الكتاب: أصول الفقه
المؤلف: الشيخ محمد رضا المظفر
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣٨٨
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
ردمك:
ملاحظات:

أصول الفقه
الجزء الثالث
تاليف
الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
1

أصول الفقه
الجزء الثالث
مجموعة المحاضرات التي القيت في
كلية منتدى النشر بالنجف الأشرف
ابتداء من سنة 1360 ه‍. ق
بقلم
الشيخ محمد رضا المظفر (قدس سره)
4

المقصد الثالث
مباحث الحجة
5

تمهيد:
إن مقصودنا من هذا البحث - وهو مباحث الحجة - تنقيح ما يصلح
أن يكون دليلا وحجة على الأحكام الشرعية، لنتوصل إلى الواقع من
أحكام الله تعالى.
فإن أصبنا بالدليل ذلك الواقع كما أردنا، فذلك هو الغاية القصوى (1)
وإن أخطأناه، فنحن نكون معذورين غير معاقبين في مخالفة الواقع.
والسر في كوننا معذورين عند الخطأ: هو لأجل أننا قد بذلنا جهدنا
وقصارى وسعنا في البحث عن الطرق الموصلة إلى الواقع من أحكام الله
تعالى، حتى ثبت لدينا - على سبيل القطع - أن هذا الدليل الكذائي (2)
- كخبر الواحد مثلا - قد ارتضاه الشارع لنا طريقا إلى أحكامه وجعله
حجة عليها. فالخطأ الذي نقع فيه إنما جاء من الدليل الذي نصبه وارتضاه
لنا، لا من قبلنا.
وسيأتي بيان كيف نكون معذورين، وكيف يصح وقوع الخطأ في
الدليل المنصوب حجة مع أن الشارع هو الذي نصبه وجعله حجة.

(1) في ط الأولى زيادة: والمقصد الأعلى.
(2) في ط 2 بدل " الكذائي ": المعين.
7

ولا شك في أن هذا المقصد هو غاية الغايات من مباحث علم أصول
الفقه، وهو العمدة فيها، لأ أنه هو الذي يحصل كبريات مسائل المقصدين
السابقين - الأول والثاني - فإنه لما كان يبحث في المقصد الأول عن
تشخيص صغريات الظواهر اللفظية (1) فإنه في هذا المقصد يبحث عن
حجية مطلق الظواهر اللفظية بنحو العموم، فتتألف الصغرى من نتيجة
المقصد الأول والكبرى من نتيجة هذا المقصد، ليستنتج من ذلك الحكم
الشرعي، فيقال مثلا:
صيغة " افعل " ظاهرة في الوجوب (الصغرى)
وكل ظاهر حجة (الكبرى)
فينتج: صيغة افعل حجة في الوجوب (النتيجة)
فإذا وردت صيغة " افعل " في آية أو حديث استنتج من ذلك وجوب
متعلقها.
وهكذا يقال في المقصد الثاني، إذ يبحث فيه عن تشخيص صغريات
أحكام العقل، وفي هذا المقصد يبحث عن حجية حكم العقل، فتتألف
منهما صغرى وكبرى.
وقد أوضحنا كل ذلك في تمهيد المقصدين، فراجع.
وعليه، فلابد أن نستقصي في بحثنا عن كل ما قيل أو يمكن أن
يقال باعتباره وحجيته، لنستوفي البحث، ولنعذر عند الله تعالى في اتباع

إن بعض مشايخنا الأعاظم (قدس سره) التزم في المسألة الأصولية أنها يجب أن تقع كبرى في القياس
الذي يستنبط منه الحكم الشرعي وجعل ذلك مناطا في كون المسألة أصولية، ووجه
المسائل الأصولية على هذا النحو. وهو في الحقيقة لزوم مالا يلزم وقد أوضحنا الحقيقة هنا
وفيما سبق.
8

ما يصح اتباعه وطرح مالا يثبت اعتباره.
وينبغي لنا أيضا - من باب التمهيد والمقدمة - أن نبحث عن موضوع
هذا المقصد وعن معنى الحجية وخصائصها والمناط فيها وكيفية اعتبارها
وما يتعلق بذلك، فنضع المقدمة في عدة مباحث، كما نضع المقصد في عدة
أبواب.
* * *
9

المقدمة
وفيها مباحث:
- 1 -
موضوع المقصد الثالث
من التمهيد المتقدم في بيان المقصود من " مباحث الحجة " يتبين لنا
أن الموضوع لهذا المقصد الذي يبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع
ومحمولاته هو: " كل شئ يصلح أن يدعى ثبوت الحكم الشرعي به،
ليكون دليلا وحجة عليه ".
فإن استطعنا في هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعي (1) أن هذا الطريق
الكذائي (2) حجة أخذنا به ورجعنا إليه لإثبات الأحكام الشرعية، وإلا
طرحناه ونبذناه (3) وبصريح العبارة نقول:
إن الموضوع لهذا المقصد في الحقيقة هو " ذات الدليل " بما هو في
نفسه، لا بما هو دليل.

سيأتي في المبحث السادس بيان أنه لماذا يجب أن يكون ثبوت حجية الدليل بالدليل
القطعي، ولا يكفي الدليل الظني.
(2) في ط 2 بدل " الكذائي ": مثلا.
(3) في ط 2: أهملناه.
10

وأما محمولاته ولواحقه - التي نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له - فهي
كون ذلك الشئ دليلا وحجة، فإما أن نثبت ذلك أو ننفيه.
ولا يصح أن نجعل موضوعه " الدليل بما هو دليل " أو " الحجة بما هي
حجة " أي بصفة كونه دليلا وحجة، كما نسب ذلك إلى المحقق القمي
- أعلى الله مقامه - في قوانينه (1) إذ جعل موضوع أصل علم الأصول
" الأدلة الأربعة بما هي أدلة ".
ولو كان الأمر كما ذهب إليه (رحمه الله) لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد
كلها عن علم الأصول، لأ نهى تكون حينئذ من مبادئه التصورية، لا من
مسائله. وذلك واضح، لأن البحث عن حجية الدليل يكون بحثا عن أصل
وجود الموضوع وثبوته الذي هو مفاد " كان التامة " لا بحثا عن لواحق
الموضوع الذي هو مفاد " كان الناقصة ". والمعروف عند أهل الفن أن
البحث عن وجود الموضوع - أي موضوع كان سواء كان موضوع العلم
أو موضوع أحد أبوابه ومسائله - معدود من مبادئ العلم التصورية، لامن
مسائله.
ولكن هنا نكتة (2) ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد، وهي:
إن تخصيص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة - كما صنع (3)
الكثير من مؤلفينا - يستدعي أن يلتزموا بأن الموضوع هو الدليل بما هو
دليل، كما صنع (4) صاحب القوانين، وذلك لأن هؤلاء لما خصصوا
الموضوع بهذه الأربعة فإنما خصصوه بها فلأجل أنها (5) معلومة الحجية
عندهم، فلابد أنهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هي أدلة، لا بما هي هي،

(1) راجع القوانين المحكمة: ج 1 ص 9.
(2) في ط 2: ملاحظة.
(3 و 4) في ط 2: فعل.
(5) في ط 2: لأ نهى.
11

وإلا لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغيرها مما هو غير معتبر عندهم
- كالقياس والاستحسان ونحوهما - وما كان وجه لتخصيصها بالأدلة
الأربعة.
وحينئذ لا مخرج لهم من الإشكال المتقدم، وهو لزوم خروج عمدة
مسائل علم الأصول عنه.
وعلى هذا يتضح أن مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانين ليست
في محلها، لأن دعواه هذه لابد من الالتزام بها بعد الالتزام بأن الموضوع
خصوص الأدلة الأربعة وإن لزم عليه إشكال خروج أهم المسائل عنه.
ولو كان الموضوع هي الأدلة بما هي هي - كما ذهب إليه صاحب
الفصول (1) - لما كان معنى لتخصيصه بخصوص الأربعة، ولوجب تعميمه
لكل ما يصلح أن يبحث عن دليليته وإن ثبت بعد البحث أنه ليس بدليل.
والخلاصة: أنه إما أن نخصص الموضوع بالأدلة الأربعة فيجب أن
نلتزم بما التزم به صاحب القوانين فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن
علم الأصول، وإما أن نعمم الموضوع - كما هو الصحيح - لكل ما يصلح
أن يدعى أنه دليل، فلا يختص بالأربعة. وحينئذ يصح أن نلتزم بما التزم
به صاحب الفصول وتدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم.
فالالتزام بأن الموضوع هي الأربعة فقط ثم الالتزام بأنها بما هي هي
لا يجتمعان.
وهذا أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلة
الأربعة، وهو الذي نريد إثباته هنا. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ص 51
من الجزء الأول.

(1) الفصول الغروية: ص 12.
12

والنتيجة (1): أن الموضوع الذي يبحث عنه في هذا المقصد هو:
" كل شئ يصلح أن يدعى أنه دليل وحجة ".
فيعم البحث كل ما يقال: إنه حجة، فيدخل فيه البحث عن حجية خبر
الواحد والظواهر والشهرة والإجماع المنقول والقياس والاستحسان ونحو
ذلك، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
فما ثبت أنه حجة من هذه الأمور أخذنا به، وما لم يثبت طرحناه.
كما يدخل فيه أيضا البحث عن مسألة التعادل والتراجيح، لأن البحث
فيها - في الحقيقة - عن تعيين ما هو حجة ودليل من بين المتعارضين،
فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجة.
ونحن جعلناها في الجزء الأول (ص 52) خاتمة لعلم الأصول اتباعا
لمنهج القوم، ورأينا الآن العدول عن ذلك، رعاية لواقعها وللاختصار.
- 2 -
معنى الحجة
1 - الحجة لغة: " كل شئ يصلح أن يحتج به على الغير ".
وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه. والظفر على
الغير على نحوين:
إما بإسكاته وقطع عذره وإبطاله.
وإما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة له
لدى الغير.
2 - وأما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان:
أ - ما عند المناطقة، ومعناها: " كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوبا "

(1) في ط الأولى: وزبدة المخض.
13

أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطها إلى العلم
بالمجهول، سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن. وقد يطلقون
الحجة أيضا على نفس " الحد الأوسط " في القياس.
ب - ما عند الأصوليين، ومعناها عندهم حسب تتبع استعمالها:
" كل شئ يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة القطع " أي لا يكون سببا للقطع
بمتعلقه، وإلا فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها
اللغوي. أو قل بتعبير آخر:
الحجة: كل شئ يكشف عن شئ آخر ويحكي عنه على وجه
يكون مثبتا له.
ونعني بكونه مثبتا له: أن إثباته يكون (1) بحسب الجعل من الشارع،
لا بحسب ذاته، فيكون معنى إثباته له حينئذ: أنه يثبت الحكم الفعلي في
حق المكلف بعنوان أنه هو الواقع. وإنما يصح ذلك ويكون مثبتا له
فبضميمة (2) الدليل على اعتبار ذلك الشئ الكاشف الحاكي وعلى أنه
حجة من قبل الشارع.
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - تحقيق معنى الجعل للحجية وكيف يثبت
الحكم بالحجة.
وعلى هذا، فالحجة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع، أي أن القطع
لا يسمى حجة بهذا المعنى بل بالمعنى اللغوي، لأن طريقية القطع - كما
سيأتي - ذاتية غير مجعولة من قبل أحد.
وتكون الحجة بهذا المعنى الأصولي مرادفة لكلمة " الأمارة ".

(1) في ط الأولى: أنه يكون إثباته له.
(2) كذا، والظاهر: بضميمة.
14

كما أن كلمة " الدليل " وكلمة " الطريق " تستعملان في هذا المعنى،
فيكونان مرادفتين لكلمة " الأمارة " و " الحجة " أو كالمترادفتين.
وعليه، فلك أن تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة " مباحث
الحجة ":
" مباحث الأمارات ".
أو " مباحث الأدلة ".
أو " مباحث الطرق " وكلها تؤدي معنى واحدا.
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الصدد أن استعمال كلمة " الحجة " في
المعنى الذي تؤديه كلمة " الأمارة " مأخوذ من المعنى اللغوي من باب
تسمية الخاص باسم العام، نظرا إلى أن الأمارة مما يصح أن يحتج
المكلف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفة الواقع فتكون معذرة له، كما أنه
مما يصح أن يحتج بها المولى على المكلف إذا لم يعمل بها ووقع في
مخالفة الحكم الواقعي فيستحق العقاب على المخالفة.
- 3 -
مدلول كلمة الأمارة والظن المعتبر
بعد أن قلنا: إن الأمارة مرادفة لكلمة " الحجة " باصطلاح الأصوليين،
ينبغي أن ننقل الكلام إلى كلمة " الأمارة " لنتسقط بعض استعمالاتها، كما
سنستعملها بدل كلمة " الحجة " في المباحث الآتية، فنقول:
إنه كثيرا ما يجري على ألسنة الأصوليين إطلاق كلمة " الأمارة " على
معنى ما تؤديه كلمة " الظن " ويقصدون من الظن " الظن المعتبر "، أي الذي
اعتبره الشارع وجعله حجة. ويوهم ذلك أن الأمارة والظن المعتبر لفظان
مترادفان يؤديان معنى واحدا. مع أنهما ليسا كذلك.
15

وفي الحقيقة أن هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في
الاستعمال، لا أنه وضع آخر لكلمة " الأمارة ". وإنما مدلول الأمارة
الحقيقي هو كل شئ اعتبره الشارع لأجل أنه يكون سببا للظن، كخبر
الواحد والظواهر.
والمجاز هنا:
إما من جهة إطلاق السبب على مسببه، فيسمى الظن المسبب " أمارة ".
وإما من جهة إطلاق المسبب على سببه، فتسمى الأمارة التي هي
سبب للظن " ظنا " فيقولون: " الظن المعتبر " و " الظن الخاص " والاعتبار
والخصوصية إنما هما لسبب الظن.
ومنشأ هذا التسامح في الإطلاق هو: أن السر في اعتبار الأمارة
وجعلها حجة وطريقا هو إفادتها للظن دائما أو على الأغلب. ويقولون
للثاني الذي يفيد الظن على الأغلب: " الظن النوعي " على ما سيأتي بيانه.
- 4 -
الظن النوعي
ومعنى " الظن النوعي ": أن الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظن عند
غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع إنما يكون من هذه الجهة،
فلا يضر في اعتبارها وحجيتها ألا يحصل منها ظن فعلي للشخص الذي
قامت عنده الأمارة، بل تكون حجة عند هذا الشخص أيضا، حيث إن دليل
اعتبارها دل على أن الشارع إنما اعتبرها حجة ورضي بها طريقا لأن من
شأنها أن تفيد الظن وإن لم يحصل الظن الفعلي منها لدى بعض الأشخاص.
ثم لا يخفى عليك: أنا قد نعبر فيما يأتي تبعا للأصوليين، فنقول:
" الظن الخاص " أو " الظن المعتبر " أو " الظن الحجة " وأمثال هذه
16

التعبيرات. والمقصود منها دائما سبب الظن، أعني الأمارة المعتبرة وإن
لم تفد ظنا فعليا. فلا يشتبه عليك الحال.
- 5 -
الأمارة والأصل العملي
واصطلاح " الأمارة " لا يشمل " الأصل العملي " كالبراءة والاحتياط
والتخيير والاستصحاب، بل هذه الأصول تقع في جانب والأمارة في
جانب آخر مقابل له، فإن المكلف إنما يرجع إلى الأصول إذا افتقد
الأمارة، أي إذا لم تقم عنده الحجة على الحكم الشرعي الواقعي، على
ما سيأتي توضيحه وبيان السر فيه.
ولا ينافي ذلك أن هذه الأصول أيضا قد يطلق عليها أنها حجة، فإن
إطلاق الحجة عليها ليس بمعنى الحجة في باب الأمارات، بل بالمعنى
اللغوي باعتبار أنها معذرة للمكلف إذا عمل بها وأخطأ الواقع، ويحتج بها
المولى على المكلف إذا خالفها ولم يعمل بها ففوت الواقع المطلوب.
ولأجل هذا جعلنا باب " الأصول العملية " بابا آخر مقابل باب
" مباحث الحجة ".
وقد أشير في تعريف الأمارة إلى خروج الأصول العملية بقولهم:
" يثبت متعلقه " لأن الأصول العملية لا تثبت متعلقاتها، لأ أنه ليس لسانها
لسان إثبات الواقع والحكاية عنه، وإنما هي في حقيقتها مرجع للمكلف
في مقام العمل عند الحيرة والشك في الواقع وعدم ثبوت حجة عليه،
وغاية شأنها أنها تكون معذرة للمكلف.
ومن هنا اختلفوا في " الاستصحاب " أنه أمارة أو أصل؟ باعتبار أن له
شأن الحكاية عن الواقع وإحرازه في الجملة، لأن اليقين السابق غالبا
17

ما يورث الظن ببقاء المتيقن في الزمان اللاحق، ولأن حقيقته - كما سيأتي
في موضعه - البناء على اليقين السابق بعد الشك كأن المتيقن السابق لم
يزل ولم يشك في بقائه. ولأجل هذا سمي الاستصحاب عند من يراه
أصلا " أصلا محرزا ".
فمن لاحظ في الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنه يوجب الظن
واعتبر حجيته من هذه الجهة عده من الأمارات. ومن لاحظ فيه أن
الشارع إنما جعله مرجعا للمكلف عند الشك والحيرة واعتبر حجيته من
جهة دلالة الأخبار عليه عده من جملة الأصول. وسيأتي - إن شاء الله
تعالى - شرح ذلك في محله مع بيان الحق فيه.
- 6 -
المناط في إثبات حجية الأمارة
مما يجب أن نعرفه - قبل البحث والتفتيش عن الأمارات التي هي
حجة - المناط في إثبات حجية الأمارة وأنه بأي شئ يثبت لنا أنها حجة
يعول عليها. وهذا هو أهم شئ تجب معرفته قبل الدخول في المقصود.
فنقول:
إنه لا شك في أن الظن بما هو ظن لا يصح أن يكون هو المناط في
حجية الأمارة ولا يجوز أن يعول عليه في إثبات الواقع، لقوله تعالى:
* (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (1) وقد ذم الله تعالى في كتابه المجيد
من يتبع الظن بما هو ظن كقوله: * (إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون) * (2). وقال تعالى: * (قل أألله أذن لكم أم على الله تفترون) * (3).

(1) يونس: 36.
(2) يونس: 66.
(3) يونس: 59.
18

وفي هذه الآية الأخيرة بالخصوص قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا
للافتراء عليه، فما لم يأذن به لابد أن يكون افتراء بحكم المقابلة بينهما،
فلو نسبنا الحكم إلى الله تعالى من دون إذن منه فلا محالة يكون افتراء
محرما مذموما بمقتضى الآية. ولا شك في أن العمل بالظن والالتزام به
على أنه من الله ومثبت لأحكامه يكون من نوع نسبة الحكم إليه من دون
إذن منه، فيدخل في قسم الافتراء المحرم.
وعلى هذا التقرير، فالقاعدة تقتضي أن الظن - بما هو ظن - لا يجوز
العمل على مقتضاه ولا الأخذ به لإثبات أحكام الله مهما كان سببه، لأ أنه
لا يغني من الحق شيئا، فيكون خرصا باطلا وافتراء محرما.
هذا مقتضى القاعدة الأولية في الظن بمقتضى هذه الآيات الكريمة.
ولكن لو ثبت بدليل قطعي وحجة يقينية أن الشارع قد جعل ظنا
خاصا من سبب مخصوص طريقا لأحكامه واعتبره حجة عليها وارتضاه
أمارة يرجع إليها وجوز لنا الأخذ بذلك السبب المحقق للظن، فإن هذا
الظن يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأولية، إذ لا يكون خرصا وتخمينا
ولا افتراء.
وخروجه من القاعدة يكون تخصيصا بالنسبة إلى آية النهي عن اتباع
الظن، ويكون تخصصا بالنسبة إلى آية الافتراء، لأنه يكون حينئذ من قسم
ما أذن الله تعالى به، وما أذن به ليس افتراء.
وفي الحقيقة إن الأخذ بالظن المعتبر الذي ثبت على سبيل القطع
بأنه (1) حجة لا يكون أخذا بالظن بما هو ظن وإن كان اعتباره عند
الشارع من جهة كونه ظنا، بل يكون أخذا بالقطع واليقين، ذلك القطع

(1) أنه، ظ.
19

الذي قام على اعتبار ذلك السبب للظن. وسيأتي أن القطع حجة بذاته
لا يحتاج إلى جعل من أحد.
ومن هنا يظهر الجواب عما شنع به جماعة من الأخباريين على
الأصوليين من أخذهم ببعض الأمارات الظنية الخاصة - كخبر الواحد
ونحوه - إذ شنعوا عليهم بأنهم أخذوا بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا.
وقد فاتهم أن الأصوليين إذ أخذوا بالظنون الخاصة لم يأخذوا بها من
جهة أنها ظنون فقط، بل أخذوا بها من جهة أنها معلومة الاعتبار على
سبيل القطع بحجيتها، فكان أخذهم بها في الحقيقة أخذا بالقطع واليقين،
لا بالظن والخرص والتخمين.
ولأجل هذا سميت الأمارات المعتبرة ب‍ " الطرق العلمية " نسبة إلى
العلم القائم على اعتبارها وحجيتها، لأن حجيتها ثابتة بالعلم.
إلى هنا يتضح ما أردنا أن نرمي إليه، وهو أن المناط في إثبات حجية
الأمارات ومرجع اعتبارها وقوامه ما هو؟
إنه " العلم القائم على اعتبارها وحجيتها " فإذا لم يحصل العلم بحجيتها
واليقين بإذن الشارع بالتعويل عليها والأخذ بها لا يجوز الأخذ بها وإن
أفادت ظنا غالبا، لأن الأخذ بها يكون حينئذ خرصا وافتراء على الله
تعالى.
ولأجل هذا قالوا: يكفي في طرح الأمارة أن يقع الشك في اعتبارها،
أو فقل على الأصح: يكفي ألا يحصل العلم باعتبارها، فإن نفس عدم
العلم بذلك كاف في حصول العلم بعدم اعتبارها، أي بعدم جواز التعويل
عليها والاستناد إليها. وذلك كالقياس والاستحسان وما إليهما وإن أفادت
ظنا قويا.
20

ولا نحتاج في مثل هذه الأمور إلى الدليل على عدم اعتبارها وعدم
حجيتها، بل بمجرد عدم حصول القطع بحجية الشئ يحصل القطع بعدم
جواز الاستناد إليه في مقام العمل وبعدم صحة التعويل عليه. فيكون القطع
مأخوذا في موضوع حجية الأمارة.
ويتحصل من ذلك كله: أن أمارية الأمارة وحجية الحجة إنما تحصل
وتتحقق بوصول علمها إلى المكلف، وبدون العلم بالحجية لا معنى لفرض
كون الشئ أمارة وحجة، ولذا قلنا: إن مناط إثبات الحجة وقوامها
" العلم ". فهو مأخوذ في موضوع الحجية، فإن العلم تنتهي إليه حجية
كل حجة.
ولزيادة الإيضاح لهذا الأمر، ولتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع
بهذه الحقيقة البديهية، نقول من طريق آخر لإثباتها:
أولا - إن الظن بما هو ظن ليس بحجة بذاته.
وهذه مقدمة واضحة قطعية، وإلا لو كان الظن حجة بذاته لما جاز
النهي عن اتباعه والعمل به ولو في بعض الموارد على نحو الموجبة
الجزئية، لأن ما هو بذاته حجة يستحيل النهي عن الأخذ به، كما سيأتي
في حجية القطع - المبحث الآتي - ولا شك في وقوع النهي عن اتباع الظن
في الشريعة الإسلامية المطهرة. ويكفي في إثبات ذلك قوله تعالى:
* (إن يتبعون إلا الظن...) * (1).
ثانيا - إذا لم يكن الظن حجة بذاته، فحجيته تكون عرضية، أي
أنها تكون مستفادة من الغير. فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه
حجية الظن.

(1) يونس: 66.
21

فإن كان هو القطع، فذلك هو المطلوب.
وإن لم يكن قطعا، فما هو؟
وليس يمكن فرض شئ آخر غير نفس الظن، فإنه لا ثالث لهما
يمكن فرض حجيته.
ولكن الظن الثاني القائم على حجية الظن الأول أيضا ليس حجة
بذاته، إذ لا فرق بين ظن وظن من هذه الناحية. فننقل الكلام إلى هذا الظن
الثاني، ولابد أن تكون حجيته أيضا مستفادة من الغير، فما هو ذلك الغير؟
فإن كان هو القطع، فذلك هو المطلوب.
وإن لم يكن قطعا، فظن ثالث.
فننقل الكلام إلى هذا الظن الثالث، فيحتاج إلى ظن رابع... وهكذا إلى
غير النهاية، ولا ينقطع التسلسل إلا بالانتهاء إلى ما هو حجة بذاته، وليس
هو إلا العلم.
ثالثا - فانتهى الأمر بالأخير إلى العلم، فتم المطلوب.
وبعبارة أسد وأخصر، نقول:
إن الظن لما كانت حجيته ليست ذاتية فلا تكون إلا بالعرض، وكل ما
بالعرض لابد أن ينتهي إلى ما هو بالذات، ولا مجاز بلا حقيقة. وما هو
حجة بالذات ليس إلا العلم، فانتهى الأمر بالأخير إلى العلم.
وهذا ما أردنا إثباته، وهو أن قوام الأمارة والمناط في إثبات حجيتها
هو العلم، فإنه تنتهي إليه حجية كل حجة، لأن حجيته ذاتية.
- 7 -
حجية العلم ذاتية
كررنا في البحث السابق القول بأن " حجية العلم ذاتية " ووعدنا
ببيانها، وقد حل هنا الوفاء بالوعد، فنقول:
22

قد ظهر مما سبق معنى كون الشئ حجيته ذاتية، فإن معناه: أن
حجيته منبعثة من نفس طبيعة ذاته، فليست مستفادة من الغير ولا تحتاج
إلى جعل من الشارع ولا إلى صدور أمر منه باتباعه، بل العقل هو الذي
يكون حاكما بوجوب اتباع ذلك الشئ.
وما هذا شأنه ليس هو إلا العلم.
ولقد أحسن الشيخ العظيم الأنصاري (قدس سره) مجلي هذه الأبحاث في
تعليل وجوب متابعة القطع (1) فإنه بعد أن ذكر أنه " لا إشكال في وجوب
متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا " علل ذلك بقوله: " لأ أنه بنفسه
طريق إلى الواقع، وليست طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا " (2).
وهذا الكلام فيه شئ من الغموض بعد أن اختلفت تعبيرات
الأصوليين من بعده، فنقول لبيانه: إن هنا شيئين أو تعبيرين:
أحدهما: وجوب متابعة القطع والأخذ به.
ثانيهما: طريقية القطع للواقع.
فما المراد من كون القطع حجة بذاته؟
هل المراد أن وجوب متابعته أمر ذاتي له - كما وقع في تعبيرات
بعض الأصوليين المتأخرين (3) - أم أن المراد أن طريقيته ذاتية؟

مما يجب التنبيه عليه: أن المراد من " العلم " هنا هو " القطع " اي الجزم الذي لا يحتمل
الخلاف. ولا يعتبر فيه أن يكون مطابقا للواقع في نفسه وإن كان في نظر القاطع لا يراه إلا
مطابقا للواقع، فالقطع الذي هو الحجة تجب متابعته أعم من اليقين والجهل المركب، يعني أن
المبحوث عنه هو العلم من جهة أنه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 4.
(3) لم نظفر على من عبر بعين التعبير المذكور، راجع نهاية الدراية للمحقق الإصفهاني (قدس سره): ج 3
ص 17 - 18، ونهاية الأفكار (تقرير أبحاث المحقق العراقي (قدس سره)): ج 3 ص 6 - 9.
23

وإنما صح أن يسأل هذا السؤال فمن (1) أجل قياسه على الظن حينما
نقول: إنه حجة، فإن فيه جهتين:
1 - جهة طريقيته للواقع، فحينما نقول: إن حجيته مجعولة، نقصد أن
طريقيته مجعولة، لأ نهى ليست ذاتية له، لوجود احتمال الخلاف. فالشارع
يجعله طريقا إلى الواقع بإلغاء احتمال الخلاف كأنه لم يكن، فتتم بذلك
طريقيته الناقصة ليكون كالقطع في الإيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو
المجعول للشارع.
2 - جهة وجوب متابعته، فحينما نقول: إنه حجة، نقصد أن الشارع
أمر بوجوب متابعة ذلك الظن والأخذ به أمرا مولويا، فينتزع من هذا
الأمر أن هذا الظن موصل إلى الواقع ومنجز له. فيكون المجعول هذا
الوجوب، ويكون هذا معنى حجية الظن.
وإذا كان هذا حال الظن، فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان
الجهتان، فنلاحظهما حينما نقول مثلا: " إن حجيته ذاتية " إما من جهة كونه
طريقا بذاته، وإما من جهة وجوب متابعة لذاته.
ولكن - في الحقيقة - إن التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن
مسامحة ظاهرة، منشؤها ضيق العبارة عن المقصود إذ يقاس على الظن.
والسر في ذلك واضح، لأ أنه ليس للقطع متابعة مستقلة غير الأخذ بالواقع
المقطوع به، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقل غير نفس
وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به، أي وجوب طاعة الواقع المنكشف
بالقطع من وجوب أو حرمة أو نحوهما. إذ ليس وراء انكشاف الواقع
شئ ينتظره الإنسان، فإذا انكشف الواقع له فلابد أن يأخذ به.

(1) من، ظ.
24

وهذه اللابدية لابدية عقلية (1) منشؤها إن القطع بنفسه طريق إلى
الواقع. وعليه، فيرجع التعبير بوجوب متابعة القطع إلى معنى كون القطع
بنفسه طريقا إلى الواقع وأن نفسه نفس انكشاف الواقع. فالجهتان في جهة
واحدة في الحقيقة.
وهذا هو السر في تعليل الشيخ الأعظم (رحمه الله) لوجوب متابعته بكونه
طريقا بذاته (2) ولم يتعرض في التعليل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا
ركز البحث كله على طريقيته الذاتية.
ويظهر لنا حينئذ أنه لا معنى لأن يقال في تعليل حجيته الذاتية: أن
وجوب متابعته أمر ذاتي له.
وإذا اتضح ما تقدم، وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيا،
وهو كل البحث عن حجية القطع وما وراءه من الكلام فكله فضول.
وعليه، فنقول:
تقدم أن القطع حقيقته انكشاف الواقع، لأ أنه حقيقة نورية محضة لا
غطش فيها ولا احتمال للخطأ يرافقها. فالعلم نور لذاته نور لغيره، فذاته
نفس الانكشاف، لا أنه شئ له الانكشاف.
وقد عرفتم في مباحث الفلسفة: أن الذات والذاتي يستحيل جعله
بالجعل التأليفي، لأن جعل شئ لشئ إنما يصح أن يفرض فيما يمكن
فيه التفكيك بين المجعول والمجعول له، وواضح أنه يستحيل التفكيك بين
الشئ وذاته - أي بين الشئ ونفسه - ولا بينه وبين ذاتياته.

هذه اللابدية العقلية هي نفس وجوب الطاعة الذي هو وجوب عقلي، لأ أنه داخل في " الآراء
المحمودة " التي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء، كما شرحناه في الجزء الثاني.
(2) تقدم كلامه في ص 23.
25

وهذا معنى قولهم المشهور: " الذاتي لا يعلل " (1).
وإنما المعقول من جعل القطع هو جعله بالجعل البسيط، أي خلقه
وإيجاده.
وعليه، فلا معنى لفرض جعل الطريقية للقطع جعلا تأليفيا بأي نحو
فرض للجعل، سواء كان جعلا تكوينيا أم جعلا تشريعيا، فإن ذلك
مساوق لجعل القطع لنفس القطع، وجعل الطريق لذات الطريق.
وعلى تقدير التنزل عن هذا وقلنا مع من قال: إن القطع شئ له
الطريقية والكاشفية عن الواقع - كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليين
المتأخرين عن الشيخ (2) - فعلى الأقل تكون الطريقية من لوازم ذاته التي
لا تنفك عنه، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة.
ولوازم الذات كالذات يستحيل أيضا جعلها بالجعل التأليفي على ما
هو الحق، وإنما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسيطا لا بجعل آخر
وراء جعل الذات. وقد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة.
وإذا استحال جعل الطريقية للقطع استحال نفيها عنه، لأ أنه كما
يستحيل جعل الذات ولوازمها يستحيل نفي الذات ولوازمها عنها وسلبها
بالسلب التأليفي.
بل نحن إنما نعرف استحالة جعل الذات والذاتي ولوازم الذات بالجعل

(1) قال الحكيم السبزواري في أرجوزة المنطق:
ذاتي شئ لم يكن معللا * وكان ما يسبقه تعقلا
وفي أرجوزة الحكمة:
وعندنا الحدوث ذاتي ولا * شئ من الذاتي جا معللا
(2) لم نقف على من عبر بعين التعبير المذكور، راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 6، ونهاية
الأفكار: ج 3 ص 6.
26

التأليفي، لأ نا نعرف أولا امتناع انفكاك الذات عن نفسها وامتناع انفكاك
لوازمها عنها، كما تقدم بيانه.
على أن نفي الطريقية عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع
وفي نظره، فإنه - مثلا - حينما يقطع بأن هذا الشئ واجب يستحيل عليه
أن يقطع ثانيا بأن هذا القطع ليس طريقا موصلا إلى الواقع، فإن معنى هذا
أن يقطع ثانيا بأن ما قطع بأنه واجب ليس بواجب مع فرض بقاء قطعه
الأول على حاله.
وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجدانه، يستحيل أن يقع منه حتى
لو كان في الواقع على خطأ في قطعه الأول، ولا يصح هذا إلا إذا تبدل
قطعه وزال. وهذا شئ آخر غير ما نحن في صدده.
والحاصل: أن اجتماع القطعين بالنفي والإثبات محال كاجتماع النفي
والإثبات، بل يستحيل في حقه حتى احتمال أن قطعه ليس طريقا إلى
الواقع فإن هذا الاحتمال مساوق لانسلاخ القطع عنده وانقلابه إلى الظن.
فما فرض أنه قطع لا يكون قطعا، وهو خلف محال.
وهذا الكلام لا ينافي أن يحتمل الإنسان أو يقطع أن بعض علومه
على الإجمال غير المعين في نوع خاص ولا في زمن من الأزمنة كان
على خطأ، فإنه بالنسبة إلى كل قطع فعلي بشخصه لا يتطرق إليه الاحتمال
بخطأه، وإلا لو اتفق له ذلك لا نسلخ عن كونه قطعا جازما.
نعم، لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة ومعينة في وقت واحد، فإنه
لابد أن تنسلخ كلها عن كونها اعتقادا جازما، فإن بقاء قطعه في جميعها
مع تطرق احتمال خطأ واحد منها لا على التعيين لا يجتمعان.
والخلاصة: أن القطع يستحيل جعل الطريقية له تكوينا وتشريعا،
27

ويستحيل نفيها عنه، مهما كان السبب الموجب له [ولو كان حصوله من
خفقان جناح أو مرور هواء] (1).
وعليه، فلا يعقل التصرف بأسبابه، كما نسب ذلك إلى بعض
الأخباريين من حكمهم بعدم تجويز الأخذ بالقطع إذا كان سببه من
مقدمات عقلية (2). وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني ص 269.
وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأشخاص بأن يعتبر قطع
شخص ولا يعتبر قطع آخر، كما قيل بعدم الاعتبار بقطع القطاع (3) قياسا
على كثير الشك الذي حكم شرعا بعدم الاعتبار بشكه في ترتب أحكام
الشك.
وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأزمنة ولا من جهة متعلقه،
بأن يفرق في اعتباره بين ما إذا كان متعلقه الحكم فلا يعتبر، وبين ما إذا
كان متعلقه موضوع الحكم أو متعلقه فيعتبر.
فإن القطع في كل ذلك طريقيته ذاتية غير قابلة للتصرف فيها بوجه
من الوجوه وغير قابلة لتعلق الجعل بها نفيا وإثباتا. وإنما الذي يصح
ويمكن أن يقع في الباب هو إلفات (4) نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في
مقدمات قطعه، فإذا تنبه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أن قطعه
سيتبدل إما إلى احتمال الخلاف أو إلى القطع بالخلاف. ولا ضير في ذلك،
وهذا واضح.

(1) لم يرد في ط 2.
(2) راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 15 ولاحظ ما حكاه عن الأمين الأسترابادي والمحدث
الجزائري والمحدث البحراني (صاحب الحدائق) (قدس سرهم).
(3) قال الشيخ الأعظم (قدس سره): ولعل الأصل في ذلك ما صرح به كاشف الغطاء (قدس سره) راجع فرائد
الأصول: ج 1 ص 22، كشف الغطاء: ص 64 س 22.
(4) في ط الأولى: أن يلفت.
28

- 8 -
موطن حجية الأمارات
قد أشرنا في مبحث الإجزاء (الجزء الثاني ص 309 السطر الأخير)
إلى أن جعل الطرق والأمارات يكون في فرض التمكن من تحصيل العلم،
وأحلنا بيانه إلى محله. وهذا هو محله، فنقول:
إن غرضنا من ذلك القول هو أننا إذ نقول: إن أمارة حجة - كخبر
الواحد - مثلا - فإنما نعني أن تلك الأمارة مجعولة حجة مطلقا، أي أنها
في نفسها حجة مع قطع النظر عن كون الشخص الذي قامت عنده تلك
الأمارة متمكنا من تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكن منه، فهي حجة
يجوز الرجوع إليها لتحصيل الأحكام مطلقا حتى في موطن يمكن فيه أن
يحصل القطع بالحكم لمن قامت عنده الأمارة، أي كان باب العلم بالنسبة
إليه مفتوحا.
فمثلا، إذا قلنا بحجية خبر الواحد فإنا نقول: إنه حجة حتى في زمان
يسع المكلف أن يرجع إلى المعصوم رأسا فيأخذ الحكم منه مشافهة على
سبيل اليقين، فإنه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجة يجوز للمكلف
أن يرجع إليه، ولا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم.
وعلى هذا، فلا يكون موطن حجية الأمارات في خصوص مورد
تعذر حصول العلم أو امتناعه، أي ليس في خصوص مورد انسداد باب
العلم، بل الأعم من ذلك، فيشمل حتى موطن التمكن من تحصيل العلم
وانفتاح بابه.
نعم، مع حصول العلم بالواقع فعلا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة،
بل لا معنى لحجيتها حينئذ، لا سيما مع مخالفتها للعلم، لأن معنى ذلك
انكشاف خطأها.
29

ومن هنا كان هذا الأمر موضع حيرة الأصوليين وبحثهم، إذ للسائل
- كما سيأتي - أن يسأل: كيف جاز أن تفرضوا صحة الرجوع إلى
الأمارات الظنية مع انفتاح باب العلم بالأحكام؟ إذ قد يوجب سلوكها
تفويت الواقع عند خطأها، ولا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت الواقع
مع التمكن من تحصيله، بل ذلك قبيح يستحيل في حقه.
ولأجل هذا السؤال المحرج سلك الأصوليون عدة طرق للجواب عنه
وتصحيح جعل حجية الأمارات. وسيأتي بيان هذه الطرق والصحيح منها
في البحث 12 ص 40.
وغرضنا من ذكر هذا التنبيه هو أن هذا التصحيح شاهد على ما أردنا
الإشارة إليه هنا: من أن موطن حجية الأمارات وموردها ما هو أعم من
فرض التمكن من تحصيل العلم وانفتاح بابه ومن فرض انسداد بابه.
ومن هنا نعرف وجه المناقشة في استدلال بعضهم على حجية خبر
الواحد بالخصوص بدليل انسداد باب العلم، كما صنع صاحب المعالم (1)
فإنه لما كان المقصود إثبات حجية خبر الواحد في نفسه حتى مع فرض
انفتاح باب العلم لا يبقى معنى للاستدلال على حجيته بدليل الانسداد.
على أن دليل الانسداد إنما يثبت فيه حجية مطلق الظن من حيث هو
ظن - كما سيأتي بيانه - فلا يثبت به حجية ظن خاص بما هو ظن خاص.
نعم، استدل بعضهم على حجية خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير (2).
ولا يبعد صحة ذلك. ويعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار

(1) معالم الدين: 192.
(2) إن شئت توضيح المراد من " الانسداد الصغير " وتفصيل الكلام فيه راجع فوائد الأصول
(تقرير أبحاث المحقق النائيني (قدس سره)) ج 3 ص 196.
30

التي بأيدينا التي نعلم على الإجمال بأن بعضها موصل إلى الواقع ومحصل
له، ولا يتميز الموصل إلى الواقع من غيره، مع انحصار السنة في هذه
الأخبار التي بأيدينا.
وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظن والاطمئنان من هذه
الأخبار. وهذا ما نعنيه بخبر الواحد.
والفرق بين دليل الانسداد الكبير والصغير: أن الكبير هو انسداد باب
العلم في جميع الأحكام من جهة السنة وغيرها، والصغير هو انسداد باب
العلم بالسنة مع انفتاح باب العلم في الطرق الأخرى، والمفروض أنه ليس
لدينا إلا هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها العلم، وبعضها حجة قطعا
وموصل إلى الواقع.
- 9 -
الظن الخاص والظن المطلق
تكرر منا التعبير بالظن الخاص والظن المطلق، وهو اصطلاح
للأصوليين المتأخرين، فينبغي بيان ما يعنون بهما، فنقول:
1 - يراد من " الظن الخاص ": كل ظن قام دليل قطعي على حجيته
واعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد الكبير.
وعليه، فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة مطلقا حتى مع انفتاح
باب العلم، ويسمى أيضا " الطريق العلمي " نسبة إلى العلم باعتبار قيام
العلم على حجيته كما تقدم.
2 - يراد من " الظن المطلق ": كل ظن قام دليل الانسداد الكبير على
حجيته واعتباره.
فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة في خصوص حالة انسداد
31

باب العلم والعلمي، أي انسداد باب نفس العلم بالأحكام وباب الطرق
العلمية المؤدية إليها.
ونحن في هذا المختصر لا نبحث إلا عن الظنون الخاصة فقط. أما
الظنون المطلقة فلا نتعرض لها، لثبوت حجية جملة من الأمارات المغنية
عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلمي. فلا تصل النوبة إلى هذا
الفرض حتى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن.
ولكن بعد أن انتهينا إلى هنا ينبغي ألا يخلو هذا المختصر من الإشارة
إلى مقدمات دليل الانسداد على نحو الاختصار تنويرا لذهن الطالب،
فنقول:
- 10 -
مقدمات دليل الانسداد
إن الدليل المعروف ب‍ " دليل الانسداد " يتألف من مقدمات أربع إذا
تمت يترتب عليها حكم العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظن في الأحكام
أي ظن كان، عدا الظن الثابت فيه - على نحو القطع - عدم جواز العمل به،
كالقياس مثلا.
ونحن نذكر بالاختصار هذه المقدمات:
1 - المقدمة الأولى: دعوى انسداد باب العلم والعلمي في معظم
أبواب الفقه في عصورنا المتأخرة عن عصر أئمتنا (عليهم السلام). وقد علمت أن
أساس المقدمات كلها هي هذه المقدمة وهي دعوى قد ثبت عندنا عدم
صحتها، لثبوت انفتاح باب الظن الخاص بل العلم في معظم أبواب الفقه.
فانهار هذا الدليل من أساسه.
2 - المقدمة الثانية: أنه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعية
المعلومة إجمالا، ولا يجوز طرحها في مقام العمل.
32

وإهمالها وطرحها يقع بفرضين:
إما بأن نعتبر أنفسنا كالبهائم والأطفال لا تكليف علينا.
وإما بأن نرجع إلى أصالة البراءة وأصالة عدم التكليف في كل موضع
لا يعلم وجوبه وحرمته. وكلا الفرضين ضروري البطلان.
3 - المقدمة الثالثة: أنه بعد فرض وجوب التعرض للأحكام المعلومة
إجمالا فإن الأمر لتحصيل فراغ الذمة منها يدور بين حالات أربع لا
خامسة لها:
أ - تقليد من يرى انفتاح باب العلم.
ب - الأخذ بالاحتياط في كل مسألة.
ج - الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مسألة: من نحو
البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب، حسبما يقتضيه حال المسألة.
د - الرجوع إلى الظن في كل مسألة فيها ظن بالحكم، وفيما عداها
يرجع إلى الأصول العملية.
ولا يصح الأخذ بالحالات الثلاث الأولى، فتتعين الرابعة.
أما الأولى - وهي تقليد الغير في انفتاح باب العلم - فلا يجوز، لأن
المفروض أن المكلف يعتقد بالانسداد، فكيف يصح له الرجوع إلى من
يعتقد بخطأه وأنه على جهل.
وأما الثانية - وهي الأخذ بالاحتياط - فإنه يلزم منه العسر والحرج
الشديدان، بل يلزم اختلال النظام لو كلف جميع المكلفين بذلك.
وأما الثالثة - وهي الأخذ بالأصل الجاري - فلا يصح أيضا، لوجود
العلم الإجمالي بالتكاليف، ولا يمكن ملاحظة كل مسألة على حدة
غير منظمة إلى غيرها من المسائل الأخرى المجهولة الحكم. والحاصل:
33

أن وجود العلم الإجمالي بوجود المحرمات والواجبات في جميع
المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة والاستصحاب،
ولو في بعضها.
4 - المقدمة الرابعة: أنه بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث
ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها
الظن، وفيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظن وبين
الرجوع إلى الطرف المرجوح - أي الموهوم - ولا شك في أن الأخذ
بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا.
وعليه، فيتعين الأخذ بالظن مالم يقطع بعدم جواز الأخذ به - كالقياس -
وهو المطلوب.
وفي فرض الظن المقطوع بعدم حجيته يرجع إلى الأصول العملية، كما
يرجع إليها في المسائل المشكوكة التي لا يقوم فيها ظن أصلا.
ولا ضير حينئذ بالرجوع إلى الأصول العملية، لانحلال العلم
الإجمالي بقيام الظن في معظم المسائل الفقهية إلى علم تفصيلي بالأحكام
التي قامت عليها الحجة وشك بدوي في الموارد الأخرى، فتجري فيها
الأصول.
هذه خلاصة " مقدمات دليل الانسداد " وفيها أبحاث دقيقة طويلة
الذيل لا حاجة لنا بها، ويكفي ما ذكرناه عنها بالاختصار.
- 11 -
اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل
قام إجماع الإمامية على أن أحكام الله تعالى مشتركة بين العالم
والجاهل بها، أي أن حكم الله ثابت لموضوعه في الواقع، سواء علم به
34

المكلف أم لم يعلم، فإنه مكلف به على كل حال.
فالصلاة - مثلا - واجبة على جميع المكلفين سواء علموا بوجوبها أم
جهلوه، فلا يكون العلم دخيلا في ثبوت الحكم أصلا.
وغاية ما نقوله في دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجز الحكم
التكليفي، بمعنى أنه لا يتنجز على المكلف على وجه يستحق على
مخالفته العقاب إلا إذا علم به، سواء كان العلم تفصيليا أو إجماليا (1) أو
قامت لديه حجة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم.
فالعلم وما يقوم مقامه يكون - على ما هو التحقيق - شرطا لتنجز
التكليف لا علة تامة - خلافا للشيخ الآخوند صاحب الكفاية (قدس سره) (2) - فإذا
لم يحصل العلم ولا ما يقوم مقامه بعد الفحص واليأس لا يتنجز عليه
التكليف الواقعي، يعني لا يعاقب المكلف لو وقع في مخالفته عن جهل،
وإلا لكان العقاب عليه عقابا بلا بيان، وهو قبيح عقلا. وسيأتي - إن شاء
الله تعالى - في أصل البراءة شرح ذلك.
وفي قبال هذا القول زعم من يرى أن الأحكام إنما تثبت لخصوص
العالم بها أو من قامت عنده الحجة، فمن لم يعلم بالحكم ولم تقم لديه
الحجة عليه لا حكم في حقه حقيقة وفي الواقع (3).
ومن هؤلاء من يذهب إلى تصويب المجتهد، إذ يقول: " إن كل مجتهد
مصيب " (3) وسيأتي بيانه في محله - إن شاء الله تعالى - في هذا الجزء.

سيأتي في الجزء الرابع - إن شاء الله تعالى - مدى تأثير العلم الإجمالي في تنجيز الأحكام
الواقعية.
(2) راجع كفاية الأصول: ص 297 و 406، ودرر الفوائد (الحاشية على الفرائد): ص 25.
(3 و 3) قال به الأشعري وجمهور المتكلمين، راجع تمهيد القواعد للشهيد الثاني ص 321.
35

وعن الشيخ الأنصاري - أعلى الله مقامه - وعن غيره أيضا كصاحب
الفصول (رحمه الله): أن أخبارنا متواترة معنى في اشتراك الأحكام بين العالم
والجاهل (1). وهو كذلك.
والدليل على هذا الاشتراك - مع قطع النظر عن الإجماع وتواتر
الأخبار (2) - واضح، وهو أن نقول:
1 - إن الحكم لو لم يكن مشتركا لكان مختصا بالعالم به، إذ لا يجوز
أن يكون مختصا بالجاهل به، وهو واضح.
2 - وإذا ثبت أنه مختص بالعالم، فإن معناه تعليق الحكم على العلم به.
3 - ولكن تعليق الحكم على العلم به محال، لأ أنه يلزم منه الخلف.
4 - إذن يتعين أن يكون مشتركا بين العالم والجاهل.
بيان لزوم الخلف: أنه لو كان الحكم معلقا على العلم به كوجوب
الصلاة مثلا، فإنه يلزمه - بل هو نفس معنى التعليق - عدم الوجوب
لطبيعي الصلاة، إذ الوجوب يكون حسب الفرض للصلاة المعلومة
الوجوب بما هي معلومة الوجوب، بينما أن تعلق العلم بوجوب الصلاة

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 44. وأما صاحب الفصول فما عثرنا عليه من كلامه هو ادعاء
تواتر الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على أن لله تعالى في كل واقعة حكما معينا، راجع
الفصول: ص 406 س 38.
(2) لم نقف على خبر صريح في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل، نعم يستفاد ذلك من
روايات وردت في أبواب مختلفة بألفاظ متفاوتة:
منها: ما وردت في بيان ثبوت حكم خاص لكل شئ في نفس الأمر، راجع أصول
الكافي ج 1 ص 59 باب الرد إلى الكتاب والسنة.
ومنها: ما وردت في التخطئة والتصويب، مثل ما عن النبي (صلى الله عليه وآله): " إذا حكم الحاكم فأجتهد
فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأجتهد فأخطأ فله أجر " مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 198.
ومنها ما ورد في عدم قبول اعتذار غير العامل بالتكليف بأنه كان جاهلا به، راجع بحار
الأنوار: ج 1 ص 178 ح 58.
36

لا يمكن فرضه إلا إذا كان الوجوب متعلقا بطبيعي الصلاة. فما فرضناه
متعلقا بطبيعي الصلاة لم يكن متعلقا بطبيعيها، بل بخصوص معلوم
الوجوب. وهذا هو الخلف المحال.
وببيان آخر في وجه استحالة تعليق الحكم على العلم به نقول:
إن تعليق الحكم على العلم به يستلزم منه (1) المحال، وهو استحالة
العلم بالحكم، والذي يستلزم منه (2) المحال محال، فيستحيل نفس الحكم.
وذلك لأ أنه قبل حصول العلم لا حكم - حسب الفرض - فإذا أراد أن
يعلم يعلم بماذا؟ فلا يعقل حصول العلم لديه بغير متعلق مفروض
الحصول.
وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلق عليه،
لاستحالة ثبوت الحكم بدون موضوعه. وهو واضح.
وعلى هذا، فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. وإذا استحال ذلك تعين
أن يكون الحكم مشتركا بين العالم والجاهل، أي بثبوته واقعا في صورتي
العلم والجهل وإن كان الجاهل القاصر معذورا، أي أنه لا يعاقب على
المخالفة. وهذا شئ آخر غير نفس عدم ثبوت الحكم في حقه.
ولكنه قد يستشكل في استكشاف اشتراك الأحكام في هذا الدليل بما
تقدم منا (في الجزء الأول ص 121 و 225) من أن الإطلاق والتقييد
متلازمان في مقام الإثبات، لأ نهما من قبيل العدم والملكة، فإذا استحال
التقييد في مورد استحال معه الإطلاق أيضا. فكيف - إذن - نستكشف
اشتراك الأحكام من إطلاق أدلتها؟ لامتناع تقييدها بالعلم، والإطلاق
كالتقييد محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلة الأحكام.

(1 و 2) الأولى في العبارة حذف " منه ".
37

وقد أصر شيخنا النائيني - أعلى الله مقامه - على امتناع الإطلاق في
ذلك، وقال بما محصله: إنه لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلة
الأحكام، بل لابد لإثباته من دليل آخر (1) سماه " متمم الجعل " على أن
يكون الاشتراك من باب " نتيجة الإطلاق " كاستفادة تقييد الأمر العبادي
بقصد الامتثال من دليل ثان متمم للجعل، على أن يكون ذلك من باب
نتيجة التقييد. وكاستفادة تقييد وجوب الجهر والإخفات والقصر والإتمام
بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمم للجعل على أن يكون ذلك أيضا من
باب نتيجة التقييد.
وقال بما خلاصته: يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلة التي
ادعى الشيخ الأنصاري تواترها (2) فتكون هي المتممة للجعل.
أقول: ويمكن الجواب عن الإشكال المذكور بما محصله:
إن هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة اشتراك الأحكام متوقفة على
إثبات إطلاق أدلتها بالنسبة إلى العالم بها، غير أن المطلوب الذي ينفعنا هو
نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصلة، فيكون
التقابل بين اشتراك الأحكام واختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب
والإيجاب، لا من باب تقابل العدم والملكة، لأن المراد من الاشتراك نفس
عدم الاختصاص بالعالم.
وهذا السلب يكفي في استفادته من أدلة الأحكام نفس إثبات امتناع
الاختصاص، ولا يحتاج إلى مؤنة زائدة لإثبات الإطلاق أو إثبات نتيجة
الإطلاق بمتمم الجعل من إجماع أو أدلة أخرى، لأ أنه من نفس امتناع
التقييد نعلم أن الحكم مشترك لا يختص بالعالم.

