الكتاب: المحكم في أصول الفقه
المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الجزء: ٥
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٤ - ١٩٩٤ م
المطبعة: جاويد
الناشر: مؤسسة المنار
ردمك:
ملاحظات:

المحكم
في
أصول الفقه
1

المحكم
في
أصول الفقه
تأليف
السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
الجزء الخامس
مؤسسة المنار
3

الطبعة الأولى
1414 / 1994
حقوق الطبع محفوظة
اسم الكتاب: المحكم في أصول الفقه ج 5
اسم المؤلف: السيد محمد سعيد الحكيم
الفلم والألواح الحساسة: حميد / قم
المطبعة: جاويد
الطبعة: الأولى
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل
عقدة من لساني يفقهوا قولي، أنت حسبي
ونعم الوكيل، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم، عليه توكلت وإليه أنيب.
الابتداء بتحرير هذه المطالب عصر الجمعة الرابع من شهر شوال سنة 1395
الابتداء بالقاء هذه المطالب في مجلس الدرس ليلة الأحد السادس من شهر شوال سنة 1395
الابتداء بتبييض هذه المطالب في هذه الأوراق ليلة الأحد السادس من شهر شوال سنة 1395
5

القسم الثاني
في الاستصحاب
7

القسم الثاني
في الاستصحاب
وينبغي التمهيد له بذكر أمور..
الامر الأول: الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة.
ومن الظاهر مناسبة البقاء والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب للمادة
وهي الصحبة، بنحو يصحح إطلاقها في المقام.
وأما هيئة الاستفعال فهي..
تارة: تفيد طلب المادة، كما في الاستغفار، والاستشارة، والاسترفاد.
وأخرى تفيد جعلها وتحقيقها خارجا بوجه، كما في استعمال الشئ
والاستكثار من الخير.
وثالثة: تفيد ادعاءها والحكم بها والبناء عليها، كما في الاستكبار
والاستحسان والاستقذار.
ولا يبعد كون إطلاق الهيئة المذكورة في المقام بلحاظ المعنى الثالث،
لرجوع الاستصحاب إلى البناء والحكم بمصاحبة المتيقن السابق في الزمان
اللاحق وبقائه فيه، خلافا لما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من ابتنائه على
المعنى الثاني.
نعم، لا يبعد رجوع المعنى الثالث للثاني بتكلف تنزيل الوجود الادعائي
منزلة الوجود الحقيقي.
9

وأما بحسب الاصطلاح فقد كثرت تعريفاته منهم، حتى قيل: انها بلغت
إلى نيف وعشرة، ولعل الأنسب بمؤدى الاخبار تعريفه بأنه: التعبد الظاهري
ببقاء الشئ في زمان الشك فيه للعلم بثبوته في الزمان السابق.
وما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أنه إبقاء ما كان، مبني على إغفال موضوعية
اليقين في الحكم بالبقاء، وجعل العلة فيه مجرد سبق الوجود، وهو خلاف ظاهر
النصوص.
وحمل اليقين فيها على محض الطريقية للموضوع من دون أن يكون
دخيلا فيه، بلا وجه. ولعله يأتي الكلام في بعض الثمرات المترتبة على ذلك في
محله إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه عبارة عن عدم انتقاض اليقين
السابق بلحاظ الجري العملي بالشك في بقاء المتيقن، لان ذلك أنسب بمفاد
الاخبار.
ففيه: أن الظاهر من عبارة النصوص الكناية عما ذكرنا، فلا معنى للجمود
عليها في مقام التعريف.
ومثله ما ذكره - وسبقه إليه المحقق الخراساني قدس سره - من تقييد متعلق اليقين
بالحكم أو الموضوع ذي الحكم.
لوضوح أن ذلك ليس مقوما لمفهوم الاستصحاب، بل شرط في جريانه،
كما هو الشرط في جميع التعبدات الشرعية في موارد الطرق والأصول.
هذا، وأما بناء على عدم أخذ الاستصحاب من الاخبار، بل من حكم
العقل أو بناء العقلاء، فكما يمكن تعريفه بما ذكرنا يمكن تعريفه بما هو المنشأ
له، وهو كون الشئ متيقنا سابقا مشكوكا في بقائه لاحقا.
والأول أنسب بإطلاق لفظ الاستصحاب، لما تقدم من إطلاق هيئة
الاستفعال بلحاظ ادعاء وجود المادة والبناء عليها. بل هو المناسب لعد بعضهم
10

الاستصحاب من أقسام حكم العقل.
والثاني هو المناسب لعد بعضهم له من الطرق والامارات، ولاطلاق
الحجة عليه. فتأمل.
والامر سهل، لعدم الأثر لتحديد المعنى الاصطلاحي، بل يلزم النظر في
مفاد الأدلة، ولم يؤخذ في شئ منها عنوان الاستصحاب.
الامر الثاني: اشتهر في كلماتهم تعريف المسألة الأصولية بأنها المسألة
الممهدة لاستنباط الحكم الكلي. والظاهر من الحكم الكلي هو الكبرى الشرعية
العملية، كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر.
وعليه يشكل دخول مسألة الاستصحاب في المسألة الأصولية، فإنه وإن
جرى في الشبهات الحكمية، كنجاسة الماء الذي زال تغيره من قبل نفسه، إلا أن
فعلية موضوعه التي يتوقف عليها استنباط الحكم منه إنما تكون في الوقائع
الشخصية ذات الحكم الشخصي، ففعلية الشك في بقاء نجاسة الماء بعد اليقين
بطهارته إنما تكون في فرض فعلية الماء الذي سبق تغيره بالنجاسة وزال تغيره
بها، والاستصحاب الجاري فيه لا يحرز حكما كليا، بل جزئيا، كالاستصحاب
الجاري في الشبهة الموضوعية، كما لو فرض احتمال ملاقاة الماء الطاهر
للنجاسة. ومجرد اختلاف منشأ الشك لا يكون فارقا.
وليست فتوى المجتهد بالحكم الكلي في ذلك إلا لوجود الضابط العام
لتحقق موضوع الاستصحاب في الجزئيات الكثيرة عند الابتلاء بها، نظير فتواه
بطهارة الماء لو شك في ملاقاته للنجاسة، الذي له جزئيات كثيرة، لا لفعلية
جريانه بالإضافة إلى القضية الكلية قبل الابتلاء بوقائعها الشخصية.
وما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الاكتفاء فيه بفرض الموضوع، وأنه لا
يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجا.
غير ظاهر، فإن فرض الموضوع إنما يصحح فرض جريان الاستصحاب،
11

لا فعلية جريانه، كما لعله ظاهر بالتأمل.
وهذا بخلاف مثل مسألة حجية خبر الواحد، فإن فعلية موضوعها - وهو
قيام الخبر على الحكم - لا تكون في الواقعة الشخصية، بل يقوم الخبر على
الحكم الكلي ولو مع عدم الابتلاء بموضوعه، فيستنبط منه مفاده - وهو الحكم
الكلي - ويفتي به المجتهد للعامي.
بل كذا الحال في مثل أصل البراءة، فإن موضوعه وهو الشك قد يتعلق
بالحكم الكلي كحرمة لحم الأرنب. فتأمل.
إن قلت: على هذا لا يتجه للمجتهد الفتوى بمؤدى الاستصحاب في
الشبهات الحكمية، لعدم تحقق موضوعه في حق العامي، وهو اليقين والشك،
لأنه يأخذه من المجتهد ابتداء، لا بتوسط الموضوع المذكور، وإنما يتحقق في
حق المجتهد الفاحص عن الأدلة، وهو لا يكفي في عمل العامي بمؤداه، بخلاف
الشبهة الموضوعية، لاخذ اليقين والشك في موضوع الفتوى الموجب لتنبه
العامي لهما وتحقق موضوع الاستصحاب في حقه.
قلت: أما اليقين بالحدوث فيكفي في تحققه في حق العامي رجوعه
للمجتهد، وأما الشك في البقاء فهو لازم لفرض جهل العامي واحتياجه للرجوع
للغير، وتمام الكلام في ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد عند الكلام في وجه
فتوى المجتهد بمؤدى الأدلة والأصول إن شاء الله تعالى.
ثم إنه لا يفرق في ما ذكرنا بين كون الاستصحاب أصلا عمليا مأخوذا من
الاخبار أو سيرة العقلاء وكونه أمارة معتبرة، فإن البحث على الثاني وإن كان في
الحجية، إلا أنها كحجية اليد لا تنفع في استنباط الحكم الكلي، بل الجزئي وإن
كان مسببا عن الشبهة الحكمية، لما ذكرنا من عدم فعلية موضوعه إلا بالإضافة
إلى الموارد الجزئية.
هذا، وقد ذكر غير واحد في وجه كون الاستصحاب في الشبهات
12

الحكمية من المسائل الأصولية كون الرجوع إليه من وظيفة المجتهد دون
العامي، بخلافه في الشبهات الموضوعية، حيث يتسنى للعامي الرجوع إليه بعد
أخذ كبراه من المجتهد، كسائر المسائل الفرعية.
لكن الظاهر عدم صلوح ذلك ضابطا للمسألة الأصولية، إذ لا وجه
لاختصاص المسألة بالمجتهد بعد فرض عموم الشريعة إلا اختصاصه بالقدرة
على تشخيص موضوعها، لاحتياجه إلى النظر في الأدلة الذي لا يتيسر للعامي،
فالعامي في الحقيقة يعمل بالمسألة بعد رجوعه للمجتهد فيها وفي تشخيص
صغراها، وذلك جار في كثير من المسائل الفرعية، كمانعية ما لا يؤكل لحمه من
الصلاة، حيث لابد للعامي من الرجوع للمجتهد في تشخيص موضوعها، وهو
ما لا يؤكل لحمه من جهة الشبهة الحكمية.
وتمام الكلام في ضابط المسألة الأصولية في مقدمة هذا العلم.
وبالجملة: يشكل عد الاستصحاب من المسائل الأصولية على التعريف
المتقدم حتى ما يجري منه في الشبهة الحكمية.
نعم، يتجه ذلك في استصحاب عدم النسخ، لتحقق موضوعه بالإضافة
إلى الحكم الكلي. إلا أن الاشكال في جريانه في نفسه على ما يأتي الكلام فيه
في مبحث الاستصحاب التعليقي، إن شاء الله تعالى.
وإن كان الامر غير مهم بعد أهمية المسألة وترتب كثير من الفروع عليها
ومشابهتها للمسألة الأصولية في إمكان الرجوع إليها في الشبهات الحكمية،
ولا سيما مع مناسبتها لمباحث الأصول العملية التي نحن بصددها، فإن ذلك
ملزم بتحريرها ولو استطرادا.
ومن هنا كان المناسب عموم الكلام في حجية الاستصحاب للشبهات
الموضوعية، لأنها وإن لم تناسب غرض الأصولي، إلا أن أهميتها وكثرة الفروع
المترتبة عليها وعدم خصوصية الشبهات الحكمية في كثير من جهات الكلام
13

يقتضى التعميم المذكور. فلاحظ.
الامر الثالث: اختلف في الاستصحاب..
تارة: في كونه أمارة، أو أصلا عقلائيا، أو تعبديا شرعيا.
وأخرى في حجيته وعدمه مطلقا، أو على تفصيل ناشئ من الاختلاف
في عموم دليله وخصوصه، أو من الاختلاف في تحقق أركانه وشروطه في
بعض الموارد.
وقد كثرت الأقوال في ذلك حتى حكي عن بعضهم أنها تبلغ نيفا
وخمسين قولا.
وحيث لا مجال لإطالة الكلام في تفاصيل ذلك فاللازم النظر في الأدلة،
ليتضح منها حال تلك الأقوال إجمالا، مع إهمال ما احتج به لكل قول على
تفاصيله، ونقضه وإبرامه، وإن أطال شيخنا الأعظم في كثير منها، لضيق المجال
عن ذلك، ثم ينظر بعد ذلك في الموارد المهمة التي وقع الكلام في تحقق أركانه
فيها.
ومن هنا يناسب حصر الكلام بمقامات ثلاثة...
يبحث في الأول منها عن أدلة المسألة وعن سعة مدلولها، ليظهر حاله من
حيثية كونه أمارة، أو أصلا عاما أو خاصا. وفي الثاني عن أركانه وشروطه العامة
وما يناسب ذلك.
وفي الثالث عن الموارد التي وقع الكلام في تحقق الأركان والشروط
المذكورة فيها.
وهذا أولى مما صنعه شيخنا الأعظم قدس سره وجرى عليه غيره من تأخير
الكلام في الأركان عن التنبيهات التي عقدها لبيان الموارد التي وقع الكلام في
جريان الاستصحاب فيها للكلام في تحقق أركانه.
لوضوح ابتناء الكلام في تلك الموارد على الكلام في الأركان ابتناء
14

الصغرى على الكبرى الملزم بتأخيره عنه.
وأشكل من ذلك جعله الكلام في الأركان في الخاتمة وعدم ذكره له في
أصل المسألة، مع كونه من أهم مباحثها ومقوماتها.
نعم، جعله الكلام في الموارد المذكورة في ضمن تنبيهات خارجة عن
محل الكلام هو المناسب لكونها من سنخ الصغريات لكبري الاستصحاب، إلا
أن أهمية البحث في تلك الموارد وطوله أوجبا عدولنا عن ذلك، وجعله في
مقام مستقل في مقابل المقامين الآخرين، على أنه من أركان البحث.
ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره استطرد في الخاتمة إلى ذكر حال الاستصحاب مع
بعض القواعد من حيثية تقديمها عليه أو تقديمه عليها، وأسهب في تحقيق
تلك القواعد.
ويحسن منا متابعته في ذلك، لان أهمية تلك القواعد، وخروجها عن
صلب الكلام في الاستصحاب، ومناسبتها له في الجملة يناسب ذكرها في
خاتمته جدا.
وسوف نجري على هذا المنهج إن شاء الله تعالى، مستمدين منه العون
والتوفيق، والتأييد والتسديد، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين، ولا حول ولا
قوة إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
15

المقام الأول
في أدلة الاستصحاب
وقد استدل عليه بوجوه كثيرة حسب اختلاف الأقوال، وما ينبغي
التعرض له أمور..
الامر الأول: الاجماع المدعى من بعضهم عليه في الجملة، فعن المبادي
دعوى إجماع الفقهاء على البناء على بقاء الحكم عند الشك في طروء رافعه،
وعن النهاية دعواه على البناء على بقاء كل شئ عند اليقين بثبوته والشك في
رافعه.
بل قد يظهر من بعض الأعاظم قدس سره وجود مدعي الاجماع على حجية
الاستصحاب مطلقا.
لكن لا مجال للتعويل على مثل هذه الدعاوي في مثل هذه المسألة التي
كثرت فيها الأقوال واختلفت فيها مباني الاستدلال.
نعم، الظاهر تحقق الاجماع على الرجوع إليه في خصوص بعض الفروع
في الشبهات الموضوعية التي هي غالبا مورد النصوص، كالشك في الوضوء بعد
الحدث أو العكس، إلا أنه لا يناسب اهتمام الأصولي به، ولا سيما مع الاكتفاء
بالنصوص الواردة في تلك الموارد غالبا.
الامر الثاني: بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم، كما ادعاه
العلامة قدس سره في محكي كلامه، بل ربما ادعي اختلال النظام بدونه، بل قد يقال: إنه
أمر فطري لكل ذي شعور، ولا يختص بالانسان، كما يشاهد في الطيور وغيرها
17

من رجوعها لأوكارها، وطلب الماء والكلاء من مواضعها المعهودة لها.
هذا، وقد اختلفت كلماتهم..
تارة: في ثبوت بناء العقلاء وسيرتهم وعدمه مطلقا، أو على تفصيل.
وأخرى في حجيته على تقدير ثبوته.
أما الأول فهو غير ظاهر، لان المهم في المقام هو السيرة الارتكازية على
العمل عليه على أنه أمر يصح الاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز -
المستتبعين للعقاب والثواب - في مورد الالتفات والشك، نظير أصالة عدم
القرينة أو عدم الغفلة.
ولا يكفي العمل عليه غفلة عن احتمال تبدل الحال، لعدم ما يثيره، أو
للاطمئنان بعدم تبدله لغلبة أو نحوها، أو للاحتياط في موافقة احتمال الواقع
ورجاء تحصيله، والمتيقن من سيرة العقلاء انما هو العمل على طبق الحالة
السابقة لاحد الوجوه المذكورة، لا البناء عليها بالوجه الذي هو محل الكلام، بل
لا طريق لنا لتحصيل اليقين به.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا وجه لحصول الاطمئنان مع
فرض الشك في البقاء، والعمل برجائه إنما يصح فيما لو لم يلزم من العمل
بدونه فوت المنافع أو حصول المضار المهمة، وقريب منه ما ذكره بعض
الأعيان المحققين قدس سره.
فيندفع: بأنه مع فرض كون العمل مع عدم البقاء سببا في فوت المنافع
ووقوع المضار لا يصح العمل بالاستصحاب حتى لو فرض كونه حجة عندهم،
لان العمل بالحجة إنما يصح في مقام التعذير والتنجيز غير التابعين للواقع، لا مع
الاهتمام بتحصيل الواقع لإناطة الأثر المقصود به، لعدم صلوح الحجية للتأمين
عن الآثار الواقعية، كما لعله ظاهر، بل في مثل ذلك إنما يصح العمل مع الوثوق
بالواقع، وكلما زاد الأثر الواقعي أهمية كان التحرز عن مخالفة الواقع والتوثق من
18

حصوله ألزم، وإلا كان تفريطا منافيا للحكمة في تحصيل الغرض وموردا للوم
العقلاء.
ولا مجال لما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من إنكار لومهم في محل
الكلام، وأن المداقة لتحصيل الوثوق والاطمئنان لمحض الاحتياط غير اللازم
بنظرهم.
نعم، لو فرض مزاحمة احتمال محذور فوت الواقع بمحذور الاحتياط،
لما يتوقف عليه من خسارة أو نحوها، لحقه حكم التزاحم من اختيار الأهم
حسب اختلاف الموارد والانظار.
ولا فرق في ما ذكرنا بين الشك في المقتضي والغاية والرافع، فإن بناء
العقلاء على البقاء في الأخيرين، أو خصوص الأخير في مقام التعذير والتنجيز
غير ظاهر بنحو يتحصل لهم سيرة معتد بها صالحة للاحتجاج.
نعم، لا يبعد بناؤهم على أولوية البقاء في الجملة بنحو يرجحون العمل
عليه عند الدوران بين محذورين مع فقد مرجح غيره وتعذر الاحتياط من دون
أن يبلغ مرتبة الالزام والاحتجاج التي نحن بصددها.
كما أنه لا إشكال في بنائهم عليه في الجملة في مقام التعذير والتنجيز في
خصوص بعض الموارد، كموارد الشك في السلامة، إلا أنه ليس لأجل
الاستصحاب، بل لخصوصية فيها ربما تقتضي البناء عليها حتى مع، الشك
البدوي.
ومثله بعض الأصول العقلائية الخاصة، كأصالة عدم النسخ، وبقاء ذي
الرأي على رأيه، وعدم القرينة الصارفة عن ظاهر الكلام، وغير ذلك، فإن بناء
العقلاء على الرجوع إليها لا يكشف عن عموم بنائهم على الاستصحاب، وإن
وافقته في الجملة.
وأما الثاني - وهو حجية السيرة على تقدير ثبوتها - فيظهر الكلام فيه مما
19

تقدم في خبر الواحد، فقد ذكرنا هناك أن سيرة العقلاء إن كانت ناشئة عن أمر
خارج عنهم من حاجة ملحة أو إرشاد مرشد أو نحوهما كانت حجيتها موقوفة
على إمضاء الشارع لها، فيكون الامضاء تمام للحجية، وإن كانت ناشئة
عن مرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وغرائزهم التي فطرهم عليها كانت
تمام المقتضي للحجية من دون حاجة للامضاء، بل لابد في رفع اليد عنها من
ثبوت ردع الشارع عنها.
ومن الظاهر أن السيرة المدعاة في المقام من القسم الثاني.
وقد وقع الكلام بينهم في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع
وقد ذكرنا في خبر الواحد ما قيل في وجه عدم صلوح العموم المذكور
للردع، وأجبنا عنه بما يجري هنا.
كما أشرنا هناك إلى ما تقدم منا في تأسيس الأصل في الحجية من عدم
ثبوت العموم المذكور بنحو يصلح للاحتجاج، ليستفاد منه الردع هنا أو هناك.
فراجع وتأمل جيدا.
الامر الثالث: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره في عرض استدلالهم من أن
الثابت في الزمان الأول لازم البقاء في الزمان الثاني ما لم يتجدد مؤثر العدم، فإذا
لم يعلم بتحقق مؤثر العدم فالراجح بقاؤه، فيجب العمل عليه.
ولا يخفى اختصاص ذلك بصورة الشك في طروء الغاية والرافع، ولا
يجري مع الشك في المقتضي، لعدم احتياج الارتفاع فيه إلى حدوث مؤثر
العدم، بل يكفي فيه انتهاء أمد المقتضي.
إلا أن يراد من مؤثر العدم ما يعم ذلك، فيرجع إلى ما عن العضدي وغيره
من أن ما تحقق وجوده ولم يعلم أو يظن عدمه فهو مظنون البقاء.
وكيف كان، فهو يندفع..
20

أولا: بمنع حصول الظن الشخصي في المقام من الحيثية المذكورة، بل
يختلف حصوله باختلاف الموارد جدا. وعدم الجهة الارتكازية المقتضية
لإفادته الظن نوعا.
وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم قدس سره بما لا مجال لمتابعته فيه بعد وضوح
الحال.
وثانيا: أنه لا مجال لاثبات حجية الظن المذكور، لا ببناء العقلاء، لما
تقدم، ولا بحكم العقل، إلا بناء على تمامية دليل الانسداد، كالخارج عن محل
الكلام.
الامر الرابع: الاخبار. قال شيخنا الأعظم قدس سره: " وأول من تمسك بهذه
الاخبار - في ما وجدته - والد الشيخ البهائي - في ما حكي عنه - في العقد
الطهماسي، وتبعه صاحب الذخيرة، وشارح الدروس، وشاع بين من تأخر
عنهم... ".
وهي جملة من النصوص..
الأول: صحيحة زرارة، قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب
الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: " يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب
والاذن، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرك
على [إلى. يب (1)] جنبه شئ ولم يعلم به؟. قال: لا حتى يستيقن أنه قد نام، حتى
يجئ من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا تنقض [ينقض
اليقين. يب] اليقين أبدا بالشك، وإنما تنقضه [ولكن ينقضه. يب] بيقين آخر " (2)
وإضمارها لا يمنع من الاستدلال بها بعد ذكر الأصحاب لها في كتب
أخبار الأئمة عليهم السلام، ولا سيما بعد كون الراوي لها زرارة، حيث لا يحتمل أن يأخذ

(1) هذه وما بعدها إشارة إلى نسخة التهذيب.
(2) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 1.
21

هذه الخصوصيات من غير الإمام عليه السلام.
على أنه قد رواها عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في الحدائق، ومحكي الفوائد
للسيد بحر العلوم، والفوائد المدنية للاسترابادي. وإن لم يظهر لنا مأخذ ذلك بعد
روايتها مضمرة في التهذيب والوسائل.
ولا ريب في دلالتها على الرجوع للاستصحاب في موردها، وإنما الكلام
في دلالتها على الرجوع إليه في جميع الموارد، كما استدل بها عليه غير واحد.
وتوضيح ذلك: أن قوله عليه السلام: " وإلا... " لما كان راجعا إلى جملة شرطية
تقديرها: وإن لم يجئ من ذلك أمر بين... فقد وقع الكلام في جزاء الشرطية
المذكورة، وقد ذكر في كلماتهم ثلاثة وجوه..
الأول: أن يكون محذوفا مقدرا أقيمت علته مقامه، والتقدير: وإلا لا يجب
الوضوء، فإنه على يقين من وضوئه....
الثاني: أن يكون هو قوله عليه السلام: " فإنه على يقين من وضوئه " بأن تكون
جملة إنشائية قصد بها بيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء في فرض الشك
المذكور.
وربما قيل: انها على ظاهرها في الاخبار، على ما يأتي الكلام فيه.
الثالث: أن يكون هو قوله عليه السلام: " ولا ينقض اليقين بالشك أبدا " ويكون
قوله عليه السلام: " فإنه على يقين من وضوئه " توطئة لذلك.
وظاهر شيخنا الأعظم قدس سره تقريب الوجه الأول، بل هو الذي أصر عليه
جماعة ممن تأخر عنه.
ونظر له شيخنا الأعظم قدس سره ببعض الآيات، كقوله تعالى: " ومن كفر فإن الله
غني عن العالمين " (1)، وقوله تعالى: " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " (2).

(1) آل عمران: 97.
(2) يوسف: 77.
22

واستشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره: - على ما في تقرير درسه - بأن لازمه
التكرار في الجواب، وبيان حكم المسؤول عنه مرتين، لان الحكم بعدم إعادة
الوضوء قد ذكر أولا بقوله: " لا حتى يستيقن... "، وهو لا يخلو عن حزازة.
ودعوى: أنه لا تكرار مع فرض حذفه وإقامة العلة مقامه.
مدفوعة: بأن المحذور ليس في تكرار ذكره، بل في تكرار بيانه، فإن حذفه
وإقامة العلة مقامه لا ينفك عن قصده بالبيان.
هذا، وقد أجاب عن ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره: بأن تكرار الحكم بعدم إعادة
الوضوء ليس مقصودا بنفسه، كي يكون بلا فائدة، بل تمهيد لبيان علته
والاستدلال عليه.
وما ذكره قدس سره وإن كان كافيا في الجواب عن الاشكال، إلا أن الظاهر أن
دعوى الحذف لا تخلو عن تسامح للمحافظة على القواعد العربية في فرض
الجزاء جملة واحدة.
والتأمل في هذا النحو من الاستعمالات قاض بكون العلة بنفسها هي
الجزاء، وأن المراد بذكرها التنبيه إليها - لكون الشرط بنفسه سببا في الحاجة
إليها - ليتوصل إلى مقتضاها ويتضح تحقق الشرط بسببها، فكأنه قيل: وإن لم
يجئ من ذلك أمر بين فليلتفت إلى أنه على يقين من وضوئه ولا...، فالجزاء هو
علة الحكم بنفسها وما هو المقصود من ذكرها استيضاح الحكم، لا نفسه، ليلزم
التكرار.
وهذا هو الظاهر في جميع النظائر لكون العلة رافعة إلى ما قد يتوهم
حصوله بسبب الشرط. فلاحظ.
أما بعض الأعاظم قدس سره فقد اختار الوجه الثاني، بتأويل الجملة الخبرية:
بجملة إنشائية، وكأن مراده بذلك أن المراد بقوله عليه السلام: " فإنه على يقين من
وضوئه " ليس هو الاخبار عن سبق اليقين منه بالوضوء، بل تنزيله شرعا منزلة
23

المتيقن في لزوم البناء على بقاء الوضوء.
وفيه.. أولا: أن حمل الجملة المذكورة على الانشاء بعيد عن ظاهرها
جدا، إذ لم يعهد جعل اليقين بنفسه وادعائه بمثل هذه الجملة.
وثانيا: أن مرجع ذلك إلى عدم وجوب الوضوء المبين أولا من دون
زيادة فائدة، فيلزم التكرار الذي فر منه.
وثالثا: أن ذلك لا يناسب قوله عليه السلام بعد ذلك: " ولا ينقض اليقين أبدا
بالشك ".
إذ المراد باليقين فيه إن كان هو التعبدي، بجعل هذه الجملة مؤكدة لما
قبلها، فعدم نقضه بالشك لازم لفرضه. مضافا إلى ما فيه من التفكيك بين اليقين
ومقابله، وهو الشك، الذي لا إشكال في كون المراد منه الحقيقي.
وإن كان هو اليقين الحقيقي السابق، بجعلها مفسرة لما قبلها، فهو لا يخلو
عن تكلف ظاهر مع ما فيه التفكيك بين اليقينين في الجملتين.
بل الوجه المذكور لا يناسب ما ذكره في صدر كلامه، من كون الجملتين
قياسا من الشكل الأول، لوضوح أن ذلك موقوف على اتحاد المراد باليقين في
الجملتين - وهو اليقين الحقيقي السابق - الملزم بكون الجملة الأولى خبرية
محضة، وإلا كانت الصغرى عين النتيجة، كما نبه له شيخنا الأستاذ قدس سره.
هذا، وقد احتمل بعض الأعيان المحققين قدس سره إبقاء الفقرة المذكورة على
ظاهرها في الاخبار، مع كونها هي الجزاء بنفسها.
قال مقرر درسه: " فيكون المستفاد منه بدلالة الاقتضاء أنه إن لم يستيقن
بالنوم فهو متيقن بالوضوء، ولا ينقض اليقين بالشك، وإلا فلا ترتب بين كونه
شاكا في النوم وكونه متيقنا بالوضوء ".
وفيه: أن ما استفاده بدلالة الاقتضاء مصرح به في الحديث الشريف دون
أن يتضح وجه تركيب الكلام.
24

ومثله ما عن بعض الأعاظم قدس سره (1) - وإن لم أتحققه - من أن الجملة
المذكورة خبرية وكلتا الجملتين جزاء.
إذ لم يعهد جعل الجزاء جملتين، إلا أن يرجع إلى ما سبق منا من
ورودهما مورد التعليل.
وأما الوجه الثالث فلم أعثر عاجلا على من التزم به، وإنما ذكر احتمالا في
كلامهم.
ولا مجال له، لان توطئة الحكم راجعة إلى تعليله وبيان موضوعه، نظير
قولنا: إن جاء زيد فحيث كان عالما يجب إكرامه، وهو لا يناسب عطف الجملة
الأولى على الثانية، بل ربطهما بما يقتضي التفريع، كما في المثال المذكور.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الوجه الثالث يقتضي عموم الرجوع
للاستصحاب في جميع موارد الشك في انتقاض الوضوء، لان الحكم في
الجزاء - على هذا الوجه - وإن اختص بالشك في انتقاض الوضوء من جهة
النوم، لأنه الموضوع في جملة الشرط، فيلزم حمل الشك في الجزاء عليه، كما
يلزم حمل اليقين على خصوص يقين المورد، إلا أن العلة المشار إليها في
التمهيد تقتضي التعميم لجميع الموارد المذكورة، لاشتراكها في العلة، وهي سبق
اليقين بالوضوء.
وأما التعميم لغير الوضوء فلا طريق له إلا دعوى: أن المناسبات
الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصيته، لعدم دخلها عرفا، ولا سيما مع إشعار قوله:
" أبدا " في عدم شأنية اليقين للانتقاض بالشك.
إلا أن في بلوغ ذلك مرتبة الظهور الحجة إشكالا.
وأما دعوى: أنه مقتضى ظهور التعليل في كونه ارتكازيا، لعدم خصوصية

(1) نسب إلى بعض الأعاظم في تقرير درس شيخنا المعاصر الميرزا باقر الزنجاني قدس سره. (منه
عفي عنه)
25

الوضوء ارتكازا في منشأ الحكم.
فمدفوعة: بعدم وضوح ظهور التركيب المذكور في التعليل المقصود به
لقريب الحكم إلى ذهن السامع ليتقبله، بل مجرد التفريع الذي يكفي فيه تفرع
الحكم على موضوعه، ولا يعتبر في الموضوع أن يكون ارتكازيا.
وأما الوجه الثاني فهو يقتضي الرجوع للاستصحاب في خصوص مورد
الشك في النوم، لأنه الموضوع في الشرطية، دون مطلق الشك في انتقاض
الوضوء، فضلا عن مطلق الشك في انتقاض الحالة السابقة.
نعم، الفقرة الثانية تقتضي عموم الرجوع للاستصحاب لو كانت جملة
مستقلة غير مرتبطة بما قبلها، قد أريد بها اليقين بالحدوث والشك في البقاء.
إلا أن الوجه المذكور لا يقتضي ذلك، بل يقتضي كونها مؤكدة أو مفسرة
لما قبلها، فلابد من الاقتصار على مقداره ولو لأنه المتيقن.
لكن أصر بعض الأعاظم قدس سره على استفادة عموم جريان الاستصحاب مع
التزامه بالوجه المذكور، بدعوى: عدم دخل التقييد بالوضوء في الحكم، وإنما
ذكر لخصوصية مورد السؤال. بل ذكر أنه لا مجال لاحتمال دخل الخصوصية،
كي يقال: انه يكفي الاحتمال في سقوط الاستدلال.
ولا يرجع ما ذكره إلى محصل ظاهر، فإن اليقين بالوضوء - على الوجه
المذكور - ليس موضوعا للحكم ليمكن إلغاء خصوصية الوضوء، بل هو بنفسه
محكوم به، فعمومه تابع لعموم موضوعه، وحيث كان موضوع الجاء تابعا
لموضوع الشرط تعين اختصاص الحكم بالشك في النوم، كما ذكرنا.
والقطع بعدم دخل الخصوصية ما لم يستند إلى ظهور الكلام حجة على
القاطع، ولا يكون حجة له في الخصام كما لا يكون موردا للنقض والابرام.
هذا، وحيث ظهر مما تقدم ضعف هذين الوجهين فلا أهمية لقصور
مقتضاهما، بل يلزم النظر في مقتضى الوجه الأول الراجع إلى كون ذكر الجملتين
26

لتعليل الحكم بعدم وجوب الوضوء، إما لكون التعليل بنفسه جزاء للشرط - كما
ذكرنا - أو لقيامه مقام الجزاء بعد حذفه، كما ذكره مشايخنا العظام، نفعنا الله
تعالى بإفاداتهم.
ومن الظاهر أن صلوح الجملتين للتعليل بلحاظ كونهما قياسا من الشكل
الأول منتجا للمطلوب، ومقتضى عموم كبرى القياس المذكور، وهي قوله عليه السلام:
" ولا ينقض اليقين أبدا بالشك " جريان الاستصحاب مطلقا من دون خصوصية
للشك في الوضوء، فضلا عن خصوصية الشك في النوم.
إن قلت: هذا موقوف على كون اللام في (اليقين) الذي تضمنته الكبرى
للجنس لا للعهد، وإلا كان مختصا باليقين بالوضوء.
قلت: لا مجال للعهد في المقام، لان اليقين في الصغرى قد اخذ محكوما
به، ومن الظاهر أن الكم تابع لموضوعه سعة وضيقا، وحيث كان موضوع
الصغرى هو موضوع جملة الشرط، وهو الشك في النوم، فاليقين المحكوم به
هو اليقين بالوضوء في مورد الشك في النوم، لا مطلقا، فلو كانت اللام للعهد كان
موضوع القضية الثانية هو خصوص اليقين المذكور، وخرجت عن كونها كبرى
عامة واردة مورد الاستدلال، بل تكون عين الدعوى وكانت تكرارا لها من دون
فائدة.
فغاية ما يمكن في توجيه دعوى اختصاص الكبرى باليقين بالوضوء هو
كون اليقين في الكبرى مقيدا بالوضوء بقرينة تقييده به في الصغرى، مع كون
اللام جنسية، ليشمل الشك من غير جهة النوم، كما هو شأن الكبرى.
إلا أنه لا مجال له، لأنه تقييد للاطلاق بلا ملزم، ومجرد تقييده في
الصغرى لا يقتضيه.
إن قلت: شرط القياس تكرر الأوسط في القضيتين، وحيث كان المتكرر
هنا هو اليقين فلابد إما من إلغاء القيد المذكور في الصغرى أو المحافظة عليه
27

وجعلها قرينة على التقييد في الكبرى، وليس الأول بأولى من الثاني، بل لا أقل
من الاجمال المانع من الاستدلال.
قلت: التكرار المعتبر في انتاج القياس يعم ما إذا كان موضوع الكبرى
أعم، ولا ملزم بمطابقتهما في مثل ذلك، كي يصلح التقييد في الصغرى للقرينية
على التقييد في الكبرى، ويخرج به عن مقتضى الاطلاق.
وما التزم به من المناطقة من تحليل القياس في مثل ذلك إلى قياسين
محض اصطلاح لا أثر له في الاستدلال ولا في ظهور الكلام، لينافي ما ذكرنا.
فغاية ما يلزم في المقام كون التقييد في الصغرى غير دخيل في
الاستدلال، وليس هو محذورا، لعدم لزوم لغويته بعد كونه مفيدا لمضمونه مرادا
بالبيان، فلا مخرج عن الاطلاق.
ومن ثم كان الظاهر في أمثال هذا التركيب عموم الكبرى، كما في قولنا:
زيد عالم بالنحو، والعالم في هذا الزمان يجب إكرامه، وعمرو أخوك الأوسط،
والأخ ينبغي الاحسان إليه، وهذا الكتاب مفيد للمبتدئ، والكتاب المفيد يلزم
نشره، إلى غير ذلك.
مضافا إلى ما أشار إليه غير واحد من أن التعميم هو المناسب لكون
التعليل ارتكازيا، لعدم خصوصية الوضوء في الجهة الارتكازية المقتضية للعمل
على اليقين السابق، فلو اخذت فيه كان التعليل تعبديا، وهو خلاف ظاهر
التعليل، لأنه مسوق لتقريب الحكم إلى ذهن السامع، خصوصا من مثل
الإمام عليه السلام الذي لا يكلف بالاستدلال.
إن قلت: هذا لا يناسب ما تقدم من إنكار السيرة على الاستصحاب، إذ
وجود الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق يستلزم جري
العقلاء عليها في أمورهم.
قلت: لا تتوقف ارتكازية التعليل على بلوغ الارتكاز حدا يقتضي العمل
28

بنفسه، ليكون ملازما للسيرة، بل يكفي فيه إدراك العقلاء للجهة المناسبة للجعل
الشرعي، بحيث يكون الجعل مألوفا لهم مقبولا عندهم بسبب التعليل.
فمثلا: تعليل اعتصام ماء البئر وطهارته بزوال التغير بأن له مادة وإن كان
ارتكازيا، إلا أن الارتكاز المذكور لولا التعليل لا يكفي في استكشاف الحكمين
بنحو يخرج بهما عن عمومات الانفعال واستصحاب النجاسة.
ومن ثم لا نلتزم بأن مفاد التعليل في المقام إمضاء بناء العقلاء على العمل
بالاستصحاب، ليكون قاصرا عما لو علم بعدم عمل العقلاء به، كما لو ظن
بانتقاض الحالة السابقة، بل هو حكم تعبدي للشارع يتمسك بإطلاقه في المورد
المذكور، وإن كان ارتكازيا في الجملة، بلحاظ أن في الجري على مقتضى اليقين
السابق جهة ارتكازية تناسب جعله في مقام ضرب القاعدة العملية عند الشك.
والمتحصل: أنه لا ينبغي التأمل في ظهور الكبرى المذكورة في عموم
الرجوع للاستصحاب من دون خصوصية للشك في انتقاض الوضوء، كما هو
مقتضى الاطلاق المناسب للارتكاز، ولا يصلح التقييد في الصغرى لرفع اليد
عن ذلك.
وأما احتمال كون مفاد الحديث الشريف عدم نقض اليقين بالشك في
الجملة على نحو سلب العموم لا عموم السلب، كي ينفع في الرجوع للقاعدة.
فهو موقوف على كون اللام استغراقية، بمعنى أنها بنفسها موضوعة
للعموم، ليكون تسليط النفي عليها راجعا إلى نفي مفادها، وهو العموم، لا
جنسية لتعريف الماهية التي لا يكون نفيها إلا بنفي تمام أفرادها.
والظاهر خلافه وأن اللام للتعريف الشخصي أو الجنسي لا غير. مع أن
الحمل على سلب العموم لا يناسب التأبيد الذي تضمنه الكلام، كما لا يناسب
مقام التعليل والاستدلال، لتوقف إنتاج الشكل الأول على كلية الكبرى، ولا ينتج
مع إهمالها أو جزئيتها.
29

هذا، وقد تعرض غير واحد للكلام في فقه الحديث، وفي وجه التمثيل
باستصحاب الوضوء، دون استصحاب عدم النوم الذي هو سببي حاكم.
والأول: - مع وضوحه ظاهرا - ليس وظيفة للأصولي.
والثاني: لا دخل له بما نحن فيه من الاستدلال على الاستصحاب، بل
يتعلق ببعض المباحث الآتية، كالاستصحاب في العدميات، وحكومة الأصل
الموضوعي على الأصل الحكمي. ولعله يأتي الكلام في ذلك هناك. والله
سبحانه وتعالى ولي التوفيق.
الثاني: صحيحة أخرى لزرارة، " قلت [لأبي جعفر عليه السلام: انه. ع (1)] أصاب
ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شئ من مني فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء،
فأصبت [الماء. ع] وحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئا، وصليت، ثم إني
ذكرت بعد [ذلك. يب] قال: تعيد الصلاة وتغسله.
قلت: [فاني. يب] فإن لم أكن رأيت موضعه و [قد. ع] علمت أنه أصابه،
فطلبته فلم أقدر عليه، فلما صليت وجدته. قال: تغسله وتعيد.
[قال:. ع] قلت: فإن ظننت انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر
[فيه. يب] شيئا، ثم صليت فرأيت [فرأيته. ع] فيه [بعد الصلاة. ع] قال: تغسله ولا
تعيد الصلاة.
قلت: لم ذلك [ولم ذاك. ع]؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت [نظافتك ثم شككت. ع] فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.
قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله، قال: تغسل
من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد. يب] أصابها حتى تكون على يقين من
طهارتك [طهارته قال. ع] قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن أنظر فيه
[فاقلبه. ع] قال: لا، ولكنك إنما تريد [بذلك. ع] أن تذهب الشك الذي وقع في

(1) هذه وما بعدها إشارة إلى نسخة العلل.
30

[قال:. ع] قلت: إن [فأن. ع] رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة. قال: تنقض
الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته [فيه. ع] وإن لم تشك ثم رأيته
رطبا قطعت [الصلاة. يب] وغسلته، ثم بنيت على الصلاة [فإنك. ع] لأنك لا
تدري لعله شئ أوقع [وقع. ع] عليك، فليس ينبغي [لك. ع] أن تنقض اليقين
بالشك [بالشك اليقين. ع] (1).
ولا يهم إضمارها في التهذيب بعد ما تقدم في الصحيحة الأولى، وبعد
روايتها في العلل عن أبي جعفر الباقر عليه السلام بطريق صحيح أيضا.
ثم لا يخفى أن الاستدلال بها بلحاظ التعليل في صدرها وذيلها بالقياس
المتضمن للكبرى الاستصحابية الظاهرة في العموم بالتقريب المتقدم في
الصحيحة الأولى.
وأما قوله عليه السلام: " تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى
تكون على يقين من طهارتك " فهو وإن كان دالا على الاستصحاب، إلا أنه
مختص بمورده، والتعدي عنه لا يكون إلا بالمناسبات الارتكازية التي يغني
عنها عموم التعليل المذكور.
هذا، وقد يستشكل في الاستدلال بصدرها من وجهين..
الأول: أنه لا ملزم بحمل اليقين فيه على اليقين قبل ظن إصابة النجاسة
المفروض بقاؤه وكون الشك في استمرار المتيقن، ليكون من موارد
الاستصحاب، بل قد يكون المراد باليقين فيه هو اليقين الحاصل بسبب الفحص
وعدم الوجدان عند ظن الإصابة، ومن الشك هو الشك في وجوده حين الصلاة،

(1) أخذناها بتمامها من التهذيب ج 1 ص: 421 طبع النجف الأشرف، ومن العلل باب: 80 ص: 36
طبع النجف الأشرف، وخرجها في الوسائل متفرقة في ج 2، باب 7 حديث: 2، وباب: 37
حديث: 1، وباب: 41 حديث: 1، وباب: 42 حديث: 2، كل ذلك في أبواب النجاسات.
31

الحاصل من رؤيته بعدها، حيت يحتمل كونه موجودا حين الصلاة، لعدم
استيعاب الفحص، المستلزم لخطأ اليقين المسبب عنه، كما يحتمل كونه واقعا
بعدها - نظير ما تضمنه الذيل - مع عدم خطأ اليقين فيكون واردا مورد قاعدة
اليقين، فتحمل الكبرى عليها لا على الاستصحاب.
ويندفع: بأن حصول اليقين من الفحص محتاج إلى عناية لم يشر إليها في
السؤال، والمنسبق منه بقاء الشك، وإلا فاليقين المسبب عن الفحص المستوعب
لا يتزلزل غالبا بالرؤية بعد الصلاة مع فرض إمكان تجدد النجاسة بعدها. فتأمل.
كما أن كون رؤيته بعد الصلاة مثيرا لاحتمال وقوعه بعدها بنحو يقتضي
تزلزل اليقين وتبدله بالشك ليكون من صغريات قاعدة اليقين محتاج إلى عناية
أيضا، ولذا نبه له الإمام عليه السلام في الذيل، فعدم التنبيه عليه من السائل ظاهر في
عدمه.
بل ظاهر سؤال زرارة عن العلة لعدم الإعادة في الفرض المذكور هو
مشاركته للفرضين السابقين اللذين حكم فيهما بالإعادة في حصول النجاسة
حين الصلاة، إذ لو كان المفروض فيه الشك في ذلك لم يكن بينه وبين الفرضين
السابقين جهة مشتركة، ليسأل عن وجه تخصيصه من بينها بعدم الإعادة، بل كان
عدم الإعادة واضح الوجه.
فالظاهر أن المراد باليقين بالطهارة هو اليقين السابق على ظن الإصابة،
وبالشك هو الشك حين الصلاة الحاصل من عدم استيعاب الفحص، فيكون من
موارد الاستصحاب.
بل هو المتعين بناء على ما في العلل من روايته هكذا: " فرأيته فيه "
لظهوره في كون المرئي هو الذي ظن بإصابته أولا. والظاهر حجيته، لان نسبته
إلى الرواية الأخرى نسبة المبين إلى المجمل، وليسا من سنخ المتعارضين بعد
الالتفات للنقل بالمعنى.
32

الثاني: أن عدم نقض اليقين بالشك إنما يصلح لان يكون تعليلا لجواز
الدخول في الصلاة ظاهرا، لفرض الشك حينه في النجاسة، لا لعدم وجوب
الإعادة واقعا بعد فرض انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة وفقدها للشرط، لما
قيل من أن الإعادة حينئذ تكون نقضا لليقين باليقين. فلابد من توجيه التعليل.
هذا، ومن الظاهر أن خفاء وجه التعليل وانطباق الكبرى الاستصحابية
على المورد لا يمنع من التمسك بها في غيره بعد وفاء الكلام بالدلالة عليها.
نعم، لو كان حمل الصحيحة على قاعدة اليقين رافعا للاشكال لكان مانعا
من الاستدلال بها في المقام.
لكنها تشترك مع الاستصحاب في الاشكال المذكور، فلا أثر للاشكال
المذكور في ما هو المهم هنا، وهو الاستدلال بالصحيحة، وإنما تعرضنا لذلك
متابعة لمشايخنا العظام نفعنا الله تعالى بإفاداتهم.
وكيف كان، فقد يجاب عنه بوجوه..
أولها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من احتمال أن يراد من الشك هو
الحاصل بعد الصلاة عند رؤية النجاسة، لفرض أن رؤيتها لم توجب اليقين
بحصولها حين الصلاة، بل يحتمل وقوعها بعدها، نظير ما ذكر في الوجه الأول.
لكنه قدس سره ذكر أن ذلك خلاف ظاهر السؤال.
ويظهر وجهه مما تقدم، مضافا إلى أن مقتضى التعليل حينئذ هو الصحة
الظاهرية المستندة للاستصحاب، ولا وجه للتنبيه لذلك والعدول عن التنبيه
لصحة الصلاة واقعا مع النجاسة جهلا كما نطقت به النصوص والفتاوى.
ثانيها: ما ذكره المحقق الخراساني من أن الشرط في الصلاة ليس هو
الطهارة الواقعية، كي تكون الإعادة مع انكشاف عدمها نقضا لليقين باليقين ولا
تنافي الاستصحاب.
بل الشرط في حال الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولذا تصح الصلاة
33

مع النجاسة جهلا بها، والاحراز مبني على جريان الاستصحاب حين الصلاة،
المفروض تحقق موضوعه وهو الشك، فالاستصحاب محقق للشرط واقعا
ومقتض لعدم الإعادة حتى في فرض انكشاف عدم حصول الطهارة واقعا،
وبهذا صح التعليل بعدم نقض اليقين بالشك، حيث تكون العلة هي إحراز
الطهارة التي هي العلة لعدم الإعادة.
وفيه: أن ذلك خلاف ظاهر الأدلة الأولية الدالة على شرطية الطهارة
للصلاة أو مانعية النجاسة منها، وخلاف ما دل على أن ناسي النجاسة يعيد مع
أنه قد يحرز الطهارة ظاهرا.
ومجرد صحة الصلاة مع النجاسة جهلا لا يقتضيه، كما سيأتي إن شاء الله
تعالى. بل لا وجه مع ذلك لاستصحاب الطهارة، لفرض عدم كونها موضوعا
للحكم الشرعي، إلا بناء على كفاية ترتب الأثر على نفس الاستصحاب، لا على
المستصحب، الذي هو خلاف مختاره قدس سره.
وأما ما ذكره قدس سره من توجيه جريان استصحابها..
تارة: بعدم انعزالها عن الشرطية رأسا، بل هي بمقتضى الأدلة الأولية
شرط واقعي اقتضائي.
وأخرى: بأنها من قيود الشرط، لفرض أن الشرط إحرازها، لا إحراز أمر
آخر.
فهو كما ترى!
لاندفاع الأول: بأن المعتبر في الاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد ترتب
العمل التابع للحكم الفعلي، لا الاقتضائي.
واندفاع الثاني: بأنه بعد فرض صحة العمل بدونها لا معنى لكونها قيدا
للشرط، إذ ليس المراد من قيد الشرط الذي يصح استصحابه إلا ما يكون قيدا
بوجوده الواقعي، كعدم حرمة أكل اللحم الذي قيد في الساتر الذي هو شرط في
34

الصلاة، لا مجرد ما يضاف إليه الشرط لفظا.
وأضعف من ذلك ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في توجبه التعليل من أن
تنجز النجاسة مانع من الصلاة، فذكر الاستصحاب لبيان عدم تحقق المانع.
لظهور اندفاعه مما تقدم بمنافاته لظاهر الأدلة الأولية.
كيف! ولا ينبغي الاشكال في صحة الصلاة واقعا مع إحراز النجاسة ظاهرا
خطأ مع تأتي قصد القربة إما رجاء أو للغفلة عن مانعية تلك النجاسة من الصلاة.
بل هو خلاف ظاهر التعليل، لظهوره في كون علة عدم الإعادة هو
استصحاب الطهارة بنفسه، لا بلحاظ استلزامه عدم إحراز النجاسة، إذ يكفي في
ذلك فرض الشك بلا حاجة إلى كبرى الاستصحاب.
ثالثها: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره حسن التعليل بملاحظة اقتضاء
الامر الظاهري للاجزاء، فيكون التعليل المذكور دليلا على قاعدة الاجزاء
المذكورة وكاشفا عنها.
وقد استشكل فيه قدس سره: بأن ظاهر التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا لليقين
بالشك، لا أن عدم الإعادة مسبب عن عدم نقض اليقين بالشك بتوسط إجزاء
الامر الظاهري الناشئ منه.
لكن ما ذكره قدس سره غير ظاهر، بل يكفي في حسن التعليل ابتناء عدم الإعادة
على عدم نقض اليقين بالشك ولو بتوسط الاجزاء المذكور، فرقا بين هذا
الفرض والفرضين السابقين اللذين لا يجري فيهما الاستصحاب الذي يتحقق
به الامر الظاهري، وإن شاركهما في وقوع الصلاة مع النجاسة.
وقد يناسب إرادة ذلك التعبير بقوله عليه السلام: " لأنك كنت على يقين... "
لظهوره في ملاحظة تمامية موضوع الاستصحاب سابقا حين الدخول في
الصلاة لا فعلا حين انكشاف الحال والسؤال عن حكم الإعادة، وإلا فالأنسب أن
يقول: " لأنك على يقين... "، كما عبر بذلك في الصحيحة الأولى.
35

وبالجملة: ابتناء التعليل على الوجه المذكور قريب جدا، وهو المناسب
لما أشرنا إليه آنفا من معروفية صحة الصلاة مع النجاسة عن عذر، كما هو
مقتضى النصوص والفتاوى، ولذا كان هو المنصرف من الحديث بدوا.
بقي في المقام أمران:
الأول: أن ما ذكر في تقريب هذا الوجه من كون التعليل دليلا على قاعدة
إجزاء الامر الظاهري، إن أريد به كونه دليلا عليها في خصوص المورد، فهو في
محله، وإن كان يغني عنه النصوص الأخرى.
وإن أريد به كونه دليلا عليها على العموم ولو في غير المورد، فهو موقوف
على إلغاء خصوصية المورد، ولا يخلو عن إشكال.
ومجرد التعليل لا يصلح لذلك بعد عدم كون عموم إجزاء الامر الظاهري
أمرا ارتكازيا، ليتعين إرادته محافظة على ارتكازية التعليل، بل هو أمر تعبدي
محض، فلعل التعليل مبني على تعبد خاص معلوم للسائل مختص بالمورد لا
يجري في غيره.
بل حيث كان الاجتزاء بالصلاة مع النجاسة لعذر من غفلة، أو جهل
مركب، أو تعبد شرعي مما يقرب وضوحه، خصوصا عند مثل زرارة، لكثرة
نصوصه واشتهاره عند الأصحاب، فلا مجال للبناء على عموم إجزاء الحكم
الظاهري، حتى لو كان ارتكازيا، لان الملزم بالبناء على ارتكازية التعليل عدم
تأتي الغرض من التعليل - وهو تقريب الحكم إلى ذهن السامع - إلا بذلك، وهو
مختص بما إذا كانت الجهة التعبدية خفية، أما إذا كانت واضحة جلية، فيكون
الاعتماد عليها وافيا بغرض التعليل أيضا، ولا ملزم بالحمل على الجهة
الارتكازية.
بل لا يبعد كون مرادهم بارتكازية التعليل ما يعم ذلك، وهو كونه مشيرا
إلى أمر واضح مرتكز في ذهن السامع لمناسبات عرفية، أو لتعبد واصل.
36

وعلى هذا يكون المتيقن في المقام التنبيه إلى تحقق الجهة المذكورة،
وهي العذر في الصلاة مع النجاسة بسبب الاستصحاب، دفعا لتوهم مانعية الظن
بالإصابة قبل الدخول في الصلاة من تحقق العذر المسوغ للدخول فيها، لقياس
الظن على العلم الحاصل في الصورتين الأوليين، مع الفراغ عن أن تحقق العذر
كاف في صحة العمل ولو في خصوص المورد تعبدا. فلاحظ.
الثاني: ظاهر المحقق الخراساني قدس سره وغيره أن هذا الوجه مباين للوجه
السابق، وأن إجزاء الامر الظاهري لا ينافي كون موضوع الحكم واقعا هو الطهارة
الواقعية، لا ما يعمها وإحراز الطهارة، ولا خصوص الاحراز، كما هو مقتضى
الوجه السابق.
وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا بأنه لا يعقل إجزاء الامر الظاهري
إلا بتوسعه الواقع، وجعل الشرط أعم من الواقع والظاهر.
وفيه: أنه ليس المراد بإجزاء الامر الظاهري كون متابعته محققة لامتثال
التكليف الواقعي - بمعنى مطابقة أمره - بل سقوط الإعادة والقضاء، وهو كما
يكون مع الامتثال يكون مع تبدل الملاك، أو تعذر استيفائه، ولذا لا يمكن فيه
سقوط القضاء دون الإعادة، ولا يعقل ذلك مع الامتثال الحقيقي.
بل فرض كون الامر ظاهريا يستلزم فرض إناطة التكليف بالواقع
المجهول، ليكون إحرازه ظاهرا مستلزما لاحراز الامر ظاهرا الذي هو المراد من
الامر الظاهري.
إذ لو كان منوطا بما يعم الواقع والظاهر كان الاحراز الظاهري للواقع
مستلزما للامر الواقعي، فيكون إجزاؤه مبنيا على كبرى إجزاء الامر الواقعي
الضرورية.
ولذا لا إشكال ظاهرا في بقاء موضوع الاحتياط مع الاحراز الظاهري، وإن
لم يكن لازما، فمع استصحاب طهارة الثوب يبقى الموضوع للاحتياط بالصلاة
37

في ثوب آخر - معلوم الطهارة، مع وضوح أنه لا موضوع له مع فرض تبدل
موضوع التكليف، بل يكون ذلك عدولا من أحد فردي الموضوع لفرد آخر،
نظير: ترك الثوب الذي طهر بماء المطر إلى الثوب الذي طهر بماء الفرات.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل بملاحظة ما ذكرنا في الفرق بين المبنيين ثبوتا،
كما هو الحال في الفرق بينهما إثباتا، فإن لسان تعميم الموضوع في مقام التشريع
مباين للسان إجزاء المأتي به عما هو المشروع بعد الفراغ عن مباينته له.
ومن ثم تقدم منا في مناقشة المحقق الخراساني أن إجزاء الصلاة في
النجس مع إحراز طهارته خطأ لا يستلزم التصرف في الأدلة الأولية الظاهرة في
كون الشرط هو الطهارة الواقعية.
هذا كله في الاستدلال بالتعليل، الذي تضمنه الصدر، وأما التعليل الذي
تضمنه الذيل فقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدس سره بأن تفريع عدم نقض اليقين
على احتمال تأخر الوقوع يأبى عن حمل اللام على الجنس.
والعمدة في ذلك: أن التفريع ظاهر في نحو ترتب بين المتفرع والمتفرع
عليه، نظير ترتب المعلول على العلة والحكم على الموضوع، ومن الظاهر أنه لا
ترتب بين الصغرى والكبرى، بل ليس المترتب على الصغرى إلا النتيجة التي
كون موضوعها مطابقا لموضوع الصغرى.
نعم، قد يكون الترتب بين الصغرى والكبرى بلحاظ ترتبهما في مقام
الذكر والبيان، حيث يمكن تقديم كل منهما، لكنه خلاف الظاهر جدا.
وكأن ما ذكرنا هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره مما حكي عن مجلس درسه في
توجيه ما سبق منه، من أن شرط التفريع أن يكون المتفرع أخص من المتفرع
عليه ومن أفراده، كي يصح تفريعه عليه، ضرورة أن تفريع العام على الخاص
من المستهجنات.
وإلا فما ذكره من لزوم كون المتفرع أخص من المتفرع عليه غير ظاهر
38

الوجه.
وكيف كان، فلا ينبغي التأمل بملاحظة التفريع في عدم إرادة الجنس، بل
العهد لبيان عدم جواز نقض اليقين الحاصل في المورد بالشك الحاصل فيه،
الذي هو مفاد نتيجة القياس لا كبراه.
إلا أن المنسبق منها عدم خصوصية المورد، وأن الشك ليس من شأنه أن
ينقض اليقين، لمناسبة ذاتيهما لذلك.
بل ورود القضية مورد التعليل ملزم بذلك محافظة على ارتكازية التعليل،
على ما سبق توضيحه في الصحيحة الأولى، فيرجع التعليل المذكور إلى طي
كبرى الاستصحاب العامة، لوضوحها، بل الإشارة إليها في النتيجة التي اخذ في
الناقض والمنقوض فيها عنوان الشك واليقين.
ثم إن هذا الاشكال لا يرد في الصدر بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره
من روايته بالواو لا بالفاء.
لكن تقدم منا روايته بالفاء تبعا للتهذيب والعلل المطبوعين في النجف
الأشرف، والوسائل المطبوعة - بعشرين جزء - في إيران.
وحينئذ فقد يتوجه الاشكال المذكور فيه أيضا.
لكن حمله على العهد وبيان حكم خصوص مورد السؤال لا يناسب
التأبيد جدا.
فإما أن يكون الصحيح هو العطف بالواو، أو يكون ذكر الفاء بلحاظ
الترتب الذكري، وإن كان هو خلاف الظاهر في نفسه.
ومن ثم لا يبعد كون ذلك صالحا للقرينية على إرادة العموم من الذيل،
لان الظاهر منه الإشارة إلى ما تقدم في الصدر، فلاحظ.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن الصحيحة بصدرها وذيلها وافية ببيان
عموم الاستصحاب والتعبد بمضمونه.
39

الثالث: صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السلام، قلت له: من لم يدر في
أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال: " يركع ركعتين وأربع سجدات وهو
قائم بفاتحة الكتاب، ويتشهد، ولا شئ عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في
أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى، ولا شئ عليه. ولا ينقض اليقين
بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينقض
الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال من
الحالات " (1).
قال شيخنا الأعظم قدس سره: " وقد تمسك بها في الوافية، وقرره الشارح، وتبعه
جماعة ممن تأخر عنه ".
والاستدلال إنما هو بقوله عليه السلام: " ولا ينقض اليقين بالشك "، المتضمن
لكبري الاستصحاب المشار إليها.
وقد استشكل فيه بوجوه عمدتها ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أن
قوله عليه السلام: " قام فأضاف إليها أخرى " إن أريد به الاتيان بالركعة متصلة بما قبلها
كان مطابقا للاستصحاب، حيت يحمل اليقين فيه على اليقين سابقا بعدم الاتيان
بالركعة الرابعة الذي يكون مقتضى الاستصحاب معه الاتيان بها وعدم الاعتناء
بالشك المتجدد.
إلا أنه جار على مذهب العامة، ومخالف لما عليه الامامية من علاج الشك
المذكور بركعة الاحتياط المفصولة، ولظاهر الفقرة الأولى المتضمنة للاتيان
بالركعتين بفاتحة الكتاب، لوضوح عدم تعينها في الركعة الرابعة المتصلة. بل
التعبير فيها بقوله عليه السلام: " يركع... " ظاهر في إرادة أنه يصلي صلاة مستقلة

(1) الكافي في باب السهو في الثلاث والأربع من كتاب الصلاة، حديث 3، ج 3 ص: 351 وقد
أخرج صدر الحديث في الوسائل ج 5، في، باب: 11 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
حديث: 3، وذيله باب: 10 من الأبواب المذكورة: حديث: 3.
40

بركعتين، وإلا كان المناسب أن يقول: يأتي بركعتين.
كما أنه لا يناسب بقية الفقرات الناهية عن إدخال الشك في اليقين وخلط
أحدهما بالآخر.
ومن هنا كان الأقرب الحمل على الاتيان بالركعة مفصولة، ويراد باليقين
ببراءة الذمة الحاصل من علاج الشك بصلاة الاحتياط - كما أشير إليه في موثقة
عمار (1) - أو اليقين بمشروعية المأتي به، وهي الثلاث، مع حمل النقض على
النقض الحقيقي لليقين بإحداث ما يوجب الشك في صحة العمل ومشروعيته،
وهو وصل الركعة المشكوكة به.
أو يراد نقض المتيقن بإبطاله واستئناف الصلاة، كما أشار إليه في محكي
الوافي (2). فتكون أجنبية عن الاستصحاب.
هذا، وقد أجيب عن ذلك بوجوه..
الأول: ما أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره من أن أصل الاتيان بالركعة
مقتضى الاستصحاب. ووجوب فصلها حكم آخر مستفاد من دليل آخر مقيد
لاطلاق الاستصحاب، المقتضي لترتيب تمام الآثار، ومنها وصل الركعة، فلا

(1) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شئ من السهو في الصلاة؟ فقال: ألا أعلمك شيئا إذا فعلته ثم
انك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شئ؟ قلت: بلى. قال: إذا سهوت فابن على الأكثر، فإذا
فرغت وسلمت فقم، فصل ما ظننت انك نقصت، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه
شئ؟ وإن ذكرت أنك كنت نقصت كان ما صليت تمام ما نقصت. (الوسائل ج 5، باب: 8 من
أبواب الخلل الواقع في الصلاة. حديث: 3).
(2) قال: " قوله: " ينقض اليقين بالشك " يعني: لا يبطل الثلاث المتيقن فيها بسبب الشك في الرابعة
بأن يستأنف الصلاة، بل يعتد بالثلاث: " ولا يدخل الشك في اليقين " يعني: لا يعتد بالرابعة
المشكوك فيها بأن يضمها إلى الثلاث ويتم بها الصلاة من غير تدارك، " ولا يخلط أحدهما
بالآخر " عطف تفسيري بيان للنهي عن الادخال، " ولكنه ينقض الشك " يعني: في الرابعة بأن لا
يعتد بها، " باليقين " يعني: بالاتيان بركعة أخرى على الايقان، " ويتم على اليقين " يعني. يبني على
الثلاث المتيقن فيها.
41

يلزم في المقام إلا تقييد إطلاق الاستصحاب، دون إلغائه بالمرة.
ولا يخفى أن هذا الوجه مبني على كون وجوب الاتيان بالركعة ظاهريا،
وهو منوط واقعا بعدم الاتيان بها، بحيث لو لم يأت بها واكتفى بالسلام على ما
تيقن به برجاء إتيانه بأربع ركعات وصادف الواقع صحت صلاته.
أما لو كان واقعيا ثانويا، لتبدل الحكم الواقعي في حال الشك، امتنع ابتناؤه
على الاستصحاب الذي هو أصل عملي.
كما أن كون دليل فصل الركعة مقيدا لعموم الاستصحاب مبني على أن
وجوب الفصل ظاهري، بحيث لو وصل برجاء كونه قد صلى ثلاثا، وصادف
الواقع، صحت صلاته، أما بناء على كونه واقعيا ثانويا، لتبدل الحكم الواقعي في
حال الشك، فوجوب الفصل مقيد لاطلاق وجوب وصل الركعات واقعا، لا
لعموم دليل الاستصحاب.
إذا ظهر هذا فأعلم: أنه يشكل هذا الوجه بعدم ظهور الحديث في مجرد
بيان أصل الاتيان بالركعة، بل هو ظاهر في بيان وجوب خصوص الركعة
المنفصلة، كما هو مقتضى السياق مع الصدر والتعقيب بعدم إدخال الشك في
اليقين وخلط أحدهما بالآخر.
بل لا حاجة مع ذلك للتأكيد الشديد والاهتمام بتوضيح الحكم مع كون
أصل الاتيان بالركعة ارتكازيا لمطابقته لقاعدة الاشتغال والاستصحاب.
بل تأكيد قوله عليه السلام: (ولا ينقض اليقين بالشك) بقوله: (ولا يعتد بالشك في
حال من الحالات " لا يناسب تخصيصه في وجوب فصل الركعة جدا.
وأضعف من ذلك دعوى أن دليل التقييد المذكور هو قوله عليه السلام: (ولا
يدخل الشك... " لظهور الفقرات المذكورة في تأكيد قوله عليه السلام: " ولا ينقض... "
والجري على ما يطابقه، لا في بيان حكم آخر مناف له ومقيد لاطلاقه.
42

على أن ما في روايات عمار (1)، وكلام الفقهاء من لزوم البناء على الأكثر
مع الشك، ثم التدارك بصلاة الاحتياط، ينافي ابتناء صلاة الاحتياط على
الاستصحاب، لان مقتضاه البناء على الأقل، فالمناسب أن يكون وجوب الاتيان
بصلاة الاحتياط تقييدا لوجوب البناء على الأكثر، لا أن فصلها تقييد
للاستصحاب. فلاحظ.
الثاني: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره واعتمده بعض الأعيان المحققين قدس سره
من حمل تطبيق كبرى الاستصحاب في المقام المقتضى لوصل الركعة على
التقية، من دون أن يخل ذلك بالاستدلال بها على الاستصحاب لأصالة الجهة
فيه، نظير ما ورد في قول الصادق عليه السلام للسفاح في الصوم: " ذاك إلى الامام إن
صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا " (2)، حيث استدل به على حجية حكم الحاكم
في الهلال، وإن كان تطبيقه في المورد تقية.
ويظهر اندفاعه مما تقدم من ظهور الحديث في إرادة فصل الركعة
المخالف للعامة ولمقتضى الاستصحاب.
بل تأكيد الحكم المذكور بالفقرات المتتالية ظاهر في تبني الإمام عليه السلام له
واهتمامه به، المناسب لسوقه مساق الرد على العامة، لا لمجاراتهم.
الثالث: ما ذكره بعض مشايخنا من أن موضوع صلاة الاحتياط التي
يكون بها علاج الشك عند الإمامية مركب من أمرين: الشك الوجداني، وعدم
الاتيان واقعا بالركعة المشكوك فيها، فمع الدوران بين الثلاث والأربع يكون
الجزء الأول ثابتا بالوجدان، والثاني محرزا بالاستصحاب، فالاستصحاب منقح
لموضوع الوظيفة التي يكون بها علاج الشك لا مناف لها.
وفيه: - مع ابتنائه على كون وجوب الركعة ظاهريا. وعدم مناسبة ابتناء

(1) راجع الوسائل ج 5، باب: 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة
(2) الوسائل ج 7، باب: 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك حديث: 5.
43

صلاة الاحتياط على الاستصحاب لما في روايات عمار من التعبير بالبناء على
الأكثر، نظير ما تقدم في الوجه الأول - أن أخذ الشك في موضوع الوظيفة
المذكورة ينافي عرفا أخذ عدم الاتيان واقعا بالركعة بنحو يحتاج إلى إحرازه
بالاستصحاب، لوضوح أن الاحراز ينافي الشك عرفا وإن لم ينافه حقيقة.
فغاية ما يدعى في المقام هو كون موضوع صلاة الاحتياط هو الشك، وأن
وجوبها ظاهري طريقي لاحراز الواقع، لا واقعي ثانوي يرجع إلى تقييد الواقع
بغير حال الشك، وعليه لا يحتاج إحراز موضوعها إلى إحراز عدم الاتيان بالركعة
بالاستصحاب زائدا على الشك.
بل جعل قوله عليه السلام: " ولا ينقض اليقين بالشك " لبيان إحراز موضوع قاعدة
الاحتياط، وقوله عليه السلام: " ولا يدخل الشك... " لبيان كيفيتها، ثم تأكيد الأول
بقوله عليه السلام: " ولكنه ينقض " تكليف يوجب انحلال الكلام وعدم تناسقه.
وقد ظهر بما ذكرناه بعد توجيه الحديث على ما يطابق الاستصحاب.
على أنه لو غض النظر عما ذكرنا في دفع هذه الوجوه فهي إنما تنهض
ببيان إمكان إرادة الاستصحاب من الفقرة المذكورة، ولا تنهض بتقريب ظهورها
فيه بنحو يصلح الحديث للاستدلال عليه لو لم يكن عليه دليل آخر.
ومجرد اشتمال بعض نصوص الاستصحاب على العبارة المذكورة لا
يكفي في ذلك، ولا سيما بعد احتفافها في هذا الحديث بما لا يشعر بإرادته.
ويأتي في رواية الخصال ما ينفع في ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إنه قد استشكل في الاستدلال بهذه الصحيحة بوجهين آخرين..
الأول: أنه لا ظهور لها في عموم حجية الاستصحاب، لعدم ظهور الفقرة
المذكورة في ضرب القاعدة العامة، بل لتأكيد وجوب الاتيان بالركعة في
موردها، الملزم بالحمل على العهد، ولا مجال معه لظهور اللام في الجنس، إلا
أن تلغى خصوصية المورد للمناسبات الارتكازية، المشار إليها في الصحيحة
44

الأولى، وفي بلوغ الكلام معها مرتبة الظهور الحجة إشكال، كما تقدم.
وقد أجاب بعض مشايخنا عن ذلك: بأن تأكيد الحكم في الذيل
بقوله عليه السلام: " ولا يعتد بالشك في حال من الحالات " ظاهر في أن طبيعي الشك لا
ينبغي الاعتداد به في قبال اليقين.
وما ذكره لا يخلو عن قرب، لان عدم الاعتداد بالشك وإن كان أعم من
العمل باليقين السابق، إلا أن تأكيد عدم نقض اليقين بذلك ظاهر في إرادة العمل
باليقين، الذي هو مفاد الاستصحاب.
الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن أصالة عدم الاتيان
بالركعة الرابعة لا يحرز كون الركعة المأتي بها رابعة، ليترتب عليها آثارها من
وجوب التشهد والتسليم بعدها إلا بناء على الأصل المثبت.
ويندفع: بعدم الدليل على وجوب إيقاع التشهد والتسليم بعد الرابعة
بعنوان كونها رابعة بمفاد كان الناقصة، بل يكفي تحقق الرابعة ثم الاتيان بهما
بعدها، وهو حاصل في الفرض على تقدير الاتيان بالركعة المشكوكة. وغاية ما
يحتمل هو بطلان الصلاة بزيادة ركعة، وهو مدفوع بالاستصحاب.
على أنه لو فرض كون الأصل المذكور مثبتا أمكن تصحيحه بنفس هذه
الصحيحة لو فرض ظهورها في الاستصحاب، حيث لا مانع من حجية الأصل
المثبت لو دل عليه الدليل في خصوص مورد.
وقد أطال قدس سره في دفع ذلك بما لا يسعنا عاجلا، كما لا يهمنا تعقيبه. كما
تعرض لوجه آخر للاشكال في الاستدلال لا يسعنا التعرض له. فراجع.
الرابع: صحيحة إسحاق بن عمار، قال لي أبو الحسن الأول عليه السلام: إذا
شككت فابن على اليقين. قلت: هذا أصل؟ قال: نعم " (1).
وقد تعرض غير واحد للاستدلال بها بتقريب: أنها تقتضي لزوم العمل

(1) الوسائل ج 5، باب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث: 2.
45

باليقين عند الشك الذي هو مقتضى الاستصحاب. وليست مختصة بالشك في
الركعات، ليرد عليها ما سبق.
غاية ما يلزم تخصيصها في الشك في الركعات، كما يلزم تخصيص سائر
عمومات الاستصحاب، لوجوب التسليم فيه على المتيقن، على خلاف مقتضاه،
وهو غير مهم.
وفيه: أن البناء على اليقين لا يخلو في نفسه عن إجمال.
ولعل الأقرب إلى المعنى الحقيقي هو لزوم بناء العمل على اليقين وعدم
الاعتناء بما لا يوصل إليه، فيكون مساوقا لما تضمن لزوم العمل بالعلم وعدم
التعويل على غيره.
ولو فرض عدم تعينه فكما يمكن حمله على الاستصحاب بتنزيل اليقين
فيه على اليقين بالحدوث في ظرف الشك في البقاء، كذلك يمكن حمله على
قاعدة اليقين بتنزيل اليقين فيه على اليقين الزائل المتبدل بالشك، أو على قاعدة
الشك في الركعات بتنزيل اليقين على اليقين بما يوجب براءة الذمة من الوظيفة
المعهودة أو الركعات المتيقنة المشروعية، على ما تقدم شرحه في الصحيحة
السابقة.
ولا طريق لتعيين الاستصحاب من قرينة حاليه أو مقالية. بل ظاهر مثل
الصدوق ممن ذكر الحديث في شكوك الصلاة كون ذلك هو المتيقن من مورده
وهو مانع من حمله الاستصحاب.
ولا سيما بملاحظة ورود المضمون المذكور في صحيح عبد الرحمن بن
الحجاج وعلي عن أبي إبراهيم عليه السلام، في السهو في الصلاة. فقال: " تبني على
اليقين، وتأخذ بالجزم، وتحتاط بالصلوات كلها " (1)، ولا يخفى بعد حمله على
الاستصحاب جدا. فلاحظ.

(1) الوسائل: باب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث: 2.
46

الخامس: ما في الخصال بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي
عبد الله عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: - في حديث الأربعمائة - " من كان
على يقين فشك فليمض على يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين " (1).
وسند الحديث لا يخلو عن إشكال، لاشتماله على القاسم بن يحيى عن
جده الحسن بن راشد مولى المنصور، وقد ضعفهما العلامة قدس سره وابن الغضائري
في ما حكي عنه، وضعف النجاشي الحسن بن راشد الطفاوي الذي يحتمل
اتحاده مع مولى المنصور، لعدم تعرضه له جمع اشتهاره.
وبهذا يعارض توثيق ابن قولويه للرجلين المستفاد من روايته عنهما في
كتابه.
اللهم إلا أن يقال: لا اعتماد على تضعيف ابن الغضائري مع ما هو
المعروف من تسرعه في الطعن، ولا على تضعيف العلامة قدس سره مع تأخر عصره
وأخذه عمن سبقه، حيث يقرب متابعته لابن الغضائري.
كما لا طريق لاثبات اتحاد الطفاوي الذي ضعفه النجاشي مع مولى
المنصور، ولا سيما مع اختلاف النسبة، لان الطفاويين بطن من العرب، والأول
منهم بالنسب أو الولاء فكيف يكون مولى المنصور العباسي.
واقتصار النجاشي قدس سره على الطفاوي لعله لعدم كتاب لمولى المنصور، وقد
التزم هو بذكر أصحاب الكتب.
فلا معارض لتوثيق ابن قولويه المؤيد برواية ابن أبي عمير وإبراهيم بن
هاشم عن الحسن، وإفراد الصدوق قدس سره طريقا إليه، وبرواية غير واحد من الاجلاء
عن القاسم بن يحيى كإبراهيم بن هاشم، وأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد
بن عيسى اليقطيني، فاعتبار سند الحديث لا يخلو عن قوة.

(1) الوسائل ج 1، باب 1 من أبواب الوضوء، حديث: 6، وقد رواه في ضمن فقرات ذكرها في
الخصال متفرقة، ونقل هذه الفقرة في أول صفحة 584، طبع النجف الأشرف.
47

وأما الدلالة فيمكن تقريبها بعد الرجوع لما ذكره غير واحد بأن الحديث
وإن اشتمل على الترتيب بين اليقين والشك فهو مردد بدوا بين قاعدة اليقين التي
يكون فيها الترتب بين نفس الوصفين مع اتحاد متعلقهما بحسب الزمان،
والاستصحاب الذي يكون الترتب فيه بين متعلقي الوصفين مع اتحاد زمان
نفس الوصفين واجتماعهما في الوجود، بل الأول هو الأنسب بدوا بمفاد
الحديث.
إلا أن الثاني هو الأقرب، بل المتعين بعد كونه هو الامر الارتكازي الصالح
للتعليل، وتداول التعبير عنه بنظير العبارة المذكورة في النصوص الاخر، وظهور
الكلام في فرض وجود اليقين حين المضي والعمل، الذي هو مختص
بالاستصحاب ولا مجال له في قاعدة اليقين، لأن المفروض فيها تزلزل اليقين
وتبدله بالشك لاتحاد متعلقهما فيها حقيقة، فلابد من تنزيل الترتيب بين اليقين
والشك في الحديث على الترتيب بين متعلقيهما، أو على الغالب من كون اليقين
بالحدوث أسبق حدوثا من الشك في البقاء.
لكن الانصاف أن ذلك لا ينهض بإثبات ظهور الحديث بنحو يصلح
للاستدلال.
وتوضيح ذلك: أن ظاهر النهي عن نقض شئ بشئ - كالنهي عن نقض
خبر زيد بخبر عمرو - اعتبار أمرين..
الأول: تنافي مضمونيهما، وهو موقوف على اتحاد موضوعهما
ومتعلقهما من جميع الجهات.
الثاني: تحقق المنقوض في زمان الناقض، وعدم ارتفاعه معه، إذ نقض
الطريق فرع تمامية اقتضائه للعمل، ولا اقتضاء له مع ارتفاعه، ولذا لا يصدق
نقض خبر زيد بخبر عمرو إذا عدل زيد عن خبره حين إخبار عمرو.
الا أنه لا مجال لاعتبار الامرين معا في النهي عن نقض اليقين بالشك،
48

لاستحالة اجتماعهما في موضوع واحد في زمان واحد، بل لابد من رفع اليد عن
أحدهما.
ومن الظاهر أن رفع اليد عن الأول إنما يصح مع فرض جهة اتحاد بين
المتعلقين تصحح التوسع بإطلاق النقض، إذ مع فرض التباين بينهما من جميع
الجهات يكون إطلاق النقض مستهجنا.
وحينئذ فكما يمكن حمله على الاستصحاب بلحاظ اتحاد متعلق
الوصفين ذاتا واختلافهما زمانا، كذلك يمكن حمله على قاعدة المقتضي
والمانع، بتنزيل العلم بالمقتضي منزلة العلم بالمعلول، وتنزيل الشك في المانع
منزلة الشك فيه لما بينهما من المناسبة والملابسة، أو بإرجاع اليقين والشك إلى
نفس المعلول مع ملاحظة اختلافهما من حيثية الاقتضاء والفعلية، وربما يكون
منه ما في حديث السجاد عليه السلام مع الزهري في ردع الانسان عن تخيل الرفعة على
غيره، حيث قال عليه السلام: " فقل: أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره، فما لي
أدع يقيني لشكي؟! " (1)
كما يمكن حمله على بيان عدم رفع اليد عن الحجة بغير الحجة، فإن
متعلق اليقين فيها والشك في ذلك وإن كان مختلفا ذاتا، لتعلق اليقين بالوظيفة
العملية والشك بالواقع، إلا أن ذلك لا يمنع من إطلاق النقض توسعا بتنزيل
العلم بالحجة على الشئ منزلة العلم به.
وربما يحمل على غير ذلك مما يفرض فيه جهة اتحاد تصحح إطلاق
النقض، وجهة اختلاف يمكن معها اجتماع الوصفين المتضادين.
أما رفع اليد عن الثاني مع المحافظة على الأول فهو يقتضي الحمل على
قاعدة اليقين لا غير.
وبهذا يكون التعبير المذكور صالحا لجميع الوجوه، وليس مرددا بين

(1) مجموعة ورام ج: 2 ص 89.
49

الاستصحاب وقاعدة اليقين فقط، لاشتراك جميع هذه الوجوه في الاحتياج إلى
العناية المصححة للاستعمال وحسن إرادته من العبارة المذكورة بعد إعمال
العناية.
وحمله على الاستصحاب في نصوصه لقرينة المورد لا يقتضي ظهوره
فيه في مثل هذا الحديث المجرد عن القرينة، حتى مثل فهم الأصحاب الذي هو
من القرائن الخارجية، لعدم ثبوت فهمهم الاستصحاب من الحديث المذكور،
وإن بنوا عليه في الجملة، للنصوص الاخر أو غيرها.
واشتهار التعبير عن الاستصحاب بنحو العبارة المذكورة في العصور
المتأخرة لاشتهار التمسك فيها بالنصوص المتضمنة لذلك لا يكشف عن ظهور
مثل هذه العبارة فيه في عصر صدور الحديث.
كيف! وعن السرائر إطلاق العبارة المذكورة على ما يناسب قاعدة اليقين،
حيت استدل على عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه بأنه لا يخرج
عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها، وليس ينقض الشك اليقين، وقريب
منه في النهاية والغنية. بل قال شيخنا الأعظم قدس سره: " ويقرب من هذا التعبير عبارة
جماعة من القدماء ".
بل قل من عبر من القدماء عن الاستصحاب بالعبارة المذكورة، لعدم
توجههم للاستدلال عليه بالنصوص، كما تقدم، وإنما توجه له المتأخرون.
وصاحب الذخيرة الذي هو من أوائل من توجه لذلك، استدل بصحيحة
زرارة على نظير ما تقدم من السرائر، فإن ظاهر ذلك أنه فهم منها العموم لقاعدة
اليقين.
بل إطلاق العبارة المذكورة وما يقرب منها في صحيحة زرارة الثالثة
وصحيحة ابن الحجاج اللتين عرفت صعوبة تنزيلهما على الاستصحاب، بل في
حديث السجاد عليه السلام الذي لا ريب في عدم إرادته منه موجب للريب في ظهورها
50

في نفسها في خصوص الاستصحاب مع قطع النظر عن القرائن.
وأما قرينة ارتكازية التعليل فهي إنما تنفع في تعيين المراد من التعليل بعد
الفراغ عن تشخيص الحكم المعلل، لا في مثل المقام مما شك في نفس الحكم
المعلل.
على أنه لا ريب في ارتكازية عدم نقض الحجة بغير الحجة بوجه أقوى
من ارتكازية الاستصحاب، لأنه أمر عقلي قطعي يكثر تسامح الناس فيه
وخروجهم عنه باعتمادهم على الشبه والظنون بنحو يحسن الردع عنه بالإشارة
لذلك والتنبيه عليه.
كما أن قاعدة المقتضي والمانع لا تقصر في الارتكازية عن الاستصحاب.
بل لا مجال لانكار ارتكازية قاعدة اليقين في ما لو لم يكن ارتفاع اليقين
ناشئا من انكشاف خطأ مستنده، بل من الجهل بحال المستند، لنسيانه، فإن البناء
على مقتضى اليقين حينئذ ارتكازي لمشابهته لقاعدة الصحة.
وأما ما تقدم من ظهور الحديث في فعلية اليقين حين المضي والعمل.
فهو إنما يمنع من الحمل على قاعدة اليقين، ولا يعين الاستصحاب،
لاشتراك بقية القواعد المتقدمة معه في ذلك.
على أن ظهوره في ذلك لا يقصر عن ظهوره في تنافي الشك واليقين
لاتحاد موضوعهما من جميع الجهات، حتى الزمان الملزم بالحمل على قاعدة
اليقين.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الظهور المذكور - لو سلم -
بدوي لا ينهض بمعارضة ظهور الكلام في فعلية اليقين حين العمل.
فهو غير ظاهر لنا.
وأشكل منه إنكاره للظهور المذكور من أصله، وأنه يكفي الاتحاد
التسامحي العرفي المبني على إلغاء خصوصية الزمان. فإنه من الغرابة بمكان!
51

وكأن الذي أوجب ذلك استحكام انصراف الاستصحاب من العبارة
المذكورة عند المتأخرين، كما تقدم. وإلا فلا يظن به ولا بغيره إنكار ذلك
في نظائر المقام، كما لو قيل: لا تنقض البينة الاقرار، حيث لا يتوهم أن مقتضاه أن
من أقر بالاقتراض لا تسمع بينته بالوفاء.
والمتحصل: أن الحديث الشريف لا ينهض بالاستدلال في المقام، لعدم
انطباق المعنى الحقيقي على الاستصحاب، وعدم القرينة المعينة له من بين
المعاني التي يصلح الكلام لبيانها توسعا.
اللهم إلا أن يقال: الوجوه المشار إليها وإن أمكن إرادة كل منها بالقرينة، إلا
أن الترتيب بين اليقين والشك مانع بظاهره من حمل الحديث على قاعدة
المقتضي والمانع، وعدم رفع اليد عن الحجة باللاحجة، ونحوهما، لعدم
الترتيب فيها بينهما، لا حقيقة ولا بلحاظ المتعلق، بل يتردد الامر بين قاعدة
اليقين والاستصحاب، وحيث يعلم بعدم حجية القاعدة، لعدم بناء الأصحاب
عليها، إلا في موارد قاعدة الفراغ التي لا يكون المعيار فيها على اليقين، بل على
مضي العمل، تعين الحمل على الاستصحاب، الذي يناسبه قوة الظهور في فعلية
اليقين حين العمل.
لكن الانصاف: أن في بلوغ ذلك حدا يوجب الظهور العرفي الصالح
للاستدلال إشكالا، ولا سيما مع عدم أخذ الترتيب في الكبرى المعلل بها، بل
في موردها - وهو الحكم المعلل - فإن الترتيب في مورد القاعدتين الأخريين غير
عزيز، وإن لم يكن لازما لهما ولا دخيلا في كبراهما.
وخصوصا مع ما أشرنا إليه من ورود المضمون المذكور وما يشبهه في
صحيحة زرارة الثالثة، وصحيح ابن الحجاج الذي يصعب حملهما على
الاستصحاب.
هذا، وربما يدعى في المقام أن عدم القرينة على تعيين شئ من هذه
52

الوجوه يقتضي الحمل على جميعها أخذا بعموم المجاز بعد تعذر الحقيقة.
وفيه.. أولا: ان الحمل على عموم المجاز إنما يتعين بعد العلم بإرادة معنى
مجازي وتحديده ثم الشك في تقييده، لان التقييد خلاف الأصل، كما في المعنى
الحقيقي، بخلاف ما إذا كان الكلام صالحا لكل من المعاني المجازية وحده
والشك في إرادة الجامع بينها، لان الجامع بحده معنى مستقل بنفسه في قبال
خصوصيات المعاني يحتاج إلى قرينة تعينه، وبدونها فالمتيقن إرادة معنى واحد
منها على إجماله.
إلا أن يفرض كون الجامع أقرب المجازات عرفا للمعنى الحقيقي، ولا
مجال لدعوى ذلك في المقام.
بل هو هنا أبعدها، لما فيه من التسامح في كلتا الجهتين اللتين تقدم ظهور
الاستعمال الحقيقي فيهما، وهما التنافي بين الناقض والمنقوض لاتحاد
متعلقهما، وفعلية المنقوض حين العمل، بخلاف أحد المعاني بخصوصه، فإنه
لا يستلزم إلا التسامح في إحدى الجهتين.
وثانيا: أن ذلك موقوف على وجود جامع عرفي بين المعاني، ومن
الظاهر أنه لا جامع في المقام بين الوجوه الأربعة المتقدمة.
كما لا جامع بين الاستصحاب وقاعدة اليقين لو فرض انحصار الامر
بهما، لفرض الاتحاد الحقيقي بين المتيقن والمشكوك في القاعدة، والاتحاد
الادعائي بينهما في الاستصحاب، لابتنائه على إلغاء خصوصية الزمان، ولا جامع
بينهما عرفا.
ودعوى: أن الجامع بينهما هو تعاقب اليقين والشك على الموضوع
المتحد ذاتا سواء اتحد زمانا أم اختلف.
مدفوعة: بأن ذلك يقتضي أيضا عدم نقض اليقين اللاحق بالشك السابق
53

الذي هو مفاد الاستصحاب القهري، وحيث لا إشكال في عدم إرادته كشف
عن عدم لحاظ الجامع المذكور.
ودعوى: خروج الاستصحاب القهقري بمقتضى فرض تأخر الشك عن
اليقين وترتبه عليه.
مدفوعة: بأن الترتب المذكورة لم يؤخذ في الكبرى، بل في الصغرى، وهو
لا يقتضي تقييد الكبرى، كما أشرنا إليه آنفا.
مع أن ترتب الشك على اليقين في القاعدة حقيقي بلحاظ ذاتيهما، وفي
الاستصحاب تسامحي بلحاظ متعلقيهما، ولا جامع بينهما عرفا.
فلابد في فرض عموم الحديث لهما معا معا من رفع اليد عن الترتب
المذكور، وعدم الاكتفاء بالجامع المذكور.
بل يفرض الجامع بنحو يختص بصورة اتحاد المتيقن والمشكوك زمانا
وصورة تأخر المشكوك عن المتيقن، وليس هو جامعا عرفيا ليحمل الكلام عليه بإطلاقه.
على أنه لو كان عرفيا لم يكف في شمول القاعدتين، لاختلافهما بفعلية
اليقين في الاستصحاب، وزواله في قاعدة اليقين، فلابد في الشمول لهما من
التعميم من هذه الجهة، ولازمه الاكتفاء في الاستصحاب اليقين بالحدوث وإن
زال، ولا يظن من أحد الالتزام به، لظهور أن مفاد الاستصحاب التعبد بالبقاء بعد
الفراغ من الحدوث لاحرازه وجدانا باليقين الفعلي أو تبعدا بالطريق أو الأصل
الشرعي، وإن بقاعدة اليقين، لفرض حجيتها، لا مع الشك في أصل
الحدوث من دون إحراز له أصلا.
فلابد من أخذ بقاء اليقين في خصوص أحد فردي الجامع المذكور، وهو
صورة تأخر المشكوك عن المتيقن، وهو محتاج إلى تكلف يمتنع حمل الكلام
عليه.
54

وقد تحصل أن الحمل على العموم متعذر، بل لابد من اختصاص
الحديث بأحد المعاني، وحيث لا قرينة على تعيينه لزم البناء على الاجمال.
وقد أطال غير واحد في ذكر الوجوه المانعة من الجمع بين قاعدة اليقين
والاستصحاب بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا.
وقد ظهر بذلك امتناع استفادة قاعدة اليقين من نصوص الاستصحاب
المتقدمة والآتية، إذ بعد قيام قرينة المورد على إرادته منها يمتنع عمومها
للقاعدة المذكورة، لما تقدم.
فلا وجه لما تقدم عن الذخيرة من الاستدلال عليها بصحيحة زرارة مع
استدلاله بها على الاستصحاب.
بل لابد في القاعدة المذكورة من قيام الدليل عليها بالخصوص غير هذه
النصوص.
وهو مفقود إلا في مورد قاعدة الفراغ التي يكون المدار فيها على مضي
العمل، ولو مع عدم سبق اليقين بصحته للغفلة، على ما يأتي الكلام فيه في محله
إن شاء الله تعالى.
ومنه يظهر الحال في ما رواه المفيد في الارشاد مرسلا عن أمير
المؤمنين عليه السلام: " من كان على يقين فأصابه شك فليمض على يقينه، فإن اليقين لا
يدفع بالشك " (1)، فإن ما تقدم من جهات الكلام جار فيه. على أنه ضعيف
بالارسال.
السادس: ما رواه الصفار عن علي بن محمد القاساني - على ما
في التهذيب والوسائل - قال: " كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يشك
فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخله الشك. صم للرؤية

(1) الارشاد في الفصل الذي عقده لكلامه عليه السلام في الحكمة والموعظة، ص 159 طبع النجف
الأشرف سنة 1382 د.
55

وأفطر للرؤية " (1).
أما السند فقد يشكل بعلي بن محمد، لتردده بين علي بن محمد القاشاني
الذي ضعفه الشيخ، وعلي بن محمد بن شيرة القاساني الذي يظهر من النجاشي
توثيقه، والذي يحتمل اتحاده مع علي بن شيرة الذي وثقه الشيخ أيضا.
ودعوى: أن المراد به في هذا الحديث الثاني، لأنه بالسين المهملة.
مدفوعة: بالاشكال في ثبوت الفرق المذكور، لقرب التصحيف، كما يظهر
من التباس الامر على الأصحاب. مع أن الموجود في الاستبصار المطبوع في
النجف الأشرف القاشاني بالشين المعجمة.
مضافا إلى ما قيل من أنه هو الذي يروي عنه الصفار.
وأما دعوى: اتحاد الجميع، وأن تضعيف الشيخ للأول مبني على تخيل
التعدد، واعتمادا على ما عن أحمد بن محمد بن عيسى من طعنه بأن له مذاهب
منكرة. وحيث كان واحدا وقد أنكر النجاشي على أحمد بن محمد بن عيسى
طعنه بذلك ظهر بطلان تضعيف الشيخ أو اضطرابه فيه، ويتعين الاعتماد على
توثيق النجاشي المستفاد من قوله فيه: " كان فقيها، مكثرا من الحديث، فاضلا ".
ولا سيما مع تأيده بعدم استثنائه من رجال نوادر الحكمة.
فهي مدفوعة: بعدم الشاهد على الاتحاد، بل هو خلاف الأصل. ولعل
الذي هو من رجال نوادر الحكمة هو الذي وثقه النجاشي والشيخ. فلا طريق
لاثبات وثاقة الرجل وتصحيح سند المكاتبة. فلاحظ
وأما الدلالة فقد قربها غير واحد. بل قال شيخنا الأعظم قدس سره: " والانصاف
أن هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ".
وكأن وجه أظهريتها من الصحيحتين الأوليين أن الكبرى ظاهرة
في العموم لظهور اللام في الجنس، العدم سبق ما يقتضي العهد، بخلاف

(1) الوسائل ج 7، باب: 3 من أبواب أحكام شهر رمضان حديت: 13.
56

الصحيحتين على ما سبق.
لكنه موقوف على حمل اليقين على اليقين بالحالة السابقة، والشك على
الشك في الحالة اللاحقة، وعدم الدخول على عدم الانتقاض.
ولا ملزم بذلك بعد عدم كونه هو المعنى الحقيقي المتعين بنفسه، وعدم
القرينة له. بل كما يمكن الكناية عن ذلك يمكن الكناية عن أن ما يعتبر فيه
اليقين لا ينبغي الاكتفاء فيه بالشك، فيكون مساوقا لما ورد في كثير من
النصوص من النهي عن صوم يوم الشك، بل لعل ذلك هو الأنسب بالتعبير
بالدخول.
وليس ذلك راجعا إلى أخذ العلم بالشهر في موضوع وجوب الصوم
والافطار، بل إلى الردع عن توهم وجوب صوم يوم الشك واقعا أو احتياطا،
وعن التسامح في إثبات الشهر، كما هو مفاد ما استفاض من إناطة الصوم
والافطار بالرؤية، الذي هو مطابق لمفاد الاستصحاب، وإن أمكن أن لا
يبتني عليه.
السابع: صحيح عبد الله بن سنان: " سأل أبي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر:
إني أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر، ويأكل لحم الخنزير، فيرده
علي، فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: صل فيه، ولا تغسله من
أجل ذلك. فإنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تستيقن أنه نجسه، فلا بأس أن
تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه " (1).
ولا ريب في ظهوره في الاستصحاب، لعدم الاقتصار في التعليل فيه على
الشك الذي هو موضوع قاعدة الطهارة، بل اخذت فيه الحالة السابقة، التي هي
المتمم لموضوع الاستصحاب، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره.
نعم، قال قدس سره: " الرواية مختصة باستصحاب الطهارة، دون غيرها، ولا يبعد

(1) الوسائل ج 2، باب: 74 من أبواب النجاسات حديت: 1
57

عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها مما يشك في ارتفاعها بالرافع ".
لكن لا مجال لدعوى عدم الفصل بعد ما نقله قدس سره من التفصيل منهم بين
الاستصحاب الموضوعي والحكمي الكلي والجزئي، بل التفصيل بين أقسام
الشك في الرافع.
وإلا فالظاهر أن استصحاب الطهارة والنجاسة إجماعي مستغنى فيه عن
هذه الرواية.
على أنه لا يكفي مجرد عدم القول بالفصل، بل لابد معه من القول بعدم
الفصل الراجع إلى الاجماع على الملازمة بين المورد وغيره، ولا مجال لاثبات
ذلك.
هذا، وقد تقرب دلالته على العموم: بأنه مقتضى ورود مضمون
الاستصحاب فيه مورد التعليل، لأنه المناسب لارتكازيته، لما أشرنا إليه في
الصحيحتين الأوليين من عدم دخل الطهارة في الجهة الارتكازية التي يبتني
عليها الاستصحاب، وإن كانت مختصة بكونها مقتضى القاعدة بمجرد الشك.
اللهم إلا أن يقال: لا يظهر مات التعليل الإشارة لقضية عدم نقض اليقين
الارتكازية، المقتضية لاحراز بقاء المتيقن واستمراره، ليلزم البناء على عمومها
بقرينة الارتكاز، كما تقدم في الصحيحتين الأوليين، بل مجرد ترتيب أثر الطهارة
عند الشك في تنجيس ما هو الطاهر، الذي هو متفرع على البناء على البقاء
والاستمرار، وليس هو ارتكازيا، بل تعبدي.
ولعل التعليل به بلحاظ اشتهار تعبد الشارع بذلك ووضوحه، بنحو يكفي
الإحالة إليه في استيضاح الحكم، نظير ما تقدم في توجيه التعليل في الصحيحة
الثانية بابتنائه على إجزاء الحكم الظاهري. ولعله لذا لم يبلغ ظهور هذا الصحيح
مبلغ ظهور الصحيحتين المذكورتين. وإن كان صالحا للتأييد. فتأمل جيدا.
الثامن: بعض ما تضمن من النصوص من التعبد بقاعدتي الحل والطهارة،
58

وحيث كان الكلام فيها على وجه واحد تقريبا كان المناسب جمعها في مقام
واحد.
وهي موثق مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام: " سمعته يقول: كل شئ
هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك... " (1).
وموثق عمار عنه عليه السلام في حديث قال: " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه
قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك " (2).
وحديث حماد عنه عليه السلام: " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " (3).
وقد اختلفوا في مفاد هذه النصوص على أقوال كثيرة، لترددها - بعد النظر
في كلماتهم - بين قاعدة الحلية أو الطهارة الواقعية للأشياء بعنوانها الأولي،
وقاعدة الحلية أو الطهارة الظاهرية للأشياء بعنوان كونها مشكوكة الحكم،
واستصحابهما، حيث اختلفوا بين من جمع بين القواعد الثلاث، ومن جمع بين
اثنتين منها، ومن خصها بواحدة منها، على اختلاف بينهم في تعيين المراد منها
من غير المراد على أقوال..
الأول: ما ذهب إليه المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل من
الجمع بين القواعد الثلاث، بدعوى: أن النصوص بصدرها قد تضمنت الحكم
على الأشياء والماء بالحلية والطهارة، وظاهر ذلك كون موضوع الحكم هو
الشئ والماء بعنوانهما الأولي، لا بعنوان ثانوي آخر، كالمشكوك، لأنه خلاف
ظاهر أخذ العنوان، وبعمومها الافرادي تكون دالة على قاعدتي الطهارة والحلية
الواقعيتين. كما أن مقتضى الاطلاق الأحوالي هو سراية الحكم بالحلية والطهارة
في جميع الأحوال، ومنها حالة الشك فيهما، وهو مفاد قاعدتي الحلية و الطهارة

(1) الوسائل ج 13، باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.
(2) الوسائل ج 2، باب: 37 من أبواب النجاسات، حديث: 4.
(3) الوسائل ج 1، باب: 1 من أبواب الماء المطلق، حديث: 5.
59

الظاهريتين.
هذا كله في الصدر الذي تضمن الحكم المغيى.
وأما الذيل الذي تضمن الغاية فهو ظاهر في استمرار الحكم المذكور إلى
حين العلم بالنجاسة والحرمة، الذي هو مفاد استصحاب الحلية والطهارة.
وفيه.. أولا: أن مجرد ثبوت الحكم في حال الشك بمقتضى الاطلاق لا
يجعله ظاهريا، لما هو المعلوم من اشتراك جميع الأحكام الواقعية بين العالم
والجاهل والملتفت والغافل، ولا يجعلها ذلك ظاهرية، بل الحكم الظاهري
متقوم بالتعبد بالحكم الواقعي في مقام العمل الراجع إلى البناء عليه في رتبة
متأخرة عن جعله ثبوتا، نظير إحرازه عند الشك فيه بقيام الحجة عليه، وإن افترق
عنه بعدم توسط الكشف في البين.
فهو في طول الحكم الواقعي ومباين له سنخا، فلا مجال لاستفادته من
إطلاقه الأحوالي بل إرادتهما معا تبتني على جواز الاستعمال في معنيين، الذي
منع منه قدس سره، وهو الحق في الجملة، على ما يذكر في محله.
ولا سيما في مثل المقام مما كان أحدهما في طول الاخر ومترتبا عليه،
نظير ترتب مقام الاثبات على مقام الثبوت، فإن المنع هنا آكد، لاستحالة جعل
المترتبين في عرض واحد.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من عدم تكفل الكلام بجعل الحكم، بل
بإبراز الاعتبار النفسي الذي يمكن تعلقه بالمترتبين.
فهو مبني على ما سلكه في حقيقة الخبر والانشاء وكيفية استعمال الكلام
معهما بما لا مجال لتفصيله هنا، بل يوكل إلى ما يناسبه من مباحث الألفاظ، لئلا
يضطرب نظم الكلام في المقام.
وثانيا: أن الغاية لا تقتضي الاستصحاب، لان الغاية لما كانت راجعة إلى
تقييد المغيى فهي لا تقتضي إلا استمرار الحكم المذكور في الصدر، لا الحكم
60

بالاستمرار زائدا على الحكم المغيى الذي هو مفاد الاستصحاب. فإن مفاد
الاستصحاب الحكم بالبقاء بعد الفراغ عن الثبوت، على أن يكون البقاء
والاستمرار محكوما به بما أنه معنى اسمي، لا من شؤون الحكم الأول بما هو
معنى حرفي، كما هو الحال في النصوص، وإلا فكل حكم مغيى ببقاء موضوعه.
ومن ثم كانت الغاية في النصوص مناسبة لأصالتي الحل والطهارة وظاهرة فيهما،
لا في الاستصحاب.
نعم، قرب شيخنا الأعظم قدس سره دلالة حديث حماد على الاستصحاب، لان
الاشتباه فيه غالبا يكون من جهة احتمال عروض النجاسة عليه، وإلا فهو بحسب
الأصل طاهر في نفسه، فيلزم لأجل ذلك حمل الحكم بالطهارة في الصدر على
الحكم باستمرارها بعد الفراغ عن ثبوتها، لا بأصل ثبوتها.
قال قدس سره: " والمعنى: أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخليفة طاهر
حتى تعلم. أي: تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بحصول القذارة له ".
وفيه: أن مجرد غلبة كون منشأ الشك هو الشك في استمرار الطهارة بعد
اليقين بحصولها سابقا لا يكشف عن تعبد الشارع بالاستمرار بعناية الفراغ عن
أصل الحدوث. بل يمكن تعبده بأصل ثبوت الطهارة، من دون نظر إلى سبق
اليقين به، وهو الظاهر من الحديث الملزم بحمله على أصالة الطهارة.
وكونها محكومة لاستصحابها المفروض جريانه غالبا - مع توقفه على
قيام الدليل عليه، فلا مجال لفرضه في مقام الاستدلال عليه - لا يمنع من إرادتها
لبيان جريانها من هذه الحيثية، لان الأصل الحاكم لا يمنع من جريان المحكوم
ذاتا، بل هو نظير الحكم الأولي والثانوي، فإن الثاني لا يوجب قصور الأول ذاتا،
بل يمنع من فعليته مع منافاته له عملا، لا مع توافقهما، كما في المقام.
فلا مانع من إرادة قاعدة الطهارة وبيان حيثيتها ولو لينتفع بها في الموارد
القليلة التي لا يجري فيها الاستصحاب، وهي موارد تعاقب الحالتين مع الجهل
61

بالتاريخ.
الثاني: ما ذكره المحقق المذكور في الكفاية من اختصاص الصدر بقاعدة
الطهارة أو الحلية للأشياء بعناوينها الأولية، كما هو الأصل في جعل الحكم، من
دون أن يدل على قاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، وليس المراد بالغاية إلا بيان
استمرار الحكم المذكور في الصدر، كما هو مفاد الاستصحاب، لا أنها تكون
قرينة على اختصاص موضوع الحكم بما شك في طهارته أو حليته، ليختص
الصدر بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية.
ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم ظهور الغاية في الحكم بالاستمرار زائدا
على الحكم المغيى المذكور في الصدر، لتدل على الاستصحاب، بل ليست
مسوقة إلا لتقييد الحكم المذكور في الصدر، لكونها رافعة لموضوعه، فتكشف
عن أخذ الشك في موضوعه، وحيث يمتنع أخذ الشك بالحكم في موضوعه،
كانت الغاية قرينة على كون الصدر مسوقا للحكم الظاهري، وإن كان مخالفا
لظهوره البدوي، فتختص بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، دون الواقعية.
نعم، لا يبعد التفكيك بين الصدر والذيل بحمل الأول على الحكم
الواقعي، والثاني على الحكم الظاهري في خصوص حديث حماد المختص
بالماء، كما ذكرناه في مباحث المياه.
بتقريب: أن حمل الصدر فيها على بيان الحكم الظاهري موجب لالغاء
خصوصية الماء، وتقييده بخصوص الماء المشكوك، مع كون خصوصيته
كعمومه الافرادي ارتكازيا، فانس الذهن بذلك موجب لاستحكام ظهور الصدر
في بيان عموم طهارة الماء بحسب أصله واقعا، الملزم برفع اليد عن ظهور الغاية
في كونها غاية للحكم المذكور في الصدر، وتنزيلها على كونها غاية للعمل على
الحكم المذكور وترتيب الأثر عليه، فكأنه قيل: الماء كله طاهر فليعمل على ذلك
حتى يعلم أنه قذر.
62

ولابد أن يكون العلم بكونه قذرا لطروء ما ينجسه، لا لكونه بحسب أصله
نجسا، لأنه خلاف فرض العموم الافرادي الارتكازي في الصدر، ولا يلزم من
ذلك إلا رفع اليد عن إطلاق الصدر الأحوالي، وحمله على بيان الطهارة بحسب
أصل الماء، مع المحافظة على عمومه الافرادي، وخصوصيته.
وهذا بخلاف الموثقين، فإن الحكم بالحل والطهارة فيهما وارد على
عنوان الشئ، وليس لعنوانه خصوصية ارتكازية تقتضي الحل أو الطهارة
الواقعيين.
كما لا يكون عمومهما لجميع أفراده ارتكازيا، بل هو مما يقطع بعدمه،
لما هو المعلوم من اشتمال الأشياء على الحرام والنجس. كما لا يناسب فرض
العلم بالحرمة والنجاسة في الذيل.
وحمله على خصوص الحرمة والنجاسة الطارئة بسبب ثانوي لا يوجب
المحافظة على عمومه الافرادي، لان العناوين الثانوية داخلة في عنوان الشئ
بعين دخول العناوين الذاتية، فيشملها العموم الافرادي المفروض، بخلاف مثل
عنوان الماء، فإن تبادل العناوين العرضية على الفرد الواحد منه لا يوجب تعدد
فرديته، بل تعدد حال الفرد الواحد.
والحاصل: أن حمل الصدر في الموثقين على الحكم الواقعي لا يناسب
عمومه الافرادي، فيلزم لأجل ذلك حمله على بيان الحكم الظاهري الوارد في
مقام العمل وترتيب الأثر على الحكم الواقعي على العموم المذكور، وبذلك
يكون العموم ارتكازيا.
ولا سيما بعد ظهور إضافة الحل للمكلف في موثق مسعدة في كونه إرفاقا
به في مقام الاحراز والعمل، لا حكما واقعيا تابعا لملاكه الواقعي.
الثالث: ما نسبه شيخنا الأعظم قدس سره لصاحب الفصول في موثق عمار
وحديث حماد من ظهور الصدر في بيان الطهارة الظاهرية والذيل في بقاء تلك
63

الطهارة الذي هو مفاد الاستصحاب.
وفيه: ما عرفت من أن مفاد الغاية بقاء الحكم بالطهارة الذي تضمنه
الصدر، لا الحكم ببقائها الذي هو مفاد الاستصحاب على أن مفاد الاستصحاب
ليس هو الحكم ببقاء الطهارة الظاهرية، بل لا معنى للتعبد ببقائها، إذ مع بقاء
موضوعها - وهو الشك - يقطع ببقائها، ومع عدمه يقطع بعدمها، بل ليس مفاد
الاستصحاب إلا الحكم الظاهري ببقاء الطهارة الواقعية المتيقنة.
نعم، لا ظهور لعبارة - الفصول في حمل الصدر على خصوص قاعدة
الطهارة الظاهرية، ليكون مفاد الذيل استصحابها، بل الأعم منها ومن الطهارة
الواقعية، حيث قال: " الأول: أن الحكم الأولي للمياه أو الأشياء هو الطهارة ولو
ظاهرا... "، فربما يرجع إلى الوجه الأول الذي تقدم عن المحقق الخراساني قدس سره
في حاشيته على الرسائل.
الرابع: دلالة النصوص على قاعدة الحل أو الطهارة الواقعية دون الظاهرية
ومن دون أن يدل الذيل على الاستصحاب.
ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم مناسبته للغاية.
هذا، وقد ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن الحمل على ذلك يتوقف على أمرين..
أولهما: كون العلم في الغاية طريقا محضا عما هو الغاية، وليس بنفسه
غاية، لاستحالة إناطة الحكم الواقعي بعدم العلم بخلافه.
ثانيهما: كون القذارة والحرمة في الغاية كناية عن سببهما، كانقلاب الخل
خمرا، فيكون المعنى: كل شئ حلان أو طاهر حتى يطرأ عليه سبب الحرمة أو
النجاسة، وحيث كان كلا الامرين مخالفا للظاهر، بل الظاهر كون العلم بنفسه
غاية لزم الحمل على قاعدة الطهارة الظاهرية لا غير.
أقول: ما ذكره في الامر الثاني من جعل الحرمة والقذارة كناية عن سببهما
إن أريد به كونهما كناية عن السبب بعنوانه الأولي الذي اخذ في موضوع سببيته
64

كالخمرية والموت والملاقاة للنجاسة - فمن الظاهر تعذر ذلك. لاختلاف
العناوين المذكورة مفهوما وموردا، بنحو يمتنع الكناية عنها بأجمعها، ليصلح
الكلام لضرب القاعدة العملية.
وإن أريد به كونهما كناية عن السبب بعنوان كونه سببا، فكأنه قيل: كل
شئ حلال أو طاهر حتى يتحقق سبب الحرمة أو النجاسة فيه، فمن الظاهر أن
القضية المذكورة واقعية عقلية بديهية، وليست شرعية قابلة للجعل، وإنما تصلح
للجعل لو أريد منها بيان غاية الحكم الظاهري لبيان الوظيفة العملية عند الشك،
والتي لابد من أخذ العلم فيها غاية بنفسه على نحو الموضوعية، لا طريقا لما هو
الغاية، فالوجه المذكور في غاية الضعف.
وأضعف منه كون النصوص واردة لبيان ما يعم القاعدة الواقعية
والظاهرية لا غير، حيث يرد عليه ما تقدم في الوجه الأول مضافا إلى ملائمة
الغاية لخصوص الظاهرية.
الخامس: ما عن بعض الأخباريين، وهو الظاهر من صاحب الحدائق في
موثق عمار وحديث حماد ونحوهما من نصوص الطهارة، من ظهورها في إناطة
النجاسة الواقعية بعلم المكلف، فهي لبيان قاعدة الطهارة الواقعية مع الشك.
وفيه: - مع منافاته لظهور أدلة أسباب النجاسة بل صراحة كثير منها في
تأثيرها واقعا ولو مع الجهل بها - أن العلم بالنجاسة لا يكون غاية للطهارة
الواقعية، لسبق النجاسة على العلم بها رتبة، المستلزم لاجتماع الطهارة والنجاسة
في الرتبة السابقة على العلم. بل لا يكون العلم بالنجاسة إلا غاية للطهارة
الظاهرية، فيكون الذيل قرينة على إرادة الطهارة الظاهرية لا غير.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أن النصوص المذكورة أجنبية عن
الاستصحاب، بل هي مختصة بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية، عدا حديث
حماد، حيث لا يبعد دلالته على قاعدة الطهارة الواقعية والظاهرية معا في الماء.
65

هذه هي النصوص المستدل بها في المقام.
وقد ظهر بما تقدم أن عمدتها صحيحتا زرارة الأوليان المؤيدتان
بصحيحة عبد الله بن سنان، بل ربما تؤيدان بموثق عمار، ومكاتبة القاساني،
وروايتي الخصال والارشاد.
كما قد يؤيد مضمونهما بتسالم الأصحاب على الرجوع إلى الاستصحاب
في كثير من موارد الشبهات الموضوعية بنحو لا يبعد كشفه عن نحو من التسالم
على العموم.
وهو وإن اختص بالشبهات الموضوعية، إلا أن الجهة الارتكازية
المقتضية له لا تختص بها.
بل لعل استحكام الخلاف في الشبهة الحكمية ناشئ عن شبهة عدم اتحاد
المشكوك مع المتيقن التي هي في الاحكام الكلية أقوى منها في الموضوعات
الخارجية، لتعليقها في لسان الأدلة بالعناوين القائمة بنفسها والمتباينة مفهوما
في ما بينها.
ويأتي إن شاء الله تعالى دفع ذلك ببيان الضابط في الاتحاد الذي يشترك
بين الشبهات الموضوعية والحكمية. وإن كنا في غنى عن التشبث بذلك بعد
تمامية دلالة الصحيحتين وصلوحهما للاستدلال بلا حاجة إلى عاضد أو مؤيد.
بقي في المقام أمران..
الامر الأول: أن الأدلة المتقدمة مختلفة المفاد، فمقتضى الثالث كون
الاستصحاب من سنخ الطرق والامارات المبنية على نحو من الكشف عن بقاء
المستصحب لا مجرد التعبد ببقائه، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في تقريره.
وأما الوجوه الثلاثة الباقية فهي لا تتضمن إلا مجرد التعبد ببقاء
المستصحب وترتيب الأثر عليه. وهو قد يبتني على فرض الطريقية والكشف
عنه، وقد لا يبتني على ذلك، فيكون أصلا شرعيا تأسيسيا أو إمضائيا.
66

وحيث كان فرض الطريقية والكاشفية محتاجا إلى عناية فلا مجال للبناء
عليها من دون قرينة. ولا سيما بعد كون عمدة الدليل هو الاخبار الظاهرة في
الإشارة إلى أمر ارتكازي، فإن الارتكاز لا يقتضى الطريقية. وبهذا يكون
الاستصحاب من الأصول العملية لا الطرق.
نعم، الظاهر أنه من الأصول التعبدية، لأنه لا يقتضي العمل ابتداء، بل
بتوسط تعبد الشارع بالحكم الذي يقتضيه، والبناء عليه، إما لاستصحاب الحكم
بنفسه أو لاستصحاب موضوعه، لان ذلك هو المناسب للسيرة الارتكازية
المدعاة، وللاجماع لو تم، بل لا ينبغي الاشكال فيه بملاحظة الاخبار التي هي
عمدة أدلته، لأنها لما تضمنت عدم نقض اليقين بالشك كان مرجعها إلى أن
اليقين بالحدوث صالح للبناء على البقاء عند الشك شرعا، كما هو صالح للبناء
على الحدوث ذاتا، ولذا يكون عدم ترتيب أثر البقاء نقضا له، فكما يكون عمل
المتيقن مبنيا على البناء على الواقع الذي تيقن به والبناء عليه، كذلك يكون عمل
المستصحب، فاجتناب مستصحب الحرمة أو النجاسة لا يكون إلا بتوسط البناء
على الحرمة، لاستصحابها أو استصحاب موضوعها، كما هو الحال في سائر
الأصول والقواعد التعبدية، كقاعدة الفراغ، وأصالتي الحل والطهارة.
وهذا بخلاف الأصول والقواعد غير التعبدية، الشرعية أو العقلية، كأصالة
البراءة، وأصالة الاحتياط عند الأخباريين، وقاعدة الاشتغال، فإنها تقتضي العمل
على ما يطابق احتمال السعة أو الضيق من دون تعبد بالمحتمل الذي يقتضيه.
بل يختلف الاستصحاب عن مثل قاعدة الحل للطهارة من القواعد
والأصول التعبدية بما أشرنا إليه من أن التعبد بالمؤدى فيه بتوسط اليقين السابق
به، بحيث يكون اليقين محرزا له، وإن لم يكن صالحا للكشف عنه، أما التعبد
بالمؤدى فيها فهو تعبد ابتدائي لا يبتني على وجود المحرز له.
ومن ثم كان ترتب العمل على الاستصحاب أشبه بترتبه على الامارات،
67

وإن اختلفا في كون الاحراز فيها مبنيا على طريقية المحرز وكاشفيته، أما الاحراز
فيه فلا يبتني على ذلك، كما ذكرنا.
وكأنه إلى ذلك نظر من ذكر أن مفاد أدلة الاستصحاب أن العمل في حال
الشك هو العمل حال اليقين. والا فلا مجال للجمود على ذلك لما أشرنا إليه من
أن مفادها ليس بيان لزوم العمل ابتداء، بل بتوسط إحراز مقتضي العمل
بالمحرز، وهو اليقين.
إن قلت: فرض محرزية اليقين للاستمرار راجع إلى كونه أمارة عليه
شرعا، وإن لم يكن بنفسه كاشفا عنه، إذ لا يعتبر في أمارية الامارة كشفها
وإفادتها الظن بنفسها ولو نوعا، على ما تقدم في أول الكلام في الظن.
قلت: الذي لا يعتبر في الامارة هو إدراك الجهة الموجبة لكشفها، حيث
قد تكون خفية على العرف، ولا يطلع عليها إلا الشارع، أما أصل كاشفيتها فلابد
منها، وليس المجعول في الامارة إلا الحجية بعد فرض الكاشفية، أما في
الاستصحاب فليس المجعول والمدعى إلا المحرزية، من دون فرض الكاشفية.
وقد تحصل: أن الاستصحاب ليس من الطرق والامارات المبنية على
الكشف، بل هو أصل تعبدي إحرازي يقتضي العمل بتوسط فرض محرزية
اليقين السابق لبقاء المتيقن تعبدا. فلاحظ.
الامر الثاني: أشعرنا آنفا إلى كثرة الأقوال في الاستصحاب وتعدد
التفصيلات فيه، إلا أن التفصيلات المذكورة على قسمين..
الأول: ما يبتني على الكلام في مفاد كبرى الاستصحاب المستفادة من
أدلته المتقدمة.
الثاني: ما يبتني على الكلام في تحقق أركان الاستصحاب وشروطه -
التي يأتي الكلام فيها في المقام الثاني - في بعض الموارد.
أما الثاني فقد سبق أن أهميته تقتضي بحثه في مقام مستقل، وقد خصصنا
68

له المقام الثالث.
وأما الأول فالمناسب بحثه قي هذا المقام، لأنه من شؤونه، لرجوعه إلى
تنقيح سعة مدلول الأدلة التي اختص هذا المقام بالبحث عنها.
وهو ينحصر بالتفصيل بين صورتي الشك قي الرافع والشك في
المقتضي، فيجري في الأول دون الثاني، كما اختاره شيخنا الأعظم قدس سره وتبعه غير
واحد، بدعوى اختصاص كبرى الاستصحاب المستفادة من نصوصه بذلك،
وذكر قدس سره أن الذي فتح باب ذلك هو المحقق الخونساري في شرح الدروس.
وينبغي الكلام أولا في موضوع التفصيل المذكور، ثم في وجهه..
فاعلم: أن ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره كون المعيار في التفصيل المذكور إحراز
استعداد المستصحب للبقاء لولا الرافع، بحيث يستند احتمال ارتفاع المتيقن
لاحتمال وجود الرافع، سواء أحرز المقتضي له، كما لو عالم بعزم الفاعل على
الاستمرار في الفعل، واحتمل المزاحم المانع منه، أم لم يكن محتاجا للمقتضي،
كالعدم الذي له استعداد الاستمرار في نفسه لولا حدوث مقتضي الوجود، كما
يشهد بذلك تعبيره عن التفصيل المذكور بالتفصيل بين الشك في الرافع وغيره،
وظهور مفروغيته عن جريان الاستصحاب في العدميات، وفي الأحكام الوضعية
، كالملكية والطهارة والنجاسة، مع وضوح كونها كالاعدام في أن شأنها
البقاء لولا الرافع، بلا حاجة إلى مقتضي البقاء.
ولعله لذا حمل بعض الأعاظم قدس سره كلام شيخنا الأعظم والمحقق
الخونساري قدس سره عليه واختاره هو أيضا.
نعم، هو لا يناسب ما تكرر في كلماتهم من لزوم إحراز المقتضي في
جريان الاستصحاب، بل ما يظهر من بعض وجوه استدلالهم على التفصيل
المذكور، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
بل ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أن حصول ملاك التفصيل في العدميات محتاج
69

إلى تأمل وإن لم يستبعد حصوله، مع ظهور حصول الملاك الذي ذكرناه، فإن
هذا قد ينافي ما ذكرنا. لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم. بل لابد من حمل
المقتضي في كلامهم على ما يعم القابلية المذكورة.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أنه قد يستدل على التفصيل المذكور بوجوه..
الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن حقيقة النقض رفع الهيئة
الاتصالية، كما في نقض الحبل وحيث يعلم بعدم إرادة المعنى المذكور، لعدم
فرض الاستمرار في اليقين لا بنفسه ولا بلحاظ المتيقن، تعين حمله إما على
رفع اليد عن الامر الذي من شأنه الثبوت والاستمرار، لثبوت مقتضية، أو على
مجرد رفع اليد عما كان ثابتا ولو مع عدم المقتضي له.
والأظهر الأول، لأنه أقرب إلى المعنى الحقيقي، فيلزم لأجله رفع اليد عن
إطلاق اليقين وتقييده بصورة وجود المقتضي.
وفيه.. أولا. أن النقض رفع الامر المستحكم، ففي لسان العرب: " النقض
إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء. وفي الصحاح: النقض نقض البناء والحبل
والعهد. غيره: النقض ضد الابرام " وقريب منه في مفردات الراغب والقاموس.
وعليه جرى قوله تعالى: " كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا " (1)، وغيره
من موارد استعماله في الكتاب العزيز.
وإطلاقه في الحبل بلحاظ إبرامه وتماسكه لا محض اتصاله، ولذا لا
يصدق مع عدم تماسكه. وعليه لا يكفي كون الشئ من شأنه البقاء لولا الرافع،
كالعدم، بل لا يكفي وجود مقتضي البقاء له، كجاذبية الأرض المقتضية لبقاء
الحجر في مكانه، بل لابد من استحكامه وإبرامه، وهو أخص من المدعى.
وأما استعماله في النصوص في مثل نقض الوضوء مما يكون من شأنه
البقاء من دون استحكام، فهو لا يشهد بالاكتفاء بذلك في المعنى الحقيقي، بل

