم بها وكونها بنفسها مباحث مفيدة ينبغي الإشارة إلى ما
قيل فيها، وبيان ما هو المختار فيها، وهي:
إن إطلاق الخطاب هل يقتضي لزوم مباشرة المخاطب في امتثال الأمر أم لا؟
وعلى فرض عدم الإطلاق ماذا يقتضيه الأصل العملي؟
ثم إن إطلاق الخطاب هل يقتضي صدور المكلف به عن المخاطب اختيارا،
أم لا؟ وعلى فرض عدم الإطلاق ماذا يقتضيه الأصل العملي؟
ثم إن الإطلاق هل يقتضي كون المكلف به متحققا بالمحرم عند الامتثال أم
لا؟ وعلى فرض عدم الإطلاق ماذا يقتضيه الأصل العملي؟
تنقيح الأمر فيها يستدعي البحث في مسائل:
المسألة الأولى
في أن مقتضى الإطلاق
هل صدور المأمور به من المخاطب بنفسه، أم لا؟
وفيها بيان مقتضى الأصل العملي في ذلك.
فالكلام فيها يقع في جهتين: الأولى في مقتضى الأصل اللفظي، والثانية: في
مقتضى الأصل العملي:
الجهة الأولى: في مقتضى الأصل اللفظي في المسألة
حيث إن بعض الأعلام تصدى لذلك بعد تمهيد مقدمة فلنمهدها أيضا، ونقول:
إن لكيفية سقوط التكليف الخاص المتوجه إلى شخص مخصوص تصورات:
منها: أن يكون مجرد تحقق المكلف به خارجا مسقطا للأمر كيف اتفق، وإن
لم
229

يكن موجده إنسانا، فضلا عما إذا كان ذلك.
وذلك فيما إذا كان المطلوب وجود الفعل في الخارج كيف اتفق، من دون
دخالة لصدوره عن المخاطب وانتسابه به في تحصيل ذلك الغرض، كالأمر بغسل
الثوب.
ولا يرد: أنه على هذا الغرض ينبغي أن ينحدر الحكم والأمر إلى الفعل نفسه،
ويحكم بأن ذلك الفعل - كالغسل مثلا - مطلوب من دون توجيهه إلى شخص معين؛
لأنه يتصور لتوجيه الخطاب للشخص غرض آخر وراء الغرض الباعث على
التكليف بأصل الفعل.
ومنها: ما لا يكون كذلك بل لابد في سقوط الأمر من صدور المكلف به من
المخاطب نفسه؛ بحيث لا يكون تحققه من غيره بأي نحو مسقطا له أصلا. وذلك
فيما يكون للانتساب والقيام به دخل في حصول أصل الغرض، كالصلاة والصوم.
ومنها: ما يكون متوسطا بين الأولين؛ بحيث لا يكون وجوده المطلق مسقطا،
ولا وجوده من خصوص المخاطب فقط مسقطا، بل لابد فيه من الارتباط به بنحو،
وذلك من وجوه:
الأول: أن يكون التسبب بالاستئجار - مثلا - وحينئذ يكون فعل الأجير
مسقطا للتكليف، مع كونه فعلا بنفسه، من دون لزوم قصد النيابة ونحوه. بل الأجير
يبني ويهدم ويرفع ويضع لأجرته المسماة في العقد - مثلا - لا بعنوان كونه نائبا عن
المستأجر في البناء.
وكيف كان: فالسقوط من المخاطب في هذا القسم لابد له من عمل؛ من فعل
نفسه أو التسبيب له.
الثاني: أن يكون له الاستنابة؛ بأن يجعل شخصا آخر بمنزلة وجود نفسه؛
فكما أنه لو صدر الفعل من وجوده الحقيقي لكان مسقطا للتكليف، فكذلك لو صدر
من وجوده التنزيلي، الذي هو النائب.
230

فالسقوط في هذا القسم أيضا يتوقف على صدور عمل ما من المخاطب،
وهو إما نفس الفعل أو الاستنابة عليه.
الثالث: أن يجوز للغير التبرع عنه، والمتبرع وإن كان كالنائب؛ من أن وجوده
وجود تنزيلي للمخاطب، إلا أن جعل التنزيل في النائب بيد المخاطب فقط دون
المتبرع؛ فإن للمتبرع جعل نفسه بمنزلة نفس المخاطب على ماله من الخصوصيات
المبحوث عنها في المحل المناسب له.
فالارتباط في هذا القسم أضعف من الأولين من هذه الجهة؛ وهي عدم لزوم
صدور عمل من المخاطب، ولكنه مرتبط به أيضا؛ إذ التبرع إنما هو تبرع عن الغير،
وهذا معنى الارتباط به، بخلاف الأولين.
ولعل في هذا الباب أيضا وجوها أخر في كيفية سقوط التكليف، ولكن المهم
هو الذي أشرنا.
إذا تمهد لك هذه المقدمة فنقول: إن المستفاد من المحقق النائيني (قدس سره) بعد
إطالة الكلام بما لا دخالة لبعضه في المقام - هو أن التكليف في موارد جواز
الاستنابة من باب الوجوب التخييري بين المباشرة وبين الاستنابة؛ تخييرا شرعيا؛
لأنه يكون نتيجة التكليف - بعد قيام الدليل على جواز الاستنابة - هو التخيير بين
المباشرة والاستنابة؛ لأن الاستنابة أيضا فعل اختياري للشخص قابلة لتعلق
التكليف بها تخييرا أو تعيينا.
وفي موارد جواز التبرع من باب الوجوب المشروط؛ لاشتراط وجوب
المباشرة على عدم إتيان المتبرع، ولا يصح جعله من الوجوب التخييري لوجهين:
أحدهما: أن الواجب في التخييري معادل للواجب الآخر، من دون ترتب
وطولية لأحدهما على الآخر، وحيث إن المقام ليس كذلك فلا يعقل كونه من باب
التخيير.
231

ثانيهما: عدم اندراج فعل المتبرع تحت قدرة المكلف، ولا يمكن تعلق
الإرادة به؛ فلا معنى لأن يقال: " افعل أنت بنفسك أو غيرك " مع لزوم اندراج
الواجبات التخييرية بشقوقها تحتها (1)، انتهى.
ولكن ناقش المحقق العراقي (قدس سره) في ذلك، وقال: إن خطاب المكلف بالفعل
الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطا بعدم فعل الغير كما توهم، بل
هو خطاب توجه إليه في حين عدم فعل الغير، كما هو شأن الواجب التخييري (2).
والذي يقتضيه التحقيق هو أن يقال: عدم الخطاب مشروطا بعدم فعل الغير،
ولا يكون الخطاب تخييرا يعلم ذلك بعد تصور حال الجعل وكيفية التشريع.
وذلك لأن الذي ينكشف بالتأمل في مقام الثبوت وتشريع عمل معين -
كالحج مثلا - أن الملحوظ هناك هو نفس الحج ووجوبه على المستطيع، لا المردد
بينه وبين الاستنابة - كما هو الشأن في دوران الأمر في عالم الجعل بين الخصال
الثلاث - حتى يكون الاستنابة معادلا للحج؛ تعادل العتق للإطعام والصيام؛ ليكون
المسؤول يوم القيامة عند العصيان ترك الاستنابة والحج، كما يكون المعاقب عليه
في الخصال هو تركها بأجمعها؛ للاكتفاء بواحد في الترك بالجميع؛ قضاء لحق
التخيير.
بل المجعول هو وجوب الحج على المستطيع فقط، من دون عدل أصلا حتى
يكون بينهما التخيير، ومن دون توقف له على عدم فعل الغير تبرعا حتى يكون
مشروطا بعدمه. بل هو واجب عيني تعييني مطلق، لا مشروط ولا مخير عقلا ولا
شرعا.
إذ فعل النائب وكذا المتبرع ليس لأجل توجه الخطاب إلى الاستنابة؛ معادلا

1 - فوائد الأصول 1: 139 - 141.
2 - بدائع الأفكار 1: 247.
232

لخطاب الحج على الأول، كما هو مقتضى الخطاب التخييري. وليس موجبا
لعدم توجه الخطاب على الثاني، كما هو مقتضى الواجب المشروط، بل هما من
كيفية الامتثال، من دون دخالة لشيء منهما في عالم التشريع.
ومقتضى السقوط بهما هو سقوط التكليف البتي المتوجه إلى المخاطب، من
دون توجه ذلك الشخص من الخطاب إلى النائب أو المتبرع فعلا.
نعم، بعد توسعة كيفية الامتثال وسقوط الخطاب بفعلها يعد كل منهما مخاطبا
اعتبارا، لا أنهما مستقلان نفسا. وعلى هذا لا يعقل التخيير ولا الاشتراط أصلا.
ولعل التخيير في مقام السقوط اختلط بالتخيير المصطلح عليه؛ وهو ما يكون
في عالم الجعل بنحو يرجع إلى الاشتراط أو غيره على ما هو المقرر في محله.
فانقدح بما ذكرنا: ما في كلام المحقق النائيني (قدس سره) وبهذا البيان أيضا يظهر ما
في كلام المحقق العراقي (قدس سره) أيضا؛ إذ ليس التكليف ملحوظا في حال عدم فعل الغير
أصلا؛ حيث إن فعله لم يلحظ في مقام الجعل عدلا، ولا عدمه ظرفا، بل هو تكليف
بتي مطلق على ما عرفت.
توضيح فيه تبيين
ولزيادة توضيح أن المقام ليس من باب الوجوب التخييري، ولا الوجوب
المشروط، ولا المجعول في ظرف دون ظرف، نأت ببيان مستوفى مترامي الأطراف،
وإن أمكن الاكتفاء بما تقدم إجمالا.
فنقول: إن الواجب التخييري هو الذي يسقط قطعا بفعل أحد شقي الترديد أو
أحد شقوق الترديد، وإلا يكون كل واحد منهما أو منها واجبا تعينيا.
فعلى هذا، لو كان الأمر بالحج والاستنابة واجبا تخييريا لزم سقوط التكليف
بالحج بمجرد الاستنابة، وإن لم يفعله النائب؛ إذ أحد شقي التخيير - حسب الفرض -
233

هو الفعل القائم بالمخاطب بالحج - وهو الاستنابة - وأما الفعل القائم بالنائب
فخارج عن حريم التكليف بالحج أصلا، ولا يصح الالتزام به، هذا إجمال المقال.
وإليك تفصيل المقال: وهو أن أحد شقي التخيير بحسب التصور لا يخلو عن
أحد أمور:
1 - إما أن يكون هو مجرد الاستنابة؛ سواء تعقبها فعل النائب أم لا.
2 - أو يكون الاستنابة المتعقبة بفعل النائب نظير الإجازة في الفضولي على
احتمال.
3 - أو يكون فعل النائب.
4 - أو يكون الاستنابة المتقيدة بفعل النائب.
5 - أو يكون الاستنابة المشروطة به.
وعلى أي صورة منها: يرد ما لا يمكن الالتزام به:
أما على الصورة الأولى: فيلزم سقوط وجوب الحج بمجرد الاستنابة، وإن لم
يأت النائب بالحج، مع أن الاستنابة لتلك الغاية؛ وذلك لحصول أحد شقي الترديد
حسب الفرض.
كما أنه على الصورة الثانية: يلزم السقوط بمجرد الاستنابة إذا كان المعلوم
عند الله أن النائب يعقبها به؛ وذلك لحصول وصف التعقب فعلا، وإن كان المتعقب في
المستقبل، والالتزام به مشكل.
مع أنه يلزم من بعد وجوده العدم؛ إذ لو سقط بالاستنابة المطلقة أو المتعقبة
لم يبق في عهدة الحج حتى يأتي به النائب عنه؛ لأنه بمجرد الاستنابة والإيجاب
على النائب يسقط الوجوب عن النائب؛ لسقوط الحج الواجب عن المنوب عنه.
ولا يعقل أن يوجب الشيء شيئا، ويسقط شيئا آخر يكون جوده متوقفا على
وجود هذا الساقط، فتدبر.
234

وأما على الصورة الثالثة: فلا يصح أيضا لخروج فعل الغير عن القدرة
والاختيار؛ إذ لا يعقل أن يجب على زيد فعل عمرو.
وهكذا على الصورة الرابعة والخامسة؛ إذ كما أن فعل الغير ليس داخلا في
حريم القدرة فلا يعقل إيجابه مستقلا، كذلك لا يصح قيدا ولا شرطا للتكليف
المتوجه إلى الشخص.
فتحصل: أنه لا يمكن جعل الاستنابة أحد شقي التخيير - بأي معنى كان
التخيير - إذ لسنا الآن بصدد تحقيق معنى التخيير من كون الوجوب فيه مشروطا
بعدم فعل ذلك الآخر أو غيره، هذا مجمل الكلام في التخيير.
وأما الاشتراط؛ بأن يكون الوجوب مشروطا بعدم فعل الغير - كما زعمه
المحقق النائيني (قدس سره) - فلا يعقل أيضا؛ إذ التبرع فرع ثبوت الوجوب على المتبرع
منه، فلو كان ثبوته عليه مشروطا بعدم التبرع للزم الدور.
وهكذا الكلام في مقال المحقق العراقي (قدس سره)؛ إذ لا تفاوت بين كون الوجوب
في ظرف عدم فعل الغير، أو مشروطا بعدمه فيما هو المهم في المقام؛ لأن فعل الغير
- على أي تقدير - لإسقاط ما على المخاطب بالحج مثلا، لا أنه فعل مستقل بنفسه.
فاتضح: أنه (قدس سره) لم يأت بما يفيد ويجدي.
فتحصل: أن العقل في مثل جواز الاستنابة إن كان لها مورد إذا لاحظ كيفية
تشريع الشارع الحج - مثلا - وعمله في مقام الجعل لا يرى إلا حكما واحدا؛ وهو
وجوب الحج متعلقا على شخص خاص - وهو المستطيع - من دون أن يكون فيه
تردد بينه وبين غيره - كالاستنابة - أو اشتراط وتعليق على عدم فعل الغير، أو في
ظرف عدم فعل الغير.
235

فعلى هذا: لا يكون الوجوب إلا تعيينيا لا تخييرا، ومطلقا لا مشروطا، ولا
مظروفا في ظرف عدم فعل الغير.
فأما حديث جواز الاستنابة فإنما هو ترخيص من الشارع في كيفية الامتثال
وسقوط التكليف.
وإنما قلنا: إن كان لجواز الاستنابة مورد؛ فلأنا لم نجد موردا في الفقه يكون
الأمر في مقام الامتثال دائرا بين المباشرة والاستنابة بجعل الغير - الذي هو النائب -
بمنزلة نفسه في عالم الاعتبار.
نعم، في الحج وإن جوز الاستنابة فيه إلا أنه في حال العذر - كالمرض - لا
مطلقا.
وربما يمثل لذلك بسقوط قضاء الميت عن الولي بفعل النائب، كما يوجد في
كلمات بعض الأعاظم (قدس سره) (1).
ولكنه غير مطابق للممثل المبحوث عنه؛ إذ المبحوث عنه في أن الواجب
على المخاطب بالأصالة وجوب مباشرته أو كفاية الاستنابة، وأما قضاء الميت فإنما
يجب على الولي نيابة عن الميت. فالأمر هناك دائر بين لزوم الاقتصار في امتثال
الأمر بالنيابة على المباشرة، وبين جواز الاستنابة أيضا.
هذا تمام الكلام فيما هو مقتضى التشريع والجعل.
فظهر: أن المجعول فيما يجوز فيه الاستنابة أو التبرع ليس إلا أمرا معينا لا
مخيرا، ووجوبا مطلقا لا اشتراطا فيه؛ لعدم معقولية شئ منها.
هذا كله في الجهة الأولى؛ وهو مقتضى الأصل اللفظي في توجه الخطاب؛
وهو لزوم مباشرة المخاطب في امتثال الأمر.

1 - فوائد الأصول 1: 139 - 140.
236

الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي في المسألة
فعند فقد الأصل اللفظي في المسألة يقع الكلام في مقتضى الأصل العلمي
فيها، فنقول:
الحق في المسألة: هو أنه إذا شك في لزوم المباشرة فقط أو جواز الاستنابة
أو التبرع، هو الاشتغال وإتيان المخاطب نفسه، وعدم جواز الاستنابة أو التبرع، وإن
قلنا في دوران الأمر بين التعيين والتخيير البراءة؛ للفرق بينهما.
وذلك لأن التكليف في نحو المقام - أي في موارد جواز الاستنابة أو التبرع -
حيث لم يكن بالتخيير ولا بالاشتراط، بل بالتعيين؛ لتعين البحث والإطلاق الصرف.
وإنما جواز الاستنابة أو التبرع في مرحلة سقوط التكليف من باب الترخيص
والتوسعة في مقام الامتثال؛ فلو شك فيهما كان مرجعه إلى الشك في الترخيص
والتوسعة في مقام الامتثال، من دون أن يصعد إلى حريم التكليف أو إلى قيد من
قيود المأمور به، ومن المعلوم: أن الشك في ناحية الامتثال وسقوط التكليف مجرى
للاشتغال فحسب.
إن قلت: إن أصل التكليف معلوم، والشك إنما هو في قيد المأمور به وفي أنه
هل هو مطلق أو مقيد بقيد المباشرة، فتجري البراءة.
قلت: إن المعلوم هو إطلاق المأمور به وعدم تقيده بنحو يرجع إلى التخيير أو
الاشتراط؛ لعدم معقولية شئ منهما، كما تقدم. ولكن لا يتعدى الشك عن طور
الامتثال وسقوط التكليف إلى أصل التكليف أو قيد من قيود المكلف به، ومعه لا
مجال لتوهم البراءة، بخلاف مسألة الدور بين التعيين والتخيير، كما تقدم.
ولا يخفى: أنا وإن لم نكن عجالة بصدد بيان ما هو الحق في المسألة، إلا أنه
لقائل أن يقول بالبراءة هناك، بلحاظ أنه لا يعلم مقدار سعة التكليف وضيقه، وليس
التكليف معلوما بجميع حدوده حتى يكون الشك في امتثاله، كما في المقام.
237

وحيث إن الأمر غير خال عن الغموض والإبهام نأتي بما يشيد أركانه؛ لئلا
يتزلزل بالأوهام.
فنقول: كما أن المحقق الخراساني (قدس سره) مع اختياره استحالة أخذ قصد الأمر
ونحوه في المتعلق - ولو بالخطاب الثاني - فلو قامت حجة على لزوم الإتيان بقصد
الأمر لكان يحكم بأن العقل يكشف منه تعلق الغرض بما هو الأخص مما تعلق به
الأمر؛ وهو ما قيد بقصد الأمر (1).
كذلك نقول بعكس ذلك في المقام - أي موارد جواز الاستنابة والتبرع -
وذلك لأن المكلف به هو نفس الطبيعة تعيينا وإطلاقا، واحتمال الاكتفاء بإتيان الغير
يلغى حيث لا تخيير ولا اشتراط. ومعه لو قامت الحجة على جوازهما يكشف العقل
تعلق الغرض بما هو الأعم من المتعلق، لا يتغير سنخ التكليف عن التعيين والإطلاق
أصلا.
ولكن إذا لم تقم حجة على ذلك وشك في ذلك فالمرجع الاشتغال فقط؛
لرجوعه إلى مقام الامتثال.
والمظنون: أن اختلاج احتمال البراءة في الذهن إنما هو لعدم وصوله إلى ما
حققناه من عدم تمشي التخيير والاشتراط في موارد جواز الاستنابة والتبرع، فتدبر
جيدا.
فاتضح من جميع ما ذكرناه: ما في كلام المحقق العراقي (قدس سره)؛ حيث ذهب إلى
البراءة، واستدل لذلك: بأن الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو تام أو
ناقص... إلى آخر ما ذكره (2).
إذ لا شك في حدود التكليف، ولا المكلف به أصلا؛ لأن التكليف تعيني
مطلق، والمكلف به أيضا نفس الطبيعة، والشك إنما هو في مرحلة الامتثال فقط،
ومعه لا مجال لتوهم البراءة، فتدبر وكن من الشاكرين.

1 - كفاية الأصول: 95 - 97.
2 - بدائع الأفكار 1: 248.
238

المسألة الثانية
في أن مقتضى الإطلاق
هل صدور المأمور به عن المخاطب اختيارا فقط، أو الأعم منه؟
وفيها بيان مقتضى الأصل العملي:
لا إشكال في لزوم إرادة المخاطب في إتيان المأمور به؛ لعدم معقولية توجه
الخطاب إلى إتيان الفعل لا عن إرادة، وإنما البحث والكلام في لزوم اعتبار الاختيار.
والكلام في هذه المسألة - أيضا - يقع في جهتين:
الأولى: في مقتضى الأصل اللفظي في المسألة.
والثانية: في مقتضى الأصل العملي فيها.
الجهة الأولى: في مقتضى الأصل اللفظي في المسألة
لا إشكال عند التحقيق: أنه لا إطلاق لهيئة الأمر؛ لأن معناها - كما أشرنا غير
مرة - هو إيجاد البعث الخارجي في عالم الاعتبار والإغراء الاعتباري، نظير إشارة
الأخرس؛ فالمعنى الموجد بها غير قابل لشيء من الإطلاق والتقييد:
أما الأول؛ فلعدم انطباق المعنى بها إلا على نفسها المتشخصة، كما هو الشأن
في إشارة الأخرس.
وأما الثاني؛ فلأنه فرع الإطلاق؛ فإذا لم يكن هناك إطلاق فلا معنى للتقييد.
فإذن: لا وقع لتوهم أن البعث في قولنا: " أكرم زيدا " مثلا هو البعث الأعم من
أن يكون المبعوث إليه صادرا من المخاطب بالاختيار.
كما لا وقع لتوهم: أنه مقيد بخصوص ما هو الصادر منه بالاختيار.
239

نعم، يقع الكلام في مصبها ومحط ورودها، وإن كان خارجا عن حريم
معناها:
فنقول: إن من الواضح الذي لا ينبغي الارتياب فيه: أن البعث لغاية انبعاث
المخاطب نحو مدلول المادة، وواضح: أنه لا يعقل الانبعاث إلا في حال الاختيار؛
ضرورة عدم إمكان انبعاث الغافل نحو المغفول عنه والناسي نحو المنسي عنه،
وهكذا بالنسبة إلى الأوامر الاضطرارية.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك من باب الخطاب أو جعل القانون. كما لا
فرق في ذلك بين أن يكون بعنوانه الأولي أو بالعنوان الملازم له.
والسر في ذلك: هو استحالة انفكاك الانبعاث عن الاختيار.
فاتضح بما ذكرنا: أن مصب الهيئة ومجراها هو اختيار المنبعث فقط، ومعه لا
مجال للتمسك بإطلاق المادة؛ إذ هي وإن كانت مطلقة في نفسها ولكن بعد لحاظ
خصوصية مصب الهيئة ومجراها تسري تلك الخصوصية لها؛ فلا يبقى لإطلاقها
مجال، لا بأن يكون من باب تقييد الإطلاق، بل لعدم انعقاد الإطلاق لها؛ إذ هو
مسبوق بعقد البيان.
والقرينة الحافة بها وإن كانت عقلية ولكن حيث إن المقام محفوف بها
- لقضاوة العقل السليم باستحالة الانبعاث في غير حال الاختيار - فلا ينعقد
الإطلاق أصلا، لا أنه ينعقد الإطلاق فيقيد، فتدبر. هذا إجمال الكلام حول الأصل
اللفظي.
فظهر: أن غاية ما يستفاد من توجه الخطاب إلى المخاطب أو جعل القانون
هو إتيان المتعلق حال الاختيار.
الجهة الثانية: في مقتضى الأصل العملي في المسألة
إذا لم يكن إطلاق في الخطاب، وشك في المسألة فالحق هو البراءة؛ لدوران
الأمر بين الأقل والأكثر؛ إذ لا يعلم أن الواجب هو نفس الطبيعة وإن صدرت من غير
اختيار، أو لطبيعة المقيدة بقيد الاختيار، فينفى القيد المشكوك فيه.
240

ولا يخفى: أن الأقل والأكثر هنا ارتباطيان. فما زعمه المحقق العراقي (قدس سره)؛ من
أن المرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الإتيان بالفرد الاضطراري هي البراءة؛
لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين، ولا شبهة في أن المرجع
في الشك المزبور هي البراءة، انتهى (1).
غير وجيه؛ لما أشرنا من أنه لا يعلم أن الواجب عليه نفس الطبيعة، أو هي
مقيدة بقيد الاختيار، فينفى بالأصل.
المسألة الثالثة
في مقتضى إطلاق الخطاب
كون المأمور به حاصلا بالفرد المحرم أم لا؟
لم يتعرض سماحة الأستاد - دام ظله - حكم مقتضى إطلاق الخطاب في
هذه المسألة، ولا مقتضى الأصل العملي فيها إذا لم يكن هناك إطلاق، بل أو كلهما
إلى محلهما المقرر لهما.
وأظن: أن عدم تعرض الأستاد - دام ظله - بلحاظ حلول التعطيلات الصيفي؛
حيث انعطل البحث يوم الأحد 29 ذي القعدة الحرام من سنة 1378 ه‍. ق.

1 - بدائع الأفكار 1: 250.
241

الجهة الخامسة
في أصالة نفسية والعينية والتعيينية (*)
لا إشكال ولا خلاف: في أنه إذا ورد أمر مطلق، وتردد أمره بين كونه واجبا
نفسيا أو غيريا، أو بين كونه واجبا تعينيا أو تخييريا، أو بين كونه عينيا أو كفائيا،
يحمل على النفسي التعييني العيني.
ولكن وقع الكلام في وجه ذلك:
فذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى أن ذلك بمقتضى إطلاق الصيغة، بتقريب: أن
المولى بعدما كان في مقام البيان، ولم ينصب قرينة على الغيرية ومماثلاتها التي
تقيد الوجوب وتضيق دائرته فمقتضى الحكمة كونه واجبا؛ سواء كان هناك شئ
آخر أم لا فيثبت كون الواجب نفسيا، وسواء أتى بشيء آخر أم لا فيثبت كون
الواجب تعيينيا، وسواء أتى به أم لا فيثبت كون الواجب عينيا (1).
وفيه أولا: أن الظاهر من كلامه (قدس سره) هو أن مراده بالإطلاق هو الإطلاق
المبحوث عنه في المطلق والمقيد في ناحية متعلق التكليف أو موضوعه.
فكما يقال هناك في إطلاق متعلق التكليف أو موضوعه: إن الآمر الملتفت
المختار الكائن في مقام البيان إذا أخذ أمرا غير مقيد بقيد متعلقا لتكليف، أو
موضوعا لحكم فمقتضى حكم العقل هو كون نفس الطبيعة من دون قيد وشرط تمام
المتعلق للتكليف، أو تمام الموضوع للحكم.
فنقول فيما نحن فيه: إن مقتضى جريان مقدمات الحكمة - بعد قوله (قدس سره) بعدم
الفرق بين معنى الحروف والأسماء (2)؛ فكما أن للأسماء جامع فكذلك للحروف،

* - تاريخ شروع البحث يوم الأربعاء 13 ربيع الأول 1379 ه‍. ق.
1 - كفاية الأصول: 99.
2 - نفس المصدر: 24.
242

فالهيئة موضوعة لنفس البعث الجامع بين القيود والمصاديق - هو نفي القيود،
من دون فرق بين النفسية والغيرية، لا إثبات النفسية، كما لا يخفى.
وبالجملة: لو كانت الهيئة موضوعة لنفس الطبيعة الجامعة بين النفسية
والغيرية - كما يقولون - وهي مقسم للأقسام، ولابد وأن يكون ممتازا عن قسميه -
وإلا لاتحد المقسم مع قسمه - فلو شك في انضمام قيد بالطبيعة فالأصل ينفيه؛ فلا
يستفاد من الإطلاق النفسية أو الغيرية.
وثانيا: أنه يلزم على ما ذكره أن تكون الهيئة دالة على الجامع بين النفسية
والغيرية، مع أنا نقطع بعدم إرادة الجامع، بل إما أريد النفسية أو الغيرية مثلا.
وثالثا: أنه - كما ذكرنا في محله - يمتنع وضع الهيئة للجامع؛ لعدم معقولية
الجامع الحقيقي بين المعاني الحرفية، هذا.
وإن أراد (قدس سره) بذلك: أن كلا من الغيرية وما يماثلها يوجب تضييق دائرة
الوجوب، بخلاف النفسية ومماثلاتها. فلو أطلق الأمر على ما لا يوجب التضييق.
ففيه: أن النفسية - مثلا - مقابلة للغيرية، ولا يمكن أن يكون إحداهما مقيدة
دون الأخرى، وإلا لا يكون قسيما له؛ فيلزم تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره.
ثم إن قوله (قدس سره) في الواجب النفسي - سواء وجب هناك شئ آخر أم لا -
وكذا فيما يماثلها لم يكن تعريفا للواجب النفسي ومماثلاتها، بل الواجب النفسي
- مثلا - هو الواجب لذاته.
نعم، لازم كونه واجبا لذاته: أنه سواء كان هناك واجب أم لا، فعلى هذا:
يكون ما أفاده تعريفا بلازمه لا نفسه، فتدبر.
وكذا الكلام في الواجب التعييني والعيني؛ فإنهما سنخان من الوجوب في
قبال الواجب التخييري والكفائي.
243

ذكر وتعقيب
لكل من المحقق الأصفهاني والعلامة القوچاني وشيخنا العلامة الحائري
- قدس الله أسرارهم - مقالا في إثبات النفسية وما يماثلها عند دوران الأمر بينها
وبين ما يقابلها، ولكنها لا يخلو عن النظر:
أما ما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره) في " التعليقة " فحاصله: أن النفسية وما
يماثلها وإن كانت قيودا للطبيعة نحو ما يقابلها؛ لخروجها جميعا عن الطبيعة المهملة
إلا أن بعض القيود كأنه لا يزيد على نفس الطبيعة عرفا، كالنفسية وما يماثلها، دون
ما يقابلها.
ثم لما رأى (قدس سره) عدم استقامة ما أفاده، ولعله بلحاظ أن البحث لغوي عرفي،
وتقسيم الواجب إلى النفسية والغيرية وكذا غيرها إنما هو عندهم؛ وهم الذين يرون
الواجب النفسي - مثلا - قبالا للواجب الغيري، فإذا كان الأمر كذلك فكيف لا
يفهمون كون النفسية قيدا. وهكذا بالنسبة إلى الواجب التعييني والتخييري، والعيني
والكفائي.
استدرك (قدس سره) وقال: التحقيق: أن النفسية ليست إلا عدم كون الوجوب للغير،
وكذا البواقي. وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، وإلا يلزم نقض
الغرض.
ففي كل من النفسية والغيرية قيد، غايته أن في أحدهما - وهو النفسية وما
يماثلها - قيد عدمي، وفي الآخر وما يقابلها قيد وجودي. ويكفي في العدمي عدم
نصب القرينة على الوجودي المقابل له. فمقتضى الحكمة تعيين المقيد بالقيد
العدمي (1).
وفيه: أن عدم الوجوب للغير المأخوذ في الواجب النفسي لا يخلو إما أن
يكون

1 - نهاية الدراية 1: 353.
244

بنحو السلب التحصيلي، أو لا؛ بأن يكون بنحو الموجبة المعدولة المحمول أو
الموجبة السالبة المعمول.
وعلى الأول - ولعله الظاهر من كلامه (قدس سره) - يلزم أن يكون الواجب النفسي
هو عدم الواجب الغيري بالعدم التحصيلي الصادق مع عدم الوجوب رأسا، ومحال
أن يكون الأمر الوجودي عدم شئ آخر. ولو قيل أحيانا: إن وجود زيد - مثلا
عدم وجود عمرو فهو كلام مسامحي.
وعلى الثاني: يكون العدم قيدا. ولا معنى لأن يقال: إن القيد العدمي بمنزلة
العدم؛ لأنه كر على ما فر منه؛ فإن صح أن كلا من الوجوبين يكون قيدا، لكن في
أحدهما - وهو الواجب الغيري - يكون القيد وجوديا؛ وهو كونه واجبا لغيره، وفي
الآخر - وهو الواجب النفسي - يكون القيد عدميا اعتباريا؛ وهو عدم كونه واجبا
لغيره.
فنقول: التقييد - سواء كان بأمر وجودي أو عدمي - فهو اعتبار زائد على
نفس الطبيعة، وواضح: أن الإطلاق يقتضي عدم تقييد الطبيعة بقيد أصلا، لا عدم
تقييده بقيد عدمي فقط. ولا فرق في التقييد بين التقييد بأمر اعتباري أو غير
اعتباري، هذا.
مضافا إلى ما في قوله (قدس سره): إن القيد المأخوذ في الواجب النفسي عدمي؛ فإن
الأولى أن يقول بالعكس، وإن الواجب الغيري هو ما لا يكون واجبا لذاته.
والذي يسهل الخطب ويقتضيه التحقيق: أن كلا من النفسية والغيرية سنخ
واجب برأسه، وكذا مماثلاتها، فتدبر.
وأما ما أفاده العلامة القوچاني (قدس سره) فحاصله: أن كل واحد من النفسية والغيرية
- مثلا - وإن كان لها قيد وخصوصية في مقام الثبوت يمتاز إحداهما عن الأخرى،
لكن مجرد ذلك لا يلازم بيانا زائدا في مقام الإثبات على أصل الطبيعة؛ لأنه قد
يكون
245

الشيء مقيدا بحسب الثبوت بقيد عدمي، ولكن لا يحتاج في مقام الإثبات
إلى زيادة بيان، والوجوب النفسي من دون القبيل.
بخلاف الوجوب الغيري؛ لأن القيد المذكور للوجوب النفسي في مقام الثبوت
عدمي، بخلاف الوجوب الغيري فإنه وجودي؛ فإن له في مقام البيان أيضا قيدا
وخصوصية، كما كانت في مقام الثبوت.
وحينئذ: لو أطلق اللفظ وكان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على المراد
فمقتضاه الحمل على النفسية؛ لاحتياج الغيرية إلى مؤونة زائدة في مقام البيان. ومن
هذا القبيل الواجب المطلق والمشروط (1).
وفيه: أن ما أفاده (قدس سره) وإن كان أسلم مما ذكره غيره إلا أنه يظهر من أول
كلامه أنه يريد إثبات ذلك بمقدمات الحكمة، إلا أنه يظهر مما ذكره أخيرا عدم
احتياجه إلى ذلك.
فيتوجه عليه: أن عدم الاحتياج في مقام الإثبات - بعد كونه مقيدا في مقام
الثبوت - لابد وأن يكون لجهة؛ وهي إما كثرة استعمال الواجب في النفسي الموجب
لصرف الظهور إليه أو الانصراف إليه، أو لاحتفافه بقرينة عامة، ونحوها.
وواضح: أنه لم يكن شئ من ذلك في البين؛ فما أفاده غير وجيه.
وأما ما أفاده شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) فحاصله: أنه لا يبعد أن يكون حمل
الوجوب على النفسي والتعييني عند احتمال كونه غيريا أو تخييريا لأجل الظهور
العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام؛ لأن عدم اشتمال القضية على ما يفيد كون
وجوبه لملاحظة القيد، وكذا على ما يكون ظرفا للفعل الواجب يوجب استقرار
ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا؛ فلا يحتاج إلى إحراز مقدمات الحكمة.

