الكتاب: مصباح الأصول
المؤلف: تقرير بحث الخوئي ، للبهسودي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الخامسة
سنة الطبع: ١٤١٧
المطبعة: العلمية - قم
الناشر: مكتبة الداوري - قم
ردمك:
ملاحظات: تقرير بحث آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي

مصباح الأصول
تقرير بحث سماحة آية الله العظمى
زعيم الحوزة العلمية وقطب رحى دراستها
السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ره)
لمؤلفه
السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي
الجزء الثاني
منشورات
مكتبة الداوري
قم - إيران
1

هوية الكتاب: مصباح الأصول / ج 2
المؤلف: السيد محمد السرور الواعظ الحسيني البهسودي
الناشر: مكتبة الداوري - قم - تليفون 732178
المطبعة: العلمية - قم
الطبعة: الخامسة - 1417 ه‍. ق
العدد: 1000 نسخة
السعر: 1500 تومانا
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله
الغر الميامين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين
وبعد فلا يخفى ان العلماء هم الدعاة إلى دين الله وحماة شريعة سيد المرسلين
التي هي أفضل الشرايع وخاتمتها وان بمدادهم يفصل الحق من الباطل وينجلي
الهدى عن الضلال ويتبين الحلال من الحرام.
ومن العلماء الذين نذروا أنفسهم للعمل في سبيل الدين وترويج شريعة
خاتم النبيين هو العلامة الحجة الحاج السيد سرور الواعظ الحسيني البهسودي
دام توفيقه فقد قرر أبحاثنا الأصولية واستوعبها عن فهم وتدقيق وقد
لاحظت جملة منها في هذا الجزء فوجدتها تتميز ببيان شامل ودقة في الضبط
فاسأل المولى جل شأنه ان ينفع بكتابه (مصباح الأصول) طلاب الحوزة
العلمية ممن تاقوا إلى العلم وراموا الاستنارة بمصباحه.
جعله الله علما من اعلام الدين وكثر من أمثاله في العلماء العالمين انه
ولى المؤمنين في 10 شهر شوال المكرم 1386 أبو القاسم الموسوي الخوئي
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد
وآله الأطهار المعصومين.
أما بعد فهذه ثمرات اقتطفتها من شجرة طيبة، ودرر كلمات تلقيتها
من أبحاث قيمة لحضرة سيدنا الأستاذ العلامة صراف نقود العلم بأفكاره الباكرة
العميقة، غواص بحار الفضل بأنظاره العالية الدقيقة، المحدث الخبير والفقيه
البارع البصير والأصولي الشهير، والرجالي الكبير حجة الاسلام والمسلمين
آية الله العظمى في العالمين سيدنا ومولانا الحاج السيد أبو القاسم الخوئي أدام
الله ظله العالي ومتع المسلمين بوجوده الشريف
وسنتعرض في هذا الجزء لمباحث القطع والظن والشك إن شاء الله تعالى.
كما تعرضنا قبل هذا في الجزء الثالث لمباحث الاستصحاب والتعادل والترجيح
والاجتهاد والتقليد. ومن الله سبحانه نستمد العون والتوفيق.
المؤلف
4

(حجية القطع) وقبل الشروع فيها لابد من التنبيه على أمور:
(الأمر الأول) - أنه لا ينبغي الشك في أن مبحث القطع ليس من مسائل
علم الأصول، إذ قد عرفت في أول بحث الألفاظ أن المسألة الأصولية هي ما تكون
نتيجتها - على تقدير التمامية - موجبة للقطع بالوظيفة الفعلية، واما القطع بالوظيفة
فهو بنفسه نتيجة، لا انه موجب لقطع آخر بالوظيفة، وإن شئت قلت:
إن المسألة الأصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي بحيث لو
انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا. ومن الظاهر أن القطع بالحكم لا يقع
في طريق استنباط الحكم، بل هو بنفسه نتيجة.
وبالجملة القطع بالحكم ليس إلا انكشاف الحكم بنفسه، فكيف يكون
مقدمة لانكشافه كي يكون البحث عنه من المسائل الأصولية: ويزداد هذا
وضوحا بتذكر ما أسلفناه في بيان فهرس مسائل علم الأصول ولا حاجة إلى
الإعادة، وبما أن القطع بالوظيفة نتيجة المسائل الأصولية - إذ العلم بالوظيفة
من لوازم العلم بالمسائل الأصولية بعد ضم الصغرى إليها - ناسب البحث عنه في
الأصول استطرادا. وباعتبار أن مرجع البحث عن حجية القطع إلى صحة
العقاب على مخالفته يكون شبيها بالمسائل الكلامية الباحثة عن المبدأ والمعاد
وما يصح عنه تعالى وما لا يصح.
هذا كله في القطع الطريقي، وأما القطع الموضوعي فهو وإن كان دخيلا
في فعلية الحكم إلا أن نسبته إليه هي نسبة سائر الموضوعات إلى الاحكام، فإذا
5

جعل القطع بشئ موضوعا لوجوب التصدق مثلا، تكون نسبة القطع إلى
وجوب التصدق هي نسبة الخمر إلى الحرمة، فكما ان الحرمة ليست مستنبطة
من الخمر بل مستنبطة من الأدلة الدالة على حرمة الخمر، كذلك وجوب التصدق
ليس مستفادا من القطع بل من الأدلة الدالة على وجوب التصدق عند القطع
بشئ، فالبحث عن القطع الموضوعي أيضا ليس داخلا في علم الأصول. نعم
القواعد التي يستنبط منها وجوب التصدق عند القطع بشئ تكون من المسائل
الأصولية كما هو ظاهر.
(الامر الثاني) - أنه هل المراد من المكلف المذكور في كلام شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) هو خصوص المجتهد أو الأعم منه ومن المقلد؟
مقتضى الاطلاق الثاني، وهو الصحيح، لعدم اختصاص الأقسام وما يذكر لها
من الأحكام بالمجتهد. وتوضيح المقام يقتضي التكلم في مقامات ثلاثة:
1 - في بيان حكم المجتهد بالنسبة إلى تكليف نفسه.
2 - في بيان حكم المقلد بالنسبة إلى تكليفه.
3 - في بيان حكم المجتهد بالنسبة إلى تكليف مقلديه.
(أما المقام الأول) - فلا إشكال في أن المجتهد إذا التفت إلى حكم شرعي
متعلق بنفسه، فاما أن يحصل له القطع أو يقوم عنده طريق معتبر، أو لا هذا
ولا ذاك. فعلى الأول يعمل بقطعه، وعلى الثاني يعمل بما قام عنده من الطريق
وعلى الثالث يرجع إلى الأصول العملية على ما سيجئ من التفصيل في مجاريها
إن شاء الله تعالى، بلا فرق في جميع ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري.
و (اما المقام الثاني) - فالظاهر أن المقلد كالمجتهد في الأحكام المذكورة،
فان حصل له القطع بحكم من الأحكام عمل به بلا حاجة إلى الرجوع إلى المجتهد
وإن لم يحصل له القطع، فان قام عنده طريق معتبر وليس إلا فتوى المجتهد عمل
6

به، وإن فقده أيضا وبقى شاكا في الحكم رجع إلى الأصول العملية على نحو
يأتي عند التكلم في المقام الثالث.
هذا كله الحكم الواقعي وكذا الحال في الحكم الظاهري، فان حصل
له القطع به - كما إذا قطع بفتوى المجتهد في مورد - عمل به. وإلا فان قام عنده
طريق معتبر - كما إذا أخبر عدلان بأن فتوى المجتهد كذا - أخذ به، وإلا رجع
إلى الأصل العملي، فان كان متيقنا بفتوى المجتهد سابقا وشك في تبدلها
يستصحب بقاءها. وإن أفتى أحد المجتهدين بالوجوب والآخر بالحرمة، دار
الأمر بين المحذورين فيتخير، وإن أفتى أحدهما بوجوب القصر مثلا والآخر
بوجوب التمام وجب عليه الاحتياط، إلا أن يثبت قيام الاجماع على عدم
وجوب الاحتياط على العامي على ما ادعاه شيخنا الأنصاري (ره) إذا فتخير.
والحاصل أنه لا فرق بين المجتهد والمقلد إلا في خصوصية الطرق والامارات
فان طرق المجتهد إلى الاحكام هي الكتاب والسنة، وطريق المقلد هو فتوى
المجتهد فقط، وكما أن ظواهر الكتاب والسنة حجة المجتهد، كذلك ظاهر
كلام المجتهد حجة للمقلد، فلا وجه لاختصاص المقسم بالمجتهد.
و (اما المقام الثالث) - فتوضيح الكلام فيه أن المجتهد إذا التفت إلى حكم
متعلق بمقلديه دون نفسه - سواء كان الحكم بجميع مراتبه مختصا بغيره
كالاحكام المختصة بالنساء، أو بفعليته كأحكام الحج مع عدم كونه مستطيعا،
واحكام الزكاة مع عدم كونه مالكا للنصاب - ففي جميع ذلك - إن حصل له
القطع بالحكم أو قام عنده طريق معتبر عليه - أفتى به بلا إشكال فيه،
وإلا فله الرجوع إلى الأصول العملية والافتاء بمؤداها.
وقد يستشكل في الرجوع إلى الأصول: بان جريان الأصل موضوعه
المكلف الشاك والمقلد الذي يتوجه إليه التكليف ليس له شك في الحكم،
7

لكونه غير ملتفت إليه، فكيف يفتي المجتهد في حقه بمؤدي الأصل، والمجتهد
وإن كان شاكا إلا أن التكليف غير متوجه إليه على الفرض، فمن توجه إليه
التكليف غير شاك في الحكم. ومن شك فيه لم يتوجه إليه التكليف، فلا موضوع
للرجوع إلى الأصل العملي.
وأجاب عنه شيخنا الأنصاري (ره) بأن المجتهد نائب عن المقلد في اجراء
الأصل، فيكون الشك من المجتهد بمنزلة الشك من المقلد. وفيه انه لا دليل
على هذه النيابة، وأدلة الأصول العملية لا عموم لها للشك النيابي.
والتحقيق في الجواب أن كان يقال: إن كان الحكم مما يلتفت إليه المقلد
أيضا فيشك فيه كما شك فيه المجتهد، كما إذا شك في طهارة الماء القليل المتنجس
المتمم كرا ونجاسته، فللمجتهد أن يجري الاستصحاب بلحاظ يقين المقلد وشكه
فإنه كان متيقنا بنجاسة الماء قبل التتميم وشك في بقائها بعده، فيجري الاستصحاب ويفتي
بمؤداه، ويرجع المقلد إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم، إذ لا اختصاص
لوجوب رجوع الجاهل إلى العالم بما إذا كان علم العام مستندا إلى العلم الوجداني
أو الامارة.
وإن كان الحكم مما لا يلتفت إليه المقلد، كما إذا لم يكن فعليا في حقه
وموردا لابتلائه إلى الآن، فلابد للمجتهد أن يجري الاستصحاب بلحاظ
يقينه وشكه، لكونه متيقنا بالحكم في حق مقلده شاكا في بقائه على ما تقدم
وكذا الحال فيما إذا كان الشك موردا للاحتياط، كما في موارد العلم الاجمالي
بالتكليف فيفتي بوجوب الاحتياط، بمقتضى علمه الاجمالي، وكذا عند دوران
الأمر بين المحذورين يفتي بالتخيير، ويرجع المقلد إليه في جميع ذلك من باب
8

رجوع الجاهل إلى العالم، لما تقدم من عدم اختصاص هذا الحكم بما إذا كان
علم العالم مستندا إلى العلم الوجداني أو الامارة القائمة على الحكم الواقعي.
وقد يستشكل أيضا بأنه لا يجوز الرجوع إلى الأصل العملي إلا بعد
الفحص عن الدليل على ما هو مذكور في محله. والمقلد عاجز عن الفحص فكيف
يفتي له بوجوب العمل بمؤدى الأصل؟ مثلا البراءة العقلية مبتنية على قاعدة
قبح العقاب بلا بيان، وليس في حق المجتهد احتمال العقاب ليرجع إليها، والمقلد
عاجز عن الفحص وإحراز عدم البيان حتى تنطبق القاعدة عليه.
والجواب أن المجتهد يفحص ويبين له الصغرى وأن المقام مما لم تقم فيه
حجة على التكليف، ويرجع المقلد إليه من باب الرجوع إلى أهل الخبرة في
تشخيص الصغرى، فيستقل عقله بما استقل به عقل المجتهد من قبح العقاب بلا
بيان، فتكون الكبرى وجدانية للمقلد بعد تشخيص الصغرى بالرجوع إلى
المجتهد، ولو فرض ان المقلد لم يكن اهلا لادراك حكم العقل بذلك فيرجع إلى
المجتهد في تشخيص الكبرى أيضا، فكما بين له أن المقام مما لم تقم فيه حجة
على التكليف، يبين له ان العقاب بلا حجة وبيان قبيح بحكم العقل.
وبالجملة في جميع موارد عجز المقلد عن تشخيص مجرى الأصل العملي لا نقول
بان المجتهد نائب عن المقلد حتى نطالب بدليل النيابة، بل نقول: إن المجتهد
ينقح مجرى الأصل بحسب وظيفته، فان وظيفة المجتهد هي وظيفة الإمام عليه السلام،
وهي بيان الاحكام المجعولة في الشريعة المقدسة بنحو القضايا الحقيقية، غاية
الامر ان علم الإمام عليه السلام بالحكم ينتهي إلى الوحي، وعلم المجتهد حاصل من
ظواهر الكتاب والسنة. والمقلد يرجع إليه من باب رجوع الجاهل إلى العالم في
تشخيص الصغرى وتعيين مجرى الأصل فقط، أو في تطبيق الكبرى أيضا.
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام: أنه لا وجه للالتزام باختصاص المقسم
9

بالمجتهد بل يعم المقلد أيضا.
(الأمر الثالث) - ذكر شيخنا الأنصاري (ره) أن المكلف إذا التفت
إلى حكم شرعي، فاما ان يحصل له القطع به أو الظن أو الشك، وبحسب هذا
التقسيم جعل كتابه مشتملا على مقاصد ثلاثة: (1) في القطع. (2) في الظن. (3) في الشك. ومحط كلامه في التقسيم
هو الحكم الواقعي، وعدل عنه صاحب الكفاية (ره) وملخص ما ذكره في
وجه العدول أمور ثلاثة:
(الأول) - أنه لابد من أن يكون المراد من الحكم هو الأعم من الواقعي
والظاهري، لعدم اختصاص احكام القطع بما إذا كان متعلقا بالحكم الواقعي،
وعليه فلا بد من أن يجعل التقسيم ثنائيا، بان يقال إن المكلف إذا
التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري، فاما ان يحصل له القطع به أولا، وعلى
الثاني لابد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن لو حصل له وتمت
مقدمات الانسداد علي تقرير الحكومة، وإن لم يحصل له الظن أو حصل ولكن
لم تتم مقدمات الانسداد على تقرير الحكومة، فعليه الرجوع إلى الأصول
العملية العقلية: من البراءة والاشتغال والتخيير على اختلاف الموارد.
(الثاني) - أنه لابد من تخصيص الحكم بالفعلي، لاختصاص أحكام
القطع بما إذا تعلق بالحكم الفعلي، لعدم ترتب أثر على الحكم الانشائي ما لم
يبلغ مرتبة الفعلية.
(الثالث) - أنه لابد من تبديل الظن بالطريق المعتبر، لئلا تتداخل
الأقسام فيما يذكر لها من الاحكام، فان الظن غير المعتبر محكوم بحكم الشك، وقد جعل في تقسيم الشيخ (ره) قسيما له. والأمارة المعتبرة ربما لا تفيد الظن
الشخصي، ولا يعتبر في حجيتها الظن الشخصي، فهي قسيم الشك، وجعلت
10

في تقسيم الشيخ (ره) داخلة فيه. هذا هو وجه العدول عن تقسيم الشيخ (ره)
على ما يستفاد من كلامه (ره).
أقول: الأنسب بمباحث الأصول ما صنعه الشيخ (ره) لأن الغض
من علم الأصول هو تحصيل المؤمن من تبعة التكاليف المتوجهة إلى العبد من قبل
المولى، والمؤمن الأول هو القطع، فينبغي البحث عنه ولو استطرادا في باب،
والمؤمن الثاني الامارة المعتبرة، فلابد من البحث عنها في باب آخر. والمؤمن
الثالث هو الرجوع إلى الأصول العملية الشرعية المجعولة عند الشك والعجز عن
تحصيل الأولين، أو الأصول العملية العقلية عند العجز عن جميع ما تقدم. فلا
مناص من البحث عنها في باب ثالث كما هو المتعارف بينهم. وعليه جرى صاحب
الكفاية (ره) نفسه، فالتقسيم ناظر إلى هذه الأبحاث للثلاثة وإشارة إجمالية
إليها، فالأنسب هو تثليث الأقسام كما صنعه الشيخ (رحمه الله) وجعل التقسيم
ثنائيا. وبيان أحكام الأقسام في الأبواب الثلاثة - كما في الكفاية - لا يخلو
من غرابة، فان المناسب للتقسيم الثنائي المذكور في الكفاية هو البحث عن
القطع بالحكم الأعم من الواقعي والظاهري في باب، والبحث عن الظن الانسدادي
على الحكومة والأصول العملية العقلية قي باب ثان. إذا لا يبقى مورد للبحث
عن حجية الامارات والبحث عن الأصول العملية الشرعية.
هذا مضافا إلى أن جعل التقسيم ثنائيا غير مناسب في نفسه، إذا لحكم
الظاهري مورده عدم العلم بالحكم الواقعي، فهو بطبعه في طول الحكم الواقعي،
سواء كان مستفادا من الامارة أو من الأصل العملي الشرعي فلو جعل
التقسيم ثنائيا يجمع بين العلم بالحكم الواقعي وعدم به في مقام التقسيم، ويصير
ما في طول الحكم الواقعي طبعا في عرضه وضعا.
وأما ما أفاده صاحب الكفاية (ره) من عدم اختصاص احكام القطع بما إذا
11

كان متعلقا بالأحكام الواقعية، فهو وإن كان صحيحا، إلا أنه لا يوجب جعل
التقسيم ثنائيا، لان جميع الأبحاث المذكورة في الأبواب الثلاثة غير مختص
بالحكم الواقعي، بل الحكم الظاهري أيضا قد يتعلق به القطع، كما إذا علمنا
بحجية خبر قائم على حكم من الاحكام، وقد يتعلق به الظن المعتبر، كما إذا
دل بحجية الخبر ظاهر الكتاب مثلا، وقد يتعلق به الشك كما إذا شككنا
في بقاء حجية الخبر، فيجري الاستصحاب. نعم لابد من أن ينتهي الامر
بالآخرة إلى القطع، وإلا لدار أو تسلسل.
وأما ما أفاده صاحب الكفاية (ره) - من أنه لابد من أن يكون المراد
من الحكم هو خصوص الفعلي دون الانشائي، لعدم ترتب أثر على القطع
بالحكم الانشائي - فهو خلط بين الانشاء لا بداعي البعث والزجر، والانشاء
بداعي البعث والزجر، فان الانشاء لا بداعي البعث والزجر وإن لم يترتب عليه
أثر - كما ذكره صاحب الكفاية (ره) - إلا أنه ليس من مراتب الحكم أصلا،
فان الانشاء - بداعي التهديد، كما في قوله: اعملوا ما شئتم، أو بداعي
التهكم، أو غير ذلك - لا يطلق عليه الحكم، إذ الانشاء بداعي التهديد ليس
إلا التهديد، فالانشاء بهذا المعنى خارج عن موضوع البحث، لعدم صدق
الحكم عليه. وأما الانشاء بداعي البعث والزجر، فيطلق عليه الحكم وإن لم يبلغ
مرتبة الفعلية، لعدم تحقق موضوعه في الخارج، فان فعلية الحكم إنما هي
بفعلية موضوعه، ولا نلتزم بعدم ترتب أثر على الحكم الانشائي بهذا المعنى،
بل له أثر مهم وهو جواز الافتاء به، فان المجتهد إذا علم بصدور الحكم من المولى
وإنشائه في مقام التشريع له الافتاء به، وإن لم يبلغ مرتبة الفعلية، فيفتي
بوجوب الحج على المستطيع وإن لم يكن المستطيع موجودا، وبوجوب قطع يد
السارق وإن لم تتحقق السرقة في الخارج، ويفتي بوجوب الصوم في شهر رمضان
12

وإن يحل الشهر بعد، وهكذا.
وبالجملة وظيفة المجتهد هي وظيفة الإمام عليه السلام وهي بيان الاحكام المجعولة
في الشريعة المقدسة على الموضوع المقدر وجوده بنحو القضية الحقيقية، غاية
الامر ان علم الإمام عليه السلام بالأحكام ينتهي إلى الوحي، وعلم المجتهد بها حاصل
من ظواهر الكتاب والسنة، كما تقدم.
وإن شئت قلت: إن الآثار العقلية للقطع بالحكم - من لزوم متابعة القطع
والتنجيز مع المطابقة والتعذير مع المخالفة - مختصة بما إذا كان القطع متعلقا
بالحكم الفعلي. وأما جواز الافتاء مع القطع بالحكم فغير مختص بالحكم الفعلي
بل يترتب على الاحكام الانشائية أيضا كما عرفت، فلا وجه للالتزام بان المراد
من الحكم هو خصوص الفعلي، بل الصحيح هو الأعم منه ومن الانشائي كما
يقتضيه اطلاق كلام الشيخ (ره).
وأما ما أفاده صاحب الكفاية (ره) من تداخل الأقسام في تقسيم
الشيخ (ره) فيمكن الجواب عنه بوجهين:
(الوجه الأول) - أن المراد من الظن هو الامارة المعتبرة، والمراد من
الشك عدم قيام الحجة المعتبرة على الحكم على ما صرح به الشيخ (ره) في أول
بحث البراءة فلا تداخل أصلا.
(الوجه الثاني) - أن التقسيم المذكور في كلام الشيخ (ره) إنما هو
في رتبة سابقة على الحكم، باعتبار ان المكلف الملتفت إلى حكم شرعي إما أن
يحصل له القطع، وهو حجة بنفسه بلا جعل جاعل، وإما أن يحصل له الشك،
وهو غير قابل للحجية، إذ ليس فيه كاشفية أصلا، ولا معنى لجعل الحيرة
حجة كما هو واضح، وإما أن يحصل له الظن وهو متوسط بينهما، فان الحجية
ليست ذاتية له كالقطع، ولا يمتنع جمله حجة كالشك، فان قام دليل على
13

اعتباره يلحق بالقطع ويكون قطعا تعبديا تنزيليا وإلا فيلحق بالشك ويجري
في مورده الأصل العملي، فالتقسيم المذكور في كلام الشيخ (ره) إنما هو
في رتبة سابقة على الحكم، باعتبار ان المكلف الملتفت لا يخلو من هذه الأحوال
ليتميز الموضوع في الأبحاث الثلاثة الآتية. وبعد البحث والتحقيق يظهر أن
الظن يلحق بالقطع (تارة) وبالشك (أخرى) فأين التداخل في الاحكام؟ ونظير
المقام ما إذا قيل: الانسان اما مسلم وإما مشرك. وإما أهل الكتاب. أما
المسلم فلا إشكال في عدم جواز الحرب معه، واما المشرك فلا إشكال في جواز
الحرب معه، وأما أهل الكتاب فيلحق بالمسلم (تارة) كما إذا أوفوا بالمعاهدة
التي بينهم وبين المسلمين من إعطاء الجزية وغيرها، ويلحق بالمشرك (أخرى) كما
إذا خالفوا المعاهدة، فهل في هذا التقسيم قبل بيان الحكم تداخل؟ والمقام
من هذا القبيل بعينه.
14

(الكلام في حجية القطع)
ويقع البحث في جهات ثلاث:
(الأولى) - في أن طريقيته - بمعنى انكشاف المقطوع به به - ذاتية أو جعلية؟
(الثانية) - في أن حجيته - بمعنى كونه منجزا في صورة المطابقة للواقع
ومعذرا في صورة المخالفة - هل هي من لوازم ذاته أو ثابتة ببناء العقلاء أو بحكم
العقل؟ وقد خلط بين هاتين الجهتين في كلام الشيخ (ره) فراجع.
(الثالثة) - في أنه هل يمكن للشارع المنع عن العمل به أم لا؟
(اما الجهة الأولى) فالصحيح فيها ان حقيقة القطع هو نفس الانكشاف
وذاته، فلا يعقل الجعل فيه أصلا بجميع أنحائه، لا بسيطا وهو الجعل المتعلق
بمفعول واحد، ولا مركبا وهو الجعل المتعلق بمفعولين، لا استقلالا ولا تبعا،
فان ثبوت الشئ لنفسه ضروري والماهية هي هي بنفسها.
وبالجملة لا يتصور الجعل في الذات والذاتيات أي ما هو جزء للماهية
والذات، فلا معنى لجعل الانسان إنسانا أي حيوانا ناطقا، ولا لجعله ناطقا
أو حيوانا. نعم يصح تعلق الجعل البسيط بوجوده، وهذا هو معنى
ما اشتهر من أن الله سبحانه وتعالى ما جعل المشمشة مشمشة بل أوجدها، فيمكن
للمولى القادر إيجاد القطع الذي هو الانكشاف للعبد، بل يمكن للمولى العرفي
أيضا إيجاد القطع بايجاد المعدات والمقدمات.
(واما الجهة الثانية) أعني حجية القطع وكونه منجزا ومعذرا، وربما
يعبر عنها بوجوب متابعة القطع، فالأقوال فيها ثلاثة:
15

(الأول) - أن حجية القطع ثابتة ببناء العقلاء إبقاء للنوع وحفظا للنظام
فتكون من القضايا المشهورة باصطلاح المنطقيين، وهذا البناء قد أمضاه الشارع
لذلك فيجب اتباعه.
(الثاني) - أن حجية إنما هي بالزام من العقل وبحكمه.
(الثالث) - أن حجية القطع من لوازمه العقلية، واختاره صاحب
الكفاية (ره) حيث قال وتأثيره في ذلك لازم وصريح الوجدان به شاهد وحاكم
(اما القول الأول) - ففيه أولا - ان حجية القطع ولزوم الحركة على
طبقه كانت ثابتة في زمان لم يكن فيه إلا بشر واحد، فلم يكن فيه عقلاء
ليتحقق البناء منهم، ولم يكن نوع ليكون العمل بالقطع لحفظه.
و (ثانيا) - ان الأوامر الشرعية ليست بتمامها دخيلة في حفظ النظام،
فان احكام الحدود والقصاص وإن كانت كذلك، والواجبات المالية وإن أمكنت
ان تكون كذلك، إلا ان جلا من العبادات - كوجوب الصلاة التي هي عمود
الدين - لا ربط لها بحفظ النظام أصلا.
و (اما القول الثاني) فيرد عليه ان العقل شأنه الادراك ليس إلا، وأما
الالزام والبعث التشريعي فهو من وظائف المولي. نعم الانسان يتحرك نحو
ما يراه نفعا له، ويحذر مما يراه ضررا عليه، وليس ذلك بالزام من العقل، بل
المنشأ فيه حب النفس، ولا اختصاص له بالانسان، بل الحيوان أيضا بفطرته
يحب نفسه ويتحرك إلى ما يراه نفعا له، ويحذر مما أدرك ضرره. وبالجملة
حب النفس وإن كان يحرك الانسان إلى ما قطع بنفعه، إلا أنه تحريك تكويني
لا بعث تشريعي.
فظهر بما ذكرناه ان الصحيح هو القول الثالث، وهو ان حجية القطع
من لوازمه العقلية ان العقل يدرك حسن العمل به وقبح مخالفته ويدرك صحة
16

عقاب المولي عبده المخالف لقطعه، وعدم صحة عقاب العامل بقطعه ولو كان
مخالفا للواقع، وإدراك العقل ذلك لا يكون بجعل جاعل أو بناء من العقلاء،
لتكون الحجية من الأمور المجعولة أو من القضايا المشهورة، بل من الأمور
الواقعية الأزلية، كما هو الحال في جميع الاستلزامات العقلية.
وظهر الكلام مما ذكرناه في الجهة الثالثة، إذ بعد كون الحجية من اللوازم
العقلية للقطع امتنع المنع عن العمل به، مع، أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا
مطلقا ومطلقا في صورة الإصابة، إذ مع القطع بوجوب شئ لو منع الشارع
عن العمل بالقطع ورخص في تركه، فلو كان القطع مطابقا للواقع لزم اجتماع
الوجوب والإباحة واقعا واعتقادا، ولو كان القطع مخالفا للواقع لزم اجتماعهما
اعتقادا، والاعتقاد بالمحال لا يكون أقل من المحال في عدم إمكان الالتزام به.
ولنكتف هنا بهذا المقدار. وأما التعرض لما ذكره الأخباريون من منع
الشارع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة والجواب عنه، فيأتي
الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى.
17

(الكلام في التجري)
وقبل الشروع في البحث عنه لا بد من التنبيه على امر: وهو أن بحث
التجري لا يختص بالقطع بل يعم جميع الامارات المعتبرة والأصول العملية، بل
يعم كل منجز للتكلف ولو كان مجرد احتمال كما في العلم الاجمالي بالتكليف
فان الاقتحام في بعض الأطراف داخل في التجري، وان لم يكن فيه الا احتمال
المخالفة للتكليف، وكذا الحال في الشبهات البدوية قبل الفحص. والجامع بين
الجميع هو مخالفة الحجة، أي ما يحتج به المولى على العبد، فلو ثبت كون مائع
خمرا بالبينة أو الاستصحاب وشربه، ولم يكن في الواقع خمرا كان متجريا. ولو
احتمل كون شئ حراما وارتكبه قبل الفحص، وانكشف عدم كونه حراما كان
متجريا، وهكذا فذكر القطع ليس لاختصاص التجري به، بل انما هو لكونه
أظهر الحجج وأوضح المنجزات.
وربما يتوهم عدم جريان التجري في موارد الامارات والأصول العملية
الشرعية، والجامع هو الحكم الظاهري، بدعوى ان الاحكام الظاهرية مجعولة
في ظرف الجهل بالواقع، فبكشف الخلاف ينتهى أمدها وتنتفي بانتفاء موضوعها
لا أنه يستكشف به عدم ثبوت الحكم من الأول، فيكون بمنزلة انقلاب الخمر
خلا، فكما أنه إذا انقلبت الخمر خلا تنتفي الحرمة من حين الانقلاب بانتفاء
موضوعها، لا أنه بعد الانقلاب يستكشف انه لم يكن حراما من الأول، كذلك
الحال في الأحكام الظاهرية، حيث أن موضوعها الجهل بالواقع، فبكشف الواقع
تنتفي بانتفاء موضوعها، فلا يتصور كشف الخلاف في نفس الحكم الظاهري،
فتكون مخالفته العصيان دائما لا التجري.
18

وهذا التوهم فاسد من أساسه، إذا هو مبني على القول بالسببية، وأن
المجعول في مورد الطرق والامارات هي الاحكام، وهو فاسد لاستلزامه التصويب
الباطل. والصحيح أن المجعول في باب الطرق والامارات هو الحجية والطريقية فقط
على ما سيجئ الكلام فيه إن شاء الله تعالى
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في حكم التجري من حيث الحرمة واستحقاق
العقاب، ولا بد من البحث في مقامين:
(المقام الأول) في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به وعدمها.
(المقام الثاني) في البحث عن أن التجري هل يوجب استحقاق العقاب من
جهة كونه هتكا وجرأة على المولى بنفسه، مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو
عليه في الواقع من المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟
(أما المقام الأول) فيقع الكلام فيه أيضا في جهتين: (الجهة الأولى) في
البحث عن حرمة الفعل المتجرى به بنفس ملاك الحرام الواقعي، باعتبار شمول
اطلاق الأدلة لما تعلق به القطع ولو كان مخالفا للواقع.
(الجهة الثانية) في البحث عن حرمة الفعل المتجرى به لا بملاك الحرام
الواقعي، بل بملاك التمرد على المولى. والفرق بين الجهتين من حيث المفهوم -
بعد اشتراكها في أن البحث في كل منهما بحث أصولي يتفرع عليه النتيجة الفقهية،
وهي حرمة الفعل المتجرى به - هو أن الجهة الأولى هي البحث عن حرمة الفعل
المتجرى به بعنوانه الأولي، والجهة الثانية هي البحث عن حرمته بعنوانه الثانوي
وهو عنوان التمرد. ومن حيث المورد أن البحث في الجهة الأولى مختص بما إذا
كان الخطأ في الانطباق، مع كون الحكم مجعولا في الشريعة المقدسة، كما إذا
قطع بخمرية ماء فشربه، ولا يتصور فيما إذا كان الخطأ في أصل جعل الحكم، كما
إذا قطع بحرمة شرب التتن فشربه، ولم يكن في الواقع حراما. بخلاف البحث في
19

الجهة الثانية، فإنه شامل لكلا القسمين، فتكون النسبة - بين الجهتين من حيث
المورد - هي العموم المطلق.
أما الكلام في الجهة الأولى، فهو: أنه قد يقال بحرمة الفعل المتجرى
به، بدعوى شمول اطلاقات الأدلة الأولية لموارد التجري. ويستدل له بما هو
مركب من مقدمات: 1 - أن متعلق التكليف لابد وأن يكون مقدورا للمكلف، لعدم صحة
التكليف بغير المقدور كما هو واضح.
2 - أن السبب لحركة العضلات نحو العمل إنما هو القطع بالنفع، كما أن
الزاجر عن عمل انما هو القطع بكونه ضررا فان المحرك التكويني هو نفس
القطع والانكشاف. وأما جهة كونه مطابقا للواقع أو مخالفا له فهي أجنبية عن
المحركية أو الزاجرية. ولذا لو قطع العطشان بوجود ماء يتحرك نحوه وان كان
في الواقع سرابا، ويموت عطشا ولا يتحرك نحو ماء موجود، لعدم عامه به.
وهذا أمر وجداني بديهي لا يحتاج إلى مؤنة برهان.
3 - أن التكليف انما يتعلق باختيار الفعل وارادته، لان الإرادة
التشريعية انما تتعلق بالفعل الصادر عن المكلف بالاختيار، لا بالفعل الصادر
عنه ولو اضطرارا، فلا محالة يكون متعلق التكليف هو إرادة الفعل واختياره
ليكون الفعل صادرا عنه بالإرادة والاختيار. والمفروض أن إرادة المكلف
تابعة لقطعه بالنفع أو الضرر، فلا محالة يكون متعلق البعث والزجر هو ما تعلق
به القطع، سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له، فتكون نسبة العصيان - على
تقدير التمرد إلى من كان قطعه مطابقا للواقع، ومن كان قطعه مخالفا له - على
حد سواء، إذ مطابقة القطع للواقع ومخالفته له خارجان عن اختيار المكلف،
20

فلا معنى لإناطة التكليف والعقاب بهما.
فتحصل ان متعلق التكليف هو ما تعلق القطع بانطباق الموضوع عليه فعلا
أو تركا، فيكون قول المولى أكرم العلماء بعثا نحو اكرام من قطع بكونه عالما
وقوله لا تشرب الخمر زجرا عن شرب مائع قطع بكونه خمرا، واطلاقهما يشمل
صورة مخالفة القطع للواقع أيضا.
والجواب عنه (أولا) - بالنقض بالواجبات، لعدم اختصاص الدليل
المذكور بالمحرمات، فلو فرض أن الواجب المستفاد من قول المولى صل في الوقت
هو اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت، فصلى المكلف مع القطع بدخول
الوقت، ثم بان خلافه، فلا بد من الالتزام بسقوط التكليف، لتحقق المأمور
به الواقعي، وهو ما قطع بكونه صلاة في الوقت، فلزم القول بالاجزاء في موارد
الأوامر العقلية الخيالية، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء.
و (ثانيا) - بالحل بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في
متعلقاتها، كما هو المشهور من مذهب العدلية، والمستفاد من ظواهر الأدلة
الشرعية، فان الظاهر - من مثل قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر) - أن النهي عن الفحشاء والمنكر إنما هو من آثار نفس الصلاة، لا من
آثار ما قطع بكونه صلاة، و لو لم يكن في الواقع صلاة. وكذا الحال في الأوامر
الصادرة من الموالي العرفية، فإنها أيضا تابعة للأغراض الشخصية المتعلقة بنفس
العمل، فلا محالة يكون البعث نحو نفس العمل، وإنما الاختيار طريق إلى
حصول العمل خارجا في مقام الامتثال، فلا دخل للقطع في متعلق التكليف أصلا.
غاية الأمر أنه - مع القطع بالتكليف - يصح عقاب العبد على المخالفة، لان
التكليف الواصل مما يصح العقاب على مخالفته بحكم العقل، ولا يصح العقاب مع
الانقياد، ولو كان قطعه مخالفا للواقع، لكونه محذورا حينئذ. ولهذا نسمي
21

القطع بالمنجز مع المطابقة وبالمعذر مع المخالفة.
وبهذا ظهر أن صحة العقاب على التمرد - على تقدير مصادفة القطع للواقع
وعدمها على تقدير عدم المصادفة - لا توجب دخول الأمر الخارج عن الاختيار
في حيز الطلب، ولا إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار، إذ العقاب مع
عدم المصادفة انما هو على مخالفة التكليف الواصل مخالفته بالإرادة والاختيار، وعدم العقاب مع عدم المصادفة إنما هو لعدم تحقق مخالفة التكليف في الواقع ولو بلا
اختيار، وعدم العقاب لأمر غير اختياري ممالا باس به، إنما القبيح هو العقاب
على أمر غير اختياري.
أما الكلام في الجهة الثانية: فهو أنه قد يدعى حرمة الفعل المتجرى به
بملاك التمرد على المولى، ويستدل لها بوجوه:
(الوجه الأول) - أن تعلق القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شئ
يوجب حدوث المصلحة في ذلك الشئ، فيكون واجبا لكون الاحكام تابعة
للمصالح والمفاسد، وتعلق القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة على شئ يوجب
حدوث المفسدة فيه، فيكون حراما لما تقدم، فالفعل المتجرى به وان كان مباحا
بعنوانه الأولي، إلا أنه صار واجبا أو حراما بعنوانه الثانوي، وهو كونه
مقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.
وفيه ما تقدم من أن المصلحة والمفسدة من الأمور التكوينية المترتبة على
نفس العمل، بلا دخل للقطع فيهما أصلا، انما القطع دخيل في التنجيز والتعذير
فقط - كما تقدم - دون المصالح والمفاسد، إذ من الواضح أن القطع بانطباق
عنوان على شئ لا يوجب سلب آثاره التكوينية الواقعية، ولا حدوث أثر آخر فيه، فان القطع بكون الماء سما لا يجعله سما، ولا يترتب عليه اثر السم. والقطع بكون السم
ماءا لا يجعله ماء من حيث الأثر، بل يترتب علي شربه اثر السم من الموت. ولو
22

سلمنا امكان ذلك لا دليل على وقوعه في المقام. ومجرد الامكان لا يثبت به
الوقوع كما هو ظاهر.
(الوجه الثاني) - ان التجري كاشف عن سوء سريرة العبد وخبث باطنه
وكونه في مقام الطغيان على المولى، وهذا يوجب قبح الفعل المتجرى به عقلا،
فيحكم بحرمته شرعا لقاعدة الملازمة.
وفيه ان كون الفعل كاشفا عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه لا يوجب
قبح الفعل إذا قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف كما أن حسن المنكشف
لا يسري إلى الكاشف، فلم يثبت قبح للفعل المتجرى به عقلا ليحكم بحرمته
شرعا بقاعدة الملازمة مضافا إلى ما سيجئ من عدم تمامية قاعدة الملازمة في
المقام أيضا.
(الوجه الثالث) - ان تعلق القطع بقبح فعل يوجب قبحه، والقطع
بحسن عمل يوجب حسنه، فيحكم بحرمته في الأول وبوجوبه في الثاني لقاعدة
الملازمة، فهنا دعويان:
(الأولى) - ان القطع من العناوين والوجوه المقبحة والمحسنة للفعل.
(الثانية) - أن قبح الفعل يستتبع حرمة شرعية، وحسنه يستتبع وجوبا
شرعيا لقاعدة الملازمة.
(اما الدعوى الأولى) فأنكرها صاحب الكفاية (ره) وتبعه في ذلك
المحقق النائيني (ره) اما صاحب الكفاية فاستدل عليه بما حاصله ان العناوين
المحسنة والمقبحة لابد وأن تكون اختيارية متعلقة لإرادة المكلف، وعنوان
القطع لا يكون كذلك، لان القاطع انما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي، لا بعنوان كونه مقطوع الوجوب أو الحرمة أو الخمرية، فبهذا العنوان لا يكون مقصودا
بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه. بل ذكر في بعض كلماته انه لم
23

يصدر منه فعل بالاختيار، كما إذا قطع بكون مائع خمرا فشربه، ولم يكن في
الواقع خمرا، وذلك لان شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه، وشرب الماء مما لم
يقصده، فلم يصدر منه فعل بالإرادة والاختيار، إذ ما قصده لم يقع، وما
وقع لم يقصده (انتهى ملخصا).
وأما المحقق النائيني (ره) فذكر ان القطع طريق محض إلى متعلقه لا
دخل له في الحسن والقبح، ولم يستدل بشئ، وادعى ان هذا أمر وجداني.
أقول: أما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من البرهان، ففيه انه إن
كان مراده من القصد - في قوله: ان القاطع انما يقصد الفعل بعنوانه الأولي -
هو الداعي كما هو ظاهر كلامه (ره) فهو وإن كان صحيحا، إذا الدواعي لشرب
الخمر هو الاسكار مثلا، لا عنوان كونه مقطوع الخمرية، إلا أنه لا يعتبر في
الجهات المحسنة أو المقبحة أن تكون داعية في مقام العمل، بل المعتبر صدور
الفعل بالاختيار، مع كون الفاعل ملتفتا إلى جهة قبحه ولذا يكون ضرب اليتيم
مع الالتفات إلى أنه يتألم ويتأذى ظلما وقبيحا، ولو لم يكن بداعي الايلام
والايذاء، بل كان بداعي امتحان العصا مثلا. وان كان مراده من القصد هو
الالتفات، فلا وجه للترقي والاضراب في قوله: (بل لا يكون غالبا مما يلتفت إليه)
لكونه عين ما ذكره أولا.
وأما قوله (ره) بل لا يكون غالبا مما يلتفت إليه فان كان مراده هو
الالتفات التفصيلي، فهو وإن كان صحيحا، إلا أن الالتفات التفصيلي غير
معتبر في العناوين الموجبة للحسن أو القبح، وإن كان مراده مطلق الالتفات ولو
بنحو الاجمال، ففيه أن الالتفات إلى العناوين المحسنة أو المقبحة وإن كان
معتبرا، إلا ان عنوان المقطوعية يكون ملتفتا إليه دائما بالالتفات الاجمالي الارتكازي
كيف، وحضور الأشياء في الذهن إنما هو بالقطع، ويسمى بالعلم الحصولي،
24

وحضوره بنفسه، ويعبر عنه بالعلم الحضوري فلا يعقل أن يكون الانسان
عالما بشئ مع كونه غير ملتفت إلى علمه، بل هو ملتفت إليه دائما ولو بالالتفات
الاجمالي الارتكازي.
وأما ما ذكره أخيرا من أنه لم يصدر منه فعل بالاختيار، كما إذا قطع
بكون مائع خمرا فشربه ولم يكن في الواقع خمرا... ففيه ان الفعل أي شرب
الماء لم يقع في الخارج بلا إرادة وقصد بالضرورة، بل وقع مع القصد إليه
بعنوان انه شرب الخمر، وهو عنوان موجب لقبحه. و (بعبارة أخرى) القطع
بكون مائع خمرا لا يجعل شربه اضطراريا غير متصف بالقبح ولا بالحسن، إذا
يكفي في كونه اختياريا صدوره عن إرادة وقصد إليه، ويكفي في قبحه الالتفات
الاجمالي إلى جهة قبحه، وهي كونه مقطوع الحرمة.
وأما ما ذكره المحقق النائيني (ره) من دعوى الوجدان (فقيه) أن
الوجدان شاهد على خلافه، وأن العقل حاكم بقبح الفعل المتجرى به، بمعنى انه
يدرك ان الفعل المذكور تعد على المولى وهتك لحرمته، وخروج عن رسوم
عبوديته. وان الفاعل يستحق الذم واللوم، كيف؟ ولا خلاف بين العقلاء في
حسن الانقياد عقلا، بمعنى ان العقل يدرك انه جري على وظيفة العبودية، وان
الفاعل مستحق للمدح والثناء ولذا أنكر عدة من العلماء دلالة اخبار من بلغ
على الاستحباب الشرعي، وحملها على أن المراد اعطاء الأجر والثواب من باب
الانقياد، مع أن الانقياد والتجري - مع التحفظ بتقابلهما - من واد واحد،
فكما أن الانقياد حسن عقلا بلا خلاف بين العقلاء، كذلك لا ينبغي الشك في
أن التجري قبيح عقلا. فالانصاف ان الدعوى الأولى - التي هي بمنزلة الصغرى،
وهي قبح الفعل المتجري به عقلا - مما لا مناص من التسليم به. واما الدعوى
الثانية - التي هي بمنزلة الكبري، وهي ان قبح الفعل عقلا يستلزم حرمته شرعا،
25

وحسن الفعل عقلا يستتبع وجوبه شرعا لقاعدة الملازمة - فهي غير تامة.
وقاعدة الملازمة أجنبية عن المقام.
(بيان ذلك): أن حكم العقل إنما هو بمعنى ادراكه ليس إلا، (فتارة)
يدرك ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعية من المصالح والمفاسد، وهذا هو
مورد قاعدة الملازمة، إذا العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال،
وادراك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة، علم بوجوبه الشرعي لا محالة، بعد
كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد. وكذا لو أدرك مفسدة ملزمة
بلا مزاحم، علم بالحرمة الشرعية لا محالة. لكن الصغرى لهذه الكبري غير
متحققة أو نادرة جدا، إذ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعية والمفاسد النفس
الامرية والجهات المزاحمة لها، ولذا ورد في الروايات ان دين الله لا يصاب بالعقول
وانه ليس شئ أبعد عن دين الله من عقول الرجال. و (أخرى) يدرك العقل
ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية، كحسن الإطاعة وقبح المعصية، فان
هذا الحكم العقلي فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي وحكم العقل بقبح التجري
وحسن الانقياد من هذا القبيل، فقاعدة الملازمة أجنبية عنه، فلا دليل على أن
حكم العقل بقبح التجري يستلزم الحرمة الشرعية، بل لنا ان ندعي عدم امكان
جعل حكم شرعي مولوي في المقام، إذا لو كان حكم العقل - بحسن الانقياد
والإطاعة وقبح التمرد والمعصية - كافيا في اتمام الحجة على العبد، وفي بعثه نحو
العمل وزجره عنه - كما هو الصحيح - فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي مولوي
آخر، وإن لم يكن كافيا، فلا فائدة في جعل حكم آخر، إذ هو مثل الحكم
الأول، فيكون جعل الحكم لغوا يستحيل صدوره من الحكيم تعالى وتقدس.
هذا ولنا برهان آخر أبسط على عدم امكان جعل الحكم الشرعي في المقام
وهو ان القبح - الذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي - لو كان مختصا بعنوان
26

التجري أي مخالفة القطع المخالف للواقع، فقيه - مضافا إلى فساد هذا الاختصاص،
وان حكم العقل بالعقل بالقبح في صورة مصادفة القطع للواقع وصورة مخالفته له على
حد سواء إذ ملاكه - وهو هتك المولى والجرأة عليه - موجود في كلتا
الصورتين - ان هذا الحكم غير قابل للبعث والمحركية أصلا، إذ من مبادئ قدرة
المكلف على الامتثال المعتبرة في صحة التكليف هو الالتفات إلى الموضوع.
والالتفات إلى هذا العنوان - أي القطع المخالف للواقع - مساوق لزواله، نظير
الالتفات إلى النسيان، فكما لا يمكن توجيه التكليف إلى الناسي بعنوان الناسي
إذا الالتفات شرط للتكليف ومع الالتفات إلى كونه ناسيا ينقلب النسيان إلى
الذكر، وينتفى الموضوع، كذا لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع،
إذ مع عدم الالتفات لا يصح التكليف، ومع الالتفات إلى مخالفة قطعه للواقع
يزول القطع.
وأما لو كان القبح المتوهم استتباعه للحكم الشرعي عاما شاملا للتجري
والمعصية بجامع الهتك والجرأة على المولى، كان جعل الحكم الشرعي مستلزما
للتسلسل، إذا التجري أو العصيان قبيح عقلا على الفرض، وقبحهما يستتبع
الحرمة الشرعية، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضا قبيح عقلا. والقبح
العقلي مستلزم للحرمة الشرعية، وهكذا إلى ما لا نهاية له.
فتحصل ان حكم العقل - بقبح العصيان والتجري وبحسن الإطاعة
والانقياد - لا يستلزم حكما شرعيا مولويا، بل لا يمكن جعل الحكم في مورده
على ما عرفت، ولذا حملوا الأوامر الشرعية - الدالة على وجوب الإطاعة،
والنواهي الشرعية الدالة على حرمة المعصية - على الارشاد دون المولوية.
وقد ظهر مما ذكرناه الكلام في المقام الثاني، وهو ان التجري هل يوجب
استحقاق العقاب من جهة كونه جرأة على المولى وهتكا لحرمته مع بقاء الفعل
27

المتجرى به على ما هو عليه في الواقع من المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟ لأنه قد
اتضح مما ذكرناه ان القبح العقلي وإن لم يكن مستتبعا للحكم الشرعي، لكنه
يستلزم حكم العقل باستحقاق العقاب علي نفس التجري. بمعنى ان العقل يدرك
كون المتجري مستحقا للعقاب، للتعدي على المولي وهتكه، وخروجه عن رسوم
عبوديته، كما في المعصية، بلا فرق بينهما من هذه الجهة، وما ذكره صاحب
الفصول (ره) - من الأمثلة لبيان الفرق بين التجري والعصيان - أجنبي عن المقام
لكون الفرق المذكور في الأمثلة لأجل التشفي المستحيل في حقه تعالى، فإذا أراد
عبد قتل ابن المولى وصادفه فلا محالة كان عقابه أشد بنظر المولى ممن أراد قتل
ابن المولى ولم يصادفه، بل صادف عدوه، إلا أنه لأجل التشفي، ومع قطع النظر
عنه لا فرق بينهما من حيث استحقاق العقاب لوحدة الملاك وهو الهتك.
(تنبيهات)
(التنبيه الأول) - ان محل الكلام في التجري هو القطع الطريقي. واما
القطع الموضوعي فلا يتصور فيه كشف الخلاف بالنسبة إلى الحكم، ليتحقق
التجري، وكذا لو اخذ الظن في موضوع الحكم، بل لو اخذ الاحتمال فيه،
ففي الجميع يكون الحكم ثابتا واقعا، ولو كان القطع أو الظن أو الاحتمال مخالفا
للواقع، لكون موضوع الحكم هو نفس القطع أو الظن أو الاحتمال، وبعد
انكشاف الخلاف ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه، فليس هناك تجر أصلا.
وبما ذكرناه ظهر فساد التمسك لحرمة التجري بالاجماع، على أن سلوك
طريق مظنون الضرر معصية، ولو انكشف الخلاف، فلو فاتت الصلاة منه في سفر مظنون الضرر لا بد من القضاء تماما، ولو بعد انكشاف عدم الضرر، وكذا
28

الظان بضيق الوقت يجب عليه البدار، ولو لم يبادر كان عاصيا ولو انكشف بقاء
الوقت. والظان بالتضرر من الوضوء أو الغسل يجب عليه التيمم، فلو توضأ أو
اغتسل مع الظن بالضرر ارتكب الحرام ولو انكشف عدم الضرر، وهكذا.
(التنبيه الثاني) - انه ربما يستدل لحرمة التجري بالروايات الدالة على العقاب
بقصد المعصية. وهناك روايات أخر دالة على عدم العقاب بالقصد، وقد يجمع
(تارة) بين هاتين الطائفتين بحمل الطائفة الأولى على القصد مع الاشتغال ببعض
المقدمات. والطائفة الثانية على القصد المجرد. و (أخرى) بحمل الطائفة الأولى
على ما إذا لم يرتدع من قصده حتى حال بينه وبين العمل مانع قهري، والطائفة
الثانية على ما إذا ارتدع عن قصده بنفسه، ويجعل الشاهد على هذا الجمع هو
النبوي الدال على أنه إذا التقي المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كلاهما في النار،
قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال (ص) لأنه أراد قتل صاحبه، فان ظاهر
التعليل هو إرادة القتل وعدم ارتداعه عن قصده، وعدم تمكنه منه.
هذا، ولكن التحقيق عدم صحة الاستدلال بالروايات الدالة على ترتب
العقاب على قصد المعصية، لحرمة التجري مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض
لوجوه:
(الأول) - انها قاصرة من حيث السند أو من حيث الدلالة، فانا راجعناها
بتمامها ورأينا ان ما يدل على المقصود ضعيف السند، كالنبوي المذكور، وما هو
تام سندا قاصر من حيث الدلالة، راجع الوسائل (أبواب مقدمة العبادات).
(الثاني) - ان مفادها هي المؤاخذة والمحاسبة على نية المعصية الواقعية
وقصد ارتكاب الحرام الواقعي، كما هو مورد النبوي المذكور، فلا ربط لها
بالحرام الخيالي وما يعتقده المكلف حراما، مع عدم كونه حراما في الواقع.
(الثالث) - انه لو سلمنا كون مفادها أعم من ذلك لا دلالة لها على حرمة
29

الفعل المتجرى به شرعا، كما هو محل الكلام ومورد الاستدلال، غاية ما فيها
ان القصد مما يحاسب به ويعاقب عليه، وهذا التعبير لا يدل على أزيد مما كان
العقل مستقلا به من استحقاق المتجري للعقاب، فلا يدل على حرمة الفعل
المتجرى به شرعا.
(التنبيه الثالث) - ذكر صاحب الفصول (ره) ان قبح التجري لا يكون
ذاتيا، بل يختلف بالوجوه والاعتبارات، فإذا صادف الفعل المتجرى به المعصية
الواقعية كان فيه ملا كان للقبح: ملاك التجري وملاك المعصية الواقعية، فلا محالة
يتداخل العقابان، وقبح التجري - في هذا الفرض - يكون أشد مما إذا كان الفعل
المتجرى به في الواقع مكروها، كما أن القبح - في هذا الفرض أيضا - أشد مما
إذا كان الفعل المتجرى به مباحا، والقبح فيه أشد مما إذا كان الفعل المتجرى به
مستحبا، وأما إذا كان الفعل المتجري به واجبا في الواقع، فيقع التزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التجري، فربما يتساويان، وربما يكون ملاك
الوجوب أقوى فيتقدم، وربما يكون ملاك قبح التجري أقوى فيكون
قبيحا انتهى.
وما ذكره مشتمل على دعاو ثلاث:
(الأولى) - ان القبح لا يكون ذاتيا للتجري بل قابل لان يختلف
بالوجوه والاعتبارات - (الثانية) - ان الجهات الواقعية - بواقعيتها ومع عدم
الالتفات إليها - توجب اختلاف التجري من حيث مراتب القبح، بل توجب
زواله في بعض الموارد. (الثالثة) - تداخل العقابين عند مصادفة المعصية
الواقعية. وهذه الدعاوي فاسدة بتمامها:
(أما الدعوى الأولى) ففيها ان التجري على المولى وهتكه بنفسه مصداق
للظلم، والقبح لا ينفك عن الظلم، فلا ينفك عن التجري، بل يترتب عليه نحو
30

ترتب المعلول على علته التامة.
و (أما الدعوى الثانية) ففيها انه لو سلمنا اختلاف التجري من حيث
القبح، لا يمكن ان يكون الامر غير الاختياري رافعا لقبحه، لما ذكرناه سابقا
من أن الجهات التي لها دخل في الحسن والقبح لابد من أن تكون من الأمور
الاختيارية الملتفت إليها، ومصادفة الجهات الواقعية ليست من الأمور الاختيارية
ولا مما يلتفت إليها المكلف.
و (أما الدعوى الثالثة) - ففيها ان استحقاق العقاب دائما يدور مدار هتك المولى والتعدي عليه بلا فرق في ذلك بين التجري والمعصية الواقعية،
وليس في المعصية الواقعية إلا هتك واحد، فلا ملاك لتعدد العقاب حتى نلتزم
بالتداخل، ولعله لوضوح أن العاصي لا يسحق الا عقابا واحدا. التزم صاحب
الفصول بالتداخل مع الالتزام بتعدد الملاك. والصحيح انه لا تعدد في الملاك على
ما عرفت، فلا تصل النوبة إلى التداخل.
(التنبيه الرابع) ظهر بما ذكرناه ان استحقاق العقاب انما هو على نفس
التجري أعني الاتيان بالفعل المتجرى به، لا على العزم والاختيار كما افاده في
الكفاية، فوقع في اشكال استلزامه العقاب على أمر غير اختياري، وأجاب عنه بأن العقاب من تبعات البعد عن المولى الناشئ من الشقاوة الذاتية التي هي نظير
انسانية الانسان وحمارية الحمار، وغير قابلة للتعليل.
وبما ذكر ناه من أن العقاب انما هو على الفعل لا على القصد يندفع الاشكال
من أصله. وأما ما ذكره من أمر الشقاوة الذاتية فقد تقدم الجواب عنه في بحث الطلب
والإرادة بما لا مزيد عليه ولا نعيد، وذكرنا هناك ان الاختيار ليس أمرا غير
اختياري، بل اختياري بنفسه، وغيره اختياري بالاختيار، إذ كل ما بالغير
لابد من أن ينتهى إلى ما بالذات.
31

(الكلام في القطع الموضوعي)
قد عرفت أن الطريقية شأن القطع، بل هي نفس القطع، فلا قابلية
لها للجعل أصلا. وقد يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر يخالف
متعلقه لا يماثله ولا يضاده، بأن يكون الحكم المأخوذ في موضوعه القطع متعلقا
بغير ما تعلق به الحكم المقطوع، سواء كان من جنسه - كما إذا قال المولى إذا
قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق بدرهم - أولا كما إذا قال إذا قطعت
بوجوب الصلاة حرم عليك الخمر مثلا. وقد يؤخذ في موضوع الحكم القطع
بموضوع من الموضوعات، كما إذا قال إذا قطعت بكون مائع خمرا وجب عليك
الاجتناب عنه.
وكيفما كان فقد قسم شيخنا الأنصاري (ره) القطع الموضوعي إلى قسمين:
باعتبار ان القطع قد يكون مأخوذا في الموضوع بنحو الصفتية، وقد يكون مأخوذا
بنحو الطريقية.
وتوضيحه: ان القطع من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، ومعنى كونه
من الصفات الحقيقية انه من الأمور المتأصلة الواقعية في قبال الأمور الانتزاعية
التي لا وجود إلا لمنشأ انتزاعها، وفي قبال الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها
إلا باعتبار من معتبر، فان القطع مما له تحقق في الواقع ونفس الأمر بلا حاجة إلى
اعتبار معتبر أو منشأ للانتزاع.
ومعنى كونه ذات الإضافة ان القطع ليس من الصفات الحقيقية المحضة
كالأعراض التي لا تحتاج في وجودها إلا إلى وجود موضوع فقط كالبياض مثلا
32

بل من الصفات ذات الإضافة بمعنى كونه محتاجا في وجوده إلى المتعلق مضافا
إلى احتياجه إلى الموضوع، فان العلم كما يستحيل تحققه بلا عالم كذلك يستحيل
تحققه بلا معلوم. والقدرة من هذا القبيل، فإنه لا يعقل تحققها الا بقادر ومقدور
فللعلم جهتان: (الأولى) - كونه من الصفات المتأصلة وله تحقق واقعي (الثانية) - كونه متعلقا بالغير وكاشفا عنه، فقد يكون مأخوذا في الموضوع بلحاظ الجهة الأولى
وقد يكون مأخوذا في الموضوع بملاحظة الجهة الثانية.
هذا توضيح مراد الشيخ (ره) في تقسيمه القطع الموضوعي إلى قسمين
وقسمه صاحب الكفاية (ره) إلى أربعة اقسام: باعتبار ان كلا من القسمين
المذكورين (تارة) يكون تمام الموضوع، اي يكون الحكم دائرا مدار القطع،
سواء كان مطابقا للواقع أو مخالفا له. و (أخرى) يكون جزءا للموضوع وكان
الجزء الآخر الواقع المقطوع به، فيكون الحكم دائرا مدار خصوص القطع
المطابق للواقع. وذكر صاحب الكفاية (ره) أيضا ان القطع المأخوذ في الموضوع
بنحو الصفتية (تارة) يؤخذ صفة للقاطع، و (أخرى) يؤخذ صفة للمقطوع به
أقول: القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية ينقسم إلى قسمين كما
ذكر صاحب الكفاية، إذ القطع المذكور - باعتبار كونه صفة من الصفات
النفسانية - (تارة) يكون تمام الموضوع، فيترتب الحكم عليه، سواء كان
مطابقا للواقع أو مخالفا له، و (أخرى) يكون جزءا للموضوع، فيترتب عليه
الحكم مع كونه مطابقا للواقع. واما القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية
فلا يمكن اخذه تمام الموضوع، انه لادخل للواقع
في الحكم أصلا، بل الحكم مترتب على نفس القطع ولو كان مخالفا للواقع. ومعنى
كونه مأخوذا بنحو الطريقية ان للواقع دخلا في الحكم، واخذ القطع طريقا إليه
فيكون الجمع بين اخذه في الموضوع بنحو الطريقية وكونه تمام الموضوع من قبيل
33

الجمع بين المتناقضين، فالصحيح هو تثليث الأقسام: بأن يقال القطع المأخوذ في
الموضوع بنحو الصفتية اما ان يكون تمام الموضوع أو يكون جزءه، واما القطع
المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يكون الا جزءا للموضوع.
واما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن القطع المأخوذ في الموضوع
بنحو الصفتية قد يؤخذ صفة للقاطع وقد يؤخذ صفة للمقطوع به، ففيه انه ان
كان المراد من أخذ ه صفة للمعلوم كونه صفة للمعلوم بالذات، اي الصورة الذهنية
الحاكية عن الخارج، فهو يرجع إلى اخذه صفة للقاطع، إذ المعلوم بالذات - وهو الصورة الذهنية - موجود في ذهن القاطع بعين وجود القطع، فأخذ القطع صفة
للمعلوم بهذا المعنى ليس الا عبارة أخرى عن اخذه صفة للقاطع، وليس الفرق
بينهما الا بمجرد العبارة، نظير الفرق بين الوجود والماهية الموجودة، فكما لا فرق
بين قولنا المأخوذ في الموضوع هو الوجود، وقولنا المأخوذ في الموضوع هو
الماهية الموجودة، لأن الماهية موجودة بعين الوجود لا بشئ آخر، فكذا
لافرق في المقام بين قولنا المأخوذ في الموضوع هو القطع بالقيام مثلا، وقولنا
المأخوذ في الموضوع هو القيام المقطوع به أي الصورة الذهنية للقيام ووجوده
العلمي، إذا لافرق بين العلم بالقيام والقيام الموجود بالوجود العلمي الا بمجرد العبارة. وان
كان مراده من اخذ القطع صفة للمقطوع به هو اخذه صفة للعلوم بالعرض أي
الموجود الخارجي، بان يقال المأخوذ في الموضوع هو القيام المتحقق في الخارج
المنكشف للمكلف القاطع، فهذا ليس إلا لحاظ القطع طريقا وكاشفا، فأخذ
القطع في الموضوع صفة للمقطوع به - بهذا المعنى - عبارة أخرى عن اخذه في
الموضوع بنحو الطريقية، فالجمع بين أخذه بنحو الصفتية وكونه صفة للمقطوع به
جمع بين المتنافيين.
ثم إن المراد من القطع الموضوعي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم
34

واقعا، بأن كان له دخل في ترتب الحكم، كالعلم المأخوذ في ركعات صلاة
المغرب والصيح والركعتين الأوليين من الصلوات الرباعية، على ما يستفاد من
الروايات، ولذا لو شك بين الواحد والاثنين في صلاة الصبح مثلا فأتم الصلاة رجاء
ثم انكشف أنه أبى بالركعتين كانت صلاته فاسدة، لكون العلم بهما حال الصلاة
مأخوذا في الحكم بصحتها، فالمراد من القطع الموضوعي ما كان له دخل في ترتب
الحكم واقعا، لا القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط، إذا ربما يؤخذ القطع في
لسان الدليل مع القرينة على عدم دخله في الحكم. وأن اخذه في لسان الدليل
إنما هو لكونه طريقا إلى الواقع، بل أظهر افراد الطرق إليه، فهو مع كونه
مأخوذا في لسان الدليل ليس من القطع الموضوعي في شئ. وأمثلته كثيرة:
(منها) - قوله تعالى:
ثم إنه لا اشكال في قيام الامارات والطرق مقام القطع الطريقي بنفس أدلة
اعتبارها وحجيتها، فتترتب عليها الآثار المترتبة عليه من التنجيز عند المطابقة
والتعذير عند المخالفة، كما أنه لا ريب في عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في
الموضوع علي نحو الصفتية بنفس أدلة حجيتها، إذ غاية ما تدل عليه أدلة
حجيتها هو الغاء احتمال الخلاف وترتيب آثار الواقع علي مؤداها، والقطع وان
كانت حقيقته الانكشاف، إلا ان المفروض أخذه في الموضوع بنحو الصفتية،
وعدم ملاحظة جهة كشفه، فيكون المأخوذ في الموضوع صفة خاصة نفسانية،
كبقية الصفات النفسانية من الشجاعة والعدالة ونحوهما. ومن البديهي ان أدلة
الحجية والغاء احتمال الخلاف في الامارات والطرق لا تدل على تنزيلها منزلة
الصفات النفسانية.
وأما قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية، فقد
35

اختلفت كلماتهم فيه: فذهب شيخنا الأنصاري (ره) إلى قيامها مقامه، وتبعه
المحقق النائيني (ره)، واختار صاحب الكفاية (ره) عدم القيام. وملخص
ما ذكره في وجهه - بتوضيح منا - أن التنزيل يستدعي لحاظ المنزل والمنزل عليه
ولحاظ الامارة. والقطع - في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي - آلي، إذا لاثر
مترتب على الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع، كما هو المفروض، فيكون النظر
في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الامارة. ولحاظ الامارة والقطع في تنزيل الامارة منزلة
القطع المأخوذ في الموضوع استقلالي، إذ الأثر مترتب على نفس القطع، فالجمع بين
التنزيلين في دليل واحد يستلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد
في آن واحد ولا يمكن الجمع بينهما، فلا يمكن ان يكون دليل واحد متكفلا لبيان كلا التنزيلين
وحيث إن أدلة حجية الامارات ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث
الطريقية، فلا بد من الاخذ به ما لم تقم قرنية على التنزيل من حيث الموضوعية
وفيه ان تنزيل مؤدى الامارة منزلة الواقع مبني على القول بالسببية
والموضوعية في باب الامارات، و هذا المسلك مناف لما التزمه صاحب الكفاية (ره)
من أن المجعول في باب الامارات هو المنجزية والمعذرية على ما صرح به غير مرة
مضافا إلى أنه فسد في أصله ثبوتا، وعدم مساعدة الدليل عليه إثباتا. (اما
الأول) فلاستلزامه التصويب الباطل. و (اما الثاني) فلان أدلة حجية الامارات
- وعمدتها سيرة العقلاء - لا دلالة لها على جعل الحكم مطابقا لمؤدى الامارات
أصلا. وسيجئ الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.
واما بناء على ما اختاره صاحب الكفاية (ره) من أن المجعول في باب
الامارات هو المنجزية والمعذرية، فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع الجمع بين
اللحاظين الآلي والاستقلالي، بل لزم لحاظ واحد استقلالي، إذ لا يكون هناك
تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فلا يكون الا تنزيل واحد، وهو تنزيل الأمارة
36

منزلة القطع، غاية الأمر ان التنزيل إنما هو باعتبار خصوص الأثر العقلي للقطع
من التنجيز والتعذير، أو باعتبار خصوص الحكم الشرعي المأخوذ في موضوعه
القطع، أو باعتبار مطلق الأثر وإطلاق أدلة التنزيل يشمل كلا الحكمين العقلي
والشرعي. وكذا الحال على القول بأن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية
والكاشفية بالغاء احتمال الخلاف، وإن شئت فعبر عنه بتتميم الكشف، باعتبار
ان الامارات كانت كاشفة ناقصة، فاعتبرها الشارع كاشفة تامة بالغاء احتمال
الخلاف، فيجرى الكلام المذكور هنا أيضا، ويقال ان اطلاق دليل التنزيل
شامل للأثر العقلي والأثر الشرعي المترتب على القطع. بل يمكن ان يقال إنه بعد
اعتبار الشارع الامارة كاشفة تامة عن الواقع تترتب آثار الواقع لا محالة، إذ
الواقع قد انكشف بالتعبد الشرعي، فلا بد من ترتيب آثاره، فتترتب آثار
نفس القطع - اي الحكم المأخوذ في موضوعه القطع - بالأولوية، إذ ترتيب
آثار المقطوع على مؤدى الامارة انما هو لتنزيل الأمارة منزلة القطع، فيترتب
اثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.
ثم إن الصحيح في باب الامارات هو القول بأن المجعول هو الطريقية
والكاشفية، لا القول بأن المجعول هو المنجزية والمعذرية، لكونه مستلزما
للتخصيص في حكم العقل، وحكم العقل بعد ثبوت ملاكه غير قابل للتخصيص
(بيان ذلك): ان العقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل، فإذا قامت
الامارة على التكليف فلا اشكال في تنجزه على المكلف وكونه مستحقا للعقاب
على مخالفته، فان كان ذلك لأجل تصرف الشارع في موضوع حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان، بأن جعل الامارة طريقا وبيانا، كان حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان منتفيا بانتفاء موضوعه، ولذا نعبر عن تقدم الامارة عليه بالورود
وهو انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه بالتعبد الشرعي. وعليه فالعقل بنفسه يحكم
37

بالتنجز، بلا حاجة إلى جعل التنجيز، وان لم يتصرف الشارع في موضوع
حكم العقل ولم يعتبر الامارة بيانا، بل جعل الامارة منجزة للتكليف، بأن
يكون المجعول كون المكلف مستحقا للعقاب على مخالفة التكليف، لزم التخصيص في
حكم العقل، بأن يقال: العقاب بلا بيان قبيح إلا مع قيام الامارة على التكليف
فان العقاب بلا بيان في هذا المورد ليس بقبيح. وقد ذكرنا ان حكم العقل
غير قابل للتخصيص. هذا والتفصيل موكول إلى محله.
واما قيام الأصول المحرزة مقام القطع، وهي الأصول التي تكون ناظرة
إلى الواقع: كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز - بناء على كونها من
الامارات - وقاعدة عدم اعتبار الشك من الإمام والمأموم مع حفظ الآخر،
وقاعدة عدم اعتبار الشك ممن كثر شكه وتجاوز عن المتعارف، وغيرها من
القواعد الناظرة إلى الواقع في ظروف الشك - فالظاهر أنها تقوم مقام القطع الطريقي
والقطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية، إذ الشارع اعتبر موارد جريانها
علما، فتترتب عليها آثاره العقلية والشرعية من المنجزية والمعذرية، والحكم
المأخوذ في موضوعه القطع.
وتوهم انه قد اخذ في موضوع الأصول الشك، فكيف يمكن اعتبارها
علما، فان اعتبارها علما مع التحفظ على الشك المأخوذ في موضوعها اعتبار
للجمع بين النقيضين، فلم يعتبر في مواردها إلا البناء العملي (مدفوع) بأن
الشك المأخوذ في موضوع الأصول هو الشك الوجداني، والعلم تعبدي، ولا
تنافي بينهما أصلا، انما التنافي بين الشك الوجداني والعلم الوجداني لا بين الشك
الوجداني والعلم التعبدي، كيف؟ ولو كان هذا جمعا بين النقيضين لزم
التناقض في جميع موارد التنزيل كقوله عليه السلام المروي: (الفقاع خمر استصغره
الناس) وقوله عليه السلام المروي في روايات العامة: (الطواف بالبيت صلاة) فيقال
38

كيف يمكن أن يكون الفقاع خمرا مع أنه غيرها، وكيف يمكن ان يكون
الطواف صلاة مع أنه غيرها. و (الجواب) هو ما ذكرناه، فان الفقاع فقاع
بالوجدان وخمر بالتعبد، ولا منافاة بينهما، وكذا الطواف مع كونه غير
الصلاة بالوجدان صلاة بالتعبد، ولا منافاة بينهما أصلا.
هذا مضافا إلى أنه لو كان هذا مانعا عن قيام الأصول مقام القطع، لمنع
عن قيام الامارات أيضا مقام القطع، إذ لا فرق بين الأصول والامارات من
هذه الجهة فان الامارات أيضا قد اخذ في موضوعها الشك، غاية الأمر ان
الأصول قد اخذ الشك في موضوعها في لسان الدليل اللفظي، وفي الامارات قد
ثبت ذلك بالدليل اللبي.
(بيانه) - أن الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما ذكرناه غير مرة
فاما أن تكون الامارات حجة مع العلم بموافقتها للواقع، ولا خفاء في أن جعل
الحجية للامارات حين العلم بالواقع لغو محض إذ الاستناد - حينئذ - إلى العلم
لا إلى الامارة، واما ان تكون حجة مع العلم بمخالفتها للواقع، وهذا أفحش
من سابقه كما هو ظاهر. وكذا لا يمكن ان يكون الموضوع هو الجامع بينهما
اي مطلق العالم إما بالموافقة أو بالمخالفة، كما لا يمكن ان يكون الموضوع هو
الجامع بين العالم بالموافقة أو بالمخالفة و الشاك، فتعين ان يكون الموضوع هو
خصوص الشاك.
هذا مضافا إلى أنه قد اخذ الشك في موضوع بعض الامارات في لسان
الدليل اللفظي أيضا، كقوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون)
فتحصل ان حال الأصول المحرزة هي حال الامارات في أنها تقوم مقام
القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية. نعم يستثني من
ذلك ما لو التزمنا فيه بقيام الأصل مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو
39

الطريقية لزم الغاء اعتبار القطع رأسا، كما في العلم المأخوذ في ركعات صلاة
المغرب والصبح والركعتين الأوليين من الصلوات الرباعية، فان العلم مأخوذ
فيها بنحو الطريقية، ولا يقوم مقامه الاستصحاب، أي استصحاب عدم
الاتيان بالأكثر المعبر عنه بالبناء على الأقل. والوجه في ذلك أن الاستصحاب
جار في جميع موارد الشك المتعلق بركعات صلاة المغرب والصبح و الأوليين من
الصلوات الرباعية، فلو بني على قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ في
الموضوع، لزم ان يكون اعتبار العلم لغوا، ولزوم إلغاء الأدلة الدالة على
اعتبار العلم.
وأما الأصول غير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع، بل هي وظائف
عملية للجاهل بالواقع، كالاحتياط الشرعي والعقلي والبراءة العقلية والشرعية
فعدم قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي واضح، لأنها لا تكون محرزة للواقع
لا بالوجدان ولا بالتعبد الشرعي.
توضيح ذلك أن الاحتياط العقلي عبارة عن حكم العقل بتنجز الواقع على
المكلف وحسن عقابه على مخالفته، كما في موارد العلم الاجمالي والشبهة الحكمية
قبل الفحص، والبراءة العقلية عبارة عن حكم العقل بعدم صحة العقاب، وكون
المكلف معذورا في مخالفة الواقع لعدم وصوله إليه، ولا معنى لقيامها مقام
القطع، إذا لابد في التنزيل وقيام شئ مقام شئ آخر من وجه التنزيل اي الأثر
الذي يكون التنزيل بلحاظه، وهو المصحح للتنزيل، وفي المقام أثر القطع هو
التنجز والمعذورية فإذا قام شئ مقامه كان بلحاظ لا محالة. واما نفس التنجز
والمعذورية فلا يعقل قيامها مقام القطع، وليس الاحتياط والبراءة العقليين إلا
التنجز والتعذر بحكم العقل، فكيف يقومان مقام القطع؟
وكذا الحال في الاحتياط والبراءة الشرعيين، فان الاحتياط الشرعي
40

عبارة عن إلزام الشارع إدراك مصلحة الواقع، والبراءة الشرعية عبارة عن ترخيصه
حين عدم احراز الواقع، فالاحتياط الشرعي نفس التنجز، والبراءة الشرعية نفس
التعذر بحكم الشارع، فليس هنا شئ يقوم مقام القطع في التنجز والتعذر.
بقى في المقام شئ ينبغي التعرض له، وهو ان صاحب الكفاية (ره)
- بعد ما منع عن قيام الامارات والأصول مقام القطع الموضوعي، لاستلزامه
الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في دليل الحجية على ما تقدم بيانه - ذكر في
حاشيته على الرسائل وجها لقيامها مقامه، وحاصل هذا الوجه أن أدلة الامارات
والأصول وان كانت متكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع فقط، فلا يكون هناك
إلا لحاظ آلي، إلا أن هذه الأدلة - على تنزيل المؤدى منزلة الواقع
بالمطابقة - تدل على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالالتزام لأجل الملازمة
العرفية بين التنزيلين.
هذا ملخص كلامه في الحاشية، وعدل عنه في الكفاية، وقال: انه لا يخلو
من تكلف، بل من تصف، ولعل مراده من التكلف منع الملازمة العرفية، و من
التعسف لزوم الدور على ما يظهر من ذيل كلامه ونشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى،
أقول: هذا البحث وان لم يترتب عليه اثر في خصوص المقام، لما ذكرناه من أن
تنزيل المؤدى منزلة الواقع مبني على القول بأن المجعول في باب الامارات هو
المؤدى، وهو فاسد على ما تقدمت الإشارة إليه ويأتي التعرض له مفصلا في محله
إن شاء الله تعالى.
ولكن هذه الكبرى الكلية - وهي ترتب الكم على الموضوع المركب
بدليل دال على تنزيل أحد الجزءين بدعوى دلالته على تنزيل الجزء الآخر بالملازمة
العرفية - على تقدير تماميتها تنطبق على موارد أخرى غير المقام، فلا بد من
البحث عنها،
41

فنقول: إذا كان موضوع حكم من الاحكام مركبا من أمرين أو أمور كما
في قوله عليه السلام: (إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شئ) فان الموضوع لعدم
الانفعال هو الماء مع كونه كرا لا يترتب الحكم إلا مع احراز كلا الجزءين بالوجدان
أو بالتعبد، أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، فلا يمكن التعبد بأحدهما إلا
مع احراز الآخر بالوجدان أو بالتعبد في عرض التعبد بالأول إذ التعبد إنما هو
بلحاظ الأثر والمفروض انه لا اثر لأحدهما ليشمله دليل التعبد، فلو قامت البينة
مثلا على كرية مائع لا يترتب عليه الحكم بعدم الانفعال، الا مع احراز كونه
ماء بالوجدان أو بالتعبد من قيام بينة أخرى، أو جريان الاستصحاب مثلا،
وكذا لو قامت البينة على كونه ماء لا يترتب عليه الحكم إلا مع احراز كونه
كرا بالوجدان أو بالتعبد، وكذا الحال لو أحرز أحدهما بالاستصحاب لا يترتب
عليه الحكم الا مع احراز الآخر بالوجدان أو بالبينة أو بالاستصحاب الجاري في
عرض ذلك الاستصحاب، بأن يكون كلاهما متيقن الحدوث مشكوك البقاء.
والمتحصل من ذلك، ان اطلاقات أدلة الامارات والأصول غير شاملة
للامارة القائمة على أحد جزئي الموضوع ولا الأصل الجاري في أحد جزئي
الموضوع، ليحرز بها الجزء الآخر بالدلالة الالتزامية، إذ شمولها لأحد الجزءين
متوقف على شمولها للجزء الأول، لكونه مترتبا عليه على العرض، وهذا هو الدور
الواضح.
وبالجملة التعبد بكلا الجزءين إنما يصح فيما كان الدليل شاملا لكليهما في
عرض واحد كما في شمول لا تنقض اليقين بالشك لما إذا شك في بقاء المائية
والكرية معا في المثال السابق، فيجري الاستصحاب في عرض واحد،
بلا ترتب بينهما، وهذا مما لا يمكن الالتزام به في المقام، للزوم اجتماع اللحاظ
42

الآلي والاستقلالي على مسلك صاحب الكفاية (ره)، بخلاف ما إذا كان
شموله لأحدهما في طول شموله للآخر ومتوقفا عليه، فإنه مما لا يمكن التعبد به،
ولا تشمله أدلة التعبد لاستلزامه الدور على ما تقدم بيانه. نعم لو ورد دليل
خاص على حجية امارة خاصة قائمة على أحد جزئي الموضوع أو أصل خاص كذلك
دل على تنزيل الجزء الآخر بدلالة الاقتضاء، صونا لكلام الحكيم عن اللغوية
بخلاف ما إذا كان الدليل عاما أو مطلقا، فإنه لا يشمل مثل هذه الامارة وهذا
الأصل. فتحصل ان الصحيح ما ذكره وعدل إليه في الكفاية لا ما ذكره في
الحاشية (1).

(1) هكذا ذكر سيدنا الأستاذ دام ظله ولكن بنظري القاصر أن القاعدة
المذكورة - وهي عدم شمول دليل التعبد للامارة القائمة على أحد جزئي
الموضوع على ما تقدم بيانه - وان كانت صحيحة تامة، إلا انها لا تنطبق على
المقام، إذا ليس في المقام موضوع مركب قامت على أحد جزءيه امارات، وأريد
اثبات جزئه الآخر بالملازمة العرفية، حتى يرد عليه أنه مستلزم للدور، بل
المقصود أن مفاد دليل حجية الامارة هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما له من
الأثر الشرعي، ويدل بالالتزام على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع فيما
إذا كان العلم مأخوذا في الموضوع، فيترتب عليه هذا الحكم المأخوذ في
موضوعه العلم أيضا، فتكون الامارة قائمة مقام القطع الطريقي والموضوعي كليهما
مثلا لو فرضنا أن حكم الخمر في نفسه هو وجوب الاجتناب، وقد اخذ القطع
بكون مائع خمرا في موضوع الحكم بوجوب التصدق مثلا، فلو قطعنا بكون
مائع خمرا يترتب حكمان: (الأول) حكم المقطوع به وهو وجوب الاجتناب
وبكون القطع بالنسبة إليه طريقا محضا (الثاني) حكم القطع اي الحكم الذي
اخذ القطع في موضوعه وهو وجوب التصدق، فلو قامت بينة على خمرية مائع
كان مقتضى دليل حجية البينة بالمطابقة تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فيجب
الاجتناب عنه، ويدل بالالتزام على تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع، فيجب
التصدق ولا نرى فيه دورا. نعم يصح ما ذكر فيما إذا لم يكن المقطوع
به اثر في نفسه، وكان القطع به مأخوذا في حكم من الاحكام فإنه حينئذ
إذا قامت امارة عليه لا يمكن الالتزام بشمول دليل الحجية لمثل هذه،
الامارة، إذ معنى شموله لها تنزيل المؤدى منزلة الواقع. والمفروض انه لا اثر
للواقع ليصح التنزيل بلحاظه، بل الأثر مترتب على العلم بالواقع على الفرض،
فيحتاج ترتب الأثر على تنزيل آخر وهو تنزيل العلم بالواقع بالدلالة الالتزامية
وحيث إن هذا التنزيل قي طول التنزيل الأول ومتوقف عليه لزم الدور لا محالة.
43

ثم انه ذكر صاحب الكفاية (ره) انه لا يمكن ان يؤخذ القطع بحكم في
موضوع نفس هذا الحكم، للزوم الدور، ولا في موضوع مثله، للزوم اجتماع
المثلين، ولا في موضوع ضده، للزوم اجتماع الضدين. نعم يصح اخذ القطع
بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده.
أقول: اما اخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم، فلا ريب في
كونه مستحيلا ومستلزما للدور، فان القطع المتعلق بحكم يكون طريقا إليه لا محالة،
إذ الطريقية غير قابلة للانفكاك عن القطع، معنى كونه طريقا إلى الحكم فعلية
الحكم مع قطع النظر عن تعلق القطع به. ومعنى كون القطع مأخوذا في موضوعه
عدم كونه فعليا إلا بعد تعلق القطع به، إذ فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه،
ولذا قد ذكرنا - غير مرة - ان نسبة الحكم إلى موضوعه أشبه شئ بنسبة المعلول
إلى علته، فيلزم توقف فعلية الحكم على القطع به، مع كونه في رتبة سابقة على
القطع به، على ما هو شأن الطريق. وهذا هو الدور الواضح واما اخذ القطع
بحكم في موضوع ضده، كما إذا قال المولى إذا قطعت بوجوب الصلاة تحرم
عليك الصلاة، فقد يقال انه لا يلزم منه اجتماع الضدين، إذ الوجوب قد تعلق
44

بالصلاة بما هي، والحرمة قد تعلقت بها بما هي مقطوعة الوجوب، فيكون الموضوع
للحكمين متعددا بحسب الجعل، نعم لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال، إذ
الانبعاث نحو عمل و الانزجار عنه في آن واحد محال، وبعد عدم امكان امتثالها
لا يصح تعلق الجعل تعلق الجعل بهما من المولى الحكيم من هذه الجهة.
هذا ولكن التحقيق لزوم اجتماع الضدين، إذ الحرمة وان تعلقت بالصلاة
بما هي مقطوعة الوجوب في مفروض المثال، إلا ان الوجوب قد تعلق بها بما هي،
واطلاقه يشمل ما لو تعلق القطع بوجوبها، فلزم اجتماع الضدين، فان مقتضي
إطلاق الوجوب كون الصلاة واجبة، ولو حين تعلق القطع بوجوبها، والقطع
طريق محض، ومقتضى كون القطع بالوجوب مأخوذا في موضوع الحرمة كون
الصلاة حراما في هذا الحين. وهذا هو اجتماع الضدين. واما اخذ القطع بحكم في
موضوع حكم آخر مثله، كما إذا قال المولى إذا قطعت بوجوب الصلاة تجب عليك
الصلاة بوجوب آخر، فالصحيح امكانه، ويرجع إلى التأكد، و ذلك لان
الحكمين إذا كان بين موضوعيهما عموم من وجه، كان ملاك الحكم في مورد
الاجتماع أقوى منه في مورد الافتراق، ويوجب التأكد. ولا يلزم اجتماع
المثلين أصلا، كما إذا قال المولى أكرم كل عالم، ثم قال أكرم كل عادل، فلا محالة
يكون وجوب الأكرم في عالم عادل آكد منه في عالم غير عادل أو عادل غير عالم،
وليس هناك اجتماع المثلين، لتعدد موضوع الحكمين في مقام الجعل، وكذا الحال
لو كانت النسبة بين الموضوعين هي العموم المطلق، فيكون الحكم في مورد اجتماع
آكد منه في مورد الافتراق، كما إذا تعلق النذر بواجب مثلا، فإنه موجب
لتأكد لا اجتماع المثلين، والمقام من هذا القبيل بلحاظ الموضوعين، فان النسبة
بين الصلاة بما هي، والصلاة بما هي مقطوعة الوجوب هي العموم المطلق، فيكون
الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق، ومن قبيل العموم من
45

وجه بلحاظ الوجوب والقطع به، إذ قد لا يتعلق القطع بوجوب الصلاة مع كونها
واجبة في الواقع، والقطع المتعلق بوجوبها قد يكون مخالفا للواقع، وقد يجتمع
وجوب الصلاة واقعا مع تعلق القطع به، ويكون الملاك فيه أقوى فيكون
الوجوب بنحو آكد
وأما ذكره صاحب الكفاية (ره) أخيرا من أنه يمكن اخذ القطع
بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو من مثله أو من ضده - فهو صحيح على
مسلكه من أن للحكم مراتب أربع: الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز،
إذ لا محذور في اخذ القطع بحكم انشائي محض في موضوع حكم فعلي، بلا فرق
بين ان يكون الحكم الفعلي هو نفس الحكم الانشائي الواصل إلى مرتبة الفعلية
أو يكون مثله أو ضده، ولا يتصور مانع من أن يقول المولى إذا قطعت بأن
الشئ الفلاني واجب بالوجوب الانشائي المحض، وجب عليك ذلك الشئ فعلا،
أو حرم عليك فعلا. وأما على المبنى المختار من أنه ليس للحكم الا مرتبتان
(الأولى) - مرتبة الجعل والانشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضية الحقيقة
كقوله سبحانه وتعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).
(الثانية) - مرتبة الفعلية و الخروج عن التعليق والتقدير بتحقق موضوعه
خارجا، كما إذا صار المكلف مستطيعا، واما الانشاء لغرض الامتحان أو التهديد
أو الاستهزاء ونحوها، فليس من مراتب الحكم، ولا يطلق عليه الحكم أصلا،
وكذا الحال في مرتبة الاقتضاء، إذ مجرد وجود الملاك للحكم مع وجود مانع من
انشائه لا يستحق اطلاق الحكم عليه. فلا يمكن اخذ القطع بمرتبة الجعل من حكم
في موضوع مرتبه الفعلي منه، إذ ليس المراد من القطع المأخوذ في مرتبة الفعلي
من الحكم هو القطع بالحكم الثابت لغير القاطع، وإلا فامكانه بمكان من الوضوح
بلا حاجة إلى فرض تعدد المرتبة، لصحة ذلك، ولو مع وحدة المرتبة، كما لو فرض
46

ان القطع بوجوب الحج على زيد قد اخذ في موضوع وجوبه على عمرو. بل
المراد هو القطع بالحكم الثابت لنفس القاطع وحينئذ لا يمكن اخذ القطع بمرتبة
الجعل من حكم في موضوع مرتبة الفعلي منه، إذ ثبوت الحكم لشخص القاطع
جعلا ملازم لفعليته، فلا محالة يتعلق القطع بالحكم الفعلي، وحيث إن المفروض
دخل القطع في فعلية الحكم لزم الدور.
(توضيح ذلك) أن وجوب الحج مثلا - المجعول على المستطيع بنحو
القضية الحقيقية - لا يشمل هذا المكلف، ولا يكون حكما له إلا بعد حصول
الاستطاعة خارجا، وإلا فليس حكما مجعولا له، بل هو حكم مجعول لغيره، فلا
يمكن تعلق القطع بشمول الحكم له جعلا إلا بعد حصول الاستطاعة له خارجا،
ومعه يكون الحكم فعليا في حقه. فلو فرض اخذ القطع بالحكم المجعول بنحو
القضية الحقيقية في موضوع مرتبة الفعلي منه، لا يعلم بثبوت الحكم له جعلا إلا
بعد حصول القطع، وحصول القطع به يتوقف على ثبوته له جعلا، إذ القطع
طريق إلى الحكم، فلا بد في تعلقه به من تحقق الحكم و ثبوته في رتبة سابقة على
تعلق القطع به، وهذا هو الدور.
هذا كله في اخذ القطع في موضوع الحكم. وأما الظن فملخص الكلام فيه
انه يتصور أخذه في الموضوع (تارة) بنحو الصفتية (وأخرى) بنحو الكاشفية
والطريقية. وعلى التقديرين إما أن يكون جزءا للموضوع أو تمامه، وعلى جميع
التقادير إما ان يكون الظن معتبرا بجعل الشارع أو غير معتبر. ولا اشكال في
امكان اخذ الظن بحكم في موضوع حكم يخالفه، كما إذا قال المولى إذا ظننت بوجوب
الصلاة يجب عليك التصدق فان كان الظن تمام الموضوع ترتب عليه الحكم بلا فرق بين ان
يكون الظن معتبرا أو غير معتبر، وإن كان جزءا للموضوع والجزء الاخر هو
الواقع، فان كان الظن معتبرا بالتعبد الشرعي ترتب عليه الحكم أيضا، فان أحد
47

جزئي الموضوع - وهو الظن - متحقق بالوجدان، والجزء الاخر - وهو الواقع -
متحقق بالتعبد الشرعي. وإن كان الظن غير معتبر لا يترتب عليه الحكم إلا مع
احراز الجزء الآخر - وهو الواقع - بامارة أخرى معتبرة، أو بأصل من
الأصول المعتبرة.
وأما اخذ الظن بحكم الظن بحكم في موضوع نفسه إن كان متعلقا بالحكم، أو اخذه
في موضوع حكم متعلقه إن كان متعلقا بالموضوع، فهو غير ممكن، لاستلزامه
الدور على ما تقدم بيانه في القطع، إذا لا فرق بين القطع والظن من هذه الجهة،
بلا فرق بين الظن المعتبر وغيره في هذه الصورة. واما اخذ الظن بحكم في موضوع
حكم يماثله مع كون الظن معتبرا شرعا، فهو ممكن، لان النسبة بين ثبوت الواقع
والظن به عموم من وجه ولو في نظر الظان، إذا الظن وإن كان عاما تعبدا، إلا أنه
يحتمل مخالفته للواقع وجدانا، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد. وبهذا ظهر
ان اخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله مما لا مانع منه، ولو قلنا بعدم امكان
ذلك في القطع، إذ القاطع لا يحتمل ان يكون قطعه مخالفا للواقع، فتكون
النسبة بين الواقع، تعلق نظر في نظر القاطع هو العموم المطلق، فيمكن أن
يتوهم ان اخذ القطع بحكم في موضوع حكم يماثله مستلزم لاجتماع المثلين في نظر
القاطع، وإن تقدم دفع هذا التوهم وأما اخذ الظن بحكم في موضوع حكم
يماثله، فليس فيه الا اجتماع العنوانين، فيلتزم بالتأكد كما هو الحال في جميع
موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين، وإن كان الظن غير
معتبر، فأخذه في موضوع الحكم المماثل بمكان من الامكان، بل نقول بالامكان
فيه ولو قلنا بالمنع في الظن المعتبر من جهة كونه علما تعبدا، بخلاف الظن غير
المعتبر، إذ لا يتصور فيه مانع أصلا.
وأما اخذ الظن بحكم في موضوع حكم يضاده، فان كان الظن معتبرا،
48

فلا ينبغي الاشكال في عدم امكانه، إذ مقتضى حجية الظن هو الانبعاث نحو عمل
ومقتضى الحكم المضاد هو الانبعاث نحو ضده، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام
الامتثال، ومعه لا يصح تعلق الجعل بهما من المولى الحكيم.
هذا مضافا إلى ما ذكرناه في القطع المأخوذ في موضوع الحكم المضاد من
لزوم اجتماع الضدين في مقام الجعل، فراجع. و (بالجملة) حكم الظن المعتبر هو
حكم القطع في هذه الجهة، فكما لا يمكن ذلك في القطع، لا يمكن في الظن المعتبر
أيضا. وإن كان الظن غير معتبر، فالتزم صاحب الكفاية (ره) بامكانه بدعوى
ان الظن غير المعتبر في حكم الشك فتكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، فلا
يلزم من جعل الحكم المضاد في فرض الجهل بالواقع اجتماع الضدين، وإلا فلا يمكن
الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في جميع موارد الجهل بالواقع. وعليه فيمكن
ان يحكم المولى بوجوب شرب مائع قام على حرمته ظن غير معتبر، لان تعدد
المرتبة مانع عن التضاد بين الحكمين.
أقول: إن ما ذكره (قدس سره) وإن كان صحيحا في نفسه، فان
جعل الترخيص في موارد الشك في الوجوب أو الحرمة - على ما هو مقتضى أدلة
البراءة - مما لا اشكال فيه، مع أنه يحتمل ان يكون الحكم الواقعي هو الوجوب
أو الحرمة، إذ لا منافاة بين الترخيص الظاهري في ظرف الجهل والالزام الواقعي،
كما هو مذكور في محله. إلا أنه لا ربط له بالمقام، إذا ليس الكلام في إمكان جعل
الحكم الظاهري وعدمه، بل البحث انما هو في الحكم الواقعي من حيث إنه يمكن
اخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر يضاده أم لا، كما هو الحال في القطع،
فان الكلام فيه كان في امكان اخذه في موضوع حكم مضاد لمتعلقه، باعتبار الحكم
الواقعي، إذ لا يتصور فيه حكم ظاهري.
والصحيح أن اخذ الظن بحكم - في موضوع حكم آخر مضاد له - غير
49

ممكن، وإن كان الظن غير معتبر، كما إذا قال المولى: إذا ظننت بوجوب الشئ
الفلاني حرم عليك هذا الشئ، وذلك لما تقدم في القطع من أن الحكم الذي
اخذ في موضوعه الظن وان كان مقيدا بصورة الظن، إلا أن الحكم الذي تعلق
به الظن مطلق، واطلاقه يشمل صورة الظن به، فليزم اجتماع الضدين في هذا
الفرض، ففي مفروض المثال الحرمة وان كانت مقيدة بصورة الظن بالوجوب،
إلا أن إطلاق الوجوب يشمل ما لو تعلق به الظن وما لم يتعلق به، ففي صورة
تعلق الظن به يلزم اجتماع الوجوب والحرمة، وهو محال. وتوهم - أنه يحتمل
أن يكون الظن مخالفا للواقع، فلا يكون هناك إلا حكم واحد، وهو ما اخذ
الظن في موضوعه - مدفوع، بأنه يكفي في الاستحالة احتمال مطابقته للواقع،
فان احتمال اجتماع الضدين أيضا محال كما هو ظاهر.
(تنبيه)
لا يخفى ان البحث عن إمكان اخذ الظن بحكم - في موضوع حكم آخر
يخالفه أو يماثله أو يضاده وعدمه - إنما هو بحث علمي بحث، ولا تترتب عليه
ثمرة عملية أصلا، إذ لم يوجد اخذ الظن في موضوع حكم من الاحكام في شئ
من الأدلة الشرعية.
50

(وجوب موافقة القطع التزاما)
وليعلم أنه يجب تصديق النبي صلى الله عليه وآله في كل ما جاء به من الاحكام الالزامية
وغير الالزامية، بل فيما أخبر به من الأمور التكوينية الخارجية، من الأرض
والسماء وما فيهما وما تحتهما وما فوقهما، فان تصديقه صلى الله عليه وآله في جميع ذلك واجب،
ولكنه خارج عن محل البحث، لكونه من أصول الدين لا من الفروع،
باعتبار أن تصديقه صلى الله عليه وآله في جميع ذلك يرجع إلى تصديق نبوته صلى الله عليه وآله ويجب
أيضا الاتيان بالواجبات التعبدية مضافا إلى الله سبحانه وتعالى ومتقربا بها
إليه على ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي، وهذا الوجوب - أي وجوب
الاتيان بالعبادات مع قصد التقرب - أيضا خارج عن محل الكلام، فإنه مختص
بالتعبديات، ووجوب الموافقة الالتزامية على تقدير تسليمه لا اختصاص له
بالتعبديات، بل يجري في التوصليات أيضا، فليس المراد من الموافقة الالتزامية
- في محل الكلام - هو الاتيان بالواجب مع قصد القربة، بل المراد هو الالتزام
القلبي بالوجوب المعبر عنه بعقد القلب، فيكون كل واجب - على تقدير وجوب
الموافقة الالتزامية - منحلا إلى واجبين: العمل الخارجي الصادر من الجوارح،
والعمل القلبي الصادر من الجوانح.
ثم إنهم ذكروا أن ثمرة هذا البحث تظهر في جريان الأصل في موارد
دوران الامر بين المحذورين، وفي أطراف العلم الاجمالي، فيما إذا كانت الأطراف
محكومة بالتكليف الإلزامي، فعلم اجمالا بارتفاعه في بعض الأطراف، فعلى القول
بوجوب الموافقة الالتزامية لا يجري الأصل لكونه منافي للالتزام بالحكم الواقعي
51

وكان مخالفة عملية للحكم بوجوب الالتزام بالواقع. واما على القول بعدم وجوب
الموافقة الالتزامية فلا مانع من جريان الأصل.
إذا عرفت محل النزاع وثمرته فنقول: التحقيق عدم وجوب الموافقة
الالتزامية، إذ لم يدل عليه دليل من الشرع ولا من العقل. أما الأدلة الشرعية
فظاهرها البعث نحو العمل والآتيان به خارجا، لا الالتزام به قلبا. واما
العقل فلا يدل على أزيد من وجوب امتثال أمر المولى، فليس هناك ما يدل على
لزوم الالتزام قلبا.
ثم لو تنزلنا وسلمنا وجوب الموافقة الالتزامية، لا يترتب عليه ما ذكروه
من الثمرة، وهي عدم جريان الأصل في موارد دوران الامر بين المحذورين وفي
أطراف العلم الاجمالي بارتفاع التكليف الإلزامي في بعضها، وذلك لأنه إن كان
مراد القائل بوجوب الموافقة الالتزامية هو وجوب الالتزام بما هو الواقع على
الاجمال، فهو لا ينافي جريان الأصل في الموارد المذكورة، إذ مفاد الأصول
أحكام ظاهرية ووظائف عملية عند الجهل بالواقع. ولا منافاة بينها وبين الالتزام
بالحكم الواقعي على ما هو عليه، فإذا دار الامر بين الوجوب والحرمة،
لا منافاة بين الالتزام بالإباحة الظاهرية للأصل، والالتزام بالحكم الواقعي على
ما هو عليه من الوجوب أو الحرمة، وكذا الحال في جريان الأصل في أطراف
العلم الاجمالي، فإنه لا منافاة بين الالتزام بنجاسة الإناءين ظاهرا والاجتناب
عنهما، للاستصحاب والالتزام بطهارة أحدهما واقعا اجمالا. وإن كان مراده
هو وجوب الالتزام بكل حكم بعينه وبشخصه، فهو ساقط، لعدم القدرة عليه، لعدم
معرفته بشخص التكليف حتى يلتزم به، وبعد سقوطه لا مانع من جريان الأصل.
وان كان مراده وجوب الالتزام بأحدهما على نحو التخيير، فهو معلوم البطلان
إذ كل تكليف يقتضي الالتزام به، لا الالتزام به أو بضده على نحو التخيير،
52

مضافا إلى أن الالتزام بالوجوب - مع عدم العلم به، أو الالتزام بالحرمة مع عدم
العلم بها - تشريع محرم.
فتحصل أنه لا مانع من جريان الأصل في موارد دوران الامر بين
المحذورين، وفي أطراف العلم الاجمالي من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.
نعم يبقى الكلام في جريان الأصل من جهة المقتضي وهو شمول إطلاقات أدلة
الأصول لأطراف العلم الاجمالي وعدمه. والبحث عنه موكول إلى محله، وهو
مبحث الأصول العملية. ونتكلم فيه هناك إن شاء الله تعالى.
(قطع القطاع)
وليعلم أنه ليس المراد من القطاع من يحصل له القطع كثيرا، لكونه
عالما بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة الفطرية أو بالاكتساب، إذ قطعه حاصل
من المبادي المتعارفة التي لو اطلع غيره عليها حصل له القطع أيضا، غاية الامر
أنه عارف بتلك المبادي دون غيره، بل المراد من القطاع من يحصل له القطع
كثيرا من الأسباب غير العادية، بحيث لو اطلع غيره عليها لا يحصل له
القطع منها.
إذا عرفت المراد من القطاع، فاعلم أنه ربما يقال بعدم الاعتبار بقطعه،
ولكن الصحيح خلافه، لما عرفت سابقا من أن حجية القطع ذاتية لا تنالها يد
الجعل اثباتا ونفيا، فهي غير قابلة للتخصيص بغير القطاع. هذا في القطع
الطريقي. وأما القطع الموضوعي فأمره - سعة وضيقا - وإن كان بيد المولى،
53

فله أن يجعل موضوع حكمه نوعا خاصا من القطع، وهو القطع الحاصل من
الأسباب المتعارفة العادية، إلا أنه لا اثر في ذلك، إذ القاطع وان كان ملتفتا
إلى حاله في الجملة، وأن قطعه قد يحصل من سبب غير عادي، إلا أنه لا يحتمل
ذلك في كل قطع بخصوصه، لأن القاطع بشئ يرى أن قطعه حصل من سبب
ينبغي حصوله منه، ويخطئ غيره في عدم حصول القطع له من ذلك السبب،
فلا اثر للمنع عن العمل بالقطع الحاصل من سبب غير عادي بالنسبة إلى القطاع.
الكلام في امكان المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة،
ويقع الكلام (تارة) في الصغرى وحصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات
العقلية. و (أخرى) في الكبرى وحجية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من
المقدمات العقلية.
ذكر صاحب الكفاية (ره) انه وإن نسب إلى بعض الأخباريين منع الكبرى
وأنه لا اعتبار بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية، إلا ان مراجعة كلماتهم
تشهد بكذب هذه النسبة، وانهم في مقام المنع عن الصغرى، فان بعضهم في
مقام منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. واستشهد في ذلك بما حكي عن
السيد الصدر (ره) في باب الملازمة، وبعضهم في مقام بيان عدم جواز الاعتماد
على المقدمات العقلية، لأنها لا تفيد إلا الظن. واستشهد لذلك بكلام المحدث
الاسترآبادي (ره). ومن الواضح ان كلا الكلامين راجع إلى منع الصغرى
وعدم حصول القطع من المقدمات العقلية (انتهى ملخصا).
وما نقله عن المحدثين المذكورين وان كان راجعا إلى منع الصغرى، كما
ذكره، إلا ان كلام جملة منهم صريح في منع الكبرى، وانه لا يجوز العمل
بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة، فراجع رسائل شيخنا الأعظم
54

الأنصاري (ره) فإنه قد استقصى في نقل كلماتهم. ومن العجيب ان هذا
الكتاب بمرأى من صاحب الكفاية (ره) ومع ذلك أنكر منع الأخباريين عن العمل
بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة. وكيف كان فتحقيق الكلام في الصغرى:
ان الحكم العقلي - بمعنى إدراك العقل - يتصور على اقسام ثلاثة:
(الأول) - ان يدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في فعل من
الافعال، فيحكم بالوجوب أو الحرمة، لتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد
عند أكثر الامامية والمعتزلة.
(الثاني) - أن يدرك العقل الحسن أو القبح، كادراكه حسن الطاعة
وقبح المعصية، فيحكم بثبوت الحكم الشرعي في مورده، لقاعدة الملازمة
بين حكم العقل وحكم الشرع.
(الثالث) - أن يدرك العقل أمرا واقعيا مع قطع النظر عن ثبوت شرع
وشريعة، نظير إدراكه استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين، ويسمى بالعقل
النظري. وبضميمة حكم شرعي إليه يكون بمنزلة الصغرى يستكشف الحكم
الشرعي في مورده.
(أما القسم الأول) - فالصحيح أنه غير مستلزم لثبوت الحكم الشرعي
إذ قد تكون المصلحة المدركة بالعقل مزاحمة بالمفسدة، وبالعكس. والعقل لا يمكنه
الإحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع، فبمجرد ادراك
مصلحة أو مفسدة لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقهما، وهذا القسم
هو القدر المتيقن من قوله عليه السلام: (ان دين الله لا يصاب بالعقول) وقوله عليه السلام: (ليس
شئ أبعد من دين الله عن عقول الرجال) فان كان مراد الأخباريين من عدم
حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية هذا المعنى فهو الحق.
و (أما القسم الثاني) فهو وإن كان مما لا مساغ لانكاره، فان إدراك
55

العقل حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر ضروري، كيف؟ ولولا ذلك
لا طريق إلى اثبات النبوة والشريعة، فإنه لولا حكم العقل بقبح اجراء المعجزة
على يد الكاذب لم يمكن تصديق النبي صل الله عليه وآله. لاحتمال الكذب في ادعائه النبوة.
إلا انك قد عرفت في بحث التجري ان هذا الحكم العقلي في طول الحكم الشرعي
وفي مرتبة معلوله، فان حكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية انما هو بعد
صدور أمر مولوي من الشارع، فلا يمكن ان يستكشف به الحكم الشرعي.
و (اما القسم الثالث) فلا ينبغي التوقف والاشكال في استتباعه الحكم
الشرعي فان العقل إذا أدرك الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته أو بين
وجوب شئ وحرمة ضده وثبت وجوب شئ بدليل شرعي، فلا محالة يحصل له
القطع بوجوب مقدمته وبحرمة ضده أيضا، إذ العلم بالملازمة والعلم بثبوت
الملزوم علة للعلم بثبوت اللازم، ويسمى هذا الحكم بالعقلي غير المستقل، لكون
إحدى مقدمتيه شرعية على ما عرفت.
وأما الكبرى - وهي حجية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة - فتحقيق
الحال فيها يقتضي البحث (أولا) عن مقام الثبوت، وأن المنع عن العمل بالقطع
الحاصل من غير الكتاب والسنة ممكن أو محال؟ و (ثانيا) عن مقام الاثبات،
وأن الأدلة التي ذكرها الأخباريون تدل على عدم حجية القطع المذكور أم لا؟
أما الكلام في مقام الثبوت، فهو انه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري (ره)
وأكثر من تأخر عنه: انه لا يمكن المنع عن العمل بالقطع ولو كان حاصلا من غير
الكتاب والسنة، لان الحجية ذاتية للقطع، فيستحيل المنع عن العمل به لاستلزامه
التناقض واقعا أو في نظر القاطع. إلا أن العلامة النائيني (ره) التزم بامكان
المنع عنه بمعنى لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع، ليرد بأن حجية القطع ذاتية
لا يمكن المنع عن العمل به بل بمعنى يرجع إلى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعا به
56

من غير والسنة، فيكون التصرف من الشارع في المقطوع به لا في القطع
ليكون منافيا لحجيته الذاتية، وذكر لتقريب مراده في المقام مقدمات ثلاث:
(المقدمة الأولى) - انه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك
الحكم، لاستلزامه الدور، لأن القطع طريق إلى متعلقه بالذات، فالقطع بحكم
متوقف على تحقق الحكم، توقف الانكشاف على المنكشف، ولا مناص من أن
يكون الحكم في رتبة سابقة على تعلق القطع به، ليتعلق به القطع ويكشف عنه،
وإذا فرض اخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم، كان الحكم متوقفا
عليه توقف الحكم على موضوعه، وهذا هو الدور الواضح.
(المقدمة الثانية) - ما ذكره في بحث التعبدي والتوصلي من أن استحالة
التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، لأن التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة،
فكل مورد لا يكون قابلا للتقييد لا يكون قابلا للاطلاق، فلا يكون هناك تقييد
ولا إطلاق، ونتيجة هاتين المقدمتين: ان الأحكام الشرعية الأولية مهملة بالقياس
إلى علم المكلف بها وجهله، لان تقييدها بالعلم بها غير ممكن بمقتضى المقدمة الأولى
واطلاقها بالنسبة إلى العلم والجهل أيضا غير ممكن بمقتضى المقدمة الثانية، فتكون
مهملة لا محالة.
(المقدمة الثالثة) - انه مع ذلك كان الاهمال في مقام الثبوت غير معقول،
لأن الملاك إما أن يكون في جعل الحكم لخصوص العالم به، فلابد من تقييده به.
وإما أن يكون في الأعم منه، فلابد من تعميمه، وحيث إن تقييد الحكم بالعلم به
في نفس دليله غير ممكن، وكذا تعميمه، فلابد من تتميمه بجعل ثانوي يعبر عنه
بمتمم الجعل، فاما أن يقيد بالعلم وسماه بنتيجة التقييد، أو يعمم وسماه بنتيجة
الاطلاق، فالجعل الأول متعلق بنفس الحكم بنحو الاهمال. والجعل الثاني يبين
اختصاصه بالعالم أو شموله للجاهل أيضا. وهذا لا يكون مستلزما للدور أصلا.
57

ثم إنه في كل مورد ثبت فيه تخصيص الحكم بالعالم به - كما في موارد
وجوب الجهر والاخفات، ووجوب التقصير في الصلاة - نلتزم فيه بنتيجة التقييد،
بمقتضى ما دل على كفاية الجهر في مورد الاخفات وبالعكس، مع الجهل، وكفاية
التمام في موضع القصر كذلك، وكل مورد لم يثبت فيه ذلك نقول فيه بنتيجة
الاطلاق، للعمومات الدالة على اشتراك العالم والجاهل في التكليف.
فتحصل أن تقييد الحكم بالقطع - الحاصل من سبب خاص أو بعدم
كونه مقطوعا به من طريق خاص - مما لا مانع منه بمتمم الجعل، فالمنع عن العمل
بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنة - على هذا النحو - بمكان من الامكان،
ففي مقام الثبوت لا محذور فيه، إلا أن مقام الاثبات غير تام، لعدم تمامية
ما ذكره الأخباريون من الأدلة على المنع من العمل بالقطع الحاصل من غير
الكتاب والسنة.
وبالجملة المنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى الراجع إلي تقييد المقطوع به
ممكن، إلا أنه لم يدل على وقوعه دليل إلا في موارد قليلة، كالقطع الحاصل
من القياس على ما يظهر من رواية أبان. انتهى ملخص كلامه زيد في علو مقامه.
أقول: أما ما ذكره من المقدمة الأولي فهو تام، لما عرفت في بيان اقسام
القطع الموضوعي، فلا حاجة إلى الإعادة. وأما ما ذكره في المقدمة الثانية: من أن
استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق، فهو غير تام لما ذكرناه في بحث
التعبدي والتوصلي. وقد أشبعنا الكلام فيه هناك بما لا مزيد عليه. و (ملخصه):
أن التقابل بين التقييد والاطلاق وإن كان من تقابل العدم والملكة - كما ذكره
(قدس سره) - لان الاطلاق عبارة عن عدم التقييد فيما كان قابلا له، إلا أنه
لا يعتبر في تقابل العدم والملكة القابلية في كل مورد بشخصه، بل تكفى القابلية
في الجملة، ألا ترى ان الانسان غير قابل للانصاف بالقدرة علي الطيران مثلا،
58

ومع ذلك صح اتصافه بالعجز عنه، فيقال ان الانسان عاجز عن الطيران، وليس
ذلك إلا لكفاية القابلية في الجملة، وان الانسان قابل للاتصاف بالقدرة في الجملة،
وبالنسبة إلى بعض الأشياء. وإن لم يكن قابلا للاتصاف بالقدرة على خصوص
الطيران، وكذا الانسان غير متصف بالعلم بذات الواجب تعالى، مع أنه متصف
بالجهل به، وليس ذلك إلا لأجل كفاية القابلة في الجملة، فان الانسان قابل
للاتصاف بالعلم بالنسبة إلى بعض الأشياء، وإن كان غير قابل للاتصاف بالعلم
بذاته تعالى وتقدس. وعليه باستحالة التقييد بشئ تستلزم ضرورية العلم له، فاستحالة
تقييد الحكم بقيد تقتضي ضرورية الاطلاق أو التقييد بضده، وقد ذكرنا
تفصيل ذلك في بحث التعبدي والتوصلي. ففي المقام حيث أن تقييد الحكم بالعلم به
مستحيل لما عرفت من استلزامه الدور، وتقييد بالجهل به أيضا محال، لعين ذلك
المحذور، فيكون مطلقا بالنسبة إلى العلم والجهل لا محالة في الجعل الأولي، بلا
حاجة إلى متمم الجعل. وإذا كان كذلك وقطع به المكلف يستحيل منعه عن العمل
تقطعه، لاستلزامه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا، ومطلقا في صورة الإصابة.
وقد ظهر بما ذكرناه فساد ما ذكره من صحة اخذ القطع بالحكم في
موضوعه شرطا أو مانعا بتتميم الجعل، لأنه متوقف على كون الجعل الأولي بنحو
الاهمال. وقد عرفت كونه بنحو الاطلاق.
وأما ما ذكره من أن العلم مأخوذ في الحكم في موارد الجهر والاخفات
والقصر والتمام، ففيه ان الامر ليس كذلك، إذ غاية ما يستفاد من الأدلة هو
إجزاء أحد هما عن الآخر، واجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحكم، لا اختصاص
الحكم بالعالم، فان اجتزاء الشارع - في مقام الامتثال بالجهر في موضع الاخفات
أو العكس - لا يدل على اختصاص الحكم بالعالم. ويدل عليه ان العنوان المذكور
59

في الرواية هو الجهر فيما ينبغي فيه الاخفات أو الاخفات فيما ينبغي فيه الجهر. وهذا التعبير
ظاهر في ثبوت الحكم الأولى للجاهل أيضا. ويؤيده تسالم الفقهاء على أن الجاهل
بالحكمين مستحق للعقاب عند المخالفة فيما إذا كان جهله عن تقصير، فإنه على تقدير
اختصاص الحكم بالعالم لا معنى لكون الجاهل مستحقا للعقاب.
وأما ما ذكره من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس برواية
أبان، ففيه (أولا) - ان رواية أبان ضعيفة السند، فلا يصح الاعتماد عليها.
و (ثانيا) - انه لا دلالة لها على كونه قاطعا بالحكم. نعم يظهر منها كونه
مطمئنا به حيث قال: (كنا نسمع ذلك بالكوفة، ونقول ان الذي جاء به
شيطان). و (ثالثا) - انه ليس فيها دلالة على المنع عن العمل بالقطع على تقدير
حصوله لأبان، فان الإمام عليه السلام قد أزال قطعه ببيان الواقع، وأن قطعه مخالف له
وذلك يتفق كثيرا في المحاورات العرفية أيضا، فربما يحصل القطع بشئ لأحد،
ويرى صاحبه ان قطعه مخالف للواقع، فيبين له الواقع، ويذكر الدليل عليه،
ليزول قطعه أي جهله المركب، لا للمنع عن العمل بالقطع على تقدير بقائه.
فتحصل ان ما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) - وتبعه أكثر من
تأخر عنه من استحالة المنع عن العمل بالقطع - متين جدا. نعم الخوض في
المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية مرغوب عنه، وعليه فلا يكون معذورا
لو حصل له القطع بالأحكام الشرعية من المقدمات العقلية، على تقدير كون قطعه
مخالفا للواقع، لتقصيره في المقدمات.
ولا يخفى انه بعد ما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع ثبوتا، لا حاجة
إلى البحث عن مقام الاثبات ودلالة الأدلة الشرعية، كما هو ظاهر.
بقى الكلام في فروع توهم فيها المنع عن العمل بالقطع. وحيث إن القطع
مما لا يمكن المنع عن العمل به - على ما تقدم الكلام فيه - فلابد من التعرض
60

لتلك الفروع ودفع التوهم المذكور:
(الفرع الأول) - ما إذا كان لأحد درهم عند الودعي، وللآخر درهمان
عنده، فسرق أحد الدراهم، فقد ورد النص أنه يعطى لصاحب الدرهمين درهم
ونصف، ولصاحب الدرهم نصف. فقد يقال: إن الحكم بالتنصيف مخالف للعلم
الاجمالي بان تمام هذا الدرهم لأحد هما، فالتنصيف موجب لاعطاء النصف لغير مالكه
ثم لو انتقل النصفان إلى ثالث بهية ونحوها، فاشترى بمجموعهما جارية، يعلم
تفصيلا بعدم دخولها في ملكه، لكون بعض الثمن ملك الغير، فالحكم بجواز
وطئها مخالف للعلم التفصيلي. وربما يقال في دفع الاشكال: أن الحكم المذكور في النص
موافق للقاعدة، لان الامتزاج موجب للشركة القهرية فيكون كل منهما شريكا
في كل جزء جزء من الدراهم الثلاثة، فما سرق يكون لهما لا لأحدهما.
وفيه (أولا) - ان المقام أجنبي عن باب الامتزاج، إذ الامتزاج الموجب
للشركة الفهرية إنما هو فيما إذا كان الامتزاج موجبا لوحدة المالين في نظر العرف
فصار الممتزجان واحدا في نظر العرف، بلا فرق في ذلك بين ان يكونا مختلفين
في الجنس - كما إذا امتزج الماء والحليب مثلا - أو متحدين في الجنس، كما إذا
امتزج الحليب بالحليب. والمقام ليس من هذا القبيل، كما هو ظاهر.
و (ثانيا) - أن لازم ذلك هو الحكم باعطاء ثلث الدرهمين، وهو ثلثا
درهم لصاحب الدرهم واعطاء ثلثي الدرهمين وهو درهم وثلث لصاحب الدرهمين،
والمفروض ان الحكم المنصوص على خلاف ذلك، وهو الحكم باعطاء ربع الدرهمين
- وهو النصف - لصاحب الدرهم واعطاء ثلاثة أرباع الدرهمين - أي درهم ونصف -
لصاحب الدرهمين.
والتحقيق أن يقال إن الحكم بتنصيف الدرهم في الفرع المذكور ليس
مخالفا للقطع بالحكم الشرعي، غاية الأمر أن الشارع قد حكم بالتصرف في مال
61

الغير، والشارع له الولاية على الأموال والأنفس، بل هو المالك الحقيقي، وقد
حكم بجواز التصرف في بعض الموارد، مع العلم التفصيلي بكونه مال الغير، كما
في حق المارة، وحكم الشارع بتنصيف الدرهم إما ان يكون من باب الصلح
القهري، بمعنى ان الشارع ملك نصف الدرهم لغير مالكه حسما لمادة النزاع
بمقتضى ولايته على الأموال والأنفس، فيدخل أحد النصفين في ملك الغير بالتعبد
الشرعي، فلا مخالفة للعلم الاجمالي، ولا للعلم التفصيلي. ولا بأس بتصرف شخص
ثالث في مجموع النصفين باشتراء الجارية بهما، إذ قد انتقل إليه كل من النصفين
من مالكه الواقعي، فلا تكون هناك مخالفة للعلم التفصيلي. وإما أن يكون من
باب قاعدة العدل والانصاف التي هي من القواعد العقلائية، وقد أمضاها الشارع
في جملة من الموارد، كما إذا تداعى شخصان في مال، وكان تحت يدهما، أو أقام
كل واحد منهما البينة، أو لم يتمكنا من البينة وحلفا أو نكلا، فيحكم بتنصيف
المال بينهما في جميع هذه الصور، وهذه القاعدة مبنية على تقديم الموافقة القطعية
- في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك - على الموافقة الاحتمالية في تمام المال، فإنه
لو أعطي تمام المال - في هذه الموارد - لأحدهما للقرعة مثلا، احتمل وصول تمام
المال إلى مالكه، ويحتمل عدم وصول شئ منه إليه، بخلاف التنصيف، فإنه عليه
يعلم وصول بعض المال إلى مالكه جزما، ولا يصل إليه بعضه الآخر كذلك،
فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال إلى مالكه، ويكون من قبيل صرف
مقدار من المال مقدمة لإيصاله إلى مالكه الغائب حسبة، إلا أنه من باب المقدمة
الوجودية. والمقام من باب المقدمة العلمية. وعلى هذا يكون أحدهما مالكا
للنصف واقعا، والآخر مالكا للنصف الآخر ظاهرا، فان قلنا بكفاية الملكية
الظاهرية في جواز تصرف الغير ممن انتقل إليه مجموع النصفين، فلا بأس بالتصرف
في المجموع واشتراء الجارية به، وإن لم نقل بها - كما هو الظاهر - فنلتزم بعدم
62

جواز التصرف في مجموع النصفين لشخص ثالث، وبعدم صحة اشتراء الجارية به.
وليس في ذلك مخالفة للنص، إذ النص مشتمل على التنصيف، ولم يعترض لجواز
التصرف فيهما لشخص ثالث.
(الفرع الثاني) - ما لو اختلف المتبايعان في المثمن أو الثمن بعد الاتفاق
على وقوع البيع، وليفرض الاختلاف في المتباينين لا في الأقل والأكثر، إذ
على تقدير الاختلاف في الأقل والأكثر، كما لو ادعى البائع ان الثمن عشرة دنانير
وادعى المشترى كونه خمسة دنانير، فقد ورد النص على أنه - مع بقاء العين -
يقدم قول البائع، ومع تلفها يقدم قول المشتري، وهذا الفرض خارج عن محل
البحث، فان الكلام فيما إذا كان الامر دائرا بين المتباينين، كما لو ادعي البائع ان
الثمن خمسة دنانير، وادعى المشترى كونه عشرة دراهم، أو ادعى البائع ان
المبيع عبد، وادعى المشترى كونه جارية. ففي مثل ذلك أن أقام أحدهما البينة
يحكم له، وإلا فان حلف أحدهما ونكل الآخر، يقدم قوله، وإن تحالفا يحكم
بالانفساخ، ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأول. فيقال: ان
الحكم برد الثمن إلى البائع في المثال الأول مخالف للعلم التفصيلي بأنه ملك للمشتري
سواء كان ثمنه خمسة دنانير أو عشرة دراهم، وكذا الحكم - برد الثمن إلى
المشتري في المثال الثاني - مخالف للعلم بكونه ملكا للبائع، سواء كان ثمنا للعبد
أو الجارية، ثم لو انتقل العبد والجارية معا إلى ثالث أفتوا بجواز تصرفه فيهما،
مع أنه يعلم بعدم انتقال أحدهما إليه من مالكه الواقعي، وهو المشتري.
والجواب انه إن قلنا بأن التحالف موجب للانفساخ واقعا بالتعبد الشرعي
كما هو ليس ببعيد، فينفسخ البيع واقعا، ويرجع كل من العوضين إلى ملك
مالكه الأول، ويكون التحالف نظير تلف العين قبل القبض. وعليه فلا مخالفة
للعلم الاجمالي أو التفصيلي، ولا مانع من التصرف في الثمن والمثمن، ولا في
63

العبد والجارية لشخص ثالث، وإن قلنا بأن التحالف لا يوجب الانفساخ واقعا
بل الانفساخ ظاهري لرفع الخصومة وقطع المنازعة، فليس هناك إلا العلم بكون
المال ملك الغير، فان دل دليل على جواز التصرف فيه لثالث، كان المورد مما
رخص الشارع في تصرف مال الغير فيه. ولا اشكال فيه كما تقدم، وإن لم يدل
عليه دليل نلتزم بعدم جواز التصرف فيه.
(الفرع الثالث) - ما لو اختلف المتداعيان في سبب الانتقال بعد الاتفاق
على أصله، كما لو قال أحدهما بعتك الجارية، وقال الآخر وهبتني إياها، فترد
الجارية بعد التحالف إلي مالكها الأول، مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.
والجواب انه ان كانت الهبة جائزة كان ادعاء البيع وإنكار الهبة من
الواهب رجوعا عنها، لان انكار الهبة يدل بالالتزام على الرجوع عنها، نظير
إنكار الوكالة، فإنه أيضا يعد فسخا لها. وعليه فتصير الجارية بمجرد انكار الهبة
ملكا لمالكها الأول، فليس هناك علم بالمخالفة. واما لو كانت الهبة لازمة،
كما إذا كانت لذي رحم يجري في المقام ما ذكرناه في الفرع السابق: من أنه إن
قلنا بأن التحالف يوجب انفساخ العقد واقعا، سواء كان في الواقع بيعا أو
هبة، فينفسخ العقد، وترجع الجارية إلى ملك مالكها الأول، فلا مخالفة
للعلم الاجمالي أو التفصيلي. وان لم نقل بذلك وقلنا ان الانفساخ ظاهري لرفع
الخصومة، فجواز التصرف فيها تابع للدليل، فان دل عليه دليل كان مما رخص
فيه الشارع في التصرف في مال الغير، وإلا نلتزم بعد جواز التصرف. وعلى
كلا التقديرين لا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي.
(الفرع الرابع) - ما لو وجد المني في ثوب مشترك بين شخصين، فذكروا
انه يجوز اقتداء أحدهما بالآخر، مع أنه يعلم ببطلان صلاته إما لجنابة نفسه
أو لجنابة امامه، وذكروا أيضا انه يجوز لثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة،
64

مع أنه يعلم ببطلان صلاته اما لجنابة الامام الأول أو الامام الثاني، وكذا
يجوز له الاقتداء بهما في صلاتين مترتبتين، كما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الظهر
وبالآخر في صلاة العصر، مع أنه يعلم تفصيلا ببطلان صلاة العصر اما لجنابة
الامام أو لفوات الترتيب وكذا يجوز الاقتداء بهما في صلاتين غير مترتبتين،
مع أنه يعلم اجمالا ببطلان إحدى الصلاتين، فالحكم بجواز الاقتداء في جميع
هذه الفروع مخالف للعلم الاجمالي أو التفصيلي.
والجواب ان الحكم بجواز الائتمام في هذه الفروض ليس مما ورد فيه نص
فلا بد من البحث فيه من حيث القاعدة، ومحله الفقه (بحث صلاة الجماعة). فان
قلنا بأن صحة صلاة الامام بنظره كافية لجواز الائتمام ولو لم تكن صحيحة في نظر
المأموم، جاز الاقتداء في جميع هذه الفروض، ولا علم للمأموم ببطلان صلاته
ولو مع علمه تفصيلا ببطلان صلاة الامام، كما لو علم المأموم بأن الامام محدث
ولكن الامام لم يعلم بذلك فصلى عالما بالطهارة أو مستصحبا لها، فيجوز له
الاقتداء به وصحت صلاته، مع العلم التفصيلي ببطلان صلاة الامام، فكيف
الحال في موارد العلم الاجمالي. و ان لم نقل بذلك واعتبرنا في جواز الاقتداء
صحة صلاة الامام بنظر المأموم أيضا، فنلتزم بعدم جواز الاقتداء في جميع هذه
الفروض عملا بالقاعدة مع عدم ورود نص على جواز الاقتداء كما تقدم.
(الفرع الخامس) - ما لو أقر أحد بعين لشخص، ثم أقربها لشخص
آخر، فيحكم باعطاء العين للمقر له الأول، واعطاء بدلها من المثل أو القيمة
للثاني، وقد يجتمع العين والبدل عند شخص آخر، فهو يعلم اجمالا بحرمة
التصرف في أحدهما، ولو اشترى بهما شيئا يعلم تفصيلا بعدم جواز التصرف
فيه، لكون بعض ثمنه ملكا للغير، فلم يدخل المثمن في ملكه. ويظهر الجواب
في هذا الفرع مما ذكرناه في الفروع السابقة، فان الحكم المذكور مما لم يرد فيه
65

نص خاص، وانما هو بمقتضى القاعدة، باعتبار ان الاقرار الأول يوجب اعطاء
العين للمقر له الأول بمقتضى قاعدة الاقرار، فيحكم بكونها له ظاهرا، وبمقتضى
الاقرار الثاني يحكم بأن العين كانت ملكا للمقر له الثاني، وحيث أنه أتلفها
باقراره الأول فيحكم عليه بالضمان، لقاعدة الاتلاف، فيجوز التصرف لكل
منهما في العين والبدل، لأنه قد ثبتت ملكية كل منهما بالامارة الشرعية وهي
الاقرار. واما من اجتمع عنده العين والبدل، فان قلنا بأن الملكية الظاهرية
لاحد موضوع لجواز تصرف الآخر واقعا، فلا اشكال في جواز تصرفه فيهما
إذ ليس له علم الجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، وكذا المال المشترى بهما لعدم
العلم بالحرمة أيضا. وان لم نقل بذلك كما هو الصحيح، لعدم الدليل على أن
الملكية الظاهرية لاحد موضوع لجواز التصرف لغيره واقعا، فنلتزم بعدم جواز
التصرف في كلا المالين، للعلم الاجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، وكذا فيما
اشترى بهما عملا بالقاعدة مع عدم ورود دليل خاص يدل علي الجواز من آية
أو رواية.
(الفرع السادس) - حكم بعض بجواز الارتكاب في الشبهة المحصورة،
فإنه مخالف للعلم الاجمالي بوجود الحرام في بعض الأطراف. والجواب ان
عنوان المحصور مما لم يرد في الأدلة الشرعية، وانما هو اصطلاح المتأخرين من
الفقهاء، والحكم دائر مدار تنجيز العلم الاجمالي، فان قلنا بأن العلم الاجمالي
منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فقط، نلتزم بجواز الارتكاب في بعض
الأطراف دون الجميع، حتى لا ينتهى الامر إلى المخالفة القطعية. وان قلنا بأن
العلم الاجمالي منجز حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية، نلتزم بعدم جواز الارتكاب
في شئ من الأطراف تحصيلا للموافقة القطعية، إلا ان يطرأ عنوان رافع للحكم
الواقعي، كما إذا كان الاجتناب عن الجميع غير مقدور أو حرجيا.
66

وبالجملة الحكم في المقام يدور مدار القاعدة، ولم يرد فيه نص خاص ليكون
مفاده مخالفا للعلم الاجمالي أو التفصيلي. هذا تمام الكلام في هذه الفروع.
وملخص القول انه بعد ما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع على ما تقدم بيانه
لا يمكن الالتزام بحكم مخالف للقطع في مورد من الموارد.
(الكلام في العلم الاجمالي)
ويقع البحث في مقامين: (المقام الأول) - في ثبوت التكليف وتنجزه
بالعلم الاجمالي وعدمه. (المقام الثاني) - في سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي
وعدمه بعد الفراغ عن ثبوته، مع امكان الامتثال التفصيلي، كما إذا كان
المكلف متمكنا من تعيين تكليفه بأنه القصر أو التمام، فيجمع بينهما، أو كان
متمكنا من تعيين القبلة فلم يعين ويأتي بصلاتين إلى جهتين يعلم اجمالا بكون
إحداهما إلى القبلة.
(اما المقام الأول) فيقع البحث فيه في جهتين: (الجهة الأولى) - في تنجيز
العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، بمعنى عدم امكان الرجوع
إلى الأصل في شئ من أطرافه، فيجب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة
الوجوبية، ويجب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية.
(الجهة الثانية) - في تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية
بمعنى عدم جواز الرجوع إلى الأصل في مجموع الأطراف، وان جاز الرجوع
إليه في البعض، فلا يجوز ترك المجموع في الشبهة الوجوبية وارتكاب المجموع
في الشبهة التحريمية، وان جاز ترك البعض في الأولى وارتكاب البعض
67

في الثانية.
وحيث إن البحث عن الجهة الأولى يناسب مبحث البراءة، إذ البحث فيها
انما هو عن جواز ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية، وعن جواز ارتكاب
البعض في الشبهة التحريمية، وليس في بعض الأطراف إلا احتمال التكليف، كما
هو الحال في الشبهة البدوية المبحوث عنها في مبحث البراءة. فالبحث عنها موكول
إلى مبحث البراءة.
اما البحث عن الجهة الثانية فهو المناسب للمقام، إذ البحث فيها إنما هو
عن جواز ترك مجموع الأطراف في الشبهة الوجوبية، وجواز ارتكاب المجموع
في الشبهة التحريمية، وثبوت التكليف في مجموع الأطراف معلوم، فيكون
البحث راجعا إلى حجية القطع فيما إذا كان متعلقه مرددا بين أمرين أو أمور
المعبر عنه بالعلم الاجمالي، فيقع الكلام فعلا في الجهة الثانية.
وليعلم أولا - ان البحث في كل من الجهتين مبتن على أحد طرفي الترديد
في الجهة الأخرى (بيان ذلك) ان البحث في الجهة الأولى انما هو عن وجوب
الموافقة القطعية وعدمه. وهذا البحث مبني علي ان نقول في الجهة الثانية بحرمة
المخالفة القطعية، إذ على القول بعدم حرمة المخالفة القطعية - وجواز ترك تمام
الأطراف في الشبهة الوجوبية، وجواز ارتكاب تمام الأطراف في الشبهة
التحريمية - لم يبق مجال للبحث عن وجوب الموافقة القطعية، بمعنى وجوب
الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، ووجوب الاجتناب عن جميع
الأطراف في الشبهة التحريمية، كما هو ظاهر. وكذا الحال في الجهة الثانية،
فان البحث فيها إنما هو عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. وهذا البحث مبني
على أن نقول في الجهة الأولى بعدم وجوب الموافقة القطعية، إذ على القول
بوجوب الموافقة القطعية، ووجوب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية
68

ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية لا يبقى مجال للبحث
عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. ولهذا لا يكون البحث في إحدى الجهتين
مغنيا عن البحث في الجهة الأخرى. وحيث إن المناسب للمقام هو البحث عن
الجهة الثانية لما عرفت، فيقع الكلام فعلا فيها، ولا بد من التكلم في
مباحث ثلاثة:
(المبحث الأول) - في أن العقل - الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة
والعصيان - هل يفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في تنجيز التكليف أم لا؟
وبعبارة أخرى هل المأخوذ في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى هو وصول
التكليف بالعلم التفصيلي، أو الأعم منه ومن العلم الاجمالي؟ وبعبارة ثالثة هل
العقل يرى العلم الاجمالي بيانا كالعلم التفصيلي كي لا تجرى معه قاعدة قبح العقاب
بلا بيان أم لا؟
(المبحث الثاني) - في أنه بعد الفراغ عن كونه بيانا، هل يمكن للشارع
ان يرخص في المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية، وترك
الجميع في الشبهة الوجوبية أم لا؟
(المبحث الثالث) - في وقوع ذلك، والبحث عن شمول أدلة الأصول
العملية الشرعية لجميع أطراف العلم الاجمالي وعدمه، بعد الفراغ عن الامكان.
(أما المبحث الأول) - فربما يقال إنه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح
مخالفة المولى ان يكون المكلف عالما بالمخالفة حين العمل، لان القبيح هو عصيان
المولى، ولا يتحقق العصيان إلا مع العلم بالمخالفة حين العمل. والمقام ليس
كذلك، إذ لا علم له بالمخالفة حين ارتكاب كل واحد من الأطراف، لاحتمال
ان يكون التكليف في الطرف الآخر، غاية الامر أنه بعد ارتكاب جميع
الأطراف يحصل له العلم بالمخالفة، وتحصيل العلم بالمخالفة ليس حراما، ولذا
69

لو ارتكب المكلف ما هو مشكوك الحرمة بالشك البدوي تمسكا بأصالة البراءة،
لا مانع له بعد ذلك من تحصيل العلم بحرمة ما فعله بالسؤال من المعصوم عليه
السلام، أو بالجفر والرمل وغير ذلك. هذا غاية ما قيل في وجه جواز المخالفة
القطعية.
ولكنه بمعزل عن التحقيق، إذ لا يعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة الا
وصول التكليف من حيث الكبرى والصغرى. واما تمييز متعلق التكليف عن
غيره فغير لازم، فإذا وصل التكيف إلى العبد من حيث الكبرى بمعنى علمه بحرمة
شرب الخمر مثلا ومن حيث الصغرى بمعنى عامه بتحقق الخمر خارجا، فقد تم البيان
ولا يكون العقاب على المخالفة حينئذ عقابا بلا بيان، وتردد الخمر بين مائعين
لا دخل له في موضوع حكم العقل بقبح المخالفة. والشاهد هو الوجدان ومراجعة
العقلاء، فانا لا نرى فرقا في الحكم بالقبح بين ما إذا عرف العبد ابن المولى
بشخصه فقتله، وما إذا علمه اجمالا بين عدة أشخاص فقتلهم جميعا.
وبالجملة المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف، واما تمييز
المكلف به، فلا دخل له في الحكم المذكور أصلا. ولذلك لا ريب في حكم العقل
بقبح المخالفة بارتكاب جميع الأطراف دفعة، كما إذا نظر إلى امرأتين يعلم بحرمة
النظر إلى إحداهما مع أن متعلق التكليف غير مميز.
(اما المبحث الثاني) - فذهب صاحب الكفاية (ره) إلى امكان جعل
الترخيص في جميع أطراف العلم الاجمالي، بدعوى أن الحكم الواقعي لم ينكشف
به تمام الانكشاف، فمرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، بل ادعى وقوعه كما
في الشبهة غير المحصورة، وذكر انه لا مضادة بين الحكم الظاهري والواقعي،
إذ لو كانت بينهما مضادة لما أمكن جعل الحكم الظاهري في الشبهات غير المحصورة
بل في الشبهة البدوية، لاستلزامه احتمال الجمع بين الضدين. ومن الواضح
70

استحالة احتمال الجمع بين الضدين كالقطع به، إذ الجمع بينهما محال. والمحال
مقطوع العدم دائما. فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي في المقام،
ضرورة عدم الفرق بين الموارد في المضادة بين التكليف الإلزامي الواقعي وجعل
الترخيص.
هذا ملخص كلامه في المقام. وما ذكرناه هنا مبني على ما ذكره في الجمع
بين الحكم الواقعي والظاهري: من أن الحكم الواقعي ليس فعليا من جميع
الجهات مع عدم العلم به، فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري، لعدم كونهما
في مرتبة واحدة. وعلى هذا الأساس التزم في المقام بامكان جعل الترخيص في
أطراف العلم الاجمالي بالتكليف الإلزامي من الوجوب أو الحرمة، إذ عليه
لا منافاة بين الحكم المعلوم بالاجمال وبين الترخيص، لعدم كون المعلوم بالاجمال
فعليا من جميع الجهات، لعدم انكشافه تمام الانكشاف. ولكن البناء المذكور
مما لا أساس له، لان العلم لا دخل له في فعلية الحكم، وإنما هو شرط لتنجزه
وقد ذكرنا غير مرة أنه ليس للحكم إلا مرتبتان: إحداهما مرتبة الجعل والأخرى
مرتبة الفعلية. والأولى عبارة عن إنشاء الحكم للموضوع المقدر وجوده على
نحو القضية الحقيقة، كما في قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) والثانية عبارة عن فعلية الحكم بتحقق موضوعه خارجا، كما إذا
صار المكلف مستطيعا، بلا دخل للعلم به أصلا، غاية الأمر ان العلم دخيل في
تنجز التكليف، فلا يصح العقاب على المخالفة إلا مع العلم بالتكليف.
وبالجملة فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه، وليس العلم مأخوذا في
موضوعه كي تكون فعليته متوقفة عليه لما دل عليه الدليل من اشتراك التكليف
بين العالم والجاهل مضافا إلى ما تقدم من عدم إمكان اخذ العلم بالحكم في موضوعه
فتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية (ره) لا يفيد في الجمع بين الحكم
71

الواقعي والظاهري، ولا في إثبات امكان الترخيص في أطراف العلم الاجمالي،
لكونه مبنيا على كون العلم دخيلا في فعلية الحكم، وقد ظهر بما ذكرناه عدم
دخله في فعلية الحكم أصلا. والصحيح عدم امكان جعل الترخيص في أطراف
العلم الاجمالي، ولا يقاس المقام بجعل الحكم الظاهري في الشبهة البدوية.
وتحقيق ذلك يقتضى التكلم في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بمقدار
يتضح به عدم صحة قياس المقام به. وتفصيله موكول إلى محله.
فنقول: ان الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها، إذ الحكم
ليس إلا الاعتبار اي اعتبار شئ في ذمة المكلف من الفعل أو الترك. ومن
الواضح عدم التنافي بين الأمور الاعتبارية، وكذا لا تنافي بين إبرازها
بالألفاظ، بأن يقول المولى افعل كذا ولا تفعل كذا، كما هو ظاهر، إنما
التنافي بينها في موردين: (الأول) - في المبدأ (الثاني) في المنتهي. والمراد
بالمبدأ ما يعبر عنه بعلة الحكم مسامحة من المصلحة والمفسدة، كما عليه الامامية
والمعتزلة، أو الشوق والكراهة، كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد. والمراد من المنتهى مقام الامتثال. أما التنافي
من حيث المبدأ، فلانه يلزم من اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة مثلا اجتماع
المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار، وهو من اجتماع الضدين،
ولا إشكال في استحالته، وكذا الحال في اجتماع الوجوب والترخيص أو
اجتماع الحرمة والترخيص، فإنه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في
شئ واحد، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها، وهو من اجتماع
النقيضين المحال. اما التنافي بين الأحكام من حيث المنتهى وهو مقام الامتثال،
فلعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر، فيقع التنافي والتضاد
في حكم العقل بلزوم الامتثال.
72

إذا عرفت ذلك ظهر لك انه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الشبهات
البدوية أصلا، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى. أما من ناحية المبدأ
فلأن المصلحة في الحكم الظاهري إنما تكون في نفس الحكم لا في متعلقه، كما في
الحكم الواقعي، سواء كان الحكم الظاهري ترخيصا لمجرد التسهيل على المكلف،
أو إلزاميا لغرض آخر من الاغراض، فلا يلزم من مخالفته للحكم الواقعي اجتماع
المصلحة والمفسدة في شئ واحد. وأما من ناحية المنتهى، فلان الحكم الظاهري
موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجزه لعدم وصوله إلى المكلف، فما لم يصل
الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله، فلا مانع من امتثال
الحكم الظاهري. وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله
لا يبقى مجال للحكم الظاهري، لارتفاع موضوعه بوصول الواقع. وبعبارة أخرى
حكم العقل بلزوم الامتثال انما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك
بين الحكم الواقعي والظاهري. ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد
محال. لكون الحكم الظاهري دائما في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم
الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل الا بلزوم امتثال
الحكم الواقعي، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلا بلزوم
امتثال الحكم الظاهري، فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال ابدا.
هذا بخلاف الحكم الظاهري المجعول في أطراف العلم الاجمالي، فان
التنافي - بينه وبين الحكم الواقعي الواصل بالعلم الاجمالي في مقام الامتثال -
واضح، لما تقدم من عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم
بالعلم التفصيلي والاجمالي، فان كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي
المعلوم بالاجمالي علي ما هو المفروض لزم محذور اجتماع الضدين في مقام الامتثال،
فكيف يقاس المقام بالشبهة البدوية. نعم يرد النقض بالشبهة غير المحصورة لوصول
73

الحكم الواقعي فيها أيضا بالعلم الاجمالي. ومجرد قلة الأطراف وكثرتها لا يوجب
الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال. واما نحن ففي فسحة من هذا النقض، لأنا
نقول بعدم الفق بين قلة الأطراف وكثرتها في حكم العقل بلزوم الامتثال، فكما
لا نلتزم بجريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي مع قلتها، كذا لا نقول بجريانه
مع كثرتها، نعم لو كانت الشبهة مما لا يمكن احراز الامتثال فيها أصلا - لعدم
قدرة المكلف على الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية، أو على ترك جميع
الأطراف في الشبهة التحريمية، أو كان فيه ضرر أو حرج على المكلف - لا يكون
العلم الاجمالي فيها منجزا، إذ لا يكون امتثال الحكم الواقعي حينئذ لازما،
لعدم التمكن منه، أو لكونه ضررا أو حرجا، ومع عدم لزوم امتثاله لا مانع
من جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، بلا فرق بين قلتها وكثرتها أيضا. فإذا
قلنا ان الشبهة غير المحصورة لا يكون العلم الاجمالي منجزا فيها، كان مرادنا هو
هذا المعنى، ولا مناقشة في الاصطلاح، وكم فرق بينها وبين الشبهة المحصورة،
بمعنى كون الحكم الواقعي في أطراف أمكن امتثاله بلا لزوم حرج أو ضرر، فإنه
يحكم العقل حينئذ بلزوم امتثاله كما عرفت. ومعه لا يمكن جعل الحكم الظاهري
فيها كما تقدم.
فتحصل ان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي غير ممكن بحسب مقام
الثبوت، فلا تصل النوبة إلى البحث عن مقام الاثبات وشمول أدلة الأصول لأطراف
العلم الاجمالي وعدمه، إذ بعد حكم العقل باستحالة جعل الترخيص في أطراف العلم
الاجمالي لو فرض شمول الأدلة لها، لا بد من رفع اليد عن ظاهرها، لأجل قرينة
قطعية عقلية.
ثم إنا لو تنزلنا عن ذلك، وقلنا بامكان جعل الترخيص في أطراف العلم
الاجمالي، يقع الكلام في المبحث الثالث وشمول أدلة الأصول العملية لأطراف العلم
74

الاجمالي وعدمه. وقد منع شيخنا الأعظم الأنصاري (ره) عن ذلك، بدعوى
المناقضة بين صدر الروايات وذيلها، لان مقتضى إطلاق الصدر في مثل قوله (ع):
(كل شئ هو لك حلال حتى تعرف انه حرام) هو جريان الأصل في أطراف العلم
الاجمالي، وثبوت الحكم الظاهري، إذ كل واحد من الأطراف مشكوك فيه مع
قطع النظر عن الآخر، ومقتضى اطلاق العلم في ذيله الذي جعل غاية للحكم
الظاهري هو عدم جريان الأصل وعدم ثبوت الحكم الظاهري، فتلزم المناقضة بين
الصدر والذيل، لان الموجبة الكلية يناقضها السلب الجزئي، فلا بد من رفع اليد
عن أحد الاطلاقين. وحيث انه لا مرجع لأحدهما على الآخر، فلا محالة تكون
الروايات مجملة من هذه الجهة. ثم استشكل على نفسه بأن كلمة (بعينه) المذكورة
في بعض الروايات تشهد بأن المراد من العلم في ذيل هذه الروايات هو خصوص العلم
التفصيلي، لا الأعم منه ومن العلم الاجمالي. وأجاب عنه بأنه يمكن ان يكون
ذكر هذه الكلمة لتأكيد العلم لا لتمييز المعلوم ليكون مفادها العلم التفصيلي.
هذا ملخص كلامه (ره) وفيه (أولا) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره)
في بحث الاستصحاب: من أنه علي تقدير تسليم اجمال هذه الروايات المذيلة بذكر
الغاية لا مانع من التمسك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل، كقوله (ع)
(رفع ما لا يعلمون) وقوله (ع): (الناس في سعة ما لا يعلمون) وإجمال دليل
فيه الغاية المذكورة لا يسري إلى غيره مما ليس فيه الذيل المذكور.
و (ثانيا) - أن العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفا في
خصوص ما يكون منافيا للشك رافعا له، بأن يكون متعلقا بعين ما تعلق به
الشك، وكذا الحال في مثل قوله (ع): (ولكن انقضه بيقين آخر) فان
الظاهر منه تعلق اليقين الآخر بعين ما تعلق به الشك ليكون نقضا له، وكذا
الحال في أدلة البراءة من قوله (ع): (حتى تعلم أو تعرف انه حرام) ومن
75