(1) النحل: 92.
70

لابد من حمله على نحو من التوسع، نظير استعماله فيها في مثل نقض الصلاة
مما ليس من شأنه البقاء، بل لابد فيه من الابقاء. فلاحظ.
وثانيا: أن النقض لما كان متعلقا في النصوص باليقين فلابد من ملاحظة
الاستحكام فيه، لا في المتيقن.
ودعوى: أن إضافة النقض إلى اليقين باعتبار ما يستتبعه من الجري على
ما يقتضيه المتيقن والعمل عليه بترتيب أحكامه لا أحكام اليقين نفسه، فهو
ملحوظ في المقام طريقا للمتيقن، لا موضوعا للعمل بنفسه، فلابد من صلوح
المتيقن بنفسه للنقض، لان من شأنه البقاء لولا الرافع.
مدفوعة: بأن النهي عن النقض في المقام لما كان طريقيا لبيان تنجز
المتيقن باليقين السابق ولزوم الجري عليه ظاهرا لا واقعا، فهو من شؤون
الطريق، وهو اليقين بنفسه، لا من شؤون ذي الطريق، وهو المتيقن.
وبعبارة أخرى: عدم ترتيب أحكام المتيقن واقعا انتقاض له بنفسه، وعدم
ترتيبها ظاهرا في مقام العمل نقض لليقين الذي هو طريق للمتيقن وموجب
للجري على أحكامه، وحيث كان المراد هو الثاني لزم كون الصالح للنقض هو
اليقين لا المتيقن.
فالتحقيق: أن المصحح لاسناد النقض لليقين ما فيه من الاستحكام في
النفس، وفي ترتب العمل عليه، لكون حجيته ذاتية، فهو كالإرادة والعزم مما
يصح إسناد النقض إليه بنفسه، لا بلحاظ استحكام متعلقة. ولا يفرق في ذلك
بين أفراد اليقين عرفا.
ودعوى: أن استحكام اليقين المصحح لاسناد النقض إليه إنما يكون
باستحكام المتيقن لتحقق مقتضي البقاء فيه المستلزم لتحقق مقتضي البقاء في
اليقين به.
مدفوعة: بأن تحقق مقتضي بقاء المتيقن لا دخل له باليقين به، لعدم
71

السنخية بين مقامي الثبوت والاثبات، بل مقتضي اليقين هو الطرق المثبتة
للمتيقن ومانعه هو المعارضات للطرق المذكورة، وهي أجنبية عن مقتضي بقاء
المتيقن بالمرة.
على أن موضوع النهي عن النقض في أدلة الاستصحاب هو اليقين
بالحدوث، والمفروض بقاؤه واستحكامه حتى مع اليقين بعدم المقتضي لبقاء
المتيقن.
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من توقف صدق نقض اليقين بالشك
على أن يكون زمان الشك قد تعلق به اليقين في زمان حدوثه، لكون المتيقن
مرسلا بحسب الزمان، بحيث يكون من شأنه البقاء لولا الرافع. أما لو كان
محدودا بحد خاص فلا يقين في ما بعد ذلك الحد حتى ينتقض بالشك.
وفيه.. أولا: أن مرجع، ذلك إلى الحمل على انتقاض اليقين حقيقة، الذي
هو بمعنى ارتفاعه بعد وجوده، والذي هو خارج عن اختيار المكلف، ولا يستند
للشك، بل إلى علته، لان الرافع لاحد الضدين علة ضده لا نفس الضد، ومن
المعلوم عدم إرادة ذلك، بل المراد هو النقض العملي بعدم البناء على مقتضي
اليقين وعدم ترتيب الأثر عليه، الذي هو من شؤون المكلف ويستند إلى شكه،
حيث يرتفع به الاحراز.
وقد عرفت أن صدق النقض العملي في المقام ادعائي، الان اليقين إنما
يقتضي العمل في مورده حين حدوثه، لا في غير مورده بعد ارتفاعه.
وثانيا: أن هذا لا يقتضي اعتبار تحقق مقتضي البقاء، بل سبق اليقين
بالبقاء، لليقين بعلته التامة ولو خطأ، فلو اعتقد المكلف في أول الامر باستمرار
المتيقن ثم تزلزل قطعه وشك في المقتضي جرى الاستصحاب، وإن شك من
أول الامر بالاستمرار ولو لاحتمال طروء الرافع مع القطع بالمقتضي لم يجر
الاستصحاب.
72

وهذا في الحقيقة خروج عن الاستصحاب، ورجوع إلى قاعدة اليقين
بحمل اليقين على اليقين المنتقض بالشك والزائل معه، المتفق معه موضوعا
حتى بحسب الزمان. لكن مع تقييدها بخصوص الشك في البقاء مع استحكام
اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب.
وهو - كما ترى - مما لا يلتزم به، ولا مجال لحمل النصوص عليه، إذ ليس
فيها إلا يقين واحد، فإما أن يحمل على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق
حتى بحسب الزمان، والذي يزول معه، فيفيد قاعدة اليقين على إطلاقها ولو مع
الشك في أصل الحدوث، أو على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق من حيثية
الذات دون الزمان والذي يبقى معه، فيفيد الاستصحاب على إطلاقه، ولو مع
عدم سبق اليقين بالبقاء، ولا ريب في تعين الثاني، كما يظهر مما تقدم في رواية
الخصال.
ومما ذكرنا ظهر أنه لا مجال لاصلاح الوجه المذكور بحمله على لزوم
كون زمان الشك متعلقا لليقين تسامحا بسبب إحراز المقتضي، لا حقيقة ليتوجه
عليه ما تقدم.
لاندفاعه: بأن متعلق النقض في النصوص هو اليقين السابق، وهو اليقين
بالحدوث المفروض وجوده فعلا حين الشك، لا اليقين بالبقاء، ليكون تعذر
وجوده الحقيقي مع الشك ملزما بالتنزل لوجوده التسامحي الناشئ من فرض
المقتضي حينه مع أن كون وجود المقتضي مصححا للتسامح في وجود اليقين لا
يخلو عن خفاء بعد كون المقتضي دخيلا في وجود المستصحب ثبوتا، ولا
سنخية بينه وبين اليقين به، لأنه من شؤون مقام الاثبات، كما تقدم في الوجه
الأول.
الثالث: أن المصحح لاسناد النقض في أدلة الاستصحاب إلى اليقين مع
ارتفاعه حقيقة هو الملازمة الادعائية بين اليقين بالحدوث واليقين بالبقاء
73

المتفرعة على ادعاء الملازمة بين نفس الحدوث والبقاء، فعدم ترتيب أثر البقاء
نقض لليقين بالبقاء حقيقة ولليقين بالحدوث ادعاء، ولا يصح عرفا ادعاء
الملازمة المذكورة مع عدم إحراز مقتضي البقاء، لعدم المنشأ لها، وإنما صح
ادعاؤها مع إحرازه لعدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع.
وقد يظهر من شيخنا الأستاذ قدس سره اعتماد هذا الوجه مع اختصاره.
وفيه: أن ابتناء إسناد النقض لليقين على الملازمة الادعائية المذكورة لا
يخلو عن خفاء، لامكان ابتنائه على ادعاء أن اليقين كما يقتضي العمل حينه
يقتضي العمل بعده، فيكون عدم ترتيب الأثر بعده نقضا له.
كما لم يتضح أيضا ابتناء تلك الملازمة - لو تمت - على عدم الاعتداد
باحتمال طروء الرافع الملزم بفرض المقتضي.
لوضوح أن عدم الاعتداد باحتمال الرافع يقتضي حجية قاعدة المقتضي
ولو مع عدم اليقين بالحدوث الذي هو مورد الاستصحاب، لعدم خصوصية
ذلك في الجهة الارتكازية المذكورة، بل ظاهر أدلة الاستصحاب ابتناؤه على
جهة ارتكازية أخرى، وهي عدم رفع اليد عما علم ثبوته بمجرد الاحتمال، بل
لابد من البناء على بقائه مطلقا. ولا أقل من كون ذلك مقتضى إطلاق أدلته، لعدم
صلوح الجهة المذكورة للمنع منه بعد عدم التنبيه إليها في الأدلة.
ومجرد صلوحها لتصحيح ادعاء النقض - لو تم - لا يمنع من الحمل على
الاطلاق، لعدم انتقال الذهن إليها بمجرد ذلك، بل لابد من وضوح ابتناء الكلام
عليها، بنحو تكون من سنخ القرائن المحتفة به المانعة من انعقاد ظهوره في
الاطلاق، ولا مجال لاثبات ذلك.
وبعبارة أخرى: لو ثبت اختصاص الاستصحاب بصورة الشك في الرافع
دون المقتضي كانت الجهة المذكورة صالحة للتفريق بينهما.
أما بعد إطلاق أدلته وعدم التنبيه فيها إليها فهي لا تمنع من انعقاد الظهور
74

في الاطلاق، لعدم بلوغها في الوضوح حدا يجعلها مما يحتف بالكلام ويصح
الاتكال عليه في بيان المراد منه.
وهذا جار في الوجهين الأولين لو غض النظر عما تقدم في مناقشتهما.
وقد تحصل من جميع ما تقدم أن المتعين هو البناء على عموم
الاستصحاب، لاطلاق أدلته من النصوص المتقدمة التي عرفت أنها عمدة الدليل
عليه.
نعم، لو كان الدليل عليه السيرة أو الاجماع تعين البناء على التفصيل
المذكور، لأنه المتيقن منهما في الجملة.
تنبيه:
أشرنا في الامر السابق إلى أن مفاد الاستصحاب هو إحراز المستصحب
والتعبد به بادعاء كون المحرز له هو اليقين السابق.
وقد تعرضنا في المفصل الثالث من مباحث القطع عند الكلام في القطع
الموضوعي إلى اختلاف كلماتهم في مفاده ومفاد الطرق والامارات وبقية
الأصول، وأنه قد وقع الكلام بينهم في ذلك، حيث ذهب بعضهم إلى أن مفاده
تنزيل المستصحب منزلة الواقع، وآخر إلى أن مفاده تنزيل الشك به منزلة العلم،
وثالث إلى أن مفاده جعل العلم بالمستصحب تعبدا، وغير ذلك مما أطلنا الكلام
في مناقشته هناك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ذلك، كما تعرضنا هناك
لمفاد الطرق والامارات، وبقية الأصول. فراجع.
75

المقام الثاني
في أركان الاستصحاب وشروطه
والكلام في ذلك يقع في فصلين..
يبحث في الأول منهما عن أركانه المقومة لمفهومه، حسبما استفيد من
الأدلة المتقدمة.
وفي الثاني عما يعتبر في جريانه من الشروط الخارجة عن مفهومه.
الفصل الأول
في أركان الاستصحاب
ومما تقدم في تعريفه وأدلته يتضح أن للاستصحاب ركنين يتقوم بهما..
الأول: اليقين بتحقق المستصحب سابقا.
الثاني: الشك في بقائه واستمراره. والكلام في ما يتعلق بهما يقع في
ضمن أمور..
الامر الأول: لا إشكال في أن ظاهر اليقين بدوا في تعريف الاستصحاب
ونصوصه وكلمات الأصحاب هو اليقين الحقيقي، الذي هو صفة نفسية تقابل
الشك والظن والوهم، إلا أنه لا إشكال عندهم ظاهرا في استصحاب مؤدى
الطرق والامارات، وقد يستشكل في ذلك بعدم تحقق أحد ركني الاستصحاب
77

فيه، وهو اليقين.
بل قد استشكل المحقق الخراساني قدس سره وغير واحد ممن تأخر عنه في
تمامية كلا ركنيه، لأن الشك في البقاء متفرع على اليقين بالحدوث، المفروض
عدم تحققه، فلا يكون الشك في المقام إلا تقديرا.
لكن الظاهر اندفاعه، بأن عنوان البقاء وإن كان متفرعا ثبوتا على
الحدوث، إلا أنه لا وجه لتفرع الشك في البقاء على اليقين بالحدوث، بل هو
يجتمع معه ومع الشك فيه، على ما هو الحال في جميع الأمور المترتبة خارجا
أو مفهوما، كما لعله ظاهر.
فالعمدة الاشكال من جهة اليقين، وقد حاول غير واحد دفعه وتوجيه
جريان الاستصحاب.
والمذكور في كلماتهم وجوه..
الأول: أن مفاد الاستصحاب ليس الا التعبد ببقاء الامر الحادث في فرض
الشك فيه، فيكون الحكم بالبقاء مرتبا وملازما للثبوت الواقعي وإن لم يتيقن به،
نظير حجية الخبر المنوط بعدالة المخبر.
وليس أخذ اليقين بالثبوت في أدلته إلا لكونه طريقا محضا يحرز معه
موضوع الحكم بالبقاء والتعبد الظاهري به، لا لكونه دخيلا في الموضوع ثبوتا،
فتقوم مقامه الطرق، كما تقوم مقام القطع الطريقي في سائر الموارد.
وهذا هو الظاهر من شيخنا الأعظم قدس سره حيث عرف الاستصحاب بأنه إبقاء
ما كان، وصرح بأن موضوعه ثبوت الشئ، فلابد من إحرازه بالعلم أو الظن
المعتبر.
بل الظاهر أنه مراد المحقق الخراساني قدس سره، وإن كانت بعض فقرات كلامه
قد توهم إرادة أن مفاد الاستصحاب نفس الملازمة بين الثبوت والبقاء،
وموضوعها الشك في البقاء على تقدير الثبوت، فمع الشك المذكور يكون
78

الاستصحاب فعليا، وإن لم يكن هناك ثبوت واقعي أو إحراز له، لعدم توقف
الملازمة على وجود طرفيها.
قال: " هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شئ على تقدير
ثبوته وإن لم يحرز ثبوته في ما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا... فيكفي الشك فيه
على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا التقدير، فيترتب عليه الأثر فعلا في ما كان
هناك أثر... فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا للملازمة بينه وبين
ثبوته واقعا... ".
ومن ثم أورد عليه بعض الأعاظم قدس سره بأنه لا معنى للتعبد بالبقاء على
تقدير الحدوث، فإن الملازمة كالسببية لا تنالها يد الجعل، بل ما يقبل الجعل هو
التعبد بوجود شئ على تقدير آخر، فتنتزع منه السببية والملازمة.
لكن من البعيد جدا إرادة المحقق الخراساني قدس سره لذلك، لما هو المعلوم
من مذهبه في مثل السببية والملازمة من كونها منتزعة لا مجعولة.
بل من القريب جدا إرادته ما ذكرنا من أن مفاد الاستصحاب نفس التعبد
بالبقاء في فرض الثبوت الواقعي، الذي هو منشأ انتزاع الملازمة المذكورة، فلا
يكون فعليا إلا مع فعلية الثبوت، وإن لم يمكن العمل عليه إلا بعد إحراز الثبوت،
لتوقف العمل بالحكم وتنجزه على إحراز موضوعه، وعمدة ما يريد التنبيه عليه
أن اليقين ليس دخيلا في الموضوع، بل طريقا له.
وكيف كان، فالظاهر أن الوجه المذكور ممكن في نفسه، وكان المناسب
لبعض الأعاظم قدس سره التنبيه له وعدم الاقتصار على منع جعل الملازمة.
نعم، الوجه المذكور مخالف لظاهر الأدلة، لظهورها في موضوعية نفس
اليقين للاستصحاب، وحملها على كون ذكره لمحض الطريقية وأن الموضوع
نفس الثبوت مخالف لظاهرها.
وثبوت ذلك في أدلة الاحكام الواقعية التي تقتضي المناسبات الارتكازية
79

أو الجمع بين الأدلة تبعيتها للواقع، نظير قوله تعالى: " وكلوا واشربوا حتى
يتبين لكم الخيط الأبيض... " (1)، لا يقتضي البناء عليه في ما نحن فيه ونحوه
من موارد الاحكام الظاهرية الراجعة إلى مقام الاحراز والتابعة للعلم ونحوه
ارتكازا.
بل نصوص المقام تأبى ذلك بعد تضمنها التعبد بالاستصحاب بلسان
عدم نقض اليقين بالشك، الظاهر في دخل اليقين بنفسه في الاحراز، كما سبق.
ومن ثم تقدم في التمهيد أنه لابد من أخذ اليقين في تعريف
الاستصحاب، ولا مجال لتعريفه بأنه إبقاء ما كان. فراجع.
الثاني: أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والامارات تنزيلها منزلة العلم شرعا،
فتشاركه في أحكامه الشرعية، ومنها عدم النقض بالشك، الذي هو مفاد
الاستصحاب.
ونحوه دعوى ظهورها في جعلها علما تعبدا فتلحقها أحكامه.
ويظهر الجواب عن ذلك بمراجعة ما تقدم منا في الفصل الثالث من
مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي، حيث أطلنا الكلام هناك في
حال المبنيين المذكورين وغيرهما.
الثالث: أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والامارات تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع،
فتجري عليها أحكامه، ومنها حرمة النقض، بناء على أن حرمة النقض في
الاستصحاب من أحكام نفس المتيقن لا اليقين.
وفيه: - مع أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور، نظير ما تقدم
في الوجهين السابقين، وأن حرمة النقض من آثار اليقين لا المتيقن، كما تقدم
في رد القول باختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع - أن الواقع التنزيلي
وهو مؤدى الطريق يقطع بانتقاضه بانتهاء أمد الطريق، وما يحتمل انتقاضه

(1) البقرة: 187.
80

بالشك هو الواقع الحقيقي المفروض كونه مظنونا لا مقطوعا به.
الرابع: أن مؤديات الطرق أحكام ظاهرية متحدة مع الواقع على تقدير
الإصابة، ومبانية له على تقدير الخطأ، وحيث كانت الطرق محتملة الإصابة
للواقع المفروض احتمال بقائه جرى الاستصحاب، لتمامية ركنيه، للقطع بثبوت
الحكم المردد بين الواقعي والظاهري حين قيام الطريق.
غايته أنه يكون من استصحاب الكلي الذي يتردد بين فردين مقطوع
الزوال ومحتمل البقاء، الذي هو ملحق بالقسم الثاني في الجريان، لان المؤدى
إن كان مخالفا للواقع كان ظاهريا محضا ينتهي بانتهاء أمد الطريق، وإن كان
موافقا له كان عينه، والمفروض احتمال بقائه.
نعم، لو كان الحكم الظاهري مباينا للحكم الواقعي حتى في فرض
للإصابة، كان استصحابه من القسم الثالث، للقطع بانتهاء الحكم الظاهري
المقطوع تحققه سابقا، والشك في ثبوت الواقع المطابق له من أول الامر.
وفيه: - مع أنه لا يجري في الموضوع الخارجي، لان قيام الطريق عليه لا
يوجب جعله ظاهرا بلا إشكال - أن التحقيق عدم كون مؤدى الامارة حكما
ظاهريا، لا متحدا مع الواقع، ولا مباينا له، على ما تقدم منا في مبحث القطع
الموضوعي ومبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية. فراجع.
هذه عمدة الوجوه المذكورة في كلماتهم، وقد ظهر عدم نهوض شئ
منها بإثبات المدعى.
فالعمدة في توجيهه: أن اليقين وإن كان دخيلا في موضوع الاستصحاب،
كما هو ظاهر أدلته، إلا أنه تقدم منا في مبحث القطع الموضوعي أن الطرق تقوم
مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية، لرجوعه إلى عدم
خصوصية القطع في موضوعيته للحكم والتعدي منه لجميع الطرق الاحرازية،
فثبوت الحكم لها في عرض ثبوته له، لأنها مثله من أفراد المحرز، لا في طوله
81

بتوسط جعلها من أفراده تعبدا، أو تنزيلها منزلته شرعا، أو تنزيل مؤداها منزلة
مؤداه.
وقد تقدم منا في ذلك المبحث تفصيل الكلام فيه بما لا مجال لإطالة
الكلام فيه هنا.
والمهم هنا هو التنبيه إلى اليقين لم يؤخذ بما هو صفة خاصة، بل بما
هو طريق محرز لمؤداه مقتض للعمل عليه. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه غير
مرة من كون قضية عدم نقض اليقين المشار إليها في الأدلة ارتكازية لا تعبدية
محضة، ولا خصوصية لليقين فيها ارتكازا.
كما يؤيده تسالم الأصحاب على جريان الاستصحاب في المقام، بنحو
يظهر منه كون ذلك هو مقتضى ارتكازاتهم الأولية غير المبتنية على الاستدلال
والتدقيق، لعدم تحرير المسألة إلا في العهود المتأخرة.
هذا كله في الاستصحاب مؤدى الطرق والامارات.
ومنه يظهر الحال في استصحاب مؤدى الأصول الاحرازية، حيث تقدم
منا هناك قيام الأصول المذكورة مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية، لما
أشرنا إليه من أن العلم ليس طريقا إلى الواقع، كي تختص الطرق بمشاركته، لعدم
الطريقية في الأصول، بل هو عبارة عن نفس الوصول للواقع وإحرازه، فإلغاء
خصوصيته تقتضي عموم الحكم لكل إحراز ولو كان بسبب الأصل.
ولا حاجة مع ذلك للتشبث بدعوى ظهور أدلة الأصول في تنزيلها منزلة
العلم، أو جعلها علما تعبدا، أو تنزيل مؤدياتها منزلة المعلوم، أو جعل الحكم
الظاهري في موردها.
على أن ذلك كله غير تام، نظير ما تقدم في الطرق.
ثم إنه بناء على ذلك لا إشكال في استصحاب مؤدى الأصل مع تكفل
دليله بإحراز مؤداها في الزمان الأول دون الثاني، لعدم تحقق موضوعه بالإضافة
82

إليه، كأصالة الطهارة أو استصحابها في الماء حيث يحرز بهما حدوث طهارة
الثوب المغسول به، دون بقائها، فلو احتمل طروء النجاسة على الثوب بعد
غسله بالماء المذكور أمكن استصحاب طهارته.
أما لو كان الأصل بنفسه متكفلا بإحراز مؤداه في الزمان الثاني أيضا،
لتحقق موضوعه بالإضافة إليه، فقد ذكر غير واحد أنه لا مجال لاستصحاب
مؤداه، للقطع ببقائه، كما لو احتمل نجاسة الثوب في زمان خاص، كيوم الجمعة،
فجرت فيه أصالة الطهارة أو استصحابها بالإضافة إليه، ثم شك في طروء
النجاسة عليه بعده، لوضوح أن موضوع الأصل المحرز للطهارة في ذلك الزمان
متحقق بنفسه في الزمان اللاحق، فيقطع معه ببقاء مؤدى الأصل بلا حاجة إلى
الاستصحاب.
وتوهم: أن الاحراز إن كان بقاعدة الصهارة لم يمنع عن جريان
الاستصحاب لحكومته عليها.
مدفوع: بأن ذلك إنما يتم في استصحاب الطهارة الواقعية، لا استصحاب
الطهارة الظاهرية التي هي مؤدى قاعدة الطهارة، للقطع - مع تحقق موضوع
قاعدة الطهارة - ببقاء المتيقن السابق الذي هو مؤدى الأصل، ولا شك فيه حتى
يجري استصحابه.
لكنه يندفع: بأن بقاء موضوع الأصل الاحرازي لا يوجب القطع ببقاء
مؤداه، ليرتفع به موضوع استصحابه، ويكون تعبدا بما هو محرز بالوجدان، لما
أشرنا إليه آنفا من عدم كون مفاد الأصل حكما ظاهريا قابلا للبقاء، بل لا أثر له إلا
إحراز الحكم الواقعي تعبدا، وحينئذ فتحقق موضوع الأصل في الزمان الثاني
وجريانه لا يقتضي إلا إحراز الحكم الواقعي تعبدا فيه كإحرازه في الزمان الأول،
ولا يرتفع به موضوع الاستصحاب، بل يشترك هو والاستصحاب في الاحراز
التعبدي لا غير.
83

ودعوى: أن الأصل المحرز المفروض تحقق موضوعه وإن لم يكن رافعا
للشك حقيقة، إلا أنه رافع له تعبدا، فلا يبقى معه مجال للاستصحاب.
مبنية على فرض تقدم الأصل المحرز رتبة على الاستصحاب، وهو غير
تام، لان المتقدم على الاستصحاب رتبة هو جريان الأصل المحرز بالإضافة إلى
الزمان السابق، لتوقف تحقق موضوعه - وهو الاحراز السابق - عليه، أما جريانه
في الزمان الثاني - الذي يراد الرجوع للاستصحاب فيه - فلا وجه لتقدمه عليه
رتبة كي يرتفع موضوعه به تعبدا، بل ليس ارتفاع موضوع الاستصحاب به
بأولى من ارتفاع موضوعه بالاستصحاب.
وكذا دعوى: لغوية الاستصحاب للاستغناء عنه بالأصل المحرز بعد
فرض بقاء موضوعه، لارتفاع التحير به وترتب الأثر عليه.
فإن ذلك كله مبني على تخيل جريان الأصل المحرز في تمام الأزمنة
ذات الشكوك المتعددة بتطبيق واحد، مع الغفلة عن أن تطبيقه في كل زمان
بلحاظ شكه الخاص به لاطلاق الشك في دليله، الذي هو كإطلاق اليقين في
دليل الاستصحاب شامل للاحراز التعبدي المتفرع على تطبيق دليل الأصل
المحرز على الشك الأول والمتأخر عنه رتبة من دون أن يتأخر رتبة عن تطبيقه
على بقية الشكوك، بل هو في عرضه.
والذي ينبغي أن يقال: لا مجال لجريان الاستصحاب مع وحدة الشك
وعدم تجدده، لعدم احتمال ارتفاع الحال المحرز سابقا على تقدير ثبوته، وإنما
يشك في أصل تحققه في الزمان السابق ويختص بعلاج الشك المذكور الأصل
المحرز الجاري فرضا.
وأما مع تجدد الشك في ارتفاع الحال السابق. الذي هو مقتضى الأصل
المحرز، فالأصل المحرز إن كان هو الاستصحاب فالظاهر جريانه بنفسه في
الزمان الثاني لدفع الشك الحادث، لظهور قضية عدم نقض اليقين بالشك في
84

تقديم اليقين السابق على كل شك يفرض لا على شك واحد، ولا يترتب
استصحاب آخر عليه بلحاظ جريانه في الزمان الأول، لا لعدم الموضوع له، بل
لغفلة العرف عن تطبيق عموم الاستصحاب عليه مع تطبيقه الأول، ولو التفت
إلى ذلك فهو يرى أن تطبيق دليل الاستصحاب في الشك المتجدد مرة أخرى
لاغ وإن لم يكن لاغيا عقلا، لامكان إحراز المشكوك بأكثر من تعبد واحد لا
ترتب بينها، وذلك يوجب انصراف عموم الاستصحاب عن مثل هذا التطبيق،
فلا يكون حجة فيه.
وبالجملة: لا يرى العرف بعد اطلاعه على عموم الاستصحاب في مقام
علاج الشك المتجدد إلا تعبدا واحدا موضوعه اليقين الأول، ويغفل عن التعبد
الاخر المبتني على إعمال العموم في الشك الأول، وذلك كاشف عن انصراف
العموم وعدم صلوحه لبيان مثل هذه الافراد حسب المتفاهم العرفي.
وإن كان المحرز أصلا آخر غير الاستصحاب - كأصالة الطهارة - فالظاهر
أنه لا مانع من تطبيق عموم الاستصحاب في الشك المتجدد، لعموم دليله وعدم
غفلة العرف عنه، بل يكون من حيثية الشك المتجدد مقدما على قاعدة الطهارة،
كما يقدم عليها في سائر الموارد، وإن كانت تنفرد بالجريان من حيثية الشك
الأول، حتى في الزمان الثاني، لعدم الموضوع للاستصحاب بالإضافة إليها، كما
تقدم.
مثلا: إذا شك في الثوب أنه من شعر الكلب أو الماعز، فجرت أصالة
الطهارة، ثم احتمل ملاقاته للنجاسة بعد خياطته، فالشك في طهارته بعد خياطته
من حيثية احتمال كونه من شعر الكلب مجرى لقاعدة الطهارة، ومن حيثية
احتمال ملاقاته للنجاسة مجرى للاستصحاب المقدم على القاعدة، فيجتمع
الاستصحاب مع القاعدة بلحاظ اختلاف الحيثية لاطلاق دليلهما، وإن كان مقدما
عليها في الحيثية الواحدة، ولذا يقدم عليها في الحيثية الثانية، نظير اجتماع قاعدة
85

الطهارة أو الاستصحاب مع البينة في الفرض لو قامت البينة على كون الثوب من
شعر الماعز، أو على عدم تنجسه بنجاسة عرضية.
هذا هو الظاهر من أدلة الأصول بعد تحكيم المرتكزات في الجمع بين
مؤدياتها.
بقي الكلام في الأصول غير الاحرازية، كأصالة البراءة والاحتياط
الشرعيين والعقليين، ومن الظاهر أن ما تقدم من الوجوه المصححة
للاستصحاب لا يجري فيها، بل حيث كانت مؤدياتها أحكاما طريقية مباينة
للحكم الواقعي، فلا مجال لفرض الشك في ارتفاعها بما يحتمل معه ارتفاع
الحكم الواقعي، لينظر في الاستصحاب حينئذ.
نعم، قد يشك في ارتفاعها لاحتمال انتهاء موضوعها أو طروء الرافع لها
لو كانت شرعية، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية، فيجري فيهما ما
يجري فيها من الكلام، وهو خارج عما نحن فيه.
الامر الثاني: الظاهر أن المراد بالشك ما يقابل اليقين، فيعم الظن والوهم
لأنه معناه لغة كما في جمهرة اللغة، والقاموس، ومجمع البحرين، بل في الأخير
أنه المنقول عن أئمة اللغة.
بل هو المنسبق منه عرفا، المؤيد بظهور بعض نصوص قاعدة
التجاوز (1)، والشك في ركعات الصلاة (2) في إرادته، لمقابلته باليقين وفرض
صورة الظن معه فيها، بل هو الظاهر من موارد استعماله في الكتاب المجيد، كما
يناسبه مقابلته بالايمان في قوله تعالى: " إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو
منها في شك " (3)، وتعقيبه بالبيان في قوله تعالى: " إن كنتم في شك من ديني

(1) الوسائل ج 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 8.
(2) الوسائل ج 5، باب: 1 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.
(3) سبأ: 21.
86

فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله " (1)، وجعله موضوعا للسؤال في قوله
تعالى: " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من
قبلك " (2)، ووصفه بالريب في مثل قوله تعالى: " وإنهم لفي شك منه
مريب " (3).
والظاهر أن تخصيصه بتساوي الاحتمالين اصطلاح متأخر، نظير جعل
الوهم مقابلا للظن، فلا مجال لحمل نصوص المقام وغيرها عليه.
ولا سيما مع ما في نصوص المقام من مقابلته باليقين بنحو يظهر منه
الانحصار بهما واستيفاء الأقسام، وتضمنها حصر الناقض لليقين باليقين، وعدم
الاعتناء باحتمال الشخص للنوم بمثل تحريك شئ، إلى جنبه وهو لا يعلم،
الذي هو من سنخ الامارة الموجبة غالبا للظن به، والاكتفاء في العمل على اليقين
السابق بمثل احتمال وقوع الدم على المصلي في أثناء الصلاة الذي هو ضعيف
جدا، كما أشار إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره، بل صرح بتطبيق الشك على الظن
بإصابة الدم للثوب في صحيحة زرارة الثانية.
ومنه يظهر جريانه مع الوثوق والاطمئنان بانتقاض الحالة السابقة، بل
ذلك يصلح للردع عنه لو فرض حجيته في نفسه ببناء العقلاء - كما قد يدعى -
كما يمكن استفادة الردع عنه من نصوص اخر واردة في قاعدة التجاوز وطهارة
الماء وغيرها. وللكلام في ذلك مقام آخر.
هذا، وقد استدل شيخنا الأعظم قدس سره - مضافا إلى ذلك - بالاجماع على عدم
الفرق بين الظن وغيره، بناء على أخذ الاستصحاب من الاخبار.
وبأن عدم اعتبار الظن إن كان لقيام الدليل على عدم اعتباره كان مفاد

(1) يونس: 104.
(2) يونس: 94.
(3) هود: 110.
87

الدليل تنزيله منزلة العدم عند الشارع، وأن كل ما يترتب على تقدير عدمه فهو
المترتب على تقدير وجوده، وإن كان لعدم الدليل على اعتباره كان نقض اليقين
به نقضا بالشك.
ويشكل ما ذكره: بأن الاجماع لا ينفع بعد قرب استناده إلى فهمهم من
الاخبار، فلا يكون دليلا آخر غيرها. إلا أن يدعى كشفه عن وجود قرائن ملزمة
بالحمل على العموم خفيت علينا.
وهو ممنوع.
ودليل عدم اعتبار الظن إنما يقتضي عدم حجيته، لا إلغاءه شرعا بمعنى
عدم ترتب أحكامه، فضلا عن ترتب أحكام الشك - بالمعنى الأخص - عليه،
لعدم تضمنها تنزيله منزلة الشك شرعا، ولذا لا ترتب أحكام الشك المذكور
عليه غير عدم نقض اليقين.
والشك في حجية ظن لا يوجب كون نقض اليقين به نقضا بالشك،
لوضوح أن ظاهر الشك في نصوص الاستصحاب هو الشك في نفس الواقع
المتيقن، لا ما يعم الشك في حجية الطريق عليه.
ثم إنه ربما يدعى أن ذكر الشك في النصوص كناية عن عدم الحجية
والتحير، فيرتفع موضوع الاستصحاب بقيام الطريق المعتبر وإن بقي معه الشك.
ويترتب على ذلك ورود دليل حجية الطريق على عموم الاستصحاب.
وقد يقرب: بأن قضية عدم نقض اليقين بالشك لما كانت ارتكازية واردة
مورد التعليل فهي قاصرة عن صورة وجود الطريق المعتبر على خلاف الحالة
السابقة، لعدم بناء العرف على العمل بالحالة السابقة مع قيام الطريق المعتبر على
انتقاضها وإن بقي الشك معه، نظير ما، تقدم في تقريب استصحاب مؤدى
الطريق.
لكنه يشكل: بأن مجرد عدم بناء العرف على العمل بالاستصحاب مع قيام
88

الطريق المعتبر على خلافه لا ينافي بناءهم على تحقق موضوعه، وهو الشك،
وجريانه ذاتا لولا الطريق، بحيث يكون قيام الطريق من سنخ المانع عن الرجوع
للاستصحاب مع تحقق موضوعه ذاتا لا من سنخ الرافع لموضوعه ذاتا.
ودعوى: أن البناء على إلغاء خصوصية اليقين وتعميم الموضوع لكل
محرز - كما تقدم في الامر السابق - يقتضي حمل الشك على فرض عدم
المحرز، لأنه مقتضى المقابلة بين الامرين.
مدفوعة: بأن الشك لما كان بتمام أفراده غير صالح للاحراز، فإبقاؤه على
إطلاقه لا ينافي المقابلة بوجه، غاية ما يلزم هو البناء على نقض اليقين وكل
محرز بكل ما لا يكون محرزا وإن كان أمرا آخر غير الشك، وهو أمر آخر غير
تقييد الشك بصورة عدم وجود المحرز بنحو يكون وجود المحرز رافعا
لموضوع الاستصحاب ذاتا.
وأضعف من ذلك دعوى: أن المراد بالشك ليس مطلق ما يقابل اليقين
بالواقع، ليجتمع مع قيام الطريق المعتبر، بل ما يقابل اليقين بالواقع أو بالحجية
المستتبع لليقين بالوظيفة العملية الظاهرية، وقيام الطريق المعلوم الحجية رافع
له حقيقة.
لاندفاعها: بأن ذلك تكلف لا شاهد له، فإن ظاهر المقابلة بين الشك
واليقين اتحاد متعلقهما، وهو الواقع لا غير.
وبالجملة: إن كان المدعى ارتفاع موضوع الاستصحاب ذاتا بقيام الطريق
المعتبر، بحيث يكون دليل حجيته واردا عليه، لاختصاص موضوعه بالشك
الذي لا حجة معه، فلا طريق لاثباته.
وإن كان المدعى عدم الرجوع للاستصحاب مع قيام الطريق المعتبر، إما
لتخصيص عمومه بدليل حجية الطريق، أو لمانعية قيام الطريق من العمل به مع
تحقق موضوعه ذاتا، فهو حق على ما يتضح الكلام فيه في محله إن شاء الله
89

تعالى.
الامر الثالث: ظاهر الأدلة المتقدمة كون موضوع الاستصحاب هو اليقين
والشك الفعليين المتفرعين على الالتفات للواقعة، لا التقديريين الراجعين إلى
كون المكلف بحيث لو التفت لتيقن أو شك، كما هو الحال في سائر العناوين
المأخوذة في موضوعات الاحكام الواقعية والظاهرية، التي يكون مفاد كبرياتها
قضايا حقيقية تقتضي فعلية الحكم في فرض فعلية الموضوع.
بل لا ضابط لوجود الموضوع تقديرا، حيث يمكن ترتبه على أمور كثيرة
لا تحقق لها، فلو فرض الحمل عليه في المقام لم يكن وجه لتخصيص محل
الكلام باليقين والشك الحاصلين على تقدير الالتفات، بل ينبغي تعميمه لفرض
وجودهما على تقدير إخبار زيد أو نزول المطر أو غيرهما مما يمكن ترتبهما
عليه ولا تحقق له، والا يظن من أحد البناء على ذلك.
ومن ثم اخذ في بعض النصوص المتقدمة فعلية اليقين والشك في
صغرى الاستصحاب، لقوله عليه السلام في الصحيحة الأولى: " وإلا فإنه على يقين من
وضوئه "، وقوله عليه السلام في الثانية: " لأنك كنت على يقين من طهارتك
فشككت... "، وقوله عليه السلام في رواية الخصال: " من كان على يقين فشك... "
وقوله عليه السلام في رواية الارشاد: " من كان على يقين فأصابه شك ".
هذا، وقد تعرض غير واحد لتوجيه عدم جريان الاستصحاب مع عدم
فعليته اليقين والشك - مضافا إلى بعض ما تقدم - بأن الاستصحاب لما كان
حكما طريقيا راجعا إلى بيان الوظيفة العملية، المستتبعة للجري العملي،
والتعذير والتنجيز توقفت فعليته على الالتفات لموضوعه، لاستحالة ترتب
شئ من ذلك مع الغفلة، وكذا الحال في سائر الأصول والطرق الظاهرية،
بخلاف الاحكام الواقعية، فإن فعليتها تابعة لفعلية موضوعاتها ولو مع الغفلة
عنها.
90

ومن ثم يتعين البناء على توقف فعلية الاحكام الظاهرية على الالتفات
إليها أيضا، وإن شاركت الاحكام الواقعية في استحالة أخذ الالتفات إليها في
موضوعها.
وبالجملة: سنخية الحكم الظاهري تقتضي توقف فعليته على الالتفات
إليه موضوعا وحكما، وإن كان موضوعه مطلقا، ولا يعقل ثبوته واقعا مع الغفلة
عنه، بسب الغفلة عن صغراه أو كبراه، بخلاف الحكم الواقعي، حيث يمكن
الغفلة عنه مع فعليته لفعلية موضوعه وجعله.
لكن ما ذكروه لا يرجع إلى محصل ظاهر، فإن الوظيفة العملية الظاهرية
كالتكليف الواقعي تقتضي في نفسها حركة المكلف ولو مع الغفلة عنها، وهما
يشتركان في توقف فعلية تأثيرهما في الحركة على الالتفات، والمعذرية
والمنجزية من آثار وصول الحكم الظاهري والواقعي أو التقصير في الفحص
عنهما، وليستا مقومتين للحكم الظاهري بنحو لا يترتب مضمونه بدونهما.
وبعبارة أخرى: لا وجه للفرق بين الحكم الواقعي والوظيفة الظاهرية
بإمكان ثبوت الحكم الواقعي مع الغفلة عنه، وامتناع ثبوت الوظيفة الظاهرية
معها، بل الظاهر اشتراكهما في تبعيتهما لفعلية موضوعهما ولو مع الغفلة عنهما
حكما أو موضوعا، تبعا لاطلاق دليلهما، وفرارا من محذور التصويب.
ولذا لو فرض استكمال المكلف الفحص عن الحكم الواقعي وتقصيره
في الفحص عن الوظيفة الظاهرية كان مؤاخذا بمخالفتها، مع أنه لا وجه لذلك
إلا ثبوتها واقعا مع غفلة المكلف عنها.
كما أنه لو فرض ترتب الأثر لوجودها حين الغفلة يتعين ترتب الأثر
المذكور، كما هو الحال بناء على إجزاء الامر الظاهري، ولعله عليه يبتني ما
تضمنته صحيحة زرارة الثانية من صحة الصلاة لأجل جريان الاستصحاب
حينها، لظهورها في عدم توقف الصحة على سبق التفات المكلف لجريان
91

الاستصحاب، بل يجري الاستصحاب وتصح لأجله الصلاة ولو مع جهل
المكلف بجريانه.
كما يبتني عليه - أيضا - ما أشرنا إليه في الامر الثاني من جواز اعتماد
المجتهد على الاستصحاب الجاري في حق العامي والفتوى له بمضمونه وإن
كان العامي غافلا عن جريان الاستصحاب، فلاحظ.
ثم إنه قد رتب شيخنا الأعظم قدس سره على ما تقدم من عدم جريان
الاستصحاب إلا مع فعلية اليقين والشك صحة صلاة من كان متيقنا بالحدث لو
علم من نفسه أنه لو التفت قبل الصلاة لشك في الطهارة واستصحب الحدث،
بخلاف ما لو تحقق منه الشك بالفعل قبل الصلاة، ثم غفل وصلى وعلم من
نفسه أنه لم يتوضأ بعد الشك.
وقد تبعه على ذلك المحقق الخراساني قدس سره.
بدعوى: أنه حيث لا يجري الاستصحاب قبل الصلاة في الفرض الأول
لعدم فعلية الشك، فلا مانع من الرجوع لقاعدة الفراغ المقدمة على الاستصحاب
الجاري بعد الفراغ، كما في سائر مواردها.
أما في الفرض الثاني فحيث فرض جريانه، لفعلية الشك امتنع جريان
قاعدة الفراغ، إما لما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من أن مجراها الشك الحادث بعد
الفراغ، لا الشك الموجود قبله، أو لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من القطع
بعدم رفع الحدث الاستصحابي، الذي لا مجال معه لقاعدة الفراغ، لعدم منافاتها
للاستصحاب، وعدم جريانها مع القطع.
لكن ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره أجنبي عما نحن فيه من عدم جريان
الاستصحاب مع الغفلة وجريانه مع الالتفات، كيف! والاستصحاب الجاري مع
الالتفات في الفرض الثاني قد ارتفع تبعا لعروض الغفلة حين الصلاة، فلا أثر له،
بل مرجع ما ذكره قدس سره إلى دعوى قصور قاعدة الفراغ عن شمول الشك في
92

الفرض الأول وشمولها في الفرض الثاني، فإن ذلك هو العمدة في الفرق بين
الفرضين لا جريان الاستصحاب وعدمه قبل الصلاة، لوضوح أنه لو فرض
قصور قاعدة الفراغ عن شمول الشك في الفرض الأول فلابد من الإعادة وإن لم
يجر الاستصحاب قبل الصلاة، لكفاية جريانه بعدها، بل جريان قاعدة الاشتغال
في لزوم الإعادة.
كما أنه لو فرض جريان القاعدة في الفرض الثاني لم تجب الإعادة وإن
جرى الاستصحاب قبل الصلاة، لان الإعادة تابعة للوظيفة العملية الجارية بعد
الصلاة.
كما أن جريان قاعدة الفراغ وعدمه في الفرضين لا يبتني على جريان
الاستصحاب قبل الصلاة وعدمه، لعدم أخذ الاستصحاب في موضوع القاعدة،
بل ليس موضوعها إلا الشك، فيبتني جريانها في الفرضين على شمول
موضوعها للشك الخاص المتحقق فيهما.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره فهو وإن كان متفرعا على ما نحن فيه،
لان الحدث الاستصحابي متفرع على جريان الاستصحاب، فلو فرض جريانه
مع الشك التقديري قبل الصلاة فالمفروض عدم انتقاضه بتجديد الوضوء بعده،
فقد يتجه إعادة الصلاة في الفرض الأول أيضا.
إلا أنه مبتن على أن مفاد الاستصحاب تنزيل المشكوك منزله المتيقن أو
جعل المستصحب ظاهرا، بنحو يكون هناك حدث تنزيلي أو ظاهري غير
الحدث المشكوك يقطع بعدم رفعه بطهارة جديدة.
وقد تقدم في استصحاب مؤدى الطرق والأصول إنكار ذلك وأنه ليس
مفاد الاستصحاب إلا الاحراز الظاهري للحدث، كما هو الحال في الفرض الثاني
أيضا، وهو لا يوجب اليقين ببطلانها بنحو يمتنع جريان القاعدة، بل تبتني صحة
الصلاة في الفرضين على عموم موضوع القاعدة وعدمه، على ما تقدم في كلام
93

شيخنا الأعظم قدس سره.
على أنه لو سلم المبنى المذكور إلا أنه بعد فرض الغفلة حين الصلاة
يشترك الفرضان في توقف تحقق الحدث الاستصحابي حين الصلاة على
جريان الاستصحاب مع الغفلة.
ومجرد اختصاص الفرض الثاني بالالتفاف قبل الصلاة الموجب لليقين
بالحدث الاستصحابي قبلها، لا يصلح فارقا في ما نحن فيه بعد كون سبب بطلان
الصلاة هو الحدث حينها لا قبلها.
وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الغفلة في الفرض الثاني حين
الصلاة عن الشك الحاصل قبلها لا تمنع من بقاء الشك حينها، بل من الالتفات
إليه مع بقائه في أفق النفس.
فيدفعه: أنه لا موطن للشك إلا الذهن، ولا مجال بقائه فيه مع،
على أن الشك المغفول عنه هو الشك في تحقق الطهارة قبل الصلاة،
وليس هو موضوعا للاستصحاب حينها المانع من الدخول حينها، بل ليس
موضوع الاستصحاب حينها المصحح للدخول فيها إلا الشك في تحقق الطهارة
حينها، والمفروض عدم حصوله من أول الامر بسبب الغفلة.
هذا، وحيث عرفت ابتناء الصحة في الفرضين المتقدمين على جريان
قاعدة الفراغ وعدمه، فقد تقدم من شيخنا الأعظم قدس سره توجيه عدم جريانها في
الفرض الثاني بأن مجراها الشك الحادث بعد الفراغ، لا الموجود قبله.
وهو كما ترى! لارتفاع الشك الأول، لفرض الغفلة حين الصلاة. والشك
الحاصل بعدها ليس بقاء لذلك الشك، بل هو شك آخر، وإن اتحد سببهما.
ومثله ما تقدم من بعض المحققين من بقاء الشك السابق حين الغفلة، كما
تقدم.
94

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من اتحادهما عرفا وإن اختلفا حقيقة.
فهو غير ظاهر، بل ليس الاتحاد إلا في موضوع الشكين. إلا أن يرجع إلى
دعوى انصراف عموم القاعدة عن مثل الشك المذكور مما سبق مثيله قبل
العمل.
وكأنه يبتني ارتكازا على دعوى اختصاص القاعدة بما إذا لم يعلم
المكلف من نفسه الغفلة عن منشأ الشك اللاحق، الذي لو تم جرى في
الفرضين معا. ولذا لا ريب ظاهرا في جريان القاعدة في الفرض لو احتمل
المكلف بعد الفراغ أن يكون دخوله في لصلاة ناشئا عن تذكره لسبق الطهارة،
وخطأ الاستصحاب الذي جرى في حقه أولا، مع وضوح المماثلة بين الشك
الأول والشك الحادث بعد الصلاة.
فالبناء على جريان القاعدة في الفرض الثاني بناء على عمومها لصورة
العلم بالغفلة حين العمل قريب جدا. وإن كان الامر لا يخلو عن إشكال.
الامر الرابع: أن المنساق من دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن،
لا محض وجوده في زمان الشك بعد سبق اليقين به.
فإن الجهة الارتكازية التي أشير إليها في التعليل المتقدم في الصحيحتين
تناسب ذلك جدا.
بل هو المناسب لفرض النقض، فإن صدقه حقيقة موقوف على اتحاد
موضوع الناقض مع موضوع المنقوض من جميع الجهات حتى الخصوصية
الزمانية، وقرينة المقام إنما تقتضي التسامح في الخصوصية الزمانية بإرادة الشك
في البقاء بعد اليقين بالحدوث، مع المحافظة على وحدة الوجود، لعدم الملزم
بالخروج عنها. ومن هنا لابد من أمرين..
الأول: اتصال زمان الشك بزمان اليقين، ولا يكفي مجرد تأخره عنه، نظير
الطفرة، لعدم صدق البقاء معه، بل لعله مقتضى تعقيب الشك لليقين بالفاء في
95

صحيحة زرارة الثانية، وروايتي الخصال والارشاد، لظهورها في اتصال الشك
باليقين.
بل لازم العموم جريان استصحاب الحالتين المتضادتين المعلومتي
التاريخ في زمان الشك المتأخر عنهما، وتعارضهما، فلو كان زيد عادلا يوم
الجمعة وفسق يوم السبت، وشك في حاله يوم الأحد، جرى استصحاب عدالته
وفسقه، لا خصوص الفسق، لمشاركة العدالة له في اليقين بها سابقا والشك فيها
لاحقا.
ومنه يظهر لزوم إحراز الاتصاف في جريان الاستصحاب، ولا يكفي
احتماله لتردد زمان الشك بين المتصل بزمان اليقين والمنفصل عنه، لان
التمسك فيه بعموم الاستصحاب يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
من طرف العام، الذي لا يصح بلا كلام، ويأتي ما يتعلق بذلك في مجهولي
التاريخ إن شاء الله تعالى.
الثاني: اتحاد المشكوك مع المتيقن في جميع الخصوصيات المقومة له،
وحيث كان موضوع اليقين والشك هو النسبة لزم اتحاد القضية المشكوكة التي
هي موضوع الأثر ومورد العمل مع القضية المتيقنة في تمام الخصوصيات
المقومة لها من موضوع ومحمول وغيرهما، بل لابد من إحراز الاتحاد، ولا
يكفي الشك فيه لما تقدم في نظيره.
وهذا في الجملة ظاهر لاخفاء فيه، إلا أن من الظاهر أن إحراز اتحاد
القضيتين في الخصوصيات المذكورة متفرع على تشخيص ما تقوم به النسبة
المذكورة وتحديده كي يكون معيارا في الاتحاد المذكور، وهي المسألة المهمة
في المقام التي يبتني عليها الكلام في الاستصحاب في كثير من الموارد،
والتي عنونت في كلماتهم بمسألة موضوع الاستصحاب.
والعنوان المذكور وإن كان مختصا بالموضوع المقابل للمحمول الذي
96

يكون نسبته إليه نسبة الموضوع إلى عرضه، إلا أن ملاك الكلام لا يختص به، بل
يجري في جميع ما يقوم النسبة.
ولعل وجه تخصيصهم الكلام به كثرة الفروع المبتنية عليه، بنحو أوجب
انصرافهم إليه وغفلتهم عن غيره مما تقوم به النسبة.
وقد يشهد بما ذكرنا ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من جريان القسم الثالث
من استصحاب الكلي في ما يتسامح فيه العرف فيعدون الفرد اللاحق مع الفرد
السابق كالمستمر الواحد، حيث رجع إلى العرف في تشخيص اتحاد المحمول
المستصحب كالسواد للثوب، كما رجع إليه في الموضوع.
وكيف كان، فملاك الكلام لا يختص بالموضوع، بل يجري في غيره مما
تقوم به النسبة، إلا أن المناسب تحرير الكلام في الموضوع تبعا لهم، لينتظم
كلامنا مع كلامهم، والاكتفاء في التعميم بما ذكرناه هنا من عموم الملاك.
إذا عرفت هذا، فالمهم هو تشخيص الموضوع وتحديده، لابتناء الاتحاد
فيه على ذلك. وقد ذكروا أن تحديده يختلف باختلاف المعيار فيه، إذ ما يمكن
أن يكون معيارا فيه أحد أمور..
الأول: النظر العقلي الدقي، الذي لو كان هو المرجع لامتنع استصحاب
الاحكام مع الشك فيها من غير جهة النسخ، لأن الشك في بقائها لا يكون إلا
للشك في بقاء بعض ما يعتبر في موضوعها، لامتناع ارتفاع الحكم مع بقاء
موضوعه بتمام ما يعتبر فيه دقة.
كما يجرى الاستصحاب الموضوعي في موارد الاستحالة، كما لو شك
في بياض الدود المستحيل من الطعام الأبيض، لان موضوع البياض هو الجسم
الباقي مع الاستحالة دقة وإن لم يبق عرفا.
الثاني: لسان الدليل، فكلما اخذ في الأدلة في عنوان موضوع الحكم لابد
في جريان استصحاب الحكم من إحراز بقائه، كالزوجية في استصحاب جواز
97

الاستمتاع أو وجوب الانفاق والاستطاعة في استصحاب وجوب الحج،
الخمرية في استصحاب النجاسة والحرمة.
ويختص جريان الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم مستندا
لاحتمال اعتبار أمر فيه لم يؤخذ عنوانا في موضوعه، كما لو شك في وجوب
الانفاق على الزوجة عند خروجها بغير إذن زوجها، فيفرق في استصحاب
نجاسة الماء بعد زوال تغيره بين كون دليل النجاسة بلسان: الماء المتغير نجس،
وكونه بلسان: إذا تغير الماء نجس.
الثالث: النظر العرفي التسامحي، فإن العرف قد يدرك بملاحظة مناسبة
الحكم والموضوع عدم دخل بعض الأمور في الموضوع وإن أخذت عنوانا فيه،
كعنوان التغير الذي يرى العرف أنه علة لثبوت النجاسة للماء، وأن موضوعها
ليس الا الماء بذاته، فيصح الاستصحاب مع بقائه وإن ذهب التغير.
كما قد يدرك تقوم الموضوع ببعض الأمور وإن لم تؤخذ في الأدلة عنوانا
له، كالخشبية التي لم تؤخذ في عنوان نجاسة الملاقي للنجاسة، بل لم يؤخذ فيها
إلا عنوان الملاقاة، مع أنها بنظر العرف مقومة للموضوع، فلو صار الخشب
المتنجس فحما أو رمادا تعدد الموضوع وامتنع الاستصحاب.
وقد يتسامح في ما هو مقوم للموضوع دقة وعقلا، كما هو مبنى
استصحاب كرية الماء بعد أخذ شئ منه فإن موضوع الكرية - دقة - هو الماء
بتمام أجزائه، فلا يبقى بأخذ شئ منه، إلا بنظر العرف تسامحا تنزيلا لذلك
منزلة الحالات الطارئة. كما قد ينعكس الحال، وعليه يبتني امتناع الاستصحاب
الموضوعي مع الاستحالة، مع بقاء الموضوع فيها دقة، كما تقدم.
وقد يظهر بذلك اختلاف الضوابط المذكورة في كل من استصحاب
الأحكام الشرعية واستصحاب الأمور الخارجية، ولا يختص الاختلاف بينها
98

بالأول، كما يظهر من بعض مشايخنا.
نعم، لا موضوع للضابط الثاني في استصحاب الأمور الخارجية التي لا
دخل للشارع بها، كي يؤخذ موضوعها فه، فيتردد الضابط فيها بالأول والثالث.
هذا، وقد ذكروا أنه لا مجال لدعوى: أن مقتضى الاطلاق الاكتفاء في
جريان الاستصحاب بوحدة الموضوع بلحاظ أحد هذه الضوابط، إن كان متعددا
بلحاظ الباقي.
لاندفاعها: - مضافا إلى عدم الجامع العرفي بين الجهات - بأن المرجع في
وحدة الموضوع لم تتعرض له الأدلة بعنوانه وبما هو معنى اسمي، ليتجه إطلاقه
بنحو يشمل جميع الوجوه المحتملة، بل ليس مفاد الأدلة إلا الحكم بالبقاء بعد
الفراغ عن وحدة الموضوع، وحيث كانت إضافية فلابد من كونها بلحاظ جهة
خاصة، فتلك الجهة ملحوظة بخصوصيتها، ولا إطلاق يشمل غيرها، ولا مجال
للحاظ أكثر من جهة واحدة، لامتناع تعدد اللحاظ في الاستعمال الواحد.
ثم إن المعروف من شيخنا الأعظم قدس سره ومن تأخر عنه هو الرجوع للعرف
في تحديد موضوع الاستصحاب على اضطراب منهم في صغريات ذلك،
كاضطراب من تقدمهم فيها من دون أن يتعرضوا لتعيين المرجع.
وكيف كان، فما يستفاد من كلماتهم في توجيه الرجوع للعرف وجوه..
الأول: ما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن ذلك هو المنساق من
النقض في أخبار الاستصحاب بمقتضى الاطلاق المقامي، لأنه بعد أن كان
المعيار في صدقه مختلفا كان عدم تنبيه الشارع الأقدس على معيار خاص فيه
ظاهرا في الايكال إلى العرف في فهمه وتطبيقه،
ويشكل: بأنه لا إجمال في مفهوم النقض، وليس الاختلاف في تطبيقه
ناشئا من الاختلاف في مفهومه، كي يرجع في تحديده للعرف، ولو بتطبيقهم له
99

في بعض موارد الشك، لكون تطبيقهم كاشفا عن إدراكهم تحقق المفهوم، وإن
لم يتسن لهم تحديده بحدود مفهومية.
بل ليس النقض حسبما يستفاد من أدلة الاستصحاب إلا رفع اليد عن
الامر المتيقن وعدم البناء على استمراره المتفرع على كون المشكوك الذي هو
مورد للعمل بقاء للمتيقن، لاتحاده معه في الموضوع، فلابد فيه من تحديد
موضوع القضية المتيقنة أولا، بالوجدان أو بالدليل، ثم العلم باتحاد القضية
المشكوكة معها فيه حقيقة، ولا معنى للاكتفاء في صدق النقض بالنظر العرفي
التسامحي، لعدم التعويل عليه في تطبيق مفاد الدليل بعد وضوح معناه وحدوده
في سائر الموارد.
ومنه يظهر الاشكال في ما ذكره بعض مشايخنا من أن أدلة الاحكام
الواقعية المستصحبة إنما تنهض ببيان موضوع الحكم الواقعي ابتداء، وليس هو
محل الكلام، وإنما الكلام في ما هو الموضوع بقاء، الذي هو موضوع
الاستصحاب، وبه قوام النقض، فلابد من أخذه من العرف بالرجوع إليهم في
تطبيق النقض.
لاندفاعه: بما ذكرناه من عدم الاجمال في مفهوم النقض ولا في ما يقومه،
لوضوح أنه متقوم باتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة المتوقف على اتحاد
موضوعهما، غاية الامر أن ذلك متفرع على تحديد موضوع القضية المتيقنة
الذي هو موضوع الحكم الواقعي ابتداء، فمع فرض تكفل الدليل ببيانه لا مجال
للرجوع فيه ولا في تطبيق النقض للعرف.
وبالجملة: ليس للاستصحاب موضوع آخر في قبال موضوع القضية
المتيقنة، بل لابد فيه من بقاء موضوعها، الذي فرض شرح الأدلة له.
الثاني: ما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره من أنه لا مجال للرجوع للعقل، إذ لا
100

مسرح له في مفاهيم الألفاظ وما يستفاد من دليل الحكم وخطاب: " لا تنقض "،
كما لا مجال للرجوع لظاهر الدليل، إذ بعد الالتفات للمناسبات الارتكازية
العرفية لا يبقى للدليل ظهور على خلافها، بل يستقر ظهوره على طبقها، لأنها
من سنخ القرائن المتصلة به.
وفيه: أن الرجوع للعقل ليس في مفهوم عدم النقض، بل في بقاء ما يعلم
أو يحتمل أنه الموضوع، ليعلم صدق النقض حقيقة، وقد تقدم أن لازمه عدم
الاكتفاء في جريان الاستصحاب بالبقاء التسامحي في مثل استصحاب الكرية،
وفي عدم جريانه بالارتفاع في مثل الاستحالة.
كما أن الرجوع للدليل ليس بالنظر لظهوره البدوي، بل ظهوره المستقر
الثابت بعد ملاحظة جميع القرائن، ومنها المناسبات الارتكازية مما لا يبتني
على التسامح المحتاج للعناية.
الثالث: ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره - على طول كلامه -
من أن المستفاد من نصوص الاستصحاب، بلحاظ التطبيقات الواردة فيها كون
فرض اتحاد المتيقن والمشكوك مبنيا على التسامح العرفي، لأنه بعد لزوم
المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى المتيقنة بإلغاء خصوصية الزمان
لتنطبق الاخبار على الاستصحاب يستكشف ابتناء الاتحاد فيها على التسامح
بالوجه المذكور.
وفيه: أن التسامح في الاتحاد بالغاء خصوصية الزمان وإرادة البقاء لا
يستلزم عقلا ولا عرفا إرادة التسامح في صدق البقاء.
نعم، مقتضى تطبيق كبرى الاستصحاب في النصوص على استصحاب
الطهارة عند الشك في النوم وإصابة النجاسة عدم الاعتبار بالدقة العقلية بنحو
يمنع من جريان الاستصحاب في الاحكام.
101

كما أن تطبيقها في مكاتبة القاساني على استصحاب الشهر - لو تم -
كاشف عن الاكتفاء بالاستمرار في الأمور المتصرمة التي لا تجتمع أجزاؤها في
الوجود.
إلا أن هذا لا يقتضي الرجوع للعرف بالنحو الذي هو محل الكلام.
هذا ما وسعنا التعرض له من كلماتهم في المقام، وهي - كما عرفت - لا
تنهض بإثبات المدعى.
والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن مرادهم من الموضوع لا يخلو عن
اضطراب، حيث يريدون منه..
تارة: ما هو الدخيل في ترتب الحكم وفعليته، الذي يكون نسبته له نسبة
المعلول لعلته كالاستطاعة لوجوب الحج، والتغير لنجاسة الماء والزوجية
لوجوب الانفاق.
وأخرى: ما هو المعروض للحكم، الذي يقوم الحكم به ويحمل عليه،
كالماء المعروض للنجاسة والصلاة المعروضة للوجوب، هو الذي يقابل
المحمول في القضية.
فإن ما تقدم في الرجوع للنظر العقلي الدقي من ملازمة الشك في الحكم
للشك في موضوعه يبتني على المعنى الأول للموضوع، وما تقدم في الرجوع
لمفاد الدليل أو النظر العرفي مبني على المعنى الثاني له، غايته أن الرجوع لمفاد
الدليل مبني على ملاحظة الموضوع العنواني في الكبرى الشرعية الواردة في
مقام الجعل، والرجوع للنظر العرفي مبني على ملاحظة الموضوع في الصغرى
الجزئية في مقام فعلية الحكم.
ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق بالوجه المتقدم في جريان الاستصحابات
الحكمية بين كون المرجع في الموضوع هو العقل، والدليل، والعرف، لان
102

النجاسة - مثلا - لما كانت من العوارض الاعتبارية الموجودة فعلا فهي إنما
تعرض الجسم الخارجي الخاص من ماء أو ثوب أو غيرهما، وليست الملاقاة
ولا التغير إلا علة في ذلك، فإن أريد بالموضوع المعنى الأول فالملاقاة والتغير
مقومان للموضوع، وإن أريد به المعنى الثاني فهما خارجان عنه، من دون
خلاف في ذلك بين العقل والعرف والدليل، ولا بين كون أخذهما في الدليل
بلسان التقييد للماء وأخذهما بلسان الشرط أو التعليل، لان التقييد إنما يتعقل في
الكلي، وهو الماء المأخوذ في القضية الكلية، دون الماء الخارجي الجزئي الذي
يتصف فعلا بالنجاسة، لعدم قابلية الجزئي للتقييد.
هذا، وحيث كان الغرض من تحديد الموضوع تحصيل الضابط لاتحاد
القضية المشكوكة مع المتيقنة بحيث تكون بقاء لها تعين كون المعيار على
الموضوع بالمعنى الأول، لأنه المقوم للقضية الذي يكون تعدده موجبا لتعددها
ووحدته مستلزمة لوحدتها واستمرارها، ولا أثر لاختلاف العلة في ذلك.
نعم، للحكم في عالم التشريع ومقام جعل الكبرى الشرعية شرطية كانت
أو حملية - مع قطع النظر عن فعليته بفعلية صغراه - نحو من الوجود الانشائي
قائم بتمام ما هو الدخيل فيه مما هو مأخوذ في القضية المجعولة من شرط، أو
ظرف، أو وصف، أو حال أو غيرها من قيود الموضوع أو النسبة، بحيث يكون
تبدل أي شئ منها موجبا لتبدل الحكم الانشائي.
إلا أن الشك في بقاء الحكم الانشائي المذكور لا يكون إلا للشك في
نسخه، وهو خارج عن محل الكلام.
وليس محل الكلام إلا استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي تحكي
عنه القضية الفعلية الشخصية التي لا تقبل التقييد، لان التقييد والإناطة إنما
يكونان في القضايا الانشائية، لا الفعلية، وليست القيود المأخوذة في الكبريات
103

إلا عللا للقضايا الجزئية، خارج عنها غير مقومة لها.
ولتوضيح المعيار في موضوع الحكم المذكور وجريان استصحاب
القضية المذكورة ينبغي التعرض لأمور يبتني بعضها على بعض..
الأول: أن الشك في العنوان المأخوذ في القضايا الشرعية التي تقع، موردا
لعمل المكلف..
تارة: يتعلق بمفهومه، كالشك في مفهوم الحج، والصلاة، والصعيد،
والغناء.
وأخرى: بتطبيقه مع وضوح مفهومه كالشك في تحقق البيع، والإقالة،
والطلاق ببعض الألفاظ الخاصة.
وفي كليهما إن أمكن الرجوع للشارع، لتعرضه للجهة المشكوك فيها
فهو، وإلا كان مقتضى الاطلاقات المقامية الايكال للعرف فيهما، لأنه بعد فرض
كون القضية عملية وتوقف العمل بها على تطبيق العناوين المأخوذة فيها،
وفرض عدم تعرضه لذلك، فالظاهر منه إيكال تطبيقها للعرف المخاطبين بها
بحسب ما يتيسر لهم ويصلون إليه بالوجه المتعارف لهم. وإرادة خلاف ذلك
تحتاج إلى عناية وتنبيه ولا مجال للبناء عليها بدونه.
نعم، لابد من كون التطبيق حقيقيا بنظر العرف، ولا مجال للاكتفاء
بتطبيقاتهم التسامحية المبنية على نحو من المجاز وإعمال العناية، لخروجها عن
ظاهر الاطلاق، حيث لا يعولون عليها في خطاباتهم وأحكامهم وامتثالاتهم.
ومن هنا أفتى الفقهاء بعدم التسامح في موارد التحديد، كالأوزان أو المسافات
ونحوها.
كما لا مجال للبناء على أن المعيار هي التطبيقات العقلية المبنية على
البحث والتدقيق المغفول عنه عند العرف بحسب طبعهم المتعارف لهم،
104

لخروجه عن مقتضى الاطلاق المقامي المشار إليه، لان الغفلة المذكورة لا تمنع
من التطبيق الحقيقي على خلاف التطبيق الدقي، بخلاف التسامح، فإن التطبيق
معه مجازي.
ومن ثم لا إشكال ظاهرا في جواز امتثال التكليف بصاع الحنطة - مثلا -
بما يكون منها مخلوطا بقليل من التراب أو التبن بالوجه المتعارف، وإن كان
دون الصاع دقة، وكذا الحال في سائر موارد الاستهلاك.
ولو فرض عدم تيسر تشخيص المفهوم أو المصداق للعرف لخفاء الحال
عليهم في مورد لزم التوقف عن العمل بالدليل فيه والرجوع لمقتضى الأصول
والقواعد الاخر.
الثاني: من الظاهر أنه لا إجمال في مفهوم النقض في أدلة الاستصحاب،
بعد ما تقدم من لزوم حملها على إرادة الاستمرار، فليس المراد به إلا رفع اليد
عن استمرار الشئ عند الشك فيه.
إلا أنه حيث كان ذلك موقوفا على اتحاد القضية المشكوكة مع القضية
المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما المتفرع على تعيين القضية المتيقنة
كان صدق النقض موقوفا..
أولا: على تعيين موضوع القضية المتيقنة.
وثانيا: على إحراز اتحاد القضية المشكوكة في ذلك، وبقائه حين الشك.
وعلى هذا يتعين الجري في كلا الامرين على ما ذكرناه في الامر السابق،
فيرجع في تعيين موضوع القضية المتيقنة إلى ما يستفاد من الأدلة الشرعية
بحسب ما يفهمه العرف منها، فإن لم تف ببيانه أو لم تكن القضية شرعية، بل
خارجية، كما في استصحاب كرية الماء، تعين الرجوع في تحديد الموضوع
للعرف بحسب ما يدركونه بطبعهم، وإن لم يتيسر لهم في مورد تعيينه لزم
105

الوقف ولم يجر الاستصحاب، لعدم إحراز موضوعه.
وكذا الحال في اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع موضوع القضية
المتيقنة إلا أنه حيث لم يتصد الشارع لبيان الاتحاد، لتكفل الأدلة الاجتهادية
بتشريع الاحكام ثبوتا من دون نظر لمقام الشك، وتكفل دليل الاستصحاب
بحكم الشك بعد الفراغ عن الاتحاد وصدق البقاء، تعين الرجوع فيه للعرف لا
غير.
فإن فرض توقفهم عن الجزم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب، والمتبع في
المقامين التطبيق الحقيقي بنظرهم، دون التسامحي أو الدقي، كما ذكرنا.
الثالث: أن الموضوع بمعنى المعروض يختلف باختلاف القضايا
المستصحبة، فقد يكون جزئيا، كالماء في استصحاب طهارته وكريته، وقد
يكون كليا، كالدينار في استصحاب انشغال الذمة به، والصلاة في استصحاب
وجوبها وغيرها من موضوعات الأحكام التكليفية، لوضوح أن التكليف يرد
على الماهيات الكلية ذات الافراد الكثيرة، وليس وجود الفرد في مقام الامتثال
إلا مسقطا للتكليف، كما يكون تسليم الفرد في مقام الوفاء مسقطا للدين.
وحمل التكليف على بعض الأمور الجزئية كنسبة التحريم للمرأة،
ووجوب الاكرام لزيد لا يخلو عن تسامح، بل الأمور الجزئية في ذلك قيود
لموضوع التكليف، وهو فعل المكلف المتعلق بها.
كما أن الموضوع قد يكون أمرا واحدا، لكون العرض المحمول في
القضية من الأمور الحقيقية، كالكرية والطهارة القائمتين بالماء، والعدالة والفسق
القائمين بزيد، وقد يكون متعددا، لكون العرض أمرا إضافيا لا يقوم بشئ
واحد، كالمجاورة القائمة بالمتجاورين، والزوجية القائمة بالزوجين، والتكليف
القائم بالمكلف والمكلف والمكلف به، والدين القائم بالدائن والمدين والمال
106

المستحق.
إذا عرفت ذلك، وعرفت الضوابط العامة في جريان الاستصحاب فاللازم
النظر في القضية الفعلية المتيقنة التي يراد استصحابها، فإن كانت شرعية،
كزوجية المرأة، ونجاسة الماء المتغير، ووجوب الصلاة، لزم النظر في موضوعها
واحدا كان أو متعددا، فإن كان جزئيا - كالانسان المعروض للتكليف، والمرأة
المعروضة للزوجية، والماء المعروض للنجاسة - فاختلاف حالاته لا يمنع من
الاستصحاب، لأنه لا يوجب تعدده، وإن احتمل دخلها في التكليف، لما ذكرناه
آنفا من امتناع تقييد الجزئي، وعدم تقومه بالحالات الطارئة عليه، فلو كانت
دخيلة في التكليف كانت من سنخ العلل، التي لا يوجب تعددها تعدد الموضوع
ولا الحكم حقيقة بنظر العرف، وإن كان قد يوجب تعددهما تسامحا ومجازا،
لعدم الاعتداد بذلك.
إلا أن يكون الطارئ موجبا لانعدامه عرفا، وإن كان باقيا دقة، كصيرورة
البخار ماء، والثوب رمادا، لعدم الاعتداد بالبقاء الدقي، كما لا يعتد بالبقاء،
التسامحي.
وإن كان الموضوع كليا - كالمال الذي تنشغل به الذمة في الدين، والفعل
الذي يكون موردا للتكليف - فمن الظاهر أن الكلي يقبل الاطلاق والتقييد، وأن
تقييد موضوع الحكم موجب لمباينته لفاقد القيد.
فإن علم بتقييد الموضوع بقيد مفقود حين الشك، واحتمل التكيف
بالفاقد حينئذ - ولو لأنه الميسور - فلا مجال للاستصحاب، لتعدد الموضوع
حقيقة، خلافا لما يظهر منهم في بعض الموارد من الرجوع له، اكتفاء منهم
بالتسامح العرفي، إما في نفس موضوع القضية المتيقنة، بفرضه الأعم من واجد
القيد وفاقده، تغافلا عن أخذ القيد، أو في اتحاد فاقد القيد مع الواجد، تنزيلا له
107

منزلته. وقد ذكرنا أنه لا تعويل على التسامح في المقامين.
وإن احتمل تقييد الموضوع بالقيد المفقود لزم الرجوع لأدلة الحكم
الشرعي، ونحوها، كسبب انشغال الذمة في الدين، فإن أحرز منها الاطلاق فهو،
وإلا فحيث لا مجال للرجوع للعرف، لعدم الطريق لهم لمعرفة مثل ذلك، يتعين
التوقف وعدم الرجوع للاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع.
هذا كله إذا كانت القضية المتيقنة شرعية.
ومنه يظهر حال ما لو كانت خارجية، ككرية الماء، وبياض الثوب
ونحوهما، فإنه حيث لم يلن للشارع دخل فيها يتعين الرجوع في تعيين
موضوعها واتحاده مع موضوع القضية المشكوكة للعرف، ويكون المعيار على
تطبيقه الحقيقي. دون التسامحي، كما لا اعتماد على النظر العقلي الدقي. فإن لم
يتسن للعرف تحديد الموضوع أو الحكم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب.
هذا تمام الكلام في المعيار في الموضوع الذي يبتني عليه الكلام في
الاستصحاب في كثير من الموارد، وقد خرجنا فيه عن كثير مما ذكروه.
ويتلخص الفرق بيننا وبينهم بملاحظة أمور..
الأول: أن المراد بالموضوع المعروض، لا مطلق ما له دخل في الحكم.
وقد وقع الخلط منهم في ذلك.
الثاني: أن الكلام في معيار الاستصحاب من نظر عقلي أو عرفي أو دليل
شرعي ليس بالإضافة إلى نفس النقض، لعدم الشك في مفهومه، بل ولا في
مصداقه، بل في منشأ صدقه، وهو تحديد موضوع القضية المتيقنة، واتحاده مع
موضوع القضية المشكوكة.
الثالث: أنه لا يعتد بالتسامح العرفي، بل المعيار على ما يفهمه العرف من
دليل الحكم، أو بنفسه في مورد فقد الدليل مع ملاحظة تطبيقه الحقيقي. كما لا
108

يعتد بالنظر الدقي، وما يظهر منهم من التقابل بين النظر التسامحي، والتدقيق
العقلي، ومفاد الدليل في غير محله، بل هناك واسطة بين الجميع، وهو النظر
الحقيقي العرفي بعد الرجوع للدليل أو للارتكازيات عند فقده، كما هو الحال
في تطبيق سائر العناوين الشرعية.
الرابع: أن محل الكلام هو الموضوع في القضية الفعلية المتيقنة، لا ما
يكون عنوانا للموضوع في القضية الكلية الانشائية.
الخامس: أن التقييد إنما يتعقل في الموضوعات الكلية، دون
الموضوعات الجزئية، بل كل ما يكون دخيلا في ثبوت الحكم لها يكون خارجا
عن الموضوع بمعنى المعروض، الذي هو محل الكلام.
وهذه الأمور وإن كان من القريب بناؤهم عليها، إلا أن إغفالها في المقام
أوجب كثيرا من الاضطراب. ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد، وهو
حسبنا ونعم الوكيل،.
تذنيب
ذكر شيخنا الأعظم قدس سره أنه لابد قي جريان الاستصحاب من إحراز بقاء
الموضوع - الذي هو بمعنى معروض المستصحب - على النحو الذي كان
معروضا في السابق من تقرره ذهنا أو وجوده خارجا، قال: (فزيد معروض
للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي، وللوجود بوصف تقرره ذهنا، لا
وجوده الخارجي).
واستدل على اعتبار هذا الشرط بأنه لو لم يعلم لاحقا بتحقق الموضوع
بالوجه المذكور فإذا أريد بقاء المستصحب العارض له، فإما أن يبقى في غير
محل وموضوع، وهو محال، لاستحالة قيام العرض بنفسه، أو يبقى في موضوع
109

آخر ولا مجال له إما لامتناع انتقال العرض عن محله، أو لعدم كونه مورد الأثر،
لان الأثر قائم بوجوده في الموضوع الأول، بل وجوده في الموضوع الثاني أمر
حادث مسبوق بالعدم فلا مجال لاستصحابه، بل يتعين استصحاب عدمه.
وقد أستشكل في ذلك المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية بما أوضحه في
حاشيته على الرسائل بقوله: فإن المحال إنما هو الانتقال والكون في الخارج بلا
موضوع بحسب وجود العرض حقيقة، لا بحسب، وجوده تعبدا، كما هو قضية
الاستصحاب، ولا حقيقة لوجوده كذلك إلا ترتيب آثاره الشرعية وأحكامه
العملية، ومن المعلوم أن مؤنة هذا الوجود خفيفة...).
وهو بظاهره كما ترى! ضرورة أن التعبد إنما يكون بالوجود الحقيقي في
ظرف الشك فيه، فما هو موضوع الأثر واقعا - وهو الوجود الحقيقي - يكون
موضوعا للتعبد وهو مورد الأثر والعمل، لا أمر آخر غيره، فمع فرض امتناع
استمرار الوجود الحقيقي - لعدم الموضوع - يقطع بعدمه، فكيف يمكن التعبد
به ظاهرا؟!.
نعم، يمكن التعبد بوجود آخر ليس بقاء للوجود الأول، وهو خارج عن
محل الكلام.
فالأولى في الجواب عما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره: أنه إنما يقتضي امتناع
التعبد ببقاء المستصحب إذا علم بارتفاع الموضوع، وليس هو موردا للشك
من أحد.
كما أنه ليس موردا للاستدلال المذكور، بل محل الكلام - كما يظهر من
صدر كلامه وذيله - هو صورة الشك في بقاء الموضوع، والدليل المذكور لا
ينهض به، إذ مع الشك المذكور يحتمل بقاء المتيقن سابقا، ولو لاحتمال بقاء
موضوعه، وهو كاف في الاستصحاب.
110

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن الأثر لو كان مترتبا على بقاء العرض بمفاد كان
التامة من دون أخذ انتسابه للموضوع الخاص أمكن استصحابه مع الشك في
بقاء موضوعه، فيقال: كان البياض موجودا فهو كما كان، وإن احتمل انعدام
موضوعه الذي علم سابقا وجوده فيه.
نعم، لو علم بانعدامه علم بانعدام العرض، بناء على امتناع قيام العرض
بنفسه وانتقاله عن محله، فيمتنع استصحابه.
هذا، ولا ينبغي الاشكال في لزوم إحراز بقاء الموضوع لو كان أثر
المستصحب متعلقا عملا به، كما في استصحاب عدالة زيد لاثبات جواز
الائتمام به، واستصحاب طهارة الماء لاثبات جواز شربه، فإنه ما لم يحرز بقاء
زيد والماء لم ينفع استصحاب الطهارة والعدالة في ترتيب الاثرين المذكورين،
بل لابد فيه أيضا من إحراز اتحادهما مع مورد العمل، كالشخص الذي يؤتم به،
والماء الذي يشرب، ولا يكفي إحراز بقائهما، إلا أن لزوم إحراز البقاء والاتحاد
ناشئ من خصوصية في الأثر، وإن تمت أركان الاستصحاب وشروطه بدونه.
والمهم في المقام هو الكلام في لزوم وجود الموضوع مع قطع النظر عن
خصوصية الأثر، كما لو ورد: إن كان ماء الكوز طاهرا فتصدق بدرهم، وأريد
استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز، وحاصل
الكلام في ذلك: أن القضية الحملية وإن كانت مركبة من الموضوع والمحمول
والنسبة، إلا أن مفادها لما كان هو الحكم بثبوت المحمول للموضوع فهي
تقتضي المفروغية عن وجود الموضوع بنحو يصلح لانتساب المحمول إليه
وحمله عليه، فليس حال الموضوع فيها حال المحمول في كون وجوده جزءا
من مضمونها، بل هو خارج عنه يستفاد منه التزاما، لتوقفه عليه عقلا.
من دون فرق في ذلك بين القضية الخبرية في مثل زيد قائم، والانشائية
111

في مثل هند طالق، والتعبدية الظاهرية كمفاد الاستصحاب، لان اختلاف سنخ
الحكم في القضية لا أثر له في اختلاف مفادها.
ومن ثم لا يكون مفاد قولنا في مقام الانشاء: جعلت زيدا وليا على هذا
الوقف، إلا جعل الولاية بعد المفروغية عن ثبوت الوقف، لا جعل الشئ وقفا
وجعل الولاية عليه معا.
وعلى هذا يكون وجود الموضوع بالنحو المصحح لانتساب المحمول
إليه شرطا في جريان استصحاب القضية الحملية، فلابد من فرضه في رتبة
سابقة عليه.
إن قلت: النسبة لما كانت قائمة بالموضوع موقوفة عليه فالتعبد بها
يستلزم التعبد به ولو تبعا، ولذا كانت القضية الخبرية كاشفة عن تحقق
موضوعها.
قلت: التعبد بالموضوع تبعا لا دليل عليه. وأدلة الاستصحاب لا تقتضي
إلا التعبد بانتساب المحمول إليه - الذي هو مفاد القضية الحملية وموضوع الأثر
العملي - في ظرف تحقق الموضوع وبعد المفروغية عنه، فمع عدم ذلك لا
مجال للتعبد بالقضية، لعدم تحقق شرطه، ولا بالموضوع، لعدم سوق
الاستصحاب له.
ومجرد ملازمة التعبد بالمستصحب له لا يقتضيه مع الشك في فعلية
التعبد لعدم إحراز شرطه.
نعم، لو ورد دليل خاص يقتضي جريان الاستصحاب في مثل ذلك كان
كاشفا عن التعبد بالموضوع تبعا، دفعا للغوية، بخلاف ما لو كان الدليل هو
الاطلاق، حيث يكفي في رفع لغويته إعماله في الموارد التي يحرز فيها
ا لموضوع.
112

وكذا الحال في الجملة الخبرية، فإنها وإن كانت تكشف عن وجود
الموضوع للملازمة المفروضة، إلا أن مفادها - وهو الاخبار والحكاية - لا يتعلق
به حتى تبعا، إلا مع عناية خاصة من الخبر.
إن قلت: لم لا يجري الاستصحاب في نفس الموضوع المفروض سبق
اليقين به، ليكون محرزا بنفسه تمهيدا لجريان استصحاب القضية، فيقال في مثل
استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز: كان ماء الكوز
موجودا فهو كما كان، أو: كان في الكوز ماء فهو كما كان.
قلت: الموضوع بنفسه وإن كان مما له الدخل في الأثر الشرعي، إلا أن
أخذه فيه ليس شرعيا مستندا إلى أخذه في كبرى شرعية، لفرض عدم تعرض
الكبرى الشرعية في مقام جعل الأثر إلا لمفاد القضية الحملية التي يراد
استصحابها، وإنما هو عقلي ناشئ من تفرع القضية على موضوعها، وترتب
الحكم فيها عليه، وهو لا يكفي في جريان الأصل، لما يأتي في مبحث الأصل
المثبت من انصراف أدلة التعبد إلى النظر للكبريات الشرعية.
نعم، لو فرض أخذ ذلك في الكبرى الشرعية اتجه الرجوع
للاستصحاب، كما لو ورد: إن كان في الكوز ماء وكان طاهرا فتصدق بدرهم،
تعين جريان الاستصحاب في الموضوع، كما يجري في المحمول، إذ يكون
موضوع الأثر مركبا من جزئين يجري الاستصحاب في كل منهما. وهو خارج
عن محل الكلام.
ثم إن هذا لا يختص بالموضوع الذي هو بمعنى المبتدأ، بل يجري في
جميع ما يقوم به المحمول مما لا يصح حمله بنفسه، وإن اخذ في لسان القضية
قيدا في المحمول، فقولنا: زيد أعلم من عمرو، كما يقتضي في رتبة سابقة
المفروغية عن زيد يقتضي المفروغية عن عمرو.
113

وحيث كانت النسب في القضايا مختلفة في ذلك لزم النظر فيها على
اختلافها والاستعانة بالمرتكزات في التفريق بينها.
لكن هذا كله إنما يقتضي لزوم إحراز وجود الموضوع في ما إذا كان
تقرره وقيامه بحدوده بنحو يصح الحمل عليه موقوفا على وجوده، أما لو لم
يتوقف تقرره عليه، بل كان له من نحو من التقرر المصحح للحمل عليه بدونه،
فلا ملزم باحراز الوجود وإن توقفت فعلية الاتصاف بالمحمول عليه.
وتوضيح ذلك: أن الاعراض المحمولة في القضايا مختلفة في شرائط
عروضها على الموضوع وصحة نسبتها إليه، فيكفي في صحة انتساب بعضها
تقرر الذات بما لها من حد وماهية كلية أو شخصية، كالوجود والعدم والامكان
والامتناع، ويتوقف بعضها - زائدا على ذلك - على وجود الموضوع خارجا،
كالثقل والهيئة، وبعضها يتوقف مع ذلك على أمور اخر، من شؤون الموضوع،
كالتعجب الذي يتوقف اتصاف الانسان به على التفاته، أو خارجة عنه، كالحرارة
التي يتوقف اتصاف الجسم بها على النار.
إلا أن الاختلاف في ذلك لا يوجب الاختلاف في موضوع القضية، بل
ليس موضوعها في الجميع إلا الذات المتقررة في نفسها المتميزة عن غيرها
بحدودها، وليست الأمور الزائدة على ذلك من وجود وغيره إلا شرطا في فعلية
النسبة وصدق القضية، من دون أن تكون مقومة للموضوع المعتبر في القضية.
ولذا لا إشكال في أن موضوع القضية الاستقبالية هو موضوع القضية
الحالية مع وضوح صدق بعض القضايا الاستقبالية قبل وجود الموضوع في ما
لو كان محدد الذات حين صدور القضية، كما في إخبار النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام
بكثير من القضايا المستقبلة قبل وجود موضوعها، كولادة الحجة عليه السلام وقيام
الدول الظالمة والملاحم وغيرها.
114

وعليه لا يكون الحكم في القضية متفرعا على وجود الموضوع أو غيره
مما تقدم، بل يكفي فيه تقرره في نفسه، وقيامه بحدوده الماهوية الخاصة به.
غاية ما في الامر أن صدق القضية وفعلية النسبة يتوقف على تحقق
الأمور المذكورة، وذلك لا يقتضي لزوم إحرازها، فإن اللازم هو إحراز شرط
التعبد، لا شرط الامر المتعبد به.
فبعد فرض تحديد الموضوع في نفسه لو شك في وجوده لا مانع من
استصحاب القضية المتيقنة التي كانت صادقة حين وجوده كما لا مانع من
استصحابها عند الشك في تحقق سائر ما له الدخل في اتصاف الموضوع
بالمحمول، فكما يصح استصحاب التعجب لزيد مع احتمال غفلته،
واستصحاب الحرارة للماء عند الشك في النار، يصح استصحابهما عند الشك
في وجود زيد والماء رأسا.
نعم، لو كان تقرر الموضوع وقيامه بحدوده موقوفا على وجوده لزم
إحراز الوجود، كما لو كان الموضوع هو العنوان بما له من الوجود الخارجي، وما
هو بالحمل الشايع، من دون أن تؤخذ فيه خصوصية خاصة شخصية محدودة،
فإن الموضوع حينئذ لا يتقوم إلا بوجوده، ولاحد له قائم به مستغن عن الوجود،
بخلاف ما إذا قام بحد شخصي خاص، كالاعلام الشخصية، والمعهودات
الخارجية الجزئية، فإن حدودها لا تناط بوجودها، بل الوجود طارئ على الحد.
ومن هنا يظهر أن استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجوده إنما
يجري إذا كان موضوع الأثر هو طهارة الماء الخاص الذي كان موجودا في الكوز
سابقا، فإنه قائم بحدوده الشخصية التي كان عليها حين وجوده سابقا، وانعدامه
لا يمنع من الإشارة للحدود المذكورة في القضية المستصحبة.
أما إذا كان موضوعه هو طهارة الماء المقيد بكونه في الكوز بما هو أمر
115

كلي قابل للانطباق على كثيرين، والذي يكون بالحمل الشايع معروضا للطهارة،
فهو قائم بالوجود الخارجي، إذ هو بدونه مفهوم لا يكون معروضا للطهارة، ولا
موضوعا لها، فمع عدم إحراز الوجود الخارجي لا يحرز الموضوع الذي تتفرع
عليه القضية، فلا مجال للاستصحاب.
إلا أن يفهم من الأدلة أن كونه في الكوز أمر زائد على الموضوع دخيل في
الحكم، كالطهارة، فيتجه حينئذ استصحابه مثلها، للعلم به سابقا، فيقال: كان الماء
في الكوز، وكان طاهرا، فهو كما كان. فلاحظ.
116

الفصل الثاني
في شروط الاستصحاب
والمراد بالشرط هنا كل ما هو خارج عن أركان الاستصحاب المقومة
لمفهومه ودخيل في جريانه وفعلية ترتب العمل عليه، سواء كان وجوديا - وهو
الذي يختص اصطلاحا باسم الشرط - أم عدميا - وهو عدم المانع - فإنهما معا
محل الكلام في المقام.
والكلام في ذلك يقع في مبحثين..
المبحث الأول
في أثر الاستصحاب
الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية في الحجج والأصول العملية إنما
يصح مع ترتب العمل عليه، فلا يجري مع عدم ترتب العمل، لخروج الواقعة
عن ابتلاء المكلف، سواء كان المتعبد به موضوعا خارجيا أم حكما شرعيا
وضعيا أو تكليفيا، إذ ما لم ينته إلى مقام العمل يكون التعبد لاغيا عرفا وعقلا.
مضافا إلى ظهور عدم النقض في ذلك بعد تعذر حمله على النقض
الحقيقي، كما لعله ظاهر.
نعم، لا إشكال في أنه لا يعتبر ترتب العمل على المستصحب بلا واسطة،
117

بل يكفي ترتبه بواسطة مترتبة على المستصحب، لوضوح أن ما يترتب عليه
العل بلا واسطة هو الحكم التكليفي، حيت يكون موضوعا للإطاعة والمعصية.
أما الموضوع الخارجي - كالخمرية - والحكم الوضعي - كالزوجية
والظهارة - فترتب العمل عليهما إنما يكون بتوسط ما يترتب عليهما من حكم
تكليفي ولو بواسطة، مع وضوح تضمن صحيحتي زرارة جريان الاستصحاب
في الطهارة الحدثية والخبثية
بل لا، إشكال في أن ذلك هو مقتضى إطلاق النقض في أدلة
الاستصحاب، لصدقه مع الواسطة عرفا كما يصدق بدونها.
هذا، ولا يخفى أن المراد بالواسطة ما يكون وجوده لازما لوجود
المستصحب.
ومن الظاهر أن الملازمة قد تكون اتفاقية، كما لو علم إجمالا بوجود أحد
رجلين في الدار، حيث يكون انتفاء أحدهما مستلزما لوجود الاخر.
وقد تكون حقيقية ناشئة عن علاقة بين الامرين، إما لكون المستصحب
سببا للازمه، كاستصحاب السفر المستلزم لوجوب القصر في الصلاة،
واستصحاب وجود النار المستلزم لتلف المضمون ووجوب تداركه بدفع بدله،
أو مسببا عن ملزومه، كاستصحاب حرمة وطئ المرأة عند بلوغها تسع سنين،
المستلزم لحيضها حينئذ، واستصحاب عدم حيض الجارية، المستلزم لكونها
معيبة يجوز فسخ بيعها.
أو لكونهما مسببين عن سبب واحد أو سببين متلازمين، كاستصحاب
وجوب الصلاة على المرأة عند احتمال حيضها حين العقد عليها، المستلزم
لجواز وطئها، واستصحاب عدم تلف الحطب غد احتمال طبخ اللحم المستلزم
لتعفنه، حيث يشرك تعفن اللحم وعدم تلف الحطب في علة واحدة وهي عدم
118

كما أن منشأ الملازمة قد يكون شرعيا، كالمثال الأول والثالث والخامس،
وقد لا يكون كذلك كبقية الأمثلة.
وقد تردد في كلماتهم نهوض الامارة بإثبات الأثر العملي مع الواسطة في
جميع موارد الملازمة المتقدمة، أما الاستصحاب وسائر الأصول فقد وقع الكلام
منهم فيها، فالمعروف بين المتأخرين عدم نهوضها إلا بإثبات الأثر العملي
المترتب مع الملازمة الشرعية في مورد تكون الواسطة مسببة عن مجرى
الأصل، فلا يحرز بالأصل إلا مجراه أو ما يترتب على مجراه شرعا من أحكام
وآثار ولو مع تعدد الوسائط، دون ما يكون سببا لمجراه شرعا، أو يترتب عليه
بملازمة غير شرعية، وهي المسألة المعبر عنها في كلماتهم بعدم حجية الأصل
المثبت.
أما القدماء فقد يظهر منهم التوسع في العمل بالأصل والتمسك به في
بعض موارد الملازمات غير الشرعية.
ولعله ناشئ عن الغفلة عن حالها، حيث لم يتوجهوا لذلك ولا اهتموا
بضبط موارده، وإلا فمن البعيد جدا ذهابهم إلى عموم العمل بالأصل مع
الملازمة، بل لا ريب في عدم بنائهم على العموم المذكور على سعته بعد النظر
في طريقتهم في الرجوع للأصول.
وكيف كان فالكلام في توجيه عدم الرجوع للأصل المثبت قد يبتني على
الكلام في مفاد الاستصحاب ونحوه من الأصول الاحرازية.
ولهم في ذلك مبان مختلفة ينبغي التعرض لها، مع الكلام في توجيه
المطلوب عليها..
الأول: أن مفاد الاستصحاب تنزيل مؤداه منزلة الواقع حيث قد يدعى أن
مقتضى إطلاق التنزيل ترتب جميع آثار الواقع الشرعية المقتضي لترتب آثارها
وآثار آثارها، وهكذا مهما تسلسلت الآثار الشرعية، لتبعية الأثر لموضوعه.
119

أما الآثار واللوازم غير الشرعية فلا مجال لترتبها، لقصور التنزيل الشرعي عنها
كما لا مجال لترتب الآثار الشرعية المترتبة بواسطتها، لان استفادة جعل
الآثار إنما هو في طول جعل موضوعاتها، فمع فرض قصور التنزيل عن جعل
تلك الموضوعات لا مجال لاستفادة جعل آثارها.
ويشكل: بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية،
لعدم الأثر الشرعي لها غالبا، بل يختص أثرها بوجوب الإطاعة وترك المعصية،
الذي هو أمر عقلي، وحيث لا إشكال في جريانها فيها، فلابد أن يكون مبنيا على
التوسع في الأثر الملحوظ في التنزيل وتعميمه لمثل هذا الأثر العقلي. ويبقى
سؤال الفرق بين مثل هذا الأثر وغيره من الآثار غير الشرعية.
الثاني: أن مفاد الاستصحاب جعل المؤدى بنفسه ظاهرا لا غير. حيث قد
يقال حينئذ: ان ترتب آثار المؤدى الشرعية ولو مع تعدد الواسطة إنما هو لتبعية
الحكم لموضوعه، حتى مثل وجوب الإطاعة، لان موضوعه عقلا أعم من
التكليف الواقعي والظاهري، أما غير ذلك من اللوازم غير الشرعية فحيث كانت
لازمة للوجود الواقعي فلا مجال لترتبها، كما لا مجال لترتب آثارها الشرعية،
لعدم تعرض الأصل للأثر ابتداء، بل بتبع موضوعه. والمفروض عدم جعله هنا.
ويشكل: بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات
الخارجية، كالخمرية، لعدم قابليتها للجعل الشرعي، وحيث لا إشكال في
جريانه فيها، فلابد من كون جعل الأثر هو المصحح لنسبة الجعل إليها بعلاقة
الملازمة، وذلك كما يجري في الأثر الشرعي المترتب علها بلا واسطة يجري
في الأثر الشرعي المترتب عليها بواسطة اللازم غير الشرعي، لاشتراكهما في
الملازمة المصححة للنسبة مجازا.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني في توجيه قصور الدليل عن شمول الأثر
120

المترتب بواسطة غير شرعية من أنه خارج عن المتيقن من الاطلاق، لان المتيقن
إنما هو لحاظ آثار نفسه المقتضي لترتيب آثارها الشرعية، دون آثار لوازمه.
فيندفع: بأن المتيقن بسبب مورد الصحيحين اللذين هما عمدة الدليل في
المقام هو ترتيب آثار المستصحب فيما إذا كان المستصحب بنفسه حكما
قابلا للجعل، وهو الطهارة الحدثية والخبيثة، ولا طريق لاثبات عمومه لكل من
الموضوع الخارجي بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة، والحكم
التكليفي الذي يختص بالأثر العقلي، بل إن كان مفاد الاستصحاب جعل المؤدى
كان قاصرا عن الموضوع الخارجي، وإن كان مفاده التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية
كان قاصرا عن الحكم التكليفي، كما ذكرنا.
ثم إن هذين الوجهين مبنيان على كون مجرى الأصل مجعولا إن كان قابلا
للجعل، وكذا أثره بتبعه أو بمقتضى التنزيل.
وقد يستشكل في ذلك بما ذكره بعض الأعيان المحققين وسيدنا
الأعظم قدس سرهما: من أنه يمنع جعل الأثر أو مجرى الأصل حقيقة لانعدام موضوعه،
كما لو شك في نجاسة الماء المغسول به الثوب بعد تلف الماء، وكما لو نذر
المكلف أن يصوم يوم الخميس إن بقي ولده حيا، وإن يتصدق بدرهم على
تقدير وجوب صوم يوم الخميس عليه، فغفل عن ذلك إلى يوم الجمعة، حيث
لا مجال لجعل طهارة الماء بعد تلفه، ولا لجعل وجوب صوم يوم الخميس بعد
انقضائه، جمع وضوح جريان الاستصحابين، بنحو يترتب عليهما طهارة الثوب
ووجوب الصدقة.
لكنه يندفع: بأن جعل مجرى الأصل أو الأثر مع انعدام الموضوع إنما
يمتنع إذا كان انعدام الموضوع ظرفا للمجعول، أما إذا كان ظرفا للجعل مع كون
ظرف المجعول هو حال وجود الموضوع، نظير الكشف الانقلابي، فلا مانع منه
ولا محذور فيه بعد فرض ترتب الأثر الفعلي عليه.
121

الثالث: أن مفاد الاستصحاب، تنزيل الشك منزلة العلم في وجوب العمل
معه على، طبق اليقين السابق.
ولعله مراد بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن مفاده وجوب العمل حال
الشك عمل المتيقن من دون أن يستتبع جعلا لشئ من المؤدى أو الأثر.
بل قد يرجع إليه ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن مفاده - كسائر الأصول
الاحرازية - مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل، للبناء على أحد طرفي الشك.
وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدس سره أن وجوب العمل حال الشك عمل
المتيقن يمكن شموله في نفسه للآثار غير الشرعية بلحاظ العمل بآثارها
الشرعية، وأنه لا وجه حينئذ لقصور الدليل عنها إلا انصرافه إلى تطبيق القضايا
الشرعية، فهو وارد لاحراز صغرى تلك الكبريات، دون غيرها من الكبريات
والملازمات غير الشرعية.
ويشكل: بما تقدم في الوجه الأول من أن الاستصحاب الجاري في
الأحكام التكليفية لا يكون غالبا بلحاظ تطبيق الكبريات الشرعية، لان وجوب
العمل عليها وإطاعتها عقلي، فلابد من بيان الفارق بين مثل هذا الأثر وغيره من
الآثار غير الشرعية.
وأما ما ذكره قدس سره من أن منشأ ترتب مثل ذلك كون موضوعه العقلي هو
الأعم من الواقع والظاهر.
فهو - لو تم - متفرع على جريان الاستصحاب في موضوع الأثر، ومقتضى
الانصراف المدعى عدم جريانه، لعدم الكبرى الشرعية، فليس في المقام ظاهر
يكون موضوعا للحكم العقلي.
أما بعض الأعاظم قدس سره فقد وجه عدم حجية الأصل المثبت: بأن مفاد الأصل
الاحرازي هو تطبيق العمل على مؤدى الأصل للبناء على أحد طرفي الشك،
122

فالمؤدى إن كان حكما شرعيا فهو المتعبد به، وإن كان موضوعا خارجيا
فالمتعبد به إنما هو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي، فإن الموضوع الخارجي
- بما هو - غير قابل للتعبد. وحينئذ لا مجال للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية،
لعدم التعبد بموضوعه.
ودعوى: أنه أثر لمجرى الأصل، لان أثر الأثر أثر، فيترتب تبعا للتعبد
بمجرى الأصل.
مدفوعة: بأن التعبد بمجرى الأصل لا يقتضي التعبد بكل أثر له، ولو كان
بواسطة غير شرعية، بل يختص بما يترتب بلا واسطة أو بواسطة شرعية.
لكن التأمل في ما ذكره يشهد بأنه عين المدعى، وليس توجيها له، لان
اختصاص التعبد بالشئ بالتعبد بأثره الشرعي ولو بواسطة شرعية عبارة أخرى
عن عدم صلوحه للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية الذي هو المدعى. فالمهم هو
توجيه الاختصاص المذكور، ولم يتعرض له.
مع أن امتناع التعبد بالموضوع الخارجي بنفسه إنما يلزم بحمله على
التعبد بأثره الشرعي إذا ورد الدليل فيه بالخصوص، صونا للدليل المذكور عن
اللغوية، نظير ما اعترف به من لزوم حجية الأصل المثبت في ما لو اختص دليل
التعبد بمورد ينحصر فيه الأثر الشرعي بما يترتب بالواسطة غير الشرعية.
أما إذا كان الدليل هو الاطلاق الشامل له وللحكم القابل للتعبد بنفسه، فلا
مجال للبناء عليه، لأنه يكفي في تصحيح الاطلاق إعماله في الحكم، ولا يكون
الاطلاق حجة في الموضوع بعد توقف شموله له على العناية المذكورة.
وإلا كان حجة في ما لو انحصر الأثر بما يترتب بالواسطة غير الشرعية،
لتوقف تصحيح شموله للمورد المذكور على التعبد بالأثر المذكور.
والتحقيق: أنه كما يمكن التعبد الظاهري بالحكم الشرعي يمكن التعبد
بالموضوع الخارجي، إذ ليس المراد بالتعبد جعل الامر المتعبد به ثبوتا شرعا،
123

ليكون امتناع جعل الامر الخارجي راجعا إلى امتناع التعبد به، بل المراد به جعله
إثباتا، الراجع إلى إحرازه شرعا، المقتضي للبناء عليه عملا، وذلك كما يمكن
في الأحكام الشرعية يمكن في الموضوعات الخارجية، بل هو مقتضى إطلاق
دليل التعبد بعد تمامية أركانه فيه.
نعم، لابد من ترتب العمل عليه بنحو يصحح الجعل عقلا ولا يكون لغوا،
ولو بلحاظ أثره. وقد تقدم في مباحث القطع الموضوعي ما له نفع تام في المقام.
وحينئذ فإن كان المستصحب حكما تكليفيا، فحيث كان الاحراز التعبدي
كافيا في المنجزية والمعذرية المستتبعتين للعمل عقلا، تحقق شرط التعبد،
وليس العمل المذكور موردا للتعبد الظاهري، بل هو مما يقطع به تبعا للقطع
بموضوعه العقلي، وهو تعبد الشارع بالحكم.
وإن كان حكما وضعيا أو موضوعا خارجيا كان الاستصحاب مقتضيا
للتعبد بأثره الشرعي المستتبع للتعبد بأثر الأثر، حتى ينتهي إلى الحكم التكليفي
العملي، لتنقيح صغرى كبريات الآثار الشرعية بسبب الاستصحاب، لان إحراز
الموضوع مستتبع لاحراز أثره، لتبعية التعبد بالأثر للتعبد بموضوعه عرفا.
وأما اللوازم غير الشرعية فلا مجال لاحرازها، لعدم الملازمة العقلية ولا
العرفية بين التعبد الشرعي بالشئ والتعبد بأثره ولوازمه غير الشرعية، بل
استفادة التعبد بها تبعا له محتاج إلى عناية لا يقتضيها الاطلاق.
كما لا مجال لاحراز آثار تلك اللوازم بعد عدم إحراز موضوعاتها، لأنها
وإن كانت آثارا للمستصحب في الجملة، من باب أن أثر الأثر أثر، إلا أن الانتقال
من المستصحب لآثاره مهما تسلسلت إنما هو بتبع إحراز موضوعاتها من جهة
الملازمة المذكورة، لا ابتداء، فمع فرض عدم إحراز موضوعات تلك الآثار،
لكونها لازمة غير شرعية للمستصحب، لا مجال لاحراز تلك الآثار. وترتبها على
المستصحب في الجملة لا يجعله موضوعا لها، لان موضوعية الموضوع للأثر
124

منوطة بأخذه في دليل جعله، ولا يكفي ترتبه عليه في الجملة، ولذا كان إحراز
الآثار المترتبة بالوسائط الشرعية في طول إحراز موضوعاتها على تسلسلها، لا
بسبب إحراز المستصحب والتعبد به رأسا.
كما لا مجال أيضا لترتب السبب الشرعي للمستصحب - كالحيض في
استصحاب حرمة الوطئ - لعدم تبعية التعبد بالسبب للتعبد بالمسبب، ولا
ملازمة بينهما لا عرفا ولا عقلا. ولا أقل من خروجه عن المتيقن. فلاحظ.
ثم إنه قد يستدل على عدم حجية الأصل المثبت بأنه لا ثمرة للنزاع في
حجيته في مورد تكون الواسطة غير الشرعية التي هي موضوع الأثر شرعا
بنفسها موردا لاستصحاب موافق له عملا، لتمامية أركانه فيها، للاستغناء
باستصحابها عن استصحاب ملزومها، كما لو شك في وجود النار المستلزم
للتلف الموجب للضمان، فإن استصحاب عدم التلف لاثبات عدم الضمان يغني
عن استصحاب عدم النار لاثباته.
وكذا لو كان الأثر الشرعي المترتب بالواسطة غير الشرعية بنفسه موردا
للاستصحاب المذكور.
وإنما تظهر الثمرة في ما لو لم يكن هو ولا الواسطة مجرى له، والالتزام
بحجية الأصل المثبت في مثل ذلك مستلزم لسقوطه غالبا بالمعارضة، لجريان
الاستصحاب المعارض في الواسطة أو الأثر، فكما يكون مقتضى استصحاب
النار - بناء على الأصل المثبت - ثبوت الضمان، كذلك يكون مقتضى
استصحاب عدم التلف هو عدم الضمان، فلا أثر لحجية الأصل المثبت.
بل بناء على ذلك كما يكون الاستصحاب في المذكور معارضا
للاستصحاب في الأثر المترتب بالواسطة غير الشرعية، فإنه يكون معارضا له
في الأثر المترتب بلا واسطة، أو بواسطة شرعية، للملازمة الواقعية بين مفاد
الاستصحاب المذكور وانتفاء الأثر المذكور، فيكون حجة بناء على الأصل
125

المثبت، ويعارض مفاد الأصل فيه، فكما يكون استصحاب النار المستلزمة
للتلف والضمان حجة قي إثبات الضمان يكون استصحاب عدم الضمان أو عدم
التلف المستلزم لعدم النار حجة في اثبات عدم النار وعدم ترتب آثارها الشرعية
المترتبة باستصحابها، وذلك يوجب قلة الفائدة في الاستصحاب، بل ندرتها
لاختصاصها بما إذا لم تتم أركان الاستصحاب المعارض في شئ من الأثر
ولوازمه.
ولعله إلى هذا نظر من استدل على عدم حجية الأصل المثبت - تبعا
لكاشف الغطاء - بلزوم التعارض في جانب الثابت والمثبت، كما حكاه شيخنا
الأعظم قدس سره.
لكن هذا كله مبني على كون مرجع القول بالأصل المثبت إلى حجية
الأصل في جميع لوازم مجراه على اختلاف أقسامها المشار إليها في صدر
المبحث، على نحو حجية بعض الامارات، كالبينة، لدعوى: أن التلازم بين
الشيئين يقتضي التلازم بينهما في التعبد، كما قد يناسب بعض موارد تمسكهم
بالأصل المثبت.
أما لو كان مبنى القول بحجية الأصل المثبت أن تبعية التعبد بالشئ للتعبد
بآثاره تشمل الآثار غير الشرعية، أو الآثار الشرعية المترتبة بوسائط غير شرعية،
فإن ذلك يقتضي اختصاص حجية الأصل المثبت بما إذا كان اللازم مسببا عن
مجرى الأصل وأثرا له، كالتلف المسبب عن النار المستصحبة، دون غيره، بأن
كانت الملازمة اتفاقية، أو حقيقية ناشئة عن كون مجرى الأصل مسببا عن
اللازم، أو كونهما مسببين عن سبب واحد.
وحينئذ فإشكال المعارضة كما يجري في الأصل المثبت يجري في
غيره، لان الأثر الشرعي أيضا قد يكون مجرى لأصل معارض للأصل الجاري
في موضوعه.
126

وينحصر دفعه في المقامين بما تقرر في محله من أن الأصل الجاري في
السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب.
فكما يكون استصحاب طهارة الماء حاكما على استصحاب نجاسة
الثوب، للسببية بينهما شرعا، فليكن استصحاب النار حاكما على استصحاب
عدم التلف، للسببية بينهما واقعا. فلاحظ.
بقي في المقام أمور..
الامر الأول: قد يستثنى من عدم ترتب الأثر المترتب على المستصحب
بواسطة أو بملازمة غير شرعية موارد..
الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره وتبعه غير واحد من أن الواسطة التي
يترتب عليها الأثر حقيقة إذا كانت خفية بحيث يعد الأثر عرفا من آثار
المستصحب، إغفالا للواسطة فلا يبعد صلوح الاستصحاب للتعبد بالأثر
المذكور، ويكون ذلك مستثنى من عدم حجية الأصل المثبت..
وقد مثل قدس سره لذلك بأمرين..
الأول: استصحاب بقاء رطوبة أحد المتلاقيين إذا كان أحدهما نجسا،،
لاحراز تنجس الاخر، مع أن تنجسه من آثار سراية النجاسة الملازمة لبقاء
الرطوبة
الثاني: استصحاب عدم دخول شوال يوم الشك لاحراز كون غده عيدا،
ليترتب عليه أحكامه من الصلاة والفطرة وغيرهما، مع كون التلازم بين الامرين
خارجيا لا شرعيا.
ويشكل.. أولا: بأنه لا ضابط لخفاء الواسطة، إذ لا يتضح الفرق بين
الاستصحابين المذكورين واستصحاب بقاء الماء في الحوض لاثبات طهارة ما
وقع فيه، التي هي من آثار لازمه الخارجي، وهو إصابة الماء له، واستصحاب بقاء
حياة المورث إلى حين إسلام الوارث، لاثبات إرثه منه، الذي هو من آثار لازمه،
127

وهو موته بعد إسلامه، مع اعترافه قدس سره بأن الاستصحابين المذكورين من الأصل
المثبت الذي لا يجري.
بل لا يحتمل من أحد توهم خفاء الواسطة في مثل آثار العيد، حيث لا
ريب في نسبتها عرفا لموضوعها الشرعي، وهو العيد، لا للمستصحب، وهو
بقاء رمضان في اليوم السابق، فلابد من كون منشأ التمسك بالأصل المذكور أمرا
آخر غير خفاء الواسطة.
وثانيا: بما يستفاد من غير واحد مما. حاصله: أن النظر العرفي إن رجع
إلى فهم العرف من الكبرى الشرعية أن الموضوع هو المستصحب لا الواسطة
فلا إشكال في العمل عليه، لان المرجع في فهم القضايا والكبريات الشرعية هو
العرف، ويخرج عن الأصل المثبت، كما لا يخفى.
وإن رجع إلى التسامح في نسبة الأثر بعد فرض كون موضوع الأثر هو
الواسطة فلا وجه له بعد خروجه عما يستفاد من كبرى الاستصحاب من التعبد
بالمستصحب المستتبع للتعبد بآثاره لا غير، ولا عبرة بالتسامح العرفي في نسبة
لاثر، الراجع إلى التسامح في كبرى تطبيق الاستصحاب، كما تقدم منا نظيره في
بحث موضوع الاستصحاب.
وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل: بأن
المستفاد من كبرى الاستصحاب هو لزوم ترتيب ما يعد عرفا من آثار
المستصحب وإن لم يكن كذلك حقيقة، لان حمل التنزيل في دليل
الاستصحاب على كونه بلحاظ الأثر إنما هو بمقدمات الحكمة، ولا تفاوت
بحسبها بين آثار المستصحب وآثار الواسطة إذ عدت من آثار المستصحب
عرفا.
فالتسامح العرفي في نسبة الأثر للمستصحب موجب لكونه من
الصغريات الحقيقية لكبري الاستصحاب، لا التسامحية، ليتوجه الاشكال فيه
128

بعدم العبرة بالتسامح العرفي في التطبيق.
وفيه: أن الأثر لم يؤخذ بمفهومه في كبرى الاستصحاب، كي ينظر في
إطلاقه بضميمة مقدمات الحكمة، بل ليس مفاد كبرى الاستصحاب إلا التعبد
بالمستصحب، والانتقال للأثر إنما هو بضميمة ما أشرنا إليه من تبعية التعبد
بالأثر للتعبد بموضوعه بنحو لا يمكن التفكيك بينهما عرفا، ولا إطلاق لذلك
يعم جميع الآثار، بل هو مختص بالآثار الشرعية الحقيقية التي تضمنتها
الكبريات الشرعية، ولا أقل من كونه المتيقن من الملازمة المذكورة، فالتسامح
العرفي في نسبة الأثر للمستصحب لا يوجب إلا صحة تطبيق المورد بلحاظ
الملازمة المذكورة تسامحا.
ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الانصراف
الموجب لقصور كبرى الاستصحاب عن الآثار المترتبة بواسطة غير شرعية
مختص بصورة عدم خفاء الواسطة، بنحو يعد الأثر أثرا لها، لا للمستصحب.
وجه الاندفاع: أن الانصراف فرع الاطلاق، وقد عرفت منعه.
مع أن الانصراف الذي ادعاه هناك هو انصراف التنزيل في دليل
الاستصحاب إلى تطبيق الكبريات الشرعية، ومن الظاهر أن التسامح في نسبة
الأثر للمستصحب لا يجعله مفاد الكبرى الشرعية.
إلا أن يرجع إلى دعوى أن المراد بالكبريات الشرعية ما يعم الكبريات
التسامحية. وهو ممنوع.
الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره: وهو أن يكون وضوح التلازم بين
الواسطة والمستصحب بنحو يعد معه أثر الواسطة أثرا للمستصحب.
وقد استدل عليه بما تقدم منه في خفاء الواسطة من عموم الاطلاق له،
حسبما يستفاد منه عرفا.
ويظهر الجواب عنه مما تقدم في خفاء الواسطة، بل هو أولى بالاشكال
129

منه، لان فرض وضوح الملازمة ملازم لفرض عدم الغفلة عن الواسطة،
فتتمحض نسبة أثرها للمستصحب في المجاز الذي لا إشكال في عدم العبرة به
في أمثال المقام.
الثالث: ما ذكره هو قدس سره أيضا، وهو أن يكون التلازم من الوضوح بحيث
يوجب التلازم بينهما في مقام التنزيل عرفا، فيكون الدليل على التنزيل في
المستصحب دليلا على التنزيل في الواسطة، فترتب أثر الواسطة في ذلك ليس
ناشئا من التنزيل في المستصحب ابتداء - كما هو المدعى في الموردين
السابقين - بل من جهة استلزام التنزيل فيه للتنزيل في الواسطة الموجب لترتب
أثرها.
ولا يخفى ابتناء ما ذكره على أن مفاد الاستصحاب التنزيل بلحاظ الأثر.
ومن ثم استشكل في ذلك: بأنه موقوف على فرض الأثر للمستصحب
بنفسه، كي يمكن فرض التنزيل فيه بلحاظه ويستفاد بتبعه التنزيل في الواسطة
أما مع عدم الأثر له، فلا موضوع للتنزيل فيه، كي يستلزم التنزيل في الواسطة.
وقد دفع ذلك - مضافا إلى عدم الفصل - بامكان دعوى: أن التلازم بين
الشيئين بالنحو الموجب للتلازم بينهما في مقام التنزيل يورث أن يلاحظا شيئا
واحدا ذا وجهين كان له الأثر بأحدهما، أو شيئين لهما أثر واحد، فيصح تنزيل
كليهما بلحاظ هذا الأثر.
لكنه كما ترى! إذ لا يجدي عدم الفصل، ولا سيما في مثل هذه المسألة
مما هو حديث التحرير لا مجال لمعرفة رأي القدماء فيه.
واقتضاء التلازم بين الشيئين لملاحظتهما شيئا واحدا ذا وجهيم ت، أو
شيئين لهما أثر واحد، مبتن على التسامح الذي تقدم غير مرة عدم التعويل عليه
في العمل بالأدلة.
نعم، قد يندفع الاشكال المذكور بناء على ما تقدم من أن مفاد
130

الاستصحاب - كسائر الأصول الاحرازية - ليس هو التنزيل، بل التعبد الذي لا
يبتني على ملاحظة الأثر، وإنما يلزم ترتب العمل عليه دفعا للغويته، حيث قد
يدعى حينئذ أنه يكفي في رفع لغويته ترتب العمل عليه بلحاظ أثر لازمه
المذكور، ويأتي تمام الكلام فيه.
هذا، ولكن الملازمة المدعاة في المقام إن كانت عرفية واقعية مع قطع
النظر عن شخص الدليل في المسألة، بمعنى: أن العرف بمرتكزاته يرى أن
التعبد بالشئ كما يقتضي بطبعه التعبد بأثره الشرعي يقتضي التعبد بلازمه مع
وضوح الملازمة.
فهي ممنوعة جدا، بل وضوح الملازمة من الجهات الاثباتية، والتبعية
المذكورة من الجهات الثبوتية، فلا سنخية بينهما ارتكازا.
وإن كانت قائمة بمفاد الدليل، بمعنى: أن وضوح الملازمة لما كان موجبا
لانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم فهو يستتبع ظهور دليل التعبد بالملزوم في
التعبد باللازم، فهي لا تنفع مع كون دليل التعبد بالملزوم هو الاطلاق، كما هو
الحال في استصحابه المستفاد من إطلاق عدم نقض اليقين بالشك، لعدم ظهور
الملزوم في خصوصية الملزوم بعنوانه، كي ينتقل بسبب وضوح الملازمة إلى
لازمه المذكور، وإنما تنفع مع اختصاص دليل التعبد بالملزوم بعنوانه الذي تقوم
به الملازمة.
ومنه استفادة التعبد بعدم النجاسة، عدم الحرمة من دليل قاعدتي الطهارة
والحل، فإن الدليلين وإن تضمنا بالمطابقة التعبد بالطهارة والحل، إلا أن ظهور
ملازمتهما للعدمين المذكورين يوجب ظهورهما بدلالتهما الالتزامية في التعبد
بهما، بنحو يترتب الأثر المعلق عليهما.
لكن هذا راجع في الحقيقة إلى سعة مفاد دليل الأصل وحجية دلالته
الالتزامية التي لا إشكال فيها، لا حجية الأصل المثبت.
131

ومنه يظهر حال ما ذكرنا من الجواب عن إشكال اختصاص ذلك بما إذا
كان للملزوم أثر يصح التعبد بلحاظ. فإن ارتفاع لغوية التعبد بالملزوم بلحاظ
أثر لازمه المذكور إنما يصلح للاستدلال مع اختصاص الدليل بالملزوم
المذكور، لانحصار ارتفاع اللغوية به حينئذ، أما إذا كان الدليل هو الاطلاق
فيكفي في رفع لغويته تنزيله على غير المورد المذكور.
هذا كله مع أن عدم التفكيك بين المستصحب والواسطة في التعبد
لوضوح الملازمة بينهما - كما في المتضايفين - ملازم لعدم التفكيك بينهما في
اليقين والشك، فيجري الاستصحاب في نفس الواسطة يغني عن استصحاب
ملزومها.
ولو فرض عدم التلازم بين الامرين في اليقين، لتوقف التلازم بينهما على
أمر خارج عنهما غير موجود حال اليقين بالملزوم موجود حال الشك فيه، فلا
وجه لعدم التفكيك بينهما عرفا في التعبد، لان الملازمة الاتفاقية بين
الشيئين بسبب بعض الطوارئ الخارجية لا توجب ذلك، وإلا كان الأصل المثبت
حجة مطلقا.
نعم، قد يكون ملاك التلازم بين الامرين موجبا للتلازم بينهما في التعبد
عقلا، فثبوت التعبد بأحدهما ولو بإطلاق الدليل كاشف عقلا عن التعبد بالآخر.
ولا مانع من إثبات مثل هذه العناية بالاطلاق.
وليس نظيرا لما سبق في ما لو انحصر الأثر بلازم المستصحب، فإن
العناية هناك شرط في شمول الاطلاق للمورد، فلا يصلح الاطلاق لاثباتها. أما
هنا فهي تابعة لشموله له، فمع فرض شموله لحجية الاطلاق يتعين البناء عليها.
وليس المعيار في الملازمة المذكورة بين التعبدين وضوح الملازمة بين
الامرين المتعبد بهما - كما ذكره قدس سره - بل يكفي ما ذكرنا من كون منشأ الملازمة
بينهما ثبوتا يقتضي الملازمة بينهما تعبدا، وإن كانت الملازمة خفية.
132