1 - حاشية كفاية الأصول، العلامة القوچاني 1: 65 / التعليقة 139.
246

والشاهد على ذلك كله: المراجعة إلى فهم العرف؛ إذ لا دليل في أمثال ذلك
أمتن مما ذكره (1).
ثم احتمل وجها آخر - وهو الذي اخترناه - فارتقب حتى حين.
وفيه: أن دلالة اللفظ على معناه بعدما لم تكن ذاتية لم تكن جزافية، بل تابعة
للوضع.
فظهور كل لفظ في معناه - كالوجوب فيما نحن فيه - لابد وأن يكون له
منشأ، فهو لا يخلو إما أن يكون اللفظ موضوعا له بالوضع التعييني، أو بالوضع
التعيني بكثرة الاستعمال فيه، أو لاحتفافه بقرينة عامة، أو تكون للانصراف إليه،
وكلها مفقودة فيما نحن فيه:
أما الوضع التعييني فمسلم عند الكل. وأما التعيني فهو رهين كثرة الاستعمال،
ولم يثبت كثرته في الوجوب النفسي بالنسبة إلى الوجوب الغيري. والأصل عدم
وجود قرينة عامة في البين. والانصراف أيضا لابد له من كثرة الاستعمال الموجبة
لهجر غير ما انصرف إليه ولم يثبت.
فإذن: دعوى الظهور العرفي فيما أفاده غير وجيه.
والذي يقتضيه التحقيق في وجه ذلك أن يقال - بعد مسلمية الأمر عند العرف
والعقلاء، وهو الذي احتمله شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) أخيرا - هو أنه قد سبق منا
أن الهيئة وضعت للبعث والإغراء بالمعنى الحرفي، نظير إشارة الأخرس (2). فإذن:
الهيئة آلة لإيجاد معناها، نظير إيجاد أداة القسم والنداء والاستفهام معانيها؛ فلا معنى
لكون الموضوع له عاما، بل خاصا.

1 - درر الفوائد: 75.
2 - تقدم في الصفحة 239.
247

وأما الوضع فإما يكون خاصا أو عاما حسب ما فصلناه في معنى الهيئة (1).
فإذن: البعث والإغراء المتوجهان إلى العبد يكونان حجة عليه عند العرف
والعقلاء، وهم يرون أن بعث المولى لا يجوز تركه والتقاعد عنه باحتمال وجوب
غيره في دوران الأمر بين كون الواجب نفسيا أو غيريا، أو كون غيره عدلا للواجب
في دوران الأمر بين كون الواجب تعيينيا أو تخييريا، أو كونه مكلفا بخصوصه في
دوران الأمر بين كون الواجب عينيا أو كفائيا.
وبالجملة: العرف والعقلاء لا يرون عذرا لعبد لم يمتثل أمر مولاه باحتمال
كون الواجب غيريا أو تخييريا أو كفائيا، بل يرون أن للمولى حجة عليه، من دون
فرق في ذلك بين أن يكون أمر المولى بالهيئة أو بالإشارة.
فكما أن المولى لو أشار عبده إلى شئ يجب عليه امتثاله، ولا يجوز له
التقاعد عنه، من دون أن يكون هنا لفظ حتى يقال: إنه بظهور اللفظ، بل لأجل أن
العبد لابد له من امتثال طلب المولى، فكذلك الهيئة.
والهيئة والإشارة ترتضعان من ثدي واحد. غايته: أن دلالة الإشارة تكويني
وباليد - مثلا - والهيئة تشريعي وباللسان. فالباب باب احتجاج المولى على العبد
واحتجاج العبد على مولاه، لا باب دلالة اللفظ. وقد سبق شقص من الكلام في
حمل هيئة الأمر على الوجوب، فلاحظ (2).

1 - تقدم في الصفحة 124 - 125.
2 - تقدم في الصفحة 153 - 155.
248

الجهة السادسة
في دلالة الأمر على المرة والتكرار (*)
لعل وقوع النزاع في الأمر والنهي، دون سائر المشتقات كالماضي والمضارع؛
لأجل ورودهما في الشريعة المقدسة مختلفين.
ففي قوله تعالى: (لله على الناس حج البيت) (1) مثلا أطلق وأريد منه المرة،
كما أنه ورد في مثل: (أقيموا الصلاة) (2) وأريد منه التكرار.
فوقع النزاع في أنه حقيقة في المرة ومجاز في التكرار، أو بالعكس، أو لا
دلالة على شئ منهما؟
تنقيح المقال في ذلك يستدعي البحث في موارد.
المورد الأول: في أن محل النزاع بينهم هل في مادة الأمر أو هيئته أو فيهما؟
يظهر من صاحب " الفصول " (قدس سره): أن النزاع بينهم في هيئة الأمر؛ لأنه قال: إن
جماعة - منهم السكاكي - حكوا إجماعا عن أهل الأدب على أن المصدر المجرد
عن اللام والتنوين يدل على نفس الطبيعة؛ فيكون ذلك الإجماع دليلا على أن النزاع
في دلالة الأمر على المرة والتكرار في هيئته، لا في مادته (3).
ولكن أشكل عليه المحقق الخراساني (قدس سره): بأن ذلك إنما يتم إذا كان المصدر
مادة

* - تاريخ شروع البحث يوم الأحد 14 / ربيع الأول / 1379 ه‍. ق.
1 - آل عمران (3): 97.
2 - البقرة (2): 43.
3 - الفصول الغروية: 71 / السطر 21.
249

لسائر المشتقات. وأما إذا لم يكن المصدر مادة وأصلا لسائر المشتقات، بل
هو منها - كما هو مقتضى التحقيق - فالاتفاق الكذائي لا يوجب الاتفاق على أن
مادة الأمر لا تدل إلا على الهيئة؛ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في
مادتها، كما لا يخفى (1).
ولكن هذا الإشكال غير وارد على صاحب " الفصول " (قدس سره)؛ لأن مادة
المشتقات عندهم - كما هو مقتضى التحقيق - مادة بسيطة خالية عن كافة الهيئات
موضوعة لمعنى. وكل واحد من هيئات المشتقات موضوع بالوضع النوعي للدلالة
على معنى.
ففي كل مشتق يكون وضعين: أحدهما وضع مادة، والثاني وضع هيئة.
والمصدر لم يشذ عن ذلك؛ فله وضعان: أحدهما وضع مادته للدلالة على طبيعة
الحدث، والثاني وضع هيئته للدلالة على معنى.
فلو ثبت إجماعهم على أن المصدر - الذي هو أحد المشتقات - لا يدل إلا
على نفس الطبيعة فيستفاد منه: أن مادة المصدر دالة على أن الطبيعة اللا بشرط؛ لأن
المصدر - كما أشرنا - ينحل إلى مادة وصورة؛ فإن دلت المادة على الطبيعة المتقيدة
وهيئته على معنى آخر فلا وجه لأن يقال: إن الإجماع منعقد على أن المصدر دال
على نفس الطبيعة، وهو ظاهر.
بل الإجماع إنما يصح إذا لم تدل المادة إلا على نفس الطبيعة، والهيئة لم تدل
على أزيد من ذلك؛ بأن تكون هيئته آلة لإمكان التنطق بالمادة - مثلا - كما سبق (2)،
فتدبر، هذا.
ولكن الذي يسهل الأمر: عدم تمامية مقال صاحب " الفصول " (قدس سره)؛ لأن مجرد

1 - كفاية الأصول: 100.
2 - تقدم في الصفحة 55.
250

انعقاد الإجماع على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين يدل على نفس
الطبيعة لا يكون بنفسه دليلا على كون نزاعهم في هيئة الأمر، إلا أن ينضم إليه
إجماع آخر على كون مادة المصدر مادة لسائر المشتقات، وإلا لو كانت مادة
المصدر غير مادة سائر المشتقات يصح نزاعهم في المادة، كما لا يخفى.
وقد اختلف قدماء أهل الأدب في ذلك؛ فقال بعض بالغيرية، وقال آخر
بالعينية.
بل لا يتم ذلك إلا بأن يعزز الإجماعان بإجماع ثالث؛ وهو الإجماع على
عدم كون المادة والهيئة موضوعين بوضع واحد شخصي، وهو أيضا محل الخلاف
بينهم.
وبالجملة: مجرد تمامية إجماع السكاكي لا يوجب أن لا يكون النزاع في
المادة، بل لابد من انضمام إجماعين آخرين؛ وهما الإجماع على وحدة مادة
المصدر مع سائر المشتقات، وعدم كون كل منهما موضوعا بوضع واحد شخصي.
فإذا عرفت ما ذكرنا: ينبغي عطف عنان البحث إلى ما يصح النزاع فيه ويكون
معقولا، وإن لم ينازعوا فيه:
فنقول: لا يخفى أنه بحسب التصور يمكن أن يكون كل واحد من الهيئة
والمادة محلا للبحث، كما يمكن أن يكون مجموعهما محلا له.
وليعلم أولا: أنه على تقدير كون الهيئة محلا للنزاع لابد وأن يقال عند ذاك:
إن المادة موضوعة للطبيعة اللا بشرط، كما لا يخفى.
ولكن لا يعقل أن تكون الهيئة محلا للنزاع؛ وذلك لأن مفاد الهيئة - كما
ذكرنا - للإغراء والبعث، نظير إشارة الأخرس؛ فكما أن الإشارة ليست إلا إغراء
نحو المشير فكذلك الهيئة.
نعم، لازم الإغراء بالحمل الشائع عرفا أو عقلا إيجاد الطبيعة خارجا، ولا
معنى لإغراءين تأسيسيين نحو طبيعة واحدة، كما لا يمكن تعلق إرادتين مستقلتين
من
251

شخص واحد بشيء واحد في آن واحد؛ لأنه قد سبق: أن تشخص الإرادة
وتعددها؛ وكذا الحب والبغض ونظائرهما تابعة لوحدة متعلقها وتعددها.
فإذا كان المتعلق واحدا لا يعقل تعلق إرادتين مستقلتين تأسيسيتين بشيء
واحد في آن واحد، وهكذا الأمر في الإغراءين المستقلين.
نعم، يمكن أن يكون أحد الإغراءين تأسيسيا والآخر تأكيديا، ولكنه خارج
عن محط البحث من كون الأمر دالا على المرة أو التكرار، كما لا يخفى، هذا.
مضافا إلى أن تكرار الإغراء مع وحدة الطبيعة خارج عن محط البحث؛ لأن
الوحدة أو الكثرة المبحوث عنه هنا هي وحدة المادة وتكررها، لا وحدة الإغراء
والإغراءين، فتدبر.
فظهر: أنه لو كان مفاد الهيئة الإغراء فلا يعقل أن تكون الهيئة محلا للبحث،
فالنزاع لابد وأن يكون في المادة، والنزاع فيها إنما يكون إذا لم يثبت كون المصدر
المجرد عن اللام والتنوين دالا على الماهية اللا بشرط، وعلى أن مادة المصدر مادة
لسائر المشتقات، وأن لا تكون المادة والهيئة موضوعتين بوضع شخصي؛ فإذا ثبتت
تلك الأمور - كما هو الظاهر - فلا وجه للنزاع في المادة أيضا.
هذا كله على تقدير كون مفاد الهيئة الإغراء والبعث الخارجيين.
وأما لو كانت موضوعة لمفهوم طلب الإيجاد فللنزاع فيه مجال.
ولكن اتفقت كلمتهم على أن مفاد الهيئة معنى حرفي، ومفهوم طلب الإيجاد
معنى اسمي.
وصاحب " الفصول " (قدس سره) - القائل بأن مفاد الهيئة طلب الإيجاد (1) - لا يقول: إنها
وضعت لمفهومه، بل لمصداقه.
ولا يمكن أن يكون مفاد الهيئة البعث المتقيد؛ لأن تقييد شئ بشيء لابد
وأن

1 - الفصول الغروية: 71 / السطر 39.
252

يكون بعد لحاظه مستقلا، والمعاني الحرفية حيث إنها غير ملحوظة مستقلة
فلا يمكن تقييدها.
إن قلت: يمكن تقييدها بلحاظ ونظرة أخرى.
قلت: نعم، ولكنه لا يكون بدلالة لفظ الهيئة.
ويمكن أن يقال: إن الهيئة موضوعة لإيجادات بالمعنى الحرفي؛ فكما يجوز
استعمال الحرف في أكثر من معنى واحد يجوز وضع الهيئة لكثرات واستعمالها فيها.
ولكنه خلاف الوجدان والمرتكز في الأذهان في الأوضاع.
فتحصل مما ذكر: أن النزاع في الهيئة لا معنى له، بل لا يعقل. وأما في المادة
- بعد كون مادة المصدر المجردة دالة على الهيئة اللا بشرط، ولم تكن مادته مادة
لسائر المشتقات، ولم تكن المادة والهيئة موضوعتين بوضع شخصي - فللنزاع فيه
مجال.
المورد الثاني: في أن المراد بالمرة والتكرار في المقام
و هو أن المراد بالمرة والتكرار هل الفرد أو الأفراد، أو الدفعة والدفعات
والفرق بينهما واضح؛ فإن الفرد هو المتشخص الخارجي، والدفعة تصدق
عليه وعلى ما وجدت أفرادا متعددة في آن واحد.
وبالجملة: الدفعة هي تحقق الشيء أو الأشياء بحركة واحدة، فهي أعم من
وجود فرد متشخص خارجي (1). فإكرام زيد وعمرو بإكرام واحد دفعة واحدة،
ولكنه إيجاد فردين من الإكرام.

1 - قلت: ويمكن أن يقال: إن النسبة بينهما عموم من وجه؛ لصدق الدفعة على الأفراد المتعددة
الموجودة بحركة واحدة، ولم يصدق هناك الفرد، وصدق الفرد على الموجود الممتد كالكلام
الممتد المتصل - كساعة مثلا - فيصدق عليه الفرد دون الدفعة، ومورد تصادقهما واضح.
[المقرر حفظه الله].
253

الظاهر بملاحظة بعض أدلة الطرفين: أن النزاع في الفرد والأفراد، لا الدفعة
والدفعات؛ لأن القائل بالتكرار يستدل لمرامه بأنه لو لم يدل على التكرار لما كان
معنى لتكرار الصوم والصلاة والزكاة ونحوها. وناقض استدلاله القائل بدلالته على
المرة بالحج؛ حيث لم يجب في العمر إلا مرة واحدة.
وواضح: أن المراد بالتكرار في الصلاة ونحوها والمرة في الحج هي الفرد
والأفراد، لا الدفعة والدفعات. ومجرد انطباق مفهوم الدفعة على الفرد أحيانا لا
يوجب كون ذلك بدلالة اللفظ. ويريد ذلك بأنه ليس في الأحكام ما يكون للدفعة
والدفعات، فتدبر.
ولكن ذهب صاحب " الفصول " (قدس سره) إلى أن المراد بالمرة والتكرار الدفعة أو
الدفعات لوجهين:
الوجه الأول: مساعدة ظاهر اللفظين؛ فإنه لا يقال لمن ضرب شخصا
بسوطين - مثلا - دفعة: إنه ضربه مرتين، بل مرة واحدة.
الوجه الثاني: أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الأنسب - بل اللازم - أن يجعل
هذا البحث تتمة للبحث الآتي؛ من أن الأمر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد؛ فيقال عند
ذلك وعلى تقدير تعلقه بالفرد: هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد، أو لا
يقتضي شيئا منها، ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث، كما فعلوه.
وأما على ما اخترناه فلا علقة بين المسألتين؛ فإن للقائل بتعلق الأمر بالطبيعة
أن يقول بأنه للمرة أو التكرار؛ بمعنى أنه يقتضي وجوب إيجادها مرة واحدة أو
مرارا بالمعنى الذي سبق، وإن لا يقول بذلك.
وكذا القائل بتعلقه بالفرد دون الطبيعة؛ إذ ليس المراد به الفرد الواحد، بل
مطلق الفرد (1).

1 - الفصول الغروية: 71 / السطر 25.
254

وفيه: أنه لا يخفى أن البحث في هذا الباب بحث لغوي وفي المعنى
التصوري، وفي دلالة اللفظ على المعنى، وفي أن أمر المولى هل يدل على المرة أو
التكرار؛ ولذا يستدلوا لذلك بالتبادر وما يرجع إلى إثبات المعاني اللغوية.
وأما البحث في باب تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد فهو بحث عقلي، من غير
اختصاص لذلك بلفظ الأمر؛ وذلك لأن المبحوث عنه هناك في أن الأوامر الصادرة
من الآمر - سواء صدرت منه بصيغة الأمر أو بصورة الجملة الخبرية، بل بنحو من
الإشارة - هل تتعلق بالطبيعة أو الفرد؟
وبعبارة أخرى: هل يمكن أن تتعلق إرادة الآمر بحسب الواقع بالطبيعة أو
بالفرد؟
ولذا تمسك غير صاحب الفصول (قدس سره) لإثبات مدعاهم بأدلة عقلية، مثل
استدلالهم بأن الطبيعي لا وجود له في الخارج، واستدلالهم بأصالة الوجود، أو
أصالة الماهية، إلى غير ذلك مما يمر بك قريبا.
وواضح: أن الاستدلال بهذه الأمور لم يكن من دلالة اللفظ من شئ.
فظهر لك: أن المسألة المبحوثة عنها مسألة لغوية، ومسألة تعلق الأمر
بالطبيعة أو الفرد مسألة عقلية، فلا ارتباط بين المسألتين.
فعلى هذا: لو قلنا هنا بأن لفظ الأمر موضوع للمرة فيمكن أن يقال هناك: إنه
لا يعقل أن يكون الفرد مبعوثا إليه، بل لابد وأن يكون المبعوث إليها نفس الطبيعة؛
فيكون الحكم العقلي قرينة عقلية على عدم إرادة الموضوع له، فتدبر.
ولو قلنا - تبعا لصاحب " الفصول " (قدس سره)؛ حيث استدل في مسألة تعلق الأمر
بالطبيعة أو الفرد بالتبادر ونحوه (1) - إن المسألة المبحوث عنها هناك أيضا مسألة
لغوية.
ولكن يرد عليه - مع ذلك - أمران:

1 - الفصول الغروية: 107 / السطر 37.
255

الأمر الأول: أنه - مع ذلك - لا يكون البحث في هذه المسألة تتمة لذلك
البحث؛ لأنه (قدس سره) قال في هذه المسألة - أعني مسألة المرة والتكرار - مستندا على
إجماع السكاكي وغيره: إن النزاع إنما هو في الهيئة، كما تقدم تفصيله.
ولكن قال في تلك المسألة: إن لصيغة الأمر جزءين: جزءا صوريا، وجزءا
ماديا. واختلف في الجزء المادي: أنه يدل على الطبيعة أو الفرد. وأما الجزء الصوري
- وهي الهيئة فتدل على طلب الإيجاد (1).
فإذن: كان محل النزاع هنا في الجزء الصوري، وأما هناك ففي الجزء المادي،
فكيف يكون البحث في إحدى المسألتين تتمة للبحث عن الأخرى؟!
ومجرد اتحاد المادة مع الصورة لا يوجب كون البحث في إحداهما تتمة
للأخرى كما لا يخفى، فتدبر واغتنم.
والأمر الثاني: أن إجماع السكاكي وغيره على أن المصدر المجرد من اللام
والتنوين لو كان كاشفا عن كون النزاع في الهيئة في هذه المسألة فكيف لم يكن
كاشفا في مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد؟ ولم يعلم فرق بين المسألتين في
ذلك.
نعم، يمكن أن يقال: إنه لا معنى للنزاع في الهيئة في أنها تدل على نفس
الطبيعة، أو على الفرد منها.
والذي يمكن أن ينازع فيه هو المادة؛ فلا يمكن تتميم تلك المسألة بإجماع
السكاكي وغيره.
لكن إذا تم إجماع السكاكي هنا فلابد وأن يقال هناك: إنه لم تكن في المسألة
خلاف؛ أما في مادته فلإجماع السكاكي، وأما في هيئته فلأنها ليست إلا لطلب
الإيجاد، فتدبر.

1 - الفصول الغروية: 107 / السطر 35.
256

ذكر وتعقيب
أشكل المحقق الخراساني (قدس سره) على صاحب " الفصول " (قدس سره) القائل بأن النزاع
في الفرد أو الأفراد إنما يجري لو قلنا في مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد يتعلق
الأمر بالفرد. وأما لو قلنا بتعلقه بالطبيعة فلا معنى للفرد أو الأفراد.
وقال: بأنه لو قلنا بتعلق الطلب بالطبيعة يصح النزاع في الفرد أو الأفراد
أيضا؛ وذلك لأن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في
الخارج؛ بداهة أن الطبيعة من حيث هي هي ليست إلا هي؛ لا مطلوبة ولا مبغوضة.
وبهذا الاعتبار صح النزاع في أن يقال: إن مدلول الطبيعة الفرد أو الأفراد؛ أي
وجود واحد أو وجودات.
وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد، غاية الأمر
خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الأمر بالطبيعة - تلازم المطلوب وخارج
عنه، بخلاف القول بتعلقه بالفرد؛ فإنه مما يقومه (1).
وفيه: أنه لا يخفى أن لصيغة الأمر جزءين: جزءا ماديا، وجزءا صوريا.
والجزء المادي عبارة عن نفس الطبيعة.
وأما الجزء الصوري: فلا يخلو إما أن نقول بمقالة صاحب " الفصول " (قدس سره)
القائل بأنه لطلب الوجود بالمعنى الحرفي - أي إيجاد الطبيعة - الذي إذا أريد التعبير
عنه بالمعنى الاسمي يقال: " أطلب منك إيجاد الطبيعة ".
أو نقول: بأنها تدل على طلب إيجاد الفعل بالمعنى الاسمي.
أو نقول: بأنه ليس مفادها إلا البعث والإغراء.

1 - كفاية الأصول: 101.
257

وظاهر: أنه على القول الأول يكون الإيجاد متعلقا بالطبيعة، فلابد وأن تكون
المادة عبارة عن نفس الطبيعة، فتكون الطبيعة منسلخة عن الوجود وعن كافة
اللواحق، وإلا فلو لم تكن منسلخة عنها يلزم إيجاد الطبيعة الموجودة، وهو محال.
وبالجملة: الأمر عبارة عن طلب الإيجاد، ومتعلقه نفس الطبيعة من حيث هي
هي؛ وهي ليست واحدة ولا كثيرة. فلا معنى للنزاع في دلالة الأمر على الوحدة.
أما في الهيئة: فلما عرفت من أنه لا معنى للوحدة والتكرار في المعنى
الحرفي؛ لأن مفادها ليس إلا إيجاد الطبيعة. ومتعلقه عبارة عن نفس الطبيعة من
حيث هي، وهي بهذا الاعتبار لا واحدة ولا كثيرة.
وعلى القول الثاني - وإن لم يقل به أحد - ولكنه على ذلك لابد وأن يكون
متعلقه نفس الطبيعة؛ فلا يكون البحث في المرة والتكرار على القول بتعلق الأمر
بنفس الطبيعة من تتمة ذلك.
وبالجملة: أن الهيئة لو دلت على طلب الطبيعة فلا يمكن أخذ الوجود في
المتعلق، وإلا يلزم أن يطلب إيجاد وجود الطبيعة؛ وهو طلب الموجود الخارجي.
وهكذا على القول الثالث؛ فلأنه لو كانت الهيئة دالة على نفس الإغراء
والبعث الخارجيين، والإغراء والبعث إلى نحو الطبيعة لازمه العقلي إيجادها، فيكون
البعث في كونه للمرة أو التكرار يخرج البحث عن كونه لغوية، ويدخله في زمرة
المسائل العقلية، وهو خلاف الظاهر؛ فإن ظاهرهم كون البحث فيما بينهم لغوية.
فتحصل: أن إشكال المحقق الخراساني (قدس سره) غير وارد على صاحب
" الفصول " (قدس سره).
والإشكال الصحيح المتوجه عليه: هو أن المسألتين غير مرتبطتين معا؛ فإن
إحداهما في الأمر اللغوي والأخرى في الأمر العقلي، فتدبر.
258

المورد الثالث: في إتيان الأفراد العرضية دفعة مع وحدة الأمر
لو قلنا بأن الأمر متعلق بالطبيعة، فأتى المكلف بفرد منها فحيث إن الطبيعة
موجودة بوجود الفرد يكون ممتثلا. وكذا لو قلنا بتعلق الأمر بالفرد. وهذا لا إشكال
فيه ولا خلاف.
وأما إذا أوجد المكلف عدة أفراد دفعة واحدة، فهل يكون الآتي بها كذلك
ممتثلا أم لا؟ وعلى الأول هل هو امتثال واحد بإتيان الجميع، أو بامتثال واحد منها
أو امتثالات متعددة؟ وجوه.
لا يخفى: صحة جريان هذا البحث ولا ستره فيه على تقدير كون متعلق الأمر
الطبيعة، وكذا يصح البحث على تقدير كون متعلق الأمر المرة أو التكرار؛ بمعنى
الفرد أو الأفراد إذا أريد بالفرد المعنى اللا بشرط، فيبحث في أنه إذا أوجد عدة أفراد
دفعة واحدة هل هو امتثال واحد، أو امتثالات متعددة.
ولكن إذا كان المراد بالفرد المعنى بشرط لا فلا إشكال في أنه لا يعد ذلك
امتثالا، كما هو واضح.
ولا يخفى: جريان هذا البحث في الواجبين التخييريين أيضا إذا لم يكن
وجوب أحدهما بشرط لا عن الآخر؛ بأنه لو أتى المكلف بطرفي التخيير دفعة
واحدة هل يعد ذلك امتثالا واحدا أو متعددا.
وكيف كان قد يقال (1) فيما نحن فيه: إن الأمر حيث يتعلق بالطبيعة، والطبيعة

1 - قلت: أظن أن القائل به هو سماحة أستادنا الأعظم البروجردي - دام ظله - كما يستفاد ذلك من
تقريره [1]. [المقرر حفظه الله].
[1] نهاية الأصول: 124 و 230.
259

على القول الحق تتكثر بتكثر الأفراد - خلافا للرجل الهمداني، الذي لاقى
شيخ الرئيس - فالطبيعة موجودة بتمام ذاته في كل فرد فرد، فإذا تعلق الأمر بنفس
الطبيعة فإن أوجد المكلف فردا منها فقد أوجد تمام المأمور به؛ فيسقط الأمر.
وأما لو أوجد أفراد منها دفعة واحدة فحيث إن الطبيعة متكثرة بتكثر أفرادها
- لكونها ماهية لا تأبى الوحدة ولا الكثرة، وكل فرد محقق للطبيعة برأسه - فإذا
أتى المكلف بأفراد متعددة فقد أوجد المطلوب في ضمن كل فرد مستقلا؛ فيكون
امتثالات مستقلة بعدد ما أتى به.
وهذا نظير الواجب الكفائي؛ حيث إن المطلوب فيه نفس إيجاد الطبيعة.
غايته: يكون المكلف جميع المكلفين؛ فكما أنه مع إتيان واحد منهم يسقط
الوجوب، ومع إتيان الجميع يكونوا أجمع ممتثلين، ويحسب لكل امتثالا مستقلا.
وفيه أولا: لعل منشأ ما ذكره الغفلة عن دقيقة؛ وهي أن الطبيعة وإن كانت
متكثرة في الخارج بتكثر الأفراد، ولا إشكال فيه على مذهب الحق - كما أشير إليه -
ولكن الطبيعة المأمور بها بما أنها مأمور بها لا تكثر فيها؛ لأن تكثر الطبيعة إنما هي
بلحاظ الخارج. وأما نفس الطبيعة من حيث هي هي لا تكثر فيها.
وواضح: أن متعلق الأمر نفس الطبيعة لا وجودها؛ لأن الخارج - كما ذكرنا
غير مرة - ظرف سقوط التكليف وامتثاله، لا ظرف ثبوت التكليف وتعلقه.
فإذا كان مصب تعلق الأمر ومورده ليس إلا نفس الطبيعة من حيث هي هي،
وبهذا اللحاظ - كما أشرنا - لا تكثر فيها فهنا أمر واحد تعلق بطبيعة واحدة؛ فلا
معنى لامتثالات متعددة.
وبعبارة أخرى: تحقق الامتثالات فرع وجود الأوامر - ولو انحلالا - فلو
تعلق أوامر متعددة - ولو انحلالا - ففي إطاعتها امتثالات، كما أن في تركها
عقوبات.
والمفروض: أن فيما نحن فيه ليس إلا أمرا واحدا غير منحل، تعلق بطبيعة
واحدة؛
260

فلا معنى للامتثالات عند ذلك، وإلا يلزم أن يكون هناك عقوبات بالنسبة إلى
تركها، وهو كما ترى.
فإذن: كما أنه بإتيان فرد من الطبيعة يمتثل الأمر بالطبيعة، فكذلك بإتيان
أفراد متعددة في حركة واحدة يكون ممتثلا.
نعم، يقع البحث على الأخير في تحقق الامتثال؛ وأنه بالمجموع، أو بأحدها
غير المعين، أو بأحدها المعين عند الله، أو غيرها. وهذا كلام آخر لا يضر من جهله،
ولا يجب أن يمتاز ما به يتحقق الامتثال، والمقدار اللازم العلم بتحقق الامتثال، وهو
حاصل في الفرض.
وما نحن فيه نظير الجعالة، كأن يقول الرجل: " من جاءني بماء فله درهم "
فكما أنه إذا جاءه بإناء واحد يكون ممتثلا ويستحق الجعل - وهذا الدرهم - فكذلك
إذا جاءه بإناءين يكون كذلك، ولا يستحق أكثر من درهم واحد، كما لا يخفى.
وثانيا: أن تنظير ما نحن فيه بالواجب الكفائي غير وجيه؛ لأن الواجب
الكفائي على مذاق القوم عبارة عن البعث المتوجه إلى عامة المكلفين إلى إتيان
صرف الطبيعة، كغسل الميت أو الصلاة عليه أو دفنه - مثلا - حيث يكون كل مكلف
مخاطبا بالحكم على حدة.
ولكن حيث إن الغرض في الواجب الكذائي قد يحصل بفعل واحد منهم،
ويذهب موضوعه بفعله فإذا أتى به واحد منهم يسقط التكليف عن الجميع. وأما لو
أتى جميع آحاد المكلفين بالواجب معا يكونوا جميعا ممتثلين، كما أنه لو تركوه
أجمع يكونوا معاقبين جميعا.
فكم فرق بين ما نحن فيه والواجب الكفائي! وقياس أحدهما بالآخر قياس
مع الفارق.
261

وبالجملة: كل مورد يكون في إتيانه امتثالات لابد وأن يكون عقوبات في
تركه، والواجب الكفائي كذلك دون ما نحن فيه، فتدبر.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا دريت: أن الأمر ينحل إلى مادة وهيئة. والمادة لا
تدل إلا على نفس الطبيعة، والهيئة لا تدل إلا على البعث والإغراء. ولم يكن
لمجموع المادة والهيئة وضعا على حدة.
فعلى هذا: لم يكن في الأمر ما يدل على المرة أو التكرار.
فالتحقيق - كما عليه أهله - أن الأمر يدل على الوحدة أو التكرار، إلا بقرينة
خارجية.
إيقاظ
ثم إن المحقق الخراساني (قدس سره) عنون هنا مسألة الامتثال بعد الامتثال (1)، ولكن
نحن نذكرها في مسألة الإجزاء (2) إن شاء الله تعالى.
وكذا المحقق العراقي (قدس سره) ذكر هنا الفرق بين تحقق الامتثال بصرف وجود
متعلق الأمر، بخلاف النهي؛ حيث إنه لابد فيه من ترك جميع وجودات متعلقه في
مقام امتثال، مع أن متعلق الأمر بنفسه هو متعلق النهي (3). ونحن نذكرها - إن شاء الله
تعالى - في مبحث النواهي، فارتقب حتى حين.

1 - كفاية الأصول: 102.
2 - يأتي في الصفحة 296.
3 - بدائع الأفكار 1: 255.
262

الجهة السابعة
في الفور والتراخي (1)
الكلام في دلالة الأمر على الفور أو التراخي هو الكلام في دلالته على المرة
أو التكرار، وقد عرفت: أنه لا دلالة للفظ الأمر - بمادته وهيئته - عليهما.
وحاصله: أن مادة الأمر لا تدل إلا على نفس الطبيعة، والهيئة لا تدل إلا على
الإغراء والبعث، أو طلب الوجود أو الإيجاد؛ فالفور والتراخي، بل كل قيد - من
زمان أو مكان أو غيرهما - خارجة عن دلالة الأمر بمادته وهيئته. وهذا واضح لا
سترة فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه هناك.
ولكن شيخنا العلامة الحائري (قدس سره) فتح في أخريات عمره الشريف بابا
لاستفادة الفورية من الأمر، من دون أن يكون ذلك بدلالة اللفظ، بل يرى أن ذلك
من مقتضيات تعلق الأمر بالمتعلق عرفا أو عقلا.
ولأجل ذلك تغير بعض فتاويه؛ فإنه كان سابقا يقول بالواسعة في قضاء
الفوائت، فعدل منها إلى القول بالمضايقة.
وكان قائلا بالتوصلية في دوران الأمر بينها وبين التعبدية، فعدل عنها وقال
بالتعبدية، كما أشرنا إليه في مبحث التعبدي والتوصلي (2)، إلى غير ذلك.
وكان السر في ذلك: مقايسة الأوامر بالعلل التكوينية في اقتضائها عدم
انفكاك معاليلها عنها؛ فكما أن المعلول غير منفك عن علته في العلل التكوينية،
فكذلك الأمر في المعاليل الشرعية؛ فيجب المسارعة إلى الإتيان بقضاء الفوائت
مثلا.

1 - تاريخ شروع البحث يوم الاثنين 24 / ربيع الأول 1379 ه‍. ق.
2 - تقدم في الصفحة 206.
263

وبالجملة: فكما أن العلة التكوينية لا تنفك عن معلولها في الخارج، فكذلك
العلة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج. فلا يصح التمسك
بإطلاق الأمر للتراخي، ولا التمسك بالبراءة العقلية لنفي الفورية (1).