الواضح أن العلم الاجمالي لا يكون رافعا للشك في كل واحد من الأطراف، لعدم
تعلقه بما تعلق به الشك، فإنه تعلق بعنوان جامع بينهما، وهو عنوان أحدهما.
وعليه فالغاية لا تشمل العلم الاجمالي فيكون اطلاق الصدر محكما.
و (ثالثا) - أن ما افاده - من أن كلمة (بعينه) لتأكيد العلم لا لتميز
المعلوم - لو سلم في رواية مسعدة بن صدقة من قوله (كل شئ هو لك حلال حتى تعرف
انه حرام بعينه) لا يتم في رواية عبد الله بن سنان من قوله (ع): (كل شئ
فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) فان مفاده معرفة
الحرام بعينه، ومعرفة الحرام بعينه ظاهر عرفا في تمييزه عن غيره، ولا سيما مع
ذكر كلمة (منه) وظهور معرفة الحرام من الشئ بعينه في تمييز الحرام عن غيره
غير قابل للانكار، فتكون الغاية ظاهرة في خصوص العلم التفصيلي. بخلاف الجملة
الأولى، فان مفادها معرفة انه حرام بعينه، أي معرفة الحرمة، فيمكن ان تكون
كلمة (بعينه) تأكيدا للمعرفة. ولا يخفى الفرق بحسب المفهوم العرفي بين معرفة
ان الشئ حرام بعينه، ومعرفة الحرام من الشئ بعينه.
و (رابعا) - أن لازم ما ذكره من قصور الأدلة عن الشمول لأطراف
العلم الاجمالي عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، ولو لم يكن العلم
الاجمالي منجزا، لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو لكون الامتثال
حرجيا أو ضروريا، مع أنه (ره) لا يلتزم بذلك قطعا. وأما على ما ذكرناه
من أن المانع من جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ثبوتي من جهة تنجيز العلم
الاجمالي التكليف الواقعي، ولزوم اجتماع الضدين في مقام الامتثال، فلا محذور
في جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي في فرض خروج بعضها عن محل الابتلاء
أو كون الامتثال حرجيا أو ضرريا، إذ العلم الاجمالي حينئذ لا يكون منجزا
ولا يحكم العقل بلزوم امتثال الحكم الواقعي، لعدم القدرة عليه، أو لاستلزامه
76

الحرج أو الضرر، فلا يلزم اجتماع الضدين في مقام الامتثال، فلا مانع من جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي.
فتحصل ان الوجه في عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي هو المانع
الثبوتي على ما ذكرناه، لا قصور الأدلة في مقام الاثبات. هذا تمام كلامنا في المقام
الأول والبحث عن ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي.
و (أما المقام الثاني) - وهو البحث عن سقوط التكليف بالعلم الاجمالي
بعد ثبوته. فتحقيق القول فيه يقتضي التكلم في جهتين:
(الجهة الأولى) - في البحث عن كفاية الامتثال الاجمالي وعدمها، مع عدم
تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي. ولا ينبغي الشك في كفاية حكم العقل
والشرع بحسن الاحتياط في هذا الحال، وان استلزم التكرار، بلا فرق بين
التوصليات والتعبديات، وبلا فرق بين موارد تنجز الواقع، كما في أطراف العلم
الاجمالي وبين موارد عدم تنجزه، كما في الشبهة البدوية الحكمية أو الموضوعية
بلا فرق بين ما قبل الفحص وما بعده، إذ المفروض عدم تمكن الوصول إلى الواقع
ولو بعد الفحص، فان الامتثال الاجمالي في جميع هذه الصور هو غاية ما يتمكن
منه العبد في مقام امتثال امر المولى، وهذا مما لا اشكال فيه ولا خلاف.
(الجهة الثانية) - في البحث عن كفاية الامتثال الاجمالي مع تمكن المكلف
من الامتثال التفصيلي، ويقع الكلام (تارة) في التوصليات و (أخرى) في
التعبديات. أما التوصليات فلا شك أيضا في كفاية الامتثال الاجمالي فيها، لان
الغرض فيها مجرد حصول المأمور به في الخارج كيفما اتفق، وباتيان جميع المحتملات
يتحقق المأمور به لا محالة، فإذا علم أحد بأنه مديون بدرهم إما لزيد أو لعمرو
وأعطى درهما لزيد ودرهما لعمرو، حصل له العلم بالفراغ.
ويلحق بالتوصليات الوضعيات: كالطهارة والنجاسة، فلو غسل المتنجس
77

بمائعين طاهرين يعلم اجمالا بكون أحدهما ماء مطلقا و الآخر مضافا طهر بلا اشكال
وكذا العقود والايقاعات، فان احتاط المكلف وجمع بين انشاءات متعددة، يعلم
اجمالا بصحة أحدها، يكفي في حصول المنشأ لا محالة، وإن لم يتميز عنده
السبب المؤثر.
هذا ولكن استشكل شيخنا الأنصاري (ره) في الاحتياط في العقود
والايقاعات باستلزامه الاخلال بالجزم المعتبر في الانشاء، إذ الترديد ينافي الجزم،
ولذا لا يصح التعليق في الانشائيات اجماعا. وهذا الاشكال مما لا يرجع إلى
محصل، لما ذكرناه في محله من أن المراد بالجزم المعتبر في الانشاء هو الجزم بالاعتبار
النفساني من قبل المنشئ، بأن يكون جازما على الاعتبار من قبل نفسه لا مترددا
فيه. والتعليق في الانشاء يوجب الترديد من قبل نفس المنشئ في اعتباره النفساني
فإذا قال وهبتك هذا المال إن كنت ابن زيد مثلا، لم يتحقق الاعتبار منه، إذ
علقه على امر لا يدري حصوله، فهو لا يدري انه تحقق منه الاعتبار النفساني
أم لا. وهذا هو الترديد المنافي لقصد الانشاء إجماعا. وأما التردد في أن السبب
الممضى شرعا هو هذا أو ذاك - كما في موارد الاحتياط في العقود والايقاعات -
فلا إشكال فيه، إذ لا ترديد في الانشاء الصادر من المنشئ بل هو جازم به،
غاية الامر كونه مترددا في أن السبب الممضى شرعا هذا أو ذاك، فيجمع بينهما.
وبالجملة التردد في الحكم الشرعي لا ينافي الجزم المعتبر في الانشاء، بل العلم
بعدم امضاء الشارع لا ينافي الانشاء، إذ الانشاء اعتبار من قبل نفس المنشئ
ولا ربط له بامضاء الشارع، فلو أوقع الوالد معاملة ربوية مع ولده مع العلم بعدم امضاء
الشارع حين الانشاء، ثم انكشف امضاء الشارع، يحكم بصحة المعاملة المذكورة
وكذا يحكم بصحة معاملة الكفار على تقدير اجتماع الشرائط، مع أنهم لا يلتزمون
بالشرع وامضاء الشارع أصلا، فإذا كان الانشاء مما لا ينافيه الجزم بعدم إمضاء
78

الشارع، فكيف ينافيه التردد في امضاء الشارع؟ فالتحقيق ان الاحتياط في
العقود والايقاعات مما لا ينبغي الاشكال فيه.
وأما التعبديات فمع عدم تنجز الواقع، كما في الشبهة البدوية الحكمية بعد
الفحص، والشبهة الموضوعية مطلقا، فلا اشكال في الاحتياط فيها أيضا، بل يمكن
ان يقال: إن هذا الامتثال الاجمالي مع ترخيص المولى بتركه أرقى من الامتثال
التفصيلي في موارد يكون التكليف فيها منجزا.
وأما مع تنجز الواقع عليه، كما في موارد العلم الاجمالي، بل في الشبهة
البدوية الحكمية قبل الفحص، فالاحتياط فيه (تارة) يستلزم التكرار، و (أخرى)
لا يستلزمه. وعلى التقديرين إما أن يكون التكليف المعلوم بالاجمال أو المشكوك
فيه استقلاليا، أو يكون ضمنيا. وما لا يستلزم التكرار إما أن يكون أصل
الطلب فيه معلوما في الجملة وإنما الشك في الخصوصية من الوجوب والاستحباب،
وإما أن لا يكون كذلك، لاحتمال الإباحة. فهنا مسائل:
(المسألة الأولى) - فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار، مع كون
التكليف استقلاليا، وكان أصل الطلب معلوما في الجملة، كما إذا شك في وجوب
غسل الجمعة واستحبابه. والظاهر أنه لا مانع من الاحتياط فيه والآتيان بما يحتمل
الوجوب بداعي الامر المحرز وجوده على الاجمال، ولا يكون هناك ما يوجب
المنع عن الاحتياط إلا توهم اعتبار قصد الوجه والتمييز، وهو مدفوع بالاطلاق
إن كان لدليل العبادة إطلاق لفظي، وإلا فالمرجع هي البراءة، هذا على القول بأن
اعتبار قصد القربة وما يرجع إليه من قصد الوجه والتمييز شرعي، ويمكن أخذه
في متعلق الامر، كما هو الصحيح على ما تقدم بيانه في بحث التعبدي والتوصلي.
وأما على القول بأن اعتباره عقلي لعدم امكان اخذه في متعلق الامر شرعا، كما
اختاره صاحب الكفاية (ره) فمجرد عدم التنبيه من الشارع على اعتباره يكشف
79

عن عدم اعتباره، إذ على تقدير اعتباره كان على الشارع التنبيه عليه ولو بعنوان
الاخبار بالجملة الاسمية، لكونه مما يغفل عنه نوع المكلفين.
واستدل القائل بالاعتبار بوجهين (الوجه الأول) الاجماع المدعى في كلمات
المتكلمين. و فيه انه اجماع منقول لا يصح الاعتماد عليه، مضافا إلى عدم كونه
اجماعا تعبديا كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام لاحتمال ان يكون الوجه في اعتباره
عند المجمعين هو الوجه الثاني، وهو أن حسن الافعال وقبحها إنما يكون بالعناوين
القصدية، بمعنى انه ان كان الفعل حسنا بعنوان خاص يعتبر في حسنه الاتيان به،
مع قصد هذا العنوان، وإلا فلا يتصف بالحسن، فان ضرب اليتيم إنما كان حسنا
إذا قصد به التأديب، والا فلا يكون حسنا وإن ترتب عليه التأديب خارجا. ففي
المقام يحتمل ان يكون حسن الفعل منوطا بعنوان خاص لا يعرفه المكلف ولا
يميزه، فلا بد من الاتيان به مع إشارة الجمالية إلى ذلك العنوان، بأن يأتي به
بعنوان الوجوب أو الندب، فإنه عنوان إجمالي لكل ما له دخل في حسن الفعل،
فلا بد من التمييز وقصد الوجه.
وفيه (أولا) - أن اعتبار قصد عنوان خاص غير محتمل، إذ الواجب بحكم
العقل هو امتثال امر المولى باتيان ما تعلق به الامر، وكل ما توهم دخله في المأمور به
يدفع بالأصل اللفظي أو الأصل العملي، أو بعدم التنبيه على ما تقدمت الإشارة إليه.
و (ثانيا) - انه لا تنحصر الإشارة الاجمالية إلى ذلك العنوان الخاص بقصد الوجه
بل يمكن الإشارة إليه بقصد الامر، فإنه محرز على الفرض وإن لم يعلم الخصوصية
فلا وجه لاعتبار الوجه والتمييز في الأمور به.
(المسألة الثانية) - هي المسألة الأولى مع كون التكليف المحتمل ضمنيا،
كما إذا شك في أن السورة مثلا جزء واجب للصلاة أو مستحب، ولا مانع من
الاحتياط فيها، بان يؤتي بها بداعي الامر، وإن لم تعلم خصوصيته من الوجوب
80

أو الاستحباب، بل الاحتياط في هذه المسألة أولى بالجواز من الاحتياط في المسألة
الأولى، إذ ما توهم كونه مانعا عن الاحتياط من اعتبار قصد الوجه على تقدير
تماميته مختص بالواجبات الاستقلالية، ولا يجري في الواجبات الضمنية، إذ مدركه
أمر ان على ما عرفت: (أحدهما) - الاجماع المنقول وهو غير متحقق في الواجبات
الضمنية، لان المشهور عدم اعتباره فيها. (ثانيهما) - احتمال دخل عنوان خاص في
حسن المأمور به. وهذا أيضا غير جار في الاجزاء، إذ ليس لكل جزء حسن مستقل
ليحتمل دخل عنوان خاص فيه، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزء جزء، بل
يكفي قصد الوجه في مجموع العمل.
(المسألة الثالثة) - هي المسألة الأولى مع عدم كون التكليف معلوما أصلا
بان يكون الامر دائرا بين الوجوب والإباحة. وربما يمنع من الاحتياط فيها
لوجهين: (الوجه الأول) - ما تقدم في المسألة الولي من اعتبار قصد الوجه
المانع من الاحتياط، ولا يجري هنا ما ذكرناه في المسألة الأولى من امكان الإشارة
إلى عنوان له دخل في حسن العمل بقصد الامر، لعدم احراز الامر في المقام،
بخلاف المسألة الأولى، الا انه يكفي في الجواب عنه ما ذكرناه أولا من أن قصد
عنوان خاص وقصد الوجه مما لا دليل على اعتباره، واحتماله مدفوع بالأصل اللفظي
أو الأصل العملي أو بعدم التنبيه عليه على ما تقدم بيانه.
(الوجه الثاني) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن العقل يحكم بأنه
يعتبر في تحقق الإطاعة ان يكون العبد منبعثا نحو العمل من بعث المولى لا عن
احتمال بعثه، فالامتثال الاحتمالي يكون في طول الامتثال اليقيني بحكم العقل، فلا
مجال للاحتياط مع التمكن من العلم بالواقع تفصيلا على ما هو المفروض. وعلى
تقدير عدم استقلال العقل بذلك لا أقل من الشك في اعتباره، لعدم استقلاله
بعدمه، فيكون المرجع قاعدة الاشتغال، لأن الشك متعلق بمرحلة الامتثال وسقوط
81

التكليف، فكان موردا للاشتغال لا البراءة.
وفيه ان الإطاعة ليست إلا عبارة عن الاتيان بما امر به المولى بجميع قيوده
مضافا إلي المولى وقد ذكرنا مرارا ان حكم العقل عبارة عن ادراكه، فهو يدرك
حسن الإطاعة، وانها موجبة لاستحقاق الثواب، وتركها موجب لاستحقاق العقاب
وليس له ان يحكم باعتبار شئ في متعلق امر المولى، مع عدم كونه مأخوذا فيه
شرعا، إذ العقل ليس مشرعا يزيد شيئا في المأمور به أو ينقص منه، فلنا جزم بأنه
لا يعتبر في الطاعة إلا الاتيان بما أمر به المولى بجميع قيوده مضافا إليه. وأما
كون الانبعاث من بعث المولى لا عن احتماله فغير معتبر فيها جزما. ومع التنزل
والشك كان المرجع هو البراءة لا الاشتغال، على ما هو الصحيح في دوران
الامر بين الأقل والأكثر الارتباطين. هذا على القول بكون قصد القربة وما
يرجع إليه معتبرا شرعا واختاره المحقق النائيني (ره). واما على القول بكونه
عقليا، كما هو المختار لصاحب الكفاية (ره) فالشك في اعتبار شئ يرجع إلى
قصد القربة، وإن لم يكن مجرى للبراءة، إلا أنه يستكشف عدم اعتباره من عدم
البيان، لكونه مما يغفل عنه نوع المكلفين. فعلى تقدير الاعتبار كان على المولى
البيان والتنبيه عليه، فمع عدم البيان يستكشف عدم اعتباره لا محالة. فتحصل ان
الصحيح في هذه المسألة أيضا كفاية الامتثال الاجمالي والآتيان بما يحتمل وجوبه
رجاء، كما هو المشهور.
ومما ذكرنا ظهر الحال في موارد احتمال تكليف ضمني، وانه لا مانع من
الاحتياط والآتيان بما يحتمل كونه جزء للمأمور به رجاء سواء علم رجحانه اجمالا
كما تقدم أو لم يعلم كما هو الآن محل الكلام. نعم لابد من عدم احتمال المانعية،
إذا لو دار الامر بين كون شئ شرطا للمأمور به أو مانعا عنه، كان الاحتياط
فيه مستلزما للتكرار، وخرج عن الفرض، كما أن محل كلامنا في التكليف
82

الاستقلالي إنما هو فيما إذا لم يحتمل الحرمة، إذ مع احتمال الحرمة لا يمكن
الاحتياط وخرج عن الفرض.
هذا كله فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزما للتكرار. وأما إذا كان مستلزما
له كما في دوران الامر بين القصر والتمام، فربما يستشكل في جواز الاحتياط فيه
وعمدة ما ذكروا في وجه الاشكال أمران:
(الأول) - أن التكرار لعب بأمر المولى، فلا يصدق عليه الامتثال.
وأجاب عنه في الكفاية (أولا) - بأنه يمكن ان يكون التكرار ناشئا من غرض
عقلائي، فلا يكون لعبا وعبثا وهذا الجواب غير واف بدفع الاشكال لأن
اللعب ان سرى إلى نفس الأمثال لا يجدي كونه بغرض عقلائي، إذ الكلام في
العبادة المتوقفة على قصد القربة، ولا يجدي في صحتها مطلق اشتمالها على غرض
عقلائي، بل لابد من صدورها عن قصد التقرب، واللعب لا يوجب القرب، فلا
يصح التقرب به. و (ثانيا) - بأن اللعب علي تقدير تسليمه إنما هو في كيفية
الامتثال، أي في كيفية إحراز الامتثال لا في نفس الامتثال. (وبعبارة أخرى)
واضحة: ان الاتيان بما ليس بمأمور به وإن كان لعبا، إلا أن الاتيان بما هو
مصداق للمأمور به ليس لعبا، ومن الظاهر أن ضم اللعب إليه لا يوجب كونه
لعبا. وهذا هو الجواب الصحيح.
(الثاني) - ما تقدم ذكره من المحقق النائيني (ره) من أن الامتثال
الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، لأن الطاعة يعتبر فيها كون الانبعاث من بعث
المولى بحكم العقل علي ما تقدم بيانه. وفيه (أولا) - ما تقدم من أن العقل ليس
بمشرع، ولا يحكم إلا بلزوم الطاعة، ولا يعتبر في صدق الطاعة إلا الاتيان بما امر
به المولى مضافا إليه، فكون الانبعاث من بعث المولى مما نجزم بعدم اعتباره،
ومع فرض الشك في اعتباره يرجع إلى البراءة علي ما تقدم بيانه، و (ثانيا) - ان
83

هذه الكبرى على تقدير تسليمها لا تنطبق علي المقام، إذ التكليف معلوم على
الفرض، فيكون الانبعاث نحو كل من العملين عن البعث اليقيني لا الاحتمالي،
غاية الامر انه لا تمييز حال الاتيان، وهو أجنبي عن كون الانبعاث عن احتمال
التكليف.
وبالجملة الامتثال في المقام يقيني لا احتمالي، غاية الامر كونه اجماليا لا
تفصيليا، وكم فرق بين الامتثال الاجمالي والامتثال الاحتمالي؟ نعم هذه الكبرى
علي تقدير تسليمها تفيد في الحكم بعدم جواز الاحتياط في المسألة السابقة، وهي ما إذا
لم يكن أصل التكليف محرزا، بل كان مجرد الاحتمال، بخلاف المقام. نعم لو كان
المكلف قاصدا للاتيان ببعض المحتملات فقط، كان انبعاثه عن احتمال التكليف،
فعلى تقدير تمامية الكبرى المذكورة، كان العمل فاسدا ولو مع مصادفة الواقع.
وأما على ما ذكرناه من عدم تماميتها، فلا اشكال فيه على تقدير المصادفة. نعم
هو مستحق للعقاب من جهة التجري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المعلوم
مع تمكنه من الامتثال اليقيني.
هذا كله في فرض التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي. وأما إذا لم يتمكن
منه ودار الأمر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظني، فان كان الظن مما قام
على اعتباره دليل خاص المعبر عنه بالظن الخاص، فهو كالعلم التفصيلي، إذا الحجة
المعتبرة علم بالتعبد وإن لم تكن علما بالوجدان. فان قلنا بجواز الاحتياط مع
التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي، كما هو الصحيح، نقول به مع التمكن من
الامتثال التفصيلي الظني أيضا. وإن قلنا بعدم جوازه لكون الامتثال الاحتمالي
في طول الامتثال اليقيني، كما عليه المحقق النائيني (ره) في بعض الصور علي
ما تقدم بيانه، نقول بعدم جوازه مع التمكن من الامتثال التفصيلي الظني أيضا.
وبالجملة الظن المعتبر علم تعبدا، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في العلم
84

الوجداني. ولا فرق بينهما إلا في أنه مع العلم الوجداني بالواقع لم يبق مجال
للاحتياط، إذ العلم الوجداني لا يجتمع مع احتمال الخلاف حتى يحتاط، بخلاف
الظن المعتبر، فإنه لا ينافي احتمال الخلاف، ومعه لا مانع من الاحتياط بل يكون
الاحتياط في مثل هذه الموارد مما لم يلزمه الشارع بادراك الواقع من أرقى مراتب
العبودية والانقياد. نعم وقع الكلام بين الاعلام في جواز تقديم المحتمل علي
المظنون في صورة الاحتياط، فقد يقال بعدم جوازه واختاره المحقق النائيني (ره)
جريا على مبناه من كون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني وذكر
المحقق النائيني (ره) ان هذا - أي عدم جواز تقديم المحتمل على المظنون - هو
الوجه في الخلاف الواقع بين شيخنا الأنصاري (ره) والسيد الشيرازي الكبير
(قده) في دوران الأمر بين القصر والتمام لمن سافر إلي أربعة فراسخ، ولم يرد
الرجوع في يومه، فاختار الشيخ (ره) تقديم التمام على القصر عند الاحتياط،
واختار السيد (ره) تقديم القصر على التمام، فهما بعد الاتفاق علي الكبرى -
وهي لزوم تقديم المظنون علي المحتمل عند الاحتياط - اختلفا في الصغرى فاستظهر
الشيخ (ره) من الأدلة وجوب التمام، فاختار تقديمه على القصر عند الاحتياط
واستظهر السيد (ره) منها وجوب القصر فقال بتقديمه على التمام.
هذا والصحيح عدم لزوم تقديم المظنون على المحتمل، ولو قلنا بأن
الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني، وان العقل يحكم بأنه من التمكن لا بد
من أن يكون الانبعاث عن البعث الجزمي، لا عن البعث الاحتمالي. وذلك لان
الاتيان بالمظنون يكون بداعي الأمر الجزمي الثابت باليقين التعبدي، سواء قدم
على المحتمل أو اخر عنه، والآتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث، بلا فرق
بين التقديم والتأخير، فالكبرى الكلية المذكورة في كلام المحقق النائيني (ره) على
تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام، ولا تفيد لزوم تقديم المظنون على المحتمل.
85

هذا كله في جواز الاحتياط مع التمكن من الظن الخاص. وأما إذا لم يتمكن منه
ودار الامر بين الاحتياط والعمل بالظن الانسدادي المعبر عنه بالظن المطلق
فهل يجوز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي أو يتعين عليه الامتثال التفصيلي الظني؟
ولا يخفى ان هذا البحث إنما هو علي تقدير عدم جواز الاحتياط مع التمكن من
الامتثال بالعلم التفصيلي، أو التمكن من الامتثال بالظن الخاص، فعلى هذا
التقدير يقع الكلام في أن الظن المطلق كالظن الخاص في عدم جواز الاحتياط مع
التمكن منه أولا؟ وأما على تقدير الالتزام بجواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال
بالعلم التفصيلي أو بالظن الخاص، فلا يبقى مجال للبحث عن جواز الاحتياط مع
التمكن من الامتثال بالظن المطلق، إذ الظن المطلق لا يكون أرقى من العلم
الوجداني والظن الخاص يقينا.
إذا عرفت ذلك فنقول ظاهر كلام الشيخ (ره) جواز الاحتياط والاكتفاء
بالامتثال الاجمالي، حتى أنه تعجب ممن يعمل بالطرق والامارات من باب الظن
المطلق، ثم يذهب إلى تقديم الامتثال الظني على الاحتياط.
والتحقيق في المقام هو التفصيل بين الكشف والحكومة، إذ القول بالكشف
مبني على بطلان الاحتياط وكونه غير مرضي عند الشارع، إما للاجماع أو
لكونه منافيا لقصد الوجه المعتبر في العبادات، فإنه بعد الالتزام ببطلان
الاحتياط وتمامية سائر المقدمات يستكشف ان الشارع قد جعل لنا حجة في
تعيين احكامه، ثم العقل يعين تلك الحجة بالسبر والتقسيم في الظن، لكونه أقرب
إلى الواقع من الشك والوهم وعليه فلا مجال للاحتياط مع التمكن من الامتثال
بالظن المطلق، إذ قد اخذ في مقدمات الظن بطلان الاحتياط على الفرض، وإلا
لا يستكشف كون الظن حجة شرعية لاحتمال اكتفاء الشارع بما يحكم به العقل
من وجوب الاحتياط. مع العلم الاجمالي بالواجبات والمحرمات. هذا بخلاف
86

القول بالحكومة، فإنه مبني على عدم وجوب الاحتياط إما لعدم التمكن منه،
أو لاستلزامه الحرج، فإنه عليه لا يستكشف كون الظن حجة شرعية، بل العقل
يحكم بتضييق دائرة الاحتياط في المظنونات دون الموهومات والمشكوكات وعليه
فلا مانع من الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الاجمالي، مع التمكن من الامتثال
بالظن المطلق.
وبالجملة الاختلاف في كون نتيجة الانسداد هو الكشف أو الحكومة إنما
ينشأ من الاختلاف في كيفية ترتيب المقدمات، فان اخذ في مقدمات دليل
الانسداد عدم جوار الاحتياط، كانت النتيجة بضميمة سائر المقدمات هو
الكشف، وعليه فلا مجال للامتثال الاجمالي مع فرض التمكن بالظن
المطلق. وإن جعل من مقدمات الانسداد عدم وجوب الاحتياط كانت النتيجة
هي الحكومة، وعليه فلا مانع من الاحتياط مع التمكن من الامتثال الظني بالظن
المطلق. فتحصل ان تعجب الشيخ (ره) وقع في محله على الحكومة دون
الكشف، هذا تمام كلامنا في بحث القطع.
87

(الكلام في الظن)
وتحقيق القول فيه يستدعي التكلم في جهات: - (الجهة الأولى) - لا
ينبغي الشك في أن الظن ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمه ومقتضياته،
لا بنحو العلية التامة بأن لا تكون قابلة للمنع عن العمل به، ولا بنحو الاقتضاء
بأن تكون قابلة للمنع، إذ ليس فيه انكشاف الواقع كما في القطع، لوجود
احتمال الخلاف. ومجرد الرجحان الموجود فيه لا يقتضي الحجية، فهو بنفسه غير
حجة لا يجوز العمل به عقلا. بلا حاجة إلى تعلق المنع الشرعي عن العمل به،
فتكون الآيات والروايات الناهية عن العمل بالظن إرشادا إلى حكم العقل لا نهيا
مولويا عن العمل به. نعم حجيته تحتاج إلى الجعل الشرعي، لعدم كونه حجة
في نفسه كالقطع، بل حجيته منحصرة بتعلق الجعل الشرعي بها، غاية الأمر أن
الكاشف عن حجيتها الشرعية قد يكون دليلا لفظيا كظواهر الآيات، وقد
يكون لبيا كالاجماع، وقد يكون العقل ببركة مقدمات الانسداد، فان العقل
يدرك - بعد تمامية تلك المقدمات - أن الشارع جعل الظن حجة، لا ان العقل
يحكم بحجية الظن بعد تمامية المقدمات، لما ذكرناه مرارا من أن حكم العقل عبارة
عن ادراكه، وليس له حكم سوى الادراك، لعدم كونه مشرعا ليحكم بشئ.
وبما ذكرناه ظهر فساد ما في الكفاية من أن ثبوت مقدمات وطروحات
موجبة لاقتضائها الحجية عقلا، إذ على تقدير الكشف كان العقل كاشفا عن حجيته
الشرعية لا حاكما بحجيته. وأما على تقدير الحكومة فلا يحكم العقل بحجية
الظن أصلا. وإنما يحكم بتضييق دائرة الاحتياط في مقام الامتثال في المظنونات
ورفع اليد عنه في المشكوكات والموهومات.
فتحصل ان حجية الظن منحصرة بالجعل الشرعي. واما مع عدم تعلق
88

الجعل بها، فلا يكون الظن بنفسه حجة، بلا فرق في ذلك بين الثبوت والسقوط
فكما لا حجية للظن في ثبوت التكليف وتجري معه البراءة، كذلك لا حجية له
في سقوط التكليف بعد ثبوته، وتجري معه قاعدة الاشتغال.
هذا ونسب صاحب الكفاية (ره) إلى بعض المحققين القول بكفاية الظن
في سقوط التكليف، ثم وجهه بقوله: ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المتحمل
أقول: كيف يمكن الالتزام بكفاية الظن في سقوط التكليف مع عدم
كونه حجة من قبل المولى؟ وكيف يكون العبد معذورا في ترك الامتثال بعد
ثبوت التكليف على تقدير مخالفة ظنه للواقع؟ ولم يلتزم بها أحد من العلماء فيما
نعلم، بل لا نظن أن يلتزم بها عالم. وأما ما ذكره صاحب الكفاية من التوجيه
فهو أجنبي عن المقام، إذ الخلاف في لزوم دفع الضرر المحتمل وعدمه إنما هو في
الضرر الدنيوي لا في الضرر الأخروي، فإنه لم يخالف أحد في لزوم دفع الضرر
المحتمل الأخروي مع تنجز التكليف. الا ترى انه ليس في كل واحد من أطراف
العلم الاجمالي وفي الشبهة الحكمية قبل الفحص الا احتمال الضرر، ومع ذلك أوجبوا
الاحتياط في الأول والفحص في الثاني. وليس ذلك إلا لوجوب دفع الضرر
المتحمل. هذا مضافا إلى أن الالتزام بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل - ولو
كان أخرويا - يستلزم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أيضا، وهو واضح الفساد
بل ضروري البطلان.
فتحصل ان الظن ليس حجة في نفسه، بلا فرق بين مقام الثبوت ومقام
السقوط. وان حجيته منحصرة بالجعل الشرعي.
(الجهة الثانية) - في إمكان التعبد بالظن. وليعلم أنه ليس المراد بالامكان
في المقام هو الاحتمال، كما هو المراد في قولهم (كل ما قرع سمعك فذره في بقعة
الامكان ما لم يذدك عنه ساطع البرهان) لوضوح أن الاحتمال أمر تكويني غير قابل
89

للنزاع، كما أنه ليس المراد منه الامكان الذاتي في مقابل الاستحالة الذاتية،
لوضوح ان التعبد بالظن ليس مما يحكم العقل باستحالته بمجرد لحاظه وتصوره،
كاجتماع الضدين، بل المراد منه الامكان الوقوعي في قبال الاستحالة الوقوعية
بمعنى انه هل يلزم من وقوع التعبد بالظن محال مطلقا كاجتماع الضدين أو المثلين
أو بالنسبة إلى الحكيم كتحليل الحرام وتحريم الحلال أم لا؟
إذا عرفت ذلك فاعلم أن شيخنا الأنصاري (ره) اختار إمكان التعبد بالظن
بدعوى ان بناء العقلاء على الحكم بالامكان ما لم تثبت الاستحالة. واستشكل
عليه صاحب الكفاية (ره) بوجوه: (أحدها) - انه لم يثبت بناء من العقلاء على
ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه. (ثانيها) - انه على تقدير تسليم ذلك نمنع
حجية بنائهم شرعا، لعدم قيام دليل قطعي عليها والظن بها لو كان موجودا
لا يفيد، إذ الكلام فعلا في إمكان العمل بالظن، فلا يمكن إثباته بنفس الظن
(ثالثها) - انه على تقدير تسليم ذلك أيضا لا فائدة في هذا البحث أصلا، إذ مع
قيام الدليل على الوقوع لا نحتاج إلى البحث عن الامكان، لان الوقوع أخص
من الامكان، فثبوت الوقوع كاف في ثبوت الامكان أيضا. إذ المحال ليس
بواقع بالضرورة، ومع عدم الدليل على الوقوع لا فائدة في البحث عن الامكان
إذ البحث أصولي لابد فيه من ترتب ثمرة عليه، وليس البحث بحثا فلسفيا يبحث
فيه عن الامكان والاستحالة بلا لحاظ ترتب ثمرة عليه (انتهى ملخصا). وزاد
المحقق النائيني (ره) إشكالا رابعا، وهو ان بناء العقلاء على الامكان - عند
الشك فيه على تقدير التسليم - إنما هو في الامكان التكويني دون الامكان
التشريعي الذي هو محل الكلام.
هذا والانصاف تمامية ما ذكره الشيخ (ره). ولا يرد عليه شئ من هذه
الاشكالات، وذلك لأن ما ذكره صاحب الكفاية (ره) مبني على أن يكون
90

مراد الشيخ (ره) هو البناء على الامكان مطلقا، ولكن الظاهران مراده هو
البناء على الامكان عند قيام دليل معتبر على الوقوع، كما إذا دل ظاهر كلام
المولى على حجية الظن، ولا أقل من احتمال ذلك في كلام الشيخ (ره) وحينئذ
تترتب الثمرة على البحث عن الامكان والاستحالة، إذ على تقدير ثبوت الامكان
لا بد من الاخذ بظاهر كلام المولى والعمل بالظن. وعلى تقدير ثبوت الاستحالة
لا مناص من رفع اليد عن الظهور، للقرينة القطعية العقلية، ولا ينبغي الشك
في أن بناء العقلاء في مثل ذلك على الامكان والعمل بالظاهر ما لم تثبت الاستحالة
فلو امر المولى عبده بشئ وشك العبد في إمكان وجوبه واستحالته، لاحتمال
ان يكون ذا مفسدة، واستحال ان يأمر المولى العالم الحكيم بما فيه المفسدة،
فاحتمل ان لا يكون ظاهر الكلام مراده، ويكون امره للامتحان أو غيره مما
ليس فيه طلب جدي، فهل يشك أحد في بناء العقلاء على الاخذ بظاهر كلام
المولى وعدم الاعتناء باحتمال الاستحالة، وهل يشك أحد في امضاء الشارع لهذا
البناء من العقلاء. فاندفع جميع ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من
الوجوه الثلاثة.
واما ما ذكره المحقق النائيني (ره) ففيه ان الامكان والاستحالة من الأمور
الواقعية التي يدركها العقل، وليس للامكان قسمان تكويني وتشريعي، بل
الامكان دائما تكويني، غاية الامر ان متعلقه قد يكون من الأمور التكوينية
كما إذا قيل إن نزول المطر في يوم كذا ممكن، وقد يكون من الأمور التشريعية
كما إذا قيل إن الحكم الكذائي ممكن أو التعبد بالظن ممكن. فتحصل ان ما ذكره
الشيخ (ره) متين ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المذكورة.
ثم إن الفائل بالاستحالة استند إلى وجهين: (أحدهما) - راجع إلى الملاك
و (الآخر) - إلى التكليف، اما ما يرجع إلى الملاك فهو ان الامارة ربما تقوم
91

على وجوب ما هو مباح واقعا، أو على حرمة ما هو مباح كذلك. ولازم
حجية الامارة هو الالزام بشئ من الفعل أو الترك، من دون ان تكون فيه
مصلحة ملزمة أو مفسدة ملزمة، مع انا نقول بتبعية الأحكام الشرعية للمصالح
والمفاسد، وهذا هو المراد من تحريم الحلال في قولهم، وربما تقوم على إباحة
شئ والترخيص فيه مع أن حكمه الواقعي هو الالزام بالفعل أو الترك، فيلزم
من حجية الامارة تفويت المصلحة الملزمة أو الالقاء في المفسدة الملزمة. وهذا
هو المراد من تحليل الحرام في قولهم وكل ذلك صدوره محال عن الحكيم تعالى
واما ما يرجع إلى التكليف، فهو ان الأمارة التي يتعبد بها ان كانت موافقة للحكم
الواقعي لزم من حجيتها اجتماع المثلين، وهما الحكم الواقعي المفروض وجوده
والحكم الظاهري المجعول بمقتضى حجية الأمارة، وان كانت مخالفة له، لزم
اجتماع الضدين، وكلاهما محال. هذا ملخص ما هو المنسوب إلى ابن قبة
بتوضيح من المتأخرين. والجواب اما عن اشكال الملاك فهو ان صور الاشكال
من ناحية الملاك ثلاث:
(الصورة الأولى) - ما إذا دلت الامارة على وجوب ما هو مباح واقعا
أو على حرمته. (الصورة الثانية) - ما إذا دلت الأمارة على إباحة ما هو واجب
واقعا أو حرام كذلك. (الصورة الثالثة) - ما إذا دلت الامارة على وجوب
ما هو حرام واقعا، أو على حرمة ما هو واجب واقعا.
(اما الصورة الأولى) فليس فيها اشكال، إذ العقل لا يرى مانعا من
إلزام المولى عبده بفعل ما هو مباح واقعا أو بتركه، تحفظا على غرضه المهم اي
المصلحة الملزمة الموجودة في بعض الأفراد، فان الأحكام وان كانت تابعة للمصالح
والمفاسد في متعلقاتها علي ما هو المعروف من مذهب العدلية، إلا أنه تكفي
92

المصلحة النوعية ولا تعتبر وجود المصلحة الشخصية دائما، إذ قد تكون المصلحة
الملزمة في بعض الافراد، ولكن المولى يجعل الحكم بنحو العموم فيما لم يتميز
واجد المصلحة عن غيره، تحفظا على تلك المصلحة الموجودة في البعض. وقد
وقع نظير هذا الحكم في الشرع المقدس ويقع في العرف كثيرا، اما في الشرع
فكتشريع العدة، فان المصلحة فيه - وهي حفظ الأنساب وعدم اختلاط المياه -
وان لم تكن مطردة في جميع موارد وجوبها، الا ان الشارع قد شرعها بنحو
العموم، تحفظا على تلك المصلحة الموجودة في بعض الموارد، فاكتفى في
تشريع العدة بوجود المصلحة النوعية وليس دائرا مدار المصلحة الشخصية. واما
في العرف فكثيرا ما يتفق ذلك، كما إذا علم المولى بأن أحدا يريد قتله في يوم
معين، فيأمر عبده بأن لا يأذن لاحد في الدخول عليه في ذلك اليوم، تحفظا
على عدم دخول من يريد قتله، فان المصلحة وان كانت تقتضي المنع عن دخول
البعض دون جميع الناس، الا انه لعدم معرفة العبد بذلك الشخص يأمره المولى
بعدم الاذن في الدخول لاحد من الناس، تحفظا على تلك المصلحة الملزمة.
فتحصل انه محذور في امر المولى بالعمل بالامارة الدالة على الوجوب أو
الحرمة، تحفظا على فعل الواجب وترك الحرام، وان كان مؤدى الأمارة
مباحا أحيانا.
و (اما الصورة الثانية) وهي ما إذا دلت الأمارة على إباحة ما هو حرام
واقعا، أو واجب كذلك، فمع انسداد باب العلم لا اشكال في جعل المولى
حجية الأمارة أصلا، إذ على تقدير عدم كون الأمارة حجة من قبل المولى
كان المكلف مرخصا في الفعل والترك، لاستقلال عقله بقبح العقاب بلا بيان،
وكان له أيضا ان يحتاط بترك ما هو محتمل الحرمة، والآتيان بما هو محتمل
الوجوب، فكذا الامر بعد حجية الأمارة، فان مفادها الترخيص على الفرض
93

فله ان يفعل وان يترك بمقتضى حجية الامارة، وله ان يحتاط، إذ حسن
الاحتياط مما لا مجال لانكاره ولو مع قيام الأمارة على الترخيص، فان موضوع
الاحتياط هو احتمال التكليف، وهو موجود بالوجدان.
وبالجملة بعد فرض عدم تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع يدور الأمر
بين ان يتركه المولى وعقله المستقل في الترخيص، أو يجعل له طريقا يوصله إلى
الواقع غالبا. لا ينبغي الشك في أن الثاني هو المتعين، ومخالفة الأمارة للواقع
أحيانا مما لا محذور فيه، بعد عدم تنجز الواقع على المكلف، وكونه مرخصا في
الفعل والترك بمقتضى حكم العقل، فلا يستند فوات المصلحة أو الوقوع في
المفسدة إلى التعبد بالامارة.
و (أما الصورة الثالثة) وهي ما إذا دلت الامارة على وجوب ما كان
حراما في الواقع، أو على حرمة ما كان واجبا في الواقع، فالتعبد بالامارة فيها
وإن كان مستلزما لتفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة في بعض الموارد، إلا أنه
لا قبح فيه لو يرى المولى العالم كونها غالبة المطابقة للواقع. وبعبارة أخرى
الأمر دائر بين عدم جعل الامارة حجة فيختار المكلف ما يشاء من الفعل والترك
والمفروض عدم إمكان الاحتياط، وبين جعل الامارة حجة فيفعل المكلف
ما دلت الامارة على وجوبه، ويترك ما دلت على حرمته، ولو يرى المولى العالم
بالحقائق ان تفويت الملاك الواقعي في الصورة الأولي أكثر من الصورة الثانية
تعين عليه جعل عليه جعل الامارة حجة وإن استلزم العمل بها فوت الملاك الواقعي أحيانا
والطريقة العقلائية أيضا كذلك كما نرى ان سيرة العقلاء جرت على الرجوع إلى
الأطباء مع ما يرون من الخطأ الصادر منهم الموجب للهلاك أحيانا، وليس
الرجوع إليهم الا لغلبة مصادفة معالجتهم للواقع.
هذا كله على تقدير انسداد باب العلم. واما مع الانفتاح، فان كان المراد
94

من العلم هو القطع - ولو كان مخالفا للواقع - فلا اشكال في التعبد بالامارة في
هذا الفرض أيضا، بل التحقيق ان هذا الفرض داخل في صورة الانسداد
موضوعا إذ المراد بالانسداد هو انسداد باب الوصول إلى الواقع، لا انسداد
باب القطع ولو كان جهلا مركبا، إذ الجهل المركب كالجهل البسيط لا يؤثر في
حسن التعبد بالامارة شيئا. واما إن كان المراد من العلم هو العلم المطابق للواقع
بأن يكون المراد من الانفتاح هو انفتاح باب الوصول إلى الواقع، فلا اشكال
في التعبد بالأمارة أيضا على القول بالسببية. وتوضيح ذلك أن السببية تتصور
على اقسام ثلاثة:
(الأول) - ما هو المنسوب إلى الأشاعرة من أنه ليس في الواقع حكم،
مع قطع النظر عن قيام الامارة، بل يكون قيامها سببا لحدوث مصلحة موجبة
لجعل الحكم علي طبق الامارة. وعلى القول بالسببية بهذا المعنى يرتفع الاشكال
من أصله، إذ عليه لا يكون في الواقع حكم حتى يكون التعبد بالامارة موجبا
لفواته على المكلف، ولكن السببية بهذا المعنى غير معقول في نفسه على
ما ذكرناه في بحث الاجزاء، لاستلزامه الدور، فان قيام الامارة على الحكم
فرع ثبوته واقعا، فكيف يتوقف ثبوته على قيامها؟ هذا مضافا إلى كونه
مخالفا للاجماع والروايات الدالة على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل.
(الثاني) - السببية المنسوبة إلى المعتزلة، وهي ان الحكم الواقعي وان
كان متحققا مع قطع النظر عن قيام الامارة، إلا ان قيامها - من قبيل طرو
العناوين الثانوية. كالحرج والضرر - موجبة لحدوث مصلحة في المؤدى أقوى
من مصلحة الواقع، وإذا انكشف الخلاف كان ذلك من قبيل تبدل الموضوع
وعلى هذا القول لا مجال للاشكال المذكور أيضا، إذ مع قيام الامارة على
خلاف الحكم الواقعي يكون الحكم الواقعي الأهم هو مؤداها، فلا يلزم تفويت
95

المصلحة أو الالقاء في المفسدة، إلا ان السبية بهذا المعنى وان كانت أمرا معقولا
في نفسه، وليست كالسببية بالمعنى الأول، ولكنها أيضا باطلة، بمقتضى
الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل، وان الواقع
لا يتغير عما هو عليه بقيام الامارة.
(الثالث) - السببية بمعنى المصلحة السلوكية، والمراد بها ان في تطبيق
العمل على الامارة والسلوك على طبقها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة
الواقع على تقدير مخالفتها له، وحيث إن المصلحة السلوكية تابعة للسلوك على
طبق الامارة، فهي تتفاوت بتفاوت مقدار السلوك قلة وكثرة، فإذا فرض
قيامها على وجوب صلاة الجملة مثلا، وعمل بها المكلف، فانكشف خلافها
قبل خروج الوقت، وان الواجب في يوم الجمعة هو صلاة الظهر، ولا يتدارك
بالامارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة الا المصلحة الفائتة بالعمل بها، وهي
مصلحة وقت الفضيلة. واما مصلحة أصل صلاة الظهر أو مصلحة إتيانها في الوقت
فلا يتدارك بها، لعدم فواتهما بسبب السلوك على طبق الأمارة. لتمكن المكلف
من اتيانها في الوقت، بعد انكشاف خلاف الأمارة، ولو فرض انكشاف الخلاف
بعد خروج الوقت، فيتدارك بها مصلحة الصلاة في الوقت، دون مصلحة أصل
الصلاة، لتمكن المكلف من تداركها بعد خروج الوقت بالقضاء، نعم لو لم
ينكشف الخلاف أصلا لا في الوقت ولا في خارجه، يتدارك بها مصلحة أصل
الصلاة أيضا الفائتة بسبب العمل بالامارة. هذا إذا كان الترك مستندا إلى العمل
بالأمارة، وأما إذا لم يكن الترك مستندا إليه، كما إذا ترك صلاة الظهر في
مفروض المثال، بعد انكشاف الخلاف، فلم يتدارك المصلحة الفائتة حينئذ
إذ طغيانه كان مفوتا لمصلحة الواقع لا السلوك على طبق الامارة ليتدارك به ما فات
من مصلحة الواقع، والمفروض ان المصلحة إنما هي في السلوك فتدور مداره،
96

والسبية بهذا المعنى قد اختارها شيخنا الأنصاري (ره)، وتبعه المحقق
النائيني (ره).
وعليه يندفع الاشكال المذكور أيضا، إذ عليه يتدارك ما فات
من مصلحة الواقع على ما عرفت، فلا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة أو
الالقاء في المفسدة، إلا ان السببية بهذا المعنى أيضا مما لا يمكن الالتزام به،
لكونه مستلزما لتبدل الحكم الواقعي بنوع من التصويب، إذا لو فرض كون
سلوك الامارة مشتملا على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة، لا يعقل
تعلق الايجاب بالواقع تعيينا، لكونه ترجيحا بلا مرجح، بل لابد من تعلق
الايجاب بالواقع وسلوك الامارة تخييرا، مثلا لو فرض أن مصلحة صلاة الظهر
تقوم بأمرين (أحدهما) - نفس صلاة الظهر، و (الآخر) سلوك الامارة الدالة
على وجوب صلاة الجمعة لمن لم ينكشف له الخلاف، فامتنع من الشارع الحكيم
تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر، لقبح الترجيح بلا مرجح.
وبعبارة أخرى بعد كون الوجوب تابعا للمصلحة على ما هو مذهب المشهور من
العدلية. وكون كل من الامرين مشتملا عليها، تعين على الشارع الحكم
بوجوبها تخييرا، فيكون الواجب الواقعي - في حق من قامت عنده الامارة
الدالة على وجوب صلاة الجمعة - أحد أمرين على سبيل التخيير: إما صلاة الظهر
أو سلوك الأمارة المزبورة، فلا يكون الحكم الواقعي مشتركا بين العالم
والجاهل بنحو واحد، بل في حق العالم تعييني، وفي حق الجاهل تخييري.
وهذا نوع من التصويب، ويدل على بطلانه الاجماع والروايات الدالة على
اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل وقد تعرضنا لتفصيل ذلك كله في بحث
الاجزاء فراجع. ومجمل الكلام في المقام أن الاشكال المنسوب إلى ابن قبة
مندفع من أصله على القول: بحجية الامارات من باب السبية بأي معنى من المعاني
وأما على القول بالطريقية وأنه ليس في حجية الامارات إلا مصلحة
97

الايصال إلى الواقع، فالصحيح في الجواب عن الاشكال المذكور ان يقال: ان
إلزام المكلفين بتحصيل العلم وان فرض انفتاح بابه حرج علي نوع المكلفين،
ومناف لكون الشريعة المقدسة سهلة سمحة، فلو قدم الشارع الحكيم مصلحة
التسهيل على النوع على مصلحة الواقع الفائتة عند مخالفة الامارة للواقع لا يتصور
فيه قبح، وكم للشارع أحكام مجعولة لغرض التسهيل على النوع مع اقتضاء
المصلحة الواقعية خلافها، كالحكم بطهارة الحديد، ومقتضى الروايات الدالة على أن
في الحديد بأسا شديدا هو الحكم بنجاسته، إلا أن الله سبحانه وتعالى حكم
بطهارته تسهيلا على العباد، لتوقف كثير من أمور معاشهم على استعمال الحديد
فكان الحكم بنجاسته موجبا للعسر والحرج على المكلفين. فتحصل أن تفويت
المصلحة الواقعية أو الالقاء في المفسدة أحيانا لا يوجب امتناع التعبد بالامارة
إذا كان فيه مصلحة نوعية.
هذا مضافا إلى أن غالب الامارات بل جميعها طرق عقلائية لا تأسيسية من
قبل الشارع، ومن الواضح ان ردع العقلاء عما استقر بناؤهم عليه في أمور
معاشهم يحتاج إلى مصلحة ملزمة، كما إذا كان الطريق غالب المخالفة للواقع،
كالقياس، ولذا ورد النهى عن العمل به، وأما لو لم تكن مصلحة ملزمة في الردع
كما إذا كانت مخالفة الامارة للواقع قليلة في جنب مصلحة التسهيل، فلا وجه
للردع أصلا. على أن الالتزام بامتناع التعبد بالامارة في فرض انفتاح باب العلم
مما لا يترتب عليه اثر عملي، إذا الانفتاح مجرد فرض لا واقع له، حتى في زمان
حضور المعصوم عليه السلام فان العلم بالواقع في جميع الأحكام - ولا سيما في الشبهات
الموضوعية - ممتنع عادة حتى لأصحاب الإمام عليه السلام، إذا لا يمكن الرجوع إلى
نفس المعصوم في كل مسألة وكل شبهة حكيمة وموضوعية في كل وقت وساعة كما
هو واضح. فتحصل انه لا مانع من التعبد بالامارة من ناحية الملاك.
98

وأما الاشكال عليه من ناحية التكليف وأنه موجب لاجتماع المثلين أو
الضدين - علي ما تقدم بيانه - فتحقيق الحال في جوابه يحتاج إلى التكلم في
مقامين: (المقام الأول) في البحث عما إذا كانت الامارة مطابقة للواقع، ودفع
توهم اجتماع المثلين. (المقام الثاني) في البحث عما إذا كانت مخالفة له ودفع توهم
اجتماع الضدين.
أما الكلام في المقام الأول فهو انه لا مجال لتوهم اجتماع المثلين على القول
بالطريقية أصلا، إذا عليه لا يكون هناك إلا حكم واحد، إنما التعدد في مجرد
الانشاء لغرض الوصول إلى المكلف، نظير ما إذا قال المولى لعبده أكرم زيدا
فلم يصل إليه أو لم يعرفه، فأشار بيده إليه، وقال أكرم هذا الرجل. ومن
الواضح ان الحكم في مثل ذلك واحد، إنما التعدد في إبرازه وانشائه. والمقام
من هذا القبيل، فان الحكم واحد ينشئه المولى تارة بعنوانه، ويقول شرب
الخمر حرام مثلا، وأخرى بعنوان حجية الامارة، ويقول صدق العادل مثلا. واما
على القول بالسببية فلا محالة يكون هناك حكمان، إلا أنه لا يلزم منه اجتماع
المثلين، بل يوجب التأكد، إذا النسبة بينهما هي العموم من وجه، باعتبار ان
الامارة قد تكون مخالفة للواقع، وقد يكون الحكم الواقعي متحققا بلا قيام
امارة عليه، وقد تكون الامارة مطابقة للواقع. وهذا مورد الاجتماع،
ويكون الحكم فيه متأكدا، كما هو الحال في سائر موارد اجتماع العنوانين، كما
إذا قال المولى أكرم كل عالم، ثم قال أكرم كل هاشمي، فان ملاك الحكم في
مورد الاجتماع - وهو عالم هاشمي - أقوى منه في مورد الافتراق فيكون الحكم
فيه آكد، فلا يلزم اجتماع المثلين أصلا.
و (أما المقام الثاني) وهو ما إذا كانت الامارة مخالفة للواقع، فقد
أجيب عن توهم اجتماع الضدين بوجوه: (منها) - ما ذكره شيخنا الأنصاري
99

(رحمة الله) وملخص ما أفاده أنه يعتبر في التضاد ما يعتبر في التناقض من
الوحدات الثمان، لأن استحالة التضاد انما هي لرجوعه إلى التناقض، باعتبار
أن وجود كل من الضدين يلازم عدم الآخر، فبانتفاء إحدى الوحدات ينتفى
التضاد، ومن الوحدات المعتبرة في التناقض هي وحدة الموضوع، إذ لا مضادة
بين القيام والقعود مثلا لو كانا في موضوعين، وعليه فلا مضادة بين الحكم
الواقعي والظاهري، لتعدد موضوعيهما، فان موضوع الاحكام الواقعية هي
الأشياء بعناوينها الأولية، وموضوع الاحكام الظاهرية هي الأشياء بعناوينها
الثانوية، أي بعنوان انها مشكوك فيها، فلا تضاد بين الحكم الواقعي
والظاهري بعد اختلاف الموضوع فيهما. هذا ملخص كلامه (ره).
وفيه ان الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما ذكرناه غير مرة، إذ
لا يتصور الاهمال في مقام الثبوت من نفس الحاكم الجاعل للأحكام، بان يجعل
الحكم لموضوع لا يدري أنه مطلق أو مقيد، فالحكم الواقعي بالنسبة إلى حال
العلم والشك إما أن يكون مطلقا، فيلزم اجتماع الضدين، إذا الحكم الظاهري
وان لم يكن في مرتبة الحكم الواقعي، إلا أن إطلاق الحكم الواقعي يشمل
مرتبة الحكم الظاهري. وإما أن يكون مقيدا بحال العلم، فيلزم التصويب
الباطل، للاجماع والروايات الدالة على كون الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل
مثلا إذا جعلت الإباحة حكما للمائع المشكوك في كونه خمرا، وكان هناك خمر
شك في خمريته، فان كانت الحرمة الواقعية للخمر مطلقة بالنسبة إلى حال العلم
بكونه خمرا والجهل به، لزم اجتماع الضدين، إذ الخمر الواقعي المشكوك في
كونه خمرا مباح بمقتضى الحكم الظاهري وحرام بمقتضى اطلاق الحكم الواقعي
وإن كانت الحرمة مقيدة بحال العلم، لزم اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين،
وهو التصويب الباطل.
100

و (منها) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) في حاشيته على الرسائل وفي
الكفاية، وحاصل ما أفاده أنه ان قلنا بأن المجعول في باب الطرق والامارات
هو الحجية التي هي عبارة عن المنجزية مع المطابقة، والمعذرية مع المخالفة، ولا
تستتبع حكما تكليفيا، فلا يلزم اجتماع حكمين أصلا، لا المثلين ولا الضدين
إذا ليس المجعول إلا الحكم الواقعي فقط. وان قلنا بأن الحجية المجعولة للطرق
والامارات تستتبع حكما تكليفا، أو أن المجعول حقيقة هو الحكم التكليفي
والحجية منتزعة منه، فاجتماع الحكمين وإن كان يلزم، إلا أنه لا يلزم منه
اجتماع المثلين أو الضدين. ثم ذكر في وجه ذلك تعبيرات مختلفة، فذكر (تارة)
ان الحكم الواقعي شأني والحكم الظاهري فعلي، و (أخرى) ان الحكم الواقعي
إنشائي والحكم الظاهري فعلي، و (ثالثة) أن الحكم الواقعي فعلي من بعض
الجهات، والحكم الظاهري فعلي من جميع الجهات، والمضادة بين الحكمين إنما
هي فيها إذا كان الحكمان كلاهما فعليين من جميع الجهات.
هذا ملخص كلامه ولا يخلو من اجمال: ولا بد لنا من التعرض لكل واحد
من محتملاته والجواب عنه، فنقول: أما ما ذكره من أن الحكم الواقعي شأني
فان كان مراده من الشأنية مجرد ثبوت المقتضي للحكم الواقعي من دون ان يكون
مؤثرا في انشاء الحكم الواقعي مع فرض قيام الامارة على خلافه، ففيه أنه
لا يكون حينئذ للجاهل حكم واقعي غير مؤدى الامارة. وهذا هو التصويب
المنسوب إلى الأشاعرة. وقد دل الاجماع والروايات على بطلانه، مضافا إلى
كونه غير معقول في نفسه لاستلزامه الدور، لان قيام الامارة على حكم فرع
ثبوته واقعا، فلو توقف ثبوته واقعا على قيام الامارة عليه لزم الدور. وإن
كان مراده أن الحكم الواقعي وإن كان ثابتا للشئ بعنوانه الأولى وبطبعه، إلا أنه
لا يمنع من طرو عنوان عرضي يوجب تبدله - وهو قيام الامارة على خلافه
101

إذا لا منافاة بين حكمين أحدهما مجعول للشئ بطبعه، والآخر مجعول له بعنوان
عرضي طاري، عليه، كما يقال ان لحم الغنم حلال بطبعه، وان كان قد يعرضه
ما يوجب حرمته، كعنوان الضرر. ولحم الأسد حرام بطبعه وان كان قد يطرأ
عليه ما يوجب حليته، كعنوان الاضطرار، فكما لا منافاة بين الحلية الطبعية
والحرمة العرضية أو العكس في هذه الموارد، كذلك لا منافاة بين الحكم الواقعي
المجعول للشئ بطبعه، والحكم الظاهري المجعول له بعنوان عرضي، وهو قيام
الامارة على الخلاف - فقيه ان هذا تصويب منسوب إلى المعتزلة، وهو وان لم
يكن كسابقة في الشناعة، إلا أنه أيضا فاسد بالاجماع والروايات، كما تقدم
مرارا. وان كان مراده ان الحكم الواقعي ثابت مع قطع المنظر عن قيام
الامارة على نحو الاهمال - فلا يكون مطلقا حتى يلزم التضاد، ولا مقيدا بالعلم
كي يلزم التصويب - ففيه ما ذكرناه مرارا من أن الاهمال في مقام الثبوت غير
معقول، فلا مناص من أن يكون مطلقا، فيلزم محذور اجتماع الضدين، أو
مقيدا فيلزم التصويب.
وأما ما ذكره من أن الحكم الواقعي انشائي، فان أراد منه الانشاء
المجرد عن داعي البعث والزجر، كما إذا كان بداعي الامتحان أو الاستهزاء أو
غير هما، ففيه أن الالتزام بذلك نفي للحكم الواقعي حقيقة، إذ الانشاء بلا
داعي البعث والزجر لا يكون حكما، وانما يكون مصداقا لما كان داعيا إلى
الانشاء: من الامتحان والاستهزاء ونحوهما، وعليه فالتصويب باق بحاله، مضافا
إلى أنه إذا لم يكن الانشاء بداعي البعث والزجر، ولم يكن الحكم الواقعي حكما
حقيقيا، لا تجب موافقته ولا تحرم مخالفته، فلا يبقى مجال لوجوب الاحتياط
في الشبهات الحكمية قبل الفحص، ولا لاستحبابه بعده فيها وفي الشبهات
الموضوعية مطلقا، بل لا يبقى مورد للفحص، إذا ليس هناك حكم يجب الفحص
102

عنه. وكل ذلك خلاف المتسالم عليه بين الفقهاء، ومنهم صاحب الكفاية (ره)
نفسه، وان أراد منه الانشاء بداعي البعث والزجر، فهذا هو الحكم الفعلي
من قبل المولى، وإن لم يكن محركا للعبد نحو العمل إلا بعد تحقق الموضوع
بجميع قيوده خارجا، وتحققه في الخارج مما لا ربط له بالمولى الجاعل للحكم،
فإذا قال المولى يجب الحج علي المستطيع، فقد ثم الحكم من ناحية المولى وصار
فعليا من قبله، وتحقق الاستطاعة خارجا مما لا ربط له بتمامية الحكم من قبل
المولى. وبعبارة أخرى واضحة: إذا قال المولى يجب الحج على المستطيع،
فقد ثم الحكم من قبل المولى وصار فعليا بالنسبة إلى المستطيع. واما غير
المستطيع فليس عليه الحكم بوجوب الحج أصلا. وعليه فان كان الحكم الواقعي
مطلقا لزم اجتماع الضدين، وان كان مقيدا بالعلم لزم التصويب على ما تقدم
بيانه. ولعله لأجل هذه الاشكالات عدل عن التعبيرين المذكورين أخيرا،
والتزم بان الحكم الواقعي فعلي من بعض الجهات، والحكم الظاهري فعلى من
جميع الجهات، فلا مضادة بينهما. وهو أيضا غير تام، إذ لو أراد منه ان
الحكم الواقعي قد اخذ في موضوعه العلم، سواء كان العلم وجدانيا أو تعبديا
كما يظهر من قوله (ره) (ان علم به المكلف يكون فعليا) ففيه ان هذا تصويب
يدل على فساده الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل
وان أراد ان العلم لم يؤخذ في موضوع الحكم، ومع ذلك لا يكون فعليا قبل
العلم به، ففيه انه لا معنى لعدم فعلية الحكم بعد تمامية الجعل من قبل المولى
وهو الانشاء بداعي البعث، وتحقق موضوعه خارجا، فإنه شبيه بتخلف المعلول
عن العلة التامة.
هذا كله على القول بأن الحجية المجعولة للامارات مستتبعة للحكم التكليفي
أو أن المجعول حقيقة هو الحكم التكليفي، والحجية منتزعة منه. اما ما ذكره
103

على القول بأن المجعول نفس الحجية من دون ان تكون مستتبعة للحكم التكليفي
من أنه لا يلزم حينئذ اجتماع حكمين أصلا، ففيه أن محذور اجتماع الضدين وان
كان مندفعا على هذا المبني، إلا أن المبنى المذكور غير صحيح، لما أشرنا إليه
سابقا ويأتي التعرض له قريبا إن شاء الله تعالى.
و (منها) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) وملخص ما افاده ان المجعول
في باب الطرق والامارات هو مجرد الطريقية والكاشفية، بالغاء احتمال الخلاف،
فلا يكون هناك حكم تكليفي حتى يلزم اجتماع الضدين، بل حال الامارة هي حال
القطع، لأن الشارع اعتبرها علما في عالم التشريع، فكما يكون العلم الوجداني
منجزا مع المطابقة، ومعذرا مع المخالفة، فكذلك العلم التعبدي يكون منجزا
ومعذرا، فكما لا مجال لتوهم التضاد عند مخالفة القطع للواقع، فكذلك في المقام
وبالجملة ليس في مورد الطرق والامارت حكم تكليفي مجعول كي يلزم اجتماع
الضدين. وليعلم ان مجرد امكان أن يكون المجعول فيها ذلك كاف في دفع
الشبهة، بلا حاجة إلى اثبات وقوعه، إذا الكلام في امكان التعبد بالظن، مع أن
لنا دليلا على وقوعه أيضا وهو ان الامارات المعتبرة شرعا طرف عقلائية يعملون
بها في أمور معاشهم، وقد أمضاها الشارع، وعليه يكون المجعول الشرعي
في باب الامارات ما تعلق به واستقر عليه بناء العقلاء ومن الواضح أنه لم بتعلق
بناؤهم على جعل حكم تكليفي في موارد الطرق، وانما استقر بناؤهم على المعاملة
معها معاملة العلم الوجداني، وقد امضى الشارع هذا البناء منهم، فليس المجعول
إلا الطريقية والمحرزية.
وبما ذكرناه ظهر ما في كلام صاحب الكفاية (ره) من أن المجعول في باب
الامارات هي الحجية، بمعني التنجيز عند المصادفة والتعذير عند المخالفة، إذ
التنجيز والتعذير بمعنى حسن العقاب على مخالفة التكليف مع قيام الحجة عليه،
104

وعدمه مع عدمه من الاحكام العقلية غير القابلة للتخصيص، فالتصرف من الشارع
لابد وأن يكون في الموضوع، بأن يجعل شيئا طريقا ويعتبره علما تعبدا، وبعد
قيام ما اعتبره الشارع عاما على التكليف، يترتب عليه التنجيز والتعذير عقلا
لا محالة. وكذا الحال في الأصول المحرزة الناظرة إلى الواقع بالغاء جهة
الشك، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوها. إذ المجعول فيها أيضا
هي الطريقية والكاشفية، لكن لا من جميع الجهات، بل من حيث الجري
العملي في موردها فقط، فهي علم تعبدي من هذه الجهة فقط. ولذا تقوم مقام
القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية على ما تقدم بيانه.
فليس في موردها حكم مجعول حتى يلزم اجتماع الضدين. وأما الأصول غير
المحرزة التي ليست ناظرة إلى الواقع، بل هي متكفلة لبيان الوظائف العملية عند
الشك في الواقع، إما تنجيزا كالاحتياط، أو تأمينا كالبراءة. فالجواب
عن الاشكال فيها يحتاج إلى التنبيه علي امر. وهو ان الاحكام بوجوداتها
الواقعية لا تكون محركة للعبد نحو العمل، وان بلغت ما بلغت من التأكد، بل
لا بد في ذلك من الوصول إلى المكلف، كما هو ظاهر. وأما إذا لم يصل الحكم
إلى المكلف وشك فيه، فان كان ملاك الحكم الواقعي بمرتبة خاصة من الأهمية
بحيث لا يرضى الشارع بفواته حتى في ظرف الشك، كما في الدماء والفروج
والأموال الخطيرة، فيوجب عليه الاحتياط، ويكون الحكم الواقعي حينئذ
واصلا إلى المكلف بطريقة. وان لم يكن الملاك بتلك المرتبة من الأهمية.
فيرخصه في الترك أو الفعل، كما في موارد جريان البراءة عند الشك في الوجوب
أو الحرمة.
والمتحصل من ذلك أن الحكم الظاهري مجعول في طول الحكم الواقعي
وفي فرض الشك فيه، لا في مرتبته، فلا مضادة بينهما. هذا مضافا إلى أن
105

وجوب الاحتياط طريقي، بمعنى أن وجوبه انما هو للتحفظ على ملاك الحكم
الواقعي، فان صادف الواقع فلا محذور فيه أصلا إذا لا تعدد في الحكم ليلزم
اجتماع المثلين، بل الحكم واحد ناشئ من ملاك واحد، انما التعدد في الانشاء
والابراز، فقد أبرزه المولى (تارة) بعنوان وجوب الصلاة مثلا، و (أخرى)
بعنوان وجوب الاحتياط وان لم يصادف الواقع، فلا وجوب للاحتياط حقيقة
ليلزم التضاد بينه وبين الترخيص الواقعي، إذ وجوب الاحتياط انما هو للتحفظ
على ملاك الحكم الواقعي، ففي فرض مخالفته للواقع لا وجوب له حقيقة، بل
وجوب الاحتياط حينئذ تخيلي، بمعنى ان المكلف يتخيل وجوبه ولا وجوب له
حقيقة. واما البراءة فمع مصادفتها للترخيص الواقعي فلا محذور فيها أصلا، كما
تقدم في الاحتياط، ومع مخالفتها للواقع لا يلزم التضاد، لعدم كونها في
مرتبة واحدة كما تقدم.
ثم إنه (ره) اكد كلامه بأن الشك له اعتباران: (أحدهما) - كونه
صفة نفسانية (ثانيهما) - كونه موجبا لتحير المكلف، والمأخوذ في موضوع
الاحكام الظاهرية هو الاعتبار الثاني. ويمكن ان لا يكون للأحكام الواقعية
اطلاق بالنسبة إلى حال الحيرة، فلا يكون هناك حكم واقعي حتى يقع التضاد
بينه وبين الحكم الظاهري. هذا ملخص كلامه زيد في علو مقامه.
أقول اما ما ذكره في الامارات - من أنه ليس المجعول فيها الا الطريقية
والكاشفية، فلا يكون هناك حكم تكليفي حتى يلزم اجتماع الضدين - فمتين جدا
وكذا ما ذكره في الأصول المحرزة: من أن المجعول فيها الطريقية من حيث الجري
العملي فقط، بل نقول الأصول المحرزة أمارات عند التحقيق على ما ذكرناه في محله
ولا ينافي ذلك تقدم الامارات عليها، إذ الامارات أيضا يتقدم بعضها على بعض
فان البينة تتقدم على اليد، وحكم الحاكم مقدم على البينة، والاقرار مقدم على
106

حكم الحاكم، فاشكال اجتماع الضدين في مورد الامارات والأصول المحرزة مندفع
من أساسه.
وأما ما ذكره في الأصول غير المحرزة فغير مفيد في دفع الاشكال، لان
اختلاف المرتبة لا يرفع التضاد بين الحكمين، ولذا يستحيل ان يحكم المولى بوجوب
شئ، ثم يرخص في تركه إذ علم بوجوبه، مع أن الترخيص متأخر عن الوجوب
بمرتبتين. والسر فيه ان المضادة إنما هي في فعلية حكمين في زمان واحد، سواء
كانا من حيث الجعل في مرتبة واحدة أو في مرتبتين.
وأما ما ذكره في الاحتياط من أن وجوبه طريقي، وإنما هو للتحفظ
على الملاك الواقعي، فهو وان كان صحيحا، إلا ان تخصيصه وجوب الاحتياط
بصورة مصادفة الواقع غير تام، لأن وجوب الاحتياط ليس تابعا للملاك
الشخصي، كي يكون مختصا بصورة مصادفة الواقع، بل تابع للملاك النوعي
بمعنى أنه حيث لا يتميز في الشبهات مورد وجود الملاك الواقعي عن مورد عدم
وجوده، فأوجب الشارع الاحتياط كلية، تحفظا على الملاك في مورد وجوده، إذ
مع ترك الاحتياط قد يفوت الملاك، ولذا كان لسان أدلة الاحتياط مطلقا غير مقيد
بموافقة الواقع، كقوله عليه السلام: (قف عند الشبهة، فان الوقوف عند الشبهة
خير من الاقتحام في الهلكة). هذا مضافا إلى أن تقييد الاحتياط بصورة مصادفة الواقع غير معقول،
لعدم قابليته للوصول إلى المكلف، لعدم احرازه الواقع على الفرض، وإلا كان
الاحتياط منتقيا بانتفاء موضوعه، وهو عدم وصول الواقع إلى المكلف، فيكون
ايجاب الاحتياط لغوا محضا لا يترتب عليه أثر، إذ مع عدم إحراز مصادفته
للواقع لا يحرز وجوب الاحتياط، لاحتمال كونه غير مطابق للواقع، فتجري البراءة
عنه ومع احراز الواقع ينتفي الاحتياط بانتفاء موضوعه، وهو عدم احراز الواقع.
107

وأما ما ذكره أخيرا من إمكان ان لا يكون للحكم الواقعي إطلاق بالنسبة
إلى حال تحير المكلف، ففيه ما ذكرناه مرارا من أن الاهمال في مقام الثبوت غير
متصور، فلا محالة يكون الحكم الواقعي إما مطلقا بالنسبة إلى حال تحير المكلف
وكونه شاكا، واما مقيدا بعدمه، واعترف هو (ره) أيضا بذلك، غاية
الامر ان الاطلاق أو التقييد يكون على مسلكنا لحاظيا، وعلى مسلكه يكون
بنتيجة الاطلاق أو بنتيجة التقييد بمتمم الجعل، على ما تقدم بيانه في بحث
التعبدي والتوصلي وفي بحث المطلق والمقيد، فان كان الحكم الواقعي مطلقا
بالنسبة إلى حال الشك، لزم التضاد، وان كان مقيدا بعدمه لزم التصويب، من
غير فرق بين أن يكون المأخوذ في موضوع الاحكام الظاهرية هو الشك بما أنه
صفة خاصة، أو بما انه موجب للتحير.
هذا والتحقيق في دفع الاشكال ان يقال: ان الأحكام الشرعية لا مضادة
بينها في أنفسها، إذ الحكم ليس إلا الاعتبار، أي اعتبار شئ في ذمة المكلف من
الفعل أو الترك، كاعتبار الدين في ذمة المديون عرفا وشرعا، ولذا عبر في بعض
الاخبار عن وجوب قضاء الصلوات الفائتة بالدين، كما في قوله عليه السلام (ان دين
الله أحق ان يقضى) ومن الواضح عدم التنافي بين الأمور الاعتبارية، وكذا
لا تنافي بين ابرازها بالألفاظ، بان يقول المولى افعل كذا أو لا تفعل كذا كما
هو ظاهر، انما التنافي بينها في موردين: المبدأ والمنتهى. والمراد بالمبدأ ما يعبر
عنه بعلة الحكم مسامحة من المصلحة والمفسدة، كما عليه الامامية والمعتزلة، أو
الشوق والكراهة كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد
والمراد من المنتهى مقام الامتثال. أما التنافي من حيث المبدأ فلأنه يلزم من
اجتماع الحكمين - كالوجوب والحرمة مثلا - اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق
بلا كسر وانكسار، وهو من اجتماع الضدين، ولا اشكال في استحالته
108

وكذا الحال في اجتماع الترخيص مع الوجوب أو الحرمة. فإنه يلزم وجود المصلحة
الملزمة وعدم وجودها في شئ واحد، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها
وهو من اجتماع النقيضين المحال. وأما التنافي من حيث المنتهى، فلعدم تمكن
المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر، فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل
بلزوم الامتثال، ويلزم ان يحكم العقل بالفعل امتثالا للوجوب، وبالترك امتثالا
للحرمة أو يلزم ان يحكم العقل بالفعل امتثالا للوجوب، وان لا يحكم به للإباحة
وكذا يلزم ان يحكم بالترك امتثالا للحرمة، وان لا يحكم به للإباحة. وكل
ذلك بديهي الاستحالة. وان شئت قلت إنه مع وصول كلا الحكمين إلى المكلف
ان كان كلاهما إلزاميا - كما في اجتماع الوجوب والحرمة - لزم حكم العقل
باستحقاق العقاب على الفعل والترك وعدم الاستحقاق على الفعل والترك. أما
الاستحقاق على الفعل، فلكونه ارتكاب حرام، واما على الترك فلكونه ترك
واجب، واما عدم الاستحقاق على الفعل فلكونه فعل واجب، واما على الترك
فلكونه ترك حرام. وان كان أحدهما الزاميا لزم حكم العقل باستحقاق العقاب
على الفعل أو على الترك، وعدم الاستحقاق عليه. والوجه في جميع ذلك ظاهر
كظهور استحالته.
إذا عرفت ذلك ظهر لك انه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري أصلا،
لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى، وان هذا التضاد العرضي بين الاحكام
يختص بما إذا كان الحكمان من سنخ واحد، بان كان كلاهما واقعيا أو كلاهما
ظاهريا، بخلاف ما إذا كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا، فإنه لا مضادة
بينهما من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى. اما من ناحية المبدأ فلان المصلحة
في الحكم الظاهري انما تكون في نفس جعل الحكم لا في متعلقه، كما في الحكم
الواقعي، فلا يلزم من مخالفتهما اجتماع المصلحة والمفسدة، أو وجود المصلحة
وعدمه، أو وجود المفسدة وعدمه في شئ واحد، إذ الاحكام الواقعية ناشئة
109

من المصالح والمفاسد في متعلقاتها، والاحكام الظاهرية ليست تابعة لما في متعلقاتها
من المصالح بل تابعة للمصالح في أنفسها، فإنها مجعولة في ظرف الشك في وجود
المصلحة الواقعية، وقد لا تكون مصلحة في المتعلق واقعا، فكيف يمكن ان تكون
تابعة للمصالح الواقعية في المتعلقات؟ ففي موارد الاحتياط - كما في الشبهة الحكمية
قبل الفحص - جعل وجوب الاحتياط لمصلحة في نفس الاحتياط، وهي التحفظ
على مصلحة الواقع على تقدير وجودها، والتحذر عن الوقوع في المفسدة الواقعية
أحيانا، وفي موارد الترخيص - كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص، أو في الشبهة
الموضوعية مطلقا - جعل الترخيص لما في نفسه من المصلحة، وهي التسهيل
على المكلفين.
واما عدم التنافي من ناحية المنتهى، فلان الحكم الظاهري موضوعه الشك
في الحكم الواقعي وعدم تنجزه، لعدم وصوله إلى المكلف، فما لم يصل الحكم
الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ولا باستحقاق العقاب على مخالفته
فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري، وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم
العقل بلزوم امتثاله وباستحقاق العقاب على مخالفته، لا يبقى محال للحكم الظاهري
لارتفاع موضوعه بوصول الواقع. (وبعبارة أخرى) حكم العقل بلزوم الامتثال
انما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي
والظاهري، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال، لكون
الحكم الظاهري دائما في طول الحكم الواقعي، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي
الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه، فلا يحكم العقل الا بلزوم امتثال الحكم الواقعي
ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل الا بلزوم امتثال الحكم الظاهري
فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال ابدا.
والمتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام: ان الحكم الظاهري في موارد
الأصول غير المحرزة وان كان متحققا، الا انه لا مضادة بينه وبين الحكم
110

الواقعي أصلا، لا بالذات باعتبار لحاظهما بأنفسهما، ولا بالعرض بلحاظ المبدأ
والمنتهى. واما في موارد الامارات والأصول المحرزة، فليس المجعول حكما
تكليفيا ليلزم اجتماع الضدين في مورد المخالفة للواقع، وعلى تقدير الالتزام
بان المجعول فيها أيضا حكم تكليفي، فالجواب عن محذور اجتماع الضدين هو
ما ذكرناه في الأصول غير المحرزة. هذا تمام الكلام في امكان التعبد بالظن.
(الجهة الثالثة) - في وقوع التعبد بالظن. وقبل الشروع فيه لابد لنا
من البحث عن مقتضى الأصل عند الشك في الحجية، ليكون هو المرجع على
تقدير عدم الدليل على الحجية، وليس المراد من الأصل في المقام هو خصوص
الأصل العملي، بل المراد منه القاعدة الأولية المستفادة من حكم العقل أو عمومات
النقل. فنقول:
لا ينبغي الشك في أن الأصل عدم الحجية عند الشك فيها، إذ الشك في
الحجية مساوق للقطع بعدمها، لا بمعنى ان الشك في انشاء الحجية مساوق للقطع
بعدم انشائها، إذ الشئ لا يكون مساوقا لضده أو لنقيضه، والشك في الوجود
ضد للقطع بالعدم، فلا يجتمعان، بل نقيض له باعتبار، وهو انه مع الشك
في الحجية يحتمل الحجية، ومع القطع بعدم الحجية لا يحتمل الحجية، واحتمال
الحجية وعدمها نقيضان لا يجتمعان، بل بمعنى ان الشك الجية ملازم
للقطع بعدم الحجية الفعلية، بمعنى عدم ترتب آثار الحجية، لان الحجة لها
أثران: (أحدهما) - صحة الاستناد إليها في مقام العمل و (الآخر) - صحة
اسناد مؤداها إلى الشارع، وهذان الاثران لا يترتبان مع الشك في الحجية،
لان الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل، وإسناد مؤداه إلى الشارع
تشريع عملي وقولي دلت على حرمته الأدلة الأربعة. واما تنجيز الواقع فلا يتوقف على الحجية، لأنه ثابت بالعلم الاجمالي الكبير، أي العلم الاجمالي
111

بالتكاليف الواقعية، أو بالعلم الاجمالي الصغير كما في دوران الامر بين وجوب الظهر
والجمعة أو دوران الامر بين وجوب القصر والتمام، بلا فرق في ذلك بين الشبهات
الحكمية والموضوعية، بل قد يكون التنجيز ثابتا بمجرد الاحتمال كما في الشبهات
قبل الفحص. ففي جميع هذه الموارد كان التنجيز ثابتا قيل قيام الامارة على التكليف
ومع قيامها عليه لا يجئ تنجيز آخر. نعم كان قيام الامارة المعتبرة على أحد طرفي
العلم الاجمالي مسقطا لوجوب الاحتياط، وكان معذرا علي تقدير مخالفة الواقع
كما إذا دلت الامارة على وجوب صلاة الظهر، وعمل بها المكلف، وكان الواجب
في الواقع هو صلاة الجمعة، فكان المكلف حينئذ معذورا غير مستحق
للعقاب لا محالة.
هذا خلاصة ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) في مقام تأسيس الأصل عند
الشك في الحجية. واستشكل عليه صاحب الكفاية (ره) بما حاصله ان اسناد
مؤدى الامارة إلى المولى، والاستناد إليها في مقام العمل ليسا من الآثار المترتبة
على الحجية، بل بينهما وبين الحجية عموم من وجه، إذ يمكن ان لا يكون الشئ
حجة، وصح اسناد مؤداه إلى الشارع لو دل دليل علي صحة الاسناد حينئذ
كما يمكن ان يكون الشئ حجة ولا يصح اسناد مؤداه إلى الشارع، كالظن على
الحكومة، فالاثر المترتب على الحجية انما هو التنجيز عند المطابقة، والتعذير
عند المخالفة (انتهى كلامه ملخصا).
والصحيح ما ذكره الشيخ (ره) من أن صحة اسناد المؤدى إلي الشارع
والاستناد في مقام العمل من آثار الحجية، وما ذكره صاحب الكفاية (ره) -
من أنه يمكن ان لا يكون الشئ حجة وصح اسناد مؤداه إلى الشارع -
لا يتصور له وجه معقول، الا مع الالتزام بجواز التشريع، وكذا ما ذكره
من أنه يمكن ان يكون الشئ حجة ولا يصح اسناد مؤداه إلى الشارع، فإنه
112

أيضا مجرد تخيل لا يتعقل له وجه صحيح، واما ما ذكره من أن الظن على تقرير
الحكومة حجة، ولا يصح اسناد المظنون إلى الشارع، ففيه ان مقدمات
الانسداد على تقرير الحكومة لا تنتج حجية الظن، بل نتيجتها التبعيض في
الاحتياط، بالأخذ بالمظنونات دون المشكوكات والموهومات، على ما يجئ
الكلام فيها إن شاء الله تعالى. واما ما ذكره من أن اثر الحجية هو التنجيز
والتعذير، فقد تقدم ما فيه ولا نعبد.
فتحصل ان الصحيح ما ذكره الشيخ (ره) من أن الحجية ملازمة لصحة
الاستناد والاسناد، وحيث انهما ليسا من آثار الحجية بوجودها الواقعي، بل
من آثار وجودها الذهني، بمعنى الوصول إلى المكلف صغرى وكبرى،
لا يترتبان مع الشك في الحجية صغرى أو كبرى، بمعنى الشك في وجود الحجة
أو في حجية الموجود، وهذا هو المراد من قولنا ان الشك في الحجية مساوق
للقطع بعدمها على ما تقدم.
ثم إن الشيخ (ره) - بعد ما أسسه من الأصل - تمسك لاثبات حرمة
العمل بالظن بالعمومات والآيات الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى:
(ولا تقف ما ليس لك به علم) ونحوه، وذكر ان مقتضى هذه الآيات هو حرمة
العمل بالظن، إلا ما خرج بالدليل، ونسبة أدلة الحجية إلي تلك العمومات
هي نسبة المخصص إلى العالم، فالشك في حجية شئ يكون شكا في التخصيص
والمرجع فيه عموم العام.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بأن أدلة حجية الأمارات حاكمة على
الأدلة المانعة، لأن دليل حجية الأمارة يخرجها عن الأدلة المانعة موضوعا، إذ
موضوعها غير العلم. ومفاد دليل الحجية كون الأمارة علما بالتعبد، فهو ناف
للحكم بلسان نفي الموضوع وتخصيص بلسان الحكومة، فعند الشك في حجية
113

شئ لا يصح التمسك بالعمومات المانعة، لكون الشبهة مصداقية، باعتبار انه
يحتمل ان يكون هذا الشئ علما بالتعبد. هذا ملخص كلامه (ره).
ولابد لنا من التكلم في مقامين: (المقام الأول) - في بيان ان الآيات
الناهية عن العمل بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي، وهو حرمة العمل بالظن
أو لا، بل مفادها ارشاد إلى حكم العقل بعدم صحة الاعتماد على الظن، وانه
لابد من العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب، والعمل بالظن مما لا يحصل
معه الأمن من العقاب، لاحتمال مخالفته للواقع؟ (المقام الثاني) - في بيان انه -
مع تسليم كونها واردة لبيان حكم مولوي، وفي مقام تشريع حرمة العمل بالظن
- هل يصح التمسك بها عند الشك في حجية شئ على ما ذكره الشيخ (ره) أم
لا؟ على ما ذكره المحقق النائيني (ره).
(اما المقام الأول) فملخص الكلام فيه ان الآيات الشريفة الناهية عن العمل
بغير العلم ارشاد إلى حكم العقل بعدم صحة الاعتماد على الظن، وان العمل به مما
لا يحصل معه الأمن من العقاب، لاحتمال مخالفته للواقع، والعبد لا بد له من
العمل بما يحصل معه الأمن من العقاب، ولا يحصل الأمن إلا بالعلم أو بما ينتهي
إليه كالعلم بامارة دل على حجيتها دليل علمي. وقد أشير إلى ذلك في عدة من
الآيات: (منها) - قوله تعالي: (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) وقوله
تعالى (فائتوا بسلطان...) وبعد كون الآيات الناهية ارشادا إلى حكم العقل
لا تكون قابلة للتخصيص، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى:
(ان الظن لا يغني من الحق شيئا) بأن يقال إلا الظن الفلاني، فإنه يغنى عن
الحق، فلم يرد عليها تخصيص ولن يرد فان لسانها آب عن التخصيص. واما
الظن الذي قام علي حجيته في مورد دليل علمي، فليس فيه الاعتماد على الظن
بل الاعتماد على الدليل العلمي القائم على حجية الظن فهو المؤمن من العقاب،
114

لا الظن، كما أنه في موارد جريان أصالة البراءة ليس الاعتماد - في ترك ما يحتمل
الوجوب أو فعل ما يحتمل الحرمة - علي مجرد احتمال عدم الوجوب واحتمال عدم
الحرمة، بل الاعتماد انما هو على دليل علمي دل على عدم لزوم الاعتناء باحتمال
الوجوب أو الحرمة. فتحصل ان الآيات الشريفة ليست واردة لبيان حكم
مولوي ليصح التمسك بها عند الشك في الحجية.
و (اما المقام الثاني) فملخص الكلام فيه ان ما ذكره المحقق النائيني (ره) -
من أن تقديم أدلة حجية الامارات على الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم انما هو
من باب الحكومة لا التخصيص - وان كان صحيحا، إذ معنى حجية الامارة
هو اعتبارها علما في عالم التشريع، فتخرج عن الأدلة المانعة عن العمل بغير العلم
موضوعا، إلا ان ذلك لا يوجب عدم صحة التمسك بالعمومات المانعة عند الشك في
الحجية ولا يكون الشك فيها من الشبهة المصداقية، إذ الحجية الواقعية مما لا يترتب عليه
اثر ما لم تصل إلى المكلف، فالحكومة انما هي بعد الوصول، فالعمل بما لم تصل حجيته إلى
المكلف عمل بغير علم، وان كان حجة في الواقع، إذ كونه حجة في الواقع -
مع عدم علم المكلف بالحجة - لا يجعل العمل به عملا بالعلم كما هو ظاهر.
والذي يوضح لنا بل يدلنا على أن الحكومة انما هي في فرض الوصول
لا مطلقا - وانه لا مانع من التمسك بالعمومات عند الشك في الحجية - انه لو
كانت الحجة بوجودها الواقعي مانعة عن التمسك بالعمومات، لما صح التمسك
بالأصول العملية في شئ من الموارد، لاحتمال وجود الحجة فيها، فيكون
التمسك بأدلة الأصول معه من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، بلا فرق في
ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية، وبلا فرق بين الشك في وجود الحجة أو
في حجية الموجود، مع أن الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات الحكمية
والموضوعية مما لا إشكال فيه، وتسالم عليه الفقهاء، ومنهم المحقق النائيني
115

(رحمه الله) نفسه.
والمتحصل مما ذكرناه انه - على تقدير الالتزام بان الآيات الناهية عن العمل
بغير العلم واردة لبيان حكم مولوي - لا مانع من التمسك بها عند الشك في حجية
شئ. بقي شئ وهو انه هل يصح التمسك باستصحاب عدم الحجية عند الشك
فيها أم لا؟ والتزم المحقق النائيني (ره) بعدم جريان هذا الاستصحاب لوجهين:
(الوجه الأول) - انه يشترط في جريان الاستصحاب ان يكون للمتيقن
السابق اثر عملي يتعبد ببقائه باعتبار ذلك الأثر، فلو فرض عدم ترتب اثر على
خصوص الواقع، بأن يكون الأثر مترتبا على خصوص الجهل بالواقع، أو مشتركا
بين الواقع والجهل به، فلا مجال لجريان الاستصحاب، إذ بمجرد الشك في الواقع
يترتب الأثر على الفرض، فالتعبد بالاستصحاب - للترتب الأثر المذكور - يكون
من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل، وهو التحصيل التعبدي لما هو حاصل بالوجدان
والمقام من هذا القبيل بعينه، إذ الأثر المترتب على عدم الحجية هو عدم صحة
الاستناد في مقام العمل وعدم صحة اسناد المؤدى إلى الشارع. وهذان الاثران
كلا هما يترتبان على مجرد الشك في الحجية، لان الاستناد والاسناد مع الشك في الحجية
تشريع محرم سواء فسرناه بادخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين، ليكون الأثران
لخصوص الجهل بالواقع، أو فسرناه بالأعم منه ومن ادخال ما علم أنه ليس من
الدين في الدين، ليكون الاثران مشتركين بينه وبين الواقع، فيحصل لنا العلم
بعدم صحة الاستناد، وعدم صحة الاسناد بمجرد الشك في الحجية، فيكون
التعبد بهما - لاستصحاب عدم الحجية - من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل.
(الوجه الثاني) - ان التمسك بالاستصحاب المذكور لغو محض، إذ
الأثر مترتب على نفس الجهل بالواقع والشك في الحجية، فاحراز عدم الحجية
بالتعبد الاستصحابي مما لا تترتب عليه فائدة، فيكون لغوا، انتهى
116

كلامه ملخصا.
نقول: (اما الوجه الأول) فيرده ان ما يحكم به العقل بمجرد الشك هو
عدم الحجية الفعلية، وما هو مورد للتعبد الاستصحابي هو عدم انشاء الحجية
وعدم جعلها، فما هو حاصل بالوجدان غير ما يحصل بالتعبد، فلا يكون التمسك
بالاستصحاب في المقام من تحصيل الحاصل.
و (أما الوجه الثاني) - فنجيب عنه (أولا) - بالنقض بالروايات الدالة
على المنع عن العمل بالقياس، ونقول أي فائدة في هذا المنع، مع كون العقل
مستقلا بعدم صحة الاستناد والاسناد بمجرد الشك وعدم احراز الحجية، وبما
دل على البراءة شرعا في موارد الشك في التكليف، كحديث الرفع مع استقلال
العقل بقبح العقاب بلا بيان؟ و (ثانيا) - بالحل وهو ان حكم العقل في جميع هذه
الموارد منوط بعدم وصول التعبد والبيان من الشارع. فإذا ثبت التعبد الشرعي
يترتب الأثر عليه، وينتفي حكم العقل بانتفاء موضوعه، فلا يكون التعبد لغوا
(وبعبارة أخرى) ليس حكم العقل في هذه الموارد في عرض الحكم الشرعي حتى
يلزم كونه لغوا، بل الحكم العقلي إنما هو في طول الحكم الشرعي، فصح
للشارع ان يتصرف في موضوع حكم العقل ببيان الحجية أو عدمها، ولا يكون
ذلك لغوا، إذ الأثر الذي كان مترتبا عليه بما هو مشكوك الحجية، يترتب بعد
التعبد بما هو مقطوع عدم حجيته واقعا بالتعبد الشرعي، فلا يكون لغوا.
هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ولنشرع في بيان ما وقع التعبد به من الامارات
ويقع فيه الكلام في مباحث:
(المبحث الأول) - في حجية الظواهر، ولا يخفى ان حجية الظواهر مما
تسالم عليه العقلاء في محاوراتهم، واستقر بناؤهم على العمل بها في جميع أمورهم
وحيث إن الشارع لم يخترع في محاوراته طريقا خاصا، بل كان يتكلم بلسان
117

قومه فهي ممضاة عنده أيضا، وهذا واضح ولم نعثر على مخالف فيه، ولذا
ذكرنا في فهرس مسائل علم الأصول ان بحث حجية الظواهر ليس من مسائل
علم الأصول، لأنها من الأصول المسلمة بلا حاجة إلى البحث عنها. وإنما وقع
الكلام في أمور ثلاثة: (الامر الأول) - في أن حجية الظواهر هل هي مشروطة
بالظن بالوفاق أم بعدم الظن بالخلاف، أم غير مشروطة بشئ منهما؟ (الامر
الثاني) - في أن حجية الظواهر مختصة بمن قصد افهامه أو تعم غيره أيضا؟
(الامر الثالث) - في حجية ظواهر الكتاب.
(اما الامر الأول) فلا ينبغي الشك في أن الظن بالخلاف غير قادح في
حجية الظواهر، فضلا عن عدم الظن بالوفاق، لان المرجع في حجية الظواهر
هو بناء العقلاء على ما تقدمت الإشارة إليه، ونرى أن العقلاء لا يعذرون العبد
المخالف لظاهر كلام المولى، إذا اعتذر عن المخالفة بعدم الظن بالوفاق، أو
بحصول الظن بالخلاف، وهذا ظاهر. نعم فيما إذا كان المطلوب تحصيل الواقع
لا يعملون بمجرد الظهور ما لم يحصل لهم الاطمئنان بالواقع، كما إذا احتمل
إرادة خلاف الظاهر في كلام الطيب، فإنهم لا يعملون به إلا ان ذلك خارج عن
محل الكلام، إذ الكلام فيما إذا كان المطلوب هو الخروج من عهدة التكليف،
وتحصيل الأمن من العقاب، وفي مثله تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر
مطلقا، ولو مع الظن بالخلاف، فضلا عن عدم الظن بالوفاق.
و (أما الامر الثاني) فذهب المحقق القمي (ره) إلى اختصاص حجية
الظواهر بمن قصد إفهامه، وعليه رتب انسداد باب العلم والعلمي في معظم
الاحكام، باعتبار ان الاخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام لم يقصد منها إلا
افهام خصوص المشافهين، فتختص حجية ظواهرها بهم، وغاية ما يمكن ان يقال
118

في تقريب هذا القول وجهان، ذكرهما شيخنا الأنصاري (ره): (الوجه الأول)
- راجع إلى منع الكبرى، وانه لا حجية للظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين
بالافهام (الوجه الثاني) - راجع إلى منع الصغرى، وانه لا ينعقد ظهور للاخبار
بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام.
(اما الوجه الأول) - فهو ان منشأ حجية الظواهر هي أصالة عدم الغفلة
إذ بعد كون المتكلم في البيان كان احتمال إرادة خلاف الظاهر مستندا إلى
احتمال غفلة المتكلم عن نصب القرينة، أو غفلة السامع عن الالتفات إليها،
و الأصل عدم الغفلة في كل منهما. واما احتمال تعمد المتكلم في عدم نصب القرينة
فهو مدفوع بأنه خلاف الفرض، إذ المفروض كونه في مقام البيان، فلا منشأ
لاحتمال إرادة خلاف الظاهر إلا احتمال الغفلة من المتكلم أو من السامع، وهو
مدفوع بالأصل المتحقق عليه بناء العقلاء. وهذا الأصل لا يجري بالنسبة إلى
من لم يكن مقصودا بالافهام، لعدم انحصار الوجه لاحتمال إرادة خلاف الظاهر
بالنسبة إليه في احتمال الغفلة، ليدفع بأصالة عدم الغفلة، إذ يحتمل اتكال المتكلم
في ذلك على قرينة منفصلة، أو قرينة حالية كانت معهودة بينهما، وقد خفيت
على من لم يكن مقصودا بالافهام فلا تجديه أصالة عدم الغفلة، ولا يجوز له
التمسك بالظواهر. ثم انه على تقدير تسليم جريان أصالة الظهور - ولو لم يكن
احتمال إرادة خلاف الظاهر مستندا إلى احتمال الغفلة - انما تجري أصالة الظهور
فيما إذا لم يعلم أن ديدن المتكلم قد جرى على الاتكال على القرائن المنفصلة، واما
مع العلم بذلك فلا تجري أصالة الظهور، ولا يجوز الاخذ بظاهر كلامه لغير
المقصود بالافهام، ومن الواضح ان الأئمة عليهم السلام كثيرا ما كانوا يعتمدون
على القرائن المنفصلة، وربما كانوا يؤخرون البيان عن وقت الخطاب، بل عن
وقت الحاجة لمصلحة مقتضية لذلك، فكيف يمكن الاخذ بظاهر كلامهم (ع)
119

لغير المشافهين المقصودين بالافهام.
(اما الوجه الثاني) فهو ان الاخبار المروية عن الأئمة عليهم السلام لم تصل
إلينا كما صدرت عنهم (ع) بل وصلت إلينا مقطعة. ونحتمل وجود قرينة علي
خلاف ما نفهمه من الكلام، وقد خفيت علينا من جهة التقطيع، فلم ينعقد
للكلام ظهور مع هذا الاحتمال، وليس المقام من باب احتمال وجود القرينة
ليدفع بأصالة عدم القرينة، بل من باب احتمال قرينية الموجود، وفي مثله
لا تجري أصالة عدم القرينة، فلا ظهور للكلام بالنسبة إلى من لم يكن مقصودا
بالافهام، هذا ملخص ما ذكره الشيخ (ره) من الوجهين بتوضيح منا، ولا
يتم شئ منهما:
أما ما ذكره في منع الكبرى، من أن أن منشأ أصالة الظهور هي أصالة
عدم الغفلة، وهي غير جارية بالنسبة إلى من لم يقصد بالافهام، ففيه ان أصالة
عدم الغفلة وان لم تكن جارية بالنسبة إلى غير المقصود بالافهام، إلا انها ليست
أصلا لأصالة الظهور، بل كل من أصالة عدم الغفلة وأصالة الظهور أصل برأسه
وناشئ من منشأ لا يرتبط أحدهما بالآخر، وان كان كل واحد منهما من الأصول
العقلائية الثابتة حجيتها بيناء العقلاء. اما أصالة عدم الغفلة، فمنشأها ان الغفلة
والسهو في الفعل والقول خلاف طبيعة الانسان، إذا الانسان بطبعه يفعل
ما يفعل عن الالتفات، ويقول ما يقول عن الالتفات، ولذا استقر البناء من
العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الغفلة. واما أصالة الظهور فمنشأها كون الألفاظ
كاشفة عن المرادات الواقعية بحسب الوضع. أو بحسب قرينة عامة. كالاطلاق
الكاشف عن المراد الجدي بضميمة مقدمات الحكمة. فتحصل ان المنشأ لأصالة
الظهور هو الوضع أو القرينة العامة. والمنشأ لأصالة عدم الغفلة هو كون
الغفلة خلاف طبع الانسان في الفعل والقول. فلا يرتبط أحدهما بالآخر
120

والنسبة بينهما من حيث المورد هي العموم من وجه لأنه تفترق أصالة عدم الغفلة
عن أصالة الظهور في فعل صادر عن البالغ العاقل إذا احتمل صدوره منه غفلة
وتفترق أصالة الظهور عن أصالة عدم الغفلة في كلام صادر عن النبي (ص) أو الإمام عليه السلام
، إذ لا يحتمل صدوره عن الغفلة. وتجتمعان في كلام صادر من أهل
العرف في محاوراتهم. والمتحصل مما ذكرناه ان أصالة الظهور بنفسها من الأصول
العقلائية ولا اختصاص لها بمن قصد افهامه، لان العقلاء يأخذون بالظواهر في باب
الأقارير والوصايا ولو كان السامع غير مقصود بالافهام.
واما ما ذكره من جريان ديدن الأئمة عليهم السلام على الاتكال على القرائن
المنفصلة، فهو وإن كان صحيحا، إلا أنه لا يقتضي اختصاص حجية الظهور
بمن قصد إفهامه، بل مقتضاه الفحص عن القرائن، ومع عدم الظفر بها يؤخذ
بالظهور، وأما ما ذكره في منع الصغرى من أن التقطيع مانع عن انعقاد الظهور
ففيه أن ذلك يتم فيما إذا كان المقطع غير عارف بأسلوب الكلام العربي، أو غير
ورع في الدين، إذ يحتمل حينئذ كون التقطيع موجبا لانفصال القرينة عن ذيها
لعدم معرفة المقطع أو لتسامحه في التقطيع، وكلا هذين الأمرين منتفيان في حق
الكليني (ره) وأمثاله من أصحاب الجوامع، فإذا نقلوا رواية بلا قرينة نطمئن
بعدمها بل لا يبعد دعوى القطع به، إذ التقطيع إنما هو لارجاع المسائل إلى
أبوابها المناسبة لها، مع عدم الارتباط بينها، لأن الرواة عند تشرفهم بحضرة
الإمام عليه السلام كانوا يسألون عن عدة مسائل لأربط لاحداها بالأخرى، كما هو
المتعارف في زماننا هذا في الاستفتاءات، فأتعب علماؤنا الاعلام أنفسهم في
تبويب المسائل وارجاع كل مسألة إلى بابها المناسب لها مع الجهد والدقة، تسهيلا
للامر على المراجعين، ولولا ذلك لزم الفحص من أول كتاب الكافي مثلا إلى
121

آخره لاستنباط مسألة واحدة. وهذا النحو من التقطيع غير قادح في انعقاد
الظهور، كما لعله ظاهر.
ثم انه لو أغمضنا عن جميع ذلك وسلمنا اختصاص حجية الظواهر بمن
قصد افهامه لا ينتج ذلك انسداد باب العلمي، إذ لا نسلم كوننا غير مقصودين
بالافهام من الروايات الواردة عن الأئمة عليهم السلام، وذلك لأن الراوي الذي
سمع الكلام من الإمام عليه السلام مقصود بالافهام قطعا، واحتمال غفلته يدفع بالأصل،
واحتمال غفلة المتكلم منفي بالقطع، فيحكم بان الظاهر هو مراد الإمام عليه السلام وينقل
هذا الراوي ما سمعه من الإمام عليه السلام لفظا أو معنى للراوي اللاحق، وهو
مقصود بالافهام من الكلام الصادر من الراوي السابق، وهكذا الحال بالنسبة إلى
جميع سلسلة الرواة إلى أن ينتهي الامر إلى أصحاب الجوامع كالكليني (ره)
ومن الواضح أن المقصود بالافهام من الكتب كالكافي هو كل من نظر فيها،
فيكون ظاهرها حجة له. وعليه فلا يترتب على القول باختصاص حجية الظواهر
بمن قصد إفهامه انسداد باب العلمي، كما توهمه صاحب القوانين (ره)
وأما الامر الثالث - أعني حجية ظواهر الكتاب - فمنعها الأخباريون
وما ذكروه في وجه المنع يرجع (تارة) إلى منع الصغرى، أي انعقاد الظهور
و (أخرى) إلى منع الكبرى أي حجية الظهور. أما منع الصغرى فقد استدل
له بوجوه:
(الأول) - ان ألفاظ القرآن من قبيل الرموز، كفواتح السور التي هي
كنايات عن أشياء لا يعرفها إلا النبي وأوصياؤه المعصومون عليهم السلام. وفيه
ان كونه من قبيل الرموز مناف لكونه معجزة ترشد الخلق إلى الحق، فلو
لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختل كونه اعجازا. ومن المعلوم ان العرب
122

كانوا يفهمون ظواهره، ويعترفون بالعجز عن الاتيان بمثله، فمنهم من آمن
واعترف بكونه معجزا، ومنهم من قال بأنه سحر. مضافا إلى أنه ورد الامر من
الأئمة عليهم السلام بالرجوع إلى الكتاب عند تعارض الخبرين، بل مطلقا. ولو
كان القرآن من قبيل الرموز لم يكن معنى للارجاع إليه، فدعوى كون القرآن من
قبيل الرموز التي لا يفهم منها شئ في غاية السقوط.
(الثاني) - أن القرآن مشتمل على معان غامضة ومضامين شامخة، فإنه مع
صغر حجمه مشتمل على علم ما كان وما يكون، على نحو لا يصل إليه فكر البشر
إلا الراسخون في العلم، وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام، ولذا ورد في
بعض الروايات انه إنما يعرف القران من خوطب به. وفيه ان كلامنا في ظواهره
التي يعرفها أهل اللسان لا في بواطنه التي لا يعرفها إلا من خوطب به، واشتماله
على مضامين عالية لا ينافي ظهوره، فإنه مع اشتماله على معان غامضة عالية يعرف
ظواهره أهل اللسان على ما عرفت.
(الثالث) - أن القرآن وإن كان له ظهور في حد ذاته، ولكن العلم
الاجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على خلاف الظاهر من مخصصات ومقيدات
وقرائن على المجاز يمنع عن العمل بظواهره، فهي مجملات حكما وإن كانت ظواهر
حقيقة. وفيه ان العلم الاجمالي المذكور يوجب الفحص عن المخصص والمقيد
والقرينة على المجاز لا سقوط الظواهر عن الحجية رأسا، وإلا لم يجز العمل
بالروايات أيضا، لوجود العلم الاجمالي فيها أيضا، كما في القرآن.
(الرابع) - انه دلت عدة من الروايات على وقوع التحريف في القرآن
فيحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظاهر فيما سقط منه بالتحريف، وهذا
الاحتمال مانع عن انعقاد الظهور، لكونه من باب احتمال قرينية الموجود، لا من
باب احتمال وجود القرينة، ليدفع بأصالة عدم القرينة. وفيه (أولا) - ان التحريف
123

بمعنى السقط أمر موهوم لا حقيقة له، إذ القرآن قد بلغ من الأهمية عند المسلمين
في زمان النبي صلى الله عليه وآله مرتبة حفظته الصدور زائدا على الكتابة، فكيف يمكن
تحريفه حتى عن الصدور الحافظة له. والروايات الدالة على التحريف، إما ضعاف
لا يعتمد عليها، وإما لا دلالة لها على التحريف بمعنى النقيصة، بل المراد منها
التقديم والتأخير أو التأويل أو غير ذلك مما ذكرناه في كتابنا (البيان) فراجع.
و (ثانيا) - ان التحريف - على تقدير تسليم وقوعه - لا يقدح في الظهور
للروايات الدالة على وجوب عرض الاخبار المتعارضة، بل مطلق الاخبار على
كتاب الله، وعلى رد الشروط المخالفة للكتاب والسنة، فان هذه الروايات قد
صدرت عن الصادقين عليهما السلام بعد التحريف على تقدير تسليم وقوعه، فيعلم
من هذه الروايات ان التحريف على تقدير وقوعه غير قادح في الظهور.
وأما منع الكبرى ودعوى عدم حجية ظواهر الكتاب على فرض تسليم
الظهور، فقد استدل له بوجهين: (الأول) - أن الله سبحانه منع من اتباع
المتشابه بقوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) والمتشابه
ما كان ذا احتمالين قبالا للمحكم، وهو النص الذي لا يحتمل الخلاف، فيشمل
الظواهر، ولا أقل من احتمال شمول المتشابه للظواهر، باعتبار ان المتشابه غير
ظاهر المراد، ومجرد احتمال شموله لها يكفي في الحكم بعدم حجيتها، لان الحجية
تحتاج إلى الامضاء ومع احتمال المنع لا يثبت الامضاء.
وفيه ان المتشابه هو التفاعل من الشبه، فيكون المراد منه كون الكلام
ذا احتمالين متساويين، بحيث كان كل منهما شبيها بالآخر، فيكون المراد منه المجمل
ولا يشمل الظواهر يقينا. ومع الغض عن ذلك والالتزام باحتمال الشمول نقول ان
مجرد الاحتمال غير قادح في حجيتها، فإنها ثابتة ببناء العقلاء ما لم يثبت الردع عنها
ومجرد احتمال الردع لا يكفي في رفع اليد عنها، مضافا إلى أن الروايات الدالة على
124

عرض الاخبار على الكتاب، وطرح الخبر المخالف له تدل على أن المتشابه غير
شامل للظواهر، لان الخبر المخالف للكتاب الذي امر بطرحه هو الذي يخالف
ظاهر الكتاب، لا نص الكتاب، إذ الخبر المخالف لنص الكتاب لم يوجد ليكون
موردا للطرح، فيستكشف من ذلك أن المتشابه ما ليس له ظهور، فلا يشمل
ما له ظهور.
(الثاني) - الروايات الكثيرة الناهية عن تفسير القرآن بالرأي. وفيه ان
الاخذ بظاهر الكلام لا يكون من التفسير، إذ التفسير عبارة عن كشف القناع على
ما قالوا، والكلام الظاهر في معنى ليس له قناع، ليكشف، وعلى تقدير التنزل
وتسليم كونه من التفسير ليس هو تفسيرا بالرأي. بل تفسير بحسب المحاورات
العرفية، إذا المراد بالتفسير بالرأي هو حمل الكلام على خلاف ظاهره، أو على أحد
محتملاته مع كونه مجملا غير ظاهر في شئ منها بالاستحسانات، فالمراد بالتفسير
بالرأي المنهي عنه في الاخبار هو حمل الآيات على خلاف ظواهرها، أو على أحد
محتملاتها مع عدم كونها ظاهرة في شئ منها، على ما وقع من أكثر المفسرين
من العامة. ويحتمل ان يكون المراد بالاخبار الناهية عن التفسير بالرأي هو
الاستقلال بالعمل بالكتاب، بلا مراجعة الأئمة عليهم السلام، كما هو ظاهر بعض
الاخبار. وأما العمل بظواهر الكتاب - بضميمة مراجعة الروايات لاحتمال
التخصيص والتقييد وغيرهما من القرائن على المراد - فلم يدل على المنع عنه دليل.
فتحصل ان الصحيح جواز العمل بظواهر الكتاب بعد الفحص عن الاخبار،
كما هو الحال في العمل بظواهر الاخبار، إذ العمل بها أيضا يحتاج إلى الفحص عن
المخصص والمقيد، والقرينة على إرادة خلاف الظاهر. هذا تمام الكلام في البحث
عن حجية الظواهر.
125

(تذييل)
إعلم أن لكل لفظ دلالات ثلاث:
(الدلالة الأولى) - كون اللفظ موجبا لانتقال المعنى إلى ذهن السامع مع
علمه بالوضع، وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللافظ، بل اللفظ بنفسه يوجب
انتقال المعنى إلى الذهن، ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم، كما إذا كان نائما
أو سكرانا أو نصب قرينة على إرادة غير هذا المعنى، كما في قولنا رأيت أسدا
يرمي، فان ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة الأسد،
وإن كان يعلم أن مراد المتكلم هو الرجل الشجاع، بل هذه الدلالة لا يحتاج إلى
متكلم ذي إدراك وشعور، فان اللفظ الصادر من لافظ غير شاعر، بل من غير
لافظ يوجب انتقال المعنى إلى ذهن السامع، وبالجملة هذه الدلالة بعد العلم
بالوضع غير منفكة عن اللفظ ابدا، ولا تحتاج إلى شئ من الأشياء. وهذه
الدلالة هي التي تسمى عند القوم بالدلالة التصورية (مرة) باعتبار أن اللفظ يوجب
تصور المعنى في الذهن، وبالدلالة الوضعية (أخرى) باعتبار ان منشأها الوضع
وهو عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى، بحيث ينتقل المعنى إلى الذهن
عند سماع اللفظ. والمختار عندنا كون الدلالة الوضعية غيرها، لان هذه الدلالة
لا تكون غرضا من الوضع لتكون وضعية، والأنسب تسميتها بالدلالة الانسية،
إذ منشأها أنس الذهن بالمعنى، لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع، لما ذكرناه
في بحث الوضع من أن الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأنه متى أراد
تفهيم معنى فلان فهو يتكلم باللفظ الفلان. وعليه فلا يكون مجرد خطور المعنى
في الذهن عند سماع اللفظ مستندا إلى تعهده، بل إلى انس الذهن به الحاصل من
126

كثرة الاستعمال. وهذه الدلالة مما لا يرتبط بمحل كلامنا فعلا، ولا تترتب ثمرة على
البحث عن انها هي الدلالة الوضعية أو غيرها.
(الدلالة الثانية) - دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا للمتكلم بالإرادة
الاستعمالية، أي دلالة اللفظ على أن المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه،
وهذه الدلالة تسمى عند القوم بالدلالة التصديقية، وعندنا بالدلالة الوضعية، كما
عرفت. وكيف كان فهذه الدلالة تحتاج إلى احراز كون المتكلم بصدد التفهيم
ومريدا له، فمع الشك فيه ليست للفظ هذه الدلالة، فضلا عما إذا علم عدم
ارادته له، كما إذا علم كونه نائما مثلا، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب
قرينة على الخلاف متصلة بالكلام، إذ مع ذكر كلمة (يرمى) في قولنا رأيت أسدا
يرمي مثلا لا تكون كلمة أسد دالة على أن المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس
كما هو ظاهر.
(الدلالة الثالثة) - دلالة اللفظ على كون المعنى مرادا للمتكلم بالإرادة
الجدية، وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية في قبال الدلالة الوضعية، وعند
القوم بالقسم الثاني من الدلالة التصديقية، وهي متوفقة على عدم نصب قرينة
منفصلة على الخلاف أيضا، مضافا إلى عدم نصب قرينة متصلة، فان القرينة
المنفصلة - وان لم تكن مانعة عن تعلق الإرادة الاستعمالية - كالقرينة المتصلة،
ولذا ذكرنا في مبحث العالم والخاص ان المخصص المنفصل لا يكون كاشفا عن عدم
استعمال العام في العموم، ليكون مجازا، إلا انها أي القرينة المنفصلة كاشفة عن
عدم تعلق الإرادة الجدية بالمعنى المستعمل فيه. وبعبارة أخرى القرينة المنفصلة
لا تكون مانعة عن انعقاد الظهور للكلام، بل مانعة عن حجية الظهور، بخلاف
القرينة المتصلة، فإنها، مانعة عن انعقاد الظهور من أول الامر.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا أحرز مراد المتكلم بأن علم عدم نصيب القرينة
127

المنفصلة، فيؤخذ به بلا إشكال. وأما إذا شك في مراده، فمرجع الشك إلى أحد
أمرين: (الأول) - عدم انعقاد الظهور للكلام (الثاني) - احتمال عدم كون
الظاهر مرادا جديا له. أما إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام
أصلا، فسبب الشك فيه أحد أمور: اما عدم العلم بالموضوع له فلم يحرز المقتضي
للظهور، واما احتمال قرينية الموجود، أو احتمال وجود القرينة والجامع بينهما هو
احتمال المانع عن الظهور بعد وجود المقتضي له، سواء كان لاحتمال مانعية الموجود
أو احتمال وجود المانع، فان كان الشك في المراد ناشئا من عدم العلم بالموضوع له
وبما يفهم من اللفظ عرفا، فلا اشكال في كون الفظ مجملا غير ظاهر في شئ
والمرجع في مثله هو الأصل العملي، وكذا الحال فيما إذا كان الشك ناشئا من احتمال
قرينية الموجود، بأن يكون الكلام محتفا بما يصلح للقرينية، كما في الامر الواقع في
مقام توهم الحظر، والضمير الراجع إلى بعض افراد العالم. فلا ينعقد للكلام ظهور
حتى يؤخذ به. نعم في خصوص ما إذا كان الكلام محتفا بما يصلح للقرينية على المجاز
بأن يكون الامر دائرا بين المعنى الحقيقي والمجازي ان قلنا بأن أصالة الحقيقة بنفسها
حجة بلا حاجة إلى انعقاد الظهور - كما نسب إلي السيد المرتضى (ره) - فيؤخذ بها، وان
لم نقل بذلك كما هو الصحيح، إذ الثابت ببناء العقلاء هو الاخذ بالظاهر لا العمل بأصالة
الحقيقة مع عدم انعقاد الظهور للكلام، فيكون الكلام أيضا مجملا لا ظهور له ليؤخذ به.
ولا يخفى انه لو قلنا بمقالة السيد (ره) لا يمكن الاخذ بأصالة الحقيقة
فيما إذا احتف العام بما يصلح للقرينية على التخصيص، لما ذكرناه في بحث العام
والخاص: من أن التخصيص لا يوجب المجازية في لفظ العام، فليس احتمال
التخصيص احتمالا للتجوز، ليدفع بأصالة الحقيقة، وأما ان كان الشك ناشئا من
احتمال وجود القرينة فهو على قسمين: لان منشأ الاحتمال (تارة) يكون أمرا
داخليا، كما إذا احتمل غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو غفلة السامع عن سماعها،
128

بلا فرق بين من قصد افهامه ومن لم يقصد، و (أخرى) يكون أمرا خارجيا،
كما إذا وقع التقطيع واحتمل سقوط القرينة معه، ويلحق بهذا الباب ما لو عرض
علي السامع نوم أو سنة أثناء تكلم المتكلم، فاحتمل ذكر القرينة في هذا الحال،
اما القسم الأول فلا ريب في تحقق بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال
لكن لا ابتداء كما ذكره صاحب الكفاية (ره) بل بعد اجراء أصالة عدم القرينة
كما ذكره الشيخ (ره) لان مورد بناء العقلاء هو الاخذ بالظاهر، فلابد من
اثباته أولا باجراء أصالة عدم القرينة، ثم الحكم بحجية، واما القسم الثاني فالمشهور
فيه أيضا عدم الاعتناء بالاحتمال إلا ان المحقق القمي (ره) منع فيه من الاخذ
بما يكون اللفظ ظاهرا فيه على تقدير عدم وجود القرينة واقعا، وبنى عليه
انسداد باب العلمي في الاحكام. لوقوع التقطيع في الاخبار. وما ذكره هو
الصحيح من حيث الكبرى الكلية، إذا لم يثبت بناء من العقلاء على الاخذ
بالظاهر التقديري، أي المعلق على عدم وجود القرينة واقعا، فلو وصل إليهم
كتاب مزق بعضه لا يعملون بظاهر الباقي. مع احتمال وجود قرينة صارفة عن
الظاهر في المقطوع. وكذا الحال فيما إذا عرض على العبد نوم أو سنة حين
تكلم المولى. فليس له العمل بظاهر ما سمعه من الكلام مع احتمال فوات قرينة
صارفة حين عروض النوم أو السنة له، إلا ان تطبيقها على المقام غير صحيح، ولا
تنتج انسداد باب العلمي في الاحكام. لما ذكرناه سابقا من أن المقطعين للاخبار
كانوا عارفين بأسلوب الكلام فلا تخفى عليهم القرائن الدالة على المراد بحسب
المحاورات العرفية وكانوا في أعلى مراتب الورع والتقى فعدالتهم أو وثاقتهم مانعة
عن إخفاء القرينة عمدا. ومعرفتهم بأسلوب الكلام والمحاورات العرفية مانعة عن
إخفائها جهلا، فإذا نقلوا الاخبار بلا قرينة يؤخذ بظواهرها، ولا ينسد باب
العلمي بالأحكام.
129

هذا كله فيما إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام. وأما
إن كان الشك في المراد لاحتمال عدم كون الظاهر مرادا جديا للمتكلم، مع انعقاد
الظهور لكلامه، فيكون سبب الشك فيه أيضا أحد أمور ثلاثة: إما احتمال
غفلة المتكلم عن بيان القرينة، وهذا الاحتمال منفي بالنسبة إلى الأئمة عليهم السلام
وإما احتمال تعمده في عدم ذكر القرينة لمصلحة فيه أو لمفسدة في الذكر، وإما
احتمال اتكاله على قرينة حالية أو مقالية متقدمة أو متأخرة لم نظفر عليها بعد
الفحص. وعلى جميع هذه التقادير الثلاثة كان المرجع أصالة الظهور الثابتة حجيتها
بيناء العقلاء، فإنهم يأخذون بظواهر الكلام ولا يعتنون بالاحتمالات الثلاثة
المتقدمة، فأصالة الظهور بنفسها حجة ببناء العقلاء. وعدم ردع الشارع عنه
لا لأصالة عدم القرينة - كما يستفاد من كلام شيخنا الأنصاري (ره) لان وجود
القرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور مقطوع العدم على الفرض، ووجود
القرينة المنفصلة وان كان محتملا، إلا أنه لا يمنع عن انعقاد الظهور، وإنما يمنع
عن حجية الظهور على فرض الوصول، ومع عدم الوصول كما هو المفروض قد
ثبت البناء من العقلاء على الاخذ بالظاهر، فلا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم
القرينة. (وبعبارة أخرى) الشك في وجود القرينة المنفصلة كافية في حجية
الظواهر، بلا حاجة إلى إحراز عدم القرينة بالأصل، إذ البناء من العقلاء قد
تحقق على الاخذ بالظواهر ما لم تحرز القرينة على الخلاف. هذا تمام الكلام في
بحث الظواهر.
130

(المبحث الثاني)
(في حجية قول اللغوي)
قد ذكرنا انه إذا علم ظاهر الكلام يؤخذ به لبناء العقلاء على الاخذ به.
وأما إذا لم يعلم ذلك، فهل يصح الرجوع إلى اللغوي في تعيين الظاهر بلا اعتبار
ما يعتبر في الشهادة من التعدد والعدالة أم لا؟ فيه خلاف بينهم، واستدل القائل
بحجية قول اللغوي بوجوه:
(الوجه الأول) - أن اللغوي من أهل الخبرة في تعيين الأوضاع وظواهر
الألفاظ، وقد تحقق البناء من العقلاء على الرجوع إلى أهل الخيرة في كل فن،
بلا اعتبار التعدد والعدالة، كالرجوع إلى المهندس في تقويم الدار مثلا والى
الطبيب في تشخيص المرض وعلاجه، ولم يثبت ردع شرعي عن ذلك. واما اعتبار
العدالة في الفقيه فإنما هو لدليل خاص. وفيه (أولا) - أن الرجوع إلى أهل
الخبرة إنما هو في الأمور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي، لا في
الأمور الحسية التي لا دخل للنظر والرأي فيها. وتعيين معاني الألفاظ داخلا من قبيل
لأمور الحسية لأن اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات، وليس
له إعمال النظر والرأي فيها، فيكون إخبار اللغوي عن معاني الألفاظ داخلا في
الشهادة المعتبرة فيها العدالة بل التعدد في مورد القضاء. وأما في غيره ففي اعتباره
خلاف مذكور في محله. وإن شئت قلت: ليس اللغوي من أهل الخبرة بالنسبة
إلى تعيين ظواهر الألفاظ بالوضع أو بالقرينة العامة، بل هو من أهل
131

الخبرة بالنسبة إلى موارد الاستعمال فقط. و (ثانيا) - أنه على تقدير تسليم
كون اللغوي من أهل الخبرة، لا يصح الرجوع إلى كتب اللغة، لأنها لم
توضع لبيان الموضوع له، بل لبيان ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة كان أو مجازا
وإلا لزم كون جميع الألفاظ المستعملة في اللغة العربية إلا النادر مشتركا لفظيا،
لان اللغويين يذكرون للفظ واحد معان كثيرة، وهو مقطوع البطلان، وذكر
معنى من المعاني أولا لا يدل على كونه هو المعنى الحقيقي. وإلا كان عليه ذكر
القرينة في الألفاظ المشتركة. لتدل على أن المعنى الثاني أيضا معنى حقيقي لا مجازي
(الوجه الثاني) - دعوى الاجماع على العمل بقول اللغوي، فان العلماء
في جميع الأعصار يراجعون كتب اللغة، ويعملون بها في تعيين معاني الألفاظ
وفيه (أولا) - أن الاجماع القولي غير متحقق، فان كثيرا من العلماء لم
يتعرضوا لهذا البحث أصلا، وكذا الاجماع العملي، لان عملهم بقول اللغويين
لعله لحصول الاطمئنان لهم من اتفاقهم على معنى من المعاني، و (ثانيا) - انه
علي تقدير تسليم الاتفاق ليس هنا إجماع تعبدي كاشف عن رأي المعصوم
لاحتمال ان يكون مستند الجمعين هو الوجه الأول أو الوجه الثالث الذي تعرفه
وما فيه الآن إن شاء الله تعالى.
(الوجه الثالث) - أن جريان انسداد صغير في خصوص اللغات يستلزم
حجية قول اللغوي، فان معاني الألفاظ مجهولة غالبا، إما أصلا وإما سعة
وضيقا، ولذا ذكر شيخنا الأنصاري (ره) في الطهارة ان مفهوم الماء - مع
كونه من أوضح المفاهيم العرفية، ويعرفه كل عارف باللغة العربية حتى الصبيان
- نشك فيه من حيث السعة والضيق كثيرا. وفيه ان انسداد باب العلم في اللغة
مما لا يترتب عليه اثر، إذ مع انفتاح باب العلم في الاحكام لاوجه للرجوع إلى قول
اللغوي، انسد باب العلم في اللغة أو انفتح، ومع انسداد باب العلم في الاحكام
132

وتمامية سائر المقدمات كان الظن بالحكم الشرعي حجة، سواء حصل من قول
اللغوي أو من غيره، وسواء كان باب العلم باللغة منفتحا أو منسدا.
ثم إن بعض الأعاظم التزم بحجية قول اللغوي، وذكر جريان الانسداد
في اللغة بتقريب آخر، وهو ان عدم جواز الرجوع إلى البراءة عند انسداد باب
العلم والعلمي في الاحكام انما هو لامرين: (أحدهما) - لزوم الخروج من الدين
فانا إذا اقتصرنا على القدر المتيقن وجوبه من اجزاء الصلاة وشرائطها، ورجعنا
في غير إلى البراءة، خرجت الصلاة عن حقيقتها. وكذا الحال في غيرها من
العبادات والمعاملات. (ثانيهما) - لزوم المخالفة القطعية للعلم الاجمالي بتكاليف
الزامية وجوبية وتحريمية في موارد الجهل بالأحكام. والامر الأول وان كان
منتفيا في الرجوع إلى البراءة عند انسداد باب العلم باللغة، إلا أنه يلزم الامر
الثاني، وهو المخالفة القطعية، لان غالب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة
مجهولة المعاني، مع العلم الاجمالي بتكاليف الزامية في موارد الجهل بها، فلا بد
فيها من العمل بالظن الحاصل من قول اللغوي.
وفيه (أولا) - انه لا نسلم لزوم المخالفة القطعية من الرجوع إلى البراءة
في موارد الجهل باللغات، إذ ليس في ألفاظ الكتاب والسنة المتعلقة بالأحكام
الالزامية ما هو مجهول المعنى إلا القليل، كلفظ الصعيد والغناء ونحو هما، وليس لنا
علم اجمالي بتكاليف إلزامية في هذه الموارد، سوى ما نعلمه تفصيلا، فلا محذور في
الرجوع إلى البراءة فيها. و (ثانيا) - ان مقدمات الانسداد غير منحصرة في عدم جواز
الرجوع إلى البراءة، بل من جملتها عدم إمكان الاحتياط، لعدم قدرة المكلف
عليه
، أو لعدم وفاء الوقت به، أو عدم وجوب الاحتياط لاستلزامه العسر
والحرج، أو عدم جواز الاحتياط لكونه موجبا لاختلال النظام. وهذه
المقدمة غير تامة في المقام، إذ لا يلزم - من الرجوع إلى بالاحتياط في موارد الجهل
133

باللغة - شئ من الأمور المذكورة، فعلى تقدير تسليم العلم الاجمالي بتكاليف
إلزامية في موارد الجهل باللغة لابد من الاحتياط، لا العمل بقول اللغوي.
فتحصل مما ذكرناه انه لا دليل على حجية قول اللغوي بلا اعتبار العدالة والتعدد
(المبحث الثالث)
(في حجية الاجماع المنقول بخبر الواحد)
وكان الأنسب تأخير هذا البحث عن بحث حجية خبر الواحد، لترتبه
على القول بحجية الخبر، إذ لو قلنا بعدم حجية الخبر لا تصل النوبة إلى البحث
عن حجية الاجماع المنقول. نعم بعد ثبوت حجية الخبر يقع الكلام في شمول
أدلتها للاجماع المنقول وعدمه، إلا انا تعرضنا له هنا تبعا للأصحاب والامر
فيه سهل.
ولا يخفى ان الاخبار عن الموضوعات الخارجية إذا كان في مقام الترافع
فلا اشكال في اعتبار التعدد والعدالة في حجيته، واما في غير مورد الترافع فيعتبر
فيه العدالة، وكذلك التعدد على المشهور، وهو أي الاخبار عن الموضوعات
خارج عن محل كلامنا فعلا، فان الكلام في حجية الاخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية
من حيث شمول دليل حجيتها للاجماع المنقول بخبر الواحد وعدمه.
وأحسن ما قيل في المقام ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) وحاصل ما افاده
- بزيادة منا - ان الاخبار عن الشئ (تارة) يكون إخبارا عن حس ومشاهدة
ولا إشكال في حجية هذا القسم من الاخبار ببناء العقلاء فان احتمال تعمد
134

المخبر بالكذب مدفوع بعدالته أو وثاقته، واحتمال غفلته مدفوع بأصالة عدم
الغفلة التي استقر عليها بناء العقلاء، و (أخرى) يكون اخبارا عن أمر محسوس
مع احتمال ان يكون اخباره مستندا إلى الحدس لا إلى الحس، كما إذا أخبر عن
المطر مثلا، مع احتمال انه لم يره، بل أخبر به استنادا إلى المقدمات المستلزمة
للمطر بحسب حدسه، كالرعد والبرق مثلا. وهذا القسم أيضا ملحق
بالقسم الأول، إذ مع كون المخبر به من الأمور المحسوسة لعين
فظاهر الحال يدل على كون الاخبار إخبارا عن الحس، فيكون حجة
ما ذكر في القسم الأول. و (ثالثة) - يكون اخبارا عن حدس قريب من
الحس، بحيث لا يكون له مقدمات بعيدة، كالاخبار بأن حاصل ضرب عشرة في
خمسة يصير خمسين مثلا وهذا القسم من الاخبار أيضا ملحق بالقسم الأول في الحجية لان
احتمال الخطأ في هذه الأمور القريبة من الحس بعيد جدا، ومدفوع بالأصل العقلائي
واحتمال تعمد الكذب مدفوع بالعدالة أو الوثاقة، كما تقدم في القسم الأول.
و (رابعة) - يكون إخبارا عن حدس مع كون حدسه ناشئا من سبب كانت
الملازمة بينه وبين المخبر به تامة عند المنقول إليه أيضا، بحيث لو فرض اطلاعه
على ذلك السبب لقطع بالمخبر به، وهذا القسم من الاخبار أيضا حجة، فإنه
إخبار عن الامر الحسى، وهو السبب، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين
المخبر به في نظر المنقول إليه أيضا. و (خامسة) - يكون إخبارا عن حدس مع كون
حدسه ناشئا من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به غير تامة عند المنقول إليه.
وهذا القسم من الاخبار لم يدل دليل على حجيته، فان احتمال تعمد الكذب، وان
كان مدفوعا بالعدالة أو الوثاقة، إلا ان احتمال بالخطأ في الحدس مما لا دافع له، إذ لم
يثبت بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الأمور الحدسية. والاجماع
المنقول من القسم الخامس، لان الناقل للاجماع لا يخبر برأي المعصوم عليه السلام عن
135

الحس، أو ما يكون قريبا منه، ولا عن حدس ناش عن سبب كان ملازما
لقول المعصوم عليه السلام عندنا، فان الاجماع المدعى في كلام الشيخ الطوسي (ره)
مبني على كشف رأى المعصوم عليه السلام من اتفاق علماء عصر واحد بقاعدة اللطف
وهي غير تامة عندنا على ما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وأو هن منه
الاجماع المدعى في كلام السيد المرتضى، فإنه كثيرا ما ينقل الاجماع على حكم
يراه مورد قاعدة أجمع عليها، أو مورد أصل كذلك مع أنه ليس من موارد
تلك القاعدة أو الأصل حقيقة، كدعواه الاجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف
استنادا إلى أن أصالة البراءة مما اتفق عليه العلماء، مع أنه لا قائل به فيما نعلم من
فقهاء الامامية، وليس الشك في جواز الوضوء بالمائع المضاف من موارد أصالة
البراءة. وكذا الحال في الاجماع المدعى في كلمات جماعة من المتأخرين المبنى
على الحدس برأي المعصوم من اتفاق جماعة من الفقهاء، إذ لا ملازمة بين هذا
الاتفاق ورأي المعصوم بوجه.
نعم لو علم استناد ناقل الاجماع إلى الحس، كما إذا كان معاصرا للإمام عليه السلام
، وسمع منه الحكم، فنقله بلفظ الاجماع، فلا مجال للتوقف في الاخذ به
وكان مشمولا لأدلة حجية الخبر بلا اشكال، إلا ان الصغرى لهذه الكبرى غير
متحققة، بل نقطع بعدمها، فانا نقطع بأن الاجماعات المنقولة في كلمات
الأصحاب غير مستندة إلى الحس، ونرى أن ناقلي الاجماع ممن لم يدرك زمان
الحضور. واما زمان الغيبة فادعاء الرؤية فيه غير مسموع مع أنهم أيضا لم يدعوها
ثم إن بعض الأعاظم التزم بحجية الاجماع المنقول في كلمات القدماء،
بدعوى انه يحتمل ان يكون مستند هم هو السماع من المعصوم عليه السلام ولو
بالواسطة، لقرب عصرهم بزمان الحضور، فضموا إلى قول المعصوم أقول
العلماء، ونقلوه بلفظ الاجماع، فيكون نقل الاجماع من المتقدمين من القسم
136

الثاني من الاخبار، وهو ما كان الاخبار عن امر حسي، مع احتمال ان يكون
الاخبار به مستندا إلى الحدس، وأن يكون مستندا إلى الحس، وقد تقدم
ان هذا القسم من الاخبار حجة بسيرة العقلاء، باعتبار ان ظاهر الاخبار عن
امر حسي يدل عن كونه مستندا إلى الحس، فيكون حجة. وبالجملة احتمال
كون الاخبار مستندا إلى الحس كاف في الحجية ببناء العقلاء، هذا ملخص
كلامه بتوضيح منا.
وفيه (أولا) - ان هذا الاحتمال - أي استناد القدماء في نقل الاجماع إلى
الحس - احتمال موهوم جدا، بحيث يكاد يلحق بالتخيل فلا مجال للاعتناء به -
وما ذكرناه - من أن احتمال كون الاخبار مستندا إلى الحس كاف في حجية -
إنما هو فيما إذا كان الاحتمال عقلائيا، لا الاحتمال البعيد غاية البعد الملحق بأمر
خيالي. وما يظهر به بعد هذا الاحتمال وكونه موهوما أمر ان: (أحدهما) -
تتبع اجماعات القدماء كالشيخ الطوسي (ره) والسيد المرتضى (ره)، إذ قد
عرفت استناد الأول في دعوى الاجماع إلى قاعدة اللطف لا إلى الحس من المعصوم
عليه السلام ولو بالواسطة، واستناد الثاني إلى أصل أو قاعدة كان تطبيقهما بنظره، فلو
لم ندع القطع بعدم استناد هما إلى الحس من المعصوم عليه السلام ولو بالواسطة، لا أقل
من عدم الاعتناء باحتمال الاستناد إلى الحس. (ثانيهما) - انه لو كان الامر
كذلك كان المتعين هو النقل عن المعصوم (ع)، كبقية الروايات، لا نقل
الاجماع، فان نقل الاجماع - باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم (ع) مع
كون نفس قول المعصوم محسوسا له ولو بالواسطة - يكون شبيها بالاكل
من القفاء.
و (ثانيا) - انه على تقدير تسليم ذلك وان اجماع القدماء مستند إلى
الحس بالواسطة فيكون الاجماع المنقول منهم بمنزلة رواية مرسلة ولا يصح
137

الاعتماد عليه، لعدم المعرفة بالواسطة بينهم وبين المعصوم (ع)، وعدم ثبوت
وثاقتها. فتحصل مما ذكرناه في المقام انه لا ملازمة بين حجية خبر الواحد
وحجية الاجماع المنقول بوجه.
بقي الكلام في مدرك حجية الاجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة
فقد يقال: إن مدرك حجية الاجماع والملازمة العقلية بين الاجماع وقول
المعصوم (ع)، وتقريبها بوجهين:
(الوجه الأول) - ما استند إليه الشيخ الطوسي (ره) من قاعدة اللطف،
وهي انه يجب على المولى سبحانه وتعالى اللطف بعباده، بارشادهم إلى ما يقربهم
إليه تعالى من مناهج السعادة والصلاح. وتحذيرهم عما يبعدهم عنه تعالى من
مساقط الهلكة والفساد. وهذا هو الوجه في ارسال الرسل و انزال الكتب ونصب
الإمام (ع) وهذه القاعدة تقتضي - عند اتفاق الأمة على خلاف الواقع في حكم
من الاحكام - أن يلقي الامام المنصوب من قبل الله تعالى الخلاف بينهم، فمن
عدم الخلاف يستكشف موافقتهم لرأي الإمام (ع)
وفيه (أولا) - عدم تمامية القاعدة في نفسها، إذا لا يجب اللطف عليه
تعالى بحيث يكون تركه قبيحا يستحيل صدوره منه سبحانه، بل كل ما يصدر
منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده. و (ثانيا) - ان قاعدة اللطف على
تقدير تسليمها لا تقتضي إلا تبليغ الاحكام على النحو المتعارف، وقد بلغها
وبينها الأئمة عليهم السلام للرواة المعاصرين لهم، فلو لم تصل إلى الطبقة اللاحقة
لمانع من قبل المكلفين أنفسهم ليس على الإمام (ع) إيصالها إليهم بطريق غير عادي
إذ قاعدة اللطف لا تقتضي ذلك، وإلا كان قول فقيه واحد كاشفا عن قول
المعصوم (ع)، إذا فرض انحصار العالم به في زمان. وهذا واضح الفساد.
و (ثالثا) - انه إن كان المراد إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام (ع) مع
138

إظهار انه الامام، بان يعرفهم بإمامته، فهو مقطوع العدم وإن كان المراد
هو القاء الخلاف مع اخفاء كونه إماما فلا فائدة فيه، إذ لا يترتب الأثر المطلوب
من اللطف، وهو الارشاد على خلاف شخص مجهول كما هو ظاهر.
(الوجه الثاني) - ان اتفاق جميع الفقهاء يستلزم القطع بقول الإمام (ع)
عادة، إذ من قول فقيه واحد يحصل الظن ولو بأدنى مراتبه بالواقع، ومن
فتوى الفقيه الثاني يتقوى ذلك الظن ويتأكد، ومن فتوى الفقيه الثالث يحصل
الاطمئنان، ويضعف احتمال مخالفة الواقع. وهكذا إلى أن يحصل القطع بالواقع
كما هو الحال في الخبر المتواتر، فإنه يحصل الظن باخبار شخص واحد، ويتقوى
ذلك الظن باخبار شخص ثان وثالث، وهكذا لي ان يحصل القطع بالخبر به.
وفيه ان ذلك مسلم في الاخبار عن الحس كما في الخبر المتواتر، لان احتمال
مخالفة الواقع في الخبر الحسي إنما ينشأ من احتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمد
الكذب، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى أن يحصل القطع بالمخبر به
وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الاخبار الحدسي المبني على البرهان، كما في
المقام، فان نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد، إذ احتمال كون البرهان
غير مطابق للواقع لا يفرق فيه بين ان يكون الاستناد إليه من شخص واحد أو
أكثر، الا ترى ان اتفاق الفلاسفة على امر برهاني كامتناع إعادة المعدوم مثلا
لا يوجب القطع به؟ نعم لو تم ما نسب إلى النبي صل الله عليه وآله من قوله: (لا تجتمع
أمتي على الخطأ) وقلنا بأن المراد من الأمة هو خصوص الامامية، ثبتت الملازمة
بين اجماع علماء الإمامية وقول المعصوم (ع)، ولكنه غير تام سندا ودلالة.
أما من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف، واما من حيث الدلالة فلعدم
اختصاص الأمة بالامامية كما هو ظاهر في نفسه، ويظهر من قوله صل الله عليه وآله:
(ستفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة).
139

وقد يقال بالملازمة العادية بين الاجماع وقول المعصوم (ع)، بدعوى ان العادة
تحكم بأن اتفاق المرؤوسين على امر لا ينفك عن رأي الرئيس، فان اتفاق جميع
الوزراء وجميع أركان الحكومة على امر لا ينفك عن موافقة رأي السلطان
بحكم العادة
وفيه ان ذلك انما يتم فيما إذا كان المرؤوسون ملازمين لحضور رئيسهم كما
في المثال، وانى ذلك في زمان الغيبة. نعم الملازمة الاتفاقية - بمعنى كون الاتفاق
كاشفا عن قول الإمام (ع) أحيانا من باب الاتفاق - مما لا سبيل إلى إنكارها
إلا أنه لا يثبت بها حجية الاجماع بنحو الاطلاق، فان استكشاف قول الإمام عليه السلام
من الاتفاق يختلف باختلاف الأشخاص والانظار، فرب فقيه لا يرى
الملازمة أصلا، وفقيه آخر لا يرى استكشاف رأي المعصوم إلا من اتفاق علماء
جميع الأعصار، وفقيه ثالث يحصل له اليقين من اتفاق الفقهاء في عصر واحد،
أو من اتفاق جملة منهم. وقد شاهدنا بعض الأعاظم انه كان يدعي القطع بالحكم من
اتفاق ثلاثة نفر من العلماء، وهم الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي الكبير
والمرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس الله اسرارهم)، لاعتقاده بشدة ورعهم
ودقة نظرهم.
وقد يقال في وجه حجية الاجماع انه كاشف عن وجود دليل معتبر،
بحيث لو وصل إلينا لكان معتبرا عندنا أيضا. وفيه ان الاجماع وان كان كاشفا
عن وجود أصل الدليل كشفا قطعيا، إذ الافتاء بغير الدليل غير محتمل في حقهم
فإنه من الافتاء بغير العلم المحرم، وعدالتهم مانعة عنه، إلا أنه لا يستكشف
منه اعتبار الدليل عندنا، إذ من المحتمل ان يكون اعتمادهم على قاعدة أو أصل
لا نرى تمامية القاعدة المذكورة أو الأصل المذكور، أو عدم انطباقهما على الحكم
المجمع عليه، كما تقدم في الاجماع المدعى في كلام السيد المرتضى (ره).
140

فتحصل مما ذكرناه في المقام انه لا مستند لحجية الاجماع أصلا، وان
الاجماع لا يكون حجة، إلا ان مخالفة الاجماع المحقق من أكابر الأصحاب
وأعاظم الفقهاء مما لا نجترئ عليه فلا مناص في موارد تحقق الاجماع من الالتزام
بالاحتياط اللازم، كما التزمنا به في بحث الفقه.
(المبحث الرابع في حجية الشهرة)
اعلم أن الشهرة على اقسام ثلاثة: (القسم الأول) - الشهرة في الرواية
بمعنى كثرة نقلها، ويقابلها الشذوذ والندرة، بمعنى قلة الناقل لها. وهذه
الشهرة من المرجحات عند تعارض الخبرين على المسلك المشهور، استنادا إلى
ما في مرفوعة زرارة من قوله (ع): (خذ بما اشتهر بين أصحابك) وما في
مقبولة عمر بن حنظلة من قوله (ع): (خذ بالمجمع عليه بين أصحابك) باعتبار
ان المراد منه المشهور لا الاجماع الاصطلاحي، بقرينة المقابلة في قوله (ع):
(واترك الشاذ النادر).
ولكن التحقيق عدم كونها من المرجحات، إذ المراد بالمجمع عليه في
المقبولة هو الخبر الذي أجمع على صدوره من المعصوم، فيكون المراد منه الخبر
المعلوم صدوره، لقوله (ع): (فان المجمع عليه لا ريب فيه) وقوله (ع) بعد
ذلك: (الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وامر
مشكل يرد حكمه إلى الله) فان الإمام عليه السلام طبق الامر البين رشده على الخير المجمع
عليه، وحينئذ يكون الخبر المعارض له ساقطا عن الحجية في نفسه، لما دل على
طرح الخبر المخالف للكتاب والسنة، والمراد بالسنة كل خبر مقطوع الصدور
141

لا خصوص النبوي كما هو ظاهر. ولا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي الشهرة في
كلنا الروايتين بعد امر الإمام عليه السلام بالأخذ بالمجمع عليه. وذلك لان القطع
بصدور أحدهما لا يستلزم القطع بعدم صدور الآخر، بل يمكن ان يكون كلاهما
صادرا من المعصوم عليه السلام، ويكون أحدهما صادرا لبيان الحكم الواقعي،
والآخر للتقية. وظهر بما ذكرناه عدم صحة الاستدلال بالمرفوعة أيضا، إذ
المراد بقوله عليه السلام: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) هو الشهرة بالمعنى اللغوي، أي
الظاهر الواضح، كما يقال شهر سيفه وسيف شاهر، فيكون المراد به الخبر
الواضح صدوره، بان كان مقطوع الصدور أو المطمأن بصدوره، ويكون
حينئذ الخبر المعارض له ساقطا عن الحجية في نفسه لما تقدم.
هذا مضافا إلى عدم تمامية كل من المرفوعة والمقبولة من حيث السند. اما
المرفوعة فلكونها من المراسيل التي لا يصح الاعتماد عليها، فإنها مروية في كتاب
غوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي عن العلامة مرفوعة إلى زرارة، مضافا
إلى أنها لم توجد في كتب العلامة (ره) ولم يثبت توثيق راويها، بل طعن فيه
وفي كتابه من ليس دأبه الخدشة في سند الرواية، كالمحدث البحراني في الحدائق
ودعوى انجبارها بعمل المشهور ممنوعة صغرى وكبرى. أما من حيث الصغرى
فلانه لم يثبت استناد المشهور إليها، بل لم نجد عاملا بما في ذيلها من الامر
بالاحتياط. وأما من حيث الكبرى فلما ذكرناه في محله من عدم كون عمل
المشهور جابرا لضعف السند. وسنتعرض له في بحث حجية الخبران شاء الله تعالى
واما المقبولة فلعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة، ولم يذكر له توثيق في
كتب الرجال. نعم وردت رواية في باب الوقت تدل على توثيق الإمام عليه السلام له
ونعم التوثيق، فان توثيق الامام امام التوثيقات، وهي ما نقله في الوسائل
عن الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة،
142

قال قلت لأبي عبد الله (ع): (ان عمر بن حنظلة اتانا عنك بوقت، فقال (ع)
إذا لا يكذب علينا). إلا ان هذه الرواية بنفسها ضعيفة من حيث السند،
فلا يمكن اثبات وثاقة عمر بن حنظلة بها. فتحصل مما ذكرناه عدم كون هذه
الشهرة من المرجحات عند تعارض الخبرين.
(القسم الثاني) - هي الشهرة العملية، بمعنى استناد الشهرة إلى خبر في
مقام الافتاء. وبهذه الشهرة ينجبر ضعف سند الرواية عند المشهور، وفي قبالها
إعراض المشهور الموجب لوهن الرواية. وان كانت صحيحة أو موثقة من حيث
السند على المشهور أيضا.
هذا ولكن التحقيق عدم كون عمل المشهور جابرا على تقدير كون الخبر
ضعيف السند في نفسه، ولا اعراضهم موهنا على تقدير كون الخبر صحيحا
أو موثقا في نفسه، بل الميزان في حجية الخبر تمامية سنده في نفسه، وسنتعرض
لذلك في بحث حجية الخبر قريبا إن شاء الله تعالى.
(القسم الثالث) - هي الشهرة بمعنى اشتهار الفتوى بحكم من الاحكام
من دون أن يعلم مستند الفتوى، وهذه الشهرة هي محل الكلام فعلا من حيث
الحجية وعدمها وقد استدل على حجية بوجوه:
(الوجه الأول) - ان مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة تدلان على
حجيتها، بتقريب ان المراد من المجمع عليه في المقبولة ليس هو الاجماع المصطلح
بل المراد منه المشهور بقرينة المقابلة في قوله (ع): (واترك الشاذ النادر)
واطلاقه يشمل الشهرة الفتوائية أيضا، وكذا قوله (ع): (خذ بما اشتهر بين
أصحابك) في المرفوعة، فان الموصول من المبهمات ومعرفة الصلة، واطلاقها يشمل
الشهرة الفتوائية أيضا.
وفيه (أولا) - ما تقدم من عدم تمامية المقبولة والمرفوعة من حيث السند
143