(1) راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 11.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 44.
38

نعم، يتم ذلك الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلا من جهة بيانية
وفي مرحلة الإنشاء في دليل نفس الحكم وإن كان واقعه يمكن أن يكون
مقيدا أو مطلقا مع قطع النظر عن أدائه باللفظ، فإنه حينئذ لا يمكن بيانه
بنفس دليله الأول فنحتاج إلى استكشاف الواقع المراد من دليل آخر
نسميه " متمم الجعل " ولأجل ذلك نسميه بالمتمم للجعل، فتحصل لنا
نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد من دون أن يحصل تقييد أو إطلاق
المفروض أنهما مستحيلان، كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد
الامتثال في الواجب التعبدي.
أما لو كان نفس الحكم واقعا مع قطع النظر عن أدائه بأية عبارة كانت
- كما فيما نحن فيه - يستحيل تقييده سواء أدي ذلك ببيان واحد أو ببيانين
أو بألف بيان، فإن واقعه لا محالة ينحصر في حالة واحدة، وهو أن يكون
في نفسه شاملا لحالتي وجود القيد المفروض وعدمه.
وعليه، فلا حاجة في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق
دليله الأول ولا من دليل ثان متمم للجعل. ولا نمانع أن نسمي ذلك
" نتيجة الإطلاق " إذا حلا لكم هذا التعبير.
ويبقى الكلام حينئذ في وجه تقييد وجوب الجهر والإخفات والقصر
والإتمام بالعلم مع فرض امتناعه حتى بمتمم الجعل، والمفروض أن هذا
التقييد ثابت في الشريعة، فكيف تصححون ذلك؟
فنقول: إنه لما امتنع تقييد الحكم بالعلم فلابد أن نلتمس توجيها لهذا
الظاهر من الأدلة. وينحصر التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من
باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين الموردين عن الإعادة والقضاء
وإسقاطهما عنه اكتفاء بما وقع كإعفاء الناسي وإن كان الوجوب واقعا
39

غير مقيد بالعلم. والإعادة والقضاء بيد الشارع رفعهما ووضعهما.
ويشهد لهذا التوجيه أن بعض الروايات في البابين عبرت بسقوط
الإعادة عنه، كالرواية عن أبي جعفر (عليه السلام) في من صلى في السفر أربعا:
" إن كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم
يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة " (1).
- 12 -
تصحيح جعل الأمارة
بعدما ثبت أن جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم - مع ما
ثبت من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل - تنشأ شبهة عويصة في
صحة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق (ص 29) وهي:
أنه في فرض التمكن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن
يأذن الشارع باتباع الأمارة الظنية، وهي - حسب الفرض - تحتمل الخطأ
المفوت للواقع؟ والإذن في تفويته قبيح عقلا، لأن الأمارة لو كانت دالة
على جواز الفعل - مثلا - وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة، فإن الاذن
باتباع الأمارة في هذا الفرض يكون إذنا بترك الواجب أو فعل الحرام، مع
أن الفعل لا يزال باقيا على وجوبه الواقعي أو حرمته الواقعية، مع تمكن
المكلف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض. ولا شك في قبح
ذلك من الحكيم.
وهذه الشبهة هي التي ألجأت بعض الأصوليين (2) إلى القول بأن

(1) الوسائل: ج 5 ص 531، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، ح 4.
(2) لم نتحقق من أراده بهذا البعض، لأن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور على وجوه.
ولكل وجه قائل يخصه، راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 43، فوائد الأصول: ج 3 ص 95.
40

الأمارة مجعولة على نحو " السببية " إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة
على نحو " الطريقية " التي هي الأصل في الأمارة، على ما سيأتي من
شرح ذلك قريبا.
والحق معهم إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو
الطريقية، لأن المفروض أن الأمارة قد ثبتت حجيتها قطعا فلابد أن
يفرض - حينئذ - في قيام الأمارة أو في اتباعها مصلحة يتدارك بها ما
يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطأها حتى لا يكون إذن الشارع
بتفويت الواقع قبيحا، ما دام أن تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى أو
مساوية لمصلحة الواقع، فينشأ على طبق مؤدى الأمارة حكم ظاهري
بعنوان أنه الواقع، إما أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة أو مخالفا له
عند الخطأ.
ونحن - بحمد الله تعالى - نرى أن الشبهة يمكن دفعها على تقدير
الطريقية، فلا حاجة إلى فرض السببية.
والوجه في دفع الشبهة: أنه بعد أن فرضنا أن القطع قام على أن
الأمارة الكذائية - كخبر الواحد - حجة يجوز اتباعها مع التمكن من
تحصيل العلم، فلابد أن يكون الإذن من الشارع العالم بالحقائق الواقعية
لأمر علم به وغاب عنا علمه. ولا يخرج هذا الأمر عن أحد شيئين لا
ثالث لهما، وكل منهما جائز عقلا لا مانع منه:
1 - أن يكون قد علم بأن إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم
التي تتفق للمكلفين أو أكثر منها، بمعنى أن العلوم التي يتمكن المكلفون
من تحصيلها يعلم الشارع بأن خطأها سيكون مساويا لخطأ الأمارة
المجعولة أو أكثر خطأ منها.
41

2 - أن يكون قد علم بأن في عدم جعل أمارات خاصة لتحصيل
الأحكام والاقتصار على العلم تضييقا على المكلفين ومشقة عليهم،
لا سيما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها والأخذ بها في
شؤونهم الخاصة وأمورهم الدنيوية وبناء العقلاء كلهم كان عليها.
وهذا الاحتمال الثاني قريب إلى التصديق جدا، فإنه لا نشك في أن
تكليف كل واحد من الناس بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة
في تحصيل جميع الأحكام أمر فيه ما لا يوصف من الضيق والمشقة،
لا سيما أن ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة ما يتعلق
بشؤونهم الدنيوية.
وعليه، فمن القريب جدا أن الشارع إنما رخص في اتباع الأمارات
الخاصة فلغرض تسهيل الأخذ بأحكامه والوصول إليها. ومصلحة
التسهيل من المصالح النوعية المتقدمة في نظر الشارع على المصالح
الشخصية التي قد تفوت أحيانا على بعض المكلفين عند العمل بالأمارة
لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلامية التي بنيت في
تشريعها على التيسير والتسهيل.
وعلى التقديرين والاحتمالين، فإن الشارع في إذنه باتباع الأمارة
طريقا إلى الوصول إلى الواقع من أحكامه لابد أن يفرض فيه أنه قد
تسامح في التكاليف الواقعية عند خطأ الأمارة، أي أن الأمارة تكون
معذرة للمكلف، فلا يستحق العقاب في مخالفة الحكم كما لا يستحق ذلك
عند المخالفة في خطأ القطع، لا أنه بقيام الأمارة يحدث حكم آخر
ثانوي، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع بلا فرق.
ولذا أن الشارع في الموارد التي يريد فيها المحافظة على تحصيل
42

الواقع على كل حال أمر باتباع الاحتياط ولم يكتف بالظنون فيها، وذلك
كموارد الدماء والفروج (1).
- 13 -
الأمارة طريق أو سبب
قد أشرنا في البحث السابق إلى مذهبي السببية والطريقية في الأمارة
وقد عقدنا هذا البحث لبيان هذا الخلاف.
فإن ذلك من الأمور التي وقعت أخيرا موضع البحث والرد والبدل عند
الأصوليين، فاختلفوا في أن الأمارة هل هي حجة مجعولة على نحو
" الطريقية " أو أنها حجة مجعولة على نحو " السببية " أي أنها طريق
أو سبب.
والمقصود من كونها طريقا: أنها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى
الواقع للكشف عنه، فإن أصابته فإنه يكون منجزا بها وهي منجزة له، وإن
أخطأته فإنها حينئذ تكون صرف معذر للمكلف في مخالفة الواقع.
والمقصود من كونها سببا: أنها تكون سببا لحدوث مصلحة في
مؤداها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام الواقعية على تقدير الخطأ، فينشئ
الشارع حكما ظاهريا على طبق ما أدت إليه الأمارة.
والحق أنها مأخوذة على نحو " الطريقية ".
والسر في ذلك واضح بعدما تقدم، فإن القول بالسببية - كما قلنا -
مترتب على القول بالطريقية، يعني أن منشأ قول من قال بالسببية هو العجز
عن تصحيح جعل الطرق على نحو الطريقية، فيلتجئ إلى فرض السببية.

(1) لم نقف على نص خاص يأمر بالاحتياط في الموردين، والظاهر أنه مستفاد من اهتمام
الشرع بهما في مختلف أبواب الفقه، مضافا إلى حكم العقل.
43

أما إذا أمكن تصحيح الطريقية فلا يبقى دليل على السببية ويتعين
كون الأمارة طريقا محضا، لأن الطريقية هي الأصل فيها.
ومعنى أن الطريقية هي الأصل: أن طبع الأمارة لو خليت ونفسها
يقتضي أن تكون طريقا محضا إلى مؤداها، لأن لسانها التعبير عن الواقع
والحكاية والكشف عنه.
على أن العقلاء إنما يعتبرونها ويستقر بناؤهم عليها فلأجل (1) كشفها
عن الواقع، ولا معنى لأن يفرض في بناء العقلاء أنه على نحو السببية،
وبناء العقلاء هو الأساس الأول في حجية الأمارة، كما سيأتي.
نعم، إذا منع مانع عقلي من فرض الأمارة طريقا من جهة الشبهة المتقدمة
أو نحوها، فلابد أن تخرج على خلاف طبعها ونلتجئ إلى فرض السببية.
ولما كنا دفعنا الشبهة في جعلها على نحو الطريقية فلا تصل النوبة إلى
التماس دليل على سببيتها أو طريقيتها، إذ لا موضع للترديد والاحتمال
لنحتاج إلى الدليل.
هذا، وقد يلتمس الدليل على السببية من نفس دليل حجية الأمارة
بأن يقال: إن دليل الحجية - لا شك - يدل على وجوب اتباع الأمارة، ولما
كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، فلابد أن يكون في
اتباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب اتباعها وإن كانت على خطا في
الواقع. وهذه هي السببية بعينها.
أقول: والجواب عن ذلك واضح، فإنا نسلم أن الأحكام تابعة للمصالح
والمفاسد، ولكن لا يلزم في المقام أن يكون في نفس اتباع الأمارة
مصلحة، بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع، فيكون

(1) لأجل، ظ.
44

جعل وجوب اتباع الأمارة لغرض تحصيل مصلحة الواقع. بل يجب أن
يكون الحال فيها كذلك، لأ أنه لا شك أن الغرض من جعل الأمارة هي (1)
الوصول بها إلى الواقع، فالمحافظة على الواقع والوصول إليه هو الباعث
على جعل الأمارة لغرض تنجيزه وتحصيله، فيكون الأمر باتباع الأمارة
طريقا إلى تحصيل الواقع.
ولذا نقول: إذا لم تصب الواقع لا تكليف هناك ولا تدارك لما فات
من الواقع، وما هي إلا المعذرية في مخالفته ورفع العقاب على المخالفة،
لا أكثر. وهذه المعذرية تقتضيها نفس الرخصة في اتباع الأمارة التي
قد تخطئ.
وعلى هذا، فليس لهذا الأمر الطريقي المتعلق باتباع الأمارة بما هو
أمر طريقي مخالفة ولا موافقة، لأ أنه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى
الفعل الذي هو مؤدى الأمارة مستقلا عن الأمر الواقعي، وإنما هو جعل
للأمارة منجزة للأمر الواقعي، فهو موجب لدعوة الأمر الواقعي، فلا بعث
حقيقي في مقابل البعث الواقعي، فلا تكون له مصلحة إلا مصلحة الواقع،
ولا طاعة غير طاعة الواقع، إذ لا بعث فيه إلا بعث الواقع.
- 14 -
المصلحة السلوكية
ذهب الشيخ الأنصاري (قدس سره) إلى فرض المصلحة السلوكية في الأمارات
لتصحيح جعلها (2) - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء
الجزء الثاني ص 309 - وحمل عليه كلام الشيخ الطوسي في العدة (3)

(1) هو، ظ.
(2) راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 42.
(3) العدة: ج 1 ص 103.
45

والعلامة في النهاية (1).
وإنما ذهب إلى هذا الفرض لأ أنه لم يتم عنده تصحيح جعل الأمارة
على نحو الطريقية المحضة، ووجد أيضا أن القول بالسببية المحضة
يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإمامية فسلك طريقا
وسطا لا يذهب به إلى الطريقية المحضة ولا إلى السببية المحضة، وهو أن
يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة وتطبيق العمل على ما أدت إليه.
وبهذه المصلحة يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ، فتكون
الأمارة من ناحية لها شأن الطريقية إلى الواقع، ومن ناحية أخرى لها شأن
السببية.
وغرضه من فرض المصلحة السلوكية أن نفس سلوك طريق الأمارة
والاستناد إليها في العمل بمؤداها فيه مصلحة تعود لشخص المكلف
يتدارك بها ما يفوته من مصلحة الواقع عند الخطأ، من دون أن يحدث في
نفس المؤدى - أي في ذات الفعل والعمل - مصلحة حتى تستلزم إنشاء
حكم آخر غير الحكم الواقعي على طبق ما أدت إليه الأمارة الذي هو
نوع من التصويب (2).

(1) نهاية الوصول (مخطوط) الورقة 136. (*)
إن التصويب الباطل على ما بينه الشيخ على نحوين:
الأول: ما ينسب إلى الأشاعرة وهو أن يفرض أن لا حكم ثابتا في نفسه يشترك فيه
العالم والجاهل، بل الشارع ينشئ أحكامه على طبق ما تؤدي إليه آراء المجتهدين.
الثاني: ما ينسب إلى المعتزلة وهو أن تكون هناك أحكام واقعية ثابتة في نفسها يشترك
فيها العالم والجاهل، ولكن لرأي المجتهد أثرا في تبدل عنوان موضوع الحكم أو متعلقه،
فتحدث على وفق ما أدى إليه رأيه مصلحة غالبة على مصلحة الواقع، فينشئ الشارع أحكاما
ظاهرية ثانوية غير الأحكام الواقعية. وهذا المعنى من التصويب ترجع إليه السببية المحضة.
وإنما كان هذا تصويبا باطلا لأن معناه خلو الواقع عن الحكم حين قيام الأمارة على خلافه.
46

قال (رحمه الله) في رسائله فيما قال: ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة
وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤداها من دون أن تحدث في الفعل
مصلحة على تقدير مخالفة الواقع (1).
ولا ينبغي أن يتوهم أن القول بالمصلحة السلوكية هي نفس ما ذكرناه
في أحد وجهي تصحيح الطريقية من فرض مصلحة التسهيل، لأن الغرض
من القول بالمصلحة السلوكية أن تحدث مصلحة في سلوك الأمارة تعود
تلك المصلحة لشخص المكلف لتدارك ما يفوته من مصلحة الواقع. بينما
أن غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعية قد لا تعود لشخص من
قامت عنده الأمارة، وتلك المصلحة النوعية مقدمة في مقام المزاحمة عند
الشارع على مصلحة الواقع التي قد تفوت على شخص المكلف.
وإذا اتضح الفرق بينهما نقول: إن القول بالمصلحة السلوكية وفرضها
يأتي بالمرتبة الثانية للقول بمصلحة التسهيل، يعني أنه إذا لم تثبت عندنا
مصلحة التسهيل، أو قلنا بعدم تقديم المصلحة النوعية على المصلحة
الشخصية، ولم يصح عندنا أيضا احتمال مساواة خطأ الأمارات للعلوم،
فإنا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكية إذا استطعنا
تصحيحها، فرارا من الوقوع في التصويب الباطل.
وأما نحن فإذ ثبت عندنا أن هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة
تفوق المصالح الشخصية ومقدمة عليها عند الشارع، أصبحنا في غنى عن
فرض المصلحة السلوكية.
على أن المصلحة السلوكية إلى الآن لم نتحقق مراد الشيخ منها ولم
نجد الوجه لتصحيحها في نفسها، فإن في عبارته شيئا من الاضطراب

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 45.
47

والإبهام، وكفى أن يقع في بعض النسخ زيادة كلمة " الأمر " على قوله:
" إلا أن العمل على طبق تلك الأمارة " فتصير العبارة هكذا: " إلا أن الأمر
بالعمل... " فلا يدرى مقصوده هل أنه في نفس العمل مصلحة سلوكية أو
في الأمر به. وقيل: إن هذا التصحيح وقع من بعض تلامذته إذ أوكل إليه
أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في مجلس البحث (1).
وعلى كل حال، فإن الظاهر أن الفارق عنده بين السببية المحضة وبين
المصلحة السلوكية بمقتضى عبارته قبل التصحيح المذكور أن المصلحة
على الأول تكون قائمة بذات الفعل، وعلى الثاني قائمة بعنوان آخر هو
السلوك، فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل.
ولكننا لم نتعقل هذا الفارق المذكور، لأ أنه إنما يتم إذا استطعنا أن
نتعقل لعنوان السلوك عنوانا مستقلا في وجوده عن ذات الفعل لا ينطبق
عليه ولا يتحد معه حتى لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل، وتصوير هذا
في غاية الإشكال. ولعل هذا هو السر في مناقشة تلاميذه له فحمل بعضهم
على إضافة كلمة " الأمر " ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر لا إلى
متعلقه فلا يقع التزاحم بين المصلحتين.
وجه الإشكال: أولا: أننا لا نفهم من عنوان السلوك والاستناد إلى
الأمارة إلا عنوانا للفعل الذي تؤدي إليه الأمارة بأي معنى فسرنا السلوك
والاستناد، إذ ليس للسلوك ومتابعة الأمارة وجود آخر مستقل غير نفس
وجود الفعل المستند إلى الأمارة.
نعم، إذا أردنا من الاستناد إلى الأمارة معنى آخر - وهو الفعل القصدي
من النفس - فإن له وجودا آخر غير وجود الفعل، لأ أنه فعل قلبي جوانحي

(1) راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 98.
48

لا وجود له إلا وجودا قصديا. ولكنه من البعيد جدا أن يكون ذلك غرض
الشيخ من السلوك، لأن هذا الفعل القلبي إنما يصح أن يفرض وجوبه في
خصوص الأمور العبادية، ولا معنى للالتزام بوجوب القصد في جميع
أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.
ثانيا: على تقدير تسليم اختلافهما وجودا، فإن قيام المصلحة بشئ
إنما يدعو إلى تعلق الأمر به، لا بشئ آخر غيره وجودا وإن كانا
متلازمين في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك - وإن كان بمعنى
الفعل القلبي - فإنه إذا كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به فكيف يصح
توجيه الأمر إلى ذات الفعل والمفروض أن له وجودا آخر لم تقم به
المصلحة؟
وأما إضافة كلمة " الأمر " على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدا عن مراده
وعباراته الأخرى.
- 15 -
الحجية أمر اعتباري أو انتزاعي
من الأمور التي وقعت موضع البحث أيضا عند المتأخرين مسألة أن
الحجية هل هي من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها وذاتها، أو أنها من
الانتزاعيات التي تنتزع من المجعولات؟
وهذا النزاع في الحجية فرع - في الحقيقة - عن النزاع في أصل
الأحكام الوضعية. وهذا النزاع في خصوص الحجية - على الأقل - لم
أجد له ثمرة عملية في الأصول.
على أن هذا النزاع في أصله غير محقق ولا مفهوم لأن لكلمتي
" الاعتبارية " و " الانتزاعية " مصطلحات كثيرة، في بعضها تكون الكلمتان
49

متقابلتين، وفي البعض الآخر متداخلتين. وتفصيل ذلك يخرجنا عن
وضع الرسالة.
ونكتفي أن نقول على سبيل الاختصار:
إن الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أن المراد من
الأمر الانتزاعي هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أولا
وبالذات، بمعنى أن الإيجاب والجعل الاعتباري ينسب أولا وبالذات إلى
شئ هو المجعول حقيقة، ثم ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شئ آخر.
فالمجعول الأول هو " الأمر الاعتباري " والثاني هو " الأمر الانتزاعي ".
فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأول بالذات وإلى الثاني
بالعرض، لا أنه هناك جعلان واعتباران: ينسب أحدهما إلى شئ ابتداء
وينسب ثانيهما إلى آخر بتبع الأول، فإن هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.
فيقال في الملكية - مثلا - التي هي من جملة موارد النزاع: إن
المجعول أولا وبالذات هو إباحة تصرف الشخص بالشئ المملوك،
فينتزع منها أنه مالك، أي أن الجعل ينسب ثانيا وبالعرض إلى الملكية.
فالملكية يقال لها: إنها مجعولة بالعرض، ويقال لها: إنها منتزعة من
الإباحة. هذا إذا قيل: إن الملكية انتزاعية. أما إذا قيل: إنها اعتبارية فتكون
عندهم هي المجعولة أولا وبالذات للشارع أو العرف.
وعلى هذا، فإذا أريد من " الانتزاعي " هذا المعنى فالحق أن الحجية
أمر اعتباري، وكذلك الملكية والزوجية ونحوها من الأحكام الوضعية.
وشأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفية المسلم فيها أنها من الاعتباريات
الشرعية.
توضيح ذلك: أن حقيقة الجعل هو الإيجاد. والإيجاد على نحوين:
50

1 - ما يراد منه إيجاد الشئ حقيقة في الخارج. ويسمى " الجعل
التكويني "، أو " الخلق ".
2 - ما يراد منه إيجاد الشئ اعتبارا وتنزيلا، وذلك بتنزيله منزلة
الشئ الخارجي الواقعي من جهة ترتيب أثر من آثاره أو لخصوصية فيه
من خصوصيات الأمر الواقعي. ويسمى " الجعل الاعتباري " أو
" التنزيلي ".
وليس له واقع إلا الاعتبار والتنزيل، وإن كان نفس الاعتبار أمرا
واقعيا حقيقيا لا اعتباريا.
مثلا حينما يقال: " زيد أسد " فإن الأسد مطابقه الحقيقي هو الحيوان
المفترس المخصوص، وهو طبعا مجعول ومخلوق بالجعل والخلق
التكويني، ولكن العرف يعتبرون الشجاع أسدا، فزيد أسد اعتبارا وتنزيلا
من قبل العرف من جهة ما فيه من خصوصية الشجاعة كالأسد الحقيقي.
ومن هذا المثال يظهر كيف أن الأحكام التكليفية اعتبارات شرعية،
لأن الآمر حينما يريد من شخص أن يفعل فعلا ما فبدلا أن يدفعه بيده
- مثلا - ليحركه نحو العمل ينشئ الأمر بداعي جعل الداعي في دخيلة
نفس المأمور، فيكون هذا الإنشاء للآمر دفعا وتحريكا اعتباريا تنزيلا له
منزلة الدفع الخارجي باليد مثلا. وكذلك النهي زجر اعتباري تنزيلا له
منزلة الردع والزجر الخارجي باليد مثلا.
وكذلك يقال في حجية الأمارة المجعولة، فإن القطع لما كان موصلا
إلى الواقع حقيقة وطريقا بنفسه إليه، فالشارع يعتبر الأمارة الظنية طريقا
إلى الواقع تنزيلا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف، فتكون
الأمارة قطعا اعتباريا وطريقا تنزيليا.
51

ومتى صح وأمكن أن تكون الحجية هي المعتبرة أولا وبالذات فما
الذي يدعو إلى فرضها مجعولة ثانيا وبالعرض حتى تكون أمرا انتزاعيا؟
إلا أن يريدوا من " الانتزاعي " معنى آخر، وهو ما يستفاد من دليل الحكم
على نحو الدلالة الالتزامية كأن تستفاد الحجية للأمارة من الأمر باتباعها،
مثل ما لو قال الإمام (عليه السلام): " صدق العادل " الذي يدل بالدلالة الالتزامية
على حجية خبر العادل واعتباره عند الشارع.
وهذا المعنى للانتزاعي صحيح، ولا مانع من أن يقال للحجية: إنها أمر
انتزاعي بهذا المعنى. ولكنه بعيد عن مرامهم، لأن هذا المعنى من الانتزاعية
لا يقابل الاعتبارية بالمعنى الذي شرحناه.
وعلى كل حال: فدعوى انتزاعية الحجية - بأي معنى للانتزاعي - لا
موجب لها، لا سيما أنه لم يتفق ورود أمر من الشارع باتباع أمارة من
الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات والروايات حتى يفرض أن
الحجية منتزعة من ذلك الأمر.
هذا كل ما أردنا بيانه من المقدمات قبل الدخول في المقصود. والآن
نشرع في البحث عن المقصود، وهو تشخيص الأدلة التي هي حجة على
الأحكام الشرعية من قبل الشارع المقدس. ونضعها في أبواب:
* * *
52

الباب الأول:
الكتاب العزيز
53

تمهيد:
إن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والموجود
بأيدي الناس بين الدفتين هو الكتاب المنزل إلى الرسول بالحق، لا ريب
فيه هدى ورحمة * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) * (1).
فهو - إذا - الحجة القاطعة بيننا وبينه تعالى، التي لا شك ولا ريب فيها،
وهو المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية بما تضمنته آياته من بيان
ما شرعه الله للبشر. وأما ما سواه من سنة أو إجماع أو عقل فإليه ينتهي
ومن منبعه يستقي.
ولكن الذي يجب أن يعلم أنه قطعي الحجة من ناحية الصدور فقط
لتواتره عند المسلمين جيلا بعد جيل. وأما من ناحية الدلالة فليس قطعيا
كله، لأن فيه متشابها ومحكما.
ثم " المحكم " منه ما هو نص، أي قطعي الدلالة.
ومنه ما هو ظاهر تتوقف حجيته على القول بحجية الظواهر.
ومن الناس من لم يقل بحجية ظاهره خاصة وإن كانت الظواهر حجة.

(1) يونس: 37.
54

ثم إن فيه ناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا، ومطلقا ومقيدا، ومجملا
ومبينا. وكل ذلك لا يجعله قطعي الدلالة في كثير من آياته.
ومن أجل ذلك وجب البحث عن هذه النواحي لتكميل حجيته. وأهم
ما يجب البحث عنه من ناحية أصولية في أمور ثلاثة:
1 - في حجية ظواهره. وهذا بحث ينبغي أن يلحق بمباحث الظواهر
الآتية، فلنرجئه إلى هناك.
2 - في جواز تخصيصه وتقييده بحجة أخرى، كخبر الواحد ونحوه.
وقد تقدم البحث عنه في الجزء الأول (ص 216).
3 - في جواز نسخه. والبحث عن ذلك ليس فيه كثير فائدة في الفقه
- كما ستعرف - ومع ذلك ينبغي ألا يخلو كتابنا من الإشارة إليه
بالاختصار، فنقول:
نسخ الكتاب العزيز
حقيقة النسخ:
النسخ اصطلاحا: رفع ما هو ثابت في الشريعة من الأحكام ونحوها.
والمراد من " الثبوت في الشريعة ": الثبوت الواقعي الحقيقي، في مقابل
الثبوت الظاهري بسبب الظهور اللفظي، ولذلك فرفع الحكم الثابت بظهور
العموم أو الإطلاق بالدليل المخصص أو المقيد لا يسمى نسخا، بل يقال
له: تخصيص أو تقييد أو نحوهما، باعتبار أن هذا الدليل الثاني المقدم على
ظهور الدليل الأول يكون قرينة عليه وكاشفا عن المراد الواقعي للشارع،
فلا يكون رافعا للحكم إلا ظاهرا، ولا رفع فيه للحكم حقيقة. بخلاف
النسخ.
ومن هنا يظهر الفرق الحقيقي بين النسخ وبين التخصيص والتقييد.
55

وسيأتي مزيد إيضاح لهذه الناحية في جواب الاعتراضات على النسخ.
وقولنا: " من الأحكام ونحوها " فلبيان تعميم النسخ للأحكام التكليفية
والوضعية ولكل أمر بيد الشارع رفعه ووضعه بالجعل التشريعي بما هو
شارع.
وعليه، فلا يشمل النسخ الاصطلاحي المجعولات التكوينية التي بيده
رفعها ووضعها بما هو خالق الكائنات.
وبهذا التعبير يشمل " النسخ " نسخ تلاوة القرآن الكريم على القول به،
باعتبار أن القرآن من المجعولات الشرعية التي ينشئها الشارع بما هو
شارع، وإن كان لنا كلام في دعوى نسخ التلاوة من القرآن ليس هذا
موضع تفصيله. ولكن بالاختصار نقول: إن نسخ التلاوة في الحقيقة يرجع
إلى القول بالتحريف، لعدم ثبوت نسخ التلاوة بالدليل القطعي، سواء كان
نسخا لأصل التلاوة أو نسخا لها ولما تضمنته من حكم معا، وإن كان في
القرآن الكريم ما يشعر بوقوع نسخ التلاوة كقوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية
مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر) * (1) وقوله تعالى: * (ما
ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * (2). ولكن ليستا
صريحتين بوقوع ذلك، ولا ظاهرتين، وإنما أكثر ما تدل الآيتان على
إمكان وقوعه.
إمكان نسخ القرآن:
قد وقعت عند بعض الناس شبهات في إمكان أصل النسخ ثم في
إمكان نسخ القرآن خاصة. وتنويرا للأذهان نشير إلى أهم الشبه ودفعها،
فنقول:

(1) النحل: 101.
(2) البقرة: 106.
56

1 - قيل: إن المرفوع في النسخ إما حكم ثابت أو ما لاثبات له،
والثابت يستحيل رفعه، وما لاثبات له لا حاجة إلى رفعه. وعلى هذا فلابد
أن يؤول النسخ بمعنى رفع مثل الحكم لا رفع عينه، أو بمعنى انتهاء أمد
الحكم (1).
والجواب: أنا نختار الشق الأول، وهو أن المرفوع ما هو ثابت، ولكن
ليس معنى رفع الثابت رفعه بما هو عليه من حالة الثبوت وحين فرض
ثبوته حتى يكون ذلك مستحيلا، بل هو من باب إعدام الموجود [وكسر
الصحيح] (2) وليس إعدام الموجود بمستحيل.
والأحكام لما كانت مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، فإن قوام
الحكم يكون بفرض الموضوع موجودا، ولا يتوقف على ثبوته خارجا
تحقيقا، فإذا أنشئ الحكم كذلك فهو ثابت في عالم التشريع والاعتبار
بثبوت الموضوع فرضا، ولا يرتفع إلا برفعه تشريعا. وهذا هو معنى رفع
الحكم الثابت، وهو النسخ.
2 - وقيل: إن ما أثبته الله من الأحكام لابد أن يكون لمصلحة أو
مفسدة في متعلق الحكم، وما له مصلحة في ذاته لا ينقلب فيكون ذا
مفسدة - وكذلك العكس - وإلا لزم انقلاب الحسن قبيحا والقبيح حسنا،
وهو محال (3). وحينئذ يستحيل النسخ، لأ أنه يلزم منه هذا الانقلاب
المستحيل، أو عدم حكمة الناسخ أو جهله بوجه الحكمة. والأخيران
مستحيلان بالنسبة إلى الشارع المقدس.

(1) أورده الغزالي بلفظ " فإن قيل " وأجاب عنه، راجع المستصفى: ج 1 ص 108.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) ذكره الغزالي وأجاب عنه، راجع المستصفى: ج 1 ص 108.
57

والجواب واضح، بعد معرفة ما ذكرناه في الجزء الثاني في المباحث
العقلية من معاني الحسن والقبيح، فإن المستحيل انقلاب الحسن والقبيح
الذاتيين. ولا معنى لقياسهما على المصالح والمفاسد التي تتبدل وتتغير
بحسب اختلاف الأحوال والأزمان. ولا يبعد أن يكون الشئ ذا مصلحة
في زمان ذا مفسدة في زمان آخر، وإن كان لا يعلم ذلك إلا من قبل
الشارع العالم المحيط بحقائق الأشياء. وهذا غير معنى الحسن والقبح
اللذين نقول فيها: إنه يستحيل فيهما الانقلاب.
مضافا إلى أن الأشياء تختلف فيها وجوه الحسن والقبح باختلاف
الأحوال مما لم يكن الحسن والقبح فيه ذاتيين، كما تقدم هناك.
وإذا كان الأمر كذلك فمن الجائز أن (1) الحكم المنسوخ كان ذا
مصلحة ثم زالت في الزمان الثاني فنسخ، أو كان ينطبق عليه عنوان حسن
ثم زال عنه العنوان في الزمان الثاني فنسخ. فهذه هي الحكمة في النسخ.
3 - وقيل: إذا كان النسخ - كما قلتم - لأجل انتهاء أمد المصلحة،
فينتهي أمد الحكم بانتهائها، فإنه - والحال هذه - إما أن يكون الشارع
الناسخ قد علم بانتهاء أمد المصلحة من أول الأمر، وإما أن يكون
جاهلا به.
لا مجال للثاني، لأن ذلك مستحيل في حقه تعالى، وهو البداء الباطل
المستحيل، فيتعين الأول. وعليه، فيكون الحكم في الواقع موقتا وإن أنشأه
الناسخ مطلقا في الظاهر، ويكون الدليل على النسخ في الحقيقة مبينا
وكاشفا عن مراد الناسخ.
وهذا هو معنى التخصيص، غاية الأمر يكون تخصيصا بحسب الأوقات

(1) في ط 2: أن يكون.
58

لا الأحوال، فلا يكون فرق بين النسخ والتخصيص إلا بالتسمية (1).
والجواب: نحن نسلم أن الحكم المنسوخ ينتهي أمده في الواقع والله
عالم بانتهائه، ولكن ليس معنى ذلك أنه موقت - أي مقيد إنشاء بالوقت -
بل هو قد أنشئ على طبق المصلحة مطلقا على نحو القضايا الحقيقية، فهو
ثابت ما دامت المصلحة كسائر الأحكام المنشأة على طبق مصالحها، فلو
قدر للمصلحة أن تستمر لبقي الحكم مستمرا، غير أن الشارع لما علم
بانتهاء أمد المصلحة رفع الحكم ونسخه.
وهذا نظير أن يخلق الله الشئ ثم يرفعه بإعدامه، وليس معنى ذلك أن
يخلقه موقتا على وجه يكون التوقيت قيدا للخلق والمخلوق بما هو
مخلوق وإن علم به من الأول أن أمده ينتهي.
ومن هنا يظهر الفرق جليا بين النسخ والتخصيص، فإنه في التخصيص
يكون الحكم من أول الأمر أنشئ مقيدا ومخصصا، ولكن اللفظ كان عاما
بحسب الظاهر، فيأتي الدليل المخصص فيكون كاشفا عن المراد، لا أنه
مزيل ورافع لما هو ثابت في الواقع. وأما في النسخ فإنه لما أنشئ الحكم
مطلقا فمقتضاه أن يدوم لو لم يرفعه النسخ، فالنسخ يكون محوا لما هو
ثابت * (يمحو الله ما يشاء ويثبت...) * (2) لا أن الدوام والاستمرار مدلول
لظاهر الدليل بحسب إطلاقه وعمومه والمنشأ في الواقع الحكم الموقت ثم
يأتي الدليل الناسخ فيكشف عن المراد من الدليل الأول ويفسره، بل
الدوام من اقتضاء نفس ثبوت الحكم من دون أن يكون لفظ دليل الحكم
دالا عليه بعموم أو إطلاق.

(1) لم نظفر به بالتقرير المذكور، راجع المستصفى: ج 1 ص 111، ونهاية الوصول في علم
الأصول، الورقة 97، والفصول الغروية: ص 238.
(2) الرعد: 39.
59

يعني أن الحكم المنشأ لو خلي وطبعه مع قطع النظر عن دلالة دليله
لدام واستمر مالم يأت ما يزيله ويرفعه، كسائر الموجودات التي تقتضي
بطبيعتها الاستمرار والدوام.
4 - وقيل: إن كلام الله تعالى قديم، والقديم لا يتصور رفعه (1).
والجواب: بعد تسليم هذا الفرض وهو قدم كلام الله (2) فإن هذا يختص
بنسخ التلاوة، فلا يكون دليلا على بطلان أصل النسخ. مع أنه قد تقدم من
نص القرآن الكريم ما يدل على إمكان نسخ التلاوة وإن لم يكن صريحا
في وقوعه كقوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية...) * (3) فهو إما أن يدل
على أن كلامه تعالى غير قديم، أو أن القديم يمكن رفعه.
مضافا إلى أنه ليس معنى نسخ التلاوة رفع أصل الكلام، بل رفع
تبليغه وقطع علاقة المكلفين بتلاوته.
وقوع نسخ القرآن وأصالة عدم النسخ:
هذا هو الأمر الذي يهمنا إثباته من ناحية أصولية. ولا شك في أنه قد
أجمع علماء الأمة الإسلامية على أنه لا يصح الحكم بنسخ آية من القرآن
إلا بدليل قطعي، سواء كان النسخ بقرآن أيضا أو بسنة أو بإجماع.
كما أنه مما أجمع عليه العلماء أيضا: أن في القرآن الكريم ناسخا
ومنسوخا. وكل هذا قطعي لا شك فيه.
ولكن الذي هو موضع البحث والنظر تشخيص موارد الناسخ

(1) ذكره الغزالي وأجاب عنه، راجع المستصفى: ج 1 ص 108.
إن قدم الكلام في الله يرتبط بمسألة الكلام النفسي وأن من صفات الله تعالى الذاتية أنه
متكلم. والحق الثابت عندنا بطلان هذا الرأي في أصله وما يتفرع عليه من فروع. وهذا أمر
موكول إثباته إلى الفلسفة وعلم الكلام.
(3) النحل: 101.
60

والمنسوخ في القرآن. وإذا لم يحصل القطع بالنسخ بطل موضع الاستدلال
عليه بالأدلة الظنية للإجماع المتقدم.
وأما ما ثبت فيه النسخ منه على سبيل الجزم فهو موارد قليلة جدا
لاتهمنا كثيرا من ناحية فقهية استدلالية، لمكان القطع فيها.
وعلى هذا، فالقاعدة الأصولية التي ننتفع بها ونستخلصها هنا هي:
إن الناسخ إن كان قطعيا أخذنا به واتبعناه، وإن كان ظنيا فلا حجة فيه
ولا يصح الأخذ به، لما تقدم من الإجماع على عدم جواز الحكم بالنسخ
إلا بدليل قطعي.
ولذا أجمع الفقهاء من جميع طوائف المسلمين على أن " الأصل عدم
النسخ عند الشك في النسخ ". وإجماعهم هذا ليس من جهة ذهابهم إلى
حجية الاستصحاب - كما ربما يتوهمه بعضهم - بل حتى من لا يذهب إلى
حجية الاستصحاب يقول بأصالة عدم النسخ، وما ذلك إلا من جهة هذا
الإجماع على اشتراط العلم في ثبوت النسخ.
* * *
61

الباب الثاني:
السنة
63

تمهيد:
السنة في اصطلاح الفقهاء: " قول النبي أو فعله أو تقريره "
ومنشأ هذا الاصطلاح أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع سنته، فغلبت كلمة
" السنة " حينما تطلق مجردة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما
يتضمن بيان حكم من الأحكام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان ذلك بقول أو
فعل أو تقرير، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدل الفعل والتقرير على
بيان الأحكام.
أما فقهاء الإمامية بالخصوص فلما ثبت لديهم أن المعصوم من
آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب
الاتباع فقد توسعوا في اصطلاح " السنة " إلى ما يشمل قول كل واحد من
المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: " قول المعصوم
أو فعله أو تقريره ".
والسر في ذلك: أن الأئمة من آل البيت (عليهم السلام) ليسوا هم من قبيل الرواة
عن النبي والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في
الرواية، بل لأ نهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ
الأحكام الواقعية، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى
64

كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق
التلقي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) " علمني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب " (1).
وعليه، فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من
نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم
مصدر للتشريع، فقولهم سنة لا حكاية السنة.
وأما ما يجئ على لسانهم أحيانا من روايات وأحاديث عن نفس
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع
كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعي.
وأما إثبات إمامتهم وأن قولهم يجري مجرى قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو
بحث يتكفل به علم الكلام.
وإذا ثبت أن السنة بما لها من المعنى الواسع الذي عندنا هي مصدر
من مصادر التشريع الإسلامي، فإن حصل عليها الإنسان بنفسه بالسماع
من نفس المعصوم ومشاهدته فقد أخذ الحكم الواقعي من مصدره الأصلي
على سبيل الجزم واليقين من ناحية السند، كالأخذ من القرآن الكريم ثقل
الله الأكبر، والأئمة من آل البيت ثقله الأصغر.
أما إذا لم يحصل ذلك لطالب الحكم الواقعي - كما في العهود المتأخرة
عن عصرهم - فإنه لابد له في أخذ الأحكام من أن يرجع - بعد القرآن
الكريم - إلى الأحاديث التي تنقل السنة، إما من طريق التواتر أو من طريق
أخبار الآحاد على الخلاف الذي سيأتي في مدى حجية أخبار الآحاد.

(1) بحار الأنوار: ج 26 ص 29 ح 36، بلفظ: لقد علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب يفتح كل باب
ألف باب.
65

وعلى هذا، فالأحاديث ليست هي السنة بل هي الناقلة لها والحاكية
عنها ولكن قد تسمى بالسنة توسعا من أجل كونها مثبتة لها.
ومن أجل هذا يلزمنا البحث عن الأخبار في باب السنة، لأ أنه يتعلق
ذلك بإثباتها. ونعقد الفصل في مباحث أربعة:
- 1 -
دلالة فعل المعصوم
لا شك في أن فعل المعصوم - بحكم كونه معصوما - يدل على إباحة
الفعل على الأقل، كما أن تركه لفعل يدل على عدم وجوبه على الأقل.
ولا شك في أن هذه الدلالة بهذا الحد أمر قطعي ليس موضعا للشبهة
بعد ثبوت عصمته.
ثم نقول بعد هذا: إنه قد يكون لفعل المعصوم من الدلالة ما هو أوسع
من ذلك، وذلك فيما إذا صدر منه الفعل محفوفا بالقرينة كأن يحرز أنه في
مقام بيان حكم من الأحكام أو عبادة من العبادات كالوضوء والصلاة
ونحوهما، فإنه حينئذ يكون لفعله ظهور في وجه الفعل من كونه واجبا
أو مستحبا أو غير ذلك حسبما تقتضيه القرينة.
ولا شبهة في أن هذا الظهور حجة كظواهر الألفاظ بمناط واحد، وكم
استدل الفقهاء على حكم أفعال الوضوء والصلاة والحج وغيرها وكيفياتها
بحكاية فعل النبي أو الإمام في هذه الأمور. كل هذا لا كلام ولا خلاف
لأحد فيه.
وإنما وقع الكلام للقوم في موضعين:
1 - في دلالة فعل المعصوم المجرد عن القرائن على أكثر من إباحة
الفعل. فقد قال بعضهم: إنه يدل بمجرده على وجوب الفعل بالنسبة إلينا.
66

وقيل: يدل على استحبابه. وقيل: لا دلالة له على شئ منهما (1) أي أنه
لا يدل على أكثر من إباحة الفعل في حقنا.
والحق هو الأخير، لعدم ما يصلح أن يجعل له مثل هذه الدلالة.
وقد يظن ظان أن قوله تعالى في سورة الأحزاب 21: * (لقد كان لكم
في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * يدل على
وجوب التأسي والاقتداء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أفعاله. ووجوب الاقتداء
بفعله يلزم منه وجوب كل فعل يفعله في حقنا وإن كان بالنسبة إليه لم
يكن واجبا، إلا ما دل الدليل الخاص على عدم وجوبه في حقنا.
وقيل: إنه إن لم تدل الآية على وجوب الاقتداء فعلى الأقل تدل على
حسن الاقتداء به واستحبابه.
وقد أجاب العلامة الحلي عن هذا الوهم فأحسن - كما نقل عنه - إذ
قال: إن الأسوة عبارة عن الإتيان بفعل الغير لأ أنه فعله على الوجه الذي
فعله، فإن كان واجبا تعبدنا بإيقاعه واجبا، وإن كان مندوبا تعبدنا بإيقاعه
مندوبا، وإن كان مباحا تعبدنا باعتقاد إباحته (2).
وغرضه (قدس سره) من التعبد باعتقاد إباحته فيما إذا كان مباحا ليس مجرد
الاعتقاد حتى يرد عليه - كما في الفصول - بأن ذلك أسوة في الاعتقاد
لا الفعل (3) بل يريد - كما هو الظاهر من صدر كلامه - أن معنى الأسوة في
المباح هو أن نتخير في الفعل والترك، أي لا نلتزم بالفعل ولا بالترك،

(1) قال المحقق الحلي (قدس سره) في مسألة أفعال النبي (صلى الله عليه وآله): " قال ابن سريج: تدل على الوجوب في
حقنا، وقال الشافعي: تدل على الندب، وقال مالك: على الإباحة، والأولى التوقف " معارج
الأصول: ص 118. وإن شئت التفصيل راجع مفاتيح الأصول: باب الأفعال والتأسي
ص 279.
(2) راجع نهاية الوصول: الورقة 94.
(3) الفصول الغروية: 313.
67

إذ الأسوة في كل شئ بحسب ما له من الحكم، فلا تتحقق الأسوة في
المباح بالنسبة إلى الإتيان بفعل الغير إلا بالاعتقاد بالإباحة.
ثم نزيد على ما ذكره العلامة فنقول: إن الآية الكريمة لا دلالة لها
على أكثر من رجحان الأسوة وحسنها، فلا نسلم دلالتها على وجوب
التأسي. مضافا إلى أن الآية نزلت في واقعة الأحزاب فهي واردة مورد
الحث على التأسي به في الصبر على القتال وتحمل مصائب الجهاد في
سبيل الله، فلا عموم لها بلزوم التأسي أو حسنه في كل فعل حتى الأفعال
العادية. وليس معنى هذا أننا نقول: بأن المورد يقيد المطلق أو يخصص
العام، بل إنما نقول: إنه يكون عقبة في إتمام مقدمات الحكمة للتمسك
بالإطلاق. فهو يضر بالإطلاق من دون أن يكون له ظهور في التقييد،
كما نبهنا على ذلك في أكثر من مناسبة.
والخلاصة: أن دعوى دلالة هذه الآية الكريمة على وجوب فعل ما
يفعله النبي مطلقا أو استحبابه مطلقا بالنسبة إلينا بعيدة كل البعد عن
التحقيق.
وكذلك دعوى دلالة الآيات الآمرة بإطاعة الرسول أو باتباعه على
وجوب كل ما يفعله في حقنا، فإنها أوهن من أن نذكرها لردها.
2 - في حجية فعل المعصوم بالنسبة إلينا. فإنه قد وقع كلام للأصوليين
في أن فعله إذا ظهر وجهه أنه على نحو الإباحة أو الوجوب أو
الاستحباب مثلا هل هو حجة بالنسبة إلينا؟ أي أنه هل يدل على اشتراكنا
معه وتعديه إلينا فيكون مباحا لنا كما كان مباحا له أو واجبا علينا كما
كان واجبا عليه... وهكذا؟
ومنشأ الخلاف: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختص بأحكام لا تتعدى إلى غيره
68

ولا يشترك معه باقي المسلمين، مثل وجوب التهجد في الليل، وجواز
العقد على أكثر من أربع زوجات. وكذلك له من الأحكام ما يختص
بمنصب الولاية العامة، فلا تكون لغير النبي أو الإمام باعتبار أنه أولى
بالمؤمنين من أنفسهم.
فإن علم أن الفعل الذي وقع من المعصوم أنه من مختصات فلاشك
في أنه لا مجال لتوهم تعديه إلى غيره. وإن علم عدم اختصاصه به بأي
نحو من أنحاء الاختصاص فلاشك في أنه يعم جميع المسلمين، فيكون
فعله حجة علينا. هذا كله ليس موضع الكلام.
وإنما موضع الشبهة في الفعل الذي لم يظهر حاله في كونه من
مختصاته أوليس من مختصاته ولا قرينة تعين أحدهما، فهل هذا بمجرده
كاف للحكم بأنه من مختصاته، أو للحكم بعمومه للجميع، أو أنه غير
كاف فلا ظهور له أصلا في كل من النحوين؟ وجوه، بل أقوال.
والأقرب هو الوجه الثاني.
والوجه في ذلك: أن النبي بشر مثلنا، له ما لنا وعليه ما علينا، وهو
مكلف من الله تعالى بما كلف به الناس إلا ما قام الدليل الخاص على
اختصاصه ببعض الأحكام إما من جهة شخصه بذاته وإما من جهة منصب
الولاية، فما لم يخرجه الدليل فهو كسائر الناس في التكليف.
هذا مقتضى عموم أدلة اشتراكه معنا في التكليف. فإذا صدر منه فعل
ولم يعلم اختصاصه به، فالظاهر في فعله أن حكمه فيه حكم سائر الناس،
فيكون فعله حجة علينا وحجة لنا، لا سيما مع ما دل على عموم حسن
التأسي به.
ولا نقول ذلك من جهة قاعدة الحمل على الأعم الأغلب، فإنا لا نرى
69

حجية مثل هذه القاعدة في كل مجالاتها، وإنما ذلك من باب التمسك
بالعام في الدوران في التخصيص بين الأقل والأكثر.
- 2 -
دلالة تقرير المعصوم
المقصود من " تقرير المعصوم " أن يفعل شخص بمشهد المعصوم
وحضوره فعلا، فيسكت المعصوم عنه مع توجهه إليه وعلمه بفعله، وكان
المعصوم بحالة يسعه تنبيه الفاعل لو كان مخطئا. والسعة تكون من جهة
عدم ضيق الوقت عن البيان، ومن جهة عدم المانع، منه، كالخوف والتقية
واليأس من تأثير الإرشاد والتنبيه ونحو ذلك.
فإن سكوت المعصوم عن ردع الفاعل أو عن بيان شئ حول
الموضوع لتصحيحه يسمى تقريرا للفعل، أو إقرارا عليه، أو إمضاء له، ما
شئت فعبر.
وهذا التقرير - إذا تحقق بشروطه المتقدمة - فلا شك في أنه يكون
ظاهرا في كون الفعل جائزا فيما إذا كان محتمل الحرمة. كما أنه يكون
ظاهرا في كون الفعل مشروعا صحيحا فيما إذا كان عبادة أو معاملة، لأ أنه
لو كان في الواقع محرما أو كان فيه خلل لكان على المعصوم نهيه عنه
وردعه إذا كان الفاعل عالما عارفا بما يفعل، وذلك من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكان عليه بيان الحكم ووجه الفعل إذا كان
الفاعل جاهلا بالحكم، وذلك من باب وجوب تعليم الجاهل.
ويلحق بتقرير الفعل التقرير لبيان الحكم، كما لو بين شخص بمحضر
المعصوم حكما أو كيفية عبادة أو معاملة، وكان بوسع المعصوم البيان، فإن
70

سكوت الإمام يكون ظاهرا في كونه إقرارا على قوله وتصحيحا وإمضاء له.
وهذا كله واضح، ليس فيه موضع للخلاف.
- 3 -
الخبر المتواتر
إن الخبر على قسمين رئيسين (1): خبر متواتر، وخبر واحد.
و " المتواتر ": ما أفاد سكون النفس سكونا يزول معه الشك ويحصل
الجزم القاطع من أجل إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب. ويقابله
" خبر الواحد " في اصطلاح الأصوليين، وإن كان المخبر أكثر من واحد
ولكن لم يبلغ المخبرون حد التواتر.
وقد شرحنا حقيقة التواتر في كتاب المنطق (الجزء الثالث ص 10) (2)
فراجع.
والذي ينبغي ذكره هنا: أن الخبر قد يكون له وسائط كثيرة في النقل،
كالأخبار التي تصلنا عن الحوادث القديمة، فإنه يجب - ليكون الخبر
متواترا موجبا للعلم - أن تتحقق شروط التواتر في كل طبقة طبقة من
وسائط الخبر، وإلا فلا يكون الخبر متواترا في الوسائط المتأخرة، لأن
النتيجة تتبع أخس المقدمات.
والسر في ذلك واضح، لأن الخبر ذو الوسائط يتضمن في الحقيقة عدة
أخبار متتابعة، إذ أن كل طبقة تخبر عن خبر الطبقة السابقة عليها، فحينما
يقول جماعة: " حدثنا جماعة عن كذا " بواسطة واحدة مثلا، فإن خبر
الطبقة الأولى الناقلة لنا يكون في الحقيقة خبرها ليس عن نفس الحادثة،

(1) في ط الأولى: رئيسيين.
(2) الصفحة 333 من طبعتنا الحديثة.
71

بل عن خبر الطبقة الثانية عن الحادثة. وكذلك إذا تعددت الوسائط إلى
أكثر من واحدة. فهذه الوسائط هي خبر عن خبر حتى تنتهي إلى الواسطة
الأخيرة التي تنقل عن نفس الحادثة، فلابد أن تكون الجماعة الأولى
خبرها متواترا عن خبر متواتر عن متواتر... وهكذا، إذ كل خبر من هذه
الأخبار له حكمه في نفسه. ومتى اختل شرط التواتر في طبقة واحدة
خرج الخبر جملة عن كونه متواترا وصار من أخبار الآحاد.
وهكذا الحال في أخبار الآحاد، فإن الخبر الصحيح ذا الوسائط إنما
يكون صحيحا إذا توفرت شروط الصحة في كل واسطة من وسائطه،
وإلا فالنتيجة تتبع أخس المقدمات.
- 4 -
خبر الواحد
إن خبر الواحد - وهو مالا يبلغ حد التواتر من الأخبار - قد يفيد علما
وإن كان المخبر شخصا واحدا، وذلك فيما إذا احتف خبره بقرائن توجب
العلم بصدقه، ولا شك في أن مثل هذا الخبر حجة. وهذا لا بحث لنا فيه،
لأ أنه مع حصول العلم تحصل الغاية القصوى، إذ ليس وراء العلم غاية في
الحجية وإليه تنتهي حجية كل حجة كما تقدم.
وأما إذا لم يحتف بالقرائن الموجبة للعلم بصدقه - وإن احتف بالقرائن
الموجبة للاطمئنان إليه دون مرتبة العلم - فقد وقع الخلاف العظيم في
حجيته وشروط حجيته. والخلاف في الحقيقة - عند الإمامية
بالخصوص - يرجع إلى الخلاف في قيام الدليل القطعي على حجية خبر
الواحد وعدم قيامه، وإلا فمن المتفق عليه عندهم أن خبر الواحد بما هو
72

خبر مفيد (1) للظن الشخصي أو النوعي لا عبرة به، لأن الظن في نفسه
ليس حجة عندهم قطعا، فالشأن كل الشأن عندهم في حصول هذا الدليل
القطعي ومدى دلالته.
فمن ينكر حجية خبر الواحد - كالسيد الشريف المرتضى (2) ومن
اتبعه - إنما ينكر وجود هذا الدليل القطعي. ومن يقول بحجيته - كالشيخ
الطوسي (3) وباقي العلماء - يرى وجود الدليل القاطع.
ولأجل أن يتضح ما نقول ننقل نص أقوال الطرفين في ذلك:
قال الشيخ الطوسي في العدة (ج 1 ص 44): من عمل بخبر الواحد
فإنما يعمل به إذا دل دليل على وجوب العمل به إما من الكتاب أو السنة
أو الإجماع، فلا يكون قد عمل بغير علم (4).
وصرح بذلك السيد المرتضى في الموصليات - حسبما نقله عنه
الشيخ ابن إدريس في مقدمة كتابه السرائر - فقال: لابد في الأحكام
الشرعية من طريق يوصل إلى العلم - إلى أن قال - ولذلك أبطلنا في
الشريعة العمل بأخبار الآحاد، لأ نهى لا توجب علما ولا عملا، وأوجبنا أن
يكون العمل تابعا للعلم، لأن خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه
الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا (5).
وأصرح منه قوله بعد ذلك: والعقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل
بخبر الواحد، ولو تعبد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة،

(1) في ط الأولى: مفيدا.
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة: ج 2 ص 530 - 531.
(3) العدة: ج 1 ص 100.
(4) العدة: ج 1 ص 106 (ط الحديثة).
(5) السرائر: ج 1 ص 46، انظر رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الأولى: ص 202 - 203.
73

لأن عبادته بذلك توجب العلم الذي لابد أن يكون العمل تابعا له (1).
وعلى هذا فيتضح أن المسلم فيه عند الجميع أن خبر الواحد لو خلي
ونفسه لا يجوز الاعتماد عليه، لأ أنه لا يفيد إلا الظن الذي لا يغني من
الحق شيئا. وإنما موضع النزاع هو قيام الدليل القطعي على حجيته.
وعلى هذا فقد وقع الخلاف في ذلك على أقوال كثيرة:
فمنهم من أنكر حجيته مطلقا، وقد حكي هذا القول عن السيد
المرتضى والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس (2) وادعوا في ذلك
الإجماع. ولكن هذا القول منقطع الآخر، فإنه لم يعرف موافق لهم بعد
عصر ابن إدريس إلى يومنا هذا.
ومنهم من قال: " إن الأخبار المدونة في الكتب المعروفة - لا سيما
الكتب الأربعة - مقطوعة الصدق ". وهذا ما ينسب إلى شرذمة (3) من
متأخري الأخباريين. قال الشيخ الأنصاري تعقيبا على ذلك: وهذا قول
لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلا التحرز عن حصول هذا الوهم لغيرهم
كما حصل لهم، وإلا فمدعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه... (4).
وأما القائلون بحجية خبر الواحد فقد اختلفوا أيضا: فبعضهم يرى أن
المعتبر من الأخبار هو كل ما في الكتب الأربعة بعد استثناء ما كان فيها
مخالفا للمشهور. وبعضهم يرى أن المعتبر بعضها والمناط في الاعتبار
عمل الأصحاب، كما يظهر ذلك من المنقول عن المحقق في المعارج (5).