1 - هذا حاصل ما أفاده سماحة الأستاذ - دام ظله - في مقال أستاده العلامة الحائري (قدس سره).
ولكن حيث إن ما ذكره العلامة الحائري (قدس سره) في قضاء الفوائت من " كتاب الصلاة " لا تخلو عن فوائد،
ومتعرض لبعض مطالب أخرى أحببنا إيراد نص ما ذكره هنا؛ حتى تكون على بصيرة من مقاله:
قال (قدس سره): إن الأمر المتعلق بموضوع خاص غير مقيد بزمان، وإن لم يكن مدلوله اللفظي ظاهرا في
الفورية، ولا في التراخي. ولكن لا يمكن التمسك به للتراخي بواسطة الإطلاق، ولا التمسك
بالبراءة العقلية لنفي الفورية.
لأنه يمكن أن يقال: بأن الفورية وإن كانت غير ملحوظة للآمر قيدا للعمل إلا أنها من لوازم الأمر
المتعلق به؛ فإن الأمر تحريك إلى العمل، وعلة تشريعية، وكما أن العلة التكوينية لا تنفك عن
معلولها في الخارج، كذلك العلة التشريعية تقتضي عدم انفكاكها عن معلولها في الخارج، وإن لم
يلاحظ الآمر ترتبه على العلة في الخارج قيدا.
وهذا نظير ما اخترناه أخيرا في باب تداخل الأسباب: أن الأصل عدم التداخل؛ فإن السببين وإن كانا
واردين على الطبيعة الواحدة لكن مقتضى تأثير كل واحد منهما أن يوجد وجود خاص مستندا
إليه.
كما أن مقتضى سببية النار لإحراق ما تماسه تحقق الاحتراق المخصوص المستند إلى النار. وإن تعدد
النار المماسة لجسم آخر - مثلا - يتحقق احتراق آخر مستند إلى النار الأخرى، وإن كان هذان
الوصفان - أعني الاستناد إليها، وكون الاحتراق الثاني احتراقا آخر - غير مستندين إلى تأثير
السبب [1]، انتهى. [المقرر حفظه الله].
[1] الصلاة، المحقق الحائري: 573.
264

وفيه: أنه لا وجه لمقايسة العلل التشريعية بالعلل التكوينية؛ بداهة أنه لا
يعقل الانفكاك في العلل التكوينية بين العلة ومعلولها خارجا، وتخلل بينهما؛ حيث
يقال وجدت العلة؛ فوجدت المعلول ليست تخللا زمانيا بعدية زمانية. بل إشارة إلى
اختلاف رتبتهما وبيان أن المعلول وجد بوجود العلة، ومستند وجوده هو وجودها.
وأما العلل التشريعية فلم تكن شأنها كذلك، بل لا يعقل عدم الانفكاك بين
العلة التشريعية ومعلولها؛ وذلك لأن الأمر الذي هو بعث إلى العمل وعلة تشريعية له
إذا توجه نحو المكلف فلابد له أولا من أن يتصوره، ثم يصدق بفائدته، فيشتاق إليه
أحيانا، فيريده، ثم ينبعث عنه.
فتحصل الانفكاك قهرا بين العلة التشريعي ومعلولها زمانا؛ فلا معنى لمقايسة
العلل التشريعية بالعلل التكوينية.
فإن أراد (قدس سره) بعدم الانفكاك معنى أوسع من ذلك - وهو عدم الانفكاك العرفي
- فيكون المراد بالفورية الفورية العرفية والعقلائية، فلا طريق إلى مقايسة العلة
التشريعي بالعلة التكويني، بل لابد له من إتيانه بالتبادر ونحوه.
مضافا إلى أنه قامت البرهان في العلل التكوينية على امتناع التفكيك بين
العلة ومعلولها.
وأما فيما نحن فيه: فمضافا إلى أنه لم يقم البرهان على ذلك، ثبت خلافه؛
وذلك لأنه قد يتعلق الأمر بنفس الطبيعة مجردة عن الفور والتراخي؛ فالمكلف مخير
بين إثباته فورا أو متراخيا، وقد يتعلق بالطبيعة متقيدة بواحدة منهما. ولا تجد في
ذلك استحالة أصلا.
فالحقيق لمن يريد مقايسة الإيجاب والوجوب بالعلل التكوينية من حيث
عدم تخلف العلة عن مقتضاها هو أن يقول: إن الإيجاب إذا تعلق بأي موضوع على
أي نحو
265

كان يتعلق الوجوب به لا بغيره؛ فإذا تعلق الأمر بنفس الطبيعة لا يمكن أن
يدعو إلى أمر زائد عنها؛ من زمان خاص أو غيره.
فوزان الزمان وزان المكان، وكلاهما كسائر القيود العرضية لا يمكن أن
يتكفل الأمر المتعلق بنفس الطبيعة إثبات واحد منها؛ لفقد الوضع والدلالة وانتفاء
التشابه بين التكوين والتشريع.
فتحصل مما ذكرنا: أن هيئة الأمر لا يكاد تدعو وتنحدر إلا إلى متعلقه،
ومتعلقه ليس إلا نفس الطبيعة فهي مبعوثة إليها ليس إلا، فالفور والتراخي كسائر
القيود خارجة عن حريم دلالة لفظ الأمر.
ذكر وإرشاد
ربما يستدل لوجوب إتيان الواجبات فورا ببعض الآيات، كقوله تعالى:
(فاستبقوا الخيرات) (1)، وقوله عز من قائل: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (2).
تقريب الاستدلال: هو أنه دلت الآيتان على لزوم الاستباق إلى الخيرات
والمسارعة إلى مغفرة الرب تعالى.
وواضح: أن متعلقات الأوامر خيرات محضة؛ فيجب الاستباق إليها.
ومن المعلوم: أن المسارعة إلى فعل الغير لا معنى له؛ لأن المغفرة هي فعله
تعالى؛ فالمراد بلزوم المسارعة إليها المسارعة إلى سببها والطريق إليها ونحوها،
وهي فعل الواجب.

1 - البقرة (2): 148.
2 - آل عمران (3): 133.
266

فدلت الآيتان على لزوم الاستباق والمسارعة إلى فعل الواجبات، التي هي
خيرات وأسباب وطرق إلى المغفرة.
ولا يخفى: أنه لو تمت الاستدلال بهما يكونا دليلين شرعيين على لزوم
الفورية في الواجبات الشرعية، فلا تصح استفادة فورية كل واجب وإن لم يكن
شرعيا. وكذا تثبتان الفورية العرفية لا العقلية؛ لأن المستفاد منهما - على تقدير
تمامية الدلالة - هو أنه إذا تعلق أمر شرعي بشيء ولم يكن هناك قرينة على
التراخي لا يجوز التساهل عنه، بل يجب إتيانه فورا.
والذي يسهل الخطب: عدم تمامية الاستدلال بالآيتين لفورية الإتيان
بالواجبات:
أما آية الاستباق: فإن الظاهر من مادة الاستباق إلى أمر هو تسابق
الأشخاص والأفراد بعضهم على بعض على إتيانه وتقدم أحدهم على الآخر في
الوصول إليه، مع معرضيته لهم بحيث لو لم يسبق أحدهم إليه لفات منه بإتيان غيره،
لا مبادرة شخص على عمل الخير، مع قطع النظر عن كونه مورد المسابقة بين
أقرانه.
فإن كان - مع ذلك - في قلبك مما ذكرنا ريب فلاحظ موارد استعمالات مادة
الاستباق، كقوله تعالى حكاية عن يوسف - على نبينا وآله وعليه السلام - وزليخا:
(فاستبقا الباب) (1)، وما يقال في كتب المقاتل: " تسابق القوم على نهب بيوت آل
الرسول " (2)؛ خصوصا كتاب السبق والرماية، فترتفع غائلة الشك والشبهة عن قلبك
بعونه تعالى وقوته.
فإذن: يعنى قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) هو تسابق المكلفين بعضهم
على بعض، وتقدم بعضهم على الآخر في إتيان خيرات، لو لم يسبق كل واحد منهم

1 - يوسف (12): 25.
2 - الملهوف على قتلى الطفوف: 180.
267

إليها لفاتت منه بإتيان غيره، وذلك مثل الواجبات الكفائية. فلا يمكن استفادة
وجوب إتيان مطلق الواجب الشرعي فورا من هذه الآية المباركة.
إن قلت: على هذا يلزم تخصيص الخيرات بالخيرات التي موردا للمسابقة -
كالواجبات الكفائية - مع أن ظاهر الخيرات أعم منها ومن الواجبات التي لم تكن
موردا للمسابقة، كالواجبات العينية.
قلت: محذورية ذلك إنما هي إذا لم تكن هناك قرينة على التخصيص، ومادة
الاستباق قرينة على التخصيص.
ولو سلم ارتكاب خلاف الظاهر، ولكن ارتكاب هذا الخلاف أهون من رفع
اليد عن ظاهر مادة الاستباق.
وبالجملة: يدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر مادة الاستباق وإبقاء الخيرات
على ظاهرها، وبين إبقاء مادة الاستباق على ظاهرها والتصرف في الخيرات
واختصاصها بواجبات تكون لها معرضية للاستباق. والتصرف في الخيرات أهون
بحسب الظهور العرفي من التصرف في مادة الاستباق، كما لا يخفى.
وإن أنكرتم ظهور مادة الاستباق فيما ذكرنا، ولكن لا يمكن تحكيم ظهور
الخيرات عليه. فعلى هذا: تكون الآية المباركة مجملة لا يصح الاستدلال بها للزوم
إتيان كل خير واجب فورا، فتدبر.
هذا كله في آية الاستباق.
وأما آية المسارعة؛ فلأن أصل باب المفاعلة أن يقع بين شخصين يفعل
أحدهما بالآخر ما يفعل الآخر به. فإن كانت كلمة " سارعوا " في الآية المباركة
باقية على أصلها فالكلام فيها الكلام في آية الاستباق.
وإن لم تكن باقية على أصلها فنقول: لم يكن للمغفرة فيها عموم وإطلاق
بلحاظ توصيفها بالنكرة، بل المراد منها المغفرة الخاصة؛ من كونها
268

كلمة الشهادتين أو التوبة أو أداء الفرائض أو غيرها؛ فلا يصح استفادة لزوم
إتيان مطلق الواجبات فورا، كما لا يخفى.
ويؤيد ما ذكرنا: اختلاف المفسرين في معنى المغفرة؛ حيث احتملوا أن
يكون المراد بالمغفرة كلمة الشهادتين، أو أداء الفرائض كما روي عن أمير
المؤمنين (عليه السلام)، أو خصوص الصلوات الخمس، أو التكبير الأول من الجماعة، أو
الصف الأول منها، أو التوبة، أو الاستغفار، أو الجهاد، أو الإخلاص، أو الهجرة قبل
فتح مكة، أو متابعة الوصول، أو أداء الطاعات (1).
فإن التردد والاختلاف شاهدا صدق على عدم استفادة العموم من المغفرة،
وإلا لما كان وجه لمقابلة بعض هذه المعاني لبعض، كما لا يخفى.
ولا يخفى: أنه على تمامية دلالة الآيتين لم تكن الفورية مدلولة عليه
ومستفادة من لفظ الأمر، بل من دليل خارجي.
ولو سلم تمامية الدلالة: يتوجه عليه إشكال القوم؛ من أنه لا يكون لنا واجب
يلزم إطاعته فورا، ولو كان فإنما هو أقل قليل، كصلاة الزلزلة وصلاة الكسوفين في
بعض الأحيان، مع أن لزوم الفورية فيها بدليل خارجي.
أضف إلى ما ذكرنا: أن الخيرات تعم المستحبات؛ فيلزم تخصيص الأكثر.
فيدور الأمر بين ذلك وبين أن يكون مراده تعالى في الآية المباركة إفادة
حكم إرشادي أن ترك الخيرات في أوائل أوقاتها والإهمال بها في أول زمان تعلق
التكليف بها يوجب خسارات وضايعات؛ فربما يقضي إلى ترك الواجب.
وواضح: أن الأخير أولى، بل ارتكاب تخصيص الأكثر مرجوح، فتدبر.

1 - مجمع البيان 2: 836 و 9: 361 والتفسير الكبير 9: 4 - 5.
269

ذكر وتعقيب
استند المحقق العراقي (قدس سره) بوجه عقلي لعدم دلالة آية الاستباق للزوم
الفورية.
وحاصله: أن مفهوم الاستباق إلى فعل الخيرات يقتضي وجود عدد من
الخيرات يتحقق الاستباق بفعل مقدار منه، وينتفي في المقدار الآخر، مع كون
المقدار الباقي من الخيرات.
فإذن: تكون هناك صنفين من الخيرات: أحدهما في الصنف المتقدم؛ وهي
الخيرات التي تحقق بها الاستباق، والثاني ما وقعت في الصنف المتأخر. والثاني
مزاحم للأول؛ فيسقط موضوع الاستباق. فالمزاحمة تنفي خيريته؛ فحينئذ: يلزم
عدم وجوب الاستباق في المقدار الذي كان الاستباق يتحقق فيه، فإذا انتفى الوجوب
عن الاستباق انتفت المزاحمة بين إعداد الواجب الموجبة لخروج بعضها عن حيثية
الوجوب، فيتعلق بها الوجوب جميعا، وبه يعود موضوع المسارعة.
وبالجملة: يلزم من وجوب المسارعة في الخيرات عدم وجوبها، وما يلزم
من وجوده عدمه فهو باطل؛ فوجوب المسارعة باطل لا محالة، وحينئذ لابد من
حمل الأمر فيها على الندب (1).
وفيه: أن الظاهر أن مراد هذا المحقق (قدس سره) من الاستباق إلى عدد الخيرات
الاستباق إلى أفراد طبيعة واحدة لا أنواع الخيرات، ولم يقل به أحد.
ولا يخفى: أن مفهوم المسابقة - كما أشرنا - يستلزم أن تكون المسابقين
متعددا، وأما كون المسابق إليه متعددا فلا؛ فيمكن أن تكون المسابقة والاستباق إلى
أمر واحد. مثلا يصح أن يقال: سابقوا على قتل زيد، والقتل أمر واحد.

1 - بدائع الأفكار 1: 252.
270

ولا يصح أن يطلقا إذا كان المسابق إليه والمسارع إليه متعددا، وفاعل الاستباق
والمسارعة واحدا.
وبالجملة: المسابقة والاستباق يكون بين الفاعلين نحو شئ - واحدا كان ذلك
الشيء أو متعددا - والأكثر كونه واحدا، كما في قوله تعالى: (فاستبقا الباب) (1)
و " تسابقوا على قتل زيد "، " وتسابقوا على نهب بيوت آل الرسول "، إلى غير ذلك
من موارد الاستعمالات.
وإن كان - مع ذلك - في خواطرك ريب فلاحظ باب السبق والرماية، فيزول
عن خواطرك الريب؛ فيتضح لك الأمر جليا.
فإذن: المراد بالسابق إليه في الآية المباركة سنخ خير يريد المكلفون النيل
إليه، ويكون موردا لمسابقتهم.
فظهر مما ذكرنا: أن قوله (قدس سره) إن مفهوم الاستباق يقتضي وجود عدد من
الخيرات لا وجه له، هذا أولا.
وثانيا: أن الأوامر - كما حقق في محله - متعلقة بالطبائع لا الأفراد، فإذا
أوجد المكلف فردا من الطبيعة فقد حصلت الطبيعة المأمور بها، فلم يكن إتيان
جميع أفراد كل خير مطلوبة؛ فحينئذ لا معنى للمزاحمة.
وثالثا: أن مجرد السقوط بالمزاحمة لا يخرج الشيء عن الخيرية بعد إحراز
خيريته بتوسط الأمر المتعلق به؛ لأن التزاحم إنما هو في عدم القدرة على امتثال
كليهما؛ فإن كان أحدهما أهم يجب صرف القدرة عليه، وإن كانا متساويين يتخير
في الأخذ بأيهما شاء.
وبعد الأخذ بأحدهما سقط الأمر المتعلق بالآخر على زعمهم. ولكن نحن لا
نقول بالسقوط بالمزاحمة، كما سيمر بك إن شاء الله تعالى.

1 - يوسف (12): 25.
271

والأمر الساقط بالمزاحمة لا يوجب سقوط متعلقه عن الخيرية عندهم،
لاحظ مبحث الترتب.
ورابعا: لو سلم السقوط بالمزاحمة، لكنه إنما يتم فيما إذا كان المطلوب
واحدا، وأن إتيان الفعل في أول وقته مطلوبا واحدا؛ بحيث لو أخر لسقط عن
الخيرية. وأما إذا تعدد المطلوب فإن كان أصل وجوده مطلوبا والإتيان به في أول
وقته مطلوبا آخر فلا يستلزم المزاحمة خروجه عن الفردية.
تذييل: فيما يترتب على القول بالفور
ثم إنه لو قلنا باستفادة الفورية من الأمر فهل يستفاد منه أنه إذا لم يأت
بالمأمور به فورا فهل يجب إتيانه فورا ففورا، أم لا؟ وجهان.
قد يمثل للواجب الذي إذا لم يأت به فورا يجب إتيانه في ثاني الزمان وثالثها
وهكذا بصلاة الآيات في مورد الزلزلة.
لا وجه لإثبات الفورية من ناحية هيئة الأمر ومادته؛ بأن يكون لفظ الأمر
بمادته أو هيئته أو مجموعهما دالة بالدلالة اللفظية على لزوم إتيان المأمور به فورا،
ولو تركه في أول الوقت فيجب إتيانه في ثاني الزمان، وهكذا.
ولا أظن قائلا بذلك، فلو وجب كذلك فإنما هو من الخارج ومن غير ناحية
لفظ الأمر؛ إما من ناحية مقايسة العلل الشرعية بالعلل - كما ذهب إليه شيخنا
العلامة الحائري (قدس سره) كما أشرنا (1) - أو من ناحيتي آيتي الاستباق والمسارعة
ونحوهما.
أما حديث المقايسة: فلو تمت فغاية ما تقتضيها هي أنه كما يمتنع الانفكاك
بين

1 - تقدم في الصفحة 263.
272

العلل التكوينية ومعاليلها، فكذلك في العلل التشريعية، فيجب إتيان المأمور
به فورا. وأما إذا لم يأت به فورا وتخلف المعلول عن علته فلا يمكن أن يستفاد
وجوب إتيانه في ثاني الزمان وهكذا، كما لا يخفى.
وأما لو استفيدت الفورية من الآيتين ونحوهما - على تقدير تمامية الدلالة
على لزوم إتيان المأمور به فورا - فنقول: إما أن يحرز تقييد هذه الأدلة الأدلة الأولية
من وجوب الصلاة والحج ونحوهما، أو مجرد عدم تقييدها للأدلة الأولية، وغاية ما
في الباب هي أنها بصدد بيان المطلوب الأعلى والآكد. أو لم يحرز شئ منهما.
وعلى أي تقدير: إما يكون للأدلة الأولية إطلاق، أم لا.
فإن أحرز كون الفورية قيدا للأدلة الأولية - سواء كان لها إطلاق أم لا - فلا
يمكن استفادة لزوم إتيانها فورا بعد أن تركها في أول الأوقات، بل لا يكون مطلوبا
في ثاني الأوقات وثالثها وهكذا.
وإن أحرز عدم كون الفورية قيدا لها، أو شككنا في التقييد فإن كان للأدلة
الأولية إطلاق فيؤخذ به ويرفع الشك بسببه. ومقتضاه لزوم الإتيان بالمأمور به فورا
ففورا.
وذلك لأنه بمقتضى أصالة الإطلاق تكون ذات الصلاة - مثلا - موضوعة
للحكم وخيرا في عمود الزمان، ولم تكن خيريتها مخصوصة بأول الوقت. وهذه
الأدلة دلت على لزوم إتيان الخير وسبب المغفرة فورا؛ فيلزم الإتيان بالمأمور به في
ثاني الوقت، ولو ترك ففي ثالث الوقت، وهكذا.
وأما إن لم تكن للأدلة الأولية إطلاق، وشك في التقييد فلم يكن هناك محلا
لأصالة الإطلاق. ولكن الاستصحاب جار ومنقح لموضوع الدليل الاجتهادي.
مثلا: إذا قال الآمر: " أكرم العالم " ولم يكن له إطلاق يؤخذ به في صورة
الشك في بقاء علمه، فيستصحب بقاء علمه. ومقتضاه تنقيح موضوع قوله: " أكرم
العالم ".
273

وفيما نحن فيه أيضا كذلك؛ لأن قوله: " صل " تعلق بإيجاد طبيعة الصلاة،
والمفروض: أنه لم يكن له إطلاق. وآيتي الاستباق والمسارعة وغيرهما دلت على
لزوم إتيانها في أول الوقت، وشك في كونه قيدا لذلك؛ فيقال: الصلاة كانت خيرا في
أول وقتها، وبعد التخلف عن إتيانها فورا لو شك في خيريته فيستصحب الخيرية.
وبجريان هذا الاستصحاب ينقح موضوع الدليل الاجتهادي؛ وهو قوله تعالى:
(فاستبقوا الخيرات) (1) مثلا؛ فيجب إتيانها فورا ففورا، فتدبر واغتنم.

1 - البقرة (2): 148.
274

الفصل الثالث
في مسألة الإجزاء (1)
هذه المسألة من المسائل المهمة، ويتفرع عليها فوائد كثيرة مهمة نافعة، فلابد
من تنقيح مجراها وتبيين مغزاها، فلابد قبل الشروع فيها والخوض في النقض
والإبرام فيما هو محل الكلام من تقديم أمور:
الأمر الأول: في عقد عنوان المسألة
اختلفت كلماتهم في تحرير عنوان المسألة:
فقد يعنون - كما في " الفصول " - بأن الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء إذا
أتى به المأمور على وجهه، أو لا (2)؟
وقد يعنون - كما هو المعروف بين المشايخ المتأخرين - أن الإتيان بالمأمور
به على وجهه هل يقتضي الإجزاء، أم لا؟
ويظهر من بعضهم: أنه إن عبر عن عنوان المسألة بالعبارة الأولى يكون

1 - كان تاريخ شروع البحث 14 ربيع الأول 1379 ه‍. ق.
2 - الفصول الغروية 116 / السطر 9.
275

البحث عن مسألة الإجزاء لفظية وفي دلالة لفظ الأمر على الإجزاء - إما
بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام - أولا. وربما يؤيد لفظية البحث عقد مسألة الإجزاء
في مباحث الألفاظ.
وأما إن عبر عن عنوان المسألة بالعبارة الثانية تكون مسألة الإجزاء من
المسائل العقلية، وأن إتيان المأمور به هل يكون مقتضى وعلة للإجزاء وسقوط
التكليف، أم لا؟ (1)
وفيه: أنه لا وجه لعد البحث من مباحث الألفاظ، ومن دلالة اللفظ بمجرد
التعبير عنه بالعبارة الأولى، ولا أظن أن يتوهمه أحد؛ وذلك لأن دلالة اللفظ لابد
وأن تكون إما بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام، ولم تدل شئ من ذلك:
أما عدم دلالته بالمطابقة أو التضمن فواضحة؛ لعدم دلالة الأمر بمادته وهيئته
على ما ذكر في عنوان البحث بطوله بحيث يكون هذا المعنى عين مدلولها أو
جزئها.
وأما عدم دلالتها بالالتزام فكذلك؛ فلأن عد دلالة اللفظ على لازمه من
دلالة اللفظ - مع أنها حكم العقل ومن دلالة المعنى على المعنى - بلحاظ أنه مهما
تصور اللفظ يفقد لازمه في الذهن بلا مهلة ولا تراخي في ذلك فكأن اللفظ دل
عليه؛ ولذلك اشترطوا في دلالة الالتزام كون اللازم بينا بالمعنى الأخص، ومعناه هو
الجزم باللزوم بمجرد تصور الملزوم.
وهل ترى من نفسك أن لفظ الأمر دال على أن الإتيان به على وجهه يقتضي
الإجزاء باللزوم البين بالمعنى الذي ذكره؟! ولو كان لزوما كذلك لما كان محلا
للنزاع. وهل يرضى أحد أن ينسب إلى أكابر الفن وعظمائهم القائلين بالإجزاء أنهم
يقولون:

1 - لاحظ بدائع الأفكار 1: 261.
276

إن لفظ الأمر يدل - دلالة التزامية بينة - على أنه لو أتى بمتعلقه على وجهه
يقتضي الإجزاء؟! حاشاك!
نعم، لو كان القائل بالإجزاء فردا أو أفرادا، أو كان الإجزاء وجها في المسألة
فلعله يمكن أن يقال ذلك، وقد ذهب جمع غفير من الأعاظم إلى الإجزاء، بل قيل
إنه المشهور بينهم (1)، هذا.
مضافا إلى أن صاحب " الفصول " (قدس سره) - الذي عبر عن عنوان البحث ب‍ " أن
الأمر بالشيء إذا أتى به على وجهه... " إلى آخره - لم يذكر شيئا يستفاد منه أن ذلك
بالدلالة اللفظية، بل ذكر وجهين عقليين في المسألة:
الأول: أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزم عدم فوات المصلحة
المقصودة بإتيانه، فاستدراكها بالقضاء تحصيل للحاصل.
والثاني: أنه لو لم يستلزم سقوطه لم يعلم امتثال أبدا، والثاني باطل بالضرورة
والاتفاق (2).
نقل وتعقيب
قال المحقق العراقي (قدس سره): الإنصاف أن مسألة الإجزاء ليست من المسائل
الأصولية العقلية؛ ضرورة أنه لا مجال للنزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر
الواقعي عن إعادته؛ لأن الإجزاء المزبور وإن كان عقليا إلا أنه من ضروريات
العقلاء ثبوتا تقريبا، ومعه لا يبقى مجال للنزاع.
وأما النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به

1 - مفاتيح الأصول: 126 / السطر 6، الفصول الغروية: 116 / السطر 22.
2 - الفصول الغروية: 117 / السطر 15 و 36.
277

بالأمر الواقعي الاختياري فهو بحث؛ إما في حكومة بعض الأدلة على بعض،
أو في تقييد بعض الأدلة لبعضها الآخر، أو في غير ذلك من أنحاء التصرف في الأدلة
الاجتهادية. وأما في دلالة أدلة الأحكام الاضطرارية على كون مصالحها تفي عن
مصالح الأحكام الواقعية الاختيارية أو لا تفي، ومع دلالتها على وفاء مصالح
الأحكام الاضطرارية بمصالح الأحكام الاختيارية ينتهي الأمر إلى القضية المسلمة
التي لا نزاع فيها؛ وهي أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي أو بما يقوم مقامه،
يكون مجزيا.
وأما النزاع في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به
بالأمر الواقعي، فهو في الحقيقة نزاع في دلالة دليل الحكم الظاهري - سواء كان
أصلا أم أمارة - على اشتمال ذلك الحكم على مصلحة تفي بمصلحة الحكم الواقعي،
أو لا تبقى مجالا لاستيفاء ما بقي من مصلحة الحكم الواقعي لو لم تف بها.
وعلى كل من أنحاء النزاع المزبورة لا تكون مسألة الإجزاء مسألة عقلية، بل
أصولية لفظية، وإن كانت في الأوامر الاضطرارية - على ما بينا - أشبه شئ
بالمسألة الفقهية، انتهى (1).
وفيه: على مقاله (قدس سره) يكون النزاع في مسألة الإجزاء لفظية لابد وأن يكون
لبيان أحد أمرين: إما بيان ما هو محل النزاع بين القوم، أو بيان ما ينبغي البحث فيه،
وإن لم يبحثوا فيه.
فإن أراد بقوله: الإنصاف... أن نزاع القوم في مسألة الإجزاء يرجع إلى البحث
اللفظي.
ففيه: أن من لاحظ " الفصول " يرى أن صاحب " الفصول " (قدس سره) حكى عن
الأكثرين أنهم تمسكوا لإجزاء الإتيان بالمأمور به على وجهه عن الأمر الواقعي
بوجهين عقليين؛ وهما اللذان أشرنا إليهما آنفا، ولم يكن في ذلك من دلالة اللفظ
عين

1 - بدائع الأفكار 1: 261.
278

ولا أثر. فنزاعهم في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يجزي عن إعادته
وإتيانه ثانيا.
هذا بالنسبة إلى الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي. وأما إجزاء الإتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي
الاختياري، فكلام حادث بين المتأخرين بعدما لم يكن له في كلمات القدماء عين
ولا أثر، فكيف يصح أن يقال: إن محل نزاعهم في أمر لفظي؟!
فعلى هذا: لا يمكن استناد كون البحث في مسألة الإجزاء بحثا لفظيا إلى
القوم، بل الذي يصح استناده إليهم كون نزاعهم في أمر عقلي كما لا يخفى، فتدبر.
وإن أراد بقوله ذلك: أن الذي ينبغي أن جمع النزاع فيه هو ذلك، ففي مقاله
مواقع للنظر:
منها: في التفرقة التي ذكرها في الإجزاء بالمأمور به بالأمر الاضطراري
والمأمور به بالأمر الظاهري، حيث ذكر وجهين لإجزاء المأمور به بالأمر
الاضطراري: أحدهما التصرف في الدليل الاجتهادي والأمر الواقعي الاختياري،
والثاني في دلالة الدليل الاضطراري على وفائه لمصلحة الحكم الواقعي الاختياري.
ولم يذكر في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري إلا الوجه الثاني، مع أنه يجري فيه
الوجهان، فيمكن أن يقال: إن الدليل الظاهري منقح لموضوع دليل الاجتهادي
ومقيدة له.
وبالجملة: لا وجه لذكر وجهين للإجزاء في المأمور به بالأمر الاضطراري
وذكر وجه واحد لإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري، فتدبر.
ومنها: أن دلالة الدليل على كون متعلقه مشتملا على تمام المصلحة أو جلها
لا تكون بدلالة لفظية - حتى الالتزامي منها - بداهة أنه لو كان كذلك لما كان وجه
لنزاع الأشاعرة والمعتزلة في ذلك - أي في اللزوم البين بالمعنى الأخص - وهل
يعقل
279

أن يكون نزاع الطائفتين في أمر بديهي، وفي دلالة الأمر - دلالة التزامية -
على وجود المصلحة في متعلقه وعدمه؟! بل نزاعهم في ذلك إنما هو في مسألة
عقلية كلامية حسب ما قرر في محله (1)، فراجع.
فعلى هذا: لابد وأن يكون النزاع في اشتمال المأمور به بالأمر الاضطراري
أو الظاهري على مصلحة متعلق الحكم الواقعي في أمرين: أحدهما أصل اشتمال
متعلقهما على المصلحة، وهو الذي كانت معركة الآراء بين الأشاعرة والمعتزلة،
والآخر في وفائهما بالمصلحة الواقعية.
فمرجع البحث في إجزاء الأحكام الاضطرارية والظاهرية وعدمه إلى البحث
في مسألتين عقليتين، فلا يكون النزاع لغويا لفظيا كما توهم، فتدبر.
ومنها: أنه لو سلم أن تحكيم الأدلة الظاهرية بالنسبة إلى الأدلة الواقعية
الاختيارية بلحاظ اشتمالها على المصلحة، وأنه لمصلحة الواقع يكون من دلالة
اللفظ، لكن لا يوجب ذلك كون البحث في مسألة الإجزاء بتمامه لفظيا، بل بعضه
لفظيا وبعضه الآخر عقلي - وهو الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري من حيث
وفائه بالمصلحة الواقعية - فإذن لم يكن البحث في مسألة الإجزاء لفظيا محضا كما
زعم، ولا عقليا صرفا، فتدبر.
ومنها: أن البحث في حكومة الأدلة الاضطرارية بالنسبة إلى الأدلة الواقعية،
وتقيدها إياها لم تكن من دلالة اللفظ، بل هو حكم عرفي عقلائي مقتضى الجمع
العرفي بينهما.
وذلك لأن من قال: " أعتق رقبة " ثم قال: " أعتق رقبة مؤمنة " فكل من
المطلق والمقيد لا يدل على مفاده دلالة لفظية. وأما الدلالة على التقييد فلم يكن من
دلالة اللفظ على المعنى، بل هو مقتضى الجمع العرفي بينهما.

1 - كشف المراد: 302 و 307 و 358، شرح المواقف 8: 261.
280

وبالجملة: إنما يصير البحث لفظيا إذا كان البحث في دلالة اللفظ على معناه،
وواضح أن مسألة الإجزاء لم تكن كذلك، كما أن مسألة اجتماع الأمر والنهي لم
تكن مسألة لفظية - وإن ذكرت في مباحث الألفاظ - بل من المسائل العقلية
الصرفة؛ ولذا يصح النزاع في ذلك، وإن كان كل من الأمر أو النهي بغير اللفظ،
كالإشارة. وكذلك البحث في مقدمة الواجب لم يكن لفظيا، وإن كان قريبا منه، كما
سيجيء فارتقب.
فتحصل مما ذكرنا: أن مسألة الإجزاء لم تكن مسألة لفظية محضة، بل إما
عقلية محضة أو من مباحث الألفاظ على بعض الوجوه، فتدبر.
فالأولى في عقد عنوان مسألة الإجزاء بنحو جامع بين الأقوال أن يقال: " إن
الإتيان بالمأمور به على وجهه مجز، أم لا؟ " يحدان كلمة الاقتضاء، وإطلاق العنوان
يشمل إجزاءه على أمره أو عن أمر غيره. ثم يذكر أدلة القائلين بالإجزاء - من حكم
العقل والعقلاء ودلالة الألفاظ - فيكون هذا نظير ما يقال في مسألة حجية خبر
الواحد بعد عنوان المسألة: بأنه يدل عليها الأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والعقل
والإجماع.
فعلى هذا: تكون مسألة الإجزاء أمرا جامعا بين اللفظية والعقلية، ويحتمل
كليهما، كما كانت مسألة الخبر الواحد محتملة إياها، فتدبر.
281

الأمر الثاني
في تفسير الكلمات المأخوذة في عنوان المسألة
منها: كلمة الاقتضاء
قد ظهر لك مما ذكرنا في الأمر الأول: أن الاقتضاء بمعنى دلالة الأمر بمادته
أو هيئته دلالة لفظية - حتى دلالة التزامية - لا تدل على الإجزاء؛ بأي معنى فرض،
فالمراد به الاقتضاء بنحو العلية والتأثير أو غير ذلك.
ذهب المحقق الخراساني (قدس سره) إلى أن المراد بالاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو
العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة؛ ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة (1).
وقال (قدس سره) في تفسير الإجزاء: إن الإجزاء هنا بمعناه لغة؛ وهو الكفاية، وإن كان
يختلف ما يكفي عنه؛ فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي فيسقط به التعبد
به ثانيا، وبالأمر الاضطراري أو الظاهري الجعلي فسقط به القضاء أو الإعادة، وذلك
لا يوجب اختلافا في معنى الإجزاء (2).
وفيه: أنه (قدس سره) إن أراد بالعلية والتأثير ما هو المعروف بين أرباب المعقول،
ففيه: أن العلية والمعلولية عبارة عن كون موجود مبدأ تأثير لموجود آخر بوجه،
كالنار أو الشمس - مثلا - بالنسبة إلى الإحراق والإشراق، وواضح أن الإجزاء -
سواء فسر بالكفاية، أو أريد منه سقوط الإعادة - لا معنى للعلية والتأثير.