فلا يصح الاستدلال بهما. و (ثانيا) - ما تقدم أيضا من أن المراد بالمجمع عليه
هو الخبر المقطوع صدوره، لان الإمام (ع) قد أدخله في امر بين رشده،
وكذا المراد بالمشهور في المرفوعة هو المشهور اللغوي، أي الظاهر الواضح،
فالمراد بهما هو الاخذ بالمقطوع، فلا ربط لهما بالشهرة الفتوائية. و (ثالثا) -
انه مع الغض عما تقدم لا إطلاق لهما ليشمل الشهرة الفتوائية، لان المراد من
الموصول هو خصوص الخبر المشهور، بقرينة ان السؤال انما هو عن الخبرين
المتعارضين، ولا مانع من أن يكون معرف الموصول ومبين المراد منه غير صلته
والسؤال عن الخبرين قرينة على أن المراد منه خصوص الخبر المشهور لا مطلق
المشهور، كما يظهر بالتأمل في نظائره من الأمثلة. فإذا قيل أي المسجدين تحب
فقال في الجواب ما كان الاجتماع فيه أكثر. كان ظاهرا في خصوص المسجد
الذي كان الاجتماع فيه أكثر، لا مطلق المكان الذي كان الاجتماع فيه أكثر،
وكذا لو قيل أي الرمانتين تريد؟ فقال في الجواب ما كان أكبر، كان ظاهرا
في أن المراد هو الأكبر من الرمانتين لا مطلق الأكبر. وهذا ظاهر، فحينئذ
لا اطلاق للصلة ليشمل مطلق المشهور.
(الوجه الثاني) - ان الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من
خبر الواحد، فالذي يدل على حجية الخبر يدل على حجية الشهرة بالأولوية.
(وفيه) ان هذا لوجه مبني على أن يكون ملاك حجية الخبر إفادته الظن، وعليه
لزم الالتزام بحجية كل ظن مساو للظن الحاصل من الخبر أو أقوى منه، سواء
حصل من الشهرة أو من فتوى جماعة من الفقهاء، أو من فتوى فقيه واحد،
أو غير ذلك، فاللازم ذكر هذا الدليل في جملة أدلة حجية الظن المطلق لا أدلة
الشهرة. ولكن المبنى المذكور غير تام، إذ يحتمل ان يكون ملاك حجية
الخبر كونه غالب المطابقة للواقع، باعتبار كونه اخبارا عن حس، واحتمال
144

الخطاء في الحس بعيد جدا، بخلاف الاخبار عن حدس كما في الفتوى، فان
احتمال الخطأ في الحدس غير بعيد، يحتمل أيضا دخل خصوصية أخرى في ملاك
حجية الخبر. ومجرد احتمال ذلك كاف في منع الأولوية المذكورة، لان الحكم
بالأولوية يحتاج إلى القطع بالملاك وكل ما له دخل فيه.
(الوجه الثالث) - عموم التعليل الوارد في ذيل آية النبأ، وهو قوله تعالي:
(ان تصيبوا قوما بجهالة - اي بسفاهة - فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). إذ
التعليل قد يكون مخصصا للحكم المعلل به، كما في قولنا لا تأكل الرمان لأنه
حامض، وقد يكون معمما له كما في قولنا لا تشرب الخمر لأنه مسكر، فإنه يحكم
بحرمة كل مسكر ولو لم يكن خمرا. ومفاد التعليل في الآية الشريفة عدم لزوم
التبين في كل ما ليس العمل به سفاهة، والعمل بالشهرة لا يكون سفاهة، فلا
يجب فيها التبين بمقتضى عموم التعليل.
وفيه منع الصغرى والكبرى (اما الصغرى) فلان المراد من الجهالة في الآية
الشريفة إما السفاهة بمعنى العمل بشئ بلا لحاظ مصلحة وحكمة فيه، قبالا للعمل
العقلائي الناشئ من ملاحظة المصلحة، وإما الجهل قبالا للعلم، ولفظ الجهالة
قد استعمل في كل من المعنيين، فان كان المراد منها السفاهة كان العمل بالشهرة
من السفاهة، إذ العمل بما لا يؤمن معه من الضرر المحتمل اي العقاب يكون
سفاهة بحكم العقل، فان العقل يحكم بتحصيل المؤمن من العقاب، والعمل بالشهرة
بلا دليل على حجيتها لا يكون مؤمنا، فيكون سفاهة وغير عقلائي، وان كان
المراد منها الجهل بمعنى عدم العلم، فالامر أوضح، إذ الشهرة لا تفيد العلم فيكون
العمل بها جهالة لا محالة.
و (اما منع الكبرى) فلان التعليل وان كان يقتضي التعميم، إلا أنه
لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورده مما لا توجد فيه العلة، إذ لا مفهوم له، لأنه
145

فرع انحصار العلة، وهو لا يستفاد من التعليل ولا ربط له بعموم التعليل،
فان التعدي إلى غير الخمر من المسكرات، والحكم بحرمتها لعموم التعليل لا يوجب
الحكم بحلية كل ما ليس بمسكر، بل قد يكون الشئ حراما مع عدم كونه مسكرا
كما إذا كان نجسا أو كان مال الغير مثلا. فالحكم بوجوب التبين - في كل ما كان
العمل به سفاهة لعموم التعليل - لا يدل على عدم وجوب التبين في كل ما ليس
العمل به سفاهة، بل يمكن ان يكون التبين فيه واجبا مع عدم كون العمل به
سفاهة. فتحصل ان الشهرة الفتوائية مما لم يقم دليل على حجيتها.
(المبحث الخامس في حجية خبر الواحد)
وليعلم أن هذا البحث من أهم المسائل الأصولية، إذ العلم الضروري
بالأحكام الشرعية غير حاصل، إلا في الاحكام الكلية الاجمالية، كوجوب الصلاة
والصوم وأمثالهما، والعلم غير الضروري بالأحكام - كالعلم الحاصل من الخبر
المقطوع صدوره للتواتر أو للقرينة القطعية - قليل جدا، فغالب الاحكام
واجزاء العبادات وشرائطها انما يثبت بأخبار الآحاد، فالبحث عن حجيتها من
أهم المسائل الأصولية، وباثباتها ينفتح باب العلمي في الأحكام الشرعية، وينسد
باب الانسداد، وبعدمها ينسد باب العلمي وينفتح باب الانسداد. وبعد وضوح
ان هذا البحث من أهم المسائل الأصولية، فالاشكال في كونه منها - نظرا إلى
كون موضوع علم الأصول هي الأدلة الأربعة في الحقيقة - إشكال على حصر
موضوع علم الأصول فيها، فلا بد من الالتزام بأن موضوع علم الأصول امر
جامع لجميع موضوعات مسائله، لا خصوص الأدلة الأربعة، لأنه لم يدل عليه
146

دليل من آية ولا رواية. هذا بناء على الالتزام بلزوم الموضوع لكل علم، والا
كما هو الصحيح فلا موضوع لعلم الأصول أصلا. وعلمية العلم لا تتوقف على
وجود الموضوع على ما تقدم الكلام فيه في أوائل بحث الألفاظ.
ثم إن شيخنا الأنصاري (ره) حيث اختار ان الموضوع لعلم الأصول
هي الأدلة الأربعة، تصدى لدفع الاشكال المذكور. وملخص ما افاده بتوضيح
منا ان العمل بالاخبار يتوقف على أمور ثلاثة: حجية الظهور، واصل الصدور
وجهة الصدور، بمعنى كون الكلام صادرا لبيان المراد الجدي لا بداع آخر
كالتقية والامتحان والاستهزاء ونحوها. أما حجية الظواهر فقد تقدم الكلام
فيها. وأما جهة الصدور فقد تحققت سيرة العقلاء على حمل الكلام الصادر من
كل متكلم على أنه صادر لبيان المراد الواقعي، لا لداع آخر كالتقية والسخرية
ونحوهما. واما أصل الصدور فالمتكفل لبيانه هذا المبحث، فيبحث فيه عن أن
صدور السنة - وهي قول المعصوم (ع) أو فعله أو تقريره - يثبت بخبر الواحد
أم لا؟ فيكون البحث بحثا عن أحوال السنة، ويندرج في المسائل الأصولية.
وفيه انه إن كان المراد هو الثبوت الواقعي الخارجي فهو بديهي الفساد
ولا يبحث عنه في هذه المسألة فان الخبر حاك عن السنة، ولا يعقل أن يكون
الحاكي عن شئ من علل تحققه خارجا، ولا يكون هذا مراد الشيخ (ره)
قطعا، وإن كان المراد هو الثبوت الواقعي الذهني بمعنى حصول العلم بها، فهو
أيضا معلوم الانتفاء، إذ خبر الواحد لا يفيد العلم، ولا يكون هذا أيضا
مراد الشيخ (ره)، وإن كان المراد هو الثبوت التعبدي بمعنى تنزيل الخبر
الحاكي للسنة منزلتها في وجوب العمل بها، فالبحث عنه بحث عن عوارض الخبر
لا السنة، كما هو ظاهر.
ثم إن بعض مشائخنا المحققين (ره) وجه كلام الشيخ (ره) بما حاصله
147

أن كل تنزيل يستدعي أمورا ثلاثة: المنزل والمنزل عليه، ووجه التنزيل والمنزل
في المقام هو الخبر والمنزل عليه هي السنة، ووجه التنزيل وجوب العمل به، فكما
يمكن ان يجعل هذا البحث من عوارض الخبر، بأن يقال يبحث في هذا المبحث
عن كون الخبر منزلا منزلة السنة أم لا كذلك يمكن أن يجعل من عوارض السنة،
بان يقال يبحث عن كون السنة منزلا منزلة الخبر وعدمه.
وفيه (أولا) - ما تقدم في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من أنه
لا تنزيل في باب الحجج، إنما المجعول هو الطريقية بتتميم الكشف، وليس
ذلك إلا من عوارض الخبر. و (ثانيا) - انه على تقدير تسليم التنزيل المذكور
كان متعلق غرض الأصولي - وهو التمسك بالخبر في مقام استنباط الحكم الشرعي -
هي الجهة الأولى، وهي البحث عن كون الخبر منزلا منزلة السنة أم لا. لا الجهة
الثانية إذ لا يترتب عليها غرض الأصولي.
فالتحقيق في الجواب عن هذا الاشكال هو ما أشرنا إليه من أنه لا ملزم
لحصر موضوع علم الأصول في الأدلة الأربعة، وان الموضوع - على القول
بلزومه في كل علم - هو الكلي المنطبق على موضوعات المسائل، واما على القول
بعدم لزومه كما هو الصحيح فالاشكال مندفع من أصله.
إذا عرفت ذلك فنقول: وقع الخلاف بين الاعلام في حجية خبر الواحد
فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى عدم حجيته، بل ألحقه بعضهم بالقياس
في أن عدم حجيته من ضروري المذهب، وذهب المشهور إلى كونه حجة.
واستدل المنكرون بوجوه: (الوجه الأول) - دعوى الاجماع على عدم
حجية الخبر. وفيه (أولا) - عدم حجية الاجماع المنقول في نفسه. (وثانيا) -
ان الاجماع المنقول من افراد خبر الواحد، بل من أخس أفراده باعتبار كونه
إخبارا حدسيا عن قول المعصوم (ع)، بخلاف خبر الواحد المصطلح، فإنه
148

إخبار حسي، فمن عدم حجية الخبر يثبت عدم حجية الاجماع المنقول بالأولوية
فكيف يمكن نفي حجية خبر الواحد بالاجماع المنقول. و (ثالثا) - أن دعوى
الاجماع على عدم حجية الخبر مع ذهاب المشهور من القدماء والمتأخرين إلى حجيته
معلومة الكذب. ولعل المراد من خبر الواحد في كلام من يدعي الاجماع على
عدم حجيته هو الخبر الضعيف غير الموثق، وذكر المحقق النائيني (ره) أن في
خبر الواحد اصطلاحين: (أحدهما) - ما يقابل الخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة
القطعية. (ثانيهما) - الخبر الضعيف في مقابل الموثق. وبهذا يجمع بين القولين
باعتبار ان مراد المنكر لحجية خبر الواحد هو الخبر الضعيف، ومراد القائل
بالحجية هو الخبر الصحيح والموثق. ويشهد بذلك أن الشيخ الطوسي (ره) -
مع كونه من القائلين بحجية خبر الواحد - ذكر في مسألة تعارض الخبرين،
وترجيح أحدهما على الآخر - ان الخبر المرجوح لا يعمل به، لأنه خبر الواحد
فجرى في هذا التعليل على الاصطلاح الثاني في خبر الواحد، وعليه فيكون خبر
الواحد الموثوق به كما هو محل الكلام حجة إجماعا. (الوجه الثاني) - الروايات
الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب والسنة، و الخبر الذي لا يكون عليه
شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنة نبيه صلى الله عليه وآله، وهذه الروايات كثيرة
متواترة اجمالا، ووجه دلالتها أيضا واضح، إذ من المعلوم ان أغلب الروايات
التي بأيدينا ليس عليها شاهد من كتاب الله، ولا من السنة القطعية، والا لما
احتجنا إلى التمسك بالخبر.
والجواب ان الروايات الواردة في الباب طائفتان: (الطائفة الأولى) - هي
الأخبار الدالة على أن الخبر المخالف للكتاب باطل أو زخرف، أو اضربوه على الجدار
أو لم نقله إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب
والسنة القطعية. والمراد من المخالفة في هذه الأخبار هي المخالفة بنحو لا يكون
149

بين الخبر والكتاب جمع عرفي كما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بنحو التباين أو العموم
من وجه وهذا النحو من الخبر أي المخالف للكتاب أو السنة القطعية بنحو التباين
أو العموم من وجه خارج عن محل الكلام، لأنه غير حجة بلا اشكال ولا خلاف
وأما الاخبار المخالفة للكتاب والسنة بنحو التخصيص أو التقييد فليست مشمولة
لهذه الطائفة، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب والمقيد لاطلاقاته عنهم (ع)
كثيرا، إذ لم يذكر في الكتاب إلا أساس الاحكام بنحو الاجمال، كقوله
تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) واما تفصيل الاحكام وبيان موضوعاتها
فهو مذكور في الاخبار المروية عنهم عليهم السلام. وإن شئت قلت ليس المراد
من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بالتخصيص والتقييد، والا لزم تخصيصها
بموارد العلم بتخصيص الكتاب فيها، مع أنها آبية عن التخصيص، وكيف
يمكن الالتزام بالتخصيص في قوله (ع) ما خالف قول ربنا لم نقله، و بالجملة
الخبر المخصص لعموم الكتاب أو المقيد لا طلاقه لا يعد مخالفا له في نظر العرف
فالمراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه.
ودعوى - ان هذه الأهمية والتأكيد في هذه الأخبار لا تناسب ان يكون المراد
من المخالفة هي المخالفة بنحو التباين والعموم من وجه، لان الوضاعين لم يضموا
ما ينافي الكتاب بالتباين أو العموم من وجه، لعلمهم بان ذلك لا يقبل منهم -
غير مسموعة، إذ الوضاعون ما كانوا ينقلون عن الأئمة عليهم السلام حتى لا يقبل
منهم الخبر المخالف للكتاب بالتباين والعموم من وجه، بل كانوا يدسون تلك
المجعولات في كتب الثقات من أصحاب الأئمة عليهم السلام، كما روي عن
أبي عبد الله عليه السلام أنه لمن المغيرة، لأنه دس في كتب أصحاب أبيه عليهما السلام
أحاديث كثيرة. فتحصل ان هذه الطائفة من الاخبار لا دخل لها بمحل الكلام.
(الطائفة الثانية) - هي الأخبار الدالة على المنع عن العمل بالخبر الذي
150

لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنة نبيه صلى الله عليه وآله
وهذه الطائفة وان كانت وافية الدلالة على المدعى، إلا أنه لا يمكن الاخذ بظاهرها
للعلم بصدور الاخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنة، بل هي مخصصة
لعموماتهما ومقيدة لاطلاقاتهما على ما تقدمت الإشارة إليه، فلا بد من حمل هذه
الطائفة على صورة التعارض، كما هو صريح بعضها، ولذا ذكرنا في بحث
التعادل والترجيح ان موافقة عمومات الكتاب أو إطلاقاته من المرجحات في باب
التعارض، أو على الاخبار المنسوبة إليهم (ع) في أصول الدين وما يتعلق
بالتكوينيات مما لا يوافق مذهب الإمامية. وقد روي هذا النوع من الاخبار
عنهم (ع) كثيرا، بحيث ان الكتب المعتمدة المعتبرة عندنا - كالكتب الأربعة
ونظائرها - مع كونها مهذبة من هذا النوع من الاخبار قد يوجد فيها منه قليلا
ومن هذا القليل ما في الكافي الدال على أنه لو علم الناس كيفية خلقهم لما لام أحد
أحدا فان هذه الرواية صريحة في مذهب الجبر ومخالفة لنص القرآن، لان الله
تعالى يلوم عباده بارتكاب القبائح والمعاصي.
هذا مضافا إلى أن هذه الطائفة معارضة بما دل على حجية خبر الثقة،
والنسبة بينهما هي العموم المطلق، لان مفاد هذه الطائفة عدم حجية الخبر الذي
لا شاهد له من الكتاب والسنة، سواء كان المخبر به ثقة أو غير ثقة، ودليل
حجية خبر الثقة أخص منها. فيقيد به اطلاقاتها، وتكون النتيجة بعد الجمع
عدم حجية الاخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنة إلا خبر الثقة.
(الوجه الثالث) - الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، كقوله تعالى:
(ولا تقف ما ليس لك به علم) وقوله تعالى: (ان الظن لا يغني عن الحق
شيئا) وفيه (أولا) ان مفاد الآيات الشريفة ارشاد إلى حكم العقل بوجوب
تحصيل العلم بالمؤمن من العقاب وعدم جواز الاكتفاء بالظن به، بملاك وجوب
151

دفع الضرر المحتمل ان كان أخرويا، فلا دلالة لها على عدم حجية الخبر أصلا.
و (ثانيا) - انه على تقدير تسليم ان مفادها الحكم المولوي، وهو حرمة العمل
بالظن كانت أدلة حجية الخبر حاكمة على تلك الآيات، فان مفادها جعل الخبر
طريقا بتتميم الكشف، فيكون خبر الثقة علما بالتعبد الشرعي، ويكون خارجا
عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعا.
هذا بناء على أن المجعول في باب الطرق والامارات هي الطريقية كما هو
الصحيح، وقد تقدم الكلام فيه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري. واما
بناء على أن المجعول هو الحكم الظاهري مطابقا لمؤدى الامارة، وان الشارع لم
يعتبر الامارة علما، فتكون أدلة حجية خبر الثقة مخصصة للآيات الناهية عن
العمل بغير العلم، فان النسبة بينها وبين الآيات هي العموم المطلق، إذ مفاد
الآيات عدم حجية غير العلم من خبر الثقة وغيره في أصول الدين وفروعه،
فتكون أدلة حجية خبر الثقة أخص منها، وبالجملة أدلة حجية خبر الثقة متقدمة
على الآيات الشريفة اما بالحكومة أو بالتخصيص.
واستدل القائلون بحجية الخبر أيضا بأمور:
(الأول) - آية النبأ وهي قوله تعالي: (إن جاء كم فاسق بنبأ فتبينوا أن
تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) وتقريب الاستدلال بها
من وجوه:
(الوجه الأول) - الاستدلال بمفهوم الوصف باعتبار انه تعالى أوجب التبين
عن خبر الفاسق، ومن الواضح أن التبين ليس واجبا نفسيا، بل هو شرط لجواز
العمل به، إذ التبين عنه بلا تعلقه بعمل من الأعمال ليس بواجب يقينا، بل لعله
حرام، فان التفحص عن كونه صادقا أو كاذبا يكون من باب التفحص عن عيوب
الناس، ويدل على كون الوجوب شرطيا - مع وضوحه في نفسه - التعليل
152

المذكور في ذيل الآية الشريفة، وهو قوله تعالى: (ان تصيبوا قوما بجهالة) -
فيكون مفاد الآية الشريفة ان العمل بخبر الفاسق يعتبر فيه التبين عنه، فيجب
التبين عنه في مقام العمل به، ويكون المفهوم بمقتضى التعليق على الوصف ان
العمل بخبر غير الفاسق لا يعتبر التبين عنه. فلا يجب التبين عن خبر غير الفاسق
في مقام العمل به، وهذا هو المقصود. وهذا الاستدلال غير تام، لان الوصف
وان كان يدل على المفهوم. إلا ان مفهوم الوصف هو ان الحكم ليس ثابتا
للطبيعة أينما سرت، وإلا لكان ذكر الوصف لغوا. وأما كون الحكم منحصرا
في محل الوصف بحيث ينتفي بانتفائه، فهو خارج عن مفهوم الوصف ويحتاج إلى
اثبات كون الوصف علة منحصرة، ولا يستفاد ذلك من نفس الوصف، فان تعليق
الحكم على الوصف - لو سلم كونه مشعرا بالعلية - لا يستفاد منه العلة المنحصرة
يقينا، فإذا قال المولى أكرم الرجل العالم كان مفهوم الوصف أن وجوب الاكرام
لم يتعلق بطبيعة الرجل، وإلا كان ذكر العالم لغوا. وأما انحصار وجوب الاكرام
في العالم بحيث ينتفى بانتفائه فلا يستفاد منه إذ الوصف وإن كان مشعرا بالعلية،
وان العلم علة لوجوب الاكرام، إلا أنه لا يدل على انحصار العلية فيه، فيحتمل
وجوب اكرام غير العالم أيضا لعلة أخرى، ككونه هاشميا مثلا، وعليه فيكون
مفهوم الوصف في الآية الشريفة ان وجوب التبين ليس ثابتا لطبيعة الخبر، وإلا
لكان ذكر الفاسق لغوا، ولا يلزم منه عدم وجوب التبين عن خبر غير الفاسق
على الاطلاق، إذ لا يستفاد منه كون الوصف علة منحصرة لوجوب التبين، كي
ينتفى بانتفائه، بل يحتمل وجوب التبين عن خبر العادل أيضا، إذا كان واحدا،
ويكون الفرق بين العادل والفاسق ان خبر الفاسق يجب التبين عنه ولو مع التعدد
بخلاف خبر العادل، إذ مع التعدد يكون بينة شرعية لا يجب التبين عنها فتحصل
انه لا يستفاد من مفهوم الوصف انتفاء وجوب التبين عند انتفاء وصف الفسق.
153

(الوجه الثاني) - ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) وملخصه أو لخبر
الفاسق حيثيتين: (إحداهما) - ذاتية، وهي كونه خبر الواحد، و (الأخرى)
عرضية وهي كونه خبر الفاسق، وقد علق وجوب التبين على العنوان العرضي،
فيستفاد منه انه العلة لوجوب التبين، دون العنوان الذاتي، والا لكان العدول
عن الذاتي إلى العرضي قبيحا وخارجا عن طرق المحاورة، فإنه نظير تعليل نجاسة
الدم بملاقاته لمتنجس مثلا، وعليه فيستفاد انتفاء وجوب التبين عند انتفاء هذا
العنوان العرضي، وهو كونه خبر الفاسق.
وقد أورد على هذا الاستدلال بايرادات: (الايراد الأول) - ان كون
الخبر خبر واحد أيضا من العناوين العرضية، ككونه خبر فاسق، فكل من
العنوانين عرضي يحتمل دخل كليهما في الحكم وتخصيص أحدهما بالذكر لعله
لنكتة كالإشارة إلى فسق الوليد مثلا وفيه ان المراد بخبر الواحد في المقام هو
الذي لا يفيد القطع، ويحتمل الصدق والكذب في قبال المتواتر والمحفوف
بالقرينة القطعية، وهذا هو المراد من النبأ في الآية الشريفة بقرينة وجوب التبين
عنه. إذ الخبر المعلوم صدقه متبين في نفسه، ولا معنى لوجوب التبين عنه وبقرينة
التعليل، وهو قوله تعالى: (أن تصيبوا قوما بجهالة) وليس مراد الشيخ (ره)
من الذاتي في المقام هو الذاتي في باب الكليات أي الجنس والفصل، بل مراده هو
الذاتي في باب البرهان، أي ما يكفي مجرد تصوره في صحة حمله عليه، من دون
احتياج إلى لحاظ امر خارج كالامكان بالنسبة إلى الانسان مثلا، فإنه ليس
جنسا ولا فصلا له. ليكون ذاتيا في باب الكليات، بل ذاتي له في باب البرهان،
بمعنى ان تصور الانسان يكفي في صحة حمل الامكان عليه، بلا حاجة إلى لحاظ
أمر خارجي ومن الواضح ان الخبر في نفسه يحتمل الصدق والكذب، ويصح حمل
ذلك عليه، بلا حاجة إلى ملاحظة امر خارج عنه، فكونه خبر واحد ذاتي له،
154

بخلاف كونه خبر فاسق، إذ لا يكفي في حمله على الخبر نفس تصور الخبر، بل
يحتاج إلى ملاحظة امر خارج عن الخبر، وهو كون المخبر به ممن يصدر
عنه الفسق.
(الايراد الثاني) - ان الحكم على الطبيعة المهملة غير متصور، إذ لا يعقل
الاهمال في مقام الثبوت، فلا محالة يكون الحكم بوجوب التبين عن الخبر إما
مقيدا بكون المخبر به فاسقا فيكون خبر العادل حجة، وإما مقيدا بالجامع بينه
وبين العادل، فلا يكون خبر العادل حجة فالتقييد ضروري لا محالة إما بخصوص
الفاسق أو بالأعم منه ومن العادل وحيث إن التقييد ضروري فالتقييد بالفاسق
لا يشعر بالعلية ليدل علي المفهوم، لاحتمال ان يكون الحكم مقيدا بالأعم منه ومن
العادل وكان ذكر الفاسق لنكتة تقدمت الإشارة إليه.
وفيه ان الاهمال في مقام الثبوت وإن كان غير معقول إلا أنه لا يلزم منه
كون التقييد ضروريا بل يدور الامر بين التقييد والاطلاق. وقد ذكرنا مرارا
ان الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الأخذ بها فالقول بحجية خبر العادل وإن
كان يستلزم تقييد الخبر بالفاسق إلا أن القول بعدم حجيته لا يستلزم التقييد
بالأعم منه ومن العادل بل يكفي فيه الاطلاق بمعنى الغاء الخصوصيات الا الأخذ
بجميع الخصوصيات فإذا لا يكون التقييد ضروريا حتى لا يكون مشعرا بالعلية.
(الايراد الثالث) - أنا نقطع من الخارج بعدم دخل الفسق في وجوب
التبين، وإلا لزم القول بحجية خبر غير الفاسق ولو لم يكن عادلا، كمن لم يرتكب
المعصية في أول بلوغه، ولم تحصل له ملكة العدالة بعد. وكذا الحال في الصغير
والمجنون، فإنه لو قلنا بمفهوم الوصف في الآية الشريفة والتزمنا بحجية خبر غير
الفاسق لزم القول بحجية خبر الصغير والمجنون أيضا.
وفيه مضافا إلى أنا لا نقول بالواسطة بين العادل و الفاسق - على ما حقق
155

في محله، فلا يكون غير الفاسق إلا العادل - ان رفع اليد - عن اطلاق المفهوم
لأدلة خاصة دلت على اعتبار العدالة في حجية الخبر - لا يقدح في حجية المفهوم
وكم تقييد لاطلاقات المفهوم في أبواب الفقه لأدلة خاصة، فعدم حجية خبر
الواسطة بين العادل والفاسق على تقدير امكانها انما هو لأدلة خارجية مقيدة
لاطلاق المفهوم، وكذا خبر الصبي والمجنون خارج عن اطلاق المفهوم لأدلة خاصة
تدل على اعتبار الكبر والعقل، هذا مضافا إلى امكان القول بأنه لا اطلاق للمفهوم
بالنسبة إليهما، باعتبار أن الآية الشريفة رادعة عن العمل بغير التبين بما يعمل
العقلاء به لولا الردع، كخبر الفاسق. وأما خبر الصبي والمجنون فالعقلاء بأنفسهم
لا يعملون به، بلا حاجة إلى الردع، فهو خارج عن الآية الشريفة تخصصا، بلا
حاجة إلى دليل مقيد لاطلاق المفهوم.
ولا يخفى ان هذا الايراد غير مختص بالاستدلال بمفهوم الوصف، بل جار
على الاستدلال بمفهوم الشرط أيضا. والجواب الجواب. فتحصل ان هذه
الايرادات الثلاثة غير واردة على الشيخ (ره) نعم يرد عليه ان هذا الوجه أيضا
يرجع إلى الاستدلال بمفهوم الوصف، لا انه وجه مستقل في الاستدلال بالآية
الشريفة في قبال الاستدلال بمفهوم الوصف، بل هو توضيح وبيان لكيفية
الاستدلال بمفهوم الوصف. وحينئذ يرد عليه ما تقدم في الوجه السابق من أن
التقييد بالوصف وان كان مشعرا بالعلية، الا ان ذلك لا يدل على الانتفاء عند
الانتفاء فإنه متفرع على كون الوصف علة منحصرة، وهو لا يستفاد من مجرد
التعليق على الوصف على ما تقدم بيانه، ولا حاجة إلى الإعادة.
(الوجه الثالث) - الاستدلال بمفهوم الشرط، بتقريب ان وجوب التبين
عن الخبر قد علق على مجئ الفاسق به، فينتفي عند انتفائه، فلا يجب التبين عن
الخبر عند مجئ غير الفاسق به. وقد أورد على هذا الوجه من الاستدلال بأمور
156

بعضها راجع إلى منع المقتضي للدلالة على المفهوم، وبعضها راجع إلى دعوى
وجود المانع عنها، أما الايراد من ناحية المقتضي فهو ان القضية الشرطية في
الآية الشريفة انما سيقت لبيان الموضوع نظير قولك: ان رزقت ولدا فاختنه،
فلا مفهوم لها، فان الختان عند انتفاء الولد منتف بانتفاء موضوعه، ولا مفهوم له
فكذا في المقام انتفاء وجوب التبين عن الخبر انتفاء مجئ الفاسق به انما هو
لانتفاء موضوعه لا للمفهوم إذ مع عدم مجئ الفاسق بالخبر لا خبر هناك ليجب
التبين عنه أو لا يجب.
وفيه أن الموضوع في القضية هو النبأ، ومجئ الفاسق به شرط لوجوب
التبين عنه، فلا تكون القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، (توضيح
ذلك): ان الجزاء (تارة) يكون في نفسه متوقفا على الشرط عقلا، بلا دخل
للتعبد المولوي، كما في قولك ان رزقت ولدا فاختنه وأمثاله، و (أخرى) يكون
متوقفا عليه بالتعبد المولوي، كما إذا قال المولى ان جاءك زيد فأكرمه، فان
الاكرام غير متوقف على المجئ عقلا، نظير توقف الختان على وجود الولد،
فما كان التعليق فيه من قبيل الأول فهو ارشاد إلى حكم العقل، ومسوق لبيان
الموضوع فلا مفهوم له، وما كان من قبيل الثاني فهو يفيد المفهوم، وهذا هو
الميزان في كون القضية الشرطية مسوقة لبيان الموضوع وعدمه، ثم إن الشرط
قد يكون أمرا واحدا وقد يكون مركبا من أمرين فان كان أمرا واحدا فقد
تقدم انه ان كان الامر المذكور مما يتوقف عليه الجزاء عقلا فلا مفهوم للقضية،
وإلا فتدل على المفهوم. واما كان مركبا من أمرين، فان كان كلاهما مما
يتوقف عليه الجزاء عقلا، فلا مفهوم للقضية الشرطية أصلا، كقولك: ان رزقك
الله مولودا وكان ذكرا فاختنه، وان كان كلاهما مما لا يتوقف عليه الجزاء عقلا،
فالقضية تدل على المفهوم بالنسبة إلى كليهما بمعني انها تدل على انتفاء الجزاء عند
157

انتفاء كل واحد منهما ولو مع تحقق الآخر، كقولك ان جاءك زيد وكان معمما
فأكرمه فإنه يدل على انتقاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجئ. ولو كان معمما
وعلي انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء كونه معمما ولو مع تحقق المجئ وإن
كان أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلا دون الآخر كقولك ان ركب الأمير
وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ ركابه، فتدل القضية على المفهوم بالنسبة إلى الجزء
الذي لا يتوقف عليه الجزاء عقلا، دون الجزء الآخر الذي يتوقف عليه الجزاء
عقلا. وقد ظهر وجه ذلك كله مما تقدم، وليعلم ان تميز الجزء الذي اخذ
موضوعا للحكم في مقام الاثبات عن الجزء الذي علق عليه الحكم انما هو بالاستظهار
من سياق الكلام بحسب متفاهم العرف فان الظاهر من قولك ان جاءك زيد فأكرمه
ان الموضوع هو زيد، ومجيئه مما علق عليه وجوب اكرامه، وينعكس الامر
فيما إذا قلت إن الجائي زيدا فأكرمه، فان الظاهر منه ان الجائي هو الموضوع
وكونه زيدا شرط لوجوب اكرامه وهكذا في سائر الأمثلة.
إذا عرفت ذلك ظهر لك ان الشرط في الآية المباركة - بحسب التحليل -
مركب من جزءين: النبأ وكون الآتي به فاسقا ويكون أحدهما وهو النبأ
موضوعا للحكم المذكور في الجزاء، لتوقفه عليه عقلا، فلا مفهوم للقضية بالنسبة
إليه والجزء الآخر وهو كون الآتي به فاسقا مما لا يتوقف عليه الجزاء عقلا،
فتدل القضية على المفهوم بالنسبة إليه ومفاده عدم وجوب التبين عنه عند انتفاء
كون الآتي به فاسقا وهو المطلوب.
وتوهم - انه لا مناص من أن يكون الموضوع في الآية المباركة هو نبأ
الفاسق لا طبيعي النبأ، إذ لو كان الموضوع طبيعي النبأ وكان مجئ الفاسق به
شرطا لوجوب التبين، لزم التبين عن كل نبأ حتى نبأ العادل عند مجئ الفاسق بنبأ،
لا المفروض وجوب التبين عن طبيعي النبأ على تقدير مجئ الفاسق بنبأ وهذا
158

مقطوع البطلان فتعين ان يكون الموضوع نبأ الفاسق فتكون القضية الشرطية
مسوقة لبيان الموضوع ولا تدل على المفهوم - مدفوع بأن القيود وان كانت
تختلف بحسب مقام الاثبات من حيث الرجوع إلى الحكم (تارة) والى الموضوع
(أخرى) فان القيد قد يرجع - بحسب ظاهر القضية ومقام الاثبات - إلى الموضوع
كالتوصيف وكذا الشرط فيما إذا كان توقف الجزاء عليه عقلا، وقد يرجع إلى
الحكم كالشرط فيما إذا لم يتوقف الجزاء عليه عقلا ولا يكون للقضية مفهوم إلا
فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم ليدل على انتفاء الحكم عند انتفائه باعتبار
ان مفاد أداة الشرط تعليق جملة على جملة بحسب ظاهر الكلام كما صرح به أهل
العربية وعلماء الميزان. وأما بحسب مقام الثبوت فالقيود بأجمعها ترجع إلى
الموضوع، لاستحالة ثبوت الحكم المقيد للموضوع المطلق. وعليه فالحكم بوجوب
التبين عن النبأ معلقا على كون الجائي به فاسقا لا يقتضى وجوب التبين عن كل
نبأ حتى نبأ العادل، فان مجئ الفاسق بنبأ وان كان قيدا للحكم اثباتا، وينشأ
منه المفهوم، إلا أنه يرجع إلى الموضوع بحسب اللب ومقام الثبوت، ولازمه
وجوب التبين عن النبأ الذي جاء به الفاسق، ونظير المقام قوله (ع): (إذا بلغ
الماء قدر كر لم ينجسه شئ) فان الموضوع بحسب ظاهر القضية وان كان طبيعي
الماء، وبلوغه قدر الكر شرط لعدم الانفعال إلا أنه لا يقتضى الحكم بعدم
انفعال كل ماء بالملاقاة إذا اتصف فرد منه بالكرية بل مقتضاه عدم انفعال
خصوص الماء الذي بلغ قدر كر.
وبالجملة مفاد الكلام بحسب الظهور العرفي عدم انفعال خصوص الماء البالغ
قدر الكر، لا عدم انفعال كل ماء حتى القليل بمجرد اتصاف فرد منه بالكرية،
وكذا في المقام، فان مفاد الكلام بحسب فهم العرف هو وجوب التبين عن الخبر
الذي جاء به الفاسق لا وجوب التبين عن كل خبر حتى خبر العادل بمجرد مجئ
159

الفاسق بفرد منه. وكأن المتوهم خلط بين رجوع القيد إلى الموضوع في مقام
الاثبات ورجوعه إليه في مقام الثبوت.
وظهر بما ذكرناه في المقام الاشكال على ما ذكره في الكفاية: من دلالة
الآية على حجية خبر العادل ولو كانت القضية مسوقة لبيان الموضوع، بدعوى
ظهورها في حصر وجوب التبين في خبر الفاسق فيستفاد عدم وجوبه عن غيره،
وذلك لما تقدم من أن القضية الشرطية لو كانت مسوقة لبيان الموضوع لا تفيد
إلا كون الموضوع للحكم أمرا كذا ومن الواضح ان اثبات الحكم لموضوع
لا يدل على انتفائه عن موضوع آخر (وبعبارة أخرى) استفادة الحصر من
الآية المباركة تتوقف على دلالتها على المفهوم وبعد تسليم انها مسوقة لبيان
الموضوع لا مفهوم لها فكيف تصح دعوى ظهورها في الحصر.
هذا وقد ذكرنا في الدورة ان دلالة القضية الشرطية على المفهوم
متوقفة على أن يكون الموضوع مفروض الوجود وكان له حالتان، وقد علق
الحكم على إحدى حالتيه تعليقا مولويا، بأن لا يكون متوقفا عليها عقلا وهذا
هو الميزان الكلي في دلالة القضية الشرطية على المفهوم، ففي قولنا ان جاءك زيد
فأكرمه كان الموضوع المفروض وجوده هو زيد، وله حالتان المجئ وعدمه،
وعلق وجوب الاكرام على مجيئه تعليقا مولويا، إذ لا يكون الاكرام متوقفا
على المجئ عقلا، فتدل القضية على انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجئ،
بخلاف قولنا ان ركب الأمير فخذ ركابه، فان الموضوع فيه وهو الأمير وان
كان له حالتان الركوب وعدمه، الا ان تعليق اخذ الركاب على ركوبه عقلي
فتكون القضية مسوقة لبيان الموضوع وارشادا إلى حكم العقل، فلا مفهوم لها
وعليه فان كان الموضوع في الآية المباركة هو النبأ وله حالتان مجئ الفاسق به
ومجئ غير الفاسق به، إذ النبأ قد يجئ به غيره وقد علق وجوب التبين
160

عنه على مجئ الفاسق به مولويا، إذ لا يكون متوقفا عليه عقلا، ويكون
مفاد الكلام حينئذ ان النبأ ان جاءكم به فاسق فتبينوا، فلا محالة تدل القضية
على المفهوم، وانتفاء وجوب التبين عند انتفاء مجئ الفاسق به، وكذلك الحال
إن كان الموضوع هو الجائي بالنبأ المستفاد من قوله تعالى: (ان جاء كم) فان
الجائي بالنبأ قد يكون فاسقا وقد يكون غير فاسق، وقد علق وجوب التبين على
كونه فاسقا، ولا يكون متوقفا عليه عقلا، ويكون مفاد الكلام حينئذ ان
الجائي بالنبأ ان كان فاسقا فتبينوا، فتدل القضية على المفهوم وانتفاء وجوب
التبين عند انتفاء كون الجائي بالنبأ فاسقا. واما ان كان الموضوع هو الفاسق
وله حالتان، لان الفاسق قد يجئ بالنبأ وقد لا يجئ به، وعلق وجوب التبين
على مجيئه بالنبأ ويكون مفاد الكلام حينئذ ان الفاسق ان جاءكم بنبأ فتبينوا
فلا دلالة للقضية على المفهوم، لان التبين متوقف على مجيئه بالنبأ عقلا، فتكون
القضية مسوقة لبيان الموضوع، إذ مع عدم مجيئه بالنبأ كان التبين منتفيا بانتفاء
موضوعه، فلا مفهوم للقضية الشرطية في الآية المباركة.
هذه هي محتملات الآية الشريفة بحسب التصور ومقام الثبوت. والظاهر
منها في مقام الاثبات بحسب الفهم العرفي هو المعنى الثالث، فإنه لا فرق بين الآية
الشريفة وبين قولنا: ان أعطاك زيد درهما فتصدق به من حيث المفهوم. والظاهر
من هذا الكلام - بحسب متفاهم العرف - وجوب التصدق بالدرهم على تقدير
اعطاء زيد إياه. واما علي تقدير عدم اعطاء زيد درهما، فالتصدق به منتف
بانتفاء موضوعه، وذلك لأن الموضوع بحسب فهم العرف هو زيد، وله حالتان
فإنه قد يعطي درهما وقد لا يعطيه، وقد علق وجوب التصدق بالدرهم على اعطائه
إياه، وهو متوقف عليه عقلا، إذ على تقدير عدم اعطاء زيد درهما يكون
التصدق به منتفيا بانتفاء موضوعه، فالقضية مسوقة لبيان الموضوع، ولا
161

دلالة لها على المفهوم، وانتفاء وجوب التصدق بالدرهم عند اعطاء غير زيد إياه
والآية الشريفة من هذا القبيل بعينه، فلا دلالة لها على المفهوم، ولا أقل من
الشك في أن مفادها هو المعنى الأول أو الثاني أو الثالث، فتكون مجملة غير قابلة
للاستدلال بها على حجية خبر العادل.
فتحصل ان دلالة الآية الشريفة على المفهوم غير تامة من ناحية المقتضي
مع قطع النظر عن وجود المانع من عموم التعليل أو غيره، على ما سنتكلم فيه
قريبا إن شاء الله تعالى.
وأما الايراد من ناحية وجود المانع عن دلالة الآية الشريفة على المفهوم
فمن وجوه: (الوجه الأول) - ان في الآية قرينة تدل على أنه لا مفهوم للقضية
الشرطية، وهي عموم التعليل في قوله تعالى: (أن تصيبوا قوما بجهالة) فان
المراد منه ان العمل بخبر الفاسق معرض للوقوع في المفسدة، والتعبير بإصابة
القوم انما هو لخصوصية مورد نزول الآية، وإلا فالعمل بخبر الفاسق لا يستلزم
إصابة القوم دائما، لان الفاسق لا يخبر دائما بما يرجع إلى القوم، بل ربما
يخبر عن ملكية شئ أو زوجية شخص أو غيرهما، فلا محالة يكون المراد من
التعليل ان العمل بخبر الفاسق معرض للواقع في المفسدة ومظنة للندامة، وهذه
العلة تقتضي التبين في خبر العادل أيضا، لان عدم تعمده بالكذب لا يمنع عن
احتمال غفلته وخطأه، فيكون العمل بخبره أيضا معرضا للواقع في المفسدة،
فيكون مفاد التعليل عدم جواز العمل بكل خبر لا يفيد العلم، بلا فرق بين ان
يكون الآتي به فاسقا أو عادلا، فهذا العموم في التعليل قرينة على عدم المفهوم
للقضية الشرطية في الآية، ولا أقل من احتمال كونه قرينة عليه، فيكون الكلام
مقرونا بما يصلح للقرينية، فيكون مجملا غير ظاهر في المفهوم.
وفيه (أولا) - ان الايراد المذكور مبني على أن يكون المراد من الجهالة
162

في التعليل عدم العلم والظاهر أن المراد منه السفاهة والآتيان بما لا ينبغي
صدوره من العاقل، فان الجهالة كما تستعمل بمعنى عدم العلم كذلك تستعمل بمعنى
السفاهة أيضا، وليس العمل بخبر العادل سفاهة. كيف والعقلاء يعملون بخبر
الثقة فضلا عن خبر العادل. واما الاشكال على ذلك - بأن العمل بخبر الوليد لو
كان سفاهة لما أقدم عليه الصحابة، مع أنهم أقدموا عليه ونزلت الآية ردعا لهم
فمندفع بأن الأصحاب لم يعلموا بفسق الوليد فأقدموا على ترتيب الأثر على خبره
فأخبرهم الله سبحانه بلسان نبيه صلى الله عليه وآله بفسقه، وان العمل بخبره بعد ثبوت
فسقه سفاهة. ولو فرض علمهم بفسقه كان إقدامهم على العمل بخبره لغفلتهم عن
كونه سفاهة، فإنه قد يتفق صدور عمل من الانسان غفلة، ثم يلتفت إلى كونه
مما لا ينبغي صدوره وانه سفاهة.
و (ثانيا) - انه على تقدير تسليم ان المراد من الجهالة عدم العلم
لا السفاهة لا يكون التعليل مانعا عن المفهوم، بل المفهوم - على تقدير دلالة القضية
الشرطية عليها بنفسها - يكون حاكما على عموم التعليل، إذ خبر العادل حينئذ
يكون علما تعبديا، على ما ذكرناه مرارا من أن مفاد دليل حجية الطرق
والامارات هو تتميم الكشف، وجعل غير العلم علما بالاعتبار، فيكون خبر
العادل خارجا عن عموم التعليل موضوعا، ويكون المفهوم حاكما على عموم
التعليل، نظير حكومة الامارات على الأصول العلمية. و (بعبارة أخرى)
الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام لا تتكفل لاثبات الموضوع، فان مفادها ثبوت
الحكم على الموضوع المقدر وجوده. واما كون الموضوع موجودا أو غير
موجود فهو خارج عن مفادها، وعليه فمفاد التعليل عدم حجية كل خبر غير
علمي. واما كون خبر فلان علميا أو غير علمي فهو خارج عن مفاده، فيكون
المفهوم الدال على كون خبر العادل علما بالتعبد حاكما على عموم التعليل، فلا تنافي
163

بينه وبين المفهوم كي يكون عموم التعليل قرينة على عدم المفهوم للقضية الشرطية
نعم لو لم يكن المفهوم حاكما على التعليل وقع التنافي بينهما، فأمكن الالتزام بأن
عموم التعليل مانع عن ظهور القضية الشرطية في المفهوم، كما إذا قيل إن كان هذا
رمانا فلا تأكله لأنه حامض، فان مقتضى عموم التعليل المنع عن اكل كل حامض
ومقتضى مفهوم القضية الشرطية جواز الاكل ان لم يكن رمانا، فيقع التنافي
بينهما في حامض غير الرمان، فيكون عموم التعليل مانعا عن ظهور القضية
الشرطية في المفهوم. وهذا بخلاف الآية الشريفة، فان المفهوم فيها حاكم على
عموم التعليل على ما عرفت، فلا تنافي بينهما ليكون التعليل مانعا عن ظهور
الجملة الشرطية في المفهوم.
ثم إنه ربما يستشكل على كون المفهوم حاكما على التعليل بأنه لو اقتصر في
التعليل بقوله تعالى: (ان تصيبوا قوما بجهالة) لأمكن الالتزام بكون المفهوم
حاكما على التعليل، باعتبار ان خبر العادل قد اعتبر علما بالتعبد، فهو خارج
عن الجهالة موضوعا ببركة التعبد، ولكن التعليل في الآية المباركة مذيل بما
يكون معه مانعا عن المفهوم، وهو قوله تعالى: (فتصبحوا على ما فعلتم
نادمين) إذ الدم لا يكون الا لأجل الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع، وهذا
التعليل مانع عن المفهوم، لان العمل بخبر العادل أيضا لا يؤمن معه من الندم
الناشئ من الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع.
وفيه ان الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع (تارة) يكون مع العمل
بالوظيفة المقررة شرعا. و (أخرى) يكون مع عدم العمل بها، والأول كما
إذا عمل بالبينة الشرعية في مورد. ثم انكشف خلافها، والثاني كما إذا عمل
بخلاف البينة فوقع في مفسدة مخالفة الواقع، والندم في القسم الأول مما لا اثر له
إذ المكلف فيه معذور في مخالفة الواقع، ولا يكون مستحقا للعقاب، بخلاف
164

الندم في القسم الثاني، فان المكلف لا يكون معذورا في مخالفة الواقع، ويكون
مستحقا للعقاب. وليس المراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الأول قطعا
وإلا يسقط جميع الامارات والطرق عن الحجية في الشبهات الحكمية والموضوعية
لأن احتمال الوقوع في مخالفة الواقع موجود في الجميع، بل في القطع الوجداني
أيضا، لاحتمال كونه جهلا مركبا، وان لم يكن القاطع ملتفتا حين قطعه إلى
ذلك. وبالجملة مجرد الندم على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع مع كون المكلف
عاملا بالوظيفة غير مستحق للعقاب لا يكون منشأ لاثر من الآثار، ولا يصح
التعليل به، فالمراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الثاني أي الندامة على
الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع، مع كونه غير معذور في ذلك مستحقا للعقاب
وخبر العادل علي تقدير حجيته خارج عن هذا التعليل موضوعا، إذ المكلف
العامل بالحجة المعتبرة معذور في مخالفة الواقع غير مستحق للعقاب، فصح
ما ذكرناه من أن المفهوم علي تقدير دلالة الجملة الشرطية عليها بنفسها حاكم على
عموم التعليل، لا ان التعليل مانع عن المفهوم.
وقد يستشكل أيضا على كون المفهوم حاكما على التعليل بأن معنى الحكومة
أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له بالتوسعة أو بالتضييق في
الموضوع بلحاظ الأثر الثابت له في الدليل المحكوم، فيكون الدليل الحاكم مثبتا
لذلك الأثر لغيره، بلسان ثبوت الموضوع، كما في قوله: (الفقاع خمر
استصغره الناس) أو نافيا له عن بعض مصاديقه بلسان نفي الموضوع كقوله:
(لا ربا بين الوالد والوالد) فيكون الحاكم دائما ناظرا إلى الأثر الثابت في الدليل
المحكوم فيثبته بلسان ثبوت الموضوع أو ينفيه بلسان نفي الموضوع، وهذا هو
معنى الحكومة، وهو لا ينطبق على المقام، إذ المستفاد من المفهوم أولا عدم
وجوب التبين عن خبر العادل، ويستكشف منه ان الشارع قد اعتبره علما فلا معنى
165

للحكومة بمعنى خروج خبر العادل عن التعليل موضوعا بلحاظ عدم وجوب التبين
عنه، إذ المفروض ان عدم وجوب التبين عن خبر العادل هو المستفاد من المفهوم أولا
ثم يستكشف منه ان الشارع قد اعتبره علما. فكيف يمكن الالتزام بأنه خارج عن
عموم التعليل موضوعا فلا يجب التبين عنا؟.
وان شئت قلت إن الحكومة إنما هي فيما إذا كان لسان الدليل الحاكم نفي
الموضوع وكان الغرض منه نفي الحكم كما في قوله: (لا ربا بين الوالد والولد)
واما لو كان لسان الدليل نفي الحكم من أول الامر فليس هناك حكومة بل تخصيص
لا محالة كما لو كان لسان الدليل هكذا: لا يحرم الربا بين الوالد والوالد فإنه مخصص
لأدلة حرمة الربا لا انه حاكم عليها، والمقام من هذا القبيل بعينه إذ المستفاد من
المفهوم أولا عدم وجوب التبين عن خبر العادل ويستكشف منه حجيته وانه اعتبر
علما فيكون المفهوم مخصصا للتعليل الدال على وجوب التبين عن كل خبر غير علمي
لا انه حاكم عليه، والمفروض عدم امكان الالتزام بالتخصيص لكون ظهور العام
أقوى من ظهور الفضية الشرطية في الفهوم بل التعليل بنفسه آب عن التخصيص في
نفسه، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى: (ان تصيبوا قوما
بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فيكون التعليل مانعا عن انعقاد الظهور
للقضية الشرطية في المفهوم.
هذا ملخص الاشكال الذي ذكره بعض الأعاظم بتوضيح منا، والانصاف
انه كلام علمي دقيق وان كان غير تام إذ يمكن الجواب عنه بان الحكومة
على قسمين:
(القسم الأول) - هو ما ذكر في الاشكال وهو ان يكون الحاكم ناظرا إلى
المحكوم وشارحا له بالتصرف في الموضوع تضييقا أو توسعة بلحاظ الأثر الثابت
له في الدليل المحكوم وقد ذكر أمثلته، وهذا النوع من الحكومة انما هو فيما
166

إذا لم يكن الموضوع بنفسه قابلا للتعبد كالخمر في قوله عليه السلام الفقاع خمر استصغره
الناس، وكذا الربا بين الوالد والولد، فان الفقاع ليس من افراد الخمر بالوجدان
فكيف يمكن التعبد بأنه خمر مع قطع النظر عن الأثر الشرعي، وكذا الربا بمعنى
الزيادة موجود بين الوالد والولد بالوجدان، فكيف يمكن التعبد بأنه لا ربا بينهما مع
قطع النظر عن الأثر الشرعي؟ فلا محالة يكون التعبد ناظرا إلى الأثر الشرعي
الثابت للموضوع فيثبته لغيره كما في قوله عليه السلام الفقاع خمر، أو ينفيه عن بعض
مصاديقه كما في قوله عليه السلام: لا ربا بين الوالد والولد. غاية الامر ان اثبات الأثر
ونفيه انما هو بلسان نفي الموضوع واثباته.
(القسم الثاني) - من الحكومة ما إذا كان الموضوع بنفسه قابلا للتعبد بلا
احتياج إلى لحاظ اثر شرعي فيتعبد بموضوع ولو لم يكن له اثر شرعي أصلا كالعلم
فإنه يصح ان يعتبر الشارع امارة غير علمية علما وان لم يكن للعلم اثر شرعي أصلا
فيترتب على الامارة الآثار العقلية للعلم من التنجيز والتعذير، والمقام من هذا
القبيل فإنه بعد ما استفدنا من المفهوم عدم وجوب التبين عن خبر العادل يستكشف
منه أن خبر العادل قد اعتبر علما للملازمة بينهما، فيكون خبر العادل خارجا عن
عموم التعليل موضوعا بالتعبد، وهو من الحكومة بهذا المعنى الثاني لا بمعنى ان
خبر العادل قد اعتبر علما بلحاظ اثره الشرعي وهو عدم وجوب التبين عنه فإنه
ليس من آثار العلم بل لا معنى له، إذ العلم هو نفس التبين فلا يعقل ان يكون
عدم وجوب التبين من آثاره، ومن هذا النوع من الحكومة حكومة الامارات
على الأصول العملية وحكومة قاعدة الفراغ والتجاوز على الأصول الجارية في
الشبهات الموضوعية، فلا مانع من كون المفهوم حاكما على عموم التعليل مع
قطع النظر عن لحاظ ترتب الأثر وهو عدم وجوب التبين فلاحظ وتأمل.
وقد يستشكل أيضا على كون المفهوم حاكما على التعليل بان المفهوم متفرع
167

على المنطوق ومترتب عليه، لان دلالة اللفظ على المعنى الالتزامي فرع دلالته على
المعنى المطابقي كما هو ظاهر، فالمفهوم متأخر رتبة عن المنطوق تأخر المعلول عن
علته، وحيث إن المنطوق متأخر رتبة عن التعليل لكونه معلولا له فلا يعقل ان
يكون المفهوم حاكما على التعليل إذ ما يكون متأخرا عن الشئ رتبة يمكن ان
يكون حاكما عليه.
وهذا الاشكال مردود بوجوه: (الأول) - ان تأخر المفهوم عن المنطوق انما
هو في مقام الكشف والدلالة بمعنى ان دلالة القضية على المفهوم متأخرة رتبة عن
دلالتها على المنطوق، واما نفس المفهوم فليس متأخرا عن المنطوق. (وبعبارة
أخرى عدم وجوب التبين عن خبر العادل ليس متأخرا عن وجوب التبين عن خبر
الفاسق، و بعبارة ثالثة واضحة حجية خبر العادل ليست متأخرة عن عدم حجية
خبر الفاسق بل المتأخر كشف القضية عن حجية خبر العادل عن كتفها عن عدم
حجية خبر الفاسق، و الحاكم على التعليل انما هو نفس المفهوم لا كشفه، فما هو
متأخر رتبة عن المنطوق ليس حاكما على التعليل وما هو حاكم عليه ليس متأخرا
عن المنطوق.
(الثاني) - انه لو سلم كون المفهوم بنفسه متأخر عن المنطوق كان ذلك مانعا
عن الحكومة بالمعنى الأول وهي ان يكون الحاكم ناظرا إلى المحكوم وشارحا له
باعتبار ان ما يكون متأخرا عن الشئ رتبة لا يعقل ان يكون شارحا له. وأما
الحكومة بالمعنى الثاني وهي ان يكون مفاد الحاكم خارجا موضوعا عن مفاد
المحكوم بالتعبد فلا مانع منها إذ كون المفهوم متأخرا عن المنطوق رتبة لا يمنع
من خروج المفهوم عن عموم التعليل موضوعا بالتعبد كما هو واضح
(الثالث) - انه لو سلم كون التأخر الرتبي مانعا عن الحكومة بكلا معنييه فإنما
هو فيما إذا كان التعليل مولويا بان يكون المراد منه حرمة إصابة القوم بجهالة.
168

وأما إذا كان التعليل ارشادا إلى ما يحكم به العقل من عدم جواز العمل بما لا يؤمن
معه من العقاب المحتمل فلا مانع من كون المفهوم حاكما عليه إذ بعد حجية خبر
العادل كان العمل به مأمونا من العقاب وكان خارجا عن حكم العقل موضوعا،
وقد ذكرنا سابقا ان الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ومنها التعليل في آية النبأ
ارشاد إلى حكم العقل.
(الوجه الثاني) - من الاشكال على الاستدلال بالآية الشريفة انه ان أريد
بالتبين المذكور في الآية خصوص العلم فيكون العمل به لا بخبر الفاسق، إذ مع
العلم الوجداني كان ضم خبر الفاسق إليه من قبيل ضم الحجر إلى جنب الانسان
وحيث إن العمل بالعلم الوجداني واجب عقلا كان الامر به في الآية الشريفة
ارشادا إليه لا محالة، ولا يستفاد المفهوم من الامر الارشادي، فلا مفهوم للآية
الشريفة، وإن أريد بالتبين مجرد الوثوق يقع التنافي بين المفهوم والمنطوق بمعنى
عدم إمكان العمل بهما معا، إذ مقتضى المنطوق حجية خبر الفاسق الموثوق به بان
يكون متحرزا عن الكذب وان لم يكن عادلا، ومقتضى المفهوم حجية خبر
العادل وإن لم يحصل الوثوق به كما إذا كان معرضا عنه عند الأصحاب والعلماء بين
من اعتبر العدالة في حجية الخبر ولم يكتف بمجرد الوثوق، وبين من اعتبر
الوثوق ولم يعمل بخبر العادل الذي لا يوجب الوثوق كما إذا كان معرضا عنه عند
الأصحاب. فالجمع بين العمل بخبر الفاسق الموثوق به بمقتضى المنطوق، والعمل
بخبر العادل وان لم يوجب الوثوق بمقتضى المفهوم احداث لقول ثالث. وهذا
هو المراد من عدم امكان العمل بالمنطوق والمفهوم معا، فيدور الامر بين رفع اليد
عن أحدهما ولا ينبغي الشك في أن المتعين هو رفع اليد عن المفهوم لأنه مترتب على
المنطوق ومتفرع عليه فلا يمكن الاخذ به مع رفع اليد عن المنطوق فتكون
النتيجة انه لا مفهوم للآية المباركة على كلا التقديرين.
169

وهذا الاشكال غير وارد على الاستدلال بالآية سواء كان المراد من التبين
هو خصوص العلم أو مجرد الوثوق، وذلك لأنه إن كان المراد منه خصوص العلم
لا يلزم منه انتفاء المفهوم، إذ ليس في الآية امر بالعمل بالعلم ليكون ارشادا إلى حكم
العقل بل امر بتحصيل العلم عند إرادة العمل بخبر الفاسق، ومفهومه عدم وجوب
تحصيل العلم عند العمل بخبر العادل ولازمه حجية خبر العادل وهو المطلوب.
وان كان المراد مجرد الوثوق لا يلزم التنافي بين المنطوق والمفهوم أصلا، إذ
مقتضى المنطوق حجية خبر الفاسق الموثوق به كما ذكر ولا كلام فيه، ومقتضى
المفهوم حجية خبر العادل وان لم يوجب الوثوق كما إذا اعرض الأصحاب عنه.
فان قلنا بان اعراض المشهور لا يوجب سقوط الخبر عن الحجية ولا عملهم بخبر
ضعيف يوجب الانجبار على ما اخترناه أخيرا، فلا محذور حينئذ، إذ يؤخذ
بالمفهوم على إطلاقه، ويحكم بحجية خبر العادل ولو مع اعراض المشهور عنه.
وان قلنا بأن إعراض المشهور يوجب سقوط الخبر عن الحجية، واعتمادهم يوجب
الانجبار كما هو المشهور، فيرفع اليد عن إطلاق المفهوم ويقيد بما إذا لم يكن
معرضا عنه عند الأصحاب، وليس فيه تناف بين المنطوق والمفهوم ولا إحداث
قول ثالث. هذا كله مضافا إلى أنه ليس المراد من التبين خصوص العلم ولا
خصوص الوثوق، بل المراد منه هو الجامع الأعم منهما، على ما سيجئ تحقيقه
قريبا إن شاء الله تعالى.
(الوجه الثالث) من الاشكال - ان مورد الآية هو الاخبار بارتداد بنى
المصطلق، ولا إشكال في عدم صحة الاعتماد على خبر العدل الواحد في ارتداد
شخص واحد، فضلا عن ارتداد جماعة، فلو كان للآية الشريفة مفهوم لزم
خروج المورد، وهو امر مستهجن لا يمكن الالتزام به، فيستكشف من ذلك أنه
لا مفهوم لها.
170

وأجاب عنه شيخنا الأنصاري (ره) بما حاصله ان الموضوع لوجوب التبين
عن النبأ هو طبيعي الفاسق، فيشمل الواحد والاثنين والأكثر، ما لم يصل إلى
حد التواتر، فيكون الموضوع في المفهوم أيضا طبيعي العادل، وإطلاقه وان
كان يشمل الواحد والأكثر، إلا أنه يرفع اليد عن الاطلاق في خصوص المورد
ويقيد بالمتعدد، وليس فيه خروج المورد عن المفهوم.
وأورد عليه بعض الأعاظم بأنه ان كان التبين بمعنى العلم، كان العمل به
واجبا عقلا، فيكون الامر به إرشاديا لا مفهوم له على ما تقدم، وإن كان
بمعنى الوثوق لزم خروج المورد من منطوق الآية، ضرورة عدم جواز الاعتماد
على خبر الفاسق الموثوق به في الارتداد، وخروج المورد امر مستهجن
كما تقدم.
وفيه (أولا) - ما تقدم من أنه لو كان المراد من التبين هو العلم لا يلزم
كون الامر في الآية إرشاديا، إذ الواجب عقلا هو العمل بالعلم، والمستفاد
من الآية هو تحصيل العلم لا العمل به. و (ثانيا) - ان التبين المذكور في
الآية ليس بمعنى العلم ليلزم كون الامر إرشاديا، ولا بمعنى الوثوق ليلزم
خروج المورد عن المنطوق، بل المراد منه المعنى اللغوي وهو الظهور، كما يقال
ان الشئ تبين إذا ظهر، فالامر بالتبين امر بتحصيل الظهور وكشف الحقيقة
في النبأ الذي جاء به الفاسق، وهو كناية عن عدم حجية خبر الفاسق في نفسه
فيجب عند إرادة العمل بخبره تحصيل الظهور وكشف الواقع من الخارج. ومن
الظاهر أن ظهور الشئ بطبعه انما هو بالعلم الوجداني. واما غيره فيحتاج إلى
دليل يدل على تنزيله منزلة العلم، ومفهوم الآية عدم وجوب التبين في خبر
العادل، فيدل بالملازمة العرفية على حجيته، فيكون ظاهرا بنفسه بلا احتياج
إلى تحصيل الظهور من الخارج. فلو كنا نحن والآية الشريفة لم نعمل بخبر
171

الفاسق في شئ من الموارد بمقتضى المنطوق، وعملنا بخبر العادل في جميع الموارد
بمقتضى المفهوم. إلا أنه في كل مورد ثبتت حجية خبر الثقة فيه كما في الأحكام الشرعية
، إذ قد ثبتت حجيته فيها بالسيرة القطيعة الممضاة عند الشارع، على
ما سيجئ الكلام فيها قريبا إن شاء الله تعالى، بل في الموضوعات أيضا إلا فيما
اعتبرت فيه البينة الشرعية، كما في موارد الترافع مثلا، فيستكشف من دليل
حجية خبر الثقة ان الشارع قد اعتبره ظهورا، فلا يلزم منه رفع اليد عن المنطوق
لأن مفاد المنطوق تحصيل الظهور عند العمل بخبر الفاسق، وبعد كون خبر
الثقة حجة في مورد بحكم الشارع يحصل الظهور به في ذلك المورد، وفي كل
مورد ثبت من الشرع اعتبار البينة الشرعية وعدم جواز الاعتماد على خبر العدل
الواحد فيه، فضلا عن خبر الثقة غير العادل، كما في موارد الترافع، وفي
الاخبار عن مثل الارتداد يستكشف منه أن الشارع لم يعتبر خبر العدل الواحد
فيه ظهورا، فيلزم تقييد المفهوم الدال على حجية خبر العادل على الاطلاق بما
إذا كان متعددا، كما ذكره الشيخ (ره).
فتحصل أن عدم صحة الاعتماد علي خبر الفاسق الموثوق به في مورد الآية -
وهو الاخبار عن الارتداد - إنما هو لدليل دل على اعتبار البينة الشرعية في مثله
فيستكشف منه أن الشارع لم يعتبره ظهورا، فليس فيه خروج عن المنطوق،
بل مطابق للمنطوق، وكذا عدم صحة الاعتماد في المورد بخبر العدل الواحد
إنما هو لما دل على اعتبار البينة الشرعية، فيكون تقييدا للمفهوم بالدليل الخارج
لا رفع اليد عن المفهوم، فلا يكون هناك خروج المورد عن المنطوق ولا
عن المفهوم.
ثم إنه قد استشكل على حجية خبر الواحد باشكالين لا اختصاص لهما
بالاستدلال بآية النبأ، بل يجريان على تقدير الاستدلال بغيرها أيضا من الأدلة
172

التي أقيمت على حجية خبر الواحد، ونذكرهما هنا استغناء عن ذكرهما عند
التعرض لباقي الأدلة:
(الاشكال الأول) - انه لو كان خبر الواحد حجة لزم منه عدم حجيته،
إذ من جملة الخبر نقل السيد المرتضى (ره) الاجماع على عدم حجية الخبر،
ويكون حجة على الفرض ولزم من حجيته عدم حجية الخبر. وهذا الاشكال
مردود بوجوه:
(الأول) - ان خبر السيد حدسي، وقد تقدم في بحث الاجماع المنقول
أنه لا ملازمة بين حجية الخبر الحسي والخبر الحدسي. (الثاني) - ان نقله
معارض بنقل الشيخ (ره) الاجماع على حجية الخبر، فيسقطان، لان أدلة
الحجية غير شاملة للمتعارضين لعدم إمكان التعبد، بالمتناقضين. (الثالث) -
أنه يستحيل شمول أدلة الحجية لخبر السيد (ره) إذ يلزم من وجوده عدمه،
لأنه لو كان خبر السيد حجة لزم منه عدم حجية كل خبر غير علمي، وبما أن
خبر السيد (ره) بنفسه غير علمي، لزم كونه غير حجة، فيلزم من حجية خبر
السيد عدم حجيته، وما لزم من وجوده عدمه محال، بداهة استحالة اجتماع
النقيضين. (الرابع) - أنه مع الاغماض عن جميع ما تقدم، دليل الحجية غير
شامل لخبر السيد (ره) قطعا، لدوران الامر بين دخوله في أدلة الحجية
وخروج ما عداه، وبين العكس، والثاني هو المتعين، لأن الأول يستلزم
أبشع أنواع تخصيص الأكثر المستهجن، وهو التخصيص إلى الواحد، ومن
الواضح أنه لا يحتمل أن يكون المراد من مفهوم آية النبأ وآية السؤال وآية النفر
وغيرها من أدلة حجية الخبر خصوص خبر السيد (ره) كيف؟ وهو مستلزم
لبشاعة أخرى غير تخصيص الأكثر المستهجن، وهي بيان أحد النقيضين بذكر
النقيض الآخر، أي بيان عدم حجية الخبر بعنوان حجية الخبر، وفيه من
173

القبح ما لا يخفى.
ودعوى - أن الامر دائر بين شمول أدلة الحجية لخبر السيد (ره)
والاخبار المتحققة قبله، وبين شمولها لجميع الاخبار ما عدا خبر السيد (ره)
باعتبار ان أدلة الحجية تشمل خبر السيد (ره) من حين تحققه، وشمولها له من
ذلك الحين إنما يمنع من شمولها للاخبار المتحققة بعده لا الاخبار المتحققة قبله،
فإنها كانت مشمولة لأدلة الحجية في زمان لم يتحقق خبر السيد (ره) فيه، فهو
غير مانع عن شمولها لها، فلا يلزم من دخول خبر السيد (ره) في أدلة الحجية
تخصيص الأكثر المستهجن مدفوعة (أولا) - بأن المحكي بخبر السيد (ره)
عدم حجية طبيعي خبر الواحد في الشريعة المقدسة، لا خصوص الاخبار المتأخرة
فنفس خبر السيد (ره) وإن كان متأخرا عن الاخبار المتحققة قبله، إلا أن
الذي يخبر به السيد (ره) هو عدم حجية الخبر في الشريعة مطلقا، لا خصوص
الاخبار المتأخرة، فلو كان خبر السيد (ره) مشمولا لأدلة الحجية لزم منه عدم
حجية غيره من الاخبار مطلقا: متقدمة كانت أو متأخرة. وهذا هو التخصيص
المستهجن. ولا يحتمل ان يكون مفاد خبر السيد (ره) عدم حجية الخبر من
حين صدوره لا الاخبار الصادرة قبله، والا كان نسخا، فلا يكون حجة بلا
خلاف وإشكال، إذ من المعلوم عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد.
و (ثانيا) - بأنا نقطع بعدم الفرق بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة، وأن
ملاك الحجية في الأخبار المتقدمة على خبر السيد (ره) بعينه موجود في الاخبار
المتأخرة عنه، فالتفصيل بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة فاسد قطعا، فإذا يدور
الامر بين ان يكون خبر السيد (ره) مشمولا لأدلة الحجية دون غيره، وأن
يكون غيره حجة دونه. ولا خفاء في أن الأول من التخصيص المستهجن،
فتعين الثاني.
174

ثم إنه قد استشكل بعض الأعاظم على شمول أدلة الحجية لخبر السيد (ره)
بوجهين: (الوجه الأول) - أن الموضوع في أدلة الحجية هو الخبر الذي شك
في كونه مطابقا للواقع أو غير مطابق له، إذ لا معنى لحجية الخبر مع العلم
بكونه مطابقا للواقع أو مع العلم بكونه غير مطابق له، وعليه فكل خبر كان
مفاده حجية الخبر كخبر الشيخ (ره) أو عدم حجية الخبر كخبر السيد (ره)
لا يكون مشمولا لأدلة الحجية، إذ لازم كونه مشمولا لها أن يكون مشكوك
المطابقة للواقع. وحيث أن مفاده نفس حجية الخبر أو اعدم حجيته، لزم
فرض الشك في الحجية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجية. ومن الواضح ان
الشك في شئ في رتبة متأخرة عن ذلك الشئ، ولذا نقول إن الحكم الظاهري
متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين، إذ الموضوع للحكم الظاهري هو الشك في
الحكم الواقعي، فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخر الحكم
عن موضوعه، و الشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي تأخر العارض
عن معروضه، إذ لو لم يكن في الواقع شئ لم يمكن الشك في تعيينه، فيلزم
تأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين. وكذا في المقام
كان الشك في الحجية متأخرا عن الحجية تأخر العارض عن المعروض، فيلزم ان
تكون الحجية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجية. والمفروض ان الحجية
مستفادة منها، فيلزم كون الحجية متقدمة ومتأخرة، وهو محال.
و (بعبارة أخرى) شمول إطلاق أدلة الحجية لاخبار السيد (ره) بعدم
حجية الخبر أو لاخبار الشيخ (ره) بحجيته يستلزم شمول الاطلاق لمرتبة الشك
في مضمون نفسها، إذ التعبد بالحجية لاخبار السيد بها أو بعدم الحجية لاخبار
الشيخ بها إنما هو في ظرف الشك في الحجية الذي هو عين الشك في مضمون أدلة
الحجية، ومن المعلوم استحالة شمول إطلاق دليل لمرتبة الشك في مضمون نفس
175

هذا الدليل. وإن شئت قلت إنه يلزم التعبد بالحجية مع التحفظ بالشك فيها
أو يلزم التعبد بشمول إطلاق أدلة الحجية مع التحفظ بالشك في مضمونها، وهو
واضح البطلان. هذا ملخص ما ذكره من الاشكال الأول بتوضيح منا.
وفيه (أولا) - النقض بما إذا أخبر كاذب بعدم حرمة الكذب في الشريعة
فإنه لا إشكال في شمول أدلة حرمة الكذب لهذا الخبر، مع أن المحذور المذكور
- على تقدير تماميته - يجري فيه أيضا، فيقال إن شمول إطلاق أدلة حرمة
الكذب لهذا الخبر الذي مفاده عدم حرمة الكذب في الشريعة متوقف على كون
الخبر المذكور كاذبا في رتبة سابقة على أدلة حرمة الكذب. وكذبه عبارة
عن حرمة الكذب في الشريعة، إذ مفاده عدم حرمة الكذب. والمفروض ان
حرمة الكذب مستفادة من نفس هذه الأدلة.
و (ثانيا) - الحل بأن الاطلاق عبارة عن رفض القيود والغائها
لا الاخذ بجميع القيود، فان مفاد اطلاق قولنا الخمر حرام أن الخمر بلا لحاظ كونه
احمر أو اسود وغيرهما من الخصوصيات حرام، لا أن الخمر بقيد كونه احمر
وبقيد كونه اسود حرام، وهكذا بالنسبة إلى سائر ما يتصور له من
الخصوصيات، فلا يلزم في شمول إطلاق أدلة الحجية لخبر السيد (ره) أو لخبر
الشيخ (ره) لحاظ ما فيهما من الخصوصية، كي يلزم المحذور المذكور، فلا
مانع من شمولها لهما من هذه الجهة.
(الوجه الثاني) - من الاشكال ان المقام من صغريات دوران الامر بين
التخصيص والتخصص، إذ على تقدير شمول أدلة الحجية لما سوى خبر السيد
(رحمه الله) من الاخبار يكون خبر السيد خارجا موضوعا، لأنا نقطع حينئذ
بعدم مطابقة خبر السيد (ره) للواقع، باعتبار ان شمولها لغير خبر السيد (ره)
من الاخبار ملازم لعدم كون خبر السيد (ره) مطابقا للواقع، فيكون خارجا
176

عن أدلة الحجية من باب التخصص، لما ذكرناه من أن الموضوع في أدلة الحجية
هو الخبر المشكوك مطابقته للواقع. وهذا بخلاف شمول إطلاق أدلة الحجية
لخبر السيد (ره) فإنه لا يوجب القطع بعدم مطابقة غيره من الاخبار للواقع،
إذ ليس مفادها حجية الخبر كي يلزم من شمول أدلة الحجية لخبر السيد (ره)
القطع بعدم مطابقتها للواقع، بل مفادها أمور مختلفة من وجوب شئ وحرمة
شئ آخر، وجزئية شئ للصلاة مثلا وشرطية شئ آخر لها. وهكذا، ولا
ريب في وجود الشك في هذه الأمور ولو مع القطع بحجية خبر السيد (ره)،
فخروجها عن أدلة الحجية يكون من باب التخصيص لا محالة، وإذا دار الامر
بين التخصيص والتخصص تعين الالتزام بالثاني.
وهذا الوجه أيضا غير تام، لأن تقديم التخصص على التخصيص - عند
دوران الامر بينهما - إنما هو في خصوص باب المعارضة بين الدليلين، سواء
كان التنافي بين مدلوليهما بالذات، كما إذا دل أحدهما على وجوب شئ والآخر
على عدم وجوبه، أو بالعرض كما إذا دل دليل على وجوب صلاة الجمعة والآخر
على وجوب صلاة الظهر، فإنه وان لم يكن بينهما تناف بالذات لامكان وجوب
صلاة الجمعة والظهر معا، إلا أنا نعلم إجمالا من الخارج بعدم وجوب صلاتين
فلأجل هذا العلم الاجمالي يحصل التنافي والتكاذب بينهما بالعرض.
وبالجملة إذا وقع التعارض بين دليلين أو أصلين، وكان الاخذ بأحدهما
موجبا لخروج الآخر عن دليل الحجية من باب التخصص، والاخذ بالآخر
مستلزما لخروج الأول عنه بالتخصيص، كان المتعين هو الاخذ بالأول،
والالتزام بالتخصص، عملا بأصالة العموم أو الاطلاق، كما في التعارض بين
الأصل السببي والأصل المسببي، فان جريان الأصل السببي يرفع الشك عن المسبب
فيكون خارجا عن أدلة الأصول من باب التخصص، بخلاف جريان الأصل المسبب
177

فإنه لا يرفع الشك عن السبب، فيكون مورده خارجا عن أدلة الأصول من باب
التخصيص لا محالة، فإذا شككنا في طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء
مستصحب الطهارة، كان جريان استصحاب الطهارة في الماء موجبا لرفع الشك
عن نجاسة الثوب بالتعبد الشرعي، فيخرج عن أدلة الاستصحاب، كقوله عليه السلام:
(لا تنقض اليقين بالشك) من باب التخصص بخلاف جريان استصحاب النجاسة
في الثوب، فإنه لا يرفع الشك عن طهارة الماء، فيكون خروجه عن أدلة
الاستصحاب من باب التخصيص وكذا الحال في سائر موارد دوران الامر بين
التخصيص والتخصص عند تعارض الأدلة الاجتهادية أو الأصول العملية.
وهذا بخلاف المقام، فإنه لا تنافي بين خبر السيد (ره) وغيره من
الاخبار بما لهما من المدلول، لا بالذات كما هو ظاهر، لعدم التنافي بين عدم
حجية غير خبر السيد من الاخبار وبين وجوب شئ وحرمة شئ آخر وغيرهما مما هو
مفاد الاخبار، ولا بالعرض لعدم علم اجمالي لنا بعدم مطابقة أحدهما للواقع،
إذ يمكن ان لا تكون الاخبار حجة، ومع ذلك كان مفادها من الوجوب والحرمة
وغيرهما ثابتا في الشريعة المقدسة، فلا تنافي بين خبر السيد (ره) وغيره من
الاخبار من حيث المدلول، لا بالذات ولا بالعرض، انما التنافي بينهما من حيث
شمول دليل الحجية لهما، لان مفاد خبر السيد عدم حجية غيره من الاخبار،
فلا يمكن الالتزام بحجيته وحجية غيره، وفي مثله لا وجه لتقديم التخصص على
التخصيص، بل المتعين هو العكس. والوجه في ذلك أن مرجع تقديم التخصص
على التخصيص إلى التمسك بأصالة العموم أو الاطلاق، كما مرت الإشارة إليه.
وفي المقام لا يمكن التمسك بأصالة العموم، لان خبر السيد الدال على عدم حجية
الاخبار يكون قرينه عرفية على التخصيص. و (بعبارة أخرى) كان خبر السيد
شارحا للمراد من العموم، فيكون حاكما على أصالة العموم أو الاطلاق حكومة
178

القرينة على ذيها، فلا يبقى شك في التخصيص كي يتمسك بأصالة الاطلاق.
ونظير المقام ما إذا وردت رواية دالة على وجوب شئ مثلا، ووردت رواية
أخرى دالة على عدم حجية الرواية الأولى، فإنه لا ينبغي الاشكال في الاخذ
بالرواية الثانية الدالة على عدم حجية الرواية الأولى، وان لزم منه التخصيص في
أدلة حجية الخبر ولا يؤخذ بالرواية الأولى وان كان الالتزام بدخولها تحت أدلة
الحجية يوجب القطع بعدم مطابقة الرواية الثانية للواقع، فتخرج عن أدلة
الحجية بالتخصص، وذلك لان الرواية الثانية الدالة على عدم حجية الرواية الأولى
شارحة لأدلة الحجية، وقرينة عرفية على المراد منها، فهي حاكمة على أصالة
العموم أو الاطلاق في أدلة الحجية. والمقام من هذا القبيل بعينه فلاحظ وتأمل
(الاشكال الثاني) - على حجية خبر الواحد الذي لا اختصاص له
بالاستدلال بآية النبأ، بل يجري على الاستدلال بجميع الأدلة التي أقيمت على
حجية الخبر - هو ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) وهو مختص بالاخبار الحاكية
لقول الإمام عليه السلام بالواسطة، ويقرر بوجهين:
(الوجه الأول) - ان فعلية كل حكم متوقفة على فعلية موضوعه، فلا بد
من إحراز الموضوع ليحرز فعلية الحكم، وفي المقام الخبر المحرز لنا بالوجدان
هو خبر الكليني (ره) أو الشيخ (ره) أو غير هما ممن هو في آخر سلسلة الرواة
فيحكم بحجيته بمقتضى أدلة حجية الخبر. واما خبر من يروي عنه الكليني (ره) وخبر
من تقدمه من الرواة إلى أن ينتهي إلى المعصوم عليه السلام، فهو غير محرز لنا بالوجدان
بل يحرز بالحكم بحجية خبر الكليني (ره) فهو متأخر عن الحكم بالحجية، فكيف
يحكم عليه بهذا الحكم، فإنه من تأخر الموضوع عن حكمه. و (بعبارة أخرى)
إن موضوع كل حكم متقدم عليه رتبة، لاستحالة فعلية الحكم بلا فعلية موضوعه
فيستحيل أن يكون حكم موجبا لاحراز موضوعه، فإذا فرض ان حكما أوجب
179

إحراز موضوع امتنع ثبوت ذلك الحكم له، ففي المقام يحرز خبر من تقدم على
الكليني (ره) بحجية خبر الكليني، فيمتنع أن يحكم عليه بالحجية، والا لزم
تأخر الموضوع عن الحكم.
ويمكن الجواب عن هذا الاشكال (أولا) بالنقض بالاقرار بالاقرار،
فإنه يحكم بنفوذ إقراره الفعلي بمقتضى قاعدة الاقرار، ويثبت به إقراره الأول
ثم يحكم بمقتضاه، وبالبينة على البينة. فإنه يحكم بحجيتها بمقتضى أدلة حجية
البينة، وبها تثبت البينة المشهود بها ثم يحكم بحجيتها. و (ثانيا) - بالحل،
وهو انه ليس هنا حكم شخصي لموضوعات متعددة كان احراز بعضها مستندا إلى
ثبوت ذلك الحكم لبعض آخر منها. حتى يتوجه الاشكال المذكور، فان حجية
الخبر مجعولة بنحو القضية الحقيقية، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية،
وهي منحلة إلى احكام متعددة حسب تعدد الموضوع، على ما هو الشأن في القضايا
الحقيقة، فلا محذور في أن يكون ثبوت الحجية لخبر الكليني (ره) موجبا
لاحراز خبر من يروي عنه الكليني (ره) فيترتب عليه فرد آخر من الحجية،
لا عين الحجية الثابتة لخبر الكليني (ره) التي بها أحرز هذا الخبر، وهكذا
الحال بالنسبة إلى آخر سلسلة الرواة، وكذا الحال في الاقرار بالاقرار والبينة
على البينة، ولا حاجة إلى الإعادة.
(الوجه الثاني) - ان التعبد بحجية الخبر يتوقف على أن يكون المخبر به
بنفسه حكما شرعيا أو ذا أثر شرعي، مع قطع النظر عن الحجية ليصح التعبد بها
بلحاظه، فان التعبد بحجية الخبر - فيما لم يكن الخبر به حكما شرعيا ولا ذا اثر
شرعي - لغو محض، وعليه فدليل الحجية لا يشمل مثل اخبار الشيخ عن خبر
المفيد، لان المخبر به وهو خبر المفيد ليس حكما شرعيا ولا ذا اثر شرعي، مع
قطع النظر عن دليل الحجية، وهذا الاشكال جار في اخبار جميع سلسلة الرواة
180

إلا الأخير الذي ينقل عن المعصوم عليه السلام، فان المخبر به في خبره هو قول المعصوم
عليه السلام فلا محالة يكون حكما شرعيا من وجوب أو حرمة أو غيرهما، كما هو ظاهر
وهذا الاشكال ساقط من أساسه على المختار من أن المجعول في باب الطرق
والامارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف، بمعنى ان الشارع يعتبر
الكاشف الناقص كاشفا تاما. والامارة غير العلمية علما، إذ عليه يكون التعبد
ناظرا إلى نفس الطريقية والكاشفية، بلا حاجة إلى كون المؤدى حكما شرعيا أو
ذا اثر شرعي. نعم لو قلنا بأن المجعول في باب الطرق هو تنزيل المؤدى منزلة
الواقع، يتوجه الاشكال بان التنزيل المذكور متوقف على أن يكون المؤدى
حكما شرعيا أو ذا اثر شرعي، وإلا فلا معنى لتنزيله منزلة الواقع. وسيجئ
الجواب عن الاشكال على هذا المسلك قريبا. واما على المسلك المختار من أن
المجعول هو الطريقية الكاشفية، فلا حاجة إلى اعتبار كون المؤدى حكما شرعيا
أو ذا اثر شرعي، إذ التعبد ناظر إلى نفس الطريقية والكاشفية، لا إلى المؤدى
غاية الامر انه يلزم أن لا يكون التعبد المذكور لغوا، كي يستحيل صدوره
من الحكيم. والتعبد بحجية اخبار الوسائط لا يكون لغوا، لوقوع الجميع
في سلسلة اثبات قول المعصوم عليه السلام وهذا المقدار كاف في صحة التعبد بحجية
اخبار الوسائط، فلا ملزم لاعتبار كون المخبر به في كل خبر حكما شرعيا أو ذا
اثر شرعي. واما علي المسلك المعروف من أن المجعول في باب الطرق والامارات
هو تنزيل المؤدى منزلة الوقع، فيمكن الجواب عن الاشكال المذكور بوجوه:
(الأول) - ان القضية طبيعية قد حكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، وليس
المراد هو الطبيعي المعقولي بمعنى الطبيعة بشرط لا، كقولنا الانسان نوع حتى
لا يسري الحكم من الطبيعة إلى الافراد، بل المراد هو الطبيعي الأصولي بمعني
181

الطبيعة بشرط الوجود السعي، فيسري الحكم إلى الافراد، فلا مانع من شمول
دليل الحجية لخبر الشيخ عن المفيد (ره)، مع كون الأثر الشرعي للمخبر به
وهو خبر المفيد هو نفس الحجية ووجوب التصديق، وهكذا إلى آخر الوسائط
(الثاني) - دعوى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا
الأثر، اي وجوب التصديق بعد تحققه بهذا الخطاب، وان لم يشمله لفظا لأجل
المحذور المذكور.
(الثالث) - عدم القول بالفصل بين هذا الأثر وسائر الآثار في وجوب
الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق بنفس الحكم
في الآية الشريفة، وان شئت فعبر بعدم القول بالفصل في الحجية بين الخبر بلا
واسطة والخبر مع الواسطة.
(الرابع) - وهو أحسن الوجوه - انه لم يدل دليل من آية أو رواية على
لزوم كون مؤدى الامارة حكما شرعيا أو ذا اثر شرعي، وانما نعتبر ذلك من
جهة حكم العقل بأن التعبد بأمر لا يكون له اثر شرعي لغو لا يصدر من الحكيم
ويكفي في دفع محذور اللغوية وقوع الخبر في سلسلة اثبات الحكم الشرعي الصادر
من الإمام عليه السلام (وبعبارة أخرى) يكفي في حجية اخبار الرواة ترتب الأثر
الشرعي على مجموعها من حيث المجموع، ولا ملزم لاعتبار ترتب اثر شرعي على
كل خبر، مع قطع النظر عن خبر آخر، ولا خفاء في ترتب الأثر على اخبار
مجموع الرواة الواقعة في سلسلة نقل قول المعصوم عليه السلام.
نعم لو كان في جملة الرواة الواقعة في سلسلة نقل قول المعصوم فاسق غير
موثوق به أو رجل مجهول الحال لا يشمل دليل الحجية لاخبار بقية الرواة الواقعة
في تلك السلسلة، و لو كانوا عدولا أو ثقات، لعدم ترتب اثر شرعي على المجموع
من حيث المجموع أيضا، إذ خبر الفاسق خارج عن أدلة الحجية موضوعا، وبخروجه
182

ينقطع اتصال الاخبار إلى المعصوم عليه السلام فلا يقع الباقي من الرواة في سلسة اثبات
قول المعصوم عليه السلام فلا يكون مشمولا لأدلة الحجية، لعدم ترتب اثر شرعي
عليه، فيكون التعبد بحجية لغوا.
ومن الآيات التي استدل بها على حجية خبر الواحد آية النفر، وهي قوله
تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). والاستدلال بهذه الآية الشريفة
يتوقف على اثبات أمور:
(أحدها) - ان يكون المراد انذار كل واحد من النافرين بعضا من
قومهم، لا انذار مجموع النافرين مجموع القوم، ليقال إن إخبار المجموع
وانذارهم يفيد العلم بالواقع، فيخرج عن محل الكلام في بحث حجية الخبر،
وهذا الامر ثابت، لان تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع، كما في قوله تعالى:
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) فان المراد منه ان يغسل كل واحد
وجهه ويده، لا أن يغسل المجموع وجه المجموع، كما أن طبع الحال وواقع
القضية أيضا هو ذلك، لان الطائفة النافرة للتفقه في الدين إذا رجعوا إلى أوطانهم
لا يجتمعون بحسب العادة في محل واحد ليرشدوا القوم مجتمعا، بل يذهب كل
واحد منهم إلى ما يخصه من المحل، ويرشد من حوله من القوم.
(ثانيها) - ان يكون المراد من الحذر هو التحفظ والتجنب العملي
لا مجرد الخوف النفساني، وهذا الامر أيضا ثابت، لان ظاهر الحذر هو اخذ
المأمن من المهلكة والعقوبة وهو العمل، لا مجرد الخوف النفساني.
(ثالثها) - ان يكون الحذر والتجنب العملي واجبا عند انذار المنذر،
وهذا الامر أيضا ثابت، لان كلمة (لعل) ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما
قبلها، كما يظهر من مراجعة موارد استعمالها، سواء كان استعمالها في مقام
183

الاخبار عن الأمور الخارجية، كقولك اشتريت دارا لعلي أسكنها، أو في
مقام بيان الاحكام المولوية، وعلى الثاني فان كان ما بعدها أمرا غير قابل للتكليف
كما إذا قيل تب إلى الله تعالى لعله يغفر لك، فيستفاد منها حسن تلك
الغاية وكونها أمرا مرغوبا فيه، وان لم يصح تعلق التكليف به، لعدم كونه فعلا
للعبد كي يصح البعث نحوه، وإن كان أمرا قابلا للتكليف كما إذا قيل بلغ
الاحكام إلى العبيد لعلهم يعملون بها، دل الكلام على كونه محكوما بحكم ما قبلها
من الوجوب أو الاستحباب، ضرورة ان الغاية الموجبة لا يجاب امر آخر
تكون واجبة بنفسها بطريق أولى، وكذا الحال في الغاية الموجبة لاستحباب
امر آخر، وحيث إن الحذر جعل في الآية الشريفة غاية للانذار الواجب
فيستفاد منها كونه واجبا لا محالة. وبعد تمامية هذه الأمور الثلاثة، يظهر ان
الآية المباركة تدل على وجوب التحذر العملي عند الانذار، وهذا هو معنى
حجية الخبر.
والانصاف أن دلالة هذه الآية على حجية الخبر أظهر وأتم من دلالة آية
النبأ عليها، ومع ذلك قد أورد على الاستدلال بها بوجوه:
(الأول) - ان الآية واردة لبيان وجوب التفقه والانذار، لا لبيان
وجوب الحذر، وإنما ذكر الحذر باعتبار كونه فائدة من فوائد التفقه والانذار
فلا إطلاق لها بالنسبة إلى وجوب الحذر، والقدر المتيقن منه ما إذا حصل العلم
بمطابقة قول المذر للواقع.
وفيه (أولا) - ان الأصل في كل كلام أن يكون في مقام البيان،
لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه. و (ثانيا) - ان ظاهر
الآية المباركة كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين المكلفين، وانه يجب على
طائفة منهم التفقه والانذار، وعلى غيرهم الحذر والقبول، فكما ان إطلاقها
184

يقتضى وجوب الانذار ولو مع عدم حصول العلم للمنذر (بالفتح) بمطابقة كلام
المنذر (بالكسر) للواقع، كذلك يقتضى وجوب الحذر أيضا في هذا الفرض.
و (ثالثا) - ان ظاهر الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار وتخصيص وجوب
الحذر بما إذا حصل العلم بالواقع موجب لالغاء عنوان الانذار، إذ العمل حينئذ
انما هو بالعلم من دون دخل للانذار فيه، غاية الامر كون الانذار من جملة المقدمات
التكوينية لحصول العلم لا موضوعا لوجوب الحذر فاعتبار حصول العلم في وجوب
الحذر يوجب إلغاء عنوان الانذار لا تقييده بصورة حصول العلم، مع أن ظاهر
الآية كون وجوب الحذر مترتبا على الانذار ترتب الحكم على موضوعه و (رابعا)
- انه على تقدير تسليم أن اعتبار العلم في وجوب الحذر يوجب التقييد لا إلغاء
عنوان الانذار، لا يمكن الالتزام بهذا التقييد، فإنه تقييد بفرد نادر وهو مستهجن
(الايراد الثاني) - ان الانذار - بمعنى التخويف من العقاب - إنما هو
وظيفة الواعظ والمفتي، أما الواعظ فينذر الناس كما هو شأنه بالأمور المسلمة،
فيخوف الناس من ترك الصلاة مثلا بما ورد فيه من العقاب، أو من شرب الخمر
كذلك، ولا اشكال في وجوب الحذر عند إنذاره. لكون الحكم معلوما
ومسلما، وأما المفتي فيفتي لمقلديه بما استنبطه من الواجب والحرام. وافتاؤه
بها انذار بالدلالة الالتزامية، وتخويف من العقاب على الترك أو الفعل، ولا
شبهة في وجوب الحذر على مقلديه، لكون فتواه حجة عليهم، بخلاف نقل
الرواية، فإنه لا انذر فيه، إذ ربما ينقل الراوي مجرد الألفاظ ولا يفهم المعنى
لينذر به، ولذا ورد عنهم (ع) رب حامل فقه غير فقيه أو إلي من هو أفقه منه.
وفيه ان الراوي أيضا قد ينذر بنقله، كما إذا نقل رواية دالة على وجوب
شئ أو على حرمة شئ، فان نقل هذه الرواية انذار ضمني بالعقاب على الترك
أو الفعل، كما في إفتاء المفتي بوجوب شئ أو حرمة شئ فيجب الحذر عند
185

نقل هذه الرواية بمقتضى الآية الشريفة، وتثبت حجية غيره من الاخبار التي
لا انذار فيها، لكون الراوي عاميا أو كان مفاد الرواية حكما غير إلزامي بعدم
القول بالفصل. هذا على تقدير كون الآية نازلة في مقام التشريع وجعل الحجية
للخبر. واما بناء على كونها كاشفة عن حجية الخبر السابقة على نزول الآية،
وأنها سيقت على نحو تكون حجية الخبر مفروغا عنها قبل نزولها، كما هو الظاهر
فلا تحتاج إلى التمسك بعدم القول بالفعل إذ الآية الشريفة - على هذا التقدير
- كاشفة عن حجية الخبر على الاطلاق، وان وجوب الحذر عند الانذار انما
مر من باب تطبيق الكبرى الكلية على بعض المصاديق.
(الايراد الثالث) - ان ظاهر الآية الشريفة كون وجوب الحذر مترتبا
على الانذار بما تفقه، لا على مطلق الانذار، فيختص بما إذا أحرز كون الانذار
بما تفقه. أي أحرز كون الخبر مطابقا للواقع، والفرق بين هذا الايراد
والايراد الأول ظاهر فان الايراد الأول راجع إلى عدم صحة التمسك باطلاق
وجوب الحذر، لعدم كونه واردا في مقام البيان، لان الآية وردت لبيان
وجوب التفقه والانذار، لا لبيان وجوب الحذر، فلم تتم مقدمات الحكمة،
بخلاف هذا الايراد فإنه راجع إلى منع الاطلاق رأسا، باعتبار ان وجوب
الحذر مقيد بما إذا كان الانذار بما تفقه في الدين.
وفيه ان الاخبار بوجوب شئ أو بحرمة شئ لا ينفك عن الانذار بما
تفقه، إذ الاخبار بالوجوب انذار بالعقاب على الترك بالدلالة الالتزامية، وكذا
الاخبار بالحرمة انذار بالعقاب على الفعل، كما أن الانذار بالعقاب على الترك
اخبار بالوجوب، والانذار بالعقاب على الفعل اخبار بالحرمة بالدلالة الالتزامية
وأما كون المخبر به مطابقا للواقع أو غير مطابق له فهو خارج عن مدلول الخبر
لما ذكرناه في مقام الفرق بين الخبر والانشاء من أن مدلول الخبر هو الحكاية عن
186

ثبوت شئ أو نفيه، واما كون المحكي عنه مطابقا للواقع أو غير مطابق له،
فهو خارج عن مدلول الخبر. (وبالجملة) الاخبار عن الوجوب والحرمة انذار
بما تفقه في الدين دائما، وإن كان المخبر به غير مطابق للواقع.
(الايراد الرابع) - أن المأخوذ في الآية عنوان التفقه، فيكون الحذر
واجبا عند انذار الفقيه بما هو فقيه، فلا يشمل انذار الراوي بما هو راو، فيكون
مفاد الآية حجية فتوى الفقيه للعامي لا حجية الخبر. ولا يمكن التمسك بعدم القول
بالفصل في المقام، لعدم ارتباط أحد الامرين بالآخر، وان شئت قلت إن
القول بالفصل بين حجية فتوى الفقيه وحجية الخبر موجود، فلا يدل الدليل
على حجية فتوى الفقيه على حجية الخبر بضميمة عدم القول بالفصل بينهما.
وفيه ان التفقه في زمن المعصومين (عليهم السلام) لم يكن بهذه الصعوبة
الموجودة في زماننا، فإنها حصلت من كثرة الروايات، وتعارضها في العبادات
وقلتها في المعاملات، فالسلف من الرواة كان يصدق عليهم الفقيه بمجرد سماع
الحديث وتحفظه، لكونهم من أهل اللسان، فكانوا يعرفون معاني كلامهم
(عليهم السلام)، فكانوا فقهاء كما ورد عنهم (ع) أنتم أفقه الناس إذا عرفتم
معاني كلامنا، فكانوا فقهاء فيما ينقلونه عن الأئمة (عليهم السلام)، وإذا
ثبتت حجية خبر الراوي الفقيه بمقتضى الآية، ثبتت حجية خبر الراوي غير
الفقيه بعدم القول بالفصل.
ومن الآيات التي استدل بها على حجية الخبر آية الكتمان. وهي قوله
تعالي: (ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس
في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) بدعوى الملازمة بين حرمة
الكتمان ووجوب العمل، والا لزم كون تحريم الكتمان لغوا، ولذا حكموا
بحجية اخبار المرأة عن كونها حاملا، تمسكا بقوله تعالى: (ولا يكتمن ما خلق
187

الله في أرحامهن). وفيه انه لا ملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول تعبدا في المقام، إذ
الموضوع لحرمة الكتمان عام استغراقي، بمعنى حرمة الكتمان على كل أحد
فيحتمل ان يكون الوجه فيها ان اخبار الجميع مما يوجب العلم كما في الخبر المتواتر
ولا يقاس المقام بحرمة الكتمان على النساء، لان طريق احراز ما في الأرحام
منحصر في اخبارهن، واخبار المرأة مما لا يفيد العلم غالبا، فلو لم يكن اخبارها
حجة تعبدا، وقيدت بالعلم كان تحريم الكتمان عليها لغوا، فصح دعوى
الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول هناك. بخلاف المقام، فان حرمة
الكتمان فيه إنما هو علي علماء اليهود الذين أخفوا على الناس ما كان ظاهرا في
التوارة من علامات نبوة نبينا وصفاته صلى الله عليه وآله بحيث لولا كتمانهم لظهر الحق
لعامة الناس، فالغرض من تحريم الكتمان إنما هو ظهور الحق وحصول القطع
للناس، لا قبول الخبر تعبدا. والذي يشهد - بما ذكرناه من أن المراد حرمة
كتمان ما هو ظاهر في نفسه لولا الكتمان - قوله تعالي في ذيل الآية: (من بعد ما
بيناه للناس) أي أظهرناه لهم، فتحصل انه لا ملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب
القبول في المقام.
(إن قلت): مقتضى إطلاق الآية حرمة الكتمان ولو مع علم المخبر بأن
إخباره لا يفيد العلم للسامع، ولا ينضم إليه إخبار غيره لكتمانه، وحرمة
الكتمان في هذا الفرض تدل على وجوب القبول، والا لزم كونها لغوا كما في
حرمة الكتمان على النساء. (قلت): ظهور الحق للناس وحصول العلم لهم إنما
هو حكمة لحرمة الكتمان، والحكمة الداعية إلى التكليف لا يلزم ان تكون سارية
في جميع الموارد. الا ترى انه يجب على الشاهد ان يشهد عند الحاكم إذا دعى
لذلك، بمقتضى قوله تعالي: (ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا) ولو مع العلم بعدم
188

انضمام الشاهد الثاني إليه، مع أن الحكمة في وجوب الشهادة - وهي حفظ حقوق
الناس - غير متحققة في هذا الفرض، وكذا الحال في وجوب العدة على المطلقة
وعلى المتوفى عنها زوجها وان كانت عقيما، مع أن الحكمة وهي التحفظ على
النسب غير موجودة في مفروض المثال.
ويدل على ما ذكرناه - من أن الغرض من حرمة الكتمان في المقام ظهور
الحق وحصول العلم به لعامة الناس لا وجوب القبول تعبدا - أن مورد الآية
هو نبوة نبينا صلى الله عليه وآله ومن الظاهر عدم حجية خبر الواحد في أصول الدين.
ومن جملة الآيات آية الذكر، وهي قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر) وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة هو
تقريب الاستدلال بالآية السابقة، من أن وجوب السؤال يدل على وجوب
القبول بالملازمة. وإلا لزم كون وجوب السؤال لغوا.
ويظهر الجواب عن الاستدلال بهذه الآية مما ذكرناه في الجواب عن
الاستدلال بالآية السابقة، فان تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في
أن الغرض منه حصول العلم لا التعبد بالجواب. هذا مضافا إلى أن مورد هذه
الآية أيضا هي النبوة، والمأمورون بالسؤال هم عوام اليهود، وخبر الواحد
لا يكون حجة في أصول الدين كما تقدم. ولا ينافي ذلك ما في الاخبار من أن
المراد بأهل الذكر هم الأئمة (عليهم السلام) لان أهل الذكر عنوان عام يشمل
الجميع، ويختلف باختلاف الموارد، ففي مقام اثبات النبوة الخاصة بما وصف
الله نبيه في الكتب السماوية، يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود والنصارى
ولا يصح أن يراد في هذا المقام الأئمة (عليهم السلام) لأن الإمامة فرع النبوة،
فكيف يمكن اثبات النبوة بالسؤال عن الامام الذي تثبت إمامته بنص من النبي
صلى الله عليه وآله نعم بعد اثبات النبوة والإمامة يكون الأئمة (عليهم السلام) أهل الذكر
189

فلا بد من السؤال منهم فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، كما أن أهل الذكر في زمان
الغيبة هم الرواة بالنسبة إلى الفقهاء، والفقهاء بالنسبة إلى العوام والمعنى واحد في
الجميع انما الاختلاف في المصاديق بحسب الموارد.
ومن جملة الآيات آية الاذن، وهي قوله تعالى: (ويقولون هو اذن قل
اذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين). وتقريب الاستدلال بها ان الله
سبحانه وتعالى مدح نبيه صلى الله عليه وآله بتصديقه للمؤمنين، ولو لم يكن تصديقهم أمرا
حسنا لما مدحه به. (وفيه) انه لا ملازمة بين تصديق المخبر والعمل باخباره
وترتيب الأثر عليه، إذ قد يراد من تصديقه عدم المبادرة على تكذيبه، وعدم
نسبة الكذب إليه بالمواجهة، وهذا امر أخلاقي دل عليه بعض الروايات، كقوله
عليه السلام (كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة انه
قال قولا، وقال لم أقله فصدقه وكذبهم). ومن الظاهر أنه ليس المراد من
التصديق هو العمل بقوله وترتيب الأثر عليه، وإلا لم يكن وجه لتقديم اخبار
الواحد على اخبار الخمسين، مع كونهم أيضا من المؤمنين. بل المراد اظهار
تصديقه وعدم تكذيبه. ومما يؤيد ذلك ما في تفسير علي بن إبراهيم القمي من أن
الآية الشريفة نزلت في عبد الله بن نفيل، فإنه كان يسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله
وينقله إلى المنافقين حتى أوقف الله نبيه صلى الله عليه وآله على هذه النميمة، فأحضره النبي
صلى الله عليه وآله وسأله عنها، فحلف انه لم يكن شئ مما ينم عليه، فقبل منه النبي صلى الله عليه وآله
فأخذ هذا الرجل يطعن عليه صلى الله عليه وآله ويقول: إنه اذن يقبل كل ما يسمع، اخبره
الله اني انم عليه فقبل، وأخبرته أني لم افعل فقبل، فرد عليه الله سبحانه بقوله:
(قل اذن خير لكم... الآية) ومن المعلوم ان تصديقه صلى الله عليه وآله للمنافق لم يكن إلا
بمعنى عدم اظهار تكذيبه.
هذا واستشهد الشيخ (ره) على ما ذكرناه باختلاف السياق، وهو ان
190

تعدية كلمة يؤمن - بالباء في الجملة الأولى وباللام في الجملة الثانية - تدل على
اختلاف المراد من الايمان في المقامين (وفيه) ان الايمان بمعنى التصديق القلبي
فان كان متعلقا بوجوب شئ تكون تعديته بالباء، كما في قوله تعالى:
(والمؤمنون كل آمن بالله.. الآية) وان كان متعلقا بقول شخص كانت تعديته
باللام، كما في قوله سبحانه: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) وحينئذ
تدل التعدية باللام بالإضافة إلى المؤمنين على إرادة تصديق قولهم، فلا شهادة
للسياق على ما ذكر.
(لا يقال) على هذا لا يناسب تعديته بالباء في الجملة الأولى، لان المصدق
به فيها انما هو قوله تعالى واخباره عن نميمة عبد الله بن نفيل على ما تقدم.
(فإنه يقال) لما كانت لفظة (الله) علما لذات الواجب المستجمع لجميع صفات
الكمال، فالتصديق بوجوده مستلزم للتصديق بقوله. فجعل المصدق به ذاته
الواجب إشارة إلى أن الايمان بوجوده تعالى مستلزم للايمان بقوله، ولو كانت
التعدية باللام كما في الجملة الثانية لم يستفد منها الا التصديق بقوله فقط. وكيف
كان فلا دلالة للآية على حجية الخبر.
ومما استدل به علي حجية الخبر الروايات الكثيرة وقد رتبها الشيخ (ره)
على طوائف أربع:
(الطائفة الأولى) الاخبار العلاجية الدالة على أن حجية الاخبار في نفسها
كانت مفروغا عنها عند الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم، وانما توقفوا عن
العمل من جهة المعارضة، فسألوا عن حكمها. ومن الواضح انه ليس مورد
الاخبار العلاجية الخبرين المقطوع صدورهما، لان المرجحات المذكورة فيها
لا تناسب العلم بصدورهما، وان الظاهر من مثل قوله: (يأتي عنكم خبر ان
متعارضان) كون السؤال عن مشكوكي الصدور: مضافا إلى أن وقوع
191

المعارضة بين مقطوعي الصدور بعيد في نفسه.
(الطائفة الثانية) - الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من
الرواة، كقوله عليه السلام: (إذا أردت الحديث فعليك بهذا الجالس) مشيرا إلى
زرارة، وقوله عليه السلام: (نعم - بعد ما قال الراوي - افيونس بن عبد الرحمن
ثقة نأخذ معالم ديننا عنه) وقوله عليه السلام: (عليك بالأسدي) يعنى أبا بصير وقوله
عليه السلام: (عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا) إلى غير ذلك.
(الطائفة الثالثة) - الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الثقات كقوله (ع):
(لا عذر لاحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا) وقد ادعى المحقق النائيني (ره)
تواتر هذه الطائفة معنى، وهو بعيد لكونها قليلة غير بالغة حد التواتر.
(الطائفة الرابعة) - الأخبار الآمرة بحفظ الروايات واستماعها وضبطها
والاهتمام بشأنها على ألسنة مختلفة، وقد ذكرها صاحب الوسائل في الباب (8)
من أبواب كتاب القضاء فراجع (1)
ثم إن الاستدلال بهذه الاخبار متوقف على ثبوت تواترها لتكون
مقطوعة الصدور، والا فلا يصح الاستدلال بها كما هو ظاهر. ولا ينبغي الشك
في أنها متواترة اجمالا، بمعنى العلم بصدور بعضها عن المعصوم (ع) وتوضيح
ذلك أن التواتر على اقسام ثلاثة:
(الأول) - التواتر اللفظي، وهو اتفاق جماعة امتنع اتفاقهم على الكذب
عادة على نقل خبر بلفظه، كتواتر ألفاظ الكتاب الصادرة عن لسان النبي صلى الله عليه وآله
(الثاني) - التواتر المعنوي وهو اتفاقهم على يقل مضمون واحد مع

(1) منها - ما عن أبي عبد الله (ع) ان رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس
في مسجد الخيف فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها
فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه - الحديث (42).
192

الاختلاف في الألفاظ، سواء كانت دلالة الألفاظ على المضمون بالمطابقة أو
بالتضمن أو بالالتزام أو بالاختلاف، كالاخبار الحاكية لحالات أمير المؤمنين
عليه السلام في الحروب، وقضاياه مع الابطال، فإنها متفقة الدلالة على شجاعته (ع)
(الثالث) - التواتر الاجمالي وهو ورود عدة من الروايات التي يعلم
بصدور بعضها مع عدم اشتمالها على مضمون واحد. وأنكر المحقق النائيني (ره)
التواتر الاجمالي، بدعوى أنا لو وضعنا اليد على كل واحد من تلك الأخبار
نراه محتملا للصدق والكذب، فلا يكون هناك خبر مقطوع الصدور. وفيه
أن احتمال الكذب في كل خبر بخصوصه غير قادح في التواتر الاجمالي، لأن
احتمال الصدق والكذب في كل خبر بخصوصه لا ينافي العلم الاجمالي بصدور
بعضها، والا لكان مانعا عن التواتر المعنوي واللفظي أيضا، إذ كل خبر في
نفسه محتمل للصدق والكذب. (وبالجملة) التواتر الاجمالي مما لا مجال لانكاره
فان كثرة الاخبار المختلفة ربما تصل إلي حد يقطع بصدور بعضها، وإن لم
يتميز بعينه. والوجدان أقوى شاهد وأوضح دليل عليه، فانا نعلم علما
وجدانيا بصدور جملة من الأخبار الموجودة في كتاب الوسائل ولا نحتمل
كذب الجميع، وأوضح منه انا نعلم بصدق بعض الاخبار المتحققة في هذه
البلدة في يوم وليلة، فضلا عن الحكايات المسموعة في أيام وليال عديدة.
فتحصل أن التواتر الاجمالي في هذه الطوائف الأربع من الاخبار غير قابل
للانكار، ومقتضاه الالتزام بحجية الأخص منها المشتمل على جميع الخصوصيات
المذكورة في هذه الأخبار، فيحكم بحجية الخبر الواجد لجميع تلك الخصوصيات
باعتبار كونه القدر المتيقن من هذه الأخبار الدالة على الحجية.
وذكر المحقق النائيني (ره) أن الأخص منها هو ما دل على حجية خبر الثقة
فبناء على تحقق التواتر الاجمالي تثبت حجية الخبر الموثوق به. وفيه ان ظاهر
193

جملة منها اعتبار العدالة كقوله عليه السلام في الأخبار العلاجية: (خذ بأعدلهما) وقوله
عليه السلام: (عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا) وبعضها ظاهر في اعتبار
الوثاقة، كقوله (ع): (نعم - بعدما قال السائل - افيونس بن عبد الرحمن
ثقة نأخذ معالم ديننا عنه) وبعضها ظاهر في اعتبار كونه إماميا أيضا، كقوله
عليه السلام: (لا عذر لاحد فيما يرويه ثقاتنا) فان إضافة الثقات إلى ضمير المتكلم
واسنادها إليهم (ع) ظاهرة في أن المراد منها كون الراوي من أهل الولاية لهم
وحيث أن المراد من الثقة في الأخبار هو المعنى اللغوي لا ما هو المصطلح عليه عند
المحدثين، فإنهم يطلقون الثقة على الامامي العادل، ومنه اطلاقهم ثقة الاسلام على
الكليني (ره) فالنسبة بين العادل والموثوق به هي العموم من وجه، إذ قد يكون
الراوي عادلا غير موثوق به لكثرة خطأه وسهوه، وقد يكون موثقا غير عادل
بمعنى انه ضابط حافظ متحرز عن الكذب، إلا أنه فاسق من غير ناحية الكذب
كما يوجد كثيرا. وقد يكون عادلا موثقا. وعليه فالقدر المتيقن منها هو
الجامع للعدالة والوثاقة، فبناء على التواتر الاجمالي لا يستفاد منها الا حجية
الخبر الصحيح الاعلائي.
نعم ذكر صاحب الكفاية (ره) ان المتيقن من هذه الأخبار وان كان هو
خصوص الخبر الصحيح، الا انه في جملتها خبر صحيح يدل على حجية الخبر
الموثق، فتثبت به حجية خبر الثقة وان لم يكن عادلا. وما ذكره متين، ولعل
مراده من الخبر الصحيح الدال على حجية خبر الثقة قوله (ع): (نعم - بعد
ما قال السائل - افيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه)، فان ظاهره
كون حجية خبر الثقة مفروغا عنها بين الإمام (ع) والسائل، وان السؤال
ناظر إلى الصغرى فقط.
ومما استدل به على حجية الخبر (الاجماع) وتقريره من وجوه: (الوجه الأول)
194

- الاجماع المنقول من الشيخ الطوسي (ره) على حجية خبر الواحد. (الوجه
الثاني) - الاجماع القولي من جميع العلماء عدا السيد المرتضى واتباعه عليها،
وخلافهم غير قادح في حجية الاجماع. (الوجه الثالث) - الاجماع القولي من
جميع العلماء حتى السيد واتباعه، بدعوى انهم اختاروا عدم الحجية لاعتقادهم
انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية، ولو كانوا في زماننا المنسد فيه باب العلم
لعملوا بخبر واحد جزما. (الوجه الرابع) - الاجماع العملي من جميع العلماء
على العمل بالاخبار التي بأيدينا، ولم يخالف فيه أحد منهم. (الوجه الخامس)
- الاجماع العملي من جميع المتشرعة من زمن الصحابة إلى زماننا هذا على ذلك،
فيكون كاشفا عن رضا المعصوم (ع).
والانصاف أن شيئا من هذه الوجوه لا ينهض دليلا على حجية الخبر.
(أما الوجه الأول) فالأمر فيه واضح، لأن حجية الاجماع المنقول عند القائل
بها إنما هي لكونه من أفراد الخبر، فكيف يصح الاستدلال به على حجية الخبر؟
مضافا إلى ما تقدم في بحث الاجماع المنقول من عدم الملازمة بين حجية الخبر
وحجية الاجماع المنقول، وامكان التفكيك بينهما، والامر كذلك لاختصاص
أدلة الحجية بالخبر الحسبي على ما تقدم بيانه.
و (أما الوجه الثاني) ففيه أنه ليس في المقام إجماع تعبدي ليكون كاشفا
عن رضا المعصوم (ع) للعلم بأن مستند المجمعين هو الآيات والروايات المتقدمة
ولا أقل من احتمال ذلك.
و (أما الوجه الثالث) فيرد عليه - مضافا إلى ما ذكرناه في الوجه الثاني -
أنه إجماع تقديري لا نجزم به، إذ من المحتمل أن السيد واتباعه - على تقدير
الالتزام بالانسداد - لا يلتزمون بكون الخبر حجة بالخصوص، بل يرونه من
أفراد الظن المطلق كالمحقق القمي (ره).
195

و (أما الوجه الرابع) ففيه أن عمل المجمعين ليس مستندا إلى حجية خبر
الواحد، لان عمل جملة منهم وإن كان مبنيا عليها، إلا أن عمل جملة أخرى منهم
مبني على كون ما بأيدينا من الاخبار مقطوع الصدور، وعمل بعض آخر منهم
مبني على كون ما في الكتب الأربعة مقطوع الصدور. وقد ادعى بعضهم
كون الاخبار الموجودة في الكافي مقطوعة الصدور. فلا يكون هناك إجماع
عملي على حجية خبر الواحد ليكون كاشفا عن رضا المعصوم عليه السلام.
و (أما الوجه الخامس) ففيه أن عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة (عليهم
السلام) والتابعين بخبر الثقة وإن كان غير قابل للانكار، إذ من المقطوع به أن
جميع المكلفين في عصر النبي والأئمة (عليه وعليهم السلام) لم يأخذوا الاحكام من
نفس النبي صل الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام بلا واسطة شخص آخر، ولا سيما النساء بل
لم يتمكنوا من ذلك في جميع أوقات الاحتياج، ولا سيما أهل البوادي والقرى
والبلدان البعيدة، فان كل واحد من المكلفين لا يتمكن من الوصول إلى المعصوم
عليه السلام في كل وقت من أوقات الحاجة إلى السؤال، بل كانوا يرجعون إلى الثقات
يأخذون الاحكام منهم وهذا كله ظاهر، إلا أنه لا يكشف عن كون الخبر حجة
تعبدية، لأن عمل المتشرعة بخبر الثقة لم يكن بما هم متشرعة، بل بما هم عقلاء فان سيرة
العقلاء قد استقرت على العمل بخبر الثقة في جميع أمورهم، ولم يردع عنها الشارع،
فإنه لو ردع عن العمل بخبر الثقة لوصل إلينا، كما وصل منعه عن العمل بالقياس، مع
أن العامل بالقياس أقل من العامل بخبر الثقة بكثير، وقد بلغت الروايات المانعة
عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريبا، ولم تصل في المنع عن العمل بخبر
الثقة رواية واحدة، فيستكشف من ذلك كشفا قطعيا ان الشارع قد أمضى
سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة.
فتحصل مما ذكرناه أن العمدة في دليل حجية الخبر هي سيرة العقلاء
196

الممضاة عند الشارع، ولا يرد عليها شئ من الاشكال، إلا توهم أن الآيات
الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة، وقد أفاد في الكفاية متنا
وهامشا في دفع هذا التوهم وجوها:
(الوجه الأول) - ما ذكره في المتن، وهو ان كون الآيات رادعة عن
السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها، وإلا فلا تشملها، وعدم
كونها مخصصة لها متوقف على كونها رادعة عنها، فكون الآيات رادعة عن
السيرة مستلزم للدور. ثم أورد على نفسه بان إثبات حجية الخبر بالسيرة أيضا
دوري، لأنه متوقف على عدم كون الآيات رادعة عنها، وهو متوقف على
كون السيرة مخصصة لها، وهو متوقف علي عدم كون الآيات رادعة عنها.
وأجاب عنه بأن كون السيرة مخصصة للآيات غير متوقف على عدم الردع واقعا
بل على عدم ثبوت الردع فلا دور في تخصيص الآيات بالسيرة، بخلاف العكس،
فان كون الآيات رادعة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها واقعا.
(الوجه الثاني) - ما ذكره في الهامش، وحاصله انه على تقدير الالتزام
بعدم صلاحية كل من الآيات والسيرة لرفع اليد به عن الآخر للزوم الدور، تصل
النوبة إلى الأصل العملي، والمرجع هو استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات
(الوجه الثالث) ما ذكره في الهامش أيضا وهو ان نسبة السيرة إلى
الآيات هي نسبة الخاص المتقدم إلي العام المتأخر في أن الأمر دائر بين أن يكون
الخاص مخصصا للعام، وأن يكون العام ناسخا للخاص، وقد ذكرنا في مبحث
العموم والخصوص ان المتعين هو الأول، لان الخاص المتقدم قرينة على المراد
من العام. وتأخير البيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة ملزمة وان كان قبيحا،
إلا ان تقديمه على وقت الحاجة مما لا قبح فيه أصلا. والمقام من صغريات هذه
الكبرى، فلا بد من الالتزام يكون السيرة مخصصة للعمومات. هذا ملخص
197

ما ذكره وهامشا.
والتحقيق عدم تمامية شئ من الوجوه الثلاثة: (أما الوجه الأول) ففيه
(أولا) - انه لو كان عدم ثبوت الردع كافيا في صحة تخصيص الآيات بالسيرة
لكان عدم ثبوت التخصيص. كافيا في الردع أيضا، ولا يظهر وجه لمنع التوقف
في أحدهما دون الآخر. و (ثانيا) - ان التحقيق عكس ما ذكره (ره) لأن
تخصيص العمومات بالسيرة متوقف على حجيتها المتوقفة على الامضاء، فلا يكفي
في التخصيص عدم ثبوت الردع على ما افاده (ره) بل لا بد من ثبوت عدم الردع
فيكون التخصيص دوريا، بخلاف الردع، فإنه غير متوقف على ثبوت عدم
التخصيص بل يكفيه عدم ثبوت التخصيص إذ العمومات حجة ببناء العقلاء ما لم
يثبت خلافها وعليه فالمتعين هو الالتزام بكون الآيات رادعة عن السيرة، لا ان
السيرة مخصصة للآيات.
و (أما الوجه الثاني) ففيه (أولا) - عدم حجية الاستصحاب في
الاحكام الكلية على ما ذكر في محله و (ثانيا) - ان الآيات الناهية عن العمل
بغير العلم رادعة عن الاستصحاب أيضا، فكل ما يقال في السيرة مع الآيات
يجرى في الاستصحاب معها أيضا، فلا وجه للتمسك بالاستصحاب بعد الالتزام
بعدم صحة كون السيرة مخصصة للآيات. و (ثالثا) - أن الدليل على حجية
الاستصحاب هي اخبار الآحاد وعمدتها صحاح زرارة، فكيف يمكن التمسك
على حجية الاخبار بالاستصحاب المتوقف عليها. و (رابعا) - أن
التمسك بالاستصحاب إنما يصح مع الغض عما تقدم فيما إذا تمكن الشارع من
الردع قبل نزول الآيات ولو بيوم واحد، فإنه حينئذ يستكشف من عدم الردع
امضاؤه لها، وتثبت حجية السيرة قبل نزول الآيات، فصح الرجوع إلى
استصحاب الحجية الثابتة قبل نزول الآيات، بعد فرض تساقط كل من السيرة
والعمومات. وأما إذا لم يتمكن من ذلك كما هو الصحيح، فإنه صل الله عليه وآله لم يكن
198

متمكنا من الردع عن المحرمات كشرب الخمر مثلا، ولا من الامر بالواجبات
كالصلاة والصوم في صدر الاسلام، ولذا كان صل الله عليه وآله يقول: (قولوا لا اله إلا
الله تفلحوا) فلا مجال للتمسك بالاستصحاب، إذ لم تحرز حجية السيرة قبل
نزول الآيات كي يتمسك في بقائها بعد نزولها بالاستصحاب. وبهذا ظهر الاشكال
في الوجه الثالث أيضا، فان كون المقام من صغريات دوران الامر بين التخصيص
والنسخ متوقف على احراز كون السيرة حجة قبل نزول الآيات لتكون قابلة
لتخصيص الآيات، فيدور الامر بين النسخ والتخصيص، وإحراز كون
السيرة حجة قبل نزول الآيات متوقف على إحراز كون الشارع متمكنا من
الردع قبل نزول الآيات. وانى لنا باثبات ذلك.
والصحيح - في مقام الجواب ودفع توهم كون الآيات رادعة عن السيرة
- ان يقال (أولا) - أنا نقطع بعدم الردع في الشريعة المقدسة عن هذه السيرة
لبقائها واستمرارها بين المتشرعة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) بعد نزول
الآيات، فان عمل الصحابة والتابعين بخبر الثقة غير قابل للانكار، على ما تقدم
بيانه في تقريب الاستدلال بالسيرة، ولو كانت الآيات رادعة عنها لانقطعت
السيرة في زمان الأئمة (ع) لا محالة.
و (ثانيا) - مع الغض عن ذلك أن الظاهر من لسان الآيات كونها
إرشادا إلى ما يحكم به العقل من تحصيل المؤمن من العقاب المحتمل، والانتهاء
إلى ما يعلم به الأمن، ولذا لا تكون قابلة للتخصيص. وكيف يمكن الالتزام
بالتخصيص في مثل قوله تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا). بأن يقال
إلا الظن الفلاني، فإنه يغني من الحق. وعليه فلا يكون مفادها حكما مولويا
ليكون ردعا عن السيرة.
وان شئت قلت إن مفاد الآيات هو الارشاد إلى حكم العقل بدفع، الضرر
199

المحتمل إن كان أخرويا، ويكون الخبر بعد قيام السيرة على حجيته خارجا عن
الآيات بالورود، كسائر الامارات المعتبرة، لعدم احتمال العقاب مع العمل بما
هو حجة، ولو على تقدير مخالفتها للواقع، فحال الخبر - بعد قيام السيرة على
العمل به مع الآيات بعد كونها إرشادا إلى حكم العقل حال الامارات مع الأصول
العملية العقلية، فكما انها واردة عليها، كذلك الخبر وارد على الآيات.
و (ثالثا) - أنا لو أغمضنا عن ذلك، وقلنا بان مفاد الآيات حكم
مولوي وهو حرمة العمل بغير العلم، نقول ان السيرة حاكمة على الآيات، لان
العمل بالحجج العقلائية القائمة علي العمل بها سيرة العقلاء لا يكون عملا بغير العلم
في نظر العرف والعقلاء، لذا لم يتوقف أحد من الصحابة والتابعين وغير هم في
العمل بالظواهر، مع أن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم بمرأى منهم ومسمع
وهم من أهل اللسان. وليس ذلك إلا لأجل انهم لا يرون العمل بالظواهر عملا
بغير العلم بمقتضى قيام سيرة العقلاء على العمل بها، وحال خبر الثقة هي حال
الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به، فكما ان السيرة حاكمة على الآيات
بالنسبة إلى الظواهر، كذلك حاكمة عليها بالنسبة إلى خبر الثقة.
فتحصل مما ذكرناه في المقام ان العمدة في حجية الخبر هي السيرة، ولا
يرد على الاستدلال بها شئ من الاشكال. ولا يخفى ان مقتضى السيرة حجية
الصحيحة والحسنة والموثقة، فإنها قائمة على العمل بهذه الأقسام الثلاثة، فإذا
بلغ أمر المولى إلى عبده بنقل عادل، أو بنقل امامي ممدوح لم يظهر فسقه ولا
عدالته، أو بنقل ثقة غير إمامي، لا يكون العبد معذورا في مخالفة امر المولى
في نظر العقلاء. نعم الخبر الضعيف خارج عن موضوع الحجية، لأن العقلاء
لا يعملون به يقينا، مع أن الشك في قيام السيرة على العمل به كاف في الحكم
بعدم حجية. واما توهم - ان إطلاق آية النفر يشمل الخبر الضعيف أيضا، حيث
200

ان مفادها وجوب الحذر عند الانذار بلا تقييد بكون المنذر عادلا أو ثقة -
فمدفوع بأن الآية الشريفة منزلة على المتعارف بين العرف والعقلاء، وهم
لا يعملون بخبر الفاسق الكاذب.
هذا على تقدير كون الآية واردة في مقام جعل حجية الخبر. وأما على
تقدير كونها كاشفة عن حجية الخبر قبل نزولها، وأن تفريع وجوب الحذر عند
الانذار انما هو من باب التطبيق كما تقدمت الإشارة إليه حين الاستدلال بالآية
فالامر واضح، إذ ليس مفادها حينئذ جعل الحجية ليتمسك باطلاقها، بل
مفادها كون حجية الخبر مفروغا عنها قبل نزول الآية بمقتضى السيرة العقلائية
الممضاة من قبل الشارع، فالمتبع في توسعة موضوع الحجية وضيقه هي السيرة
وقد تقدم أن السيرة لم تقم على العمل بخبر الضعيف. نعم الخبر الموجب للوثوق
والاطمئنان الشخصي يجب العمل به وإن كان ضعيفا في نفسه. وليس ذلك لأجل
حجية الخبر الضعيف، بل لان الاطمئنان المعبر عنه بالعلم العادي حجة وإن كان
حاصلا مما لا يكون حجة في نفسه كخبر الفاسق أو خبر الصبي مثلا.
بقى في المقام امر ان لا بد من التعرض لهما: (الامر الأول) - ان الخبر إن
كان ضعيفا في نفسه هل ينجبر ضعفه بعمل المشهور أم لا؟ المشهور بين المتأخرين
هو ذلك. وذكر المحقق النائيني (ره) في وجه ذلك أن الخبر الضعيف المنجبر
بعمل المشهور حجة بمقتضى منطوق آية النبأ، إذ مفاده حجية خبر الفاسق مع
التبين، وعمل المشهور من التبين. ووافقناه على ذلك في الدورة السابقة، ولكن
التحقيق عدم تمامية الوجه المذكور، إذ التبين عبارة عن الاستيضاح
واستكشاف صدق الخبر، وهو (تارة) يكون بالوجدان، كما إذا عثرنا بعد
الفحص والنظر على قرينة داخلية أو خارجية موجبة للعلم أو الاطمئنان بصدق الخبر
وهذا مما لا كلام في حجيته على ما تقدمت الإشارة إليه. و (أخرى) يكون
201

بالتعبد، كما إذا دل دليل معتبر على صدقه فيؤخذ به أيضا، فإنه تبين تعبدي
وحيث إن فتوى المشهور لا تكون حجة على ما تقدم الكلام فيها، فليس هناك
تبين وجداني ولا تبين تعبدي يوجب حجية خبر الفاسق.
وان شئت قلت إن الخبر الضعيف لا يكون حجة في نفسه على الفرض:
وكذلك فتوى المشهور غير حجة على الفرض أيضا، وانضمام غير الحجة إلى غير
الحجة لا يوجب الحجية، فان انضمام العدم إلى العدم لا ينتج الا العدم.
ودعوى - ان عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه
ثقة، فيدخل في موضوع الحجية - مدفوعة بأن العمل مجمل لا يعلم وجهه،
فيحتمل ان يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب
نظرهم واجتهادهم، لا لكون المخبر ثقة عندهم، فالعمل بخبر ضعيف لا يدل على
توثيق المخبر به، ولا سيما انهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر.
هذا كله من حيث الكبرى وان عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر
أم لا. واما الصغرى - وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل
والفتوى - فاثباتها أشكل من اثبات الكبرى، لان مراد القائلين بالانجبار هو
الانجبار بعمل قدماء الأصحاب باعتبار قرب عهدهم بزمان المعصوم عليه السلام والقدماء
لم يتعرضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف، وإنما
المذكور في كتبهم مجرد الفتوى والمتعرض للاستدلال انما هو الشيخ الطوسي
(رحمه الله) في المبسوط، وتبعه من تأخر عنه في ذلك. دون من تقدمه من
الأصحاب، فمن أين يستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم
إليه، غاية الامر انا نجد فتوى منهم مطابقة لخبر ضعيف، ومجرد المطابقة لا يدل
على أنهم استندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر، إذ يحتمل كون الدليل عندهم
غيره، فتحصل ان القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تام
202

صغرى وكبرى.
(الامر الثاني) - أن الخبر ان كان صحيحا أو موثقا في نفسه هل يكون
إعراض المشهور عنه موجبا لوهنه وسقوطه عن الحجية أم لا؟ المشهور بينهم هو
ذلك، بل صرحوا بأنه كلما ازداد الخبر صحة ازداد ضعفا ووهنا باعراض المشهور
عنه. والتحقيق عدم تمامية ذلك أيضا، إذ بعد كون الخبر صحيحا أو موثقا
موردا لقيام السيرة ومشمولا لاطلاق الأدلة اللفظية على ما تقدم ذكرها، لاوجه
لرفع اليد عن لاعراض المشهور عنه. نعم إذا تسالم جميع الفقهاء على حكم مخالف
للخبر الصحيح أو الموثق في نفسه، يحصل لنا العلم أو الاطمئنان بأن هذا الخبر
لم يصدر من المعصوم عليه السلام أو صدر عن تقية فيسقط الخبر المذكور عن الحجية
لا محالة، كما تقدمت الإشارة إليه، ولكنه خارج عن محل الكلام. وأما إذا
اختلف العلماء على قولين، وذهب المشهور منهم إلى ما يخالف الخبر الصحيح أو
الموثق، وأعرضوا عنه. واختار غير المشهور منهم ما هو مطابق للخبر المذكور
فلا دليل لرفع اليد عن الخبر الذي يكون حجة في نفسه لمجرد اعراض المشهور عنه
ومما استدل به على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المثبتة
للتكليف حكم العقل وتقريبه بوجوه:
(الوجه الأول) - انا نعلم اجمالا بصدور جملة من تلك الأخبار عن
المعصوم ولا نحتمل ان يكون جميعها مجعولا، ولا سيما بعد ملاحظة جهد
العلماء في تهذيبها واسقاط الضعاف منها، ولذا ادعى صاحب الحدائق العلم
بصدور جميع ما في الكتب الأربعة. ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط
والاخذ بجميع هذه الأخبار الموجودة في الكتاب المعتبرة بحكم العقل. وأورد
عليه الشيخ (ره) بأن هذا العلم الاجمالي لو كان منجزا لزم العمل على طبق جميع
الامارات، ولو كانت غير معتبرة كالشهرة الفتوائية والاجماعات المنقولة، للعلم
203

الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع، فلا يفترق الحال بين الأخبار الموجودة في الكتب
المعتبرة والاخبار الموجودة في غيرها من الكتب، ولا بين الاخبار وغيرها من
الامارات المعتبرة أو غير المعتبرة من حيث تنجيز العلم الاجمالي، فيجب الاخذ
بالجميع. وهذا مما لا يمكن الالتزام به، كما هو ظاهر.
وأجاب عنه صاحب الكفاية (ره) بأن العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في
موارد قيام الامارات قد انحل بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الاخبار الموجودة
في الكتب المعتبرة عن المعصوم عليه السلام وتوضيح ذلك أن لنا ثلاثة علوم اجمالية:
(الأول) - العلم الاجمالي الكبير وأطرافه جميع الشبهات، ومنشأه هو العلم
بالشرع الأقدس وتأسيس الشريعة المقدسة، إذ لا معنى للشرع الخالي عن
التكليف رأسا (الثاني) - العلم الاجمالي المتوسط وأطرافه موارد قيام الامارات
المعتبرة وغير المعتبرة ومنشأه كثرة الامارات بحيث لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع
بل نعلم اجمالا بمطابقة بعضها له (الثالث) - العلم الاجمالي الصغير وأطرافه خصوص
الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة، فانا نعلم اجمالا بصدور جملة من هذه الأخبار
عن المعصوم عليه السلام، وحيث إن العلم الاجمالي الأول ينحل بالعلم الاجمالي
الثاني، وينحل العلم الاجمالي الثاني بالعلم الاجمالي الثالث، فلا يجب الاحتياط
الا في أطراف العلم الاجمالي الثالث، ونتيجة ذلك هو وجوب العمل على طبق
الاخبار المثبتة للتكليف الموجودة في الكتب المعتبرة. لا الاحتياط في
الشبهات، كما هو مقتضى العلم الاجمالي الأول لولا انحلاله، ولا الاحتياط في
جميع موارد الامارات المعتبرة وغير المعتبرة، كما هو مقتضى العلم الاجمالي الثاني
على تقدير عدم انحلاله. والميزان في الانحال ان لا يكون المعلوم بالاجمال في
العلم الاجمالي الصغير أقل عددا من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير،
بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي الصغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم
204

اجمالي في بقية الأطراف، ولو انضم إليها غيرها من أطراف العلم الاجمالي الكبير
مثلا إذا علمنا اجمالا بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم، وعلمنا أيضا
بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع، فلا محالة ينحل العلم
الاجمالي الأول بالعلم الاجمالي الثاني، فانا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا
علم إجمالي بمغصوبية البقية، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي
الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير، بخلاف ما لو علمنا اجمالا
بوجود ثلاث شياه محرمة في جملة البيض من هذا القطيع، فان العلم الاجمالي
الأول لا ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، إذا لو أفرزنا ثلاث شياه بيض بقي علمنا
الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله، لان انطباق الخمس على الثلاث غير معقول
وعليه فلا ينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط
إذ المعلوم في الأول لا يزيد عددا على المعلوم بالاجمال في الثاني، لان
منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع لوجود احكام وتكاليف،
ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الامارات. وكذا العلم الاجمالي
الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث، لأنا لو أفرزنا مقدارا من أطراف العلم الثالث
أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة من كل باب من أبواب الفقه، بحيث
يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث لم يبق لنا علم اجمالي بوجود
التكاليف في غيره، ولو مع ضم سائر الامارات، بل وجود التكاليف في غيره
مجرد احتمال، فيستكشف بذلك ان المعلوم بالاجمال في العلم الثاني لا يزيد عددا
على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لا محالة.
والمناقشة - في الانحال بأن لنا علما اجماليا بمطابقة بعض الامارات غير
المعتبرة للواقع أيضا، كالروايات الموجودة في كتب العامة مثلا، فانا لا نحتمل
كذب جميعها وكيف ينحل هذا العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الروايات
205

الموجودة في الكتب المعتبرة، إذ المعلوم بالاجمال في العلم الأول غير محتمل
الانطباق على المعلوم بالاجمال في الثاني - واهية، لان جميع الامارات غير المعتبرة
لا يكون مخالفا لما في الكتب المعتبرة من الروايات، بل عدة منها موافقة له،
فافراز مقدار من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة مستلزم لافراز ما يطابقه
من الامارات غير المعتبرة. والعمل به يستلزم العمل به، بل عينه. وليس لنا
علم إجمالي بمطابقة الامارات غير المعتبرة للواقع فيما لم يكن مطابقا للاخبار
الموجودة في الكتب المعتبرة.
فتحصل مما ذكرناه في المقام ان الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية (ره)
وأن مقتضى العلم الاجمالي وجوب الاخذ بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة
المثبتة للتكليف. بقى الكلام في أن وجوب العمل بالاخبار الموجودة في الكتب
المعتبرة من جهة العلم الاجمالي بصدور بعضها هل يترتب عليه ما يترتب على حجيتها
من تقدمها على الأصول العملية واللفظية أم لا؟ وتحقيق ذلك يقتضي التكلم في
مقامين: (المقام الأول) - في تقدمها على الأصول العملية. (المقام الثاني) -
في تقدمها على الأصول اللفظية، كاصالة العموم والاطلاق..
(أما المقام الأول) فتحقيق القول فيه ان الأصول قد تكون من الأصول
المحرزة الناظرة إلى الواقع، بمعنى أن المستفاد من أدلتها البناء العملي على أن
مفادها هو الواقع، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاور، بناء على كونهما
من الأصول لا من الامارات، وقد تكون من الأصول غير المحرزة، بمعنى ان
المستفاد من أدلتها انها وظائف عملية مجعولة في ظرف عدم الوصول إلى الواقع
لا البناء على أن مفادها هو الواقع كالبراءة العقلية والشرعية. وعلى كل تقدير
قد يكون الأصل نافيا للتكليف دائما، كالبراءة وقد يكون مثبتا له كذلك،
كقاعدة الاشتغال. و (ثالثة) يكون نافيا للتكليف مرة ومثبتا له أخرى
206

كالاستصحاب، فان كان الأصل نافيا للتكليف ودل الخبر على ثبوته لا مجال
لجريان الأصل، سواء كان محرزا أو غير محرز، بلا فرق بين القول بحجية
الخبر والقول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي. اما على القول
بحجية فواضح، وأما على القول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي،
فلعدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، لأن جريانه في جميع الأطراف
موجب للمخالفة القطعية العملية، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح، فلا فرق
بين القول بحجية الخبر وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط للعلم
الاجمالي، من حيث عدم جريان الأصل في مورده، انما الفرق بينهما من
وجهين آخرين:
(أحدهما) - صحة اسناد مؤدى الخبر إلى المولى على تقدير حجيته،
وعدم صحته على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط، لأن إسناد الحكم
إلى المولى مع عدم قيام الحجة عليه تشريع محرم (ثانيهما) - وجوب الاخذ
باللوازم على تقدير حجيته، وعدمه على تقدير عدمها، على ما سيجئ التعرض
له مفصلا في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
وأما إن كان الأصل أيضا مثبتا للتكليف فلا مانع من جريانه على القول
بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط، لأن المانع من جريان الأصل أحد
أمرين كلاهما مفقود في المقام: (أحدهما) - ارتفاع موضوع الأصل وهو الشك
بالعلم الوجداني أو التعبدي، كما إذا قامت الحجة في مورده والمفروض انتفاء
العلم الوجداني وعدم كون الخبر حجة (ثانيهما) - لزوم المخالفة العملية القطعية
والمفروض كون الأصل مثبتا للتكليف كالخبر، فلا يلزم من جريانه مخالفة عملية
أصلا فلا مانع من جريانه، إلا أنه لا ثمرة عملية بين الالتزام بجريانه والالتزام
بعدم جريانه، إذ المفروض كون الأصل مثبتا للتكليف كالخبر. نعم يظهر
207

الفرق بينهما في صحة اسناد الحكم إلى المولى على تقدير جريان الأصل فيما إذا كان
من الأصول المحرزة، فإنه صح إسناد الوجوب المستصحب إلى المولى بخلاف
ما لو التزمنا بعدم جريان الأصل، فإنه لا يصح اسناد الحكم إلى المولى حينئذ،
لأن المفروض عدم حجية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط، فكان
اسناد الحكم إلى المولى تشريعا محرما كما تقدم.
هذا كله على تقدير وجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط. واما على القول
بكونه حجة فلا مجال لجريان الأصل، لارتفاع موضوعه - وهو الشك - بالتعبد
الشرعي، كما هو ظاهر. وظهر بما ذكرناه ان الفرق بين حجية الخبر ووجوب
العمل به من باب الاحتياط في هذا الفرض من وجوه ثلاثة: (الأول) - انه على
تقدير حجيته لا يجرى الأصل، وعلى تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط
لا مانع من جريانه، وان لم يفترق الحال في مقام العمل بين جريانه وعدمه على
ما تقدم (الثاني) - صحة اسناد مؤداه إلى المولى على تقدير الحجية، وعدمه
على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط (الثالث) - لزوم الاخذ باللوازم
على تقدير الحجية، وعدمه على عدمه.
هذا كله على تقدير كون مفاد الخبر حكما الزاميا كالوجوب والحرمة.
واما ان كان مفاده حكما ترخيصيا، فان كان مفاد الأصل أيضا نفى التكليف
كالبراءة أو استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة، فلا تظهر ثمرة بين حجية
الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط. إلا في صحة الاسناد والاخذ باللوازم
علي ما تقدم. وأما ان كان الأصل مثبتا للتكليف، فان كان الأصل من
الأصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال، فلا مانع من جريانها على القول بوجوب
العمل بالخبر من جهة العلم الاجمالي، إذ مع عدم قيام الحجة على نفي التكليف
كانت قاعدة الاشتغال محكمة، فان الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية بحكم
208

العقل. ومجرد العلم الاجمالي بصدور جملة من الاخبار الترخيصية غير مانع من
جريان قاعدة الاشتغال، إذ العلم بالترخيص في بعض الأطراف حاصل في جميع
موارد قاعدة الاشتغال، ولكنه لا يزاحم العلم الاجمالي بالتكليف في أحد
الأطراف، فإذا علمنا اجمالا بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام، ودل الخبر
على عدم وجوب القصر مثلا، فعلى القول بعدم حجية الخبر لا مانع من الرجوع
إلى قاعدة الاشتغال، بخلاف القول بحجيته، فإنه عليه كان احتمال وجوب القصر
منتفيا بالعلم التعبدي، فينحل العلم الاجمالي ولا يبقى موضوع لقاعدة الاشتغال
ففي هذا الفرض تظهر الثمرة العملية بين القول بحجية الخبر والقول بوجوب العمل
به من جهة العلم الاجمالي، وهي ثمرة مهمة.
وأما ان كان الأصل من الأصول المحرزة كاستصحاب الوجوب أو الحرمة
في فرض قيام الخبر على نفى التكليف، كما في وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل
الاغتسال، فان الخبر دل على الجواز مع غسل الموضع ومقتضى الاستصحاب هو
الحرمة، ففي مثل ذلك إن كانت موارد الاستصحاب المثبت للتكليف قليلة،
بحيث لم يحصل لنا علم إجمالي بصدور بعض الاخبار الترخيصية في تلك الموارد
فلا مانع من جريان الأصل على القول بعدم حجية الخبر ووجوب العمل به من جهة
العلم الاجمالي، بخلاف القول بحجية. فتظهر الثمرة بينهما في هذا الفرض
كالصورة السابقة. وأما إذا علم اجمالا بمخالفة الاستصحاب للواقع في بعض
الموارد، كما إذا كانت موارد جريانه كثيرة، وعلم اجمالا بصدور بعض
الأخبار الترخيصية في تلك الموارد، فجريان الاستصحاب وعدمه مبني على الخلاف
بين الاعلام في جريان الأصل المحرز المثبت للتكليف مع العلم الاجمالي بمخالفته
للواقع في بعض الأطراف. كما إذا علمنا بنجاسة إناءين ثم علمنا اجمالا بطهارة
أحدهما، فاختار شيخنا الأنصاري (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره) عدم جريان
209

استصحاب النجاسة فيهما، واختار صاحب الكفاية (ره) جريانه، وهو
الصحيح على ما ذكرناه في محله. والمقام من صغريات تلك المسألة، فعلى القول
بجريانه تظهر الثمرة في المقام بين حجية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط
فإنه لا يجرى الأصل على الأول، ويجري على الثاني كما هو ظاهر. وعلى القول
بعدم جريانه لا تظهر ثمرة بينهما إلا في صحة الاسناد ووجوب الاخذ باللوازم
على ما تقدم.
اما المقام الثاني فملخص الكلام فيه أنه إذا ورد عام أو مطلق معلوم
الصدور بالتواتر، كعموم الكتاب والسنة المتواترة، أو بغيره كعموم الخبر
المحفوف بالقرينة القطعية، وكان في خبر الواحد خاص أو مقيد، فعلى القول
بحجية الخبر يخصص العموم ويقيد الاطلاق، لان الخبر حجة على الفرض،
فيكون قرينة على المراد من العام أو المطلق، ولذا ذكرنا في محله ان تخصيص
الكتاب بخبر الواحد مما لا اشكال فيه، وأما على القول بوجوب العمل بالاخبار
من باب الاحتياط للعلم الاجمالي بصدور بعضها، فهل يتقدم الخبر على العموم
والاطلاق أيضا لترتفع الثمرة بين القول بحجية الخبر والقول بوجوب العمل به
من باب الاحتياط من هذه الجهة أم لا؟ ظاهر كلام صاحب الكفاية (ره)
وصريح بعض المحققين (ره) هو الثاني، بدعوى ان العالم أو المطلق حجة في
مدلوله، ولا يرفع اليد عنهما إلا بحجة أقوى، والمفروض ان كل واحد من
الاخبار غير ثابت الحجية. ومجرد العلم الاجمالي بصدور بعضها لا اثر له.
هذا والتحقيق في مقام هو التفصيل بأن يقال: إن كان مفاد العام أو
المطلق حكما الزاميا، ومفاد الخبر حكما غير الزامي، كقوله تعالى: (وحرم
الربا) وقوله عليه السلام: (لا ربا بين الوالد والولد) تعين العمل بالعام، ولا يجوز
العمل بالخاص، لان العلم الاجمالي بورود التخصيص في بعض العمومات وان
210

أوجب سقوط أصالة العموم عن الحجية، إلا ان العلم الاجمالي بإرادة العموم في
بعضها يقتضي الاحتياط، ووجوب العمل بجميع العمومات المتضمنة للتكاليف
الالزامية. والمفروض ان الخاص لا يكون حجة ليكون موجبا لانحلال العلم
الاجمالي المذكور. نعم هناك علم اجمالي بصدور بعض المخصصات، إلا أنه
لا اثر له، إذ المفروض كون مفاد المخصص حكما غير الزامي. وقد ذكر في محله
انه لا أثر للعلم الاجمالي فيما إذا لم يكن متعلقا بحكم الزامي. وعليه فيجب الاخذ
بالعمومات والاطلاقات من باب الاحتياط، لا من جهة حجية أصالة العموم أو
الاطلاق على ما يظهر من صاحب الكفاية، ويصرح به بعض المحققين، ففي
هذا الفرض تظهر الثمرة بين القول بحجية الخبر والقول بوجوب العمل به من
باب الاحتياط.
وان كان مفاد العام أو المطلق حكما ترخيصيا، ومفاد الخاص حكما الزاميا
كقوله تعالى: (وأحل الله البيع) وقوله عليه السلام (نهى النبي صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر)
تعين العمل بالخاص، ولو كان العمل به من باب الاحتياط، إذ العلم الاجمالي
بصدور جملة من المخصصات المشتملة على احكام إلزامية أوجب سقوط الأصول
اللفظية عن الحجية. كما هو الحال في الأصول العملية، فان إجراءها في جميع
الأطراف يستلزم المخالفة العملية القطعية، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح، فلا
مجال للقول بأن العموم أو الاطلاق حجة في مدلوله، ولا يرفع اليد عنهما الا
بحجة أقوى، والعلم الاجمالي بإرادة العموم في بعض الموارد مما لا اثر له، إذ
المفروض كون مفاد العموم حكما ترخيصا. وقد تقدم انه لا اثر للعلم الاجمالي
فيما إذا لم يكن متعلقا بحكم إلزامي. وهذا هو الفارق بين هذه الصورة والصورة السابقة، فتعين العمل بالمخصص في جميع الأطراف، للعلم الاجمالي بصدور جملة
من المخصصات، و المفروض كونه متعلقا بحكم إلزامي، فيجب الأخذ بالمخصص
211

