الكتاب: الرافد في علم الأصول
المؤلف: تقرير بحث السيستاني ، للسيد منير
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الآخرة ١٤١٤
المطبعة: مهر - قم
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
ردمك:
ملاحظات: تقريراً لأبحاث آية الله العظمى السيد السيستاني

الرافد
في علم الأصول
محاضرات آية الله العظمى
السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله
بقلم
السيد منير السيد عدنان القطيفي
الحلقة الأولى
1

الكتاب: الرافد في علم الأصول
تقريرا لأبحاث: آية الله العظمى السيد السيستاني
بقلم: السيد منير السيد عدنان القطيفي
التصوير الفني (الزينكغراف): ليتوكرافي حميد - قم
المطبعة: مهر - قم
الطبعة: الأولى - جمادى الآخرة 1414 ه‍
الكمية 3000 نسخة
السعر: 2000 ريال
نشر مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني قم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للناشر
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني دام ظله
قم مقابل بيمارستان فاطمي ص. ب 3514 تلفاكس 37764.
4

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد
وآله الطيبين الطاهرين الغر الميامين وبعد قد لاحظت
شطرا مما كتبه فضيلة العلامة الجليل السيد منير السيد عدنان
القطيفي حفظه الله ورعاه تقريرا لأبحاثي الأصولية فوجدته
وافيا بالمراد مستوعبا لما ذكرته في مجلس الدرس ببيان جميل
وتعبير جزل واني لأسأل المولى العلي القدير ان يبارك له
في جهوده ويوفقه لمواصلة مسيرته العلمية انه ولي التوفيق
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. علي الحسيني السيستاني
21 ربيع الثاني 1414
5

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم
أجمعين.
إن هذه البحوث الأصولية المستفادة من نمير سيدنا الأستاذ السيد علي
السيستاني - دام عطاؤه - تمثل الملامح العامة للفكر الأصولي، من خلال عرض
مسيرته التاريخية ومراحله التكاملية، وتحليل علاقته بالعلوم الأخرى، وبيان
محور أبحاثه ونظرياته، وطرح بعض المسائل الشاهدة على مستواه عند المدرسة
الامامية في العمق والدقة وصفاء الذوق، مع استعراض المناهج المقترحة في
طريقة تنظيمه وتبويبه في إطار التناسب مع العلوم الأخرى وعلاقته بها.
وتتلخص هذه البحوث في عشرة هي:
الأول: أهمية علم الأصول في المدرسة الامامية.
الثاني: الأدوار التطورية التي قطعها أثناء مسيرته الصاعدة.
الثالث: علاقته بعلم الفقه والأدب والفلسفة.
الرابع: المنهج المختار في طريقة تنظيمه وترتيبه.
7

الخامس: ألوان الاسناد الحقيقي والمجازي.
السادس: موضوع علم الأصول.
السابع: ميزان المسألة الأصولية.
الثامن: حقيقة الوضع.
التاسع: مسألة استعمال اللفظ في عدة معاني.
العاشر: المشتق.
وقد قمت بصياغتها وتحريرها بالأسلوب المنسجم - في اعتقادي - مع
الاتجاه الأصولي المتجدد عند السيد الأستاذ دام فضله.
فما فيها من محاسن فهو غيض من فيض المعرفة لدى سماحته، وما فيها
من قصور - والكمال لله وحده - فهو من سوء الصياغة والغفلة وزلل القلم.
أسال الله تعالى أن ينفع بها طلاب المعرفة وأن يؤتينا ثواب الانتفاع بها
انه جواد كريم.
السيد منير السيد عدنان القطيفي
17 / 3 / 1414 ه‍
القطيف المحروسة
8

المبحث الأول
علم الأصول عند المدرسة الامامية
اختلفت المدرستان - مدرسة المحدثين ومدرسة الأصوليين - في قيمة علم
الأصول عند علماء الإمامية ومدى اهتمامهم به على مدى التاريخ الفقهي،
ونحن لا نريد الخوض في هذا البحث بتمام فصوله، لعدم ارتباطه بهدفنا وهو
تقديم أطروحتنا العامة في علم الأصول، ولكن من باب التمهيد للدخول في
صميم البحوث الأصولية نستعرض بعض الجوانب المفيدة في تجلية واقع علم
الأصول وأهميته التاريخية والفعلية بالنسبة للفقيه، ونبدأ ذلك بعرض عبارات
من كتاب هداية الأبرار للكركي نقلا عن القطيفي (1) - أحد مشائخ صاحب
الوسائل - قال: " فأعلم أن علم الأصول ملفق من علوم عدة ومسائل متفرقة بعضها
حق وبعضها باطل، وضعه العامة لقلة السنن عندهم الدالة على الاحكام "، وقال:
" ولم يكن للشيعة في أصول الفقه تأليف لعدم احتياجهم إليه، لوجود كل ما لا
بد منه من ضروريات الدين ونظرياته في الأصول المنقولة عن أئمة الهدى، إلى
أن جاء ابن الجنيد فنظر في أصول العامة وأخذ عنهم وألف الكتب على ذلك
المنوال حتى أنه عمل بالقياس ". وهذا الكلام ينحل لثلاث دعاوى:
1 - إنكار استقلالية علم الأصول، بل هو بنظره مجموعة من المسائل
الملفقة.
2 - إن الواضع الأول لعلم الأصول هم العامة، وأول من ألف فيه من

(1) هداية الأبرار 333 و 234.
9

الشيعة ابن الجنيد حتى أنه عمل بالقياس.
3 - الاستغناء عن علم الأصول، لوجود ضروريات الدين ونظرياته في
أحاديث الأئمة عليهم السلام.
الدعوى الأولى ونقاشها: من الواضح أن كثيرا من المسائل المطروحة في
علم الأصول لا مناسبة بينها وبين علم آخر، فبحث تعارض الأدلة الشرعية
وطرق علاجه، وبحوث حجية الطرق والامارات كخبر الواحد والشهرة
والاجماع، وبحث الظن الانسدادي، وموارد الأصول اللفظية كبحث تعارض
العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، كل هذه البحوث لا علاقة
لها بعلم اللغة ولا بعلم الفقه ولا بعلم الرجال ولا غيرها من العلوم، لأنها تتعلق
بحجية الدليل الفقهي الذي هو مناط أصولية المسألة، فالمناسب لها هو علم
الأصول. ومجرد وجود بعض المسائل اللغوية في علم الأصول كبحث الوضع
والاستعمال وعلامات الحقيقة والمجاز مما ذكر تمهيدا لبعض البحوث الأصولية،
وكذلك بعض البحوث الكلامية والفلسفية كبحث اتحاد الطلب والإرادة
وبحث اعتبارات الماهية في المطلق والمقيد مما ذكر تمهيدا لبعض البحوث
الأصولية أو استطرادا، فهذه لا تخرج تلك المسائل السابقة عن كونها مسائل
أصولية وكون العلم المشتمل عليها علما مستقلا برأسه، ما دام مناط المسألة
الأصولية موجودا فيها كما سيأتي تحقيقه.
الدعوى الثانية وجوابها.
ونذكر هنا أمرين:
1 - إن أول مؤلف لمدرسة أهل السنة في علم الأصول هو رسالة
الشافعي، وفي تلك الفترة كتب الشيعة رسائل مختلفة في علم الأصول أيضا،
فقد كتب ابن أبي عمير - المتوفى عام 217 ه‍ - ويونس بن عبد الرحمن - المتوفى
عام 208 ه‍ - في علاج الحديثين المختلفين، وكتبا أيضا في العام والخاص
10

والناسخ والمنسوخ كما يلاحظ عند مراجعة تراجمهم في كتب الرجال، وليس
الشافعي أقدم منهما زمانا، فقد ولد عام 150 ه‍ بعد وفاة الصادق عليه السلام
بينما يونس بن عبد الرحمن أدرك الصادق عليه السلام وتوفي الشافعي عام 502
ه‍ مقاربا لوقت وفاة يونس بن عبد الرحمن، فلم يثبت أن الواضع الأول لعلم
الأصول هو مدرسة أهل السنة، بل الشيعة كتبت في علم الأصول في نفس
الفترة الزمنية لولادته عند أهل السنة، ثم جاء أبو سهل النوبختي وكتب
رسالتين: إحداهما في بطلان القياس والعمل بخبر الواحد، والأخرى في
مناقشة رسالة الشافعي، ثم توسع علم الأصول على يد ابن الجنيد والمفيد
والمرتضى في الذريعة والطوسي في العدة، وبذلك يتبين لنا أيضا عدم كون ابن
الجنيد هو أول مؤلف شيعي في علم الأصول.
2 - إن نسبة العمل بالقياس لابن الجنيد وردت في عدة كتب ولكننا
نحتمل أن تكون النسبة في غير محلها بمقتضى تتبعنا لاستعمال كلمة القياس،
فلعل المراد بهذه الكلمة هو ما نعبر عنه بالموافقة الروحية للكتاب والسنة.
بيان ذلك: إن معظم الأصوليين المتأخرين فسروا الأحاديث الآمرة
بعرض الخبر على الكتاب والسنة نحو: " ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف
فذروه " (1) بالموافقة والمخالفة النصية، بمعنى أن يعرض الخبر على آية قرآنية
معينة فإن كانت النسبة بينهما هي التباين أو العموم من وجه طرح الخبر، وإن
كانت النسبة هي التساوي أو العموم المطلق أخذ، ولكننا نفهم أن المراد
بالموافقة الموافقة الروحية أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الاسلامية
العامة المستفادة من الكتاب والسنة، فإذا كان الخبر مثلا ظاهره الجبر فهو
مرفوض لمخالفته قاعدة الامر بين الامرين المستفادة من الكتاب والسنة بدون

(1) البحار 2: 235 / 20، الوسائل 27: 118 / 33362.
11

مقارنته مع آية معينة، وهذا المفهوم الذي نطرحه هو الذي يعبر عنه علماء
الحديث المتأخرون بالنقد الداخلي للخبر، أي مقارنة مضمونه مع الأصول
العامة والأهداف الاسلامية، وهو المعبر عنه في النصوص بالقياس، نحو:
" فقسه على كتاب الله " (1)، إذن فمن المحتمل كون المراد من عمل ابن الجنيد
بالقياس هو كونه من المدرسة المتشددة في قبول الحديث التي تلتزم بنظرية النقد
الداخلي للحديث والموافقة الروحية فيه للكتاب والسنة، في مقابل مدرسة
المحدثين التي تعتقد بقطعية صدور أكثر الأحاديث دون مقارنتها مع الأصول
الاسلامية، ومما يؤيد ما ذكرناه نسبة العمل بالقياس لأعاظم الامامية كما في
رجال السيد بحر العلوم (2)، قال: " فقد ذكر السيد المرتضى في رسالة له في أخبار
الآحاد أنه قد كان في رواتنا ونقلة أحاديثنا من يقول بالقياس، كالفضل بن
شاذان ويونس بن عبد الرحمن وجماعة معروفين ". وقال في كشف القناع (3):
" وحكى - الصدوق - في مواضع متفرقة عن جماعة من أساطينهم العمل
بالقياس، وفيهم من الأوائل مثل زرارة بن أعين وجميل بن دراج وعبد الله بن
بكير ". ولا يتصور في حق هؤلاء الأعاظم العمل بالقياس الفقهي مما يشير إلى
أن المقصود بالقياس هو التشدد في قبول الحديث بالعمل بنظرية النقد
الداخلي، ويؤيده ما حكاه المحقق (4) في المعارج، قال: " المسألة السادسة: قال
شيخنا المفيد: خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقرن بدليل يفضي بالنظر فيه
إلى العلم، وربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل أو حاكما من قياس ".

(1) الوسائل 27: 123 / 33381، البحار 2: 244 / 52.
(2) رجال السيد بحر العلوم 3: 215
(3) كشف القناع 830.
(4) معارج الأصول: 187.
12

الدعوى الثالثة وجوابها:
ونقدم هنا ملاحظتين:
1 - إن وجود القواعد الشرعية في روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام
لا يلغي علم الأصول، فإن استفادة القاعدة والحكم من الحديث يتوقف على علة
عناصر أصولية، منها تحقيق الظهور من خلال مباحث الألفاظ المطروحة في
علم الأصول كالبحث في الأوامر والنواهي والمفاهيم والعام والخاص والمطلق
والمقيد، ومنها الاعتراف بكبرى حجية الظهور، ومنها الاعتراف بحجية خبر
الثقة، ومنها إجراء قواعد التعارض لو كان للنص معارض، وهذه العناصر كلها
مدونة في علم واحد هو علم الأصول، فمجرد وجود القواعد والاحكام في
النصوص المعصومية لا يلغي الحاجة لعلم الأصول.
ب - إن وجود القواعد الأصولية نفسها في النصوص والروايات،
كالروايات الدالة على حجية خبر الثقة، وعدم حجية القياس، وحجية أصالة
البراءة والاستصحاب، وقواعد التعارض، لا يلغي قيمة علم الأصول بل يؤكد
لنا انبثاق هذا العلم من منبعه الصافي وهم أهل البيت عليهم السلام لا من
المدارس الأخرى كما ذكر بعض المحدثين. فوجود هذه المسائل الأصولية في النصوص
كوجود بعض البحوث الأصولية في ضمن البحوث الفقهية، نحو ما ذكره الكليني
في الكافي في كتاب الطلاق عن الفضل بن شاذان أنه استدل على بطلان بعض
صور الطلاق بأن النهي يقتضي الفساد (1)، وهي قاعدة أصولية، كذلك ما
صنعه صاحب الحدائق عندما بحث حجية الاجماع ضمن حديثه عن صلاة
الجمعة (2)، كل ذلك لا يلغي أهمية علم الأصول واستقلاليته عن غيره من

(1) الكافي 6: 93 / 945.
(2) الحدائق الناظرة 9: 361.
13

العلوم، فإن ميزان المسألة الأصولية كونها باحثة عن حجية الدليل الفقهي،
سواءا ذكرت بصورة مستقلة، أم في ضمن كتب الحديث، أو ضمن كتب
الفقه، ومن طبيعة كل علم تكامله على نحو التدريج لا الدفعة الواحدة، كما
في علم المنطق حيث ذكر الشيخ الرئيس في الشفاء بأن أرسطو ما وضع علم
المنطق وإنما أكمل ما وصل إليه من هذا العلم (1) فكون بعض مسائل علم
الأصول كانت متفرقة في علوم أخرى ثم اجتمعت بصورة تدريجية لاشتراكها في
هدف واحد تحت علم واحد يسمى بعلم الأصول لا يضر بأهمية العلم
واستقلاليته.

(1) الشفاء 1: المقولات: 6.
14

المبحث الثاني
أدوار الفكر الأصولي
مقدمة: إن معيار الدور بحسب تصورنا لا يرتبط بالمرحلة الزمنية
للعلم، إذ ربما تمر المرحلة الزمنية من دون حصول أي تطور وتجديد في مسيرة
العلم وتكامله، وإنما معيار الدور المتميز عن غيره من الأدوار هو ببروز
النظريات المتطورة التي تدفع بمسيرة الفكر للامام، وهذا إنما يحدث عادة نتيجة
التنافس العلمي والمبارزات الثقافية، فكما أن المجتمعات تترقى في سلم
الحضارة نتيجة التنافس الاقتصادي والثقافي فيما بينها، فكذلك تطور أي فكر
كان يحتاج لنوع من الصراع الحاد بين أقطاب هذا الفكر ليساهم ذلك الصراع
في بلورة النظريات وتجددها، وعلى هذا الأساس - أي أساس صراع الأفكار -
سنحدد أدوار الفكر الأصولي عند الشيعة الإمامية.
الدور الأول: وهو عبارة عن موقف علماء الشيعة من المدارس الفكرية
الأخرى ومن العلماء الشيعة المتأثرين بهذه المدارس.
بيان ذلك: إن هناك مدرستين متصارعتين في مجال تحديد الحكم
الشرعي، وهما: مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، فمدرسة الرأي بدأت شرارتها
من بعض الصحابة والخلفاء الذين منعوا من تدوين السنة لأهداف سياسية
معينة وأخذوا بآرائهم وتصوراتهم الشخصية فيما يناسب المصلحة العامة،
وامتدت هذه المدرسة للقرن الثاني حيث كانت هي الطابع العام للعراقيين
أتباع أبي حنيفة الذين قالوا بحجية القياس والاستحسان والتزموا بالنقد
الداخلي للأحاديث بمقارنتها مع الأصول العامة في الاسلام، وأما مدرسة
15

الحديث التي نشأت كرد فعل لامتداد مدرسة الرأي وتجسدت في المذهب الحنبلي
والمالكي أكثر من بقية المذاهب فقد أفرطت في الاعتماد على الحديث بمجرد
كونه خبر ثقة من دون ملاحظة القواعد العامة، وقد تأثر بكل واحدة من
المدرستين بعض علماء الشيعة كما حكي عن ابن الجنيد في قوله بالقياس إن
صح ذلك وحكي عن بعض آخر ما يناسب أقوال الحشوية. لذلك ومن هذا
المنطلق خاض علماء الشيعة الفكر الأصولي وبدأ الدور الأول من مسيرته في
مواجهة مدرسة الرأي ومدرسة الحديث ومن تأثر بهما من علماء الإمامية، فكتبت
رسائل في عدم حجية القياس وفي الحديثين المختلفين من بعض بني نوبخت
وغيرهم كما يلاحظ في كتب الرجال، وذكر الشيخ الطوسي في الفهرست والسيد
المرتضى في الانتصار معارضات حادة لمنهج ابن الجنيد (1)، كما كتب (2) الشيخ
المفيد رسالة في بطلان القياس وكتاب مقابيس الأنوار في الرد على أهل الأخبار،
وهذه الرسائل أعطت الفكر الأصولي نضجا وتطورا ملحوظا كما في عدة الشيخ
الطوسي، ثم استمر الفكر الأصولي بعد رحيل الطوسي بين تطور وتوقف، ففي
عصر الديالمة تقدم بعض الخطوات لوجود التنافس الفكري ولكنه توقف عن
حركة التطور في عصر السلاجقة لوجود الضغط والتضييق، ورجع للتفوق بعد
غزو التتار لانفتاح آفاق الحرية الفكرية آنذاك فقد أبرز المحقق والعلامة في
التذكرة والمعتبر مدى عمق الفكر الأصولي في الفقه المقارن، وهذه الفترة الزمنية
وإن كانت قصيرة إلا أنها وضعت بصماتها حتى على فكر بعض علماء المذاهب
الأخرى، فقد ذكر أبو زهرة في كتابه (ابن تيمية) أن ابن تيمية تأثر بالفقه
الشيعي المعاصر له، كما يظهر من بعض مسائل الطلاق في فقهه، وبعد

(1) الفهرست: 134 / 601، الانتصار: 8
(2) الفهرست 157 / 706، رجال النجاشي: 399 / 1067.
16

انتهاء هذه الفترة رجع الفكر الأصولي والفقه الخلافي للركود فلا يلاحظ في كتب
الشهيد الأول إشارة للفقه المقارن ومواطن إبداع الامامية في الفكر الأصولي،
بل ذكر الشهيد الثاني في كتاب القضاء أنه يكفي للطالب دراسة مختصر ابن
الحاجب في المنطق والأصول (1)، مع أن هذا الكتاب لا يمثل الابداع الامامي.
الدور الثاني: وهو عبارة عن الصراع الفكري بين المدرسة الأصولية
والأخبارية.
بيان ذلك: أن الشيعة بعد استقرارهم السياسي في عهد الصفوية في
أوائل القرن العاشر برزت فيهم المدرسة الأخبارية المتمثلة في الملا أحمد أمين
الاسترآبادي ومن تأثر به كالمجلسيين والفيض الكاشاني والحر العاملي والشيخ
يوسف البحراني، وكان من عوامل بروز هذه المدرسة تصور بعض علماء الشيعة
أن القواعد الأصولية المساهمة في استنباط الحكم الشرعي تعتمد على الفكر
الكلامي والفلسفي مما أدى لابتعاد الحكم الشرعي عن مصادره الصافية وهي
روايات أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا بدأ الصراع الفكري الحاد بين
المدرستين واستفاد الفكر الأصولي تطورا كبيرا من هذا الصراع وتقدم تقدما عجيبا
على يد الوحيد البهبهاني والمحقق القمي وصاحب الفصول والعلامة
الأنصاري.
الدور الثالث. وهو عبارة عن المرحلة الفعلية التي نعيشها.
بيان ذلك: أن الفترة التي نعيشها الآن بمقتضى العوامل الاقتصادية
والسياسية تمثل الصراع الحاد بين الثقافة الاسلامية والثقافات الأخرى على
مختلف الأصعدة، فلا بد من تطوير علم الأصول وصياغته بالمستوى المناسب
للوضع الحضاري المعاش. وقد ركزنا في بحوثنا على بعض الشذرات الفكرية

(1) شرح اللمعة 3: 65.
17

التي تلتقي مع حركة التطوير لعلم الأصول من خلال الاستفادة من العلوم
المختلفة قديمها وحديثها كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع
ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات
الكبروية استمدادا من كلمات الاعلام (قدهم) في عدة حقول.
الحقل الفلسفي: هناك عدة نظريات فلسفية ذكرناها في علم الأصول
ورتبنا عليها بعض الأفكار الأصولية، منها نظرية التكثر الادراكي والتي تعني
أن الذهن البشري ليس صندوقا أمينا في استقبال المعلومات الخارجية كما كان
يذكر قدماء الفلاسفة بأن الذهن البشري كصفحة المرآة يرتسم فيها صور
المحسوسات بلا تغيير ولا تبديل، بل الذهن قد يتلقى بعض الصور بعدة وجوه
وأشكال لحكومة العوامل الخارجية والنفسية على الذهن أثناء تصوره كما تتحرك
القوة المتخيلة لادراك الشئ على عدة أنحاء، فقد نتصور الانسان بصورة
إجمالية بسيطة ونعبر عنها بالانسان أو البشر وقد نتصوره بصورة تفصيلية مركبة
ونعبر عنه بالحيوان الناطق مع أنه حقيقة واحدة، وهذا دليل على الفعالية
الذهنية في كثرة مدركاتها. ومما رتبناه على هذه النظرية الفلسفية تحليل مفهوم
الوجود الرابط الذي يعتقد أغلب الفلاسفة أنه وجود واقعي حقيقته عين الربط
والتعلق بطرفيه وهما الجوهر والعرض وأنه يتحقق في الذهن كذلك، فكما يوجد
في الخارج مثلا زيد وقيام وربط واقعي بينهما فكذلك في الذهن، لكننا نعتقد أن
الوجود الرابط مجرد عمل إبداعي ذهني يرتبط بهذه النظرية وهي نظرية التكثر
الادراكي فالخارج لا يحوي غير وجودين جوهري وعرضي كزيد والقيام بلا
حاجة للربط بينهما، فإن عرضية العرض متقومة بكون وجوده في نفسه عين
وجوده لغيره من دون حاجة لوجود رابط وراء ذلك، والذهن عندما يتلقى صورة
القيام وزيد مثلا يتلقاها على نحوين بمقتضى نظرية التكثر الادراكي:
1 - الهوهوية والاتحاد بين الوجودين وكأنهما وجود واحد، وهذا لون من
18

ألوان الوجود الرابط.
2 - ثبوت شئ لشئ آخر فيحتاج الذهن حينئذ لعمل إبداعي وهو
الدمج والربط بينهما، وهذا لون آخر من ألوان الوجود الرابط الذي طرحه
الأصوليون في بحث المعنى الحرفي، وبحث بساطة المشتق وتركيبه، وفي بحث
اجتماع الأمر والنهي، وفي بحث استصحاب العدم الأزلي، ومما رتبناه على
نظرية التكثر الادراكي أيضا نظرية تحليل المعنى الحرفي الذي وقع النزاع عند
علماء الأصول في الفارق بينه وبين المعنى الاسمي على قولين:
1 - أن الفارق بينهما فارق ذاتي، وهو الذي ذهب له معظم الأصوليين
حيث قالوا بأن الفرق بين مفهوم لفظة - في - ومفهوم لفظة - الظرفية - أن الثاني
يعبر عن الوجود النفسي للحلول والظرفية، بينما الأول يعبر عن الوجود
الاندكاكي في الطرفين الذي لا مفهوم له أصلا حتى مفهوم التعلق بالطرفين فإنه
مفهوم اسمي لا حرفي.
2 - أن الفارق لحاظي، وذهب له صاحب الكفاية، وقال: بأن حقيقة
المعنى واحدة ومشتركة وهي حقيقة الظرفية - مثلا - إلا أن الذهن تارة يتصور
هذا المعنى على نحو الاستقلالية ويعبر عنه بالمعنى الاسمي وتارة يتصوره بنحو
الآلية أو المرآتية - على اختلاف في تحليل مطلب الكفاية - ويعبر عنه بالمعنى
الحرفي (1)، وهذا التفنن في التصور هو ما نعبر عنه بنظرية التكثر الادراكي
الذهني، ونحن قد اخترنا القول الثاني أيضا، لكننا ذهبنا لكون الفارق
اللحاظي بين المعنيين ليس هو الاستقلالية والآلية بل هو الخفاء والوضوح،
بمعنى أن هناك معنى واحدا وهو حقيقة الحلول - مثلا - ولكننا تارة نتصور هذا
المعنى بصورة تفصيلية واضحة ونعبر عنه بالظرفية فهذه الكلمة تعكس مفهوم

(1) الكفاية: 12.
19

الحلول بنحو تفصيلي واضح السمات، وتارة نتصوره بصورة مجملة داكنة ونعبر
عنه بلفظ - في - الذي يعكس المعنى نفسه بنحو من الاجمال والخفاء لعوامل
متعددة يأتي عرضها في بحث المعنى الحرفي.
ومن النظريات الفلسفية التي نهتم بها كثيرا في بحوثنا الأصولية نظرية
وحدة الموجود.
بيان ذلك: أن النظرية المشهورة في الفلسفة التقليدية هي تعدد الموجود
لجوهر وعرض، وأن الوجود الجوهري ما كان موجودا لا في موضوع والوجود
العرضي ما كان وجوده في الموضوع، واختلف أصحاب هذه النظرية في كون
التركيب بينهما إذا اجتمعا هل هو تركيب اتحادي أم تركيب انضمامي كانضمام
الحجر للحديد في بناء الدار مثلا، ولكننا نختار ما طرحه بعض فلاسفة الغرب
كالفيلسوف الفرنسي - روسوا - وبعض فلاسفة الشرق وهو آقا علي مدرسي من
اتحاد هذين المفهومين وهما الجوهر والعرض وجودا، وذلك لان الموجود شئ
واحد في الخارج إلا أنه يعيش حركة تطورية تكاملية والاعراض ما هي إلا أنحاء
وجوده التطوري وألوان حركته التكاملية المتجددة لا أنها وجودات محمولية
أخرى ترتبط بوجوده وتنضم إليه، وقد رتبنا على هذه النظرية كثيرا من البحوث
الفلسفية، منها عدم الحاجة لدعوى واقعية الوجود الرابط خارجا كما هو المشهور
في الفلسفة، باعتبار أننا إنما نحتاج للقول بالوجود الرابط نتيجة تعدد الموجود
ولكن مع وحدته لا نرى حاجة لوجود رابط متعلق بطرفين إذ لا يوجد طرفان في
الخارج أصلا، كذلك بعض البحوث الأصولية التي ترتبط بهذه النظرية، فمثلا
بحث اجتماع الأمر والنهي قد ربطه المحقق النائيني بنظرية تعدد الموجود حيث
قال في مثال اجتماع الصلاة والغصب في صورة واحدة في الأرض المغصوبة:
بأننا إن قلنا في مثال اجتماع الصلاة والغصب أن حيثية الغصب والصلاة
حيثيتان تقييديتان، بمعنى أن الصلاة عمل يرتبط بمقولة الوضع والغصب
20

حركة ترتبط بمقولة الأين والاعراض أجناس عالية متباينة بتمام الذات،
فالحركتان اجتمعتا على نحو التركيب الانضمامي لا الاتحادي، وبالتالي لا مانع
من اجتماع الأمر والنهي لتعدد المتعلق، وإن قلنا بأن الحيثيتين تعليليتان
ومجتمعتان في هوية واحدة فالتركيب بينهما اتحادي - بحسب نظره - وبالتالي نقول
بامتناع الاجتماع، ودخول بحث اجتماع الأمر والنهي في بحث التعارض لا
بحث التزاحم، لان التنافي بينهما ثبوتي في نفس مرحلة الجعل لاستحالة
اجتماعهما في هوية واحدة ووجود فارد (1).
أما نحن فنقول في هذا البحث بان الاعراض ما هي إلا ألوان الوجود
التطوري للجوهر، فلا نقول بوجود أجناس عالية متباينة بتمام الذات وأنه لا
يلتقي الأين والوضع في وجود واحد، إذ كل ذلك لا وجه له بناء على نظرية
وحدة الموجود الامكاني فليس هناك الا موجود واحد ينتزع منه مفهومان: مفهوم
الصلاة ومفهوم الغصب، فلا أساس للبحث المطروح وهو أن الحيثيتين
تقييديتان أو تعليليتان وأن التركيب بينهما اتحادي أو انضمامي، لان كل ذلك
فرع تعدد الموجود ولا تعدد له، ومع ذلك فنحن من القائلين بجواز الاجتماع،
لان المبنى الصحيح عندنا تعلق الاحكام بالعناوين الاعتبارية الموجودة في وعاء
الجعل الاعتباري نفسه لا بالمعنونات الخارجية أصلا سواءا اتحد المعنون أم
تعدد، وبما أن العناوين متعددة في نفسها فذلك كاف في القول بجواز
الاجتماع، غاية الامر أن وحدة العمل خارجا تدخل بحث الاجتماع في باب
التزاحم لا باب التعارض.
الحقل الاجتماعي: لقد طرحنا عند بحثنا حول بناء العقلاء وسيرة
المتشرعة عدة نظريات مهمة في هذا المجال كالتفريق بين العادات والأعراف

(1) أجود التقريرات 1: 354.
21

والتقاليد، وبيان أقسام العرف، والمناشئ النفسية والاجتماعية لبناء العقلاء
وارتكازاتهم، وبيان الفرق بين رجوع الأصولي لبناء العقلاء للاستدلال به وبين
رجوع الفقيه للعرف من أجل تشخيص الموضوع.
الحقل المنطقي: إننا اعتمدنا على الدليل الرياضي المعروف وهو دليل
حساب الاحتمالات الذي هو عبارة عن تراكم الاحتمالات حول محور معين في
عدة نظريات أصولية، منها تحليل مفهوم الشبهة المحصورة وغير المحصورة
حيث إن درجة الاحتمال إذا تضاءلت في أطراف العلم الاجمالي إلى مستوى عدم
الباعثية والمحركية فالشبهة غير محصورة وأما إذا كانت درجة الاحتمال محتفظة
بقوتها وباعثيتها فالشبهة محصورة، ومنها شرح معنى التواتر وأقسامه المعنوي
واللفظي والاجمالي الذي يعتمد قوامه على تراكم الاحتمالات، ومنها ما ذكرناه
في بحث القطع من الفرق بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي فإن اليقين
الذاتي هو الناشئ عن العوامل النفسية والمزاجية والمحيطية وهذا لا قيمة له في
المنجزية والمعذرية بحسب نظرنا وإن ذهب الاعلام إلى كون حجية القطع ذاتية
مطلقا، واليقين الموضوعي هو النابع عن مقدمات علمية وقرائن موثوقة بالاعتماد
على دليل حساب الاحتمالات وتمركزها حول محور معين.
الحقل اللغوي: لقد طرحنا في بعض البحوث بعض النظريات الأدبية
المساهمة في تحليل المفاهيم الأصولية، ومن جملتها نظرية التورية وانقسامها
للتورية البديعية والتورية العرفية، فالتورية البديعية تعني إطلاق لفظ له
معنيان: قريب وبعيد مع إرادتهما جدا، وقد استفدنا من هذه النظرية في بحث
استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث ذهب كثير من علماء الأصول لعدم جواز
الاستعمال في المعاني المتعددة، وذهبنا لجواز ذلك استنادا لوقوعه في شعر العرب
وخطبهم والوقوع خير دليل على الامكان ومن شواهد الوقوع هو التورية
البديعية كقول الشاعر:
22

أي المكان تروم ثم من الذي * تمضي إليه أجبته المعشوقا
والتورية العرفية هي الستر على المراد الجدي الواقعي بعدة أساليب، وقد
ذكرنا في بحث علل اختلاف الأحاديث في باب تعارض الأدلة الشرعية أن من
أسباب اختلاف الحديث الصادر عنهم عليهم السلام هو استخدامهم عليهم
السلام للتورية العرفية كما ورد عنهم عليهم السلام: " إن كلامنا لينصرف إلى
سبعين وجها لنا منها المخرج " (1).
ومما يرتبط بالنظريات الأدبية بيان الفارق بين الاعتبار القانوني والاعتبار
الأدبي، وقد شرحنا ذلك مفصلا في هذا الكتاب في بحث علاقة علم الأصول
بالعلوم الأدبية، لكننا نذكر في المقام مثالا أصوليا مترتبا على ذلك هو مثال
الحكومة التي هي عبارة عن تصرف دليل في دليل آخر تصرفا موضوعيا كما إذا
قال المولى أكرم العلماء ثم قال زيد ليس بعالم مع أنه عالم حقيقة، وقد وقع النزاع
في ملاك تقديم الدليل الحاكم على المحكوم فقال بعض المعاصرين (2): بأن الملاك
هو القرينية فالحاكم يعد قرينة شخصية على المحكوم كما أن المخصص قرينة
نوعية على العام، " والمقصود بالقرينية الشخصية " هو النظر أي أن الحاكم ناظر
للدليل المحكوم ومتصرف في موضوعه سعة وضيقا (3)، ونحن نقول بأن الحكومة
لون من ألوان الاعتبار الأدبي لأنها تحتوي على التنزيل سواءا في صورة التوسعة
أم في صورة التضييق، والاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح والمصحح عدم الاصطدام
المباشر مع مرتكزات العرف، فمثلا في الحكومة التضييقية إذا قال أكرم العلماء
ثم قال زيد ليس بعالم فهنا المراد الجدي هو إخراج زيد من الامر إخراجا
حكميا، وهذا المراد الجدي مشترك بين الحكومة والتخصيص ثبوتا وإنما الفارق

(1) معاني الأخبار: 2، نوادر الاخبار: 50.
(2) لعل المقصود به السيد الصدر في - تعارض الأدلة الشرعية -: 166.
(3) تعرضنا لهذا البحث في صفحة: 142.
23