1 - كفاية الأصول 104.
2 - كفاية الأصول 106.
282

وذلك لأنه إن أريد به: الكفاية - كما صرح (قدس سره) بأنها معنى الإجزاء هنا -
فواضح أن الكفاية لم يكن أمرا موجودا في الخارج ليتأثر عن إتيان المأمور به، ولم
يكن إتيان المأمور به في الخارج محدودة مؤثرا فيها، بل هي أمر اعتباري بمعنى
سقوط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه. بل الكفاية عنوان انتزاعي بحكم
العقل والعقلاء منتزع من إتيان المأمور تمام ما أمر به، وواضح أن العلية والمعلولية
لم تكونا في الأمور الاعتبارية، فضلا عن كونهما من الانتزاعيات. ولعله (قدس سره) لم يرد
بالعلية والتأثير ما هو الظاهر من كلامه، بل أراد بهما المعنى المقابل للكشف
والدلالة، فتدبر.
وإن أريد بالإجزاء: سقوط الإعادة في الوقت والقضاء خارجه - وواضح أن
التعبير بالسقوط مسامحي؛ لأن المراد عدم التكليف بالإعادة أو القضاء، كما لا
يخفى - فالمحذور أفحش؛ لأنه مضافا إلى أنه لا معنى للتأثير والتأثر اللذين يكونا
في الأمور التكوينية بالنسبة إلى إتيان المأمور به بلحاظ سقوط الإعادة أو القضاء،
يلزم أن يكون الأمر الوجودي - وهو الإتيان - علة للأمر العدمي، وهو محال في
التكوينيات، فما ظنك هنا؟! فلم يكن الباب باب التأثير والتأثر.
وبالجملة: لا يصح أن يراد بالاقتضاء العلية والتأثير على ما هو المعروف بين
أرباب المعقول؛ لعدم كون إتيان المأمور به في الخارج بحدوده وقيوده مؤثرا في
الإجزاء؛ سواء كان الإجزاء بمعنى الكفاية كما عليه المحقق الخراساني (قدس سره) وقد
عرفت ضعفه أو أريد منه سقوط الأمر بالإعادة أو القضاء؛ لما أشرنا من عدم كون
الإتيان علة مؤثرة في سقوط الأمر، كما أن السقوط والإسقاط ليستا من الأمور
القابلة للتأثير والتأثر.
أو أريد منه سقوط الإرادة، فكذلك بل الأمر فيه أوضح؛ ضرورة أنه لا يصير
إتيان المأمور به علة لانعدام الإرادة وارتفاعها؛ لأن تصور المراد بما أنه الغاية
283

والمقصود والتصديق بفائدته مع مباد آخر علة لانقداح الإرادة في لوح
النفس، والمأمور به بوجوده الخارجي معلول للإرادة، فلا يعقل أن يكون المعلول
بوجوده الخارجي طاردا لوجود علته.
وغاية ما يمكن أن يقال في سقوط الإرادة والأمر عند حصول المراد
والإتيان بالمأمور به، هو الذي اختاره سماحة الأستاذ - دام ظله - في الدورة
السابقة، وحاصله: هو انتهاء أمد الإرادة والأمر بإتيان المأمور به، لا أن لهما بقاء
والإتيان دافع لها ومعدم لهما كما هو قضية العلية.
وذلك لأن الأمر بشيء لابد وأن يكون للوصلة إلى غرض وجهة منظورة وإلا
لم يصح منه الأمر، والأمر طريق ووصلة يتوصل به المولى إلى نجاح غرضه،
وواضح أن غرضه كان محدودا بحد خاص، فإذا أتى العبد المأمور به بتمامه
فيحصل به الغرض، وبعد حصوله يسقط الإرادة ويسقط الأمر بانتهاء أمد الغرض.
وبعبارة أخرى: لا اقتضائية للبقاء، لا أن له بقاء والإتيان بالمأمور به قد رفعها
وأعدمها كما هو الشأن في العلية والمعلولية، هذا.
ولكن عدل عنه - دام ظله - في هذه الدورة، وقال: إنه أيضا لا يخلو عن نظر؛
وذلك لأن الأمر كما لا يدعو إلا إلى متعلقه فكذلك لا يدعو إلى قيد زائد غير ما أخذ
في متعلقه. فإذا أتى العبد بتمام ما أمر به فيحصل الغرض، فتنفذ الإرادة، ولا يوجب
الإتيان شيئان في الأمر اللفظي ولا الكتبي؛ بأن يسقطهما، وهو واضح:
أما في الأمر اللفظي: فلوضوح أنه تدريجي الوجود، ولا يوجد حرف منه إلا
بعد انعدام الحرف السابق، فقبل الإتيان به معدوم، فما ظنك بإتيان المأمور إياه؟!
وأما الكتبي: فالبداهة قاضية بأن الإتيان بالمتعلق لا يسقط المكتوب، فهل
ترى أن الإتيان بالحج - مثلا - يسقط قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من
284

استطاع إليه سبيلا) (1)، بل ولا يوجب الإتيان شيئا في الإرادة؛ بداهة أن
الإتيان فعل المكلف - بالفتح - والإرادة فعل الآمر والمكلف - بالكسر -، فكيف
يسقط العبد إرادة مولاه؟!
فتحصل: أن التعبير بالإسقاط - بأي معنى فرض - لا وجه له، والمراد نفاد
اقتضاء الإرادة بحصول الغرض بمجرد إتيان المأمور به.
وبعبارة أخرى: قصور اقتضاء الأمر والإرادة أزيد من إتيان المأمور به، من
دون أن يكون للإرادة والأمر اقتضاء حتى يسقطه الإتيان.
فعلى ما ذكرنا: فالأولى - رفعا لهذه التشكيكات والتوهمات - حذف كلمة
" الاقتضاء " من البين، وعنوان البحث بأنه " هل الإتيان بالمأمور به على وجهه مجز
أم لا "، فتدبر.
ومنها: حكمة الإجزاء
قال صاحب " الفصول " (قدس سره): إن الإجزاء له معنيان؛ لأنه قد يطلق ويراد به
إسقاط القضاء، والمراد إسقاطه على تقدير ثبوته، وقد يطلق ويراد به إفادة حصول
الامتثال.
ثم قال: إن الكلام هنا يقع في مقامين: الأول أن موافقة الأمر الظاهري هل
يوجب سقوط القضاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي أم لا، والثاني في أن موافقة كل من
الأمرين هل يقتضي سقوط القضاء بالنسبة إليه أم لا (2)؟
وقد تقدم آنفا كلاما عن المحقق الخراساني (قدس سره) في معنى الإجزاء عند
التعرض لكلمة الاقتضاء، فلاحظ.

1 - آل عمران (3): 97.
2 - الفصول الغروية: 116 / السطر 10 و 32.
285

وفيه: أن تفسير الإجزاء بإسقاط القضاء فقط - كما عن العلمين - وجعل
محط البحث في خصوص الإتيان بالمأمور به في الوقت كأنه في غير محله، وربما
أوجب ذلك اشتباه بعض وخلط هذه المسألة بمسألة المرة والتكرار، كما سنشير إليه
قريبا، فارتقب.
وذلك لأنه لا إشكال في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو
الظاهري أعم من إسقاط القضاء والإعادة في الوقت، وقد عنون في الفقه: أن من
كان في أول الوقت فاقدا للماء - مثلا - فتيمم وصلى، ثم بعد الصلاة في الوقت ظفر
بالماء فهل يجزي بالصلاة التي صلاها بالطهارة الترابية، أو يجب إعادتها في الوقت؟
فظهر: أنه لا وجه لاختصاص الإجزاء بسقوط القضاء خارج الوقت فقط،
كما هو ظاهر " الكفاية " وصريح " الفصول " (1)، بل يعم إسقاط الإعادة في الوقت؛
خصوصا في الأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي لو تبدل حاله
في الوقت، فتدبر.
ومنها: كلمة " على وجهه "
يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره): أن قيد " على وجهه " لإدخال القيود التي
يعتبرها العقل، ولا يمكن أخذها شرعا، كقصد القربة على مذهبه، حيث ذهب إلى
عدم إمكان أخذه في المأمور به، ولكنه معتبر عقلا (2).

1 - كفاية الأصول: 106.
2 - قلت: لاحظ " الفصول الغروية " "، لعلك تجد غير ما استظهره سماحة الأستاد - دام ظله - ولعل ما
استظهره مقتبس من خلاصة " الفصول "، فتدبر. [المقرر حفظه الله].
3 - كفاية الأصول: 105.
286

وفيه: أن مسألة عدم إمكان أخذ ما يأتي من قبل الآمر في متعلقه حدثت من
زمن شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره)، وزيادة كلمة " على وجهه " في عنوان المسألة
سابقة عليه؛ فلم تكن الزيادة في العنوان لشمول قصد القربة ونحوها مما لا يمكن
أخذها في المأمور به، بل المراد كل ما يعتبر في المأمور به وله دخل في حصول
الغرض؛ سواء دل عليه دليل من العقل أو من الشرع (1).

1 - قلت: قد سبق الأستاد - دام ظله - سماحة أستادنا الأعظم البروجردي - دام ظله - إلى قرينة اعتبار
قيد " على وجهه في عنوان المسألة، وقال على ما في تقرير بحثه: ولعل ازدياده إنما هو لرد عبد
الجبار قاضي القضاة في الري من قبل الديالمة، حيث استشكل على الإجزاء بما إذا صلى مع
الطهارة المستصحبة ثم انكشف كونه محدثا، بأن صلاته باطلة غير مجزية مع امتثال الأمر
الاستصحابي.
ووجه رده بذلك: أن المأمور به في المفروض لم يؤت به على وجهه من جهة أن الطهارة الحدثية
بوجودها الواقعي شرط [1].
والإنصاف أن إشكال العلمين - دام ظلهما - غير وارد على المحقق الخراساني (قدس سره)، وما أفاداه مناقشة
في المثال.
وإليك نص ما في " الكفاية ": الظاهر أن المراد من " وجهه " في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى
به على ذلك النهج شرعا وعقلا، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية
المعتبرة في المأمور به شرعا [2].
[1] نهاية الأصول: 125.
[2] كفاية الأصول: 105.
287

الأمر الثالث: في فارق المسألة عن المرة أو التكرار، وتبعية القضاء للأداء
ربما يتوهم وحدة مسألة الإجزاء أو عدمه مع مسألة دلالة الأمر على المرة
أو التكرار؛ لأن القول بعدم الإجزاء عبارة عن وجوب إتيان المأمور به ثانيا، وهو
القول بدلالة الأمر على التكرار. كما أن لازم القول بالإجزاء عدم وجوب إتيانه
ثانيا، وهو مقتضى القول بدلالة الأمر على المرة، فالمسألتان ترتضعان من ثدي
واحد.
ولكن الذي يقتضيه التأمل عدم اتحاد المسألتين؛ خصوصا فيما هو المهم في
مسألة الإجزاء؛ من إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن
المأمور به بالأمر الواقعي، كما لا يخفى.
نعم، يمكن أن يقال بمشابهة المسألتين فيما لم يكن محطا للبحث، بل كان
البحث فيه تطفليا؛ وهو كون الإتيان بكل من المأمور به بالأمر الواقعي أو
الاضطراري أو الظاهري هل مسقط ومجز عن أمر نفسه، أم لا؟ لأنه إن قيل بسقوط
أمره يشبه القول بدلالة الأمر على المرة، كما أنه لو قبل بعدم الإجزاء يشبه القول
بدلالته على التكرار.
ولكن لو كان بين المسألتين شباهة من وجه وجهه، إلا أن الفرق بينهما
أوضح من أن يخفى؛ وذلك لأن البحث في مسألة المرة والتكرار في دلالة لفظ
الأمر، وأما في مسألة الإجزاء فلم يكن في دلالة اللفظ، بل في أمر عقلي كما لا
يخفى، هذا أولا.
وثانيا: أنه لو سلم كون النزاع في المسألتين في دلالة اللفظ، ولكن دلالة
اللفظ في مسألة المرة والتكرار في أنه هل يدل لفظ الأمر على إتيان المأمور به
288

مرة أو أزيد، أو لا يدل على شئ منهما، وأما في مسألة الإجزاء ففي أنه هل
يدل الأمر - دلالة لفظية - على أن الإتيان بالمأمور به - مرة أو أزيد - هل مجز أم
لا؟ فالمأمور به في مسألة الإجزاء معلوم - إما المرة أو التكرار - فالكلام في سقوط
الأمر بإتيان المأمور به وعدمه.
وبعبارة أخرى: البحث في مسألة الإجزاء في سقوط التكليف بعد الفراغ عن
معلومية أصل التكليف، وأما في مسألة المرة والتكرار ففي إثبات أصل التكليف.
هذا كله في كون الإتيان بالمأمور به مجزيا بالنسبة إلى أمر نفسه.
وأما كون الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري مجزيا عن
المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه، فبين المسألتين فرق واضح، من غير فرق بين أن
يقال: إن لكل من الأمر الواقعي والظاهري أمرا على حدة، أو أمر واحد مختلف
الخصوصيتين، وإن كان الفرق بينهما على تقدير أمرين أوضح كما لا يخفى، فتدبر.
هذا في الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة دلالة الأمر على المرة أو التكرار.
وأما الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة تبعية القضاء للأداء أو بفرض جديد
فهو أوضح من أن يخفى؛ وذلك لأن النزاع في مسألة التبعية في أنه هل الأمر
بالصلاة في الوقت في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) (1) هل يدل على
إتيان الصلاة في الوقت، فإن تركها ولم يأت بها في الوقت فيأتي بها خارج الوقت؟
فالبحث فيها إنما هو بعد عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت.
وأما النزاع في مسألة الإجزاء فإنما بعد الإتيان بالمأمور به.

1 - الإسراء (17): 78.
289

الأمر الرابع
في محط البحث في الإجزاء
هل فيما إذا تعدد أمرين تعلق أحدهما بالطبيعة حال الاختيار والعلم، والآخر
بها حال الاضطرار أو الجهل، أو فيما إذا كان هناك أمر واحد ومأمور واحد،
والاختلاف إنما هو في الفرد بلحاظ الحالات الطارئة؟
وليعلم: أن معرفة هذا الأمر له أهمية في مبحث الإجزاء، بل يمكن أن يقال:
إنه مفتاح باب الإجزاء.
يظهر من بعضهم: أن محط البحث في الإجزاء فيما إذا كان هناك أمرين
مستقلين تعلق أحدهما بنفس الطبيعة بلحاظ حال الاختيار والعلم، والآخر بتلك
الطبيعة بملاحظة حالتي الاضطرار أو الجهل، فيبحث في أن إتيان متعلق الأمر
الاضطراري أو الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي أم لا؟ أي يبحث في كفاية
امتثال أحد الأمرين الاضطراري أو الظاهري عن امتثال الآخر.
كما أنه يظهر من بعض آخر: أن محط البحث فيما إذا كان هناك أمر واحد
تعلق بنفس الطبيعة، ولكن الأدلة دلت على اختلاف أفراد هذه الطبيعة واختلاف
الحالات الطارئة على المكلفين، وإن كل واحد منهم يجب عليه إيجاد الطبيعة في
ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله.
مثلا قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (1) يدل على
وجوب الصلوات اليومية في أوقاتها المقررة على جميع آحاد المكلفين؛ من القادر

1 - الإسراء (17): 78.
290

والعاجز، والصحيح والسقيم، وواجد الماء وفاقده، إلى غير ذلك من الحالات
الطارئة.
فالواجب على جميع المكلفين إيجاد طبيعة الصلاة لا غير.
نعم، القادر والصحيح يأتيا بنحو العاجز والسقيم يأتيا بنحو آخر، كما أن
واجد الماء يأتيها مع الطهارة المائية وفاقده يأتيها مع الطهارة الترابية، فمرجعها إلى
قيود المأمور به، فكأنه يصير المأمور به على أصناف ويبحث في أن الإتيان بأحد
مصاديق المأمور به هل يوجب سقوط الأمر المتعلق بنفس الطبيعة أم لا.
وبالجملة: يظهر من بعضهم - ولعله الظاهر من كلمات أكثر المتأخرين؛ ومنهم
المحقق الخراساني (قدس سره) - أن محط البحث فيما إذا كان هناك أمران تعلقا بشيئين؛
حيث قالوا: إن المأمور به بالأمر الاضطراري - مثلا - يجزي عن المأمور به بالأمر
الواقعي، وهذا بظاهره يدل على تعذر الأمر، كما لا يخفى.
كما أن صريح بعض آخرين (1): أن محط البحث في أمر واحد تعلق نفس
الطبيعة، والاختلاف في القيود والمشخصات الفردية يرجع إلى المأمور به ويجعله
أصنافا متعددة، فيبحث في أن الإتيان بفرد الاضطراري من الطبيعة أو الظاهري منها
هل يوجب سقوط الأمر المتعلق بنفس الطبيعة، أم لا؟
وذهب القائل بتعدد الأمر بأنه لو شك في الإجزاء ولم يكن إطلاق في البين
فالأصل البراءة. ومراده بذلك هو أن الأمر المتعلق بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية
- مثلا - مسقط بالتعذر عنها، والأمر بالصلاة مع الطهارة الترابية قد امتثلت. وبعد
زوال العذر لو شك في لزوم إتيان الصلاة مع الطهارة المائية فمرجعه إلى الشك في
فعلية أصل التكليف بعد العلم بسقوطه، وواضح أن الأصل البراءة.

1 - قلت: ومنهم أستادنا الأعظم البروجردي، دام ظله.
291

وأما لو كان الأمر واحدا فمرجع الشك إلى أن المصداق الاضطراري الذي
أتى به هل يوجب سقوط الأمر المتعلق بنفس الطبيعة أم لا؟ وواضح أن مقتضى
الأصل الاشتغال.
ولعل منشأ القول بوحدة الأمر وتعدده هو إمكان جعل الجزئية والشرطية
والمانعية وعدمها؛ فمن قال بإمكان ذلك - كما ذهبنا إليه، ويأتي الكلام فيه مستوفاة
إن شاء الله في مبحث الاستصحاب - فلا مانع له من أن يقول: إن الأمر متعلق بنفس
الطبيعة، والأدلة الأخر أثبتت قيودا وشرائط أخرى في المتعلق. فعلى هذا: لا
يتصرف في ظواهر الأدلة المثبتة للجزئية والشرطية والمانعية، بل يبقيها على
ظاهرها.
فعلى هذا ليس هنا إلا أمر واحد متعلق بصيغة الصلاة - مثلا - وإنما القيود
خصوصيات المأمور به، فيبحث في أن الإتيان بأحد مصاديق المأمور به، هل
يسقط الأمر المتعلق بنفس الطبيعة، أم لا؟
وأما من يرى امتناع جعل الجزئية والشرطية والمانعية مستقلا فلابد له من
التصرف فيما ظاهره الاستقلال في الجعل، وجعله إرشادا إلى ما جعله جزء أو
شرطا أو مانعا حين الأمر بالمركب.
وبالجملة: يرى أنه لا يعقل طرو التقييد على الطبيعة المأمور بها بعد لحاظها
وتعلق الأمر بها. وإذا أريد تقييدها فلابد من رفع اليد عن الأمر بنفس الطبيعة من
دون تقييد، والقول بتعلق الأمر بالطبيعة المتقيدة.
وحيث إنه وردت أدلة تكون ظاهرها إتيان الشرطية - مثلا - كقوله (عليه السلام):
292

" التراب أحد الطهورين " (1)، فيستكشف من ذلك عن وجود أمر متعلق
بالطبيعة المتقيدة بالطهارة الترابية - مثلا - فيلزم وجود أمرين تعلق أحدهما بالصلاة
المتقيدة بالطهارة المائية للمختار، وتعلق الآخر بالصلاة المتقيدة بالطهارة الترابية
للمتعذر، هذا.
وحيث إن المختار - كما سيجيء - إمكان جعل الجزئية والشرطية والمانعية
فلا وجه للتصرف في أدلة الجزئية والشرطية والمانعية وصرفها عن ظاهرها.
فإذن: ليس هنا إلا أمر واحد تعلق بطبيعة الصلاة - مثلا - وإنما القيود من
خصوصيات المصاديق؛ إذ قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق
الليل) (2) يدل على وجوب الصلاة في هذا الوقت المضروب لها، ثم دل دليل على
اشتراطها بالطهارة المائية حال الاختيار، وعلى اشتراطها بالطهارة الترابية عند
فقدان الماء؛ بحيث يكون المأتي بالشرط الاضطراري نفس الصلاة التي يأتيها
المكلف بالشرط الاختياري بلا اختلاف في المتعلق والصلاة والأمر.
كما هو ظاهر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين...) إلى
أن قال سبحانه: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (3).
فإن ظاهرها: أن العبارة التي سبق ذكرها في صدر الآية واشترطت بالطهارة
المائية يؤتى بها عند فقد الماء متيمما بالصعيد، وأنها في هذه الحالة عين ما تقدم
أمرا وطبيعة وماهية.

1 - أنظر وسائل الشيعة 2: 991، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 21، الحديث 1.
2 - الإسراء (17): 78.
3 - المائدة (5): 6.
293

وبالجملة: أن الكيفيات الطارئة من خصوصيات المصاديق لا من مكثرات
موضوع الأمر، ولا يكون للطبيعة المتقيدة بكيفية أمر، وبكيفية أخرى أمر آخر.
والنزاع وقع في أن الإتيان بمصداق الاضطراري للطبيعة هل يوجب سقوط الأمر
عنها، أو لا؟ وقس عليه الحال في الأوامر الظاهرية حرفا بحرف (1).
تنبيه
وليعلم: أنه - كما أشرنا - أن ما ذكرناه هنا وما نشير إليه في أثناء المباحث
الآتية إنما هو ملاحظة حال الموالي العرفية بالنسبة إلى عبيدهم ومن يكون تحت
اختيارهم وسيطرتهم؛ لأنه لا طريق لنا إلى معرفة حال المبادئ العالية في كيفية
جعل الأحكام ووضع القوانين، فلو قلنا في هذا المضمار شيئا فإنما هو على سبيل
المقايسة بين المولى الحقيقي والموالي العرفية، وليكن هذا على ذكر منك فلعله
ينفعك.
إذا عرفت الأمور التي ذكرنا فالكلام يقع في مقامين:

1 - قلت: اقتبست الفقرات الأخيرة من " تهذيب الأصول " [المقرر حفظه الله].
294

المقام الأول
في أن إتيان كل من المأمور به بالأمر الواقعي أو الاضطراري أو الظاهري بكلا
قسميه - أمارة كانت أو أصلا - يجزي عن التعبد به ثانيا؟
لا يخفى: أنه كما أشرنا أن البحث في هذا المقام تطفلي؛ لأنه لا إشكال، بل
لا ينبغي الخلاف فيه، كما أفاده المحقق العراقي (قدس سره) في أن الإتيان بمطابق المأمور به
بأمر مجز بالنسبة إلى أمره (1)؛ بمعنى أنه إذا تعلق أمر بالصلاة - مثلا - فلو أتى
المكلف بجميع القيود المأخوذة في المأمور به وأتى المأمور به على وجهه - من
دون نقص وزيادة - لا يلزم التعبد به ثانيا، بل لأجل امتثاله أولا لا يمكن امتثاله
ثانيا.
وبالجملة: وجه الإجزاء فيه واضح لا يحتاج إلى تجشم الاستدلال؛ لأنه من
الأمو البديهية التي قياساتها معها لا يحتاج إلى إقامة البرهان عليه.
ولكن مع ذلك: لا بأس بالإشارة إلى بيان وجهين يقرب أحدهما من الآخر
إيضاحا للمقال:
الوجه الأول: أن كل أمر من الموالي العرفية لا يأمر عبده بشيء إلا لغرض
وغاية يكون له في ذلك؛ لأن أمره إياه فعل اختياري صادر من فاعل مختار، فإن
أتى العبد المأمور به على وجهه - من دون زيادة ونقيصة - فيحصل غرض المولى،
وبحصول الغرض لا يبقى مجال لبقاء الأمر.
ضرورة أن الأمر لم يكن مطلوبا ذاتا، وإنما مطلوبيته لأجل الوصلة إلى
غرضه، والمفروض حصوله. ولو كان الأمر بعد باقيا يلزم أن يكون بلا جهة وغرض
موجودا، وهو كما ترى.
وبالجملة: أن المكلف إذا أتى المأمور به على وجهه بدون نقص وزيادة
يحصل

1 - بدائع الأفكار 1: 262.
295

غرض البعث، فلا معنى لبقاء البعث بعد حصول الغرض - الذي هو علة
للإرادة والبعث - فلو بقيا بعد حصول الغرض يلزم بقاء المعلول بلا علة.
الوجه الثاني: أن الأمر أو البعث لا يكاد يدعو إلا إلى متعلقه، ومحال أن
يتعلق البعث بطبيعة من حيث هي هي، ولكن يدعو إلى خصوصية زائدة عليها. فلو
أمر المولى بطبيعة فالخصوصيات الفردية خارجة عن دائرة المأمور به، وكلها في
عرض واحد في مصداقيتها للطبيعة. فلو كان للأمر أيضا داعوية بعد إتيان مصداق
منها فلا يكاد يقف إلى حد، ولو أتى بمصاديق غير متناسية، وهو كما ترى.
فظهر: أنه لا ينبغي الإشكال والخلاف، كما لا إشكال ولا خلاف في أن
الإتيان بمتعلق كل أمر يجزي عن التعبد به ثانيا ويكون علة لسقوط أمره.
ولكن وقع الكلام بعد في أنه هل للمكلف تبديل الامتثال بامتثال آخر -
بمعنى أنه إذا أتى المكلف بمصداق من الطبيعة هل يمكنه عقلا الإعراض عنه
والإتيان بمصداق آخر - مطلقا، أو لا كذلك، أو يفصل بين ما لو كان الإتيان علة
تامة لحصول الغرض وعدمه؛ فيجوز في الثاني دون الأول؟
والكلام في تبديل الامتثال يقع تارة في محل نزاع القوم، وأخرى فيما ينبغي
أن يبحث فيه؛ فالكلام يقع في موردين:
المورد الأول: في محل نزاع القوم
يظهر من بعضهم - منهم المحقق الخراساني (قدس سره) - جواز تبديل الامتثال
بامتثال آخر بما أنه امتثال آخر؛ لعقده عنوان البحث في تبديل الامتثال بالامتثال،
ولاستدلاله لجواز الامتثال ثانيا ببقاء حقيقة الأمر وروحه؛ بأنه إذا كان إتيان
المأمور
296

به علة لحصول الغرض فلا يبقى موقع لتبديل الامتثال.
وأما لو لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض - وإن كان وافيا بالغرض -
فيجوز تبديل الامتثال؛ لأن روح الحكم وحقيقته لم يسقط بعد. كما لو أهرق الماء
واطلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانيا، كما إذا لم يأت به أولا؛ ضرورة بقاء طلبه
ما لم يحصل غرضه الداعي إليه، وإلا لما أوجب أولا حدوثه. فحينئذ يكون الإتيان
بماء آخر موافق للأمر، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه (1).
المورد الثاني: فيما ينبغي أن يبحث فيه
والكلام فيه يقع في جهتين:
الأولى: في إمكان تبديل الامتثال بامتثال آخر مما هو امتثال.
والثانية: في أنه لو امتنع تبديل الامتثال مطلقا - كما نقوله نحن - فهل يجوز
تبديل مصداق من الطبيعة التي أتى به المكلف بعنوان الامتثال بمصداق آخر من
تلك الطبيعة التي كانت مأمورة بها سابقا، وسقطت بإتيان مصداقه الأول مطلقا، أو لا
كذلك، أو يفصل بين ما كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يجوز، وبين ما لم
يكن كذلك فيجوز؟
أما الجهة الأولى: فتبديل امتثال الأمر بما هو هو أمر غير معقول - سواء
حصل الغرض بامتثال الأول أم لا - وذلك لأن ما أتى به أولا إما يكون مصداقا
للطبيعة المأمور بها أم لا، فعلى الأول حصل الامتثال وتم اقتضاء الأمر وباعثيته،
فلم يبق الأمر بعد ليحصل الامتثال به ثانيا.
وإن لم يكن مصداقا للطبيعة المأمور بها؛ بأن كان فاقدا لجزء أو شرط - مثلا

1 - كفاية الأصول: 107.
297

فلم يحصل الامتثال به بعد، فلم تصل النوبة إلى امتثال آخر.
فما أفاده المحقق الخراساني وشيخنا العلامة الحائري (قدس سرهما) من أنه إذا لم يكن
الامتثال علة تامة لحصول الغرض يجوز له تبديل الامتثال (1)، إن أراد معنى يرجع
إلى الجهة الثانية فلا مضايقة فيه، ولكن لا يكون ذلك تبديل الامتثال بما هو امتثال،
ووجهه هو الذي ذكرناه.
وإن أراد أن الأمر باق لبقاء علته - وهو عدم حصول غرض المولى بعد -
فمعناه وجوب إتيان الطبيعة ثانيا وثالثا، إلى أن يحصل غرضه، لا جوازه، ولا يلتزم
هو (قدس سره) به؛ لأن ما يقول به هو جواز الإتيان ثانيا، ولا دليل يدل على جواز الإتيان
ثانيا. ولو وجب إتيانه ثانيا وثالثا وهكذا فلم يرتبط بمسألة تبديل الامتثال، ويكون
ذلك مثال من قال: إن الأمر يدل على التكرار، هذا أولا.
وثانيا: أن علية الغرض للأمر ليست علية تكوينية نظير علية الشمس
للإشراق بحيث يكون هناك أوامر متعددة ببقاء الغرض. بل المراد بالعلية هنا هي أن
الغرض يصير سببا لتصور المولى الأمر والتصديق بفائدته حتى ينتهي إلى أن يأمر
عبده بإتيان الماء.
وما صار سببا لأمر المولى عبده بإتيان الماء هو تمكنه من شرب الماء
وتخلية العبد بينه وبين الماء. فإن جاءه العبد بقدح الماء ووضعه بين يديه يكون
ممتثلا لأمره، ولكن للعبد قبل أن يشرب المولى تبديل القدح بقدح آخر. نعم لو كان
القدح الآخر مثل القدح السابق فربما يعد ذلك لعبا بالمولى أو بأمره.
ثم لو اتفق هراقته فإن أحرز العبد بقاء الغرض الملزم فعلا يجب إتيانه ثانيا،
لكن لبقاء الغرض لا لبقاء الأمر، كما يظهر من العلمين الخراساني وشيخنا العلامة
الحائري (قدس سرهما) حيث يرون أن مجرد بقاء الغرض يكون علة موجدة

1 - كتاب الأصول: 107، درر الفوائد، المحقق الحائري: 78.
298

للأمر، فلو لم يأت يعاقب عليه. نعم لو كان العبد غافلا عن غرض المولى أو
لم يحرز بقاء الغرض فغير معاقب.
وبالجملة: الغاية والغرض في أمر المولى عبده بإتيان الماء إنما هو إحضاره
لدى مولاه بحيث يتمكن من شربه، وقد حصل حسب الفرض. وأما الغرض الأقصى
- وهو رفع عطش المولى - فلا يعقل أن يكون غرضا لفعل العبد، نعم هو يترتب
على فعل العبد والمولى كليهما.
فظهر مما ذكرنا: أن معنى علية الغرض للأمر والبعث ليس معناه وجود الأمر
مهما كان الغرض موجودا - كما يراه العلمان - بل يصير سببا لتصور المولى
والتصديق بفائدته حتى ينتهي إلى أمر المولى. فلو أتى العبد ولم يحصل غرض
المولى فله تبديله بمصداق آخر، لكن لا بما أنه مأمور به، بل لبقاء الغرض، وكم
فرق بينهما! فتدبر.
ذكر وتعقيب
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) ذكر في امتناع تبديل الامتثال بامتثال آخر بيانا
حاصله: أن الفعل الذي يكون متعلقا لأمر المولى إما يكون بنفسه مشتملا على
غرض الأمر، فيكون تحققه في الخارج علة تامة لحصول غرضه، فيسقط أمره
بانتفاء علته الغائية.
أو لا يكون مشتملا على الغرض الداعي، بل يكون مقدمة لتحصيل غرضه
الأصلي الداعي إلى الأمر به.
وهو على نحوين: فتارة يكون فعل المكلف مقدمة لفعل نفسه المشتمل على
الغرض الأصلي النفسي، كسائر مقدمات الواجب كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة.
وأخرى يكون مقدمة لفعل المولى الذي أمره بذلك الفعل. وهذه أيضا على
قسمين: فتارة يكون مقدمة لفعل المولى الجوارحي، كأمر المولى بإحضار الماء
299

ليشربه. وأخرى يكون مقدمة لفعله الجوانحي، كأمره إياه بإعادة صلاته
جماعة ليختار أحب الصلاتين إليه.
فإذا كان التكليف بهذه الأفعال الخاصة بلحاظ كونها مقدمة إما لبعض أفعاله
الأخرى أو لفعل المولى، فلا يجوز تبديل الامتثال بامتثال آخر مطلقا؛ سواء قلنا
بوجوب مطلق المقدمة، أو بوجوب خصوص المقدمة الموصلة:
أما على الأول ففي غاية الوضوح؛ لأن الأمر يسقط بالامتثال الأول، ومعه لا
يتصور الامتثال الثاني ليكون بدلا عن الأول، فإن الامتثال موضوعه الأمر وقد سقط
بالامتثال الأول.
وأما على الثاني - كما هو الحق - فواضح أن ما يفعله المكلف في مقام
الامتثال إنما يتصف بالوجوب المقدمي إذا أوصل المولى إلى غرضه الأصلي
النفسي، فالفعل الآخر الذي فعله العبد امتثالا لأمر المولى غير متصف بالوجوب
لعدم الإيصال. فإذا أحضر العبد ماءين أحدهما بعد الآخر امتثالا لأمر المولى
بإحضار الماء، فشرب المولى أحدهما، كان هو المتصف بالوجوب المقدمي دون
الآخر. والصلاة المعادة جماعة هي التي تكون متصفة بالوجوب، دون ما صلاه
فرادى؛ لأنها التي ترتب عليها فعل جانحة المولى؛ وهو اختيارها في مقام ترتب
الثواب على إطاعته.
فاتضح: عدم معقولية تبديل الامتثال بامتثال آخر؛ لأن العقل الموصل هو
الذي يتحقق به الامتثال، دون غيره، انتهى ملخصا (1).
وفيه أولا: أنه لو تم ما أفاده يلزم أن يكون جميع الواجبات النفسية واجبات
غيرية مقدمية، بلحاظ أنها مقدمات لحصول الأغراض - ومنها القرب من المولى -
ولا يلتزم بذلك أحد، حتى هو (قدس سره).
بيان الملازمة: هو أنه على مذهب العدلية يكون تشريع جميع الأحكام

1 - بدائع الأفكار 1: 263 - 264.
300

لأغراض مترتبة عليها؛ ولذا يقال: " إن الواجبات الشرعية ألطاف في
الواجبات العقلية " فجميعها مقدمات لحصول الأغراض العقلية، فجميع الواجبات
النفسية واجبات غيرية، وهو كما ترى.
وثانيا: أنه لو التزم أحد بكون جميع الواجبات واجبات مقدمية، ولكن لا يتم
ما أفاده (قدس سره) أيضا؛ وذلك لأن معنى الوجوب المقدمي هو رشح الإرادة من ذي
المقدمة إلى مطلق المقدمة أو المقدمة الموصلة، من باب الملازمة بين وجوب
المقدمة ووجوب ذيها كما يقولون، وذلك فيما يمكن توجه وجوب ذي المقدمة
على المكلف، وفيما إذا كان ذو المقدمة تحت اختيار المكلف.
وواضح: أن الغرض الأقصى فيما نحن فيه - وهو رفع عطش المولى - لم
يكن تحت اختيار المكلف وقدرته حتى تقع تحت دائرة الطلب، بل فعل المولى
واختياره متوسط بين فعل العبد وحصول الغرض.
وبالجملة: غرض الأقضى في المقام - وهو رفع عطش المولى - متوقف على
فعلين: فعل من العبد؛ وهو تخلية الماء بينه وبين مولاه، وفعل المولى؛ وهو إراقة
الماء في حلقه، وواضح أن فعل المولى لم يكن تحت اختيار العبد، فلا يمكن أن
يكون رفع عطش المولى واجبا على العبد؛ فلابد وأن يتعلق الأمر بنفس المقدمة من
غير لحاظ الانقياد.
وبعبارة أخرى: وجوب المقدمة الموصلة - على القول به - من باب الملازمة
بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، وذلك إنما يكون في مورد يمكن توجه التكليف
بذي المقدمة على المكلف، وفيما نحن فيه لم يكن مقدورا عليه، بل يكون لإرادة
المولى دخالة في ذلك فانى لوجوب المقدمة، ولا يقبل أن تكون المقدمة واجبة
عليه مع عدم وجوب ذيها عليه.
ولا يخفى: أن هذا لا ينافي وجوب الإتيان لتحصيل الغرض؛ لأنه كم فرق
بين
301

كون شئ واجبا لتحصيل غرض، وبين وجوبه لكونه مقدمة لواجب؛ لأن
الثاني يوجب تعلق الوجوب بذيها، بخلاف الأول.
وبعبارة ثالثة: لو قلنا بأن جميع الواجبات بلحاظ كونها مقدمات لحصول
أغراض - كالقرب من المولى - واجبات مقدمية، ولكن فيما إذا أمكن العبد تحصيل
الغرض حتى يصح تكليف المولى به، وأما فيما إذا لم يمكن العبد تحصيل الغرض،
بل يتخلل إرادة الغير فيه فلا يمكن تعلق التكليف به، كما فيما نحن فيه؛ فإن رفع
عطش المولى أو اختيار أحبهما إليه لا يكون تحت اختيار العبد، فلا يمكن أن يقال:
إن المقدمة بقيد الإيصال إلى حصول الغرض واجبة عليه مع تخلل إرادة الغير في
البين.
ولا فرق في ذلك بين القول بكون المقدمة الموصلة عبارة عن الحصة
الملازمة لحصول ذيها كما أفاده هذا المحقق (قدس سره) (1)، أو غيرها كما يراه شيخنا العلامة
الحائري (قدس سره) (2).
نعم، يمكن أن يقال بوجوبها بعنوان الشرط المتأخر؛ وهي التي يتعقبها
اختيار المولى من دون تقيد، فلا يكون الواجب عليه المقدمة الموصلة - وهو بنحو
القضية الحينية - على نحو الإطلاق حتى يلزم عليه تحصيل القيد، بل الواجب هو
المشروط بالشرط المتأخر. فإذا أتى بها وتعقبها اختيار المولى يكون واجبا، وإن لم
يتعقبها اختيار المولى يكشف ذلك عن عدم وجوبها عليه، فحينئذ يخرج عن
موضوع تبديل الامتثال. وهذا أشبه شئ بصوم المرأة المستحاضة إذا صح منه
غسل الليلة الآتية، فتدبر جيدا.