(1) السرائر: ج 1 ص 47.
(2) الذريعة: ج 2 ص 528، المهذب: ج 2 ص 598، الغنية: ج 2 ص 356، مجمع البيان: ذيل
الآية 6 من سورة الحجرات، السرائر: ج 1 ص 47.
(3) في ط 2: جماعة.
(4) فرائد الأصول: ج 1 ص 109.
(5) معارج الأصول: ص 147.
74

وقيل: المناط فيه عدالة الراوي أو مطلق وثاقته، أو مجرد الظن بالصدور
من غير اعتبار صفة في الراوي... إلى غير ذلك من التفصيلات (1).
والمقصود لنا الآن بيان إثبات حجيته بالخصوص في الجملة في
مقابل السلب الكلي، ثم ننظر في مدى دلالة الأدلة على ذلك. فالعمدة أن
ننظر أولا في الأدلة التي ذكروها من الكتاب والسنة والإجماع وبناء
العقلاء، ثم في مدى دلالتها:
- أ -
أدلة حجية خبر الواحد من الكتاب العزيز
تمهيد:
لا يخفى أن من يستدل على حجية خبر الواحد بالآيات الكريمة
لا يدعى بأنها نص قطعي الدلالة على المطلوب، وإنما أقصى ما يدعيه
أنها ظاهرة فيه.
وإذا كان الأمر كذلك فقد يشكل الخصم بأن الدليل على حجية الحجة
يجب أن يكون قطعيا - كما تقدم - فلا يصح الاستدلال بالآيات التي هي
ظنية الدلالة، لأن ذلك استدلال بالظن على حجية الظن. ولا ينفع كونها
قطعية الصدور.
ولكن الجواب عن هذا الوهم واضح، لأ أنه قد ثبت بالدليل القطعي
حجية ظواهر الكتاب العزيز - كما سيأتي - فالاستدلال بها ينتهي بالأخير
إلى العلم، فلا يكون استدلالا بالظن على حجية الظن.
ونحن على هذا المبنى نذكر الآيات التي ذكروها على حجية خبر
الواحد، فنكتفي بإثبات ظهورها في المطلوب:

(1) إن شئت التفصيل راجع مفاتيح الأصول للسيد المجاهد (قدس سره): ص 328.
75

الآية الأولى - آية النبأ:
وهي قوله تعالى في سورة الحجرات 6: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا
أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) *.
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جهة مفهوم الوصف ومن جهة
مفهوم الشرط. والذي يبدو أن الاستدلال بها من جهة مفهوم الشرط كاف
في المطلوب.
وتقريب الاستدلال يتوقف على شرح ألفاظ الآية أولا، فنقول:
1 - " التبين " إن لهذه المادة معنيين:
الأول: بمعنى الظهور، فيكون فعلها لازما، فنقول: " تبين الشئ " إذا
ظهر وبان. ومنه قوله تعالى: * (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود) * (1) * (حتى يتبين لهم أنه الحق) * (2).
والثاني: بمعنى الظهور عليه - يعني العلم به واستكشافه، أو التصدي
للعلم به وطلبه - فيكون فعلها متعديا، فتقول: " تبينت الشئ " إذا علمته،
أو إذا تصديت للعلم به وطلبته.
وعلى المعنى الثاني - وهو التصدي للعلم به - يتضمن معنى التثبت فيه
والتأني فيه لكشفه وإظهاره والعلم به. ومنه قوله تعالى في سورة النساء
94: * (إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) * ومن أجل هذا قرئ بدل
" فتبينوا ": " فتثبتوا " (3) ومنه كذلك هذه الآية التي نحن بصددها

(1) البقرة: 187.
(2) فصلت: 53.
(3) قراءة حمزة والكسائي راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، والكشف
عن وجوه القراءات للقيسي: ج 1 ص 394، وتفسير القرطبي: ج 5 ص 337، وفي التبيان:
ج 3 ص 297: وهي قراءة أهل الكوفة إلا عاصم، كنز الدقائق: ج 9 ص 589.
76

* (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * وكذلك قرئ فيها " فتثبتوا " (1) فإن هذه
القراءة مما تدل على أن المعنيين - وهما التبين والتثبت - متقاربان.
2 - " أن تصيبوا قوما بجهالة " يظهر من كثير من التفاسير أن هذا
المقطع من الآية كلام مستأنف جاء لتعليل وجوب التبين (2). وتبعهم على
ذلك بعض الأصوليين (3) الذين بحثوا هذه الآية هنا.
ولأجل ذلك قدروا لكلمة " فتبينوا " مفعولا، فقالوا مثلا: معناه:
" فتبينوا صدقه من كذبه ". كما قدروا لتحقيق نظم الآية وربطها - لتصلح
هذه الفقرة أن تكون تعليلا - كلمة تدل على التعليل بأن قالوا: معناها:
" خشية أن تصيبوا قوما بجهالة " أو " حذار أن تصيبوا " أو " لئلا تصيبوا
قوما "... ونحو ذلك.
وهذه التقديرات كلها تكلف وتمحل لا تساعد عليها قرينة ولا قاعدة
عربية. ومن العجيب! أن يؤخذ ذلك بنظر الاعتبار ويرسل إرسال
المسلمات.
والذي أرجحه: أن مقتضى سياق الكلام والاتساق مع أصول القواعد
العربية أن يكون قوله: * (أن تصيبوا قوما...) * مفعولا ل‍ " تبينوا " فيكون
معناه: " فتثبتوا واحذروا إصابة قوم بجهالة ".
والظاهر أن قوله تعالى: * (فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) * يكون كناية
عن لازم معناه، وهو عدم حجية خبر الفاسق، لأ أنه لو كان حجة لما دعا
إلى الحذر من إصابة قوم بجهالة عند العمل به ثم من الندم على العمل به.

(1) كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: ص 236، وتفسير القرطبي: ج 16 ص 312.
(2) راجع التبيان ومجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات، والميزان: ج 18 ص 312.
(3) انظر فرائد الأصول: ج 1 ص 117.
77

3 - " الجهالة ": اسم مأخوذ من الجهل أو مصدر ثان له، قال عنها
أهل اللغة: " الجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم " ثم هم [الذين] (1) فسروا
الجهل بأنه المقابل للعلم عبروا عنه تارة بتقابل التضاد، واخرى بتقابل
النقيض. وإن كان الأصح في التعبير العلمي أنه من تقابل العدم والملكة.
والذي يبدو لي من تتبع استعمال كلمة " الجهل " ومشتقاتها في أصول
اللغة العربية: أن إعطاء لفظ " الجهل " معنى يقابل " العلم " بهذا التحديد
الضيق لمعناه جاء مصطلحا جديدا عند المسلمين في عهدهم لنقل
الفلسفة اليونانية إلى العربية الذي استدعى تحديد معاني كثير من الألفاظ
وكسبها إطارا يناسب الأفكار الفلسفية، وإلا فالجهل في أصل اللغة كان
يعطي معنى يقابل الحكمة والتعقل والروية، فهو يؤدي تقريبا معنى السفه
أو الفعل السفهي عندما يكون عن غضب مثلا وحماقة وعدم بصيرة وعلم.
وعلى كل حال، هو بمعناه الواسع اللغوي يلتقي مع معنى الجهل
المقابل، للعلم الذي صار مصطلحا علميا بعد ذلك. ولكنه ليس هو إياه.
وعليه، فيكون معنى " الجهالة " أن تفعل فعلا بغير حكمة وتعقل وروية
الذي لازمه عادة إصابة عدم الواقع والحق.
إذا عرفت هذه الشروح لمفردات الآية الكريمة يتضح لك معناها وما
تؤدي إليه من دلالة على المقصود في المقام:
إنها تعطي أن النبأ من شأنه أن يصدق به عند الناس ويؤخذ به من
جهة أن ذلك من سيرتهم، وإلا فلماذا نهي عن الأخذ بخبر الفاسق من جهة
أنه فاسق؟ فأراد تعالى أن يلفت أنظار المؤمنين إلى أنه لا ينبغي أن
يعتمدوا كل خبر من أي مصدر كان، بل إذا جاء به فاسق ينبغي ألا يؤخذ

(1) أثبتناه لاقتضاء السياق.
78

به بلا ترو وإنما يجب فيه أن يتثبتوا أن يصيبوا قوما بجهالة، أي بفعل
ما فيه سفه وعدم حكمة قد يضر بالقوم. والسر في ذلك: أن المتوقع من
الفاسق ألا يصدق في خبره، فلا ينبغي أن يصدق ويعمل بخبره.
فتدل الآية بحسب المفهوم على أن خبر العادل يتوقع منه الصدق،
فلا يجب فيه الحذر والتثبت من إصابة قوم بجهالة. ولازم ذلك أنه حجة.
والذي نقوله ونستفيده وله دخل في استفادة المطلوب من الآية: أن
" النبأ " في مفروض الآية مما يعتمد عليه عند الناس وتعارفوا الأخذ به
بلا تثبت. وإلا لما كانت حاجة للأمر فيه بالتبين في خبر الفاسق إذا كان
" النبأ " من جهة ما هو نبأ لا يعمل به الناس.
ولما علقت الآية وجوب التبين والتثبت على مجئ الفاسق يظهر منه
- بمقتضى مفهوم الشرط - أن خبر العادل ليس له هذا الشأن، بل الناس
لهم أن يبقوا فيه على سجيتهم من الأخذ به وتصديقه من دون تثبت وتبين
لمعرفة صدقه من كذبه من جهة خوف إصابة قوم بجهالة. وطبعا لا يكون
ذلك إلا من جهة اعتبار خبر العادل وحجيته، لأن المترقب منه الصدق.
فيكشف ذلك عن حجية قول العادل عند الشارع وإلغاء احتمال الخلاف
فيه.
والظاهر أن بهذا البيان للآية يرتفع كثير من الشكوك التي قيلت على
الاستدلال بها على المطلوب (1). فلا نطيل في ذكرها وردها.
الآية الثانية - آية النفر:
وهي قوله تعالى في سورة التوبة 123: * (وما كان المؤمنون لينفروا

(1) قال الشيخ الأعظم الأنصاري: فقد اورد على الآية إيرادات كثيرة ربما تبلغ إلى نيف
وعشرين، فرائد الأصول: ج 1 ص 117.
79

كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) *.
إن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على المطلوب يتم بمرحلتين من
البيان:
1 - الكلام في صدر الآية: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * تمهيدا
للاستدلال، فإن الظاهر من هذه الفقرة نفي وجوب النفر على المؤمنين
كافة (1) والمراد من النفر - بقرينة باقي الآية - النفر إلى الرسول للتفقه في
الدين، لا النفر إلى الجهاد وإن كانت الآيات التي قبلها واردة في الجهاد،
فإن ذلك وحده غير كاف ليكون قرينة مع ظهور باقي الآية في النفر إلى
التعلم والتفقه. إن الكلام الواحد يفسر بعضه بعضا.
وهذه الفقرة إما جملة خبرية يراد بها إنشاء نفي الوجوب، فتكون في
الحقيقة جملة إنشائية. وإما جملة خبرية يراد بها الإخبار جدا عن عدم
وقوعه من الجميع إما لاستحالته عادة أو لتعذره اللازم له عدم وجوب
النفر عليهم جميعا، فتكون دالة بالدلالة الالتزامية على عدم جعل مثل هذا
الوجوب من الشارع. وعلى كلا الحالين فهي تدل على عدم تشريع
وجوب النفر على كل واحد واحد إما إنشاء أو إخبارا.
ولكن ليس من شأن الشارع بما هو شارع أن ينفي وجوب شئ
إنشاء أو إخبارا إلا إذا كان في مقام رفع توهم الوجوب لذلك الشئ أو
اعتقاده. واعتقاد وجوب النفر أمر متوقع لدى العقلاء، لأن التعلم واجب
عقلي على كل أحد وتحصيل اليقين فيه المنحصر عادة في مشافهة

يستفيد بعضهم من الآية النهي عن نفر الكافة. وهي استفادة بعيدة جدا، وليست كلمة " ما "
من أدوات النهي. إذا ليس لهذه الآية أكثر من الدلالة على نفي الوجوب.
80

الرسول أيضا واجب عقلي. فحق أن يعتقد المؤمنون بوجوب النفر إلى
الرسول شرعا لتحصيل المعرفة بالأحكام.
ومن جهة أخرى، فإنه مما لا شبهة فيه أن نفر جميع المؤمنين في
جميع أقطار الإسلام إلى الرسول لأخذ الأحكام منه بلا واسطة كلما عنت
حاجة وعرضت لهم مسألة أمر ليس عمليا من جهات كثيرة، فضلا عما
فيه من مشقة عظيمة لا توصف، بل هو مستحيل عادة.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن الله تعالى أراد بهذه الفقرة - والله العالم - أن
يرفع عنهم هذه الكلفة والمشقة برفع وجوب النفر رحمة بالمؤمنين. ولكن
هذا التخفيف ليس معناه أن يستلزم رفع أصل وجوب التفقه، بل
الضرورات تقدر بقدرها. ولا شك أن التخفيف يحصل برفع الوجوب على
كل واحد واحد، فلابد من علاج لهذا الأمر اللازم تحقيقه على كل حال -
وهو التعلم - بتشريع طريقة أخرى للتعلم غير طريقة التعلم اليقيني من
نفس لسان الرسول. وقد بينت بقية الآية هذا العلاج وهذه الطريقة وهو
قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة...) * والتفريع بالفاء شاهد على أن هذا
علاج متفرع على نفي وجوب النفر على الجميع.
ومن هذا البيان يظهر أن هذه الفقرة (صدر الآية) لها الدخل الكبير في
فهم الباقي من الآية الذي هو موضع الاستدلال على حجية خبر الواحد.
وقد أغفل هذه الناحية المستدلون بهذه الآية على المطلوب، فلم يوجهوا
الارتباط بين صدر الآية وبقيتها للاستدلال بها، على نحو ما يأتي.
2 - الكلام عن نفس موقع الاستدلال من الآية على حجية خبر
الواحد المتفرع هذا الموقع على صدرها، لمكان فاء التفريع.
إنه تعالى بعد أن بين عدم وجوب النفر على كل واحد واحد تخفيفا
81

عليهم حرضهم على اتباع طريقة أخرى بدلالة " لولا " التي هي
للتحضيض، والطريقة هي أن ينفر قسم من كل قوم ليرجعوا إلى قومهم
فيبلغونهم الأحكام بعد أن يتفقهوا في الدين ويتعلموا الأحكام. وهو في
الواقع خير علاج لتحصيل التعليم بل الأمر منحصر فيه.
فالآية الكريمة بمجموعها تقرر أمرا عقليا وهو وجوب المعرفة
والتعلم، وإذ تعذرت المعرفة اليقينية بنفر كل واحد إلى النبي ليتفقه في
الدين فلم يجب، رخص الله تعالى لهم لتحصيل تلك الغاية - أعني التعلم -
بأن ينفر طائفة من كل فرقة. والطائفة المتفقهة هي التي تتولى حينئذ تعليم
الباقين من قومهم، بل ليس (1) قد رخصهم فقط بذلك وإنما أوجب عليهم
أن ينفر طائفة من كل قوم. ويستفاد الوجوب من " لولا " التحضيضية ومن
الغاية من النفر، وهو التفقه لإنذار القوم الباقين لأجل أن يحذروا من
العقاب، مضافا إلى أن أصل التعلم واجب عقلي كما قررنا.
كل ذلك شواهد ظاهرة على وجوب تفقه جماعة من كل قوم لأجل
تعليم قومهم الحلال والحرام. ويكون ذلك - طبعا - وجوبا كفائيا.
وإذا استفدنا وجوب تفقه كل طائفة من كل قوم أو تشريع ذلك
بالترخيص فيه على الأقل لغرض إنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، فلابد أن
نستفيد من ذلك أن نقلهم للأحكام قد جعله الله تعالى حجة على الآخرين
وإلا لكان تشريع هذا النفر على نحو الوجوب أو الترخيص لغوا بلا فائدة
بعد أن نفى وجوب النفر على الجميع. بل لو لم يكن نقل الأحكام حجة لما
بقيت طريقة لتعلم الأحكام تكون معذرة للمكلف وحجة له أو عليه.

(1) في ط 2 بدل " ليس ": إنه لم يكن.
82

والحاصل: أن رفع وجوب النفر على الجميع والاكتفاء بنفر قسم منهم
ليتفقهوا في الدين ويعلموا الآخرين (1) بمجموعه دليل واضح على حجية
نقل الأحكام في الجملة وإن لم يستلزم العلم اليقيني، لأن الآية من ناحية
اشتراط الإنذار بما يوجب العلم مطلقة، فكذلك تكون مطلقة من ناحية
قبول الإنذار والتعليم، وإلا كان هذا التدبير الذي شرعه الله لغوا وبلا فائدة
وغير محصل للغرض الذي من أجله كان النفر وتشريعه.
هكذا ينبغي أن تفهم الآية الكريمة في الاستدلال على المطلوب [والله
أعلم بأسرار آياته] (2) وبهذا البيان يندفع كثير مما اورد على الاستدلال بها
للمطلوب.
وينبغي ألا يخفى (3): أنه لا يتوقف الاستدلال بها على أن يكون نفر
الطائفة من كل قوم واجبا، بل يكفي ثبوت أن هذه الطريقة مشرعة من
قبل الله وإن كان بنحو الترخيص بها، لأن نفس تشريعها يستلزم تشريع
حجية نقل الأحكام من المتفقه، فلذلك لا تبقى حاجة إلى التطويل في
استفادة الوجوب.
كما أن الاستدلال بها لا يتوقف على كون الحذر عند إنذار النافرين
المتفقهين واجبا واستفادة ذلك من " لعل " أو من أصل حسن الحذر، بل
الأمر بالعكس، فإن نفس جعل حجية قول النافرين المتفقهين المستفاد من
الآية يكون دليلا على وجوب الحذر.
نعم يبقى شئ، وهو أن الواجب أن ينفر من كل فرقة طائفة، والطائفة
ثلاثة فأكثر، أو أكثر من ثلاثة، وحينئذ لا تشمل الآية خبر الشخص

(1) في ط زيادة: هو.
(2) لم يرد في ط 2.
(3) في ط 2 زيادة: عليكم.
83

الواحد أو الاثنين. ولكن يمكن دفع ذلك بأنه لا دلالة في الآية على أنه
يجب في الطائفة أن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم مجتمعين بشرط
الاجتماع، فالآية من هذه الناحية مطلقة، وبمقتضى إطلاقها يكون خبر
الواحد لو انفرد بالإخبار حجة أيضا، يعني أن العموم فيها أفرادي
لا مجموعي.
تنبيه مهم (1):
إن هذه الآية الكريمة تدل أيضا على وجوب قبول فتوى المجتهد
بالنسبة إلى العامي، كما دلت على وجوب قبول خبر الواحد. وذلك ظاهر،
لأن كلمة " التفقه " عامة للطرفين. وقد أفاد ذلك شيخنا النائيني (قدس سره) - كما
في تقريرات بعض الأساطين من تلامذته - فإنه قال: إن التفقه في العصور
المتأخرة وإن كان هو استنباط الحكم الشرعي بتنقيح جهات ثلاث:
الصدور وجهة الصدور والدلالة، ومن المعلوم: أن تنقيح الجهتين
الأخيرتين مما يحتاج إلى إعمال النظر والدقة، إلا أن التفقه في الصدر
الأول لم يكن محتاجا إلا إلى إثبات الصدور ليس إلا، لكن اختلاف
محقق التفقه باختلاف الأزمنة لا يوجب اختلافا في مفهومه، فكما أن
العارف بالأحكام الشرعية بإعمال النظر والفكر يصدق عليه " الفقيه "
كذلك العارف بها من دون إعمال النظر والفكر يصدق عليه " الفقيه "
حقيقة (2).
وبمقتضى عموم " التفقه " فإن الآية الكريمة أيضا تدل على وجوب
الاجتهاد في العصور المتأخرة عن عصور المعصومين وجوبا كفائيا،

(1) لم يرد " مهم " في ط 2.
(2) أجود التقريرات: ج 2 ص 110.
84

بمعنى أنه يجب على كل قوم أن ينفر منهم طائفة فيرحلوا لتحصيل التفقه
- وهو الاجتهاد - لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. كما تدل أيضا بالملازمة
التي سبق ذكرها على حجية قول المجتهد على الناس الآخرين ووجوب
قبول فتواه عليهم.
الآية الثالثة - آية حرمة الكتمان:
وهي قوله تعالى في سورة البقرة 159: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا
من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم
الله...) *.
وجه الاستدلال بها يشبه الاستدلال بآية النفر، فإنه لما حرم الله تعالى
كتمان البينات والهدى وجب أن يقبل قول من يظهر البينات والهدى
ويبينه للناس وإن كان ذلك المظهر والمبين واحدا لا يوجب قوله العلم،
وإلا لكان تحريم الكتمان لغوا وبلا فائدة لو لم يكن قوله حجة مطلقا.
والحاصل: أن هناك ملازمة عقلية بين وجوب الإظهار ووجوب
القبول، وإلا لكان وجوب الإظهار لغوا وبلا فائدة. ولما كان وجوب
الإظهار لم يشترط فيه أن يكون الإظهار موجبا للعلم فكذلك لازمه وهو
وجوب القبول لابد أن يكون مطلقا من هذه الناحية غير مشترط فيه بما
يوجب العلم. وعلى هذا الأساس من الملازمة قلنا بدلالة آية النفر على
حجية خبر الواحد وحجية فتوى المجتهد.
ولكن الإنصاف: أن الاستدلال لا يتم بهذه الآية الكريمة، بل هي
أجنبية جدا عما نحن فيه، لأن ما نحن فيه - وهو حجية خبر الواحد - أن
يظهر المخبر شيئا لم يكن ظاهرا ويعلم ما تعلم من أحكام غير معلومة
للآخرين كما في آية النفر، فإذا وجب التعليم والإظهار وجب قبوله على
85

الآخرين، وإلا كان وجوب التعليم والإظهار لغوا، وأما هذه الآية فهي
واردة في مورد كتمان ما هو ظاهر وبين للناس جميعا، بدليل قوله تعالى:
* (من بعد ما بيناه للناس في الكتاب) * لا إظهار ما هو خفي على
الآخرين.
والغرض: أن هذه الآية واردة في مورد ما هو بين واجب القبول سواء
كتم أم أظهر، لا في مورد يكون قبوله من جهة الإظهار حتى تكون
ملازمة بين وجوب القبول وحرمة الكتمان، فيقال: " لو لم يقبل لما حرم
الكتمان ". وبهذا يظهر الفرق بين هذه الآية وآية النفر.
وينسق على هذه الآية باقي الآيات الأخر التي ذكرت للاستدلال بها
على المطلوب، فلا نطيل بذكرها.
- ب -
دليل حجية خبر الواحد من السنة
من البديهي أنه لا يصح الاستدلال على حجية خبر الواحد بنفس
خبر الواحد، فإنه دور ظاهر، بل لابد أن تكون الأخبار المستدل بها على
حجيته معلومة الصدور من المعصومين، إما بتواتر أو قرينة قطعية.
ولا شك في أنه ليس في أيدينا من الأخبار ما هو متواتر بلفظه في
هذا المضمون وإنما كل ما قيل هو تواتر الأخبار معنى في حجية خبر
الواحد إذا كان ثقة مؤتمنا في الرواية، كما رآه الشيخ الحر صاحب
الوسائل (1). وهذه دعوى غير بعيدة، فإن المتتبع يكاد يقطع جازما بتواتر
الأخبار في هذا المعنى، بل هي بالفعل متواترة لا ينبغي أن يعتري فيها

(1) انظر الوسائل: ج 20 ص 98، الفائدة التاسعة.
86

الريب للمنصف (1).
وقد ذكر الشيخ الأنصاري - قدس الله نفسه الزكية - طوائف من
الأخبار، يحصل بانضمام بعضها إلى بعض العلم بحجية خبر الواحد الثقة
المأمون من الكذب في الشريعة، وأن هذا أمر مفروغ عنه عند
آل البيت (عليهم السلام).
ونحن نشير إلى هذه الطوائف على الإجمال وعلى الطالب أن يرجع
إلى الوسائل (كتاب القضاء) (2) وإلى رسائل الشيخ في حجية خبر
الواحد (3) للاطلاع على تفاصيلها.
الطائفة الأولى: ما ورد في الخبرين المتعارضين في الأخذ
بالمرجحات، كالأعدل والأصدق والمشهور ثم التخيير عند التساوي (4).
وسيأتي ذكر بعضها في باب التعادل والتراجيح. ولولا أن خبر الواحد الثقة
حجة لما كان معنى لفرض التعارض بين الخبرين، ولا معنى للترجيح
بالمرجحات المذكورة والتخيير عند عدم المرجح، كما هو واضح.
الطائفة الثانية: ما ورد في إرجاع آحاد الرواة إلى آحاد أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) على وجه يظهر فيه عدم الفرق في الإرجاع بين الفتوى والرواية،
مثل إرجاعه (عليه السلام) إلى زرارة بقوله: " إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس " (5)

إن الشيخ صاحب الكفاية لم يتضح له تواتر الأخبار معنى، وإنما أقصى ما اعترف به " أنها
متواترة إجمالا " وغرضه من التواتر الإجمالي هو العلم بصدور بعضها عنهم (عليهم السلام) يقينا.
وتسمية ذلك بالتواتر مسامحة ظاهرة.
(2) راجع الوسائل: ج 18 ص 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
(3) راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 137 - 144.
(4) راجع الوسائل: ج 18 ص 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(5) الكشي: ص 136، ح 216.
87

يشير بذلك إلى زرارة. ومثل قوله (عليه السلام) لما قال له عبد العزيز بن المهتدي:
ربما أحتاج ولست ألقاك في كل وقت، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ
عنه معالم ديني؟ قال: نعم (1).
قال الشيخ الأعظم: وظاهر هذه الرواية أن قبول قول الثقة كان أمرا
مفروغا عنه عند الراوي، فسأل عن وثاقة يونس ليرتب عليه أخذ المعالم
منه (2).
إلى غير ذلك من الروايات التي تنسق على هذا المضمون ونحوه.
الطائفة الثالثة: ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات
والعلماء، مثل قوله (عليه السلام): " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم " (3)... إلى ما شاء الله من
الروايات في أمثال هذا المعنى.
الطائفة الرابعة: ما دل على الترغيب في الرواية والحث عليها وكتابتها
وإبلاغها، مثل الحديث النبوي المستفيض بل المتواتر: " من حفظ على
أمتي أربعين حديثا بعثه الله فقيها عالما يوم القيامة " (4) الذي لأجله صنف
كثير من العلماء الأربعينيات. ومثل قوله (عليه السلام) للراوي: " اكتب وبث علمك
في بني عمك، فإنه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم " (5) إلى غير
ذلك من الأحاديث.

(1) الوسائل: ج 18 ص 107 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 139.
(3) الوسائل: ج 18 ص 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9.
(4) الوسائل: ج 18 ص 54، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 5، 6 و...
(5) الوسائل: ج 18 ص 56، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 18، وفيه بدل " بني
عمك ": إخوانك.
88

الطائفة الخامسة: ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين
عليهم (1) فإنه لو لم يكن الأخذ بأخبار الآحاد أمرا معروفا بين المسلمين
لما كان مجال للكذب عليهم، ولما كان مورد للخوف من الكذب عليهم
ولا التحذير من الكذابين، لأ أنه لا أثر للكذب لو كان خبر الواحد على كل
حال غير مقبول عند المسلمين.
قال الشيخ الأعظم بعد نقله لهذه الطوائف من الأخبار - وهو على حق
فيما قال [ولقد أجاد فيما أفاد] (2) -: إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد
من مجموعها رضى الأئمة بالعمل بالخبر وإن لم يفد القطع، وقد ادعى في
الوسائل تواتر الأخبار بالعمل بخبر الثقة، إلا أن القدر المتيقن منها هو خبر
الثقة الذي يضعف فيه احتمال الكذب على وجه لا يعتني به العقلاء
ويقبحون التوقف فيه لأجل ذلك الاحتمال، كما دل عليه ألفاظ " الثقة "
و " المأمون " و " الصادق " وغيرها الواردة في الأخبار المتقدمة، وهي أيضا
منصرف إطلاق غيرها (3).
وأضاف (4): وأما " العدالة " فأكثر الأخبار المتقدمة خالية عنها، بل
وفي كثير منها التصريح بخلافه (5).
- ج -
دليل حجية خبر الواحد من الإجماع
حكى جماعة كبيرة تصريحا وتلويحا الإجماع من قبل علماء
الإمامية على حجية خبر الواحد إذا كان ثقة مأمونا في نقله وإن لم يفد

(1) الوسائل: ج 18 ص 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، ح 20.
(2) لم يرد في ط 2.
(3 و 5) فرائد الأصول: ج 1 ص 144.
(4) في ط الأولى بدل " وأضاف ": ثم قال ونعم ما قال.
89

خبره العلم. وعلى رأس الحاكين للإجماع شيخ الطائفة الطوسي - أعلى
الله مقامه - في كتابه العدة (ج 1 ص 47) (1) لكنه اشترط فيما اختاره من
الرأي وحكى عليه الإجماع: أن يكون خبر الواحد واردا من طريق
أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مرويا عن النبي أو عن الواحد من
الأئمة، وكان ممن لا يطعن في روايته ويكون سديدا في نقله. وتبعه على
ذلك في التصريح بالإجماع السيد رضي الدين بن طاووس (2) والعلامة
الحلي في النهاية (3) والمحدث المجلسي في بعض رسائله (4) كما حكى
ذلك عنهم الشيخ الأعظم في الرسائل (5).
وفي مقابل ذلك حكى جماعة أخرى إجماع الإمامية على عدم
الحجية. وعلى رأسهم السيد الشريف المرتضى - أعلى الله درجته -
وجعله بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة (6).
وتبعه على ذلك الشيخ ابن إدريس في السرائر ونقل كلاما للسيد
المرتضى في المقدمة، وانتقد في أكثر من موضع في كتابه (7) الشيخ
الطوسي في عمله بخبر الواحد، وكرر تبعا للسيد قوله: " إن خبر الواحد
لا يوجب علما ولا عملا " (8) وكذلك نقل عن الطبرسي - صاحب مجمع
البيان - تصريحه في نقل الإجماع على عدم العمل بخبر الواحد (9).

(1) الصفحة 126 من الطبعة الحديثة.
(2) لم نقف على مأخذه في غير فرائد الأصول.
(3) نهاية الوصول: الورقة 139.
(4) لم نظفر بالرسالة، قال في البحار (ج 2 ص 245): وعمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على أخبار
الآحاد التي لا تفيد العلم في أعصارهم متواتر بالمعنى لا يمكن إنكاره.
(5) فرائد الأصول: ج 1 ص 156 - 157.
(6) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الأولى): ص 211.
(7) في ط الأولى: وشنع... على الشيخ الطوسي.
(8) راجع السرائر: ج 1 ص 47، 50، 127، 267.
(9) مجمع البيان ذيل الآية 6 من سورة الحجرات.
90

والغريب في الباب! وقوع مثل هذا التدافع بين نقل الشيخ والسيد عن
إجماع الإمامية، مع أنهما متعاصران بل الأول تلمذ على الثاني، وهما
الخبيران العالمان بمذهب الإمامية، وليس من شأنهما أن يحكيا مثل هذا
الأمر بدون تثبت وخبرة كاملة.
فلذلك وقع الباحثون في حيرة عظيمة من أجل التوفيق بين نقليهما.
وقد حكى الشيخ الأعظم في الرسائل وجوها للجمع: مثل أن يكون
مراد السيد المرتضى من " خبر الواحد " - الذي حكى الإجماع على عدم
العمل به - هو خبر الواحد الذي يرويه مخالفونا (1) والشيخ يتفق معه على
ذلك. وقيل: يجوز أن يكون مراده من " خبر الواحد " ما يقابل المأخوذ
من الثقات المحفوظ في الأصول المعمول بها عند جميع خواص
الطائفة (2) وحينئذ يتقارب مع الشيخ في الحكاية عن الإجماع. وقيل:
يجوز أن يكون مراد الشيخ من " خبر الواحد " خبر الواحد المحفوظ
بالقرائن المفيدة للعلم بصدقه (3) فيتفق حينئذ نقله مع نقل السيد.
وهذه الوجوه من التوجيهات قد استحسن الشيخ الأعظم منها الأول
ثم الثاني. ولكنه يرى أن الأرجح من الجميع ما ذكره هو من الوجه (4) وأكد
عليه أكثر من مرة، فقال:
ويمكن الجمع بينهما بوجه أحسن، وهو أن مراد السيد من " العلم "
الذي أدعاه في صدق الأخبار هو مجرد الاطمئنان، فإن المحكي عنه في
تعريف العلم أنه " ما اقتضى سكون النفس " وهو الذي ادعى بعض

(1 - 3) راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 112 و 156.
ذكر المحقق الآشتياني في حاشيته على الرسائل في هذا الموقع: أن هذا الوجه من التوجيه
سبق إليه بعض أفاضل المتأخرين، وهو المحقق النراقي - صاحب المناهج - ونقل نص
عبارته.
91

الأخباريين أن مرادنا من العلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى، لا اليقين
الذي لا يقبل الاحتمال رأسا. فمراد الشيخ من تجرد هذه الأخبار عن
القرائن تجردها عن القرائن الأربع التي ذكرها أولا، وهي: موافقة الكتاب
والسنة والإجماع والدليل العقلي. ومراد السيد من القرائن التي ادعى في
عبارته المتقدمة (1) احتفاف أكثر الأخبار بها، هي الأمور الموجبة للوثوق
بالراوي أو بالرواية، بمعنى سكون النفس بهما وركونها إليهما.
ثم قال: ولعل هذا الوجه أحسن وجوه الجمع بين كلامي الشيخ
والسيد، خصوصا مع ملاحظة تصريح السيد في كلامه بأن أكثر الأخبار
متواترة أو محفوفة، وتصريح الشيخ في كلامه المتقدم بإنكار ذلك (2).
هذا ما أفاده الشيخ الأنصاري في توجيه كلام هذين العلمين. ولكني
لا أحسب أن السيد المرتضى يرتضي بهذا الجمع، لأ أنه صرح في عبارته
- المنقولة في مقدمة السرائر - بأن مراده من " العلم " القطع الجازم، قال:
اعلم أنه لابد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها،
لأ أنه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه مصلحة جوزنا كونه
مفسدة.
وأصرح منه (3) قوله بعد ذلك: ولذلك أبطلنا في الشريعة العمل بأخبار
الآحاد لأ نهى لا توجب علما ولا عملا، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا
للعلم لأن خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن لصدقه (4) ومن

غرضه من " عبارته المتقدمة " عبارته التي نقلها في السرائر عن السيد، وقد نقلها الشيخ
الأعظم في الرسائل.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 156.
(* *) إنما قلت: " أصرح منه " لأ أنه يحتمل في العبارة المتقدمة أنه يريد من " العلم " ما يعم العلم
بالحكم والعلم بمشروعية الطريق إليه وإن كان الطريق في نفسه ظنيا. وهذا الاحتمال
لا يتطرق إلى عبارته الثانية.
(4) بصدقه، ظ.
92

ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق، فإن الظن
لا يمنع من التجويز، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنه إقدام
على ما لا نأمن من كونه فسادا أو غير صلاح (1).
هذا، ويحتمل احتمالا بعيدا: أن السيد لم يرد من " التجويز " - الذي
قال عنه: إنه لا يمنع منه الظن - كل تجويز حتى الضعيف الذي لا يعتني به
العقلاء ويجتمع مع اطمئنان النفس، بل أراد منه التجويز الذي لا يجتمع مع
اطمئنان النفس ويرفع الأمان بصدق الخبر.
وإنما قلنا: إن هذا الاحتمال بعيد، لأ أنه يدفعه: أن السيد حصر في
بعض عباراته ما يثبت الأحكام عند من نأى عن المعصومين أو وجد
بعدهم، حصره في خصوص الخبر المتواتر المفضي إلى العلم وإجماع
الفرقة المحقة لا غيرهما.
وأما تفسيره للعلم بسكون النفس فهذا تفسير شايع في عبارات
المتقدمين ومنهم الشيخ نفسه في العدة. والظاهر أنهم يريدون من سكون
النفس " الجزم القاطع " لا مجرد الاطمئنان وإن لم يبلغ القطع كما هو
متعارف التعبير به في لسان المتأخرين.
نعم، لقد عمل السيد المرتضى على خلاف ما أصله هنا - وكذلك ابن
إدريس الذي تابعه في هذا القول - لأ أنه كان كثيرا ما يأخذ بأخبار الآحاد
الموثوقة المروية في كتب أصحابنا. ومن العسير عليه وعلى غيره أن
يدعى تواترها جميعا أو احتفافها بقرائن توجب القطع بصدورها. وعلى
ذلك جرت استنباطاته الفقهية. وكذلك ابن إدريس في السرائر. ولعل عمله

(1) السرائر: ج 1 ص 46 و 47.
93

هذا يكون قرينة على مراده من ذلك الكلام ومفسرا له على نحو ما
احتمله الشيخ الأنصاري.
وعلى كل حال، سواء استطعنا تأويل كلام السيد بما يوافق كلام
الشيخ أو لم نستطع، فإن دعوى الشيخ إجماع الطائفة على اعتبار " خبر
الواحد الموثوق به المأمون من الكذب وإن لم يكن عادلا بالمعنى الخاص
ولم يوجب قوله العلم القاطع " دعوى مقبولة ومؤيدة، يؤيدها عمل جميع
العلماء من لدن الصدر الأول إلى اليوم حتى نفس السيد وابن إدريس كما
ذكرنا، بل السيد نفسه اعترف في بعض كلامه بعمل الطائفة بأخبار الآحاد.
إلا أنه ادعى أنه لما كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجردة - كعدم
عملهم بالقياس - فلابد من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة
بالقرائن، قائلا:
ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة المشهورة المقطوع عليها
(ويقصد بالأمور المعلومة عدم عملهم بالظنون) إلى ما هو مشتبه وملتبس
ومجمل (1) (ويقصد بالمشتبه المجمل وجه عملهم بأخبار الآحاد) وقد
علم كل موافق ومخالف أن الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة
حيث لا يؤدي إلى العلم، وكذلك نقول في أخبار الآحاد (2).
ونحن نقول للسيد - أعلى الله درجته -: صحيح أن المعلوم من طريقة
الشيعة الإمامية عدم عملهم بالظنون بما هي ظنون. ولكن خبر الواحد
الثقة المأمون وما سواه من الظنون المعتبرة - كالظواهر - إذا كانوا قد
عملوا بها فإنهم لم يعملوا بها إلا لأ نهى ظنون قام الدليل القاطع على

(1) في المصدر: بما هو مشتبه ملتبس محتمل.
(2) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الأولى): ص 211.
94

اعتبارها وحجيتها، فلم يكن العمل بها عملا بالظن، بل يكون - بالأخير -
عملا بالعلم.
وعليه، فنحن نقول معه: " إنه لابد في الأحكام الشرعية من طريق
يوصل إلى العلم بها، لأ أنه متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنه
مصلحة جوزنا كونه مفسدة " وخبر الواحد الثقة المأمون لما ثبت اعتباره
فهو طريق يوصل إلى العلم بالأحكام، ونقطع بالعلم - على حد تعبيره -
على أنه مصلحة لا نجوز كونه مفسدة.
ويؤيد أيضا دعوى الشيخ للإجماع قرائن كثيرة، ذكر جملة منها
الشيخ الأعظم في الرسائل: (1)
منها: ما أدعاه الكشي من إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عن
جماعة (2) فإنه من المعلوم أن معنى التصحيح المجمع عليه هو عد خبره
صحيحا بمعنى عملهم به، لا القطع بصدوره، إذ الإجماع وقع على
" التصحيح " لا على " الصحة ".
ومنها: دعوى النجاشي أن مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند
الأصحاب (3). وهذه العبارة من النجاشي تدل دلالة صريحة على عمل
الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير لا من أجل القطع بالصدور، بل
لعلمهم أنه لا يروي - أو لا يرسل - إلا عن ثقة. إلى غير ذلك من القرائن
التي ذكرها الشيخ الأعظم من هذا القبيل.
وعليك بمراجعة الرسائل في هذا الموضوع، فقد استوفت البحث
أحسن استيفاء، وأجاد فيها الشيخ فيما أفاد، وألمت بالموضوع من جميع

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 158.
(2) رجال الكشي: ص 556، الرقم 1050.
(3) رجال النجاشي: 326، الرقم 887.
95

أطرافه، كعادته في جميع أبحاثه. وقد ختم البحث بقوله السديد:
والإنصاف: أنه لم يحصل في مسألة يدعى فيها الإجماع من
الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة والأمارات الكثيرة الدالة على العمل
ما حصل في هذه المسألة، فالشاك في تحقق الإجماع في هذه المسألة
لا أراه يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهية، اللهم إلا في
ضروريات المذهب.
وأضاف (1) لكن الإنصاف: أن المتيقن من هذا كله الخبر المفيد
للاطمئنان لا مطلق الظن (2).
ونحن له من المؤيدين. جزاه الله خير ما يجزي العلماء العاملين.
- د -
دليل حجية خبر الواحد من بناء العقلاء
إنه من المعلوم قطعا الذي لا يعتريه الريب استقرار بناء العقلاء طرا
واتفاق سيرتهم العملية - على اختلاف مشاربهم وأذواقهم - على الأخذ
بخبر من يثقون بقوله ويطمئنون إلى صدقه ويأمنون كذبه، وعلى
اعتمادهم في تبليغ مقاصدهم على الثقات. وهذه السيرة العملية جارية
حتى في الأوامر الصادرة من ملوكهم وحكامهم وذوي الأمر منهم.
وسر هذه السيرة: أن الاحتمالات الضعيفة المقابلة ملغية (3) بنظرهم لا
يعتنون بها، فلا يلتفتون إلى احتمال تعمد الكذب من الثقة، كما لا يلتفتون
إلى احتمال خطأه واشتباهه أو غفلته.

(1) في ط الأولى بدل " وأضاف ": ثم قال ونعم ما قال.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 161.
(3) كذا، والقياس: ملغاة.
96

وكذلك أخذهم بظواهر الكلام وظواهر الأفعال، فإن بناءهم العملي
على إلغاء الاحتمالات الضعيفة المقابلة. وذلك من كل ملة ونحلة.
وعلى هذه السيرة العملية قامت معايش الناس وانتظمت حياة البشر،
ولولاها لاختل نظامهم الاجتماعي ولسادهم الهرج والمرج (1) لقلة ما
يوجب العلم القطعي من الأخبار المتعارفة سندا ومتنا.
والمسلمون بالخصوص كسائر الناس جرت سيرتهم العملية على مثل
ذلك في استفادة الأحكام الشرعية من القديم إلى يوم الناس هذا، لأ نهم
متحدوا المسلك والطريقة مع سائر البشر، كما جرت سيرتهم بما هم عقلاء
على ذلك في غير الأحكام الشرعية.
ألا ترى هل كان يتوقف المسلمون من أخذ أحكامهم الدينية من
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الموثوقين عندهم؟
وهل ترى هل يتوقف المقلدون اليوم وقبل اليوم في العمل بما يخبرهم
الثقات عن رأي المجتهد الذي يرجعون إليه؟
وهل ترى تتوقف الزوجة في العمل بما يحكيه لها زوجها الذي تطمئن
إلى خبره عن رأي المجتهد في المسائل التي تخصها كالحيض مثلا؟
وإذا ثبتت سيرة العقلاء من الناس بما فيهم المسلمون على الأخذ
بخبر الواحد الثقة، فإن الشارع المقدس متحد المسلك معهم، لأ أنه منهم،
بل هو رئيسهم، فلابد أن نعلم بأنه متخذ لهذه الطريقة العقلائية كسائر
الناس ما دام أنه لم يثبت لنا أن له في تبليغ الأحكام طريقا خاصا
مخترعا منه غير طريق العقلاء. ولو كان له طريق خاص قد اخترعه غير
مسلك العقلاء لأذاعه وبينه للناس ولظهر واشتهر، ولما جرت سيرة
المسلمين على طبق سيرة باقي البشر.

(1) في ط 2: لسادهم الاضطراب.
97

وهذا الدليل قطعي لا يداخله الشك، لأ أنه مركب من مقدمتين قطعيتين:
1 - ثبوت بناء العقلاء على الاعتماد على خبر الثقة والأخذ به.
2 - كشف هذا البناء منهم عن موافقة الشارع لهم واشتراكه معهم، لأ أنه
متحد المسلك معهم.
قال شيخنا النائيني (قدس سره) كما في تقريرات تلميذه الكاظمي (قدس سره) (ج 3
ص 69): وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه
كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة
العقلائية القائمة على الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في
محاوراتهم (1).
وأقصى ما قيل في الشك في هذا الاستدلال هو: إن الشارع لئن كان
متحد المسلك مع العقلاء فإنما يستكشف موافقته لهم ورضاه بطريقتهم إذا
لم يثبت الردع منه عنها. ويكفي في الردع الآيات الناهية عن اتباع الظن
وما وراء العلم التي ذكرناها سابقا في البحث السادس من المقدمة (2) لأ نهى
بعمومها تشمل خبر الواحد غير المفيد للعلم.
وقد عالجنا هذا الأمر فيما يتعلق بشمول هذه الآيات الناهية
للاستصحاب في الجزء الرابع (مبحث الاستصحاب) فقلنا: إن هذه الآيات
غير صالحة للردع عن الاستصحاب الذي جرت سيرة العقلاء على الأخذ
به، لأن المقصود من النهي عن اتباع غير العلم النهي عنه إذ يراد به إثبات
الواقع، كقوله تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (3) بينما أنه ليس
المقصود من الاستصحاب إثبات الواقع والحق، بل هو أصل وقاعدة

(1) فوائد الأصول: ج 3 ص 194 (ط - مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) راجع ص 18 - 22.
(3) النجم: 28.
98

عملية يرجع إليها في مقام العمل عند الشك في الواقع والحق، فيخرج
الاستصحاب عن عموم هذه الآيات موضوعا.
وهذا العلاج - طبعا - لا يجري في مثل خبر الواحد، لأن المقصود به
كسائر الأمارات الأخرى إثبات الواقع وتحصيل الحق.
ولكن مع ذلك نقول: إن خبر الواحد خارج عن عموم هذه الآيات
تخصصا، كالظواهر التي أيضا حجيتها مستندة إلى بناء العقلاء على ما
سيأتي.
وذلك بأن يقال، حسبما أفاده استاذنا المحقق الأصفهاني (قدس سره) في
حاشيته على الكفاية (ج 3 ص 14) قال: إن لسان النهي عن اتباع الظن
وأنه لا يغني من الحق شيئا ليس لسان التعبد بأمر على خلاف الطريقة
العقلائية، بل من باب إيكال الأمر إلى عقل المكلف من جهة أن الظن بما
هو ظن لا مسوغ للاعتماد عليه والركون إليه. فلا نظر في - الآيات
الناهية - إلى ما استقرت عليه سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اتباعه من
أجل كونه خبر الثقة، ولذا كان الرواة يسألون عن وثاقة الراوي للفراغ عن
لزوم اتباع روايته بعد فرض وثاقته (1).
أو يقال - حسبما أفاده شيخنا النائيني (قدس سره) على ما في تقريرات
الكاظمي (قدس سره) ج 3 ص 69 - قال: إن الآيات الناهية عن العمل بالظن لا
تشمل خبر الثقة، لأن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل
بما وراء العلم، بل هو من أفراد العلم، لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر
للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرت عليه عادتهم. فهو خارج
عن العمل بالظن موضوعا، فلا تصلح أن تكون الآيات الناهية عن العمل

(1) نهاية الدراية، ج 5 ص 34.
99

بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة، بل الردع يحتاج إلى قيام
الدليل عليه بالخصوص (1).
وعلى كل حال، لو كانت هذه الآيات صالحة للردع عن مثل خبر
الواحد والظواهر التي جرت سيرة العقلاء على العمل بها - ومنهم
المسلمون - لعرف ذلك بين المسلمين وانكشف لهم ولما أطبقوا على
العمل بها وجرت سيرتهم عليه.
فهذا دليل قطعي على عدم صلاحية هذه الآيات للردع عن العمل
بخبر الواحد، فلا نطيل بذكر الدور الذي أشكلوا به في المقام، والجواب
عنه. وإن شئت الاطلاع، فراجع الرسائل (2) وكفاية الأصول (3).
* * *

(1) فوائد الأصول: ج 3 ص 195 (ط - مؤسسة النشر الإسلامي).
(2) لم نظفر بذكر الدور في الرسائل، راجع ج 1 ص 164.
(3) كفاية الأصول: 348.
100

الباب الثالث:
الإجماع
101

الإجماع
الإجماع أحد معانيه في اللغة: الاتفاق.
والمراد منه في الاصطلاح: اتفاق خاص.
وهو: إما اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي.
أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على الحكم.
أو اتفاق أمة محمد [(صلى الله عليه وآله وسلم)] على الحكم.
على اختلاف التعريفات عندهم.
ومهما اختلفت هذه التعبيرات، فإنها - على ما يظهر - ترمي إلى معنى
جامع بينها، وهو: " اتفاق جماعة لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم
الشرعي ".
ولذا استثنوا من المسلمين سواد الناس وعوامهم، لأ نهم لا شأن
لآرائهم في استكشاف الحكم الشرعي، وإنما هم تبع للعلماء ولأهل الحل
والعقد.
وعلى كل حال، فإن هذا " الإجماع " بما له من هذا المعنى قد جعله
الأصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة - أو الثلاثة - على الحكم
الشرعي، في مقابل الكتاب والسنة.
102

أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي، ولكن
من ناحية شكلية واسمية فقط، مجاراة للنهج الدراسي في أصول الفقه عند
السنيين، أي أنهم لا يعتبرونه دليلا مستقلا في مقابل الكتاب والسنة، بل
إنما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنة، أي عن قول المعصوم. فالحجية
والعصمة ليستا للإجماع، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي
يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف.
ولذا توسع الإمامية في إطلاق كلمة " الإجماع " على اتفاق جماعة
قليلة لا يسمى اتفاقهم في الاصطلاح إجماعا، باعتبار أن اتفاقهم يكشف
كشفا قطعيا عن قول المعصوم، فيكون له حكم الإجماع، بينما لا يعتبرون
الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم وإن سمي إجماعا
بالاصطلاح. وهذه نقطة خلاف جوهرية في الإجماع، ينبغي أن نجليها
ونلتمس الحق فيها، فإن لها كل الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجيته.
ولأجل أن نتوصل إلى الغرض المقصود لابد من توجيه بعض الأسئلة
لأنفسنا لنلتمس الجواب عليها.
أولا: من أين انبثق للأصوليين القول بالإجماع، فجعلوه حجة ودليلا
مستقلا على الحكم الشرعي في مقابل الكتاب والسنة؟
ثانيا: هل المعتبر عند من يقول بالإجماع اتفاق جميع الأمة، أو اتفاق
جميع العلماء في عصر من العصور، أو بعض منهم يعتد به؟ ومن هم الذين
يعتد بأقوالهم؟
أما السؤال الأول:
فإن الذي يثيره في النفس ويجعلها في موضع الشك فيه أن إجماع
الناس جميعا على شئ أو إجماع أمة من الأمم بما هو إجماع واتفاق
103

لاقيمة علمية له في استكشاف حكم الله، لأ أنه لا ملازمة بينه وبين حكم
الله، فالعلم به لا يستلزم العلم بحكم الله بأي وجه من وجوه الملازمة.
نعم، الشئ الذي يجب ألا يفوتنا التنبيه عليه في الباب أنا قد قلنا
فيما سبق - في الجزء الثاني، وسيأتي - إن تطابق آراء العقلاء بما هم
عقلاء في القضايا المشهورة العملية التي نسميها " الآراء المحمودة " والتي
تتعلق بحفظ النظام والنوع يستكشف به الحكم الشرعي، لأن الشارع من
العقلاء - بل رئيسهم وهو خالق العقل - فلابد أن يحكم بحكمهم.
ولكن هذا التطابق ليس من نوع الإجماع المقصود، بل هو نفس
الدليل العقلي الذي نقول بحجيته في مقابل الكتاب والسنة والإجماع.
وهو من باب التحسين والتقبيح العقليين الذي ينكره هؤلاء الذاهبون إلى
حجية الإجماع.
أما إجماع الناس - الذي لا يدخل في تطابق آراء العقلاء بما هم
عقلاء - فلا سبيل إلى اتخاذه دليلا على الحكم الشرعي، لأن اتفاقهم قد
يكون بدافع العادة أو العقيدة أو الانفعال النفسي أو الشبهة أو نحو ذلك.
وكل هذه الدوافع من خصائص البشر لا يشاركهم الشارع فيها لتنزهه
عنها، فإذا حكموا بشئ بأحد هذه الدوافع لا يجب أن يحكم الشارع
بحكمهم، فلا يستكشف من اتفاقهم على حكم بما هو اتفاق أن هذا الحكم
واقعا هو حكم الشارع.
ولو أن إجماع الناس بما هو إجماع - كيف ما كان وبأي دافع كان -
هو حجة ودليل، لوجب أن يكون إجماع الأمم الأخرى غير المسلمة
أيضا حجة ودليلا. ولا يقول بذلك واحد ممن يرى حجية الإجماع.
إذا! كيف اتخذ الأصوليون إجماع المسلمين بالخصوص حجة؟
104

وما الدليل لهم على ذلك؟ وللجواب عن هذا السؤال علينا أن نرجع
القهقرى إلى أول إجماع اتخذ دليلا في تأريخ المسلمين، إنه الإجماع
المدعى على بيعة أبي بكر خليفة للمسلمين. فإنه إذ وقعت البيعة له
- والمفروض أنه لا سند لها من طريق النص القرآني والسنة النبوية -
اضطروا إلى تصحيح شرعيتها من طريق الإجماع فقالوا:
أولا: إن المسلمين من أهل المدينة أو أهل الحل والعقد منهم أجمعوا
على بيعته.
وثانيا: إن الإمامة من الفروع، لا من الأصول.
وثالثا: إن الإجماع حجة في مقابل الكتاب والسنة، أي أنه دليل ثالث
غير الكتاب والسنة.
ثم منه توسعوا فاعتبروه دليلا في جميع المسائل الشرعية الفرعية.
وسلكوا لإثبات حجيته ثلاثة مسالك: الكتاب والسنة والعقل. ومن
الطبيعي ألا يجعلوا الإجماع من مسالكه، لأ أنه يؤدي إلى إثبات الشئ
بنفسه، وهو دور باطل.
أما مسلك الكتاب: فآيات استدلوا بها، لا تنهض دليلا على
مقصودهم، وأولاها بالذكر آية " سبيل المؤمنين " وهي قوله تعالى (سورة
النساء 114): * (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير
سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) * فإنها توجب
اتباع سبيل المؤمنين، فإذا أجمع المؤمنون على حكم فهو سبيلهم فيجب
اتباعه. وبهذه الآية تمسك الشافعي، على ما نقل عنه (1).
ويكفينا في رد الاستدلال بها ما استظهره الشيخ الغزالي منها، إذ قال:

(1) نقله عنه الغزالي في المستصفى: ج 1 ص 175.
105

الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل
المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى. فكأنه لم
يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين من نصرته
والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى. ثم قال: وهذا هو الظاهر السابق
إلى الفهم (1).
وهو كذلك كما استظهره. أما الآيات الأخرى فقد اعترف الغزالي
- كغيره - في عدم ظهورها في حجية الإجماع، فلا نطيل بذكرها ومناقشة
الاستدلال بها.
وأما مسلك السنة: فهي أحاديث رواها بما يؤدي مضمون الحديث
" لا تجتمع أمتي على الخطأ " (2) وقد ادعوا تواترها معنى، فاستنبطوا منها
عصمة الأمة الإسلامية من الخطأ والضلالة (3) فيكون إجماعها كقول
المعصوم حجة ومصدرا مستقلا لمعرفة حكم الله.
وهذه الأحاديث - على تقدير التسليم بصحتها وأنها توجب العلم
لتواترها معنى - لا تنفع في تصحيح دعواهم، لأن المفهوم من اجتماع
الأمة كل الأمة، لا بعضها، فلا يثبت بهذه الأحاديث عصمة البعض من
الأمة، بينما أن مقصودهم (4) من الإجماع إجماع خصوص الفقهاء أو أهل
الحل والعقد في عصر من العصور، بل خصوص الفقهاء المعروفين، بل
خصوص المعروفين من فقهاء طائفة خاصة وهي طائفة أهل السنة، بل
يكتفون باتفاق جماعة يطمئنون إليهم، كما هو الواقع في بيعة السقيفة.