بينهما إثباتي في مقام الصياغة الأدبية فقط، فالتخصيص هو تعبير صريح عن
المراد الجدي بينما الحكومة وهي قولنا زيد ليس بعالم تعبير غير مباشر عن المراد
الجدي، والمصحح له أن المرتكز الاجتماعي قائم على شمول الحكم الوارد على
الطبيعة للافراد فإذا قال ولا تكرم زيدا العالم فهذا بيان يصطدم مع الارتكاز
الاجتماعي المذكور للتصريح فيه بعدم الشمول لذلك الفرد، فيتجنب المقنن
هذا الأسلوب محافظة على عدم إثارة الارتكاز العام ضد القانون ويقول زيد ليس
بعالم فيخرجه عن الحكم بلسان إخراجه عن الموضوع حتى لا يقع الاصطدام،
فالمصحح لتقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو رفع الترابط بين حكم
الطبيعة والفرد بما لا يصطدم مع مشاعر الجمهور ومرتكزاته لا النظر والقرينية
الشخصية فهذا مثال من أمثلة الاعتبار الأدبي في الأصول.
ومما يرتبط بالأدب أننا عندما تحدثنا عن حجية قول اللغوي في مبحثه
المخصص له تناولنا بالبحث تاريخ تدوين اللغة، وتاريخ علماء اللغة ومعرفة
طريقة التدوين، ووصلنا إلى نتيجة مهمة وهي أن من عوامل عدم الاعتماد على
قول اللغوي هو أن اللغويين يتأثرون بمذاهبهم الفكرية في تفسيراتهم اللغوية،
فبعض اللغويين من المتكلمين وبعضهم من الفقهاء مثلا فينعكس اتجاهه
المذهبي في تفسيره وشرحه للمفردات اللغوية فلا يكون كلامه تعبيرا عن الفهم
العربي الصافي.
الحقل الروائي: قد بحثنا في باب حجية خبر الواحد عن المسلك
العقلائي في الامارات واخترنا أن المعتمد عليه عند العقلاء هو الوثوق الناشئ
عن مقدمات عقلائية، ومن هذه المقدمات كون الخبر صادرا من ثقة أو كون
المضمون مشهورا أو مجمعا عليه، فهذه العناوين وهي خبر الثقة والشهرة
والاجماع لا موضوعية لها عند العقلاء وإنما هي مقدمات للوثوق الذي هو
الحجة الواقعية. ومن مقدمات الوثوق أيضا الموافقة الروحية بمعنى أن مضمون
24

الخبر موافق للأصول الاسلامية والقواعد العقلية والشرعية، وهذا معنى قولهم
عليهم السلام: " إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب
الله فخذوه " (1)، هذا مسلكنا في مقابل المسلك التجزيئي وهو اعتبار خبر الثقة حجة
مستقلة وكذلك الشهرة والاجماع المنقول حجتان مستقلتان لو قيل بحجيتهما لا
أن هذه الأمور مقدمات تكوينية للحجة الواقعية كما يراه المسلك الأول، وبناءا
على مسلك الوثوق فقد طرحنا بحثا في تاريخ تدوين الحديث وكيفيته لنتعرف
من خلاله على الكتب الحديثية عند الشيعة والسنة ومدى كفاءة مؤلفيها في
الاعتماد على نقلهم وطريقة التأليف والجمع عندهم، وهذا يفيدنا معرفة قيمة
أحاديث الشيعة وقيمة كتب الحديث بالمقارنة من حيث الضبط والدقة بين
الكتب الأربعة ويفيدنا أوثقية أحاديثنا بالنسبة لأحاديث الصحاح الستة، لأنه
قد يدعى عكس ذلك بحجة أن أحاديثهم أقرب لعصر الرسالة لكن الاطلاع
على تاريخ تدوين الحديث عند أهل السنة وطريقة تأليفهم يفيد الانسان بصيرة
بضعف أكثر الاسناد وعدم الضبط في نقلها وتدوينها.
ومما يبتني على مسلك الوثوق أيضا بحث أسباب اختلاف الحديث فإنه
بحث لم يطرح في كتب علم الأصول عند السابقين وطرحه بعض المتأخرين
طرحا مختزلا بدون شواهد حديثية وروائية على البحث، ونحن نرى أن أهم
بحوث تعارض الأدلة هو بحث أسباب اختلاف الحديث فإن الفقيه إذا أحاط
بهذه الأسباب استطاع الجمع بين الأحاديث المختلفة جمعا عرفيا من خلال
خبرته بأسباب الخلاف من دون حاجة للرجوع إلى روايات العلاج، فإنها بين
ما هو غير تام دلالة وما هو غير تام سندا حتى حملها صاحب الكفاية على
الاستحباب، ونحن قد فصلنا هذا البحث وملأناه بالشواهد التاريخية والحديثية

(1) الوسائل 27: 109 / 33343.
25

بحيث يرى الطالب العلاقة العملية الوثيقة بين كبريات علم الأصول وموارد
التطبيق في الفقه.
وقد طرحنا عدة نقاط في هذا البحث:
أ - تاريخ مشكلة اختلاف الحديث منذ بدايتها وحتى المرحلة التي
توسعت فيها وظهرت في الكتب الحديثية.
ب - الآثار العقائدية والفقهية للمشكلة.
ج - تصدي العلماء لعلاج هذه المشكلة على صعيد مدرسة المتكلمين
وصعيد مدرسة المحدثين وصعيد علم الأصول.
د - أسباب الاختلاف وهي قسمان: أسباب داخلية وأسباب خارجية
والمقصود بالأسباب الداخلية هي الأسباب التي صدرت من قبل أهل البيت
أنفسهم والمقصود بالأسباب الخارجية هي الأسباب التي صدرت من الرواة
والمدونين، فالأسباب الداخلية عدة منها:
1 - النسخ: وتحدثنا فيه عن امكان صدور النسخ من قبل أهل البيت
عليهم السلام للآية القرآنية والحديث النبوي والحديث المعصومي السابق،
وأقسام النسخ من النسخ التبليغي الذي يعني كون الناسخ مودعا عندهم
عليهم السلام من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لكنهم يقومون بتبليغه
في وقته، والنسخ التشريعي وهو عبارة عن صدور النسخ منهم ابتداءا وهذا
يبتني على ثبوت حق التشريع لهم عليهم السلام كما كان ثابتا للرسول، صلى الله
عليه وآله وسلم وقد طرحنا هذا الموضوع أيضا ضمن بحث النسخ.
2 - انقسام الحكم الصادر إلى قسمين:
أ - حكم قانوني.
ب - حكم ولايتي، وهذا من أسباب اختلاف الأحاديث لاختلاف نوع
الحكم الصادر، وهناك نبحث عن الفارق بين الحكمين وعن وجودهما في
26

أحاديثنا وعن حدود الحكم الولايتي مع بيان حدود ولاية الفقيه وانقسامها
للولاية العامة والولاية في الأمور العامة.
3 - الكتمان: أي كتمان بعض الأمور الواقعية في حديث وذكرها في
حديث آخر فيحصل الاختلاف المذكور، وتحدثنا في بحث الكتمان عن أربعة
أمور، أولا: في إثبات حق الكتمان لهم عليهم السلام، وثانيا. في أسباب
الكتمان وهي متعددة:
منها: اختلاف أسلوب التبليغ على نوعين:
أ - التعليم: وهو طرح الكبريات الشرعية على الفقهاء من أصحابهم
كزرارة ومحمد بن مسلم.
ب - الافتاء: وهو طرح نتيجة تطبيق الكبرى على الصغرى من دون إشارة
لعملية التطبيق المذكور، وهذا الأسلوب يتم مع عوام الناس الذين يستفتون
أهل البيت شفاها أو مكاتبة. واختلاف أسلوب التبليغ سبب في اختلاف
الحديث، ومنشأ أيضا لكتمان بعض الأحكام كالحكم الكلي حين استخدام
أسلوب الافتاء مثلا، حيث إن الافتاء يتعلق بالحكم الجزئي لا الكلي.
ومنها فقر اللغة العربية من المصطلحات القانونية مما يضطر الامام
لاستخدام أسلوب واحد كالأمر والنهي لبيان نوعين من القوانين، فيحدث
الاختلاف بين الأحاديث نتيجة اختلاف المضمون مع وحدة الأسلوب، كما لو
قام الامام بتبليغ الوجوب الشرطي والوجوب المولوي كليهما بأسلوب الامر مع
اختلافهما مضمونا، وهذا النوع من التبليغ فيه نوع من الكتمان لبعض القوانين
التي لا يمكن اظهارها بالأسلوب الصريح لعدم وجود مفرداتها في اللغة
العربية.
ومن أسباب الكتمان المداراة أي مداراة ظروف السائل في كونه ملحدا أو
حديث عهد بالاسلام أو حديث عهد بالتشيع فلا يلقى له الحكم الصريح
27

حفاظا على شعوره وهدايته، أو كونه من الغلاة أو المقصرين أو أصحاب
المذاهب الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية فيحذر الامام ان يلقي له الحكم
الواقعي فيكون مؤيدا لخطه المنحرف الذي يدعو له، أو كونه يعيش في بيئة
منحرفة لا تتحمل هذا الحكم فيراعي الإمام عليه السلام بيئته ومحيطه.
ومن أسباب الكتمان التقية بأنواعها، وهي التقية من السلطة الحاكمة أو
من المذهب المشهور عند الجمهور أو من التيارات الفكرية المناوئة، واستعمال
الامام للتقية تارة بالقاء الاختلاف بين الشيعة حتى لا يطمع فيهم أعداؤهم
نتيجة لاختلافهم كما ورد في الروايات، وتارة باخفاء الحكم الواقعي.
ومن أسباب الكتمان السوق للكمال فقد يبدي الإمام عليه السلام الحكم
المستحب بدون قرينة على الترخيص في تركه رغبة منه في سوق المكلفين
لدرجات الكمال المعنوي.
ثالثا: البحث في طرق الكتمان وهي السكوت والتورية بقسميها البديعية
والعرفية، والتورية العرفية على أنواع أيضا، منها: العدول عن سؤال السائل
إلى بيان مطلب آخر، ومنها: القاء الجواب المجمل أو المختلف.
رابعا: في تحديد نوع الاحكام التي يصح فيها طريق السكوت، ونوع
الاحكام التي يصح فيها طريق التورية، ونوع الاحكام التي يصح فيها طريق
القاء الاختلاف بين الشيعة. وهذا بيان اجمالي للأسباب الداخلية لاختلاف
الحديث.
وأما الأسباب الخارجية: فهي ما قام بها الرواة والمؤلفون وهي متعددة:
1 - الوضع: وتحدثنا فيه عن أهدافه وأنواعه من تأليف كتاب أو الدس
بين النصوص أو الزيادة والنقيصة في الرواية.
2 - النقل بالمعنى وأخطاره.
3 - الحديث المدرج ويعني قيام بعض المؤلفين بإدراج تعليقه على الحديث
28

في ضمن الحديث بدون فرز بينهما.
4 - التقطيع للروايات.
5 - تشابه الخطوط.
6 - التصحيح القياسي.
7 - الخلط بين كلام الامام وكلام غيره من الفقهاء في سياق واحد من
قبل الراوي.
فهذا مجمل بحث علل اختلاف الحديث الذي هو من أهم البحوث
الأصولية وأمسها بعملية الاستنباط، وقد طرحنا فيه الشواهد الكثيرة من
أحاديث أهل البيت عليهم السلام وكتب المحدثين.
الحقل القانوني: من المفاهيم القانونية التي طرحناها مفهوم متمم الجعل
التطبيقي، ومعناه قيام الشارع المقدس بتطبيق الماهية الاعتبارية على مصاديق
معينة بلحاظ أن الامر الاعتباري لا ينطبق على مصاديقه قهرا كالأمر التكويني
وإنما يحتاج انطباقه عليها لتدخل الجعل والاعتبار، سواء كان أصل المفهوم
الذي يراد تطبيقه مجعولا شرعيا كالصلاة التي هي عبارة عن اللين الخضوعي في
جميع الشرائع وقامت كل شريعة بتطبيقها على مصاديق معينة، أم كان مجعولا
عقلائيا كمفهوم الدينار التي تختلف المؤسسات المالية في مقام تطبيقه على
المصداق الورقي. ونظرية متمم الجعل التطبيقي لها علاقة ببحث الحقيقة
الشرعية وبحث الصحيح والأعم كما هو واضح وبحث التزاحم، فمثلا إذا
نظرنا لقاعدة الاضطرار، وهي " ما من شئ حرمه الله إلا وقد أحله لمن اضطر
إليه " (1) ودار عنوان المضطر إليه بين محرمين على نحو التزاحم فما هو المقدم منهما
ليكون مصداقا لعنوان المضطر إليه، فهنا يأتي دور متمم الجعل التطبيقي ليقدم

(1) الوسائل 5: 482 / ذيل الحديث 7118.
29

أحدهما لأهميته عند الشرع أو العقلاء، أو يعتبر ما ينتخبه الانسان بطبعه هو
المضطر إليه في صورة تساويهما وعدم أهمية أحدهما على الآخر.
ومن المفاهيم القانونية التي طرحناها بحث القدرة وأنواعها، فإن علماء
الأصول عندما يدخلون بحث التزاحم يذكرون نقطتين، أ: الفرق بين
التزاحم والتعارض حيث إن التعارض هو تنافي الدليلين ثبوتا وجعلا والتزاحم
هو تنافيهما في مرحلة الامتثال لقصور القدرة عن الجمع بين الامتثالين. ب:
مرجحات باب التزاحم، بينما طريقتنا في بحث التزاحم هي أننا أولا: تحدثنا
عن أنواع القدرة، وهي القدرة على أصل الفعل المعبر عنها ب‍: إن شاء فعل وإن
لم يشاء لم يفعل. والقدرة على الموافقة القطعية والمخالفة القطعية والقدرة على
الجمع بين الامتثالين، وثانيا: تحدثنا عن دخالة القدرة بأنواعها، فهل هي
دخيلة في مرحة الجعل أم هي دخيلة في مرحلة الفعلية أم هي دخيلة في مرحلة
التنجز، وعلى بعض الصور يدخل المتنافيان في عنوان التعارض وعلى بعضها
يدخلان في عنوان التزاحم وعلى بعضها تصح نظرية الترتب ولا تصح على
البعض الآخر.
هذا تمام الحديث حول بعض المحاولات المساهمة في تطوير علم الأصول
من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة والاستمداد من أطروحات علمائنا
الاعلام.
30

المبحث الثالث
منهج علم الأصول
هناك منهجان في تصنيف علم الأصول وطريقة تبويبه وترتيبه:
1 - المنهج التقليدي.
2 - المنهج المقترح عندنا.
المنهج الأول: كان القدماء يقسمون علم الأصول لأربعة أقسام:
1 - المقدمة في الوضع والاستعمال والصحيح والأعم والحقيقة الشرعية
والمشتق ونحوها.
2 - مباحث الألفاظ كباب الأوامر والنواهي والعام والخاص والمطلق
والمقيد والمفهوم والمنطوق.
3 - مباحث الدليل، وهو إما سمعي كالكتاب الذي يبحث عن حجية
ظواهره والسنة التي يبحث عن كيفية ثبوتها وما يتعلق به من تعارض الجرح
والتعديل في الرواة وتحقيق واقعية بعض كتب الحديث كفقه الرضا مثلا
والاجماع وأنواعه من المحصل والمنقول، وإما عقلي ويبحث فيه عن
الحسن والقبح العقليين وقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وأصالة
العدم وعدم الدليل دليل العدم ومبحث الاستصحاب والقياس.
4 - الخاتمة في التعادل والتراجيح.
ولعل السر في هذا المنهج ان موضوع علم الأصول كما ذكر السيد
المرتضى في الذريعة هو: الدليل في الفقه، فلما كان محور علم الأصول هو
31

الدليل الفقهي كان مدار أبحاثه حول الدليل نفسه وأقسامه من السمعي
و العقلي، وعوارضه الثبوتية كالاطلاق والتقييد والتعادل والتراجيح والتضاد
و التلازم والاثباتية كمباحث الأوامر والنواهي والعام والخاص والمنطوق
والمفهوم.
وهناك اعتراضان مهمان على طريقة المنهج القدمائي، الأول: هو
الاعتراض على القسم المدون في أصول القدماء للبحث عن الدليل وأقسامه،
حيث أبدله الشيخ الأنصاري بتصنيف علم الأصول على طبق الحالات
الوجدانية للمكلف عند التفاته للحكم الشرعي وهي القطع والظن والشك،
فهنا أقسام:
1 - بحث القطع التفصيلي والاجمالي.
2 - بحث الظن المعتبر وغيره بما يشمل سائر الظنون، و منها الظواهر
المبحوث عنها من حيث الكبرى وهي حجية الظهور ومن حيث الصغرى وهي
تنقيح المصاديق كمباحث الألفاظ السابق ذكرها، ويدخل في ذلك بحث
التعادل والتراجيح أيضا فإنه راجع للبحث عن الظنون أيضا وإن ذكر في
الخاتمة، فإن الدليلين إذا تقابلا فإما أن يحصل الظن بأحدهما من حيث الجهة
أو الصدور أو المضمون وهذا هو الترجيح، وإما أن لا يحصل الظن بشئ من
ذلك وهو التعادل المرتبط بحثه بباب الظن سواء قلنا بالتخيير عند التكافؤ، أو
قلنا بالتساقط.
3 - بحث الشك الذي يشتمل على الأصول العملية الأربعة لكونها
وظيفة الشاك. ولعل النكتة التي دفعت بالشيخ الأعظم لاختيار هذا التبويب
تتلخص في أمور:
أ - إن علم الأصول مقدمة لعلم الفقه ومن الطبيعي عدم امكان تحديد
ملامح المقدمة الا بمعرفة ملامح ذي المقدمة فإن ذلك مقتضى مقدميتها.
32

ب - لما كان علم الفقه يبحث عن تحديد الحكم الشرعي فالمناسب لعلم
الأصول البحث عن الطرق الموصلة لتحديد الحكم الشرعي، ولما كانت الطرق
تختلف باختلاف الواقع النفسي للمكلف حين توجهه للحكم، باعتبار أن قطع
المكلف بشئ يمنع من عمله بالامارة أو الأصل، كما أن الظن بالخلاف يمنع
من الاخذ بالامارة والأصل على بعض المباني، وكذلك على القول بالظن
الانسدادي لا مجال للعمل بغير الظن، فحينئذ يكون تصنيف علم الأصول
مطابقا للحالة الوجدانية للمكلف.
ج - حيث أن الاتجاه النفسي للمكلف حين التفاته للحكم الشرعي إما
القطع بالحكم أو الظن به أو الشك فيه كان المنهج في تبويب علم الأصول منظما
على طبق ذلك.
وقد اعترض على المنهج المذكور باعتراضين:
الأول. إن التصنيف الناظر للحالات النفسية قد أغفل كثيرا من
المباحث الحيوية ذات الربط المباشر بالجانب العملي لدى الفقيه، إذ لا مناسبة
واضحة بينها وبين هذا التصنيف كبحث الحسن والقبح العقليين، وبحث
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وبحث طرق ثبوت السنة بالتواتر
والآحاد وبحث أقسام التواتر، وبحث شرائط حجية خبر الواحد من صحة
المضمون عقلا وشرعا ووثاقة الرواة، وبحث مناشئ الوثاقة كقول الرجالي
الذي يبحث عن حجيته وأنها هل هي من باب كونه من أهل الخبرة أو من باب
شهادة العدلين أو من باب حجية خبر الثقة، وبحث تمييز المراسيل المعتمدة من
غيرها، فهذه البحوث رغم كونها مهمة وعملية إلا أنها لا تنسجم مع التصنيف
المذكور المرتب على حالات القطع والظن والشك، بينما نجدها منسجمة تماما
مع منهج القدماء المبني على النظر للدليل الفقهي العقلي والسمعي وطرق إثبات
هذا الدليل.
33

الثاني: إن هذه الحالات النفسية الثلاث لا علاقة لها بالحكم الشرعي
ولا بالطرق المؤدية له فلا وجه لجعل التصنيف الأصولي دائرا مدارها، أما
بالنسبة للقطع فما هو المبرر للبحث عنه وجعله محورا لعدة من البحوث؟ فإن
كان المبرر للبحث عنه كونه واسطة في جعل الحكم الشرعي فذلك مستحيل
لان ثبوت الحكم الشرعي بسبب القطع به دور باطل كما ذكر في علم الأصول،
وإن كان المبرر للبحث كونه واسطة في فعلية الحكم كموضوعية الزوال لوجوب
الصلاة فهذه ليست ميزة خاصة بالقطع توجب البحث عنه بعنوانه بل هي
متوفرة في كل موضوع بالنسبة لأي حكم من الاحكام، وإن كان المبرر لذلك
كون القطع منشأ للحكم العقلي بالمنجزية والمعذرية كما اشتهر في كتب الأصول
بأن حجية القطع ذاتية له، فيلاحظ عليه بان منشأ المنجزية والمعذرية ليس
القطع بما هو قطع حتى يكون ذلك مصححا ومبررا للبحث عن القطع بعنوانه
بل منشأ المعذرية وعدمها هو روح المسؤولية وروح التقصير في مقدمات الحكم،
فإن سار المكلف مع المقدمات بروح المحاسبة والمسؤولية فهو معذور عند مخالفة
الواقع وإلا فهو مدان سواءا في ذلك وجود القطع وعدمه، فإننا ذكرنا في بحث
القطع الفرق بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي فاليقين الموضوعي هو اليقين
الناشئ عن تراكم الاحتمالات والقرائن في محور واحد، وهذا العمل بذاته عمل معذر
لأنه مستبطن للمسؤولية والمحاسبة الداخلية سواءا كان هناك قطع أم لا، واليقين
الذاتي هو الناشئ عن العوامل المزاجية والنفسية كالحلم والاستخارة، وهذا
ليس معذرا بنظر العقلاء فإن قائد الجيش لو اعتمد على معلومات ناشئة عن
مصادر واهية أوجبت له القطع بأمر معين فرتب عليه آثار الحرب والسلم لا
يكون معذورا أمام القانون والشعب، وليس السر في ذلك الا أن القطع بما هو
قطع ليس هو مدار المعذرية والمنجزية بل المدار على روح المسؤولية وروح
التقصير في مقدمات الحكم سواءا كان هناك قطع أم لا، ولذلك نرى القرآن
34

يعبر عن عقائد الجاهلية مع أنها عقائد قطعية عندهم بأنها ظنون وجهالات لا
يعذرون فيها، وبناءا على ذلك فلا موضوعية مهمة للقطع بما هو قطع حتى
يكون محورا للبحوث العلمية.
وأما البحث في الامارات كخبر الواحد والاجماع بقسميه والشهرة وقول
اللغوي فهو لا يدور مدار الظن الشخصي كما هو ظاهر تقسيم الشيخ، بل هو
دائر مدار الكشف النوعي وتتميمه من قبل المجتمع العقلائي أو الشرع
المقدس.
كما أن البحث في حجية الظاهر يدور مدار الميثاق العقلائي على
الالتزام والالزام بهذا الظاهر وترتيب الآثار عليه سواءا كان هناك ظن شخصي
أم لا.
وأما البحث في الأصول العملية فهو لا يرتبط بحالة الشك وتساوي
الطرفين، فإن موضوع أصالة البراءة عقلا وشرعا هو عدم العلم وعدم تنجز
العلم الاجمالي لا الشك، وموضوع الاستصحاب هو عدم العلم بانتقاض
الحالة السابقة لا الشك أيضا.
فتبين لنا من خلال هذا العرض عدم مدخلية هذه الحالات النفسية في
البحث الأصولي المنصب على تحديد الطريق الموصل للحكم الشرعي.
ولكننا مع ذلك اعتذرنا عن تقسيم الشيخ الأنصاري لبحوث علم
الأصول على طبق حالات نفس المكلف في بحث القطع كما سيأتي، وقلنا بأن
هناك عاملين يساعدان على هذا التقسيم:
أولا: إن المحيط الثقافي الذي كان يعيش فيه الشيخ فرض عليه هذا
التصنيف، لوجود مدرستين متطرفتين آنذاك: مدرسة المحدثين المفرطة في
الجمود على الحديث دون النظر للأدلة العقلية القطعية ومدرسة بعض
الأصوليين المفرطة في الاعتماد على بعض الظنون الشخصية بحجة انسداد باب
35

العلم والعلمي، فأثار الشيخ حركة تنهج الاعتدال والتوسط بين هاتين
المدرستين، وهي المدرسة التي تعتمد على الأدلة القطعية العقلية من جهة وهي
المندرجة تحت عنوان القطع والأدلة الظنية السمعية من جهة أخرى وهي
المندرجة تحت عنوان الظن، والرجوع عند فقدهما للأصل العملي المجعول
وظيفة عند الشك.
وثانيا: إن المكلف يشعر في أعماق وجدانه بالحاجة للتأمين من عقوبة
ترك التكاليف الواقعية فهدفه المنشود هو حصول الامن المذكور، وطرق التأمين
بحسب التقسيم الوجداني ثلاثة:
1 - ما هو علة تامة لحصول الامن وهو القطع.
2 - ما هو مقتضى الحصول الامن النفسي وهو الظن.
3 - ما هو فاقد للعلية التامة والاقتضاء وهو الشك فتحتاج طريقيته
للتأمين للرجوع إلى القطع وهو الطريق الأول.
والخلاصة أن أمثال هذه المبررات ساعدت الشيخ على اختيار التصنيف
الثلاثي.
الاعتراض الثاني على منهج القدماء: ما طرحه المحقق الأصفهاني (قده)
حول التوسع الأصولي في مباحث الألفاظ (1)، ونحن نعرضه بنحو أعمق
وأشمل، فنقول: إن ما يرتبط من البحوث بعالم الألفاظ نزر ضئيل جدا،
كقولنا هل أن صيغة الامر ظاهرة في الوجوب، وهل أن صيغة النهي ظاهرة في
الحرمة، وبعض بحوث المفاهيم والعام والخاص والمطلق والمقيد، ولكن معظم
الأبحاث التي وضعها القدماء في مباحث الألفاظ لا ربط لها بذلك، فمثلا
بحث انقسام الحكم للتكليفي والوضعي وانقسام الواجب للواجب التوصلي

(1) أصول الفقه للمظفر 1: 7 - 8، بحوث في الأصول للمحقق الأصفهاني: 22.
36

والتعبدي والتعييني والتخييري والعيني والكفائي والنفسي والغيري والموسع
والمضيق والمطلق والمشروط كلها مرتبطة بالواجب بما هو سواءا كان مدلولا لفظيا
أم لا، وكذلك بحث عوارض الاحكام كالانحلال الاستقلالي والضمني
والاطلاق والتقييد الثبوتيين والتضاد والتلازم، كما في بحث مقدمة الواجب
ومسألة الضد الباحثين عن تلازم الوجوب النفسي والغيري وتلازم الامر بالشئ
مع النهي عن ضده، وبحث ارتباط الحكم بالقدرة ودرجاتها المختلفة الذي هو
بحث التزاحم، فهذه البحوث لا ربط لها بعالم اللفظ حتى تندرج في مباحث
الألفاظ، ولكننا نستطيع وضع بعض المبررات والتوجيهات لتوسعة مباحث
الألفاظ بحيث تشمل هذه البحوث:
1) لا ريب في دلالة الألفاظ على هذه المعاني الأصولية المذكورة في
الاعتراض سواءا بالدلالة المطابقية أو بالدلالة التضمنية أو بالالتزامية، ومع
وجود دلالة الألفاظ عليها فالمصحح لادراجها في مباحث الألفاظ واضح وهو
دلالة اللفظ عليها.
2) إن الاعتبارات الأدبية والقانونية لها نوع من الخلاقية والفعالية في
النفوس والمشاعر، ولا ريب أن مجرد الاعتبار بما هو لا يحقق هذه الخلاقية
المطلوبة وإنما يحققها إذا كان في ضمن لفظ مناسب، فاللفظ المناسب للاعتبار
الأدبي والقانوني يبرز خلاقية الاعتبار وتأثيره السحري في النفوس والمشاعر الذي
هو المطلوب.
3) إن هناك مسلكين في علاقة اللفظ بالمعنى الانشائي، فمسلك السيد
الأستاذ الخوئي (قده) مسلك الحكاية والابراز أي أن اللفظ حاك عن المعنى الانشائي
ومبرز له، ومسلك المشهور أن علاقة اللفظ بالمعنى الانشائي علاقة الايجاد
فاللفظ موجد للمعنى لا حاك عنه، وبما أن هذه العلاقة الوثيقة موجودة بين
الانشاء واللفظ لذلك كان التعرف على هذه الاعتبارات من خلال ألفاظها
37

الموجدة لها تعرفا دقيقا، لأنه يعكس المعنى من ثنايا اللفظ الذي وجد به
بخلاف ما لو بحث عنه مجردا عن كل خطاب ولفظ.
4) لقد قال علماء الاجتماع والتاريخ بأن اللغة دليل حضارة المجتمع،
فاللغة المتكاملة تعكس تكامل المجتمع فسعة آفاقها واشتمالها على المفردات
القانونية والصناعية والفنية كاشف عن حضارة المجتمع وتطوره، كما أن اللغة
لسان معبر عن نوع التفكير الاجتماعي، فمثلا الجملة الاسنادية في اللغة
العربية نحو زبد قائم لا تشتمل الا على طرفين موضوع ومحمول مما يدل على
كون النسبة الاسنادية بالمفهوم العربي تعني اتحاد الطرفين وجودا والهوهوية
المصداقية بينهما، بينما هذه الجملة في اللغة الفارسية واليونانية تحتاج لرابط وهي
كلمة - است - أو - استين - مضافا لوجود الموضوع والمحمول مما يدل على كون
مفهومها في الفكر الفارسي عبارة عن ثبوت شئ لشئ - أي ثبوت القيام لزيد -
وهذا المفهوم يحتفظ بالغيرية والاثنينية بين طرفي القضية بخلاف المفهوم
العربي الذي يعكس الوحدة والاندماج، فاللغة إذن دليل على نوع التفكير
الاجتماعي، ومثال آخر على ذلك أيضا اختلاف الأصوليين في مفهوم صيغة
افعل نحو اضرب، فهل مفهومها النسبة الاغرائية كما يرى المحقق الأصفهاني،
أو النسبة الايقاعية كما يرى النائيني، أو النسبة التسخيرية أي اعتبار المخاطب
أداة لتحقيق هذا الحدث في الخارج كما يراه صاحب الميزان (قده)، فهذه
المفاهيم في الواقع تعكس الفكر الاجتماعي الذي ينتسب له كل واحد من
هؤلاء الأعاظم، فكل مجتمع يختلف تحليله لبعض الاعتبارات القانونية نتيجة
اختلاف حضارته وثقافته عن المجتمع الآخر، وبناءا على هذه العلاقة الوثيقة
بين اللغة وبين المفهوم الذي تحمله بين ثناياها بحيث لو تغيرت اللغة لزالت
بعض خصوصيات أو مقومات المفهوم كما لاحظنا في اختلاف مفهوم الجملة
الاسنادية عند العرب وغيرهم، يصعب التفكيك حينئذ بين الاعتبار القانوني
38

واللفظ المعبر عنه بحيث نبحث عن الاعتبار مجردا عن ثوبه اللفظي مع أن هذه
الصياغة اللفظية تحافظ على بعض خصوصيات المفهوم وسماته.
5) إن الاعتبار القانوني متولد عن الاعتبار الأدبي، وبما أن الاعتبار
الأدبي متقوم باللفظ فكذلك الاعتبار القانوني المتفرع عنه شديد العلاقة باللفظ
بحيث لا يفيد البحث فيه مستقلا عن لفظه.
بيان ذلك: إننا عندما نلاحظ مثلا كلمة حاتم نراها في الأصل تعبر عن
شخص معين متصف بالكرم ثم أطلقت على كل شخص يشابه حاتما في صفة
الكرم، وبمرور الوقت وكثرة الاستعمال والتطبيق أي تطبيقها على كل كريم
اكتسبت الكلمة مفهوما خلقيا وهو نفس مفهوم الكرم بحيث إذا سمعت لا
يتبادر للأذهان سوى معنى الكرم من دون التفات لشخص حاتم الطائي
أصلا، فالاعتبار الأدبي قد يتحول بمرور الوقت لمفهوم معين فكذلك بالنسبة
لعلاقته بالاعتبار القانوني، فكلمة الميتة أساسا تعني ما مات حتف أنفه ثم
أطلقت على نحو الاعتبار الأدبي القائم على علاقة التشابه على الحيوان المذبوح
على غير الطريقة القانونية، وبمرور الوقت وكثرة الاستعمال والتطبيق اكتسبت
هذه الكلمة اعتبارا قانونيا وهو أن الميتة تعني المذبوح على غير الطريق القانوني
من دون نظر لمعناها اللغوي.
ومثلها لفظ الدينار مثلا فهو في الأصل يعني مثقالا من الذهب تقاس به
قيمة الأشياء كقولنا هذه الأرض تساوي مائة دينار، ثم صار يطلق على نحو
الاعتبار الأدبي على الأوراق النقدية من أجل أن يتعامل معها المجتمع معاملة
الدينار الأصلي في كونه وسيطا في تبادل السلع ومقياسا لتحديد قيمة الأشياء،
وبمرور الوقت وكثرة الاستعمال تحول هذا الاعتبار الأدبي للاعتبار القانوني
فأصبح الدينار يعني نفس الورقة النقدية التي هي مقياس القيم وواسطة
التبادل. وإذا اتضح لنا أن الاعتبار القانوني وليد الاعتبار الأدبي، والمفروض
39

أن الاعتبار الأدبي متقوم باللفظ لأن الاعتبار الأدبي هو اعطاء حد شئ لشئ
آخر بهدف التأثير في مشاعر المخاطب فلا ينفصل الاعتبار الأدبي عن اللفظ،
وبما أن الاعتبار القانوني متولد منه فلا محالة لا يمكن التفكيك في البحث بين
نفس الاعتبار واللفظ المساهم في تحققه وفعاليته.
فهذه بعض المبررات التي نتصورها في توسعة مباحث الألفاظ عند
القدماء وإن كان بعضها موضع المناقشة، ومع ذلك فقد أصر المحقق
الأصفهاني (قده) على فصل بحث مقدمة الواجب ومسألة الضد عن مباحث
الألفاظ، باعتبار أن البحث فيهما يرتبط بالملازمة العقلية المدركة بالعقل النظري
بين وجوب شئ ووجوب مقدمته ووجوب شئ وحرمة ضده، ولا ربط لهذه
الملازمات بعالم الألفاظ حتى يكون البحثان من مباحث الألفاظ.
ولكننا نختلف عن المحقق الأصفهاني (قده) في بعض النظرات بالنسبة
لمقدمة الواجب ومسألة الضد، والحديث أولا في مقدمة الواجب:
فإن الملازمة المبحوث عنها هناك تتصور على أربعة معاني:
1 - التلازم بين الاعتبارين تكوينا، بمعني أن الجاعل إذا حكم بوجوب
لشئ يرى نفسه مجبورا على جعل وجوب آخر لمقدمة ذلك الشئ بمقتضى
المقدمية، فهناك جعلان الا أن أحدهما اختياري والآخر قهري، لكننا لو سلمنا
هذا المعنى الفاسد في نفسه حيث أن الجعل الاعتباري اختياري لا قهري
فالملازمة حينئذ بين الاعتبارين والجعلين لا بين المعتبرين المجعولين، والمدعى
دخول بحث مقدمة الواجب في الملازمات العقلية بين الاحكام، بينما على هذا
المعنى يدخل بحث مقدمة الواجب في الملازمات العقلية بين الاعتبارات نفسها
لا بين المعتبرات.
2 - الملازمة بين الوجوب النفسي والغيري على نحو الترشح المعلولي أي
أن الوجوب الغيري للمقدمة يترشح من الوجوب النفسي لذي المقدمة على نحو
40

ترشح المعلول من علته، وهذا المعنى لوضوح بطلانه حيث إنه لا يعقل الترشح
المعلولي في الاعتباريات بل الاعتباري خاضع للجعل والابداع فلا وجه لربط
تصنيف علم الأصول به.
3 - الملازمة العرفية: بمعنى أن الجاعل إذا أنشأ الوجوب لشئ فمن
المستهجن عند العرف والعقلاء عدم إنشاء الوجوب لمقدمته، فإن علاقة
المقدمية التكوينية بينهما تولد تلازما في الاعتبار كالمتضايفين، فإن اعتبار شخص
أبا عند العقلاء ملازم لاعتبار الطرف الآخر ابنا له ويستهجن العقلاء التفكيك
بينهما في الاعتبار لعلاقة التضايف فكذلك في بحث مقدمة الواجب، وهذا
المعنى على فرض صحته في نفسه لا يدرج بحث مقدمة الواجب في الملازمات
العقلية بين الاحكام.
فإن التلازم بحسب هذا المعنى تلازم عرفي لا عقلي، مضافا لكونه تلازما
بين الاعتبارين لا بين المعتبرين الا ثانيا وبالعرض.
4 - الاندماج الاثباتي: ومعناه أن العرف يرى أن وجوب المقدمة
مستبطن ومندمج في وجوب ذيها، فالمولى وإن احتاج ثبوتا للقيام بجعلين ولكنه
إذا رأى أن الوجوب النفسي إثباتا مستبطن للوجوب الغيري فيكتفي بالصياغة
الواحدة التي تعبر عن هذين الوجوبين على نحو الاندماج والاستبطان، وسنشير
لأسباب الاندماج في بحث مقدمة الواجب ولكن نقول هنا: لعل من أسباب
الاندماج تقارن الجعلين في الحمل بمعنى أنه حمل الوجوب الغيري على مورد
الوجوب النفسي فترة طويلة ولدت الاندماج بينهما واستبطان أحدهما في الآخر
بحيث لا يمكن للجاعل التفكيك بينهما إلا بخلق أسباب أقوى لعدم الاندماج،
ونظير ذلك فكرة الاندماج بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي، فالنجاسة
مستبطنة لوجوب الاجتناب باعتبار أن تقارن الجعلين في الحمل فترة طويلة
ولدت اندماجهما، وكذلك فكرة الاندماج في عقد البيع وخيار الغبن مثلا،
41

حيث ذكر المحقق النائيني (قده) أن منشأ خيار الغبن في عقد البيع هو الشرط
الضمني الارتكازي وهو عدم زيادة مالية المنتقل عنه عن المنتقل إليه (1).
ونحن نقول: لعل من أسباب ارتكازية الشرط المذكور واندماجه في
نفس العقد تقارن الاعتبار لهما فترة كافية في ذلك، ومثله الاندماج بين مفهوم
الالزام ومفهوم الوعيد فمعنى الوجوب بنظرنا هو البعث المستبطن للوعيد على
الترك، وذلك لكثرة تقارن الوعيد مع إصدار البعث فحصل الاندماج بينهما،
وبناءا على هذا التصور لوجوب المقدمة لا يوجد أي تلازم عقلي بين الوجوبين
حتى يدخل بحث المقدمة في بحث الملازمات العقلية بل هو اندماج إثباتي،
إذن على جميع المعاني للملازمة لا نرى وجها في ادخال بحث مقدمة الواجب
تحت عنوان الملازمات العقلية فإنها بين معنى باطل في نفسه ومعنى لا ينسجم
مع الملازمات العقلية.
هذا هو تعليقنا على ادخال بحث مقدمة الواجب في بحث الملازمات
العقلية.
وأما بحث مسألة الضد، وهي أن الامر بالشئ هل يقتضي النهي عن
ضده العام والخاص أم لا ففيها ثلاثة مسالك:
أ - وجود الملازمة بين الامر بالشئ والنهي الشرعي عن ضده، وعلى هذا
المسلك يصح إدخال مسألة الضد في بحث الملازمات العقلية، بمعنى أن
العقل النظري يدرك وجود ملازمة بين الامر بشئ والنهي شرعا عن ضده.
ب - وجود الملازمة بين الامر بالشئ شرعا والنهي عن ضده عقلا لا
شرعا وكفاية هذا الردع العقلي عن الردع الشرعي، وعلى هذا المعنى فلا يدخل
بحث الضد في الملازمات العقلية بين الأحكام الشرعية إذ لا يوجد حكمان شرعيان.