1 - بدائع الأفكار 1: 389.
2 - درر الفوائد، المحقق الحائري: 119.
302

ذكر وتنبيه: في الصلاة المعادة
ربما يستدل لجواز تبديل الامتثال بامتثال آخر بما ورد من جواز إعادة من
صلى فرادى جماعة وإن الله يختار أحبهما إليه (1)، وعليه فتوى الأصحاب.
وممن استدل بذلك المحقق الخراساني (قدس سره)؛ فإنه بعد أن ذهب إلى جواز
تبديل الامتثال بامتثال آخر فيما لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض.
قال: يؤيد (2) ذلك - بل يدل - ما ورد من الروايات في باب إعادة من صلى
فرادى جماعة، وإن الله يختار أحبهما إليه (3). (4)

1 - قلت: ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الرجل يصلي الصلاة وحده
ثم يجد جماعة، قال (عليه السلام): " يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء الله " [1].
وحسن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يصلي الصلاة ثم يجد جماعة، قال:
" يصلي معهم ويجعلها الفريضة " [2] إلى غير ذلك من الأخبار.
2 - قلت: لعل التعبير بالتأييد - كما قيل - لاحتمال كون مورد الروايات المشار إليها من صغريات
تعدد المطلوب، فيكون الغرض القائم بالجماعة مطلوبا آخر غير مطلوبية نفس طبيعة الصلاة،
فيكون باب الصلاة المعادة أجنبي عن مورد تبديل الامتثال الذي مورده وحدة المطلوب والأمر.
ولكن استظهر (قدس سره) من الروايتين جواز التبديل بلحاظ ظهورهما في جواز التبديل؛ إذ لا وجه
لجعل الصلاة المعادة جماعة هي الفريضة إلا ذلك.
3 - راجع وسائل الشيعة 5: 456، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 54، الحديث 10.
4 - كفاية الأصول: 108.
[1] الفقيه 1: 251 / 1132، وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 54، الحديث 1.
[2] الكافي 3: 379 / 1، وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 54، الحديث 11.
303

وفيه: أن ما استشهد (قدس سره) على جواز تبديل الامتثال لو لم يدل على عدم
الجواز لم يكن دليلا على الجواز؛ وذلك لأنه لو لم يكن الأمر بالصلاة ساقطا بما
صلاه فرادى لابد وأن لا يدعو الأمر الثاني إلا إلى ما دعى إليه الأمر الأول؛ وهو
نفس طبيعة الصلاة. ولكن من الواضح أن مفاد أدلة الصلاة المعادة جماعة ليس
نفس طبيعة الصلاة، بل الطبيعة المتقيدة بكونها جماعة، فإذا كانت دعوه الأمر الثاني
إلى غير ما دعى إليه الأمر الأول فيستكشف من ذلك إنا عدم بقاء الأمر الأول، ولا
يكون ذلك دليلا على عدم جواز تبديل الامتثال.
وبالجملة: أن الأمر بالصلاة قد سقط بالإتيان بها أولا فرادى، ولكن دلت
الأخبار على استحباب فعلها جماعة لو اتفقت؛ لأنها أفضل، وإن الله يختار أحبهما. (1)
هذا كله في الجهة الأولى، وقد عرفت عدم إمكان تبديل الامتثال.
أما الجهة الثانية:
وهي أنه بعد امتناع تبديل الامتثال هل يجوز تبديل مصداق من الطبيعة التي
أتى به المكلف بعنوان المصداق، بمصداق آخر من تلك الطبيعة التي كانت مأمورة

1 - قلت: وبعبارة أخرى - كما أفاده سماحة الأستاذ، دام ظله في الدورة السابقة - أن ذلك ليس
من باب تبديل الامتثال بامتثال آخر، بل من باب تبديل فرد ومصداق من المأمور به بفرد
ومصداق آخر أفضل، وذلك لأن تبديل الامتثال يتوقف على تحقق إمتثالين مترتبين، بمعنى
أنه لا بد وأن يكون للمولى أمر متعلق بطبيعة فيمتثله المكلف دفعة مع بقاء الأمر، ثم يمتثله
ثانيا ويجعل المصداق الثاني الذي تحقق به الامتثال بدل الأول الذي تحقق به الامتثال
الأول. وأما تبديل مصداق المأمور به الذي تحقق به الامتثال بمصداق آخر غير محقق
للإمتثال، لكن محصل للغرض اقتضاء مثل المصداق الأول أو بنحو أوفى، فهو لا يتوقف
على بقاء الأمر، بل من قبيل تبديل مصداق المأمور به بمصداق آخر لا بصفة كونه مأمورا
به. فالمراد بقوله عليه السلام: " يجعلها فريضة " أنه يأتي بالصلاة ناويا الظهر أو العصر مثلا، لا إتيانه
امتثالا للأمر الواجب، ضرورة سقوطه بإتيان الصلاة الجامعة للشرائط. [المقرر حفظه الله].
304

بها وسقطت مطلقا، أو لا لذلك، أو يفصل؟
فنقول: الحق فيها التفصيل بين ما لو كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض
فلا يجوز، وبين ما لم يكن كذلك فيجوز.
ووجهه واضح؛ لأنه إذا كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض فبعد حصوله لا
معنى لتحصيله ثانيا، ولا يكون ذلك امتثالا وإطاعة، بل ربما يعد إتيان الثاني
مبغوضا للمولى، مثل ما إذا كان العبد مأمورا بإعطاء ألف دينار، فلو لم يكتف بذلك
وأعطاه ألفا آخر لتضرر المولى بذلك ولا يرضى به (1)، وهذا واضح.
وأما إذا لم يكن الإتيان علة تامة لحصول الغرض - إن كان علة لسقوط
الأمر - فيجوز له ذلك؛ وذلك لأنه إذا أتى العبد بمصداق من الطبيعة؛ بأن أتى مولاه
بقدح من الماء، فقبل أن يشربه المولى له تبديل ذلك القدح بقدح زجاجي، بل يعد
فعله ذلك حسنا، من دون احتياج في ذلك إلى وجود الأمر.
بل إذا علم العبد أن للمولى غرض لازم الاستيفاء، كأن غرق ولد عزيز
لمولاه، فيجب على العبد إنقاذه وإن لم يأمر مولاه؛ بأن كان غافلا أو نائما أو غايبا.
بل إذا نهاه المولى عن إنقاذ الغريق بتوهم أن الغريق عدوه، يجب على العبد مخالفته
وإنقاذ ولده.
وبالجملة: لم يكن للأمر موضوعية ولم يكن ملحوظا برأسه، بل هو طريق
يتوصل به إلى الأغراض والمصالح؛ ولذا لو أمكن للمولى طريق آخر يتوصل به إلى
غرضه لتشبث به أيضا؛ حتى في التعبديات.
والحاصل: أنه إذا لم يكن الإتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض
فالعقل يحكم بجواز إتيان مصداق آخر أوفى، لا من باب تبديل الامتثال، بل من
باب تحصيل الغرض، فتدبر.

1 - قلت: وفي كون المثال من باب تبديل الامتثال نحو خفاء، كما لا يخفى. [المقرر
حفظه الله].
305

المقام الثاني
في أجزاء الاضطراري أو الظاهري عن الواقعي
والكلام في ذلك مستفصى يقع في مواضع:
الموضع الأول
في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل مجز عن المأمور به بالأمر
الواقعي، أم لا؟
تنتج الكلام فيه يستدعي البحث في موردين: الأول في الإعادة في الوقت لو
ارتفع الاضطرار فيه، والثاني في القضاء لو ارتفع الاضطرار خارج الوقت. ثم نعقب
الكلام لبيان حكم صورة الشك لبعض الفوائد المترتبة عليه بعنوان الخاتمة:
المورد الأول: في حكم الإعادة في الوقت لو ارتفع الاضطرار فيه
موضوع البحث في هذا المورد هو فيما إذا اضطر المكلف في أول الوقت أو
في أثنائه وأتى بالمأمور به بالأمر الاضطراري مع جميع شرائطه وخصوصياته
الدخيلة فيه عقلا وشرعا، ثم ارتفع الاضطرار وحصل له حالة الاختيار في الوقت،
وكان المكلف مأمور به بالأمر الاضطراري.
فإذا لم يكن مضطرا في بعض الوقت - بأن كان مضطرا في تمام الوقت -
فخارج عن موضوع هذا المورد وداخل في موضوع البحث في المورد الثاني. كما
أنه لو لم يكن مأمورا في تلك المدة - بأن كان مقتضى الأدلة الاضطرار في تمام
المدة موضوعا للإتيان - خارج عن موضوع البحث؛ لأن البحث في الإتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري، وهو فرع وجود الأمر.
306

وبالجملة: موضوع البحث ومحله في الإعادة في الوقت إنما هو إذا اضطر في
بعض الوقت وأتى بما اضطر إليه، وكان في بعض الوقت موضوعا للإتيان بالفرد
المأمور به.
إذا عرفت هذين الأمرين فنقول:
نزاع إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر
الواقعي لم يكن مخصوصا بما إذا قلنا بتعدد الأمر - كما ربما يتوهم - بل يجري وإن
قلنا بوحدة الأمر أيضا، وإن كان القول بالإجزاء في صورة وحدة الأمر واضح.
وذلك لأنه إن قلنا - كما هو المختار - بأن هناك ليس إلا أمر واحد متعلق
بالطبيعة - كالأمر بالصلاة مثلا - من دون أن يكون للحالات الطارئة للمكلف؛ من
قدرته وعجزه أمر على حدة، بل كل من الصلاة قائما أو قاعدا أو مضطجعا - مثلا
من أفراد الطبيعة المأمور بها فيصح النزاع في الاكتفاء بالفرد الاضطراري عن الفرد
الاختياري.
ولكن التحقيق يقتضي الإجزاء، وذلك إذا تعلق الأمر بالصلاة - مثلا - ثم بين
أنه يشترط فيها الطهارة المائية - مثلا - في صورة وجدان الماء، والطهارة الترابية
عند فقدان الماء.
ومقتضى إطلاق قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) (1)
شموله للمضطر في برهة من الزمان، وإن علم زوال عذره في الوقت. فإذا صلى مع
الطهارة الترابية يسقط الأمر بالصلاة، كما يسقط بإتيان الصلاة مع الطهارة المائية.
فبالحقيقة: يكون المكلف مخيرا شرعا - ولا أقل عقلا - بين إتيان الفرد
الاختياري لو صبر إلى زوال الاضطرار، وبين إتيانه الفرد الاضطراري. فمرجع

1 - المائدة (5): 6، النساء (4): 43.
307

البحث في الحقيقة إلى أن الإتيان بفرد من المأمور به بالأثر الواقعي مجز أم
لا. وقد عرفت في المقام الأول - بما لعله لا مزيد عليه - حديث الإجزاء على القول
بوحدة الأمر، فتدبر.
وأما إن قلنا هنا بتعدد الأمر؛ بأن تعلق أحدهما بنفس طبيعة الصلاة مع
الطهارة المائية - مثلا - وأمر آخر بالصلاة مع الطهارة الترابية، فللبحث عن إجزاء
المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي مجال واسع.
فنقول: إن المطلوبين كالأمرين مستقلان في المطلوبية أو لا يكون كذلك، فإن
لم يكن المطلوب الثاني مطلوب آخر، بل ذكر لضيق البيان لبيان حدود المطلوب
الأول، كما إذا فرضنا أن القيود الجائية من قبيل الآمر، كقصد الأمر - مثلا لا يمكن
إيجابه على المكلف بأمر واحد، ولكن يمكن ذلك بأمرين، وظاهر أن الأمر الثاني
إنما جيء به لتحديد حدود المأمور به بالأمر الأولي، من دون أن يكون له استقلالية
ومطلوبية، دل الذي تعلق به المصلحة هو المأمور به الأولي، والتوصل إلى الأمر
لامتناع أخذ القيود الكذائية في متعلق أمره.
ومن هذا القبيل لو قلنا في الأجزاء والشرائط والموانع بأنه لا يمكن أن يأمر
بطبيعة ثم ينتزع منه الجزئية والشرطية والمانعية، بل لابد في جعل تلك الأمور من
التوصل إلى أمر آخر. فالأمر الثاني لإثبات الجزئية أو الشرطية أو المانعية لبيان
حدود المأمور به بالأمر الأولي.
وبالجملة: أن الأمر الثاني في مثل تلك الأمور جيء به لضيق البيان، فلم تكن
لإفادة مطلوب مستقل، بل لإفادة خصوصيات الأمر الأول وبيان ما له دخل في
الغرض، فهذا في الحقيقة يرجع إلى الأمر الأول؛ وهو كون الأمر والمأمور واحدا.
فمقتضى القاعدة على هذا تقتضي الإجزاء، كما عرفت أن مقتضى القاعدة في
صورة كون الأمر والمأمور واحدا الإجزاء.
308

وأما إذا كان المطلوبان مستقلين في المطلوبية، ولكن قام الدليل من الخارج
على عدم وجوب الزائد على الواحد، كما هو الشأن بالنسبة إلى الصلاة؛ حيث قام
الإجماع على أن الواجب على المكلف في الفرائض اليومية - كفريضة الصلح مثلا -
ليس إلا صلاة واحدة، فيستكشف من الدليل الخارجي التخيير بين إتيان الصلاة
- مثلا بالطهارة المائية، وبين إتيانها بالطهارة الترابية إذا تعذر استعمال الماء.
فإذا صلى عند تعذر الماء بالطهارة الترابية فلا وجه لعدم الإجزاء؛ بداهة أنه
إذا كانت للطبيعة أفراد فللمكلف أن يأتي بأي فرد منها، ومع الإتيان بأي فرد منها
فلابد وأن يجتزي به.
وتوهم عدم الإجزاء بالفرق بين الأفراد العرضية والطولية؛ فإذا كانت للطبيعة
أفراد عرضية يجتزي بأي فرد منها، وأما إذا كانت لها أفراد طولية - كما فيما نحن
فيه - فلا يجتزي به بعد تبدل حاله في الوقف إلى حال الاختيار.
مدفوع بأن الفرق غير فارق، وذلك لأنه لو قلنا بأمرين ومطلوبين تعلق
أحدهما بالصلاة مع الطهارة المائية عند وجدان الماء، والآخر بالصلاة مع الطهارة
الترابية عند فقدان الماء، وثبت من الخارج - كالإجماع أو غيره - على عدم وجوب
الزائد من صلاة واحدة، يكون مقتضاه تخيير المكلف إتيان أيهما شاء، وتكون
النتيجة الإجزاء، هذا.
ولكن لو فرضنا المطلوبين كالأمرين مستقلين في المطلوبية موجبين لتعدد
المطلوب؛ بحيث يكون للصلاة مع الطهارة المائية - مثلا - مصلحة غير ما للصلاة مع
الطهارة الترابية، فيكونا أشبه شئ بالصلاة والصوم. فكما أنهما طبيعتان وماهيتان
غير مرتبط إحداهما بالأخرى، والطلب المتعلق بإحداهما غير الطلب المتعلق
بالأخرى وامتثال إحداهما غير مجز عن امتثال الأخرى، فكذلك فيما نحن فيه؛
فيمكن أن يقال: إن الأمر المتعلق بإحداهما غير الأمر المتعلق
309

بالأخرى، وامتثال إحداهما غير مجز عن الامتثال بالأخرى.
وبالجملة: محل البحث في الإجزاء وعدمه إنما هو فيما لو قلنا بتعدد الأمر؛
بحيث يكون متعلق أحدهما غير الآخر، نظير كفارة الظهار فإنها تجب على المظاهر
أولا تحرير الرقبة، فإن لم يقدر فصيام شهرين متتابعين، وإن لم يقدر فإطعام ستين
مسكينا. فكل منها موضوع مستقل، لكن الأخيرين عند قصور الأول.
فحينئذ للبحث عن الاجتزاء بالأمر الاضطراري في الوقت - كالصلاة مع
الطهارة الترابية بعد زوال العذر فيه - عن الإجزاء عن المأمور به بالأمر الاختياري
- أعني الصلاة مع الطهارة المائية - مجال واسع.
وذكر المحقق الخراساني (قدس سره) مطالب بالنسبة إلى مقام الثبوت بما حاصله: أن
التكليف الاضطراري في حال الاضطرار إما يكون وافيا بتمام مصلحة التكليف
الاختياري أو لا، وعلى الثاني إما يبقى منه شئ لا يمكن استيفاؤه أو يمكن له
ذلك، وما أمكن إما بمقدار يجب تداركه أو يستحب.
فإن كان وافيا بتمام المصلحة فيجزي فلا يبقى مجال أصلا للتدارك، وكذا لو
لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه، ولا يكاد يسوغ له البدار إلا لمصلحة كانت
فيه.
وإن لم يكن وافيا بالمصلحة ولكن أمكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا
- ولو بالقضاء خارج الوقت - فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي ولابد من
الإعادة أو القضاء، وإلا فيجزي ولا مانع من البدار في الصورتين...
إلى أن قال في مقام الإثبات: إن مقتضى إطلاق دليل الاضطراري لقوله
تعالى: (فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) (1) وقوله (عليه السلام): " التراب أحد
الطهورين، ويكفيك عشر

1 - النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
2 - راجع وسائل الشيعة 2: 991، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 21، الحديث 1.
310

سنين " (1) هو الإجزاء وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، فلابد من اتباع
الإطلاق لو كان، وإلا فالأصل يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة؛ لكونه شكا في
أصل التكليف، انتهى ملخصا (2).
وأطال المحقق العراقي (قدس سره) فيما أفاده المحقق الخراساني (3).
وواضح: أن مفاده المحقق الخراساني (قدس سره) في مقام الثبوت خارج عن محيط
فهمنا وتبعيد للمسافة. مع أنه خارج عن محل البحث؛ لأن البحث ممحض في
وجود الإطلاق، والعلم باستيفاء المصلحة وعدمه لو كان فإنما هو من غير ناحية
إطلاق الدليل. هذا فيما أفاده (قدس سره) في مقام الثبوت.
وأما فيما أفاده في مقام الإثبات: فلا يخلو عن نظر أيضا، يظهر لك ذلك فيما
نذكر في شقوق المسألة وصورها:
وقبل الشروع فيها نذكر مقدمة في بيان معنى الإطلاق في ناحية المبدل منه
وفي ناحية البدل:
فنقول: مقتضى إطلاق المبدل منه هو لزوم الإتيان بمتعلقه في الوقت
المضروب له المحدود بين الحدين، فإن ارتفع العذر في بعض الوقت يجب أن يؤتى
به في ذلك الوقت، ولا يضيق الواجب بتضييق الوقت؛ لأن الواجب هو نفس الطبيعة
والمضيق - حسب الفرض - هو إتيان فرد من الواجب. فالقول بصيرورة الواجب
مضيقا عند تضييق وقته لا يخلو عن تسامح.
وبالجملة: مقتضى إطلاق دليل الصلاة مع الطهارة المائية بين الحدين هو لزوم
إتيانها في أي جزء من أجزاء الزمان المضروب له، فإذا زال العذر في أثناء

1 - وسائل الشيعة 2: 983، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، الباب 14، الحديث 12.
2 - كفاية الأصول: 109 - 110.
3 - بدائع الأفكار 1: 267 - 268.
311

الوقت يجب إتيان الصلاة مع الطهارة المائية.
وأما مقتضى إطلاق دليل البدل هو أنه في صورة تعذر المبدل منه يجوز
الإتيان بالبدل بمجرد التعذر، فلا يجب الصبر إلى آخر الوقت. مثلا إن كان لقوله
تعالى: (فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا) (1) إطلاق، فمعناه أنه بمجرد فقدان
الماء يجوز له إتيان الصلاة متيمما.
إذا عرفت ذلك فنقول: فتارة يكون لكل من دليل المبدل والبدل إطلاق،
وأخرى لا يكون لشيء منهما إطلاق، وثالثة يكون لدليل البدل إطلاق دون دليل
المبدل، ورابعة بالعكس يكون لدليل المبدل إطلاق دون البدل.
ففي الصورة الأولى: لا وجه لإجزاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري عن
المأمور به بالأمر الواقعي؛ وذلك لأن مقتضى إطلاق دليل البدل ليس إلا جواز البدار
في إتيانه وسقوط أمره لدى امتثاله لا سقوط دليل المبدل، مع أن مقتضى إطلاق
دليل وجوب إتيان متعلقه مهما أمكن، فبعد زوال العذر لابد من امتثاله.
وبعبارة أخرى: مقتضى إطلاق دليل المبدل كونه مطلوبا على سبيل الإطلاق
- امتثل أمر البدل أم لا - وإطلاق دليل البدل لا يضاد إطلاق دليل المبدل، ولا يدل
على سقوط الإعادة؛ لما أشرنا أن غاية إطلاقه هو جواز الإتيان به عند الاضطرار،
ولا دلالة على إجزائه عن المأمور به بأمر آخر.
نعم، لو ثبت أحد هذه الأمور فيمكن القول بالإجزاء؛ فإما نقول بدلالة دليل
البدل على استيفاء متعلقه تمام مصلحة الأمر المتعلق بالمبدل، أو دلالته على
استيفاء مقدار من مصلحة المبدل ويبقى مقدارا لا يجب تداركه، أو لا يمكن تداركه،
أو يكون دليل البدل دالا على سقوط دليل المبدل.

1 - النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
312

فلو ثبت أحد هذه الأمور يمكن القول بإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري
عن المأمور به بالأمر الواقعي.
ولكن الذي يقتضيه دقيق النظر عدم استفادة شئ من ذلك من إطلاق دليل
البدل وذلك: أما عدم دلالة البدل على استيفائه تمام مصلحة المبدل فظاهر أن
تشريع البدل إنما هو في صورة التعذر عن درك مصلحة المبدل، وإلا فلو كان واجدا
لتمام مصلحة المبدل فلابد وأن يجب في عرض وجوب مبدله.
وإن كان في خواطرك ريب فيما ذكرنا فاعرضه على العرف والعقلاء تراهم
أصدق شاهد على ما ذكرنا. مثلا لو قال المولى لعبده: " أضف العالم، فإن لم تقدر
على الضيافة فسلم عليه " لا يفهم العقلاء من ذلك أن مصلحة السلام وافية بتمام
مصلحة الضيافة، بل يفهمون أنه في صورة تعذر الوصول إلى المصلحة العالية ينبغي
أن لا تترك المصلحة الدانية.
وبالجملة: لو أخذ عنوان الاضطراري في موضوع فمعناه هو أنه في صورة
ذهاب المصلحة المهمة لا يجوز للشخص أن يكون في حالة يذهب عند تمام
المصلحة، بل يأتي بمقدار منها؛ ولذا يقال له: " بدل الاضطرارية ". فالمطلوب
الواقعي والحقيقي هو الأول؛ ولذا لا يرضى الشرع والعرف أن يخرج الشخص نفسه
عن موضوعه عمدا، بل يلومونه ويوبخونه جدا؛ ولذا لو أمكن المكلف في حال
الاضطرار إتيان المأمور به بالأمر الواقعي ويجب عليه.
وإياك أن تختلط عنوان الاضطرار بعنوان المسافر؛ لوضوح الفرق بينهما فإن
عنوان المسافر والحاضر عنوانان عرضيان، وللمكلف من أول الوقت المضروب
للصلاة إلى آخره أن يجعل نفسه مصداقا لكل من عنواني الحاضر والمسافر؛ فمن
كان حاضرا يتم صلاته، ومن كان مسافرا يقصر، وقد ورد اللعن على من تم صلاته
313

في السفر (1). بخلاف عنواني الاختيار والاضطرار فإنهما عنوانان طوليان تكون
مصلحة العنوان الاضطراري دون مصلحة العنوان الاختياري، والعرف والعقلاء
أصدق شاهد على ذلك، وهم ببابك فاختبرهم.
فظهر: أنه لا يستفاد من دليل البدل وفاؤه بتمام مصلحة المبدل.
وأما دلالته على وفائه مقدارا من مصلحة المبدل بحيث لا يجب تدارك ما
بقي منه، أو لا يمكن تداركه، أو دلالته على سقوط الأمر بالمبدل، فلا يستفاد شئ
من ذلك؛ لما أشرنا أن مقتضى دليل الاضطراري - كدليل التيمم عند فقدان الماء -
هو جواز الصلاة مع الطهارة الترابية، من دون أن يكون دالا على استيفائه مقدارا من
مصلحة المبدل بحيث يبقى مقدار لا يجب استيفاؤه، أو لا يمكن استيفاؤه، أو دالا
على سقوط الأمر بالمبدل، كل ذلك خارج عن مقتضى إطلاق دليل البدل.
نعم، لا يبعد أن يستفاد من إطلاق دليل البدل ودليل الاضطرار أن متعلقه
وافيا بمصلحة مهمة، وإلا لما وجب. ولكن يرفعه إطلاق دليل المبدل، وأنه يجب
استيفاؤه عند التمكن منه في الوقت.
هذا فيما إذا كان لكل من دليل البدل أو المبدل إطلاق.
وأما إذا كان لدليل المبدل إطلاق دون البدل، فعدم الإجزاء واضح لا يحتاج
إلى تجشم البيان.
وأما إذا كان لدليل البدل إطلاق دون المبدل، فهو مثل ما لو لم يكن لشيء
منهما إطلاق يظهر حالهما مما نذكره في الخاتمة في حكم الشك، فارتقب حتى
حين.

1 - راجع وسائل الشيعة 5: 539، كتاب الصلاة، أبواب صلاة المسافر، الباب 22، الحديث 3 و 8.
314

المورد الثاني: في حكم القضاء لو استوعب الاضطرار تمام الوقت
موضوع البحث في هذا المورد هو ما لو استوعب الاضطرار تمام الوقت
المضروب للعمل وأتى المكلف بالأمر الاضطراري مع جميع شرائطه وخصوصياته
الدخيلة فيه عقلا وشرعا، ثم ارتفع الاضطرار خارج الوقت، فوقع البحث في
وجوب القضاء عليه خارج الوقت، أم لا.
والكلام في ذلك هو الكلام في صورة عدم استيعاب الاضطرار تمام الوقت؛
فعلى المختار - من وحدة الأمر - لا يجب القضاء؛ لأن وجوب القضاء فرع تحقق
عنوان الفوت؛ لقوله (عليه السلام): " من فاتته فريضة فليقضها كما فاتت " (1) ومع الإتيان
بالطبيعة المأمور بها لا يبقى له موضوع.
وأما على القول بتعدد الأمر في باب الاضطرار - كما يستفاد من ظاهر
الكلمات - فإن كان الدليلان مستقلين فإن قام دليل على عدم وجوب الزائد على
الواحد، كما هو الشأن بالنسبة إلى الصلاة حيث قام الإجماع على أن الواجب على
المكلف في الفرائض اليومية ليس إلا صلاة واحدة، فمع الإتيان بالصلاة في الوقت
المضروب لها فلا وجه لعدم الإجزاء.
وإن لم يتمم دليل من الخارج على عدم وجوب الزائد على الواحد فإما
يكون لكل من دليلي المبدل والبدل إطلاق، أو لا يكون لهما إطلاق، أو يكون لدليل
المبدل إطلاق دون العكس، أو بالعكس، فالكلام في هذه الصور هو الكلام في صور
العذر غير المستوعب طابق النعل بالنعل، فيعلم مما ذكرناه هناك، فلا وجه للتكرار
وتطويل الكلام، ولعله لذا لم يتعرضها سماحة الأستاد - دام ظله - وأوكله على
وضوحه، فتدبر.

1 - لاحظ وسائل الشيعة 5: 359، كتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلوات، الباب 6، الحديث 1.
315

الخاتمة
في حكم صورة الشك
ولا يخفى: أن محط البحث في مسألة الإجزاء حيث إنه في أن الإتيان
بالمأمور به بالأمر الاضطراري مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي، فلابد من حفظ
عنوان المأمور به في البحث، والبحث في حكم صورة الشك حيث إنه في الشك في
كونه مأمورا به خارج عن موضوع البحث، لكن يكون داخلا في ملحقات البحث،
فينبغي البحث فيه لبعض الفوائد المترتبة عليه.
فنقول: قد عرفت مقتضى الحال على المختار في مسألة الاضطرار من وحدة
الأمر وعلى مختار المشهور من تعدد الأمر في صورة إطلاق الأدلة، وأما مع إهمال
الأدلة في المبدل والبدل إذا وقع الشك في إجزاء المأتي به حال الاضطرار عن
المأمور به بالأمر الواقعي.
فعلى المختار - من وحدة الأمر وكون المأمور به طبيعة واحدة في حالتي
الاختيار والاضطرار - أو قلنا بتعدد الأمر ولكن لم يكونا مطلوبين مستقلين،
فالقاعدة تقتضي الاشتغال؛ لأن التكليف المتعلق بنفس الطبيعة معلوم، وحيث لم
يكن إطلاق في البين في أن الإتيان بالفرد الاضطراري مسقط للأمر المتعلق
بالطبيعة أم لا، فالقاعدة الاشتغال.
وبعبارة أخرى: يشك فيما أتى به أنه مصداق للطبيعة التي تكون مأمورا بها أم
لا؟ مثلا الأمر في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (1)

1 - الإسراء (17): 78.
316

تعلق بنفس طبيعة الصلاة بين الحدين، ودليل اشتراط الطهارة دل على أنه إذا
كنت واجدا للماء فيجب الطهارة المائية، وإلا فالطهارة الترابية، وفرض أنه لم يكن
لدليل الشرط في حالتي وجدان الماء وفقدانه إطلاق. فلو اضطر وأتى بالفرد
الاضطراري ثم ارتفع الاضطرار فشك في إسقاط التكليف المعلوم فالقاعدة تقتضي
بقاء الخطاب المحدود بين الحدين.
وأما على تعدد الأمر بحيث تعلق أحدهما بالصلاة مع الطهارة المائية والآخر
بالصلاة مع الطهارة الترابية فلا يخلو إما أن نقول في مورد العذر - سواء كان عقليا
محضا كعدم القدرة على الامتثال، أو عقليا غير محض؛ بأن تصرف الشارع فيه،
كعدم وجدان الماء المأخوذ في قوله تعالى: (فلم تجدوا ماء) (1) فإن المراد به عدم
الوجدان العرفي لا العقلي بسقوط التكليف عند العذر ويحيي عند القدرة، أو نقول
ببقاء التكليف وفعليته، إلا أن المكلف معذور عند ذلك.
والحق عندنا - كما سنذكره في مبحث الترتب مفصلا - الأخير؛ لأن الأحكام
القانونية تتعلق بالطبائع، فإذا وقعت في معرض الإجراء تكون فعلية من دون لحاظ
حالات آحاد المكلفين، ولا يكون الحكم فعليا بلحاظ حالة شخص وإنشائيا
بلحاظ حالة شخص آخر.
فالأحكام التي بلغها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وصارت
في معرض عمل الأمة الإسلامية كلها أحكام فعلية (2).