(1) المستصفى: ج 1 ص 175.
(2) سنن ابن ماجة: ج 2 ص 1303 باب السواد الأعظم، بلفظ: إن أمتي لا تجتمع على ضلالة.
(3) راجع المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري: ج 2 ص 16.
(4) في ط الأولى: قصودهم.
106

فأنى لنا أن نحصل على إجماع جميع الأمة بجميع طوائفها
وأشخاصها في جميع العصور! إلا في ضروريات الدين، مثل وجوب
الصلاة والزكاة ونحوهما. وهذه ضروريات الدين ليست من نوع الإجماع
المبحوث عنه، ولا تحتاج في إثبات الحكم بها إلى القول بحجية الإجماع.
وأما مسلك العقل: الذي عبر عنه بعضهم بالطريق المعنوي، فغاية
ما يقال في توجيهه: إن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها
فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر
فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب وتحيل عليهم الغلط، فقطعهم في غير
محل القطع محال في العادة. والتابعون وتابعو التابعين إذا قطعوا بما قطع به
الصحابة فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم.
ومثل هذا الدليل يصح أن يناقش فيه:
بأن إجماعهم هذا إن كان يعلم بسببه قول المعصوم فلاشك في أن هذا
علم قطعي بالحكم الواقعي، فيكون حجة لأ أنه قطع بالنسبة، ولا كلام
لأحد فيه، لأن هذا الإجماع يكون من طرق إثبات السنة.
وأما إذا لم يعلم بسببه قول المعصوم - كما هو المقصود من فرض
الإجماع حجة مستقلة ودليلا في مقابل الكتاب والسنة - فإن قطع
المجمعين مهما كانوا لئن كان يستحيل في العادة قصدهم الكذب في ادعاء
القطع - كما في الخبر المتواتر - فإنه لا يستحيل في حقهم الغفلة أو
الاشتباه أو الغلط، كما لا يستحيل أن يكون إجماعهم بدافع العادة أو
العقيدة أو أي دافع من الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها سابقا.
ولأجل ذلك اشترطنا في التواتر الموجب للعلم ألا يتطرق إليه احتمال
خطأ المخبرين في فهم الحادثة واشتباههم، كما شرحناه في كتاب المنطق
107

الجزء الثالث (ص 10) (1).
ولا عجب في تطرق احتمال الخطأ في اتفاق الناس على رأي، بل
تطرق الاحتمال إلى ذلك أكثر من تطرقه إلى الاتفاق في النقل، لأن
أسباب الاشتباه والغلط فيه أكثر.
ثم إن هذا الطريق العقلي أو المعنوي لو تم، فأي شئ يخصصه
بخصوص الصحابة أو المسلمين أو علماء طائفة خاصة من دون باقي
الناس وسائر الأمم؟ إلا إذا ثبت من دليل آخر اختصاص المسلمين
أو بعض منهم بمزية خاصة ليست للأمم الأخرى وهي العصمة من الخطأ.
فإذا - على هذا التقدير - لا يكون الدليل على الإجماع إلا هذا الدليل
الآخر الذي يثبت العصمة للأمة المسلمة أو بعضها، لا الطريق العقلي
المدعى. وهذا رجوع إلى المسلك الأول والثاني، وليس هو مسلكا
مستقلا عنها.
وبالختام نقول: إذا كانت هذه المسالك الثلاثة لم تتم لنا أدلة على
حجية الإجماع من أصله من جهة أنه إجماع، فلا يظهر للإجماع قيمة من
ناحية كونه حجة ومصدرا للتشريع الإسلامي، مهما بالغ الناس في
الاعتماد عليه. وإنما يصح الاعتماد عليه إذا كشف لنا عن قول المعصوم،
فيكون حينئذ كالخبر المتواتر الذي تثبت به السنة. وسيأتي البحث عن
ذلك.
وأما السؤال الثاني:
فالذي يثيره أن ظاهر تلك المسالك الثلاثة المتقدمة يقضي بأن الحجة

(1) الصفحة 333 من طبعتنا الحديثة.
108

إنما هو إجماع الأمة كلها أو جميع المؤمنين بدون استثناء، فمتى ما شذ
واحد منهم - أي كان - فلا يتحقق الإجماع الذي قام الدليل على حجيته،
فإنه مع وجود المخالف وإن كان واحدا لا يحصل القطع بحجية إجماع من
عداه مهما كان شأنهم، لأن العصمة على تقدير ثبوتها بالأدلة المتقدمة إنما
ثبتت لجميع الأمة لا لبعضها.
ولكن ما توقعوه من ذهابهم إلى حجية الإجماع - وهو إثبات شرعية
بيعة أبي بكر - لم يحصل لهم، لأ أنه قد ثبت من طريق التواتر مخالفة
علي (عليه السلام) وجماعة كبيرة من بني هاشم وباقي المسلمين، ولئن التجأ
أكثرهم بعد ذلك إلى البيعة، فإنه بقي منهم من لم يبايع حتى مات مثل
" سعد بن عبادة " قتيل الجن! (1).
ولأجل هذه المفارقة بين أدلة الإجماع وواقعه الذي أرادوا تصحيحه
كثرت الأقوال في هذا الباب لتوجيهها: فقال مالك - على ما نسب إليه -:
إن الحجة هو إجماع أهل المدينة فقط (2). وقال قوم: الحجة إجماع أهل
الحرمين (مكة والمدينة) والمصرين (الكوفة والبصرة) (3). وقال قوم:
المعتبر إجماع أهل الحل والعقد (4). وقال بعض: المعتبر إجماع الفقهاء
الأصوليين خاصة (5). وقال بعض: الإعتبار بإجماع أكثر المسلمين

(1) راجع أسد الغابة: ج 2 ص 284 - 285.
(2) نسبه إليه الغزالي في المستصفى: ج 1 ص 187.
(3) المصدر السابق.
(4) قاله العلامة في تهذيب الوصول (مخطوط) المقصد الثامن في الإجماع. وعزاه في مفاتيح
الأصول (ص 494) إلى الزاري.
(5) قال في مفاتيح الأصول: وعرفه الحاجبي: بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر
على أمر.
109

واشترط بعض في المجمعين أن يحققوا عدد التواتر (1). وقال آخرون:
الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غيرهم ممن جاؤوا بعد عصرهم كما
نسب ذلك إلى داود وشيعته (2)... إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول
ذكرها المنقولة في جملة من كتب الأصول.
وكل هذه الأقوال تحكمات لا سند لها ولا دليل، ولا ترفع الغائلة من
تلك المفارقة الصارخة. والذي دفع أولئك القائلين بتلك المقالات أمور
وقعت في تأريخ بيعة الخلفاء - يطول شرحها - أرادوا تصحيحها
بالإجماع.
هذه هي الجذور العميقة للمسألة التي أوقعت القائلين بحجية
الإجماع في حيص وبيص لتصحيحه وتوجيهه، وإلا فتلك المسالك
الثلاثة - إن سلمت - لا تدل على أكثر من حجية إجماع الكل
بدون استثناء، فتخصيص حجيته ببعض الأمة دون بعض بلا مخصص.
نعم، المخصص هو الرغبة في إصلاح أصل المذهب والمحافظة عليه
على كل حال.
الإجماع عند الإمامية
إن الإجماع بما هو إجماع لاقيمة علمية له عند الإمامية مالم يكشف
عن قول المعصوم، كما تقدم وجهه. فإذا كشف على نحو القطع عن قوله
فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذ في السنة،
ولا يكون دليلا مستقلا في مقابلها.
وقد تقدم أنه لم تثبت عندنا عصمة الأمة عن الخطأ. وإنما أقصى

(1) راجع المستصفى: ج 1 ص 188.
(2) المصدر السابق: ص 189، ومعارج الأصول للمحقق الحلي: ص 130.
110

ما يثبت عندنا من اتفاق الأمة أنه يكشف عن رأي من له العصمة.
فالعصمة في المنكشف لا في الكاشف.
وعلى هذا، فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو
القطع عن قول المعصوم، فكما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلا على
الحكم الشرعي رأسا بل هو دليل على الدليل على الحكم، فكذلك
الإجماع ليس بنفسه دليلا بل هو دليل على الدليل.
غاية الأمر أن هناك فرقا بين الإجماع والخبر المتواتر: إن الخبر دليل
لفظي على قول المعصوم، أي أنه يثبت به نفس كلام المعصوم ولفظه فيما
إذا كان التواتر للفظ. أما الإجماع فهو دليل قطعي على نفس رأي
المعصوم لاعلى لفظ خاص له، لأ أنه لا يثبت به - في أي حال - أن
المعصوم قد تلفظ بلفظ خاص معين في بيانه للحكم.
ولأجل هذا يسمى الإجماع ب‍ " الدليل اللبي " نظير " الدليل العقلي "،
يعني أنه يثبت بهما نفس المعنى والمضمون من الحكم الشرعي الذي
هو كاللب بالنسبة إلى اللفظ الحاكي عنه الذي هو كالقشر له.
والثمرة بين الدليل اللفظي واللبي تظهر في المخصص إذا كان لبيا
أو لفظيا على ما ذكره الشيخ الأعظم - كما تقدم في الجزء الأول ص 204 -
لذهابه إلى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص
لبيا دون ما إذا كان لفظيا.
وإذا كان الإجماع حجة من جهة كشفه عن قول المعصوم فلا يجب
فيه اتفاق الجميع بغير استثناء كما هو مصطلح أهل السنة على مبناهم،
بل يكفي اتفاق كل من يستكشف من اتفاقهم قول المعصوم كثروا أم قلوا
إذا كان العلم باتفاقهم يستلزم العلم بقول المعصوم، كما صرح بذلك جماعة
من علمائنا.
111

قال المحقق في المعتبر (ص 6) بعد أن أناط حجية الإجماع بدخول
المعصوم: فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة، ولو حصل في
اثنين كان قولهما حجة (1).
وقال السيد المرتضى - على ما نقل عنه -: إذا كان علة كون الإجماع
حجة كون الإمام فيهم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان [قول] الإمام في
أقوالها فإجماعها حجة (2).
إلى غير ذلك من التصريحات المنقولة عن جماعة كثيرة من علمائنا.
ولكن سيأتي أنه على بعض المسالك في الإجماع لابد من إحراز
اتفاق الجميع.
وعلى هذا، فيكون تسمية اتفاق جماعة من علماء الإمامية بالإجماع
مسامحة ظاهرة، فإن الإجماع حقيقة عرفية في اتفاق جميع العلماء من
المسلمين على حكم شرعي، ولا يلزم من كون مثل اتفاق الجماعة القليلة
حجة أن يصح تسميتها بالإجماع. ولكن قد شاع هذا التسامح في لسان
الخاصة من علماء الإمامية على وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فيه، فيراد
من الإجماع عندهم كل اتفاق يستكشف منه قول المعصوم سواء كان
اتفاق الجميع أو البعض، فيعم القسمين.
والخلاصة التي نريد أن ننص عليها وتعنينا من البحث: أن الإجماع
إنما يكون حجة إذا علم بسببه - على سبيل القطع - قول المعصوم، فما لم
يحصل العلم بقوله وإن حصل الظن منه فلا قيمة له عندنا، ولا دليل على
حجية مثله.
أما كيف يستكشف من الإجماع على سبيل القطع قول المعصوم؟ فهذا

(1) المعتبر: ج 1 ص 31، ط الحديثة.
(2) الذريعة إلى أصول الشريعة: ج 2 ص 630.
112

ما ينبغي البحث عنه. وقد ذكروا لذلك طرقا أنهاها المحقق الشيخ أسد الله
التستري في رسالته في المواسعة والمضايقة - على ما نقل عنه - إلى اثنتي
عشرة طريقا (1). ونحن نكتفي بذكر الطرق المعروفة وهي ثلاث، بل أربع:
1 - طريقة الحس: وبها يسمى الإجماع " الإجماع الدخولي " وتسمى
" الطريقة التضمنية " وهي الطريقة المعروفة عند قدماء الأصحاب التي
اختارها السيد المرتضى (2) وجماعة سلكوا مسلكه (3).
وحاصلها: أن يعلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين على سبيل
القطع من دون أن يعرف بشخصه من بينهم.
وهذه الطريقة إنما تتصور إذا استقصى الشخص المحصل للإجماع
بنفسه وتتبع أقوال العلماء فعرف اتفاقهم ووجد من بينها أقوالا متميزة
معلومة لأشخاص مجهولين حتى حصل له العلم بأن الإمام من جملة
أولئك المتفقين. أو يتواتر لديه النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم أن الإمام
كان من جملتهم ولم يعلم قوله بعينه من بينهم، فيكون من نوع الإجماع
المنقول بالتواتر.
ومن الواضح: أن هذه الطريقة لا تتحقق غالبا إلا لمن كان موجودا
في عصر الإمام. أما بالنسبة إلى العصور المتأخرة فبعيدة التحقق، لا سيما
في الصورة الأولى وهي السماع من نفس الإمام.
وقد ذكروا أنه لا يضر في حجية الإجماع - على هذه الطريقة -
مخالفة معلوم النسب وإن كثروا ممن يعلم أنه غير الإمام. بخلاف مجهول

(1) منهج التحقيق في التوسعة والتضييق (لا توجد عندنا هذه الرسالة) راجع كشف القناع
له (قدس سره): ص 230.
(2) انظر الذريعة إلى أصول الشريعة: ج 2 ص 632.
(3) منهم المحقق في المعتبر: ج 1 ص 31 وصاحب المعالم في معالم الدين: ص 174.
113

النسب على وجه أنه الإمام، فإنه في هذه الصورة لا يتحقق العلم بدخول
الإمام في المجمعين.
2 - طريقة قاعدة اللطف: وهي أن يستكشف عقلا رأى المعصوم من
اتفاق من عداه من العلماء الموجودين في عصره خاصة أو في العصور
المتأخرة مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة
خفية أو ظاهرة - إما بظهوره نفسه أو بإظهار من يبين الحق في المسألة -
فإن " قاعدة اللطف " كما اقتضت نصب الإمام وعصمته تقتضي أيضا أن
يظهر الإمام الحق في المسألة التي يتفق المفتون فيها على خلاف الحق،
وإلا للزم سقوط التكليف بذلك الحكم أو إخلال الامام بأعظم ما وجب
عليه ونصب لأجله، وهو تبليغ الأحكام المنزلة.
وهذه الطريقة هي التي اختارها الشيخ الطوسي (1) ومن تبعه، بل يرى
انحصار استكشاف قول الإمام من الإجماع فيها. وربما يستظهر من كلام
السيد المرتضى - المنقول في العدة عنه (2) في رد هذه الطريقة - كونها
معروفة قبل الشيخ أيضا.
ولازم هذه الطريقة عدم قدح المخالفة مطلقا سواء كان من معلوم
النسب أو مجهوله مع العلم بعدم كونه الإمام ولم يكن معه برهان يدل على
صحة فتواه.
ولازم هذه الطريقة أيضا عدم كشف الإجماع إذا كان هناك آية
أو سنة قطعية على خلاف المجمعين وإن لم يفهموا دلالتها على الخلاف،
إذ يجوز أن يكون الإمام قد اعتمد عليها في تبليغ الحق.
3 - طريقة الحدس: وهي أن يقطع بكون ما اتفق عليه الفقهاء الإمامية

(1) العدة: ج 2 ص 639 - 642.
(2) راجع العدة: ج 2 ص 631 و 643.
114

وصل إليهم من رئيسهم وإمامهم يدا بيد، فإن اتفاقهم مع كثرة اختلافهم في
أكثر المسائل يعلم منه أن الاتفاق كان مستندا إلى رأي إمامهم، لا عن
اختراع للرأي من تلقاء أنفسهم اتباعا للأهواء أو استقلالا بالفهم. كما
يكون ذلك في اتفاق أتباع سائر ذوي الآراء والمذاهب، فإنه لا نشك فيها
أنها مأخوذة من متبوعهم ورئيسهم الذي يرجعون إليه.
والذي يظهر أنه قد ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المتأخرين (1). ولازمها
أن الاتفاق ينبغي أن يقع في جميع العصور من عصر الأئمة إلى العصر
الذي نحن فيه، لأن اتفاق أهل عصر واحد مع مخالفة من تقدم يقدح في
حصول القطع، بل يقدح فيه مخالفة معلوم النسب ممن يعتد بقوله، فضلا
عن مجهول النسب.
4 - طريقة التقرير: وهي أن يتحقق الإجماع بمرأى ومسمع من
المعصوم مع إمكان ردعهم ببيان الحق لهم ولو بإلقاء الخلاف بينهم، فإن
اتفاق الفقهاء على حكم - والحال هذه - يكشف عن إقرار المعصوم لهم
فيما رأوه وتقريرهم على ما ذهبوا إليه، فيكون ذلك دليلا على أن ما اتفقوا
عليه هو حكم الله واقعا.
وهذه الطريقة لا تتم إلا مع إحراز جميع شروط التقرير التي قد تقدم
الكلام عليها في مبحث السنة (2). ومع إحراز جميع الشروط لا شك في
استكشاف موافقة المعصوم، بل بيان الحكم من شخص واحد بمرأى
ومسمع من المعصوم مع إمكان ردعه وسكوته عنه يكون سكوته تقريرا
كاشفا عن موافقته. ولكن المهم أن يثبت لنا أن الإجماع في عصر الغيبة

(1) قال المحقق الوحيد البهبهاني (قدس سره): واتفق كل المحققين في أمثال هذه الأزمان على ذلك،
الرسائل الأصولية: ص 303.
(2) راجع ص 70.
115

هل يتحقق فيه إمكان الردع من الإمام ولو بإلقاء الخلاف؟ أو هل يجب
على الإمام بيان الحكم الواقعي والحال هذه؟ وسيأتي ما ينفع في المقام.
هذه خلاصة ما قيل من الوجوه المعروفة في استنتاج قول الإمام من
الإجماع. وقد يحصل للإنسان المتتبع لأقوال العلماء المحصل لإجماعهم
بعض الوجوه دون البعض، أي لا يجب في كل إجماع أن يبتني على وجه
واحد من هذه الوجوه. وإن كان السيد المرتضى يرى انحصاره في الطريقة
الأولى (الطريقة التضمنية) أي الإجماع الدخولي والشيخ الطوسي يرى
انحصاره (1) في الطريقة الثانية (طريقة قاعدة اللطف).
وعلى كل حال، فإن الإجماع إنما يكون حجة إذا كشف كشفا قطعيا
عن قول المعصوم من أي سبب كان وعلى أية طريقة حصل. فليس من
الضروري أن نفرض حصوله من طريقة مخصوصة من هذه الطرق أو
نحوها، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.
والتحقيق: أنه يندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع
المحصل ندرة لا تبقى معها قيمة لأكثر الإجماعات التي نحصلها، بل
لجميعها بالنسبة إلى عصور الغيبة. وتفصيل ذلك أن نقول ببرهان السبر
والتقسيم (2):
إن المجمعين إما أن يكون رأيهم الذي اتفقوا عليه بغير مستند ودليل
أو عن مستند ودليل.
لا يصح الفرض الأول، لأن ذلك مستحيل عادة في حقهم. ولو جاز
ذلك في حقهم فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحق.

(1) في ط الأولى: وحصره الشيخ الطوسي.
(2) إن شئت مزيد الاطلاع على البرهان المذكور راجع المنطق للمؤلف (قدس سره): ج 1 ص 127
مبحث القسمة.
116

فيتعين الفرض الثاني، وهو أن يكون لهم مدرك خفي علينا وظهر لهم.
ومدارك الأحكام منحصرة عند الإمامية في أربعة: الكتاب والسنة
والإجماع والدليل العقلي. ولا يصح أن يكون مدركهم ما عدا السنة من
هذه الأربعة:
أما الكتاب: فإنما لا يصح أن يكون مدركهم فلأجل أن القرآن الكريم
بين أيدينا مقروء ومفهوم، فلا يمكن فرض آية منه خفيت علينا وظهرت
لهم. ولو فرض أنهم فهموا من آية شيئا خفي علينا وجهه فإن فهمهم ليس
حجة علينا، فاجتماعهم لو استند إلى ذلك لا يكون موجبا للقطع بالحكم
الواقعي أو موجبا لقيام الحجة علينا. فلا ينفع مثل هذا الإجماع.
وأما الإجماع: فواضح أنه لا يصح أن يكون مدركا لهم، لأن هذا
الإجماع الذي صار مدركا للإجماع ننقل الكلام إليه أيضا، فنسأل عن
مدركه. فلابد أن ينتهي إلى غيره من المدارك الأخرى.
وأما الدليل العقلي: فأوضح، لأ أنه لا يتصور هناك قضية عقلية يتوصل
بها إلى حكم شرعي كانت مستورة علينا وظهرت لهم، ضرورة أنه لابد
في القضية العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي أن تتطابق عليها
جميع آراء العقلاء، وإلا فلا يصح التوصل بها إلى الحكم الشرعي. فلو أن
المجمعين كانوا قد تمسكوا بقضية عقلية ليست بهذه المثابة فلا تبقى قيمة
لآرائهم حتى يستكشف منها الحق وموافقة الإمام، لأ نهم يكونون كمن
لا مدرك لهم.
فانحصر مدركهم في جميع الأحوال في السنة.
والاستناد إلى السنة يتصور على وجهين:
1 - أن يسمع المجمعون أو بعضهم الحكم من المعصوم مشافهة
أو يرون فعله أو تقريره. وهذا بالنسبة إلى عصرنا لا سبيل فيه حتى إلى
117

الظن به فضلا عن القطع، وإن احتمل امكان مشافهة بعض الأبدال من
العلماء للإمام.
بل الحال كذلك حتى بالنسبة إلى من هم في عصر المعصومين، أي
أنه لا يحصل القطع فيه لنا بمشافهتهم للمعصوم، لاحتمال أنهم استندوا
إلى رواية وثقوا بها، وإن كان احتمال المشافهة قريبا جدا، بل هي مظنونة.
على أنه لا مجال بالنسبة إلينا لتحصيل إجماع الفقهاء الموجودين في
تلك العصور، إذ ليست آراؤهم مدونة، وكل ما دونوه هي الأحاديث التي
ذكروها في أصولهم المعروفة بالأصول الأربعمائة.
2 - أن يستند المجمعون إلى رواية عن المعصوم. ولا مجال في هذا
الإجماع لإفادته القطع بالحكم أو كشفه عن الحجة الشرعية من جهة
السند والدلالة معا:
أما من جهة السند: فلاحتمال أن المجمعين كانوا متفقين على اعتبار
الخبر الموثق أو الحسن، فمن لا يرى حجيتهما لا مجال له في الاستناد
إلى مثله. فمن أين يحصل لنا العلم بأنهم استندوا إلى ما هو حجة باتفاق
الجميع؟
وأما من جهة الدلالة: فلاحتمال أن يكون ذلك الخبر المفروض - لو
فرض أنه حجة من جهة السند - ليس نصا في الحكم. ولا ينفع أن يكون
ظاهرا عندهم في الحكم، فإن ظهور دليل عند قوم لا يستلزم أن يكون
ظاهرا لدى كل أحد، وفهم قوم ليس حجة على غيرهم. ألا ترى أن
المتقدمين اشتهر عندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر واشتهر عند
المتأخرين عكس ذلك، ابتداء من العلامة الحلي (1). فلعل الخبر الذي كان
مدركا لهم ليس ظاهرا عندنا لو اطلعنا عليه.

(1) راجع مختلف الشيعة: ج 1 ص 187.
118

إذا عرفت ذلك ظهر لك أن الإجماع لا يستلزم القطع بقول المعصوم
عدا الإجماع الدخولي وهو بالنسبة إلينا غير عملي.
وأما القول بأن " قاعدة اللطف " تقتضي أن يكون الإمام موافقا لرأي
المجمعين وإن استند المجمعون إلى خبر الواحد الذي ربما لا تثبت لنا
حجيته من جهة السند أو الدلالة لو اطلعنا عليه، فإننا لم نتحقق جريان
هذه القاعدة في المقام وفاقا لما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (1)
وغيره بالرغم من تعويل الشيخ الطوسي وأتباعه عليها، لأن السبب الذي
يدعو إلى اختفاء الإمام واحتجاب نفعه - مع ما فيه من تفويت لأعظم
المصالح النوعية للبشر - هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم الله عند
إجماع العلماء على حكم مخالف للواقع، لا سيما إذا كان الإجماع من أهل
عصر واحد. ولا يلزم من ذلك إخلال الإمام بالواجب عليه وهو تبليغ
الأحكام، لأن الاحتجاب ليس من سببه.
وعلى هذا فمن أين يحصل لنا القطع بأنه لابد للإمام من إظهار الحق
في حال غيبته عند حصول إجماع مخالف للواقع؟
وللمشكك أن يزيد على ذلك فيقول: لماذا لا تقتضي هذه القاعدة أن
يظهر الإمام الحق حتى في صورة الخلاف، لا سيما أن بعض المسائل
الخلافية قد يقع فيها أكثر الناس في مخالفة الواقع؟ بل لو أحصينا
المسائل الخلافية في الفقه التي هي الأكثر من مسائله لوجدنا أن كثيرا
من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع، فلماذا لا يجب على الإمام
هنا تبليغ الأحكام ليقل الخلاف أو ينعدم، وبه نجاة المؤمنين من الوقوع
في مخالفة الواقع.

(1) راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 84.
119

وإذا جاء الاحتمال لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول
المعصوم من جهة " قاعدة اللطف ".
وأما " مسلك الحدس " فإن عهدة دعواه على مدعيها. وليس من
السهل حصول القطع للإنسان في ذلك، إلا أن يبلغ الاتفاق درجة يكون
الحكم فيه من ضروريات الدين أو المذهب - أو قريبا من ذلك - عندما
يحرز اتفاق جميع العلماء في جميع العصور بغير استثناء، فإن مثل هذا
الاتفاق يستلزم عادة موافقته لقول الإمام وإن كان مستند المجمعين خبر
الواحد أو الأصل.
وكذلك يلحق بالحدس " مسلك التقرير " ونحوه مما هو من هذا
القبيل.
وعلى كل حال لم تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في
استفادة قول الإمام على سبيل القطع واليقين.
الإجماع المنقول
إن الإجماع - في الاصطلاح - ينقسم إلى قسمين:
1 - " الإجماع المحصل " والمقصود به الإجماع الذي يحصله الفقيه
بنفسه بتتبع أقوال أهل الفتوى. وهو الذي تقدم البحث عنه.
2 - " الإجماع المنقول " والمقصود به الإجماع الذي لم يحصله الفقيه
بنفسه وإنما ينقله له من حصله من الفقهاء، سواء كان النقل له بواسطة
أم بوسائط.
ثم النقل تارة: يقع على نحو التواتر. وهذا حكمه حكم المحصل من
جهة الحجية.
120

واخرى: يقع على نحو خبر الواحد. وإذا اطلق قول " الإجماع
المنقول " في لسان الأصوليين فالمراد منه هذا الأخير.
وقد وقع الخلاف بينهم في حجيته على أقوال.
ولكن الذي يظهر أنهم متفقون على حجية نقل " الإجماع الدخولي "
وهو الإجماع الذي يعلم فيه من حال الناقل أنه تتبع فتاوى من نقل
اتفاقهم حتى المعصوم، فيدخل المعصوم في جملة المجمعين.
وينبغي أن يتفقوا على ذلك، لأ أنه لا يشترط في حجية خبر الواحد
معرفة المعصوم تفصيلا حين سماع الناقل منه، وهذا الناقل - حسب
الفرض - قد نقل عن المعصوم بلا واسطة وإن لم يعرفه بالتفصيل.
غير أن " الإجماع الدخولي " مما يعلم عدم وقوع نقله، لا سيما في
العصور المتأخرة عن عصر الأئمة، بل لم يعهد من الناقلين للإجماع من
ينقله على هذا الوجه ويدعى ذلك.
وعليه، فموضع الخلاف منحصر في حجية الإجماع المنقول غير
" الإجماع الدخولي " وهو كما قلنا على أقوال:
1 - إنه حجة مطلقا، لأ أنه خبر واحد (1).
2 - إنه ليس بحجة مطلقا، لأ أنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من
جهة كونه حجة (2).
3 - التفصيل بين نقل إجماع جميع الفقهاء في جميع العصور الذي
يعلم فيه من طريق الحدس قول المعصوم فيكون حجة، وبين غيره من

(1) قال به العلامة في نهاية الوصول: الورقة 120، والشهيد في الذكرى: ج 1 ص 50 وصاحب
المعالم في معالم الدين: ص 180.
(2) نسبه في نهاية الوصول إلى جماعة من الحنفية والغزالي من الشافعية.
121

الإجماعات المنقولة الذي يستكشف منها بقاعدة اللطف أو نحوها قول
المعصوم فلا يكون حجة. وإلى هذا التفصيل مال الشيخ الأنصاري
الأعظم (1).
وسر الخلاف في المسألة يكمن في أن أدلة خبر الواحد من جهة أنها
تدل على وجوب التعبد بالخبر لا تشمل كل خبر عن أي شئ كان، بل
مختصة بالخبر الحاكي عن حكم شرعي أو عن ذي أثر شرعي، ليصح أن
يتعبدنا الشارع به. وإلا فالمحكي بالخبر إذا لم يكن حكما شرعيا أو ذا
أثر شرعي لا معنى للتعبد به، فلا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد.
ومن المعلوم: أن الإجماع المنقول - غير الإجماع الدخولي - إنما
المحكي به بالمطابقة نفس أقوال العلماء، وأقوال العلماء في أنفسها بما
هي أقوال علماء ليست حكما شرعيا ولا ذات أثر شرعي.
وعليه، فنقل أقوال العلماء من جهة كونها أقوال علماء لا يصح أن
يكون مشمولا لأدلة خبر الواحد، وإنما يصح أن يكون مشمولا لها إذا
كشف هذا النقل عن الحكم الصادر عن المعصوم ليصح التعبد به.
إذا عرفت ذلك، فنقول:
إن ثبت لدينا: أنه يكفي في صحة التعبد بالخبر هو كشفه - على أي
نحو كان من الكشف - عن الحكم الصادر من المعصوم ولو باعتبار الناقل
- نظرا إلى أنه لا يعتبر في حجية الخبر حكاية نص ألفاظ المعصوم، لأن
المناط معرفة حكمه ولذا يجوز النقل بالمعنى - فالإجماع المنقول الذي
هو موضع البحث يكون حجة مطلقا، لأ أنه كاشف وحاك عن الحكم
باعتقاد الناقل، فيكون مشمولا لأدلة حجية الخبر.

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 95.
122

وأما إن ثبت لدينا: أن المناط في صحة التعبد بالخبر أن يكون حاكيا
عن الحكم من طريق الحس، أي يجب أن يكون الناقل قد سمع بنفسه
الحكم من المعصوم - ولذا لا تشمل أدلة حجية الخبر فتوى المجتهد وإن
كان قاطعا بالحكم، مع أن فتواه في الحقيقة حكاية عن الحكم بحسب
اجتهاده - فالإجماع المنقول الذي هو موضع البحث ليس بحجة مطلقا.
وأما لو ثبت أن الإخبار عن حدس اللازم للإخبار عن حس يصح
التعبد به - لأن حكمه حكم الإخبار عن حس بلا فرق - فإن التفصيل
المتقدم في القول الثالث يكون هو الأحق.
وإذا اتضح لدينا سر الخلاف في المسألة، بقي علينا أن نفهم أي وجه
من الوجوه المتقدمة هو الأولى بالتصديق والأحق بالاعتماد، فنقول:
أولا: إن أدلة خبر الواحد جميعها - من آيات وروايات وبناء عقلاء -
أقصى دلالتها أنها تدل على وجوب تصديق الثقة وتصويبه في نقله
لغرض التعبد بما ينقل، ولكنها لا تدل على تصويبه في اعتقاده.
بيان ذلك: أن معنى تصديق الثقة: هو البناء على واقعية نقله، وواقعية
النقل تستلزم واقعية المنقول، بل واقعية النقل عين واقعية المنقول، فالقطع
بواقعية النقل لا محالة يستلزم القطع بواقعية المنقول، وكذلك البناء على
واقعية النقل يستلزم البناء على واقعية المنقول.
وعليه، فإذا كان المنقول حكما أو ذا أثر شرعي صح البناء على الخبر
والتعبد به بالنظر إلى هذا المنقول. أما إذا كان المنقول اعتقاد الناقل - كما
لو أخبر شخص عن اعتقاده بحكم - فغاية ما يقتضي البناء على تصديق
نقله هو البناء على واقعية اعتقاده الذي هو المنقول، والاعتقاد في نفسه
ليس حكما ولا ذا أثر شرعي. أما صحة اعتقاده ومطابقته للواقع فذلك
123

شئ آخر أجنبي عنه، لأن واقعية الاعتقاد لا تستلزم واقعية المعتقد به،
يعني أننا قد نصدق المخبر عن اعتقاده في أن هذا هو اعتقاده واقعا، لكن
لا يلزمنا أن نصدق بأن ما اعتقده صحيح وله واقعية.
ومن هنا نقول: إنه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحكم من المعصوم
صح أن نبني على واقعية نقله تصديقا له بمقتضى أدلة حجية الخبر، لأن
ذلك يستلزم واقعية المنقول وهو الحكم، إذ لم يمكن التفكيك بين واقعية
النقل وواقعية المنقول. أما إذا أخبر عن اعتقاده بأن المعصوم حكم بكذا
فلا يصح البناء على واقعية اعتقاده تصديقا له بمقتضى أدلة حجية الخبر،
لأن البناء على واقعية اعتقاده تصديقا له لا يستلزم البناء على واقعية
معتقده، فيجوز التفكيك بينهما.
فتحصل أن أدلة خبر الواحد إنما تدل على أن الثقة مصدق ويجب
تصويبه في نقله، ولا تدل على تصويبه في رأيه واعتقاده وحدسه. وليس
هناك أصل عقلائي يقول: إن الأصل في الإنسان - أو الثقة خاصة - أن
يكون مصيبا في رأيه وحدسه واعتقاده.
ثانيا: بعد أن ثبت أن أدلة حجية الخبر لا تدل على تصويب الناقل في
رأيه وحدسه، فنقول: لو أن ما أخبر به الناقل للإجماع يستلزم في نظر
المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم وإن لم يكن في نظر الناقل
مستلزما لذلك، فهل هذا أيضا غير مشمول لأدلة حجية الخبر؟
الحق أنه ينبغي أن يكون مشمولا لها، لأن الأخذ به حينئذ لا يكون
من جهة تصديق الناقل في رأيه وربما كان الناقل لا يرى الاستلزام، بل لا
يكون الأخذ به إلا من جهة تصديقه في نقله، لأ أنه لما كان المنقول - وهو
الإجماع - يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم،
124

فالأخذ به والبناء على صحة نقله يستلزم البناء على صدور الحكم فيصح
التعبد به بلحاظ هذه الجهة.
بل إن الخبر عن فتاوى الفقهاء يكون في نظر المنقول إليه ملزوما
للخبر عن رأي المعصوم. وحينئذ يكون هذا الخبر الثاني اللازم للخبر
الأول هو المشمول لأدلة حجية الخبر، لا سيما إذا كان في نظر الناقل أيضا
مستلزما. ولا نحتاج بعدئذ إلى تصحيح شمولها للخبر الأول الملزوم
بلحاظ استلزامه للحكم، يعني أن الخبر عن الإجماع يكون دالا بالدلالة
الالتزامية على صدور الحكم من المعصوم، فيكون من ناحية المدلول
الالتزامي وهو الإخبار عن صدور الحكم حجة مشمولا لأدلة حجية
الخبر وإن لم يكن من جهة المدلول المطابقي حجة مشمولا لها، لأن
الدلالة الالتزامية غير تابعة للدلالة المطابقية من ناحية الحجية وإن كانت
تابعة لها ثبوتا، إذ لا دلالة التزامية إلا مع فرض الدلالة المطابقية، ولكن لا
تلازم بينهما في الحجية.
وإذا اتضح لك ما شرحناه يتضح لك أن الأولى التفصيل في الإجماع
المنقول بين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر المنقول إليه لو كان هو
المحصل له فيكون حجة، وبين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر الناقل
فقط دون المنقول إليه فلا يكون حجة، لما تقدم أن أدلة خبر الواحد لا
تدل على تصديق الناقل في نظره ورأيه.
ولعله إلى هذا التفصيل يرمي الشيخ الأعظم في تفصيله الذي أشرنا
سابقا.
125

الباب الرابع:
الدليل العقلي
127

قد مضى في الجزء الثاني البحث مستوفى عن الملازمات العقلية،
لتشخيص صغريات حجية العقل، أي لتعيين القضايا العقلية التي يتوصل
بها إلى الحكم الشرعي وبيان ما هو الدليل العقلي الذي يكون حجة.
وقد حصرناها هناك في قسمين رئيسين:
الأول: حكم العقل بالحسن والقبح وهو قسم المستقلات العقلية.
والثاني: حكمه بالملازمة بين حكم الشرع وحكم آخر (1) وهو قسم
غير المستقلات العقلية.
ووعدنا هناك ببيان وجه حجية الدليل العقلي، والآن قد حل الوفاء
بالوعد. ولكن قبل بيان وجه الحجية لابد من الكرة بأسلوب جديد إلى
البحث عن تلك القضايا العقلية، لغرض بيان الآراء فيها وبيان وجه
حصرها وتعيينها فيما ذكرناه، فنقول:
إن علماءنا الأصوليين من المتقدمين حصروا الأدلة على الأحكام
الشرعية في الأربعة المعروفة التي رابعها " الدليل العقلي " بينما أن بعض
علماء أهل السنة أضافوا إلى الأربعة المذكورة القياس ونحوه، على
اختلاف آرائهم. ومن هنا نعرف أن المراد من " الدليل العقلي " مالا يشمل

(1) في العبارة شئ من الإبهام.
128

مثل القياس، فمن ظن من الأخباريين فيهم (1) أنهم يريدون منه ما يشمل
القياس [تشنيعا عليهم] (2) ليس في موضعه، وهو ظن تأباه تصريحاتهم
في عدم الاعتبار بالقياس ونحوه.
ومع ذلك فإنه لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدمون من علمائنا
بالدليل العقلي، حتى أن الكثير منهم لم يذكره من الأدلة، أو لم يفسره، أو
فسره بما لا يصلح أن يكون دليلا في قبال الكتاب والسنة.
وأقدم نص وجدته ما ذكره الشيخ المفيد - المتوفى سنة 413 - في
رسالته الأصولية التي لخصها الشيخ الكراجكي (3) فإنه لم يذكر الدليل
العقلي من جملة أدلة الأحكام، وإنما ذكر أن أصول الأحكام ثلاثة:
الكتاب والسنة النبوية وأقوال الأئمة (عليهم السلام). ثم ذكر أن الطرق الموصلة إلى
ما في هذه الأصول ثلاثة: اللسان، والأخبار، وأولها العقل، وقال عنه:
" وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار ". وهذا التصريح
كما ترى أجنبي عما نحن في صدده.
ثم يأتي بعده تلميذه الشيخ الطوسي - المتوفى سنة 460 - في كتابه
(العدة) الذي هو أول كتاب مبسط في الأصول، فلم يصرح بالدليل العقلي،
فضلا عن أن يشرحه أو يفرد له بحثا. وكل ما جاء فيه في آخر فصل منه
أنه بعد أن قسم المعلومات إلى ضرورية ومكتسبة والمكتسب إلى عقلي
وسمعي، ذكر من جملة أمثلة الضروري العلم بوجوب رد الوديعة وشكر
المنعم وقبح الظلم والكذب. ثم ذكر في معرض كلامه: أن القتل والظلم

(1) في ط 2: في الأصوليين.
(2) لم يرد في ط 2.
راجع تأليفه كنز الفوائد: ص 186 المطبوع على الحجر في إيران سنة 1322 ه‍ [ج 2 ص 15
من الطبعة الحديثة].
129

معلوم بالعقل قبحه، ويريد من قبحه تحريمه. وذكر أيضا أن الأدلة
الموجبة للعلم فبالعقل يعلم كونها أدلة ولا مدخل للشرع في ذلك (1).
وأول من وجدته من الأصوليين يصرح بالدليل العقلي الشيخ ابن
إدريس - المتوفى 598 - فقال (في السرائر ص 2): فإذا فقدت الثلاثة
- يعني الكتاب والسنة والإجماع - فالمعتمد عند المحققين التمسك بدليل
العقل فيها (2). ولكنه لم يذكر المراد منه.
ثم يأتي المحقق الحلي - المتوفى 676 - فيشرح المراد منه فيقول في
كتابه (المعتبر ص 6) بما ملخصه:
وأما الدليل العقلي فقسمان: أحدهما ما يتوقف فيه على الخطاب،
وهو ثلاثة: لحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب. وثانيهما ما
ينفرد العقل بالدلالة عليه (3). ويحصره في وجوه الحسن والقبح، بما لا
يخلو من المناقشة في أمثلته.
ويزيد عليه الشهيد الأول - المتوفى 786 - في مقدمة كتابه (الذكرى)
فيجعل القسم الأول ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقق، وثلاثة
أخرى وهي: مقدمة الواجب، ومسألة الضد، وأصل الإباحة في المنافع
والحرمة في المضار. ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقق،
وأربعة أخرى وهي: البراءة الأصلية، وما لا دليل عليه، والأخذ بالأقل عند
الترديد بينه وبين الأكثر، والاستصحاب (4).
وهكذا ينهج هذا النهج جماعة آخرون من المؤلفين، في حين أن
الكتب الدراسية المتداولة - مثل المعالم والرسائل والكفاية - لم تبحث هذا

(1) العدة: ج 2 ص 759 - 762.
(2) السرائر: ج 1 ص 46.
(3) المعتبر: ج 1 ص 31.
(4) الذكرى: ج 1 ص 52 - 53.
130

الموضوع ولم تعرف الدليل العقلي. ولم تذكر مصاديقه، إلا إشارات عابرة
في ثنايا الكلام.
ومن تصريحات المحقق والشهيد الأول يظهر أنه لم تتجل فكرة
الدليل العقلي في تلك العصور، فوسعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر
اللفظية مثل " لحن الخطاب " وهو أن تدل قرينة عقلية على حذف لفظ، و
" فحوى الخطاب " ويعنون به مفهوم الموافقة، و " دليل الخطاب "، ويعنون
به مفهوم المخالفة. وهذه كلها تدخل في حجية الظهور، ولا علاقة لها
بدليل العقل المقابل للكتاب والسنة.
وكذلك الاستصحاب، فإنه أصل عملي قائم برأسه، كما بحثه
المتقدمون في مقابل دليل العقل.
والغريب في الأمر! أنه حتى مثل المحقق القمي - المتوفى سنة
1231 - نسق على مثل هذ التفسير لدليل العقل فأدخل فيه الظواهر مثل
المفاهيم، بينما هو نفسه عرفه بأنه " حكم عقلي يوصل به إلى الحكم
الشرعي وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي " (1).
وأحسن من رأيته قد بحث الموضوع بحثا مفيدا معاصره العلامة
السيد محسن الكاظمي في كتابه (المحصول) (2) وكذلك تلميذه المحقق
- صاحب الحاشية على المعالم - الشيخ محمد تقي الإصفهاني الذي نسج
على منواله (3) وإن كان فيما ذكره بعض الملاحظات (4) لا مجال لذكرها
ومناقشتها [هنا] (5).

(1) القوانين: ج 2 ص 2.
(2) لا يحضرنا هذا الكتاب.
(3) راجع هداية المسترشدين: ص 432 س 6.
(4) في ط الأولى: بعض الهنات.
(5) لم يرد في ط الأولى.
131

وعلى كل حال، فإن إدخال المفاهيم والاستصحاب ونحوها في
مصاديق الدليل العقلي لا يناسب جعله دليلا في مقابل الكتاب والسنة،
ولا يناسب تعريفه بأنه " ما ينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم
بالحكم الشرعي ".
وبسبب عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي انتحى الأخباريون
باللائمة على الأصوليين إذ يأخذون بالعقل حجة على الحكم الشرعي.
ولكنهم (1) أنفسهم أيضا لم يتضح مقصودهم في التزهيد بالعقل، وهل
تراهم يحكمون غير عقولهم في التزهيد بالعقول؟
ويتجلى لنا عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي ما (2) ذكره الشيخ
المحدث البحراني في حدائقه، وهذا نص عبارته:
المقام الثالث في دليل العقل، وفسره بعض بالبراءة والاستصحاب،
وآخرون قصروه على الثاني، وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى
الخطاب ودليل الخطاب، ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم
بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشئ النهي
عن ضده الخاص، والدلالة الالتزامية (3) ثم تكلم عن كل منها في مطالب
عدا التلازم بين الحكمين لم يتحدث عنه. ولم يذكر من الأقوال حكم
العقل في مسألة الحسن والقبح، بينما أن حكم العقل المقصود الذي ينبغي
أن يجعل دليلا هو خصوص التلازم بين الحكمين وحكم العقل في
الحسن والقبح. وما نقله من الأقوال لم يكن دقيقا كما سبق بيان بعضها.

(1) في ط الأولى: ومع الأسف انهم.
(2) كذا، والظاهر: " مما " بملاحظة قوله: " ويتجلى " ولعل الأصل فيه يجلي.
(3) الحدائق الناضرة: ج 1 ص 40.
132

وكيفما كان، فالذي يصلح أن يكون مرادا من الدليل العقلي المقابل
للكتاب والسنة هو: " كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي "
وبعبارة ثانية هو: " كل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم
الشرعي ". وقد صرح بهذا المعنى جماعة من المحققين المتأخرين (1).
وهذا أمر طبيعي، لأ أنه إذا كان الدليل العقلي مقابلا للكتاب والسنة
لابد ألا يعتبر حجة إلا إذا كان موجبا للقطع الذي هو حجة بذاته، فلذلك
لا يصح أن يكون شاملا للظنون وما لا يصلح للقطع بالحكم من
المقدمات العقلية.
ولكن هذا التحديد بهذا المقدار لا يزال مجملا، وقد وقع خلط وخبط
عظيمان في فهم هذا الأمر. ولأجل أن ترفع جميع الشكوك والمغالطات
والأوهام لابد لنا من توضيح الأمر بشئ من البسط، لوضع النقاط على
الحروف كما يقولون، فنقول:
1 - إنه قد تقدم (ج 2 ص 277) أن العقل ينقسم إلى عقل نظري
وعقل عملي. وهذا التقسيم باعتبار ما يتعلق به الإدراك:
فالمراد من " العقل النظري ": إدراك ما ينبغي أن يعلم، أي إدراك
الأمور التي لها واقع. والمراد من " العقل العملي ": إدراك ما ينبغي أن يعمل،
أي حكمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أولا ينبغي فعله.
2 - إنه ما المراد من العقل الذي نقول إنه حجة من هذين القسمين؟
إن كان المراد " العقل النظري " فلا يمكن أن يستقل بإدراك الأحكام
الشرعية ابتداء، أي لا طريق للعقل أن يعلم من دون الاستعانة بالملازمة
أن هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع.

(1) انظر القوانين: ج 2 ص 2، والفصول الغروية: ص 316، ومطارح الأنظار: ص 229.
133

والسر في ذلك واضح، لأن أحكام الله توقيفية فلا يمكن العلم بها إلا
من طريق السماع من مبلغ الأحكام المنصوب من قبله تعالى لتبليغها،
ضرورة أن أحكام الله ليست من القضايا الأولية وليست مما تنالها
المشاهدة بالبصر ونحوه من الحواس الظاهرة بل الباطنة، وليست أيضا
مما تنالها التجربة والحدس. وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من
غير طريق السماع من مبلغها؟ وشأنها في ذلك شأن سائر المجعولات
التي يضعها البشر كاللغات والخطوط والرموز ونحوها.
وكذلك ملاكات الأحكام - كنفس الأحكام - لا يمكن العلم بها إلا من
طريق السماع من مبلغ الأحكام، لأ أنه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف
بها أسرار أحكام الله وملاكاتها التي أنيطت بها الأحكام عنده (1) والظن لا
يغني من الحق شيئا.
وعلى هذا، فمن نفى حجية العقل وقال: " إن الأحكام سمعية لا تدرك
بالعقول " فهو على حق إذا أراد من ذلك ما أشرنا إليه، وهو نفي استقلال
العقل النظري من إدراك الأحكام وملاكاتها. ولعل بعض منكري الملازمة
بين حكم العقل وحكم الشرع قصد هذا المعنى - كصاحب الفصول
وجماعة من الأخباريين (2) - ولكن خانه التعبير عن مقصوده. وإذا كان
هذا مرادهم فهو أجنبي عما نحن بصدده من كون الدليل العقلي حجة
يتوصل به إلى الحكم الشرعي.
إننا نقصد من الدليل العقلي حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم
الثابت شرعا أو عقلا وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في
مسألة الإجزاء ومقدمة الواجب ونحوهما، وكحكمه باستحالة التكليف

(1) راجع ما تقدم في ج 2 ص 296.
(2) راجع ج 2 ص 269 و 293.
134

بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، وكحكمه بتقديم الأهم في مورد
التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عند الله، وكحكمه
بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة.
فإن هذه الملازمات وأمثالها أمور حقيقية واقعية يدركها العقل النظري
بالبداهة أو بالكسب، لكونها من الأوليات والفطريات التي قياساتها معها،
أو لكونها تنتهي إليها فيعلم بها العقل على سبيل الجزم.
وإذا قطع العقل بالملازمة - والمفروض أنه قاطع بثبوت الملزوم - فإنه
لابد أن يقطع بثبوت اللازم، وهو - أي اللازم - حكم الشارع. ومع حصول
القطع فإن القطع حجة يستحيل النهي عنه، بل به حجية كل حجة، كما
سبق بيانه ص 22.
وعليه، فهذه الملازمات العقلية هي كبريات القضايا العقلية التي بضمها
إلى صغرياتها يتوصل بها إلى الحكم الشرعي. ولا أظن أحدا بعد التوجه
إليها والالتفات إلى حقيقتها يستطيع إنكارها، إلا السوفسطائيين الذين
ينكرون الوثوق بكل معرفة حتى المحسوسات.
ولا أظن أن هذه القضايا العقلية هي مقصود من أنكر حجيتها من
الأخباريين وغيرهم وإن أوهمت بعض عباراتهم ذلك، لعدم التمييز بين
نقاط البحث.
وإذا عرفت ذلك، تعرف أن الخلط في المقصود من إدراك العقل
النظري وعدم التمييز بين ما يدركه من الأحكام ابتداء وما يدركه منها
بتوسط الملازمة هو سبب المحنة في هذا الاختلاف وسبب المغالطة التي
وقع فيها بعضهم (1) إذ نفى مطلقا إدراك العقل لحكم الشارع وحجيته،

(1) لم يتعين لنا هذا البعض، انظر الحدائق: ج 1 ص 131.
135

قائلا: " إن أحكام الله توقيفية لا مسرح للعقول فيها " وغفل عن أن هذا
التعليل إنما يصلح لنفي إدراكه للحكم ابتداء وبالاستقلال، ولا يصلح لنفي
إدراكه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم وهو الحكم.
3 - هذا كله إذا أريد من العقل " العقل النظري ".
وأما لو أريد به " العقل العملي " فكذلك لا يمكن أن يستقل في إدراك
أن هذا ينبغي فعله عند الشارع أو لا ينبغي، بل لا معنى لذلك، لأن هذا
الإدراك وظيفة العقل النظري، باعتبار ان " كون هذا الفعل ينبغي فعله عند
الشارع بالخصوص أو لا ينبغي " من الأمور الواقعية التي تدرك بالعقل
النظري لا بالعقل العملي. وإنما كل ما للعقل العملي من وظيفة هو أن
يستقل بإدراك أن هذا الفعل في نفسه مما ينبغي فعله أو لا ينبغي مع قطع
النظر عن نسبته إلى الشارع المقدس أو إلى أي حاكم آخر، يعني أن العقل
العملي يكون هو الحاكم في الفعل، لا حاكيا عن حاكم آخر.
وإذا حصل للعقل العملي هذا الإدراك جاء العقل النظري عقيبه، فقد
يحكم بالملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع وقد لا يحكم. ولا
يحكم بالملازمة إلا في خصوص مورد مسألة التحسين والتقبيح العقليين،
أي خصوص القضايا المشهورات التي تسمى " الآراء المحمودة " والتي
تطابقت عليها آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء.
وحينئذ بعد حكم العقل النظري بالملازمة يستكشف حكم الشارع
على سبيل القطع، لأ أنه بضم المقدمة العقلية المشهورة التي هي من الآراء
المحمودة (التي يدركها العقل العملي) إلى المقدمة التي تتضمن الحكم
بالملازمة (التي يدركها العقل النظري) يحصل للعقل النظري العلم بأن
الشارع له هذا الحكم، لأ أنه حينئذ يقطع باللازم - وهو الحكم - بعد فرض
قطعه بثبوت الملزوم والملازمة.
136

ومن هنا قلنا سابقا: إن المستقلات العقلية تنحصر في مسألة واحدة،
وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين، لأ أنه لا يشارك الشارع حكم
العقل العملي إلا فيها، أي أن العقل النظري لا يحكم بالملازمة إلا في هذا
المورد خاصة (1).
وجه حجية العقل:
4 - إذا عرفت ما شرحناه، وهو أن العقل النظري يقطع باللازم - أعني
حكم الشارع - بعد قطعه بثبوت الملزوم الذي هو حكم الشرع أو العقل.
وبعد فرض قطعه بالملازمة نشرع في بيان وجه حجية العقل، فنقول:
لقد انتهى الأمر بنا في البحث السابق إلى أن الدليل العقلي ما أوجب
القطع بحكم الشارع، وإذا كان الأمر كذلك فليس ما وراء القطع حجة، فإنه
تنتهي إليه حجية كل حجة، لأ أنه - كما تقدم ص 22 - هو حجة بذاته، ولا
يعقل سلخ الحجية عنه.
وهل تثبت الشريعة إلا بالعقل؟ وهل يثبت التوحيد والنبوة إلا بالعقل؟
وإذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل فكيف نصدق برسالة؟ وكيف نؤمن
بشريعة؟ بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟ وهل العقل إلا ما عبد به
الرحمن؟ وهل يعبد الديان إلا به؟
إن التشكيك في حكم العقل سفسطة ليس وراءها سفسطة! نعم، كل
ما يمكن الشك فيه هو الصغريات، أعني ثبوت الملازمات في المستقلات
العقلية أو في غير المستقلات العقلية. ونحن إنما نتكلم في حجية العقل
لإثبات الحكم الشرعي بعد ثبوت تلك الملازمات. وقد شرحنا في الجزء

راجع البحث الرابع في أسباب حكم العقل العملي ج 2 ص 279 فما بعدها لتعرف السر في
التخصيص بالآراء المحمودة.
137

الثاني مواقع كثيرة من تلك الملازمات، فأثبتنا بعضها في مثل المستقلات
العقلية، ونفينا بعضا آخر في مثل مقدمة الواجب ومسألة الضد. أما بعد
ثبوت الملازمة وثبوت الملزوم فأي معنى للشك في حجية العقل؟ أو
الشك في ثبوت اللازم وهو حكم الشارع؟
ولكن مع كل هذا وقع الشك لبعض الأخباريين في هذا الموضوع،
فلابد من تجليته لكشف المغالطة، فنقول:
قد أشرنا في الجزء الثاني (ص 270) إلى هذا النزاع، وقلنا: إن مرجع
هذا النزاع إلى ثلاث نواح، وذلك حسب اختلاف عباراتهم:
الأولى: في إمكان أن ينفي الشارع حجية هذا القطع. وقد اتضح لنا
ذلك بما شرحناه في حجية القطع الذاتية (ص 22) من هذا الجزء (1)
فارجع إليه، لتعرف استحالة النهي عن اتباع القطع.
الثانية: بعد فرض إمكان حجية القطع هل نهى الشارع عن الأخذ
بحكم العقل؟ وقد ادعى ذلك جملة من الأخباريين الذين وصل إلينا
كلامهم (2) مدعين أن الحكم الشرعي لا يتنجز ولا يجوز الأخذ به إلا إذا
ثبت من طريق الكتاب والسنة.
أقول: ومرد هذه الدعوى في الحقيقة إلى دعوى تقييد الأحكام
الشرعية بالعلم بها من طريق الكتاب والسنة. وهذا خير ما يوجه به
كلامهم. ولكن قد سبق الكلام مفصلا في مسألة اشتراك الأحكام بين
العالم والجاهل (ص 34 من هذا الجزء) فقلنا: إنه يستحيل تعليق الأحكام

(1) العبارة في ط الأولى: وقد استرحنا من هذا البحث بما شرحناه من هذا الجزء في حجية
القطع الذاتية ص 16.
(2) منهم المحدث الاسترآبادي في الفوائد المدنية: ص 29، والمحدث البحراني في الحدائق:
ج 1 ص 131.
138

على العلم بها مطلقا، فضلا عن تقييدها بالعلم الناشئ من سبب خاص.
وهذه الاستحالة ثابتة حتى لو قلنا بإمكان نفي حجية القطع، لما قلناه من
لزوم الخلف، كما شرحناه هناك.
وأما ما ورد عن آل البيت (عليهم السلام) من نحو قولهم: " إن دين الله لا يصاب
بالعقول " (1) فقد ورد في قباله مثل قولهم: " إن لله على الناس حجتين:
حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)
وأما الباطنة فالعقول " (2).
والحل لهذا التعارض الظاهري بين الطائفتين، هو: أن المقصود من
الطائفة الأولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها، في
قبال الاعتماد على القياس والاستحسان، لأ نهى واردة في هذا المقام، أي
أن الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال. وهو حق كما
شرحناه سابقا. ومن المعلوم أن مقصود من يعتمد على الاستحسان في
بعض صوره هو دعوى أن للعقل أن يدرك الأحكام مستقلا ويدرك
ملاكاتها. ومقصود من يعتمد على القياس هو دعوى أن للعقل أن يدرك
ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس. وهذا
معنى " الاجتهاد بالرأي ". وقد سبق أن هذه الإدراكات ليست من وظيفة
العقل النظري ولا العقل العملي، لأن هذه أمور لا تصاب إلا من طريق
السماع من مبلغ الأحكام.
وعليه فهذه الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها على ظواهرها،
لأ نهى واردة في مقام معارضة " الاجتهاد بالرأي " ولكنها أجنبية عما نحن
بصدده وعما نقوله في القضايا العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي.