من باب الاحتياط، ففي هذا الفرض لا تظهر ثمرة بين القول بحجية الخبر والقول
بوجوب العمل به من باب الاحتياط.
وأما ان كان مفاد كل من العام والخاص حكما إلزاميا، بأن يكون مفاد
أحدهما الوجوب ومفاد الآخر الحرمة، كما إذا كان مفاد العام وجوب إكرام
العلماء، ومفاد الخاص حرمة اكرام العالم الفاسق، أو كان مفاد العام حرمة
اكرام الكفار، ومفاد الخاص وجوب اكرام الضيف منهم مثلا، فعلى القول
بحجية الاخبار لا إشكال في تقدمها على العمومات وتخصيصها بها، كما مر
مرارا. واما على القول بوجوب العمل بها من باب الاحتياط، فهل يجب العمل
بالعام أو بالخاص أو يتخير؟ المتعين هو الثالث، لعدم امكان الاحتياط وتحصيل
الامتثال القطعي، إذ مورد اجتماع العام والخاص طرف لعلمين اجماليين، يقتضى
أحدهما الفعل والآخر الترك، فان العلم الاجمالي بإرادة العموم من بعض العمومات
يقتضي الاحتياط بالفعل، والعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات يقتضى
الترك، كما في المثال الأول، وينعكس الامر في عكس ذلك، كما في المثال
الثاني. وعلى التقديرين لا يمكن الاحتياط بلحاظ كلا العلمين، فيكون مخيرا
بين الفعل والترك، نظير دوران الامر بين المحذورين، فان العقل مستقل فيه
بالتخيير. والمقام وان لم يكن من صغريات دوران الامر بين المحذورين، لان
دوران الامر بين المحذورين إنما هو فيما إذا علم جنس الالتزام، وشك في أنه
الوجوب أو الحرمة. والمقام ليس كذلك، لاحتمال ان لا يكون مورد اجتماع
العام والخاص واجبا ولا حراما، إذ نحتمل ان لا يكون العموم مرادا من هذا
العام، بأن يكون العام الذي نعلم اجمالا بإرادة العموم منه منطبقا على غير هذا العام
وكذا نحتمل ان لا يكون هذا الخاص صادرا، بأن يكون الخاص الذي نعلم
اجمالا بصدوره غير هذا الخاص، فنحتمل ان لا يكون مورد الاجتماع حراما
212

ولا واجبا، إلا أنه ملحق بدوران الامر بين المحذورين حكما لما ذكرناه من
كونه طرفا لعلمين اجماليين يقتضي أحدهما الفعل والآخر الترك، فلا يمكن
الاحتياط وتحصيل الامتثال اليقيني، فإذا لا مناص من الحكم بالتخيير.
(الوجه الثاني) - من الوجوه العقلية التي استدل بها على حجية الخبر
ما ذكره صاحب الوافية على ما حكي عنه مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عند الشيعة، كالكتب الأربعة مع عمل جمع بها من غير رد
ظاهر، وهو انا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، ولا سيما بالأصول
الضرورية، كالصوم والصلاة والحج والزكاة، مع أن جل اجزائها وشرائطها
وموانعها انما يثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه
الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد (انتهى) ملخصا.
وأورد عليه الشيخ (ره) (أولا) بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود
الاجزاء والشرائط بين جميع الاخبار، لا خصوص الاخبار الواجدة لما ذكره
من الشرائط، فاللازم حينئذ اما الاحتياط والعمل بكل خبر دل على جزئية شئ
أو شرطيته. وهذا الايراد يندفع بأن العلم الاجمالي وان كان حاصلا بوجود
الاجزاء والشرائط بين جميع الاخبار، إلا ان العلم الاجمالي بوجود الاجزاء
والشرائط بين الاخبار الواجدة للشرائط المذكورة، يوجب انحلال العلم الأول
فاللازم حينئذ هو الاحتياط والعمل بكل ما دل على الجزئية أو الشرطية من
خصوص تلك الأخبار، لا مطلق ما دل على الجزئية والشرطية من الاخبار. نعم
يرد عليه ما أورده الشيخ (ره) ثانيا. و حاصله ان مقتضى هذا الوجه هو
وجوب العمل بكل ما دل على الجزئية والشرطية من الأخبار المذكورة من باب
الاحتياط للعلم الاجمالي، لا حجية الاخبار الواجدة للشرائط المذكورة،
بحيث تقدم على الأصول اللفظية والعملية التي مفادها الالزام، وثبوت التكليف
213

كما هو المدعى في المقام.
(الوجه الثالث) - من الوجوه العقلية ما حكي عن صاحب الحاشية (ره)
وملخصه انا نعلم بلزوم الرجوع إلى السنة، لحديث الثقلين الثابت تواتره عند
الفريقين. ونحوه مما يدل على ذلك، فيجب علينا العمل بها فيما إذا أحرزت
بالقطع، ومع عدم التمكن من احرازها بالقطع لا بد من التنزل إلى الظن والعمل
بما يظن صدوره منهم (ع).
و يرد عليه ما ذكره الشيخ (ره) من رجوعه إما إلى الوجه الأول، واما
إلى دليل الانسداد، إذ لو كان مراده من السنة نفس قول المعصوم عليه السلام وفعله
و تقريره، فوجوب العمل بها وان كان ضروريا، الا انه لا ملازمة بينه وبين
وجوب العمل بالاخبار الحاكية للسنة المحتمل عدم مطابقتها للواقع كما هو ظاهر
وان كان مراده من السنة هي الروايات الحاكية لقول المعصوم أو فعله أو تقريره،
فلا دليل على وجوب العمل بها، فإنه أول الكلام، ومحل البحث فعلا. وحديث
الثقلين ونحوه الدال على وجوب الرجوع إلى المعصوم عليه السلام والاخذ بقوله لا يدل
على وجوب الاخذ بالروايات الحاكية لقول المعصوم عليه السلام، فان وجوب متابعة
الإمام عليه السلام لا يدل على وجوب العمل بما يرويه محمد بن مسلم مثلا، مع احتمال
كونه غير مطابق للواقع، وهو ظاهر، وحينئذ ان قيل بوجوب العمل بالروايات
بدعوى العلم الاجمالي بصدور جملة منها من المعصوم، فهذا هو الوجه الأول، وان
قيل بوجوب العمل بها بدعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية وان العقل يحكم
بذلك بعد عدم امكان الوصول إليها بالقطع. فهذا يرجع إلى دليل الانسداد
ولا يتم إلا بتمامية سائر مقدماته.
واما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من عدم رجوع هذا الوجه إلى
214

الوجه الأول ولا إلى دليل الانسداد، وانه دليل مستقل، بدعوى ان ملاكه
ليس هو العلم الاجمالي بتكاليف واقعية، ليرجع إلى دليل الانسداد ولا العلم
الاجمالي بصدور جملة من الاخبار عنهم (ع) ليرجع إلى الوجه الأول، بل
ملاكه العلم بوجوب الرجوع إلى الروايات، مع قطع النظر عن العلمين
المذكورين، ففيه ان العلم بوجوب الرجوع إلى الروايات لا بد من أن يكون
ناشئا من منشأ، إذ العلم بوجوب العمل بما يحتمل مخالفته للواقع لا يحصل
جزافا. فاما ان يكون المنشأ هو الجعل الشرعي بأن يجعل الشارع الروايات حجة
والمفروض عدم ثبوته أو يكون المنشأ هو العلم بصدور بعضها من المعصوم وهذا
هو الوجه الأول، أو يكون المنشأ هو حكم العقل بلزوم الامتثال الظني مع عدم
امكان الامتثال القطعي. وهذا يرجع إلى دليل الانسداد.
(الكلام في حجية الظن المطلق)
واستدل عليها بوجوه أربعة كلها عقلية:
(الوجه الأول) - أن الظن بالتكليف مستلزم للظن بالضرر على المخالفة
ودفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.
وأجيب عنه بأجوبة بعضها راجع إلى منع الصغرى، وبعضها راجع إلى
إلى منع الكبرى. والصحيح في الجواب منع إحدى المقدمتين على سبيل منع
الخلو، بأن يمنع الصغرى على تقدير والكبرى على تقدير آخر، وكلتاهما على
تقدير ثالث. (بيان ذلك) انه ان كان مراد المستدل من الضرر هو الضرر الأخروي
فالكبرى وان كانت صحيحة تامة، إذ العقل مستقل بدفع الضرر المظنون، بل
215

بدفع الضرر المحتمل، ولذا وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص، وفي
أطراف العلم الاجمالي، بل الضرر محتمل حتى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف
فان استحقاق العقاب على المخالفة وان كان مقطوعا به فيها، إلا ان العقاب فيها
أيضا محتمل لا معلوم، لاحتمال صدور العفو منه تعالى واحتمال الشفاعة. و (بالجملة)
لا ينبغي الشك في الكبرى على هذا التقدير، إلا ان الصغرى ممنوعة إذ لا ملازمة
بين التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على المخالفة، ليكون الظن بالتكليف
مستلزما للظن بالعقاب على المخالفة والا كان احتمال التكليف مستلزما لاحتمال
العقاب على المخالفة ولزم الاحتياط في الشبهات البدوية ولو بعد الفحص، لان دفع
الضرر المحتمل أيضا واجب عقلا، كالضرر المظنون، مع كونه واضح البطلان
لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.
(وبعبارة أخرى) استحقاق العقاب من لوازم تنجز التكليف لا من
لوازم وجوده الواقعي، فمع عدم تنجزه بالعلم الوجداني، ولا بالحجة المعتبرة
لا عقاب على مخالفة بقبح العقاب بلا بيان بحكم العقل. وبما ذكرناه ظهر فساد
ما ذكره صاحب الكافية (ره) من أن العقل وان لم يكن مستقلا باستحقاق
العقاب على المخالفة، ولكنه غير مستقل بعدمه أيضا، فالعقاب حينئذ محتمل
والعقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل (انتهى) إذ مع استقلال العقل بقبح
العقاب بلا بيان على ما اعترف هو به في مبحث البراءة لا يبقى مجال للترديد في
استحقاق العقوبة وعدمه، فان موضوع حكم العقل وهو عدم البيان محقق، إذ
المفروض عدم كون الظن حجة، فالعقل مستقل بعدم استحقاق العقاب، فلا
يكون هناك احتمال للعقاب. 216
وان كان مراده من الضرر هو الضرر الدنيوي، فقد يمنع كلتا المقدمتين
وقد يمنع الكبرى فقط (بيان ذلك) ان التكاليف الوجوبية ليس في مخالفتها الا
216

تفويت المصلحة، بناء على ما هو المعروف بين العدلية من تبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد في متعلقاتها، فالظن بالوجوب لا يستلزم الظن بالضرر في المخالفة، بل
مستلزم للظن بفوات المصلحة، ولا يصدق عليه الضرر، فإنه عبارة عن النقص
المالي أو البدني أو العقلي والروحي، وكذا الحال في التكاليف التحريمية
الناشئة عن المفاسد النوعية الراجعة إلى اختلال النظام، كحرمة قتل النفس
وحرمة اكل مال الغير غصبا، فإنه ليس في ارتكاب تلك المحرمات ضرر دنيوي
على الفاعل، فالظن بمثل هذا النوع من الحرمة لا يستلزم الظن بالضرر. نعم
يستلزم الظن بالمفسدة النوعية الراجعة إلى اختلال النظام، ففي مورد الظن
بالتكليف الوجوبي ومورد الظن بهذا النوع من التكليف التحريمي، كانت الصغرى
والكبرى كلتاهما ممنوعة، ودعوى لزوم جلب المصلحة المظنونة ولزوم دفع
المفسدة النوعية المظنونة ساقطة لا شاهد عليها، وإلا لزم الاحتياط في الشبهة
الموضوعية، مع احتمال الوجوب أو احتمال هذا النوع من الحرمة، ولم
يلتزم به أحد.
واما التكاليف التحريمية الناشئة عن المفسدة الشخصية، بمعنى كون
الحرمة ناشئة عن الضرر المتوجه إلى شخص المرتكب، كحرمة اكل السم وحرمة
شرب الخمر ونحو ذلك مما يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ونقص في بدنه أو
في ماله أو في عقله أو في عرضه، فالظن بمثل هذا النوع من التحريم وإن كان
يستلزم الظن بالضرر إلا ان الكبرى ممنوعة، إذ لم يدل دليل على وجوب دفع
الضرر الدنيوي المظنون في هذه الموارد مما لم يكن التكليف فيه منجزا، والا
لزم الاحتياط في الشبهات الموضوعية أيضا مع الظن بالضرر، ولم يلتزم به
أحد بل يمكن ان يقال انه لا دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المتيقن،
ولا سيما إذا كان فيه غرض عقلائي، فكيف بالضرر المظنون أو المحتمل نعم قد
217

دل الدليل على حرمة الاضرار بالنفس في موارد خاصة، كقتل الانسان نفسه أو
قطع بعض أعضائه، كما دل الدليل على حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في موارد
خاصة، كالصوم والوضوء والغسل، ولا بد من الاقتصار في مورد النص،
إذ لا يستفاد منه كبرى كلية: مع أن الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر
المنطبق على الاحتمال أيضا لا خصوص الظن بالضرر.
(الوجه الثاني) - أن الاخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح
وهو قبيح عقلا، فتعين الاخذ بالظن. (وفيه) ان تمامية هذا الوجه متوقفة
على أمرين: تنجز التكليف وعدم امكان الاحتياط، إذ على تقدير عدم كون
التكليف ثابتا، لا مانع من الرجوع إلى البراءة، وليس فيه ترجيح المرجوح
على الراجح كما هو ظاهر وكذا لو تنجز التكليف وتمكن المكلف من الاحتياط
فعليه العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال، وليس فيه أيضا ترجيح المرجوح على
الراجح. نعم فيما إذا تنجز التكليف ولم يمكن الاحتياط كما إذا ترددت القبلة بين
جهتين تظن القبلة في إحداهما المعينة، ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت مثلا،
تعين الاخذ بالظن لقبح ترجيح المرجوح على الراجح. وعليه فلا يكون هذا
الوجه إلا مقدمة من مقدمات دليل الانسداد، فلا ينتج إلا بانضمام الباقي منها إليه.
(الوجه الثالث) - ان العلم الاجمالي بثبوت تكاليف إلزامية وجوبية
وتحريمية يقتضى وجوب الاحتياط في جميع الشبهات، لكنه موجب للعسر المنفى
في الشريعة المقدسة، فلا بد من التبعيض في الاحتياط والاخذ بمظنونات
التكليف. لقبح ترجيح المرجوح على الراجح. و (فيه) ان هذا الوجه أيضا
من مقدمات دليل الانسداد، ولا ينتج ما لم تنضم إليه البقية.
(الوجه الرابع) - هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وتحقيق الكلام
فيه يقتضي البحث في جهات أربع:
218

(الجهة الأولى) - في بيان أصل المقدمات التي يتألف منها هذا الدليل،
(الجهة الثانية) - في تعيين النتيجة المترتبة عليها على تقدير تماميتها من
حيث إنها الكشف أو الحكومة.
(الجهة الثالثة) - في أن نتيجة المقدمات - على تقدير تماميتها -
مطلقه أو مهملة.
(الجهة الرابعة) - في تمامية المقدمات وعدمها.
أما الكلام في الجهة الأولى، فهو انه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري
(رحمه الله) ان ما يتألف منه دليل الانسداد أمور أربعة:
(الأول) - العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية.
(الثاني) - انسداد باب العلم والعلمي في كثير من تلك التكاليف.
(الثالث) - عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الشبهات إما لعدم
إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج، وعدم جواز الرجوع
إلى الأصل الجاري في كل مسألة ولا إلى القرعة ونحوها، ولا إلى فتوى من
يرى انفتاح باب العلم أو العلمي.
(الرابع) - استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.
وذكر صاحب الكفاية (ره) انها خمسة، وزاد على الأمور المذكورة
مقدمة أخرى وجعلها الثالثة من المقدمات، والثالثة في كلام الشيخ (ره) الربعة
وهي انه لا يجوز لنا اهمال التكاليف وعدم التعرض لامتثالها أصلا. والصحيح
ما صنعه الشيخ (ره) إذ لو كان مراد صاحب الكفاية (ره) من المقدمة الأولى
هو العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية في حق كل مكلف ممن يجري دليل
الانسداد في حقه، كما هو ظاهر كلامه، فهذه المقدمة هي بعينها المقدمة الثالثة
في كلامه، إذ معنى العلم بالتكاليف الفعلية انه لا يجوز اهمالها وعدم التعرض
219

لامتثالها، وان كان مراده هو العلم بأصل الشريعة لا العلم بفعلية التكاليف في
حقنا، فلا وجه لجعل ذلك من مقدمات الانسداد، وان كان صحيحا في نفسه
لان المقصود ذكر المقدمات القريبة التي يتألف منها دليل الانسداد لا المقدمات
البعيدة، وان كان دليل الانسداد متوقفا عليها في نفس الامر، وإلا لزم ان
يجعل من المقدمات اثبات الصانع واثبات النبوة إلى غير ذلك من المقدمات البعيدة
التي هي مسلمة في نفسها ومفروغ عنها.
(اما الجهة الثانية) - ففي تعيين النتيجة المترتبة على المقدمات المذكورة،
على تقدير تماميتها من حيث إنها الكشف أو الحكومة، وليعلم (أولا) - ان
المراد من الكشف انه يستكشف من المقدمات المذكورة ان الشارع جعل الظن
حجة. والمراد من الحكومة ان العقل الحاكم بالاستقلال في باب الإطاعة
والامتثال يلزم المكلف بعد تمامية المقدمات بالامتثال الظني، وعدم التنزل إلى
الامتثال الشكي والوهمي بمعنى ان العقل يراه معذورا غير مستحق للعقاب على
مخالفة الواقع، مع الاخذ بالظن، ويراه مستحقا للعقاب على مخالفة الواقع
على تقدير عدم الاخذ بالظن والاقتصار بالامتثال الشكي والوهمي، فيحكم العقل
بتبعيض الاحتياط في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام، وهذا هو معنى
الحكومة، لا ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن العقل مستقل بحجية
الحكومة، لا ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن العقل مستقل بحجية
الظن، فإنه غير معقول، إذ العقل ليس بمشرع ليجعل الظن حجة، وانما
شأنه الادراك ليس الا فالجعل والتشريع من وظائف المولى، والعقل يدرك ويرى
المكلف معذورا في مخالفة الواقع، مع الاتيان بما يحصل معه الظن بالامتثال
على تقدير تمامية المقدمات، ويراه غير معذور في مخالفة الواقع على تقدير ترك
الامتثال الظني، والاقتصار بالامتثال الشكي أو الوهمي، وهذا هو
معنى الحكومة.
220

ثم انه لا بد من بيان منشأ الاختلاف في أن نتيجة المقدمات هو الكشف
أو الحكومة، فان الاختلاف المذكور ليس جزافيا بدون منشأ، فنقول ان
المنشأ لهذا الاختلاف هو الاختلاف في تقرير المقدمة الثالثة، فإنها قد تقرر بأن
الاحتياط التام غير واجب، لعدم امكانه أو لكونه مستلزما لاختلال النظام
أو العسر والحرج، وعلى هذا التقرير تكون النتيجة هي الحكومة، لان عدم
جواز الاحتياط التام لاستلزامه اختلال النظام، أو عدم وجوبه للزوم العسر
والحرج لا ينافي حكم العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف، وتركه في البعض
الآخر مما يرفع معه محذور الاختلال أو العسر والحرج، فالعقل الحاكم
بالاستقلال في باب الإطاعة والامتثال يلزم المكلف أو لا بتحصيل الامتثال العلمي
تفصيلا أو اجمالا باتيان جميع المحتملات فان تعذر ذلك، حكم بالتبعيض في
الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظني، ومع تعذره أيضا يحكم بالامتثال الشكي
ومع تعذره يحكم بالامتثال الوهمي ولا يراه معذورا في مخالفة الواقع على تقدير
التنزل إلى المرتبة السافلة، مع التمكن من المرتبة العالية في جميع هذه المراتب.
و (بالجملة) تكون النتيجة على هذا التقرير هو التبعيض في الاحتياط.
وقد تقرر المقدمة الثالثة بأن الشارع لا يرضى بالاحتياط والامتثال
الاجمالي، بدعوى الاجماع على ذلك، فان الاحتياط وان كان حسنا في نفسه
الا انه ليس كذلك فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في أكثر الاحكام على
الامتثال الاجمالي المنافي لقصد الوجه والجزم، وتكون النتيجة على هذا التقرير
هو الكشف، إذ بعد فرض فعلية التكاليف وانسداد باب العلم والعلمي،
وعدم رضى الشارع بالامتثال الاجمالي يستكشف ان الشارع جعل لنا حجة
وطريقا إلى احكامه، فلا بد من السير والتقسيم في تعيين ذلك الطريق، فهل هو
فتوى الفقيه أو القرعة أو غير ذلك. والمفروض عدم حجية كل ذلك، فيستكشف
221

ان الظن هو الطريق المنصوب من قبل الشارع. وتوهم - عدم لزوم جعل الحجة
على الشارع لاحتمال ايكاله المكلف إلى ما يحكم به العقل، فلا يتم القول بالكشف
- مدفوع بما ذكرناه من أن العقل شانه الادرك فقط، وليس له جعل الحجية
لشئ، فعلى تقدير عدم جعل الشارع الظن حجة يحكم العقل بالتبعيض في
الاحتياط على ما تقدم. والمفروض قيام الاجماع على أن الشارع لا يرضى بهذا
النحو من الاحتياط. وهو الاحتياط في أكثر الاحكام المنافي للجزم وقصد
الوجه، فلا مناص من الالتزام بان الشارع جعل الظن حجة على فرض تمامية
المقدمات بهذا التقرير.
إذ عرفت معنى الكشف والحكومة وعرفت منشأ الاختلاف فيها، ظهر
لك ان الصحيح على تقدير تمامية المقدمات هو الحكومة لا الكشف، إذ الكشف
متوقف على قيام الاجماع، على أن الشارع لا يرضى بالاحتياط، وانى لنا
باثبات هذا الاجماع، وان هذا الاجماع؟ وعلى تقدير عدم ثبوت هذا الاجماع
يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط على ما تقدم بيانه. وقد ذكرنا ان هذا هو
معنى الحكومة.
(الجهة الثالثة) - في أن نتيجة المقدمات على تقدير تماميتها مطلقة أو
مهملة، ولا يخفى ان الاطلاق والاهمال قد يلاحظان بالنسبة إلى الأسباب، وقد
يلاحظان بالنسبة إلى الموارد وقد يلاحظان بالنسبة إلى المراتب فتقول: اما على تقرير
الكشف فتكون النتيجة مطلقة من حيث الأسباب، إذ لا يكون هناك قدر متيقن
فلا يرى العقل فرقا بين الأسباب التي يحصل منها الظن، فلا فرق بين الظن الحاصل
من الاجماع المنقول والظن الحاصل من الشهرة. والحاصل من فتوى الفقيه مثلا
بل العقل يرى بعد تمامية المقدمات بهذا التقرير ان الشارع جعل الظن حجة من
أي سبب حصل، إلا السبب الذي نهى الشارع عن العمل بالظن الحاصل منه
222

كالظن الحاصل من القياس الثابت عدم جواز العمل به بالاخبار المتواترة.
وأما من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة. إذ العلم بعدم رضى
الشارع بالاحتياط الكلي لا ينافي وجوب الاحتياط في خصوص الموارد المهمة،
كالدماء والاعراض بل الأموال الخطيرة، فلا بد من الاقتصار على القدر المتقين
وهو الظن في غيره هذه الموارد. وأما هذه الموارد التي علم اهتمام الشارع بها
فلا بد من الاحتياط فيها، وكذا الحال من حيث المراتب، إذ العقل لا يدرك
بعد العلم بعدم رضى الشارع بالاحتياط الكلي انه جعل الظن حجة بتمام مراتبه
بل يحتمل انه جعل خصوص الظن القوي حجة. ومجرد احتمال عدم جعل الظن
الضعيف حجة كاف في الحكم بعدم الحجية، فلا بد من الاقتصار على القدر
المتقين والعمل بالظن القوي، وان لم يكن وافيا بمعظم الفقه، بحيث يلزم - من
الرجوع إلى الأصول في غير موارد العلم وهذا النوع من الظن - محذور المخالفة
القطعية يعمل بالظن الأضعف منه الأقوى من غيره، وان لم يكن هو أيضا وافيا
يتنزل إلى الأضعف منه. وهكذا.
هذا كله على الكشف، وأما على الحكومة فالامر كذلك، فتكون
النتيجة مطلقة بالنسبة إلى الأسباب، إذ بعد عدم وجوب الاحتياط الكلي لعدم
امكانه، أو لاستلزامه العسر والحرج، وتنزل العقل من الامتثال العلمي إلى
الامتثال الظني لا يرى فرقا بين أسباب الظن، إذ لا يكون هناك قدر متيقن
فلا فرق بين الظنون من حيث الأسباب.
واما من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة، إذ عدم وجوب الاحتياط
الكلي - لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج - لا يوجب
رفع اليد عن الاحتياط في جميع الموارد، بل لا بد من العمل بالاحتياط في الموارد
التي علم اهتمام الشارع بها، والعمل بالظن في غيرها، ولا يلزم من العمل
223

بالاحتياط فيها محذور اختلال النظام أو العسر والحرج. وكذا الحال بالنسبة
إلى المراتب، فان النتيجة بالنسبة إليها أيضا مهملة، لعين ما تقدم، ولكن التبعيض
في مراتب الظنون يكون بعكس الكشف إذ على الكشف كان المتعين الاقتصار على
الظن القوي، وعلى تقدير عدم الوفاء بمعظم الفقه على ما تقدم بيانه يتنزل إلى الظن
المتوسط. وعلى تقدير عدم الوفاء أيضا يتنزل إلى الظن الضعيف، فيكون التنزل
من الظن العالي إلى السافل، وتكون دائرة العمل بالظن أضيق. وعلى تقدير
عدم الكفاية يتوسع شيئا فشيئا على ما تقدم. وهذا بخلاف الحكومة، إذ
بعد بطلان الاحتياط الكلي - لعدم امكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر
والحرج، وتنزل العقل من الامتثال العلمي إلى الامتثال الظني - كان المنعين
(أولا) - هو الاتيان بالمظنونات والمشكوكات والموهومات بالوهم القوي،
ويطرح الموهوم بالوهم الضعيف فقط، وان تعذر ذلك فيأتي بالمظنونات
والمشكوكات، ويطرح جميع الموهومات. وفي الصورتين يحصل الامتثال
الظني. وإن تعذر ذلك أيضا فيأتي بجميع المظنونات، ويطرح المشكوكات أيضا
وان تعذر ذلك أيضا فيأتي بالمظنونات بالظن القوي فقط، ويطرح المظنونات
بالظن الضعيف أيضا كالمشكوكات، وفي هاتين الصورتين يكون الامتثال شكيا
لطرح مشكوك التكليف على الفرض، فيكون التنزل من الضعيف إلى القوى
وتكون دائرة العمل بالظن أوسع، وعلى تقدير التعذر يتضيق شيئا فشيئا.
(الجهة الرابعة) - في البحث عن تمامية المقدمات وعدمها. فتقول اما
المقدمة الأولى فبديهية، إذ العلم الاجمالي - بوجود تكاليف فعلية لابد من
التعرض لامتثالها - حاصل لكل مكلف مسلم، فانا لسنا كالبهائم نفعل ما نشاء
ونترك ما نريد، وأطراف هذا العلم الاجمالي وان كانت كثيرة بحيث لا يتمكن
المكلف من الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية فيها، ويضطر إلى ترك بعض
224

الأطراف في الشبهة الوجوبية، والى فعل بعض الأطراف في الشبهة التحريمية، إلا
ان هذا الاضطرار لا يرفع تنجيز العلم الاجمالي في مثل المقام. أما على مسلك
شيخنا الأنصاري (ره) من أن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الاجمالي تركا
أو فعلا، لا يرفع تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى بقية الأطراف فيما إذا كان
الاضطرار إلى غير معين، فالامر واضح. وهذا المسلك هو الصحيح على
ما سنذكره في مبحث الاشتغال إن شاء الله تعالى. وأما على مسلك صاحب
الكفاية (ره) من عدم تنجيز العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى غير المعين من
الأطراف، بملاحظة ان التكليف بالنسبة إلى بعض الأطراف ساقط للاضطرار
وبالنسبة إلى البقية مشكوك الحدوث، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة فيها،
فلان ذلك انما هو فيما إذا كان التكليف المعلوم بالاجماع واحدا أو اثنين، ونحوهما
مما لا يلزم من الرجوع إلى البراءة في غير المضطر إليه من الأطراف محذور. واما
في مثل المقام مما كان الرجوع إلى البراءة مستلزما للمخالفة في معظم الاحكام المعبر
عنها في كلام الشيخ (ره) بالخروج من الدين، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة
يقينا، للقطع بأن الشارع لا يرضى بمخالفة معظم احكامه. وهذا هو المراد
من الخروج من الدين لا الكفر، إذ مخالفة الفروع لا توجب الكفر.
و (بالجملة) المقدمة الأولى مما لا اشكال في تماميتها، فان اهمال التكاليف
المعلومة بالاجمال وعدم التعرض لامتثالها مما يقطع بعدم رضى الشارع به بالضرورة
إلا أنه قد ذكرنا عند التعرض لذكر الأدلة العقلية على حجية الخبر ان لنا علوما
إجمالية ثلاثة:
(الأول) - العلم الاجمالي بوجود تكاليف واقعية تحريمية ووجوبية.
(الثاني) - العلم الاجمالي بمطابقة جملة من الامارات للواقع.
(الثالث) - العلم الاجمالي بصدور جملة من الاخبار الموجودة في الكتب
225

المعتبرة، والعلم الاجمالي الأول ينحل بالثاني، والعلم الاجمالي الثاني ينحل
بالثالث، فيجيب الاحتياط في موارد الأخبار المذكورة فقط، ولا يكون
الاحتياط المذكور موجبا لاختلال النظام ولا مستلزما للعسر والحرج. كيف؟
وجماعة من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع الأخبار المذكورة، بدعوى
القطع بصدورها، فلم يختل عليهم النظام، ولم يرد عليهم العسر والحرج.
وعليه فكانت المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد غير تامة. ويأتي الكلام فيها
مفصلا إن شاء الله تعالى.
و (أما المقدمة الثانية) فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم تامة، بل
ضرورية لكل من تعرض للاستنباط، فان الضروريات من الأحكام - بل القطعيات
منها ولو لم تكن ضرورية - أحكام إجمالية، كوجوب الصلوات الخمس، ووجوب
الصوم في شهر رمضان ونحوهما. ولا علم لنا بتفاصيل تلك المجملات من حيث
الاجزاء والشرائط والموانع. وأما بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فصحتها
مبتنية على أحد أمرين على سبيل منع الخلو، بمعنى ان أحدهما يكفي في اثبات
انسداد باب العلمي. (أحدهما) - عدم حجية الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة إما من
جهة عدم ثبوت وثاقة رواتها، أو من جهة عدم حجية خبر الثقة.
(ثانيهما) - عدم حجية ظواهرها بالنسبة إلينا، لاختصاص حجية
الظواهر بالمقصودين بالافهام، ولسنا منهم، فعلى كل من التقديرين ينسد علينا
باب العلمي، إذ على تقدير عدم ثبوت وثاقة الرواة، أو عدم حجية خبر الثقة
تسقط الروايات عن الحجية من حيث السند، وان قلنا بحجية الظواهر بالنسبة
إلى غير المقصودين بالافهام، أو قلنا بأنا من المقصودين بالافهام، وعلى تقدير
عدم حجية الظواهر بالنسبة إلينا تسقط الروايات عن الحجية من حيث الدلالة،
226

ولو على تقدير اليقين بصدورها من المعصوم عليه السلام.
(وبالجملة) يكفي القائل بالانسداد تمامية أحد هذين الامرين
والقائل بالانفتاح لا بدله من دفع كلا الامرين، واثبات حجية الروايات من حيث
السند والدلالة. وحيث انا ذكرنا الامرين في بحث حجية الخبر وبحث حجية
الظواهر، وأثبتنا حجية الخبر من الحيثيتين في ذينك البحثين، فلا حاجة
إلى الإعادة.
و (اما المقدمة الثالثة) - وهي بطلان الرجوع إلى الغير والعمل بالقرعة
ونحوها، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مورد، وعدم وجوب
الاحتياط التام - فتفصيل الكلام فيها ان التقليد والرجوع إلى الغير واضح
البطلان، لان القائل بالانسداد يرى خطأ من يدعي الانفتاح، فيكون رجوعه
إليه من رجوع العالم إلى الجاهل في نظره، وكذا العمل بالقرعة ونحوها، فان
أساس الأحكام الشرعية غير مبتن على مثل القرعة بالضرورة. ولا دليل على
حجية الفرعة إلا في موارد قليلة من الشبهات الموضوعية على ما ذكر في محله،
فالرجوع إليها في الشبهات الحكمية فاسد بالضرورة. واما الرجوع إلى الأصول
العملية في كل مورد، فتحقيق الحال فيه يقتضي بسطا في المقال، فنقول: ان
ما كان من الأصول مثبتا للتكليف فان كان من الأصول غير المحرزة كقاعدة
الاشتغال، فلا مانع من جريانها في مواردها، وإن كان من الأصول المحرزة
كالاستصحاب المثبت للتكليف، فان لم يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض
الموارد، فلا مانع من جريان أيضا، وان علم بذلك، فعلى القول بأن
المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة هو
لزوم المخالفة العملية فقط - كما اختاره صاحب الكفاية (ره) وهو الصحيح -
فلا مانع من جريان في المقام، إذ المفروض كونه مثبتا للتكليف، فلا تلزم من
227

جريانه مخالفة عملية، نظير ما إذا علم اجمالا بطهارة الاناءين المسبوقين بالنجاسة
فإنه لا يلزم من اجراء استصحاب النجاسة فيهما مخالفة عملية. وأما على القول
بأن العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ولو
لم يلزم منه مخالفة عملية، كما اختاره شيخنا الأنصاري (ره) وتبعه المحقق
النائيني (ره) فلا يجرى الاستصحاب في المقام، للعلم بانتقاض الحالة السابقة
في الجملة على الفرض.
ثم انه ذكر صاحب الكفاية (ره) انه لا مانع من جريان الاستصحاب
في المقام حتى على مسلك الشيخ (ره) لان الاستنباط تدريجي، والمجتهد
لا يكون ملتفتا إلي جميع الأطراف دفعة، ليحصل له شك فعلي بالنسبة إلى
الجميع، بل يجري الاستصحاب في كل مورد غافلا عن مورد آخر، فلا يكون
جريان الاستصحاب في جميع الأطراف في عرض واحد، ليحصل له علم اجمالي
بأن هذا الاستصحاب أو ذاك مخالف للواقع.
(وبالجملة) العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد متوقف
على الالتفات الفعلي إلى جميع الأطراف، وهو منتف في المقام، إذ المجتهد حين
التفاته إلى حكم غافل عن حكم آخر، ولا التفات له إليه، ليحصل له العلم بان
الاستصحاب في أحدهما مخالف للواقع.
وفيه ان الاستنباط وان كان تدريجيا والمجتهد لا يكون ملتفتا إلى جميع
الشبهات التي هي مورد الاستصحاب دفعة كما ذكره، إلا أنه بعد الفراغ عن
استنباط الجميع وجمعها في الرسالة مثلا يعلم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعض
الموارد التي اجرى فيها الاستصحاب، فليس له الافتاء بها، فجريان الأصل
المحرز المثبت للتكليف في المقام مبني على مسلكه من أن العلم الاجمالي بنفسه غير
مانع عن جريان الاستصحاب ما لم تلزم منه مخالفة عملية.
228

ثم إن التكليف المعلوم بالتفصيل بضميمة موارد جريان الأصول المثبتة
للتكليف ان كان بالمقدار المعلوم بالاجمال، وانحل العلم الاجمالي، فلا مانع من
الرجوع إلى الأصول النافية للتكليف، وإن لم يكن كذلك بأن كان المعلوم
بالاجمال أكثر من ذلك، فعلى مسلك الشيخ (ره) من تنجيز العلم الاجمالي مع
الاضطرار إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه، لا يجوز الرجوع إلى الأصول
النافية. وعلي مسلك صاحب الكفاية (ره) من أن الاضطرار إلى بعض
الأطراف لا بعينه موجب لسقوط العلم الاجمالي عن التنجيز، فلا مانع من
الرجوع إلى الأصول النافية ان كان التكليف المعلوم بالاجمال قليلا. وأما ان
كان كثيرا بحيث لزم من الرجوع إلى الأصل النافي محذور الخروج عن الدين،
فلا يجوز الرجوع إلى الأصول النافية.
واما الاحتياط التام في جميع الشبهات، فان كان غير ممكن، فلا اشكال
في عدم وجوبه، لقبح التكليف بغير المقدور بضرورة العقل، وإن كان مخلا
بالنظام، فلا اشكال في قبحه عقلا وعدم جوازه شرعا، إذ الشارع لا يرضى
بهذا النحو من الاحتياط قطعا، بل قد ينتفى موضوعا، لأدائه إلى ترك جملة
من الواجبات، فلا يكون هناك احتياط. واما ان كان موجبا للعسر والحرج
ففي عدم وجوبه - لأدلة نفي العسر والحرج - خلاف بين الاعلام، فذهب شيخنا
الأنصاري (ره) إلى أن قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على وجوب الاحتياط
باعتبار ان مفاد الأدلة نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج أو الضرر، ووجوب
الاحتياط - وهو الجمع بين المحتملات - وان كان عقليا، الا انه ناشئ من بقاء
الحكم الشرعي الواقعي على حاله، فهو المنشأ للحرج والضرر، إذ الشئ يسند
إلى أسبق العلل، فيكون المرتفع بأدلة نفي الحرج والضرر هو الحكم الشرعي
الواقعي، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه.
229

واختار صاحب الكفاية (ره) عدم حكومة قاعدة نفي الحرج والضرر
على قاعدة الاحتياط، بدعوى ان ظاهر الأدلة إنما هو نفي الحكم بلسان نفي
الموضوع، وان النفي بحسب ظاهر الأدلة متوجه إلى الفعل الحرجي أو الضرري
ويكون المراد نفي الحكم عن الفعل الحرجي أو الضرري، نظير قوله عليه السلام:
(لا ربا بين الوالد والولد) فإنه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع، فإذا لا تكون
قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على قاعدة الاحتياط، إذ الفعل الذي تعلق به
الحكم الشرعي واقعا المردد بين أطراف الشبهة ليس حرجيا ولا ضرريا، كي
يرتفع حكمه بأدلة نفي الحرج والضرر، بل الحرج انما ينشأ من الاحتياط، والجمع
بين المحتملات، ووجوب الجمع بين المحتملات ليس حكما شرعيا ليرتفع بأدلة نفي
الحرج، وانما هو بحكم العقل، وعليه فلا بد من الاحتياط وان كان مستلزما
للعسر والحرج.
والصحيح ما ذكره الشيخ (ره) من حكومة قاعدة نفي الحرج على قاعدة
الاحتياط، اما (أولا) - فلان ظاهر أدلة نفي الحرج أو الضرر ليس نفي الحكم
بلسان نفي الموضوع، على ما ذكره صاحب الكفاية (ره) لان الفعل الضرري
ليس مذكورا في لسان الأدلة، انما المذكور لفظ الضرر، وليس لفظ الضرر
عنوانا للفعل ليكون النفي راجعا إلى الفعل الضرري، فلو كان المراد نفي الحكم
بلسان نفي الموضوع لكان المفاد نفي حرمة الضرر، كما هو الحال في قوله عليه السلام:
(لا ربا بين الوالد والولد) فان المراد نفي حرمة الربا بينهما، فلو كان المراد من
قوله عليه السلام لا ضرر... الخ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، لكان معناه نفي حرمة
الاضرار بالغير، وهذا مما لم يلتزم به أحد حتى صاحب الكفاية نفسه (ره)، فان
حرمة الاضرار بالغير مما لا كلام فيه، بل ولا اشكال في حرمة الاضرار بالنفس في
الجملة. فهذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به في أدلة نفي الحرج والضرر، فيدور
230

الأمر بين أن يكون المراد من النفي هو النهي فيكون المراد النهي عن الاضرار بالغير
كما هو الحال في قوله تعالى: (لا رفث ولا فسوق ولا جدال) فان المراد نهي المحرم
عن هذه الأمور وحرمتها عليه، وكذا قوله عليه السلام: (لا رهبانية في الاسلام)
فان المراد منه النهي عن الرهبانية. والتزم بهذا المعنى شيخنا الشريعة في رسالته
المعمولة في قاعدة لا ضرر، وأصر عليه، وأن يكون المراد هو النفي، وحيث إن
النفي التكويني للضرر، والحرج غير معقول، فيكون المراد منه النفي التشريعي، بمعنى
انه لا ضرر ولا حرج في الشريعة، هذا المعنى راجع إلى ما ذكره الشيخ (ره)
من أن المراد نفي الحكم الضرري، ونفي الحكم الحرجي في الشريعة. وهذا
المعنى هو الظاهر من أدلة نفي الحرج والضرر، بقرينة ما في بعض الروايات من أنه
لا ضرر في الاسلام أو في الدين، فإنه ظاهر في نفي تشريع الحكم الضرري
في دين الاسلام، وكذا قوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) فإذا
تكون قاعدة نفي الحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط على ما تقدم تقريبه عند نقل
كلام الشيخ (ره).
واما (ثانيا) - فلان قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على قاعدة
الاحتياط في مثل المقام، مما كانت أطراف الشبهة من التدريجيات، ولو على
مسلك صاحب الكفاية (ره) لان الحرج في مثل ذلك يكون في الافراد الأخيرة
ويكون فعلها والآتيان بها حرجيا، فيعلم بعدم ثبوت التكليف فيها، لأن
التكليف إن كان في الواقع متعلقا بالأفراد المتقدمة، فقد امتثله المكلف على
الفرض، وان كان متعلقا بالافراد الأخيرة كان متعلقه حرجيا، فيرتفع بقاعدة
نفي الحرج، ولو على مسلك صاحب الكفاية (ره) مثلا لو فرض تعلق النذر
بصوم يوم معين، وتردد بين يوم الخميس ويوم الجمعة مثلا، وفرض كون
الصوم فيهما حرجيا على الناذر، فإذا صام يوم الخميس، يعلم بعدم وجوب
231

الصوم عليه يوم الجمعة، لان التكاليف من ناحية النذر ان كان متعلقا بصوم
يوم الخميس، فقد امتثله على الفرض، وان كان متعلقا بصوم يوم الجمعة
فمتعلقه حرجي فعلا، فقد ارتفع بقاعدة نفي الحرج.
والمقام من هذا القبيل
بعينه، لان الشبهات التي يلزم الحرج أو الضرر من الاحتياط فيها طويلة تدريجية
لا عرضية، فلا يكون الاحتياط فيها واجبا على المسلكين على ما عرفت، فلا
تظهر ثمرة بينهما في مثل المقام. نعم تظهر الثمرة بينهما فيما كانت الأطراف عرضية
كما إذا انحصر الماء في اناءين، وعلم اجمالا بنجاسة أحدهما، وكان الاجتناب
عنهما حرجا على المكلف، فيجب الاجتناب عنهما على مسلك صاحب الكفاية
(رحمه الله) دون مسلك الشيخ (ره) على ما عرفت. وتظهر الثمرة بينهما أيضا
في ثبوت خيار الغبن بقاعدة نفي الضرر، لان الضرر المتوجه إلى المغبون ناشئ
من حكم الشارع باللزوم، فيرتفع بقاعدة نفى الضرر على مسلك الشيخ (ره)
دون مسلك صاحب الكفاية (ره) إذ متعلق اللزوم وهو العقد ليس ضرريا،
فلا يرتفع على هذا المسلك.
فتحصل مما ذكرناه في المقام ان الاحتياط التام في جميع الشبهات غير واجب
إما لعدم امكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو لكونه موجبا للعسر والحرج.
واما التبعيض في الاحتياط بما لا يلزم منه الاختلال ولا العسر فلا مناص من
الالتزام بوجوبه على تقدير تمامية مقدمات الانسداد، إذ لم يدل دليل على
عدم وجوبه أو عدم جوازه. ودعوى الاجماع - على عدم رضى الشارع
بالامتثال الاجمالي في معظم احكامه - غير مسموعة، لان المسألة مستحدثة،
فدعوى اتفاق الفقهاء من المتأخرين والمتقدمين ممنوعة جدا. وعلى فرض تسليم
الاتفاق لا يكون كاشفا عن رأي المعصوم، لاحتمال ان يكون مدرك المجمعين
هو اعتبار قصد الوجه أو التمييز في العبادات، فلا ينفع لمن يرى عدم اعتبارهما
232

كما هو الصحيح على ما ذكرناه في محله.
وأما ما ذكره في هامش الرسائل من أن الاجماع وإن لم يكن مقطوعا به،
إلا أنه مظنون، والظن به يستلزم الظن بأن الشارع جعل حجة حال الانسداد
وقد فرضنا انها الظن دون غيره، فيحصل لنا الظن بحجية الظن. ولا فرق في
اعتبار الظن على الانسداد بين الظن بالواقع والظن بالطريق.
ففيه (أولا) - أن دعوى الظن بالاجماع كدعوى القطع به ممنوعة، إذ
لا نظن بتحقق الاجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه السلام على بطلان
العمل بالاحتياط، كي يكون الظن به مستلزما للظن بجعل الظن حجة. و (ثانيا) - أن الظن بالاجماع - على تقدير تحققه - وإن استلزم الظن
بحجية الظن شرعا، إلا ان الكلام في حجية هذا الظن، ولم تثبت بعد. وما
ذكره من عدم الفرق بين الظن بالواقع والظن بالطريق وان كان صحيحا، إلا أنه
لا يفيد إلا بعد الفراغ عن حجية الظن بدليل قطعي، ولا يمكن إثبات
حجية الظن بالظن فإنه من قبيل اثبات حجية الشئ بنفسه، وهو دور واضح (1)
فتحصل انه لا دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط، وعليه فلو تمت
المقدمات كانت النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن شرعا. وملخص
ما ذكرناه في هذا البحث أن انسداد باب العلم والعلمي موقوف على عدم حجية
الاخبار سندا أو دلالة. وقد أثبتنا حجيتها سندا ودلالة، وباثبات حجيتها

(1) نقل سيدنا الأستاذ العلامة دام ظله عن أستاذه المحقق النائيني (ره)
أن هذا الكلام المذكور في هامش الرسائل ليس من قلم الشيخ (ره) فان الكلام
المذكور مبني على الكشف، والشيخ قائل بالحكومة، بل هو للسيد الميرزا
الشيرازي الكبير (ره) فإنه كان مائلا إلى الكشف وكيف كن فجوابه ما ذكر.
233

ينفتح باب العلمي وينحل العلم الاجمالي، فلا مانع من الرجوع إلى الأصول
العملية في غير موارد قيام الاخبار، ومع الغض عن ذلك وتسليم عدم حجية
الاخبار كان مقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع الاخبار
الموجودة في الكتب المعتبرة الدالة على التكليف، لأن العلم الاجمالي الأول قد انحل
بالعلم الثاني، بالثالث على ما تقدم بيانه. وهذا الاحتياط لا يوجب اختلال
النظام ولا العسر والحرج، فان جماعة من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع
هذه الأخبار، ولم يرد عليهم الحرج ولا اختل عليهم النظام. وعلى تقدير
تسليم عدم انحلال العلم الاجمالي الأول بدعوى العلم بأن التكليف أزيد من موارد
الاخبار، لا بد من التبعيض في الاحتياط على نحو لا يكون مخلا
بالنظام ولا موجبا للعسر والحرج فلو فرض ارتفاع المحذور بالغاء
الموهومات، وجب الاحتياط في المشكوكات والمظنونات، وإذا لم يرتفع
المحذور بذلك يرفع اليد عن الاحتياط في جملة من المشكوكات، ويحتاط في الباقي
منها وفي المظنونات. وهكذا إلى حد يرتفع محذور الاختلال والحرج. ويختلف
ذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات الطارئة على المكلف والموارد، ففي
الموارد المهمة التي علم اهتمام الشارع بها - كالدماء والاعراض والأموال الخطيرة -
لا بد من الاحتياط حتى في الموهومات منها، وترك الاحتياط في غيرها بما يرفع
معه محذور الاختلال والحرج على ما تقدم بيانه.
فتحصل ان مقدمات الانسداد على تقدير تماميتها عقيمة عن اثبات حجية
الظن لا بنحو الحكومة لما عرفت من عدم معقولية حجية الظن بحكم العقل، ولا
بنحو الكشف لتوقفه على قيام دليل علي بطلان التبعيض في الاحتياط، ولم يقم
فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجية الظن. وعليه فيسقط كثير
من المباحث التي تعرضوا لها في المقام:
234

(منها) - البحث عن أن نتيجة دليل الانسداد هل هي حجية الظن
بالواقع أو الظن بالطريق أو الأعم منهما. فان هذا البحث متفرع على ثبوت
حجية الظن بمقدمات الانسداد، ومع عدم ثبوتها فلا مجال له، بل نقول
لا حجية للظن بالواقع ولا للظن بالطريق.
و (منها) - البحث عن تقدم الظن المانع أو الممنوع وانه إذا قام ظن على حكم
من الاحكام وقام ظن آخر على عدم حجية، فهل يقدم لأول أو الثاني؟ فان هذا
البحث أيضا ساقط، فانا نقول ان كليهما ليس بحجة لا المانع ولا الممنوع.
و (منها) - البحث عن كيفية خروج الظن القياسي على الحكومة، مع أن
الحكم العقلي غير قابل للتخصيص.
و (منها) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن نتيجة مقدمات
الانسداد هل هي حجية الطريق الواصل بنفسه أو الطريق الواصل بطريقه، أو
الطريق ولو لم يصل أصلا. إلى غير ذلك من الأبحاث المتفرعة على استنتاج حجية
الظن من مقدمات الانسداد، فان تلك المباحث كلها ساقطة ملغاة بعد ما ذكرناه
من أن مقدمات الانسداد عقيمة عن إثبات حجية الظن.
(خاتمة)
يذكر فيها أمران تبعا لصاحب الكفاية وشيخنا الأنصاري (ره)
(الامر الأول) - ان الظن الخاص الثابتة حجيته بالأدلة الخاصة، والظن
المطلق الثابتة حجيته بدليل الانسداد - على تقدير تمامية المقدمات - هل تختص
حجيتهما بالفروع أو تعم الأصول الاعتقادية أيضا؟ وتفصيل الكلام في المقام ان الظن
إما ان يتعلق بالأحكام الفرعية، وإما ان يتعلق بالأصول الاعتقادية، وإما ان
235

يتعلق بغير هما كالأمور التكوينية والتأريخية.
اما الظن المتعلق بالأحكام الفرعية، فهو حجة سواء كان من الظن الخاص
أو من الظن المطلق، اما الظن الخاص فواضح. واما الظن المطلق، فلان
المفروض تمامية مقدمات الانسداد.
واما الظن المتعلق بالأصول الاعتقادية، فلا ينبغي الشك في عدم جواز
الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا، كمعرفة الباري جل شأنه، أو شرعا
كمعرفة المعاد الجسماني، إذ لا يصدق عليه المعرفة، ولا يكون تحصيله خروجا
من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد ذكرنا في بحث القطع ان الامارات لا تقوم
مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية، فلا بد من تحصيل العلم
والمعرفة مع الامكان، ومع العجز عنه لا إشكال في أنه غير مكلف بتحصيله، إذ
العقل مستقل بقبح التكليف بغير المقدور. كما أنه لا اشكال في كونه غير
معذور ومستحقا للعقاب فيما إذا كان عجزه عن تقصير منه المعبر عنه بالجاهل
المقصر، فان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالنسبة إلى استحقاق العقاب
وإن كان ينافيه بالنسبة إلى التكليف على ما قرر في محله. وهذا كله واضح إنما
الكلام فيما إذا كان عجزه عن تحصيل العلم والمعرفة عن قصور للغفلة أو لغموض
المطلب مع عدم الاستعداد، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال،
ويعبر عن هذا بالجاهل القاصر. والكلام فيه يقع في مقامات ثلاثة:
(المقام الأول) - في وجود الجاهل القاصر وعدمه.
(المقام الثاني) - في ترتب احكام الكفر عليه، كالنجاسة والمنع من
الإرث والتناكح وغير ذلك من الاحكام الفرعية المترتبة على الكفر.
(المقام الثالث) - في استحقاقه العقاب وعدمه.
(اما المقام الأول) فحق القول فيه انه لا يوجد الجاهل القاصر بالنسبة
إلى وجود الصانع إلا نادرا، إذ كل انسان ذي شعور وعقل - ولو كان
236

في غاية قلة الاستعداد ما لم يكن ملحقا بالصبيان والمجانين - يدرك وجوده
ونفسه، وهو أول مدرك له، ويدرك انه حادث مسبوق بالعدم، وانه
ليس خالقا لنفسه بل له خالق غيره، وهذا المعنى هو الذي ذكره سبحانه
وتعالى بقوله: (أخلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) ثم ينتقل إلى
وجود غيره، وهو مدرك ثان له، وينتقل منه أيضا إلى وجود الصانع، كما
قال عز من قائل: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) اي
انهم يعترفون بالخالق جل ذكره بمجرد الالتفات إلى وجود السماوات والأرض.
وكذا الحال بالنسبة إلى التوحيد، فان كل انسان ذي شعور وعقل كما يدرك
ان له صانعا يدرك بحسب ارتكازه الفطري ان الخالق جل ذكره واحد
لا شريك له.
(وبالجملة) الجاهل القاصر بالنسبة إلى وجود الصانع وتوحيده جل
ذكره نادر أو غير موجود. نعم الجاهل القاصر بالنسبة إلى النبوة الخاصة
والإمامة والمعاد الجسماني في غاية الكثرة، فان كثيرا من نسوان اليهود
والنصارى قاصرات عن تحصيل مقدمات التصديق والجزم بالنبوة الخاصة،
وكذا نسوان المخالفين بالنسبة إلى الإمامة، وكذا بعض من الرجال بالنسبة إلى
المعاد الجسماني.
و (اما المقام الثاني) فالصحيح فيه جريان احكام الكفر على الجاهل
بالأصول الاعتقادية ولو كان جهله عن قصور، لاطلاقات الأدلة الدالة على ترتب
تلك الأحكام، فان قلنا بنجاسة أهل الكتاب مثلا لا فرق بين ان يكون جهلهم
عن تقصير أو قصور.
و (اما المقام الثالث) فالمعروف بينهم ان الجاهل القاصر غير مستحق
للعقاب وهو الصحيح، إذ العقل مستقل بقبح العقاب على امر غير مقدور،
وانه من أوضح مصاديق الظلم، فالجاهل القاصر معذور غير معاقب على عدم
237

معرفة الحق بحكم العقل إذا لم يكن يعانده، بل كان منقادا له على اجماله. ولعل
هذا ظاهر، ولكن مع ذلك التزم صاحب الكفاية (ره) في حاشيته على الكفاية
بأنه مستحق للعقاب، وهو مبنى على ما ذكره في بحث الطلب والإرادة (تارة)
وفي بحث القطع (أخرى) من أن العقاب انما هو من تبعات البعد عن المولى
الناشئ من الخباثة الذاتية، فينتهي الامر بالآخرة إلى امر ذاتي، والذاتي
لا يعلل. وهذا الكلام وان صدر من هذا العالم العليم، إلا أنه خلاف الصواب
وقد ذكرنا ما فيه في بحث الطلب والإرادة ولا نعيد.
هذا كله فيما إذا كان الظن متعلقا بما تجب معرفته عقلا أو شرعا. واما
ان كان الظن متعلقا بما يجب التباني وعقد القلب عليه والتسليم والانقياد له،
كتفاصيل البرزخ وتفاصيل المعاد ووقائع يوم القيامة وتفاصيل الصراط والميزان
ونحو ذلك مما لا تجب معرفته، وانما الواجب عقد القلب عليه والانقياد له على
تقدير اخبار النبي صل الله عليه وآله به، فان كان الظن المتعلق بهذه الأمور من الظنون الخاصة
الثابتة حجيتها بغير دليل الانسداد فهو حجة، بمعنى انه لا مانع من الالتزام
بمتعلقه وعقد القلب عليه، لأنه ثابت بالتعبد الشرعي، بلا فرق بين ان تكون
الحجية بمعنى جعل الطريقية كما أخبرناه، أو بمعنى جعل المنجزية والمذرية كما اختاره
صاحب الكفاية (ره)، وان كان الظن من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها
بدليل الانسداد فلا يكون حجة، بمعنى عدم جواز الالتزام وعقد القلب بمتعلقه
لعدم تمامية مقدمات الانسداد في المقام، إذ منها عدم جواز الاحتياط لاستلزامه
اختلال النظام، أو عدم وجوبه لكونه حرجا على المكلف. والاحتياط في هذا
النوع من الأمور الاعتقادية بمكان من الامكان، بلا استلزام للاختلال
والحرج، إذ الالتزام بما هو الواقع وعقد القلب عليه على اجماله لا يستلزم
الاختلال ولا يكون حرجا على المكلف.
238

واما الظن المتعلق بالأمور التكوينية أو التاريخية، كالظن بأن تحت
الأرض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال أهل القرون الماضية وكيفية
حياتهم ونحو ذلك، فان كان الظن مما لم يقم على اعتبار دليل خاص (وهو الذي
تعبر عنه بالظن المطلق) فلا حجية له في المقام. والوجه فيه ظاهر. واما ان كان
من الظنون الخاصة فلا بد من التفصيل بين مسلكنا ومسلك صاحب الكفاية
(رحمه الله) فإنه على مسلكنا من أن معنى الحجية جعل غير العلم علما بالتعبد يكون
الظن المذكور حجة باعتبار اثر واحد وهو جواز الاخبار بمتعلقه، فإذا قام ظن
خاص على قضية تاريخية أو تكوينية: جاز لنا الاخبار بتلك القضية بمقتضى
حجية الظن المذكور، لأن جواز الاخبار عن الشئ منوط بالعلم به، وقد
علمنا به بالتعبد الشرعي. وهذا بخلاف مسلك صاحب الكفاية (ره) فان جعل
الحجية لشئ بمعنى كونه منجزا ومعذرا لا يعقل إلا فيما إذا كان لمؤداه اثر شرعي
وهو منتف في المقام، إذ لا يكون اثر شرعي للموجودات الخارجية ولا للقضايا
التأريخية ليكون الظن منجزا ومعذرا بالنسبة إليه. واما جواز الاخبار عن
شئ فهو من آثار العلم به لا من آثار المعلوم بوجوده الواقعي. ولذا لا يجوز
الاخبار عن شئ مع عدم العلم به ولو كان ثابتا في الواقع، كما أن الامر في
القضاء كذلك، فان الناجي من القضاة هو الذي يحكم بالحق ويعلم انه الحق. واما
الذي يحكم بالحق وهو لا يعلم أنه الحق فهو من الهالكين، كالذي يحكم بغير الحق
سواء علم بأنه غير الحق أو لم يعلم على ما في الرواية.
وظهر بما ذكرناه انه - على مسلك صاحب الكفاية (ره) - لا يجوز
الاخبار البتي بما في الروايات من الثواب على المستحبات أو الواجبات، بأن نقول
(من صام في رجب مثلا كان له كذا) بل لا بد من نصب قرينة دالة على أنه
مروي عنهم (ع): بأن نقول مثلا روي أنه من صام في رجب كان له كذا.
239

(الامر الثاني) - ان الظن الذي لم يقم على حجيته دليل هل يجبر به
ضعف السند أو الدلالة بحيث لولاه لم يكن حجة أم لا؟ وهل يوهن به السند أو
الدلالة بحيث لو قام على خلافه يسقط عن الحجية أم لا؟ وهل يرجح به أحد
المتعارضين على الآخر أم لا؟ فيقع الكلام في هذه الجهات الثلاث:
(اما الكلام في الجهة الأولى) فهو ان المعروف المشهور بينهم انجبار ضعف
السند بعمل المشهور، مع أن الشهرة في نفسها لا تكون حجة. واختاره صاحب
الكفاية (ره) وذكر في وجهه ان الخبر الضعيف وان لم يكن حجة في نفسه، الا ان
عمل المشهور به يوجب الوثوق بصدوره، ويدخل بذلك في موضوع الحجية.
أقول: ان كان مراده ان عمل المشهور يوجب الاطمئنان الشخصي
بصدور الخبر، فالكبرى وان كان صحيحة إذ الاطمئنان الشخصي حجة ببناء
العقلاء، فإنه علم عادي، ولذا لا تشمله أدلة المنع عن العمل بالظن، لكن
الصغرى ممنوعة، إذ ربما لا يحصل الاطمئنان الشخصي من عمل المشهور. وان
كان مراده ان عمل المشهور يوجب الاطمئنان النوعي، فما ذكره غير تام صغرى
وكبرى (اما الصغرى) فلانه لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر الضعيف لنوع
الناس من عمل المشهور. و (اما الكبرى) فلانه على تقدير حصول الاطمئنان
النوعي لا دليل على حجية مع فرض عدم حصول الاطمئنان الشخصي. ولم يثبت
ذلك بدليل، انما الثابت - بسيرة العقلاء وبعض الآيات الشريفة والروايات التي
تقدم ذكرها - حجية خبر الثقة الذي يحصل الوثوق النوعي بوثاقة الراوي،
بمعنى كونه محترزا عن الكذب، لا حجية خبر الضعيف الذي يحصل الوثوق
النوعي بصدقه ومطابقته للواقع من عمل المشهور، بل لا دليل على حجية خبر
الضعيف الذي يحصل منه اليقين النوعي بصدقه في فرض عدم حصول اليقين
240

الشخصي ولا الاطمئنان الشخصي.
(وبالجملة) لا بد في حجية الخبر إما من الوثوق النوعي بوثاقة الراوي أو الوثوق
الشخصي بصدق الخبر ومطابقته للواقع، ولو من جهة عمل المشهور لا من جهة
وثاقة الراوي واما مع انتفاء كلا الامرين فلم يدل دليل على حجيته ولو مع حصول
الوثوق النوعي، بل اليقين النوعي بصدقه. هذا كله مع ما تقدم في أواخر بحث
حجية الخبر من منع الصغرى، وانه لم يعلم استناد المشهور إلى الخبر الضعيف
ومجرد الموافقة من دون الاستناد لا يوجب الانجبار عند القائل به.
(اما الجهة الثانية) فالمعروف بينهم فيها ان الخبر الصحيح يوهن باعراض المشهور عنه
بل صرحوا بأنه كلما ازداد الخبر صحة ازداد وهنا باعراض المشهور انه. وليعلم
ان محل الكلام هو الخبر الذي كان بمرأى من المشهور ومسمع ولم، يعملوا به
واما الخبر الذي احتمل عدم اطلاعهم عليه فهو خارج عن محل الكلام، ولا اشكال
في جواز العمل به مع كونه صحيحا في نفسه، إذ لا يصدق عليه انه معرض
عنه عند المشهور، لان الاعراض فرع الاطلاع، فمع عدم الاطلاع لا يصح
إسناد الاعراض إليهم.
و (بالجملة) محل الكلام الخبر الذي أحرز إعراض المشهور عنه، فالمشهور
انه يوهن به ويسقط عن الحجية. وذكر صاحب بالكفاية (ره) انه لا يسقط
بذلك عن الحجية، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة بما إذا لم يكن ظن
بعدم صدوره الحاصل من إعراض المشهور أو غيره من أسباب الظن غير المعتبر
وهذا هو الصحيح. وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في أواخر بحث حجية
الخبر فراجع.
هذا كله من حيث السند. واما من حيث الدلالة فالمعروف بينهم عدم
انجبار ضعف الدلالة بعمل المشهور، مع عدم ظهور الخبر في نفسه، وعدم وهن
241

الدلالة باعراض المشهور مع ظهوره في نفسه. وهذا الذي ذكروه متين جدا.
اما عدم الانجبار بعمل المشهور فلاختصاص دليل الحجية بالظهور، فلو لم يكن
اللفظ بنفسه ظاهرا في معنى، ولكن المشهور حملوه عليه لا يكون حملهم موجبا
لانعقاد الظهور في اللفظ، فلا يشمله دليل حجية الظواهر، واما عدم
الانكسار فلعدم اختصاص دليل حجية الظواهر بما إذا لم يكن الظن بخلافها، أو
بما إذا لم يحملها المشهور على خلافها: فلو كان اللفظ بنفسه ظاهرا في معنى، وحمله
المشهور على خلافه لم يكن ذلك مانعا عن انعقاد الظهور، فلا يسقط عن الحجية
فما ذكروه في الدلالة من أن عمل المشهور لا يوجب الانجبار ولا اعراضهم يوجب
الانكسار متين. فيا ليتهم عطفوا السيد على الدلالة وقالوا فيه بما قالوا فيها من
عدم الانجبار والانكسار.
نعم هنا شئ وهو انه إذا حمل جماعة من العلماء اللفظ على معنى لم يكن
ظاهرا فيه في نظرنا مع كونهم من أهل اللسان العربي ومن أهل العرف يستكشف
بذلك ان اللفظ ظاهر في هذا المعنى الذي حملوه عليه، إذ المراد من الظهور هو
الذي يفهمه أهل العرف من اللفظ. والمفروض انهم فهموا ذلك المعنى وهم من أهل
اللسان. ولكن يختص ذلك بما إذا أحرز ان حملهم اللفظ على هذا المعنى انما هو
من جهة حاق اللفظ. وأما إذا احتمل ان حملهم مبني على قرائن خارجية
مستكشفة باجتهاداتهم، فلا يكون حجة لعم الظهور العرفي حينئذ. واجتهادهم
في ذلك ليس حجة لنا وكذا الحال في طرف الأعرض، فان كان اللفظ ظاهرا
في معنى في نظرنا، وحملها جماعة من العلماء على خلافه، واحرز ان حملهم
مستند إلى حاق اللفظ لا إلى ظنونهم واجتهاداتهم يستكشف بذلك ان اللفظ ليس
ظاهرا في المعنى الذي فهمناه، بل هو خلاف الظاهر، فان خلاف الظاهر هو
ما يفهم العرف خلافه من اللفظ
242

(اما الجهة الثالثة) - وهي ترجيح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر
بالظن غير المعتبر، فقد التزم به شيخنا الأنصاري (ره) واستدل له بوجهين
مذكورين في الرسائل. ولكن الصحيح عدم صحة الترجيح بالظن، لان اخبار
الترجيح كلها ضعيفة سندا أو دلالة، إلا رواية الراوندي الدالة على الترجيح
بموافقة الكتاب. (أولا) وبمخالفة العامة (ثانيا) فلا وجه للتعدي إلى الترجيح
بالعدالة والوثاقة وغير هما مما هو مذكور في الاخبار العلاجية، فضلا عن التعدي
إلى الترجيح بمطلق الظن. وكذا الحال في اخبار التخيير، فإنها أيضا غير تامة
فلا وجه للالتزام بالتخيير بين الخبرين المتعارضين، كما لا وجه لترجيح أحدهما
على الآخر بالظن، بل يسقط كلاهما عن الحجية، لعدم امكان شمول دليل
الحجية للمتعارضين، لعدم معقولية التعبد بالمتناقضين أو بالمتضادين ولا لأحدهما
لبطلان الترجيح بلا مرجح، فلا بد من رفع اليد عن كليهما والرجوع إلي عام
أو مطلق فوقهما، ومع عدمهما كان المرجع هو الأصول العملية. وقد تعرضنا
لتفصيل ذلك كله في بحث التعادل والترجيح من كتابنا هذا.
243

(الأصول العملية)
245

(الأصول العملية)
الأصول العملية هي المرجع عند الشك. وقبل الشروع في المقصود لا بدلنا
من بيان أمور:
(الامر الأول) - قد ذكرنا في أول بحث الألفاظ ان المسألة الأصولية
هي ما يمكن ان تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي، بحيث
تكون نسبتها إلى الاستنباط نسبة الجزء الأخير من العلة التامة إلى المعلول،
وذكرنا أيضا ان المسائل الأصولية تنقسم إلي القسام:
(القسم الأول) ما يوصلنا إلى الحكم الشرعي بالقطع الوجداني، كالبحث
عن الملازمة بين وجوب شئ ووجوب مقدمته، والبحث عن الملازمة بين وجوب
شئ وحرمة ضده، والبحث عن إمكان اجتماع الوجوب والحرمة وعدمه، بمعنى
ان وجود أحدهما هل يستلزم عدم الآخر أم لا؟ فان هذه المباحث - على تقدير
تمامية الملازمة - توجب القطع بالحكم الشرعي بعد انضمام الصغرى إليها، وتسمى
بالبحث عن المداليل (تارة) وعن الاستلزامات العقلية (أخرى) وهذه المسائل
وإن ذكرها الأصوليون في مباحث الألفاظ، إلا انها ليست منها، إذ البحث
فيها انما هو عن لوازم نفس الاحكام بما هي لا بما هي مدلولة للأدلة اللفظية، فلا
ربط لها بمباحث الألفاظ.
(القسم الثاني) - ما يوصلنا إلى الحكم الشرعي بالتعبد. وهذا على نوعين:
(النوع الأول) - ما يكون البحث فيه صغرويا، كمباحث الألفاظ، فان
البحث فيها انما هو عن الصغرى ونفس الظهور، كالبحث عن أن الامر ظاهر في
الوجوب أم لا؟ والنهي ظاهر في الحرمة أم لا؟ وكذا سائر مباحث الألفاظ،
فإنها بحث عن الظهور. واما الكبرى وهي حجية الظواهر فمسلمة عند العقلاء
246

والعلماء بلا خلاف فيها. ولا يبحث عنها في علم الأصول، وان توهم اختصاصها
بمن قصد افهامه وتقدم دفعه في محله.
(النوع الثاني) - ما يكون البحث فيه كبرويا اي يكون البحث فيه عن
حجية شئ لاثبات الأحكام الشرعية، كالبحث عن حجية الخبر والبحث عن
حجية الاجماع المنقول، والبحث عن حجية الشهرة. ومنه البحث عن حجية
الظن الانسدادي على الكشف. وهذا النوع هو القسم الثالث من المسائل
الأصولية. كما أن مباحث الألفاظ هي القسم الثاني منها.
(القسم الرابع) - ما لا يوصلنا إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني ولا
بالتعبد الشرعي، بل يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية في
فرض الشك في الحكم الواقعي وتسمى هذه القواعد بالأصول العملية الشرعية.
ويعبر عن الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي، كما يعبر عن الدليل
الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي. ووجه المناسبة في هذا التعبير
والاصطلاح ما ذكروه في تعريف الفقه والاجتهاد، فإنهم عرفوا الفقه بأنه العلم
بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. ومرادهم من الاحكام هو الأعم
من الاحكام الظاهرية والواقعية، بقرينة ذكر لفظ العلم ضرورة ان الاحكام
الواقعية لا طريق إلى العلم بها غالبا، فناسب ان يسمى الدليل الدال على الحكم
الظاهري بالدليل الفقاهتي، لكونه مثبتا للحكم المذكور في تعريف الفقه، وعرفوا
الاجتهاد بأنه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي. ومن الواضح ان
المراد بالحكم هو خصوص الواقعي بقرينة اخذ الظن في التعريف، فإنه هو الذي
قد يحصل الظن به للمجتهد. واما الحكم الظاهري فيعلمه المجتهد لا محالة، فناسب
ان يسمى الدليل الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي، لكونه دليلا على
الحكم المذكور في تعريف الاجتهاد.
247

ولا يخفى ان تسمية الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي بالحكم
الظاهري انما هو لتميزه عن الحكم الواقعي المجعول للشئ بعنوانه الأولي
لا بعنوان انه مشكوك فيه، وإلا فالحكم الظاهري أيضا حكم واقعي مجعول
للشئ بعنوان انه مشكوك فيه.
(القسم الخامس) - ما يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لتعيين الوظيفة
الفعلية عقلا عند العجز عن جميع ما تقدم، فان المكلف إذا لم يصل إلى الحكم
الواقعي بالقطع الوجداني ولا بالتعبد الشرعي، وعجز أيضا عن معرفة الحكم
الظاهري. تعين عليه الرجوع إلى ما يستقل به العقل من البراءة أو الاحتياط
أو التخيير على اختلاف الموارد. وتسمى هذه القواعد بالأصول العملية العقلية
هذه هي مسائل علم الأصول على نحو الاجمال. وقد فرغنا عن البحث في
ثلاثة اقسام منها. ويقع الكلام فعلا في القسم الرابع والخامس منها. وحيث إن
الأصوليين أدرجوا الخامس في الرابع وتعرضوا للبحث عنهما في عرض واحد،
فنحن نتبعهم في ذلك مراعاة للاختصار.
(الامر الثاني) - ان الأصول العملية التي هي المرجع عند الشك منحصرة في
أربعة: وهي البراءة والاحتياط (وقد يسمى بأصالة الاشتغال أو قاعدة الاشتغال)
والاستصحاب والتخيير. وهذا الحصر استقرائي بلحاظ نفس الأصول وعقلي
بلحاظ الموارد.
(اما الأول) فلانه يمكن بحسب التصور ان يجعل أصل آخر غير الأصول
الأربعة في بعض صور الشك، كما إذا قال المولى: إذا شككت بين الوجوب
والإباحة فابن على الاستحباب: أو إذا دار الامر بين الحرمة والإباحة فابن على
الكراهة مثلا، إلا ان الاستقراء أثبت انحصار الأصول في الأربعة.
و (اما الثاني) - فلأن الشك اما ان تعلم له حالة سابقة وقد اعتبرها
248

الشارع أو لا، بان لا تعلم له حالة سابقة أو علمت ولم يعتبرها الشارع، كما
إذا كان الشك في بقاء شئ ناشئا من الشك في المقتضي، على القول بالتفصيل
بين الشك في المقتضي والشك في الرافع في جريان الاستصحاب،
وكذا على غيره من التفصيلات المذكورة في بحث الاستصحاب. و (الأول)
- أي الشك الذي علمت له حالة سابقة واعتبرها الشارع مجرى للاستصحاب
سواء كان الشك في التكليف أو في المكلف به، وأمكن الاحتياط
أم لم يمكن. (والثاني) - أي الشك الذي لم يعتبر الشارع حالته السابقة، سواء
كانت له حالة سابقة معلومة ولم يعتبرها الشارع أو لم تكن، فان كان الشك في أصل
التكليف كان مجرى للبراءة، وان كان الشك في المكلف به مع العلم بأصل
التكليف، فان أمكن الاحتياط فهو مجرى لقاعدة الاشتغال، كما في موارد
دوران الامر بين القصر والتمام، وان لم يمكن الاحتياط كما في دوران الامر بين
المحذورين، فهو مورد لقاعدة التخيير. هذا كله في الحكم التكليفي وكذا
الحال عند الشك في الحكم الوضعي، فيجرى فيه جميع ما ذكرناه في الحكم التكليفي
بناء على كون الحكم الوضعي أيضا مجعولا مستقلا كما هو الصحيح، على ما سنتكلم
فيه في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى. وإن كان بعض أقسامه منتزعا من
التكليف كالشرطية والجزئية للمأمور به.
(وبالجملة) لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي من حيث تقسيم الشك فيه
إلى الأقسام الأربعة، وجريان الأصل العملي فيه، ثم إن عدم ذكر أصالة
الطهارة عند الشك في النجاسة في علم الأصول انما هو لعدم وقوع الخلاف فيها
فإنها من الأصول الثابتة بلا خلاف فيها، ولذا لم يتعرضوا للبحث عنها في علم
الأصول، لا لكونها خارجة من علم الأصول وداخلة في علم الفقه على ما توهم.
وخلاصة القول ان أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة بمنزلة أصالة الحل عند
249

الشك في الحرمة، فكما ان البحث عن الثانية داخل في علم الأصول باعتبار ترتب
تعيين الوظيفة الفعلية عليه، كذلك البحث عن الأولى أيضا داخل في علم الأصول
لعين الملاك المذكور. غاية الامر ان مفاد أصالة الحل هو الحكم التكليفي، ومفاد
أصالة الطهارة هو الحكم الوضعي. ومجرد ذلك لا يوجب الفرق بينهما من حيث كون البحث عن إحداهما داخلا وعن الأخرى خارجا عنه.
واما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) - من أن الوجه لعدم التعرض لأصالة
الطهارة في علم الأصول عدم اطرادها في جميع أبواب الفقه، واختصاصها بباب
الطهارة - فغير تام، لان الميزان في كون المسألة أصولية هو ان تقع نتيجتها
في طريق استنباط الحكم الفرعي، ولا يعتبر جريانها في جميع أبواب الفقه، والا لخرجت جملة من المباحث الأصولية عن علم الأصول، لعدم اطرادها في جميع
أبواب الفقه، كالبحث عن دلالة النهى عن العبادة على الفساد، فإنه غير جار في
غير العبادات من سائر أبواب الفقه.
وقد يتخيل ان الوجه في عدم ذكر أصالة الطهارة في علم الأصول ان
الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية، فدائما يكون الشك فيها من الشبهة
المصداقية، إذ بعد كونهما من الأمور الواقعية لا من الأحكام الشرعية كان
الشك فيهما شكا في الانطباق، فتكون الشبهة مصداقية. ومن الواضح ان البحث
عن الشبهات الموضوعية لا يكون من المسائل الأصولية، لان المسألة الأصولية
ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلي، كما تقدم مرارا.
وفيه انه إن أريد من كونهما من الأمور الواقعية انهما ناشئان من المصلحة
والمفسدة الواقعيتين، وليستا من الاحكام الجزافية المجعولة بلا لحاظ مصلحة أو
مفسدة، فالشك في نجاسة شئ وطهارته يرجع إلى الشك في المنشأ الذي هو من
الأمور الواقعية، فهذا وإن كان صحيحا، إلا أنه لا يوجب كون الشك فيهما من
250

الشبهة المصداقية، وإلا لزم كون الشك في جميع الأحكام الشرعية من الشبهة
المصداقية، لان جميع الأحكام ناشئ من المصالح والمفاسد النفس الامرية
الموجودة في متعلقاتها، على ما هو المشهور أو في نفسها، والشك فيها يستلزم
الشك في منشأها، فيلزم كون الشبهة مصداقية عند الشك في جميع الأحكام الشرعية
. وهذا مما نقطع بفساده بالضرورة.
وان أريد انهما ليستا من الاحكام بل من قبيل الخواص والآثار،
كخواص الأدوية التي لا يعرفها إلا الأطباء، فالطهارة والنجاسة أيضا من هذا
القبيل، ولا يعرفهما الا الشارع العالم بجميع الأشياء وخواصها.
ففيه (أولا) - انه خلاف ظواهر الأدلة، فان الظاهر منها انهما حكمان
مجعولان كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية، وان الشارع قد حكم بهما بما انه شارع
لا انه أخبر بهما بما انه من أهل الخبرة وانه العارف بخواص الأشياء. ولعل هذا واضح
و (ثانيا) - انه لو سلمنا كونهما من قبيل الخواص والآثار، وقد أخبر
بهما الشارع لا نسلم كون الشك فيهما من الشبهة المصداقية، لان الميزان في كون
الشبهة مصداقية - ان يكون المرجع فيها هو العرف لا الشارع، كما أن الامر
في الشبهة الحكمية بعكس ذلك، إذ المرجع الوحيد في الشبهة الحكمية هو الشارع
ولا اشكال أن في المرجع - عند الشك في نجاسة شئ وطهارته كالعصير العنبي بعد
الغليان، وكعرق الجنب من الحرام، وعرق الإبل الجلال ونحوها - هو الشارع
ليس إلا، فكونهما من قبيل الخواص والآثار لا يجعل الشك فيهما من الشبهة
المصداقية بعد الاعتراف بأن بيانهما من وظائف الشارع ولا يعلمهما الا هو.
فتحصل ان البحث عن أصالة البراءة من المسائل الأصولية. والوجه في عدم
التعرض له في علم الأصول هو ما ذكرناه من كونها من الأمور المسلمة التي لا نزاع
فيها ولا خلاف.
251

(الامر الثالث) - ان شيخنا الأنصاري (ره) جعل الشك في التكليف
الذي هو مجرى للبراءة على اقسام ثمانية، باعتبار ان الشبهة (تارة) تكون
وجوبية، و (أخرى) تحريمية. وعلى كلا التقديرين اما ان يكون منشأ الشك
فقدان النص أو اجماله أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية، كما في الشبهات
الموضوعية. وتعرض للبحث عن كل قسم مستقلا. والوجه في هذا التقسيم
والبحث عن كل قسم مستقلا امر ان: (الأول) اختصاص بعض أدلة البراءة بالشبهة
التحريمية، كقوله عليه السلام: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي). (الثاني)
- ان النزاع المعرف بين الأصوليين والأخباريين أيضا مختص بها. واما الشبهة
الوجوبية فوافق الأخباريون الأصوليين في الرجوع إلى البراءة الا المحدث
الاستربادي. ولا يخفى ان الأقسام غير منحصرة في ثمانية، إذ من الشك في
التكليف الذي هو مورد للبراءة دوران الامر بين الوجوب والحرمة والإباحة.
وعليه كانت الأقسام اثنا عشر لا ثمانية.
وجعل صاحب الكفاية (ره) البحث عاما لمطلق الشك في التكليف الجامع
بين جميع الأقسام المذكورة، إلا فرض تعارض النصين، فأخرجه من هذا
البحث، بدعوى انه ليس موردا للبراءة، لان المتعين فيه الرجوع إلى
المرجحات، ومع فقدها يتخير. فالبحث عنه راجع إلى التعادل والترجيح لا إلى
البراءة لأن أصالة البراءة تكون مرجعا عند عدم الدليل، ومع وجود الدليل
تعيينا - كما إذا كان أحد النصين راجحا على الآخر - أو تخييرا كما إذا لم يكن
لا حدهما ترجيح على الآخر لا تصل النوبة إلى البراءة.
أقول: أما ما صنعه الشيخ (ره) من التقسيم والتعرض للبحث عن كل قسم
مستقلا، ففيه ان ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد، وهو عدم وصول
التكليف إلى المكلف. وعمدة أدلة القول بالبراءة أيضا شاملة لجميع الأقسام.
252

وهذا هو الوجه لذكر الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية في المقام، فان البحث
عنها ليس من مسائل علم الأصول، بل من مسائل الفقه كما هو ظاهر، فذكرها
في المقام انما هو لعموم الأدلة لها. واختصاص بعض الأدلة بالشبهة التحريمية
لا يوجب تكثير الأقسام وافرادها بالبحث، مع كون الملاك في الجميع واحدا
وشمول عمدة الأدلة أيضا للجميع. فالصحيح ما صنعه صاحب الكفاية (ره) من تعميم
البحث لمطلق الشك في التكليف الجامع لجميع الأقسام.
ولكن يرد عليه أيضا ان اخراج تعارض النصين على اطلاقه من بحث
البراءة مما لا وجه له، لما سنذكره إن شاء الله تعالى في مبحث التعادل والترجيح من أن
مقتضى القاعدة في التعارض هو التساقط والرجوع إلى عام فوقهما. ومع عدمه يرجع
إلى الأصل العملي، ولا ينحصر التعارض بخصوص الخبرين، بل يمكن وقوعه
بين ظاهري الكتاب، ويرجع فيه بعد التساقط إلى الأصل العملي بلا كلام
واشكال، بل وكذا الحال ان وقع التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، وكان
العموم في كل منهما ناشئا من الاطلاق، فيسقط كلا الاطلاقين لعدم جريان
مقدمات الحكمة، ويرجع إلى الأصل العملي، بل وكذا الحال لو كان التعارض
بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه، مع كون العموم في كل منهما بالوضع
مع عدم رجحان أحدهما على الآخر بموافقة الكتاب ولا بمخالفة العامة، فان
الخبرين يسقطان عن الحجية، ويرجع إلى الأصل العملي لما سنذكره في بحث
التعادل والترجيح من عدم تمامية أدلة التخيير، ولا أدلة الترجيح بغير موافقة
الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات التي ذكروها في المقام، فان أدلة التخيير
وأدلة الترجيح بتلك المرجحات غير تامة من حيث السند أو من حيث الدلالة أو
من الجهتين.
نعم إذا وقع التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه، مع كون
253

العموم فيهما بالوضع وكان أحدهما موافقا لظاهر الكتاب أو مخالفا للعامة
تعين الاخذ به بمقتضى رواية الراوندي الدالة على كون موافقة الكتاب ومخالفة
العامة من المرجحات في الخبرين المتعارضين، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل
العملي. وعليه فالمناسب بل المتعين إدخال تعارض الدليلين بجميع صوره في بحث
البراءة، إلا صورة واحدة وهي ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين أو
بالعموم من وجه. مع كون العموم فيهما بالوضع، وكان أحدهما راجحا على
الآخر بموافقة الكتاب أو بمخالفة العامة.
(الامر الرابع) - ان النزاع المعروف بين الأصوليين والأخباريين في
مسألة البراءة انما هو في الصغرى وفي تمامية البيان من قبل المولى وعدمه. وأما
الكبرى - وهي عدم كون العبد مستحقا للعقاب على مخالفة التكليف مع عدم
وصوله إلى المكلف - فهي مسلمة عند الجميع، ولم يقع فيه نزاع بين الأصوليين
والأخباريين، كيف؟ وإن العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل من أوضح
مصاديق الظلم، وقد دلت الآيات والروايات على أن الله سبحانه وتعالى لا يعاقب
إلا بعد البيان، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل له الحجة البالغة.
(وبالجملة) - عدم استحقاق العقاب في فرض عدم البيان مما لم ينكره ولن
ينكره عاقل، انما الخلاف بين الأصوليين والأخباريين في الصغرى، حيث ذهب
أصحابنا الأخباريون إلى تمامية البيان، وقيام الحجة على التكاليف الواقعية
لوجهين: (الأول) - العلم الاجمالي بثبوت التكاليف وهو يقتضى الاحتياط
(الثاني) - الأخبار الكثيرة الدالة على التوقف عند الشبهة، وعلى الاحتياط في
المشتبهات، وعليه فالذي يناسب بحث البراءة هو البحث عن الصغرى والتعرض
لهذين الوجهين، واثبات ان العلم الاجمالي بثبوت التكاليف قد انحل بما عثرنا عليه
من الاحكام التي دلت عليها الاخبار، على ما أشرنا إليه غير مرة، وإثبات ان
254

اخبار التوقف والاحتياط ظاهرة - بنفسها أو بضميمة الروايات الدالة على جواز
الاقتحام في الشبهات - في الارشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل الامن من
العقاب، فتكون ناظرة إلى الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي. وسنتكلم
في كلا الوجهين عند التعرض لاستدلال الأخباريين والجواب عنه.
واما البحث عن الكبري والاستدلال عليها بالآيات والروايات وبحكم العقل
بقبح العقاب بلا بيان، فلا ملزم له، لما ذكرناه من أنها مسلمة عند الأخباريين
والأصوليين، ولم يقع فيها خلاف ليحتاج إلى الاثبات والاستدلال، إلا أنا
نتعرض للبحث عن الكبرى والاستدلال عليها بالآيات والروايات وحكم العقل،
تبعا لشيخنا الأنصاري (ره) وحرصا على ما فيه من الفائدة، والتعرض لفقه
الأحاديث الشريفة،
إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أنه قد استدل على البراءة مع الشك في
التكليف بأمور:
(منها) - قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، وتقريب
الاستدلال به ان بعث الرسول كناية عن بيان الاحكام للأنام واتمام الحجة
عليهم، كما هو ظاهر بحسب الارتكاز والفهم العرفي، فتدل الآية الشريفة على
نفي العقاب بمخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف.
وأورد على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بوجهين: (الأول) - ان المراد من
الآية هو الاخبار عن عدم وقوع العذاب على الأمم السابقة إلا بعد البيان،
بقرينة التعبير بلفظ الماضي في قوله تعالى (وما كنا معذبين) فيكون المراد هو
الاخبار عن عدم وقوع العذاب الدنيوي فيما مضى من الأمم السابقة إلا بعد
البيان، فلا دلالة لها على نفي العذاب الأخروي عند عدم تمامية البيان. (الثاني)
- ان النفي في الآية فعلية العقاب لا استحقاقه، ونفي الفعلية لا يدل على نفى
255

الاستحقاق، مع أن محل الكلام بيننا وبين الأخباريين هو الثاني.
(أما الايراد الأول) فيدفعه (أولا) - أن نفي العذاب الدنيوي عند عدم
تمامية البيان يدل بالأولوية القطعية على نفي العذاب الأخروي، إذ العذاب
الدنيوي أهون من العذاب الأخروي، لكونه منقطعا غير دائم. و (ثانيا)
- أن جملة ما كان أو ما كنا وأمثالهما من هذه المادة مستعملة في أن الفعل غير
لائق به تعالى، ولا يناسبه صدوره منه جل شأنه. ويظهر ذلك من استقراء
موارد استعمالها، كقوله تعالى: (ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم).
وقوله تعالى: (وما كان الله ليذر المؤمنين). وقوله تعالى: (ما كان الله
معذبهم وأنت فيهم) وقوله تعالى: (وما كنت متخذ المضلين عضدا إلى غير ذلك
فجملة الفعل الماضي من هذه المادة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد فيكون
المراد ان التعذيب قبل البيان لا يليق به تعالى، ولا يناسب حكمته وعدله، فلا
يبقى فرق حينئذ بين العذاب الدنيوي والأخروي.
وبهذا ظهر الجواب عن الايراد الثاني أيضا، لان عدم لياقة التعذيب
قبل البيان يدل على عدم كون العبد مستحقا للعذاب إذ مع فرض استحقاق العبد
لاوجه لعدم كونه لائقا به تعالى، بل عدم لياقته به تعالى انما هو لعدم
استحقاق العبد له، فالمدلول المطابقي للآية الشريفة وان كان نفي فعلية العذاب
إلا أنها تدل على نفي الاستحقاق بالالتزام على ما ذكرناه.
واما ما أجاب به شيخنا الأنصاري (ره) عن الايراد الثاني من أن الخصم
يسلم الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق فنفي الفعلية المستفادة من الآية كاف
في إلزامه، فيرد عليه الوجهان المذكوران في الكفاية: من أن الاستدلال يكون
حينئذ جدليا لا يمكن ان يستند إليه الأصولي المنكر للملازمة المذكورة، وان
اعتراف الخصم بالملازمة المذكورة بعيد جدا، بل غير واقع، إذ ربما تنتفي
256

فعلية العذاب في مورد العصيان اليقيني للعفو أو التوبة أو الشفاعة، مع ثبوت
الاستحقاق فيه بلا كلام واشكال، فكيف يظن الاعتراف بالملازمة بين نفي الفعلية
ونفي الاستحقاق من الأخباريين.
و (منها) - حديث الرفع المروي في خصال الصدوق (ره) بسند صحيح
عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي
تسعة: الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما
اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).
وتقريب الاستدلال به أن الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة مما لا يعلم فهو
مرفوع بمقتضى الحديث الشريف، والمراد من الرفع هو الرفع في مرحلة الظاهر
لا الرفع في الواقع ليستلزم التصويب، وذلك للقرينة الداخلية والخارجية. أما
القرينة الداخلية التي قد يعبر عنها بمناسبة الحكم والموضوع فهي أن نفس التعبير
بما لا يعلم يدل على أن في الواقع شيئا لا نعلمه، إذ الشك في شئ والجهل به
فرح وجوده، ولو كان المرفوع وجوده الواقعي بمجرد الجهل به لكان الجهل
به مساوقا للعلم بعدمه كما هو ظاهر. وأما القرينة الخارجية فهي الآيات
والروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل.
وإن شئت فعبر عن القرينة الخارجية بقاعدة الاشتراك. فإنها من ضروريات
المذهب، وأيضا لا إشكال في حسن الاحتياط ولو كان المراد من الرفع هو
الرفع الواقعي لم يبق مورد للاحتياط كما هو ظاهر، فيكون المراد من الحديث
أن الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة مرفوع ظاهرا، ولو كان ثابتا في
الواقع، فان الحكم الشرعي - واقعيا كان أو ظاهريا - أمر وضعه ورفعه بيد
الشارع. ولا تنافي بين الترخيص الظاهري والالزام الواقعي، على ما تقدم
بيانه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. ولعل هذا هو مراد صاحب
257

الكفاية (ره) من قوله: فالالزام المجهول مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلا
وإن كان ثابتا واقعا، فالمقصود من الفعلية في كلامه هو حال الشك لا الفعلية
الاصطلاحية في مقابل الانشائية، لان فعلية الحكم بهذا المعنى تابعة لفعلية
موضوعه، فمع تحقق الموضوع لا يعقل رفع الحكم في مقام الفعلية مع بقائه في
مقام الجعل والانشاء.
وبما ذكرناه - من أن الحكم الواقعي بنفسه قابل للرفع في مرحلة الظاهر
- يظهر ما في كلام الشيخ (ره) من أن رفع الحكم المشكوك إنما هو بعدم ايجاب
الاحتياط، فالمرفوع هو وجوب الاحتياط، لان ذلك خلاف ظاهر الحديث
فان ظاهره أن المرفوع هو نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب
الاحتياط، وبعد كون الحكم بنفسه قابلا للرفع في مرحلة الظاهر على ما تقدم
لاوجه لارتكاب خلاف الظاهر، وحمل الحديث على رفع ايجاب الاحتياط نعم عدم
وجوب الاحتياط من لوازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر لأن الاحكام كما
أنها متضادة في الواقع كذلك متضادة في مقام الظاهر، فكما أن عدم الالزام في الواقع
يستلزم الترخيص بالمعنى الأعم، كذلك رفع الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهرا
ولا يعقل وجوب الاحتياط بعد فرض الترخيص، فيكون المرفوع هو نفس الحكم
الواقعي ظاهرا، ومن لوازم رفعه عدم وجوب الاحتياط، لعدم إمكان الجمع
بين الترخيص الظاهري ووجوب الاحتياط، لتضاد الاحكام ولو في مرحلة
الظاهر، فالمرفوع هو هو نفس الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط. نعم إذا
شك في وجوب الاحتياط في مورد، ولم يقم دليل على وجوبه ولا على عدم
وجوبه، كان وجوب الاحتياط حينئذ مشمولا لحديث الرفع، ولكنه خارج
عن محل الكلام، وليس كلام الشيخ ناظرا إليه.
ثم إن الاستدلال بهذا الحديث الشريف على المقام انما يتم على تقدير
258

أن يكون المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) خصوص الحكم أو ما يعمه، فان
الموصول على كل من التقديرين يشمل الشبهة الحكمية والموضوعية. أما على
التقدير الثاني فواضح، إذ المراد من الموصول حينئذ أعم من الحكم المجهول
والموضوع المجهول. واما على التقدير الأول، فلان مفاد الحديث حينئذ أن
الحكم المجهول مرفوع، وإطلاقه يشمل ما لو كان منشأ الجهل بالحكم عدم
وصوله إلى المكلف كما في الشبهات الحكمية، أو الأمور الخارجية كما في الشبهات
الموضوعية، واما لو كان المراد من الموصول خصوص الفعل الصادر من المكلف
في الخارج، بمعنى كون الفعل غير معلوم العنوان للمكلف، بأن لا يعلم أن
شرب هذا المائع مثلا شرب خمر أو شرب ماء، فلا يتم الاستدلال به للمقام،
لاختصاص الحديث حينئذ بالشبهة الموضوعية، لان ظاهر الوصف المأخوذ في
الموضوع كونه من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف لا بحال متعلقه، فلو
كان الموصول عبارة عن الفعل الخارجي كان الحديث مختصا بما إذا كان الفعل
بنفسه مجهولا لا بحكمه، فلا يشمل الشبهات الحكمية التي لا يكون عنوان الفعل
فيها مجهولا. وربما يقال بان المراد من الموصول هو الفعل الخارجي ويستشهد
له بأمور:
(الأول) - وحدة السياق، لان المراد بالوصول في بقية الفقرات هو
الفعل الذي لا يطيقون، والفعل الذي يكرهون عليه، والفعل الذي يضطرون
إليه، إذ لا معنى لتعلق الاكراه والاضطرار بالحكم، فيكون المراد من الموصول
في (ما لا يعلمون) أيضا هو الفعل بشهادة السياق.
وفيه ان الموصول في جميع الفقرات مستعمل في معنى واحد، وهو معناه
الحقيقي المبهم المرادف للشئ، ولذا يقال ان الموصول من المبهمات، وتعريفه
انما هو بالصلة، فكأنه صل الله عليه وآله قال رفع الشئ الذي لا يعلم، والشئ الذي
259

لا يطيقون، والشئ المضطر إليه، وهكذا، فلم يستعمل الموصول في جميع
الفقرات إلا في معنى واحد. غاية الامر ان الشئ المضطر إليه لا ينطبق خارجا
إلا على الافعال الخارجية وكذا الشئ المكره عليه بخلاف الشئ المجهول
فإنه ينطبق على الحكم أيضا. والاختلاف في الانطباق من باب الاتفاق من جهة
اختلاف الصلة لا يوجب اختلاف المعنى الذي استعمل فيه الموصول، كي يضر
بوحدة السياق، فان المستعمل فيه في قولنا ما ترك زيد فهو لوارثة، وما ترك
عمرو فهو لوارثه، وما ترك خالد فهو لوارثة - شئ واحد فوحدة
السياق محفوظة.
ولو كان هذا المفهوم منطبقا على الدار في الجملة الأولى، وعلى العقار في
الثانية، وعلى الأشجار في الثالثة فلا شهادة لوحدة السياق على أن متروكات
الجميع منطبقة على جنس واحد. والمقام من هذا القبيل بعينه.
(الثاني) - أن إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي، والى الفعل مجازي، إذ
لا يعقل تعلق الرفع بالفعل الخارجي، لعدم كون رفعه ووضعه بيد الشارع
فلو أريد بالموصول في جميع الفقرات الفعل، كان الاسناد في الجميع مجازيا.
وأما إذا أريد به الحكم في خصوص ما لا يعلمون، كان الاسناد بالإضافة إليه
حقيقيا. وهذا المقدار وإن لم يكن فيه محذور، إذ لا مانع من الجمع بين
اسنادات متعددة في كلام واحد مختلفة من حيث الحقيقية والمجاز بأن يكون بعضها
حقيقيا وبعضها مجازيا، إلا أن الرفع في الحديث قد أسند باسناد واحد إلى
عنوان جامع بين جميع الأمور المذكورة فيه، وهو عنوان التسعة، والأمور
المذكورة بعده معرف له وتفصيل لا جماله، فلزم ان يكون إسناد واحد حقيقيا
ومجازيا بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه، وهو غير جائز.
وفيه (أولا) - أنه يتم لو أريد بالرفع الرفع التكويني، لأن إسناد الرفع
260

حينئذ إلى الفعل الخارجي يكون مجازيا لا محالة، إذ الفعل متحقق خارجا،
ولا يكون منتفيا حقيقة ليكون إسناد الرفع إليه حقيقيا. وأما إن أريد به
الرفع التشريعي، بمعنى عدم كون الفعل موردا للاعتبار الشرعي. و (بعبارة
أخرى) الرفع التشريعي عبارة عن عدم اعتبار الشارع شيئا من مصاديق ما هو
من مصاديقه تكوينا، كما في جملة من موارد الحكومة، كقوله عليه السلام: (لا ربا
بين الوالد والولد) فكان إسناد الرفع إلى الفعل الخارجي أيضا حقيقيا، فيكون
إسناد الرفع إلى التسعة حقيقيا، بلا فرق بين أن يراد من الموصول في (ما لا يعلمون)
الحكم أو الفعل الخارجي.
و (ثانيا) - أنه لو سلمنا كون المراد من الرفع هو الرفع التكويني كان
إسناده إلى التسعة حينئذ مجازيا لا حقيقيا ومجازيا، وذلك لأن إسناد الرفع إلى
بعض المذكورات في الحديث وإن كان حقيقيا، والى بعض آخر مجازيا إلا ان ذلك
بحسب اللب والتحليل والميزان في كون الاسناد حقيقيا أو مجازيا انما هو الاسناد
الكلامي لا الاسناد التحليلي، وليس في الحديث الاسناد واحد بحسب وحدة الجملة
وهو اسناد الرفع إلى عنوان جامع بين جميع المذكورات، وهو عنوان التسعة، وحيث إن
المفروض كون الاسناد إلى بعضه وهو الفعل مجازيا، فلا محالة كان الاسناد إلى
مجموع التسعة مجازيا، إذ الاسناد الواحد إلى المجموع المركب - مما هو له
ومن غير ما هو له إسناد إلى غير ما هو له، كما في قولنا (الماء والميزاب جاريان)
وعليه فاسناد الرفع إلى التسعة مجازي ولو على تقدير أن يكون المراد من
الموصول في (مالا يعلمون) هو الحكم أو الأعم منه، فلا يلزم أن يكون اسناد
واحد حقيقيا ومجازيا.
(الثالث) - أن مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلقة أمرا ثقيلا ولا سيما
أن الحديث الشريف قد ورد في مقام الامتنان، فلا بد من أن يكون المرفوع
261

شيئا ثقيلا ليصح تعلق الرفع به، ويكون رفعه امتنانا على الأمة. ومن الظاهر
أن الثقيل هو الفعل لا الحكم، إذ الحكم فعل صادر من المولى فلا يعقل كونه
ثقيلا على المكلف، وانما سمي بالتكليف باعتبار جعل المكلف في كلفة الفعل
أو الترك. (وبالجملة) الثقيل على المكلف هو فعل الواجب أو ترك الحرام، لا مجرد
إنشاء الوجوب والحرمة الصادر من المولى. وعليه فلا بد من أن يراد من
الموصول في جميع الفقرات هو الفعل لا الحكم.
وفيه ان الثقل وان كان في متعلق التكليف لا في نفسه، إلا أنه صح
إسناد الرفع إلى السبب بلا عناية، وصح أيضا اسناده إلى الأثر المترتب عليه،
فصح أن يقال رفع الالزام أو رفع المؤاخذة، فلا مانع من إسناد الرفع إلى
الحكم، باعتبار كونه سببا لوقوع المكلف في كلفة وثقل.
(الرابع) - أن الرفع والوضع متقابلان، ويتواردان على مورد واحد
ومن الظاهر أن متعلق الوضع هو الفعل، باعتبار أن التكليف عبارة عن وضع
الفعل أو الترك على ذمة المكلف في عالم الاعتبار والتشريع. وعليه فيكون متعلق
الرفع أيضا هو الفعل لا الحكم.
وفيه انه انما يتم فيما إذا كان ظرف الرفع أو الوضع ذمة المكلف. وأما إذا
كان ظرفهما الشرع كان متعلقهما هو الحكم، وظاهر الحديث الشريف ان
ظرف الرفع هو الاسلام بقرينة قوله صل الله عليه وآله: (رفع عن أمتي) فإنه قرينة على أنه
رفع التسعة في الشريعة الاسلامية (1).

(1) هكذا ذكر سيدنا الأستاذ العلامة دام ظله. وفي ذهني القاصر أنه
يمكن يدعى ان قوله صل الله عليه وآله (عن أمتي) قرينة علي ان ظرف الرفع ذمة الأمة
قبالا للأمم السابقة، لا الدين الاسلامي في مقابل الأديان السابقة فلاحظ.
262

(الخامس) - أنه لا اشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية، فأريد
بالموصول فيما لا يعلمون الفعل يقينا، ولو أريد به الحكم أيضا لزم استعماله في
معنيين، وهو غير جائز، ولا أقل من كونه خلاف الظاهر.
وفيه (أولا) - ما عرفت من أن الموصول لم يستعمل في الفعل ولا في
الحكم، بل استعمل في معناه المبهم المرادف لمفهوم الشئ، غاية الأمر انه ينطبق
على الفعل مرة وعلى الحكم أخرى، واختلاف المصاديق لا يوجب تعدد المعنى
المستعمل فيه.
و (ثانيا) - أن شمول الحديث للشبهات الموضوعية لا يقتضى إرادة الفعل
من الموصول، بل يكفي فيه إرادة الحكم منه، باعتبار أن مفاده حينئذ أن
الحكم المجهول مرفوع، سواء كان سبب الجهل به عدم تمامية الحجة عليه من
قبل المولى - كما في الشبهات الحكمية - أو الأمور الخارجية كما في الشبهات الموضوعية
فتحصل مما ذكرناه في المقام تمامية الاستدلال بالحديث الشريف على
البراءة. وأما البحث عن معارضته بأخبار الاحتياط فسيأتي التعرض له عند ذكر
أدلة الأخباريين إن شاء الله تعالى. ثم انه ينبغي التنبيه على أمور كلها راجعة
إلى البحث عن فقه الحديث الشريف: (الامر الأول) انه ربما يستشكل في الحديث بأن الرفع ظاهر في إزالة الشئ الثابت
قبالا للدفع الذي هو عبارة عن منع المقتضى عن التأثير في وجود المقتضى! و (بعبارة
أخرى) الرفع عبارة عن إعدام الشئ الموجود، والدفع عبارة عن المنع عن الايجاد
وعليه فكيف صح استعمال الرفع في المقام، مع عدم ثبوت تلك الأحكام في زمان
وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بأنه لا فرق بين الرفع والدفع على ما هو
التحقيق، من أن الممكن كما يحتاج إلى المؤثر في حدوثه، كذلك يحتاج إليه
في بقائه وان علة الحدوث لا تكفي في البقاء بحيث يكون البقاء غنيا عن المؤثر
263

إذ الممكن لا ينقلب إلى الواجب بعد حدوثه، بل باق على إمكانه. والممكن
محتاج إلى المؤثر دائما. وعليه فالرفع أيضا يزاحم المقتضي في تأثيره في الأكوان
المتجددة. وهذا هو الدفع. نعم على القول بكفاية علة الحدوث في البقاء،
وان المعلول في بقائه مستغن عن المؤثر، كان الرفع مغايرا للدفع، لكنه باطل
على ما ذكر في محله.
هذا ملخص كلامه (ره)، وهو وان كان صحيحا في نفسه، فان الممكن
يحتاج إلى المؤثر حدوثا وبقاء على ما تقدم تحقيقه في بحث الضد، إلا أنه
بحث فلسفي لا ربط له بالمقام، ولا يفيد في دفع الاشكال، لأن احتياج
الممكن إلى المؤثر حدوثا وبقاء وكون اعدام الشئ الموجود أيضا منعا عن
تأثير المقتضي لا يستلزم اتحاد مفهوم الرفع والدفع لغة، لامكان ان يكون الرفع
موضوعا لخصوص المنع عن تأثير المقتضى بقاء، بعد فرض وجود المقتضى
وحدوثه، والدفع موضوعا للمنع عن التأثير حدوثا. و (بالجملة) ما ذكره
بحث فلسفي لا ربط له بالبحث اللغوي ومفهوم اللفظ.
والتحقيق ان يجاب عن هذا الاشكال بأحد وجهين: (أحدهما) - ان
يقال ان إطلاق الرفع في الحديث الشريف انما هو باعتبار ثبوت تلك الأحكام
في الشرائع السابقة ولو بنحو الموجبة الجزئية. ويستظهر ذلك من اختصاص
الرفع في الحديث بالأمة.
(ثانيهما) - ان يكون اطلاق الرفع في الحديث بنحو من العناية، باعتبار
انه وان وضع لإزالة الشئ الموجود الا انه صح استعماله فيما إذا تحقق
المقتضي مع مقدمات قريبة، لوجود الشئ فزاحمه مانع عن التأثير، مثلا إذا
تحقق المقتضي لقتل شخص ووقع تحت السيف، فعفى عنه أو حدث مانع آخر
عن قتله، صح ان يقال عرفا ارتفع عنه القتل، فيمكن ان يكون استعمال الرفع
264

في الحديث الشريف من هذا القبيل
(الامر الثاني) - ان الرفع في الحديث قد تعلق بأمور تسعة، ونسبة
الرفع إلى هذه الأمور وإن كانت واحدة بحسب السناد الكلامي، إلا انها
متعددة بحسب اللب والتحليل، وتختلف باختلاف هذه الأمور التسعة، لأن
الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون ظاهري لا واقعي، وذلك لقرينة داخلية،
وقرينة خارجية تقدم بيانهما عند ذكر تقريب الاستدلال بالحديث الشريف،
فلا نعيد.
هذا كله في الشبهات الحكمية وكذا الحال في الشبهات الموضوعية، فان
جعل الحكم لموضوع مع اعتبار العلم به، بحيث كان الحكم منتفيا واقعا مع
الجهل بالموضوع، وإن كان بمكان من الامكان، ولا يلزم منه محذور التصويب
كما لزم في الشبهة الحكمية، إلا ان مقتضى إطلاقات الأدلة ثبوت الحكم مع العلم
بالموضوع والجهل به. وعليه فكان رفع الحكم مع الجهل بالموضوع بمقتضى
الحديث الشريف أيضا رفعا ظاهريا، كما في الشبهة الحكمية. وأما الرفع في
بقية الفقرات فهو واقعي. ويترتب على هذا الفرق ثمرة مهمة، وهي انه إذا
عثرنا على الدليل المثبت للتكليف بعد العمل بحديث الرفع، يستكشف به ثبوت
الحكم الواقعي من أول الامر (مثلا) إذا شككنا في جزئية شئ أو شرطيته
للصلاة، وبنينا على عدمها لحديث الرفع، ثم بان لنا الخلاف ودل دليل على الجزئية
أو الشرطية، لا يجوز الاكتفاء بالفاقد من ناحية حديث الرفع بل لا بد من التماس
دليل آخر كحديث لا تعاد في خصوص الصلاة، أو ثبوت الاجزاء في الامر الظاهري
وهذا بخلاف باقي الفقرات فان الرفع فيها واقعي، فلو ارتفع الاضطرار أو الاكراه
مثلا تبدل الحكم من حين الارتفاع، ويجزي المأتي به حال الاضطرار أو الاكراه
(الامر الثالث) - انه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية. بل
265

يعم الأحكام الوضعية، كما لا اختصاص له بمتعلقات الاحكام، بل يشمل
الموضوعات أيضا، فان فعل المكلف كما يقع متعلقا للتكليف قد يقع موضوعا له
كالافطار في نهار شهر رمضان، فإنه متعلق للحرمة وموضوع لوجوب الكفارة
أيضا، فإذا اضطر المكلف إليه أو أكره عليه، لا يترتب عليه وجوب الكفارة
كما لا تتعلق به الحرمة، لكونه مرفوعا في عالم التشريع، نعم في طر والاضطرار
أو غيره من العناوين المذكورة في الحديث على متعلق التكليف تفصيل لا بد من
التعرض له، وهو ان متعلق التكليف ان كان هو الكلي الساري كما في المحرمات
المنحلة إلى احكام عديدة بتعدد الافراد، فطروء أحد هذه العناوين على فرد
من الطبيعة لا يوجب الا سقوط التكليف المتعلق بهذا الفرد، فان الاضطرار إلى
اكل حرام معين لا يوجب رفع الحرمة عن اكل غيره، وكذا الاكراه على
ارتكاب فرد من الحرام لا يوجب إلا رفع الحرمة عنه دون غيره من افراد
الحرام. وهذا ظاهر. واما ان كان متعلق التكليف هو الكلي على نحو
صرف الوجود كما في التكاليف الايجابية فطروء أحد هذه العناوين على فرد من
ذلك الكلي لا اثر له في ارتفاع الحكم أصلا، إذ ما طرأ عليه العنوان وهو الفرد
لا حكم له على الفرض، وما هو متعلق التكليف وهو الطبيعي لم يطرأ عليه
العنوان، فإذا اضطر المكلف إلى ترك الصلاة في جزء من الوقت، لا يسقط
عنه وجوب طبيعي الصلاة المأمور بها في مجموع الوقت. نعم لو اضطر إلى ترك
الصلاة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما إذا لم يأت بها قبل ذلك، كان
التكليف ساقطا لا محالة.
هذا كله في التكاليف الاستقلالية، وكذا الحال في التكاليف الضمنية
فلو اضطر المكلف إلى ترك جزء أو شرط في فرد مع تمكنه منه في فرد آخر
لا يرتفع به التكليف الضمني المتعلق بهذا الجزء أو الشرط لما تقدم من أن متعلق
266

التكليف - وهو الكلي - لم يتعلق به الاضطرار، فالاتيان بالناقص - مع التمكن
من الاتيان بفرد تام من حيث الاجزاء والشرائط - لا يكون مجزيا، نعم لو كان
الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط مستوعبا لتمام الوقت، سقط التكليف المتعلق
بالمركب المشتمل على المضطر إلى تركه لا محالة. وهل يجب الاتيان بغير ما اضطر
إلى تركه من الاجزاء والشرائط أم لا؟ ربما يقال بالوجوب، نظرا إلى أن
المرفوع بحديث الرفع انما هو خصوص الامر الضمني المتعلق بالمضطر إليه فيبقى
الامر المتعلق بغيره على حاله. (وبعبارة أخرى) المرفوع انما هو خصوص جزئية المضطر إليه أو شرطيته
واما غيره فباق بجزئيته أو شرطيته، فلا موجب لرفع اليد عن وجوبه، ولكن
التحقيق عدم الوجوب الا بدليل من الخارج، لان الامر الضمني تابع حدوثا
وبقاء لأصل التكليف المتعلق بالمجموع، كما أن الحكم الوضعي المنتزع من الحكم
التكليفي كالجزئية والشرطية تابع لمنشأ الانتزاع، وهو أصل التكليف المتعلق
بالمجموع والمقيد، فإذا ارتفع التكليف بالمجموع للاضطرار كان التكليف ببقية
الاجزاء والشرائط محتاجا إلى دليل آخر، فإذا اضطر المكلف إلى ترك القراءة
مثلا في تمام الوقت، كان التكليف بالصلاة مع القراءة ساقطا لحديث الرفع،
ووجوب الصلاة بغير القراءة يحتاج إلى دليل آخر، ولا يكفيه حديث الرفع
إذ مفاده رفع التكليف المتعلق بالمجموع. واما ثبوت التكليف لغيره الفاقد
للقراءة، فحديث الرفع أجنبي عنه، فلا بد من التماس دليل آخر. نعم يمكن
دعوى وجوب الدليل في خصوص باب الصلاة من جهة ان الصلاة لا تسقط
بحال على ما هو مستفاد من الروايات، دون غيرها من العبادات.
(ان قلت) - ان من آثار الاخلال ببعض ما اعتبر في الواجب جزء أو
شرطا وجوب قضائه بعد الوقت، فإذا تحقق الاخلال اضطرارا كان وجوب
267

القضاء مرفوعا بحديث الرفع لا محالة، فيكون العمل معه صحيحا، إذ لا نعني
بالصحة الا اسقاط القضاء، فثبت كون العمل الفاقد للجزء أو الشرط اضطرارا
صحيحا وهو المدعى.
(قلت) وجوب القضاء انما هو من آثار الفوت، ولا يرتفع بالاضطرار
أو الاكراه في الوقت على ما سيجئ الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى. ومن
هنا لم يشك أحد في وجوب القضاء فيما إذا اضطر إلى ترك الواجب في الوقت
رأسا أو اكراه عليه، فمع الاخلال بالجزء أو الشرط للاضطرار أو الاكراه
لا يكون القضاء ساقطا، ليستكشف بسقوطه صحة الفاقد.
(ان قلت): ان ما ذكر من البيان جار بالنسبة إلى ما لا يعلمون أيضا،
فإذا لم يعلم المكلف بجزئية شئ أو شرطيته للصلاة (مثلا) ارتفع التكليف المتعلق
بالمجموع بحديث الرفع، والتكليف المتعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل.
(قلت): كلا، لأن المكلف يعلم اجمالا بثبوت التكليف مرددا بين ان
يكون متعلقا بخصوص المتيقن من الاجزاء والشرائط، وأن يكون متعلقا
بالزائد عليه، فإذا ارتفع تعلقه بالزائد تعبدا لحديث الرفع، بقي عليه امتثال
التكليف بالمتيقن، ولا وجه لرفع اليد عن التكليف بالمعلوم برفع التكليف عن
المشكوك فيه. وهذا بخلاف صورة الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط أو
الاكراه عليه، إذ يحتمل فيها عدم التكليف رأسا، وليس التكليف بالفاقد
الا مجرد احتمال.
ثم انه لا يترتب على شمول حديث الرفع لمورد الا رفع التكليف أو الوضع
الثابت في هذا المورد في نفسه، فالاكراه على فعل محرم في نفسه يرفع حرمته
والاكراه على معاملة يرفع نفوذها وتأثيرها، فلو فرض ان المكره عليه مما لا اثر
له في نفسه، فلا يشمله حديث الرفع ولا يترتب على شموله اثر، فإذا اكراه
268

أحد على ترك بيع داره مثلا، لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال، إذ مفاد
الحديث رفع الحكم التكليفي أو الوضعي عن المكره عليه، لا اثبات حكم له،
وكذا الحال لو أكره على ايقاع معاملة فاسدة في نفسها، فإنه لا يمكن الحكم
بترتب الأثر على هذه المعاملة الفاسدة لحديث الرفع، فإنه أيضا يرجع إلى الاكراه
على ترك المعاملة الصحيحة، ولا اثر لترك المعاملة الصحيحة ليرفع بحديث الرفع
(وبعبارة أخرى) واضحة كل ما كان صحيحا ونافذا في نفسه من
المعاملات يرتفع عنه حكمه وأثره إذا وقع مكرها عليه. واما ما كان فاسدا في
نفسه، فلا يترتب عليه الحكم بالصحة إذا وقع عن اكراه.
(الامر الرابع) - انه لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للشئ بالعناوين
المذكورة في نفس الحديث، كوجوب سجدتي السهو المترتب على نسيان السجدة
في الصلاة، وكوجوب الدية المترتب على قتل الخطأ. والسر في ذلك أن مفاد
الحديث كون طروء هذه العناوين موجبا لارتفاع الحكم الثابت للشئ في نفسه
فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين، إذ ما يكون موجبا لثبوت حكم
لا يعقل ان يكون موجبا لارتفاعه. ولعل هذا واضح.
(الامر الخامس) - انه يعتبر في شمول حديث الرفع امر ان: (الأول)
- ان يكون الحكم مترتبا على فعل المكلف بما هو فعل المكلف، فلا يرفع به
مثلا النجاسة المترتبة على عنوان الملاقاة، فإذا لاقى جسم طاهر بدن الانسان
المتنجس اضطرارا أو اكراها، لا يمكن الحكم بارتفاع تنجس هذا الجسم الملاقى
لحديث الرفع، لان تنجس الملاقى لم يترتب على الملاقاة بما هو فعل المكلف، بل
هو مترتب على نفس الملاقاة، وان فرض تحققها بلا استناد إلى المكلف. فلا
وجه لما افاده المحقق النائيني (ره) من أن ذلك خارج عن حديث الرفع بالاجماع
وكذا لا يرفع بحديث الرفع وجوب قضاء الفائت من المكلف اضطرارا أو
269

اكراها، لان وجوب القضاء مترتب على عنوان الفوت بما هو فوت، لا بما
هو فعل للمكلف، ولذا يجب القضاء فيما إذا لم يكن الفوت مستندا إلى المكلف أصلا
(الثاني) - ان يكون في رفعه منة علي الأمة، فلا يرتفع به ضمان الاتلاف
المتحقق بالاضطرار أو الاكراه، لان دفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك
وان كان فيه منة على المتلف، وكذا لا يرفع به صحة بيع المضطر، فان رفعها
خلاف الامتنان.
(الامر السادس) - لاخفاء في أن البراءة العقلية تختص بموارد الشك في
التكاليف الالزامية، ولا تجرى في موارد الشك في التكاليف غير الالزامية، لان
ملاكها قبح العقاب بلا بيان، والتكليف غير الإلزامي مما لا عقاب في مخالفة
مقطوعه، فكيف بمشكوكه. واما البراءة الشرعية ففي اختصاصها بموارد الشك في
التكاليف الالزامية خلاف بينهم. و التحقيق ان يفصل بين موارد الشك في
التكاليف الاستقلالية، وموارد الشك في التكاليف الضمنية، ويلتزم بجريانها
في الثانية دون الأولى. والوجه في ذلك أن المراد من الرفع في الحديث الشريف
هو الرفع في مرحلة الظاهر عند الجهل بالواقع، ومن لوازم رفع الحكم في مرحلة
الظاهر عدم وجوب الاحتياط، لتضاد الاحكام ولو في مرحلة الظاهر على ما تقدم
بيانه. وهذا المعنى غير متحقق في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية، إذ لو
شككنا في استحباب شئ لا اشكال في استحباب الاحتياط، فانكشف ان
التكليف المحتمل غير مرفوع في مرحلة الظاهر، فلا يكون مشمولا لحديث الرفع
واما التكاليف الضمنية فالامر بالاحتياط عند الشك فيها وان كان ثابتا، فيستحب
الاحتياط باتيان ما يحتمل كونه جزء لمستحب، الا ان اشتراط هذا المستحب
به مجهول، فلا مانع من الرجوع إلى حديث الرفع، و الحكم بعدم الاشتراط
في مقام الظاهر.
270

و (بعبارة أخرى) الوجوب التكليفي وان لم يكن محتملا في المقام، الا
ان الوجوب الشرطي - المترتب عليه عدم جواز الاتيان بالفاقد للشرط بداعي
الامر - مشكوك فيه، فصح رفعه ظاهرا بحديث الرفع.
ومما استدل به على البراءة قوله عليه السلام: (ما حجب الله علمه عن العباد فهو
موضوع عنهم) وتوهم اختصاصه بالشبهة الموضوعية - بقرينة السياق على ما تقدم
بيانه عند الاستدلال بحديث الرفع - غير جار هنا، إذ لم يذكر فيه الا موصول
واحد كما ترى. وتوهم ان شموله للشبهة الحكمية والموضوعية مستلزم لاستعمال
لفظ الموصول في معنيين، مندفع بما تقدم في الاستدلال بحديث الرفع ولا حاجة
إلى الإعادة. وقد يستشكل هنا بأن ظاهر اسناد الحجب إلى الله سبحانه وتعالى
هي الاحكام التي لم يبينها الله تعالى لأجل التسهيل والتوسعة على الأمة، أو لأجل
مانع من البيان مع وجود المقتضى لها، فيكون مفاد هذا الحديث هو مفاد قوله
عليه السلام: (اسكتوا عما سكت الله عنه)
و (بالجملة) ظاهر هذا النوع من الاخبار ان المصلحة الإلهية قد اقتضت
اخفاء عدة من الاحكام إلى زمان ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه. ولعل
هذا المعنى هو المراد مما ورد في بعض الروايات من أنه عليه السلام يأتي بدين جديد.
وعليه فلا يرتبط هذا الحديث بالمقام من الاحكام التي لم يحجب الله تعالى علمه
عن العباد، بل بينها بلسان نبيه وأخفاها الظالمون.
وهذا الاشكال أيضا مدفوع بأن الموجب لخفاء الاحكام التي بينها الله
تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وأوصيائه (عليهم السلام) وان كان هو الظالمين، إلا أنه
تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي عليه السلام بالظهور وبيان تلك الأحكام،
فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلا هو، صح اسناد الحجب إليه تعالى.
هذا في الشبهات الحكمية. وكذا الحال في الشبهات الموضوعية، فان الله تعالى
271

قادر على اعطاء مقدمات العلم الوجداني لعباده، فمع عدم الاعطاء صح اسناد
الحجب إليه تعالى، فصح الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكمية
والموضوعية كحديث الرفع.
ومما استدل به على البراءة روايات الحل، وهي أربع على ما تفحصناه عاجلا
(الأولى) - موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
(سمعته يقول كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك
وذلك مثل الثوب يكون عليك، قد اشتريته، ولعله سرقة، أو المملوك يكون
عندك و لعله حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو امرأة تحتك ولعلها
أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة).
(الثانية) - رواية عبد الله بن سليمان، قال: (سأت أبا جعفر عليه السلام عن
الجبن - إلى أن قال - سأخبرك عن الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام
فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه من قبل نفسك).
(الثالثة) - رواية معاوية بن عمار، وهي متحدة مع الرواية الثانية من
حيث المضمون، بل من حيث الألفاظ الا اليسير، فراجع الجوامع. ويحتمل
ان تكونا رواية واحدة، فان عبد الله بن سليمان رواها عن أبي جعفر عليه السلام
ومعاوية بن عمار رواها عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام، فيحتمل ان
يكون المراد من بعض أصحابنا في كلام معاوية بن عمار هو عبد الله بن سليمان،
فتكونان رواية واحدة.
(الرابعة) - رواية عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام (كل شئ فيه
حلال و حرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه).
هذه هي الروايات الواردة في الباب. وقد استدل شيخنا الأنصاري
(رحمه الله) على البراءة في الشبهة الحكمية برواية عبد الله بن سليمان ورواية
272

عبد الله بن سنان ولم يستدل عليها بموثقة مسعدة بن صدقة، ولعل الوجه في عدم
استدلاله بها اشتمالها على جملة من أمثلة الشبهة المصداقية فرأى اختصاصها بها ولم يستدل
بها على البراءة في الشبهة الحكمية، وعكس الامر صاحب الكفاية (ره) فتمسك
للبراءة في الشبهة الحكمية بموثقة مسعدة بن صدقة، ولم يستدل بالروايتين. ولعل
الوجه في عدم استدلاله بهما ظهور قوله عليه السلام (فيه حلال وحرام) فيهما في فعلية
الانقسام إلى القسمين المختصة بالشبهات الموضوعية، إذ لا معنى لانقسام الشئ
المجهول حرمته وحليته إلى القسمين كما هو واضح.
هذا، والتحقيق عدم صحة الاستدلال بشئ من هذه الروايات على
البراءة في الشبهات الحكمية التي هي محل الكلام، إذا فيها قرائن تقتضي اختصاصها
بالشبهات الموضوعية. وهذه القرائن بعضها مشترك بين موثقة مسعدة بن صدقة
وغيرها، وبعضها مختص بالموثقة، و بعضها مختص بغيرها. اما القرينة المشتركة
فهي قوله عليه السلام (بعينه) فإنه ظاهر في الاختصاص بالشبهة الموضوعية، وذلك
لأن حمل هذه الكلمة على التأكيد - بان يكون المراد منها تأكيد النسبة والاهتمام
بالعلم بالحرمة - خلاف الظاهر، إذ الظاهر أن يكون احترازا عن العلم بالحرام
لا بعينه، ولا ينطبق ذلك إلا على الشبهة الموضوعية، إذ لا يتصور العلم بالحرام
لا بعينه، في الشبهة الحكمية، فإنه مع الشك في حرمة شئ وحليته لا علم لنا
بالحرام لا بعينه
و (بعبارة أخرى) العناوين الكلية اما ان تكون معلومة الحرمة أو
لا تكون كذلك، فعلى الأول تكون معلومة الحرمة بعينها، وعلى الثاني
لا علم بالحرمة أصلا. نعم يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية مع
العلم الاجمالي بالحرمة. ومن الظاهر أن هذه الأحاديث لا تشمل أطراف العلم
الاجمالي بالحرمة، إذ جعل الترخيص في الطرفين مع العلم بحرمة أحدهما اجمالا
273

مما لا يمكن الجمع بينهما ثبوتا، و يتناقضان على ما سنتكلم فيه في مبحث الاشتغال
إن شاء الله تعالى.
وأما الشبهة الموضوعية فلا ينفك الشك فيها عن العلم بالحرام لا بعينه،
فانا إذا شككنا في كون مائع موجود في الخارج خمرا، كان الحرام معلوما
لا بعينه، إذ نعلم اجمالا بوجود الخمر في الخارج المحتمل انطباقه على هذا المائع
فيكون الحرام معلوما لا بعينه، ولكن هذا العلم لا يوجب التنجز لعدم حصر
أطرافه، وعدم كون جميعها في محل الابتلاء، فما ابتلى به من أطرافه محكوم
بالحلية ما لم يعلم أنه حرام بعينه.
اما القرينة المختصة بالموثقة، فهي امر ان: (الأول) - كون الأمثلة
المذكورة فيها من قبيل الشبهة الموضوعية، فهي قرينة على اختصاص الموثقة
بالشبهة الموضوعية. ولا أقل من احتمال القرينية، فلا ينعقد لها ظهور في الشمول
للشبهات الحاكمية. (الثاني) - قوله عليه السلام أو تقوم به البينة، بناء على أن
المراد منها هي البينة المصطلحة، وهي اخبار العدلين، فان اعتبار البينة المصطلحة
انما هو في الموضوعات. واما الاحكام فيكفي فيها خبر الواحد. فقوله عليه السلام
(أو تقوم به البينة) قرينة أو صالح للقرينية على إرادة خصوص الشبهة الموضوعية
فيكون المراد ان الأشياء الخارجية كلها على الإباحة، حتى تظهر حرمتها بالعلم
الوجداني أو تقوم بها البينة. ولا بد حينئذ من الالتزام بتخصيص هذا العموم
بعدة أمور قد ثبت من الخارج ارتفاع الحلية بها، كالاقرار وحكم الحاكم
والاستصحاب. واما بناء على أن المراد من البينة هو معناه اللغوي أي ما يتبين
به الشئ، فيكون المراد منها مطلق الدليل، كما قويناه أخيرا. وهذا المعنى
هو المراد في الآيات والروايات، كقوله تعالى: (أو لو كنت على بينة من ربي)
فلا قرينية لقوله عليه السلام أو تقوم به البينة على إرادة خصوص الشبهات الموضوعية
274

إذا المراد حينئذ أن الأشياء كلها على الإباحة، حتى تستبين اي تتفحص
وتستكشف أنت حرمتها، أو تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحص
واستكشاف، ولا يلزم تخصيص في الموثقة على هذا المعنى، لأن البينة المصطلحة
والاقرار وحكم الحاكم والاستصحاب وغيرها من الأدلة كلها داخل في البينة
بهذا المعنى.
هذا كله على تقدير تسليم دلالة الموثقة على أصالة الإباحة في مشكوك
الحرمة، ويمكن ان يقال انها أجنبية عنها بالكلية، لان الأمثلة المذكورة
فيها كلها من قبيل الشبهة الموضوعية، وليست الحلية في شئ منها مستندة إلى
أصالة البراءة وأصالة الحل، فإنها في الثوب والعبد مستندة إلى اليد، وهي من
الامارات، وفي المرأة مستندة إلى الاستصحاب، اي أصالة عدم تحقق الرضاع
بينهما، فإنه امر حادث مسبوق بالعدم. هذا عند احتمال كونها أختا له من
الرضاعة، وكذا الحال عند احتمال كونها أختا له من النسب، فان مقتضى
الأصل عدم كونها أختا له بناء على ما قويناه في محله من جريان الأصل في
الاعدام الأزلية، وعليه فلا يخلو الامر في قوله عليه السلام (كل شئ حلال) من
أوجه ثلاثة:
1 - ان يكون المراد منه هو خصوص الحلية المستندة إلى دليل غير أصالة
الإباحة، مثل اليد والاستصحاب ونحوهما كما تقدم.
2 - ان يكون المراد منه خصوص الحلية المجعولة للشاك المعبر عنها
بأصالة الإباحة.
3 - ان يكون المراد منه معناها اللغوي، وهو الارسال وعدم التقييد
في مقابل المنع والحرمان، وهو أعم من الحلية المستفادة من الدليل والحلية
المستندة إلى أصالة الحل، ودلالة الموثقة على أصالة الحل متوقفة على ظهورها في
275

الاحتمال الثاني أو الثالث، وهو غير ثابت ولا سيما الاحتمال الثاني، فإنه خلاف
الظاهر، إذ عليه يكون ذكر الأمثلة من باب التنظير، وظاهر الكلام وسوق العبارة
أن ذكر الأمثلة إنما هو من باب انطباق الكبرى على الصغريات، لا من
باب التنظير.
وأما القرينة المختصة بغير الموثقة فهي قوله عليه السلام: (فيه حلال وحرام) فإنه
ظاهر في الانقسام الفعلي، بمعنى ان يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما، ولم
يعلم أن المشكوك فيه من القسم الحلال أو من القسم الحرام، كالمائع المشكوك
في كونه خلا أو خمرا. وذلك لا يتصور الا في الشبهات الموضوعية كما مثلنا
إذ لا تكون القسمة الفعلية في الشبهات الحكمية، وإنما تكون القسمة فيها فرضية
إمكانية، بمعنى احتمال الحرمة والحلية، فانا إذا شككنا في حلية شرب التتن
مثلا، كان هناك احتمال الحرمة والحلية، وليس له قسمان يكون أحدهما حلالا
والآخر حراما، وقد شك في فرد أنه من القسم الحلال أو من القسم الحرام
ويؤكد ما ذكرناه ذكر الحرام معرفا باللام في قوله عليه السلام: (حتى تعرف الحرام منه
بعينه) فإنه إشارة إلى الحرام المذكور قبل ذلك الذي قسم الشئ إليه والى الحلال
في قوله عليه السلام: (فيه حلال وحرام).
وقد يتوهم ان اشتمال هذه الرويات على التقسيم غير مانع عن شمولها
للشبهات الحكمية، إذ يمكن تصور الانقسام الفعلي فيها أيضا، كما إذا علمنا
بحلية لحم نوع من الطير كالدراج مثلا، وعلمنا بحرمة لحم نوع آخر منه
كالغراب مثلا، وشككنا في حلية لحم نوع ثالث من الطير، فيحكم بحلية
المشكوك فيه ما لم يعلم أنه حرام بمقتضى هذه الروايات، إذ يصدق عليه ان فيه
حلالا وحراما.
وهذا التوهم فاسد. لأن الظاهر من قوله عليه السلام فيه حلال وحرام ان
276

منشأ الشك في الحلية والحرمة هو نفس انقسام الشئ إلى الحلال والحرام، وهذا
لا ينطبق على الشبهة الحكمية فان الشك في حلية بعض أنواع الطير - في
مفروض المثال - ليس ناشئا من انقسام الطير إلى الحلال والحرام، بل هذا النوع
مشكوك فيه من حيث الحلية والحرمة، ولو على تقدير حرمة جميع بقية الأنواع
أو حليتها. وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية، فان الشك في حلية مائع موجود
في الخارج ناشئ من انقسام المائع إلى الحلال والحرام، إذ لو كان المائع
بجميع أقسامه حلالا أو بجميع أقسامه حراما لما شككنا في هذا المائع الموجود
في الخارج من حيث الحلية والحرمة، فحيث كان المائع منقسما إلى قسمين: قسم
منه حلال كالخل، وقسم منه حرام كالخمر، فشككنا في حلية هذا المائع
الموجود في الخارج، لاحتمال أن يكون خلا، فيكون من القسم الحلال، وأن يكون
خمرا فيكون من القسم الحرام،
ثم إن المحقق النائيني (ره) ذكر أن الشيئية تساوق الوجود، فظاهر
لفظ الشئ هو الموجود الخارجي، وحيث إن الموجود الخارجي لا يمكن
انقسامه إلى الحلال والحرام، فلا محالة يكون المراد من التقسيم الترديد، فيكون
المراد من قوله عليه السلام فيه حلال وحرام هو احتمال الحلية والحرمة، فيشمل الشبهة
الحكمية أيضا، لأن احتمال الحلية والحرمة في الموجود الخارجي - كما يمكن
ان يكون ناشئا من عدم العلم بأن هذا الشئ من القسم الحلال أو من القسم
الحرام، فتكون الشبهة موضوعية - كذلك يمكن أن يكون ناشئا من عدم
العلم بحكم نوع هذا الشئ، فتكون الشبهة حكمية.
وفيه (أولا) - ان لفظ الشئ موضوع للمفهوم المبهم العام لا للموجود
الخارجي، ولذا يستعمل في المعدومات، بل في المستحيلات، فيقال هذا
شئ معدوم أو لم يوجد، وهذا شئ مستحيل أو محال.
277

و (ثانيا) - انه على تقدير التنزل وتسليم ان المراد منه الموجود الخارجي
نلتزم بالاستخدام في الضمير في قوله عليه السلام فيه حلال وحرام، فيكون المراد ان
كل موجود خارجي في نوعه حلال وحرام فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام
منه بعينه. والقرينة على هذا الاستخدام هو نفس التقسيم، باعتبار أن الموجود
الخارجي غير قابل للتقسيم، فلا محالة يكون المراد انقسام نوعه، فتكون
الرواية مختصة بالشبهات الموضوعية.
ومن جملة الروايات التي استدل بها على البراءة قوله عليه السلام: (الناس في سعة
ما لا يعلمون) والاستدلال به مبني على أن كلمة ما موصولة، وقد أضيفت إليها
كلمة سعة، فيكون المعنى ان الناس في سعة من الحكم المجهول، فمفاده هو مفاد
حديث الرفع، ويكون حينئذ معارضا لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير
تماميتها. واما إن كانت كلمة ما مصدرية زمانية، فلا يصح الاستدلال به على
المقام، إذا المعنى حينئذ ان الناس في سعة ما داموا لم يعلموا، فمفاد الحديث هو
مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وتكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة عليه،
لأنها بيان. والظاهر هو الاحتمال الأول، لأن كلمة ما الزمانية - حسب
الاستقراء - لا تدخل على الفعل المضارع، وإنما تدخل على الفعل الماضي لفظا
ومعنى أو معنى فقط، ولو سلم دخلوها على المضارع أحيانا لا ريب في شذوذه
فلا تحمل عليه الا مع القرينة، نعم لو كان المضارع مدخولا لكلمة لم، لكان
للاحتمال المذكور وجه، باعتبار كون الفعل ماضيا بحسب المعنى، فالصحيح
دلالة الحديث على البراءة. وباطلاقه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية.
وظهر بما ذكرناه ان ما افاده المحقق النائيني (ره) - من ترجيح الاحتمال
الثاني وعدم دلالة الحديث على البراءة - خلاف التحقيق، ولكن الذي يسهل
الامر ان الحديث مرسل لا يصح الاعتماد عليه، بل لم يوجد في كتب الاخبار
278

أصلا. نعم في حديث السفرة المطروحة في الفلاة وفيها اللحم امر الإمام (ع)
بان يقوم اللحم ويؤكل، فقال الراوي انه لا يدرى أمالكه مسلم أو كافر، ولعل
اللحم من غير مذكى، قال (ع) (هم في سعة حتى يعلموا) ومورد هذه الرواية
خصوص اللحم، وحكمه (ع) بالإباحة انما هو من جهة كونه في ارض المسلمين
فهي امارة على التذكية، والا كان مقتضى أصالة عدم التذكية حرمة اكله.
و (بالجملة) مورد هذه الرواية هي الشبهة الموضوعية القائمة فيها الامارة على
الحلية، فهي أجنبية عن المقام.
ومن جملة الروايات التي استدل بها للمقام قوله (ع) (كل شئ مطلق حتى
يرد فيه نهي) وهذه الرواية وان كانت مختصة بالشبهة التحريمية، إلا أنه لا باس
بالاستدلال بها من هذه الجهة: فان عمدة الخلاف بين الأصوليين والأخباريين
إنما هي في الشبهة التحريمية. واما الشبهة الوجوبية فوافق الأخباريون الأصوليين
في عدم وجوب الاحتياط فيها، إلا القليل منهم، كالمحدث الاسترآبادي،
فإنه المتفرد من بين الأخباريين بوجوب الاحتياط فيها أيضا، بل اختصاص هذه
الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سائر روايات البراءة، باعتبار
انها أخص من اخبار الاحتياط، فلا ينبغي الشك في تقدمها عليها. ولذا
ذكر شيخنا الأنصاري (ره) انها أظهر روايات الباب.
ولكن صاحب الكفاية (ره) والمحقق النائيني (ره) لم يرتضيا الاستدلال
بها للمقام، وذكر كل منهما وجها لذلك غير ما ذكره الآخر. اما صاحب
الكفاية (ره) فذكر انه يحتمل ان يكون المراد من الورود الذي جعل غاية
للاطلاق هو صدور الحكم من المولى وجعله، لا وصوله إلى المكلف، فيكون
مفاد الرواية ان كل شئ لم يصدر فيه نهى، ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق.
وهذا خارج عن محل الكلام، فان الكلام فيما إذا شك في صدور النهي من المولى
279

وعدمه، فيكون التمسك فيه بالرواية من قبيل التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية.
وفيه ان الورود وان صح استعماله في الصدور، إلا ان المراد به في
الرواية هو الوصول، إذ على تقدير ان يكون المراد منه الصدور لا مناص من أن
يكون المراد من الاطلاق في قوله عليه السلام كل شئ مطلق هو الإباحة الواقعية
فيكون المعنى ان كل شئ مباح واقعا ما لم يصدر النهي عنه من المولى، ولا يصح
ان يكون المراد من الاطلاق هي الإباحة الظاهرية، إذ لا يصح جعل صدور
النهي من الشارع غاية للإباحة الظاهرية، فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك
وعدم وصول الحكم الواقعي إلى المكلف، فلا تكون الإباحة الظاهرية مرتفعة
بمجرد صدور النهي من الشارع ولو مع عدم الوصول إلى المكلف، بل هي
مرتفعة بوصوله إلى المكلف، فلا مناص من أن يكون المراد هي الإباحة الواقعية
وحينئذ فاما أن يراد من الاطلاق الإباحة في جميع الأزمنة أو الإباحة في
خصوص عصر النبي صلى الله عليه وآله. لا سبيل إلى الأول، إذ مفاد الرواية على هذا
أن كل شئ مباح واقعا حتى يصدر النهي عنه من الشارع. 280
وهذا المعنى من
الوضوح بمكان كان بيانه لغوا لا يصدر من الإمام عليه السلام فإنه من جعل أحد الضدين
غاية للآخر، ويكون من قبيل ان يقال كل جسم ساكن حتى يتحرك وكذا
المعنى الثاني، فإنه وان كان صحيحا في نفسه، إذ مفاد الرواية حينئذ ان الناس
غير مكلفين بالسؤال عن حرمة شئ ووجوبه في زمانه صلى الله عليه وآله بل هو صلى الله عليه وآله يبين
الحرام والواجب لهم. والناس في سعة ما لم يصدر النهي منه صلى الله عليه وآله ولذا ورد
في عدة من الروايات المنع عن السؤال:
(منها) - ما ورد في الحج من أنه صلى الله عليه وآله سئل عن وجوبه في كل سنة
وعدمه فقال صلى الله عليه وآله: (ما يؤمنك ان أقول نعم، فإذا قلت نعم يجب...) وفي
280

بعضها أن بني إسرائيل هلكوا من كثرة سؤالهم، فمفاد الرواية ان الناس ليس
عليهم السؤال عن الحرام في عصر النبي صل الله عليه وآله بل كل شئ مطلق ومباح ما لم
يصدر النهي عنه من الشارع، بخلاف غيره من الأزمنة، فان الأحكام قد
صدرت منه صل الله عليه وآله فيجب على المكلفين السؤال والتعلم، كما ورد في عدة من الروايات
فاتضح الفرق بين عصر النبي صل الله عليه وآله وغيره من العصور من هذه الجهة، إلا أن
هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية، فان ظاهر (ع) كل شئ مطلق هو الاطلاق
الفعلي والإباحة الفعلية، بلا تقييد بزمان دون زمان، لا الاخبار عن الاطلاق
في زمان النبي صل الله عليه وآله وان كل شئ كان مطلقا في زمانه ما لم يرد النهي عنه، فتعين
أن يكون المراد من الاطلاق هي الإباحة الظاهرية لا الواقعية. وعليه فلا مناص
من أن يكون المراد من الورود هو الوصول، لان صدور الحكم بالحرمة واقعا
لا يكون رافعا للإباحة الظاهرية ما لم تصل إلى المكلف، كما هو ظاهر، فنفس
كلمة (مطلق) في قوله (ع): كل شئ مطلق قرينة على أن المراد من
الورود هو الوصول.
وأما المحقق النائيني (ره) فذكر أن مفاد هذه الرواية هو اللاحرجية
العقلية الأصلية، قبل ورود الشرع والشريعة، فهي أجنبية عن محل الكلام
وهو اثبات الإباحة الظاهرية، لما شك في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم
فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.
هذا وفيه من البعد ما لا يخفى، لأن بيان الاطلاق الثابت عقلا قبل ورود
الشرع لغو لا يصدر من الإمام (ع)، إذ لا تترتب عليه ثمرة وفائدة
فلا يمكن حمل الرواية عليه، مضافا إلى أن ظاهر الكلام الصادر من الشارع
أو ممن هو بمنزلته كالإمام (ع) المتصدي لبيان الأحكام الشرعية هو بيان الحكم
الشرعي المولوي لا الحكم العقلي الارشادي.
281

فتحصل أن الصحيح ما ذكره الشيخ (ره) من دلالة الرواية على البراءة
واطلاقها يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية، باعتبار أن مفادها الحكم بحلية
الشئ المشكوك في حرمته، سواء كان منشأ الشك عدم تمامية البيان من قبل
المولى، كما في الشبهات الحكمية، أو الأمور الخارجية كما في
الشبهات الموضوعية.
(الثالث) - من الوجوه التي استدل بها على البراءة - هو الاجماع. وتقريبه
بوجوه ثلاثة: (الأول) - دعوى اتفاق الأصوليين والأخباريين على قبح
العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف بنفسه ولا بطريقه. وفيه
(أولا) - ان هذا الاتفاق وان كان ثابتا، إلا أنه على أمر عقلي لا على أمر
شرعي فرعى، كي يكون اجماعا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم (ع).
و (ثانيا) - أن هذا الاتفاق إنما هو على الكبرى، ولا تترتب عليه ثمرة مع
عدم ثبوت الصغرى، ولا اتفاق عليها، فان الأخباريين يدعون عدم تحققها
وأن الاحكام المجهولة واصلة إلى المكلفين بطريقها، إما مطلقا كما ادعاه المحدث
الاسترآبادي، وإما في خصوص الشبهة التحريمية كما عليه المشهور منهم، للروايات
الدالة على الاحتياط والتوقف على ما سيجئ التعرض لها إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - دعوى الاتفاق على أن الحكم الشرعي المجعول في موارد الجهل
بالأحكام الواقعية وعدم وصولها بنفسها ولا بطريقها هو الإباحة والترخيص وفيه
ما ذكرناه في سابقه ثانيا من أن الاتفاق على الكبرى لا يفيد، مع عدم احراز
الصغرى، ولا اتفاق عليها على ما سيجئ وتقدمت الإشارة إليه.
(الثالث) - دعوى الاتفاق على أن الحكم الظاهري المجعول في موارد
الجهل بالأحكام الواقعية وعدم وصولها بنفسها هو الإباحة والترخيص. وهذا
الاتفاق لو ثبت لأفاد، ولكنه غير ثابت، كيف وقد ذهب الأخباريون وهم
282

الأجلاء من العلماء إلى أن الحكم الظاهري هو وجوب الاحتياط.
(الرابع) من الوجوه التي استدل بها على البراءة هو حكم العقل بقبح
العقاب بلا بيان. وتحقيق الحال في هذا الاستدلال يقتضي التكلم في
جهات ثلاث:
(الجهة الأولى) - في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمها في نفسها
(الجهة الثانية) - في ملاحظها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
(الجهة الثالثة) - في لحاظها مع أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها
(اما الجهة الأولى) فلا ينبغي الشك في تمامية قبح العقاب بلا بيان، على
القول بالتحسين والتقبيح العقليين، كما عليه العدلية والمعتزلة، فإنه من الواضح
أن الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنه إنما هو من آثار التكليف الواصل، وما
يكون محركا للعبد نحو عمل أو زاجرا له عنه انما هو العلم بالتكليف لا وجوده
الواقعي، فإذا لم يكن التكليف واصلا إلى العبد كان العقاب على مخالفته قبيحا
عقلا، إذ فوت غرض المولى ليس مستندا إلى تقصير من العبد، بل إلى عدم
تمامية البيان من قبل المولى، فنفس قاعدة قبح العقاب بلا بيان تامة بلا شبهة
وإشكال، ومسلمة عند الأصولي والأخباري.
و (أما الجهة الثانية) فالمشهور بينهم - كما ذكره صاحب الكفاية (ره) -
ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر
المحتمل، إذ مع حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول التكليف إلى العبد،
لا يبقى احتمال الضرر ليجب دفعه بحكم العقل.
واشكل عليه بامكان العكس بأن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل
رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ مع حكم العقل بوجوب التحفظ
على الحكم الواقعي حذرا من الوقوع في الضرر المحتمل، كان هذا بيانا،
283

فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها، وهو عدم البيان.
و (بالجملة) كل من القاعدتين كبروي لا يتكفل لاحراز موضوعه، بل لابد
من إحرازه من الخارج لا من نفس القاعدة كما هو واضح، وكل منهما صالح
لرفع موضوع الآخر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
هذا والتحقيق في الجواب عن الاشكال يقتضي تقديم مقدمة: وهي ان
التعارض والتنافي لا يتصور إلا بين دليلين ظنيين من جهة، فقد يكون التنافي
بين ظهورين مع كون السند في كل منهما قطعيا، وقد يكون بين نصين صريحين
فيما إذا كان السند ظنيا فيهما. واما الدليلان القطعيان سندا ودلالة وجهة،
فيستحيل وقوع المعارضة بينهما، لاستلزامه التناقض المستحيل تحققه، فلا
محالة يكون أحد الدليلين واردا أو حاكما على الآخر، وظهر من ذلك استحالة
وقوع المعارضة بين حكمين عقليين، لاستلزامه حكم العقل بثبوت المتناقضين،
ففي المقام لا يعقل المعارضة بين القاعدتين، فإنه مستلزم لحكم العقل باستحقاق
العقاب وبعدمه في مورد واحد. وهو محال، وان شئت قلت إن القطع
بعدم استحقاق العقاب لا يجتمع مع احتماله.
إذا عرفت هذه المقدمة، فنقول: إن الضرر المحتمل الذي يجب دفعه
بحكم العقل اما ان يراد به الضرر الأخروي اي العقاب، أو الضرر الدنيوي
أو المفسدة المقتضية لجعل الحرمة، فان كان المراد به العقاب، فاما ان يكون
وجوب دفعه غيريا أو نفسيا أو طريقيا أو إرشاديا، ولا يتصور له خامس.
أما الوجوب الغيري فهو غير محتمل في المقام، إذ الوجوب الغيري هو الذي
يترشح من وجوب نفسي عند توقف واجب على شئ آخر، وليس في المقام
واجب متوقف على دفع العقاب الأخروي ليترشح الوجوب منه إليه، لا في
فرض تحقق الحكم واقعا ولا في فرض عدمه. اما في فرض تحققه فلانه ليس
284