1 - المائدة (5): 6.
2 - قلت: وهي غير الأحكام المذخورة عند ولي الله الأعظم - جعلني الله من كل مكروه فداه - فإنها
أحكام إنشائية غير بالغة مرحلة الفعلية، تصير فعلية عند ظهوره، عجل الله فرجه الشريف وجعلنا
من أنصاره وأعوانه. [المقرر حفظه الله].
317

نعم في بعض الموارد يكون بعض آحاد المكلفين معذورين في مخالفتها.
فإن قلنا بالأول فالقاعدة لو خليت ونفسها تقتضي البراءة؛ وذلك لأن الأمر
المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية سقط بالتعذر - حسب الفرض - وصار الحكم
الفعلي في حقه في ذلك الحال الصلاة مع الطهارة الترابية، وبعد زوال العذر يحتمل
استيفاء ما أتى به لتمام المصلحة، ويحتمل عود التكليف الساقط، فالقاعدة تقتضي
البراءة. ولا فرق في جريان البراءة بين الشك في أصل التكليف وبين عود ما سقط.
وأما إن قلنا ببقاء التكليف عند الاضطرار، وغاية ما تقتضيه أدلة الاضطرار
هي معذورية المكلف عند ذلك، فبعد ارتفاع الاضطرار فالقاعدة تقتضي الاشتغال.
تذييل
ثم إنه قد يقرر للاشتغال بأن المقام من باب دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
والحق - كما قرر في محله - أنه لا مجال عند ذلك للتخيير، بل التعيين؛ وذلك لأن
من اضطر في بعض الوقت حيث يحتمل في فعلية الحكم الاضطراري في حقه
استيعاب الاضطرار فيدور أمره بين لزوم الانتظار تعيينا إلى أن يرفع الاضطرار حتى
يأتي المأمور به بجميع أجزائه وشرائطه خاليا عن الموانع، وبين جواز البدار
والإتيان بما له من الاضطرار؛ لاحتمال عدم لزوم استيعاب الاضطرار.
فلو أتى بالاضطراري ثم تبدلت حالته إلى الاختيار يجب عليه الإتيان
بالاختياري أيضا؛ لأنه لا يعلم خروج عهدته عن التكليف القطعي بفعل
الاضطراري، فتدبر.
ولكن التحقيق أن يقال: إن المقام إنما يكون من باب دوران الأمر بين التعيين
والتخيير لو قلنا بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات؛ فعليه ففي أول الوقت يكون
318

مكلفا بتكليف فعلي، ولكن يشك في كونه مخيرا بين التكليف الاضطراري أو
الاختياري، وبين وجوب الانتظار وتعين التكليف الاختياري.
فلو قلنا: إن المرجع في الدوران بين التعيين والتخيير والاشتغال - كما هو
الحق، كما قرر في محله - فلا محيص عن الاشتغال، حيث لا إطلاق لشيء من
الدليلين حتى يرفع الشك به، كما هو المفروض.
وأما لو لم نقل بتنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات فلا محيص عن البراءة؛
لأنه في وقت الاضطرار لا تكليف جزمي عليه أصلا؛ أما التكليف الاختياري
فواضح للاضطرار، وأما الاضطراري فلاحتمال لزوم الاستيعاب فيه، فلا يقطع
بالاندراج تحته. فمع ذلك لو أتى به اعتمادا على عدم لزومه، ثم تبدل حاله
بالاختيار، فيشك في حدوث الأمر الاختياري في حقه. نعم لو لم يأت به إلى زوال
الاضطرار يجب عليه الاختياري.
وبالجملة: أن المقام إنما يكون من باب الدوران بين التعيين والتخيير إذا قلنا
بتنجز العلم الإجمالي في التدريجيات، وعليه لابد من الاشتغال، بناء على ما هو
الحق من الأخذ بالتعيين عند الدوران. وأما لو قلنا بعدم تنجز العلم الإجمالي فيها
فالبراءة، فتدبر جيدا.
فحاصل المقال: أن الحق في صورة الشك فيما إذا كان الأمر واحدا حقيقة أو
حكما هو الاشتغال، وفيما إذا كان الأمر متعددا هو الاشتغال أيضا على بعض
الوجوه، والبراءة على بعضها الآخر.
هذا حال الإعادة في الوقت مع الإهمال وعدم الإطلاق.
وأما القضاء خارج الوقت بعد إتيانه بالاضطراري فالأصل الجاري في المقام
هو البراءة، إلا إذا دل دليل على لزوم الإتيان؛ لأن موضوع وجوب القضاء - كما
أشرنا - هو عنوان الفوت، ولا يكاد يصدق بعد إتيان الاضطراري.
319

وتوهم إثبات الفوت باستصحاب عدم إتيان الفريضة في الوقت المقرر لها
مبني على حجية الأصول المثبتة؛ لأن عنوان الفوت غير عنوان عدم الإتيان مفهوما،
وإن كانا متلازمين في الخارج. وإثبات عنوان الفوت باستصحاب عدم الإتيان
كإثبات أحد المتلازمين بالاستصحاب الآخر، فتأمل جيدا.
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا تعرف النظر فيما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره)،
حيث اختار البراءة عند الإهمال وعدم الإطلاق من دون تفصيل (1)، كما أشرنا.
ذكر وتعقيب
أورد المحقق العراقي (قدس سره) على ما ذهب إليه أستاده المحقق الخراساني (قدس سره) -
من القول في البراءة على سبيل الإطلاق من دون تفصيل عند إهمال الأدلة وعدم
الإطلاق لها - بما حاصله: أن البراءة إنما تتم إذا قلنا بأن متعلق التكليف في الصلاة
- مثلا - هو الجامع بين صلاتي المختار والمضطر، كالجامع بين صلاتي المسافر
والحاضر، وإنما عين الشارع لكل واحد من المكلفين فردا خاصا به من أفراد
الجامع في مقام الامتثال، فلا محالة يكون المأتي به في حال الاضطرار هو نفس
المأمور به في حال الاختيار، غايته بفرد آخر. فعليه يكون الشك بعد رفع الاضطرار
في حدوث تكليف جديد؛ فالمرجع البراءة، ولا مجال للاستصحاب، كما لا مجال
للتمسك بالإطلاق، كما هو واضح.
وأما لو قلنا بأن متعلق التكليف هو الصحيح الجامع لجميع الأجزاء والشرائط
الذي هو وظيفة المختار، وإنما المانع من تنجز التكليف به في حق غيره هو
الاضطرار.

1 - كفاية الأصول: 110.
320

وعليه لا محالة يكون العمل الاضطراري بدلا عنه، فيلزم ملاحظة وفاء البدل
لمصلحة المبدل في مقام إجزائه عنه. وعليه بعد الامتثال ورفع الاضطرار يكون
المرجع عند الشك الاستصحاب التعليقي في بعض الصور، أو الاشتغال؛ إما للشك
في القدرة أو لدوران الأمر بين التعيين والتخيير، انتهى محررا (1).
وفيه: أنه (قدس سره) أثبت عكس الأمر، وقال بالاشتغال على الأول والبراءة على
الثاني؛ وذلك لأنه لو كان الأمر واحدا وأتى بما يحتمل كونه مصداقا بعد عدم القطع
بكفاية العذر غير المستوعب، ثم تبدل حالته بالاختيار، يكون الشك في امتثال ذلك
الأمر الواحد الباقي على حاله، ومعه لا محيص عن الاشتغال؛ لعدم القطع بالامتثال
مع احتمال لزوم استيعاب العذر؛ حيث لا إطلاق ولا عبرة مما يدل على عدم لزومه،
وكفاية الاضطرار في الجملة.
وأما لو كان وزان الاضطراري بالنسبة إلى الاختيار وزان البدل بالنسبة إلى
المبدل منه فلا ملزم لإحراز كونه تمام المبدل المعلوم عدم ذلك الأمر المتعلق
بالجامع حال الاضطرار. وحينئذ لو أتى به حال الاضطرار ثم تبدل حاله بالاختيار
لزم الاستيعاب فيه. ولكنه لا يقطع أيضا بحدوث الاختياري.
فانقدح بما ذكرنا: أن ما أورده المحقق العراقي (قدس سره) على المحقق
الخراساني (قدس سره) غير وارد، فتدبر.

1 - بدائع الأفكار 1: 276.
321

الموضع الثاني
في أن الإتيان بمقتضى الطرق والأمارات
هل يكون مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي، أم لا
وليعلم: أن موضوع البحث في ذلك هو ما إذا كان هناك أمر متعلق بمركب
ذي أجزاء وشرائط وموانع وقامت أمارة على عدم جزئية شئ أو شرطيته أو عدم
مانعية شئ فيأتي المكلف المركب بدونها، ثم انكشف الخلاف في الشبهة الحكمية،
أو قامت أمارة على جزئية شئ أو شرطية شئ أو عدم مانعية شئ فأتى على
طبقها فبان خلافه في الشبهة الموضوعية.
مثلا إذا أتى المكلف بمصداق من الصلاة مثلا بدون السورة، أو بدون
الاستقرار، أو مع أجزاء ما لا يؤكل لحمه - مستندا إلى رواية معتبرة - فبان خلافه،
أو أخبرت البينة - مثلا - بأن القبلة هي هذه الجهة فصلى إليها، ثم انكشف الخلاف،
هل يوجب الإجزاء أم لا؟
وبالجملة: موضوع البحث هنا فيما إذا كان هناك أمر متعلق بمركب في
أجزاء وشرائط مثلا، وقامت أمارة على عدم جزئية شئ أو شرطية شئ - مثلا -
لذلك المركب في الشبهة الحكمية، أو أخبرت البينة على وجود الشرط أو عدم
المانع، فأتى المكلف المركب بدون ذلك الجزء أو الشرط - مثلا - ثم انكشف
الخلاف في الوقت أو خارجه، هل يجتزي بما أتى به أم لا؟
فمن أتى بمصداق من الصلاة - مثلا - مع ترك ما يعتبر فيها استنادا إلى رواية
معتبرة في الشبهة الحكمية أو بينة في الشبهة الموضوعية، فانكشف الخلاف، هل
يوجب الإجزاء وعدم الإعادة في الوقت أو القضاء خارجه أو لا؟ هذا.
وأما الأمارة الجارية في إثبات أصل التكليف أو نفيه - كما إذا قام دليل
322

اجتهادي على وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوبها، ثم انكشف الخلاف -
فهو خارج عن موضوع البحث فيما نحن فيه، ولا معنى للإجزاء فيه.
إذا عرفت موضوع البحث في المقام فيقع البحث فيه على ما هو الحق في
حجية الطرق والأمارات؛ من كون حجيتها من باب الطريقية، ولا يهم ولا ينبغي
البحث فيه على فرض حجيتها من باب السببية والموضوعية - لفساد المبنى حسب
ما قرر في محله - ويكون البحث عليها وذكر الأحكام والآثار المترتبة على كلا
المبنيين والتعرض لها ولصورة كون حجيتها من باب الطريقية أو السببية والموضوعية
تطويل بلا طائل، ولا فائدة لذكرها. فما ارتكبه المحقق العراقي (قدس سره) وأتعب نفسه
الزكية بذكرها مما (1) لا طائل تحته، ولعله يكون تضييعا للعمر، والله الموفق.
ثم إن تصوير الأمارية في الطرق والأمارات حيث إنه على أنحاء ثلاثة فلابد
من الإشارة إليها، ثم بيان الإجزاء وعدمه بالنسبة إلى كل منها؛ فنقول:
الأول أن يقال: إن بناء العقلاء قد استقر على العمل ببعض الأمارات، وكان
ذلك بمرئى من الشارع الأقدس وسمعه، ولم يردع عنه أصلا؛ فيستكشف من عدم
ردعه عنه رضاه بذلك، كما هو الشأن في الاعتماد على قول الثقة مثلا.
وبالجملة: استقر بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة والظاهر ونحوهما، وكان
ذلك بمرئى من الشارع وسمعه ولم يردع عنه؛ فيستكشف من ذلك رضاه بما هم
عليه.
الثاني أن يقال كسابقه: استقر بناء العقلاء على العمل بذلك، ولكن ورد من
الشرع الأقدس تقرير وإمضاء لما هم عليه.
الثالث أن يقال: إن للشارع أمارة تأسيسية بعدما لم يكن عند العقلاء لها عين
ولا أثر، كما احتمل ذلك في أمارات الحيض وأمارات البلوغ ونحوهما.

1 - بدائع الأفكار 1: 292.
323

فظهر: أن تصور الأمارية في حجية الطرق والأمارات على أنحاء ثلاثة،
والذي يقتضيه التحقيق عدم الإجزاء في شئ منها - ولو على القول بأن للشارع
الأقدس أمارة تأسيسية - وذلك:
أما على الوجهين الأوليين فواضح؛ وذلك لأن الشارع حسب الفرض لم
يتصرف في الأمارة شيئا، وإنما قرر العقلاء على ما هم عليه؛ إما بعدم الردع، أو
بإمضائه وتقريرهم على ما هم عليه. فلابد من ملاحظة محيط العرف والعقلاء في
العمل بالطرق والأمارات، ولا شك أن عمل العقلاء لكشفها وأماريتها نوعا عن
الواقع، من دون تصرف فيه، بل بقاؤه على ما هو عليه، كما هو الشأن في العلم
والقطع، فكما أنهم إذا قطعوا بأمر لا يوجب ذلك تصرفا في الواقع، ولا تمس
بكراهته شيئا، فكذلك إذا قامت أمارة عليه، كخبر الثقة.
وبالجملة: لا فرق عند العقلاء بين القطع والأمارة الظنية - من خبر الثقة واليد
والظاهر ونحوها - من جهة أن لها واقع محفوظ، وتلك الأمور طرق إليه قد تطابقه
وقد لا تطابقه، من دون أن تمس كراهة الواقع، ولا يكاد يتصرف فيه.
وواضح: أن العقلاء لا يكتفون في موارد قيام الطرق والأمارات بما أتوا طبقا
لمؤدى الأمارة لو تخلفت عن الواقع؛ بأن كان الواقع على خلاف مؤدى الأمارة
معتذرا بقيام مؤدى الأمارة مقام الواقع، بل يلتزمون بإتيان الواقع بعد كشف الخلاف.
ولعمر الحق إنه واضح لمن سبر وتفحص حالهم.
وحيث إن الشارع حسب الفرض سكت أو أمضاهم على ما هم عليه فلا
معنى لحديث التضييق والتحكيم والتقييد، كما لا وجه لجبران مصلحة الواقع أو كونه
وافيا لمصلحة الواقع، إلى غير ذلك من المطالب التي تمور بين الألسن.
والسر في ذلك: هو أن الشارع الأقدس حسب الفرض يكون كأحد من
العقلاء في ذلك.
324

نعم في إنفاذ بنائهم على ما هم عليه حكمة؛ وهي تسهيل الأمر؛ لعدم حصول
العلم غالبا وصعوبة العمل بالاحتياط.
فتحصل: أن في محل البحث - وهو المركب الارتباطي (1) - لو قامت أمارة
على كون شئ جزء لم يكن جزء في الواقع، أو نفى جزئية شئ يكون جزء في
الواقع. وكذلك في جانب الشرط أو المانع لا يوجب ذلك تصرفا في الواقع، ولا
تمس كراهته، بل يكون الواقع باقيا على ما هو عليه.
وأما على الوجه الأخير - أي القول بكون الأمارة مما أسسها الشارع -
فكذلك أيضا؛ لأنه لو فرض أن لسان قوله (عليه السلام): " ما أدى فعني يؤدي... " (2) أو
قوله (عليه السلام): " لا عذر لأحد من موالينا التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا... " (3)
تأسيس أمارة، فمعناه ليس إلا حجية الواقع والتحفظ عليه، من دون أن يوجب تصرفا فيه أو
قلب الواقع عما هو عليه.
وبعبارة أخرى: تأسيس الشارع أمارة معناه إيجاب العمل على طبق الأمارة،
وبعد تأسيس الأمارة يكون ما أسسه مثل ما يراه العقلاء أمارة وتقع في عرضها؛
فكما لا يكون مقتضى الأمارات الموجودة عندهم الإجزاء - كما أشرنا - فكذلك في
المصداق الذي أسسه الشارع.
فاتضح مما ذكرنا: أن متعلق الجعل لابد وأن يكون له كاشفية في نفسه،
كالظن غير المعتبر.

1 - قلت: وأما غير المركب الارتباطي فالظاهر أنه خارج عن محل البحث. [المقرر حفظه الله].
2 - الكافي 1: 329 / 1. وسائل الشيعة 18: 99، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 4.
3 - رجال الكشي: 535 / 1020. وسائل الشيعة 18: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات
القاضي، الباب 11، الحديث 40.
325

فتوهم إمكان جعل الأمارية للشك الذي لا يكون له كاشفية أصلا - كما لعله
ربما يتوهم - لا وجه له.
وكذا لا وجه لأن يقال: إن حجية أمارة مقتضاها تتميم الكشف (2)، أو تنزيل
مؤدى الأمارة منزلة الواقع (2).
أما الأول؛ فلأنه تصرف في التكوين، ولا شأن للشارع - من حيث إنه شارع -
التصرف في التكوين.
نعم إن رجع تتميم الكشف إلى ما ذكرنا من أن مقتضى أمر الشارع بالعمل
بأمارة مقتضاه كونه طريقا إليه، نظير الطرق الموجودة عندهم.
وأما الثاني؛ فلأن تنزيل المؤدى منزلة الواقع ينافي الأمارية؛ لأن معنى
التنزيل هو أن نفي ما أدى إليه الأمارة من دون أن يكون لها كاشفية عن الواقع منزل
منزلة الواقع، نظير قولك: " إذا شككت فابن على كذا... "، فكما أن الشك في شئ
موضوع للبناء عليه، من دون أن يكون للشك كاشفية في ذلك، فكذلك تنزيل مؤدى
الأمارة منزلة الواقع لا يكون له أمارية.
وبالجملة: مقتضى وجوب الشارع العمل بقول الثقة - مثلا - لو فرض كونه
مما أسسه الشارع إنما هو لتقيد وكشف قوله عن الواقع نوعا، لا أن قوله منزل منزلة
الواقع. نعم العمل بالأمارة معذر ما لم ينكشف الخلاف، فإذا انكشف الخلاف يجب
إعادتها في الوقت وقضاؤها خارج الوقت.
فظهر: أن مقتضى الأمارة التأسيسية - كالأمارة العقلائية - عدم الإجزاء عند
كشف الخلاف.

1 - فوائد الأصول 3: 17.
2 - درر الفوائد، المحقق الخراساني: 31.
326

إيضاح مقال وتضعيف مباني
ولتوضيح المقال تعود وترجع ونقول: إن الكلام في الإجزاء في الأمارات
تارة على مذهب المختار في اعتبار الأمارات، وأخرى على مذهب ما يقال في
ذلك:
أما على مذهب المختار فيها: فهو أن الذي حصل لنا بالتحقيق فيها هو أن
الشارع الأقدس لم يجعل أمارة تأسيسية، بل أمضى الأمارات الدارجة عند العقلاء؛
إما بالسكوت وعدم الردع عما هم عليه واستكشفنا رضاه من سكوته، أو أمرهم
وقررهم على ما هم عليه، وعلى أي منهما لابد من ملاحظة العقلاء في العمل
بالأمارة.
وواضح: أنه إذا لاحظنا حالهم نراهم يعملون بخبر الثقة - مثلا - نظير عملهم
بالقطع في أنها طريق محض إلى الواقع، من دون أن توجب تغيير أو تصرفات فيه،
وليس عملهم بخبر الثقة لأجل قيام خبر الثقة مقام القطع، أو تتميم كشفه عن الواقع،
أو قيام المؤدى مقام الواقع، أو تنزيل ذلك منزلة الواقع، إلى غير ذلك مما ذكروه في
هذا المضمار، بل لأجل وثوقهم بمطابقة مؤداه للواقع أو لكشفه عنه نوعا من دون
تصرف فيه، نظير ما إذا شاهدت شيئا وتخيلت أنه زيد - مثلا - فانكشف أنه عمرو،
فكما لا توجب الشاهد تصرفا في الواقع فكذلك عند قيام الأمارة، فلا يكتفون بما
إذا عملوا بها عند كشف الخلاف، وليس هذا إلا عدم الإجزاء.
ولو فرض أن للشارع أمارة تأسيسية فمعناه ليس إلا وجوب العمل على
طبقها بلحاظ كشفها عن الواقع، نظير الأمارات الدارجة عند العقلاء. ولا يستفاد من
قوله (عليه السلام): " ما أدى فعني يؤدي " وقوله (عليه السلام): " لا عذر في التشكيك فيما يرويه
عنا ثقاتنا " لو فرض أنهما بصدد تأسيس أمارة شرعية، إلا أن العمل بخبر الثقة
لأجل كاشفيته عن الواقع.
327

ولا ينقدح في الذهن منهما غير ما ينقدح من قولك: " اعمل بقطعك "، فكما لا
يستفاد من ذلك تصرف في الواقع وتبديل مؤدى القطع منزلة الواقع، فكذلك لا
يستفاد منهما. وواضح أن ما هذا شأنه يقتضي عدم الإجزاء عند كشف الخلاف.
فحاصل الكلام: أنه لا فرق في الأمارة الإمضائية أو التأسيسية في أن
مقتضاها عدم الإجزاء عند كشف الخلاف، فكما أن العرف والعقلاء لا يرون أن
الأمارة يتصرف في الواقع وتوجب انقلاب الواقع على طبقها - ألا ترى أن من كتب
لصديق مقالا له ظهور في معنى يعمل الصديق بظاهر كلامه بلا اتكال، ولكن لا يرى
أن ظاهره يوجب تصرفا في الواقع وينقلب الواقع على طبقه - فكذلك الكلام فيما
أسسه الشارع وأوجب العمل على طبقه إنما هو لأجل كاشفيته عن الواقع؛ لوضوح
أن الشارع اعتبر أمارة بحيثية معلومة عندهم، ولا ينقدح في ذهن أحد من ذلك أن
الشارع يريد التصرف في الواقع، بل غاية ما يستفاد من ذلك هي ازدياد أمارة على
الأمارات الدارجة بينهم بعدما لم تكن موجودة عندهم.
فظهر: أن معنى تأسيس الشارع أمارة هو ازدياد مصداق على المصاديق
الدارجة عندهم.
فإذن: الأمارات - تأسيسية كانت أو إمضائية - تكون نظير القطع من جهة أنها
منجز للواقع عند المصادفة ومعذر عند المخالفة، فإذا انكشف الخلاف انتهى أمد
العذر، فيجب إتيان الواقع بالإعادة في الوقت لو انكشف الخلاف في الوقت،
والقضاء خارج الوقت لو انكشف الخلاف بعد انقضاء الوقت.
هذا كله على مذهب المختار في اعتبار الأمارات. ولعله إذا أحطت خبرا بما
ذكرنا تقدر على دفع ما ربما يقال في المقام للإجزاء، ولا يلزم تجشم ذكره ودفعه.
ولكن استيفاء البحث في ذلك يقتضي الإشارة إلى غاية ما قيل أو يمكن أن يقال
للإجزاء في العمل بالطرق والأمارات.
328

الوجوه التي يستدل للإجزاء في العمل بالأمارات ودفعها
الوجه الأول:
وهو أن مقتضى أدلة حجية خبر الواحد - الذي هو عمدة الأمارات، وبه قوام
الفقه والشريعة المقدسة - تنزيل مؤدى خبر الثقة منزلة الواقع؛ وذلك لأن مفهوم قوله
تعالى في آية النبأ (1) حجية قول العادل وتنزيل قوله منزلة الواقع، وكذا معنى
قوله (عليه السلام): " لا ينبغي التشكيك فيما يرويه ثقاتنا " (2) هو أن ما يرويه ثقاتنا منزل
منزلة الواقع لا ينبغي التشكيك فيه، وكذا قوله (عليه السلام): " العمري وابنه ثقتان ما أديا
فعني يؤديان " (3) معناه أن ما أداه العمري وابنه منزل منزلة الواقع، أو ابن على أن
مؤدى قول العمري وابنه مؤدى قولي، ولازم ذلك أنه أخبر الثقة بأن الشيء الفلاني جزء للصلاة أو
شرط أو مانع لها فلابد من البناء العملي وترتيب آثار الجزئية أو الشرطية أو
المانعية عليه، وإن كان في الواقع غير جزء أو شرط أو مانع. ومن آثار هذا التنزيل
عدم الإعادة في الوقت لو انكشف الخلاف في الوقت، أو عدم القضاء خارج الوقت
لو انكشف خارج الوقت.
وفيه أولا: أنه لا يكون مقتضى شئ مما استدل به لحجية خبر الواحد تنزيل
مؤداه منزلة الواقع؛ لعدم دلالة شئ من الآية والروايات على حجية خبر العادل
تأسيسا؛ حتى آية النبأ فإنها تدل على أنهم قبل نزول الآية المباركة كانوا

1 - الحجرات (49): 6.
2 - راجع وسائل الشيعة 18: 108، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11،
الحديث 40.
3 - الكافي 1: 329 / 1. وسائل الشيعة 18: 99، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي،
الباب 11، الحديث 4.
329

يعملون بخبر الواحد والشارع اشترط العدالة في العمل بخبر الواحد، أو أنه
تعالى أشار إلى فسق وليه، فأنى للآية المباركة وتنزيل المؤدى منزلة الواقع؟!
وقوله (عليه السلام): " لا ينبغي التشكيك فيما يرويه... " إلى آخره ظاهر في أن قول
الثقة حجة ومعذر لا ينبغي التشكيك فيه.
وكذا قوله (عليه السلام) في حق العمري وابنه بملاحظة صدر الرواية حيث أجاب
الإمام (عليه السلام) عن أنهما ثقتان أم لا: " العمري وابنه ثقتان ما أديا فعني يؤديان " يستفاد
منه أن حجية قول الثقة كانت معلومة عند السائل، والسؤال إنما هو عن الصغرى
وأنهما تقعان أم لا، فقوله (عليه السلام): " ما أديا فعني يؤديان " بعد قوله أنهما ثقتان تأكيد
لوثاقتهما.
ولا يخفى: أن المعنى الذي أشرنا إليه في معنى الآية المباركة والروايات هو
المتبادر منه في أمثال المقام. وإن كنت - مع ذلك - في ريب من ذلك فالعرف ببابك،
فاستعلمهم واستخبرهم، تجدهم أصدق شاهد على ما ذكرنا.
وثانيا: لو سلم أن أدلة حجية خبر الواحد تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيخرج
خبر الواحد عن الأمارية، ويكون نظير الحكم المجعول على المشكوك فيه،
كقوله (عليه السلام): " إذا شككت بين الأقل والأكثر فابن على الأكثر " (1)، فكما أن حكم
البناء على الأكثر مجعول على الشك بين الأقل والأكثر فكذلك حكم البناء على
تنزيل المؤدى منزلة الواقع مجعول على خبر الثقة.
نعم، لا يكون على هذا أصلا؛ لأن الموضوع في الأصل هو المشكوك بما هو
مشكوك، ولم يكن المقام كذلك كما لا يخفى، فتدبر.
وبالجملة: لو كان مفاد حجية خبر الواحد تنزيل مؤداه منزلة الواقع يكون
نظير الأصل، حيث أثبت الحكم على موضوع الشك، من دون أن يكون له واقع
تطابقه أم لا، فتدبر جيدا.

1 - وسائل الشيعة 5: 318، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 8، الحديث 2.
330

الوجه الثاني:
إن بين الأصل والأمارة وإن كان فرقا من جهة إلا أن بينهما تساوي من جهة
أخرى؛ وذلك لأن في الأمارة وإن كانت جهة الكشف وإراءة الواقع بخلاف الأصل -
بداهة أن في الظن إراءة الواقع دون الشك - إلا أن الحكم الظاهري مجعول على
مؤداهما، ولا فرق بين أدلة حجية الأمارة والأصل.
وبعبارة أخرى: لسان أدلة الأصول والأمارات واحد؛ وهو وجوب العمل
على الأمارة أو الأصل، فكما أن في مشكوك الطهارة - مثلا - يترتب آثار الطهارة
على المشكوك فيه فكذلك يجب العمل على مؤدى الأمارة، و " صدق العادل " ينحل
إلى تصديقات عديدة بعدد إخبارات العدول.
وواضح: أن معنى تصديق العادل ليس إلا ترتيب آثار الواقع على مؤدى
الأمارة، فإذا قامت الأمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة - مثلا - فللمكلف
أن يبقى على عدم وجوب السورة فيها ويصلي بلا سورة، وإن كانت السورة واجبة
وجزء للصلاة في الواقع، كما أن مقتضى أدلة الحل أو الطهارة ترتيب آثار الحلية
والطهارة على مشكوك الحلية والطهارة، وإن كان في الواقع حراما أو نجسا.
وبالجملة: الفرق بين الأمارة والأصل وإن كان في ماهيتهما وحقيقتهما، ولكن
لا يضر ذلك بحيثية جعلهما واعتبارهما، فإن لسان حجيتهما واحد؛ وهو جعل
الوظيفة الظاهرية وترتيب آثار الواقع على طبقهما ومؤداهما. والعمل بكل منهما
مفرغ للذمة، فكما يقال بالإجزاء في باب الأصول، وإن من صلى في ثوب
مستصحب الطهارة وإن كان الثوب في الواقع نجسا لا يجب إعادة صلاته وقضاها
- بالتقريب الذي سيذكر في الموضع الثالث - فليقل بالإجزاء في باب الأمارات.
وفيه أولا: ليت تذكر أدلة حجية الامارة حتى نلاحظ فيها، فهل يوجد في
331

واحد منها ما يكون لسان مثل لسان " كل شئ طاهر " حيث جعل الطهارة
على موضوع الشك؟
ولعمر الحق إنه لم يوجد دليل يكون مفاده تصديق، بل جميع ما ورد يكون
إرشادا إلى ما هو المعلوم والمرتكز عند العرف والعقلاء، وواضح أنه كما أشرنا ليس
عند العقلاء إلا أن الأمارة طريق إلى الواقع، من دون تصرف فيه.
نعم، غاية ما يمكن أن يذعن به ويعترف به هو كون تصديق العادل معنى
اصطياديا من أدلة اعتبار الأمارة، فعلى هذا يكون فرق جلي بين لسان اعتبار
الأمارة ولسان اعتبار الأصل؛ لأن لسان اعتبار الأمارات التأسيسية - فضلا عن
إمضائياتها - لا يكون لسان تقييد الواقع، بل مقتضاها تعيين طرق إليه لم يكن معهودا
بينهم، ويفهم العرف جليا من لزوم العمل على قول الثقة أنه بلحاظ كشفه وإراءته
للواقع، من دون أن يكون مقتضاه جعل حكم على خبر الثقة.
وأما لسان اعتبار الأصول - كما سيمر بك عن قريب تفصيلها - فهو جعل
الحكم والوظيفة الظاهرية على المشكوك فيه من حيث هو مشكوك، فارتقب حتى
حين.
وثانيا: لو سلم كون مفاد اعتبار الأمارة تعبد الشارع بتصديق العادل لخرجت
الأمارة عن أماريتها، وتكون هي موضوع رتب عليه آثار الواقع، كما رتب آثار
الطهارة الواقعية على مشكوك الطهارة.
وبالجملة: يكون مقتضى ذلك جعل حكم شرعي؛ وهو تصديق العادل على
موضوع يكون أمارة تكوينية، مثل ما إذا قال المولى: لو أحرزت طلوع الشمس
فابن على مجيء زيد، كما أنه جعل الشك موضوعا للحكم الشرعي. وأنت خبير
بأن هذا اللسان غير لسان اعتبار الأمارة من جهة أماريته؛ بداهة أن لسانها
332

إنما هي إنفاذ الشارع ما يراه العرف والعقلاء، وواضح أن الذي عندهم هو أن
العادل لا يكذب على الواقع وقوله طريق إليه، فتدبر جيدا.
الوجه الثالث:
إن مقتضى دليل حجية أصل كما يكون جعل حكم مماثل على مؤداه.
فكذلك مقتضى دليل حجية الأمارة هو جعل حكم مماثل مؤداها، وواضح أن لازم
ذلك الإجزاء.
وبالجملة: لسان اعتبار الأمارة مثل لسان اعتبار الأصل، فكما أن مقتضى
اعتبار الأصول تحكيم الأدلة الواقعية، فليكن كذلك مقتضى اعتبار الأمارات.
وفيه أولا: أنه لم يكن لنا دليل يكون مقتضاه جعل حكم مماثل على طبق
الأمارة، ولا يستفاد منه أنه أن الشارع بصدد جعل أمارة تأسيسية. وغاية ما يستفاد
منه إمضاء ما عليه العقلاء كما عرفت، وقد عرفت أنهم يرون للأمارة الطريقية
المحضة، من دون تصرف في الواقع كالقطع، وواضح أن مقتضاه عدم الإجزاء عند
كشف الخلاف.
وثانيا: أنه لو سلم ذلك يلزم خروج الأمارة عن أماريتها، حيث إنه على هذا
ليس له واقع - تطابقه أم لا - بل يكون مفاده أنه عند قيام الأمارة على وجوب صلاة
الجمعة - مثلا - جعل وجوب صلاة الجمعة، وما هذا شأنه لم يكن إمضاء أمارة أو
تأسيسها على ما هي عليها، فلو كان يكون مقتضى جعل المماثل الإجزاء، كما ذكر
في التعريف، ولكن دون إثباته خرط القتاد.
ذكر وتعقيب: في عدم تمامية القول بجعل المماثل
إذا أحطت خبرا بما ذكرنا - من أنه لو تم القول بجعل المماثل على طبق
مؤدى الأمارة فمقتضاه الإجزاء - يظهر لك الخلل فيما أفاده المحقق الأصفهاني (قدس سره)
فإنه قال:
333

مفاد القواعد وأدلة الأمارات على المشهور بحسب اللب والواقع وإن كان
إنشاء أحكام مماثلة، ومقتضاه عدم الفرق لبا بين الحكم بالطهارة بالقاعدة أو بدليل
الأمارة - حيث إن من أحكامها الشرطية، فإن كانت منشئة حينئذ وكانت الصلاة مع
الشرط كان الأمر كذلك على أي تقدير، وإلا فلا - إلا أن لسان الدليل حيث إنه
مختلف فلا محالة يختلف مقدار استكشاف الحكم المماثل المنشأ بقاعدة الطهارة أو
بدليل الأمارة.
ومن الواضح: أن مفاد قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر " (1) أو " حلال " (2) هو
الحكم بالطهارة أو الحلية ابتداء، من غير نظر إلى واقع يحكي عنه. والحكم
بالطهارة حكم بترتب آثارها وإنشاء لأحكامها التكليفية والوضعية؛ ومنها الشرطية، فلا محالة
يوجب ضمه إلى الأدلة الواقعية التوسعة في الشرطية، ومثله ليس له كشف الخلاف؛
لأن ضم غير الواقع إلى الواقع لم ينكشف خلافه. بخلاف دليل الأمارة إذا قامت
على الطهارة؛ فإن معنى تصديقها وسماعها البناء على وجود ما هو شرط واقعا،
فيناسبه إنشاء أحكام الشرط الموجود، كجواز الدخول في الصلاة، لا إنشاء
الشرطية؛ إذ المفروض دلالة العبارة على البناء على وجود الطهارة الثابتة شرطيتها
واقعا بدليلها المحكي عنها، لا الحكم بالطهارة ابتداء، فإذا انكشف عدم الطهارة واقعا
فقد انكشف وقوع الصلاة بلا شرط، انتهى (3).