(1) حاشية النائيني على المكاسب: ص 20.
42

ج - العينية الاعتبارية بين الوجوب والحرمة هنا، والمقصود بذلك ليس
العينية المفهومية فإنه من الواضح الفرق مفهوما بين قول المولى " صل " وقوله " لا
تترك الصلاة "، بل المقصود أن المجعول الاعتباري واحد والفارق في الصياغة
الاثباتية المبرزة فالمجعول هو الالزام مع الوعيد، الا أن هناك عبارتين مبرزتين
لهذا الاعتبار إما على نحو الأصالة أو أن إحداهما هي التعبير الأصيل والأخرى
اعتبار أدبي حاك عنه.
ونفس التحليل قد يذكر في بحث التلازم بين النهي عن شئ والامر
بضده.
وعلى هذا المعنى فلا يوجد حكمان حتى نبحث عن وجود الملازمة بينهما
وعدمها.
والخلاصة: أن صحة ادخال مسألة الضد في بحث الملازمات بناءا على
مبنى صحيح بنظر القائل بذلك، لا يعني اندراج المسألة في بحث الملازمات
حتى على المباني الأخرى.
والخلاصة: أن المناقشات العديدة التي عرضناها أوضحت لنا النكتة في
توسعة مباحث الألفاظ عند القدماء بلا حاجة لتغيير هذا المنهج الا لمنهج أفضل
كما سيأتي بيانه.
المنهج المقترح: وهو عندنا طريقتان:
أ - البحث حول محور الحجية.
ب - البحث حول محور الاعتبار.
الطريقة الأولى. بما أن علم الأصول وضع كمقدمة لعلم الفقه فلابد
أن يكون تصنيفه ومنهجه منسجما مع مقدميته، وحيث أن علم الفقه هو العلم
الباحث عن تحديد الحكم الشرعي فالمناسب لتصنيف علم الأصول أن يدور
مدار الحجة المثبتة للحكم الشرعي فإن ذلك هو النافع في مقدميته لعلم الفقه،
43

ولذلك اخترنا أن موضوع علم الأصول كما سيأتي بيانه هو الحجة في الفقه
فأبحاثه تدور حول محور الحجية وعدمها، وبناءا على هذا يصح تصنيف علم
الأصول على ثلاثة أقسام:
أ - قسم الاحتمال.
ب - قسم الكشف.
ج - قسم الميثاق العقلائي.
الأول: الاحتمال: وهو على خمسة أصناف:
1 - الاحتمال الواصل لدرجة القطع والبحث في حجيته بحث في حجية
القطع.
2 - الاحتمال الواصل لدرجة الاطمئنان والبحث عنه هو المتعلق بحجية
الاطمئنان.
3 - الاحتمال المعتمد على قوة المحتمل وإن كانت درجة الاحتمال ضعيفة
وهو المتحقق في موارد الاعراض والأموال والدماء، والبحث عن حجيته هو
البحث المتعلق بأصالة الاشتغال.
4 - الاحتمال المعتمد على العلم الاجمالي وهو يكتسب قوة من خلال
استمداده من العلم الاجمالي، الا إذا بلغت الأطراف كثرة تؤدي إلى موهومية
الاحتمال في أطراف العلم الاجمالي، وهذا البحث هو المعبر عنه بمباحث العلم
الاجمالي والشبهتين المحصورة وغير المحصورة.
5 - الاحتمال الذي لا يستند لقوة في درجته ولا أهمية في المحتمل وهو
على نوعين.
أ - الاحتمال المصطدم باحتمال معاكس له لوجود علم اجمالي بالجامع
وهذا مورد أصالة التخيير.
ب - الاحتمال الغير مصطدم باحتمال معاكس وهو مورد أصالة البراءة،
44

وهو على قسمين لأنه إذا ورد من الشارع بيان لعدم أهميته فهذا هو البراءة
الشرعية وإن لم يرد بيان فهذا هو البراءة العقلية.
إذا فعنوان حجية الاحتمال هو العنوان الجامع بين هذه البحوث.
الثاني: حجية الكشف: والكشف على نوعين إدراكي وإحساسي،
فالكشف الادراكي هو المتوفر في الامارات العقلائية والشرعية التي قام الشرع
أو المجتمع العقلائي بتتميم الكشف فيها، وهذا هو بحث حجية الامارات
والطرق.
والكشف الاحساسي هو المتوفر في بحث الاستصحاب، فإن الانسان
إذا أحس بشئ ما ثم غاب الشئ عن وعيه فإنه قد يبقى ذلك الكشف
الاحساسي عنده وهو شعوره بأن الشئ ما زال موجودا كما كان، فهل هذا
الكشف الاحساسي حجة أم لا، وهذا بحث الاستصحاب.
الثالث: حجية الميثاق العقلائي: والمقصود به كل طريق تبانى عليه
المجتمع العقلائي كميثاق يؤخذ بلوازمه وآثاره، سواءا كان ذلك التباني بسبب
الكاشفية النوعية لهذا الطريق عن الواقع كما يدعى ذلك في خبر الثقة، أو
للمصلحة الاجتماعية العامة، ولعل الظواهر من هذا الباب فيبحث عنها من
حيث الكبرى وهو حجية الظهور ومن حيث الصغرى كالبحث في صيغة الأمر والنهي
والعام والخاص والمطلق والمقيد ونحوها من مباحث الألفاظ، كما أن
بحث تعارض الأدلة داخل في صورة الترجيح لاحد الخبرين في قسم حجية الكشف
أو قسم حجية الميثاق العقلائي، وكذلك في صورة التكافؤ مع القول بالتخيير،
وأما على القول بالتساقط والرجوع للأصل العملي فيدخل البحث فيه في قسم
حجية الاحتمال.
فهذه هي الطريقة الأولى من المنهج المقترح لتصنيف علم الأصول المبنية
على محور الحجية للدليل المستخدم عند الفقيه للوصول إلى الحكم الشرعي.
45

ولكن لبعد هذه الطريقة عن المألوف في التصنيف الحوزوي لعلم
الأصول، ومن شرائط فن التصنيف أن لا يعد طفرة مستنكرة ما دامت خطوات
التدريج كافية في تحقيق الهدف، لذلك نرى أن الطريقة الثانية أقرب للتصنيف
المألوف.
الطريقة الثانية: حيث إن المبادئ التصديقية لكل علم إما أن تكون
بديهية فلا تحتاج للبحث وإما أن تكون نظرية فتبحث في علم آخر يكون مقدمة
لهذا العلم، وعلم الفقه لما كان محور بحثه هو الحكم الشرعي والحكم نوع من
الاعتبار، احتجنا لعلم آخر يبحث عن المبادئ التصديقية للحكم الشرعي،
وذلك بالحديث عن الاعتبار بصفة عامة والاعتبار الشرعي بصفة خاصة
وعوارض هذا الاعتبار وأقسامه ولواحقه، وذلك العلم هو علم الأصول،
فنقول. بأن التصنيف المقترح يدور حول الاعتبار وشؤونه وتفصيلاته في خمسة
عشر بحثا وهي:
1 - تعريف الاعتبار.
2 - تقسيمه للاعتبار الأدبي والقانوني.
3 - العلاقة بين الاعتبارين.
4 - أسلوب الجعل للاعتبار القانوني.
5 - مراحل الاعتبار القانوني.
6 - أقسام الاعتبار القانوني.
7 - العلاقة بين هذه الأقسام.
8 - أقسام القانون التكليفي والقانون الوضعي.
9 - عوارض الاحكام القانونية.
10 - وسائل ابراز الحكم القانوني.
11 - وسائل استكشافه.
46

12 - وثاقة هذه الوسائل.
13 - التعارض الاثباتي والثبوتي بين وسائل الاستكشاف.
14 - التنافي بين الاعتبارات القانونية حين التطبيق.
15 - تعيين القانون عند فقد الوسيلة الاعلامية.
الأول: تعريف الاعتبار: إن الفارق بين الامر الاعتباري والتكويني
يتلخص في كون التكويني حقيقة واقعية لا تختلف باختلاف الأنظار والتوجهات
وتكون نسبة الذهن البشري لها نسبة العلم الانفعالي لمعلومه، بينما الامر
الاعتباري عمل ذهني إبداعي يقوم به الفرد أو المجتمع وتكون نسبة العقل
البشري له نسبة العلم الفعلي لمعلومه، فلذلك يختلف باختلاف النظرات
والتوجهات والمجتمعات.
الثاني: أقسامه. ينقسم الامر الاعتباري للاعتبار الأدبي والاعتبار
القانوني، والفارق بينهما أن الاعتبار الأدبي هو اعطاء حد شئ لشئ آخر بهدف
التأثير في إحساس المجتمع ومشاعره كإعطاء حد الأسدية للرجل الشجاع
بهدف زرع الهيبة والاكبار له في نفوس الآخرين، وهو اعتبار غير متأصل لعدم
كونه ظاهرة اجتماعية بل هو عمل فردي، مضافا لعدم تطابق المراد الاستعمالي
فيه مع المراد الجدي، فإن المراد الاستعمالي من ذكر الأسد مثلا هو معناه
المعروف بين الناس ولكن المقصود الجدي هو العناية في تطبيق ذلك المعنى على
فرد ادعائي وهو الرجل الشجاع.
أما الاعتبار القانوني فهو صنع القرار المناسب للمصلحة الفردية أو
الاجتماعية، وهو اعتبار متأصل لكونه ظاهرة اجتماعية عامة، مضافا تطابق
المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي، إذن فالاعتبار الأدبي يختلف عن الاعتبار
القانوني حقيقة وهدفا وصفة، أما اختلافهما في الحقيقة مع أنهما من مقولة
الاعتبار والعمل الابداعي فهو أن الاعتبار القانوني قرار مرتبط بالجانب العملي
47

للفرد والمجتمع بأسلوب مباشر كما في القوانين التكليفية، أو بأسلوب غير
مباشر كما في الأحكام الوضعية، فالقانون هو المحرك العملي والزاجر الفعلي
بشكل مباشر أو غير مباشر، بينما الاعتبار الأدبي لا يرتبط بالجانب العملي
للانسان وإنما يرتبط بالجوانب الذوقية والنفسية للانسان. وأما اختلافهما في
الهدف فإن الهدف من الاعتبار القانوني قيادة إرادة الانسان لتحقيق المصلحة
والبعد عن المفسدة، بينما الهدف من الاعتبار الأدبي هو التأثير على أحاسيس
الجمهور ومشاعرهم وميولهم.
وأما اختلافهما في الصفة فصفة الاعتبار الأدبي عدم تأصله خارجا وعدم
تطابق المراد الاستعمالي فيه مع المراد الجدي، وصفة الاعتبار القانوني هو
التأصل خارجا مع تطابق المرادين فيه.
الثالث: العلاقة بين الاعتبارين: إن علاقة الاعتبار الأدبي بالاعتبار
القانوني تبرز في تولد الاعتبار القانوني من الاعتبار الأدبي، فإن الاعتبار القانوني
في بداية وجوده يكون اعتبارا أدبيا صرفا، فمثلا اعتبار المال مملوكا لزيد حقيقته
اعطاء حد شئ لشئ آخر، وهو اعطاء لوازم الأمور الشخصية كأفعال الانسان
الجوارحية والجوانحية للأمور الأجنبية عنه، فكما أن فعل الانسان تحت ارادته
قبضا وبسطا واعطاءا ومنعا فكذلك المال الأجنبي عنه يكون تحت تصرفه
وارادته، وهذه هي حقيقة الملكية، فهي اعتبار أدبي في مبدأ وجوده لكنه يتحول
بمرور الوقت وبعد اقرار المجتمع العقلائي له وكثرة استعماله إلى اعتبار قانوني
يرتبط بعمل الفرد والمجتمع، ويكون أمرا متأصلا متصفا بمطابقة المراد
الاستعمالي فيه للمراد الجدي.
الرابع: عناصر القانون وأسلوب جعله: عناصر القانون أربعة:
1 - الملاك وهو المصلحة أو المفسدة الموجودة في المتعلق.
2 - المصحح: حيث إن الحكم نوع من الاعتبار، والاعتبار لا يكون ذا
48

فاعلية وتأثير في المجتمع العقلائي حتى يكون له مصحح، والمصحح للاعتبار
القانوني هو صدق عنوان الداعي للخير والزاجر عن الشر عليه، وهذا المصحح
هو ملاك الحكم نفسه التابع للملاك الموجود في متعلقه وهو المصلحة والمفسدة.
3 - الإرادة وهي التصميم والعزم على تأسيس القانون.
4 - الصياغة وهي صب القانون بأسلوب مؤثر في قيادة إرادة الفرد أو
المجتمع نحو فعل متعلق الامر، وهل يراعى في هذه الصياغة نوع الملاك، فإذا
كان الملاك مثلا مفسدة فالمناسب كون الصياغة زجرية وإذا كان الملاك مصلحة
فالمناسب كون الصياغة بعثية، أم يراعى فيها المستوى النفسي للمكلفين
فيختار الصياغة المؤثرة سواءا تناسبت مع نوع الملاك أم لا؟ والجواب عن ذلك
يأتي في بحث الضد.
وأما أسلوب جعله فإن الأساليب المستخدمة في صياغة الاعتبار الأدبي
كالمجاز المرسل والاستعارة والكناية ونحوها مذكورة بالتفصيل في كتب علم
البيان، وأما أساليب صياغة الاعتبار القانوني فهي على نوعين:
أ - أسلوب القضايا الحقيقة الراجعة لقضية شرطية مقدمها وجود
الموضوع خارجا وتاليها ثبوت المحمول له، كقولنا كل مستطيع يجب عليه الحج
الشامل للفرد الموجود بالفعل الواجد للشرائط وغير الواجد لها وللفرد المقدر
الوجود.
ب - أسلوب القضايا الخارجية الراجعة لتوجيه خطاب تكليفي أو
وضعي للافراد الموجودين بالفعل الواجدين لشرائط الخطاب فقط، فالأسلوبان
يفترقان من حيث المفهوم والمصحح والأثر، أما افتراقهما مفهوما فإن مفهوم
الجعل الحقيقي متقوم بالموضوع الفرضي ومفهوم الجعل الخارجي متقوم
بالموضوع الفعلي، وأما افتراقهما في المصحح فالمصحح للجعل القانوني الكلي
هو الداعوية والزاجرية بالامكان بينما المصحح للخطاب الخارجي هو الداعوية
49

والزاجرية بالفعل، وأما افتراقهما في الأثر فإن أثر الخطابات الحقيقية هو الشمول
للافراد المقدرة الوجود باعتبار مرور الحكم بمراحل كمرحلة الانشاء والفعلية
والتنجز، بينما أثر الخطاب الخارجي هو انطواء مرحلة الجعل في مرحلة الفعلية
ومرحلة الفعلية في مرحلة التنجز وعدم الشمول الا للافراد الفعلية.
الخامس: في بيان مراحل القانون: إن الاعتبار القانوني له أربع مراحل
في نظر المتأخرين من الأصوليين:
أ - مرحلة الاقتضاء: وهي مرحلة وجود ملاك الحكم ومناطه ويعتبر وجود
الملاك خارجا وجودا للحكم بالعرض والمجاز باعتبار أن روح الحكم في ملاكه
وغاية جعله في مناطه، ولذلك يقال بأن للحكم وجود اقتضائيا في وجود ملاكه.
ب - مرحلة الجعل والانشاء: وهي حقيقة الحكم فإن فيها تتم صياغة
الحكم وتحديد معالمه وشؤونه، فالحكم بالحمل الأولي هو هذه المرحلة الجعلية
إذا صدرت ممن له أهلية الجعل والانشاء.
ج - مرحلة الفعلية. وهي في نظر المحقق النائيني عبارة عن تحقق الموضوع
وفعليته خارجا وفعلية الموضوع منشأ لفعلية الحكم فإن نسبة الحكم لموضوعه
نسبة المعلول لعلته التامة، وهذه المرحلة انعكاس لجميع القيود و الحدود المأخوذة
في مرحلة الانشاء من دون أن تخضع هذه المرحلة لأي تصرف قانوني من قبل
المولى. هذا بنظر النائيني (قده) وأما في نظر الآخوند فهي عبارة عن مرحلة
الفاعلية أي خروج القانون من مؤسسة الجعل إلى اللوائح الاعلامية التي بها
يكون القانون ذا فاعلية وتأثير بحيث لو علم به المكلف لتنجز عليه، فلا ربط
لهذه المرحلة في نظره بتحقق الموضوع خارجا وإنما هي مرتبطة بوصول الحكم
للوسائل المبرزة له.
د - مرحلة التنجز: وهي مرحلة وصول الحكم للمكلف بحيث تصح
إدانته به وتتم مسؤوليته عنه.
50

السادس: أقسام الاعتبار القانوني: قسم الأصوليون الاعتبار القانوني
لثلاثة أقسام:
1 - حكم تكليفي.
2 - حكم وضعي.
3 - الماهية المخترعة، فالحكم التكليفي متقوم بعنصرين:
1 - استبطانه للحكم الجزائي فإن الوجوب والحرمة مستبطنان للوعيد
على الترك أو الفعل والاستحباب والكراهة مستبطنان للوعد على الفعل أو
الترك، فحيثية التضمن للحكم الجزائي مقومة للحكم التكليفي.
2 - ارتباطه المباشر بعمل الفرد فهو متوجه ومتعلق بالفعل الخارجي،
لذلك ورد تعريفه في كلماتهم بأنه الانشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الزاجر
في نفس المكلف نحو الفعل.
والحكم الوضعي متعلق بالعمل الخارجي لا على نحو المباشرة كالحكم
التكليفي ولا على نحو الاستبطان للحكم الجزائي سواءا كان وعيدا أم وعدا.
والماهية المخترعة قد تكون عبادة كالصلاة والحج وقد تكون موضوعا كالميتة
والمذكى وقد تكون معاملة كالبيع والصلح وسيأتي بحث ذلك في الصحيح
والأعم.
السابع: العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي وبين أقسام الحكم
التكليفي: أما العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي فهو بحث طرح في باب
الاستصحاب، فاختار الشيخ الأنصاري (قده) تفرع الأحكام الوضعية على
الأحكام التكليفية وأنها مجعولة بتبع جعلها لا بجعل مستقل، وذهب بعضهم
إلى عكس ذلك وهو انتزاع الحكم التكليفي من الحكم الوضعي كالسيد
الشاهرودي (قده)، وذهب آخرون للعينية واستبطان الحكم الوضعي للحكم
51

التكليفي، وذهب بعض الأعاظم (1) للتفصيل في الأحكام الوضعية فبعضها
منتزع من الحكم التكليفي كالجزئية المنتزعة من الامر بالمركب وبعضها مجعول
بالاستقلال كالملكية والزوجية وشبه ذلك، وسيأتي اشباع البحث في محله. وأما
العلاقة بين الأحكام التكليفية نفسها فهي إما علاقة التنافر وإما علاقة
التلازم، فعلاقة التنافر والتضاد هي التي سنشير إليها في بحث عوارض
الاحكام، وأما علاقة التلازم فهي المبحوث عنها في مقدمة الواجب ومسألة
الضد حيث يذكر هناك أنه هل يوجد تلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب
المقدمة شرعا أم لا، وهل يوجد تلازم بين وجوب الشئ وحرمة ضده أو حرمة
شئ ووجوب ضده أم لا.
الثامن. أقسام القانون التكليفي والوضعي: ينقسم القانون التكليفي
للأحكام الخمسة وهي التي وقع البحث في كونها أمورا اختراعية أم أمورا نسبية
واقعية، فعلى مسلك المحقق الطهراني من كون الحكم عبارة عن نسبة بين
المولى وبين فعل المكلف وهي إما نسبة القبول أو الرفض يتم الرأي الثاني، وعلى
المسلك المشهور من كون الحكم عبارة عن الاعتبار المولوي المستبطن للوعد أو
الوعيد يتم الرأي الأول وبناءا عليه فهل الفارق بين الوجوب والندب وبين
الحرمة والكراهة فرق تشكيكي بالشدة والضعف كما يراه المحقق العراقي أم
تغاير ذاتي يجعلهما وجودين مختلفين، وسيأتي البحث عن ذلك في محله.
وينقسم الوجوب منها للوجوب التخييري والتعييني، والعيني والكفائي،
والتعبدي والتوصلي، وسيأتي شرح ذلك كله. وينقسم المباح للمباح الاقتضائي
والمباح اللا اقتضائي. وينقسم الالزام بصفة عامة للالزام النفسي والغيري،
والطريقي والارشادي، وسيأتي البحث حول الفرق الجذري بين هذه الأقسام،

(1) تهذيب الأصول للامام الخميني 2: 73.
52

كما ينقسم الالزام - أيضا - للمولوي والارشادي، ويبحث في الأصول حول
المائز بين المولوي والارشادي، فهل هما مختلفان بالذات حيث ذهب بعض
الأصوليين إلى كون المولوي من سنخ الانشاء والارشادي من سنخ الاخبار، أم
هما مختلفان بلحاظ الملاك حيث أن المولوي نابع من ملاك في نفسه والارشادي
نابع عن ملاك فيما يرشد إليه، أم هما مختلفان من حيث الحكم الجزائي بلحاظ
أن المولوي لاطاعته ثواب ولعصيانه عقاب وليس كذلك الامر الارشادي
فالثواب على فعل ما يرشد إليه والعقاب على ترك ما يرشد إليه، كما وقع البحث
أيضا في أن الأصل في الامر هل هو المولوية أم الارشادية حيث ذهبنا لكون الأصل
هو المولوية بمقتضى القرينة المقامية وهي صدور الامر من المولى، وأن ضابط
الامر الارشادي هو إدراك العقل النظري أن وراء الامر غرضا وهدفا معينا لا
يمكن الوصول له إلا بفعل متعلق الامر فإذا أدرك العقل ذلك الهدف بعينه
فالامر إرشادي لا مولوي تعبدي وإلا فهو مولوي.
وينقسم القانون الوضعي عدة تقسيمات، منها انقسامه للحق والحكم
فما هو الفارق بين الحق والحكم فهل هما متغايران كما هو الصحيح أم متحدان
كما ذهب إليه الأستاذ السيد الخوئي (قده)، فهذا البحث ليس من البحوث
الفقهية بل هو من المبادئ التصورية لعلم الفقه، ونحن نطرحه في أبحاث
علم الأصول لأنه من أقسام الاعتبار القانوني.
مضافا إلى أن الفرق بين البحث الأصولي والبحث الفقهي أن البحث
الأصولي بحث عن النظرية والبحث الفقهي بحث في عملية التطبيق، فكما
صح البحث في الأصول عن حقيقة الوجوب العيني الكفائي يصح البحث فيه
عن حقيقة الحق والفارق بينه وبين الحكم.
التاسع: عوارض الحكم القانوني: يقع البحث في علم الأصول عن
صفات الحكم القانوني وعوارضه، فمن عوارضه أربع صفات:
53

أ - الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت بالنظر للموضوع أو المتعلق:
وتقابل الاطلاق والتقييد هل هو تقابل التضاد أم الملكة والعدم أم السلب
والايجاب، فكل هذا بحث عن عوارض القانون وسيأتي تفصيله.
ب - التضاد بين الأحكام الخمسة: وهل هو تضاد حقيقي أم تضاد
اعتباري أم تضاد عرضي باعتبار مرحلة المبدأ أو مرحلة المنتهى، ومما يتفرع على
البحث حول تضاد الاحكام البحث حول امكان اجتماع الأمر والنهي مع أنهما
ضدان أو امتناعه والبحث حول كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
مع تضادهما.
ج - البساطة والتركيب: يبحث في علم الأصول حول حقيقة بعض
الاعتبارات القانونية فهل هي بسيطة أم مركبة، فالوجوب - مثلا - هل هو طلب
الفعل مع المنع من الترك كما يقول القدماء فهو أمر مركب، أم هو الالزام بالفعل
كما يراه بعض المتأخرين، أم هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف كما تراه مدرسة
المحقق النائيني (قده)، أم هو بمعناه اللغوي وهو الثبوت كما في كلمات المحقق
العراقي فهو أمر بسيط، أم هو الاعتبار المستبطن للحكم الجزائي، أي أن
الوجوب هو البعث المستبطن للوعيد على الترك والحرمة هي الزجر المستبطن
للوعيد على الفعل والاستحباب هو البعث المستبطن للوعد على الفعل والكراهة
هي الزجر المستبطن للوعد على الترك كما هو مسلكنا.
د - الحركة الاشتدادية: بحث بعض الأصوليين في امكان الحركة في
الاعتبارات، بمعنى أن الحركة الاشتدادية في مراتب الوجود الخارجي ممكنة
وواقعة فهل تتصور هذه الحركة في الاعتبارات أم لا، فيكون الوجوب ضعيفا
ثم يصبح مؤكدا أم أن ذلك تابع لمقدار الاعتبار فإذا أعتبره المولى مؤكدا فهو
كذلك وإلا فلا تعقل فيه الحركة الاشتدادية.
العاشر: وسائل إبراز الحكم القانوني. وهي ما يسمى في الأصول
54

بصغريات أصالة الظهور كالبحث حول ظهور المشتق في الأعم أو خصوص
المتلبس بالمبدأ، والبحث حول ظهور صيغة الامر ومادته في الوجوب النفسي
العيني التعييني، والبحث حول ظهور صيغة النهي ومادته وصيغة الفعل المضارع
والماضي والجملة الاسمية، والفارق الحقيقي بين الجملة الخبرية والانشائية وبين
الاطلاق الحقيقي والمجازي، ومباحث العام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق
والمفهوم وأمثال ذلك من الوسائل الكلامية والخطابية التي يتخذها المقنن
والجاعل لابراز الحكم القانوني من خلالها.
الحادي عشر: وسائل استكشاف القانون
وتحديد نوعه ودرجته ومقدار شموليته هي وسائل ابرازه السابقة لا غيرها.
الثاني عشر: توثيق الوسائل: إنه لا يمكن للانسان أن يستند لقانون في
مقام العمل حتى يثق بظهوره وصدوره، فهناك عنصران لابد من التأكد من
حصولهما وهما: عنصر الظهور للخطاب في القانون الكذائي وعنصر السند
والثبوت والا فلا يكون العمل بذلك حجة عند العقلاء لأنه عمل بغير علم.
فأما عنصر الظهور فبعد احرازه بالوجدان تجري قاعدة حجية الظهور التي
بحث الأصوليون في أصل ثبوتها وحدودها، وأنها هل تشمل المقصودين بالافهام
وغيرهم أم تختص بالمقصودين فقط، وهل تشمل حالة الظن بخلافها أم لا، وهل هي
مشروطة بالظن بالوفاق أم لا. وأما عنصر الثبوت والصدور فقد بحث عنه
الأصوليون، وقسموا الحجة لحجة ذاتية وعرضية فالأولى هي العلم والثانية
الظن المعتبر بدليل شرعي إمضائي أو تأسيسي كخبر الثقة أو الخبر الموثوق به،
والشهرة والاجماع المنقول والظن الانسدادي بناءا على الكشف، وأصالة
الظهور ونحو ذلك.
الثالث عشر: التعارض الاثباتي والثبوتي بين الاحكام القانونية: أما
التعارض الاثباتي فالمقصود به التعارض الغير المستقر المتحقق في مرحلة الاثبات
55

بدون سرايته لمرحلة الثبوت، كالتعارض بين العام والخاص والمطلق و المقيد
والعامين من وجه مع أقوائية أحدهما ظهورا على الاخر والناسخ والمنسوخ
والحاكم والمحكوم والمنطوق والمفهوم. والمقصود بالتعارض الثبوتي استقرار
التعارض بين الدليلين بحيث يعد تنافيا بين المدلولين بالذات وبين الدالين
بالعرض، فيبحث في علم الأصول عن المرجحات لاحد المتعارضين
من حيث السند أو المضمون أو الجهة، وعلى فرض تكافؤهما فهل النتيجة هي
التساقط والرجوع للأصل العملي أم التخيير بينهما وسيأتي بحث ذلك.
الرابع عشر: التنافي بين القوانين في مقام العمل والتطبيق: إن التنافي
بين القوانين إما في مرحلة الجعل وقد سبق بحثه في أقسام التعارض، وإما في
مرحلة التطبيق والعمل وهو المسمى ببحث التزاحم الذي يبحث فيه عن
ترجيح الأهم من المتنافيين على المهم وعلى فرض التساوي فالوظيفة هي
التخيير، وقد صغنا هذا البحث بصياغة أخرى وهي البحث حول دخالة
القدرة، فهل هي دخيلة في مرحلة الجعل أم في مرحلة الفعلية أم في مرحلة
التنجز أم أنها غير دخيلة أصلا وإنما العجز مانع من التنجز كما يراه بعض
الأعاظم (قده) (1).
وعلى بعض هذه الفروض يدخل تنافي القوانين في التعارض وعلى
بعضها يدخل في بحث التزاحم كما شرحناه في محله.
الخامس عشر: تعيين القانون عند قصور الوسيلة: إذا لم تتحقق
الوسيلة الاعلامية الكاشفة عن القانون إما لفقدها أو إجمالها أو تعارضها مع
وسيلة أخرى فما هو القانون المطبق حينئذ، فتارة لا يكون هناك علم إجمالي وتارة
يكون، فإذا لم يكن هناك علم إجمالي فهل احتمال التكليف منجز أم يختص

(1) تهذيب الأصول 1: 308.
56

ذلك بقوة الاحتمال أو أهمية المحتمل كما في الدماء والاعراض وإن كان
الاحتمال ضعيفا، وهذا هو بحث البراءة والاحتياط، وإذا كان هناك علم إجمالي
فإما أن يقوم على أصل التكليف مع دورانه بين المحذورين وهما الوجوب
والحرمة، وهذا مورد أصالة التخيير، أو مع دورانه بين الأقل والأكثر وهو مورد
أصالة البراءة وإما أن يقوم على تكليف معين مع الشك في الفراغ منه حين
العمل فهذا مورد أصالة الاشتغال. وتنقسم الأصول للأصل العملي الصرف
والأصل التنزيلي والأصل المحرز وسيأتي البحث عنها، كما يقع البحث في كون
الاستصحاب من الامارات أم الأصول، وفي عدم حجية مثبتات الأصول
العملية، وفي تعيين الوظيفة عند تعارض الأصول بعضها مع البعض الآخر.
هذا تمام الكلام موجزا حول منهج أبحاث علم الأصول وطريقة تبويبه
وترتيبه، وهو كما تراه لا تختص فائدته بمجال استنباط الحكم الشرعي من أدلته
المقررة بحيث لا يكون نافعا إلا للفقهاء، بل هو مفيد حتى في المجالات
القانونية أيضا كالقضاء والمحاماة وسائر البحوث الحقوقية فلا يستغني عنه
باحث قانوني.
57

المبحث الرابع
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
والكلام في هذا البحث في ثلاثة جوانب:
الأول: في تأثر الفكر الأصولي بالفلسفة.
الثاني: في عوامل التأثر.
الثالث: في آثار هذا التأثر.
الجانب الأول: لا إشكال في تأثر الفكر الأصولي بالمفاهيم الفلسفية
واختلاط مصطلحاته بالمصطلحات الفلسفية عند الشيعة والسنة كما يلاحظ في
الكتب الأصولية بصفة عامة، وقد تنبه لذلك السيد المرتضى (ره) فقال في
الذريعة: " قد وجدت بعض من أفرد في الأصول كتابا قد تشرد عن أصول
الفقه وأسلوبها وتخطاها كثيرا، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر
العلم ووجوب المسبب عن السبب إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض
خالص لأصول الدين دون أصول الفقه " (1).
الجانب الثاني: عوامل التأثر المذكور وهي متعددة:
1 - وجود مجموعة كبيرة من علماء الفلسفة وعلم الكلام في عداد علماء
الأصول كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وأمثالهم، فهؤلاء مع
كونهم من رواد علم الأصول فهم في نفس الوقت من المتكلمين الماهرين في