(1) بحار الأنوار: ج 2 ص 303.
راجع كتاب العقل من أصول الكافي، وهو أول كتبه [ج 1 ص. 16].
139

كما أنها أجنبية عن الطائفة الثانية من الأخبار التي تثني على العقل
وتنص على أنه حجة الله الباطنة، لأ نهى تثني على العقل فيما هو من
وظيفته أن يدركه، لا على الظنون والأوهام، ولا على ادعاءات إدراك ما لا
يدركه العقل بطبيعته.
الناحية الثالثة: بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حجية القطع والنهي
عنه، يجب أن نتساءل عن معنى حكم الشارع على طبق حكم العقل؟
والجواب الصحيح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن يقال: إن معناه إدراك
الشارع وعلمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه لدى العقلاء، وهذا شئ
آخر غير أمره ونهيه، والنافع هو أن نستكشف أمره ونهيه، فيحتاج إثبات
أمره ونهيه إلى دليل آخر سمعي، ولا يكفي فيه ذلك الدليل العقلي الذي
أقصى ما يستنتج منه أن الشارع عالم بحكم العقلاء، أو أنه حكم بنفس ما
حكم به العقلاء، فلا يكون منه أمر مولوي أو نهي مولوي.
أقول: وهذه آخر مرحلة لتوجيه مقالة منكري حجية العقل، وهو
توجيه يختص بالمستقلات العقلية. ولهذا التوجيه صورة ظاهرية يمكن
أن تنطلي على المبتدئين أكثر من تلك التوجيهات في المراحل السابقة.
وهذا التوجيه ينطوي على إحدى دعويين:
1 - دعوى إنكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وقد تقدم
تفنيدها في الجزء الثاني (ص 293) فلا نعيد.
2 - الدعوى التي أشرنا إليها هناك في آخر ص 294 من الجزء الثاني.
وتوضيحها:
إن ما تطابقت عليها آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذم فقط،
والمدح والذم غير الثواب والعقاب، فاستحقاقهما لا يستلزم استحقاق
140

الثواب والعقاب من قبل المولى. والذي ينفع في استكشاف حكم الشارع
هو الثاني ولا يكفي الأول.
ولو فرض أنا صححنا الاستلزام للثواب والعقاب، فإن ذلك لا يدركه
كل أحد. ولو فرض أنه أدركه كل أحد فإن ذلك ليس كافيا للدعوة إلى
الفعل إلا عند الأوحدي (1) من الناس. وعلى أي تقدير فرض فلا يستغني
أكثر الناس عن توجيه الأمر من المولى أو النهي منه في مقام الدعوة إلى
الفعل أو الزجر عنه.
وإذا كان نفس إدراك الحسن والقبح غير كاف في الدعوة - والمفروض
لم يقم دليل سمعي على الحكم - فلا نستطيع أن نحكم بأن الشارع له أمر
ونهي على طبق حكم العقل قد اكتفى عن بيانه اعتمادا على إدراك العقل
ليكون حكم العقل كاشفا عن حكمه، لاحتمال ألا يكون للشارع حكم
مولوي على طبق حكم العقل حينئذ. وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال،
لأن المدار على القطع في المقام.
والجواب: أنه قد أشرنا في الحاشية (ج 2 ص 294) إلى ما يفند
الشق الأول من هذه الدعوى الثانية، إذ قلنا: الحق أن معنى استحقاق
المدح ليس إلا استحقاق الثواب، ومعنى استحقاق الذم ليس إلا استحقاق
العقاب، لا أنهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر، لأن حقيقة المدح
والمقصود منه هو المجازاة بالخير لا المدح باللسان، وحقيقة الذم
والمقصود منه هو المجازاة بالشر لا الذم باللسان. وهذا المعنى هو الذي
يحكم به العقل، ولذا قال المحققون من الفلاسفة: " إن مدح الشارع ثوابه
وذمه عقابه " (2). وأرادوا هذا المعنى.

(1) في ط 2 بدل " الأوحدي ": الفذ.
(2) لم نظفر به.
141

بل بالنسبة إلى الله تعالى لا معنى لفرض استحقاق المدح والذم اللسانيين
عنده، بل ليست مجازاته بالخير إلا الثواب وليست مجازاته بالشر إلا العقاب.
وأما الشق الثاني من هذه الدعوى، فالجواب عنه: أنه لما كان
المفروض أن المدح والذم من القضايا المشهورات التي تتطابق عليها آراء
العقلاء كافة، فلابد أن يفرض فيه أن يكون صالحا لدعوة كل واحد من
الناس. ومن هنا نقول: إنه مع هذا الفرض يستحيل توجيه دعوة مولوية
من الله تعالى ثانيا، لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح
للدعوة عند المكلف، إلا من باب التأكيد ولفت النظر. ولذا ذهبنا هناك إلى
أن الأوامر الشرعية الواردة في موارد حكم العقل مثل وجوب الطاعة
ونحوها يستحيل فيها أن تكون أوامر تأسيسية (أي مولوية) بل هي أوامر
تأكيدية (أي إرشادية).
وأما أن هذا الإدراك لا يدعو إلا الأوحدي (1) من الناس فقد يكون
صحيحا، ولكن لا يضر في مقصودنا، لأ أنه لا نقصد من كون حكم العقل
داعيا أنه داع بالفعل لكل أحد، بل إنما نقصد - وهو النافع لنا - أنه صالح
للدعوة.
وهذا شأن كل داع حتى الأوامر المولوية، فإنه لا يترقب منها إلا
صلاحيتها للدعوة لا فعلية الدعوة، لأ أنه ليس قوام كون الأمر أمرا من قبل
الشارع أو من قبل غيره فعلية دعوته لجميع المكلفين، بل الأمر في
حقيقته ليس هو إلا جعل ما يصلح أن يكون داعيا، يعني ليس المجعول
في الأمر فعلية الدعوة. وعليه، فلا يضر في كونه صالحا للدعوة عدم
امتثال أكثر الناس.
* * *

(1) في ط 2 بدل " الأوحدي ": الفذ.
142

الباب الخامس:
حجية الظواهر
143

تمهيدات:
1 - تقدم في الجزء الأول (ص 93) أن الغرض من المقصد الأول
تشخيص ظواهر بعض الألفاظ من ناحية عامة، والغاية منه - كما ذكرنا -
تنقيح صغريات أصالة الظهور. وطبعا إنما يكون ذلك في خصوص
الموارد التي وقع فيها الخلاف بين الناس.
وقلنا: إننا سنبحث عن الكبرى - وهي حجية أصالة الظهور - في
المقصد الثالث. وقد حل بحمد الله تعالى موضع البحث عنها.
2 - إن البحث عن حجية الظواهر من توابع البحث عن الكتاب
والسنة، أعني أن الظواهر ليست دليلا قائما بنفسه في مقابل الكتاب
والسنة، بل إنما نحتاج إلى إثبات حجيتها لغرض الأخذ بالكتاب والسنة،
فهي من متممات حجيتهما، إذ من الواضح أنه لا مجال للأخذ بهما من
دون أن تكون ظواهرهما حجة. والنصوص التي هي قطعية الدلالة أقل
القليل فيهما.
3 - تقدم أن الأصل حرمة العمل بالظن ما لم يدل دليل قطعي على
حجيته. والظواهر من جملة الظنون، فلابد من التماس دليل قطعي على
حجيتها ليصح التمسك بظواهر الآيات والأخبار. وسيأتي بيان هذا الدليل.
144

4 - إن البحث عن الظهور يتم بمرحلتين:
الأولى: في أن هذا اللفظ المخصوص ظاهر في هذا المعنى
المخصوص أم غير ظاهر. والمقصد الأول كله متكفل بالبحث عن ظهور
بعض الألفاظ التي وقع الخلاف في ظهورها، كالأوامر والنواهي والعموم
والخصوص والإطلاق والتقييد. وهي في الحقيقة من بعض صغريات
أصالة الظهور.
الثانية: في أن اللفظ الذي قد أحرز ظهوره هل هو حجة عند الشارع
في ذلك المعنى، فيصح أن يحتج به المولى على المكلفين ويصح أن يحتج
به المكلفون؟
والبحث عن هذه المرحلة الثانية هو المقصد الذي عقد من أجله هذا
الباب، وهو الكبرى التي إذا ضممناها إلى صغرياتها يتم لنا الأخذ بظواهر
الآيات والروايات.
5 - إن المرحلة الأولى - وهي تشخيص صغريات أصالة الظهور - تقع
بصورة عامة في موردين:
الأول: في وضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه، فإنه إذا أحرز وضعه له
لا محالة يكون ظاهرا فيه، نحو وضع صيغة " افعل " للوجوب والجملة
الشرطية لما يستلزم المفهوم... إلى غير ذلك.
الثاني: في قيام قرينة عامة أو خاصة على إرادة المعنى من اللفظ.
والحاجة إلى القرينة: إما في مورد إرادة غير ما وضع له اللفظ، وإما في
مورد اشتراك اللفظ في أكثر من معنى. ومع فرض وجود القرينة لا محالة
يكون اللفظ ظاهرا فيما قامت عليه القرينة، سواء كانت القرينة متصلة
أو منفصلة.
145

وإذا اتضحت هذه التمهيدات، فينبغي أن نتحدث عما يهم من كل من
المرحلتين في مباحث مفيدة في الباب.
طرق إثبات الظواهر
إذا وقع الشك في الموردين السابقين، فهناك طرق لمعرفة وضع
الألفاظ ومعرفة القرائن العامة:
منها: أن يتتبع الباحث بنفسه استعمالات العرب ويعمل رأيه واجتهاده
إذا كان من أهل الخبرة باللسان والمعرفة بالنكات البيانية. ونظير ذلك ما
استنبطناه (ج 1 ص 106) من أن كلمة " الأمر " لفظ مشترك بين ما يفيد
معنى الشئ والطلب، وذلك بدلالة اختلاف اشتقاق الكلمة بحسب
المعنيين واختلاف الجمع فيها بحسبهما.
ومنها: أن يرجع إلى علامات الحقيقة والمجاز، كالتبادر وأخواته. وقد
تقدم الكلام عن هذه العلامات (ج 1 ص 68).
ومنها: أن يرجع إلى أقوال علماء اللغة. وسيأتي بيان قيمة أقوالهم.
وهناك أصول اتبعها بعض القدماء لتعيين وضع الألفاظ أو ظهوراتها
في موارد تعارض أحوال اللفظ. والحق أنه لا أصل لها مطلقا، لأ أنه
لا دليل على اعتبارها. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم (ج 1 ص 74).
وهي: مثل ما ذهبوا إليه من أصالة عدم الاشتراك في مورد الدوران
بين الاشتراك وبين الحقيقة والمجاز، ومثل أصالة الحقيقة لإثبات وضع
اللفظ عند الدوران بين كونه حقيقة أو مجازا.
أما أنه لا دليل على اعتبارها، فلأن حجية مثل هذه الأصول لابد من
استنادها إلى بناء العقلاء، والمسلم من بنائهم هو ثبوته في الأصول التي
146

تجري لإثبات مرادات المتكلم دون ما يجري لتعيين وضع الألفاظ
والقرائن. ولا دليل آخر في مثلها غير بناء العقلاء.
حجية قول اللغوي
إن أقوال اللغويين لا عبرة بأكثرها في مقام استكشاف وضع الألفاظ،
لأن أكثر المدونين للغة همهم أن يذكروا المعاني التي شاع استعمال اللفظ
فيها من دون كثير عناية منهم بتمييز المعاني الحقيقية من المجازية إلا
نادرا، عدا الزمخشري في كتابه (أساس اللغة) وعدا بعض المؤلفات في
فقه اللغة (1).
وعلى تقدير أن ينص اللغويون على المعنى الحقيقي، فإن أفاد نصهم
العلم بالوضع فهو، وإلا فلابد من التماس الدليل على حجية الظن الناشئ
من قولهم. وقيل في الاستدلال عليه وجوه من الأدلة لا بأس بذكرها وما
عندنا فيها:
أولا - قيل: الدليل الإجماع (2)
وذلك لأ أنه قائم على الأخذ بقول اللغوي بلا نكير من أحد وإن كان
اللغوي واحدا.
أقول: وأنى لنا بتحصيل هذا الإجماع العملي المدعى بالنسبة إلى
جميع الفقهاء؟ وعلى تقدير تحصيله فأنى لنا من إثبات حجية مثله؟ وقد
تقدم البحث مفصلا عن منشأ حجية الإجماع، وليس هو مما يشمل هذا
المقام بما هو حجة، لأن المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة حتى

(1) مثل فقه اللغة لابن الفارسي، وفقه اللغة وسر العربية للثعالبي.
(2) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري عن محكي السيد المرتضى، والمحقق الآشتياني عن
الفاضل النراقي، راجع فرائد الأصول: ج 1 ص 74 وبحر الفوائد: ص 112.
147

يستكشف من الإجماع موافقته في هذه المسألة، أي رجوعه إلى أهل
اللغة عملا.
ثانيا - قيل: الدليل بناء العقلاء (1)
لأن من (2) سيرة العقلاء وبنائهم العملي على الرجوع إلى أهل الخبرة
الموثوق بهم في جميع الأمور التي يحتاج في معرفتها إلى خبرة وإعمال
الرأي والاجتهاد، كالشؤون الهندسية والطبية ومنها اللغات ودقائقها، ومن
المعلوم: أن اللغوي معدود من أهل الخبرة في فنه. والشارع لم يثبت منه
الردع عن هذه السيرة العملية، فيستكشف من ذلك موافقته لهم ورضاه بها.
أقول: إن بناء العقلاء إنما يكون حجة إذا كان يستكشف منه على نحو
اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقتهم، وهذا بديهي. ولكن نحن نناقش
إطلاق المقدمة المتقدمة القائلة: " إن موافقة الشارع لبناء العقلاء تستكشف
من مجرد عدم ثبوت ردعه عن طريقتهم " بل لا يحصل هذا الاستكشاف
إلا بأحد شروط ثلاثة كلها غير متوفرة في المقام:
1 - ألا يكون مانع من كون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في البناء
والسيرة، فإنه في هذا الفرض لابد أن يستكشف أنه متحد المسلك معهم
بمجرد عدم ثبوت ردعه لأ أنه من العقلاء بل رئيسهم، ولو كان له مسلك
ثان لبينه ولعرفناه. وليس هذا مما يخفى.
ومن هذا الباب الظواهر وخبر الواحد، فإن الأخذ بالظواهر والاعتماد
عليها في التفهيم مما جرت عليها سيرة العقلاء، والشارع لابد أن يكون
متحد المسلك معهم، لأ أنه لا مانع من ذلك بالنسبة إليه وهو منهم بما هم

(1) نقله الشيخ الأعظم الأنصاري عن محكي الفاضل السبزواري، فرائد الأصول: ج 1 ص 75.
(2) الظاهر كلمة " من " زائدة، ولك أن تجعل كلمة " على " زائدة.
148

عقلاء ولم يثبت منه ردع. وكذلك يقال في خبر الواحد الثقة، فإنه لا مانع
من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في الاعتماد عليه في تبليغ
الأحكام ولم يثبت منه الردع.
أما الرجوع إلى أهل الخبرة فلا معنى لفرض أن يكون الشارع متحد
المسلك مع العقلاء في ذلك، لأ أنه لا معنى لفرض حاجته إلى أهل الخبرة
في شأن من الشؤون حتى يمكن فرض أن تكون له سيرة عملية في ذلك،
لا سيما في اللغة العربية.
2 - إذا كان هناك مانع من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء
فلابد أن يثبت لدينا جريان السيرة العملية حتى في الأمور الشرعية
بمرأى ومسمع من الشارع، فإذا لم يثبت حينئذ الردع منه يكون سكوته
من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب، فإنه لما كان
مورده الشك في الحالة السابقة فلا معنى لفرض اتحاد الشارع في المسلك
مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة، إذ لا معنى لفرض شكه في بقاء حكمه،
ولكن لما كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه حتى في الأمور الشرعية
ولم يثبت ردع الشارع عنه، فإنه يستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم.
أما الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغة فلم يعلم جريان السيرة العقلائية
في الأخذ بقول اللغوي في خصوص الأمور الشرعية، حتى يستكشف من
عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السيرة في الأمور الشرعية.
3 - إذا انتفى الشرطان المتقدمان فلابد حينئذ من قيام دليل خاص
قطعي على رضا الشارع وإمضائه للسيرة العملية عند العقلاء. وفي مقامنا
ليس عندنا هذا الدليل، بل الآيات الناهية عن اتباع الظن كافية في ثبوت
الردع عن هذه السيرة العملية.
149

ثالثا - قيل: الدليل حكم العقل (1)
لأن العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلابد أن يحكم
الشارع بذلك أيضا، إذ أن هذا الحكم العقلي من " الآراء المحمودة " التي
تطابقت عليها آراء العقلاء، والشارع منهم، بل رئيسهم. وبهذا الحكم العقلي
أوجبنا رجوع العامي إلى المجتهد في التقليد، غاية الأمر أنا اشترطنا في
المجتهد شروطا خاصة - كالعدالة والذكورة - لدليل خاص. وهذا الدليل
الخاص غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي، لأ أنه في الشؤون الفنية
لم يحكم العقل إلا برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به من دون اعتبار
عدالة أو نحوها، كالرجوع إلى الأطباء والمهندسين. وليس هناك دليل
خاص يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي، كما ورد في المجتهد.
أقول: وهذا الوجه أقرب الوجوه في إثبات حجية قول اللغوي. ولم
أجد الآن ما يقدح به.
الظهور التصوري والتصديقي
قيل: إن الظهور على قسمين: تصوري وتصديقي (2).
1 - " الظهور التصوري " الذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنى مخصوص،
وهو عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية أو العرفية. وهو
تابع للعلم بالوضع، سواء كان في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه،
أو لم تكن.
2 - " الظهور التصديقي " الذي ينشأ من مجموع الكلام، وهو عبارة
عن دلالة جملة الكلام على ما يتضمنه من المعنى. فقد تكون دلالة

(1) لم نظفر بقائله.
(2) راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 140.
150

الجملة مطابقة لدلالة المفردات، وقد تكون مغايرة لها، كما إذا احتف
الكلام بقرينة توجب صرف مفاد جملة الكلام عما يقتضيه مفاد المفردات.
والظهور التصديقي يتوقف على فراغ المتكلم من كلامه، فإن لكل متكلم
أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد
لكلامه الظهور التصديقي.
ويستتبع هذا الظهور التصديقي ظهور ثان تصديقي، وهو الظهور بأن
هذا هو مراد المتكلم. وهذا هو المعين لمراد المتكلم في نفس الأمر،
فيتوقف على عدم القرينة المتصلة والمنفصلة، لأن القرينة مطلقا تهدم هذا
الظهور. بخلاف الظهور التصديقي الأول، فإنه لا تهدمه القرينة المنفصلة.
أقول: ونحن لا نتعقل هذا التقسيم، بل الظهور قسم واحد، وليس هو
إلا دلالة اللفظ على مراد المتكلم. وهذه الدلالة هي التي نسميها " الدلالة
التصديقية " وهي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلم العلم بمراده
من اللفظ، أو يلزم منه الظن بمراده. والأول يسمى " النص " ويختص الثاني
باسم " الظهور ".
ولا معنى للقول بأن اللفظ ظاهر ظهورا تصوريا في معناه الموضوع
له، وقد سبق في الجزء الأول (ص 65) بيان حقيقة الدلالة وأن ما يسمونه
ب‍ " الدلالة التصورية " ليست بدلالة، وإنما كان ذلك منهم تسامحا في
التعبير، بل هي من باب " تداعي المعاني " فلا علم ولا ظن فيها بمراد
المتكلم، فلا دلالة فلا ظهور، وإنما كان خطور. والفرق بعيد بينهما.
وأما تقسيم " الظهور التصديقي " إلى قسمين فهو تسامح أيضا، لأ أنه لا
يكون الظهور ظهورا إلا إذا كشف عن المراد الجدي للمتكلم إما على نحو
اليقين أو الظن، فالقرينة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقا. نعم، قبل
151

العلم بها يحصل للمخاطب قطع بدوي أو ظن بدوي يزولان عند العلم بها،
فيقال حينئذ: قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة
المنفصلة. وهذا كلام شايع عند الأصوليين (راجع ج 1 ص 194) وفي
الحقيقة أن غرضهم من ذلك: الظهور الابتدائي البدوي الذي يزول عند
العلم بالقرينة المنفصلة، لا أنه هناك ظهوران: ظهور لا يزول بالقرينة
المنفصلة، وظهور يزول بها. ولا بأس أن يسمى هذا الظهور البدوي
" الظهور الذاتي " وتسميته بالظهور مسامحة على كل حال.
وعلى كل حال، سواء سميت الدلالة التصورية ظهورا أم لم تسم،
وسواء سمي الظن البدوي ظهورا أم لم يسم، فإن موضع الكلام في حجية
الظهور هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلم بما هو كاشف وإن كان كشفا
نوعيا.
وجه حجية الظهور
إن الدليل على حجية الظاهر منحصر في بناء العقلاء. والدليل يتألف
من مقدمتين قطعيتين - على نحو ما تقدم في الدليل على حجية خبر
الواحد من طريق بناء العقلاء - وتفصيلهما هنا أن نقول:
المقدمة الأولى: إنه من المقطوع به الذي لا يعتريه الريب أن أهل
المحاورة من العقلاء قد جرت سيرتهم العملية وتبانيهم في محاوراتهم
الكلامية على اعتماد المتكلم على ظواهر كلامه في تفهيم مقاصده، ولا
يفرضون عليه أن يأتي بكلام قطعي في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.
وكذلك هم - تبعا لسيرتهم الأولى - تبانوا أيضا على العمل بظواهر كلام
المتكلم والأخذ بها في فهم مقاصده، ولا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون
كلامه نصا في مطلوبه لا يحتمل الخلاف.
152

فلذلك يكون الظاهر حجة للمتكلم على السامع، يحاسبه عليه ويحتج
به عليه لو حمله على خلاف الظاهر. ويكون أيضا حجة للسامع على
المتكلم، يحاسبه عليه ويحتج به عليه لو ادعى خلاف الظاهر. ومن أجل
هذا يؤخذ المرء بظاهر إقراره ويدان به وإن لم يكن نصا في المراد.
المقدمة الثانية: إن من المقطوع به أيضا أن الشارع المقدس لم يخرج
في محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلك أهل المحاورة من العقلاء في
تفهيم مقاصده، بدليل أن الشارع من العقلاء بل رئيسهم، فهو متحد
المسلك معهم. ولا مانع من اتحاده معهم في هذا المسلك، ولم يثبت من
قبله ما يخالفه.
وإذا ثبتت هاتان المقدمتان القطعيتان لا محالة يثبت - على سبيل
الجزم - أن الظاهر حجة عند الشارع، حجة له على المكلفين، وحجة
معذرة للمكلفين.
هذا، ولكن وقعت لبعض الناس شكوك في عموم كل من المقدمتين،
لابد من التعرض لها وكشف الحقيقة فيها.
أما المقدمة الأولى: فقد وقعت عدة أبحاث فيها:
1 - في أن تباني العقلاء على حجية الظاهر هل يشترط فيه حصول
الظن الفعلي بالمراد؟
2 - في أن تبانيهم هل يشترط فيه عدم الظن بخلاف الظاهر؟
3 - في أن تبانيهم هل يشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟
4 - في أن تبانيهم هل هو مختص بمن قصد إفهامه فقط، أو يعم
غيرهم فيكون الظاهر حجة مطلقا؟
153

وأما المقدمة الثانية: فقد وقع البحث فيها (1) في حجية ظواهر الكتاب
العزيز، بل قيل: إن الشارع ردع عن الأخذ بظواهر الكتاب فلم يكن متحد
المسلك فيه مع العقلاء. وهذه المقالة منسوبة إلى الأخباريين (2). وعليه،
فينبغي البحث عن كل واحد واحد من هذه الأمور، فنقول:
1 - اشتراط الظن الفعلي بالوفاق:
قيل: لابد في حجية الظاهر من حصول ظن فعلي بمراد المتكلم، وإلا
فهو ليس بظاهر (3). يعني أن المقوم لكون الكلام ظاهرا حصول الظن
الفعلي للمخاطب بالمراد منه، وإلا فلا يكون ظاهرا، بل يكون مجملا.
أقول: من المعلوم: أن الظهور صفة قائمة باللفظ، وهو " كونه بحالة
يكون كاشفا عن مراد المتكلم ودالا عليه " والظن بما هو ظن أمر قائم
بالسامع لا باللفظ، فكيف يكون مقوما لكون اللفظ ظاهرا؟ وإنما أقصى ما
يقال: إنه يستلزم الظن فمن هذه الجهة يتوهم أن الظن يكون مقوما
لظهوره.
وفي الحقيقة: أن المقوم لكون الكلام ظاهرا عند أهل المحاورة هو
كشفه الذاتي عن المراد، أي كون الكلام من شأنه أن يثير الظن عند السامع
بالمراد منه وإن لم يحصل ظن فعلي للسامع، لأن ذلك هو الصفة القائمة
بالكلام المقومة لكونه ظاهرا عند أهل المحاورة. والمدرك لحجية الظاهر

(1) لم ترد " فيها " في ط الأولى.
(2) إن شئت التحقيق في هذه المقالة ونسبتها إلى الأخباريين راجع الدرر النجفية للمحدث
البحراني (قدس سره): ص 169.
(3) قال الشيخ الأعظم الأنصاري: ربما يجري على لسان بعض متأخري المتأخرين من
المعاصرين عدم الدليل على حجية الظواهر إذا لم تفد الظن، أو إذا حصل الظن الغير المعتبر
على خلافها، فرائد الأصول: ج 1 ص 72.
154

ليس إلا بناء العقلاء، فهو المتبع في أصل الحجية وخصوصياتها. ألا ترى
لا يصح للسامع أن يحتج بعدم حصول الظن الفعلي عنده من الظاهر إذا
أراد مخالفته - مهما كان السبب لعدم حصول ظنه - ما دام أن اللفظ بحالة
من شأنه أن يثير الظن لدى عامة الناس؟
وهذا ما يسمى ب‍ " الظن النوعي " فيكتفى به في حجية الظاهر، كما
يكتفى به في حجية خبر الواحد كما تقدم. وإلا لو كان " الظن الفعلي "
معتبرا في حجية الظهور لكان كل كلام في آن واحد حجة بالنسبة إلى
شخص غير حجة بالنسبة إلى شخص آخر، وهذا ما لا يتوهمه أحد. ومن
البديهي أنه لا يصح ادعاء أن الظاهر ليكون (1) حجة لابد أن يستلزم الظن
الفعلي عند جميع الناس بغير استثناء، وإلا فلا يكون حجة بالنسبة إلى كل
أحد.
2 - اعتبار عدم الظن بالخلاف:
قيل: إن لم يعتبر الظن بالوفاق فعلى الأقل يعتبر ألا يحصل ظن
بالخلاف (2).
قال الشيخ صاحب الكفاية في رده: والظاهر أن سيرتهم على اتباعها
- أي الظواهر - من غير تقييد بإفادتها الظن فعلا ولا بعدم الظن كذلك على
خلافها قطعا، ضرورة أنه لا مجال للاعتذار من مخالفتها بعدم إفادتها
الظن بالوفاق ولا بوجود الظن بالخلاف (3).

(1) في ط 2: لكي يكون.
(2) قال الشيخ الأعظم الأنصاري... ولعله الوجه فيما حكاه لي بعض المعاصرين عن شيخه أنه
ذكر له مشافهة: أنه يتوقف في الظواهر المعارضة بمطلق الظن على الخلاف حتى القياس
وأشباهه، فرائد الأصول: ج 1 ص 293.
(3) كفاية الأصول: ص 324.
155

أقول: إن كان منشأ الظن بالخلاف أمر يصح في نظر العقلاء الاعتماد
عليه في التفهيم، فإنه لا ينبغي الشك في أن مثل هذا الظن يضر في حجية
الظهور بل - على التحقيق - لا يبقى معه ظهور للكلام حتى يكون موضعا
لبناء العقلاء، لأن الظهور يكون حينئذ على طبق ذلك الأمر المعتمد عليه
في التفهيم، حتى لو فرض أن ذلك الأمر ليس بأمارة معتبرة عند الشارع،
لأن الملاك في ذلك بناء العقلاء.
وأما إذا كان منشأ الظن ليس مما يصح الاعتماد عليه في التفهيم عند
العقلاء فلا قيمة لهذا الظن من ناحية بناء العقلاء على اتباع الظاهر، لأن
الظهور قائم في خلافه، ولا ينبغي الشك في عدم تأثير مثله في تبانيهم
على حجية الظهور. والظاهر أن مراد الشيخ صاحب الكفاية من الظن
بالخلاف هذا القسم الثاني فقط، لا ما يعم القسم الأول.
ولعل مراد القائل باعتبار عدم الظن بالخلاف هو القسم الأول فقط، لا
ما يعم القسم الثاني. فيقع التصالح بين الطرفين.
3 - أصالة عدم القرينة:
ذهب الشيخ الأعظم في رسائله إلى أن الأصول الوجودية - مثل
أصالة الحقيقة، وأصالة العموم، وأصالة الإطلاق، ونحوها التي هي كلها
أنواع لأصالة الظهور - ترجع كلها إلى أصالة عدم القرينة بمعنى: أن أصالة
الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم قرينة المجاز، وأصالة العموم إلى أصالة عدم
المخصص... وهكذا (1).
والظاهر أن غرضه من الرجوع: أن حجية أصالة الظهور إنما هي من
جهة بناء العقلاء على حجية أصالة عدم القرينة.

(1) فرائد الأصول: ج 1 ص 54.
156

وذهب الشيخ صاحب الكفاية إلى العكس من ذلك (1) أي أنه يرى أن
أصالة عدم القرينة هي التي ترجع إلى أصالة الظهور، يعني أن العقلاء ليس
لهم إلا بناء واحد وهو البناء على أصالة الظهور، وهو نفسه بناء على
أصالة عدم القرينة، لا أنه هناك بناءان عندهم: بناء على أصالة عدم
القرينة وبناء آخر على أصالة الظهور، والبناء الثاني بعد البناء الأول
ومتوقف عليه، ولا أن البناء على أصالة الظهور مرجع حجيته ومعناه إلى
البناء على أصالة عدم القرينة.
أقول: الحق أن الأمر لا كما أفاده الشيخ الأعظم ولا كما أفاده
صاحب الكفاية، فإنه ليس هناك أصل عند العقلاء غير أصالة الظهور يصح
أن يقال له: " أصالة عدم القرينة " فضلا عن أن يكون هو المرجع لأصالة
الظهور أو أن أصالة الظهور هي المرجع له.
بيان ذلك: أنه عند الحاجة إلى إجراء أصالة الظهور لابد أن يحتمل أن
المتكلم الحكيم أراد خلاف ظاهر كلامه. وهذا الاحتمال لا يخرج عن
إحدى صورتين لا ثالثة لهما:
الأولى: أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر مع العلم بعدم نصب قرينة من
قبله لا متصلة ولا منفصلة. وهذا الاحتمال إما من جهة احتمال الغفلة عن
نصب القرينة، أو احتمال قصد الإيهام، أو احتمال الخطأ، أو احتمال قصد
الهزل - أو لغير ذلك - فإنه في هذه الموارد يلزم المتكلم بظاهر كلامه
فيكون حجة عليه، ويكون حجة له أيضا على الآخرين. ولا تسمع منه
دعوى الغفلة ونحوها، وكذلك لا تسمع من الآخرين دعوى احتمالهم
للغفلة ونحوها. وهذا معنى أصالة الظهور عند العقلاء، أي أن الظهور
هو الحجة عندهم كالنص بإلغاء كل تلك الاحتمالات.

(1) كفاية الأصول: ص 329.
157

ومن الواضح: أنه في هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرينة سالبة
بانتفاء الموضوع، لأ أنه لا احتمال لوجودها حتى نحتاج إلى نفيها بالأصل.
فلا موقع إذا في هذه الصورة للقول برجوع أصالة الظهور إلى هذا الأصل،
ولا للقول برجوعه إلى أصالة الظهور.
الثانية: أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرينة
خفيت علينا، فإنه في هذه الصورة يكون موقع لتوهم جريان أصالة عدم
القرينة. ولكن في الحقيقة أن معنى بناء العقلاء على أصالة الظهور - كما
تقدم - أنهم يعتبرون الظهور حجة كالنص بإلغاء احتمال الخلاف، أي
احتمال كان. ومن جملة الاحتمالات التي تلغى إن وجدت احتمال نصب
القرينة. وحكمه حكم احتمال الغفلة ونحوها من جهة أنه احتمال ملغى
ومنفي لدى العقلاء.
وعليه، فالمنفي عند العقلاء هو الاحتمال، لا أن المنفي وجود القرينة
الواقعية، لأن القرينة الواقعية غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء ولا
تضر في الظهور حتى يحتاج إلى نفيها بالأصل. بينما أن معنى أصالة عدم
القرينة - لو كانت - البناء على نفي وجود القرينة، لا البناء على نفي
احتمالها، والبناء على نفي الاحتمال هو معنى البناء على أصالة الظهور
ليس شيئا آخر.
وإذا اتضح ذلك يكون واضحا لدينا أنه ليس للعقلاء في هذه الصورة
الثانية أيضا أصل يقال له: " أصالة عدم القرينة " حتى يقال برجوعه إلى
أصالة الظهور أو برجوعها إليه سالبة بانتفاء الموضوع.
والخلاصة: أنه ليس لدى العقلاء إلا أصل واحد، هو " أصالة الظهور "
وليس لهم إلا بناء واحد، وهو البناء على إلغاء كل احتمال ينافي الظهور
من نحو احتمال الغفلة، أو الخطأ، أو تعمد الإيهام، أو نصب القرينة على
158

الخلاف أو غير ذلك. فكل هذه الاحتمالات - إن وجدت - ملغية في نظر
العقلاء. وليس معنى إلغائها إلا اعتبار الظهور حجة كأنه نص لا احتمال
معه بالخلاف، لا أنه هناك لدى العقلاء أصول متعددة وبناءات مترتبة
مترابطة - كما ربما يتوهم - حتى يكون بعضها متقدما على بعض، أو
بعضها يساند بعضا.
نعم، لا بأس بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بأصالة عدم الغفلة من باب
المسامحة، وكذلك تسمية إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها... وهكذا في
كل تلك الاحتمالات. ولكن ليس ذلك إلا تعبيرا آخر عن أصالة الظهور.
ولعل من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة أو بالعكس
أراد هذا المعنى من أصالة عدم القرينة. وحينئذ لو كان هذا مرادهم لكان
كل من القولين صحيحا ولكان مآلهما واحدا، فلا خلاف.
4 - حجية الظهور بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام:
ذهب المحقق القمي في قوانينه إلى عدم حجية الظهور بالنسبة إلى من
لم يقصد إفهامه بالكلام، ومثل لغير المقصودين بالإفهام بأهل زماننا
وأمثالهم الذين لم يشافهوا بالكتاب العزيز وبالسنة، نظرا إلى أن الكتاب
العزيز ليست خطاباته موجهة لغير المشافهين، وليس هو من قبيل تأليفات
المصنفين التي يقصد بها إفهام كل قارئ لها. وأما السنة فبالنسبة إلى
الأخبار الصادرة عن المعصومين في مقام الجواب عن سؤال السائلين
لا يقصد منها إلا إفهام السائلين دون سواهم (1).
أقول: إن هذا القول لا يستقيم، وقد ناقشه كل من جاء بعده من
المحققين. وخلاصة ما ينبغي مناقشته به أن يقال: إن هذا كلام مجمل غير

(1) القوانين المحكمة: ج 1 ص 398 و ج 2 ص 103.
159

واضح، فما الغرض من نفي حجية الظهور بالنسبة إلى غير المقصود إفهامه؟
1 - إن كان الغرض أن الكلام لا ظهور ذاتي له بالنسبة إلى هذا
الشخص، فهو أمر يكذبه الوجدان.
2 - وإن كان الغرض - كما قيل في توجيه كلامه (1) - دعوى أنه ليس
للعقلاء بناء على إلغاء احتمال القرينة في الظواهر بالنسبة إلى غير المقصود
بالإفهام، فهي دعوى بلا دليل، بل المعروف في بناء العقلاء عكس ذلك.
قال الشيخ الأعظم في مقام رده: إنه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي
وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد (2).
3 - وإن كان الغرض - كما قيل في توجيه كلامه أيضا (3) - أنه لما
كان من الجائز عقلا أن يعتمد المتكلم الحكيم على قرينة غير معهودة ولا
معروفة إلا لدى من قصد إفهامه، فهو احتمال لا ينفيه العقل، لأ أنه لا يقبح
من الحكيم ولا يلزم نقض غرضه إذا نصب قرينة تخفى على غير
المقصودين بالإفهام. ومثل هذه القرينة الخفية على تقدير وجودها
لا يتوقع من غير المقصود بالإفهام أن يعثر عليها بعد الفحص.
فهو كلام صحيح في نفسه، إلا أنه غير مرتبط بما نحن فيه، أي
لا يضر بحجية الظهور ببناء العقلاء.
وتوضيح ذلك: أن الذي يقوم حجية الظهور هو نفي احتمال القرينة
ببناء العقلاء، لا نفي احتمالها بحكم العقل، ولا ملازمة بينهما، أي أنه إذا
كان احتمال القرينة لا ينفيه العقل فلا يلزم منه عدم نفيه ببناء العقلاء النافع
في حجية الظهور. بل الأمر أكثر من أن يقال: إنه لا ملازمة بينهما، فإن

(1) انظر فرائد الأصول: ج 1 ص 67.
(2) فرائد الأصول: ج 1 ص 69.
(3) انظر فرائد الأصول: ج 1 ص 68.
160

الظهور لا يكون ظهورا إلا إذا كان هناك احتمال للقرينة غير منفي بحكم
العقل، وإلا لو كان احتمالها منفيا بحكم العقل كان الكلام نصا لا ظاهرا.
وعلى نحو العموم نقول: لا يكون الكلام ظاهرا ليس بنص قطعي في
المقصود إلا إذا كان مقترنا باحتمال عقلي أو احتمالات عقلية
غير مستحيلة التحقق، مثل احتمال خطأ المتكلم، أو غفلته، أو تعمده
للإيهام لحكمة، أو نصبه لقرينة تخفى على الغير أو لا تخفى. ثم لا يكون
الظاهر حجة إلا إذا كان البناء العملي من العقلاء على إلغاء مثل هذه
الاحتمالات، أي عدم الاعتناء بها في مقام العمل بالظاهر.
وعليه، فالنفي الإدعائي العملي للاحتمالات هو المقوم لحجية الظهور،
لا نفي الاحتمالات عقلا من جهة استحالة تحقق المحتمل، فإنه إذا كانت
الاحتمالات مستحيلة التحقق لا تكون محتملات ويكون الكلام حينئذ
نصا لا نحتاج في الأخذ به إلى فرض بناء العقلاء على إلغاء الاحتمالات.
وإذا اتضح ذلك نستطيع أن نعرف أن هذا التوجيه المذكور للقول
بالتفصيل في حجية الظهور لا وجه له، فإنه أكثر ما يثبت به أن نصب القرينة
الخفية بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه أمر محتمل غير مستحيل التحقق،
لأ أنه لا يقبح من الحكيم أن يصنع مثل ذلك، فالقرينة محتملة عقلا.
ولكن هذا لا يمنع من أن يكون البناء العملي من العقلاء على إلغاء مثل
هذا الاحتمال، سواء أمكن أن يعثر على هذه القرينة بعد الفحص - لو
كانت - أم لا يمكن.
4 - ثم على تقدير تسليم الفرق في حجية الظهور بين المقصود
بالإفهام وبين غيره، فالشأن كل الشأن في انطباق ذلك على واقعنا بالنسبة
إلى الكتاب العزيز والسنة:
161

أما الكتاب العزيز: فإنه من المعلوم لنا أن التكاليف التي يتضمنها عامة
لجميع المكلفين ولا اختصاص لها بالمشافهين، وبمقتضى عمومها يجب
ألا تقترن بقرائن تخفى على غير المشافهين. بل لا شك في أن المشافهين
ليسوا وحدهم المقصودين بالإفهام بخطابات القرآن الكريم.
وأما السنة: فإن الأحاديث الحاكية لها - على الأكثر - تتضمن تكاليف
عامة لجميع المكلفين أو المقصود بها إفهام الجميع حتى غير المشافهين،
وقلما يقصد بها إفهام خصوص المشافهين في بعض الجوابات على أسئلة
خاصة. وإذا قصد ذلك فإن التكليف فيها لابد أن يعم غير السائل بقاعدة
الاشتراك. ومقتضى الأمانة في النقل وعدم الخيانة من الراوي - المفروض
فيه ذلك - أن ينبه على كل قرينة دخيلة في الظهور، ومع عدم بيانها منه
يحكم بعدمها.
5 - حجية ظواهر الكتاب:
نسب إلى جماعة من الأخباريين القول بعدم حجية ظواهر الكتاب
العزيز، وأكدوا: أنه لا يجوز العمل بها من دون أن يرد بيان وتفسير لها من
طريق آل البيت (عليهم السلام) (1).
أقول: إن القائلين بحجية ظواهر الكتاب:
1 - لا يقصدون حجية كل ما في الكتاب، وفيه آيات محكمات
واخر متشابهات. بل المتشابهات لا يجوز تفسيرها بالرأي. ولكن التمييز
بين المحكم والمتشابه ليس بالأمر العسير على الباحث المتدبر إذا كان
هذا ما يمنع من الأخذ بالظواهر التي هي من نوع المحكم.

(1) المنسوب إليهم: الأمين الأسترابادي والسيد الجزائري، والمحدث البحراني، إن شئت
التحقيق في المقام راجع الدرر النجفية: ص 169.
162

2 - لا يقصدون أيضا بالعمل بالمحكم من آياته جواز التسرع بالعمل
به من دون فحص كامل عن كل ما يصلح لصرفه عن الظهور في الكتاب
والسنة من نحو الناسخ والمخصص والمقيد وقرينة المجاز...
3 - لا يقصدون أيضا أنه يصح لكل أحد أن يأخذ بظواهره وإن لم
تكن له سابقة معرفة وعلم ودراسة لكل ما يتعلق بمضمون آياته. فالعامي
وشبه العامي ليس له أن يدعي فهم ظواهر الكتاب والأخذ بها.
وهذا أمر لا اختصاص له بالقرآن الكريم، بل هذا شأن كل كلام
يتضمن المعارف العالية والأمور العلمية وهو يتوخى الدقة في التعبير.
ألا ترى أن لكل علم أهلا يرجع إليهم في فهم مقاصد كتب ذلك العلم، وأن
له أصحابا يؤخذ منهم آراء ما فيه من مؤلفات. مع أن هذه الكتب
والمؤلفات لها ظواهر تجري على قوانين الكلام وأصول اللغة، وسنن أهل
المحاورة هي حجة على المخاطبين بها وهي حجة على مؤلفيها، ولكن
لا يكفي للعامي ان يرجع إليها ليكون عالما بها يحتج بها أو يحتج بها
عليه بغير تلمذة على أحد أهلها، ولو فعل ذلك هل تراه لا يؤنب على ذلك
ولا يلام (1). وكل ذلك لا يسقط ظواهرها عن كونها حجة في نفسها،
ولا يخرجها عن كونها ظواهر يصح الاحتجاج بها.
وعلى هذا، فالقرآن الكريم إذ نقول: إنه حجة على العباد، فليس معنى
ذلك أن ظواهره كلها هي حجة بالنسبة إلى كل أحد حتى بالنسبة إلى من
لم يتنور بنور (2) العلم والمعرفة.
وحينئذ نقول لمن ينكر حجية ظواهر الكتاب: ماذا تعني من هذا الإنكار؟

(1) في ط الأولى زيادة: على تطفله.
(2) في ط 2: من لم يتزود بشئ من العلم والمعرفة.
163

1 - إن كنت تعني هذا المعنى الذي تقدم ذكره - وهو عدم جواز التسرع
بالأخذ بها من دون فحص عما يصلح لصرفها عن ظواهرها وعدم جواز
التسرع بالأخذ بها من كل أحد - فهو كلام صحيح. وهو أمر طبيعي في
كل كلام عال رفيع وفي كل مؤلف في المعارف العالية. ولكن قلنا: إنه
ليس معنى ذلك أن ظواهره مطلقا ليست بحجة بالنسبة إلى كل أحد.
2 - وإن كنت تعني الجمود على خصوص ما ورد من آل البيت (عليهم السلام)
على وجه لا يجوز التعرض لظواهر القرآن والأخذ بها مطلقا فيما لم يرد
فيه بيان من قبلهم - حتى بالنسبة إلى من يستطيع فهمه من العارفين
بمواقع الكلام وأساليبه ومقتضيات الأحوال، مع الفحص عن كل ما يصلح
للقرينة أو ما يصلح لنسخه - فإنه أمر لا يثبته ما ذكروه له من أدلة.
كيف! وقد ورد عنهم (عليهم السلام) إرجاع الناس إلى القرآن الكريم، مثل ما
ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضة عليه (1) بل ورد عنهم ما هو
أعظم من ذلك وهو عرض كل ما ورد عنهم على القرآن الكريم (2) كما
ورد عنهم الأمر برد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود (3)
ووردت عنهم أخبار خاصة دالة على جواز التمسك بظواهره نحو
قوله (عليه السلام) لزرارة لما قال له: " من أين علمت أن المسح ببعض الرأس؟ "
فقال (عليه السلام): " لمكان الباء " (4) ويقصد الباء من قوله تعالى: * (وامسحوا
برؤوسكم) * (5). فعرف زرارة كيف يستفيد الحكم من ظاهر الكتاب.

(1) الوسائل: ج 18 ص 76، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
(2) المصدر السابق: ص 78 ح 12 و 14.
(3) الوسائل: ج 12 ص 352، الباب 6 من أبواب الخيار.
(4) الوسائل: ج 2 ص 980، الباب 13 من أبواب التيمم، ح 1.
(5) المائدة: 6.
164

ثم إذا كان يجب الجمود على ما ورد من أخبار بيت العصمة، فإن
معنى ذلك هو الأخذ بظواهر أقوالهم لا بظواهر الكتاب. وحينئذ ننقل
الكلام إلى نفس أخبارهم حتى فيما يتعلق منها بتفسير الكتاب، فنقول:
هل يكفي لكل أحد أن يرجع إلى ظواهرها من دون تدبر وبصيرة ومعرفة،
ومن دون فحص عن القرائن واطلاع على كل ماله دخل في مضامينها؟
بل هذه الأخبار لا تقل من هذه الجهة عن ظواهر الكتاب، بل الأمر
فيها أعظم لأن سندها يحتاج إلى تصحيح وتنقيح وفحص، ولأن جملة
منها منقول بالمعنى، وما ينقل بالمعنى لا يحرز فيه نص ألفاظ المعصوم
وتعبيره ولا مراداته، ولا يحرز في أكثرها أن النقل كان لنص الألفاظ.
وأما ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي:
مثل النبوي المشهور: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من
النار " (1) فالجواب عنه أن التفسير غير الأخذ بالظاهر، والأخذ بالظاهر
لا يسمى تفسيرا. على أن مقتضى الجمع بينها وبين تلك الأخبار المجوزة
للأخذ بالكتاب والرجوع إليه حمل " التفسير بالرأي " - إذا سلمنا أنه
يشمل الأخذ بالظاهر - على معنى التسرع بالأخذ به بالاجتهادات
الشخصية من دون فحص ومن دون سابق معرفة وتأمل ودربة (2) كما
يعطيه التعليل في بعضها بأن فيه ناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا.
مع أنه في الكتاب العزيز من المقاصد العالية ما لا ينالها إلا أهل
الذكر، وفيه ما يقصر عن الوصول إلى إدراكه أكثر الناس. ولا يزال
تنكشف له من الأسرار ما كان خافيا على المفسرين كلما تقدمت العلوم
والمعارف مما يوجب الدهشة ويحقق إعجازه من هذه الناحية.

(1) عوالي اللآلي: ج 4 ص 104 ح 154.
(2) في ط 2: دراسة.
165

والتحقيق أن في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف
ظهورا وخفاء، وليست ظواهره من هذه الناحية على نسق واحد بالنسبة
إلى أكثر الناس. وكذلك كل كلام، ولا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهرا
يصلح للاحتجاج به عند أهله، بل قد تكون الآية الواحدة لها ظهور من
جهة لا يخفى على كل أحد، وظهور آخر يحتاج إلى تأمل وبصيرة فيخفى
على كثير من الناس.
ولنضرب لذلك مثلا، قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) *، فإن هذه
الآية الكريمة ظاهرة في أن الله تعالى قد أنعم على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
بإعطائه " الكوثر " وهذا الظهور بهذا المقدار لاشك فيه لكل أحد. ولكن
ليس كل الناس فهموا المراد من " الكوثر " فقيل: المراد به نهر في الجنة،
وقيل: المراد القرآن والنبوة، وقيل: المراد به ابنته فاطمة (عليها السلام) (1). وقيل
غير ذلك. ولكن من يدقق في السورة يجد أن فيها قرينة على المراد منه،
وهي الآية التي بعدها * (إن شانئك هو الأبتر) * والأبتر: الذي لا عقب له،
فإنه بمقتضى المقابلة يفهم منها أن المراد الإنعام عليه بكثرة العقب
والذرية. وكلمة " الكوثر " لا تأبى عن ذلك، فإن " فوعل " تأتي للمبالغة،
فيراد بها المبالغة في الكثرة، والكثرة: نماء العدد. فيكون المعنى: إنا
أعطيناك الكثير من الذرية والنسل. وبعد هذه المقارنة ووضوح معنى
" الكوثر " يكون للآية ظهور يصح الاحتجاج به، ولكنه ظهور بعد التأمل
والتبصر. وحينئذ ينكشف صحة تفسير كلمة " الكوثر " بفاطمة لانحصار
ذريته الكثيرة من طريقها، لا على أن تكون الكلمة من أسمائها.