1 - المقنع: 15، مستدرك وسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30،
الحديث 4.
2 - الكافي 5: 313 / 40. وسائل الشيعة 12: 60، كتاب التجارة، أبواب ما يكسب به،
الباب 4، الحديث 4.
3 - نهاية الدراية 1: 392 - 395.
334

وفيه أولا: كيف ادعى الشهرة بالقول بجعل المماثل في الأصول والأمارات،
ولم نعرف القائل بذلك.
نعم، يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الاستصحاب أن مقتضى
الاستصحاب جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الاستصحاب (1).
وثانيا: أنه لو تم القول بجعل المماثل يلزم التفصيل بين الأصول والأمارات
المثبتة للأحكام، والنافية لها؛ لأنه لا معنى لجعل الحكم المماثل في الأمارة الجارية
لنفي الحكم؛ لأنه لم يكن فيها البناء على وجود ما هو شرط واقعا. فلو تم القول
بجعل المماثل فلابد وأن يكون مخصوصا بالأمارات المثبتة للتكليف.
وثالثا: لو تم القول بجعل المماثل فمقتضاه جعل طهارة مماثلة للطهارة
الواقعية في ترتيب جميع الآثار، لا خصوص جواز الدخول في الصلاة كما ذكره.
وبالجملة: لو تم حديث جعل المماثل في الأمارة فمقتضاه ترتب آثار ما
للواقع على مؤدى الأمارة، لا جواز الدخول في الصلاة فقط - كما هو الشأن في
الأصول - ومقتضى ذلك الإجزاء.
فظهر مما ذكرنا: أن القول بجعل المماثل تلازم القول بالإجزاء. ولكن الذي
يسهل الخطب هو عدم وجود دليل - لا ثبوتا ولا إثباتا - في المسألة يكون مفاده
وجوب العمل على طبقه.
إرشاد: في عدم تمامية تتميم الكشف
وأما حديث أن مقتضى حجية الأمارة هي تتميم كشفها ونفخ روح العلم فيها،
وإن كان عدم الإجزاء عند كشف الخلاف - لأنها حسب الفرض تصير كالقطع

1 - كفاية الأصول: 444 - 445.
335

وبمثابته؛ فكما أنه عند كشف الخلاف في القطع عدم الإجزاء فكذلك ما كان
بمثابته - إلا أن الذي يسهل الخطب عدم تمامية المبنى، كما سيجيء في محله.
وإجماله: أنه تصرف في التكوين، ولا شأن للشارع بما هو شارع التصرف
في التكوين. مضافا إلى أنه تخرص بالغيب وقول بلا دليل؛ لما أشرنا أنه ليس
للشارع الأقدس أمارة تأسيسية.
تكملة: في عدم لزوم تحليل الحرام أو تحريم الحلال في العمل
بالأمارات
ثم إنه يتوجه على القول بالإجزاء في الطرق والأمارات - مضافا إلى ما
تقدم - الإشكال الذي أورده ابن قبة على العمل بالطرق والأمارات؛ من تحليل
الحرام وتحريم الحلال حسبما فصل في محله.
وغاية ما تخلصنا به عن الإشكال العقلي: هي أنه بعدما كانت الطرق
والأمارات بمرئى ومسمع من الشارع، وكان يرى مخالفتها للواقعيات، ومع ذلك
أمضى العمل بها يستكشف من ذلك أن الشارع - لحكم ومصالح - رفع اليد عن
مطلوبه الأعلى إذا أدت الأمارة على خلافها، وذلك إنما يتم إذا لم ينكشف الخلاف
إلى الأبد. وأما إذا انكشف في الوقت أو خارجه فلا معنى مقبول لرفع اليد عنه.
وبالجملة: غاية ما تخلصنا به عن المحذور العقلي الذي أورده ابن قبة في
العمل بالطرق والأمارات إنما هي فيما لم ينكشف الخلاف في الوقت وخارجه، وأما
بعد انكشاف الخلاف فالمحذور باق لو قلنا بالإجزاء.
فتحصل من مجموع ما ذكرناه في هذا الموضع: أن مقتضى القاعدة الأولية في
العمل بالطرق والأمارات بعد كشف الخلاف في الوقت أو خارجه هو القول
336

بعدم الإجزاء، إلا إذا دل دليل على الإجزاء (1).

1 - قلت: ولسماحة أستادنا الأعظم البروجردي مقالا في الإجزاء في الطرق والأمارات، أشار إلى
ضعفه سيدنا الأستاد في غير هذه الدورة. ولتكميل المقال في مسألة الإجزاء أحببنا الإشارة
الإجمالية إلى ما أفاده وإلى ضعفه:
وحاصل ما أفاده: أن الأمارة - كخبر الثقة مثلا - وإن كانت بلسان حكاية الواقع ولكنها بنفسها ليست
حكما ظاهريا، بل الحكم الظاهري عبارة عن مفاد دليل حجية الأمارة الحاكمة بوجوب البناء
عليها.
وبعبارة أخرى: فرق بين نفس ما تؤدي عنه الأمارة وتحكيه، وبين ما هو المستفاد من دليل حجيتها؛
فإن خبر زرارة إذا دل على عدم وجوب السورة في الصلاة - مثلا - كان قوله حاكيا بنفسه عن
الواقع، - جعله الشارع حجة أم لا - ولكن الحكم الظاهري في المقام ليس عبارة عن مقول قول
زرارة من عدم وجوب السورة في الصلاة، بل هو عبارة عن مفاد أدلة حجية خبر الواحد؛ أعني
حكم الشارع - ولو إمضاء - بوجوب العمل على طبقه وترتيب الآثار على ما أخبر به الثقة.
فلو انحل قوله: " صدق العادل " مثلا بعدد الموضوعات كان معناه فيما قام خبر على عدم وجوب
السورة: " ابن على عدم وجوب السورة "، وظاهره أنه إذا صليت بغير السورة فقد امتثلت الأمر
بالصلاة وكان عملك مصداقا للمأمور به، وإن كانت السورة جزء واقعة انتهى محررا. [1]
وفيه: أن ما أفاده - مع اعترافه بأنه ليس للشارع أمارة تأسيسية، بل إمضاء لما عليه العقلاء - غير
ملائم؛ وذلك لما تقدم آنفا لعله بما لا مزيد عليه أن وزان الأمارة عند العقلاء وزان القطع من
حيث كشفها عن الواقع ومنجز له عند المصادفة ومعذر له عند المخالفة. فإذا انكشف الخلاف
انتهى أمد العذر، فيجب إتيان الواقع بالإعادة في الوقت أو القضاء خارجه.
بل عرفت: أنه لو فرض أن للشارع أمارة تأسيسية فكذلك؛ لأن معنى تأسيسية أمارة هو ازدياد
الشارع مصداقا على المصاديق عند العقلاء بعدما لم تكن موجودة عندهم، فتكون الأمارة
المؤسسة جارية مجرى الأمارات الدارجة بينهم.
وبالجملة: لسان اعتبار الأمارات التأسيسية - فضلا عن إمضائياتها - لا تكون لسان تقييد الواقع، بل
مقتضاه تعيين طرق إليه لم تكن معهودة بينهم، ويفهم العرف جليا من لزوم العمل على قول الثقة
- مثلا أنه بلحاظ كشفه وإراءته للواقع، من دون أن يكون مقتضاه جعل حكم على مؤداه، تدبر
جيدا. [المقرر حفظه الله].
[1] نهاية الأصول: 144.
337

الموضع الثالث
هل الإتيان بمقتضى الأصول تكون مجزيا عن المأمور به بالأمر الواقعي، أم لا؟
والتحقيق: أن الإتيان بمقتضى الأصول والإتيان على طبقها برمتها مقتضية
للإجزاء، وحيث إن لسان اعتبار الأصول مختلفة ليست على وتيرة واحدة لا يلائم
الاستدلال للإجزاء فيها بتقريب واحد، بل لابد من ملاحظة لسان كل واحد منها
على حدة ليتضح الحال، ثم نعقبها بتقريب عام يكون مقتضاه الإجزاء، وإن قلنا بأن
لسان اعتبار الأصل ترتيب الآثار، فارتقب حتى حين، فالكلام يقع في موارد:
وقبل الخوض فيها ينبغي تحرير محط النزاع؛ وهو أن محط البحث فيما إذا
كان هناك مركب ذا أجزاء وشرائط وموانع؛ فإن اعتبر - مثلا - الطهارة والسورة في
الصلاة، واعتبر ما لا يؤكل مانعا لها، وكان مقتضى الأصل تحقق الجزء أو الشرط أو
عدم تحقق المانع، وأتى المكلف الصلاة المأمور بها على مقتضى الأصل ثم انكشف
الخلاف في الوقت أو خارجه، فهل يجتزي بما أتى به ولا يحتاج إلى الإعادة أو
القضاء، أم لا.
338

فالقائل بالإجزاء لا يريد تحكيم أدلة الأصول على الأحكام الواقعية - لأن
ثبت من الدين اشتراك الجاهل والعالم فيها - بل يريد تحكيمها على أدلة الشروط
والأجزاء والموانع، ويريد توسعة نطاق الشرائط والأجزاء، وأنها أعم من الطهارة
المعلومة والمشكوكة.
فليكن هذا على ذكر منك لئلا يلتبس عليك الأمر، كما التبس على غير واحد
من الأعلام.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول:
المورد الأول: في أصالتي الطهارة والحلية
لا يخفى: أن لسان قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " (1)
وقوله (عليه السلام): " كل شئ حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه " (2) لسانهما واحد
يحتملان أحد معنيين:

1 - قلت: كذا يعتبر في الألسنة، والأولى أن يقال تبعا للنص: " كل شئ نضيف حتى تعلم أنه
قذر " [1]، والوارد في النص: " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر " [2]، أو " كل ماء طاهر إلا ما
علمت أنه قذر " [3]. وإن شئت قلت: هنا قاعدتان: قاعدة الطهارة وموضوعها الماء، وقاعدة
النظافة وموضوعها الشيء، فتدبر.
2 - الكافي 5: 313 / 40، وسائل الشيعة 12: 86، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4،
الحديث 4.
[1] تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعة 2: 1054، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات،
الباب 37، الحديث 4.
[2] تهذيب الأحكام 1: 216 / 621، وسائل الشيعة 1: 100، كتاب الطهارة، أبواب المطلق، الباب 1،
الحديث 5.
[3] الفقيه 1: 6 / 1، وسائل الشيعة 1: 99، كتاب الطهارة، أبواب المطلق، الباب 1، الحديث 2.
339

المعنى الأول: أن يكونا بصدد جعل الطهارة أو الحلية الظاهرتين على
المشكوك بما هو مشكوك، قبال الطهارة والحلية الواقعيتين المجعولتين على نفس
الشيء وذاته. ومعنى جعلهما قبالهما هو أنه كلما يعتبر فيه الطهارة الواقعية أو الحلية
الواقعية يجزيه الطهارة والحلية الظاهرتين، نظير جعل المماثل الذي قد قيل في
الطرق والأمارات (1)، وهذا المعنى لم يصح في الطرق والأمارات كما سبق بيانه، ولكن
لا ضير فيه في باب الأصول.
المعنى الثاني: أن يكونا بصدد بيان ترتيب آثار الطهارة الواقعية أو الحلية
الواقعية على الشيء المشكوك ما دام شاكا.
والمترائى في بدء النظر من لسانهما المعنى الأول، ولكن لا يبعد أن يكون
المنسبق إلى أذهان العرف والعقلاء هو المعنى الثاني؛ لأنهم لم يفهموا من ذاك
اللسان أن للشارع طهارتين - مثلا - طهارة واقعية مجعولة على ذات الشيء، وفي
مقابلها طهارة ظاهرية مجعولة على الشيء بما أنه مشكوك فيه. بل غاية ما
يستفيدونه هي ترتيب آثار الطهارة الثابتة على ذات الشيء على المشكوك فيه،
فتدبر.
وكيف كان: على أي المعنيين لو جعلت أصالة الطهارة - مثلا - قبال ما دل
على اعتبار الطهارة في الصلاة، وعرضيا على العرف والعقلاء فلا ريب ولا إشكال
في أنهم يفهمون منه أن الطهارة المعتبرة في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية، فيكون
نطاقه التوسعة في دليل اشتراط الطهارة في الصلاة.
وبالجملة: ظاهر قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (2) - بناء على شموله للطهارة
الخبثية أيضا - لو خليت ونفسه اشتراط الطهارة الواقعية في الصلاة. ولكن لو فرق به

1 - نهاية الدراية 1: 392.
2 - الفقيه 1: 35 / 129، تهذيب الأحكام 1: 49 / 144، وسائل الشيعة 2: 1064، كتاب
الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1 و 6.
340

قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " فيستفاد منه أن الطهارة
المعتبرة فيها أعم من الواقعية والظاهرية، ولا أقل يستفاد منه ترتيب آثار الطهارة
الواقعية على المشكوك فيه، ومقتضاه هو الإجزاء.
وعدم قولنا بالإجزاء في الطرق والأمارات إنما هو لأجل عدم وجود اقتضاء
لسان اعتبارها ذلك؛ لما عرفت أنه لو كان مفاد دليل اعتبار الأمارة تنزيل المؤدى
منزلة الواقع وترتيب آثار الواقع عليه يكون مقتضاها أيضا الإجزاء.
ولكنه قد عرفت: أنه خلاف فرض الأمارية؛ لأن اعتبار الأمارة لابد وأن
تكون بلحاظ كشفها عن الواقع؛ ولذا قد تطابقه وقد لا تطابقه، وذلك بخلاف اعتبار
الأصل فإنه عبارة عن حكم ووظيفة للشاك في ظرف الشك، من دون أن يكون له
كاشفية وطريقية إلى الواقع؛ ولذا لا يكون له كشف خلاف.
فظهر لك مما ذكرنا: الفرق الواضح بين لسان اعتبار الأصل ولسان اعتبار
الأمارة، فلا وجه لما قد يقال: إن لسان اعتبار الأصل والأمارة واحد (1).
وظهر لك: أن مقتضى لسان اعتبار أصالة الطهارة أو الحلية تحكيمهما على
أدلة الأجزاء والشرائط، فتدبر واغتنم.
إشكالات وأجوبة
أورد المحقق النائيني (قدس سره) إشكالات أربع على القول بالإجزاء في العمل على
طبق الأصول العملية - كقاعدة الطهارة واستصحابها - ويرى (قدس سره) أن إشكاله الثالث
عمدتها؛ ولذا نبدء بذكره:
فقال ما حاصله: أن الحكومة على نحوين: حكومة واقعية وحكومة ظاهرية،

1 - نهاية الأصول: 144.
341

والحكومة الواقعية هي حكومة الأدلة الواقعية بعضها على بعض، وحيث إن
المجعول في دليل الحاكم في عرض دليل المحكوم فيوجب ذلك التوسعة أو
التضييق في دليل المحكوم، كقوله (عليه السلام): " لا شك لكثير الشك " (1) حيث إنه يكون
في عرض مثل قوله (عليه السلام): " إن شككت فابن على الأكثر " (2)، فيكون حاكما عليه،
فهو تخصيص بلسان الحكومة. والتعبير عنه بالحكومة دون التخصيص إنما هو
باعتبار عدم ملاحظة النسبة بين الدليلين.
والحكومة الظاهرية هي حكومة الطرق والأمارات والأصول بالنسبة إلى
الأحكام الواقعية، وحيث إن المجعول فيها في طول المجعول الواقعي وفي الرتبة
المتأخرة عنه - خصوصا بالنسبة إلى الأصول التي أخذ الشك في موضوعها - فلا
يمكن أن يكون المجعول الظاهري موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي.
وبالجملة: المجعول الظاهري إنما هو واقع في مرتبة إحراز الواقع، والبناء
العملي عليه بعد جعل الواقع وانحفاظه على ما هو عليه من التوسعة والتضييق، فلا
يمكن أن يكون المجعول موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي، ولا توجب تصرفا في
الواقع أبدا. وغاية ما هناك حكومة ظاهرية يترتب الآثار ما دام شاكا، فأنى له
وللإجزاء عن المجعول الواقعي بعد زوال الشك؟! (3).
وفيه أولا: أن للحكومة معنى واحدا، وتقسيمها إلى الواقعية والظاهرية غير
وجيه، واختلافهما إنما هو في المتعلق، وهو لا يوجب اختلافا في معنى الحكومة.
ولو صح تقسيم الشيء بلحاظ متعلقه يلزم أن لا يقف تقسيم الحكومة بالواقعية
والظاهرية، بل لابد وأن تنقسم بلحاظ متعلقات الأحكام، وهو كما ترى.

1 - وسائل الشيعة 5: 329، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 16،
الحديث 16.
2 - تقدم تخريجه في الصفحة 330.
3 - فوائد الأصول 1: 142.
342

وثانيا: أن دعوى استحالة الحكومة في الأمارات والأصول كما ترى؛ لأن
غاية ما يلزم من ذلك في الشبهات الموضوعية هي خلف الفرض؛ لأن ذات البول
- مثلا - نجسة؛ معلومة كانت أم مشكوكة، وقاعدة الطهارة اقتضت على أن البول
نجس، فلم يلزم من الحكومة المذكورة في الشبهات الموضوعية محذور عقلي. نعم
يكون خلاف الفرض، حيث إن النجاسة - مثلا - كانت متعلقة بذات البول، لا الشيء
بوصف كونه معلوما.
نعم، يلزم في الشبهات الحكمية محذور عقلي على بعض الوجوه؛ من
استلزام اعتبار العلم في المتعلق الدور، ومحذور شرعي على بعض آخر؛ من قيام
الإجماع على اشتراك الكل في التكليف، فتدبر جيدا.
وثالثا: لو سلم استحالة الحكومة فإنما هي إذا كان الأصل حاكما على أدلة
نجاسة الأشياء وطهارتها؛ لكون الشك متأخرا عنهما. ولكنه خارج عن محط
البحث؛ لأن محط البحث - كما عرفت - هو تحكيم أدلة الأصول على أدلة الاجزاء
والشرائط، فأصالة الطهارة - مثلا - حاكمة على شرطية الطهارة من الخبث في
الصلاة المستفادة من قوله: " صل في الطاهر " مثلا. وليس أحدهما في طول الآخر،
بل هما في عرض واحد ورتبة واحدة. ومعنى تحكيم قاعدة الطهارة - مثلا - على
شرطية الطهارة في الصلاة هو أنه عند الشك في طهارة الثوب لو صلى فيه يكون
آتيا بالوظيفة؛ لعدم اعتبار الطهارة الواقعية فيها وكفاية الطهارة الظاهرية فيها.
وبالجملة: لا يريد القائل بالإجزاء تحكيم أدلة الأصول بالنسبة إلى اعتبار
أحكام النجاسات، بل يرى أن البول - مثلا - نجس؛ علم به أو لم يعلم، بل ولو علم
بالخلاف. وإنما يريد تحكيمها بالنسبة إلى أدلة الأجزاء والشرائط، وتوسعتها بأن
الطهارة المعتبرة في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية، ولا يلزم من ذلك أي
محذور أصلا.
343

فالإشكال نشأ من خلط تحكيم الأصول لأدلة الأجزاء والشرائط وبين تحكيمها
على أحكام النجاسات الواقعية، فتدبر جيدا.
فخلاصة حكومة الأصول: أن ما هو نجس واقعا - مثلا - يجوز ترتيب آثار
الطهارة عليه في ظرف الشك، ومن تلك الآثار إتيان الصلاة المشروطة بها بلسان
تحقق الطهارة، ولازمه تحقق مصداق المأمور به، فتدبر جيدا.
ثم إن إشكاله الرابع لم يكن إشكالا مستقلا، بل هو من تتمة إشكاله الثالث،
ويكون تقريرا آخر له، وبما ذكرنا في دفعه يظهر ضعفه أيضا؛ وذلك لأن حاصل
إشكاله الرابع هو أنه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة واستصحابها موسعة
للطهارة الواقعية يلزم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة، وعدم القول بنجاسته
بعد انكشاف الخلاف، وعدم كون الملاقى - بالفتح - نجسا؛ لأنه حين الملاقاة كان
طاهرا بمقتضى التوسعة، وبعد انكشاف الخلاف لم يحدث ملاقاة أخرى توجب
نجاسة الملاقي، فينبغي القول بطهارته، وهو كما ترى (1).
وفيه: أن خبير بأن ذلك إنما يلزم لو قلنا بحكومة قاعدة أو استصحابها
- مثلا على أدلة أحكام النجاسات الواقعية، ولم يرده القائل بالإجزاء، وهو خلاف
ضرورة الفقه، لا ينبغي للتقيد أن يتفوه بها أو يحملها. فهو يرى البول - مثلا نجس
ولو في ظرف الشك، وإنما أراد حكومتها على شرطية الطهارة من الخبث في الصلاة
- مثلا - وأن الصلاة في مشكوك الطهارة صحيحة.
فإشكاله الرابع كإشكاله الثالث ناشئان عن الغفلة والخلط بين المقامين.

1 - فوائد الأصول 1: 251.
344

ذكر وتعقيب
يظهر من المحقق العراقي (قدس سره) تمامية إشكال رابع المحقق النائيني (قدس سره)، بل
تصدى لدفع جميع الإشكالات الواردة على اقتضاء الأصول للإجزاء سوى هذا
الإشكال، وصرح بأن الالتزام بالحكومة يوجب فقها جديدا؛ لأنه يلزم:
1 - أن يكون ملاقي الماء النجس الواقعي الطاهر الظاهري طاهرا واقعا - ولو
بعد انكشاف نجاسة الماء واقعا - للحكومة المزبورة.
2 - يلزم أن يكون المغسول بماء نجس واقعي طاهر ظاهرا، وإن انكشفت
نجاسة الماء.
3 - تلزم صحة الغسل أو الوضوء بماء نجس واقعا طاهر ظاهرا، وإن
انكشفت نجاسة ذلك الماء.
إلى غير ذلك من التوالي التي لم يلتزم بشيء منها فقيه (1).
وفيه: أن بعض ما ذكره غير لازم على القول بالإجزاء، وبعض منه وإن يلزم
القائل بالإجزاء ولكن لا يلزم فقه جديد؛ وذلك لأن الفرعين الأوليين - وهما طهارة
ملاقي الماء وطهارة المغسول بالماء النجس - إنما يلزم لو قلنا بحكومة قاعدة
الطهارة على أدلة أحكام النجاسات الواقعية، ولكن عرفت غير مرة أن ذلك خارج
عن محط البحث، ولم يدعه القائل بالإجزاء، بل محط البحث إنما هو تحكيمها
على أدلة الأجزاء والشرائط، فملاقي النجس والمغسول بالماء النجس نجس واقعا،
حتى في حال الشك، ولكن لا تنافي النجاسة الواقعية الطهارة الظاهرية في ظرف
الشك.
والالتزام بالفرع الأخير - وهو صحة الغسل والوضوء بالماء الكذائي - لا

1 - بدائع الأفكار 1: 301.
345

محذور بالالتزام به، وكيف يوجب الالتزام به فقها جديدا مع ذهاب المشهور إلى
زمان الشهيد (قدس سره) - على ما قيل (1) - إلى الإجزاء في الطرق والأمارات والأصول؟!
فالمتوضي أو المغتسل بالماء الكذائي يجب عليه بعد كشف الخلاف تطهير
بدنه من النجاسة، ولكن وضوؤه أو غسله يكون صحيحا، فتدبر جيدا.
فتحصل لك مما ذكرنا إلى الآن: أن الإشكال الثالث والرابع اللذين أوردهما
المحقق النائيني (قدس سره) على القول بالإجزاء، ووافقه المحقق العراقي (قدس سره) في الإشكال الأخير غير واردين عليه.
وأما إشكاله الثاني فحاصله: أن التوسعة والتحكيم إنما يستقيمان لدليل
النسبة إلى دليل آخر إذا كان لدليل الحاكم موضوع ثابت حين حكومته، ويكون
ناظرا إليه نفيا وإثباتا، ودليل الحكم الظاهري لا يتكفل إلا لإثبات الموضوع الذي
حكم عليه بالشرطية، ويستحيل أن يكون في هذا الحال حاكما على دليل الشرط
أو الجزء بإثبات أن مدلوله - وهو الحكم الظاهري - فرد من أفراد ذلك الشرط أو
الجزء. فالدليل المتكفل لجعل الحكم الظاهري لا يمكن أن يكون حاكما على أدلة
الأجزاء والشرائط ومبينا أن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية.
وبعبارة أخرى: لا يمكن أن يتكفل دليل واحد جعل البسيط والجعل التأليفي،
ومفاد قاعدة الطهارة جعل البسيط - وهو الحكم بطهارة المشكوك - فلا يمكن أن
يثبت بذلك كون الطهارة شرطا للصلاة التي هو الجعل التأليفي (2).
وفيه: أن تحكيم دليل على آخر لا يحتاج إلى جعلين بدليل حتى يتوجه
عليه الإشكال، بل هو مقتضى فهم العرف بعد ملاحظة الدليلين، وظاهر أن العقلاء

1 - أنظر نهاية الأصول: 141، وفيه «إلى زمن الشيخ قدس سره».
2 - فوائد الأصول 1: 249.
346

إذا سمعوا قوله (عليه السلام): " لا صلاة إلا بطهور " (1) وسمعوا قوله (عليه السلام): " كل شئ
طاهر حتى تعلم أنه قذر " (2) لفهموا أن الطهارة المعتبرة في الصلاة أعم من الطهارة
الواقعية والظاهرية، ولا نعني بالتحكيم أزيد من ذلك؛ فلا نحتاج إلى دفع الإشكال
إلى تجشم الاستدلال.
نقل وتعقيب
ولكن المحقق العراقي (قدس سره) تصدى لدفع الإشكال الثاني بأنه إنما يتم فيما لو
كانت الحكومة بنحو القضية الخارجية، حيث إن النظر فيها في مقام الحكم إلى
الأمور المحققة الموجودة في الخارج، فلا يمكن أن يتحقق الحكم على شئ لا
يتحقق إلا بنفس الحكم.
وأما إن كانت الحكومة بنحو القضية الحقيقية - كما هو شأن الأحكام
الشرعية - فلا تتم الإشكال؛ لأن الحكم في الحقيقة إنما يتعلق بالأفراد محققة
الوجود، ومقدرة الوجود المقصودة بتوسط العنوان، أو الطبيعي الذي ينطبق عليها
حيث يتحقق، وعليه لا مانع من سراية الحكم إلى الفرد الذي يتحقق بنفس الحكم؛
لأنه من بعض الأفراد المقدرة الوجود.
ثم أورد على نفسه إشكالا: بأنه لا يمكن إنشاء حكمين طوليين في خطاب
واحد، كإنشاء الحكم الواقعي وإنشاء الحكم الظاهري بخطاب واحد؛ لاستلزامه
التقدم والتأخر في اللحاظ من حيث الطولية، والتساوي فيه من حيث وحدة
الإنشاء، هذا خلف. فإذا امتنع ذلك امتنعت الحكومة المذكورة؛ لأن الحكم الظاهري

1 - تقدم في الصفحة 340.
2 - المقنع: 15، مستدرك وسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30،
الحديث 4.
347

- كالطهارة الظاهرية - بنفسها موضوع للحكم عليه بالشرطية، فإذا تكفل
بإنشائهما دليل واحد - ولو بلسان الحكومة - استلزم المحذور.
فأجاب (قدس سره) عنه: بأن الممتنع إنشاء حكمين طوليين بإنشاء واحد حقيقة، وأما
إنشاؤهما بإنشاءين متعددين حقيقة متحدين دليلا فلا مانع منه ولا محذور فيه.
وما نحن فيه من قبيل الثاني؛ لأن الحكومة المزبورة عبارة عن دليل واحد
تكفل بإنشاءين في نفس الواقع، فيرجع حاصله إلى جمع الأمور المتعددة في اللفظ
الواحد المتكفل بالدلالة عليها، وهذا مما لا إشكال فيه؛ سيما إذا اختلف وجه
الدلالة بأن يكون أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام، كما فيما نحن فيه، انتهى (1).
وفيه: أن تفسير قضيتي الحقيقة والخارجية بما ذكره غير صحيح؛ لأن القضية
الحقيقية والخارجية كليهما من القضايا البتية الكلية المسورة، ويتعلق الحكم في
الخارجية بالعنوان لا الأفراد، كما يتعلق الحكم في الحقيقة على العنوان. والفرق
بينهما هو أن العنوان المأخوذ في الحقيقية أخذ بنحو ينطبق على ما يكون موجودا
بالفعل وما سيوجد بعد، بخلاف العنوان المأخوذ في الخارجية فإنها بلحاظ اعتبار
قيود فيها لا ينطبق إلا على الموجودين في الخارج؛ ولهذا يقال: إن القضية
الخارجية حكم على الموجود الخارجي.
ولعل هذه الجملة صارت منشأ للقول بأن القضية الخارجية حكم على
الأفراد، وهو كما ترى.
وبالجملة: أن كلا من الخارجية والحقيقية يشتركان في تعلق الحكم على
العنوان لا الأفراد، والفرق بينهما إنما هو من جهة أنه أخذ العنوان في القضية
الخارجية بنحو لا ينطبق إلا على الموجودين في الخارج، بخلاف القضية الحقيقية
فإنها أخذ على نحو ينطبق على الأعم من الموجودين فعلا وما سيوجدون.

1 - بدائع الأفكار 1: 301 - 302.
348

فظهر: أن القول بأن الحكم في القضية الحقيقية على الأفراد المحققة
والمقدرة - كما قد يوجد في بعض العبائر، بل في كلمات بعض أرباب الفن - غير
وجيه؛ لأن القضية الحقيقية من القضايا البتية، وقد تعلق الحكم فيها على العنوان،
ولفظة كل سور القضية، ولا تفيد إلا تكثير الطبيعة. وأما على ما ذكر فلم تكن من
القضايا البتية، بل تكون بعضها تنجيزي وبعضها تقديري.
هذا إجمال الكلام في القضية الحقيقية والخارجية، وسيجئ منا بعض الكلام
فيهما في مستقبل الأمر إن شاء الله، وتفصيل الكلام فيهما يطلب من محله. فلو تم
كلامه (قدس سره) في القضية الحقيقية نقول به في القضية الخارجية.
ولكن الذي يقتضيه التدبر والتحقيق عدم تمامية كلامه في الحقيقة، ولعل هذا
الكلام منه نشأ من مقايسة ما نحن فيه بمسألة " كل خبري صادق "، فكما أنه حكم
فيها على نحو الحقيقية بأن كل ما يخبره يكون صادقا فعند قوله ذلك يوجد مصداق
وفرد بالحمل الشايع لعنوان خبره، وينطبق العنوان عليه انطباقا تكوينيا.
وأما ما نحن فيه فلا يوجد مصداق للشرطية بنفس جعل الطهارة الظاهرية؛
لوضوح أن غاية ما يقتضيه قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه نجس " هو
جعل الطهارة على المشكوك فيه، وأما إثبات الشرطية لها مضافا إلى جعل أصل
الطهارة فلا، ولا يمكن تتميم ذلك بالقضية الحقيقية، كما لا يخفى.
والذي يسهل الخطب - كما أشرنا إليه آنفا - هو أن تحكيم دليل على آخر
لا يحتاج إلى جعلين حتى يلزم منه المحذور، بل مقتضى الفهم العرفي من جميع
دليلين تحكيم أحدهما على الآخر توسعة أو تضييقا، ويستكشف فيما نحن فيه
بعد ملاحظة قوله (صلى الله عليه وآله): " لا صلاة إلا بطهور " وقوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر حتى
تعلم أنه قذر " أن الطهارة المعتبرة في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية والطهارة
الظاهرية.
349

إذا أحطت خبرا بما ذكرنا عرفت: أنه لا معنى لإنشاء الحكومة بين الدليلين،
بل الإنشاء يتعلق بما يكون حاكما بالحمل الشايع، مثلا جعل الشارع حكما لمن
شك بين الأقل والأكثر، ثم جعل حكما آخر بقوله (عليه السلام): " لا شك لكثير الشك "،
والعرف والعقلاء يحكمون قوله (عليه السلام) هذا على أدلة الشكوك.
وبما ذكرنا تعرف النظر فيما أجابه عن الإشكال، ولا نحتاج إلى الإعادة.
نعم ما ذكر أخيرا - من أنه يمكن جمع الأمور المتعذرة في اللفظ الواحد إذا
اختلف وجه الدلالة؛ بأن يكون أحدهما بالمطابقة والآخر بالالتزام - يرجع إلى ما
ذكرنا في دفع الإشكال ولا غبار عليه، فتدبر جيدا.
ذكر وإرشاد
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) قال: إن المجعول في الأصول لو كان حكما شرعيا
لاستلزم ذلك حكومة دليله على دليل الشروط الأولية، ولا يتوجه عليه شئ من
الإشكالات إلا أحدها؛ وهو محذور لزوم الفقه الجديد. ولكن كون المجعول فيها
حكما شرعيا موقع للنظر بل المنع.
وذلك لأن المجعول في الأصول المحرزة هو الأمر بترتب آثار اليقين على
الشك - كالاستصحاب مثلا - ومن لوازم الجعل المزبور جواز الأخذ بها والجري
على طبقها في مورد لا شك بالواقع وعدم الإجزاء بعد انكشاف الخلاف.
وأما المجعول في الأصول غير المحرزة - كقاعدتي الطهارة والحل - هو
الأمر بترتب آثار الواقع في ظرف الشك؛ لأن لسان قاعدة الطهارة - مثلا وإن كان
يوهم أن المجعول فيها هي الطهارة في ظرف الشك بها إلا أن التأمل في أطرافها
- خصوصا بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع - ينفي ذلك التوهم، ويوجب
للملتفت استظهار أن المراد تعبد المكلف بترتيب آثار الطهارة في ظرف الشك بها،
كجواز الدخول في
350

الصلاة ونحوها من الأعمال المشروطة بالطهارة، ولازم ذلك هو عدم الإجزاء
بعد انكشاف الخلاف، انتهى (1).
وفيه أولا: أنه - كما ذكرنا - تحكيم دليل على آخر أمر عرفي، فلابد وأن
يعرض فهمه عليهم؛ فإن كان مفاد أصل المحرز ترتيب آثار الواقع على المشكوك
فيه، وفي غير المحرز بلسان جعل الموضوع بأنه طاهر وحلال، فالقاعدة تقتضي
الإجزاء وإن انكشف الخلاف.
وذلك لأنه إذا قال الشارع: إن الفقاع - مثلا - خمر فبعد وضوح أنه لم يرد
الإخبار التكويني بأنه خمر فيفهم العرف من إطلاق الهوهوية وعموم التنزيل أن
جميع الأحكام والآثار الواقعية التي للخمر ثابتة للفقاع.
نعم، إن كانت هناك قرائن خارجية على أن التنزيل بلحاظ ترتب بعض
الآثار، أو ثبتت من الخارج قرينة على أن ذاك البعض من أظهر خواصها فيؤخذ به.
وبالجملة: العرف أصدق شاهد - وهو ببابك - على أن مقتضى تنزيل شئ
منزلة شئ آخر والحمل الهوهوي ادعاء إذا لم تكن هناك قرينة على أنه بلحاظ
بعض الآثار، أو أن ذاك البعض من أظهر خواصه هو عموم التنزيل وترتيب جميع
الآثار المترتبة على المنزل عليه على المنزل. ففيما نحن فيه حيث أثبتت الطهارة
على المشكوك فيه، وعلمنا أنه لا يريد جعل الطهارة على المشكوك فيه واقعا
فيستفاد منه ترتيب آثار الطهارة الواقعية عليه؛ ومنها أنه لو صلى مع الطهارة الواقعية
لا يحتاج إلى الإعادة أو القضاء، فكذلك لابد وأن يجزيه من صلى بالطهارة
المشكوكة فانكشف الخلاف، فتدبر.
وثانيا: لو تنزلنا عن ذلك وقلنا: إن تنزيل شئ منزلة آخر لا يقتضي ترتب
جميع آثاره عليه، بل غاية ما تقتضيه هو ترتب أظهر خواصه عليه، فنقول: إن
الإجزاء