ولعل منه التلازم بين وجوب الشئ ووجوب مقدمته أو حرمة ضده،
وفعلية التكليف بالأهم وسقوط التكليف بالمهم، ونحوها. لقرب أن تكون
الجهات العقلية الارتكازية التي قيل لأجلها بالملازمة ثبوتا تقتضي الملازمة
تبعدا. فتأمل جيدا.
لكن ذكر المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل في توجيه
ترتب مثل هذه الآثار ومثل وجوب الإطاعة مع أن ترتبها ليس شرعيا: أن
موضوع الملازمة عقلا هو الأعم من الوجود الواقعي والتعبدي الظاهري، فيكون
الاستصحاب محققا للملزوم واقعا المستتبع لتحقق اللازم واقعا أيضا، لا تعبدا.
وهو كما ترى! إذ كيف يطن دعوى وجوب المقدمة أو حرمة الضد
شرعا واقعا، مع عدم وجوب ذي المقدمة أو الضد شرعا إلا ظاهرا؟! بل حتى
وجوب الإطاعة الذي هو من الأمور العقلية الثابتة بملاك شكر المنعم تابع
للتكليف الواقعي.
نعم، فعلية العمل على طبق التكليف ووجوب إطاعته بملاك دفع الضرر
المحتمل تابعان لتنجزه، والمعيار في التنجز مطلق الاحراز وجدانيا كان بالقطع.
أو تعبديا بالاستصحاب أو غيره، فتأمل جيدا.
الامر الثاني: قد تضمنت بعض الأدلة الشرعية بيان التلازم بين أمرين من
دون أن يكون أحدهما أثرا للاخر، بل قد يكونان أثرين لموضوع واحد، مثل
قوله عليه السلام (إذا قصرت أفطرت، وإذا أفطرت قصرت) (1).
والظاهر أن استصحاب أحد اللازمين في مثل ذلك يقتضي ترتب الاخر،
فإن الملازمة المذكورة سيقت لبيان التعبد بأحدهما عند ثبوت الآخر، فأحدهما

(1) الوسائل ج: ه، باب: 15 من أبواب صلاة المسافر حديث: 17 و ج: 7، باب: 4 من أبواب من يصح
منه الصوم حديت: ا، وقريب منه في حديث: 2 من الباب المذكور.
133

وإن لم يكن موضوعا للاخر، إلا أنه موضوع للتعبد به، فاستصحاب أحدهما كما
يقتضي التعبد به يقتضي التعبد بالتعبد بالآخر -، لأنه أثر له، فهو كاستصحاب
عدالة الشاهدين المقتضي للتعبد بالتعبد بالمشهود به.
وبالجملة: المقام لا يخرج عما سبق من استتباع التعبد بالشئ للتعبد
بأثره الشرعي، غايته أن الأثر في المقام ليس هو اللازم، بل التعبد به.
نعم، لو استفيد من الأدلة محض التلازم بين الشيئين من دون أن يساق
مساق أمارية أحدهما على الاخر شرعا فلا مجال للتمسك باستصحاب
أحدهما في إثبات الآخر.
الامر الثالث: من الظاهر أن الأمور الدخيلة في موضوع الأثر الشرعي قد
اخذت في لسان الأدلة بعناوينها العامة الكلية، كالبلوغ المأخوذ في موضوع
التكليف، والاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج، والطهارة المأخوذة في
المكلف به، والنجاسة المأخوذة في حرمة الاكل.
ومن الظاهر أن الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما يكون
للأفراد الخامة التي ينطبق عليها الكلي، ويكون ترتب الأثر عليها بتوسطه. إلا
أن هذا ليس من الأصل المثبت، لوضوح أن أخذ الكلي في موضوع الأثر إنما هو
بلحاظ حكايته عن أفراده الخارجية، فهي الموضوع في الحقيقة.
نعم، لابد في استصحاب الفرد من استصحابه بحيثيته العنوانية المأخوذة
في موضوع الحكم، فلابد من سبق اليقين به بالحيثية المذكورة، ولا يكفي
استصحابه بذاته مع قطع النظر عن الجهة المذكورة وإن كانت ملازمة له، فلو كان
موضوع الأثر هو الانسان أو الأبيض اعتبر استصحاب الانسان الخاص أو
الأبيض الخاص، ولا يكفي استصحاب زيد بمفهومه الخاص، وإن كان ملازما
للانسان أو الأبيض.
وعليه لابد من إحراز منشأ انتزاع العنوان، لتوقف اليقين بخصوصية
134

العنوان عليه. من دون فرق في ذلك بين العنوان الذاتي، كالانسان، والعرضي
الحقيقي، كالأبيض، أو الاعتباري، كالزوج، أو الانتزاعي كالجزء والشرط.
والظاهر عدم الاشكال في شئ مما ذكرنا بعد التأمل في المباني
المتقدمة، والنظر في حال الأدلة.
لكن قال المحقق الخراساني قدس سره في كفايته: (لا تفاوت في الأثر المترتب
على المستصحب بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شئ، أو بوساطة عنوان
كلي ينطبق عليه، ويحمل عليه بالحمل الشايع ويتحد معه وجودا، كان منتزعا
عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه، مما هو خارج المحمول، لا
المحمول بالضميمة، فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة، حيث لا
يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لا لغيره مما كان مبائنا معه أو من
أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة، كسواده - مثلا - أو بياضه. وذلك لان
الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي - كالملكية والغصبية
ونحوهما - لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في
الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر، لا شئ آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون
بمثبت، كما توهم).
فإنه قد يظهر منه خصوصية العناوين الذاتية والعرضية الاعتبارية
المنتزعة مما هو خارج المحمول من بين العناوين المذكورة. بل يظهر من صدر
كلامه إمكان ترتب الأثر على المستصحب من دون توسط عنوان كلي، مع
وضوح امتناع ذلك بعد النظر في حال أدلة الاحكام، لوضوح كون المأخوذ فيها
هو العناوين الكلية ولذا كان كلامه في غاية الغموض والاشكال.
ومن ثم لم يبعد كون مراده من توسط العنوان ليس هو العنوان
المستصحب، بل عنوان آخر يلازم المستصحب وهو ينتزع منه، ويكون قد
أشار بكلامه هذا - على قصور فيه - إلى ما ذكره في حاشية الرسائل في توجيه
135

جريان بعض الأصول التي قد يدعى أنها مثبتة،
قال قدس سره: (أحدها: ما لو نذر التصدق بدرهم ما دام ولده حيا، حيث توهم
أن استصحاب حياته في يوم شك فيها لاثبات وجوب التصدق مثبت، فإنه
يكون أثر الالتزام به في يوم كان ولده حيا فيه، فإن نذره كذلك مع حياته في يوم
يلازم الالتزام بوجوبه فيه عقلا، فلا يحكم بوجوب التصدق باستصحابها إلا
بواسطة ما لازمها عقلا، وهو نذره والالتزام به من باب وجوب الوفاء بالنذر، وإلا
فوجوب التصدق ما كان مرتبا على حياة الولد في خطاب، فيترتب عليها مع
الشك بالاستصحاب...).
وعبارته وإن كانت لا تخلو عن غموض - لعل بعضه ناشئ عن خطأ
النسخة التي بأيدينا - إلا أن الظاهر منها الإشارة إلى ما إذا لم يكن المستصحب
بعنوانه موضوعا للأثر في الكبرى الشرعية، بل كان موجبا لتحقق عنوان آخر هو
الموضوع للأثر في الكبرى، كما قي المثال الذح ذكره، فإن حياة الولد ليست
موضوعا لوجوب التصدق في كبرى شرعية، بل هي موجبة عقلا لكون الصدقة
حينها داخلة في المنذور ووفاء بالنذر الذي هو موضوع الكبرى، وليس بنفسه
مستصحبا.
ونظير النذر في ذلك اليمين والعهد. وكذا الشرط والعقد، كما لو ملك
على زيد منفعة يوم الجمعة بإجارة أو شرط، فشك في بقاء يوم الجمعة في
ساعة، فاستصحاب بقائه فيها لاثبات ملكية منفعتها لا يكون إلا بتوسط صدق
عنوان الوفاء بالعقد أو الشرط، من دون أن يكون يوم الجمعة بنفسه موضوعا
لملكية المنفعة في كبرى شرعية.
بل يجري ذلك في مثل إطاعة المولى أو الأب أو الزوج - لو وجبت
شرعا - في ما لو كان الاستصحاب منقحا لموضوعها، كما لو أمر الأب بالصدقة
على زيد ما دام فقيرا، فشك في بقاء فقره، فإن استصحاب فقره لا يقتضي
136

وجوب الصدقة عليه إلا بتوسط صدق عنوان إطاعة الأب عليها الذي هو لازم
عقلي لبقاء الفقر، من دون أن يكون الفقر موضوعا لوجوب الصدقة شرعا.
بل عمم قدس سره ذلك لمثل استصحاب حياة زيد لاثبات، وجوب الانفاق من
ماله على زوجته واستحقاقه من الوقف، مع أن الاثرين المذكورين لا يثبتان
بالاستصحاب المذكور إلا بتوسط ما يلازم الحياة عقلا من العنوان، وهو عنوان
كونه زوجا أو موقوفا عليه.
لكن الظاهر اندفاع ذلك: بأن الموضوع في المثالين مركب من الحياة
والزوجية أو الدخول في الموقوف عليهم، فمع القطع بالأخيرين يكفي
استصحاب الحياة. مع إمكان استصحاب الحياة للفرد بخصوصيته وعنوانه
المأخوذ في الموضوع، فيستصحب حياة زيد، لا بذاته، بل بما هو زوج أو
موقوف عليه، أو يستصحب حياته المقيدة بزوجيته أو الوقف عليه، لسبق اليقين
بذلك.
ولذا لا يكفي استصحاب حياته بذاته مع عدم إحراز الخصوصية المذكور
لا بالوجدان ولا بالأصل لو فرض ملازمتها لبقاء الحياة، كما لو علم من الخارج
أن زيدا لو بقي حيا لتزوج هندا.
وكيف كان، فيكفي في محل الكلام الأمثلة المتقدمة المبنية على كون
دخل الامر المستصحب في الأثر غير مستفاد من الكبريات الشرعية، بل من
صغرياتها المجعولة للمكلف.
ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على مانعية توسط العناوين المذكورة فيها
من العمل بالأصل، كيف! ولازمه عدم الرجوع لاستصحاب الطهارة لاحراز
وقوع الصلاة وفاء عن النذر أو الإجارة أو نحوهما، فإن ترتب صحة الصلاة على
الطهارة مثلا، وإن كان مستفادا من كبرى شارعية، مثل: (لا صلاة إلا بطهور)، إلا أن
ترتب سقوط الامر بالوفاء عليها ليس إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بها عقلا
137

بعد فرض كون المنذور أو نحوه هو الصلاة المشروعة المشروطة بالطهارة.
فلابد من النظر في وجه عدم إخلال توسط مثل هذه العناوين في العمل
بالأصل، وخروجه عما تقدم في الأصل المثبت.
وقد ذكر قدس سره في وجهه أن الحكم في الكبريات الشرعية لم يرد على
العنوان المذكور إلا لمحض الحكاية عن الافراد الخاصة التي هي مجرى الأصل،
من دون أن يكون دخيلا في الحكم.
قال قدس سره: (والتحقيق في دفع هذه الغائلة أن يقال: ان مثل الولد في المثال
وإن لم يترتب على حياته أثر في خصوص خطاب، إلا أن وجوب التصدق قد
رتب عليه، لعموم الخطاب الدال على وجوب الوفاء بالنذر، فإنه يدل على
وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصياته،
فإنه لا يكون وفاء لنذره في إلا ذلك.
وبالجملة: إنما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشايع،
وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس إلا ما التزم به بعنوانه الخاص على ما
التزم به بعنوانه بخصوصياته، فيكون وجوب التصدق بالدرهم ما دام الولد حيا
في المثال مدلولا عليه بالخطاب، لأجل كون التصدق به كذلك وفاء لنذره،
فاستصحاب الحياة لاثبات وجوب التصدق به غير مثبت.
ووجه ذلك: - أي سراية الحكم من عنوان الوفاء... إلى تلك العناوين
الخاصة... - هو أن الوفاء ليس إلا منتزعا عنها، وتحققه يكون بتحققها، وإنما
اخذ في موضوع الخطاب مع ذلك دونها لأنه جامع مع شتاتها وعدم انضباطها،
بحيث لا يكاد أن يندرج تحت ميزان أو يحكى عنها بعنوان غيره جامعا ومانعا،
كما لا يخفى.
وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك
للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها، كالمقدمية والضدية ونحوهما...).
138

وهو كما ترى! فإن جميع العناوين المذكورة في الكبريات الشرعية إنما
يراد بها الحكاية عن المصاديق ولا خصوصية لعنوان الوفاء في ذلك، وهو لا
ينافي دخلها في الحكم بنحو يلزم إحرازها بالأصل، حيث لابد من جريان
الأصل في المصداق من حيثيتها.
وأما ما ذكره من كون عنوان الوفاء منتزعا من الافراد المذكورة، فإن أراد به
كون تعلق الحكم به بلحاظ وجوده الخارجي الذي لا يكون إلا بوجود الفرد،
فهو يجري في كل عنوان يؤخذ في كبريات الاحكام العملية.
وإن أراد به عدم دخله في الحكم لسوقه لمحض الحكاية عن الافراد مع
كون موضوع الحكم هو الافراد بخصوصيتها لا بحيثية العنوان، فلا يكون، واسطة
في ثبوت الحكم الذي يراد إحرازه بالأصل، كما يناسبه تنظيره بالمقدمية
والضدية. فهو خروج عن ظواهر الأدلة، بل عما هو المقطوع به منها من دخله
كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الشرعية، بل مطلق القضايا الحقيقية.
كيف! ولازمه عدم جريان الأصل في نفس وجوب الوفاء أو شرطه أو
مانعه، كوقوع النذر وحل الأب أو الزوج له ونحوه مما يرجع إلى كبرى وجوب
الوفاء ولا مجال لقياسه بعنوان المقدمية والضدية، لوضوح عدم أخذهما في
موضوع الحكم في أدلة شرعية، وإنما استفيد ثبوت الحكم الشرعي لهما بحكم
العقل الذي لا نظر له إلا إلى المصداق بنفسه، ليست المقدمية أو الضدية إلا
جهة تعليلية أو انتزاعية.
على أن مصداق الوفاء وما يصح حمله عليه بالحمل الشايع ليس هو ما
التزم به الناذر بعنوانه وخصوصياته القابلة للاستصحاب، وهو عنوان التصدق
على تقدير الحياة، بل هو فعل المكلف وهو ذات التصدق الخاص المقارن
للخصوصيات الخاصة الفردية، وليس مثل الحياة قيدا فيه، بل دخيل في فرديته
كسائر ما يتوقف عليه فردية الفرد، ومن الظاهر أن الفرد المذكور لا مجال
139

لاستصحابه بنفسه، لعدم سبق اليقين به، والاستصحاب إنما هو للحياة الملازمة
لفرديته لعنوان الوفاء، وهو أجنبي عما ذكره قدس سره.
إلا أن يرجع كلامه إلى أن قضية وجوب الوفاء بالنذر مثلا قضية منتزعة
من القضايا المنذورة المتفرقة، قد سيقت لمحض الحكاية عنها، وليس
المجهول شرعا إلا تلك القضايا على ما هي عليه من الخصوصيات والقيود
والشروط، نظير قضية وجوب أداء الواجبات التي لا يراد بها إلا الإشارة إلى
القضايا التشريعية المتفرقة المتضمنة للواجبات الشرعية، كوجوب الصلاة عند
الزوال، والحج عند الاستطاعة، الخمس في الغنيمة، والزكاة في النصاب.
فإن لازم ذلك جريان الأصل في الخصوصيات المأخوذة في القضايا
المنذورة بأشخاصها، من حياة الولد ونحوها، لأنها هي الكبريات الشرعية
المجعولة للشارع، دون قضية وجوفي الوفاء الوفاء الانتزاعية، كما يجري في
خصوصيات القضايا الشرعية المتضمنة للواجبات، كالزوال والاستطاعة
والغنيمة، النصاب، دون قضية وجوب أداء الواجبات الانتزاعية.
لكنه - مع قصور كلامه عنه - واضح البطلان في نفسه، حيث يقطع بعدم
كون القضايا المنذورة كبريات شرعية، بل صغريات لكبري وجوب الوفاء
بالنذر، التي هي ليست انتزاعية - ككبرى وجوب أداء الواجبات التي لو وردت
في كلام الشارع لكانت إرشادية - بل هي قضية شرعية سيقت لبيان حكم شرعي
كسائر القضايا الشرعية، فيصح استصحابها واستصحاب قيودها وشروطها
وسائر ما أخذ فيها. فما ذكره قدس سره لا يرجع إلى محصل صالح لتوجيه المدعى.
فلعل الأولى أن يقال: لا يلزم أن يكون مجرى الأصل مأخوذا في كبرى
شرعية، بل يكفي كونه موضوعا للأثر الشرعي، ليدخل. في ما تقدم من أن التعبد
بالموضوع يستتبع التعبد بأثره، سواء كان ذلك مفاد الكبرى الشرعية،
كاستصحاب زوجية المرأة لاثبات وجوب الانفاق عليها أو عدم حل الزوج
140

لليمين لاثبات نفوذه، أم مستفادا من انطباق الكبرى على الصغرى، كما في
المقام ونحوه مما كان موضوع الصغرى فيه مفاد القضية، وكان المستفاد من
الكبرى نفوذها وجعل مضمونها شرعا، حيث يستلزم ذلك قيام الأثر بالموضوع
المأخوذ في القضية المذكورة بخصوصياته العنوانية فإذا جرى الأصل فيه
ترتب أثره.
وتوضيح ذلك: أن مفاد كبرى نفوذ العقد والنذر هو إمضاء مفاد العقود
والنذور الواقعة من المكلفين وجعل مضمونها شرعا تبعا لانشائه من المكلف.
فإذا آجر المكلف نفسه يوم الجمعة بدينار فقد ملك منفعة اليوم المذكور
بإزاء الدينار، ومقتضى إمضاء الشارع لذلك هو ملكية الأجير للدينار وملكية
المستأجر للمنفعة المذكورة شرعا، فيكون يوم الجمعة بعنوانه موضوعا لملكية
المنفعة شرعا، فتحرز باستصحابه، كما تحرز لو استفيد ملكية منفعة اليوم
المذكور بعنوانه من كبرى شرعية مجعولة تأسيسا لا إمضاء.
وإذا نذر الأب الصدقة ما دام ولده حيا، فحيث كان مفاد النذر هو تمليك
الله سبحانه للمنذور كان مقتضى عموم نفوذ النذر إمضاء الشارع للتمليك
المذكور بجعل ملكيته تعالى تبعا لجعل المكلف لها، فتكون الحياة بعنوانها
شرطا شرعيا للصدقة المملوكة، فاستصحابها يحرز المشروط شرعا بمقتضى ما
أشير إليه من التبعية في مقام التعبد بين المستصحب وأثره الشرعي.
ومنه يظهر أنه لا حاجة إلى توسط عنوان الوفاء بين المستصحب والأثر،
بل المستصحب بنفسه موضوع للأثر شرعا، بسبب انطباق عموم الوفاء على
مورده، فيخرج عن الأصل المثبت.
نعم، لابد في ما ذكرنا من أن تنطبق الكبرى الشرعية على مفاد القضية
على ما هي عليه من خصوصيات عنوانية، بحيث تقتضي جعل الشارع
لمضمونها مع قطع النظر عن عمل المكلف في مقام الامتثال، بل يكون عمل
141

المكلف تابعا للجعل المذكور، كما هو ظاهر مثل وجوب الوفاء بالعقد والعهد
والنذر واليمين، لان الوفاء هو أداء ما ثبت على المكلف وتوفيته، فهو ظاهر في
ثبوت مضمون القضية المجعولة للمكلف لامضائها من قبل الشارع، بخلاف
مثل عموم وجوب الفدية بالافطار، فإن انطباقه على مورد لا يقتضي إلا جعل
نفس الوجوب الذي هو مفاد الكبرى، والذي يتعلق به العمل.
ومنه يظهر الاشكال في جريان ما ذكرنا في وجوب إطاعة الأب ونحوه،
لان الإطاعة عنوان ثانوي لفعل المكلف منتزع من متابعة أمر الامر، ووجوبها لا
يقتضي وجوب الفعل بالعنوان الذي وقع في لسان الآمر أو بالخصوصيات
المأخوذة منه، ليكون إحرازها بالأصل مجديا في ترتب الأثر، بل تحققها مستلزم
عقلا لصدق عنوان الإطاعة، الذي هو موضوع الأثر، فيكون توسطه في ترتب
الأثر على المستصحب موجبا لكون الأصل مثبتا، بل وجوب إطاعة المولى
منتزع من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، ولا طريق لاثبات التكليف
بعنوان الإطاعة، فضلا عن العنوان المأخوذ في لسان المولى بالخصوصيات
المأخوذة في القضية.
نعم، تكليف الموالي العرفيين بالامر المشروع ينصرف إلى، إرادة إحرازه
بالطريق الشرعي، وهو الوجه في إجزاء الامتثال فيها بالطريق الشرعي المحرز
لصحة العمل.
بل مقتضى ذلك كون الاتيان بما يحرز ظاهرا مشروعيته وصحته موجبا
لتحقق الإطاعة واقعا، لا ظاهرا، كما هو الحال في مثل الوفاء بالنذر في ذلك، كي
يبتني على الأصل المثبت.
وحينئذ لو انكشف الخطأ بعد ذلك كان وجوب التدارك لأجل عدم
تحقق غرض الامر الكاشف عن ملاك التكليف بالتدارك، لا لعدم امتثال
التكليف الأول. فلاحظ.
142

الامر الرابع: تقدم أن استصحاب الحكم التكليفي إنما ينفع بلحاظ ترتب
العمل عليه بلا واسطة. كما أن استصحاب الحكم الشرعي أو الموضوع
الخارجي إنما ينفع بلحاظ ترتب اثره الشرعي، بضميمة الملازمة العرفية بين
التعبد بالشئ والتعبد بأثره.
ومن هنا فقد يستشكل في الاستصحابات العدمية في موردين..
المورد الأول: استصحاب عدم التكليف.
وقد يستشكل فيه بوجهين..
الأول: أن عدم التكليف ليس أمرا مجعولا للشارع، فإن المجعول هو
الأحكام الخمسة لا عدمها، وإلا كانت الاحكام عشرة لا خمسة.
وقد دفع ذلك المحقق الخراساني قدس سره بأن عدم التكليف وإن لم يكن
حكما شرعيا إلا أن رفعه ووضعه تابع للشارع، لان سلطان الشارع على الحكم
مستلزم لسلطانه على عدمه، وذلك كاف في جريان الاستصحاب، لا يعتبر فيه
كون المستصحب حكما شرعيا، لعدم الملزم بذلك بعد صدق نقض اليقين
بالشك.
هذا، ولا يخفى أن مبنى الاشكال والدفع على ما هو مذهب غير واحد من
أن مفاد الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا.
وقد أشرنا عند الكلام في استصحاب مؤدى الطرق والأصول، وفي أوائل
هذا الفصل، إلى بطلان المبنى المذكور، وأن مفاد الاستصحاب - كسائر الطرق
والأصول إحرازية - هو التعبد بالمؤدى ولزوم البناء عليه، وهو لا يختص
بالأحكام الشرعية، ولا بما يكون تحت سلطان الشارع، بل يجري في الأمور
الخارجية التي لا دخل للشارع بها.
غايته أنه لابد من ترتب العمل عليه، وقد تقدم تقريب ترتبه على
استصحاب التكليف بأن إحراز التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المنجزية
143

المستتبعة للموافقة عقلا، ويجري نظير ذلك في استصحاب عدم التكليف، فإن
إحراز عدم التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المعذرية المستتبعة للعمل.
نعم، قد يقال: يكفي في المعذرية عن التكليف عدم المنجز له، كما هو
مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو مقطوع به بلا حاجة للاستصحاب
المذكور، فيكون الاستصحاب لغوا، لعدم الأثر العملي له.
لكنه يندفع: بأن عدم استحقاق العقاب مع عدم التكليف لعدم المقتضي
للعقاب، ومع عدم تنجزه لعدم شرطه، فإحراز عدم التكليف بالأصل إحراز لعدم
المقتضي، وبدونه لا يكون عدم العقاب إلا لعدم الشرط، ومثل هذا كاف في رفع
لغوية التعبد عرفا وإن كان عدم العقاب مقطوعا به على كل حال.
وقد تقدم توضيح ذلك عند الكلام في الاستدلال على البراءة
بالاستصحاب
الثاني: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره حيث ذكر في آخر أدلة البراءة أنه
استدل عليها بوجوه غير ناهضة، وذكر في جملتها استصحاب البراءة المتيقنة
حال الصغر، وذكر له وجوها..
منها: استصحاب عدم المنع من الفعل، ثم قال: (وأما الاذن والترخيص في
الفعل فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل، ويستلزم انتفاء العقاب واقعا، إلا أن الاذن
الشرعي ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة، بل هو من المقارنات،
حيث إن عدم المنع عن الفعل بعد العلم إجمالا بعدم خلو فعل المكلف عن
أحد الأحكام الخمسة لا ينفك عن كونه مرخصا فيه، فهو نظير إثبات وجود أحد
الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم).
وقد حمله تلميذه الآشتياني قدس سره على إرادة ما سبق من أن العدم ليس
حكما شرعيا. وحمله بعض مشايخنا على ما سبق من عدم الأثر له في مقام
العمل بعد القطع بعدم العقاب بقاعدة قبح العقاب.
144

وكلاهما مخالف لظاهره، بل هو ظاهر في أن الأثر ليس للمنع، لينفع
استصحاب عدمه، بل هو لضده، وهو الترخيص والاذن اللازم للمستصحب،
فهو ظاهر في المفروغية عن جريان أصالة العدم لو كان الأثر لنفس الوجود
الناقض لذلك العدم.
فالعمدة في رده: أنه لا يتم بناء على أصالة الإباحة عقلا، وأن استحقاق
العقاب مشروط بمنع الشارع، كما هو الظاهر، وإنما يتم بناء على أصالة الحظر
عقلا وأن الرافع لاستحقاق العقاب هو الترخيص، الذي هو خلاف التحقيق،
على ما أشرنا إليه عند الكلام في استصحاب البراءة في رد الوجه الثاني من
وجوه الاشكال فيه. فراجع.
المورد الثاني: استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي، سواء كان
أمرا خارجيا - كالخمرية - أم شرعيا - كالزوجية - لان الأثر ليس للعدم
المستصحب، بل للوجود، غاية الامر أن عدم الموضوع ملازم واقعا لعدم ترتب
حكمه، فيبتني على الأصل المثبت. نعم، لو كان العدم بنفسه مأخوذا في موضوع
الحكم الشرعي أمكن استصحابه لترتيب حكمه.
ويندفع: بأنه كما يكون التعبد بوجود الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد
بحكمه، كذلك يكون التعبد بعدم الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بعدم حكمه.
على أن استصحاب عدم الموضوع إنما يجري إذا استفيد من الأدلة دخل
عنوانه في ثبوت الحكم، وهو راجع إلى حكم الشارع بعدم ثبوت الحكم عند
ارتفاع الموضوع بعنوانه تبعا لحكمه بثبوته عند ثبوته، وهو كاف في صحة
الاستصحاب، إذ لا يراد من الملازمة بين الحكم وموضوعه في مقام التعبد
خصوص الأحكام الخمسة، بل مطلق ما يستفاد من الشارع ويكون مرجعا فيه،
نظير ما تقدم من المحقق الخراساني قدس سره في استصحاب عدم الحكم التكليفي
وأما الاشكال في ذلك بمنافاته لظاهر صحيحتي زرارة، حيث تضمنتا
145

الرجوع لاستصحاب الطهارة عند الشك في النوم وإصابة الدم، مع أنه لو جرى
الاستصحاب العدمي لكان المناسب التمسك باستصحاب عدم النوم وعدم
إصابة الدم، لحكومته على استصحاب الطهارة، لأنه سببي بالإضافة إليه.
فيندفع: بأنه لا مانع من التنبيه للأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم إذا
لم يكن منافيا له عملا، كما تقدم توضيحه في أدلة البراءة عند التعرض
للاستدلال بموثقة مسعدة بن صدقة. فراجع.
بقي شئ، وهو أن المستفاد من الأدلة..
تارة: انحصار الحكم بالموضوع، كما هو الحال في مثل نواقض الوضوء.
وأخرى: مجرد دخل عنوانه فيه دون الانحصار، كما هو الحال في أدلة
النجاسات.
ففي الأول يكون استصحاب عدم الموضوع محرزا لعدم ثبوت الحكم
مطلقا، وفي الثاني لا يحرز باستصحاب عدم الموضوع إلا عدم ثبوت الحكم من
حيثيته، فلا ينافي ثبوته من حيثية أخرى، لي يتعين الرجوع في ذلك إلى أصل
آخر في الشبهة الحكمية، كأصالة الطهارة أو استصحابها. فلاحظ.
الامر الخامس: لا يعتبر في خروج الأصل عن كونه مثبتا كون مجراه تمام
الموضوع للأثر الشرعي، أو تمام المنشأ للعمل عقلا، بل يكفي دخله فيه بعنوانه
بنحو من أنحاء الدخل جزءا كان، أو شرطا، أو مانعا أو غير ذلك.
ويكفي في ذلك تطبيق كبرى الاستصحاب في صحيحتي زرارة على
الطهارة الحدثية والخبثية، مع وضوح أن المستصحب لا يكفي في ترتب الأثر
المهم وهو صحة الصلاة، بل لابد معه من شروط وأجزاء اخر لا يحرزها
الاستصحاب المذكور، بل لابد من إحرازها بأصل آخر أو وجدان.
ومن هنا تكرر في كلامهم أنه لا بأس بضم الوجدان للأصل في إحراز
موضوع الأثر، ولا يكون الأصل مثبتا بعد كون المستصحب بعنوانه دخيلا في
146

الأثر.
وإنما يكون مثبتا في ما لو كان الدخيل في الأثر هو العنوان اللازم أو
المنتزع من جملة أمور بعضها مجرى الأصل، كما لو كان موضوع الأثر هو وجود
عشرة رجال في الدار، وعلم بدخول تسعة، وشك في وجود زيد معهم بعد
العلم بسبق وجوده فيها، فإن استصحاب بقائه لا ينفع في ترتيب الأثر المذكور
بعد عدم دخله بعنوانه فيه.
ثم إن المستصحب الذي يكون جزءا للموضوع..
تارة: يكون دخيلا في ترتب الأثر الشرعي، كما هو الحال في قيود الحكم
وشروطه وموانعه ونحوها، كطهارة الماء الموجبة لطهارة ما يغسل به والحيض
المانع من وجوب الصلاة.
وأخرى: يكون أمرا شرعيا دخيلا في ترتب العمل عقلا بلا واسطة
شرعية، كما هو الحال في شروط الواجب وقيوده وموانعه، كطهارة البدن
الموجبة لصحة الصلاة، ونجاسة الثوب الموجبة لبطلانها، لوضوح أن الصحة
والبطلان ليسا مجعولين شرعا، بل هما منتزعان من تمامية العمل وعدمها، فلا
يترتب على مثل ذلك إلا مقام الامتثال الذي هو من الواجبات العقلية،
وهو المعيار في العمل المصحح للجعل الشرعي.
وكما يجري الأصل في الأول بلحاظ الأثر الشرعي يجري في الثاني
بلحاظ ترتب العمل عقلا، لنظير ما تقدم في استصحاب التكليف وعدمه، فكما
كان المصحح له هو ترتب العمل عليه بلحاظ أن التعبد بالتكليف وعدمه كاف
في المنجزية والمعذرية المستتبعتين للعمل عقلا، فليكن المصحح
لاستصحاب الشرط ونحوه في المقام هو ترتب العمل عليه، بلحاظ كونه موجبا
للتعبد بالامتثال الرافع لموضوع قاعدة الاشتغال.
كما أن المصحح لاستصحاب المانع ونحوه هو ترتب العمل عليه بلحاظ
147

كونه محرزا لعدم الامتثال المقتضي لحكم العقل بوجوبه.
ولذا أمكن تعبد الشارع بأصل الامتثال وبخصوصياته في موارد قاعدة
الفراغ والتجاوز، كما أمكن تعبده بعدمه في مورد قاعدة الشك قبل خروج
الوقت، أو الحكم بنجاسة ناقضية البلل الخارج قبل الاستبراء.
بل يكفي في خصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة، لوضوح أن الأثر
المهم لاستصحاب الطهارة الحدثية والخبثية هو التعبد بامتثال أمر الصلاة.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن المحقق الخراساني قدس سره تعرض لاشكال بعضهم
في استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطية والمانعية، بدعوى: أن الشرطية
والمانعية ليستا من المجعولات الشرعية، بل هما من الأمور الانتزاعية، فلا يصح
الاستصحاب بلحاظهما إلا بناء على الأصل المثبت، حيث يكون الشرط
مستلزما لوجود المشروط، والمانع مستلزما لعدم ما يمنع منه.
وقد دفع قدس سره ذلك: بأن الشرطية والمانعية والجزئية وإن كانت من الأمور
الانتزاعية، إلا أنها مما تناله يد الجعل شرعا تبعا، ويكون أمره بيد الشارع وضعا
ورفعا تبعا لوضع منشأ انتزاعه ورفعه، ولا ملزم بأن يكون المستصحب أو الأثر
المترتب عليه مجعولا مستقلا.
وهو مبني على ما ذكره قدس سره عند الكلام في الاحكام لوضعية من السببية
والشرطية والمانعية ونحوها مجعولة تبعا لجعل منشأ انتزاعها، فيصح
الاستصحاب بلحاظها.
ومن ثم لزم حمل ما ذكره قدس سره على الشرط والمانع للمأمور به، دون الشرط
والمانع للتكليف، لما ذكره هناك من عدم جعل الشرطية والمانعية للتكليف، لا
أصلا ولا تبعا، فلا يجري الاستصحاب فيهما، كما لا يجري في الموضوع
بلحاظهما.
بل لابد في تصحيح الاستصحاب في الشرط والمانع للتكليف من
148

جريانه بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية، وهو التكليف المترتب وجودا
وعدما على الشرط والمانع، فالمصحح لاستصحاب السفر ليس هو شرطيته
لوجوب القصر، بل نفس وجوب القصر، كما أن المصحح لاستصحاب النشوز
هو نفس عدم وجوب الانفاق لا مانعيته من الوجوب المذكور، لأنهما أثر
للمستصحب شرعا.
لكن ما ذكره قدس سره بين القسمين غير تام في نفسه، بل الظاهر أن الشرطية
والمانعية في القسمين معا من الأمور الانتزاعية التي لا تنالها يد الجعل لا أصلا
ولا تبعا، فليست هي من الآثار المصححة لاستصحاب موضوعها، كما لا مجال
لتصحيح الاستصحاب المذكور بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية، وهو
وجوب المقيد بالشرط وعدم المانع، لأنه وإن كان مجعولا شرعيا إلا أنه ليس من
آثار وجود شرط المكلف به ومانعه، فوجوب الصلاة المقيدة بالطهارة أو عدم
الحدث ليس من آثار الطهارة أو عدم الحدث، بل هو تابع لتحقق سببه وشرطه
كالبلوغ والوقت وغيرهما، فقد يكون متيقنا تبعا لها مع العلم بعدم الطهارة أو
الحدث، فضلا عن الشك فيهما.
فالأولى تصحيح استصحاب الشروط والموانع ونحوها بما ذكرناه آنفا
من أنه لا يعتبر في صحة الاستصحاب كون المستصحب تمام الموضوع للأثر
شرعا أو للعمل عقلا، بل يكفي كونه بعنوانه دخيلا في ترتب الأثر الشرعي، أو
في منشأ العمل عقلا، وإن توقف على انضمام غيره إليه.
ولا يفرق في ذلك بين الشرط والمانع للتكليف والشرط والمانع
للمكلف به.
غايته أن ما يتعلق بالتكليف دخيل في الأثر الشرعي، وما يتعلق
بالمكلف به دخيل في مقام العمل عقلا، لرجوعه إلى إحراز قيود الامتثال، على
ما تقدم توضيحه.
149

الامر السادس: يكفي في جريان الاستصحاب أن يكون لبقاء
المستصحب أثر في مقام العمل سواء كان تعلق العمل به حين الشك في البقاء
- كما في استصحاب طهارة الثوب لا ثبات مشروعية الدخول في الصلاة به - أم
بعده - كما في موارد الشك في تأخر الحادث - أم حين اليقين بالحدوث - كما
في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام لترتيب آثار الحيض بمجرد رؤيته - أم قبله -
كما لو وجب تهيئة الطعام للضيف إن كان يبقى إلى الظهر، وعلم يوم الخميس
بمجيئه يوم الجمعة وشك في بقائه إلى الظهر، فإن استصحاب بقائه للظهر
موجب لتنجز وجوب تهيئة الطعام، ولو بالمحافظة على مقدماته المفوتة - كل
ذلك لعموم دليل الاستصحاب بعد تحقق أركانه من اليقين بالحدوث والشك
في البقاء، وترتب العمل الرافع للغوية.
ومن هنا ذهب غير واحد لجريان الاستصحاب في الأمور المستقبلة.
ودعوى: انصرافه لصورة احتمال فعلية المشكوك ولو من جهة الموارد.
مدفوعة: بأنه لا وجه للانصراف المذكور، ولا سيما بعد كون القضية
ارتكازية شاملة للجميع. كيف! ولازم ذلك اختصاصه بالصورة الأولى وعدم
جريانه في الصورة الثانية، لفرض العلم بارتفاع المشكوك فيها.
وإلحاقها بالصورة الأولى دون الأخيرتين، تحكم بعد اختصاص المورد
بالصورة الأولى، واشتراك الجميع في الدخول تحت العموم الارتكازي.
الامر السابع: اشتهر في كلام المتأخرين الفرق بين الامارة والأصل في
الحجية في لازم المؤدى كما أشرنا إليه آنفا.
وقد تصدى غير واحد لبيان الفرق بينهما في ذلك، فذكر بعض
الأعاظم قدس سره لذلك وجها طويلا أسهب في ذكر مقدماته..
وحاصله: أن مفاد أدلة إعتبار الامارة تتميم كشفها وجعلها علما تعبدا
بالإضافة إلى المؤدى، فتترتب عليها آثار العلم به، فكما كان العلم الحقيقي
150

بشئ مثبتا لآثاره ولوازمه وملزوماته مهما تعددت الوسائط، فكذلك قيام الامارة
عليه، بخلاف الأصول، فإن أدلة اعتبارها لا تقتضي الا التعبد بمؤدياتها من دون
أن تقتضي تتميم كشفها وجعلها علما، لتشارك العلم في ذلك.
وفيه.. أولا: أنه ليس مفاد أدلة اعتبار الامارة تتميم كشفها ولا جعلها علما
تعبدا، بل مجرد جعل حجيتها، كما تقدم غير مرة، وأوضحناه في مبحث القطع
الموضوعي. فراجع.
وثانيا: أن إثبات العلم بالشئ لجميع أطرافه إنما هو بضميمة التلازم بين
العلم بالشئ والعلم بلازمه بعد فرض الالتفات للملازمة، والتلازم المذكور
مختص بالعلم الوجداني، دون العلم التعبدي المفروض، بل هو تابع لدليل
التعبد، فمع فرض اختصاصه بالمؤدى لا وجه للتعدي للازم.
ولذا لا إشكال في إمكان التفكيك في حجية الامارة بين المتلازمات،
لاختصاص دليل الحجية ببعضها، كما في الظن بالقبلة الذي لا يلزم من حجيته
حجية الظن بالوقت وإن استلزمه، وكما في الاقرار، بل يمكن التفكيك في
الحجية حتى في اللوازم الشرعية، كما في البينة التي قد يثبت بها حق الناس دون
حق الله تعالى.
أما المحقق الخراساني قدس سره فقد ذكر أن الامارة لما كانت مبنية على الحكاية
فهي كما تحكى عن المؤدى تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه، ومقتضى
إطلاق دليل حجيتها لزوم تصديقها في تمام ما تحكي عنه، بخلاف الأصل، فإنه
لا يبتني إلا على محض التعبد الملزم بالاقتصار على مورده، وهو المؤدى،
والتعدي إلى أثره الشرعي إنما هو بضميمة الملازمة بين التعبد بالشئ والتعبد
بأثره - كما تقدم - فيلزم الاقتصار على مورد الملازمة المذكورة، وهو الأثر
الشرعي.
وما ذكره قدس سره راجع إلى إمكان حجية الامارة في لازم مؤداها تبعا لاطلاق
151

دليل حجيتها.
وهو في محله لو فرض تمامية الاطلاق، بأن يستفاد منه حجية الامارة في
تمام ما تكشف عنه ولو بضميمة الملازمة بين الظن بالشئ والظن بلازمه، فإن
الامارة إنما تحكي بالذات عن نفس المؤدى، لأنها مسوقة له، وإنما يستفاد منها
اللازم بضميمة التلازم بين الظن بالشئ والظن بلازمه، فلو فرض إطلاق حجية
الامارة بالنحو الشامل لهذه الإفادة تعين البناء على حجيتها في اللازم.
لكن لا طريق لتمامية ذلك..
أولا: لان مبنى حجية الامارة غالبا على إفادتها للظن نوعا لا شخصا،
واللوازم المذكورة غالبا لوازم اتفاقية شخصية، فلا تكشف الامارة عنها نوعا.
وثانيا: لأنه لو فرض كاشفيتها عنها بالوجه المعتبر فيها، إما لكون مبنى
حجية الامارة على إفادتها للظن الشخصي، المستلزم للظن باللازم وإن كان
لزومه اتفاقيا شخصيا، أو لكون اللازم نوعيا فيتبع الملزوم في حصول الظن نوعا
به من الامارة، إلا أنه قد لا يكون لدليل الامارة إطلاق يقتضي حجيتها في تمام ما
هي كاشفة عنه وموجبة للظن به شخصا أو نوعا، بل تختص حجيتها بعناوين
وجهات خاصة لا تنطبق على اللوازم، فحجية الاقرار تختص بالحق الثابت على
المقر، وحجية اليد تختص بالملكية، وحجية الفتوى تختص بالحكم الشرعي،
إلى غير ذلك مما يختص بالمؤدى دون اللازم.
ولو فرض عموم دليل الحجية للازم في مورد كان حجة بلا كلام، وخرج
عما نحن فيه، إذ لا يراد بالمؤدى إلا ما قام الدليل الخاص على حجية الامارة فيه،
وإلا فلا معنى لكون الملكية مؤدى لليد لولا حجيتها عليها، ومحل الكلام إنما
هو في استفادة حجية الامارة في اللازم لمحض ملازمتها لما هي حجة فيه، لا
لقيام الدليل على حجيته فيه بالخصوص. وإثبات ذلك في غاية الاشكال، بل المنع.
152

نعم، مؤدى الكلام والخبر هو مضمونه المحكي به والمسوق له وإن لم
يكن حجة فيه.
ومن هنا فقد ينزل ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره على خصوص ما كان
مبنى طريقيته على حكايته وأدائه للمراد وإبرازه له، كالخبر ونحوه، دون ما يبتني
على محض الكاشفية، كاليد بالإضافة إلى الملكية.
بدعوى: أن مثل ذلك كما يحكي عن المؤدى يحكي عن لازمه، فإطلاق
دليل وجوب التصديق فيها يقتضي وجوب تصديقها في تمام ما تحكي عنه وإن
كان مدلولا التزاميا.
ويشكل.. أولا: بأنه قد لا يكون لدليل الحجية إطلاق في وجوب
التصديق، لاخذ عنوان خاص فيه لا ينطبق على تمام ما يحكى عنه كالاقرار
الذي كان مفاد دليل حجيته جوازه على المقر، وهو لا يقتضي إلا تصديقه في
ثبوت الحق عليه، دون غيره مما يحكي عنه الخبر، وإن كان هو المؤدى
المطابقي له.
وثانيا: بأن موضوع التصديق لما كان هو الخبر والنبأ والشهادة ونحوها،
اختص بما يكون مخبرا عنه، مما هو مؤدى الكلام وقد ساق المتكلم الكلام
لبيانه وأبرزه به، سواء كان مدلولا مطابقيا أم التزاميا، دون غيره من اللوازم
الواقعية التي لم يقصد المتكلم إبرازها بالكلام.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من توجيه العموم لذلك..
تارة: بأن القصد إنما يعتبر في الدلالة التصديقية الموجبة للاذعان بكون
المؤدى مرادا للمتكلم، دون الدلالة التصورية التي هي عبارة عن محض استفادة
الشئ من الخبر وإن لم يقصده المخبر.
وأخرى: بأنه يكفي في تحقق الدلالة التصديقية بالإضافة إلى اللوازم
والملزومات مجرد التفات المتكلم والمخبر إلى أن لكلامه لوازم وملزومات ولو
153

إجمالا، ولا يحتاج إلى قصد كل منها تفصيلا، حيت يكون كل منها مخبرا عنه
بعنوانه الاجمالي المذكور.
فهو مندفع بكلا وجهيه.
أما الأول، فلان الدلالة التصورية المذكورة لا تكفي في صدق العناوين
التي اشتملت عليها الأدلة، كعنوان النبأ والخبر والتصديق ونحوهما مما لا
يصدق بالإضافة إلى ما لم يقصد المخبر إفادته بالخبر.
وأما الثاني، فلان مجرد العلم بوجود اللوازم ولو تفصيلا لا يكفي في
صدق الخبر بالإضافة إليها، بل لابد من قصد الاخبار عنها وإفادتها بالكلام، كما
في موارد الكناية.
على أنه لو تم ذلك فإنما يكون الاخبار عنها بعنوان كونها لازم المؤدى، لا
بعناوينها المأخوذة في الأثر الشرعي، فترتيب الأثر مبني على حجية الخبر في
اللازم الذي لم يخبر عنه، التي هي محل الكلام.
فالعمدة في وجه ذلك، أن الأدلة وإن اشتملت على عنوان التصديق والنبأ
والخبر ونحوها مما يختص بما يقصد الاخبار عنه، إلا أن المستفاد منها لما كان
هو إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على العمل بخبر الثقة والجري معهم على
عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب أو الخطأ، كان اللازم هو الرجوع في سعة
موضوع الحجية إلى العقلاء، وحيث كان بناؤهم على التعويل على الخبر في
اللوازم والملزومات وإن لم يقصد المتكلم الاخبار عنها، تبعا للتعويل عليه في
المؤدى، كان اللازم البناء على عموم حجيتها شرعا أيضا وعدم الجمود على
عنوان التصديق.
لكن ذلك مختص بخبر الثقة ونحوه، دون غيره مما لا يبتني على إمضاء
سيرة العقلاء، بل على حكم الشارع تعبدا بتصديق الخبر في خصوص مورد،
154

كتصديق المرأة في العدة والحيض (1) وتصديق البايع في الكيل (2).
فضلا عما لم يشتمل دليله على عنوان التصديق، كالاقرار، أو كانت
حجيته ببناء العقلاء في خصوص مورد كاليد التي هي أمارة على الملكية،
والظواهر. فإن اللازم في جميع ذلك الرجوع لمقتضى الأدلة سعة وضيقا، ولا
ضابط لذلك.
ومن هنا ذكرنا في محله أن العام وإن كان حجة في العموم، إلا أنه ليس
حجة في لازمه، وهو انتفاء عنوانه في مورد انتفاء حكمه، وإن كان حجة في
إثبات لازم الحكم في مورده، كوجوب مقدمته - بناء على الملازمة - لان المتيقن
من بناء العقلاء على العمل بالعام الذي هو الدليل على حجية العموم هو
رجوعهم إليه في إثبات حكم العام ولوازمه في مورد تحقق عنوانه، لا في نفي
عنوان العام في مورد انتفاء حكمه.
وبهذا ظهر أن البناء على حجية الاستصحاب من باب الظن النوعي بنحو
يلحق بالامارات لا يستلزم حجيته في لازم مجراه، لامكان اقتصار العقلاء في
العمل بالظن المذكور على خصوص مؤداه دون لوازمه.
وما يظهر من بعضهم من استلزام ذلك لحجيته في اللوازم، لان الظن
بالملزوم مستلزم للظن باللازم في غير محله.

(1) يراجع الوسائل ج: 15، باب 24 من أبواب العدد من كتاب الطلاق.
(2) راجع الوسائل ج: 13، باب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه.
155

تتميم وتلخيص
قد ظهر من جميع ما تقدم أن التعبد بالشئ بنفسه بالامارة أو الأصل لا
يقتضي التعبد بلوازمه غير الشرعية ولا بما يترتب عليها من الآثار الشرعية. إلا أن
يدل عليه الدليل بالخصوص، إما لعموم دليل الحجية للوازم، كما تقدم في بعض
الامارات، أو لورود التعبد في خصوص مورد ينحصر فيه الأثر بذلك، حيث
يتعين الالتزام به رفعا للغوية، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الاطلاق، حيث ترتفع
اللغوية فيه بتنزيله على خصوص الموارد التي يكون للامر المتعبد به أثر شرعي
بلا واسطة.
كما أن إطلاق التعبد بالشئ يقتضي التعبد بجميع آثاره الشرعية،
بضميمة الملازمة العرفية التي تقدم التعرض لها آنفا.
إلا أن هذا لا ينافي قيام الدليل الخاص على التفكيك بين الآثار المذكورة
وعدم التعبد ببعضها، مثل ما قيل من ثبوت الضمان بشهادة رجل وامرأتين
بالسرقة دون الحد. فلاحظ.
156

المبحث الثاني
في عدم المعارض
من الظاهر أن فعلية التعبد بمقتضى الأصل أو الامارة مشروطة بعد تحقق
موضوعها بعدم ما يكون مقدما عليه رتبة في مقام العمل، كما أنها مشروطة بعدم
المعارض الراجح أو المكافئ، على ما يأتي تفصيله في مبحث التعارض إن شاء
الله تعالى.
وحيث كان الاستصحاب يشارك بقية أنحاء التعبد في ذلك كان المهم
النظر في نسبته إلى بقية أنحاء التعبد. إلا أنه حيث كان الكلام في ذلك يبتني..
تارة: على كبريات عامة يشارك الاستصحاب فيها غيره، كتقديم السببي
على المسببي، والتعبد الشرعي على الأصل العقلي.
وأخرى: على ما يخص الاستصحاب، لخصوصية في موضوعه ودليله.
كان المناسب إيكال الجهة الأولى إلى ما يأتي في مباحث التعارض إن
شاء الله تعالى، للاستغناء به في المقام، ويخص الكلام في هذا المبحث بالجهة
الثانية.
فاعلم أنه اشتهر بين متأخري الأصحاب تأخر الاستصحاب عن سائر
الامارات والطرق، وتقدمه على سائر الأصول التي اخذ في موضوعها محض
الشك، كأصالتي البراءة والطهارة وغيرهما.
ولا يبعد بناء القدماء بحسب ارتكازاتهم على ذلك أيضا، وإن لم يتوجهوا
لضبطه، حيث أوجب ذلك غفلتهم واضطرابهم في مقام العمل والاستدلال في
157

المسائل الفرعية، حيث قد يعارضون الدليل بالاستصحاب أو يرجحونه عليه،
كما قد يعارضون الاستصحاب بغيره من الأصول أو يرجحونها عليه، وإلا فمن
البعيد خروجهم عن الضابط المذكور والتزامهم بلوازم ذلك.
وكيف كان، فالكلام يقع في أمرين..
الامر الأول: في تقديم الامارة والطريق على الاستصحاب.
ولهم في ذلك مبان ثلاثة..
الأول: الورود الراجع إلى أن دليل حجية الامارة موجب لورودها على
الاستصحاب، ورفعها لموضوعه حقيقة.
وقد يوجه ذلك بدعوى: أن المراد بالشك الذي تضمن الاستصحاب
عدم نقضه لليقين ليس هو الحالة النفسية المقابلة لليقين التي لا ترتفع، بقيام
الحجة، بل إما خصوص التحير وعدم الدليل، أو ما يقابل اليقين ولو بالحكم
الظاهري. ويكفي في ارتفاع الشك بأحد المعنيين المذكورين حقيقة قيام
الحجة، لأنها دليل رافع للتحير موجب لليقين بالحكم الظاهري.
وتندفع: بأن حمل الشك على ذلك مخالف للظاهر، لظهور مقابلته لليقين
في كبرى الاستصحاب في كون المراد به الحالة النفسية المقابلة لليقين المتحدة
معه موضوعا، كما هو معناه لغة وعرفا، على ما تقدم في الامر الثاني من الفصل
الأول في أركان الاستصحاب.
وأما ما تقدم في الامر الأول من الفصل المذكور من أن اليقين لم يؤخذ
في موضوع الاستصحاب بما هو صفة خاصة، بل بما هو طريق صالح لان يعتمد
عليه، ومن ثم يتعين التعدي لسائر الطرق، وبه تم توجيه استصحاب مؤدى
الطرق.
فهو انما يقتضي حمل الشك بمقتضى المقابلة على كونه مأخوذا لا
بخصوصه وبما هو صفة خاصة، بل بما هو أمر غير حجة ولا يعتمد عليه في
158

نفسه، ومن الظاهر أن الشك بتمام أفراده كذلك، وليس منه ما هو حجة في
نفسه، لينصرف عنه الشك بمقتضى القرينة المذكورة. وقيام الطريق المعتبر لا
ينافي ذلك ليرتفع به موضوع الاستصحاب، بل الاعتماد - في ظرف قيام
الطريق - على الطريق، لا على الشك المقارن له.
وغاية ما يقتضيه الوجه المشار إليه هو التعدي لغير الشك - كالقياس - مما
لا يصلح لان يعتمد عليه في نفسه، فلا يصلح لنقض اليقين، كالشك المقارن له،
وليس هو موردا للاشكال.
بل لو فرض كون مفاد الدليل جعل حجية نفس الشك - مثل ما دل على
حجية الشك بالركعات - فهو مخصص لكبري الاستصحاب، لان عدم نقض
اليقين بالشك مستلزم لعدم حجيته، فدليل حجية بعض أفراده مخصص لذلك.
نعم، لو فرض هناك شك يكون عند العقلاء حجة بنفسه وليس حجة
تعبدية كان مقتضى ما تقدم انصراف الشك في المقام عنه. فلاحظ.
وبالجملة: لا مجال لدعوى: ارتفاع موضوع الاستصحاب حقيقة بقيام
الطريق المعتبر، ليكون الطريق واردا على الاستصحاب، لفرض بقاء الشك
وعدم اعتباره معه، فلا مجال لنقض اليقين به، بل يلزم العمل معه على مقتضى
اليقين بالسابق، لاطلاق دليل الاستصحاب، فيعارض الطريق المذكور.
ومما ذكرنا يظهر الاشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في توجيه
الورود في المقام من أن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب قيام أمارة معتبرة على
خلافه ليس من نقض اليقين بالشك، بل باليقين.
فإنه إن رجع إلى أن المراد بالشك صورة عدم اليقين ولو بالحكم
الظاهري، فقد عرفت الاشكال فيه.
وإن رجع إلى أن النقض ليس بالشك، بل باليقين بالحكم الظاهري
المسبب عن قيام الامارة والمقارن للشك.
159

فهو - مع عدم صلوحه لتوجيه الورود، لعدم منافاته لبقاء موضوع
الاستصحاب، وهو الشك - موقوف على فعلية حجية الامارة، الموقوفة على
عدم جريان الاستصحاب، ولا وجه له مع فرض بقاء موضوع الاستصحاب،
وهو الشك وعموم دليله.
فلعل الأولى توجيه تقديم الطرق والامارات على الاستصحاب بوجه
يرجع إلى الورود بالتأمل..
وحاصله: أن مقتضى أخبار الاستصحاب النهي عن نقض اليقين بالشك،
لا عن نقضه مع الشك ولو كان بأمر آخر غيره، ومن الظاهر أن مقتضى دليل
حجية الامارة ليس هو نقض اليقين بالشك المقارن لها لينافي عموم
الاستصحاب، بل نقصه بالامارة بخصوصيتها، فلا تنافي أخبار الاستصحاب
بوجه. فهو نظير قولنا: لا تنقض خبر زيد بخبر عمرو، الذي لا يمنع من نقض
خبر زيد بخبر بكر وإن قارن خبر عمرو.
إن قلت: هذا ينافي ما في ذيل صحيحة زرارة الأولى من قوله عليه السلام: (وإنما
تنقضه [ولكن ينقضه خ. ل] بيقين آخر) لظهوره في حصر الناقض لليقين
باليقين وعدم انتقاضه بغيره وإن كان أمارة.
قلت: تقدم أن أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب ليس بما هو صفة
خاصة، بل بما هو طريق تقوم مقامه سائر الطرق المعتبرة، وذلك جار في اليقين
الذي تضمنه الذيل المذكور، لوضوح بعد التفكيك بينهما فيه.
على أنه لو غض النظر عن ذلك عين حمل الحصر المذكور على كونه
حصرا إضافيا بلحاظ حالتي المكلف النفسية من اليقين والشك، لا حقيقيا، ليعم
الامارة الخارجة عن حالات المكلف، فهو أمر ارتكازي وارد مورد التأكيد لما
تضمنه الصدر من عدم نقض اليقين بالشك، لا لبيان أمر زائد على ذلك، هو عدم
صلوح غير اليقين والشك لنقض اليقين، ليكون أمرا تعبديا رادعا عما عليه
160

العقلاء من حجية بعض الامارات وناقضيتها لليقين. ولا سيما مع ورود ذلك في
النوم الذي لا يتيسر غالبا قيام الامارة المعتبرة عليه.
إن قلت: لازم ذلك عدم البناء على المتيقن السابق في ظرف وجود غير
الشك مما هو خارج عن حالات المكلف النفسية وغير معتبر في نفسه -
كالقياس - لعدم الدليل على عدم نقض اليقين به - بعد فرض كون الحصر
إضافيا - لا بمعنى البناء على مؤداه، بل بمعنى التوقف وعدم البناء على مقتضى
المتيقن السابق والرجوع إلى أصل آخر غير الاستصحاب.
قلت: لما كان المستفاد من عدم نقض اليقين بالشك اقتضاء اليقين السابق
للبناء على البقاء واحتياجه للناقض، فما لم تثبت ناقضيته - لعدم ثبوت حجيته -
لا طريق لرفع اليد به عن المقتضي المذكور ارتكازا، ولولا ذلك لم يترتب الأثر
على عدم نقض اليقين بالشك، إذ لابد من مقارنة الشك لغيره مما لا يكون حجة
بنفسه ويمكن عقلا ناقضيته لليقين، بمعنى التوقف وعدم البناء على بقاء
المتيقن معه.
لكن الانصاف: أن الارتكاز المذكور راجع إلى ما ذكرناه أولا من ارتكاز
أن ذكر اليقين في الذيل ليس لخصوصيته. بل بما هو طريق يقوم مقامه سائر
الطرق مع كون الحصر حقيقيا ومقتضاه إلحاق كل ما ليس طريقا معتبرا بالشك
في عدم نقض اليقين السابق به.
ومن هنا يتضح أن مقتضى الذيل المذكور ناقضية الامارة المعتبرة لليقين
السابق ويبقى معها الشك الذي لا يصلح لنقض اليقين، فيكون مؤكدا لما ذكرناه
من عدم منافاة دليل الاستصحاب لدليل حجية الامارة.
إن قلت: النقض في المقام وإن لم يكن بالشك، بل بالامارة، إلا أنه بعد
فرض تحقق موضوع الاستصحاب ببقاء الشك يلزم التعبد ببقاء المتيقن
السابق، فينافي مفاد الامارة ويتعارضان، ولا وجه لتقديم الامارة.
161

قلت: التعبد بالمتيقن في الاستصحاب فرع عدم نقض اليقين، لعدم
صلوح الشك له، فمع فرض انتفاض اليقين بالامارة - بمقتضى إطلاق دليلها - لا
مجال للتعبد بالمتيقن، فالاستصحاب مع الامارة، كاللا مقتضى مع المقتضي،
حيث لا الشك في تأثير المقتضي مع اجتماعهما.
ولذا لا إشكال في أنه لو ثبت عدم نقض خبر زيد بخبر عمرو ونقضه
بخبر بكر، لزم العمل بخبر بكر ونقض خبر زيد به، وأن اجتمع مع خبر عمرو.
فالاستصحاب مع الامارة كحكم العنوان الأولي مع حكم العنوان الثانوي، الذي
يكون عليه العمل به عند اجتماعهما.
إن قلت: هذا إنما يقتضي تقديم الامارة على الاستصحاب مع اختلافهما،
أما مع اتفاقهما فهو لا يقتضي تقديمها، بل جريانهما معا، لاجتماع موضوعيهما،
مع أن المرتكز تقدم الامارة رتبة، كيف! ولازم جريانهما معا سقوطه مع الامارة
الموافقة له لو فرض تعارض الامارتين، مع ظهور اتفاقهم - تبعا للمرتكزات -
على كونه مرجعا بعد تعارض الامارتين.
قلت: مرجع المرتكزات العقلائية في المقام على تقدم الامارة على
الاستصحاب رتبة ليس إلى ارتفاع موضوعه معها، بل إلى كونها الأولى بأن يعول
عليها عند اجتماعهما بملاك أن الاعتماد في البناء على بقاء الشئ على
المقتضي إثباتا لبقائه المستقل بالتأثير أولى من الاعتماد فيه على عدم المقتضي
ثبوتا لارتفاعه بلحاظ أن من شأنه البقاء، لان مبنى الاستصحاب على البناء على
بقاء الشئ لعدم الدليل على ارتفاعه، ومبنى الامارة الموافقة له على البناء على
البقاء لكونها دليلا عليه.
واختلافهما في ذلك هو الموجب لكونه مرجعا بعد تساقط الامارتين
المتعارضتين، لوضوح أن التزاحم إنما هو بين الجهتين الاقتضائيتين، ولا دخل
للجهة غير الاقتضائية فيه، بل تكون هي المرجع بعد سقوط الجهتين
162

الاقتضائيتين، ولا دخل للجهة غير الاقتضائية فيه، بل تكون هي المرجع بعد
سقوط الجهتين الاقتضائيتين معا.
وإن شئت قلت: لا يكفي في فعلية التعبد ببقاء المتيقن عدم نقض اليقين
بالشك المفروض حصوله في المقام، ليكون الاستصحاب في عرض الامارتين
المتعارضتين اللتين كان مقتضى كل منهما التعبد بمؤداها، كي يسقط معهما
بالمعارضة، بل تتوقف فعلية التعبد بالمتيقن مع ذلك على عدم انتقاض اليقين
بأمر آخر غير الشك، كما سبق، وهو موقوف على سقوط الامارة المخالفة
بالمعارضة للامارة الموافقة له.
فهو وإن لم يكن متأخرا رتبة عن الامارة الموافقة له، لعدم ارتفاع
موضوعه بسببها، فلا تكون واردة عليه، إلا أن فعلية التعبد بالمتيقن بمقتضى
الاستصحاب في ظرف تعارض الامارتين موقوفة على سقوطهما معا
بالمعارضة، فلا يكون في عرضهما ليسقط معهما.
وبالتأمل في جميع ما ذكرنا يظهر أن لنا في المقام أمرين..
الأول: عدم نقض اليقين بالشك، وهو مفاد الكبرى المصرح بها في
النصوص.
الثاني: التعبد بالمتيقن السابق، وهو مترتب على الأول. ولأجله سيقت
الكبرى المتقدمة، والاستصحاب عبارة عنه لا عن الأول، لما تقدم من أنه الحكم
بالبقاء.
وموضوع الأول محض اليقين والشك، وهو لا يرتفع بالامارة المخالفة له
ولا الموافقة، فلا تكونان واردتين عليه، بل يكون في رتبتهما.
أما الثاني فلابد فيه - مع عدم نقض اليقين بالشك - من عدم انتقاض
اليقين السابق بأمر آخر غير الشك، لما تقدم من أنه مع اجتماع المقتضي
واللا مقتضي يكون التأثير للمقتضى، فالامر المذكور مأخوذ في موضوع
163

الاستصحاب لبا، وإن لم يصرح به لفظا.
ومن الظاهر أن ذلك يرتفع حقيقة بقيام الامارة المخالفة، فهي من سنخ
المانع منه الرافع لموضوعه المتقدم عليه رتبة، فيصح دعوى ورودها عليه
بلحاظ ذلك، لا بلحاظ رفعها للشك، كما هو مدعى القائلين بالورود.
أما الامارة الموافقة فلا مجال لدعوى ورودها على الاستصحاب، لتمامية
موضوعه معها.
كما لا وجه لتقدمها عليه رتبة، إلا بلحاظ ما أشرنا إليه من ارتكاز أولوية
الاستناد في البقاء إلى وجود ما يقتضيه من الاستناد إلى عدم المقتضي لارتفاعه.
وبذلك يتجه كون الاستصحاب مرجعا بعد تساقط الامارتين، لعدم فعليته
إلا في رتبة متأخرة عن سقوط الامارة المخالفة بالمعارضة، وإن لم يكن متأخرا
رتبة عن الامارة الموافقة. فتأمل جيدا.
ثم إن هذا الوجه قد أشار إليه المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على
الرسائل، لكنه ساقه لبيان ورود الامارة على الاستصحاب مجيبا عن إشكال
منافاة حجية الامارة لما تضمنه الذين من حصر الناقض باليقين بأن نقض اليقين
بالامارة نقض له باليقين، بلحاظ العناوين الثانوية الناشئة من قيام الامارة
الموجبة لليقين بالحكم لفعلي الظاهري على خلاف الحالة السابقة.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم.
وكان الأولى له الجواب عن ذلك: بأنه وإن لم يكن نقضا له باليقين، إلا أنه
ملحق به بلحاظ ما ذكرناه من أخذ اليقين بما هو طريق لا بما هو صفة. فلاحظ.
هذا، وربما يوجه الورود بوجه آخر يبتني على كون عموم الاستصحاب
ارتكازيا، تأتي الإشارة إليه في الوجه الأول من وجهي الجمع العرفي. ولا بأس
به في نفسه. وإن كان الوجه الذي ذكرناه مغنيا عنه. فلاحظ.
المبنى الثاني: أن دليل حجية الامارة موجب لحكومتها على
164

الاستصحاب. وهو مبني على غض النظر عن دعوى الورود المتقدمة.
وقد ذهب إلى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره بدعوى: أن دليل حجية الامارة في
ظرف الشك يقتضي رفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف، ومنها الاستصحاب.
قال: - بعد بيان ضابط الحكومة - (ففيما نحن فيه إذا قال الشارع: اعمل بالبينة في
نجاسة ثوبك، والمفروض أن الشك موجود مع قيام البينة على نجاسة الثوب،
فإن الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبينة برفع اليد عن آثار الاحتمال
المخالف للبينة التي منها استصحاب الطهارة).
لكن لا يخفى أن مجرد حكم الشارع بوجوب العمل بالبينة لا يقتضي
رفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف - ومنها الاستصحاب - إلا بلحاظ منافاة
العمل بالبينة لتلك الآثار، فلو فرض عدم التنافي لم ينهض برفعها.
وهذا وحده لا يكفي في الحكومة قطعا، لجريانه في جميع موارد
تعارض الأدلة، لوضوح أن دليل حجية كل دليل لما كان مقتضيا للعمل به كان
منافيا للعمل بالدليل المعارض له، فيستلزم رفع اليد عن وجوب العمل به الذي
هو من آثار قيامه، فإذا حكم الشارع بمقتضى عدم نقض اليقين بالشك بوجوب
البناء على طهارة الثوب، فحيث كان ذلك منافيا لوجوب البناء على نجاسته،
الذي هو من آثار قيام البينة لزم منه رفع اليد عن الوجوب المذكور.
نعم، إذا كان مفاد دليل البينة إلغاء احتمال الخلاف ادعاء، وتنزيله منزلة
العدم، لتنزيلها منزلة العلم اتجهت دعوى الحكومة في المقام، لان ارتفاع
موضوع أحد الدليلين أو تحققه تنزيلا بسبب الآخر موجب عندهم لحكومة
الثاني على الأول، كما يقتضي تقدمه عليه في الجملة - على ما يأتي الكلام فيه
في محله من مباحث التعارض إن شاء الله تعالى - كما هو الحال في مثل: لا شك
لكثير الشك، والمطلقة رجعيا زوجة وعلى هذا جرى بعفر الأعيان
المحققين قدس سره في المقام.
165

وربما كان هو مراد شيخنا الأعظم قدس سره في المقام، كما قد يومئ إليه تفسيره
للحكومة بما يلائم ما ذكرناه في ضابطها. بل هو صريح ما في بعض النسخ
الاخر، لقوله فيها: - بعد تفسير الحكومة بما ذكرناه صريحا - (فإن الشارع جعل
الاحتمال المخالف للبينة كالعدم).
لكن عدوله عن النسخة المذكورة - كما هو الظاهر - وإجمال كلامه في
مبحث التعارض أو ظهوره في ما نقلناه عنه أولا موجب للريب في إرادته لذلك.
وكيف كان، فالتوجيه المذكور يبتني على ما تقدم التعرض له غير مرة من
الكلام في استفادة التنزيل المذكور من أدلة اعتبار الامارات، وأنه لا أصل له. وقد
تقدم تفصيله في مبحث القطع الموضوعي.
هذا، وقد استشكل المحقق الخراساني قدس سره في تقريب الحكومة في المقام
بما يرجع إلى الكلام في ضابط الحكومة. ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا، بل
يوكل لمبحث التعارض.
أما بعض الأعاظم قدس سره فقد قرب حكومة الامارة على الاستصحاب وغيره
من الأصول بناء على مسلكه في أدلة الحجية من أن مفادها إلغاء احتمال
الخلاف تشريعا، للحكم فيها بإحراز الواقع بسبب الامارة، بأنه حيث كان الشك
مأخوذا في موضوع الأصول كانت الامارة رافعة لموضوعها تشريعا، وإن كان
باقيا حقيقة، وذلك هو المعيار في الحكومة.
وهو مبني على مسلكه في مفاد أدلة الامارات، وفي تفسير الحكومة، وقد
تقدم الكلام في الأول في مبحث القطع الموضوعي، ويأتي الكلام في الثاني في
مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.
المبنى الثالث: أن مقتضى الجمع العرفي بين عموم الاستصحاب
وعمومات حجية الامارات هو تقديم الامارة لو غض النظر عما سبق من دعوى
الورود أو الحكومة.
166

وذلك لأنه وإن كان بين عموم حجية كل أمارة وعموم الاستصحاب
عموم من وجه بدوا، إلا أن عموم الحجية مقدم لوجهين..
الأول: أن كبرى الاستصحاب في الأدلة لما كانت ارتكازية، كما تقدم غير
مرة، وكان المرتكز عرفا عدم الرجوع للقضية المذكورة مع الدليل، فالارتكاز
المذكور إن كان من الوضوح بحيث يكون من القرائن المحيطة بالكلام كان مانعا
من انعقاد ظهور كبرى الاستصحاب في ما يعم قيام الامارة المعتبرة وكان مرجع
ذلك إلى الورود، فيجري فيه ما سبق. وإلا كان قرينة عرفية على تقديم عمومها
على عمومه وترجيحه في مورد التنافي.
الثاني: أن تقديم أدلة الحجج على الاستصحاب لا يوجب كثرة
التخصيص المستهجن أو الموجب للغوية عموم الاستصحاب عرفا، لكثرة
موارد فقد الامارة المعتبرة، بخلاف العكس، وهو تقديم دليل الاستصحاب على
أدلة الحجج، فإنه موجب لكثرة تخصيصها، إذ لا يبقى تحتها إلا مورد اتفاق
الاستصحاب معها، ومورد عدم جريان الاستصحاب لمعارضة أو جهل بالحالة
السابقة أو نحوهما، والأول لا يصحح عرفا جعل الامارة، للاستغناء فيه
بالاستصحاب عنها، والثاني نادر يبعد عرفا كونه غرضا مصححا لعمومها.
وأما التفكيك بين الموارد، فتقدم الامارة على الاستصحاب في بعض
وتؤخر عنه في بعض، فلا مجال له، لعدم الفرق عرفا بين الموارد من هذه
الجهة، ليتوجه الجمع به عرفا بين الدليلين، بل لابد إما من تقديمه عليها في
الجميع أو تقديمها عليه كذلك، والمتعين الثاني، لما ذكرنا.
ثم إن هذين الوجهين يشركان في كون الاستصحاب مرجعا بعد تساقط
الامارتين المتعارضتين، لان قصور عمومه عن شمول. مورد الامارة المخالفة
موجب لعدم فعلية جريانه إلا بعد سقوطها بالمعارضة، كما تقدم نظيره في
أواخر الكلام في توجيه الورود. كما يشتركان في جريانه مع الامارة الموافقة له،
167

لعدم التنافي بين العمومين، ليمتنع حجيتهما. معا.
هذا، ولا يخفى أن المبنى المذكور وإن كان متجها في نفسه إلا أنه مختص
بما إذا كان لدليل حجية الامارة عموم في نفسه.
أما إذا كان دليله لبيا، كحجية الظواهر ونحوها مما كان حجة ببناء العقلاء
الاجماع، فلا معنى للجمع العرفي حينئذ.
بل ينبغي التفصيل بين ما كان من الامارات حجة بدليل تعبدي -
كالاجماع والأدلة اللفظية التي لا عموم فيها - وما كان منها حجة ببناء العقلاء
الذي لابد في حجيته من عدم الردع عنه.
أما الأول فإن قطع بشمول دليله لمورد معارضته بالاستصحاب وجب
العمل به لتخصيص عموم الاستصحاب لدليله، وإلا لزم العمل بالاستصحاب، لا
لتقديمه على الامارة، بل لانفراده بالحجية بعد عدم حجية الامارة في نفسها،
لفرض قصور دليلها.
ولذا يعمل بالاستصحاب في مثل ذلك حتى بناء على ما تقدم من ورود
الامارة على الاستصحاب وارتفاع موضوعه بها
وأما الثاني فالظاهر أن عموم الاستصحاب بعد فرض حجيته صالح للردع
عنه، على ما تقدم نظيره في مبحث خبر الواحد عند الكلام في صلوح عموم
النهي عن العمل بغير العلم للردع عن سيرة العقلاء على العمل بالخبر.
إلا أن يثبت إمضاؤه في مورد الاستصحاب، فيكون دليل الامضاء
مخصصا لعموم الاستصحاب، نظير ما يأتي في اليد ونحوها.
وهذا بخلاف ما لو قلنا بورود الامارة المعتبرة على الاستصحاب، فإن
الاستصحاب حينئذ لا يصلح للردع عنها، لتأخره رتبة، بل مقتضى أصالة عدم
الردع حجيتها ورفعها لموضوعه. فلاحظ.
الامر الثاني: في تقدم الاستصحاب على بقية الأصول الشرعية التي لم
168

يؤخذ في موضوعها إلا الشك.
والظاهر أن المباني الثلاثة التي تقدم التعرض لها في الامر الأول تجري
هنا، كما يظهر بالنظر في كلماتهم وأدلة الاستصحاب وبقية الأصول.
فالمناسب النظر في كل منها على حدة..
المبنى الأول: أن أدلة الاستصحاب واردة على أدلة الأصول المذكورة،
كما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره وقد يقرب بوجهين:
الأول: ما ذكره قدس سره في حاشيته على الرسائل فإنه - بعد أن وجه ورود أدلة
الامارات على الاستصحاب بما تقدم من أن نقض اليقين في مورد الامارة
بالامارة لا بالشك، وأنه يرجع إلى نقض اليقين باليقين بوجه - قال: (ثم إن وجه
تقديم الاستصحاب على سائر الأصول هو بعينه وجه تقديم الامارات عليه، فإن
المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان مما علم حكمه وإن شك فيه بعنوان
آخر، وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات).
وفيه.. أولا: أن ما ذكره من أن موضوع الأصول هو المشكوك من جميع
الجهات إن أراد به الشك في الحكم الواقعي مطلقا وإن كان ثانويا - كحرمة
الغصب - فهو مسلم، إلا أن الاستصحاب لا يوجب العلم بالحكم بالمعنى
المذكور، ليصلح لرفع موضوع الأصول، بل يوجب العلم بالوظيفة العملية
الظاهرية غير المنافية للشك في الحكم الواقعي.
وإن أراد به الشك الموجب للتحير، الراجع إلى عدم العلم حتى بالوظيفة
العملية، المرتفع بالاستصحاب، فهو غير مسلم في الأصول الشرعية، بل الظاهر
اختصاص موضوعها بالشك في الحكم الواقعي، وإنما يسلم في الأصول
العقلية، ما جرى مجراها من البيانات الشرعية، كقوله تعالى: (وما كنا معذبين
169

حتى نبعث رسولا) (ا)، على ما تقدم في مبحث البراءة توضيحه، وهي خارجة
عن محل الكلام، كما سبق.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لما ذكره في موضع آخر من حاشيته (2) من
مقايسة المقام بما إذا كان الشئ مشكوك الحرمة بعنوانه الأولي، معلوم الحرمة
بالعنوان الثانوي، كالتبغ المغصوب، حيث لا إشكال في خروجه بسبب العلم
بالحرمة الثانوية عن عموم دليل الأصول.
للفرق بأن الحرمة الثانوية تكليف واقعي والاستصحاب لا يقتضيها، كما
ذكرنا.
وثانيا: أنه لا وجه للفرق بين موضوع الاستصحاب وموضوع غيره من
الأصول، بل لو كان موضوع تلك الأصول هو المشكوك من جميع الجهات،
فليكن موضوع الاستصحاب كذلك، بل هو مقتضى الوجه الذي ذكره لتقديم
الامارة عليه، حيث فرضها موجبة لليقين بوجه، وعليه يكون العلم بالوظيفة
الفعلية بمقتضى الأصول المذكورة رافعا لموضوع الاستصحاب.
وأما ما قد يستفاد مما ذكره في الموضع الاخر من حاشيته من أن الأصول
المذكورة لا تقتضي الحكم على الشئ بالحرمة أو الإباحة بعنوان خاص، بل بلا
عنوان أصلا، وهو لا يكفي في رفع موضوع الاستصحاب.
فهو مندفع: بأن الأصول المذكورة قد اخذ في أدلتها عناوين خاصة،
كعنوان الجهل بالتكليف في الحكم بالبراءة، أو شبهة الحرمة في الحكم
بالاحتياط عند الأخباريين. مع أنه يكفي في رفع موضوع الاستصحاب اليقين
بالحكم ولو كان بلا عنوان. فلاحظ.

(1) الاسراء: 15.
(2) تعرض لذلك في تعقيب كلام شيخنا الأعظم قدس سره في وجه تقديم الاستصحاب على الأصول.
(فه عفي عنه).
170

ولا مجال لمقايسة المقام بالامارة، لوضوح أنه لم يؤخذ في موضوع
الامارة الشك شرعا، ليمكن دعوى أن المراد به الشك من جميع الجهات،
المرتفع بمقتضى الأصل.
غاية الامر استحالة جعلها مع العلم بالحكم الواقعي، للزوم اللغوية، ومن
الظاهر عدم كون الأصل موجبا له، كي يتوهم مانعيته عن حجيتها.
الثاني: أن العلم المجعول غاية في بعض أدلة الأصول والرافع
لموضوعها حسبما يستفاد عرفا من أدلتها لم يؤخذ بما هو صفة خاصة، بل،
بنحو الطريقية بلحاظ كونه منشأ للبناء على متعلقه وإحرازه، والاستصحاب
يقوم مقامه في ذلك، لأنه أصل إحرازي، على ما أشرنا إليه في استصحاب مؤدى
الأصل وأوضحناه في مباحث القطع الموضوعي. فراجع.
ويشكل.. أولا: بأن هذا - لو تم - لم ينفع في تقديمه على مثل أصالتي
الحل والطهارة مما يتضمن التعبد بالحكم وإحرازه كالاستصحاب، لما تقدم من
أن اليقين الرافع للاستصحاب لم يؤخذ بنحو الصفتية، بل بنحو الطريقية أيضا،
فيقوم مقامه الطرق والأصول الاحرازية، فكما يصلح الاستصحاب لرفع
موضوع مثل هذين الأصلين يصلحان هما لرفع موضوعه، فلابد في تقديمه من
وجه آخر.
نعم، ينفع في مثل أصل البراءة والاحتياط عند الأخباريين مما لم يتضمن
إلا الرفع والسعة، أو الضيق بالاحتياط، في مقام العمل، من دون يقتضي التعبد
والاحراز المستتبعين للبناء العملي على التكليف أو عدمه، فلا ينهض برفع
موضوع الاستصحاب، بل يتعين العكس لا غير.
وثانيا: بأنه يصعب إثبات كون العلم الرافع لموضوع الأصول المذكورة
مأخوذا بنحو الطريقية، لا بنحو الصفتية، لمخالفته لمقتضى الجمود على لفظ
العلم من دون قرينة واضحة على ذلك.
171

ومجرد اختصاص القضية الارتكازية بذلك - مع أنه لا ينفع في احتياط
الأخباريين الذي هو تعبدي محض لا ارتكازي - لا يكفي فيه بعد عدم الإشارة
في أدلة هذه الأصول إلى القضية المذكورة، وإنما استفيد ذلك في الاستصحاب
لسوق كبرى عدم نقض اليقين بالشك مساق التعليل بالامر الارتكازي.
نعم، لو ثبت تقديم الطرق والأصول الاحرازية على هذه الأصول فربما
يكون وجه الجمع العرفي حينئذ الحمل على ذلك بعد فرض التنافي بدوا.
إن قلت: لازم ذلك تقديم الأصول التعبدية، كأصالتي الحل والطهارة على
الاستصحاب، لصلوحها لرفع موضوعه بعد فرض كون اليقين مأخوذا فيه على
نحو الطريقية، دون العكس، ولا يظن من أحد الالتزام بذلك.
قلت: لما كان موضوع هذه الأصول محض الشك، فإطلاقها بنحو يشمل
مورد الاستصحاب يقتضي ترتب الأثر على الشك الخاص ونقض اليقين
السابق به، فينافي دليل الاستصحاب المتضمن لعدم نقض اليقين بالشك، وأنما
لم ينافه دليل الامارة، لأنه يقتضي نقض اليقين بها، لا بالشك المقارن لها. وقد
تقدم قي توجيه تقريب ورود الامارة على الاستصحاب ما له نفع في المقام.
فراجع. (1)
هذا تمام الكلام في توجيه الورود في المقام. ولم يتضح حتى الآن ما
ينهض بتوجيهه، فلا مجال للبناء عليه.
المبنى الثاني: أن الاستصحاب حاكم على الأصول المذكورة، كما يظهر
من جملة من الأعاظم، وقد سبقهم لذلك شيخنا الأعظم قدس سره فإنه بعد اعترافه دفعا
لتوهم الورود بظهور أدلة البراءة - ومنها حديث الاطلاق - في كون موضوعها
الشك في النهي الواقعي بلحاظ عنوانه الذاتي، لا ما يعم الظاهري الوارد عليه
بعنوان كونه مشكوك الحكم، قال: (إن دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي
السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشك) يدل على أن

(1) تقدم في صفحة: 160.
172

النهي الوارد لابد من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق، وفرض الشئ في
الزمان اللاحق مما ورد فيه النهي أيضا.
فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول: كل شئ
مطلق حتى يرد فيه نهي، وكل نهي ورد في شئ فلابد من تعميمه لجميع أزمنة
احتماله، فيكون الرخصة في الشئ وإطلاقه مغيى بورود النهي المحكوم عليه
بالدوام وعموم الأزمان، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الاخر
في مورد الشك لولا النهي. وهذا معنى الحكومة، كما سيجئ في باب
التعارض).
أقول: من الظاهر أن مفاد الاستصحاب ليس هو الحكم بعموم النهي -
المتيقن سابقا - واستمراره واقعا، ليكون متمما لدلالة دليل النهي وكاشفا
بضميمته عن النهي في مورد الشك، كي يحكم على الأصل بملاك حكومة
الامارة عليه - على ما يأتي في مبحث التعارض - لعدم كون الاستصحاب دليلا
اجتهاديا متعرضا للأحكام الواقعية، بل لا يتضمن إلا بقاء النهي والتعبد به ظاهرا
بعنوان كونه مشكوك البقاء، فلا وجه لحكومته على الأصل بعد كون - موضوعه
كموضوع الاستصحاب - الشك في الحكم الواقعي، الذي لا يرتفع
بالاستصحاب، على ما اعترف به في صدر كلامه.
بل حيث كان كل منهما متعرضا للوظيفة الظاهرية على خلاف ما يقتضيه
الاخر كان اللازم التعارض بينهما من دون مرجح لأحدهما يقتضي حكومته
على الاخر.
ودعوى: أن ما اخذ في موضوع البراءة بحسب ظاهر أدلتها وإن كان هو
النهي الواقعي الوارد على الشئ بعنوانه الأولي، إلا أن دليل الاستصحاب صالح
لتفسيره وحمله على ما يعم النهي الظاهري الوارد على الشئ بعنوان كونه نقضا
لليقين بالشك، كما هو الحال في موارد التنزيل، حيث يدل دليل التنزيل على
173

عموم حكم المنزل عليه للمنزل، وإن كان على خلاف ظاهر دليله في نفسه، مثل
ما تضمن وجوب الانفاق على الزوجة مع ما تضمن أن المطلقة رجعيا زوجة.
مدفوعة: بأن التنزيل متقوم بأحكام المنزل عليه وخواصه، فدليله ناظر
لتلك الأحكام وشارح لموضوعها عموما أو خصوصا، فيكون حاكما على أدلتها
بوجه يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في مبحث التعارض.
أما التعبد فهو راجع إلى إحراز الامر المتعبد به المقتضي لترتب العمل
عليه بلا واسطة أو بواسطة التعبد بأثره الشرعي، كما تقدم، فالتعبد ببقاء النهي
إنما ينفع في ترتب العمل عليه، وحيث كان التعبد منافيا عملا لمفاد الأصول
الاخر لزم التعارض بينها من دون مرجح له يقتضي حكومته عليها، لعدم نظره
إليها، ليكون مفسرا لموضوعها.
وأما ما فرضه من ورود مفاد الاستصحاب عقيب مفاد البراءة في كلام
واحد، فالوجه في صلوح مفاد الاستصحاب معه لتفسير مفاد البراءة أن الكلام
بعضه قرينة على المراد ببعض بنحو يصرفه عما يكون ظاهرا فيه لولاه، ويكفي
فيه أقوائية دلالة القرينة من دلالة ذي القرينة، وإن لم يكن مفاد القرينة حاكما
على مفاد ذيها لو وردا في كلامين، بل يكونان متنافيين يجمع بينهما عرفا بتقدم
الأظهر على الظاهر.
هنا، وقد توجه الحكومة بوجوه أخرى مبتنية على مبان خاصة للقائلين
بها في مفاد الاستصحاب أو في مناط الحكومة..
الأول: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن مفاد الاستصحاب
الحكم ببقاء اليقين ادعاء وتنزيلا في ظرف الشك بلحاظ ترتب العمل عليه،
فيترتب عليه آثاره، ومنها رافعيته لمفاد الأصول الأخرى، لأنه اخذ غاية فيها،
ويكون حاكما على أدلتها على غرار حكومة سائر أدلة التنزيل على أدلة أحكام
المنزل عليه.
174

وفيه: أن دليل الاستصحاب لا يتضمن ادعاء بقاء اليقين في حال الشك،
بل النهي عن نقض اليقين السابق عملا حاله، لادعاء أن عدم ترتيب آثار المتيقن
حين الشك نقص لليقين السابق عملا، فالادعاء والتوسع إنما هو في مقتضى
اليقين السابق عملا، لا في نفس اليقين.
نعم، يتجه ما ذكره قدس سره لو كان التعبير بمفاد الجملة الخبرية المحضة، بأن
قيل: اليقين لا ينتقض بالشك.
الثاني: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الاستصحاب لما كان من الأصول
المحرزة كان حاكما على الأصول الأخرى بملاك حكومة الامارات عليه، الذي
تقدم التعرض له، لأنه يقتضي إحراز الامر المتعبد به، فيرفع موضوع الأصول
الأخرى - وهو الشك - تعبدا وإن لم يرتفع به حقيقة.
وقد تقدم أن ما ذكره مبني على مسلكه في مؤدى الطرق والأصول، وفي
معنى الحكومة، وأن الكلام في الأول تقدم في مبحث القطع الموضوعي، وفي
الثاني يأتي في مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.
مضافا إلى أن ما ذكره لا ينهض إلا بتقديم الاستصحاب على مثل أصل
البراءة مما لا يقتضي التعبد بالمؤدى حيث يكون رافعا لموضوعه دون العكس.
أما تقديمه على مثل قاعدة الحل والطهارة مما يتضمن التعبد بالمؤدى
فلا وجه له، لاشتراكها معه في التعبد بالمؤدى الرافع لموضع الأصل - وهو
الشك - تعبدا، فكما يصلح لرفع موضوعها تعبدا تصلح لرفع موضوعه كذلك،
ولذا لا إشكال عنده في حكومة السببي على المسببي منه، بل صرح قدس سره بجواز
استصحاب مؤدى الأصول المذكورة ذاتا، لان المراد من اليقين في دليل
الاستصحاب ما يشمل التعبد الحاصل بها..،
وخصوصية الاحراز لا أثر لها بعد فرض كون الموضوع، - وهو اليقين -
مأخوذا من حيثية البناء العملي المشترك بين الطرق والأصول التعبدية
175

والاحرازية وغيرها، ولذا أمكن قيامها مقامه.
وتقديم الطرق على الأصول إنما هو لاخذ الشك في موضوع الأصول
دون الطرق المستلزم لرفع الطرق لموضوع الأصول تعبدا، دون العكس، فمع
فرض اشتراك جميع الأصول الاحرازية التعبدية في كون موضوعها الشك
يكون كل منها صالحا لرفع موضوع الاخر تعبدا، ولا يبقى وجه لتخصيص
الأصول الاحرازية بالحكومة.
الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره بناء على مختاره في مفاد الاستصحاب،
وأنه هو وجوب العمل حال الشك عملا حال اليقين، من أن المراد بالعمل هو
العمل المترتب على آثار نفس اليقين وآثار متعلقة، ولذا يقوم مقام القطع
الطريقي والموضوعي المأخوذ بنحو الطريقية، ولما كان من آثار نفسه ارتفاع
الأصول المغياة بالعلم عقلا أو شرعا به، كان ناظرا لتلك الأصول ومقدما
عليها عرفا.
وقد جعل قدس سره الحكومة في المقام بمناط النظر، لا بمناط التنزيل، لعدم
تضمن الاستصحاب رفع موضوع الأصول - وهو الشك - تنزيلا.
لكن الظاهر رجوع ما ذكره للتنزيل، لوضوح أن قوام التنزيل هو الحكم
بمشاركة المنزل للمنزل عليه في احكامه وآثاره، وتبعيته له فيها إثباتا. إلا أن
بيانه..
تارة: يكون بحمل العنوان على المنزل وإسناده إليه أو نفيه عنه مجازا،
كما في زيد أسد، و: (يا أشباه الرجال ولا رجال)، و (المطلقة رجعيا زوجة)،
و (لا شك لكثير الشك).
وأخرى: بالتصريح بالتشبيه والتنزيل كما في: زيد كالأسد، وقوله: (الولاء
176

لحمة كلحمة النسب) (1).
وثالثة: بالتصريح بثبوت أحكام المنزل عليه، كقولهم عليهم السلام: (يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب) (2).
والكل يشترك في التنزيل وإثبات حكم المنزل عليه للمنزل، المستلزم
للنظر لتلك الأحكام، الذي هو مناط الحكومة عندهم.
على أن ما ذكره قدس سره في مفاد الاستصحاب غير ظاهر، ضرورة أن دليله لم
يتضمن وجوب العمل حال الشك عمل حال اليقين، وإنما استفيد ذلك من
الحكم فيه بعدم نقض اليقين بالشك، الراجع إلى ادعاء أن اليقين السابق كما
يقتضي العمل على المتيقن حينه ذاتا يقتضي العمل عليه حين الشك شرعا - كما
تقدم في تعقيب الوجه الأول - فهو لا يقتضي إلا ترتيب آثار المتيقن حين الشك
بسبب اليقين السابق، من دون أن يقتضي ثبوت حكم اليقين نفسه حين الشك،
ليستلزم النظر لاحكام اليقين الثابتة له بنفسه، ومنها كونه رافعا لموضوع
الأصول.
وبعبارة أخرى: نقض اليقين ليس إلا بعدم متابعته وترتيب أثر كاشفيته
عن متعلقة، فلا ينفع جواز النقض إلا في ترتيب آثار المتيقن، لا ترتيب أثار
اليقين نفسه، وليس مقتضى الارتكاز الذي حملت عليه كبرى الاستصحاب إلا
ذلك.
وقيامه مقام القطع الموضوعي المأخوذ بنحو الطريقية ليس ناشئا من
وجوب ترتيب آثار نفس اليقين عليه، بل لعموم موضوع الأثر له ابتداء، كما
يظهر بمراجعة ما تقدم في مبحث القطع الموضوعي.

(1) النهاية لابن الأثير
(2) راجع الوسائل ج: 14، باب: 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح.
177

الرابع: ما ذكره بعض مشايخنا من أن الاستصحاب كاشف عن الواقع
مثبت له في ظرف الشك فيه، لان مفاد دليله جعل الطريقية وتتميم جهة
الكاشفية، لظهور قوله عليه السلام: (ولا ينقض اليقين أبدا بالشك) وقوله عليه السلام: (ولا
يعتد بالشك في حال من الحالات) في إلغاء احتمال الخلاف، كما هو الحال في
الامارات، فهو أمارة حيث لا أمارة، فيقدم على بقية الأصول بملاك رفعه
لموضوعها، الذي هو الملاك في تقدم الامارات عليها.
وفيه: أنه تقدم في ذيل الكلام في أخبار الاستصحاب عدم كون
الاستصحاب من الامارات. كما أن عدم الاعتداد بالشك وعدم نقضه لليقين لا
يرجع إلى إلغائه، بل إلى عدم صلوحه للمنع من مقتضى اليقين السابق.
وفرض كونه أمارة حيث لا أمارة مما لا نظير له عرفا، بل المألوف عرفا
تقديم بعض الامارات على بعض، وإن تمت جهة كشفها، كتقديم البينة على
اليد. فلاحظ.
المبنى الثالث: أن مقتضى الجمع العرفي بين دليل الاستصحاب وأدلة
الأصول المذكورة هو تقديم الاستصحاب، وإن لم يكن رافعا لموضوعها ولا
ناظرا إليها، لخصوصية في نفس الدليلين ولو بلحاظ مدلوليهما تقتضي عرفا
تحكيم أحدهما على الاخر، وإن كان بينهما عموم من وجه، وذلك لان أدلة
الأصول وإن اقتضت بإطلاقها فعلية العمل بمقتضاها ولو مع سبق اليقين على
خلافه، إلا أن المناسبات الارتكازية في مقام الجمع بينها وبين دليل
الاستصحاب يقتضي حملها على السعة والاحتياط من حيثية موضوعها - وهو
الشك - فلا ينافي عدم فعلية مقتضاها لأمر زائد على موضوعها مانع من تأثيره
وهو اليقين السابق.
فالحكم في الأصول ناشئ من عدم الاكتفاء بالشك في التعذير أو التنجيز،
وأن ثبوت مقتضاها لعدم المقتضي لخلافه، أما الحكم في الاستصحاب فهو
178

ناشئ عما هو من سنخ المقتضي له شرعا،. لرجوعه إلى أن لليقين السابق نحو
اقتضاء في البناء على استمرار المتيقن وعدم رفع اليد عنه، فنسبة الاستصحاب
إلى الأصول المذكورة نسبة الامارة إليه عرفا.
فكما أن البناء على مقتضى اليقين في الاستصحاب لعدم صلوح الشك
لنقضه، فلا يزاحم الامارة الصالحة لنقضه، كذلك البناء على البراءة أو الطهارة
للشك في التكليف أو النجاسة، فإنه ناشئ عن عدم صلوح الشك لتنجيز
التكليف أو النجاسة، فلا يزاحم الاستصحاب الحاكم بصلوح اليقين السابق
للتنجيز واقتضائه له لولا المانع.
فهو معها من سنخ حكم العنوان الثانوي مع حكم العنوان الأولي، كما
كانت الامارة معه كذلك. وليس الفرق بين النسبتين إلا في عدم منافاة دليل
حجيتها لاطلاق دليله أصلا، لما تقدم من أن دليله لم يتضمن عدم نقض اليقين
مع الشك، بل عدم نقضه بالشك، فلا ينافي نقضه بالامارة.
أما دليل الاستصحاب فهو مناف بدوا لاطلاق أدلة الأصول، لأنها لم
تتضمن الحكم بمجرد عدم منجزية الشك أو معذريته، كي لا ينافي منجزية
اليقين السابق أو معذريته، بل بثبوت السعة أو الاحتياط مع الشك الشامل لحال
سبق اليقين بالتكليف، فيكون الاستصحاب منافيا لاطلاقه، ومن ثم احتيج
للجمع العرفي بالوجه المذكور - الذي هو فرع التنافي البدوي - بحمل الاطلاق
المذكور على بيان الحكم الأولي الثابت للشك بنفسه مع قطع النظر عما هو زائد
عليه.
وبما ذكرنا يظهر وجه حسن تعليل البناء على الطهارة في صحيحة زرارة
الثانية وفي صحيح عبد الله بن سنان (1) الوارد في الثوب الذي يستعيره الذمي،

(1) الوسائل ج: 2، باب: 74 من أبواب النجاسات حديث: 1.
179

بعد انتقاض الحالة السابقة، مع كفاية نفس الشك في جواز البناء على الطهارة،
فإن الاستناد في بقاء الشئ إلى وجود المقتضي أولى عرفا من الاستناد فيه إلى
محض عدم المقتضي لخلافه.
ثم إن هذا الوجه كما يقتضي تقديم الاستصحاب على الأصول المذكورة
يقتضي تقديم سائر التعبدات الاحرازية عليها، من الأصول والطرق والامارات،
لظهور أدلتها في أن ثبوت مقتضاها لأمر زائد على الشك صالح للاحراز. وربما
يأتي في مبحث التعارض ما له نفع، في المقام.
إن قلت: هذا راجع إلى الحكومة، لأنها هي النسبة بين دليل الحكم الأولي
ودليل الحكم الثانوي.
قلت: إنما يكون دليل الحكم الثانوي حاكما إذا كان ناظرا للحكم الأولي،
كعموم رفع الاضطرار والاكراه، لوضوح أن الرفع فرع ثبوت شئ ولو اقتضاء،
فدليله ناظر للمرفوع، ولا وجه له في مثل المقام، حيث لا قرينة على نظر دليل
الاستصحاب للأصول الأخرى.
وبعبارة أخرى: كون الحكم ثانويا إن استفيد من نفس دليله كان حاكمها
على دليل الحكم الأولي، لاستلزامه نظره إليه، وإن استفيد بمقتضى النظر العرفي
بين الدليلين - كما في المقام - فلا وجه لحكومته، لعدم استلزامه النظر بوجه.
ثم إن هذا الوجه إنما يقتضي تقديم الاستصحاب على الأصول عند
الاختلاف عملا بينه وبينها، أما مع اتفاقه معها فلا وجه لتقديمه عليها إلا بلحاظ
ما أشرنا إليه هنا من أولوية الاستناد ارتكازا في ثبوت الشئ إلى ثبوت المقتضي
له من الاستناد فيه إلى عدم المقتضي لخلافه، نظير ما سبق في وجه تقدم الامارة
على الاستصحاب من أولوية الاستناد في ثبوت الشئ إلى ثبوت المقتضي له
من الاستناد إلى عدم الرافع، من دون أن يكون هناك تقدم رتبي مانع من الاستناد
لهما معا في عرض واحد.
180

تنبيه
ما سبق إنما هو في نسبة الاستصحاب إلى الأصول التي لم يؤخذ في
موضوعها إلا الشك في الحكم الذي تجري فيه، وهي البراءة والاحتياط - عند
الأخباريين - وقاعدتا الحل والطهارة، وأما نسبته إلى الأصول والقواعد الاخر
التي اخذ فيها أمر زائد على الشك، كالفراغ والتجاوز ونحوهما، فلا إشكال في
تقدم ما كان منها أخص منه موردا، كقاعدتي الصحة والفراغ،. كما لا إشكال في
تقدم الاستصحاب على ما اختص موضوعه بصورة عدم التعبد الشرعي -
كالقرعة، بناء على ما تقدم في أوائل الكلام في العلم الاجمالي - لوروده عليه.
وأما ما كان بينه وبينها عموم من وجه - لو فرض وجوده - فيلزم الرجوع
فيه للمرجحات الدلالية، ثم الرجوع إلى قواعد التعارض، ولا ضابط لذلك،
ليتسنى لنا الكلام فيه هنا.
ويأتي بعض الكلام في ذلك في الخاتمة إن شاء الله تعالى. والله سبحانه
ولي التوفيق والتسديد، هو حسبنا ونعم الوكيل.
181

المقام الثالث
في الموارد التي وقع الكلام في تمامية
أركان الاستصحاب وشروطه فيها
بعد أن تعرضنا في المقامين الأولين إلى أدلة الاستصحاب ومفاده
وتحديد كبراه وأركانه والشروط العامة والخاصة للعمل به يقع الكلام في هذا
المقام في تمامية هذه الأمور في خصوص بعض الموارد لجهات خاصة فيها
أوجبت غموض حالها. وهو في ضمن فصول..
الفصل الأول
في استصحاب العدم الأزلي
تقدم في ذيل الكلام في الأصل المثبت أنه لا مانع من استصحاب الأمور العدمية
لاثبات أثر العدم أو لنفي أثر الوجود.
ويقع الكلام هنا في إمكان استصحابه بلحاظ اليقين بالعدم الأزلي حين
عدم الموضوع، حيث قد يمنع جريان الاستصحاب فيه.
وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بأمرين..
الأول: ما يحمل على الموضوع..
183

تارة: يكون من شؤون ماهيته أو لوازمها مع قطع النظر عن وجوده،
كزوجية الأربعة.
وأخرى: يكون من لوازم وجوده أو مقارناته، بحيث لا يعلم بانفكاكه عنه
حين وجوده، كقرشية المرأة.
وثالثة: يكون من طوارئه بعد الوجود، كالبلوغ.
أما الأول فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب العدمي فيه لو فرض
الشك في حال الموضوع وتردده بين الواجد والفاقد، إذ لو فرض اتصاف
الموضوع به واقعا لم يصح سلبه عنه، وصح حمله عليه في فرض تقرره الذي
هو لازم موضوعيته في القضية وإن كانت سالبة، فلا يقين بسلبه عنه حتى بلحاظ
حال ما قبل وجود الموضوع، كي يستصحب.
والمعيار في ذلك على كون المحمول لازم ماهية الموضوع بماله من
الحدود ولو كانت جزئية، لا خصوص لازم الماهية النوعية.
ومن ثم استشكل غير واحد في استصحاب عدم الكرية أزلا..
بدعوى: أن الكرية وإن لم تكن من لوازم ماهية الماء النوعية، لعدم أخذ
كم خاص في ماهية الماء، إلا أنها لما كانت من سنخ المقادير المنتزعة من نفس
الاجزاء المجتمعة في الوجود فهي لو ثبتت للفرد كانت من لوازم ماهيته المقومة
له، ولم تكن متيقنة العدم فيه حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده.
وإن كان الظاهر اندفاع ذلك: بأن الكرية لما كانت متقومة بالوزن
والمساحة فهي من عوارض الوجود القابلة للانفكاك عنه لمؤثرات خارجية،
كضعف الجاذبية الموجب لخفة الوزن، والبرودة الموجبة للتقلص وقلة
المساحة. وقد أطلنا الكلام في ذلك في مسألة الشك في الكرية من الفقه.
وأما الثاني فلا إشكال في جريان الاستصحاب العدمي فيه، ولا يبتني على
استصحاب العدم الأزلي.
184

وإنما الاشكال في الثالث، حيث وقع الكلام في صحة استصحاب عدمه
الثابت للموضوع قبل وجوده، لترتيب آثار العدم المقارن لوجود الموضوع،
وعدمها، وهو محل الكلام في المقام.
الثاني: أن موضوع الأثر..
تارة: يكون هو وجود الذات بمفاد كان التامة، كما لو قيل: إن وجد المطر
فتصدق بدرهم.
وأخرى: يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة أيضا من دون أخذ
خصوصية الموضوع فيه وإن استحال تحققه بدونه، لافتقاره إليه، كما لو قيل: إن
وجد البياض فتصدق بدرهم.
وثالثة: يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة مع أخذ خصوصية
الموضوع فيه قيدا، كما لو قيل: إن وجد بياض زيد فتصدق بدرهم.
ورابعة: يكون هو وجود العرض للموضوع واتصافه به وانتسابه له بمفاد
كان الناقصة الذي هو مفاد القضية الحملية في مثل قولنا: إن كان ولدك أبيض
فتصدق بدرهم، أو التوصيف في مثل: أكرم الرجل العادل.
والظاهر خروج الصور الثلاث الأول عن محل الكلام، لان موضوع الأثر
فيها لما كان هو الوجود المنتسب لموضوعه - من ذات أو عرض - فليس
موضوعه خارجا هو الموجود، بل الماهية المتقررة في عالمها مع قطع النظر عن
الوجود، ومن الظاهر أن تقررها إلي، فلا يتصور معه فرض العدم لعدم
الموضوع، بل الموضوع بنفسه أزلي.
ومجرد توقف وجود العرض في الصورة الثانية والثالثة على وجود
موضوعه لا يوجب كون استصحاب عدمه بلحاظ حال. ما قبل وجود موضوعه
من استصحاب العدم الأزلي، لان موضوع الأثر ليس هو سلب العرض عن
موضوعه، بل سلب الوجود عن العرض بمفاد ليس التامة في مقابل كان التامة.
185

ويختص الكلام في المقام بالصورة الرابعة، فيقع الكلام في إمكان
استصحاب سلب العرض عن الموضوع بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع،
الذي هو مفاد السالبة بانتفاء الموضوع، أو لا؟ بل لابد من إحراز السلب بلحاظ
حال ما بعد وجود.
إذا عرفت هذا، فالظاهر أنه لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي
في مثل ذلك إما لنفي آثار الوجود، أو لاثبات آثار العدم نفسه، لتمامية أركان
الاستصحاب وشروطه.
فإن الأثر إن كان لثبوت الوصف للموضوع بمفاد كان الناقصة، الذي هو
مفاد الحملية الموجبة فإحراز نقيض موضوع الأثر كاف في إحراز عدم ترتبه،
وحيث كان نقيض الحملية الموجبة الحملية السالبة كفى إحرازها في المقام في
عدم ترتب الأثر المذكور، وحيث كانت السالبة متيقنة بلحاظ حال ما قبل وجود
الموضوع مشكوكه بلحاظ حال وجوده تعين استصحابها، لتمامية ركنيه من
اليقين والشك، وتحقق شرطه وهو ترتب الأثر العملي، فإذا قيل: إن كان زيد
أبيض فأكرمه، فموضوع الأثر مفاد: كان زيد أبيض، ونقيضه مفاد: لم يكن زيد
أبيض، المتيقن بلحاظ حال ما قبل وجود زيد المشكوك حال وجوده،
فيستصحب، ويترتب عليه عدم وجوب إكرامه، وليس نقيضه مفاد: كان زيد غير
أبيض، ليستشكل بعدم صدقه بلحاظ حال ما قبل وجود زيد.
وإن كان الأثر للعدم المذكور، كما لو قال: إن لم يكن زيد أبيض فأكرمه،
فترتبه بالاستصحاب المذكور أظهر.
هذا، وقد منع غير واحد من جريان الاستصحاب المذكور. وما يمكن أن
يستدل لهم به وجوه..
الأول: أن العدم الأزلي المتيقن مغاير للعدم المشكوك المقارن لوجود
الموضوع والذي هو مورد العمل، لاستناد الأول لعدم الموضوع، والثاني لأمر
186

آخر.
وفيه: أن تعدد المنشأ والعلة لا يوجب تعدد المعلول لا حقيقة ولا عرفا.
الثاني: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه (1) من أن عدم العارض
لما كان نقيضا لوجود العارض، ولابد من وحدة الرتبة بين النقيضين، ومن
المعلوم أن وجود العارض متأخر رتبة عن وجود المعروض، وليس العدم
الأزلي كذلك، لأنه سابق عليه.
وفيه: أنه عدم العارض الأزلي متأخر رتبة عن وجود الموضوع كالعدم
المقارن لوجود الموضوع، لان ملاك اختلاف الرتبة بين الشيئين كون أحدهما
في مرتبة العلة للآخر - كالمقتضي - أو لعدمه - كالمانع - ومن الظاهر أن وجود
الموضوع لما كان شرطا في وجود العارض كان من أجزاء علة ارتفاع نقيضه
وهو عدمه ولو كان أزليا، فالعدم الأزلي يستند إلى جملة من الأمور، منها عدم
الموضوع، ووجود الموضوع من جملة ما يكون دخيلا في رفعه، فهو في رتبة
سابقة عليه وإن تأخر عنه زمانا.
وبعبارة أخرى: التقدم الرتبي كما يكون بين تمام أجزاء العلة والمعلول
يكون بينها وبين عدمه، لأنها من سنخ الرافع له، وحيث كان الموضوع من أجزاء
علة المعروض ومتقدما عليه رتبة كان من سنخ الرافع لعدمه ومتقدما عليه رتبة
ولو كان أزليا.
نعم، ما هو العلة لوجود المعروض والمتقدم عليه في كل آن هو وجود
الموضوع في كل آن، لا في آن آخر، فالعدم الأزلي متأخر رتبة عن وجود
الموضوع حينه، لا عن وجود الموضوع بعد ذلك، والمتأخر رتبة عن وجود

(1) ذكر ذلك في عرض حجة المنع، ودفعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه. وربما يظهر حاله
بالتأمل في ما ذكرناه فراجع المسألة الثانية من فصل الماء الجاري من بحث المياه (منه عفي
عنه).
187

الموضوع بعد ذلك هو عدم العرض حينئذ لا العدم الأزلي.
لكن هذا يرجع إلى اختلاف العدم الأزلي عن العدم المقارن لوجود
الموضوع في العلة، وهو لا يوجب تعددهما، كما تقدم، ولا سيما مع عدم كون
الاختلاف في سنخ العلة، بل في خصوصيتها الزمانية، وإلا امتنع استصحاب
العدم حتى بلحاظ حال وجود الموضوع، لان وجود العرض في كل آن متفرع
على وجود الموضوع في ذلك المحلات، لا على وجوده في الان السابق عليه الذي
هو زمان اليقين.
بل امتنع الاستصحاب مطلقا، لتفرع بقاء المستصحب على بقاء علته، لا
على حدوثها وتفرع حدوثه على حدوثها لا على بقائها. فلاحظ.
الثالث: أن العنوان الملحوظ قيدا وجوديا كان أو عدميا لما كان موضوعه
المقيد به حاكيا عن الوجود الخارجي كان التقييد به في عالم الاعتبار ملحوظا في
الرتبة اللاحقة للوجود، فالعدم المأخوذ قيدا في موضوع الأثر هو العدم الخاص
المتفرع على وجود الموضوع، ولا مجال لاستصحابه، لعدم اليقين به سابقا،
واستصحاب مطلق عدم ثبوت العنوان للموضوع لا يجدي في إحراز العدم
الخاص المتفرع على وجود الموضوع إلا بناء على الأصل المثبت.
وفيه.. أولا: أن هذا إنما يجدي لو أريد بالاستصحاب إثبات الأثر المأخوذ
في أدلتها التقييد بالعدم، كما لو قيل: أكرم العالم الذي ليس أبيض، أو الذي لم
يكن أبيض.
أما لو أريد نفي الآثار التي أخذ في أدلتها التقييد بالوجود، كما لو قيل: أكرم
الرجل الأبيض، فلا يجدي ذلك، ضرورة أن ملاك انتفاء الأثر في مثل ذلك هو
أن التعبد بنقيض موضوع الأثر يستلزم عرفا التعبد بعدمه، ومن الظاهر أن نقيض
ثبوت العرض المتفرع على وجود الموضوع هو عدم ذلك العرض الراجع
188

لمطلق سلبه ولو كان أزليا، لا عدمه المتفرع على وجود الموضوع، بل العدم
المذكور مقابل للثبوت المذكور تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين.
وثانيا: أن حكاية المقيد عن الموجود الخارجي وإن كانت مسلمة، إلا أنها
ناشئة عن نفس التقييد، لكون القيد أمرا خارجيا لا يعرض إلا الموجود
الخارجي، أو نفس الحكم، لاقتضائه العمل المتعلق بالموجود الخارجي،
وليست ناشئة عن اخذ الوجود في مرتبة سابقة على التقييد بالقيد، بل في مرتبة
التقييد لم تلحظ إلا الذات بنفسها.
ودعوى: أن قولنا: أكرم الرجل الأبيض، أو الذي لا يكون أسود، يرجع إلى
مفاد قولنا: يجب إكرام الرجل الذي إن وجد كان أبيض، أو الذي إن وجد لم يكن
أسود، لا شاهد لها، لاختلاف المفهومين عرفا.
على أن القيد قد لا يكون قيدا للموضوع، بل للحكم، كما لو قيل: أكرم
الرجل إن كان عالما، أو إن لم يكن جاهلا، فالتقييد بالعلم مستفاد من الشرطية
التي كان شرطها جملة حملية موجبة أو سالبة، لا من التوصيف.
إلا أن يراد من التقييد في توجيه مدعى الخصم ما يعم ذلك.
وثالثا: أن ما ذكر - لو تم - إنما يقتضي تأخر التقييد بالعنوان عن التقييد
بالوجود رتبة، كما لو اخذ الموجود عنوانا للمقيد، كما لو قيل: أكرم الموجود
الأبيض، أو الذي ليس بأسود، لا كون العنوان المقيد به خصوص ما قارن
الوجود، بحيث يكون وجود الموضوع قيدا في نفس العنوان كي لا يتحد مع ما
سبق الوجود ولا يصح استصحابه بلحاظه، فإن ذلك مخالف لاطلاق العنوان.
ولذا لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي لو كان الخطاب
بلسان: أكرم الموجود الذي ليس بأسود، فيحرز به أن زيدا الموجود ليس أسود،
وإن كان المتيقن هو السواد السابق على الوجود، مع أخذ الوجود في موضوع
189

التقييد بعدم السواد.
وبالجملة: المعيار في مباينة العدم الأزلي للعدم الذي هو موضوع الأثر
أخذ وجود الموضوع قيدا في نفس العدم الذي هو موضوع الأثر، ولا يكفي فيه
أخذه في مرتبة سابقة على التقييد به، كما هو المدعى في هذا الوجه.
والفرق بينهما هو الفرق بين ما إذا قال: أكرم العادل عدالة حاصلة حين
الدخول في الدار، وما إذا قال: أكرم داخل الدار العادل، فحيث كان دخول الدار
قيدا في العدالة في الأول لابد من إحرازه فيها بالاستصحاب، ولا يكفي
استصحاب العدالة المتيقنة في الشخص قبل دخوله الدار إلى حين دخوله لها،
لعدم الأثر للمستصحب، أما في الثاني فحيث كانت العدالة على إطلاقها كفى
اليقين بها قبل دخول الدار في استصحابها بعده وترتب الأثر عليها، وإن كان
التقييد بها متأخرا عن التقييد بالدخول لاخذه في موضوع التقييد بها.
وأما اعتبار وجود المعنون في صدق العنوان الوجودي المأخوذ في
القضية، فليس هو لتقييد العنوان الوجودي بذلك، بل لتوقف صدق النسبة عليه،
فلا يصدق على الرجل أنه عالم إلا مع وجوده خارجا، بخلاف العنوان العدمي
المحض الراجع إلى مفاد السلب، لفرض صدقه مع انتفاء الموضوع.
نعم، لو أريد من العنوان العدمي ما ينتزع من مفاد السلب ويكون وصفا
للموضوع بمفاد الموجبة المعدولة كان العنوان الوجودي في توقف صدقه
على وجود الموضوع. لكنه خارج عن محل الكلام هنا، ويأتي الكلام فيه إن
شاء الله تعالى.
الرابع: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن المعتبر في موارد التقييد بالعدم
هو العدم النعتي المأخوذ وصفا للموضوع، والذي هو مفاد الموجبة المعدولة
المحمول، التي لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع، ولا يكفي في إحرازها
190

استصحاب مفاد السالبة بانتفاء الموضوع إلا بناء على الأصل المثبت.
وقد أطال في تقريب ذلك بذكر مقدمات بعضها يتعلق بمسألة تعنون
العام المخصص.
وعمدة ما ذكره: أن تقييد موضوع الحكم بالعرض - ومنه الامر العدمي - لا
يراد به محض تقارنهما في الزمان، ليكفي استصحاب العرض بمفاد كان التامة
إلى حين وجود الموضوع، بل يرجع إلى تخصيص الموضوع بخصوص
الحصة المتصفة بالعرض، لاستحالة إطلاق الموضوع مع التقييد بوجود عرضه،
للتدافع بين الاطلاق والتقييد المذكورين، وحيث كان الاتصاف بالأمور العدمية
متفرعا على وجود الموضوع لم ينفع في إحرازه استصحاب مفاد السلب بلحاظ
حال ما قبل وجوده إلا بناء على الأصل المثبت.
ولا يخفى أنه ذكر ذلك لبيان أن تخصيص العام بالعنوان الوجودي -
كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بما يتضمن عدم إكرام فاسقهم - موجب
لتعنون الباقي بالعنوان العدمي المناقض له، لما تقدم من استحالة إطلاق موضوع
الحكم مع التقييد المذكور، وأنه لا ينفع استصحاب عدم الخاص الأزلي لاثبات
حكم العام، لأنه لا يحرز اتصاف المورد بعدم الخاص.
فلو تم ما ذكره لم ينفع فيما لو ورد الحكم ابتداء على العنوان الوجودي،
وأريد باستصحاب عدمه نفي الحكم، كما لو قيل: إن كان ولدك مختونا فتصدق
بدرهم، لما أشرنا إليه - في ذيل الكلام في الأصل المثبت، وفي الجواب الأول
عن الوجه السابق - من أن الملاك فيه كون إحراز نقيض الموضوع موجبا لاحراز
نقيض الحكم، ومن الظاهر أن نقيض ثبوت العنوان للموضوع عدم ثبوته له
الذي هو مفاد السالبة المحصلة الصادقة بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع، لا
اتصافه بعدمه الذي هو مفاد المعدولة المحمول، بل ليس التقابل بين ثبوت
191

العنوان والاتصاف بعدمه إلا تقابل العدم والملكة.
وأوضح من ذلك ما لو جعل الحكم ابتداء على مفاد السالبة، كما لو قيل:
إن لم يكن ولدك أسود فتصدق بدرهم، لاتحادها مع السالبة بانتفاء الموضوع،
ولا وجه لتنزيلها على مفاد المعدولة، مع أن الظاهر من مسلكه قدس سره امتناع التمسك
باستصحاب العدم الأزلي مطلقا حتى في مثل ذلك.
ومع الغض عن ذلك يتوجه الاشكال على ما ذكره بأن تخصيص العام
بالعنوان الوجودي - كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بنحو لا يشمل
الفاسق منهم - وإن كان يكشف عن عدم إطلاق موضوع الحكم، إلا ان إضافة
قيد لموضوع الحكم يمكن ثبوتا بأحد وجوه ثلاثة..
الأول: أن يكون القيد محض عدم وجود عنوان الخاص بمفاد ليس
التامة، فيكون موضوع الحكم مركبا من أمرين: عنوان العام - كالعالم - والعدم
المذكور - كعدم فسقه - من دون أخذ النسبة بينهما.
ويكفي في مثل ذلك استصحاب العدم المذكور، ليتم موضوع الحكم
بضم مفاد الأصل للوجدان، كما في سائر موارد الموضوعات المركبة، وقد تقدم
في المقدمة الأولى خروج استصحاب العدم في مثل ذلك عن استصحاب العدم
الأزلي، وجريانه بلا إشكال.
الثاني: أن يكون القيد هو عدم اتصاف المعنون بعنوان العام بعنوان
الخاص، الراجع إلى سلبه عنه بمفاد ليس الناقصة، الذي هو مفاد كان الناقصة،
والذي يكون العدم فيه ملحوظا بما هو معنى حرفي مناقض للحمل، فيكون
الموضوع في المثال المذكور العالم الذي لم يكن فاسقا، أو ليس فاسقا. وحيث
كان مفاد السلب صادقا بلحاظ حال قبل وجود الموضوع أمكن استصحابه
بلحاظ اليقين به حينئذ، وكان من استصحاب العدم الأزلي الذي هو محل الكلام
192

في المقام.
الثالث: أن يكون القيد هو اتصاف المعنون بعنوان العام بعدم العنوان
الخاص، الذي هو المراد بالعدم النعتي، والذي يكون العدم فيه ملحوظا بما هو
معنى اسمي من طوارئ الموضوع وصفاته، والذي هو مفاد المعدولة التي لا
تصدق إلا بعد وجود الموضوع، ولا مجال لاستصحابها بلحاظ حال ما قبل
وجود الموضوع، لعدم اليقين بها، بل اليقين بعدمها حينئذ، كما لا مجال
لاحرازها باستصحاب عدم العرض بمفاد ليس التامة أو الناقصة إلا بناء على
الأصل المثبت.
ومما ذكرنا يظهر اضطراب كلامه، حيث يظهر منه..
أولا: انحصار الامر بالوجه الأول والثالث، مع وضوح أن الثالث مقابل
لمفاد حمل العنوان الوجودي الذي هو مفاد الموجبة تقابل العدم والملكة - كما
اعترف به قدس سره - والأول لا تعرض فيه لنسبة العرض للموضوع ليقابل مفاد
الموجبة، وليس المقابل لمفاد الموجبة تقابل التناقض إلا الثاني.
وثانيا: أن مفاد السالبة بانتفاء الموضوع راجع إلى الأول، ومفاد ليس
الناقصة راجع إلى الثالث.
مع وضوح أن الأول لما كان مفاد ليس التامة كان مباينا للسالبة المتضمنة
لنسبة العرض للموضوع، والثالث مفاد المعدولة الموجبة التي هي مفاد كان
الناقصة، وليس مفاد الناقصة إلا الثاني. فكأن ذلك منه مبني على الخلط بين
الثاني والثالث.
إذا عرفت هذا، فالوجوه الثلاثة ممكنة في أنفسها، ولا معين لاحدها ثبوتا،
وما يظهر منه قدس سره من امتناع الأول إذا كان القيد من سنخ العرض الطارئ على
الموضوع، لان انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به في مرتبة سابقة
193

على انقسامه باعتبار مقارناته، مما لم يتضح وجهه، بل كيفية التقييد تابعة ثبوتا
لغرض الآمر، وإثباتا لظهور الدليل، ولا ملزم بأحد الوجوه.
نعم، التقييد بالوجه الأول راجع إلى تقييد نفس الحكم ورفع إطلاقه
الأحوالي، وإناطته بالقيد المفروض زائدا على عنوان العام، مع إبقاء العام على
عمومه الافرادي، ولذا يكون الموضوع معه مركبا من عنوان العام والقيد من دون
ملاحظة النسبة بينهما، فلا يعتبر إحرازها، بل يكفي إحراز أحدهما بالأصل
والاخر بالوجدان.
أما التقييد بالوجهين الأخيرين فهو راجع إلى تخصيص العام، ورفع
عمومه الافرادي وقصره على خصوص واجد القيد، ولذا يلزم إحراز النسبة بين
عنوان العام والقيد، ولا يكفي إحراز القيد بنفسه معرى عنها، وحيث كان محل
الكلام هو تخصيص العام الراجع إلى قصر عمومه الافرادي فلا مجال لاحتمال
الوجه الأول وإن كان ممكنا في نفسه، وتردد الامر بين الوجهين الأخيرين.
وحينئذ نقول: ذكر قدس سره أن التخصيص كاشف عن تقييد موضوع حكم العام
بعدم العنوان الخاص، فيكون موضوع حكم العام مقابلا لموضوع الخاص
تقابل بشرط لا مع بشرط شئ، ويكون المأخوذ في موضوع العام عنوانا مناقضا
لعنوان الخاص.
ولازم ذلك الحمل على الوجه الثاني الذي هو مفاد السلب، لأنه المناقض
لمفاد الحمل - المأخوذ في الخاص - ولا وجه للحمل على الثالث الراجع إلى
اعتبار الاتصاف بالعدم، والذي يكون التقابل بينه وبين عنوان الخاص تقابل
العدم والملكة، لا النقيضين - كما اعترف به قدس سره - بل هو مبني على ملاحظة العدم
بما هو معنى اسمي يتصف به الموضوع ويحمل عليه، وهو محتاج إلى عناية لا
شاهد عليها ولا يقتضيها الجمع بين العام والخاص.
194

وعليه يتجه التمسك باستصحاب العدم الأزلي.
كما يتجه بناء على ما ذكرناه نحن من أن العام حتى لو لم يكن مقيدا
بالوجه المذكور، إلا أنه يكفي في ترتب حكمه إحراز عدم كون الفرد من أفراد
الخاص، لوضوح أن مفاد السلب محرز لذلك.
هذا، ولو فرض التصريح في دليل الخاص بأخذ مفاد السلب قيدا في
موضوع الخاص فالامر أظهر، بأن قيل مثلا: إنما يجب إكرام العالم إذا لم يكن
فاسقا، فإن إرجاعه لمفاد المعدولة خروج عن مفاده بلا وجه، نظير ما تقدم فيما
لو جعل مفاد السلب موضوعا للحكم ابتداء، كما لو قيل: إن لم يكن ولدك أسود
فتصدق بدرهم.
وبالجملة: رجوع التخصيص إلى أخذ الاتصاف بعدم الخاص قيدا في
موضوع حكم العام لا وجه له، فضلا عن إرجاع جميع موارد أخذ العنوان
العدمي إلى ذلك، بل هو موقوف على أخذ العدم بما هو معنى اسمي يتصف به
الموضوع قيدا، وهو محتاج إلى عناية لا شاهد لها، بل هي خلاف ظاهر الأدلة
في كثير من الموارد، وليس الظاهر منها إلا أخذ السلب بما هو معنى حرفي
مقابل للحمل في موضوع الحكم، وحيث كان مفاده متحدا مع مفاد السالبة
بانتفاء الموضوع، تعين إحرازه باستصحابها، كما ذكرنا.
وأما ما ذكره بعض السادة المعاصرين قدس سره (1) من أن التقييد نحو من
التوصيف، إذ ليس المراد من الاتصاف إلا عروض خصوصية خارجة عن الذات
وطروءها عليها.
ففيه: أن التقييد نحو نسبة تلحظ في مقام الجعل بين الحكم والقيد، وهو
أجنبي عن التوصيف القائم بين الصفة والموصوف.