هناك إلا تكليف واحد وليس متوقفا على دفع العقاب بل دفع العقاب يحصل بامتثاله
وهو من آثاره العقلية و اما في فرض عدم تحققه، فالتوقف منتف بانتفاء موضوعه
كما هو ظاهر. وأما الوجوب النفسي فهو أيضا غير صحيح في المقام، إذ على تقدير
الوجوب النفسي يكون العقاب على مخالفة نفسه لا على مخالفة التكليف الواقعي
المجهول، فلا يكون وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا للتكليف الواقعي، فإذا
يكون التكليف الواقعي غير واصل إلى المكلف لا بنفسه ولا بطريقه، فتجري
قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع. وبها يرفع موضوع قاعدة وجوب دفع
الضرر المحتمل.
هذا مضافا إلى أن الوجوب النفسي يستلزم تعدد العقاب عند مصادفة
احتمال التكليف للواقع، ولا يمكن الالتزام به، فان احتمال التكليف لا يزيد
على القطع به، ولا تعدد للعقاب مع القطع بالتكليف، فكيف مع احتماله.
وأما الوجوب الطريقي فهو أيضا غير معقول في المقام، إذ الوجوب الطريقي هو
الذي يترتب عليه احتمال العقاب ويكون منشأ له، لان احتمال التكليف الواقعي
لا يستلزم احتمال العقاب الا مع تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بنفسه أو
بطريقه، فمع عدم تنجز التكليف وعدم وصوله بنفسه ولا بطريقه ليس هناك
احتمال للعقاب أصلا. واما القطع بالعقاب فغير موجود حتى في مخالفة التكليف المنجز
الواصل لاحتمال العفو والشفاعة. ففي موارد جعل الوجوب الطريقي كان التكليف
على تقدير تحققه واقعا واصلا إلى المكلف بطريقه ومنجزا، فاستحق العقاب
على مخالفته، ومنشأ الاستحقاق هو الوجوب الطريقي، كوجوب الاحتياط
الشرعي الثابت في موارده، وكوجوب العمل بالاستصحاب المثبت للتكليف،
مع العلم بالحالة السابقة. فاتضح أن الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب
ولو لاه لما كان العقاب محتملا، فكيف يمكن الالتزام بأن وجوب دفع الضرر
285

المحتمل طريقي، إذ قد عرفت ان الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب، فلا
مناص من أن يكون الوجوب في رتبة سابقة على احتمال العقاب، مع أن احتمال
العقاب مأخوذ في موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل، فلا بد من تقدمه
عليه تقدم الموضوع على الحكم. وهذا هو الدور الواضح.
و (بعبارة أخرى) إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع
الضرر المحتمل، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو، إذ الأثر المترتب عليه
هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه على الفرض، وان لم يحتمل العقاب
فيكون وجوب دفع الضرر المحتمل منتفيا بانتفاء موضوعه. فتعين أن يكون وجوب
دفع الضرر المحتمل إرشاديا بمعنى ان العقل يحكم ويرشد إلى تحصيل المؤمن من عقاب
مخالفة التكليف الواقعي على تقدير تحققه. والفرق بينه وبين الوجوب الطريقي
ان الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب، ولو لاه لما كان العقاب محتملا
على ما تقدم بيانه، بخلاف الوجوب الارشادي فإنه في رتبة لا حقة عن احتمال
العقاب، إذ لولا احتمال لما كان هناك ارشاد من العقل إلى تحصيل
الأمن منه.
وبذلك ظهر ان مورد كل من القاعدتين مغاير لمورد الآخر، ولا تنافي
بينهما، لعدم اجتماعهما في مورد واحد أبدا، فان احتمل العقاب مع قطع النظر
عن وجوب دفع الضرر المحتمل - بأن كان التكاليف المحتمل منجزا علي تقدير
ثبوته واقعا، كما في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص
- كان موردا لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشادا إلى تحصيل المؤمن
ولا مجال فيه لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان وان لم يحتمل العقاب مع قطع النظر
عن وجوب دفع الضرر المحتمل مع احتمال التكليف فان احتمال التكليف لا يستلزم
احتمال العقاب كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص فيما إذا لم يكن هناك منجز خارجي من
286

علم اجمالي أو ايجاب احتياط أو غيرهما كان موردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان
ولا مجال فيه لجريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على ما تقدم بيانه. و (بعبارة
أخرى) واضحة، مورد وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصوله التكليف
تفصيلا أو إجمالا بنفسه أو بطريقه، كما في أطراف العلم الاجمالي والشبهة قبل
الفحص، وموارد وجوب الاحتياط الشرعي، ومورد قاعدة قبح العقاب بلا
بيان هي الشبهة بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف، فلا توارد بين
القاعدتين في مورد واحد أصلا.
هذا كله على تقدير أن يكون المراد بالضرر المحتمل هو العقاب. وأما
لو كان المراد به الضرر الدنيوي فكل من الصغرى والكبرى ممنوع. أما الصغرى
فلانه لا ملازمة بين ارتكاب الحرام وترتب الضرر الدنيوي، بل ربما تكون فيه
المنفعة الدنيوية كما في موارد الانتفاع بمال الغير غصبا. نعم يترتب الضرر
الدنيوي على ارتكاب بعض المحرمات، كأكل الميتة وشرب السم مثلا، ولكن
لا تثبت به الكلية، وأما الكبرى فلانه لا استقلال للعقل بوجوب دفع الضرر
الدنيوي، بل هو مما نقطع بخلافه، فانا نرى أن العقلاء يقدمون على الضرر
المقطوع به لرجاء حصول منفعة. فكيف بالضرر المحتمل. نعم الاقدام على
الضرر الدنيوي بلا غرض عقلائي يعد سفاهة عند العقلاء ويلام فاعله، إلا ان
العقل غير مستقل بقبحه الملازم لاستحقاق العقاب ليكون حراما شرعا، وإلا لزم
كون كل فعل سفهي حراما شرعا. وهذا مما نقطع بخلافه.
واما إن كان المراد بالضرر المفسدة، فالصغرى وإن كانت مسلمة في
خصوص ما يحتمل حرمته، بناء على ما عليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد، فان احتمال الحرمة في شئ لا ينفك حينئذ عن احتمال المفسدة فيه،
إلا ان الكبرى ممنوعة، إذ العقل لا يحكم بوجوب دفع المفسدة المحتملة.
287

كيف؟ وقد اتفق العلماء من الأصولين والأخباريين، بل العقلاء أجمع على عدم
لزوم الاجتناب عما يحتمل وجود للمفسدة فيه في الشبهة الموضوعية، ولو كان
العقل مستقلا بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجبا فيها أيضا، إذ
لا فرق بين الشبهة الحكمية الموضوعية من هذه الجهة.
فتحصل مما ذكرناه أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تعارض قاعدة
قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس عن الحجة
على التكليف.
(أما الجهة الثالثة) وهي ملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع أدلة
وجوب الاحتياط فملخص الكلام فيها انه على تقدير تمامية دلالتها على وجوب
الاحتياط وجوبا طريقيا، تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها
إذ على تقدير وجوب الاحتياط بهذا النحو يتم البيان من قبل المولى، وتنجز
الحكم الواقعي على تقدير ثبوته، فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان
فكانت أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها واردة على القاعدة،
وسيجئ الكلام في تمامية دلالتها وعدمها قريبا عند التعرض لذكر أدلة الأخباريين
إن شاء الله تعالى.
(الوجه الخامس) من الوجوه التي استدل بها على البراءة الاستصحاب،
وتقريبه على نحوين، لأن الأحكام الشرعية لها مرتبتان:
(الأولى) - مرتبة الجعل والتشريع، والحكم الشرعي في هذه المرتبة
متقوم بفرض الموضوع لا بتحققه فعلا، إذ التشريع غير متوقف على تحقق
الموضوع خارجا، بل يصح جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على
نحو القضية الحقيقية، فصح تشريع القصاص على القاتل وان لم يقتل أحد
أحدا إلى الأبد.
288

(الثانية) - مرتبة الفعلية، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوم بتحقق
الموضوع خارجا. لان فعلية الحكم انما هي بفعلية موضوعه، ومع انتفاء
الموضوع خارجا لا يكون الحكم فعليا، وحيث إن الحكم الشرعي في كل واحد
من المرتبتين مسبوق بالعدم، فقد يقرب الاستدلال بالاستصحاب، باعتبار
المرتبة الأولى وقد يقرب باعتبار المرتبة الثانية.
أما تقريب الاستدلال باعتبار المرتبة الأولى، فهو ان الأحكام الشرعية
لما كانت في جعلها تدريجية، فالحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولا في زمان قطعا
فتستصحب ذلك ما لم يحصل اليقين بجعله. وأورد على هذا التقريب بايرادين:
(أحدهما) - أن عدم الجعل المتيقن عدم محمولي، والعدم المشكوك فيه
هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع، ولا يمكن اثبات العدم النعتي باستصحاب
العدم المحمولي الا على القول بالأصل المثبت. و (بعبارة أخرى) العدم المتيقن
هو العدم قبل الشرع والشريعة، وهو غير منتسب إلى الشارع. والعدم
المشكوك فيه هو العدم المنسوب إلى الشارع بعد ورود الشرع من قبله،
فالمتيقن غير محتمل البقاء، و ما هو مشكوك الحدوث لم يكن متيقنا سابقا.
وفيه ان المستصحب انما هو العدم المنتسب إلى الشارع بعد ورود الشرع
لما عرفت من أن جعل الاحكام كان تدريجيا، فقد مضى من الشريعة زمان
لم يكن الحكم المشكوك فيه مجعولا يقينا، فيستصحب ذلك، مع أن الانتساب
يثبت بنفس الاستصحاب.
(ثانيهما) - ان المحرك للعبد - أعني الباعث أو الزاجر له - إنما هو
التكليف الفعلي لا الانشائي، فالحكم الانشائي مما لا يترتب عليه اثر. ومن الواضح
انه لا يمكن إثبات عدم التكليف الفعلي باستصحاب عدم الجعل، إلا على القول
بالأصل المثبت.
289

وفيه (أولا) - النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي لا خلاف
في جريانه فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت، كان
اثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضا كذلك.
و (ثانيا) - ان الانشاء هو ابراز امر اعتباري على ما ذكرناه غير مرة والاعتبار
كما يمكن تعلقه بأمر فعلى يمكن تعلقه بأمر متأخر مقيد بقيود، فليس جعل الحكم
وإنشاؤه الا عبارة عن اعتبار شئ على ذمة المكلف في ظرف خاص. ويتحقق
المعتبر بمجرد، الاعتبار، بل هما امر واحد حقيقة. والفرق بينهما اعتباري كالوجود
والايجاد، فاحكم الفعلي هو الحكم الانشائي مع فرض تحقق قيوده المأخوذة
فيه. وعليه فاستصحاب الحكم الانشائي أو عدمه هو استصحاب الحكم الفعلي
أو عدمه. نعم مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار لا يترتب عليه وجوب الإطاعة
بحكم العقل قبل تحقق موضوعه بقيوده في الخارج، وليس ذلك إلا من جهة ان
الاعتبار قد تعلق بظرف وجود الموضوع على نحو القضية الحقيقية من أول الامر
فمع عدم تحقق الموضوع لا يكون حكم وتكليف على المكلف. وبعد تحقق
الموضوع بقيوده خارجا لا يكون المحرك إلا نفس الاعتبار السابق لا امر آخر
يسمى بالحكم الفعلي.
فتحصل بما ذكرناه ان الاستدلال بالاستصحاب على هذا التقريب مما
لا بأس به. وعليه فلا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية.
(إن قلت) ان استصحاب عدم جعل الالزام معارض باستصحاب عدم
جعل الترخيص، فانا نعلم اجمالا بجعل أحد الامرين، فيسقطان بالمعارضة ويرجع
حينئذ إلى البراءة.
(قلت) أولا يمكن المنع عن العلم الاجمالي بثبوت أحد الجعلين في خصوص
المورد المشكوك فيه، لاحتمال ان يكون الترخيص الشرعي ثابتا بعنوان عام
290

لكل مورد لم يجعل الالزام فيه بخصوصه، كما كان عمل الأصحاب على ذلك في صدر
الاسلام، ويستفاد أيضا من ردعه صلى الله عليه وآله أصحابه عن كثرة السؤال على ما في
روايات كثيرة. وعليه فيكون استصحاب عدم جعل الالزام مثبتا لموضوع
الترخيص، فيكون حاكما على استصحاب عدم جعل الترخيص.
و (ثانيا) - لا مانع من جريان كلا الاستصحابين بعد ما لم يلزم منه
مخالفة عملية للتكليف الإلزامي، فإذا ثبت عدم جعل الالزام وعدم الترخيص بمقتضى
الاستصحابين، كفى ذلك في نفي العقاب، لان استحقاقه مترتب على ثبوت
المنع، ولا يحتاج نفيه إلى ثبوت الترخيص، فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب
ولو لم يثبت الترخيص. نعم الآثار الخاصة المترتبة على عنوان الإباحة لا تترتب
على استصحاب عدم جعل الالزام، فإذا فرض مورد كان الأثر الشرعي مترتبا
على الإباحة لا مناص فيه من الرجوع إلى أصالة الإباحة، ولا يكفي فيه الرجوع
إلى استصحاب عدم المنع كما هو ظاهر.
(ان قلت) لا يصح التمسك باستصحاب عدم الجعل في الشبهات
الموضوعية، لان مورد الشبهة لم يجعل له الحكم بشخصه يقينا. واما الطبيعي
المشكوك انطباقه على المورد فثبوت الحكم له يقيني، فلا مورد للاستصحاب
أصلا، فإذا شككنا في كون مائع معين خمرا، فالمائع المذكور لم تجعل الحرمة
له بشخصه ولا الإباحة، وثبوت الحرمة لطبيعي الخمر كثبوت الإباحة لطبيعي
الماء يقيني، فكيف يصح التمسك باستصحاب عدم الجعل.
(قلت) أولا ان الاحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقة تنحل إلى احكام
متعددة بحسب تعدد افراد موضوعاتها، كما هو مبنى جريان البراءة في الشبهات
الموضوعية، إذ بدونه لا يكون هناك حكم مجهول ليرفع بالبراءة. وعليه
فيكون الشك في خمرية مائع مستلزما للشك في جعل الحرمة له، فيرجع إلى
291

استصحاب عدم الجعل كما في الشبهة الحكمية.
و (ثانيا) - انه لو سلم عدم جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهة
الموضوعية لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب الموضوعي إما محموليا كما في
كثير من الموارد، وإما أزليا كما في بعضها. وقد ذكرنا في محله جريان
الاستصحاب في الاعدام الأزلية.
واما تقريب الاستدلال بالاستصحاب باعتبار المرتبة الثانية للحكم وهي
المترتبة الفعلية فهو استصحاب عدم التكليف الفعلي المتيقن قبل البلوغ. وقد
أورد على هذا التقريب بوجوه:
(الوجه الأول) - انه يعتبر في الاستصحاب ان يكون المستصحب بنفسه أو
بأثره مجعولا شرعيا، ويكون وضعه ورفعه بيد الشارع، وعدم التكليف أزلي
غير قابل للجعل، وليس له اثر شرعي فان عدم العقاب من لوازمه العقلية،
فلا يجري فيه الاستصحاب. ونسب صاحب الكفاية (ره) في التنبيه الثامن
من تنبيهات الاستصحاب هذا الايراد إلى الشيخ (ره).
أقول اما نسبة هذا الايراد إلى الشيخ (ره) فالظاهر أنها غير مطابقة
للواقع، لان الشيخ (ره) قائل بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية، كما
صرح بذلك في عدة موارد من الرسائل و المكاسب، وذكر أيضا -
في جملة التفصيلات في جريان الاستصحاب - التفصيل بين الوجود والعدم، ورده
بأنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين الوجود والعدم و (بالجملة) الشيخ وان كان
قائلا بعدم صحة الاستدلال على البراءة بالاستصحاب، إلا أنه ليس لأجل هذا
الايراد الذي ذكره صاحب الكفاية (ره) ونسبه إليه. وسيجئ بيان ايراد الشيخ
(رحمه الله) على الاستصحاب المذكور قريبا إن شاء الله تعالى.
واما أصل الايراد المذكور، فيرده ان اعتبار كون المستصحب أمرا
292

مجعولا بنفسه أو بأثره مما لم يدل عليه دليل من آية ولا رواية، انما المعتبر في
الاستصحاب ان يكون المستصحب قابلا للتعبد الشرعي. ولا خفاء في أن عدم
التكليف كوجوه قابل للتعبد، وتوهم - انه لا بد من أن يكون المستصحب
قابلا للتعبد حدوثا والعدم الأزلي لا يكون حادثا - مدفوع بأن المعتبر كونه
قابلا للتعبد عند جريان الاستصحاب وفي ظرف الشك، فيكفي كون المستصحب
قابلا للتعبد بقاء، وان لم يكن قابلا له حدوثا. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلا
في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
(الوجه الثاني) - ما افاده شيخنا الأنصاري (ره) وملخصه ان استصحاب
البراءة لو كان موجبا للقطع بعدم العقاب صح التمسك به، وإلا فلا، إذ مع
بقاء احتمال العقاب بعد جريان الاستصحاب لا مناص من الرجوع إلى قاعدة قبح
العقاب بلا بيان، لسد باب هذا الاحتمال، ومعه كان التمسك بالاستصحاب
لغوا محضا، لان التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كاف في سد باب احتمال
العقاب من أول الامر، بلا حاجة إلى التمسك بالاستصحاب. وعليه فان بنينا علي
كون الاستصحاب من الامارات أو قلنا بحجية مثبتات الأصول، حصل منه
القطع بعدم العقاب وصح التمسك به، إذ عدم المنع من الفعل الثابت
بالاستصحاب مستلزم للرخصة في الفعل، فإذا فرض ثبوت الرخصة من قبل
الشارع بالتعبد الاستصحابي باعتبار كونها من لوازم عدم المنع المستصحب لم
يحتمل العقاب، فان العقاب على الفعل مع الترخيص فيه غير محتمل قطعا. واما
لو لم نقل بكون الاستصحاب من الامارات ولا بحجية مثبتات الأصول كما هو
الصحيح، فلا يصح التمسك بالاستصحاب في المقام، إذ لا يثبت به الترخيص
الموجب للقطع بعدم العقاب، ويبقى احتمال العقاب، فنحتاج إلى قاعدة قبح العقاب
بلا بيان. ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغوا كما تقدم.
و (فيه أولا) - ان استصحاب عدم المنع كاف في القطع بعدم العقاب،
293

إذ العقاب من لوازم المنع عن الفعل وتحريمه، فمع احراز عدم المنع عن الفعل
بالاستصحاب نقطع بعدم العقاب، بلا حاجة إلى احراز الرخصة التي هي من لوازم
عدم المنع ليكون مثبتا.
و (ثانيا) - انه يمكن جريان الاستصحاب في نفس الترخيص الشرعي
المتيقن ثبوته قبل البلوغ، لحديث رفع القلم وأمثاله، فيحصل منه القطع بعدم
العقاب بلا واسطة شئ آخر.
(الوجه الثالث) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو ان المتيقن الثابت
قبل البوغ انما هو عدم التكليف في مورد غير قابل له، كما في الحيوانات.
ومثل ذلك لا يحتمل بقاؤه بعد البلوغ، وانما المحتمل فيه عدم التكليف في
المورد القابل له، فلا معنى للتمسك بالاستصحاب. و (بعبارة أخرى) العدم
الثابت قبل البلوغ عدم محمولي وغير منتسب إلى الشارع، والعدم بعد البلوغ
عدم نعتي منتسب إلى الشارع، واثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي
مبني على القول بالأصل المثبت. ولا نقول به.
وفيه (أولا) - ان عدم التكليف في الصبي غير المميز وان كان كما ذكره
الا انه ليس كذلك في المميز، بل هو عدم التكليف في مورد قابل له. وانما
رفعه الشارع عنه امتنانا.
و (ثانيا) - أن العدم المتيقن وان كان أزليا غير منتسب إلى الشارع،
الا انه يثبت انتسابه إليه بنفس الاستصحاب، فان الانتساب من الآثار المترتبة
على نفس الاستصحاب، لامن آثار المستصحب، ليكون اثباته بالاستصحاب
مبنيا على القول بالأصل المثبت. وسنذكر في بحث الاستصحاب ان اللوازم التي
لا تثبت بالاستصحاب انما هي اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب. وأما
اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب فهي تترتب عليه، إذ الاستصحاب بعد جريانه
294

محرز بالوجدان، فتترتب آثاره ولوازمه عليه عقلية كانت أو شرعية.
(الوجه الرابع) - ما افاده أيضا المحقق النائيني (ره) وهو انه يعتبر في
جريان الاستصحاب ان يكون الأثر المطلوب مترتبا على واقع المستصحب، واما
ان كان مترتبا على مجرد الشك في الواقع أو على الأعم منه ومن الواقع، فلا مجال
لجريان الاستصحاب. (مثلا) لو كان التشريع المحرم عبارة عن ادخال ما لم يعلم أنه
من الدين في الدين، أو الأعم منه ومن ادخال ما ليس من الدين في الدين
فمجرد الشك في كون شئ من الدين كاف في الحكم بحرمة اسناده إلى الشارع
فاجراء استصحاب عدم كونه من الدين لاثبات حرمة الاسناد تحصيل للحاصل،
بل من أردأ أنحائه، فإنه من قبيل احراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد. والمقام
من هذا القبيل بعينه، إذ الأثر المرغوب من استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ
ليس الا عدم العقاب، وهذا مترتب على نفس الشك في التكليف، لقاعدة
قبح العقاب بلا بيان، فلا نحتاج إلى احراز عدم التكليف بالاستصحاب.
وفيه ان ما ذكر انما يتم لو كان الأثر مترتبا على خصوص الشك. وأما
ان كان الأثر اثرا للجامع بينه وبين الواقع، فلا مانع من جريان الاستصحاب
إذ بجريانه يصل الواقع إلى المكلف، ويرفع الشك تعبدا، فلم يبق معه شك
ليلزم تحصيل الحاصل أو أردأ أنواعه. نعم لو لم يجر الاستصحاب كان الشك
موجودا فيترتب عليه الأثر.
و (بالجملة) ترتب الأثر على الشك فرع عدم جريان الاستصحاب،
فكيف يكون مانعا عن جريانه، ولذا لا اشكال في جعل الامارة ونصبها على
عدم حرمة شئ مع أن أصالة الحل كافية لاثباته. وكذا لا اشكال في التمسك
باستصحاب الطهارة المتيقنة، مع أن قاعدة الطهارة بنفسها كافية لا ثباتها.
والمقام من هذا القبيل بعينه،. وبعبارة أخرى واضحة: قاعدة قبح
العقاب بلا بيان متوقفة على تحقق موضوعها أعني عدم البيان، فكما انها لا تجري
295

مع بيان التكليف لا تجرى مع بيان عدم التكليف، والاستصحاب بيان لعدمه
فلا يبقى معه موضوع لها.
(الوجه الخامس) - ما يظهر من كلام الشيخ (ره) وهو انه يعتبر في
جريان الاستصحاب اتحاد الفضية المتيقنة والمشكوكة، ليصدق نقض اليقين
بالشك عند عدم ترتيب الأثر حين الشك، فإنه مع عدمه كان اثبات حكم المتيقن
للمشكوك من اسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وذلك داخل في
القياس لا في الاستصحاب، وفي المقام لا اتحاد للقضية المتيقنة والمشكوكة من
حيث الموضوع، إذ الترخيص المتيقن ثابت لعنوان الصبي على ما هو ظاهر
قوله عليه السلام: رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وهو مرتفع بارتفاع موضوعه
والمشكوك فيه هو الترخيص لموضوع آخر، وهو البالغ، فلا مجال
لجريان الاستصحاب.
والانصاف ان هذا الاشكال وارد على الاستدلال بالاستصحاب في المقام
وتوضيحه ان العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام على ثلاثة اقسام:
(الأول) - ان يكون العنوان مقوما للموضوع بنظر العرف، بحيث
لو ثبت الحكم مع انتفاء العنوان عد حكما جديدا لموضوع آخر، لابقاء الحكم
للموضوع الأول، كما في جواز التقليد، فان موضوعه العالم، ولو زال عنه
العلم وصار جاهلا يكون موضوعا آخر، إذ العلم مقوم لموضوع جواز التقليد
في نظر العرف، وفي مثل ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب، لعدم صدق
نقص اليقين بالشك على عدم ترتيب الأثر السابق حين الشك، فلا يكون
مشمولا لأدلة الاستصحاب.
(الثاني) - ان يكون العنوان من الحالات وغير دخيل في قوام الموضوع
في نظر العرف، كما إذا قال المولى أكرم هذا القائم مثلا، فان العرف يرى القيام
296

والقعود من الحالات، بحيث لو ثبت وجوب الاكرام حال جلوسه كان بقاء للحكم
الأول، لا حدوث حكم جديد لموضوع آخر. ولا اشكال في جريان
الاستصحاب في هذا القسم لو فرض الشك في بقاء الحكم.
(الثالث) - ان يشك في كون العنوان مقوما للموضوع وعدمه،
كعنوان التغير المأخوذ في نجاسة الماء المتغير، فبعد زوال التغير يشك في بقاء
النجاسة، لعدم العلم بأن التغيير مقوم لموضوع الحكم بالنجاسة أو من قبيل
الحالات. و (بعبارة أخرى) يشك في أن حدوث التغيير هل هو علة لحدوث
النجاسة للماء وبقائها، بحيث لا يكون بقاؤها منوطا ببقائه. أو علة لحدوث
النجاسة فقط؟، بحيث تكون النجاسة دائرة مدار التغيير حدوثا وبقاء، أي
وجودا وعدما. ولا يجري الاستصحاب في هذا القسم كما في القسم الأول،
إذ مع الشك في بقاء الموضوع لم يحرز اتحاد القضيتين، فلم يحرز صدق نقض
اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، فيكون التمسك بأدلة
الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
إذا عرفت ذلك، ظهر لك عدم صحة التمسك بالاستصحاب في المقام،
لأن عنوان الصبي المأخوذ في الحكم بالترخيص في قوله صلى الله عليه وآله: (رفع القلم عن
الصبي حتى يحتلم) مقوم للموضوع في نظر العرف، ولا أقل من احتمال ذلك،
ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بعد زواله بعروض البلوغ.
(أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط)
وهي أمور ثلاثة: (الأول) الآيات الكريمة: (فمنها) - الناهية عن
القبول بغير العلم، كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) و (منها) - الناهية
297

عن القاء في التهلكة، كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
و (منها) - الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: (واتقوا الله ما استطعتم) ولا يتم
الاستدلال بشئ منها.
(اما الأولي) - فلان حرمة القول بغير العلم مما لا خلاف فيه بين
الأخباريين والأصوليين، فان الأصولي يعترف بأن القول بالترخيص إذا لم يكن
مستندا إلى دليل فهو تشريع محرم، ولكنه يدعي قيام الدليل عليه كما أن
الاخباري الفائل بوجوب الاحتياط أيضا يعترف بأن القول - بوجوب الاحتياط
من غير دليل عليه - تشريع محرم، ويدعي قيام الدليل عليه، فهذه الآية
الكريمة الدالة على حرمة القول بغير العلم الجنبية عن المقام.
و (اما الثانية) - الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة، فلانه ان أريد
بها التهلكة الدنيوية، فلا شك في أنه ليس في ارتكاب الفعل مع الشك في
حرمته احتمال الهلكة، فضلا عن القطع بها. وان أريد بها التهلكة الأخروية
أعني العقاب، فكان الحكم بترك القاء النفس فيها إرشاديا محضا، إذ لا يترتب
على ايقاع النفس في العقاب الأخروي عقاب آخر، كي يكون النهي عنه مولويا
مضافا إلى أن الأصولي يرى ثبوت المؤمن من العقاب. فلا اثر لهذا النهي.
و (اما الثالثة) - الآمرة بالتقوى، فلان ارتكاب الشبهة استنادا إلى
ما يدل على الترخيص شرعا وعقلا ليس منافيا للتقوى. هذا ان كان المراد
بالتقوى هو التحفظ عن ارتكاب ما يوجب استحقاق العقاب. واما لو كان المراد بها
التحفظ عن الوقوع في المفاسد الواقعية فهو غير واجب قطعا ولذا اتفق الأخباريون
والأصوليون على جواز الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية، بل وفي
الحكمية أيضا ان كانت وجوبية، فكانت الآية الشريفة محمولة على
الارشاد لا محالة.
298

(الثاني) - الاخبار وهي طائفتان: (الطائفة الأولى) - الأخبار الآمرة
بالتوقف عند الشبهة، كقوله عليه السلام في عدة روايات: (الوقوف عند الشبهة خير
من الاقتحام في الهلكة) ونظير هذه الروايات اخبار التثليث كقوله عليه السلام:
(الأمور ثلاثة: امر بين لك رشد فاتبعه، وامر بين غيه فاجتنبه، وامر
اختلف فيه فرده إلى الله). والانصاف انه لا دلالة لهذه الأخبار على وجوب
الاحتياط لوجهين:
(الوجه الأول) - ان المذكور فيها هو عنوان الشبهة، وهو ظاهر فيما
يكون الامر فيه ملتبسا بقول مطلق، فلا يعم ما علم فيه الترخيص الظاهري،
لان أدلة الترخيص تخرجه عن عنوان المشتبه، وتدرجه في معلوم الحلية. ويدل
على ما ذكرناه من اختصاص الشبهة بغير ما علم فيه الترخيص ظاهرا، انه
لا اشكال ولا خلاف في عدم وجوب التوقف في الشبهات الموضوعية، بل في
الشبهة الحكمية الوجوبية بعد الفحص، فلو لا ان أدلة الترخيص أخرجتها عن
عنوان الشبهة، لزم التخصيص في اخبار التوقف، ولسانها آب عن التخصيص
وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله عليه السلام: (الوقوف عند الشبهة خير
من الاقتحام في الهلكة)؟
(الوجه الثاني) - ان الامر بالتوقف فيها للارشاد، ولا يمكن ان يكون
أمرا مولويا يستتبع العقاب، إذ علل التوقف فيها بأنه خير من الاقتحام في
الهلكة، ولا يصح هذا التعليل الا ان تكون الهلكة مفروضة التحقق في
ارتكاب الشبهة مع قطع النظر عن هذه الأخبار الآمرة بالتوقف. ولا يمكن
ان تكون الهلكة المعللة بها وجوب التوقف مترتبة على نفس وجوب التوقف
المستفاد من هذه الأخبار كما هو ظاهر، فيختص موردها بالشبهة قبل الفحص
والمقرونة بالعلم الاجمالي.
299

و (بالجملة) التعليل ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار
، فلا يمكن اثبات وجوب الاحتياط بنفس هذه الأخبار كما هو
مقصود الاخباري.
(ان قلت) انما يلزم حمل الامر على الارشاد لو كان المراد بالهلكة العقاب
وأما لو أريد بها المفسدة الواقعية، أمكن ان يكون الامر بالتوقف أمرا مولويا
ومع امكان ذلك لا يصح الحمل على الارشاد، وحينئذ كانت هذه الروايات
كافية في تنجيز التكليف الواقعي واستحقاق العقاب على مخالفته، لأنها حينئذ
تكون إيصالا له.
(قلت): حمل الهلكة على المفسدة الواقعية - مع كونه خلاف الظاهر في
نفسه - يستلزم التخصيص في الشبهات الموضوعية. وقد عرفت ان الروايات آبية
عن التخصيص، فلا مناص من حمل الهلكة على العقاب، كما هو الظاهر في نفسه
ومعه كان الامر بالتوقف ارشاديا لا محالة.
(لا يقال): سلمنا كون التعليل ظاهرا في ثبوت الاحتياط، مع قطع
النظر عن هذه الأخبار، إلا ان عموم الشبهات لما هو محل الكلام يكشف عن
جعل وجوب الاحتياط قبل الامر بالتوقف الموجود في هذه الأخبار، فيكون
التنجيز لأجله، لا لأجل وجوب التوقف.
(فإنه يقال): إيجاب الاحتياط لو كان واصلا مع قطع النظر عن اخبار
التوقف فهو خلاف المفروض، مضافا إلى أنه لا معنى حينئذ لان تكون اخبار
التوقف كاشفة عنه، بل يستحيل ذلك، وان لم يكن واصلا امتنع تنجز الواقع
به، فان الايجاب الطريقي لا يزيد على الايجاب الواقعي في استحالة الانبعاث
عنه قبل وصوله، فكما ان الوجوب الواقعي لا يكفي في التنجز قبل الوصول
كذلك الوجوب الطريقي. وعليه كان مورد اخبار التوقف مثل الشبهات قبل
300

الفحص، أو المقرونة بالعلم الاجمالي مما كان الواقع فيه منجزا، مع قطع النظر
عن هذه الأخبار.
هذا وأجاب شيخنا الأنصاري (ره) عن هذا الاشكال بأن ايجاب
الاحتياط لا يكفي في تنجيز الواقع المجهول لأنه ان كان وجوبه نفسيا فالعقاب
يكون على مخالفة نفسه لا على مخالفة الواقع، وان كان غيريا فلازمه ثبوت العقاب
على مخالفة التكليف الواقعي، مع فرض عدم وصوله.
ويرد عليه ان الوجوب غير منحصر في القسمين، فان وجوب الاحتياط
على تقدير ثبوته طريقي، وبه يتنجز الواقع.
وبما ذكرناه ظهر الجواب عن اخبار التثليث، فان ما ثبت فيه الترخيص
ظاهرا من قبل الشارع داخل في ما هو بين رشده، لا في المشتبه كما هو الحال
في الشبهات الموضوعية. و (بالجملة) المشكوك حرمته كالمشكوك نجاسته، وكما
أن الثاني غير مشمول لهذه الأخبار كذلك الأول. والملاك في الجميع ثبوت
الترخيص المانع من صدق المشتبه على المشكوك فيه حقيقة، وان صح اطلاقه عليه
بالعناية باعتبار التردد في حكمه الواقعي.
(الطائفة الثانية) - الأخبار الآمرة بالاحتياط، كقوله عليه السلام: (أخوك
دينك فاحتط لدينك) وقوله عليه السلام: (خذ بالحائطة لدينك) وغير ذلك من
الروايات الواردة في هذا المعنى. والصحيح عدم دلالة هذه الأخبار أيضا على
وجوب الاحتياط في المقام، لوجهين:
(الوجه الأول) - ان حسن الاحتياط مما استقل به العقل. وظاهر هذه الأخبار
هو الارشاد إلى هذا الحكم العقلي، فيكون تابعا لما يرشد إليه، وهو
يختلف باختلاف الموارد، ففي بعضها كان الاحتياط واجبا كما في الشبهة قبل
الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، وفي بعضها كان مستحبا كما في الشبهة البدوية بعد
301

الفحص، وهي محل الكلام فعلا.
(الوجه الثاني) - ان هذه الأخبار باطلاقها تعم الشبهة الموضوعية والشبهة
الحكمية الوجوبية، مع أن الاحتياط فيها غير واجب قطعا، فلا بد حينئذ
من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب أو الالتزام فيها بالتخصيص، وحيث إن
لسانها آب عن التخصيص كما ترى. فتعين حملها على الاستحباب أو على مطلق
الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب، فلا يستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة
البدوية بعد الفحص، وهي محل الكلام.
ثم إنه لو سلم دلالة اخبار التوقف أو الاحتياط على وجوب الاحتياط في
الشبهة التحريمية، فهي لا تعارض أدلة البراءة. وذلك لأن استصحاب
عدم جعل الحرمة - بناء على جريانه، وهو الصحيح على ما تقدم بيانه - يكون
رافعا لموضوع هذه الأخبار، إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب، فيتقدم
عليها لا محالة. وكذا اخبار البراءة بعد تماميتها تتقدم على هذه الأخبار،
لكونها أخص منها، فان اخبار البراءة لا تعم الشبهة قبل الفحص، ولا المقرونة
بالعلم الاجمالي اما في نفسها، أو من جهة الاجماع وحكم العقل، بل بعضها
مختص بالشبهات التحريمية، كقوله عليه السلام (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي)
بخلاف اخبار التوقف والاحتياط، فإنها شاملة لجميع الشبهات، فيخصص بها.
وقد يتوهم الاطلاق في أدلة البراءة، وانها شاملة في نفسها لجميع الشبهات
غاية الأمر أنها مخصصة بحكم العقل أو بالاجماع فلا وجه لتقدمها على أدلة التوقف
والاحتياط ولكنه (مدفوع) بأن المانع عن شمول أدلة البراءة لتلك الموارد
ان كان حكم العقل باستحالة شمولها لها، فحالة حال المخصص المتصل في منعه عن
انعقاد الظهور في العموم أو الاطلاق من أول الامر، وان كان هو الاجماع،
فحالة حال المخصص المنفصل. والمختار فيه القول بانقلاب النسبة على ما سيجئ
302

تفصيل الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.
ثم إن هنا وجها آخر لتقديم أخبار البراءة على خصوص أخبار الاحتياط
وهو ان اخبار البراءة كقوله عليه السلام: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) نص
في عدم وجوب الاحتياط، واخبار الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها ظاهرة
في وجوبه. والجمع العرفي يقتضى رفع اليد عن ظهور الامر في الوجوب بسبب
النص. وحمله على الرجحان الجامع بين الوجوب والندب. وهذا الوجه لا يجرى
بالنسبة إلى اخبار التوقف، لان العلة المذكورة فيها وهي الوقوع في الهلكة
تجعلها نصا في عدم جواز الاقتحام، إلا أنه قد ذكرنا قصورها عن الدلة على
الحكم المولوي في نفسها.
ثم انه ربما يتوهم ان اخبار التوقف والاحتياط - على تقدير تمامية دلالتها
- تتقدم على اخبار البراءة، لان المرفوع بحديث الرفع ونحوه هو ما لا يعلم
من الاحكام، ووجوب الاحتياط بناء على استفادته من الاخبار معلوم. فهو
خارج عن أدلة البراءة موضوعا.
وهو مدفوع بأنه انما يتم ذلك لو كان وجوب الاحتياط نفسيا. وأما
لو كان وجوبه طريقيا كما هو المفروض، فالمترتب عليه هو لزوم امتثال الحكم
الواقعي المجهول. وحديث الرفع يرفعه، فتقع المعارضة بين الدليلين لا محالة
وقد عرفت تقدم حديث الرفع وأمثاله على أدلة التوقف والاحتياط.
(الثالث) - مما استدل به على وجوب الاحتياط - حكم العقل
وتقريبه بوجوه:
(الأول) - ان كل مسلم يعلم اجمالا في أول بلوغه بتكاليف الزامية،
وهذا العلم الاجمالي ينجز التكاليف الواقعية على تقدير ثبوتها، و ليست الطرق
والامارات رافعة لتنجزها، إذ لا بد في انحلال العلم الاجمالي من ثبوت دليل
303

يدل على نفي التكليف في بعض الأطراف. إما مطابقة أو التزما، والطرق
والامارات انما تثبت أحكاما في مواردها، وليس لها تعرض لنفي احكام
اخر في غير مواردها، فالتنجز يبقى على حاله، فإذا علمنا إجمالا بوجوب الصلاة
مرددة بين الظهر والجمعة، كان قيام الأمارة على أحدهما نافيا لوجوب الآخر
بالالتزام، فينحل به العلم الاجمالي لا محالة. وأما ان كان المعلوم بالاجمال
أحكاما كثيرة لا تعين لها، فقيام الدليل على ثبوت أحكام في موارد
خاصة لا ينفي ثبوت الحكم في غيرها فلا ينحل العلم الاجمالي، ولا يرد على
هذا التقريب ما ذكره في الكفاية من أن قيام الأمارة على التكليف في بعض
الأطراف يوجب صرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف مثلا إذا على بحرمة
إناء زيد، وتردد بين إناءين، ثم قامت البينة على أن أحدهما المعين إناؤه،
كان كما إذا علم أنه إناؤه. وذلك لوجود الفرق الواضح بين مقامنا وبين المثال
المذكور، إذ المعلوم بالاجمال في المثال امر معين خاص، فقيام الامارة على
تعيينه في أحد الطرفين ينفي كونه في الطرف الآخر بالالتزام. وهذا بخلاف
المقام، فان المعلوم بالاجمال فيه احكام لا تعين لها بوجه، وليس لها عنوان
و علامة، فقيام الامارة على ثبوت التكاليف في بعض الموارد لا ينفي ثبوته
في غيرها.
هذا، ويمكن ان يجاب عن هذا الاستدلال (أولا) - بالنقض
بالشبهات الوجوبية والموضوعية، فان هذا العلم لو كان مانعا عن الرجوع إلى
البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية، كان مانعا عن الرجوع إليها فيها أيضا،
مع أن الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيها، و (ثانيا) - بالحل وهو
ان العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ينحل بقيام الامارات على تكاليف إلزامية
بمقدار المعلوم بالاجمال.
وتوضحه ان لما هنا ثلاثة علوم اجمالية: (الأول) - العلم الكبير،
304

وأطرافه جميع الشبهات مما يحتمل التكليف، ومنشأه العلم بالشرع الأقدس، إذ
لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأسا. (الثاني) - العلم الاجمالي المتوسط
وأطرافه موارد قيام الامارات المعتبرة وغير المعتبرة، ومنشأه كثرة الامارات
والقطع بمطابقة بعضها للواقع، فانا لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع. (الثالث)
- العلم الاجمالي الصغير وأطرافه موارد قيام الامارات المعتبرة، ومنشأه القطع
بمطابقة مقدار منها للواقع. وحيث إن العلم الاجمالي الأول ينحل بالعلم الاجمالي
الثاني، والثاني بالثالث فلا يتنجز التكليف في غير مؤديات الطرق والامارات
المعتبرة والميزان في الانحلال ان لا يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير
أقل عددا من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير، بحيث لو أفرزنا من أطراف
العلم الاجمالي الكبير مقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير، لم يبق
لنا علم اجمالي في بقية الأطراف (مثلا) إذا علمنا اجمالا بوجود خمس شياه
مغصوبة في قطيع من الغنم، و علمنا أيضا بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة
البيض من هذا القطيع، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأول بالعلم الاجمالي الثاني
فانا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا علم اجمالي بمغصوبية البقية، لاحتمال انطباق
المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي
الصغير، بخلاف ما لو علمنا إجمالا بوجود ثلاث شياه محرمة في جملة
البيض من القطيع. فان العلم الاجمالي الأول لا ينحل بالعلم الثاني، إذ لو
أفرزنا ثلاث شياه بيض، بفي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله، لان
انطباق الخمس على الثلاث غير معقول وعليه فلا ينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي
الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط، إذ المعلوم بالاجمال في الأول لا يزيد عددا على
المعلوم بالاجمال في الثاني لأن منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع
لوجود احكام وتكاليف ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الامارات
وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث، لأنا لو أفرزنا مقدارا
305

من أطراف العلم الثالث، اي الأخبار المعتبرة في كل باب من أبواب الفقه،
بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، لم يبق لنا علم
اجمالي بوجود التكاليف في غيره، ولو مع ضم سائر الامارات، بل وجود
التكاليف في غيره مجرد احتمال، فيستكشف بذلك ان المعلوم بالاجمال في العلم
الثاني لا يزيد عددا على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، فينحل العلم الثاني
بالعلم الثالث لا محالة.
ثم إن ما ذكرناه من الانحلال مبني على العلم الوجداني بمطابقة الامارات
المعتبرة للواقع، بمقدار ما علم اجمالا ثبوته في الشريعة المقدسة من التكاليف،
على ما تقدم بيانه. وهذا الأمر وإن كان صحيحا، إلا أنه لو منع منه القائل
بوجوب الاحتياط، وادعى عدم العلم بمطابقة الامارات للواقع بمقدار المعلوم
بالاجمال في العلم الاجمالي الأول، فنحن ندعي الانحلال حتى مع عدم العلم
الوجداني بمطابقة الامارات المعتبرة للواقع.
وتوضيح ذلك أن العلم الاجمالي متقوم دائما بقضية منفصلة مانعة الخلو،
ففي العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين يصدق قولنا إما هذا الاناء نجس واما
ذاك، وقد يحتمل نجاستهما معا، والمدار في تنجيز العلم الاجمالي على هذا
الترديد حدوثا وبقاء، فإذا فرضنا أن القضية المنفصلة انقلبت إلى قضيتين حمليتين
إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبدي، والأخرى مشكوكة بنحو الشك الساري
فلا محالة ينحل العلم الاجمالي ويسقط عن التنجيز. والسر في ذلك أن تنجيز العلم
الاجمالي ليس أمرا تعبديا، وإنما هو بحكم العقل لكاشفيته عن التكليف،
كالعلم التفصيلي، فإذا زالت كاشفيته بطرو الشك الساري، زال التنجيز
لا محالة، كما هو الحال في العلم التفصيلي بعينه. ولا ينتقض ذلك بما إذا علم
بحدوث تكليف جديد في أحد الأطراف معينا، ولا بطرو الاضطرار إلى بعض
306

الأطراف أو تلفه أو امتثال التكليف فيه، فان العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي
في جميع هذه الفروض باق على حاله، غاية الامر انه بتحقق أحد هذه الأمور
يشك في سقوطه، فلا بد من الاحتياط وتحصيل العلم بسقوطه، فان الاشتغال
اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، بخلاف ما إذا زال العلم الاجمالي بطرو الشك
الساري، وانقلبت القضية المنفصلة إلى حمليتين أحدا هما متيقنة ولو باليقين التعبدي
والأخرى مشكوكة بالشك الساري، فان التنجيز يسقط فيه بانحلال العلم
الاجمالي لا محالة.
أما على القول بان المجعول في باب الامارات هو نفس الطريقية والمحرزية
فالامر واضح، لأن قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبدا. وكما تنقلب
القضية المنفصلة إلى حمليتين بالعلم الوجداني، كذلك تنقلب إليهما بالعلم التعبدي
فقيام الأمارة على ثبوت التكليف بمقدار المعلوم بالاجمال يوجب انحلال العلم
الاجمالي لا محالة.
وأما على القول بان المجعول في باب الامارات هي المنجزية والمعذرية
فقد يستصعب الانحلال، وهو في محله لو قلنا باشتراط منجزية الامارات
بالوصول، بمعنى ان المنجز هي الامارات الواصلة إلى المكلف لا الامارات
بوجودها الواقعي، لان العلم الاجمالي الموجود في أول البلوغ قد اثر اثره من
تنجيز التكاليف الواقعية، وقيام منجز آخر بعد ذلك على الحكم في بعض
الأطراف لا يوجب سقوط المنجز السابق. نعم ان قلنا - وهو الصحيح - بأن
مجرد كون الامارة في معرض الوصول بمعنى كون الامارة بحيث لو تفحص عنها
المكلف وصل إليها - كاف في التنجيز انحل العلم الاجمالي، فان المكلف في أول
بلوغه - حين يلتفت إلى وجود التكاليف في الشريعة المقدسة - يحتمل وجود
أمارات دالة عليها، فيتنجز عليه مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال، وحيث إن
307

هذا الاحتمال مقارن لعلمه الاجمالي بالتكاليف، فلا يكون علمه منجزا لجميع
أطرافه، لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجز مقارن له. نظير ما لو علمنا
بوقوع نجاسة في أحد الإناءين وعلمنا بنجاسة أحدهما المعين مقارنا لذلك العلم
الاجمالي فإنه لا ينجز حينئذ أصلا، والسر فيه ان تنجيز العلم الاجمالي انما هو بتساقط
الأصول في أطرافه للمعارضة. وفي مفروض المثال يجرى الأصل في الطرف المشكوك
فيه بلا معارض ولذا ذكرنا في محله انه لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتا
للتكليف وفي بعضها الآخر نافيا له لا يكون العلم الاجمالي منجزا.
ومما ذكرناه ظهر الحال وصحة الانحلال على القول بالسببية في باب
الامارات، وأن المجعول هي الاحكام الفعلية على طبقها، فان قيام الامارة
يكشف عن ثبوت الاحكام في مواردها من أول الامر. فلا يبقى اثر للعلم
الاجمالي بالتكاليف الواقعية مرددة بينها وبين غيرها.
والمتحصل مما ذكرناه في المقام أنه على جميع الأقوال في باب الامارات
تكون أطراف العلم الاجمالي من غير مواردها موردا لأصالة البراءة. أما على
القول بالطريقية، فلان العلم الاجمالي ينقلب بقاء إلى الشك الساري والعلم
التفصيلي. وأما على القول بالمنجزية، فلان قيام الامارة يكشف عن تنجز
التكليف في بعض الأطراف من غير جهة العلم الاجمالي في أول الامر. وأما على
القول بالسببية، فلان الأمارة تكشف عن اشتمال مؤدياتها على مصلحة أو مفسدة
مستلزمة لثبوت الحكم على طبقها من أول الامر.
(الوجه الثاني) - من تقريب حكم العقل ما ذكره بعضهم من أن الأصل في
الافعال غير الضرورية قبل الشرع هو الحظر بحكم العقل.
وفيه (أولا) - أن أصالة الحظر ليست من الأصول المسلمة عند العقلاء
فان جماعة منهم ذهبوا إلى أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، فلا وجه للاستدلال
308

بما هو محل الخلاف.
و (ثانيا) - انه لا ارتباط بين المقام وبين تلك المسألة، فان استقلال
العقل بالحظر على تقدير التسليم انما هو بمناط غير موجود في المقام، باعتبار ان
موضوع أصالة الحظر انما هو الفعل بما هو مقطوع بعدم جعل الحكم له وفي المقام
بما هو مشكوك الحكم فلا يستلزم القول بالحظر في تلك المسألة القول بالاحتياط
في المقام، بل يمكن القول بالبراءة في المقام مع الالتزام بالحظر في تلك المسألة.
و (ثالثا) - أن ما ذكر لو تم فإنما هو فيما إذا لم يثبت الترخيص عند
الشك في التكليف. وقد عرفت ثبوته فيما تقدم.
(الوجه الثالث) - من تقريب حكم العقل ان في ارتكاب الشبهة احتمال
الوقوع في الضرر، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. وقد تقدم
الجواب عن هذا التقريب مفصلا ولا حاجة إلى الإعادة.
(تنبيهات)
(التنبيه الأول) - ان موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، كما أن
موضوع البراءة الشرعية هو الشك وعدم العلم، وعليه فكل ما يكون بيانا
ورافعا للشك ولو تعبدا، يتقدم عليها بالورود أو الحكومة، من غير فرق
بين ان تكون الشبهة موضوعية، كما لو علم بخمرية مائع، ثم شك في انقلابه
خلا، فان استصحاب الخمرية يرفع موضوع أصالة البراءة عن حرمة شربه، أو
تكون حكمية كما إذا شك في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال
فان استصحاب الحرمة السابقة على تقدير جريانه يمنع عن التمسك بأصالة البراءة
309

وعبر الشيخ (ره) عن هذا الأصل بالأصل الموضوعي، باعتبار أنه رافع
لموضوع الأصل الآخر، ولم يرد منه خصوص الأصل الجاري في الموضوع
كما توهم.
ثم إن الشيخ (ره) رتب على ما أفاده جريان أصالة عدم التذكية، فيما إذا
شك في حلية لحم وحرمته من جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها،
وأورد على نفسه بأن أصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم الموت حتف الانف
فأجاب عنه بأن الموت حتف الانف عبارة أخرى عن عدم التذكية ولا مغايرة بينهما.
وتحقيق المقام يقتضي بسطا في المقال: فأقول إن الشك في حرمة اللحم
(تارة) يكون من الشبهة الموضوعية و (أخرى) من الشبهة الحكمية. والشبهة
الموضوعية على اقسام:
(القسم الأول) - ما كان الشك في حلية اللحم من جهة دوران الأمر بين
كونه من مأكول اللحم أو من غيره، مع العلم بوقوع التذكية بجميع
شرائطها عليه، كما إذا شك في كون اللحم المتخذ من حيوان علم وقوع التذكية
عليه من شاة أو من أرنب مثلا.
(القسم الثاني) - ما إذا كان الشك في الحلية من جهة احتمال طرو عنوان
على الحيوان مانع عن قبوله التذكية، بعد العلم بقابلية لها في حد ذاته،
كاحتمال الجلل في الشاة، أو كونها موطوءة انسان، أو ارتضاعها من
لبن خنزيرة.
(القسم الثالث) - ما إذا كان الشك في حليته لاحتمال عدم قبول الحيوان للتذكية
ذاتا، بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه، كما لو تردد الحيوان
المذبوح في الظلمة مثلا بين كونه شاتا أو كلبا.
(القسم الرابع) - ما كان الشك فيه من جهة احتمال عدم وقوع التذكية
310

عليه للشك في تحقق الذبح، أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط، مثل كون
الذابح مسلما أو كون الذبح بالحديد أو وقوعه إلى القبلة مع العلم بكون
الحيوان قابلا للتذكية.
اما القسم الأول فهو مورد لأصالة الحل من دون حاجة إلى الفحص
لكون الشبهة مصداقية، واما ما افاده الشهيد (ره) من أن الأصل في اللحوم
مطلقا هو الحرمة فهو غير صحيح بالنسبة إلى هذا الفرض، إذ لاوجه له بعد العلم
بوقوع التذكية عليه، واما ما ذكره بعضهم من التمسك باستصحاب حرمة
اكله الثابتة قبل زهاق الروح، فهو أيضا غير وجيه اما (أولا) فلان حرمة اكل
الحيوان الحي غير مسلمة، وقد أفتى جماعة من الفقهاء بجواز بلع السمك الصغير
حيا، مع أن تذكية انما هي بموته خارج الماء، لا بنفس اخراجه منه، ولذا
التزموا بعدم جواز اكل القطعة المبانة من السمك الحي بعد اخراجه من الماء
حيا. واما (ثانيا) فلان الحرمة الثابتة على تقدير تسليمها كانت ثابتة لعنوان
الحيوان المتقوم بالحياة، وما يشك في حليته انما هو اللحم، وهو مغائر للحيوان
فلا يمكن جريان الاستصحاب.
واما القسم الثاني فلا مانع فيه من الرجوع إلى استصحاب عدم طرو مانع
من التذكية، فإذا تحقق الذبح عليه جامعا للشرائط المعتبرة فيه تثبت التذكية
بضم الوجدان إلى الأصل فيحكم بحليته.
واما القسم الثالث فان قلنا بأن كل حيوان قابل للتذكية إلا ما خرج
بالدليل، كما ادعاه صاحب الجواهر (ره). واستدل عليه برواية على بن يقطين
الواردة في الجلود، وقلنا أيضا بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية حتى
في العناوين الذاتية، كعنوان الكلبية مثلا، فلا مانع من التمسك بذلك العموم
بعد اجراء استصحاب عدم تحقق العنوان الخارج منه، فيحكم بحلية لحم تردد
311

بين الشاة والكلب بالشبهة الموضوعية. واما لو منعنا عن كلا الامرين أو عن
أحدهما فان قلنا بأن التذكية امر وجودي بسيط مسبب عن الذبح بشرائطه، كما
هو الظاهر من لفظ المذكى، نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل،
والملكية الحاصلة من الايجاب والقبول، فيستصحب عدمها كما في نظائرها.
وأما إذا قلنا بأنها عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصة، كما
استظهره المحقق النائيني (ره) من إسناد التذكية إلى المكلف في قوله تعالى:
(إلا ما ذكيتم) الظاهر في المباشرة دون التسبيب، فلا مجال لاجراء أصالة عدم
التذكية، للقطع بتحققها على الفرض، فيرجع إلى أصالة الحل، ولكن هذا
المبنى فاسد. والاستظهار المذكور في غير محله، إذ يصح اسناد الفعل التسبيبي
إلى المكلف من غير مسامحة وعناية، فيقال زيد ملك الدار مثلا.
وأما القسم الرابع فالمرجع فيه أصالة عدم التذكية، ويترتب عليها حرمة
الا كل وعدم جواز الصلاة فيه، لان غير المذكى قد اخذ مانعا عن الصلاة. هذا
كله في الشبهة الموضوعية. وأما الشبهة الحكمية فلها صور أيضا:
(الصورة الأولى) - ان يكون الشك من غير جهة التذكية، كما لو شك
في حلية لحم الأرنب، لعدم الدليل مع العلم بوقوع التذكية عليه، والمرجع
فيه أصالة الحل، ولا يتوهم جريان أصالة الحرمة الثابتة قبل وقوع التذكية، لما
تقدم في الشبهة الموضوعية.
(الصورة الثانية) ان يكون الشك في الحلية للجهل بقابلية الحيوان
للتذكية، كما في الحيوان المتولد من الشاة والخنزير، من دون ان يصدق عليه
اسم أحدهما، فان وجد عموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج
فيرجع إليه بلا حاجة إلى استصحاب العدم الأزلي. وإنما احتجنا إلى هذا
الاستصحاب في الفرض المتقدم، لأن الشبهة فيه كانت موضوعية ولا يمكن
312

الرجوع فيها إلى العموم إلا بعد إحراز الموضوع بالاستصحاب ونحوه، وإن
لم يوجد عموم يدل على ذلك، فان قلنا بأن التذكية امر بسيط، فالأصل عدم
تحققها، والا فيرجع إلى أصالة الحل. هذا كله فيما إذا لم يكن الشك في القابلية
ناشئا من احتمال طرو المانع. وأما ان كان مستندا إلى ذلك، كما لو شككنا
في أن الجلل الحاصل مانع عن التذكية أم لا، فيرجع إلى أصالة عدم
تحقق المانع.
(الصورة الثالثة) - ان يكون الشك في الحلية ناشئا من الشك في اعتبار
شئ في التذكية وعدمه، كما إذا شككنا في اعتبار كون الذبح بالحديد مثلا
وعدمه، والمرجع فيها أصالة عدم تحقق التذكية، للشك في تحققها. ودعوى
الرجوع إلى اطلاق دليل التذكية لنفى اعتبار الامر المشكوك فيه غير مسموعة،
إذ ليست التذكية أمرا عرفيا كي ينزل الدليل عليه، ويدفع احتمال التقييد
بالاطلاق، كما كان الامر كذلك في مثل قوله تعالى: (أحل الله البيع) ولعل
هذا واضح، إنما الكلام في أن المترتب على أصالة عدم التذكية خصوص حرمة
الاكل وعدم جواز الصلاة فيه أو النجاسة أيضا.
والتحقيق هو الأول، لان حرمة اكل اللحم مترتب على عدم التذكية
بمقتضى قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم). وهكذا عدم جواز الصلاة، بخلاف
النجاسة فإنها مترتبة على عنوان الميتة، والموت في عرف المتشرعة - على ما صرح
به مجمع البحرين - زهاق النفس المستند إلى سبب غير شرعي، كخروج الروح
حتف الأنف أو بالضرب أو الشق ونحوها، فيكون أمرا وجوديا لا يمكن
إثباته بأصالة عدم التذكية، وعليه فيتم ما ذكره الفاضل النراقي (ره) من
معارضة أصالة عدم التذكية بأصالة عدم الموت، فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة
الطهارة، وإن كان التحقيق جريانهما معا، إذ لا يلزم منه مخالفة عملية، ومجرد
313

كون عدم التذكية ملازما للموت - لان التذكية والموت ضدان لا ثالث لهما - غير مانع عن جريانهما، فان التفكيك بين اللوازم في الأصول العملية غير عزيز
كما في المتوضي بمائع مردد بين الماء والبول مثلا، فإنه محكوم بالطهارة الخبثية
دون الحدثية، للاستصحاب مع وضوح الملازمة بينهما بحسب الواقع، ففي
المقام يحكم بعدم جواز الاكل بمقتضى أصالة عدم التذكية وبالطهارة لأصالة
عدم الموت.
ثم إن المحقق الهمداني (ره) ذهب إلى أن النجاسة مترتبة على عدم
التذكية، واستدل على ذلك بما في ذيل مكاتبة الصيقل من قوله عليه السلام: (فان
كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس) باعتبار أن مفهومه انه لو لم يكن ذكيا ففيه
بأس. والمراد بالبأس النجاسة، لأنها هي المسؤول عنها في المكاتبة. والظاهر
عدم دلالة المكاتبة على ذلك، وانما تدل على نفي البأس عما كان يستعمله في
عمله من جلود الحمر الوحشية الذكية في قبال الميتة المذكورة في صدرها، فلا
مفهوم لها، ويدل على ما ذكرناه ذكر الوحشية في الكلام، لان كون الحمار
وحشيا لا دخل له في طهارة جلده يقينا.
فتحصل مما ذكرناه أن مقتضى أصالة عدم التذكية إذا جرت في مورد
إنما هي حرمة أكل اللحم وعدم جواز الصلاة في جلده، وأما النجاسة فهي غير
مترتبة على هذا الأصل، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة. وعلى هذا
يحمل ما أفاده الشهيد (ره) من أن الأصل في اللحوم هي الحرمة والطهارة.
ثم إن صاحب الحدائق (ره) أورد على الأصوليين وتعجب منهم، حيث
حكموا بحرمة اللحم المشكوك فيه تمسكا بأصالة عدم التذكية، مع أنهم يقولون بعدم
جريان الأصل مع وجود الدليل والدليل على الحل موجود في المقام، وهو قوله عليه السلام:
(كل شئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) وفساد
314

ما ذكره واضح، لأن الدليل الذي لا يجري الأصل مع وجوده هو الدليل على
الحكم الواقعي، والدليل المذكور في كلامه هو الدليل على البراءة التي هي من
الأصول العملية، لا الدليل على الحكم الواقعي ليتقدم على الاستصحاب، بل
دليل الاستصحاب يخرج مورد جريانه عما لا يعلم حرمته، ويدرجه في معلوم
الحرمة ومعه كيف يمكن التمسك بدليل البراءة.
(التنبيه الثاني)
لا إشكال في حسن الاحتياط في الواجبات التوصلية، فان المقصود فيها
تحقق ذات العمل، فالاحتياط فيها نوع من الانقياد للمولى، وكذا الحال في
العبادات فيما إذا أحرز أصل الرجحان، وتردد الفعل بين الواجب والمندوب،
فان الاحتياط ممكن باتيان العمل بداعي امره الواقعي. والاشكال فيه - من
ناحية قصد الوجه - مندفع (أولا) - بأنه غير معتبر كما حقق في محله. و (ثانيا)
بأنه على تقدير التسليم مختص بصورة الامكان، وأما إذا لم يحرز الرجحان
ودار الامر بين الوجوب والإباحة، فلا يمكن إحراز محبوبية العمل، فإنه إن
اتي به بداعي الامر كان تشريعا، وان اتى به بغير ذاك الداعي فلم يأت بالعبادة
المقيدة بقصد الامر، ومن هنا ربما يستشكل في جريان الاحتياط في هذا النوع
من العبادات، وتوهم - انه يستكشف ثبوت الامر من حكم العقل بحسن
الاحتياط بقاعدة الملازمة أو بنحو الان - مدفوع، بان حكم العقل بحسن
الاحتياط لا يثبت موضوعه وامكان الاحتياط، فان حكم العقل والشرع جاريان
على نحو القضايا الحقيقية وبيان للكبرى فقط، ولا تعرض لهما لبيان الصغرى
وتحقق الموضوع خارجا.
315

والتحقيق ان يقال أن الاشكال المذكور مبنى على أن عبادية الواجب متوقفة
على الاتيان به بقصد الامر الجزمي وليس الامر كذلك، إذ يكفي في عبادية الشئ
مجرد اضافته إلى المولى ومن الواضح ان الاتيان بالعمل برجاء المحبوبية واحتمال امر
المولى من أحسن أنحاء الإضافة، والحاكم بذلك هو العقل والعرف، بل هو
أعلى وأرقى من امتثال الامر الجزمي، إذ ربما يكون الانبعاث إليه لأجل
الخوف من العقاب، وهو غير محتمل في فرض عدم وصول الامر والآتيان بالعمل
برجاء المطلوبية، هذا مضافا إلى أن اعتبار الجزم على تقدير التسليم مختص
بصورة التمكن كما ذكر في محله.
بقي في المقام أمران: (الأول) - ان أوامر الاحتياط هل هي كالأمر
بالإطاعة ارشادية إلى ما استقل به العقل، فلا يترتب عليها سوى ما كان العقل
مستقلا به من حسن الانقياد واستيفاء الواقع، أو أنها مولوية، فيكون
الاحتياط مستحبا كبقية المستحبات، فتكون إعادة الصلاة التي شك في صحتها
مستحبا شرعيا وان كانت محكومة بالصحة لقاعدة الفراغ ونحوها. (الثاني)
- انه بناء على كونها مولوية فهل هي في طول الأوامر الواقعية، فيلزم قصد
الامر الواقعي في مقام الاحتياط، أو انها في عرضها، فيجوز قصد امتثال
نفس تلك الأوامر، كما هو الحال فيما إذا نذر الاتيان بواجب أو مستحب، فإنه
يجزى قصد الامر النذري، ولو كان الناذر حين الاتيان بالعمل غافلا عن الامر
الوجوبي أو الندبي. وبعبارة أخرى أوامر الاحتياط هل هي متعلقة بذات العمل
حتى يصح الاتيان به بداعي الامر الاحتياطي، أو انها متعلقة بالعمل المأتي به
بداعي الامر الواقعي رجاء.
اما الامر الأول فذكر المحقق النائيني (ره) أن سياق الأخبار الواردة في
الاحتياط يقتضي كونها مؤكدة لحكم العقل في مرحلة امتثال الاحكام الواقعية
وسلسلة معلولاتها، فتكون تلك الأوامر ارشادية، توضيحه أن الحكم العقلي
316

إن كان في مرتبة علل الاحكام وملاكاتها، فيستتبع الحكم المولوي، وان كان في
مرحلة الامتثال المترتب على ثبوت الحكم الشرعي كحكمه بلزوم الإطاعة فلا يستتبع
الحكم المولوي بل يكون الامر في هذا المقام ارشاديا، والامر بالاحتياط من
هذا القبيل.
ثم ذكر (ره) أنه يمكن أن لا يكون الامر بالاحتياط ناشئا عن مصلحة إدراك
الواقع، بل يكون ناشئا عن مصلحة في نفس الاحتياط، كحصول قوة للنفس
باعثة على الطاعات وترك المعاصي، وحصول التقوى للانسان وإلى هذا المعنى
أشار (ع) بقوله (من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك) والوجه
فيه ظاهر فان حصول الملكات الحميدة أو المذمومة تدريجي ولترك الشبهات في ذلك
اثر بين، وعليه فيمكن أن يكون الامر بالاحتياط بهذا الملاك، وهو ملاك واقع
في سلسلة علل الأحكام، فيكون الامر الناشئ عنه مولويا.
أقول أما ما ذكره (ثانيا) من امكان أن يكون الامر بالاحتياط مولويا
بملاك حصول التقوى وحصول القوة النفسانية فمتين جدا. وأما ما أفاده (أولا)
من كون الامر بالاحتياط إرشاديا لكونه واقعا في سلسلة معلول الحكم، ففيه أن
مجرد ورود الامر في مرحلة معلولات الاحكام لا يستلزم الارشادية، فلا يجوز رفع
اليد عن ظهور اللفظ في المولوية ولا يقاس المقام بالامر بالطاعة لان الامر بالطاعة
يستحيل فيه المولوية ولو لم نقل باستحالة التسلسل، لأن مجرد الامر المولوي ولو لم
يكن متناهيا لا يكون محركا للعبد ما لم يكن له إلزام من ناحية العقل فلابد من
أن ينتهي الأمر المولوي في مقام المحركية نحو العمل إلى الالزام العقلي، فلا مناص
من أن يكون الامر الوارد في مورده إرشادا إلى ذلك وهذا بخلاف الامر
بالاحتياط، فان حسن الاحتياط وإن كان من المستقلات العقلية الواقعية في سلسلة
معلولات الأحكام الشرعية الواقعية، إلا أن العقل بما أنه لا يستقل بلزوم الاحتياط
317

في كل مورد فلا مانع من أن يأمر به المولى مولويا، حرصا على إدراك الواقع لزوما -
كما يراه الاخباري - أو استحبابا كما نراه.
و (بالجملة) المناط في الحكم الارشادي كونه من المستقلات العقلية التي
لا يعقل فيها ثبوت الحكم المولوي لكونه لغوا أو لغير ذلك. وأما مجرد وقوع
الامر في سلسلة معلولات الاحكام ومقام امتثالها فهو غير مانع من كونه مولويا.
وعليه فالامر بالاحتياط مولوي غاية الامر أنه يحمل على الاستحباب بقرينة الترخيص
في الترك المستفاد من اخبار البراءة.
وأما الامر الثاني فملخص القول فيه ان الأوامر مطلقا توصلية تسقط باتيان
متعلقاتها، غاية الامر أن متعلق الأمر في التوصليات هو ذات العمل، وفي التعبديات
مقيد بالاتيان به مضافا إلى المولى، سواء كان هذا القيد مأخوذا في متعلق الامر
الأول شرعا كما هو المختار، أو الأمر الثاني كما اختاره المحقق النائيني (ره) أو بحكم
العقل كما اختاره صاحب الكفاية (ره) فلم يعتبر في العبادة خصوص قصد الامر،
بل عنوان جامع ومطلق إضافة العمل إلى المولى سبحانه وتعالى بأي نحو كان،
وهو كما يحصل بقصد الامر الواقعي كذلك يحصل بقصد الامر الاحتياطي أيضا.
نعم لو كان المعتبر في العبادة قصد خصوص أمرها الواقعي أو كانت أوامر
الاحتياط متعلقة بالعمل المأتي به بداعي احتمال الامر الواقعي لكان اللازم فيما
نحن فيه اتيان العمل بقصد الامر الواقعي رجاء، لكنك قد عرفت خلافه.
(التنبيه الثالث)
ورد في عدة من الروايات أنه من بلغه ثواب من الله سبحانه على عمل فعمل
التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه، والتكلم في سند هذه
318

الروايات غير لازم إذ منها ما هو صحيح من حيث السند فراجع إنما المهم هو
البحث عما يستفاد منها فيقع الكلام في جهات:
(الجهة الأولى) في مفادها و المحتمل فيه وجوه ثلاثة: (الوجه الأول) أن
يكون مفادها الارشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، وترتب الثواب على الاتيان
بالعمل الذي بلغ عليه الثواب وان لم يكن الامر كما بلغه. (الوجه الثاني) أن
يكون مفادها اسقاط شرائط حجية الخبر في باب المستحبات، وأنه لا يعتبر فيها
ما اعتبر في الخبر القائم على وجوب شئ من العدالة والوثاقة. (الوجه الثالث)
أن يكون مفادها استحباب العمل بالعنوان الثانوي الطارئ، أعني به عنوان
بلوغ الثواب عليه، فيكون عنوان البلوغ من قبيل سائر العناوين الطارئة على
الافعال الموجبة لحسنها وقبحها ولتغير أحكامها، كعنوان الضرر والعسر والنذر
وأمر الوالد ونحوها.
هذه هي الوجوه المحتملة بدوا في تلك الأخبار، والمناسب لما اشتهر بين
الفقهاء من قاعدة التسامح في أدلة السنن هو الاحتمال الثاني كما ترى، ولكنه بعيد
عن ظاهر الروايات غاية البعد، لأن لسان الحجية انما هو الغاء احتمال الخلاف
والبناء على أن مؤدى الطريق هو الواقع كما في أدلة الطرق والامارات، لا فرض
عدم ثبوت المؤدى في الواقع، كما هو لسان هذه الأخبار. فهو غير مناسب لبيان
حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات ولا أقل من عدم دلالتها عليها، وكذا
الاحتمال الثالث، إذ لا دلالة بل لا إشعار للأخبار المذكورة على أن عنوان البلوغ
مما يوجب حدوث مصلحة في العمل بها يصير مستحبا، فالمتعين هو الاحتمال الأول،
فان مفادها مجرد الاخبار عن فضل (الله تعالى) وأنه سبحانه بفضله ورحمته يعطي
الثواب الذي بلغ العامل، وإن كان غير مطابق للواقع، فهي - كما ترى - غير ناظرة
إلى العمل، وأنه يصير مستحبا لأجل طرو عنوان البلوغ، ولا إلى إسقاط شرائط
319

حجية الخبر في باب المستحبات.
فتحصل أن قاعدة التسامح في أدلة السنن مما لا أساس لها، وبما ذكرناه من
عدم دلالة هذه الأخبار على الاستحباب الشرعي سقط كثير من المباحث التي
تعرضوا لها في المقام:
(منها) - أن المستفاد منها هل هو استحباب ذات العمل، أو استحبابه فيما إذا
اتي به بعنوان الرجاء والاحتياط؟ فنقول لا دلالة لها على استحباب العمل بأحد
من الوجهين نعم الثواب مترتب على ما إذا كان الاتيان بالعمل بعنوان الرجاء
واحتمال المطلوبية على ما يستفاد من قوله (ع): (فعمله التماس ذلك الثواب) أو
طلب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يترتب الثواب على ما إذا أتي
بالعمل لغرض آخر.
(ومنها) - البحث عن ظهور الثمرة بين الاحتمال الثاني والثالث فيما إذا
دل خبر ضعيف على استحباب ما ثبتت حرمته بعموم أو إطلاق، باعتبار أنه
على تقدير كون الخبر المذكور حجة كما هو الاحتمال الثاني - كان مخصصا للعام
أو مقيدا للمطلق. وأما على الاحتمال الثالث من كون العمل مستحبا شرعيا
بعنوان البلوغ، فيقع التزاحم بين الحكم الاستحبابي الثابت بالعنوان العرضي،
والحكم التحريمي الثابت بالعنوان الأولى، فيقدم الحكم الإلزامي لا محالة.
فانا نقول: لا دلالة لهذه الأخبار على حجية الخبر الضعيف، ولا على
استحباب العمل، فالبحث المذكور ساقط من أساسه وفي مفروض المثال لا مجال
لكون الخبر الضعيف مخصصا أو مقيدا، ولا الاستحباب المستفاد منه مزاحما
للحرمة، فيحكم بتحريم ما ثبتت حرمته بالعموم أو الاطلاق، ولا يعتنى بالخبر
الضعيف الدال على الاستحباب أصلا.
و (منها) - البحث عن معارضة هذه الأخبار لما دل علي اعتبار العدالة
320

أو الوثاقة في حجية الخبر وبيان الوجه في تقدمها عليه من كونها أخص مطلقا منه
أو أشهر منه على ما ذكروه في المقام، فان هذا البحث مبني على تمامية دلالة
هذه الأخبار على حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات وتمامية قاعدة التسامح
في أدلة السنن وقد عرفت عدمها، فلا معارضة بينها وبين ما دل على اعتبار
العدالة أو الوثاقة في حجية الخبر.
و (منها) - البحث عن ثبوت الاستحباب بفتوى الفقيه باعتبار صدق
عنوان البلوغ عليها وعدمه، فان هذا البحث متفرع على دلالة هذه الأخبار
على استحباب عمل بلغ فيه الثواب وقد عرفت عدمها، نعم لا نضايق عن
ترتب الثواب في كل مورد صدق فيه بلوغ الثواب سواء كان البلوغ بفتوى
الفقيه أو بنقل الرواية، وسواء كان البلوغ بالدلالة المطابقية أو بالالتزام. إلى
غير ذلك من الأبحاث المبتنية على دلالة هذه الأخبار على حجية الخبر الضعيف في
في باب السنن، أو علي دلالتها على استحباب العمل الذي بلغ فيه الثواب.
(الجهة الثانية) - ان هذه الروايات لا تشمل عملا قامت الحجة على
حرمته من عموم أو اطلاق، فإذا دل خبر ضعيف على ترتب الثواب علي عمل
قامت حجة معتبرة على حرمته، لا يمكن رفع اليد به عنها. والسر فيه واضح
فان اخبار المقام مختصة بما بلغ فيه الثواب فقط، فلا تشمل ما ثبت العقاب عليه
بدليل معتبر. و (بعبارة أخرى) اخبار المقام لا تشمل عملا مقطوع الحرمة
ولو بالقطع التعبدي، فان القطع بالحرمة يستلزم القطع باستحقاق العقاب فكيف
يمكن الالتزام بترتب الثواب؟.
(الجهة الثالثة) - في ثمرة البحث عن دلالة هذه الأخبار على الاستحباب
مع أن الثواب مترتب على العمل المأتي به برجاء المطلوبية لا محالة، سواء قلنا
باستحبابه شرعا أم لم نقل به. و (بعبارة أخرى) لا فرق بين القول بدلالتها
321

على الحكم المولوي والقول بكون مفادها الارشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد
في ترتب الثواب على العمل الذي بلغ الثواب عليه، فأي فائدة في البحث عن
ثبوت الحكم المولوي وعدمه؟ وذكر الشيخ (ره) في بيان الثمرة موردين.
(المورد الأول) - جواز المسح ببلة المسترسل من اللحية لو دل على
استحباب غسله في الوضوء خبر ضعيف، بناء على ثبوت الاستحباب الشرعي
بالخبر الضعيف، وعدم جواز المسح بها بناء على عدم ثبوته، لعدم إحراز
كونه من اجزاء الوضوء حينئذ. وأورد على ذلك بوجهين:
(الأول) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) في تعليقته على الرسائل
من عدم جواز المسح بالبلة المذكورة، حتى على القول باستحباب الغسل شرعا
لأنه مستحب مستقل في واجب أو في مستحب وليس من اجزاء الوضوء.
وفيه ان ذلك خروج عن الفرض، إذ المفروض دلالة الخبر الضعيف على
كونه جزء من الوضوء.
(الثاني) - ما ذكره الشيخ نفسه من أنه لا دليل على جواز الاخذ من
بلة الوضوء مطلقا، حتى من الاجزاء المستحبة، وانما يثبت جواز الاخذ من
الاجزاء الأصلية، فالقول باستحباب غسل المسترسل من اللحية لا يستلزم جواز
المسح ببلته.
(المورد الثاني) - الوضوء الذي دل خبر ضعيف على استحبابه لغاية
خاصة، كقراءة القرآن أو النوم مثلا، فإنه على القول باستحبابه يرتفع به
الحدث، وعلى القول بعدمه لا يرتفع به الحدث. وأورد عليه بأن كل وضوء
مستحب لم يثبت كونه رافعا للحدث، فإنه يستحب الوضوء للجنب والحائض
في بعض الأحوال، مع أنه لا يرتفع به الحدث، وكذا الوضوء التجديدي
مستحب ولا يرفع الحدث.
322

وفيه ان الوضوء انما يرفع الحدث الأصغر، والجنب والحائض محدثان
بالحدث الأكبر، فعدم ارتفاع الحدث فيهما انما هو من جهة عدم قابلية المورد
فلا ينتقض بذلك على الارتفاع في مورد قابل، كما هو محل الكلام. ومن ذلك
ظهر الجواب عن النقض بالوضوء التجديدي، فهذه الثمرة تامة، ولكنها
مبنية على القول بعدم استحباب الوضوء نفسيا، من دون ان يقصد به غاية من
الغايات. واما لو قلنا باستحبابه كذلك كما هو الظاهر من الروايات، فلا تتم
الثمرة المذكورة، إذ عليه يكون نفس الوضوء مستحبا رافعا للحدث ثبت
استحبابه لغاية خاصة أم لم يثبت.
(التنبيه الرابع)
قد يتوهم عدم جريان البراءة في الشبهة التحريمية الموضوعية، بدعوى
ان الشك فيها ليس شكا في التكليف ليرجع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو إلى
حديث الرفع، فان جعل الحكم بنحو الكلي الذي هو وظيفة الشارع معلوم،
ووصل إلى المكلف أيضا وانما الشك في مقام الامتثال والتطبيق، فالمتعين هو
الرجوع إلي قاعدة الاشتغال، لأن شغل الذمة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية
وأورد عليه الشيخ (ره) بما ملخصه ان الأحكام الشرعية مجعولة بنحو
القضايا الحقيقية التي يحكم فيها على الافراد المقدر وجودها، فهي تنحل إلى
احكام متعددة بتعدد افراد الموضوع، فلكل فرد من افراد الموضوع حكم
مستقل، و عليه فلو شك في كون شئ مصداقا للموضوع كان الشك في ثبوت
الحكم له، فيكون شكا في التكليف. والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.
323

وذكر صاحب الكفاية (ره) ان النهي قد يكون انحلاليا، بأن يكون
كل فرد من افراد الموضوع محكوما بحكم مستقل. وقد يكون حكما واحدا
متعلقا بترك الطبيعة رأسا، بحيث لو وجد فرد منها لما حصل الامتثال أصلا
فعلى الأول يكون الشك في انطباق الموضوع على شئ شكا في ثبوت التكليف
فالمرجع هي البراءة، وعلى الثاني كان موردا لقاعدة الاشتغال لان تعلق
التكليف بترك الطبيعة رأسا معلوم، ولا يحرز امتثاله الا بترك كل ما يحتمل
انطباق الطبيعة عليه، إلا إذا كانت له حالة سابقة فيستصحب، فيكون
الامتثال محرزا بالتعبد.
وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام، فان تعلق التكليف التحريمي
بالطبيعة ليس منحصرا بما ذكره الشيخ (ره) من الانحلال إلى تكاليف متعددة
بتعدد افراد الموضوع، ولا بما ذكره صاحب الكفاية (ره) من القسمين،
فنقول ان النهي المتعلق بالطبيعة يتصور على اقسام:
(الأول) - ان يكون متعلقا بها على نحو الطبيعة السارية، بأن يكون
التكليف متعددا بتعدد افرادها. وعليه فلو شك في كون شئ مصداقا
للموضوع كان الشك في ثبوت التكليف، فيرجع إلى البراءة كما ذكره الشيخ
وصاحب الكفاية (ره).
(الثاني) - ان يكون متعلقا بها على نحو صرف الوجود بأن يكون
التكليف واحدا متعلقا بترك الطبيعة رأسا، بحيث لو وجد فرد منها لما حصل
الامتثال أصلا، وان كان المتصف بالحرمة هو أول وجود الطبيعة دون غيره.
وفي هذا الفرض لو شك في كون شئ مصداقا للموضوع فذكر صاحب الكفاية
(رحمه الله) ان المرجع فيه قاعدة الاشتغال، باعتبار ان تعلق التكليف بترك
الطبيعة معلوم، ولا يحرز امتثاله الا بترك كل ما يحتمل انطباق الطبيعة عليه
324

ولكن التحقيق ان المرجع فيه أيضا هي البراءة، لأن الشك في المصداق في هذا
الفرض - شك في تعلق التكليف الضمني به، فيرجع إلى البراءة، إذ لا اختصاص
لها بالتكاليف الاستقلالية، بناء على ما ذكرناه في محله من جريان البراءة عند
الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين.
(الثالث) - ان يكون النهي زجرا عن المجموع، بحيث لو ترك فردا
واحدا من الطبيعة فقد أطاع، ولو ارتكب بقية الافراد بأجمعها في مقابل
القسم الثاني، إذ فيه لو ارتكب فردا واحدا فقد عصى، ولو ترك البقية
بأجمعها كما تقدم ومن الواضح انه في هذا الفرض الثالث يجوز للمكلف ارتكاب
بعض الافراد المتيقتة مع ترك غيره، فضلا عن الفرد المشكوك فيه، وهل
يجوز ارتكاب جميع الافراد المتيقتة وترك خصوص الفرد المشكوك فيه أم لا؟
الظاهر هو الجواز، لأنه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين في
المحرمات، وهو على عكس الشك في الأقل والأكثر في الواجبات، فان تعلق
التكليف بالأقل عند دوران الوجوب بين الأقل والأكثر هو المتيقن، انما الشك
في تعلقه بالزائد، فيرجع في نفيه إلى البراءة. واما في باب المحرمات فتعلق
التكليف بالأكثر هو المتيقن، انما الشك في حرمة الأقل، لان الاتيان بالأكثر
- أعني الافراد المتيقنة والفرد المشكوك فيه - محرم قطعا. واما ارتكاب ما عدا
الفرد المشكوك فيه فحرمته غير معلومة والمرجع هو البراءة.
(الرابع) - ان يكون النهي متعلقا بجميع الافراد الخارجية، باعتبار ان
المطلوب امر بسيط، متحصل من مجموع التروك، كما لو فرضنا ان المطلوب
- بالنهي عن الطلاة فيما لا يؤكل لحمه - هو وقوع الصلاة في غير ما لا يؤكل.
وفي هذا الفرض لو شك في كون شئ مصداقا للموضوع كان المرجع قاعدة
الاشتغال، وعدم جواز ارتكاب المشكوك في كونه فردا له، لرجوع الشك
325

حينئذ إلى الشك في المحصل بعدم العلم بثبوت التكليف، فلا مناص من القول
بالاشتغال. نعم كان الامر البسيط حاصلا سابقا، فمع ارتكاب الفرد المشكوك
فيه يجرى استصحاب بقاء هذا الامر، فيكون الامتثال حاصلا بالتعبد الشرعي
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام ان ما ذكره بعضهم - من الرجوع
إلى قاعدة الاشتغال في الشبهة التحريمية الموضوعية - انما يصح في خصوص قسم
واحد من الأقسام المذكورة، وهو القسم الأخير.
(التنبيه الخامس)
قد عرفت حسن الاحتياط عقلا وشرعا حتى فيما إذا قامت الامارة على
عدم التكليف في الواقع، فان احتمال ثبوت التكليف في الواقع كاف في حسن
الاحتياط، لتدارك المصلحة الواقعية على تقدير وجودها، الا ان حسنه مقيد
بعدم استلزامه اختلال النظام، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف
الحالات الطارئة لهم، وكل ذلك واضح انما المقصود هو الإشارة إلى أن كل
فرد من افراد الشبهة لا يكون الاحتياط فيه مستلزما لاختلال النظام، وانما
المستلزم لذلك هو الجمع بين المحتملات والاخذ بالاحتياط في جميع الشبهات. وعليه
فالاحتياط - في كل شبهة في نفسها مع قطع النظر عن الأخرى - باق على حسنه
ويترتب على ذلك أنه على تقدير كون الاحتياط في جميع الشبهات مستلزما
لاختلال النظام لا بأس بالتبعيض في الاحتياط.
و (بعبارة أخرى) كون الاحتياط الكلي قبيحا لاستلزامه اختلال النظام
لا ينافي حسن التبعيض فيه، وللتبعيض طريقان:
326

(الأول) - ان يختار الاحتياط في جميع الشبهات العرضية، إلى أن ينتهي
الامر إلي اختلال النظام، فيترك الاحتياط رأسا وفي جميع الشبهات.
(الثاني) - ان يختار الاحتياط في بعض الافراد العرضية دون بعض حتى
لا ينتهي الامر إلى اختلال النظام ابدا. ولعل هذا الطريق الثاني أولى، لما
ورد عنهم (عليهم السلام) من أن (القليل الذي تدوم عليه خير من كثير
لا تدوم عليه) ثم إن لهذا الطريق أيضا صورتين:
(الأولى) - ان يحتاط في الموارد التي كان التكليف المحتمل فيها أهم في
نظر الشارع من التكليف المحتمل في غيرها.
(الثانية) - ان يحتاط في الموارد التي كان ثبوت التكليف فيها مظنونا
أو مشكوكا، ويترك الاحتياط فيما كان احتمال التكليف فيه موهوما، فان
كان ذلك أيضا مخلا بالنظام يكتفى بالاحتياط في المظنونات فقط. وهذا هو
المراد مما ذكره صاحب الكفاية (ره) بقوله: (كان الراجح لمن التفت إلى ذلك
من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا).
(دوران الامر بين محذورين)
وقبل ذكر الأقوال في المقام وبيان الصحيح والسقيم منها لا بد من التنبيه
على امر. وهو انه يعتبر في محل النزاع أمران: (أحدهما) - دوران الفعل بين
الوجوب والحرمة فقط، وعدم احتمال اتصافه بغير هما من الاحكام غير الالزامية
فإنه مع احتمال ذلك يرجع إلى البراءة، لكونه شكا في التكليف الإلزامي، بل
هو أولى بجريان البراءة من الشبهة التحريمية المحضة أو الوجوبية المحضة، لعدم
327

جريان أدلة الاحتياط فيه لعدم إمكانه. (ثانيهما) - ان لا يكون أحد الحكمين
بخصوصه مواردا للاستصحاب، إذ عليه يجب العمل بالاستصحاب، وينحل
العلم الاجمالي لا محالة.
إذا عرفت محل النزاع فنقول: ان تحقيق الحال - في دوران الامر بين
المحذورين - يقتضي التكلم في مقامات ثلاثة:
(المقام الأول) - دوران الامر بين المحذورين في التوصليات مع
وحدة الواقعة.
(المقام الثاني) - دوران الامر بين المحذورين في التعبديات بمعنى ان
يكون أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة الواقعة وإن شئت فعبر عن
المقام الأول بدوران الامر بين المحذورين، مع عدم إمكان المخالفة القطعية
وعن المقام الثاني بدوران الامر بين المحذورين، مع امكانها على ما سيتضح
قريبا إن شاء الله تعالى.
(المقام الثالث) - دوران الامر بين المحذورين مع تعدد الواقعة، بلا
فرق بين التعبديات والتوصليات في ذلك.
(اما المقام الأول) - وهو دوران الامر بين المحذورين في التوصليات مع
وحدة الواقعة، فالأقوال فيه خمسة: (الأول) - تقديم احتمال الحرمة،
لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. (الثاني) - الحكم بالتخيير بينهما
شرعا. (الثالث) - هو الحكم بالإباحة شرعا والتخيير بينهما عقلا واخباره
صاحب الكفاية (ره). (الرابع) - هو الحكم بالتخيير بينهما عقلا من دون
الالتزام بحكم ظاهري شرعا واختاره المحقق النائيني (ره) (الخامس) -
جريان البراءة شرعا وعقلا. وهذا هو الصحيح، لعموم أدلة البراءة الشرعية
وعدم ثبوت ما يمنع عن شمولها، ولحكم العقل بقبح العقاب على خصوص
328

الوجوب أو الحرمة للجهل به الموجب لصدق عدم البيان. ويتضح هذا وضوحا
ببيان ما في سائر الأقوال، فنقول:
(أما القول الأول) ففيه (أو لا) - منع أولوية دفع المفسدة من جلب
المنفعة على نحو الاطلاق، ضرورة انه رب واجب يكون أهم من الحرام في
صورة المزاحمة. و (ثانيا) - أنه على تقدير التسليم، فإنما يتم فيما إذا كانت
المفسدة والمصلحة معلومتين. واما لو كان الموجود مجرد احتمال المفسدة، فلا
نسلم أولوية رعايته من رعاية احتمال المصلحة، كيف وقد عرفت عدم لزوم رعاية
احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة، كما إذا دار الامر بين الحرمة
و غير الواجب. فلا وجه للزوم مراعاة احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة أيضا
و (اما القول الثاني) - وهو الحكم بالتخيير شرعا، ففيه انه إن أريد
به التخيير في المسألة الأصولية أعني بأحد الحكمين في مقام الافتاء نظير الاخذ
بأحد الخبرين المتعارضين، فلا دليل عليه. وقياس المقام على الخبرين المتعارضين
مع الفارق لوجود النص هناك دون المقام، فالافتاء بأحدهما بخصوصه تشريع
محرم. وإن أريد به التخيير في المسألة الفرعية أعني الاخذ بأحدهما في مقام العمل
بأن يكون الواجب على المكلف أحد الامرين تخييرا من الفعل أو الترك، فهو
أمر غير معقول، لأن أحد المتناقضين حاصل لا محالة، ولا يعقل تعلق الطلب بما هو
حاصل تكوينا. ولذا ذكرنا في محله انه لا يعقل التخيير بين ضدين لا ثالث لهما
لان أحدهما حاصل بالضرورة، ولا يعقل تعلق الطلب به.
و (أما القول الثالث) - وهو القول بالإباحة الشرعية، ففيه (أولا) -
ان أدلة الإباحة الشرعية مختصة بالشبهات الموضوعية. كما عرفت سابقا، فلا
تجرى فيما إذا دار الامر بين المحذورين في الشبهات الحكمية، فالدليل أخص من
المدعى، و (ثانيا) - ان أدلة الحل لا تشمل المقام أصلا، لأن المأخوذ في
329

الحكم بالإباحة الظاهرية شرعا هو الشك فيها. والمفروض في المقام هو العلم
بثبوت الالزام في الواقع إجمالا، وعدم كون الفعل مباحا يقينا، فكيف
يمكن الحكم بالإباحة ظاهرا.
و (اما القول الرابع) - وهو الحكم بالتخيير عقلا من دون أن يكون
المورد محكوما بحكم ظاهري شرعا، فقد استدل له بوجهين:
(الوجه الأول) - ان الحكم الظاهري لا بد له من اثر شرعي، وإلا
لكان جعله لغوا، ولا فائدة في جعل حكم ظاهري في المقام، لعدم خلو المكلف
من الفعل أو الترك تكوينا.
وفيه ان الملحوظ في الحكم الظاهري هو كل واحد من الوجوب والحرمة
مستقلا، باعتبار ان كل واحد منهما مشكوك فيه، مع قطع النظر عن الاخر
فيكون مفاد رفع الوجوب ظاهرا هو الترخيص في الترك. ومفاد رفع الحرمة
ظاهرا هو الترخيص في الفعل، فكيف يكون جعل الحكم الظاهري لغوا؟ مع أنه
لو كان عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك موجبا للغوية الحكم الظاهري،
لكان جعل الإباحة الظاهرية في غير المقام أيضا لغوا، وهو ظاهر الفساد.
(الوجه الثاني) - ان رفع الالزام ظاهرا انما يكون في مورد قابلا للوضع
بايجاب الاحتياط، والمفروض عدم امكانه في المقام، فإذا لم يمكن جعل الالزام
لا يمكن رفعه أيضا، فالمورد غير قابل للتعبد الشرعي بالوضع أو الرفع.
وفيه ان المورد قابل للتعبد بالنسبة إلى كل من الحكمين بخصوصه، فان
القدرة على الوضع انما تلاحظ بالنسبة إلي كل من الوجوب والحرمة مستقلا
لا إليهما معا، وحيث إن جعل الاحتياط بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه امر
ممكن: فلا محالة كان الرفع أيضا بهذا اللحاظ ممكنا. وتوضيح ذلك أن القدرة
على كل واحد من الافعال المتضادة كافية في القدرة على ترك الجميع، ولا يعتبر
330

فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد، ألا ترى ان الانسان - مع عدم
قدرته على ايجاد الافعال المتضادة في آن واحد - يقدر على ترك جميعها، وليس
ذلك إلا من جهة قدرته على فعل كل واحد منها بخصوصه، ففي المقام وان لم
يكن الشارع متمكنا من وضع الالزام بالفعل والترك معا، ولكنه متمكن من
وضع الالزام بكل منهما بخصوصه، وذلك يكفي في قدرته على رفعهما معا،
وحينئذ فلما كل كل واحد من الوجوب والحرمة مجهولا، كان مشمولا لأدلة
البراءة، وتكون النتيجة هو الترخيص في كل من الفعل والترك.
ومما ذكرناه يظهر انه لا مانع من جريان الاستصحاب أيضا في المقام لو
كان لكل من الحكمين حالة سابقة، إذا لا فرق في ذلك بين الأصول التنزيلية
وغيرها، كما لا فرق بين ان تكون الشبهة حكمية أو موضوعية، فلو علم المكلف
مثلا بوقوع الحلف على سفر معين أو على تركه، فلا مانع من الرجوع إلى
استصحاب عدم الحلف على فعله، واستصحاب عدم الحلف على تركه، وكذا
لو علمنا بوجوب عمل أو حرمته في الشريعة المقدسة، كان استصحاب عدم
جعل كل منهما جاريا، بناء على ما ذكرناه في محله من جريان استصحاب
عدم الجعل.
ثم انه قد يستشكل في الرجوع إلى الأصول العميلة في المقام بوجهين:
(الوجه الأول) - أن الرجوع إليها مخالف للعلم الاجمالي بكون أحد الأصلين
على خلاف الواقع.
والجواب ان هذه مخالفة التزامية لا بأس بها. واما المخالفة العملية
القطعية، فهي مستحيلة كالموافقة القطعية، ولذا يعبر عن المقام بدوران
الامر بين محذورين.
(الوجه الثاني) - ان الرجوع إلى الأصول النافية انما يصح عند الشك
331

في أصل التكليف وحيث انا نعلم في المقام بجنس الالزام، فالشك انما هو في
المكلف به، لا في التكليف، فكيف يمكن الرجوع إلى الأصل النافي.
والجواب ان العلم بالالزام إنما يمنع من جريان الأصول فيما إذا كان
التكليف المعلوم اجمالا قابلا للباعثية، كما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمة
شئ آخر. وأما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته بعينه، فالعلم
بوجود الالزام في حكم العدم، إذ الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية مستحيلة
والموافقة الاحتمالية كالمخالفة الاحتمالية حاصلة لا محالة، فلا اثر للعلم الاجمالي
بالالزام أصلا، فصح ان نقول ان مورد دوران الامر بين محذورين من قبيل الشك
في التكليف لا الشك في المكلف به.
وظهر بما ذكرناه ضعف ما في الكفاية من منع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان
لأن العلم الاجمالي بيان، وذلك لان العلم الاجمالي غير القابل للباعثية لا يعد بيانا
فالبراءة العقلية كالبراءة الشرعية جارية في المقام، فلا تصل النوبة إلى التخيير العقلي
ثم إنه لا منافاة بين ما ذكرناه - من جريان البراءة الشرعية والعقلية، بل
الاستصحاب في المقام - وبين ما قدمناه من المنع عن جريان أصالة الإباحة فيه،
لان أصالة الإباحة أصل واحد لا مجال لجريانها مع العلم بعدم الإباحة في الواقع
تفصيلا، لما ذكرناه في محله من أنه يعتبر في جريان الأصل عدم العلم بمخالفته
للواقع. وهذا بخلاف أصل البراءة والاستصحاب، فإنه يجري في كل من
الوجوب والحرمة مستقلا على ما تقدم بيانه، ولا علم بمخالفته كل من الأصلين للواقع
غاية الامر انه يحصل العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع مع الشك في مخالفة كل منهما
في نفسه، وليس في ذلك الا المخالفة الالتزامية. وقد عرفت انه لا محذور فيها.
ثم إنه بناء على ما اخترناه - من جريان الأصول النافية في موارد دوران
الامر بين محذورين - لا فرق بين ان يكون أحد الحكمين محتمل الأهمية وعدمه
332

لان كلا من الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة ومأمون من العقاب على
مخالفته، سواء كان أحدهما على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الاخر أم لم يكن
واما بناء على كون الحكم فيه هو التخيير العقلي، فالمقام يندرج في كبرى
دوران الامر بين التعيين والتخيير. وهل الحكم فيه هو التعيين أو التخيير؟
وجهان بل قولان، ذهب صاحب الكفاية (ره) إلى التعيين، بدعوى ان
العقل يحكم بتعيين محتمل الأهمية، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم عند
احتمال أهمية أحد المتزاحمين بخصوصه. واختار المحقق النائيني (ره) الحكم
بالتخيير على خلاف ما اختاره في باب التزاحم. وهذا هو الصحيح، وذلك
لأن المزاحمة بين الحكمين في باب التزاحم انما تنشأ من شمول اطلاق كل من
الخطابين لخال الاتيان بمتعلق الآخر، فإذا لم يمكن الجمع بينهما لعدم القدرة عليه
فلا مناص من سقوط أحد الاطلاقين، فان كان أحدهما أهم من الآخر كان الساقط
غيره، والا سقط الاطلاقان معا، لبطلان الترجيح بلا مرجح. هذا فيما إذا
علم كون أحدهما المعين أهم، أو علم تساويهما. وأما إذا احتمل أهمية أحدهما
المعين، فسقوط الاطلاق في غيره معلوم على كل تقدير. إنما الشك في سقوط
إطلاق ما هو محتمل الأهمية. ومن الظاهر أنه مع الشك في سقوط إطلاقه يتعين
الاخذ به، فتكون النتيجة لزوم الاخذ بمحتمل الأهمية وترك غيره.
هذا فيما إذا كان لكل من دليلي الحكمين اطلاق. وإما إذا لم يكن لشئ
منهما اطلاق، وكان كل من الحكمين ثابتا باجماع ونحوه، فالوجه في تقديم
محتمل الأهمية هو ان كلا من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم
وعجز المكلف عن استيفائهما معا يقتضى جواز تفويت أحدهما، فعند احتمال
أهمية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه وتفويت ملاك الآخر
على كل تقدير. واما تفويت ملاك ما هو محتمل الأهمية - ولو باستيفاء ملاك
333

الآخر - فلم يثبت جوازه، فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمية.
وهذا الوجه للزوم الأخذ بالتعيين غير جار في المقام، إذ المفروض ان
الحكم المجعول واحد مردد بين الوجوب والحرمة، فليس في البين إطلاقان ولا
ملا كان. ونسبة العلم الاجمالي إلى كل من الحكمين على حد سواء، فالحكم
العقلي بالتخيير - بمعنى اللاحرجية الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين -
باق على حاله. وان شئت قلت إن الأهمية المحتملة في المقام تقديرية، إذ لم
يعلم ثبوت أحد الحكمين بخصوصه. وإنما المعلوم ثبوت الالزام في الجملة.
غاية الامر انه لو كان الالزام في ضمن أحدهما المعين احتمل أهميته. وهذا بخلاف
باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت كل من الحكمين، وانما كان عدم وجوب امتثالهما
معا للعجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما.
فتحصل مما ذكره انه بناء على عدم جريان الأصول النافية وكون الحكم
هو التخيير العقلي لا يندرج المقام في كبرى التزاحم، ولا وجه لتقديم محتمل
الأهمية على غيره.
(المقام الثاني) - فيما إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبديا مع وحدة
الواقعة، كما إذا دار الامر بين وجوب الصلاة على المرأة وحرمتها عليها،
لاحتمالها الطهر والحيض مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب، بناء على
حرمة الصلاة على الحائض ذاتا. بمعنى ان يكون نفس العمل حراما عليها ولو
مع عدم قصد القربة وانتسابه إلى المولى. ففي مثل ذلك يمكن المخالفة القطعية
باتيان العمل بغير قصد القربة، فإنه على تقدير كونها حائضا فأتت بالمحرم،
وعلى تقدير عدم كونها حائضا فقد تركت الواجب. ولأجل ذلك كان العلم
الاجمالي منجزا وان لم تجب الموافقة القطعية لتعذرها. (توضيح ذلك) ان
العلم الاجمالي على أربعة اقسام:
334

(القسم الأول) - ما يمكن فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، وهو
الغالب، كما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمة شئ آخر، فإنه يمكن
الموافقة القطعية بالجمع بين الاتيان بالأول وترك الثاني، ويمكن أيضا المخالفة
القطعية بترك الأول والآتيان بالثاني.
(القسم الثاني) - ما لا يمكن فيه الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية،
كموارد دوران الامر بين المحذورين فيما لم يكن شئ من الحكمين المحتملين تعبديا
وقد تقدم حكمه في المقام الأول.
(القسم الثالث) - ما يمكن فيه المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية،
كالمثال المتقدم في حق المرأة المرددة بين الطهر والحيض، وكما لو علم إجمالا
بوجوب أحد الضدين الذين لهما ثالث في زمان واحد، فإنه يمكن المخالفة القطعية
بتركهما معا، ولا يمكن الموافقة القطعية، لعدم إمكان الجمع بين الضدين في
آن واحد.
(القسم الرابع) - عكس الثالث بأن يمكن فيه الموافقة القطعية دون
المخالفة القطعية، كما لو علم اجمالا بحرمة أحد الضدين الذين لهما ثالث في وقت
واحد، فإنه يمكن الموافقة القطعية بتركهما معا، ولا يمكن المخالفة القطعية،
لاستحالة الجمع بين الضدين، وكذا الحال في جميع موارد الشبهات غير المحصورة
في الشبهات التحريمية، فإنه يمكن فيها الموافقة القطعية بترك جميع الأطراف،
ولا يمكن فيها المخالفة القطعية لعدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا اثر للعلم الاجمالي في القسم الثاني، فتجري
الأصول النافية في أطرافه على ما تقدم بيانه في المقام الأول. واما غيره من
الأقسام الثلاثة فالأصول في أطراف العلم الاجمالي في مواردها متعارضة متساقطة
على ما سيجئ الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى. ويترتب على ذلك تنجيز العلم
335

الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة أو من إحدى
الجهتين دون الأخرى و (بعبارة أخرى) إذا تساقطت الأصول في أطراف
العلم الاجمالي، فالحكم المعلوم بالاجمال يتنجز بالمقدار الممكن، فان أمكن المخالفة
القطعية والموافقة القطعية فالتنجيز ثابت من الجهتين، والا فمن إحداهما، وحيث إن
المخالفة القطعية فيما هو محل الكلام فعلا ممكنة، كان العلم الاجمالي منجزا بالنسبة
إليها، فحرمت عليها المخالفة القطعية بأن تأتي بالصلاة بدون قصد القربة.
وحيث إن الموافقة القطعية غير ممكنة، فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين الاتيان
بالصلاة برجاء المطلوبية وبين تركها رأسا.
ثم إن الشيخ (ره) قد تعرض في المقام لدوران الامر بين المحذورين في
العبادات الضمنية، كما إذا دار الامر بين شرطية شئ لواجب وما نعيته عنه،
فاختار التخيير هنا أيضا على حذو ما تقدم، فيتخير المكلف بين الاتيان بما
يحتمل كونه شرطا وكونه مانعا وبين تركه.
والتحقيق عدم تمامية ذلك، لان الحكم بالتخيير في باب التكاليف
الاستقلالية انما كان من جهة عدم تنجز الالزام المردد بين الوجوب والحرمة
لاستحالة الموافقة القطعية. وهذا بخلاف الالزام المعلوم اجمالا في المقام، فإنه يمكن
موافقة القطعية كما يمكن مخالفته القطعية، فيكون منجزا ويجب فيه الاحتياط
ولو بتكرار العمل. وتوضيح المقام ان احتمال كون شئ مانعا أو شرطا
يتصور بصورتين:
(الصورة الأولى) - ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال التفصيلي ولو
برفع اليد عما هو مشتغل به فعلا، كما لو شك بعد النهوض للقيام في الاتيان
بالسجدة الثانية، فإنه بناء على تحقق الدخول في الغير بالنهوض كان الاتيان
بالسجدة زيادة في الصلاة وموجبا لبطلانها، وبناء على عدم تحققه به كان
336

الاتيان بها واجبا ومعتبرا في صحتها، فإنه إذا رفع يده عن هذه الصلاة واتى
بصلاة أخرى حصل له العلم التفصيلي بالامتثال.
(الصورة الثانية) - ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال الاجمالي إما بتكرار
الجزء أو بتكرار أصل العمل، كما إذا دار امر القراءة بين وجوب الجهر بها أو
الاخفات، فإنه إذا كرر القراءة بالجهر مرة وبالاخفات أخرى مع قصد القربة فقد
علم بالامتثال إجمالا.
(أما الصورة الأولى) - فلا ريب في وجوب احراز الامتثال، ولا
يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين، لعدم إحراز الامتثال بذلك، والاشتغال
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فعليه رفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها أو
اتمامها على أحد الاحتمالين، ثم اعادتها. وعلى كل تقدير لا وجه للحكم بالتخيير
وجواز الاكتفاء بأحد الاحتمالين في مقام الامتثال.
هذا بناء على عدم حرمة ابطال صلاة الفريضة مطلقا أو في خصوص المقام
من جهة ان دليل الحرمة قاصر عن الشمول له فان عمدة مدركه الاجماع،
والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف الاقتصار عليها
في مقام الامتثال. وأما الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا دليل على حرمة
قطعها. وتمام الكلام في محله.
وأما لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتى في مثل المقام، كان الحكم
بالتخيير في محله، الا انه لا لأجل دوران الامر بين الجزئية والشرطية، بل من جهة
دوران الامر بين حرمة الفعل وتركه. وإن شئت قلت إن لنا في المقام علمين
اجماليين: (أحدهما) - العلم الاجمالي بثبوت إلزام متعلق بطبيعي العمل المردد
بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه وما يكون فاقدا له، (ثانيهما) - العلم
الاجمالي بحرمة الجزء المشكوك فيه ووجوبه، لدوران الامر فيه بين الجزئية الموجبة
337

لوجوبه والمانعية المقتضية لحرمته، لكونه مبطلا للعمل. والعلم الثاني وإن كان
لا يترتب عليه أثر، لعدم التمكن من الموافقة القطعية، ولا من المخالفة القطعية
فيحكم بالتخيير بين الاتيان بالجزء المشكوك فيه وتركه، إلا أن العلم الاجمالي
الأول يقتضى إعادة الصلاة تحصيلا للفراغ اليقيني.
و (أما الصورة الثانية) - وهي ما يتمكن المكلف فيه من الامتثال
الاجمالي بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل، فلا وجه فيها لجواز الاقتصار
على الامتثال الاحتمالي، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو اجمالا. و (بالجملة)
الحكم بالتخيير إنما هو مع عدم التمكن من الامتثال العلمي، ومع التمكن منه
فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى دليل خاص، ومع عدمه - كما هو
المفروض في المقام - يحكم العقل بلزوم الامتثال العلمي، باعتبار ان شغل الذمة
اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
هذا فيما إذا أمكن التكرار. وأما إذا لم يمكن كما إذا دار الامر بين
القصر والتمام عند ضيق الوقت، فالتخيير بين الامرين في الوقت وإن كان مما
لا مناص منه إلا أنه قد يتوهم عدم سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز بالنسبة
إلى وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت، فلا يجوز الاقتصار باتيان
أحد المحتملين في الوقت، بل يجب عليه الاحتياط والآتيان بالمحتمل الآخر في
خارج الوقت. ولكن التحقيق عدم وجوب الاتيان بالقضاء في خارج الوقت
إذ القضاء بفرض جديد وتابع لصدق فوت الفريضة في الوقت، ولم يحرز الفوت
في المقام، لان إحرازه يتوقف على إحراز فعلية التكليف الواقعي في الوقت
بالعلم الوجداني أو الامارة أو الأصل، وكل ذلك غير موجود في المقام، فان
غاية ما في المقام هو العلم الاجمالي بأحد الامرين من الجزئية أو المانعية، وهو
لا يكون منجزا إلا بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية ووجوب الاخذ بأحد
338

المحتملين في الوقت، دون المحتمل الآخر لعدم امكان الموافقة القطعية فإذا لم يحرز
التكليف بالنسبة إلى المحتمل الآخر في الوقت لم يحرز الفوت كي يجب القضاء.
المقام الثالث في دوران الامر بين المحذورين مع تعدد الواقعة والتعدد
(تارة) يكون عرضيا و (أخرى) يكون طوليا. أما القسم الأول فهو كما لو علم
إجمالا بصدور حلفين تعلق أحدهما بفعل أمر، والآخر بترك امر آخر، واشتبه
الأمران في الخارج، فيدور الامر في كل منهما بين الوجوب والحرمة، فقد
يقال بالتخيير بين الفعل والترك في كل منهما، بدعوى أن كلا منهما من موارد
دوران الامر بين المحذورين، مع استحالة الموافقة القطعية والمخالفة القطعية
في كل منهما، فيحكم بالتخيير، فجاز الاتيان بكلا الامرين كما جاز تركهما معا
ولكنه خلاف التحقيق، لان العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب
والحرمة في كل من الامرين وان لم يكن له اثر، لاستحالة الموافقة القطعية
والمخالفة القطعية في كل منهما كما ذكر، إلا أنه يتولد في المقام علمان اجماليان
آخران: (أحدهما) - العلم الاجمالي بوجوب أحد الفعلين، و (الثاني) - العلم
الاجمالي بحرمة أحدهما، والعلم الاجمالي بوجوب يقتضي الاتيان بها تحصيلا
للموافقة القطعية، كما أن العلم الاجمالي بالحرمة يقتضي تركهما معا كذلك.
وحيث إن الجمع بين الفعلين والتركين معا مستحيل، يسقط العلمان عن التنجيز
بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية، ولكن يمكن مخالفتهما القطعية بايجاد
الفعلين أو بتركهما، فلا مانع من تنجيز كل منهما بالنسبة إلى حرمة المخالفة
القطعية، فإنها المقدار الممكن على ما تقدم بيانه وعليه فاللازم هو اختيار أحد
الفعلين وترك الآخر، تحصيلا للموافقة الاحتمالية وحذرا من المخالفة القطعية
وأما القسم الثاني وهو ما كان التعدد فيه طوليا، كما إذا علم بتعلق
الحلف بايجاد فعل في زمان وبتركه في زمان ثان، واشتبه الزمانان، ففي كل
339

زمان يدور الامر بين الوجوب والحرمة، فقد يقال فيه أيضا بالتخيير بين الفعل
والترك في كل من الزمانين، إذ كل واقعة مستقلة دار الامر فيها بين الوجوب
والحرمة، ولا يمكن فيها الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية. ولا وجه لضم
الوقائع بعضها إلى بعض، بل لا بد من ملاحظة كل منها مستقلا، وهو لا يقتضي
الا التخيير، فللمكلف اختيار الفعل في كل من الزمانين، واختيار الترك في
كل منهما، واختيار الفعل في أحدهما والترك في الآخر.
ولكن التحقيق أن يقال انه ان قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في الأمور
التدريجية كغيرها، فلا يفرق بين القسمين المذكورين، لاتحاد الملاك فيهما
حينئذ، وعليه فالعلم الاجمالي منجز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فاللازم
اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذرا من المخالفة القطعية
وتحصيلا للموافقة الاحتمالية، وان قلنا بعدم تنجيز العلم الاجمالي في
التدريجيات، فيحكم بالتخيير بين الفعل والترك في كل زمان، إذ لم يبق سوى
العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة في كل من الزمانين. وقد
عرفت أن مثل هذا العلم لا يوجب التنجيز، لعدم امكان الموافقة القطعية ولا
المخالفة القطعية، فيخير المكلف بين الفعل والترك في كل من الزمانين.
ثم انه إذا دار الامر بين المحذورين مع تعدد الواقعة، واحتمل أهمية
أحد الحكمين، فهل يتقدم ما احتمل أهميته، فتجب موافقته القطعية وان
استلزم المخالفة القطعية للتكليف الآخر أم لا؟ وجهان. والصحيح هو الثاني،
لان الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وان لم يكونا من قبيل
المتعارضين، إذ لا تنافي بينهما في مقام الجعل، بعد فرض ان متعلق كل منهما
غير متعلق الآخر، الا انهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضا، إذا التزاحم بين
التكليفين انما هو فيما إذا كان المكلف عاجزا من امتثال كليهما. والمفروض في
340

المقام قدرته على امتثال كلا التكليفين، غاية الامر كونه عاجزا عن احراز
الامتثال فيهما، لجهلة بمتعلق كل منهما وعدم تمييزه الواجب عن الحرام، فينتقل
إلى الامتثال الاحتمالي بايجاد أحد الفعلين وترك الآخر، فلا وجه لاجراء حكم
التزاحم وتقديم محتمل الأهمية على غيره بايجاد كلا الفعلين لو كان محتمل الأهمية
هو الوجوب أو ترك كليهما لو كان محتمل الأهمية هي الحرمة.
واختار المحقق النائيني (ره) في بحث دوران الامر بين شرطية شئ
وما نعيته تقديم محتمل الأهمية، وذكر في وجه ذلك أن كل تكليف واصل إلى
المكلف يقتضي أمرين: لزوم الامتثال واحرازه. وعليه فالواجب المعلوم بالاجمال
في المقام كما يقتضي إيجاد متعلقه، كذلك تقتضي احراز الايجاد باتيان كلا
الفعلين، وكذا الحرمة المعلومة بالاجمال تقتضي ترك متعلقة وتقتضي احرازه بترك
كلا الفعلين، وهذان الحكمان وان لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل الامتثال
إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة وتمكن المكلف من ايجاد الواجب
وترك الحرام، إلا أنهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال، إذ قد عرفت
أن إحراز امتثال الوجوب يستدعي الاتيان بكلا الفعلين، واحراز امتثال الحرمة
يقتضي ترك كليهما، فلا يمكنه إحراز امتثالهما معا. وقد عرفت أيضا أن
إحراز الامتثال من مقتضيات التكليف بحكم العقل، فكما أن عدم القدرة على
الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل وما تقتضيه الحرمة من الترك يوجب
التزاحم بينهما، كذلك عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه كل منهما من احراز
الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضا.
وفيه (أولا) - النقض بما إذا علم تساوي الحكمين في الأهمية، فان لازم
كونهما من المتزاحمين ان يحكم حينئذ بالتخيير، فللمكلف أن يختار الوجوب
ويأتي بكلا الفعلين، وله ان يختار الحرمة ويتركهما معا. مع أن المحقق
النائيني (ره) لم يلتزم بذلك. وذهب إلى لزوم الاتيان بأحد الفعلين وترك
341

الآخر حذرا من المخالفة القطعية في أحد التكليفين.
و (ثانيا) - أنه لو سلمنا دخول المقام في باب التزاحم لا دليل على لزوم
الاخذ بمحتمل الأهمية في باب التزاحم مطلقا ليجب الأخذ به في المقام، انما
الوجه في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من أن الحكمين المتزاحمين لا مناص من الالتزام
بسقوط الاطلاق في كليهما أو أحدهما. ومن الظاهر أن مالا يحتمل أهميته قد
علم سقوط إطلاقه على كلا التقديرين. وأما ما احتمل أهميته فسقوط إطلاقه
غير معلوم، فلا بد من الأخذ به، هذا فيما إذا كان لدليل كل من الحكمين
إطلاق لفظي. وأما إذا لم يكن لشئ من الدليلين اطلاق، فالوجه في تقديم
محتمل الأهمية هو القطع بجواز تفويت ملاك غيره بتحصيل ملاكه. وأما تفويت
ملاكه بتحصيل ملاك غيره فجوازه غير معلوم، فتصح العقوبة عليه بحكم العقل
فلا مناص من الاخذ بمحتمل الأهمية، وهذان الوجهان لا يجريان في المقام، إذ
المفروض بقاء الاطلاق في كلا الحكمين، لعدم التنافي بين الاطلاقين ليرفع اليد
عن أحدهما وعدم ثبوت جواز تفويت الملاك في شئ منهما، إذ كل ذلك فرع
عجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين. والمفروض قدرته على امتثالهما لتغاير
متعلق الوجوب والحرمة على ما تقدم. وأما ما ذكره (قدس سره) من حكم
العقل بلزوم احراز الامتثال فهو مشترك فيه بين جميع التكاليف الالزامية، من
غير فرق بين ما كان في أعلى مراتب الأهمية، وما كان في أضعف مراتب
الالزام، فلا موجب لتقديم محتمل الأهمية على غيره، والحكم بلزوم موافقته
القطعية وان استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر.
342

(تتميم)
لو كان لمورد دوران الامر بين المحذورين افراد طولية، فهل يكون
التخيير بدويا أو استمراريا. فلو علم اجمالا بأنه حلف على الاتيان بفعل أو على
تركه كل ليلة جمعة مثلا فهل يلاحظ ذلك الفعل في كل ليلة من ليالي الجمعة واقعة
مستقلة، فيحكم بالتخيير فيه، فيجوز للمكلف الاتيان به في ليلة وتركه في
ليلة أخرى، أو يلاحظ المجموع واقعة واحدة، فيتخير بين الفعل في الجميع
والترك في الجميع، ولا يجوز له التفكيك بين الليالي بايجاد الفعل مرة وتركه
أخرى؟ وجهان، ذهب بعضهم إلى الثاني وأن التخيير استمراري، باعتبار
أن كل فرد من افراد ذلك الفعل له حكم مستقل، وقد دار الامر فيه بين
محذورين، فيحكم العقل بالتخيير لعدم امكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية
ولا يترتب على ذلك سوى أن المكلف إذا اختار الفعل في فرد والترك في فرد آخر
يعلم اجمالا بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما. ولا بأس به، لعدم كون
التكليف الواقعي منجزا على الفرض.
وفيه أن العلم بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة وإن لم يوجب تنجيز
التكليف المعلوم بالاجمال، الا أنه مع فرض تعدد الافراد يتولد من العلم الاجمالي
المذكور علم الاجمالي متعلق بكل فردين من الافراد. وهو العلم بوجوب أحدهما
وحرمة الآخر، إذ المفروض اشتراكهما في الحكم وجوبا وحرمة، فان كان
أحدهما المعين واجبا والا فالآخر حرام يقينا. وهذا العلم الاجمالي وان لم يمكن
موافقته القطعية لاحتمال الوجوب والحرمة في كل منهما، إلا أنه يمكن مخالفته
343

القطعية باتيانهما معا أو تركهما كذلك. وقد عرفت أن العلم الاجمالي ينجز
معلومه بالمقدار الممكن من حيث وجوب الموافقة أو حرمة المخالفة القطعية
فتنجيزه من حيث الموافقة القطعية وان كان ساقطا. الا أنه ثابت من حيث
المخالفة القطعية، فلا مناص من كون التخيير بدويا حذرا من المخالفة القطعية
فلا يجوز للمكلف التفكيك بين الافراد من حيث الفعل والترك.
(الشك في المكلف به)
إعلم أن التلكيف المعلوم بالاجمال (تارة) يتردد بين المتباينين و (أخرى)
بين الأقل والأكثر، فلا مناص من البحث في موردين:
(المورد الأول) - في دوران الامر بين المتباينين، وقبل الشروع في
تحقيق الحال في هذا المورد، لا بد من ذكره مقدمة، وهي أن احتمال التكليف
الإلزامي بنفسه مساوق لاحتمال العقاب على مخالفته، ومعه كان العقل مستقلا
بلزوم التحرز عنه، وتحصيل المؤمن، وهذا هو الملاك في حكم العقل بلزوم
الإطاعة، حتى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف، أو قيام الحجة عليه، فان
مخالفة التكليف الواصل إلى المكلف - بالعلم الوجداني أو بقيام الحجة المعتبرة -
لا تستلزم القطع بالعقاب عليها، لاحتمال العفو منه سبحانه وتعالى، والشفاعة
من النبي والأئمة (عليهم السلام). وانما المتحقق هو احتمال العقاب على المخالفة
وهو كاف في حكم العقل بالتخيير، فلا فرق بين موارد التكاليف المعلومة
والتكاليف المحتملة في أن حكم العقل بلزوم الإطاعة ناشئ من احتمال العقاب ففي
كل مورد يحتمل فيه التكليف الإلزامي يستقل العقل بلزوم التحرز عن المخالفة،
344

إلا أن يثبت فيه مؤمن من العقاب عقلا، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو
شرعا كالأدلة الشرعية الدالة على البراءة من حديث الرفع ونحوه وأما إذا لم
يثبت المؤمن عقلا ولا شرعا، فنفس الاحتمال كاف في تنجيز التكليف الواقعي
ويتحصل من ذلك أن تنجيز العلم الاجمالي وعدمه يدور مدار جريان الأصل في
أطرافه وعدمه، فان قلنا بجريانها في جميع الأطراف، سقط العلم الاجمالي عن
التنجيز مطلقا. وإن قلنا بعدم جريانها في شئ من الأطراف كان احتمال
التكليف في كل طرف بنفسه منجزا، بلا حاجة إلى البحث عن منجزية العلم
الاجمالي فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية وان قلنا بجريانها في
بعض الأطراف دون بعض لم تجب الموافقة القطعية وإن حرمت المخالفة القطعية.
وهذا هو الوجه للتفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية.
ثم انه لا فرق في جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي وعدمه، بين
كون العلم الاجمالي متعلقا بأصل التكليف وكونه متعلقا بالامتثال. فان الترديد
في مورد العلم الاجمالي كما يمكن أن يكون في أصل التكليف أو متعلقه، كذلك
يمكن أن يكون في مرحلة الامتثال بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف. كما إذا
علمنا إجمالا ببطلان إحدى الصلاتين بعد الاتيان بهما، فان قلنا بجريان الأصول
النافية في جميع أطراف العلم الاجمالي أو في بعضها لم يكن مانع من جريان قاعدة
الفراغ في كلتا الصلاتين أو في إحداهما فلا وجه لتخصيص النزاع بالأصول
الجارية عند الشك في أصل التكليف، دون الجارية في مرحلة الامتثال.
إذا عرفت ذلك، فتحقيق الحال في المقام يستدعي التكلم في مقامات أربع
(المقام الأول) - في البحث عن إمكان جعل الحكم الظاهري وعد مه في
تمام الأطراف، بحسب مقام الثبوت وما يتصور مانعا عن ذلك أمران:
(أحد هما) - أن جعل الجعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف مستلزم
345

للترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل صغرى وكبرى. وهو قبيح عقلا
من غير فرق بين ان يكون الحكم الظاهري ثابتا بالامارة أو بالأصل التنزيلي أو
بالأصل غير التنزيلي، لأن التمييز غير مأخوذ في موضوعات التكاليف. ولا
فرق في حكم العقل بقبح الترخيص في مخالفة التكليف الواصل بين أن يكون معلوما
تفصيلا أو يكون معلوما بالاجمال. وهذا الوجه وان كان صحيحا، إلا أنه
مختص بموارد العلم الاجمالي بالتكليف، مع كون الحكم الظاهري في جميع
الأطراف نافيا، ففي مثل هذا الفرض يستحيل شمول أدلة الأصول لجميع أطراف
العلم الاجمالي.
(لا يقال) إن مورد جريان الأصل انما هو كل واحد من الأطراف
بخصوصه، وثبوت التكليف فيه غير معلوم، فليس فيه ترخيص في المعصية.
(لأنا تقول) جريان الأصل - في كل طرف بخصوصه منضما إلى الترخيص في
بقية الأطراف، كما هو محل الكلام فعلا - يكون ترخيصا في مخالفة التكليف
الواصل. وأما جعل الحكم الظاهري في كل من الأطراف مقيدا بعدم ارتكاب
الطرف الآخر، فسيأتي الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى.
(ثانيهما) - مناقضة الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني
وهذا الوجه غير مختص بما إذا كان المعلوم بالاجمال إلزاميا. نعم يختص بما إذا
كان الحكم الظاهري ثابتا بالامارة أو بالأصل التنزيلي، فيمتنع جعله في جميع
الأطراف لزم منه المخالفة العملية أم لم يلزم.
هذا والذي ينبغي ان يقال في المقام هو انه لو قامت الامارة في كل من
الأطراف على خلاف المعلوم بالاجمال كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين وقامت
البينة على طهارة أحدهما المعين، وقامت بينة أخرى على طهارة الآخر، فلا ريب
في عدم حجية شئ من الامارتين، فان ما دل على طهارة أحدهما المعين قد دل
346

على نجاسة الآخر بالالتزام، بضميمة العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما، فتقع
المعارضة بينها وبين ما دل على طهارة الآخر، فتسقطان عن الحجية على ما هو
الأصل في التعارض، لعدم إمكان شمول دليل الحجية للمتعارضين، وشموله
لأحدهما ترجيح بلا مرجع، ولا فرق في ذلك بين كون العمل بالامارات
مستلزما للمخالفة العملية، كما إذا كان المعلوم بالاجمال حكما إلزاميا، ودلت
الامارات على خلافه وبين عدم كونه العمل بها مستلزما لذلك، كما إذا كان
المعلوم بالاجمال حكما ترخيصيا، ودلت الامارات على خلافه.
وأما ان كان الحكم الظاهري مستفادا من الأصول التنزيلية الجارية في جميع
أطراف العلم الاجمالي فمنع المحقق النائيني (ره) جريانها في جميع الأطراف، سواء
استلزم المخالفة القطعية أم لم يستلزم. وملخص ما ذكره في وجه ذلك أن المجعول
في باب الأصول التنزيلية هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو
الواقع، فيمتنع في جميع الأطراف، إذ لا يعقل البناء والتنزيل على خلاف
العلم الوجداني.
هذا ولكن الصحيح انه لا مانع من جريان الأصول في الأطراف إذا لم
يستلزم المخالفة العملية، بلا فرق بين التنزيلية وغيرها، إذ الأصل مطلقا لا يترتب
عليه الا ثبوت مؤداه، ولا يؤخذ بلوازمه، فكل من الأصول الجارية في
الأطراف إنما يثبت مؤداه بلا نظر إلى نفي غيره، وغاية ما يترتب على ضم بعض
الأصول إلى البعض هو العلم بمخالفة بعضها للواقع. ولا ضمير فيه بناء على ما هو
التحقيق من عدم وجوب الموفقة الالتزامية. ونظير ذلك ما التزم به المحقق النائيني
نفسه وغيره من أنه إذا شك المصلي المسبوق بالحدث في الطهارة بعد الفراغ من
الصلاة، فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة الماضية، ويجرى استصحاب
الحدث بالنسبة إلى الصلاة الآتية. مع أنه يعلم اجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين
347

التنزيليين للواقع، وليس ذلك الا من جهة انه لا يترتب على جريان الأصلين إلا
المخالفة الالتزامية، وهي غير مانعة عن جريانهما.
هذا فيما إذا كانت الأصول مثبتة للتكليف على خلاف المعلوم بالاجمال.
واما ان كانت نافية له، كما إذا علمنا بطروء النجاسة على أحد المائعين المعلوم
طهارتهما سابقا، فعدم جريان الاستصحاب فيهما معا انما هو للمانع المتقدم من
استلزامه الترخيص في المعصية، وبذلك ظهر ان أدلة الأصول لو فرض شمولها
لأطراف العلم الاجمالي لزم تخصيصها عقلا بغير ما استلزم الترخيص في المعصية.
المقام الثاني في امكان جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف وعدمه.
والمعروف بينهم امكان ذلك في نفسه، وانه لا مانع منه بحسب مقام الثبوت.
ولذا قالوا ان العلم الاجمالي ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية. وذهب
صاحب الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته إلى استحالة ذلك وذكرا في وجه
ذلك أمرين:
(الأول) - ما أفاده صاحب الكفاية (ره) وملخصه - بعد دعوى
الملازمة بين جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف وجعله في جميع الأطراف
امكانا وامتناعا - انه لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي في انكشاف الواقع بها
انما الفرق بينهما من ناحية المعلوم لا من ناحية العلم والانكشاف، فان كان الحكم
المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات امتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في
تمام الأطراف أو في بعضها، ضرورة استحالة الترخيص ولو احتمالا في مخالفة
التكليف الفعلي المنجز وان لم يكن الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال فعليا من تمام
الجهات، فلا مانع من جعل الحكم الظاهري على خلافه في بعض الأطراف أو في
جميعها، فتلخص انه فيما أمكن جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف لعدم
فعلية الحكم الواقعي من جميع الجهات أمكن جعل الحكم الظاهري في جميع الأطراف
348

أيضا. ومهما امتنع جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف لفعلية التكليف الواقعي
امتنع جمله في بعض الأطراف أيضا، فإنه كما لا يعقل القطع بثبوت المتضادين
كذلك لا يعقل احتمال ثبوتهما أيضا. انتهى ملخص كلامه.
وفيه ان فعلية الحكم انما هي بفعلية موضوعه بما له من الاجزاء والقيود
فان نسبة الحكم إلى موضوعه أشبه شئ بنسبة المعلول إلى علته التامة. فيستحيل
تخلف الحكم عن موضوعه، والا لم يكن ما فرض موضوعا موضوعا، وهو خلف
وحينئذ فلو أراد من قوله إن الحكم الواقعي قد لا يكون فعليا من جميع الجهات
ان العلم التفصيلي مأخوذ في موضوعه، كما يظهر من قوله (ره) (ان علم به
المكلف يكون فعليا) فيرده الاجماع والروايات الدالة على اشتراك الاحكام بين
العالم والجاهل، مضافا إلى كونه خروجا عن محل الكلام، فان البحث عن
تنجيز العلم الاجمالي انما هو بعد الفراغ عن عدم اختصاص الاحكام بالعالمين،
وان أراد ان العلم لم يؤخذ في موضوع الحكم الواقعي، ومع ذلك لا يكون
فعليا قبل العلم به، ففيه انه غير معقول، لاستلزامه الخلف على تقدم بيانه
(الثاني) - ما ذكره بعض الأساطين من أن الحكم الواقعي قد وصل إلى
المكلف وتنجز، فامتنع جعل الترخيص على خلافه ولو احتمالا، فان نفس التكليف
والالزام واصل و معلوم تفصيلا، انما التردد في متعلقه، فلا يمكن الترخيص في
مخالفة هذا الالزام ولو احتمالا.
وفيه (أولا) - النقض بما لو فرض كون الأصل الجاري في بعض الأطراف
نافيا دون بعض آخر، كما لو علم اجمالا بوقوع نجاسة في واحد الإناءين، وكان
أحدهما متيقن النجاسة سابقا، فان أصالة الطهارة تجري في غير مستصحب
النجاسة بلا اشكال، مع أن العلم بوجود تكليف فعلى موجود بالوجدان، وتوهم
- ان التكليف في مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقق العلم الاجمالي على الفرض
349

فالعلم بوقوع النجاسة فيه أو في غيره لا يوجب علما بحدوث تكليف جديد،
فلا يقاس المقام بذلك - مدفوع بأن سبق النجاسة في أحد الإناءين لا يضر
بالعلم بالتكليف الفعلي المردد بين كونه ثابتا من الأول وحدوثه فعلا، فلو أمكن
جعل الحكم الظاهري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في هذا الفرض أمكن في غيره
أيضا، لوحدة الملاك امكانا وامتناعا، وان شئت قلت إن العلم الاجمالي لا يزيد
على العلم التفصيلي، فكما يجوز ان يكتفي الشارع في مورد العلم التفصيلي
بالتكليف بالامتثال الاحتمالي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، كذلك
يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد العلم الاجمالي بطريق أولى.
و (ثانيا) - الحل بأن موضوع الأصول انما هو الشك في التكليف،
وهو موجود في كل واحد من الأطراف بخصوصه، فان احتمال انطباق التكليف
المعلوم بالاجمال انما هو عين الشك في التكليف. فتحصل من جميع ما ذكرناه في
المقام انه لا مانع من جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف بحسب مقام الثبوت
المقام الثالث في البحث عن شمول دليل الحكم الظاهري لجميع الأطراف
وعدمه. وليعلم ان الحكم الظاهري قد يكون مستفادا من الامارة، وقد يكون
مستفادا من الأصل التنزيلي أو الأصل غير التنزيلي. اما الامارات فقد عرفت
استحالة جعل الحجية لها في جميع الأطراف، بلا فرق بين ان يكون مؤدى
الامارات حكما إلزاميا، والمعلوم بالاجمال حكما غير إلزامي، وبين ان يكون
عكس ذلك، واما الأصل فاختار شيخنا الأنصاري (ره) عدم شمول دليله
للمقام، لاستلزامه التناقض بين الصدر والذيل، باعتبار ان مقتضى اطلاق
الصدر في مثل قوله عليه السلام (كل شئ هو لك حلال حتى تعرف انه حرام) هو
جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، إذ كل واحد من الأطراف بخصوصه
مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر. ومقتضى اطلاق العلم في ذيله الذي
350

جعل غاية للحكم الظاهري هو عدم جريان الأصل، فتلزم المناقضة بين الصدر
والذيل. و كذا الحال في دليل الاستصحاب، فان الشك المأخوذ في صدره
يعم الشك البدوي و المقرون بالعلم الاجمالي واليقين المجعول في ذيله ناقضا يشمل
العلم التفصيلي و الاجمالي ومن الظاهر أن الحكم بحرمة النقض في جميع الأطراف
يناقض الحكم بالنقض في بعضها.
وفيه (أولا) - ان أدلة الأصول غير منحصرة بما هو مشتمل على تلك
الغاية، فعلى تقدير تسليم اجمال هذه الروايات المذيلة بذكر الغاية لا مانع من
التمسك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل، فان اجمال دليل فيه الغاية المذكورة
لا يسري إلى غيره مما ليس فيه الذيل المذكور.
و (ثانيا) - ان العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفا في خصوص
ما يكون منافيا للشك رافعا له، بأن يكون متعلقا بعين ما تعلق به الشك، وكذا
الحال في دليل الاستصحاب كقوله عليه السلام (ولكن انقضه بيقين آخر) فان الظاهر
منه تعلق اليقين الآخر بعين ما تعلق به الشك واليقين الأول، ليكون نقضا له
ومن الواضح ان العلم الاجمالي لا يكون ناقضا للشك في كل واحد من الأطراف
لعدم تعلقه بما تعلق به الشك، بل بعنوان جامع بينها وهو عنوان أحدها.
وعليه فلا مانع من شمول أدلة الأصول لجميع الأطراف لولا المانع الثبوتي، ولذا
نلتزم بجريانها فيما لم يلزم منه المخالفة العملية، كما إذا كان الحكم المعلوم بالاجمال
غير الزامي ومفاد الأصل حكما الزاميا على ما تقدم بيانه
المقام الرابع في البحث عن شمول أدلة الأصول لبعض الأطراف وعدمه.
والتحقيق عدم شمولها لشئ من الأطراف. أما البراءة العقلية فلان ملاكها
قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا مجال لجريانها بعد تمامية البيان ووصول التكليف
إلى المكلف بالعلم الاجمالي. واما الأصول الشرعية فلان شمول أدلتها لبعض
351

الأطراف معينا ترجيح بلا مرجح، وللبعض غير المعين غير صحيح، إذ الغالب
حصول القطع بإباحة البعض غير المعين من الأطراف، فالبعض غير المعين غير
مشكوك فيه ليكون مشمولا لأدلة الأصول. وعلى تقدير احتمال ثبوت التكليف
في جميع الأطراف، لا أثر للحكم بإباحة بعضها غير المعين، بعد وجوب
الاجتناب عن جميع الأطراف بحكم العقل مقدمة للاجتناب عن الحرام المعلوم
بالاجمال. و (بعبارة أخرى) مورد جريان الأصل هو المشكوك فيه، وهو
كل واحد من الأطراف بخصوصه. وأما عنوان أحدها فليس من المشكوك فيه
بل الغالب هو القطع بإباحته. و (بعبارة ثالثة) كل واحد من أطراف العلم الاجمالي
وان كان بنفسه مشكوكا فيه، الا ان شمول دليل الأصل له مع شموله لغيره
غير معقول كما تقدم في المقام الأول، ومن دون شموله لغيره ترجيح بلا مرجح
واما عنوان أحدها غير المعين فلا شك فيه غالبا، إذ الغالب في موارد العلم
الاجمالي بالالزام يعلم بعدمه في بعض الأطراف غير المعين، ولا يحتمل ثبوت
التكليف في جميع الأطراف. وعلى تقدير الشك فيه والحكم بإباحته الظاهرية
للأصل فهو لا يزيد على القطع بها فكما ان القطع الوجداني بها لا ينافي وجوب
الاجتناب عن جميع الأطراف بحكم العقل دفعا للعقاب المحتمل وتحصيلا للأمن
منه، كذلك التعبد بها لا ينافي ذلك بالأولوية، فتحصل ان أدلة الأصول
غير شاملة لبعض الأطراف أيضا.
بقي الكلام في احتمال شمولها لجميع الأطراف تخييرا، بأن يلتزم بجريان
الأصل في كل منها على تقدير عدم ارتكاب الباقي، لتكون النتيجة اكتفاء المولى
بالموافقة الاحتمالية، ولا بد قبل تحقيق الحال في ذلك من بيان اقسام التخيير
وهي ثلاثة:
(القسم الأول) - التخيير الشرعي الثابت بدليل خاص، كالتخيير بين
352

الخبرين المتعارضين عند فقد المرجحات.
(القسم الثاني) - التخيير العقلي الثابت في مورد التزاحم كذلك.
(القسم الثالث) - التخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي من جهة
الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن ظواهر الخطابات الشرعية، وذلك
كما لو ورد عام له اطلاق أحوالي، كما قال أكرم كل عالم الظاهر في وجوب اكرام
كل فرد من العلماء تعيينا من غير تقييد باكرام غيره وعدمه، ثم علمنا من
الخارج بعدم وجوب اكرام فردين منه معا كزيد وعمرو مثلا، ودار الأمر بين
خروجهما عن العموم رأسا، بأن لا يجب اكرامهما أصلا وخروجهما تقييدا،
بأن لا يجب اكرام كل منهما عند اكرام الآخر، ويجب اكرام كل منهما
عند عدم اكرام الآخر، ففي مثل ذلك لا بد من الاقتصار على القدر المتيقن قي رفع
اليد عن ظاهر الدليل، وهو الحكم بعدم اكرام كل منهما عند اكرام الآخر.
(وبعبارة أخرى) الدليل العام كما دل على وجوب اكرام كل منهما دل
باطلاقه على وجوب اكرامه حال اكرام الآخر وعدمه. وقد علمنا من الخارج
بعدم إرادة الاطلاق بالنسبة إلى حال اكرام الفرد الآخر، فيرفع اليد عن هذا
الاطلاق. وأما عدم وجوب الاكرام رأسا فهو غير معلوم، فيؤخذ بظاهر
الدليل في ثبوته، فتكون النتيجة هي التخيير بين اكرام زيد وترك اكرام عمرو
وعكسه، وهذا البيان جار في كل ما إذا دل دليلان على وجوب أمرين، وعلمنا
من الخارج عدم وجوبهما تعيينا، واحتملنا ثبوت الوجوب لهما تخييرا، كما لو
دل دليل على وجوب صلاة الجمعة الظاهر في كونه تعيينا. ودل دليل آخر على
وجوب صلاة الظهر كذلك، فمقتضى القاعدة رفع اليد عن الظهور في الوجوب
التعييني المستفاد من الاطلاق، وحمل كل منهما على الوجوب التخييري.
و (بالجملة) كلما دار الامر بين رفع اليد عن أصل الحكم ورفع اليد عن اطلاقه،
353

كان الثاني هو المتعين لأنه المتيقن.
إذا عرفت ذلك فنقول: ان القسم الأول من التخيير غير جار في المقام،
لعدم الدليل عليه كما هو واضح، وكذا القسم الثاني، لأن المكلف في مورد
العلم الاجمالي قادر على الامتثال القطعي بالاجتناب عن جميع الأطراف. نعم
التخيير في الخبرين المتعارضين على مسلك المعتزلة من باب التخيير في باب التزاحم
إلا أنه مع بطلانه في نفسه أجنبي عن التخيير في باب الأصول العملية. وأما
القسم الثالث فربما يتوهم جريانه في المقام، بدعوى ان مقتضى اطلاق أدلة
الأصول هو ثبوت الترخيص في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي. وقد
علمنا من الخارج استحالة هذا الجعل، لاستلزامه الترخيص في مخالفة التكليف
الواصل، فيدور الامر بين رفع اليد عن الترخيص في جميع الأطراف ورفع اليد
عن اطلاقه، بأن يقيد الترخيص في كل طرف بما إذا لم يرتكب الطرف الآخر
وقد عرفت ان المتعين هو الثاني، فتكون النتيجة هي التخيير في تطبيق الترخيص
على اي طرف من الأطراف وقد وقع نظير هذا التوهم في تعارض الامارتين،
فتوهم ان مقتضى القاعدة هو رفع اليد عن اطلاق دليل الحجية بالنسبة إلى كل
منهما، فتثبت الحجية تخييرا.
ورده المحقق النائيني (ره) بأن التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل
العدم والملكة، فاستحالة الاطلاق يستدعي استحالة التقييد وبالعكس، وحيث إن
الاطلاق في محل الكلام ممتنع ثبوتا، فامتنع التقييد أيضا.
وفيه أن استحالة الاطلاق يستلزم ضرورة التقييد، لما ذكرناه مرارا
من أن الاهمال بحسب مقام الثبوت غير متصور، فلا مناص من الاطلاق أو التقييد
وكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة لا يقتضي استلزام استحالة الاطلاق
استحالة التقييد، ألا ترى ان استحالة الجهل له تعالى لا تستلزم استحالة العلم
354

له سبحانه، بل تقتضي ضرورة العلم له تعالى، مع أن التقابل بين العلم والجهل
من تقابل العدم والملكة، وكذا التقابل بين الفقر والغنى من تقابل العدم والملكة
واستحالة الغنى للممكن لا يقتضى استحالة الفقر له، بل يقتضي ضرورة الفقر له
وهكذا في بقية أمثلة الاعدام والملكات.
والتحقيق في الجواب ان لزوم رفع اليد عن اطلاق الحكم لا عن أصله فيما إذا
دار الامر بينهما وان كان صحيحا، إلا أنه لا ينطبق على المقام، لان ذلك
انما هو فيما إذا أمكن التقييد، كما في الأمثلة المذكورة، بخلاف المقام، فان
التقييد فيه غير معقول في نفسه، فلا مخالة يكون المانع عن الاطلاق مانعا عن
أصل الحكم، إذ المفروض وصول الحكم الواقعي إلى المكلف، وإن كان متعلقه
مرددا بين أمرين أو أمور، فكيف يعقل الترخيص في مخالفته ولو مقيدا بترك
الطرف الآخر، فان هذا التقييد لا يرفع قبح الترخيص في المعصية، فلو فرض
ان الخمر موجود في الخارج، وقد علم المكلف به وبحرمته، واشتبه بين مائعين
مثلا، فكيف يعقل الحكم بإباحته والترخيص في شربه ولو مشروطا بترك الطرف
الآخر الذي هو مباح في الواقع. (وبعبارة أخرى) إذا علمنا بحرمة أحد المائعين
وإباحة الآخر، فالحرمة المعلومة غير مقيدة بترك المباح يقينا، كما أن الإباحة
غير مقيدة بترك الحرام قطعا. فالحكم بإباحة كل منهما مقيدا بترك الآخر غير
مطابق للواقع، ومناف للعلم بالحرمة والإباحة المطلقتين. ومن الواضح انه يعتبر
في الحكم الظاهري احتمال المطابقة للواقع، فلا يعقل جمله في ظرف القطع
بمخالفته للواقع.
والمتحصل مما ذكرناه ان العلم الاجمالي إذا تعلق بحكم إلزامي، فلا تجري
الأصول النافية للتكليف في شئ من أطرافه. اما عدم جريانها في تمام الأطراف
فللمانع الثبوتي وهو قبح الترخيص في مخالفة التكليف الواصل. واما عدم
355

جريانها في بعضها، فلقبح الترجيح بلا مرجح. نعم ان كان بعض الأصول نافيا
للتكليف، وبعضها مثبتا له، فيجري الأصل النافي والمثبت بلا معارض. وأما إذا
تعلق العلم الاجمالي بحكم غير الزامي، فلا مانع من جريان الأصول المثبتة في
جميع أطرافه بحسب مقام الثبوت، كما أنه لا مانع من شمول أدلتها لها في مقام
الاثبات. نعم لا تجرى الامارات في تمام الأطراف. لاستلزامها التناقض بحسب
الدلالة الالتزامية على ما تقدم بيانه.
(تنبيهات)
(الأول) - ان الأصل الجاري في أحد طرفي العلم الاجمالي إما أن يكون
من سنخ الأصل الجاري في الطرف الآخر، أو يكون مغايرا له. وعلى الأول
إما أن يكون أحد الطرفين مختصا بجريان أصل طولي فيه دون الآخر، أو
لا يكون كذلك، فهذه هي اقسام ثلاثة:
(اما القسم الأول) - وهو ما كان الأصل الجاري في طرف من سنخ الأصل
الجاري في الطرف الآخر، مع اختصاص أحدهما بأصل طولي، كما إذا علم اجمالا
بوقوع نجاسة في الماء أو على الثوب فان الأصل الجاري في كل منهما، مع قطع النظر
عن العلم الاجمالي هو أصالة الطهارة. ولا إشكال في سقوطها، وعدم جريانها في
كل من الطرفين لما تقدم، فلا يجوز التوضي بالماء ولا لبس الثوب في الصلاة،
الا ان العلم بالنجاسة لا اثر له في حرمة لبس الثوب، بل يجوز لبسه مع العلم التفصيلي
بالنجاسة، فيبقي شرب الماء محتمل الحرمة والحلية، لاحتمال نجاسته، فهل
تجري فيه أصالة الحل أو تسقط بالعلم الاجمالي كسقوط أصالة الطهارة؟ وجهان،
356

ذهب المحقق النائيني (ره) إلى سقوطها للمعارضة بالأصل الجاري في الطرف
الآخر، وإن كان واحدا، فالتزم بعدم جواز شرب الماء في المثال، لعدم
المؤمن من احتمال العقاب عليه.
ولكن التحقيق جريانها وعدم معارضتها بأصالة الطهارة في الطرف الآخر
وذلك لما عرفت من أن العلم الاجمالي بالتكليف لا يوجب تنجز الواقع، الا بعد
تساقط الأصول في أطرافه، فإذا كان الأصل الجاري في الطرفين من سنخ واحد
كاصالة الطهارة في المثال المذكور، فلا مناص من القول بعدم شموله لكلا الطرفين
لاستلزامه الترخيص في المعصية ولا لأحدهما، لأنه ترجيح بلا مرجح. واما
الأصل الطولى المختص بأحد الطرفين، فلا مانع من شمول دليله للطرف المختص
به، إذا لا يلزم منه ترجيح من غير مرجح، لعدم شمول دليله للطرف الآخر
في نفسه.
(وبعبارة أخرى) ان دليل أصالة الطهارة - بعد العلم بعدم شموله لكلا
الطرفين على ما تقدم بيانه - نعلم بتخصيصه، فلابد من رفع اليد عنه. إما
في كلا الطرفين أو في أحدهما. وحيث إن الثاني مستلزم للترجيح بلا مرجح،
فتعين الأول. واما دليل أصالة الحل، فهو بعمومه لا يشمل الا أحد الطرفين
من أول الامر، فلا موجب لرفع اليد عنه.
وهذا أحد الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الأصل
الحاكم، ونظير ذلك في الفروع الفقهية كثير منها ما لو علم بنجاسة شئ في زمان
وطهارته في زمان آخر، وشك في المتقدم منهما، فإنه بعد تساقط الاستصحابين
بالمعارضة يرجع إلى قاعدة الطهارة. ومنها ما إذا علم حلية شئ في زمان وحرمته
في زمان آخر، وشك في المتقدم منهما، فإنه بعد تساقط الاستصحابين يرجع
إلى أصالة الحل، إلى غير ذلك من الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم،
357