1 - بدائع الأفكار 1: 303.
351

وعدم الإعادة في الوقت أو القضاء خارجة من آثاره البارزة، وأما جواز
الدخول في الصلاة فلم يكن من الآثار الشرعية، فضلا عن كونه من أظهر الآثار، بل
هو حكم العقل.
وثالثا: ولو سلم أن مقتضى لسان قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر... " مثلا ترتب
الطهارة في ظرف الشك فلازمه ترتب آثاره الشرعية عليه، ومن آثاره البارزة
الشرعية - لو لم تكن أظهرها - الإجزاء وعدم الإعادة أو القضاء، لا جواز الدخول
في الصلاة؛ لما عرفت أنه لم يكن أثرا شرعيا، بل حكما عقليا.
إن قلت: فعلى هذا يلزم أن يكون مقتضى اعتبار الأمارة الإجزاء أيضا؛ لأن
مقتضى دليل اعتبارها ترتيب آثار الواقع على خبر الثقة مثلا.
قلت: إنه لو كان مفاد دليل اعتبار الأمارة ذلك يكون الحق وإياكم ونقول
بالإجزاء بلا إشكال، إلا أنك قد عرفت لعله بما لا مزيد أن ترتيب الآثار خلاف
مقتضى دليل اعتبارها، كما أن تنزيل المؤدى منزلة الواقع أيضا خلاف مقتضاه، بل
غاية ما يقتضيه اعتبارها كشفها وإراءتها للواقع، فيكون وزانها وزان القطع، فتدبر.
ذكر وهداية
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) ذكر في أصالة الحل تنبيها؛ وهو أن التمسك بقاعدة
الحل لإحراز الشرط في مثل الصلاة يتوقف على مقدمة؛ وهو أن الظاهر من اشتراط
وقوع الصلاة في وبر ما يؤكل لحمه هو كون الحيوان حلال الأكل في الشريعة
بعنوانه الأولي الذاتي، لا مطلق ما كان حلالا أكله ولو بعنوان ثانوي أوجب طرو
الحلية عليه بعدما كان أكله حراما بعنوانه الأولي الذاتي، كالميتة حال الاضطرار إلى
أكلها.
وعليه: لو كان المجعول في قاعدة الحل هو الأمر بترتب آثار الحلية الأولية
لكان أثر ذلك جواز الدخول في الصلاة بشيء من أجزاء حيوان محكوم بحلية أكله
بقاعدة الحل، وعدم الإجزاء لو انكشف الخلاف.
352

ولو كان المجعول فيها الحلية الواقعية - بمعنى أن الشارع حكم بالحلية على
كل حيوان شك في حلية أكله في حال الشك - لكان اللازم حينئذ عدم جواز
الدخول في الصلاة بشيء من أجزاء الحيوان المحكوم بحلية أكله بقاعدة الحل؛ لأن
الشرط في جواز الدخول في الصلاة بشيء من أجزاء الحيوان هي حلية أكله بعنوانه
الأولي الذاتي، لا مطلق الحلية.
نعم، إن قلنا بحكومة قاعدة الحل على دليل ذلك الشرط فلا محالة توجب
توسعة من حيث الحلية الواقعية، فلا مانع من الدخول في الصلاة بشيء من تلك
الأجزاء، إلا أن القول بذلك يستلزم توالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها، انتهى
محصلا (1).
وفيه: أن ما أفاده (قدس سره) أولا - من أن الظاهر من اشتراط وقوع الصلاة في وبر
ما يؤكل لحمه كون الحيوان حلال الأكل في الشريعة بعنوانه الأولي الذاتي - لا غبار
عليه، إلا أن قوله (قدس سره): إنه قد تطرء الحلية على شئ بعدما كان حراما بعنوانه
الاضطراري - كالميتة حال الاضطرار - لا يخلو عن نظر؛ لأنه عند الاضطرار لا
يكون حراما، لا أنه محكوم بالحلية، بل مقتضى الآيات والروايات - كقوله تعالى:
(فلا إثم عليه) أو (إن الله غفور رحيم) (2) إلى غير ذلك من الآيات والروايات
- أن ارتكاب ما اضطر إليه لا يكون إثما وحراما، فلم تثبت الحلية على الميتة حال
الاضطرار حتى يقال: إن مقتضى قاعدة الحل ترتب آثار الحلية الثابتة للشيء
بعنوانه الأولي أو بعنوانه الثانوي، هذا أولا.
وثانيا: أنه لو كان المجعول في قاعدة الحل هو الأمر بترتب آثار الحلية
الأولية

1 - بدائع الأفكار 1: 304.
2 - البقرة (2): 173.
353

فلابد وأن يكون بلحاظ ترتب الآثار الشرعية، وواضح أن جواز الدخول في
الصلاة لم يكن أثرا شرعيا، بل إنما هو حكم العقل، فلا أقل من ترتب آثار الجزئية
أو الشرطية، ولازمه الإجزاء عند كشف الخلاف، كما لا يخفى.
وثالثا: أن قوله (قدس سره) لو كان المجعول فيها الحلية الواقعية... إلى آخره، فإن لم
يرجع إلى النسخ؛ بأن كان موضوعه الشيء المشكوك فيه لا ذات الشيء حتى ينافي
الحرمة الثانية له لذاته أولا فلا مانع منه، ولكن مقتضاه ترتب جميع آثار الحلية
الثابتة للشيء بعنوانه الأولي، فيكون مقتضاه الإجزاء.
ورابعا: أن مراده بما ذكره أخيرا - من لزوم التوالي الفاسدة - هو الفقه
الجديد، وقد عرفت آنفا أنه لا يلزم منه ذلك، وقد سبق (1) أنه قيل: إن المشهور إلى
زمن الشهيد قائلون بالإجزاء في العمل بالطرق والأمارات والأصول، نعم لعله يلزم
ذلك في المعاملات، فتدبر.
فتحصل مما ذكرنا في هذا المورد: أن مقتضى لسان دليل أصالة الطهارة
وأصالة الحلية تحكيمهما على أدلة الأجزاء والشرائط، ومقتضاه الإجزاء عند كشف
الخلاف في الوقت أو في خارجه.
المورد الثاني: في البراءة الشرعية
حيث إنه لم يصح إرادة الرفع الحقيقي من حديث " رفع ما لا يعلمون " (2) في
الشبهات الحكمية - لاستلزامه التصويب الباطل، أو التصويب المجمع على بطلانه -

1 - تقدم في الصفحة 346.
2 - الكافي 2: 463 / 2، التوحيد 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295،
كتاب الجهاد، أبواب الجهاد النفس، الباب 56، الحديث 1 و 3.
354

فلابد وأن يكون الرفع ادعائيا وبلحاظ الأثر. ومصحح الادعاء إما الآثار
الظاهرة أو جميع الآثار. ولكن مقتضى إطلاق الرفع وعدم تقييده بجهة حيثية رفع
جميع الآثار المترتبة على الشيء، فإذا أمر الشارع بالصلاة التي لها أجزاء وشرائط
وموانع - مثلا - وشك في جزئية شئ أو شرطيته لها - مثلا - فحكم بعدمهما بحديث
الرفع في الشبهة الحكمية أو الموضوعية.
فمضى رفع جزئية السورة المشكوكة لها أو شرطية الطهارة المشكوكة
- مثلا - رفع جميع الآثار المترتبة عليهما؛ ومنها صحة الصلاة بدون السورة والطهارة
المشكوكتين، ولو لم يكن مقتضاه رفع جميع الآثار، فلا أقل يكون مقتضاه رفع
الآثار الظاهرة، وواضح أن صحة الصلاة بدونهما من الآثار الواضحة. ومجرد جواز
الدخول في الصلاة لم يكن أثرا ظاهرا بالنسبة إلى الآثار الأخر. بل يمكن أن يقال
- كما أشرنا آنفا - إن جواز الدخول لم يكن أثرا شرعيا، بل هو حكم العقل.
فإذن: مقتضى رفع ما لا يعلم - بعد عدم صحة إرادة الرفع الحقيقي، وعدم
إرادة جميع الآثار الشرعية - فلا أقل من إرادة نفي الآثار الشرعية الواضحة المترتبة
على الجزء أو الشرط المشكوكين، ومقتضى إطلاقه ترتيب آثار العدم عليهما. ولو
انكشف الخلاف فيستكشف من ذلك عين أنه لو ترك السورة أو الطهارة - مثلا -
يكون الباقي صلاة ومأمورا بها، ولا يحتاج إلى إثبات كون البقية مأمورا بها إلى
تجشم دليل.
إشكال ودفع
قد أشرنا: أنه بعد رفع الجزئية أو الشرطية أو المانعية عند الشك فيها بحديث
الرفع تكون البقية مأمورا بها، ولا نحتاج إلى إثبات أن البقية مأمورا بها إلى دليل،
ومقتضى ذلك الاجتزاء بما أتى به، ولا يحتاج إلى الإعادة أو القضاء بعد كشف
الخلاف.
355

ولكن ربما يذكر في المقام إشكال عقلي في الإجزاء بما أتى به، ويقرب
الإشكال بوجهين:
الوجه الأول: هو أنه لا يمكن جعل الجزئية أو الشرطية أو المانعية ولا نفيها
إلا بتتبع منشأ انتزاعها، فرفع الجزء غير المعلوم - مثلا - برفع منشأ انتزاعه؛ وهو
الأمر المتعلق بالمجموع المركب الذي منه هذا الجزء، فتحتاج في كون البقية مأمورا
بها إلى تعلق أمر آخر بالمجموع المركب بغير ذلك الجزم.
وبالجملة: رفع الجزئية عن السورة المشكوكة كونها جزء للصلاة - مثلا - لا
يصح إلا برفع نفس التكليف بأصل الصلاة، فلابد لإثبات كون ما عدى السورة
مأمور بها إلى دليل آخر. فإذا لم يمكن رفع الجزئية - مثلا - إلا بنفي منشأ انتزاعه،
والأمر بالصلاة تعلق بالمجموع المركب مع هذا الجزء، فإذا رفع الأمر بالمجموع
المركب في الشك في جزئية السورة فنحتاج إلى كون البقية مأمورا بها إلى دليل
آخر يحدد المأمور به بما عدى ذلك، ولا يمكن إثبات ذلك بالأصل؛ فمقتضى
القاعدة عدم الإجزاء برفع جزئية السورة - مثلا - بحديث الرفع.
وفيه أولا: أنه تقدم - لعله بما لا مزيد عليه - إمكان جعل الجزئية أو الشرطية
أو المانعية، وعليه لا إشكال في الإجزاء بمقتضى حديث الرفع، كما اعترف به
المستشكل أيضا.
وثانيا: أن مرجع ما ذكر في الإشكال إلى الفسخ أو البداء المستحيل؛ وذلك
لأن مقتضى ما ذكر في الإشكال أن المطلوب أولا بالإرادة الجدية هو المركب من
جميع الأجزاء والشرائط مع عدم الموانع، ثم أريد في صورة الشك في الجزئية
- مثلا بالإرادة الجدية خلافه. والبداء الممكن هو جعل قوانين ويريدها بالإرادة
الاستعمالية، وهو يعلم بعلمه الوجوبي انطباق القانون في مورد دون مورد. والفسخ
الصحيح هو انتهاء أمد الحكم الذي جعل بصورة يتوهم بقاؤه إلى الأبد.
356

وهكذا الكلام في العموم؛ فإنه لم يرد العموم بالإرادة الجدية، بل أراده
بالإرادة الاستعمالية.
نعم قبل الظفر بالمخصص يتخيل تطابق الإرادتين - الجدية والاستعمالية -
وبعد الظفر بالمخصص يستكشف عن أنه من أول الأمر كان المراد غير المخصص؛
ولذا نقول: إن قوله - مثلا - صل مع الأجزاء والشرائط على نحو الجعل القانوني
والإرادة الاستعمالية، فإذا نفى جزء أو شرطا عند الشك بلسان الرفع لا يكون رفعا
حقيقيا حتى التكليف، بل يستكشف من ذلك أن الوظيفة لمن جهل الجزء أو الشرط
أن يأتي الصلاة بدونهما.
وما ذكرناه هنا موجود في القوانين العرفية فإنه قد توضع أولا القوانين
الكلية، ثم يعقبونها بمخصصات ومقيدات ويرفعها عن بعض، كما لا يخفى، فلو
أمكن ذلك في القوانين العرفية فما ظنك في القوانين الكلية الإلهية!
فظهر: أن الإشكال المزبور لم يكن إشكالا عقليا في المسألة، كما لا يخفى.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقق العراقي (قدس سره)، وحاصله: أن الأصول العدمية
تكون مقتضاها نفي التكليف بالجزء أو الشرط المشكوك فيه، فبعد نفي التكليف
بالنسبة إليه لا يمكن إثبات التكليف بباقي الأجزاء والشرائط بأدلتها؛ لأنه لا إطلاق
لها من هذه الجهة، فإثبات وجوب الباقي لابد وأن يكون بالأصل العدمي، وذلك
يتوقف على مقدمتين، بل مقدمات:
الأولى: أن تكون من الأصول التنزيلية العدمية؛ بأن ينزل المشكوك فيه منزلة
العدم في ترتب أثر العدم عليه، لا حلية الترك في مرحلة الظاهر؛ لأنه عليه لا يسوغ
الاكتفاء بالباقي؛ لمكان الارتباطية بين الأجزاء.
الثانية: أن يكون وجوب الباقي من الآثار الشرعية لنفي المشكوك فيه
ليترتب على نفيه.
357

وكلتا المقدمتان لا تخلوان عن النظر:
أما الأولى: فلأن ظاهر دليل اعتبار أمثال هذه الأصول أنها وظائف شرعت
في ظرف الجهل، ولا تكون ناظرة إلى نفي التكليف في مرحلة الواقع.
وأما الثانية: فلأن أصل الوجوب وإن كان مجعولا شرعيا، ولكن تحديده
بالأقل لازم عقلي لعدم جزئية المشكوك فيه أو شرطيته، فترتب الوجوب المحدود
بالأقل على نفي المشكوك فيه فيكون من الأصل المثبت.
ثم إنه بعد تمامية المقدمتين وجواز الاكتفاء بالباقي ببركة القاعدة تصل النوبة
إلى مسألة الإجزاء وعدمه بعد انكشاف الخلاف، وقد عرفت - هذه هي المقدمة
الثالثة - مما سبق: أن التنزيل في تلك الأصول ناظر إلى ترتيب الأثر تعبدا، وأن
إرادة ترتيب أثر الواقع واقعا منها خلاف الظاهر، ولا أقل من الشك؛ فالنتيجة عدم
الإجزاء، انتهى (1).
وفيه أولا: أن عد البراءة من الأصول العدمية لا تخلو عن شئ؛ لأن الأصل
العدمي عند القوم عبارة عن استصحاب العدم ونحوه، والبراءة لم تكن مقتضاها
ذلك، فتدبر.
وثانيا: أن قوله في المقدمة الأولى: تنزيل المشكوك فيه منزلة العدم في
ترتيب الأثر، لا يخلو عن تسامح؛ لأن العدم باطل محض لا أثر له.
وثالثا - وهو المهم في الإشكال، دون الأولين - وهو منعه (قدس سره) المقدمات، مع
أن المقدمة الأولى والثالثة تامتان والمقدمة الثانية غير محتاجة إليها.
وذلك لأن ظاهر لسان حديث الرفع، رفع المشكوك فيه تكوينا، وحيث لم
يمكن إرادة الرفع التكويني فالمراد رفعه تنزيلا وادعاء، وهو ليس إلا تنزيل
المشكوك فيه منزلة العدم، ومقتضاه أن الجزء المشكوك فيه غير معتبر في حق
الجاهل به، وقد

1 - بدائع الأفكار 1: 305.
358

سبق أن العرف يحكم بعد ملاحظة حديث الرفع ودليل اعتبار الأجزاء
والشرائط بأنها إنما تعتبر في حق العالم بها، ولا نحتاج إلى تجشم إثبات أن غير
الجزء المشكوك فيه - مثلا - مأمورا به، فراجع.
ولو سلم أن لسان تلك الأدلة الأمر بترتب الآثار فمقتضاها أيضا الإجزاء؛ لما
عرفت أن الظاهر منها هو ترتب آثار الواقع، ومجرد جواز الدخول في العمل -
مضافا إلى عدم كونه أثرا شرعيا، بل حكم العقل كما أشرنا - لم يكن بحيث يكون
أثرا ظاهريا، فتدبر.
هذا كله في الأصول غير المحرزة.
وأما الأصول المحرزة فمنها وهو:
المورد الثالث: الاستصحاب
يحتمل بدءا في قوله (عليه السلام): " لا ينقض اليقين بالشك، أبدا، وإنما ينقضه بيقين آخر " (1) وجوه واحتمالات؛ وذلك لأنه بعد أن لم يرد بالنقض النقض الاختياري
والحقيقي - لانتقاضه بالشك قهرا - فيكون الباب باب التعبد، فالتعبد إما:
1 - ببقاء اليقين في ظرف الشك؛ من حيث إن الشك أمر هين فلا يسع له أن
ينقض الأمر المحكم - وهو اليقين - به، فعلى هذا الاحتمال يكون المراد ب‍ " لا
تنقض اليقين بالشك " إطالة عمر اليقين في ظرف الشك تعبدا.
2 - أو تنزيل الشك منزلة اليقين، فالشك في طهارة شئ - مثلا - بعد العلم
بطهارته بمنزلة العلم بطهارته.

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقص
الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
359

3 و 4 - أو أن اليقين حيث يكون طريقيا فالمقصود تنزيل المشكوك فيه
منزلة المتيقن بوصف أنه متيقن أو ذات المتيقن.
5 - أو أن التعبد بترتيب آثار المتيقن على المشكوك فيه، فإن كان مفاد " لا
تنقض اليقين " الاحتمال الأول - وهو إطالة عمر اليقين في ظرف الشك تعبدا -
فسيكون الاستصحاب نظير الطرق والأمارات، والفرق بينهما يكون من جهة أن
الاستصحاب طريق شرعي، بخلاف الطرق والأمارات فإنها طرق عقلائية، فيكون
الكلام في الاستصحاب الكلام في الطرق والأمارات من حيث إن القاعدة عند
كشف الخلاف تقتضي عدم الإجزاء.
وأما لو كان مفاده الاحتمال الثاني فالقاعدة أيضا عدم الإجزاء؛ لأن غاية ما
تقتضيه التنزيل هي تنزيل الشك منزلة اليقين، وواضح أنه لو كان متيقنا بشيء فأبى
بمتعلقه ثم انكشف خلافه فقد عرفت أن القاعدة عند كشف الخلاف عدم الإجزاء،
فكذلك ما هو منزل منزلته، ولا فرق بينهما إلا من جهة أن اليقين له جهة الأمارية،
بخلاف الشك.
وأما على الاحتمالات الأخر - من تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن، أو
إيجاب ترتيب آثار الواقع على المشكوك فيه - فالقاعدة تقتضي الإجزاء. نعم لو كان
مفاده تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن بوصف أنه متيقن - لا واقع المتيقن -
فالقاعدة الإجزاء.
فظهر: أنه على ثلاثة احتمالات منها تكون مقتضى القاعدة عدم الإجزاء،
وفي اثنين منها تكون مقتضى القاعدة الإجزاء.
وليعلم: أنه لا معنى لأن يكون الاستصحاب أمارة عقلائية؛ لأنه لم يكن بناء
العقلاء عليه - لو لم نقل بإحراز بنائهم على خلافه - بداهة أنه إذا علم التاجر منهم
بحياة شريكه يوم الخميس - مثلا - ثم شك في حياته يوم السبت فلا يرون حياته
يوم
360

الخميس أمارة على حياته يوم السبت، والشاهد على ذلك عدم إرساله أموالا
تجارية بعنوانه.
نعم، لو احتمل ضعيفا موته يوم السبت فلا يعتنون بذلك الاحتمال، ولكن
ليس ذلك لأجل الاستصحاب، بل لأجل الوثوق والاطمئنان بالبقاء وضعف احتمال
الخلاف، نظير بقائهم على أصالة الصحة حيث لا يعتنون باحتمال الفساد الموهوم؛
لوقوفهم بصحة العمل.
وبعبارة أخرى: قد يكون اليقين السابق أمارة على البقاء في اللاحق إذا كان
احتمال الخلاف موهونا؛ لوثوقهم ببقاء ما كان سابقا عادة ودوامه لولا المانع إلى
ظرف الشك، وواضح أن هذا ليس باستصحاب، بل أمارة عقلائية.
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: الاحتمالات في قوله (عليه السلام): " لا تنقض اليقين
بالشك "؛ احتمال أن يقال: إن المراد به تنزيل الشك منزلة اليقين؛ لأنه إن أريد إفهام
هذا المعنى كان ينبغي أن يقال: " ليس لك شك ".
وواضح: أن المترائي بدءا من " لا تنقض اليقين " أن اليقين لصلابته لا تنقضه
بالشك الذي يكون هينا.
وهذا المعنى هو الذي احتملناه سابقا؛ ولذا قلنا بأمارية الاستصحاب.
ولكن بعد التدبر في أخبار الاستصحاب وملاحظة أن الشارع لا يكاد يمكن
أن يعتبر الشيء أمارة إلا إذا كان له أمارية في الجملة، وواضح أنه لا يمكن أن
يكون اليقين السابق إلا أمارة إلى ما تعلق به، ولا يكاد يتعدى حريمه، فلا يكون
اليقين السابق أمارة للشك اللاحق، فإذا لم يصلح أن يكون اليقين أمارة لظرف الشك
فلا يمكن جعل الأمارية له؛ لما عرفت أن الشارع بما هو شارع لا يتصرف في
التكوين، ولا يجعل ما ليس له أمارية أصلا أمارة.
361

وقد عرفت آنفا معنى تأسيسية الأمارة، وحاصله جعل مصداق من الأمارة
غير المعهودة لدى العقلاء، فيكون وزانها بعد الجعل وزان سائر الأمارات الدارجة
بينهم، هذا.
أضف إلى ذلك: أن أمارية الاستصحاب مخالف لظواهر أخبار الباب؛ فإنه (عليه السلام)
في صحيحة زرارة بعد سؤال زرارة: فإنه كان على وضوء وحرك في جنبه شئ وهو
لا يعلم، قال: " لا، حتى يستيقن أنه نام، حتى يجيء من ذلك أمر بين، وإلا
فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك وإنما ينقضه بيقين
آخر " (1)، فظاهره يعطي بأن الإمام (عليه السلام) بصدد إثبات تنزيل المشكوك منزلة المتيقن لا
تطويل عمر اليقين في ظرف الشك.
وبعبارة أخرى: سؤال زرارة عن المشكوك والمتيقن، فجواب الإمام (عليه السلام)
بقرينة السؤال راجع إلى تنزيل المشكوك منزلة المتيقن، فيكون قوله (عليه السلام): " فإنه
على يقين من وضوئه " علة لذلك. فالصحيحة لم تكن بصدد ترتيب آثار اليقين في
ظرف الشك، بل بلحاظ ترتيب آثار المتيقن على المشكوك؛ لأنه قلما يتفق أن
يكون اليقين نفسه ذا أثر، بل الأثر غالبا للمتيقن.
مضافا إلى أنه يقبح من زرارة - مع جلالة قدره وعظيم منزلته - أن يسأل عن
ترتيب آثار بقاء نفس اليقين مع انتقاضه في ظرف الشك. نعم العناية في التعبير في
كلام الإمام (عليه السلام) بنفس اليقين؛ ولذا قلنا - كما سيجيء - بجريان الاستصحاب في
كل من الشك في المقتضي والرافع.
وبالجملة: ظاهر قوله (عليه السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " يعطي بأن العناية في
لسان الدليل باليقين والشك، وأن اليقين لصلابته لا ينقضه الشك، ولكن بقرينة

1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174، كتاب الطهارة، أبواب نواقص
الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
362

وقوعه جوابا عن سؤال زرارة - حيث سأل عن ترتيب آثار المتيقن على
المشكوك - وبقرينة كون اليقين طريقيا يكون ذلك بلحاظ ترتب آثار المتيقن على
المشكوك، يكون مراده (عليه السلام) إما ترتيب آثار المتيقن على المشكوك فيه، أو تنزيل
المشكوك فيه منزلة المتيقن بلحاظ ترتيب الآثار، فيكون لسانه مثل لسان الأصول
غير المحرزة الإجزاء، وقد سبق آنفا تقريب الإجزاء في لسان اعتبار الأصول غير
المحرزة بعد كشف الخلاف. فالكلام في تقريب الإجزاء في الاستصحاب هو الكلام
في الإجزاء في الأصول غير المحرزة.
كما أن إشكال المحقق العراقي (قدس سره) الذي أورده هنا هو الذي أورده في
الأصول غير المحرزة (1)، فجوابه هو الذي ذكرناه هناك (2)، فلاحظ وتدبر.
المورد الرابع: في قاعدتي الفراغ والتجاوز
استيفاء البحث في الفراغ والتجاوز من جهة أنهما قاعدة واحدة أو قاعدتين،
وعلى أي منهما هل أصل محرز أو أمارة، موكول إلى محله، والكلام عجالة في
لسان اعتبار الفراغ والتجاوز بناء على أصليتهما:
فنقول: لسان روايات الباب مختلفة؛ ففي بعضها عبر بكلمة " يمضي "،
وبعضها و " امضه كما هو "، وبعضها " شككت فليس بشيء "، أو " شكك ليس
بشيء "، وبعضها " قد ركعت ".
وظاهر: أن هذه الروايات وإن اختلفت تعابيرها إلا أنها بصدد إفهام معنى
واحد وقاعدة واحدة لا قواعد متعددة.

1 - بدائع الأفكار 1: 300.
2 - تقدم في الصفحة 350 - 352.
363

وما ورد بصورة " يمضي " مرجعه إلى عدم الاعتناء بالشك؛ ولذا جمع (عليه السلام)
بين كلمة " يمضي " وبين قوله: " شكك ليس بشيء " في صحيحة زرارة؛ حيث قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة، قال (عليه السلام):
" يمضي ". قلت: رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر، قال (عليه السلام): " يمضي "... إلى
أن قال (عليه السلام): " يا زرارة! إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشكك ليس
بشيء " (1).
فيظهر من لسان الصحيحة عند إعطاء الضابطة الكلية: أن الشك ليس بشيء،
فلابد وأن يكون ما ذكره أمثلة ومصاديق لهذا العنوان، فيكون المراد بقوله (عليه السلام):
" يمضي " أنه لا يلبث عند الشك ولا يعتني به، بل يتجاوز عنه. ولعل ما ورد بلسان
" ركعت " يشير إلى ذلك أيضا، فتدبر.
ولا فرق في نظر العرف بين أن يكون مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء
بالشك أو البناء على وجوده، في أنه يفهم منها أن ما أتى به مصداق المأمور به بتقبل
الناقص منزلة الكامل لو كان في الواقع ناقصا، ويصدق على ما أتى به عنوان الصلاة.
ولا يخفى - كما أشرنا آنفا - أن لازمه سقوط أمره، فتدبر جيدا.
هذا كله على ما هو المختار، كما سيجيء في محله من أن مفاد الفراغ
والتجاوز ليس بأمارة. نعم في بعض روايات الباب كقوله (عليه السلام) حين يتوضأ أذكر منه
حين يشك (2)، ما يمكن أن يستشعر منه أماريتها. ولكنه ليس بحيث يصح الاعتماد
عليه والحكم بأماريتها، فارتقب حتى حين.
وكيف كان: لو استفيد من روايات الباب أماريتها فكلام آخر.

1 - تهذيب الأحكام 1: 352 / 1459، وسائل الشيعة 5: 336، كتاب الطهارة، أبواب الخلل
الواقع في الصلاة، الباب 23، الحديث 1.
2 - راجع وسائل الشيعة 1: 331، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 7.
364

فظهر مما ذكرنا كله في الموارد من هذا الموضع: أن مقتضى القاعدة الأولية
في الأصول برمتها - سواء كانت أصولا محرزة أو غير محرزة - هو الإجزاء ما لم
يدل دليل على خلافه، فإن دل على ذلك فنقول بعدم الإجزاء.
وبعبارة أخرى: ظهر لك من مطاوي ما ذكرناه في الموضع الثالث: أن مقتضى
اعتبار الأصول - وإن كان تنزيليا - أنه لو أتى المكلف على طبقها ثم انكشف
الخلاف فالقاعدة تقتضي الإجزاء؛ سواء قلنا بأن مفاد دليل اعتبارها جعل الحكم
الشرعي، أو الأمر بترتيب الآثار.
خلافا لما عن المحقق العراقي (قدس سره) حيث كان مصرا على أنه إذا كان المجعول
في الأصول حكما شرعيا لا يستلزم ذلك حكومة دليلها على أدلة الأجزاء
والشرائط الأولية، ويكون مقتضاه الإجزاء.
وأما إذا كان المجعول فيها الأمر بترتب الآثار - كما هو الظاهر منها - فغاية ما
تقتضيه هو جواز الدخول في العمل وعدم الإجزاء بعد كشف الخلاف. واستظهر (قدس سره)
من أدلتها أنها آمرة بترتب الآثار (1).
ولا يخفى ما في كلامه (قدس سره) نظر؛ أما استظهاره من الأدلة في كونها آمرة بترتب
الآثار فنقول: ظاهر أدلة اعتبار تلك القواعد والأصول بأجمعها هو جعل الحكم
الشرعي، لا الأمر بترتب الآثار؛ وذلك لأن ظاهر قوله (عليه السلام): " كل شئ طاهر... " إلى
آخره، أو " كل شئ حلال... " إلى آخره إخبار عن الطهارة أو الحلية الواقعتين على
المشكوك في طهارته أو حليته، وحيث لا يمكن حملهما على الواقعي منهما فلابد
من حملهما على الطهارة أو الحلية التنزيليتين.
وبالجملة: الفتاوى والأحكام الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تحكي عما
هو

1 - بدائع الأفكار 1: 303.
365

الثابت في اللوح المحفوظ، فإذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): " كل شئ طاهر "
أو " كل شئ حلال " مثلا فيستفاد منه أن حكم الله تعالى بالنسبة إلى المشكوك
طهارته أو حليته الطهارة أو الحلية، وحيث لا يمكن إرادة الواقعيتين منهما فلابد
وأن مراده (عليه السلام) التنزيلين منهما. نعم التنزيل لابد وأن يكون بلحاظ ترتب الآثار.
وبالجملة: التنزيل إنما هو في لسان الشرع، ومقتضاه ليس إلا الإجزاء عند
كشف الخلاف، هذا في قاعدتي الطهارة والحلية.
وأما في البراءة الشرعية وحديث الرفع: فالكلام فيها الكلام في القاعدتين؛
لأن ظاهر قوله (عليه السلام): " رفع ما لا يعلمون " رفع ما لا يعلم في الواقع، وحيث لم نلتزم
برفع الأحكام في الشبهات الحكمية - إما للتصويب المحال، أو المجمع على
خلافه - فإذا لم يرتفع حقيقة فيكون مرفوعا تنزيلا. فرفع ما لا يعلم في القانون
تنزيلا إنما هو بلسان الدليل.
فما قاله المحقق العراقي (قدس سره)؛ من أن لسان حديث الرفع ترتيب آثار العدم (1)
خلاف الظاهر.
وأما في قاعدتي الفراغ والتجاوز فإنه وإن أمر في أخبارهما بكلمة " يمضي "
أو " أمضه "، ولكن الإمام (عليه السلام) أفتى عند إعطاء الضابطة والقاعدة أن الشك ليس
بشيء، مع أن الشك في نفسه شئ؛ فالمراد أن الشك منزل في القانون منزلة العدم،
فالتنزيل أيضا في لسان الدليل.
وأما الاستصحاب: فظاهر قوله (عليه السلام): " لا تنقض اليقين بالشك " وإن كان النهي
عن انتقاض اليقين بالشك ولكن إذا لوحظ مورده لعلم أنه (عليه السلام) بصدد إفادة أن من
كان على يقين من وضوئه فشك فيه تكون وظيفته في القانون الإلهي عدم انتقاضه
بالشك.

1 - بدايع الأفكار 1: 305.
366

وبالجملة: بعد كون الأوامر الصادرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كواشف عن
الأوامر الإلهية الموجودة في اللوح المحفوظ، فيكون ظاهر قوله (عليه السلام): " لا تنقض
اليقين بالشك " هو أن وظيفة الشاك في شئ بعد اليقين به هو البناء العملي على بقاء
المتيقن في زمان الشك.
فقد ظهر: أن ظاهر لسان اعتبار تلك القواعد والأصول هو جعل الأحكام
على مؤدياتها، لا الأمر بترتب الآثار كما استظهره المحقق العراقي، فمقتضاها على
ما ذكرنا عند كشف الخلاف الإجزاء.
ولو سلم أن مؤداها ترتيب الآثار - كما استظهره (قدس سره) - ولكن مقتضاه أيضا
عند كشف الخلاف أيضا الإجزاء على خلاف مزعمته (قدس سره)، يظهر لك ذلك مما ذكرناه
آنفا عند رد مزعمته (قدس سره)، ولا نحتاج إلى تكراره هنا، ومن أراد فليراجع.
فتحصل مما ذكرنا بطوله في مبحث الإجزاء: أن مقتضى القاعدة الأولية في
الإتيان بالفرد الاضطراري عند كشف الخلاف هو الإجزاء على بعض الوجوه، وعدم
الإجزاء على بعض آخر، وعدم الإجزاء في الإتيان بالمأمور به على طبق الأمارة لو
انكشف الخلاف.
وأما لو أتى بمقتضى الأصول والقواعد - سواء كانت أصولا تنزيليا أو غير
تنزيلي - فالقاعدة الأولية الإجزاء؛ سواء كان مفاد اعتبار الأصول الأمر بترتب
الآثار أو جعل الحكم في مرحلة الظاهر.
ولا ينافي ما ذكرنا القول بالإجزاء بعد كشف الخلاف في العمل بالطرق
والأمارات، أو عدم الإجزاء عند ذلك في العمل بالأصول والقواعد بحسب القواعد
الثانوية إن كانت، والبحث عليها يطلب من غير هذا الموضع.
367

تذنيب
قد بقي من مسألة الإجزاء مباحث؛ مثل أوامر التقية ومسألة تبدل رأي
المجتهد بالنسبة إلى أعماله وأعمال مقلديه، وأنه لو طلق امرأة عند بينة عادلة
فانكشف الخلاف هل يكون الطلاق صحيحا أم لا؟ بل في ما يعتبر فيه العدالة لو
انكشف الخلاف؟ وأنه لو اضطر إلى ذبح حيوان على غير شرائطه فهل يحل أكله
ولو بعد الاضطرار أم لا؟ إلى غير ذلك من الموارد. واستقصاء النظر فيها موكول إلى
محله، وما ذكرناه هي القواعد التي يجري في جميع أبواب الفقه أو أكثرها.
وهذا آخر ما أفاده سماحة الأستاد - دام ظله - في الإجزاء.
368

وقد وقع الفراغ من تحريره للمرة الثانية حال تهيئته للطبع في جمادى الثانية
من سنة 1420 ه‍. ق، المطابق لمهر 1378 ش، في قم المحمية الحوزة العلمية، عش
آل محمد وحرم أهل البيت - صلوات الله عليهم - عند جوار كريمة أهل البيت
فاطمة المعصومة - سلام الله عليها - بيد الراجي رحمة ربه السيد محمد حسن
المرتضوي اللنگرودي.
رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم.
369