(1) المرحوم السيد ميرزا حسن البجنوردي (رحمه الله تعالى).
195

نعم، نفس القيد قد يكون هو الاتصاف الذي هو مفاد بشرط شئ، وقد
يكون عدمه الذي هو مفاد بشرط لا، كما قد يكون أمرا آخر، فليس التقييد متحدا
مع التوصيف ولا ملازما له، بل التوصيف قد يكون موضوعا للتقييد.
هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام، وربما كان هناك وجوه أخرى لا
يهم الكلام فيها بعد ما تقدم.
وقد تحصل أنه لا مانع من الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان
المهم هو إحراز مفاد السلب، إما لكونه موضوعا للأثر أو قيدا فيه، أو نقيضا
لموضوع الأثر أو لقيده. وهو المطابق للمرتكزات العرفية، لما هو المرتكز من
أن العدم هو الأصل، وإن كان في صلوح ذلك للاستدلال مع قطع النظر عن
عموم الاستصحاب إشكالا. فلاحظ.
196

الفصل الثاني
في استصحاب الأحكام الوضعية
ذهب الفاضل التوني قدس سره إلى عدم جريان الاستصحاب إلا في الأحكام الوضعية
، لكن لا بمعنى جريانه في نفس الحكم الوضعي، كالسببية والمانعية
ونحوهما، بل بمعنى جريانه في نفس الأسباب والشروط والموانع، كالبلوغ
الذي هو سبب للتكليف، والطهارة التي هي شرط للصلاة، والحيض المانع منها،
فليس التفصيل في الحقيقة بين الأحكام الوضعية وغيرها، بل بين موضوعاتها
وغيرها.
وعمدة ما ذكره في وجهه - على طول كلامه - هو عدم عروض الاجمال
والشك في بقاء الحكم التكليفي - الذي هو مورد العمل - إلا من جهة الشك في
حدوث سببه أو شرطه أو مانعه أو بقائها، لوفاء الأدلة بالجهات الأخرى.
وهو كما ترى! لامكان الشك من جهات أخرى، لاجمال الأدلة، كما لو
شك في حال السبب، وأنه سبب حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط، أو في مفهومه، أو
نحو ذلك مما لا مجال معه لاستصحاب نفس السبب، بل فيحتاج لاستصحاب
نفس الحكم.
وقد تصدى شيخنا الأعظم قدس سره لتعقيب كلامه بما لا حاجة لمتابعته فيه.
نعم، هنا نزاع آخر في جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الوضعية،
كالسببية، والشرطية، والمانعية، والملكية، والحجية وغيرها، ومنشؤه النزاع في
أن الأحكام الوضعية مجعولة بأنفسها أو منتزعة من الأحكام التكليفية.
197

وقد تعرض شيخنا الأعظم قدس سره ومن تبعه للكلام في ذلك في مبحث
الاستصحاب، وأطالوا الكلام فيه وفي تفصيلاته.
لكن لا مناسبة بين ذلك وبين الاستصحاب، بل ينبغي التعرض له في
مقدمة علم الأصول (1)، كما يتعرض لحقيقة الحكم التكليفي أيضا، لأنه من
مبادئه المهمة.
والذي يهمنا هنا هو أن الأحكام الوضعية إذا كانت منتزعة لا تنالها يد
الجعل يمتنع جريان الاستصحاب فيها، إذ لا حقيقة لها، لتكون موردا للعمل
الذي هو الشرط المهم في جريان الاستصحاب وغيره من التعبدات الشرعية.
ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

(1) راجع أوائل الجزء الأول من هذا الكتاب.
198

الفصل الثالث
في استصحاب الكلي والمردد
تقدم أنه لابد من كون المستصحب بعنوانه موردا للعمل ولو بتوسط ما
يترتب عليه من الأثر الشرعي.
وحينئذ فإن كانت الخصوصية الفردية دخيلة في موضوع الأثر لزم
إحرازها بنفسها في الاستصحاب، ولا يجدي استصحاب الكلي الجامع بينها
وبين غيرها.
وإن لم تكن دخيلة فيه، بل كان الأثر للكلي تعين استصحابه، ولا يجدي
استصحاب الخصوصية إلا بلحاظ ملازمته لاستصحاب الكلي، لان اليقين بالفرد
مستلزم لليقين بالكلي.
وقد تقدم في الامر الثالث في ذيل الكلام في الأصل المثبت توضيح
ذلك.
ويقع الكلام هنا في بعض أقسام استصحاب الكلي والفرد لخصوصية
فيها مع قطع النظر عما تقدم.
والكلام في ذلك في مقامين..
199

المقام الأول
في استصحاب الكلي
واعلم أن للشك في بقاء الكلي أقساما ينبغي التعرض لها ولحكمها..
الأول: الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء فرده المعين الذي علم
بوجوده في ضمنه سابقا.
ولا إشكال هنا في جريان الاستصحاب في الكلي وترتيب أثره.
الثاني: الشك في بقاء الكلي، لتردد الفرد الذي علم بوجوده في ضمنه
بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء، كما لو تردد الحدث الواقع بين الأصغر الذي
يرتفع بالوضوء والأكبر الذي يبقى معه.
ويلحق به ما لو كان التردد بين معلوم البقاء ومشكوك الارتفاع، لعدم
الفرع بينهما في أكثر جهات كلام الآتي.
والظاهر هنا جريان استصحاب الكلي أيضا - كما ذكر غير واحد - وترتب
أثره، وإن لم يحرز به أثر خصوص الفرد الطويل، لعدم تمامية أركان
الاستصحاب فيه.
نعم، قد يتنجز أثره لو كان طرفا لعلم إجمالي منجز مسبب عن العلم
بوجود أحد الفردين.
وقد يستشكل فيه بوجوه..
أولها: أن الكلي الطبيعي الذي هو موضوع الأثر الشرعي لا وجود له إلا
بعين وجود أفراده، فمع فرض عدم جريان الاستصحاب في الفرد، لعدم تمامية
أركانه فيه لا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.
200

ويندفع: بأن اتحاد الكلي مع فرده في الخارج لا ينافي كونه بمفهومه
مجردا عن الخصوصية الفردية موضوعا للأثر ومحطا للغرض، فيجري
الاستصحاب فيه بلحاظ ذلك.
وبعبارة أخرى: ليس المستصحب هو الكلي لا في ضمن الفرد، بل
المستصحب هو الفرد لكن لا بخصوصيته الفردية، بل من حيثية فرديته للكلي،
فإن اليقين والشك بالإضافة إلى الفرد يختلفان باختلاف حيثيته وعنوانه، فقد
يكون ببعض عناوينه موردا لليقين وبآخر موردا للشك، فمع فرض اجتماع
ركني الاستصحاب فيه بالإضافة إلى عنوانه الكلي يتعين جريان عنوانه فيه
لترتيب أثره، وإن لم يجر الاستصحاب فيه بلحاظ عنوانه الشخصي، لعدم تمامية
أركانه فيه، أو لعدم كونه موردا للأثر.
ثانيها: أن الشك في بقاء الكلي لما كان مسببا عن الشك في حدوث الفرد
الطويل كان استصحاب عدم حدوث الفرد المذكور حاكما على استصحاب
الكلي ومانعا من ترتب العمل عليه.
ويدفع.. أولا: بأن الشك في بقاء الكلي ليس ناشئا عن الشك في حدوث
الفرد الطويل فقط، بل هو ناشئ عن التردد بين كون الحادث هو الفرد الطويل
والقصير، فارتفاع الكلي ملازم لحدوثه في ضمن القصير، حيث يرتفع بارتفاعه،
وبقاؤه ملازم لحدوثه في ضمن الطويل، حيث يبقى ببقائه، ولا أصل يعين
أحدهما.
وأصالة عدم حدوث الفرد الطويل معارضة لأصالة عدم حدوث الفرد
القصير بالإضافة إلى اللازم المذكور، وهو بقاء الكلي وارتفاعه، وإن فرض عدم
تعارضهما بالإضافة إلى أثر كل منهما المختص به، ولو لعدم الأثر لأحدهما،
وبعد تساقط الأصلين بالإضافة إلى اللازم المذكور يتعين الرجوع للأصل
الجاري فيه المحرز لبقائه.
201

ودعوى: أن أصالة عدم حدوث الفرد القصير لا تجري مع خروجه عن
الابتلاء، لفرض العلم بارتفاعه على تقدير حدوثه، فلا تعارض أصالة عدم
حدوث الفرد الطويل.
مدفوعة: بأن خروج الفرد القصير عن الابتلاء بالإضافة إلى آثاره
المختصة به لا تنافي كونه موردا للابتلاء بالإضافة إلى اللازم المذكور، وهو بقاء
الكلي، بنحو يصلح لمعارضة الأصل الجاري في الفرد الطويل، ويمنع من
حكومته على الأصل الجاري في الكلي.
وثانيا: بأن الفرد والكلي متحدان حقيقة ومختلفان عنوانا، فليس مجرى
الأصل في كل منهما إلا ملازما لمجرى الأصل في الآخر، من دون سببية بينهما
تقتضي حكومة الأصل الجاري في الفرد على الأصل الجاري في الكلي، بل
يعمل بكل منهما في مورده بالإضافة إلى خصوص أثره لو كان له أثر، كما هو
الحال في سائر الموارد التي يكون مقتضى الأصل فيها التفكيك بين المتلازمين
من دون سببية بينهما.
وثالثا: بأن مجرد السببية بين مجرى الأصلين لا تكفي في حكومة
أحدهما على الاخر ما لم تكن شرعية، ومن الظاهر أن السببية بين الفرد والكلي
- لو تمت - ليست شرعية، بل خارجية، وحكومة الأصل السببي في مثل ذلك
مبنية على الأصل المثبت، كما تقدم التنبيه عليه في الجملة في الاستدلال على
عدم حجية الأصل المثبت بلزوم المعارضة في جانب الثابت والمثبت. فراجع
وتأمل.
ثالثها: أن وجود الكلي لما كان بوجود فرد من أفراده كان عدمه بعدم
تمام الافراد، فإذا عالم بعدم جميع أفراد الكلي غير الطويل، فبضميمة أصالة عدم
الفرد الطويل يحرز عدم الكلي، كما في سائر موارد انضمام الأصل للوجدان.
ويظهر الجواب عنه مما تقدم من عدم الترتب الخارجي بين وجود الفرد
202

والكلي، فضلا عن الشرعي، فإحراز عدم الفرد بالأصل لا يقتضي إحراز عدم
الكلي إلا بناء على الأصل المثبت.
بل لا يبعد رجوع هذا الوجه إلى الوجه السابق، ضرورة أن مبنى حكومة
استصحاب عدم الفرد الطويل على استصحاب الكلي في الوجه السابق على
انضمامه لاحراز عدم بقية الافراد بالوجدان. فعده في كلام غير واحد وجها آخر
في قباله لا يخلو عن إشكال. فلاحظ.
بقي في المقام أمران:
الأول: التردد بين الفرد الطويل والقصير إنما يجري معه استصحاب
الكلي ويكون من هذا القسم إذا كان حاصلا من أول الامر، أما لو حصل بعد
اليقين بحدوث القصير فيخرج عن هذا القسم، كما لو علم بدخول زيد الدار يوم
الجمعة، وعلم بوجود الانسان فيها يوم السبت، وتردد بين كونه زيدا فلا يبقى
يوم الأحد وكونه عمرا فيبقى يوم الأحد، فبالإضافة إلى يوم السبت والأحد وإن
كان الشك في الكلي من هذا القسم، إلا أنه لما كان الفرد المتيقن سابقا من الكلي
- وهو زيد - قد علم يوم الأحد بارتفاعه يكون احتمال وجود الكلي في ذلك
اليوم في ضمن عمرو ملحقا بالقسم الثالث الآتي ويخرج عن هذا القسم.
لان استصحاب بقاء زيد إلى يوم الأحد وعدم دخول عمرو إلى ذلك
اليوم، يحرز كون المرتفع يوم الأحد هو دخول زيد، ويرفع التردد شرعا في
حال الموجود يوم السبت.
ومنه يظهر أن المحدث بالأصغر إذا احتمل طروء الجنابة عليه، فإن قيل
بعدم اجتماع الحدث الأصغر مع الأكبر، بل يرتفع به لا يكون استصحاب بقاء
كلي الحدث بعد الوضوء من هذا القسم، للقطع بارتفاع الفرد المتيقن والشك
في حدوث غيره، وإنما يكون من هذا القسم إذا تردد الحدث من أول الامر بين
الأصغر والأكبر، كما لو خرج البلل المردد بين البول والمني من المتطهر من كلا
203

الحدثين.
وأظهر من ذلك ما لو قيل باجتماع الحدثين، لعدم التردد بينهما أصلا، كما
لا يخفى.
الثاني: لو اخذ عدم أحد الفردين في موضوع تحقق الفرد الاخر فقد
يكون استصحاب عدم الفرد المذكور مخرجا للشك عن هذا القسم، كما هو
الحال بناء على أن الحدث الأصغر لا يجتمع، مع الحدث الأكبر، لو حدث سبب
الأصغر مع احتمال سبق الأكبر، فإنه بعد طروء سبب الأصغر يعلم إجمالا بطروء
أحد الحدثين، إلا أن استصحاب عدم الأكبر يقتضي سببية السبب للأصغر
وارتفاعه بالوضوء، فلا يكون احتمال وجود الأكبر لتردد الفرد المعلوم بين
الطويل والقصير، بل لاحتمال حدوث غيره مما يبقى، ويكون الأصل عدم
حدوثه، فيخرج عن هذا القسم، ويلحقه ما يأتي في القسم الثالث، وإن لم يكن
مثله، لعدم احتمال تعدد الفرد، إلا أنه بناء على ما يأتي فيه من امتناع جريان
استصحاب الكلي مع القطع بارتفاع الفرد المعلوم يتجه امتناع جريان
الاستصحاب هنا.
ونظير ذلك: ما لو احتمل كون الملاقي للنجاسة من الأعيان النجسة، بناء
على عدم تنجس النجس، فإن أصالة طهارته ذاتا تحرز كون نجاسته عرضية
تزول بالغسل.
القسم الثالث: من أقسام الشك في الكلي: ما يكون مسببا عن احتمال
وجود فرد آخر غير المتيقن موجود بعد ارتفاعه.
وقد ذكر له شيخنا الأعظم قدس سره صورا ثلاثا..
الصورة الأولى: إن يحتمل حدوث الفرد المشكوك مقارنا لارتفاع الفرد
المتيقن مع تباين الفردين عرفا، كما لو علم بدخول زيد الدار وخروجه منها،
واحتمل دخول عمرو لها مقارنا لخروجه، فبقي الانسان في ضمن عمرو، بعد
204

أن كان حدوثه في ضمن زيد.
وقد منع قدس سره هنا من جريان استصحاب الكلي، وهو المعروف بين من
تأخر عنه.
وقد يحتج لذلك بإنكار وجود الكلي رأسا، فلا يكون هو موضوعا للأثر،
بل ليس الموجود وموضوع الأثر إلا الافراد، وحيث كانت متباينة في أنفسها، فلا
يكون المشكوك في المقام بقاء للمتيقن، ليتجه الاستصحاب. وربما ينسب ذلك
لبعض الأعاظم قدس سره.
لكن لا يخفى أن المراد بوجود الكلي الذي يكون موضوعا للأثر ليس هو
وجوده بما هو أمر بسيط مباين للافراد مقارن لها، لوضوح أنه ليس في الخارج
إلا الفرد، بل لما كان الكلي وجها من وجوه الفرد وحيثية من حيثياته كان وجود
الفرد وجودا له، فإنكار وجود الكلي لا وجه له بلحاظ ذلك، إلا أن يكون النزاع
لفظيا.
ولعله لذا نسب لبعض الأعاظم قدس سره التصريح في الدورة الثانية بوجود
الكلي، وتقريب وجه المنع بما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن وجود الكلي
الطبيعي وإن كان بوجود فرده، إلا أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس
وجودا واحدا له، بل تتعدد وجوداته بتعدد أفراده، فلا يكون المشكوك بقاء
للمتيقن، بل يكون مباينا له ويمتنع الاستصحاب.
ومن هنا افترق ذلك عن القسم الثاني، لأن المفروض في ذلك القسم
الشك في بقاء نفس الحصة المتيقنة من الكلي، لفرض الشك في حال الفرد
الواحد المتيقن، وأنه الطويل أو القصير، من دون أن يحتمل وجود فرد غيره.
هذا، ومن الظاهر أن تعدد وجود الكلي بتعدد أفراده إنما يتم بالإضافة إلى
الوجود الحقيقي المستند للعلل التكوينية الخارجية.
أما بالإضافة إلى الوجود الانتزاعي المنسوب للكلي بما هو على سعته،
205

من دون نظر إلى تخصصه، وهو صرف الطبيعة المتحقق بصرف الوجود فللا
تعدد فيه، بل يصح نسبة الوجود للكلي بوجود الفرد الواحد بعين نسبته له
بوجود الافراد المتعددة المتعاقبة أو المجتمعة.
ومن هنا كان للكلي نحو من الوجود يعبر عنه بالوجود السعي، وهو الذي
يقتضيه الاطلاق، دون المرة أو التكرار، كما صرحوا به، فإذا انتقض عدم الكلي
بتحقق صرف الطبيعة لا ينتقض مرة بعد أخرى بوجود الفرد اللاحق، بل يستمر
وجوده بتعاقب الافراد ما لم يتخللها العدم المطلق بعدم جميع الافراد، فيصح أن
يقال: - مثلا - وجد الجسم ملونا وبقي ملونا حتى تلف، وإن تعاقبت الألوان عليه
واختلفت أفرادها.
فوجود الفرد اللاحق وإن صدق عليه الحدوث بالإضافة إلى خصوصيته،
وبالإضافة إلى الحصة الخاصة من الكلي الموجودة في ضمنه، إلا أنه يصدق معه
البقاء بالإضافة إلى الكلي بما له من الوجود السعي المقابل لعدمه المطلق
والناقض له.
وأما ما عن بعض لمحققين قدس سره من أن وجود الفرد لا يكون ناقضا للعدم
المطلق، بل ناقض لعدمه الخاص، فارتفاعه موجب لرجوع عدمه، أما العدم
المطلق فهو لا ينتقض دائما.
فهو في غاية الاشكال، لاستلزامه اجتماع العدم المطلق للماهية مع وجود
فردها، وهو بديهي البطلان، بل وجود الفرد كما يقتضي انتقاض عدمه يقتضي
انتقاض العدم المطلق، وإن كان عدمه يرجع بارتفاع وجوده الخاص، والعدم
المطلق لا يرجع إلا بارتفاع جميع ما وجد من أفراد الماهية.
وكذا ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه لو فرض وحدة وجود الكلي مع
تعدد أفراده فهي وحدة عقلية دقية لا تكفي في جريان الاستصحاب، بل لابد فيه
من الوحدة العرفية غير المتحققة في المقام، لوضوح التباين بين حصص الكلي.
206

لاندفاعه: بأن وضوح التباين بين الحصص عقلا وعرفا لا ينافي صدق
البقاء عرفا بالإضافة إلى الوجود السعي للكلي، وعليه يبتني التناقض بين وجود
الكلي والعدم المطلق، كما ذكرنا.
هذا، وقد ذكر شيخنا الأستاذ قدس سره أن ذلك لا يتم في هذه الصورة، حيث
فرض وجود الفرد اللاحق بعد ارتفاع السابق من دون أن يجتمعا في الوجود -
كما يأتي فرضه في الصورة الثالثة - لأنه بارتفاع الفرد الأول ينعدم جميع الافراد،
فينتقض وجود الكلي بالعدم المطلق، ويكون احتمال وجود الكلي احتمالا
لوجود الكلي بعد العدم.
وفيه: أنه خروج عن مفروض الكلام، لأن المفروض في هذه الصورة
احتمال مقارنة الفرد اللاحق لارتفاع السابق، بحيث لا يتخلل العدم المطلق
بينهما.
ولأجل هذا ذهب المحقق اليزدي قدس سره في درره إلى جريان الاستصحاب
في هذه الصورة. وقد جرينا عليه في ما سبق، وهو في محله لو استفيد من الأدلة
كون الكلي بما له من الوجود السعي موردا للعمل عقلا، أو موضوعا للأثر شرعا.
لكن يشكل استفادة ذلك بعد كون الوجود المذكور أمرا انتزاعيا ليس له
ما بإزاء في الخارج، وليس الامر الحقيقي إلا الوجود المحدود المتكثر بتكثر
الافراد، والذي يكون هو المحط للأغراض والمورد للملاكات، لا الوجود
السعي الذي لا تكثر فيه ويقبل الاستمرار.
فإن ذلك قرينة عرفية على كون موضوع الأحكام الشرعية هو الوجود
المذكور، ولذا كان المرتكز عرفا أن كل فرد موضوع مستقل، فلو تكثرت الافراد
كان السبب متكثرا، لا واحدا وهو الوجود السعي غير القابل للتكثر، كما عرفت.
وهو لا ينافي ما قيل من حمل الاطلاق على الطبيعة الصادقة على القليل
والكثير. لان الغرض من ذلك بيان شمول الحكم لتمام الافراد، لا كيفية تعلقه
207

بالموضوع، فمقتضى الاطلاق سعة الانطباق، لا كون الموضوع هو الوجود
السعي الانتزاعي.
وعلى هذا يتجه امتناع التمسك باستصحاب الكلي في المقام، لان ما
يقبل البقاء - وهو الوجود السعي - ليس موضوعا للأثر، ولا موردا للعمل، وما هو
موضوع الأثر ومورد العمل - وهو الوجودات المتكثرة - لا يقبل البقاء
والاستمرار بتعاقب الافراد، كما قرر في وجه المنع المتقدم.
نعم، قد يكون الموضوع معنى بسيطا قائما بالافراد، أو ملازما لها كعنوان
القبيلة، كما إذا قيل: إذا كان الحكم لآل فلان وجبت الصدقة في كل جمعة
بدرهم، على أن يراد بذلك استحقاقهم الحكم، أو خضوع الناس لهم وعدم
منازعتهم فيه، ومن الظاهر أن المعنى المذكور لا يتوقف على فعلية قيام الحاكم
منهم، بل يصدق لو مات الحاكم منهم قبل تعيين غيره، فيصح استصحاب كون
الحكم لهم بلحاظ استمرار هذا المعنى فيهم، ولو مع تعاقب الحكام منهم،
وعدم بقاء الحاكم المتيقن سابقا.
ولعل منه أيضا عنوان الرقية المقابل للحرية، والمنتزع من كون الانسان
مالا كسائر الأموال المملوكة، الذي هو معنى قابل للاستمرار عرفا وإن تعاقبت
الملكيات عليه، وتعددت أفرادها بتعدد المالكين له، بحيث لو أمكن كون المال
غير مملوك فعلا لم يرتفع العنوان المذكور عنه، فيصح استصحاب هذا المعنى
في الشخص لو احتمل بقاؤه، ولو مع العلم بارتفاع ما علم ثبوته سابقا فيه من
ملكية خاصة لشخص خاص.
لكن هذا ليس في الحقيقة من استصحاب الكلي، لعدم كون المستصحب
هو العنوان الكلي المتحد خارجا مع الافراد، بل العنوان الشخصي الذي له نحو
من الوجود الحقيقي الاستمراري، المقارن لوجود الافراد، وليس كبقاء الكلي
بتعاقب أفراده الذي هو انتزاعي محض لا يكون عرفا موردا للأثر ولا محطا
208

للغرض. نعم، قد يستفاد من الأدلة كون الموضوع الشرعي هو الكلي بما له من
الوجود السعي لمناسبات وقرائن خاصة تخرج عن مقتضى الأصل المذكور،
كعنوان الجدة واليسار الموضوع لبعض الاحكام، فإنه متقوم بملكية الشخص
للمال، من دون ملاحظة خصوصية الأموال، فيستمر عرفا مع تعاقبها لان
المناسبات الارتكازية تقتضي بأن اعتباره لأجل كونه منشأ للقدرة والمكنة التي
لا تتقوم بخصوصيات الأموال، ولا تتكرر بتعددها، بل تستمر بتعاقبها، وفي مثل
ذلك لا مانع من استصحاب الكلي، فتستصحب ملكية الانسان وجدته للمال بما
لها من الوجود السعي المستمر بتعاقب الأموال، وإن علم بخروج شخص المال
الذي كان عنده سابقا عن ملكيته.
لكن هذا محتاج لقرينة خاصة ولطف قريحة، والغالب الأول، الذي
عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه، ككلي الحدث والخبث ونحوهما مما
يظهر من أدلته - ولو بمعونة الجهة الارتكازية العامة المتقدمة - كون الموضوع
خصوصيات أفراده بما لها من الوجود المتكثر المحدود، لا الكلي بما له من
الوجود الواحد السعي القابل للاستمرار. ولابد من التأمل التام في خصوصيات
المسائل الفرعية والنظر في أدلتها والله سبحانه وتعالى ولي التسديد والتوفيق،
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إنه لو فرض جريان استصحاب الكلي في هذه الصورة فلا مجال لرفع
اليد عنه مع استصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك، لفرض عدم كون الأثر
للفرد، لا بخصوصيته، ولا من حيثية كونه حصة من الكلي. وملازمة عدم حدوثه
لارتفاع الكلي بارتفاع الفرد المتيقن لا يقتضي حكومته على استصحاب الكلي،
لما تقدم في القسم الثاني من عدم السببية بين الفرد والكلي لا حقيقة ولا شرعا.
ومن هنا قد يجعل من ثمرات جريان الاستصحاب في هذه الصورة
209

جريان استصحاب الحدث بعد الوضوء للمحدث بالأصغر إذا احتمل طروء
الحدث الأكبر عليه قبل الوضوء، بناء عنى التضاد بين الحدثين وعدم
اجتماعهما.
واستصحاب عدم الأكبر لا ينفع في البناء على ارتفاع كلي الحدث وعدم
ترتب آثاره، وإن كان ينفع في عدم ترتب أثر خصوص الأكبر، كحرمة المكث
في المساجد.
لكن لا يبعد عدم ترتب الثمرة المذكورة، لان المستفاد من نصوص
الاحداث كون الحكم واردا عليها بخصوصياتها، لا على العنوان الكلي، لعدم
أخذ كلي الحدث في الأدلة بعنوانه موضوعا للمانعية، بل اخذت الطهارة
موضوع للشرطية، ومن الظاهر أن الطهارة أمر إضافي يختلف بالإضافة إلى كل
حدث بنفسه، والمراد بها الطهارة من جميع الاحداث، فيكون كل حدث بنفسه
موضوعا للمانعية على نحو العموم الاستغراقي.
وهو الظاهر من مثل قوله تعالى: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم... وإن كنتم جنبا فاطهروا " (1)، فإن المراد القيام من النوم، كما في
موثق ابن بكير (2)، وبعض نصوص الاحداث، كقوله عليه السلام: - في صحيح يونس،
في بيان الوضوء المفترض لمن جاء من الغائط أو بال - " يغسل ذكره، ويذهب
الغائط، ويتوضأ مرتين مرتين " (3)، وغيره.
وهو راجع إلى أن موضوع المانعية مركب من كل حدث بنفسه، فإذا
أحرز عدم بعضها بالأصل، وعدم الاخر بالوجدان أمكن ترتيب أثر ارتفاعها،
وليس موضوعها كلي الحدث، ليبتني على جريان استصحاب الكلي في هذه

(1) سورة المائدة: 6.
(2) الوسائل ج: 1، باب: 3 من أبواب نواقض الوضوء، حديث: 7.
(3) الوسائل، ج: 1، باب: 9 من أبواب أحكام الخلوة، حديث: 5.
210

الصورة. فلاحظ.
الصورة الثانية: من الصور التي ذكرها شيخنا الأعظم قدس سره لهذا القسم من
الشك في الكلي ما إذا احتمل حدوث الفرد المشكوك مقارنا لارتفاع الفرد
المعلوم ولم يحتمل اجتماعهما مع عدم التباين بين الفردين عرفا، بل يتسامح
العرف، فيعد الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد.
وقد اختار قدس سره جريان الاستصحاب في ذلك على ما هو مسلكه من
الاكتفاء بالتسامح العرفي في الوحدة بين المشكوك والمتيقن.
وقد مثل لذلك بما إذا كان المشكوك اللاحق من مراتب المتيقن السابق،
كما لو علم بوجود السواد الشديد وعلم بارتفاعه إما بجميع مراتبه أو ببعضها، أو
علم بارتفاع المرتبة الشديدة من كثرة الشك واحتمل بقاء مرتبة ضعيفة منها.
هذا، وقد تقدم منا عند الكلام في موضوع الاستصحاب المنع من
الاعتماد على التسامح العرفي، وأنه لابد من الاتحاد الحقيقي بنظر العرف.
إلا أن ما ذكره من الأمثلة خارج عنه، لان المرتبة الضعيفة موجودة في
ضمن المرتبة الشديدة بذاتها، وإن اختلفت عنها بحدها، فذهاب بعض حدود
الأمور التشكيكية لا يوجب تبدل ذواتها، ليكون من تبادل الفردين، بل هو من
سنخ تبدل الحالات الزائدة على الذات لا ينافي صدق البقاء عليها حقيقة، لبقاء
ما به الاشتراك بعينه.
فالمورد من موارد القسم الأول للشك في بقاء الكلي الذي تقدم عدم
الاشكال في جريان الاستصحاب فيه.
نعم، عمم قدس سره جريان الاستصحاب في ذلك لما إذا كان الشك في البقاء
راجعا للشبهة المفهومية. وهو مبني على جريان الاستصحاب في المفهوم
المردد، ويأتي في المقام الثاني المنع منه.
ثم إنه قد يدعى ظهور ثمرة جريان الاستصحاب في هذه الصورة فيما لو
211

علم بنسخ الوجوب واحتمل تبدله بالاستصحاب، فيستصحب الطلب، لان
الوجوب مرتبة شديدة منه والاستحباب مرتبة ضعيفة منه.
وقد استشكل في ذلك المحقق الخراساني قدس سره: بأن الاستحباب وإن كان
من مراتب الوجوب حقيقة، إلا أنهما متباينان عرفا، فيمتنع الاستصحاب.
لكن عرفت عدم الاعتداد بالتسامح العرفي في امتثال المقام.
نعم، الظاهر أن الاستصحاب ليس من مراتب الوجوب، وليس هو مرتبة
ضعيفة من الطلب، بل هما فردان منه بينهما كمال المباينة، والوجوب منتزع من
الطلب مع المنع من الترك ولو مع ضعف الطلب لضعف ملاكه، والاستحباب
منتزع من الطلب مع الترخيص فيه لوجود المانع من الالزام ولو مع قوته لقوة
ملاكه، هما منتزعان من نحوين من الإرادة التشريعية، وإن كان يجمعهما
تشريع الفعل ونسبته للمولى على ما يذكر في محله.
لكن هذا إنما يقتضي تباين الوجوب والاستصحاب بما أنهما حكمان
منتزعان من الطلب في حالتيه المختلفتين، أو التشريع بخصوصيته المتباينتين،
ولا يمنع من استصحاب الامر المشترك بينهما ونفس الطلب، أو تشريعه ونسبته
للمولى الذي هو موضوع حسن الطاعة عقلا مع قطع النظر عن مقارنته
للخصوصيتين المذكورتين، وإنما يناط بالمنع من الترك وجوب الطاعة
وبالترخيص فيه جواز تركها، ومن الظاهر أن الامر المشترك متيقن حين
الوجوب، ولا يكون التبدل بالاستحباب تبدلا في فرده، بل يكون تبدلا في حالته
ومقارنه، فالمستصحب هو الطلب بما له من الوجود الخاص المتيقن، ويكون
من القسم الأول لاستصحاب الكلي، لا من هذا القسم، فلا مجال لجعله ثمرة
لجريان الاستصحاب في هذه الصورة.
الصورة الثالثة: ما إذا احتمل مقارنة الفرد المشكوك للفرد المتيقن وبقاؤه
بعده، كما لو علم بدخول زيد الدار يوم الجمعة وخروجه منها يوم السبت،
212

واحتمل وجود عمرو فيها معه وبقاؤه بعده.
وقد قرب شيخنا الأعظم قدس سره جريان الاستصحاب في هذه الصورة مفرقا
بينها وبين الصورة الأولى، قال: (لاحتمال كون الثابت في الان اللاحق هو عين
الوجود سابقا، فيتردد الكلي المعلوم سابقا بين أن يكون وجوده الخارجي على
نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك حقيقة إنما هو في مقدار استعداد ذلك
الكلي).
وظاهره أن الوجه في التفصيل المذكور هو اختصاص هذه الصورة
باحتمال كون الموجود اللاحق المحتمل عين الموجود السابق المتيقن،
لاحتمال كون الوجود المتيقن سابقا للكلي في ضمن فردين أحدهما المشكوك
الذي يحتمل بقاؤه، بخلاف الصورة الأولى، للعلم بمباينة الوجود السابق
للاحق.
وفيه: أن فرض اليقين سابقا بوجود الكلي إن كان بلحاظ وجوده السعي،
فهو كما لا يتكثر بتعدد الافراد، بل يوجد مع تعددها بعين وجوده مع الفرد
الواحد، ويصدق عليه الاستمرار حينئذ، كذلك لا يتعدد مع تبادل الافراد، كما
في الصورة الأولى، بل يصدق عليه البقاء حينئذ، ولازم ذلك جريان
الاستصحاب في الصورة الأولى أيضا، كما تقدم.
وإن كان بلحاظ وجوده المتكثر الذي هو عبارة عن وجود حصصه، فلا
يحتمل في هذه الصورة اتحاد المشكوك مع المتيقن، لعدم اليقين سابقا بكلا
الفردين، بل بأحدهما المعلوم الارتفاع، ولا يحتمل اتحاد المشكوك لاحقا
معه، بل مع الفرد الاخر المشكوك الحدوث، فلا مجال للاستصحاب في هذه
الصورة أيضا.
هذا، وقد يتراءى من كلامه السابق أنه ناظر لتفصيله بين الشك في
المقتضي والشك في الرافع بعد فرض كون موضوع الأثر هو الكلي بوجوده
213

السعي لا المتكثر.
وقد يقرب: بأن اقتضاء الكلي بما له من الوجود السعي للبقاء تابع
لاقتضاء أفراده، ففي الصورة الأولى حيث كان وجود الكلي سابقا منحصرا
بالفرد المتيقن المعلوم الارتفاع، فاحتمال بقائه يستند لاحتمال تجدد الاقتضاء
له في ضمن فرد آخر بعد القطع بعدم استناد بقائه لاقتضائه السابق الثابت له تبعا
للفرد السابق، فإنه لا أثر ارتكازا لمثل هذا الاقتضاء في استحكام المستصحب
حتى، يلحق بصورة إحراز المقتضى والشك في الرافع، فهو نظير ما لو علم
بوجود الزيت في السراج بمقدار إنارته إلى الفجر، ثم علم بإراقة ذلك الزيت
احتمل بقاء السراج منيرا لوضع زيت آخر فيه بعد ذلك، حيث لا يظن منهم
إلحاق ذلك بصورة العلم بالمقتضي.
أما في الصورة الثالثة فحيث يحتمل وجود الكلي في ضمن فردين فهو
مما يحرز اقتضاء البقاء له، وإنما يشك في ارتفاعه للشك في أن رافع الفرد
المتيقن رافع له، لانحصاره به، أولا، لاستغنائه باقتضاء الفرد الاخر للبقاء، فهو
راجع للشك في حال الاقتضاء الأول وأنه يرتفع بالرافع المذكور أو لا؟.
ودعوى: أنه يعلم بعدم استناد بقائه لما علم من مقتضيه السابق، وهو
الفرد المتيقن، وإنما يحتمل استناد بقائه للمقتضي الآخر المشكوك ثبوته،
فيكون الشك في بقائه مستندا للشك في المقتضي.
مدفوعة: بأنه لا نظر لخصوصيات المقتضي في التفصيل المذكور، بل
المعيار كون المستصحب من شأنه البقاء، ويستند الشك في بقائه للشك في
رافعه، لا لاحتمال تجدد المقتضي له، وهو حاصل في الفرض.
فهو نظير ما لو تردد الفرد في القسم الثاني بين ما يرتفع بالرافع الطارئ
وما لا يرتفع، كالحدث المردد بين الأكبر غير المرتفع بالوضوء والأصغر
المرتفع به.
214

نعم، لو كان ارتفاع الفرد المتيقن في هذه الصورة لانتهاء مقتضيه لا
لوجود الرافع له كان الشك في بقاء الكلي للشك في المقتضي، إذ لا يعلم من
أول الامر بوجود المقتضي لبقائه، بل المتيقن ثبوت شأنية البقاء له إلى زمان
ارتفاع الفرد المتيقن، واحتمال بقائه بعده لاحتمال ثبوت مقتض آخر يقتضي
بقاءه في ضمن الفرد الاخر.
ولا يبعد عدم بناء شيخنا الأعظم قدس سره على جريان استصحاب الكلي في
هذا الفرض، حيث كان تفصيله بين الشك في المقتضي والرافع.
ومما ذكرنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من الاشكال على
شيخنا الأعظم قدس سره بأن جريان الاستصحاب في هذه الصورة لا يناسب ما ذهب
إليه من عدم جريان الاستصحاب مع الشك في المقتضي.
فالعمدة في دفع ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من الفرق بين هذه الصورة
والصورة الأولى هو ما سبق من عدم تمامية التفصيل بين الشك في المقتضي
والرافع، فلو جرى الاستصحاب في هذه الصورة بلحاظ الوجود السعي جرى
في الصورة الأولى أيضا، إلا أنه لما كان الغالب عدم كون موضوع الأثر هو
الوجود المذكور، بل الوجود المتكثر المحدود فالشك في كلتا الصورتين في
حدوثه لا بقائه، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيهما معا.
ثم إنه ربما يدعى ظهور ثمرة جريان الاستصحاب في هذه الصورة في
موارد..
الأول: ما لو دار الواجب بين الواحد والمتعدد للشبهة الحكمية - كما لو
ترددت الكفارة بين المد والمدين - أو الموضوعية - كما لو تردد فوت الفريضة
بين المرة والمرتين - فبإتيان فرد واحد يشك في بقاء التكليف بالكلي على نحو
الشك المفروض في هذه الصورة، فيستصحب التكليف بالواحد الثابت قبل
الاتيان به.
215

وقد ذكر ذلك سيدنا الأعظم قدس سره في تعقيب ما ذكره المحقق الخراساني
قدس سره ثمرة لاستصحاب الكلي. فراجع.
ويشكل: بأن الأثر في المقام للفرد، لا للكلي، فان وجوب الامتثال عقلا
من آثار التكليف الشخصي، لان جميع، القضايا العقلية والخارجية - كإحراق
النار - ليست عنوانية قائمة بالكلي، بل انحلالية قائمة بالافراد، والقضايا
العنوانية التي تؤدى بها انتزاعية محضة، وليست القضايا العنوانية الحقيقية الا
القضايا الشرعية الكلية.
فالمقام من تشابه الفردين في الأثر، لا من استناد الأثر للكلي، فلا مجال
لاستصحاب الكلي، بل يجري الاستصحاب في الفرد المشكوك بلا إشكال.
الثاني: ما لو احتمل طروء الحدث الأكبر على المحدث بالأصغر، فإنه
بناء على اجتماع الحدثين يعلم بعد الوضوء بارتفاع الحدث الأصغر، ويحتمل
بقاء كلي الحدث في ضمن الحدث الأكبر الذي يحتمل وجوده مقارنا للأصغر.
لكن هذا مبني..
أولا: على أن الأثر لكلي الحدث، لا لافراده، وإلا خرج عن استصحاب
الكلي، كما تقدم في ثمرة جريان الاستصحاب في الصورة الثانية.
وثانيا: على ارتفاع الأصغر المقارن للأكبر بالوضوء، وهو محل إشكال
خصوصا في الجنابة. وحينئذ يشك بعد الوضوء في ارتفاع الأصغر، ولا إشكال
حينئذ في استصحاب الكلي، لأنه من القسم الأول.
اللهم إلا أن يقال: مقتضى ذلك اشتراط رافعية الوضوء للأصغر لعدم
الحداث الأكبر، فاستصحاب عدم الحدث الأكبر يكون محرزا لارتفاع الأصغر
المتيقن بالوضوء، ويكون احتمال بقاء الكلي مستندا الاحتمال حدوث فرد آخر
غير المتيقن الذي أحرز ارتفاعه، فيخرج عن القسم الأول، ويدخل في هذا
القسم. فلاحظ.
216

الثالث: ما لو احتمل كون ملاقي النجاسة من الأعيان النجسة، فإنه بناء
على اجتماع النجاسة الذاتية والعرضية في العين الواحدة يكون الشك في بقاء
النجاسة بعد غسل الملاقي نظيرا لهذه الصورة، فيبتني جريان استصحاب
النجاسة على جريان استصحاب الكلي فيها.
لكنه يختص بما إذا اخذ في موضوعه النجاسة، كحرمة الأكل والشرب،
حيث يمكن دعوى كون المأخوذ فيه كلي النجاسة لا أفرادها.
أما ما اخذ في موضوعه الطهارة - كالوضوء الذي يجب أن يكون بالماء
الطاهر - فالظاهر كون الموضوع فيه مركبا من أفرادها بنحو العموم الاستغراقي،
فإحراز عدم بعضها بالأصل وعدم الاخر بالوجدان يكفي في ترتب الأثر، كما
تقدم نظيره في ثمرة الصورة الأولى.
هذا ولو فرض عدم اجتماع النجاستين الذاتية والعرضية كان المقام نظير
ما لو طرء سبب الحدث الأصغر مع احتمال سبق الأكبر، حيث تقدم في ذيل
الكلام في القسم الثاني أنه وإن لم يكن من القسم الثالث إلا أنه نظير له بناء على
أن الأثر للكلي.
بقي في المقام أمران:
الأول: أن ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم إنما هو
بالإضافة إلى نفس الكلي المتحد مع الفرد، أما بالإضافة إلى مسببه وأثره فلا مانع
من الاستصحاب لو فرض الشك في بقاء المسبب لاحتمال وجود فرد آخر من
السبب غير ما علم وجوده سابقا، كما يجري لو احتمل تجدد سبب آخر مباين
للسبب المتيقن في ماهيته، كما لو احتمل بقاء الحرارة بعد غروب الشمس من
جهة الحركة، لان تعدد السبب لا ينافي وحدة المسبب بحيث يصدق البقاء
بالإضافة إليه.
نعم، كثيرا ما يكون الشك في تجدد السبب راجعا إلى الشك في اقتضاء
217

المسبب للبقاء، وهو أمر آخر خارج عن محل البحث، بل لا أثر له في جريان
الاستصحاب بناء على ما تقدم من عمومه للشك المذكور.
ودعوى: أن لازم ذلك جريان الاستصحاب في المسببات الشرعية مع
الشك المذكور، كما لو شك في بقاء الزوجية للشك في حدوث أمد الدائم عند
انتهاء أمد المنقطع.
مدفوعة: بأنه يجري ذاتا لولا كونه محكوما لاستصحاب عدم حدوث
السبب الاخر، المقتضي لانتهاء المسبب بانتهاء أمد السبب الأول. بخلاف
المسببات غير الشرعية، كالحرارة المسببة عن الحركة، فان الاستصحاب في
أسبابها لا ينهض بإثباتها أو نفيها إلا من باب الأصل المثبت، فلا حاكم عالي
الاستصحاب الجاري فيها.
مضافا - في خصوص مثال الزوجية - إلى قرب عدم صحة العقد على
المتمتع بها إلا بعد انقضاء المدة المستلزم لتخلل العدم بين الزوجيتين بمقدار
العقد.
نعم، لا مجال لذلك لو فرض احتمال تجديد المدة.
وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الشك في مثل ذلك في
تجدد فرد آخر من المسبب - كالزوجية الدائمة - لا في بقاء الفرد المتيقن لتعاقب
السببين الذي هو محل الكلام.
ففيه: أن حقيقة الزوجية الدائمة ليست مباينة لحقيقة الزوجية المنقطعة،
كما أن أفراد الزوجية الدائمة أو المنقطعة ليست متباينة في حقائقها، ومع اتحاد
سنخ العرض وعدم تخلل العدم بين أجزائه يكون فردا واحدا مستمرا بنفسه، لا
أفرادا متعددة متباينة لا يكون أحدها بقاء للاخر، كي يمتنع الاستصحاب،
فالمقام نظير الحركة والحرارة المستمرتين بتعاقب أسبابهما.
الثاني: ذكر بعض مشايخنا لاستصحاب الكلي قسما رابعا لم يمنع منه،
218

وهو ما إذا علم بتحقق كليين وارتفاع أحدهما بارتفاع فرده، واحتمل بقاء الآخر
لاحتمال وجوده في ضمن الفرد المرتفع لكونه مجمعا للعنوانين، أو وجوده في
ضمن فرد آخر باق.
كما إذا علم بوجود العالم والقرشي في الدار، ثم عالم بخروج العالم منها
واحتمل بقاء القرشي، لاحتمال كونه هو العالم الخارج، أو غيره الباقي،
فيستصحب القرشي.
وما ذكره في محله، لاجتماع ركني الاستصحاب في العنوان الكلي
المشكوك الذي هو مورد الأثر مع احتمال بقاء الحصة المتيقنة منه.
إلا أنه لا وجه لجعله قسما في قبال القسمين الأولين، بل هو من أفرادهما،
فيكون من أفراد القسم الأول إن كان الفرد الذي حصل الكلي في ضمنه معينا،
وكان الشك في كونه مجمعا للعنوانين، كي يشك في ارتفاعه بارتفاع الفرد
الاخر، ومن أفراد القسم الثاني إن تردد الفرد الذي حصل الكلي في ضمنه بين ما
ينفرد بأحد العنوانين وما يكون مجمعا لهما، حيث يتردد حينئذ بين مقطوع
الزوال ومقطوع البقاء.
ومجرد العلم بوجود الكلي الاخر وتردد الموجود بين الفرد والفردين لا
أثر له بعد كون الفرد الاخر المحتمل فردا لكلي آخر غير الكلي المستصحب مع
احتمال بقاء الكلي المستصحب ببقاء نفس الكلي المتيقن لا غيره.
وإنما امتاز القسم الثالث باحتمال وجود فرد آخر من نفس الكلي
المستصحب مع القطع بزوال الفرد المتيقن منه.
ولو أريد تكثير الأقسام من دون نكتة توجب اختلاف ملاك الكلام فيها
لم تكن متناهية.
في إنه قد فرع على جريان الاستصحاب في هذا القسم جريان
الاستصحاب ذاتا في موردين وإن كان مبتلى بالمعارض..
219

الأول: ما لو كان المكلف متوضئا، ثم. صدر منه وضوء وحدث، واشتبه
عليه المتقدم منهما، واحتمل كون وضوئه الثاني تجديديا قد انتقض بالحدث
المعلوم، فيجري استصحاب كلي الطهارة المتيقن ثبوتها بعد الوضوء الثاني،
حيث يحتمل أن تكون هي الطهارة الأولى فهي مرتفعة، وأن تكون طهارة أخرى
فهي باقية.
وقد يستشكل فيه: بأن المستصحب ليس هو الكلي، بل الطهارة
الشخصية الثابتة حين الوضوء الثاني.
ويندفع: بأن وحده الشخص لا تنافي استصحاب الكلي فيما لو كان الأثر
له، وكان الشك في بقائه للشك في ذلك الفرد - كما في القسم الأول - أو في حاله،
لتردده بين ما هو الباقي والمرتفع - كما في القسم الثاني - كما لعله ظاهر.
نعم، تفريعه على القسم الذي ذكره من استصحاب الكلي لا يخلو عن
إشكال، لعدم احتمال كون المتيقن سابقا مجمعا لعنوانين أحدهما موضوع الأثر
- وهو الطهارة - بل ليس هو إلا فردا لعنوان واحد.
غاية الامر احتمال كونه مجمعا لفردين منها بينهما نحو من الاتحاد لتأكد
أحدهما بالآخر واندكاكه، ولا يعلم وجود العنوان الاخر حتى مغل عنوان الطهارة
التجديدية، بل هو مشكوك.
والامر في ذلك سهل بعد جريان الاستصحاب ذاتا لولا إشكال
الاستصحاب مع تعاقب الحالتين المتضادتين الذي يأتي الكلام فيه في محله إن
شاء الله تعالى.
الثاني: ما لو رأى المكلف في ثوبه منيا وتردد بين أن يكون من جنابة قد
اغتسل منها وأن يكون من غيرها، فيجرى استصحاب كلي الجنابة من حين
خروج ذلك المني المردد بين الفرد السابق المعلوم الانتقاض والجديد
المشكوك الحدوث، بدعوى: أن عدم جريان الاستصحاب في كل من الفردين
220

بخصوصيته للقطع بارتفاع الأول والشك في حدوث الثاني، لا ينافي جريانه في
الكلي المعنون بما حدث عند خروج المني، المعلوم الحدوث والمشكوك
الارتفاع.
ويشكل: بأن هذا الفرع لا ينطبق على القسم المذكور أيضا، لوضوح أنه
ليس في المقام عنوانان قطع بارتفاع أحدهما واحتمل بقاء الاخر، بل ليس
المتيقن إلا عنوان الجنابة على اطلاقه، وعنوان جنابة المني الخاص، والأول قد
تردد بين أن يكون قد وجد في ضمن فرد واحد، فزال بزواله وأن يكون قد
وجد بعد ذلك في ضمن فرد آخر، فهو باق ببقائه، والثاني معلوم الحدوث
مشكوك الزوال.
مضافا إلى الاشكال في أصل جريان الاستصحاب في المقام بأن العنوان
المذكور - وهو عنوان الجنابة الحاصلة حين خروج المني الخاص - إن اخذ قيدا
في المستصحب فمن الظاهر عدم دخله في الأثر المفروض في المقام، لوضوح
أن الأثر الشرعي إنما هو للجنابة بما هي، ولا دخل للخصوصية المذكورة فيها،
واستصحاب الكلي مشروط بأن يكون مأخوذا بعنوانه في موضوع الأثر.
وإن اخذ حاكيا معرفا عما حدث من الجنابة فمن الظاهر أن المحكي به
مردد بين الفرد المعلوم حدوثه، وهو الجنابة الأولى المعلومة الارتفاع، والفرد
المشكوك حدوثه، فهو من استصحاب الفرد المردد بين المعلوم وغيره، فلا
يكون المعلوم الا الفرد الأول، والمفروض العلم بارتفاعه.
وهذا بخلاف مثال الوضوء المتقدم، لوضوح أن زمان الوضوء المعلوم
حدوثه زمان يعلم فيه بوجود الطهارة غير الزمان الأول الذي علم بوجود الطهارة
الأولى المنتقضة فيه وإن احتمل اتصالهما.
ولو بني على جريان الاستصحاب في مثل ذلك انتقض بجميع موارد
الشك في تجدد العارض بعد العلم بارتفاعه، فان استصحاب عدمه على هذا
221

معارض دائما باستصحاب آخر وجود له يعلمه الله تعالى، وإن كان ذلك
الحدوث مرددا بين الحدوث المعلوم المتعقب بالارتفاع، والمشكوك المتأخر
عنه، كما لعله يظهر بالتأمل.
على أنه لا مجال لاستصحاب الفرد في المقام أيضا، لعدم دخل
خصوصيته في الأثر، بل الآثر لكلي الجنابة معرى عن كل خصوصية.
نعم. يمكن أن يؤخذ حدوث المني الخاص ظرفا لزمان العلم بالجنابة
بأن يراد استصحابها من حينه - لا قيدا في المستصحب، ولا حاكيا معرفا له -
فيأتي فيه ما يأتي في تعاقب الحالتين المتضادتين إن شاء الله تعالى. والله سبحانه
وتعالى ولي العصمة والسداد.
222

المقام الثاني
في استصحاب المردد
لابد في استصحاب الكلي بما له من الأقسام المتقدمة من كون موضوع
الأثر هو الجهة الجامعة بين الافراد بما لها من الحدود المفهومية، مع اجتماع
ركني الاستصحاب فيها من اليقين والشك فيها بتلك الحدود.
وعليه يبتني عدم جريان الاستصحاب في موردين..
الأول: في المفهوم المردد بأن كان الشك في بقاء المفهوم - الذي هو
موضوع الأثر - ناشئا من تردده وإجماله، كما إذا تردد مفهوم العادل بين مجتنب
الكبيرة فقط ومجتنب جميع الذنوب وكان زيد مجتنب الجميع ثم ارتكب
الصغيرة، حيث لا مجال لاستصحاب عدالته حينئذ، وإن اجتمع اليقين والشك
في صدق عنوان العدالة، لان موضوع الأثر ليس هو صدق العنوان وصحة
إطلاقه، بل الواقع الذي يحكي عنه العنوان وينتزع منه، فلابد من اجتماع ركني
الاستصحاب في منشأ انتزاعه، والمفروض عدمه في المقام، لان المعنى الأول
معلوم البقاء، والثاني معلوم الارتفاع.
نعم، لا يعتبر اليقين والشك التفصيليان، بل يكتفي بالاجمالي منهما،
لاطلاق دليلهما، كما لو علم بوجود منشأ انتزاع العنوان وشك في بقائه بنفسه
على ما هو عليه من الاجمال، من دون أن يكون إجماله دخيلا في الشك.
ولعله ظاهر.
الثاني: في الفرد المردد، بأن لا يكون الأثر للكلي الجامع بين الفردين، بل
للفرد بما له من الحدود الواقعية المميزة له عن غيره، ولا يكون بتلك الحدود
223

موردا لليقين والشك التفصيليين، ولا الاجماليين، وإن أمكن فرضه بالإضافة إلى
العنوان المردد الحاكي عن كل منهما بما له من الخصوصية، كعنوان (أحدهما).
فلو علم إجمالا بنجاسة أحد الانائين، ثم احتمل تطهيره، ولاقى الثوب
أحدهما، فلا مجال لاستصحاب نجاسة أحدهما لاثبات تنجس الثوب، لان
الموجب لنجاسة الثوب هو نجاسة الملاقى بخصوصيته، ولا دخل للعنوان
المذكور في ذلك، ومن ثم لا ينفع العلم ببقاء نجاسة أحدهما في إثبات تنجسه،
وإنما ينفع الاستصحاب المذكور لو كان الأثر لتنجس أحدهما على ما هو عليه
من الترديد.
بل لابد في إثبات تنجس الثوب من كون الملاقى بخصوصيته موردا
لليقين والشك ولو إجمالا، بان علم بملاقاته لما كان نجسا سابقا ولو لم يتميز
لنا، إما صدفة أو لملاقاته لهما معا، لما أشرنا إليه آنفا من عموم دليل
الاستصحاب لليقين والشك الاجماليين.
وكذا لو اشترك الفردان بخصوصيتهما في أثر واحد واجتمع ركنا
الاستصحاب في العنوان الترديدي دون كل منهما بخصوصيته، كما لو نذر
شخص أن يتصدق كلما بقي زيد في الدار يوما، وحلف أن يتصدق أيضا كلما
بقي عمرو في الدار، فعلم بدخول أحدهما واحتمل بقاءه لتردده بينهما فإن كان
زيدا فهو باق قطعا، وإن كان عمرا فهو خارج قطعا.
فإنه لا مجال لاستصحاب أحدهما بخصوصيته، لعدم كونه موردا لليقين
والشك ولو إجمالا، كما لا مجال لاستصحاب أحدهما على ما هو عليه من
الترديد، لعدم كونه بالوجه المذكور موضوعا للأثر، بل استصحاب عدم دخول
زيد بضميمة العلم بعدم بقاء عمرو يقضي بعدم وجوب الصدقة.
نعم، لو علم بدخول أحدهما إجمالا، ولم يكن تردده بينهما منشأ للشك
المذكور اتجه استصحاب بقائه على ما هو عليه من إجمال، لما تقدم من عموم
224

اليقين والشك للاجمالين، فيجري عليه حكم العلم الاجمالي بثبوت أحد
الامرين.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن الاستصحاب يجري في الكلي، وفي
الفرد الاجمالي، دون الفرد المردد.
وأن المعيار في الأول أن يتعلق اليقين والشك بالعنوان الكلى، الذي هو
موضوع الأثر.
وفي الثاني أن يتعلق اليقين والشك بالفرد بذاته أو بعنوانه الخاص على ما
هو عليه من إجمال، ويكون الأثر متعلقا به كذلك من دون دخل للعنوان المعلوم
بالتفصيل فيه.
أما الثالث فالمعيار فيه أن يتعلق اليقين والشك بالعنوان الترديدي،
ويكون موضوع الأثر هو الفرد بذاته أو بعنوانه من دون أن يكون موردا لليقين
والشك حتى الاجماليين.
ولا ينبغي الاشكال في شئ من ذلك بعد ملاحظة ما تقدم في أركان
الاستصحاب وشروطه.
وأما خلافهم في الشبهة العبائية فهو وإن ابتنى في الجملة على ذلك، إلا
أنه لا يبعد كون مرجعه إلى الخلاف في الصغرى لا في الكبرى المذكورة.
ومن هنا ناسب التعرض لها في المقام، تبعا لغير واحد من الاعلام.
وهي أنه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباءة، ثم طهر الجانب الأيمن منها،
ثم لاقت اليد كلا الجانبين برطوبة، فقد يدعى أن مقتضى استصحاب نجاسة
النجس نجاسة اليد، مع أنها لو لاقت الأيسر فقط لم يحكم بنجاستها - بناء على
ما هو المعروف من عدم الحكم بانفعال أحد أطراف الشبهة المحصورة -
وملاقاتها للجانب الأيمن الطاهر لا أثر لها في الانفعال.
وقد التزم بعضهم بمقتضى الاستصحاب المذكور، ومنهم بعض
225

مشايخنا، مدعيا: أن ملاقاة الجانب الطاهر وإن لم يكن لها الأثر ثبوتا في تنجس
الملاقي، إلا أنها لما كانت موجبة للعلم بملاقاة مستصحب النجاسة كانت سببا
في إحراز انفعال الملاقي وحكومة الاستصحاب المذكور على استصحاب
طهارة الملاقي. وبهذا يفترق المقام عن سائر موارد ملاقاة أحد أطراف الشبهة
المحصورة، حيث لا حاكم فيها على استصحاب طهارة الملاقي، لعدم إحراز
نجاسة الملاقى.
وصريح تقرير درسه أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الكلي،
ومقتضى مساق كلامه أنه من القسم الثاني منه.
وفيه: أنه إن أراد استصحاب الكلي بالإضافة إلى نفس النجاسة فهو إنما
يكون من القسم الثاني لو كان منشأ الشك هو اختلاف افراد النجاسة بالطول
والقصر، بأن ترددت بين الولوغ وغيره، ومن الظاهر خروج ذلك عن مفروض
الكلام، وإن الشك في بقاء النجاسة ناشئ من التردد في النجس، فهو بالإضافة
إلى النجاسة من القسم الأول، لا الثاني.
وإن أراد استصحاب الكلي بالإضافة إلى النجس الراجع إلى نجاسة الامر
الكلي المحتمل الانطباق على كل من الطرفين، وهو عنوان ما لاقى النجاسة
سابقا مثلا، فمن الظاهر أن العنوان المذكور ونحوه من العناوين المفروضة
لا دخل لها في الأثر الشرعي، وهو الانفعال، لوضوح أن موضوعه هو النجس
فعلا بذاته وخصوصيته، لا بعنوان كونه النجس سابقا، وليس العنوان المذكور
إلا حاكيا محضا عما هو موضوع الاستصحاب، لا قيدا فيه ليكون من استصحاب
الكلي.
فلابد من الكلام في أنه هل يجري الاستصحاب المذكور بالإضافة إلى
الفرد بخصوصيته أو لا؟
وقد منع من ذلك غير واحد لاحد وجوه..
226

الأول: ما عن بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الأولى من درسه من أن محل
الكلام في القسم الثاني لاستصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن
السابق بهويته مرددا بين مقطوع البقاء والارتفاع، دون ما إذا كان الاجمال
والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته، بل يمتنع فيه حينئذ
جريان الاستصحاب، كما يمتنع جريانه في الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي
الترديد، كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد محله بين أحد
جانبيها، وانهدم الجانب الغربي، احتمل تلفه بانهدامه، أو علم بوجود درهم
خاص لزيد بين مجموعة دراهم ثم ضاع أحدها، ومنه المقام، حيث يتردد محل
النجاسة بين الطرفين مع العلم بارتفاعها عن أحدهما على تقدير وجودها فيه.
وفيه: أنه لا ينهض ببيان الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الموارد
المذكورة لو فرض ترتب الأثر على المستصحب بنفسه، كما تقدم تقريبه في
المقام.
غايته أنه لا يكون من القسم الثاني لاستصحاب الكلي، بل من
استصحاب الفرد، لفرض قيام الأثر به لا بالكلي.
نعم، لا يحرز بالاستصحاب في الموارد المذكورة أن المشكوك في
المحل الباقي، كما لم يحرز باستصحاب الكلي وجوده في ضمن الفرد الطويل،
لأنه من أوضح أفراد الأصل المثبت.
لكن ترتب الأثر في المقام لا يتوقف على ذلك، إذ يكفي في إثبات
نجاسة الملاقي استصحاب نجاسة الملاقى وإن لم يتعين أنه في الجانب الأيسر.
ومنه يظهر حال ما أورده على استصحاب الفرد المردد من أن
الاستصحاب انما يحرز بقاء المشكوك، من دون أن يحرز أنه الفرد الباقي.
فراجع وتأمل.
هذا، مع أن الشك في المقام وإن كان في محل المستصحب وهو النجاسة،
227

إلا أنه راجع إلى الشك في هويته وحقيقته، لوضوح أن المراد بالمحل ليس هو
ظرف المستصحب، كأحد جانبي الدار بالإضافة لحيوان الخاص، بل موضوعه،
لان النجاسة من الاعراض التي تقوم بموضوعها لا بنفسها، ومن الظاهر تقوم
العرض بموضوعه وتبدله بتبدله. بل لا ريب في أن تردد درهم زيد بين الدراهم
ليس من التردد في المستصحب، بل في هويته وحقيقته، لاحتمال اتحاده مع كل
منها مع تباينها في أنفسها، والتعبير بوجوده في ضمنها مجازي بلا إشكال.
الثاني: ما عنه أيضا في الدورة الثانية من عدم الأثر للاستصحاب،
في المقام.
أما بالإضافة إلى ما يعتبر فيه إحراز الطهارة - كالصلاة - فلان عدم جواز
الدخول فيه يترتب على نفس الشك في الطهارة بلا حاجة إلى استصحاب
النجاسة.
وأما بالإضافة إلى نجاسة الملاقي فلان الاستصحاب المذكور لا يحرز إلا
بقاء نجاسة الملاقى، وهو لا يكفي في الحكم بنجاسة الملاقي، بل للأبد فيه من
إحراز ملاقاة النجس، والاستصحاب لا يحرزه.
ويندفع: أما بالإضافة إلى ما يعتبر فيه إحراز الطهارة فبأنه إنما يتم لو كان
الاحراز هو الشرط ثبوتا، وهو فرض لا يظهر له واقع، وليس الشرط في الصلاة
إلا الطهارة الواقعية، ولزوم إحرازها إنما هو لقاعدة الاشتغال، وهي مورودة
لاستصحاب النجاسة وعدم الطهارة، ولا تمنع منه.
وأما بالإضافة إلى نجاسة الملاقي فبأن الملاقاة لما كان نجسا محرزة
بالوجدان، فيتم بها موضوع الانفعال بضميمة الاستصحاب المذكور، كما هو
الحال في سائر موارد مستصحب النجاسة.
الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره وغيره من أن استصحاب
نجاسة ما كان نجسا - المفروض ملاقاته في المقام - من استصحاب الفرد المردد
228

الذي تقدم عدم جريانه.
وكأن الوجه فيه: أن موضوع الانفعال هو ملاقاة الجسم النجس
بخصوصيته الخارجية من دون دخل لعنوان خاص فيه، فكل عنوان يفرض
للطرف المعلوم سبق النجاسة له لا دخل له في الأثر، ليمكن أخذه في
المستصحب، ويكون من استصحاب الكلي، بل ليس العنوان المفروض إلا
حاكيا محضا عن الذات على ما هي عليه من الحدود الواقعية، وحيث كانت
الذات المذكورة مرددة بين ما هو معلوم الطهارة - وهو الجانب الأيمن في
المثال - وما هو مشكوك النجاسة من أول الامر، لم يجر الاستصحاب فيها، لعدم
تمامية ركنيه في كلا طرفي الترديد.
وفيه: أن ذلك إنما يخرج الاستصحاب المذكور عن استصحاب الكلي،
ولا يجعله من استصحاب الفرد المردد، بل هو من استصحاب الفرد الاجمالي،
الذي تقدم جريانه، لوضوح تعلق اليقين والشك بالفرد بخصوصيته الواقعية
على ما هو عليه من إجمال، وهو بذلك يكون موضوعا للأثر، ولا دخل
للخصوصيتين التفصيليتين فيه، ليكون عدم تمامية ركني الاستصحاب فيهما
مانعا من الاستصحاب، فهو نظير استصحاب نجاسة أحد الانائين عند احتمال
تطهيره، مع تردده بين طرفين كل منهما بخصوصيته التفصيلية مشكوك النجاسة
من أول الامر، فالفرد الذي هو موضوع الأثر في المقام مورد لليقين والشك
الاجماليين، فلا يكون من استصحاب الفرد المردد، على ما تقدم بيان الضابط
له ولاستصحاب الكلي والفرد الاجمالي. فراجع.
ولعل الأولى في منع جريان الاستصحاب في المقام ما تقدم منا في التنبيه
الرابع من تنبيهات مبحث العلم الاجمالي من امتناع التعبد بالتكليف الاجمالي
بين طرفين يعلم بعدم التكليف تفصيلا في أحدهما، لما أشرنا إليه هناك من أن
مقتضى الاستصحاب وسائر الأصول، القواعد التعبدية هو التعبد بمؤدياتها
229

وتنجيزها على كل حال، بنحو يقتضي العلم على طبقها مطلقا، سواء كان
مؤداها تفصيليا أم إجماليا، فكما يكون جريانها في مورد تفصيلي مقتضيا
لمتابعتها فيه بالخصوص، كذلك يكون جريانها في مورد إجمالي مقتضيا
لمتابعتها فيه وتنجيزه على ما هو عليه من إجمال، فيلزمه ترتيب الأثر عليه وإن
انطبق على أي طرف من أطراف الاجمال.
ويمتنع التعبد بالوجه المذكور مع العلم التفصيلي بعدم ترتب الأثر في
خصوص أحد الطرفين - الذي هو حجة ذاتية وعلة تامة في التنجيز والتعذير
صالحة للعمل - لامتناع جعل الحكم الظاهري على خلاف العلم التفصيلي،
سواء كان الحكم الظاهري إجماليا أم تفصيليا.
وغاية الفرق بينهما: أن امتناع التعبد الظاهري التفصيلي معه لاستلزامه
التعبد بالمتنافيين قطعا، وامتناع التعبد الظاهري الاجمالي لاستلزامه اجتماع
المتنافيين احتمالا، وهو ممتنع كالقطع باجتماع المتنافيين.
وما هو المعروف من عدم التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري. مختص
بما إذا لم يصل الحكم الواقعي بنحو يترتب عليه العمل، كما إذا كمان مشكوكا
بدوا، أو كان ترخيصا معلوما بالاجمال، حيث لا يكون العلم الاجمالي
بالترخيص مصححا للعمل في كل طرف بخصوصه، فلا يمنع من التعبد
الظاهري بالتكليف في أحدهما بالخصوص.
لا في مثل المقام، حيث فرض العلم التفصيلي بعدم التكليف في بعض
الأطراف بخصوصه، فإنه حجة ذاتية مؤمنة من التكليف صالحة لترتب العمل
فعلا فيه، ولا مجال معه للتعبد الاجمالي بالتكليف في موضوع قابل لان ينطبق
عليه.
وقد استشهدنا لذلك هناك: بأنه لو فرض خطأ القطع التفصيلي بعدم
التكليف في بعض الأطراف وبقاء التكليف الذي كان معلوما بالاجمال فيه لزم
230

من جريان الاستصحاب المذكور استحقاق العقاب بارتكابه، لمخالفته للتكليف
الواقعي والظاهري معا، ولا مجال له قطعا، لمنافاته لحجية القطع التفصيلي وإن
كان خطأ.
نعم، لو كان مفاد دليل التعبد بالمضمون الاجمالي على تقدير انطباقه
على الطرف الخالي عن المانع لا مطلقا وعلى كل حال أمكن جريانه في المقام،
لعدم منافاته عملا للعلم المفروض.
لكن التعبد الاستصحابي وغيره من التعبدات التي بأيدينا ليست من هذا
القبيل، بل مقتضاها التعبد بالمضمون على كان حال. بل كثيرا ما يكون هذا
مقتضى العلم الاجمالي بلا حاجة إلى التعبد، حيث كثيرا ما يعلم بأن عدم انطباق
المعلوم بالاجمال السابق على مورد العلم التفصيلي بعدم التكليف مستلزم
لبقائه في الطرف الآخر.
نعم، قد يفرض الشك في ذلك بأن يحتمل ارتفاعه عن كلا الطرفين،
فيحتاج إحراز بقائه كذلك للتعبد الظاهري.
إن قلت: بعد فرض وجود المانع عن التعبد بنحو الاطلاق يتعين الحمل
على الوجه المذكور، فإنه أقرب لاطلاق دليل التعبد من إلغائه في المورد رأسا،
لأجل المانع المفروض. فهو نظير ما إذا امتنع التعبد ببعض آثار المستصحب،
حيث لا يلغى دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الآثار الاخر التي لا مانع من التعبد
بها.
قلت: إن كان المراد تقييد التعبد بما إذا انطبق الموضوع على الطرف
المشكوك، فهو - مع أنه كثيرا ما يستغنى عنه بالعلم كما تقدم - لا ينفع في ترتيب
أثر الامر المتعبد به، لعدم إحراز قيد التعبد.
وإن كان المراد تنجيز احتمال وجوده في الطرف المشكوك، وإن لم يحرز
أنه فيه، فهو خارج عن مفاد التعبد، راجع إلى مفاد الاحتياط، فلا مجال لحمل
231

دليل التعبد عليه، لعدم رجوعه إلى تقييد دليله والتفكيك فيه بين المداليل أو
الموارد، فليس الحمل عليه مقتضى الجمع العرفي، ليتعين في مقام العمل، بل
تقييد إطلاق دليل التعبد مع الإضافة إلى المورد المذكور رأسا هو المتعين.
والمتحصل: أن التعبد بالتكليف الاجمالي لما كان مقتضيا لتنجيز مؤداه
على كل حال فهو مناف للعلم التفصيلي بعدم ثبوت التكليف في بعض الموارد،
فيمتنع جعله حينئذ. من دون فرق في ذلك بين التعبد الاستصحابي وغيره، ولا
بين استصحاب الفرد واستصحاب الكلي لو فرض جريانه في المقام.
هذا، ولو كان عدم التكليف في بعض الأطراف معلوما بالاجمال، كما لو
علم بتطهير أحد الطرفين في الفرض إجمالا فالوجه المتقدم لا يمنع من التعبد
ببقاء التكليف المعلوم بالاجمال المقتضي لتنجزه على كل حال، لان العلم
الاجمالي بعدم التكليف في بعض الأطراف لا يصلح للتأمين والعمل في كل
منها بخصوصه للشك في انطباقه عليه.
ولازم ذلك أنه لو فرض اشتباه الطرف الذي طهر بعد العلم به تفصيلا
يرتفع المانع من استصحاب نجاسة النجس، ويحكم بانفعال ملاقي كلا
الطرفين، كما يحكم به لو فرض اشتباه ما طهر من أول الامر. بل لازم ذلك الحكم بعد حدوث التردد بانفعال ملاقي كلا الطرفين حين
وجود العلم التفصيلي، لان عدم جريان الاستصحاب حين الملاقاة لوجود
المانع لا ينافي جريانه بعدها والحكم بترتب الأثر لأجله لارتفاع المانع منه.
وكلامهم في تحرير الشبهة قاصر عن صورة تردد ما طهر، والالتزام
بجريان الاستصحاب فيه مما تأباه المرتكزات جدا، ولا سيما بعد الالتفات
للازم المذكور.
ومن هنا لم يبعد عدم جريان الاستصحاب فيه أيضا كما في صورة العلم
تفصيلا بما طهر لوجهين..
232

الأول: جريان الاستصحاب المعارض له، فإنه كما يكون مقتضى
استصحاب نجاسة ما كان نجسا هو نجاسة الملاقي، كذلك يكون مقتضى
استصحاب طهارة الطرف الذي لم يطهر بضميمة العلم بطهارة الطرف الذي
طهر عدم نجاسته، لوضوح أن نجاسة الملاقي لما كانت تستند لملاقاة الطرف
النجس بخصوصيته على ما هو عليه من حدود واقعية فالأصل الجاري في كل
طرف بخصوصيته يترتب عليه الأثر، سواء أشير للطرف تفصيلا أم إجمالا.
فإذا أحرز طهارة أحد الطرفين تفصيلا أو إجمالا بالوجدان وعدم نجاسة
الاخر بالتعبد يتعين البناء على طهارة ملاقيهما معا، وعدم تأثير ملاقاة كل منهما
في نجاسته، على خلاف مقتضى استصحاب النجاسة الاجمالي المدعى، بل
يتعارضان ويتساقطان ويرجع لاستصحاب الطهارة في الملاقي.
إن قلت: لا مجال لمعارضة استصحاب النجاسة باستصحاب الطهارة في
المقام، بل يتعين تقديم استصحاب النجاسة، كما يقدم فيما لو علم بتنجس أحد
الطرفين واحتمل تطهيره ثم لاقاهما جسم واحد، حيث لا إشكال في البناء على
نجاسة الملاقي، مع أن مقتضى استصحاب طهارة كل منهما بخصوصه طهارته،
بناء على ما هو الحق من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ذاتا،
وإنما يسقط بالمعارضة للزوم المخالفة القطعية للتكليف الاجمالي غير الحاصل
في المقام، لاحتمال طهارة الملاقي لهما تبعا لاحتمال تطهير ما تنجس منهما،
فلولا تقديم استصحاب نجاسة النجس لم يكن وجه للبناء على نجاسة
الملاقي، فكذا في المقام.
قلت: جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي ذاتا يختص بما إذا
الفرد كل منها بأثر، كما لو كان لكل منها ملاق خاص به، لان كلا من الاثرين
المتعبد بهما مشكوك قابل للتعبد، أما إذا اشتركا في أثر واحد، فلا مجال
لجريانهما، للعلم بكذب التعبد بذلك الأثر بعد فرض كذب أحدهما إجمالا،
233

ومنه استصحاب طهارة كل منهما لاثبات طهارة الجسم الواحد الملاقي لهما معا
حيث يعلم بكذب التعبد بطهارته من حيثية بقاء طهارة كل منهما بعد فرض
العلم بتنجس أحدهما، كما هو الحال في المثال المفروض.
نعم، يمكن طهارته بسبب بقاء طهارة أحدهما المعلومة سابقا وارتفاع
نجاسة الاخر الحادثة. إلا أنه ليس مفاد الاستصحاب المذكور، فالعمل
باستصحاب النجاسة في المثال المذكور ليس لتقديمه على استصحاب طهارة
كل منهما، بل لعدم جريان استصحاب طهارة كل منهما ذاتا.
بخلاف المقام لاحتمال طهارة الملاقي بسبب طهارة أحد الطرفين
المحرزة بالوجدان وبقاء طهارة الاخر المعلومة سابقا الذي هو مقتضى
الاستصحاب، فلا مانع من التعبد بها تبعا له ومعارضة استصحاب نجاسة
النجس بذلك، ولا وجه معه لتقديم استصحاب النجاسة.
بل لا مانع من التمسك بأصالة الطهارة في الظرف الاخر - لو في فرض الجهل
بحالته السابقة - ولا مجال لحكومة استصحاب نجاسة النجس عليها بعد عدم
إحراز اتحاد موضوعهما، لفرض إجمال موضوع أحدهما أو كليهما.
وهذا الوجه بنفسه صالح للجواب عن الشبهة العبائية على عمومها، بلا
حاجة إلى تكلف المنع من جريان الاستصحاب الاجمالي المفروض.
الثاني: أن مانعية العلم عن جعل الحكم الظاهري ليست بلحاظ التنافي
العملي بينهما، بل بلحاظ وصول الواقع مع العلم بنحو لا مجال معه للتعبد
الظاهري، ولذا كان العلم مانعا من جعل الحكم الظاهري على طبقه، كما كان
العلم الاجمالي بعدم التكليف مانعا عن جعل فعلية الحكم الظاهري في جميع
الأطراف على خلافه، على ما تقدم في مبحث حرمة المخالفة القطعية للعلم
الاجمالي.
وإنما يصح التعبد بالتكليف في بعض أطراف العلم الاجمالي بعدمه،
234

لعدم التنافي بينهما، لعدم ابتناء الجعل الظاهري في الطرف الواحد على فرض
احتمال انطباق المعلوم بالاجمال عليه، بل على رفع اليد عن الاحتمال المذكور
وإلغائه عملا، فإذا علم بطهارة أحد الانائين وكان الخزف منهما مستصحب،
النجاسة، فمقتضى الاستصحاب المذكور إلغاء احتمال انطباق المعلوم
بالاجمال عليه.
غاية الامر أنه يحتمل خطأ الحكم الظاهري، وهو لا يمنع من جعله، بل
لابد منه فيه، لان موضوعه الشك.
أما في المقام فحيث كان اليقين الاجمالي أو التفصيلي بتحقق الطهارة
لاحد الأطراف في ظرف الحكم الظاهري بالنجاسة الذي ينقحه الاستصحاب،
لفرض اتحاد سببهما، فاستصحاب النجاسة لا يبتني على إلغاء احتمال انطباق
موضوع النجاسة الظاهرية على موضوع الطهارة الواقعية المعلوم إجمالا أو
تفصيلا، بل يبقى التردد على ما هو عليه، فيمتنع جعل الحكم الظاهري حينئذ،
لاستلزامه احتمال اجتماع المتنافيين، كما ذكرناه آنفا، ولا خصوصية للعلم
التفصيلي في ذلك.
ومجرد عدم صلوح العلم الاجمالي للعمل في كل طرف بخصوصه ليس
فارقا، بل قد يدعى أنه يكفي في العمل المترتب على معلوم التطهير بالاجمال
عدم سببية ملاقاته للتنجيس، حيث يترتب الأثر عليه بضميمة استصحاب
طهارة الطرف الآخر - كما تقدم في الوجه الأول - ومثل هذا الأثر العملي الضمني
كاف في احتمال التنافي العملي بين العلم واستصحاب نجاسة النجس، فيمتنع
من جريان الاستصحاب المذكور.
وينبغي التأمل التام في هذا الوجه، لأهميته جدا بعد مطابقته للمرتكزات،
ونهوضه بدفع الشبهة على عمومها، وإن أمكن الاستغناء عنه بالوجه الأول. والله
سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
235

الفصل الرابع
في استصحاب الأمور التدريجية
من الظاهر أن المستصحب هو النسبة القائمة بأطرافها، سواء كانت بمفاد
(كان) التامة أم بمفاد (كان) الناقصة أم غيرهما. وعليه فموضوع النسبة..
تارة: لا يكون له أجزاء خارجية، كالعدالة المحمولة على زيد.
وأخرى: يكون له أجزاء خارجية، ويكون قيام النسبة به بلحاظ قيامها
بأجزائه.
ولا كلام في الأول.
أما الثاني فقيام النسبة بأجزائه..
تارة: يكون بقيامها بمجموع الاجزاء دفعة واحدة، لكونه أمرا قارا تجتمع
أجزاؤه في الوجود، كالثوب الذي يحمل عليه الوجود أو البياض بلحاظ قيامهما
بتمام أجزائه.
وأخرى: يكون بقيامها بأجزائه تدريجا، فهي لا تقوم إلا بجزء واحد على
نحو التعاقب بين الاجزاء، إما لأنه أمر تدريجي لا تجتمع أجزاؤه في الوجود،
كالكلام والحركة، أو لان قيام العرض به على هذا النحو وإن كان هو أمرا قارا
مجتمع الاجزاء، كمس الجسم المدور من طرف واحد حال دورانه. بل هو
بلحاظ نفس العرض - كالمس - يكون تدريجيا أيضا، لتباين أجزائه وتعاقبها
بلحاظ تباين أجزاء المعروض حقيقة وتعاقبها في الاتصاف بالعرض خارجا.
والكلام في استصحاب الأمور التدريجية يختص بهذا القسم، ويقابل
237

استصحاب الأمور القارة التي يراد منها الأعم مما ليس له أجزاء خارجية -
كالعدالة - ومن القسم الأول لذي الاجزاء.
إذا عرفت هذا، فقد يستشكل في جريان الاستصحاب في الأمور
التدريجية بعدم اجتماع ركنيه فيها، لان ما علم وجوده سابقا من أجزائها معلوم
الارتفاع، وغيره مشكوك الحدوث، فالأصل عدمه، وليس هناك أمر واحد معلوم
الحدوث مشكوك البقاء.
وقد دفع غير واحد الاشكال المذكور بما يرجع إلى أن بقاء كل شئ
بحسبه، وبقاء الأمور التدريجية إنما هو بتعاقب أجزائها، وهو لا يخل بوحدتها،
ولا بصدق اليقين والشك فيها.
فإذا فرض أن موضوع الأثر هو النسبة الواحدة القائمة بالمجموع بهذا
النحو، لا النسب المتعددة القائمة بالاجزاء المتكثرة، تعين جريان الاستصحاب،
لتمامية ركنيه فيها. وليس ذلك مبنيا على التسامح العرفي في البقاء - كما يظهر
من بعض كلماتهم - بل هو مبني على البقاء الحقيقي لما يفرض كونه موضوع
الأثر بعد النظر في الأدلة، ولا بتوسط ما يفهمه العرف منها، وقد تقدم في محله
أن ذلك هو المعيار في جريان الاستصحاب.
ومنه يظهر عدم الفرق بين ما تكون وحدته باتصال أجزائه حقيقة وعدم
تخلل العدم بينها أصلا، كجريان الماء من الميزاب، وما تكون وحدته بتعاقب
أجزائه مع تخلل العدم بينها، كتقاطر الماء، والكلام، ونحوهما مما لا اتصال
حقيقة بين أجزائه، لان المعيار احتمال بقاء موضوع الأثر على ما هو عليه، وهو
حاصل في الفرض.
نعم، لو لم يكن البقاء حقيقيا، بل كان تسامحيا بنظر العرف لم يجر
الاستصحاب، كما لو فرض العلم بالعدم في أمد قليل في ما تكون وحدته
باتصال أجزائه، أو في أمد أكثر مما يغتفر في وحدة ما تكون وحدته بتعاقب
أجزائه. والظاهر خروجه عن محل كلامهم.
238

هذا، وقد أشار المحقق الخراساني قدس سره إلى وجه آخر في دفع الاشكال،
وحاصله: أن الانصرام والتدرج في التدريجيات إنما هو في الحركة القطعية،
وهي كون الشئ في مكان أو حال غير ما كان فيه في الان السابق، فهو في خلع
ولبس مستمر. أما الحركة التوسطية، وهي كونه بين المبدأ والمنتهى، الملازم
لقطعه المسافة بينهما، فلا تدرج ولا تصرم فيها، بل هي من الأمور القارة لأنها
أمر بسيط منتزع من سيره بين الحدين.
ويشكل: بأن ما هو الامر الحقيقي هو كون الشئ في كل آن في حال أو
مكان مباين لما كان عليه في الان السابق، وهو عبارة عن تباين الحالات
المتعاقبة عليه. وليست الوحدة المصححة للاستصحاب إلا وحدة اعتبارية، إما
بلحاظ الوحدة بين الحالات المتعاقبة، بفرضها أمرا واحدا مستمرا، الذي هو
قوام الحركة القطعية، أو بلحاظ ما ينتزع منها من كونه حال سيره بين الحدين،
الذي هو قوام الحركة التوسطية.
فان لم تكن الوحدة الاعتبارية مصححة لجريان الاستصحاب لم ينفع
ملاحظة الحركة التوسطية في البين، وإن كانت مصححة له أمكن جريانه بلحاظ
كلتا الحركتين، ويكون المدار على ما يفهم من الأدلة في تعيين موضوع الأثر
منهما.
بقي في المقام تفصيلان ينبغي الإشارة إليهما..
الأول: ما يظهر من المحقق الخراساني قدس سره، وتوضيحه: أن الشك في
استمرار العرض التدريجي - كالسيلان والجريان والتقاطر -..
تارة: يكون للشك في انتهاء العرض مع إحراز الموضوع، كما لو احتمل
توقف الماء عن الجريان مع العلم بكميته وأنه بنحو قابل لاستمرار الجريان.
وأخرى: يكون لاحتمال انتهاء الموضوع المعلوم للشك في كميته.
وثالثة: لاحتمال قيام موضوع آخر مقام الموضوع السابق مع العلم
239

بانتهائه، كما لو احتمل تولد ماء آخر غير ما كان أولا مع العلم بانتهاء ما كان أولا.
وظاهره قدس سره جريان الاستصحاب في الصورة الأولى، مع الاشكال في
جريانه في الثانية، فضلا عن الثالثة، لأن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما
كان جاريا، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك
في حدوثه. وكأنه راجع إلى دعوى أنه راجع إلى القسم الثالث لاستصحاب
الكلي.
وقد يستشكل فيه: بأن مبنى الاستصحاب في التدريجيات لما كان على
الوحدة الاعتبارية المتقومة باتصال الاجزاء، فالشك في كمية الماء مع اتصال
أجزائه لا يوجب تعدد فرده، فليس الشك إلا في وجود الفرد الواحد. فهو نظير
القسم الثاني لاستصحاب الكلي.
ومنه يظهر أنه لا مجال لذلك حتى في الصورة الثالثة، لان استمرار
الجريان موقوف على اتصال الماء الحديد المحتمل بالماء السابق المعلوم
المساوق لاحتمال وحدتهما ولو في آخر أزمنة جريان الماء السابق.
نعم، قد يتجه ذلك في مثل التقاطر الذي لا يستلزم استمراره وحدة الماء
المتقاطر واتصال أجزائه.
إلا أن يقال: لما كان موضوع الأثر هو التقاطر أو السيلان أو نحوهما من
الاعراض التدريجية، فالمعيار في الاستصحاب على وحدتها عرفا، وحيت لم
تكن وحدتها موقوفة على وحدة المعروض، بل كان المعيار فيها التعاقب
والاتصال، تعين مع الوحدة بالوجه المذكور جريان الاستصحاب فيها وكونه من
القسم الأول لاستصحاب الكلي وإن تعدد معروضها بالوجه المذكور، ولا يكون
من القسم الثاني، فضلا عن الثالث.
الثاني: ما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره وغيره، وتوضيحه: أن الشك في
بقاء الامر التدريجي..
240

تارة: يكون للشك في عروض المانع من استمراره مع إحراز المقتضي
له، كما لو علم بشروع القارئ في القراءة لداع يقتضي استمراره ساعة، ثم احتمل
عروض ما يمنعه من الاستمرار المذكور.
وأخرى: يكون للشك في مقدار اقتضاء المقتضي الأول.
وثالثة: يكون لاحتمال تجدد مقتض آخر للاستمرار مع القطع بانتهاء أمد
اقتضاء المقتضي الأول.
ولا إشكال في تحقق الوحدة العرفية في الصورتين الأوليين، فيجري
الاستصحاب فيها معا بناء على عموم حجيته، وفي الأولى فقط بناء على
اختصاصه بالشك في الرافع، كما أشار إليه بعض الأعاظم.
وما يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من جريانه فيها لا يناسب مبناه في
الاختصاص المذكور، إلا أن يكون نظره لجريانه من حيثية الوحدة المعتبرة فيه
مع قطع النظر عن التفصيل المذكور.
كما أنه قد يظهر منه جريان الاستصحاب مع الشك في مقدار اقتضاء
المقتضي ولو مع العلم بالانقطاع إذا احتمل ارتفاع ما أوجبه وعود المعلول..
قال قدس سره: " وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم
عليه بالحيضية أم لا، فيمكن إجراء الاستصحاب، نظرا إلى أن الشك في اقتضاء
طبيعة الرحم لقذف الدم في أي مقدار من الزمان، فالأصل عدم انقطاعه. وكذا لو
شك في اليأس فرأت الدم، فإنه قد يقال باستصحاب الحيض، نظرا إلى كون
الشك في اقتضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كل شهر ".
وفيه: أنه بعد فرض الانقطاع لا معنى لاستصحاب عدمه في المثال، ولا
لاستصحاب نفس الامر المنقطع - كالحيض - في المثال الثاني، بل المتعين
استصحاب عدم الامر المنقطع. ومجرد احتمال سعة اقتضاء المقتضي الأول لا
يمنع منه بعد تمامية ركنيه.
241

نعم، لو جرى الاستصحاب في نفس الاقتضاء كان حاكما على
الاستصحاب المذكور في المثال الثاني، لأنه سببي بالإضافة إليه، دون المثال
الأول، لان الاقتضاء بنفسه لا يستلزم فعلية المعلول فيه إلا بضميمة عدم
المانع، والمفروض سبق اليقين بوجوده.
كما أنه بناء على جريان الاستصحاب التعليقي، أو استصحاب عدم بلوغ
سن اليأس، يمكن الرجوع إليهما في المثال الثاني أيضا، لان الدم كان لو خرج
يحكم عليه بالحيضية، والمرأة لم تكن في سن اليأس.
إلا أن استصحاب الاقتضاء مثبت، لان الأثر للمقتضي - وهو الحيض -
وترتبه على الاقتضاء خارجي لا شرعي. والاستصحابان الأخيران خارجان عن
محل الكلام. فما ذكره قدس سره غير ظاهر الوجه، وإن لم يظهر منه الجزم به.
وأما الصورة الثالثة فقد منع شيخنا الأعظم قدس سره من جريان الاستصحاب
فيها ووافقه بعض الأعاظم قدس سره بدعوى: أن اختلاف المقتضي يوجب تعدد
الوجود والفرد عرفا، فيمتنع الاستصحاب، لأنه يكون من الصورة الأولى للقسم
الثالث لاستصحاب الكلي.
ويشكل: بأن المعيار في الوحدة ليس إلا على اتصال الاجزاء وتعاقبها
بالنحو الخاص، واختلاف المقتضي لا أثر له في تعدد الوجود ولا يمنع من
صدق البقاء، كما لا يمنع منه في الأمور القارة، فالبناء على جريان الاستصحاب
متعين.
وأما استصحاب عدم حدوث المقتضي الاخر - الذي يحكى عن بعضهم
التمسك به في المقام - فهو إنما يحكم على الاستصحاب المذكور لو كان
الترتب بين المقتضي والمقتضى شرعيا، حيث يكون من صغريات حكومة
الأصل السببي على المسببي، أما لو لم يكن شرعيا كان الأصل مثبتا ليس بحجة
كي يصلح للحكومة.
242

الفصل الخامس
في استصحاب الزمان والزمانيات
لما كان الزمان بنفسه وبما له من عناوين خاصة - كالليل والنهار والشهر -
ظرفا للأحكام الشرعية ولمتعلقاتها - كالواجبات والمحرمات - وشروطها..
فتارة: يعلم بعدم أخذه قيدا فيها.
وأخرى: يعلم بأخذه قيدا فيها، ويشك فيه تبعا للشك فيه بنحو الشبهة
الموضوعية، كما لو علم بوجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال، وبوجوب
الصلاة أداء، والامساك قبل الغروب، وبأن الاستطاعة التي تكون شرطا لوجوب
الحج هي الاستطاعة في أشهر الحج، ثم شك في شئ من ذلك للشك في
حصول الزوال أو الغروب أو أشهر الحج.
وثالثة: يشك في تقييدها به من جهة الشبهة الحكمية مع العلم بحال
الزمان وتحقق عنوانه.
أما في الصورة الأولى فلا إشكال في جريان الاستصحاب في الحكم أو
متعلقه أو شرطه لو تمت أركانه فيها.
وأما الثانية فهي التي يحتاج فيها لاستصحاب الزمان، لفرض الشك فيه.
وأما الثالثة فلا مجال إلا لاستصحاب نفس الحكم أو الموضوع، وهو المراد
باستصحاب الزمانيات، ولا معنى لاستصحاب نفس الزمان بعد فرض العلم به،
بل حتى لو فرض الشك فيه، لعدم إحراز دخله في الأثر.
فيقع الكلام في مقامين..
243

المقام الأول
في استصحاب الزمان
وحيث كان الزمان من الأمور التدريجية المتصرمة جرى فيه ما تقدم في
الفصل السابق من الكلام.
وقد اتضح به إمكان استصحاب نفس العنوان الزماني المتصرم، كاليوم
والشهر، كما يمكن جريانه في نفس الحد الزماني، كعدم طلوع الهلال وعدم
زوال الشمس، لأنه كسائر الحوادث الواقعة في الزمان.
كما يمكن استصحاب ما ينتزع من الحدين الزمانيين، كاستصحاب بقاء
الشمس في القوس النهاري، نظير ما تقدم في استصحاب الحركة التوسطية.
ويخرج على الأخيرين عن استصحاب الأمور التدريجية.
وتعيين أحد هذه الوجوه تابع لتعيين موضوع الأثر الشرعي منها، حسبما
يستفاد من الأدلة، كما تقدم نظيره. وليس شئ من ذلك محلا للكلام بعد ما
تقدم في الفصل السابق وغيره.
وإنما المهم هنا الكلام في أمرين..
الامر الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من أن استصحاب الزمان إنما
ينفع في ما إذا كان الدخيل في الأثر هو وجوده بمفاد كان التامة، دون ما إذا كان
المعتبر ظرفيته زائدا على وجوده بمفاد كان الناقصة.
فإذا كان الواجب - مثلا - هو الصوم والنهار موجود، أمكن استصحاب
النهار لاحراز الامتثال بالصوم المقارن له.
244

أما إذا كان الواجب هو الصوم في النهار، فاستصحاب النهار لا يحرز
ظرفيته للصوم الواقع في الزمان المشكوك، لان الظرفية أمر زائد على وجود
النهار قائم به وبالصوم لا وجود له قبل وجودهما معا، فالاستصحاب المذكور لا
ينفع فيها إلا بناء على الأصل المثبت، لاستلزام بقاء النهار لوقوع الصوم فيه. فهو
نظير استصحاب بقاء الغرفة لو شك في انهدامها لاحراز كون الصلاة على
أرضها صلاة في الغرفة.
كما أن استصحاب النهار لا يحرز كون الزمان الخاص الذي يقع فيه
الصوم نهارا، بل هو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض، حيث لا يحرز به
كرية الماء الموجود فيه.
ومن هنا يشكل الامر في استصحاب الموقتات مما كان ظاهر دليله أخذ
الزمان ظرفا في الواجب، لا التقييد بمحض وجوده حينه.
هذا، وظاهر بعضهم وصريح آخرين اختصاص الاشكال بما إذا أخذ
الزمان قيدا في الواجب - كالصوم - دون ما إذا أخذ قيدا في نفس الحكم الشرعي
التكليفي أو الوضعي، وأن مرجع تقييد الحكم بالزمان ليس إلا إلى اعتبار وجوده
بمفاد كان التامة.
ولم يتضح وجه الفرق بينهما بعد وحدة لسان الدليل في المقامين، لان
محل الكلام فيهما ما إذا تضمن لسان الدليل التوقيت بمثل أداة الظرف، نحو
(عند) و (في) ونحوهما.
وكيف كان، فقد تصدق غير واحد للتخلص عن الاشكال المذكور، وما
يستفاد منهم أو ينبغي ذكره وجوه..
الأول: ما اعتمده بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الثانية.
وحاصله: أن تقييد الفعل بالزمان كما يمكن أن يكون بمفاد كان الناقصة
الراجع إلى اعتبار ظرفيته له، يمكن أن يكون بمفاد كان التامة الراجع إلى محض
245

وجوده حينه، إذ ليس الزمان والفعل من قبيل العرض ومحله، حتى يدعى أن
التركيب فيهما يرجع إلى مفاد كان الناقصة، وحينئذ فلا يستفاد من التقييد به إلا
مجرد اجتماعهما في الوجود، لان إرادة الظرفية تحتاج إلى عناية أخرى زائدة
على التقييد.
ويشكل: بأن مجرد التقييد وإن لم يستلزم اعتبار الظرفية ومفاد كان
الناقصة لا في المقام ولا في العرض ومحله، لامكان أن يكون الدخيل هو وجود
العرض دون ارتباطه بالموضوع وإن كان لازما لوجوده، إلا أن محل الكلام هو
التقييد في الموقتات التي كان ظاهر أدلتها لحاظ الظرفية المبنية على نحو من
الارتباط بين طرفيها زائدا على وجودهما. فالظرفية وإن كانت محتاجة إلى عناية
زائدة إلا أن ظهور الأدلة فيها كاف في البناء على مقتضى العناية المذكورة.
وقد نبه قدس سره في الدورة الأولى لذلك ودفع به الوجه المذكور، ولم يتضح
منشأ إغفاله في الدورة الأخيرة واعتماده على هذا الوجه.
الثاني: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أنه يمكن استصحاب
العنوان الزماني للزمان بلحاظ اليقين بثبوته سابقا لبعض أجزائه المتصرمة، نظير
استصحاب وجود الزمان ونحوه من الأمور التدريجية، فكما يصح استصحاب
وجود الليل أو النهار لليقين بوجود بعض أجزائهما بلحاظ الوحدة الاعتبارية
بين الاجزاء المتعاقبة، كذلك يصح استصحاب كون الزمان ليلا أو نهارا مع
اليقين باتصاف بعض أجزائه بأحدهما بلحاظ الوحدة المذكورة في نفس الزمان
بمجموعه، فيلحظ الزمان أمرا واحدا يتصف تارة بالليلية وأخرى بالنهارية،
ويستصحب له أحدهما بعد اليقين بحدوثه والشك في بقائه، فإذا أحرز ليلية
الزمان أو نهاريته أحرز ظرفية الليل أو النهار لما يقع فيه من الافعال، كما يحرز
باستصحاب ملكية الأرض كون ما يقع فيها واقعا في الملك.
ويشكل: بأن الاستصحاب بلحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة موقوف
246

على ملاحظة الشارع لها في مقام جعل الأثر - ولا يكفي التسامح العرفي
بملاحظتها في مقام إجراء الاستصحاب، لما ذكرناه آنفا من عدم التعويل على
التسامح العرفي - ومن الظاهر عدا نهوض الأدلة الشرعية بإثبات ملاحظة
الوحدة المذكورة، بل الظاهر منها ملاحظة القطع الزمانية متباينة في أنفسها، وأن
المعتبر هو اتصاف الزمان الخاص الذي يقع فيه الفصل بالعنوان الزماني من ليل
أو نهار أو غيرهما، وهو أمر غير قابل للاحراز بالاستصحاب، لعدم الحالة
السابقة.
وهذا بخلاف استصحاب وجود الامر التدريجي من زمان أو غيره،
لوضوح أن فرض الواجد للامر التدريجي لا يكون إلا بلحاظ الوحدة الاعتبارية
المذكورة، فأخذه في موضوع الأثر شرعا لابد أن يبتني عليها، وبها يصح
الاستصحاب بلا حاجة للتسامح العرفي.
الثالث: ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره من أن العناوين الزمانية لما كانت
منتزعة من حوادث خاصة، كوجود الشمس في القوس النهاري الذي ينتزع منه
النهار، ووجود الهلال في الدور الخاص الذي ينتزع منه الشهر ونحوهما، فمن
الظاهر أن الاستصحاب الحوادث المذكورة كسائر الحوادث التدريجية كسير
زيد وسيلان النهر لا معنى لكونها ظرفا لفعل المكلف الذي هو حادث مثلها، بل
لابد من رجوع التقييد بها إلى أخذ محض وجودها بمفاد كان التامة، من دون
نظر لظرفيتها.
نعم، الأمد الموهوم ظرف لجميع الحوادث حتى ما كان منشأ للعناوين
الخاصة كحركة الشمس، لكن لم يؤخذ التقييد به في شئ من الأدلة.
وفيه: أن العناوين المذكورة وإن كانت منتزعة من حوادث خاصة واقعة
في الأمد الموهوم، إلا أنها ليس حاكية عن نفس الحوادث، بل عما وقعت فيه
من الأمد الموهوم المفروض كونه ظرفا، فليس النهر مثلا شروق الشمس، بل
247

الأمد الموهوم الذي وفي فيه الشروق، فيعود الاشكال.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره في دفع الوجه هذا من أن المدار في
الاستصحاب على النظر العرفي، والظرفية وإن لم يكن لها واقع حقيقي، إلا أنها
لما كانت دخيلة عرفا فالمعيار عليها في جريان الاستصحاب.
فهو كما ترى! إذ بعد فرض امتناع الظرفية لا معنى للتعويل في دخلها
على نظر العرف للقطع بخطئه، وقد تقدم أن الرجوع للعرف إنما هو لاستكشاف
موضوع المستصحب ومعروضه مع لزوم البقاء الحقيقي بنظر العرف لذلك
الموضوع، لا التعويل على تخيلاته في موضوع الحكم الشرعي على تخيلاته
الأولية مع ثبوت خطئه فيها.
الرابع: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من إرجاع تقييد الفعل بالزمان إلى تقييد
نفس التكليف به مع إطلاق متعلقه، لان إطلاق التكليف مع تقييد المعلف به
ممتنع بناء على مختاره من امتناع الواجب المعلق، وتقييد المتعلق مع تقييد
التكليف لغو، فيتعين إرجاع القيد الزماني للتكليف وحده، ولا معنى لتقييد
التكليف بالزمان إلا وجوده معه مقارنا له، فيكفي في ترتب أثره استصحابه
بمفاد كان التامة.
وفيه: أنه - مع ابتنائه على امتناع الواجب المعلق، وهو محل الكلام، وعلى
اختصاص الاشكال بما إذا كان الزمان قيدا للواجب دون التكليف، وقد أشرنا
آنفا إلى عدم وضوح الفرق بينهما - مختص بما إذا كان الفعل المقيد بالزمان
متعلقا للتكليف، دون ما لو كان موضوعا للتكليف أو لغيره من الاحكام، حيث لا
مانع من تقييده حينئذ بالزمان، كالافطار في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع
لوجوب الكفارة، والتزويج في العدة الذي هو موضوع للتحريم المؤبد
ونحوهما، مع جريان ما تقدم فيها، حيث يقع الكلام في جريان الاستصحاب
لاحراز القيد الزماني حينئذ.
248

الخامس: ما ذكره بعض مشايخنا وحاصله: أن الموضوع المركب من
الأمور المتقارنة التي لا ربط بينها مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية - كالطهارة
والصلاة - يكفي في إحرازه إحراز أحد جزئيه بالوجدان والاخر بالأصل بمفاد
كان التامة، بلا حاجة إلى إحراز نفس انضمام أحد الجزئين للآخر وتقيده به
بالوجدان أو الأصل، إذ ليس الانضمام أمرا زائدا على تحقق نفس الجزئين.
والتقييد بالزمان من هذا القبيل، ضرورة أن الزمان ليس عرضا لما يعتبر فيه -
كالصلاة - ولا قائما به، وإنما المعتبر وقوع الفعل فيه، بحيث يكون مقارنا له، فلو
استصحب الوقت وتحقق الفعل تم الموضوع وأحرز الامتثال بضم التعبد
للوجدان في جزئيه.
نعم، لو كان الموضوع مركبا من العرض ومحله القائم به منتزعا منهما -
كالعالم - لم يكف إحراز أحد جزئيه - كالعلمية - بمفاد كان التامة، لأنه لا يحرز
العنوان المنتزع إلا بناء على الأصل المثبت.
ويندفع: بأن الزمان وإن لم يكن عرضا قائما بما قيد به، إلا أن ظرفيته له
أمر زائد على محض وجوده، وهي من سنخ العرض القائم بمحله، فلا وجه
لترتيب آثارها بمجرد استصحاب الزمان، وهل يتوهم جريان ما ذكره في
الظرفية المكانية، فيقال - مثلا - في ما إذا كان الواجب هو الصلاة في الغرفة: إن
استصحاب بقاء الغرفة - لو شك في انهدامها - يكفي في تصحيح الصلاة، لعدم
كون الغرفة عرضا قائما بالصلاة؟
وهذا بخلاف مثل الصلاة والطهارة، فان القيد ليس إلا الطهارة، فيكفي
استصحابها بمفاد كان التامة في إحراز الموضوع المركب من الامرين.
إلا أن يرجع ما ذكره إلى ما سبق من بعض الأعاظم من أن مجرد التقييد
بالزمان لا يستلزم اعتبار ظرفيته. فيجري فيه ما تقدم.
السادس: ما نقله بعض المشايخ المعاصرين رحمه الله واستجوده وعبر عنه
249

بخفاء الواسطة، وحاصله: أن التلازم بين بقاء الزمان الخاص ووقوع الفعل فيه
من الوضوح بحد يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد عرفا ويوجب ظهور
دليل التعبد بأحدهما في إرادة ترتيب كل مالهما من الآثار.
وهو مبني على ما تقدم في المستثنى الثالث من الأصل المثبت، وتقدم
دفعه. كما تقدم أنه أمر آخر غير خفاء الواسطة.
السابع: ما اعتمده قدس سره من أنه لا ملزم بإحراز القيد الزماني بالاستصحاب،
للأمن من العقاب مع متابعة احتمال وجوده والآتيان بالواجب المقيد به، إذ على
تقدير وجوده فقد حصل بذلك الامتثال بفعل المقيد، وعلى تقدير عدمه لا
تكليف حتى يلزم مخالفته.
وفيه.. أولا: أن هذا إنما يقتضي جواز الاتيان بالفعل لاحتمال تحقق
الامتثال به، لا وجوبه، بل حيث يشك في فعلية التكليف، لاحتمال انتهاء أمد
المكلف به، فالأصل البراءة منه.
ودعوى: أن اللازم الاحتياط، للشك في القدرة.
مدفوعة: بأنه يختص بما إذا كان التعذر موجبا لسقوط فعلية التكليف مع
بقاء ملاكه، فلا يجري في مثل سقوط التكليف بأداء الصوم لخروج وقته، كما
يختص بالشك في سعة قدرة المكلف، لا في حال الفعل المقدور له. كما في
المقام.
وثانيا: بأنه مختص بما إذا كان الشك في بقاء القيد الزماني ملازما للشك
في بقاء التكليف، كما لو شك في بقاء النهار ليترتب وجوب الامساك على
الصائم فيه، ولا يجري في ما إذا علم بالتكليف وشك في الامتثال مع وجود فرد
آخر يعلم بتحقق القيد فيه، كما لو نذر صوم يوم من رجب وشك في آخر
رجب، فان مقتضى قاعدة الاشتغال بالنذر وجوب الانتظار إلى رجب الثاني وعدم الاكتفاء بصوم يوم الشك مع عدم إحراز كونه من رجب.
250

وكذا لو وجب القضاء أو الفدية بترك امتثال التكليف بالمقيد، فإن مقتضى
استصحاب عدم الاتيان به وجوبهما، إلا أن يحرز القيد الزماني، أو لم يكن القيد
متعلقا للتكليف، بل موضوعا للحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي، كالافطار في
نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة، فإنه لولا إحراز القيد
الزماني لا مجال لترتيب الأثر في ذلك، كما لا يخفى. فلا مجال للاستغناء عن
الاستصحاب المذكور.
هذا ما تيسر لنا الاطلاع عليه من كلماتهم في المقام، وقد ظهر عدم
نهوضه بدفع الاشكال.
ولعل الأولى أن يقال: إنه لا حقيقة للظرفية الزمانية إلا وجود الحادث
مقارنا للزمان، وليست هي كالظرفية المكانية مبنية زائدا على ذلك على اشتمال
الظرف على المظروف، ودخول المظروف في الظرف، الذي هو أمر حقيقي
زائد على وجودهما واقترانهما.
ولذا لا إشكال في أن تقييد الحادث بحصة من الزمان كالنهار أو الشهر لا
يراد به كون الحصة المذكورة أوسع منه ومشتملة عليه، فإذا وجب إيقاع الصوم
في النهار وجب استيعاب الصوم له ولا يكتفي بصوم ما عدا طرفية، وإذا وجب
إيقاع الصلاة في نصف النهار الثاني كفى البدء بها عند أول جزء منه، كما يكفي
الانتهاء منها عند آخر جزء منه.
كما لا فرق عرفا بين التقييد بالعنوان الزماني بما يظهر في الظرفية، بمثل:
صم في النهار، والتقييد بحديه بما يقتضي محض المقارنة، بمثل قوله تعالى:
" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
ثم أتموا الصيام إلى الليل " (1)،

(1) سورة البقرة: 187.
251

ومما يشهد بذلك ما تقدم من تسالمهم على أن تقييد الحكم بالزمان لا
يقتضي إلا إناطته به بمفاد كان التامة، من دون أن تؤخذ ظرفيته له، مع ما أشرنا
إليه من عدم الفرق بين الحكم ومتعلقه الذي هو فعل المكلف، وأنهما كسائر
الحوادث الواقعة في الزمان.
وأما المقارنة الزمانية فليس لها ما بإزاء في الخارج زائدا على اجتماع
الطرفين في الوجود، وليست هي كالمقارنة المكانية منتزعة من نحو نسبة
خاصة موقوفة على ملاحظة جهة خاصة غير الاجتماع في الوجود، ومن الظاهر
أن الاجتماع في الوجود يحرز بالاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد.
وبالجملة: دليل التوقيت وإن كان متضمنا لظرفية الوقت للموقت، إلا أنه لا
يراد به إلا محض التحديد وبيان الأمد الذي يقارنه الموقت، ولا يعتبر إلا محض
اجتماعهما في الوجود، المحرز بضم الوجدان للأصل، من دون أن يحتاج إلى
معنى زائد على ذلك يراد بالظرفية، ولا مجال لقياس ذلك بالظرفية المكانية التي
هي منتزعة من أمر حقيقي زائد على وجود الطرفين قائم بهما لا يحرز بالأصل.
فلاحظ.
بقي في المقام شئ، وهو أنه قد تصدى غير واحد لتوجيه الرجوع
للاستصحاب بوجه آخر غير استصحاب نفس العنوان الزماني يستغنى به عنه.
والمذكور في كلماتهم وجوه..
الأول: ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره من التمسك بالاستصحاب الحكمي بعد
تعذر الرجوع للاستصحاب الموضوعي، فيحرز وجوب الصوم أو الامساك أو
نحوهما، وإن لم يحرز الزمان الذي قيد به المتعلق.
وفيه.. أولا: أن المستصحب إن كان هو التكليف بالمقيد بالوقت، فهو لا
ينفع في إحراز انطباق المأتي به عليه، بل لابد فيه من إحراز القيد الزماني.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في الدورة الأخيرة من درسه، من أن
252

المستصحب هو التكليف بجميع ما يعتبر فيه، ومنه خصوصية القيد، فهي
مستصحبة في ضمن استصحاب الحكم.
فيندفع: بأن استصحاب التكليف على المقيد لا يحرز تحقق المقيد
خارجا، بل يدعو إليه. إلا أن يرجع إلى استصحاب الحكم والقيد معا، فيأتي فيه
ما سبق في استصحاب القيد الزماني.
وإن كان المستصحب هو التكليف بالمطلق المنطبق على ما يشك في
وجود القيد الزماني له، فهو غير متيقن سابقا، كي يتجه استصحابه، بل متيقن
العدم.
نعم، قد يتجه ما ذكره قدس سره بناء على التسامح العرفي في موضوع
الاستصحاب، فيستصحب التكليف بالفعل في الجملة لا بنحو الاطلاق ولا
التقييد، نظير استصحاب التكليف بالواجب الارتباطي عند تعذر بعض أجزائه.
لكن تكرر غير مرة أنه لا عبرة بذلك.
وثانيا: أنه لا يطرد في جميع الأحكام، إذ قد يتخلل العدم بين أجزاء
الوقت، كوجوب الصوم في رمضان الذي يتخلل عدمه ليلا، ووجوب صوم
اليوم الثاني تكليف حادث لا مجال لاستصحابه، كما اعترف قدس سره به في الجملة.
كما أنه لا يفي بجميع آثار الاستصحاب الموضوعي فهو لا يحرز وجوب
الكفارة لو تناول المفطر ونحوه من آثار المقيد المترتبة عليه الحادثة بعد سبق
عدمها.
الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من استصحاب وجود القيد للفعل
بمفاد كان الناقصة، فتستصحب مثلا النهارية للامساك، ويقال: كان الامساك في
النهار فهو كما كان. ويحرز بذلك الامتثال به، كما تستصحب الطهارة للماء
لاحراز الامتثال بالوضوء به.
وفيه: - مع اختصاصه بما إذا كان الفعل أمرا مستمرا قد اتصف بالقيد حين
253

حدوثه كالامساك في النهار، دون ما لم يقع بعد، كالصلاة التي يراد إيقاعها
ويشك في بقاء وقتها، وتناول المفطر الذي يراد إيقاعه مع الشك في بقاء النهار،
أو وقع وانقطع، كالصوم عند الشك في بقاء رمضان - أن الاستصحاب المذكور
لا يصح بالإضافة إلى الحصة الخاصة من الفعل الاستمراري، كالامساك الحاصل
في الزمان المشكوك، لعدم الحالة السابقة له، وإنما يتجه بالإضافة إلى أصل
الفعل بلحاظ وحدته الاعتبارية، بان يلاحظ آمرا واحدا تطرؤه النهارية تارة
والليلية أخرى، لا أنه قطع متباينة بعضها ليلي وبعضها نهاري.
وهو موقوف على ملاحظة الشارع للوحدة الاعتبارية المذكورة في مقام
جعل الأثر. وهي خلاف ظاهر الأدلة، كما تقدم نظير ذلك في رد الوجه الثاني
لاستصحاب الزمان الذي يشبه هذا الوجه.
نعم، لو كان لسان الجعل هكذا: يجب الامساك ما دام نهاريا، تم ما ذكره،
لكنه خلاف ظاهر الأدلة.
الثالث: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من استصحاب وجود القيد
للفعل تقديرا، فيقال: هذا الامساك أو الاكل لو اتي به سابقا لكان نهاريا فهو الان
كما كان، وهذا الصوم لو اتي به سابقا لكان في رمضان فهو الان كما كان.
وكأنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي، الذي هو محل إشكال، بل منع في
القضايا الشرعية الجعلية - كما يأتي - فضلا عن القضايا الخارجية الانتزاعية، كما
في المقام، لوضوح أن كون الامساك نهاريا أمر خارجي تكويني، والحكم به
بنحو التعليق انتزاعي، وليس الامر الحقيقي الا الاتصاف به فعلا.
الامر الثاني: ما تعرض له غير واحد من أن استصحاب الشهر السابق
وعدم الشهر اللاحق في يوم الشك لا ينفع في إحراز كون اليوم المذكور آخر
الشهر السابق، ولا كون اليوم الآتي أول الشهر اللاحق، ولا ما بعده من الأيام
معنونة بعنوانها العددي فيه، فاستصحاب بقاء رمضان يوم السبت لا يحرز كونه
254

آخره، ولا كون يوم الأحد أول شوال، أو يوم الاثنين ثانيه، وهكذا: فلا مجال
لترتيب أحكام خصوصيات الأيام، كيوم عيد الفطر الذي هو أول شوال، ويوم
عرفة الذي هو تاسع ذي الحجة، وغيرهما مما هو كثير جدا، ومبنى المتشرعة
على ترتيبه، لوضوح أن هذه عناوين وجودية، ليست من اثار المستصحب
شرعا، بل من لوازمه الخارجية، فلا تحرز إلا بناء على الأصل المثبت.
نعم، لو كانت العناوين المذكورة مركبة مفهوما من بقاء الشهر السابق في
يوم الشك ووجود الشهر اللاحق بعده اتجه إحرازها، فمثلا لو كان آخر رمضان
هو اليوم الذي يكون منه وليس بعده منه يوم آخر اتجه إحرازه يوم السبت
باستصحاب بقاء رمضان فيه بضميمة اليقين بعدم وجود رمضان يوم الأحد.
كما أنه لو كان أول شوال هو اليوم الذي يوجد شوال فيه ولا يوجد قبله
كان استصحاب بقاء رمضان وعدم وجود شوال يوم السبت محرزا لكون يوم
الأحد أول شوال بضميمة اليقين بوجود شوال فيه، وكذا لو كان ثاني شوال هو
اليوم الذي يوجد فيه شوال، ولا يوجد قبل يومين منه، وهكذا بقية الأيام.
لكن لا مجال لدعوى ذلك، بل الظاهر أن العناوين المذكورة بسيطة
منتزعة من نحو نسب خاصة لاجزاء المركبات كالشهر والأسبوع، وليست مركبة
بالنحو المذكور.
ومن هنا تصدي غير واحد لتوجيه إحراز العناوين المذكورة..
وقد سبق من شيخنا الأعظم قدس سره في المستثنى الأول من مستثنيات الأصل
المثبت بناء ذلك على الرجوع للأصل المثبت مع خفاء الواسطة.
كما سبق الاشكال في ذلك صغرى وكبرى.
ومثله ما ذكره بعض المشايخ المعاصرين رحمه الله من أن التلازم بين
المستصحب وموضوع الأثر بحد من الوضوح لا يمكن معه التفكيك بينهما
عرفا في مقام التعبد.
255

فإنه - لو تم في المقام - مبني على ما سبق في المستثنى الثالث من
مستثنيات الأصل المثبت، وسبق دفعه. فراجع.
فلابد من التعرض للوجوه الأخرى التي اعتمد عليها غير واحد في
خصوص المقام..
الأول: ما يظهر من بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين (قدهما) من
أن أول الشهر وإن كان هو اليوم الذي يوجد الهلال في ليلته واقعا، إلا أنه بهذا
المعنى ليس موضوعا للأحكام الخاصة من وجوب الصوم والافطار وغيرهما،
والذي هو الموضوع لها - حسبما يستفاد من الأدلة - هو الأول بمعنى يوم ليلة
الرؤية أو ما يكون بعد مضي ثلاثين يوما من الشهر السابق، فمع عدم الرؤية
يتعين ترتيب آثار الأول والثاني ونحوهما على ما يطابق تمامية الشهر السابق بلا
حاجة للاستصحاب.
وفيه: أنه لا مجال للخروج في مفهوم الأول ونحوه من خصوصيات أيام
الشهر مما هو موضوع الاحكام الخاصة عن معناه العرفي التابع لوجود الهلال
واقعا، لعدم الدليل على ذلك، بل هو خلاف ظاهر ما دل على وجوب القضاء
بالتخلف عن الهلال واقعا.
كيف! ولازمه عدم مشروعية الاحتياط في الأحكام المذكورة لو احتمل
وجود الهلال من دون رؤية، ولا يظن التزام أحد به. والانصاف أن وضوح
بطلان ذلك مغن عن الاستدلال عليه.
نعم، لا ريب في أن الرؤية طريق لثبوت الشهر، ومن دونهما يجب البناء
على عدمه وإكمال الشهر السابق ثلاثين يوما، لما دل على إناطة الصيام والافطار
بذلك ظاهرا، وهو بالإضافة إلى وجوب الصوم والافطار - اللذين هما من أحكام
أصل وجود الشهر ومورد النصوص - مطابق للاستصحاب، وبالإضافة إلى
غيرهما من أحكام خصوصيات أيام الشهر مورد الكلام في المقام، فلابد من
256

توجيهه.
الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بعد مضي آن من ثاني يومي
الترديد في أول الشهر يقطع بتحقق أول الشهر ويشك في انتهائه، لتردده بين
الأولى المنقضي واللاحق الباقي، فيستصحب وتترتب أحكامه، وهكذا بقية أيام
الشهر.
وفيه.. أولا: أن ذلك لا ينهض إلا بإثبات أحكام محض وجود اليوم
الأول، دون إثبات استيعابه لو فرض كونه موردا للأثر، كوجوب الصوم أو
استحبابه، لوضوح أن الصوم الواجب أو المستحب هو المستوعب لليوم الأول،
ومن الظاهر أن استصحاب اليوم الأول في ثاني يومي الترديد لا يثبت كون
صومه صوما لتمام اليوم الأول، بعد احتمال انطباقه على أول يومي الترديد.
كما لا ينهض بإثبات أحكام العناوين غير القابلة للبقاء، كما لو فرض
استحباب الجلوس عند ظهر اليوم الأول في المسجد، فإن الظهر لا يحتمل فيه
البقاء، بل ليس في البين إلا التردد فيه بين ظهري اليومين، وبتحقق ظهر اليوم
الثاني يعلم بتحققه سابقا أو لاحقا، من دون أن يشك في بقائه، كي يستصحب.
وثانيا: أنه لا مجال للاستصحاب من الان الأول من اليوم المذكور، لان
الان المذكور زمان للعلم بتحقق اليوم الأول، لا زمان للمعلوم، وهو نفس اليوم
الأول، الذي يراد استصحابه، بل هو متردد بين اليومين المعلوم انقضاء أحدهما
وابتداء الاخر، فالعلم في الآن المذكور بوجود اليوم الأول ليس بمعنى العلم
بفعلية وجوده في الان المذكور، والشك في استمراره وامتداده بعده، بل بمعنى
العلم بوجوده في الجملة إما سابقا مع انقضائه، أو فعلا حين الشك فيه.
واحتمال بقاء اليوم الأول في اليوم المذكور إنما هو بمعنى احتمال انطباق
اليوم المعلوم الوجود عليه، لا بمعنى احتمال امتداده إليه واستمراره فيه الذي هو
موضع الاستصحاب.
257