بعد سقوط الأصل الحاكم.
(أما القسم الثاني) وهو ما إذا كان الأصل الجاري في كل طرف من سنخ
الأصل الجاري في الطرف الآخر مع عدم اختصاص أحدهما بأصل طولي، فلا
ينبغي الشك في عدم جريان الأصل في شئ منهما، على ما تقدم بيانه، وهذا
القسم يتحقق في موردين: (أحدهما) - ما إذا لم يكن لشئ من الطرفين أصل
طولي، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الثوبين فان الأصل الجاري في كل منهما مع
قطع النظر عن العلم الاجمالي هي أصالة الطهارة فتسقط فيهما، (ثانيهما) - ما إذا
كان الأصل الطولى مشتركا فيه بين الطرفين، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين
فان الأصل الجاري في كل منهما ابتداء هي أصالة الطهارة، وبعد سقوطها تصل
التوبة إلى أصالة الحل في الطرفين، والعلم الاجمالي كما يوجب تساقط الأصلين
الحاكمين كذلك يوجب تساقط الأصلين المحكومين أيضا بملاك واحد، وهو كون
جريان الأصل في الطرفين مستلزما للترخيص في المعصية وفي أحدهما ترجيحا بلا مرجح
(واما القسم الثالث) وهو ما إذا كان الأصل الجاري في أحد الطرفين مغايرا
في السنخ للأصل الجاري في الطرف الآخر، فان لم يكن أحد الطرفين مختصا
بأصل طولي، فلا اشكال في عدم جواز الرجوع إلى الأصل في كلا الطرفين، ولا
في أحدهما، للزوم الترخيص في المعصية أو الترجيح بلا مرجع.
واما ان كان أحدهما مختصا بأصل طولي، فهو يتصور بصورتين:
(الصورة الأولى) - ما إذا كان الأصل الطولي فيها موافقا في المؤدى مع الأصل
الجاري في مرتبة سابقة عليه. (الصورة الثانية) - ما كان الأصل الطولى فيها غير
موافق للمؤدى مع الأصل الجاري في رتبة سابقة عليه.
(اما الصورة الأولى) - كما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو غصبية
الآخر، فان الأصل الجاري في محتمل النجاسة هو أصالة الطهارة، وفي محتمل
358

الغصبية هي أصالة الحل، وفي فرض سقوط أصالة الطهارة في محتمل النجاسة تصل
النوبة إلى أصالة الحل، ففي مثل ذلك كان العلم الاجمالي منجزا للواقع، لأن
الأصلين الجاريين في الطرفين وان كانا مختلفين، الا ان العلم الاجمالي بوجود
الحرام في البين مانع عن الرجوع إلى الأصل، باعتبار ان الترخيص في كلا الطرفين
ترخيص في مخالفة التكليف الواصل، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح، بلا فرق
في ذلك بين ان يكون الأصل من الأصول الحاكمة أو الأصول المحكومة.
توضيح ذلك أن الأصل الجاري في أحد الطرفين - وهو المائع المحتمل
غصبيته - هو أصالة الحل، والأصل الجاري في الطرف الآخر - وهو المائع
المحتمل نجاسته - هو أصالة الطهارة. ويترتب عليها جواز الشرب والعلم الاجمالي
بوجود الحرام يمنع من جريانهما لا لخصوصية فيهما، بل لأن جريانهما مستلزم
للترخيص في المعصية، فكما ان أصالة الطهارة المترتب عليها جواز الشرب إذا
انضمت إلى أصالة الحل في الطرف الآخر لزم الترخيص في المعصية، كذلك
أصالة الحل إذا انضمت إليها أصالة الحل في الطرف الآخر، فإذا علم حرمة أحد
المائعين كان الترخيص في كليهما ترخيصا في المعصية، وفي أحدهما ترجيحا بلا
مرجح سواء كان الترخيص بلسان الحكم بالطهارة المترتب عليه الحلية أو بلسان
الحكم بالحلية من أول الأمر.
(وبعبارة أخرى) الامر في المقام دائر بين سقوط أصالة الإباحة في محتمل
الغصبية، وسقوط أصالة الطهارة وأصالة الإباحة في محتمل النجاسة. وبما انه
لا ترجيح في البين يسقط الجميع لا محالة. ومن القبيل ما إذا علم اجمالا
ببولية أحد المائعين أو بتنجس الآخر بنجاسة عرضية، فان الأصل الجاري فيما
يحتمل نجاسته بالعرض وإن كان هو الاستصحاب. والأصل الجاري في الطرف
الآخر هو أصالة الطهارة، إلا أنه مع ذلك لا مجال لجريان أصالة الطهارة فيما
359

يحتمل نجاسته العرضية، بعد سقوط الاستصحاب فيه، لان العلم بالنجس
الموجود في البين مانع عن جعل الطهارة الظاهرية في الطرفين باي لسان كان،
لاستلزامه المخالفة القطعية، وكذا في أحدهما، للزوم الترجيح بلا مرجح.
واما الصورة الثانية وهي ما كان الأصل الطولى مخالفا في المؤدى مع
الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه، فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية
بلا فرق بين ان تكون الأصول العرضية متماثلة أو متخالفة.
(مثال الأول) ما إذا علم اجمالا بزيادة ركوع في صلاة المغرب أو نقصانه
في صلاة العشاء، بعد الفراغ عنهما، فقاعدة الفراغ في كل من الصلاتين تسقط
بالمعارضة، وبعد تساقطهما يرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركوع المشكوك
فيه من صلاة العشاء، فيحكم ببطلانها، واستصحاب عدم الاتيان بالركوع
الزائد في صلاة المغرب، ويحكم بصحتها ولا يلزم محذور المخالفة العملية القطعية
نعم تلزم المخالفة الالتزامية باعتبار العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع. وقد
عرفت غير مرة ان الموافقة الالتزامية غير واجبة.
(مثال الثاني) ما إذا علم إجمالا بنقصان ركعة من صلاة المغرب أو عدم
الاتيان بصلاة العصر، فان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب وقاعدة الحيلولة في
صلاة العصر تسقطان للمعارضة، ويرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركعة
المشكوك فيها في صلاة المغرب، فيحكم ببطلانها ووجوب اعادتها، والى أصالة
البراءة من وجوب قضاء صلاة العصر لما ثبت في محله، من أن الفوت الذي هو
الموضوع لوجوب القضاء لا يثبت بأصالة عدم الاتيان.
وهذا التفصيل الذي ذكرناه -: من جواز الرجوع إلى الأصل الطولى في
بعض الموارد، و عدم جواز الرجوع إليه في بعض الموارد الاخر - تترتب عليه
ثمرات مهمة في بحث الخلل وفي بحث فروع العلم الاجمالي. فانتبه.
360

(التنبيه الثاني)
بعد ما عرفت أن تنجيز العلم الاجمالي وعدمه يدور مدار جريان الأصول
في أطرافه وعدمه، يظهر لك انه لا ملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة
المخالفة القطعية، بل يمكن التفكيك بينهما فيما إذا جرى الأصل في بعض الأطراف
دون بعض لجهة من الجهات، فلا تجب الموافقة القطعية، وإن حرمت المخالفة
القطعية. نعم فيما إذا لم يجر الأصل في شئ من الأطراف للمعارضة، تجب
الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية، فإذا علم إجمالا بحرمة أحد المائعين
مثلا، كانت أصالة الإباحة في كل منهما معارضة بمثلها في الآخر، فتجب
الموافقة القطعية بالاجتناب عنهما، كما تحرم المخالفة القطعية بارتكابهما معا.
وأما إذا علم بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في زمان معين، فيسقط الأصلان
للمعارضة، وتجب الموافقة القطعية بترك الجلوس فيهما وان كانت المخالفة القطعية
غير محرمة، لعدم التمكن منها، وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق النائيني (ره)
من عدم وجوب الموافقة القطعية فيما إذا لم تحرم المخالفة القطعية. ورتب على
هذا جواز الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة، من جهة عدم حرمة
المخالفة القطعية، لعدم التمكن منها.
361

(التنبيه الثالث)
إذا تردد الواجب بين أمرين أو أمور، واتى المكلف ببعض المحتملات
فانكشف مصادفته للواقع، فلا إشكال في سقوط الواجب فيما إذا كان توصليا.
وأما إذا كان الواجب تعبديا، فهل يسقط أو لا؟ اختار شيخنا الأنصاري (ره)
عدم السقوط، إلا فيما إذا كان المكلف عازما على الموافقة القطعية بالجمع بين
المحتملات، فلو لم يكن قاصدا إلا الاتيان ببعض المحتملات لا يحكم بالصحة.
وما ذكره (ره) مبنى على اعتبار الجزم في نية العبادة. وحيث انه لم يقم دليل
على اعتباره، كان المرجع هو البراءة، لما ذكرناه في محله من أنه إذا شك في
اعتبار قصد القربة أو قصد الوجه أو التمييز أو الجزم في النية وغيرها مما لم يقم
على اعتباره دليل بالخصوص، يرجع إلى البراءة. وعليه فلو اتى المكلف ببعض
المحتملات برجاء إصابة الواقع، فقد قصد القربة بفعله، فإذا صادف الواقع كان
صحيحا ومسقطا للامر.
وظهر مما ذكرناه انه لو دار أمر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين
أفعال متعددة، لم يعتبر في صحة الثاني الفراغ اليقيني من الأول، بل يكفي
الاتيان ببعض محتملاته، فإذا دار امر القبلة بين الجهات الأربع، جاز
للمكلف ان يصلي الظهر والعصر إلى جهة، ثم يصليهما إلى جهة ثانية، وهكذا
نعم لو صلى الظهر إلى جهة لا يجوز له ان يصلي العصر إلى جهة أخرى قبل ان
يصلي الظهر إليها. والوجه فيه ظاهر، فان صلاة العصر حينئذ تكون باطلة يقينا
إما لأجل الاخلال بالاستقبال أو الترتيب.
362

(التنبيه الرابع)
قد عرفت الإشارة إلى أنه لو كان الأصل النافي للتكليف جاريا في بعض
الأطراف دون بعض آخر، فلا مانع من جريانه، فلا يكون العلم الاجمالي
منجزا حينئذ، كما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أو مضطرا
إليه، فان الأصل لا يجرى فيه، إذ يعتبر في جريان الأصل ترتب الأثر العملي
عليه، ولا يترتب اثر على جريانه في الخارج عن محل الابتلاء أو المضطر إليه.
وكذلك الحال لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتا للتكليف، فإنه
يجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض، كما إذا علمنا بوقوع نجاسة
في أحد الإناءين، وكان أحدهما المعين متيقن النجاسة سابقا اما وجدانا أو تعبدا
لقيام امارة أو أصل محرز، فكان مجرى لاستصحاب النجاسة، فيجرى الأصل
النافي في الطرف الآخر بلا معارض. وكذا لو كان بعض الأطراف طرفا لعلم
اجمالي سابق قد تنجز فيه التكليف بذلك العلم، فيجري الأصل النافي في الطرف
الآخر من العلم الاجمالي الثاني بلا معارض.
ثم إن هذا الذي ذكرناه لا إشكال فيه فيما إذا كان حدوث العلم الاجمالي
متأخرا عن طرو هذه الأمور، وعن العلم بها، أو كان مقارنا له. وإنما
الكلام فيما إذا علم بطرو أحد هذه الأمور بعد تحقق العلم الاجمالي، فهل
يوجب ذلك سقوطه عن التأثير في تنجز التكليف ليجري الأصل النافي في بعض
الأطراف أم لا؟ (وبعبارة أخرى) إذا كان العلم الاجمالي حين حدوثه مقارنا
لاحد الأمور المتقدمة، فلا يكون مؤثرا في التنجيز من أول الامر. وأما إذا
363

فرض تأثيره في زمان، وحكم بتساقط الأصول في أطرافه، ثم طرأ شئ من
هذه الأمور، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير بقاء أم لا؟ قولان: الأظهر
هو السقوط، لان العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ولا على سائر الحجج
والامارات في تنجيز التكليف، فكما انه لو تبدل العلم التفصيلي بالشك الساري
أو زالت البينة بقاء لشبهة موضوعية، كما لو شك في عدالة البينة القائمة على
نجاسة شئ مثلا أو لشبهة حكمية كما إذا شك في حجية البينة في مورد أقيمت
عليه سقط الحكم عن التنجز في جميع هذه المورد لعدم منجز له بقاء، نعم
لو كان الشك في التكليف راجعا إلى الامتثال بعد العلم بثبوته تفصيلا أو بعد
قيام الحجة عليه، كما إذا علم المكلف بوجوب صلاة الظهر مثلا، ثم شك فيه
لاحتمال الاتيان بها والخروج عن عهدتها، كان التنجيز باقيا بحاله. فلابد من
الاتيان بها ليحصل الفراغ اليقيني ويؤمن من احتمال العقاب. وكذا الحال في
العلم الاجمالي، كما إذا علم إجمالا بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام مثلا
فأتى بإحداهما، فان العلم بالتكليف وإن كان زائلا لا محالة، إلا ان زواله
راجع إلى مرحلة البقاء، لا إلى مرحلة الحدوث، فالتنجيز باق بحاله، فلا بد
من الاتيان بالأخرى، ليحصل الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمة.
(إن قلت): إذا اتى المكلف بإحدى الصلاتين المعلوم وجوب إحداهما
إجمالا، فالعلم الاجمالي بحدوث التكليف وان كان موجودا فعلا، إلا أنه
لا يمنع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الصلاة التي لم يؤت بها، فيرفع بذلك
وجوبها، فان وجوبه فعلا مشكوك فيه. والأصل الجاري فيها غير معارض
بالأصل في الطرف الآخر، لعدم ترتب اثر عليه بعد الاتيان بهذا الطرف. وقد
تقدم ان تنجيز العلم الاجمالي إنما كان من جهة تعارض الأصول وتساقطها.
(قلت): الشك في وجوب الصلاة التي لم يؤت بها وان كان موجودا
364

فعلا، إلا أنه ليس شكا حادثا غير الشك الذي كان موجودا (أولا) وقد
فرضنا عدم شمول دليل الأصل له للمعارضة، فكيف يشمله بعد الاتيان بإحدى
الصلاتين. وكيف يعود الأصل الساقط بعد سقوطه؟
(ان قلت): لا مانع من ذلك بعد اطلاق الدليل لكل حال من الحالات
وانما رفع اليد عنه قبل الاتيان بإحدى الصلاتين للمعارضة، والضرورات نقدر
بقدرها، فإذا ارتفعت المعارضة باتيان إحدى الصلاتين لا مانع من التمسك
باطلاق دليل الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر. (و بعبارة أخرى) الامر في
المقام دائر بين رفع اليد عن أصل الدليل ورفع اليد عن اطلاقه. وبما ان الموجب
لرفع اليد هو المحذور العقلي وهو لزوم الترخيص في المعصية، فيقتصر فيه على
مورده وهو صورة تعارض الأصلين وأما إذا فرض عدم جريان الأصل في
بعض الأطراف ولو بقاء، فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر.
(قلت): نعم ليس الموجب لرفع اليد عن الدليل إلا المحذور العقلي،
و لكنه كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل للطرفين في زمان واحد، كذلك
يقتضي عدم شموله لهما في زمانين أيضا. فإذا علم بحرمة أحد المائعين، فكما
لا يمكن الحكم بحليتهما معا في زمان واحد، كذلك لا يمكن ان يحكم بحلية
أحدهما في زمان، و يحكم بحلية الآخر في زمان آخر، فإنه من الترخيص في
المعصية، فلا يمكن جريان الأصل في كليهما على كل نحو، للزوم الترخيص في
المعصية، ولا في أحدهما لعدم الترجيح.
هذا كله فيما إذا كان العلم الاجمالي باقيا على حاله، وكان الشك شكا في
الانطباق. وأما إذا زال بتبدله بالعلم التفصيلي بحرمة أحد المائعين بخصوصه
من أول الامر، فالشك في نجاسة الآخر (لو فرض) شك حادث لا مانع من
شمول دليل الأصل له. ولا فرق فيما ذكرناه بين زوال العلم الاجمالي بالوجدان
365

كالمثال المتقدم وبين زواله بالتعبد، كما إذا قامت الأمارة على حرمة أحد المائعين
بخصوصه من أول الامر، أو كان ذلك مقتضى الأصل التنزيلي كالاستصحاب،
بل الامر كذلك في الأصل غير التنزيلي أيضا، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءين
الأبيض أو الأحمر، ثم علمنا بعد ذلك بنجاسة الأبيض، أو إناه آخر من أول
الامر، بأن يكون المنكشف سابقا ولو كان الكشف متأخرا، فالعلم الاجمالي
الأول ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، إذ بعد العلم الثاني لا يبقى لنا علم بحدوث
نجاسة بين الأبيض والأحمر، إذ يحتمل ان يكون الأبيض هو النجس من أول
الامر. وقد فرضنا العلم بنجاسة أو بنجاسة الآخر، فلا يبقى إلا الشك في
حدوث نجاسة جديدة في الاناء الأحمر، غير ما هو المتيقن بين الأبيض، والاناء
الآخر، فيكون المرجع في الاناء الأحمر أصالة الطهارة بلا معارض.
(التنبيه الخامس)
لو كان الأثر في بعض أطراف العلم الاجمالي أكثر من البعض الآخر، فقد
يكون بينهما قدر مشترك، وقد لا يكون. أما القسم الثاني فلا إشكال في
تنجيز العلم الاجمالي فيه، فيجب ترتيب الآثار المتباينة بأجمعها، كما إذا علم
بوجوب قراءة سورة يس أو سورة التوحيد في ليلة الجمعة مثلا بنذر ونحوه، فان
سورة يس وان كانت أكثر من سورة التوحيد، إلا أنه لما لم يكن بينهما قدر
مشترك ليكون هو المتيقن، كان العلم الاجمالي منجزا بالنسبة إلى السورتين. واما
القسم الأول وهو ما كان بين الأطراف أثر مشترك مع اختصاص أحد الأطراف
بأثر خاص، كما إذا علم اجمالا بوقوع نجاسة في الاناء الذي فيه ماء مطلق، أو
366

في الاناء الآخر الذي فيه مائع مضاف، فان اثر النجاسة في كلا الطرفين هو
حرمة الشرب. وهذا هو الأثر المشترك فيه لكن الماء المطلق يختص بأثر
آخر وهو عدم جواز التوضي به على تقدير وقوع النجاسة فيه، فلو كانت
النجاسة واقعة في المائع المضاف لا يترتب عليه الا حرمة شربه. واما لو كانت
واقعة في المطلق ترتب عليه حرمة الشرب وعدم جواز التوضي به، ففي تنجيز هذا
العلم الاجمالي من حيث جميع الآثار أو من حيث الأثر المشترك فيه فقط وجهان:
ذهب المحقق النائيني (ره) إلى الثاني، بدعوى أن الأصل في كل طرف يتعارض
بمثله في الطرف الآخر بالنسبة إلى الأثر المشترك فيه، فيسقط في كل من الطرفين
فيكون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة إليه. واما بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض
الأطراف، فيجري فيه الأصل بلا معارض، ففي المثال المتقدم لا يجوز شرب
المائع المضاف ولا شرب الماء المطلق، ولكن لا مانع من التوضي به.
والتحقيق أن العلم الاجمالي منجز بالنسبة إلى جميع الآثار، وذلك لأن
جواز التوضي به متفرع على جريان قاعدة الطهارة فيه، فإذا فرض عدم جريانها
للمعارضة، فلا طريق للحكم بطهارته كي يجوز التوضي به فان نفس احتمال
نجاسة الماء مانع عن التوضي به لو لم يكن ما يوجب الحكم بطهارته ظاهرا.
هذا كله في فرض تعدد الموضوع وتحقق العلم الاجمالي بثبوت حكم واحد
لموضوع واحد، أو ثبوت حكمين لموضوع آخر، كما في المثال المتقدم.
وأما لو كان الموضوع واحدا، وكان الترديد في السبب الذي تعلق
به العلم الاجمالي. كما لو علم إجمالا بأنه استدان من عمرو عشرة
دراهم، أو انه أتلف من ما له ما يساوى عشرين درهما، ففي مثل ذلك يكون
القدر المشترك معلوم التحقق، والزائد مشكوك الحدوث، فيرجع فيه إلى
الأصل، إذ الترديد في السبب لا ينافي انحلال الحكم المسبب إلى المتيقن
367

والمشكوك فيه، فان الموجب للتنجز انما هو العلم بنفس التكليف لا بسببه.
ولا يخفى أن ما ذكرناه في الفرض الأخير انما هو فيما إذا لم يكن فيه أصل
موضوعي حاكم على أصالة البراءة ونحوها، فلو دار الامر بين كون نجاسة
الثوب مستندة إلى ملاقاة الدم أو البول، لا يمكن الرجوع إلي أصالة عدم
وجوب غسله ثانيا، باعتبار ان وجوب الغسل الأول معلوم، والغسل الثاني
مشكوك الوجوب، فيرجع إلى البراءة. وذلك لأن استصحاب النجاسة قبل
الغسلة الثانية حاكمة على أصالة البراءة كما هو ظاهر.
(التنبيه السادس)
هل العلم الاجمالي منجز للواقع إذا تعلق بالأمور التدريجية، مثل ما إذا
تعلق بالأمور الدفعية أم لا؟ قولان، ولا بد لنا قبل الشروع في تحقيق الحال
في المقام من التنبيه على امر، وهو ان محل الكلام في هذا البحث هو ما إذا
لم تكن أطراف العلم الاجمالي موردا للاحتياط في نفسها، مع قطع النظر عن
العلم الاجمالي، فإنه لو كانت كذلك كما إذا علم اجمالا بأنه يبتلي في هذا اليوم
بمعاملة ربوية من جهة الشبهة الحكمية، فلا اشكال في وجوب الاحتياط سواء
قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات أم لم نقل به. والوجه فيه ان
كل معاملة يحتمل فيها الربا مع قطع النظر عن العلم الاجمالي مورد للاحتياط
لكون الشبهة حكمية، ولا يجوز فيها الرجوع إلى البراءة قبل الفحص. هذا
من جهة الحكم التكليفي. وأما من جهة الحكم الوضعي، فيحكم بالفساد في كل
معاملة تقع في الخارج، لأصالة عدم النقل والانتقال. وتوهم جواز الرجوع
368

إلى العمومات الدالة على صحة كل معاملة، كقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) -
مدفوع بان العمومات مخصصة بالمعاملة الربوية، فالشك في الصحة والفساد انما
هو من جهة الشك في الانطباق، لا من جهة الشك في التخصيص. وفي مثله
لا يمكن التمسك بالعموم كما هو ظاهر. هذا مضافا إلى أن التمسك بالعموم
أيضا مشروط بالفحص، كما أن الامر كذلك في الرجوع إلى البراءة.
إذا عرفت ذلك، فنقول إن تدريجية أطراف العلم الاجمالي على اقسام:
(القسم الأول) - ان تكون مستندة إلى اختيار المكلف مع تمكنه من
الجمع بينها. كما إذا علم بغصبية أحد الثوبين، وكان متمكنا من لبسهما معا،
ولكنه اقترح ليس أحدهما في زمان، وليس الآخر في زمان متأخر، ولا إشكال في خروج هذا القسم عن محل الكلام، فان العلم بالتكليف الفعلي مع
تمكن المكلف من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ويوجب التنجز على
ما تقدم بيانه.
(القسم الثاني) - أن تكون التدريجية مستندة إلى عدم تمكن المكلف
من الجمع بين الأطراف مع تمكنه من ارتكاب كل منها بالفعل مع ترك الآخر،
كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، فإنه وان لم يتمكن من الجمع بينهما في
زمان واحد، إلا أنه متمكن من الاتيان بأيهما شاء، ونظيره العلم بحرمة أحد
ضدين لهما ثالث. ولا ينبغي الاشكال في تنجيز العلم الاجمالي في هذا القسم
أيضا، للعلم بالتكليف الفعلي، وسقوط الأصول في الأطراف للمعارضة.
(القسم الثالث) - ان تكون التدريجية مستندة إلى تقيد أحد الأطراف
بزمان أو بزماني متأخر والتكليف المعلوم في هذا القسم (تارة) يكون فعليا على
كل تقدير، و (أخرى) لا يكون فعليا إلا على تقدير دون تقدير: (الأول)
- كما ذا علم بتعلق النذر بقراءة سورة خاصة في هذا اليوم، أو في الغد، فإنه
369

بناء على كون الوجوب بالنذر فعليا من باب الواجب التعليقي، نعلم بتكليف
فعلي متعلق بالقراءة في اليوم أو بالقراءة في الغد، فالتدريجية في المتعلق وأما
الوجوب فهو حاصل بالفعل. وفي مثل ذلك لا مناص من القول بتنجيز العلم
الاجمالي، لما عرفت من أن الميزان في التنجيز هو العلم بالتكليف الفعلي، وهو
متحقق على الفرض. (الثاني) - وهو ما لا يكون العلم فيه متعلقا بالتكليف
الفعلي على كل تقدير، كما إذا علم بوجوب مردد بين كونه فعليا الآن وكونه فعليا
فيما بعد، كما إذا تردد الواجب بين كونه مطلقا أو مشروطا بشرط يحصل فيما
بعد، ففي مثل ذلك ذهب صاحب الكفاية إلى جواز الرجوع إلى الأصل في كل
من الطرفين. واختار المحقق النائيني (ره) عدم جواز الرجوع إلى الأصل في
شئ من الطرفين. وفصل شيخنا الأنصاري (ره) بين ما إذا كان الملاك في
الامر المتأخر تاما من الآن، وما إذا لم يكن كذلك.
وتحقيق الحال بحيث تنضح كيفية الاستدلال لجميع الأقوال يستدعي ذكر
مقدمة وهي أن تأخر التكليف قد يكون مستندا إلي عدم امكانه فعلا مع تمامية
المقتضي له، كما إذا تعلق النذر بأمر متأخر بناء على استحالة الواجب التعليقي
فان الفعل المنذور يتصف فعلا بالاشتمال على الملاك الملزم بتعلق النذر به، إلا ان
الأمر بالوفاء مشروط بمجئ زمانه، بناء على استحالة الامر الفعلي بالشئ
المتأخر، وقد يكون مستندا إلى عدم تمامية المقتضى، لعدم تحقق ما له دخل
في تماميته، وهذا كأكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية التكليف، كما إذا
علمت المرأة بأنها تحيض ثلاثة أيام مرددة بين جميع أيام الشهر، فلا علم لها
بالتكليف الفعلي ولا بملاكه التام لعدم بالحيض فعلا المترتب عليه
التكليف وملاكه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن من نظر إلى أن تنجيز العلم الاجمالي متوقف على
370

كونه متعلقا بالتكليف الفعلي، فاختار عدم تنجيزه في المقام وجواز الرجوع
إلى الأصول في جميع الأطراف، إذ المفروض تردد التكليف فيه بين أن يكون
فعليا وأن يكون مشروطا بشرط غير حاصل، فلا علم بالتكليف الفعلي، فلا مانع
من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به فعلا، كما لا مانع منه
بالنسبة إلى الطرف الآخر في ظرف الابتلاء به.
ونظر شيخنا الأنصاري (ره) إلى أن العلم بالملاك التام الفعلي بمنزلة العلم
بالتكليف، فالتزم بعدم تنجيز العلم الاجمالي عند عدم العلم بالملاك التام فعلا،
وبتنجيزه فيما إذا علم الملاك التام فعلا لان الترخيص في تقويت الملاك الملزم
فعلا بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي، إذ عدم فعلية التكليف إنما هو
لوجود المانع مع تمامية المقتضى، وهو لا يرفع قبح الترخيص في تقويت الملاك
الملزم. ومن هنا التزم شيخنا الأنصاري (ره) بتنجيز العلم الاجمالي في مسألة
العلم بالنذر المردد تعلقه بأمر حالي أو استقبالي، وبعدم تنجيزه في مسألة علم
المرأة بالحيض المردد بين أيام الشهر، فتمسك باستصحاب عدم تحقق الحيض إلى
الآن الأول من ثلاثة أيام في آخر الشهر، وبالبراءة بعده، والوجه في رجوعه
من الاستصحاب إلى البراءة هو أن المرأة بعد تحقق الآن الأول من ثلاثة أيام في
آخر الشهر يحصل لها العلم بتحقق حيض وطهر قبل ذلك الآن. وبما ان تاريخ
كل منهما مجهول، فالاستصحاب غير جار للمعارضة على مسلكه، ولعدم احراز
اتصال زمان الشك بزمان اليقين على مسلك صاحب الكفاية (ره)، فلا مجال
لجريان الاستصحاب على كل حال فيرجع إلى البراءة.
والتحقيق هو ما ذهب إليه المحقق النائيني (ره) من تنجيز العلم الاجمالي
وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في شئ من الطرفين. أما فيما تم فيه الملاك فعلا
فقد عرفت وجهه. واما فيما لم يتم فلما تقدم في بحث مقدمة الواجب من استقلال
371

العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجئ وقته، كاستقلاله
بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي. ولا فرق في قبح التفويت بحكم
العقل بين كونه مستندا إلى العبد، كما تقدم وبين كونه مستندا إلى المولى
بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلا، وترخيصه في ارتكاب الطرف
الآخر في ظرف الابتلاء، فإنه ترخيص في تفويت الملاك التام الملزم، وهو
بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الواصل وعصيانه في حكم العقل.
(التنبيه السابع)
في تحقيق ما ذكروه من عدم تنجيز العلم الاجمالي فيما إذا كانت الأطراف
غير محصورة. وتوضيح الحال في المقام يستدعي التكلم في مقامين: (الأول)
- في تحديد الموضوع وبيان المراد من الشبهة غير المحصورة (الثاني) - في بيان
حكمها. أما الكلام في المقام الأول، فهو أنه ذكر لتعريفها وجوه: كثيرة،
ونكتفي بذكر ما هو العمدة منها:
(الوجه الأول) - أن غير المحصورة ما يعسر عده. وفيه (أولا) - ان
عسر العد لا انضباط له في نفسه من جهة اختلاف الأشخاص واختلاف زمان العد
فالألف يعسر عده في ساعة مثلا، ولا يعسر في يوم أو أكثر، فكيف يمكن
أن يكون عسر العد ميزانا للشبهة غير المحصورة. و (ثانيا) - ان تردد شاة
واحدة مغصوبة بين شياه البلد التي لا تزيد على الألف مثلا من الشبهة غير
المحصورة عندهم، وتردد حبة واحدة مغصوبة بين الف الف حبة مجتمعة في إناء
لا تعد من غير المحصورة عندهم، مع أن عد الحبات أعسر بمراتب من عد الشياه
372

فيستكشف بذلك ان عسر العد لا يكون ضابطا للشبهة غير المحصورة.
(الوجه الثاني) - ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) من أن الشبهة غير
المحصورة ما كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف موهوما لكثرة
الأطراف. وفيه (أولا) ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أنه إحالة إلى امر
مجهول، فان الوهم له مراتب كثيرة، فأي مرتبة منه يكون ميزانا لكون
الشبهة غير محصورة. و (ثانيا) - ان موهومية احتمال التكليف لا يمنع من
التنجيز، ولذا يتنجز التكليف المردد بين طرفين، ولو كان احتماله في أحدهما
ظنيا، وفي الآخر موهوما والسر في ذلك ما تقدم من أن مجرد احتمال التكليف
بأي مرتبة كان يساوق احتمال العقاب، وهو الملاك في تنجز التكليف ما لم
يحصل المؤمن.
(الوجه الثالث) - ان الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقتها القطعية.
وفيه (أولا) - أن العسر بنفسه مانع عن تنجز التكليف وفعليته، سواء كانت
أطراف الشبهة قليلة أو كثيرة، فلا يكون ذلك ضابطا لكون الشبهة غير محصورة
و (ثانيا) - ان العسر انما يوجب ارتفاع التكليف بمقدار يرتفع به العسر لا مطلقا
فالعسر لا يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي على الاطلاق، كما هو المدعى للقائل
بعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة.
(الوجه الرابع) - أن الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق
العرفي، فما صدق عليه عرفا انه غير محصور يترتب عليه حكمه، ويختلف
ذلك باختلاف الموارد. وفيه (أولا) - ان هذه الكلمة لم ترد في موضوع دليل
شرعي، ليرجع في فهم معناها إلى العرف، وإنما هي من الاصطلاحات المستحدثة
و (ثانيا) - ان العرف لا ضابطة عندهم لتمييز المحصور عن غيره، والسر فيه
أن عدم الحصر ليس من المعاني المتأصلة، وانما هو امر إضافي يختلف باختلاف
373

الأشخاص والأزمان ونحوهما.
(الوجه الخامس) - ما اختاره المحقق النائيني (ره) من أن الميزان في
كون الشبهة غير محصورة عدم تمكن المكلف عادة من المخالفة القطعية بارتكاب
جميع الأطراف، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها. ومن هنا
تختص الشبهة غير المحصورة بالشبهات التحريمية، إذ في الشبهات الوجوبية يتمكن
المكلف من المخالفة القطعية بترك جميع الأطراف، وان بلغت من الكثرة ما بلغت
فالعلم بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون منجزا، إلا أنه لا يتمكن من
الموافقة القطعية، فيجري حكم الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف على ما سيجئ
الكلام فيه قريبا إن شاء الله تعالى. والاضطرار مانع آخر عن التنجيز غير كون
الشبهة غير محصورة.
وفيه (أولا) - ان عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم
كون الشبهة غير محصورة، فقد يتحقق ذلك مع قلة الأطراف وكون الشبهة
محصورة، كما إذا علمنا إجمالا بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معين،
فان المكلف لا يتمكن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت. وكذا
الحال لو تردد الحرام بين الضدين في وقت معين.
و (ثانيا) - أن عدم القدرة على المخالفة القطعية غير منضبط في نفسه،
فإنه يختلف باختلاف المعلوم بالاجمال، وباختلاف الأشخاص وباختلاف قلة
الزمان وكثرته وغير ذلك من الخصوصيات، فليس له ضابط فكيف يكون ميزانا
لكون الشبهة غير محصورة.
و (ثالثا) - ان عدم التمكن من المخالفة القطعية إن أريد به عدم التمكن
منها دفعة، فكثير من الشبهات المحصورة كذلك، وان أريد به عدم التمكن
منها ولو تدريجا فقلما تكون شبهة غير محصورة، إذ كثير من الشبهات التي
374

تعد غير محصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع أطرافها في ضمن سنة
أو أكثر أو أقل.
فتحصل انه لم يظهر لنا معني محصلا مضبوطا للشبهة غير المحصورة حتى
نتكلم في حكمها. والذي ينبغي ان يقال إن العلم الاجمالي بالتكليف قد يتمكن
المكلف معه من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية، وقد يتمكن من إحداهما دون
الأخرى، وقد لا يتمكن من شئ منهما اما الفرض الأخير فلا اشكال في عدم
تنجيز العلم الاجمالي فيه على ما تقدم بيانه في بحث دوران الامر بين المحذورين
وأما الفرض الأول فلا اشكال في تنجيزه على ما تقدم بيانه أيضا. وأما الفرض
المتوسط فله صورتان:
(الصورة الأولى) - ما تمكن فيه المكلف من المخالفة القطعية دون
الموافقة القطعية. وقد عرفت أن العلم الاجمالي موجب للتنجيز بالمقدار الممكن
فتحرم المخالفة القطعية وان لم تجب الموافقة القطعية. وسيأتي الكلام فيه مفصلا
عند البحث عن حكم الاضطرار إلى بعض الأطراف.
(الصورة الثانية) - ما تمكن فيها المكلف من الموافقة القطعية دون المخالفة
القطعية، فاختار المحقق النائيني (ره) فيه عدم تنجيز العلم الاجمالي بدعوى ان
وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة القطعية، فإذا لم تحرم الثانية لم
تجب الأولى. ولكنك قد عرفت سابقا أنه لا ملازمة بينهما، وأن الميزان في
تنجيز العلم الاجمالي هو سقوط الأصول في أطرافه، فعلى تقدير تمكن المكلف
من الموافقة القطعية وجبت عليه، لأن احتمال التكليف موجب لتنجيز الواقع لو لم
يكن مؤمنا من العقاب المحتمل على مخالفته، فعجز المكلف عن المخالفة القطعية
المستلزم لعدم حرمتها عليه لا يوجب عدم وجوب الموافقة القطعية المفروض قدرة
المكلف عليها وعدم المؤمن من احتمال العقاب على المخالفة نعم لو كان عدم
375

حرمة المخالفة القطعية مستندا إلى قصور في ناحية التكليف لا إلى عجز المكلف
عنها، استلزم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية كما هو ظاهر، ولكنه
خارج عن الفرض، إذ الكلام في عدم حرمة المخالفة القطعية المستندة إلى عجز
المكلف وعدم تمكنه منها.
فاتضح مما ذكرناه أنه لا فرق تنجيز العلم الاجمالي بين كثرة الأطراف
وقلتها. نعم ربما تكون كثرة الأطراف ملازمة لطرو بعض العناوين المانعة عن
تنجيز العلم الاجمالي، كالعسر والحرج والخروج عن محل الابتلاء ونحو ذلك،
إلا أن العبرة بتلك العناوين لا بكثرة الأطراف.
أما الكلام في المقام الثاني وهو بيان حكم الشبهة غير المحصورة، فهو أنه
قد استدل على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة بوجوده:
(الأول) - ما ذكره شيخنا الأنصاري من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف
إذا كان موهوما. وقد ظهر الجواب عن ذلك مما تقدم. (الثاني) - ما ذكره
المحقق النائيني (ره) من أن وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة
القطعية، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الأولى. وقد ظهر الجواب عنه أيضا بما
تقدم. (الثالث) - دعوى الاجماع على عدم وجوب ذلك.
وفيه (أولا) - ان هذه المسألة من المسائل المستحدثة التي لم يتعرض لها
القدماء، فكيف يمكن فبها دعوى الاجماع. و (ثانيا) - انه على فرض تحقق
الاتفاق لا يكون اجمالا تعبديا كاشفا عن رأى المعصوم عليه السلام إذ علم استناد
العلماء على أحد الأمور المذكورة:
(الرابع) - دعوى ان لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة مستلزم
للحرج وهو منفي في الشريعة المقدسة. وفيه ما تقدم من أن دليل نفي العسر
والحرج إنما يتكفل نفي الحكم عما يكون مصداقا للعسر والحرج فعلا، بمعنى
376

أن المعتبر في نفي الحكم هو الحرج الشخصي، كما هو الحال في الضرر، وهو
يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك من الخصوصيات. فلا دليل على نفي
الحكم بالنسبة إلى شخص لا حرج عليه. وسيجئ تفصيل الكلام في ذلك عند التعرض
لقاعدة نفي الضرر إن شاء الله تعالى. وتوهم عدم شمول أدلة نفي الحرج لمثل المقام
مما كان العسر في تحصيل الموافقة القطعية لا في متعلق التكليف نفسه. بدعوى
- أنها ناظرة إلى أدلة الاحكام الأولية الثابتة بجعل الشارع، ومخصصة لها بما إذا
لم يكن متعلقها حرجيا، وليست ناظرة إلى الحكام الثابتة بحكم العقل. والمفروض
فيما نحن فيه عدم الحرج في الاتيان بمتعلق التكليف الشرعي وإنما الحرج في
تحصيل الموافقة القطعية الواجبة بحكم العقل، فالأدلة المذكورة لا تدل على نفى
وجوبها - مدفوع بأن أدلة نفي الحرج وإن كانت ناظرة إلى الأحكام الشرعية
لا الاحكام العقلية، الا انها ناظرة إلى مقام الامتثال، بمعنى ان كل حكم كان
امتثاله حرجا على المكلف فهو منفي في الشريعة، فان جعل الحكم وانشاءه إنما
هو فعل المولى، ولا يكون حرجا على المكلف أبدا، وحينئذ فان كان إحراز
امتثال التكليف المعلوم بالاجمال حرجا على المكلف، كان التكليف المذكور منفيا
في الشريعة بمقتضى أدلة نفي الحرج، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب
الموافقة القطعية.
(الخامس) - رواية الجبن (1) المدعى ظهورها في عدم تنجيز العلم الاجمالي

(1) الوسائل الباب 61 من أبواب الأطعمة المحللة أحمد بن أبي عبد الله
البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن
الجبن فقلت له اخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة، فقال عليه السلام امن اجل مكان
واحد يجعل فيه الميتة حرم ما في جميع الأرضين..)
377

عند كون الشبهة غير محصورة. وفيه (أولا) - أن الرواية ضعيفة من حيث
السند، لمحمد بن سنان على ما ذكر في محله، فلا تصلح للاستدلال بها.
و (ثانيا) - انها غير تامة من حيث الدلالة أيضا، فإنها غير متعرضة للمحصور
أو غيره من الشبهة، بل ظاهرها ان العلم بوجود فرد محرم دار امره بين ما يكون
في محل الابتلاء، وما يكون خارجا عنه لا يوجب الاجتناب عما هو محل الابتلاء
وإلا لزم حرمة ما في جميع الأرضين لوجود حرام واحد، فهي أجنبية عن
الشبهة غير المحصورة.
بقي في بحث الشبهة غير المحصورة أمر ان لابد من التنبيه عليهما:
(الأول) - انه بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة
فهل يفرض العلم كعدمه، فيجري حكم الشك في كل واحد من الأطراف
فيرجع إلى قاعدة الاشتغال فيما إذا كان الشك في نفسه موردا لها. أو يكون
الشك في كل واحد من الأطراف أيضا بمنزلة العدم، فلا يرجع إلى قاعدة
الاشتغال أصلا. لا من جهة العلم الاجمالي ولا من جهة الشك؟، فإذا علمنا
إجمالا بوجود مائع مضاف مردد بين الف اناء مثلا، فعلى الاحتمال الأول لا يصح
الوضوء باناء واحد، لاحتمال كونه مضافا. والشك في كونه ماء مطلقا كاف
في الحكم بعدم صحة الوضوء به. وعلى الاحتمال الثاني صح الوضوء باناء واحد
مع احتمال كونه مائعا مضافا. ولا يعتنى بهذا الاحتمال بعد كون الشبهة
غير محصورة.
والتحقيق انه يختلف الحال باختلاف المباني في الشبهة غير المحصورة،
فبناء على مسلك الشيخ (ره) من أن الملاك في عدم التنجيز كون الاحتمال
موهوما لا يعتني به العقلاء، فالشك في مفروض المثال يكون بمنزلة العدم، فلا
يعتني باحتمال كون المتوضأ به مضافا بعد كونه موهوما على الفرض. وأما
378

على مسلك المحقق النائيني (ره) من أن الملاك في عدم التنجيز عدم حرمة المخالفة
القطعية، لعدم القدرة عليها، وان وجوب الموافقة القطعية متفرع عليها، فالعلم
بالتكليف المردد بين أطراف غير محصورة يكون كعدمه. واما الشك في كل
واحد من الأطراف فهو باق على حاله، وهو بنفسه مورد لقاعدة الاشتغال، إذ
يعتبر في صحة الوضوء إحراز كون ما يتوضأ به ماء مطلقا، فنفس احتمال
كونه مضافا كاف في الحكم بعدم صحة الوضوء به، ولو لم يكن علم اجمالي
بوجود مائع مضاف، فلا بد حينئذ من تكرار الوضوء بمقدار يعلم معه وقوع
الوضوء بماء مطلق.
(الثاني) - انه بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة
لو كانت أطراف الشبهة في نفسها كثيرة وكان المعلوم بالاجمال في البين أيضا
كثيرا، وقد يعبر عنها بشبهة الكثير في الكثير، كما لو فرض كون أطراف
الشبهة ألفا. والمعلوم بينها مائة، فان الأطراف في نفسها وان كانت كثيرة، الا
ان نسبة المعلوم إليها هي نسبة الواحد إلى العشرة، فهل يكون العلم الاجمالي في
مثل ذلك الفرض منجزا أم لا؟ والتحقيق هنا أيضا انه يختلف الحال باختلاف
المسالك في عدم تنجيز العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة، فعلي مسلك
الشيخ (ره) من أن الملاك في عدم التنجيز كون احتمال التكليف موهوما لا يعتني
به العقلاء كان العلم الاجمالي في مفروض المثال منجزا لأن احتمال التكليف في
كل واحد من الأطراف من قبيل تردد الواحد في العشرة، ومثله لا يعد موهوما
كما هو ظاهر. وأما على مسلك المحقق النائيني (ره) من أن الوجه في عدم
التنجيز عدم حرمة المخالفة القطعية، لعدم التمكن منها ووجوب الموافقة القطعية
متفرع عليها، فلا بد من الالتزام بعدم التنجيز في المقام أيضا، فان المخالفة
379

القطعية لا تتحقق إلا بارتكاب جميع الأطراف، وهو معتذر أو متعسر عادة،
فلا تجب الموافقة القطعية أيضا، فلا يكون العلم الاجمالي منجزا لا محالة.
(التنبيه الثامن)
في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار إلى ارتكاب بعض
الأطراف وعدمه
وقبل التكلم في ذلك لا بد من بيان مقدمة يتضح بها محل البحث في هذا
التنبيه، فنقول: ان الكلام في انحلال العلم الاجمالي وعدمه للاضطرار إنما هو
فيما إذا كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للحكم المعلوم بالاجمال، كما إذا علمنا
بنجاسة أحد الخلين مثلا، مع الاضطرار إلى شرب أحدهما، فان الأثر المترتب
على هذا المعلوم بالاجمال ليس الا الحرمة المرتفعة بالاضطرار، فيمكن القول
بانحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض، باعتبار ان التكليف في الطرف المضطر إليه
مرتفع بالاضطرار، وفي الطرف الآخر مشكوك فيه، فيرجع فيه إلى الأصل،
وأما إذا لم يكن الاضطرار رافعا لجميع آثار المعلوم بالاجمال، بأن تكون له آثار
يرتفع بعضها بالاضطرار دون بعض آخر، كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين الماء
أو الحليب مع الاضطرار إلى شرب الماء، فان الأثر المترتب على هذا المعلوم
بالاجمال تكليف، وهو حرمة الشرب، ووضع وهو عدم صحة الوضوء بالماء
والمرتفع بالاضطرار انما هو التكليف وحرمة الشرب فقط دون الوضع، فان
الاضطرار إلى شرب النجس يوجب جواز التوضي به كما هو ظاهر.
380

هذا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد الأطراف على التعيين، وكذا الحال
فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدها لا على التعيين، كما إذا علمنا اجمالا بنجاسة أحد
الماءين مع الاضطرار إلى شرب أحدهما لا بعينه، فان المرتفع بالاضطرار إنما
هو حرمة الشرب لا عدم صحة الوضوء به، ففي مثل ذلك لا ينحل العلم الاجمالي
بالاضطرار بلا اشكال. ولا خلاف لبقاء اثر المعلوم بالاجمال في الطرف المضطر
إليه بعد الاضطرار أيضا، فانا نعلم اجمالا - ولو بعد الاضطرار - أن هذا
الماء لا يجوز التوضي به أو هذا الحليب لا يجوز شربه وهذا العلم منجز للتكليف
لا محالة، فلا يجوز التوضي بالماء ولا شرب الحليب، وكذا الحال في مثال
الاضطرار إلى أحد الأطراف لا علي التعيين، فانا نعلم اجمالا بعدم صحة الوضوء
بهذا الماء أو بذلك الماء وان جاز شرب أحدهما للاضطرار.
و (بالجملة) رفع بعض الآثار لأجل الاضطرار ليس الا مثل انتفاء بعض
الآثار من غير جهة الاضطرار، ومن غير ناحية النجاسة، كما في الحليب، فإنه
لا يجوز التوضي به مع قطع النظر عن عروض النجاسة وكونه طرفا للعلم الاجمالي
ففي مثال دوران الامر بين نجاسة الماء والحليب يكون اثر المعلوم بالاجمال قبل
الاضطرار عدم جواز الشرب وحده في طرف، وهو الحليب وعدم جواز
الشرب، وعدم صحة التوضي في الطرف الآخر وهو الماء. وبعد الاضطرار إلى
شرب الماء ترتفع حرمة شربه فقط، ويبقى الحكم الوضعي وهو عدم صحة
الوضوء به بحاله، فيكون المعلوم بالاجمال ذا اثر في الطرفين، فيكون العلم
الاجمالي منجزا لا محالة، ولا يكون الاضطرار موجبا لانحلاله.
فتحصل ان الكلام في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار وعدمه انما هو فيما
إذا كان الاضطرار موجبا لرفع جميع الآثار، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الحليين
أو أحد الخلين مثلا.
381

إذا عرفت ذلك فنقول إن تحقيق الحال في انحلال العلم الاجمالي للاضطرار
يستدعي التكلم في مقامين: (المقام الأول) - فيما إذا كان الاضطرار
إلى أحدهما المعين، كما في مثال العلم الاجمالي بنجاسة الماء أو الحليب مع
الاضطرار إلى شرب الماء. (المقام الثاني) - فيما إذا كان الاضطرار إلى أحدهما
لا على التعيين، كما في مثال العلم الاجمالي بنجاسة أحد الماءين، مع الاضطرار
إلى شرب أحدهما لا بعينه. (اما المقام الأول) فهو يتصور بصور ثلاث:
(الصورة الأولى) - ان يكون الاضطرار حادثا بعد التكليف
وبعد العلم به.
(الثورة الثانية) - ان يكون الاضطرار حادثا بعد التكليف وقبل العلم
به، كما إذا كان أحد الماءين نجسا في الواقع، ولكنه لم يكن عالما به فاضطر
إلى شرب أحدهما، ثم علم بان أحدهما كان نجسا قبل الاضطرار.
(الصورة الثالثة) - ان يكون الاضطرار حادثا قبل التكليف وقبل العلم به
(اما الصورة الأولى) - فاختلفت كلماتهم فيها، فاختار شيخنا الأنصاري
(رحمه الله) عدم انحلال العلم الاجمالي، بدعوى ان التكليف قد تنجز بالعلم
الاجمالي قبل عروض الاضطرار ولا رافع له في الطرف غير المضطر إليه. وذهب
صاحب الكفاية (ره) في متن الكفاية إلى الانحلال وعدم التنجيز، بدعوى ان
تنجيز التكليف يدور مدار المنجز حدوثا وبقاء. والمنجز هو العلم الاجمالي بالتكليف
وبعد الاضطرار إلى أحد الطرفين لا يبقى علم بالتكليف في الطرف الآخر بالوجدان
كما هو الحال في العلم التفصيلي بعد زواله بالشك الساري فان التنجيز يسقط بزواله
فالعلم الاجمالي لا يكون أقوى في التنجيز من العلم التفصيلي، ثم انتقض بفقدان
بعض الأطراف باعتبار أن الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس الا كفقد بعضها
فكما لا اشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي هنا، كذلك لا ينبغي الاشكال
382

في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف. وهذا النقض
وان خصه صاحب الكفاية بفقدان بعض الأطراف، إلا أنه جار في خروج بعض
الأطراف عن محل الابتلاء، بعد العلم بالتكليف، بل يجري في الامتثال
والآتيان ببعض الأطراف أيضا. فإنه لا يبقى علم بالتكليف في جميع هذه الصور
وأجاب عنه بأن الاضطرار من حدود التكليف، لان التكليف من أول حدوثه
يكون مقيدا بعدم الاضطرار، بخلاف الفقدان، فإنه ليس من حدوده، وإنما
يكون ارتفاع التكليف بفقدان بعض الأطراف من قبيل انتفاء الحكم
بانتفاء موضوعه.
هذا ملخص ما ذكره في المتن وعدل عنه في الهامش فيما إذا كان الاضطرار
إلى أحدهما المعين، كما هو محل كلامنا فعلا، والتزم ببقاء التنجيز في الطرف غير
المضطر إليه، بتقريب ان العلم الاجمالي تعلق بالتكليف المردد بين المحدود والمطلق
باعتبار ان التكليف في أحد الطرفين محدود بعروض الاضطرار وفي الطرف
الآخر مطلق، ويكون من قبيل تعلق العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين القصير
والطويل، ولا فرق في تنجز التكليف بالعلم الاجمالي بين ان يكون الطرفان كلاهما
قصيرين، أو كلاهما طويلين، أو يكون أحدهما قصيرا والآخر طويلا، كما
إذا علمنا اجمالا بوجوب دعاء قصير و لو كلمة واحدة، ودعاء طويل، فان العلم
الاجمالي منجز فيه بلا اشكال. والمقام من هذا القبيل بعينه، فان الاضطرار
حادث بعد التكليف، وبعد العلم به على الفرض فيكون التكليف في الطرف
المضطر إليه قصيرا ومنتهيا بعروض الاضطرار، وفي الطرف الآخر طويلا، ولا
مانع من تنجيز التكليف المعلوم بالاجمال في مثله. هذا ملخص ما ذكره في الهامش
بتوضيح منا.
والصحيح ما ذكره في الهامش من بقاء التنجيز في الطرف غير المضطر إليه
383

لما ذكرناه مرارا من أن التنجيز منوط بتعارض الأصول في أطراف العلم
الاجمالي وتساقطها، وفي المقام كذلك، فان العلم الاجمالي بثبوت التكليف في
الطرف غير المضطر إليه في جميع الأزمان أو في الطرف المضطر إليه إلى حدوث
الاضطرار موجود، وحيث أن التكليف المحتمل في أحد الطرفين على تقدير
ثبوته، انما هو في جميع الأزمان، وفي الطرف الآخر على تقدير ثبوته إلى
حدوث الاضطرار، فلا محالة يقع التعارض بين جريان الأصل في أحدهما بالنسبة
إلى جميع الأزمان، وبين جريانه في الطرف الآخر بالنسبة إلى حدوث الاضطرار
وبعد تساقطهما كان العلم الاجمالي منجزا للتكليف، فانتهاء التكليف في أحد
الطرفين بانتهاء أمده لأجل الاضطرار لا يوجب جريان الأصل في الطرف الآخر.
وأما ما ذكره صاحب الكفاية (ره) في المتن من أن التنجيز دائر مدار
المنجز، وهو العلم حدوثا وبقاء إلى آخر ما تقدم ذكره، فهو صحيح من
حيث الكبرى، إذ لا إشكال في أن التنجيز دائر مدار العلم بالتكليف حدوثا
وبقاء، ولكنه غير تام من حيث الصغرى من أنه لا يبقى علم بالتكليف بعد
حدوث الاضطرار، وذلك لأن العلم الاجمالي بالتكليف باق بحاله حتى بعد
حدوث الاضطرار فإنه يعلم إجمالا ولو بعد الاضطرار بأن التكليف اما ثابت
في هذا الطرف إلى آخر الأزمان، أو في الطرف الآخر إلى حدوث الاضطرار
فلا وجه لدعوى تبدل العلم بالشك انما يكون فيما إذا زال العلم بطرو الشك
الساري، بلا فرق في ذلك بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي، كما إذا علمنا
تفصيلا بنجاسة هذا الماء المعين، ثم زال العلم وطرأ الشك الساري في نجاسة
وكذا إذا علمنا إجمالا بنجاسة الماءين، ثم طرأ الشك الساري في نجاسة أحدهما
واحتملنا طهارة كليهما. وهذا بخلاف المقام، فان العلم الاجمالي باق بحاله،
إنما المرتفع بالاضطرار هو المعلوم لا العلم به، فان التكليف المعلوم بالاجمال على
384

تقدير ثبوته في الطرف المضطر إليه قد ارتفع بالاضطرار، والعلم المتعلق به إجمالا
باق على حاله، كما هو الحال في صورة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
أو فقدانه أو الاتيان به، فان العلم الاجمالي باق على حاله في جميع هذه الصور،
غاية الامر ان المعلوم بالاجمال وهو التكليف محتمل الارتفاع، لأجل الخروج
عن محل الابتلاء، أو لأجل الفقدان أو لأجل الاتيان والامتثال، فيجب
الاجتناب عن الطرف الآخر لبقاء العلم الاجمالي وتنجز التكليف به. ولولا
ما ذكرناه من بقاء العلم الاجمالي في جميع الصور المذكورة لتم النقض المذكور في
كلامه. ولا يجدي الجواب عنه بأن الاضطرار من حدود التكليف، دون
الفقدان والخروج من محل الابتلاء ونحوهما، بل التكليف في الأمثلة المذكورة
منتف بانتفاء موضوعه. وذلك لما ذكرناه في الواجب المشروط من أن فعلية الحكم
تدور مدار وجود الموضوع بماله من القيود و الخصوصيات، فكما ان وجود نفس
الموضوع دخيل في الحكم، كذا كل واحد من القيود المأخوذة فيه دخيل في
الحكم، وبانتفاء كل واحد من القيود ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه، فلا فرق
بين انتفاء ذات الموضوع كما في الفقدان أو الخروج عن محل الابتلاء، وبين انتفاء
قيده وهو عدم الاضطرار كما في محل الكلام.
هذا كله حكم الصورة الأولى، وهي ما إذا كان الاضطرار بعد التكليف
وبعد العلم به ومقابلها بتمام المقابلة هي الصورة الأخيرة وهي ما إذا كان الاضطرار
فيه قبل التكليف وقبل العلم به، كما إذا اضطر إلى شرب أحد الماءين مثلا، ثم
علم بوقوع النجاسة في أحدهما بعد الاضطرار. ولا ينبغي الاشكال في عدم
التنجيز في هذه الصورة، إذ لا علم بالتكليف فيها، لاحتمال وقوع النجاسة في
الطرف المضطر إليه، وحيث إن المفروض كون الاضطرار قبل وقوع النجاسة،
فوقوعها في الطرف المضطر إليه لا يوجب حدوث التكليف، ووقوعها في الطرف
الآخر مجرد احتمال لا مانع من الرجوع فيه إلى الأصل. ويلحق بهذه الصورة
385

صورة تقارن الاضطرار والعلم بالتكليف فيجري فيه الكلام السابق من عدم
التنجيز بلا فرق بينهما.
بقي الكلام في الصورة المتوسطة، وهي ان يكون الاضطرار بعد التكليف
وقبل العلم به كما إذا اضطر إلى شرب أحد الماءين مثلا. ثم علم بأن أحدهما كان
نجسا قبل الاضطرار، فهل الاعتبار بسبق التكليف على الاضطرار، فيحكم
بالتنجيز أو على العلم الحادث بعد الاضطرار، فيحكم بعدمه لكون الاضطرار
قبل العلم بالتكليف على الفرض؟ الصحيح هو الثاني لأن المانع من جريان
الأصل هو العلم الاجمالي بالتكليف لا التكليف بواقعيته، ولو لم يعلم به المكلف
أصلا، فهو حين الاضطرار إما قاطع بعدم التكليف، فلا يحتاج إلى اجراء
الأصل، بل لا يمكن. واما شاك فيه، فلا مانع من جريانه في الطرفين، لعدم
المعارضة لعدم العلم بالتكليف على الفرض والعلم الاجمالي الحادث بعد الاضطرار
مما لا اثر له، لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المضطر إليه ولا يوجب حدوث
التكليف فيه، لكون الاضطرار رافعا له. و (بالجملة) التكليف في الطرف
المضطر إليه مما نقطع بعدمه، لأن الأمر دائر بين كون التكليف منفيا فيه من
أول الأمر وبين سقوطه بالاضطرار، واما الطرف الآخر، فالتكليف فيه وان
كان محتملا، إلا أنه لا مانع فيه من الرجوع إلى الأصل، إذ لا معارض له،
لأنه لا يجري في الطرف المضطر إليه، لعدم الأثر له للقطع بالحلية فيه كما تقدم.
وههنا شبهة، وهي ان التكليف الواقعي وان لم يكن مانعا من جريان
الأصل، إلا أنه بعد العلم به تترتب آثاره من حين حدوثه لا من حين العلم به
كما هو الحال في العلم التفصيلي، فإنه لو علمنا بأن الماء الذي اغتسلنا به للجنابة
قبل أسبوع مثلا كان نجسا يجب ترتيب آثار نجاسة الماء المذكور من حين نجاسته
لا من حين العلم بها، فيجب الاتيان بقضاء الصلوات التي اتينا بها مع هذا الغسل
وكذا سائر الآثار المترتبة شرعا على نجاسة الماء المذكور، ففي المقام أيضا
386

لا مناص من ترتيب آثار التكليف من حين حدوثه لا من حين انكشافه. وحينئذ
لما كان حدوث التكليف قبل الاضطرار، فلا بد من اعتبار وجوده قبله ولو كان
منكشفا بعده وعليه فبعد طرو الاضطرار نشك في سقوط هذا التكليف الثابت
قبل الاضطرار لأجل الاضطرار، لأنه لو كان في الطرف المضطر إليه فقد
سقط بالاضطرار، ولو كان في الطرف الآخر كان باقيا لا محالة، فيرجع إلى
استصحاب بقاء التكليف أو قاعدة الاشتغال على خلاف بيننا وبين المحقق النائيني
(رحمه الله) وعلى كل تقدير لا مجال للرجوع إلى أصالة البراءة في الطرف غير
المضطر إليه. و (بالجملة) بعد العلم بثبوت التكليف قبل الاضطرار والشك في
سقوطه له يحكم بوجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، لأجل الاستصحاب أو
لقاعدة الاشتغال.
والجواب عن هذه الشبهة ان المقام ليس مجرى للاستصحاب ولا لقاعدة
الاشتغال، فان الاستصحاب أو القاعدة انما يجريان فيما إذا كانت الأصول في
أطراف العلم الاجمالي ساقطة بالمعارضة، كما في الشك في بقاء الحدث المردد بين
الأصغر والأكبر بعد الوضوء، فان الأصل في كل منهما معارض بالأصل الجاري
في الآخر، وبعد تساقطهما يرجع إلى الاستصحاب ويحكم ببقاء الحدث الجامع
بين الأكبر والأصغر. وهذا بخلاف ما إذا كان الأصل جاريا في بعض الأطراف
بلا معارض، كما في المقام، فان التكليف في الطرف المضطر إليه معلوم الانتفاء
بالوجدان، فلا معنى لجريان الأصل فيه وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث،
فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه، فليس لنا علم بالتكليف وشك في سقوطه
حتى نحكم ببقائه للاستصحاب أو لقاعدة الاشتغال، كما في مثال الحدث المردد بين
الأكبر والأصغر، لان التكليف في الطرف المضطر إليه منفي بالوجدان، وفي
الطرف الآخر مشكوك الحدوث. ومنفي بالتعبد للأصل الجاري فيه بلا معارض
387

ومن هنا نقول بان المرجع عند دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
هي البراءة، فإنه مع الاتيان بالأقل يشك في بقاء التكليف المعلوم
بالاجمال، ومع ذلك لا يرجع إلى الاستصحاب ولا إلى قاعدة الاشتغال، وليس
ذلك إلا لان منشأ الشك في بقاء التكليف احتمال تعلقه بالأكثر الذي يجري فيه
الأصل بلا معارض، فالتكليف بالأقل ساقط بالامتثال. والتكليف بالأكثر
مشكوك الحدوث من أول الامر، ومنفي بالتعبد للأصل الجاري فيه بلا معارض
فلم يبق مجال للرجوع إلى الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال.
وظهر مما ذكرناه - في حكم الاضطرار إلى المعين من الأطراف باقسامه
الثلاثة حكم غير الاضطرار مما يرتفع معه الحكم، كفقدان بعض الأطراف أو
خروجه عن محل الابتلاء أو الاكراه إلى البعض المعين من الأطراف ونحوها، فإنه
يجري فيها جميع ما ذكرناه في الاضطرار من الأقسام والاحكام، فلا حاجة
إلى الإعادة.
وأما المقام الثاني وهو ما كان الاضطرار إلى أحد الأطراف لا بعينه،
فاختار صاحب الكفاية (ره) فيه عدم التنجيز بدعوى ان الترخيص في بعض
الأطراف لأجل الاضطرار لا يجامع التكليف الفعلي على كل تقدير، فليس في
غير ما يختاره المكلف لرفع اضطراره الا احتمال التكليف، وهو منفي بالأصل
واختار شيخنا الأنصاري (ره) التنجيز مطلقا حتى في صورة تقدم الاضطرار
على حدوث التكليف، وعلى العلم به وتبعه المحقق النائيني (ره) وهو الصحيح
لأن الاضطرار لم يتعلق بخصوصه الحرام كي ترتفع حرمته به، وإنما تعلق بالجامع
بينه وبين الحلال على الفرض، فالجامع هو المضطر إليه واحدهما مع الخصوصية
هو الحرام، فما هو مضطر إليه ليس بحرام. وما هو حرام ليس بمضطر إليه، فلا
وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام المعلوم بالاجمال، لأجل الاضطرار إلى الجامع،
388

كما لو اضطر إلى شرب أحد الماءين مع العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما المعين، فهل يتوهم
رفع الحرمة عن الحرام المعلوم تفصيلا لأجل الاضطرار إلى الجامع، والمقام من هذا
القبيل لعدم الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الاجمالي من هذه الجهة، وهذا أعني
تعلق الاضطرار بالجامع هو الفارق بين هذا المقام والمقام السابق، فان الاضطرار
هناك كان متعلقا بأحدهما المعين، وهو رافع للحرمة على تقدير ثبوتها مع قطع
النظر عن الاضطرار، بخلاف المقام فان الاضطرار فيه لم يتعلق إلا بالجامع،
والاضطرار إلى أحد الامرين من الحرام أو الحلال لا يوجب رفع الحرمة عن
الحرام كما تقدم بيانه، غاية الأمر ان وجوب الموافقة القطعية مما لا يمكن الالتزام
به بعد الاضطرار إلى الجامع، لان الموافقة القطعية انما تحصل بالاجتناب عنهما
معا وهو طرح لأدلة الاضطرار، ويكون نظير الاجتناب عما اضطر إليه معينا
وتبقي حرمة المخالفة القطعية بارتكابهما معا على حالها، إذ لا يوجب لرفع اليد عنها
بعد التمكن منها كما هو المفروض. والذي تحصل مما ذكرناه أمور ينبغي الإشارة
إليها لتوضيح المقام:
(الأول) - ان الحرام المعلوم بالاجمال لم يطرأ ما يوجب ارتفاعه، لما
عرفت من أن الاضطرار إنما هو إلى الجامع لا إلى خصوص الحرام ليرتفع حكمه.
(الثاني) - انه لا يمكن الترخيص في ارتكاب جميع الأطراف لاستلزمه
الترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل.
(الثالث) - انه لا بد من رفع اليد عن وجوب الموافقة القطعية لتوقف
رفع الاضطرار على ارتكاب بعض الأطراف، فلا مناص من الترخيص في
الارتكاب بمقدار يرتفع به الاضطرار.
(الرابع) - انه إن انطبق ما اختاره المكلف لرفع اضطراره على الحلال
الواقعي فالحرمة الواقعية في الطرف الآخر باقية بحالها. ولا وجه لرفع اليد
389

عنها، فان الحرام الواقعي لا يكون مضطرا إليه، ولا انطبق عليه ما اختاره
المكلف لرفع اضطراره، وان انطبق ما اختاره المكلف لرفع اضطراره على
الحرام الواقعي، فالحرمة الواقعية وان لم ترتفع، لأن اختيار المكلف له لرفع
اضطراره لا يكشف عن تعلق الاضطرار به، فلا موجب لرفع حرمته، إلا ان
الجهل به مستلزم للترخيص الظاهري في ارتكابه المستلزم لعدم العقاب عليه.
ونتيجة ما ذكرناه من الأمور ان التكليف في المقام في مرتبة متوسطة بين
الشبهة البدوية التي لم يتنجز الواقع فيها أصلا، وبين العلم الاجمالي الذي لم يتعلق
الاضطرار بشئ من أطرافه، وكان الواقع فيه منجزا على كل تقدير، فان
التكليف في المقام منجز على تقدير عدم مصادفة ما يختاره المكلف لرفع
اضطراره مع الحرام، وغير منجز على تقدير مصادفة ما يختاره المكلف
مع الحرام. فان الجهل به يسقط تنجزه، فصح ان نقول إن التكليف
في المقام في رتبة التوسط من التنجز، كما هو الحال في دوران الامر بين الأقل
والأكثر، فان التكليف بالنسبة إلى الأقل منجز للعلم بوجوبه على كل تقدير،
وبالنسبة إلى الأكثر غير منجز للشك فيه، فيكون مجرى للبراءة. فصح ان
نقول إن للتكليف - على تقدير تعلقه بالأكثر - توسط في التنجز، بمعنى
انه لو اتى بالأقل فغير منجز، اي ليس على ترك الأكثر حينئذ عقاب، لعدم
العلم بوجوبه. وعلى تقدير ترك الأقل أيضا فهو - اي التكليف المتعلق بالأكثر
- منجز ويعاقب على تركه، حيث لا ينفك عن ترك الأقل. وكذا الحال في
دوران الامر بين الوجوب النفسي والغيري، بعد العلم بأصل الوجوب، كما إذا علمنا
بوجوب غسل الجنابة مثلا، وشككنا في أنه واجب نفسي أو واجب غيري
ومقدمة لواجب آخر كالصلاة مثلا فالتكليف بالصلاة على تقدير ثبوته واقعا منجز
على تقدير ترك الوضوء، فان تركها لا ينفك عن تركه، فيعاقب على ترك
390

الصلاة لا على ترك الوضوء، لكونه غيريا في الواقع على الفرض، وغير منجز
على تقدير الاتيان بالوضوء للشك في وجوبها، فيكون مجرى للبراءة فالتكليف
المتعلق بالصلاة واقعا منجز على تقدير ترك الوضوء، وغير منجز على تقدير
الاتيان به، وهذا هو التوسط في التنجيز.
واتضح بما ذكرناه الفرق بين الاضطرار إلى المعين وبين المقام، فان المضطر
إليه المعين لو كان حراما في الواقع ترتفع حرمته واقعا، والاضطرار إليه يوجب
الترخيص الواقعي في ارتكابه، بخلاف المقام، فان الاضطرار إنما تعلق بالجامع
وهو لا يوجب ارتفاع الحرمة عن الحرام الواقعي كما تقدم. وظهر فساد ما في
الكفاية من أن الترخيص في بعض الأطراف لا يجامع العلم بالتكليف الفعلي على
كل تقدير، فلا يبقى الا احتمال التكليف في غير ما يختاره المكلف لرفع اضطراره
وهو منفي بالأصل. وذلك لأن الترخيص في بعض الأطراف لو كان ترخيصا
واقعيا كما في الاضطرار إلى المعين، لكان الامر كما ذكره (ره) وليس المقام
كذلك، إذ المفروض عدم تعلق الاضطرار بالحرام الواقعي، بل بالجامع، غاية
الأمر انه يحتمل انطباقه على ما يختاره المكلف لرفع اضطراره لجهله به، وهو
لا يوجب الا الترخيص الظاهري، فالحكم الواقعي ثابت على كل تقدير، ومعه
لا يمكن الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر، فإنه يوجب المخالفة القطعية
للتكليف الواصل.
ثم إن المحقق النائيني (ره) التزم في المقام بأنه لو صادف ما يختاره المكلف
لرفع اضطراره مع الحرام الواقعي ترتفع الحرمة واقعا، بدعوى ان الاضطرار
وان كان متعلقا بالجامع إلا أنه باختياره الحرام الواقعي لرفع اضطراره من باب
الاتفاق يصير الحرام مصداقا للمضطر إليه، فترتفع حرمته واقعا، ومع ذلك
التزم بعد جريان البراءة في الطرف الآخر، بدعوى ان ارتفاع الحرمة إنما
391

يكون بعد اختياره الحرام لرفع اضطراره. وأما قبله فالحكم المعلوم بالاجمال
فعلي ومنجز. وقد مر عند البحث عن الاضطرار إلى المعين أن الرافع للتكليف
إن كان متأخرا عن التكليف وعن العلم الاجمالي به إنما يقتصر في رفع التكليف
بمورد تحقق الرافع. وأما غيره من الأطراف. فالحكم فيه باق على تنجزه.
وعليه يكون المقام نظير الاضطرار إلى المعين بعد العلم الاجمالي بالتكليف وسقوط
الأصول في الأطراف للمعارضة. ونتيجة ذلك سقوط التكليف واقعا على تقدير
مصادفة ما يختاره المكلف لرفع اضطراره مع الحرام الواقعي من باب الاتفاق،
وعدم سقوطه على تقدير عدم المصادفة معه. وهذا هو التوسط في الفعلية
لا التوسط في التنجز على ما اخترناه.
ويرد عليه (أولا) ان اختيار المكلف الحرام الواقعي لرفع اضطراره
لا يوجب ارتفاع حرمته واقعا كما عرفت، ودعوى أنه بالاختيار يصير مصداقا
للمضطر إليه من باب الاتفاق غير مسموعة، لان الاضطرار إلى الجامع لا ينقلب
إلى الاضطرار إلى المعين بإرادة المكلف واختياره، كما هو ظاهر.
و (ثانيا) - انه على تقدير تسليم ارتفاع الحرمة واقعا عما يختاره
المكلف كيف يعقل الحكم بحرمته إلى زمان اختيار المكلف له لرفع اضطراره،
فان تحريم الشئ إنما هو لان يكون رادعا للمكلف عن اختياره وسادا الطريقة
فكيف يعقل ان يكون معني به ومرتفعا عند حصوله، فان جعل الحرمة لشئ
المرتفعة باختيار المكلف فعله لغو محض، فلا مناص من الالتزام بكون
ما يختاره المكلف لرفع اضطراره محكوما بالحلية من أول الامر، ومعه لا يبقى
مجال لدعوى العلم الاجمالي بالتكليف على كل تقدير، فلا مانع من الرجوع إلى
البراءة في الطرف الآخر، فيما كان الاضطرار إلى غير المعين سابقا على العلم
الاجمالي بالتكليف، كما هو الحال في الاضطرار إلى المعين. وبالجملة ان الالتزام
392

بسقوط التكليف واقعا عما يختاره المكلف لرفع اضطراره لا يجتمع مع القول
بالتنجز في الطرف الآخر، فلا بد من الالتزام بعدم السقوط واقعا، كما اخترناه
أو بعدم التنجز في الطرف الآخر كما اختاره صاحب الكفاية (ره).
هذا كله في الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف في الشبهة التحريمية.
ومنه يظهر الحال إلى الاضطرار في ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية،
ويجري حكم الاضطرار في غيره مما هو رافع للتكليف من الاكراه ونحوه.
ولا نعبد الكلام.
(التنبيه التاسع)
لا ينبغي الشك في أنه يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي أن يكون جميع أطرافه
مقدورا للمكلف، إذ لو كان بعضها غير مقدور له كان التكليف بالنسبة إليه
ساقطا يقينا، لاعتبار القدرة في التكليف ويكون التكليف في اطرف الآخر
مشكوك الحدوث فنجري أصالة البراءة. (وبعبارة أخرى) لو كان بعض
الأطراف غير مقدور للمكلف يؤول الامر إلى الشك في التكليف لا الشك في
المكلف به، فيكون المرجع أصالة البراءة لا أصالة الاحتياط. وهذا واضح،
وذكره شيخنا الأنصاري (ره) شرطا آخر لتنجيز العلم الاجمالي في خصوص
الشبهة التحريمية، وهو ان يكون جميع الأطراف في محل الابتلاء، فالتزم بعدم
التنجيز فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء وان كان مقدورا له
لأنه يعتبر في صحة النهي عن شئ وحسنه كونه في معرض الابتلاء، بحيث
يتعلق بفعله إرادة المكلف عادة وإلا كان النهي عنه مستهجنا.
393

(وبعبارة أخرى) الغرض من جعل التكليف التحريمي احداث المانع
للمكلف عن فعله، فلو فرض عدم كونه في معرض الابتلاء وعدم الداعي له إلى
فعله، كان تركه مستندا إلى عدم المقتضى، فاحداث المانع له لغو محض وعليه
فلو كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء، كان التكليف بالنسبة إليه منتفيا
يقينا، وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث فلا مانع من الرجوع إلى أصالة
البراءة فيه، فلا يكون العلم الاجمالي منجزا، فلو علم المكلف اجمالا بنجاسة
إنائه أو اناء الملك مثلا، كان اناء الملك خارجا عن محل الابتلاء، إذ لا داعي
له في تحمل المشقة وتوطئة الأسباب للتصرف في إناء الملك، ولو كان مقدورا له
بالارتباط إلى بعض غلمانه مثلا، فالتكليف بالنسبة إليه منتف يقينا، فلا مانع
من الرجوع إلى الأصل في انائه ووسع الامر صاحب الكفاية (ره) في هامش
الرسائل، وذكر أن الملاك المذكور موجود في الشبهة الوجوبية أيضا، فلا
يكون العلم الاجمالي فيها أيضا منجزا إلا فيما إذا كان جميع الأطراف محلا للابتلاء
من حيث الترك. لأن التكليف الوجوبي والبعث نحو شئ أيضا لا يصح إلا فيما
إذا كان للمكلف داع إلى تركه عادة، إذ لو كان الشئ مما يفعله المكلف بطبعه ولا
داعي له إلى تركه، كان جعل التكليف الوجوبي بالنسبة إليه لغوا محضا وعليه
فلو كان بعض أطراف العلم الاجمالي في الشبهة الوجوبية خارجا عن محل الابتلاء
بمعنى ان المكلف لا يبتلى بتركه عادة، ويأتي به بطبعه، كان التكليف بالنسبة
إليه منتفيا يقينا. وفي الطرف الآخر مشكوك الحدوث، فيكون المرجع هو
الأصل الجاري بلا معارض.
وأورد عليه المحقق النائيني (ره) بأن متعلق التكليف الوجوبي هو الفعل
وهو مستند إلى الإرادة والاختيار، حتى فيما إذا كان مفروض التحقق عادة
بدون امر من المولى، فصح تعلق التكليف به، ولا يكون مستهجنا، بخلاف متعلق
394

التكليف التحريمي، فإنه الترك وهو عدمي لا يحتاج إلى العلة الوجوبية، بل يكفيه عدم
إرادة الفعل، وهو أيضا عدمي، فلو كان الترك حاصلا بنفسه عادة لأجل عدم
الداعي للمكلف إلى الفعل، كان النهي عنه لغوا مستهجنا.
والتحقيق ان يقال إنه لو بنينا على أن التكليف بما هو حاصل عادة وان
كان مقدورا فعله وتركه يكون لغوا، فلا فرق بين التكليف الوجوبي
والتحريمي، فإنه كما يقال إن النهي عن شئ متروك في نفسه حسب العادة لغو
مستهجن، كذلك يقال إن البعث نحو شئ حاصل بنفسه لغو مستهجن، فيعتبر
حينئذ في تنجيز العلم الاجمالي عدم كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء
عادة في المقامين، كما ذكره صاحب الكفاية (ره) وان بنينا على أن التكليف
بما هو حاصل عادة لا يكون لغوا، ولا يشترط في صحة التكليف أزيد من
القدرة فلا فرق أيضا بين التكليفين ولا يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي عدم خروج
بعض الأطراف عن معرض الابتلاء في المقامين، وهذا هو الصحيح، إذ ليس
الغرض من الأوامر و النواهي الشرعية مجرد تحقق الفعل والترك خارجا، كما في
الأوامر والنواهي العرفية، فان غرضهم من الامر بشئ ليس الا تحقق الفعل
خارجا، كما أن غرضهم من النهي عن شئ لا يكون إلا انتفاء هذا الشئ خارجا
وحينئذ كان الأمر بشئ حاصل بنفسه عادة لغوا وطلبا للحاصل لا محالة،
وكذا النهي عن شئ متروك بنفسه لغو مستهجن بشهادة الوجدان. وهذا
بخلاف الأوامر والنواهي الشرعية، فان الغرض منها ليس مجرد تحقق الفعل
والترك خارجا، بل الغرض صدور الفعل استنادا إلى امر المولى، وكون الترك
مستندا إلى نهيه ليحصل لهم بذلك الكمال النفساني، كما أشير إليه بقوله تعالى:
(وما أمروا الا ليعبدوا الله). ولا فرق في هذه الجهة بين التعبدي والتوصلي
لما ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي من أن الغرض من الأمر والنهي في كليهما
395

هو الاستناد في الافعال والتروك إلى امر المولى ونهيه، بحيث يكون العبد
متحركا تكوينا بتحريكه التشريعي، وساكنا كذلك بتوقيفه التشريعي،
ليحصل لهم بذلك الترقي والتكميل النفساني. إنما الفرق بينهما في أن الملاك أي
المصلحة في متعلق الامر والمفسدة في متعلق النهي - لو توقف حصوله على قصد
القربة فهو تعبدي والا فهو توصلي، ومع كون الغرض من التكليف الشرعي هو
الفعل المستند إلى امر المولى والترك المستند إلى نهيه لا مجرد الفعل والترك لا قبح في
الأمر بشئ حاصل عادة بنفسه. ولا في النهي عن شئ متروك بنفسه، إذ
ليس الغرض مجرد الفعل والترك حتى يكون الأمر والنهي لغوا وطلبا للحاصل.
ويشهد بذلك وقوع الامر في الشريعة المقدسة بأشياء تكون حاصلة بنفسها عادة
كحفظ النفس والانفاق على الأولاد والزوجة. وكذا وقوع النهى عن أشياء
متروكة بنفسها، كالزنا بالأمهات واكل القاذورات ونحو ذلك مما هو كثير جدا.
والمتحصل مما ذكرناه انه لا يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي عدم كون بعض
الأطراف خارجا عن معرض الابتلاء. لا في الشبهة الوجوبية ولا في الشبهة
التحريمية، بل المعتبر كون جميع الأطراف مقدورا للمكلف على ما تقدم بيانه.
ولا يخفى أن الغالب في الأمثلة التي ذكروها لخروج بعض الأطراف عن محل
الابتلاء كونها أمثلة لخروج بعض الأطراف عن القدرة، فراجع رسائل
الشيخ (رحمه الله).
ثم إن الداعي النفساني إلى الفعل أو الترك لا ينافي قصد القربة المعتبر في
صحة العبادات، وفي تحقق الامتثال في غيرها بنحو الاطلاق، بل قد يجتمعان
(بيان ذلك): انه (تارة) يكون الداعي للمكلف إلى الفعل أو الترك هو امر
المولي أو نهيه، ويكون الداعي النفساني تابعا ومندكا فيه، ولا إشكال في
صحة العبادة وحصول الامتثال في هذه الصورة. و (أخرى) يكون عكس
396

ذلك، بأن يكون الداعي إلى الفعل أو الترك ميله النفساني، وتكون داعوية
امر المولى أو نهيه مندكا فيه. ولا إشكال في عدم صحة العبادة وعدم حصول
الامتثال في هذه الصورة، فان الفعل أو الترك لم يستند في الحقيقة إلى امر المولى
ونهيه، كما هو ظاهر. و (ثالثة) يكون قصد القربة والداعي النفساني كلاهما
داعيا إلى الفعل أو الترك. وهذه الصورة تتصور على وجهين:
(الأول) - ان يكون كل منهما دخيلا في تحقق الفعل أو الترك، بأن
يكون كل واحد منهما جزء للسبب ولا ينبغي الاشكال في عدم صحة العبادة وعدم
حصول الامتثال بعد عدم كون أمر المولى أو نهيه كافيا ومؤثرا في تحقق الفعل
أو الترك، ولذا ورد في الحديث حكاية عنه تعالى: (انا خير شريك من عمل لي
ولغيري جعلته لغيري).
(الثاني) - ان يكون كل واحد منهما سببا تاما في عالم الاقتضاء، بمعنى
ان يكون كل واحد منهما كافيا في تحقق الفعل أو الترك مع عدم الآخر، وان
كان صدور الفعل خارجا مستندا إليهما فعلا، لاستحالة صدور الواحد من
السببين المستقلين في التأثير. والأقوى فيه أيضا هو الحكم بصحة العبادة،
وحصول الامتثال لصحة استناد الفعل إلى امر المولى، بعد كونه سببا
تاما في التأثير.
بقى الكلام في مسألتين: (المسألة الأولى) - انه إذا شككنا في أن الدخول
في محل الابتلاء معتبر في صحة التكليف أم لا، أو شككنا في كون بعض
الأطراف خارجا عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه وعدم تعين حده،
بناء على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف، فهل يرجع إلى
اطلاقات أدلة التكليف ويحكم بالتنجيز في الطرف المبتلى به، أو إلى أصالة البراءة؟
ذهب شيخنا الأنصاري (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره) إلى الأول، بدعوى
397

أن الاطلاق هو المرجع ما لم يثبت التقييد، فلا مجال لجريان الأصل، فان
مقتضى الاطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي، فلا يجري الأصل في أطرافه. وذهب
صاحب الكفاية (ره) إلى الثاني، بدعوى ان التمسك بالاطلاق في مقام الاثبات
إنما يصح فيما إذا أمكن الاطلاق بحسب مقام الثبوت. ليستكشف بالاطلاق في
مقام الاثبات الاطلاق في مقام الثبوت، ومع الشك في امكان الاطلاق ثبوتا
لا اثر للاطلاق اثباتا. والمقام من هذا القبيل، فإنه بعد الالتزام باعتبار الدخول
في محل الابتلاء في صحة التكليف عقلا، كان الشك في دخول بعض الأطراف
في محل الابتلاء من حيث المفهوم شكا في إمكان الاطلاق بالنسبة إليه. ومع الشك
في الامكان ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الاطلاق في مقام الاثبات. وكذا الحال
عند الشك في أصل اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف، فإنه أيضا
شك في الامكان ثبوتا فلا يمكن الرجوع إلى الاطلاق اثباتا.
والتحقيق صحة ما ذهب إليه الشيخ (ره) لما ذكرناه في أوائل بحث حجية
الظن من أن بناء العقلاء على حجية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية
على إرادة خلافها. ومجرد احتمال الاستحالة لا يعد قرينة على ذلك، فإنه من
ترك العمل بظاهر خطاب المولى، لاحتمال استحالة التكليف لا يعد معذورا عند
العقلاء، فإذا أمر المولى باتباع خبر العادل وترتيب الأثر عليه، واحتملنا
استحالة حجيته. لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال أو الالقاء في المفسدة
وتفويت المصلحة، أو غير ذلك مما ذكروه في استحالة العمل بالظن، لا يكون
هذا الاحتمال عذرا في مخالفة ظاهر كلام المولى. والمقام من هذا القبيل بعينه،
فلا مانع من التمسك بالاطلاق عند الشك في الدخول في محل الابتلاء مفهوما، أو
الشك في اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف فان الاطلاق في مقام
الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت كشفا تعبديا.
398

(المسألة الثانية) - انه إذا شككنا في خروج بعض أطراف العلم الاجمالي
عن تحت القدرة أو خروجه عن محل الابتلاء لشبهة مصداقية، بناء على اعتبار
الدخول في محل الابتلاء في تنجيز العلم الاجمالي، فهل يرجع في غيره من
الأطراف إلى البراءة أو إلى الاطلاق أيضا؟ الظاهر هو الأول لما ذكرناه في
مباحث الألفاظ من عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، ولا سيما
في موارد التخصيصات اللبية التي هي من قبيل القرائن المتصلة الموجبة لعدم انعقاد
الظهور من أول الامر الا في الافراد الباقية. والمقام كذلك، فان إطلاقات
الأدلة الأولية الدالة على التكليف ليس لها ظهور في أول الأمر إلا في المقدور من
جهة القرينة القطعية العقلية. وكذا ليس لها ظهور إلا في موارد الابتلاء بناء
على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف، وحيث انه لا يمكن
الرجوع في الطرف المشكوك في كونه تحت القدرة أو في كونه المبتلي به إلى
الاطلاقات لما ذكرناه من عدم جواز الرجوع إلى العالم في الشبهة المصداقية لا يمكن
الرجوع فيه إلى أدلة البراءة أيضا، لأن كل مورد لا يكون قابلا لوضع التكليف
فيه لا يكون قابلا للرفع أيضا، فإذا احتملنا عدم القدرة أو عدم الابتلاء في
بعض الأطراف لا يمكننا الرجوع إلى أدلة البراءة، لكون الشبهة مصداقية،
وحينئذ لا مانع من الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر، وهو الطرف المحرز
كونه تحت القدرة ومحلا للابتلاء، لعدم المعارضة بين الأصل في الطرفين.
وعلى ما ذكرناه من الرجوع إلى البراءة في الطرف المقدور عند الشك في خروج
بعض الأطراف عن تحت القدرة تقل الثمرة بيننا، وبين القائل باعتبار الدخول
في محل الابتلاء في تنجيز العلم الاجمالي، فان غالب موارد ذكرها للخروج عن
محل الابتلاء يكون من موارد الشك في القدرة، فلا يكون العلم الاجمالي منجزا
للشك في القدرة على ما ذكرناه، أو للخروج عن محل الابتلاء على ما ذكره
399

القائل، باعتبار الدخول في محل الابتلاء. وتنحصر الثمرة بيننا في ما إذا كان
جميع الأطراف مقدورا يقينا، وكان بعضها خارجا عن محل الابتلاء، فانا
نقول فيه بالتنجيز والقائل باعتبار الدخول في محل الابتلاء يقول بعدمه.
بقي في المقام إشكال وهو انه كيف تجرى البراءة في المقام، مع أن الشك
في التكليف فيه ناشئ من الشك في القدرة. ومن الواضح المتسالم عليه أن الشك
في القدرة لا يكون موردا للبراءة، بل يجب الفحص ليتحقق الامتثال أو يحرز
عجزه، ليكون معذورا، فإذا شك المكلف في قدرته على حفر الأرض لدفن
ميت، فهل يجوز تركه للشك في القدرة واحتمال العجز. وكذا إذا شك الجنب
في أن باب الحمام مثلا مفتوح حتى يكون قادرا على الغسل أولا، فهل يجوز له
الرجوع إلى البراءة عن وجوب الغسل. وترك الفحص والمقام من هذا القبيل.
والجواب انه لا يجوز الرجوع إلى البراءة عند الشك في القدرة فيما إذا
علم فوات غرض المولى بالرجوع إلى البراءة، كما في المثال. وقد ذكرنا في
بحث الاجزاء ان العلم بالغرض بمنزلة العلم بالتكليف، فبعد العلم بالغرض وجب
الفحص بحكم العقل، حتى لا يكون فوت غرض المولى مستندا إلى تقصيره. وبعد
الفحص إن انكشف تمكنه من الامتثال. فيمتثل، والا كان فوت غرض
المولى مستندا إلى عجزه، فيكون معذورا بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك كما في المقام
إذ لم يحرز وجود غرض المولى في الطرف المقدور أو الطرف المبتلى به. فلا يكون
في الرجوع إلى البراءة إلا احتمال فوات غرض المولى، وهو ليس بمانع لوجوده
في جميع موارد الرجوع إلى البراءة، حتى الشبهات البدوية. و (بعبارة أخرى)
الفرق بين المثال والمقام أن الغرض في المثال معلوم والقدرة مشكوك فيها، وفي
المقام الغرض مشكوك فيه والقدرة معلومة فكم فرق بينهما.
400

(التنبيه العاشر)
يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي ان يكون لكل واحد من الأصلين في الطرفين
اثر عملي فعلي، فلو لم يكن للأصل في أحد الطرفين اثر فعلي لا يجرى فيه الأصل
لعدم ترتب اثر عليه. وحينئذ لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر، فلا
يكون العلم الاجمالي منجزا، لما ذكرناه مرارا من أن تنجيزه متوقف على
تساقط الأصول في أطرافه، فلو علم المكلف بنجاسة أحد ثوبين، وعلم بكون
أحدهما المعين مغصوبا، لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في غير المغصوب
لعدم جريانها في المغصوب حتى تسقط بالمعارضة، إذ لا أثر عملي لجريانها فيه
بعد العلم بحرمة استعماله على تقديري الطهارة والنجاسة، فتجري القاعدة في
الطرف الآخر بلا معارض. ولا يكون العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما منجزا.
وان شئت قلت إنه كما يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي القدرة العقلية في جميع
الأطراف، كذلك تعتبر القدرة الشرعية فيها، فان الممنوع شرعا كالممتنع عقلا
فلو خرج بعض الأطراف عن تحت قدرته شرعا - كما في المثال المذكور -
لا يكون العلم الاجمالي منجزا، لجريان الأصل في الطرف الآخر
بلا معارض.
401

(التنبيه الحادي عشر)
قد عرفت ان تنجيز العلم الاجمالي فيما إذا كانت الأصول الجارية في أطرافه
عرضية، بمعنى كون جميعها في مرتبة واحدة، كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد
الماءين مثلا وقد تقدم تفصيل الكلام في مثل ذلك. وأما إذا كانت الأصول
طولية، بأن يكون الأصل الجاري في بعض الأطراف في مرتبة لا حقة عن الأصل
الجاري في الطرف الآخر، كما لو علم بوقوع نجاسة في الماء أو التراب مع
انحصار الطهور بهما، فإنه لو جرت أصالة الطهارة في الماء لا تصل النوبة إلى
جريانها في التراب، إذ لا اثر له، لعدم جواز التيمم مع وجود الماء
الطاهر، فهل يكون مثل هذا العلم منجزا وتتساقط الأصول في أطرافه، أو
يجري الأصل في الماء لتقدم رتبته على الأصل الجاري في التراب، ولا يكون
الأصل الجاري في التراب معارضا للأصل الجاري في الماء. لعدم كونه في رتبته
فتجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض؟ وعلى تقدير التساقط فهل يحكم بكون
المكلف فاقدا للطهورين، أو بوجوب الجمع بين الوضوء والتيمم عليه تحصيلا
للطهارة اليقينية؟ وجوه.
والتحقيق أن يقال ان التراب المحتمل نجاسة (تارة لا يكون لطهارته اثر
شرعي في عرض الأثر الشرعي لطهارة الماء، وكان الأثر الشرعي لطهارته جواز التيمم
فقط الذي ليس في مرتبة طهارة الماء، كما إذا كان التراب مال الغير ولم يأذن
في السجدة عليه، أو كان المكلف غير مكلف بالسجدة وكان تكليفه الايماء مثلا
و (أخرى) يكون لطهارته اثر آخر غير جواز التيمم، وكان ذلك الأثر في
402

عرض الأثر الشرعي لطهارة الماء، كجواز السجدة عليه.
اما الصورة الأولى فلا ينبغي الاشكال في جريان أصالة الطهارة في الماء بلا
معارض، لعدم جريانها في التراب لعدم ترتب اثر عليه. وقد ذكرنا ان تنجيز
العلم الاجمالي يتوقف على كونه متعلقا بالتكليف الفعلي على كل تقدير، وهو
مفقود في المقام، إذ النجاسة على تقدير وقوعها في التراب لا يترتب عليها عدم
جواز التيمم، بل عدم جوازه حينئذ انما هو من جهة التمكن من الماء الطاهر
لا من جهة نجاسة التراب، وإن شئت قلت إن النجاسة المعلومة بالاجمال لا يترتب
عليها عدم جواز التيمم أصلا لأنها إن كانت واقعة في الماء فهي مقتضية لجواز
التيمم لا لعدم جوازه، وان كانت واقعة في التراب فعدم جواز التيمم مستند
إلى وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب. وعليه فلا تجرى أصالة الطهارة في
التراب، وتجري في الماء بلا معارض. وبجريانها يرتفع موضوع جواز التيمم
وهو عدم التمكن من الماء الطاهر.
أما الصورة الثانية فجريان أصالة الطهارة في الماء المترتب عليه جواز الوضوء
به يعارض بجريانها في التراب المترتب عليه جواز السجدة عليه، وبعد التساقط
يكون العلم الاجمالي منجزا. وحينئذ لا وجه لا دراج المكلف في فاقد الطهورين
بل يجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمم تحصيلا للطهارة اليقينية. وما يتصور
كونه مانعا عنهما أمران: (أحدهما) - حرمة التوضي بالماء المتنجس لكونه
تشريعا، وكذلك التيمم بالتراب المتنجس. (ثانيهما) - احتمال نجاسة بدنه
بملاقاة الماء المحتمل كونه نجسا. (أما الأول) فمدفوع بأن المكلف يحتاط
ويأتي بها رجاء. فلا تشريع هناك. و (اما الثاني) فمدفوع بان مجرد الاحتمال
مما لا بأس به بعد كونه موردا لأصالة الطهارة. وسيجئ ان الحكم في ملاقي
الشبهة المحصورة هي الطهارة.
403

فتحصل ان المتعين هو الجمع بين الوضوء والتيمم تحصيلا للطهارة اليقينية
(وبعبارة أخرى) هناك علمان اجماليان أحدهما العلم الاجمالي بنجاسة الماء أو
التراب، والثاني العلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو التيمم. ومقتضى العلم
الأول ليس حرمة الوضوء والتيمم ذاتا، بل عدم الاجتزاء بكل واحد منهما في
مقام الامتثال. ومقتضى العلم الثاني هو الجمع بينهما تحصيلا لليقين بالطهارة.
ولا منافاة بينهما. نعم يجب تقديم التيمم على الوضوء، لأنه مع تقديم الوضوء
على التيمم يعلم تفصيلا بفساد التيمم إما من جهة نجاسة التراب على تقدير كون
الماء طاهرا، واما من جهة نجاسة محل التيمم على تقدير كون الماء نجسا، بناء
على ما هو المعروف المشهور من اشتراط طهارة المحل في التيمم. وان لم تجد
دليلا عليه إلى الآن.
هذا كله فيما إذا لم يكن للمعلوم بالاجمال اثر تكليفي، كما في العلم الاجمالي
بنجاسة الماء أو التراب، فان المترتب على المعلوم بالاجمال هو الحكم الوضعي
فقط، وهو عدم صحة الوضوء أو التيمم. وأما إذا كان المترتب على المعلوم
بالاجمال حكما تكليفيا أيضا كما إذا علمنا اجمالا بغصبية الماء أو التراب، فان الأثر
المترتب على هذا المعلوم بالاجمال ليس الوضع فقط وهو عدم صحة الوضوء والتيمم
بل له اثر تكليفي أيضا وهو حرمة التصرف والاستعمال، فحينئذ يكون المقام من
موارد دوران الامر بين المحذورين، لأنا نعلم بحرمة التصرف في أحدهما
وبوجوب استعمال أحدهما، ولا يمكن تحصيل الموافقة القطعية الا مع المخالفة
القطعية، إذ في صورة الجمع بين الوضوء والتيمم نقطع بالموافقة من ناحية الوجوب
ونقطع بالمخالفة من ناحية الحرمة. وفي صورة تركهما معا نقطع بالموافقة
من جهة الحرمة، ونقطع بالمخالفة من جهة الوجوب، فيسقط حكم العقل
بوجوب الموافقة القطعية لاقترانها بالمخالفة القطعية، فلا مناص من
الاجتزاء بالموافقة الاحتمالية والاكتفاء بأحدهما، فإنه ليس فيه إلا احتمال المخالفة
404

ولا بأس به بعد عدم إمكان الزائد منه ولا ترجيح للوضوء على التيمم، لان
الأصل الجاري في التراب ليس هنا متأخرا عن الأصل الجاري في الماء، لعدم
انحصار اثر غصبية التراب في عوم جواز التيمم به. بل يترتب عليها عدم جواز
التصرف فيه مطلقا، كما تقدم. وليس المقام من باب التزاحم، فإنه تابع
لوجود الملاكين في الطرفين، بخلاف المقام كمالا يخفي.
ومما ذكرناه ظهر حكم صورة ثالثة، وهي العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو
غصبية الآخر، كما إذا علمنا اجمالا بنجاسة الماء أو غصبية التراب، فيجري
الكلام السابق من تساقط الأصول، وتنجيز العلم الاجمالي، ودوران الامر
بين المحذورين والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية، إلا أنه يجب الوضوء في الفرض
المذكور، ولا يجوز التيمم بحكم العقل، إذ في الوضوء احتمال الموافقة مع عدم
احتمال الحرمة وعدم احتمال العقاب أصلا، بخلاف التيمم، فان فيه احتمال
الموافقة مع احتمال الحرمة من جهة احتمال الغصبية، فتعين الوضوء بحكم العقل.
ولو انعكس الامر انعكس الحكم، اي لو علمنا إجمالا بأن الماء غصب أو التراب
بخس، تعين عليه بحكم العقل لعين ما ذكرناه.
(التنبيه الثاني عشر)
في حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة. وقبل التكلم فيه لا بد من
بيان أمرين: (الأول) - ان الكلام انما هو فيما إذا كانت الملاقاة مختصة ببعض
الأطراف، إذ لو فرضنا ان شيئا واحدا لاقى جميع الأطراف فهو معلوم النجاسة
تفصيلا وخارج عن محل الكلام. وكذا لو فرضنا شيئين لا قي أحدهما
405

طرفا من العلم الاجمالي، والآخر لاقى الطرف الآخر فلا اشكال في وجوب
الاجتناب عن كلا الملاقيين، كوجوب الاجتناب عن نفس الطرفين، لتوليد
علم اجمالي آخر بنجاسة أحد الملاقيين زائدا على العلم الاجمالي الأول المتعلق بنفس
الطرفين، فهذا الفرض أيضا خارج عن محل الكلام.
(الثاني) - ان تنجيز العلم الاجمالي متوقف على تساقط الأصول كما تقدم
مرارا. والتساقط إنما يكون مع العلم بالتكليف الفعلي، سواء كان العلم
متعلقا بالتكليف الفعلي ابتداء - كما في الشبهات الحكمية، - كما إذا علم بوجوب
صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة - أو كان متعلقا بالموضوع التام للحكم كما في
الشبهات الموضوعية، كما إذا علم بخمرية أحد المائعين مثلا وأما إذا لم يعلم الا
الموضوع الناقص اي جزء الموضوع، فلا مانع من جريان الأصل والحكم بعدم
تحقق الموضوع التام، كما إذا علم بكون أحد الجسدين ميت انسان، والآخر
جسد حيوان مذكى مأكول اللحم، فان هذا العلم الاجمالي وان كان يقتضي
وجوب الاجتناب عن اكل لحم كل من الجسدين، إلا أنه إذا مس شخص أحدهما
لا يحكم عليه بوجوب الغسل، لان المعلوم بالاجمال وهو بدن ميت الانسان جزء
للموضوع، للحكم بوجوب الغسل، وتمامه مس بدن الانسان، وهو
مشكوك التحقق والأصل عدمه.
والوجه في ذلك أن العلم الاجمالي إذا تعلق بثبوت التكليف الفعلي فالشك
في كل واحد من الأطراف انما يكون شكا في انطباق المعلوم بالاجمال عليه، ومعه
لا يمكن الرجوع إلى الأصل النافي في جميع الأطراف، لاستلزامه الترخيص في
المعصية ومخالفة التكليف الواصل، ولا في بعضها لبطلان الترجيح بلا مرجح
على ما تقدم بيانه مفصلا. واما ان كان الشك في تمامية الموضوع، كما في المثال
الذي ذكرناه، فمرجعه إلى الشك في أصل التكليف، فلا مانع من الرجوع إلى
406

الأصل فيه. وما ذكرناه - من تساقط الأصول فيما إذا كان المعلوم بالاجمال تمام
الموضوع، وعدم المانع من الرجوع إلى الأصل فيما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء
الموضوع - واضح لا اشكال فيه من حيث الكبرى، إلا أنه وقع الاشكال
والخلاف في بعض الموارد من حيث الصغرى، فقد يدعى انه من موارد العلم
الاجمالي بالتكليف الفعلي، للعلم بتمام الموضوع، فيحكم بالتنجيز. وقد يقال
انه من موارد العلم بجزء الموضوع لا تمامه. فيكون التكليف مشكوكا فيه،
فيرجع إلى الأصل. ومن ذلك ما إذا علم إجمالا بغصبية إحدى الشجرتين، ثم
حصلت لإحداهما ثمرة دون الأخرى، فقد يقال فيه بجواز التصرف في الثمرة
تكليفا، وبعدم ضمانها وضعا، باعتبار ان الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء
المغصوب وهو مشكوك فيه، والأصل عدمه، كما أن موضوع الضمان وضع
اليد على مال الغير، وهو أيضا مشكوك فيه والأصل عدمه. فالعلم الاجمالي
بغصبية إحدى الشجرتين لا يترتب عليه الحكم بحرمة التصرف، ولا الضمان
بالنسبة إلى الثمرة لاحداهما، للشك في تحقق الموضوع والأصل عدمه. نعم
يترتب عليه الحكم بحرمة التصرف في نفس الشجرتين وضمان المغصوب منهما بوضع
اليد عليه.
وقد يقال بتنجيز العلم الاجمالي المذكور كلا الحكمين التكليفي والوضعي
بالنسبة إلى الثمرة أيضا. واختاره المحقق النائيني (ره) بدعوى ان وضع اليد
على العين المغصوبة موجب لضمانها وضمان منافعها إلى الأبد، لأنه بأخذ العين
يتحقق اخذ المنافع، أو اخذ العين مستتبع لأخذ المنافع. ومن ثم جاز للمالك
الرجوع إلى الغاصب الأول في المنافع المتجددة الحاصلة بعد خروج العين عن يده
ودخولها تحت الأيادي المتأخرة، فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتب عليه
ضمان نفس العين المغصوبة كذلك يترتب عليه ضمان منافعها المتجددة. هذا من
407

حيث الحكم الوضعي، واما الحكم التكليفي اي حرمة التصرف في الثمرة، فهو
وان كان منتفيا بانتفاء موضوعه وهو الثمرة في الزمان الأول، إلا ان ملاكه قد
ثم بغصب العين الموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة بالفعل والمتجددة بعد
ذلك وهو كون اليد عاديه بالنسبة إلى العين ومنافعها الموجودة وغير الموجودة
فتترتب حرمة التصرف في الثمرة بعد وجودها لا محالة.
والتحقيق عدم تمامية ما ذكره من الوجه للحكم الوضعي ولا ما ذكره للحكم
التكليفي. اما ما ذكره للحكم الوضعي، فلان الحكم بضمان منافع العين المغصوبة
مسلم من حيث الكبرى، كما ذكره الا انه لا يترتب الحكم على الكبرى الكلية
الا بعد إحراز الصغرى خارجا. وتحققها مشكوك فيه إذ لم يحرز كون الثمرة
من منافع العين المغصوبة، لاحتمال كونها من منافع العين المملوكة، فيجري
استصحاب عدم كونها من منافع العين المغصوبة، ولا يعارض باستصحاب عدم كونها
من منافع العين المملوكة، لما ذكرناه سابقا من أنه لا مانع من جريان الاستصحابين
إذا لم يستلزم مخالفة علمية. ولو نوقش في الاستصحاب المذكور لأجل المعارضة
فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة من الضمان.
واما الحكم التكليفي فتجري البراءة عنه أيضا، لعدم العلم بتحقق
موضوعه وهو التصرف في مال الغير، لعدم احراز كون الثمرة مال الغير. ولا
تتحقق حرمة التصرف الا بعد احراز كون التصرف تصرفا في مال الغير، وهو
مشكوك فيه فيرجع إلى الأصل.
وأما ما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري (ره) في موارد متعددة من
عدم جريان البراءة في الأموال تمسكا بقوله عليه السلام (لا يحل مال إلا من حيث أحله
الله). ففيه (أولا) - ان الرواية مرسلة لا يصح الاعتماد عليها، بل لم نجدها
إلى الآن في الجوامع المعتبرة. و (ثانيا) - ان الشك في الحرمة من أسباب
408

الحلية شرعا لأدلة البراءة، فبالتعبد الشرعي يثبت كون النماء مما أحله الله تعالى
و (ثالثا) - ان منشأ الشك في الحرمة احتمال كون النماء ملك الغير،
والاستصحاب يقتضى عدمه بناء على جريانه في الاعدام الأزلية، كما هو الصحيح
على ما ذكرناه في محله. وبهذا الاستصحاب يحرز كونه مما أحله الله تعالى، ولا
يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم دخوله في ملكه، إذ لا يثبت بذلك
كونه ملكا للغير الذي هو الموضوع لحرمة التصرف الا على القول بالأصل المثبت
ولا نقول به. واما جواز التصرف فلا يتوقف على كونه ملكا له، بل يكفيه
عدم كونه ملكا للغير، فلا يكون الأصل بالنسبة إلى جواز التصرف مثبتا.
هذا كله فيما إذا لم تكن الأطراف مسبوقة بملكية الغير، كما لو اصطاد
رجلان صيدين، فغصب أحدهما صيد الآخر واشتبها، وحصل لأحدهما النماء واما
إن كانت الأطراف مسبوقة بملكية الغير، كما إذا اشترى إحدى الشجرتين
وغصب الأخرى فاشتبها، وحصل لاحداهما النماء، فلا اشكال في الحكم بضمان
المنافع وحرمة التصرف فيها، لاستصحاب بقاء الشجرة في ملك مالكها وعدم
انتقالها إليه. ومقتضى هذا الاستصحاب الحكم بملكية المنافع لمالك الشجرة،
فيحرم التصرف فيها ويضمنها.
وتوهم - ان استصحاب بقاء الشجرة ذات النماء على ملك مالكها معارض
باستصحاب بقاء الشجرة الأخرى على ملك مالكها للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما
للواقع، فاجراء الأصل في الشجرة ذات النماء دون الأخرى ترجيح بلا مرجح
- مدفوع بأنه لا معارضة بينهما، لما عرفت غير مرة من أن العلم الاجمالي بمخالفة
أحد الاستصحابين للواقع لا يمنع من جريانهما ما لم يستلزم المخالفة العملية كما
في المقام.
هذا كله في التصرفات غير المتوقفة على الملك كالأكل والشرب والبس
409

ونحوها. وأما التصرفات المتوقفة عليه كالبيع ونحوه، فلا ينبغي الشك في عدم
جوازها، لما ذكرناه من أن الاستصحاب المذكور لا يثبت كونه ملكا له الا
على القول بالأصل المثبت، ولا نقول به.
ولا يخفى ان جميع ما ذكرناه في الثمرة من جواز التصرف فيها وعدمه
وثبوت الضمان وعدمه يجري في حق غير الغاصب أيضا: ممن وهب الغاصب له
الثمرة أو اشتراها منه، فليس ما ذكرناه من التفصيل مختصا بالغاصب.
إذا عرفت ما ذكرناه من الأمرين. فلنعد إلى حكم الملاقى لبعض أطراف
الشبهة المحصورة، فنقول: إن الكلام في الملاقي يتم في مسائل ثلاث: (الأولى)
ما إذا كانت الملاقاة والعلم بها بعد العلم الاجمالي. (الثانية) - عكس الأولى بأن
كانت الملاقاة والعلم بها قبل العلم الاجمالي. (الثالثة) - ما إذا كان العلم الاجمالي
بعد الملاقاة وقبل العلم بها.
(اما المسألة الأولى) فملخص الكلام فيها ان نجاسة الملاقى بالكسر على
فرض تحققها ليست توسعا في نجاسة الملاقى بالفتح، ولا تكون بمنزلة تقسيم
النجس الواحد إلى قسمين، حتى تكون نجاسة الملاقى بالكسر قسما من نجاسة
الملاقى بالفتح، بل تكون نجاسة أخرى حاصلة من نجاسة الملاقى بالفتح حصول
المعلول من العلة، ولذا لا تجري على الملاقي بالكسر احكام الملاقى بالفتح، فإنه
لو ولغ الكلب في اناء فلا بد في تطهيره من التعفير، ولكنه لو لاقى شئ
آخر هذا الاناء من الثواب أو الاناء أو غيرهما، لا يجب في تطهيره التعقير.
وكذا يجب الغسل من البول مرتين دون الملاقي له، فلا يجب الغسل من الماء
الملاقي للبول الامرة واحدة.
فتحصل ان نجاسة الملاقي ليست عين نجاسة الملاقى بل غيرها، نظير
الطهارة الحاصلة من الماء الطاهر مثلا، فإنه لو أصاب المطر ثوبا متنجسا فطهره،
كانت طهارة الثوب غير طهارة المطر لا محالة حاصلة من طهارة المطر حصول المعلول
410

من العلة. و (بالجملة) نجاسة الملاقى بالكسر على فرض تحققها نجاسة جديدة
حادثة، والمفروض وجود الشك في تحققها، والأصل عدمه. فلا ينبغي الشك
في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى، لان وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس
موضوعه مركب من أمرين النجس وملاقاته. والعلم الاجمالي بنجاسة أحد
المائعين ليس إلا علما بما هو جزء الموضوع، والجزء الآخر وهو الملاقاة
مشكوك فيه، ولا يكون العلم منجزا له، فيرجع عند الشك فيه إلى أصالة
عدم ملاقاة النجس أو أصالة الطهارة.
وربما يقال بوجوب الاجتناب عن الملاقي أيضا. ويستدل عليه بوجهين
(الوجه الأول) - ان نجاسة الملاقي انما هي بنحو السراية الحقيقية من نجاسة
الملاقي، فنجاسة الملاقي متحدة مع نجاسة الملاقى، غاية الامر انها توسعت
بالملاقاة وثبتت لامرين بعد ما كانت ثابتة لأمر واحد، نظير ما لو قسم ما في
أحد الإناءين إلى قسمين وجعل كل قسم في اناء، فكما يجب الاجتناب عن
كليهما وعن الطرف الآخر تحصيلا للموافقة القطعية، كذلك يجب الاجتناب
عن الملاقى والملاقي وعن الطرف الآخر تحصيلا للموافقة القطعية، والدليل على
كون تنجس الملاقي بنحو السراية الحقيقية من نجاسة الملاقى هو الخبر المروي
عن الشيخ باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عيسى اليقطيني عن النضر بن
سويد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال اتاه رجل فقال وقعت
فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في اكله؟ قال فقال أبو جعفر عليه السلا م:
(لا تأكله، فقال له الرجل الفارة أهون علي من أن اترك طعامي من اجلها،
فقال عليه السلام إنك لم تستخف بالفارة، وانما استخففت بدينك، ان الله حرم
الميتة من كل شئ) (1)

(1) الوسائل - ج 1 - الباب (5) من أبواب الماء المضاف و المستعمل
- الحديث (2).
411

وتقريب الاستدلال ان السائل لم يرد بقوله الفارة أهون علي (الخ) اكل
الفارة مع السمن أو الزيت، بل أراد اكل السمن أو الزيت الملاقي لها، فقول
الإمام عليه السلام - في مقام التعريض له ان الله حرم الميتة من كل شئ - يدل على أن
نجاسة الملاقي للميتة هي عين نجاسة الميتة، وحرمته عين حرمتها، فأكل الملاقي
للميتة ينافي الاجتناب عنها. (وبعبارة أخرى) علل الإمام عليه السلام حرمة الملاقي
بحرمة الميتة، فيدل على اتحادهما.
وفيه ما تقدم من أن نجاسة الملاقي بالكسر حاصلة من نجاسة الملاقي
بالفتح حصول المعلول من العلة، لا انها عينها، ولذا لا تجري عليها احكامها
على ما تقدم بيانه.
واما الاستدلال بالخبر ففيه (أولا) - ان الخبر ضعيف بعمرو بن شمر، فلا يصح
التمسك به. و (ثانيا) - انه لا دلالة للخبر على أن نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى
بنحو السراية الحقيقة، كيف والخبر غير ناظر إلى هذه الجهة، فان السائل
استبعد كون الفارة مع صغرها موجبة النجاسة ما في الخابية من السمن والزيت،
على ما يظهر من كلامه: (الفأرة أهون علي). فرد عليه الإمام عليه السلام بأن الله
حرم الميتة من كل شئ، أي لا فرق بين الكبير والصغير. فغاية ما يستفاد
من الخبر ان نجاسة الشئ الموجبة لحرمته مستلزمة لنجاسة ملاقيه وحرمته، وليس
في ذلك دلالة على أن نجاسة الملاقي بالكسر عين نجاسة الملاقى بالفتح، وحرمته
هي عين حرمته.
(الوجه الثاني) - انه بعد العلم بالملاقاة يحدث علم اجمالي آخر بوجود
نجس بين الملاقي والطرف الآخر وهذا العلم الاجمالي مما لا مجال لانكاره بعد فرض
الملازمة بين نجاسة الشئ ونجاسة ملاقيه واقعا. ومن ثم لو فرض انعدام الملاقى
بالفتح كان العلم بالنجاسة المردة بين الملاقي والطرف الآخر موجودا، فهذا
412

العلم الاجمالي الحادث بعد العلم بالملاقاة يقتضى الاجتناب عن الملاقي والطرف
الآخر تحصيلا للموافقة القطعية نعم لو فرضت الملاقاة بعد انعدام الطرف
الآخر، لم يكن العلم الثاني مؤثرا في التنجيز، لعدم كونه علما بالتكليف الفعلي
على كل تقدير الموجب لتساقط الأصول في الأطراف.
وأجاب شيخنا الأنصاري (ره) عن هذا الوجه من الاستدلال: بأن
العلم الثاني لا يمنع من جريان الأصل في الملاقى، لان جريان الأصل في الملاقي بالكسر
إنما هو في طول جريان الأصل في الملاقي بالفتح، لكون الشك في الملاقي ناشئا
من الشك في الملاقي، فيكون الأصل الجاري في الملاقى أصلا جاريا في الشك
السببي، والأصل الجاري في الملاقى أصلا جاريا في الشك المسببي. ومن الظاهر
أن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي، فعلي تقدير جريان الأصل في الملاقى
بالفتح لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقى بالكسر. وبعد سقوط الأصل في
الملاقى بالفتح - لأجل المعارضة بينه وبين الأصل في الطرف الآخر - تصل النوبة
إلى جريان الأصل في الملاقي بالكسر، فيجري فيه بلا معارض.
ويتوجه الاشكال على هذا الجواب بالشبهة الحيدرية. وتقريرها انه كما أن
جريان أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر في طول جريان أصالة الطهارة في
الملاقي بالفتح. كذلك جريان أصالة الحل في الطرفين في طول جريان أصالة
الطهارة فيهما، إذ لو أجريت أصالة الطهارة وحكم بالطهارة لا تصل النوبة إلى
جريان أصالة الحل، فتكون أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر و أصالة الحل في
الطرف الآخر في مرتبة واحدة، لكون كليهما مسببيا، فانا نعلم اجمالا - بعد
تساقط أصالة الطهارة في الطرفين - بأن هذا الملاقي بالكسر نجس أو ان
الطرف الآخر حرام، فيقع التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي
وأصالة الحل في الطرف الآخر، ويتساقطان، فيجب الاجتناب عن
413

الملاقي. نعم لا ماتع من جريان أصالة الحل في الملاقي بالكسر بعد سقوط
أصالة الطهارة فيه للمعارضة بأصالة الحل في الطرف الآخر لعدم معارض له في.
هذه المرتبة.
و الصحيح في الجواب عن الاستدلال المذكور ان يقال إن تنجيز العلم
الاجمالي منوط ببطلان الترجيح بلا مرجح، فإنه بعد العلم الاجمالي لا يمكن
جريان الأصل في جميع الأطراف، للزوم المخالفة القطعية، ولا في بعضها للزوم
الترجيح بلا مرجع فتسقط الأصول ويتنجز التكليف لا محالة. وعليه فلو لم
يجر الأصل في بعض الأطراف في نفسه لجة من الجهات، فلا مانع من جريان
الأصل في الطراف الآخر، فلا يكون العلم الاجمالي منجزا. ولنذكر لتوضيح
المقام أمثلة:
(منها) - ما لو علمنا إجمالا بوقوع النجاسة في أحد المائعين مثلا، وكان
أحدهما المعين محكوما بالنجاسة لأجل الاستصحاب مثلا قبل العلم الاجمالي، فلا
تجري فيه أصالة الطهارة بنفسها كي تكون معارضة بجريانها في الطرف الآخر،
فتجري أصالة الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض. و (بعبارة أخرى)
لا يكون العلم الاجمالي المذكور علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير، بل ليس
إلا احتمال التكليف في الطرف الآخر، فيجري الأصل النافي بلا معارض.
و (منها) - ما لو كان مجرد الشك منجزا للتكليف في بعض الأطراف، كما
لو علمنا اجمالا بانا لم نأت بصلاة العصر أو بصلاة العشاء، وكان ذلك في الليل،
فان مجرد الشك في الاتيان بصلاة العشاء يكفي في تنجيز التكليف بالنسبة إليها. لبغاء
الوقت، فوجوب الاتيان بها لا يحتاج إلى جريان أصالة عدم الاتيان فلا مانع
من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر وهو صلاة العصر، فيرجع إلى قاعدة
الحيلولة أو أصالة عدم وجوب القضاء، لكونه بفرض جديد والأصل عدمه.
414

و (منها) - ما لو علمنا بنجاسة أحد المائعين، ثم علمنا اجمالا بوقوع
نجاسة في أحدهما أو في إناء ثالث. فإنه لا اثر للعلم الاجمالي الثاني في تنجيز
التلكيف بالنسبة إلى الاناء الثالث. لأن التكليف قد تنجز بالعلم الاجمالي الأول
بالنسبة إلى المائين الأولين، فليس العلم الاجمالي الثاني علما بالتكليف على كل
تقدير، لاحتمال وقوع النجاسة في أحد المائعين الأولين. وقد تنجز التكليف
فيهما بالعلم الأول، فليس في الاناء الثالث إلا احتمال التكليف، وينفيه الأصل
الجاري بلا معارض. ومقامنا من هذا القبيل بعينه، فان العلم الاجمالي بنجاسة
الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر وان كان حاصلا بعد العلم بالملاقاة الا انه
لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي بالكسر لان الأصل الجاري في الطرف
الآخر قد سقط للمعارضة قبل حدوث العلم الثاني، فليس العلم الاجمالي الثاني
علما بالتكليف الفعلي على كل تقدير، إذ يحتمل ان يكون النجس هو الطرف
الآخر المفروض تنجز التكليف بالنسبة إليه للعلم السابق ومعه لا يبقى إلا احتمال
التكليف في الملاقي بالكسر، فيجرى فيه الأصل النافي بلا معارض. وقد أشرنا
سابقا إلى أنه يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي ان لا يكون التكليف في بعض أطرافه
منجزا بمنجز سابق على العلم الاجمالي، إذ معه لا يبقى إلا احتمال التكليف في
الطرف الآخر. ولا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي.
هذا كله فيما إذا لم يكن الطرف الآخر الذي هو عدل للملاقى بالفتح مجرى
لأصل طولي سليم عن المعارض. كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين ثم لاقى أحدهما
شئ آخر. وأما إذا كان كذلك، كما إذا علمنا بنجاسة مرددة بين الثوب والماء
ثم لاقى شئ آخر، فتسقط أصالة الطهارة في الطرفين للمعارضة، وتبقى
أصالة الحل في الماء بلا معارض، لعدم جريانها في الثوب في نفسها. فيقع
التعارض حينئذ بين أصالة الطهارة في الملاقي بالكسر وبين أصالة الإباحة في الماء
415

فانا نعلم إجمالا بأن هذا الملاقي نجس، أو ان هذا الماء حرام، وبعد تساقط
الأصلين يكون العلم الاجمالي بالنسبة إلى الملاقي بالكسر أيضا منجزا، فيجب
الاجتناب عنه أيضا في هذا الفرض.
و (أما المسألة الثانية) وهي ما إذا حصلت الملاقاة وعلم بها، ثم حصل
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي أو شئ آخر، فهي تتصور على صورتين:
(الصورة الأولى) - ما إذا كان زمان نجاسة الملاقى على فرض تحققها واقعا،
وزمان نجاسة ملاقيه متحدا. و (بعبارة أخرى) كان زمان المعلوم بالاجمال
وزمان الملاقاة واحدا، كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء، وعلمنا اجمالا بوقوع
نجاسة فيه أو في اناء آخر. (الصورة الثانية) - ان يكون زمان نجاسة الملاقى
على فرض تحققها واقعا سابقا على زمان نجاسة الملاقي بالكسر. و (بعبارة
أخرى) كان زمان المعلوم بالاجمال سابقا على زمان الملاقاة. كما إذا علمنا يوم
السبت بأن أحد هذين الإناءين كان نجسا يوم الخميس، ولاقى أحدهما الثوب
يوم الجمعة.
(اما الصورة الأولى) - فقد وقع الخلاف بينهم في وجوب الاجتناب عن
الملاقي فيها وعدمه، فاختار شيخنا الأنصاري (ره) وتبعه المحقق النائيني (ره)
عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، بدعوى ان الأصل الجاري في الملاقى
بالكسر متأخر رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى بالفتح، إذ الشك في نجاسة
الملاقى ناشئ عن الشك في نجاسة ما لاقاه، ولا تصل النوبة إلى جريان الأصل
في الملاقى إلا بعد سقوط الأصل فيما لاقاه. وبعد سقوطه للمعارضة بينه وبين
الأصل في الطرف الآخر يجري الأصل في الملاقى بالكسر بلا معارض.
وذهب صاحب الكفاية (ره) إلى وجوب الاجتناب من الملاقى بالكسر
باعتبار ان العلم الاجمالي كما تعلق بالنجاسة المرددة بين الملاقى بالفتح والطرف
416

الآخر، كذلك تعلق بالنجاسة المرددة بين الملاقي بالكسر وذاك الطرف،
فالامر دائر بين نجاسة الملاقى والملاقي ونجاسة الطرف الآخر، نظير ما لو
علمنا إجمالا بوقوع نجاسة في الاناء الكبير أو في الإناءين الصغيرين، فكما يجب
الاجتناب عن جميع الأواني الثالث، في هذا المثال، كذلك يجب الاجتناب
في المقام عن الملاقى والملاقي والطرف الآخر، لعدم الفرق بين المثال وما نحن
فيه، إلا في أن نجاسة الملاقي مسببة عن نجاسة الملاقى في المقام، بخلاف المثال فان
نجاسة أحد الإناءين الصغيرين ليست مسببة عن نجاسة الآخر. ومجرد ذلك لا
يوجب الفرق في التنجيز بعد كون نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء.
والصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية (ره) من وجوب الاجتناب عن
الجاري الملاقي في هذه الصورة، لأن الأصل الجاري في الملاقى بالكسر وإن كان
متأخرا رتبة عن الأصل الجاري في الملاقى بالفتح، إلا أنه اي الأصل الجاري
في الملاقى بالكسر ليس متأخرا عن الأصل الإجاري الطرف الآخر، كما أن الأصل
الجاري في الملاقى بالفتح ليس متأخرا عنه، فكما يقع التعارض بين جريان الأصل في
الملاقى بالفتح وجريانه في الطرف الآخر، كذلك يقع التعارض بين جريان الأصل في
الملاقى بالكسر وجريانه في الطرف الآخر. وبالنتيجة تسقط الأصول، ويكون
العلم الاجمالي منجزا، فيجب الاجتناب عن الجميع الملاقى والملاقي والطرف الآخر
وتوهم - ان الأصل الجاري في الملاقى بالكسر حيث يكون متأخرا عن
الأصل الجاري في الملاقى بالفتح، والأصل الجاري في الملاقى بالفتح مع الأصل
الجاري في الطرف الآخر في رتبة واحدة، فلزم كون الأصل الجاري في الملاقى
بالكسر متأخرا عن الأصل الجاري في الطرف الآخر، لان المتأخر عن أحد
المتساويين متأخر عن الآخر أيضا لا محالة - مدفوع بأن ذلك انما يتم في التقدم
والتأخر من حيث الزمان أو من حيث الشرف، دون التقدم والتأخر من حيث الرتبة
417

لان تأخر شئ عن أحد المتساويين في الرتبة لا يقتضى تأخره عن الآخر أيضا
فان وجود المعلول متأخر رتبة عن وجود علته. وليس متأخرا عن عدمها، مع أن
وجود العلة وعدمها في رتبة واحدة، لأنه ليس بينهما عليه ومعلولية. ويعبر
عن عدم العلية والمعلولية بين شيئين بوحدة الرتبة.
و (بعبارة أخرى) التقدم والتأخر الرتبي عبارة عن كون المتأخر ناشئا
من المتقدم ومعلولا له، وكون شئ ناشئا من أحد المتساويين في الرتبة ومعلولا
له لا يقتضى كونه ناشئا من الآخر ومعلولا له أيضا. مضافا إلى أن التقدم
والتأخر الرتبي انما تترتب عليهما الآثار العقلية دون الأحكام الشرعية، لأنها
مترتبة على الموجودات الخارجية التي تدور مدار التقدم والتأخر الزماني دون
الرتبي. ومما يدلنا على ذلك أنه لو علم المكلف إجمالا ببطلان وضوئه لصلاة الصبح
أو بطلان صلاة الظهر لترك ركن منها مثلا، يحكم ببطلان الوضوء وبطلان
صلاة الصبح وبطلان صلاة الظهر، فتجب إعادة الصلاتين، مع أن الشك في
صلاة الصبح مسبب عن الشك في الوضوء، وكان الأصل الجاري فيها في مرتبة
متأخرة عن الأصل الجاري فيه. إلا أنه لا أثر لذلك بعد تساوي نسبة العلم الاجمالي
إلى الجميع، فتسقط قاعدة الفراغ في الجميع. ولو كان للتقدم الرتبي اثر لكانت
قاعدة الفراغ في صلاة الصبح جارية بلا معارض. لتساقطها في الوضوء وصلاة
الظهر للمعارضة، فتجري في صلاة الصبح بلا معارض، لكون جريان القاعدة
فيها في رتبة متأخرة عن جريانها في الوضوء، فيحكم بصحة صلاة الصبح وبطلان
الوضوء وصلاة الظهر. ولا أظن أن يلتزم به فقيه. فتحصل أن الصحيح ما ذهب
إليه صاحب الكفاية (ره) من وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة.
و (اما الصورة الثانية) وهي ما إذا كان زمان المعلوم بالاجمال سابقا على
زمان الملاقاة، كما إذا علمنا يوم السبت بأن أحد هذين الإناءين كان نجسا يوم
418

الخميس، ولاقى أحدهما ثوب يوم الجمعة، فقد ذكرنا في الدورة السابقة عدم
وجوب الاجتناب عن الملاقي فيها، لأن المعلوم بالاجمال هي النجاسة المرددة بين الماءين
في مفروض المثال، وأما الثوب فليس من أطراف العلم الاجمالي، فيكون الشك
في نجاسته شكا في حدوث نجاسة جديدة غير ما هو معلوم اجمالا، فلا مانع من
الرجوع إلى الأصل فيه. والفرق بين الصورتين: انه في الصورة الأولى لا يكون
تخلل زماني بين نجاسة الملاقى بالفتح على تقدير تحققها واقعا ونجاسة الملاقي
بالكسر، فالعلم الاجمالي قد تعلق من أول الامر بنجاسة الملاقى والملاقي والطرف
الآخر، نظير تعلق العلم الاجمالي بنجاسة إناه كبير أو إناءين صغيرين.
بخلاف الصورة الثانية، لكون زمان المعلوم بالاجمال سابقا على زمان الملاقاة،
فيكون الملاقي بالكسر غير داخل في أطراف العلم الاجمالي، ويكون الشك
شكا في حدوث نجاسة جديدة، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه، والحكم
بعدم وجوب الاجتناب عنه. هذا ملخص ما ذكرناه في الدورة السابقة.
ولكن الظاهر عدم الفرق بين الصورتين ووجوب الاجتناب عن الملاقى في
الصورة الثانية أيضا، إذ المعلوم بالاجمال فيها وان كان سابقا بوجوده الواقعي
على الملاقاة، إلا أنه مقارن له بوجوده العلمي. والتنجيز من آثار العلم
بالنجاسة لا من آثار وجودها الواقعي، وحيث إن العلم الا جملي متأخر عن
الملاقاة فلا محالة يكون الملاقى بالكسر أيضا من أطرافه. ولا اثر لتقدم المعلوم
بالاجمال على الملاقاة واقعا، فانا نعلم اجمالا يوم السبت - في المثال المتقدم - بان
أحد الماءين والثوب نجس، أو الماء الآخر وحده، فيكون نظير العلم الاجمالي
بنجاسة الاناء الكبير أو الإناءين الصغيرين، فلا يمكن اجراء الأصل في الملاقى
بالكسر - لعين ما ذكرناه في الصورة الأولى، فيجب الاجتناب عنه أيضا.
و (بعبارة أخرى) لابد في جريان الأصل من الشك الفعلي كما يأتي
419

التعرض له مفصلا في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى. ولا بد في التنجيز من
العلم، لعدم تنجز التكليف بوجوده الواقعي ما لم يعلم به المكلف، فقبل
العلم الاجمالي لا يكون في أطرافه شك، فلا مجال لجريان الأصل ولا لتساقط
الأصول، كما هو ظاهر. وبعد العلم الاجمالي كان الملاقى بالكسر أيضا من
أطرافه، فتتساقط الأصول، ويجب الاجتناب عن الملاقى والملاقى
والطرف الآخر.
(أما المسألة الثالثة) وهي ما إذا كان العلم الاجمالي بعد الملاقاة وقبل العلم
بها، فهل الحكم فيها عدم وجوب الاجتناب عن الملاقى وإلحاقها بالمسألة الأولى
لاشتراكهما في كون العلم الاجمالي مقدما على العلم بالملاقاة أو الحكم فيها وجوب
الاجتناب عن الملاقى والحاقها بالمسألة الثانية، لاشتراكهما في كون العلم الاجمالي
متأخرا عن الملاقاة؟ وقد التزمنا في الدورة السابقة بوجوب الاجتناب إلحاقا
لها بالمسألة الثانية، لان العلم الاجمالي بحدوثه وان كان متعلقا بنجاسة الملاقى
بالفتح أو الطرف الآخر، إلا أنه بعد العلم بالملاقاة ينقلب إلى العلم بنجاسة
الملاقى أو الملاقى أو الطرف الآخر. والتنجيز في صورة الانقلاب يدور مدار
العلم الثاني، فتتساقط الأصول بمقتضى العلم الثاني، ويجب الاجتناب عن
الجميع، و نظير ذلك ما إذا علمنا اجمالا بوقوع نجاسة في الاناء الكبير أو الاناء
الصغير، ثم تبدل العلم المذكور بالعلم بوقوعها في الاناء الكبير أو الإناءين
الصغيرين، فإنه لا إشكال في وجوب الاجتناب عن الجميع، لأن العلم الأول
وان كان يوجب تساقط الأصلين في الاناء الكبير واحد الصغيرين حدوثا،
ويوجب تنجيز الواقع فيهما، الا ان العلم الثاني يوجب تساقط الأصول في الجميع
بقاء، لتبدل العلم الأول بالثاني، وقد ذكرنا ان التنجيز في صورة الانقلاب
يدور مدار العلم الثاني.
420

هذا ملخص ما ذكرناه في الدورة السابقة. ولكن الظاهر عدم وجوب
الاجتناب عن الملاقي في هذه المسألة، كما في المسألة الأولى، وذلك لما ذكرناه في
ذيل المسألة الثانية من أن مدار التنجيز إنما هو العلم بالنجاسة لا وجودها الواقعي
فالملاقاة وإن كانت سابقة على العلم الاجمالي، إلا أنه لا يترتب عليها اثر، فعبد
العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح أو الطرف الآخر يتساقط الأصلان فيهما
للمعارضة، ويتنجز التكليف، ويجب الاجتناب عنهما. ولا أثر للعلم بالملاقاة
بعد تنجز التكليف بالعلم الأول، فان العلم بالملاقاة وان كان يوجب علما إجماليا
بنجاسة الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر، إلا أنه لا اثر لهذا العلم بالنسبة
إلى الطرف الآخر، لتنجز التكليف فيه بمنجز سابق، وهو العلم الأول.
فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الملاقي بالكسر، لما ذكرناه سابقا من أنه
لو كان التكليف في أحد أطراف العلم الاجمالي منجزا بمنجز سابق، لا اثر للعلم
الاجمالي بالنسبة إليه، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر.
والمقام من هذا القبيل، فان التكليف قد تنجز في الطرف الآخر بالعلم السابق
فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الملاقى بالكسر بعد العلم الاجمالي الثاني
الحاصل من العلم بالملاقاة، لعدم معارض له، بلا فرق بين ان يكون زمان المعلوم
بالاجمال متحدا مع زمان الملاقاة أو سابقا عليه. وما ذكرناه في الدورة السابقة
من أن مدار التنجيز في صورة التبدل انما هو العلم الثاني وان كان صحيحا
في نفسه، فانا إذا علمنا إجمالا بنجاسة القباء أو القميص، ثم تبدل علمنا بالعلم
الاجمالي بنجاسة القباء وأو العباء مثلا، كان مدار التنجيز هو العلم الثاني لا محالة
فيجب الاجتناب عن القباء والعباء لا عن القباء والقميص. إلا ان المقام ليس من
قبيل التبدل، بل من قبيل انضمام العلم إلى العلم، فانا نعلم أولا بنجاسة الملاقى
بالفتح أو الطرف الآخر، ثم بعد العلم بالملاقاة كان العلم الاجمالي الأول باقيا
421

بحاله ولم يتبدل، غاية الامر انه النضم إليه علم آخر وهو العلم الاجمالي بنجاسة
الملاقي بالكسر أو الطرف الآخر. والعلم الثاني مما لا يترتب عليه التنجيز
لتنجز التكليف في أحد طرفيه بمنجز سابق، وهو العلم الأول، فيجرى الأصل
في طرفه الآخر بلا معارض، وهو الملاقي بالكسر. وكذا الحال في المثال
الذي ذكرناه في الدورة السابقة، فإنه لا مانع من الرجوع إلى الأصل في أحد
الإناءين الصغيرين لتنجز التكليف في الاناء الكبير وأحد الصغيرين بالعلم الأول
فيجرى الأصل في الاناء الصغير الآخر بلا معارض.
بقي الكلام في ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من تثليث الأقسام وانه
قد يجب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر كما في المسألة الأولى
وقد يجب الاجتناب عن الملاقى والملاقي كما في المسألة الثانية، وقد يجب
الاجتناب عن الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح وذكر لذلك موردين:
(المورد الأول) - ما إذا علم بالملاقاة ثم علم اجمالا بنجاسة الملاقى بالفتح أو
الطرف الآخر، ولكن كان الملاقى بالفتح حين حدوث العلم خارجا عن محل
الابتلاء، فإنه حينئذ تقع المعارضة بين جريان الأصل في الملاقي بالكسر وجريانه في
الطرف الآخر، ويسقطان فيجب الاجتناب عنهما. وأما الملاقى بالفتح فلا
يكون مجرى للأصل بنفسه، لخروجه عن محل الابتلاء، فإنه لا يترتب عليه
اثر فعلي ويعتبر في جريان الأصل ترتب اثر عملي فعلي، فإذا رجع الملاقى بالفتح
بعد ذلك إلى محل الابتلاء، لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل فيه لعدم
ابتلائه بالمعارض، لسقوط الأصل في الطرف الآخر قبل رجوعه إلى محل
الابتلاء، فيكون حال الملاقى بالفتح في هذا الفرض حال الملاقى بالكسر في
المسألة الأولى من حيث كون الشك فيه شكا في حدوث تكليف جديد يرجع
فيه إلى الأصل.
422

هذا والتحقيق عدم تمامية ما أفاده (ره) لأن الخروج عن محل الابتلاء
لا يمنع من جريان الأصل فيه، إذا كان له اثر فعلي، والمقام كذلك، فان
الملاقى بالفتح وان كان خارجا عن محل الابتلاء، إلا أنه يترتب على جريان
أصالة الطهارة فيه اثر فعلي، وهو الحكم بطهارة ملاقيه فمجرد الخروج عن
محل الابتلاء أو عن تحت القدرة غير مانع عن جريان الأصل، كما إذا غسل ثوب
متنجس بماء مع القطع بطهارته أو مع الغفلة عن طهارته ونجاسته، ثم انعدم ذلك
الماء أو خرج عن محل الابتلاء، ثم شك في طهارته فلا مانع من جريان أصالة
الطهارة فيه، لترتيب الحكم بطهارة الثوب المغسول به. وكذلك لو كان ماء
نجسا، فلاقاه ثوب حين الغفلة عن نجاسته، ثم انعدم ذلك الماء أو خرج عن
محل الابتلاء، فشككنا في طهارته قبل ملاقاة الثوب لاحتمال وصول المطر إليه
أو اتصاله بالجاري أو الكر، فإنه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة فيه
لترتيب الحكم بنجاسة الثوب عليه مع أن المستصحب خارج عن محل الابتلاء أو
معدوم. والمقام من هذا القبيل، فان الملاقى بالفتح وان كان خارجا عن محل
الابتلاء، إلا أنه لا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه في نفسه لترتيب الحكم
بطهارة ملاقيه، إلا ان العلم الاجمالي بنجاسة أو نجاسة الطرف الآخر يمنع
من الرجوع إلى الأصل في كل منهما، فيجب الاجتناب عنهما. وأما الملاقي
بالكسر فحكمه من حيث جريان الأصل فيه وعدمه على التفصيل الذي تقدم في
المسائل الثلاث. وملخصه انه كان العلم بالملاقاة بعد العلم الاجمالي، فلا
مانع من جريان الأصل فيه كما في المسألة الأولى، وان كان قبله فالعلم الاجمالي
مانع من جريان الأصل فيه. وكلام صاحب الكفاية (رحمه الله) مفروض على
الثاني فراجع.
(المورد الثاني) - ما لو تعلق العلم الاجمالي أولا بنجاسة الملاقي
423

بالكسر أو شئ آخر، ثم حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى بالفتح
أو ذلك الشئ قبل الملاقاة، ولو مع العلم بأن نجاسة الملاقي بالكسر على تقدير
تحققها ناشئة من الملاقاة لا غير، كما لو علم يوم السبت إجمالا بنجاسة الثوب أو
الاناء الكبير، ثم علم يوم الأحد بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير يوم
الجمعة وبملاقاة الثوب للاناء الصغير في ذلك اليوم، فان نجاسة الثوب ولو مع
عدم احتمالها من غير ناحية الملاقاة قد تنجزت بالعلم الاجمالي الحادث يوم السبت
لتساقط الأصلين في طرفيه للمعارضة، فيجب الاجتناب عن الملاقي بالكسر
وهو الثوب والاناء الكبير. وأما الملاقى بالفتح وهو الاناء الصغير، فلا مانع
من الرجوع إلى الأصل فيه، لكون الشك فيه شكا حادثا بعد تنجز التكليف
في الاناء الكبير والثوب.
هذا وقد ذكرنا في الدورة السابقة عدم تمامية ما ذكره من وجوب الاجتناب عن
الملاقي بالكسر دون الملاقى بالفتح في المورد الثاني أيضا، لأن التنجيز يدور مدار
العلم الاجمالي حدوثا وبقاء، فالعلم الاجمالي الحادث يوم السبت في المثال وان
أوجب تنجز التكليف بالنسبة إلى الثوب والاناء الكبير، الا انه بعد حدوث
العلم الاجمالي يوم الأحد بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير، ينحل العلم
الأول بالثاني، فيكون الشك في نجاسة الثوب شكا في حدوث نجاسة أخرى
غير ما هو معلوم اجمالا، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه، لخروجه عن
أطراف العلم الاجمالي بقاء.
ولكن التحقيق تمامية ما ذكره (ره) من وجوب الاجتناب عن الملاقي
بالكسر دون الملاقى بالفتح في هذا المورد، وذلك لما ذكرناه في ذيل المسألة
الثانية من أن مناط التنجيز هو العلم الاجمالي لا النجاسة بوجودها الواقعي، ولو
لم يعلم بها المكلف، فنجاسة الاناء الصغير على تقدير تحققها واقعا مما لا اثر لها
424

من دون العلم بها. وبعد تنجز التكليف في الاناء الكبير والثوب لا اثر للعلم
الثاني بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير، لكون التكليف في الاناء الكبير
منجزا بالعلم الأول، فلا اثر للعلم الثاني بالنسبة إليه، فيجرى الأصل في الاناء
الصغير بلا معارض، فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الاناء الكبير والثوب
وهو الملاقي بالكسر دون الاناء الصغير وهو الملاقى بالفتح.
وأما ما ذكرناه في الدورة السابقة - من أن العلم الاجمالي الأول ينحل
بالعلم الثاني ويخرج الملاقي بالكسر من أطرافه، فيكون الشك في نجاسته شكا
في نجاسة جديدة غير ما هو المعلوم بالاجمال، فيجري فيه الأصل بلا معارض
- ففيه ان الملاقي بالكسر وهو الثوب في مفروض المثال لم يخرج من أطراف العلم
الاجمالي الثاني، إذ المفروض حدوث العلم بالملاقاة مقارنا لحدوث العلم الاجمالي
الثاني، فيكون العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير في مفروض
المثال علما إجماليا بنجاسة الثوب والاناء الصغير أو الاناء الكبير، غاية الامر
ان الشك في نجاسة الثوب ناشئ من الشك في نجاسة الاناء الصغير، وهو
لا يوجب خروج الثوب عن أطراف العلم الاجمالي الثاني، بعد كون العلم بالملاقاة
حادثا حين حدوث العلم الاجمالي الثاني. وحيث إن التكاليف بالنسبة إلى الاناء
الكبير قد تنجز بالعلم الاجمالي الأول، ولا مجال لجريان الأصل فيه، فيجري
الأصل في الاناء الصغير بلا معارض.
فتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من تثليث الأقسام صحيح
تام، فالامر دائر بين وجوب الاجتناب عن الملاقى بالفتح دون الملاقي بالكسر
كما في المسألة الأولى، ووجوب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معا كما في المسألة الثانية
ووجوب الاجتناب عن الملاقى بالكسر دون الملاقى بالفتح عكس المسألة الأولى
كما في المثال المذكور.
425

(المورد الثاني) - في دوران الامر بين الأقل والأكثر وارتباطيين.
انتهى الامر في الأبحاث السابقة إلى أن الشك إن كان في تحقق الجعل من قبل
الشارع، فهو مورد للبراءة العقلية والنقلية، وإن كان في انطباق المجعول بعد
العلم بالجعل. فهو مورد لقاعدة الاشتغال. و (بعبارة أخرى) الشك في
التكليف مورد للبراءة، والشك في المكلف به مورد لقاعدة الاشتغال، فبعد
الفراغ من هذين الامرين يقع الكلام في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين،
من حيث إنه ملحق بالشك في التكليف، ليكون وجوب الأكثر موردا للبراءة
أو انه ملحق بالشك في المكلف به ليكون موردا لقاعدة الاشتغال، فبعضهم
نظر إلى أن التكليف بالأقل متيقن وبالأكثر مشكوك فيه، فألحقه بالشك في
التكليف. وبعض آخر نظر إلى وحدة التكليف وتردده بين الأقل والأكثر،
فألحقه بالشك في المكلف به، لكون التكليف متيقنا، انما الشك في انطباقه
على الأقل أو الأكثر، فيكون الشك في المكلف به. وتحقيق المقام يقتضي
التكلم في مقامين: (الأول) - في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء
الخارجية. (الثاني) - في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء
التحليلية، كدور ان الامر بين الاطلاق والتقييد، دوران الامر بين الجنس
والفصل مثلا.
(اما المقام الأول) فقال بعضهم بكونه مجرى لقاعدة الاشتغال، وعدم
جريان البراءة العقلية والبراءة النقلية، وذهب جماعة منهم شيخنا الأنصاري
(رحمه الله) إلي جريان البراءة العقلية والنقلية. وفصل صاحب الكفاية (ره)
وتبعه المحقق النائيني (ره) فقال بجريان البراءة النقلية دون العقلية، فتنقيح
البحث يستدعى التكلم في جهتين: (الجهة الأولى) - في جريان البراءة العقلية
وعدمه. (الجهة الثانية) - في جريان البراءة النقلية وعدمه.
426

(اما الجهة الأولى) - فالصحيح فيها ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري (ره)
من جريان البراءة العقلية. وذكر لتقريبه وجوها:
(الوجه الأول) - ما ذكره الشيخ (ره) في الرسائل من أن وجوب الأقل
المردد بين النفسي والغيري متيقن، إذ لو كان الأقل واجبا فوجوبه نفسي، ولو
كان الأكثر واجبا فوجوب الأقل غيري، وأما وجوب الأكثر فهو مشكوك
فيه، فيجري فيه الأصل. وتمامية هذا الوجه يتوقف على اثبات أمرين:
(الأول) - اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري، وإلا لم يصح القول بأن وجوب
الأقل متيقن مردد بين النفسي والغيري، إذ على تقدير عدم اتصاف الاجزاء
بالوجوب الغيري، لا يكون هناك إلا وجوب نفسي شك في تعلقه بالأقل
أو الأكثر، فلا علم بوجوب الأقل على كل تقدير. (الثاني) - كون العلم
بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب
النفسي المردد تعلقه بالأقل أو الأكثر، إذ على تقدير عدم انحلال العلم الاجمالي
لا يكون وجوب الأكثر موردا لجريان البراءة.
(اما الامر الأول) - اي اتصاف الاجزاء بالوجوب الغيري فهو لم يثبت
بل الثابت خلافه لما بيناه في بحث وجوب المقدمة من استحالة اتصاف الاجزاء
بالوجوب الغيري، لان الوجوب الغيري ناشئ عن توقف وجود على وجود
آخر، وليس وجود المركب غير وجود الاجزاء كي يتوقف عليه توقف وجود
الشئ على وجود غيره، فيترشح من وجوب المتوقف نفسيا وجوب المتوقف عليه
غيريا، بل وجود المركب عين وجود الاجزاء. ولا فرق بينهما إلا بمجرد
الاعتبار واللحاظ، فان الاجزاء إذا لوحظت بشرط الشئ اي بشرط الانضمام
فهي المركب. وإذا لوحظت لا بشرط فهي الاجزاء.
و (اما الامر الثاني) - اي كون العلم بالوجوب الجامع بين النفسي
427