(1) الذريعة 1: 3.
58

علم الكلام، وهذا عامل فعال في اختلاط المفاهيم والمصطلحات.
2 - الحاجة للمصطلحات الفلسفية وبيان ذلك في مقدمتين:
أ - إن اللغة العربية لم تكن لغة قانونية فهي رغم كثرة مفرداتها وتعدد
أساليب التعبير والتجوز فيها الا أنها لا تضم بين طياتها مفردات قانونية دقيقة،
وذلك بسبب عدم معاصرتها لكيان حضاري مهم في عهد الجاهلية، ومن هنا
حينما أراد الشرع المقدس إيصال الأفكار القانونية كالوجوب والحرمة
والاستحباب والكراهة والطهارة والنجاسة والحقوق كحق الرهانة والغرامة
والجناية لأذهان المسلمين استخدم اللغة المولوية، وهي لغة الأمر والنهي والوعد
والوعيد، إذ لا يمكن طرح هذه المفاهيم بحدودها الدقيقة لعدم وجود مفردات
قانونية في اللغة العربية تعبر عنها تعبيرا واضحا، وقد تعرضنا لهذا البحث في
مبحث علل اختلاف الحديث ودور اللغة في ذلك الاختلاف، وذكرنا أن القرآن
والحديث قد يعبر عن القانون التكليفي والقانون الوضعي بصيغة واحدة مثلا
يقول القرآن: (وعاشروهن بالمعروف) (1) وهو حكم مولوي، ويقول:
(وطلقوهن لعدتهن) (2) وهو حكم وضعي، أي شرطية العدة في الطلاق،
فهذا الاشتراك في الصيغة سبب من أسباب اختلاف الحديث ومنشأه فقر اللغة
العربية من المصطلحات القانونية.
ب - إن الأصوليين عندما بحثوا حول قواعد الاستنباط وأرادوا وضع
المصطلحات فيها وجدوا أن اللغة العربية فقيرة من المفردات الصريحة
الوافية بتحديد المعنى الأصولي القانوني تحديدا دقيقا، فاستخدموا
المصطلحات الفلسفية المترجمة إلى اللغة العربية للتعبير عن ذلك، فمثلا

(1) النساء 4: 19.
(2) الطلاق 65: 1.
59

يعبرون عن الارتباط بين الحكم التكليفي وموضوعه بالشرط فيقولون الزوال
شرط لوجوب الصلاة، ويعبرون عن الارتباط بين الحكم الوضعي وموضوعه
بالسبب فيقولون الغسل سبب للطهارة، مع أنه لا توجد سببية وعلية واقعية
بين الحكم وموضوعه بل الموجود هو الارتباط الجعلي لا الواقعي، وهذا عامل
يؤثر في فهم الفكر الأصولي واستيعابه لبقاء رواسب الفكر الفلسفي في نفس
هذه المصطلحات مما يؤدي لاختلاط الأفكار كما سيأتي البرهنة عليه.
العامل الثالث: ترجمة الفلسفة: حينما دخل علم الفلسفة أوساط
المجتمع العربي احتاج علماء العرب لترجمة الأفكار الفلسفية وانتخاب ألفاظ
عربية للتعبير عنها، سواءا على مستوى المركبات أم على مستوى المفردات،
فمثلا بالنسبة للمركبات نرى أن الجملة الاسنادية نحو زيد قائم يختلف
تصورها في الارتكاز العربي عن تصورها في الارتكاز الفارسي أو اليوناني،
فالجملة في العرف العربي تعبر عن هو هوية واتحاد بين وجودين، وجود زيد
ووجود القيام من دون أن تشم رائحة الغيرية والاثنينية بينهما، بينما مفهوم هذه
الجملة في العرف الفارسي واليوناني يعني ثبوت شئ لشئ آخر فهو يحافظ على
الغيرية والاثنينية بين الطرفين، ولذلك يحتاج لوجود الرابط بينهما كلفظ - است -
في الفارسية و - أستين - في اليونانية، وحيث إن الفكر المنطقي بدأ على يد
اليونانيين لذلك أصبح التصور المنطقي للقضية وهي الجملة الخبرية موافقا
للعرف اليوناني، وحينما ترجم علم المنطق إلى العربية ترجم هذا التصور أيضا
لكن لما لم يوجد في اللغة العربية ثلاثة أطراف - موضوع ومحمول ورابط - لان
العرف العربي لا يرى القضية بمعنى ثبوت شئ لشئ بل بمعنى اتحاد
الوجودين فلا تحتاج لوجود رابط بحسب ارتكازه، استعار العلماء لفظ - هو -
للتعبير عن الرابط محافظة على التصور المنطقي المتأثر بالعرف اليوناني، فقالوا:
القضية ثلاثية الأطراف نحو زيد هو قائم.
60

وأما مثال المفردات فهو لفظ العلم والظن والشك، فلفظ العلم في اللغة
العربية يعني البصيرة والوضوح لكن في مقام ترجمة الفلسفة تحول مدلوله
للاعتقاد الجازم، وأصبح الأصوليون والفقهاء يحملون النصوص المتضمنة للفظ
العلم على هذا المعنى مع أنه اصطلاح حادث.
كذلك لفظ الظن فهو في اللغة العربية والقرآن الكريم بمعنى الاعتقاد
الذي لا يستند لدليل لكنه تحول لمعنى الاعتقاد الراجح عند ترجمة الفلسفة
اليونانية، ولفظ الشك يعني مقابل اليقين لكن معناه الشائع الآن هو تساوي
الاحتمالين.
والحاصل أن بعض المفردات والمركبات اللغوية اكتسبت مدلولا جديدا
عند دخول الفلسفة إلى اللغة العربية، واعتمد الأصوليون عند استعمال هذه
المفردات على مدلولاتها الفلسفية لا على مدلولاتها اللغوية، وهذا مما يؤدي إلى
اختلاط المعاني عند استنطاق النصوص والروايات.
الجانب الثالث: نتائج التأثر الفلسفي:
من أهم نتائج تأثر الأصول بالفلسفة وقوع الخلط بين القوانين التكوينية
والاعتبارية وأمثلتنا على ذلك كثيرة، منها:
أ - القول بامتناع الشرط المتأخر لاستحالة تقدم المعلول على علته زمانا
مع أن الشرط المتأخر من الاعتباريات لا من التكوينيات.
ب - استحالة القول بالكشف الانقلابي في الإجازة المتأخرة عن البيع
الفضولي، حيث ذهب بعض العلماء للقول بالنقل وذهب بعضهم للقول
بالكشف الحقيقي وبعضهم للقول بالكشف الحكمي وذهب البعض الآخر
وهو مسلكنا أيضا - للقول بالكشف الانقلابي، بمعنى الالتزام بملكية المالك
للمبيع واقعا إلى حين الإجازة وبحصولها ينكشف حصول الملك للمشتري منذ
البيع، وبذلك يحصل انقلاب في الملكية ما بين زمان البيع وزمان الإجازة ولهذا
61

عبر عنه بالكشف الانقلابي، فالقائلون باستحالته يستندون لقاعدة استحالة
انقلاب الشئ عما وقع عليه مع أنها قاعدة تكوينية فكيف تجري في
الاعتبارات.
ج - القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وامتناع اجتماع الحكم الواقعي
والظاهري لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين، مع أنه لا تضاد في الاعتباريات
بما هي.
د - قول المحقق النائيني (قده) بمتمم الجعل المفيد فائدة الاطلاق أو
التقييد، وذلك في مورد كون القيد للحكم من التقسيمات اللاحقة له لا السابقة
كقصد الامتثال بالنسبة للامر، فهنا لا يصح كون الجعل مقيدا بقصد الامتثال
لتأخره عنه رتبة ولا كونه مطلقا بالنسبة له لأنه إذا استحال التقييد استحال
الاطلاق لتقابلهما تقابل الملكة والعدم، وحيث أن الاهمال في الواقعيات
مستحيل فلابد من كون الجعل مقيدا أو مطلقا، ولكن حيث لا يمكن الاطلاق
والتقييد في الجعل الأول في مقام الاثبات نحتاج لمتمم الجعل المفيد فائدة
الاطلاق أو التقييد، وهذا القول كما ترى مبني على قانون استحالة الاهمال في
الواقعيات مع أنه قانون تكويني لا يجري في الاعتبارات.
ه‍ - انكار المحقق النراقي بيع الكلي في الذمة كبيع صاع من الحنطة في
الذمة مستندا لاستحالة تحقق العرض بدون المعروض، وحيث أن الملكية في
المقام عرض موجود فكيف تتقوم بأمر معدوم وهو الكلي في الذمة، وهذا من باب
اسراء التكوينيات للاعتبارات.
و - الاعتراض على مسلكنا القائل بمتمم الجعل التطبيقي الذي طرحناه
في بحث الحقيقة الشرعية وبحث الصحيح والأعم، ومفاده أن الشرع الشريف
كما قام باختراع بعض الماهيات الاعتبارية كالصلاة مثلا قام بالتدخل
الاعتباري في مقام التطبيق أيضا، فالصلاة التي هي عبارة عن اللين الخضوعي
62

أمام الخالق لا تنطبق قهرا على صلاة الحضر والسفر وصلاة الغريق وإنما الشارع
قام بتطبيقها على هذه الافراد، وقد اعترض على هذا المسلك بأن انطباق الكلي
على فرده انطباق قهري لا وجه لتدخل الجعل فيه، مع أن لا بدية انطباق الكلي
على فرد قهرا أو على الجزء التحليلي للفرد كما هو الصحيح قانون تكويني لا يجري
في الاعتباريات، فأي مانع من تدخل المقنن في تطبيق الماهية الاعتبارية كالميتة
والمذكى والدينار على أفرادها، وهذا ما يسمى بمتمم الجعل التطبيقي فيكون
الاعتبار متدخلا في أصل جعل الماهية وفي تطبيقها أيضا.
ز - الاعتراض على عدم حجية الأصل المثبت بأن ذلك مستلزم للتفكيك
بين اللوازم والملزوم والانفكاك بين الشئ ولوازمه مستحيل، مع أن هذا قانون
تكويني لا وجه لتسريته للاعتباريات، والحاصل أن دخول الفلسفة في علم
الأصول أدى لمثل هذه الاشتباهات، مع أن قوانين الفلسفة قوانين تكوينية لا
تمتد للاعتباريات التي هي فرضيات مخترعة للتأثير على سلوك الآخرين، فهي
أمور لا تختلف فيها الأنظار وإنما تختلف باختلاف الأنظار وتتطور بتطور
المجتمعات كما نرى في عصرنا هذا من توسع المعاملات البنكية والتجارية
وكثرتها، بحيث يكون من الخطأ عند الفقيه أن يقوم بمحاولة ارجاع المعاملات
الجديدة للمعاملات الشائعة في زمان النصوص، فإنه لا موجب لذلك بل
هي معاملات جديدة تندرج تحت عمومات الصحة ما لم تتعارض مع كتاب الله
والسنة، بلا حاجة لارجاعها لعناوين المعاملات القديمة كالبيع والإجارة
والصلح والشركة ونحوها، بل نقول بأنها معاملات اعتبارية جديدة فإن التطور
الاقتصادي للبشرية يدفعها لتأسيس معاملات جديدة بقدر حاجتها إليها،
والقانون العام في باب المعاملات هو عمومات الحل والصحة ما لم تعارض
الكتاب والسنة.
63

المبحث الخامس
في علاقة علم الأصول بالعلوم الأدبية
والكلام هنا في مطلبين:
الأول: في شواهد الارتباط بين الأدب وعلم الأصول.
الثاني: في الفارق بين الاعتبارات الأدبية والقانونية.
المطلب الأول: إن الشواهد على ارتباط علم الأصول بعلم الأدب
نوعان:
أ - جمع العلماء بين القواعد الأصولية والأدبية في مؤلف واحد كالشهيد
الثاني في كتابه تمهيد القواعد، فإنه ذكر مائة قاعدة أصولية مع فروعها الفقهية،
ومائة قاعدة من العلوم العربية مع فروعها الفقهية، قال في مقدمة كتابه: " من
أعظم مقدمات الفقه علم أصوله وعلم العربية إذ الأول قاعدته ودليله والثاني
مسلكه وسبيله، فلا جرم رتبنا هذا الكتاب الذي استخرنا الله تعالى على جمعه
وترتيبه على قسمين، أحدهما: في تحقيق القواعد الأصولية وتفريع ما يلزم من
الاحكام الفرعية، والثاني: في تنقيح المطالب العربية وترتيب ما يناسبها من
الفروع الشرعية، واخترنا من كل قسم منها مائة قاعدة متفرقة من أبوابه ليكون
ذلك عونا لطالب الفقه " (1).
وكما أن قيام العلامة الحلي في كتابه (منتهى الوصول لعلمي الكلام

(1) تمهيد القواعد: 1.
64

والأصول) بالجمع بين العلمين المذكورين دليل على علاقة علم الكلام بعلم
الأصول كما ذكر في تأسيس الشيعة (1)، وكما أن جمع الشيخ البهائي في كتابه
الزبدة بين القواعد المنطقية والأصولية دليل على ارتباطهما، فكذلك جمع الشهيد
بين القواعد الأصولية والعربية دليل ارتباطهما.
ب - اعتماد علم الأصول في منهجه المعاصر على كثير من المباحث اللغوية
وهي على ثلاثة أصناف:
1 - مباحث الاستعمال، كالكلام حول حقيقة الوضع والاستعمال
وانقسام الاستعمال للحقيقي والمجازي، وعلامات الحقيقة والمجاز وبحث
تعارض الأحوال.
2 - بحوث المفاهيم الافرادية، سواء أكانت استقلالية كالبحث عن مادة
الامر ومادة النهي والوجوب والحرمة والمبهمات من الموصول واسم الإشارة، أم
كانت حرفية كالبحث حول المعنى الحرفي والهيئات الافرادية كهيئة المشتق
وصيغة الأمر والنهي.
3 - بحوث المفاهيم التركيبية، كالبحث عن الجملة الخبرية والانشائية
ومباحث المفاهيم، فهذه كلها بحوث لغوية طرحت في القسم الأول من علم
الأصول وهو مباحث الألفاظ مما يدل على علاقة العلمين، كما أن القسم الثاني
من الأصول وهو بحوث الأصول العملية وبحوث الحجج والامارات لها ارتباط
وثيق بالاعتبارات الأدبية والقانونية التي سنتحدث عنها فيما يأتي.
المطلب الثاني: قد تحدثنا في أول الكتاب عن الفارق بين الاعتبار الأدبي
والاعتبار القانوني، وقلنا بأن الاعتبار الأدبي ظاهرة فردية وعمل شخصي يقوم
به الانسان بهدف التأثير في مشاعر الآخرين، وحقيقته اعطاء حد شئ لشئ

(1) تأسيس الشيعة: 398.
65

آخر كاعطاء حد الأسد للرجل الشجاع، بينما الاعتبار القانوني ظاهرة
اجتماعية، وهذا معنى كونه متأصلا أي أن الجعل الشخصي لا أثر له ما لم يكن
هناك امضاء وموافقة من المجتمع أو الجهاز العام، بخلاف الاعتبار الأدبي فهو
إبداع فردي غير متأصل. لأنه لا يتوقف على اقرار المجتمع وإمضائه.
كما أن الاعتبار القانوني تتطابق فيه الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية
بخلاف الاعتبار الأدبي فهو متقوم بعدم تطابق الإرادتين، كما أن الغاية من
الاعتبار القانوني قيادة إرادة الفرد والمجتمع نحو الخير بينما غاية الاعتبار الأدبي
التأثير في مشاعر الآخرين، إذن فهما مختلفان في الحقيقة والهدف، ومختلفان
أيضا في الآثار فإن استصحاب الاعتبار القانوني صحيح بينما استصحاب
الاعتبار الأدبي غير صحيح، إذ الاستصحاب من قواعد السلوك ولا ربط بين
الاعتبار الأدبي ومقام السلوك، ومع وضوح الفرق بينهما موضوعا وحكما فقد وقع
الخلط بينهما في علم الأصول وعلم الفقه من بعض الاعلام ونضرب أمثلة على
ذلك.
المثال الأول: قاعدة الطهارة المعبر عنها في النصوص بقوله عليه السلام:
(كل شئ لك نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر " (1) والسؤال
المطروح هنا هل أن مفاد هذا الحديث هو الاعتبار القانوني أم الاعتبار الأدبي،
فإذا قلنا بأن مفاده الاعتبار القانوني فالمقصود حينئذ جعل حكم ظاهري خاص
بحالة عدم العلم بالقذارة، وهو المسمى بالطهارة الظاهرية التي لا تمتد لما بعد
العلم بالخلاف، فإنه إذا انكشف الخلاف فالاجزاء حينئذ خلاف القاعدة
يحتاج لدليل خاص، إذ النجس لا يجزي عن الطاهر.
وإذا (2) قلنا بأن مفاده الاعتبار الأدبي فالمقصود حينئذ تنزيل المشكوك منزلة

(1) الوسائل 3: 467 / 4195.
(2) تعرضنا لهذا البحث في صفحة: 142.
66

الطاهر تنزيلا أدبيا مجازيا كتنزيل الشجاع منزلة الأسد بلحاظ جميع الآثار
التكوينية والتشريعية من دون جعل أي حكم شرعي لا واقعا ولا ظاهرا ولذلك
لم يقيد مفادها بحالة الشك بل قيد الحالة عدم العلم الشاملة للجهل المركب
والغفلة والنسيان فلا يتصور حينئذ انكشاف الخلاف بل إذا حصل العلم بالقذارة
فهو - من باب تغير الموضوع لا من باب انكشاف الخلاف كما يساعد عليه
التعبير الموجود في النص " فإذا علمت فقد قذر ".
وأما الاجزاء حينئذ فيتوقف على نوع الأثر الذي يراد ترتيبه فإن النجس
له أثران:
1 - ما كان أثرا للنجس بما هو نجس كعدم جواز التطهير به ونجاسة
ملاقيه، وبلحاظ هذا الأثر لا فرق بين الاعتبارين القانوني والأدبي في القول
بعدم الاجزاء بعد تبين النجاسة.
2 - ما كان أثرا للنجس بواسطة الجعل الشرعي كما نعيته للصلاة في
لباس المصلي وما نعيته من السجود، وبلحاظ هذا الأثر الثاني يختلف القول
بالاجزاء وعدمه لاختلاف مفاد الحديث، فإذا كان مفاده الاعتبار القانوني فهو
حاكم على أدلة اشتراط الطهارة في اللباس والمسجد حكومة ظاهرية ترتفع
بانكشاف الخلاف، ولا مجال للاجزاء حينئذ.
وإذا كان مفاده الاعتبار الأدبي فهو حاكم على أدلة اشتراط الطهارة
حكومة واقعية، فيكون الشرط حينئذ شاملا للطهارة الواقعية والطهارة
التنزيلية، ومقتضى ذلك الحكم بتحقق شرط الطهارة حين الشك، فبعد العلم
بالقذارة يكون الاجزاء موافقا للقاعدة باعتبار تحقق الشرط المذكور، وإنما قلنا
بالاجزاء في خصوص الأثر الثاني، لان ثبوته بالجعل والاعتبار فلا يمتنع تبديله
باعتبار آخر بخلاف الأثر الأول الثابت بنفس ثبوت النجاسة، لأنه مستبطن
فيها ومنتزع منها.
67

ونفس هذا التحليل الذي ذكرناه في قاعدة الطهارة يأتي في قاعدة الحل
أيضا المعبر عنها بقوله عليه السلام: " كل شئ لك حلال حتى تعلم أنه
حرام " (1)، كما أنه متصور في مدلول أصالة البراءة الشرعية المعبر عنها في
النصوص " رفع ما لا يعلمون " (2)، فإن مفاد النص هل هو الترخيص الظاهري
على نحو الاعتبار القانوني، أم مفاده تنزيل الحكم الواقعي عند عدم العلم به
منزلة المعدوم على نحو الاعتبار الأدبي؟
وبيان ذلك: أن الانسان بطبعه لا يندفع نحو عمل ما الا لأهمية
المحتمل أو قوة الاحتمال عند المقايسة بينهما، فإذا قال له الشارع المقدس " رفع
ما لا يعلمون " فمفاد هذا القول هو بيان عدم أهمية المحتمل وتنزيله منزلة
عدمه، وفي مقابله قوله " احتط لدينك " (3) فإنه اعتبار أدبي أيضا مفاده تقوية
الاحتمال أو بيان أهمية المحتمل، باعتبار أن الانسان قد يحتمل شيئا مهما احتمالا
ضئيلا لا يحركه نحو عمله فيقوم الشرع بتقوية ذاك الاحتمال حتى يكون محركا
نحو العمل، أو أن المكلف قد لا يدرك مدى أهمية المحتمل فيأمره الشارع
بالاحتياط كناية عن أهمية المحتمل.
إذن ففي هذه الأمثلة قد وقع الخلط من بعض الاعلام بسبب عدم الدقة
في التمييز بين الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني.
المثال الثاني: جعل العلمية والطريقية في مثل قوله عليه السلام " فما أدى
فعني يؤدي " (4)، حيث ذهب المحقق النائيني (قده) إلى أن معنى حجية الامارة
هو اعتبارها علما تعبدا (5)، وقد قلنا في موضعه أن جعل العلمية هل هو اعتبار

(1) الوسائل 17: 88 / 22050.
(2) الوسائل 15: 369 / 20769.
(3) الوسائل 27: 167 / 33509.
(4) الوسائل 27: 138 / 33419.
(5) أجود التقريرات 2: 102.
68

قانوني بحيث يستتبع حكما ظاهريا لا بقاء له بعد انكشاف الواقع، أم أن
الجعل المذكور تنزيل واعتبار أدبي لا يستتبع حكما ظاهريا في مورده أصلا.
المثال الثالث: جعل بعض الأحكام الوضعية كالجزئية والشرطية والمانعية
جعلا مستقلا، فقد وقع البحث في ذلك مفصلا، وذهب الأستاذ السيد
الخوئي (قده) إلى عدم امكان ذلك بل لابد للمولى في مقام جعل الجزئية من
الامر بالمركب من عدة عناصر لينتزع من هذا الامر بالمركب جعل الجزئية
لعناصره، وكذلك لو أراد المولى جعل الشرطية أو المانعية فلابد له من الامر
بشئ مقيد بقيد وجودي أو عدمي لينتزع من الامر بالمقيد معنى الشرطية
والمانعية (1).
وذهب بعض الأعاظم (قده) إلى أنه لا مانع عقلا من جعل الجزئية
والشرطية ابتداءا (2). ونحن نقول بأنه قد وقع الخلط هنا بين الاعتبار الأدبي
والاعتبار القانوني، فالاعتبار الأدبي إبداع فردي لا تأصل له في المجتمع فقد
يتذوقه المجتمع وقد يرفضه بينما الاعتبار القانوني ظاهرة اجتماعية تنبع من اقرار
المجتمع بهذا الاعتبار، فقيام الانسان باعتبار الملكية لشخص ما لا يكون
اعتبارا قانونيا حتى يمضيه المجتمع وتتعهد السلطة التشريعية والتنفيذية
بحمايته والدفاع عنه فهو اعتبار متأصل كما ذكرنا، وحينئذ فإن كان جعل
الشرطية والجزئية مما له ارتكاز اجتماعي وإقرار عقلائي فهو اعتبار قانوني يصح
إبداعه مستقلا وتترتب عليه الآثار المطلوبة، والا فهو. اعتبار أدبي فقط لا يصل
لمستوى الجعل القانوني المستقل.
هذه بعض النماذج التي وقع الخلط فيها بين الاعتبار الأدبي والاعتبار

(1) مصباح الأصول 3: 82.
(2) تهذيب الأصول للامام الخميني 2: 371.
69

القانوني في علم الأصول.
وأما بعض الأمثلة في الفقه فمنها:
أ - التعبير في بعض النصوص عن الزكاة بأنها " أوساخ أيدي الناس " (1)،
وقد وقع الاشكال في ذلك من بعض الأدباء والأقلام المعاصرة بان الزكاة حق
للفقراء في أموال الأغنياء فكيف يعتبر الاسلام هذا الحق من الأوساخ، مع أن
لازم ذلك احتقار الفقراء وإهانتهم وحدوث الطبقية بينهم وبين الأغنياء ما دام
الاسلام يعتبر حقوقهم من الفضلات والأوساخ.
ولكن الجواب الصحيح عن ذلك أن يقال: بأن هذا التعبير لون من ألوان
الاعتبار الأدبي لا الاعتبار القانوني، بلحاظ أن الاعتبار الأدبي حقيقته كما ذكرنا
سابقا إعطاء حد شئ لشئ آخر بهدف التأثير في أحاسيس المخاطب
ومشاعره، وفي المقام عندما أقبل بنو عبد المطلب للرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وطلبوا منه أن يجعلهم من عمال الصدقات حتى ينالوا نصيبا منها أراد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إبعادهم عن ذلك (2)، ولعله بسبب أن لا تكون
جميع وظائف الدولة الاسلامية بيد بني هاشم، لان ذلك عامل منفر ومؤلب
للقلوب عليهم بأنهم استبدوا بجميع الوظائف والمراكز، فحاول الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم استخدام تعبير يبعدهم عن الوظيفة المعينة فقال لهم بأن
الصدقات أوساخ ما في أيدي الناس، وهو تعبير أدبي كما قلنا قصد منه تنفير
نفوسهم وأحاسيسهم عن العمل المذكور لا أنه تعبير قانوني بحيث تترتب الآثار
القانونية للأوساخ على الصدقات، كوجوب إزالتها عن المسجد كسائر النجاسات.
ب - قوله صلى الله عليه وآله وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " (3) فإن

(1) الوسائل 9: 268 / 11993.
(2) الوسائل 9: 268 / 11992 و 11993.
(3) عوالي اللآلي 1: 224 / 106، سنن البيهقي 6: 95.
70

أغلب الفقهاء اعتبروا هذه المقالة اعتبارا قانونيا مفاده استقرار مالية المأخوذ على
ذمة الآخذ، مع أنه في نظرنا مجرد تعبير أدبي للكناية عن الضمان عند التلف فقط.
ج - الفرق بين الحق والملك، فقد ذهب المحقق النائيني (قده) إلى كون
الفرق بينهما تشكيكيا فكلاهما عبارة عن الاختصاص بالشئ ولكن الملك أقوى
مرتبة من الحق في هذا الاختصاص (1) وأعترض عليه المحقق الأصفهاني (قده)
بأن ماهية الاختصاص إما أن تكون مأخوذة من مقولة الجدة وإما أن تكون
مأخوذة من مقولة الإضافة، وكلا المقولتين من الاعراض البسيطة التي لا تقبل
التشكيك والتفاوت بالشدة والضعف.
ولكن الصحيح بنظرنا أن اعتبار ماهية الاختصاص إن كان اعتبارا أدبيا
فحينئذ لا يتصور التشكيك والتفاوت فيه، لأنه تنزيل أمر منزلة لشئ تكويني
فيكون الأصل المنزل عليه محفوظا فيه، وحيث أن أصله التكويني غير قابل
للتشكيك فهو أيضا غير قابل لذلك التشكيك أيضا، وإن كان اعتبارا قانونيا
كما هو الصحيح فهو وإن كان مبدأه الاعتبار الأدبي المنزل على أصل تكويني،
ولكن لتحول هذا الاعتبار القانوني لظاهرة اجتماعية وتأصله في مرتكزات
المجتمع العقلائي لا يكون الأصل التكويني محفوظا فيه فيقبل التشكيك
الاعتباري حينئذ، بمعنى أن المقنن تارة يجعل نوعا من الاختصاص بنحو مؤكد
ويسميه ملكا وتارة يجعله بنحو غير مؤكد ويسميه حقا فيحصل التفاوت
بالاعتبار والجعل، لا أنه تفاوت بطبعه وحركة اشتدادية تكوينية بنفسها، فإن
الحركة مستحيلة في الاعتباريات فهذه مجموعة من الأمثلة في الفقه والأصول
على حصول الخلط بين الاعتبارات الأدبية والقانونية.

(1) المكاسب والبيع (تقريرات النائيني) بقلم محمد تقي الآملي 1: 92.
71

المبحث السادس
علاقة علم الأصول بعلم الفقه
علم الفقه على نوعين:
1 - الفقه الخلافي.
2 - الفقه المذهبي.
الأول: الفقه الخلافي: وتعريفه أنه تمهيد القواعد لتثبيت المذهب المعتقد
ورد المذاهب الأخرى.
بيان ذلك: أن الفقه الخلافي نشأ عند الفريقين السنة والشيعة منذ القرن
الثاني للهجرة، وعوامل وجوده تختلف من مذهب لآخر، فبالنسبة للمسلمين
من أهل السنة كان السبب في وجوده تعدد المذاهب الفقهية التي حصرت بسبب
عوامل سياسية معروفة في أربعة مذاهب، فكان الشخص المتفقه إذا اختار
مذهبا من هذه المذاهب الأربعة يقوم بتأسيس قواعد وأصول يرتكز عليها في
الدفاع عن آراء المذهب المختار عنده ونقض المذاهب الأخرى، وكان مذهبه
صادر عن شخص معصوم لا يقبل الخطأ فلابد من الدفاع عن رأيه وفتواه.
وهذه الأصول الممهدة للدفاع عن الرأي المختار هي المسماة بعلم الفقه
الخلافي، ومن هنا نتعرف على ارتباط علم الأصول بعلم الفقه، حيث أن علم
الأصول ما وضع الا كوسيلة لعملية الاستنباط والاستدلال على الحكم، فدور
علم الأصول دور تحرير الكبرى ودور علم الفقه دور تطبيق الكبرى على
صغرياتها، وإنما الهدف من كبريات علم الأصول مختلف فتارة يكون الهدف
72

من وضعها التوسل بها لاستنباط الحكم الشرعي في علم الفقه، وهذا ما يسمى
بالفقه المذهبي أو الفقه الاستدلالي، وتارة يكون الهدف من تمهيدها وتحريرها
الدفاع بها عن المذهب المختار ونقض المذاهب الأخرى، وهو المسمى بالفقه
الخلافي.
إذن فكلا النوعين من الفقه الخلافي والفقه المذهبي يعتمدان على علم
الأصول، الا أن الفقه الخلافي يعتمد على الأصول في تثبيته وتركيزه للمذهب
المختار، والفقه المذهبي يعتمد عليها في مقام استنباط الحكم الشرعي.
قال ابن خلدون في مقدمته (1): " وأجرى الخلاف بين المتمسكين
والآخذين بأحكام المذاهب الأربعة مجرى الخلاف في النصوص الشرعية،
وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه تجري على أصول
صحيحة وطرائق قويمة يحتج بها كل على مذهبه الذي تمسك به، وكان في هذه
المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم، وهذا
الصنف من العلم يسمى بالخلافيات، ولابد لصاحبه من معرفة القواعد التي
يتوصل بها إلى استنباط الاحكام كما يحتاج إليها المجتهد، إلا أن المجتهد يحتاج
إليها للاستنباط وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة
من أن يهدمها المخالف بأدلته، وهو لعمري علم جليل الفائدة ".
وكما كان علم الفقه الخلافي يعتمد على علم الأصول فهو يعتمد أيضا
على علم الجدل والمناظرة كما ذكر ابن خلدون، قال (2): " وأما الجدل وهو معرفة
آداب المناظرة التي تجري بين المذاهب الفقهية وغيرهم، فإنه لما كان باب المناظرة
في الرد والقبول متسعا وكل واحد من المتناظرين في الاستدلال والجواب يرسل

(1) مقدمة ابن خلدون: 456 - 457.
(2) مقدمة ابن خلدون: 457.
73

عنانه في الاحتجاج ومنه ما يكون صوابا ومنه ما يكون خطأ، فاحتاج الأئمة إلى
أن يضعوا آدابا وأحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد والقبول ".
فالحاصل أن علم الفقه الخلافي عند أهل السنة هو عبارة عن القواعد الأصولية
والجدلية المستخدمة لتثبيت المذهب المختار ورد المذهب المعارض.
وأما الفقه الخلافي عند الشيعة فهو عبارة عن مجموعة من الأصول
والقواعد للدفاع عن مذهب أهل البيت وإثبات بعد المذاهب الأخرى عن سنة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبيان ذلك في ثلاثة أمور:
أ - منشأ وجود الفقه الخلافي عند الشيعة.
ب - الاحتجاجات والمناظرات في هذا الميدان.
ج - الكتب والرسائل التي كتبت في الفقه الخلافي.
الامر الأول: إن الشيعة تعتقد أن السنة الحقيقية للرسول صلى الله عليه
وآله وسلم هي موروثة عند أهل البيت عليهم السلام، كما ورد عن الصادق
عليه السلام: " لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكن أصول
علم نتوارثها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كابرا عن كابر " (1)، لذلك
فإن سائر التشريعات التي حدثت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بعيدة عن سنته، سواءا التشريعات التي حدثت في القوانين المالية كإلغاء سهم
المؤلفة قلوبهم وسهم ذوي القربى وهو الخمس والقول بالعول والتعصيب في
الميراث، أم في الأمور العبادية كإلغاء متعة الحج وبعض فصول الاذان ووضع
صلاة التراويح، أم في القضايا المعاملية كاشتراط صحة النكاح بحضور
شاهدين وعدم اشتراط ذلك في الطلاق وإلغاء نكاح المتعة وشبه ذلك،
وحدوث هذه التشريعات البعيدة في نظر الشيعة عن سنة الرسول صلى الله عليه

(1) البحار 2: 172 / 3. عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.
74

وآله وسلم هو السبب في وجود الفقه الخلافي عند الشيعة، الذي هو عبارة عن
مجموعة من المناظرات والمناقشات التي تنقض التشريعات الحادثة بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعتمادا على أصول وقواعد معينة.
وهذا العلم امتداد لعلم الكلام، لان علم الكلام يبحث عن الخلافات
العقائدية بين الفريقين وهذا العلم يبحث عن الخلافات الفقهية الفرعية،
ولذلك نلاحظ الارتباط الوثيق بين علم الكلام وعلم الأصول وعلم الفقه في
كثير من البحوث، مما دعى أمثال الشيخ المفيد إلى كتابة رسالة الاعلام في الفقه
الخلافي كتكملة لكتابه أوائل المقالات المدون في العقائد، كما أن كتاب
الانتصار للسيد المرتضى يعد شرحا لكتاب الاعلام للمفيد لتطابقهما في
العناوين وبعض العبارات.
ومما يدل على الربط بين العلوم الثلاثة ما كتبه العلامة الحلي في نهج
الحق، حيث جعله مشتملا على ثلاثة أبواب:
1 - أصول الدين.
2 - أصول الفقه.
3 - الفقه المقارن.
فالفقه الخلافي عند الشيعة هو التعرض للآراء المخالفة لسنة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم بحسب معتقدهم، وهذا ما يسمى في علم التأريخ
بالتشيع الثقافي الذي يختلف عن التشيع السياسي، فإن التشيع السياسي هو
حركة المناهضة للأوضاع الفاسدة، كما حدث من أبي ذر الغفاري والإمام علي
وقت خلافته والإمام الحسين عليهما السلام.
أما التشيع الثقافي فهو الذي بدأت بذرته بالنمو منذ زمن الإمام الباقر
عليه السلام، ويعني افراز المذهب الشيعي ككيان فكري وعملي له أصوله
وقواعده المعينة من بين بقية المذاهب والفرق الأخرى استنادا لكتاب الله والسنة
75

النبوية الموروثة عند أهل بيت العصمة عليهم السلام، وهذا ما أثار حفائظ
بعض الكتاب كابن خلدون حيث يقول في مقدمته - بعد تقسيم الفقه للفقه
الحجازي الملائم لمذهب مالك والفقه العراقي الملائم لمذهب أبي حنيفة والفقه
الظاهري -:
" وشذ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وانفردوا بها، وبنوها على مذهبهم
في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمة ورفع الخلاف عن
أقوالهم "، وقال: " وهي كلها أصول واهية ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل
أوسعوها جانب الانكار والقدح، فلا نعرف شيئا من مذاهبهم ولا نروي كتبهم
ولا أثر لشئ منها الا في مواطنهم، فكتب الشيعة في بلادهم وحيث كانت
دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن " (1).
الامر الثاني: في المناظرات التي وقعت لمناقشة الآراء الأخرى، منها ما
ذكره الكافي من مناظرة ابن عباس مع الآخرين في مسألة العول (2)، ومنها ما ذكره
الكافي من المناظرة الواقعة بين الإمام الصادق والفقيه الشامي الذي ادعى أنه
من أهل الفقه والفرائض (3)، ومنها ما ذكره الكافي، عن حمدان القلانسي - من
رجال أواسط القرن الثالث - يخاطب عمر بن شهاب العبدي: من أين زعم
أصحابك أن من طلق ثلاثا لم يقع الطلاق؟ فقلت زعموا أن الطلاق بالكتاب
والسنة فمن خالفهما رد إليهما، قال فما تقول فيمن طلق على الكتاب والسنة
فخرجت امرأته أو أخرجها فاعتدت في غير بيتها؟ "، إلى أن يقول: " فأجبته
بجواب ولم يكن عندي جواب عنه ومضيت ولقيت أيوب بن نوح - وهو من
وكلاء الإمام الهادي والعسكري، والظاهر من ترجمته أنه من الفقهاء المحدثين
لا من الفقهاء الأصوليين كيونس بن عبد الرحمن - فأخبرته بقول عمر فقال:

(1) مقدمة ابن خلدون: 446.
(2) الكافي 7: 79 - 80 / 3.
(3) الكافي 1: 130 / 4.
76

ليس نحن أصحاب قياس إنما نقول بالآثار، فلقيت علي بن راشد - وهو وكيل
آخر - وسألته عن ذلك وأخبرته بقول عمر فقال: قد قاس عليك وهو يلزمك،
فسألت معاوية بن حكيم عن ذلك فقال معاوية: ليست العدة مثل الطلاق
وبينهما فرق (1).
ثم إن الكليني (ره) نقل في الكافي عن الفضل بن شاذان جوابا شبيها
بذلك (2)، وواقع المسألة المثارة في الرواقي أن هناك آيتين:
1 - قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن) (3).
2 - وقوله تعالى. (ولا تخرجوهن من بيوتهن) (4)، والسؤال لماذا قال
الشيعة بأن من طلق لغير العدة فطلاقه باطل بينما قالوا أن المطلقة لو خرجت
من بيت زوجها فطلاقها صحيح، مع أن مفاد الآيتين واحد وهو تقييد الطلاق
بالعدة وتقييده بالبقاء في بيت الزوج، وقد تصور أيوب بن نوح وعلي بن راشد
أن المقارنة بين الآيتين نوع من القياس ونحن لا نقول بالقياس، وهذا لون من
التفكير البدوي، بينما معاوية بن حكيم والفضل بن شاذان حيث إنهما يملكان
التفكير الأصولي فرقا بين اللسانين، وهو أن لسان الآية الأولى لسان إرشادي
للحصة الخاصة فيفيد عدم الامضاء للطلاق في غير تلك الحصة، بينما لسان
الآية هو النهي المولوي الذي لا يلزم من مخالفته الفساد الوضعي.
إذن فهذه المناظرات مصداق من مصاديق الفقه الخلافي، ونحن لو تأملنا
فيها لرأينا دخالة علم الأصول في الفقه الخلافي، كما يظهر من الرواية الأخيرة
من الفرق بين اللسان الارشادي والمولوي.