وبعبارة أخرى: يعتبر في الاستصحاب أن يكون هناك متيقن ومشكوك
متحد معه ذاتا، ومباين له زمانا، ومتصل به، ليكون بقاء له - كما تقدم -
والمشكوك في المقام لا يعلم بمباينته للمتيقن، بل لا يحتمل كونه بقاء له، بل
يحتمل اتحاده معه، لتردد المتيقن بين اليومين، وفي مثل ذلك لا يجري
الاستصحاب، إذ ليس مفاده تعيين المعلوم بالاجمال، بل التعبد ببقاء المعلوم
واستمراره وطول أمده عند الشك فيه. فلاحظ.
وثالثا: أن فصل الليل بين يومي الترديد موجب لكون المقام من تعاقب
الحالتين المتضادتين مع العلم بتاريخ إحداهما والجهل بتاريخ الأخرى، وهي
اليوم الأول في المقام، ويأتي في محله عدم جريان الاستصحاب في مجهولة
التاريخ منهما إما ذاتا، أو للمعارضة بالاستصحاب الجاري في معلومة التاريخ،
وهو في المقام استصحاب عدم وجود اليوم الأول، للعلم به في الليلة المتوسطة.
الثالث: ما ذكره بعض الأفاضل من السادة المعاصرين رحمه الله من أن المستفاد
من أدلة إناطة الصوم والافطار بالرؤية كون عدمها أمارة على تمامية الشهر وكونه
ثلاثين يوما، وكأنه مبني على ما في كلماتهم من حجية الامارة في لازم مؤداها،
بخلاف الأصل.
وفيه.. أولا: أنه لا إشعار في النصوص المذكورة بأمارية عدم الرؤية على
تمامية الشهر، بل المتيقن منها بضميمة ارتكاز كون الرؤية دليلا على النقض أن
البناء على التمامية مع عدمها لعدم الدليل على الخلاف، حيث يكون مقتضى
الأصل البناء على البقاء، لما هو المعلوم من احتياج الا مارية إلى عناية زائدة لا
اشعار في النصوص بها.
وثانيا: أنه تقدم إنكار عموم حجية الامارة في لازم مؤداها، وأنها كالأصل
تحتاج في ذلك إلى دليل خاص، فمع فرض عدم قيام الدليل على ذلك لا تنفع
الا مارية في الحجية في لازم المؤدى، ومع قيام الدليل عليه لا يضر فيه كون
258

التعبد بمفاد الأصل. فاللازم بعد الاعتراف بكون العناوين المذكورة ملازمة
لمفاد التعبد هو النظر في عموم دليل التعبد لها أمارة كان أو أصلا.
إذا عرفت هذا، فالدليل في المقام لا ينحصر بعمومات الاستصحاب،
ليدعى اختصاصه باحراز بقاء الشهر في يوم الشك، دون لوازمه من
خصوصيات الأيام للشهر اللاحق.
بل من الظاهر من بناء العرف والمتشرعة كون الأصل في الشهر الهلالي
التمامية، بنحو تحرز جميع العناوين المذكورة، لا خصوص بقاء الشهر، فتترتب
آثار أول الشهر، وثانيه، وآخره ونحوها من خصوصيات أيامه ولياليه.
والمستفاد عرفا من نصوص إناطة الصوم والافطار بالرؤية الجري على
ذلك، فهي واردة لبيان ما يخرج به عن مقتضى الأصل المذكور.
ولذا لا ريب عندهم في ترتيب أحكام العيد والحج وعاشوراء ونحوها
من المواسم الدينية والمناسبات الشرعية والعرفية المنوطة بخصوصيات أيام
الشهر، فهو من موارد الأصل المثبت التي دل الدليل عليها بالخصوص، وقد
تقدم أنه أمر ممكن في نفسه. وهذا هو العمدة في المقام.
259

المقام الثاني
في استصحاب الزمانيات
وهي التي يشك في بقائها مع فرض عدم الرجوع لاستصحاب الزمان
إما مع العلم بأخذه فيها مع عدم جريان الاستصحاب فيه، إما مع الشبهة
الموضوعية، للشبهة المتقدمة في الامر الأول من المقام السابق، أو لاجمال
العنوان الزماني وتردده بين ما هو مقطوع الزوال ومقطوع البقاء، كتردد اليوم بين
ما ينتهي بسقوط القرص وما ينتهي بزوال الحمرة المشرقية، حيث يمتنع
استصحابه بعد سقوط القرص، لما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في
المفهوم المردد.
وإما مع الشك في أخذه أو أخذ بعض ما يقع فيه من الحوادث فيها،
لترددها بين الاطلاق المستلزم للاستمرار والتقييد المستلزم للانقطاع.
ومنه ما إذا احتمل كون القيد مأخوذا بنحو تعدد المطلوب، حيث يحتمل
معه كون أصل المطلوب مطلقا باقيا بتعذر القيد، كما في موارد وجوب القضاء.
ولا إشكال عندهم في جريان الاستصحاب في نفس الموضوعات
الخارجية لتمامية أركانه فيها، وإنما الاشكال في الاحكام القابلة للاطلاق
والتقييد تكليفية كانت أو وضعية.
وقد استشكل فيها من وجهين..
الأول: عدم اتحاد المتيقن مع المشكوك، لتباينهما، لان المتيقن هو
المقيد بالزمان المفروض انقضاؤه، فإثبات الحكم لما بعده نقل الحكم إلى
موضوع آخر غير المتيقن، وليس هو من الاستصحاب في شئ.
260

ومن هنا رجع شيخنا الأعظم قدس سره في توجيه الاستصحاب في المقام إلى ما
جرى عليه في غير المقام من الاكتفاء بالتسامح العرفي في صدق البقاء، فما كان
الزمان فيه بنظر العرف مقوما للموضوع وقيدا فيه لا يجري فيه الاستصحاب،
وما كان الزمان فيه غير مقوم له، بل كان ظرفا له يجري فيه الاستصحاب، وإن
كان قد يشك في ذلك في بعض الموارد، فيلزم التأمل التام، فإنه أعظم المزال في
المقام.
ومنه يظهر أنه لا مجال لما استشكله بعض مشايخنا من عدم اختلاف
لتقييد والظرفية إلا بالعبارة، ورجوع الظرفية للتقييد، إذ لابد في كل ما يؤخذ في
الحكم أن يكون مأخوذا قيدا فيه، إذ لابد من دخله فيه ثبوتا.
لاندفاعه: بأن تفريقه قدس سره بينهما بلحاظ النظر العرفي التسامحي، لا الجعل
الشرعي.
نعم، تقدم منا في تحقيق موضوع الاستصحاب أنه لا مجال للتعويل على
التسامح العرفي فيه، بل يلزم إحراز البقاء الحقيقي للموضوع بعد الرجوع للأدلة
في تعيينه وتحديده.
ويظهر الضابط المصحح لجريان الاستصحاب هنا بملاحظة ما ذكرناه
هناك.
وحاصله: أن الموضوع المعروض للحكم إن كان جزئيا خارجيا - كالثوب
المعروض للنجاسة - امتنع تقييده بالزمان أو غيره، فلابد من كون الزمان ظرفا
محضا له ولحكمه.
وإن كان كليا - كفعل المكلف الموضوع للأحكام التكليفية والكليات
الذمية كالدين والعمل المستأجر عليه - كان قابلا للتقييد، فإن احتمل أو أحرز
تقييده بالخصوصية الزمانية أو نحوها امتنع الاستصحاب، لعدم إحراز
الموضوع. وإن أحرز إطلاقه تعين كون الخصوصية المحتملة دخيلة في الحكم،
261

ويكون الزمان ظرفا له - كما في موارد الشك في الرافع - فيشك في استمرار
الحكم مع إحراز الموضوع، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم.
ومن الظاهر أنه لا مجال لذلك في الأحكام التكليفية بناء على ما ذكره
شيخنا الأعظم قدس سره من رجوع جميع القيود إلى المادة التي هي متعلق الحكم لا
للهيئة، ومن ثم ينحصر مبنى الاستصحاب فيها على التسامح العرفي، كما تقدم
منه.
لكن المبنى المذكور في غير محاله والتحقيق إمكان تقييد الهيئة، فالمتعين
ما ذكرنا من التفصيل.
وربما يشير إليه ما في كلام المحقق الخراساني قدس سره من فرض التقييد راجعا
للموضوع، والظرفية راجعة للحكم.
ودعوى: أنه لابد من رجوع الظرفية للتقييد، نظير ما تقدم من بعض
مشايخنا.
مدفوعة: بأن ذلك إنما يتم في قيود الموضوعة والمتعلق، وأما في نفس
الحكم المتيقن في المقام فظرفية الزمان له أعم من تقييده به، لان التقييد مستلزم
لانتفائه بانتفاء القيد، فلا يحتمل معه البقاء بدونه، بخلاف ظرفيته له، إذ يحتمل
معها بقاؤه بعده، ولذا كان للقضية الشرطية مفهوم، دون الظرفية.
إن قلت: احتمال دخل الخصوصية في الحكم مستلزم لاحتمال تقييده به،
فكيف يستصحب بعدها؟! لان الحكم المقيد لا يقبل الاستصحاب والمطلق
غير متيقن من أول الامر.
قلت: الاطلاق والتقييد إنما يحتمل في الكبريات الشرعية المتضمنة
للأحكام الكلية، وهي لا تستصحب إلا مع الشك في النسخ - على كلام يأتي في
محله - ولو استصحب تعين استصحابه على الوجه المتيقن عليه من إطلاق أو
تقييد.
262

أما المستصحب في المقام فهو الحكم الفعلي، وهو حكم جزئي شخصي
لا يقبل الاطلاق والتقييد، بل كل خصوصية تؤخذ في الكبرى الشرعية تكون
علة له لا يضر عدم إحرازها بوحدته المقومة للاستمرار الذي يحرز
بالاستصحاب.
إن قلت: تقييد الحكم مانع من إطلاق الموضوع، بل لابد من اختصاصه
بحصة من الذات مقارنة لوجود القيد - وهو في المقام الزمان - ولو بنحو نتيجة
التقييد، فلا يتحد مع فاقده.
قلت: تقييد الحكم إنما يمنع من الاطلاق الراجع إني ملاحظة الذات
سارية في تمام الافراد حتى الفاقد للقيد، بحيث يكون فقد القيد ملحوظا
للمتكلم، ولا يمنع من ملاحظة الماهية بنفسها وحدودها الذاتية بنحو تنطبق
قهرا على جميع الافراد ومنها الفاقد للقيد، بل هذا هو المتعين، وهو كاف في
وحدة الموضوع المعتبرة في الاستصحاب.
وأما ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من أن الزمان وإن كان ظرفا للحكم
لابد أن يكون من قيود الموضوع، لكونه دخيلا في ما هو مناط الحكم. فيدفعه
أن المراد بالموضوع الذي يعتبر اتحاده في الاستصحاب هو المعروض للحكم
ويحمل الحكم عليه، لاكل ما هو الدخيل في الحكم وإن كان من سنخ العلة،
لدخله في مناطه، كما تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب.
الوجه الثاني: ما عن الفاضل النراقي في المناهج، ونسب لبعض
الأخباريين من معارضة استصحاب التكليف المتيقن باستصحاب عدمه الأزلي
في الحصة المشكوكة من الزمان، لان المتيقن إنما هو وجود التكليف في
الجملة مرددا بين الاستمرار والانقطاع، فبالإضافة إلى الزمان الثاني المشكوك
يحتمل استمرار عدم التكليف الأزلي الثابت قبل الجعل، فيستصحب، ويعارض
به استصحاب التكليف من زمان اليقين إلى زمان الشك المذكور.
263

وقد دفعه شيخنا الأعظم قدس سره بأنه مع التقييد لا يجري الاستصحاب
الوجودي، لمباينة المقيد بالخصوصية لفاقدها، فاليقين بثبوت الحكم للأول
لا يصحح استصحابه للثاني، بل يجري فيه الاستصحاب العدمي لا غير. ومع
الظرفية لا يجري الاستصحاب العدمي، لانخرام العدم الأزلي بثبوت حكم
للماهية في الزمان المتيقن، فلا معارض للاستصحاب الوجودي.
وحيث كان مبنى ما ذكره قدس سره على أن المناط في الظرفية على النظر العرفي،
والا فمقتضى النظر الدقي التقييد لا غير، نبه المحقق الخراساني قدس سره على أنه لا
مخال للجمع بين النظرين، كي يجري الاستصحاب الوجودي بلحاظ الظرفية
التي هي مقتضى النظر العرفي، والعدمي بلحاظ التقييد، الذي هو مقتضى النظر
الدقي، ويتعارض الاستصحابان.
وقد تقدم في مبحث موضوع الاستصحاب توضيح امتناع الجمع بين
النظرين.
أما بناء على ما ذكرنا من عدم التعويل على التسامح العرفي، وأن
الفرق بين الظرفية والتقييد ثبوتي، فلا موقع لاحتمال الجمع بين النظرين.
كما لا يخفى.
هذا، ولكن بعض مشايخنا أصر على تحقق المعارضة، وشيد ما ذكره
النراقي.
وعمدة ما ذكره من الوجه: أن الحكم في الزمن الثاني المشكوك بقاؤه فيه
وإن فرض اتحاد المشكوك فيه مع المتيقن موضوعا، بنحو يجري فيه
استصحابه، إلا أنه لما كان حادثا تابعا للجعل الشرعي مسبوقا بالعدم الأزلي قبل
التشريع يجري استصحاب عدمه، فيتعارض الاستصحابان.
ويظهر حاله مما تقدم، فإن جريان الاستصحاب الوجودي موقوف على
عدم دخل الزمان في موضوع الحكم، إما لامتناع تقييده لكونه جزئيا خارجيا -
264

كالثوب الذي يكون موضوعا للنجاسة - أو مع إمكان تقييده لكونه كليا، لكن
ثبت من الخارج أنه أريد به الماهية غير المقيدة بالخصوصية الزمانية، المنطبقة
على فاقدها.
وحينئذ إن أريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم
للذات المحفوظة في كلا الزمانين، فالمفروض العلم بانتقاض العدم المذكور
بثبوت الحكم للذات المذكورة في الزمان الأول، لاتحاد الوجود والعدم
المذكورين موضوعا ومحمولا، الذي هو المعيار في انتقاض أحدهما بالآخر.
ومجرد بقاء الشك في العدم في الزمان الثاني مع اليقين بالوجود في
الزمان الأول لا ينافي النقض المذكور، لان كل حادث يشك في استمراره
كذلك. وعليه فالعدم في الزمان الثاني لو كان متحققا واقعا ليس بقاء للعدم
الأزلي المفروض، ليمكن إحرازه باستصحابه، بل هو طارئ ناقض للوجود
المفروض انتقاض العدم الأزلي به، والاستصحاب ينفيه.
وإن أريد باستصحاب العدم الأزلي استصحاب عدم ثبوت الحكم للذات
المقيدة بالزمان الثاني، فلا مانع من جريانه ذاتا، لظهور مباينته للحكم المتيقن
سابقا الثابت للذات المطلقة، لاختلاف متعلقهما، فلا يعلم انتقاض العدم
المذكور بالحكم المتيقن.
إلا أنه - مع عدم جريانه لو لم يقبل المتعلق التقييد، كالثوب الذي تتعلق به
النجاسة - لا يعارض الاستصحاب الوجودي المذكور ولا ينافيه، لان عدم ثبوت
الحكم للماهية المقيدة بخصوصيتها لا ينافي ثبوته للماهية بما لها من مفهوم
عام ينطبق قهرا على الماهية المقيدة المذكورة.
فيجري كلا الاستصحابين، ويكون العمل على الوجودي منهما، لان
اللامقتضي لا يصلح لمزاحمة المقتضي، فمثلا استصحاب عدا وجود الجلوس
الحاصل بعد الزوال بخصوصيته وإن اقتضى عدم لزوم الاتيان به، إلا أنه لا ينافي
265

الاتيان به لاستصحاب وجوب مطلق الجلوس المنطبق عليه قهرا، لان
الاستصحاب العدمي يرجع للتعبد بعدم المقتضي له من الحيثية الخاصة، فلا
ينافي التعبد بالمقتضي له من الحيثية الأخرى، كما لا يخفى.
هذا، ويظهر منه في مطاوي كلماته التمسك في المقام باستصحاب عدم
الجعل للحكم في الزمان الثاني، ومعارضته للاستصحاب الوجودي المفروض.
بدعوى: أن الجعل بالإضافة إلى زمان الشك حادث مسبوق بالعدم الأزلي
قبل التشريع، فيستصحب العدم المذكور بعده، فيقال: لم يكن وجوب الجلوس
بعد الزوال مجعولا بلحاظ حال ما قبل التشريع، فهو غير مجعول بعده، ولم تكن
نجاسة الماء بعد زوال تغيره مجعولة آنذاك، فهي غير مجعولة، فيعارض بذلك
الاستصحاب الوجودي.
وفيه.. أولا: أن الأثر العملي إنما يترتب على المجعولات الشرعية، دون
جعلها، كما هو مقتضى تعليق الآثار الشرعية بنفس العناوين الاعتبارية كالزوجية
والرقية والطهارة والنجاسة. بل لو لم يكن الأثر للمجعول - تكليفا كان أو وضعا -
كان جعله لغوا بعد كونه اعتباريا محضا لا مصحح لجعله إلا ترتب الأثر عليه.
وعليه لا يجري استصحاب عدم الجعل إلا بناء على الأصل المثبت.
ودعوى: أن الجعل عين المجعول حقيقة أو عرفا، وليس اختلافهما إلا
بالاعتبار.
مدفوعة: بأن الاختلاف بينهما حقيقي، كاختلاف الايجاد والموجود، فان
الجعل أمر حقيقي من مقولة الفعل، والمجعول أمر اعتباري مباين له ناشئ منه،
كما أن الايجاد من مقولة الفعل، والموجود من مقولة أخرى، عرض أو جوهر.
ومثلها دعوى: أن توقف الحكم الفعلي المجعول على الجعل كتوقفه
على موضوعه، فكما يصح استصحاب الموضوع أو عدمه، لاحراز ترتب
حكمه أو عدمه، كذلك يصح استصحاب عدم الجعل لاحراز عدم
266

الحكم المجعول.
لاندفاعها: بأن إحراز الأصل الجاري في الموضوع لحكمه إنما هو لكون
التلازم بينهما شرعيا، ولذا يكون حاكما على الأصل الجاري في الحكم، بخلاف
التلازم بين الجعل والمجعول، فإنه عقلي، ولذا اعترف بعدم حكومته على
الأصل الجاري فيه، فالتمسك به فيه مبني على الأصل المثبت.
وثانيا: أن المراد بالجعل إن كان هو الجعل الكبروي المعلق على وجود
الموضوع، فهو ليس موردا للأثر، لا بنفسه ولا بمجعوله، كما يأتي في مبحث
الاستصحاب التعليقي إن شاء الله تعالى.
وإن كان هو الجعل الفعلي التابع لفعلية الموضوع، فهو قابل للاستمرار
تبعا لاستمرار الموضوع، فمع فرض عدم أخذ الزمان قيدا في الموضوع مكثرا
له، بل هو ظرف محض للحكم يتعين كونه ظرفا للجعل أيضا، فيجري
استصحاب الجعل، لا استصحاب عدمه، لعين ما تقدم في الجواب عن
استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم.
وثالثا: أنه ينتقض في الموضوعات الخارجية، كعدالة زيد وبياض
الثوب، حيث يدعى حينئذ جريان استصحاب عدم جعلها تكوينا في زمان
الشك بلحاظ اليقين به من الأزل، ويعارض استصحابها الوجودي، مع تصريحه
بانفراد الأصل الوجودي بالجريان فيها. فلاحظ.
ثم إنه صرح بعموم ما ذكره الشك في النسخ والشك في الموضوع
الخارجي.
والأول مبني على كون النسخ راجعا إلى قصور جعل الحكم عن شمول
زمان النسخ رأسا، وهو محل كلام يأتي في مبحث استصحاب أحكام الشرايع
السابقة إن شاء الله تعالى، وعلى أن المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الكبروي.
والثاني مبني على كون المراد بعدم الجعل ما يعم الجعل الفعلي الخاص
267

التابع لفعلية الموضوع، لفرض عدم الشك في جعل الكبرى وعدم كون إحرازها
دخيلا في إحراز الصغرى.
هذا كله ما تضمنه تقرير درسه في كتاب (مباني الاستنباط)، أما تقريره
الاخر في (مصباح الأصول) فقد ادعى فيه المعارضة في خصوص صورة الشك
في سعة المجعول، كما لو احتمل طهارة الماء المتغير بزوال تغيره، أو حل وطئ
الحائض بطهرها قبل اغتسالها.
وصرح بانفراد الاستصحاب الوجودي بالجريان مع الشك في النسخ،
وفي الشبهة الموضوعية، وإن كان ظاهر بعض فقرات كلامه أن الجاري في
الشبهات الموضوعية هو الاستصحاب الموضوعي، لا الحكمي، فيخرج عن
محل الكلام.
ولم يذكر استصحاب العدم الأزلي بالإضافة إلى نفس الحكم المجعول،
وإنما اقتصر على استصحاب العدم الأزلي في نفس الجعل وعارض به
الاستصحاب الوجودي مع الشك في سعة المجعول.
وكأن مراده بالجعل هو الجعل الكبروي الذي لا أثر لاستصحابه بالإضافة
إلى الشبهة الموضوعية، ولا مجال له مع الشك في النسخ بناء على عموم الجعل
الأول لزمان الشك، وأن النسخ رفع للحكم بعد ثبوته، ولا يرجع لانتهاء أمده.
نعم، عرفت الاشكال في استصحاب عدم الجعل.
ثم إنه قد استثنى في التقرير الأول الاحكام الترخيصية كالإباحة، بدعوى:
عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فيها، لان الأشياء قبل الشريعة كانت مطلقة
غير ممنوعة، كما عليه سيرة الناس الممضاة شرعا بقوله تعالى: " وما نهاكم عنه
فانتهوا " وقوله عليه السلام: " اسكتوا عما سكت الله عنه "، وقوله عليه السلام: " ما حجب الله
علمه عن العباد فهو موضوع عنهم "، ونحوها.
ويشكل: بأن عدم احتياج الترخيص للبيان لا يجعله أزليا، كي يستصحب
268

بنفسه، ولا يستصحب عدمه، لان عدم المنع قبل التشريع ومن الأزل لا يرجع
للترخيص الذي هو حكم شرعي.
وأشكل من ذلك ما تضمنه التقرير الثاني من اختصاص المعارضة
بالأحكام الالزامية، فإن مقتضى الجمود عليه عدم تأتي المعارضة في الحكم
الاقتضائي غير الإلزامي، كالاستحباب والكراهة.
وهو كما ترى لعدم الريب في تبعيتها للتشريع وعدم كونها أزلية. فلو تم
ما ذكره من المعارضة لجرى في جميع الأحكام الخمسة. غاية الامر أنه بعد
تساقط الاستصحابين في الترخيص يجري استصحاب عدم المنع الشرعي
الأزلي، وهو كاف في السعة عقلا وإن لم يحرز الترخيص. ومن ثم استدل به
على البراءة، كما سبق في محله.
ومثله ما في التقرير المذكور من عدم المعارضة في استصحاب الطهارة
من الخبث، لأنها نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، بل الأشياء كلها على الطهارة
ما لم تعتبر النجاسة فيها شرعا، وكذا الطهارة من الحدث لو فرض الشك في
انتقاضها بمثل المذي، لان النقض هو المحتاج إلى الجعل، بل استصحاب عدم
جعل المذي ناقضا موافق لاستصحاب الطهارة.
لاندفاعه: بوضوح أن الطهارة بقسميها حكم شرعي مجعول كالنجاسة،
وعدم احتياج الطهارة الخبثية للبيان، لموافقتها للأصل لا يستلزم كونها أزلية.
وكون النقض محتاجا للبيان لا ينافي كون بقاء الطهارة بحكم شرعي مجعول.
وإلا فأكثر الأحكام الوضعية من الملكية والزوجية والنجاسة مبنية على البقاء
ونقضها محتاج للجعل والبيان.
واستصحاب عدم جعل المذي ناقضا مثبت، لان ترتب بقاء الطهارة على
عدم جعل الشئ ناقضا ليس شرعيا، بل خارجي. مع أنه لو تم كان حاكما على
استصحاب الطهارة، لأنه سببي.
269

وكذا الحال في ما تضمنه تقريره الأول من أن الأحكام الوضعية بنفسها لا
توجب الكلفة ولا السعة، وإنما توجبهما باعتبار الأحكام التكليفية المترتبة
عليها، فكل حكم وضعي يوجب الكلفة يكون الاستصحاب الوجودي فيه
معارضا بالاستصحاب العدمي، وكل حكم وضعي يوجب السعة لا يكون
الاستصحاب الوجودي فيه معارضا بشئ.
إذ فيه: أنه إن رجع إلى عدم المعارضة في نفس الحكم الوضعي
المستوجب للسعة توجه عليه ما تقدم من عدم كون الأحكام المذكورة أزلية.
كيف والحكم الواحد قد يوجب السعة من جهة والكلفة من جهة أخرى،
كالملكية الموجبة لجواز تصرف المالك في المملوك ووجوب الحج عليه.
وإن رجع إلى أنه بعد سقوط الاستصحاب في الحكم الوضعي
بالمعارضة يجري في الاحكام الترخيصية المترتبة عليه من دون معارض،
أشكل: بأن السعة قد لا تكون مجرى للاستصحاب الوجودي، لمخالفتها
للأصل، كما لو شك في طهارة الثوب، فان مقتض قاعدة الاشتغال بالصلاة عدم
إجزاء الصلاة به ما لم تحرز طهارته.
فالانصاف: أن ما ذكره من معارضة الاستصحاب الوجودي بالعدمي غير
ظاهر في نفسه، ولا بلحاظ الخصوصيات التي بناها عليه، وزاد الامر إشكالا تدافع
التقريرين في بيانه فلاحظ. والله سبحانه وتعالى ولي العصمة والتوفيق.
270

الفصل السادس
في استصحاب الحكم لو احتمل نسخه
تعرض غير واحد للكلام في استصحاب أحكام الشرايع السابقة بنحو
يظهر من بعضهم المفروغية عن جريان الاستصحاب في حكم هذه الشريعة لو
احتمل نسخه. بل عن المحدث الاسترآبادي أنه من الضروريات.
لكن الذي ينبغي عده من الضروريات هو البناء على عدم النسخ
واستمرار الحكم وإن لم يكن من جهة الاستصحاب، إذ جريان الاستصحاب في
ذلك مورد للكلام.
وتوضيح حاله يبتني على الكلام في حقيقة النسخ، فينبغي الكلام فيه
بإيجاز يناسب المقام، لأنه بالمبادي التي تذكر في مقدمة العلم أنسب.
وقد ذكرنا في محله أنه وإن تردد في كلام غير واحد أن النسخ تخصيص
في الأزمان، فيكون مخالفا لأصالة العموم والظهور، إلا أنه لا مجال للبناء على
ذلك.
كيف! وقد يختص الحكم المنسوخ بواقعة واحدة لا استمرار لها، كأمر
إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وقد لا يكون له دليل لفظي قابل لأصالة العموم، بأن
يكون دليله لبيا، أو لفظيا نصا في العموم، بل كثيرا ما يلزم تخصيص الأكثر، لقلة
أمد بقاء الحكم بالإضافة إلى زمان النسخ، إلى غير ذلك، مما لا مجال معه
لارجاع النسخ للتخصيص.
271

وقد يدعى مخالفة النسخ لأصالة الجهة في الحكم المنسوخ، لرجوعه إلى
كون الحكم المنسوخ من أصله أو باستمراره صوريا حقيقيا، لعدم كونه ناشئا
عن ملاك في متعلقه، إذ مع فرض الملاك يمتنع نسخ الحكم، ومع عدمه يمتنع
جعل حكم حقيقي إلا لخطأ الحاكم في تخيل ثبوته، ومع وضوح امتناع الخطأ
على الشارع لابد من كون الحكم المجعول صوريا خاليا عن المصلحة في
المتعلق وإن كان هناك مصلحة في نفس جعله من امتحان أو نحوه، وهو خلاف
أصالة الجهة في الكلام الصول عليها في كل مقام.
لكن أصالة الجهة مختصة بالأدلة اللفظية، وقد يكون دليل الحكم الذي
يطرؤه النسخ لبيا.
مع أنا ذكرنا في محله أن كون الحكم خاليا عن الملاك في المتعلق لا
ينافي أصالة الجهة ولا يجعله صوريا، لان أصالة الجهة إنما تنهض بإثبات كون
الكلام مسوقا لبيان المراد الجدي الحقيقي لا بداع آخر من هزل أو خوف أو
نحوهما مما لا يصلح لاحداث الداعي للعمل، ولا تقتضي صدور الحكم عن
ملاك في متعلقه.
كما أن المعيار في كون الحكم حقيقيا صالحا لاحداث الداعي للعمل
صدوره بداعي جعل السبيل - الذي هو نحو من الاعتبار من الحاكم خفيف
المؤنة عاليه - وإن لم يكن عن ملاك في المتعلق.
ولزوم صدور الحكم عن ملاك فيه أو في متعلقه مما يحكم به العقل
تنزيها للمولى عن العبث، ولا دخل لظهور الكلام ولا لأصالة الجهة به، ولذا
لا تسقط أصالة الظهور أو الجهة في الكلام لو علم تعرض الحكم للنسخ ولم
يعلم وقته.
ومن هنا كان التحقيق أن الحكم المنسوخ كغيره حقيقي جدي صادر
بداعي جعل السبيل وإن لم يكن عن ملاك في المتعلق، بل عن مصلحة في نفس
272

جعله كسهولة البيان، أو الامتحان، أو غيرهما.
وليس النسخ إلا رفعا للحكم بعد ثبوته، نظير الابراء من الدين بعد انشغال
الذمة به، وفسخ العقد بعد نفوذه. ولا ينهض الكلام بنفيه لا بمقتضى أصالة
العموم والظهور فيه، ولا بمقتضى أصالة الجهة. فلابد من وجه آخر للبناء على
بقاء الحكم عند الشك في نسخه.
وقد يوجه بأنه مقتضى الاستصحاب، كما تقدم.
ويشكل: بأنه إن كان المراد استصحاب عدم النسخ، بلحاظ أنه أمر حادث
مسبوق بالعدم، فهو مثبت، لان ترتب بقاء الحكم على عدم نسخه كترتب
حدوثه على جعله وارتفاعه على نسخه ليس شرعيا، بل خارجي.
وإن أريد استصحاب نفس الحكم بلحاظ اليقين به سابقا تبعا لليقين
بجعله والشك في بقائه تبعا للشك في نسخه. فهو قليل الفائدة، لأنه إنما ينفع في
الوقائع التي فرض فيها فعلية الحكم المتيقن قبل احتمال نسخه، كما لو احتمل
نسخ الحكم بنجاسة الميتة في فرض وجود ميتة قد علم بفعلية الحكم بنجاستها
للقطع بعدم نسخ الحكم المذكور حين طروء الموت عليها، أو احتمل نسخ
الحكم بوجوب الصلاة بعد العلم بفعليته، للعلم بعدم نسخه حين اجتماع
شرائطه من البلوغ والوقت وغيرهما.
وأما بالإضافة إلى الوقائع التي لم يتيقن فيها بفعلية الحكم، لاحتمال
طروء النسخ قبل تمامية شرائطه، فلا مجال لاستصحاب الحكم، لعدم اليقين به
سابقا، بل المتيقن عدمه ولو لعدم تمامية موضوعه وشروطه، فيكون هو
المستصحب.
ودعوى: أن جريان استصحاب الحكم في الوقائع التي تمت فيها شرائطه
وعلم بفعليته مستتبع للبناء على ثبوته في الوقائع الأخرى بعد تمامية الشرائط
فيها، للقطع باتحاد الوقائع في الحكم.
273

مدفوعة: بأن اتحاد الوقائع في الحكم راجع إلى التلازم بين أحكامها
الواقعية، ومن الظاهر أن الاستصحاب - كغيره من الأصول - لا ينهض بإثبات
لازم مجراه، كي يكون جريانه في بعض الوقائع كافيا في إحراز الحكم في
الوقائع الأخرى بعد عدم تمامية موضوع الاستصحاب فيها.
نعم، لو ثبت التلازم بينها في الحكم حتى في مقام الظاهر، بحيث يكون
إحراز الحكم في بعضها لتمامية موضوع التعبد الظاهري فيه مستلزما لاحرازه
في الباقي وإن لم يتم فيه موضوع التعبد فيه، اتجه البناء على ثبوت الحكم في
الجميع وإن اختص جريان الاستصحاب ببعضها. لكن لا مجال لدعوى ذلك،
لعدم الدليل عليه.
على أن الدعوى المذكورة لو تمت لزم سقوط الاستصحاب بالمعارضة،
لوضوح أنه كما كان مقتضى الاستصحاب في الوقائع التي سبقت فعلية الحكم
فيها هو ثبوت الحكم المحتمل نسخه، كذلك مقتضاه في الوقائع الأخرى عدم
ثبوته، وليس إشراك الثانية مع الأولى في ثبوته بأولى من إشراك الأولى مع الثانية
في عدمه.
هذا، ولا يخفى أن أصل الاشكال يبتني على أن الحكم بمجرد إنشائه
كبرويا قبل فعليته بفعلية موضوعه ليس له ما بإزاء حقيقي مورد للأثر صالح
للاستصحاب، وهو الذي وقع الكلام فيه بينهم، وعليه يبتني الكلام في المقام
وفي الاستصحاب التعليقي وغيرهما.
ومن ثم ينبغي الكلام في ذلك مستمدا منه تعالى العون والتسديد..
فاعلم: أنه قد تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب بوجوه
ذكرت في الاستصحاب التعليقي جارية في المقام بتحرير يناسبه..
الأول: ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدس سره من استصحاب نفس السببية
والملازمة بين الموضوع والحكم، فان لها نحوا من التحقق وإن لم يوجد
274

طرفاها، نظير ما قيل من أن صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها.
وفيه: أن السببية والملازمة ونحوهما - بل جميع الأحكام الوضعية على،
مختاره قدس سره منتزعة من ترتب الاحكام على موضوعاتها، وليس لها حقائق وراء
ذلك. ومجرد وجود منشأ انتزاعها لا يصحح استصحابها بأنفسها.
وأما ما ذكره بعض - الأعيان المحققين قدس سره من أنه يكفي كون المستصحب
مما أمر رفعه ووضعه بيد الشارع ولو بتوسط منشأ انتزاعه.
فهو - لو تم - لا ينفع في المقام، إذ ليس معنى كون السببية ونحوها
انتزاعية أن لها واقعا مسببا عن منشأ انتزاعها الذي هو بيد الشارع، نظير الوجوب
الغيري التابع للوجوب النفسي المجعول له، بل المراد أنه لا حقيقة ولا واقع لها
في قبال منشأ انتزاعها، وأن التعبير عنها مبني على ملاحظة منشأ انتزاعها بنحو
يوهم وجود واقع لها.
على أنه لو فرض أن لها حقائق مجعولة فليست هي موضوع للعمل إلا
بتوسط لازمها، وهو فعلية الحكم تبعا لفعلية موضوعه، ومن الظاهر أن التلازم
بينهما ليس شرعيا، بل خارجي، فيكون الأصل الجاري فيها مثبتا.
نعم، لو كان المدعى ترتب العمل عليها بنفسها لا بتوسط ترتب الحكم
وفعليته اتجه استصحابها. لكن لا يظن من أحد الالتزام بذلك.
الثاني: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره في مبحث الواجب
المشروط، فإنه مع اعترافه برجوع الشرط للهيئة ذكر أن مفاد الكبريات الشرعية
بحسب ظهورها اللفظي وإن كان هو إناطة الاحكام بالقيد والموضوع بوجودهما
الخارجي المستلزم لعدم فعلية الحكم إلا بفعلية موضوعه وشرطه في الخارج،
إلا أنه لابد من رفع اليد عن هذا الظهور وتنزيلها على الإناطة بوجود الموضوع
والقيد ذهنا في فرض الامر ولحاظه.
لان الأحكام التكليفية منتزعة من تعلق الإرادة والكراهة التشريعيتين
275

بأفعال المكلفين المبرزتين بالخطاب، وحيث كان موطن الإرادة والكراهة -
كغيرهما من الأمور النفسية، كالحب والبغض - ليس هو الخارج بل الذهن، امتنع
اشتراطهما بالأمور الخارجية، ولزم كون الشرط لهما هو لحاظ الموضوع
والشرط، لان مبادي وجود كل شئ من سنخ وجوده، فإن كان ذهنيا كانت
ذهنية، وإن كان خارجيا كانت خارجية.
وحيث كان لحاظ الشرط والموضوع فعليا كان الحكم فعليا، غايته أن
إناطته بلحاظ الشرط والموضوع موجبة لعدم محركيته عقلا إلا بفعليتهما في
الخارج، فالوجود الخارجي ليس شرطا في فعلية الحكم بل في محركيته عقلا،
كالعلم به.
وقد تعرض لذلك في الجملة في مبحث الاستصحاب التعليقي، وخصه
بالأحكام التكليفية، لبنائه على انتزاعها من الإرادة والكراهة التشريعيتين،
وليست من الجعليات الاعتبارية.
أما الأحكام الوضعية المتقومة بالجعل والاعتبار فلا مانع من دعوى
إناطتها بوجود الموضوع خارجا، على غرار القضايا الحقيقية، فلا تكون فعلية إلا
في ظرف فعلية موضوعاتها، ولابد من توجيه الاستصحاب التعليقي فيها من
طريق آخر، وقد اعتمد فيها على الوجه السابق، الذي عرفت حاله.
أقول: حديث السنخية إنما يقتضي كون إرادة المولى الحاصلة حين
الخطاب بالكبرى مسببة تكوينا عن لحاظ الموضوع، كما هي مسببة عن لحاظ
الملاك والمصلحة الداعية للخطاب ونحو ذلك من متعلق التكليف وغيره، وهو
الحال في الأحكام الوضعية الجعلية، لأن الاعتبار لما كان مبنيا على الادعاء الذي
هو أمر ذهني، فهو مسبب تكوينا عما هو من سنخه من لحاظ الموضوع
والمصلحة ونحوهما، فلا وجه للفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية من هذه
الجهة.
276

لكن هذا لا يقتضي كون الامر المنوط به بحسب قصد الامر وجعله هو
لحاظ الموضوع، كيف واللحاظ وسيلة وآلة للملحوظ، فلا يكون طرفا للإناطة،
بل ليس طرفها إلا الملحوظ الاستقلالي، وهو الموضوع بوجوده الخارجي الذي
هو موطن الغرض ومحط الأثر.
فاللحاظ شرط تكويني لتحقق الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى
التكليفية، ولانشاء الكبرى الجعلية الاعتبارية، والملحوظ بوجوده
الخارجي شرط شرعي للنسبة البعثية والزجرية الانشائية، كما هو شرط للاعتبار
الانشائي، فيكون شرطا في فعلية الحكم التكليفي والوضعي تبعا لذلك، كما هو
مقتضى الظاهر الذي اعترف به قدس سره.
فحديث السنخية لا ينافي الظهور المذكور، كي يلزم رفع اليد به عنه،
وتكلف تنزيل الخطاب على إناطة الحكم الشرعي بالوجود اللحاظي، أو إناطة
المحركية العقلية - لا نفس الحكم الشرعي - بالوجود الخارجي، بل كيف يمكن
رفع اليد عن مثل هذا الظهور الارتكازي العام بمثل هذا الوجه المبني على نحو
من الاجتهاد، بل لو فرض التنافي بينهما كان كالشبهة في مقابل البديهة.
وإلى ما ذكرنا يرجع ما قيل من أن اللحاظ شرط للجعل، والملحوظ
بوجوده الخارجي شرط للمجعول، وهو الحكم، فقبله لا وجود للحكم.
وأما دعوى: أن الجعل عين المجعول، وليس الفرق بينهما إلا اعتباريا.
فقد تقدم منعها عند الكلام في استصحاب عدم الجعل في أواخر الفصل
السابق.
ثم إن المنوط بالوجود الخارجي ليس هو الإرادة الحاصلة حين الخطاب،
لان الإرادة المذكورة فعلية خارجية لا تقبل الإناطة لا بالوجود الخارجي ولا
الذهني، بل النسبة البعثية والزجرية الكاشفة عن الحكم التكليفي، أو النسبة
الحملية المسوقة للحكم الوضعي، فهي تدل على إناطة الاحكام وعدم فعليتها
277

إلا بفعلية الموضوع والشرط كما ذكرنا.
وهو لا ينافي انتزاع الأحكام التكليفية من الإرادة والكراهة التشريعيتين،
إذ ليس المراد بهما ما يقارن الخطاب بالكبرى السابق على فعلية الموضوع
والشرط والمقارن للحاظهما بل الإرادة ولا كراهة الفعليتان التابعتان لفعلية
الموضوع وتمامية ملاكه، المستكشفتان بالخطاب المذكور، فالخطاب كما يدل
على إناطة الحكم يدل على إناطة منشأ انتزاعه وعدم فعليته إلا بفعلية ما أنيط به،
وليس الخطاب بالكبرى التعليقية إلا لبيان الضابط العام في حصول الإرادة
وحصول الاحكام بتبعها.
أما سيدنا الأعظم قدس سره فقد أصر على ما ذكره شيخه المذكور من أن الحكم
منوط بوجود الشرط لحاظا، لا خارجا، وذكر أن الوجود الفرضي هو الذي يكون
موضوع الإرادة والكراهة وغيرهما، لأنها لا تتعلق بالخارج، إذ قد لا يكون
للمستعمل فيه وجود خارجي، ولأن الوجود الخارجي في الإرادة والكراهة
ملازم لسقوطهما، لا مقوم لهما، بل موضوع هذه الأمور نفس الوجود اللحاظي
الذي يرى خارجيا غير ملتفت إلى كونه لحاظيا، فهو فان فيه فناء الحاكي في
المحكي.
ويظهر منه في مبحث الاستصحاب التعليقي عدم اختصاص ذلك
بالأحكام التكليفية.
ويقتضيه - أيضا - ما ذكره في وجهه من امتناع التفكيك بين الجعل
والمجعول، وأنه أوضح فسادا من التفكيك بين العلة والمعلول، لان الجعل عين
المجعول حقيقة، وإنما يختلف معه اعتبارا.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم من أن متعلق الإرادة والكراهة وطرف
الإناطة ليس إلا الملحوظ الاستقلالي، وهو الوجود الخارجي، واللحاظ شرط
في تعلقها به.
278

وفرضه فانيا في الملحوظ فناء الحاكي في المحكي أولى بتفنيد ما ذكره
منه بتأييده.
ومعنى تعلق الإرادة والكراهة بالوجود الخارجي ليس هو عروضهما عليه
عروض البياض على الجسم، كي يستحيل تحققه دون موضوعه، بل نحو من
التعلق راجع إلى داعوية الإرادة إليه واقتضائها لتحقيقه، ودافعية الكراهة له
واقتضائها لعدمه، فلا ينافي كون تحققه ظرفا لسقوطهما، لكونه رافعا لموضوع
اقتضائهما.
على أن ذلك مختص بمتعلق الإرادة والكراهة الذي هو المأمور به
والمنهي عنه، ولا يجري في شروطهما التي هي شروط التكليف، والتي يكون
وجودها الخارجي ظرف ثبوته لا سقوطه.
وأما حديث التفكيك بين الجعل والمجعول، فقد ذكرنا آنفا أن الجعل
مباين للمجعول وليس عينه.
كما أن المنفك عن الجعل الانشائي في المقام لما كان هو الحكم الشرعي
الذي هو موضوع الإطاعة والمعصية فلا يلزم التفكيك بين الجعل والمجعول
حقيقة.
وتوضيح ذلك: أن للأمور الانشائية وجودا ادعائيا استعماليا تابعا لانشائها
الذي هو فعل المنشئ غير منفك عنه، لأنه علته التامة، وهو في المقام الطلب
التعليقي في التكليفيات والمضمون الانشائي التعليقي في الجعليات، لان
المضامين التعليقية المبنية على الإناطة كسائر النسب لها نحو من الوجود قائم
بها، إلا أنها ليست عين الحكم الشرعي - التكليفي أو الوضعي - ليمتنع انفكاكه
عن الجعل، بل هي كاشفة عنه وحجة عليه، فلا محذور في انفكاكها عنه، فالنسبة
البعثية أو الزجرية التعليقية تكشف عن فعلية الإرادة أو الكراهة التشريعية تبعا
لفعلية ما علقت عليه النسبة، وحيث كانتا منشأ انتزاع الحكم كان الحكم
279

مستكشفا بالنسبة المذكورة على النحو المذكور. كما أن النسبة التعليقية
في الجعليات تكشف عن فعلية اعتبار الشارع الأقدس للامر الانشائي. تبعا
لفعلية ما علق عليه أو تكون من سنخ المعد لتحقق الامر الاعتباري بنظر العقلاء
وتمام علته بتحقق ما علق عليه، فلا يعتبر عندهم إلا حينئذ، ولعل هذا هو
الأظهر.
فهو نظير انفكاك المسببات التوليدية عن أسبابها الاختيارية لتوسط
الأسباب غير الاختيارية بينها، فالاحراق الذي هو فعل الانسان ليس إلا إلقاء
الثوب في النار، والاحتراق قد ينفك عنه بزمان يتوقف عليه تأثير النار فيه،
وليس هذا في الحقيقة من انفكاك الجعل عن المجعول، وإن أوهمه.
الثالث: ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره في مبحث الاستصحاب
التعليقي، ولعله هو مراده من الوجه السابق، وإن لم يساعد عليه ما قرر به كلامه.
وحاصله: أن الأحكام التكليفية المستفادة من الكبريات الشرعية لا تنتزع
من إرادة تشريعية فعلية، تبعا لفعلية الموضوع والشرط، كي لا يكون لها واقع
قبل فعليتهما، بل من الإرادة التشريعية المبنية على الإناطة، الحاصلة حين
الخطاب بالكبرى، لوضوح أن الخطاب بالكبرى لابد أن يقارن نحوا من توجه
نفس المولى للمراد والمكروه مبنيا على إرادته منوطا بموضوعه وشرطه، وإن
كان المنوط به هو الوجود الخارجي، لا اللحاظي، وحيث كانت الإرادة المذكورة
فعلية كان الحكم المنتزع منها فعليا، وليس أثر الإناطة إلا توقف محركية
التكليف عقلا على فعلية الموضوع والشرط ووجودهما في الخارج، من دون
أن يكون التكليف منوطا بهما.
وبهذا يختلف التكليف المشروط الذي هو مفاد الكبريات عن التكليف
المطلق سنخا، لانتزاع الثاني من الإرادة التشريعية المطلقة الحاصلة حين
الخطاب به، تبعا لفعلية موضوعه وتمام ما هو الدخيل في ملاكه، كما يختلف
280

عنه أثرا، لفعلية محركيته عقلا، بمجرد الخطاب به.
وفيه: أن المرتكزات العرفية والعقلائية قاضية باتحاد الواجب المشروط
والمطلق سنخا وانتزاعهما معا عن الإرادة الفعلية الحاصلة حين فعلية تمام ما هو
الدخيل في ملاك التكليف.
ولذا لو فرض التفات الحاكم المخاطب بالكبرى التعليقية للصغرى حين
فعليتها لم يجد من نفسه إلا ما يجده حين الخطاب بالحكم الفعلي المطلق لو
التفت إليه رأسا من دون أن يسبق منه الالتفات لكبراه، بل قد يؤكد الخطاب
الكبروي بالخطاب الخاص في مورد فعلية التكليف، ولا يكون منه ذلك إرشادا
بسبب فعلية محركية التكليف التعليقي، ولا تبدلا في سنخ للتكليف.
ولذا كان المرتكز انحلال الحكم الكبروي إلى أحكام فعلية متعددة بعدد
الموضوعات الفعلية، مع وضوح أن الإرادة المقارنة للخطاب بالكبرى لا تقبل
الانحلال بنفسها، وإنما التعدد في الإرادات الخاصة الفعلية، تبعا لتعدد
الموضوعات الفعلية، فلو تم ما ذكره لم يكن هناك إلا تكليف واحد، لتعدد
مظاهر إطاعته ومعصيته، لصلوحه للمحركية عقلا بفعلية ما أنيط به خارجا،
ولا يصح إضافة التكليف المذكور للموضوعات الخارجية، لعدم كونها موضوعا
للإرادة المذكورة، بل ليس موضوعها إلا العنوان الكلي، فلا يصح أن يقال: هذا
الخمر حرام، فيجب اجتنابه عقلا، إلا بتأويل راجع إلى حرمة عنوان الخمر،
فيجب عقلا إطاعتها باجتناب الخمر الخارجي.
بل كيف ينتزع التكليف الشرعي الذي هو موضوع الإطاعة والمعصية
عقلا من الإرادة المذكورة؟! مع أنها قد تحصل قبل حصول مكلف به قابل
للخطاب، بأن يكون المنوط به هو وجود المكلف، مع وضوح التكليف
ارتكازا نحو نسبة بين المكلف والمكلف والمكلف به متقومة بأطرافها.
على أن ذلك هو ظاهر الكبرى الشرعية بلحاظ ما تقدم من ظهورها في
281

إناطة النسبة البعثية والزجرية بوجود الشرط خارجا، إذ حيث كانت النسبة
المذكورة هي المبرز للتكليف كان ظاهرها إناطة التكليف بذلك أيضا، كما
يكون ظاهر النسبة المطلقة إطلاق التكليف، وحيث كان الموجود حين وجود
الشرط خارجا هو الإرادة الفعلية كان التكليف منتزعا منها، لابد من الإرادة المقارنة
للخطاب بالكبرى.
وبالجملة: التأمل في المرتكزات العقلائية التي يبتني عليها تحديد
التكليف ثبوتا وبيانه إثباتا يوجب وضوح كون التكليف منتزعا من الإرادة
والكراهة الفعليتين التابعتين لفعليه الموضوع خارجا، فلا يكون التكليف فعليا
إلا حينئذ، من دون فرق بين التكليف المطلق، الذي يخاطب به حين فعلية
موضوعه والمشروط الذي يخاطب به قبل فعليته بنحو الكبرى التعليقية
المنوطة بالموضوع والشرط، وليست الإرادة الحاصلة حين الخطاب بالكبرى
إلا لازما من لوازم مبادئ تحقق الإرادة الفعلية، دون أن تكون منشأ لانتزاع
التكليف، وإنما هي حجة على تعيين موارد الإرادات الفعلية التي ينتزع منها
التكليف وضبطها.
إن قلت: إذا كان منشأ انتزاع التكليف هو الإرادة الفعلية، لا تعليقية لزم
عدم تحقق التكليف لو غفل المولى عن تحقق الشرط أو الموضوع حين
فعليتهما، لعدم تحقق منشأ انتزاعه، وهو الإرادة العقلية حينئذ.
قلت: هذا كاشف عن انتزاع الحكم من ملاك المحبوبية أو المبغوضية،
المستتبع لهما بمجرد الالتفات إليه، وإن لم يتحققا بسبب الغفلة، فإذا كانت
الكبرى صالحة لبيان الملاك المذكور كانت صالحة لبيان التكليف بالنحو
المستتبع لحكم العقل بوجوب الإطاعة.
وهذا جار على مدعى الخصم أيضا، إذ قد يغفل المولى عن الكبرى، فلا
تكون الإرادة المستتبعة لها فعلية حين فعلية الموضوع والشرط، مع وضوح أن
282

محركية التكليف ووجوب إطاعته تابع لفعليته، ولا يكفي في فعلية التكليف
سبق تحقق منشأ انتزاعه مع ارتفاعه رأسا، بل لابد من تحققه حينه.
بل التحقيق: أن موضوع وجوب الإطاعة عقلا ليس خصوص التكليف
المنتزع من الإرادة والكراهة أو ملاكهما في ظرف إبراز المولى له ببيان منه، بل
يكفي الملاك المذكور، ولو مع غفلة المولى عنه رأسا، أو عجزه عن بيانه بابراز
التكليف، لو فرض اطلاع المكلف عليه من غير طريق المولى. ولذا يجب عقلا
بملاك وجوب امتثال التكليف مثل دفع الضرر عن المولى أو عمن يهمه أمره،
وإن غفل المولى عن توجهه إليه، أو عجز عن بيان التكليف به، وإن لم ينتزع
التكليف بنظر العقلاء حينئذ.
هذا كله بناء على انتزاع التكليف من الإرادة والكراهة أو ملاكهما، أما بناء
على كونه من الاعتبارات فيجري فيه ما تقدم عند الكلام في محذور التفكيك
بين الجعل والمجعول، من أن الجعل الكبروي ليس تمام العلة للامر الاعتباري،
بل هو مقدمة إعدادية له، وتمام علته عرفا بفعلية ما علق عليه، فلا وجود له قبله
حتى يستصحب.
ومن جميع ما تقدم ظهر أن النسخ إنما يكون رفعا للحكم الكبروي الذي
هو مقدمة إعدادية للحكم الوضعي الفعلي، وكاشف عن الحكم التكليفي، بناء
على انتزاعه عن الإرادة.
أما بالإضافة إلى الحكم الفعلي الحقيقي الذي هو مورد العمل فلا يكون
رفعا له إلا إذا كان بعد فعليته وتمامية موضوعه، وأما قبل ذلك فهو دفع ثبوتا أو
إثباتا.
الرابع: ما قد يظهر من المحقق الخراساني قدس سره من أن الاستصحاب لما كان
متضمنا للحكم بالبقاء كان متمما لدلالة الدليل لو فرض إجمال أمد الحكم فيه،
فالجمع بين الدليل الدال على الثبوت والاستصحاب يقتضي البناء على البقاء،
283

كما لو كان هناك دليل آخر متمم لدليل الثبوت وحاكم ببقاء مضمونه.
وهو لا يخلو عن إجمال، لأنه إن كان المراد أنه شارح للمراد من دليل
الثبوت ومبين لأمد مضمونه، بنحو يكون حاكما عليه. فهو ممنوع جدا، لامتناع
شرح الاستصحاب لمفاد الدليل بعد اختلافهما سنخا، لان مفاد الدليل الحكم
الواقعي، ومفاد الاستصحاب هو الحكم الظاهري.
وإن كان المراد أنه يتضمن التعبد الظاهري ببقاء مضمون الدليل. فهو
موقوف على تمامية أركانه بالإضافة إلى مضمون الدليل، وهو القضية الكبروية
وقد سبق الاشكال في ذلك بعدم كون المضمون المذكور حكما فعليها موردا
للعمل.
الخامس: أن فعلية الحكم الشخصي الذي هو مورد للعمل كما تتوقف
على تحقق موضوعه تتوقف على وجود كبراه، وكما كان استصحاب الموضوع
كافيا في إحراز الحكم الشخصي بضميمة إحراز الكبرى فليكن استصحاب
الكبرى كافيا في إحرازه بضميمة إحراز الموضوع.
وفيه: أن توقف الحكم الشخصي على الكبرى ليس ثبوتيا، لكونها أحد
جزئي علته، بل إثباتي لانحلالها إلى أحكام متعددة بعدد أفراد العنوان المأخوذ
فيها، فكل فرد موضوع للحكم، فمع إحراز موضوعية الفرد بسبب إحراز
الكبرى يتجه إحراز حكمه تبعا لاحرازه بالأصل، بضميمة ما تقدم من ملازمة
التعبد بالموضوع للتعبد بحكمه عرفا.
أما مع احتمال نسخ الحكم الكبروي المستلزم لخروج الفرد عن كونه
موضوعا للحكم فلا أثر لاستصحاب الكبرى، لعدم دخلها بنفسها في الحكم
الشخصي، وليست هي موضوعا للعمل، كما لا مجال لاستصحاب الحكم،
لليقين بعدمه قبل تحقق موضوعه، ولا لاستصحاب موضوعية الموضوع
وسببيته، لما تقدم من كونها انتزاعية غير مجعولة.
284

بقي شئ، وهو أنه لو تم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ
بالإضافة إلى الوقائع المتجددة فقد يدعى معارضته باستصحاب الاحكام
المضادة لها الثابتة قبل تجدد موضوعاتها، كما ذكروا نظير ذلك في الاستصحاب
التعليقي، فإنه يشارك المقام في أكثر جهات الكلام.
فكما يجري استصحاب نجاسة الميتة لاثبات نجاسة الحيوان الخاص
عند موته، يجري استصحاب طهارته الثابتة له حين حياته، فلا فائدة في جريان
الاستصحاب المذكور.
وقد تصدى غير واحد للتخلص من محذور المعارضة في المقام. ولهم
في ذلك مسالك..
الأول: أن استصحاب الحكم الفعلي المضاد لا يجري في نفسه، كي
يعارض استصحاب الحكم الكلي الكبروي المنوط.
وقد وجه ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره بأنه من القسم الثالث لاستصحاب
الكلي، وذلك لان الحكم المضاد كان قبل احتمال النسخ مغيى بوجود موضوع
الحكم المحتمل النسخ بنحو يقطع بارتفاعه بعده، واحتمال بقاء الحكم المذكور
إنما هو لاحتمال تجدد فرد آخر منه، وهو المطلق، فالطهارة المتيقنة للحيوان
قبل طروء احتمال النسخ إنما هي الطهارة المغياة بالموت، وهي معلومة الارتفاع
به أو بالنسخ، واحتمال بقاء كلي الطهارة - بعد الموت واحتمال النسخ - إنما هو
لاحتمال حدوث الطهارة المطلقة بدلا عن الطهارة المغياة، لنسخ الحكم بنجاسة
الموت.
وفيه: أن الاطلاق والتقييد إنما يتصوران في الحكم الكلي الكبروي الذي
هو مضمون الخطاب أما الحكم الشخصي الفعلي فهو لا يقبل الاطلاق ولا
التقييد، فتبدل حال الحكم الكبروي من التقييد إلى الاطلاق لا يوجب تبدل
الفرد ليكون استصحابه من القسم المذكور، بل المحتمل بقاؤه بشخصه، فيكون
285

من القسم الأول لاستصحاب الكلي، أو من استصحاب الفرد.
على أنه لو سلم تبدل الفرد في المقام، فالمستصحب ليس هو الحكم
الثابت قبل احتمال النسخ، كيف وقد لا يكون للموضوع وجود حينئذ، بل هو
الحكم الثابت بعده، قبل تجدد موضوع الحكم المحتمل نسخه - كالموت
في المثال - لان الاستصحاب ابقاء للمستصحب من آخر أزمنة اليقين بدلا من
أولها، والحكم حينئذ مردد بين المغيى المقطوع الارتفاع والمطلق المقطوع
البقاء، فيكون من القسم الثاني، لا الثالث.
الثاني: أن استصحاب الحكم الفعلي المضاد وإن كان جاريا في نفسه، إلا
أنه محكوم لاستصحاب الحكم الكبروي المنوط.
وقد ادعى ذلك شيخنا الأعظم قدس سره دون أن يوضح الوجه في الحكومة،
وقربها من تأخر عنه بوجوه..
أولها: ما ذكره بعضا الأعاظم قدس سره أن الحكمين الفعليين - كالطهارة
والنجاسة والحلية والحرمة - وإن متضادين من دون ترتب بينهما فوجود
أحدهما ملازم لعدم الآخر، والأصول العملية لا تثبت اللوازم العقلية، إلا أن هذا
فيما إذا لم يكن التعبد بأحد الضدين بنفسه مقتضيا للتعبد بعدم الاخر، كما
في المقام: إذ لا معنى للتعبد بحدوث النجاسة ولا حرمة المنوطتين إلا التعبد
بفعليتهما حين وجود ما أنيطتا به، وإلغاء احتمال الحلية والطهارة المضادتين
لهما حينئذ الذي هو موضوع استصحابهما، وإلا لغى استصحاب الحكم
المنوط.
فالترتب بين المستصحبين الذي هو ملاك الحكومة لم يستفد من دليل
خارج - كالترتب بين الحكم والموضوع - بل من نفس ذليل الأصل الحاكم، إذ
لولا حكومته كان لاغيا.
وفيه: أن هذا لا يخرج عن الأصل المثبت، فان التعبد بالضد لا يقتضي
286

التعبد بعدم ضده إلا للتلازم بينهما خارجا من دون ترتب شرعي، بل ولا عقلي
بينهما، كما نبه لذلك المحقق الخراساني قدس سره في هامش الكفاية.
وليس نفي الحكم المضاد باستصحاب الحكم الكبروي بأولى من نفي
فعلية الحكم الكبروي باستصحاب الحكم المضاد، إذ لا معنى للتعبد بالحكم
المضاد إلا إلغاء احتمال تجدد ضده تبعا لتجدد موضوعه، بعين التقريب الذي
ذكره.
نعم، لو كان أحد الاستصحابين مستفادا من دليل خاص به لزم البناء على
حجيته في اللازم المذكور، فرارا عن محذور لغويته، فيكشف عن إلغاء عموم
الاستصحاب بالإضافة إلى الضد، فلا يعارضه، لأنه أخص.
أما حيث كان، كل منهما مستفادا من عموم الاستصحاب فليس إعماله
بالإضافة إلى أحدهما بأولى من إعماله بالإضافة إلى الآخر، بل يقصر في كل
منهما عن إثبات لازم مجراه، لما تقدم.
ثانيها: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الشك في بقاء الحكم
الفعلي المضاد ناشئ من الشك في بقاء الموضوع المتجدد - كالموت في
المثال - غاية له بسبب الشك في نسخ الحكم الكبروي المفروض، فاستصحاب
كونه غاية له قاض بارتفاعه بحدوثه.
فالشك في بقاء طهارة الحيوان بعد موته ناشئ من الشك في بقاء الموت
غاية للطهارة كما كان سابقا قبل احتمال النسخ، فيستصحب له ذلك.
وهو مبني على جريان استصحاب الغائية التي هي كالشرطية والسببية
ونحوهما منتزعة غير مجعولة، وقد سبق الكلام في ذلك.
ثالثها: أن الحكم الفعلي المضاد حكم أولي ثابت للذات بما هي،
والحكم الكبروي المشكوك النسخ ثانوي ثابت لها بما أنها واجدة لخصوصية زائدة، كالموت في المثال، وكما يكون الحكم الثانوي حاكما على الأولي لو كانا
287

واقعيين ثابتين بالعلم أو الدليل الاجتهادي كذلك يكون حاكما عليه لو كانا
ظاهريين محرزين بالأصل، كما في القمام. وقد ذكر ذلك شيخنا الأستاذ قدس سره وذكر
أنه محتاج لشئ من التأمل.
والظاهر أن التأمل قاض باندفاعه، لان التحاكم ليس بين الحكم الأولي
والثانوي لذاتيهما، بل بين دليلهما الاجتهاديين في ظرف اجتماعهما موردا.
بتقريب: أن دليل الحكم على الذات بعنوانها الأولي وإن كان ظاهرا
في الحكم الفعلي مطلقا، إلا أنه يتعين عرفا تنزيله بقرينة ذليل الحكم الوارد على
الذات بعنوان زائد عليها على عدم كونه فعليا في مورده، بل كونه اقتضائيا،
وليس الفعلي إلا الحكم الاخر، وبهذا ينتزع عنوان الأولي والثانوي للحكمين
المذكورين. كما كانت الحكومة من وجوه الجمع بين الأدلة في مقام الاثبات.
أما الحكمان المدلولان للدليلين فلا معنى للتحكام بينهما بنفسهما ثبوتا
بل ليس الثابت في مورد الاجتماع إلا أحدهما، وهو الثانوي، لكون موضوعه
بمقتضى الجمع المذكورة علة تامة له، بخلاف موضوع الأولي فإنه مقتض لا
يؤثر مع وجود المانع.
ولا مجال لجريان ذلك في الاستصحابين، لان مقتضى كل منهما أن
الحكم المستصحب فعلي في ظرف الشك، كما كان فعليا في ظرف اليقين،
وانقلاب أحدهما إلى حكم اقتضائي مرتفع ينافي استصحابه، فيتعارض
الاستصحابان.
الثالث: أن استصحاب الحكم المضاد لا ينافي استصحاب الحكم
المحتمل النسخ ولا يعارضه، كما ذكره المحقق الخراساني.
وتقريبه في المقام: أن موضوع الحكم الكبروي الذي يحتمل نسخه كما
يناط به الحكم المذكور كذلك يكون غاية لكبري الحكم المضاد الثاني قبل
فعلية الموضوع، لاستحالة إطلاقه معه، فكما تكون النجاسة منوطة بالموت
288

تكون الطهارة مغياة به، ومن الظاهر أنه لا تنافي بين الطهارة المغياة بالموت
والنجاسة المنوطة به، وإنما المنافي للنجاسة المنوطة بالموت هو الطهارة
المطلقة، وليست هي مستصحبة، لعدم اليقين بها سابقا، بل المتيقن عدمها،
وليس الثابت سابقا الطهارة المغياة، واستصحابها لا يعارض استصحاب
النجاسة المنوطة، بل يجتمعان، كما كانتا سابقا معلومتين معا.
وحينئذ كما كان استصحاب النجاسة المنوطة بالموت مقتضيا لفعلية
النجاسة وحدوثها بسببه، يكون استصحاب الطهارة المغياة بالموت مقتضيا
لارتفاعها بعده، وكما لا تعارض بين استصحابي الطهارة المغياة والنجاسة
المنوطة، لا تعارض بين مقتضاهما، وهو فعلية النجاسة وارتفاع الطهارة
بالموت.
وبعبارة أخرى: استصحاب الحكم المقيد يقتضي التعبد بالحكم تبعا
لقيده على نحو تقييده به، فإذا كان القيد شرطا للحكم كان مقتضيا لوجوده، وإذا
كان غاية له كان مقتضيا لعدمه، فالموت في المقام شرط للنجاسة وغاية للطهارة
المستصحبتين، فلابد من حدوث النجاسة وارتفاع الطهارة بسببه.
وبهذا لا يحتاج لدعوى حكومة استصحاب الحكم المنوط على
استصحاب الحكم الفعلي المضاد، كما سلكه شيخنا الأعظم قدس سره وتقدم تقريبه
بوجوه تقدم الاشكال فيها، لان استصحاب الحكم الفعلي محكوم لاستصحاب
الحكم المغيى، كما كان استصحاب الحكم المنوط حاكما على استصحاب عدم
فعليته، حيث لم يحتمل أحد معارضة استصحاب نجاسة الميتة باستصحاب
عدم نجاسة الحيوان.
نعم، يبقى الاشكال في وجه إحراز وجود الحكم الفعلي أو ارتفاعه بتعا
لاستصحاب الحكم الكبروي المنوط أو المغيى، مع وضوح تباينهما وعدم
الترتب بينهما لا شرعا ولا عقلا، بل بينهما محض التلازم خارجا، فلا يحرز
289

بالاستصحاب، فضلا عن حكومته على الاستصحاب الجاري في الحكم الفعلي
العدمي أو الوجودي.
وهذا لا يختص بحديث المعارضة، بل يجري في أصل استصحاب
الحكم الكبروي المنوط، الذي هو محل الكلام، إذ يشكل التمسك باستصحاب
الحكم الكبروي المنوط حتى بالإضافة إلى استصحاب عدم فعلية حكمه، فكما
يعارض استصحاب نجاسة الميتة باستصحاب طهارة الحيوان الثابتة في حياته،
يعارض باستصحاب عدم نجاسته.
بل ترتب فعلية النجاسة على الاستصحاب المذكور مع قطع النظر عن
معارضته بعد فرض عدم الترتب الشرعي بينهما مورد للاشكال.
وقد دفع ذلك في الكفاية بأنه قضية نحو ثبوت الحكم، كان بدليله أو
بدليل الاستصحاب.
فإن أراد أن نفس المضمون المستصحب مقتض، لذلك، إذ لا معنى للتعبد
بالقضية المنوطة أو المغياة إلا التعبد بفعلية الحكم بالنحو المذكور، سواء كان
التعبد بالدليل أم بالأصل، وإلا كان التعبد بهما لاغيا، لعدم الأثر له بدون ذلك.
فهو إنما ينفع لو كان دليل التعبد بالقضية المنوطة أو المغياة واردا فيهما
بالخصوص، حيث يدل بدلالة الاقتضاء على ذلك، دفعا لمحذور لغويته، أما
حيث كان الدليل فيهما عموم الاستصحاب، الذي فرض عدم نهوضه باشبات
اللوازم غير الشرعية فيمكن دفع محذور لغوية التعبد بهما بحمل العموم على
غيرهما مما لا يحتاج فيه للعناية المذكورة.
وإن أراد أن اللازم المذكور وإن كان عقليا، إلا أنه لازم لما هو الأعم من
الوجود الواقعي والظاهري للملزوم، كما هو ظاهره في حاشية الرسائل.
أشكل بما هو المعلوم من أن فعلية الحكم واقعا إنما تلزم بقاء الكبرى
الشرعية وعدم نسخها واقعا، وثبوت الكبرى ظاهرا إنما يقتضي البناء على
290

الفعلية ظاهرا، فلابد من عموم دليل التعبد الظاهري بالكبرى لازمها المذكور،
وهو يتم في الدليل الاجتهادي، دون الاستصحاب ونحوه من الأصول.
وأما ما في حاشية الرسائل من قياس ذلك بوجوب المقدمة وحرمة
الضد، حيث يكون في المقيس عليه، فضلا عن المقيس، كما تقدم في المستثنى الثالث من مستثنيات الأصل المثبت، وذكرنا هناك أنه ربما يكون منشأ البناء
عليهما هو أن ملاك التلازم فيهما كما يقتضي التلازم بينهما ثبوتا يقتضي بينهما
إثباتا، بنحو يكون التعبد بالملزوم مستلزم للتعبد باللازم، ولا طريق لدعوى
ذلك هنا.
ومن هنا أشكل الامر في أصل جريان استصحاب الكبريات الشرعية،
مضافا إلى الاشكال السابق، والى حديث المعارضة الذي هو محل الكلام هنا.
فالذي ينبغي أن يقال: لا مجال للبناء على جعل الاحكام الكبروية
والفعلية معا، للغوية أحد الجعلين والاستغناء به عن الاخر، لوضوح عدم الترتب
بينهما الراجع إلى أخذ أحدهما في موضوع الآخر، كي يكون جعل المتقدم
لتنقيح موضوع المتأخر، نظير الأحكام الوضعية والتكليفية المترتبة عليها، حيث
يكون جعل الأولى لتنقيح موضوع الثانية، وإنما بينهما محض التلازم الخارجي،
الراجع إلى استحالة انفكاك جعل الكبرى عن فعلية حكمها في ظرف تحقق
موضوعه، فلابد من الاكتفاء بجعل واحد.
وحينئذ إن كان موضوع الأثر العملي هو الكبرى كانت هي المجعولة لا
غير، ولم يكن الحكم الفعلي إلا انتزاعيا راجعا إلى بلوغ الحكم مرتبة الباعثية
والمحركية العقلية، من دون أن يكون موردا للجعل الشرعي زائدا على جعل
الكبرى.
وعليه يبتني الوجه الثاني والثالث المتقدمان لتوجيه جريان استصحاب
291

الحكم الكبروي.
كما يمنع استصحاب الحكم الفعلي للزوم كون المستصحب هو
المجعول الذي يكون موردا للعمل ومحطا للغرض، فلا معارض لاستصحاب
الحكم الكبروي، بل يتعين العمل عليه لا غير.
كما يتوجه عليه البناء على بلوغ الحكم مرتبة الفعلية تبعا لفعلية
موضوعه، لان بلوغ الحكم المرتبة المذكورة ليس لازما خارجيا للمستصحب،
بل هو راجع إلى حكم العقل بوصول الحكم مرتبة الإطاعة والعمل، الذي هو
كأصل حكمه بوجوب الإطاعة مما يترتب على استصحاب الحكم وغيره من
طرق إحرازه، ولا يعتبر فيه العلم الوجداني به، نظير ما ذكره المحقق
الخراساني قدس سره في توجيه الترتب المذكور.
وإن كان موضوع الأثر العملي هو الحكم الفعلي كان هو المجعول، وجرى
استصحابه.
وهذا هو الظاهر، كما تقدم في رد الوجه الثاني والثالث.
ولا يخفى أن بقية الوجوه المتقدمة لتوجيه جريان الاستصحاب عند
الشك في نسخ الحكم الكبروي وإن لم تناف ذلك إلا أنها مبنية على جريان
الاستصحاب بوجه حاكم على استصحاب الحكم الفعلي، لان المستصحب
في الوجه الأول هو السببية، وهي في مرتبة العلة للحكم الفعلي، وفي الوجه
الرابع هو الكبرى نفسها بلحاظ شرح الاستصحاب لحال الجعل، فيكون حاكما
على دليله الحاكم على استصحاب الحكم الفعلي، وفي الخامس هو الكبرى
أيضا بلحاظ توقف الحكم الفعلي عليها كتوقفه على موضوعه.
وبالجملة: مبنى جريان الاستصحاب مع الشك في بقاء الحكم الحكم الكبروي
إما على عدم جريان الاستصحاب في الحكم الفعلي، لعدم كونه مجعولا ولا
موردا للأثر، أو على حكومته عليه، فلا مجال لفرض معارضته له. كما لا مجال
292

لفرض كون إثبات الفعلية به مبتنية على الأصل المثبت.
هذا كله في الاستصحاب، وقد تقدم قلة فائدته، لعدم جريانه في الوقائع
المتجددة، وعليه فالمرجع المهم في المقام هو أصالة عدم النسخ، وهي أصل
قائم بنفسه لا يبتني على الاستصحاب، وكذا يجري مع الشك في نسخ كبرى
الاستصحاب.
والوجه فيها: بناء العقلاء عليها في أمور معاشهم ومعادهم، لابتناء الأمور
لتشريعية قانونية كانت أو شخصية على البقاء ما لم ترفع، وإلا لاضطرب نظم
التشريع، لعدم الضابط لاحتمال النسخ، فقد يتوجه المكلف له، فيتوقف عن
العمل بالحكم، ولا يتوجه له المشرع، كي يتصدى لرفعه، بل قد لا يتسنى له رفعه
لو توجه له، فيفوت الغرض من التشريع. وأدنى نظر في سيرة العقلاء الارتكازية
في القوانين الوضعية الدنيوية، والتشريعات الدينية - على اختلاف الأديان -
يوجب وضوح ذلك، بنحو لا يحتاج إلى تكثر الشواهد وإقامة البرهان.
وكفى بهذه السيرة حجة بعد وضوح كونها ارتكازية عامة لم يثبت الردع
عنها، بل يعلم بامضاء الشارع لها وجريه على مقتضاها بملاحظة اتفاق العلماء
قولا وعملا وسيرة المتشرعة بما هم أهل دين على ذلك. من دون أن يبتني ذلك
على الاستصحاب، لعدم توجههم للاستدلال به إلا في العصور المتأخرة.
هذا كله في احتمال نسخ الحكم بما هو من غير نظر لخصوصيات
الاحكام..
وربما يدعى خصوصية أحكام شريعتنا المطهرة، أو أحكام الشرايع
السابقة في ذلك.
أما أحكام شريعتنا فقد يدعى استغناؤها عن أصالة عدم النسخ
والاستصحاب بالحديث المشهور: " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه
حرام إلى يوم القيامة " فإن مقتضى عمومه عدم نسخ جميع الأحكام، وثبوت
293

النسخ في الجملة لا ينافي حجيته في مورد الشك.
لكن لا يبعد حمله - بقرينة المفروغية عن وقوع النسخ، وإباء لسانه عن
التخصيص - على إرادة عدم نسخ أحكام هذه الشريعة بشريعة أخرى، فهو لبيان
استمرار الشريعة، لأنها خاتمة الشرايع، وصاحبها صلى الله عليه وآله خاتم الأنبياء، فلا ينافي
نسخ أحكامها بها. والامر سهل.
وأما أحكام الشرايع السابقة فقد وقع الكلام بينهم في جواز البناء عليها
والتعبد بها عند الشك في بقائها في هذه الشريعة، كما يجوز في أحكام هذه
الشريعة، إما للاستصحاب أو لأصالة عدم النسخ، بل سبق أن عنوان البحث في
كلامهم مختص بذلك.
والذي ينبغي أن يقال: أما الاستصحاب فقد سبق قلة الفائدة فيه، لعدم
تمامية أركانه بالإضافة إلى الوقائع المتجددة. ولو غض النظر عن ذلك لجرى في
المقام، كما يجري في غيره من موارد الشك في النسخ.
وأما أصالة عدم النسخ فالظاهر عدم المانع من الرجوع إليها.
وقد يدعى خصوصية المقام بما يمنع من الرجوع للاستصحاب وأصالة
عدم النسخ معا، لوجوه..
الأول: تعدد الموضوع، لاختلاف المكلفين بالشرايع السابقة مع
المكلفين بهذه الشريعة، فأهل هذه الشريعة غير مشمولين بدوا بتلك الاحكام،
كي يكون رفعها في حقهم نسخا مدفوعا بأصالة عدمه، أو بالاستصحاب، وإنما
يحتمل ثبوت مثلها في حقهم بجعل آخر مدفوع بالأصل.
ويندفع، بأن الظاهر أخذ عناوين المكلفين في تلك الأحكام بنحو القضية
الحقيقية المنطبقة على أهل هذه الشريعة النافذة عليهم لو لم يطرأ في حقهم
النسخ، كما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره غيره، وإلا لامتنع النسخ، لأنه رفع الحكم مع
بقاء موضوعه، لا انتهاء أمده لارتفاع موضوعه.
294

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن عدم دخل خصوصية الافراد في ثبوت
الحكم لا ينافي الاختصاص ببعض الحصص بسبب ضيق الجعل عن شمول
الزمان اللاحق، فلا يجري الاستصحاب.
فهو مبني على رجوع النسخ إلى قصور جعل الحكم بدوا عن شمول
الزمان اللاحق، وهو خلاف الظاهر، لما تقدم من أن النسخ هو رفع الحكم الذي
من شأنه البقاء.
فلا يبقى إلا حديث المعارضة، الذي تقدم منا الكلام فيه في الفصل
السابق.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في الجواب عن الوجه المذكور من أنا
نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين، فيبقى الحكم في حقه
بالاستصحاب، وفي حق معاصريه ممن كلف بعد نسخ الشريعة بقيام الضرورة
على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة.
فهو إنما يقتضي اشتراك الكل في أحكام الشريعة اللاحقة، واستصحاب
بقاء حكم الشريعة السابقة في زمان الشريعة اللاحقة لا يحرز كونه من أحكامها
إلا بناء على الأصل المثبت،
وأما القطع بعدم الفرق بين المتعاصرين في الحكم فهو لا ينفع إلا بناء
على الأصل المثبت أيضا، لان التلازم بين حكمي الشخصين واقعي لا ظاهري،
وقد تقدم نظيره عند التعرض لعدم الجدوى في الاستصحاب بالإضافة إلى
الوقائع المتجددة في أول الفصل.
الثاني: ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أنه لا مجال للبناء على بقاء أحكام
تلك الشرايع، للعلم بنسخها بشريعتنا المقدسة بجميع أحكامها حتى ما وافقها،
وليس بيان الحكم الموافق لاحكام الشريعة السابقة إمضاء لها، كي يتنازع في
معنى الامضاء، بل تشريع حكم مماثل للحكم السابق بعد انتهاء أمد جعله في
295

الشريعة السابقة، كما يقتضيه ما يفصل بينهما دل على نسخ هذه الشريعة لتلك.
وهو كما ترى! إذ لا معنى لنسخ الحكم الإلهي بمثله.
ومجرد اختلاف الشريعتين لا يصححه بعد رجوعهما إلى مقام الكشف
والتبليغ مع وحدة الحاكم.
وما تضمن نسخ شريعتنا لما قبلها لا يراد به نسخ جميع أحكامها بها، بل
ليس إلا منافاتها لها في الجملة وتقديمها في مورد المنافاة، فأحكام تلك
الشرايع خاضعة للتبديل بهذه الشريعة وإن لم تتبدل بها كلها لعدم منافاة بعضها
لها.
كما قد يشهد به قوله تعالى: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما
بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا... " (1).
ومن الغريب ما ذكره من انتهاء أمد جعل الحكم الأول.
إذ لا معنى لنسخ الحكم مع انتهاء أمده، فان النسخ رفع الحكم الثابت.
ومنه يظهر أنه لا حاجة للامضاء حينئذ، كي يكون مقتضى الأصل عدمه -
خلافا لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره -
إذ هو إنما يصح مع اختلاف الحاكم، كإمضاء الشارع للأحكام العرفية،
دون مثل المقام مما اتحد فيه الحاكم واختلف المبلغ، بل الحكم المحتاج
للامضاء لا يقبل النسخ، فإن الحكم الذي من شأنه المضي بنفسه يقبل النسخ
دون الامضاء، والذي ليس من شأنه المضي بنفسه يقبل الامضاء دون النسخ، فلو
أحرز الحكم الإلهي بأصالة عدم النسخ أو الاستصحاب ترتب الأثر عليه وإن لم
يحرز إمضاؤه بذلك.
نعم، لا بأس بدعوى الامضاء في مقام الاثبات، الراجع إلى استناد جميع

(1) سورة المائدة: 48.
296

الاحكام لهذه الشريعة باعتبار تضمنها إبلاغ بقائها المستفاد من التصريح بذلك
أو من السكوت عن نسخه، وهو المناسب لقوله صلى الله عليه وآله في موثق أبي حمزة عن
أبي جعفر عليه السلام: " يا أيها الناس ما من شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار
إلا وقد أمرتكم به، وما من شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد
نهيتكم عنه ".
لوضوح أن أوامره صلى الله عليه وآله واردة مورد التبليغ عنه تعالى، ويكفي فيه تبليغ
بقاء الاحكام، ولا يتوقف على بيان حدوثها، فلا يقتضي تعدد الحكم ثبوتا، كي
لا يكفي إحراز استمرار الحكم الأول بمقتضى الاستصحاب أو أصالة عدم
النسخ، بل لابد من إحراز الامضاء الذي هو خلاف الأصل.
وأما ما يظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره من إحراز الامضاء في المقام
بالاستصحاب، لان بقاء الحكم مساوق لتمامية ملاكه الملازم لامضائه في
الشريعة اللاحقة.
فهو كما ترى! مبني على الأصل المثبت، إلا أن يريد الامضاء في مقام
الاثبات ويرجع كلامه إلى أن الحاجة للامضاء لأجل معرفة بقاء الحكم الإلهي،
فإذا أحرز بالاستصحاب أو أصالة عدم النسخ كفى في تحقق الغرض من
الامضاء.
نعم، لو كان مرجع أصالة عدم النسخ إلى أصالة الجهة أشكل البناء عليه
في أحكام الشرايع السابقة مع ابتناء تلك الشرايع على التبشير بشريعتنا، لعدم
جريان أصالة الجهة مع تنبيه المتكلم على ما ينافيها فيكون جعل الحكم مجملا
من هذه الجهة، ولا دافع لاحتمال عدم استمراره.
لكن تقدم النسخ لا ينافي أصالة الجهة، كيف ولازمه رجوع النسخ إلى

(1) الوسائل ج: 13، باب: 12 من أبواب مقدمات التجارة حديث: 2 ورواه في تحف العقول
عنه صلى الله عليه وآله مرسلا بلفظ قريب من ذلك، ص: 28، طبع النجف الأشرف.
297

محض الكشف عن حال جعل الحكم في فرض إجماله وعدم ظهوره شئ شئ،
وهو خلاف ظاهر النسخ، بل خلاف ظاهر قوله تعالى في حكاية خطابه لموسى
مبشرا بشريعتنا المقدسة وصاحبها الكريم صلى الله عليه وآله: " قال عذابي أصيب به من
أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين
هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل
لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي
كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه
أولئك هم المفلحون " (1)، لظهوره في استناد وضع الإصر والاغلال لنبي
الرحمة صلى الله عليه وآله ولو باعتبار تبليغه للشريعة السمحة، لا أن شريعتهم متضمنة
لوضعها عنهم في الوقت المذكور مع جهلهم بذلك وليس منه صلى الله عليه وآله إلا
إعلامهم به.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس سره من أن سيرة الفقهاء من الصدر الأول على
عدم ملاحظة مصادر التشريع للأديان السماوية الأخرى واقتصارهم على
مصادر التشريع الاسلامي من الكتاب المجيد والسنة الشريفة، فيكشف عن
عدم نفوذ أحكامها في هذه الشريعة لنسخها وإن احتمل ثبوت مثلها في
هذا الدين.
فيندفع: بقرب كون منشئه عدم الوثوق بمصادر التشريع المعروفة
للأديان المذكورة، لمعلومية التحريف والابتداع فيها، ولا بحملتها للعلم
بتعمدهم إخفاء الحق.
نعم، ما ثبت من أحكامهم في الكتاب والسنة لا يبعد البناء على العمل عليه
لو فرض جهل حاله عندنا، وإن كان نادرا، فقد ذكر شيخنا الأعظم قدس سره عدة فروع

(1) الأعراف: 156 / 157.
298

وقع الكلام في وجوب البناء عليها.
بل ادعى قدس سره استمرار سيرة المسلمين في أول البعثة على ما كانوا عليه
حتى يطلعوا على الخلاف، وإن لم يكن ذلك منه خاليا عن الاشكال، لعدم
اطلاعهم غالبا على أحكام تلك الشرايع، لعدم سبق تدينهم بها وعدم اختلاطهم
بأهلها وعدم تيسر مصادرها لهم.
نعم، كان لهم بعض الالتزامات من دين إبراهيم عليه السلام تبعا لقومهم كالحج،
وبعض، الأغسال، والختان، ولعل وجه جريهم عليها مع العلم بنسخ شريعة
إبراهيم عليه السلام بما بعدها من الشرايع التي لم يلتزم أهلها بهذه الأمور، هو العلم
برجحانها شرعا، أو إعلام النبي صلى الله عليه وآله لهم بعدم نسخها في الشرايع المذكورة وإن
ضيعها أهل تلك الشرايع تمردا عليها أو لتحريفها عندهم.
الثالث: أن العلم الاجمالي بنسخ بعض أحكام تلك الشرايع مانع من
الرجوع في مورد الشك فيه للاستصحاب أو أصالة عدم النسخ.
وقد أجاب عن ذلك غير واحد بانحلال العلم الاجمالي بالظفر بأحكام
منسوخة من تلك الشرايع بقدر المعلوم بالاجمال، ويرجع في الباقي للأصل.
وهو كما ترى! فرض لا واقع له، لعدم الاطلاع على أحكام تلك الشرايع
كي يعلم بنسخ قسم منها بمقدار المعلوم بالاجمال، لفقد المصادر المعتمدة لها،
وما اطلع على نسخه منها قليل جدا لا يصلح لحل العلم الاجمالي المفروض.
فالعمدة في الجواب عن ذلك: أنه لا أثر للشك في النسخ في مورد العلم
بالحكم الفعلي مع الجهل بحكم الشريعة السابقة، لوجوب العمل على الحكم
المعلوم، سواء كان باقيا من الشريعة السابقة، أم حادثا بهذه الشريعة بعد نسخ،
الحكم المخالف له في تلك الشريعة ولا في مورد الجهل بالحكمين معا،
وينحصر الأثر له بمورد الجهل بالحكم الفعلي مع العلم بحكم الشريعة السابقة،
ومن الظاهر قلة الموارد المذكورة فلا يعلم إجمالا بتحقق النسخ في بعضها،
299

ليمتنع الرجوع في مورد الشك لأصالة عدم النسخ أو الاستصحاب. وقد ذكر
ذلك في الجملة شيخنا الأعظم قدس سره.
هذه هي الوجوه المذكورة في كلماتهم، وهي - كما ترى - لا تنهض بالمنع
عن جريان الاستصحاب وأصالة عدم النسخ.
نعم، روى في الكافي عن محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث
طويل أنه قال: " إن الله عز وجل بعث نوحا إلى قومه: " أن اعبدوا الله واتقوه
وأطيعون " ثم دعاهم إلى الله وحده، وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم بعث
الأنبياء عليهم السلام على ذلك إلى أن بلغوا محمدا صلى الله عليه وآله فدعاهم أن يعبدوا الله ولا
يشركوا به شيئا، وقال: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا
إليك... " فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله الا الله، والاقرار بما جاء به
من عند الله، فمن آمن مخلصا ومات على ذلك أدخله الله الجنة بذلك... فلما
استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين جعل لكل نبي منهم
شرعة ومنهاجا، والشرعة والمنهاج سبيل وسنة... ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وهو
بمكة عشر سنين، فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله الا
الله، وأن محمدا صلى الله عليه وآله رسول الله إلا أدخله الله الجنة بإقراره، وهو إيمان التصديق،
ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد صلى الله عليه وآله على ذلك إلا من أشرك
بالرحمن. وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة:
" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا... " إلى قوله تعالى: " إنه
كان بعباده خبيرا بصيرا " أدب، وعظة، وتعليم، ونهي خفيف، ولم يعد عليه،
ولم يتواعد على اجتراح شئ مما نهى عنه، وأنزل نهيا عن أشياء وحذر عليها
ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها... فلما أذن الله لمحمد صلى الله عليه وآله في الخروج من مكة
إلى المدينة بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا صلى الله عليه وآله
عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان،
300

وأنزل عليه الحدود، وقسمة الفرائض، وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها
وبها النار لمن عمل بها، وأنزل في بيان القاتل... " (1).
وهذا الحديث - كما ترى صريح - في عدم تشريع الاحكام الفرعية إلا
بعد الهجرة تدريجا، وأن الدين في أوائل البعثة لم يكن الا الشهادتين، ولا يلزم
المسلم بسواهما، وإنما يندب لمكارم الأخلاق الارتكازية، وهو مستلزم لنسخ
جميع أحكام الشرايع السابقة الالزامية ونحوها من الأمور التعبدية، وليس
تشريع الاحكام الموافقة لها أو المخالفة إلا بعد فترة طويلة.
وهو وإن كان ضعيفا سندا، إلا أنه مؤيد بما ورد في صحيح أبي بصير
ومرسل اللؤلؤي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديت إسلام أبي ذر رضي الله عنه بعد تكليم
الذئب له وبحثه عن النبي صلى الله عليه وآله في مكة ووعده " بتصديقه وطاعته في كل ما
يأمره به، وأنه دخل عليه صلى الله عليه وآله وشهد الشهادتين أمامه ووعده الطاعة له،
فقال صلى الله عليه وآله: " أنا رسول الله يا أبا ذر انطلق إلى بلادك... وكن بها حتى يظهر أمري "
قال أبو ذر: " فانطلقت... وبقيت ببلادي حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله فأتيته " (2)، فان
الظاهر من الحديثين أن تمام الدين الذي أمر صلى الله عليه وآله بتبليغه هو الشهادتان.
على أن ذلك هو الموافق للاعتبار، لابتداء الدعوة الاسلامية بين قوم
يجهلون أحكام الشرايع السابقة ولم يألفوا العمل بها، وظروف الدعوة حينئذ لا
تناسب فرض ذلك، بل لابد من تركز الدين كعقيدة واستحكام أصوله في
النفوس والمجتمع والاعتراف به كحقيقة ثابتة قبل فرض سيطرته العملية في
الحياة بتشريع أحكام العبادات والمعاملات. ولذا كانت التشريعات بلسان

(1) الكافي 2: 28، باب 17 من كتاب الايمان والكفر حديث: 1.
(2) روى الحديثين في البحار باب: إسلام أبي ذر بعد بيان أحوال النبي صلى الله عليه وآله، آخر المجلد: 6، طبع
كمپاني، وروى الحديث الأول في أمالي الصدوق المجلس الثالث والسبعين، ص: 432، طبع
النجف الأشرف، وروي الثاني في روضة الكافي حديث: 457، ص: 297.
301

التأسيس لا بلسان النسخ والتعديل لاحكام الشرايع السابقة.
بل لا إشكال ظاهرا في تأخر تشريع كثير من مهمات الفرائض كالصلاة
والزكاة والصوم مع وجود نظائرها في الشرايع السابقة ولم يعرف عن المسلمين
العمل عليها في أول البعثة.
بل النظر في كيفية تشريع كثير من الاحكام - كتحريم الخمر والربا
والفرائض والعدد - شاهد بابتناء التشريع على التدرج حتى تكامل، لا على
التعديل لما سبق، بنحو يكون في جميع الأوقات تشريع متكامل، بعضه من
الأديان السابقة وبعضه من الاسلام.
فمن القريب جدا نسخ الشرايع السابقة بتمام أحكامها العملية ببعثة
النبي صلى الله عليه وآله ثم تأسيس الشريعة من جديد بعد مرور فترة خالية من الاحكام، قد
ترك فيها الناس على ما كانوا عليه في الجاهلية من أعراف وعادات في نظام
الحياة.
وإن كان أهل تلك الشرايع ملزمين بأحكامها في الفترة المذكورة إما ظاهرا
بمقتضى أصالة عدم النسخ قبل قيام الحجة عندهم على الدين الجديد، أو واقعا
لقاعدة الالزام التي هي قاعدة ثانوية ترجع إلى ثبوت الحكم بعنوان طارئ، لا
بمقتضى تشريعه الأولي.
ومن هنا يشكل البناء على بقائها في حق المسلمين وغيرهم ممن لم
يتدين بتلك الشرايع أو ثبت عنده نسخها بالاسلام.
ثم إن شيخنا الأعظم قدس سره تعرض لبعض الموارد التي يبتني الحكم فيها على
هذه المسألة وتكون ثمرة لها، وقد أطال الكلام في مفاد أدلتها بما لا مجال
للتعرض، له هنا، بل يوكل للفقه.
302

الفصل السابع
في الاستصحاب التعليقي
من الظاهر أن الشك في بقاء الحكم الفعلي بنحو يقبل الاستصحاب
موقوف على سبق اليقين بتحقق تمام ما يحتمل دخله فيه من موضوع وشروط
وقيود، إذ مع الشك في تحقق شئ منها رأسا يشك في حدوث الحكم لا في
بقائه، فيجري استصحاب عدم الحكم.
نعم، العلم بتحقق بعض ما هو الدخيل في الحكم مستلزم للعلم بالحكم
معلقا على تحقق بقية ما يحتمل دخله فيه، كما هو مفاد القضية الشرطية، فإذا
اعتبر في زكاة الذهب والفضة سكهما بسكة المعاملة ومضي الحول عليهما،
فمع سكهما بسكة المعاملة قبل مضي الحول يصدق أنه يجب الزكاة فيهما
بمضي الحول عليهما.
وحينئذ إذا شك في استمرار مفاد القضية الشرطية المذكورة، لاحتمال
دخل أمر كان متحققا ثم زال، فمع حفظ الموضوع المقوم للاستصحاب، يمكن
فرض تحقق موضوع الاستصحاب، بالإضافة إلى القضية التعليقية المتيقنة
سابقا، فإذا احتمل اعتبار تداول السكة فعلا في وجوب الزكاة في المسكوك،
وهجرت السكة بعد التعامل بها، أمكن أن يقال: كان هذا المال لو حال عليه
الحول لوجبت فيه الزكاة فهو كما كان، وإن لم يمكن ذلك بالإضافة إلى القضية
الفعلية، لعدم سبق حول الحول المعتبر في فعلية وجوب الزكاة.
إذا عرفت هذا، فقد وقع الكلام بين الأصحاب في جريان الاستصحاب
في القضية التعليقية، بنحو يحرز فعلية الحكم في ظرف فعلية الشرط، فيحرز
303

في المثال السابق وجوب الزكاة في المال المذكور بعد حول الحول عليه.
وقد منعه غير واحد لدعوى: أن الحكم في القضية التعليقية لا وجود له
قبل وجود ما علق عليه كي يستصحب، بل المستصحب عدمه، لسبق اليقين به
سابقا في فرض عدم وجود الشرط المعلق.
وقد تصدى غير واحد لتقريب جريان الاستصحاب مع الشك في نسخ
الحكم بالإضافة إلى الوقائع المتجددة.
بل قد أشرنا هناك إلى أنهم تعرضوا لأكثر تلك الوجوه هنا، وإنما قدمناها
هناك للحاجة إليها.
كما أن تقدم ذلك البحث طبعا - لصلوح الكلام فيه لان يكون مبنى
للكلام هنا - هو الذي دعانا لتقديمه.
وكيف كان، فقد سبق منا أن المجعول حقيقة هو الحكم الفعلي، الذي لا
تحقق له قبل تحقق ما علق عليه، وأن العمل يستند إليه، دون الحكم التعليقي
الكبروي، أو السببية المنتزعة من ترتب الحكم المسبب على السبب، أو
نحوهما مما له نحو من الوجود قبل تحقق المعلق عليه، ولذلك لا مجال لجريان
الاستصحاب في المقام.
هذا، وظاهر غير واحد أن مبنى الكلام في هذه المسألة هو ما تقدم
في تلك المسألة من الكلام في جريان الاستصحاب قبل فعلية الحكم، فان قيل
بجريانه جرى في المقام، وإلا لم يجر، حتى إن سيدنا الأعظم قدس سره قال في تقريب
جريان الاستصحاب في المقام: " وحيث أن صحة الاستصحاب ارتكازية في
مثل هذه الأحكام، ولا سيما إذا كان الشرط فيها من جهة الشك في النسخ لابد أن
يستكشف صحة مبناها أعني: كونه منوطا بالوجود الذهني ".
لكن الظاهر اختلاف المقام عما سبق، وأن عدم جريان الاستصحاب
هناك - للزوم كون الحكم المستصحب فعليا - وإن كان مستلزما لعدم جريانه هنا
304

- لعدم الفعلية أيضا - إلا أن جريانه هناك لا يستلزم جريانه هنا لوجهين..
الأول: أن مرجع الوجوه المذكورة هناك إلى جريان الاستصحاب في
السببية المنتزعة من الحكم - كما هو مفاد الوجه الأول - أو في نفس القضية
الانشائية الكبروية المجعولة، وكلاهما لا ينفع هنا، ضرورة أنه لم يحرز سابقا أن
تمام السبب هو الشرط المتحقق حال الشك - كمضي الحول في مثال الزكاة - بل
يحتمل كونه جزء السبب وجزؤه الاخر هو الخصوصية المفقودة - كفعلية
التعامل بالمال - كما أن موضوع القضية الانشائية المتيقنة ليس هو الموضوع
الخارجي المحفوظ في حالتي اليقين والشك، كالذهب والفضة الخارجيين، بل
هو العنوان الكلي، مع احتمال كون الخصوصية المفقودة قيدا في القضية
المذكورة، فلا يجري استصحاب القضية المطلقة، لعدم اليقين بثبوتها ولا
المقيدة، لعدم الأثر لها في ظرف فقد القيد.
وبعبارة أخرى: الحكم الانشائي قبل فعلية تمام ما يؤخذ فيه من موضوع
وقيود وشروط يبقى على إناطته بموضوعه الكلي، وما له من قيود وشروطه من
دون أن يحمل على الموضوع الخارجي، ولا يكون وصفا له فعلا، كي يكون
الشك في استمرار الحكم الثابت له، ويكون الشرط خصوص الامر الزائد عليه،
وتكون الخصوصية المحتملة غير مقومة له، بل هو لا يطرأ الموضوع
الخارجي إلا بفعلية تمام ما اخذ فيه، والمفروض عدم تحقق ذلك في المقام.
ودعوى: أنه مع فعلية الموضوع الواجد للخصوصية المحتملة الاعتبار
يكون الحكم فعليا من جهته ولا يبقى الحكم منوطا إلا بالشرط المفقود، فيكون
ذلك الموضوع معروضا لحكم جزئي منوط بذلك الشرط، فمع بقائه
يستصحب له الحكم المنوط به وإن تبدلت حاله، كما يستصحب له الحكم
الجزئي المنجز.
فإذا كان هناك ذهب مسكوك كان بنفسه موضوعا بالفعل لوجوب الزكاة
305

المعلق على مضي الحول، كما يكون موضوعا للملكية المنجزة، فيستصحب
الوجوب المذكور له، كما تستصحب الملكية المذكورة.
مدفوعة: بأنه لا معنى للتبعيض في الفعلية، بل فعلية الحكم منوطة بتمام
ما اخذ فيه، وبدونها ليس هناك إلا حكم انشائي وارد على العناوين الكلية منوط
بتمام ما يكون دخيلا فيه.
ودعوى: أنه يصدق قولنا: كان هذا المال إن مر عليه الحول وجبت فيه
الزكاة مثلا، فيستصحب المضمون المذكور.
مدفوعة.. أولا: بعدا إحراز صدق ذلك، إذ مع احتمال دخل المعاملة
به في الحكم فالمتيقن صدق القضية المنوطة بذلك أيضا، فالذي يصدق هو
قولنا: كان هذا المال إن مر عليه وبقي رائجا، وجبت فيه الزكاة. ومن الظاهر أنه لا
أثر لاستصحاب ذلك، بل لو علم بالقضية المطلقة لم يحتج للاستصحاب، للعلم
حينئذ بوجوب الزكاة في فرض عدم النسخ.
وثانيا: أن القضية المذكورة ليست شرعية جعلية فعلية أو إنشائية، بل
منتزعة من ترتب الحكم على تمام ما اخذ فيه.
ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره بعض المحققين (1) قدس سره من أنه إن قلنا بأن
الشروط المأخوذة في الحكم - كمضي الحول في المثال - قيود مقومة
للموضوع، وأن موضوع وحوب الزكاة هو النقد الذي مضى عليه الحول مثلا
امتنع جريان الاستصحاب، لعدم الشك في بقاء الحكم الانشائي الوارد على
الموضوع المقيد بعد فرض عدم النسخ، وعدم إمكان استصحاب الحكم
الفعلي، لفرض عدم سبق اليقين به قبل فعلية موضوعه.
وإن قلنا بأنها خارجة عن الموضوع، وقد أنيط بها الحكم زيادة على
إناطته به، فموضوع وجوب الزكاة هو النقد، وإن كان مضي الحول عليه شرطا

(1) المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سره.
306

في ثبوت الحكم له، جرى الاستصحاب بلحاظ الحكم الانشائي الخاص
المتعلق بالموضوع الخاص، للشك في بقائه بعد اليقين بثبوته تبعا لفعلية
موضوعه، وإن لم يجر بلحاظ الحكم الفعلي، ولا بلحاظ الحكم الانشائي الكلي،
لعدم سبق اليقين بالأول وعدم الشك في بقاء الثاني بعد فرض عدم النسخ.
وجه الاندفاع: أنه ليس للشارع إلا حكم إنشائي واحد وارد على
الموضوع الكلي بتمام ما اعتبر فيه، من شروط وقيود، سواء كانت قيودا
للموضوع أم شروطا في قباله، وليس انحلاله على الموضوعات الخارجية إلا
فرضيا بفرض فعلية تمام ما هو الدخيل في الحكم من شروط وقيود، فمع عدم
فعلية شئ منها لا يكون للموضوع حكم إنشائي ثابت له بالفعل، ليستصحب.
على أنه لو ثبت له لثبت مشروطا بتمام ما يعتبر في الحكم، ولعل منه الحالة
الزائدة، ولا يعلم ثبوته مطلقا من جهتها، لينفع استصحابه.
الثاني: أنه سبق الاشكال في استصحاب الحكم مع الشك في نسخة
بمعارضته باستصحاب الحكم الفعلي المضاد.
وقد سبق منا في دفع المعارضة أن الحكم العملي المجعول إن كان هو
الحكم الانشائي الكبروي والفعلية من شؤون محركيته عقلا، فاستصحاب
الحكم الفعلي المضاد لا يجري في نفسه - لعدم كونه عمليا مجعولا - كي
يعارض الاستصحاب المذكور.
وإن كان هو الحكم الفعلي، والحكم الانشائي الكبروي كاشف عنه أو
مقدمة اعدادية له، فهو المستصحب دون الحكم الانشائي الكبروي، فلا معارضة
على كلا الحالين.
ولا مجال لذلك في المقام، لان مبنى جريان الاستصحاب هنا ليس على
استصحاب الحكم الكبروي، بل على استصحاب الحكم المتوسط في الفعلية،
وليس هو بأولى بالاستصحاب من الحكم التام الفعليته فيجريان معا
307

ويتعارضان، ولا وجه لحكومة أحدهما على الاخر.
نعم بناء على الرجوع في المقام لاستصحاب السببية - وغض النظر عما
تقدم من عدم اليقين سابقا بكون الشرط تمام السبب - يتجه حكومته على
استصحاب الحكم الفعلي المضاد، كما تقدم هناك أيضا.
تنبيهات
الأول: الشك في استمرار القضية الشرطية للموضوع الخاص..
تارة: يكون للشبهة الحكمية، كما تقدم في مثال الزكاة.
وأخرى: يكون للشبهة الموضوعية، كما لو ثبت أن هجر السكة مانع من
ثبوت الزكاة، وشك في هجر سكة بعد رواجها.
والظاهر عدم الفرق بين القسمين في جريان الاستصحاب، بعد كون
الشرطية منحلة من كبرى شرعية.
وإن كان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة الموضوعية - كاستصحاب
عدم هجر السكة - مغنيا عن الاستصحاب التعليقي الحكمي، لحكومته عليه.
الثاني: موضوع الحكم التعليقي ومعروضه قد يكون جزئيا مستمرا
بنفسه، كالذهب والفضة في المثال المتقدم، وقد يكون كليا قابلا للتقييد، كما لو
فرض وجوب إنفاق الأب على زوجة ولده الصغير فتزوج الولد برضا أبيه مع
الشك في بلوغه، حيث يصدق حينئذ قولنا: كان هذا الولد لو تزوج لوجب على
أبيه الانفاق على زوجته.
وفي جريان الاستصحاب هنا - لو فرض جريانه في القسم الأول -
إشكال، لتقييد المتعلق، كالانفاق، بعدم بلوغ الولد، فمع الشك في بلوغه لا يحرز
الموضوع.
نعم، قد يتجه بناء على ما جروا عليه من التسامح العرفي في موضوع
308

الاستصحاب، الذي تقدم عدم التعويل عليه.
الثالث: لما كان مبنى جريان الاستصحاب التعليقي على أن للحكم
المعلق نحوا من الوجود تابعا للانشاء قبل وجود ما علق عليه اختص جوازه
بالأحكام القابلة للجعل والانشاء في الجملة في ظرف عدم فعلية موضوعاتها،
دون الموضوعات الخارجية، التي لا إشكال ظاهرا في أنه لا واقع لها إلا بفعلية
تمام أجزاء علتها، فلو علم بوجود النار وعدم احتراق الثوب لرطوبته، ثم علم
بجفافه، لا مجال لاستصحاب الاحتراق على تقدير الجفاف، لاثبات فعليته
حينئذ.
وكذا الحال في الاحكام العقلية كالاجزاء ونحوه، أو الأمور الانتزاعية -
كالسببية ونحوها - لو لم يكن لها إلا وجود تعليقي، لو فرض جريان
الاستصحاب فيها ذاتا.
الرابع: ذكر سيدنا الأعظم قدس سره في حقائقه أنه لا ريب في جريان
الاستصحاب مع أخذ الخصوصية قيدا في الموضوع، كما لو قيل: الذهب
والفضة الذان مضى عليهما الحول تجب فيهما الزكاة، حتى جعل ذلك مقربا
لجريان الاستصحاب التعليقي، لكشفه عن صحة مبناه، وهو إناطة الحكم
بالوجود اللحاظي، الذي تقدم الكلام فيه في الفصل السابق.
وفيه: أن الذي لا ريب فيه عندهم جريان الاستصحاب مع فعلية الحكم
لفعلية الموضوع بتمام ما أخذ فيه، أو لكون القضية خارجية، لا فيما إذا لم يوجد
الموضوع، أو وجد فاقدا لقيده مع أخذه بنحو القضية الحقيقية التي هي في قوة
الشرطية.
وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في تقريب عدم جريان
الاستصحاب التعليقي من عدم الفرق بين أخذ الخصوصية قيدا في الموضوع
وأخذها شرطا للحكم، لرجوع الشرط الموضوع، فيكون من قيوده لا محالة،
309

فمع عدمه لا موضوع للحكم، كي يكون له نحو من الوجود، حيث يظهر منه
المفروغية عن عدم جريان الاستصحاب التعليقي مع أخذ الخصوصية قيدا في
الموضوع، وأن عدم جريانه مع أخذها شرطا في الحكم لرجوعه إليه.
هذا، ومن الظاهر أن ما تقدم من بعض المحققين قدس سره في مبنى الكلام في
المسألة راجع إلى ثبوت الفرق بينهما " وهو الذي أصر عليه سيدنا الأعظم قدس سره في
مسألة العصير الزبيبي.
فقد ذكر في بيان الفرق بينهما أن دخل قيد الموضوع في الحكم من قبيل
دخل المعروض في العارض، ودخل الشرط في الحكم من قبيل دخل المقتضي
في الأثر.
لكن الفرق المذكور إنما يتم في الاحكام العارضة على الأمور الكلية
القابلة للتقييد، كالأحكام التكليفية العارضة لفعل المكلف.
أما الاحكام العارضة للموجودات الخارجية، كالطهارة والنجاسة وحق
الزكاة فليس معروضها ارتكازا إلا الذات غير المتقومة بالوصف، وليس دخل
الوصف في الحكم إلا لكونه علة له، ولذا تقدم إمكان الاستصحاب بتخلفه مع
حفظ الذات. فالقيد في ذلك راجع في الحقيقة للشرط، دون العكس.
نعم، لو أريد من الموضوع مطلق ما له الدخل في الحكم وإن لم يكن
معروضا اتجه القول بدخل الشرط والقيد معا في الموضوع. ولعله هو مراد
بعض الأعاظم قدس سره.
على أن الفرق الذي ذكره قدس سره بين الشرط والقيد لا أثر له في جريان
الاستصحاب، إذ كما لا يكون للعرض وجود قبل وجود موضوعه، كذلك لا
وجود للمعلول قبل وجود المقتضي، فلابد في توجيه جريان الاستصحاب من
الرجوع لما تقدم من أن للحكم بمجرد جعله نحوا من الوجود وإن لم يكن
فعليا، لعدم فعلية ما اخذ فيه.
310

وهو لو تم لم يفرق فيه بين عدم وجود الموضوع - بمعنى المعروض -
رأسا، وعدم وجود قيده، وعدم وجود شرط الحكم، لعدم توقف إنشاء الحكم
على وجود شئ منها، بل يكفي فيه لحاظها للحاكم. ومن هنا سبق منا إنكار ما
ذكره بعض المحققين قدس سره في مبنى المسألة.
وبالجملة: لا فرق بين الشرط وغيره مما يؤخذ في الحكم شرعا بحيث لا
يكون الحكم بدونه فعليا، بل ليس له إلا وجود تقديري.
الخامس: ذكر المحقق الخراساني قدس سره في حاشيته على الرسائل أن
الاشكال في جريان الاستصحاب التعليقي يختص بما إذا كان عدم فعلية الحكم
لتعليقه على أمر زائد على الموضوع، كمضي الحول في الزكاة، دون ما إذا كان
لعدم وجود الموضوع، حيث لا إشكال في جريان الاستصحاب لاحراز فعلية
الحكم بفعلية موضوعه.
لدعوى: أن منشأ الاشكال توهم ثبوت حكم آخر لهذا الموضوع في
السابق، فهو المستصحب له دون الحكم التقديري، أما إذا كان الحكم معلقا على
وجود الموضوع، فليس للموضوع حكم آخر ليستصحب.
وفيه: أن منشأ الاشكال في الاستصحاب التعليقي هو أن الحكم المعلق
ليس له وجود حقيقي مورد للأثر قابل للاستصحاب، ولا يفرق في ذلك بين
تعليقه على الموضوع وتعليقه على أمر آخر زائد عليه.
وما ذكره في منشأ الاشكال لا أثر له في كلماتهم، وانما قد يذكر في
تقريب معارضة استصحاب الحكم الفعلي المضاد للاستصحاب التعليقي بعد
الفراغ عن جريانه في نفسه، لا للمنع من أصل جريانه الذي هو المهم في المقام.
على أنه يمكن جريان نظير ما ذكره في فرض التعليق على الموضوع
بلحاظ استصحاب العدم الأزلي، لوضوح أن الموضوع قبل وجوده وإن لم يكن
محكوما بضد الحكم التعليقي، إلا أنه ليس محكوما بالحكم التعليقي،
311

فيستصحب عدمه له.
فالذي ينبغي أن يقال: المراد بالموضوع في محل كلامه إن كان هو
معروض الحكم، والشك في بقاء الحكم التعليقي لتبدل حاله بما يحتمل دخله،
كما لو شك في نجاسة عرق الحيوان الذي كان جلالا لاحتمال ارتفاع جلله
بنحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية، حيث كان شرط النجاسة - وهو الجلل -
محرزا سابقا، وإنما لم تكن فعلية لعدم وجود الموضوع - وهو العرق - دخل في
ما تقدم في التنبيه الثاني.
وإن كان عبارة عن كل ما له الدخل في الحكم، والشك في بقاء الحكم
لاحتمال النسخ، فقد تقدم الكلام فيه في الفصل السابق، حيث ظهر بما ذكرناه
هناك أن الاشكال في الاستصحاب التعليقي أشد من الاشكال فيه. فلاحظ.
312

الفصل الثامن
في أصالة تأخر الحادث
لما كان مفاد الاستصحاب هو التعبد ببقاء الحالة السابقة في زمان الشك
واستمرارها فيه فلا يفرق فيه بين الشك في أصل انتقاضها والعلم به في الجملة
مع احتمال تأخره، فكما يجري استصحاب حياة زيد لو احتمل حياته يجري
استصحابها لو علم موته وشك في تقدمه وتأخره، فيحكم بحياته في زمان
الشك، ومجرد العلم بالانتقاض في الجملة لا يمنع من الاستصحاب في زمان
الشك، لعموم عدم نقض اليقين بالشك، ولخصوص صحيحة زرارة الثانية
الواردة في الشك في حال الدم الذي علم بإصابته للثوب، وأنه هل أصابه قبل
الصلاة أو في أثنائها.
نعم، الاستصحاب المذكور لا ينهض بإثبات الانتقاض في الزمان
المتأخر، فلو أسلم الوارث يوم الجمعة، وعلم بموت المورث إما يوم الخميس
أو السبت، فاستصحاب عدم موته يوم الجمعة لا ينهض باثبات موته يوم
السبت ليترتب أثر موته حين إسلام الوارث.
لان المتيقن هو كون الحادث - كالموت - في الزمان اللاحق - كيوم
السبت - موجودا، والمستصحب هو عدم حدوثه قبله، وليسا هما متحدين مع
حدوثه في الزمان اللاحق، بل ملازمان له، فاثباته بالاستصحاب المذكور يبتني
على الأصل المثبت.
ودعوى: خفاء الواسطة، أو عدم التفكيك عرفا بين التعبد بعدم الحدوث
في الزمان السابق والتعبد بالحدوث في الزمان اللاحق.
313

ممنوعة صغرويا، بل كبرويا أيضا، كما تقدم في محله مفصلا.
ومثلها دعوى: تركب الحدوث في الزمان اللاحق من الوجود فيه وعدم
الوجود في ما قبله، فمع إحراز الأول بالوجدان والثاني بالاستصحاب يتعين
ترتيب الأثر، كما هو الحال في سائر موارد ضم الوجدان للأصل في
الموضوعات المركبة.
لاندفاعها: بأن ذلك إنما يتم لو كان التركيب مفهوميا، بحيث يكون
الموضوع كلا المفهومين بما لهما من الحدود المميزة، أما لو كان التركيب عقليا
تحليليا مع بساطة الموضوع عرفا، فلا مجال له، لعدم دخل المستصحب بما له
من حدود مفهومية في الأثر حينئذ.
ولا يظن بأحد دعوى التركيب المفهومي في المقام، بل لا مجال لدعوى
التركيب بحسب التحليل العقلي أيضا، بل الظاهر أنه ليس في المقام إلا محض
الملازمة بين موضوع الأثر - وهو الحدوث في الزمان اللاحق - والمفهومين
المحرزين بالوجدان والأصل، فيكون الأصل مثبتا، كما ذكرنا.
وكذا الحال في عنوان التأخر عن زمان الشك أو عن الحادث الاخر - كيوم
الجمعة أو موت المورث في الفرض - فان التأخر كالتقدم والتقارن من العناوين
الوجودية الإضافية المنتزعة من نحو حدوث الحادث مع طرف الإضافة، وليس
هو متحدا مفهوما مع عدم حدوثه في زمان الشك - الذي هو مفاد الاستصحاب -
ولا مركبا مفهوما منه ومن وجوده في الجملة بل هو ملازم لهما، فلا يخرج
الاستصحاب بالإضافة إليه عن كونه مثبتا.
ولا مجال للتعويل عليه بدعوى خفاء الواسطة أو التلازم بين التعبد
بمجرى الأصل والتعبد بموضوع الأثر. لما تقدم.
بل لما كان الحدوث في الزمان اللاحق حادثا مسبوقا بالعدم أمكن
استصحاب عدمه بمفاد ليس التامة - لو فرض كونه موردا للأثر - لان اليقين
314

بأصل الحدوث لا ينافي الشك في الحدوث الخاص.
وما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من المنع منه، لأنه لما كان أصل
الوجود متيقنا، فالشك في خصوصية الوجود المتأخر ناشئ من حده المنتزع من
سبق وجوده بالعدم، وليس الحد المزبور معلوم العدم سابقا، ليجري فيه الأصل.
كما ترى! لان عدم اليقين سابقا بعدم الحد المذكور لا ينافي اليقين بعدم
المحدود، وهو الوجود الخاص - المفروض كونه موضوعا للأثر - وهو كاف في
استصحابه، لان المعتبر في استصحاب عدم الشئ اليقين سابقا بعدمه، لا اليقين
بعدم تمام حدوده.
على أن الظاهر أن سبق الوجود بالعدم ليس من حدود الوجود المتأخر،
بل من لوازمه.
ومنه يظهر إمكان استصحاب عدم كون الحدوث المعلوم، في الزمان
اللاحق بمفاد ليس الناقصة، لو فرض كونه موردا للأثر. غايته أنه يبتني على
استصحاب العدم الأزلي الذي تقدم جريانه.
وكذا الحال في عنوان التأخر عن زمان الشك أو عن الحادث الاخر،
فيجري استصحاب عدمه بمفاد ليس التامة.
كما يجري استصحابه بمفاد ليس الناقصة من باب استصحاب العدم
الأزلي، فيقال: الأصل عدم كون الموت متأخرا عن كذا.
لوضوح أن التأخر منتزع من خصوصية زائدة على ذات الحادث يحتمل
مقارنتها لوجوده، وليس من لوازم ماهيته، ليمتنع استصحاب عدمه بلحاظ حال
ما قبل وجوده.
وهذا كله ظاهر، وإن أطال بعضهم فيه نقضا وإبراما بما لا مجال لمتابعتهم
فيه.
وإنما المهم في المقام هو الكلام فيما لو علم بحدوث حادثين وشك في
315

المتقدم منهما.
إما مع عدم تضادهما وإمكان اجتماعهما في الوجود، كإسلام الوارث
وموت المورث.
أو مع تضادهما، كالطهارة والحدث، حيث يعلم بارتفاع المتقدم منهما
وعدم ترتب أثره، وأن المتأخر منهما هو الباقي الذي يترتب أثره.
ففي المقام مبحثان..
316

المبحث الأول
في الحادثين غير المتضادين
ومن الظاهر جريان استصحاب عدم كل منهما في زمان الشك ذاتا بلحاظ
عمود الزمان مع قطع النظر عن إضافة زمان الشك للحادث الاخر، لو فرض
ترتب الأثر بمحض ذلك، لتمامية أركان الاستصحاب فيهما معا، فإذا علم بموت
زيد وعمرو، وتردد الامر بين موت زيد يوم الخميس وعمرو يوم السبت،
والعكس، كان مقتضى الاستصحاب حياة كل منهما وعدم موته إلى يوم الجمعة
لو كان له أثر.
غاية الامر أنه يعلم إجمالا بكذب أحد الأصلين. وهو إنما يقتضي
سقوطهما بالمعارضة لو لزم مخالفة علم إجمالي أو تفصيلي بتكليف منجز، كما
تقدم تفصيل الكلام فيه في أوائل مباحث الشك في تعيين المكلف به.
والذي ينبغي الكلام فيه هو استصحاب عدم أحدهما في زمان حدوث
الاخر الذي هو من أزمنة الشك. ويفترق عما سبق بدخل إضافة زمان الشك
للحادث الاخر في الأثر وله صورتان..
الأولى: أن يكون موضوع الأثر هو العدم النعتي، الذي هو مفاد القضية
الموجبة المعدولة المحمول، كما لو كان موضوع الأثر هو موت الابن غير
الحاصل عند موت الأب.
والظاهر عدم جريان الاستصحاب لاحرازه، كما ذكره المحقق
الخراساني قدس سره - إذ استصحاب عدم موت الابن عند موت الأب لا يحرز اتصاف
317

موت الابن بعدم الحصول عند موت الأب إلا بناء على الأصل المثبت.
كما لا مجال لاجراء الاستصحاب في نفس اتصاف موت الابن بعدم
الحصول عند موت الأب، لتوقفه على اليقين به سابقا، وهو غير متيقن لا بعد
وجود الابن، لعدم العلم بحاله حينئذ، ولا قبله، الان اتصافه بذلك فرع وجوده،
فان الذي لا يتوقف على وجود الموضوع هو مفاد السالبة المحصلة - ولذا أمكن
استصحاب العدم الأزلي - لا مفاد الموجبة المعدولة، وإن كانا متلازمين في
ظرف وجود الموضوع. بل يتعين في محل الكلام استصحاب عدم الاتصاف
الثابت أزلا بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع.
واستشكل في ذلك سيدنا الأعظم قدس سره..
تارة: بأن اختلاف السلب المحصل والايجاب المعدول في المفهوم لا
يوجب الفرق في ما نحن فيه.
وتوقف الايجاب على وجود الموضوع خارجا ممنوع، بل يعتبر وجود
الموضوع في ظرف الاتصاف ولو كان ذهنا، ضرورة صدق قولنا: شريك الباري
ممتنع، ونحوه من القضايا الموجبة التي يمتنع وجود موضوعاتها خارجا.
وأخرى: بأن الفرق بين السلب المحصل والايجاب المعدول إنما هو
بمحض الاعتبار، مع كونهما متلازمين، فكلما صدق قولنا: زيد ليس بقائم،
صدق قولنا: زيد لا قائم، فمتى كان الأول له حالة سابقة مصححة للاستصحاب
كان الثاني كذلك. غاية الامر أن النسبة السلبية تلحظ في الأول بمعناها الحرفي،
وفي الثاني بمعناها الاسمي.
ويندفع الأول: بأن صدق الموجبة مع عدم وجود الموضوع خارجا إنما
يمكن في القضايا الذهنية التي يكون موضوعها ذهنيا، دون القضايا التي يكون
ظرفها الخارج، ويكون موضوعها خارجيا كما في غالب القضايا الشرعية،
لوضوح أن الموت الذي هو سبب الإرث مثلا هو الموت الخارجي المتصف
318

خارجا بالعدم الخاص، وليس ظرف الاتصاف به هو الذهن.
نعم، إذا علق الحكم الشرعي على مفاد قضية ذهنية ظرفها الذهن تم ما
ذكره قدس سره، كما لو قيل: إذا كان غسل ما تحت الجبيرة متعذرا أجزأ المسح عليها،
فان استصحاب تعذر غسل ما تحت الجبيرة كاف في إثبات الحكم وإن لم يكن
للغسل وجود خارجي.
وبذلك يندفع الثاني، فإن الموجبة المعدولة إنما تلازم السالبة المحصلة
فيما لو كانتا ذهنيتين، وكان موضوعهما ذهنيا، أما لو كانتا خارجيتين وكان
موضوعهما خارجيا - كما هو حال غالب القضايا المستصحبة التي تنقح
موضوع الأحكام الشرعية - فالمعدولة أخص، لعدم صدقها مع عدم وجود
الموضوع، لان اتصافه خارجا بالعدم الخاص، الذي هو موضوع الأثر، فرع
وجوده خارجا بخلاف السالبة المحصلة، حيث تصدق مع عدم وجود
الموضوع.
الثانية: أن يكون موضوع الأثر هو العدم المحمولي الذي هو مفاد القضية
السالبة المحصلة الذي يكون مقارنا لحدوث الحادث الاخر لا وصفا له، كما لو
ترتب الأثر على عدم إسلام الوارث حين موت المورث. وقد وقع الكلام في
جريان الاستصحاب لاحراز العدم المذكور وعدمه، وأنه هل يصح استصحاب
عدم إسلام الوارث إلى حين موت المورث مثلا أولا؟
ومن الظاهر أن الشك في تقدم أحد الحادثين على الاخر ينشأ..
تارة: من الجهل بتاريخهما معا.
وأخرى: من الجهل بتاريخ أحدهما مع العلم بتاريخ الاخر.
فالكلام في مقامين..
الأول: في الجهل بالتاريخين معا، كما لو تردد الامر بين إسلام الوارث
يوم الخميس مع موت المورث يوم الجمعة وبالعكس.
319