والغيري موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب النفسي، فقد يقال فيه بعدم
الانحلال، بدعوى انه يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ
المعلوم بالاجمال، والمقام ليس كذلك، لأن المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي
سواء كان متعلقا بالأقل أو الأكثر. والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين
النفسي والغيري، فلا ينحل العلم الاجمالي، ولكن التحقيق هو الانحلال
على ما ذكرناه في بحث مقدمة الواجب مفصلا، ولا نعيد الكلام فيه، لان
التقريب المذكور غير تام من جهة عدم تمامية الامر الأول، فلا حاجة إلى إعادة
الكلام في تمامية الامر الثاني وعدمها.
(الوجه الثاني) - وهو أيضا مأخوذ من كلام الشيخ وهو ان الأقل
واجب يقينا بالوجوب الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني، إذ لو
كان الواجب في الواقع هو الأقل فيكون الأقل واجبا بالوجوب الاستقلالي. ولو
كان الواجب في الواقع هو الأكثر، فيكون الأقل واجبا بالوجوب الضمني،
لان التكليف بالمركب ينحل إلى التكليف بكل واحد من الاجزاء، وينبسط
التكليف الواحد المتعلق بالمركب إلى تكاليف متعددة متعلقة بكل واحد من
الاجزاء. ولذا لا يكون الآتي بكل جزء مكلفا باتيانه ثانيا، لسقوط التكليف
المتعلق به، بل الآتي بكل جزء يكون مكلفا باتيان جزء آخر بعده، لكون
التكليف متعلقا بكل جز مشروطا بلحوق الجزء التالي بنحو الشرط المتأخر.
فتحصل أن تعلق التكليف بالأقل معلوم ويكون العقاب على تركه عقابا مع
البيان واتمام الحجة. وتعلقه بالأكثر مشكوك فيه، ويكون العقاب عليه عقابا
بلا بيان. و (بعبارة أخرى) يكون العقاب على ترك الصلاة مثلا لأجل ترك
الاجزاء المعلومة عقابا مع البيان، وهو العلم، ويكون العقاب على تركها لأجل
ترك الاجزاء المشكوك فيها عقابا بلا بيان. والعقل يحكم بقبحه، وهذا معنى
428

البراءة العقلية.
وهذا الوجه مما لا بأس به، وتوضيحه يستدعي التنبيه على امر، وهو
ان محل الكلام في دوران الامر بين الأقل والأكثر إنما هو فيما إذا كان الأقل متعلقا
للتكليف بنحو لا بشرط القسمي، بمعنى انا نعلم أن الواجب لو كان هو الأقل
لا يضره الاتيان بالأكثر. وأما إذا كان الأقل مأخوذا في التكليف بشرط لا
حتى يضره الاتيان بالأكثر، كما في دوران الامر بين القصر والتمام، فهو
خارج عن محل الكلام، لكون دوران فيه من قبيل الدوران بين المتباينين.
و (بعبارة أخرى) الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر انما هو فيما
إذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بالأكثر، وإذا كان الأقل مأخوذا بشرط لا
لا يمكن الاحتياط باتيان الأكثر. لاحتمال كون الزائد مبطلا، بل مقتضى
الاحتياط هو الاتيان بالأقل مرة، وبالأكثر أخرى. ولذا كان مقتضى
الاحتياط هو الاتيان بالأقل مرة، وبالأكثر أخرى. ولذا كان مقتضى
الاحتياط عند الشك في القصر والتمام هو الجمع بينهما لا الاتيان بالتمام فقط. وهذا
هو الميزان في تمييز دوران الأمر بين الأقل والأكثر عن دوران الأمر
بين المتباينين.
إذا عرفت محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فاعلم أن
ذات الأقل معلوم الوجوب وانما الشك في أنه مأخوذ في متعلق التكليف على
نحو الاطلاق اي بنحو اللا بشرط القسمي، أو مأخوذ بشرط شئ وهو
الانضمام مع الأجزاء المشكوكة، فانا نعلم بوجوب ذات الأقل أي الجامع بين
الاطلاق والتقييد، وإنما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد، فإنهما وان
كانا قسمين من المهية الجامعة بينهما، إلا أنه لا اشكال في كونهما قسيمين بالنسبة
إلى نفسيهما.
وبالجملة تعلق التكليف بذات الأقل متيقن، وانما الشك في أنه واجب
429

مطلق وبلا تقييد بشئ، أو انه واجب مقيدا بانضمام الاجزاء المشكوكة.
وحيث إن الاطلاق لا يكون تضييقا على المكلف كما هو ظاهر، فلا معنى لجريان
البراءة العقلية أو النقلية فيه، فإنه لا يحتمل العقاب في صورة الاطلاق حتى ندفعه
بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع، فتجري البراءة العقلية في التقييد
بلا معارض. وقد ذكرنا مرارا ان تنجيز العلم الاجمالي موقوف على تعارض
الأصول في أطرافه وتساقطها، وانه لو لم يجر الأصل في أحد طرفيه في نفسه
لا مانع من جريانه في الطرف الآخر، فلا يكون العلم الاجمالي منجزا. والمقام
كذلك، لما عرفت من أن الاطلاق توسعة على المكلف، فلا يكون موردا
للبراءة في نفسه، فتجري البراءة في التقييد بلا معارض، نظير ما إذا علمنا
إجمالا بحرمة شئ أو إباحته، فهذا العلم الاجمالي وان كان طرفاه متباينين، إلا أنه
حيث لا تجري البراءة العقلية ولا النقلية في طرف الإباحة، لعدم احتمال
العقاب فيه كي يدفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع وأمثاله من
الأدلة النقلية، فيكون احتمال الحرمة موردا لجريان البراءة العقلية والنقلية
بلا معارض.
هذا وقد ذكر لجريان البراءة موانع:
(منها) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من استحالة انحلال العلم
الاجمالي في المقام لاستلزامه الخلف وعدم نفسه. (اما الأول) فلان العلم
بوجوب الأقل يتوسط على تنجز التكليف مطلقا، أي على تقديري تعلقه بالأقل
وتعلقه بالأكثر، فلو كان وجوبه علي كل تقدير مستلزما لعدم تنجزه فيما إذا
كان متعلقا بالأكثر كان خلفا. (واما الثاني) فلانه يلزم من وجود الانحلال
عدم تنجز التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر، هو مستلزم لعدم وجوب الأقل
على كل تقدير المستلزم لعدم الانحلال. وملاك الاستحالة في التقريبين واحد.
430

وهو ان الانحلال يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير، ومعه لا تنجز
بالنسبة إلى الأكثر، فيلزم الخلف. ومن فرض وجود الانحلال عدمه.
والجواب عن كلا التقريبين كلمة واحدة، وهي ان الانحلال لا يتوقف
على تنجز التكليف على تقديري تعلقه بالأقل وتعلقه بالأكثر، بل الانحلال
وتنجز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان، فكيف يكون متوقفا
عليه، بل الانحلال مبنى على العلم بوجوب ذات الأقل على كل تقدير، اي
على تقدير وجوب الأقل في الواقع بنحو الاطلاق، وعلى تقدير وجوبه في الواقع
بنحو التقييد، فذات الأقل معلوم الوجوب، إنما الشك في الاطلاق والتقييد
وحيث إن الاطلاق لا يكون مجرى للأصل في نفسه على ما تقدم بيانه، فيجري
الأصل في التقييد بلا معارض. وينحل العلم الاجمالي لا محالة. وهذا واضح
لا غبار عليه، فلا يكون مستلزما للخلف ولا وجود الانحلال مستلزما لعدمه
وانما نشأت هذه المغالطة من اخذ التنجز على كل تقدير شرطا للانحلال. وهذا
ليس مراد القائل بالبراءة.
و (منها) - ان التكليف المعلوم المحتمل تعلقه بالأقل والأكثر تكليف واحد
متعلق بالاجزاء مقيدا بعضها ببعض ثبوتا وسقوطا، إذ المفروض كون الاجزاء
ارتباطيا، ومعه لا يعقل سقوط التكليف بالإضافة إلى بعض الاجزاء مع عدم
سقوطه بالإضافة إلى بعض آخر، لكون التكليف واحدا والاجزاء ارتباطيا.
وعليه فلا يحصل القطع بسقوط التكليف باتيان الأقل حتى بالنسبة إلى نفس
الأقل المقطوع وجوبه، لاحتمال وجوب الأكثر، واحتمال وجوبه ملازم
لاحتمال عدم سقوط التكليف رأسا، لأنه ملازم لعدم سقوطه بالإضافة إلى
خصوص الأكثر، فيكون المقام من موارد العلم بثبوت التكليف والشك في
سقوطه، فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال، لأن العلم بشغل الذمة يقتضي العلم
431

بالفراغ. ولا يحصل الا باتيان الأكثر.
والجواب ان الشك في السقوط (تارة) يكون ناشئا من الشك في
صدور الفعل من المكلف بعد تمامية البيان من قبل المولى، كما إذا علمنا بوجوب
صلاة الظهر مثلا وشككنا في اتياننا بها، ففي مثل ذلك تجري قاعدة الاشتغال
بلا شبهة واشكال، لتمامية البيان من قبل المولى ووصول التكليف إلى المكلف
انما الشك في سقوط التكليف بعد وصوله، فلا بد من العلم بالفراغ بحكم العقل
و (أخرى) يكون ناشئا من عدم وصول التكليف إلى المكلف، فلا يعلم
العبد بما هو مجعول من قبل المولى كما في المقام، فان الشك في سقوط التكليف
باتيان الأقل يكون ناشئا من الشك في جعل المولى، ففي مثل ذلك كان جعل
التكليف بالنسبة إلى الأكثر مشكوكا فيه فيرجع إلى الأصل العقلي وهو قاعدة
قبح العقاب بلا بيان، والأصل النقلي المستفاد من مثل حديث الرفع، فبعد
الاتيان بالأقل وان كان الشك في سقوط التكليف واقعا موجودا بالوجدان،
لاحتمال وجوب الأكثر، الا انه مما لا بأس به بعد العلم بعدم العقاب على مخالفته
لعدم وصوله إلينا. والعقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان.
وبما ذكرناه ظهر الفرق بين المقام وبين دوران الامر بين المتباينين، فإنه
بعد الاتيان بأحد المحتملين يكون سقوط التكليف هناك أيضا مشكوكا فيه،
ويكون الشك في السقوط ناشئا من الشك في جعل المولى، إلا أنه لا يجرى
الأصل في أحد الطرفين للمعارضة، فيكون العلم الاجمالي منجزا لا محالة، بخلاف
المقام لجريان الأصل في التقييد بلا معارض على ما عرفت مفصلا.
و (منها) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن العلم التفصيلي بوجوب
الأقل انما هو على نحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد، مع الشك في
خصوصية الاطلاق والتقييد. وهذا المقدار من العلم التفصيلي هو المقوم للعلم
432

الاجمالي، لان كل علم اجمالي علم اجمالي بالنسبة إلى الخصوصيات، وعلم تفصيلي
بالنسبة إلى الجامع، فلا يكون هذا العلم التفصيلي موجبا للانحلال، وإلا لزم
انحلال العلم الاجمالي بنفسه.
و (بعبارة أخرى) انحلال العلم الاجمالي بعد كونه قضية منفصلة مانعة
الخلو انما يكون بتبدلها بقضيتين حمليتين (إحداهما) متيقنة (والأخرى) مشكوكة
كما في الأقل والأكثر الاستقلاليين. وهذا مفقود في المقام. و (بعبارة ثالثة)
الموجب لانحلال العلم الاجمالي هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل بنحو الاطلاق
والموجود في المقام هو العلم التفصيلي بوجوب الأقل على نحو الاهمال الجامع بين
الاطلاق والتقييد، فما هو موجود لا يكون موجبا للانحلال، بل مقوم للعلم
الاجمالي، وما هو موجب للانحلال لا يكون موجودا.
وبالجملة العلم التفصيلي بالجامع بين الخصوصيات لا يكون موجبا للانحلال
وإلا كان موجبا له في المتباينين أيضا، لأن العلم بالجامع موجود عند دوران
الأمر بين المتباينين أيضا.
والجواب ان ما ذكره (ره) متين لو قلنا بالانحلال الحقيقي، فان العلم
التفصيلي بالجامع هو عين العلم الاجمالي بإحدى الخصوصيتين، فكيف يكون
موجبا للانحلال الحقيقي، ولكنا نقول بالانحلال الحكمي، بمعنى ان المعلوم
بالاجمال وإن كان يحتمل انطباقه علي خصوصية الاطلاق وعلى خصوصية التقييد
إلا أنه حيث تكون إحدى الخصوصيتين، مجرى للأصل دون الأخرى، كان
جريان الأصل في إحداهما في حكم الانحلال، لما ذكرناه غير مرة من أن تنجيز
العلم الاجمالي متوقف على تعارض الأصول في أطرافه وتساقطها، فعبد العلم
بوجوب الأقل بنحو الاهمال الجامع بين الاطلاق والتقييد وإن لم يكن لنا علم
بإحدى الخصوصيتين حتى يلزم الانحلال الحقيقي، إلا أنه حيث يكون التقييد
433

موردا لجريان الأصل بلا معارض كان جريانه فيه مانعا عن تنجيز العلم الاجمالي
فيكون بحكم الانحلال. وهذا الانحلال الحكمي لا يكون في المتباينين،
لعدم جريان الأصل في واحد منهما، لا بتائه بالمعارض، فان الأصلين في
المتباينين يتساقطان للمعارضة. وهذا هو الفارق بين المقامين.
و (منها) - ما ذكره صاحب الكفاية أخذا من كلام الشيخ (ره) وهو
ان الأحكام الشرعية تابعة للملاكات في متعلقاتها من المصالح والمفاسد، على
ما هو الحق من مذهب العدلية، وحيث انه يجب تحصيل غرض المولى بحكم
العقل، فلا مناص من الاحتياط والآتيان بالأكثر، إذ لا يعلم بحصول الغرض
عند الاقتصار بالأقل لاحتمال دخل الأكثر في حصوله.
وأجاب شيخنا الأنصاري (ره) عن هذا الاشكال بجوابين: (الأول) - أن
الكلام في جريان البراءة وعدمه في المقام لا يكون مبتنيا على مذهب العدلية القائلين
بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، بل عام (الثاني) - ان الغرض
مما لا يمكن القطع بحصوله في المقام على كل تقدير.
أما على تقدير الاتيان بالأقل فلاحتمال دخل الأكثر في حصوله.
واما على تقدير الاتيان بالأكثر فلاحتمال دخل قصد الوجه في حصوله، فلو
اتينا بالزائد عن المتيقن بقصد الأمر الجزمي فهو تشريع محرم لا يحصل معه
الغرض قطعا، وإن اتينا به بقصد الامر الاحتمالي، فلا يقطع معه بحصول
الغرض، لاحتمال اعتبار قصد الوجه في حصوله، فإذا لا يجب علينا تحصيل
القطع بتحقق الغرض، لعدم امكانه، فلا يبقي في البين إلا الحذر من العقاب
وتحصيل المؤمن منه، وهو يحصل باتيان الأقل المعلوم وجوبه. وأما الأكثر
فاحتمال العقاب على تركه يدفع بالأصل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
هذا ملخص ما افاده (ره) من الجوابين ولا يخفى ما في كليهما:
434

(أما الأول) ففيه انه جدلي، لأن جواز الرجوع إلى البراءة على مسلك
الأشعري لا يجدي الفائل ببطلانه. و (أما الثاني) ففيه (أولا) - ان ما ذكره
من عدم امكان القطع بحصول الغرض لو تم فإنما يتم في التعبديات دون التوصليات
لعدم توقف حصول الغرض فيها على قصد الوجه قطعا، فيلزم القول بوجوب
الاحتياط في التوصليات دون التعبديات، وهو مقطوع البطلان، ولم يلتزم به
أحد حتى الشيخ نفسه.
و (ثانيا) - ان اعتبار قصد الوجه على القول به يختص بصوره الامكان
دون ما لو لم يمكن قصد الوجه أصلا، لعدم المعرفة بالوجه كما في المقام، إذا القول
باعتبار قصد الوجه مطلقا مستلزم لعدم إمكان الاحتياط في المقام، لان معني
الاحتياط هو الاتيان بما يحصل معه العلم بفراغ الذمة. وهذا مما لا يمكن العلم
به، بناء على اعتبار قصد الوجه مطلقا، إذ لا يحصل العلم بالفراغ بالاتيان
بالأقل، لاحتمال وجوب الأكثر، ولا بالاتيان بالأكثر لاحتمال اعتبار قصد
الوجه، فلا يحصل العلم بالفراغ لا بالاتيان بالأقل ولا بالاتيان بالأكثر.
وهذا مما لم يلتزم به أحد حتى الشيخ (ره) نفسه، إذ لا إشكال ولا خلاف في
إمكان الاحتياط، بل في حسنة بالاتيان بالأكثر. انما الكلام في وجوبه وعدمه
والسر فيه ان قصد الوجه على القول بوجوبه يختص بصورة الامكان، ففي مثل
المقام لا يكون واجبا قطعا، والا لزم بطلان الاحتياط رأسا.
و (ثالثا) - ان احتمال اعتبار قصد الوجه مما لم يدل عليه دليل وبرهان
بل هو مقطوع البطلان على ما تقدم بيانه في بحث التعبدي والتوصلي.
و (رابعا) - ان اعتبار قصد الوجه مع عدم تمامية دليله إنما هو في
الواجبات الاستقلالية، دون الواجبات الضمنية، أي الاجزاء، فراجع
الأدلة التي ذكروها لاعتبار قصد الوجه.
435

وأجاب المحقق النائيني (ره) عن أصل الاشكال بأن الغرض (تارة)
تكون نسبته إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة، كالقتل بالنسبة
إلى قطع الأوداج، و (أخرى) تكون نسبته إليه نسبة المعلول إلى العلل
الاعدادية. والفرق بينهما واضح، فان الغرض على الأول مترتب علي الفعل
المأمور به بلا توسط امر آخر خارج عن قدرة المكلف، وعلى الثاني لا يترتب
على الفعل المأمور به، بل يتوقف على مقدمات أخرى خارجة عن قدرة المكلف
كحصول السنبل من الحبة فان الفعل الصادر من المكلف هو الزرع والسقي ونحوهما من
المقدمات الاعدادية. وأما حصول السنبل فيتوقف على مقدمات أخرى خارجة
عن قدرة المكلف، كحرارة الشمس وهبوب الريح مثلا، فلو علمنا بأن الغرض
من القسم الأول يجب القطع بحصوله، بلا فرق بين أن يكون الامر في مقام
الاثبات متعلقا بنفس الغرض أو بعلته، ففي مثله لو دار الامر بين الأقل والأكثر
كان موردا للاحتياط، فيجب الاتيان بالأكثر تحصيلا للقطع بغرض المولى،
ولو علمنا كون الغرض من القسم الثاني فلا اشكال في أن حصول الغرض ليس متعلقا
للتكليف لعدم صحة التكليف بغير المقدور، فلا يجب على المكلف إلا الاتيان
بما امر به المولى وهو نفس الفعل المأمور به. وفي مثله لو دار الامر بين الأقل
والأكثر وجب الاتيان بالأقل، للعلم بوجوبه على كل تقدير، وكان وجوب
الأكثر موردا للأصل، لعدم العلم به. وأما لو شككنا في ذلك ولم نعلم بأن
الغرض من القسم الأول ليجب الاحتياط عند دوران الامر بين الأقل والأكثر
أو من القسم الثاني ليرجع إلى أصالة البراءة عن الأكثر، فلا مناص من الرجوع
إلى الامر، فان كان متعلقا بالغرض كالا وامر المتعلقة بالطهارة من الحدث في
مثل قوله تعالى: (ان كنتم جنبا فاطهروا) يستكشف منه كون الغرض مقدورا
لنا، لأنه لو لم يكن مقدورا لم يأمر المولى الحكيم به، لقبح التكليف بغير
436

المقدور، فيجب الاحتياط عند دوران الامر بين الأقل والأكثر تحصيلا للعلم
بغرض المولى، وإن كان متعلقا بفعل المأمور به كالا وامر المتعلقة بالصلاة والصوم
ونحوهما، يستكشف منه كون الغرض غير مقدور لنا، وإلا كان تعلق الامر
به أولى من تعلقه بالمقدمة، فلا يجب الاحتياط عند دوران الامر بين الأقل
والأكثر. والمقام من هذا القبيل، فان الامر قد تعلق بنفس الفعل المأمور به
ويستكشف منه ان الغرض ليس متعلقا للتكليف، فلا يجب علينا إلا الاتيان بما
علم تعلق التكليف به وهو الأقل. وأما الأكثر فيرجع فيه إلى الأصل.
وفيه ما تقدم في بحث الصحيح والأعم من أن المترتب على المأمور به
غرضان: (أحدهما) - الغرض الأقصى الذي نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى
العلل الاعدادية، فليس مقدورا للمكلف ولا متعلقا للتكليف (ثانيهما) -
الغرض الاعدادي الذي نسبة إلى الفعل المأمور به نسبة المعلول إلى علته التامة،
وقد يعبر عنه في كلام بعض الأساطين بسد باب العدم من ناحية هذه المقدمة أي
الفعل المأمور به، فعلى القول بوجوب تحصيل الغرض يجب الاتيان بالأكثر
تحصيلا للعلم بهذا الغرض الذي تكون نسبته إلى المأمور به نسبة المعلول إلى علته
التامة، فكون الغرض الأقصى خارجا عن قدرة المكلف لا يفيد في دفع
الاشكال، بعد الالتزام بوجوب الاحتياط. فيما إذا كان الغرض مترتبا على
المأمور به ترتب المعلول على العلة التامة، لان الغرض الاعدادي الذي نشك في
حصوله باتيان الأقل يكفي لوجوب الاحتياط والآتيان بالأكثر.
والصحيح في الجواب أن يقال أنه إن كان الغرض بنفسه متعلقا للتكليف
كما إذا أمر المولى بقتل زيد، ففي مثل دلك يجب على المكلف إحراز حصوله والآتيان
بما يكون محصلا له يقينا. وأما إن كان التكليف متعلقا بالفعل المأمور به، فلا
يجب على العبد إلا الاتيان بما امر به المولى. وأما كون المأمور به وافيا بغرض
437

المولى، فهو من وظائف المولى. فعليه ان يأمر العبد بما يفي بغرضه، فلو
فرض عدم تمامية البيان من قبل المولى لا يكون تفويت الغرض مستندا إلى العبد
فلا يكون العبد مستحقا للعقاب.
وبالجملة لا يزيد الغرض على أصل التكليف. فكما ان التكليف الذي لم
يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، كذلك الغرض
الذي لم يقم عليه بيان من المولى مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. فإذا دار
الامر بين الأقل والأكثر، فكما أن التكليف بالزائد على القدر المتيقن مما لم تقم
عليه حجة من قبل المولى فيكون العقاب عليه عقابا بلا بيان، كذلك الغرض
المشكوك ترتبه على الأقل أو الأكثر، فإنه على تقدير ترتبه على الأقل كانت
الحجة عليه تامة. وصح العقاب على تفويته بترك الأقل. وعلى تقدير ترتبه
على الأكثر لم تقم عليه الحجة من قبل المولى. وكان العقاب على تفويته بترك
الأكثر عقابا بلا بيان.
هذا كله بناء على ما هو المشهور من مذهب العدلية من تبعية الاحكام
للملاكات في متعلقاتها، واما على القول بكونها تابعة للمصالح في نفسها، كما
مال إليه صاحب الكفاية في بعض كلماته، وكما هو الحال في الأحكام الوضعية
مثل الملكية والزوجية ونحوهما، فالاشكال مندفع من أصله كما هو ظاهر.
المقام الثاني في جريان البراءة الشرعية وعدمه. وملخص الكلام فيه أنه
ان قلنا بجريان البراءة العقلية، فلا ينبغي الاشكال في جريان البراءة الشرعية أيضا
بملاك واحد. وهو عدم جريان الأصل في الاطلاق، باعتبار كونه سعة على
المكلف، ولا يكون تضييقا عليه ليشمله حديث الرفع ونحوه. فيجري الأصل
في التقييد بلا معارض، فكما قلنا ان الأصل عدم التقييد بمعنى قبح العقاب عليه
لعدم البيان، كذلك نقول برفع المؤاخذة على التقييد لكونه مما لا يعلم،
438

فيشمله مثل حديث الرفع. وإن قلنا بعدم جريان البراءة العقلية وعدم انحلال
العلم الاجمالي، ففي جواز الرجوع إلى البراءة الشرعية وجهان. ذهب صاحب
الكفاية (ره) والمحقق النائيني (ره) إلى الأول. اما صاحب الكفاية فذكر
في وجهه ان عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته، فبمثله
يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في الأول.
وأما المحقق النائيني (ره) فذكر في وجه أن مفاد حديث الرفع ونحوه عدم
التقييد في مرحلة الظاهر. فيثبت به الاطلاق ظاهرا، لأن عدم التقييد هو
عين الاطلاق، باعتبار أن التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فالاطلاق
عدم التقييد في مورد كان صالحا للتقييد، فبضميمة مثل حديث الرفع إلى أدلة
لاجزاء والشرائط يثبت الاطلاق في مرحلة الظاهر.
والتحقيق عدم صحة التفكيك بين البراءة العقلية والشرعية، وأنه على
تقدير عدم جريان البراءة العقلية كما هو المفروض لا مجال لجريان البراءة الشرعية
أيضا. وذلك لأن عمدة ما توهم كونه مانعا عن جريان البراءة العقلية أمران:
(الأول) - لزوم تحصيل الغرض المردد ترتبه على الأقل والأكثر. (الثاني) -
أن الأقل المعلوم وجوبه على كل تقدير هو الطبيعة المرددة بين الاطلاق والتقييد
فكل من الاطلاق والتقييد مشكوك فيه، فلا ينحل العلم الاجمالي لتوقفه على
اثبات الاطلاق، فما لم يثبت الاطلاق كان العلم الاجمالي باقيا على حاله. وعليه
يكون الشك في سقوط التكليف باتيان الأقل لا في ثبوته، فيكون مجرى لقاعدة
الاشتغال دون البراءة. ومن الظاهر أن كلا من هذين الوجهين لو تم لكان مانعا
عن الرجوع إلى البراءة الشرعية أيضا.
(أما الوجه الأول) - فلان الغرض الواصل بالعلم الاجمالي لو لزم تحصيله
على كل تقدير كما هو المفروض، فلا ينفع الرجوع إلى مثل حديث الرفع مع
439

الشك في حصول الغرض باتيان الأقل، إذ غاية ما يدل عليه حديث الرفع و نحوه
من أدلة البراءة الشرعية هو رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهرا، بمعنى
عدم العقاب على تركه. ومن المعلوم أن رفع الجزئية عن الجزء المشكوك فيه ظاهرا
لا يدل على كون الغرض مترتبا على الأقل. (وبعبارة أخرى) أصالة عدم جزئية
المشكوك لا يترتب عليها كون الغرض مترتبا على الأقل، لعدم كونه من آثاره
الشرعية، فاحراز كون الغرض مترتبا على الأقل بها مبني على القول بالأصل
المثبت ولا نقول به، فيجب الاتيان بالأكثر لاحراز حصول الغرض (بعبارة
ثالثة) بعد الالتزام بوجوب تحصيل الغرض بحكم العقل وكون المكلف معاقبا
بترك تحصيله. لا ينفع الرجوع إلى مثل حديث الرفع، لكونه دالا على عدم
العقاب بترك الجزء المشكوك فيه، لا على رفع العقاب بترك تحصيل الغرض.
نعم لو كان ما دل على رفع الجزئية من الامارات الناظرة إلى الواقع لترتبت عليه
لوازمه العقلية، فيحكم بترتب الغرض على الأقل. لحجية مثبتات الامارات
دون الأصول على ما ذكر في محله، كما أنه لو كان دليل البراءة الشرعية واردا
في خصوص دوران الامر بين الأقل والأكثر لزم الحكم بكفاية الأقل، وترتب
الغرض عليه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية. وأما إذا لم تكن أدلة البراءة
من الامارات الناظرة إلى الواقع، إلى بل من الأصول الناظرة إلى تعيين الوظيفة عند
العجز عن الوصول إلى الواقع، ولم تكن واردة في خصوص دوران الامر بين
الأقل والأكثر كما هو المفروض فلا يفيد الرجوع إليها لنفي وجوب الأكثر بعد حكم
العقل بوجوب تحصيل الغرض وعدم العلم بترتبه على الأقل.
و (أما الوجه الثاني) فلان جريان البراءة عن الأكثر - أي عن تقييد
الأقل بانضمام الاجزاء المشكوك فيها - لا يثبت تعلق التكليف بالأقل على نحو
الاطلاق، إلا على القول بالأصل المثبت، لما ذكرناه مرارا من أن التقابل بين
440

الاطلاق والتقييد بحسب مقام الثبوت هو تقابل التضاد، إذ الاطلاق بحسب مقام
الثبوت عبارة عن لحاظ الطبيعة بنحو السريان واللابشرط القسمي. والتقييد
عبارة عن لحاظها بشرط شئ. والطبيعة الملحوظة بنحو لا بشرط مضادة مع
الطبيعة الملحوظة بشرط شئ. ومع كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من
تقابل التضاد لا يمكن إثبات الاطلاق بنفي التقييد، ومعه لا ينحل العلم الاجمالي
المقتضي لوجوب الاحتياط، فلا تجري البراءة النقلية كما لا تجري البراءة العقلية
نعم بناء على ما ذكرناه من أن انحلال العلم الاجمالي لا يحتاج إلى إثبات الاطلاق
بل يكفيه جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، جرت البراءة العقلية
والنقلية في المقام بملاك واحد.
فتلخص مما ذكرناه عدم صحة التفكيك بين البراءة العقلية والنقلية في المقام
فلا بد من القول بجريان البراءة عقلا ونقلا، كما اختاره شيخنا الأنصاري (ره)
وهو الصحيح على ما تقدم بيانه، أو الالتزام بقاعدة الاشتغال وعدم جواز
الرجوع إلى البراءة العقلية والنقلية.
(تنبيه)
ذكر صاحب الكفاية (ره) في المقام اشكالا وهو أنه بعد جريان البراءة
الشرعية عن وجوب الأكثر كيف يمكن الالتزام بوجوب الأقل. ولا دليل
عليه، فان الأدلة الأولية تدل على وجوب المركب التام، وبعد رفع جزئية الجزء
المشكوك فيه بمثل حديث الرفع لا يبقي دليل على وجوب الباقي.
وأجاب عنه بأن نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء والشرائط نسبة
441

الاستثناء إلى المستثنى منه، فبضميمته إليها يحكم باختصاص الجزئية بغير
حال الجهل.
والتحقيق أن وجوب الأقل لا يحتاج إلى دليل آخر، فان نفس العلم
الاجمالي بوجب الأقل المردد بين كونه بنحو الاطلاق أو التقييد كاف في وجوبه
فالاشكال المذكور وجوابه ساقط من أصله. والظاهر (والله العالم) أن الاشكال
المذكور نشأ من الخلط بين الجهل والنسيان والاضطرار والاكراه، فإنه في باب
الاضطرار بعد رفع جزئية بعض الاجزاء للاضطرار إلى تركه بقوله صل الله عليه وآله:
(وما اضطروا) يحتاج وجوب الباقي إلى الدليل، لان الأدلة الأولية انما دلت
على وجوب المركب التام. وبعد رفع اليد عنها لأدلة الاضطرار لم يبق دليل على
وجوب بقية الاجزاء، وكذا الحال في باب الاكراه والنسيان. والاشكال
المذكور وارد لا مدفع له في هذه الموارد. ولا يفيد ما ذكره صاحب الكفاية
في مقام الجواب عنه من أن نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء والشرائط هي
نسبة الاستثناء إلى المستثنى منه. وذلك لان النسبة المذكورة إنما تتم بعد ما دل
دليل على وجوب البقية. والكلام فعلا في وجود هذا الدليل، ولا يمكن
إثباته أي اثبات وجوب البقية بنفس حديث الرفع، فان مفاده نفي وجوب
ما اضطر إليه، لا اثبات وجوب بقية الاجزاء والشرائط، فبعد رفع اليد عن
الأدلة الأولية الدالة على المركب التام لأجل الاضطرار لم يبق دليل على
وجوب البقية.
نعم لو دل دليل خاص على وجوب البقية في مورد كما في الصلاة، فإنها
لا تسقط بحال، فهو المتبع، أو تمت قاعدة الميسور كبرى وصغرى، فيعمل
بها. وإلا فيشكل الحكم بوجوب البقية كما في الصوم، فإنه بعد الافطار في
بعض أجزاء اليوم لأجل الاضطرار لا دليل على وجوب الامساك في بقية اجزاء
442

ذلك اليوم. وأوضح منه الوضوء فيما لم يكن الماء كافيا لغسل جميع الأعضاء،
فإنه لا دليل على وجوب غسل بعض الأعضاء دون بعض آخر. وسيجيئ التعرض
لتفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى. وقد عرفت أن كل ذلك أجنبي عن
المقام، لأن العلم الاجمالي بوجوب الأقل المردد بين كونه بنحو الاطلاق أو
التقييد كاف في اثبات وجوبه بلا حاجة إلى دليل آخر.
بقى الكلام في الاستصحاب، فقد تمسك به للاشتغال مرة وللبراءة
أخرى. أما التمسك به للاشتغال فتقريبه أن التكليف متعلق بما هو مردد بين
الأقل والأكثر، فالواجب مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع
الارتفاع، فان التكليف لو كان متعلقا بالأقل، فهو مرتفع بالاتيان به يقينا
ولو كان متعلقا بالأكثر فهو باق يقينا، فبعد الاتيان بالأقل نشك في سقوط
التكليف المتيقن ثبوته قبل الاتيان به، فيستصحب بقاؤه على نحو القسم الثاني
من استصحاب الكلي. وبعد جريان هذا الاستصحاب والحكم ببقاء التكليف
تعبدا يحكم العقل بوجوب الاتيان بالأكثر تحصيلا للعلم بالفراغ، لا أنه يترتب
الحكم بوجوب الأكثر على نفس الاستصحاب حتى يكون مثبتا بالنسبة إليه، بل
المترتب على الاستصحاب هو الحكم ببقاء التكليف فقط. وأما وجوب الاتيان
بالأكثر فإنما هو بحكم العقل بعد إثبات الاشتغال وبقاء التكليف، للملازمة بين
بقاء التكليف وحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالفراغ. هذا غاية ما يمكن أن
يقال في تقريب الاستدلال بالاستصحاب للاشتغال.
ويرد عليه (أولا) - أن جريان القسم الثاني من استصحاب الكلي
متوقف على كون الحادث مرددا بين المرتفع والباقي، لأجل تعارض الأصل في
كل منهما، كما إذا تردد الحدث المتحقق ممن كان متطهرا بين الأصغر والأكبر
فان أصالة عدم تحقق الأكبر معارض بأصالة عدم تحقق الأصغر، فبعد
443

الوضوء نشك في ارتفاع الحدث المتيقن حدوثه، لكونه مرددا بين ما هو
مرتفع يقينا وما هو باق كذلك، فيستصحب الحدث الكلي. وأما فيما لم
تتعارض فيه الأصول، بل أحرز حال الفرد الحادث بضميمة الأصل إلى الوجدان
فلم يبق مجال للرجوع إلى استصحاب الكلي كما إذا كان المكلف محدثا
بالأصغر، ثم احتمل عروض الجنابة له بخروج بلل يحتمل كونه منيا، ففي مثل
ذلك لا معنى للرجوع إلى استصحاب الكلي بعد الوضوء، لأن الحدث الأصغر
كان متيقنا. إنما الشك في انقلابه إلى الأكبر، فتجري أصالة عدم حدوث
الأكبر. وبضم هذا الأصل إلى الوجدان يحرز الفرد الحادث وأنه الأصغر، فلم
يبق مجال لجريان استصحاب الكلى. والمقام من هذا القبيل بعينه، فان وجوب
الأقل هو المتيقن. وبضميمة أصالة عدم وجوب الأكثر يحرز حال الفرد،
ويتعين في الأقل، فلم يبق مجال لجريان استصحاب الكلي.
وبالجملة الرجوع إلى القسم الثاني من استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان
الفرد الحادث مرددا بين المرتفع والباقي. وأما لو كان أحد الفردين متيقنا
والآخر مشكوكا فيه، فيجرى الأصل فيه بلا معارض، فلا تصل النوبة إلى
استصحاب الكلي.
و (ثانيا) - أن الاستصحاب المذكور - على تقدير جريانه في نفسه -
معارض باستصحاب عدم تعلق جعل التكليف بالأكثر لو لم نقل بكونه محكوما
فيسقط للمعارضة أو لكونه محكوما. واما التمسك بالاستصحاب للبراءة
فتقريبه بوجوه: (التقريب الأول) - استصحاب عدم لحاظ الأكثر حين جعل التكليف.
وفيه (أولا) - ان عدم اللحاظ ليس حكما شرعيا ولا موضوعا لحكم شرعي،
فلا معنى لجريان الاستصحاب فيه. و (ثانيا) - أن الأمر في المقام دائر بين
444

لحاظ الأقل بشرط شئ الذي هو عبارة عن لحاظ الأكثر، وبين لحاظ الأقل
بنحو اللا بشرط القسمي بعد العلم الاجمالي بتحقق أحدهما، لاستحالة الاهمال في
مقام الثبوت. وكما أن لحاظ الأقل بشرط شئ مسبوق بالعدم ومشكوك
الحدوث، كذلك لحاظ الأقل بنحو اللا بشرط القسمي أيضا مسبوق بالعدم
ومشكوك الحدوث، فجريان الاستصحاب في كل منهما معارض بجريانه في الآخر
(التقريب الثاني) - استصحاب عدم الجزئية لما هو مشكوك الجزئية،
وحيث أن الجزئية امر انتزاعي تنتزع عن الأمر بالمركب، فاستصحاب عدم
الجزئية يرجع إلى استصحاب عدم تعلق الأمر بالمركب من هذا الجزء المشكوك
فيه وهو التقريب الثالث. ويرد عليه ان هذا الاستصحاب معارض بمثله حسب
ما أشرنا إليه آنفا من أن الأقل المتيقن الذي تعلق الأمر والتكليف به أمره دائر
بين الاطلاق والتقييد، فكما أن تعلق التكليف بالأقل على نحو التقييد مشكوك
الحدوث، كذلك تعلق التكليف به على نحو الاطلاق أيضا مشكوك الحدوث
فاجراء الاستصحاب فيهما مناف للعلم الاجمالي، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح
فتلخص مما ذكرناه عدم صحة التمسك بالاستصحاب في المقام، لا للاشتغال
ولا للبراءة.
(المقام الثاني) في دوران الامر بين الأقل والأكثر في الاجزاء التحليلية
وهو على أقسام ثلاثة: (القسم الأول) - أن يكون ما يحتمل دخله في المأمور به على نحو الشرطية
موجودا مستقلا غاية الامر أنه يحتمل تقيد المأمور به به، كما إذا احتمل اعتبار
التستر في الصلاة مثلا. والحكم في هذا القسم هو ما ذكرناه في دوران الامر
بين الأقل والأكثر في الاجزاء الخارجية من جريان البراءة عقلا ونقلا، فان
الأقل المتيقن الذي تعلق التكليف به امره دائر بين الاطلاق والتقييد، فتجري
445

أصالة البراءة عن الاشتراط. ولا تعارضها أصالة البراءة عن الاطلاق، لعدم
كون الاطلاق ضيقا على المكلف، فلا يكون موردا للبراءة في نفسه،
ويجري في المقام جميع الاشكالات المتقدمة والموانع من جريان البراءة والجواب
عنها هو ما تقدم حرفا بحرف، ولا حاجة إلى الإعادة.
(القسم الثاني) - ان يكون ما يحتمل دخله في الواجب أمرا غير مستقل
عنه خارجا، ولم يكن من مقوماته الداخلة في حقيقته، بل كانت نسبته إليه نسبة
الصفة إلى الموصوف والعارض إلى المعروض، كما لو دار أمر الرقبة الواجب
عتقها بين كونها خصوص المؤمنة أو الأعم منها ومن الكافرة. وهذا القسم
كسابقه في جريان البراءة العقلية والنقلية فيه بملاك واحد، فان تعلق التكليف
بالطبيعي المردد بين الاطلاق والتقييد معلوم اجمالا، فتجري أصالة البراءة عن
التقييد بلا معارض، ولا تعارض بأصالة البراءة عن الاطلاق، لعدم كون
الاطلاق ضيقا وكلفة على المكلف، ولا يكون مجرى للأصل في نفسه
كما مر مرارا.
واستشكل صاحب الكفاية (ره) في جريان البراءة العقلية فيه وفي سابقه
بدعوى أن جريان البراءة في موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر مبنى على
انحلال العلم الاجمالي بكون الأقل متيقنا على كل تقدير. والمقام ليس كذلك
لان وجود الطبيعي في ضمن المقيد متحد معه بل عينه خارجا، ووجود الطبيعي
في ضمن غيره مما هو فاقد للقيد مباين له، فلا يكون هناك قدر متيقن في
في البين لينحل به العلم الاجمالي وتجري أصالة البراءة.
وفيه (أولا) - ان الملاك في الانحلال جريان الأصل في بعض الأطراف
بلا معارض، كما مر مرارا. والمقام كذلك، فان تعلق التكليف بطبيعي
الرقبة المردد بين الاطلاق بالنسبة إلى الايمان والكفر أو التقييد بخصوص الايمان
446

معلوم وهذا هو القدر المتيقن. إنما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد،
وحيث أن في الاطلاق توسعة على المكلف لا ضيقا وكلفة عليه، فلا يكون
موردا لجريان الأصل في نفسه، فتجري أصالة البراءة عن التقييد بلا معارض.
و (بعبارة أخرى) المراد من كون الأقل متيقنا الموجب لانحلال العلم الاجمالي
ليس هو المتيقن في مقام الامتثال، كي يقال أن وجود الطبيعي في ضمن المقيد
مباين مع وجوده في ضمن غيره، فلا يكون هناك قدر متيقن، بل المراد
هو المتيقن في مقام تعلق التكليف وثبوته. ولا ينبغي الاشكال في وجود
القدر المتيقن في هذا المقام، فان تعلق التكليف بالطبيعي المردد بين الاطلاق
والتقييد متيقن. إنما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد فتجري البراءة عن
التقييد بلا معارض على ما ذكرناه مرارا.
و (ثانيا) - ان هذا الاشكال لو تم لجرى في الشك في الجزئية أيضا،
وذلك لأن كل واحد من الأجزاء له اعتباران: (الأول) - اعتبار الجزئية وان
الوجوب المتعلق بالمركب متعلق به ضمنا. (الثاني) - اعتبار الشرطية وان سائر
الأجزاء مقيد به، لأن الكلام في الأقل والأكثر الارتباطيين، فيكون الشك
في الجزئية شكا في الشرطية بالاعتبار الثاني. فيجري الاشكال المذكور، فلا
وجه لاختصاصه بالشك في الشرطية.
(القسم الثالث) - ان يكون ما يحتمل دخله في الواجب مقوما له بان
تكون نسبته إليه نسبة الفصل إلى الجنس، كما إذا تردد التيمم الواجب بين تعلقه
بالتراب أو مطلق الأرض الشامل له وللرمل والحجر وغيرهما، وكما إذا أمر المولى
عبده باتيان حيوان فشك في أنه أراد خصوص الفرس أو مطلق الحيوان، ففي
مثله ذهب صاحب الكفاية (ره) والمحقق النائيني (ره) إلى عدم جريان البراءة
447

أما صاحب الكفاية فقد تقدم وجه اشكاله والجواب عنه، فلا نحتاج إلى
الإعادة. وأما المحقق النائيني (ره) فذكر ان الجنس لا تحصل له في الخارج
الا في ضمن الفصل، فلا يعقل تعلق التكليف به، إلا مع أخده متميزا بفصل
فيدور امر الجنس المتعلق للتكليف بين كونه متميزا بفصل معين أو بفصل ما من
فصوله. وعليه فيكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير،
لا من دوران الامر بين الأقل والأكثر، لأنه لا معنى للقول بأن تعلق التكليف
بالجنس متيقن، إنما الشك في تقيده بفصل، بل نقول تقيده بالفصل متيقن
إنما الشك والترديد في تقيده بفصل معين أو فصل من فصوله، لما ذكرناه من
عدم معقولية كون الجنس متعلقا للتكليف إلا مع اخذه متميزا بفصل، فيدور
الامر بين التخيير والتعيين. والعقل يحكم بالتعيين، فلا مجال للرجوع إلى
البراءة عن كلفة التعيين.
ثم إنه (ره) قسم دوران الامر بين التخيير والتعيين إلي اقسام ثلاثة،
واختار في جميعها الحكم بالتعيين. وحيث إن التعرض لذكر الأقسام وما لها
من الاحكام مما تترتب عليه فوائد كثيرة في استنباط الأحكام الشرعية، فنحن
نتبعه في ذكر الأقسام ونتكلم في أحكامها حسب ما يساعده النظر فنقول:
(القسم الأول) - ما إذا دار الامر بين التخيير والتعيين في مرحلة الجعل
في الاحكام الواقعية، كما إذا شككنا في أن صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي
واجب تعييني أو تخييري؟
(القسم الثاني) - ما إذا دار الامر بين التخيير والتعيين في مرحلة الجعل
في الاحكام الظاهرية، ومقام الحجية، كما إذا شككنا في أن تقليد الا علم واجب
تعييني على العامي العاجز عن الاحتياط، أو هو مخير بين تقليده وتقليد
غير الأعلم؟
448

(القسم الثالث) - ما إذا دار الأمر بين التخيير والتعيين في مقام الامتثال
لأجل التزاحم، بعد العلم بالتعيين في مقام الجعل، كما إذا كان هنا غريقان يحتمل
كون أحدهما بعينه نبيا مثلا، ولم نتمكن إلا من إنقاذ أحدهما، فيدور الأمر
بين وجوب انقاذه تعيينا أو تخييرا بينه وبين الآخر، هذه هي اقسام دوران
الامر بين التخيير والتعيين. وقبل الشروع في بيان حكم الأقسام من البراءة أو
الاحتياط لا بد من أمرين:
(الأول) - ان محل الكلام انما هو فيما إذا لم يكن في البين أصل لفظي
من الاطلاق ونحوه، ولا استصحاب موضوعي يرتفع به الشك، كما إذا علمنا
بالتعيين ثم شككنا في انقلابه إلى التخيير أو بالعكس، فإنه مع وجود أحد
الامرين يرتفع الشك فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاحتياط.
(الثاني) - ان محل الكلام إنما هو فيما إذا كان الوجوب في الجملة متيقنا
ودار امره بين التخيير والتعيين. كما في الأمثلة التي ذكرناها. وأما إذا لم يكن
الوجوب متيقنا في الجملة، كما إذا دار الامر بين كون شئ واجبا تعيينيا أو
واجبا تخييريا أو مباحا، فلا ينبغي الشك في جواز الرجوع إلى البراءة
عن الوجوب.
إذا عرفت هذين الامرين فنقول: اما القسم الأول فله صور ثلاث:
(الصورة الأولى) - ان يعلم وجوب كل من الفعلين في الجملة، ويدور الامر بين
ان يكون الوجوب فيهما تعيينيا ليجب الاتيان بهما معا في صورة التمكن،
أو تخييريا ليجب الاتيان بأحدهما. (الصورة الثانية) - ان يعلم
وجوب فعل في الجملة، وعلم أيضا سقوطه عند الاتيان بفعل آخر،
ودار الامر بين ان يكون الفعل الثاني عدلا للواجب، ليكون الوجوب
449

تخييريا بينه وبين الواجب الأول، أو مسقطا له لاشتراط التكليف بعدمه
كالقراءة الواجبة في الصلاة المرددة بين ان يكون وجوبها تعيينيا مشروطا بعدم
الائتمام، أو يكون تخييريا بينهما على ما مثلوا. وفي التمثيل بها للمقام إشكال
سيجئ التعرض له قريبا إن شاء الله تعالى. وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما إذا
عجز المكلف عن القراءة، فإنه على تقدير كون الوجوب تخييريا يتعين عليه
الائتمام، كما هو الحال في كل واجب تخييري تعذر عدله. وعلى تقدير كون
وجوب القراءة تعيينيا مشروطا بعدم الائتمام لا يجب عليه الائتمام.
ثم إن هاتين الصورتين على طرفي النقيض، فان وجوب ما يحتمل كونه
عدلا للواجب الأول معلوم في الجملة في الصورة الأولى، إنما الشك في أن الاتيان
به مسقط للامتثال بالواجب الأول أولا. واما في الصورة الثانية فالمسقطية
متيقنة، انما الشك في كونه عدلا للواجب الأول ليكون واجبا تخييريا، أو
ان عدمه شرط لوجوب الواجب.
(الصورة الثالثة) - ان يعلم وجوب فعل في الجملة، واحتمل كون فعل
آخر عدلا له، مع عدم احراز وجوبه ولا كونه مسقطا، كما إذا علمنا بوجوب
الصيام في يوم، واحتملنا ان يكون إطعام عشرة مساكين عدلا له في تعلق
الوجوب التخييري بهما، هذه هي الصور الثلاث.
(اما الصورة الأولى) فلا اثر للشك فيها فيما إذا لم يتمكن المكلف إلا من
أحد الفعلين، ضرورة وجوب الاتيان به حينئذ اما لكونه واجبا تعيينيا أو
عدلا لواجب تخييري متعذر. (وبعبارة أخرى) يعلم كونه واجبا تعيينيا فعلا
غاية الامر لا يعلم أنه تعييني بالذات أو تعييني بالعرض، لأجل تعذر عدله. وإنما
تظهر الثمرة فيما إذا تمكن المكلف من الاتيان بهما معا، فيدور الأمر بين وجوب
450

الاتيان بهما وجواز الاقتصار على أحدهما. والتحقيق هو الحكم بالتخيير،
وجواز الاكتفاء بأحدهما، لان تعلق التكليف بالجامع بينهما متيقن، وتعلقه
بخصوص كل منهما مجهول مورد لجريان البراءة بلا مانع.
و (أما الصورة الثانية) فقد عرفت انه لا ثمرة فيها في كون الوجوب
تعيينيا أو تخييريا، الا فيما إذا تعذر ما علم وجوبه في الجملة، فإنه على تقدير
كون وجوبه تخييريا، يجب عليه الاتيان بالطرف الآخر المعلوم كونه مسقطا
للواجب، وعلى تقدير كون وجوبه تعيينيا لا شئ عليه، فالشك في التعيين
والتخيير في هذه الصورة يرجع إلى الشك في وجوب ما يحتمل كونه عدلا للواجب
عند تعذره. وهو مورد للبراءة، فتكون النتيجة في هذه الصورة هي نتيجة
التعيين دون التخيير.
ثم إن المحقق النائيني (ره) استدل على كون الوجوب تعيينيا في
خصوص مسألة القراءة والائتمام التي ذكروها مثالا لهذه الصورة بما ورد عن النبي (ص)
من أن سين بلال عند الله شين بتقريب ان الائتمام لو كان عدلا للقراءة لوجب عليه
الائتمام على تقدير التمكن منه، وعدم جواز الاكتفاء بالسين بدلا عن الشين.
وفيه (أولا) ان الرواية ضعيفة بالارسال فلا يصح الاستدلال بها.
و (ثانيا) - ان ما يتحمله الامام عن المأموم هي القراءة، وليس فيها
حرف الشين ليتعين الائتمام عند تعذر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييريا
فأمر بلال دائر بين ترك الصلاة رأسا والاكتفاء بالسين بدلا عن الشين في التشهد
الذي لا فرق فيه بين الاتيان بالصلاة فرادي أو جماعة، لعدم قدرته على
التلفظ بالشين. والتكليف بغير المقدور قبيح يستحيل صدوره من الحكيم تعالى
فقال النبي صل الله وعليه وآله - على تقدير صحه الرواية - ان تكليف الاكتفاء بالسين
لا ترك الصلاة رأسا.
451

وهذا مما لا يرتبط بالمقام أصلا، ولو كان الاستدلال المذكور مبنيا على أن قوله
صل الله عليه وآله: ان سين بلال شين يدل على أن التلفظ بالحروف غلطا يكفي عن التلفظ بها
صحيحا عند التعذر، حتى في القراءة، فلا يجب الائتمام، فيستكشف منه عدم كونه
عدلا للقراءة. فيرده ان هذا خروج عن مفاد النص، فان مفاده الاكتفاء
بالسين بدلا عن الشين لا الاكتفاء بكل لفظ عن الآخر.
و (ثالثا) - ان التمثيل بمسألة القراءة والائتمام للمقام غير صحيح، لان
المكلف مكلف بطبيعي الصلاة. وله ان يوجده في ضمن اي فرد من افراده
فهو مخير بين الاتيان بالصلاة فرادى، فتجب عليه القراءة والآتيان بها جماعة،
فيتحملها الامام عنه، فليس هناك ترديد ودوران بين التخيير والتعيين بل التخيير
بين هذين الفردين من الكلي ثابت ومعلوم، مع كون أحدهما أفضل من الآخر
كالتخيير في سائر الجهات والخصوصيات المتفاوتة في الفضيلة أو في بعض الأحكام
فان المكلف مخير بين الاتيان بالصلاة في البيت والآتيان بها في المسجد، مع
التفاوت بينهما في الفضيلة. وعليه فلو تعذر الاتيان بفرد لا اشكال في وجوب
الاتيان بفرد آخر، فإنه لا ريب في تعين الاتيان بالصلاة في البيت على تقدير
تعذر الاتيان بها في المسجد وبالعكس، ففي المقام لا ينبغي الاشكال في وجوب
الاتيان بالصلاة جماعة على تقدير تعذر الاتيان بها فرادى، لعدم القدرة على
القراءة. هذا ما تقتضيه القاعدة، إلا أنه وردت نصوص كثيرة (1) تدل على

(1) الوسائل (الطبعة الحديثة) ج 4 - الباب الثالث من أبواب القراءة
في الصلاة - الحديث (1) والباب (59) من أبواب القراءة - الحديث (2) والباب
(30) من أبواب قراءة القرآن - الحديث (4).
452

جواز الاكتفاء بما يحسنه من القراءة عند تعذر الجميع، وإلا فيكتفي بما تيسر له
من القرآن ولولا هذه النصوص لكان مقتضى القاعدة هو وجوب الائتمام على من
لم يتمكن من القراءة الصحيحة.
و (أما الصورة الثالثة) فذهب جماعة من المحققين إلى أن المرجع فيها
أصالة الاشتغال والحكم بالتعيين. واستدل عليه بوجوه:
(الوجه الأول) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره) من أن دوران الامر
بين التعيين و التخيير إن كان من جهة احتمال اخذ شئ شرطا للواجب، فيحكم
فيه بالتخيير، لان الشرطية امر قابل للوضع والرفع، فيشملها حديث الرفع
عند الشك فيها. وأما إن كان الدوران بينهما من جهة احتمال دخل خصوصية
ذاتية في الواجب كما في المقام - لا يمكن الرجوع فيه إلى أدلة البراءة، لان
الخصوصية إنما تكون منتزعة من نفس الخاص، فلا تكون قابلة للوضع والرفع
فلا يمكن الرجوع عند الشك فيها إلى أدلة البراءة، فلا مناص من الحكم
بالاشتغال والالتزام بالتعيين في مقام الامتثال.
وفيه ان الخصوصية وإن كانت منتزعة من نفس الخاص وغير قابلة للوضع
والرفع، إلا ان اعتبارها في المأمور به قابل لهما، فإذا شك في ذلك كان المرجع
هو البراءة.
(الوجه الثاني) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو ان الشك في المقام
شك في حصول الامتثال بعد العلم بثبوت التكليف فيكون المرجع قاعدة الاشتغال
والحكم بالتعيين، فإذا دار الامر في كفارة تعمد الافطار مثلا بين خصوص
صيام شهرين وبين الأعم منه ومن اطعام سنين مسكينا، كان الصيام مفرغا للذمة
يقينا. وأما الاطعام فسقوط التكليف المعلوم به مشكوك فيه، فلا يجوز
الاكتفاء به في مقام الامتثال بحكم العقل.
453

والذي ينبغي ان يقال ان التخيير المحتمل في المقام إما ان يكون تخييرا
عقليا، كما إذا دار الامر بين تعلق التكليف بحصة خاصة أو بالجامع العرفي بينها
وبين غيرها من سائر حصص الجامع. وإما ان يكون تخييرا شرعيا، كما إذا
كان ما يحتمل وجوبه مباينا في الماهية لما علم وجوبه في الجملة ولم يكن بينهما
جامع عرفي، نظير ما تقدم من المثال في كفارة تعمد الافطار. وقد ذكر في
محله ان الوجوب التخييري في هذا القسم يتعلق بالجامع الانتزاعي المعبر عنه
بأحد الشيئين أو أحد الأشياء. أما في موارد احتمال التخيير العقلي، فتعلق
التكليف بالجامع معلوم، وانما الشك في كونه مأخوذا في متعلق التكليف على
نحو الاطلاق واللابشرط، أو على نحو التقييد و بشرط شئ، إذ لا يتصور
الاهمال بحسب مقام الثبوت والاطلاق والتقييد وان كانا متقابلين ولم يكن شئ
منهما متيقنا، إلا انك قد عرفت سابقا ان انحلال العلم الاجمالي غير متوقف
على تيقن بعض الأطراف، بل يكفي فيه جريان الأصل في بعض الأطراف بلا
معارض. وقد سبق ان جريان أصالة البراءة العقلية والنقلية في جانب التقييد غير
معارض بجريانها في طرف الاطلاق، فإذا ثبت عدم التقييد ظاهرا لأدلة البراءة
لا يبقى مجال لدعوى رجوع الشك إلى الشك في الامتثال، ليكون المرجع قاعدة
الاشتغال، فان الشك في الامتثال منشأه الشك في اطلاق الواجب وتقيده، فإذا
ارتفع احتمال القيد بالأصل يرتفع الشك في الامتثال أيضا. ومن ذلك يظهر الحال
في موارد احتمال التخيير الشرعي، وان الحكم فيه أيضا هو التخيير، لان تعلق
التكليف بعنوان أحد الشيئين في الجملة معلوم، وانما الشك في الاطلاق والتقييد
فتجري أصالة البراءة عن التقييد، وبضم الأصل إلى الوجدان يحكم بالتخيير.
(الوجه الثالث) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) أيضا، وهو ان الوجوب
التخييري يحتاج إلى مؤنة زائدة في مقامي الثبوت والاثبات اما في مقام الثبوت
454

فلاحتياجه إلى ملاحظة العدل، وتعليق التكليف بالجامع بينه وبين الطرف الآخر.
وأما في مقام الاثبات فلاحتياجه إلى ذكر العدل وبيانه فما لم تقم الحجة على
المؤنة الزائدة يحكم بعدمها، فيثبت الوجوب التعييني.
وفيه (أولا) - أنا لا نسلم ان الوجوب التخييري بحسب مقام الثبوت
يحتاج إلى مؤنة زائدة بنحو الاطلاق، أي سواء كان التخيير المحتمل تخييرا
عقليا أو تخييرا شرعيا، فان التخيير العقلي يحتاج إلى لحاظ الجامع فقط، كما أن
الوجوب التعييني يحتاج إلى لحاظ الواجب الخاص فقط، فليس هناك مؤنة
زائدة في الوجوب التخييري. نعم فيما كان التخيير المحتمل تخييرا شرعيا يحتاج
إلى مؤنة زائدة، لأن الجامع في التخيير الشرعي هو عنوان أحد الشيئين كما
كما تقدم. و من الواضح ان لحاظ أحد الشيئين يحتاج إلى لحاظ نفس الشيئين
فيكون الوجوب التخييري محتاجا إلى مؤنة زائدة بالنسبة إلى الوجوب التعييني.
و (ثانيا) - ان مرجع ما ذكره إلى استصحاب عدم لحاظ العدل.
واثبات الوجوب التعييني به متوقف على القول بالأصل المثبت ولا نقول به،
مضافا إلى كونه معارضا باستصحاب عدم لحاظ الطرف الآخر بالخصوص، على
ما سيجئ التعرض له في الجواب عن الوجه الرابع إن شاء الله تعالى. هذا كله
فيما ذكره بحسب مقام الثبوت.
وأما ما ذكره من أن الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤنة زائدة في مقام
الاثبات، فهو إنما يتم فيما إذا دل دليل لفظي على وجوب شئ، من دون
ذكر عدل له فيتمسك باطلاقه لاثبات كون الوجوب تعيينيا. وأما فيما إذا لم يكن
هناك دليل لفظي كما هو المفروض في المقام، إذ محل كلامنا عدم وجود دليل
لفظي والبحث عن مقتضى الأصول العملية، أشرنا إلى ذلك في أول بحث دوران
الأمر بين التعيين والتخيير، فلا يترتب عليه الحكم بالوجوب لتعييني في المقام
455

بل لا ارتباط له بمحل البحث أصلا.
(الوجه الرابع) - ما ذكره بعضهم من التمسك بأصالة عدم وجوب
ما يحتمل كونه عدلا لما علم وجوبه في الجملة. وبضم هذا الأصل إلى العلم
المذكور يثبت الوجوب التعييني.
وفيه أنه ان أريد بالأصل المذكور أصالة البراءة العقلية بمعنى حكم العقل
يقبح العقاب بلا بيان. فمن الظاهر أنه غير جار في المقام، إذ لا يحتمل العقاب
على ترك خصوص ما احتمل كونه عدلا للواجب في الجملة. وأما الجامع بينهما
فاستحقاق العقاب على تركه معلوم، فلا معنى للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب
بلا بيان. وان أريد به البراءة الشرعية، فهو أيضا غير تام، لأن تعلق
التكليف بالجامع معلوم على الفرض. وتعلقه بخصوص ما يحتمل كونه عدلا غير
محتمل، فلا معنى لجريان البراءة فيهما. وأما جريان البراءة في جعل العدل لما علم
وجوبه في الجملة، فهو راجع إلى جريان عن الاطلاق. ومن الواضح
عدم جريانها لما تقدم من أن الاطلاق توسعة لا منة في رفعه فلا يكون مشمولا
لأدلة البراءة الشرعية. وإن أريد به استصحاب عدم جعل العدل للواجب المعلوم في
الجملة، ففيه (أولا) - انه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني
لما يحتمل وجوبه تعيينا. و (ثانيا) - انه لا يثبت الوجوب التعييني بالاستصحاب
المذكور إلا على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام انه لا وجه للقول بالتعيين في هذا
القسم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وان المرجع هو البراءة عن وجوب
الاتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجبا تعيينا، فتكون النتيجة هي
الحكم بالتخيير.
ثم إن الحكم بالتخيير إنما يتم فيما إذا كان الكلف متمكنا من الاتيان بما
456

يحتمل كونه واجبا تعيينيا، ليدور امر الوجوب الفعلي الثابت في الجملة بين
التعيين والتخيير. وأما إذا لم يتمكن من ذلك فالشك في كون الوجوب المجعول
تعيينيا أو تخييريا يرجع إلى الشك في تعلق الوجوب الفعلي بما يحتمل كونه عدلا
ولا يحكم حينئذ بالتخيير ليترتب عليه الوجوب المذكور، بل يرجع إلى أصالة
البراءة عنه، لأنه مجهول، وكان العقاب على مخالفته عقابا بلا بيان، هذا كله
في القسم الأول من دوران الأمر بين التخيير والتعيين.
و (اما القسم الثاني) وهو دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجية
فيحكم فيه بالتعيين، لأن ما علم بحجيته المرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية
قاطع للعذر في مقام الامتثال ومبرئ للذمة بحسب مقام الظاهر يقينا. واما الطرف
الآخر المحتمل كونه حجة على نحو التخيير، فهو محكوم بعدم الحجية عقلا
وشرعا، لما عرفت في أول بحث حجية الظن من أن الشك في الحجية بحسب
مقام الجعل مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية، فكل ما شك في حجيته لشبة
حكمية أو موضوعية لا يصح الاعتماد عليه في مقام العمل. ولا يصح إسناد مؤداه
إلى المولى في مقام الافتاء، فتكون النتيجة هي الحكم بالتعيين.
و (اما القسم الثاني) وهو دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجية
فيحكم فيه بالتعيين، لأن ما علم بحجيته المرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية
قاطع للعذر في مقام الامتثال ومبرئ للذمة بحسب مقام الظاهر يقينا. واما الطرف
الآخر المحتمل كونه حجة على نحو التخيير، فهو محكوم بعدم الحجية عقلا
وشرعا، لما عرفت في أول بحث حجية الظن من أن الشك في الحجية بحسب
مقام الجعل مساوق للقطع بعدم الحجية الفعلية، فكل ما شك في حجية لشبهة
حكمية أو موضوعية لا يصح الاعتماد عليه في مقام العمل. ولا يصح إسناد مؤداه
إلى المولى في مقام الافتاء، فتكون النتيجة هي الحكم بالتعيين.
و (أما القسم الثالث) وهو ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال
لأجل التزاحم فالحق فيه أيضا هو الحكم بالتعيين. وتحقيق ذلك يستدعي ذكر أمرين
(الأول) ان التزاحم في مقام الامتثال يوجب سقوط أحد التكليفين عن الفعلية لعجز
المكلف عن امتثالهما ويبقى الملا كان في كلا الحكمين علي حالهما، إذ المفروض ان
عجز المكلف هو الذي أوجب رفع اليد عن أحد الحكمين في ظرف امتثال الآخر
وإلا كان الواجب عليه امتثالهما معا لتمامية الملاك فيهما.
(الثاني) - ان تفويت الملاك الملزم بعد إحرازه بمنزلة مخالفة التكليف
الواصل في القبح واستحقاق العقاب بحكم العقل، ولا يرتفع قبحه إلا بعجز المكلف
457

تكوينا أو تشريعا، كما إذا امره المولى بما لا يجتمع معه في الخارج، فما لم
يتحقق أحد الأمرين يحكم العقل بقبح التفويت واستحقاق العقاب عليه.
إذا عرفت هذين الامرين، فنقول إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين
معلوم الأهمية، فلا محالة يكون التكليف الفعلي متعلقا به بحكم العقل، والملاك
في الطرف الآخر وان كان ملزما في نفسه، الا ان تفويته مستند إلى عجزه
تشريعا، لان المولى امره بصرف القدرة في امتثال الأهم، فيكون معذورا
في تفويته. نعم لو عصى التكليف بالأهم كان مكلفا بالمهم بناء على ما ذكرناه في
محله من امكان التكليف بالضدين على نحو الترتب، وإذا كان الواجبان
المتزاحمان متساويين من حيث الملاك، فلا يعقل تعلق التكليف الفعلي المطلق
بخصوص أحدهما دون الآخر. بقبح الترجيح بلا مرجع. فلا مناص من
الالتزام بتعلق التكليف بكل منهما مشروطا بعدم الاتيان بالآخر أو بهما معا على
نحو التخيير على الخلاف المذكور في شرح الواجب التخييري. وعلى كل تقدير
لا اشكال في جواز الاكتفاء بأحدهما عن الآخر لعدم قدرته على أزيد من ذلك
في تحصيل غرض المولى، وأما إذا كان أحدهما محتمل الأهمية فلا إشكال في
جواز الاتيان به وتفويت الملاك في الآخر، لدوران الامر بين كونه واجبا
متعينا في مقام الامتثال، أو مخيرا بينه وبين الطرف الآخر. وعلى كل تقدير
كان الاتيان به خاليا عن المحذور. واما الاتيان بالطرف الآخر وتفويت الملاك
الذي احتمل أهميته، فلم يثبت جوازه، فإنه متوقف على عجز المكلف
عن تحصيله تكوينا أو تشريعا. والمفروض قدرته عليه تكوينا، وهو واضح
وتشريعا لعدم امر المولى باتيان خصوص الطرف الآخر ليوجب عجزه عن
تحصيل الملاك الذي احتمل أهميته، فلا يجوز تفويته، والا لاستحق العقاب
عليه بحكم العقل.
458

ومما ذكرناه ظهر الفرق بين هذا القسم والقسم الأول، فان الشك في
التخيير والتعيين في القسم الأول إنما كان ناشئا من الشك في كيفية الجعل والجعل
بمقتضي التكليف، وبما يفي بغرض المولى، فلا مانع فيه من الرجوع إلى البراءة
عن التكليف الزائد على القدر المتيقن، بخلاف الشك في هذا القسم، فإنه ناشئ
من التزاحم وعدم القدرة على الامتثال، بعد العلم بمتعلق التكليف وباشتمال كل
من الوجهين على الملاك الملزم، فلا مناص فيه من القول بالاشتغال تحصيلا
للفراغ اليقيني والأمن من العقوبة على كل تقدير.
(تنبيهات)
(الأول) - انه إذا ثبت كون شئ جزما للمأمور به أو به أو شرطا له في الجملة
ودار الامر بين كون الجزئية أو الشرطية مطلقة ليبطل العمل بفقدانه ولو في حال
النسيان، أو مختصة بحال الذكر ليختص البطلان بتركه عمدا، فهل القاعدة
تقتضي الاطلاق ما لم يثبت التقييد بدليل خاص أو تقتضي الاختصاص بحال الذكر ما لم
يثبت الاطلاق بدليل خاص؟ وجهان. وتحقيق ذلك يقتضي البحث عن امكان
تكليف الناسي بغير ما نسيه من الاجزاء والشرائط واستحالته، فإذا ثبتت صحة
العمل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط نسيانا، كما في الصلاة ان كان المنسى من
غير الأركان، فهل يكون الحكم بالصحة لأجل انطباق المأمور به على هذا العمل
لاختصاص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر أو لوفاء المأتي به بالملاك الملزم وسقوط
الامر باستيفاء ملاكه. وهذا البحث وإن تترتب عليه ثمرة في الفرض المذكور
اي فيما ثبتت صحة العمل الفاقد بالدليل، إلا أنه يترتب الأثر فيما لم تثبت صحة
459

العمل بالدليل باعتبار جريان الأصل العملي كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.
فذهب جماعة إلى استحالة توجيه التكليف إلى الناسي، وان الصحة في
الفرض المذكور انما هي الوفاء بالملاك لا لانطباق المأتى به على المأمور به، نظرا
إلى أن الناسي ان التفت إلى كونه ناسيا انقلب إلى الذاكر، فلا يكون الحكم
الثابت لعنوان الناسي فعليا في حقه، وان لم يلتفت إلى نسيانه، فلا يعقل
انبعاثه عنه، وما لم يمكن الانبعاث لم يمكن البعث بالضرورة، فعلى تقديري
الالتفات وعدمه يستحيل فعلية التكليف في حقه، ومع استحالة الفعلية يمتنع
الجعل بالضرورة.
واختار صاحب الكفاية (ره) امكان ذلك بوجهين: (الوجه الأول) -
ان يوجه الخطاب إلى الناسي لا بعنوانه، بل بعنوان آخر ملازم له واقعا، وان
لم يكن الناسي ملتفتا إلى الملازمة ليعود المحذور. وفيه ان هذا مجرد فرض
وهمي لا واقع له، ولا سيما ان النسيان ليس له ميزان مضبوط ليفرض له عنوان
ملازم، فإنه يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، واختلاف متعلقه من
الاجزاء الشرائط، فكيف يمكن فرض عنوان يكون ملازما للنسيان أينما تحقق
ولا سيما إذا اعتبر فيه عدم كون الناسي ملتفتا إلى الملازمة بينهما.
الوجه الثاني ان يوجه التكليف إلى عامة المكلفين بما يتقوم به العمل
ثم يكلف خصوص الذاكر ببقية الاجزاء والشرائط، فتختص جزئيتها
وشرطيتها بحال الذكر. وهذا الوجه مما لا بأس به في مقام الثبوت،
إلا أنه يحتاج في مقام الاثبات إلى الدليل. وقد ثبت ذلك في الصلاة، فان
الأمر بالأركان فيها مطلق بالنسبة إلى عامة المكلفين. وأما بقية الاجزاء والشرائط
فالأمر بها مختص بحال الذكر بمقتضى حديث (لا تعاد الصلاة الا من خمس) وغيره
من النصوص الواردة في موارد خاصة. وعليه فالناسي وان كان غير ملتفت إلى
460

نسيانه إلا أنه ملتفت إلى أن ما يأتي به هو المأمور به، فيأتي به بما أنه المأمور به
غاية الأمر أنه يتخيل أن ما يأتي به مماثل لما يأتي به غيره من الذاكرين. وان الأمر
المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إليهم. وهذا التخيل مما لا يضر بصحة العمل بعد
وجود الأمر الفعلي في حقه ومطابقة المأتي به للمأمور به، وإن لم يكن الناسي
ملتفتا إلى كيفية الأمر. ولعل هذا هو مراد الشيخ (ره) فيما أفاده في المقام من
إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي والحكم بصحة عمله، وان كان مخطئا في
التطبيق، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (ره) من أن الخطأ في التطبيق
إنما يعقل فيما إذا أمكن جعل كل من الحكمين في نفسه، وكان الواقع أحدهما.
وتخيل المكلف انه الآخر، كما إذا أتى المكلف بعمل باعتقاد أنه واجب، فبان
كونه مستحبا أو بالعكس. وهذا بخلاف المقام. لأن تكليف الناسي مستحيل
في مقام الثبوت، فكيف يمكن ادراجه في كبرى الخطأ في التطبيق. فتحصل
أن الصحيح إمكان توجيه التكليف إلى الناسي في مقام الثبوت وإثباته يحتاج
إلى الدليل.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل البحث ونقول: إن الكلام (تارة)
يكون فيما تقتضيه الأصول اللفظية و (أخرى) فيما تقتضيه الأصول العلمية،
فيقع الكلام في مقامين: (اما المقام الأول) فملخص الكلام فيه أن دليل الجزئية
أو الشرطية إما ان يكون له اطلاق يشمل حال النسيان أيضا، كقوله عليه السلام
(لا صلاة الا بفاتحة الكتاب) وقوله عليه السلام (لا صلاة لمن لم يقم صلبه) أو
لا يكون له اطلاق، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة، فان عمدة دليله
الاجماع، وهو دليل لبي لا اطلاق له. والقدر المتقين منه حال الذكر والالتفات
وعلى كل من التقديرين اما ان يكون لدليل أصل الواجب كالصلاة اطلاق يشمل
جميع الحالات، أو لا يكون له اطلاق هذه هي صور أربع:
461

(الصورة الأولى) - ما إذا كان لكل من دليل الجزئية أو الشرطية ودليل
أصل الواجب اطلاق، وحكمها إنه يتقدم اطلاق دليل الجزئية على اطلاق دليل
الواجب، ويحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات. وذلك لأن
اطلاق دليل المقيد يتقدم على اطلاق دليل المطلق على ما ذكر في محله. وفيها
لا مجال للرجوع إلى البراءة ورفع الجزئية أو الشرطية في حال النسيان، إذ
الاطلاق دليل لا يمكن معه الرجوع إلى الأصل كما هو ظاهر. ويعلم منه حكم
الصورة الثانية وهي ما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق فقط، من
دون ان يكون لدليل الواجب اطلاق، فإنه يؤخذ باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية
ويحكم بالجزئية المطلقة أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات بلا شبهة واشكال
وتوهم - انه لا يعقل الاطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية لأنهما تنتزعان
من الأمر بالمركب والأمر بالمقيد، ومن الظاهر أن الأمر بما هو مركب من المنسي
أو مقيد به مستحيل، لأنه تكليف بغير المقدور، فلا يعقل الجزئية أو الشرطية المطلقة
مدفوع بأنه ليس المراد باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ثبوت الجزئية والشرطية حال
النسيان ليقال أنه مستحيل، بل المراد بثبوتهما في جميع حالات الأمر بالمركب والمقيد
ولازم الاطلاق المذكور سقوط الأمر بالمركب أو المقيد عند نسيان الجزء أو الشرط
لا ثبوته متعلقا بما يشتمل على المنسى من الجزء أو الشرط، فيكون الفعل الفاقد
لبعض الاجزاء أو الشرائط حال النسيان باطلا من هذه الجهة.
(ان قلت) ان حديث الرفع رافع لجزئية المنسي أو شرطيته، لما عرفت
سابقا من أن الرفع بالإضافة إلى غير ما لا يعلمون واقعي، فيكون الحديث
حاكما على اطلاقات الأدلة المثبتة للأحكام في ظرف الخطأ والنسيان وغير هما مما هو في
الحديث الشريف. وبذلك تثبت صحة العمل المأتي به حال النسيان، وكونه
مطابقا لما أمر به فعلا. نعم الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون ظاهري بشهادة نفس
462

ما لا يعلمون، فإنه يدل على أن هناك شيئا لا يعلمه المكلف، فرفع عنه ظاهرا
لجهله به.
(قلت): رفع الخطأ والنسيان لا يترتب عليه فيما نحن فيه الا نفي الالزام
عن المركب من المنسي أو المقيد به، ضرورة ان نفي الجزئية أو الشرطية
لا يكون الا برفع منشأ انتزاعهما من الامر بالمركب أو المقيد، ولا يترتب عليه
ثبوت الأمر بغير المنسى كما هو المدعى، مضافا إلى ما ذكرناه عند البحث عن
حديث الرفع من أن نسيان جزء أو شرط في فرد من افراد الواجب لا يكون
مشمولا لحديث الرفع أصلا فراجع. ومما ذكرناه ظهر الحال فيما إذا أكره أو اضطر
إلى ترك جزء أو شرط، فإنه يوجب سقوط الأمر بالمركب أو المقيد في ظرف
الاكراه أو الاضطرار لا الامر ببقية الاجزاء والشرائط مما لا يكون مكرها أو
مضطرا إلى تركه. هذا لم يدل دليل بالخصوص، والا فلا اشكال في
عدم سقوط الامر ووجوب الاتيان بما يتمكن منه، كما في باب الصلاة على ما يأتي
الكلام فيه مفصلا إن شاء الله تعالى.
واما الصورة الثالثة وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية اطلاق
وكان لدليل الواجب اطلاق، فيؤخذ به ويحكم بصحة العمل الفاقد للجزء أو
الشرط المنسي والوجه فيه ظاهر.
واما الصورة الرابعة - وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية
اطلاق، ولا لدليل الواجب اطلاق، فتصل النوبة فيها إلى البحث عن الأصول
العملية. ويقع الكلام فيها في المقام الثاني. ثم انه قد يقال بأن كل ما ثبتت
جزئيته أو شرطيته بورود الامر به بنفسه، فلا اطلاق له ليشمل حال النسيان،
لاشتراط التكليف بالقدرة والمنسي غير مقدور، فلو كان لدليل الواجب اطلاق
حينئذ يرجع إليه لا ثبات التكليف بغير المنسي من الاجزاء والشرائط.
463

وفيه ما ذكرناه في محله من أن الأوامر المتعلقة بالاجزاء والشرائط ليست
أوامر مولوية، بل هي ارشاد إلى الجزئية أو الشرطية حسب اختلاف المقامات
كما أن النهي عن الاتيان بشئ في الواجب ارشاد إلى المانعية لا زجر مولوي عنه
وعليه فلا منع من التمسك باطلاق الأمر المتعلق بالجزء أو الشرط لا ثبات الجزئية
أو الشرطية المطلقة، فتكون النتيجة سقوط الامر بالمركب أو المقيد، عند
نسيان الجزء أو الشرط على ما تقدم بيانه.
المقام الثاني فيما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية اطلاق، ولا لدليل
الواجب اطلاق، فلا بد فيه من البحث عن مقتضى الأصول العملية وتحقيق الكلام
في هذا المقام يقتضي البحث في موردين: (المورد الأول) ما إذا لم يتمكن
المكلف من الاتيان بالعمل مستجمعا لجميع الاجزاء والشرائط بعد نسيان جزء
أو شرط منه. (المورد الثاني) - ما إذا تمكن من ذلك.
(أما المورد الأول) - فالشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة فيه ملازم
للشك في وجوب غير المنسي من الاجزاء والشرائط، فإنه إذا امر المولى عبده
بالوقوف في يوم معين من طلوع الشمس إلى الزوال مثلا، ونسي المكلف فلم
يقف ساعة من أول النهار، وشك في أن جزئية الوقوف في هذه الساعة مطلقة
ليترتب عليها سقوط الامر بالوقوف في الساعات المتأخرة، فلا محالة يكون
الشك في الاطلاق والتقييد شكا في التكليف بغير المنسي من الاجزاء والشرائط
فيكون المرجع هو البراءة، ويحكم بعدم وجوب الاتيان بغير المنسي من الاجزاء
والشرائط. وهذا واضح.
(واما المورد الثاني) - فيكون الشك في اطلاق الجزئية أو الشرطية أو
تقييد هما. بحال الذكر شكا في جواز الاكتفاء بما اتى به من الاجزاء والشرائط
464

وعدمه، فإنه إذا نسي المكلف جزء من الصلاة، وتذكر بعد تجاوز محله، فان
كانت الجزئية مطلقة لزمه اعادتها والآتيان بها مستجمعة لجميع الاجزاء والشرائط
وإن كانت الجزئية مقيدة بحال الذكر اكتفى بما اتى به، ولا تجب عليه الإعادة
لأن العمل المأتي به حينئذ لم يكن فاقدا لشئ من الاجزاء والشرائط، فينطبق
المأمور به على المأتي به. وعليه فيكون المرجع أيضا هو البراءة عن وجوب الجزء
أو الشرط حال النسيان، بعد ما عرفت من إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه
من الاجزاء والشرائط.
و (بعبارة أخرى) بعد العلم بوجوب الصلاة وبجزئية التشهد مثلا المرددة
بين الاطلاق والتقييد بحال الذكر، تردد الواجب بين خصوص المشتمل على التشهد
أو الجامع بينه وبين الفاقد له حال النسيان، فيكون القدر الجامع معلوما انما
الشك في خصوص المشتمل على التشهد على الاطلاق، فيؤخذ بالقدر المتيقن،
وهو وجوب التشهد حال الذكر، ويرجع إلى البراءة في المشكوك فيه والتشهد
حال النسيان. هذا بناء على ما هو الصحيح من امكان تكليف الناسي على
ما تقدم بيانه. وأما بناء على استحالته، فما صدر من الناسي غير مأمور به
يقينا، فالشك في صحته و فساده يكون ناشئا من الشك في وفائه بغرض المولى
وعدمه، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال. والحكم بوجوب الاتيان
بالعمل مستجمعا لجميع الاجزاء و الشرائط، لان سقوط الأمر بالاتيان بغير
المأمور به يحتاج إلى دليل مفقود في المقام على الفرض. وهذه هي الثرة التي أشرنا
إليها عند التكلم في امكان تكليف الناسي. ومما ذكرناه ظهر الحال من حيث جريان
البراءة وعدمه فيما إذا استند ترك الجزء أو الشرط إلى الاضطرار أو الاكراه
ونحوهما، فلا حاجة إلى الإعادة.
465

(التنبيه الثاني)
في حكم الزيادة عمدا أو سهوا في المركبات الاعتبارية. وتحقيق الكلام
في ذلك يستدعي البحث (أولا) عن مفهوم الزيادة من جهتين: (الأولى) - في
امكان تحقق الزيادة في المركبات الاعتبارية وعدمه. (الثانية) - في اعتبار قصد
الزيادة في تحققها وعدمه.
(أما الجهة الأولى) فقد يقال باستحالة تحقق الزيادة، لأن الجزء المأخوذ
في المركب ان اخذ فيه على نحو الاطلاق من دون تقييد بالوجود الواحد أو
الأكثر، فلا يعقل فيه تحقق الزيادة، إذ كل ما اتى به من افراد ذلك الجزء
كان مصداقا للمأمور به، سواء كان المأتي به فردا واحدا أو أكثر، وإن اخذ
فيه مقيدا بالوجود الواحد، أي اخذ بشرط لا بالنسبة إلى الوجود الثاني،
فالاتيان به مرة ثانية مستلزم الجزء لا لزيادته، إذ انتفاء القيد المأخوذ
في الجزء موجب لانتفاء المقيد فكان الجزء المأخوذ في المأمور به منتفيا بانتفاء
قيده، فلا يتصور تحقق الزيادة على كل تقدير.
وفيه (أولا) - ان اعتبار الاطلاق واللابشرطية في الجزء لا ينافي تحقق
الزيادة فيه، فان أخذ شئ جزء للمأمور به على نحو اللابشرطية يتصور على
وجهين: (أحدهما) - ان يكون الطبيعي مأخوذا في المركب من دون نظر إلى
الوحدة والتعدد، وفي هذا لا يمكن تحقق الزيادة كما ذكر.
(ثانيهما) - ان يكون مأخوذا بنحو صرف الوجود المنطبق
على أول الوجودات، ففي مثل ذلك وان كان انضمام الوجود الثاني
وعدمه على حد سواء في عدم الدخل في جزئية الوجود الأول، فان هذا هو
466

معنى أخذه لا بشرط، إلا أنه لا يقتضى كون الوجود الثاني أيضا مصداقا
للمأمور به. وحينئذ تتحقق الزيادة بتكرر الجزء لا محالة.
و (ثانيا) - ان عدم صدق الزيادة حقيقة بالدقة العقلية مما لا يترتب عليه
اثر، لأن الأحكام الشرعية تابعة للصدق العرفي. ومن الظاهر صدق الزيادة عرفا
ولو مع اخذ الجزء بشرط لا فضلا عما إذا اخذ على نحو لا بشرط. هذا كله فيما
إذا كان الزائد من سنخ اجزاء المأمور به، كما إذا اتى بركوعين أو سجودين
مثلا، وأما إذا كان الزائد غير مسانخ لاجزاء المأمور به، فصدق الزيادة فيه
عرفا ظاهر لا خفاء فيه.
(أما الجهة الثانية) - فتحقيق الكلام فيها هو التفصيل بين الموارد
المنصوصة وغيرها، بأن يقال باعتبار القصد في تحقق عنوان الزيادة في غير الوارد
المنصوبة. والوجه فيه ان المركب الاعتباري كالصلاة مثلا مركب من أمور
متباينة مختلفة وجودا ومهية. والوحدة بينها متقومة بالقصد والاعتبار، فلو
اتى بشئ بقصد ذلك المركب كان جزء له، والا فلا. وأما الورد المنصوصة
فتحقق عنوان الزيادة فيها غير متوقفة على القصد كالسجود، لما ورد من أن
الاتيان بسجدة التلاوة في أثناء الصلاة زيادة فيها، فبالتعبد الشرعي يجري عليه
حكم الزيادة وإن لم يكن من الزيادة حقيقية. ويلحق بالسجدة الركوع بالأولوية
القطعية. ويترتب علي ذلك عدم صحة الاتيان بصلاة في أثناء صلاة أخرى في
غير الوارد المنصوبة، فان الركوع والسجود المأتي بهما بعنوان الصلاة الثانية
محقق للزيادة في الصلاة الأولى الموجبة لبطلانها، كما أفتى به جماعة من الفقهاء:
منهم المحقق النائيني (ره) والمرحوم السيد الأصفهاني (ره) قدس الله اسرارهم
إذا عرفت تحقيق القول في مفهوم الزيادة، فنقول إن الشك في بطلان
العمل من جهة الزيادة يكون ناشئا من الشك في اعتبار عدمها في المأمور به. ومن
467

الظاهر أن مقتضى الأصل عدمه ما لم يقم دليل على اعتباره، فلا باس بالزيادة العمدية
فضلا عن الزيادة المهوية. هذا فيما إذا لم تكن الزيادة موجبة للبطلان من جهة
أخرى، كما إذا قصد المكلف امتثال خصوص الامر المتعلق بما يتركب من
الزائد، فإنه لا اشكال في بطلان العمل في هذا الفرض إذا كان عباديا، لأن
ما قصد امتثاله من الامر لم يكن متحققا وما كان متحققا لم يقصد امتثاله. نعم لو
قصد المكلف امتثال الأمر الفعلي، وقد اتى بالزائد لاعتقاد كونه جزء للمأمور به
من جهة الخطأ في التطبيق أو من جهة التشريع في التطبيق صح العمل، لما عرفت من أن
الزيادة بنفسها لا توجب البطلان. والتشريع في التطبيق وان كان قبيحا عقلا
وشرعا إلا أنه لا ينافي التقرب بامتثال الامر الموجود وقد اتي بمتعلقه وقصد امتثاله
كما هو المفروض.
هذا ما تقتضيه القاعدة بلا فرق بين عمل دون عمل وبين جزء دون جزء إلا أنه
وردت نصوص تدل على بطلان الصلاة والطواف بالزيادة، فلا بد من ملاحظتها
والحكم بما يستفاد منها من الصحة أو البطلان بالزيادة، فنقول اما الصلاة فالروايات
الواردة فيها على طوائف:
(الطائفة الأولى) - ما تدل على بطلانها بالزيادة مطلقا كقوله (ع):
(من زاد في صلاته فعليه الإعادة). (1)
(الطائفة الثانية) - ما تدل علي بطلانها بالزيادة السهوية كقوله (ع):
(إذا استيقن انه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها، فاستقبل صلاته
استقبالا) (2)
(الطائفة الثالثة) - ما تدل على بطلانها بالاخلال سهوا في الأركان بالزيادة

(1) - (2) الوسائل (الطبعة الحديثة) ج 5 - ص 332 - الباب 19
من أبواب الخلل الواقع في الصلاة الحديث (1 - 2).
468

أو النقصان. واما الاخلال بغير الا كان سهوا فلا يوجب البطلان، كقوله
عليه السلام: (لا تعاد الصلاة إلا من خمس الطهور والقبلة والوقت والركوع
والسجود) (1) وتوهم اختصاص هذا الحديث الشريف بالنقيصة لعدم تصور
الزيادة في الوقت والقبلة والطهور - كما عن المحقق النائيني (ره) - مدفوع بأن
ظاهر الحديث ان الاخلال بغير هذه الخمس لا يوجب الإعادة، والاخلال بها
يوجب الإعادة، سواء كان الاخلال بالزيادة أو النقيصة. وهذا المعنى لا يتوقف
على أن تتصور الزيادة والنقيصة في كل واحد من هذه الخمس، فعدم تحقق الزيادة
في الوقت والقبلة والطهور في الخارج لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة، بعد
قابلية الركوع والسجود الزيادة والنقيصة.
ومقتضى الجمع بين هذه الروايات هو الحكم ببطلان الصلاة بالزيادة العمدية
مطلقا، وبالزيادة السهوية أيضا ان كان الزائد من الأركان، وبعدم البطلان
بالزيادة السهوية ان كان الزائد من غير الأركان. وذلك لان الطائفة الأولى
الدالة على البطلان بالزيادة وأن كانت عامة من حيث العمد والسهو، ومن حيث
كون الزائد ركنا أو غير ركن، الا انها خاصة بالزيادة، فالنسبة بينها و بين
حديث لا تعاد - الدال على عدم بطلان الصلاة بالاخلال سهوا في غير الأركان -
هي العموم من وجه، لان حديث لا تعاد وان كان خاصا من جهة ان الحكم
بالبطلان فيه مختص بالاخلال بالأركان، الا انه عام من حيث الزيادة والنقصان
كما أن الطائفة الثانية الدالة على البطلان بالزيادة السهوية عامة من حيث الأركان
وغيرها، و خاصة بالزيادة، فالنسبة بينها وبين حديث لا تعاد أيضا هي العموم من وجه
فتقع المعارضة في مورد الاجتماع. وهو الزيادة السهوية في غير الأركان، فان

(1) الوسائل - الطبعة الحديثة - ج 4 - ص 124 - الباب (1) من أبواب
قواطع الصلاة - الحديث (4).
469

مقتضى الطائفة الأولى والثانية بطلان الصلاة بها. ومقتضى حديث لا تعاد عدم
البطلان، الا ان حديث لا تعاد حاكم عليهما، بل على جميع أدلة الاجزاء
والشرائط والموانع كلها، لكونه ناظرا إليها وشارحا لها، إذ ليس مفاده
انحصار الجزئية والشرطية في هذه الخمس، بل مفاده ان الاخلال سهوا بالاجزاء
والشرائط التي ثبتت جزئيتها وشرطيتها لا يوجب البطلان الا الاخلال بهذه
الخمس، فلسانه الشرح والحكومة، فيقدم على أدلة الاجزاء والشرائط
بلا لحاظ النسبة بينه وبينها، كما هو الحال في كل حاكم ومحكوم.
فتحصل مما ذكرناه أن الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة مطلقا بمقتضى
إطلاق الطائفة الأولى، وبمقتضى الأولوية القطعية في الطائفة الثانية. ولا
معارض لهما لاختصاص حديث لا تعاد بالاخلال السهوي، لظهوره في اثبات
الحكم لمن أتى بالصلاة، ثم التفت إلى الخلل الواقع فيها، فلا يعم العامد.
وان الزيادة السهوية موجبة للبطلان ان كانت في الأركان بمقتضى اطلاق
الطائفتين الأولى والثانية وخصوص حديث لا تعاد. وأما الزيادة السهوية في غير
الأركان، فهي مورد المعارضة. وقد عرفت انه لا مناص من تقديم حديث
لا تعاد والحكم بعدم البطلان فيها.
هذا كله في الزيادة. وأما النقيصة فلا ينبغي الشك في بطلان الصلاة بها
ان كانت عمدية بمقتضى الجزئية والشرطية، وإلا لزم الخلف كما هو ظاهر. واما
ان كانت سهوية فهي موجبة للبطلان ان كانت في الأركان دون غيرها من
الاجزاء والشرائط بمقتضى حديث لا تعاد.
واما الطواف فلا اشكال في بطلانه بالزيادة العمدية، لما ورد من أن
الطواف مثل الصلاة، فإذا زدت فعليك بالإعادة. وأما الزيادة السهوية فلا
توجب البطلان. فان تذكر قبل ان يبلغ الركن فليقطعه، وليس عليه شئ،
470

وان تذكر بعده فلا شئ عليه أيضا، إلا أنه مخير بين رفع اليد عن الطواف
الزائد وبين ان يجعله طوافا مستقلا، فيضم إليه ستة أشواط حتى يتم طوافان
ولا ينافيه ما ورد من عدم جواز اقتران الأسبوعين لاختصاصه بصورة العمد.
وحكم الزيادة العمدية والسهوية في السعي هو حكم الطواف.
واما النقيصة العمدية فلا اشكال في كونها موجبة لبطلان الطواف. وأما
النقيصة السهوية فلا توجب البطلان، فان تذكر وهو في محل الطواف فيأتي
بالمنسي ويتم طوافه، وان تذكر وهو ساع بين الصفا والمروة، فيقطع السعي
ويرجع إلى البيت، ويتم طوافه ثم يسمى، وان لم يتذكر الا وقد اتى أهله
فيستنيب من يطوف عنه. وكل ذلك للنصوص الواردة في المقام فراجع (1)
والتفصيل موكول إلى محله في الفقه.
(التنبيه الثالث)
إذا تعذر الاتيان ببعض اجزاء الواجب أو بعض شرائطه، فهل القاعدة
تقتضي سقوط التكليف رأسا أو بقاءه متعلقا بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط
والتكلم - في هذا البحث من جهة التمسك بالاطلاق أو الرجوع إلى الأصل العملي
من البراءة أو الاشتغال على تقدير عدم وجود الاطلاق - قد ظهر الحال فيه مما
تقدم في التنبيه الأول، عند البحث عن نسيان الجزء أو الشرط، فلا حاجة إلى
الإعادة. والكلام في هذا التنبيه متمحض في البحث عن وجوب المقدار الميسور
من الاجزاء والشرائط من جهة الاستصحاب، أو من جهة الروايات الواردة في
لا مقام. وقد يعبر عن هذا البحث بالبحث عن تمامية قاعدة الميسور وبعدمها.

(1) الوسائل - الطبعة الحديثة - ج 9 - الباب 32 و 34 و 56 من
أبواب الطواف.
471

اما الاستصحاب فتقريبه بوجوه: (الوجه الأول) - ان يستصحب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي
المتعلق بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط، فان وجوبها الضمني قبل طروء التعذر
في ضمن وجوب المركب كان ثابتا، ونشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه
فنتمسك بالاستصحاب ونحكم ببقائه. 472
(وفيه) انه مبنى على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي
ولا نقول به، فان الفرد المعلوم تحققه وهو الوجوب الضمني قد ارتفع يقينا،
والفرد الآخر وهو الوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث، فليس هنا وجود
واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه للاستصحاب.
(الوجه الثاني) - ان يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان
التامة. بأن يقال ان أصل الوجوب قبل تعذر بعض الاجزاء كان ثابتا، فيشك
في ارتفاعه بعد طرو التعذر، فيحكم ببقائه للاستصحاب.
وفيه (أولا) - ان الوجوب عرض لا يتحقق الا متعلقا بشئ، وعليه
فالوجوب المتيقن كان متعلقا بالمركب من المتعذر وغيره. والوجوب المشكوك
فيه بعد التعذر هو وجوب آخر متعلق بغير ما تعلق به الوجوب الأول، فجريان
الاستصحاب في خصوص ما كان متيقنا لا معنى له، للعلم بارتفاعه، وكذا في
خصوص ما هو متعلق بغير المتعذر، لعدم العلم بحدوثه. وفي الجامع بينهما
متوقف على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي ولا نقول به.
و (ثانيا) - ان استصحاب الوجوب - بنحو مفاد كان التامة. وهو
ما لو حظ فيه نفس الوجوب مع قطع النظر عن متعلقه - لا يترتب عليه وجوب
غير المتعذر من الاجزاء والشرائط الا على القول بالأصل المثبت، ولا نقول به
على ما سيجئ الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى. ونظير المقام ما إذا علمنا
472

بوجوب إكرام زيد، ثم علمنا بارتفاعه، واحتملنا وجوب إكرام عمرو، فهل
يصح جريان الاستصحاب في أصل الوجوب بنحو مفاد كان التامة ليترتب عليه
وجوب اكرام عمرو؟
(الوجه الثالث) - ان يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلا
فيما إذا لم يكن الجزء المتعذر من الأجزاء المقومة، باعتبار ان الصلاة الفاقدة
للجزء المتعذر متحدة مع الواجدة له بنظر العرف، فيقال ان هذه الصلاة كانت
واجبة قبل طروء التعذر، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر
أيضا. والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين هو ان جريان الاستصحاب -
على هذا التقريب - يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوم للواجب بنظر العرف،
لتكون القضية المتيقنة متحدة مع المشكوك فيها، بخلاف التقريبين السابقين،
فإنه لو صح جريان الاستصحاب عليهما لا يختص بمورد دون مورد، كما هو
ظاهر وتمامية هذا الوجه تتوقف على أمرين:
(الأول) - صحة جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية، من جهة الشك
في المجعول الشرعي، والمختار عدمها لابتلائه بالمعارض، وهو استصحاب عدم
الجعل على ما سنتكلم فيه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.
(الثاني) - احراز كون المتعذر غير مقوم للواجب، ليكون الشك في
وجوب غير المتعذر من الاجزاء والشرائط شكا في البقاء لا في الحدوث. وعليه
فقد يقال بعدم جريان الاستصحاب عند الشك في وجوب غير المتعذر من الاجزاء
والشرائط في المركبات الشرعية، بدعوى انه لا طريق لما إلى تمييز المقوم من
غيره في المركبات الشرعية، فكل جزء أو شرط كان متعذرا يحتمل كونه مقوما
ومعه لا يصح جريان الاستصحاب، لعدم احراز اتحاد القضية المتيقنة والمشكوك
فيها نعم ان كان المركب من المركبات العرفية كان تميز المقوم من اجزائه عن
473

غير المقوم منها موكولا إلى نظر العرف، فكلما كان المتعذر مقوما بنظرهم
لا يجرى الاستصحاب، كما أنه إذا كان المتعذر غير مقوم بنظر هم لا مانع من
جريان الاستصحاب.
ولكن التحقيق انه إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوما
للمركب، فلا اشكال في عدم جريان الاستصحاب عند تعذره. وأما إذا لم
يصدر من الشارع بيان في ذلك، فالظاهر ايكال الامر إلى العرف، فان كانت
نسبة المتعذر إلى البقية غير معتد بها في نظرهم، كنسبة الواحد إلى
العشرين مثلا، فيجري الاستصحاب، وأما ان كانت النسبة معتدا بها بنظرهم
كنسبة النصف أو الثلث إلى المجموع مثلا، فلا يجرى الاستصحاب.
ثم إن جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثا بعد
دخول الوقت وأما إذا كان حادثا قبل دخول الوقت أو مقارنا لأول الوقت، فلا مجال
لجريان الاستصحاب لعدم كون الوجوب متيقنا في زمان ليجري فيه الاستصحاب
ويحكم ببقائه بل المرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب غير المعتذر من الاجزاء والشرائط
هذا والتزم المحقق النائيني (ره) بجريان الاستصحاب ولو كان التعذر
مقارنا لأول الوقت، بدعوى ان جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية
لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجا، فان اجراءه وظيفة المجتهد لا المقلد
ولا يعتبر فيه تحقق الموضوع خارجا. ومن ثم يتمسك الفقيه - في حرمة وطء
الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال - بالاستصحاب مع عدم تحقق
الموضوع خارجا.
وفيه ان جريان الاستصحاب وإن لم يكن متوقفا على تحقق الموضوع
في الخارج، إلا أنه متوقف على فرض تحقق الموضوع في الخارج، فان الفقيه
يفرض امرأة حائضا ثبتت حرمة وطئها، وشك في ارتفاعها بانقطاع الدم،
474

فيتمسك بالاستصحاب ويحكم بحرمة وطئها على نحو القضية الحقيقية. ولا يعقل
ان يفرض امرأة أيام طهرها ويحكم بحرمة وطئها للاستصحاب، باعتبار انه لا يعتبر
في جريان الاستصحاب تحقق الموضوع خارجا، إذ لا يقين بحرمة وطئها ولو
على حسب الفرض ليحكم ببقائها للاستصحاب والمقام من هذا القبيل، فان الفقيه
إذا فرض مكلفا تعذر عليه الاتيان ببعض اجزاء المركب مقارنا لأول الوقت،
لا يقين له بثبوت التكليف عليه، ولو بالفرض والتقدير، إذ التكليف بغير
المتعذر من الاجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أول الامر، فكيف يحكم
بوجوب غير المتعذر تمسكا بالاستصحاب؟
و (بالجملة) لا بد في جريان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في
البقاء ولو على سبيل الفرض والتقدير. وفي المقام فرض الشك في الحدوث فلا
يعقل جريان الاستصحاب فيه، ولعمري ان هذا واضح ويزداد وضوحا بذكر
اقسام جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي، فنقول ان الاستصحاب الجاري
في الأحكام الشرعية يتصور على وجوه:
(الأول) - ان يستصحب الحكم باعتبار مرحلة الجعل والتشريع عند
احتمال نسخه ولا ينبغي الشك في أن جعل الحكم وتشريعه لا يتوقف على
تحقق الموضوع خارجا، فان الجعل جعل على الموضوع المقدر لا على الموضوع
المحقق، بل ربما يكون جعل الحكم وتشريعه موجبا لعدم تحقق الموضوع في
الخارج كما في الحكم بالقصاص. ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: (ولكم
في القصاص حياة يا أولى الألباب) ففي مثل ذلك يجعل الحكم على الموضوع المقدر
على نحو القضية الحقيقية ولا رافع له إلا النسخ، فإذا شك في بقائه لاحتمال
النسخ يتمسك بالاستصحاب، ويحكم ببقائه بلا دخل لوجود الموضوع في
الخارج وعدمه.
475

(الثاني) - ان يستصحب الحكم الكلي عند الشك في بقائه لأجل الشك
في سعة موضوعه وضيقه كما إذا شككنا في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع
الدم قبل الاغتسال. ولا اشكال أيضا في عدم توقف جريان الاستصحاب فيه
على تحقق الموضوع في الخارج، بل الفقيه يجري الاستصحاب مبنيا على الفرض
والتقدير كما تقدم، فان فتاوى الفقيه كلها مبتنية على فرض وجود الموضوع
ومفاد (لو) فيقول لو صار شخص جنبا وجب عليه الغسل، ولو أفطر أحد
عمدا في شهر رمضان كان عليه كذا من الكفارة، وهكذا والفرق بين
هذا القسم والقسم السابق بعد اشتراكهما في عدم توقف الاستصحاب على وجود
الموضوع خارجا ان الشك في هذا القسم شك في مقدار المجعول من أول الامر
وان الموضوع في القضية الحقيقية المجعولة امر وسيع أو ضيق. واما القسم الأول
فليس الشك فيه ناشئا من الشك في حد الموضوع، بل من احتمال النسخ وعدم
بقاء الحكم في عمود الزمان ولذا كان الشك في القسم الثاني ناشئا من تبدل
خصوصية في الموضوع، مع القطع بعدم النسخ، بخلاف القسم الأول، فان
الشك فيه ناشئ من احتمال النسخ مع القطع بعدم تبدل شئ من خصوصيات
الموضوع فالقسمان من هذه الجهة متعاكسان.
(الثالث) - ان يستصحب الحكم الجزئي الثابت لموضوع شخصي عند
الشك في بقائه وزواله لأجل الطوارئ الخارجية، مع احراز الحكم الكلي من
جهة عدم النسخ ومن جهة تحديد موضوعه سعة وضيقا، كما إذا شككنا في
طهارة ثوب لاحتمال ملاقاته البول مثلا، فيجري الاستصحاب، ويحكم ببقاء
طهارته. وإجراء الاستصحاب في هذا القسم لا يختص بالفقيه، بل للمقلد
أيضا اجراؤه بعد ما حصل له اليقين في الحدوث والشك في البقاء. وجريان
الاستصحاب في هذا القسم متوقف على تحقق الموضوع خارجا، كما هو واضح.
476

إذا عرفت ذلك يظهر لك ان جريان الاستصحاب - في محل الكلام، مع
كون التعذر حادثا مقارنا لأول الوقت - مما لا وجه له، لأن الحكم غير متيقن في
زمان ليكون الشك في بقائه، فيجري الاستصحاب، أما على القسم الأول
فواضح، لعدم كون الشك في المقام ناشئا من احتمال النسخ على الفرض. وأما
على القسم الثاني فلانه لا يقين بحدوث الحكم ولو علي سبيل الفرض والتقدير،
إذ التكليف بغير المتعذر من الاجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أول الامر
فإذا فرض الفقيه مكلفا تعذر عليه الاتيان ببعض اجزاء المركب مقارنا لأول
الوقت، فهو شاك في حدوث التكليف عليه ابتداءا، بلا سبق يقين منه ولو
على سبيل الفرض والتقدير، فلا يقاس المقام بالشك في حرمة الوطء بعد انقطاع
الدم قبل الاغتسال، إذ الحرمة هناك متيقنة، فيشك في ارتفاعها بانقطاع الدم
فيجري الاستصحاب ويحكم ببقائها.
هذا كله من حيث جريان الاستصحاب وعدمه. وأما الروايات التي استدل
بها على قاعدة الميسور، فهي ثلاث روايات:
(الرواية الأولى) - ما رواه أبو هريرة المروية بطرق العامة، قال
(خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا
فقال رجل اكل عام يا رسول الله؟ فسكت صلى الله عليه وآله حتى قالها ثلاثا، فقال
رسول الله (ص) لو قلت نعم لوجب، ولما استطعتم، ثم قال (ص) ذروني
ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم
فإذا أمرتكم بشئ فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه).
وزاد في الكفاية قوله صلى الله عليه وآله لكفر تم بعد قوله لما استطعتم. ولم أجده حسب
ما راجعت الكتب الحاوية لهذه الرواية. وعلى كل تقدير يقع الكلام (تارة)
في سند هذه الرواية (وأخرى) في دلالتها، فيقع الكلام في مقامين:
477

(أما المقام الأول) فلا شبهة في أن الرواية من المراسيل الضعاف ولا سيما
ان راويها أبو هريرة الذي حاله أظهر من أن يخفى وقد تصدى لاثبات كونه
متعمدا في الكذب على الرسول صلى الله عليه وآله سماحة السيد شرف الدين العاملي (ره)
ولا سيما انها غير موجودة في كتب متقدمي الأصحاب، وانما رواها المتأخرون
نقلا عن محكي كتاب غوالي اللئالي. والكتاب المذكور أيضا ليس موثوقا به
وقد تصدى للقدح عليه من ليس من عادته القدح في كتب الاخبار، كصاحب
الحدائق (ره). وأما دعوى انجبارها بعمل الأصحاب فمدفوعة (أولا) بعدم
ثبوت استناد الأصحاب عليها في مقام العمل، ومجرد موافقة فتوى الأصحاب
لخبر ضعيف لا يوجب الانجبار ما لم يثبت استناد هم عليه، ولم يعلم من الأصحاب
العمل بقاعدة الميسور إلا في الصلاة وفيها دليل خاص دل على عدم جواز تركها
بحال فلم يعلم استنادهم على الرواية المذكورة. و (ثانيا) - بان مجرد عمل
الأصحاب لا يوجب الانجبار بعد كون الخبر في نفسه ضعيفا غير داخل في
موضوع الحجية، على ما ذكرناه في محله.
هذا مضافا إلى أنه في صحيح النسائي مروي بوجه آخر لا يدل على المقام
أصلا، وهو قوله صلى الله عليه وآله (فإذا أمرتكم بشئ فخذوا به ما استطعتم، وإذا
نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) ومن المعلوم ان كلمة ما في هذه الرواية ظاهرة في
كونها زمانية، فمفاد الرواية هو وجوب الاتيان بالأمور به عند الاستطاعة
والقدرة. وهذا المعنى أجنبي عن المقام. وتوهم - ان اختلاف الطريقين لا يضر
بالاستدلال بعد كون أحدهما منجبرا بالشهرة عند الأصحاب دون الآخر -
مدفوع بأن الرواية كما نقلت في كتب العامة بوجهين كذلك نقلت في كتب
الخاصة أيضا بوجهين، فان الموجود في باب صلاة العراة من البحار (ص 95)
(فائتوا به ما استطعتم) فلا وجه لدعوى انجبار أحد الطريقين، فالمنجبر على
478

تقدير التسليم انما هو إحدى الروايتين اجمالا، فلا يصح الاستدلال بخصوص
إحداهما مع عدم ثبوت انجبارها.
وأما المقام الثاني فتوضيح الكلام فيه ان محتملات الرواية ثلاثة:
(الاحتمال الأول) ان تكون كلمة ما موصولة ومفعولا لقوله (فائتوا)
وكلمة من تبعيضية متعلقة بما استطعتم، فيكون مفاد الرواية وجوب الاتيان بما
هو المقدور من اجزاء المأمور به وشرائطه. والاستدلال بالرواية على المقام
مبني على هذا المعنى، ولكنه على تقدير تسليم ظهور الجملة فيه في نفسها لا يمكن
الالتزام به، لعدم انطباقه على المورد (أولا) فان الذي يعلم بعدم قدرته على
الطواف أو بعض الأعمال الاخر من مناسك الحج، لا يجب عليه الاتيان بالبقية
اتفاقا، ولعدم مناسبته للسؤال الذي وقع هذا الكلام في جوابه (ثانيا) فان
السؤال انما هو عن وجوب الحج في كل سنة، ولا يناسبه الجواب بوجوب
الاتيان بما هو مقدور من اجزاء المركب وشرائطه.
(الاحتمال الثاني) - أن تكون كلمة ما موصولة وكلمة من بيانية، فيكون
حاصل المعنى انه إذا أمرتكم بطبيعة فائتوا ما استطعتم من افرادها، ولا يعيد
ان تكون كلمة من إذا كانت بيانية متحدة في المعنى معها إذا كانت تبعيضية غاية
الامر انه تختلف مصاديق التبعيض باختلاف الموارد، فان الفرد بعض الطبيعة.
كما أن الجزء بعض المركب، فكما ان كلمة من - في قولنا اشتريت من البستان
نصفه - مستعملة في التبعيض، كذلك في قولنا لا أملك من البستان إلا واحدا
وعليه فكلمة من في كلا الاحتمالين مستعملة في التبعيض. وهذا المعنى الذي لا يتم
معه الاستدلال بالرواية على المقام وان كان وجيها في نفسه، إلا أنه أيضا
لا ينطبق على المورد، لعدم وجوب الاتيان بما هو مقدور من افراد الحج في
كل سنة بلا خلاف بين المسلمين إلا ما شذ، بل هو خلاف ظاهر نفس الرواية،
479

فإنها ظاهرة أو صريحة في عدم وجوبه في كل سنة، فلا حظ قوله صلى الله عليه وآله: لو
قلت نعم لوجب ولما استطعتم، فلا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى أيضا.
(الاحتمال الثالث) - ان تكون كلمة من زائدة كما في قوله تعالى: (قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) أو تكون للتعدية بمعنى الباء وكلمة ما مصدرية
زمانية، فيكون حاصل المعنى انه إذا أمرتكم بشئ فائتوا به حين استطاعتكم،
فلا يستفاد من الرواية إلا اشتراط التكليف بالقدرة الساري في جميع التكاليف
الشرعية. وهذا المعنى مما لا مناص من الالتزام به بعد عدم إمكان الالتزام
بالاحتمالين الأولين، وعليه فلا مجال للاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور.
(الرواية الثانية) - هي المرسلة المحكية عن كتاب الغوالي أيضا عن
أمير المؤمنين (ع) انه قال: (ما لا يدرك كلمه لا يترك كلمه) وتقريب الاستدلال
بها ان لفظة كل المذكورة في الرواية مرتين أمرها دائر بحسب مقام النصور
بين صور أربع: (الأولى) - ان يكون المراد بها في كلتا الفقرتين العموم
الاستغراقي (الثانية) - ان يكون المراد بها فيهما العموم المجموعي (الثالثة) -
ان يكون المراد بها في الفقرة الأولى العموم الاستغراقي وفي الثانية العموم المجموعي
(الرابعة) - عكس الثالثة.
اما الصورة الأولى والثانية فلا يمكن الالتزام بهما، إذ لا يعقل الحكم
بوجوب الاتيان بكل فرد فرد، مع تعذر الاتيان بكل فرد فرد. وكذا الحكم
بوجوب الاتيان بالمجموع. مع تعذر الاتيان بالمجموع وكذا لا يمكن الالتزام
بالصورة الثالثة إذا لا يعقل وجوب الاتيان بالمجموع مع تعذر الاتيان بكل فرد فرد
فتعين الالتزام بالصورة الرابعة فيكون المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذر المجموع
فيكون مفاد الرواية انه إذا تعذر الاتيان بالمجموع لا يجمع في الترك، بل يجب
الاتيان بغير المتعذر، وهذا المعنى يشمل الكلي الذي له افراد متعددة. تعذر
480

الجمع بينهما، والكل الذي له اجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذر بعضها، لان العام
إذا لو حظ بنحو العموم المجموعي لا يفترق الحال بين كون اجزائه متفقة الحقيقية
أو مختلفة الحقيقية. وعليه فكلما كان الواجب ذا افراد أو ذا اجزاء وجب الاتيان
بغير المتعذر من افراده أو اجزائه.
ولا يخفى انه لا يفترق الحال في الاستدلال بهذه الرواية بين ان تكون
لا في قوله عليه السلام (لا يترك) ناهية والجملة إنشائية، أو تكون نافية والجملة خبرية
أريد بها الانشاء والطلب، فإنه كثيرا ما يعبر عن المطلوب بلفظ الخبر رغبة في
وقوعه. وهذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال بهذه الرواية.
واستشكل صاحب الكفاية (ره) على الاستدلال بها بأن ظهور النهي في
التحريم يعارضه إطلاق الموصول الشامل للمستحبات أيضا. وحيث انه لا مرجح
لأحدهما على الآخر لا يستفاد منها إلا رجحان الاتيان بما هو المقدور
دون وجوبه.
وفيه (أولا) - ما ذكرناه في مباحث الألفاظ من أن الوجوب ليس داخلا
في مفهوم الأمر، ولا الحرمة داخلة في مفهوم النهي، فان مفهوم الامر هو الطلب
والوجوب انما هو بحكم العقل، فان العقل بعد صدور الطلب من المولى يحكم
بلزوم إطاعة المولى، ويرى العبد مستحقا للعقاب على ترك ما أمر المولى بفعله
وهذا هو معنى الوجوب، وكذا الحرمة إنما هي بحكم العقل بلزوم الإطاعة
وكون العبد مستحقا للعقاب على فعل ما نهي المولى عنه، فلم يستعمل الامر في
موارد الوجوب والاستحباب إلا في معنى واحد. إنما التفاوت بينهما في ثبوت
الترخيص في الترك من قبل المولي وعدمه، فعلي الأول لم يبق مجال لحم العقل
بلزوم الاتيان بالفعل، فكان الفعل راجحا مع الترخيص في تركه. وهذا هو
معنى الاستحباب. وعلى الثاني يحكم العقل بلزوم الاتيان بالفعل جريا على قانون
481

العبودية. وهذا معنى الوجوب. وكذا الحال في النهي، فان المستعمل فيه في
موارد الحرمة والكراهة شئ واحد انما التفاوت بينهما في ثبوت الترخيص من
قبل المولى على الفعل وعدمه، فعلى الأول كان الفعل مكروها. وعلى الثاني
حراما بحكم العقل، فتحصل ان شمول الموصول للمستحبات لا ينافي ظهور النهي
في التحريم، لان الترخيص بترك المقدور من أجزائها لا ينافي حكم العقل بلزوم
الاتيان بالمقدور من اجزاء الواجب، بعد عدم ثبوت الترخيص في تركها.
و (ثانيا) - ان رجحان الاتيان بغير المتعذر من أجزاء الواجب يستلزم
وجوبه لعدم القول بالفصل. فان الامر دائر بين كونه واجبا أو غير مشروع
فرجحانه مستلزم لوجوبه كما هو ظاهر.
والتحقيق في الجواب - مضافا إلى كون الرواية ضعيفة غير منجبرة على
ما تقدم بيانه - ان يقال إن امر الرواية دائر بين حملها على تعذر الاتيان بمجموع
أجزاء المركب مع التمكن من بعضها، ليكون الوجوب المستفاد منها مولويا
وبين حملها علي تعذر بعض افراد الواجب مع التمكن من البعض الآخر، ليكون
الوجوب ارشاديا إلى حكم العقل بعدم سقوط واجب بتعذر غيره. وحيث انه
لا جامع بين الوجوب المولوي والارشادي لتكون الرواية شاملة لهما، ولا قرينة
على تعيين أحدهما، فتكون الرواية مجملة غير قابلة للاستدلال بها.
هذا وقد ذكرنا في الدورة السابقة إشكالا آخر على الاستدلال بها وهو
انه لو حملنا الرواية على تعذر مجموع المركب مع التمكن من بعض اجزائه، لزم
تقييدها بما إذا كان المتمكن منه معظم الاجزاء إذ لو كان المعتذر هو معظم الاجزاء
لا يجب الاتيان بالباقي، بلا خلاف واشكال والتقييد خلاف الأصل، فالمتعين حملها
على تعذر بعض افراد الواجب مع التمكن من بعض آخر لعدم لزوم التقييد فيه
ولكن الانصاف ان هذا الاشكال غير وارد عليه. بناء على كون المراد من
482

الموصول هو الجامع بين الكل والكلي، كما هو مبني الاستدلال، إذ المفروض
دخول الكلي الذي تعذر بعض أفراده في الموصول، سواء كان المعتذر معظم
الافراد والمتمكن منه أقلها أو بالعكس، فلا دوران بين التقييد وعدمه، ليترجح
الثاني على الأول. نعم لو كان الاستدلال مبنيا علي حمل الرواية على خصوص
تعذر المركب دون الجامع بينه وبين الكلي، كان للاشكال المذكور وجه.
(إن قلت): ظهور الامر في المولوية يعين احتمال تعذر بعض اجزاء
المركب، فلم يبق اجمال في الرواية. (قلت) هذا إنما يصح فيما إذا علم متعلق
الامر وشك في كونه مولويا أو إرشاديا. وأما إذا دار الامر بين تعلقه بما
لا يصح تعلقه به إلا ارشاديا، وبين تعلقه بما يكون تعلقه به مولويا، فلا
ظهور للامر في تعيين متعلقه، إذ ليس ظهور الامر في المولوية ظهورا وضعيا
ليكون قرينة علي تعيين المتعلق، بل هو ظهور مقامي ناشئ عن كون المتكلم
في مقام الجعل والتشريع، فلا يصلح للقرينية على تعيين المتعلق.
(الرواية الثالثة) - هي المرسلة المنقولة عن كتاب الغوالي أيضا عن
أمير المؤمنين عليه السلام انه قال (الميسور لا يسقط بالمعسور) وهي كسابقتها من حيث
السند، فيجري فيها جميع ما ذكرناه في الرواية السابقة من المناقشات السندية
ولا حاجة إلى الإعادة. وأما من حيث الدلالة فتحقيق الكلام فيها يتوقف على
بيان المحتملات، وهي أمور:
(الأول) - ان تكون كلمة لا نهيا ابتداء. وعليه فيجري جميع
ما ذكرناه من اجمال الرواية وعدم ظهور النهي في كونه مولويا أو إرشاديا،
وعدم صحة إرادة الجامع. وكذا يجرى ما ذكره صاحب الكفاية من الاشكال
وهو ان شمول الميسور للمستحبات مانع عن التمسك بها على وجوب الباقي من
اجزاء المأمور به. وقد عرفت جوابه أيضا فلا حاجة إلى الإعادة. ولكن
483

التحقيق عدم إمكان الالتزام بهذا الاحتمال، لان النهي سواء كان مولويا أو
إرشاديا لا بد من أن يتعلق بفعل المكلف، وما هو تحت قدرته واختياره
وجودا وعدما وسقوط الواجب عن ذمة المكلف كثبوته بيد الشارع، وليس
مقدورا للمكلف، فلا معنى للنهي عنه ولو ارشاديا.
(الثاني) - ان تكون الجملة خبرية قصد بها الانشاء، فالجملة وإن كانت
خبرية ونافية بحسب الصورة اللفظية، إلا أنها انشائية بحسب اللب والمعنى،
وهذا الاحتمال أيضا ساقط لعين ما ذكرناه في الاحتمال الأول، فإنه لا فرق
بينهما الا بحسب الصورة.
(الثالث) - ان تكون الجملة خبرية محضة أريد بها الاخبار عن عدم
سقوط الواجب والمستحب عند تعذر بعض اجزاء المركب أو تعذر بعض افراد
الطبيعة أو عدم سقوط وجوبه أو استحبابه، فان السقوط والثبوت كما يصح
اسنادهما إلى الحكم، كذلك يصح إسنادهما إلى الواجب والمستحب أيضا، فكما
يقال سقط الوجوب عن ذمة المكلف أو ثبت في ذمته كذلك يصح أن يقال سقط
الواجب أو ثبت في ذمته. وكيف كان فالرواية على هذا الاحتمال تدل على بقاء
الحكم أو متعلقه في ذمة المكلف عند تعذر بعض الاجزاء أو بعض الافراد، بل
نسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء (ره) دلالتها على وجوب المرتبة النازلة
من الشئ إذا تعذرت المرتبة العالية منه، فيما إذا عدت المرتبة النازلة ميسورة
من المرتبة العالية بنظر العرف، فإذا تعذر الايماء بالرأس والعين للسجود على
ما هو المنصوص يجب الايماء باليد لقاعدة الميسور، باعتبار ان الايماء باليد
مرتبة نازلة من الايماء بالنسبة إلى الايماء بالرأس والعين، هذا غاية ما يمكن ان
يقال في تقريب الاستدلال بالرواية للمقام. ولكن التحقيق عدم تمامية الاستدلال
المذكور، لأن السقوط فرع الثبوت. وعليه فالرواية مختصة بتعذر بعض افراد
484

الطبيعة باعتبار أن غير المتعذر منها كان وجوبه ثابتا قبل طرو التعذر، فيصدق
انه لا يسقط بتعذر غيره، بخلاف بعض اجزاء المركب، فإنه كان واجبا
بوجوب ضمني قد سقط بتعذر المركب من حيث المجموع، فلو ثبت وجوبه بعد
ذلك، فهو وجوب استقلالي وهو حادث، فلا معنى للاخبار عن عدم سقوطه
بتعذره غيره. وكذلك الحال في المرتبة النازلة، فان وجوبها لو ثبت بعد تعذر
المرتبة العالية لكان وجوبا حادثا جديدا، لا يصح التعبير عنه بعدم السقوط،
فإرادة معنى عام من الرواية شامل لمورد تعذر بعض الافراد، وموارد تعذر
بعض الاجزاء وموارد تعذر المرتبة العالية تحتاج إلى عناية لا يصار إليها
إلا بالقرينة.
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام عدم تمامية قاعدة الميسور، ووجوب
الاتيان بالميسور من الاجزاء عند تعذر بعضها. نعم لا نضائق عن وجوب
الاتيان بغير المتعذر من الاجزاء في بعض موارد مخصوصة لأجل أدلة خاصة، كما
في الصلاة، فإنها لا تسقط بحال بمقتضى الاجماع والروايات على ما ذكر في محله
(التنبيه الرابع)
في حكم ما إذا تردد الامر بين جزئية شئ أو شرطيته، وبين ما نعيته أو
قاطعيته، بمعنى أنا نعلم إجمالا باعتبار أحد الامرين في الواجب إما فعل هذا
الشئ أو تركه. وتحقيق الكلام فيه يستدعي البحث في مسائل ثلاث:
(المسألة الأولى) - ما إذا كان الواجب واحدا شخصيا، لم تكن له
485

افراد طولية ولا عرضية، كما إذا ضاق الوقت ولم يتمكن المكلف إلا من الاتيان
بصلاة واحدة، ودار الامر بين الاتيان بها عاريا أو في الثوب المتنجس، والحكم
فيه هو التخيير بلا شبهة واشكال، إذا الموافقة القطعية متعذرة، والمخالفة
القطعية بترك الصلاة رأسا غير جائزة يقينا، فلم يبقى إلا الموافقة الاحتمالية
الحاصلة بكل واحد من الامرين. وهذا واضح.
(المسألة الثانية) - ما إذا كانت الوقائع متعددة، وان لم يكن للواجب
افراد طولية ولا عرضية، كما إذا دار الامر بين كون شئ شرطا في الصوم أو
مانعا عنه. وحيث أن المكلف به متعدد فالحكم فيه هو التخيير الابتدائي، فله
أن يختار الفعل في جميع الأيام أو الترك كذلك. ولا يجوز له ان يأتي به في
يوم ويتركه في يوم آخر، لكونه موجبا للمخالفة القطعية. وقد تقدم ان
العقل يحكم بقبحها ولو كانت تدريجية ملازمة للموافقة القطعية أيضا من جهة.
ومر تفصيل الكلام فيه في بحث دوران الامر بين المحذورين.
(المسألة الثالثة) - ما إذا كان الواجب واحدا ذا أفراد طولية بحيث
يكون المكلف متمكنا من الاحتياط. وتحصيل العلم بالموافقة بالاتيان بالواجب
مع هذا الشئ مرة وبدونه أخرى، كما في المثال المذكور في المسألة الأولى،
مع سعة الوقت، فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير أيضا أو الاحتياط وتكرار
العمل؟ ظاهر شيخنا الأنصاري (ره) ابتناء هذه المسألة علي النزاع في دوران
الامر بين الأقل والأكثر، فعلى القول بوجوب الاحتياط هناك لا بد من
الاحتياط في المقام أيضا. وعلى القول بالبراءة فيه يحكم بجريان البراءة في المقام
فان العلم الاجمالي باعتبار وجود شئ أو عدمه لا أثر له، لعدم تمكن المكلف
من المخالفة العملية القطعية، لدوران الامر بين فعل شئ وتركه، وهو
لا يخلو من أحدهما، مع قطع النظر عن العلم الاجمالي، فلم يبق إلا الشك في
486

الاعتبار، وهو مورد لأصالة البراءة.
ولكن التحقيق وجوب الاحتياط والآتيان بالواجب مع هذا الشئ مرة
وبدونه أخرى، وذلك لأن المأمور به هو الطبيعي، وله افراد طولية، فالمكلف
متمكن من الموافقة القطعية بتكرار العمل، ومن المخالفة القطعية بترك العمل
رأسا، فيكون العلم الاجمالي منجزا للتكليف لا محالة، فيجب الاحتياط.
وأما عدم التمكن من المخالفة القطعية في الفرد الخارجي لاستحالة ارتفاع النقيضين
فهو لا ينافي تنجيز العلم الاجمالي بعد تمكن المكلف من المخالفة القطعية في أصل
المأمور به وهو الطبيعة، إذ الاعتبار إنما هو بما تعلق به التكليف لا بالفرد الخارجي
فلا مناص من القول بوجوب الاحتياط في المقام.
وإن قلنا بالبراءة في دوران الامر
بين الأقل والأكثر، إذ في المقام لنا علم إجمالي باعتبار شئ في المأمور به، غاية
الامر انا لا ندري ان المعتبر هو وجوده أو عدمه في المأمور به، فلا بد من
الاحتياط والآتيان بالعمل مع وجوده تارة وبدونه أخرى، تحصيلا للعلم بالفراغ
بخلاف دوران الأمر بين الأقل والأكثر فإنه ليس فيه الاحتمال اعتبار شئ في
المأمور به، فيكون مجرى للبراءة على ما مر تفصيل الكلام فيه، فكيف يقاس
العلم بالاعتبار على الشك فيه، ومن العجيب ان الشيخ (ره) التزم بوجوب
الاحتياط عند دوران الأمر بين القصر والتمام، مع أنه داخل تحت كبرى هذه
المسألة ومن صغرياتها، لان الركعة الثالثة والرابعة أمرهما دائر بين الجزئية
والمانعية كما هو واضح. وان شئت قلت إن التسليم في الركعة الثانية على تقدير
وجوب القصر جزء للواجب. وعلى تقدير وجوب التمام مانع عن الصحة
ومبطل للصلاة.
487

(خاتمة في شرائط جريان الأصول)
أما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شئ، سوى ما اعتبر في تحقق عنوانه،
وهو إدراك الواقع على ما هو عليه، وكل ما اعتبر في حسنه فهو على تقدير
صحته يرجع إلى اعتباره في صدق هذا العنوان، ضرورة انه مع صدقه لا تبقى
حالة منتظرة لحكم العقل بحسنه، فالاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم المقابل
للعبادات الشامل للعقود والايقاعات وغيرها من التوصليات لا يعتبر في حسنه إلا
الجمع بين المحتملات الذي به يتحقق أصل عنوان الاحتياط، ما لم يؤد إلى اختلال
النظام، ولم يخالف الاحتياط من جهة أخرى. إذ مع كونه مخلا بالنظام
لا يصدق عنوان الاحتياط، لكونه مبغوضا للمولى. وكذا مع كونه مخالفا
للاحتياط من جهة أخرى، فإنه لا يصدق عليه عنوان الاحتياط، وادراك
الواقع على ما هو عليه.
وأما الاحتياط في العبادات، فلا شك في حسنه فيما إذا لم يتمكن
المكلف من تحصيل العلم التفصيلي. وكذا فيما إذا لم يكن الواقع منجزا
عليه كما في الشبهات البدوية من الشبهات الموضوعية مطلقا، والشبهات الحكمية
بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل. وأما ان كان المكلف متمكنا من الامتثال
التفصيلي بالعلم أو العلمي، أو كان الواقع منجزا عليه على تقدير وجوده، كما
في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص، ففي جواز الاحتياط قبل الفحص
وعدمه أقوال: (ثالثها) - التفصيل بين كون الاحتياط مستلزما للتكرار وعدمه
(رابعا) - التفصيل بين موارد العلم الاجمالي بثبوت التكليف وعدمه
488

والصحيح جوازه مطلقا، إذ المعتبر في تحقق العبادة أمران: تحقق العمل في
الخارج وكونه مضافا ومنسوبا إلى المولى، وكلاهما متحقق في الاحتياط. وأما
اعتبار نية الوجه والتمييز وغيرهما مما ذكروه وجها لعدم جواز الاحتياط فلا
دليل على اعتباره. وقد تقدم تفصيل الكلام فيه في مبحث القطع فراجع.
وأما البراءة العقلية، فلا ريب في اعتبار الفحص في جريانها، لأن
موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان، فما لم يحرز ذلك
بالفحص لا يستقل العقل بقبح العقاب، إذ ليس المراد من البيان إيصال التكليف
إلى العبد قهرا، بل المراد منه بيانه على الوجه المتعارف، وجعله بمرأى ومسمع
من العبد، بحيث يمكن الوصول إليه، فلو كان التكليف مبنيا من قبل المولى
ولم يتفحص عنه العبد، صح العقاب على مخالفته، ولا يكون عقابه بلا بيان.
وأما البراءة الشرعية، فلا اشكال أيضا في عدم اعتبار الفحص في جواز الرجوع
إليها في الشبهات الموضوعية عملا باطلاق أدلتها من قوله عليه السلام: (كل شئ فيه
حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه) وغيره مما ذكر في محله
وقد ورد بعض الاخبار في خصوص الشبهات الموضوعية فراجع. وأما
الشبهات الحكمية فقد استدل لاعتبار الفحص في الرجوع إلى البراءة فيها مع اطلاق
الأدلة فيها أيضا بأمور:
(الأول) - دعوى الاجماع على ذلك. وفيه ان انفاق الفقهاء على وجوب
الفحص في الشبهات الحكمية وان كان مسلما، الا انه لا يكون إجماعا تعبديا
كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام لأنه معلوم المدرك، فإذا لا بد من النظر في المدرك
ولا يصح الاعتماد بنفس الاتفاق، فإنه ضم قول غير المعصوم إلى مثله.
(الثاني) - ان العلم الاجمالي بثبوت تكاليف الزامية في الشريعة المقدسة
مانع عن الرجوع إلى البراءة قبل الفحص.
489

وأورد عليه صاحب الكفاية (ره) بما حاصله أن موجب الفحص لو كان
هو العلم الاجمالي لزم جواز الرجوع إليها قبل الفحص، بعد انحلاله بالظفر على
المقدار المعلوم بالاجمال، مع أنه غير جائز قطعا، فلا بد من أن يكون الوجه
لوجوب الفحص أمرا آخر غير العلم الاجمالي. وخلاصة هذا الايراد ان الدليل
أخص من المدعي.
وأشكل عليه المحقق النائيني (ره) بأن المعلوم بالاجمال ذو علامة وتميز،
فالعلم الاجمالي المتعلق به غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، لأن
الواقع قد تنجز حينئذ بماله من العلامة والتميز، فكيف يعقل انحلاله قبل
الفحص بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، فإنه إذ علم اجمالا بدين مردد بين الأقل
والأكثر، مع العلم بكونه مضبوطا في الدفتر، فهل يتوهم أحد جواز الرجوع إلى
البراءة في المقدار الزائد على المتيقن قبل الفحص عما في الدفتر؟ والمقام كذلك، فان
التكاليف المعلومة بالاجمال مضبوطة في الكتب المعتبرة عند الشيعة. وعليه فالظفر
بالمقدار المعلوم بالاجمال قبل الفحص لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ليصح
الرجوع إلى البراءة قبل الفحص. نعم إذا لم يكن المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز
وكان مرددا بين الأقل والأكثر، جاز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر بالمقدار
المعلوم بالاجمال، لكن المقام ليس من هذا القبيل كما عرفت.
وتوضيح ما افاده قدس سره أن منشأ العلم الاجمالي بالتكاليف الالزامية
أحد أمور ثلاثة: (الأول) - هو العلم بثبوت الشرع والتصديق بالنبوة.
(الثاني) - العلم الاجمالي بمطابقة جملة من الامارات للواقع. (الثالث) - العلم
الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة وهذه المعلوم
الثلاثة ينحل السابق منها باللاحق، فتكون أطراف العلم الاجمالي بالتكاليف
خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة وتكون هذه الكتب كالدفتر في
490

المثال، فلا ينحل العلم الاجمالي المذكور بالظفر بالمقدار المتيقن قبل الرجوع إلى
هذه الكتب والفحص عنها. هذا توضيح مرامه زيد في علو مقامه.
وفيه (أولا) - ان كون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز إنما يمنع عن
انحلال العلم الاجمالي على تقدير التسليم فيما إذا لم يكن بنفسه مرددا بين الأقل
والأكثر، كما إذا علمنا اجمالا بوجود اناء نجس بين أواني محصورة مرددة بين
الأقل والأكثر، وعلمنا أيضا بنجاسة اناء زيد المعلوم وجوده بينها، فلو علم
بعد ذلك تفصيلا بنجاسة اناء معين منها وجدانا أو تعبديا، كما إذا قامت البينة
على نجاسته من دون احراز انه اناء زيد، أمكن القول بعدم كونه موجبا
لانحلال العلم الثاني الذي يكون لمتعلقه علامة وتميز، لعدم كون المعلوم
بالتفصيل معنونا بذلك العنوان اي عنوان انه اناء زيد، واما ان كان ماله العلامة
والتميز أيضا مرددا بين الأقل والأكثر، كما إذا كان اناء زيد المعلوم نجاسته
في مفروض المثال أيضا مرددا بين الأقل والأكثر، ثم علمنا بعد ذلك بكون
اناء معين اناء زيد، فينحل العلم الاجمالي الثاني أيضا، ويكون الشك في
نجاسة غيره من الأواني شكا بدويا لا محالة. والمقام من هذا القبيل، لان
التكليف المعلومة بالاجمال بعنوان انها مذكورة في الكتب المعتبرة بنفسها مرددة
بين الأقل والأكثر، فإذا ظفرنا بالمقدار المتيقن، ينحل العلم الاجمالي لا محالة
و (ثانيا) - انه لا نسلم عدم الانحلال حتى فيما إذا كان المعلوم بالاجمال
ذا علامة وتميز، ولم يكن مرددا بين الأقل والأكثر، إذ بعد العلم التفصيلي
بنجاسة اناء بعينه يحتمل ان يكون هو اناء زيد المعلوم كونه نجسا، ومعه
لا يبقى علم بوجود نجاسة في غيره من الأواني، إذ العلم لا يجتمع مع احتمال
الخلاف بالضرورة، فينحل العلم الاجمالي بالوجدان. وليس لنا علمان إجماليان
علم بوجود نجس مردد بين الأقل والأكثر، وعلم بنجاسة اناء زيد حتى يقال
491

بعد العلم بنجاسة اناء بخصوصه ان العلم الأول قد انحل دون العلم الثاني، بل
مرجع العلم بوجود نجاسة مرددة بين الأقل والأكثر والعلم بنجاسة اناء زيد إلى
العلم بوجود نجس واحد بعنوانين، فإذا علمنا تفصيلا بنجاسة اناء معين من
الأواني ينحل العلم الاجمالي لا محالة.
و (ثالثا) - انه على تقدير تسليم عدم الانحلال وبقاء العلم الاجمالي على حاله
لا يكون هذا العلم منجزا بالنسبة إلى الزائد على القدر المتيقن، لما ذكرناه
مرارا من أن التنجيز دائر مدار تعارض الأصول في أطراف العلم الاجمالي
وتساقطها. وحيث انه لا معنى لجريان الأصل في الطرف المعلوم كونه نجسا في
مفروض المثال، فيجرى الأصل في غيره بلا معارض. فلا يكون العلم
الاجمالي منجزا.
وأما ما ذكره (ره) من عدم جواز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر بالقدر
المتيقن من الدين المضبوط في الدفتر، فهو على تقدير صحته لا بد من أن يكون
مستندا إلى أمر آخر غير العلم الاجمالي، كما ادعى ذلك في موارد من الشبهات
الموضوعية التي لا كلام في جواز الرجوع إلى البراءة فيها قبل الفحص. منها ما لو
شك في بلوغ المال حد النصاب. ومنها ما لو شك في حصول الاستطاعة للحج
وغيرهما من الموارد. وذكروا الوجه في ذلك انا علمنا من الخارج ان الشارع
لا يرضى بالرجوع إلى الأصل في هذه الموارد قبل الفحص، للزوم المخالفة
الكثيرة، فلو صح هذا الادعاء لقلنا بمثله في مثال الدين، فإنه أيضا شبهة
موضوعية، والا التزمنا بجواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص فيه. ومن
الشواهد على أن عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المقدار الزائد على القدر
المتيقن على تقدير تسليمه ليس من جهة العلم الاجمالي أنه لو فرض عدم التمكن
من الرجوع إلى الدفتر لضياعه مثلا لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل في الزائد
492

على القدر المتيقن، مع أنه لو كان المانع هو العلم الاجمالي لم يكن فرق بين
التمكن من الفحص وعدمه كما هو ظاهر. فالمتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام
أن المانع من الرجوع إلى الأصل قبل الفحص لا بد من أن يكون شيئا آخر غير
العلم الاجمالي، كما ذكره صاحب الكفاية (ره).
(الثالث) - دعوى انصراف الأدلة إلى ما بعد الفحص بحكم العقل بوجوب
الفحص، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبله فإنه كما يحكم العقل بقبح العقاب
بلا بيان كذلك يحكم بوجوب الفحص عن أحكام المولى من باب وجوب دفع
الضرر المحتمل. وبالجملة فكما أنه على المولى إبلاغ أحكامه إلى عبيده، وبيان
مراداته لهم جريا على وظيفة المولوية، فكذلك يجب على العبد الفحص عن
أحكام المولى جريا على وظيفة العبودية، إذ لا يجب على المولى إلا بيان أحكامه
على النحو المتعارف، من أن يجعلها في معرض الوصول. وأما فعلية الوصول
والبحث عنها فهي من وظائف العبد. فهذا الحكم العقلي بمنزلة القرينة المتصلة
المانعة عن انعقاد الظهور في إطلاقات أدلة البراءة، فهي مختصة من أول الامر
بما بعد الفحص في الشبهات الحكمية. وهذا الوجه مما لا بأس به.
(الرابع) - الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم، مقدمة للعمل وهي
كثيرة: (منها) - قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). ومن
الروايات، ما ورد في تفسير قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) من أنه يقال
للعبد يوم القيامة هل علمت؟ فان قال نعم، قبل له فهلا عملت؟ وإن قال لا،
قيل له فهلا تعلمت حتى تعمل؟ ومن الظاهر أنه لو جاز الرجوع إلى البراءة أو
غيرها من الأصول قبل الفحص والتعلم، لم يجب سؤال أهل العلم كما في
الآية الشريفة. ولم يتوجه العتاب إلى من لم يتعلم، كما في الرواية، وهذا
الوجه أيضا لا بأس به.
493

(الخامس) - الأخبار الدالة على وجوب التوقف. وقد تقدم ذكر جملة
منها في مبحث البراءة. والنسبة بينها وبين اخبار البراءة وإن كانت هي التباين
لدلالة أخبار البراءة باطلاقها على البراءة مطلقا قبل الفحص وبعده. وكذا جملة
من أخبار التوقف تدل على وجوب التوقف مطلقا، إلا أن مورد جملة من
أخبار التوقف هي الشبهة قبل الفحص، كقوله عليه السلام: فارجه حتى تلقي امامك
أي يجب عليك التوقف حتى تلقى إمامك، فتتفحص وتسأله، فنسبتها
إلى أخبار البراءة هي الخصوص المطلق، فتخصص اخبار البراءة بما بعد الفحص
وبعد هذا التخصيص تكون النسبة بين اخبار البراءة وبين بقية اخبار التوقف
الدالة على وجوب التوقف مطلقا أيضا هو العموم المطلق، فتخصص اخبار
التوقف بما قبل الفحص، كما هو الشأن في جميع المتعارضين، فإنه تلاحظ
النسبة بينهما بعد ورود التخصيص في أحدهما أو في كليهما من الخارج. ولا
تلاحظ النسبة بينهما في أنفسهما، مع قطع النظر عن ورود التخصيص الخارجي
على ما هو مذكور في محله. هذا بناء على الاغماض عما ذكرناه من كون اخبار
البراءة مختصة بما بعد الفحص، لأجل قرينة عقلية، والا فلا نحتاج إلى
تخصيص أدلة البراءة ببعض اخبار التوقف، بل هي بنفسها مختصة لأجل القرينة
العقلية على ما تقدم بيانه.
وبما ذكرناه ظهر اختصاص أدلة الاستصحاب أيضا بما بعد الفحص. وظهر
أيضا عدم جواز الرجوع إلى سائر الأصول العقلية قبل الفحص كالتخيير
العقلي ونحوه.
وملخص الكلام في المقام أن الأصول العقلية في نفسها قاصرة عن الشمول
لما قبل الفحص، لأن موضوعها عدم البيان، وهو لا يحرز إلا بالفحص فلا
مقتضي لها قبله. وأما الأصول النقلية فأدلتها وإن كانت مطلقة في نفسها، الا
494

أنها مقيدة بما بعد الفحص بالقرينة العقلية المتصلة والنقلية المنفصلة.
بقى الكلام في جهات لابد لنا من التعرض لها:
(الجهة الأولى) - في مقدار الفحص، فهل يجب الفحص بمقدار يحصل
العلم بعدم الدليل أو يكفي الاطمئنان، أو يكفي مجرد الظن بالعدم؟ وجوه خيرها
أوسطها. أما عدم وجوب تحصيل العلم الدليل عليه. مضافا إلى كونه
مستلزما للعسر والحرج، بل موجب لسد باب الاستنباط لعدم حصول القطع
بعدم الدليل عادة، وان أصر في الفحص. واما عدم اعتبار الظن فلعدم الدليل
على اعتباره، فهو لا يغني عن الحق شيئا. فتعين الوسط وهو كفاية الاطمئنان
لكونه حجة بيناء العقلاء، ولم يردع عنه الشارع. واما تحقق الصغرى لهذه
الكبرى اي حصول الاطمئنان بعدم الدليل، فهو سهل لمن تصدى لاستنباط
الأحكام الشرعية فعلا، فان المتقدمين من العلماء أتعبوا أنفسهم الشريفة ورتبوا
الاخبار وبوبوها، فبالرجوع إلى اخبار باب وبعض الأبواب الأخرى المناسبة
لهذا الباب يحصل الاطمئنان. ولولا هذا الترتيب والتبويب لكان اللازم هو
الفحص في كتب الاخبار من أولها إلى آخرها لتحصيل الاطمئنان في مسألة واحدة
(الجهة الثانية) - بعد ما عرفت وجوب تعلم الأحكام الشرعية والفحص
عنها، وقع الاشكال في أن وجوبه طريقي لا يترتب العقاب عند تركه الا علي
مخالفة الواقع كما هو المشهور، أو نفسي يعاقب العبد على تركه ولو لم يخالف
الواقع، كما عن المحقق الأردبيلي (ره) وصاحب المدارك ومال إليه صاحب
الكفاية (ره) في آخر كلامه. وقبل الشروع في تحقيق المقام وبيان المختار فيه
لا بد من التنبيه على أمور:
(الأول) - ان محل الكلام هو العلم بالأحكام الفرعية. واما العلم بالأصول
الاعتقادية كالعلم بالتوحيد والنبوة وسائر ما يجب تحصيله والاعتقاد به، فهو
495

خارج عن محل الكلام. ولا اشكال في وجوب تحصيله والتعلم نفسيا لا طريقيا
عينيا لا كفائيا.
(الثاني) - ان وجوب تعلم الأحكام الشرعية مقدمة للعمل مختص
بالواجبات والمحرمات. وما يرجع إليهما من الأحكام الوضعية كالنجاسة والطهارة
والزوجية والملكية ونحوها، إذ لا يجب تعلم المستحبات والمكروهات لا نفسيا
ولا طريقيا.
(الثالث) - ان محل الكلام انما هو وجوب التعلم والفحص عن الحكم
الخاص المتعلق بهذا المكلف نفسه بالوجوب العيني. والمراد من التعلم هو الأعم
من المعرفة بالاجتهاد أو بالرجوع إلى الرسالة ان كان مقلدا. واما تعلم كلي
الأحكام الشرعية بالاجتهاد حتى الأحكام المتعلقة بغيره كمسائل الحيض والنفاس
وغيرها، فلا اشكال في وجوبه كفائيا، فهذا أيضا خارج عن محل الكلام
فلا وجه للاستدلال على وجوب الفحص في المقام بآية النفر، كما ترتكبه شيخنا
الأنصاري (ره) - فإنها دليل على وجوب تعلم الأحكام الشرعية كفائيا. ولا
كلام لنا فيه، انما الكلام في وجوب التعلم والفحص بالوجوب العيني عما يجب
على نفس هذا المكلف.
إذا عرفت هذه الأمور. فنقول ان الصحيح هو الوجوب الطريقي.
وتظهر صحته بذكر دليل القول بالوجوب النفسي وجوابه، وهو ان الأوامر
المتعلقة بالتعلم والسؤال ظاهرة في الوجوب النفسي.
والجواب ان كون الامر ظاهرا في الوجوب النفسي العيني التعييني. وان
كان مسلما كما تقدم في مبحث الأوامر، الا ان في المقام خصوصية داخلية وقرينة
خارجية توجب ظهور الأوامر المتعلقة بالتعلم في الوجوب الطريقي مقدمة للعمل
اما الخصوصية الداخلية فهي ان نفس السؤال عن شئ وتعلمه طريق إلى العمل
بهذا الشئ، فالامر بالسؤال بنفسه ظاهر في الوجوب الطريقي بحسب الارتكاز
496