(1) الكافي 6: 92 - 93.
(2) الكافي 6: 93.
(3) الطلاق 65: 1.
(4) الطلاق 65: 1.
77

الامر الثالث: فيما كتب في الفقه الخلافي:
منها: ما ذكره الصدوق في كتاب الاعتقادات من رواية سليم بن قيس
الهلالي في باب اختلاف الحديثين، وهذه الرواية تتضمن عدة أصول وقواعد
لرفع اللبس عند اختلاف الفريقين، كقواعد التمييز بين العام والخاص
والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ()، ومثلها رواية المسمعي عن الإمام الرضا
عليه السلام في نفس الباب (2).
ومنها: ما كتبه يونس بن عبد الرحمن في المتعة وفي الاختلاف في الحج
وفي المواريث (3).
ومنها: ما ذكره الشيخ المفيد في أوائل المقالات من البحث حول القياس
والاجماع وخبر الواحد والنسخ (4)، وما فصله في شرح إعتقادات الصدوق في
مبحث الحظر والإباحة والحديثين المختلفين ()، وقد كانت هذه البحوث تذكر
ضمن البحوث الكلامية ثم أفردت بالتدوين والتحرير، هذا تمام الكلام حول
الفقه الخلافي وسعته عند المذاهب الاسلامية ومقدار ارتباطه بعلم الأصول.
الثاني: الفقه المذهبي: والمقصود بالفقه المذهبي عند المدرستين - مدرسة
أهل البيت ومدرسة العامة - هو الفقه الاستدلالي، وهو تطبيق الكبريات
الأصولية أو اللغوية أو غيرها لأجل التوصل للحكم الشرعي لا لأجل تثبيت
مذهب ونقض مذهب آخر، ولذلك لا تطرح البحوث المتسالم عليها في مذهب
معين في مجال الفقه الاستدلالي، مثلا مدرسة أهل البيت عندما تتحدث عن

(1) إعتقادات الصدوق: 109.
(2) الوسائل 27: 113 / 33354.
(3) رجال النجاشي: 446 / 1208، فهرست الشيخ: 181 / 809.
(1) أوائل المقالات: 138 - 141.
(5) شرح إعتقادات الصدوق: 107 - 108.
78

الفقه الخلافي تطرح بحوث القياس والاستحسان وما شابه ذلك، بينما عندما
تتحدث عن الفقه الاستدلالي لا تطرح هذه البحوث للتسالم على بطلانها في
هذه المدرسة، ويمتاز الفقه الاستدلالي عند الشيعة عن الفقه الاستدلالي عند
غيرهم بأمرين:
أ - امتداد السنة المعصومية إلى زمان أهل البيت عليهم السلام وشمولها
لأحاديثهم، وهذا يشكل ثروة فقهية متعددة الحقول في الفقه الاستدلالي
الشيعي أكثر من غيره من المذاهب التي قصرت السنة على أحاديث الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم.
ب - انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة نظريا وعمليا حتى زماننا هذا،
مما أدى لوجود حاجة ماسة لتطور علم الأصول واشتماله على بحوث وقواعد
جديدة لم يسبق طرحها في الأزمنة السابقة، وهذه ميزة فاصلة بين الفكر
الأصولي عندنا والفكر الأصولي عند بقية المذاهب الاسلامية، فمثلا بحوث
العلم الاجمالي وألوان تنجزه وانحلاله وجريان الأصول في أطرافه وتفاصيل
الاشتغال والاستصحاب كلها لا وجود لها في علم الأصول في المذاهب
الأخرى، وبهذا العرض تبين لنا ارتباط علم الأصول بعلم الفقه على صعيد
الاحتجاج وصعيد الاستدلال.
79

المبحث السابع
في الاسناد
الاسناد الاعتباري والمجازي
إن لهذا البحث آثارا علمية مهمة على صعيد العلوم الأدبية والعلوم
العقلية والعلوم الاعتبارية كالفقه والأصول، فلذلك نتعرض له عرضا مفصلا
في ثلاث نقاط:
أ - أقسام الواسطة.
ب - ثمرات البحث.
ج - أقسام الواسطة في العروض.
النقطة الأولى: أقسام الواسطة: تنقسم لثلاثة أقسام:
1 - واسطة في الثبوت.
2 - واسطة في الاثبات.
3 - واسطة في العروض.
أما الواسطة في الثبوت فهي منشأ الوجود الشامل للعلة الفاعلية وهي ما
منه الأثر، والعلة الغائية وهي الموجبة لفاعلية الفاعل باعتبار تأثير تصورها ذهنا
في حدوث الإرادة نحو العمل، فالمراد بها - الواسطة في الثبوت - ما كان منشأ
للوجود الواقعي. وأما الواسطة في الاثبات فهي المعبر عنها في علم المنطق بالحد
الأوسط، والمراد بها ما كان موجبا لثبوت المحمول للموضوع، فإن كانت واسطة
في الثبوت أيضا أي علة للنتيجة فالبرهان لمي، وإن كانت معلولا للنتيجة
80

فالبرهان إني من القسم الأول، وإن كانا متلازمين فهو إني من القسم الثاني.
إذن فالنسبة بين الواسطتين عموم من وجه، لان ثبوت المحمول
للموضوع في باب القضايا إن كان بديهيا لا يحتاج لواسطة إثباتية كثبوت الحرارة
للنار فهذا مورد للواسطة في الثبوت دون الواسطة في الاثبات، باعتبار حاجة
كل معلول للعلة في صميم وجوده، وإن كان ثبوت المحمول للموضوع نظريا
محتاجا لواسطة إثباتية مع كون تلك الواسطة هي العلة الواقعية في الثبوت فهذا
مورد اجتماع الواسطتين، وإن كانت الواسطة الاثباتية معلولا للنتيجة لا علة لها
فهذا مورد للواسطة في الاثبات دون الثبوت.
وأما الواسطة في العروض فالمراد بها أن تكون الواسطة متصفة بصفة
معينة أولا وبالذات ويتصف بها ذو الواسطة ثانيا وبالعرض، كقولنا جرى
النهر، فالواسطة في الجريان هنا هو الماء وهو المتصف بصفة الجريان أولا
وبالذات وإنما يتصف بها النهر ثانيا وبالعرض، وهذا مقابل الواسطة في الثبوت
فان ذا الواسطة فيها يتصف بالصفة حقيقة وبالذات لا ثانيا وبالعرض، كقولنا
الماء يغلي، فإن غليان الماء بواسطة النار الا أن الماء متصف حقيقة وبالذات
بالغليان لا بالعرض، فبين الواسطة العروضية والثبوتية نسبة التباين كما هو
ملاحظ. وكذلك فإن النسبة بين الواسطة العروضية والواسطة الاثباتية هي
نسبة التباين أيضا، ولتوضيح الفرق بين الواسطة في العروض والواسطة في
الثبوت نستعرض أمورا:
الأول: إن قيام الصفة بالواسطة الثبوتية قيام صدوري وقيام الصفة
بالواسطة العروضية قيام حلولي، والمراد بالقيام الصدوري الأعم من تأثير العلة
الفاعلية كتأثير النار في حرارة الماء وتأثير العلة الغائية كتأثير صورة الجلوس في
صنع الكرسي، ومنه تأثير ملاكات الأحكام الشرعية في جعل الحكم الشرعي،
لان الملاك غاية للجعل.
81

الثاني: إن اسناد الصفة للشئ مع الواسطة الثبوتية إسناد حقيقي ومن
باب وصف الشئ بحال نفسه بينما إسناد الصفة للشئ مع الواسطة العروضية
إسناد مجازي، ولو تجوزا عقليا إن لم يكن تجوزا أدبيا كما سيأتي بيانه، وهو المعبر
عنه في مصطلح علم البيان بأنه وصف الشئ بحال متعلقه، وبحسب
الاصطلاح الفلسفي يعبر عنه بالسبق بالحقيقة، حيث أن الواسطة هي المتصفة
حقيقة بالصفة المعينة وأنما يتصف بها ذو الواسطة بالعرض، وهذا لون من
السبق في الاتصاف يسمى بالسبق بالحقيقة.
الثالث: إن الصفة العارضة للشئ مع الواسطة في العروض فرد واحد
من الصفة عارض أولا وبالذات للواسطة نحو جرى الميزاب وعارض بالعرض
لذي الواسطة، بينما الصفة العارضة مع الواسطة في الثبوت قد تكون فردا واحدا
عارضا لذي الواسطة حقيقة كعروض الغليان للماء بواسطة النار، وقد تكون
فردين أحدهما عارض للواسطة حقيقة والاخر عارض لذيها حقيقة كالنار الموجبة
لاتصاف الماء بالحرارة، حيث أن هنا فردين من الحرارة أحدهما عارض للماء
والآخر عارض للنار.
الرابع: إن الصفة العارضة للشئ مع الواسطة في الثبوت حيث أن
الشئ متصف بها حقيقة فيستحيل أن يتصف بنقيضها أو ضدها حقيقة، للزوم
محذور اجتماع النقيضين أو الضدين. نعم لا مانع من اتصافه بالنقيض والضد
مجازا، بينما الشئ المتصف بوصف مع واسطة في العروض بما أنه غير متصف
بالوصف حقيقة فلا مانع من اتصافه بنقيضه وضده حقيقة، إذ لا يترتب على
ذلك محذور اجتماع النقيضين والضدين.
النقطة الثانية: ثمرة البحث: إن لهذا البحث ثمرات علمية كثيرة على
صعيد الأدب والفقه والأصول، ونحن نستعرض بعض الثمرات:
أ - من الثمرات الفقهية للبحث ما ذكره الفقهاء من أن صاحب الدار
82

لو قال لرجل ادخل الدار فإنك صديقي فالمفهوم عرفا من هذا الكلام أن
الصداقة واسطة في العروض، أي أن الحكم وهو جواز الدخول مترتب على
عنوان الصديق أولا وبالذات وأنما يتوجه للمخاطب باعتبار انطباق موضوع
الحكم عليه، فلو علم المخاطب بأنه ليس بصديق لصاحب الدار فلا يجوز له
الدخول، لان موضوع الحكم هو عنوان الصديق الا أن صاحب الدار أخطأ
في التطبيق وليس موضوع الحكم هو المخاطب حتى يجوز له الدخول على كل
حال، ولو قال له " ادخل الدار لأنك صديقي " فالمفهوم عرفا من ذلك أن
الصداقة واسطة في الثبوت، أي أن موضوع الحكم بجواز الدخول هو ذات
المخاطب لا عنوان الصديق وأنما الصداقة من دواعي الاذن بالدخول، فهنا
حتى مع علم المخاطب بعدم كونه صديقا يجوز له الدخول ما دام هو الموضوع
للحكم بالجواز.
ب - من الثمرات الأصولية التي تترتب على هذا البحث تفريق العلماء
بين الحيثية التعليلية والحيثية التقييدية، حيث أن الحيثية التعليلية راجعة
للواسطة في الثبوت والحيثية التقييدية راجعة للواسطة في العروض (1)، ويرتبط
بذلك جملة من البحوث، منها: ما ذكروه من أن الحيثيات التعليلية في الاحكام
العقلية راجعة للحيثيات التقييدية، فمثلا حكم العقل بوجوب نصب السلم
لأنه مقدمة للواجب راجع لحكمه بأن المقدمة واجبة ومن باب التطبيق على الفرد
المذكور حكم بوجوبه، لذلك لا مانع من اجتماع الاستحباب الذاتي مع
الوجوب الغيري في المقدمة، فالاستحباب الذاتي مثلا للوضوء بما هو وضوء
والوجوب الغيري له بما هو مقدمة، ومع اختلاف الجهة فلا مانع من اجتماعهما.

(1) أجود التقريرات 1: 498 - 499.
83

ج - ما ذكره المحقق النائيني (قده) في باب مفهوم الموافقة من أن المولى
لو قال " لا تشرب الخمر فإنه مسكر " فظاهر الجملة أن الاسكار واسطة في
العروض وحيثية تقييدية، فالموضوع للحرمة حقيقة هو المسكر لا عنوان الخمر
وأنما يتصف الخمر بالحرمة ثانيا وبالعرض باعتبار انطباق الموضوع عليه،
وحينئذ فيستفاد من التعليل المذكور عموم مفهوم الموافقة لكل مسكر ما دام
الموضوع للحرمة هو عنوان المسكر.
وأما لو قال المولى: " لا تشرب الخمر لأنه مسكر أو لاسكارها " فالمفهوم
من ذلك عرفا أن الاسكار واسطة في الثبوت وحيثية تعليلية فقط، وأن الموضوع
للحرمة واقعا هو الخمر وأنما من دواعي جعل الحرمة له إسكاره لا أن موضوع
الحكم هو عنوان المسكر، والمستفاد حينئذ عدم سعة مفهوم الموافقة لغير الخمر
من المسكرات (1)، وغير ذلك من الثمرات.
النقطة الثالثة: في أقسام الواسطة في العروض: للواسطة في العروض
ثلاثة تقسيمات:
أ - باعتبار الوضوح والخفاء.
ب - باعتبار التغاير الوجودي والمفهومي.
ج - باعتبار النسبة بين الواسطة وذي الواسطة.
التقسيم الأول: وهو انقسام الواسطة في العروض إلى جلية وخفية
وأخفى.
الواسطة الجلية: وهي ما يعد عند العرف من باب الاسناد لغير ما هو
له كقولنا جرى الميزاب، حيث يرى العرف هنا أن الجريان حقيقة للماء لا
للميزاب فالواسطة في المثال جلية، وكقولنا البيوت متحركة مع أن الحركة واقعا

(1) أجود التقريرات 1: 498.
84

للأرض لا للبيوت. ومن الأمثلة الفقهية للواسطة الجلية متعلقات الاحكام،
فمثلا إذا قال المولى: يجب الصلاة، فإن العرف الساذج قد يتصور أن الصلاة
الخارجية هي المعروض للوجوب حقيقة بل ربما طرح ذلك في كلمات العلماء
الاعلام، ففي الكفاية في بحث اجتماع الأمر والنهي - بعد دعوى التضاد
الحقيقي بين الأحكام الخمسة - ذكر بأن المعروض الواقعي للحكم هو العمل
الخارجي للمكلف (1)، مع أن هذا المفهوم لا يقره العرف المتأمل وذلك لعدة أمور:
أولا: لان الوجوب أمر اعتباري ولا يمكن أن يتشخص في وعاء الاعتبار
الا بحد معين وهذا الحد هو طبيعي الصلاة الموجود بالوجود الاعتباري، إذ من
المستحيل تشخص ما هو اعتباري بما هو خارجي كما يستحيل العكس أيضا،
فمن المستحيل كون الصلاة الخارجية حدا للوجوب الاعتباري.
ثانيا: على فرض عدم حصول الصلاة خارجا لعصيان أو غيره فيلزم من
ذلك تقوم الموجود وهو الوجوب الاعتباري بالمعدوم وهو الصلاة الخارجية،
وذلك مستحيل.
وثالثا: إن العمل الخارجي مسقط للتكليف فكيف يكون معروضا له،
لذلك فالمتصف حقيقة بالوجوب هو الماهية الموجودة في وعاء الاعتبار واتصاف
الفرد الخارجي به من باب الواسطة في العروض، وهي واسطة التطابق لا
الانطباق، لان الانطباق إنما يكون بين الكلي وفرده والعمل الخارجي ليس فردا
للماهية الموجودة في وعاء الاعتبار بل هو مطابق ومشابه لها، وهذه الواسطة جلية
لمن تأمل في المطلب.
الواسطة الخفية: وهي ما كان الاسناد فيها بحسب النظر العرفي إسنادا
حقيقيا وإن كان بحسب النظر العقلي إسنادا مجازيا، ومثاله الحد الأوسط في

(1) الكفاية: 158.
85

باب البرهان إذا كان علة للنتيجة وكان البرهان لميا، كقولنا: " كل إنسان حيوان
وكل حيوان حساس فكل إنسان حساس،، فهنا الاحساس وصف للحيوان بما
هو حيوان، وعروضه للانسان وإن كان إسنادا حقيقيا بنظر العرف ولكنه
بحسب النظرة العقلية إسناد مجازي، باعتبار كون هذا الثبوت مستندا لواسطة
وهي الحيوانية.
والمثال الفقهي المرتبط بذلك باب المعقول الثاني باصطلاح الفلاسفة،
بيان ذلك: أن المعقول قد يكون له ارتباط واحد، إما خارجي كارتباط البياض
بالجسم وهذا معقول أولي وإما ذهني كالكلي العقلي الذي ليس له ارتباط
بالخارج أصلا وهذا معقول ثانوي باصطلاح المناطقة والفلاسفة، وقد يكون له
ارتباطان، ارتباط بمعروضه الذهني وارتباط بموصوفه الخارجي، فهو معقول
ثانوي باصطلاح الفلاسفة، كالامكان فإن المعروض له ذهنا هو الماهية المعلولة
والمتصف به خارجا هو الموجود الخارجي.
ومثاله من الاحكام الفقهية النجاسة والملكية، فإن معروضهما الذهني هو
العنوان الذهني للدم والمال مثلا، بينما المتصف بهما خارجا هو عين الدم وعين
المال. ومثاله أيضا وجوب الحج على المستطيع، فإن الوجوب له ارتباطان،
ارتباط اعتباري بعنوان المستطيع وهو ارتباط المقيد بقيده في وعاء التقييد وارتباط
خارجي بالمعنون نفسه، فالمستطيع الخارجي ليس هو المعروض للوجوب حقيقة
إذ يستحيل تقيد الاعتباري بالامر الخارجي.
وإنما المعروض الحقيقي للوجوب هو المستطيع في الوعاء الاعتباري،
لكن علاقة التطابق بين ما في الخارج وما في الاعتبار الذهني أوجبت اسناد
الوجوب للمستطيع الخارجي على نحو العروض عليه، وهو إسناد مجازي بنظر
العقل لرجوعه لواسطة التطابق وإن كان هو متصفا بالتكليف حقيقة، الا أن
الاتصاف غير العروض كما هو مذكور في كتب الحكمة.
86

ويترتب على هذا البحث عدة ثمرات أصولية:
أ - ما ذكره الأصوليون بأن للحكم مرتبتين مرتبة الانشاء ومرتبة الفعلية،
مع أن الحكم المجعول واحد وليس له وجودان متعاقبان، إذن فمقصودهم ما
ذكرنا من أن وجوب الحج مثلا له ارتباطان، ارتباط بمعروضه وهو المستطيع في
وعاء الاعتبار، وهذه هي مرحلة الجعل، وارتباط بموصوفه وهو المستطيع
الخارجي، وهذه هي مرحلة الفعلية، أي مرحلة اتصاف ما في الخارج بكونه
مكلفا بالحج مثلا، والا فليس هناك تعدد في وجود الحكم إطلاقا.
ب - ما طرحه الأستاذ السيد الخوئي (قده) في الاشكال على جريان
الاستصحاب في الشبهات الحكمية من أن استصحاب عدم الجعل معارض
باستصحاب بقاء المجعول (1)، فمثلا استصحاب بقاء حرمة وطئ الحائض بعد
نقائها وقبل غسلها معارض باستصحاب عدم سعة الجعل لما بعد فترة الحيض،
وقد يلاحظ عليه - كما هو مذكور في كلمات المحقق النائيني (قده) - بان
استصحاب عدم الجعل في المقام مثبت (2)، ولعله لان استصحاب الجعل أو عدمه
متقوم بالارتباط الأول وهو ارتباط الحكم بمعروضه بينما استصحاب المجعول
متقوم بالارتباط الثاني وهو ارتباط الحكم بموصوفه، فأحد الاستصحابين
لا يعارض الآخر ولا ينفيه، إذ لا توجد نقطة جامعة بينهما فكل منهما مرتبط
بمرحلة معينة.
ج - مسألة الشرط المتأخر، حيث أورد بعض علماء الأصول بأن الشرط
المتأخر مستلزم لتقوم المتقدم بالمتأخر الراجع لتقوم الموجود بالمعدوم وهو
مستحيل، لكن صاحب الكفاية قد ذكر بأن المتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات
في وعاء الاعتبار، فالوجوب مقيد حقيقة بالقيد الموجود في وعاء الاعتبار (3) إذ لابد

(1) مصباح الأصول 3: 36 - 40.
(2) أجود التقريرات 2: 189 - 190.
(3) الكفاية 93 - 94.
87

من اجتماع المقيد والقيد في وعاء واحد، لا أنه مقيد بالقيد المتأخر زمانا، فما هو
قيد للوجوب حقيقة هو العنوان الاعتباري وهو مقارن للحكم لا متأخر عنه وما
هو المتأخر عنه ليس بقيد له بل هو مطابق للقيد الحقيقي.
فتبين لنا من خلال هذه البحوث أهمية التعرف على أقسام الواسطة في
العروض، والفرق بين الخفية والجلية منها، ففي المثال إسناد الشرطية للمتأخر
وجودا وإن كان إسنادا حقيقيا بنظر العرف لكنه مع الواسطة في العروض، وهي
واسطة التطابق بين ما في الخارج وما في وعاء الاعتبار، فهو إسناد مجازي بنظر
العقل، والشرطية للقيد الاعتباري المقارن لا للوجود الخارجي المتأخر.
الواسطة الأخفى: وهي ما كان الاسناد فيها بنظر العقل إسنادا حقيقيا
ولكن بحسب الدقة الفلسفية العقلية يكون إسنادا مجازيا، فمثلا قولنا الجسم
أبيض يعد إسنادا حقيقيا بنظر العرف والعقل، ولكن بحسب الدقة الفلسفية
المبنية على تعدد الوجود للجوهر والعرض فالأبيض في الواقع هو البياض لا
الجسم، وهذا الاسناد مجازي باعتبار ارتباط الوجودين خارجا على نحو التركيب
الاتحادي أو الانضمامي على الخلاف فيه، ومثله قولنا زيد موجود فإنه إسناد
حقيقي بنظر العرف والعقل لكنه إسناد مجازي بنظر الفيلسوف المتأمل باعتبار
القول بأصالة الوجود، فالموجود حقيقة هو الوجود وإنما ينسب للماهية ثانيا
وبالعرض، إذن فالواسطة في هذه الأمثلة أخفى من الواسطة في الموردين
السابقين لان التنبه لها يحتاج لدقة فلسفية.
التقسيم الثاني: لا شك أنه لابد من وجود الارتباط بين الواسطة وذي
الواسطة كالحالية والمحلية والعلية والمعلولية وشبه ذلك، والا لما صح إسناد
وصف الواسطة لذي الواسطة ولو مجازا، ولابد من التغاير بينهما إما بحسب
الوجود وإما بحسب المفهوم وإما بلحاظهما معا، ولولا ذلك لما كانا شيئين
أحدهما واسطة والآخر ذو الواسطة فهنا ثلاثة أقسام:
88

الأول: التغاير الوجودي والمفهومي بين الواسطة وذيها، وهو على
قسمين:
أ - ما يمكن فيه الإشارة الحسية ويسمى ب‍ (التغاير في الوضع) كالسفينة
والجالس فيها، فإنهما متغايران وجودا ومفهوما مع إمكان التفريق بينهما بالإشارة
الحسية، فإذا قيل راكب السفينة متحرك فهو إسناد مجازي لغير من هو له.
ب - ما لا يمكن فيه الإشارة الحسية كما هو بين العرض وموضوعه،
فمثلا إذا قيل الجسم منحني أو مستقيم فالاسناد هنا مجازي لوجود الواسطة في
العروض، وذلك لان الانحناء والاستقامة من الكيفيات العارضة للكميات
فالمتصف بالانحناء والاستقامة هو الكم وهو الخط في المثال لا الجسم نفسه لكنه
أسند للجسم مجازا بواسطة أحد أعراضه وهو الكم، وبين العرض وهو الواسطة
والجوهر الموضوع له وهو ذو الواسطة تغاير وجودي بناءا على المسلك المشهور
من تعدد الوجود للجوهر والعرض لا على مسلك آغا علي مدرسي من كونهما
وجودا واحدا متطورا بعدة أطوار عرضية وهو المختار عندنا، وبينهما تغاير
مفهومي أيضا لكن لا يمكن التفريق بينهما بحسب الإشارة الحسية.
الثاني: التغاير الوجودي مع الوحدة الماهوية، ونذكر له ثلاثة أمثلة:
أ - المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، فالصورة المرتسمة في أفق النفس
هي المعلوم بالذات ومطابقها الخارجي معلوم بالعرض، فتسمية ما في الخارج
معلوما لا بنحو الاسناد الحقيقي بل هو مجازي معتمد على واسطة في العروض،
وهي مرآتية ما في الذهن لما في الخارج، والا فيستحيل أن يكون الامر الخارجي
حدا لما هو أمر نفسي وهو العلم، فهنا يوجد بين الواسطة وهي المعلوم بالذات
وذيها وهو المطابق الخارجي تغاير وجودي، لان أحدهما وعاؤه الذهن والآخر
وعائه الخارج لكنهما متحدان ماهية بناءا على المسلك المشهور من كون المعلوم
نفس الموجود الخارجي.
89

ب - المراد بالذات والمراد بالعرض، فإذا اشتاق الانسان مثلا للعب
الكرة فالمراد أولا وبالذات هو العنوان النفسي المحدد للإرادة النفسية في وعائها
والمراد ثانيا وبالعرض هو اللعب نفسه، فالاسناد مجازي مع الواسطة في
العروض.
ج - متعلقات الاحكام كالصلاة الواجبة، حيث إننا إذا تأملنا هنا نجد
أن المعروض للوجوب حقيقة هي الماهية الاعتبارية للصلاة، لان نسبة متعلق
الاعتبار للاعتبار نفسه نسبة الماهية للوجود، وهي كما يقال في الحكمة نسبة الحد
للمحدود، ويستحيل أن يكون الامر الاعتباري محدودا بحد خارجي
فالمعروض الاعتباري المحقق للوجوب الاعتباري يختلف وجودا عن العمل
الخارجي المحقق للامتثال لكنهما يتحدان ماهية ومفهوما، وهذه الوحدة
المفهومية واسطة في عروض أوصاف كل منهما للآخر ونذكر لذلك مثالين:
أ) إن الصلاة الخارجية تتصف بالوجوب مجازا، لان هذا الوجوب وإن
كان عارضا على الصلاة الاعتبارية حقيقة ولكن لتطابق ما في الاعتبار مع ما في
الخارج صح توصيف ما في الخارج بوصف ما في وعاء الاعتبار. وكذلك الصلاة
الاعتبارية تتصف بكونها ذات مصلحة وملاك مجازا، لان الواجد للملاك
حقيقة هو الصلاة الخارجية لا الذهنية لكن لتطابقهما في الماهية صح اتصاف ما
في الاعتبار بصفات ما في الخارج.
ب) باب النواهي كما لو قال المولى لا تشرب الخمر، فهنا المعروض
الحقيقي للنهي الاعتباري هو طبيعي الخمر ولكن الملاك وهو المفسدة في الشرب
موجود في الفرد الخارجي للخمر ومتعدد بتعدده، فلو قصرنا النظر على وعاء
الاعتبار لقلنا بعدم انحلال النهي لعدة نواهي بعدد الافراد، لان ما هو متكثر
في الخارج ليس معروضا للنهي وما هو معروض له في وعاء الاعتبار واحد لا كثرة
فيه وهو طبيعي شرب الخمر، ولكن لو تأملنا وجدنا أن الخمر الاعتباري
90

والخارجي متغايران وجودا الا أنهما متحدان مفهوما، وحينئذ تتحقق مرآتية ما في
الذهن لما في الخارج ومع هذه المرآتية تسري أوصاف كل منهما للآخر بنحو
الواسطة في العروض، فالكثرة الخارجية للافراد والمفاسد ملحوظة في طبيعي
شرب الخمر حين ورود النهي عليه.
وهذا ما ندعيه من الانحلال، وهو أن الجاعل عندما يلاحظ الماهية
المنهي عنها لملاك فيها ويرى أن الملاك متعدد بعدد أفراد الماهية خارجا يصب
نهيه على الماهية لا على نحو صرف الوجود بل بما هي مرآة حاكية للافراد المتعددة
الواجدة للمفسدة، خلافا لمن ينكر الانحلال كالسيد البروجردي (قده).
الثالث: التغاير المفهومي مع الاتحاد الوجودي، ولذلك عدة أمثلة
منطقية وفقهية:
أ - ما ذكر في علم المنطق من وجود الماهيات الطولية بوجود واحد،
كالانسان والحيوان فإنهما يوجدان بوجود واحد فيمكن نسبة صفات أحدهما
للآخر بواسطة الاتحاد الوجودي بينهما، فيقال الانسان حساس بما هو حيوان
والحيوان ناطق بما هو إنسان، وهذا الاسناد مجازي مستند للواسطة في العروض
وهي الوحدة الوجودية.
2 - الأمور الانتزاعية مع مناشئ انتزاعها، بناءا على وجودها بوجود
منشأ انتزاعها بالعرض لا بالتبع كما حرر في الاسفار (1)، فهنا يتحقق الاتحاد
الوجودي بين ماهيتين فيمكن إسناد صفات إحداهما للأخرى بواسطة الاتحاد
الوجودي، فيصح - مثلا - إسناد صفات عمل السرقة خارجا لعنوان الغصب
المنتزع منه وبالعكس.
3 - الطبيعي مع فرده فإنهما متغايران مفهوما متحدان وجودا، فهل يصح

(1) الاسفار 1: 274 - 275.
91

إسناد صفات أحدهما للآخر بواسطة الاتحاد الوجودي بينهما أم لا؟ ذهب
صاحب الكفاية في بحث الأصل المثبت وبحث استصحاب الكلي إلى صحة
جريان استصحاب الفرد لاثبات آثار الكلي باعتبار خفاء الواسطة بينهما (2)،
لاتحادهما وجودا بحيث لا يرى العرف ثنائية بينهما بل يرى أن آثار أحدهما آثار
للآخر بلا تفكيك، بينما ذهب الاعلام إلى كون ذلك أصلا مثبتا وأن وجود
الواسطة في العروض بينهما لا يسوغ إسناد آثار أحدهما للآخر في باب التنزيلات
الشرعية كالاستصحاب، لكونه من الأصول العملية التنزيلية.
4 - بحث اجتماع الأمر والنهي كالصلاة والغصب، وتوضيحه: أنه إن
قلنا في هذا البحث بالاجتماع الموردي فلا شاهد فيه وإن قلنا بالاتحاد الوجودي
على نحو التركيب الانضمامي فلا شاهد فيه أيضا وإن قلنا بالاتحاد الوجودي على
نحو التركيب الاتحادي بين الماهيتين فهذا موضع الاستشهاد، حيث يتم
البحث في أن ملاك أحدهما هل يسرى للآخر فيكون المورد من قبيل تزاحم
الملاكات وينتج عنه القول بامتناع الاجتماع أم لا. فالقول بالسراية مبني على ما
ذكرنا من كون الاتحاد الوجودي بين الماهيتين واسطة في عروض صفات إحداهما
للأخرى.
5 - ما ذكر في بحث مقدمة الواجب، من أن الجزء كالسجود في الصلاة
مع اتصافه بالوجوب الغيري لكونه مقدمة للكل هل يتصف بالوجوب النفسي
الضمني، فيسري الوجوب النفسي من المركب لاجزائه بواسطة اتحادهما وجودا
وإن كانا متغايرين مفهوما أم لا.
وغير ذلك من ثمرات البحث في الواسطة وأقسامها.