وظاهر شيخنا الأعظم قدس سره تمامية أركان الاستصحاب في كل من الحادثين،
فيستصحب عدمه في زمان الاخر. فمع اختصاص أحدهما بالأثر يجري
استصحابه، ومع ترتبه على كل منهما يسقط الاستصحاب فيهما معا بالمعارضة.
وهو مبني على قصور دليل الاستصحاب عن شمول أطراف العلم
الاجمالي، للزوم التناقض ونحوه.
أما بناء على عدم قصوره عنها، وأن المانع هو لزوم المخالفة العملية
للتكليف المنجز - كما تقدم منا في أوائل مبحث الشك في المكلف به - فيختص
سقوطهما في المقام بما إذا لزم ذلك، دون ما إذا لم يستلزم ترتيب أثر كل منهما
مخالفة عملية، كما في موت المتوارثين، فان مقتضى استصحاب عدم موت كل
منهما حين موت الاخر تورثيه منه، ولا يلزم من توريث كل منهما من الاخر
مخالفة عملية في حق وارث كل منهما.
هذا، وقد تصدى غير واحد للمنع من جريان الاستصحاب في مجهولي
التاريخ، لدعوى قصور دليله ذاتا عن شمول المقام.
والمذكور في كلامهم وجهان..
الأول: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره ونسب لغير واحد من مشايخه من
دعوى: عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
وتوضيح ذلك: أنه تقدم عند الكلام في أركان الاستصحاب أنه لابد من
اتصال زمان الشك بزمان اليقين، بحيث يكون المشكوك استمرارا للمتيقن، ولا
يكفي تقدم زمان اليقين على زمان الشك مع انفصالهما بزمان آخر، نظير الطفرة.
وعليه لابد من إحراز الاتصال، إذ مع عدم إحرازه يكون الرجوع للاستصحاب
تمسكا بالعموم في الشبهة المصداقية من طرف العام، الذي هو غير جائز بلا
كلام.
وهو غير محرز في المقام، لان عدم أحد الحادثين حين حدوث الاخر
320

وإن كان مشكوكا فيه بعد اليقين به سابقا، إلا أنه لما كان الشئ معلوم الحدوث
في الجملة - قبل الحادث الاخر أو بعده - فمن المحتمل أن يكون زمان حدوثه
فاصلا بين زمان الشك المذكور وزمان اليقين المفروض.
مثلا لما فرض تردد زمان كل من موت الوارث وإسلام المورث بين
الخميس والجمعة، فزمان اليقين بعدم اسلام الوارث هو يوم الأربعاء، وهو إنما
يكون متصلا بزمان الشك المفروض - أعني زمان موت المورث - إذا كان الزمان
المذكور هو يوم الخميس، أما إذا كان هو يوم الجمعة كان منفصلا عنه بزمان
حدوثه وهو يوم الخميس، فلا يحرز اتصال أحدهما بالآخر.
ومنه يظهر أن ما ذكره في عنوان هذا الوجه أولى مما ذكره معاصره السيد
الطباطبائي قدس سره في العروة الوثقى من دعوى عدم الاتصال بين الزمانين.
لوضوح أن الاتصال محتمل، لا مقطوع العدم.
إن قلت: زمان موت الوارث إن كان هو يوم الخميس كان متصلا بزمان
اليقين، وإن كان هو يوم الجمعة كان متصلا بيوم الخميس المتصل بزمان اليقين،
وذلك كاف في صحة الاستصحاب فيه، إذ لا يعتبر في الاستصحاب في زمان
ليترتب عليه الأثر اتصاله بنفسه بزمان اليقين، بل يكفي اتصاله بزمان شك مثله
متصل بزمان اليقين، فإذا علم بالطهارة صباحا، وشك في انتقاضها ضحى أمكن
استصحابها إلى وقت صلاة الظهر، لاتصال الوقت المذكور بالضحى الذي هو
متصل بزمان اليقين. فالمقام نظير ما لو علم بنجاسة الجسم صباحا، وعلم
بملاقاته برطوبة ضحى أو ظهرا فتستصحب نجاسته إلى زمان الملاقاة المردد
بين الضحى المتصل بنفسه بزمان اليقين والظهر المتصل بالضحى المتصل
بزمان اليقين.
قلت: إنما يكفي اتصال زمان الشك الذي هو مورد الأثر بزمان شك
متصل بزمان اليقين إذا أريد بالاستصحاب جره منه إليه، لا من زمان اليقين ابتداء
321

إليه، كما في مثال الطهارة المتقدم، حيث يكون الغرض من استصحابها إلى
وقت الظهر البناء على استصحابها من الصبح إلى الضحى إلى الظهر، لا
استصحابها من الصبح إلى الظهر رأسا نظير الطفرة.
وعليه يصح الاستصحاب في المثال الملاقاة المذكور، لوضوح أن زمان
الملاقاة لو كان هو الظهر كان المقصود بالاستصحاب التعبد ببقاء النجاسة إليه
من الصبح بعد عبورها على الضحى.
أما في المقام فلا يراد باستصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت
المورث المردد بين الخميس والجمعة إلا البناء على عدم الاسلام في الزمان
المذكور بعنوانه على ما هو عليه من التردد من دون أن يتضمن البناء على بقائه
إلى زمان الموت حتى أنه لو كان هو يوم الجمعة كان عابرا إليه من يوم الخميس،
للقطع بعدم بقاء عدم الاسلام ليوم الجمعة، بل هو منتقض في أحد اليومين.
ومنه يظهر أن عدم الاتصال بين زماني اليقين والشك لا يتوقف على
فصل زمان يقين بانتقاض الحالة السابقة بينهما، ليتجه المنع من تحقق ذلك في
المقام، بل يكفي فيه عدم اتصال الزمان المتعبد بوجود المتيقن فيه مع الزمان
المتيقن وجوده فيه، لفصل زمان لا يتعبد بوجود المتيقن فيه، وإن كان زمان شك
أيضا فلا يكون التعبد بالمتيقن في مورد الأثر تعبدا بالبقاء، وهذا محتمل
في المقام.
وبهذا التقريب يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعض مشايخنا من الاشكال في
ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره بأنه لا يعتبر في الاستصحاب سبق صفة اليقين
على الشك، فضلا عن اتصالهما، بل المعتبر سبق المتيقن على المشكوك، وهو
في المقام حاصل، وإن انفصلت صفة الشك ولم تحصل إلا بعد مضي الزمانين
الاجماليين المعلوم حدوث الحادث الاخر في أحدهما.
إذ فيه: أنه لا يظهر من المحقق الخراساني قدس سره إرادة اعتبار اتصال زمان
322

حدوث الشك بزمان تحقق اليقين، بل اتصال زمان المشكوك بزمان المتيقن،
الذي تقدم عدم الاشكال في اعتباره، وهو غير محرز بالتقريب المتقدم.
هذا، وقد ذكر غير واحد في تقرير مراد المحقق الخراساني قدس سره أن عدم
إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين إنما هو لاحتمال الانفصال بينهما بزمان
اليقين بانتقاض الحالة السابقة، لفرض العلم بانتقاض العدم السابق بالوجود إما
سابقا على وجود الحادث الاخر أو لاحقا له.
ففي المثال المذكور لما كان من المحتمل وقوع إسلام الوارث المعلوم
يوم الخميس قبل موت المورث احتمل كونه فاصلا بين زمان الشك في إسلام
الوارث - وهو زمان موت المورث - وزمان اليقين بالعدم - وهو يوم الأربعاء -
فلا يصح استصحاب عدم الاسلام في زمان موت المورث، لعدم إحراز كون
البناء على الاسلام فيه نقضا لليقين بالشك، بل يحتمل كونه نقضا لليقين باليقين.
وقد أورد عليه غير واحد بوجوه متعددة تبتني على تقرير كلامه بالوجه
المذكور.
عمدتها: أنه مبني على قيام العلم بالخارج بنحو يقبل التردد والشك، وهو
خلاف التحقيق، بل هو كالشك من الصفات الوجدانية التابعة للصور الذهنية،
وليس لها وجود واقعي محفوظ يقبل الشك، فان كانت موجودة كانت معلومة،
وإلا فهي معلومة العدم.
فزمان إسلام الوارث المعلوم بالاجمال وإن احتمل انطباقه على يوم
الخميس، إلا أنه لا يحتمل انطباقه عليه، بما هو زمان اليقين بالاسلام، بل ليس
هو إلا زمان الشك فيه، وليس المعلوم إلا الزمان الاجمالي على ما هو عليه من
تردد، فلا يكون البناء على إسلام الوارث حين موت المورث من نقص اليقين
قطعا، بل ليس هو إلا من نقض اليقين بالشك.
لكن لم يتضح من كلام المحقق الخراساني قدس سره إرادة ما ذكروه في تقرير
323

كلامه، إذ هو لم يذكر إلا عدم إحراز الاتصال بين الزمانين، دون احتمال
الانفصال بينهما بزمان اليقين بانتقاض الحالة السابقة بالوجه الذي ذكروه، كي
يرد عليه ما سبق. ولعله اعتمد في وجه احتمال الانفصال على ما ذكرنا، وهو
أجنبي عن ذلك جدا، ولا يبتني على قيام العلم بالخارج وقابليته للوجود الواقعي
المشكوك.
الثاني: أن الشك في بقاء شئ زمان الاخر..
تارة: يكون للشك في امتداد ذلك الشئ، كما لو علم بموت المورث
يوم الجمعة وشك في أن اسلام الوارث كان ليلة الجمعة أو السبت.
وأخرى: يكون للشك في تقدم ذلك الشئ الاخر وتأخره، كما لو علم
باسلام الوارث ليلة الجمعة، وشك في أن موت المورث كان يوم الخميس أو
الجمعة.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الصورة الأولى.
وأما الثانية، فالظاهر عدم جريان الاستصحاب فيها، لان المنساق من أدلة
الاستصحاب المناسب لارتكازية مضمونه هو التعبد ببقاء المشكوك واستمراره
وطول أمده، لا محض وجوده في زمان الشك بما له من عنوان، وإنما يحرز في
الصورة الأولى كونه مستمرا حين الحادث الاخر لأجل تعيين أمد ذلك الحادث
لا لوفاء الاستصحاب بذلك، بل ليس مفاد الاستصحاب إلا التعبد ببقاء
المستصحب في الزمان الخاص بذاته لا بعنوانه المذكور.
وعليه لو كان منشأ الشك هو الجهتين معا، كما هو الحال في المقام،
فالظاهر أن الاستصحاب إنما ينفع في إبقاء المشكوك وإثبات امتداده تعبدا،
ولا ينهض باحراز خصوصية وجوده في زمان الحادث الاخر إذا لم تكن من
شؤون امتداده، ففي المثال المتقدم يحكم بعدم إسلام الوارث يوم الخميس،
للشك في امتداده إليه، ويترتب عليه أثره، إلا أنه لا ينفع في إحراز عدمه حين
324

موت المورث، لعدم إحراز موت المورث في اليوم المذكور.
بل الخصوصية المذكورة تنشأ من الشك في امتداد عدم الاسلام والشك
في تقدم موت المورث معا، والاستصحاب أجنبي عن الجهة الثانية.
والظاهر أن هذا الوجه متين في نفسه، مطابق للمرتكزات في مفاد
الاستصحاب، وقد نسب لبعض الأعيان المحققين قدس سره وما تضمنه تقرير درسه
قريب منه، وإن تضمن الإشارة لما ذكرناه في الدفاع عن الوجه السابق. فراجع
وتأمل جيدا.
المقام الثاني: في الجهل بتاريخ أحد الحادثين دون الاخر، ولا ينبغي
الاشكال في جريان الاستصحاب بالإضافة إلى مجهول التاريخ، فيستصحب
عدمه في زمان الاخر، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه، وعدم توجه أحد
الوجهين السابقين عليه، كما يظهر بالتأمل فيهما.
نعم، بناء على أن مرجع دعوى عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان
اليقين إلى احتمال انفصالهما بالزمان الاجمالي المعلوم وقوع الحادث فيه بنحو
يحتمل الفصل بزمان اليقين بالانتقاض، فيكون النقض باليقين لا بالشك، يتعين
جريان ذلك في المقام، لفرض العلم بوقوع مجهول التاريخ إما قبل زمان
الحادث الاخر المعلوم التاريخ أو بعده، كما في مجهولي التاريخ.
لكن تقدم عدم تمامية التقرير المذكور لهذا الوجه، وأن الذي يتم هناك
هو التقرير الأول الذي لا يجري هنا.
وأما بالإضافة إلى معلوم التاريخ فلا يجري استصحاب عدمه في زمان
الاخر المجهول، فإذا علم باسلام الوارث ليلة الجمعة وبموت المورث إما يوم
الخميس أو الجمعة، لم يجر استصحاب عدم اسلام الوارث إلى حين موت
المورث، لجريان الوجهين السابقين فيه.
أما الأول فلاحتمال كون زمان الشك المذكور - وهو زمان موت
325

المورث - بوم الجمعة، فينفصل عن زمان اليقين بعدم الاسلام - وهو يوم
الأربعاء - بيوم الخميس، لا يراد بالاستصحاب جره من زمان اليقين المذكور
إلى زمان الشك - وهو يوم الجمعة - عابرا بالزمان الفاصل بينهما لو كان، للعلم
بعدم استمراره كذلك وانتقاضه ليلة الجمعة.
وأما الثاني فلوضوح عدم الشك في امتداد عدم الاسلام، للعلم بتاريخه،
وإنما الشك في وجوده حين موت المورث، لاحتمال تقدم موت المورث لا
غير.
فالمقام أولى بجريان الوجه المذكور من المقام السابق، كما يظهر
بملاحظة ما سبق في تقريره.
ولولا هذان الوجهان أشكل المنع من جريان الاستصحاب في معلوم
التاريخ مع فرض سبق اليقين بعدمه، مع الشك في وجوده حين حدوث
مجهول التاريخ.
ومنه يظهر الاشكال في كلام شيخنا الأعظم قدس سره وغيره ممن حكم بجريان
الاستصحاب في مجهول التاريخ، ومنع منه في معلوم التاريخ.
إذ بملاحظة الوجهين المذكورين يتعين المنع من الاستصحاب في
المقامين، ومع الغض عنهما يتعين جريانه فيهما معا.
ولعله لذا ذهب بعض مشايخنا إلى جريانه في معلوم التاريخ،
فيستصحب عدمه في زمان الاخر، وإن لم يمكن استصحاب عدمه في عمود
الزمان، لفرض العلم بتاريخه. فراجع كلامهم وتأمل جيدا.
326

المبحث الثاني
في الحالتين المتضادتين
كالطهارة والحدث، والطهارة والنجاسة.
وليس الغرض هنا إحراز عدم أحدهما حين حدوث الاخر، للقطع به بعد
فرض التضاد، بل تشخيص الوظيفة الفعلية، للعلم باستمرار كل منهما لولا الرافع
المستلزم للعلم ببقاء المتأخر منهما ولزوم العمل عليه، والجهل بالمتأخر منهما
هو الذي أوجب الجهل بالباقي.
وله صورتان..
الأولى: أن يجهل تاريخ كل منهما، كما لو علم بإصابة البول للأرض، إما
في يوم الخميس أو الجمعة، وبإصابة المطر لها في أحد اليومين أيضا قبل إصابة
البول أو بعدها.
والمعروف - كما قيل - جريان الاستصحاب في كل منهما ذاتا، وسقوطه
بالمعارضة، لاستلزامه التعبد ظاهرا بالضدين الراجع إلى التعبد بالنقيضين، وهو
ممتنع، كجعلهما واقعا.
لكن ذهب غير واحد إلى عدم جريان الاستصحاب ذاتا، والمذكور في
كلامهم وجوه..
الأول: ما سبق من بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن الاستصحاب إنما
يجري بلحاظ الشك في امتداد المستصحب، لا بلحاظ جهات اخر، والشك في
المقام ليس من هذه الجهة، لان المستصحب إن كان حادثا في الزمان الأول فهو
327

مرتفع في الثاني قطعا، وإن كان حادثا في الثاني فهو باق قطعا، وعلى كلا
التقديرين لا شك في امتداده، وإنما الشك في تقدمه وتأخره، والاستصحاب لا
ينفع في ذلك.
وقد استشكل فيه سيدنا الأعظم قدس سره في مستمسكه بقوله: " لا ريب في
حصول الشك قي امتداد المجهول التاريخ، وإن كان السبب فيه الشك في التقدم
والتأخر. وكون السبب ذلك لا يضر في حصول شرط الاستصحاب وقوامه ".
وهذا بخلاف ما سبق، لان الغرض من الاستصحاب هناك ليس إحراز
الامتداد فقط، بل إحراز نحو نسبة المستصحب للحادث الاخر، وهي لا تتقوم
بالامتداد، بل تنشأ منه ومن نحو وقوع الحادث الاخر، ولا دخل للاستصحاب
بذلك. فالمقام نظير ما تقدم منه من جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في
عمود الزمان.
الثاني: ما ذكره قدس سره أيضا من أن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب هو
الشك في بقاء المستصحب وارتفاعه في الزمان المتصل بزمان اليقين بحدوثه،
بحيث يكون هناك زمان متصل بزمان اليقين بالحدوث بدور الامر فيه بين البقاء
والارتفاع، ولا مجال لذلك في المقام، إذ في يوم الجمعة يدور الامر بين
الحدوث والارتفاع، وفي يوم السبت يدور الامر بين البقاء وعدم الوجود، لعدم
الارتفاع فيه، بل في يوم الجمعة.
وفيه: أنه لا شاهد على الدعوى المذكورة، بل يكفي الشك في البقاء ولو
مع اختلاف زمانه عن زمان الارتفاع المحتمل، كما في المقام، لاطلاق
قولهم عليهم السلام: " لأنك كنت على يقين فشككت.. ".
وأما ما استشهد به سيدنا الأعظم قدس سره لمنع الدعوى المذكورة من أن لازمها
عدم جريان الاستصحاب في ثاني أزمنة احتمال الارتفاع في سائر الموارد، فلو
علم بنجاسة الأرض يوم الخميس واحتمل تطهيرها يوم الجمعة، لا مجال
328

لاستصحابها يوم السبت، لعدم احتمال الارتفاع فيه، بل في ما قبله.
فيمكن الجواب عنه: بأن مراد المدعي اعتبار كون مبدأ زمان الشك
المتصل بزمان اليقين مرددا بين البقاء والارتفاع، لا أنه بتمام أجزائه مردد بينهما،
وهو حاصل في المثال المذكور، للتردد بين البقاء والارتفاع يوم الجمعة،
بخلاف المقام، حيث لا يمكن فيه فرض زمان محتمل للامرين.
الثالث: أن الظاهر من دليل الاستصحاب أن لو رجعنا القهقرى من زمان
الشك في وجود المستصحب لوصلنا إلى زمان تفصيلي يعلم بوجود
المستصحب فيه، وهذا المعنى غير حاصل في مجهول التاريخ بالنسبة إلى
الأزمنة التفصيلية، كيوم الخميس والجمعة والسبت في المثال.
وأما بالنسبة إلى الزمان الاجمالي المتصل بزمان الحدوث على إجماله
فالاتصال وإن كان حاصلا، إلا أنه إنما يقتضي صحة الاستصحاب بالإضافة إليه
على إجماله، من دون أن ينطبق على زمان تفصيلي بعينه.
وحينئذ لا يترتب إلا أثر الوجود في الزمان الاجمالي لو فرض، دون مثل
صحة الصلاة وجواز الدخول في المسجد وعدمهما في استصحاب الطهارة أو
الحدث أو النجاسة، فإنها من آثار وجود أحد هذه الأمور في الزمان التفصيلي
الخاص الذي تقع فيه الصلاة والدخول.
قال المقرر في نهاية الأفكار: - بعد أن أطال في بيان ذلك - " وقال
الأستاذ قدس سره: ان المحقق الخراساني قدس سره في سالف الزمان في مجلس بحثه قرر
شبهة الانفصال بمثل ما ذكرناه، ولكنه قررها في الكفاية من جهة شبهة الفصل
باليقين الناقض ".
ويرد عليه ما أورد على سابقه من منافاته لاطلاق الأدلة.
مضافا إلى النقض عليه: بأن لازمه امتناع الاستصحاب في الزمان
التفصيلي فيما لو تردد حدوث المستصحب بين زمانين، واحتمل انعدامه في
329

ثاني أزمنة حدوثه، بحيث لو كان قد حدث في أول زماني التردد لم يبق إلى
الثاني منهما، كما لو علم بتطهير الأرض يوم الخميس أو الجمعة مع احتمال
تنجسها في مساء يوم تطهيرها، فلا مجال بناء على ذلك لاستصحاب الطهارة
في زمان الشك التفصيلي، كيوم السبت، لعدم اتصاله بزمان شك تفصيلي، وإنما
يستصحب في زمان الشك الاجمالي، كاليوم الثاني من وقوع النجاسة أو الثالث
منه، وقد فرض عدم انطباقه على الزمان التفصيلي.
وقد حاول قدس سره دفع النقض المذكور بوجهين..
أولهما: أن بناءهم على جريان الاستصحاب في مثله ليس باعتبار الأزمنة
التفصيلية، بل باعتبار الأزمنة الاجمالية، ففي الزمان التفصيلي الثاني الذي
يحتمل حدوثه فيه يعلم بحصول الامر المستصحب إما وجدانا أو تعبدا،
ويستصحب منه إلى بقية الأزمنة التفصيلية، ففي المثال المذكور يعلم بالطهارة
يوم الجمعة إما وجدانا أو تعبدا، فيستصحب إلى يوم السبت وما بعده.
وفيه: - مع أنه مبني على نحو من التكلف في تطبيق دليل الاستصحاب -
أن مبنى كلامه قدس سره على عدم انطباق الأزمنة الاجمالية على التفصيلية، فلا مجال
لفرض العلم في الزمان التفصيلي الثاني بحصول الامر المستصحب إما وجدانا
أو تعبدا.
وإلا أمكن في المقام دعوى: أنه يكفي الاستصحاب بلحاظ اليوم الثاني
والثالث لحدوث المستصحب على إجماله، فيعلم حينئذ بوجوده تعبدا في يوم
السبت - في المثال السابق - لأنه إما ثالث زمان الحدوث أو ثانيه.
والعلم بارتفاع المستصحب على تقدير كونه الثالث واقعا لا ينافي الشك
في بقائه في الثالث على إجماله، ولذا لا إشكال ظاهرا في جواز استصحابه في
الثالث على إجماله لو فرض ترتب الأثر على ذلك.
ومنه يظهر حال ما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره في دفع النقض المذكور على
330

نظير الوجه المذكور من أن الزمان الثالث - كيوم السبت - يعلم بصحة
الاستصحاب إليه، إما لانطباق ثالث زمان الحدوث الاجمالي عليه، أو لانطباق
ثاني زمان الحدوث عليه.
ثانيهما: أنه يمكن دعوى جريان الاستصحاب التقديري في مفروض
النقض بالإضافة إلى الزمان التفصيلي الأول الذي يحتمل حدوثه فيه، فيقال في
المثال المذكور: إن كانت الطهارة حاصلة يوم الخميس فهي باقية ليوم الجمعة
بالاستصحاب، فيعلم بالطهارة يوم الجمعة إما وجدانا أو تعبدا، ويستصحب منه
إلى ما بعده من الأزمنة التفصيلية.
ولا مجال لذلك في المقام، إذ على تقدير وقوع المتيقن في الزمان الأول
يعلم بارتفاعه في الزمان الثاني.
وفيه: - مع أنه كالسابق في ابتنائه على نحو من التكلف - يبتني على أن
موضوع الاستصحاب ثبوت المستصحب واقعا، لأنه أمر قابل للجهل، فيناط
الاستصحاب بوجوده، إذ لو كان موضوعه اليقين به - كما تقدم تقريبه - امتنع
الاستصحاب التقديري، لعدم اليقين بالمستصحب.
ودعوى: حصول اليقين المنوط - كما يظهر من كلامه..
غريبة، لوضوح أن اليقين المأخوذ في الاستصحاب هو اليقين
الخارجي الحقيقي، وهو لا يقبل وجودا منوطا غير فعلي، ولا مجال لقياسه
بالأحكام الشرعية التي قيل: إن لها وجودا منوطا، لأنها أمور جعلية خاضعة
لسلطان الجاعل، بخلاف الأمور الخارجية التابعة لأسبابها الفعلية.
الرابع: ما ذكره بعض محشي الكفاية (1) من أن ظاهر أخبار الاستصحاب
تعلق الشك بالمتيقن على كل تقدير، وكل من الحالتين ليس كذلك، للقطع
بارتفاعه على تقدير وقوعه أولا، وببقائه على تقدير وقوعه متأخرا.

(1) المرحوم المشكيني.
331

وفيه: - مع أن مقتضاه عدم تعلق الشك أصلا، وجريانه فيما لو علم بتاريخ
إحداهما - أن ذلك إنما يجري في العناوين التي تتحمل وجودا واقعيا تابعا
لوجود الشرط واقعا، كالاحتراق التابع لوجود النار، دون مثل اليقين والشك من
الأمور الوجدانية المنوطة بالوجود العلمي للشرط، لا الواقعي، فاليقين بالارتفاع
أو البقاء في المقام ليس منوطا بالسبق أو اللحوق الواقعي، بل بالعلم بأحد
الامرين بعينه، فمع فرض التردد بينهما لا يقين بشئ منهما، بل ليس إلا الشك
الذي هو موضوع الاستصحاب، وإلا لم يبق للاستصحاب مورد، لأنه على تقدير
تحقق منشأ الشك يقطع بالارتفاع، وعلى تقدير عدمه يقطع بالبقاء، ولا يتحقق
الشك على كل تقدير بالمعنى المذكور.
الخامس: ما حكاه المحشي المذكور عن المحقق الخراساني قدس سره قال:
" وهو أن الاستصحاب إنما هو في ما يمكن الابقاء، وفي المقام ليس كذلك،
لكون إحدى الحالتين رافعة للأخرى. لا يقال: انه كذلك في كل ما علم إجمالا
بارتفاع أحد المستصحبين. فإنه يقال: انه فرق بينه وبين المقام، حيث أن الرفع
لاحد الامرين بواسطة أمر خارج، وفي المقام بواسطة أحدهما ".
وفيه - مع جريانه فيما لو علم بتاريخ أحدهما - أن الفرق المذكور ليس
فارقا في ما نحن فيه، حيث يكون المعيار على الشك في البقاء.
مضافا إلى أن الرافع في المقام لإحدى الحالتين المستصحبتين ليس هو
الحالة الأخرى، بل سببها، وهو أمر خارج.
السادس: ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في الكفاية من عدم إحراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين، وقد تقدم منه أيضا في المقام السابق، وإن
اختلف عنه بأن منشأ عدم إحراز الاتصال هناك هو تردد زمان الشك مع تعيين
زمان اليقين ومنشؤه هنا هو تردد زمان اليقين مع تعيين زمان الشك، ففي المثال
السابق لا تردد في زمان الشك في الطهارة، فإنه يوم السبت لا غير، أما زمان
332

اليقين بها فهو مردد بين يومي الخميس والجمعة، فان كان هو الأول كان منفصلا
عن زمان الشك بالثاني الذي هو في الواقع زمان النجاسة وارتفاع الطهارة، وكذا
الحال في النجاسة. فيوم السبت مردد بين أن يكون بنفسه متصلا بزمان اليقين
وأن يكون متصلا بزمان شك متصل بزمان اليقين، وعلى الثاني لا يراد
بالاستصحاب جر المستصحب وسحبه في كلا الزمانين، للقطع بعدم بقائه
كذلك، وأن زمان المتيقن لو كان يوم الخميس فهو منتقض، غير باق منه ليوم
السبت، بل المراد البناء على وجود المتيقن في زمان الشك تبعا لوجوده في
زمان اليقين على ما هو عليه من إجمال ولو كان منفصلا عنه، وقد تقدم عدم
نهوض الاستصحاب بذلك.
ولعل هذا أمتن الوجوه، ولا يظهر لي عاجلا ما يوجب وهنه ويلزم برفع
اليد عنه، وليس الامر هنا بمهم، لوضوح عدم الأثر العملي بعد عدم جريان
الاستصحاب على كل حال إما لقصوره ذاتا أو للمعارضة، وإنما يظهر مع العلم
بتاريخ أحد الحادثين، كما لا يخفى.
بقي الكلام في قولين آخرين للأصحاب في مسألة العلم بالحدث
والطهارة..
الأول: ما في المعتبر وجامع المقاصد وعن حاشية الشرايع من أنه مع
العلم بالحالة السابقة عليهما يبني على ضدها.
قال في الثاني: " لأنه إن كان محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة
المتيقنة مع الحدث الاخر، لأنها إن كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفع الأول
بها، وانتقاضها بالحدث الاخر غير معلوم، للشك في تأخره عنها، ففي الحقيقة
هو متيقن بالطهارة شاك في الحدث... " ثم ذكر وجه الحكم في صورة تيقن
الطهارة سابقا.
وكأنه راجع إلى دعوى: عدم جريان استصحاب نفس الحالة السابقة،
333

للعلم بانتقاضها، ولا استصحاب مثلها، للشك في ثبوته، لاحتمال تعاقب
المتجانسين.
وفيه: أنه لا دخل لخصوصية الاتحاد مع الحالة السابقة والمماثلة لها في
موضوع الأثر، بل موضوعه نفس الحالة - من الطهارة أو الحدث أو غيرهما - من
حيث هي، فلا مانع من استصحابها من حين حدوث السبب، فيعارض
استصحاب الضد.
ودعوى: أنه ليس من استصحاب الفرد، لعدم الأثر له بل للكلي، ولا مجال
لجريان استصحاب الكلي، لتردد حال الفرد حين وجود السبب بين أن يكون
بقاء للحالة السابقة، وأن يكون مماثلا لها، فلا يجري استصحابه، للعلم بارتفاع
الفرد الأول المتيقن، والشك في حدوث آخر منفصل عنه بالضد، فهو أشد من
القسم الثالث الذي يفرض فيه عدم انفصال الفرد المحتمل الحدوث عن الفرد
المتيقن المعلوم الزوال.
مدفوعة: بأنه كذلك لو أريد الاستصحاب من زمان اليقين بالحالة السابقة
قبل طروء الحالين، وليس كذلك، بل المدعى الاستصحاب من حين حدوثه
السبب المتيقن لكل منهما، ومن المعلوم عدم العلم بارتفاع ذلك الفرد الموجود
حينه، ولا ضير في تردده بالوجه المذكور بعد الشك في بقائه بنفسه.
نعم، هو مردد حينئذ بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء، فهو ملحق بالقسم
الثاني من استصحاب الكلي، الذي لا إشكال في جريانه.
وبالجملة: لا فرق بين الحادثين بالإضافة إلى زمان اليقين بهما إجمالا في
تحقق ركني الاستصحاب وشروطه.
الثاني: ما ذكره العلامة قدس سره في القواعد وعن غيرها من كتبه من أنه مع العلم
بالحالة السابقة عليهما يستصحبها.
وهو بظاهره ظاهر الضعف، إذ لا معنى لاستصحابها مع العلم بانتقاضها
334

وإنما يحتمل بقاء مثلها.
وحمله على ما إذا علم بكون كل من الحدث والطهارة المعلومي
الحدوث ناقضا لما قبله - كما يظهر من محكي المختلف - مخرج له عن محل
الكلام، للقطع حينئذ بثبوت مثل الحالة السابقة، فلا استصحاب، كما حكي
عنه قدس سره في بعض تصريحاته وكذا حمله على ما إذا احتمل طروء الناقض للحالة
الأخيرة منهما - كما قد يظهر من المختلف - لخروجه عن فرض اليقين بكل من
الحدث والطهارة - الذي هو محل الكلام - إلى احتمال انتقاض الحالة الأخيرة
المعلومة منهما، ولا إشكال معه في الاستصحاب.
وبالجملة: لا مجال للبناء على ذلك في محل الكلام من العلم بطروء الحالتين
المتضادتين المتعاقبتين مع الجهل بالمتقدمة منهما والأخرى الباقية.
الصورة الثانية: ما إذا علم تاريخ إحداهما دون الأخرى.
ويعلم حكمها مما تقدم، حيث لا ينبغي الاشكال في جريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ، لعدم جريان ما تقدم فيه.
وأما مجهول التاريخ، فان كان الجهل بالتاريخ في الصورة السابقة مانعا
من جريان الاستصحاب ذاتا امتنع جريان الاستصحاب فيه هنا، فلا معارض
للاستصحاب في معلوم التاريخ، وإلا تعين جريانه فيه ذاتا ومعارضته
لاستصحاب معلوم التاريخ، كما جرى عليه بعض مشايخنا.
وهو بعيد عن الأذواق العرفية، وإن كان أقرب للتدقيق بناء على جريان
الاستصحاب ذاتا في مجهولي التاريخ وسقوطه بالمعارضة، وهو مؤيد لبطلان
المبنى المذكور. فلاحظ.
335

الفصل التاسع
في استصحاب حكم المخصص
إذا ورد عام وورد مخصص له في بعض الافراد بالإضافة إلى بعض
الأزمنة، فبعد انتهاء أمد التخصيص لو شك في حكم الفرد هل يرجع لعموم
العام، أو لاستصحاب حكم المخصص؟.
مثلا: بعد تخصيص عموم نفوذ العقود بدليل خيار الغبن، وخيار الزوجة
في فسخ النكاح بجنون الزوج ونحوهما، لو شك في أن الخيار على الفور أو
التراخي، لاجمال دليله، فهل المرجع في الزمان الثاني هو عموم نفوذ العقود
المقتضي لسقوط الخيار، والمستلزم لكونه فوريا، أو استصحاب الخيار الموافق
عملا للتراخي؟.
ومن الظاهر أن الكلام ليس في رفع اليد عن العموم بالاستصحاب
كبرويا، لما تقدم في المقام السابق من تقديم الدليل - ومنه العموم - على
الاستصحاب، بل في حجية العموم بعد انتهاء أمد التخصيص، لترفع به اليد عن
الاستصحاب، فهو نزاع صغروي، كما هو حال النزاع المحرر في كل الفصول
المتقدمة.
وينبغي التمهيد لمحل الكلام بأمرين..
الأول: أن محل الكلام ما إذا كان العام متكفلا باثبات الحكم في جميع
الأزمنة، دون ما لو لم يتعرض إلا للحدوث، وكان الحكم بالبقاء لأمر خارج عنه،
كاستعداد الحكم للبقاء لذاته، أو الاستصحاب، فإنه خارج عن محل الكلام،
337

لعدم كون انتفاء الحكم في الزمان اللاحق عن تمام الافراد، فضلا عن بعضها
منافيا للعام بوجه، كما هو الحال في عموم ما دل على تنجس الجسم بملاقاة
النجاسة وما دل على تحقق الزوجية بالعقد على المرأة، فان بقاء النجاسة
والزوجية بعد الملاقاة والعقد وعدم ارتفاعهما برافع ليس مقتضى العمومين
المذكورين، ولذا لا يكون ما دل على ارتفاع النجاسة بالغسل والزوجية بالطلاق
منافيا لهما بوجه، كي يكون مخصصا.
فلو فرض إجمال الدليل المتكفل لارتفاع حكم العام عن بعض الافراد،
بحيث شك في أمد ارتفاعه، فلا مجال للرجوع لعموم العام، بل لابد فيه من
مرجع آخر من دليل أو أصل.
نعم، لو تضمن الدليل عدم ثبوت حكم العام في بعض الافراد من أول
الامر كان منافيا له في الدلالة على الحدوث، فيكون مخصصا له، مثل ما دل على
عدم تنجس الكر بالملاقاة، وعدم صحة العقد على ابنة أخ الزوجة أو ابنة أختها
مع عدم إذنها، بالإضافة إلى العمومين المذكورين.
فلو فرض إجمال المخصص المذكور والشك في أمد الحكم الذي
تضمنه - كما لو احتمل صحة العقد برضا العمة والخالة بعده - لم يصلح العموم
لبيان الحكم في زمان الشك، لفرض قصوره عن بيان حال الحكم في الزمان
الثاني.
إلا أن يجمع عرفا بين دليلي العام والخاص بحمل العام على أن عنوانه
من سنخ المقدمة الاعدادية لحكمه في مورد الخاص، وأن تمام علته بارتفاع
عنوان الخاص، وهو محتاج لعناية خاصة خارجة عن محل الكلام موكولة لنظر
الفقيه، لعدم الضابط لها.
الثاني: أن الكلام في المقام إنما هو بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب
في حكم الخاص ذاتا، لبقاء الموضوع.
338

وقد تقدم عند الكلام في موضوع الاستصحاب وفي استصحاب
الزمانيات التعرض لضابط ذلك، وأنه لابد من إحراز عدم دخل الخصوصية
الزمانية في متعلقه، بأن لا يكون موضوعه مقيدا بالزمان الأول بل هو الذات
المحفوظة في كلا الزمانين، إما لكون المتعلق جزئيا غير قابل للتقييد بالزمان فلا
يتكثر بتعدده، أو لكونه كليا يعلم بعدم أخذ الزمان قيدا فيه، بل أخذه ظرفا لا
يضر تعدده بوحدته.
وقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره أن ذلك مستلزم لكون الزمان ظرفا لحكم
العام أيضا، فلا يكون للعام أفراد طولية متعددة بعدد الخصوصيات الزمانية، بل
ليس له إلا أفراد عرضية مستمرة الحكم في عمود الزمان.
كما أن كون الزمان قيدا في موضوع حكم الخاص بنحو يمتنع معه
استصحابه، مستلزم لكون عموم العام بالإضافة إلى الخصوصيات الزمانية
إفراديا، بحيث يكون كل جزء من إجزاء الزمان مقوما لموضوع مستقل ذي
حكم مستقل، فكما يكون للعام أفراد عرضية يكون له أفراد طولية.
لكن الظاهر عدم تمامية الملازمة من الطرفين، لوضوح أن لكل من العام
والخاص دليلا يخصه، وظهور أحدهما في أحد الوجهين - من كون
الخصوصيات الزمانية قيدا في متعلق الحكم ومقومة له، فيتعدد بتعددها، أو
ظرفا له لا تنافي وحدته - لا يستلزم ظهور الثاني في ذلك.
نعم، لو كان المتعلق جزئيا غير قابل للتقييد تعين كون الزمان ظرفا له في
كل من العام والخاص. لكنه قد يكون كليا قابلا للامرين، فالمتبع فيه ظهور
الدليلين اللذين عرفت إمكان اختلافهما في ذلك.
وتوهم ابتناء ما ذكره قدس سره من الملازمة على مبناه من الاعتماد على التسامح
العرفي، حيث لا يفرق فيه بين حكمي العام والخاص.
مدفوع: بأن المبنى المذكور - لو تم - مختص بموضوع الاستصحاب
339

الذي هو مورد الخاص، ولا يجري في العموم، بل المتبع فيه ظهور دليله في
أحد الامرين، كما يظهر منه قدس سره في المقام فراجع.
ومن ثم فرض المحقق الخراساني قدس سره الصور في المقام أربعا ناشئة من
تردد كل من العام والخاص بين الوجهين.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن العام المتكفل بحال الزمان اللاحق صورا..
الأولى: أن يكون الاستمرار مأخوذا في متعلق الحكم، لاخذ مجموع
الزمان قيدا فيه مع وحدة الحكم في كل فرد بلحاظ تمام أجزاء الزمان كوجوب
الصوم في تمام النهار بنحو الارتباطية والمجموعية، مع وحدة التكليف
والمكلف به في اليوم الواحد.
الثانية: أن يكون مبنى الحكم على الاستمرار مع وحدة متعلقه، فلكل فرد
حكم واحد مستمر، كوجوب الوفاء بالعقود الذي هو كناية عن نفوذها، لوضوح
أن نفوذ كل عقد مستمر له بتعاقب أجزاء الزمان وليس له في كل آن نفوذ مباين
لنفوذه في الان الاخر.
الثالثة. أن يكون لكل فرد في كل جزء من أجزاء الزمان حكم خاص مع
عدم أخذ الخصوصيات الزمانية في متعلق تلك الأحكام، بل في نفس الاحكام،
كما لو قيل: يجب في كل يوم إكرام كل عالم، حيث لم تؤخذ الأيام قيدا للاكرام
الذي هو موضوع الوجوب ومتعلقه، بل ظرفا للحكم عليه بالوجوب مع كون
المتعلق هو ماهية الاكرام المطلقة، كما أن تعدد الأيام يوجب تعدد الاحكام،
ولكل حكم طاعته ومعصيته فهو مبني على تكرر حكم الفرد لا استمرار حكمه.
وبهذا اختلفت هذه الصورة عن الصورة السابقة.
والمعيار في الفرق المذكور هو تخلل العدم بين الاحكام المتعاقبة في
هذه الصورة، دون الصورة السابقة.
الرابعة: أن تكون الخصوصيات الزمانية المختلفة مقومة لمتعلق الحكم
340

وموضوعه، فيتعدد الموضوع تبعا لتعددها فيكون للعام أفراد طولية وعرضية
متساوية النسبة بالإضافة إليه، ولكل منها حكم مختص به.
وهذا، إنما يتم فيما إذا كان الفرد أمرا كليا قابلا للتقييد بالزمان، كما
لو قيل: يجب صوم كل يوم من شعبان على أولاد زيد، فان الصوم في كل يوم
من الشهر فرد للعام كما أن كل ولد من أولاد زيد فرد له. وبهذا اختلفت هذه
الصورة عن سابقتها.
هذا، ولا ينبغي الاشكال في عدم حجية العام في الفرد بعد انتهاء أمد
المخصص في الصورة الأولى، فلو علم في المثال السابق بجواز الاكل لشخص
من أفراد العام عند زوال يوم من الأيام التي كان مقتضى العموم وجوب صومها
وشك في وجوب الامساك عليه بعد ذلك فلا مجال لاثباته بالعام المذكور، لان
فرد العام ليس إلا الامساك المستمر في تمام اليوم بمقتضى فرض الارتباطية،
فمع فرض عدم وجوبه يعلم بخروج الفرد عن العموم، وليس وجوب الامساك
في بعض اليوم مدلولا للعام، ليلزم من عدمه زيادة في التخصيص وينهض العام
باثباته، ليرفع به اليد عن الاستصحاب لو فرض تمامية أركانه.
ولا فرق في ذلك بين ثبوت حكم الخاص في أي جزء من أجزاء الزمان
الذي هو مورد حكم العام، فلا فرق بين أن يكون زمان جواز الاكل في المثال هو
الفجر والظهر وآخر النهار، لخروج الفرد عن الفردية في الجميع.
بل مقتضى ذلك عدم حجية العام في الفرد في تمام أجزاء الزمان حتى ما
كان منها قبل زمان الخاص، فلا يحرم الاكل من أول النهار في جميع الفروض
المذكورة.
نعم، لو فرض الجمع بين العام والخاص عرفا برفع اليد عن الارتباطية -
التي هي مقتضى العام - بالإضافة إلى مورد التخصيص، تعين حجية العام في
الباقي مطلقا، كما في مورد قاعدة الميسور.
341

لكنه محتاج إلى عناية خاصة خارجة. عن محل الكلام.
كما لا ينبغي الاشكال في حجية العام في مورد الخاص بعد انتهاء أمد
المخصص في الصورة الرابعة، إذ بعد فرض أن الاستصحاب لكل زمان فردا
طوليا مباينا لغيره فكلما استمر حكم الخاص لزم زيادة في التخصيص، فيلزم
الاقتصار على المتيقن منه والرجوع في الباقي للعموم، الذي عرفت المفروغية
عن تقديمه على الاستصحاب لو فرض تمامية أركانه.
فالاشكال إنما هو في الصورتين المتوسطتين. والذي يظهر منهم أن محل
كلامهم الصورة الثانية المبنية على استمرار حكم الفرد، ولم يتعرضوا للثالثة
المبنية على، تكرار الحكم له، وإن كان بعض أمثلتهم يناسبها (1).
وكيف كان، فقد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره عدم حجية العموم في الفرد
بعد انتهاء أمد التخصيص في الصورة الثانية، لان عدم ثبوت حكمه حينئذ لا
يستلزم زيادة في التخصيص، إذ بعد فرض عدم انحلال العام إلى أفراد طولية
وأنه ليس للعام إلا فرد واحد مستمر الحكم، فإذا فرض خروجه بمقتضى الدليل
الخاص في الزمن المتيقن، فخروجه بعده ليس خروجا لفرد آخر، كي يستلزم
زيادة في التخصيص.
ووافقه على ذلك المحقق الخراساني قدس سره وإن استثنى من ذلك ما إذا لم
يكن الخاص قاطعا لحكم العام في الفرد بعد ثبوته، بل كان مانعا منه من أول
الامر، بأن كان زمان التخصيص أول أزمنة العام، كما في مثل خيار الغبن بالإضافة
إلى عموم نفوذ العقود.
بدعوى: أن للعام في الفرض ظهورا في أمرين، أحدهما: ثبوت الحكم
للفرد مستمرا. ثانيهما: كون مبدئه عند تحقق عنوان العام، والخاص إنما يعارضه

(1) فقد مثل شيخنا الأعظم قدس سره بقولنا أكرم العلماء دائما. مع وضوح ان المراد به ليس هو استمرار
وجوب اكرامهم، بل تكرره في كل يوم أوكل ما اقتضت الحاجة لذلك.
342

في الثاني منهما، فيقتصر عليه في الخروج عن العام، ويبقى العام حجة في الثاني
منهما.
لكن ما ذكراه من عدم حجية العام في الصورة المذكورة لا يخلو عن
اشكال، بل منع، لأنه إذا فرض دلالة العام على ثبوت حكمه في تمام الأزمنة كان
له عموم أو إطلاق أزماني غير عمومه الافرادي، فعدم رجوع حكم العام للفرد
في الزمن الثاني يستلزم زيادة التخصيص أو التقييد للعموم أو الاطلاق الازماني،
الذي هو حجة كالعموم الافرادي.
وأما ما ذكره شيخنا الأعظم قدس سره في مكاسبه من تبعية العموم الازماني
للعموم الافرادي، فإذا فرض سقوط العموم الافرادي تعين سقوط العموم
الأزماني.
ففيه: أن الخاص في الحقيقة لا ينافي العموم الافرادي، لامكان إعماله
في الفرد بالإضافة إلى غير زمان التخصيص، بل ينافي العموم الأزماني الوارد
على الفرد، فيلزم الاقتصار على المتيقن منه والرجوع في غيره للعموم المذكور.
ولذا لا ريب ظاهرا في حجية العام في الفرد بالإضافة إلى ما قبل زمان
التخصيص، مع وضوح أنه لو كان الخاص مخرجا للفرد عن العموم الافرادي
رأسا لم يكن حجة فيه مطلقا، كما تقدم في الصورة الأولى.
نعم، ينبغي التفصيل بوجه آخر، فإن دلالة العام على ثبوت الحكم في
جميع الأزمنة..
تارة: تكون بنحو تتساوى أجزاء الزمان فيه بالنسبة للحكم، فلا يتفرع
ثبوته في بعضها على ثبوته في الاخر، كما في عموم نفوذ العقود الظاهر في كون
النفوذ من لوازم العقد التي لا تتخلف عنه، من دون أولوية في ذلك لزمان على
زمان.
وأخرى: يكون بنحو يتفرع ثبوته في الزمان اللاحق على ثبوته في الزمان
343

السابق، لابتنائه على البقاء والاستمرار منه إليه، فلا يتضمن العام محض ثبوت
الحكم في جميع الأزمنة، بل عبوره من السابق للاحق.
والفرق بين الصورتين - بعد اشتراكهما في ثبوت الحكم في جميع أجزاء
الزمان - هو أن البقاء والاستمرار لازم لمفاد العام في الأولى، مع كون المقصود
بالأصل فيه محض ثبوته في كل زمان في عرض ثبوته في الزمان الاخر، أما في
الثانية فالبقاء والاستمرار هو المقصود بالأصل زائدا على ثبوت الحكم في كل
زمان.
هذا، ولا ينبغي الاشكال في حجية العام بعد انتهاء أمد المخصص في
الصورة الأولى، لما ذكرنا.
وأما في الثانية فلا مجال لذلك، لان مفاده وإن كان هو ثبوت الحكم في
الزمان المذكور، إلا أنه بعناية كونه بقاء له واستمرارا من الزمان السابق، فمع
فرض انقطاع الحكم في مورد التخصيص لا ينهض العام باثباته في الزمان
اللاحق، بل لو ثبت كان حكما مستأنفا غير حكم العام المفروض أخذ الاستمرار فيه.
نعم، ينهض باثبات الحكم في موضوع الخاص بالإضافة إلى ما قبل زمان
التخصيص، لعدم منافاة انقطاعه بعد ذلك لمفاد العام.
لكن الشأن في إحراز هذه الصورة إثباتا، لابتنائها على عناية خاصة،
والغالب هو الصورة الأولى.
ومجرد التعميم بمثل: " دائما " و " أبدا " أو ذكر الغاية بمثل: " إلى " و " حتى " لا
يكفي في الحمل على الثانية، لان الاستمرار وإن كان هو المدلول المطابقي لها،
إلا أنه كثيرا ما يساق الإرادة بيان الثبوت في تمام الأزمنة، من دون أخذه بمفهومه
قيدا في ثبوت الحكم زائدا على ذلك، فترجع إلى الصورة الأولى.
وإن كان ذلك خارجا عما نحن فيه، إذ الكلام إنما هو في حكم الصورتين
344

ثبوتا، مع إيكال التمييز بينهما إثباتا إلى الفقه.
هذا، وأما التفصيل المتقدم من المحقق الخراساني قدس سره بين كون زمان
الخاص أول أزمنة حكم العام وكونه بعده، وأنه في الأول يكون العام حجة بعد
زمان التخصيص، لامكان المحافظة على ظهوره في الاستمرار وإن لزم رفع اليد
عن ظهوره في مبدأ الحكم الاجل الخاص، بخلاف الثاني لانقطاع الاستمرار، فلا
مورد له فيما لو تمحض العام في استيعاب حكمه لاجزاء الزمان، بل يتعين
حجية العام مطلقا، لما سبق.
وأما لو تضمن أخذ الاستمرار زائدا على ذلك فحيث كان التفصيل
المذكور يبتني على التصرف في العام برفع اليد عن ظهوره في تعيين مبدأ الحكم
دون الاستمرار، فهو يبتني على مقدار قوة ظهوره في الامرين بالإضافة إلى
ظهوره في شمول مورد الخاص، ولا ضابط لذلك.
بل إن كان العام بنحو يمكن رفع اليد عن ظهوره في كليهما ولو بضميمة
الخاص أو غيره، جمعا عرفيا، بحيث يكون الجمع بذلك أهون من تخصيص
العموم الأزماني أو الافرادي، تعين الرجوع للعام بعد زمن التخصيص، سواء
كان التخصيص في أول أزمنة العام، أم في أثنائه.
وإن كان بنحو يمكن رفع اليد عن ظهوره في تعيين المبدأ دون
الاستمرار، بل يكون ظهوره في الاستمرار وأخذ الزمان اللاحق للحكم من
الزمان السابق أقوى من عمومه الأزماني للمورد تعين، حجيته إذا كان
التخصيص في أول الأزمنة، دون ما إذا كان في الأثناء، بل يلتزم حينئذ بتخصيص
عمومه الأزماني، كما ذكره هو قدس سره.
وإن كان بنحو يمكن رفع اليد عن ظهوره في الاستمرار دون المبدأ، بل
يكون ظهوره في المبدأ أقوى من عمومه الافرادي للمورد، تعين حجيته إذا كان
التخصيص في الأثناء، دون ما إذا كان من أول الامر، بل يلتزم فيه بتخصيص
345

عمومه الافرادي عكس ما ذكره قدس سره.
وإن لم يمكن رفع اليد عنهما معا، لكونهما أقوى من الظهور في العموم
الافرادي والأحوالي بالإضافة إلى الفرد، تعين عدم الرجوع للعام في الموردين،
بل يلتزم بتخصيص العموم الافرادي لو كان مورد الخاص أول أزمنة العام،
وبتخصيص العموم الازماني لو كان مورده في الأثناء. وتشخيص أحد الوجوه
موكول لنظر الفقيه.
ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورة الثالثة - التي تقدم أنها خارجة عن
محل كلامهم، وإن ناسبها بعض أمثلتهم - فإنها حيث لا تبتني على استمرار حكم
العام للفرد، بل على تكرر الحكم له بتعاقب الخصوصيات الزمانية، فهي راجعة
إلى محض العموم الازماني، مع تساوي الخصوصيات الزمانية بالنسبة للعام،
فيلزم الاقتصار في الخروج عن العام على المتيقن من مورد التخصيص،
والرجوع للعام في الباقي، لا بلحاظ عمومه الافرادي، بل الازماني، نظير ما تقدم
في الصورة الثانية في فرض عدم أخذ الاستمرار زائدا على الاستيعاب. فلاحظ.
346

الفصل العاشر
في جريان استصحاب الأمور
اللغوية والاعتقادية
تقدم في المقام الثاني أنه لابد من ترتب العمل على الامر المستصحب
بلا واسطة، كما في استصحاب الأحكام التكليفية، أو بواسطة آثارها الشرعية،
كما في استصحاب موضوعاتها من الأحكام الوضعية والموضوعات الصرفة،
كالحياة والموت.
وقد أشير في كلام بعضهم إلى جريان الاستصحاب في الموضوعات
اللغوية، كما أطالوا الكلام في الأمور الاعتقادية.
والمناسب التعرض بايجاز للامرين.
أما الموضوعات اللغوية فلعل المراد بها مثل الشك في المعنى الموضوع
له، والقرينة، والنقل، ونحوها مما يترتب عليها تشخيص الظهور الحجة الذي
يجب العمل عليه.
ويشكل ابتناؤها على الاستصحاب التعبدي الذي هو محل الكلام، لعدم
كونها موردا للأثر الشرعي.
ومجرد ملازمه الظهور لها لا ينفع بعد عدم كونها شرعية.
لكن قال بعض محشي الكفاية (1): " الأقرب تحققه في ما كان للفظ ظهور
في معنى ثم شك في بقائه، لاحتمال النقل أو لغير ذلك. فحينئذ لا مانع من

(1) المرحوم المشكيني.
347

استصحاب الظهور، لكونه موضوعا للحجية التي هي من المجعولات على
التحقيق ".
وفيه: أن احتمال انسلاخ الكلام عن الظهور في ما كان ظاهرا فيه بنحو
ينفع في مقام العمل إنما هو بمعنى الشك في قضية شأنية كلية، وهي شأنية نوع
ذلك الكلام لذلك الظهور، ولا يترتب العمل على ذلك، بل على الظهور الفعلي
للكلام الخاص، وترتبه على احراز القضية الكلية المذكورة يبتني على الأصل
المثبت.
وأما مع إحراز الظهور الفعلي سابقا للكلام الخاص حين صدوره، فلا أثر
لاحتمال انسلاخه عنه، بل يجب العمل بالظهور المذكور.
نعم، لو أحرز الظهور الفعلي للكلام الخاص وشك في سبقه حين
صدوره، كان الشك المذكور موردا للعمل، حيث يجب العمل على الظهور لو
أحرز سبقه.
لكن إحراز سبقه مبنى على الاستصحاب القهقري، وهو خارج عن محل
الكلام، ولا دليل عليه في نفسه، بل دليل الاستصحاب ينفيه.
ومثله دعوى: تمامية ذلك في مثل الشك في التخصيص ونحوه من
القرائن المنفصلة عن الكلام مع تمامية ظهوره، حيث يترتب على استصحاب
العدم في ذلك حجية الظهور شرعا.
لاندفاعها: بأن ترتب حجية الظهور على ذلك لما لم يكن بأدلة لفظية، بل
لبية - كسيرة العقلاء - أشكل نهوض الاستصحاب بالبناء عليها، لعدم تعرض
الأدلة اللبية غالبا لتحديد موضوعاتها مفهوما كي ينفع الأصل في إحرازها
وخروجها عن الأصل المثبت. فلاحظ.
فالظاهر انحصار المرجع في الأمور اللغوية بالأصول العقلائية التي ثبتت
حجيتها شرعا ولو بامضاء طريقة العقلاء مع قطع النظر عن الاستصحاب، ولذا
348

كان الرجوع إليها إجماعيا من أهل الشرع وفي غيرهم مع وضوح الخلاف في
الاستصحاب.
بل لا ريب في جريانها لو فرض الشك في نفس أدلة الاستصحاب، فلو
ابتنت حجيتها عليه لزم الدور.
وبها يستغنى عن استصحاب الظهور لو فرض جريانه في نفسه. فلاحظ.
وأما الأمور الاعتقادية فجريان الاستصحاب فيها إما أن يكون بلحاظ
وجوب الاعتقاد بها أو عدمه، أو بلحاظ فعلية الاحكام الفرعية المبتنية عليها.
أما الأول فهو يبتني..
أولا: على كون المراد من الاعتقاد الواجب ما يعم صورة الشك في الامر
المعتقد - بناء على ما هو الظاهر من عدم توقف الاعتقاد بالشئ على اليقين به -
إذ لا يقين مع الاستصحاب.
لكن الظاهر بعد ملاحظة الآيات والروايات أن الاعتقاد الواجب
خصوص ما يكون عن يقين بالامر المعتقد، فلا فائدة في الاستصحاب. ولا
مجال لإطالة الكلام في ذلك.
وثانيا: على كون وجوب الاعتقاد التفصيلي من الأحكام الشرعية للوجود
الواقعي للامر المستصحب، بحيث يكون منوطا به إناطة الحكم بموضوعه، كما
لو ورد: إن كانت نبوة عيسى موجودة وجب الاعتقاد بها، كي يكون التعبد
بالمستصحب تعبدا بموضوع الحكم الشرعي.
وهو غير ظاهر، بل من القريب أن يكون وجوب الاعتقاد فعليا، مقارنا
لفعلية الامر المعتقد به، فيكون مجعولا بنحو الحكم الشخصي الفعلي في
القضية الخارجية، ويكون تحقق الامر المعتقد به من سنخ الداعي لجعل الحكم
لا موضوعا له منوطا به شرعا، فهو شرط تكويني للجعل، لا شرط شرعي
للحكم المجعول، فمع الشك في الامر الاعتقادي يشك في إنشاء وجوب
349

الاعتقاد، لا في موضوعه مع اليقين بجعله وإنشائه منوطا بموضوعه.
وعلى هذا فالظاهر أن الأمور الاعتقادية بين ما يجب الاعتقاد به فعلا
تفصيلا بعد تحصيل العلم به، فيجب الفحص عنه، كالأصول الخمسة ونحوها،
وما يكون الاعتقاد به من شؤون الاعتقاد بالشريعة وتصديقها، فيجب الاعتقاد به
على حسب وصوله إجمالا أو تفصيلا، فمع فرض عدم وصوله تفصيلا يكفي
الاعتقاد به إجمالا، لكفايته في تصديق الشريعة.
وأما الثاني فكما لو شك في حدوث شريعة جديدة وارتفاع الشريعة
السابقة، فيكون المرجع استصحاب حكم الشريعة السابقة وعدم أحكام
الشريعة اللاحقة، على النحو الذي سبق عند الكلام في الاستصحابات العدمية
واستصحاب عدم النسخ.
ودعوى: أن استصحاب الشريعة السابقة وعدم اللاحقة يكون حاكما
على الاستصحابين المذكورين، لأنه سببي بالإضافة إليهما.
مدفوعة: بأن الشريعة ليست إلا نفس الاحكام، وليست موضوعا لها، فلا
يكون استصحاب الشريعة سببيا.
نعم، يختلف الاستصحاب في المقام عن استصحاب أحكام الشرايع
السابقة من جهات..
الأولى: أن ما تقدم منا في وجه منع الاستصحاب المذكور من العلم
بنسخ جميع أحكام الشريعة السابقة في صدر البعثة لا يجري هنا، لفرض الشك
في حقيقة هذه الشريعة.
الثانية: أن جريان الاستصحاب مبني على حجيته في الشريعة السابقة
أيضا، ولا يكفي حجيته في هذه الشريعة، لتوقف حجيته عليها حينئذ، فلا يكون
محرزا لعدمها، بل لا موضوع له في ظرف ثبوتها وحجيته من قبلها، بخلاف ما
سبق، حيث يكفي فيه حجية الاستصحاب بهذه الشريعة، لان الغرض منه تعبد
350

أهلها بأحكام تلك الشرايع.
ودعوى: أن حجيته في هذه الشريعة يكفي في العمل به لأهل تلك
الشرايع بأحكامها فيما لو كان احتمال نسخها لا ينشأ إلا من احتمال صحة هذه
الشريعة، للعلم معه ببقاء تلك الأحكام واقعا أو ظاهرا بالاستصحاب المذكور.
مدفوعة: بأن جواز العمل به في هذه الشريعة مشروط بعدم قيام ما
تضمنته من الطرق والقواعد على خلافه، فالرجوع إليه في فرض قيام الحجج
المذكورة على خلافه ليس عملا بمقتضى هذه الشريعة، ولا يحرز معه براءة
الذمة ولو ظاهرا. ومع عدم قيامها لا يختص بالشك في بقاء الشريعة السابقة، بل
يجري مع العلم بنسخها بالشريعة اللاحقة لولا ما تقدم في الجهة الأولى.
فلاحظ.
الثالثة: أن جريان الاستصحاب في ما سبق مشروط بالفحص، لما يأتي
من توقف جريان الأول الترخيصية في الشبهات الحكمية عليه، ولا مجال
لذلك هنا لو فرض كون أدلة وجوب الفحص مختصة بهذه الشريعة، إما لاخذ
من أدلة نقلية أو لكونه مقتضى العلم الاجمالي، لتفرع حجية الأدلة النقلية على
ثبوت هذه الشريعة والاستصحاب ينفيه، كما أن العلم الاجمالي مبني على
ملاحظة هذه الشريعة والمفروغية عن ثبوتها.
اللهم إلا أن يقال: احتمال حقيقة هذه الشريعة مستلزم لاحتمال نسخ
عموم الاستصحاب في تلك الشريعة وتخصيصه بصورة الفحص، فلا يجري
استصحاب عمومه لاستلزامه الدور، بل يتعين في مثله الرجوع لأصالة عدم
النسخ فيه، والظاهر كونها مشروطة بالفحص، فلا يتجه الفرق المذكور.
والامر أظهر لو كان دليل وجوب الفحص قبل الرجوع للأصول
الترخيصية غير مختص بهذه الشريعة، إما لكونه عقليا محضا أو لكونه سمعيا
واردا في الشريعة السابقة أيضا، حيث لا إشكال في وجوب الفحص حينئذ
351

المستلزم لوضوح الحق، لقوة آياته وكثرة بيناته، إذ: " لله الحجة البالغة "، " ولن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
ومن جميع، ذلك يظهر الكلام في استصحاب نبوة أنبياء الشرايع السابقة،
إذ لا يحتمل ارتفاع نبوتهم بنحو لا يجب الاعتقاد بهم رأسا، بل بنحو يجب فعلا
الاعتقاد بعدم إناطة أمر التبليغ بهم، أو بنحو لا يجب الالتزام بأحكامهم، لنسخها
بهذه الشريعة. والأول لا يجري فيه الاستصحاب، والثاني يبتني على ما ذكرنا.
فتأمل جيدا.
ولنكتف بهذا المقدار في محل الكلام، لعدم ترتب ثمرة مهمة عليه. وبه
ينتهي المقام الثالث من المقامات الثلاثة التي يبتني عليها كلامنا في
الاستصحاب. ومنه سبحانه نستمد العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله الكرام.
خاتمة
ألحق شيخنا الأعظم قدس سره ومن تأخر عنه البحث في الاستصحاب بخاتمة
تعرضوا فيها لكثير مما ينبغي التعرض له في أصل الكلام في الاستصحاب،
كتحديد أركانه وموضوعه ونسبته مع الطرق والأصول الأخرى وغير ذلك مما
تقدم منا التعرض له في المحل المناسب من المقامين الأولين.
والذي ينبغي له التعرض له هنا تبعا لهم القواعد التي تقدم عملا على
الاستصحاب، لأهمية الكلام فيها، مع تحقق شئ من المناسبة بينها وبين
الاستصحاب.
وقد تقدم منا في أواخر المقام الثاني أن الاستصحاب متأخر في مقام
العمل عن الطرق والامارات، كما أنه مقدم على غيره من الأصول التي موضوعها
الشك، كالبراءة والاحتياط.
352

وقد أشرنا في أواخر الكلام المذكور إلى اختصاص ذلك بما إذا لم يؤخذ
في موضوع الأصل إلا محض الشك، دون ما إذا اخذ فيه أمر زائد عليه، كالفراغ
والتجاوز واليد وغيرها، بل يلزم تقديم تلك الأصول لو كانت أخص والنظر في
المرجحات الدلالية لو كان بينها وبينه عموم من وجه.
ومن هنا اتفقوا على تقديم القواعد على الاستصحاب وإن لم يتفقوا على
كونها أمارة.
وقد تعرض شيخنا الأعظم قدس سره وبعض من تأخر عنه لبعض تلك القواعد،
والمناسب متابعتهم بذكرها في ضمن فصول..
353

الفصل الأول
في قاعدة اليد
وهي من القواعد الظاهرية المشهورة، ومرجعها إلى أن اليد تنهض
باحراز ملكية صاحبها لما تحت يده. وحيث كانت تجري في الشبهات
الموضوعية من دون أن تنهض باثبات حكم كلي لم تكن مسألة أصولية، بل
قاعدة فقهية ظاهرية.
والكلام فيها..
تارة: في دليلها.
وأخرى: في تحديد مفهومها تفصيلا.
وثالثة: في سعة كبراها.
وتأخر الثالث عن الأولين ظاهر.
وأما الأولان فالثاني منهما وإن كان مقدما على الأول رتبة، إلا أن تأخره
عنه إثباتا ملزم بتأخيره عنه في نظم الكلام وتبويبه.
فالبحث في مقامات ثلاثة..
المقام الأول: في دليل القاعدة، وهو أمور..
الأول: النصوص الكثيرة. وهي على طوائف..
الأولى: ما تضمن أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (1)،

(1) راجع الوسائل ج: 18، باب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى وغيرها.
355

مع ما هو المعلوم، بل المصرح به في بعض النصوص (1) من أن صاحب اليد هو -
المدعى عليه، لوضوح أن تكليف المدعى عليه باليمين لخصوصية الدعوى،
حيث لابد من حسمها، فتكون ظاهرة في حجية اليد لولا الدعوى، ولذا لا يكون
مكلفا به لو قبلها، أو بعد عدول المدعي عنها ولو باعراضه.
وكذا ما تضمن أن المنكر إذا رد اليمين على المدعي فنكل فلا حق له (2).
وقد يؤيد بما ورد في بعض نصوص تعارض البينتين من تقديم قول
صاحب اليد (3). فتأمل.
فإن المستفاد من هذه النصوص ونحوها كون اليد في نفسها محرزة
للملكية، وإن احتيج معها لليمين في خصوص مورد التخاصم.
بل هو كالمصرح به في صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان عن أبي
عبد الله عليه السلام - في حديث فدك - " ان أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم
فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فان كان في يد في المسلمين
شئ يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما
تدعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون
تسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده... وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " (4).
لظهوره في إرادة الملكية الظاهرية تبعا لليد، لأنها التي يمكن مع فرضها
الا دعوى وطلب البينة.

(1) الوسائل ج: 18، باب: 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى من كتاب القضاء حديث: 4.
وباب: 12 من الأبواب المذكورة حديث: 14، وباب: 25 منها حديث: 3.
(2) راجع الوسائل ج: 18، باب: 7، 8 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(3) الوسائل ج: 18، باب: 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2، 3.
(4) الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى: حديث 6.
356

الثانية: ما تضمن حلية جوائز السلطان والعمال ومعاملتهم إلا أن يعلم
حرمة المال بعينه (1).
ومثلها ما تضمن جواز النزول على وكيل الوقف المستحل لما في يده إذا
كان له مال آخر (2) غير الوقف وإن لم يكن بناء الأصحاب على الالتزام بالقيد
المذكور.
فان الظاهر سوقها للتنبيه على عدم صلوح تعرضهم للحرام وغلبة
ابتلائهم به لاسقاط حجية اليد، مع المفروغية عن حجيتها في نفسها.
وكذا ما تضمن جواز المقاصة من أموال العمال، بل مطلق المقاصة (3).
الثالثة: صحيحا محمد بن مسلم المتضمنان أن ما يوجد من الورق
مدفونا في الدار المعمورة فهو لأهلها (4)، وصحيح جميل بن صالح المتضمن أن
من وجد دينارا في صندوقه الذي لا يدخل يده فيه غيره فهو له (5)، لوضوح أن
عدم إدخال غيره يده فيه لا يوجب العلم بملكيته للدينار، لاحتمال أخذه له بلا
حق أو نسيانه لصاحبه أو غير ذلك.
وقد يؤيد بصحيحي الحميري المتضمنين أن ما يوجد في جوف الدابة
يعرف به البايع، فان عرفه وإلا فهو لواجده (6)، وصحيح إسحاق بن عمار
المتضمن أن ما يوجد في الدار يعرف به أهلها، فان عرفوه وإلا تصدق به (7).
وإن كان قد يستشكل في دلالتها بأن سؤال بايع الدابة وصاحب الدار لا

(1) راجع الوسائل ج: 18، باب: 51، 52، 53، من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(2) الوسائل ج: 12، باب: 51 من أبواب ما يكتسب به حديث: 15.
(3) راجع الوسائل باب: 83 من أبواب ما يكتسب به.
(4) الوسائل ج: 17، باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 1، 2.
(5) الوسائل ج: 17، باب: 3 من أبواب اللقطة حديث: 1.
(6) الوسائل ج: 17، باب: 9 من أبواب اللقطة حديث.
(7) الوسائل ج: 17، باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 3.
357

يستلزم حجية يدهما السابقة، بل قد يكون نظير التعريف باللقطة لاحتمال
ملكيته، وإنما امتاز عن غيره بوجود منشأ للاحتمال المذكور. وقبول خبره قد
يكون من باب قبول قول المدعي للمال من دون منازع، الذي دل عليه صحيح
منصور بن حازم (1).
الرابعة: صحيح العيص وخبر حمران أو حسنه المتضمنان جواز شراء
المملوك من السوق وإن ادعى الحرية (2). فإنه لولا حجية يد البايع عليه لم يتجه
رفع اليد عن دعوى المملوك المطابقة لأصالة الحرية التي عليها العمل
وتضمنتها بعض النصوص (3).
الخامسة: بعض النصوص المتفرقة التي قد يستدل بها..
كموثقة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام: " في امرأة تموت قبل
الرجل، أو رجل قبل المرأة. قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من
متاع الرجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شئ منه فهو له " (4).
وموثقة حفص بن غياث عنه عليه السلام: " قال له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي
رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد
أنه له، فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو
عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول
بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله
إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " (5).

(1) الوسائل باب: 17 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 1.
(2) الوسائل ج: 13، باب: 5 من أبواب بيع الحيوان حديث: 1، 2.
(3) راجع الوسائل ج: 16، باب: 24 من كتاب العتق.
(4) الوسائل ج: 17، باب: 8 من أبواب ميراث الأزواج حديث: 3.
(5) الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2.
358

ودعوى: مخالفتها لما هو الظاهر من عدم جواز الشهادة اعتمادا على
الحجة وأنه لابد فيها من العلم.
مدفوعة: بأن ظاهر الموثقة هو الشهادة بالملكية الظاهرية بقرينة التعليل
والتنظير بالشراء، والذي لا يجوز هو الاعتماد على الحجة في الشهادة بالوجود
الواقعي لمؤدى الحجة الذي هو مؤدى العلم.
على أن اشتمالها على ذلك لا يمنع من حجيتها في ما تضمنته من حجية
اليد على الملكية، حيث يظهر منها المفروغية عن ذلك.
وموثقة مسعدة بن صدقه عنه عليه السلام: " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه
حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته
وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا... " (1).
فإنه وإن كان ظاهرا في بيان قاعدة الحل، إلا أن تطبيقها في المثالين
المذكورين بنحو صالح للعمل لا مجال له مع جريان استصحاب عدم انتقال
المبيع للبايع، فلو لا كون الاستصحاب المذكور محكوما لليد لم يتجه التنبيه
لأصالة الحل.
وخبر العباس بن هلال عن الرضا عليه السلام: " ذكر أنه لو أفضى إليه الحكم لأقر
الناس على ما في أيديهم ولم ينظر في شئ إلا بما حدث في سلطانه، وذكر أن
النبي صلى الله عليه وآله لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وأن من أسلم أقره على ما
في يده " (2).
لكن يشكل الاستدلال به لقرب كون المراد به الاقرار والامضاء الواقعي
لمقتضى اليد بحسب الولاية العامة، وإن علم بكونها عدوانية، كإقرار النبي صلى الله عليه وآله

(1) الوسائل باب: 4 من أبواب ما يكتسب به حديث: 4.
(2) الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 1.
359

أحكام الجاهلية، وليس المراد الاقرار الظاهري لأجل حجية اليد.
كما أن موثقة مسعدة لا تخلو عن إجمال من هذه الجهة، إذ لعل رفع اليد
عن مقتضى استصحاب عدم انتقال المبيع للبايع بأمر غير اليد، كأصالة الصحة
في المعاملة المفروضة أو غيرها.
فالعمدة من هذه النصوص موثقتا يونس وحفص، لوفاء دلالتهما جدا
كالطوائف الأربع الأول.
بل ظاهر كثير من هذه النصوص المفروغية عن الاعتماد على اليد لاحراز
الملكية، وأنها واردة لدفع توهم وجود المانع من حجيتها، كنصوص جوائز
السلطان ووكيل الوقف وشراء المملوك المدعي للحرية، أو لدفع توهم عدم
جواز الشهادة اعتمادا عليها، كموثقة حفص.
بل سبر كثير من النصوص الواردة في أبواب المعاملات - كالبيع والوديعة
والوصية وغيرها - شاهد بالمفروغية عن ذلك، بترتيب آثار هذه الأمور الموقوفة
على الملكية بمجرد تصدي صاحب اليد لها.
هذا، وأكثر هذه النصوص لا ينهض باثبات عموم يرجع إليه في مورد
الشك، إما لخصوص مورده، أو لكونه في مقام البيان من جهة أخرى.
وما يمكن أن يستفاد منه العموم صحيح عثمان بن عيسى وحماد بن
عثمان وموثقة حفص بن غياث المتقدمان، لظهورهما في التصدي لبيان حكم
اليد، خصوصا الموثق.
نعم، قد يستفاد العموم من بعض الجهات من بعض النصوص الأخرى،
والكلام في ذلك موكول للمقام الثالث.
الثاني من أدلة المسألة: الاجماع.
أما القولي منه فلم أعثر على من ادعاه من الأصحاب، لعدم تحريرهم
للمسألة، وإنما يستفاد من كلماتهم المفروغية عن الحكم، كما قد يظهر مما
360

ذكروه في مبحث التداعي من أنه لو اختلف المتداعيان في عين وكانت في يد
أحدهما كلف الاخر بالبينة، وغير ذلك مما يحتاج لاستيعاب لا يسعه الوقت.
وأما الاجماع العملي الذي هو عبارة عن سيرة المتشرعة الملتزمين
بالدين فهو أوضح من أن يحتاج للاثبات، كاتصاله بعصر المعصومين عليهم السلام
حيت لا إشكال في بناء المسلمين على ترتيب آثار الملكية ظاهرا باليد، يشترك
في ذلك صالحهم وطالحهم، من دون أن يبتني بنظرهم على نحو من التسامح
والتساهل، بل لولا ذلك لاختل نظامهم، كما أشير إليه في موثقة حفص بن غياث
المتقدمة.
وهذه السيرة صالحة للاستدلال في المقام.
ولا يقدح ابتناؤها على سيرة العقلاء الآتية، وأن بناء المسلمين على ذلك
للجري على مرتكزاتهم العقلائية، لا التعبدية الدينية.
لكشفها مع ذلك عن رضى الشارع بها، وإلا لزمه النكير عليها والردع
عنها، ولو صدر ذلك منه لشاع وذاع بسبب كثرة الابتلاء بالحكم فارتدع عن
ذلك المتدينون المحافظون على تعاليم الشرع الأقدس ولم تتم السيرة بالوجه
الذي تمت به.
الثالث: سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اختلاف مللهم ونحلهم
وأمصارهم وعصورهم، وهي سيرة ارتكازية عامة ناشئة عن إدراكهم بحسب
فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها نحوا من المناسبة بين اليد والحكم
بالملكية، وليست ناشئة عن محض التباني والاصطلاح.
ومن ثم لا يبعد عدم احتياجها للامضاء، بل يكفي عدم ثبوت الردع عنها.
على ما تقدم نظيره في مبحث حجية خبر الواحد.
على أنه لا ينبغي الريب في الامضاء بالنظر لما تقدم من النصوص الكثيرة
والاجماع القولي والعملي.
361

ومن هنا كانت هذه القاعدة من الضروريات المسلمة المستغنية عن
تكلف الاستدلال لولا بعض النكات والخصوصيات التي قد ينفع فيها سطر
الأدلة واستيعابها، على ما قد يتضح بما يأتي إن شاء الله تعالى.
المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة.
وحيث كان مضمونها الاعتماد على اليد في البناء على الملكية، كانت
متقومة باليد، والملكية، والنسبة بينهما المصححة للاعتماد المذكور.
فينبغي الكلام في تحديد كل منها بذكر أمور..
الامر الأول: قد اخذت اليد بعنوانها في بعض النصوص المتقدمة، وهي
لغة الجارية، وقد استعيرت للنعمة والقدرة والجاه والحوزة وغير ذلك.
والظاهر أن المعيار فيها في المقام كون الشئ في حوزة الشخص بنحو
يكون من توابعه الملحقة به.
لا كونه تحت يده الحقيقية كالدرهم المقبوض باليد، لتحققها في ما يمتنع
الاستيلاء عليه بها، كالضياع والعقار وقطعان الماشية، وعدم صدقها بمجرد
قبض الانسان الشئ بيده، كما لو قبض ثوب غيره الذي قد لبسه، فان صاحب
اليد عرفا هو اللابس وحده، لا مع القابض ولا القابض وحده.
كما لا يكفي فيها القدرة والقوة على الشئ، لوضوح عدم كون الملك
صاحب يد على أموال رعيته وإن كان أقدر عليها منهم.
وكذا لا يكفي مجرد كون الشئ في حوزة الانسان إذا كان استيلاؤه مبنيا
على تسليط الغير له عليه، مع عدم كونه عرفا من توابعه، بل من توابع من سلطه،
لكون سلطنته عليه في طول سلطنته.
ولهذا لا تنسب اليد للوكيل على المال وإن كان في حوزته، بل تنسب
للموكل المسلط، حيث يكون المال من توابعه عرفا.
وإن شئت قلت: الجهة الارتكازية المقتضية لحجية المالك هي الجهة
362

الجامعة بين يد الأصيل المباشر ويد الموكل المستولي بالواسطة، لا بين يد
الأصيل المباشر ويد الوكيل المستولي بالمباشرة، فصاحب اليد هو المتسلط
على الشئ استقلالا، لا المسلط عليه من غيره في طول سلطنته.
نعم، لا يبعد كون الأصل في الحيازة أن تكون مبنية على الاستقلال لا
التبعية، بنحو يكون المحاز من توابع الحائز، لا من توابع غيره، لتفرع حيازته
على حيازة غيره، لابتناء ذلك على عناية ليس بناء العقلاء عليها في مقام ترتيب
الأثر.
ويناسب ما ذكرنا في معيار اليد ما في صحيح عثمان وحماد المتقدم،
فإنه عليه السلام قد فرض نفسه صاحب يد على فدك من دون أن يقبضها بيده، مع كون
الغلبة والسلطان لغيره، كما تعرض عليه السلام لفرض كون اليد للمسلمين مع وضوح
أن فعلية يدهم على الشئ بصيرورته في حوزة وليهم الذي يقوم مقامهم، حيث
لا يبتني استيلاؤه على الشئ على كونه من توابعه، بل من توابع المسلمين. بل
هو المناسب لجميع أدلة المقام بعد تنزيل بعضها على بعض وتحكيم سيرتي
العقلاء والمتشرعة عليها. وعليه يلزم تنزيل الاستيلاء في موثقة يونس
المتضمنة لحكم متاع البيت.
هذا، والمرجع في تحقق اليد وتشخيص صغرياتها هو العرف، لاختلاف
الأموال والموارد في ذلك اختلافا فاحشا. والمعيار فيها أن تكون مبنية على
التصرف في العين استقلالا تصرف المالك في ملكه، كسكنى الدار وحفظ
المتاع وقبض المال ونحوها.
وربما يكون الشئ الواحد محققا اليد في حالة دون أخرى، كالاستيلاء
على مفتاح الدار، فإنه يكفي في حصول اليد مع عدم وجود من يسكنها أو
يتصرف فيها، ولا يكفي مع أحدهما، بل يكون صاحب اليد هو الساكن
والمتصرف، لتبعية الدار له في هذا الحال، لا للمستولي على المفتاح.
363

ثم إن اليد..
تارة: تكون شخصية.
وأخرى: تكون نوعية، لان الحائز للمال الذي يكون ذلك المال من
توابعه ولواحقه قد يكون شخصا معينا يتصرف فيه بنفسه أو بتوسط وكيله أو
وليه، وقد يكون عنوانا يشتمل على أفراد كثيرة، كالحجاج والزوار والفقراء
وغيرهم، سواء كان استيلاؤهم بتوسط الولي، أم بلا واسطة، كما لو تصرف أفراد
العنوان بأنفسهم في العين تصرف المستحق غير المختص.
ومن ثم ذكرنا في فروع أحكام الخلوة والوضوء أنه يجوز التصرف في
الموقوفات العامة التي لم يعلم كيفية وقفها مع جريان العادة بالتصرف فيها إذا
كشفت عن يد نوعية، لابتنائها على استحقاق المتصرفين، لا محض الإباحة لهم
باذن الولي أو غفلتهم عن ذلك.
كما أنها.. تارة: تكون مختصة.
وأخرى: تكون مشتركة.
لان المعيار في اليد لما كان هو تبعية ما تحتها لصاحب اليد، بحيث يكون من
لواحقه، فقد يكون الشئ تابعا لمستول واحد، كما قد يكون تابعا لأكثر، وهو
يقتضي ملكيته ظاهرا لهم كلهم الرجع إلى ملكية كل منهم لشقص منه بالنسبة،
فليس في المقام الا يد واحدة للكل على الكل مقتضية لملكيتهم ظاهرا للكل
المستلزم للتوزيع والشركة نظير البينة الواحدة المتضمنة لملكيتهم للمال.
ولا مجال في ذلك لدعوى تعدد الأيدي على الكل مع كون كل منها حجة
على ملكيته لكل منهم استقلالا، لتتعارض مقتضياتها، كالبينات المتعددة
المتضمنة لملكية كل منهم.
أو دعوى: تعددها مع كون كل منها أمارة على الملكية الناقصة الذي
مرجعها إلى ملكية الشقص.
364

أو دعوى ثبوت كل يد على الشقص التي مع أمارة على ملكيته لا غير،
كما لو أقام كل منهم بينة على ملكيته للشقص.
لاندفاع الأولى بعدم لحوق الشئ عرفا بكل منهم، بل بمجموعهم،
وعدم تعارض الأيدي المذكورة ارتكازا، لقصورها عن اثبات الملكية
الاستقلالية الذي هو منشأ التعارض.
واندفاع الثالثة - مضافا إلى ما ذكرناه من عدم لحوق الشئ عرفا بكل
منهم، بل بمجموعهم المناسب لوحدة اليد - بأن ملكية الشخص لا ترجع إلى
نقص في الملكية، بل في المملوك.
وأما الثالثة فتشكل: بأن التشقيص أمر اعتباري صرف، واليد منتزعة من
نحو من الاستيلاء الحقيقي الخارجي، ولا سنخية بينهما، فلا مجال لفرض اليد
على الشقص. فما ذكرنا هو الأقرب ارتكازا.
ومن هنا يظهر أنه لو ادعى كل من أصحاب اليد ملكية العين استقلالا
فالتعارض بين الدعاوي لا بين الأيدي، فمع سقوط الدعاوي بالتعارض يرجع
إلى مقتضى اليد من الشركة، ويكون مدعي خلافها مدعيا بالإضافة إلى ما زاد عن
مقتضى الشركة، فتكون قسمتها بينهم عملا بمقتضى اليد، لا بمقتضى قاعدة
العدل والانصاف أو نحوها.
وقد أطال غير واحد الكلام في المقام بما لا مجال لمتابعتهم فيه. فراجع
وتأمل جيدا.
الامر الثاني: الظاهر أن الملكية المحرزة باليد هي ملكية المال، لا محض
السلطنة على التصرف فيه ولو بولاية أو وكالة أو إباحة.
ويقتضيه - مضافا إلى المرتكزات العقلائية التي هي المنشأ لسيرتهم -
ظاهر كثير من النصوص المتقدمة، لان ظاهر إضافة المال للشخص باللام هو
الملكية، لا محض السلطنة على التصرف، بل هو كالصريح من صحيح عثمان
365

وحماد وموثق حفص، للحكم فيهما بالملكية، وأظهر منهما موثقة يونس إذ لا
معنى لملكية التصرف مع موت صاحب اليد.
وعليه لا يتوقف البناء على ملكية صاحب اليد على دعواه لها، لموت أو
نحوه، كما هو مقتضى إطلاق صحيحي محمد بن مسلم الواردين في المال
المدفون في الدار العامرة، بل هو صريح صحيح جميل الوارد في ما يوجد في
الصندوق المختص، المفروض فيه شك صاحب اليد، وموثق يونس المفروض
فيه موته.
وعليه لو فرض العلم بعدم ملكية صاحب اليد لما تحت يده لا مجال
للبناء على سلطنته على التصرف فيه.
نعم، الظاهر قبول خبر صاحب اليد الفعلية حينئذ في السلطنة على
التصرف، كما يقبل خبره في كثير من الأمور المتعلقة بما تحت اليد، كطهارته
ونجاسته وثبوت الحق فيه - كحق الرهانة - أو سقوطه عنه أو غير ذلك.
لسيرة العقلاء بل المتشرعة على ترتيب الأثر بمجرد دعوى ذلك منه، بل
يكفي ظهور حاله في البناء على ذلك بترتيب الأثر من قبله وإن لم يخبر به
صريحا، فإذا عرض الدلال المتاع في السوق يشتري منه من دون أن يطالب
بالبينة على وكالته من قبل المالك، وكذا إذا عرض الراهن أو المرتهن العين
المرهونة للبيع.
وإنما يتعمد المشتري الاستيثاق في بعض الموارد احتياطا منه لما له، كما
قد يستوثق من ملكية صاحب اليد، لا لعدم الاعتماد عليه بنظرهم.
لكن هذا لا يرجع إلى حجية اليد، إذ الكلام في حجيتها بنفسها لا بضميمة
دعوى صاحبها، ولذا كانت حجة على ملكيته للعين مع عدم ادعائه لها لموت
ونحوه.
كما أن الظاهر تقديم قول المالك عليه لو اختلف معه، لنظير ما يأتي إن
366

شاء الله تعالى في اليد المسبوقة بيد أخرى:
بقي في المقام شئ، وهو أن المتيقن من الاعتماد على اليد في البناء على
الملكية إنما هو الأعيان، وأما المنافع فيشكل عموم ذلك لها، لعدم تحقق اليد
بالإضافة إليها - كما عن المستند - لعدم تقررها في الوجود، وإنما توجد عنه
استيفائها، فإذا علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين واحتمل ملكيته للمنفعة
بإجارة أو نحوها لم يحكم له بها، وإنما يحكم بملكيتها لصاحب اليد الذي
يحتمل كونه مالكا لها، لتبعيتها للعين المفروض حجية يده عليها في ملكيتها، لا
لكونه صاحب يد على المنفعة رأسا.
ودعوى: تحقق اليد عليها، للاستيلاء عليها بتبع الاستيلاء على العين.
ممنوعة، لان مجرد الاستيلاء على المنفعة، بمعنى إناطة تحققها باختيار
المستولي على العين، لا يكفي في تحقق اليد التي هي محل الكلام بالإضافة
إليها عرفا. كيف وقد يتحقق هذا المعنى بالإضافة إلى غير صاحب اليد على
العين لو فرض منعه لصاحب اليد من استيفائها، مع أنه لا يكون صاحب يد على
المنفعة قطعا.
وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن للمنفعة نحوا من الوجود، لان
منافع الأعيان حيثيات وشؤون قائمة بها موجودة بوجودها على حد وجود
المقبول بوجود القابل، وليست هي عبارة عن استيفاء المنفعة بالمعنى
الفاعلي، كسكنى الدار وركوب الدابة، الذي ليس له وجود متقرر، بل ذلك من
أعراض المنتفع.
ففيه.. أولا: أن المقبول لا يوجد فعللا بمحض وجود القابل، بل هو
موقوف على تمامية أجزاء علته، بل ليس الفعلي إلا القابلية، وهي أمر انتزاعي لا
يتحد مع المنفعة ولا يقبل الملكية، بل ليس المملوك إلا المعنى الحدثي القائم
بالعين حين الانتفاع، فان المنفعة أمر إضافي قائم بالمنتفع والمنتفع به، ومرجع
367

ملكيته إلى ملكية صدوره من المنتفع به المقابل لاستيفائه من المنتفع بالمعنى
الفاعلي، ومن الظاهر أن الامر المذكور تدريجي ليس له وجود متقرر قابل لان
يكون تحت اليد.
وثانيا: أنه لو فرض أن للمنفعة نحوا من الوجود القابل القابل للاستيلاء في
الجملة إلا أن ذلك لا يستلزم صدق اليد التي هي محل الكلام - بالإضافة إليها
عرفا زائدا على صدقها على العين، لامكان أخذ نحو خاص من الاستيلاء في
مفهومها، فيلزم الاقتصار على الأعيان، لأنها المتيقن من الاجماع والسيرة. بل
النصوص، لاختصاص موارد أكثرها بها.
وكذا صحيحة عثمان وحماد وموثقة حفص، إذ مجال للتعويل على
متعلق اليد فيهما مع الشك في صدق اليد، لقصور الاطلاق عن غير مورد متعلقه.
بل لما لم يكونا واردين لبيان حجية اليد بل لبيان عدم تكليف صاحب
الحجة بالبينة وجواز الشهادة على مقتضى اليد مع المفروغية عن حجتها على
الملكية، فلا إطلاق لهما في حجية اليد على الملكية، بل لعل منشأ المفروغية
السيرة، فلا عموم لهما لغير موردها.
ولا سيما مع اشتمال الموثقة على فرض شراء ما تحت اليد، المنصرف
لخصوص الأعيان، ومن ثم يشكل دخول الاعراض - كاللون - تحت اليد تبعا
للعين، لو فرض إمكان ملكيتها لغير مالك العين. ومجرد كونها ذات وجود قار لا
يكفي في ذلك.
وأشكل من ذلك إمكان فرض اليد على المنفعة استقلالا، لا بتبع العين،
وذلك بالتصرف الاعتباري فيها بمثل التصدي لإجارة العين والصلح على
منفعتها.
إذ فيه أن التصدي للتصرف، بل التصرف بنفسه من دون أن يكون
المتصرف به تحت اليد لا يكون منشأ لصدق اليد، لا في الأعيان ولا في المنافع،
368

حقيقيا كان - كهدم الدار، واستيفاء منفعتها بالسكنى - أو اعتباريا - كبيع الدار
وتمليك منفعتها بإجارة ونحوها - وليس التصرف الاعتباري بأولى من التصرف
الحقيقي، ولا التصرف في المنفعة بأولى من التصرف في العين، مع أنه لا ريب
في عدم كون التصرف الحقيقي في العين - كخرق الثوب وكسر الاناء - منشأ
لصدق اليد إذا لم يكن متفرعا على الاستيلاء بالنحو الخاص الذي سبق
تحديده.
نعم، مع كون العين تحت اليد ينفذ التصرف في المنفعة، لما سبق من نفوذ
تصرف صاحب اليد الفعلية في ما تحت يده وقبول قوله فيه وإن لم يكن مالكا.
لكن التصرف المذكور إنما يحرز السلطنة على المنفعة، ولا يحرز
ملكيتها، إلا أن يدعيها زائدا على ذلك. وهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام
في حجية اليد بنفسها على الملكية مع قطع النظر عن ادعائها.
وأما ما ذكره السيد الطباطبائي قدس سره في كتاب القضاء من فرض اليد على
المنفعة استقلالا في مثل ثمرة الوقف لو قبضها الموقوف عليها ولم يكن الوقف
تحت يده.
فهو خارج عن محل الكلام، إذ الكلام في المنافع المقابلة للأعيان، لا في
العين التي هي نماء عين أخرى، لعموم دخول الأعيان تحت اليد لها بلا إشكال.
ثم إن لازم دخول المنافع تحت اليد تبعا لدخول العين هو دخول تمام
المنافع في جميع أزمنة وجود العين، لا خصوص منفعة يوم أو شهر أو سنة،
لعدم المعين، فلصاحب اليد دعوى أي مقدار شاء منها، وهو لا يخلو من غرابة.
هذا، ولا يبعد قبول قول صاحب اليد الفعلية في ملكية المنفعة، لكونه
صاحب يد على العين، فيقبل قوله في شؤونها المتعلقة بها، كما تقدم نظيره في
دعوى السلطنة على التصرف، لا بملاك كونه صاحب يد على المنفعة، ولذا لابد
369

في البناء على ملكيته للمنفعة من دعواه ذلك زائدا على يده.
نعم، الظاهر تقديم قول مالك العين لو اختلفا، كما تقدم ويأتي نظيره في
اليد المسبوقة بيد أخرى.
ومن هنا تظهر ثمرة النزاع المذكور، فإنه على القول بعدم ثبوت اليد على
المنفعة يقدم قول المالك لتبعية المنفعة للعين في الملكية بحسب الأصل، أما
على القول بثبوت اليد على المنفعة زائدا على ثبوتها على العين فالمتعين تقديم
قول صاحب اليد على قول المالك، إذا لم ترجع دعواه إلى تملكه المنفعة منه
بإجارة ونحوها، كما لو ادعى أنه استأجر العين من المالك السابق، وأن المالك
اشتراها مسلوبة المنفعة. نعم، لو رجعت دعواه إلى أخذها منه قدم قول المالك.
وقد ذكر ذلك السيد الطباطبائي من دون أن ينبه إلى كونه ثمرة للنزاع في
المقام.
كما تظهر ثمرة النزاع أيضا لو علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين،
واحتمل ملكيته للمنفعة من دون أن يدعي ذلك.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر الحال في الحقوق المتعلقة بالعين، كحق
الرهانة والجناية وغيرها، فان الظاهر عدم دخولها تحت اليد، لا استقلالا ولا
تبعا، ولا تكون اليد حجة على ثبوتها لصاحبها، وإنما يقبل قول صاحب اليد
الفعلية عليها، لما تقدم.
نعم، الظاهر ثبوت حق الاختصاص باليد لو علم بعدم ملكية العين،
كالخمر المتخذ للتخليل، بناء على عدم قابليتها للملكية، لان الظاهر كون الحق
المذكور مرتبة من مراتب الملكية ونحوا من أنحائها.
والتفكيك بينهما عرفا مما تأباه المرتكزات جدا، فلا يتوقف الحكم
بثبوت حق الاختصاص لصاحب اليد على دعواه له أو ترتيب آثاره.
370

كما أن المعيار فيه ليس على اليد الفعلية ولو كانت متفرعة على يد أخرى
وفي طولها، كيد الوكيل، بل على اليد المستقلة، على ما ذكرناه في تحديد اليد في
محل الكلام.
تعقيب وتلخيص:
قد ظهر من جميع ما ذكرنا أن اليد تطلق..
تارة: بلحاظ الاستيلاء ودخول الشئ في الحوزة المبني على كون
المستولي عليه من توابع المستولي ولواحقه.
وأخرى: بلحاظ الاستيلاء الفعلي والحوزة وإن لم يكن المستولي عليه
من توابع المستولي، بل كان تابعا لشخص آخر، لتفرع الاستيلاء المذكور على
تسليط ذلك الشخص، بحيث يكون مظهرا له. وباللحاظ الأول تكون يد الوكيل
يد الموكل، وباللحاظ الثاني تكون يدا له بنفسه.
واليد الأولى مصححة للبناء على ملكية صاحبها أو ثبوت حق
الاختصاص له، من دون حاجة إلى دعواهما أو ترتيب آثارهما من قبله.
وهي المرادة في محل الكلام، ولا تكون بنفسها حجة على غير الملكية
من شؤون ما تحت اليد، وإنما تترتب آثار الملكية من السلطنة وملكية المنفعة
تبعا لاحراز ملكية العين، لا لنهوض اليد بنفسها لاحرازها.
واليد الثانية مصححة للبناء على نفوذ تصرف صاحبها في ما تحت يده
وقبول قوله فيه وفي شؤونه من السلطنة على التصرف والحقوق والمنافع
وغيرها، وليست هي حجة بنفسها مع قطع النظر عن التصرف والقول
المذكورين.
ولا يفرق فيها بين يد المالك والوكيل والأمين والولي وغيرها حتى من
يعلم بكونه غاصبا، فيقبل قوله في تعيين مالك العين وصاحب الحق فيها ونحو
371

ذلك.
وهي أعم من الأولى، لانفرادها عنها في المستولي بالفعل الذي يعلم بعدم
ملكيته، ويجتمعان في المستولي بنفسه أو بوكيله إذا احتمل ملكيته، فيحكم
بملكيته لما تحت يده وإن لم يدعها، ويقبل قوله وينفذ تصرفه فيه.
وكلاهما يختص بالأعيان ولا يجري في المنافع، وإنما يبنى على ملكية
المنفعة في الأولى تبعا لاحراز ملكية العين، ويقبل قول صاحب اليد الثانية فيها
لأنها من شؤون العين.
وكأن ذلك هو منشأ الخلاف المتقدم في دخول المنافع تحت اليد. ومحل
الكلام بالأصل هو اليد الأولى، والتعرض للثانية بتبعها.
الامر الثالث: لا إشكال ظاهرا في أن اليد مصححة له لبناء عملا على
الملكية والتعبد بها، وليست متمحضة في ترتيب آثار الملكية عملا الراجع إلى
مقام التعذير والتنجيز، من دون تعبد بها. بل الظاهر أنها منشأ لاحراز الملكية، لا
لمحض التعبد بها من دون توسط المحرز - كما في أصالتي الحل والطهارة - لان
النصوص بنفسها وإن كانت قاصرة عن إثبات ذلك، إلا أنه يكفي في إثباته
المرتكزات التي هي المنشأ في سيرة العقلاء والمتشرعة، بل التي يظهر من بعض
النصوص الجري عليها، كصحيح عثمان وحماد وموثقة حفص، كما أشرنا إليه
آنفا.
وقد أشرنا إلى الفرق بين الأصول التعبدية والاحرازية في ذيل الكلام في
أدلة الاستصحاب، وربما يأتي في أوائل مبحث التعارض.
وإنما الكلام في أن إحراز اليد للملكية هل يرجع إلى أماريتها عليها، أو لا،
بل هي أصل إحرازي؟.
وحيث كان الفرق بين الأصل والامارة متمحضا في ابتناء اعتبار الامارة
على فرض كاشفيتها زائدا على كونها مصححة للتعبد بالمؤدى، كانت الا مارية
372

محتاجة إلى عناية زائدة على أصل التعبد بالمؤدى لابد من إثباتها من دليل
الاعتبار.
ومن الظاهر أن النصوص غير صالحة في نفسها لاثبات ذلك، إذ لم
يتعرض فيها إلا للتعبد بملكية صاحب اليد.
كما أن مجرد بناء العقلاء على الملكية من جهة اليد لا يستلزم أماريتها،
حيث قد تكون أصلا عقلائيا، كأصالة عدم المانع التي يبني العقلاء عليها في
بعض الموارد، فلابد في إثبات أمارية اليد من دعوى ابتناء المرتكزات العقلائية
التي هي المنشأ للسيرة عليه.
وقد يقرب بما ادعاه غير واحد من أن منشأ بناء العقلاء على العمل باليد
هو غلبة كون ما تحتها ملكا لصاحبها.
وقد استشكل فيه بعض المحققين قدس سره: بأن المسلم غلبة كون اليد غير
عادية، لا غلبة كونها مالكية، لكثرة أيدي الأولياء الوكلاء ونحوهم من غير
المالكين الذين لهم الحق في وضع اليد. فراجع كلامه.
بل الانصاف: أن ملاحظة حال الناس وشدة تسامحهم في الأموال،
وجهلهم قصورا أو تقصيرا بطرق حلها مانع من دعوى غلبة كون اليد غير عادية،
لكثرة الابتلاء بالغصب، والعقود الفاسدة المستلزم لحرمة المال وحرمة نمائه
ونماء نمائه مهما تعاقب، وهو كما يوجب عدوان يد الأصيل يوجب عدوان اليد
المتفرعة عليها بوكالة أو ولاية أو نحوهما. فالغالب في اليد العدوان ولو مع
الجهل أو الغفلة الموجبين للعذر.
اللهم إلا أن يقال: هذا بالنظر إلى الملكية شرعا، لكثرة قيودها وشروطها،
أما بالنظر إلى أسباب الملكية السائدة بين الناس بلحاظ أعرافهم أو قوانين
دولهم قبل الشريعة فغلبة اليد المالكة غير بعيدة، لتسامحهم في أسباب الانتقال.
ومخالفة الشارع للعرف في أسباب الملكية ثبوتا لا ينافي إمضاءه لما
373

جروا عليه من أمارية اليد على الملكية إثباتا بالنظر للغلبة المذكورة عندهم.
هذا، مضافا إلى أن أمارية اليد ارتكازية وإن لم تبتن على الغلبة المدعاة،
فيتعين البناء عليها وإن لم يعلم منشؤها. فلاحظ.
ثم إنه لا ينافي أماريتها المفروغية عن تقديم بعض الامارات عليها
كالبينة، إذ لا مانع من تقديم بعض الامارات على بعض، تبعا لأدلتها، كما يقدم
الاقرار على البينة.
بل قد يدعى أن حجية اليد قد تكون سببا في تحقق موضوع بعض
الامارات، وحجيتها بنحو تقدم على اليد في الرتبة اللاحقة، كما هو الحال في
إقرار صاحب اليد بملكية الغير. فإن حجية اليد على ملكية صاحبها توجب
صدق الاقرار على إخباره بملكية الغير المقتضي لقبوله على خلاف مقتضى اليد
في الرتبة الثانية.
لكن الظاهر اندفاعه: بأن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير راجع إلى عدم
ملكيته لما تحت يده، وملكية المقر له به. والاخبار بالأول هو الذي يصدق عليه
عنوان الاقرار، وهو لا يتوقف على حجية اليد، بل يصدق حتى من غير صاحبها.
والاخبار الثاني ليس إقرارا منه، بل شهادة صرفة، وقبوله منه ليس بملاك حجية
الاقرار، بل بملاك حجية خبر صاحب اليد الفعلية، كقبول خبر الوكيل والأمين.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: تقدم أن اليد الفعلية مصححة للبناء على صحة تصرف صاحبها
وقبول خبره في ما تحت يده.
والظاهر أنها أمارة على نفوذ التصرف، كأمارية اليد على الملكية في محل
الكلام، لاشتراكهما في الجهات الارتكازية المناسبة للأمارية.
كما لا ينبغي الاشكال في أمارية خبر صاحب اليد، فإنه كسائر الاخبار
المبنية على الحكاية والكشف والتي يبتني قبولها على التصديق والمتابعة.
374

الثاني: لا ريب في تقديم اليد على الاستصحاب، سواء كانت أمارة أم
أصلا، لان مورد اليد..
تارة: لا يكون مجرى لاستصحاب الملكية ولا عدمها، كما لو علم بسبق
الملكية وعدمها مع الجهل بالتاريخ.
وأخرى: يكون مجرى لاستصحاب الملكية، بأن علم بسبقها.
وثالثة: يكون مجرى لاستصحاب عدم الملكية، للعلم بسبقه ولو أزلا،
كما هو الغالب.
فلو فرض انحصار دليل اليد بعموم يقتضيه، فالنسبة بينه وبين عموم دليل
الاستصحاب وإن كانت هي العموم من وجه، ويتنافيان في الصورة الثالثة، إلا أنه
يلزم تقديم عموم اليد في الصورة المذكورة، إذ لو قدم عموم الاستصحاب
انحصر العمل بعموم اليد بالصورتين الأوليين، وهو في معنى إلغائه عرفا، لاغناء
الاستصحاب عن اليد في الصورة الثانية، وندرة الأولى.
أما بلحاظ الأدلة الخاصة فلا ينبغي التأمل في تقديم اليد، لان أكثر
النصوص المتقدمة، بل كلها واردة في مورد استصحاب عدم الملكية ولو كان
هو العدم الأزلي. بل لا ينبغي الاشكال في ذلك بلحاظ السيرة.
ومنه يظهر تقديم اليد على استصحاب عدم تحقق سبب الملكية، كالبيع
ونحوه، لان المتيقن من عموم أدلتها وخصوصها حجيتها في مورده.
ثم إن ما تقدم في وجه تقديم الامارة على الاستصحاب من ورودها عليه
بنحو من أنحاء الورود جار هنا، لأنه لا يختص بالامارة، بل يجري في الأصل
الاحرازي الذي اخذ في موضوعه أمر زائد على الشك، كاليد في المقام، حيث
عرفت أن اليد محرزة للملكية وإن لم تكن أمارة عليها.
نعم، ذلك إنما يتم بالإضافة إلى استصحاب عدم الملكية، أما بالإضافة
إلى استصحاب عدم تحقق سببها من البيع ونحوه الذي هو حاكم على
375

استصحاب الملكية فلا مجال لدعوى الورود، لما يأتي من أن اليد لا تنهض
بإحراز لوازم الملكية وملزوماتها، فتقديم اليد لا يكون إلا لاهمال دليل
الاستصحاب بالإضافة إلى الملكية التي هي أثر الاستصحاب المذكور، الذي هو
نحو من التخصيص، حتى بناء على كون اليد من الامارات.
الثالث: الظاهر عدم حجية اليد في غير الملكية وآثارها الشرعية من
لوازمها وملزوماتها، كموت المورث، وبيع المالك السابق، ونحوهما،
لاختصاص النصوص بالملكية، وهو المتيقن من السيرة.
وهو لا ينافي ما تقدم من أماريتها، لما تقدم في مبحث الأصل المثبت من
عدم استلزام الا مارية للحجية في لازم المؤدى، وأنه محتاج إلى دليل خاص.
ومعه يبنى على ذلك في الامارة والأصل معا.
المقام الثالث: في سعة كبرى قاعدة اليد.
والكلام فيه في ضمن مسائل..
المسألة الأولى: لا إشكال في حجية اليد على ملكية صاحبها وإن كانت
الملكية متوقفة على تجدد سبب، كالشراء من الغير والاتهاب منه، سواء كان
ذلك الغير معلوما بالتفصيل أم بالاجمال، وسواء ادعى صاحب اليد تحقق
السبب المذكور أم لم يتعرض له، لدخوله في إطلاق بعض النصوص المتقدمة،
بل في المتيقن من موارد بعضها، كصحيح حماد وعثمان وغيره.
نعم، المتيقن من ذلك ما إذا لم ينكر المالك السابق ملكية صاحب اليد،
لانكاره لسبب الانتقال.
أما إذا أنكر ذلك فربما يستشكل في حجية اليد حينئذ، ويدعى انقلاب
صاحبها مدعيا، ويكون المنكر هو المالك السابق، لموافقة قوله لاستصحاب
عدم تحقق سبب الانتقال، فقد ذهب إلى ذلك جماعة، ونسب في كلام غير
واحد للمشهور، على كلام بينهم..
376

تارة: في اختصاص ذلك بما إذا كان المثبت لملكية السابق هو إقرار
صاحب اليد، أو يعم ما إذا ثبت بالبينة، أو يعم أيضا ما إذا ثبت بعلم الحاكم.
وأخرى: في اختصاصه بما إذا ادعى صاحب اليد تحقق السبب المذكور،
أو يعم ما إذا أغفل ذلك. قال في الجواهر: " صرح غير واحد بانتزاع العين من يد
من أقر بأنها ملك المدعي أمس، بل في الكفاية: وفي كلامهم القطع بأن صاحب
اليد لو أقر أمس أن الملك له، أو شهدت البينة باقراره له أمس، أو أقر بأن هذا له
أمس، قضي له به، وإن استشكل هو في إطلاق ذلك. ودعوى: ظهور الفرق بين
ثبوت الملك بالاقرار وبين ثبوته بالبينة... كما ترى! ".
كما أنه وقع الكلام منهم في أن إنكار من يترتب ملكه على بقاء ملكية
المالك السابق كالوارث والموصى له، هل يقوم مقام إنكار المالك السابق أو لا؟.
لكن نسب في المستند والعروة الوثقى إلى الأكثر تقديم اليد.
وقد أطالوا الكلام في ذلك نقضا وإبراما بما لا مجال لمتابعتهم في
خصوصياته.
وينبغي لتوضيح حال محل الكلام التعرض لأمور..
الأول: أن إنكار المالك الأول لسبب الانتقال واستصحاب عدم تحقق
السبب المذكور لا أثر له في موارد التداعي إلا بلحاظ ثبوت ملكيته حين اليد
وعدم ملكية صاحبها حينها، وأما سبق الملكية فهو بنفسه خارج عن مورد
التداعي، فلا يكون موردا للأثر.
وحينئذ فإن فرض عموم دليل حجية اليد للمورد لم ينهض الاستصحاب
لمعارضته ولزم البناء على تخصيص عمومه في الفرض، كما هو الحال في سائر
موارد اليد، ومنها ما لو ادعى صاحب اليد الشراء من غير المدعي، أما لو فرض
جريان الاستصحاب المذكور، بحيث يكون المالك الأول المنكر للانتقال منكرا
وصاحب اليد المدعي له مدعيا، لموافقة الحجة للأول دون الثاني، لزم عدم
377

حجية اليد وقصور دليلها في الفرض تخصيصا أو تخصصا.
فلا مجال لما ذكره غير واحد من الجمع بين انقلاب الدعوى وصيرورة
المالك الأول منكرا، وحجية اليد، مع حكومتها على الاستصحاب أو التساقط،
كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدس سره.
وأشكل منه ما في المستند من دعوى التعارض بين مقتضى اليد
والاستصحاب المذكور المقتضي للتساقط، إلا أن اليد المشاهدة الموجودة
بالعيان باقية بلا معارض، والأصل عدم التسلط على انتزاع العين من يد ذيها
وعدم جواز منعه من التصرفات حتى مثل البيع والإجارة، إذ غاية الامر عدم
الدليل على ملكيته، ولكن لا دليل على عدمها أيضا.
إذ فيه: أنه بعد فرض سقوط اليد بالمعارضة مع الاستصحاب لا معنى
ملاحظتها.
كما أن مقتضى الأصل جواز انتزاع العين من يد ذيها بعد عدم ثبوت
استحقاقه لها بسبب سقوط يده عن الحجية، إلا أن يستلزم التصرف في نفس
صاحب اليد أو مال آخر له، لحرمته ذاتا، وعدم ثبوت اعتدائه بالاستيلاء على
العين لتسقط حرمته.
وأصالة عدم جواز منعه عن التصرف لا تقتضي نفوذ تصرفه، بل هو
مخالف للأصل.
الثاني: أن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير سابقا ودعواه الملكية مع
وضوح امتناع انتقال الملك من دون سبب ناقل ظاهر عرفا في دعواه تحقق
السبب الناقل ضمنا وإن لم يذكره صريحا.
نعم، لو صرح بعدم دعواه لذلك وإعراضه عنه أو قامت قرينة خاصة عليه
منع ذلك من الظهور العرفي المذكور.
ولا يكون بمجرد ذلك مكذبا لدعواه الملكية الفعلية، ولا مسقطا ليده لو
378

فرض حجيتها ذاتا، خلافا لما ذكره بعض الأعاظم قدس سره، لان امتناع ملكيته فعلا
بعد ملكية السابق من دون سبب ناقل إنما يوجب توقفها على وجود السبب
الناقل واقعا، لا على دعواه.
نعم، لو ادعى عدم السبب الناقل كان مكذبا لدعواه ومسقطا ليده عن
الحجية، لمنافاة مقتضاها لاقراره.
ثم إنه لو فرض التنافي بين دعوى الملكية الفعلية التي هي مقتضى اليد
والاقرار بملكية الغير سابقا من دون دعوى السبب الناقل، فحيث كان منشأ
التنافي هو امتناع انتقال المال من دون سبب ناقل، فلا فرق بين الاقرار والبينة
وعلم الحاكم بسبق ملكية الغير، وحيث كانت كلها مقدمة على اليد، ولا يختص
الاقرار بينها بذلك، فالفرق بينه وبينها لا تقتضيه القواعد المعول عليها، بل
يحتاج لدليل خاص.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره في وجه الفرق من أن انقلاب الدعوى (1)
ليس من آثار الواقع، بل من آثار نفس الاقرار، حيث يؤخذ المرء بإقراره ولو مع
العلم بمخالفته للواقع، كما لو أقر بعين لاثنين على التعاقب.
فهو كما ترى لا يرجع إلى محصل ظاهر، فإن الاقرار من الطرق الظاهرية،
فلا يقدم على العلم.
والاقرار بعين واحدة لاثنين على التعاقب إنما يكون نافذا في حق كل
منهما، لعدم الأثر للعلم الاجمالي بكذب أحد الاقرارين في حق كل منهما، كي
يمنع من نفوذ الاقرار في حقه، فلو كان له أثر لم ينفذ له إلا أحد الاقرارين، كما

(1) مصب كلامه هنا وإن كان في انقلاب الدعوى لا في تكذيب اليد، إلا أنه ذكر انقلاب الدعوى
فرارا عن محذور التكذيب، بزعم ان دعوى الملكية الفعلية لابد أن ترجع إلى دعوى حصول
السبب الناقل، إذ لو لم ترجع لذلك لزم تكذيب اليد وسقوط الدعوى رأسا، لاستحالة انتقال
المال من دون سبب، وهذا جار - كما عرفت - في غير الاقرار، ولابد في الفرق من فارق، فلاحظ.
379

كما لو ورث أحد الشخصين المقر لهما الاخر.
على أن المفروض في المقام أن تقديم الاقرار ليس مع العلم بكذبه، كي
يتجه الاعتماد على الفرق المذكور، بل لمنافاة المقر به لليد، وتقديم الاقرار
عليها، والمفروض مشاركة البينة وعلم الحاكم له في ذلك.
الثالث: أن صاحب اليد في المقام إن ادعى تحقق السبب الناقل صريحا
أو ضمنا - تبعا لاقراره بسبق الملكية، على ما سبق - لا يكون مدعيا إلا مع فرض
عدم حجية يده على الملكية الفعلية، لان وجود السبب الناقل ليس بنفسه موردا
للدعوى، وإنما يتوجه ذكره بلحاظ ترتب فعلية الملكية عليه، فمع فرض حجية
اليد في ثبوت الملكية يبقى مدعيه منكرا وإن لم يثبت ما ادعاه بخصوصيته، نظير
ما لو ادعى الشراء من شخص آخر غير المدعي. ومع فرض عدم حجية اليد
تنقلب الدعوى وإن لم يدع السبب الناقل، لاستصحاب الملكية السابقة.
فما يظهر من بعضهم من الفرق في محل الكلام بين دعواه السبب الناقل
وعدمها، وأن انقلاب الدعوى مختص بالأول، في غير محله.
إذا عرفت هذا، فنقول: حيث ظهر مما تقدم أن الحكم في المقام يبتني
على حجية اليد في صورة إنكار المالك السابق للسبب الناقل وادعائه بقاء
الملكية السابقة، وعدمها، فقد تصدى بعضهم لتقريب حجيتها بعموم الأدلة
السابقة المقدم على عموم الاستصحاب.
ولازم ذلك عدم انقلاب الدعوى ولا سقوطها مطلقا.
وأما دعوى: سقوطها لو شهدت البينة بالملكية السابقة وببقائها استنادا
للاستصحاب، لتقديم البينة على اليد في فرض التنافي بينهما.
فهي مدفوعة: بأنه لا يجوز للبينة الشهادة اعتمادا على الاستصحاب بعد
فرض حجية اليد وتقديمها عليه، بل تكون مدلسة بذلك، كما نبه له بعض
الأعاظم قدس سره.
380

بل لو فرض خلل اليد بنظر البينة فليس لها الاعتماد على الاستصحاب
في الشهادة ببقاء الملكية، إذ الظاهر عدم جواز الشهادة اعتمادا على الحجة إلا
في فرض ابتناء المقام على ما يعم مؤداها، لا في مثل المقام، حيث يكون
المطلوب للحاكم الشهادة بالامر الواقعي التي تصلح لنقض اليد مع حجيتها ذاتا
وتقديمها على الاستصحاب بنظره، فإن الشهادة حينئذ بالامر الظاهري استنادا
للاستصحاب المبني على قصور اليد ذاتا بنظر الشاهد يكون تدليسا محرما.
هذا، وقد منع بعض مشايخنا من حجية اليد في المقام لقصور دليل
حجيتها عنه.
وتوضيح ما أفاده: أن مقتضى التعليل في موثقة حفص بقوله عليه السلام: " لو لم
يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " كون حجيتها دفعا لمحذور اختلال السوق،
فتقصر عما لو لم يلزم ذلك عدم حجيتها، لدوران الحكم مدار التعليل
وجودا وعدما، ومن الظاهر أن عدم حجيتها في مورد إقرار صاحب اليد بملكية
غيره سابقا لا يستلزم المحذور المذكور، لقلة ذلك وغلبة احتياط صاحب
الملكية المتجددة بما يثبتها من بينة ونحوها، وعدم اكتفائه باليد المتجددة إلا في
مورد الوثوق بالمالك السابق، فثبوت اليد المالكية المحقة في مورد إنكار
المالك السابق وعدم حجة للمالك اللاحق غير اليد ليس من الكثرة بنحو يلزم
من عدم حجية اليد اختلال نظام السوق. ومن ثم لا مجال لدعوى عموم السيرة
على حجيتها للمقام.
وفيه.. أولا: أن المراد باسم الإشارة في قوله عليه السلام: " لو لم يجز هذا... " ليس
هو حجية اليد على الملكية، الذي هو محل الكلام، بل جواز الشهادة بالملكية
اعتمادا على اليد الذي هو مورد السؤال والاستدلال في صدر الحديث، ولا مانع
من عدم جواز الشهادة في مورد لقصور التعليل المدعى عنه مع حجية اليد فيه
لعموم دليلها.
381

اللهم إلا أن يستفاد التلازم بين الامرين من استنكار الإمام عليه السلام قبل ذلك
جواز الشراء من صاحب اليد وعدم جواز الشهادة له.
وثانيا: أن التنبيه للزوم اختلال السوق لولا حجية اليد غير ظاهر في
التعليل الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما، لعدم اقترانه بأداة التعليل
الظاهرة في كون مدخولها غرضا وداعيا لجعل الحكم، بل هو ظاهر إما في التنبيه
للسيرة لبيان وضوح الحكم ردعا للسائل عن التوقف فيه وتأكيدا للاستدلال
الانكاري عليه بالوجه المذكور في صدر الحديث، أو في التنبيه للفائدة المترتبة
على الحكم التي يكون التنبيه عليها موجبا لوضوح الحكم بضميمة ارتكاز
الاهتمام بها، المستلزم لحفظها بتشريع ما يوصل إليها، وإن كان ملاك الحكم
الداعي له أوسع منها.
وثالثا: أن التعليل بمثل هذه الفوائد النوعية لا يصلح لبيان ملاك الحكم
الذي يدور مداره وجودا وعدما، بل لابد من تنزيله على بيان الفائدة والحكمة.
وتوضيح ذلك: أن ترتب نظام السوق على حجية اليد مثلا واختلاله على
عدم حجيتها ليس بنحو الانحلال الراجع إلى العموم الاستغراقي، نظير ترتب
نجاسة المايع على إسكاره، كي يمكن تشخيصه للمكلف، بل بنحو المجموعية
النوعية، بمعنى توقف الحفظ على حجية اليد بمقدار معتد به يستغني به الناس
في إدارة شؤونهم، ومن الظاهر أن خصوصية موارد الحجية مما لا طريق لاحراز
دخلها في ذلك، بل كما يمكن حفظ نظام السوق بحجية اليد في جملة من
الموارد يمكن حفظه بابدالها بغيرها من الموارد، فلابد من كون ذلك حكمة
لا علة.
ولذا لا ريب في حجية اليد لي كثير من الموارد ولا يتوقف حفظ نظامه
عليها، كما في موارد تعارف الاستيثاق لصاحب اليد بحجة أخرى، حيث لو لم
تكن اليد حجة حينئذ بأن يحكم بعدم ملكه عند عدم الحجة الأخرى لا يلزم
382

اختلال السوق، بل لو أنيطت الحجية سعة وضيقا بحفظ نظام السوق لزم خروج
بعض الموارد عن الحجية بعد دخولها فيها لو فرض استغناء حفظ النظام عنها
بعد توقفه عليها، لتبدل العرف والسيرة.
نعم، ربما يناقش في عموم الأدلة المتقدمة بأن الموثقة لما لم تكن واردة
لبيان حجية اليد على الملكية بل لبيان جواز الشهادة اعتمادا على اليد مع
المفروغية عن حجيتها على الملكية، فلا تنهض باثبات عموم حجية اليد على
الملكية.
بل لما كان منشأ المفروغية هو السيرة الارتكازية لم تنهض بإثبات حجية
اليد في غير موردها.
وكذا الحال في صحيح عثمان وحماد، لوروده لبيان عدم تكليف صاحب
اليد الحجة - المفروض كونه منكرا - بالبينة، لا لبيان حجيتها، ليكون له عموم أو
إطلاق من هذه الجهة، وإن كانت هي مفروغا عنها في الجملة.
وأما بقية النصوص فعدم العموم فيها ظاهر، لورودها في موارد خاصة،
أو لبيان أحكام خاصة وقد استفيد منها حجية اليد على الملكية تبعا.
وفيه: أن الموثقة وإن كانت واردة لبيان جواز الشهادة بالملكية اعتمادا
على اليد " إلا أن وضوح تفرع جواز الشهادة على حجيتها موجب لدلالتها على
ذلك بالملازمة العرفية، بل بمقتضى التعرض فيها بعد ذلك لجواز الشراء، فكما
ينهض إطلاقها بإثبات جواز الشهادة ينهض بإثبات حجية اليد.
وليست المفروغية عن التلازم بين الحكمين قرينة على تقييد موضوع
السؤال باليد الحجة، ليقصر الاطلاق عن إثبات جواز الشهادة في مورد الشك
في الحجية، فضلا عن إثبات الحجية نفسها " بل هي تقتضي استفادة الحجية تبعا
لجواز الشهادة في مورد السؤال على إطلاقه.
فهو نظير ما لو ورد السؤال عن جواز لعن بني أمية، فأجيب بجوازه، فإنه
383