(1) راجع تفسير الطبري: ج 30 ص 175 (ط بولاق) وخصوصا ما بهامشه من تفسير غرائب
القرآن للنيسابوري، وسائر التفاسير من الفريقين.
166

الباب السادس:
الشهرة
167

إن " الشهرة " لغة تتضمن معنى ذيوع الشئ ووضوحه. ومنه قولهم:
" شهر فلان سيفه " و " سيف مشهور ".
وقد أطلقت " الشهرة " باصطلاح أهل الحديث على كل خبر كثر راويه
على وجه لا يبلغ حد التواتر. والخبر يقال له حينئذ: " المشهور " كما قد
يقال له: " مستفيض ".
وكذلك يطلقون " الشهرة " باصطلاح الفقهاء على ما لا يبلغ درجة
الإجماع من الأقوال في المسألة الفقهية. فهي عندهم لكل قول كثر القائل
به في مقابل القول النادر. والقول يقال له: " مشهور " كما أن المفتين
الكثيرين أنفسهم يقال لهم: " المشهور " فيقولون: ذهب المشهور إلى كذا،
وقال المشهور بكذا... وهكذا.
وعلى هذا، فالشهرة في الاصطلاح على قسمين:
1 - الشهرة في الرواية: وهي كما تقدم عبارة عن شيوع نقل الخبر
من عدة رواة على وجه لا يبلغ حد التواتر. ولا يشترط في تسميتها
بالشهرة أن يشتهر العمل بالخبر عند الفقهاء أيضا، فقد يشتهر وقد لا
يشتهر. وسيأتي في مبحث التعادل والتراجيح: أن هذه الشهرة من أسباب
ترجيح الخبر على ما يعارضه من الأخبار، فيكون الخبر المشهور حجة
من هذه الجهة.
168

2 - الشهرة في الفتوى: وهي كما تقدم عبارة عن شيوع الفتوى عند
الفقهاء بحكم شرعي، وذلك بأن يكثر المفتون على وجه لا تبلغ الشهرة
درجة الاجماع الموجب للقطع بقول المعصوم.
فالمقصود بالشهرة إذا ذيوع الفتوى الموجبة للاعتقاد بمطابقتها للواقع
من غير أن يبلغ درجة القطع.
وهذه الشهرة في الفتوى على قسمين من جهة وقوع البحث عنها
والنزاع فيها:
الأول: أن يعلم فيها أن مستندها خبر خاص موجود بين أيدينا. وتسمى
حينئذ " الشهرة العملية ". وسيأتي في باب التعادل والتراجيح البحث عما
إذا كانت هذه الشهرة العملية موجبة لجبر الخبر الضعيف من جهة السند،
والبحث أيضا عما إذا كانت موجبة لجبر الخبر غير الظاهر من جهة الدلالة.
الثاني: ألا يعلم فيها أن مستندها أي شئ هو، فتكون شهرة في
الفتوى مجردة، سواء كان هناك خبر على طبق الشهرة ولكن لم يستند
إليها المشهور أو لم يعلم استنادهم إليه، أم لم يكن خبر أصلا. وينبغي أن
تسمى هذه ب‍ " الشهرة الفتوائية ".
وهي - أعني الشهرة الفتوائية - موضوع بحثنا هنا الذي لأجله عقدنا
هذا الباب، فقد قيل (1): إن هذه الشهرة حجة على الحكم الذي وقعت عليه
الفتوى من جهة كونها شهرة فتكون من الظنون الخاصة كخبر الواحد.
وقيل: لا دليل على حجيتها (2). وهذا الاختلاف بعد الاتفاق على أن فتوى

نسب إلى الشهيد الأول ترجيحه هذا القول ونقله عن بعض الأصحاب من دون أن يذكر
اسمه، ونسب أيضا إلى المحقق الخوانساري اختيار هذا القول، وعزي كذلك إلى صاحب
المعالم. ولكن الشهرة على خلافهم.
(2) قال المحقق الآشتياني: ذهب إليه الأكثر، بل نقلت الشهرة عليه من عدم حجيتها بالخصوص،
بحر الفوائد: ص 140. وقد أفرد المحقق النراقي رسالة في المسألة، واستدل على عدم
حجية الشهرة بأنه يلزم من إثباتها نفيها، فإن المشهور عدم حجية الشهرة، المصدر السابق.
169

مجتهد واحد أو أكثر ما لم تبلغ الشهرة لا تكون حجة على مجتهد آخر
ولا يجوز التعويل عليها. وهذا معنى ما ذهبوا إليه من عدم جواز التقليد،
أي بالنسبة إلى من يتمكن من الاستنباط.
والحق أنه لا دليل على حجية الظن الناشئ من الشهرة، مهما بلغ من
القوة، وإن كان من المسلم به أن الخبر الذي عمل به المشهور حجة ولو
كان ضعيفا من ناحية السند، كما سيأتي بيانه في محله. وقد ذكروا لحجية
الشهرة جملة من الأدلة، كلها مردودة:
الدليل الأول
أولويتها من خبر العادل
قيل: إن أدلة حجية خبر الواحد تدل على حجية الشهرة بمفهوم
الموافقة، نظرا إلى أن الظن الحاصل من الشهرة أقوى غالبا من الظن الحاصل
من خبر الواحد حتى العادل، فالشهرة أولى بالحجية من خبر العادل (1).
والجواب: أن هذا المفهوم إنما يتم إذا أحرزنا على نحو اليقين أن العلة
في حجية خبر العادل هو إفادته الظن ليكون ما هو أقوى ظنا أولى
بالحجية. ولكن هذا غير ثابت في وجه حجية خبر الواحد إذا لم يكن
الثابت عدم اعتبار الظن الفعلي.
الدليل الثاني
عموم تعليل آية النبأ
وقيل: إن عموم التعليل في آية النبأ * (أن تصيبوا قوما بجهالة) * يدل

(1) نسبه الشيخ الأعظم الأنصاري إلى بعض تخيله في بعض رسائله، فرائد الأصول: ج 1 ص 105.
170

على اعتبار مثل الشهرة، لأن الذي يفهم من التعليل أن الإصابة من الجهالة
هي المانع من قبول خبر الفاسق بلا تبين، فيدل على أن كل ما يؤمن معه
من الإصابة بجهالة فهو حجة يجب الأخذ به. والشهرة كذلك (1).
والجواب: أن هذا ليس تمسكا بعموم التعليل - على تقدير تسليم أن
هذه الفقرة من الآية واردة مورد التعليل وقد تقدم بيان ذلك في أدلة حجية
خبر الواحد - بل هذا الاستدلال تمسك بعموم نقيض التعليل. ولا دلالة
في الآية على نقيض التعليل بالضرورة، لأن هذه الآية نظير قول الطبيب:
لا تأكل الرمان (2) لأ أنه حامض - مثلا - فإن هذا التعليل لا يدل على أن
كل ما هو ليس بحامض يجوز أو يجب أكله. وكذلك هنا، فإن " حرمة
العمل بنبأ الفاسق بدون تبين لأ أنه يستلزم الإصابة بجهالة " لا تدل على
وجوب الأخذ بكل ما يؤمن فيه ذلك وما لا يستلزم الإصابة بجهالة.
وأما دلالتها على خصوص حجية خبر الواحد العادل فقد استفدناه
من طريق آخر، وهو طريق مفهوم الشرط - على ما تقدم شرحه - لا من
طريق عموم نقيض التعليل.
وبعبارة أخرى: أن أكثر ما تدل الآية في تعليلها على (3) أن الإصابة
بجهالة مانع عن تأثير المقتضي لحجية الخبر، ولا تدل على وجود
المقتضي للحجية في كل شئ آخر حيث لا يوجد فيه المانع، حتى تكون
دالة على حجية مثل الشهرة المفقود فيها المانع. أو نقول: إن فقدان المانع
عن الحجية في مثل الشهرة لا يستلزم وجود المقتضى فيها للحجية.
ولا تدل الآية على أن كل ما ليس فيه مانع ففيه المقتضي موجود.

(1) ذكره المحقق النائيني - على ما في تقريرات درسه - من وجوه الاستدلال على حجية
الشهرة من دون أن يسنده إلى شخص، راجع فوائد الأصول: ج 3 ص 155.
(2) في ط 2: نظير نهي الطبيب عن بعض الطعام.
(3) كذا، والمناسب في العبارة: أن أكثر ما تدل عليه الآية في تعليلها أن الإصابة.
171

الدليل الثالث
دلالة بعض الأخبار
قيل: إن بعض الأخبار دالة على اعتبار الشهرة، مثل مرفوعة زرارة:
قال زرارة، قلت: جعلت فداك! يأتي عنكم الخبران والحديثان
المتعارضان، فبأيهما نعمل؟ قال (عليه السلام): خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع
الشاذ النادر.
قلت: يا سيدي هما معا مشهوران مأثوران عنكم. قال: خذ بما يقوله
أعدلهما... إلى آخر الخبر.
والاستدلال بهذه المرفوعة من وجهتين:
الأول: أن المراد من الموصول في قوله: " بما اشتهر " مطلق المشهور
بما هو مشهور، لا خصوص " الخبر " فيعم المشهور بالفتوى، لأن
الموصول من الأسماء المبهمة التي تحتاج إلى ما يعين مدلولها، والمعين
لمدلول الموصول هي الصلة، وهنا هي قوله: " اشتهر " تشمل كل شئ
اشتهر حتى الفتوى.
الثاني: أنه على تقدير أن يراد من الموصول خصوص " الخبر " فإن
المفهوم من المرفوعة إناطة الحكم بالشهرة، فتدل على أن الشهرة بما هي
شهرة توجب اعتبار المشتهر، فيدور الحكم معها حيثما دارت، فالفتوى
المشتهرة أيضا معتبرة كالخبر المشهور.
والجواب:
أما عن الوجه الأول: فبأن الموصول كما يتعين المراد منه بالصلة،
كذلك يتعين بالقرائن الأخرى المحفوفة به. والذي يعينه هنا السؤال
المتقدم عليه، إذ السؤال وقع عن نفس الخبر، والجواب لابد أن يطابق
172

السؤال. وهذا نظير ما لو سئلت: أي إخوتك أحب إليك؟ فأجبت: من كان
أكبر مني، فإنه لا ينبغي أن يتوهم أحد أن الحكم في هذا الجواب يعم كل
من كان أكبر منك ولو كان من غير إخوتك.
وأما عن الوجه الثاني، فبأنه بعد وضوح إرادة " الخبر " من الموصول
يكون الظاهر من الجملة تعليق الحكم على الشهرة في خصوص الخبر،
فيكون المناط في الحكم شهرة الخبر بما أنها شهرة الخبر، لا الشهرة بما
هي وإن كانت منسوبة لشئ آخر.
وكذلك يقاس الحال في مقبولة " ابن حنظلة " الآتية في باب التعادل
والتراجيح.
تنبيه:
من المعروف عن المحققين من علمائنا: أنهم لا يجرأون على مخالفة
المشهور إلا مع دليل قوي ومستند جلي يصرفهم عن المشهور. بل ما زالوا
يحرصون على موافقة المشهور وتحصيل دليل يوافقه ولو كان الدال على
غيره أولى بالأخذ وأقوى في نفسه. وما ذلك من جهة التقليد للأكثر ولا
من جهة قولهم بحجية الشهرة. وإنما منشأ ذلك إكبار المشهور من آراء
العلماء لا سيما إذا كانوا من أهل التحقيق والنظر.
وهذه طريقة جارية في سائر الفنون، فإن مخالفة أكثر المحققين في كل
صناعة لا تسهل إلا مع حجة واضحة وباعث قوي، لأن المنصف قد يشك
في صحة رأيه مقابل المشهور، فيجوز على نفسه الخطأ ويخشى أن يكون
رأيه عن جهل مركب لا سيما إذا كان قول المشهور هو الموافق للاحتياط.
* * *
173

الباب السابع:
السيرة
175

المقصود من " السيرة " - كما هو واضح - استمرار عادة الناس
وتبانيهم العملي على فعل شئ، أو ترك شئ.
والمقصود بالناس:
إما جميع العقلاء والعرف العام من كل ملة ونحلة، فيعم المسلمين
وغيرهم. وتسمى السيرة حينئذ " السيرة العقلائية ". والتعبير الشايع عند
الأصوليين المتأخرين تسميتها ب‍ " بناء العقلاء ".
وإما جميع المسلمين بما هم مسلمون، أو خصوص أهل نحلة خاصة
منهم كالإمامية مثلا. وتسمى السيرة حينئذ " سيرة المتشرعة " أو " السيرة
الشرعية " أو " السيرة الإسلامية ".
وينبغي التنبيه على حجية كل من هذين القسمين لاستكشاف الحكم
الشرعي فيما جرت عليه السيرة وعلى مدى دلالة السيرة، فنقول:
- 1 -
حجية بناء العقلاء
لقد تكلمنا أكثر من مرة فيما سبق من هذا الجزء عن " بناء العقلاء "
واستدللنا به على حجية خبر الواحد وحجية الظواهر. وقد أشبعنا
الموضوع بحثا في مسألة " حجية قول اللغوي " ص 147 من هذا الجزء.
176

وهناك قلنا: إن بناء العقلاء لا يكون دليلا إلا إذا كان يستكشف منه
على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقة العقلاء، لأن اليقين تنتهي
إليه حجية كل حجة.
وقلنا هناك: إن موافقة الشارع لا تستكشف على نحو اليقين إلا بأحد
شروط ثلاثة. ونذكر خلاصتها هنا بأسلوب آخر من البيان، فنقول:
إن السيرة إما أن ينتظر فيها أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء
إذ لا مانع من ذلك. وإما ألا ينتظر ذلك، لوجود مانع من اتحاده معهم في
المسلك، كما في الاستصحاب.
فإن كان الأول:
فإن ثبت من الشارع الردع عن العمل بها فلا حجية فيها قطعا.
وإن لم يثبت الردع منه فلابد أن يعلم اتحاده في المسلك معهم، لأ أنه
أحد العقلاء، بل رئيسهم، فلو لم يرتضها ولم يتخذها مسلكا له كسائر
العقلاء لبين ذلك ولردعهم عنها ولذكر لهم مسلكه الذي يتخذه بدلا عنها،
لا سيما في الأمارات المعمول بها عند العقلاء، كخبر الواحد الثقة والظواهر.
وإن كان الثاني:
فإما أن يعلم جريان سيرة العقلاء في العمل بها في الأمور الشرعية،
كما في الاستصحاب. وإما ألا يعلم ذلك، كما في الرجوع إلى أهل الخبرة
في إثبات اللغات.
فإن كان الأول، فنفس عدم ثبوت ردعه كاف في استكشاف موافقته
لهم، لأن ذلك مما يعنيه ويهمه، فلو لم يرتضها - وهي بمرأى ومسمع منه -
لردعهم عنها ولبلغهم بالردع بأي نحو من أنحاء التبليغ، فبمجرد عدم
ثبوت الردع منه نعلم بموافقته، ضرورة أن الردع الواقعي غير الواصل
لا يعقل أن يكون ردعا فعليا وحجة.
177

وبهذا نثبت حجية مثل الاستصحاب ببناء العقلاء، لأ أنه لما كان مما
بنى على العمل به العقلاء بما فيهم المسلمون وقد أجروه في الأمور
الشرعية بمرأى ومسمع من الإمام، والمفروض أنه لم يكن هناك ما يحول
دون إظهار الردع وتبليغه - من تقية ونحوها - فلابد أن يكون الشارع قد
ارتضاه طريقة في الأمور الشرعية.
وإن كان الثاني - أي لم يعلم ثبوت السيرة في الأمور الشرعية - فإنه
لا يكفي حينئذ في استكشاف موافقة الشارع عدم ثبوت الردع منه، إذ
لعله ردعهم عن إجرائها في الأمور الشرعية فلم يجروها، أو لعلهم لم
يجروها في الأمور الشرعية من عند أنفسهم فلم يكن من وظيفة الشارع
أن يردع عنها في غير الأمور الشرعية لو كان لا يرتضيها في الشرعيات.
وعليه، فلأجل استكشاف رضا الشارع وموافقته على إجرائها في
الشرعيات لابد من إقامة دليل خاص قطعي على ذلك.
وبعض السير من هذا القبيل قد ثبت عن الشارع إمضاؤه لها، مثل
الرجوع إلى أهل الخبرة عند النزاع في تقدير قيم الأشياء ومقاديرها، نظير
القيميات المضمونة بالتلف ونحوه، وتقدير قدر الكفاية في نفقة الأقارب،
ونحو ذلك.
أما ما لم يثبت فيها دليل خاص كالسيرة في الرجوع إلى أهل الخبرة
في اللغات، فلا عبرة بها وإن حصل الظن منها، لأن الظن لا يغنى عن الحق
شيئا، كما تقدم ذلك هناك.
- 2 -
حجية سيرة المتشرعة
إن السيرة عند المتشرعة من المسلمين على فعل شئ أو تركه هي
178

في الحقيقة من نوع الإجماع، بل هي أرقى أنواع الإجماع، لأ نهى إجماع
عملي من العلماء وغيرهم، والإجماع في الفتوى إجماع قولي ومن العلماء
خاصة.
والسيرة على نحوين: تارة يعلم فيها أنها كانت جارية في عصور
المعصومين (عليهم السلام) حتى يكون المعصوم أحد العاملين بها أو يكون مقررا
لها. واخرى لا يعلم ذلك أو يعلم حدوثها بعد عصورهم.
فإن كانت على النحو الأول: فلا شك في أنها حجة قطعية على
موافقة الشارع، فتكون بنفسها دليلا على الحكم كالإجماع القولي
الموجب للحدس القطعي برأي المعصوم. وبهذا تختلف (1) عن " سيرة
العقلاء " فإنها إنما تكون حجة إذا ثبت من دليل آخر إمضاء الشارع لها
ولو من طريق عدم ثبوت الردع من قبله، كما سبق.
وإن كانت على النحو الثاني: فلا نجد مجالا للاعتماد عليها في
استكشاف موافقة المعصوم على نحو القطع واليقين، كما قلنا في الإجماع،
وهي نوع منه. بل هي دون الإجماع القولي في ذلك، كما سيأتي وجهه.
قال الشيخ الأعظم في كتاب البيع في مبحث المعاطاة: وأما ثبوت
السيرة واستمرارها على التوريث (يقصد توريث ما يباع معاطاة) فهي
كسائر سيراتهم الناشئة من المسامحة وقلة المبالاة في الدين مما لا
يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم، كما لا يخفى (2).
ومن الواضح أنه يعني من السيرة هذا النحو الثاني. والسر في عدم
الاعتماد على هذا النحو من السيرة هو ما نعرف من أسلوب نشأة العادات
عند البشر وتأثير العادات على عواطف الناس:

راجع حاشية شيخنا الإصفهاني على مكاسب الشيخ ص 25 [ج 1 ص 104، ط الحديثة].
(2) المكاسب: ج 3 ص 42 (ط - مجمع الفكر الإسلامي).
179

إن بعض الناس المتنفذين أو المغامرين قد يعمل شيئا استجابة لعادة
غير إسلامية، أو لهوى في نفسه، أو لتأثيرات خارجية نحو تقليد الأغيار،
أو لبواعث انفعالات نفسية مثل حب التفوق على الخصوم، أو إظهار
عظمة شخصه أو دينه أو نحو ذلك.
ويأتي آخر فيقلد الأول في عمله، ويستمر العمل، فيشيع بين الناس
من دون أن يحصل من يردعهم عن ذلك، لغفلة أو لتسامح أو لخوف أو
لغلبة العاملين فلا يصغون إلى من ينصحهم، أو لغير ذلك.
وإذا مضت على العمل عهود طويلة يتلقاه الجيل بعد الجيل، فيصبح
سيرة المسلمين! وينسى تأريخ تلك العادة. وإذا استقرت السيرة يكون
الخروج عليها خروجا على العادات المستحكمة التي من شأنها أن تتكون
لها قدسية واحترام لدى الجمهور، فيعدون مخالفتها من المنكرات القبيحة.
وحينئذ يتراءى أنها عادة شرعية وسيرة إسلامية، وأن المخالف لها
مخالف لقانون الإسلام وخارج على الشرع!
ويشبه أن يكون من هذا الباب سيرة تقبيل اليد، والقيام احتراما
للقادم، والاحتفاء بيوم النوروز، وزخرفة المساجد والمقابر... وما إلى ذلك
من عادات اجتماعية حادثة.
وكل من يغتر بهذه السيرات وأمثالها، فإنه لم يتوصل إلى ما توصل
إليه الشيخ الأنصاري الأعظم من إدراك سر نشأة العادات عند الناس على
طول الزمن، وأن لكل جيل من العادات في السلوك والاجتماع
والمعاملات والمظاهر والملابس ما قد يختلف كل الاختلاف عن عادات
الجيل الآخر.
هذا بالنسبة إلى شعب واحد وقطر واحد، فضلا عن الشعوب والأقطار
180

بعضها مع بعض. والتبدل في العادات غالبا يحدث بالتدريج في زمن
طويل قد لا يحس به من جرى على أيديهم التبديل.
ولأجل هذا لا نثق في السيرات الموجودة في عصورنا أنها كانت
موجودة في العصور الإسلامية الأولى. ومع الشك في ذلك فأجدر بها
ألا تكون حجة، لأن الشك في حجية الشئ كاف في وهن حجيته،
إذ لا حجة إلا بعلم.
- 3 -
مدى دلالة السيرة
إن السيرة عندما تكون حجة فأقصى ما تقتضيه أن تدل على
مشروعية الفعل وعدم حرمته في صورة السيرة على الفعل، أو تدل على
مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل في صورة السيرة على الترك.
أما استفادة الوجوب من سيرة الفعل والحرمة من سيرة الترك، فأمر لا
تقتضيه نفس السيرة. بل كذلك الاستحباب والكراهة، لأن العمل في حد
ذاته مجمل لا دلالة له على أكثر من مشروعية الفعل أو الترك.
نعم، المداومة والاستمرار على العمل من قبل جميع الناس المتشرعين
قد يستظهر منها استحبابه، لأ أنه يدل ذلك على استحسانه عندهم على
الأقل. ولكن يمكن أن يقال: إن الاستحسان له ربما ينشأ من كونه أصبح
عادة لهم، والعادات من شأنها أن يكون فاعلها ممدوحا مرغوبا فيه لدى
الجمهور وتاركها مذموما عندهم. فلا يوثق - إذا - فيما جرت عليه السيرة
بأن المدح للفاعل والذم للتارك كانا من ناحية شرعية.
والغرض أن السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل
181

ولا استحبابه في سيرة الفعل، ولا يستكشف منها حرمة الفعل ولا كراهته
في سيرة الترك.
نعم، هناك بعض الأمور يكون لازم مشروعيتها وجوبها، وإلا لم تكن
مشروعة. وذلك مثل الأمارة كخبر الواحد والظواهر، فإن السيرة على
العمل بالأمارة لما دلت على مشروعية العمل بها فإن لازمه أن يكون
واجبا، لأ أنه لا يشرع العمل بها ولا يصلح إلا إذا كانت حجة منصوبة من
قبل الشارع لتبليغ الأحكام واستكشافها، وإذا كانت حجة وجب العمل بها
قطعا، لوجوب تحصيل الأحكام وتعلمها. فينتج من ذلك: أنه لا يمكن
فرض مشروعية العمل بالأمارة مع فرض عدم وجوبه.
* * *
182

الباب الثامن:
القياس
183

تمهيد:
إن القياس - على ما سيأتي تحديده وبيان موضع البحث فيه - من
الأمارات التي وقعت فيها معركة الآراء بين الفقهاء.
وعلماء الإمامية - تبعا لآل البيت (عليهم السلام) - أبطلوا العمل به. ومن الفرق
الأخرى أهل الظاهر المعروفين ب‍ " الظاهرية " أصحاب داود بن خلف إمام
أهل الظاهر - وكذلك الحنابلة - لم يكن يقيمون له وزنا (1).
وأول من توسع فيه في القرن الثاني أبو حنيفة - رأس القياسيين - وقد
نشط في عصره وأخذ به الشافعية والمالكية. ولقد بالغ به جماعة فقدموه
على الإجماع، بل غلا آخرون فردوا الأحاديث بالقياس، وربما صار
بعضهم يؤول الآيات بالقياس!.
ومن المعلوم عند آل البيت (عليهم السلام) أنهم لا يجوزون العمل به وقد شاع
عنهم: " إن دين الله لا يصاب بالعقول " (2) و " أن السنة إذا قيست محق
الدين " (3) بل شنوا حربا شعواء لا هوادة فيها على أهل الرأي وقياسهم
ما وجدوا للكلام متسعا. ومناظرات الإمام الصادق (عليه السلام) معهم معروفة،

(1) راجع المستصفى: ج 2 ص 234، والعدة: ج 2 ص 650.
(2) كمال الدين: ص 324 ح 9.
(3) المحاسن: ج 1 ص 339 ح 96.
184

لا سيما مع أبي حنيفة - وقد رواها حتى أهل السنة - إذ قال له فيما رواه
ابن حزم (1): اتق الله! ولا تقس، فإنا نقف غدا بين يدي الله فنقول: " قال الله
وقال رسوله " وتقول أنت وأصحابك: " سمعنا ورأينا ".
والذي يبدو أن المخالفين لآل البيت الذين سلكوا غير طريقهم
ولم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام الله وما
جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتجأوا إلى أن يصطنعوا الرأي والاجتهادات
الاستحسانية للفتيا والقضاء بين الناس، بل حكموا الرأي والاجتهاد
حتى فيما يخالف النص، أو جعلوا ذلك عذرا مبررا لمخالفة النص،
كما في قصة تبرير الخليفة الأول لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك
ابن نويرة، وقد خلا بزوجته ليلة قتله، فقال عنه: " إنه اجتهد فأخطأ "!
وذلك لما أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يقاد به ويقام عليه
الحد (2).
وكان الرأي والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من
الصحابة والتابعين، حتى بدأ البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في
القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه. ثم بعد أن أخذت الدولة
العباسية تساند أهل القياس وبعد ظهور النقاد له، انبرى جماعة من
علمائهم لتحديد معالمه وتوسيع أبحاثه، ووضع القيود والاستدراكات له،
حتى صارفنا قائما بنفسه.
ونحن يهمنا منه البحث عن موضع الخلاف فيه وحجيته، فنقول:

إبطال القياس: ص 71، مطبعة جامعة دمشق 1379.
(2) راجع كتاب " السقيفة " للمؤلف: ص 22، طبعة مؤسسة الأعلمي.
185

- 1 -
تعريف القياس
إن خير التعريفات للقياس - في رأينا (1) - أن يقال: هو " إثبات حكم
في محل بعلة لثبوته في محل آخر بتلك العلة ". والمحل الأول - وهو
المقيس - يسمى " فرعا ". والمحل الثاني - وهو المقيس عليه - يسمى
" أصلا ". والعلة المشتركة تسمى " جامعا ".
وفي الحقيقة أن القياس عملية من المستدل - أي القايس - لغرض
استنتاج حكم شرعي لمحل لم يرد فيه نص بحكمه الشرعي، إذ توجب
هذه العملية عنده الاعتقاد يقينا أو ظنا بحكم الشارع.
والعملية القياسية هي نفس حمل الفرع على الأصل في الحكم الثابت
للأصل شرعا، فيعطي القايس حكما للفرع مثل حكم الأصل، فإن كان
الوجوب أعطى له الوجوب، وإن كان الحرمة فالحرمة... وهكذا.
ومعنى هذا الإعطاء أن يحكم بأن الفرع ينبغي أن يكون محكوما عند
الشارع بمثل حكم الأصل للعلة المشتركة بينهما. وهذا الإعطاء أو الحكم
هو الذي يوجب عنده الاعتقاد بأن للفرع مثل ما للأصل من الحكم عند
الشارع، ويكون هذا الإعطاء أو الحكم أو الإثبات أو الحمل - ما شئت
فعبر - دليلا عنده على حكم الله في الفرع.
وعليه ف‍ " الدليل " هو الإثبات الذي هو نفس عملية الحمل وإعطاء
الحكم للفرع من قبل القايس.
و " نتيجة الدليل " هو الحكم بأن الشارع قد حكم فعلا على هذا الفرع
بمثل حكم الأصل.

(1) في ط الأولى: في رأيي أن خير التعريفات للقياس.
186

فتكون هذه العملية من القايس دليلا على حكم الشارع، لأ نهى توجب
اعتقاده اليقيني أو الظني بأن الشارع له هذا الحكم.
وبهذا التقرير يندفع الاعتراض على مثل هذا التعريف بأن الدليل
- وهو الإثبات - نفسه نتيجة الدليل، بينما أنه يجب أن يكون الدليل
مغايرا للمستدل عليه.
وجه الدفع: أنه اتضح بذلك البيان أن الإثبات في الحقيقة (وهو عملية
الحمل) عمل القايس وحكمه، لا حكم الشارع (وهو الدليل). وأما
" المستدل عليه " فهو حكم الشارع على الفرع. وإنما حصل للقايس هذا
الاستدلال لحصول الاعتقاد له بحكم الشارع من تلك العملية القياسية
التي أجراها.
ومن هنا يظهر: أن هذا التعريف أفضل التعريفات وأبعدها عن
المناقشات.
وأما تعريفه بالمساواة بين الفرع والأصل في العلة أو نحو ذلك، فإنه
تعريف بمورد القياس، وليست المساواة قياسا.
وعلى كل حال، لا يستحق الموضوع الإطالة بعد أن كان المقصود من
القياس واضحا.
- 2 -
أركان القياس
بما تقدم من البيان يتضح أن للقياس أربعة أركان:
1 - " الأصل " وهو المقيس عليه المعلوم ثبوت الحكم له شرعا.
2 - " الفرع " وهو المقيس، المطلوب إثبات الحكم له شرعا.
187

3 - " العلة " وهي الجهة المشتركة بين الأصل والفرع التي اقتضت
ثبوت الحكم. وتسمى " جامعا ".
4 - " الحكم " وهو نوع الحكم الذي ثبت للأصل ويراد إثباته للفرع.
وقد وقعت أبحاث عن كل من هذه الأركان مما لا يهمنا التعرض لها
إلا فيما يتعلق بأصل حجيته وما يرتبط بذلك. وبهذا الكفاية.
- 3 -
حجية القياس
إن حجية كل أمارة تناط بالعلم - وقد سبق بيان ذلك في هذا الجزء
أكثر من مرة - فالقياس - كباقي الأمارات - لا يكون حجة إلا في
صورتين لا ثالث لهما:
1 - أن يكون بنفسه موجبا للعلم بالحكم الشرعي.
2 - أن يقوم دليل قاطع على حجيته إذا لم يكن بنفسه موجبا للعلم،
وحينئذ لابد من بحث موضوع حجية القياس من الناحيتين، فنقول:
1 - هل القياس يوجب العلم؟
إن القياس نوع من " التمثيل " المصطلح عليه في المنطق - راجع
" المنطق " للمؤلف (1) وقلنا هناك: إن التمثيل من الأدلة التي لا تفيد إلا
الاحتمال، لأ أنه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر - بل في عدة أمور - أن
يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيات.
نعم، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع وتعددت يقوى في
النفس الاحتمال حتى يكون ظنا ويقرب من اليقين (والقيافة من هذا
الباب) ولكن كل ذلك لا يغني عن الحق شيئا.

(1) الجزء الثاني ص 316 من طبعتنا الحديثة.
188

غير أنه إذا علمنا - بطريقة من الطرق - أن جهة المشابهة علة تامة
لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع، ثم علمنا أيضا بأن هذه العلة التامة
موجودة بخصوصياتها في الفرع، فإنه لا محالة يحصل لنا - على نحو
اليقين - استنباط أن مثل هذا الحكم ثابت في الفرع كثبوته في الأصل،
لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة. ويكون من القياس المنطقي
البرهاني الذي يفيد اليقين.
ولكن الشأن كل الشأن في حصول الطريق لنا إلى العلم بأن الجامع
علة تامة للحكم الشرعي. وقد سبق ص 134 من هذا الجزء أن ملاكات
الأحكام لا مسرح للعقول أو لا مجال للنظر العقلي فيها، فلا تعلم إلا من
طريق السماع من مبلغ الأحكام الذي نصبه الله تعالى مبلغا وهاديا.
والغرض من " كون الملاكات لا مسرح للعقول فيها " أن أصل تعليل
الحكم بالملاك لا يعرف إلا من طريق السماع، لأ أنه أمر توقيفي. أما نفس
وجود الملاك في ذاته فقد يعرف من طريق الحس ونحوه، لكن لا بما هو
علة وملاك، كالإسكار، فإن كونه علة للتحريم في الخمر لا يمكن معرفته
من غير طريق التبليغ بالأدلة السمعية. أما وجود الإسكار في الخمر
وغيره من المسكرات فأمر يعرف بالوجدان، ولكن لا ربط لذلك بمعرفة
كونه هو الملاك في التحريم، فإنه ليس هذا من الوجدانيات.
وعلى كل حال، فان السر في أن الأحكام وملاكاتها لا مسرح للعقول
في معرفتها واضح، لأ نهى أمور توقيفية من وضع الشارع - كاللغات
والعلامات والإشارات التي لا تعرف إلا من قبل واضعيها - ولا تدرك
بالنظر العقلي إلا من طريق الملازمات العقلية القطعية التي تكلمنا عنها
فيما تقدم في بحث الملازمات العقلية في الجزء الثاني، وفي دليل العقل
189

من هذا الجزء. والقياس لا يشكل ملازمة عقلية بين حكم المقيس عليه
وحكم المقيس.
نعم، إذا ورد نص من قبل الشارع في بيان علة الحكم في المقيس
عليه، فإنه يصح الاكتفاء به في تعدية الحكم إلى المقيس بشرطين:
الأول: أن نعلم بأن العلة المنصوصة تامة يدور معها الحكم أينما
دارت.
والثاني: أن نعلم بوجودها في المقيس.
والخلاصة: أن القياس في نفسه لا يفيد العلم بالحكم، لأ أنه لا يتكفل
ثبت الملازمة بين حكم المقيس عليه وحكم المقيس. ويستثنى منه
منصوص العلة بالشرطين اللذين تقدما. وفي الحقيقة: أن منصوص العلة
ليس من نوع القياس، كما سيأتي بيانه. وكذلك قياس الأولوية.
ولأجل أن يتضح الموضوع أكثر نقول: إن الاحتمالات الموجودة في
كل قياس خمسة، ومع هذه الاحتمالات لا تحصل الملازمة بين حكم
الأصل وحكم الفرع، ولا يمكن رفع هذه الاحتمالات إلا بورود النص من
الشارع. والاحتمالات هي:
1 - احتمال أن يكون الحكم في الأصل معللا عند الله بعلة أخرى غير
ما ظنه القايس. بل يحتمل على مذهب هؤلاء ألا يكون الحكم معللا عند
الله بشئ أصلا، لأ نهم لا يرون الأحكام الشرعية معللة بالمصالح
والمفاسد. وهذا من مفارقات آرائهم، فإنهم إذا كانوا لا يرون تبعية
الأحكام للمصالح والمفاسد فكيف يؤكدون تعليل الحكم الشرعي في
المقيس عليه بالعلة التي يظنونها؟ بل كيف يحصل لهم الظن بالتعليل؟
2 - احتمال أن هناك وصفا آخر ينضم إلى ما ظنه القايس علة بأن
190

يكون المجموع منهما هو العلة للحكم لو فرض أن القايس أصاب في
أصل التعليل.
3 - احتمال أن يكون القايس قد أضاف شيئا أجنبيا إلى العلة
الحقيقية لم يكن له دخل في الحكم في المقيس عليه.
4 - احتمال أن يكون ما ظنه القايس علة - إن كان مصيبا في ظنه -
ليس هو الوصف المجرد، بل بما هو مضاف إلى موضوعه - أعني الأصل -
لخصوصية فيه. مثال ذلك:
لو علم بأن الجهل بالثمن علة موجبة شرعا في إفساد البيع، وأراد أن
يقيس على البيع عقد النكاح إذا كان المهر فيه مجهولا، فإنه يحتمل أن
يكون الجهل بالعوض الموجب لفساد البيع هو الجهل بخصوص العوض
في البيع، لا مطلق الجهل بالعوض من حيث هو جهل بالعوض ليسري
الحكم إلى كل معاوضة حتى في مثل الصلح المعاوضي والنكاح باعتبار
أنه يتضمن معنى المعاوضة عن البضع.
5 - احتمال أن تكون العلة الحقيقية لحكم المقيس عليه غير موجودة
أو غير متوفرة بخصوصياتها في المقيس.
وكل هذه الاحتمالات لابد من دفعها ليحصل لنا العلم بالنتيجة، ولا
يدفعها إلا الأدلة السمعية الواردة عن الشارع.
وقيل: من الممكن تحصيل العلم بالعلة بطريق برهان السبر
والتقسيم (1). وبرهان السبر والتقسيم عبارة عن عد جميع الاحتمالات
الممكنة، ثم يقام الدليل على نفي واحد واحد حتى ينحصر الأمر في واحد
منها، فيتعين، فيقال مثلا:

(1) المستصفى: ج 2 ص 295.
191

حرمة الربا في البر: إما أن تكون معللة بالطعم، أو بالقوت، أو بالكيل.
والكل باطل ما عدا الكيل، فيتعين التعليل به.
أقول: من شرط برهان السبر والتقسيم ليكون برهانا حقيقيا أن
تحصر المحتملات حصرا عقليا من طريق القسمة الثنائية التي تتردد بين
النفي والإثبات. وما يذكر من الاحتمالات في تعليل الحكم الشرعي لا
تعدو أن تكون احتمالات استطاع القايس أن يحتملها ولم يحتمل غيرها،
لا أنها مبنية على الحصر العقلي المردد بين النفي والإثبات.
وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يفرضه من الاحتمالات يجوز أن يكون
وراءها احتمالات لم يتصورها أصلا ومن الاحتمالات: أن تكون العلة
اجتماع محتملين أو أكثر مما احتمله القايس. ومن الاحتمالات: أن يكون
ملاك الحكم شيئا آخر خارجا عن أوصاف المقيس عليه لا يمكن أن
يهتدي إليه القايس، مثل التعليل في قوله تعالى (سورة النساء 160):
* (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * فإن الظاهر من
الآية أن العلة في تحريم الطيبات عصيانهم، لا أوصاف تلك الأشياء.
بل من الاحتمالات عند هذا القايس الذي لا يرى تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد أن الحكم لا ملاك ولا علة له، فكيف يمكن أن يدعى
حصر العلل فيما احتمله وقد لا تكون له علة؟
وعلى كل حال، فلا يمكن أن يستنتج من مثل السبر والتقسيم هنا
أكثر من الاحتمال. وإذا تنزلنا فأكثر ما يحصل منه الظن.
فرجع الأمر بالأخير إلى الظن وأن الظن لا يغني من الحق شيئا.
وفي الحقيقة أن القائلين بالقياس لا يدعون إفادته العلم، بل أقصى
ما يتوقعونه إفادته للظن، غير أنهم يرون أن مثل هذا الظن حجة. وفي
البحث الآتي نبحث عن أدلة حجيته.
192

2 - الدليل على حجية القياس الظني:
بعد أن ثبت أن القياس في حد ذاته لا يفيد العلم، بقي علينا أن نبحث
عن الأدلة على حجية الظن الحاصل منه، ليكون من الظنون الخاصة
المستثناة من عموم الآيات الناهية عن اتباع الظن، كما صنعنا في خبر
الواحد والظواهر، فنقول:
أما نحن - الإمامية - ففي غنى عن (1) هذا البحث، لأ أنه ثبت لدينا على
سبيل القطع من طريق آل البيت (عليهم السلام) عدم اعتبار هذا الظن الحاصل من
القياس، فقد تواتر عنهم النهي عن الأخذ بالقياس وأن دين الله لا يصاب
بالعقول، فلا الأحكام في أنفسها تصيبها العقول، ولا ملاكاتها وعللها.
على أنه يكفينا في إبطال القياس أن نبطل ما تمسكوا به لإثبات
حجيته من الأدلة، لنرجع إلى عمومات النهي عن اتباع الظن وما وراء
العلم.
أما غيرنا - من أهل السنة الذين ذهبوا إلى حجيته - فقد تمسكوا
بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. ولا بأس أن نشير إلى
نماذج من استدلالاتهم لنرى أن ما تمسكوا به لا يصلح لإثبات
مقصودهم، فنقول:
الدليل من الآيات القرآنية:
منها: قوله تعالى (الحشر 59): * (فاعتبروا يا اولي الأبصار) * بناء
على تفسير " الاعتبار " بالعبور والمجاوزة، والقياس عبور ومجاوزة من
الأصل إلى الفرع.

(1) في ط الأولى: ففي راحة من.
193

وفيه: أن الاعتبار هو الاتعاظ لغة، وهو الأنسب بمعنى الآية الواردة
في الذين كفروا من أهل الكتاب، إذ قذف الله في قلوبهم الرعب يخربون
بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. وأين هي من القياس الذي نحن فيه؟
وقال ابن حزم في كتابه (إبطال القياس ص 30): ومحال أن يقول لنا:
" فاعتبروا يا اولي الأبصار " ويريد القياس، ثم لا يبين لنا في القرآن ولا
في الحديث: أي شئ نقيس؟ ولا متى نقيس؟ ولا على أي نقيس؟ ولو
وجدنا ذلك لوجب أن نقيس ما امرنا بقياسه حيث امرنا، وحرم علينا أن
نقيس ما لا نص فيه جملة، ولا نتعدى حدوده.
ومنها: قوله تعالى (يس 78 - 79): * (قال من يحيي العظام وهي
رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * باعتبار أن الآية تدل على
مساواة النظير للنظير، بل هي استدلال بالقياس لإفحام من ينكر إحياء
العظام وهي رميم. ولولا أن القياس حجة لما صح الاستدلال فيها.
وفيه: أن الآية لا تدل على هذه المساواة بين النظيرين كنظيرين في
أية جهة كانت، كما أنها ليست استدلالا بالقياس، وإنما جاءت لرفع
استغراب المنكرين للبعث، إذ يتخيلون العجز عن إحياء الرميم، فأرادت
الآية أن تثبت الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها لأول مرة
- بلا سابق وجود - وبين القدرة على إحيائها من جديد، بل القدرة على
الثاني أولى، وإذا ثبتت الملازمة والمفروض أن الملزوم (وهو القدرة على
إنشائها أول مرة) موجود مسلم، فلابد أن يثبت اللازم (وهو القدرة على
إحيائها وهي رميم). وأين هذا من القياس؟
ولو صح أن يراد من الآية القياس فهو نوع من قياس الأولوية
المقطوعة، وأين هذا من قياس المساواة المطلوب إثبات حجيته، وهو
الذي يبتني على ظن المساواة في العلة؟
194

وقد استدلوا بآيات اخر مثل قوله تعالى: * (فجزاء مثل ما قتل من
النعم) * (1) * (يأمر بالعدل والاحسان) * (2). والتشبث بمثل هذه الآيات
لا يعدو أن يكون من باب تشبث الغريق بالطحلب - كما يقولون -.
الدليل من السنة:
رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث لتصحيح القياس لا تنهض حجة لهم.
ولا بأس أن نذكر بعضها كنموذج عنها، فنقول:
منها: الحديث المأثور عن معاذ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه قاضيا إلى
اليمن وقال له فيما قال: بماذا تقضي إذا لم تجد في كتاب الله ولا في سنة
رسول الله؟ قال معاذ: " أجتهد رأيي ولا آلو "، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحمد لله الذي
وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " (3).
قالوا: قد أقر النبي الاجتهاد بالرأي، واجتهاد الرأي لابد من رده إلى
أصل، وإلا كان رأيا مرسلا، والرأي المرسل غير معتبر. فانحصر الأمر
بالقياس.
والجواب: أن الحديث مرسل لا حجة فيه، لأن راويه - وهو " الحارث
ابن عمرو " ابن أخي المغيرة بن شعبة - رواه عن أناس من أهل حمص!.
ثم الحارث هذا نفسه مجهول لا يدري أحد من هو؟ ولا يعرف له غير هذا
الحديث.
ثم إن الحديث معارض بحديث آخر (4) في نفس الواقعة، إذ جاء فيه:
" لا تقضين ولا تفصلن (5) إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى

(1) المائدة: 95.
(2) النحل: 90.
(3) سنن الترمذي: ج 3 ص 616 ح 1227 وسنن أبي داود: ج 3 ص 303 ح 3592.
(4) راجع تعليقة الناشر لكتاب إبطال القياس لابن حزم: ص 15.
(5) في ط 2: لا تفضلن (بالضاد المعجمة).
195

تتبينه أو تكتب إلي ". فأجدر بذلك الحديث أن يكون موضوعا على
الحارث أو منه.
مضافا إلى أنه لا حصر فيما ذكروا، فقد يراد من الاجتهاد بالرأي
استفراغ الوسع في الفحص عن الحكم، ولو بالرجوع إلى العمومات أو
الأصول. ولعله يشير إلى ذلك قوله: " ولا آلو ".
ومنها: حديث الخثعمية - التي سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قضاء
الحج عن أبيها الذي فاتته فريضة الحج - أينفعه ذلك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها:
" أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟ " قالت: نعم. قال:
" فدين الله أحق بالقضاء " (1).
قالوا: فألحق الرسول دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء. وهو
عين القياس.
والجواب: أنه لا معنى للقول بأن الرسول أجرى القياس في حكمه
بقضاء الحج، وهو المشرع المتلقي الأحكام من الله تعالى بالوحي، فهل
كان لا يعلم بحكم قضاء الحج فاحتاج أن يستدل عليه بالقياس؟ ما لكم
كيف تحكمون!
وإنما المقصود من الحديث - على تقدير صحته - تنبيه الخثعمية على
تطبيق العام على ما سألت عنه، وهو - أعني العام - وجوب قضاء كل
دين، إذ خفي عليها أن الحج مما يعد من الديون التي يجب قضاؤها عن
الميت، وهو أولى بالقضاء لأ أنه دين الله.
ولا شك في أن تطبيق العام على مصاديقه المعلومة لا يحتاج إلى
تشريع جديد غير تشريع نفس العام، لأن الانطباق قهري. وليس هو من
نوع القياس.

(1) سنن النسائي: ج 8 ص 227 والذريعة: ج 2 ص 713.
196

ولا ينقضي العجب ممن يذهب إلى عدم وجوب قضاء الحج ولا
الصوم - كالحنفية - ويقول: " دين الناس أحق بالقضاء " ثم يستدل بهذا
الحديث على حجية القياس!
ومنها: حديث بيع الرطب بالتمر، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل: أينقص
الرطب إذا يبس؟ فلما أجيب بنعم، قال: " فلا، إذا " (1).
والجواب: أن هذا الحديث - على تقدير صحته - يشبه حديث
الخثعمية، فإن المقصود منه التنبيه على تطبيق العام على أحد مصاديقه
الخفية. وليس هو من القياس في شئ.
وكذلك يقال في أكثر الأحاديث المروية في الباب.
على أنها بجملتها معارضة بأحاديث اخر يفهم منها النهي عن الأخذ
بالرأي من دون الرجوع إلى الكتاب والسنة.
الدليل من الإجماع:
والإجماع هو أهم دليل عندهم، وعليه معولهم في هذه المسألة.
والغرض منه إجماع الصحابة.
ويجب الاعتراف بأن بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي
وأكثروا، بل حتى فيما خالف النص تصرفا في الشريعة باجتهاداتهم.
والإنصاف: أن ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم، ولكن - كما سبق
أن أوضحناه - لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على
نحو القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة، ولم يعرف عنهم على أي
أساس كانت اجتهاداتهم، أكانت تأويلا للنصوص أو جهلا بها أو استهانة
بها؟ ربما كان بعض هذا أو كله من بعضهم.

(1) سنن أبي ماجة: ج 2 ص 761 ح 2264، والموطأ: ج 2 ص 624 ح 22.
197

وفي الحقيقة إنما تطور البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه
وخصائصه في القرن الثاني والثالث - كما سبق بيانه - فميزوا بين القياس
والاستحسان والمصالح المرسلة.
ومن الاجتهادات قول عمر بن الخطاب: " متعتان كانتا على عهد
رسول الله أنا محرمهما ومعاقب عليهما " (1). ومنها: جمعه الناس لصلاة
التراويح (2). ومنها: إلغاؤه في الأذان " حي على خير العمل " (3). فهل كان
ذلك من القياس أو من الاستحسان المحض؟
لا ينبغي أن يشك أن مثل هذه الاجتهادات ليست من القياس في
شئ. وكذلك كثير من الاجتهادات عندهم.
وعليه فابن حزم على حق إذا كان يقصد إنكار أن يكون القياس
سابقا معروفا بحدوده في اجتهادات الصحابة، حينما قال في كتابه (إبطال
القياس ص 5): " ثم حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم وأنكره
سائرهم وتبرأوا منه " وقال في كتابه (الإحكام 7 / 177): " إنه بدعة
حدث في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث ". أما إذا أراد إنكار
أصل الاجتهادات بالرأي من بعض الصحابة - وهو لا يريد ذلك قطعا -
فهو انكار لأمر ضروري متواتر عنهم.
وقد ذكر الغزالي في كتابه (المستصفى 2 / 58 - 62) كثيرا من
مواضع اجتهادات الصحابة برأيهم، ولكن لم يستطع أن يثبت أنها على
نحو القياس إلا لأ أنه لم ير وجها لتصحيحها إلا بالقياس وتعليل النص.
وليس هو منه إلا من باب حسن الظن، لا أكثر. وأكثرها لا يصح تطبيقها
على القياس.

(1) كنز العمال: ج 16 ص 519 ح 45715.
(2) سنن البيهقي: ج 2 ص 493.
(3) علل الشرائع: ج 2 ص 367 و 368 ح 3.
198

وعلى كل حال، فالشأن كل الشأن في تحقيق إجماع الأمة والصحابة
على الأخذ بالقياس ونحن نمنعه أشد المنع.
أما أولا: فلما قلناه قريبا أنه لم يثبت أن اجتهاداتهم كانت من نوع
القياس بل في بعضها ثبت عكس ذلك، كاجتهادات عمر بن الخطاب
- المتقدمة - ومثلها اجتهاد عثمان في حرق المصاحف، ونحو ذلك.
وأما ثانيا: فإن استعمال بعضهم للرأي - سواء كان مبنيا على القياس
أم على غيره - لا يكشف عن موافقة الجميع، كما قال ابن حزم (1) فأنصف:
أين وجدتم هذا الاجماع؟ وقد علمتم أن الصحابة ألوف لا تحفظ
الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلا عن مائة ونيف وثلاثين نفرا: منهم
سبعة مكثرون، وثلاثة عشر نفسا متوسطون، والباقون مقلون جدا تروى
عنهم المسألة والمسألتان. حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها (2)
كالصلوات وصوم رمضان - فأين الإجماع على القول بالرأي؟
والغرض الذي نرمي إليه أنه لا ينكر ثبوت الاجتهاد بالرأي عند
جملة من الصحابة: كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت - بل ربما
من غيرهم - وإنما الذي ينكر أن يكون ذلك بمجرده محققا لإجماع الأمة
أو الصحابة. واتفاق الثلاثة أو العشرة بل العشرين ليس إجماعا مهما كانوا.
نعم، أقصى ما يقال في هذا الصدد: إن الباقين سكتوا وسكوتهم إقرار،
فيتحقق الإجماع.
ولكن يجاب عن ذلك: أن السكوت لا نسلم أنه يحقق الإجماع، لأ أنه

إبطال القياس: ص 19.
(2) هذه ليست من المسائل الإجماعية، بل هذه من ضروريات الدين. وقد تقدم أن الأخذ بها
ليس أخذا بالإجماع.
199

لا يدل على الإقرار إلا من المعصوم بشروط الإقرار. والسر في ذلك: أن
السكوت في حد ذاته مجمل، فيه عند غير المعصوم أكثر من وجه واحد
واحتمال، إذ قد ينشأ من الخوف، أو الجبن، أو الخجل، أو المداهنة، أو
عدم العناية ببيان الحق، أو الجهل بالحكم الشرعي أو وجهه، أو عدم
وصول نبأ الفتيا إليهم... إلى ما شاء الله من هذه الاحتمالات التي لا دافع
لها بالنسبة إلى غير المعصوم. وقد يجتمع في شخص واحد أكثر من سبب
واحد للسكوت عن الحق. ومن الاحتمالات أيضا أن يكون قد أنكر
بعض الناس ولكن لم يصل نبأ الإنكار إلينا. ودواعي إخفاء الإنكار
وخفائه كثيرة لاتحد ولا تحصر.
وأما ثالثا: فإن سكوت الباقين غير مسلم. ويكفي لإبطال الإجماع
إنكار شخص واحد له شأن في الفتيا، إذ لا يتحقق معه اتفاق الجميع،
فكيف إذا كان المنكرون أكثر من واحد! وقد ثبت تخطئة القول بالرأي
عن ابن عباس وابن مسعود وأضرابهما، بل روي ذلك حتى عن عمر بن
الخطاب (1): " إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث
أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " وإن كنت أظن أن هذه الرواية
موضوعة عليه، لثبوت أنه في مقدمة أصحاب الرأي، مع أن أسلوب بيان
الرواية بعيد عن النسبة إليه وإلى عصره.
وعلى كل حال، لا شئ أبلغ في الإنكار من المجاهرة بالخلاف
والفتوى بالضد، وهذا قد كان من جماعة كما قلنا، بل زاد بعضهم كابن
عباس وابن مسعود أن انتهى إلى ذكر المباهلة والتخويف من الله تعالى.
وهل شئ أبلغ في الإنكار من هذا؟ فأين الإجماع؟

(1) إبطال القياس: ص 58 والمستصفى: 2 / 247.
200

ونحن يكفينا إنكار علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو المعصوم الذي يدور
معه الحق كيفما دار كما في الحديث النبوي المعروف (1). وإنكاره معلوم
من طريقته، وقد رووا عنه قوله: " لو كان الدين بالرأي لكان المسح على
باطن الخف أولى من ظاهره " (2) وهو يريد بذلك إبطال القول بجواز
المسح على الخف الذي لا مدرك له إلا القياس أو الاستحسان.
الدليل من العقل:
لم يذكر أكثر الباحثين عن القياس دليلا عقليا على حجيته (3) غير أن
جملة منهم ذكر له وجوها أحسنها فيما أحسب ما سأذكره، مع أنه من
أوهن الاستدلالات.
الدليل: إنا نعلم قطعا بأن الحوادث لا نهاية لها.
ونعلم قطعا أنه لم يرد النص في جميع الحوادث، لتناهي النصوص،
ويستحيل أن يستوعب المتناهي مالا يتناهى.
إذن فيعلم أنه لابد من مرجع لاستنباط الأحكام لتلافي النواقص من
الحوادث. وليس هو إلا القياس.
والجواب: صحيح أن الحوادث الجزئية غير متناهية، ولكن لا يجب
في كل حادثة جزئية أن يرد نص من الشارع بخصوصها، بل يكفي أن
تدخل في أحد العمومات. والأمور العامة محدودة متناهية لا يمتنع
ضبطها ولا يمتنع استيعاب النصوص لها.
على أن فيه مناقشات أخرى لا حاجة بذكرها.