(1) الكفاية: 406 و 414.
92

التقسيم الثالث: في نسبة الواسطة لذيها، تنقسم الواسطة في العروض
بلحاظ نسبتها لذيها إلى أربعة أقسام:
1 - نسبة التباين كما هو بين السفينة والجالس فيها.
2 - نسبة العموم من وجه كالصلاة والغصب في مورد اجتماعهما.
3 - نسبة التساوي كالاجزاء بالأسر مع الكل فإنهما شئ واحد
والاختلاف مفهومي.
4 - نسبة العموم المطلق حيث تكون الواسطة أعم مطلقا نحو لا تشرب
الخمر فإنه مسكر، أو تكون الواسطة أخص مطلقا كقولنا الحيوان ناطق بما هو
إنسان.
وبهذا يتضح لنا الحاجة الماسة لمعرفة الواسطة في العروض وأقسامها حتى
لا نقع في المغالطة بجعل ما بالعرض مورد ما بالذات وترتيب الآثار على ذلك.
93

المبحث الثامن
موضوع العلم
قبل الدخول في البحث الصغروي وهو تحديد موضوع علم الأصول
لابد من طرح البحث الكبروي وهو الحديث عن موضوع العلم بصفة عامة،
وقد طرح الفلاسفة تعريفا لموضوع العلم، وهو: " موضوع كل علم ما يبحث
فيه عن عوارضه الذاتية "، وأصبحت هذه العبارة مثارا للمناقشات الفلسفية
و الأصولية وذكرت فيها مختلف التفسيرات ولكن الدخول في صميم تلك
المناقشات يخرجنا عن إطار البحث الأصولي، لذلك نكتفي بعرض تفسيرنا
لهذه العبارة وبيان مقدماته ودفع الايرادات عنه فالكلام في ثلاث نقاط:
أ - مقدمات التفسير.
ب - بيان المعنى.
ج - دفع المناقشات.
النقطة الأولى: وتشتمل على عدة مقدمات:
المقدمة الأولى - في بيان المراد بالعلم: من الواضح أنه ليس المراد بالعلم
هنا الادراك الذهني المنقسم للتصور والتصديق، بل المرصاد به نفس المسائل
المجموعة بوحدة تركيبية معينة في وعائها المناسب لها سواءا أدركها الانسان أم لم
يدركها، ودليل ذلك التبادر العرفي من إطلاق كلمة العلم المضافة لعنوان
اعتباري خاص، فعندما يقال درست علم الأصول وكتبت في علم النحو وهذا
كتاب في علم الفقه لا ينسبق للذهن العرفي ان المقصود بذلك هو الادراك فإن
94

الادراك لا يدرس ولا يدون، بل المقصود هو نفس المسائل في وعائها المناسب
لها لان الدرس والتدوين معقول في ذلك.
المقدمة الثانية - في بيان معنى الموضوع: ان الموضوع يطلق على أربعة
معاني.
الأول: الموضوع مقابل المحمول: فإن المناطقة ذكروا أن القضية
- لفظية كانت أم ذهنية - إن كانت شرطية فهي مركبة من مقدم وتالي، وإن كانت
حملية فهي مركبة من موضوع ومحمول، سواءا كانت ثبوتية أو سلبية. والثبوتية
كما تحتاج لموضوع مقرر في الوعاء اللفظي أو الذهني تحتاج أيضا لوجود الموضوع
في ظرفه المحكي عنه، فإن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له لا الثابت،
ولكن إذا كانت سلبية كما في قولنا زيد ليس بقائم فقد ذهب المعظم إلى كفاية
تقرر الموضوع في الوجود اللفظي والذهني من أجل تأليف القضية بلا حاجة
لوجود المسلوب عنه في الواقع، بينما قد يستفاد من كلام المحقق النائيني (قده)
في بحث استصحاب العدم الأزلي احتياج السالبة المحصلة لوجود الموضوع
في وعائه المناسب مما يترتب عليه إنكار جريان استصحاب العدم الأزلي (1).
وبيان ذلك: أن هناك مسلكين في باب القضايا.
1 - القول بالوجود الرابط.
2 - القول بعدمه.
فالقول الأول يعني تركب القضية من ثلاثة أطراف موضوع ومحمول
ورابط، باعتبار أن هناك وجودين محموليين وجود الجوهر ووجود العرض فإذا لم
يكن بينهما وجود رابط لا يتم ارتباطهما واقعا ولا يصح حمل أحدهما على الآخر،
فإذا كانت القضية موجبة نحو زيد قائم فلابد فيها من وجود الموضوع واقعا،
لان الايجاب بعض الربط بين الموضوع والمحمول والربط يحتاج لطرفين يتقوم بهما

(1) فوائد الأصول 4: 442 - 445.
95

فلابد من وجود الموضوع حينئذ ليتقوم به الوجود الربطي، بينما إذا كانت
القضية سالبة والسلب يعني عدم الربط فلا يوجد حينئذ وجود رابط حتى يحتاج
لموضوع موجود يتقوم به، فلا تحتاج السالبة المحصلة لوجود الموضوع.
والقول الثاني - وهو مختار المحقق النائيني (قده) (1) - هو القول بعدم الوجود
الرابط، وذلك لان الارتباط الواقعي بين الموضوع والمحمول حاصل بنفس
عرضية المحمول فإن معنى عرضية المحمول هو كون وجوده في نفسه عين وجوده
لغيره بلا حاجة لوجود رابط بينه وبين الموضوع، وحينئذ إن كانت القضية موجبة
فتارة يلاحظ وجود المحمول العرضي في نفسه وهذا هو الوجود المحمولي، وتارة
يلاحظ وجوده للموضوع وهو معنى عرضيته، وبهذا اللحاظ يحتاج لوجود
الموضوع لان ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له.
وإن كانت القضية سالبة فالمسلوب أمر عرضي يلاحظ تارة عدمه في
نفسه ويعبر عنه بالسلب التام، وتارة يلاحظ سلبه عن الموضوع وحينئذ يكون
مفاده مفاد ليس الناقصة وهو العدم النعتي، وهو بهذا يحتاج للموضوع أيضا
لان ثبوت شئ - ولو كان سلبا - لشئ فرع ثبوت المثبت له. إذن فالتفريق بين
القضية الموجبة والسالبة في الحاجة لوجود الموضوع وعدمه راجع للاعتراف
بالوجود الرابط المتحقق في الموجبات فيحتاج لوجود الموضوع وعدم تحققه في
السوالب فلا حاجة لوجود الموضوع لعدم تقوم شئ به، وأما مع انكاره فلا فرق
بين الموجبة والسالبة في كون المحمول عرضيا والعرض متقوم بموضوع جوهري
بمقتضى عرضيته فيحتاج لوجود الموضوع على كل حال، وبناء على هذا
فالقضايا السالبة ترجع كلها لحمل العدم النعتي على الموضوع، فلا يمكن
الاستصحاب العدمي حينئذ، لان استصحاب العدم المحمولي لا يثبت العدم
النعتي والعدم النعتي ليست له حالة سابقة حتى يستصحب، ونقاش المبنى

(1) أجود التقريرات 1: 15 - 22.
96

والبناء يأتي في باب الاستصحاب.
الثاني: الموضوع في مقابل العرض: ذكر الحكماء في بيان العرض
والجوهر أن العرض ماهية لو وجدت كان وجودها في نفسها عين وجودها
لموضوعها، والجوهر ماهية لو وجدت وجدت لا في موضوع، فالجوهر في غنى
عن أعراضه وإن لم يكن في غنى عن جوهر آخر، فالمادة مع كونها جوهرا لا
تستغني في وجودها عن الصورة النوعية المحصلة لها.
الثالث: الموضوع بمعنى الأصل: ذكر أرباب العلوم أن لكل علم
أصولا موضوعة يعبر عنها بالمبادئ التصديقية، وهذه المبادئ لابد من ثبوتها
بالبداهة أو في علم آخر، وعلم الأصول له مبادئ تصديقية أيضا كالاذعان
بموضوعه وغايته ونحو ذلك.
الرابع: الموضوع بالمعنى اللغوي. وهو محور البحث والحديث في كل
كلام وعلم فلا يخلو عنه علم، وهذا هو المقصود في كلماتهم بلفظ الموضوع.
فالمعنى الأول غير مقصود لوجهين:
أ - عدم انحصار القضايا المستعملة في العلوم بالقضايا الحملية حتى
يفسر الموضوع بموضوع القضية بل قد تكون شرطية مؤلفة من مقدم وتالي.
ب - إن موضوع العلم لا يجب أن يقع موضوعا للمسائل المدونة بل قد
يكون محمولا فيها وقد لا يكون، فالمهم وجود المحور للبحوث فقط. فمثلا
موضوع الحكمة المتعالية هو الموجود بما هو موجود مع أنه قد يقع محمولا للقضية
كقولنا النفس موجود أم لا؟ وقد يقع موضوعا نحو الموجود واجب وممكن.
والمعنى الثاني غير مقصود أيضا لوجهين.
1 - عدم اطراده لسائر العلوم، فإن موضوع بعض العلوم خارج عن
الجوهرية والعرضية كموضوع الإلهيات بالمعنى الأعم، فإن موضوعه الوجود بما
هو وجود والوجود خارج عن الجوهرية والعرضية بل هو منشأ انتزاعهما بناءا على
97

أصالته.
2 - لو كان المقصود بالموضوع الجوهر المستغني في وجوده عن الاعراض
لكان المراد بالعوارض الذاتية هو الاعراض التسعة، إذ لا يوجد للجوهر
عوارض ذاتية تعرض له بلا واسطة الا المقولات التسع والمفاهيم الانتزاعية
الشاملة لذاتي باب البرهان والخارج المحمول والمفهوم التحليلي، مع أن كثيرا
من العوارض المبحوث عنها في العلوم عوارض اعتبارية كالأحكام الخمسة في
علم الفقه والحجية في علم الأصول وهي عوارض غريبة بالنسبة لمعروضاتها من
الصفات والافعال والجواهر والأدلة، وغرابة عروضها عليها باعتبار وجود
الواسطة الخفية لأنها تعرض في وعاء الاعتبار لموضوعها في ذلك الوعاء،
فعروضها على الموضوع الخارجي إنما هو بواسطة انطباق ما في الاعتبار عليه
وهي واسطة خفية في العروض، فالعارض حينئذ غريب لا ذاتي.
فلو فسرنا الموضوع هنا بالجوهر المعروض للاعراض التسعة وللمفاهيم
الانتزاعية لخرج البحث عن العوارض الاعتبارية عن موضوع العلم، لأنها
عوارض غريبة بالنسبة للجوهر لا عوارض ذاتية، مع أن العلوم الاعتبارية
كالفقه والأصول قائمة على البحث عن هذه العوارض الاعتبارية.
وأما المعنى الثالث للموضوع فعدم إرادته واضح لان مقدمة العلم
تنقسم لثلاثة أقسام:
1 - موضوع العلم.
2 - تعريفه.
3 - مبادئه التصورية والتصديقية.
ولو كان الموضوع للعلم هو عبارة عن مبادئه التصديقية لم يكن قسما ثالثا
في مقابلها وهو خلف، وبعد بطلان إرادة المعاني الثلاثة تعين المعنى الرابع،
وهو أن معنى الموضوع هو محور بحوث العلم سواءا كان جوهرا أم عرضا أم غير
98

ذلك.
المقدمة الثالثة: في بيان العوارض الذاتية:
المقصود بكلمة العوارض جمع عارضة كفواطم جمع فاطمة أخذا من
العروض بمعنى الإضافة، سواءا كان العارض من المقولات التسع في إضافتها
للجوهر، أم من المحمولات الانتزاعية كالامكان والوجوب المضافين للوجود،
أم من المحمولات الاعتبارية كالوجوب والحرمة المضافين للأفعال، أم من سنخ
الوجود لإضافته للماهية كما قالوا: " إن الوجود عارض الماهية تصورا "، أم من
سنخ الجوهر كإضافة الصورة النوعية الجوهرية للمادة، فالعروض مطلق
الإضافة بنحو الحمل أو التركيب الاتحادي أو الانضمامي.
وهذا هو المقصود في كلماتهم بالعوارض حتى في نظر من عبر بلفظ
الاعراض كالشيخ الرئيس في الإشارات (1) والنجاة (2)، إذ لو كان نظره لخصوص
المقولات التسع لم يكن موضوع العلم شاملا لسائر الموضوعات في سائر العلوم
كالعلوم الاعتبارية مثل علم النحو والفقه والأصول، والعلوم الحقيقية كعلم
الفلسفة.
وأما الذاتي فله أربعة معاني:
1 - ذاتي باب الايساغوجي: وهو النوع والجنس والفصل، وهو خارج
عن المقصود هنا، لان المراد في المقام بالذاتي هو المحمول المضاف بلا واسطة
جلية سواء أكان هذا المحمول من ذاتيات الموضوع أم من عرضياته، بينما ذاتي
باب الكليات الخمسة هو المحمول المقوم للذات مقابل العرضي اللاحق
للذات بعد تقومها بذاتها وذاتياتها، فبينهما عموم وخصوص مطلق.

(1) الإشارات 1: 91 - 93
(2) النجاة: 17 و 494.
99

2 - الخارج المحمول: وهو ما كان خارجا عن ذاتيات الموضوع لكنه
محمول عليه بلا واسطة نحو الانسان ممكن مقابل المحمول بالضميمة أي
بضميمة واسطة معينة، وهو شامل للواقعيات والاعتباريات.
3 - ذاتي باب البرهان: والمقصود به ما كان مأخودا في حد موضوعه أو
كل موضوعه أو أحد مقوماته مأخودا في حده، وبعبارة أخرى ما كانت الذات
كافية لانتزاعه بلا واسطة، فهو أعم مطلقا من ذاتي باب الايساغوجي، ومثاله
الانف أفطس.
لكنه غير مراد في المقام لاختصاصه بالأمور الواقعية كما يظهر من
تعريفه، فإن المأخوذ في الحدود لابد من كونه من الأمور الواقعية بينما تعريف
موضوع العلم شامل لسائر العلوم حتى الاعتبارية منها.
4 - المفهوم التحليلي: وهو المستبطن في ذات الموضوع كقولنا الولد يحتاج
لوالد والمعلول يحتاج للعلة، بخلاف قولنا الولد يحتاج لمكان فإن المحمول هنا
غير مستبطن في الموضوع لذلك يسمى مفهوما تركيبيا لا تحليليا، لكنه غير مراد
هنا، فإن الذاتي هنا شامل للمفاهيم التركيبية.
5 - باب الحمل والإضافة. وهو المعبر عنه في كلماتهم بالأولي، وتعريفه
أنه ما كان اسناده للموضوع إسنادا حقيقيا بنظر العرف، لان عروضه عليه بلا
واسطة جلية، وهو أعم مطلقا من ذاتي باب الايساغوجي وذاتي باب البرهان
والخارج المحمول والمفهوم التحليلي، وهو المقصود في محل كلامنا.
وبعد اتضاح المقدمات السابقة واتضاح أقسام الواسطة في العروض فيما
سبق نقول: بأن الميزان في الفرق بين العارض الذاتي والعارض الغريب هو
الواسطة الجلية في العروض لا غيرها، فمتى كان الاسناد بواسطة جلية في
العروض بحيث يعد تجوزا بنظر علماء البيان فالعارض غريب حينذاك ومتى
كان الاسناد بلا واسطة أو واسطة خفية أو أخفى فهو عارض ذاتي، ويقع
100

البحث عنه في العلوم، كما ذكر السبزواري في منظومته (1) وحاشيته على الاسفار (2).
المقدمة الرابعة: بحث الأصوليون بحثا مفصلا حول الدليل على وجود
موضوع لكل علم وعدمه، وطرحت ثلاثة أدلة على اعتبار الموضوع.
الأول: إن لكل علم غرضا واحدا يتحقق بمعرفة مسائله، والمسائل بما
هي كثيرة لا تؤثر في الواحد بما هو واحد، لان الواحد لا يصدر الا من واحد،
فلا محالة تكون وحدة الغرض كاشفة عن وحدة المؤثر فيه وهو موضوع العلم
الجامع بين مسائله، ويبتني على ذلك اعتبار وجود الموضوع في كل علم. وهذا
الاستدلال طرح في المحاضرات (3) وبعض حواشي الكفاية ونوقش مناقشات
عديدة لا يهمنا التعرض لها.
وإنما تعليقنا على ذلك أننا لم نجد أحدا من الفلاسفة والأصوليين استدل
على وجود الموضوع بكبرى لا يصدر الواحد من الكثير حتى نتجشم مناقشته
والاشكال عليه كما عرفت.
الثاني: الكبرى المطروحة في كلمات الفلاسفة " موضوع كل علم ما
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية " حيث استفاد منها بعض الأصوليين أنها تدل
على لزوم وجود موضوع لكل علم، وتعليقنا على ذلك أن هنا كبريين إحداهما
لزوم الموضوع لكل علم والأخرى تفسير ذلك الموضوع بأنه ما يبحث في العلم
عن عوارضه الذاتية، والثانية لا تثبت الأولى كما هو واضح والحديث إنما هو
عن الثانية بعد فرض تسليم الأولى.
الثالث: الملازمة العقلية بين فائدة العلم ووجود الموضوع، فإن العقل

(1) شرح المنظومة 1: 154.
(2) حاشية السبزواري على الاسفار: 1 / 32.
(3) محاضرات في أصول الفقه 1: 16.
101

النظري يدرك أنه لا يمكن حصول فائدة لأي كلام أو بحث أو علم في أي
مجال بدون محور ومركز يدور عليه الكلام والبحث والعلم، ولو كان هذا المحور
عبارة عما يؤدي لغاية العلم وهدفه فوجود الموضوع بمعنى محور البحوث
والمسائل ضروري لكل علم سواء أكان الموضوع واحدا أم متعددا، وهو
الصحيح، فلابد من وجود الموضوع والمحور لكل علم.
النقطة الثانية: في تفسير العبارة السابقة " موضوع كل علم ما يبحث فيه
عن عوارضه الذاتية "، وهنا تفسيران:
1 - أخص.
2 - أعم.
التفسير الأخص: ما قد يستفاد من عبارة الشيخ الرئيس في الإشارات (1)
والمحقق الطوسي في شرحه على الإشارات (2) والتفتازاني في أوائل شرح المقاصد (3)
وبعض المتأخرين في حاشيته على الاسفار (4)، من نظر هذا التعريف للعلوم
البرهانية التي تكون محمولاتها من الأمور الواقعية، إما لواقعية ما بحذائها
خارجا أو لواقعية منشأ انتزاعها، فلا ينطبق على العلوم الاعتبارية كالعلوم
الأدبية ولا على العلوم القانونية كعلم الفقه وإن كان لها موضوع محقق.
والنكتة في اختصاص التعريف بالعلوم البرهانية كالحكمة بأقسامها
الثلاثة المتعالية والطبيعية والرياضية: كون المراد بالعارض الذاتي هو ذاتي باب
البرهان الذي هو من الأمور الواقعية البرهانية فمن الطبيعي حينئذ اختصاص
التعريف بالعلوم البرهانية.

(1) الإشارات 1: 301.
(2) شرح الإشارات 1: 302 - 304.
(3) شرح المقاصد 1: 171.
(4) حاشية الطباطبائي على الاسفار: 1 / 32.
102

التفسير الأعم: وهو ما قد يستفاد من كلام القطب الرازي في شرح
المطالع (1) والملا إسماعيل في حاشيته على الشوارق نقلا عن بعض مشايخه
والسبزواري (2) في حاشيته على الاسفار، من كون التعريف المذكور شاملا لكل
علم حقيقي أو اعتباري، فإن الموضوع إذا أريد به ما كان محور البحث والكلام
فلا موجب لتخصيص العارض الذاتي حينئذ بذاتي باب البرهان بل يكون
منطبقا على كل عارض على ذلك المحور، سواء أكان العارض واقعيا أم اعتباريا
بشرط كونه عارضا بلا واسطة جلية في العروض، سواء أكان الموضوع واحدا
أم متعددا.
وبذلك يتبين لنا وجه تقديم التفسير الثاني على الأول، وهو شموليته
لسائر العلوم والفنون مع عدم الموجب لتخصيص العارض الذاتي بذاتي باب
البرهان بعد كون المراد بالموضوع مطلق محور الكلام والبحث سواءا كان واحدا
أم متعددا.
النقطة الثالثة: في دفع المناقشات الواردة على الكبرى المذكورة " موضوع
كل علم... " بالتفسير المختار لها.
المناقشة الأولى: ما ذكره الأستاذ السيد الخوئي (قده) في تعليقة أجود
التقريرات، وحاصله: أن مقتضى الكبرى المذكورة وحدة موضوع العلم (3)، وهو
أمر لا واقعية له، فإن موضوع بعض العلوم متعدد لا واحد، فعلم النحو مثلا
موضوعه الكلمة والكلام حيث أن هناك أحوالا للكلمة كإعراب المضارع
وأحوالا للكلام ككون الجملة حالية أو وصفية، ولكن الملاحظ على هذا

(1) شرح المطالع: 18 - 20.
(2) حاشية السبزواري على الاسفار: 1 / 32 - 33
(3) أجود التقريرات 1: 3.
103

المناقشة أمران:
الأول: إن العبارة المذكورة بصدد تعريف موضوع العلم بعد الفراغ عن
كبرى وجود الموضوع سواءا كان واحدا أم متعددا، فلا تكون هذه الكبرى
متعرضة للكبرى الأخرى أصلا حتى تفيد وحدة موضوع العلم، بل بيان لمعنى
الموضوع سواء أكان واحدا أم كثيرا.
الثاني: إن الفلاسفة الذين طرحوا هذا التفسير لموضوع العلم لم يعتبروا
الوحدة فيه، بل لا مانع عندهم من كونه متعددا إذا كانت هناك جهة تناسب
بين الموضوعات المتعددة حتى يصح اعتبار العلم علما واحدا، والا كان تعدد
الموضوع بلا جهة جامعة موجبا لتعدد العلم كما ذكر الشيخ الرئيس في
الإشارات (1)، وذكره الطوسي أيضا في حاشيته عليه (2)، ومثل له بعلم الطب فإن
موضوعه متعدد وهو بدن الانسان وأجزاؤه وأحواله والأدوية والأغذية ولولا جهة
التناسب بينها لكان العلم بتعددها متعددا. كما أن وحدة جهة التناسب لا
تستلزم وحدة الموضوع بمعنى المحور، لان الموضوع هو نفس الكثرات بدون
مدخلية تناسبها في الموضوعية.
المناقشة الثانية: ما في تعليقة أجود التقريرات أيضا، وحاصلها: أن
العارض الذاتي وهو الخالي عن واسطة في العروض لا يطرد لسائر العلوم، فإن
عوارض بعض العلوم مع واسطة في العروض لا بدونها فمثلا في علم النحو لو
قيل الكلمة - على نحو القضية المهملة - مرفوعة فإن الرفع من عوارض الكلمة
بواسطة كونها مبتدأ أو فاعلا، ومع وجود الواسطة في العروض فقد عد الرفع
والنصب من الحالات الاعرابية المبحوث عنها في علم النحو مما يدل على عدم

(1) الإشارات 1: 298.
(2) شرح الإشارات 1: 298.
104

اشتراط كون العوارض ذاتية بل يصح جعلها من مسائل العلم ولو كانت
غريبة.
والذي نلاحظه على هذه المناقشة هو: أن العارض الذاتي المقصود في
التعريف ما كان بلا واسطة جلية في العروض لا ما كان بلا واسطة أصلا، فلا
يرد عليه النقض بعروض الرفع للكلمة بواسطة الابتداء أو الفاعلية لأنها واسطة
خفية لعدم التمايز الحسي بين نفس الكلمة وفاعليتها، ومع خفاء الواسطة
فالاسناد حقيقي بنظر العرف والعرض ذاتي لا غريب.
المناقشة الثالثة: ما طرحه بعض الأعاظم (قده) (1) ومحصله: إن كثيرا
من العلوم تتعلق بحوثها بأمور انتزاعية كالبحث في الحكمة عن الامكان
والوجوب والامتناع أو بأمور اعتبارية كالبحث عن الأحكام الخمسة في علم
الفقه، فلا وجه لتخصيص تعريف موضوع العلم بالبحث عن الاعراض
التسعة.
ولكن الحق عدم ورود هذه المناقشة على كلا تفسيري عنوان العوارض
الذاتية، فإننا إذا اخترنا تفسير العوارض الذاتية بذاتي باب البرهان شمل
التعريف حينئذ البحث عن الاعراض المقولية المتأصلة والمحمولات الانتزاعية
أيضا، وإذا اخترنا تفسير الذاتي هنا بالعارض بلا واسطة جلية في العروض
فشموله للمقولات التسع والانتزاعيات والاعتباريات أوضح، وتفسير
العوارض الذاتية بالاعراض التسعة بلا وجه ولا قرينة على التفسير المذكور بعد
وصفها بالذاتية.
المناقشة الرابعة: ما في تهذيب الأصول (2) أيضا، ومحصلها: إن نسبة

(1) أجود التقريرات 1: 6.
(2) تهذيب الأصول 1: 7.
105

موضوعات المسائل في بعض العلوم لموضوع العلم نفسه نسبة الجزء للكل،
وعوارض الجزء عوارض الكل مع الواسطة الجلية في العروض بحيث يكون
الاسناد مجازيا لا حقيقيا بنظر العرف، فمثلا موضوع علم الجغرافيا هو الأرض
بينما يتم البحث في بعض مسائله عن أحوال أرض معينة، وكذلك موضوع علم
الهيئة مثلا الجرم السماوي في العالم العلوي مع أنه قد يبحث في أحوال جرم
خاص فيها، وذلك كاشف عن عدم اختصاص العوارض المبحوث عنها في
العلوم بالعوارض بلا واسطة جلية في العروض بل المبحوث عنه مطلق
العوارض (1).
ويرد على المناقشة المذكورة: أن الظاهر من المنقول عن أرباب هذه
العلوم كون موضوعها متعددا لا واحدا، ففي دائرة المعارف لفريد وجدي:
" الجغرافيا علم الغرض منه وصف الأرض ودرس الحوادث التي تحدث على
سطحها وتقسيماتها المتفق عليها " (2).
وذكر في كشف الظنون: " الجغرافيا كلمة يونانية بمعنى صورة الأرض (3)،
قال الشيخ داود: " إنه علم بأحوال الأرض من حيث تقسيمها إلى الأقاليم
والجبال والأنهار وما يختلف حال السكان باختلافه " (4). وظاهر هذه الكلمات أن
موضوع الجغرافيا متعدد لا واحد يكون بمثابة الكل وباقي موضوعات المسائل
أجزاؤه.
وقال في دائرة المعارف: " علم الهيئة يعرف به أحوال الأجرام البسيطة
والعلوية، وموضوعه الأجسام المذكورة " (5). وظاهره أن موضوعه الأجسام على

(1) تهذيب 1: 7.
(2) دائرة المعارف 3: 119.
(3) و (4) كشف الظنون 1: 590.
(5) دائرة المعارف 6: 628.
106

نحو العام الاستغراقي لا العام المجموعي، فالموضوع حينئذ متعدد لا واحد،
وعلى فرض وحدته فنسبة موضوعات المسائل له نسبة الجزئي للكلي لا نسبة
الجز للكل.
المناقشة الخامسة: ما في التهذيب (1) أيضا، وحاصلها: أن ظاهر العبارة
المشهورة: " موضوع كل علم ما يبحث فيه... " وجود الموضوع لكل علم مع
أن كثيرا من البحوث في مختلف العلوم تكون مسائلها من قبيل السالبة
المحصلة التي لا تحتاج للموضوع أصلا، كالبحث في علم الأصول عن عدم
حجية القياس والشهرة الفتوائية والاجماع المنقول ونحو ذلك، فلا وجه حينئذ
لاشتراط وجود الموضوع لكل علم (2).
ولكن هذه المناقشة غير واردة لوجهين:
أولا: قد سبق أن العبارة المذكورة بصدد تفسير موضوع العلم بعد
الفراغ عن أصل وجوده فلا ظهور فيها لاشتراط وجود الموضوع وعدمه.
ثانيا: إن أريد بكلمة الموضوع موضوع المسألة في مقابل محمولها فلابد
منه حتى في القضايا السالبة المحصلة، وإنما المنفي حاجة السالبة المحصلة
لوجود المحكي عنه في وعائه الخاص لا حاجتها للموضوع في مقام التقرر
اللفظي والذهني فإنه من المستحيل عدمه، والا لما صارت القضية قضية، وإن
أريد به الموضوع بمعنى محور الكلام ومركزه فلابد منه عقلا في كل بحث
ومسائله سواءا كان محمولها إيجابا أم سلبا.
المناقشة السادسة: ما في تعليقة أجود التقريرات، وحاصلها. إنه لا وجه
لتخصيص العوارض المبحوث عنها في العلوم بالعوارض الذاتية ولا مانع من

(1) تهذيب الأصول للامام الخميني 1: 8 - 9.
(2) تهذيب الأصول للامام الخميني 1: 8 - 9.
107

شمول البحث للعوارض الغريبة أصلا، فإن المدار في تعيين العارض المبحوث
عنه على الغرض من العلم، فإذا كان حصول الغرض يتوقف على البحث عن
العارض الذاتي فيصح البحث عنه وإذا كان يتوقف على البحث عن العارض
الغريب صح البحث عنه أيضا، ولا موجب عقلا للتخصيص بالعارض
الذاتي (1).
ويمكن الملاحظة على هذه المناقشة بوجهين:
1 - إن عدم توسعة العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة لعدم
وجود الداعي والحاجة للبحث عنها، فإن البحث عنها مع عدم الحاجة لغو لا
يليق بصناعة التصنيف والتدوين، وذلك لان العارض الذي يتوقف حصول
الغرض على البحث عنه إذا كان غريبا بالنسبة لموضوع العلم أو موضوع المسألة
فهو ليس غريبا عن الواسطة في العروض بل يكون ذاتيا لها والا لم تكن واسطة
في عروضه، وإذا كان ذاتيا للواسطة فالمناسب لفن التدوين جعل الواسطة
نفسها موضوعا للمسألة لا جعل ذي الواسطة هو الموضوع فإنه لا حاجة له
أصلا، وحينئذ فلا تعم العوارض المبحوث عنها للعوارض الغريبة.
2 - إن جعل الواسطة في العروض موضوعا للمسألة أو العلم دون جعل
ذي الواسطة قد يستلزم تعدد الموضوع، لاختلاف وسائط العروض في كل
مسألة أحيانا، أو كون العارض ذاتيا لموضوع المسألة غريبا بالنسبة لموضوع
العلم، أو يكون عارض غريبا لموضوع مسألة ذاتيا لموضوع مسألته، وتعدد
موضوع العلم لا مانع منه في نظر السيد (قده) بل في نظر الفلاسفة إذا كانت
هناك جهة تناسب بين الموضوعات كما سبق بيانه.

(1) أجود التقريرات 1: 6.
108

المبحث التاسع
تمايز العلوم
ما هو المعيار في تمايز العلوم بعضها عن بعض، وما ملاك وحدة المسائل
المختلفة بحيث تصير علما واحدا، وما هو ملاك كثرتها بحيث تصير علوما
متعددة؟ وتطرح هنا خمس نظريات:
النظرية الأولى: ما ذهب له قدماء الفلاسفة من كون المعيار في الوحدة
والكثرة والتمايز هو الموضوع، فالمسائل المتحدة موضوعا علم واحد والمختلفة
موضوعا علوم متمايزة.
النظرية الثانية: ما ذهب له صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني من
كون معيار التمايز بالغرض، فالغرض جامع للمسائل المختلفة بوحدته في علم
واحد، وتعدده يعني تعدد العلم ولو اتحدت المسائل موضوعا ومحمولا (1).
النظرية الثالثة: ما طرحه بعض الأعاظم (قده) تبعا لبعض
الفلاسفة، من كون ملاك الوحدة والكثرة التسانخ الذاتي بين المسائل، فوجود
التسانخ الذاتي يجمع المسائل في علم واحد وعدمه يوجب تعدد العلم (2). وبناءا
على هذه النظريات الثلاث تكون وحدة العلم وحدة واقعية باعتبار كون الجهة
الجامعة بين المسائل جهة واقعية وهي الموضوع والغرض والتسانخ الذاتي، بينما

(1) الكفاية: 8، بحوث في علم الأصول للمحقق الأصفهاني: 19.
(2) تهذيب الأصول 1: 9.
109

على ضوء النظريتين الرابعة والخامسة تكون وحدة العلم اعتبارية لا واقعية.
النظرية الرابعة: ما طرحه الأستاذ السيد الخوئي (قده) في تعليقة أجود
التقريرات، من كون الميزان في وحدة العلم وكثرته مختلف حسب اختلاف
غرض التدوين للعلم، فإذا كان الغرض من تدوين العلم هو البحث عن
حقائق الموجودات مثلا كما في علم الحكمة فالمعيار حينئذ هو الموضوع، وإذا كان
الغرض منه البحث عن بعض المحمولات كالحركة مثلا في أي موضوع كان
سواء أكانت أينا أم كيفا أم جوهرا فالميزان بالمحمول، وإذا كان الغرض من
البحث متعلقا بما يوصل لغاية معينة وهدف معين فالمعيار حينئذ بالغرض كعلم
المنطق الموصل لعدم الخطأ في الفكر، فلا يصح جعل ميزان واحد للتمايز
والاجتماع (1).
النظرية الخامسة: وهي الصحيحة عندنا، وبيانها في جانبين:
1 - الصحيح عندنا أن وحدة العلم وكثرته بالاعتبار والوضع لا أن
الوحدة والكثرة أمران واقعيان، وذلك لوجود الفرق الكبير بين الامر الواقعي
والامر الاعتباري فإن الواقعي شئ ثابت سواءا علم به الانسان أم لا ولا يتغير
بتغير الأنظار والاتجاهات بخلاف الامر الاعتباري فإن واقعيته باعتبار المعتبر،
ولذلك يختلف باختلاف الأنظار والآراء. ومن هنا نرى أن العلم الواحد قد
يتحول لعلوم متعددة كعلم الطب مثلا وعلم الهندسة، أو تجتمع العلوم
المتعددة في علم واحد كعلم المعرفة وعلم الوجود في الحكمة المتعالية، مما يرشدنا
لدوران وحدة العلم وكثرته مدار الاعتبار لا أنها أمر واقعي لا يتخلف ولا
يختلف.
2 - الوحدة الاعتبارية وإن كانت خاضعة لاعتبار المعتبر ولكنها لا تكون

(1) أجود التقريرات 1: 7.
110

موضعا لترتيب الآثار العقلائية الا مع وجود المصحح المنسجم مع المصالح
العقلائية والمنبعث عن تمام الجهات الدخيلة في تشكيل هذه الوحدة، فمثلا لو
أراد الجهاز الإداري في بلد ما اعتبار منطقة من المناطق مدينة مستقلة في شؤونها
البلدية والإقليمية فلابد في تشكيل هذه الوحدة من ملاحظة تمام الجهات
الدخيلة في ذلك، كحدود المنطقة، ومقدار بعدها عن المناطق الأخرى، وعدد
السكان في بلوغه النصاب الكافي للاستقلال وعدمه، وإمكانية التعايش مع
سكان المناطق الأخرى وعدمه، وتوحد اللغة السائدة وكثرتها، فلا يكتفي في
مقام اعتبار الوحدة بوجود جهة واحدة بل لابد من ملاحظة تمام الجهات
الدخيلة ليكون الاعتبار منسجما مع المصالح العقلائية وموضعا لترتيب الآثار
عليه.
وهذا هو المراعى في وحدة العلم أيضا، فالمصنف والمدون لعلم معين
لابد له في تشكيل الوحدة من ملاحظة تمام الجهات الدخيلة في ذلك كوحدة
الهدف، أو وجود التسانخ الذاتي في الموضوع أو المحمول بين مسائل العلم، أو
ملاحظة الفترة الزمنية لاستيعاب العلم أيضا، فإن هذه جهة مهمة فإن أقصى
مدة لدراسة أي علم تستغرق لا محالة ثلث عمر الانسان الاعتيادي بحيث
يمكنه الانتفاع به وإبراز آثاره في المجتمع العقلائي وإلا فالعلم المستغرق
لعمر الانسان في دراسته لا يعد عند العقلاء علما واحدا، فمثلا علم الطب
كان يكتفى في دراسته قديما بكتاب القانون لابن سينا ويصبح الانسان بعد
ذلك طبيبا، ولكن لما اتسعت جهاته بحيث لا يمكن للشخص العبقري
التخصص في أكثر من ثلاثة فروع حسب العمر الاعتيادي للانسان أصبح
علوما متعددة وتخصصات مختلفة، وإن كان بين هذه العلوم تسانخ في الموضوع
أو المحمول.
وكذلك علم الهندسة حيث كان تابعا فيما سبق لعلم الحساب وأصبح
111