العرفي فان السؤال عن الطريق إلى كربلاء مثلا إنما هو للمشي من هذا الطريق،
فالامر بالسؤال عن طريق كربلاء ظاهر في الوجوب الطريقي، لا الوجوب النفسي
بأن يكون مجرد السؤال عن الطريق مطلوبا نفسيا، فكذا الحال في قوله تعالى:
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فان الامر بالسؤال فيه ظاهر في
الوجوب الطريقي. وأن السؤال من أهل الذكر انما هو للعمل، لا لكونه
مطلوبا بنفسه. ولعل ظهور الامر بالسؤال في الوجوب الطريقي ظاهر غير
قابل للانكار.
وأما القرينة الخارجية فروايتان: (إحداهما) - ما ورد في تفسير قوله
تعالى: (فلله الحجة البالغة) وقد تقدم ذكره، فان قوله فهلا تعلمت حتى
تعمل صريح في أن وجوب التعلم إنما هو للعمل. (الثانية) - ما ورد في مجدور
صار جنبا فغسلوه فمات، فقال عليه السلام: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا ألا يمموه؟)
فان عتاب الإمام (ع) ودعاءه عليهم لم يكن لمجرد ترك السؤال، بل لترك التيمم
أيضا، إذا من الواضح ان مجرد السؤال والتعلم لم يكن موجبا لنجاته من القتل
الذي نسبه الإمام (ع) إليهم وغيرهم به، وإنما الموجب لنجاته العمل بالتيمم،
فكان الأمر بالسؤال والتعلم انما هو للعمل لا محالة.
هذا مضافا إلى أنه على تقدير ترك التعلم والفحص لو صادف خلاف الواقع
بارتكاب الحرام أو ترك الواجب، فالقول باستحقاق العقاب لأجل ترك التعلم
دون مخالفة الواقع بعيد، لان وجوب الفحص والتعلم انما هو لتنجز الواقع قبله
فكيف يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع، واستحقاقه
على ترك الفحص عنه، فإنه خلف. والالتزام باستحقاق عقابين أبعد، ولم
يقل به أحد. فتعين القول باستحقاق عقاب واحد لأجل مخالفة الواقع، دون
ترك الفحص والتعلم. وهذا هو معنى الوجوب الطريقي. وأما لو ترك الفحص
497

ولكنه صادف الواقع من باب الاتفاق، فلا يستحق العقاب إلا على القول
باستحقاق المتجرى للعقاب. وقد تقدم الكلام فيه مفصلا في بحث القطع.
ثم إنه ربما يستشكل في الوجوب الطريقي فيما إذا كان الواجب مشروطا
بشرط غير حاصل كالموقت قبل وقته، ولم يكن المكلف متمكنا من الاتيان به
في ظرفه لتركه التعلم قبل حصول الشرط، باعتبار انه قبل حصول الشرط لم يثبت
وجوب الواجب حتى يجب تعلمه وتحصيل سائر مقدماته، وبعد حصوله لا يكون قادرا على الامتثال، فالتكليف ساقط للعجز، فيلزم عدم وجوب التعلم لا قبل
حصول الشرط ولا بعده. ولعله لأجل هذا الاشكال التزم صاحب الكفاية (ره)
وغيره بالوجوب النفسي.
وتحقيق الحال هذا الاشكال يقتضى البسط في المقال. فنقول وعلى
الله الاتكال. قد يكون الواجب فعليا مع اتساع الوقت لتعلمه والآتيان به،
فلا اشكال في عدم وجوب التعلم عليه قبل الوقت، لعدم فعلية وجوب الواجب
فإنه بعد الوقت مخير بين التعلم والامتثال التفصيلي، ولاخذ بالاحتياط
والاكتفاء بالامتثال الاجمالي، سواء كان الاحتياط مستلزما للتكرار أم لا،
بناء على ما تقدم بيانه من أن الصحيح جواز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي، ولو
كان مستلزما للتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي.
وقد يكون الواجب فعليا مع عدم اتساع الوقت للتعلم وللاتيان به،
ولكن المكلف يتمكن من الاحتياط والامتثال الاجمالي، ولا اشكال أيضا
في عدم وجوب التعلم عليه قبل الوقت، لعدم فعلية وجوب الواجب، ولا يعد
الوقت لعدم اتساع الوقت له وللاتيان بالواجب على الفرض. فله ان يتعلم قبل
الوقت، وله ان يحتاط بعد دخوله. وتوهم - ان الامتثال الاجمالي انما هو في طول
الامتثال التفصيلي، فمع القدرة على الثاني لا يجوز الاكتفاء بالأول - غير جار في هذا
498

الفرض، لعدم التمكن من الامتثال التفصيلي في ظرف العمل، نعم هو متمكن
من التعلم قبل الوقت، إلا أنه لا يجب عليه حفظ القدرة على العمل قبل الوقت
ولم يقل بوجوبه أحد.
وقد يكون الواجب فعليا مع عدم اتساع الوقت للتعلم وللاتيان به،
ولا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط، ولكنه متمكن من الامتثال
الاحتمالي فقط، كما إذا شك في الركوع حال الهوي إلى السجود، مع عدم
تعلمه لحكم ذلك قبل العمل، فإنه لا يتمكن من الاحتياط وإحراز الامتثال، إذ في
الرجوع والآتيان بالركوع احتمال زيادة الركن، وهو مبطل للصلاة وفي المضي
في الصلاة وعدم الاعتناء بالشك احتمال نقصان الركن، وهو أيضا مبطل للصلاة
فلا يتمكن من الاحتياط. وفي كل من الرجوع والآتيان بالركوع والمضي في
الصلاة احتمال الامتثال. هذا إذا كان الشك متعلقا بالأركان كما مثلناه. وأما
إن كان متعلقا بغير الأركان، فهو متمكن من الاحتياط والآتيان بالمشكوك
فيه رجاء، وهو خارج عن هذا الفرض. ففي هذا الفرض وجب عليه التعلم قبل
الابتلاء بالشك بحكم العقل بملاك دفع المحتمل عند فعلية الكشك وتشمله أدلة وجوب
التعلم أيضا، فإنه لو لم يتعلم قبل الابتلاء واكتفى بالامتثال الاحتمالي فلم يصادف الواقع
كانت صلاته باطلة وصح عقابه، ولا يصح اعتذاره باني ما علمت، لأنه يقال له
هلا تعلمت حتى عملت كما في الرواية. ومن هذا الباب فتوى الأصحاب بوجوب
تعلم مسائل الشك والسهو قبل الابتلاء، حتى أفتوا بفسق من لم يتعلم. وأنت
ترى أن الاشكال المذكور من ناحية وجوب التعلم غير جار في هذه الصورة
يقينا فلاحظ.
وقد لا يكون الواجب فعليا بعد دخول الوقت، لكونه غافلا ولو كانت
غفلته مستندة إلى ترك التعلم أو لكونه غير قادر، ولو كان عجزه مستندا إلى
499

ترك التعلم قبل الوقت، مع عدم اتساع الوقت للتعلم وللاتيان بالواجب.
و الاشكال المذكور مختص بهذه الصورة.
والذي ينبغي أن يقال انه إن كانت القدرة المعتبرة في مثل هذا الواجب
معتبرة عقلا من باب قبح التكليف بغير المقدور، وغير دخيلة في الملاك كما إذا
ألقى أحد نفسه من شاهق إلى الأرض، فإنه أثناء الهبوط إلى الأرض وان لم يكن
مكلفا بحفظ نفسه، لعدم قدرته عليه، إلا ان قدرته ليست دخيلة في الملاك
ومبغوضية الفعل للمولى باقية بحالها، ففي مثل ذلك لا ينبغي الشك في وجوب
التعلم قبل الوقت للتحفظ على الملاك الملزم في ظرفه، وان لم يكن التكليف فعليا
في الوقت، لما تقدم سابقا من أن العقل يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم، كما
يحكم بقبح مخالفة التكليف الفعلي، وإن كانت القدرة معتبرة شرعا ودخيلة في
الملاك، فلا يجب التعلم قبل الوقت حينئذ، بلا فرق بين القول بوجوبه طريقيا
والقول بوجوبه نفسيا. اما على القول بالوجوب الطريقي فالامر واضح، إذ
لا يترتب على ترك التعلم فوات واجب فعلي ولا ملاك ملزم. واما على القول
بالوجوب النفسي، فلان الواجب انما هو تعلم الاحكام المتوجهة إلى شخص
المكلف. والمفروض انه لم يتوجه إليه تكليف ولو لعجزه، ولا يجب على
المكلف تعلم الاحكام المتوجهة إلى غيره، هو القادر، ولذا لا يجب على
الرجل تعلم احكام الحيض.
وظهر بما ذكرناه انه لا ثمرة عملية بيننا وبين المحقق الأردبيلي (ره) إذ
قد عرفت عدم وجوب التعلم في هذا الفرض على كلا القولين، فلا يجدي
الالتزام بالوجوب النفسي في دفع الاشكال المذكور، بل الحق هو الالتزام
بالاشكال وعدم وجوب التعلم، ولا يلزم منه محذور.
(الجهة الثالثة) - هل يختص وجوب التعلم بما إذا علم المكلف تفصيلا
500

أو إجمالا أو اطمأن بابتلائه بما يعلم حكمه، كحكم الشكوك المتعارفة التي يعم بها
الابتلاء، أو يجب بمجرد احتمال الابتلاء؟ وجهان بل قولان: المشهور بينهم
بل المتسالم عليه هو الثاني. وربما يقال بالأول تمسكا باستصحاب عدم الابتلاء
وبعد احراز عدم الابتلاء ولو بالتعبد لا يجب التعلم.
ورد هذا الاستصحاب بوجهين: (الأول) - ان أدلة الاستصحاب
لا تشمل المقام، بدعوى انها لا تشمل إلا الأمور الماضية المتعلق بها اليقين السابق
والشك اللاحق فعدم الابتلاء في المستقبل لا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب.
وفيه ان الميزان في جريان الاستصحاب إنما هو تقدم زمان المتيقن على
زمان المشكوك فيه من دون فرق بين الأمور الماضية والاستقبالية، عين
ما سيجئ الكلام فيه في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى. ولذا بنينا على
ذلك فروعا كثيرة: (منها) - جواز البدار في أول الوقت لذوي الاعذار
تمسكا باستصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت.
(الثاني) - ما ذكره المحقق النائيني (ره) وهو ان جريان الاستصحاب
متوقف على كون الواقع المشكوك فيه بنفسه اثرا شرعيا أو ذا اثر شرعي. وأما إذا
لم يكن كل من الأمرين. ولم يكن اثر شرعي في البين، أو كان الأثر
مترتبا على نفس الشك دون الواقع، فلا معنى لجريان الاستصحاب. والمقام
من هذا القبيل، لأن وجوب التعلم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل بحكم
العقل مترتب على احتمال الابتلاء لا على واقع الابتلاء، ليتمسك بالاستصحاب
لاحراز عدمه.
وفيه انه لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب اثرا شرعيا أو
ذا اثر شرعي بناء على ما هو التحقيق من أن الاستصحاب يقوم مقام القطع
الموضوعي أيضا. فيكفي في جريان الاستصحاب ترتب الأثر على نفس
501

الاستصحاب. وعليه فلا مانع من اجراء الاستصحاب في المقام، وإحراز عدم
الابتلاء بالتعبد، ويترتب عليه عدم وجوب التعلم، فلا يبقى موضوع لحكم
العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. نعم بناء على عدم قيام الاستصحاب مقام
القطع الموضوعي وكونه بمنزلة القطع الطريقي فقط، كما عليه صاحب الكفاية
(رحمة الله) يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستحب اثرا شرعيا أو ذا اثر
شرعي، فلا يجرى في المقام، لما ذكره المحقق النائيني (ره) ولكنه خلاف
الموضوعي أيضا.
هذا ولكن التحقيق ان الاستصحاب غير جار في المقام، للأدلة الدالة على
وجوب التعلم، فان اطلاقها يشمل المقام.
وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان
بالابتلاء مستهجن لندرتها، فان الغالب في مسائل الشكوك ونحوها مجرد احتمال
الابتلاء، فيكون وجوب التعلم عند احتمال الابتلاء ثابتا بالدليل، ومعه لا تصل
النوبة إلى جريان الاستصحاب كما هو واضح.
(الجهة الرابعة) - لا شك في أن الشاك في التكليف لو ترك الفحص واقتحم
في الشبهة، فصادف ارتكاب الحرام يستحق العقاب على مخالفة الواقع، إذ
بعد وجوب الفحص طريقيا تنجز الواقع عليه. هذا فيما إذا كان الواقع بحيث
لو تفحص المكلف عنه لظفر به. واما فيما إذا كان الواقع على نحو لا يصل
المكلف إليه بعد الفحص، بل ربما يؤدى فحصه إلى خلافه، فهل يستحق
العقاب على مخالفة الواقع أم لا؟ وجهان بل قولان. ولا يخفى ان استحقاق
العقاب من جهة التجري وعدم الفحص مبنى على ما تقدم الكلام فيه في مبحث
التجري، فمحل الكلام فعلا إنما هو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع،
فالتزم المحقق النائيني (ره) باستحقاق العقاب، بدعوى ان مخالفة الواقع ما لم
502

تكن مقرونة بالمؤمن شرعا أو عقلا موجبة لاستحقاق العقاب. والمقام كذلك
لأن المفروض عدم جريان البراءة الشرعية ولا العقلية قبل الفحص على ما تقدم بيانه
وقد ذكرنا في الدورة السابقة انه يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب
لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ المراد بالبيان جعل التكليف في معرض
الأصول على ما تقدم بيانه، فمع عدم تمكن المكلف من الوصول إليه كان البيان
غير تام من قبل الشارع، ومعه يستقل العقل بقبح العقاب، فتكون مخالفة
الواقع حينئذ مقرونة بالمؤمن العقلي، غاية الامر أن المكلف غير ملتفت إلى عدم
تمامية البيان من قبل المولى وكان يحتملها، فتجري واقتحم الشبهة بلا فحص،
فلو كان مستحقا للعقاب، فإنما هو على التجري لا على مخالفة الواقع، لان
الواقع مما لم تقم الحجة عليه، فيكون العقاب عليه بلا بيان.
ولكن التحقيق هو التفصيل في المقام. بأن يقال إن بنينا على وجوب
الفحص لآية السؤال، والأخبار الدالة على وجوب التعلم وتحصيل العلم بالأحكام
فالحق عدم استحقاق العقاب، لعدم إمكان التعلم والفحص وتحصيل العلم على
الفرض، فلا يكون المقام مشمولا للآية الشريفة والأخبار الدالة على وجوب
التعلم. وإن بنينا على وجوب الفحص لأجل العلم الاجمالي أو لأجل أدلة التوقف
والاحتياط، بناء علي كونها دالة على الوجوب المولوي الطريقي لا الارشادي
المحض، على ما استظهرنا منها، فالحق استحقاق العقاب علي مخالفة الواقع،
لكونه حينئذ منجزا بالعلم الاجمالي أو بوجوب التوقف والاحتياط.
(الجهة الخامسة) - لا ينبغي الاشكال في أن العمل الصادر من الجاهل
المقصر قبل الفحص محكوم بالبطلان ظاهرا، بمعنى ان العقل يحكم بعدم جواز
الاجتزاء به في مقام الامتثال، لعدم إحراز مطابقته للواقع. وهذا المعنى من
البطلان هو المراد لصاحب العروة (ره) في قوله: (ان عمل العامي بلا تقليد ولا
503

احتياط باطل) فلا وجه لما ذكره المحشون على قوله المذكور. على تفصيل يأتي
لان التفصيل الذي ذكره بعد سطور بأنه ان كان مطابقا للواقع فكذا، وان
كان مخالفا له فكذا، انما هو بعد انكشاف الواقع. والمراد من البطلان في
صدر عبارته، بمعنى عدم جواز الاجتزاء به بحكم العقل، انما هو قبل انكشاف
الواقع، فلا ربط له بالتفصيل المذكور بعد سطور. ولا فرق في الحكم بالبطلان
ظاهرا بالمعنى المذكور بين المعاملات والعبادات إذا فرض تمشى قصد القربة منه
في العبادات. والا فلا ينبغي الشك في بطلان العبادات واقعا. هذا كله قبل
انكشاف الحال بالعلم أو بالحجة. وأما إذا تبين الحال فالصور المتصورة أربع:
(الصورة الأولى) - ان تنكشف مخالفة المأتي به للواقع، بفتوى من
كان يجب الرجوع إليه حين العمل، وبفتوى من يجب الرجوع إليه فعلا أو كان
من يجب الرجوع فعلا هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل. ولا
اشكال في الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة، لعدم مطابقته للواقع على
حسب الحجة الفعلية والحجة حين العمل.
(الصورة الثانية) - ان تنكشف مطابقة المأتي به للواقع بفتوى كلا
المجتهدين، أو كان من يجب الرجوع إليه فعلا هو الذي كان يجب الرجوع
إليه حين العمل، وكان العمل المأتي به مطابقا للواقع بفتواه. ولا اشكال في
الحكم بصحة العمل في هذه الصورة، لكونه مطابقا للواقع على حسب الحجة
الفعلية والحجة حين العمل، بل يستفاد الحكم بصحته في هذه الصورة من الحكم
بالصحة في الصورة الرابعة بالأولوية القطعية.
(الصورة الثالثة) - ان تنكشف مطابقة العمل المأتي به لفتوى من كان
يجب الرجوع إليه حين العمل، ومخالفته لفتوى من يجب الرجوع إليه فعلا.
والظاهر هو الحكم بالبطلان في هذه الصورة، لان المقتضي للصحة إما ان يكون
504

الأدلة الخاصة الدالة على عدم وجوب الإعادة في خصوص الصلاة، كحديث
لا تعاد بناء على عدم اختصاصه بالناسي، وشموله للجاهل أيضا، كما هو الصحيح
ولذا نحكم بصحة عمل الجاهل القاصر، خلافا للمحقق النائيني (ره) فإنه أصر على
اختصاصه بالناسي، وهو لا يشمل الجاهل المقصر، لعدم اتيانه بوظيفة العبودية
من التعلم والفحص.
وبالجملة الجاهل المقصر بمنزلة العامد، فلا يشمله حديث لا تعاد وأمثاله.
وإما ان يكون المقتضي للصحة الأدلة العامة التي أقاموها على دلالة الأوامر
الظاهرية للاجزاء، بلا فرق بين الصلاة وغيرها. وعمدتها الاجماع على عدم
وجوب الإعادة والقضاء بعد امتثال الأوامر الظاهرية ولو انكشف خلافها، ولا
يكون المقام داخلا في معقد الاجماع يقينا، لان الاجماع على الاجزاء وعدم
وجوب الإعادة والقضاء انما هو فيما إذا كان العامل في عمله مستندا إلى الامر
الظاهري. وأما إذا لم يستند إليه كما في المقام فلا إجماع على صحته.
(الصورة الرابعة) - ان تنكشف مطابقة العمل المأتي به المواقع بحسب
فتوى المجتهد الفعلي، ومخالفته له بفتوى المجتهد الأول. والحكم في هذه
الصورة الصحة، إذ الحجة الفعلية قامت على صحة العمل وعدم وجوب القضاء،
فجاز الاستناد إليها في ترك القضاء. نعم هنا شئ، وهو انه لو كان العمل
مخالفا للواقع في نفس الامر، ومضى وقته صح عقابه على مخالفة الواقع بالنسبة
إلى ما مضى من الأعمال، لكون العمل مخالفا للواقع على الفرض، وعدم
الاستناد إلى الحجة فيه. والسر فيه ان ترك الواجب الواقعي في الوقت له عقاب
غير عقاب ترك القضاء، فالاستناد إلى فتوى المجتهد الفعلي بصحة العمل المأتي به
وعدم وجوب القضاء يوجب رفع العقاب على ترك القضاء، لا رفع العقاب على
ترك الأداء إذ تركه كان بلا استناد إلى الحجة. فمن صلى بلا استناد إلي
505

فتوى مجتهد ومضى وقتها، ثم انكشف صحتها بفتوى المجتهد الفعلي، بمعنى
انه قلد من أفتى بصحتها وعدم وجوب القضاء عليه، وكانت في الواقع فاسدة
صح عقابه لترك الأداء، لكونه بلا استناد إلى حجة، فلا يكون معذورا
فيه. نعم لا يصح عقابه على ترك القضاء، لاستناده فيه إلى الحجة الفعلية،
فيكون معذورا لا محالة. نعم لو صلى بلا تقليد مجتهد، ثم قلد من أفتى
بصحة صلاته والوقت باق، وكانت صلاته فاسدة في نفس الامر لا يصح عقابه
على ترك الأداء أيضا، لاستناده حينئذ في عدم الإعادة إلى الحجة الفعلية.
ومن جميع ما ذكرناه في حكم المقلد ظهر حكم المجتهد التارك للفحص أيضا
فان نسبة الامارة إليه نسبة فتوى المجتهد إلى المقلد. بلا تفاوت بينهما من حيث
الحكم أصلا، فلا حاجة إلى الإعادة.
ثم إن المتسالم عليه بين الفقهاء صحة الصلاة جهرا في موضع الاخفات
وبالعكس، وكذا صحة الاتمام في موضع القصر، وكذا صحة الصوم في
السفر. وكل ذلك مع الجهل بالحكم ولو تقصيرا ومع ذلك التزموا باستحقاق
العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك التعلم والفحص. واصل الحكم بالصحة
في هذه الموارد مما لا اشكال فيه ولا خلاف نصا وفتوى، انما الاشكال في الجمع
بين الحكم بالصحة واستحقاق العقاب، فإنه كيف يعقل الحكم بصحة المأتي به
والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب، ولا سيما مع بقاء الوقت، والحكم
بعدم وجوب الإعادة
وقد أجيب عن ذلك بوجهين: (الأول) - ما ذكره صاحب الكفاية (ره)
وهو انه يمكن ان يكون المأتي به حال الجهل مشتملا على مصلحة ملزمة، وأن يكون
الواجب الواقعي مشتملا على تلك المصلحة، وزيادة لا يمكن تداركها
عند استيفاء المصلحة التي كانت في العمل المأتي به جهلا، لتضاد المصلحتين،
506

فالحكم بالصحة انما هو لاشتمال المأتي به على المصلحة الملزمة، وعدم إمكان
استيفاء الزيادة والحكم باستحقاق العقاب، انما هو لأجل ان فوات المصلحة
الزائدة مستند إلى تقصيره وترك التعلم، فلا منافاة بينهما.
وفيه (أولا) - ان التضاد انما هو بين الافعال واما التضاد بين الملاكات
مع امكان الجمع بين الافعال، فهو امر موهوم يكاد يلحق بأنياب الأغوال.
و (ثانيا) - ان المصلحتين إن كانتا ارتباطيتين، فلا وجه للحكم بصحة
المأتي به، مع فرض عدم حصول المصلحة الأخرى، وان كانتا استقلاليتين،
لزم تعدد الواجب وتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا. وهو خلاف الضرورة
(الثاني) - ما ذكروه الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) من
الالتزام بالترتب، بتقريب ان الواجب على المكلف ابتداء هو صلاة القصر مثلا
وعلى تقدير تركه واستحقاق العقاب على تركه، فالواجب هو التمام، فلا
منافاة بين الحكم بصحة المأتى به واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأول.
وأورد المحقق النائيني (ره) على هذا الوجه بوجوه:
(الأول) - ان الخطاب المترتب لابد من أن يكون موضوعه عصيان
الخطاب المترتب عليه، كما في مسألة الصلاة والإزالة. ومن الظاهر عدم امكان
ذلك في المقام، لان المكلف ان التفت إلى كونه عاصيا للتكليف بالقصر، انقلب
كونه جاهلا بوجوب القصر إلى كونه عالما به، فيخرج من عنوان الجاهل
بالحكم، فلا يحكم بصحة ما اتى به، وان لم يلتفت إلى ذلك، فلا يعقل
ان يكون الحكم المجعول بهذا العنوان محركا له في مقام العمل.
(الثاني) - ان وجوب الصلاة بما انه غير موقت بوقت خاص، بل هو
ثابت موسعا بين المبدأ والمنتهى، فعصيانه لا يتحقق الا بخروج الوقت.
507

وعليه فكيف يعقل تحقق العصيان في أثناء الوقت الذي فرض موضوعا
للحكم الثاني
(الثالث) - ان الترتب لو سلم امكانه في المقام لا دليل على وقوعه،
فالقول به قول بغير دليل وهذا بخلاف الترتب في موارد التزاحم، إذ قد عرفت في
محله ان القول بالترتب فيه مما يقتضيه نفس إطلاق دليل الواجب، بلا حاجة إلى
إلى التماس دليل آخر.
هذا ولكن الانصاف انه لا يرد عليه شئ من الوجوه المذكورة اما
الوجهان الأولان فلما ذكرناه في محله من أن الالتزام بالخطاب الترتيبي لا يتوقف
على أن يكون موضوعه عصيان التكليف الآخر، بل يصح ذلك مع كون
الموضوع فيه مطلق الترك، فصح ان يقال في المقام ان القصر واجب مطلق،
والتمام واجب مشروط بترك القصر جهلا بوجوبه. واما الوجه الأخير فلان صحة
العمل المأتي به مفروغ عنها في المقام، وقد دل الدليل عليها، انما الكلام في
تصويرها وامكانها، فلو أمكن القول بالترتب لا يحتاج وقوعه إلى أزيد من
الأدلة الدالة على صحة المأتي به جهلا.
والصحيح ان يقال إن الترتب وان كان أمرا معقولا في نفسه، إلا أنه
لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام لامرين: (الأول) - ان لازم ذلك هو
الالتزام بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأسا. وقد عرفت بطلانه. (الثاني)
- ان ذلك مناف للروايات الكثيرة الدالة، علي ان الواجب على المكلف في كل
يوم وليلة خمس صلوات، إذ يلزم على القول بالترتب كون الواجب على من أتم
صلاته وهو مسافر ثمان صلوات، وكذا علي من اجهر في صلاته موضع الاخفات
وبالعكس كما لا يخفى.
والذي ينبغي ان يقال في مقام الجواب عن أصل الاشكال انا لا نلتزم
508

باستحقاق العقاب في هذه الموارد، فان مسألة استحقاق العقاب وعدمه عقلية
لا يعتمد فيها على الشهرة والاجماع، مضافا إلى عدم حجية الشهرة في نفسها، ولو
في المسائل الشرعية على ما ذكر في محله، وأن الاجماع غير محقق لعدم التعرض
لها في كلمات كثير من الأصحاب، فنلتزم بصحة العمل المأتي به بمقتضى الدليل
وبعدم استحقاق العقاب في هذه الموارد.
وتوضيح ذلك أن الجاهل بوجوب القصر مثلا لو صلى قصرا، وحصل
منه قصد القربة حال العمل، فاما ان يحكم بصحة صلاته وعدم وجوب الإعادة
عليه، بعد ارتفاع جهله أو يحكم بفسادها، ووجوب الإعادة.
(اما على الأول) - فلا مناص من الالتزام بأن الحكم للجاهل هو التخيير
بين القصر والتمام. وهذا هو الصحيح، فيحكم بصحة القصر بمقتضى اطلاقات
الأدلة الدالة على وجوب القصر علي المسافر، غاية الامر انه يرفع اليد عن
ظهورها في الوجوب التعيني بما دل على صحة التمام، مضافا إلى استبعاد الحكم
ببطلان القصر والامر بإعادة الصلاة قصرا بلا زيادة ونقصان، ويحكم بصحة التمام
أيضا، لورود النص الخاص، فيكون المكلف الجاهل بوجوب القصر مخيرا بين
القصر والتمام وإن لم يكن ملتفتا إلى التخيير. وعليه فلا موجب لاستحقاق العقاب
عند الاتيان بالتمام وترك القصر.
(واما على الثاني) - فلا مناص من الالتزام بكون التمام واجبا تعيينيا عند
الجهل بوجوب القصر، ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك
القصر، وكذا الحال في مسألة الجهر والاخفات، فلا حاجة إلى الإعادة.
ولتوضيح المقام نفرض شخصين كان كل واحد منهما جاهلا مقصرا، فأتي أحدهما
بصلاة الصبح مثلا جهرا والآخر اخفاتا، فنحكم بصحة صلاة الثاني، وان
كانت مخالفة للواقع بمقتضى النص الخاص. وحينئذ ان حكمنا ببطلان صلاة
509

الأول مع مطابقتها للواقع، يكون الامر أقبح، للحكم ببطلان ما هو مطابق
للواقع، وصحة ما هو مخالف له، مضافا إلى لزوم القول ببطلان الصلاة مع
الساتر إذا كان المصلي جاهلا باعتبار الستر في الصلاة، وكذا يلزم القول ببطلان
الصلاة إلى القبلة إذا كان المصلي جاهلا باعتبار الاستقبال في الصلاة. وهكذا
بالنسبة إلى سائر الشروط، فلا مناص من الحكم بصحة صلاته أيضا، فإذا
حكمنا بصحة الصلاة جهرا واخفاتا فلا محالة يكون الجاهل مخيرا بين الجهر
والاخفات، وإن لم يكن ملتفتا إلى التخيير حين العمل، فلا وجه للالتزام
باستحقاق العقاب.
(الجهة السادسة) - اشتراط الرجوع إلى الأصول العملية بالفحص مختص
بالشبهات الحكمية، لاختصاص دليل بها. واما الشبهات الموضوعية، فلا
يكون الرجوع الأصل فيها مشروطا بالفحص، بل يجوز الرجوع إليها، ولو
قبل الفحص لاطلاق أدلتها، وعدم جريان الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص
في الشبهات الحكمية ههنا. مضافا إلى خصوص بعض الروايات الواردة في موارد
خاصة، كصحيحة زرارة الواردة في الاستصحاب.
وبالجملة عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مما لا اشكال فيه ولا
خلاف، إلا أنه ذكر جماعة وجوب الفحص في بعض موارد الشبهات الموضوعية
مما كان العلم بالحكم فيه متوقفا على الفحص عادة: (منها) - ما إذا شك في المسافة
فقالوا يجب الفحص والسؤال من أهل الخبرة، مع كون المورد مجرى لاستصحاب
عدم تحقق المسافة. و (منها) - ما إذا شك في تحقق الاستطاعة إلى الحج من
حيث المال أو من جهة أخرى. و (منها) - ما إذا شك في زيادة الربح عن مؤونة
السنة، واستدلوا لوجوب الفحص في هذه الموارد بجعل الحكم في مورد يتوقف
العلم به على الفحص يدل بالملازمة العرفية على وجوب الفحص، والا لزم اللغو
510

في تشريعه.
وفيه ان الكبرى المذكورة وان كانت مسلمة، إلا انها غير منطبقة على
الأمثلة المذكورة، فان العلم بتحقق المسافة في في السفر وبلوغ المال حد النصاب
أو كفايته للحج أو زيادته عن مؤونة السنة قد يحصل، بلا احتياج إلى الفحص
وقد يحصل العلم بعدمه، وقد يكون مشكوكا فيه كبقية الموضوعات الخارجية
نعم ربما يتفق العلم بالموضوعات المذكورة على الفحص. والتوقف أحيانا من
باب الاخفاق لا يوجب وجوب الفحص، والا لوجب الفحص عن أكثر الموضوعات
نعم بناء على ما هو المشهور في الخمس من تعلقه بالربح حين حصوله، وكون
التأخير إلى آخر السنة من باب الارفاق، وجب الفحص عند الشك في الزيادة على
المؤونة، لان الوجوب حينئذ يكون متيقنا انما الشك في سقوطه، لأجل الشك
في كونه زائدا على المؤنة فيجب الفحص لا حراز السقوط بعد العلم بالوجوب.
واما على ما ذهب إليه ابن إدريس (ره) من تعلق الخمس بالربح بعد مضى السنة
وهو الظاهر، فلا وجه لوجوب الفحص كما ذكرناه (1)

(1) هكذا ذكر سيدنا الأستاذ العلامة دام ظله وفي ذهني القاصر انه
لا فرق بين مسلك المشهور وما ذهب إليه الحلي (ره) في عدم وجوب الفحص،
إذ لا خلاف بينهم في عدم تعلق الخمس في مقدار المؤونة، بل الاتفاق حاصل على
تعلق الخمس بالمقدار الزائد عن المؤنة انما الخلاف في أن تعلق الخمس بالمقدار
الزائد عن المؤونة هل هو حين حصوله كما هو المشهور أو بعد مضي السنة كما عليه
الحلي (ره) فلو شك في زيادة الربح عن مؤونة السنة، كان الشك في الوجوب على
كلا القولين، فلا وجه لوجوب الفحص على كليهما نعم لو كان المشهور قائلا
بتعلق الخمس بمطلق الربح، ولو لم يكن زائدا على المؤنة، وان ما يصرفه
المكلف في مؤنته عفو وارفاق منه تعالى عليه، كان لوجوب الفحص وجه
لكون الوجوب حينئذ معلوما. انما الشك في السقوط والعفو ولكن المشهور
لم يقولوا بذلك على ما راجعنا عاجلا ولابد من المراجعة التامة والفحص
الأكيد. ومن الله سبحانه وتعالى التوفيق والعناية.
511

ثم إن المحقق النائيني (ره) قد اعتبر في جريان البراءة في الشبهات
الموضوعية ان لا تكون مقدمات العلم بأجمعها تامة. واما فيما إذا كانت المقدمات
تامة بحيث لا يحتاج حصول العلم الا إلي مجرد النظر، فلا تجري البراءة، بل
لا بد من النظر وتحصيل العلم أو الاحتياط. ومثل لذلك بما إذا كان المكلف
بالصوم في سطح لا يتوقف علمه بطلوع الفجر الا على مجرد النظر إلى الأفق،
فلا يجوز له الرجوع إلى استصحاب بقاء الليل أو البراءة، بدون النظر، لان
مجرد النظر لا يعد من الفحص عرفا ليحكم بعدم وجوبه.
وفيه ان مجرد النظر وفتح العين من دون اعمال مقدمة أخرى وان كان
لا يعد من الفحص، الا ان الفحص بعنوانه لم يؤخذ في لسان دليل ليكون
الاعتبار بصدقه عرفا، بل المأخوذ في أدلة البراءة انما هو الجاهل وغير العالم.
ولا شك في أن المكلف بالصوم في المثال المذكور جاهل بطلوع الفجر، ولا دليل
على وجوب النظر ليكون مقيدا لاطلاقات الأدلة الدالة على الاستصحاب أو
البراءة، فالاطلاقات المذكورة محكمة لا وجه لتقييدها.
(الجهة السابعة) - ذكر الفاضل التوني (ره) على ما حكي عنه شيخنا
الأنصاري (ره) للبراءة شرطين آخرين بعد الفراغ عن كونها مشروطة بالفحص
(أحدهما) - ان لا يكون جريانها موجبا للضرر على مسلم أو من بحكمه
ومثل له بما لو فتح انسان قفس طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها. أو أمسك
512

رجلا فهربت دابته، فان اجراء البراءة في هذه الموارد يوجب الضرر
على المالك.
(ثانيهما) - ان لا يكون مستلزما لثبوت حكم إلزامي من جهة أخرى ومثل
له بما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الإناءين، فان جريان البراءة عن وجوب أحدهما
يوجب وجوب الاجتناب عن الآخر، للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما. وبما إذا لاقى
الماء المشكوك في كونه كرا النجاسة، فان جريان أصالة عدم الكرية يوجب الحكم
بوجوب الاجتناب عنه. وكذا إذا علم بكربة الماء وشك في تقدمها علي ملاقاة
النجاسة، فان جريان أصالة عدم التقدم يوجب الاجتناب عنه، وهذان المثالان
ينطبقان على البراءة، وانما هما مثالان للاستصحاب. ولم يظهر وجه لذكرهما
في المقام.
اما الشرط الأول فقد أورد عليه الشيخ (ره) وغيره بأن البراءة وان لم
تكن جارية في موارد جريان قاعدة لا ضرر، الا انه لا ينبغي عده من شرائطها
إذ مع جريان قاعدة لا ضرر، ينتفي موضوع البراءة وهو الشك، فان القاعدة
ناظرة إلى الواقع، وتكون من جملة الأدلة الاجتهادية. ولا مجال للرجوع إلى
الأصل، مع وجود الدليل كما هو الحال في سائر الأصول العملية بالنسبة إلى
الأدلة الاجتهادية.
هذا ملخص ما ذكره الشيخ (ره) من الاشكال، فان كان مراد الفاضل
التوني هذا المعنى، فالاشكال وارد عليه كما ذكره الشيخ (ره). ولكن
يحتمل ان يكون مراده ما ذكرناه في أول بحث البراءة من أن حديث الرفع وارد
في مقام الامتنان، بقرينة انتساب الأمة إليه في قوله صلى الله عليه وآله (رفع عن أمتي...)
فلا بد في شموله ان لا يكون فيه خلاف الامتنان على أحد من الأمة. فلو لزم
من جريان البراءة تضرر مسلم، فلا تجرى، ولا يشمله حديث الرفع، ولذا
513

ذكرنا في محله ان حديث الرفع لا يقيد به اطلاق قوله (ع) من أتلف مال الغير
فهو له ضامن، فلو أتلف مال الغير جهلا أو خطا أو نسيانا لا يمكن القول بعدم
الضمان، لأجل حديث الرفع، لكونه خلاف الامتنان على المالك، بخلاف
الأدلة الدالة على وجوب الكفارة على من أفطر في شهر رمضان مثلا، فان
حديث الرفع يقيدها بما إذا كان عالما عامدا. ولم يصدر الافطار منه
خطأ أو نسيانا.
واما الأمثلة المذكورة في كلام الفاضل التوني فلا يمكن التمسك فيها بقاعدة
لا ضرر، لوقوع الضرر فيها لا محالة إما على المالك أو على المتلف، فإنه لو حكم
بالضمان لزم الضرر على المتلف، ولو حكم بعدم الضمان لزم الضرر على المالك. ولا
يمكن جريان البراءة عن الضمان، لكونه خلاف الامتنان على المالك، فيحكم
بالضمان لاطلاق قوله (ع): (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) فيما إذا ترتب
الطيران وموت الولد و هروب الدابة على فعل هذا الشخص ترتب المعلول علي العلة
بنظر العرف، بحيث يعد فعله اتلافا بنظرهم، وان لم يكن بنحو العلية الحقيقية
الفلسفية، فإنه من الواضح ترتب الطيران على فتح القفس وكونه اتلافا عرفا.
وكذا المثال الثالث إذا كان الحيوان مما يترتب هروبه على الامساك كالغزال بل
الفرس. وكذا المثال الثاني إذا انحصر بقاء الولد بلبن أمه، بحيث يعد حبس
أمه اتلافا له في نظر العرف. وأما إذا أمكن بقاؤه باغذائه بشئ آخر، بحيث
لا يعد حبس أمه اتلافا له، فلا يكون ضامنا. وبالجملة الميزان هو صدق
الاتلاف عرفا.
فالمتحصل مما ذكرناه انه لو كان مراد الفاضل التوني (ره) ان جريان
البراءة مشروط بعدم كونه منافيا للامتنان، فهو متين لا يرد عليه شئ. نعم
ذكر في ذيل عبارته المحكمية في الرسائل ما هذا لفظه: (فلا علم ولا ظن بأن
514

الواقعة غير منصوصة، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل) انتهى. ويظهر منه
ان جريان الأصل مشروط بالعلم بعدم النص، وهذا واضح الفساد، فان الأصل
مشروط بعدم العلم بالنص، لا بالعلم بعدم النص
واما ما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) من أنه إذا فتح القفس متعمدا
عليه الاثم والتعذير، والا فلا يكون عليه شئ فلعل المراد منه نفى الاثم في
صورة عدم العمد. كما يشهد عليه صدر العبارة لا نفي الضمان أيضا، لا طلاق
قوله (ع): (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) على ما تقدم بيانه.
واما الشرط الثاني فتحقيق الحال فيه يستدعي التفصيل في المقام، وهو
ان ترتب الالزام من الجهة على جريان البراءة يتصور على اقسام:
(القسم الأول) - ان لا يكون بينهما في ذاتهما ترتب شرعا ولا عقلا، الا
ان شيئا خارجيا أوجب ذلك بينهما، كما في المثال الذي ذكره الفاضل التوني من
العلم الاجمالي بنجاسة أحد الإناءين، فإنه لا ترتب بين طهارة أحدهما ونجاسة
الآخر بحسب الواقع، ويمكن ان يكون كلاهما نجسا في الواقع، لكن العلم
الاجمالي أوجب الترتب المذكور، فلأجله كان جريان البراءة عن وجوب الاجتناب
في أحدهما موجبا لوجوب الاجتناب عن الآخر، ففي مثل ذلك لا يمكن الرجوع
إلى الأصل، لا لما ذكره الفاضل التوني من كون الأصل فيه مثبتا، بل لعدم
جريانه في نفسه لابتلائه بالمعارض، فلا تصل النوبة إلى استناد عدم الجريان إلى
كون الأصل مثبتا. ولذا لو فرضنا قيام الامارة في الطرفين لا يمكن العمل بها
لأجل المعارضة، مع حجية المثبتات من الامارات.
(القسم الثاني) - ان يكون الترتب عقليا كترتب وجوب المهم على عدم
وجوب الأهم، بناء على القول باستحالة الترتب، فان الموجب لرفع اليد عن
إطلاق دليل وجوب المهم، انما هو فعلية التكليف بالأهم وتنجزه الموجب لعجز
515

المكلف عن الاتيان بالواجب المهم، فلو فرضنا ترخيص الشارع ولو ظاهرا في
ترك الأهم، كان المهم واجبا لا محالة. فوجوب المهم مترتب عقلا على إباحة
ضده الأهم، وفي هذا القسم لا مناص من الحكم بوجوب المهم عند الشك في
تعلق التكليف بالأهم، لاطلاق دليل وجوب المهم. فهو المثبت لوجوب المهم
حقيقة لا البراءة، وهي انما ترفع المانع وهو عجز المكلف، ففيه لا يبقى مورد
لاشتراط جريان البراءة بعدم إثباته، للحكم الإلزامي، فان المثبت للوجوب فيه
هو اطلاق الدليل لا البراءة، كما تقدم بيانه.
(القسم الثالث) - ان يكون الترتب شرعيا، بأن يكون جواز شئ
مأخوذا في موضوع وجوب شئ آخر في لسان الدليل الشرعي. وهذا يكون
أيضا على اقسام ثلاثة (الأول) - ان يكون الالزام المترتب حكما واقعيا مترتبا
على الإباحة الواقعية. (الثاني) - ان يكون الالزام حكما واقعيا مترتبا على
مطلق الإباحة الجامع بين الواقعية والظاهرية. (الثالث) - ان يكون الالزام هو
الأعم من الواقعي والظاهري مترتبا على مطلق الإباحة الأعم من الواقعية
والظاهرية، بمعنى ان الالزام الواقعي كان مترتبا على الإباحة الواقعية، والالزام
الظاهري مترتبا على الإباحة الظاهرية.
(اما القسم الأول) - فلا يكفي جريان البراءة فيه فعلية الالزام، لان
أصالة البراءة غير ناظرة إلى الواقع، فلا تثبت بها الإباحة الواقعية، كي يترتب
على جريانها الحكم الإلزامي المترتب على الإباحة الواقعية. نعم ان كان الأصل
الجاري تنزيليا كالاستصحاب أو قامت امارة على ثبوت الإباحة الواقعية يترتب
عليه الالزام ظاهرا، لاحراز موضوعه بالتعبد، والعجب من الفاضل التوني
(رحمه الله) حيث لم يعتبر الاستصحاب في مسألة الشك في صيرورة ماء كرا،
بعد القطع بعدم كونه كرا، فاصابته نجاسة، فقال بعدم ترتب النجاسة على
516

استصحاب قلة الماء، مع أن الاستصحاب من الأصول التنزيلية وبمنزلة
القطع الطريقي.
و (اما القسم الثاني) فيترتب على الأصل الجاري فيه الالزام، سواء
كان الأصل تنزيليا أو غيره، لتحقق موضوع الالزام على كل تقدير كما
هو واضح.
و (اما القسم الثالث) فيكفي في فعلية الالزام فيه ثبوت الإباحة الظاهرية
غاية الامر ان الالزام حينئذ ظاهري، فإذا انكشف الخلاف يحكم بعدم ثبوت
الالزام من أول الامر، بخلاف القسم الثاني، فان كشف الخلاف فيه يستلزم
ارتفاع الالزام من حين الانكشاف لا من أول الامر. ولتذكر مثالين لهذين
القسمين، ليتضح الفرق بينهما، فنقول: اما مثال القسم الثالث فهو وجوب
حجة الاسلام المترتب على الاستطاعة وإباحة المال الذي به صار المكلف مستطيعا
فلو حكم بإباحة المال لجريان أصل من الأصول التنزيلية أو غيرها، يترتب عليه
وجوب حجة الاسلام ظاهرا، فلو انكشف الخلاف وبان عدم إباحة المال له
ينكشف عدم كونه مستطيعا وعدم وجوب حجة الاسلام عليه من أول الامر،
واما مثال القسم الثاني فهو الماء المشكوك في اباحته. فان وجوب التوضي به
واقعا مترتب على اباحته ظاهرا، فلو أحرزنا اباحته الظاهرية - ولو بأصالة الإباحة
أو أصالة البراءة مثلا - يترتب عليها وجوب التوضي به واقعا. وبعد انكشاف
الخلاف يرتفع الوجوب من حين الانكشاف دون ما قبله.
وبما ذكرناه من التفصيل في المقام ظهر ان أصالة البراءة في مورد جريانها
تترتب عليها آثارها بلا فرق بين كونها الزامية، فلا وجه لما ذكره الفاضل التوني
من اشتراط عدم ترتب حكم الزامي على جريانها.
517

(ختام)
نتعرض فيه لبيان قاعدة لا ضرر، تبعا لشيخنا الأنصاري وصاحب
الكفاية (ره) وتحقيق الكلام في هذه القاعدة يستدعي البحث في جهات:
(الجهة الأولى) - في بيان سند الروايات الواردة فيها ومتنها. (اما السند)
فلا ينبغي التأمل في صحته، لكونها من الروايات المستفيضة المشتهرة بين الفريقين
حتى ادعى فحز المحققين في باب الرهن من الايضاح تواترها، والسند في بعض
الطرق صحيح أو موثق، فلو لم يكن متواترا مقطوع الصدور، فلا أقل من
الاطمينان بصدورها عن المعصوم (ع). فلا مجال للاشكال في سندها. و (اما
المتن) فقد نقلها الخاصة على ثلاثة وجوه:
(الأول) - ما اقتصر فيه علي هاتين الجملتين (لا ضرر ولا ضرار) بلا
زيادة شئ كما في حديث ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في قضية
سمرة بن جندب، وكما في حديث عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) في قضاء
رسول الله (ص) بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء.
وما رواه عقبة بن خالد أيضا عن أبي عبد الله (ع) قال (ع) (قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال (ص) لا ضرر ولا ضرار)
وكذا رواها القاضي نعمان المصري في كتاب دعائم الاسلام.
(الثاني) - ما زيد فيه على الجملتين كلمة (على مؤمن) كما في حديث ابن
مسكان عن زرارة عن أبي جعفر (ع) في قضية سمرة بن جندب.
(الثالث) - ما زيد عليه على الجملتين كلمة (على الاسلام)، كما في رواية
518

الفقيه في باب ميراث أهل الملل، وقد حكيت بهذه الزيادة عن تذكرة العلامة (ره)
مرسلة، وكذلك عن كتاب مجمع البحرين هذا كله من طرق (الخاصة).
واما (العامة) - فرووها بطرق متعددة كلها بلا زيادة، الا رواية ابن الأثير في
النهاية، ففيها زيادة لفظ (في الاسلام)
ثم اعلم أنه لا معارضة بين الروايات من جهة الزيادة والنقيصة، لصدور
هاتين الجملتين عن النبي (ص) في موارد متعددة فيحتمل صدورها بوجوه مختلفة
نعم قد اختلفت الروايات في قصة سمرة بن جندب مع كونها قصة واحدة، فلا
محالة تكون الروايات الواردة في خصوص هذه القصة متعارضة، فقد رويت
(تارة) بلا ذكر الجملتين كما في رواية الفقيه عن الصيقل الحذاء، و (أخرى)
مع ذكر هما بلا زيادة شئ آخر، كما في رواية ابن بكير المتقدمة عن زرارة
و (ثالثة) بزيادة كلمة (على مؤمن) كما في رواية ابن مسكان المتقدمة عن زرارة
والترجيح لرواية ابن مسكان المشتملة على الزيادة، لان احتمال الغفلة في الزيادة
أبعد من احتمالها في النقيصة، فيؤخذ بالزيادة.
فتلخص مما ذكرناه ان هاتين الجملتين قد وصلت إلينا بالحجة بلا زيادة
ومع زيادة (على مؤمن) كما في رواية ابن مسكان، ومع زيادة (في الاسلام)
كما في رواية الفقيه. والقول بأن رواية الفقيه مرسلة لم يعلم انجبارها، لاحتمال
ان يكون عمل الأصحاب بغيرها من الروايات، فلم تثبت كلمة (في الاسلام) -
مدفوع بأن الارسال انما يكون فيما إذا كان التعبير بلفظ روي ونحوه. وأما إذا
كان بلفظ قال النبي (ص) (مثلا) كما في ما نحن فيه، فالظاهر كون
الرواية ثابتة عند الراوي، والا فلا يجوز له الاخبار البتي بقوله قال. فتعبير
الصدوق (ره) في الفقيه بقوله قال النبي (ص) يدل على أنه ثبت عنده صدور
هذا القول منه (ص) بطريق صحيح، والا لم يعبر بمثل هذا التعبير، فيعامل
519

مع هذا النحو من المراسيل معاملة المسانيد.
هذا ما ذكرناه في الدورة السابقة، لكن الانصاف عدم حجية مثل
هذه المرسلة أيضا، لان غاية ما يدل عليه هذا النحو من التعبير صحة الخبر عند
الصدوق. واما صحته عندنا فلم تثبت، لاختلاف المباني في حجية الخبر، فان
بعضهم قائل بحجية خصوص خبر العادل مع ما في معنى العدالة من الاختلاف، حتى
قال بعضهم العدالة هي شهادة ان لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله (ص)
مع عدم ظهور الفسق. وبعضهم قائل بحجية خبر الثقة، كما هو التحقيق.
وبعضهم لا يرى جواز العمل الا بالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة العلمية، فمع
وجود هذا الاختلاف في حجية الخبر كيف يكون اعتماد أحد على خبر مستلزما
لحجيته عند غيره. وبالجملة كون الخبر حجة عند الصدوق (ره) لا يثبت حجيته
عندنا، ولذا لا يمكن الاعتماد على جميع الروايات الموجودة في الفقيه، بل لابد
من النظر في حال الرواة لتحصيل الاطمئنان بوثاقتهم. مع أن الصدوق (ره)
ذكر في أول كتاب الفقيه: اني لا أذكر في هذا الكتاب الا ما هو حجة عندي
وكذا ذكر الكليني (ره) في كتاب الكافي مثل ما ذكره الصدوق (ره) في
الفقيه. ومن الواضح انه لا يمكننا العمل بجميع ما في الكافي، بل لابد من
الفحص وتحصيل الاطمئنان بوثاقة الراوي.
فتحصل ان زيادة لفظ (في الاسلام) لم تثبت لنا بطريق معتبر. نعم
الزيادة المذكورة موجودة في رواية ابن الأثير في النهاية، ولكنه من العامة،
فلا يصح الاعتماد عليها كما هو واضح.
ثم إن ذكر الجملتين في إحدى روايتي عقبة بن خالد منضما إلى قضائه (ص)
بالشفعة، وفي الأخرى منضما إلى نهيه (ص) أهل البادية عن منع فضل الماء
وان أمكن في مقام الثبوت ان يكون من باب الجمع في المروي، بأن كان ذكرهما
520

منضما إلى الحكم بالشفعة والى النهي عن منع فضل الماء في كلام النبي صلى الله عليه وآله وأن يكون
من باب الجمع في الرواية، بان كانت الجملتان في كلامه (ص) في مورد،
وحكمه بالشفعة في مورد آخر، ونهيه عن منع فضل الماء في مورد ثالث، وجمعها
الراوي عند النقل كما هو دأبهم في نقل الروايات. وكثيرا ما ينفق في نقل
الفتاوى أيضا، إلا ان الظاهر هو الثاني، فان مقام الاثبات لا يساعد الأول
والشاهد عليه في الرواية الأولي امر ان:
(الأول) - ان بين موارد ثبوت حق الشفعة وتضرر الشريك بالبيع
عموم من وجه، فربما يتضرر الشريك ولا يكون له حق الشفعة، كما إذا كان
الشركاء أكثر من اثنين، وقد يثبت حق الشفعة بلا ترتب ضرر على أحد
الشريكين بيع الآخر، كما إذا كان الشريك البائع مؤذيا، وكان المشتري
ورعا بارا محسنا إلى شريكه، وربما يجتمعان كما هو واضح، فإذا لا يصح،
ادراج الحكم بثبوت حق الشفعة تحت كبرى قاعدة لا ضرر.
(الثاني) - ان مفاد لا ضرر - على ما سيجئ بيانه - انما هو نفي الحكم
الضرري أو نفي الموضوع الضرري، بأن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي
الموضوع على اختلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية (ره) والضرر في مورد
ثبوت حق الشفعة إنما يأتي من قبل بيع الشريك حصته، فلو كان ذلك موردا
لقاعدة لا ضرر لزم الحكم ببطلان البيع، ولو كان الضرر ناشئا من لزوم البيع
لزم الحكم بثبوت الخيار، بأن يرد المبيع إلى البائع. وأما جعل الحق الشفعة
لجبر ان الضرر وتدارك، بأن ينقل المبيع إلى ملكه فليس مستفادا من أدلة
نفي الضرر، فإنها لا تدل على جعل حكم يتدارك به الضرر، غايتها نفى الحكم
الضرري على ما سيجئ بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
و (أما الرواية الثانية) - فالشاهد فيها أيضا أمران: (الأول) - ان
521

الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ما له عن الغير، إذ من الواضح أن منع
المالك غيره عن الانتفاع بماله لا يعد ضررا على الغير، غايته عدم الانتفاع به.
وسيجئ أن عدم الانتفاع لا يعد ضررا. (الثاني) - أن النهي في هذا المورد
تنزيهي قطعا، لعدم حرمة منع فضل المال عن الغير بالضرورة، فلا يندرج
تحت كبرى قاعدة لا ضرر بجميع معانيها.
(الجهة الثالثة) - في فقه الحديث ومعناه، إن في هاتين الجملتين ثلاث
كلمات: (ضرر، وضرار، وكلمة لا) فلنشرح كل واحدة ليعلم المراد
التركيبي منها: أما الضرر فهو اسم مصدر من ضر يضر ضرا، ويقابله المنفعة
لا النفع، كما في الكفاية، لان النفع مصدر لا اسم مصدر، ومقابله الضر
لا الضرر، كما في قوله تعالى: (لا يملكون لا نفسهم ضرا ولا نفعا) والفرق
بين المصدر واسمه واضح، فان معنى المصدر نفس الفعل الصادر من الفاعل،
ومعنى اسم المصدر هو الحاصل من المعنى المصدري. ومادة الضرر تستعمل
متعدية إذا كانت مجردة، فيقال ضره ويضره. وأما ان كانت من باب الافعال
فتستعمل متعدية بالباء، فيقال أضر به ولا يقال أضره، وأما معنى الضرر
فهو النقص في المال، كما إذا خسر التاجر في تجارته، أو في العرض كما إذا
حدث شئ أوجب هتكه مثلا، أو في البدن بالكيفية كما إذا اكل شيئا فصار
مريضا، أو بالكمية كما إذا قطع يده مثلا. والمنفعة هي الزيادة من حيث المال
كما إذا ربح التاجر في تجارته أو من حيث العرض، كما إذا حدث شئ أوجب
تعظيمه، أو من حيث البدن كما إذا اكل المريض دواء فعوفي منه، وبينهما
واسطة، كما إذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر، فلم يتحقق منفعة ولا ضرر
فظهر أن التقابل بينهما من تقابل التضاد لا من تقابل العدم والملكة على
ما في الكفاية
522

وأما الضرار فيمكن أن يكون مصدرا للفعل المجرد كالقيام، ويمكن ان
يكون مصدر باب المفاعلة، لكن الظاهر هو الثاني، إذ لو كان مصدر المجرد
لزم التكرار في الكلام بحسب المعنى، بلا موجب، ويكون بمنزلة قوله لا ضرر
ولا ضرر مع قوله صلى الله عليه وآله انك رجل مضار في قصة سمرة بن جندب يؤيد كونه
مصدر باب المفاعلة.
ثم إن المعروف بين الصرفيين والنحويين بل المسلم عندهم أن باب المفاعلة
فعل للاثنين، لكن التتبع في موارد الاستعمالات يشهد بخلاف ذلك. وأول
من تنبه لهذا الاشتباه المسلم هو بعض الأعاظم من مشايخنا المحققين (ره) (1)
والذي يشهد به التتبع أن هيئة المفاعلة وضعت لقيام الفاعل مقام ايجاد المادة،
وكون الفاعل بصدد ايجاد الفعل. وأقوى شاهد على ذلك هي الآيات الشريفة
القرآنية: (فمنها) - قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون
إلا أنفسهم) فذكر سبحانه وتعالى ان المنافقين بصدد ايجاد الخدعة، ولكن
لا تقع خدعتهم إلا على أنفسهم، ومن ثم عبر في الجملة الأولى بهيئة المفاعلة، لأن
الله تعالى لا يكون مخدوعا بخدعتهم، لان المخدوع ملزوم للجهل، وتعالى
الله عنه علوا كبيرا. وعبر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد، لوقوع ضرر
خدعتهم على أنفسهم لا محالة.
و (منها) - قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بان لهم الجنة، فيقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون...) ووجه الدلالة واضح
لا حاجة إلي البيان. والشواهد على ما ذكرناه في هيئة المفاعلة كثيرة في الآيات

(1) - وهو المرحوم العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني الكمپاني
طاب ثراه.
523

الشريفة جدا. ومن تتبع يجد صدق ما ذكرناه، فان بعض مشايخنا المتقدم
ذكره قد تتبع لاستفادة هذا المطلب من أول القرآن إلى آخره. هذا ما يرجع
إلى معنى لفظي الضرر والضرار.
وأما كلمة لا الداخلة عليهما في الجملتين فهي لنفي الجنس، وتوضيح
المراد منها وبيان مفادها في المقام يتوقف على ذكر موارد استعمال الجمل المنفية
بها في الأحكام الشرعية، وفي مقام التشريع، وهي على اقسام: (فمنها) - ما
تكون الجملة مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق شئ كناية عن مبغوضيته
فيكون الكلام نفيا أريد به النهى، والسر في صحة هذا الاستعمال هو ما ذكرناه
في مبحث الأوامر من أن الاخبار عن عدم شئ كالاخبار عن وجوده، فكما
صح الاخبار عن وجود شئ في مقام الامر به، بمعنى ان المؤمن الممتثل يفعل
كذا، كقول الفقهاء يعيد الصلاة أو أعاد الصلاة، كذلك صح الاخبار عن
عدم وجود شئ في مقام النهي عنه بالعناية المذكورة أي بمعنى أن المؤمن
لا يفعل كذا. وقد وقع هذا الاستعمال في الآيات والروايات. أما الآيات
فكقوله تعالي. (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وأما الروايات
فكقوله صلى الله عليه وآله (لا غش بين المسلمين).
فظهر بما ذكرناه أنه لا وجه لانكار صاحب الكفاية (ره) تعاهد هذا
النحو من الاستعمال للتركيب المشتمل على كلمة لا التي لنفى الجنس.
و (منها) - ما تكون الجملة فيه مستعملة أيضا في مقام الاخبار عن عدم
تحقق شئ في الخارج، لكن لا بمعنى عدم التحقق مطلقا، بل بمعنى عدم
وجود الطبيعة في ضمن فرد خاص أو حصة خاصة، بمعنى أن الطبيعة غير منطبقة
على هذا الفرد أو على هذه الحصة. والمقصود نفى الحكم الثابت للطبيعة عن الفرد
أو عن الحصة، كقوله (ع): (لا ربا بين الوالد والولد) وقوله (ع) (لا غيبة
524

لمن ألقى جلباب الحياء) وقوله (ع) (لا سهو للامام مع حفظ من خلفه) فان
المقصود نفى حرمة الربا بين الوالد والولد، ونفي حرمة الغيبة في المورد المذكور
ونفي حكم الشك مع حفظ المأموم، فان المراد من السهو في هذه الرواية وغيرها
هو الشك على ما ذكر في محله. وهذا هو الذي يعبر عنه ينفي الحكم بلسان نفي
الموضوع، وظهر أنه لا بد في هذا الاستعمال من ثبوت حكم إلزامي أو غيره،
تكليفي أو وضعي في الشريعة المقدسة لنفس الطبيعة، ليكون هذا الدليل نافيا
له عن الفرد أو عن الحصة بلسان نفي الموضوع. هذا فيما إذا كان النفي حقيقيا
وأما إذا كان النفي ادعائيا، فلا يترتب عليه إلا نفي الآثار المرغوبة المعبر عنه
بنفي الكمال، كما في قوله (ع): (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد).
و (منها) - ما تكون الجملة فيه مستعملة في نفي شئ في الشريعة المقدسة
الاسلامية، فتارة تكون مستعملة في نفي موضوع من الموضوعات في الشريعة
المقدسة فيستفاد منه نفى الحكم الثابت له في الشرايع السابقة أو في العرف كما في
قوله (ع): (لا رهبانية في الاسلام) فان الرهبانية كانت مشروعة في الأمم
السابقة، فنفيها في الاسلام كناية عن نفى تشريعها. وكقوله (ع):
(لا مناجشة في الاسلام) فان الازدياد في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كان
متعارفا عند العرف، فنفاه الشارع والمقصود نفي تشريعها، ومن هذا الباب قوله
عليه السلام (لا قياس في الدين) فان حجية القياس كانت مرتكزة عند العامة، فنفاها بنفيه
وبالجملة الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتا للموضوع في
الشرايع السابقة أو في سيرة العرف، بلا فرق بين أن يكون إلزاميا أو غير
الزامي تكليفيا أو وضعيا، و (أخرى) تكون الجملة مستعملة في نفي نفس
الحكم الشرعي ابتداء، كما في قوله (ع) (ما جعل عليكم في الدين من
حرج) فان ثبوت الحرج في الشريعة إنما هو بجعل حكم حرجي، فنفيه في
525

الشريعة إنما هو بعدم جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج على المكلف.
إذا عرفت ما ذكرناه من موارد استعمال كلمة لا النافية للجنس، فلنرجع
إلى استظهار المراد من الحديث الشريف، وما يستفاد منها بحسب خصوصية
المقام، فقد ذكر له احتمالات أربعة:
(الأول) - أن يكون الكلام نفيا أريد به النهي بمنزلة قوله تعالي:
(لا رفث ولا فسوق ولا جدال) على ما تقدم بيانه. وعلى هذا فمفاد الجملتين
حرمة الا ضرار بالغير، وحرمة القيام مقام الا ضرار. واختار هذا الاحتمال
شيخنا الشريعة الأصفهاني (ره) وأصر عليه. وهذا الاحتمال وإن كان ممكنا
في نفسه، إلا أنه لا يمكن الالتزام به في المقام. أما بناء على اشتمال
الرواية على كلمة في الاسلام كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر، لأن
هذا القيد كاشف عن أن المراد هو النفي في مقام التشريع، لا نفي الوجود
الخارجي بداعي الزجر. وأما بناء على عدم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح
لكون رواية الفقيه مرسلة غير منجبرة، ورواية ابن الأثير للعامة، فلان حمل
النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية
كما هي ثابتة في قوله تعالى: (لا رفث ولا فسوق). فان العلم بوجود هذه
الأمور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب علي الله سبحانه وتعالى قرينة
قطعية على إرادة النهي. وأما المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل
النفي على النهي، لامكان حمل القضية على الخبرية على ما سنذكره قريبا إن شاء
الله تعالى.
(الثاني) - أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على ما تقدم
بيانه، كما في قوله (ع): (لا ربا بين الوالد والولد) فان الربا بمعنى الزيادة
موجود بينهما، إنما المقصود نفى الحرمة. وعليه فيكون مفاد الجملتين أن
526

الاحكام الثابتة لموضوعاتها - حال عدم الضرر - منفية عنها إذا كانت تلك
الموضوعات ضررية، فان الوضوء إذا كان ضرريا ينفى عنه الوجوب. واختار
هذا الاحتمال صاحب الكفاية (ره) وهذا الاحتمال أيضا مما لا يمكن الالتزام
به في المقام، وإن كان الاستعمال المذكور صحيحا في نفسه، كما ذكرناه في
الأمثلة المتقدمة، وذلك لأن المنفي في المقام هو عنوان الضرر، والضرر ليس
عنوانا للفعل الموجب للضرر، بل مسبب عنه ومترتب عليه، فلو كان النفي
نفيا للحكم بلسان نفى موضوعه، لزم أن يكون المنفى في المقام الحكم الثابت
لنفس الضرر، لا الحكم المترتب على الفعل الضرري، فيلزم نفى حرمة الاضرار
بالغير بلسان نفى الاضرار، وهو خلاف المقصود، فان المقصود حرمة الاضرار
بالغير. هذا مضافا إلى أن الضرر بالنسبة إلى الحكم المترتب عليه موضوع، فهو
مقتض له، فكيف يعقل أن يكون مانعا عنه. نعم لو كان المنفى في المقام هو الفعل
الضرري أمكن القول بأن المراد نفى حكم هذا الفعل بلسان نفى الموضوع كالوضوء
الضرري مثلا، فما هو المنفي في المقام لا يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي
الموضوع وما يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفى الموضوع لا يكون منفيا في المقام
وبالجملة نفي الحكم بلسان نفى الموضوع إنما يكون فيما إذا كان دليل
بعمومه أو إطلاقه شاملا لمورد الضرر، ليكون دليل النفي ناظرا إلى نفى شموله
لمورد الضرر بلسان نفى انطباق الموضوع عليه. وأما إذا كان المنفى عنوان الضرر
فلا معنى لنفى الحكم الثابت له بعنوانه وهو الحرمة لما ذكرناه.
وربما يقال - كما في الكفاية - ان رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع
إنما يكون رفعا للحكم المتعلق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان، بلسان رفع
الموضوع، مع أن المرفوع في ظاهر الحديث هو نفس الخطأ والنسيان،
فليكن المقام كذلك وعليه فالمنفى هو حكم الفعل الضرري بلسان نفى الموضوع
527

وفيه (أولا) - أن الالتزام بنفي الحكم عن الفعل الصادر حال الخطأ
والنسيان في حديث الرفع إنما هو للقرينة القطعية، باعتبار أن رفع الخطأ
والنسيان تكوينا مستلزم للكذب، لوجودهما بالوجدان، ورفع الحكم المتعلق
بنفس الخطأ والنسيان مستلزم للخلف والمحال، فان الموضوع هو المقتضي للحكم
فكيف يعقل أن يكون رافعا له، فلا مناص من الحمل على رفع للحكم المتعلق
بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان. وهذا بخلاف المقام إذ يمكن فيه تعلق
النفي بنفس الضرر في مقام التشريع، ليكون مفاده نفى جعل الحكم الضرري على
ما سيجئ بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.
و (ثانيا) أن نسبة الخطأ والنسيان إلي الفعل هي نسبة العلة إلى المعلول،
فيصح ان يكون النفي نفيا للمعلول بنفي علته، فيكون المراد أن الفعل الصادر
حال الخطأ والنسيان كأنه لم يصدر في الخارج أصلا، فيرتفع حكمه لا محالة
بخلاف الضرر، فإنه معلول للفعل ومترتب عليه في الخارج، ولم يعهد في
الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقا بالمعلول. وقد أريد
به نفي العلة ليترتب عليه نفى الحكم المتعلق بالعلة. ولو سلم صحة هذا الاستعمال
فلا ينبغي الشك في كونه خلاف الظاهر جدا، فلا يصار إليه إلا
بالقرينة القطعية.
و (ثالثا) - أن الرفع المتعلق بالخطأ والنسيان في حديث الرفع يمكن
أن يكون من قبيل القسم الثالث، من اقسام استعمالات لا النافية للجنس، فيكون
المنفى حينئذ الحكم الثابت لهما في الشرايع السابقة، كما يشهد به قوله
صلى الله عليه وآله: (رفع عن أمتي) فإنه ظاهر في اختصاص الرفع بهذه الشريعة و لازمه
ثبوت الحكم في الشرايع السابقة، ولا تكون المؤاخذة على الخطأ والنسيان
منافا للعدل، حتى تستنكر في الشرايع السابقة أيضا، فان المؤاخذة على عدم
528

التحفظ عن الخطأ والنسيان بان يكتب شيئا أو يضع مقابل وجهه شيئا مثلا كي
لا يخطئ ولا ينسى، لا ينافي العدل. نعم إذا صدر الخطأ أو النسيان بغير
اختياره بحيث لا يمكنه التحفظ عنهما لا تصح المؤاخذة عليهما حينئذ لا محالة.
وعليه فلا وجه لقياس المقام برفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع، لعدم كون
الرفع رفعا للحكم بلسان نفي الموضوع، بل يكون رفعا للآثار التي كانت للخطأ
والنسيان في الشرايع السابقة (1).
(الثالث) - أن يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك، ولازمه ثبوت
التدارك في موارد الضرر بأمر من الشارع، فان الضرر المتدارك لا يكون
ضررا حقيقة. وهذا الوجه أبعد الوجوه، إذ يرد عليه. (أولا) - أن
التقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل.
و (ثانيا) - أن التدارك الموجب لانتفاء الضرر - على تقدير التسليم -
إنما هو التدارك الخارجي التكويني لا التشريعي، فمن خسر مالا ثم ربح بمقداره
صح أن يقال - ولو بالمسامحة - أنه لم يتضرر. وأما حكم الشارع بالتدارك،
فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجا، فمن سرق ما له متضرر بالوجدان، مع حكم
الشارع بوجوب رده عليه.
و (ثالثا) - أن كل ضرر خارجي ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا
أو وضعا، فإنه لو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر لا يجب عليه تداركه، مع

(1) هكذا ذكر سيدنا الأستاذ العلامة دام ظله العالي. وفي ذهني
القاصر أن الآثار الثابتة في الشرايع السابقة أيضا كانت للفعل الصادر حال الخطأ
والنسيان، لا لنفس الخطأ والنسيان، فيرجع الأمر إلى نفي تلك الآثار في
هذه الشريعة المقدسة بلسان نفي الموضوع فلاحظ.
529

كون التاجر الثاني هو الموجب للضرر على التاجر الأول، فضلا عما إذا تضرر
شخص من دون ان يكون أحد موجبا للضرر عليه، كمن احترقت داره مثلا،
فإنه لا يجب على جاره ولا على غيره تدارك ضرره. نعم لو كان الاضرار باتلاف
المال وجب تداركه على المتلف، لكن لا بدليل لا ضرر، بل بقاعدة الاتلاف
من أنه من أتلف مال الغير فهو له ضامن.
(الرابع) - ما أفاده شيخنا الأنصاري (ره) من أن المراد نفى الحكم
الناشئ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنوانا للحكم لكونه معلولا له في مقام
الامتثال، فكل حكم موجب لوقوع العبد المطيع في الضرر، فهو مرتفع في
عالم التشريع، وأما العبد العاصي فهو لا يتضرر يجعل اي حكم من الاحكام
لعدم امتثاله.
وبالجملة مفاد نفى الضرر في عالم التشريع هو نفى الحكم الضرري، كما أن
مفاد نفى الحرج في عالم التشريع هو نفى الحكم الحرجي. وهذا هو الصحيح ولا
يرد عليه شئ مما كان يرد على الوجوه المتقدمة، فيكون الحديث الشريف دالا
على نفى جعل الحكم الضرري، سواء كان الضرر ناشئا من نفس الحكم كلزوم
البيع المشتمل على الغبن، أو ناشئا من متعلقه كالوضوء الموجب للضرر، فاللزوم
مرتفع في الأول والوجوب في الثاني.
(الجهة الثالثة) - في انطباق قاعدة نفي الضرر على ما ذكر في قصة سمرة
ابن جندب، فربما يقال بعدم انطباقها عليه، لأن الضرر في تلك القضية لم يكن
إلا في دخول سمرة على الأنصاري بغير استيذان. وأما بقاء عذقه في البستان
فما كان يترتب عليه ضرر أصلا. ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله بقلع العذق،
فالكبرى المذكورة فيها لا تنطبق على المورد، فكيف يمكن الاستدلال بها
في غيره.
530

وأجاب عنه المحقق النائيني (ره) بما حاصله أن دخول سمرة على
الأنصاري بغير استيذان إذا كان ضرريا، فكما يرتفع هذا الضرر بمنعه عن
الدخول بغير استيذان، كذلك يرتفع برفع علته وهي ثبوت حق لسمرة في إبقاء
عذقه في البستان، فلأجل كون المعلول ضرريا رفعت علته، كما إذا كانت
المقدمة ضررية، فإنه كما ينتفي وجوب المقدسة كذلك ينتفي وجوب ذي المقدمة
فإذا كان على المكلف غسل ولم يكن الغسل بنفسه موجبا للضرر عليه، ولكن
كانت مقدمته كالمشي إلى الحمام مثلا ضرريا، فلا إشكال في رفع وجوب ذي
المقدمة، وهو الغسل كرفع وجوب المقدمة، وهي المشي إلى الحمام، فلا
مانع من سقوط حق سمرة استنادا إلى نفي الضرر، لكون معلوله ضرريا
وهو الدخول بغير استيذان.
وفيه أن كون المعلول ضرريا لا يوجب إلا ارتفاع نفسه، فان رفع
علته بلا موجب، فإذا كانت إطاعة الزوج في عمل من الأعمال ضررا على الزوجة
لا يرتفع به إلا وجوب الإطاعة في ذلك العمل. وأما الزوجية التي هي السبب في
وجوب الإطاعة فلا مقتضي لارتفاعها. وكذا إذا اضطر أحد إلى شرب النجس
فالمرتفع بالاضطرار إنما هو الحرمة دون نجاسته التي هي علة الحرمة. وهكذا.
وقياس المقام بكون المقدمة ضررية الموجبة لارتفاع وجوب ذي المقدمة مع
الفارق، لان كون المقدمة ضررية تستلزم كون ذي المقدمة أيضا ضرريا، لان
الاتيان بذي المقدمة يتوقف على الاتيان بالمقدمة على ما هو معنى المقدمية،
فضررية المقدسة توجب ضررية ذيها لا محالة، فارتفاع وجوب ذي المقدمة انما
هو لكونه بنفسه ضرريا، فان المشي إلى الحمام لو كان ضرريا كان الغسل بنفسه
ضرريا، مع فرض توقفه على المشي إلى الحمام، فكيف يقاس المقام به.
وأجاب شيخنا الأنصاري (ره) بأنا لا ندري كيفية انطباق الكبرى
531

على المورد، والجهل بها لا يضر بالاستدلال بالكبرى الكلية فيما علم انطباقها
عليه. وما ذكره وان كان صحيحا في نفسه، إلا أن المقام ليس كذلك أي
مجهول الانطباق على المورد، بل معلوم الانطباق عليه، فان ما يستفاد من
الرواية الواردة في قصة سمرة أمران: (أحدهما) - عدم جواز دخول سمرة على
الأنصاري بغير استيذان. (ثانيهما) - حكمه صلى الله عليه وآله بقلع العذق. و الاشكال
المذكور مبنى على أن يكون الحكم الثاني بخصوصه أو منضما إلى الأول مستندا
إلى نفي الضرر. وأما ان كان المستند إليه خصوص الحكم الأول، وكان الحكم
الثاني الناشئ من ولايته صلى الله عليه وآله على أموال الأمة وأنفسهم، دفعا لمادة الفساد
أو تأديبا له لقيامه معه (ص) مقام العناد واللجاج، كما يدل عليه قوله (ص):
(اقلعها وارم بها وجه) وقوله (ص) لسمرة (فاغرسها حيث شئت) مع أن
الظاهر (والله العالم) سقوط العذق بعد القطع عن الأثمار، وعدم الانتفاع
بغرسه في مكان آخر، فهذان الكلامان ظاهران في غضبه (ص) على سمرة
وكونه (ص) في مقام التأديب، كما هو في محله لمعاملته معه (ص) معاملة
المعاند التارك للدنيا والآخرة والإطاعة والأدب معا كما يظهر من مراجعة
القضية بتفصيلها. فتلخص أن حكمه صلى الله عليه وآله بقلع العذق لم يكن مستندا إلى قاعدة
نفي الضرر، فالاشكال مندفع من أصله.
532

(تنبيهات)
(التنبيه الأول)
أنه بناء على ما ذكرناه - من أن قوله (ص) لا ضرر ناظر إلى نفي
تشريع الحكم الضرري - يختص النفي بجعل حكم إلزامي من الوجوب والحرمة
فإنه هو الذي يكون العبد ملزما في امتثاله، فعلى تقدير كونه ضرريا كان
وقوع العبد في الضرر مستندا إلى الشارع بجعله الحكم الضرري. وأما
الترخيص في شئ يكون موجبا للضرر على نفس المكلف أو على غيره، فلا
يكون مشمولا لدليل نفى الضرر، لأن الترخيص في شئ لا يلزم المكلف في
ارتكابه حتى يكون الترخيص ضرريا، بل العبد باختياره وارادته يرتكبه،
فيكون الضرر مستندا إليه لا إلى الترخيص المجعول من قبل الشارع.
و (بالجملة) نفى الضرر في الحديث الشريف - على ما ذكرناه من المعنى -
ليس إلا كنفي الحرج المستفاد من أدلة نفي الحرج، فكما أن المنفى بها هو
الحكم الإلزامي الموجب لوقوع المكلف في الحرج دون الترخيصي، إذ الترخيص
في شئ حرجي لا يكون سببا لوقوع العبد في الحرج، فكذا في المقام بلا
فرق بينهما، فلا يستفاد من قوله (ص) لا ضرر حرمة الاضرار بالغير ولا
حرمة الاضرار بالنفس، وإن كان الأول ثابتا بالأدلة الخاصة، بل يمكن
استفادته من الفقرة الثانية في نفس هذا الحديث، وهي قوله (ص) لا ضرار
بتقريب أن المراد من النفي في هذه الفقرة هو النهي، كما في قوله تعالى لا رفث
533

ولا فسوق ولا جدال. وذلك لان الضرار أمر خارجي وهو كون الشخص في
مقام الاضرار بالغير، فلا معنى لنفيه تشريعا، كما لا يصح حمله على الاخبار
عن عدم تحقق الاضرار في الخارج، للزوم الكذب، فلا محالة يكون المراد
منه النهى عن كون الشخص في مقام الاضرار بالغير، فيدل على حرمة الاضرار
بالغير بالأولوية القطعية، ولا يلزم من حمل النفي على النهى في هذه الفقرة
التفكيك بين الفقرتين، لأن المعنى في كلتيهما هو النفي، غاية الامر كون النفي
في الفقرة الأولى حقيقا، وفي الفقرة الثانية ادعائيا على ما تقدم بيانه. وهذا
نظير ما ذكرناه في حديث الرفع من أن الرفع بالنسبة إلى مالا يعلمون حقيقي
وبالنسبة إلى الخطأ والنسيان وغيرهما من الفقرات مجازي. وأما الثاني وهو
الاضرار بالنفس فلا يستفاد حرمته من الفقرة الثانية أيضا، لان الضرار وغيره
مما هو من هذا الباب كالقتال والجدال لا يصدق الا مع الغير لا مع النفس.
(التنبيه الثاني)
أن الضرر كسائر العناوين الكلية المأخوذة في موضوعات الاحكام المتوقف
ثبوت الحكم فعلا على تحقق مصداقها خارجا. ومن المعلوم أن الضرر لا يكون
من الأمور المتأصلة التي لا يفترق الحال فيها بالإضافة إلى شخص دون شخص،
بل من الأمور الإضافية التي يمكن تحققها بالنسبة إلى شخص دون شخص، كما
في الوضوء، فإنه يمكن أن يكون الوضوء ضررا على شخص دون آخر،
فوجوبه منفي بالنسبة إلى المتضرر به دون غيره، فما كان مشتهرا في زمان من
أن الضرر في العبادات شخصي، وفي المعاملات نوعي لا يرجع إلى محصل، بل
534

الصحيح أن الضرر في المعاملات أيضا شخصي، لما ذكرناه من أن فعلية الحكم
المجعول تابعة لتحقق الموضوع. ولا يظهر وجه للتفكيك بين العبادات
والمعاملات في ذلك، وكأن الوجه في وقوعهم في هذا التوهم هو ما وقع في
كلام جماعة من أكابر الفقهاء، ومنهم شيخنا الأنصاري (ره) من التمسك
بقاعدة نفي الضرر، لثبوت خيار الغبن وحق الشفعة، مع أن الضرر لا يكون
في جميع موارد خيار الغبن، بل النسبة بين الضرر وثبوت خيار الغبن هي
العموم من وجه، إذ قد يكون الخبار ثابتا مع عدم تحقق الضرر، كما إذا
كان البيع مشتملا على الغبن وقد غلت السلمة حين ظهور الغبن بما يتدارك به
الغبن، فلا يكون الحكم باللزوم في مثله موجبا للضرر على المشترى، وقد
لا يكون الخيار ثابتا مع تحقق الضرر، كما إذا كان البيع غير مشتمل على الغبن
ولكن تنزلت السلمة من حيث القيمة السوقية، وقد يجتمعان كما هو واضح
كما أن النسبة بين الضرر وثبوت حق الشفعة أيضا عموم من وجه. وقد تقدمت
أمثلة الافتراق والاجتماع ولا نعيد، فلا جل هذا الاستدلال توهموا أن الضرر
في المعاملات نوعي لا شخصي. وقد عرفت أن الصحيح كون الضرر شخصيا
في المعاملات أيضا، وليس المدرك لثبوت خيار الغبن وثبوت حق الشفعة هي
قاعدة لا ضرر، بل المدرك لثبوت حق الشفعة هي الروايات الخاصة الدالة عليه
في موارد مخصوصة، ولذا لا نقول بحق الشفعة إلا في هذه الموارد الخاصة
المنصوص عليها، ككون المبيع من الأراضي والمساكن، دون غيرها من
الفروش والظروف وغيرها، وكونه مشتركا بين اثنين لا بين أكثر منهما وقد تقدم
ان ذكر حديث لا ضرر منضما إلى قضائه (ص) بالشفعة في رواية عقبة بن خالد
إنما هو من قبيل الجمع في الرواية لا الجمع في المروي، ولو سلم كونه من باب
الجمع في المروي فلا بد من حمله على الحكمة دون العلة. والمدارك لخيار الغبن
535

هو تخلف الشرط الارتكازي الثابت في المعاملات العقلائية من تساوي العرضين
في المالية، فان البناء الارتكازي من العقلاء ثابت على التحفظ على الهيولى
والمالية عند تبديل الصور والتشخصات لأغراض وحوائج تدعوهم إليه، فلو
فرض نقصان أحد العوضين عن الآخر في المالية، بحيث ينافي ويخالف هذا
الشرط الارتكازي، ثبت خيار تخلف الشرط. نعم النقصان اليسير لا يوجب
الخيار، لكونه ثابتا في غالب المعاملات المتعارفة. والتفصيل موكول إلى محله
(التنبيه الثالث)
ذكر شيخنا الأنصاري (ره) أن كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة لا ضرر
بالاجماع، والنصوص الخاصة موهنة للتمسك بها في غير الموارد المنصوص عليها
والمنجبرة بعمل الأصحاب، فان الاحكام المجعولة في باب الضمانات والحدود والديات
والقصاص والتعزيرات كلها ضررية، وكذلك تشريع الخمس والزكاة والحج
والجهاد ضرري، مع كونها مجعولة بالضرورة. ومن هذا القبيل الحكم
بنجاسة الملاقى فيما كان مسقطا لماليته، كما في المرق أو منقصا لها كما في
الفرو، مع أنه ثابت بلا إشكال، وكذا غيرها مما تأتى الإشارة إلى بعضها
فما خرج من عموم القاعدة أكثر مما بقى تحتها، وحيث إن تخصيص الأكثر
مستهجن في الكلام، فلا مناص من الالتزام بان الضرر المنفي في الحديث ضرر
خاص غير شامل لهذه الموارد، حتى لا يلزم تخصيص الأكثر، ولازم ذلك هو
الالتزام بكون مدلول الحديث مجملا غير قابل للاستدلال به غير الموارد المنصوص
عليها أو المنجبرة بعمل الأصحاب. هكذا ذكره الشيخ (ره) ولنا في صحة هذا
536

الانجبار كلام مذكور في محله.
ثم أجاب عن ذلك بأنه يمكن أن يكون التخصيص في هذه الموارد بعنوان
واحد جامع لجميعها، ولا قبح في التخصيص بعنوان واحد، ولو كان افراده
أكثر من الباقي تحت العام. وعليه فلا مانع من التمسك بعموم القاعدة عند
الشك في التخصيص.
ورد عليه في الكفاية بأنه لا فرق في استهجان تخصيص الأكثر بين أن
يكون التخصيص بعنوان واحد يكون أفراده أكثر من الباقي تحت العام أو
يكون بعناوين مختلفة.
ونحن نتكلم (أولا) في تحقيق هذه الكبرى أي استهجان تخصيص
الأكثر، ثم في تطبيقها على المقام، فنقول: إن العموم المذكور في الكلام
(تارة) يكون من قبيل القضايا الخارجية، ويكون الملحوظ في الكلام ثبوت
الحكم للافراد الخارجية، فحينئذ لا إشكال في استهجان تخصيص الأكثر، بلا
فرق بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة، فلو قيل قتل
جميع العسكر إلا بني تميم، وكان في العسكر من غير بني تميم رجل أو رجلان
ففي الحقيقة كان المقتول رجلا أو رجلين، فلا إشكال في استهجان التعبير عن
قتلهما بمثل قتل جميع العسكر إلا بني تميم، وان كان التخصيص بعنوان واحد
مثل ما إذا كان التخصيص بعناوين مختلفة، كما لو قيل قتل جميع العسكر إلا
زيدا وإلا عمروا وإلا... حتى لا يبقى إلا رجل أو رجلان مثلا. و (أخرى)
يكون العموم المذكور في الكلام بنحو القضايا الحقيقة، ويكون الحكم ثابتا
للموضوع المقدر، بلا نظر إلى الافراد الخارجية، فلا يكون التخصيص
حينئذ مستهجنا، وإن بلغ افراده ما بلغ، لعدم لحاظ الافراد الخارجية في
ثبوت الحكم، حتى يكون الخارج أكثر من الباقي. وهذه هي القاعدة الكلية
537

لقبح تخصيص الأكثر. وأما تطبيقها على المقام، فالظاهر أن الحديث الشريف
من القسم الأول، أي من قبيل القضايا الخارجية، فإنه ناظر إلى الاحكام التي
بلغها الله سبحانه إلى الناس بلسان نبيه صلى الله عليه وآله وأنه لم يجعل في هذه الأحكام
ما يكون ضرريا، فالحق مع صاحب الكفاية (ره) في أنه لا فرق في قبح تخصيص
الأكثر في المقام بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة.
وأما الجواب عن أصل الاشكال فهو انه ليس في المقام تخصيص الا في موارد
قليلة. ونذكر (أولا) موارد التخصيص، ثم الجواب عما توهم كونه
تخصيصا للقاعدة، ليتضح عدم ورود تخصيص الأكثر على القاعدة فنقول:
(الأول) - من موارد التخصيص هو الحكم بنجاسة الملاقي للنجس، مع
كونه مستلزما للضرر على المالك، كما لو وقعت فأرة في دهن أو مرق، فالحكم
بنجاستهما كما هو المنصوص موجب للضرر على المالك، وكذا غير الدهن والمرق
مما كان الحكم بنجاسته موجبا لسقوطه عن المالية أو لنقصانها.
(الثاني) - وجوب الغسل على مريض أجنب نفسه عمدا، وإن كان
الغسل ضررا عليه على ما ورد في النص، وإن كان المشهور أعرضوا عن هذا النص
وحكموا بعدم وجوب الغسل على المريض على تقدير كونه ضررا عليه. فعلى
القول بوجوب الغسل عملا بالنص كان تخصيصا للقاعدة.
(الثالث) - وجوب شراء ماء الوضوء ولو باضعاف قيمته، فإنه ضرر
مالي عليه، لكنه منصوص ومستثنى من القاعدة. هذه هي موارد التخصيص
وأما غيرها مما ذكره شيخنا الأنصاري (ره) فليس فيه تخصيص للقاعدة. أما
باب الضمانات فليس مشمولا لحديث لا ضرر من أول الامر، لكونه واردا
في مقام الامتنان والحكم بعدم الضمان موجب للضرر على المالك، والحكم بالضمان
موجب للضرر على المتلف، فكلاهما منافيان للامتنان خارجان عن مدلول الحديث
538

بلا حاجة إلى التخصيص، والحكم بالضمان مستند إلى عموم أدلة الضمان من قاعدة
الاتلاف أو اليد أو غيرهما مما هو مذكور في محله، ولما ذكرناه من أن الحديث
الامتناني لا يشمل كل مورد يكون منافيا للامتنان على أحد من الأمة، قلنا
في باب البيع بصحة بيع المضطر وفساد بيع المكره، مع أن الاضطرار والاكراه
كليهما مذكور ان في حديث الرفع، لان رفع الحكم عن بيع المضطر مناف
للامتنان عليه، فلا يكون مشمولا لحديث الرفع، بخلاف بيع المكره، فان
الرفع فيه لا يكون منافيا للامتنان عليه، بل يكون امتنانا عليه، فيكون
مشمولا لحديث الرفع. وهذا هو الوجه في التفكيك بين بيع المضطر والمكره
في الحكم بصحة الأول وفساد الثاني.
وأما الاحكام المجعولة في الديات والحدود والقصاص والحج والجهاد، فهي
خارجة عن قاعدة لا ضرر بالتخصص لا بالتخصيص، لأنها من أول الامر جعلت
ضرورية لمصالح فيها، كما قال سبحانه وتعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولى
الألباب) وحديث لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات الدالة على التكاليف
التي قد تكون ضررية، وقد لا تكون ضررية، ويقيدها بصورة عدم الضرر
على المكلف، فكل حكم جعل ضرريا بطبعه من أول الامر لا يكون مشمولا لحديث لا ضرر، فلا يحتاج خروجه إلى التخصيص.
وأما الخمس فتشريعه لا يكون ضررا على أحد، لان الشارع لم يعتبره
مالكا لمقدار الخمس، حتى يكون وجوب إخراجه ضررا عليه، بل اعتبره
شريكا مع السادة، غاية الامر أنه يصدق عدم النفع أو قلة النفع. وعدم النفع
لا يكون ضررا، فمثله مثل الولد الذي مات أبوه وكان له أخ شريك معه في
ميراث أبيه فإنه لا يصدق الضرر عليه. نعم في باب الزكاة يصدق الضرر لتعلق
الزكاة بما كان ملكا له فإنه كان مالكا للنصاب، وبعد تمام الحول في زكاة الأنعام
539

وزكاة النقدين يتعلق الزكاة بملكه. وكذا الحال في زكاة الغلات. فإنه مالك
للزرع والثمر قبل تعلق الزكاة، فوجوب اخراجها ضرر عليه، ولكنه لا يكون مشمولا لحديث لا ضرر، لكونه مجعولا بطبعه ضرريا من أول الامر.
فتحصل مما ذكرناه أن ما ذكر من الموارد تخصيصا لقاعدة لا ضرر أمره دائر
بين أن لا يكون فيه تخصيص أصلا، أولا يلزم من التخصيص به تخصيص الأكثر
فلا إشكال في التمسك بالقاعدة في غير الموارد المذكورة.
(التنبيه الرابع)
قد ذكرنا أن دليل لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات المثبتة للتكليف
ويقيدها بصورة عدم الضرر الا أن النسبة بين دليل لا ضرر وبين كل واحد من
الأدلة المثبتة للتكليف عموم من وجه، فان مقتضى إطلاق دليل وجوب الوضوء
مثلا وجوبه حتى في حال الضرر، وإطلاق دليل لا ضرر ينفي وجوبه حال الضرر
فالوضوء الضرري يكون مورد الاجتماع، فيقع التعارض بينهما فيه، فوقع
الكلام بينهم في وجه تقديم دليل لا ضرر على الدليل المثبت للتكليف. وقد
ذكروا للتقديم وجوها لا محصل لها، فلا نتعرض لها وللكلام عليها، فإنه بلا
طائل. والتحقيق في وجه التقديم أن دليل لا ضرر حاكم على الأدلة المثبتة
للتكاليف والدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة النسبة بينهما
وبلا ملاحظة الترجيحات الدلالية والسندية، بل الدليل الحاكم بعد إحراز حجيته
يقدم على المحكوم، وإن كان أضعف منه دلالة وسندا، فلنا في المقام دعويان
(الأولى) - صغروية وهي ان دليل لا ضرر حاكم على العمومات والاطلاقات المثبتة
540

للتكليف. و (الثانية) - كبروية، وهي أن كل دليل حاكم يقدم على المحكوم بلا
ملاحظة النسبة والترجيح بينهما.
أما الدعوى الأولي فبيانها أن كل دليلين يكون بينهما تناف إن لم يكن
أحدهما ناظرا إلى الآخر، بل كان التنافي بينهما لعدم إمكان الجمع بين مدلوليهما
للتضاد أو التناقص، والأول كما في أكرم العلماء ولا تكرم الفساق، والثاني
كما في أكرم العلماء ولا يجب اكرام الفساق، بالنسبة إلى مادة الاجتماع، فهذا
هو التعارض. فلا بد فيه من الرجوع إلى قاعدة التعارض من تقديم الأقوى
منهما دلالة أو سندا، أو التخيير أو التساقط على اختلاف الموارد والمسالك.
والتفصيل موكول إلى محله، وهو بحث التعادل والترجيح. وأما إن كان
أحدهما ناظرا إلى الآخر فهو حاكم عليه ومبين للمراد منه. ثم إن النظر إلي
الآخر قد يكون بمدلوله المطابقي وبمفاد أعني وأردت، وقد يكون
بمدلوله الالتزامي.
و (الأول) - إما ان يكون ناظرا إلى ظهور الدليل الآخر، وجهة
دلالته على المراد الجدي. وهذا القسم من الحكومة في الرويات نادر جدا،
حتى ادعى المحقق النائيني (ره) عدم وجوده، لكن الحق وجوده في الروايات
مع الندرة، ومن ذلك قوله (ع): (انما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع)
بعد ما سئل عن قوله (ع) الفقيه لا يعيد الصلاة، وإما ان يكون ناظرا إلى
جهة صدور الدليل الآخر، كما إذا ورد دليل ظاهر في بيان الحكم الواقعي، ثم
ورد دليل آخر على أن الدليل الأول إنما صدر عن تقية لا بيان الحكم الواقعي
وهذا القسم من الحكومة كثير في الروايات، كما يظهر عند المراجعة.
و (الثاني) - أي ما يكون ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله الالتزامي
(تارة) يكون ناظرا إلى عقد الوضع إما بالاثبات والتوسعة كما في النبوي (الطواف
بالبيت صلاة) أو بالنفي والتضييق كما في قوله (ع): (لا ربا بين الوالد والولد)
541

ففي الأول يجري جميع احكام الصلاة في الطواف، وفي الثاني لا يجري حكم الربا
في الربا بين الوالد والولد و (أخرى) يكون ناظرا إلى عقد الحمل، كدليل
لا حرج بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف. وكذا دليل لا ضرر بالنسبة إلى
الأدلة المثبتة للتكاليف، فان دليل لا ضرر لا يكون ناظرا إلى عقد الوضح،
وأن الوضوء الضرري مثلا ليس بوضوء، بل ناظر إلى عقد الحمل، وأن
الوضوء الضرري ليس بواجب. وقد ظهر بما ذكرناه أن الدليل الحاكم من حيث
كونه ناظرا إلى الدليل المحكوم ومفسرا له يكون متأخرا عنه رتبة، سواء كان
من حيث الزمان متقدما عليه أو متأخرا عنه. هذه هي اقسام الحكومة،
والجامع بينها ان الدليل الحاكم الناظر إلى الدليل المحكوم هو الذي لو لم يكن
الدليل المحكوم مجعولا كان الحاكم لغوا، فإنه منطبق على جميع الأقسام المذكورة فلاحظ.
وأما الدعوى الثانية وهي ان كل حاكم يقدم على المحكوم بلا ملاحظة
النسبة والترجيح بينهما، فبيانها ان الدليل الحكام ان كان ناظرا إلى عقد الوضح
بالتوسعة أو التضييق، فالوجه في تقديمه ظاهر، لان كل دليل مثبت للحكم
لا يتكفل لبيان موضوعه، فإذا ورد دليل كان مداوله وجود الموضوع أو
نفيه لا يكون بينهما تناف وتعارض أصلا، فان دليل حرمة الربا مثلا لا يكون
متكفلا لبيان تحقق الربا، بل مفاده حرمة الربا على نحو القضية الحقيقية، فإذا
ورد في دليل آخر انه لا ربا بين الوالد والولد فلا منافاة بينهما، فإنه ينفى ما لا
يثبته الدليل الأول، فيجب العمل بهما والحكم بحرمة الربا، وانه لا ربا بين
الوالد والولد. وكذا الحال في التوسعة. ولا حاجة إلى إعادة الكلام واما
إن كان الدليل الحاكم ناظرا إلى جهة الصدور في الدليل المحكوم أو إلى عقد
الحمل فيه، فالوجه في تقديمه عليه ان حجية الظهور وحجية جهة الصدور ثابتتان
542

بسيرة العقلاء، فان بناء العقلاء قد استقر على كون الظاهر هو المراد الجدي،
وكون الداعي إلى التكلم هو بيان الحكم الواقعي. ومورد هذا البناء وموضوعه هو
الشك في المراد، والشك في جهة الصدور، وبعد ورد الدليل الدال على بيان المراد
وجهة الصدور لا يبقى شك حتى يعمل بالظهور أو جهة الصدور، فيكون الدليل
الحاكم مبينا للمراد من الدليل المحكوم، ومبينا لجهة صدوره، وبه يرتفع
الشك ولم يبق مورد للعمل بأصالة الظهور أو بأصالة الجهة وهذا هو السر في
تقديم الحاكم على المحكوم، من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما، بعد
إحراز حجية الحاكم. وهذا الكلام جار في كل قرينة متصلة أو منفصلة مع ذيها
فإنه تقدم القرينة بعد إحراز قرينيتها على ظهور ذي القرينة وان كان أقوى من
ظهور القرينة.
(التنبيه الخامس)
إن لفظ الضرر المذكور في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي، كما
هو الحال في جميع الألفاظ، ولهذا قلنا في محله إن مقتضى الأدلة ثبوت الاحكام
للموضوعات الواقعية، من دون تقييد بالعلم والجهل، غاية الامر ان الجاهل
المستند في مخالفتها إلى الامارة أو الأصل معذور غير مستحق للعقاب. واما
الاحكام فهي مشتركة بين العالم والجاهل. وعليه فيكون الميزان في رفع الحكم
كونه ضرريا في الواقع، سواء علم به المكلف أم لا، وقد استشكل بذلك
في موردين:
(الأول) - تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون. واما
543

مع العلم بها، فلا يحكم بالخيار، فيقال ما وجه هذا التقييد؟ مع أن دليل
لا ضرر ناظر إلى الضرر الواقعي، بلا فرق بين العلم والجهل. ودعوى - انه مع العلم هو أقدم علي الضرر - مدفوعة بأن إقدامه على الضرر غير مؤثر في
لزوم البيع، بعد كون الحكم الضرري منفيا في الشريعة، وبعد كون اللزوم
منفيا شرعا لا فائدة في إقدامه على الضرر.
(الثاني) - تسالم الفقهاء على صحة الطهارة المائية مع جهل المكلف
بكونها ضررية، مع أن مقتضى دليل لا ضرر عدم وجوبها حينئذ، وكون الوظيفة هي الطهارة الترابية، فيلزم الحكم ببطلان الطهارة المائية مع جهل
المكلف بكونها ضررية، ووجوب إعادة الصلاة الواقعية معها.
والجواب اما عن المورد الأول فهو ان الاشكال فيه مبني على أن الدليل
لثبوت خيار الغبن والعيب هو دليل نفي الضرر. وقد ذكرنا ان الدليل على
ثبوت خيار الغبن تخلف الشرط الارتكازي، باعتبار ان بناء العقلاء على
التحفظ بالمالية عند تبديل الصور الشخصية، فهذا شرط ضمني ارتكازي،
وبتخلفه يثبت خيار تخلف الشرط وعليه فيكون الاقدام من المغبون مع
علمه بالغبن اسقاطا للشرط المذكور فلا اشكال فيه. وأما خيار العيب فان
كل الدليل عليه هو تخلف الشرط الضمني، بتقريب ان المعاملات العقلائية
مبنية على أصالة السلامة في العوضين، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلف
الشرط، فيجرى فيه الكلام السابق في خيار الغبن. ولا حاجة إلى الإعادة. وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصة، كما أن الامر كذلك، غاية الامر ان
الاخبار مشتملة على امر آخر زائدا على الخيار وهو الأرش، فهو مخير بين
الفسخ والامضاء مع الأرش، فالامر أوضح لتقييد الخيار في الاخبار بصورة
الجهل بالعيب.
544

واما الجواب عن الاشكال في الموارد الثاني، فذكر المحقق النائيني (ره)
أن مفاد حديث لا ضرر هو نفي الحكم الضرري في عالم التشريع. والضرر
الواقع في موارد الجهل لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بدليل لا ضرر، وإنما
نشأ من جهل المكلف به خارجا. ومن ثم لو لم يكن الحكم ثابتا في الواقع لوقع
في الضرر أيضا.
وفيه ان الاعتبار في دليل نفي الضرر إنما هو بكون الحكم بنفسه أو
بمتعلقه ضرريا ولا ينظر إلى الضرر المتحقق في الخارج، وأنه نشأ من أي
سبب. ومن الظاهر أن الطهارة المائية مع كونها ضررية لو كانت واجبة في
الشريعة يصدق أن الحكم الضرري مجعول فيها من قبل الشارع. وعليه فدليل
نفي الضرر ينفي وجوبها.
والصحيح في الجواب ان يقال إن دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان
على الأمة الاسلامية، فكل مورد يكون نفى الحكم فيه منافيا للامتنان
لا يكون مشمولا لدليل لا ضرر. ومن المعلوم أن الحكم ببطلان الطهارة المائية
الضررية الصادرة حال الجهل بكونها ضررية. والامر بالتيمم وبإعادة العبادات
الواقعة معها مخالف للامتنان، فلا يشمله دليل لا ضرر، بل الحكم بصحة
الطهارة المائية المذكورة وبصحة العبادات الواقعة معها هو المطابق للامتنان.
ثم إن مجرد كون الوضوء الضرري مثلا الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل
لا ضرر لا يكفي في الحكم بصحته، بل اثبات صحته يحتاج إلى دليل من
عموم أو اطلاق يشمله، لان عدم كونه مشمولا لدليل لا ضرر عبارة عن عدم
المانع من صحته. وعدم المانع لا يكفي في الحكم بالصحة، بل لا بد من
احراز المقتضي وشمول الأدلة. وهذا يتوقف على أحد أمرين على سبيل منع
الخلو (الأول) - ان لا يكون الاضرار بالنفس حراما ما لم يبلغ حد التهلكة،
545

ولم يكن مما علم مبغوضيته في الشريعة المقدسة، كقطع بعض الأعضاء ونحوه.
(الثاني) - ان لا يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي ساريا إلى ما يتولد
منه، فان الاضرار بالنفس وان فرض حرمته، إلا أن حرمته لا تسري بناء على
ذلك إلى الطهارة المائية التي يتولد منها الاضرار، فلا مانع من الحكم بصحتها
وإن كان الاضرار المتولد منها حراما. وأما إذا لم نقل بأحد الامرين، بأن
قلنا بحرمة الاضرار بالنفس وبسراية الحرمة من الاضرار المسبب من الطهارة
المائية إلى السبب فتكون الطهارة المائية حينئذ حراما. وحرمتها مانعة عن
اتصافها بالصحة، ولا يكون الجهل موجبا للتقرب بما هو مبغوض
واقعا. ولذا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي أنه بناء على الامتناع
وتقديم جانب النهي يحكم بفساد العبادة ولو في حال الجهل. وما ذكره
الفقهاء من الحكم بالصحة في حال الجهل فهو إما مبني على جواز اجتماع الأمر والنهي
، فيكون المقام من باب التزاحم لا من باب التعارض ولا مانع من
الحكم بصحة أحد المتزاحمين في صورة عدم وصول الآخر إلى المكلف وجهله به
وإما ناشئ من الاشتباه في التطبيق والغفلة عن كون
العمل موردا لاجتماع الأمر والنهي. ومن العجيب ما صدر عن المحقق النائيني
(رحمه الله) في رسالته العملية من الفتوى بصحة الوضوء بماء مغصوب حال
الجهل بالغصبية، مع كونه ملتفتا إلى كونه موردا لاجتماع الأمر والنهي على
ما تعرض له في الأصول. والاجماع المدعى في مفتاح الكرامة على صحة
الوضوء مع الجهل بالغصبية مما لا مجال للاعتماد عليه، فإنه إجماع منقول
معلوم المدرك.
وربما يتوهم في المقام انه لا يمكن الحكم بصحة الطهارة المائية ولو لم
نقل بسراية الحرمة من المسبب إلى السبب، إذ مع حرمة المسبب لا يمكن القول
بوجوب السبب، ولو لم نقل بحرمته لعدم إمكان اختلاف السبب والمسبب
546

في الوجوب والحرمة، بأن يكون السبب واجبا والمسبب حراما، فلا يمكن
القول بوجوب الطهارة المائية الضررية مع حرمة الاضرار بالنفس.
ويدفعه أن عدم إمكان اختلاف السبب والمسبب في الوجوب والحرمة،
ليس الا من جهة استلزامه التكليف بما لا يطاق، لعدم إمكان امتثال أحدهما
إلا بمخالفة الآخر. ولا مانع من أن يكون في السبب ملاك الوجوب، وفي
المسبب ملاك الحرمة، غاية الامر عدم فعلية كلا الحكمين، لعدم قدرة المكلف
على امتثالهما، فيكون من باب التزاحم، كما إذا توقف إنقاذ غريق على
التصرف في ملك الغير، فإنه يكون المسبب واجبا والسبب حراما عكس ما نحن
فيه. ولا إشكال في تنجز وجوب الانقاذ
مع الجهل بحرمة التصرف حكما أو
موضوعا، كما لا اشكال في تنجز حرمة التصرف مع الجهل بوجوبه الانقاذ
حكما أو موضوعا، فكذلك الحال في المقام لا مانع من وجوب الطهارة المائية
مع الجهل بالضرر. وليس المقام من قبيل اجتماع الأمر والنهي في شئ واحد،
ليكون المورد من باب التعارض على القول بامتناع الاجتماع، لعدم إمكان
الاجتماع في نفسه، مع قطع النظر عن عدم قدرة المكلف على الامتثال، فعلى
القول بتقديم جانب الحرمة يكون العمل مبغوضا في الواقع، فلا يمكن التقرب
به، وبعد كونه غير مأمور به لا يمكن كشف وجود الملاك فيه كي يمكن القول
بالصحة، لأجل وجود الملاك، وإن لم يكن مأمورا به، لأنا لا نعلم وجود
الملاك إلا بالأمر المفقود على الفرض. والمقام ليس من هذا القبيل، بل من
باب التزاحم على التقريب المتقدم. فالصحيح ان الالتزام بأحد الأمرين المذكورين
كاف في الحكم بصحة الطهارة المائية مع الجهل بالضرر.
ولتقدم الكلام في الامر الثاني لكون البحث فيه مختصرا بالنسبة إلى
الامر الأول. فنقول: أما الكلام فيه من حيث الكبرى فقد تقدم في بحث
547

مقدمة الواجب. وملخص ما ذكرناه هناك أن العنوان التوليدي إن كان ينطبق
على نفس ما يتولد منه في نظر العرف، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما
يتولد منه لوحدة الوجود خارجا. ولا عبرة بتعدد العنوان مع اتحاد الوجود خارجا
كالفعل الذي يتولد منه الهتك مثلا، فان الهتك ينطبق على نفس هذا الفعل، وهو
فرد منه، فلو كان الهتك حراما تسري حرمته إلى الفعل لا محالة، بل حرمته
عين حرمة الفعل لاتحاد هما خارجا في نظر العرف.
وأما إن كان الفعل التوليدي مغايرا في الوجود مع ما يتولد منه،
كالاحراق المتولد من الالقاء، حيث أنها موجودان بوجودين، ضرورة ان اللقاء
مغاير للاحتراق وجودا، فايجاد اللقاء أي الالقاء مغاير لايجاد الاحتراق أي
الاحراق لان الايجاد والوجود متحدان ذاتا، ومختلفان اعتبارا، فلا تسري حرمة
الفعل التوليدي إلى ما يتولد منه والوجه فيه ظاهر بعد كونهما متغايرين من
حيث الوجود.
وأما الكلام من حيث الصغرى، فهو أنا قد ذكرنا في الدورة السابقة أن
الضرر المتولد من الطهارة المائية من قبيل الأول، ولكن التحقيق أنه من
قبيل الثاني، لان الضرر هو النقصان على ما ذكرناه سابقا، كحدوث الحمى
مثلا، وهو غير الطهارة المائية في الوجود. وعليه فلا تسري حرمة الاضرار
إلى الطهارة المائية، وصح الحكم بصحتها، بلا احتياج إلى البحث عن الامر
الأول، إلا انا نتكلم فيه أيضا تتميما للبحث، فنقول ذكر شيخنا الأنصاري
(رحمه الله) في رسالة المعمولة في قاعدة لا ضرر ان الاضرار بالنفس كالأضرار
بالغير محرم بالأدلة العقلية والنقلية. ولكن التحقيق عدم ثبوت ذلك على
إطلاقه، اي في غير التهلكة وما هو مبغوض في الشريعة المقدسة كقطع
الأعضاء ونحوه، فان العقل لا يرى محذورا في إضرار الانسان بماله بأن يصرفه
548

كيف يشاء بداع من الدواعي العقلائية ما لم يبلغ حد الاسراف والتبذير، ولا
بنفسه بأن يتحمل ما يضر ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي، بل جرت عليه
سيرة العقلاء، فإنهم يسافرون للتجارة مع تضررهم من الحرارة والبرودة،
بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجبا لهذا المقدار من الضرر لكان الحكم
المذكور مرفوعا بقاعدة لا ضرر. 549
وكذا النقل لم يدل على حرمة الاضرار
بالنفس، فان أقصى ما يمكن أن يستدل به لحرمة الاضرار بالنفس روايات
نتكلم فيها:
(منها) - الروايات الدالة على نفى الضرر والضرار. وقد عرفت الحال
فيها، فان الفقرة الأولى منها لا تدل على حرمة الاضرار بالغير، فضلا عن
الاضرار بالنفس، بل هي ناظرة إلى نفى الاحكام الضررية في عالم التشريع.
والفقرة الثانية منها تدل على حرمة الاضرار بالغير بالأولوية على ما عرفت وجهها
ولا يدل على حرمة الاضرار بالنفس بوجه كما تقدم.
و (منها) - ما رواه الكليني (ره) في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام في
حديث طويل من قوله (ع): (ان الله تعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم
ما سواء رغبة منه فيما حرم عليهم ولا زهدا فيما أحل لهم، ولكن خلق الخلق
فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحله لهم واباحه تفضلا عليهم به
لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه وحرمه عليهم - إلى أن قال (ع) - اما
الميتة فإنه لابد منها أحد إلا ضعف بدنه ونحف جسمه وذهبت قوته...)
فربما يستدل بها لحرمة الاضرار بالنفس، لكون الظاهر منها أن علة حرمة
المحرمات هي اضرارها، فالحرمة تدور مداره، ولكن التأمل فيها يشهد بعدم
دلالتها على حرمة الاضرار بالنفس، فان المستفاد منها ان الحكمة في تحريم
جملة من الأشياء كونها مضرة بنوعها، لا ان الضرر موضوع للتحريم. والذي
549

يدلنا على هذا أمور:
(الأول) - أن الضرر لو كان علة للتحريم يستفاد عدم حرمة الميتة من
نفس هذه الرواية، لان المذكور فيها ترتب الضرر على إدمانها، فلزم عدم
حرمة الميتة من غير الادمان، لان العلة المنصوصة كما توجب توسعة الحكم
توجب تضييقه أيضا، فإذا ورد أن الخمر حرام لكونه مسكرا، فالتعليل
المذكور كما يدل على حرمة غير الخمر من المسكرات، يدل على عدم حرمة الخمر
إن لم يكن فيه سكر. وهذا من حيث القاعدة مع قطع النظر عن النص الخاص
الدال على حرمة الخمر قليله وكثيره.
(الثاني) - أنه لو كان الضرر علة للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار
الضرر، فإذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة. ولازم ذلك أن لا يحرم
قليل من الميتة مثلا بمقدار نقطع بعدم ترتب الضرر عليه، مع أن ذلك خلاف
الضرورة من الدين
(الثالث) - أنا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرة للبدن،
فإذا ذبح حيوان إلى غير جهة القبلة، فهل يحتمل أن يكون اكله مضرا بالبدن
مع التعمد في ذبحه إلى غير جهة القبلة، وغير مضر مع عدم التعمد في ذلك،
أو يحتمل أن يكون مضرا في حال التمكن من الاستقبال وغير مضر في حال
العجز عنه.
(الرابع) - ما ورد في الروايات من ترتب الضرر على أكل جملة من
الأشياء، كتناول الجبن في النهار وادمان اكل السمك وأكل التفاح الحامض
إلى غير ذلك مما ورد في الأطعمة والأشربة، فراجع أبواب الأطعمة والأشربة
من الوسائل، مع أنه لا خلاف ولا إشكال في جواز اكلها.
ومن الروايات التي يمكن ان يستدل بها للمقام ما رواه في الوسائل في باب
550

الأطعمة والأشربة عن تحف العقول، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، بعد
تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف، من قوله (ع): (فكل شئ من
هذه الأشياء فيه غذاء للانسان ومنفعة وقوة، فحلال اكله، وما كان منها فيه
المضرة فحرام اكله إلا في حال التداوي...) وفي باب الأطعمة والأشربة من
المستدرك عن دعائم الاسلام مثله، وفي المستدرك أيضا عن فقه الرضا (ع)
قريب منه مع الاختلاف في العبارة
والجواب عنها أن ظاهرها تقسيم الحبوب والتمار والبقول إلى قسمين، فما
كان منها مضرا للانسان بنوعه فهو حرام الا في حال التداوي، وما كان منها
نافعا للانسان بنوعه فهو حلال، أي ان الحكمة في حرمة بعض الأشياء هي
كونه مضرا بحسب النوع، والحكمة في حلية بعض الأشياء هي كونه ذا منفعة
ومصلحة نوعية، فلا دلالة لها على كون الحرمة دائرة مدار الضرر. هذا
مضافا إلى ضعف الروايات المذكورة من حيث السند، فانا قد تعرضنا في بحث
المكاسب لعدم صحة الاعتماد على روايات كتاب تحف القول وروايات دعائم
الاسلام. وأما فقه الرضا عليه السلام فلم يثبت كون ما فيه رواية فضلا عن صحة
سنده. ويحتمل كونه كتاب الفتوى كما يظهر عند المراجعة.
فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام عدم حرمة الاضرار بالنفس، وصحة
ما ذهب إليه المشهور من الحكم بصحة الطهارة المائية، مع كون المكلف جاهلا
بكونها موجبة للضرر.
هذا كله فيما إذا كان المكلف جاهلا بالضرر. وأما مع العلم به فهل يحكم
بصحة الطهارة المائية أم بفسادها؟ أفتى السيد (ره) في العروة بالفساد، وفصل
بين العلم بالضرر والعلم بالحرج، فحكم بالفساد في الأول وبالصحة في الثاني.
والمحشون كذلك فيما رأيناه من الحواشي إلا المحقق النائيني (ره) فاختار
551

عدم الصحة في المقامين. وسنذكر الوجه لما ذكره والكلام فيه. فالأقوال في
المسألة ثلاثة: (الأول) - هو الحكم بصحة الطهارة المائية مع العلم بالضرر والعلم
بالحرج. (الثاني) - هو الحكم بالفساد في المقامين كما اختاره المحقق النائيني
(رحمه الله). (الثالث) - هو التفصيل بين العلم بالضرر فيحكم بالفساد، وبين
العلم بالحرج فيحكم بالصحة، كما اختاره في العروة. ولعله المشهور بين المتأخرين
والأقوى هو القول الأول والحكم بالصحة في المقامين، لكن في خصوص
الغسل والوضوء دون غيرهما من العبادات واجزائها، فإنه يحكم بالفساد في غيره
الوضوء والغسل، مع العلم بالضرر والعلم بالحرج، على ما سنشير إليه قريبا
إن شاء الله تعالي.
والوجه في ذلك أن الغسل مستحب لنفسه. وكذا الوضوء. وقد تقدم
أن دليل لا ضرر حاكم على الأدلة الدالة على الاحكام الالزامية دون الأدلة الدالة
على الاحكام غير الالزامية، كالاستحباب والإباحة. باعتبار أن دليل لا ضرر
ناظر إلى نفى الضرر من قبل الشارع.
والضرر في موارد الإباحة والاستحباب مستند إلى اختيار المكلف وإرادته
لا إلى الشارع، فالاحكام غير الالزامية باقية بحالها، وإن كانت متعلقاتها
ضررية، فالوضوء الضرري وان كان وجوبه مرفوعا بأدلة نفي الضرر، إلا ان
استحبابه باق بحاله، فصح الاتيان بالوضوء الضرري بداعي استحبابه النفسي
أو لغاية مستحبة. وتحصل له الطهارة من الحدث، وبعد حصولها لا مانع
من الصلاة معها لحصول شرطها وهي الطهارة. وكذا الحال في الغسل الضرري
فيجري فيه ما ذكرناه في الوضوء بلا حاجة إلى الإعادة. نعم لا نقول
بالصحة في غير الوضوء والغسل، كما إذا كان القيام حال القراءة ضرريا أو
حرجيا، فإنه تجب الصلاة جالسا، فلو قام في الصلاة مع العلم بالضرر أو
الحرج نحكم ببطلان الصلاة في كلا المقامين، لعدم الامر بالقيام حينئذ، وإن
552

لم نقل بحرمة الاضرار بالنفس. وعدم الامر كاف في الحكم بالبطلان. ولذا
نحكم بالبطلان مع العلم بالحرج أيضا، كالعلم بالضرر، لعدم الامر في كليهما
بدليل لا ضرر ولا حرج، فلا يبقي مقتض للصحة بعد عدم تعلق الامر.
ووجود الملاك أيضا غير محرز، لما ذكرناه سابقا من أنه لا سبيل لنا إلى إحراز
الملاك إلا الامر، فمع عدمه لا يحرز وجود الملاك أصلا.
وأما ما ذكره المحقق النائيني (ره) من الحكم بالفساد مع العلم بالضرر
والعلم بالحرج، فهو مبني على ما ذكره في بحث الترتب من أن المكلف منقسم
بحسب الأدلة إلى واجد الماء فيتوضأ والى فاقده فيتيمم. والتقسيم قاطع للشركة
فلا يمكن الحكم بصحة الطهارة المائية في ظرف الحكم بصحة الطهارة الترابية على
ما هو المفروض. فان الحكم بصحة الوضوء عند الحكم بصحة التيمم يستلزم تخيير
المكلف بينهما، وهو يشبه الجمع بين النقيضين، لان الامر بالتيمم مشروط بعدم
وجدان الماء على ما في الآية الشريفة. والامر بالوضوء - بقرينة المقابلة - مشروط بالوجدان، فالحكم بصحة الوضوء والتيمم يستلزم كون المكلف واجدا
للماء وفاقدا له، وهو محال. وحيث أن الحكم بصحة الطهارة الترابية في محل
الكلام مفروغ عنه وليس محلا للاشكال، فلا مناص من الحكم ببطلان الطهارة
المائية، بلا فرق بين العلم بالضرر والعلم بالحرج.
وفيه أن المعلق على عدم وجدان الماء في الآية الشريفة هو وجوب التيمم
تعيينا. وكذلك المعلق على وجدان الماء هو وجوب الوضوء تعيينا. وليس
فيها دلالة علي انحصار مشروعية التيمم بموارد فقدان الماء، فبعد رفع وجوب
الوضوء لأدلة نفي الضرر واو أدلة نفي الحرج يبقى استحباب بحال، لما تقدم من
عدم حكومة أدلة نفي الضرر ونفي الحرج إلا على الاحكام الالزامية. والمتحصل
مما ذكرناه أن هذا النوع من الواجد اي الذي يكون الوضوء ضررا أو حرجا عليه
553

يجوز له التيمم إرفاقا له من قبل الشارع وامتنانا عليه، ويجوز له الوضوء أيضا
نظرا إلى استحبابه النفسي، فتكون النتيجة هي التخيير بين الوضوء والتيمم،
ولا تقول أن هذا المكلف واجد للماء وفاقد له حتى يلزم اجتماع النقيضين، بل
نقول هو واجد للماء، ولكن أجاز له الشارع ان يتيمم ارفاقا له من جهة كون
الوضوء ضررا أو حرجا عليه، فان جواز التيمم مع كون المكلف واجدا للماء
قد ثبت في بعض الموارد:
(منها) - ما إذا آوى إلى فراشه، فذكر انه غير متوضئ، فيجوز
له التيمم مع كونه واجدا للماء.
و (منها) - ما إذا أراد أن يصلي على الميت فيجوز له التيمم مع
وجدان الماء، وإن وقع الخلاف بينهم من حيث إنه مختص بما إذا خاف عدم
إدراك الصلاة أو يعم غيره أيضا.
و (منها) - صاحب القرح والجرح، فيما إذا لم تكن عليهما جبيرة،
وكانا عاريين، فإنه إن كانت عليهما جبيرة لا إشكال في وجوب المسح عليها. واما
إن كانا عاريين فقد تعارضت في حكمه الاخبار، ففي بعضها أنه يغتسل ويغسل
ما حول القرح والجرح، كما ذكره في الوسائل في باب الجبيرة، وفي بعضها ان
عليه التيمم كما ذكره في الوسائل أيضا في باب التيمم. ومقتضى الجمع بينها هو
الحكم بالتخيير بين الغسل والتيمم، فيجوز له التيمم مع كونه واجدا للماء.
وأما ما ذكره السيد (ره) في العروة من التفصيل بين العلم بالضرر والعلم
بالحرج والحكم بالفساد في الأول وبالصحة في الثاني، فهو مبني على ما هو
المشهور بين المتأخرين من حرمة الاضرار بالنفس، فيكون المكلف غير قادر
على استعمال الماء شرعا. والممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فتكون الطهارة
المائية مبغوضة باطلة، ويجب عليه التيمم. وهذا هو الوجه في التفكيك بين
554

الضرر والحرج. ولا يمكن تصحيح الطهارة المائية على القول بحرمة الاضرار
بالنفس، سواء قلنا بسراية الحرمة من المسبب - وهو الاضرار - إلى السبب -
وهو الطهارة المائية - أم لم نقل بها،
(اما على الأول) فواضح، لكون الطهارة المائية حينئذ محرمة لا يمكن
التقرب بها.
و (أما على الثاني) فلان حرمة المعلول وان لم تكن مسرية إلى العلة،
إلا أنه لا يمكن كون العلة واجبا بالفعل مع حرمة المعلول، للزوم التكليف بما
لا يطاق، لعدم قدرة المكلف على امتثال كليهما، فيكون من قبيل التزاحم.
ومن المعلوم عدم كون كلا التكليفين فعليا في باب التزاحم. ومحل الكلام إنما
هو صورة العلم بالضرر لا صورة الجهل به، حتى نحكم بصحة أحد المتزاحمين
مع الجهل بالآخر كما تقدم، فلا يمكن القول بوجوب الطهارة المائية فعلا، مع
حرمة الاضرار بالنفس، لما يلزم من التكليف بما لا يطاق، فلا أمر بالطهارة
المائية فتكون باطلة لا محالة. ولا يمكن تصحيحها على القول بالترتب
أيضا لوجهين:
(الأول) - ان الترتب انما يتصور فيما إذا كان المتزاحمان عرضيين، بحيث
يمكن الالتزام بفعلية أحدهما في ظرف عصيان الآخر، كوجوب الإزالة والصلاة
والمقام ليس كذلك، فإنه بعد وقوع التزاحم بين وجوب الطهارة المائية وحرمة
الاضرار بالنفس لا يمكن الالتزام بوجوب الطهارة المائية بعد تحقق عصيان
حرمة الاضرار، لان العصيان والاضرار انما يتحققان بنفس الطهارة المائية،
لكونها علة للاضرار، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الطهارة المائية بعد
عصيان حرمة الاضرار.
(الثاني) - ان الترتب انما هو فيما إذا كان الملاك تاما في كلا الحكمين،
555

والمانع عن فعلية كليهما إنما هو عجز المكلف عن امتثالهما معا. وعليه لا يصح
الترتب في باب الطهارات لكونها مشروطة بالقدرة الشرعية، فمع حرمة الاضرار
بالنفس لا يمكن القول بصحة الطهارة المائية لفقدان الشرط، وهو عدم المنع
الشرعي. وقد تقدم تفصيل ذلك في بحث الترتب. فتحصل أنه على القول
بحرمة الاضرار بالنفس لا مناص من الالتزام ببطلان الطهارة المائية مع العلم
بالضرر. ولكن التحقيق عدم حرمة الاضرار بالنفس. وقد تقدم الكلام فيه
بما لا مزيد عليه. فالصحيح ما ذكرناه من عدم الفرق بين الضرر والحرج
والحكم بصحة الطهارة المائية مع العلم بالضرر كما في صورة العلم بالحرج.
(فرع)
إذا اعتقد المكلف فقدان الماء، أو كون استعماله ضررا عليه، فتيمم
وصلى، ثم انكشف الخلاف، فهل يحكم بصحة ما أتى به، وعدم وجوب
الإعادة إذا كان الانكشاف في أثناء الوقت، وعدم وجوب القضاء فيما إذا كان
الانكشاف بعد الوقت؟ وجوه: نسب المحقق النائيني (ره) الحكم بالصحة
وعدم وجوب الإعادة إلى المشهور، وذكر في تقريبه أن موضوع التيمم من لم
يتمكن من استعمال الماء ومن اعتقد فقدان الماء، فهو غير متمكن من استعماله
فالموضوع محرز بالوجدان، فصح تيممه. وكذا الحال في معتقد الضرر، فإنه
من يعتقد عدم وجوب الوضوء غير متمكن من امتثاله، ولو كان اعتقاده
مخالفا للواقع.
556

أقول أما ما ذكره في من اعتقد عدم وجود الماء فمتين جدا، فان التمكن
لا يدور مدار الواقع، بل يدور مدار الاعتقاد، فان الانسان ربما يموت
عطشا والماء في رحله، بل نقول ان الماء موجود دائما لعدم كون الأرض خالية
من الماء غاية الامر أنه لا يتمكن من استعماله.
وأما من اعتقد الضرر مع عدم الضرر في الواقع فالحكم بعدم تمكنه من استعمال
الماء مبنى على القول بحرمة الاضرار بالنفس فان المعتقد بالمنع الشرعي عاجز عن
الامتثال، إذ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي. وأما بناء على ما ذكرناه من
عدم حرمة الاضرار بالنفس، فالمكلف متمكن من استعمال الماء مع العلم بالضرر
غاية الامر انه يعتقد ترخيص الشارع له بترك الوضوء والاكتفاء بالتيمم ارفاقا
وامتنانا، فإذا انكشف عدم الضرر ينكشف بطلان التيمم وعدم ترخيص
الشارع فيه من أول الامر. هذا هو مقتضى القاعدة مع قطع النظر عن الاخبار
ولكن وردت في المقام روايات تدل على جواز التيمم بمجرد خوف الضرر، فإذا
ثبت جواز التيمم مع الخوف المنطبق على مجرد الاحتمال العقلائي بمقتضى هذه
الروايات ثبت جوازه مع اعتقاد الضرر قطعا، فيحكم بصحة التيمم من جهة كون
الخوف تمام الموضوع بمقتضى الروايات، ولا يضره انكشاف عدم الضرر في
الواقع. نعم بعد الانكشاف ينقلب موضوع الخوف أمنا، هذا كله فيما إذا
انكشف الخلاف بعد خروج الوقت وأما إذا انكشف الخلاف في أثناء الوقت
فالحكم بالصحة وعدم وجوب الإعادة مبني على أن جواز التيمم منوط بعدم
وجدان الماء، وعدم التمكن من استعماله في جميع الوقت أو بعدم التمكن منه
حال الاتيان بالعمل، ولا يعتبر عدم التمكن منه في جميع الوقت. وهذا هو
منشأ الاختلاف في جواز البدار إلى العمل مع التيمم وعدمه. فان قلنا بالثاني
557

وان عدم وجدان الماء حال الاتيان بالعمل كاف في جواز التيمم. وكذا كون
الاستعمال ضررا عليه حال الاتيان بالعمل كاف في جواز التيمم، وان وجد الماء
في آخر الوقت ولم يكن استعماله ضررا عليه، فلا إشكال في
صحة التيمم المذكور وعدم وجوب الإعادة. ولازمه جواز البدار إلى الاتيان
بالعمل مع التيمم، كما أن الحكم في جواز التقية كذلك ولا تتوقف صحة العمل
المطابق للتقية على عدم المندوحة إلي آخر الوقت، وإن قلنا بالأول فلا يجوز
البدار إلى العمل مع التيمم في صورة العلم بزوال العذر إلى آخر الوقت، وهو
واضح. نعم لا مانع من التيمم في صورة العلم بعدم زوال العذر إلى آخر
الوقت. وكذا لا مانع من التيمم في صورة الشك في زوال العذر من وجدان
الماء أو عدم كون الاستعمال ضررا عليه، لاستصحاب بقاء العذر، فإذا
انكشف وجود الماء أو انكشف عدم كون الاستعمال ضررا عليه في أثناء الوقت
كان الحكم بصحة التيمم الواقع بمقتضى الاستصحاب عند الشك مبنيا على القول
بالاجزاء في الامر الظاهري. وحيث أنا ذكرنا في مسألة الاجزاء ان الامر
الظاهري كما في الاستصحاب الجاري عند الشك و الامر التخيلي كما في صورة
العلم بعدم وجود الماء وكان الماء في الواقع موجودا وكما في صورة العلم بالضرر
مع عدم الضرر في الواقع، لا يقتضي الاجزاء فبعد انكشاف الخلاف ينكشف
بطلان التيمم وتجب عليه الإعادة.
558

(التنبيه السادس)
ذكر بعضهم أن قاعدة لا ضرر كما أنها حاكمة على الاحكام الوجودية كذلك
حاكمة على الاحكام العدمية، فكما أن الحكم الوجودي الضرري يرتفع بحديث
لا ضرر، كذلك نفي الحكم إن كان ضرريا يرتفع به ونفي النفي يستلزم ثبوت
الحكم، فيثبت الحكم بدليل لا ضرر في مورد كان نفيه ضرريا. ومثل لذلك
بأمثلة: (منها) - ما تقدم ذكره عند نقل كلام الفاضل التوني (ره) وهو أنه لو
حبس أحد غيره عدوانا، فشرد حيوانه أو أبق عبده، فان عدم حكم الشارع
فيه بالضمان ضرر على المحبوس، فينفي بحديث لا ضرر ويحكم بالضمان.
و (منها) - ما ذكره السيد (ره) في ملحقات العروة، واستدل له بقاعدة
لا ضرر تارة، وبالروايات الخاصة أخرى. وهو أنه لو امتنع الزوج عن نفقة
زوجته، فعدم الحكم بجواز طلاقها للحاكم ضرر عليها، فينفي بحديث لا ضرر
ويحكم بجواز طلاقها للحاكم.
وقد أورد المحقق النائيني (ره) على ذلك بوجهين: (الأول) راجع إلى
منع الكبرى أي إلى أصل القاعدة المذكورة، وهي أن دليل لا ضرر حاكم على
الاحكام العدمية. و (الثاني) راجع إلى منع الصغرى، أي إلى تطبيق القاعدة
المذكورة على المثالين.
(أما الأول) - فهو أن حديث لا ضرر ناظر إلى الاحكام المجعولة في
الشريعة المقدسة، ويقيدها بصورة عدم الضرر، وعدم الحكم ليس حكما
مجعولا، فلا يشمله حديث لا ضرر. و (أما الثاني) - فهو أن حديث لا ضرر
559

ناظر إلى نفي الضرر في عالم التشريع كما مر مرارا، ولا دلالة فيه على وجوب
تدارك الضرر الخارجي المتحقق من غير جهة الحكم الشرعي، والضرر في المثالين
ليس ناشئا من قبل الشارع في عالم التشريع، حتى ينفى بحديث لا ضرر.
وعليه فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر لاثبات الضمان في المسألة الأولى، ولا
لا ثبات جواز الطلاق في المسألة الثانية.
(أقول): أما إيراده الأول فغير وارد، لأن عدم جعل الحكم في
موضع قابل للجعل، جعل لعدم ذلك الحكم، فيكون العدم مجعولا، ولا
سيما بملاحظة ما ورد من أن الله سبحانه لم يترك شيئا بلا حكم، فقد جعل
الحكم من قبل الشارع لجميع الأشياء، غاية الامر أن بعضها وجودي وبعضها عدمي
كما أن بعضها تكليفي وبعضها وضعي. وعليه فلا مانع من شمول دليل لا ضرر
للأحكام العدمية أيضا إن كانت ضررية هذا من حيث الكبرى، إلا أن الصغرى
لهذه الكبرى غير متحققة، فانا لم نجد موردا كان فيه عدم الحكم ضرريا
حتى نحكم برفعه وبثبوت الحكم بقاعدة لا ضرر.
وأما ايراده الثاني فوارد. وتوضيحه أن الحكم بالضمان في المسألة
الأولى إنما هو لتدارك الضرر الواقع على المحبوس من ناحية الحابس. وقد
عرفت أن حديث لا ضرر لا يشمل مثل ذلك، ولا يدل على وجوب تدارك
الضرر الواقع في الخارج بأي سبب، بل يدل على نفي الضرر من قبل الشارع في
عالم التشريع، وكذا الحال في المسألة الثانية، فان فيها أمورا ثلاثة: امتناع
الزوج عن النفقة ونفس الزوجية، وكون الطلاق بيد الزوج، وأما الأول فهو
الموجب لوقوع الضرر على الزوجة. ولم يرخص فيه الشارع. وأما الثاني
فليس ضرريا، وقد أقدمت الزوجة بنفسها عليه في مقابل المهر. وكذا الثالث
فليس من قبل الشارع ضرر في عالم التشريع حتى يرفع بحديث لا ضرر، غاية
560

الامر أن الحكم بجواز الطلاق يوجب تدارك الضرر الناشئ من عدم الانفاق، وقد
عرفت أن مثل ذلك لا يكون مشمولا لحديث لا ضرر. هذا مضافا إلى أن
التمسك بحديث لا ضرر - لاثبات الضمان في المسألة الأولى، ولا ثبات جواز
الطلاق للحاكم في المسألة الثانية - معارض بالضرر المترتب على الحكم بالضمان على
الحابس، والضرر المترتب على جواز الطلاق على الزوج من زوال سلطنته على
الطلاق. ولا ترجيح لاحد الضررين على الآخر.
(إن قلت): إن الحابس بحبسه والزوج بامتناعه عن النفقة قد أقد ما على
الضرر، فلا يعارض به الضرر الواقع على المحبوس والزوجة. (قلت): إن
الحابس لم يقدم على الضرر على نفسه، بل أقدم على الضرر على الضرر على المحبوس، وكذا
الزوج بامتناعه عن النفقة لم يقدم على الضرر على نفسه، بل أقدم على الضرر
على الزوجة. وصدق الاقدام على الضرر على نفسيهما متوقف على ثبوت الحكم
بضمان الحابس، وبزوال سلطنة الزوج فلا يمكن إثباتهما بالاقدام على الضرر،
فإنه دور واضح.
هذا ما تقتضيه القاعدة ولكنه وردت روايات خاصة في المسألة الثانية
تدل على زوال سلطنة الزوج عند امتناعه عن النفقة على الزوجة، وأنه للحاكم
أن يفرق بينهما. ولا مانع من العمل بها في موردها. وأما ما ذكره المحقق
النائيني (ره) من معارضتها للروايات الدالة على أنها ابتليت فلتصبر، ففيه ان
هذه الروايات الآمرة بالصبر واردة فيما إذا امتنع الزوج عن المواقعة، فلا
معارضة بينهما، فيعمل بكل منها في موردها. نعم الروايات الدالة على أن
الطلاق بيد من أخذ بالساق معارضة لها، لكنها أخص منها، فتقدم عليها،
ونتيجة التقديم أن يجبر الزوج على الانفاق، وان امتنع فيجبر على الطلاق،
وإن امتنع عنه أيضا يفرق الحاكم بينهما.
561

والظاهر أن الروايات الدالة على جواز الطلاق للحاكم مختصة بما إذا امتنع
الزوج عن الانفاق بلا عذر، فلا تنافي بينها وبين الروايات الدالة على أنها إن
غاب زوجها، فليس للحاكم طلاقها، إلا بعد التفحص عنه أربع سنوات،
فلعل عدم الانفاق من الزوج الغائب يكون لعذر.
(التنبيه السابع)
(في تعارض الضررين ومسائله ثلاث)
(المسألة الأولى) - ما لو دار أمر شخص واحد بين ضررين، بحيث
لا بد له من الوقوع في أحدهما، وفروعه ثلاثة:
(الأول) - ما إذا دار أمره بين ضررين مباحين، بناء على ما ذكرناه
من عدم حرمة الاضرار بالنفس بجميع مراتبه. وفي مثله يجوز له اختيار أيهما
شاء بلا محذور.
(الثاني) - ما إذا دار الأمر بين ضرر يحرم ارتكابه كتلف النفس، وما
لا يحرم ارتكابه كتلف المال. وفي مثله لا ينبغي الشك في لزوم اختيار المباح
تحرزا عن الوقوع في الحرام.
(الثالث) - ما إذا دار الامر بين ضررين محرمين. ويكون المقام حينئذ
من باب التزاحم، فلا بد له من اختيار ما هو أقل ضررا والاجتناب عما ضرره
أكثر، وحرمته أشد وأقوى، بل الاجتناب عما كان محتمل الأهمية. نعم
مع العلم بالتساوي أو احتمال الأهمية في كل من الطرفين يكون مخيرا في الاجتناب
562

عن أيهما يشاء. والوجه في ذلك كله ظاهر. ومما ذكرناه ظهر الحكم فيما لو دار
الامر بين الاضرار بأحد الشخصين، إذ بعد حرمة الاضرار بالغير يكون المقام
من باب التزاحم، فيجري فيه ما تقدم في الفرع الثالث ولا حاجة إلى الإعادة.
(المسألة الثانية) - ما لو دار امر الضرر بين شخصين عكس المسألة الأولى
ومثاله المعروف ما إذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر، ولم يمكن
التخليص إلا بكسر القدر أو ذبح الدابة. وفروع هذه المسألة أيضا ثلاثة:
(الأول) - أن يكون ذلك بفعل أحد المالكين والحكم فيه وجوب
إتلاف ماله، وتخليص مال الآخر مقدمة لرده إلى مالكه، لقاعدة اليد،
ولا يجوز إتلاف مال الغير ودفع مثله أو قيمته إلى مالكه، لأنه متى أمكن
رد العين وجب ردها، ولا تصل النوبة إلى المثل أو القيمة. والانتقال إلى
المثل والقيمة إنما هو بعد تعذر رد العين.
(الثاني) - أن يكون ذلك بفعل شخص ثالث غير المالكين، وفي مثله
يتخير في إتلاف أيهما يشاء ويضمن مثله أو قيمته لمالكه، إذ بعد تعذر ايصال
كلا المالين إلى مالكيهما، عليه ايصال أحدهما بخصوصيته، والآخر بماليته من
المثل أو القيمة، لعدم إمكان التحفظ على كلتا الخصوصيتين.
(الثالث) - أن يكون ذلك غير مستند إلى فعل شخص، بأن يكون
بآفة سماوية. وقد نسب إلى المشهور في مثله لزوم اختيار أقل الضررين. وأن
ضمانه على مالك الآخر، ولا نعرف له وجها غير ما ذكره بعضهم، من أن
نسبة جميع الناس إلى الله تعالى نسبة واحدة. والكل بمنزلة عبد واحد،
فالضرر المتوجه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجه إلى شخص واحد
فلا بد من اختيار أقل الضررين، وهذا لا يرجع إلى محصل. ولا يثبت به
ما هو المنسوب إلى المشهور من كون تمام الضرر على أحد المالكين، وهو
563

من كانت قيمة ماله أكثر من قيمة مال الآخر. ولا وجه لالزامه بتحمل تمام
الضرر من جهة كون ماله أكثر من مال الآخر، مع كون الضرر مشتركا بينهما
بآفة سماوية.
والصحيح أن يقال انه إذا تراضى المالكان باتلاف أحد المالين بخصوصه
ولو بتحملهما الضرر على نحو الشركة، فلا اشكال حينئذ، لان الناس
مسلطون على أموالهم، وإلا فلا بد من رفع ذلك إلى الحاكم، وله إتلاف
أيهما شاء ويقسم الضرر بينهما بقاعدة العدل والانصاف الثابتة عند العقلاء.
ويؤيدها ما ورد في تلف درهم عند الودعي، من الحكم باعطاء درهم ونصف
لصاحب الدرهمين، ونصف درهم لصاحب الدرهم الواحد، فإنه لا يستقيم إلا
على ما ذكرناه من قاعدة العدل والانصاف. وقد تقدم في بحث القطع. هذا
فيما إذا تساوى المالان من حيث القيمة. وأما إن كان أحدهما أقل قيمة من
الآخر، فليس للحاكم إلا إتلاف ما هو أقل قيمة، لان إتلاف ما هو أكثر
قيمة سبب لزيادة الضرر على المالكين بلا موجب.
ثم إن ما ذكرناه من الفروع واحكامها انما هو فيما إذا لم تثبت أهمية أحد
الضررين في نظر الشارع وأما إذا ثبت ذلك فلا بد من اختيار الضرر الآخر في جميع
الفروع السابقة، كما إذا دخل رأس عبد محقون الدم في قدر شخص آخر، فإنه
لا ينبغي الشك في عدم جواز قتل العبد، ولو كان ذلك بفعل مالك العبد، بل
يتعين كسر القدر وتخليص العبد، غاية الامر كون ضمان القدر عليه كما أنه
إن كان بفعل الغير كان الضمان عليه، وإن كان بآفة سماوية، كان الضرر
مشتركا بينهما.
(المسألة الثالثة) (وهي لا تخلو من الأهمية من حيث كثرة الابتلاء بها)
ما إذا دار الامر بين تضرر شخص والاضرار بالغير من جهة التصرف في ملكه
564

كمن حفر في داره بالوعة أو بئرا يكون موجبا للضرر على الجار مثلا. وتوضيح
المقام يقتضي ذكر اقسام تصرف المالك في ملكه الموجب للاضرار بالجار،
فنقول إن تصرفه يتصور على وجوه: (الأول) - ان يكون المالك بتصرفه
قاصدا لا ضرار الجار، من دون أن يكون فيه نفع له أو في تركه ضرر عليه.
(الثاني) - الصورة مع كون الداعي إلى التصرف مجرد العبث والميل النفساني،
لا الاضرار بالجار. (الثالث) - ان يكون التصرف بداعي المنفعة، بان يكون
في تركه فوات منفعة. (الرابع) - أن يكون الداعي التحرز عن الضرر بان
يكون في تركه ضرر عليه. و المنسوب إلى المشهور جواز التصرف وعدم الضمان
في الصورتين الأخيرتين، بعد التسالم على الحرمة والضمان في الصورتين الأوليين
اما وجه الحرمة والضمان في الصورتين الأوليين فظاهر، فإنه لا إشكال في حرمة
الاضرار بالغير، ولا سيما الجار. والمفروض أنه لا يكون فيهما شئ ترتفع
به حرمة الاضرار بالغير. وأما الوجه لجواز التصرف وعدم الضمان في الصورتين
الأخيرتين، فقد استدل له بوجهين:
(الوجه الأول) - ان منع المالك عن التصرف في ملكه حرج عليه.
ودليل نفى الحرج حاكم على أدلة نفي الضرر، كما أنه حاكم على الأدلة المثبتة
للأحكام. وهذا الدليل ممنوع صغرى وكبرى: (أما الصغرى) فلعدم كون
منع المالك عن التصرف في ملكه حرجا عليه مطلقا، فان الحرج المنفى في
الشريعة المقدسة إنما هو بمعنى المشقة التي لا تتحمل عادة. ومن الظاهر أن منع
المالك عن التصرف في ملكه لا يكون موجبا للمشقة التي لا تتحمل عادة مطلقا
بل قد يكون وقد لا يكون. وليس الحرج المنفي في الشريعة المقدسة بمعنى
مطلق الكافة. وإلا كان جميع التكاليف حرجية فإنها كلفة ومنافية لحرية
الانسان وللعمل بما تشتهي الأنفس. و (اما الكبرى) فلانه لاوجه لحكومة
565

أدلة نفي الحرج على أدلة نفي الضرر، فان كل واحد منهما ناظر إلى الأدلة الدالة
على الاحكام الأولية. ويقيدها بغير موارد الحرج والضرر في مرتبة واحدة،
فلا وجه لحكومة أحدهما على الآخر.
(الوجه الثاني) - ان تصرف المالك في ملكه في المقام لا بد من أن
يكون له حكم مجعول من قبل الشارع: إما الجواز أو الحرمة، فلا محالة يكون
أحدهما خارجا عن دليل لا ضرر. ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيكون
دليل لا ضرر مجملا بالنسبة إليهما، فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر بشئ
منهما، فيرجع إلى أصالة البراءة عن الحرمة. ويحكم بجواز التصرف.
وفيه ما تقدم من أن الدليل لا ضرر لا يشمل إلا الاحكام الالزامية، لأنه
ناظر إلى نفي الضرر من قبل الشارع في عالم التشريع. والضرر في الاحكام
الترخيصية لا يستند إلى الشارع، حتى يكون مرتفعا بحديث لا ضرر، فحرمة
الاضرار بالغير تكون مشمولة لحديث لا ضرر ومرتفعة به دون الترخيص.
هذا ولكن التحقيق عدم شمول حديث لا ضرر للمقام، لان مقتضى
الفقرة الأولى عدم حرمة التصرف لكونها ضررا على المالك. ومقتضى الفقرة
الثانية - وهي لا ضرار - حرمة الاضرار بالغير على ما تقدم بيانه، فيقع التعارض
بين الصدر والذيل، فلا يمكن العمل بإحدى الفقرتين. وإن شئت قلت إن
حديث لا ضرر لا يشمل المقام أصلا لا صدرا ولا ذيلا، لما ذكرناه من كونه
واردا مورد الامتنان على الأمة الاسلامية، فلا يشمل موردا كان شموله له
منافيا للامتنان. ومن المعلوم ان حرمة التصرف والمنع عنه مخالف للامتنان
على المالك. والترخيص فيه خلاف الامتنان على الجار، فلا يكون شئ منهما
مشمولا لحديث لا ضرر. وبما ذكرناه ظهر انه لا يمكن التمسك بحديث لا ضرر
566

فيما كان ترك التصرف موجبا لفوات المنفعة. وان لم يكن ضررا عليه. لان
منع المالك عن الانتفاع بملكه أيضا مخالف للامتنان، فلا يكون مشمولا
لحديث لا ضرر، فلا يمكن التمسك بحديث لا ضرر في المقام أصلا، بل لابد
من الرجوع إلى غيره، فان كان هناك عموم أو اطلاق دل على جواز تصرف
المالك في ملكه حتى في مثل المقام يؤخذ به، ويحكم بجواز التصرف، والا
فيرجع إلى الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة عن الحرمة، فيحكم بجواز
التصرف. وبما ذكرناه ظهر الحكم فيما إذا كان التصرف في مال الغير موجبا
للضرر على الغير، وتركه موجبا للضرر على المتصرف، فيجري فيه الكلام
السابق من عدم جواز الرجوع إلى حديث لا ضرر، لكونه واردا
مورد الامتنان، فيرجع إلى عموم أدلة حرمة التصرف في مال الغير، كقوله
عليه السلام: (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) وغيره من أدلة حرمة التصرف في
مال الغير، ويحكم بحرمة التصرف.
هذا كله من حيث الحكم التكليفي. وأما الحكم الوضعي وهو الضمان
فالظاهر ثبوته حتى فيما كان التصرف جائزا، لعدم الملازمة بين الجواز وعدم
الضمان، فيحكم بالضمان لعموم قاعدة الاتلاف ودعوى - كون الحكم
بالضمان ضرريا فيرتفع بحديث لا ضرر - مدفوعة بان الحكم بالضمان
ضرري في جميع موارده، فلا يمكن رفعه بحديث لا ضرر، لما تقدم
من أن حديث لا ضرر لا يشمل الاحكام المجعولة ضررية من أول الامر.
وحديث لا ضرر ناظر إلى الاحكام التي قد تكون ضررية، وقد لا تكون
ضررية، و يقيدها بصورة عدم الضرر.
هذا مضافا إلى ما تقدم أيضا من أنه حديث امتناني لا يشمل باب
الضمان أصلا.
567

هذا تمام كلامنا في قاعدة لا ضرر في هذه الدورة. والحمد لله أولا
وآخرا على ما وفقني لكتابة هذا السفر القيم. وصلى الله على رسوله الكريم
وآله الأبرار الأطهار وأصحابه الأخيار الكبار.
كتبته وأنا معتكف بجوار العتبة المقدسة العلية في النجف
الأشرف، على مشرفها آلاف التحية والاكرام والصلاة والسلام. وانا
مستجير بذمته حيا وميتا وكان ذلك في 8 - 8 - 1376 الليلة الثامنة من شهر
شعبان المعظم من شهور سنة ست وسبعين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة على
هاجرها الصلاة والسلام.
568