(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 28.
(2) سنن أبي داود: ج 1 ص 42 ح 162 وسنن البيهقي: ج 1 ص 292.
قال الشيخ الطوسي في العدة: 2 / 651: فأما من أثبته فاختلفوا، فمنهم من أثبته عقلا وهم
شذاذ غير محصلين.
201

- 4 -
منصوص العلة وقياس الأولوية
ذهب بعض علمائنا - كالعلامة الحلي - إلى أنه يستثنى من القياس
الباطل ما كان " منصوص العلة " و " قياس الأولوية " فإن القياس فيهما
حجة (1). وبعض قال: لا (2) إن الدليل الدال على حرمة الأخذ بالقياس
شامل للقسمين، وليس هناك ما يوجب استثناءهما.
والصحيح أن يقال: إن " منصوص العلة " و " قياس الأولوية " هما
حجة، ولكن لا استثناءا من القياس، لأ نهما في الحقيقة ليسا من نوع
القياس، بل هما من نوع الظواهر، فحجيتهما من باب حجية الظهور. وهذا
ما يحتاج إلى البيان، فنقول:
منصوص العلة:
أما منصوص العلة: فإن فهم من النص على العلة أن العلة عامة على
وجه لا اختصاص لها بالمعلل - الذي هو كالأصل في القياس - فلا شك
في أن الحكم يكون عاما شاملا للفرع، مثل ما لو قال: " حرم الخمر لأ أنه
مسكر " فيفهم منه حرمة النبيذ لأ أنه مسكر أيضا. وأما إذا لم يفهم منه ذلك،
فلا وجه لتعدية الحكم إلى الفرع إلا بنوع من القياس الباطن، مثل ما لو
قيل: " هذا العنب حلو لأن لونه أسود " فإنه لا يفهم منه أن كل ما لونه
أسود حلو، بل العنب الأسود خاصة حلو.
وفي الحقيقة: إنه بظهور النص في كون العلة عامة ينقلب موضوع

(1) نهاية الوصول: الورقة: 160، معارج الأصول: ص 185.
(2) قال صاحب المعالم: ظاهر المرتضى (قدس سره) المنع منه أيضا، معالم الدين: ص 226، راجع
الذريعة: ج 2 ص 684.
202

الحكم من كونه خاصا بالمعلل إلى كون موضوعه " كل ما فيه العلة "
فيكون الموضوع عاما يشمل المعلل (الأصل) وغيره، ويكون المعلل من
قبيل المثال للقاعدة العامة، لا أن موضوع الحكم هو خصوص المعلل
(الأصل) ونستنبط منه الحكم في الفرع من جهة العلة المشتركة حتى
يكون المدرك مجرد الحمل والقياس كما في الصورة الثانية، أي التي لم
يفهم فيها عموم العلة.
ولأجل هذا نقول: إن الأخذ بالحكم في الفرع في الصورة الأولى
يكون من باب الأخذ بظاهر العموم، وليس هو من القياس في شئ
ليكون القول بحجية التعليل استثناء من عمومات النهي عن القياس.
مثال ذلك: قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع: " ماء البئر واسع لا يفسده
شئ... لأن له مادة " فإن المفهوم منه - أي الظاهر منه - أن كل ماء له
مادة واسع لا يفسده شئ، وأما ماء البئر فإنما هو أحد مصاديق الموضوع
العام للقاعدة، فيشمل الموضوع بعمومه كلا: من ماء البئر، وماء الحمام،
وماء العيون، وماء حنفية الإسالة... وغيرها، فالأخذ بهذا الحكم وتطبيقه
على هذه الأمور غير ماء البئر ليس أخذا بالقياس، بل هو أخذ بظهور
العموم، والظهور حجة.
هذا، وفي عين الوقت لما كنا لا نستظهر من هذه الرواية شمول العلة
(لأن له مادة) لكل ما له مادة وإن لم يكن ماء مطلقا، فإن الحكم
- وهو الاعتصام من التنجس - لا نعديه إلى الماء المضاف الذي له مادة
إلا بالقياس، وهو ليس بحجة.
ومن هنا يتضح الفرق بين الأخذ بالعموم في منصوص العلة والأخذ
بالقياس، فلابد من التفرقة بينهما في كل علة منصوصة لئلا يقع الخلط
بينهما. ومن أجل هذا الخلط بينهما يكثر العثار في تعرف الموضوع للحكم.
203

وبهذا البيان والتفريق بين الصورتين يمكن التوفيق بين المتنازعين في
حجية منصوص العلة، فمن يراه حجة يراه فيما إذا كان له ظهور في عموم
العلة، ومن لا يرى حجيته يراه فيما إذا كان الأخذ به أخذا به على نهج
القياس.
والخلاصة: أن المدار في منصوص العلة أن يكون له ظهور في عموم
الموضوع لغير ماله الحكم - أي المعلل الأصل - فإنه عموم من جملة
الظواهر التي هي حجة. ولابد حينئذ أن تكون حجيته على مقدار ماله من
الظهور في العموم، فإذا أردنا تعديته إلى غير ما يشمله ظهور العموم فإن
التعدية لا محالة تكون من نوع الحمل والقياس الذي لا دليل عليه، بل قام
الدليل على بطلانه.
قياس الأولوية:
أما قياس الأولوية: فهو نفسه الذي يسمى " مفهوم الموافقة " الذي
تقدمت الإشارة إليه (1 / 157) وقلنا هناك: إنه يسمى " فحوى الخطاب "
كمثال الآية الكريمة * (ولا تقل لهما اف) * (1) الدالة بالأولوية على النهي
عن الشتم والضرب ونحوهما.
وتقدم في هذا الجزء (ص 131) أن هذا من الظواهر. فهو حجة من
أجل كونه ظاهرا من اللفظ، لامن أجل كونه قياسا حتى يكون استثناء
من عموم النهي عن القياس، وإن أشبه القياس، ولذلك سمي ب‍ " قياس
الأولوية " و " القياس الجلي ".
ومن هنا لا يفرض " مفهوم الموافقة " إلا حيث يكون للفظ ظهور

(1) الإسراء: 23.
204

بتعدي الحكم إلى ما هو أولى في علة الحكم، كآية التأفيف المتقدمة.
ومنه دلالة الإذن بسكنى الدار على جواز التصرف بمرافقها بطريق أولى.
ويقال لمثل هذا في عرف الفقهاء: " إذن الفحوى " ومنه الآية الكريمة
* (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (1) الدالة بالأولوية على ثبوت الجزاء
على عمل الخير الكثير.
وبالجملة، إنما نأخذ بقياس الأولوية إذا كان يفهم ذلك من فحوى
الخطاب، إذ يكون للكلام ظهور بالفحوى في ثبوت الحكم فيما هو أولى
في علة الحكم، فيكون حجة من باب الظواهر، ومن أجل هذا عدوه من
المفاهيم وسموه " مفهوم الموافقة ".
أما إذا لم يكن ذلك مفهوما من فحوى الخطاب، فلا يسمى ذلك
مفهوما بالاصطلاح، ولا تكفي مجرد الأولوية وحدها في تعدية الحكم، إذ
يكون من القياس الباطل.
ويشهد لذلك ما ورد من النهي عن مثله في صحيحة أبان بن تغلب
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام):
قال أبان: قلت له: ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة؟ كم
فيها؟
قال: عشر من الإبل.
قلت: قطع اثنتين؟ (2)
قال: عشرون.
قلت: قطع ثلاثا؟
قال: ثلاثون.

(1) الزلزلة: 7.
في النسخة المطبوعة: اثنين.
205

قلت: قطع أربعا؟
قال: عشرون.
قلت: سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا
فيكون عليه عشرون!؟ إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله،
ونقول: الذي جاء به شيطان.
فقال: مهلا يا أبان! هذا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن المرأة تعاقل (1)
الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف. يا أبان! إنك
أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست محق الدين (2).
فهنا في هذا المثال لم يكن في المسألة خطاب يفهم منه في الفحوى
من جهة الأولوية تعدية الحكم إلى غير ما تضمنه الخطاب حتى يكون من
باب " مفهوم الموافقة ". وإنما الذي وقع من أبان قياس مجرد لم يكن
مستنده فيه إلا جهة الأولوية، إذ تصور - بمقتضى القاعدة العقلية
الحسابية - أن الدية تتضاعف بالنسبة بتضاعف قطع الأصابع، فإذا كان في
قطع الثلاث ثلاثون من الإبل، فلابد أن يكون في قطع الأربع أربعون، لأن
قطع الأربع قطع للثلاث وزيادة. ولكن أبان كان لا يدري أن المرأة ديتها
نصف دية الرجل شرعا فيما يبلغ ثلث الدية فما زاد، وهي مائة من الإبل.
والخلاصة: أنا نقول ببطلان قياس الأولوية إذا كان الأخذ به لمجرد
الأولوية. أما إذا كان مفهوما من التخاطب بالفحوى من جهة الأولوية فهو
حجة من باب الظواهر، فلا يكون قياسا مستثنى من القياس الباطل.
* * *

(1) تعاقل: توازن، وفي النسخة المطبوعة: تقابل. وأحسبه من تصحيح الناشر اشتباها.
(2) الكافي: ج 7 ص 299، ح 6.
206

تنبيه:
الاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرايع
بقي من الأدلة المعتبرة عند جملة من علماء السنة: " الاستحسان "
و " المصالح المرسلة " و " سد الذرايع ".
وهي - إن لم ترجع إلى ظواهر الأدلة السمعية أو الملازمات العقلية -
لا دليل على حجيتها، بل هي أظهر أفراد الظن المنهي عنه. وهي دون
القياس من ناحية الاعتبار.
ولو أردنا إخراجها من عمومات حرمة العمل بالظن لا يبقى عندنا ما
يصلح لانطباق هذه العمومات عليه مما يستحق الذكر، فيبقى النهي عن
الظن بلا موضوع. ومن البديهي عدم جواز تخصيص الأكثر.
على أنه قد أوضحنا فيما سبق في الدليل العقلي أن الأحكام
وملاكاتها لا يستقل العقل بإدراكها ابتداء، أي: ليس من الممكن للعقول أن
تنالها ابتداء من دون السماع من مبلغ الأحكام أو بالملازمة العقلية.
وشأنها في ذلك شأن جميع المجعولات كاللغات والإشارات والعلامات
ونحوها، فإنه لا معنى للقول بأنها تعلم من طريق عقلي مجرد، سواء كان
من طريق بديهي أم نظري.
207

ولو صح للعقل هذا الأمر لما كان هناك حاجة لبعثة الرسل ونصب
الأئمة، إذ يكون حينئذ كل ذي عقل متمكنا بنفسه من معرفة أحكام الله
تعالى، ويصبح كل مجتهد نبيا أو إماما!
ومن هنا تعرف السر في إصرار أصحاب الرأي على قولهم بأن " كل
مجتهد مصيب " وقد اعترف الإمام الغزالي بأنه لا يمكن إثبات حجية
القياس إلا بتصويب كل مجتهد. وزاد على ذلك قوله بأن المجتهد وإن
خالف النص فهو مصيب وأن الخطأ غير ممكن في حقه (1).
ومن أجل ما ذكرناه - من عدم إمكان إثبات حجية مثل هذه الأدلة -
رأينا الاكتفاء بذلك عن شرح هذه الأدلة ومرادهم منها ومناقشة أدلتهم.
ونحيل الطلاب على محاضرات " مدخل الفقه المقارن " التي ألقاها أستاذ
المادة في كلية الفقه الأخ السيد محمد تقي الحكيم، فإن فيها الكفاية.
* * *

(1) المستصفى: ج 2 ص 239.
208

الباب التاسع:
التعادل والتراجيح
209

تمهيد:
عنون الأصوليون من القديم هذه المسألة بعنوانها المذكور.
ومرادهم من كلمة " التعادل " تكافؤ الدليلين المتعارضين في كل شئ
يقتضي ترجيح أحدهما على الآخر.
ومرادهم من كلمة " التراجيح " جمع " ترجيح " على خلاف القياس
في جمع المصدر، إذ جمعه " ترجيحات ". والمقصود منه المصدر بمعنى
الفاعل، أي المرجح.
وإنما جاؤوا به على صيغة الجمع دون " التعادل " لأن المرجحات بين
الدليلين المتعارضين متعددة، والتعادل لا يكون إلا في فرض واحد، وهو
فرض فقدان كل المرجحات.
والغرض من هذا البحث: بيان أحكام التعادل بين الدليلين
المتعارضين، وبيان أحكام المرجحات لأحدهما على الآخر.
ومن هنا نعرف أن الأنسب أن تعنون المسألة بعنوان " التعارض بين
الأدلة " لأن التعادل والترجيح بين الأدلة إنما يفرض في مورد التعارض
بينهما، غير أنه لما كان هم الأصوليين في البحث وغايتهم منه معرفة كيفية
العمل بالأدلة المتعارضة عند تعادلها وترجيحها عنونوها بما ذكرناه.
210

وهذه المسألة - كما ذكرناه سابقا - أليق شئ بها مباحث الحجة لأن
نتيجتها تحصيل الحجة على الحكم الشرعي عند التعارض بين الأدلة.
وقبل الشروع في بيان أحكام التعارض ينبغي في:
المقدمة:
بيان أمور يحتاج إليها، مثل حقيقة التعارض وشروطه، وقياسه
بالتزاحم والحكومة والورود. ومثل القواعد العامة في الباب، فنقول:
1 - حقيقة التعارض:
التعارض: مصدر من باب " التفاعل " الذي يقتضى فاعلين، ولا يقع إلا
من جانبين، فيقال: تعارض الدليلان. ولا تقول: " تعارض الدليل " وتسكت.
وعليه، فلابد من فرض دليلين كل منهما يعارض الآخر.
ومعنى المعارضة: أن كلا منهما - إذا تمت مقومات حجيته - يبطل
الآخر ويكذبه. والتكاذب إما أن يكون في جميع مدلولاتهما ونواحي
الدلالة فيهما، وإما في بعض النواحي على وجه لا يصح فرض بقاء حجية
كل منهما مع فرض بقاء حجية الآخر ولا يصح العمل بهما معا.
فمرجع التعارض في الحقيقة إلى التكاذب بين الدليلين في ناحية ما،
أي أن كلا منهما يكذب الآخر، ولا يجتمعان على الصدق.
هذا هو المعنى الاصطلاحي للتعارض. وهو مأخوذ من " عارضه " أي
جانبه وعدل عنه.
2 - شروط التعارض:
ولا يتحقق هذا المعنى من التعارض إلا بشروط سبعة هي مقومات
التعارض، نذكرها لتتضح حقيقة التعارض ومواقعه:
211

1 - ألا يكون أحد الدليلين أو كل منهما قطعيا، لأ أنه لو كان أحدهما
قطعيا فإنه يعلم منه كذب الآخر، والمعلوم كذبه لا يعارض غيره. وأما
القطع بالمتنافيين ففي نفسه أمر مستحيل لا يقع.
2 - ألا يكون الظن الفعلي معتبرا في حجيتهما معا، لاستحالة حصول
الظن الفعلي بالمتكاذبين كاستحالة القطع بهما. نعم، يجوز أن يعتبر في
أحدهما المعين الظن الفعلي دون الآخر.
3 - أن يتنافى مدلولاهما ولو عرضا وفي بعض النواحي، ليحصل
التكاذب بينهما، سواء كان التنافي في مدلولهما المطابقي أو التضمني أو
الالتزامي. والجامع في ذلك أن يؤديا إلى ما لا يمكن تشريعه ويمتنع جعله
في نفس الأمر، ولو كان هذا الامتناع لأمر خارج عن نفس مدلولهما، كما
في تعارض دليل وجوب صلاة الجمعة مع دليل وجوب صلاة الظهر يوم
الجمعة، فإن الدليلين في نفسهما لا تكاذب بينهما، إذ لا يمتنع اجتماع
وجوب صلاتين في وقت واحد، ولكن لما علم من دليل خارج أنه
" لا تجب إلا صلاة واحدة في الوقت الواحد " فإنهما يتكاذبان حينئذ
بضميمة هذا الدليل الثالث الخارج عنهما.
وعلى هذا، يمكن تحديد الضابط للتعارض بأن يقال:
الضابط في التعارض: امتناع اجتماع مدلوليهما في الوعاء المناسب
لهما إما من ناحية تكوينية أو من ناحية تشريعية.
أو يقال بعبارة جامعة:
الضابط في التعارض: تكاذب الدليلين على وجه يمتنع اجتماع صدق
أحدهما مع صدق الآخر.
212

ومن هنا يعلم: أن التعارض ليس وصفا للمدلولين كما قيل (1) بل
المدلولان يوصفان بأنهما " متنافيان " لا " متعارضان ". وإنما التعارض
وصف للدليلين بما هما دليلان على أمرين متنافيين لا يجتمعان،
لأن امتناع صدق الدليلين معا وتكاذبهما إنما ينشأ من تنافي المدلولين.
ولأجل هذا قال صاحب الكفاية: " التعارض هو تنافي الدليلين
أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الإثبات " (2). فحصر التعارض في مقام
الإثبات ومرحلة الدلالة.
4 - أن يكون كل من الدليلين واجدا لشرائط الحجية، بمعنى أن كلا
منهما لو خلي ونفسه ولم يحصل ما يعارضه لكان حجة يجب العمل
بموجبه، وإن كان أحدهما لا على التعيين بمجرد التعارض يسقط عن
الحجية بالفعل.
والسر في ذلك واضح، فإنه لو كان أحدهما غير واجد لشرائط الحجية
في نفسه لا يصلح أن يكون مكذبا لما هو حجة وإن كان منافيا في
مدلوله، فلا يكون معارضا له، لما قلنا: من أن التعارض وصف للدالين
بما هما دالان في مقام الإثبات، وإذ لا إثبات فيما هو غير حجة فلا يكذب
ما فيه الإثبات.
إذا، لا تعارض بين الحجة واللاحجة، كما لا تعارض بين اللا حجتين.
ومن هنا يتضح أنه لو كان هناك خبر - مثلا - غير واجد لشرائط
الحجة واشتبه بما هو واجد لها، فإن الخبرين لا يدخلان في باب
التعارض، فلا تجري عليهما أحكامه وقواعده، وإن كان من جهة العلم

(1) راجع نهاية الدراية: ج 6 ص 272.
(2) كفاية الأصول: ص 496.
213

بكذب أحدهما حالهما حال المتعارضين. نعم، في مثل هذين الخبرين
تجري قواعد العلم الإجمالي.
5 - ألا يكون الدليلان متزاحمين، فإن للتعارض قواعد غير قواعد
التزاحم على ما يأتي، وإن كان المتعارضان يشتركان مع المتزاحمين في
جهة واحدة، وهي امتناع اجتماع الحكمين في التحقق في موردهما،
ولكن الفرق في جهة الامتناع، فإنه في التعارض من جهة التشريع
فيتكاذب الدليلان، وفي التزاحم من جهة الامتثال فلا يتكاذبان. ولابد من
إفراد بحث مستقل في بيان الفرق، كما سيأتي.
6 - ألا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر.
7 - ألا يكون أحدهما واردا على الآخر.
وسيأتي أن الحكومة والورود يرفعان التعارض والتكاذب بين
الدليلين. ولابد من إفراد بحث عنهما أيضا، فإنه أمر أساسي في تحقيق
التعارض وفهمه.
3 - الفرق بين التعارض والتزاحم:
تقدم (في 2 / 384) بيان الحق الذي ينبغي أن يعول عليه في
سر التفرقة بين بابي التعارض والتزاحم، ثم بينهما وبين باب اجتماع الأمر
والنهي.
وخلاصته: أن التعارض في خصوص مورد العامين من وجه إنما
يحصل حيث تكون لكل منهما دلالة التزامية على نفي حكم الآخر في
مورد الاجتماع بينهما، فيتكاذبان من هذه الجهة. وأما إذا لم يكن للعامين
من وجه مثل هذه الدلالة الالتزامية فلا تعارض بينهما، إذ لا تكاذب بينهما
في مقام الجعل والتشريع.
214

وحينئذ - أي حينما يفقدان تلك الدلالة الالتزامية - لو امتنع على
المكلف أن يجمع بينهما في الامتثال - لأي سبب من الأسباب - فإن الأمر
في مقام الامتثال يدور بينهما بأن يمتثل إما هذا أو ذاك. وهنا يقع التزاحم
بين الحكمين، وطبعا إنما يفرض ذلك فيما إذا كان الحكمان إلزاميين.
ومن أجل هذا قلنا في الشرط الخامس من شروط التعارض: إن
امتناع اجتماع الحكمين في التحقق إذا كان في مقام التشريع دخل
الدليلان في باب التعارض، لأ نهما حينئذ يتكاذبان. أما إذا كان الامتناع
في مقام الامتثال دخلا في باب التزاحم، إذ لا تكاذب حينئذ بين الدليلين.
وهذا هو الفرق الحقيقي بين باب التعارض وباب التزاحم في أي
مورد يفرض.
وينبغي ألا يغيب عن بال الطالب أنه حينما ذكرنا العامين من وجه
فقط في مقام التفرقة بين البابين - كما تقدم في الجزء الثاني - لم نذكره
لأجل اختصاص البابين بالعامين من وجه، بل لأن العامين من وجه
موضع شبهة عدم التفرقة بين البابين ثم بينهما وبين باب اجتماع الأمر
والنهي. وقد سبق تفصيل ذلك هناك، فراجع (1).
وعليه، فالضابط في التفرقة بين البابين - كما أشرنا إليه أكثر من مرة -
هو أن الدليلين يكونان " متعارضين " إذا تكاذبا في مقام التشريع،
ويكونان " متزاحمين " إذا امتنع الجمع بينهما في مقام الامتثال مع عدم
التكاذب في مقام التشريع.
وفي تعارض الأدلة قواعد للترجيح ستأتي، وقد عقد هذا الباب
لأجلها، وينحصر الترجيح فيها بقوة السند أو الدلالة.

(1) راجع ج 2 ص 384.
215

وأما التزاحم فله قواعد أخرى تتصل بالحكم نفسه ولا ترتبط بالسند
أو الدلالة. ولا ينبغي أن يخلو كتابنا من الإشارة إليها. وهذه خير مناسبة
لذكرها، فنقول:
4 - تعادل وتراجيح المتزاحمين:
لا شك في أنه إذا تعادل المتزاحمان في جميع جهات الترجيح الآتية،
فإن الحكم فيهما هو التخيير. وهذا أمر محل اتفاق، وإن وقع الخلاف في
تعادل المتعارضين أنه يقتضي التساقط أو التخيير، على ما سيأتي.
وفي الحقيقة: أن هذا التخيير إنما يحكم به العقل، والمراد به العقل
العملي.
بيان ذلك: أنه بعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين
المتزاحمين وعدم جواز تركهما معا - ولا مرجح لأحدهما على الآخر
حسب الفرض ويستحيل الترجيح بلا مرجح - فلا مناص من أن يترك
الأمر إلى اختيار المكلف نفسه، إذ يستحيل بقاء التكليف الفعلي في كل
منهما، ولا موجب لسقوط التكليف فيهما معا. وهذا الحكم العقلي مما
تطابقت عليه آراء العقلاء.
ومن هذا الحكم العقلي يستكشف حكم الشرع على طبق هذا الحكم
العقلي - كسائر الأحكام العقلية القطعية - لأن هذا من باب المستقلات
العقلية التي تبتني على الملازمات العقلية المحضة.
مثاله: إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين متساويين من جميع الجهات
لا ترجيح لأحدهما على الآخر شرعا من جهة وجوب الإنقاذ، فإنه
لا مناص للمكلف من أن يفعل أحدهما ويترك الآخر، فهو على التخيير
عقلا بينهما المستكشف منه رضى الشارع بذلك وموافقته على التخيير.
216

إذا عرفت ذلك، فيكون من المهم جدا أن نعرف ما هي المرجحات في
باب التزاحم. ومن الواضح: أنه لابد أن تنتهي كلها إلى أهمية أحد
الحكمين عند الشارع، فالأهم عنده هو الأرجح في التقديم. ولما كانت
الأهمية تختلف جهتها ومنشؤها فلابد من بيان تلك الجهات، وهي
تستكشف بأمور نذكرها على الاختصار:
1 - أن يكون أحد الواجبين لا بدل له مع كون الواجب الآخر المزاحم
له ذا بدل، سواء كان البدل اختياريا كخصال الكفارة، أو اضطراريا كالتيمم
بالنسبة إلى الوضوء، وكالجلوس بالنسبة إلى القيام في الصلاة.
ولا شك في أن ما لا بدل له أهم مما له البدل قطعا عند المزاحمة وإن
كان البدل اضطراريا، لأن الشارع قد رخص في ترك ذي البدل إلى بدله
الاضطراري عند الضرورة ولم يرخص في ترك ما لا بدل له، ولا شك في
أن تقديم ما لا بدل له جمع بين التكليفين في الامتثال، دون صورة تقديم
ذي البدل، فإن فيه تفويتا للأول بلا تدارك.
2 - أن يكون أحد الواجبين مضيقا أو فوريا، مع كون الواجب الآخر
المزاحم له موسعا، فإن المضيق أو الفوري أهم من الموسع قطعا، كدوران
الأمر بين إزالة النجاسة عن المسجد وإقامة الصلاة في سعة وقتها.
وهذا الثاني ينسق على الأول، لأن الموسع له بدل طولي اختياري
دون المضيق والفوري، فتقديم المضيق أو الفوري جمع بين التكليفين في
الامتثال دون تقديم الموسع فإن فيه تفويتا للتكليف بالمضيق أو الفوري
بلا تدارك.
ومثله ما لو دار الأمر بين المضيق والفوري كدوران الأمر بين الصلاة في
آخر وقتها وإزالة النجاسة عن المسجد، فإن الصلاة مقدمة إذ لا تدارك لها.
217

3 - أن يكون أحد الواجبين صاحب الوقت المختص دون الآخر
وكان كل منهما مضيقا، كما لو دار الأمر بين أداء الصلاة اليومية في آخر
وقتها وبين صلاة الآيات في ضيق وقتها، لأن الوقت لما كان مختصا
باليومية فهي أولى به عند مزاحمتها بما لا اختصاص له في أصل تشريعه
بالوقت المعين وإنما اتفق حصول سببه في ذلك الوقت وتضيق وقت أدائه.
ومسألة تقديم اليومية على صلاة الآيات إذا تضيق وقتهما معا أمر
إجماعي متفق عليه، ولا منشأ له إلا أهمية ذات الوقت المختص المفهومة
من بعض الروايات.
4 - أن يكون أحد الواجبين وجوبه مشروطا بالقدرة الشرعية دون
الآخر. والمراد من " القدرة الشرعية " هي القدرة المأخوذة في لسان الدليل
شرطا للوجوب، كالحج المشروط وجوبه بالاستطاعة ونحوه.
ومع فرض المزاحمة بينه وبين واجب آخر وجوبه غير مشروط
بالقدرة لا يحصل العلم بتحقق ما هو شرط في الوجوب، لاحتمال أن
مزاحمته للواجب الآخر تكون سالبة للقدرة المعتبرة في الوجوب، ومع
عدم اليقين بحصول شروط الوجوب لا يحصل اليقين بأصل التكليف، فلا
يزاحم ما كان وجوبه منجزا معلوما.
ولو قال قائل: إن كل واجب مشروط وجوبه بالقدرة عقلا، إذا
فالواجب الآخر أيضا مشروط بالقدرة، فأي فرق بينهما؟
فالجواب: نحن نسلم باشتراط كل واجب بالقدرة عقلا، لكنه لما لم
تؤخذ القدرة في الواجب الآخر في لسان الدليل، فهو من ناحية الدلالة
اللفظية مطلق وإنما العقل هو الذي يحكم بلزوم القدرة، ويكفي في
حصول شرط القدرة العقلية نفس تمكن المكلف من فعله ولو مع فرض
218

المزاحمة، إذ لا شك في أن المكلف في فرض المزاحمة قادر ومتمكن من
فعل هذا الواجب المفروض، وذلك بترك الواجب المزاحم له المشروط
بالقدرة الشرعية.
والخلاصة: أن الواجب الآخر وجوبه منجز فعلي لحصول شرطه -
وهو القدرة العقلية - بخلاف مزاحمه المشروط، لما ذكرنا من احتمال أن
ما اخذ في الدليل قدرة خاصة لا تشمل هذه القدرة الحاصلة عند
المزاحمة، فلا يحرز تنجزه ولا تعلم فعليته.
وعليه، فيرتفع التزاحم بين الوجوبين من رأس، ويخلو الجو للواجب
المطلق وإن كان مشروطا بالقدرة العقلية.
5 - أن يكون أحد الواجبين مقدما بحسب زمان امتثاله على الآخر،
كما لو دار الأمر بين القيام للركعة المتقدمة وبين القيام لركعة بعدها، في
فرض كون المكلف عاجزا عن القيام للركعتين معا متمكنا من إحداهما
فقط، فإنه - في هذا الفرض - يكون المتقدم مستقر الوجوب في محله
لحصول القدرة الفعلية بالنسبة إليه، فإذا فعله انتفت القدرة الفعلية بالنسبة
إلى المتأخر، فلا يبقى له مجال.
ولا فرق في هذا الفرض بين ما إذا كانا معا مشروطين بالقدرة
الشرعية أو مطلقين معا. أما لو اختلفا فإن المطلق مقدم على المشروط
بالقدرة الشرعية وإن كان زمان فعله متأخرا.
6 - أن يكون أحد الواجبين أولى عند الشارع في التقديم من غير
تلك الجهات المتقدمة.
والأولوية تعرف إما من الأدلة، وإما من مناسبة الحكم للموضوع، وإما
من معرفة ملاكات الأحكام بتوسط الأدلة السمعية. ومن أجل ذلك فإن
219

الأولوية تختلف باختلاف ما يستفاد من هذه الأمور، ولا ضابط عام
يمكن الرجوع إليه عند الشك.
فمن تلك الأولوية: ما إذا كان في الحكم الحفاظ على بيضة الإسلام،
فإنه أولى بالتقديم من كل شئ في مقام المزاحمة.
ومنها: ما كان يتعلق بحقوق الناس، فإنه أولى من غيره من التكاليف
الشرعية المحضة، أي التي لا علاقة لها بحقوق غير المكلف بها.
ومنها: ما كان من قبيل الدماء والفروج، فإنه يحافظ عليه أكثر من
غيره، لما هو المعروف عند الشارع المقدس من الأمر بالاحتياط الشديد
في أمرها (1). فلو دار الأمر بين حفظ نفس المؤمن وحفظ ماله، فإن حفظ
نفسه مقدم على حفظ ماله قطعا.
ومنها: ما كان ركنا في العبادة، فإنه مقدم على ما ليس له هذه الصفة
عند المزاحمة، كما لو وقع التزاحم في الصلاة بين أداء القراءة والركوع،
فإن الركوع مقدم على القراءة وإن كان زمان امتثاله متأخرا عن القراءة.
وعلى مثل هذه فقس... وأمثالها كثير لا يحصى، كما لو دار الأمر بين
الصلح بين المؤمنين بالكذب وبين الصدق وفيه الفتنة بينهم، فإن الصلح
مقدم على الصدق. وهذا معروف من ضرورة الشرع الإسلامي.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنه لو احتمل أهمية أحد
المتزاحمين، فإن الاحتياط يقتضي تقديم محتمل الأهمية. وهذا الحكم
العقلي بالاحتياط يجري في كل مورد يدور فيه الأمر بين التعيين والتخيير
في الواجبات.

(1) كذا، والمناسب للسياق تذكير الضمير لرجوعه إلى الموصول، بدليل قوله: فإنه يحافظ
عليه أكثر من غيره.
220

وعليه، فلا يجب إحراز أهمية أحد المتزاحمين، بل يكفي الاحتمال.
وهذا أصل ينفع كثيرا في الفروع الفقهية، فاحتفظ به.
5 - الحكومة والورود:
وهذا البحث من مبتكرات الشيخ الأعظم (رحمه الله) وقد فتح به بابا جديدا
في الأسلوب الاستدلالي، ولئن نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قبل
غيره - كما يبدو من التعبير بالحكومة والورود في جواهر الكلام (1) - فإنه
لم يكن بهذا التحديد والسعة اللذين انتهى إليهما الشيخ.
وكان (رحمه الله) - على ما ينقل عنه - يصرح بأن أساطين الفقه المتقدمين
لم يغفلوا عن مغزى ما كان يرمى إليه وإن لم يبحثوه بصريح القول
ولا بهذا المصطلح.
واللفتة الكريمة منه كانت في ملاحظته لنوع من الأدلة، إذ وجد أن
من حقها أن تقدم على أدلة أخرى - في حين أنها ليست بالنسبة إليها من
قبيل الخاص والعام. بل قد يكون بينهما العموم من وجه - ولا يوجب هذا
التقديم سقوط الأدلة الأخرى عن الحجية، ولا تجري بينهما قواعد
التعارض، لأ أنه لم يكن بينهما تكاذب بحسب لسانهما من ناحية أدائية
ولا منافاة، يعني أن لسان أحدهما لا يكذب الآخر ولا يبطله، بل أحدهما
المعين من حقه بحسب لسانه وأدائه لمعناه وعنوانه أن يكون مقدما على
الآخر تقديما لا يستلزم بطلان الآخر ولا تكذيبه ولا صرفه عن ظهوره.
وهذا هو العجيب في الأمر والجديد على الباحثين! وذلك مثل تقديم
أدلة الأمارة على أدلة الأصول العملية بلا إسقاط لحجية الثانية ولا صرف
لظهورها.

(1) لم نقف على موضع التعبير، ولم يتيسر لنا استقصاء الفحص.
221

والمعروف أن أحد اللامعين من تلامذته (1) التقى به في درس الشيخ
صاحب الجواهر قبل أن يتعرف عليه وقبل أن يعرف الشيخ بين الناس (2)
وسأله سؤال امتهان واختبار عن سر تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما
في الدرس المذكور، فقال له: إنه حاكم عليه. قال: وما الحكومة؟ فقال له:
يحتاج إلى أن تحضر درسي ستة أشهر على الأقل لتفهم معنى الحكومة.
ومن هنا ابتدأت علاقة التلميذ بأستاذه.
إن موضوعا يحتاج إلى درس ستة أشهر [وإن كان فيه نوع من
المبالغة] (3) كم يحتاج إلى البسط في البيان في التأليف، بينما أن الشيخ في
كتبه لم يوفه حقه من البيان، إلا بعض الشئ في التعادل والتراجيح،
وبعض اللقطات المتفرقة في غضون كتبه، ولذا بقي الموضوع متأرجحا
في كتب الأصوليين من بعده، وإن كان مقصودهم ومقصوده أصبح واضحا
عند أهل العلم في العصور المتأخرة.
ولا يسع هذا المختصر شرح هذا الأمر شرحا كافيا، وإنما نكتفي
بالإشارة إلى خلاصة ما توصلنا إليه من فهم معنى الحكومة وفهم معنى
أخيها " الورود " قدر الإمكان، فنقول:
1 - الحكومة: إن الذي نفهمه من مقصودهم في الحكومة: هو أن يقدم
أحد الدليلين على الآخر تقديم سيطرة وقهر من ناحية أدائية، ولذا سميت
بالحكومة. فيكون تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ليس من ناحية
السند ولا من ناحية الحجية، بل هما على ما هما عليه من الحجية بعد

قيل: هو ميرزا حبيب الله الرشتي.
(2) العبارة في ط الأولى هكذا: والمعروف: أن أحد عظماء تلامذته قبل أن يتعرف عليه وقبل
أن يعرف الشيخ بين الناس التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر.
(3) لم يرد في ط الأولى.
222

التقديم، أي أنهما بحسب لسانهما وأدائهما لا يتكاذبان في مدلولهما،
فلا يتعارضان. وإنما التقديم - كما قلنا - من ناحية أدائية بحسب لسانهما،
ولكن لا من جهة " التخصيص " ولا من جهة " الورود " الآتي معناه.
فأي تقديم للدليل على الآخر بهذه القيود فهو يسمى " حكومة ".
وهذا في الحقيقة هو الضابط لها. فلذلك وجب توضيح الفرق بينها
وبين التخصيص من جهة، ثم بينها وبين الورود من جهة أخرى، ليتضح
معناها بعض الوضوح:
أما الفرق بينها وبين التخصيص، فنقول:
إن التخصيص ليكون تخصيصا لابد أن يفرض فيه الدليل الخاص
منافيا في مدلوله للعام، ولأجل هذا يكونان متعارضين متكاذبين بحسب
لسانهما بالنسبة إلى موضوع الخاص، غير أنه لما كان الخاص أظهر من
العام فيجب أن يقدم عليه لبناء العقلاء على العمل بالخاص، فيستكشف
منه أن المتكلم الحكيم لم يرد العموم من العام وإن كان ظاهر اللفظ العموم
والشمول، لحكم العقل بقبح ذلك من الحكيم مع فرض العمل بالخاص
عند أهل المحاورة من العقلاء.
وعليه، فالتخصيص عبارة عن الحكم بسلب حكم العام عن الخاص
وإخراج الخاص عن عموم العام، مع فرض بقاء عموم لفظ العام شاملا
للخاص بحسب لسانه وظهوره الذاتي.
أما الحكومة: في بعض مواردها هي كالتخصيص بالنتيجة، من جهة
خروج مدلول أحد الدليلين عن عموم مدلول الآخر، ولكن الفرق في
كيفية الإخراج، فإنه في التخصيص إخراج حقيقي مع بقاء الظهور الذاتي
للعموم في شموله، وفي الحكومة إخراج تنزيلي على وجه لا يبقى ظهور
223

ذاتي للعموم في الشمول، بمعنى أن الدليل الحاكم يكون لسانه تحديد
موضوع الدليل المحكوم أو محموله تنزيلا وادعاءا، فلذلك يكون الحاكم
متصرفا في عقد الوضع أو عقد الحمل في الدليل المحكوم.
ونستعين على بيان الفرق بالمثال، فنقول: لو قال الآمر عقيب أمره
بإكرام العلماء: " لا تكرم الفاسق " فإن القول الثاني يكون مخصصا للأول،
لأ أنه ليس مفاده إلا عدم وجوب إكرام الفاسق مع بقاء صفة العالم له. أما
لو قال عقيب أمره: " الفاسق ليس بعالم " فإنه يكون حاكما على الأول،
لأن مفاده إخراج الفاسق عن صفة العالم تنزيلا، بتنزيل الفسق منزلة
الجهل أو علم الفاسق بمنزلة عدم العلم. وهذا تصرف في عقد الوضع، فلا
يبقى عموم لفظ " العلماء " شاملا للفاسق بحسب هذا الادعاء والتنزيل،
وبالطبع لا يعطى له حينئذ حكم العلماء من وجوب الإكرام ونحوه.
ومثاله في الشرعيات قوله (عليه السلام): " لا شك لكثير الشك " (1) ونحوه مثل
نفي شك المأموم مع حفظ الإمام وبالعكس، فإن هذا ونحوه يكون حاكما
على أدلة حكم الشك، لأن لسانه إخراج شك " كثير الشك " وشك المأموم
أو الامام عن حضيرة صفة الشك تنزيلا، فمن حقه حينئذ ألا يعطى له
أحكام الشك من نحو إبطال الصلاة أو البناء على الأكثر أو الأقل
أو غير ذلك.
وإنما قلنا: " الحكومة في بعض مواردها كالتخصيص " فلأن بعض
موارد الحكومة الأخرى عكس التخصيص، لأن الحكومة على قسمين:
قسم يكون التصرف فيها بتضييق الموضوع - كالأمثلة المتقدمة - وقسم

(1) الظاهر عدم وروده في النصوص بهذا اللفظ، راجع الوسائل: ج 5 ص 329، الباب 16 من
أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
224

بتوسعته، مثل ما لو قال عقيب الأمر بإكرام العلماء: " المتقي عالم " فإن هذا
يكون حاكما على الأول وليس فيه إخراج، بل هو تصرف في الموضوع
بتوسعة معنى العالم ادعاء إلى ما يشمل " المتقي " تنزيلا للتقوى منزلة
العلم، فيعطى للمتقي حكم العلماء من وجوب الإكرام ونحوه.
ومثاله في الشرعيات: " الطواف صلاة " (1) فإن هذا التنزيل يعطي
للطواف الأحكام المناسبة التي تخص الصلاة من نحو أحكام الشكوك.
ومثله: " لحمة الرضاع كلحمة النسب " (2) الموسع لموضوع أحكام النسب.
2 - الورود: وأما الفرق بين الحكومة وبين الورود، فنقول:
كما قلنا: إن الحكومة كالتخصيص في النتيجة، كذلك الورود
كالتخصص في النتيجة، لأن كلا من الورود والتخصص: خروج الشئ
بالدليل عن موضوع دليل آخر خروجا حقيقيا. ولكن الفرق أن الخروج
في التخصص خروج بالتكوين بلا عناية التعبد من الشارع، كخروج
الجاهل عن موضوع دليل " أكرم العلماء " فيقال: إن الجاهل خارج عن
عموم " العلماء " تخصصا. وأما في الورود فإن الخروج من الموضوع
بنفس التعبد من الشارع بلا خروج تكويني، فيكون الدليل الدال على
التعبد واردا على الدليل المثبت لحكم موضوعه.
مثاله: دليل الأمارة الوارد على أدلة الأصول العقلية، كالبراءة وقاعدة
الاحتياط وقاعدة التخيير، فإن البراءة العقلية لما كان موضوعها " عدم
البيان " الذي يحكم فيه العقل بقبح العقاب معه، فالدليل الدال على حجية

(1) سنن الدارمي: ج 2 ص 44.
(2) لم نعثر عليه في أبواب الرضاع في الوسائل وغيره، روى في البحار عن المجازات النبوية
عنه (صلى الله عليه وآله): " الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب " بحار الأنوار: ج 104 ص 360، ح 4.
225

الأمارة يعتبر الأمارة بيانا تعبدا، وبهذا التعبد يرتفع موضوع البراءة العقلية
وهو " عدم البيان ".
وهكذا الحال في قاعدتي الاحتياط والتخيير، فإن موضوع الأولى
" عدم المؤمن من العقاب " والأمارة بمقتضى دليل حجيتها مؤمنة منه،
وموضوع الثانية " الحيرة " في الدوران بين المحذورين، والأمارة بمقتضى
دليل حجيتها مرجحة لأحد الطرفين، فترتفع الحيرة.
وبهذا البيان لمعنى " الورود " يتضح الفرق بينه وبين " الحكومة " فإن
ورود أحد الدليلين باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة
ولكن بعناية التعبد، فيكون الأول واردا على الثاني. أما الحكومة فإنها لا
توجب خروج مدلول الحاكم عن موضوع مدلول المحكوم وجدانا وعلى
وجه الحقيقة، بل الخروج فيها إنما يكون حكميا وتنزيليا وبعناية ثبوت
المتعبد به اعتبارا.
6 - القاعدة في المتعارضين التساقط أو التخيير:
أشرنا فيما تقدم (ص 216) إلى أن القاعدة في التعادل بين
المتزاحمين هو التخيير بحكم العقل، وذلك محل وفاق. أما في تعادل
المتعارضين فقد وقع الخلاف في أن القاعدة هي التساقط أو التخيير؟
والحق أن القاعدة الأولية هي التساقط، وعليه أساتذتنا المحققون،
وإن دل الدليل من الأخبار على التخيير كما سيأتي. ونحن نتكلم في
القاعدة بناء على المختار: من أن الأمارات مجعولة على نحو الطريقية.
ولا حاجة للبحث عنها بناء على السببية، فنقول:
إن الدليل الذي يوهم لزوم التخيير هو: أن التعارض لا يقع بين
الدليلين إلا إذا كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية، كما تقدم في شروط
226

التعارض (ص 213) والتعارض أكثر ما يوجب سقوط أحدهما غير
المعين عن الحجية الفعلية لمكان التكاذب بينهما، فيبقى الثاني غير المعين
على ما هو عليه من الحجية الفعلية واقعا، ولما لم يمكن تعيينه والمفروض
أن الحجة الفعلية منجزة للتكليف يجب العمل بها، فلابد من التخيير بينهما.
والجواب: أن التخيير المقصود إما أن يراد به التخيير من جهة الحجية،
أو من جهة الواقع.
فإن كان الأول:
فلا معنى لوجوب التخيير بين المتعارضين، لأن دليل الحجية الشامل
لكل منهما في حد أنفسهما إنما مفاده حجية أفراده على نحو التعيين،
لا حجية هذا أو ذاك من أفراده لا على التعيين، حتى يصح أن يفرض أن
أحدهما غير المعين حجة يجب الأخذ به فعلا فيجب التخيير في تطبيق
دليل الحجية على ما يشاء منهما.
وبعبارة أخرى: إن دليل الحجية الشامل لكل منهما في حد نفسه إنما
يدل على وجود المقتضي للحجية في كل منهما لولا المانع، لا فعلية
الحجية. ولما كان التعارض يقتضي تكاذبهما فلا محالة يسقط أحدهما
غير المعين عن الفعلية، أي يكون كل منهما مانعا عن فعلية حجية الآخر.
وإذا كان الأمر كذلك فكل منهما لم تتم فيه مقومات الحجية الفعلية ليكون
منجزا للواقع يجب العمل به، فلا يكون أحدهما غير المعين يجب الأخذ
به فعلا حتى يجب التخيير، بل حينئذ يتساقطان، أي أن كلا منهما يكون
ساقطا عن الحجية الفعلية وخارجا عن دليل الحجية.
وإن كان الثاني، فنقول:
أولا: لا يصح أن يفرض التخيير من جهة الواقع إلا إذا علم بإصابة
227

أحدهما للواقع. ولكن ليس ذلك أمرا لازما في الحجتين المتعارضتين،
إذ يجوز فيهما أن يكونا معا كاذبتين، وإنما اللازم فيهما من جهة التعارض
هو العلم بكذب أحدهما، لا العلم بمطابقة أحدهما للواقع. وعلى هذا
فليس الواقع محرزا في أحدهما حتى يجب التخيير بينهما من أجله.
وثانيا: على تقدير حصول العلم بإصابة أحدهما غير المعين للواقع،
فإنه أيضا لاوجه للتخيير بينهما، إذ لاوجه للتخيير بين الواقع وغيره.
وهذا واضح.
وغاية ما يقال: إنه إذا حصل العلم بمطابقة أحدهما للواقع فان الحكم
الواقعي يتنجز بالعلم الإجمالي، وحينئذ يجب إجراء قواعد العلم
الإجمالي فيه. ولكن لا يرتبط حينئذ بمسألتنا - وهي مسألة: أن القاعدة
في المتعارضين هو التساقط أو التخيير - لأن قواعد العلم الإجمالي
تجري حينئذ حتى مع العلم بعدم حجية الدليلين معا. وقد يقتضي العلم
الإجمالي في بعض الموارد التخيير، وقد يقتضي الاحتياط في البعض
الآخر، على اختلاف الموارد.
إذا عرفت ذلك فيتحصل: أن القاعدة الأولية بين المتعارضين هو
التساقط مع عدم حصول مزية في أحدهما تقتضي الترجيح.
أما لو كان الدليلان المتعارضان يقتضيان معا نفي حكم ثالث فهل
مقتضى تساقطهما عدم حجيتهما في نفي الثالث؟
الحق أنه لا يقتضي ذلك، لأن المعارضة بينهما أقصى ما تقتضي
سقوط حجيتهما في دلالتهما فيما هما متعارضان فيه، فيبقيان في دلالتهما
الأخرى على ما هما عليه من الحجية، إذ لا مانع من شمول أدلة الحجية
لهما معا في ذلك. وقد سبق أن قلنا: إن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة
228

المطابقية في أصل الوجود لا في الحجية، فلا مانع من أن يكون الدليل
حجة في دلالته الالتزامية مع وجود المانع عن حجيته في الدلالة
المطابقية. هذا فيما إذا كانت إحدى الدلالتين تابعة للأخرى في الوجود،
فكيف الحال في الدلالتين اللتين لا تبعية بينهما في الوجود! فإن الحكم
فيه بعدم سقوط حجية إحداهما بسقوط الأخرى أولى.
7 - الجمع بين المتعارضين أولى من الطرح:
اشتهر بينهم: أن الجمع بين المتعارضين مهما أمكن أولى من الطرح.
وقد نقل عن " غوالي اللئالي " دعوى الإجماع على هذه القاعدة (1).
وظاهر أن المراد من " الجمع " الذي هو أولى من " الطرح " هو الجمع
في الدلالة، فإنه إذا كان الجمع بينهما في الدلالة ممكنا تلائما فيرتفع
التعارض بينهما، فلا يتكاذبان.
وتشمل القاعدة بحسب ذلك صورة تعادل المتعارضين في السند،
وصورة ما إذا كانت لأحدهما مزية تقتضي ترجيحه في السند، لأ أنه في
الصورة الثانية بتقديم ذي المزية يلزم طرح الآخر مع فرض إمكان الجمع.
وعليه، فمقتضى القاعدة مع إمكان الجمع عدم جواز طرحهما معا
على القول بالتساقط، وعدم طرح أحدهما غير المعين على القول
بالتخيير، وعدم طرح أحدهما المعين غير ذي المزية مع الترجيح.
ومن أجل هذا تكون لهذه القاعدة أهمية كبيرة في العمل
بالمتعارضين، فيجب البحث عنها من ناحية مدركها، ومن ناحية عمومها
لكل جمع حتى الجمع التبرعي.

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 136.
229

1 - أما من الناحية الأولى: فمن الظاهر أنه لا مدرك لها إلا حكم
العقل بأولوية الجمع، لأن التعارض لا يقع إلا مع فرض تمامية مقومات
الحجية في كل منهما من ناحية السند والدلالة، كما تقدم في الشرط الرابع
من شروط التعارض (ص 213) ومع فرض وجود مقومات الحجية - أي
وجود المقتضي للحجية - فإنه لا وجه لرفع اليد عن ذلك إلا مع وجود
مانع من تأثير المقتضي، وما المانع في فرض التعارض إلا تكاذبهما. ومع
فرض إمكان الجمع في الدلالة بينهما لا يحرز تكاذبهما، فلا يحرز المانع
عن تأثير مقتضى الحجية فيهما، فكيف يصح أن نحكم بتساقطهما أو
سقوط أحدهما؟
2 - وأما من الناحية الثانية: فإنا نقول: إن المراد من " الجمع التبرعي "
ما يرجع إلى التأويل الكيفي الذي لا يساعد عليه عرف أهل المحاورة ولا
شاهد عليه من دليل ثالث.
وقد يظن الظان أن إمكان الجمع التبرعي يحقق هذه القاعدة، وهي
أولوية الجمع من الطرح بمقتضى التقرير المتقدم في مدركها، إذ لا يحرز
المانع - وهو تكاذب المتعارضين - حينئذ، فيكون الجمع أولى.
ولكن يجاب عن ذلك: انه لو كان مضمون هذه القاعدة المجمع عليها
ما يشمل الجمع التبرعي فلا يبقى هناك دليلان متعارضان وللزم طرح كل
ما ورد في باب التعارض من الأخبار العلاجية إلا فيما هو نادر ندرة لا
يصح حمل الأخبار عليها، وهو صورة كون كل من المتعارضين نصا في
دلالته لا يمكن تأويله بوجه من الوجوه. بل ربما يقال: لا وجود لهذه
الصورة في المتعارضين.
وببيان آخر برهاني نقول: إن المتعارضين لا يخلوان عن حالات
230

أربع: إما أن يكونا مقطوعي الدلالة مظنوني السند، أو بالعكس - أي
يكونان مظنوني الدلالة مقطعوعي السند - أو يكون أحدهما مقطوع
الدلالة مظنون السند والآخر بالعكس، أو يكونان مظنوني الدلالة والسند
معا. أما فرض أحدهما أو كل منهما مقطوع الدلالة والسند معا، فإن ذلك
يخرجهما عن كونهما متعارضين، بل الفرض الثاني مستحيل كما تقدم
(ص 212). وعليه، فللمتعارضين أربع حالات ممكنة لا غيرها:
فإن كانت الأولى: فلا مجال فيها للجمع في الدلالة مطلقا، للقطع
بدلالة كل منهما، فهو خارج عن مورد القاعدة رأسا كما أشرنا إليه. بل
هما في هذه الحالة: إما أن يرجع فيهما إلى الترجيحات السندية، أو
يتساقطان حيث لا مرجح، أو يتخير بينهما.
وإن كانت الثانية: فإنه مع القطع بسندهما كالمتواترين أو الآيتين
القرآنيتين لا يعقل طرحهما أو طرح أحدهما من ناحية السند، فلم يبق إلا
التصرف فيهما من ناحية الدلالة. ولا يعقل جريان أصالة الظهور فيهما
معا، لتكاذبهما في الظهور. وحينئذ فإن كان هناك جمع عرفي بينهما بأن
يكون أحدهما المعين قرينة على الآخر أو كل منهما قرينة على التصرف
في الآخر - على نحو ما يأتي من بيان وجوه الجمع الدلالتي - فإن هذا
الجمع في الحقيقة يكون هو الظاهر منهما، فيدخلان بحسبه في باب الظواهر
ويتعين الأخذ بهذا الظهور. وإن لم يكن هنا جمع عرفي فإن الجمع
التبرعي لا يجعل لهما ظهورا فيه ليدخل في باب الظواهر ويكون موضعا
لبناء العقلاء ولا دليل في المقام غير بناء العقلاء على الأخذ بالظواهر، فما
الذي يصحح الأخذ بهذا التأويل التبرعي ويكون دليلا على حجيته؟
وغاية ما يقتضي تعارضهما عدم إرادة ظهور كل منهما، ولا يقتضي أن
231

يكون المراد غير ظاهرهما من الجمع التبرعي، فإن هذا يحتاج إلى دليل
يعينه ويدل على حجيتهما فيه، ولا دليل حسب الفرض.
وإن كانت الثالثة: فإنه يدور الأمر فيها بين التصرف في سند مظنون
السند وبين التصرف في ظهور مظنون الدلالة أو طرحهما معا، فإن كان
مقطوع الدلالة صالحا للتصرف بحسب عرف أهل المحاورة في ظهور
الآخر تعين ذلك، إذ يكون قرينة على المراد من الآخر، فيدخل بحسبه في
الظواهر التي هي حجة. وأما إذا لم يكن لمقطوع الدلالة هذه الصلاحية
فإن تأويل الظاهر تبرعا لا يدخل في الظاهر حينئذ ليكون حجة ببناء
العقلاء، ولا دليل آخر عليه - كما تقدم في الصورة الثانية - ويتعين في هذا
الفرض طرح هذين الدليلين: طرح مقطوع الدلالة من ناحية السند، وطرح
مقطوع السند من ناحية الدلالة. فلا يكون الجمع أولى، إذ ليس إجراء
دليل أصالة السند بأولى من دليل أصالة الظهور، وكذلك العكس. ولا
معنى في هذه الحالة للرجوع إلى المرجحات في السند مع القطع بسند
أحدهما، كما هو واضح.
وإن كانت الرابعة: فإن الأمر يدور فيها بين التصرف في أصالة السند
في أحدهما والتصرف في أصالة الظهور في الآخر، لا أن الأمر يدور بين
السندين ولا بين الظهورين. والسر في هذا الدوران: أن دليل حجية السند
يشملهما معا على حد سواء بلا ترجيح لأحدهما على الآخر حسب
الفرض، وكذلك دليل حجية الظهور. ولما كان يمتنع اجتماع ظهورهما
لفرض تعارضهما، فإذا أردنا أن نأخذ بسندهما معا لابد أن نحكم بكذب
ظهور أحدهما، فيصادم حجية سند أحدهما حجية ظهور الآخر. وكذلك
إذا أردنا أن نأخذ بظهورهما معا لابد أن نحكم بكذب سند أحدهما،
232

فيصادم حجية ظهور أحدهما حجية سند الآخر، فيرجع الأمر في هذه
الحالة إلى الدوران بين حجية سند أحدهما وحجية ظهور الآخر.
وإذا كان الأمر كذلك فليس أحدهما أولى من الآخر، كما تقدم.
نعم، لو كان هناك جمع عرفي بين ظهوريهما فإنه حينئذ لا تجري أصالة
الظهور فيهما على حد سواء، بل المتبع في بناء العقلاء ما يقتضيه الجمع
العرفي الذي يقتضي الملاءمة بينهما، فلا يصلح كل منهما لمعارضة الآخر.
ومن هنا نقول: إن الجمع العرفي أولى من الطرح. بل بالجمع العرفي
يخرجان عن كونهما متعارضين - كما سيأتي - فلا مقتضي لطرح أحدهما
أو طرحهما معا.
أما إذا لم يكن بينهما جمع عرفي، فإن الجمع التبرعي لا يصلح
للملائمة بين ظهوريهما، فتبقى أصالة الظهور حجة في كل منهما، فيبقيان
على ما هما عليه من التعارض، فإما أن يقدم أحدهما على الآخر لمزية أو
يتخير بينهما أو يتساقطان.
فتحصل من ذلك كله: أنه لا مجال للقول بأولوية الجمع التبرعي من
الطرح في كل صورة مفروضة للمتعارضين.
إذا عرفت ما ذكرناه من الأمور - في المقدمة - فلنشرع في المقصود.
والأمور التي ينبغي أن نبحثها ثلاثة: الجمع العرفي، والقاعدة الثانوية
في المتعادلين، والمرجحات السندية وما يتعلق بها.
الأمر الأول
الجمع العرفي
بمقتضى ما شرحناه في المقدمة الأخيرة يتضح أن القدر المتيقن
233

من قاعدة " أولوية الجمع من الطرح " في المتعارضين هو " الجمع العرفي "
الذي سماه الشيخ الأعظم ب‍ " الجمع المقبول " (1) وغرضه المقبول عند
العرف. ويسمى " الجمع الدلالتي ".
وفي الحقيقة - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك - أنه بالجمع العرفي
يخرج الدليلان عن التعارض. والوجه في ذلك: أنه إنما نحكم بالتساقط
أو التخيير أو الرجوع إلى العلاجات السندية حيث تكون هناك حيرة في
الأخذ بهما معا، وفي موارد الجمع العرفي لا حيرة ولا تردد.
وبعبارة أخرى: أنه لما كان التعبد بالمتنافيين مستحيلا، فلابد من
العلاج: إما بطرحهما، أو بالتخيير بينهما، أو بالرجوع إلى المرجحات
السندية وغيرها. وأما لو كان الدليلان متلائمين غير متنافيين بمقتضى
الجمع العرفي المقبول، فإن التعبد بهما معا يكون تعبدا بالمتلائمين، فلا
استحالة فيه ولا محذور حتى نحتاج إلى العلاج.
ويتضح من ذلك أنه في موارد الجمع لا تعارض، وفي موارد
التعارض لا جمع. وللجمع العرفي موارد لا بأس بالإشارة إلى بعضها
للتدريب:
فمنها: ما إذا كان أحد الدليلين أخص من الآخر، فإن الخاص مقدم
على العام يوجب التصرف فيه، لأ أنه بمنزلة القرينة عليه.
وقد جرى البحث في أن الخاص مطلقا بما هو خاص مقدم على
العام، أو إنما يقدم عليه لكونه أقوى ظهورا؟ فلو كان العام أقوى ظهورا
كان العام هو المقدم. ومال الشيخ الأعظم إلى الثاني.