بعد ذلك علوما مختلفة، كالهندسة المعمارية والبترولية والمدنية والكهربائية
والصوتية. فالنتيجة أن المعيار في وحدة العلم وكثرته الاعتبار الخاضع لرؤية تمام
المصالح والجهات الدخيلة في التدوين والتصنيف، لا خصوص جهة معينة
كالموضوع والمحمول والهدف أو اختلاف ذلك باختلاف الاغراض.
هذا تمام الكلام حول النظرية الخامسة.
وأما النظرية الأولى وهي جعل معيار الوحدة والكثرة في وحدة الموضوع
وكثرته فيلاحظ عليها أمران:
1 - إن القائلين بهذه النظرية فسروا العارض الذاتي في تعريف موضوع
العلم بذاتي باب البرهان، وبما أنه من الأمور الواقعية البرهانية فلا محالة يختص
التعريف بالعلوم البرهانية وهي الحكمة بأقسامها، ومن المعلوم الواضح أن
المعارف الحكمية متحدة باتحاد موضوعها لذلك صرح هؤلاء بأن وحدة العلم
بوحدة موضوعه نظرا لواقع العلوم البرهانية، بينما على المختار من تفسير
العارض الذاتي بما يعرض بلا واسطة جلية لا يختص التعريف بالعلوم البرهانية
المتحدة باتحاد موضوعها بل يشمل سائر العلوم المتحدة بالاعتبار الخاضع
للمصالح العامة، فلا موجب حينئذ لجعل معيار الوحدة هو الموضوع فقط.
2 - قلنا فيما سبق إن من الجهات الدخيلة في توحيد العلم عدم استغراق
دراسته لما يزيد على ثلث عمر الانسان الاعتيادي، وحينئذ فالوحدة بوحدة
الموضوع غي كافية لاعتبار وحدة العلم ما لم يضم لها سائر الجهات الدخيلة في
ذلك.
وأما النظرية الثانية وهي كون معيار الوحدة والكثرة بالتسانخ الذاتي بين
المسائل فيلاحظ عليها أمران:
أ - إن التسانخ كلي مشكك، فهل المراد منه التسانخ الجنسي أم النوعي
أم الصنفي؟
112

فمع عدم تحديد ضابط في ذلك لا يمكن جعل المسائل المتسانخة ولو في
جنس بعيد علما واحدا، فإنه مستهجن عند العقلاء.
2 - إن مجرد التسانخ لا يكفي في الوحدة الاعتبارية كما سبق ما لم يضم
له اعتبار عدم زيادة فترة دراسة العلم لما يزيد على ثلث عمر الانسان الاعتيادي
وأشباهه.
وأما النظرية الثالثة القائلة بأن وحدة العلم وكثرته بوحدة الغاية وتعددها
فيلاحظ عليها ما ذكرناه سابقا، وهو أن وحدة الغرض والغاية كلي مشكك
يصدق على الاتحاد الجنسي أو النوعي أو الصنفي، نظير ما يقال بأن الغرض
من علم الطب هو الصحة مع تفاوت الافراد في ذلك، مضافا لعدم كفاية وحدة
الغرض في وحدة العلم ما لم يراعى فترة استيعاب العلم ودراسته ونحوها.
وأما النظرية الرابعة القائلة بأن معيار الوحدة مختلف باختلاف الموارد في
غرض البحث ففيه ما سبق أيضا، من كون وحدة الموضوع أو المحمول أو
الغاية كليا مشككا فلا يمكن جعله معيارا للوحدة مع تفاوت مصاديقه وأفراده
تفاوتا كبيرا، مضافا لعدم كفاية تلك المعايير بدون لحاظ فترة استيعاب العلم
ودراسته.
فالصحيح. هو ملاحظة جميع ما هو دخيل في الوحدة الاعتبارية المعتبرة
في المجتمع العقلائي لا كفاية واحد منها الذي يختلف تعيينه باختلاف الموارد.
وبعبارة أدق: إن المدار في الوحدة والكثرة الاعتباريتين الصالحتين
لترتيب الآثار في المجتمع العقلائي على الاعتبار الناشئ عن مراعاة المصالح
العقلائية والجهات الدخيلة في ذلك، سواء أكانت جميع الأمور المذكورة أو
بعضها، وليس المدار على الغرض الشخصي للمدون والباحث في تعلقه تارة
بالموضوع وأخرى بالمحمول وثالثة بالغاية والهدف كما ذكر الأستاذ السيد الخوئي
(قده)، ولا على الموضوع وحده أو المحمول وحده أو الغاية وحدها أو التسانخ
113

الذاتي وحده، فإن كل هذه الأمور لا تكفي في بعض الموارد لتشكيل الوحدة
الاعتبارية بحيث تكون في نظر العقلاء موضعا لترتيب الآثار العامة ما لم يلاحظ
معها جهات أخرى لها مساس بذلك.
114

المبحث العاشر
موضوع علم الأصول
بحث الأصوليون حول تحديد موضوع علم الأصول وكونه واحدا أم
متعددا وعلاقته بموضوعات مسائله. وهذا البحث مهم جدا، لأنه يتبين به
المعيار في أصولية المسألة، فإن الفارق الجذري بين المسألة الأصولية وغيرها من
المسائل المساهمة في عملية الاستنباط يتوقف معرفته على معرفة موضوع علم
الأصول.
وهنا مسالك أربعة:
الأول: ما طرحه صاحب الكفاية بقوله: " موضوع علم الأصول وهو
الكلي المنطبق على موضوعات مسائله انطباق الكلي على أفراده " (1).
وبيانه: أن موضوع علم الأصول ليس هو الأدلة الأربعة لا بما هي هي
ولا بما هي أدلة كما وقع البحث في ذلك عند القدماء، بل هو جامع واقعي واحد
منطبق على مسائله انطباق الكلي على أفراده، وكون هذا الجامع الذاتي مجهول
العنوان لا ضير فيه، فإن العنونة لا مدخلية لها في موضوعية الموضوع أصلا.
ونورد هنا ملاحظتين:
الأولى: إذا كان مقصود صاحب الكفاية تعريف موضوع علم الأصول
وبيان خصائصه الدخيلة في موضوعيته فيلاحظ عليه: أن غاية ما يدركه العقل
النظري ضرورة وجود موضوع بمعنى المحور والمركز لأبحاث العلم كما مر

(1) الكفاية: 8.
115

سابقا الحديث فيه، ومن الواضح أنه لا مدخلية للوحدة ولا للكثرة ولا
للجامعية الذاتية ولا للجامعية العرضية في المحورية والمركزية كما لا دخالة
للعنوان في ذلك كما صرح به صاحب الكفاية نفسه.
فلا وجه حينئذ لاعتبار كون موضوع علم الأصول واحدا وجامعا ذاتيا
بين موضوعات مسائله. وإذا كان مقصوده الإشارة إلى أن موضوع علم
الأصول متصف بهذه الصفات من الوحدة والجامعية الذاتية وإن لم تكن هذه
الصفات دخيلة في موضوعيته فيرد عليه كلمات المسالك الثلاثة الآتية.
الثانية: إن الجمع بين كون محور أبحاث الأصول وموضوعها جامعا ذاتيا
لموضوعات المسائل وبين وجود موضوع لكل مسألة باستقلالها لا وجه له،
وذلك لان مركز البحوث الأصولية إذا كان هو الكلي الجامع بين موضوعات
المسائل فلا خصوصية في موضوع المسألة في جهة المحورية بل المفروض إلغاؤه،
مع أننا نرى أن صناعة تصنيف العلوم ومنها علم الأصول قائمة على جعل
موضوع ومحمول لكل مسألة، مما يكشف عن عدم كون الموضوع والمحور
للأبحاث العلمية جامعا ذاتيا بين موضوعات المسائل.
المسلك الثاني: ما طرحه المحقق الأصفهاني في كتابه الأصول على النهج
الحديث، من كون موضوع علم الأصول عبارة عن أمور متكثرة بالذات متحدة
بالعرض بلحاظ إضافتها للغاية والغرض (1)، وبيان ذلك في ثلاثة أمور:
أ - إن موضوع علم الأصول عبارة عن موضوعات متعددة بالذات،
فمثلا موضوع البحث في الأوامر نفس الصيغة والمحمول هو الظهور في
الوجوب التعييني العيني، بينما الموضوع في بحث حجية الظواهر نفس الظهور
والمحمول هو الحجية، والموضوع في بحث مقدمة الواجب الملازمة الشرعية بين

(1) بحوث في علم الأصول للمحقق الأصفهاني: 21.
116

الوجوبيين ومحمولها الوجود على نحو الهلية البسيطة، والموضوع في بحث خبر
الواحد الحكاية عن السنة والمحمول هو الحجية، والموضوع في بحث
الاستصحاب نفس اليقين السابق مع الشك اللاحق والمحمول هو إثبات
البقاء به تعبدا، ومن الواضح وجود التباين الذاتي بين هذه الموضوعات فهي
متعددة لا واحدة بالذات.
ب - إن التباين الذاتي بين هذه الموضوعات لا يمنع وجود جامع عرضي
بينها، فعلى القول بلزوم وجود جامع بين موضوعات المسائل يكفي وجود هذا
الجامع العرضي بينها.
ج - إن الجامع العرضي المتصور في المقام هو حيثية الإضافة للغرض،
فإن الغرض من علم الأصول إقامة الحجة على حكم عمل الانسان، فالجامع
حينئذ بين الموضوعات هو إيصالها لإقامة الحجة على حكم العمل، وهو جامع
عرضي يصلح لان يكون موضوعا لعلم الأصول.
وهنا عدة ملاحظات تتجه على هذا المسلك.
الأولى: إنه مبني على تفسير الموضوع في قولهم " موضوع كل علم ما
يبحث فيه عن عوارضه الذاتية " بموضوع القضية مقابل المحمول، لذلك
استدل على تعدد موضوعات علم الأصول بعدم وجود جامع بين موضوعات
المسائل، مع أن الصحيح في تفسير الموضوع هو ما كان محور الكلام والبحث
سواءا كان موضوعا في المسائل أم محمولا أم كان هو حيثية الإضافة للغرض
والغاية، وبناءا على هذا فعدم اتحاد موضوعات المسائل بالذات لا يدل على
تعدد موضوع علم الأصول بمعنى المحور للبحث.
الثانية: إن الذهاب لتعدد موضوع علم الأصول بالذات ووحدته
بالعرض فرع عدم تصور موضوع واحد بالذات جامع بين محاور البحوث في
علم الأصول، وسيأتي تصويره في المسلك الرابع فلا حاجة لهذا المسلك حينئذ.
117

الثالثة: إذا كان موضوع علم الأصول مطلق القواعد الموصلة لإقامة
الحجة على حكم العمل فلازمه دخول ما ليس من المسائل الأصولية في علم
الأصول، لمشاركة بعض العلوم الأدبية في تشخيص أصل الظهور الموصل
لإقامة الحجة على حكم العمل، ومساهمة البحوث الرجالية في ذلك أيضا، فلا
يكون التعريف مانعا.
الرابعة: ذكر المحقق الأصفهاني نفسه في بعض كلماته خروج مباحث
البراءة والاشتغال عن حريم المسألة الأصولية ودخولها في خاتمة علم الأصول،
مع أن عليها مدار البحث الأصولي وركائز الاستنباط في الفروع (1).
والسر في إخراجها أمران:
أ - إن المسألة الأصولية هي ما كانت نتيجتها تحقق الحجة على حكم
العمل، والمراد بالحجة البيان الكاشف عن حكم الشارع، ومن المعلوم أن
الأصول العملية لا كاشفية لها عن الحكم الشرعي فلا تسمى بحجة ولا يكون
البحث فيها أصوليا.
ولكن الملاحظ على هذا التعليل أن الحجية عرفا واصطلاحا هي المنجزية
والمعذرية فالحجة ما كان مفيدا لهما، ومن الواضح صحة إطلاق الحجة بهذا
المعنى على الأصول العملية، حيث أن مفاد البراءة المعذرية عن الحكم
المجهول، ومفاد الاشتغال مثلا منجزية الواقع، ومفاد التخيير منجزية أحد
الاحتمالين أو المحتملين، وليست الحجة خصوص البيان الكاشف عن المراد
الشرعي فإنه بلا مخصص، بل هي كل ما يحتج به من المولى على العبد
وبالعكس.
ب - ما ذكره في الأصول على النهج الحديث من كون أصل البراءة

(1) بحوث في علم الأصول للمحقق الأصفهاني: 22.
118

الشرعية حكما شرعيا بنفسه لا أنه دليل يستنبط منه الحكم (1)، وذلك لان مفاد
حديث الرفع وأمثاله جعل الشارع لعدم الحكم والإباحة في موارد احتمال
التكليف الغير المنجز، فإذا كان مفاد أدلة البراءة حكما شرعيا لم تكن البراءة
حجة موصلة لحكم العمل، بل هي نفسها حكم كلي يقوم الفقيه بتطبيقه على
الموارد الجزئية كبقية القواعد الفقهية، كقاعدة اليد والتجاوز والفراغ ولا ضرر
التي تكون علاقتها بالحكم الجزئي علاقة الانطباق لا علاقة التوسيط الاثباتي
كالقواعد الأصولية.
وتعليقنا على هذه النظرة أن المستفاد من أدلة البراءة الشرعية كما سيأتي
في محله عدم تنجز احتمال التكليف وتنزيل وجود التكليف واقعا بمنزلة عدمه،
لا أن مفادها إنشاء رفع الحكم أو جعل الترخيص وإطلاق العنان حتى يكون
مؤداها حكما شرعيا، والا لكان عدم كل من الأحكام الخمسة حكما شرعيا
أيضا فتصبح الاحكام عشرة لا خمسة ولا قائل بذلك، فإذا لم تكن البراءة
الشرعية حكما شرعيا فإعمالها في مورد احتمال التكليف واسطة لاثبات المعذرية
عن التكليف المحتمل، وهذا بنفسه كاف لعدها من لب المسائل الأصولية.
فإن قلت: إذا كان مفاد البراءة الشرعية عدم تنجز احتمال التكليف فهو
متحد مع مفاد البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان، فلا فائدة في البحث
عنها والغور في أدلتها، للاستغناء عنها بحكم العقل العملي بأن العقاب بلا
بيان ظلم قبيح.
قلت: هناك فرق واضح بين مفادي البراءتين بحيث لا يستغنى
بالبحث في البراءة العقلية عنه في البراءة الشرعية وبالعكس، لان البراءة
الشرعية أقوى ضمانا و أشد تأمينا للمكلف من العقوبة المحتملة عند احتمال
التكليف من البراءة العقلية، وذلك لوجهين:

(1) بحوث في علم الأصول للمحقق الأصفهاني: 22.
119

أ - إن مفاد البراءة العقلية قبح العقاب بلا بيان ومفاد البراءة الشرعية
بيان عدم العقوبة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رفع عن أمتي ما لا
يعلمون " (1)، ومن الواضح أن قبح العقاب مع البيان على عدمه أشد من قبحه
مع عدم البيان.
ب - إن حيثية الامتنان في البراءة الشرعية أظهر منها في البراءة العقلية،
لحصول الامتنان في الشرعية من وجهين:
1 - رفع تنجز احتمال التكليف.
2 - ورود هذا على لسان الشارع نفسه الذي بيده التكليف والعقوبة.
كما أن البحث في البراءة الشرعية لا يلغي الكلام في البراءة العقلية لعدم
جريان الشرعية في بعض الموارد مع جريان العقلية فيها وبالعكس، كما في مورد
دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين لشبهة الغرض أو الأصل المثبت على
بعض المباني، كما أن هناك من أنكر البراءة العقلية مطلقا عند احتمال التكاليف
الشرعية مع قوله بجريان البراءة الشرعية فيها، فالبحث في إحدى البراءتين لا
يلغي البحث في الأخرى.
المسلك الثالث: ما يستفاد من كلام المحقق النائيني والأستاذ السيد
الخوئي (قده)، من كون موضوع علم الأصول هو القانون الممهد لاستنباط
الحكم الشرعي بدون ضم قانون اخر (2)، وبيان ذلك في ثلاث نقاط:
أ - إن العبارة المشهورة " موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه
الذاتية " تدل على وجود موضوع واحد بالوحدة الحقيقية لكل علم، مع أنه لا
دليل من عقل أو اعتبار عقلائي على لزوم وجود أصل الموضوع فضلا عن
وحدته بالوحدة الحقيقية، فلا موضوع لعلم الأصول فضلا عن كونه واحدا

(1) الوسائل 15: 369 / 20769.
(2) أجود التقريرات 1: 3، محاضرات في أصول الفقه 1: 80.
120

بالذات ولا ضرورة للبحث عن ذلك.
ب - إنهم ذكروا أن الضابط الفاصل بين المسألة الأصولية وغيرها هو
استغناؤها عن ضم قانون آخر لها في عملية الاستنباط وإن اختلف تعبير
العلمين في ذلك، حيث قال النائيني (قده) أصولية المسألة بوقوعها كبرى في
دليل الاستنباط التي لو انضمت لها صغراها لأفادت الحكم الشرعي الكلي (1)،
وذلك لاخراج القاعدة الرجالية فإنها قانون مساهم في استنباط الحكم
الشرعي، ولكنها لا تقع كبرى في الاستنباط بل هي محققة لصغرى دليل
الاستنباط وقي حجية الخبر.
بينما الأستاذ السيد الخوئي قال: " المسألة الأصولية ما كانت كافية في
استنباط الحكم بدون ضم قانون أصولي آخر لا صغرويا ولا كبرويا " (2)، وذلك
كاف في إخراج القاعدة الرجالية لأنها لا يكتفى بها في الاستنباط بدون قانون
أصولي، سواءا وقع كبرى الدليل أم صغراه، فلا حاجة لقيد الكبروية. ومن
هذا الضابط الفاصل بين المسألة الأصولية وغيرها نتصيد موضوع علم الأصول
ومحور بحوثه، وهو القانون الممهد لاستنباط الحكم الشرعي بدون ضم قانون
آخر له وإن لم يصرح العلمان بذلك بل قالا بعدم وجود الموضوع.
ج - إن هذا المسلك متحد مع ما قبله في القول بعدم وجود موضوع واحد
بالذات لعلم الأصول، حيث نفاه المسلك الأول بامتناع الموضوع الواحد
بالحقيقة الجامع للموضوعات المتباينة بالذات وهي موضوعات المسائل، ونفاه
المسلك الثاني بعدم الدليل العقلي والعقلائي على ضرورة وجود الموضوع لكل
علم فضلا عن وحدته بالحقيقة، ومن ذلك علم الأصول.
وأيضا المسلكان متحدان في وجود الجامع العرضي، وهو حيثية الإضافة

(1) أجود التقريرات 1: 3.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 8.
121

للغرض من العلم التي عبر عنها المسلك الأول بإقامة الحجة على حكم العمل،
وعي عنها الثاني باستنباط الحكم الشرعي الكلي. بل هما متحدان أيضا في
حقيقة هذا الغرض نفسه، حيث أن إقامة الحجة على حكم العمل هي عملية
استنباط الحكم الشرعي، والمراد بمفهوم الاستنباط في كلمات الأستاذ السيد
الخوئي (قده) ما يشمل إثبات المنجزية والمعذرية تجاه الحكم الواقعي كما في
الأصول العملية وإن لم تكن نتيجته تحديد الحكم الشرعي كما في الأدلة
الاجتهادية.
نعم يختلف المسلكان في قيد الاستغناء عن ضم قانون آخر في مقام
الاستنباط، حيث لم يقيد به المسلك الأول وقيد به المسلك الثاني.
ويلاحظ على هذا المسلك ملاحظتان:
الأولى: ذكرنا سابقا أن العبارة المعروفة (موضوع كل علم... الخ) لا
تدل الا على تفسير الموضوع بعد الفراغ عن وجوده، ولا تدل على لزوم وجوده
ولا على وحدته أصلا، وذكرنا سابقا أن من الملازمات العقلية المدركة بالعقل
النظري توقف الفائدة العلمية والعملية لأي علم على وجود موضوع له بمعنى
المحور لأبحاثه ومفاهيمه.
الثانية: إن التعريف المطروح لموضوع الأصول لا ينطبق على موضوعات
مسائله حتى عرضا، وذلك لان من المسائل الأصولية المهمة بحث صغريات
أصالة الظهور، كالبحث في ظهور المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم،
والبحث عن ظهور صيغة الامر في الوجوب وعدمه، والبحث عن ظهور صيغة
الشرط في المفهوم وعدمه وأمثال ذلك، مع أن مرحلة الاستنباط للحكم لا
تعتمد على هذه القوانين فقط بل تتوقف على ضم كبرى حجية الظهور لها
أيضا، فلا يصدق على هذه المسائل أنها قوانين ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي
بدون ضم قانون أصولي آخر إليها.
122

وأجاب الاعلام عن هذه الملاحظة بوجهين:
الأول: ما في فوائد الأصول، من كون هذه المباحث المتعلقة بصغري
أصالة الظهور مباحث لغوية خارجة عن موضوع الأصول موضوعا، وإنما
بحث عنها علماء الأصول لمدخليتها في مقام الاستنباط من جهة وعدم تنقيح
علماء اللغة والأدب لها من جهة أخرى، والا فلا فرق بين البحث عن ظهور
صيغة الامر في الوجوب وبين البحث عن ظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه
الأرض أو خصوص التراب، الا أن المثال الثاني منقح في كتب اللغة دون
الأول (1).
الثاني: ما في تعليقة أجود التقريرات (2)، وبيانه يتضح في ثلاثة أمور:
أ - إن الضابط المذكور للمسألة الأصولية أو موضوع الأصول، وهو
استغناؤه في مقام الاستنباط عن قانون أصولي آخر يشاركه في عملية الاستنباط
لا يراد به الموجبة الكلية بمعنى الاستغناء في جميع الموارد، بل أخذ هذا الضابط
على نحو القضية المهملة ولو في بعض الموارد، فالحاجة لقانون أصولي مشارك
في بعض نماذج الاستنباط لا يسلخ المسألة الأصولية عن أصوليتها ما دامت
تستغني في بعض النماذج الأخرى، والا فكما أن مباحث صغريات أصالة
الظهور تفتقر في مرحلة الاستنباط لضم كبرى حجية الظهور لها، فكذلك نفس
كبرى حجية الظهور تفتقر أحيانا لكبري أصولية أخرى مشاركة لها في عملية
الاستنباط ككبرى حجية خبر الثقة، ومع ذلك فهذا لا يخرجها عن كونها مسألة
أصولية عند من يراها كذلك.
ب - إن قانون حجية الظهور ميثاق عقلائي لا ريب فيه ولذلك لم يقل

(1) فوائد الأصول 1: 26.
(2) أجود التقريرات 1: 3.
123

فيه أحد بالسالبة الكلية، فحينئذ من اللغو إدخاله في المباحث الأصولية وجعله
من موضوعات علم الأصول للفراغ عن حجيته عند المجتمع العقلائي، إذن
فافتقار مباحث صغريات أصالة الظهور لهذه الكبرى دائما في مقام الاستنباط
لا يخرج هذه المباحث عن كونها أصولية، لكونها لم تفتقر لقانون أصولي آخر بل
احتاجت لقانون عقلائي مسلم به عند العقلاء.
ج - كما ذكرنا في الامر السابق أنه لا نزاع كبروي في أصالة الظهور بل
النزاع صغروي في ثلاثة جوانب:
1 - في دخول ظواهر الكتاب تحت كبرى حجية الظهور وعدمه.
2 - في دخول الظاهر بالنسبة لغير المقصود بالافهام تحت الكبرى
المذكورة وعدمه.
3 - في دخول الظهور مطلقا حتى مع الظن بالخلاف أو عدم الظن
بالوفاق تحت الكبرى المذكورة وعدمه.
وبعد وضوح كون الخلاف صغرويا فلو ارتفع في مورد لصح الاعتماد
عليه في مقام الاستنباط بدون حاجة لضم قانون أصولي مشارك له، فمثلا لو
وردت صيغة أمر في خبر مقطوع الصدور، بحيث لا يشمله النزاع في ظواهر
الكتاب، ولا يحتاج الاعتماد عليه لكبري حجية خبر الثقة لكونه قطعيا، وكان
سامع الخبر من أمثال زرارة وجميل بحيث لا نحتاج لمسألة حجية الظهور بالنسبة
لغير المقصود بالافهام وعدمها، وقد حصل لهذا السامع الظن على وفق الظهور
الذي يكون لازمه عدم الظن بالخلاف، فلا يشمله النزاع الصغروي الثالث
أيضا.
فحينئذ يتم استنباط الحكم في مثل هذا المورد اعتمادا على قانون أصولي
واحد وهو ظهور صيغة الامر في الوجوب مثلا بدون ضم قانون أصولي آخر،
إذ المفروض انتفاء النزاع الصغروي في هذا المورد، والحاجة لكبري حجية
124

الظهور لا تخل بأصولية المسألة كما ذكرنا في الامر الثاني، لعدم كونها من قوانين
علم الأصول.
فيكون قانون ظهور صيغة الامر في الوجوب أصوليا مندرجا تحت ضابط
المسألة الأصولية وموضوع علم الأصول، واحتياجه في الجوانب الثلاثة من
النزاع الصغروي لقانون أصولي آخر لا يخرجه عن أصوليته، لما ذكرنا من أن ضابط
الاستغناء عن القانون الآخر لم يؤخذ على نحو الموجبة الكلية.
ويمكن المناقشة في ذلك بثلاثة وجوه:
أ - إن عدم وجود قائل بالسالبة الكلية في حجية الظهور لا يخرجها عن
كونها أصولية ما دام مناط الأصولية موجودا فيها، وهو وقوعها كبرى في مقام
الاستنباط بدون حاجة لضم كبرى أصولية إليها، كما أن عدم القول بالسلب
الكلي لا يجعل البحث عن كبرى حجية الظهور في علم الأصول لغوا، فإن
موضوع هذه الكبرى غير محدد سعة وضيقا، فيصح البحث عنه من حيث سعته
وشموله للظاهر بالنسبة لغير المقصود بالافهام أم لا، وللظهور مع عدم الظن
بوفاقه أو مع الظن بخلافه أم لا، وأمثال تلك البحوث، وهذا المقدار من
البحث كاف في أصولية الكبرى وعدم لغوية عدها في ضمن علم الأصول.
ب - إن اعتبار المسائل الباحثة عن صغريات أصالة الظهور من علم
الأصول، بناءا على اعتماد مقام الاستنباط عليها من دون ضم كبرى أصولية
أخرى في أمثال المورد السابق الجامع بين كون الخبر مقطوع الصدور وكون
سامعه مقصودا بالافهام وواجدا للظن بالوفاق، إنما هو اعتماد على مورد نادر بل
معدوم في العصور المتأخرة التي هي عصور تدوين علم الأصول وتطوره وبروز
معالمه، وليس من الحسن في الاعتبار العقلائي لمقام التصنيف والتدوين
الاعتماد على موارد نادرة لادخال بحث في ضمن علم معين أو إخراجه عنه.
ج - كما أمكن إدخال بحوث صغريات أصالة الظهور في علم الأصول
125

لاستناد الاستنباط لها أحيانا - كما في المورد السابق - بدون ضم كبريات أصولية
أخرى، كذلك يمكن إدخال كثير من البحوث اللغوية في علم الأصول بنفس
الملاك المذكور، فمثلا ظهور كلمة الصعيد وظهور كلمة لا ينبغي أو لا يصلح
وما شاكل قد تعد من المسائل الأصولية أيضا، لأنها قد ترد في خبر مقطوع
الصدور مع كون سامعه مقصودا بالافهام وواجدا للظن بالوفاق فلا يحتاج مقام
الاستنباط بعد الاعتماد عليها الا لكبري حجية الظهور، والمفروض كونها قانونا
عقلائيا مسلما لا مسألة أصولية فينطبق الضابط للمسألة الأصولية ولموضوع علم
الأصول عليها، مع أنه لم يقل بذلك أحد من الأصوليين.
الا أن يقال في جواب ذلك بوجود الفارق بين الظهورات المبحوث عنها
في علم الأصول وبين الظهورات التي يتعرض لها الفقيه في مقام استنباط الحكم
الشرعي، وهو ما أشار له صاحب الكفاية - في مبحث البراءة عند حصر
الأصول العملية في الأصول الأربعة المعروفة وعدم شمولها لمثل قاعدة الطهارة -
من كون الأصول الأربعة عنصرا مشتركا في عمليات الاستنباط للحكم
الشرعي بخلاف قاعدة الطهارة فهي عنصر خاص بباب الطهارة دون غيره،
فكذلك في محل كلامنا فإن الظهورات المبحوث عنها في الأصول كظهور صيغة
الامر وظهور المشتق عناصر مشتركة بين عمليات الاستنباط بخلاف ظهور لفظ
الصعيد مثلا فهو خاص بباب التيمم لون غيره (1)، فلا وجه لقياس الظهورات
اللغوية على بحوث صغريات أصالة الظهور.
ولكن مع ذلك يمكن الملاحظة على ذلك من زاويتين:
الأولى: إنه ينبغي أن يقال في تحديد المسألة الأصولية وموضوع علم
الأصول أن أصولية القانون متقومة بقيدين، عدم اختصاصه بباب دون آخر

(1) الكفاية: 337.
126

واستغنائه في مقام الاستنباط عن إضافة قانون آخر إليه، فرارا من الاشكال على
ذلك بأن بعض القوانين الدخيلة في مقام الاستنباط مشتركة بين الأبواب
الفقهية ولكنها لا تستغني عن إضافة كبرى أصولية إليها كقواعد علم الرجال،
وبعض القوانين المستغنية عن إضافة قانون أصولي لها في مقام الاستنباط قوانين
لغوية كظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه الأرض مثلا وهي غير مشتركة بين
أبواب الفقه، الا أنهم اكتفوا في تعريف المسألة الأصولية بقيد الاستغناء دون
الاشتراك.
الثانية: إن عنصر الاشتراك المأخوذ مائزا بين القانون الأصولي وغيره إن
أريد به الدخول في جميع الأبواب الفقهية فهولا ينطبق على قانون من القوانين
الأصولية أصلا، وإن أريد به الدخول في كثير من الأبواب الفقهية اندرج في
ذلك بعض الظهورات اللغوية المتكررة في عدة أبواب فقهية كظهور كلمة
- يحرم - أو لا بأس وأمثال ذلك، مع أنها ليست من صميم المسائل الأصولية.
المسلك الرابع: ما طرحه السيد البروجردي (قده)، وهو أن موضوع
علم الأصول هو " القانون الذي يعد حجة في الفقه "، وهذا هو مختارنا أيضا
وسنطرحه بما يوافق مبانينا وأفكارنا، فنقول قبل توضيح المسلك المذكور هناك
عدة تنبيهات:
أ - إن كثيرا من الاعلام تجشم إضافة قيود وحذف قيود أخرى من تعريف
علم الأصول وتعريف موضوعه بهدف المحافظة على التصنيف الموجود لعلم
الأصول فعلا، بحيث لا تخرج منه مسألة فيه حسب التصنيف الحاضر ولا
تدخل له مسألة لم تدون فيه حسب التصنيف المذكور، مع أن هذا التصنيف
والتدوين خصوصا على أيدي المتأخرين لم يخضع لضوابط مسلمة عند الجميع،
بحيث يكون ملزما لنا أن لا نعرف المسألة الأصولية تعريفا لا يتفق معه طردا أو
عكسا، مع وضوح استطرادية كثير من البحوث فيه كمبحث لا ضرر وقاعدة
127

اليد وأصالة الصحة وأشباهها.
ب - قد ذكرنا فيما سبق أن وحدة العلم وحدة اعتبارية متقومة بالاعتبار
الناشئ عن مراعاة تمام المصالح والجهات الدخيلة في جعل الوحدة المذكورة،
وحينئذ فلا معنى للتخطئة والاختلاف في الوحدة الاعتبارية بل يكون الخلاف
راجعا لمنشأ الاعتبار، وهو انحفاظ المصالح والأهداف المنشودة في الوحدة
الاعتبارية نفسها، ولا مانع حينئذ من اختلاف الأنظار في حدود المسألة
الأصولية نتيجة للاختلاف في أقرب الاعتبارات لحفظ المصالح والأهداف
المطلوبة.
ج - المسلك المذكور وهو كون موضوع علم الأصول عبارة عن القانون
المتخذ حجة في الفقه يرشدنا لأمور:
أولا: إن التعريف جامع ذاتي بين جميع المسائل الأصولية إذ لا تخلو
مسألة كما سيأتي الا وموضوع البحث فيها - بمعنى محور البحث فيها - هو
الحجة في الفقه، سواءا كان هذا المحور موضوعا في المسألة أو محمولا فيها، إذن
لا مانع من كون موضوع علم الأصول جامعا ذاتيا بين المسائل.
وثانيا: بما أن موضوع علم الأصول هو القانون المتخذ حجة في الفقه
فتعريف علم الأصول هو العلم الباحث عن القانون المعتبر حجة في الفقه.
وثالثا: يتبين من خلال تعريف موضوع علم الأصول الفارق بين المسألة
الأصولية وغيرها من المسائل المساهمة في عملية الاستنباط، فالمسألة الأصولية
هي القانون الذي قد يعد حجة في الفقه.
توضيح التعريف: ويتضمن ذكر ثلاثة أمور:
1 - إن المقصود بالحجة في التعريف هو المصطلح اللغوي، وهو ما يصح
الاحتجاج به من المولى على العبد وهو المعبر عنه بالمنجزية ومن العبد على المولى
وهو المعبر عنه بالمعذرية، لا المصطلح المنطقي وهو الحد الأوسط الذي يكون
128

واسطة في إثبات النتيجة، ولذلك يشمل المفهوم المذكور حتى الأصول العملية
فإنها وإن لم تكن واسطة في إثبات نتائج معينة لكنها تفيد المنجزية كقاعدة
الاشتغال وتفيد المعذرية كقاعدة البراءة، فهي مندرجة تحت عنوان الحجة.
2 - إن تعريف موضوع علم الأصول ب‍ " القانون المعد حجة في الفقه "
هو الظاهر من كلمات المتقدمين، فقد قال الشافعي في رسالته: " بأن الموضوع
هو البيان " (1)، عبر عنه السيد المرتضى في الذريعة بدليل الفقه، قال: " اعلم أن
الكلام في أصول الفقه إنما هو في الحقيقة كلام في أدلة الفقه " (2)، والقدماء هم
الأقرب لبداية بذرة علم الأصول ومعرفة واقع هذا العلم.
3 - لقد سبق منا في أول الكتاب أن قدمنا أطروحتنا في تصنيف علم
الأصول على أساس الاعتبار وألوانه وتفاصيله، والآن نقدم أطروحة أخرى في
تصنيف علم الأصول وتبويبه على أساس الحجية لارتباطها بمبحثنا، وهو
تحديد موضوع علم الأصول.
فنقول إن للحجية ثلاث مجالات:
أ - مجال الاحتمال.
ب - مجال الكشف.
ج - مجال الميثاق العقلائي.
ومحور الحجية في كل مجال يختلف عنه في المجال الآخر، فمحور الحجية
في مجال الاحتمال نفس الاحتمال بقطع النظر عن حيثية الكشف فيه، بمعنى
أن الاحتمال في حد ذاته هل يملك الباعثية والزاجرية ولو لأهمية المحتمل
وخطورته وإن كان الاحتمال موهوما أم لا، ومحور الحجية في مجال الكشف هو
درجة الحكاية والكشف عن الواقع، فخبر الثقة مثلا عندما نبحث عنه نقول
بأنه متى يعتمد العقلاء والشرع المقدس على هذه الوسيلة من حيث درجة