كما يستفاد منه عموم جواز لعنهم يستفاد منه عموم عدم إيمانهم، للمفروغية
عن عدم جواز لعن المؤمن.
ولا يتوهم كون المفروغية المذكورة قرينة على تقييد مورد السؤال بغير
المؤمن، ليقصر عن إثبات جواز لعن من شك في إيمانه، فضلا عن إثبات إيمانه.
وإن شئت قلت: وضوح التلازم بين الحكمين يقتضي..
تارة: صرف بيان أحدهما إلى بيان الاخر، كما هو الحال في جواز لعن
بني أمية.
وأخرى: أخذ أحدهما في موضوع الآخر وصفا محرز الوجود من قبل
الحاكم، كما لو أمر باستعمال لحم مطروح حيث يكشف عن إحرازه لطهارته أو
تذكيته.
وثالثة: أخذ أحدهما في موضوع الآخر قيدا لابد من إحراز المكلف له،
كما في عموم جواز أكل لحم الشاة الذي لابد من تقييده بصورة تذكيتها.
وفي الأولين يكون دليل عموم الحكم اللازم دليلا على عموم الحكم
الملزوم، دون الثالث.
ولا إشكال في عدم مناسبة الأول للمقام، لظهور مفروغية السائل
والإمام عليه السلام عن حجية اليد على الملكية، فيتعين الثاني، لأنه المناسب للاطلاق،
دون الثالث.
وعليه يجوز التمسك لحجية اليد على الملكية بعموم الموثقة حتى في
مورد الشك في قيام السيرة على حجيتها.
نعم، قد يتوجه البناء على قصورها عن إثبات الحجية في مورد قيام
السيرة على عدم حجيتها، لقرب كون منشأ المفروغية عن الحجية في ظاهر
الموثقة، هو السيرة الارتكازية، فهي واردة مورد إمضائها، لا للردع عنها بتوسيع
الحكم على خلاف مقتضاها.
384

وأما صحيح عثمان وحماد فهو؟ وإن كان واردا في اليد المفروغ عن
حجيتها على الملكية، إلا أنه ظاهر في أن اليد الحجة لولا الدعوى لا تسقط
حجيتها بالدعوى، للحكم فيه بأن صاحب اليد الحجة إذا ادعي عليه لا يطالب
بالبينة، بل يكون منكرا عليه اليمين، فيدل بإطلاقه على أن اليد في المقام لا
تسقط عن الحجية بدعوى المقر له للملكية الفعلية وإنكاره للسبب الناقل، كما
هو المدعى لهم، إذ ليس المدعى لهم سقوط اليد عن الحجة بمجرد الاقرار
بسبق ملكية الغير، لعدم الاشكال في حجية اليد مع عدم الدعوى مطلقا، بل
المدعى كون دعوى المقر له مسقطة لها عن الحجية، مع حجيتها لولاها، فينافي
إطلاق الصحيح المذكور، بالتقريب الذي ذكرنا، فيتعين التمسك به حتى بناء
على قيام السيرة على عدم حجية اليد وانقلاب الدعوى، لصلوحه للردع عنها.
اللهم إلا أن يقال: الصحيح المذكور وإن كان ظاهرا في عدم سقوط حجية
اليد بدعوى الخصم، بل المفروغية عن ذلك، إلا أنه لا إطلاق له فيه، لعدم وروده
للبيان من هذه الجهة، بل لبيان أن صاحب اليد الحجة الذي يصدق عليه المنكر
لا يكلف بالبينة، كما هو مقتضى السؤال والاستشهاد بالنبوي الشريف، وليس
واردا لتحديد المنكر والمدعي، وبيان أن الدعوى لا تسقط اليد عن الحجية ولا
انقلاب الدعوى.
وإن شئت قلت: الصحيح وارد لبيان أحكام اليد الحجة، لا لبيان سعة
حجية اليد.
إن قلت: مقتضى الملازمة بين الاكتفاء باليمين من صاحب اليد وحجيتها
كون عموم الاكتفاء باليمين بعد الدعوى كاشفا عن عموم حجية اليد بعد
الدعوى، ومقتضاه حجيتها وإن كانت الدعوى ممن أقر صاحب اليد بسبق
ملكيته.
قلت: لا طريق لاثبات العموم المذكور، إلا أن يكون موضوع السؤال
385

مطلق اليد الحجة قبل الدعوى، لا خصوص اليد الحجة مطلقا، ولا مجال لاثبات
ذلك بعد ما ذكرنا، لأنه إنما يناسب بيان سعة حجية اليد، لا أحكام الحجية، كما
هو ظاهر الحديث.
وعلى هذا لو فرض قيام السيرة الارتكازية على عدم حجية اليد وعلى
انقلاب الدعوى في المقام لم يصلح الصحيح للردع عنها، كما لا تصلح الموثقة لذلك.
إذا ظهر هذا فمن القريب جدا قيام السيرة على ذلك، كما يشهد ذلك
الرجوع للمرتكزات العقلائية بل المتشرعية.
وأما الاستدلال بالاجماع فلا مجال له، بعد نقل الخلاف منهم، وعدم
تحريرهم المسألة استقلالا، وإنما يستفاد من بعضهم ضمنا في مسائل تعارض
البينات أو نحوها، مع اضطراب مبانيهم، حيث يظهر من بعضهم الاعتماد على
وجوه غير ناهضة في نفسها. وذلك كله مانع من تحصيل الاجماع المعتد به
الصالح لرفع اليد عن مقتضى الأدلة لو فرض اقتضاؤها حجية اليد.
ولابد من التأمل التام واستيعاب النصوص وكلمات الأصحاب في المقام.
والله سبحانه وتعالى العالم العاصم، وهو ولي التوفيق والتسديد.
بقي في المقام أمور: الأول: أن المتيقن من كلماتهم في سقوط حجية اليد بإنكار المالك
السابق ما إذا أقر صاحب اليد بسبق ملكية، دون غيره من طرق ثبوتها. فلو كان
الدليل في المسألة هو الاجماع لأمكن التفريق بين الاقرار وغيره، للفرق بينهما
فيه، وإن لم يكن بينهما فرق بحسب القواعد العامة، كما سبق.
لكن عرفت أن الدليل ليس هو الاجماع، بل المرتكزات العقلائية، وهي
تقضي بعدم الفرق بين الاقرار وغيره، وأنه بعد ثبوت ملكية السابق وتوقف
الانتقال منه لصاحب اليد على صدور السبب الناقل منه يسمع إنكاره للسبب
386

الناقل ولا تنهض اليد باثبات الملكية المتجددة في مقابلة، من دون خصوصية
للاقرار.
الثاني: أن الظاهر اختصاص سقوط حجية اليد بما إذا استندت دعوى
المالك السابق لعلمه، دون ما لو استندت للاستصحاب من جهة شكه، لان
الظاهر حجية اليد في إثبات ملكية صاحبها في مرتبة سابقة على دعوى المالك
السابق حتى في حقه، فلا تشرع له الدعوى مع احتمال صدق اليد، لتقديمها
على الاستصحاب، فلا يصح منه الاعتماد عليه في الدعوى. ولا أقل من خروج
ذلك عن المتيقن من المرتكزات القاضية بسقوط اليد عن الحجية، فيرجع في
حجيتها لعموم موثقة حفص.
وكذا لو ادعى صاحب اليد حصول السبب الناقل من غير المالك ممن
ينفذ عليه تصرفه، كالولي والوكيل، فأنكر المالك ولو عن علم، لان المتيقن من
المرتكزات العقلائية في وجه سقوط اليد عن الحجية بدعوى المقر له أن انتقال
المال عن المقر له لما كان موقوفا على صدور السبب الناقل منه، فإنكاره له
مسموع منه.
أما إذا كان المدعى لصاحب اليد صدوره من غيره فلعل إنكاره له كإنكار
الأجنبي لا يسمع منه. ومجرد ترتب نفعه عليه لا يكفي في قبول دعواه وسماع
إنكاره للسبب الناقل.
نعم، لا يبعد سماع إنكار السبب الناقل ممن ادعى صاحب اليد وقوعه منه
في مقام إثبات دعوى المقر له.
كما لا يبعد قبول إنكار المقر له توكيل موقع السبب المدعى، لأنه فعله،
ويتوقف عليه الانتقال.
وأولى من ذلك في عدم إسقاط اليد عن الحجية ما لو كان المنكر للسبب
الناقل غير المالك السابق ممن تترتب ملكيته على بقاء ملكيته، كالوارث
387

والموصى له وغيرهما.
لكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره قبول دعوى الوارث، دون غيره، لان انتقال
المال إليه من المورث يرجع إلى تبدل المالك مع بقاء إضافة الملكية، فالاقرار
للمورث إقرار للوارث، بخلاف غيره من أسباب الانتقال، إذ هي بين ما يتضمن
تبدل المملوك مع بقاء إضافة الملكية كما في المعاوضات، وما يتضمن تبدل
نفس إضافة الملكية، كالهبة والوصية ونحوهما، فلا يكون الاقرار للمالك السابق
إقرارا لمن يترتب ملكه على بقاء ملكيته فيها.
وكأن نظره في الفرق إلى أنه مع فرض وحدة ملكية الوارث والمورث
فالمعترف به ملكية واحدة من شأنها البقاء، ولا تسمع دعوى انقطاعها قبل قيام
الوارث مقام المورث.
وأما مع فرض التعدد في مثل ملكية الموصي والموصى له فالمعترف به
ملكية مباينة لملكية المدعي، لانقطاع الملكية المقر بها إما بملكية المدعي أو
بملكية صاحب اليد، وكل منهما خلاف الأصل، وترجح الثانية باليد.
وكذا الحال مع التبدل في المملوك كما في المعاوضات، لان بقاء الملكية
المقر بها إنما تقتضي ملكية المقر له لعوض المال المقر به، وهو خارج عن
موضوع الدعوى، أما ملكية المدعي للمال المقر به فهي بقاء لملكيته للعوض
سابقا، وهي مباينة للملكية المقر بها، ولا يدعي صاحب اليد انقطاعها، بل بقاءها
على المملوك الأول.
لكن فيه.. أولا: أن قيام الملكية ونحوها من الإضافات بطرفيها راجع إلى
تشخيصها بهما، المستلزم لتبدلها بتبدل أحدهما، فيمتنع بقاؤها في الجميع.
وثانيا: أن بقاء إضافة الملكية وحده لا يكفي في الفرق، لان المقر به ليس
هو الإضافة الخاصة على سعتها، بل الإضافة حال كون طرفها المورث، فتسريتها
لحال صيرورتها للوارث المدعي ليس مقتضى الاقرار، بل مقتضى الاستصحاب
388

بلحاظ ترتب قيام الوارث مقام المورث على بقائها، وهو مشترك بين الجميع
لفرض ترتب ملكيتهم على بقاء ملكية المقر له.
وثالثا: أن الملاك في انقلاب الدعوى ليس وحدة الامر المقر به، بل
عموم دليله.
وقد تقدم منا أن المتيقن منه ما إذا كان المقر له هو المدعي بنفسه، حيث
يتعلق به السبب الناقل الذي يتوقف عليه ملكية صاحب اليد، ولا يعم الوارث.
ولو كان الوجه فيه ما أشار إليه هو قدس سره من رجوع دعوى صاحب اليد
الملكية الفعلية مع إقراره بسبق ملكية المدعي إلى دعوى تحقق السبب الناقل
الذي هو خلاف الأصل، لجرى في كل من تترتب ملكيته على بقاء ملكية المقر
له أيضا.
هذا، وبما ذكرنا يظهر أنه لا مجال لدعوى: منافاة انقلاب الدعوى بالاقرار
لما تضمنه صحيح عثمان وحماد من حجية يد الصديقة عليها السلام مع إقرارها بسبق
ملكية أبيها النبي صلى الله عليه وآله لها وعدم انقلاب الدعوى بذلك.
ووجه عدم المنافاة أن الخصم المدعي معها ليس هو المقر له صلى الله عليه وآله بل
المسلمون الذين تترتب ملكيتهم على بقاء ملكيته، بناء على ما ادعاه أبو بكر من
عدم توريث الأنبياء.
مع أن مطالبتهم لها عليها السلام بالبينة وكتابتهم في أول الامر لها كتابا بفدك - كما
تضمنه صدر الحديث - إن لم يكونا موجبين لظهور ابتناء دعواهم على الشك
اعتمادا على استصحاب عدم النحلة - التي ادعتها عليها السلام - لا على اليقين بعدمها،
لامكان ابتنائها على عدم جواز حكم الحاكم بعلمه، فلا أقل من كونها موجبة
لاحتمال ذلك، ولا سيما مع سبق يدها عليها السلام حيث يصعب جدا دعواهم العلم
بكذبها، وقد عرفت عدم جواز الدعوى حينئذ من المقر له، فضلا عمن تترتب
ملكيته على بقاء ملكيته.
389

الثالث: أشرنا آنفا إلى أن صاحب اليد الفعلية يقبل قوله وينفذ تصرفه في
ما تحت يده ظاهرا وإن لم يكن مالكا.
والظاهر اختصاص ذلك بما إذا لم ينكر المالك إيقاع السبب الموجب
لسلطنته كالتوكيل ونحوه، وإلا سقط قوله عن الحجية ولزم الرجوع للأصل
الجاري في المقام، الذي هو..
تارة: يوافق قول المالك، كما لو ادعى صاحب اليد التوكيل أو المضاربة
بالمال فأنكرهما المالك.
وأخرى: يوافق قول صاحب اليد، كما لو ادعى المالك إبلاغ الوكيل
بالعزل أو اشتراط شئ على عامل المضاربة، فأنكر الوكيل والعامل.
وكأنه لا إشكال بينهم في ذلك، كما يشهد به الفروع التي حرروها للتنازع
في كثير من العقود، ويكفي فيه تصور السيرة - التي هي عمدة الدليل على قبول
قول صاحب اليد الفعلية ونفوذ تصرفه - عن الصورة المذكورة. وقد تشهد به
بعض النصوص التي قد يعثر عليها الفاحص المتتبع.
المسألة الثانية: من الظاهر أن حجية اليد على الملكية تختص بما إذا
كانت مجهولة الحال ولم يعلم أنها مالكية أو غيرها.
وحينئذ لو أحرز أن صاحب اليد قد أخذ الشئ سابقا لا على وجه
الملك، بل غصبا أو أمانة واحتمل ملكه له بعد ذلك فقد صرح غير واحد بعدم
حجيته يده.
قال في المبسوط: " إذا علمت سبب يد المدعى عليه، فقالت البينة: نشهد
أنه كان في يده وأن الذي هو في يده أخذه منه أو غصبه إياها أو قهره عليها،
فحينئذ يقضى للمدعي بالبينة، لأنها شهدت له بالملك وسبب يد الثاني... ".
وقال في الشرايع: " لو شهدت بينة المدعي أن صاحب اليد غصبها أو
استأجرها منه حكم بها، لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني ". ونفى في
390

المسالك والجواهر الخلاف في الحكم.
وكلام المبسوط مختص بما إذا علم اتحاد اليد واستنادها حدوثا للسبب
المذكور بمقتضى البينة، أما كلام الشرايع فإطلاق صدره يشمل ما لو احتمل
تبدل اليد، بأن أرجع صاحب اليد العين بعد الغصب أو الإجارة ثم أخذها
بالملك، إلا أنه يلزم الخروج عنه بالتعليل في ذيله، المختص بما إذا علم اتحاد
اليد، إذ في غير ذلك لا تصلح البينة لبيان سبب اليد، كي تسقطها عن الحجية.
لكن ظاهر الجواهر أنه فهم منه العموم " لاستدلاله بأن الأصل عدم تجدد
يد أخرى غير الأولى، وعدم تجدد ما يوجب انقلاب اليد الأولى من غير
المالكية للمالكية.
ومن الظاهر أن جريان الأصل الأول مختص باحتمال تعدد اليد، والثاني
مختص باحتمال انقلاب حال اليد مع، فرض وحدتها.
وكيف كان، فيشكل التمسك بالأصل الأول بأنه لا يحرز كون اليد الحالية
بقاء لليد الأولى غير المالكية إلا بناء على الأصل المثبت، فلا يخرج به عن أصالة
كون اليد الفعلية مالكية، الذي هو عبارة أخرى عن حجية اليد على الملكية.
كما استشكل في الثاني بأنه محكوم لليد الفعلية، لان مقتضى أماريتها
على الملكية صيرورتها مالكية وتبدلها عما كانت عليه.
وقد دفعه بعض الأعاظم قدس سره بأن موضوع الحجية هو اليد المجهولة الحال
غير المعلومة العنوان من كونها يد إجارة أو أمانة أو غصب، واستصحاب حال
اليد محرز لتعنونها بأحد العناوين المذكورة، فتخرج بسببه عن موضوع الحجية
تعبدا ويكون حاكما عليها.
لكن أورد عليه بعض الأعيان المحققين قدس سره بأن اليد كسائر الامارات ليس
الجهل مأخوذا في موضوعها، كما في الأصول التعبدية، بل هو مورد لحجيتها،
فلا ينهض الاستصحاب المذكور بالحكومة عليها، لان ارتفاع الجهل به تعبدا لا
391

يوجب ارتفاع موضوع الحجية فيها، بل لو تم عموم حجيتها كانت هي الحاكمة
على الاستصحاب.
وفيه: أن الفرق بين أخذ الجهل في موضوع الحجية وكونه موردا لها لا
يرجع إلى محصل، بل إن كانت الحجية منوطة به كان جزءا لموضوعها، وإلا لم
يكن موردا لها.
نعم، قد يستفاد ذلك من كلماتهم في توجيه الفرق بين الامارة والأصل
التعبدي، لتوجيه حكومتها عليه ورفعها لموضوعه تعبدا دون العكس، مع كون
كل منهما رافعا للجهل تعبدا، جريا على مبانيهم في توجيه الجمع بين الامارة
والأصل.
ولابد من رجوعه إلى أن دليل الأصل لما كان متضمنا لاخذ الجهل بعنوانه
في موضوع الأصل كان دليل الامارة المتضمن لرفع الجهل تعبدا ناظرا إليه
وحاكما عليه لتصرفه في موضوعه ورفعه له بعنوانه تعبدا.
أما الامارة فحيث لم يتضمن دليلها أخذ الجهل بعنوانه في موضوع
حجيتها فدليل الأصل وإن كان رافعا للجهل تعبدا لا يكون ناظرا إليها ولا حاكما
عليها، لعدم تصرفه في موضوعها بعنوانه.
غاية الامر أن استحالة جعل الحجية مع العلم موجب لتخصيص حجيتها
لبا بصورة الجهل الحقيقي، وهو باق في فرض التعبد بالأصل.
وهذا - كما ترى - مختص بفرض إطلاق دليل حجية الامارة، ولا يمنع من
أخذ الجهل في موضوع بعض الامارات، ولا يخرجها ذلك عن الا مارية، كما هو
الحال في الظن الانسدادي بناء على الكشف وفي القرعة على بعض
الاحتمالات.
ولعل ذلك هو المدعى لبعض الأعاظم في المقام، ولا تهافت في كلامه.
نعم، يشكل ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من وجوه..
392

الأول: أن لازمه حكومة استصحاب كون اليد مالكية في فرض العلم
بسبق ذلك على حجية اليد، لارتفاع الجهل بحال اليد تعبدا بسببه، فلا تكون اليد
حجة، بل الحجة هو استصحاب الملكية لا غير، ولا يظن به ولا بغيره الالتزام
بذلك، لمنافاته للمرتكزات جدا.
الثاني: أن مقتضاه التعارض بين الاستصحاب المذكور وحجية اليد،
لاخذ الجهل في موضوع كل منهما وصلوحهما معا لرفع الجهل تعبدا على
مبانيهم، فكما أن حجية اليد مشروطة بالجهل بحالها والاستصحاب يحرز أنها
غير مالكية، كذلك استصحاب كون اليد مالكية مشروط بالجهل ببقاء حال اليد
السابقة، ومقتضى إحراز اليد للملكية أنها مالكية فعلا وقد انقلبت عما كانت
عليه.
نعم، لا مجال للاشكال المذكور - لو تم ما ذكره من أن إحرازها للمالكية
متفرع على إحرازها للملكية ومتأخر عنه رتبة - لان الاستصحاب لما كان رافعا
لموضوع حجيتها على الملكية كان جاريا في الرتبة السابقة لاحرازها للمالكية،
فيمنع منه، ولا رافع لموضوع الاستصحاب حينئذ.
لكن الظاهر عدم تماميته، إذ ليس المراد بمالكية اليد إلا مالكية صاحبها،
مع وضوح التضايف بين ملكية الشئ لصاحب اليد ومالكية صاحبها له بنحو
يكون التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر عرفا، لا ملازما له ومتفرعا عليه.
ولولا ذلك أشكل إحراز مالكية اليد حتى في فرض إحرازها للملكية، لما
تقدم من عدم حجية اليد في لوازم الملكية وإن كانت أمارة.
ومنه يظهر أن مرجع دعوى أخذ الجهل بحال اليد في موضوع حجيتها
إلى دعوى أخذ الجهل بالملكية في موضوع حجيتها، لكن بنحو يكون من
شؤونها المحمولة عليها، فلا يكفي في الحكومة عليها استصحاب عدم الملكية
بمفاد ليس الناقصة الذي هو مفاد السالبة المحصلة - والذي يجري ذاتا في أغلب
393

موارد اليد، كما تقدم - بل لابد من استصحابه بمفاد كان الناقصة، الذي هو مفاد
الموجبة المعدولة.
الثالث: أن إطلاق موضوع الحجية تابع لدليلها، فان كان هو النصوص
السابقة فمن الظاهر عدم تضمنها أخذ الجهل بعنوانه قيدا في الموضوع.
وإن كان هو الأدلة اللبية من الاجماع والسيرة ونحوهما فهي لا تتعرض
غالبا لاخذ الخصوصيات العنوانية، بل المدار فيها على المعنون، فان استفيد منها
اعتبار الجهل الحقيقي، لاستحالة جعل الحجية مع العلم، كانت اليد كسائر
الامارات حاكمة على الاستصحاب لا محكومة له، وإن استفيد منها اعتبار الجهل
بمعنى فقد الحجة لم يكن الاستصحاب حاكما على اليد، بل كان واردا عليها،
لرفعه لموضوع حجيتها حقيقة، كوروده على الأصول العقلية.
الرابع: أن ما ذكره مبني على ما ذكره غير واحد من نهوض أدلة التعبد
الشرعي في الامارة والأصل برفع الجهل تنزيلا أو تعبدا، وهو مخالف للتحقيق،
وليس تقديم الامارة على الأصل لذلك، بل لجهات أخرى تجري في اليد أيضا
لو فرض عموم حجيتها.
فالتحقيق: أن عدم حجية اليد في المقام ليس لحكومة الاستصحاب أو
وروده عليها، بل لعدم المقتضي لها رأسا، لقصور دليل حجيتها عن صورة العلم
بعدم مالكية صاحب اليد حين حدوث يده، لنظير ما تقدم في المسألة الأولى من
قصور السيرة الارتكازية عنه بعد عدم الاطلاق في دليل حجيتها عدا ما تضمنه
موثق حفص، وهو لا ينهض في مورد قصور السيرة، ولذا لا تكون حجة حتى لو
فرض عدم جريان الاستصحاب.
والظاهر أن ذلك لا يختص بصورة العلم بوحدة اليد، بل يجري مع
احتمال تعددها، فلا يعتنى بالاحتمال المذكور، لا لأجل استصحاب عدم تجدد
يد أخرى - كما تقدم من الجواهر - بل لعموم بناء العقلاء على عدم الحجية.
394

نعم، مع العلم بتعاقب اليدين المالكية وغيرها والجهل بتاريخهما لا يبعد
حجية اليد، بل هو المطابق للمرتكزات العقلائية.
ثم إن الظاهر أن عدم حجية اليد في محل الكلام لا يتوقف على الدعوى،
بل يجري في حق كل من علم بسبق عدم ملكية صاحب اليد حين وضع يده أو
قامت عنده الحجة عليه.
وبهذا كان بين موضوع هذه المسألة وموضوع المسألة السابقة عموم من
وجه، فيجتمعان فيما لو علم بسبق ملكية المدعي وعدم ملكية صاحب اليد
حين وضع يده، وتفترق تلك فيما لو علم بسبق ملكية المدعي واحتمل مالكية
صاحب اليد حين وضع يده، وتفترق هذه فيما لو علم بعدم ملكية صاحب اليد
حين وضع يده من دون أن يدعي عليه المالك السابق.
ولولا هذا لكان الحكم بعدم الحجية في هذه المسألة أولى منه في المسألة
الأولى، وكان الأنسب تقديمها عليها.
نعم، لا يبعد قبول قول صاحب اليد لو ادعى تجدد ملكيته بعد وضع يده،
أو مع تجدد اليد في غير مورد الدعوى، ولا سيما إذا لم يسبق منه العدوان، بل
كانت يده أمانية.
كما لا ينبغي الاشكال في البناء ظاهرا على نفوذ تصرف من سبقت منه
اليد الأمانية وإن لم يدع الملكية، ولابد من التأمل في أطراف المسألة. والله
سبحانه ولي العصمة والسداد.
المسألة الثالثة: الظاهر أن حجية اليد على ملكية صاحبها لا تختص
بالغير، بل تجري في حق صاحب اليد نفسه لو شك في ملكيته لما تحت يده.
لعموم الجهات الارتكازية المقتضية لحجية اليد. ولا سيما بعد ما تقدم في
المقام الأول من عدم توقف حجية اليد على دعوى صاحبها للملكية، إذ لا يحرز
بناؤه على الملكية مع عدم دعواه، فينحصر المصحح للبناء عليها باليد،
395

وخصوصية الغير في ذلك ملغية ارتكازا.
وأما النصوص فأكثرها وارد لبيان حكم الغير، ولا إطلاق له يشمل
الحجية في حق صاحب اليد نفسه لظهور نصوص التداعي في حجية اليد في
فرض التخاصم من صاحبها، بنحو تجعله منكرا، ولا تدل على جواز اعتماد
صاحبها عليها في التخاصم.
ومثلها في ذلك نصوص جوائز السلطان، وشراء العبد من السوق،
لظهورها في حجية اليد في فرض دفع الجائزة وتعريض العبد للبيع من صاحب
اليد، ولا تدل على جواز اعتماده عليها فيهما. واختصاص موثقتي حفص
ويونس بمن يشهد لصاحب اليد وبوارثه، دون صاحب اليد نفسه.
نعم، تستفاد حجية اليد في حق صاحبها من صحيح جميل بن صالح،
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: " رجل وجد في منزله دينارا. قال يدخل منزله غيره؟
قلت: نعم، كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا. قال:
يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا. قال: فهو له " (1) فإن
اختصاص الصندوق بالانسان لا يوجب العلم بملكية ما فيه - خلافا لما عن
المستند - لامكان كونه أمانة أو نحوها.
هذا، وفي الرياض أن مقتضى إطلاق النص والفتوى عموم الحكم لصورة
العلم بأنه ليس له سابقا، وأن الأولى العمل بالاطلاق المذكور ولو لاحتمال كونه
رزقا بعثه الله إليه، وعليه يخرج عما نحن فيه، لعدم ابتناء الاطلاق المذكور على
حجية اليد، ليكون دليلا عليها في المقام.
لكنه في غاية الاشكال، لان الغفلة عن كونه رزقا بعثه الله تعالى إليه، وعدم
الاعتداد باحتماله في فرض الالتفات إليه يوجب انصراف إطلاق السؤال عنه،
واختصاصه باحتمال كونه له سابقا، وهو كاف في تقييد الجواب، والمرتكز

(1) الوسائل، ج 17 باب: 3 من أبواب اللقطة حديث: 1.
396

حينئذ ابتناؤه على حجية اليد، بل هو كالمقطوع به من إطلاق الفتوى.
ويدل أيضا على عموم حجية اليد إطلاق صحيح محمد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام: " سألته عن الدار يوجد فيها الورق. فقال: إن كانت معورة فيها
أهلها فهي لهم، وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحق
به " (1) ونحوه صحيحه الاخر (2)، لشمول إطلاقهما لما لو لم يعلم أهل الدار أن
الورق لهم، فيكون ظاهرهما جواز ترتيبهم آثار الملكية بمجرد اليد.
هذا، وقد يستشكل في ذلك بلزوم تقييد الصحيحين بصحيح إسحاق بن
عمار: " سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحوا
من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف
يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال:
يتصدق بها " (3) ونحوه صحيحا الحميري في الصرة التي توجد في جوف الدابة
من تعريف البايع، فإن عرفها وإلا فهي للواجد (4).
لظهورها في توقف الحكم بملكية صاحب اليد السابقة على معرفته
للمال.
وأما صحيح جميل فصدره مناف لظاهر ذيله، فإن دخول الكثير للدار لا
يمنع من تحقق يد صاحبها عليها وعلى ما فيها.
وما ذكره السيد الطباطبائي في العروة الوثقى من ظهوره في فرض العلم
بأن الدينار ليس لصاحب الدار غير ظاهر المأخذ.
بل ظاهر استفسار الإمام عليه السلام في الذيل عن وضع الغير في الصندوق أنه لا

(1) الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 1.
(2) الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 2.
(3) الوسائل، ج 17 باب: 5 من أبواب اللقطة حديث: 3.
(4) الوسائل، ج 17 باب: 9 من أبواب اللقطة حديث: 1، 2.
397

يحكم معه بملكية صاحب الصندوق للدينار معه، فيطابق المصدر.
ومن هنا فقد استدل في محكي المستند بالصحيح على عدم حجية اليد
في حق صاحبها بعد ما تقدم منه من حمل الحكم بملكية الدينار لصاحب
الصندوق المختص على العلم بأنه له.
لكنه في غير محله، لما تقدم من عدم ملازمة الاختصاص للعلم بذلك.
فالأولى الاقتصار في الصحيح على مورده أو الالتزام باجماله مع كون
وجه البناء على عدم حجية اليد في حق صاحبها هو صحاح إسحاق والحميري
التي يجب رفع اليد بها عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم.
اللهم إلا أن يقال: إدخال الغير يده في الصندوق ووضعه المال فيه من
تحقق اليد لصاحبه على ما فيه، لرجوعه إلى كونه معدا لايداع الكل، فلا يكون
تابعا عرفا لصاحب الصندوق وحده، لتثبت يده عليه.
ولأجل ذلك يقرب كون الذيل قرينة على حمل الصدر على كون دخول
الكثير للمنزل بنحو يمنع أيضا من صدق اليد في حق صاحبه على الدينار
الموجود فيه، بأن يكون معدا للدخول العام، كبعض الدواوين والبرانيات، فإن
صاحبه لا يكون صاحب يد على مثل الدينار مما ليس من شأنه أن يطرح فيه،
ولا يكون من توابعه عرفا، بل تختص بمثل الأثاث ونحوه من لواحق المنزل
التي من شأنها أن توضع فيه، وذلك هو المحتاج للسؤال، وأما مجرد دخول
الغير للمنزل مع تحجيبه فهو مما لا يخلو عنه منزل غالبا، فيبعد السؤال
عنه.
ومن هنا يشكل رفع اليد عن ظهور الصحيح في حجية اليد في حق
صاحبها.
كما لا مجال لرفع اليد عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم بصحاح
إسحاق والحميري، لعدم وضوح تحقق اليد التي هي المعيار ارتكازا في الا مارية
398

على الملكية بالإضافة إلى مورد الصحاح المذكورة.
وتوضيح ذلك: أن مجرد تبعية الشئ خارجا لما تحت اليد لا يكفي في
صدق اليد التي هي محل الكلام بالإضافة إليه، بل لابد فيه إما من كون وضعه
بنحو التبعية طبيعيا متعارفا، كحافر الدابة وسرجها وأخشاب بناء الدار الظاهرة
أو المدفونة فيها، أو كونه مقصودا لصاحب اليد، بحيث يجعل استيلاءه عليه
بطريق تبعيته لما في يده، كما لو دفن الشخص ماله في داره أو جعله في جوف
دابته.
أما إذا لم يكن وضعه طبيعيا ولم يكن مقصودا لصاحب اليد فلا تصدق
اليد التي هي محل الكلام، وإن تحقق الاستيلاء الخارجي تبعا من دون قصد،
كالمال الذي يلتصق بحافر الدابة عند مشيها، والطائر الذي ينحبس في الدار
صدفة ونحوهما.
فإذا احتمل في مثل ذلك استناده للمالك لم تحرز اليد، ومنه مورد
الصحاح المذكورة.
وحينئذ إذا لم يعرف صاحب اليد على المدار والدابة المال قطع بعدم
استناده إليه، إذ ليس من شأنه أن يجهله لو استند وضعه إليه، فيقطع بعدم ثبوت
اليد له عليه، وإن احتمل كونه ملكا له.
على أنه لو فرض تحقق اليد في مورد هذه الصحاح فمقتضاها عدم
حجية اليد حتى بالإضافة إلى الغير وهو خلاف صريح موثق يعقوب المتضمن
حجية اليد مع موت صاحبها، بل لعله لا يقول به الخصم.
فلابد من الاقتصار على مورد الصحاح المذكورة وعدم التعدي عنها، كي
يخرج بها عن إطلاق صحيحي محمد بن مسلم وصحيح جميل المعتضدة
بعموم السيرة الارتكازية، كما ذكرنا.
المسألة الرابعة: ذكر بعض الأعاظم قدس سره أن اليد لا تكون حجة على الملكية
399

مع العلم بسبق كون ما تحتها وقفا غير قابل للانتقال إلا بطروء مسوغ، لأنها أمارة
على تحقق سبب الانتقال في ظرف قابلية المحل له، لا على تحقق القابلية
المذكورة، بل لابد من إثباتها من الخارج، فمع عدمه يكون مقتضى استصحاب
عدم طروء ما يسوغ بيع الوقف خروج المورد عن موضوع حجية اليد، فيكون
حاكما عليها.
وبه يفترق عن استصحاب عدم تحقق البيع، فإنه لما لم يوجب خروج
المورد عن عموم حجية اليد لم يصلح للحكومة عليها، بل تكون اليد هي
الحاكمة عليه، كما تحكم عليه سائر الامارات.
ونظير الاستصحاب المذكور في المقام استصحاب خمرية الخمر، فإنه
مخرج للمال تعبدا عن قابلية التملك، فيرتفع به موضوع حجية اليد، ولا تنهض
اليد بإثبات ملكية المايع، فضلا عن ارتفاع خمريته.
لكن ما ذكره من أخذ قابلية المال للانتقال في موضوع حجية اليد غير
ظاهر الوجه بعد عموم بعض أدلة الحجية، كموثق حفص، المناسب لعموم
السيرة الارتكازية.
ودعوى: اختصاصها بما إذا أحرزت القابلية المذكورة.
ممنوعة جدا، ولا سيما بملاحظة ان عدم قابلية المال للانتقال بسبب
الوقفية ونحوها أمر تعبدي محض، وليس ارتكازيا عقلائيا، فلا معنى لان يناط
به مثل حجية اليد من الأمور العقلائية الارتكازية، لعدم السنخية.
وأما توقف بعض المتحرجين عن شراء المال حينئذ وترتيب آثار
الملكية عليه فمن القريب أن يكون احتياطا محضا ناشئا عن التورع أو عن
الاطمئنان في كثير من الموارد بعدم المسوغ مع سهولة الاحتياط، ولم يتضح
تفرعه على البناء على عدم حجية اليد.
على أنه يكفي في بطلان ما ذكره النصوص الكثيرة والسيرة القطعية على
400

ترتيب آثار الرق على ما تحت اليد، وإن احتمل حريته، بل وإن ادعاها، مع أن
الحرية هي مقتضى الأصل، والحر لا يقبل الملكية، بل هو أشد من الوقف.
وقد فرق قدس سره بينهما بأن المفروض في المقام العلم بسبق الوقفية، ولا يعلم
بسبق الحرية لمن هو تحت اليد، بل ليس فيه إلا أصالة الحرية المختصة بغير ما
يكون تحت اليد، ولا تجري في ما يكون تحت اليد، بل اليد أمارة على رقيته.
لكنه مخدوش..
أولا: بأن مقتضى ما ذكره لزوم إحراز قابلية المال للتملك في حجية اليد
على ملكيته، لا مجرد عدم إحراز خروجه عن القابلية المذكورة، ومن الظاهر أنه
لا محرز للرقية لولا اليد.
وثانيا: بأن اختصاص أصالة الحرية بغير ما يكون تحت اليد ليس
لقصورها ذاتا عن مورد اليد، لاطلاق نصوصها، بل لتقديم اليد عليها، الكاشف
عن نهوض اليد باثبات قابلية المال للتملك.
ولذا لا ريب في أنه لو سقطت اليد عن الحجية ولو بالمعارضة لكان
الأصل الحرية، كما تضمنه صحيح حمران: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن جارية لم
تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادعى الرجل أنها مملوكة له، وادعت
المرأة أنها ابنتها. فقال: قد قضى في هذا علي عليه السلام... كان يقول: الناس كلهم
أحرار إلا من أقر على نفسه بالرق وهو مدرك، ومن أقام بينة على من ادعى - من
عبد أو أمة - فإنه يدفع إليه... " (1).
وأما ما ذكره قدس سره من أن استصحاب الخمرية مانع من البناء على ملكية ما
تحت اليد.
فليس الوجه فيه قصور اليد عن إثبات الملكية عند الشك في قابلية المال
للتملك، بل لان اليد لا تحرز الملكية بخصوصيتها، ولذا لا تكون اليد على مثل

(1) الوسائل، ج 18 باب: 12 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 9.
401

الخمر القابل للتخليل كاذبة، بل تحرز أحد الامرين من الملكية وحق
الاختصاص، الذي هو نحو من الملكية عرفا ومن مراتبها - كما تقدم - وتعيين
أحد الامرين تابع لحال المال الذي تحت اليد، لا لليد، فإذا كان هناك أصل يحرز
عدم قابلية المال للتملك لم يكن البناء على ثبوت حق الاختصاص فيه دون
الملكية منافيا لليد، كي يرجع إلى تقديم الأصل على اليد، بل هو شارح لحال
موضوعها، بخلاف المقام، لان بقاء الوقفية مناف لمؤدى اليد، لرجوعه إلى
كونها أجنبية وبلا حق.
وبالجملة: لا مجال في المقام لدعوى قصور اليد عن إحراز الملكية، بل
هي تنهض بذلك. ومجرد كون منشأ الشك في الملكية الشك في قابلية المال
للتملك - بالمعنى المذكور - غير ضائر، لعموم حجية اليد لمثل ذلك.
نعم، لابد في حجية اليد في محل الكلام من عدم دعوى الموقوف عليهم
بقاء الوقف، وعدم سبق استيلاء صاحب اليد بوجه غير مملك من أمانة أو
عدوان بنحو يحتمل كون يده الفعلية بقاء لتلك اليد، وإلا جرى ما تقدم في
المسألة الأولى والثانية، لعدم اختصاص ملاكهما بفرض ملكية العين للغير
سابقا، بل يعم مثل المقام، مما كان المال فيه موردا لحق الغير.
402

خاتمة
تعرض غير واحد ممن كتب في هذه القاعدة لأمور خارجة عن حجية
اليد على الملكية، كجواز الشهادة اعتمادا على اليد، وحكم اليد في التداعي من
حيثية تعيين المدعي من المنكر، وحجية اليد في غير الملكية كالولاية والعرض
والنسب، وحجية يد المسلم على التذكية، وحجية إقرار ذي اليد للغير، وقبول
قوله في شؤون ما تحت يده من طهارته ونجاسته ونحوهما، وسببية اليد
للضمان.
والبحث عن هذه الأمور وإن كان موردا للفائدة، إلا أن خروجها عما هو
محل الكلام في هذه القاعدة، وعدم مسانختها له في الأدلة، وطول الكلام فيها،
وتحرير كثير منها في محالها من أبواب الفقه، حدانا لاهمالها في المقام.
كما أنهم تعرضوا أيضا لاحكام التعارض بينها وبين غيرها،
كالاستصحاب والبينة والاستفاضة.
وذلك وان كان من المهمات المتعلقة بما نحن فيه، إلا أن البحث في
تقديمها على الاستصحاب قد تقدم في المقام الثاني.
وتقديم البينة عليها من الوضوح بحد يستغنى معه عن البحث، كتقديم
الاستفاضة العلمية عليها.
وأما الاستفاضة غير العلمية فالبحث في حالها معها مبني على حجيتها
مطلقا أو في خصوص بعض الموارد، وهو أجنبي عن محل الكلام، فلا مجال
للبحث عنه هنا.
نعم، لو لم يكن هناك عموم يقتضي حجية اليد، بل المتيقن حجيتها في
الجملة لم يكن البحث المذكور مبنيا على حجية الاستفاضة، لرجوعه إلى حجية
اليد في مورد الاستفاضة ذاتا، لا سقوط إحداهما بالمعارضة.
403

لكن ما تقدم من الأدلة واف بالعموم من هذه الجهة، فلابد من البناء على
عدم الخروج عنها إلا في مورد يعلم بتقديم الاستفاضة عليها، لان دليل حجية
الاستفاضة لو تم في مورد فهو لبي يقتصر فيه على المتيقن، فعمومه لمورد اليد
مساوق للعلم بعدم حجية اليد على خلافها لقصور عمومها أو تخصيصه.
وهذا جار في جميع الحجج التي لا عموم في دليلها إذا عارضت اليد. أما
لو كان لدليلها عموم كما لدليل اليد عموم لزم النظر في ما يعين أحد العمومين
للعمل في مورد التنافي من المميزات الدلالية والخارجية ولا ضابط لذلك، كما
لا يسعنا تحري الموارد وتشخيص حالها، بل يوكل لوقت الابتلاء بذلك. والله
سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد، والحمد له وحده. والصلاة والسلام على
من لا نبي بعده محمد وآله الطيبين الطاهرين.
404

الفصل الثاني
في قاعدة التجاوز والفراغ
إنما جعلنا هذا العنوان لهذه القاعدة لوقوع الكلام بينهم في أن مفاد الأدلة
قاعدتان موضوع إحداهما الفراغ وموضوع الأخرى التجاوز، أو قاعدة واحدة
موضوعها الجامع بين الامرين. ويأتي الكلام في ذلك في المقام الثاني عند
الكلام في مفهوم القاعدة.
وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل الراجعة إلى أنه
لا يعتنى بالشك في العمل إلا أن يكون في المحل قبل صدق التجاوز والفراغ.
وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي فهي تجري في الشبهة
الموضوعية، دون الحكمية، فلا تكون مسألة أصولية، بل قاعدة فقهية ظاهرية.
والكلام فيها..
تارة: في دليلها.
وأخرى: في تحديد مفهومها تفصيلا.
وثالثة: في سعة كبراها. فالبحث في مقامات ثلاثة، على نحو ما جرينا
عليه في قاعدة اليد.
المقام الأول: في دليل القاعدة، وقد يستدل عليها بأمور..
الأول: النصوص الكثيرة العامة والخاصة ببعض الموارد. فمن النصوص
العامة موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: " قال: كل ما شككت فيه مما قد،
405

مضى فأمضه كما هو " (1)، وصحيح زرارة: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في
الاذان وقد دخل في الإقامة. قال: يمضي. قلت: رجل شك في الأذان والإقامة
وقد كبر. قال: يمضي... ثم قال: يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره
فشكك ليس بشئ) (2) وصحيح إسماعيل بن جابر: (قال أبو جعفر عليه السلام: إن
شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض
كل شئ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه " (3). ولا يصلح
الصدر في الأخيرين لتخصيص عموم الذيل فيهما بأفعال الصلاة، لان المورد لا
يخصص الوارد، ولا سيما مع كون العموم ارتكازيا.
وفي موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال: إذا شككت في شئ
من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشئ، إنما الشك إذا كنت في
شئ لم تجزه) (4).
لكنه يشكل: بأنه لا مجال للعمل به في مورده، وهو الوضوء، لوجوب
الاعتناء بالشك في أجزائه قبل الفراغ منه، كما يأتي إن شاء الله تعالى، ولا يكفي
مضي محل الجزء ما دام مشغولا بالوضوء، والعام المخصص في مورده ليس
بحجة.
اللهم إلا أن يحمل التبعيض في قوله عليه السلام: (من الوضوء) على التبعيض
بلحاظ الوحدة النوعية، لا بلحاظ الوحدة الاعتبارية، فيكون البعض هو الفرد من
الكلي، لا الجزء من الكل، ويكون مفاد الصدر الذي هو مورد العموم الذي في
الذيل عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه، وهو مما اتفق فيه النص

(1) الوسائل، ج 5 باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 3.
(2) الوسائل باب: 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.
(3) الوسائل باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 4.
(4) الوسائل باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 2.
406

والفتوى، لا عدم الاعتناء بالشك في بعض أجزائه عند الدخول في ما بعده منها،
كي يستلزم البناء على الاعتناء بالشك فيه خروج المورد.
نعم، لما كان هذا من أفراد العام أيضا لزم تخصيص العام في فرد غير
المورد، وليس هو محذورا مسقطا للعموم عن الحجية.
لكن لابد من كون الحمل المذكور عرفيا ولو للجمع بينه وبين ما دل على
الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء، ولا يكفي الالتجاء إليه لأنه أولى من الطرح،
ولا يخلو عن إشكال.
ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الحديث في المقام الثالث عند
ومما يستفاد منه العموم ما عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: " قال: إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على
اليقين، ويقضي الحائل والشك جميعا، فإن شك في الظهر فيما بينه وبين أن
يصلي العصر قضاها، وإن دخله الشك بعد أن يصلي العصر فقد مضت إلا أن
يستيقن، لان العصر حائل فيها بينه وبين الظهر، فلا يدع الحائل لما كان من
الشك إلا بيقين " (1) وصحيح زرارة والفضيل عنه عليه السلام: " فإن شككت بعد ما خرج
وقت الفوت فقد دخل حائل، فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن " (2).
لظهورهما - ولا سيما الأول - في أن الحائل علة لعدم التدارك، فيتعدى عن
مورده لكل حائل يتحقق معه مضي محل الشك، أو التجاوز عنه، على ما يأتي
توضيحه.
هذا ما عثرنا عليه من النصوص العامة.
وهناك جملة من النصوص المختصة ببعض الموارد الصالحة لتأييد

(1) الوسائل، ج 3 باب: 6 من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة حديث: 2.
(2) الوسائل، ج 3 باب: 6 من أبواب المواقيت حديث: 1.
407

العموم، كموثق بكير أو صحيحه: " قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال: هو
حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " (1) وغيره مما ورد في الشك في الوضوء وفي
أفعال الصلاة (2).
الثاني: الاجماع.
ولا يخفى أنه لا مجال لدعوى الاجماع الفتوائي، لعدم تحرير القاعدة في
كلامهم، إلا أن ملاحظة كلماتهم في أبواب الفقه قد تشهد بالاجماع الارتكازي
منهم، فقد صرحوا بعدم الاعتناء بالشك في عدد الأشواط بعد الفراغ من
الطواف، بل نفي الخلاف في ذلك مع عدم النص المعتد به فيه.
كما أن الظاهر رجوع قاعدة الصحة في العقود والايقاعات التي ينحصر
دليلها بالاجماع والسيرة إليها.
لكن المتيقن من ذلك الشك بعد الفراغ من العمل الارتباطي، ولا طريق
لتحصيل الاجماع على عدم الاعتناء بالشك في حصول الجزء بعد الدخول في
غيره قبل الفراغ من المركب الارتباطي الذي هو مورد قاعدة التجاوز بناء على
تعدد القاعدتين، لعدم تصريح لهم بذلك معتد به إلا في الصلاة التي هي مورد
النصوص الخاصة.
نعم، قد يتجه ذلك بناء على اتحاد القاعدتين ورجوعهما لجامع ارتكازي
واحد.
لكنه لا يبلغ مرتبة الاستدلال بعد فرض قصور تصريحاتهم، بل في
صلوح الاجماع للاستدلال حتى بالإضافة إلى ما بعد الفراغ إشكال.
الثالث: سيرة العقلاء الارتكازية على عدم الاعتناء بالشك بعد مضي

(1) الوسائل، ج 1 باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 7.
(2) راجع الوسائل، ج 1 باب: 43 من أبواب الوضوء. و ج 4 باب: 13 من أبواب الركوع و ج 5 باب:
23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
408

محل المشكوك.
ولا مجال لانكارها بعد التأمل في المرتكزات وملاحظة مبانيهم في موارد
قاعدة الصحة التي يجمعها معها جامع ارتكازي واحد، فإن الظاهر ابتناء
الاجماع على قاعدة الصحة على الارتكازيات العقلائية، فهي قاعدة إمضائية لا
تأسيسية، ولا سيما مع فقد الأدلة النقلية التعبدية فيكشف عن قوة الجهة
الارتكازية المذكورة ووضوحها بنحو أوجب تسالم الفقهاء عليها في مقام
العمل.
هذا تمام ما يمكن الاستدلال به للقاعدة، وعمدته النصوص العامة التامة
السند والدلالة، وإنما تعرضنا لما عداها لتأييد عمومها وتقريب مضمونها.
المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة تفصيلا.
والكلام في ذلك يبتني على الكلام في أن المستفاد من نصوص المقام
قاعدتان مختلفتان بالحدود المفهومية، أو قاعدة واحدة تعم بمفهومها كلا
القاعدتين، أو تختص بإحداهما مع إهمال الأخرى، أو مع رجوعها إليها، لكونها
من جملة صغرياتها الحقيقية، أو التنزيلية التعبدية.
وقد اختلفت كلماتهم في ذلك أشد الاختلاف، وكثر منهم النقض
والابرام.
ومدعى القائل بالتعدد أن بعض النصوص قد تضمن قاعدة التجاوز التي
مفادها التعبد بوجود المشكوك بمفاد كان التامة بعد التجاوز عنه، وبعضها قد
تضمن قاعدة الفراغ التي مفادها التعبد بصحة الموجود وتماميته بمفاد كان
الناقصة بعد الفراغ عنه ومضيه، فهما مختلفان موضوعا ومفادا.
كما أنه حيث كان الشك في تمامية الموجود وصحته بمفاد كان الناقصة
مسببا عن الشك في وجود جزئه وشرطه بمفاد كان التامة فالتعبد بالثاني مغن
عن التعبد بالأول.
409

ومن ثم لزم حكومة قاعدة التجاوز في مورد جريانها في الاجزاء
والشرائط على قاعدة الفراغ في المركب، فتختص قاعدة الفراغ بما إذا لم تجر
قاعدة التجاوز.
أما الاتحاد فيمكن تصويره بوجوه..
الوجه الأول: أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة عامة لكلتا
القاعدتين لعموم موضوعها ومفادها، بأن يراد بالشك في الشئ الشك في شأنه
الذي يهتم به لترتيب العمل عليه واقتضائه التدارك، من دون فرق بين وجوده
وتماميته، فيعم موضوعي كلتا القاعدتين، ويكون المضي في كل شئ بحسبه،
فمضي العمل الخارجي الذي علم بتحققه وشك في صحته بالفراغ عنه، ومضي
العمل الكلي الذي شك في أصل وجوده بمضي محله.
أما مفاد هذه القاعدة فهو عدم الاعتناء بالشك، بل يبنى على تحقق الجهة
المشكوك فيها المتعلقة بالشئ ولا يحتاج للرجوع والتدارك.
وقد تعرض غير واحد للاشكال في ذلك وأفاض بعض الأعاظم قدس سره فيه
بذكر خمسة وجوه اقتصرنا على أربعة منها مع نحو من الاختلاف في تقرير
بعضها..
الأول: أنه لا جامع بين مفاد (كان) التامة ومفاد (كان) الناقصة، لترتبهما
تبعا لترتب موضوعيهما، لكون الوجود محكوما به في الأول، وقيدا للمحكوم
عليه في الثاني.
ويندفع: بأن الترتب بين موضوعي المفادين إنما يمنع من جمعهما
بلحاظ واحد بحدود هما المفهومية، ولا يمنع من فرض جامع بينهما مبني على
الغاء مميزاتهما، وهو عنوان الشئ الذي اخذ في الأدلة، إذ لا ترتب بينهما في
صدق عنوان الشئ عليهما، ولا مانع من عمومه لها.
وحيث لا تصح إضافة الشك للشئ إلا بلحاظ نحو نسبة متعلقة به أمكن
410

عموم النسبة المصححة للإضافة المذكورة في المقام لكلتا النسبتين المناسبتين
لكلا الموضوعين.
غايته أن قرينة المقام تقتضي تخصيص النسب المذكورة بخصوص ما
يترتب عليه العمل ويكون منشأ للرجوع والتدارك، وهو جامع عرفي مناسب
للمقام.
الثاني: أن متعلق الشك في قاعدة الفراغ هو المركب وفي قاعدة التجاوز
أجزاؤه، ولا يمكن إرادة الكل والجزء من لفظ الشئ في الاستعمال الواحد، إذ
في ظرف لحاظ الكل يكون الجزء بعض الشئ، وفي ظرف لحاظ الجزء يكون
الكل أشياء متعددة، لا شيئا واحدا.
ويظهر اندفاعه مما تقدم، فإن خصوصية الكل والجزء ملغية في مقام
إطلاق الشئ، وانطباقه على كل منهما تابع لتعلق الشك به بالنحو الذي يترتب
عليه العمل.
كيف! والظاهر عموم كلتا القاعدتين لو فرض التعدد للجزء والكل معا،
فتجري قاعدة الفراغ في الجزء مع العلم بوجوده والشك في صحته، كما تجري
قاعدة التجاوز في المركب لو شك في أصل، وجوده وفرض صدق التجاوز عنه
بالدخول في غيره أو مضي وقته.
الثالث: أنه يلزم التناقض في تطبيق القاعدة بالإضافة إلى الشك في الجزء
بعد مضي محله قبل الفراغ من إلى ركب، إذ مقتضى تطبيقها على الجزء عدم
الاعتناء بالشك لمضيه، ومقتضى تطبيقها على الكل الاعتناء به، لعدم مضيه.
وفيه: أنه لو تم لم يندفع التنافي بتعدد القاعدة، لوضوح أن قاعدة الشك
في المحل مباينة لهذه القاعدة اتحدت أم تعددت، وتطبيق تلك على الكل
ينافي عملا تطبيق هذه على الجزء اتحدت تعددت، فلابد في رفع التنافي من
دعوى حكومة تطبيق هذه القاعدة على الجزء على تطبيق تلك على الكل، لان
411

الشك في الكل مسبب عن الشك في الجزء.
الرابع: أن تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقي، لمضي العمل
حقيقة بالفراغ عنه، وفي مورد قاعدة التجاوز ادعائي بلحاظ مضي محله، حيث
لم يعلم بوجوده ليحرز مضيه حقيقة.
وفيه: أنه لو سلم كون تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقيا، إلا أنه
لا مانع من إرادة الجامع بينه وبين مضي المحل، بلحاظ مضي محل الشك فيهما
معا، ويكون إطلاقه ادعائيا، لان الاطلاق على الجامع بين المعنى الحقيقي
والادعائي ادعائي، غايته أنه محتاج إلى قرينة، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه عند
التعرض لمفاد النصوص إن شاء الله تعالى.
وبالجملة: الظاهر أنه لا محذور في هذا الوجه ثبوتا. والكلام في إثباته
يأتي بعد النظر في بقية الوجوه، وبيان حالها ثبوتا ولوازمها، كي يتضح ما ينبغي
النظر في دلالة النصوص عليه من غيره.
الوجه الثاني: أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة مفادها
التعبد بوجود الشئ المشكوك بمفاد كان التامة بعد مضيه ولو لمضي محله.
وأما الشك في صحة الموجود فهو ملحق بذلك، لرجوعه إلى الشك في وجود
الصحيح.
وهو الذي يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره في صدر كلامه، وإن ظهر منه
التشكيك فيه بعد ذلك.
وقد استشكل فيه بعض الأعاظم قدس سره وغيره: بأن مجرد وجود الصحيح وإن
كان موضوعا للأثر في التكاليف، لكفايته في براءة الذمة، إلا أن القاعدة لا
تختص بها، بل تجري في الوضعيات من العقود والايقاعات، حيث يترب الأثر
فيها على صحة العقد أو الايقاع بمفاد (كان) الناقصة، لا على وجود الصحيح
منها بمفاد (كان) التامة.
412

وزاد بعض الأعيان المحققين قدس سره قضاء السجدة، وسجدتي السهو، وما لو
كان الشك في صحة الموجود ناشئا من الشك في الترتيب والموالاة مما لا
يصدق عليه الشئ عرفا، حيث لا يصدق على الكل أنه شئ مشكوك، لأنه
بلحاظ الاجزاء الحقيقية المقومة لشيئيته عرفا مقطوع الوجود، وبلحاظ الترتيب
والموالاة لا يصدق عليه الشئ عرفا.
ويندفع: بأن الأثر في جميع ذلك لوجود الصحيح بمفاد كان التامة، لان
مقتضى سببية الأسباب الخاصة في الوضعيات تبعية الآثار لوجودها بمفاد كان
التامة، ولا أهمية لاحراز صحة الموجود منها إلا لاحراز وجود الصحيح.
نعم، لما لم يكن التلازم بين الامرين شرعيا كان الانتقال من التعبد بالأول
للثاني مبنيا على الأصل المثبت، ولا مانع منه في قاعدة الفراغ رفعا للغوية دليلها،
لانحصار العمل المترتب عليها بذلك على ما يأتي في ذيل الكلام في مفاد
القاعدة، بخلاف مثل الاستصحاب مما يمكن حمل دليله على موارد أخرى.
ومن ثم كان هذا من وجوه الاشكال في استصحاب الصحة وعدمها.
كما أن الترتيب والموالاة لا يبعد صدق الشئ عليهما عرفا. ولو سلم
عدم صدقه عليها فهو يصدق على المقيد بهما الذي هو موضوع الأثر، وحيث
كان الشك فيهما مستلزما للشك فيه أمكن تطبيق القاعدة عليه، وإن علم بوجود
الاجزاء الحقيقية، لان المعلوم ليس هو المقيد.
وأما قضاء السجدة وسجود السهو فهما وإن توقفا على صحة الصلاة، إذ
لا يكفي تحقق موضوعهما في الصلاة الباطلة، إلا أنه يمكن إحراز صحة الصلاة
بإحراز وجود الاجزاء والشرائط بمفاد كان التامة بلا حاجة إلى تطبيق القاعدة
على نفس الصلاة، كي يتوقف على نهوضها باحراز صحة الموجود بمفاد كان
الناقصة.
نعم، لو فرض عدم انطباقها على بعض الشرائط، كما سبق منه قدس سره في
413

الترتيب والموالاة احتيج إلى ذلك.
ولعله هو مراده في المقام، بأن يكون مقصوده توجيه نقض واحد مبتن
على الأمثلة المذكورة، كما قد يشهد به كلامه في بيان ثمرة النزاع في الوحدة
والتعدد، لا النقض بكل منها، كما يظهر منه عند التعرض لهذا الوجه، وجرينا
عليه في بيان مراده. فراجع.
ولعل الأولى الاشكال على الوجه المذكور: بأن لازمه عدم انطباق القاعدة
بمجرد الفراغ عن العمل الذي يشك في صحته مع بقاء الوقت وعدم الدخول
في ما يترتب عليه، إذ لا تنطبق على كلي العمل الصحيح لاثبات وجوده بمفاد
كان التامة، لعدم صدق المضي والتجاوز بالإضافة إليه بعد فرض بقاء وقته، ولا
على العمل الخاص وإن صدق عليه المضي، لفرض اليقين بوجوده وليس
الشك إلا في صحته.
الوجه الثالث: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره فرارا عن محذور الجمع بين
إرادة الكل والجزء من عموم الشئ - الذي تقدم منه الايراد به على الوجه
الأول - من أن مفاد النصوص قاعدة واحدة هي عدم الاعتناء بالشك في وجود
الشئ بمفاد كان التامة، إلا أن لهذه القاعدة فردين: حقيقي، وهو الشك في
المركب بعد تماميته، وتعبدي تنزيلي وهو الشك في الجزء، حيث يستفاد من
صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر التعبد بتنزيل الجزء منزلة الكل بلحاظ ذاته
مع قطع النظر عن التركيب.
ويرد عليه ما أورد على الوجه السابق من أن لازمه عدم انطباق القاعدة
على العمل بمجرد الفراغ عنه قبل خروج وقته.
وما ذكره من صدق التجاوز فيه عن محل المشكوك فيه وهو الجزء، الذي
كان الشك فيه سببا للشك في وجود الكل، راجع إلى تطبيق القاعدة على الجزء،
لا على الكل، وإن لزم منه التعبد بصحة الكل، لأنها مسببة عنه.
414

مضافا إلى أن الصحيحين لم يتضمنا التعبد بشيئية الجزء ولا تنزيله منزلة
الكل، بل تطبيق عنوان الشئ عليه والحكم عليه بمفاد القاعدة.
فإن كان المراد بالنصوص الأخرى ما يعم الجزء رجع إلى إمكان إرادة
الكل والجزء من إطلاق لفظ الشئ فيها، وإن أريد بها خصوص الكل كان
مفادها مباينا لمفاد الصحيحين لتباين موضوعيهما، ولزم تعدد القاعدة.
الوجه الرابع: ما يظهر من بعض مشايخنا إمكان وحدة القاعدة، وهي
قاعدة التجاوز، مع رجوع قاعدة الفراغ إليها، بلحاظ أن الشك في صحة العمل
لابد أن يكون ناشئا من الشك في تحقق جزئه أو شرطه، فالتعبد إنما هو بوجود
المشكوك، لمضي محله، لا بصحة العمل لمضيه بنفسه.
وفيه: أن مجرد كون منشأ الشك في صحة المركب ذلك لا ينافي التعبد
بصحته في قبال التعبد بوجود الجزء أو الشرط، لا بسبب التعبد المذكور وفي
طوله.
فإن أراد عدم سوق الأدلة لبيان التعبد بصحة المركب ابتداء لمضيه بنفسه،
بل التعبد بصحته بسبب التعبد بمنشئها، وهو وجود الجزء، لمضي محله، فهو
راجع إلى انكار قاعدة الفراغ، وهو - مع خروجه عن مفروض كلامه في تقريب
الجامع بين القاعدتين، لا في إغناء إحداهما عن الأخرى - لا يناسب النصوص
الآتية الظاهرة في التعبد بصحة المركب رأسا، لا بسبب التعبد بوجود الجزء، فإن
المهم هو النظر في وحدة القاعدة التي تعرضت لها جميع نصوص المقام، لا
بعضها.
مع أن لازمه عدم تحقق موضوع القاعدة بعد الفراغ من العمل قبل خروج
الوقت لو كان الشك في الصحة ناشئا من الشك في الشرط، بناء على ما ذكره من
أن التعبد معه ليس بوجود الشرط، بل بوجود المشروط، لوضوح أن المشروط
لم يمض محله قبل خروج الوقت، نظير ما سبق في الوجهين السابقين.
415

وإن أراد أن التعبد بصحة العمل رأسا عند الشك فيها وإن كان ثابتا - كما
هو مفاد قاعدة الفراغ - إلا أن الشك المذكور ناشئ دائما عن الشك في وجود
الجزء أو الشرط، الذي هو موضوع قاعدة التجاوز، فليس معنى هذا رجوع
وحدة القاعدة ولا رجوع قاعدة الفراغ لقاعدة التجاوز، بل تلازم موضوعيهما،
وهو أجنبي عما نحن فيه.
الوجه الخامس: ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدس سره من احتمال اختصاص
نصوص المقام بقاعدة التجاوز المتضمنة للتعبد بوجود الشئ بمفاد كان التامة،
وأن البناء على صحة العمل الواقع عند الشك في حاله مبني على أصل آخر
أجنبي عن مفاد هذه النصوص، وهو أصالة الصحة في فعل الفاعل القاصد
للصحيح.
ويظهر الاشكال فيه مما تقدم من ظهور بعض نصوص المقام في التعبد
بصحة العمل رأسا.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا: أنه لا مجال لتخصيص مفاد النصوص
بإحدى القاعدتين، وأن الاتحاد لابد أن يرجع إلى فرض دلالتها على قاعدة
تعمهما، معا، كما هو مفاد الوجه الأول، الذي تقدم إمكانه ثبوتا، فلابد من النظر
في حاله إثباتا، وأن النصوص تفي به، أو بتعدد القاعدة.
وقد يقرب القول بالتعدد بأن ظاهر الشك في الشئ هو الشك في
وجوده، لأنه المنصرف عند حذف المتعلق بعد امتناع تعلق الشك بمفاد المفرد،
بل لابد من تعلقه بالنسبة، ولا سيما في صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر لما
في صدرهما من فرض الشك في الاجزاء الظاهر منه الشك في وجودها لا في
صحتها مع فرض وجودها، ولا سيما مثل الركوع والسجود، حيث لا يحتمل
فيهما البطلان، لاجزاء مسماهما، فلابد من حمل الخروج والتجاوز فيهما على
التجاوز عن محل المشكوك، لا عن نفسه.
416

وكذا ما ورد في الشك بعد الحائل، لان الحائل المذكور فيه إنما يحتاج له
عند الشك في وجود الشئ بمفاد كان التامة، وأما الشك في صحة الموجود
فيكفي فيه الفراغ عنه، ولأجل ذلك يتعين حمل هذه الصحاح وغيرها من
النصوص الخاصة على التعبد بتحقق المشكوك بمفاد كان التامة، الذي هو مفاد
قاعدة التجاوز.
كما أن ظاهر بعض النصوص فرض مضي العمل بنفسه مع وجوده، فلابد
من حمل الشك فيه على الشك في صحته، كموثق محمد بن مسلم المتقدم، فإن
فرض مضي الامر المشكوك، والامر بإمضائه كما هو، ظاهر في المفروغية عن
وقوعه والتردد في حاله.
ومثله موثق ابن أبي يعفور، بناء على حمله على الشك في نفس الوضوء،
لا في أجزائه، كما تقدم، وكذا جملة من النصوص الخاصة، كخبر بكير المتقدم،
وصحيح محمد بن مسلم: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شك في الوضوء بعد ما
فرغ من الصلاة قال: يمض (يمضي ظ) على صلاته ولا يعيد " (1)، وصحيحه
الاخر عنه عليه السلام: " في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته. قال: فقال: لا يعيد
ولا شئ عليه " (2) وغيرها.
هذا، ولكن ظهور الشك في الشئ في الشك في خصوص وجوده إنما
يتجه لو تردد الامر بينه وبين غيره وامتنع إرادة الجامع بينهما، لا في مثل المقام
مما أمكن فيه إرادة الجامع المناسب للمقام، وهو الشك في ما يتعلق بالشئ من
شؤونه التي يهتم بها، الذي يقتضي الرجوع والتدارك، فإن الحمل عليه ليس
بعيدا عن ظاهر التركيب.
كما أن فرض مضي الشئ في موثق محمد بن مسلم لا يمتنع أن يراد منه

(1) الوسائل ج: 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.
(2) الوسائل ج: 5، باب: 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 1.
417

الأعم من مضي الشئ ينفسه ومضي محله، والامر بإمضائه كما هو لا يعين
الأول، لأنه وإن كان صريحا في التردد في حال الشئ الذي مضى، إلا أن التردد
في وجود ما مضى محله وعدمه تردد في حاله بمعنى، فهو كناية عن إلغاء الشك
المتعلق به عملا، فإذا أمكن عموم الشك للشك في الوجود والشك في الصحة،
أمكن عموم الامضاء فيه لالغاء كلا الشكين.
فما سبق لا ينهض باثبات صراحة النصوص العامة في تعدد القاعدة
وتباين مؤدى كل طائفة مع مؤدى الأخرى.
نعم، لا يبعد صلوحه لاثبات أن المتيقن من كل طائفة مباين للمتيقن من
الأخرى، بحيث يمنع من دعوى ظهور كل منها في نفسه في العموم، ويوجب
انصرافه لخصوص أحد المفادين، بل قد يكون صالحا لاثبات نحو من الظهور
البدوي في تعدد القاعدة بمقتضى الجمود على مدلول كل منها في نفسه.
إلا أن الظاهر الخروج عن ذلك بعد سبر جميع نصوص المقام العامة
والخاصة، والالتفات لوجود الجامع الارتكازي بين القاعدتين، فإن تعددهما مع
وجود الجامع المذكور يحتاج إلى عناية في البيان، وهو لا يناسب تشابه ألسنة
النصوص، بسبب اشتمال كلتا الطائفتين على عنوان الشك في الشئ، وعلى ما
يقتضي مضي محل الشك، من المضي، والتجاوز، والخروج، والفراغ، ونحوها.
فلو أريد بكل طائفة منها إحدى القاعدتين بخصوصيتها لكان المناسب
التعرض لموضوعها بوجه مميز له عن موضوع الأخرى، ولا يتكل على القرائن
المتصيدة من المورد ونحوه لتحديده.
بل قد لا تنهض قرينة بتحديده، كما في صحيح محمد بن مسلم الثاني
المتقدم قريبا، حيث لم يبين فيه أن المراد من الشك بعد الانصراف من الصلاة،
هو الشك في وجود جزئها أو شرطها، أو الشك في صحتها.
كما قد اشتمل بعض النصوص على أحد جزئي موضوع كلتا القاعدتين،
418

كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: " قال: كل ما شككت فيه بعد ما
تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد "، لظهور الشك فيه في الشك في وجود
الجزء أو الشرط، الذي هو أحد جزئي موضوع قاعدة التجاوز لا الشك في صحة
الصلاة المأخوذ في قاعدة الفراغ، مع أن الفراغ من الصلاة أحد جزئي موضوع
قاعدة الفراغ، فلو أريد إعمال قاعدة التجاوز بخصوصيتها لكان المناسب ذكر
مضي محل الجزء المشكوك، ولو أريد إعمال قاعدة الفراغ لكان المناسب
فرض الشك في صحة الصلاة، وكذا الحال في الدخول في الغير الذي اشتملت
عليه بعض نصوص كلتا الطائفتين، حيث يأتي أن الجهة الارتكازية المذكورة
ملزمة باعتباره في مورد يتوقف عليه فيه مضي محل الشك، دون غيره، ولابد
من تنزيل النصوص المتضمنة له في المورد الذي لا يتوقف عليه فيه المضي
على كون ذكره لتأكيد اعتبار المضي، لا للتقييد به زائدا عليه، إلى غير ذلك مما
يظهر منه عدم الاهتمام في النصوص بتحديد إحدى القاعدتين وتمييزها عن
الأخرى، بل كلها تشير للجامع بينهما، الذي هو أمر ارتكازي، وليس الاختلاف
بينها إلا في الخصوصيات الفردية.
إذا عرفت هذا، فاللازم النضر في تحديد القاعدة المستفادة من النصوص،
وهو إنما يكون بتحديد موضوعها ثم مفادها. فالكلام في جهتين..
الجهة الأولى: في موضوع القاعدة.
وقد ظهر من جميع ما سبق أنه لابد فيه من أمرين:
الأول: مضي الشك في الشئ، بمعنى الشك في شؤونه التي يهتم بها من
حيثية العمل والتدارك، سواء كانت وجودا أم غيره.
وقد عرفت تضمن جميع نصوص المقام لعنوان الشك في الشئ، وأن
الجهة الارتكازية تقضي بحمله على العموم المذكور.

(1) الوسائل ج: 5، باب: 28 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث: 2.
419

الثاني: مضي محل الشك، بحيث يكون الاعتناء به رجوعا وتداركا بعد
الفوت، وهذا المعنى وإن لم يصرح به في النصوص، وإنما اخذ فيها مضي
الشئ والتجاوز عنه والخروج منه والدخول في الغير والفراغ من العمل ووجود
الحائل ونحوها، إلا أنه الجامع الارتكازي بين جميع هذه العناوين عرفا، فيحمل
ذكرها على كونها محققة له في مواردها، ففي ما شك في صحته مع العلم
بوجوده يكون مضي محل الشك بالفراغ منه، وفي ما شك في أصل وجوده
يكون مضي الشك بالدخول في ما يترتب على المشكوك. أو بخروج وقته،
وبهما يتحقق التجاوز ويصدق الحائل.
أما بناء على التعدد فهما يختلفان في الامر المشكوك فيه، كما يختلفان
في مضيه، على ما سبق. وهذا كله ظاهر، وإنما وقع الكلام في أمور تتعلق بذلك
ينبغي التعرض لها تبعا لهم وتوضيحا لمحل الكلام.
الامر الأول: أشرنا إلى أن الدخول في الغير المترتب على العمل إنما
يعتبر حيث يتوقف عليه مضي المحل، فلا يحتاج له إلا عند الشك في وجود
الشئ مع بقاء الوقت.
فلو شك في وجوده بعد خروج الوقت لا يعتنى بالشك وإن لم يدخل في
الغير المترتب عليه، وكذا لو شك في صحة العمل وتماميته بعد الفراغ منه،
لكفاية خروج الوقت والفراغ في تحقق المضي بالمعنى المذكور.
ويشهد بالأول صحيح زرارة والفضيل المتقدم في أدلة القاعدة، وبالثاني
إطلاق موثق محمد بن مسلم وخبر بكير المتقدمين هناك أيضا وغيرهما من
النصوص الخاصة.
ولأجلها ترفع اليد عما قد يظهر منه اعتبار الدخول في الغير، كموثق ابن
أبي يعفور، المتقدم هناك، وصحيح زرارة الوارد في الوضوء، المتضمن
لقوله عليه السلام: " فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في
420

الصلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه
وضوءه، لا شئ عليك فيه " (1).
فإن الجهة الارتكازية تقضي بأن المدار على صدق المضي بالمعنى
المذكور، فتكون قرينة على أن ذكره فيهما لتأكيد اعتباره، لا للتقييد به زائدا عليه،
بخلاف ما إذا كان الشك في وجود الشئ مع بقاء الوقت، حيث يتوقف صدق
المضي بالمعنى المذكور على الدخول في الغير، فلابد من اعتباره، كما هو ظاهر
صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر وما عن مستطرفات السرائر، المتقدمة في
أدلة القاعدة، بل لابد من كون الغير مترتبا على المشكوك، إذ مع عدم ترتبه لا
يصدق مضي محله، وعليه ينزل إطلاق الصحيحين، لصلوح الجهة الارتكازية
قرينة على ذلك.
وقد جرى على ذلك أيضا غير واحد ممن بنى على تعدد القاعدة،
محاولين في ذلك إعمال الجمع العرفي بين النصوص، وكأنه لاستحكام الجهة
الارتكازية التي أشرنا إليها الملزمة بتنزيل جميع النصوص على ما يطابقها،
مضافا إلى بعض القرائن في النصوص قد تناسب ذلك.
الامر الثاني: أشرنا إلى أنه لو كان المضي موقوفا على الدخول في الغير
فلابد من كون ذلك الغير مترتبا على المشكوك.
والظاهر أن المعيار في المقام الترتب الشرعي، كالترتب بين الاذان
والصلاة، وبين الركوع والسجود، وبين الظهر والعصر، دون الترتب العادي أو
العقلي، فلا يكفي في صدق المضي على الاستبراء تحقق الاستنجاء، بلحاظ
تعود تقديم الاستبراء عليه، كما لا يصدق المضي على السجود بالشروع في
النهوض للقيام بلحاظ عدم كونه عقلا مقدمة للقيام الصلاتي إلا بعد تحقق
السجود، إذ بدونه يكون مقدمة لقيام غير صلاتي ولا مشروع.

(1) الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء حديث: 1.
421

والوجه في ذلك: أن كون شئ محلا لشئ ليس تابعا لعلاقة حقيقية
بينهما لا تقبل الاختلاف والتبدل، بل هو أمر إضافي يختلف وجودا وعدما
باختلاف جهة الإضافة، من اعتبار شرعي، أو عرفي، أو عادة، أو عقل، أو
نحوها، فلابد من ملاحظة خصوص جهة تصلح لانتزاع النسبة المذكورة،
والمناسب للشارع إرادة ما يتعلق به ويرجع إليه، وهو خصوص المحل
الشرعي.
وتوهم: أن مقتضى الاطلاق الاكتفاء بكل جهة صالحة لانتزاع عنوان
المحل شرعية كانت أم غيرها.
مدفوع: بأن الاطلاق إنما ينهض بإلغاء القيود الزائدة على المفهوم،
وخصوصية الجهات المختلفة ليست مقيدة لمفهوم المحل، بل معيار في صدقه
ومصحح لانتزاعه، وإطلاق العنوان لا يتكفل بذلك، بل المتكفل به الاطلاق
المقامي، وهو يقتضي كون المعيار المحل العرفي لو لم يكن هناك محل شرعي،
وإلا كان هو المتعين، كما ذكرنا.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: أن القاعدة في المقام لما لم تكن تعبدية
محضة بل ارتكازية عقلائية فالجهة الارتكازية المقتضية لها تقتضي الاكتفاء
بالمحل العادي ونحوه مما يصدق معه المضي عرفا، والاكتفاء بالمحل الشرعي
إنما هو لرجوعه إليه، بسبب بناء المكلف على متابعة الجعل الشرعي، فيكون
إتيانه بالشئ في محل المذكور مقتضى قصده الارتكازي تبعا لقصد الامتثال،
الذي هو كالقصد الارتكازي التابع للعادة مصحح لصدق المضي عرفا.
ولا مجال مع ذلك للجمود على خصوص المحل الشرعي التعبدي، لان
الجهات الارتكازية لا تناط بالأمور التعبدية.
لاندفاعها: بأن موضوع الجهة الارتكازية ليس الا المضي، وجري الشارع
عليها إنما يقتضي جعل كبرى مطابقة لها من قبله، وإناطة صدق المضي بجهة
422

خاصة لا دخل له بالكبرى المذكورة، ولا يستلزم التصرف فيها، بل هو راجع
لتنقيح الصغرى لها، كما تقدم، وتقدم أنه أمر لا يتكفل به دليل جعل الكبرى
بنفسه، بل باطلاقه المقامي، وأنه يقتضي الحمل على المضي الشرعي لا غير.
نعم، قد يستدل على إرادة المحل العادي بموثق بكير أو صحيحه المتقدم
في أدلة القاعدة، لمناسبته للتعليل فيه بالأذكرية، لما هو الظاهر من أن الانسان
لمقتضى عادته أذكر منه لما يخالفها.
وقريب منه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: " أنه قال: إذا
شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا، وكان يقينه حين انصرف
أنه كان قد أتم، لم يعد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد
ذلك " (1).
ويشكل: بعدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم
مدارها وجودا وعدما، لعدم اقترانهما بأداة التعليل ونحوها مما يظهر منه بيان
الغرض من الحكم والداعي له، أو موضوعه.
بل لعل ذكره للتنبيه إلى بعض الجهات التي تردع عن الاعتناء بالشك
المذكور، فهو أشبه بالحكمة التي يوجب الالتفات إليها وضوح الحكم في نفس
المخاطب، نظير ما ورد في تقريب جواز الشهادة اعتمادا على اليد من قوله عليه السلام:
" لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " على ما تقدم التنبيه له في المسألة
الأولى من مسائل المقام الثالث في قاعدة اليد.
كيف! ولو استظهر التعليل بالنحو المذكور في المقام لزم التعدي عنه لكل
مورد يكون الانسان فيه أذكر وأقرب للحق وإن لم يكن الشك في صحة
المركب أو أجزائه، بل في أصل الاتيان بالعمل أو غيره، لعدم خصوصية المورد
في ذلك ارتكازا، ولا يظن بأحد الالتزام ذلك، لرجوعه إلى حجية كل ظن ولو

(1) الوسائل ج: 5، باب: 27 من أبواب الخلل في الصلاة. حديث: 3.
423

كان نوعيا.
بل لزم قصور القاعدة من غير مورد العادة، فمن لم يتعود الأذان والإقامة
لو شك في الاتيان بهما بعد الدخول في الصلاة لا يبني على الاتيان بهما، بل له
قطع الصلاة لأجلهما، لعدم تحقق الأذكرية في المقام.
فلابد من الاقتصار على مورد التعليل وعدم التعدي عنه.
بل لا يظن بأحد الالتزام بعموم الاكتفاء بمضي المحل العادي - كما نبه
لذلك شيخنا الأعظم قدس سره - وإنما حكي عن جماعة التعرض لمسألة معتاد الموالاة
في غسل الجنابة إذا شك في الجزء الأخير، وأنه لا يعتني بالشك.
ولعله يمكن توجيهه بأمر آخر راجع إلى صدق المضي حقيقة، على ما
يأتي التعرض له.
هذا، وفي صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد الله: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع. قال: قد ركع " (1) وقد يستظهر
منه الاكتفاء في المضي بالدخول في مقدمات ما يترتب شرعا على المشكوك.
ولكن ذكر بعض الأعاظم قدس سره أنه لابد من تقييده وحمله على آخر مراتب
الهوي الذي يتحقق به السجود، جمعا بينه وبين صحيح إسماعيل بن جابر
المتضمن لفرض التجاوز عن الركوع بنفس السجود، لا بالهوي إليه.
وفيه: أن دلالة صحيح إسماعيل إن كانت بلحاظ مفهوم الشرطية فيه، فلا
مفهوم للشرطية، لسوقها لتحقيق الموضوع.
وإن كانت بلحاظ أن سوق المثالين في الصحيح قبل ضرب القاعدة إنما
هو للتوطئة والتمهيد لها، فيكونان واردين مورد التحديد للغير المذكور فيها،
وذلك يقتضي عدم صدقه بالهوي قبل صدق السجود لأجل مفهوم التحديد لا
الشرط.

(1) الوسائل ج 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 6.
424

ففيه: أنه لا ظهور لسوق الصغريات قبل الكبرى في تحديد موضوعها،
بل في محض التمهيد لها.
وإن كانت بلحاظ أن التخطي للسجود وإهمال الهوي مع أنه أقرب
للركوع ظاهر في عدم الاعتداد به.
ففيه: أن التخطي عن الهوي لعله لندرة الشك حينه، لعدم الاستقرار فيه
بحال يتوجه فيه المكلف للشك.
على أن ذلك لو تم لا يخرج عن الاشعار الذي لا يبلغ مرتبة الحجية،
ليصلح لتقييد الاطلاق.
مع أن المقام أجبني عن التقييد، بل هو في الحقيقة إلغاء لموضوعية
الهوي وجعل الموضوع هو السجود لا غير.
ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من ظهور صحيح عبد الرحمن بنفسه في
إرادة الوصول لحد السجود، لان التعبير فيه عن الهوي بالفعل الماضي ظاهر في
مضيه حين الشك في الركوع، وهو إنما يكون بالوصول لحد السجود.
لاندفاعه: بأنه يكفي في صدق نسبة الفعل الماضي على الهوي تحقق
أول مراتبه، ولذا يصح أن يقال: أهوى إلى السجود فلم يستطعه.
فالعمدة في المقام: أن الصحيح معارض بصحيح عبد الرحمن الاخر:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي
جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال: يسجد. قلت: فرجل نهض من سجوده
فشك قبل أن يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال: يسجد " (1). وهو
نص في عدم الاكتفاء بحال النهوض قبل الوصول لحد القيام.
فاما أن يجمع بينهما بجعل الهوي للسجود في الصحيح الأول عبرة لنفس
السجود.

(1) الوسائل ج: 4، باب: 15 من أبواب السجود حديث: 6.
425

وإما أن يقتصر فيه على مورده، ويرجع في غيره للقاعدة التي عرفتها
المطابقة للصحيح الاخر.
هذا، بناء على أن الهوي للسجود والنهوض للقيام ونحوهما مقدمات
للأفعال الواجبة، أما بناء على أنها بأنفسها من الواجب، وأن مرجع وجود
السجود مثلا إلى وجوب الهوي له من مبدأ التقوس انقلب تطبيق القاعدة.
وتنقيح ذلك في محله، ولا دخل له بتنقيح القاعدة الذي هو محل الكلام.
الامر الثالث: المتبادر من مضي محل المشكوك بسبب الدخول في الغير
هو فوته، بحيث يتعذر تدارك المشكوك مع المحافظة على خصوصية محله،
وذلك في مثل أجزاء الصلاة انما يكون بالدخول في الركن اللاحق، حيث يلزم
من تدارك المشكوك والمحافظة على خصوصية محله - بإعادة ما جاء به مما
يكون بعده - زيادة الركن المبطلة للصلاة.
نعم، لو أمكن تداركه بعد الاتيان بالغير مع الاخلال بخصوصية محله، كما
في قضاء الأجزاء المنسية في محلها بعد الصلاة، أو في قضاء القنوت بعد
الركوع لم يناف صدق مضي المحل بالمعنى المذكور، لان المشكوك هو الفعل
الموظف. ولعله لذا حكي عن بعضهم الاقتصار في الغير على الركن.
لكنه - كما ترى - مخالف لصريح نصوص المقام، فقد تضمن صحيح
زرارة عدم الاعتداد بالشك في الاذان وهو في الإقامة، كما تضمن هو وغيره عدم
الاعتداد بالشك في الركوع وهو في السجود الشامل لسجدة واحدة، كما تضمن
صحيح إسماعيل عدم الاعتداد بالشك في السجود بعد القيام، وتضمن ما تقدم
عن مستطرفات السرائر عدم الاعتداد بالشك في الظهر بعد فعل العصر، مع
وضوح عدم فوت محل الظهر بالمعنى المذكور بمجرد ذلك مع بقاء الوقت.
فإن بني على العمل بنصوص المقام لم يتجه الاقتصار على الركن، وإن
بني على إهمالها والرجوع لأصالة عدم الاتيان بالمشكوك لزم عدم إجراء،
426

القاعدة حتى بعد الدخول في الركن، بل يعتنى بالشك حينئذ، باستئناف الصلاة
لو كان المشكوك ركنا، وقضائه لو كان مما يقضى، وسجود السهو - بناء على
وجوبه لكل زيادة ونقيصة - لو كان غيره، كما هو الحال لو بان نسيانه بعد
الدخول في الركن اللاحق.
ومنه يتضح أنه لا مجال لما ذكره سيدنا الأعظم قدس سره حيث قال في توجيه
القول المذكور: " وكأنه ناش عن إهمال أدلة القاعدة والرجوع إلى أصالة عدم
الاتيان بالمشكوك، فيكون الحكم فيه حكم النسيان ".
مضافا إلى أن أدلة القاعدة لم تتضمن عنوان مضي المحل - كما نبه له
سيدنا الأعظم قدس سره - كي يحمل على فوته بالوجه المذكور، وإنما تضمنت الدخول
في الغير، وحيث لا يمكن إبقاؤه على إطلاقه - إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء
بالدخول في ما لا يترتب على المشكوك من الافعال المشروعة في المركب
كالتكبير المستحب، أو الخارجة عنه كالذكر المطلق - تعين حمله على خصوص
ما يترتب عليه مما يصدق بالدخول فيه ما تضمنته النصوص من عنوان التجاوز
والخروج عن المشكوك، والدخول في الحائل، ولو بلحاظ الوضع الطبيعي، لا
الحقيقي.
وإليه يرجع ما تقدم منا من اعتبار مضي محل الشك، بحيث يكون
الاعتناء به رجوعا وتداركا عرفا. ومقتضاه الاكتفاء في الغير بكل ما يترتب على
المشكوك بأن يكون مقتضى الوظيفة الشرعية الاتيان بالمشكوك قبله وعدم
تأخيره عنه، ولا خصوصية للركن في ذلك.
ومنه يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعضهم من اختصاص الغير المحقق
للتجاوز بالاجزاء المفردة بالتبويب من الفقهاء، كالتكبير والقراءة والركوع
والسجود، دون أجزائها، فإنه تخصيص لعموم صحيحي زرارة وإسماعيل
والتعليل في ما عن مستطرفات السرائر من دون وجه.
427

ومجرد اختصاص الأمثلة التي تضمنها الصحيحان بذلك لا يصلح له، ولا
سيما مع قرب إلغاء خصوصيتها عرفا بملاحظة الجامع الارتكازي الذي يستفاد
من مجموع النصوص، كما تقدم.
ودعوى: أن الأمثلة المذكورة تمنع من عموم الغير في ذيل الصحيحين
وتقتضي تضيق مصبه، لسوقها للتمهيد والتوطئة له.
كما ترى! إذ شأن ضرب العموم بعد عد الأمثلة رفع الخصوصية المتوهمة
منها.
ولا سيما بعد اشتمال صدر صحيح زرارة على أكثر الاجزاء المذكورة، إذ
من البعيد جدا كون ضرب العموم لأجل خصوص القليل المتبقي منها.
ومثلها دعوى: امتناع تطبيق العموم بلحاظ كل من الاجزاء المذكورة
وأجزائها، لعدم الجامع بين الكل والجزء، ولاستلزامه التدافع في تطبيق القاعدة
عند الشك في جزء الجزء حين الانشغال بجزئه الآخر، إذ بلحاظ مجموع الجزء
يكون من الشك قبل الدخول في الغير، وبلحاظ جزئه يكون من الشك بعد
الدخول في الغير.
لظهور اندفاعها بمراجعة ما تقدم في الوجه الأول من وجوه وحدة
القاعدة.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره أن لازمه التعميم لأول الكلمة وآخرها،
ولا قائل به ظاهرا.
فهو - لو تم - ناشئ من انصراف الشئ عنه، لعدم تقرر الكلمة عرفا إلا
بمجموعها، ولا استقلال لأجزائها عرفا، لينطبق عليها عنوانه، ولا يكشف عن
اختصاص الغير بالاجزاء المختصة بالتبويب.
بل لا مجال لاحتمال ذلك بعد كون تبويب الاجزاء بالنحو المذكور غير
مستفاد من أدلة التشريع، بل جرى عليه الفقهاء بعد تصيده منها.
428

هذا، وقد شكر بعض مشايخنا أن المعيار في الترتب الموجب لصدق
مضي محل السابق بالدخول في اللاحق أخذ كل منهما شرطا في صحة الاخر،
فلا يصح السابق لو لم يترتب اللاحق، ولا يصح اللاحق لو لم يسبق السابق، كما
هو الحال في أجزاء الصلاة المترتبة.
ولا يكفي مجرد كون ظرف الأخير متأخرا عن السابق، لترتبه عليه، من
دون أن يكون دخيلا في صحة السابق لترتبه عليه، كالقنوت بالإضافة للقراءة،
سواء كان مستحبا مستقلا في ضمنها، أم جزءا مستحبا في الصلاة، وجميع
الاجزاء المستحبة، والتعقيب بالإضافة للتسليم، وصلاة العصر بالإضافة للتسليم
في صلاة الظهر.
وكأن مراده من توقف صحة أحد المترتبين على الآخر هو الوقف
بملاحظة الجعل الأولي، وإن أمكنت صحة أحدهما بدون الاخر لجهة ثانوية،
كما في موارد حديث: " لا تعاد... "، وإلا لم ينطبق على مثل القراءة مما لا يكون
الاخلال به سهوا مبطلا للعمل، مع أنه مورد صحيح زرارة.
وفيه.. أولا: أنه لم يتضح وجه التقييد لذلك، فإن مضي المحل حقيقة لا
يتحقق إلا بتعذر التدارك بمثل الدخول في الركن اللاحق، كما تقدم، ومضي
المحل بالمعنى المستفاد من النصوص، الراجع إلى العبور عن الشئ والتجاوز
عنه بمقتضى الجعل الشرعي، لأجل الدخول في ما لحقه، حاصل في جميع ما
تقدم ونحوه مما يكون مترتبا على المشكوك.
وثانيا: أن الترتب في أجزاء الصلاة التي هي مورد النصوص ليس بالنحو
الذي ذكره، بل هو مبني على توقف صحه اللاحق على السابق - ولذا يبطل لو
وقع بدونه، ويجب تكراره في مورد إمكان التدارك - دون العكس، لان ذلك هو
الظاهر من دليل الترتيب في سائر الموارد، وإنما يبطل تمام العمل بفقد الجزء
عمدا مثلا لأجل الارتباطية في نفس العمل، لا لاخذه في صحة الاجزاء السابقة
429

عليه، فمع فقد الجزء يكون بطلان العمل مستندا لفقده وفقد ما بعده، لوقوعه
في غير محله، لا لفقد الكل.
بل صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات السرائر قد صرح فيه بجريان
القاعدة بالإضافة إلى صلاة الظهر بعد صلاة العصر، مع وضوح عدم توقف
صحة الظهر عليها.
ودعوى: أن مفاده مباين لقاعدة التجاوز التي هي محل الكلام.
لا تناسب عموم التعليل، حيث كان مقتضى ارتكازيته حمله على ما
يساوق قاعدة التجاوز، بل يعمها ويعم قاعدة الفراغ وقاعدة الشك بعد الوقت،
كما هو المناسب لما سبق منا في تقريب وحدة القاعدة.
وثالثا: أنه ذكر أنه يكفي الترتب بالوجه المذكور بلحاظ الوظيفة
الاستحبابية، لأجل توجيه جريان القاعدة في الأذان والإقامة، ومن الظاهر أن
مقتضى ذلك الاكتفاء بجميع ما يكون مبنى تشريعه على دخله في العمل بلحاظ
بعض مراتب فضيلته، كبعض أفراد التعقيب أو كلها، فضلا عن الاجزاء
المستحبة التي هي دخيلة في الفرد الأكمل، حيث يكون الجزء المستحب دخيلا
في صحة المركب بلحاظ الوظيفة الاستحبابية، وإن لم يكن دخيلا فيه بلحاظ
الوظيفة الوجوبية.
وقد تحصل من جميع ما تقدم: أن المعيار في الغير الذي يكون الدخول
فيه محققا لموضوع قاعدة التجاوز بناء على تعدد القاعدة، ولمضي محل الشك
بناء على وحدتها هو مطلق ما يترتب على المشكوك، سواء كان جزءا من
المركب واجبا أو مستحبا، أم مطلوبا في ضمنه كذلك، أم أمرا مستقلا عن
المشكوك، كالظهر والعصر، فيكون العمل على ذلك ما لم يدل الدليل على
خلافه في خصوص مورد.
نعم، لا عبرة بالدخول في أمور..
430

أحدها: ما لا يترتب على المشكوك بمقتضى دليل جعله، بل يكون محله
ما يترتب عليه، كما لو شك المصلي في أنه في السجدة الأولى أو الثانية، وقد
انشغل بدعاء السجدة الثانية، فإن الدعاء المفروض لم يؤخذ فيه الترتيب بينه
وبين السجدة الأولى، ليتحقق به مضي محلها والتجاوز عنها، بل غاية الامر أن
محله السجدة الثانية، ولا طريق لاحراز وقوعه في محله بنحو يحرز به أن
السجدة التي بيده هي الثانية وأن الأولى قد تحققت قبلها، بل مقتضى قاعدة
الالتفات للشك في المحل لزوم البناء على عدم الاتيان بها، وأن التي بيده هي
الأولى.
ومنه يظهر عدم تحقق المضي والتجاوز بالمنافي المبطل للعمل، كالكلام
والحدث بالإضافة للسلام، لأنه وإن كان مقتضى مبطليته عدم إيقاعه قبل الاتيان
بالجزء الأخير ممن هو في مقام الامتثال والآتيان بالعمل التام، إلا أنه لما لم يكن
مترتبا شرعا على الجزء الأخير لم يصدق به التجاوز عنه ومضي محله إلا بناء
على أن المراد بمضي محل المشكوك تعذر تداركه، أو مضى المحل العادي،
وقد عرفت ضعف المبنيين، غاية ما يلزم في المقام هو إيقاع المنافي في غير
محله، وقد ذكرنا أنه لا طريق لاحراز وقوع الشئ في محله، بنحو يحرز به
تمامية العمل وتحقق المشكوك.
ثانيها: ما كان الترتيب بينه وبين المشكوك هو الأفضل من دون أن يؤخذ
في أصل مشروعيته كما هو الحال في ما لو شك في قضاء الفائتة عند الانشغال
بالحاضرة، بناء على استحباب الترتيب بينهما.
لعدم صدق المضي بالإضافة إلى الفعل المشروع، لفرض عدم أخذ
الترتيب في مشروعيته، بل في المطلوبية الزائدة عليها.
وما تقدم من الاكتفاء بالمترتب بمقتضى الوظيفة الاستحبابية إنما هو في
ما لو ابتنى تشريع الفعل الدخيل في الوظيفة الاستحبابية على الترتيب بينه وبين
431

المشكوك، بحيث لا يشرع بدونه، كالقنوت بالإضافة للقراءة، ولا يعم محل
الكلام.
ومنه يظهر الوجه في عدم تحقق المضي بمضي وقت الفضيلة، وأنه لابد
فيه من وقت الفوت، كما تضمنه صحيح زرارة والفضيل المتقدم (1).
ثالثها: ما يكون الترتيب بينه وبين المشكوك واجبا تكليفا من دون أن
يكون شرطا فيه، حيث لا يكون الاتيان به قبله إتيانا به في غير محله، بنحو
يصدق الخروج عن محل المشكوك بالدخول فيه، إذ لا محل لكل منهما
بمقتضى تشريعه، وإن لزم تقديمه بمقتضى التكليف بالترتيب زائدا على أصل
التشريع، ولا محرز لامتثال التكليف المذكور.
ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى: تحقق التجاوز بفعل المنافي في ما يحرم
قطعه، كالصلاة، خلافا لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره.
الامر الرابع: تقدم مضي محل الشك بناء على وحدة القاعدة قد يكون
بالفراغ عن العمل، وذلك في ما لو كان الشك في تمامية العمل المفروض
الحصول، لان تمامية العمل قائمة به، فبالفراغ عنه يصدق مضيه ومضي جميع
شؤونه القائمة به. وهو موضوع قاعدة الفراغ بناء على تعدد القاعدة.
والمعيار في تحقق الفراغ عن العمل ومضيه الذي تضمنته النصوص
ليس على الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف. إذ لا
يجتمع فرضه مع فرض الشك في تمامية العمل.
ولا على الفراغ البنائي الاعتقادي وإن احتمل خطؤه - كما يظهر من غير
واحد - لمخالفته لظاهر اطلاق الفراغ والمضي من دون قرينة. بل ظاهر صحيح
محمد بن مسلم المتقدم في الامر الثاني أنه أمر زائد على الفراغ، لاخذه قيدا فيه.
ولا على فعل معظم الاجزاء وإن كان من عادة المكلف التتابع والموالاة

(1) الوسائل: ج 3، باب: 6 من أبواب المواقيت حديث: 1.
432

بين الاجزاء - خلافا لما يظهر من بعض الأعاظم قدس سره - لأنه فراغ منها، لا من تمام
العمل الذي هو الموضوع في نصوص المقام. مع أنه لم يعهد منهم تقييد
القاعدة بصورة إحراز تحقق المعظم.
ولا على صيرورة الشئ بحيث لا يمكن تداركه، للدخول في المنافي
ونحوه - كما يظهر من بعض مشايخنا - لعدم المناسبة بينه وبين المضي والفراغ،
ليصح حملهما عليه فضلا عن أن يكونا ظاهرين فيه.
ولا على فعل الجزء الأخير - كما يظهر من كلام له آخر - لأنه إنما يكون
فراغا حقيقيا عن العمل المطلوب في ظرف فعل بقية الاجزاء، ومع قطع النظر
عن ذلك لا تميز له عن غيره من الاجزاء.
بل الظاهر أن المعيار فيه هو الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي
به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها. وذلك لان موضوع
الشك في الصحة هو العمل الخارجي، لا كلي العمل، كما أن المضي والفراغ قد
طبقا في النصوص عليه، فيلزم صدقهما بالإضافة إليه حقيقة، بالمعنى المقابل
للانشغال به ولقطعه.
لوضوح أن من يشرع في العمل لا يخرج عن إحدى حالات ثلاث:
الانشغال به، وقطعه معرضا عنه، والفراغ عنه منصرفا منه، وما هو موضوع
القاعدة الأخير المقابل للأولين.
فليس التسامح إلا في صدق العنوان على العمل المأتي به بلحاظ قصده
منه بناء على الصحيح، وهو تسامح شايع، أما بناء على الأعم فلا تسامح حتى في
ذلك. وهو يجتمع مع احتمال نقصه، بل مع العلم به، لان نقصه عما يجب لا
ينافي وحدته والفراغ منه بعد الانشغال به بقصد تحقيق الفعل المشروع به
لتخيل انطباقه عليه، وإن كان القصد المذكور في غير محله. ولذا كان صريح
بعض النصوص فرض تحقق العمل من المكلف مع فرض العلم ببطلانه.
433

نعم، احتمال النقص لا يجتمع مع إحراز الفراغ عن العمل المشروع. وهو
غير مهم لعدم اتصافه بالصحة والبطلان، بل بالوجود والعدم، فهو خارج عن
محل الكلام والنصوص.
وعليه لابد في الاكتفاء بأحد الأمور المتقدمة في كلماتهم من رجوعه لما
ذكرنا وملازمته له، ومع تحققه لا ملزم بتحقق شئ مما ذكروه، فالمدار عليه لا
عليها.
فلو لم يحرز المكلف الفراغ عن عمله الذي شرع فيه بعنوانه الخاص، بل
احتمل قطعه له وإعراضه عنه، لم تجر القاعدة، وإن أحرز من نفسه سبق البناء
منه على الفراغ والاعتقاد بإكمال العمل واحتمل خطأ البناء المذكور، أو جاء
بمعظم الاجزاء وكان من عادته التتابع فيها، أو تعذر منه التدارك، لتحقق المنافي،
أو أحرز الاتيان بالجزء الأخير - كالسلام - ولا لتخيل عدم جواز القطع بدونه،
وقد نبه لذلك في غير واحد على اختلاف مبانيهم.
وبناه سيدنا الأعظم قدس سره على اعتبار الفراغ البنائي مدعيا أنه غير محرز في
الفرض.
لكنه غير ظاهر، لامكان اعتقاد المكلف بعد مدة من تركه للعمل فراغه
منه، ويتحدد احتمال القطع عنده بعد ذلك. إلا أن يريد من الفراغ البنائي هو
الاعتقاد بالفراغ حين الاعراض عن العمل وترك الانشغال به، فيلازم الفراغ
الحقيقي بالمعنى الذي ذكرناه.
كما أنه لو أحرز من نفسه الفراغ عنه بالمعنى المذكور جرت القاعدة وإن
لم يحرز الاتيان بمعظم الاجزاء، أو لم يكن من عادته التتابع فيها، أو لم يتعذر
في حقه التدارك، أو لم يحرز الاتيان بالجزء الأخير.
نعم، الفراغ بالمعنى المذكور ملازم للفراغ البنائي. لكن المدار على
الملزوم لا اللازم.
434

ومن ذلك يظهر الحال في ما لو شك في الاتيان بالجزء الأخير في
المترتبات، أو ببعض الاجزاء في ما لا ترتيب فيه، ولم يمكن إحرازه بالدخول
في ما يترتب عليه - كالتعقيب - سواء تحقق المنافي المانع من تتميم العمل أم لا،
حيث يكون المدار في جريان القاعدة فيه على إحراز الفراغ بالمعنى المتقدم،
بأن يحرز الانشغال بالعمل بعنوانه الخاص، ثم إنهاؤه والفراغ منه بذلك العنوان،
وإن احتمل نقصه عما يجب فيه.
أما لو لم يحرز ذلك فلا تجري القاعدة، لعدم إحراز موضوعها.
وذلك في ما تعتبر فيه الموالاة إنما يكون لاحتمال الاعراض عن العمل
بعد الشروع فيه.
وفي ما لا تعتبر فيه - كالغسل - قد يكون لذلك، بأن يعلم المكلف من
نفسه أنه قصد مجموع العمل حين الشروع فيه مواليا، وقد يكون لعدم القصد
من أول الامر لمجموع العمل، بل قصد بعضه عازما على إكماله بعد ذلك بقصد
استقلالي آخر، فيحتمل الغفلة عن الاكمال، حيث لا يحرز حينئذ الانشغال بتمام
العمل، بل ببعضه، فلا يحرز الفراغ إلا عن البعض المذكور، ويحتمل الشروع في
غيره والأصل عدمه.
ولعل هذا هو مراد من بنى على جريان القاعدة في الغسل إذا كان من عادة
المكلف الموالاة فيه، كما أشرنا لذلك عند الكلام في وجه عدم الاعتداد بالمحل
العادي في صدق المضي والتجاوز.
نعم، لو علم بالفراغ عن كل الاجزاء ولو مع قصدها متفرقا صدق الفراغ
عن المجموع وإن احتمل الاخلال ببعض ما قصده وانشغل به من الاجزاء، كما
لو علم بأنه قد اغتسل مفرقا للأعضاء وأكمل غسله ذلك، ثم احتمل اخلاله
ببعض عضو عند إرادة غسله.
وهذا هو المعيار في الأمور غير الارتباطية، كالتطهير من الخبث، ووفاء
435

الدين لو شك في تحقق بعض أجزائها، فإنه إن كان مع إحراز الفراغ من الكل،
إما للانشغال بالمجموع ابتداء، أو للانشغال بالاجزاء بنحو التعاقب حتى
استوفيت وفرغ من المجموع، وكان مرجع احتمال النقص إلى احتمال الغفلة
منه عن تحقيق بعض ما قصده، حين الانشغال بما قصده، جرت القاعدة، وإلا لم
تجر، كما لو احتمل إعراضه عن الكل بعد شروعه فيه، أو علم بعدم القصد من
أول الامر للكل، وإنما قصد الاجزاء بنحو التفريق، واحتمل الغفلة عن الاتيان
ببعضها.
الجهة الثانية: في مفاد القاعدة.
اقتصر في أكثر النصوص العامة والخاصة على عدم الاعتناء بالشك في
مورد القاعدة وعدم وجوب الرجوع والتدارك بسببه، مثل ما تضمن أن الشك
ليس بشئ، وأنه لا شئ بسببه على المشاك، وأنه يمضي ولا يعيد.
وهو بنفسه لا يقتضي التعبد بالمشكوك، فضلا عن إحرازه أو فرض قيام
الامارة عليه، بل غايته تطبيق العمل في مقام الفراغ والامتثال على ما يناسب أحد
طرفي الشك، نظير تطبيقه في مقام الاشتغال ووصول التكليف على ما يناسب
أحد طرفي الشك في أدلة البراءة والاحتياط فيكون مضمون القاعدة أصلا عمليا
محضا، لا تعبديا، أو إحرازيا، فضلا عن أن يبتني على أمارية شئ.
نعم، بناء على امتناع اكتفاء الشارع بالفراغ الاحتمالي، لان قاعدة وجوب
الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني عقلية غير قابلة للتخصيص، بل له التعبد
بالفراغ مع الشك ليتحقق موضوع القاعدة المذكورة، يتعين حمل المضامين
المذكورة على التعبد بالفراغ، صونا لها عن اللغوية، فتكون قاعدة تعبدية.
لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة إمكان اكتفاء الشارع
بالامتثال الاحتمالي، وأن حكم العقل بلزوم إحرازه إنما هو مع عدم ثبوت اكتفاء
الشارع بذلك.
436

هذا، كله بالنظر المفاد هذه النصوص، أما بالنظر لغيرها فقد يستفاد التعبد
بالمشكوك من بعض ما ورد في الشك في الركوع حال الهوي للسجود، أو حال
للسجود، كقوله عليه السلام في صحيح عبد الرحمن المتقدم: " قد ركع " (1)، وفي صحيح
حماد: " قد ركعت أمضه " (2)، وغيرهما. بل قد يستفاد من صحيح زرارة المتقدم
عن مستطرفات السرائر كون وجود الحائل من سنخ المحرز، فتكون القاعدة
إحرازية، لا تعبدية محضة، لان قوله (3): " فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا
بيقين " ظاهر في كون الحائل محرزا للمشكوك كاليقين السابق في الاستصحاب،
بحيث يكون الاعتناء بالشك والتدارك لأجله تركا للحائل وإعراضا عن مقتضاه،
لا تركا لحكم الشارع معه بالتعبد بالمشكوك لا غير.
بل قد تقرب أمارية القاعدة لما فيها من الكاشفية بلحاظ غلبة جري
المكلف في مقام العمل على طبق ما قصده ارتكازا، بالاتيان بالعمل تام الاجزاء
والشرائط، لان مخالفته لذلك عمدا ينافي كونه في مقام الامتثال، وسهوا مخالف
لظهور حال المدرك الملتفت، فالقصد الارتكازي للعمل التام من سنخ الامارة
بنظر العقلاء على مطابقة العمل الخارجي له.
لكنه يشكل: بأنه ليس في النصوص العامة على كثرتها إشارة للارتكاز
المذكور، بل ظاهرها إرادة عدم الاعتناء بالشك الذي مضى محله من حيث هو،
ولذا ورد بعضها في مورد الشك في أصل الامتثال لا في كيفيته، كصحيح زرارة
والفضيل الوارد في الشك بعد خروج وقت الفوت، ومن الظاهر أن الامر
المذكور ارتكازي أيضا قد يبتني على مراعاة مصلحة التسهيل وحفظ النظام،
لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله.

(1) الوسائل ج: 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 6. وقد تقدم ذكر في الامر الثاني من الجهة
الأولى.
(2) الوسائل ج: 4، باب: 13 من أبواب الركوع حديث: 2.
437

نعم، قد يظهر ابتناء الحكم على الارتكاز المشار إليه من حديث بكير
المتقدم في أدلة المسألة، المتضمن أنه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك
وصحيح محمد بن مسلم المتقدم في الامر الثاني من الجهة الأولى المتضمن أنه
حين ينصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك.
لكن تقدم في الامر المذكور عدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة،
التي هي بمنزلة موضوع الحكم والتي تكشف عن سنخه ومنشئه.
ومن هنا يشكل البناء على الا مارية في المقام، بل غايته البناء على كون
القاعدة إحرازية لصحيح زرارة المشار إليه بعد إلغاء خصوصية مورده والتعدي
لجميع صغريات القاعدة، بناء على وحدتها.
بقي في المقام أمران..
الأول: أنه لا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب، سواء كانت
أصلا عمليا محضا، أم تعبديا، أم إحرازيا، أم أمارة. وإلا لزم إلغاؤها وإهمال
دليلها رأسا، لأنها أخص من الاستصحاب موردا، ومخالفة له عملا دائما، لان
وجود المشكوك على خلاف الحالة السابقة. وأما صحته فهي وإن كانت على
خلاف الحالة السابقة أيضا بلحاظ العدم الأزلي، إلا أن الأثر ليس لها، بل للازمها
وهو وجود الصحيح، والاستصحاب يقتضي عدمه، وحيث لا يكون التلازم بين
الامرين شرعيا يكون الاستصحاب معارضا للقاعدة، لا محكوما لها، كي يتوهم
انفرادها بالجريان. فالامر في المقام أظهر منه في اليد. لأنها قد تطابق
الاستصحاب عملا، كما أنه قد لا يجري في موردها لتعاقب الحالتين مع الجهل
بتاريخهما، على ما تقدم.
أما في المقام فلا يتصور الجهل بالتاريخ في نفس مورد القاعدة، غاية
الامر أنه قد يتم في نفس الشرط المجهول - كالطهارة - وهو إنما يمنع من
الاستصحاب السببي الجاري في الشرط، دون المسببي الجاري في المشروط،
438

الذي مقتضاه مخالف لمقتضى القاعدة دائما.
اللهم إلا أن يقال: لا مجال لجريان الاستصحاب في المشروط، للعلم
بتحقق ذاته، والشك انما هو في شرطه، وليس مرجع الاشتراط إلى أخذ التقييد
في المأمور به، بنحو يكون المطلوب مفهوما بسيطا منتزعا عن وجود الذات
والقيد، كي لا يكون العلم بتحقق الذات منافيا للشك فيه، وإلا لامتنع إحرازه
بإحراز القيد، بل إلى كون المطلوب هو الفصل حال وجود القيد، بنحو التركب
المفهومي، فمع إحراز أحد الامرين بالوجدان لا مجال لاستصحاب عدم
المركب.
مضافا إلى أن الاستصحاب قد يوافق القاعدة عملا، كما في مورد
استصحاب الشرط. نعم لا مجال لحمل أدلة القاعدة على خصوص هذا المورد،
لأنه في معنى إلغائها، نظير ما تقدم في اليد.
وكيف كان، فلا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب، ولا أثر
لاختلاف الوجوه المتقدمة في ذلك.
غاية الامر اختلاف وجه التقديم باختلاف الوجوه المذكورة..
فعلى القول بأماريتها يجري ما تقدم من الكلام في وجه تقديم الامارة
على الاستصحاب، وقد سبق منا تقريب نحو من الورود لها عليه يجري هنا، بل
يجري بناء على كونها أصلا إحرازيا أيضا، كما يظهر بملاحظته والتأمل فيه.
وأما بناء على كونها أصلا تعبديا أو عمليا محضا فقد تقرب حكومة
القاعدة على الاستصحاب بوجهين..
أحدهما: ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن موضوع الاستصحاب لما كان
هو الشك في بقاء الحالة السابقة المسبب عن الشك في حدوث ما يرفعها،
ومفاد القاعدة حدوث ما يوجب رفعها، كانت رافعة لموضوعه.
وفيه: أن التعبد بحدوث ما يرفع الحالة السابقة وإن كان موجبا للحكومة
439

عندهم، وعليه جروا في تقديم الأصل السببي على المسببي، إلا أن المراد ما
يرفعها ثبوتا، كطهارة الماء الذي يغسل به الثوب بالإضافة إلى نجاسة الثوب،
والقاعدة في المقام لا تقتضي التعبد بالرافع للحالة السابقة بالمعنى المذكور، بل
تقتضي التعبد بنقيض الحالة السابقة، وهو مضاد للتعبد بنفس الحالة السابقة -
الذي هو مفاد الاستصحاب - لا حاكم عليه.
نعم، لو كان التعبد المذكور مستندا لطريق يؤدي لارتفاع الحالة السابقة
إثباتا كان ذلك الطريق حاكما على التعبد الاستصحابي عندهم، على ما فصل
الكلام فيه في وجه حكومة الامارة، لكن المفروض في محل الكلام عدم أمارية
القاعدة.
ثانيهما: ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدس سره من أن أدلة القاعدة لما كانت
ناظرة إلى نفي الشك وأنه ليس بشئ صالح للعمل على وفق احتمال بقاء الحالة
السابقة، كانت رافعة لموضوع الاستصحاب، فتكون حاكمة عليه، بخلاف دليل
الاستصحاب، فإنه لا يقتضي نفي الشك، بل التعبد بالمتيقن في ظرفه، فلا يرفع
موضوع القاعدة.
وفيه: أن مفاد أدلة القاعدة ليس هو نفي الشك، وإلا كانت بلسان الامارة
أشبه، بل عدم الاعتناء به في مقام العمل، وهو مفاد دليل الاستصحاب أيضا،
غايته أن عدم الاعتناء بالشك مسوق في دليل الاستصحاب لبيان وجوب العمل
على طبق الحالة السابقة، وفي دليل القاعدة لبيان وجوب العمل على خلافها،
فيتنافيان، ولا يرفع أحدهما موضوع الاخر، ليحكم عليه.
ومن هنا كان الظاهر انحصار وجه التقديم حينئذ بالتخصيص (1).