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 779.
234

كما جرى البحث في أن أصالة الظهور في الخاص حاكمة، أو واردة
على أصالة الظهور في العام، أو أن في ذلك تفصيلا؟ ولا يهمنا التعرض
إلى هذا البحث، فإن المهم تقديم الخاص على العام على أي نحو كان من
أنحاء التقديم.
ويلحق بهذا الجمع العرفي تقديم النص على الظاهر، والأظهر على
الظاهر، فإنها من باب واحد.
ومنها: ما إذا كان لأحد المتعارضين قدر متيقن في الإرادة أو لكل
منهما قدر متيقن، ولكن لا على أن يكون قدرا متيقنا من اللفظ، بل من
الخارج، لأ أنه لو كان للفظ قدر متيقن فإن الدليلين يكونان من أول الأمر
غير متعارضين، إذ لا إطلاق حينئذ ولا عموم للفظ، فلا يكون ذلك من
نوع الجمع العرفي للمتعارضين سالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا تعارض.
مثال القدر المتيقن من الخارج ما إذا ورد " ثمن العذرة سحت " وورد
أيضا " لا بأس ببيع العذرة " فإن عذرة الإنسان قدر متيقن من الدليل
الأول، وعذرة مأكول اللحم قدر متيقن من الثاني، فهما من ناحية لفظية
متبائنان متعارضان، ولكن لما كان لكل منهما قدر متيقن فالتكاذب يكون
بينهما بالنسبة إلى غير القدر المتيقن، فيحمل كل منهما على القدر المتيقن،
فيرتفع التكاذب بينهما، ويتلاءمان عرفا.
ومنها: ما إذا كان أحد العامين من وجه بمرتبة لو اقتصر فيه على ما
عدا مورد الاجتماع يلزم التخصيص المستهجن، إذ يكون الباقي من القلة
لا يحسن أن يراد من العموم، فإن مثل هذا العام يقال عنه: إنه يأبى عن
التخصيص، فيكون ذلك قرينة على تخصيص العام الثاني.
ومنها: ما إذا كان أحد العامين من وجه واردا مورد التحديدات
235

كالأوزان والمقادير والمسافات، فإن مثل هذا يكون موجبا لقوة الظهور
على وجه يلحق بالنص، إذ يكون ذلك العام أيضا مما يقال فيه: إنه يأبى
عن التخصيص.
وهناك موارد أخرى وقع الخلاف في عدها من موارد الجمع العرفي:
مثل ما إذا كان لكل من الدليلين مجاز هو أقرب مجازاته. ومثل ما إذا لم
يكن لكل منهما إلا مجاز بعيد أو مجازات متساوية النسبة إلى المعنى
الحقيقي. ومثل ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ، فهل مقتضى الجمع
العرفي تقديم التخصيص، أو تقديم النسخ، أو التفصيل في ذلك؟ وقد تقدم
البحث عن ذلك في الجزء الأول: (ص 217)، فراجع. ولا تسع هذه
الرسالة استيعاب هذه الأبحاث.
الأمر الثاني
القاعدة الثانوية للمتعادلين
قد تقدم أن القاعدة الأولية في المتعادلين هي التساقط. ولكن
استفاضت الأخبار بل تواترت في عدم التساقط (1). غير أن آراء
الأصحاب اختلفت في استفادة نوع الحكم منها لاختلافها على ثلاثة
أقوال:
1 - التخيير في الأخذ بأحدهما، وهو مختار المشهور، بل نقل
الإجماع عليه (2).
2 - التوقف (3) بما يرجع إلى الاحتياط في العمل ولو كان الاحتياط

(1) يأتي ذكر الأخبار في ص 239.
(2) قال في معالم الدين (250): لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا.
(3) نقله السيد المجاهد عن محكي الأخباريين، مفاتيح الأصول: ص 683.
236

مخالفا لهما (1) كالجمع بين القصر والإتمام في مورد تعارض الأدلة
بالنسبة إليهما.
وإنما كان التوقف يرجع إلى الاحتياط، لأن التوقف يراد منه التوقف
في الفتوى على طبق أحدهما. وهذا يستلزم الاحتياط في العمل، كما في
المورد الفاقد للنص مع العلم الإجمالي بالحكم.
3 - وجوب الأخذ بما طابق منهما الاحتياط (2) فإن لم يكن فيهما ما
يطابق الاحتياط تخير بينهما.
ولابد من النظر في الأخبار لاستظهار الأصح من الأقوال. وقبل النظر
فيها ينبغي الكلام عن إمكان صحة هذه الأقوال جملة بعد ما سبق من
تحقيق أن القاعدة الأولية بحكم العقل هي التساقط، فكيف يصح الحكم
بعدم تساقطهما حينئذ؟ وأكثرها إشكالا هو القول بالتخيير بينهما، للمنافاة
الظاهرة بين الحكم بتساقطهما وبين الحكم بالتخيير.
نقول في الجواب عن هذا السؤال: إنه إذا فرضت قيام الإجماع
ونهوض الأخبار على عدم تساقط المتعارضين، فإن ذلك يكشف عن
جعل جديد من قبل الشارع لحجية أحد الخبرين بالفعل لا على التعيين،
وهذا الجعل الجديد لا ينافي ما قلناه سابقا من سر تساقط المتعارضين
بناء على الطريقية، لأ أنه إنما حكمنا بالتساقط فمن جهة قصور دلالة أدلة
حجية الأمارة عن شمولها للمتعارضين أو لأحدهما لا على التعيين، ولكن
لا يقدح في ذلك أن يرد دليل خاص يتضمن بيان حجية أحدهما غير
المعين بجعل جديد، لا بنفس الجعل الأول الذي تتضمنه الأدلة العامة.

(1) ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري وجها من الوجوه، فرائد الأصول: ج 2 ص 762.
(2) ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري وجها، لا قولا، المصدر السابق.
237

ولا يلزم من ذلك - كما قيل - أن تكون الأمارة حينئذ مجعولة على
نحو السببية، فإنه إنما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأول.
وبعبارة أخرى أوضح: أنه لو خلينا نحن والأدلة العامة الدالة على
حجية الأمارة، فإنه لا يبقى دليل لنا على حجية أحد المتعارضين، لقصور
تلك الأدلة عن شمولها لهما، فلابد من الحكم بعدم حجيتهما معا. أما وقد
فرض قيام دليل خاص في صورة التعارض بالخصوص على حجية
أحدهما فلابد من الأخذ به، ويدل على حجية أحدهما بجعل جديد (1)
ولا مانع عقلي من ذلك.
وعلى هذا، فالقاعدة المستفادة من هذا الدليل الخاص قاعدة ثانوية
مجعولة من قبل الشارع، بعد أن كانت القاعدة الأولية بحكم العقل هي
التساقط.
بقي علينا أن نفهم معنى " التخيير " على تقدير القول به، بعد أن بينا
سابقا: أنه لا معنى للتخيير بين المتعارضين من جهة الحجية ولا من جهة
الواقع، فنقول:
إن معنى " التخيير " بمقتضى هذا الدليل الخاص أن كل واحد من
المتعارضين منجز للواقع على تقدير إصابته للواقع، ومعذر للمكلف على
تقدير الخطأ، وهذا هو معنى الجعل الجديد الذي قلناه، فللمكلف أن
يختار ما يشاء منهما، فإن أصاب الواقع فقد تنجز به وإلا فهو معذور. وهذا
بخلاف ما لو كنا نحن والأدلة العامة، فإنه لا منجزية لأحدهما غير المعين
ولا معذرية له.
والشاهد على ذلك: أنه بمقتضى هذا الدليل الخاص لا يجوز ترك

(1) في العبارة شئ من الاضطراب.
238

العمل بهما معا، لأ أنه على تقدير الخطأ في تركهما لا معذر له في مخالفة
الواقع، بينما أنه معذور في مخالفة الواقع لو أخذ بأحدهما. وهذا بخلاف
ما لو لم يكن هذا الدليل الخاص موجودا، فإنه يجوز له ترك العمل بهما
معا وإن استلزم مخالفة الواقع، إذ لا منجز للواقع بالمتعارضين بمقتضى
الأدلة العامة.
إذا عرفت ما ذكرنا فلنذكر لك أخبار الباب ليتضح الحق في المسألة،
فإن منها ما يدل على التخيير مطلقا، ومنها ما يدل على التخيير في صورة
التعادل، ومنها ما يدل على التوقف، ثم نعقب عليها بما يقتضي. فنقول: إن
الذي عثرنا عليه من الأخبار هو كما يلي:
1 - خبر الحسن بن جهم عن الرضا (عليه السلام)
قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، فلا نعلم أيهما
الحق؟
قال: فإذا لم تعلم، فموسع عليك بأيهما أخذت (1).
وهذا الحديث بهذا المقدار منه ظاهر في التخيير بين المتعارضين
مطلقا. ولكن صدره - الذي لم نذكره - مقيد بالعرض على الكتاب والسنة،
فهو يدل على أن التخيير إنما هو بعد فقدان المرجح ولو في الجملة.
2 - خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام)
إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى
القائم فترد عليه (2).
وهذا الخبر أيضا يستظهر منه التخيير مطلقا من كلمة " فموسع عليك "
ويقيد بالروايات الدالة على الترجيح - الآتية -.

(1) الوسائل: ج 18 ص 87، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 40.
(2) الوسائل: ج 18 ص 87، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 41.
239

ولكن يمكن أن يناقش في استظهار التخيير منه:
أولا: بأن الخبر وارد في فرض التمكن من لقاء الإمام والأخذ منه،
فلا يعلم شموله لحال الغيبة الذي يهمنا إثباته، لأن الرخصة في التخيير
مدة قصيرة لا تستلزم الرخصة فيه أبدا، ولا تدل عليها.
ثانيا: بأن الخبر غير ظاهر في فرض التعارض، بل ربما يكون واردا
لبيان حجية الحديث الذي يرويه الثقات من الأصحاب. ومعنى " موسع
عليك " الرخصة بالأخذ به كناية عن حجيته، غاية الأمر أنه يدل على أن
الرخصة مغياة برؤية الإمام ليأخذ منه الحكم على سبيل اليقين. وهذا أمر
لابد منه في كل حجة ظنية، وإن كانت عامة حتى لزمان حضور الإمام إلا
أنه مع حصول اليقين بمشافهته لابد أن ينتهي أمد جواز العمل بها.
وعليه، فلا شاهد بهذا الخبر على ما نحن فيه.
3 - مكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام).
اختلف أصحابنا في روايتهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في ركعتي الفجر في
السفر: فروى بعضهم أن صلهما في المحمل، وروى بعضهم أن لا تصلهما
إلا على الأرض، فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك.
فوقع (عليه السلام): موسع عليك بأية عملت (1).
وهذه أيضا استظهروا منها التخيير مطلقا. وتحمل على المقيدات
كالثانية.
ولكن يمكن المناقشة في هذا الاستظهار بأنه من المحتمل أن يراد
من التوقيع بيان التخيير في العمل بكل من المرويين باعتبار أن الحكم
الواقعي هو جواز صلاة ركعتي الفجر في السفر في المحمل وعلى الأرض

(1) الوسائل: ج 3 ص 240، الباب 15 من أبواب القبلة ح 8.
240

معا، لا أن المراد التخيير بين الروايتين. فيكون الغرض تخطئة الروايتين.
وهو احتمال قريب جدا، لا سيما أن السؤال لم يكن عن كيفية العمل
بالمتعارضين، بل السؤال عن كيفية عمل الإمام ليقتدي به، أي أنه سؤال
عن حكم صلاة ركعتي الفجر لا عن حكم المتعارضين، والجواب ينبغي
أن يطابق السؤال، فكيف صح أن يحمل على بيان كيفية العمل
بالمتعارضين؟ وعليه فلا يكون في هذا الخبر أيضا شاهد على ما نحن
فيه، كالخبر الثاني.
4 - جواب مكاتبة الحميري إلى الحجة عجل الله فرجه.
في ذلك حديثان: أما أحدهما فإنه إذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه
التكبير. وأما الحديث الآخر فإنه روي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية
وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك
التشهد الأول يجري هذا المجرى. وبأيهما أخذت من باب التسليم كان
صوابا (1).
وهذا الجواب أيضا استظهروا منه التخيير مطلقا. ويحمل على المقيدات.
ولكنه أيضا يناقش في هذا الاستظهار بأنه من المحتمل قريبا أن
المراد بيان التخيير في العمل بالتكبير لبيان عدم وجوبه، لا التخيير بين
المتعارضين. ويشهد لذلك التعبير بقوله: " كان صوابا "، لأن المتعارضين
لا يمكن أن يكون كل واحد منهما صوابا: ثم لا معنى لجواب الإمام عن
السؤال عن الحكم الواقعي بذكر روايتين متعارضتين ثم العلاج بينهما،
إلا لبيان خطأ الروايتين وأن الحكم الواقعي على خلافهما.

(1) الوسائل: ج 18 ص 87، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 39.
241

5 - مرفوعة زرارة المروية عن غوالي اللئالي، وقد جاء في آخرها:
إذا فتخير أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر (1).
ولا شك في ظهور هذه الفقرة منها في وجوب التخيير بين
المتعارضين وفي أنه بعد فرض التعادل، لأ نهى جاءت بعد ذكر المرجحات
وفرض انعدامها. ولكن الشأن في صحة سندها، وسيأتي التعرض له. وهي
من أهم أخبار الباب من جهة مضمونها.
6 - خبر سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام).
قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر،
كلاهما يرويه، أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟
فقال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه (2).
وقد استظهروا من قوله (عليه السلام): " فهو في سعة " التخيير مطلقا. وفيه أولا:
أن الرواية واردة في فرض التمكن من لقاء الإمام أو كل من يخبره
بالحكم على سبيل اليقين من نواب الإمام خصوصا أو عموما. فهي تشبه
من هذه الناحية الرواية الثانية المتقدمة.
وثانيا: أن الأولى فيها أن تجعل من أدلة التوقف، لا التخيير، وذلك
لكلمة " يرجئه ". وأما قوله: " في سعة " فالظاهر أن المراد به التخيير بين
الفعل والترك، باعتبار أن الأمر - حسب فرض السؤال - يدور بين
المحذورين، وهو الوجوب والحرمة. إذا، فليس المقصود منه التخيير بين
الروايتين، لا سيما أن ذلك لا يلتئم مع الأمر بالإرجاء، لأن العمل بأحدهما
تخييرا ليس إرجاء، بل الإرجاء ترك العمل بهما معا.

(1) عوالي اللئالي: ج 4 ص 133 ح 229.
(2) الوسائل: ج 18 ص 77، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 5.
242

فلا دلالة لهذه الرواية على التخيير بين المتعارضين.
7 - وقال الكليني بعد تلك الرواية: وفي رواية أخرى: بأيهما أخذت
من باب التسليم وسعك (1).
ويظهر منه أنها رواية أخرى، لا أنها نص آخر في الجواب عن نفس
السؤال في الرواية المتقدمة، وإلا لكان المناسب أن يقول " بأيهما اخذ "
لضمير الغائب، لا " بأيهما أخذت " بنحو الخطاب.
وظاهرها الحكم بالتخيير بين المتعارضين مطلقا. ويحمل على
المقيدات.
8 - ما في عيون أخبار الرضا للصدوق في خبر طويل جاء في آخره:
فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا، أو بأيهما شئت وسعك الاختيار
من باب التسليم والاتباع والرد إلى رسول الله (2).
والظاهر من هذه الفقرة هو التخيير بين المتعارضين، إلا أنه بملاحظة
صدرها وذيلها يمكن أن يستظهر منها إرادة التخيير في العمل بالنسبة إلى
ما أخبر عن حكمه أنه على نحو الكراهة، ولذا أنها فيما يتعلق بالإخبار
عن الحكم الإلزامي صرحت بلزوم العرض على الكتاب والسنة. لا سيما
وقد أعقب تلك الفقرة التي نقلناها قوله (عليه السلام): وما لم تجدوه في شئ من
هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم،
وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم
البيان من عندنا.
وهذه الفقرات صريحة في وجوب التوقف والتريث. وعليه فالأجدر
بهذه الرواية أن تجعل من أدلة التوقف، لا التخيير.

(1) الكافي: ج 1 ص 66 ذيل الحديث 7.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 21 ح 45.
243

9 - مقبولة عمر بن حنظلة - الآتي ذكرها في المرجحات - وقد جاء
في آخرها: إذا كان ذلك - أي فقدت المرجحات - فارجئه حتى تلقى
إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).
وهذه ظاهرة في وجوب التوقف عند التعادل.
10 - خبر سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام):
قلت: يرد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالعمل به، والآخر ينهانا عن
العمل به؟
قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تأتي صاحبك، فتسأل عنه.
قلت: لابد أن يعمل بأحدهما.
قال: اعمل بما فيه خلاف العامة (2).
11 - مرسلة صاحب غوالي اللئالي - على ما نقل عنه - فإنه بعد
روايته المرفوعة المتقدمة (برقم 5) قال: وفي رواية أنه قال (عليه السلام): إذا
فارجئه حتى تلقى إمامك فتسأله.
هذه جملة ما عثرت عليه من الروايات فيما يتعلق بالتخيير أو
التوقف. والظاهر منها - بعد ملاحظة أخبار الترجيح الآتية، وبعد ملاحظة
مقيداتها بصورة فقدان المرجح ولو في الجملة - أن الرجوع إلى التخيير
أو التوقف بعد فقد المرجحات، فتحمل مطلقاتها على مقيداتها.
والخلاصة: أن المتحصل منها جميعا أنه يجب أولا ملاحظة
المرجحات بين المتعارضين، فإن لم تتوفر المرجحات فالقاعدة هي
التخيير أو التوقف على حسب استفادتنا من الأخبار، لا أن القاعدة التخيير
أو التوقف في كل متعارضين وإن كان فيهما ما يرجح أحدهما على الآخر.

(1) الوسائل: ج 18 ص 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
(2) الوسائل: ج 18 ص 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ح 42 باختلاف يسير.
244

نعم، المستفاد من الرواية العاشرة فقط - وهي خبر سماعة - أن
التوقف هو الحكم الأولي، إذ أرجعه إلى الترجيح بمخالفة العامة بعد فرض
ضرورة العمل بأحدهما بحسب فرض السائل.
ولكن التأمل فيها يعطي أنها لا تنافي أدلة تقديم الترجيح، فإن الظاهر
أن المراد منها ترك العمل رأسا انتظارا لملاقاة الإمام، لا التوقف والعمل
بالاحتياط.
وبعد هذا يبقى علينا أن نعرف وجه الجمع بين أخبار التخيير وأخبار
التوقف فيما ذكرناه من الأخبار المتقدمة. وقد ذكروا وجوها للجمع
لا يغني أكثرها. راجع الحدائق: ج 1 ص 100.
وأنت - بعد ملاحظة ما مر من المناقشات في الأخبار التي استظهروا
منها التخيير - تستطيع أن تحكم بأن " التوقف " هو القاعدة الأولية، وأن
" التخيير " لا مستند له، إذ لم يبق ما يصلح مستندا له إلا الرواية الأولى،
وهي لا تصلح لمعارضة الروايات الكثيرة الدالة على وجوب التوقف
والرد إلى الإمام.
أما الخامسة - وهي مرفوعة زرارة - فهي ضعيفة السند جدا، وقد
أشرنا فيما سبق إلى ذلك، وسيأتي بيانه، على أن راويها نفسه عقبها
بالمرسلة المتقدمة (برقم 11) الواردة في التوقف والإرجاء.
وأما السابعة: - مرسلة الكليني - فليس من البعيد أنها من استنباطاته
حسبما فهمه من الروايات، لا أنها رواية مستقلة في قبال سائر روايات
الباب. ويشهد لذلك ما ذكره في مقدمة الكافي (ص 9) من مرسلة أخرى
بهذا المضمون: " بأيهما (1) أخذتم من باب التسليم وسعكم " لأ أنه لم ترد

(1) في الكافي: بأيما.
245

عنده رواية بهذا التعبير إلا تلك المرسلة التي نحن بصددها وهي بخطاب
المفرد، وهذه بخطاب الجمع. وعليه فيظهر أن المرسلتين معا هما من
مستنبطاته، فلا يصح الاعتماد عليهما.
إذا عرفت ما ذكرناه يظهر لك أن القول بالتخيير لا مستند له يصلح
لمعارضة أخبار التوقف، ولا للخروج عن القاعدة الأولية للمتعارضين،
وهي التساقط، وإن كان التخيير مذهب المشهور.
وأما أخبار التوقف: فإنها - مضافا إلى كثرتها وصحة بعضها وقوة
دلالتها - لا تنافي قاعدة التساقط في الحقيقة، لأ ن الإرجاء والتوقف
لا يزيد على التساقط، بل هو من لوازمه، فأخبار التوقف تكون على
القاعدة.
وقيل في وجه تقديم أخبار التخيير: إن أدلة التخيير مطلقة بالنسبة إلى
زمن الحضور، بينما أن أخبار التوقف مقيدة به. وصناعة الإطلاق والتقييد
تقتضي رفع التعارض بينهما بحمل المطلق على المقيد. ونتيجة ذلك
التخيير في زمان الغيبة، كما عليه المشهور.
أقول: إن أخبار التوقف كلها بلسان " الإرجاء إلى ملاقاة الإمام " فلا
يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقف بزمان الحضور، لأن استفادة ذلك
يتوقف على أن يكون للغاية مفهوم، وقد تقدم (ج 1 ص 175) بيان
المناط في استفادة مفهوم الغاية، فقلنا: إن الغاية إذا كانت قيدا للموضوع
أو المحمول فقط لا دلالة لها على المفهوم، ولا تدل على المفهوم إلا إذا
كان التقييد بالغاية راجعا إلى الحكم.
والغاية هنا غاية لنفس الإرجاء لا لحكمه وهو الوجوب، يعني أن
المستفاد من هذه الأخبار أن نفس الإرجاء مغيى بملاقاة الإمام، لا وجوبه.
246

والحاصل: أنه لا يفهم من أخبار التوقف إلا أنه لا يجوز الأخذ
بالأخبار المتعارضة المتكافئة ولا العمل بواحد منها، وإنما يحال الأمر في
شأنها إلى الإمام ويؤجل البت فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجة على
الحكم بعد السؤال عنه. فهي تقول بما يؤول إلى أن الأخبار المتعارضة
المتكافئة لا تصلح لإثبات الحكم، فلا تجوز الفتوى ولا العمل بأحدها.
وينحصر الأمر حينئذ بملاقاة الإمام والسؤال منه. فإذا لم تحصل الملاقاة -
ولو لغيبة الإمام - فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.
وعلى هذا، فتكون هذه الأخبار مباينة لأخبار التخيير لا أخص منها.
الأمر الثالث
المرجحات
تقدم (ص 213) أن من شروط تحقق التعارض أن يكون كل من
الدليلين واجدا لشرائط الحجية في حد نفسه، لأ أنه لا تعارض بين الحجة
واللاحجة، فإذا بحثنا عن المرجحات فالذي نعنيه أن نبحث عما يرجح
الحجة على الأخرى بعد فرض حجيتهما معا في أنفسهما، لا عما يقوم
أصل الحجة ويميزها عن اللاحجة. وعليه، فالجهة التي تكون من
مقومات الحجة مع قطع النظر عن المعارضة لا تدخل في مرجحات باب
التعارض، بل تكون من مميزات الحجة عن اللاحجة.
ومن أجل هذا يجب أن نتنبه إلى الروايات المذكورة في باب
الترجيحات، إلى أنها واردة في صدد أي شئ من ذلك، في صدد
الترجيح، أو التمييز؟
فلو كانت على النحو الثاني لا يكون فيها شاهد على ما نحن فيه،
247

كما قاله الشيخ صاحب الكفاية في روايات الترجيح بموافقة الكتاب (1)
كما سيأتي.
إذا عرفت ما ذكرناه من جهة البحث التي نقصدها في بيان
المرجحات، فنقول:
إن المرجحات المدعى أنها منصوص عليها في الأخبار خمسة
أصناف: الترجيح بالأحدث تاريخا، وبصفات الراوي، وبالشهرة، وبموافقة
الكتاب، وبمخالفة العامة.
فينبغي أولا البحث عنها واحدة واحدة، ثم بيان أية منها أولى بالتقديم
لو تعارضت، ثم بيان أنه هل يجب الاقتصار عليها أو يتعدى إلى غيرها.
فهنا ثلاثة مقامات:
المقام الأول
المرجحات الخمسة
1 - الترجيح بالأحدث:
في هذا الترجيح روايات أربع، نكتفي منها بما رواه الكليني بسنده إلى
أبي عبد الله (عليه السلام) قال (عليه السلام): أرأيت لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من
قابل فحدثتك بخلافه، بأيهما كنت تأخذ؟
قلت: آخذ بالأخير (2).
فقال لي: رحمك الله!
أقول: إن الذي يستظهره بعض أجلة مشايخنا (قدس سره) أن هذه الروايات
لا شاهد بها على ما نحن فيه (3) أي أنها لا تدل على ترجيح الأحدث من

(1) كفاية الأصول: ص 505.
(2) الكافي: ج 1 ص 67 ح 8.
(3) انظر نهاية الدراية للمحقق الإصفهاني: ج 6 ص 313.
248

البيانين كقاعدة عامة بالنسبة إلى كل مكلف وبالنسبة إلى جميع العصور،
لأ أنه لا تدل على ذلك إلا إذا فهم منها أن الأحدث هو الحكم الواقعي وأن
الأول واقع موقع التقية أو نحوها، مع أنه لا يفهم منها أكثر من أن من القي
إليه البيان خاصة حكمه الفعلي ما تضمنه البيان الأخير. وليست ناظرة إلى
أنه هو الحكم الواقعي، فلربما كان حكما ظاهريا بالنسبة إليه من باب
التقية. كما أنه ليست ناظرة إلى أن هذا الحكم الفعلي هو حكم كل أحد
وفي كل زمان.
والحاصل: أن هذه الطائفة من الروايات لا دلالة فيها على أن البيان
الأخير يتضمن الحكم الواقعي، وأن ذلك بالنسبة إلى جميع المكلفين في
جميع الأزمنة، حتى يكون الأخذ بالأحدث وظيفة عامة لجميع المكلفين
ولجميع الأزمان حتى زمن الغيبة ولو كان من باب التقية. ولا شك أن
الأزمان والأشخاص تتفاوت وتختلف من جهة شدة التقية أو لزومها.
2 - الترجيح بالصفات:
إن الروايات التي ذكرت الترجيح بالصفات تنحصر في " مقبولة ابن
حنظلة " و " مرفوعة زرارة " المشار إليهما سابقا (1) والمرفوعة كما قلنا
ضعيفة جدا، لأ نهى مرفوعة ومرسلة ولم يروها إلا صاحب غوالي اللئالي.
وقد طعن صاحب الحدائق في التأليف والمؤلف إذ قال (ج 1 ص 99):
فإنا لم نقف عليها في غير كتاب غوالي اللئالي، مع ما هي عليه من الرفع
والإرسال، وما عليه الكتاب من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل
الأخبار والإهمال وخلط غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها.

(1) راجع ص 244 و 245.
249

إذا الكلام فيها فضول. فالعمدة في الباب المقبولة التي قبلها العلماء،
لأن راويها " صفوان بن يحيى " الذي هو من أصحاب الإجماع - أي الذين
أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم - كما رواها المشايخ الثلاثة في
كتبهم. وإليك نصها بعد حذف مقدمتها:
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا
الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث
وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما
على الآخر؟
قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي به حكما المجمع
عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور
عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين
رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله
ورسوله. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين
ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب
المحرمات وهلك من حيث لا يعلم ".
قلت: فإن كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة
فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب

يقصد الباقر والصادق (عليهما السلام).
250

والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأي
الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
قلت: جعلت فداك! فإن وافقهم الخبران جميعا؟
قال: انظر إلى ما هم إليه أميل - حكامهم وقضاتهم - فيترك ويؤخذ
بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه (وفي بعض النسخ: فأرجئه) حتى تلقى
إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).
انتهت المقبولة.
أقول: من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين، لا بين
الراويين. ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص
الأحاديث، لا أنهما يقعان بتعبير من الحاكم أو المفتي - كالعصور
المتأخرة استنباطا من الأحاديث - تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوي
لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدل بها على الترجيح للروايات
المتعارضة.
غير أنه مع ذلك لا يجعلها شاهدا على ما نحن فيه. والسر في ذلك
واضح، لأن اعتبار شئ في الراوي بما هو حاكم غير اعتباره فيه بما هو
راو ومحدث. والمفهوم من المقبولة أن ترجيح الأعدل والأورع والأفقه
إنما هو بما هو حاكم في مقام نفوذ حكمه، لا في مقام قبول روايته.

(1) الكافي: ج 1 ص 67 ح 10. الفقيه: ج 3 ص 11 ح 3233. التهذيب: ج 6 ص 302
ح 845.
251

ويشهد لذلك أنها جعلت من جملة المرجحات كونه " أفقه " في
عرض كونه " أعدل " و " أصدق في الحديث " ولا ربط للأفقهية بترجيح
الرواية من جهة كونها رواية.
نعم، إن المقبولة انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح للرواية بما هي رواية
ابتداء من الترجيح بالشهرة، وإن كان ذلك من أجل كونها سندا لحكم
الحاكم، فإن هذا أمر آخر غير الترجيح لنفس الحكم وبيان نفوذه.
وعليه، فالمقبولة لا دليل فيها على الترجيح بالصفات. وأما الترجيح
بالشهرة وما يليها، فسيأتي الكلام عنه. ويؤيد هذا الاستنتاج أن صاحب
الكافي لم يذكر في مقدمة كتابه الترجيح بصفات الراوي.
3 - الترجيح بالشهرة:
تقدم (ص 170) أن الشهرة ليست حجة في نفسها، وأما إذا كانت
مرجحة للرواية - على القول به - فلا ينافي عدم حجيتها في نفسها.
والشهرة المرجحة على نحوين: شهرة عملية - وهي الشهرة الفتوائية
المطابقة للرواية - وشهرة في الرواية وإن لم يكن العمل على طبقها
مشهورا.
أما الأولى: فلم يرد فيها من الأخبار ما يدل على الترجيح بها. فإذا
قلنا بالترجيح بها، فلابد أن يكون بمناط وجوب الترجيح بكل ما يوجب
الأقربية إلى الواقع - على ما سيأتي وجهه - غاية الأمر أن تقوية الرواية
بالعمل بها يشترط فيها أمران:
1 - أن يعرف استناد الفتوى إليها، إذ لا يكفي مجرد مطابقة فتوى
المشهور للرواية في الوثوق بأقربيتها إلى الواقع.
252

2 - أن تكون الشهرة العملية قديمة، أي واقعة في عصر الأئمة أو
العصر الذي يليه الذي تم فيه جمع الأخبار وتحقيقها. أما الشهرة في
العصور المتأخرة فيشكل تقوية الرواية بها.
هذا من جهة الترجيح بالشهرة العملية في مقام التعارض. أما من جهة
جبر الشهرة للخبر الضعيف مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه فقد وقع
نزاع للعلماء فيه. والحق أنها جابرة له إذا كانت قديمة أيضا، لأن العمل
بالخبر عند المشهور من القدماء مما يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو
المناط في حجية الخبر، كما تقدم. وبالعكس من ذلك إعراض الأصحاب
عن الخبر، فإنه يوجب وهنه وإن كان راويه ثقة وكان قوي السند، بل كلما
قوي سند الخبر فأعرض عنه الأصحاب كان ذلك أكثر دلالة على وهنه.
وأما الثانية: - وهي الشهرة في الرواية - فإن اجماع المحققين قائم
على الترجيح بها، وقد دلت عليه المقبولة المتقدمة، وقد جاء فيها " فإن
المجمع عليه لا ريب فيه " والمقصود من " المجمع عليه " المشهور، بدليل
فهم السائل ذلك، إذ عقبه بالسؤال: " فإن كان الخبران عنكما مشهورين ".
ولا معنى لأن يراد من الشهرة الإجماع.
وقد يقال: إن شهرة الرواية في عصر الأئمة يوجب كون الخبر مقطوع
الصدور، وعلى الأقل يوجب كونه موثوقا بصدوره. وإذا كان كذلك فالشاذ
المعارض له إما مقطوع العدم أو موثوق بعدمه، فلا تعمه أدلة حجية
الخبر (1). وعليه فيخرج اقتضاء الشهرة في الرواية عن مسألة ترجيح
إحدى الحجتين بل تكون لتمييز الحجة عن اللاحجة.

(1) نهاية الدراية: ج 6 ص 317.
253

والجواب: إن الشاذ المقطوع العدم لا يدخل في مسألتنا قطعا، وأما
الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعلية بمعارضه، فلا يضر ذلك في
كونه مشمولا لأدلة حجية الخبر، لأن الظاهر كفاية وثاقة الراوي في قبول
خبره من دون إناطة بالوثوق الفعلي بخبره. وقد تقدم في حجية خبر الثقة
أنه لا يشترط حصول الظن الفعلي به ولا عدم الظن بخلافه (1).
4 - الترجيح بموافقة الكتاب:
في ذلك روايات كثيرة، منها: مقبولة ابن حنظلة المتقدمة.
ومنها: خبر الحسن بن الجهم المتقدم (رقم 1) فقد جاء في صدره:
قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟
قال: ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا: فإن كان
يشبههما فهو منا، وإن لم يكن يشبههما فليس منا.
قال في الكفاية: إن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من
أخبار الباب نظرا، وجهه قوة احتمال أن يكون المخالف للكتاب في نفسه
غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف وباطل وليس بشئ، أو أنه لم
نقله، أو أمر بطرحه على الجدار... (2).
أقول: في مسألة موافقة الكتاب ومخالفته طائفتان من الأخبار:
الأولى: في بيان مقياس أصل حجية الخبر، لا في مقام المعارضة
بغيره، وهي التي ورد فيها التعبيرات المذكورة في الكفاية: إنه زخرف
وباطل... إلى آخره. فلابد أن تحمل هذه الطائفة على المخالفة لصريح
الكتاب، لأنه هو الذي يصح وصفه بأنه زخرف وباطل ونحوهما.

(1) لم نظفر به فيما تقدم، فراجع.
(2) كفاية الأصول: ص 505.
254

والثانية: في بيان ترجيح أحد المتعارضين. وهذه لم يرد فيها مثل تلك
التعبيرات، وقد قرأت بعضها. وينبغي أن تحمل على المخالفة لظاهر
الكتاب لا لنصه، لا سيما أن مورد بعضها - مثل المقبولة - في الخبر الذي
لو كان وحده لاخذ به وإنما المانع من الأخذ به وجود المعارض، إذ الأمر
بالأخذ بالموافق وترك المخالف وقع في المقبولة بعد فرض كونهما
مشهورين قد رواهما الثقات، ثم فرض السائل موافقتهما معا للكتاب بعد
ذلك، إذ قال: " فإن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة " ولا
يكون ذلك إلا الموافقة لظاهره وإلا لزم وجود نصين متبائنين في الكتاب.
كل ذلك يدل على أن المراد من " مخالفة الكتاب " في المقبولة مخالفة
الظاهر، لا النص.
ويشهد لما قلناه أيضا ما جاء في خبر الحسن (1) المتقدم: " فإن كان
يشبههما فهو منا " فإن التعبير بكلمة " يشبههما " يشير إلى أن المراد
الموافقة والمخالفة للظاهر.
5 - مخالفة العامة:
إن الأخبار المطلقة الآمرة بالأخذ بما خالف العامة وترك ما وافقها
كلها منقولة عن رسالة للقطب الراوندي (2) وقد نقل عن الفاضل النراقي
أنه قال: إنها غير ثابتة عن القطب ثبوتا شايعا فلا حجة فيما نقل عنه (3).
وهناك رواية مرسلة عن الاحتجاج تقدمت (في رقم 10) لا حجة
فيها، لضعفها بالإرسال. فينحصر الدليل في " المقبولة " المتقدمة. وظاهرها

(1) أي: الحسن بن جهم.
(2) راجع الوسائل: ج 18 ص 84، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(3) راجع مناهج الأحكام والأصول: تعارض الأدلة، المقدمة الثالثة من مقدمات المرجحات.
255

- كما سبق قريبا - أن الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة بعد فرض
حجية الخبرين في أنفسهما، فتدل على الترجيح، لا على التمييز كما
قيل (1).
والنتيجة: أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة:
الشهرة، وموافقة الكتاب والسنة، ومخالفة العامة. وهذا ما استفاده الشيخ
الكليني في مقدمة الكافي.
المقام الثاني
في المفاضلة بين المرجحات
إن المرجحات في جملتها ترجع إلى ثلاث نواح لا تخرج عنها:
1 - ما يكون مرجحا للصدور، ويسمى " المرجح الصدوري " ومعنى
ذلك: أن المرجح يجعل صدور أحد الخبرين أقرب من صدور الآخر.
وذلك مثل موافقة المشهور، وصفات الراوي.
2 - ما يكون مرجحا لجهة الصدور، ويسمى " المرجح الجهتي " فإن
صدور الخبر - المعلوم الصدور حقيقة أو تعبدا - قد يكون لجهة الحكم
الواقعي، وقد يكون لبيان خلافه لتقية أو غيرها من مصالح إظهار خلاف
الواقع. وذلك مثل ما إذا كان الخبر مخالفا للعامة، فإنه يرجح في مورد
معارضته بخبر آخر موافق لهم أن صدوره كان لبيان الحكم الواقعي، لأ أنه
لا يحتمل فيه إظهار خلاف الواقع، بخلاف الآخر.
3 - ما يكون مرجحا للمضمون، ويسمى " المرجح المضموني ".
وذلك مثل موافقة الكتاب والسنة، إذ يكون مضمون الخبر الموافق أقرب
إلى الواقع في النظر.

(1) كفاية الأصول: ص 506.
256

وقد وقع الكلام في هذه المرجحات أنها مترتبة عند التعارض بينها
أو أ نهى في عرض واحد، على أقوال:
الأول: أنها في عرض واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين
واجدا لبعضها والخبر الآخر واجدا لبعض آخر وقع التزاحم بين الخبرين،
فيقدم الأقوى مناطا، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطا تخير بينهما. وهذا
هو مختار الشيخ صاحب الكفاية (1).
الثاني: أنها مترتبة ويقدم " المرجح الجهتي " على غيره، فالمخالف
للعامة أولى بالتقديم على الموافق لهم وإن كان مشهورا. وهذا هو
المنسوب إلى الوحيد البهبهاني (2).
الثالث: أنها مترتبة، ولكن على العكس من الأول، أي أنه يقدم
" المرجح الصدوري " على غيره، فيقدم المشهور الموافق للعامة على
الشاذ المخالف لهم. وهذا هو ما ذهب إليه شيخنا النائيني (3).
الرابع: أنها مترتبة حسبما جاء في المقبولة أو في الروايات الأخرى،
بأن يقدم - مثلا حسبما يظهر من المقبولة - المشهور فإن تساويا في
الشهرة قدم الموافق للكتاب والسنة، فان تساويا في ذلك قدم ما يخالف
العامة (4).
وهناك أقوال أخرى لا فائدة في نقلها.
وفي الحقيقة: أن هذا الخلاف ليس بمناط واحد، بل يبتنى على أشياء:
منها: أنه يبتني على القول بوجوب الاقتصار على المرجحات

(1) كفاية الأصول: ص 518.
(2) لم نعثر عليه في رسالته التي أفردها للجمع بين الأخبار، ولا في فوائده الحائرية. وعزاه
المحقق الخراساني إلى محكي الوحيد البهبهاني، كفاية الأصول: ص 518.
(3) فوائد الأصول: ج 4 ص 779.
(4) انظر الوافية للفاضل التوني (قدس سره): ص 333.
257

المنصوصة، فإن مقتضى ذلك أن يرجع إلى مدى دلالة أخبار الباب، وإلى
ما ينبغي من الجمع بينها بالجمع العرفي فيما اختلفت فيه، وقد وقع في
ذلك كلام طويل لكثير من الأعلام يحتاج استقصاؤه إلى كثير من الوقت.
والذي نقوله - على نحو الاختصار -: إنه يبدو من تتبع الأخبار أنه لا
تفاضل في الترجيح بين الأمور المذكورة فيها. ويشهد لذلك اقتصار جملة
منها على واحد منها، ثم ما جمع المرجحات منها كالمقبولة - والمرفوعة
على تقدير الاعتماد عليها - لم تذكرها كلها، كما لم تتفق في الترتيب بينها.
نعم، إن " المقبولة " - التي هي عمدتنا في الباب والتي لم نستفد منها
الترجيح بالصفات كما تقدم - ذكرت الشهرة أولا، ويظهر منها أن الشهرة
أكثر أهمية من كل مرجح. وأما باقي المرجحات فقد يقال: لا يظهر من
المقبولة الترتيب بينها، كيف! وقد جمعت بينها في الجواب عندما فرض
السائل الخبرين متساويين في الشهرة.
وعلى كل حال، فإن استفادة الترتيب بين المرجحات من الأخبار
مشكل جدا ما عدا تقديم الشهرة على غيرها.
ومنها: أنه يبتني - بعد فرض القول بالتعدي إلى غير المرجحات
المنصوصة - على أن القاعدة هل تقتضي تقديم المرجح الصدوري على
المرجح الجهتي، أو بالعكس، أو لا تقتضي شيئا منهما؟ وعلى التقدير
الثالث لابد أن يرجع إلى أقوائية المرجح في الكشف عن مطابقة الخبر
للواقع، فكل مرجح يكون أقوى من هذه الجهة - أيا كان - فهو أولى
بالتقديم.
وقد أصر شيخنا النائيني - أعلى الله درجته - على الأول (1) أي أنه

(1) فوائد الأصول: ج 4 ص 781.
258

يرى أن القاعدة تقتضي تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي.
وبنى ذلك على كون الخبر صادرا لبيان الحكم الواقعي لا لغرض آخر
يتفرع على فرض صدوره حقيقة أو تعبدا، لأن جهة الصدور من شؤون
الصادر، فما لا صدور له لا معنى للكلام عنه أنه صادر لبيان الحكم
الواقعي أو لبيان غيره.
وعليه، فإذا كان الخبر الموافق للعامة مشهورا وكان الخبر الشاذ
مخالفا لهم كان الترجيح للشهرة دون مخالفة الآخر للعامة، لأن مقتضى
الحكم بحجية المشهور عدم حجية الشاذ، فلا معنى لحمله على بيان
الحكم الواقع، ليحمل المشهور على التقية، إذ لا تعبد بصدور الشاذ حينئذ.
أقول: إن المسلم إنما هو تأخر رتبة الحكم بكون الخبر صادرا لبيان
الواقع أو لغيره عن الحكم بصدوره حقيقة أو تعبدا وتوقف الأول على
الثاني. ولكن ذلك غير المدعى، وهو توقف مرجح الأول على مرجح
الثاني، فإنه ليس المسلم نفس المدعى ولا يلزمه.
أما أنه ليس نفسه فواضح لما قلناه: من أن المسلم هو توقف الأول
على الثاني، وهو بالبديهة غير توقف مرجحه على مرجحه الذي هو المدعى.
وأما أنه لا يستلزمه فكذلك واضح، فإنه إذا تصورنا هناك خبرين
متعارضين:
1 - مشهورا موافقا للعامة.
2 - شاذا مخالفا لهم.
فإن الترجيح للشاذ بالمخالفة إنما يتوقف على حجيته الاقتضائية
الثابتة له في نفسه، لا على فعلية حجيته، ولا على عدم فعلية حجية
المشهور في قباله، بل فعلية حجية الشاذ تنشأ من الترجيح له بالمخالفة
ويترتب عليها حينئذ عدم فعلية حجية المشهور.
259

وكذلك الترجيح للمشهور بالشهرة إنما يتوقف على حجيته الاقتضائية
الثابتة له في نفسه، لا على فعلية حجيته، ولا على عدم فعلية حجية الشاذ
في قباله، بل فعلية حجية المشهور تنشأ من الترجيح له بالشهرة ويترتب
عليها حينئذ عدم فعلية حجية الشاذ.
وعليه، فكما لا يتوقف الترجيح بالشهرة على عدم فعلية الشاذ المقابل
له، كذلك لا يتوقف الترجيح بالمخالفة على عدم فعلية المشهور المقابل
له. ومن ذلك يتضح أنه كما يقتضي الحكم بحجية المشهور عدم حجية
الشاذ فلا معنى لحمله على بيان الحكم الواقعي، كذلك يقتضي الحكم
بحجية الشاذ عدم حجية المشهور، فلا معنى لحمله على بيان الحكم
الواقعي. وليس الأول أولى بالتقديم من الثاني.
نعم، إذا دل دليل خاص مثل " المقبولة " على أولوية الشهرة بالتقديم
من المخالفة فهذا شئ آخر هو مقتضى الدليل، لا أنه مقتضى القاعدة.
والنتيجة: أنه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجحات على
الآخر، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها. وما عدا ذلك
فالمقدم هو الأقوى مناطا - أي ما هو الأقرب إلى الواقع في نظر المجتهد
- فإن لم يحصل التفاضل من هذه الجهة فالقاعدة هي التساقط، لا التخيير.
ومع التساقط يرجع إلى الأصول العملية التي يقتضيها المورد.
المقام الثالث
في التعدي عن المرجحات المنصوصة
لقد اختلفت أنظار الفقهاء في وجوب الترجيح بغير المرجحات
المنصوصة على أقوال:
1 - وجوب التعدي إلى كل ما يوجب الأقربية إلى الواقع نوعا، وهو
260

القول المشهور، ومال إليه الشيخ الأعظم (1) وجماعة من محققي أساتذتنا.
وزاد بعض الفقهاء الاعتبار في الترجيح بكل مزية وإن لم تفد الأقربية إلى
الواقع أو الصدور، مثل تقديم ما يتضمن الحظر على ما يتضمن الإباحة.
2 - وجوب الاقتصار على المرجحات المنصوصة، وهو الذي يظهر
من كلام الشيخ الكليني في مقدمة الكافي (2) ومال إليه الشيخ صاحب
الكفاية (3). وهو لازم طريقة الأخباريين في الاقتصار على نصوص
الأخبار والجمود عليها.
3 - التفصيل بين صفات الراوي فيجوز التعدي فيها، وبين غيرها
فلا يجوز (4).
ولما كانت المباني في الأصل في المتعارضين مختلفة، فلابد أن
تختلف الأقوال في هذه المسألة على حسبها، فنقول:
أولا: إذا قلنا بأن الأصل في المتعارضين هو " التساقط " - وهو
المختار - فإن الأصل يقتضي عدم الترجيح إلا ما علم بدليل كون شئ
مرجحا. ولكن هذا الدليل هل يكفي فيه نفس حجية الأمارة، أو يحتاج
إلى دليل خاص جديد؟
فإن قلنا: إن دليل الأمارة كاف في الترجيح، فلا شك في اعتبار كل
مزية توجب الأقربية إلى الواقع نوعا. والظاهر أن الدليل كاف في ذلك،
لا سيما إذا كان دليلها بناء العقلاء الذي هو أقوى أدلة حجيتها، فإن الظاهر
أن بناءهم على العمل بكل ما هو أقرب إلى الواقع من الخبرين
المتعارضين، أي أن العقلاء وأهل العرف في مورد التعارض بين الخبرين
غير المتكافئين لا يتوقفون في العمل بما هو أقرب إلى الواقع في نظرهم

(1) فرائد الأصول: ج 2 ص 780.
(2) انظر الكافي: ج 1 ص 8.
(3) كفاية الأصول: ص 509.
(4) لم نظفر بقائله.
261

ولا يبقون في حيرة من ذلك، وإن كانوا يعملون بالخبر الآخر المرجوح لو
بقي وحده بلا معارض. وإذا كان للعقلاء مثل هذا البناء العملي فإنه
يستكشف منه رضى الشارع وإمضاؤه، على ما تقدم وجهه في خبر
الواحد (1) والظواهر (2).
وإن قلنا: إن دليل الأمارة غير كاف ولابد من دليل جديد، فلا محالة
يجب الاقتصار على المرجحات المنصوصة، إلا إذا استفدنا من أدلة
الترجيح عموم الترجيح بكل مزية توجب أقربية الأمارة إلى الواقع، كما
ذهب إليه الشيخ الأعظم، فإنه أكد في الرسائل على أن المستفاد من
الأخبار أن المناط في الترجيح هو الأقربية إلى مطابقة الواقع في نظر
الناظر في المتعارضين، من جهة أنه أقرب من دون مدخلية خصوصية
سبب ومزية. وقد ناقش هذه الاستفادة صاحب الكفاية، فراجع (3).
ثانيا: إذا قلنا بأن القاعدة الأولية في المتعارضين هو " التخيير " فإن
الترجيح على كل حال لا يحتاج إلى دليل جديد، فإن احتمال تعين
الراجح كاف في لزوم الترجيح، لأ أنه يكون المورد من باب الدوران بين
التعيين والتخيير، والعقل يحكم بعدم جواز تقديم المرجوح على الراجح،
لا سيما في مقامنا، وذلك: لأ أنه بناء على القول بالتخيير يحصل العلم بأن
الراجح منجز للواقع إما تعيينا وإما تخييرا، وكذلك هو معذر عند المخالفة
للواقع. وأما المرجوح فلا يحرز كونه معذرا ولا يكون العمل به معذرا
بالفعل لو كان مخالفا للواقع.
وعليه، فيجوز الاقتصار على العمل بالراجح بلا شك، لأ أنه معذر قطعا
على كل حال، سواء وافق الواقع أم خالفه، ولا يجوز الاقتصار على العمل

(1) تقدم في ص 97.
(2) تقدم في ص 148.
(3) راجع كفاية الأصول: ص 510.
262

بالمرجوح لعدم إحراز كونه معذرا.
ثالثا: إذا قلنا بأن القاعدة الثانوية الشرعية في المتعارضين هو
" التخيير " - كما هو المشهور - وإن كانت القاعدة الأولية العقلية هي
" التساقط " فلابد أن نرجع إلى مقدار دلالة أخبار الباب. فإن استفدنا منها
التخيير مطلقا حتى مع وجود المرجحات، فذلك دليل على عدم اعتبار
الترجيح مطلقا بأي مرجح كان. وإن استفدنا منها التخيير في صورة تكافؤ
المتعارضين فقط، فلابد من استفادة الترجيح من نفس الأخبار، إما بكل
مزية أو بخصوص المزايا المنصوصة. وقد عرفت أن الشيخ الأعظم
يستفيد منها العموم (1).
إذا عرفت ما شرحناه فإنك تعرف أن الحق على كل حال ما ذهب إليه
الشيخ الأعظم - الذي هو مذهب المشهور - وهو الترجيح بكل مزية
توجب أقربية الأمارة إلى الواقع نوعا. وذلك بناء على المختار من أن
القاعدة هي " التساقط " فإنها مخصوصة بما إذا كان المتعارضان متكافئين.
وأما ما فيه المزية الموجبة لأقربية الأمارة إلى الواقع في نظر الناظر، فإن
بناء العقلاء مستقر على العمل بذي المزية الموجبة للأقربية إلى الواقع، كما
تقدم. ولا نحتاج بناء على هذا إلى استفادة عموم الترجيح من الأخبار وإن
كان الحق أن الأخبار تشعر بذلك، فهي تؤيد ما نقول. ولا حاجة إلى
التطويل في بيان وجه الاستفادة منها.
هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعادل والتراجيح، وبقيت هناك
أبحاث كثيرة في هذه المسألة نحيل الطالب فيها إلى المطولات.
والحمد لله رب العالمين (2)

(1) راجع فرائد الأصول: ج 2 ص 780.
(2) إلى هنا قابلناه بالطبعة الأولى الواصلة إلينا.
263