(1) اختلف تقريرا درس بعض مشايخنا (مصباح الأصول) و (مباني الاستنباط) في مبنى تقديم
القاعدة على الاستصحاب، بعد اتفاقهما في لزومه دفعا للغوية دليلها، وفي عدم حكومتها، فقد
جرى في الأول على ما ذكرناه من التخصيص، وانكره في الثاني، لدعوى إباء أدلة الاستصحاب
عنه.
وهو كما ترى! فإن الابي عنه هو عدم نقض اليقين الفعلي بالشك، لامتناع رفع حجية القطع، أما
عدم رفع اليقين السابق بالشك فهو قابل للتخصيص دون محذور، بل قد ثبت في كثير من
الموارد تخصيصه بالتعبد بارتفاع الحالة السابقة، كما في البلل الخارج قبل الاستبراء، أو
بالاحتياط، كما في موارد وجوب الفحص. بل لما اعترف بعدم الحكومة في المقام انحصر
وجه التقديم بالتخصيص. (منه. عفي عنه).
440

الثاني: الظاهر أن القاعدة ليست حجة في لازم مؤداها، سواء كانت أمارة
أم أصلا إحرازيا أم غيره، لعدم الدليل على ذلك.
وقد تقدم في مبحث الأصل المثبت أنه لا ملزم بحجية الامارة في لازم
مؤداها، بل لابد فيه من دليل خاص، ومعه يبنى على ذلك في الامارة والأصل
معا.
نعم، تطبيق القاعدة في مورد الشك في صحة الموجود الذي هو مورد
قاعدة الفراغ عندهم يبتني على الانتقال للازم غير الشرعي، لان الأثر لوجود
الصحيح بمفاد كان التامة، وليس التلازم بينه وبين صحة الموجود شرعيا، بل
عقلي، ومن ثم لا يجري الاستصحاب في صحة الموجود أو عدمها، كما أشرنا
لذلك عند الكلام في الوجه الأول من وجوه وحدة القاعدة.
وإنما يرجع للاستصحاب في مورد الشك في صحة الموجود لاحراز
منشأ انتزاع الصحة، وهو وجود الجزء أو الشرط، أو عدمه، حيث يحرز به تحقق
الصحيح وهو المركب التام - بمفاد كان التامة - لاحراز بعضه بالوجدان وبعضه
بالأصل، أو إحراز عدمه، فيكون موضوع الاستصحاب هو الجزء أو الشرط
لاتمام المركب.
ولا مجال لذلك في المقام، لما تقدم عند الكلام في الوجه الرابع من
وجوه وحدة القاعدة من ظهور بعض النصوص في تطبيق القاعدة على نفس
المركب الخارجي لاحراز صحته، فلابد أن يبتني على الانتقال منه إلى لازمه غير
441

الشرعي، وهو وجود الصحيح، الذي هو موضوع الأثر العملي، دفعا للغوية،
سواء كانت القاعدة أصلا أم أمارة، ولا مجال للتعدي لغير ذلك من اللوازم.
ومن هنا يتضح أنه لا ثمرة عملية للنزاع في أمارية القاعدة. فلاحظ.
المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة.
والظاهر ثبوت العموم في أدلة القاعدة بلحاظ جميع الأبواب في فرض
وجود الموضوع المتقدم، بنحو يكون الخروج عنه في بعضها محتاجا لدليل
مخصص.
وهو المصرح به في كلام غير واحد ممن ادعى تعدد القاعدة أيضا،
فحكموا بعموم كلتا القاعدتين.
لكن بعض الأعاظم ادعى اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة.
وكأنه لاختصاص مورد صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر بها بلحاظ
الأمثلة المذكورة في صدرهما، لسوقها للتمهيد والتوطئة للقاعدة.
لكن المورد لا يخصص الوارد، ولا سيما في مثل المقام ما كان العموم فيه
ارتكازيا، لارتكازية القاعدة، ولا دخل للمورد في الجهة الارتكازية المبتنية
عليها.
بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر للتعليل بالحائل في صحيح زرارة
والفضيل الوارد في الشك في الصلاة بعد خروج وقت الفوت، وفي صحيح
زرارة المروي عن مستطرفات السرائر الوارد في الشك في الظهر بعد العصر.
فالبناء على العموم من هذه الحيثية متعين
نعم، لا إشكال في خروج الوضوء عنها، كما وقع الكلام في إلحاق غيره
من الطهارات به. والبحث في ذلك بمسائل الفقه أنسب.
ومن هنا ينبغي النظر في بعض الموارد التي وقع أو يقع الكلام في جريان
القاعدة فيها لدعوى قصوره عنها رأسا أو انصرافا، لأنها ترجع لحيثيات اخر غير
442

الحيثية المتقدمة.
ويتم استقصاؤها بذكر مسائل..
المسألة الأولى: في منشأ الشك.
الشك في صحة العمل يكون من إحدى جهتين.
الأولى: الشبهة الحكمية، كما لو توضأ بالماء المستعمل في رفع الحدث
الأكبر ثم شك في مانعية الاستعمال المذكور من الوضوء بالماء.
ومحل الكلام هنا ما إذا حصل الشك المذكور بعد الفراغ من العمل أو
مضي محل المشكوك.
أما لو حصل قبله خرج عن موضوع القاعدة. ولذا تقدم أن القاعدة ليست
من المسائل الأصولية التي تقدم في طريق استنباط الحكم الكلي الذي يتفرع
عليه العمل، بل هي متفرعة على العمل الشخصي.
إذا عرفت هذا، فالظاهر عدم جريان القاعدة حينئذ، لاختصاص دليلها
بالشك في الجريان على مقتضى التشريع مع تعيين مقتضاه، ولا يعم الشك في
مطابقة التشريع لما وقع مع تعيين ما وقع، لان ذلك هو المتيقن من الجهة
الارتكازية التي أشير إليها في نصوص القاعدة.
كما أن النصوص المذكورة مختصة بذلك.
أما نصوص الشك في وجود المشكوك - الذي هو مجرى قاعدة الفراغ
عندهم - فلان صحة العمل وفساده وإن أمكن فرضهما من جهة الشبهة الحكمية
إلا أن الأدلة لم تتضمن عنوان الشك في الصحة، بل الشك في نفس العمل
الخارجي، وظاهره إرادة الشك في الخصوصية التي وقع عليها مما يهتم به
لكونه موردا للأثر ومأخوذا في التشريع، لا ما يعم الشك في الخصوصية
المأخوذة في الحكم الشرعي، فإنها أجنبية عن العمل.
وأما المطابقة للمشروع فهي وإن كانت من خصوصيات العمل، إلا أنها
443

أمر انتزاعي متفرع على التشريع ليست موردا للأثر، فينصرف إطلاق الشك في
العمل عنها.
نعم، لو لم ترجع الشبهة الحكمية للشك في أخذ شئ في الفعل - كأخذ
الترتيب في غسل الجنابة - بل للشك في تحقق الامر المأخوذ فيه، كما لو شك
بعد الوضوء بالماء الذي زال تغيره من قبل نفسه في طهارته لم يمنع الوجه
المذكور من جريان القاعدة فيها، لأن الشك حينئذ في خصوصية في فعل
المكلف مورد للأثر ومحط للغرض، فلابد في توجيه قصور القاعدة حينئذ من
دعوى انصراف أدلتها عن الشبهة الحكمية واختصاصها بالشبهة الموضوعية،
والظاهر تسالمهم على ذلك. فلاحظ.
الثانية: الشبهة الموضوعية، وللشك معها وجوه، لأنه يرجع..
تارة: للشك في صورة العمل مع العلم بما هو المشروع.
وأخرى: للشك في انطباق العمل على المشروع مع العلم بصورة العمل.
وثالثة: للشك في أصل مشروعية العمل.
أما الأول فكما لو شك المكلف في موالاته في الوضوء، أو في طهارته
حين الصلاة. وهو المتيقن من أدلة القاعدة.
وأما الثاني فكما لو علم المكلف أنه صلى لجهة معينة وشك في أنها
القبلة أولا. ومقتضى إطلاق النصوص جريان القاعدة، لأن الشك في ذلك راجع
للشك في خصوصية راجعة للعمل مقارنة له، كخصوصية الوقوع للقبلة في
المثال.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الشك المذكور لا يتمحض في جهة
انطباق المأتى به، لان كون الجهة التي صلى إليها القبلة لا دخل لها بعمله الذي
هو موضوع القاعدة وهو الصلاة.
ففيه: أنه وإن لم يتمحض في ذلك إلا أنه راجع إليه، لأن الشك في كون
444

الجهة الخاصة قبلة يستلزم الشك في وقوع صلاته للقبلة على مقتضى الامر،
وبلحاظه تجري القاعدة، فيبنى على صحة العمل، وإن لم تجر بلحاظ الأول، فلا
يحرز كون الجهة المذكورة قبلة تجوز الصلاة إليها.
ومجرد كون منشأ الشك في الانطباق شكا أجنبيا عنه، لا يمنع من دخوله
تحت القاعدة، إذ قد يتأتى ذلك مع الشك في صورة العمل.
بل الشك في المقام لا يخرج عن الشك في صورة العمل، إذ لا يراد
بصورة العمل خصوص مادته - وهي الاجزاء - وهيئته - وهي الموالاة والترتيب -
بل ما يعم قيوده المقارنة له، كطهارة المصلي وتستره، وهي بالمعنى المذكور
مجهولة في المقام.
ثم إنه لا يفرق في ما نحن فيه بين كون الخصوصية المشكوكة - تبعا
للشك الخارج عن العمل - دخيلة في نوع العمل، كالاستقبال في الصلاة، وكونها
دخيلة في صنفه، كالحضر الدخيل في صحة التمام، بأن علم المكلف بأنه صلى
تماما، وشك في أنه كان حاضرا أو مسافرا حين الصلاة.
كمالا يفرق بين كون الصنف الذي يعلم بدخل الخصوصية المشكوكة
فيه اختيارا - كالتمام في المثال - وكونه اضطراريا، كالوضوء الجبيري، بان علم
المتوضئ أنه مسح على العصابة وشك في مشروعيته، لاحتمال عدم الجرح
الذي هو موضوع الوضوء الجبيري. كل ذلك لاطلاق أدلة القاعدة.
هذا، وقد عد غير واحد مما نحن فيه ما لو علم المتوضئ أنه لم يحرك
خاتمه وشك في وصول الماء لما تحته.
وهو في غير محله، لان عمل المكلف الذي هو المشروع والمجزي ليس
هو صب الماء على العضو المعلوم الصورة، بل ايصال الماء له المسبب عن
ذلك، وهو مجرى القاعدة، ومن الظاهر أن إيصاله لما تحت الخاتم جزء من
العمل المذكور، فالشك فيه شك في صورة العمل، لان المراد منها ما يعم الجزء
445

قطعا، فيدخل في الوجه الأول الذي عرفت أنه المتيقن من القاعدة.
نعم، كلا الوجهين، بل الوجه الثالث أيضا، قد تكون مع احتمال الالتفات
لجهة الشك ومنشئه " بحيث يستند الاتيان بالمشكوك لقصد المكلف، وقد
تكون مع القطع بالغفلة بحيث يكون حصول المشكوك اتفاقيا، وربما يشكل
عموم القاعدة للثاني.
وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في المسألة الثانية.
وكأن إشكال شيخنا الأعظم قدس سره في عموم القاعدة مع انحفاظ صورة العمل
مبني على القطع بالغفلة، كما يناسبه استدلاله، فمراده انحفاظ صورة العمل
الملتفت إليه.
بل من القريب ابتناء منع بعض الأعاظم قدس سره من جريان القاعدة في هذا
القسم على ملاحظة هذه الصورة، وإلا فالالتزام بعدم جريانها في صورة احتمال
الالتفات بعيد عن مرتكزات المتشرعة جدا.
وأما الثالث فكما إذا احتمل بطلان الصلاة لاحتمال عدم دخول الوقت،
أو احتمل بطلان غسل الجنابة لاحتمال عدم الجنابة.
وقد جزم سيدنا الأعظم قدس سره بعدم جريان القاعدة فيه، لخروجه عن مورد
أدلتها.
وكأنه لان الخصوصية المشكوكة ليست مطلوبة لنفسها ولا يتعلق بها
الغرض، بل هي علة لتعلق الفرض بالعمل ومشروعيته. واهتمام المكلف
بحصولها إنما هو بلحاظ ترتب الاجزاء عليها، وليس هو أثرا شرعيا، بل عقلي،
فينصرف عنه إطلاق الأدلة.
لكن لم يتضح الوجه في تقييد الخصوصية المشكوكة بما إذا كانت موردا
للطلب، وعدم عمومها لما إذا كانت علة للطلب والمشروعية، بعد أن كانت
عليتها شرعية، وبعد أن كانت مما يهتم المكلف بها لأجل إحراز صحة العمل
446

ومشروعيته، فالبناء على العموم هو الأوفق بالاطلاق والمناسب للارتكازيات
المتشرعية.
نعم، لو حصل الشك المذكور قبل اليقين بدخول الوقت فمقتضى
الاستصحاب عدم الموضوع للقاعدة، لعدم انشغال الذمة بالعمل بعد، كي يحرز
بها الفراغ عنه، فلا مجال لجريانها لعدم الأثر، فبعد تجدد اليقين بالوقت يعلم
بانشغال الذمة بالتكليف، فلابد من إحراز الفراغ عنه، ولا تنفع القاعدة في ذلك
بعد عدم جريانها من أول الامر حين حدوث الشك. والمسألة محتاجة للتأمل.
المسألة الثانية: في عموم القاعدة من حيثية وقت الشك.
تكرر منا أن موضوع القاعدة هو الشك الذي مضى محله، إما للشك في
الوجود بعد مضي محل المشكوك، أو للشك في الصحة بعد الفراغ من العمل.
فلو حدث الشك في المحل أو قبل الوصول إليه فلا موضوع للقاعدة
ولزم الاعتناء بالشك - بمقتضى الاستصحاب، أو قاعدة الاشتغال - فلو لم يعتن
به ومضى عليه لم يجزئ بالعمل سواء كان عدم الاعتناء مع الالتفات للشك -
عمدا أو للجهل بحكمه - أم مع الغفلة عنه، فإن الغفلة عنه كالجهل بحكمه
لا ينافي عدم مضي محل الشك الموجب لقصور القاعدة عنه.
غاية الامر أن الغفلة عن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب والجهل
العذري بحكمه يوجب عدم تنجزه حين العمل، وهو لا يهم مع تنجزه حين
الالتفات بعد الفراغ عنه بعد فرض عدم جريان القاعدة المانعة من الرجوع إليه.
وأما لو غفل عن المشكوك فأتى بالعمل ومضى فيه ثم التفت فتجدد له
الشك بعد مضي محله فإن احتمل الاتيان بالمشكوك بعد الشك الأول فلا ريب
في جريان القاعدة بلحاظ الشك المتجدد، لمباينة الشك المذكور للشك السابق،
لفرض تعدد موضوعهما.
وما ذكره بعض الأعيان المحققين من عدم جريان القاعدة، لاختصاصها
447

بالشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق بالشك قبل العمل.
غريب جدا، إذ لا يزيد الشك قبل العمل عن اليقين بعدم الاتيان
بالمشكوك، مع جريان القاعدة معه لو فرض احتمال الاتيان به بعد ذلك،
والتقييد المذكور في كلامه مما لا يمكن الالتزام به مع فرض تباين الشكين
بسبب تعدد موضوعيهما.
وإن علم بعدم الاتيان بالمشكوك بعد الشك الأول، بحيث يستند احتمال
صحة العمل لما استند له الشك الأول لا غير، فربما يدعى جريان القاعدة أيضا
بلحاظ الشك المتجدد، لأنه وإن اتحد مع الشك السابق موضوعا، إلا أنه مباين له
بسبب فصل الغفلة المفروضة بينهما، فلا يكون الثاني بقاء للأول، بل هو شك
جديد حاصل بعد مضي محله، فتشمله القاعدة وإن لم تشمل الشك الأول.
لكن ذكر غير واحد أن الشك المذكور غير مشمول لأدلة القاعدة، بل
ظاهر غير واحد المفروغية عن ذلك، وظاهر بعض الأعيان المحققين تسالم
الأصحاب عليه.
ويظهر من سيدنا الأعظم قدس سره أن الوجه فيه قصور دليل القاعدة عن الشك
المسبوق بمثله قبل العمل. وذكر بعض مشايخنا في توجيه ذلك أن تباين
الشكين لتخلل الغفلة بينهما إنما هو دقي، والا فهما بنظر العرف شك واحد
سابق على الفراغ من العمل ومضيه خارج عن موضوع القاعدة.
بل قد يقال: ان الشك عرفا كالعلم يصدق بمجرد حصوله، ولا يضر
بصدقه طروء الغفلة، فكما أن العالم لو غفل عما علمه لا يصح عرفا سلب العلم
عنه، بل يصدق عليه الذاهل أو الناسي، دون الجاهل، كذلك الشاك لو غفل عما
شك فيه لا يصح سلب الشك عنه.
والفرق بينه وبين ما ذكره بعض مشايخنا أن وحدة الشك على ما ذكرنا
حقيقية مستلزمة لقصور إطلاق دليل القاعدة عن المورد حقيقة، وعلى ما ذكره
448

تسامحية فلابد من دعوى انصراف إطلاق الدليل، لا قصوره.
لكن لا يخلو كلا الوجهين عن الاشكال، خصوصا في مثل الشك
الحاصل قبل الشروع في العمل، كالشك في الطهارة قبل الصلاة، لوضوح أن
المشكوك فيه هو الطهارة قبل الصلاة، وليست هي موضوعا للأثر، بل ليس
موضوعه إلا الطهارة حين الصلاة التي هي موضوع الشك الثاني الحادث بعد
الفراغ، فالشكان متباينان تبعا لتباين موضوعيهما، وإن كانا متلازمين. ومنه يظهر
عدم تمامية ما تقدم من سيدنا الأعظم قدس سره.
نعم، قد يقال: إن بقاء اليقين والشك وعدم ارتفاعهما بالغفلة مستلزم لبقاء
حكمهما، وهو الاستصحاب وإن لم يتنجز بسبب الغفلة عن موضوعه، وإنما
يتنجز بعد الالتفات، والمتيقن من تقديم القاعدة على الاستصحاب هو تقديمها
عليه بلحاظ تطبيقه على الشك الحاصل بعد مضي المحل، أما بلحاظ الشك
الحاصل قبله فلا ملزم بتقديمها عليه، لعدم لزوم لغويتها لو قدم عليها، فالمتيقن
هو منع القاعدة من الاستصحاب الذي يكون موضوعه مقارنا لموضوعها، لا
رفعها للاستصحاب الجاري قبلها، لسبق موضوعه على موضوعها زمانا.
بل يتعين تقديمه عليها لو كان سببيا بالإضافة إليها، لكون مجراه منشأ
للشك الذي هو موضوعها، بملاك تقديم الأصل السببي على المسببي، فيكون
استصحاب عدم الوضوء الجاري قبل الدخول في الصلاة في المثال المتقدم
مقدما على قاعدة الفراغ الجارية بعدها.
ومن هنا يتعين تقديم الاستصحاب السببي الجاري سابقا وإن لم يكن
المشكوك بعد مضي المحل ملتفتا إليه قبله، بل كان مباينا للمشكوك فيه سابقا
مسببا عنه، كما لو شك المكلف في تطهير الاناء، فاستصحب نجاسته، ثم غفل
ووضع فيه الماء وتوضأ به ثم التفت بعد الفراغ واحتمل صحة وضوئه لاحتمال
تطهير الاناء، فإن ما هو الشرط لصحة الوضوء هو طهارة الماء، ولم يسبق الشك
449

فيه قبل الوضوء، كي يتمسك لعدم جريان القاعدة بوحدة الشك عرفا أو حقيقة،
وإنما سبق الشك بتطهير الاناء.
فإذا تم ما ذكرنا من حكومة الاستصحاب الجاري سابقا فيه على القاعدة
اتجه عدم جريانها في الفرض، كما هو المناسب للمرتكزات، وإلا تعين جريانها
لتحقق موضوعها بلا إشكال، وهو الشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق
بمثله.
وحيث كان جريانها فيه بعيدا عن المرتكزات كشف عن قرب ما ذكرناه
من الوجه.
لكن الوجه المذكور لا ينفع لو لم يكن الشك الحاصل قبل مضي المحل
سببيا بالإضافة للشك الحاصل بعده الذي يكون مجرى للقاعدة، لعدم الترتب
بين موضوعيهما، كما لو شك في الركوع قبل السجود، فوجب عليه ظاهرا
الاتيان به، ثم غفل وسجد، وقطع بعد الالتفات بعدم الاتيان بالركوع بعد الشك
المذكور، حيث لا وجه لحكومة استصحاب عدم الاتيان بالركوع على القاعدة،
بل يتعين حكومتها عليه، بناء على كونها إحرازية، كما تقدم.
فلابد من التشبث في منع جريان القاعدة فيه إما بما تقدم من وحدة الشك
عرفا أو حقيقة، أو بدعوى انصراف دليل القاعدة عما لو أحرز كون المضي في
العمل على خلاف الوظيفة التي خوطب بها ولو ظاهرا، وإن كانت المخالفة عن
عذر بسبب الغفلة.
وهذا بخلاف ما لو لم يتلفت إلا بعد الفراغ، لفرض عدم إحراز المخالفة
للوظيفة الواقعية، وعدم تحقق موضوع الوظيفة الظاهرية قبل الفراغ، كي يكون
المضي مخالفة لها.
هذا، والظاهر أن منع الارتكاز عن جريان القاعدة كاف في البناء على
عدمه، والمهم إنما هو معرفة منشأ الارتكاز المذكور، ولا يبعد صلوح ما ذكرنا له.
450

نعم، لابد من إحراز أن جري المكلف على خلاف مقتضى الوظيفة
الظاهرية لمحض الغفلة عن المشكوك، أما لو احتمل تبدل المحال في نفس
المكلف، بحيث يكون عدم فعلية الشك منه لتبدل الشك في نفسه باليقين حين
العمل، وإن غفل بعده أيضا، فالظاهر جريان القاعدة بسبب الشك الحاصل بعد
الفراغ والالتفات، لعدم إحراز المانع منها، وهو الوظيفة الظاهرية المنافية
للقاعدة، كالاستصحاب الحاكم عليها أو الموجب لانصراف دليلها، لان بقاء
الوظيفة المذكورة مشروط بعدم تبدل الشك باليقين، كما لا يحرز مع ذلك
وحدة الشك عرفا أو حقيقة بالتقريب المتقدم.
وأما احتمال بقاء الحال السابق وعدم التبدل، فهو الشك متجدد بعد
المضي، ومبنى القاعدة على إهماله، كما يهمل الشك بالإضافة إلى الواقع الذي
يحتمل مخالفته وإن كان موافقا للأصل الأولي.
وأوضح من ذلك ما لو احتمل الاتيان بالمشكوك بعد الشك السابق. ولذا
تقدم منهم الجزم بجريان القاعدة معه. فتأمل جيدا.
المسألة الثالثة: في عموم القاعدة من حيثية الالتفات حين العمل وعدمه.
أشرنا في المسألة الأولى إلى أن شيخنا الأعظم قدس سره استشكل في جريان
القاعدة مع حفظ صورة العمل، وذكرنا أن التأمل في دليله قاض بأن نظره في
ذلك لفرض غفلة المكلف عن جهة الشك حين العمل، فمرجع ذلك منه إلى
اعتبار احتمال التفات المكلف لجهة الشك حين العمل في جريان القاعدة. وهو
الذي أصر عليه بعض مشايخنا ونسبه لجملة من الأصحاب.
وغاية ما يوجه به ذلك: أن مبنى القاعدة ارتكازا على ملاحظة ظهور حال
الممتثل في مطابقته للامر الذي يريد امتثاله بالمحافظة على جميع
الخصوصيات المعتبرة في العمل، وذلك إنما يكون مع التفاته لجهة الشك، ولو
ارتكازا، حيث يكون إخلاله معه عمدا منافيا لكونه في مقام الامتثال، وسهوا
451

مخالفا للظهور الأولي في كل فاعل.
أما مع غفلته عن جهة الشك فاخلاله بالخصوصية المطلوبة لا ينحصر
بالوجهين المذكورين بل يستند لغفلته، وحصول الخصوصية المطلوبة معها إنما
يكون اتفاقيا، ولا ظهور لحال الممتثل فيه.
مضافا إلى التعليل بقوله عليه السلام في حديث بكير المتقدم في أدلة القاعدة:
" هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك " وفي صحيح محمد بن مسلم المتقدم في
مبحث عدم الاعتداد بمضي المحل العادي: " وكان حين انصرف أقرب إلى الحق
منه بعد ذلك ".
لكن تقدم عند الكلام في أمارية القاعدة الاشكال في ابتناء القاعدة على
الجري على الجهة الارتكازية المذكورة، وقوة احتمال ابتنائها على جهة أخرى
ارتكازية أيضا لا تقتضي اعتبار الالتفات.
كما تقدم في مبحث الاكتفاء بمضي المحل العادي الاشكال في التعليل
المذكور في الموثق والصحيح بعدم ظهوره في بيان العلة المنحصرة التي يدور
الحكم مدارها وجودا وعدما. فراجع.
مضافا إلى صحيح الحسين بن أبي العلاء: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الخاتم إذا اغتسلت. قال: حوله عن مكانه. وقال في الوضوء تدره، فإن نسيت
حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة " (1). لظهوره في إهمال احتمال
عدم وصول الماء لما تحت الخاتم، والبناء على صحة الوضوء بعد الفراغ منه
والالتفات لذلك.
وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وارد لبيان عدم شرطية تحويل الخاتم
وإدارته بعنوانهما في الطهارة، ودفع توهم بطلانها بتركهما ولو مع وصول الماء،
لا بلحاظ احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم، لينفع في ما نحن فيه.

(1) الوسائل ج: 1، باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 2.
452

فهو بعيد جدا، لعدم المنشأ الارتكازي للاحتمال المذكور كي ينصرف
إطلاق السؤال إليه، بخلاف وجوبهما طريقيا لاحراز وصول الماء.
ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام: " سألته عن
المرأة عليها السوار أو الدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا،
كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال: تحركه حتى يدخل الماء تحته أو
تنزعه. وعن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف
تصنع؟ قال: إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ " (1).
ودعوى: أن ذلك لا يناسب خصوصية التحويل والإدارة اللتين تضمنهما
صحيح الحسين، بل يقتضي الاكتفاء بايصال الماء بأي وجه كان.
مدفوعة: بإلغاء خصوصيتهما عرفا، لفهم أن ذكرهما بلحاظ ملازمتهما
لاحراز وصول الماء، ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر.
كيف! وإلا لزم البناء على شرطية التحويل والإدارة ذاتا، وإن لم يخل
تركهما نسيانا، المستلزم للبطلان مع تركهما عمدا وإن أحرز وصول الماء، فإن
الذيل لا يدل على عدم الشرطية ذاتا، ليجب رفع اليد به عن ظاهر الصدر
المدعي، بل على العفو مع النسيان الجامع لها.
بل هو مختص بالإدارة في الوضوء، فلا موجب للبناء على العفو عن ترك
النزع في الغسل حتى مع النسيان، بعد كون الحكم تعبديا محضا يصعب الغاء
خصوصية مورده.
على أنه لو سلم ما ذكره فاستفادة ما نحن فيه من الصحيح تبعا قريبة جدا،
لملازمة نسيان النزع والتحريك لاحتمال عدم وصول الماء بعد الفراغ غالبا،
فعدم التنبيه على وجوب الإعادة من الحيثية المذكورة مستلزم لظهور الكلام تبعا
في عدم الاعتناء بالاحتمال المذكور.

(1) الوسائل ج: 1، باب: 41 من أبواب الوضوء حديث: 1.
453

وبالجملة: لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيح في ما نحن فيه ودلالته على
عموم القاعدة من حيثية عدم الالتفات لجهة الشك.
هذا كله مع أنه يصعب البناء على التقييد بصورة الالتفات، إذ كثيرا ما يتم
المكلف عمله على نحو خاص قد تعوده مدة طويلة ويعتقد بتماميته، ثم يلتفت
لبعض الاحتمالات القريبة أو البعيدة، الراجعة لخلل في عمله مما كان غافلا عنه
حينه، بحيث لو توجه إليه حينئذ لزمه الفحص عنه، لاقتضاء الأصل عدم التمامية
معه، كعدم وصول الماء في الغسل لبعض المواضع، لاحتياجه للدلك على غير
الوجه الذي تعوده، أو لوجود المانع، أو مانعية الموجود، ونحو ذلك مما ليس
بناء المتشرعة على إعادة ما مضى بعد الالتفات إليه. فلا ينبغي مع ذلك التشكيك
في عموم القاعدة.
ثم إن الاقتصار على ظهور حال الممتثل في تحقيق تمام ما هو الدخيل
في المطلوب، والتعليل المتقدم كما يقتضيان اعتبار الالتفات لجهة الشك كذلك
يقتضيان اعتبار عدم ظهور كون الاعتقاد بالتمامية المقارن للالتفات السابق في
غير محله، لابتنائه على مقدمات غير صالحة للاثبات، وإن احتمل مصادفته
للواقع، فلو فرض علم المكلف من نفسه أنه حين الوضوء كان يعتقد وصول
الماء للبشرة مع وجود الخاتم وإن لم يحركه، وبعد الفراغ شك في ذلك، وظهر
له أن اعتقاده السابق في غير محله، لابتنائه على مقدمات غير منتجة، كان بحكم
غير الملتفت، إذ لا أثر لمثل هذا الالتفات في ظهور حاله في إيصاله الماء للبشرة،
ولا في أذكريته وأقربيته للحق.
نعم، لو خفي عليه وجه الاعتقاد ولم يظهر له صحة مقدماته ولا خطؤها،
كان ظاهر حاله حين الامتثال أنه أتم عمله، كما هو مقتضى الأذكرية والأقربية
للحق المعلل بهما، بضميمة أصالة عدم الخطأ، غير الجارية في الفرض الأول
المبتني على العلم بخطأ الاستناد بوجه الاعتقاد.
454

وهذا هو المعيار في كل جهة للشك، سواء كانت حكمية - كما لو مسح
بإصبع باعتقاد الاجزاء - أم موضوعية راجعة للشك في الاتيان بالمطلوب - كما
لو شك في الاتيان بالركوع قبل السجود، ثم اعتقد الاتيان به ومضى، ثم تجدد له
الشك في الاتيان به - أو للشك في مطابقة المأتي به للمطلوب - كما لو صلى
تماما باعتقاد كونه حاضرا، وبعد الفراغ احتمل كونه مسافرا - أو للشك في
التوظيف به، للشك في تحقق شرط مشروعيته - كالوقت - على ما أشرنا إليه في
المسألة الأولى.
فلو ابتنى المنع في بعضها على اعتبار الالتفات كان اللازم التفصيل بين
ظهور مستند الخطأ في الاستناد لوجه الاعتقاد وعدمه.
كما لا يفرق في ذلك بين القطع وغيره من الطرق الظاهرية، فإذا قامت
البينة على تطهير الماء، فتوضأ به، ثم شك في عدالة الشاهدين، فإن خفي عليه
وجه البناء منه سابقا على عدالتهما لحقه حكم الملتفت، وإن عالم بفسقهما، أو
احتمل ذلك لكن ظهر له أن وجه البناء منه على عدالتهما غير صالح لان يعتمد
عليه، فلا أثر لمثل هذا الالتفات.
ومنه يظهر حال كثير من الفروع التي ذكروها في المقام مما لا مجال
لإطالة الكلام فيه بعد معرفة الضابط المذكور.
المسألة الرابعة: في عموم القاعدة لاحتمال الترك العمدي وعدمه.
والظاهر أن احتمال الترك العمدي إن كان مانعا من إحراز موضوع القاعدة
فلا ينبغي الاشكال في عدم جريانها، كما لو احتمل تعمد الاعراض عن إكمال
العمل، بنحو لا يتحقق معه المضي فيه والفراغ عنه، على ما تقدم عند الكلام في
المعيار في الفراغ.
وإن لم يناف ذلك، بل أحرز المكلف من نفسه أنه في مقام الامتثال وقد
مضى في عمله وفرغ منه، فإن احتمل تعمد ترك الجزء لتخيل عدم اعتباره في
455

العمل ابتنى جريان القاعدة وعدمه على ما تقدم في المسألة السابقة، فإن قيل
باعتبار الالتفات لجهة الشك حين العمل تعين عدم جريانها، لرجوع الشك
للشك في الالتفات، فالتمسك بعموم دليلها فيه من التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، وإلا تعين جريانها، لعموم دليلها.
وإن احتمل تعمد تركه للاعراض عن العمل ثم العدول عن ذلك قبل فعل
المنافي والغفلة عن الجزء، فلا ينبغي الاشكال في جريان القاعدة، لتحقق
موضوعها، حتى بناء على اعتبار الالتفات، لابتناء القاعدة على ظهور حال
الممتثل، والتعليل بالأذكرية والأقربية للحق، لوضوح شمول الوجهين
المذكورين للمورد.
وكذا لو احتمل تعمد ترك الجزء تشريعا، لمنافاته لظهور حال الممتثل.
نعم، لا يشمله التعليل بالأذكرية، لظهور أن ذكره في مقابل النسيان، لا في
مقابل التعمد، إلا أن استفادته منه بالأولوية قريبة جدا. فلاحظ.
المسألة الخامسة: في عموم القاعدة للشك في الشروط.
وظاهر غير واحد وصريح آخرين العموم.
لكن ظاهر كشف اللثام في مسألة الشك في الطهارة في الطواف
الاختصاص بالاجزاء، لأنه بعد أن حكى عن العلامة في غير واحد من كتبه
الحكم بعدم الالتفات للشك فيها بعد الفراغ منه قال: " والوجه: أنه إن شك في
الطهارة بعد يقين الحدث فهو محدث يبطل طوافه، شك قبله أو بعده أو فيه...
وليس ذلك من الشك في شئ من الافعال ".
ويحتمله أيضا ما في المدارك، حيث وافقه في الحكم المذكور، وإن لم
يتعرض إلى أن الوجه فيه قصور القاعدة عن مثل الطواف واختصاصها بالطهارة
والصلاة، أو قصورها عن الشك في الشروط.
لكن تقدم عدم اختصاص القاعدة بالطهارة والصلاة.
456

كما لا ينبغي الاشكال في عمومها للشك في الشروط، لعموم أدلتها
المتقدمة، وخصوص صحيح محمد بن مسلم: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل
شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال: يمضي على صلاته، ولا يعيد " (1)،
وقد يستفاد من غيره.
ثم إنه لا يفرق في جريان القاعدة في الشروط بين ما كان منها سابقا على
العمل بها - كالاذان والإقامة بناء على شرطيتهما محضا - وما كان منها مقارنا له،
سواء كان قائما بتمام المركب، بحيث يجب المحافظة عليه من حين الشروع فيه
إلى الفراغ منه - كالاستقبال والطهارة - على المشهور، أم كان قائما بكل جزء
جزء منه، دون الأكوان المتخللة بينها - كالطمأنينة والترتيب والموالاة بين
الاجزاء - أم كان قائما بخصوص بعض الاجزاء - كالجهر والاخفات في
القراءة -
غاية الامر أنه قد يظهر الفرق بينها عند الالتفات في أثناء العمل، حيث قد
يتعذر إحرازه في الأول بالإضافة إلى حال الشك، وإن أمكن إحرازه بالإضافة إلى
ما قبله بالقاعدة، وبالإضافة إلى ما بعده بالوجدان، بخلاف الأخيرين، حيث لا
يحتاج إلى إحرازه حال الشك لو فرض عدم الانشغال بالعمل حينه، وهو أمر
يختلف باختلاف الشروط، خارج عما ذكرنا من جريان القاعدة عند الشك في
الشرط، لعموم دليلها.
نعم، لا مجال لجريانه في خصوص بعض الشروط مما كان مقوما
للمشروط غير زائد عليه عرفا، كالموالاة بين أجزاء الكلمة، وكالنية التي هي
بمعنى تعيين نوع الفعل، كنية كون الانحناء ركوعا أو سجودا، ونية كون الصلاة
ظهرا أو عصرا، ونية كون المال المدفوع زكاة أو هدية.
لوضوح أن الشرط المذكور لما كان راجعا للشك في تحقق عنوان العمل

(1) الوسائل ج: 1، باب: 42 من أبواب الوضوء حديث: 5.
457

الخارجي لم يحرز معه موضوع القاعدة وهو الفراغ عن العمل ذي العنوان
الخاص ومضيه، ليمكن معه إحراز صحته بها، كما لا مجال معه لاحراز مضي
محل الشرط، لان محله هو حال المشروط ذي العنوان الخاص، فمع عدم إحراز
العنوان لما وقع لا يحرز مضي محله، فيرجع الشك في الشرط المذكور للشك
في وجود المشروط من المركب أو جزئه، فلابد من تطبيق القاعدة بالإضافة إليه
لو فرض مضي محله بخروج وقته، أو الدخول في ما يترتب عليه ويتحقق به
التجاوز عنه.
فمن شك في أن انحناءه كان بقصد الركوع أو لتناول شئ من الأرض لا
مجال لاحرازه القصد للركوع بمضي محله تبعا لمضي الركوع المعتبر فيه، لعدم
إحراز الركوع مع الشك المذكور، وإنما يتجه في حقه جريان القاعدة في نفس
الركوع لو فرض مضي محله بالدخول في السجود.
هذا، مضافا إلى ما قيل من أن شرطية مثل ذلك عقلية، لتوقف العنوان
عليها، لا شرعية، لتكون منشأ لصدق موضوع القاعدة من مضي المشكوك
بنفسه أو بمحله.
وأما ما ذكره العلامة والشهيد وغيرهما من عدم الاعتناء بالشك في النية
بعد تجاوز محلها.
فهو مبني على وجوب النية بمعنى إخطار صورة العمل متصلة بأوله أو
مقارنة له، ومن الظاهر أن الاخطار المذكور ليس مقوما لعنوان العمل، بل يكفي
في صدقه القصد الاجمالي الارتكازي الذي لا إشكال في كفايته حال الاستمرار
في العمل، ولابد من فرض تحققه في المقام، فلو كان الاخطار معتبرا فليس هو
إلا جزءا من العمل أو شرطا زائدا عليه له محل خاص، يمكن فرض التجاوز عنه
بمضي محله والدخول في ما بعده.
وكذا الحال في النية بمعنى قصد التقرب داعيا، فإنها أمر زائد على العمل
458

لا يتوقف عليه صدق عنوانه، بل هي كسائر الشروط تجري فيها القاعدة، بناء
على ما هو التحقيق من أن شرطيتها شرعية لا عقلية.
بقي في المقام أمران..
الأول: أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط هل يكون بتطبيقها على
نفس الشرط، لاثبات وجوده بمفاد كان التامة، بلحاظ مضي محله وهو
المشروط، أو على المشروط لاثبات صحته وواجديته للخصوصية المطلوبة
بمفاد كان الناقصة، بلحاظ مضيه بنفسه، لفرض الفراغ عنه.
والفرق بين الوجهين: أنه على الثاني لا يكفي مضي الجزء الذي يجب
تحقق الجزء حينه إلا أن يكون هو المشروط بالشرط.
أما لو كان محلا للشرط مع كون المشروط هو المركب فلابد من مضي
المركب بتمامه لان مفاد القاعدة على الوجه المذكور هو إحراز الخصوصية
المطلوبة في الفعل الذي مضى، فإذا كانت الخصوصية مطلوبة في الكل لا في
الجزء لم يكف مضي الجزء.
أما على الأول فيكفي مضي الجزء الذي هو محل الشرط مطلقا، إذ المعيار
فيه على مضي محل المشكوك. وتحقيق أن الشرط الذي محله الجزء شرط فيه
أو في تمام المركب مما لا مجال له هنا، بل يوكل للفقه حسبما يستفاد من الأدلة
في كل مورد مورد.
نعم، لازم كونه شرطا في الجزء أن الاخلال به في محله لا يبطل المركب،
بل يبطل الجزء لا غير، فيصح المركب بتداركه واجدا لشرطه - إذ لم يلزم الخلل
من جهة أخرى، كالزيادة ونحوها - أما لو كان شرطا في المركب فلا مجال
لتداركه، لبطلان المركب رأسا بالاخلال به.
ولو فرض الشك في ذلك وعدم ثبوت أحد الوجهين لزم الاقتصار على
المتيقن في الوجه الثاني من تطبيق القاعدة، وهو خصوص حال ما بعد الفراغ
459

من المركب.
ويظهر نظير الفرق المذكور بين التطبيقين في شرط المركب الذي محله
قبل الدخول فيه - كالاذان والإقامة لو قيل بشرطيتهما للصلاة - فإنه على الأول
يكفي في جريان القاعدة الدخول في المركب، لمضي محله به، وعلى الثاني
لابد فيه من الفراغ منه.
هذا، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدس سره أن الوجه الأول من تطبيق
القاعدة لما كان مبنيا على فرض المحل للشرط، فلا يجري في الشروط المعتبر
ايقاع المركب حينها، كالطهارة والتستر، بل يختص بما إذا كان للشرط محل
خاص، كالاذان والإقامة - بناء على شرطيتهما - حيث يجب إيقاعهما قبل
الصلاة.
ويشكل: بأن للشرط محلا خاصا يصدق المضي بالإضافة إليه، فكما
يصدق مع الترتب بالإضافة إلى المتقدم بالدخول في المتأخر، يصدق في
المتقارنين بالإضافة إلى أحدهما بالخروج عن الاخر، ولا يظهر وجه للتفكيك
بينهما.
إذا عرفت هذا، فلا ينبغي الريب في صحة التطبيق الثاني، لان الشرط
خصوصية في الفعل دخيلة في ترتب أثره الثابت له بعنوانه المقصود حين
الامتثال والجري على مقتضى التشريع، فيشملها إطلاق الشك في الشئ.
وأما الأول فقد يشكل: بأن الشرط بنفسه غير مطلوب ولا مرغوب فيه ولا
مورد الأثر، وليس المطلوب ومورد الأثر إلا الذات الواجدة له، فهو مطلوب تبعا،
لمطلوبيتها لا بنفسه، ولذا قد يكون أمرا خارجا عن اختيار المكلف،
كالخصوصيات الزمانية التي تكون قيدا في الواجب من الليل والنهار والظهر
والعصر ونحوها، إذ ليس الامر الاختياري إلا إيقاع الفعل المطلوب حينه.
ومنه يظهر أن فرض المحل له ليس باعتبار أخذه فيه - كما في الواجبات
460

المترتبة - لعدم تشريعه بنفسه، فضلا عن تشريع المحل له، بل باعتبار تقييد ما
هو المشروع به، فيتعين عقلا حفظ الشرط في المحل الخاص.
ولأجل ذلك كله يقرب قصور الاطلاق عنه، ولا أقل من انصرافه عنه، أو
خروجه عن المتيقن منه، فيلزم الاقتصار على التطبيق الأول.
الثاني: أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط لا يقتضي إحرازه مطلقا
ومن جميع الجهات بنحو يترتب عليه جميع آثاره، حتى ما لم يصدق مضي
محل الشك بالإضافة إليه، لان المنصرف من أدلة التعبد بها مع الشك في الشرط
أو الجزء هو التعبد بالمشكوك من حيثية الجهة التي يصدق المضي بالإضافة
إليها، دون غيرها، فمن شك في الركوع بعد السجود مثلا إنما يبني على تحقق
الركوع لاحراز تمامية الصلاة التي بيده التي اخذ فيها الترتيب بين الركوع
والسجود، لا لاحراز جميع آثار الركوع حتى ما ثبت له بعنوانه المطلق، كما لو
نذر أن يتصدق شكرا لكل ركوع يركعه. وهو لا ينافي ما تقدم من كون القاعدة
إحرازية، إذ لا مانع من اختصاص الاحراز بجهة دون أخرى.
وعلى هذا لا يكون جريان القاعدة مع الشك في الشرط وإحرازه بها
مصححا للدخول في بقية ما يعتبر فيه مما لا يصدق بالإضافة إليه مضي محل
الشك مما كان به تمام المركب - لو فرض الشك في الأثناء - فضلا عن الدخول
في مركب آخر.
وقد أشرنا في أول المسألة إلى اختلاف حال الشرط، حيث يكون..
تارة: متقدما على العمل.
وأخرى: مقارنا له مستوعبا لحال الانشغال به، حتى الأكوان المتخللة بين
أجزائه، كالطهارة.
وثالثة: مختصا بحال الانشغال بالاجزاء، كالطمأنينة.
ورابعة: مختصا بحال الانشغال ببعض الاجزاء، كالجهر والاخفات.
461

كما ذكرنا في الامر السابق أنه لو كان شرطا لتمام المركب فلا تجري
القاعدة فيه مع الشك فيه في أثناء العمل حتى بالإضافة لما مضى منه، بناء على
التطبيق الثاني، الذي عرفت أنه المتعين في المقام.
أما لو كان شرطا للجزء فيكفي مضي الشروط به في جريانها فيه، ولابد
من إحرازه حينئذ لباقي العمل لو كان معتبرا فيه أيضا بالوجدان لعدم المضي
بالإضافة إليه، لما ذكرنا.
أما على التطبيق الأول فيكفي مضي محله مطلقا بالدخول في ما بعده أو
بالفراغ مما يقارنه، لكن لا يتعدى لبقية الآثار، كما ذكرنا.
إن قلت: لازم ذلك وجوب تدارك الصلاة السابقة لو شك فيها بعد الفراغ
من اللاحقة كما لو شك في الظهر بعد الفراغ من العصر، لان مقتضى الترتيب
بينهما شرطية الأولى في الثانية، ومقتضى جريان القاعدة في الثانية هو البناء على
وجود الأولى من حيثية شرطيتها فيها لتصحيحها، لا مطلقا ليبنى على فراغ الذمة
منها بامتثالها.
بل حيث كان الترتيب بينهما شرطا ذكريا لم تجر القاعدة، لعدم الأثر لها
بعد العلم بصحة الثانية وعدم نهوضها بإثبات امتثال الأولى، مع أن صريح
صحيح زرارة المتقدم المنقول عن مستطرفات السرائر عدم وجود إعادة الظاهر
لمن شك فيها بعد العصر.
قلت: جريان القاعدة في الصلاة السابقة ليس بلحاظ شرطيتها للاحقة،
ليقتصر فيه على تصحيحها، بل بلحاظ الترتيب بين الصلاتين بحسب جعلهما،
الموجب لمضي محل الأولى بفعل الثانية، وإن لم تكن الثانية شرطا فيها،
فتجري القاعدة في الاولى لاثبات وجودها بما أنها مأمور بها مفاد (كان) التامة
و يترتب عليه أثر وجودها، وهو سقوط أمرها، لكفاية ذلك في تحقيق مضي
المحل، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في معيار الغير الذي يكون الدخول
462

فيه محققا للتجاوز ومضي المحل.
ولا مجال لقياس ذلك بالشرط المتمحض في الشرطية الذي يكون
المحل له منتزعا من شرطيته، من دون أن يكون مبنيا على ملاحظة مشروعية،
كالطهارة التي هي بحسب أصل تشريعها مستحبة بنفسها، قبل الصلاة وحينها
وبعدها. وكون محلها الصلاة ليس بلحاظ تشريعها المذكور، ولذا بقي على
عمومه، بل لأجل شرطيتها للصلاة يلزم وجودها حينها.
وكذا الحال لو قيل بأن الشرط في الصلاة هو الوضوء قبلها، لا الطهارة
المسببة عنه حينها.
بل مقتضي ما ذكرنا هو جريان القاعدة في السابقة بمجرد الدخول في
اللاحقة قبل الفراغ منها، وهو المناسب لارتكازية التعليل بالحائل في الصحيح
المذكور.
خاتمة فيها أمران: الأول: أن الظاهر من أدلة القاعدة أن المضي عزيمة لا رخصة، لا بمعنى
عدم مشروعية الاحتياط، لأن الاحتياط من آثار الاحتمال غير المرتفع مع جريان
القاعدة، كما لا يرتفع مع جريان جميع القواعد الظاهرية، حتى الطرق، وليس
مفادها حكما واقعيا ليصلح لمزاحمة حسن الاحتياط الثابت مع الاحتمال.
بل بمعنى التعبد بآثار تحقق المشكوك الالزامية، فلا يجوز الإتيان به إذا
كان زيادة مبطلة مثلا، لأن ذلك هو مقتضى إطلاق التعبد.
وهو ظاهر بناء على كون القاعدة تعبدية، فضلا عن كونها إحرازية، أما
بناء على أنها عملية محضة فلأنها وإن لم تتضمن التعبد بالمشكوك ولا بآثاره،
إلا أنها تمنع من جريان استصحاب عدم الإتيان به، فلا محرز لصحة العمل، ولا
مؤمن من احتمال بطلانه من جهة الزيادة على تقدير تدارك المشكوك بل
463

مقتضي قاعدة الاشتغال عدم الاجتزاء به.
نعم، لا منجز لاحتمال حرمة الإتيان به تكليفا لو فرض حرمة قطع العمل،
كالصلاة، بل مقتضى الأصل البراءة، لأن الشك في التكليف لا في سقوطه.
اللهم إلا أن يستفاد من الأمر بالمضي في النصوص تنجيز آثار الإتيان
بالمشكوك الإلزامية أيضا، المستلزم لوجوب المضي عقلا، لا مجرد السعة
والتعذير من آثار عدم الإتيان به فقط، المستلزم لجواز المضي وعدم وجوب
الإتيان بالمشكوك عقلا لا غير. فتأمل.
الثاني: لما كانت القاعدة من القواعد الظاهرية، التي يكون حكمها طريقيا
في طول الواقع لا ثانويا مستلزما لتبدل الواقع فهي لا تمنع من منجزية العلم
الإجمالي لو فرض حصوله على خلافها بلحاظ أحد تطبيقين، ولازم ذلك
سقوطها بالمعارضة على الوجه المقرر في مورد مخالفة الأصل للعلم الإجمالي،
فاللازم النظر في حال العلم الإجمالي من حيثية منجزيته ذاتا وعدمها، والنظر في
حال كل من التطبيقين من حيثية ترتب الأثر عليه، وكونه في عرض الآخر أو
حاكما عليه، وحيث لا ضابط لذلك، لعدم انحصار فروعه بنحو خاص، فلا
مجال للبحث فيه هنا، بل يوكل لمباحث الفقه عند الابتلاء بكل فرع بنفسه،
حيث يلزم مراعاة الضوابط المتقدمة في مباحث العلم الإجمالي، مع مراعاة ما
ذكرناه هنا في شروط جريان القاعدة وتحقيق موضوعها.
وهو الحال أيضا عند معارضة القاعدة بغيرها من القواعد والأصول،
حيث يتعين سقوط كلا المتعارضين أو حكومة أحدهما، حسبما يقتضيه المقام.
والله سبحانه تعالى العالم وبه الاعتصام، وله الحمد والمجد، والصلاة
والسلام على محمد وآل محمد، أولياء الحل والعقد.
464

الفصل الثالث
في قاعدة الصحة
وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل، الراجعة إلى
عدم الاعتناء باحتمال الفساد في عمل الغير، بل يبنى على صحته وترتب الأثر
المطلوب منه عليه. وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي الذي
يكون حكمه جزئيا فهي قاعدة فقهية ظاهرية، وليست مسألة أصولية لعدم
وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي.
والكلام فيها..
تارة: في دليلها.
واخرى: في تحديد موضوعا ومفهومها تفصيلا.
وثالثة: في سعة كبراها.
فالبحث في مقامات ثلاثة، على نحو ما جرينا عليه في القاعدتين
المتقدمتين.
المقام الأول: في دليل القاعدة.
تعرض شيخنا الأعظم وغيره للاستدلال ببعض الآيات والنصوص الآمرة
بالقول الحسن في الناس، وحسن الظن بهم، وحمل فعل المؤمن على الأحسن،
والناهية عن اتهامه، ونحو ذلك.
وهو أجنبي عن المقام، لظهوره في الحمل على ما يناسب إيمان الفاعل
465

من الحسن الفاعلي الراجع لنية الفاعل الخير والحسن، دون الشر والقبيح، دون
الحسن الفعلي الراجع لحسن عمله واقعا، فضلا عن الصحيح التام الذي يترتب
أثره المطلوب منه المقابل للفاسد، وإن لم يكن حسنا كالطلاق.
وأدنى تأمل في الأدلة المذكورة شاهد بذلك، فلا حاجة لإطالة الكلام
فيها، بل يتعين صرفه لغيرها مما يناسب محل الكلام، وهو أمور...
الأول: عموم وجوب الوفاء بالعقود وصحة التجارة عن تراض
ونحوهما.
فقد استدل في جامع المقاصد على صحة بيع العين المرهونة في ما لو
اختلف الراهن والمرتهن في وقوعه قبل رجوع المرتهن عن الإذن أو بعده، بأن
الأصل في البيع الصحة واللزوم ووجوب الوفاء بالعقد.
وفيه: - مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما ثبت صحته بإطلاق دليله - أن
العموم المذكور لما كان مخصصا، وكان الشك في صحة العقد الخاص مسببا
عن الشك في دخوله في عنوان المخصص لم يصم التمسك بالعموم فيه، لعدم
حجية العام في الشبهة المصداقية على التحقيق، ولا سيما لو كان مقتضى الأصل
دخول موردها في عنوان الخاص، حيث قد يقال بحجية أصالة الصحة في مورد
يكون فقد العمل لبعض ما يعتبر فيه مطابقا للأصل.
ودعوى: أن الخارج عن عمومه ليس إلا ما علم فساده.
كما ترى! لوضوح أن عنوان الفساد منتزع من مخالفة العقد للمشروع،
فهو في رتبة متأخرة عن فرض التخصيص بالإضافة للعقد، فلا يمكن أن يكون
هو موضوع التخصيص، فضلا عن أن يكون الموضوع له هو ما علم فساده، بل
ليس موضوع التخصيص إلا العقد بعنوان آخر، كالفارسي والفضولي ونحوهما.
ومن الظاهر أن المأخوذ في الأدلة ليس إلا العناوين الواقعية لا المعلومة.
غاية ما يدعى أن العام حجة في المورد المشكوك دخوله في الخاص.
466

وقد عرفت أنه خلاف التحقيق.
الثاني: ما تضمنه موثق حفص من تعليل جواز الشهادة بالملك اعتمادا
على اليد بقوله عليه السلام: " لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " (1).
بدعوى: ظهوره في أن كل ما يلزم من عدم الاعتماد عليه اختلال سوق
المسلمين فالاعتماد عليه حق، وهو حجة. بل الاختلال الحاصل من ترك العمل
بأصالة الصحة أشد مما يحصل من عدم الاعتماد على اليد.
وفيه: - مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما له دخل بنظام السوق، دون
غيرها من العبادات والمعاملات ونحوهما - أنه لا ظهور لذلك في التعليل
الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما. بل التعليل بمثل هذه الفوائد النوعية لا
يصلح لبيان ملاك الحكم، ليتعدى عن مورده، بل لابد من تنزيله على بيان
الفائدة والحكمة، كما أوضحنا في المسألة الأولى من مسائل المقام الثالث من
الكلام في قاعدة اليد.
على أن توقف حفظ نظام السوق على قاعدة الصحة في غير موارد اليد لا
يخلو عن خفاء، إذ لا يظهر أثره إلا في ما لو شك في صحة المعاملة مع عدم
استيلاء من يملك بسببها على المال، إما لكون ذميا، أو لصياعه - كما في الآبق -
أو لدعوى المالك الأول بطلان المعاملة، وليس هو من الكثرة بحد يتضح أثره
في اختلال السوق.
وأما في موارد اليد فتغني حجيتها في حفظ نظام السوق عن حجية أصالة
الصحة.
الثالث: - وهو عمدة الوجوه في المقام - سيرة العقلاء من ذوي الأديان
وغيرهم بمقتضى ارتكازياتهم على ترتيب آثار الصحة على عمل الغير وعدم

(1) الوسائل ج: 18، باب: 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث: 2، وقد تقدم
الحديث بتمامه في أدلة قاعدة اليد.
467

الفحص عن حاله، المستكشف إمضاؤها من الإجماع وسيرة المتشرعة.
أما الإجماع فيظهر ممن تتبع فتاواهم في أبواب الفقه، خصوصا في
مسائل التنازع والقضاء، حيث يظهر منهم التسالم على الرجوع لهذا الأصل على
أنه أمر ارتكازي، بنحو يمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به في
جميع العصور.
لكن استشكل فيه بعض مشايخنا..
تارة: بأنه يتعذر عادة الاطلاع على فتاوى العلماء في جميع موارد جريان
أصالة الصحة من العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم.
واخرى: بأنه لا يحرز كون إجماعا تعبديا. ليكشف عن رأي المعصوم،
لاحتمال كون مدركه بعض الوجوه المستدل بها في المقام، فاللازم النظر فيها،
فإن تمت كانت هي الدليل دون الإجماع، وإلا لم ينفع الإجماع في تماميتها.
ويندفع الأول: بأن عدم الاطلاع على فتاواهم في كل مورد مورد لا ينافي
استفادة الكلية منهم من تصريحهم بها في بعض الموارد، بنحو يظهر منه عدم
الخصوصية لتلك الموارد وإرادة القاعدة الارتكازية التي هي مورد السيرة، بنحو
يكشف عن إمضاء السيرة على عمومها، لإثبات الأصل المذكور، بحيث يحتاج
الخروج عنه إلى دليل.
والثاني: بأن كثرة الابتلاء بالمسألة وظهور التسالم فيها مع مطابقة الحكم
للمرتكزات العقلائية كاشف عن جري الشارع على مقتضى المرتكزات
المذكورة وعدم إعراضه عنها، تمت الوجوه المذكورة في كلماتهم أو لم تتم، ولا
سيما مع إرسالهم الأصل المذكور إرسال المسلمات وعدم اهتمامهم بالاستدلال
له إلا عابرا ببعض الوجوه التي ليست من القوة بنحو تناسب التسالم المذكور،
فهي من سنخ التعليل بعد الورود.
وأما سيرة المتشرعة فيكفي في وضوحها ملاحظة حالهم في أمور
468

معاشهم ومعادهم، حيث لا يرتابون في ترتيب آثار الصحة على فعل الغير عند
تعلق عملهم به، ولولا ذلك لا ختل نظامهم واضطربت أمورهم، إذ لا يتسنى
للانسان أن يحيط بفعل الغير وبما يقع عليه من خصوصيات.
وبهذا يمكن توجيه الاستدلال بالحرج في المقام، بأن لا يراد به
الاستدلال بكبرى نفي الحرج لوضوح أنها - مع اختصاصها بنفي الأحكام
الحرجية، ولا تنهض بتشريع الأحكام التي يتدارك بها الحرج - مختصة بالحرج
الشخصي، الذي يتسنى للمكلف تشخيصه، دون النوعي الذي لا ضابط له،
والذي يلزم من عدم حجية قاعدة الصحة.
بل يراد أن سد باب قاعدة الصحة عند المتشرعة لما كان مستلزما للحرج،
بل لاختلال النظام، فعدم لزومه خارجا كاشف عن جريهم عليها ووضوح
حجيتها عندهم، فيكون الاستدلال بسيرتهم المستكشفة من عدم لزوم الحرج
خارجا، لا بدليل نفي الحرج.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أن الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي
في غير موارد اليد، وليس إهمالها فيها مستلزما للحرج.
فكأنه مبني على النظر لأصالة الصحة في العقود ونحوها مما يتعلق
بالأموال التي تكون تحت اليد. مع وضوح عدم اختصاصها بذلك، بل تجري في
غيرها من العقود والإيقاعات - كالنكاح والطلاق - والواجبات الكفائية - كأحكام
الأموات - والأفعال التسبيبية - كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية - وموارد
النيابة والتبرع، وصلاة الامام بالإضافة للمأمومين، بل صلاة بعض المأمومين
لبعض ممن يتوقف عليه اتصاله بالإمام، وصلاة الأب وصيامه بالإضافة لوليه
الذي يجب عليه القضاء عنه، ونحو ذلك مما ليس هو موردا لليد، مع وضوح
لزوم الحرج، بل الهرج والمرج واختلال النظام من إهمال قاعدة الصحة في
جميع ذلك.
469

ثم إنه حيث كان ظاهر الإجماع وسيرة المتشرعة في بنائهم على الأصل
المذكور ليس على محض التعبد الشرعي، بل الجري على مقتضي السيرة
العقلائية الارتكازية كان مقتضاهما إمضاءها، فيكون المتبع في عموم الحكم
وخصوصه على مقتضاها، نظير جريهم على حجية الظواهر اللفظية، فلا يقدح
خلافهم في بعض الموارد مع ثبوت السيرة المذكورة فيها، لشبهة ترجع إلى
دعوى قصور السيرة أو المانع من العمل بها كالردع الشرعي عنها، نظير خلاف
بعضهم في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالافهام، أو في حجية ظواهر
الكتاب المجيد. إلا أن يخرج المورد عن المتيقن من السيرة المذكورة.
ودعوى: أن إمضاء سيرة العقلاء إذا كان مستفادا من الإجماع وسيرة
المتشرعة فلا مجال لاستفادة عمومه لبعض الموارد مع فرض عدم إحرازهما
فيها.
مدفوعة: بأن المستفاد من الإجماع وسيرة المتشرعة كون المعنى
الارتكازي تبتني عليه سيرة العقلاء مما من شأنه أن يعمل عليه لولا المانع،
فموضوعه مقتض للحجية حتى عند المخالف في بعض الموارد، وليس مرجع
الخلاف إلا دعوى قصور الارتكاز المذكور عن ذلك المورد أو ثبوت المانع
عنه، فمع ثبوت عموم الارتكاز وعدم ثبوت المانع من العمل عليه لا مجال
للخروج عن مقتضاه، الذي استفيد إمضاؤه.
ولذا لم يكن البناء في استفادة الامضاء للقضايا الارتكازية على ثبوت
الدليل عليه في كل مورد مورد.
هذا كله بناء على أن السيرة في المقام تحتاج للإمضاء، أما بناء على أنه
يكفي في حجيتها عدم ثبوت الردع عنها فالأمر أظهر. وهو غير بعيد لنظير ما
تقدم في حجية اليد.
نعم، لو غض النظر عن سيرة العقلاء الارتكازية، وكان مفاد الإجماع
470

وسيرة المتشرعة الرجوع للأصل المذكور تعبدا فلا مجال للعمل به في مورد
الخلاف وعدم ثبوت سيرة المتشرعة، بل يلزم الاقتصار على المتيقن من
موردهما.
وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدس سره من أنه مع عموم الاجماع لا يضر
الخلاف في بعض الموارد الجزئية، بل يكون الإجماع المذكور حجة فيها.
فهو غير ظاهر، إذ لا يجتمع الإجماع على الكبرى الكلية مع الخلاف في
بعض الموارد، بل هو راجع إلى تناقض كلمات بعض المجمعين المانع من
تحصيل الإجماع منها.
إلا أن يفرض انعقاد الإجماع بالمقدار الكافي في استكشاف الحكم،
فيكشف عن بطلان الخلاف حتى لو كان في أصل الكبرى، كما هو الحال في
كثير من الموارد التي يشد فيها المخالف.
المقام الثاني: في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها تفصيلا.
وهو يتم ببيان أمور..
الأمر الأول: أن موضوع القاعدة هو عمل الغير، في مقابل عمل النفس
الذي هو موضوع قاعدة الفراغ والتجاوز المتقدمة.
كما يفترقان في توقف تلك القاعدة على مضي محل الشك، بخلاف هذه
القاعدة، حيث لا يعتبر فيها حدوث الشك بعد مضي محله، فتجري وإن حدث
الشك في أثناء العمل.
بل لا يعتبر مضي محل الشك حتى في ترتيب الأثر، فلو تعلق العمل بفعل
الغير في أثنائه جاز ترتيب أثر الصحة عليه حينئذ، كما في الائتمام، حيث يرتب
كل من الإمام والمأموم آثار الصحة على صلاة الآخر.
بل لا يبعد جواز البناء على صحة عمل العامل قبل تحققه، فيجوز استنابته
ونحوها، ولا يعتنى باحتمال بطلان عمله.
471

لمناسبة للسيرة الارتكازية، بل لسيرة المتشرعة، حيث يرون أن الاهتمام
بالفحص عن معرفة النائب لشروط العمل احتياط محض لا ملزم به.
ومن هنا افترقت القاعدتان، وإن لم يبعد رجوعهما لجامع ارتكازي
واحد، كما سبق التنبيه له عند الاستدلال بسيرة العقلاء على تلك القاعدة، بأن
يكون مرجع القاعدتين إلى أن الشك الذي يعتني به هو الشك الذي يكون من
أهله في محله، بحيث يكون مرجع الاعتناء به إلى تحصيل المشكوك بالنحو
الطبيعي، لا بنحو يقتضي الرجوع - كما في مورد تلك القاعدة - ولا بنحو يقتضي
البناء على بطلان العمل، لعدم كون تحصيل المشكوك من وظيفة الشاك، لكونه
شاكا في عمل غيره، كما في مورد هذه القاعدة، فكما لا يعتني بالشك في تلك
القاعدة لكونه في غير محله، لا يعتنى به في هذه، لكونه ممن ليس من شأنه
تحصيل المشكوك.
وإن لم يبعد كون الجهة الارتكازية المقتضية لإهمال الشك في هذه
القاعدة أقوى منها في تلك القاعدة. ومن ثم كانت السيرة دليلا في المقام ومؤيدا
هناك.
ثم إنه لا ريب بعد النظر في سيرتي العقلاء والمتشرعة في عموم الغير في
المقام لغير المؤمن، بل لغير المسلم، لعدم ابتناء الحكم فيه عليه ملاحظة احترام
الغير، بل على إيكال إحراز خصوصيات العمل لمن يقوم به، نظير البناء على
نفوذ تصرف الإنسان في ما تحت يده، وهو جاز في كل من يقوم بعمل يمتاز
بخصوصيات ينبغي منه المحافظة عليها، ولذا يعم غير البالغ أيضا إذا كان مميزا
متلفتا لنوع عمله.
الأمر الثاني: الصحة قد تطلق في كلماتهم ويراد بها ما يساوق الحسن
الفاعلي الراجع إلى حمل الفاعل على القصد الحسن، وعدم نيته الشر والقبيح.
وهو يختص بالمؤمن المكلف الذي يكون مقتضى حرمته حسن الظن
472

به كما أنه أجنبي عن المقام على ما أشرنا إليه وإلى دليله في أول المقام السابق.
وليس المراد بها في المقام إلا صحة نفس العمل بالنحو الملازم لترتب
الأثر، التي يقابلها الفساد الملازم لعدم ترتبه.
والظاهر أن الصحة بالمعنى المذكور منتزعة من مطابقة العمل الخارجي
للماهية الخاصة ذات الآثار الخاصة المقصودة به. فهي راجعة لاستجماع العمل
للأجزاء والشرائط المعتبرة في الماهية المذكورة، سواء كانت تلك الماهية
مطلوبة بنفسها شرعا - كما في العبادات وبعض المعاملات، كوفاء الدين - أم لا،
بل كان الإتيان بها لأجل آثارها المترتبة عليها - كالتذكية وكثير من العقود
والإيقاعات - بل وإن كانت مبغوضة شرعا كالطلاق والظهار.
والصحة بهذا المعنى وإن كانت ملازمة في الجملة لترتب الأثر العقلي -
كالإجزاء في العبادات - أو الشرعي - كالملكية في البيع، وجواز الاستمتاع في
النكاح، وحرمته في الطلاق والظهار - إلا أنها ليست عبارة عنه، بحيث تكون
منتزعة منه، ويكون التبعد بها تعبدا به.
لوضوح أن مبنى التعبد بالصحة في القاعدة أنها مقتضى الأصل في فعل
الفاعل، وهو إنما يكون بلحاظ أن القصد إلى الشئ يقتضي تحقيقه، بتحقيق
تمام ما يعتبر فيه، مع أن الفاعل قد يجهل الأثر المترتب على الفعل، ليكون
قاصدا له عند فعله ويحقق تمام ما يعتبر في تحققه، بل لا يقصد إلا الماهية،
وقصدها لا يقتضي إلا تحقيق ما يعتبر فيها، وترتب الأثر لازما لذلك.
وأما ما ذكره بعض المحققين قدس سره من أن الصحة بهذا المعنى من الأمور
الواقعية غير القابلة للتعبد، وليس القابل له إلا الأثر الشرعي، وهو في المعاملات
ظاهر، وأما العبادات فحيث كانت آثارها واقعية غير جعلية فلابد من إرجاع
التعبد بالصحة فيها إلى التعبد بعدم وجوب الإعادة.
فهو مبنى على أن مفاد التعبد بالشيء هو الحكم به ظاهرا في قبال الحكم
473

به واقعا، حيث لابد حينئذ من كون الشئ جعليا قابلا لأن يحكم به.
وقد ذكرنا في محله أنه ليس كذلك، بل ليس مفاده إلا التعبد بوجوده
بنحو يقتضي البناء عليه، فهو متفرع على وجوده الواقعي تفرع مقام الاثبات
على مقام الثبوت، وهو ممكن في الأمور الحقيقية والجعلية.
على أن التفكيك بين العبادات والمعاملات في مفاد التعبد في المقام بعيد
جدا.
ولا سيما بعد ابتناء التعبد على إمضاء السيرة العقلائية الارتكازية التي لا
إشكال في عدم التفكيك فيها بين الموردين. بل لا إشكال في أن عدم وجوب
الإعادة في العبادات إنما هو بملاك الاجزاء الذي هو من آثار الصحة فيها عقلا،
لا حكم شرعي تأسيسي راجع إلى إسقاط التكليف ظاهرا، نظير سقوطه بالحرج
واقعا، ليكون حكما شرعيا.
فالظاهر أن التعبد في جميع موارد القاعدة إنما هو بالصحة بمعنى تمامية
الاجزاء والشرائط. ويترتب عليه العمل عقلا بلا واسطة، كما في موارد الإجزاء،
نظير سائر موارد التعبد بالامتثال، أو بواسطة آثارها الشرعية، كالملكية في
المعاملات، التي يترتب عليها التكليف أو عدمه شرعا، فتكون موضوعا للعمل
عقلا.
ثم إن ما ذكره من أن آثار العبادات واقعية مبني على إرادة الملاكات
الواقعية أو الفوائد النوعية المترتبة عليها، كالنهي عن الفحشاء، حيث لا تكون
قابلة للجعل الشرعي، كالحكم بالإجزاء، لأنه عقلي محض.
وهو إنما يتم في حق الفاعل نفسه، بناء على ما قربه من شمول القاعدة
لعمل النفس بعد الفراغ، أما في حق غيره فقد يكون الأثر شرعيا محضا قابلا
للجعل، كجواز الائتمام به وعدم قضاء الولي عنه ونحوهما.
هذا، ومما تقدم يظهر أنه لا حاجة لما تكلفه شيخنا الأعظم قدس سره - في
474

تقريب توجيه الصحة بمعنى ترتب الأثر بنحو ينطبق على الإيجاب من أن
يحرز بها القبول مع وضوح عدم ترتب الأثر على الإيجاب إلا بالقبول - من
دعوى: أن ترتب الأثر على الإيجاب لما كان معلقا على القبول كانت صحته
عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر لو تعقبه القبول، لأن ذلك هو الأثر
المقصود منه، لا ترتب الأثر الفعلي عليه المتوقف على تمامية العقد، ليحرز
بأصالة الصحة تعقبه بالقبول.
ولا يخفى ما فيه من التكلف، لأن العقد لما كان مركبا من الإيجاب
والقبول، فأثره الفعلي هو أثر كل منهما بشرط انضمامه للآخر، لأن أثر الجزء هو
أثر الكل، فأثر الإيجاب المقصود منه ليس هو الإعداد لأثر العقد الفعلي،
المستغني عن القبول بل هو نفس أثر العقد المتوقف على القبول، فعدم ترتب
أثر العقد لعدم القبول راجع لعدم ترتب أثر الإيجاب. وإلا لجرى ذلك مع
الشرط، كالعلم بالعوضين، فيدعى أن أثر العقد المطلوب منه ليس هو الملكية
الفعلية، بل الملكية على تقدير العلم بالعوضين، فلا يخل بصحته عدم فعلية
الملكية لعدم العلم بهما.
أما على ما ذكرنا فالصحة المتعبد بها في الإيجاب الخاص هي مطابقته
للإيجاب المعتبر في المقصود للموجب، بأن يكون واجدا للأجزاء والشرائط
المعتبرة فيه لا في العقد، ومن الظاهر أن القبول ليس دخيلا فيه، بل في تحقق
العقد الذي يستند له الأثر، والشك في وجوده لا في صحته.
ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن المراد بالصحة في المقام هي الصحة
الواقعية، لأنها موضوع الأثر ومحط الغرض، لا الصحة بنظر الفاعل، لعدم الأثر
لها، ليصح التعبد بها.
ومن ثم كان مرجع النزاع في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة بنظر
الفاعل إلى النزاع في عموم القاعدة لما إذا أخطأ الفاعل في ما يعتبر في الصحة
475

الواقعية، وهو من شؤون المقام الثالث الذي يكون البحث فيه في سعة كبرى
القاعدة، ولا يناسب محل الكلام في هذا المقام المتضمن للبحث في تحديد
مفهوم القاعدة وموضوعها.
وما يظهر من بعض المحققين قدس سره من الجمود على ظاهر تحرير النزاع
المذكور، بعيد جدا.
الأمر الثالث: أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد عرفا هو الماهيات
الاعتبارية، الشرعية أو العرفية، وهي الأمور التي لها وحدة اعتبارية بما لها من
أجزاء وشرائط مأخوذة بنحو الارتباطية، إما بلحاظ الأمر بها - كالصلاة - أو
بلحاظ سببيتها اعتبارا لبعض الآثار - كالعقود والإيقاعات والتطهير من الحدث
والخبث ونحوها - فتنتزع صحتها من تمامية أجزائها وشرائطها وفسادها من
عدمها.
أما الأمور البسيطة، كالمسببات التوليدية الشرعية - كالطهارة - أو العرفية - كالملكية - أو الحقيقية - كالموت - فإنها لا تتصف بالصحة والفساد، بل بالوجود
والعدم.
وكذا الأمور المتكثرة التي لم تلحظ فيها الوحدة الاعتبارية لعدم أخذ
الارتباطية فيها، سواء اشتركت في مسبب واحد حقيقي لا دخل للاعتبار فيه -
كأجزاء علة الحرارة والغليان ونحوهما - أم استقل كل منها بأثره الحقيقي أو
الاعتباري، كصلوات اليوم الواحد، وصوم الشهر، فإنها عرفا لا تتصف بالصحة
والفساد أيضا، بل بالنقص والتمام.
نعم، لا يبعد عموم القاعدة لها وإن عبر عنها بقاعدة الصحة، لعدم كون
القاعدة لفظية عنوانية، ليقتصر على مفاد العناوين المأخوذة فيها، بل هي لبية
ارتكازية، والجهة الارتكازية تقتضي التعميم للأمور المذكورة.
فإذا أحرز من شخص أنه قام بعمل بعنوان كونه قتلا وكانت وظيفته القيام
476

به لم يلتفت لاحتمال خطئه فيه، لنقصه عما يتحقق به القتل. كما أنه إذا أحرز من
المكلف أنه قضى جملة من الصلوات بعنوان كونها تمام الفوائت التي عليه أو
على غيره ممن ينوب عنه، لم يلتفت لاحتمال نقص ما أتى به عما قصده.
لكن يختص ذلك بما إذا شك في مقدار المأتي به، لا في مقدار الفائت،
فلو علم بأنه أتى بخمس صلوات، واحتمل زيادة الفائت على ذلك، لم تنهض
القاعدة بما لها من جهة ارتكازية بإهمال الاحتمال المذكور، بل لابد فيه من
الرجوع لأصل آخر مؤمن أو منجز.
الأمر الرابع: المقصود إثبات الصحة والتمامية له بالقاعدة لما كان هو
العمل الخارجي بلحاظ مطابقته للماهية الكلية المقصودة، ففرض الصحة
والتمامية والفساد والنقص فيه لا يكون إلا بلحاظ قصد الماهية منه، فلو لم
تقصد منه لا يكون عدم مطابقته لها منشأ لانتزاع الفساد والنقص له عرفا، ليكون
مقتضى القاعدة صحته وتماميته مع الشك، فصب الماء على العضو للتبريد لو
فرض عدم تحقق الغسل المعتبر في التطهير به لا يكون تطهيرا فاسدا، ليكون
مقتضى القاعدة صحته عند الشك في تحقق الغسل المذكور به، كما لا تكون
صلاة الصبح صلاة ظهر فاسدة، لعدم قصدها منها.
ولو غض النظر عن ذلك فلا ينبغي التأمل بملاحظة المرتكزات التي
تبتني عليها القاعدة في أن جريانها مشروط بما إذا أتى بالعمل بقصد العنوان
الخاص الذي يحتمل مطابقته لها وعدمها، ولا يكفي احتمال انطباق العنوان
عليه من دون أن يكون مقصودا منه، لرجوع المرتكزات المذكورة إلى أن إحراز
خصوصيات العمل من شؤون القائم به، وهو انما يتم مع قصده له، أما مع عدمه
فلا وجه لاهتمامه به وإيكاله إليه.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في أن قصد الفاعل للعنوان معتبر في موضوع
القاعدة، إما لأن صدق الصحة والفساد والتمامية والنقص إنما هو بلحاظ
477

خصوص الماهية المقصودة، أو لاختصاص التعبد بالصحة ارتكازا بصورة
القصد.
من دون فرق في ذلك بين ما يعتبر فيه القصد ثبوتا، كالوضوء والصلاة،
وما لا يعتبر فيه ذلك، كالتطهير من الخبث فلابد من إحرازه بالقطع أو بالطرق
العرفية المعول عليها عند المتشرعة، كظهور حال الفاعل.
ومن ذلك يظهر أنها لا تجري لو كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في
النية بمعنى القصد للعنوان المعتبر في كثير من الأمور العبادية وغيرها
كالتذكية.
نعم، تجري لو كان منشؤه الشك في النية بمعنى التقرب المعتبر في
العبادات، لو احتمل الرياء ونحوه مما يبطلها، لأنها كسائر الشروط لا يتوقف
عليها صدق العنوان على العمل، نظير ما تقدم في جران القاعدة المتقدمة عند
الشك في الشروط.
كما ظهر بذلك أنه لو تردد نوع الفعل المقصود بين الصحيح والفاسد لم
تنهض القاعدة بإحراز الصحيح، كما لو اختلف المتعاقدان في إجازة الوقف
وبيعه لو فرض عدم المسوغ للبيع، أو تردد الصلاة المأتي بها بين فريضة قد
صلاها المكلف واخرى لم يصلها، فإنه لا تنهض القاعدة بإحراز الإجازة في
الأول، والصلاة التي لم يصلها في الثاني، لأنها إنما تحرز صحة الفعل ذي
العنوان الخاص في فرض قصده منه، ولا تحرز قصده له.
نعم، لو كان الأثر لصحة العمل من دون خصوصية النوع نهضت القاعدة
بإثبات صحته وإن لم يحرز بها النوع، فيجوز الائتمام بالمصلي في المثال الثاني،
لعدم أخد خصوصية العصر فيه، والمفروض إحراز القصد للفريضة في الجملة،
ومجرد التلازم في الفرض ونحوه بين الصحة والنوع الخاص لا يقتضي إحرازه،
بناء على ما هو الطاهر من عدم حجية القاعدة في لازم مؤداها.
478

وكذا الحال لو أحرز نوع الفعل وكان الشك في بعض أركانه المقومة له،
والتي لابد من قصدها بقصده، كالثمن والمثمن، والزوج والزوجة وغيرها، وإن
توقف الصحة على بعض خصوصياتها، فإذا اختلف المتعاقدان في أن الثمن
هو الحر أو العبد، فأصالة الصحة لا تنهض بإحراز أنه العبد، بنحو يترتب عليه
جواز المطالبة به، لعدم إحراز القصد إلى البيع به، ليكون مقتضى صحته ترتب
أثره المذكور، وإنما يحرز القصد إلى البيع في الجملة، وأصالة الصحة فيه لا
تعين حاله إلا بناء على الأصل المثبت.
نعم، بناء على عموم القاعدة لما إذا شك في شروطه العوضين يحرز بها
في المقام صحته من حيثية المثمن فيترتب آثار انتقاله للبايع، كانعتاقه عليه لو
كان أباه، وأما الثمن فلا طريق لتعيينه، بل يجري فيه ما يذكر في ما لو تردد بين
أمرين كل منهما يصح جعله ثمنا، كالعبد والحمار.
الأمر الخامس: تقدم أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد
هو الماهيات الاعتبارية بلحاظ الارتباطية فيها بين أجزائها وشرائطها.
ولا يخفى أن الارتباطية لما كانت ناشئة من تقييد بعض الأمور ببعض
فهي تجري في جميع الموضوعات المقيدة إما بلحاظ دخولها في حيز الطلب،
كالعبادات، وإما بلحاظ موضوعيتها للأثر، كالعقود والإيقاعات وسائر الأسباب
الشرعية ذات الآثار الخاصة، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية، وأسباب
القصاص والضمان. والرضاع المحرم وغيرها.
وفي كل منهما..
تارة: يكون العمل الخارجي مطابقا لموضوع الأثر، لتمامية أجزائه
وشروطه فيه.
واخرى: يكون مخالفا له، إلا أن المطابقة والمخالفة لا يكونان في الجميع
منشأ لانتزاع الصحة والفساد عرفا، بل يختص ذلك بالقسم الأول - وهو ما يقع
479

في حيز الطلب - وبعض أفراد القسم الثاني، وهو خصوص ما شرع بلحاظ الأثر
الخاص له، لتعلق غرض الشارع أو العرف بتحقيق أثره، حتى يكون الأثر عنوانا
له ووجها من وجوهه، سواء ابتنى على جعل الأثر المذكور، لتضمنه الانشاء،
بحيث يكون ترتب أثره مقتضى نفوذه ومضيه، كالعقود والإيقاعات، أم لا، بل
كان ترتب أثره عليه تعبديا، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ونحوها، مما
يكون الغرض منه ترتب الأثر المعهود له.
دون بقية الموضوعات ذات الآثار المختلفة مما لم يشرع لأجل تحصيل
أثره، لعدم تعلق الغرض به، كالقتل الموجب للقصاص والاتلاف الموجب
للضمان والرضاع المحرم ونحوها.
وكأن الوجه في ذلك: أن تشريع الموضوع لأجل الأثر الخاص مستلزم
لكونه الغرض النوعي منه، بحيث يكون لاغيا بدونه عرفا، فينتزع بلحاظه
وصف الصحة والفساد له، أما الأثر الذي لم يشرع موضوعه لأجله فلا يستلزم
تخلفه لغوية موضوعه عرفا، ليكون منشأ لانتزاع وصف الصحة والفساد.
ومجرد تقييد الحكم بترتبه عليه بتمامية الأجزاء والشروط لا يكفي في
ذلك، بل هو كتقييد الحكم بترتب بعض الآثار على بعض الحوادث الخارجية
التي لا تستند للمكلف ببعض القيود، كتقييد ترتب الميراث على الموت بعدم
كفر الوارث، وتقييد وجوب صلاة الآيات على الظلمة بترتب الخوف النوعي.
فكما لا يوصف الموت الذي يترتب عليه الميراث بالصحة لا يوصف الرضاع
الذي يترتب عليه التحريم بها وكما لا يوصف الموت الذي لا يترتب عليه
الميراث بالفساد لا يوصف الرضاع الذي لا يترتب عليه التحريم به.
ومن هذا القسم العهد واليمين والإيلاء فإنها لم تشرع لآثارها المعهودة،
لعدم تعلق الغرض بترتبها، وإنما حكم بها تبعا لتمامية موضوعاتها، بخلاف
الطلاق، لتضمنه الجعل والانشاء، وكذلك النذر بناء على تضمنه تمليك الله سبحانه
480

وتعالى للمنذور، حيث يكون عدم وجوب الوفاء به مساوقا لعدم ترتب ما جعل
به، لا محض الالتزام به، كي يكون وجوب الوفاء به حكما مباينا لمؤداه
المجعول به ثابتا له في حالة دون أخرى، كما في العهد.
وأما الظهار فهو مبني على الجعل والإنشاء بالنظر لحقيقته العرفية، فيقبل
الإمضاء وعدمه المساوقين للصحة والفساد، إلا أن ظاهر الأدلة الشرعية بطلانه
وعدم ترتب ما جعل به مطلقا، وأن ترتب التحريم عليه من باب العقوبة
والإلزام، لا من باب التنفيذ، فيكون كسائر الأحكام المترتبة على موضوعاتها غير
منشأ للصحة والفساد.
وكيف كان، فالمعيار في الصحة والفساد هو الارتباطية بلحاظ الدخول
في حيز الطلب، أو في ترتب الأثر الذي شرع لأجله العمل، بحيث كان هو
الغرض من تشريعه، دون الارتباطية في بقية موضوعات الآثار التي لم تشرع
لأجلها ولم تكن غرضا منها.
نعم، عدم اتصاف الموضوعات المذكورة بالصحة والفساد بلحاظ تمامية
الأجزاء والشرائط الدخيلة في ترتب الأثر وعدم تماميتها لا ينافي جريان القاعدة
فيها لإحراز تماميتها لو فرض قصد الفاعل للتام منها، لكون غرضه من الفعل هو
ترتب الأثر المذكور، كما لو أحرز قصده للرضاع المحرم، أو لليمين الذي يجب
الوفاء به، ثم شك في تمامية شروط الموضوع المقصود، لما تقدم في الأمر
الثالث من أن القاعدة ليست لفظية، ليقتصر على مفاد العناوين، المأخوذة فيها
عرفا، بل هي ارتكازية لبية مبنية على أن إحراز خصوصيات العمل من شؤون
القائم به، ولا يختص ذلك بما إذا كان العمل موضوعا للصحة والفساد عرفا.
ومنه يظهر أنه لا يكفي في جريان القاعدة في مثل اليمين العلم بتحقق
صيغته المقصود بها معناه، لعدم ملازمته لقصد موضوع الأثر، بل لابد من إحراز
القصد لخصوص ما يجب القيام بمقتضاه، بخلاف مثل البيع والطلاق، فإن العلم
481

بتحقق صيغها المقصود بها الإنشاء مساوق للعلم بالقصد لموضوع الأثر،
فتجري فيها القاعدة.
ثم إن ما تقدم في تحديد موضوع الصحة والفساد وتحديد مجرى
القاعدة كما يجري هنا يجري في القاعدة المتقدمة، لعدم الفرق بينهما إلا في أن
الموضوع هنا فعل الغير ولو قبل مضي محل الشك، وهناك فعل النفس بعد
مضي محله، كما تقدم في الأمر الأول.
الأمر السادس: الظاهر أن مفاد القاعدة بالنظر للجهات الارتكازية المبتنية
عليها هو التعبد بصحة الموجود وتماميته، فتتنقح بسببها صغريات الكبريات
الشرعية التكليفية والوضعية، لا مجرد عدم الالتفات للشك في مقام العمل
والعمل بما يطابق احتمال الصحة من دون بناء عليها وتعبد بها، فليست هي
قاعدة عملية محضة، بل تعبدية. بل ربما يدعى أنها من الأمارات، بلحاظ غلبة
الصحة في فعل الفاعل وظهور حاله في تعمد الصحيح والاهتمام به.
لكن لم يتضح ابتناء القاعدة على الغلبة والظهور المذكورين - لو تما في
أنفسهما - بل لعلها مبتنية على محض التعبد لأجل التسهيل وحفظ النظام، كما
تقدم في القاعدة السابقة، بل هو المتعين بناء على عمومها لما إذا أخطأ الفاعل
في تشخيص الصحيح، على ما يأتي الكلام فيه.
بل يشكل كونها أصلا إحرازيا لعدم ظهور المحرز للصحة إلا الغلبة
والظهور المذكورين، اللذين عرفت الإشكال في ابتنائها عليهما، فالمتيقين كونها
قاعدة تعبدية.
وبهذا افترقت عن القاعدة المتقدمة، لما تقدم من ظهور بعض نصوصها
في كونها قاعدة إحرازية. فراجع.
482

بقي في المقام أمران..
الأول: لا ريب في تقدم القاعدة على الاستصحاب، وإلا لزم إلغاؤها
وإهمال دليلها رأسا، لأنها أخص منه موردا، على ما تقدم نظيره في القاعدة
السابقة.
وأما الكلام في تقديمها على بعض الاستصحابات الموضوعية الجارية
في المتعاقدين والعوضين، كاستصحاب عدم البلوغ أو عدم إذن المالك أو عدم
المسوغ لبيع الوقف من خراب ونحوه.
فهو راجع إلى الكلام في عموم القاعدة للشك من الجهات التي تجري
فيها الاستصحابات المذكورة، لا في تقديم تلك الاستصحابات عليها في فرض
حجيتها ذاتا، ولذا لو فرض عدم جريان الاستصحاب من بعض تلك الجهات،
لعدم تمامية موضوعه أو لمانع خارجي لوقع الكلام في جريان القاعدة من تلك
الجهات أيضا.
ومن ثم كان التعرض لذلك موكولا للمقام الثالث، الذي يكون البحث فيه
عن سعة كبرى القاعدة.
الثاني: الظاهر عدم حجية القاعدة في لازم مؤداها وإن كانت أمارة. لما
تكرر منا من عدم نهوض التعبد بالمؤدى بإثبات لازمه حتى في الامارات، إلا
بدليل، ومعه يتعين البناء عليه حتى في الأصول، ولا دليل في المقام، لقصور
السيرة التي هي عمدة دليل القاعدة عنه.
وقد تقدم في القاعدة السابقة ما له نفع في المقام.
المقام الثالث: في سعة كبرى القاعدة.
لما كانت القاعدة لبية لا عموم لفظي لها، ليكون ضابطا في عمومها، لزم
الاقتصار على المتيقن من دليلها.
فيتعين النظر في ما وقع الكلام فيه من جهات التعميم جهة جهة
483

بعقد مسائل.
المسألة الأولى: أشرنا آنفا للنزاع في أن القاعدة هل تقتضي الحمل على
الصحة الواقعية أو الصحة بنظر الفاعل، وذكرنا أنه لا معنى للحمل على الصحة
بنظر الفاعل، لعدم ترتب الآثار عليها، بل على الصحة الواقعية، فلابد من رجوع
النزاع المذكور إلى النزاع في عموم الحمل على الصحة الواقعية لما إذا أخطأ
الفاعل في تشخيص الصحيح.
وتوضيح محل الكلام في ذلك: أن الشك في صحة عمل الغير يكون...
تارة: مع الشك في تشخيصه بحسب اجتهاده أو تقليده للصحيح من
الفاسد، بل يحتمل غفلته عن ذلك وعمله من دون بصيرة فيه، بل اكتفاء باحتمال
إصابته للواقع، أو جريا على ميزان غير شرعي، كقانون دولة أو تعارف عشائري.
واخرى: مع العلم بجهله به وعدم تشخيصه له.
وثالثة: مع العلم بتشخيصه له، واعتقاده بنحو خاص فيه.
أما الأولى فالظاهر البناء على الصحة فيها بالنظر لحال السيرة، لما هو
المعلوم من عدم تيسر معرفة حال الفاعل من هذه الجهة في كثير من الموارد،
فلو بني على إهمال قاعدة الصحة فيها لزم الهرج والمرج واختلال النظام بالنحو
المتقدم في الاستدلال على أصل القاعدة.
اللهم إلا أن يقال: ظاهر حال من يتصدى لعمل تشخيصه لما يعتبر فيه.
فالبناء على الصحة في عمله في فرض الشك في تشخيصه للصحيح مبني على
هذا الظهور، لا على التعبد بها مع الشك المذكور ابتداء، غايته أنه لا يعلم كيفيته
تشخيصه وأنه معذور فيه أولا، كما لا يعلم بكونه مصيبا في تشخيصه أو مخطئا
فيه، فيدخل في الصورة الثالثة.
وكذا الحال في الصورة الثانية لو أريد منها العلم بعدم استناده لطريق يعذر
فيه.
484

وإن أريد بها العم بتعمده للعمل من دون بصيرة وجهلا بالصحيح
الشرعي، إما اتكالا على المصادفات في إصابته أو لتعمد ميزان آخر غير الميزان
الشرعي، خروجا عن مقتضي وظيفته من إحراز الخصوصيات المعتبرة في
صحة عمله فلا يتضح من سيرة العقلاء والمتشرعة البناء على صحة العمل لو
احتمل مصادفته للصحيح شرعا، بل الظاهر منهم التوقف فيه، ولا أقل من الشك
في بنائهم على الصحة الملزم بالتوقف عن جريان القاعدة، والرجوع لمقتضى
الأصول الأخرى القاضية بالصحة أو البطلان.
وأما الصورة الثالثة فهي على أنحاء..
الأول: أن يعلم بإصابته في تشخيصه.
الثاني: أن يشك في ذلك.
الثالث: أن يقطع بخطئه فيه.
والأول متيقن من مورد القاعدة، وأما الثاني فالظاهر عموم القاعدة له
بالنظر للسيرة المشار إليها، لغلبة عدم تيسر المعرفة بحال الفاعل وكيفية
تشخيصه، نظير ما ذكرناه آنفا.
نعم، أشار شيخنا الأعظم قدس سره إلى دعوى: أن مقتضى القاعدة البناء على
صحة تشخيصه وعدم خطئه في اعتقاده، فيكون نظير الوجه الأول الذي فرض
فيه العلم بإصابة تشخيصه، ويكون البناء على صحة عمله متفرعا على ذلك، لا
لجريان قاعدة الصحة في العمل مع الجهل بحال تشخيص حال الفاعل رأسا.
لكن أصالة الصحة في الاعتقاد وعدم الخطأ فيه قد تتم في الأمور الحسية
أو القريبة من الحس، دون الأمور الحدسية، لعدم وضوح جريان أصالة عدم
الخطأ في الحدسيات، سواء شك في مطابقة مقتضى الحدس المعلوم للواقع
المجهول - كما في الاجتهاد في الحكم الشرعي - أم في مطابقة مقتضى الحدس
المجهول للواقع المعلوم، كما في المقام، لو فرض تشخيص المكلف المبتلى
485

بعمل الغير لما يعتبر في صحة العمل، أم في مطابقة مقتضى الحدس المجهول
للواقع المجهول، كما في المقام لو فرض جهل المكلف المبتلى بعمل الغير بما
يعتبر فيه.
ولا سيما مع العلم باختلاف طريق صاحب الحدس مع طريق المكلف
في الوصول للواقع، كما هو الحال في كثير من فروض المقام، إذ كثيرا ما يبتلى
المكلف بعمل شخص يعلم بعدم اعتماده على ما يعتمد هو عليه من طريق
الاجتهاد أو التقليد، وان احتمل اتفاق الطريقين في النتيجة.
غاية الأمر أنه دل الدليل على رجوع الجاهل للعالم في الحدسيات في
الجملة.
لكنه لا يبتني على أصالة عدم الخطأ في الحدس، بل على حجية حدس
العالم في حق الجاهل، وهو أجبني عن محل الكلام.
ومن هنا كان الظاهر عدم ابتناء جريان قاعدة الصحة في عمل الغير في
هذا الفرض على أصالة الصحة في اعتقاده.
وأما الفرض الثالث فقد وقع الكلام فيه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
وا وقد جزم غير واحد بعدم جريان القاعدة فيه، كما قد يظهر ذلك من كل استدل
بال‍ على القاعدة بالغلبة وظهور حال المسلم، لاختصاصهما بصورة عمل الفاعل
خ‍ بالصحيح وعدم خطئه فيه.
وقد يستدل عليه: - مضافا إلى ذلك - بعدم وضوح ثبوت السيرة - التي هي
عمدة الدليل على القاعدة - في الفرض المذكور.
لكن تقدم الإشكال في ابتناء القاعدة وظهور حال المسلم، فلا يهم
قصورهما عن الفرض.
وأما السيرة فالظاهر ثبوتها في المقام، كيف وإلا لزم عدم جريان القاعدة
في حق المخالفين، لكثرة مخالفتهم لنا في الفروع، وهو مقطوع البطلان، لكثرة
486

الابتلاء بأعمالهم في عصور المعصومين عليهم السلام فلو لم تجر القاعدة فيها لظهر
ذلك وكثر السؤال عنه والتنبيه عليه، بل لا ختل نظام أمر المؤمنين ووقعوا في
أعظم الحرج، وحيث لم يقع شئ من ذلك كشف عن عموم سيرتهم. كما هو
الحال في السيرة الفعلية، بين المؤمنين أنفسهم حيث لا إشكال في جريهم على
القاعدة من دون توقف أو فحص، مع وضوح اختلاف أفراد الطائفة الحقة في
الاجتهاد والتقليد اختلافا فاحشا.
بل لولا ذلك لم تجر القاعدة في الفرض الثاني بعد ما عرفت من عدم
جريان أصالة الصحة في الاعتقاد معه، لاشتراكه مع هذا الفرض في عدم المحرز
لصحة العمل، بل هي تبتني فيهما على الصدقة، وقد عرفت وضوح جريانها في
الفرض المذكور.
نعم، مع العلم بمخالفة اعتقاد الفاعل للواقع بنحو يلزم من جريه على
اعتقاده فوته، لعدم الجامع بينهما في مقام العمل، كما لو وجب العقد بالعربية،
وكان موقع العقد فارسيا يعتقد وجوب إيقاع العقد بلغة الموقع، أشكل جريان
أصالة الصحة في عمله لو احتمل صحته، لمخالفته في عمله لاعتقاده عمدا أو
غفلة.
لأن نذرة الفرض المذكور مانع من إحراز السيرة فيه، كما أن ظهور حاله
في متابعة اعتقاده مانع من إحراز عموم الارتكاز الذي تبتني السيرة عليه، فيتعين
التوقف فيه.
وإن لم يبعد الاقتصار على ما إذا كان ظاهر حال الفاعل جريه على معتقده
واقتصاره عليه، دون ما إذا احتمل احتمالا معتدا به خروجه عنه، أو جمعه بين
مقتضاه ومقتضى الواقع احتياطا.
ثم إنه لا يفرق في جميع فروض المسألة بين العلم بمعذورية الفاعل في
اعتقاده، والعلم بتقصيره فيه والشك في ذلك، لعدم دخل المعذورية في الاعتقاد
487

في الجهات الارتكازية التي تبتني عليها القاعدة، لابتنائها على التعبد بالواقع
لاحتمال إصابته، ولا دخل في ذلك للمعذرية التي هي المعيار في الحسن
الفاعلي.
بقي في المقام شئ وهو أنه لو علم من حال الفاعل عدم اهتمامه بمطابقة
الجعل الشرعي، بل بمطابقة شريعته لو لم يكن مسلما، أو القانون، أو المصطلح
العرفي، أو نحوها، واحتمل مطابقة عمله لمقتضى الجعل الشرعي، فهل نجري
القاعدة لإحراز صحة ما أتى به شرعا أولا؟ لا يبعد جريانها بالنظر للجهات
الارتكازية التي تبتني عليها القاعدة من حفظ النظام ونحوه، ولا سيما بملاحظة
ما تقدم من جريانها في ما لو علم بخطئه في تشخيص الصحيح، لعدم الفرق
بينهما في الجهات الارتكازية بل الظاهر قيام السيرة في المقام، بلحاظ كثرة
الابتلاء بمعاملات غير المسلمين. فلا حظ.
المسألة الثانية: الظاهر جريان القاعدة مع احتمال المخالفة العمدية، ولا
تختص باحتمال المخالفة الخطئية، لعموم الجهة الارتكازية الكاشفة عن عموم
السيرة.
ويشهد به بعض الفروع المحررة في كلماتهم التي يفرض فيها الشك في
الشروط المفسدة ونحوها مما من شأنه أن يقع عمدا، وحمل كلماتهم على
خصوص فرض الجهل بالإفساد بعيد عن مساقها جدا، بل يظهر من بعض
كلماتهم أن جريان القاعدة مع العلم بالإفساد فيها أولى منه مع الجهل به وتخيل
عدمه، ولذا ذهب بعضهم إلى عدم جريانها مع خطأ الفاعل في تشخيص الحكم
الشرعي، كما سبق.
المسألة الثالثة: الشك في صحة العمل وفساده.
تارة: يكون مسببا عن الشك في ما يعتبر فيه مع إحراز قابلية الموضوع
والفاعل، كما لو شك في صحة الصلاة للشك في الاستقبال أو في صحة البيع
488

للشك في وقوع العقد بالعربي.
واخرى: يكون مسببا عن الشك في قابلية الموضوع، كما لو شك في
صحة البيع للشك في كون المبيع خمرا أو ميتة.
وثالثة: يكون مسببا عن الشك في أهلية الفاعل للقيام به، كما لو شك في
صحة صلاة الميت لاحتمال عدم إيمان المصلي أو عدم إذن الولي له، أو شك
في صحة البيع لاحتمال الحجر على البائع.
أما الأول فهو المتيقن عندهم من جريان قاعدة الصحة.
وبها ترفع اليد عن الأصول الموضوعية المقتضية للبطلان، الجارية في
الأسباب، كاستصحاب الحدث، وأصالة عدم وقوع العقد العربي، أو في
المسببات، كاستصحاب عدم الانتقال أو عدم ترتب الأثر، التي هي مرجع أصالة
الفساد.
وأما الثاني فقد أنكر غير واحد جريان قاعدة الصحة فيه، لدعوى خروجه
عن السيرة التي هي عمدة الدليل في المقام
لكن لم يتضح تحديد شرط قابلية الموضوع، فقد مثلوا له بما لو احتمل
كون المبيع خمرا أو ميتة أو وقفا.
ولا يخفى أن المراد به إن كان هو الأمر الذي يمتنع طروءه على الموضوع
بعد فقده له، اختص بالميتة، لعدم إمكان طروء التذكية عليها، بخلاف الخمر
والوقف، لإمكان انقلاب الخمر خلا، فيجوز بيعه، كما يمكن طروء مسوغات
البيع على الوقف.
وإن كان مطلق الشرط المعتبر في الموضوع - كما يظهر من بعض
مشايخنا - لزم عدم جريان القاعدة في البيع لو شك في العلم بالعوضين حينه، أو
في التساوي بين الربويين.
ولا يمكن منهم البناء على ذلك، لدخوله في مورد السيرة الفعلية أو
489

الارتكازية، لعدم الخصوصية له ارتكازا في المنع من جريان القاعدة من بين
الشروط.
بل تحديد نوع الشرط قد يبتني على محض اصطلاح للفقهاء حسب
تبويبهم للمسائل، فمثل العلم بالعوضين يمكن جعله شرطا في العقد باعتبار
لزوم مقارنته له، كالطهارة في الصلاة، كما يمكن جعله شرطا في العاقد باعتبار
قيامه به، وفي العوضين باعتبار تعلقه بهما، ومثل ذلك لا يمكن أن يكون مناطا
للسيرة المبتنية على الارتكازيات.
وقد جعل بعض الأعاظم قدس سره المعيار في المنع على كون الشرط شرطا في
مالية العوضين عرفا أو شرعا أو قابليتهما للنقل والانتقال، فيخرج مثل العلم
بالعوضين والتساوي في الربويين.
لكن لما لكان العقد المفروض الشك في صحة وفساده هو البيع لا مطلق
النقل، فلا وجه للاكتفاء بإحراز القابلية لأصل النقل والانتقال دون خصوص
البيع لو كان المعيار على إحراز القابلية، ولو كان ذلك لخصوصية في الشرطين
المذكورين ناسب التعرض لوجه خصوصيتهما من بين سائر الشروط من حيثية
الجهات الارتكازية الكاشفة عن عدم السيرة.
ومجرد عدم إحراز السيرة الفعلية لا يكفي، لأن إحرازه السيرة في كل
شرط شرط متعذر غالبا، وإنما يستفاد الحكم في عموم الشروط بضميمة عدم
ظهور الخصوصية لبعضها ارتكازا.
على أن هذا مختص بالبيع، ولا يصلح لبيان الضابط العام في جميع
المعاملات - كما هو بصدده - فضلا عن أن يكون ضابطا لجميع موارد قاعدة
الصحة.
نعم، ذكر في جامع المقاصد في توجيه قبول دعوى الضامن صدور
الضمان منه حين الصبا أن قاعدة الصحة إنما تجري بعد استكمال الأركان.
490

قال: " لأن الأصل براءة الذمة فيستصحب. وكذا الأصل عدم البلوغ. وليس
لمدعي أهليته للضمان حين وقوعه - وهو المضمون له - أصل يستند إليه، ولا
ظاهر يرجع إليه يكون معارضا للأصلين السابقين.
فإن قيل: له أصالة الصحة في العقود، وظاهر حال العاقد الآخر أنه لا
يتصرف باطلا.
قلنا: الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها، ليتحقق وجود العقد،
أما قبله فلا وجود للعقد، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحر أو العبد،
حلف منكر وقوع العقد على العبد. وكذا الظاهر انما يثبت مع الاستكمال
المذكور، لا مطلقا ".
بل قد يظهر ذلك من العلامة في القواعد، حيث ذكر أنه ليس لمدعي
أهليته أصل يستند إليه ولا ظاهر يرجع إليه، بخلاف ما لو ادعي شرط أمر مفسد،
لأن ظاهر حال المتعاقدين أنهما لا يتصرفإن باطلا.
ولعله راجع إلى أنه لابد في جريان القاعدة في العمل من إحراز أركانه
المقومة له بنوعه، كالايجاب والقبول والقصد، وبشخصه، كالثمن والمثمن
الخاص لو تعلق الغرض به، فلا تجري في بيع العبد إلا بعد إحراز وقوع العقد
عليه، لأن صحة الخاص فرع ثبوته، وصحة أصل العقد لا تثبت خصوصيته،
ليترتب أثرها.
نظير ما تقدم من أن ما يكون مقوما للعمل المقصود، بحيث يتوقف
صدق عنوانه على قصده لا تحرز القاعدة قصده، بل لا تجري إلا بعد إحراز
قصده.
ولعل جعله البلوغ من الأركان لأجل سقوط قصد الصبي وعبارته عندهم،
ولذا حكم في القواعد بعدم صحة ضمانه حتى باذن الولي، فلا يحرز مع احتمال
الصبا حين الإيجاب الذي هو من أهم أركان العقد.
491

وهذا وإن كان متينا بحسب الكبرى، إلا أنه يختص بما يتوقف عليه صدق
عنوان العمل المشكوك في صحة وفساده، لكونه مقوما له، سواء كان راجعا
للفاعل، كالقصد، أم للفعل، كالقبول، أم للموضوع كالزوجية في المطلقة،
والمالية في البيع، بناء على أخذها في مفهوم البيع، دون بقية الشروط، من دون
فرق بين ما يكون شرطا في أصل الانتقال، كالطلقية في مثل الشك في كون
المبيع رهنا أو وقفا، وما يكون شرطا في خصوص البيع، كالتساوي في
الربويين.
بل لا يجري ذلك في ما يكون شرطا في المالية شرعا، كعدم الخمرية،
لأن سلب المالية شرعا إنما يقتضي عدم ترتب أحكامها، المستلزم لعدم نفوذ
البيع شرعا، مع صدقه عرفا، فيكون موضوعا للصحة والفساد، ويتحقق به
موضوع القاعدة.
بل يتعين في جميع ذلك جريان القاعدة، لعدم الفرق بين أفراد الشرط
المذكورة في الجهة الارتكازية، التي تبتني عليها القاعدة.
نعم، القاعدة إنما تقتضي تحقق الشرط من حيثية تصحيح العقد، لا مطلقا
ومن سائر الجهات، نظير ما تقدم في القاعدة السابقة، فلو شك في خمرية أحد
العوضين لم تنهض بنفي خمريته بلحاظ جميع آثار الخمرية حتى ما لم يكن
منها دخيلا في صحة العقد، كنجاسته وحرمة شربه.
وهو أمر آخر خارج عن محل الكلام.
ثم إن مرجع توقف جريان القاعدة على إحراز الأركان إلى لزوم إحرازها
بالنحو الذي يحرز معه عنوان العمل، ففي مثل القبول والقصد لابد من إحراز
وجوده الواقعي، أما في مثل المالية في البيع والرقية في العتق والزوجية في
الطلاق، فيكفي إحراز القصد إليه، لاعتقاد الفاعل تحققه حين العمل، إذ مع عدم
إحراز القصد إليه لا يحرز القصد لعنوان العمل، الذي تقدم توقف جريان
492

القاعدة عليه، أما مع إحراز القصد إليه لاعتقاد وجوده، فيتم موضوع القاعدة، ولا
مجال لعدم جريانها.
ولذا لا يظن من سيرة المتشرعة عدم إجراء الوارث قاعدة الصحة في
عتق المورث لكفارة ونحوها لو احتمل بطلانه، لاحتمال وقوعه بعد انعتاق
العبد بتنكيل أو جذام أو نحوهما.
هذا، ويؤيد ما ذكرنا من جريان القاعدة مع الشك في الشروط إذا أحرز
عنوان العمل للقصد إليه بأركانه، بل يشهد به أنه لا ريب ظاهرا في جريان قاعدة
الفراغ لو تحقق الشك بعد الفراغ من العمل، لعموم أدلتها المتقدمة، ومن البعيد
جدا بالنظر للمرتكزات عدم تكليف الفاعل نفسه بالتدارك لأجل تلك القاعدة،
وتكليف الغير به، لعدم جريان قاعدة الصحة في حقة، لرجوع القاعدتين لجامع
ارتكازي واحد، كما سبق.
ومما تقدم يظهر الحال في شرائط الفاعل، وأن ما كان منها بوجوده
الواقعي مقوما للعمل، لركنيته فيه، أو دخله في ما هو الركن فيه، لا تجري القاعدة
مع عدم إحرازه، كالقصد، والبلوغ بناء على سلب عبارة الصبي عرفا.
وما كان منها بوجوده العلمي مقوما للعمل لابد من إحراز القصد إليه وإن
لم يحرز وجوده واقعا، كزوجية المطلق للمطلقة.
وما لم يكن كذلك لا يعتبر إحرازه ولا إحراز القصد إليه في جريانها،
كبلوغ العاقد بناء على بطلان عقد الصبي شرعا حتى باذن الولي، وإن لم يكن
مسلوب العبارة عرفا، وإيمان المصلي على الميت، ونحوهما.
وإلا فلم يتضح الفرق بين إيمان المصلي وطهارته، مع عدم الإشكال
ظاهرا في جريانها مع الشك في الطهارة.
وجعل الطهارة من شروط الفعل والايمان من شروط الفاعل، تحكم. ولو
تم كان محض اصطلاح لا معنى لدخله في جريان القاعدة المبنية على
493

الارتكازيات، كما سبق نظيره.
نعم، الظاهر قصور القاعدة عما لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا
عن الشك في السلطنة، سواء كان في المعاملات - كالبيع - أم في العبادات،
كصلاة الميت التي يعتبر فيها إذن الولي - بناء على تفرع اعتباره على حق له، لا
انه شرط محض - لقصور السيرة عن ذلك.
وبناؤهم على الصحة مع الشك في السلطنة مختص بما إذا أحرزت ظاهرا
بمثل اليد ونحوها، حيث تقدم في قاعدة اليد نفوذ تصرف الإنسان في ما تحت
يده ظاهرا وقبول قوله فيه، ولا يبنى على الصحة بدونها.
بل لو فرض سقوط حجية اليد، كما لو أنكر المالك التوكيل - حيث تقدم
أن إنكاره مقدم على دعوى صاحب اليد الفعلية - تعين بمقتضي سيرتهم
الارتكازية البناء على عدمه، ولا يظن من أحد التشكيك في ذلك بعد النظر في
المرتكزات، وفي كلمات الأصحاب في الفروع المختلفة المناسبة لذلك.
ولعله عليه يحمل كلام بعض من صرح بعدم جريان القاعدة مع الشك
في البلوغ.
نعم، هو مختص ببلوغ من له العقد لو احتمل عدم سلطنته، لعدم إذن
الولي له، أما بلوغ موقع الصيغة فاعتباره مبني على سقوط عبارة الصبي شرعا
وعدم ترتب الأثر عليها حتى بإذن الولي، ولا دخل له بالسلطنة، فهو كسائر
الشروط تجري قاعدة الصحة مع الشك فيه لو أحرزت السلطنة، ولو لإذن من له
السلطنة على العقد، وإن لم تحرز صحة وكالته عنه، لأن الوكالة من العقود التي
فرض البناء على عدم صحتها من الصبي. إلا أن يدعى سقوط قصده عرفا
فيكون البلوغ من أركان العقد التي يمتنع جريان قاعدة الصحة مع الشك فيها
كما سبق.
هذا، وقد استشهد شيخنا الأعظم قدس سره على جريان القاعدة مع الشك في
494

البلوغ بعموم أدلتها من السيرة ولزوم الاختلال قال: " ولذا لو شك المكلف ان
هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره بني على الصحة ".
فإن أراد صورة الشك في ذلك مع إحراز السلطنة لاذن من له السلطنة -
بناء على بطلان عقد الصبي مطلقا - فما ذكره في محله.
وإن أراد صورة الشك في السلطنة، للعلم بعدم إذن الولي، فلا مجال
للبناء عليه بالنظر للسيرة، كما يظهر بقياسه على الشك المذكور، ولا سيما مع كون
جواز تصرفه في ما تحت يده والحكم بملكيته له مقتضى حجية اليد، ولا يحتاج
فيها القاعدة، كما لو احتمل كون ما تحت يده مسروقا له حين صغره.
وإنما يظهر الأثر في فرض التداعي، حيث تسقط يده عن الحجية، لكونها
مسبوقة بملكية الغير المنكر للسبب الناقل، فيحتاج للقاعدة.
وندرة ذلك مانعة من استكشاف السيرة الفعلية عليه، فضلا عن لزوم
محذور الاختلال، والسيرة الارتكازية مع ما عرفت ممنوعة.
ومثله ما ذكره من إمكان أن يقال: إن الظاهر من حال الآخر المفروض
بلوغه عدم تصرفه باطلا.
إذ لو أراد بالظهور المذكور ما يساوق قاعدة الصحة في تصرفه لدعوى
ابتناء القاعدة على ظهور حال الفاعل. فمن الظاهر أنه إنما يسلط على أحد
طرفي العقد ويباشره، وصحته لا تستلزم صحة العقد، نظير ما سبق في الأمر
الثاني من المقام الثاني.
وإن أراد به أمرا آخر يكون حجة على المدعي في المقام مكذبة لدعواه.
فهو - مع اختصاصه بما إذا كان عالما بالحكم - غير معلوم الحجية عليه في حق
نفسه، بنحو يمنع من سماع دعواه، كما لا ينبغي الإشكال في عدم حجيته في
حق الطرف الآخر المحتمل الصبا لو ادعى إيقاع العقد حينه.
495

بقي شئ، وهو أن شيخنا الأعظم قدس سره منع من البناء على الصحة الفعلية -
بمعنى ترتب الأثر - في ما لو شك في القبض في الهبة والصرف والسلم، وفي
إجازة المالك لعقد الفضولي، لدعوى: أن صحة العقد في جميع ذلك ليست
بمعنى فعلية ترتب الأثر عليه، بل بمعنى كونه بحيث لو تعقبه القبض أو
الإجازة لترتب عليه الأثر، لأن صحة كل شئ بحسبه، فأصالة الصحة لا تحرز
أكثر من ذلك.
ويشكل ما ذكره في القبض: بأن العقود المذكورة لما كانت مبنية على
إنشاء مضامينها فعدم ترتب مضامينها لفقد بعض الشروط مناف لصحتها، ولا
مجال لحمل الصحة فيها على الصحة التأهلية، وإلا لجرى ذلك في جميع
الشروط، كما في سبق في الأمر الثاني من المقام الثاني. ومجرد كون الشرط
متأخرا لا أثر له في ذلك.
نعم، لو كان القبض شرطا في بقاء الأثر مع كفاية العقد في حدوثه، أشكل
البناء على تحققه بالقاعدة، لأن تخلفه لا يستلزم بطلان العقد ولا ينافي صحته،
لأن البقاء ليس أثرا للعقد، بل هو مقتضى طبيعة الأثر، فهو نظير فسخ العقد
الصحيح الذي لا تنهض القاعدة بنفيه.
إلا أن يتمسك له بما تقدم في الأمر الثالث من المقام الثاني من عموم
القاعدة للأمور غير الارتباطية إذا أحرز الإتيان بالفعل بعنوان كونه محققا
لمجموعها.
لكنه موقوف على إحراز قصد المتعاقدين للعقد بلحاظ بقاء أثره
الموقوف على القبض، والبناء منهما على تحقيق القبض والفراغ عن العمل
بذلك العنوان، ولا يكفي مجرد إيقاع العقد بلحاظ ترتب أثره من دون نظر
لبقائه. فلاحظ.
نعم، يتجه ما ذكره قدس سره في إجازة عقد الفضولي، من دون فرق بين قصدهما
496

للعقد فقط وقصدهما له بلحاظ ترتب الأثر عليه شرعا، المستتبع للسعي في
تحقيق الإجازة، لأن مضمون العقد التابع للإجازة لما كان خارجا عن سلطانهما
لم تنهض القاعدة بإحرازه، لما سبق من توقفها على إحراز سلطنة الفاعل.
ومنه يظهر الحال في ما ذكره بقول: " وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد
في نفسه لو خلي وطبعه مبنيا على الفساد، بحيث يكون المصحح طاريا عليه،
كما لو ادعى بايع الوقف وجود المصحح له، وكذا الراهن أو المشتري من
الفضولي إجازة المرتهن أو المالك ".
فإنه لا مجال لما ذكره في مثل بيع الوقف، لأن الوقفية كسائر الموانع التي
يكون وجودها موجبا لفساد العقد وعدم ترتب أثره، فلا وجه لعدم جريان
أصالة الصحة في البيع لو فرض إحراز سلطنة البايع ولو لكونه صاحب يد، وقد
سبق أنه لا مجال لدعوى قصور القاعدة عن شروط العوضين، كما لا مجال
لدعوى لزوم إحراز قابلية المحل في جريانها، نظير ما تقدم في قاعدة الفراغ،
لأنهما من باب واحد.
وإنما يتجه ما ذكره في الرهن وفي الفضولي لما تقدم من عدم إحراز
السلطنة، ومثله سائر موارد الشك في الاذن إذا كان راجعا للشك في السلطنة.
أما إذا لم يكن الإذن شرطا في السلطنة، بل كان شرطا في نفس الفعل فلا
يبعد جريان قاعدة الصحة مع الشك فيه، كما لعله الحال في مثل إذن العمة
والخالة والحرة في نكاح بنت الأخ والأخت والأمة، حيث لا يبعد كون شرطيته
حكما أدبيا لا يرجع إلى سلطنتهن على النكاح وحجز الزوجين عنه، لقصورهما
عنه أو لمزاحمته لحقهن. وإن كان محتاجا للتأمل.
المسألة الرابعة: إذا علم بفساد العمل من جهة، فهل تنهض القاعدة
بإحراز صحته من سائر الجهات لو شك فيها؟.
ومحل الكلام ما إذا كان الأثر مترتبا على العمل الصحيح من تلك
497

الجهات، كما قيل بذلك في التحريم المؤبد بين الزوجين إذا وقع العقد في
العدة، فقد ذهب غير واحد إلى اختصاصه بالعقد الصحيح من غير جهة العدة،
دون الفاقد لبعض الشروط الأخر، بخلاف ما إذا كان الأثر مترتبا على عنوان آخر
يحصل مع فساد العمل، كما لو علم ببطلان الغسل الارتماسي لعدم الحدث،
واحتمل عدم استيعاب الغسل للأعضاء، المستلزم لعدم طهارتها من الخبث،
لوضوح أن الطهارة من الخبث ليست من آثار الغسل الصحيح من غير حيثية
وجود الحدث، بل من آثار غسل البشرة، فلا ينبغي التأمل في عدم جريان
القاعدة حينئذ لإحراز الأثر المذكور، لأنها لا تحرز موضوعه إلا بناء على الأصل
المثبت.
ولا مجال لاجزائها في نفس موضوع الأثر، لفرض عدم الإتيان بالفعل
بقصد عنوانه، الذي سبق في الأمر الرابع من المقام الثاني توقف جريان القاعدة
عليه.
إذا عرفت هذا، فحيث كان الدليل على القاعدة منحصرا بالسيرة أشكل
البناء على جريانها في محل الكلام، لقلة الابتلاء بذلك فلا يحرز حال السيرة
الفعلية عليها.
كما لا يحرز عموم الارتكاز الذي تبتني عليه السيرة، لعدم وضوح ابتنائه
على الانحلال بلحاظ كل جهة جهة، كي لا يخل عدم جريانها بلحاظ بعض
الشروط بجريانها بلحاظ الشروط الأخرى، بل من القريب ابتناؤه على
المجموعية بلحاظ ترتب الأثر الفعلي للعمل التام، فمع فرض عدم تماميته من
بعض الجهات لا تجري من بقيتها.
نعم، لو كان مبنى الارتكاز المذكور على الغلبة أو ظهور حال الفاعل اتجه
البناء على جريانها، لابتنائهما على الانحلال وعمومهما لمحل الكلام. لكن
تقدم الإشكال في ذلك.
498

خاتمة
يبحث فيها في أمرين..
الأمر الأول: لما كانت قاعدة الصحة محرزة لصحة العمل الواقع من الغير
فهي تقتضي ترتب جميع آثار صحة عمله شرعية كانت - كجواز الائتمام به
واستحقاقه الاجرة لو كان أجيرا - أم عقلية، كسقوط الأمر الكفائي به، بناء على
التحقيق من رجوعه لأمر الكل بأصل الماهية الحاصلة بصرف الوجود حيث
يكون سقوط الأمر عنهم بفعل الواحد عقليا، لأن الأمر لا يدعو إلا إلى متعلقه،
وكذا سقوط الأمر العيني مع النيابة في مورد مشروعيتها، حيث يكون مقتضى
أصالة الصحة عقلا في فعل النائب سقوط أمر المنوب عنه به.
وأما ما عن المشهور من اعتبار العدالة في النائب فمن القريب أن يحمل
على صورة الشك في الإتيان بالعمل، أو في قصد تفريغ ذمة المنوب عنه به، بناء
منهم على عدم الاكتفاء بالوثوق في ذلك.
أما مع إحراز الإتيان بالعمل بنية تفريغ ذمة المنوب عنه والشك في
صحته فالظاهر منهم جواز البناء منه ومن غيره على الصحة، عملا بالقاعدة التي
جروا عليها في سائر الموارد، ويترتب عليه فراغ ذمة المنوب عنه.
لكن ظاهر شيخنا الأعظم قدس سره التوقف في البناء على فراغ ذمة المنوب عنه،
بدعوى: أن الفعل النائب حيثيتين.
الأولى: كونه فعلا له بالمباشرة.
الثانية: كونه فعلا للمنوب عنه بالتسبيب.
وقاعدة الصحة إنما تقتضي إحراز الصحة له من الحيثية الأولى، فتترتب
آثار صدور الصحيح منه، من استحقاقه الاجرة، وجواز استئجاره ثانيا، بناء على
اشتراط فراغ ذمة الأجير في صحة استئجاره ثانيا، ونحوهما.
499

أما من الحيثية فلا محرز للصحة، لعدم التلازم بين الحيثيتين في
التعبد بها، فلا مجال للبناء على فراغ ذمة المنوب عنه، بل لابد من إحراز صحة
العمل لأجل ذلك بطريق آخر، كاخبار الفاعل ونحوه من عدالته أو ثقته.
ولا يخلو ما ذكره عن غموض، لعدم تعرضه لوجه الفرق بين الحيثيتين
في جريان قاعدة الصحة. إلا أنه لا يبعد - بعد النظر في كلام بعض أعاظم شراح
كلامه المؤيد ببعض فقرات منه - أن يكون نظره في الفرق إلى أنه لما كان
موضوع قاعدة الصحة هو فعل الغير لا فعل الإنسان نفسه فلا مجال للمنوب عنه
أن يجريها في حق نفسه لأجل إحراز فراغ ذمته، لأن فراغ ذمته بفعل النائب إنما
هو بتوسط انتساب فعله له، لا للنائب، بخلاف استحقاق النائب الاجرة، فإنه من
آثار انتساب الفعل للنائب، فموضوع الأثر المذكور هو فعل الغير الذي هو
مجري القاعدة. وكذا سقوط التكليف الكفائي عن ذمة المكلف بفعل غيره، فإنه
لا يتوقف على انتسابه له، بل يكفي فيه انتسابه للمباشر.
ولعله لذا ذكره قدس سره أن الوجه المذكور لا يجري في استئجار الولي للعمل
عن الميت، حيث لا يعتبر في براءة ذمة الميت انتساب الفعل للولي المكلف
بابراء ذمة الميت، بل يكفي فيه انتسابه للميت، فيكون موضوع الأثر في حق
الولي هو فعل الغير من حيث هو فعل الغير، فتشمله القاعدة.
وعلى هذا، فغاية ما يمنع منه هذا الوجه هو رجوع المنوب عنه للقاعدة،
لا رجوع غيره ممن يتعلق غرضه ببراءة ذمة المنوب عنه، كالولي والوصي
والوارث.
لكنه يندفع..
أولا: بأن أخذ خصوصية فعل الغير في موضوع القاعدة مستفاد من
الارتكاز الذي تبتني عليه السيرة، والظاهر منه أن الموضوع هو فعل الغير
بالمباشرة، وإن كان فعلا للنفس بالتسبيب، وليس مستفادا من دليل لفظي كي
500

ينظر في مفاده وأنه يعم ذلك أولا.
ولو فرض قصورها عنه أمكن التمسك لبراءة الذمة بقاعدة الفراغ الجارية
في فعل النفس. فتأمل.
وثانيا: بأن الجهة الثانية لفعل النائب متفرعة على الجهة الأولى، لوضوح أن فعل النائب ليس هو إلا ما اتي به لتفريغ ذمة المنوب عنه، فالتعبد بصحته
ملازم عرفا للتعبد بفراغ ذمة المنوب عنه، وإلا فلا وجه لاستحقاقه الاجرة،
لوضوح أن موضوع الإجارة هو فعله المفرغ لذمة المنوب عنه، لا مطلق فعله.
وبالجملة: التفكيك المذكور مما تأباه المرتكزات العرفية جدا، بنحو
يكشف عن عدم التفكيك في مفاد القاعدة المبنية على المرتكزات المذكورة.
نعم، قد يدعى جريان القاعدة في فعل الغير الذي لا يبتني تفريغ الذمة به
على النيابة، بل على محض سقوط المباشرة، كما في توضئة الغير للعاجز عن
المباشرة، فإن المباشر للعمل لا ينوبه بعنوانه، بل تكون النية من المكلف لا غير،
فلا يكون عمله واجدا للعنوان المعروض للصحة والفساد، ليحرز بالقاعدة براءة
الذمة به.
إلا أن هذا - مع منعه من جريان القاعدة لاستحقاق الاجرة أيضا فلا وجه
للتفكيك بينهما - غير مهم بناء على ما تقدم في الأمر الثالث من المقام الثاني من
عدم اختصاص القاعدة بما يكون معروضا للصحة والفساد، بل تجري لإحراز
تمامية ما قصده الفاعل بفعله، حيث يتجه جريانها في المقام لو فرض قصد
الفاعل بعمله عنوانا جامعا لتمام الأجزاء والشرائط، كما لو قصد توضئة العاجز،
أو غسل تمام أعضاء وضوئه بنحو الترتيب أو نحوهما مما يطرؤه النقص
والتمام ويكون مبرئا للذمة على تقدير التمامية.
الأمر الثاني: تعرض شيخنا الأعظم قدس سره وبعض من تأخر عنه لأصالة
الصحة في الأقوال والاعتقادات.
501

والذي ينبغي أن يقال فيها: إن الأقوال والاعتقادات لو فرض ترتب الأثر
عليها بنفسها وكانت مقيدة بقيود خاصة، كانت كسائر الأفعال معروضة للصحة
والفساد بلحاظ واجديتها للقيود المعتبرة في ترتب الأثر وفاقديتها لها، فتجري
فيها أصالة الصحة لو فرض إحراز موضوعها، وهو الإتيان بالفعل الذي
يؤخذ في موضوع الأثر، كما لو احتمل لحن القارئ في قراءته المفروضة عليه
التي فرض قصده لها.
لكن لا يتضح الفرض المذكور في الاعتقادات، لأن الأمور التي يجب
الاعتقاد بها لا يشك في صحة الاعتقاد بها، بل في تحققه، ولم يؤخذ في
موضوع التكليف عنوان خاص يحرز من المكلف قصده ويشك في مطابقة ما
وقع له، فإن مثل عنوان الاعتقاد بأصول الدين ليس مأخوذا في موضوع التكليف
الشرعي، ليتحقق موضوع القاعدة في فرض قصد المكلف له والشك في خطئه
فيه، وإنما هو من العناوين الانتزاعية مما يجب الاعتقاد بذاته - كالنبوة والإمامة -
ويشك في تحققه، لا في صحته.
نعم، لو قيل بتوقف الإسلام مثلا على الاعتقاد بأصوله عن برهان، وعلم
من حال الشخص قصده الاعتقاد المحقق للإسلام، وتحقق منه الاعتقاد بأصوله،
وشك في تحقق قيده المذكور، اتجه بمقتضى القاعدة البناء على تحققه والحكم
باسلامه.
لكن الظاهر أنه يكفي في الإسلام الاعتقاد بأصوله، وإن لم يكن عن
برهان، فلا يتحقق فيه موضوع القاعدة.
هذا، وفي ما عدا ذلك فالأقوال والاعتقادات..
تارة: يشك في وقوعها على الوجه المباح أو المحظور، كما لو تردد
الخبر بين الكذب الحرام والكذب المباح للإصلاح أو التقية، أو تردد الاعتقاد
الخاطئ بين ما يكون عن تقصير وما يكون عن حجة معذرة.
502

واخرى: يشك في مطابقتها للواقع وعدمها مع قطع النظر عن الإباحة
والحظر.
أما في الأول فلا مجال للبناء على الصحة بالمعنى المقابل للفساد التي
هي مفاد القاعدة، لعدم قابلية الموضوع للاتصاف بالصحة والفساد ولا بالتمامية
والنقص بعد عدم القصد لمركب محط للغرض يطابقه الفعل الخارجي تارة ولا
يطابقه أخرى.
كما لا مجال للبناء على الصحة بمعنى الحسن الفعلي المقابل للقبح
الفعلي، التي هي عبارة عن إباحة الفعل واقعا، لعدم الدليل على ذلك.
نعم، مقتضى ما تضمن الأمر بحسن الظن بالمؤمن، وحمل أمره على
الأحسن، وحرمة اتهامه (1) هو البناء على الصحة بمعنى الحسن الفاعلي المقابل
للقبح الفاعلي الراجع لتعمد المعصية والاقدام على التمرد، فيبنى على عدم
تعمده المعصية وإن صادف الحرام الواقعي. وإليه يرجع ما قيل من وجوب
حمل المؤمن على الصحة.
لكنه مختص بالمؤمن، لاختصاص النصوص به، ولا يجري في غيره، كما
لا يجري في من لم يحرز إيمانه ولو بالاستصحاب.
وأما في الثاني فلا مجال للبناء على المطابقة للواقع لو كانت موضوعا لأثر
علمي، لعدم الدليل على ذلك.
نعم، قام الدليل على حجية خبر الثقة في الحسيات، وخبر المجتهد
ونحوه من أهل الخبرة في الحدسيات، على تفصيل في الأمرين يذكر في محله.
لكنه راجع إلى التعبد بالواقع الذي هو مؤدى الخبر والاعتقاد، لترتيب
أثره، لا التعبد بمطابقة الخبر والاعتقاد للواقع، التي هي كالصحة معنى قائم

(1) راجع الوسائل ج: 8 باب: 122، 161 من أبواب أحكام العشرة، وج: 11، باب: 33 من أبواب
المعروف.
503

بالخبر والرأي، ليكون من سنخ قاعدة الصحة التي هي محل الكلام.
وأما ما تضمنته بعض أدلة الحجية من لزوم تصديق المخبر ونحوه، فهو
كناية عن التعبد بالمؤدى الذي هو مفاد الحجية، ولذا سيقت لبيان لزوم ترتيب
أثر الواقع، وليس المراد به التعبد بعنوان الصدق بنفسه، ليترتب أثره.
ومجرد التلازم بين الأمرين لا يكفي في عموم التعبد للصدق بعنوانه،
لإمكان التفكيك بين المتلازمين في التعبد، بل لابد من تمامية شروط التعبد فيه،
فحيث كان من الموضوعات الخارجية التي لا يترتب عليها الحكم الكلي بل
الجزئي لزم فيه التعدد والاخبار عن حسن، ولا يكتفي بملازمته لما يكفي فيه
خبر الواحد أو الخبر الحدسي. فلا حظ.
والله سبحانه وتعالى العالم العاصم. والحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
هذا، تمام الكلام في قاعدة الصحة تتمة للكلام في الاستصحاب. وبه
ينتهي الكلام في الأصول العملية.
وكان الفراغ من ذلك عصر الأحد، الثامن والعشرين من شهر شعبان
المعظم، سنة ألف وثلاثمائة وسبع وتسعين للهجرة النبوية، على صاحبها وآله
أفضل الصلوات، وأزكى التحيات، في النجف الأشرف، ببركة الحرم المشرف،
على مشرفه الصلاة والسلام.
بقلم العبد الفقير (محمد سعيد) عفي عنه، نجل العلامة حجة الإسلام
السيد (محمد علي) الطباطبائي الحكيم دامت بركاته. ومنه سبحانه نستمد
العون والتوفيق، ونسأله قبول الأعمال، وصلاح النيات والأحوال بمنه وكرمه.
وانتهى تبييضه - بعد تدريسه - سحر الثلاثاء، آخر الشهر المذكور، بقلم
مؤلفه عفي عنه، حامدا مصليا مسلما.
504