(1) الرسالة: 21.
(2) الذريعة 1: 7.
129

كاشفيتها عن الواقع، فالمدار فيه على مستوى الحكاية والكشف.
كما أن الكشف على نوعين: كشف عقلي وكشف حسي، ومقصودنا
بالأول: ادراك العقل النظري للواقع عبر وسيلة معينة، فإن الانسان إذا سمع خبر الثقة مع معرفته بحكم الاستقراء المبني على حساب الاحتمالات أن خبر
الثقة غالب المطابقة للواقع حصل له في ذهنه إدراك راجح بصدق الخبر، وهذا
ما نعبر عنه بالكشف العقلي.
ومقصودنا بالكشف الحسي: الشعور الوجداني بالشئ، فمثلا إذا مارس
الانسان عمل الكتابة فإن له توجها وجدانيا حال الكتابة وشعورا باستمرارية
العمل وتواصله، والشعور الوجداني بالشئ غير التوجه العقلي له، كذلك لو
نظر الانسان لصورة حديقة معينة ثم أطبق عينيه فإنه يشعر وجدانا كأن الصورة
ما زالت أمام بصره، ولو كان الانسان في مكان صاخب بالأصوات والأضواء
ثم انتقل لمكان هادئ فإنه يشعر وجدانا كأنه ما زال في موجة الصخب
والضجيج، وهذا ما نعبر عنه بالكشف الحسي الوجداني الذي ربطنا به قاعدة
الاستصحاب، حيث أن الانسان إذا تيقن بوجود شئ عن أي طريق فإنه يبقى
له شعور وجداني ببقاء ذلك الشئ بعد فترة طويلة.
وكذلك قاعدة الفراغ والتجاوز، حيث أن الانسان إذا مارس عملا من
الأعمال فكما يلتفت للعمل بعقله وفكره فكذلك يكون له شعور وجداني
ارتكازي بمسيرة العمل، بحيث لو غاب الالتفات العقلي عن العمل فالشعور
النفسي يبقى موجودا، فهل مثل هذا الكشف الوجداني الحسي حجة أم لا؟
وأما محور الحجية في مجال الميثاق العقلائي فهي نفس بناء العقلاء سلوكا
وارتكازا، فإن العقلاء قد يعتمدون على الظواهر مثلا لا من باب الكشف
ودرجته ولا من باب المقارنة بين درجة الاحتمال وأهمية المحتمل لتحصيل الوثوق
النفسي، بل من باب انسجام هذا الاعتماد والبناء مع مصالحهم ونظامهم. إذن
130

فهذه المجالات تختلف في محور الحجية فيها.
المجال الأول في الاحتمال:
إن العقلاء في معاملاتهم العامة والخاصة يمارسون عملية المقارنة بين
درجة الاحتمال ودرجة المحتمل، والشرع الشريف قد اعتبر أحكامه بمنزلة
مقاصد الانسان، فكما يتعامل الانسان، مع مقاصده الخاصة والعامة بالتأمل
في درجة الاحتمال والمحتمل فكذلك يتعامل مع الأحكام الشرعية المحتملة
بمقتضى اقرار الشرع وإمضائه.
والاحتمال ينقسم لخمسة أقسام:
أ - الاحتمال بدرجة لا تحتمل الخلاف أصلا وهو المعبر عنه بالقطع الذي
ذهب معظم علماء الأصول للقول بحجيته الذاتية، ونحن نقول بالحجية
العقلائية كما سيأتي بحثه في محله.
ب - الاحتمال الواصل لدرجة يكون احتمال الخلاف احتمالا وهميا لا
يعتنى به، وهذا هو المعبر عنه بالاطمئنان والوثوق الشخصي، وهو حجة بنظرنا
إذا كان ناشئا عن دليل حساب الاحتمالات وتراكمها حول محور واحد، وهو
الذي نصطلح عليه باليقين الموضوعي في مقابل اليقين الذاتي الناشئ عن
العوامل المزاجية والشخصية.
ج - الاحتمال المستند للعلم الاجمالي، فإن العلم الاجمالي المتعلق بالجامع
يعطي للاحتمال الموجود في الأطراف المحصورة قوة نفسية تكون باعثة وزاجرة
للإرادة عند العقلاء، وهذا ما يعبر عنه بمباحث العلم الاجمالي.
د - الاحتمال المعتمد على أهمية المحتمل، فقد يكون الاحتمال في ذاته
ضعيفا لكنه يعد رادعا وباعثا عقلائيا نظرا لأهمية المحتمل نفسه، سواءا علمت
أهمية المحتمل ببيان الشرع نفسه أم علمت من خلال ثقافة المجتمع نفسه، كما
في موارد الدماء والاعراض والأموال، وهذا هو المعبر عنه بأصالة الاحتياط.
131

ه‍ - الاحتمال الساذج وهو على لونين:
1 - احتمال لا يعتمد على قوة في نفسه ولا قوة في محتمله، لعدم بيان
الشارع لأهميته وهو المسمى بالبراءة العقلية، أو لبيان الشارع عدم أهميته وهو
المسمى بالبراءة الشرعية، فنحن نعتقد عدم حجية هذا الاحتمال خلافا
للمدرسة الأخبارية التي تعتقد بحجيته، بلحاظ أن النزاع بين المدرستين ليس
نزاعا كبرويا بل الجميع متفق على كبرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإنما
النزاع صغروي وهو هل أن احتمال التكليف بيان أم لا، فذهبت المدرسة
الأخبارية إلى كونه بيانا نظرا لاعتضاد هذا الاحتمال بأهمية المحتمل، حيث
أن المحتمل هو التكليف المولوي الصادر عن المولوية الذاتية لا عن المولوية
الاعتبارية، وهذا بنظرهم كاف لاعطاء الاحتمال درجة من المحركية والباعثية،
وهو ما لا نوافق عليه.
2 - الاحتمال المصطدم باحتمال آخر معاكس له بنفس الدرجة من القوة
في الاحتمال، لوجود يقين بأصل الحكم على نحو مانعة الخلو، وهذا مورد أصالة
التخيير التي وقع البحث فيها حول حجية أحد الاحتمالين لقوة محتمله اعتمادا
على قانون أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، أو عدم حجية شئ لعدم
صدق البيان على شئ منهما. إذن ظهر لنا من خلال هذا العرض أن البحث في
مجال الاحتمال كله يدور حول الحجية وعدمها.
مجال الكشف: والكشف على قسمين:
1 - الكشف العقلي:
2 - الكشف الحسي.
الكشف العقلي: إن المجتمع العقلائي في اعتماده على الكشف يتخذ
تصرفين، فتارة يقوم بتتميم الكشف، وتارة يقوم بتطبيق المكشوف.
الأول: تتميم الكشف: وهو في موارد حجية الحجج كالشهرة والاجماع
132

المنقول والظن الانسدادي وقول اللغوي وخبر الثقة في الاحكام والبينة في
الموضوعات، ففي هذه الموارد يوجد مسلكان:
1 - المسلك التجزيئي، وهو الذي يرى أن هذه العناوين يعبر كل واحد
منها عن حجة مستقلة، فخبر الثقة مثلا له درجة من الكشف والعقلاء من أجل
تنظيم مصالحهم العامة يتممون هذه الدرجة ويعتبرونه كاشفا تاما بمستوى
العلم اعتمادا على وثاقة المخبر، بغض النظر عن قوانين المقارنة بين الاحتمال
والمحتمل التي سبق عرضها في المجال الأول، وهذا هو المسلك المشهور.
2 - المسلك الموضوعي وهو مختارنا، وفحواه أن أغلب هذه العناوين ما
هي الا مقدمات تكوينية لحصول الاطمئنان والوثوق، والحجية لهذا الاطمئنان
لا لمقدماته، فمثلا خبر الثقة بعد دراسة وثاقة رواته ودراسة مقارنة مضمونه مع
القواعد العامة وقد ينضم لذلك الشهرة الفتوائية أو الاجماع المنقول يحصل
للفقيه الوثوق بالحكم المستفاد منه، والحجية لهذا الوثوق الموضوعي المستند
لدليل حساب الاحتمالات وجمع القرائن حول محور واحد لا لخبر الثقة أو
الشهرة أو الاجماع بل هذه مجرد قرائن تولد قوة الاحتمال وتأكده. وبناءا على هذا
المسلك الثاني يدخل البحث في باب الحجج والامارات في مجال الاحتمال لا
مجال الكشف.
ومما يرتبط ببحث خبر الثقة بحث تعارض الأدلة الشرعية، فإنه بحث
عن حجية أحد المتعارضين إما بنحو تتميم الكشف وإما بنحو حجية الوثوق.
الثاني: تطبيق المكشوف: لا إشكال في كاشفية العلم الاجمالي عن
الجامع بين الأطراف، ولكن الذي أصبح مثار البحث عند الأصوليين هو هل
أن كشف العلم الاجمالي عن الجامع يعد بنظر المجتمع العقلائي كشفا عن
الفرد بحيث يعتبرون التكليف المحتمل في الفرد متنجزا، أم لا وهذا ما يسمى
بالكشف العقلائي للعلم الاجمالي في مقابل الكشف الذاتي، وعلى هذا
133

الأساس يتم البحث في العلم الاجمالي أيضا فإذن مباحث العلم الاجمالي يصح
تناولها من زاويتين: 1 - زاوية الاحتمال. 2 - زاوية الكشف حسب اختلاف
المباني.
الكشف الحسي: إن الخلاف في حجية الاستصحاب وعدمها راجع
للخلاف في اعتبار الكشف الاحساسي وعدمه، بيان ذلك: أن الانسان - كما
يقول علماء النفس - مخلوق احساسي يعتمد على إحساسه كثيرا، فهو يتأثر
بالشخص الذي يراه منذ النظرة الأولى ويتعامل معه على ضوء تلك النظرة،
وقد يرى طفلا صغيرا بدرجة معينة من التفكير فيتعامل معه بمستوى درجته
حتى بعد كبره وصيرورته من العلماء مثلا، فهذا الاعتماد على النظرة الأولى
اعتماد على كشف احساسي لا على كشف عقلي، أي انه اعتماد على شعور
وجداني باستمرار النظرة الأولى.
فهل العقلاء يعتمدون على الكشف الاحساسي السابق ويرونه ممتدا في
عمود الزمن أم لا؟
هذه هي أطروحتنا في بحث الاستصحاب. وربما يرتبط بذلك
أيضا بحث قاعدة الفراغ والتجاوز، فإن الانسان إذا مارس عملا معينا فالتفاته
الحسي للعمل أثناء أدائه قد يكون أقوى من تركيزه العقلي عليه أو ذهوله العقلي
عنه، ولعل هذا فحوى ما في النصوص من قوله عليه السلام: " هو حين
وضوئه أذكر منه حين يشك " (1). بمعنى أن شعوره الوجداني بأداء العمل أثناء
أدائه حجة يعتمد عليها.
مجال الميثاق العقلائي: وهو البحث عن كل إمارة تبانى عليها العقلاء
لأجل مصالحهم لا بملاك الكشف النوعي، وقد يمثل له ببحث الظهور، فإن

(1) الوسائل 1: 471 / 1249.
134

البحث عن الظهور راجع إلى أن المجتمع العقلائي. هل يرى الانسان ملزما بما
يظهر من كلامه أو فعله أو سكوته أم لا، فالقول بأن صيغة الامر مثلا ظاهرة
في الوجوب العيني التعيني معناه أن الميثاق العقلائي قائم على الالزام والالتزام
بذلك عند صدور صيغة الامر.
فهم يتعاملون مع الظواهر على نحو الموضوعية لا على نحو الطريقية،
فلا يركزون على حصول الوثوق الشخصي وعدمه، وإنما تركيزهم على درجة
تفاعل العرف مع النص وأنها هل تبلغ مستوى انقياد المجتمع العقلائي لها
أم لا، سواءا وقع البحث في المدلول المطابقي للظاهر كالبحث في طهور صيغة الامر
في الوجوب وعدمه، أم في المدلول التضمني كالبحث في أن العام المخصص
حجة في الباقي أم لا، أم في المدلول الالتزامي كالبحث في أن الامر بالشئ هل
يدل على حرمة ضده ووجوب مقدمته أم لا.
وأما الربط بين هذه البحوث وموضوع علم الأصول - وهو القانون
المعتبر حجة في الفقه - فتوضيحه أن البحث في الظواهر على نوعين:
أ - ما يكون محور البحث فيه هو الحجية وعدمها.
ب - ما يكون راجعا لذلك مع الواسطة، فمن النوع الأول البحث عن
حجية العام قبل الفحص، وحجية العام المخصص في الباقي، وحجية
الاطلاق الاثباتي في كاشفيته عن الاطلاق الثبوتي، أو كاشفيته عن إرادة الحصة
كاطلاق صيغة الامر الدال على الحصة التعينية من الوجوب، ومن النوع الثاني
مباحث ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، وظهور صيغة الامر في الوجوب.
وهذه البحوث وإن كانت صغروية في النظر الظاهر لكنها راجعة للبحث
عن الحجية أيضا، فالجملة الشرطية مثلا لا إشكال عند الأصوليين في أصل
دلالتها على المفهوم ولكن الكلام عندهم بأن تلك الدلالة هل هي بدرجة
الاشعار أم أنها بدرجة الظهور المعتبر حجة عند العقلاء بحيث يرتبون عليه
135

الآثار، فالبحث بالنتيجة راجع للحجية.
كما أن الكلام في صيغة الامر أيضا يمكن ارجاعه لتلك النكتة، وذلك
لان أصل ظهور صيغة الامر في الالزام لا نزاع فيه عند العرف، ومما يكشف
عن ذلك أننا نلاحظ أن الشارع المقدس يتوصل لبيان المفردات القانونية
الأخرى كالوجوب الشرطي والحرمة الشرطية مثلا بصيغة الأمر والنهي مما
يكشف عن الفراغ عن دلالتها على أصل الالزام بالفعل أو الترك، باعتبار أن
المفردات القانونية كالوجوب المولوي والشرطي لم تكن متداولة في اللغة العربية
في زمان الجاهلية وصدر الاسلام، ولم توضع جهة تشريعية للقيام بوضع هذه
المفردات كالمجاميع اللغوية في العصر الحاضر.
فكان الشارع إذا أراد بيان الشرطية استخدم نفس صيغة الامر التي
يستخدمها في البعث المولوي، فيقول: (فطلقوهن لعدتهن) (1)، ويقول: (إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) (2) وإذا أراد بيان المانعية استخدم صيغة
النهي أو مادته نحو: " نهي النبي عن بيع الغرر " (3) و " لا تبع ما ليس عندك " وذلك
مما يكشف عن تسليم أصل الدلالة في الأمر والنهي على الالزام، ولذلك
تستخدمان في بيان الالزام الشرطي أيضا، فيعود البحث عن ظهور الأمر والنهي
في الوجوب والحرمة للبحث عن كون هذا الظهور بمستوى الحجية أم لا؟
ولكن قد يقال بأنه بعد تسليم كبرى حجية الظهور فالبحث في درجة الظهور
وكونها بمقدار الحجية أم لا بحث صغروي يدور حول الظهور نفسه لا أنه

(1) الطلاق 65: 1.
(2) المائدة 5: 6.
(3) عوالي اللآلي 2: 248 / 17، سنن البيهقي 5: 338.
136

بحث كبروي دائر حول الحجية وعدمها فإما أن يلتزم بما ذكره المحقق النائيني
(قده) من كون هذه البحوث بحوثا لغوية بحثها الأصوليون لعدم تنقيح أهل
اللغة لها وإما أن يلتزم بما ذكره صاحب الكفاية من اعتبار كون المسألة الأصولية
عنصرا عاما لكثير من موارد الاستنباط وهو الذي عبرنا عنه بالقانون فإن
عنوان القانون والقاعدة لا يصدق على ظهور لفظ الصعيد مثلا فهو مسألة لغوية
ولكنه يصدق على ظهور صيغة الامر لعمومها لكثير من موارد الاستنباط فتعد
مسألة أصولية. والحاصل أنه ظهر من خلال استعراضنا للبحوث الأصولية
بحسب التصنيف الذي طرحناه أن موضوع علم الأصول ومحور أبحاثه هو
القانون الذي يستخدم حجة في مجال الاستنباط.
ويمكن أن يقال أيضا بأن موضوع علم الأصول ومحور أبحاثه هو
الاعتبار القانوني وعوارضه وأحكامه لما ذكرناه في بحث منهج علم الأصول بأن
المنهج المقترح هو دوران البحث في علم الأصول مدار الاعتبار القانوني
بالتفصيل السابق.
137

المبحث الحادي عشر
ميزان المسألة الأصولية
بعد تعرفنا على موضوع علم الأصول يتبين لنا الميزان في أصولية المسألة
والفارق الجوهري بينها وبين غيرها، وهو عبارة عن القانون المبحوث في حجيته
لمرحلة الاستنباط، وبهذا يحصل امتيازها عن المسألة اللغوية والرجالية
والفقهية.
امتيازها عن المسألة اللغوية: إن المسألة اللغوية محققة للموضوع
والمسألة الأصولية هي القانون الاستدلالي بعد تنقيح الموضوع وأما الفاصل بين
البحث عن ظهور صيغة الامر في الوجوب بحيث يعد بحثا أصوليا وبين البحث
في ظهور لفظ الصعيد بحيث يعد بحثا لغويا فهو أحد أمرين:
1 - إن البحث في صيغة الامر وإن كان يبدو كونه بحثا في صغرى أصالة
الظهور الا أن لب الكلام ومرجعه للبحث عن الحجية، بمعنى أن أصل دلالة
الصيغة على الالزام مسلمة ولكن هل هي بدرجة الاشعار أم بدرجة تباني
العقلاء على الالزام والالتزام بدلالتها، وهذا هو معنى الحجية، بخلاف
البحث في لفظ الصعيد فإنه بحث عن أصل الظهور والدلالة، سواءا ترتب
عليه حكم شرعي أم لا، وهذا بحث لغوي. وقد سبق النقاش في ذلك.
2 - إن أخذ عنوان القانونية في تعريف المسألة الأصولية يخرج البحث عن
ظهور لفظ الصعيد مما يعد بحثا لغويا عن حريم علم الأصول، وذلك لان مثل
138

ظهور صيغة الامر لتكرره في الأبواب الفقهية كان البحث عنه في كل مسألة
فقهية غير منسجم مع طبيعة البحث العلمي، فالمناسب افراد بحث عنه
مستقل عن الفقه، وذلك ما تم في علم الأصول.
بينما ظهور لفظ الصعيد مثلا لكونه زاوية خاصة من باب فقهي معين
فهو لا يشكل قانونا عاما لعدة أبواب فقهية حتى يعد من المسائل الأصولية،
ولذلك لو قمنا باستقراء الروايات المعصومية وحصلنا على صيغ كثيرة الورود
والتكرر في مجالات الاستنباط كان من المناسب عدها من المسائل الأصولية
أيضا بحيث نبحث بشكل مستقل عن الفقه، كما يدعى ذلك في مثل لفظ - لا
ينبغي - ولفظ - لا يصلح - ولفظ - لا بأس - ونحوها، فإن حصر مباحث
الألفاظ والظهورات في الصيغ المعروفة في علم الأصول استقرائي لا عقلي،
هذا بغض النظر عن الامر السابق وهو كون البحث فيها راجعا للبحث في
الحجية ولو لبا.
امتيازها عن المسألة الرجالية: إن القواعد الرجالية نحو مراسيل
الثلاثة، ونحو قاعدة أصحاب الاجماع، ونحو هل ترحم الامام يفيد الوثاقة أم
لا، وكذلك البحوث الرجالية الجزئية كالبحث عن وثاقة المعلى بن خنيس مثلا،
إنما هي تنقيح لصغرى قانون الاستنباط لا لكبراه، فإننا نحتاج في مقام
الاستنباط إلى احراز الصغرى وهي وثاقة الخبر بأي قاعدة رجالية كانت، ثم
نحتاج لتمامية الكبرى وهي حجية خبر الثقة أو حجية الوثوق لنصل إلى نتيجة
الاستنباط، فالقاعدة الأصولية هي بنفسها القانون الموصل لنتيجة الاستنباط
بينما القاعدة اللغوية والرجالية تساهم في تحقيق موضوع هذا القانون وصغراه
لا أنها هي القانون الاستدلالي.
امتيازها عن المسألة الفقهية. إن المسائل الفقهية على نوعين:
أ - ما لا ربط بينه وبين البحث عن الحجية فيكون خروجه عن حريم
139

علم الأصول واضحا، فمثلا هناك قاعدة نسميها بقاعدة لا تنقض السنة
الفريضة بحسب أطروحتنا وبحسب أطروحة بقية الفقهاء تسمى قاعدة - لا
تعاد - وهذه القاعدة مفادها الاجزاء وعدمه لا أن مفادها الحجية في عملية
الاستنباط.
بيان ذلك: إن القاعدة المذكورة وردت في حديث أوله: " لا تعاد الصلاة
الا من خمسة " وآخره: " والتشهد سنة والقراءة سنة ولا تنقض السنة الفريضة " (1)،
وقد أخذ الفقهاء بصدر الرواية فقالوا بأن مفادها إثبات قاعدة خاصة بالصلاة،
وهي عدم إعادة الصلاة عند وقوع الخلل في غير الخمسة و اعادتها عند وقوع
الخلل في الخمسة المذكورة.
ونحن أخذنا بذيلها، ومفاده تأسيس قاعدة عامة لكل مركب عبادي
يتألف من فرائض وسنن، فالفرائض ما فرضه الله في كتابه والسنن هي ما جعله
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو على نحو الوجوب.
وذكر الصلاة في أول الحديث من باب التطبيق لا الحصر، ومؤدى
القاعدة المذكورة نفي الارتباط المطلق بين الفرائض والسنن، فلو أخل أحد
بالسنن لعذر فعمله صحيح دون ما لو كان اخلاله بغير عذر. وهذه القاعدة
بنظرنا هي مفتاح باب الاجزاء حين امتثال الامر الاضطراري أو الظاهري،
فإن اجزاء الناقص عن الكامل خلاف القاعدة، ولكن لدلالة الصحيحة على
نفي الارتباط بين الفرائض والسنن في صورة العذر يقال بالاجزاء.
وبهذا اللحاظ تخرج القاعدة المذكورة عن ضابط المسألة الأصولية، إذ
البحث فيها حول حكم معين وهو الاجزاء وعدمه وليس البحث عن حجيتها
في مقام الاستنباط حتى تعد مسألة أصولية. كما أن بحث الاجزاء خارج عن

(1) الوسائل 5: 470 - 471 / 7090.
140

الأصول داخل في علم الفقه، لعدم تعلقه بالبحث عن الحجية أصلا.
ومن القواعد الفقهية قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده التي
مفادها: أن صاحب المال لو أقدم على هتك ماله وتسليمه ليد المشتري بالعقد
الفاسد فهل تعد يد المشتري يدا ضمانية بمقتضى قوله: " على اليد ما أخذت
حتى تؤدي " (1) أم لا، وليس البحث فيها مرتبطا بالحجية. ومثلها قاعدة لا ضرر
التي يكون مفادها - كما ذهب لذلك الشيخ الأنصاري (قده) - تحديد الاحكام
الاسلامية بغير الحكم المتولد من جعله ضرر، ولا ربط لذلك بالحديث عن
الحجية. فهذه القواعد فقهية لا أصولية، باعتبار أن نتيجة البحث في هذا
النوع من القواعد هي تشخيص الوظيفة الشرعية لا تشخيص حجية قانون
استدلالي.
ب - النوع الثاني من المسائل الفقهية ما كان متعلقا بالبحث عن
الحجية، فيقع الالتباس بينه وبين المسألة الأصولية، كأصالة الصحة في عمل
الانسان نفسه المعبر عنها بقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، وأصالة الصحة في
عمل الغير، وإمارية اليد على الملكية، وحجية البينة في الموضوعات، فإن
البحث في هذه القواعد يدور حول حجيتها في مقام الاستنباط وعدمه فتتداخل
مع المسائل الأصولية.
إلا أن الاعلام أخرجوها عن حريم علم الأصول بقيد الاستنباط،
فقالوا: بأن القاعدة الأصولية هي ما كانت حجة في مقام الاستنباط، والمقصود
بالاستنباط التوسيط الاثباتي لاثبات حكم كلي كخبر الثقة، فإنه قاعدة تساهم
في استنباط حكم كلي، بينما مفاد هذه القواعد أحكام كلية، ووظيفة الفقيه
تجاهها هو التطبيق على مواردها الجزئية لا استنباط حكم كلي منها، فلا تقع هذه

(1) عوالي اللآلي 1: 224 / 106، سنن البيهقي 6: 95.
141

القواعد حججا في طريق الاستنباط وإنما هي حجة في مقام التطبيق على المورد
الجزئي، وهذه هي الصفة الغالبة على القواعد الفقهية حتى النوع الأول منها
وهو الذي لا يرتبط البحث عنه بالبحث عن الحجية.
لكن يبقى الاشكال المثار عند الاعلام بالنسبة لقاعدة الطهارة، وهي
المعبر عنها في النصوص: " كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر " (1)، وهي تنطبق
تارة على الموارد الجزئية كطهارة الثوب والمكان، وتارة على الموارد الكلية كاثبات
طهارة الكتابي بها عند الشك في طهارته مع عدم قيام دليل اجتهادي على
النجاسة، فخروجها عن ميزان المسألة الأصولية في الموارد الجزئية واضح، لعدم
كونها حينئذ حجة في مقام الاستنباط، ولكن خروجها عن المسائل الأصولية في
الموارد الكلية مشكل.
وحاول إخراجها صاحب الكفاية بقيد الكلية والاشتراك، فأفاد بأن
القاعدة الأصولية قانون مشترك بين علة أبواب فقهية (2) وهذه القاعدة خاصة
بباب الطهارة وببعض الموارد الكلية فيها فتخرج عن ضابط المسألة الأصولية،
وسبق كلامنا في ذلك.،
ولكن قد يقال في وجه إخراجها: أننا ذكرنا في بحث الفرق بين
الاعتبار القانوني والاعتبار الأدبي (3) أن قاعدة الطهارة لها تفسيران:
1 - كون مفادها حكما ظاهريا بالطهارة في مورد الشك. وهذا هو الاعتبار
القانوني المؤدي لحكومة قاعدة الطهارة على الأدلة الأولية المتعرضة لاشتراط
الطهارة فيما تشترط فيه، حكومة ظاهرية متقيدة بحالة عدم العلم بالخلاف،
بحيث يكون الاجزاء بعد انكشاف الخلاف على خلاف القاعدة. وبناءا على

(1) الوسائل 3: 467 / 4195.
(2) الكفاية: 8 - 9.
(3) صفحة: 66.
142

هذا التفسير فقاعدة الطهارة كسائر الأصول العملية، التي تعني أنها وظيفة
عملية للشاك في الحكم الواقعي. فلا مبرر حينئذ لاخراجها من علم الأصول.
لكونها مشمولة لتعريف المسألة الأصولية (وهو كونها حجة في مقام العمل).
2 - كون مفادها تنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في جميع الآثار
التكوينية والتعبدية تنزيلا أدبيا مجازيا كتنزيل الشجاع منزلة الأسد.
وهذا هو الاعتبار الأدبي، الذي يعني عدم وجود أي جعل شرعي في
قاعدة الطهارة، لا واقعا ولا ظاهرا ولذلك لم يقيد مفادها بحالة الشك، بل قيد
بحالة عدم العلم الشاملة للجهل المركب والغفلة والنسيان فهي دليل حاكم
على الأدلة الأولية المتعرضة لاشتراط الطهارة حكومة واقعية.
والحكومة كما شرحناها في أول الكتاب (1)، قرينة نوعية كالتخصيص
كاشفة عن المراد الجدي، وإنما الفرق بينها وبين التخصيص فرق إثباتي. فهو
تصرف في الحكم. وهي تصرف في الموضوع. فمؤدى قاعدة الطهارة بناءا على
هذا التفسير. توسعة دائرة الشرطية في الأدلة الأولية، لما يشمل الطهارة الواقعية
والتنزيلية. نعم بالنسبة لبعض الآثار كعدم جواز التطهير بالنجس تكون
حكومتها حكومة ظاهرية كما سبق بيانه.
وحينئذ فلا تعد قاعدة الطهارة مسألة أصولية. لعدم كونها طريقا كاشفا
عن الحكم الشرعي، ولا حكما ظاهريا مجعولا للشاك في مرحلة الحيرة العملية.

(1) صفحة: 23.
143

حقيقة الوضع
والبحث هنا في مقامين:
الأول: في بيان علاقة اللفظ بالمعنى.
الثاني: في بيان حقيقة الوضع.
المقام الأول: لا شك في وجود علاقة الاختصاص والاقتران بين اللفظ
والمعنى، ولكن هل هذا الاقتران على نحو السببية أم على نحو الهوهوية،
وتوضيح ذلك في ثلاث نقاط:
1 - بيان حقيقة العلاقة المذكورة.
2 - بيان منشئها.
3 - بيان الشواهد الدالة عليها.
أولا: النقطة الأولى: بيان حقيقة العلاقة المذكورة.
هنا تصويران لعلاقة اللفظ بالمعنى الموضوع له:
1 - علاقة السببية التي تعنى أن تصور اللفظ سبب لتصور المعنى في
الذهن، فهناك وجودان أحدهما صورة اللفظ والآخر صورة المعنى غير أن الأول
سبب للثاني، فكما يتحقق في الخارج وجودان وجود اللفظ بما هو كيف مسموع
ووجود لزيد مثلا بما هو جوهر انساني فكذلك في الذهن وجودان إلا أن أحدهما
سبب لتصور الآخر، وهذا هو المعروف بين الأصوليين.
2 - علاقة الهوهوية وتعني اندماج صورة المعنى في صورة اللفظ
فلا اثنينية بينهما، وبيان ذلك يحتاج لطرح ثلاث مقدمات:
أ - تقسيم الدلالة. قد ذكر الأصوليون أن الدلالة على ثلاثة أقسام:
144

الدلالة الانسية: المعبر عنها بالدلالة التصورية، وتعني خطور المعنى في
الذهن عند الاحساس باللفظ، سواءا كان عن طريق السمع أم عن طريق
الرؤية أم عن طريق اللمس كما هو عند بعض المكفوفين. ولا تتقوم هذه الدلالة
بالقصد والالتفات بل حتى لو صدرت الألفاظ من غير الملتفت فإنها توجب
خطور المعنى في الذهن.
الدلالة التفهيمية: وهي التي تتقوم بقصد المتكلم اخطار المعنى في ذهن
السامع، فالمنسبق للذهن عند صدور الكلام من الملتفت القاصد يسمى
مدلولا تفهيميا.
الدلالة التصديقية: وهي عبارة عن ميثاق عقلائي بأن المتكلم الملتفت
ملزم بظاهر كلامه، فالمراد التفهيمي لكلامه هو مراده الجدي الواقعي ما لم
ينص على خلافه.
ب - لا ريب ان الدلالة التصديقية ليست دلالة لفظية وضعية بل هي
دلالة سياقية وميثاق عقلائي راجع لبناء العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان
ملزما بظاهر كلامه، وأما الدلالتان الأوليان وهما الانسية والتفهيمية فهما
مركز الدلالة اللفظية الوضعية عند الأصوليين، وان اختلفوا في كون الدلالة
الناتجة عن الوضع أولا هل هي الدلالة الانسية أم الدلالة التفهيمية.
وكلامنا هنا بناءا على المسلك المعروف من كون الدلالة الوضعية هي
الدلالة الانسية ينصب على الدلالة الانسية، فنقول: إن لهذه الدلالة أربع
مراحل:
المرحلة الأولى: الانتخاب، سواء كان انتخابا فرديا كما ينتخب الأب
اسما لولده أو انتخابا جماعيا كظاهرة اللغات التي تتكامل مفرداتها بمساهمات
اجتماعية عامة، وانتخاب لفظ للمعنى تتدخل فيه العوامل الدينية والعرقية
والبيئية والثقافية، لذلك تكون الأسماء التي يسمي الآباء أبناءهم بها دليلا على
145

دوافعهم النفسية ومستوياتهم الثقافية.
المرحلة الثانية: مرحلة الإشارة للمعنى، حيث إن مجرد انتخاب لفظ
معين وجعله بإزاء المعنى لا يؤدي لانسباق المعنى في الذهن، ما لم تضم لاطلاق اللفظ
عوامل كمية ككثرة الاستعمال وعوامل كيفية كاحتفاف الكلام بالقرائن المشيرة
للمعنى.
المرحلة الثالثة: مرحلة التلازم والسببية، ومعناها أنه إذا تأكدت علاقة
اللفظ بالمعنى وترسخت استغنى اللفظ في مرحلة اخطاره للمعنى عن القرائن
المشيرة وصار اللفظ سببا لخطور المعنى أي أن تصور اللفظ مستلزم لتصور
المعنى، وقد اعتبر كثير من الأصوليين هذه المرحلة هي العلاقة الوضعية بين
اللفظ والمعنى، مع أن الصحيح عندنا أنها المرحلة الرابعة.
المرحلة الرابعة: مرحلة الاندماج والهوهوية، التي تعني اندكاك صورة
المعنى في صورة اللفظ ذهنا وفناء إحداهما في الأخرى، فلا يرى الوجدان
الذهني صورتين صورة للفظ وصورة للمعنى وكون الأولى سببا للثانية كما هو في
المرحلة السابقة.
ج - تصوير مرحلة الهوهوية، ولتوضيح هذه المرحلة نتعرض لملامحها
المميزة لها، وهي ثلاثة:
الأولى: ما طرحه الفلاسفة. من تعدد الماهية للوجود الواحد، فقد قالوا
بأن الوجود الواحد لا تكون له ماهيتان في عرض واحد، باعتبار ان الماهية
منتزعة من الوجود فهي حد الوجود الحاكي لمرتبته الواقعية ولو كان له ماهيتان
لكان الشئ الواحد في ذاته شيئين وهو مستحيل، لكن لا مانع من أن يكون
للوجود الواحد ماهيتان طوليتان أي أن إحداهما متفرعة على الأخرى وفي طولها،
فلا يلزم المحذور السابق من كون الشئ الواحد شيئين، لان الماهية الأولى حد
للوجود بما هو في ذاته والماهية الأخرى حد للوجود بما هو مقترن بالماهية السابقة
146

فلم يكن للوجود الواحد ماهيتان في عرض واحد بل يكون له ماهيتان طوليتان.
فمثلا الدينار وجود واحد له ماهيتان، ماهية تكوينية وهي ماهيته
القرطاسية الورقية وماهية اعتبارية وهي كونه الوسيط في تبادل السلع وميزانا
لتقييم الأشياء، كذلك لفظة حاتم تشير إلى حصول ماهيتين لأمر واحد، ماهية
انسانية وهي شخص عربي من بني طي وماهية اعتبارية وهي كونه القدوة في
الكرم والجود.
فكذلك في محل كلامنا نتيجة كثرة استعمال اللفظ في المعنى يحصل للفظ
ماهيتان طوليتان، ماهيته الذاتية وهو كونه من مقولة الكيف المسموع وماهيته
العرضية وهي صورة المعنى المندمجة في صورة اللفظ، فيكون وجود اللفظ وجودا
لماهيته التكوينية الكيفية وحضورا لماهيته المعنوية وهي صورة المعنى، وهذا ما
يعبر عنه الفلاسفة بالوجود اللفظي للمعنى، حيث يقولون إن للمعنى أربعة
وجودات.
1 - الوجود الخارجي المحمولي للمعنى.
2 - الوجود الذهني له وهي صورته المنطبعة في الذهن.
3 - الوجود اللفظي له.
4 - الوجود الكتبي.
فاعتبار وجود اللفظ عندهم وجودا للمعنى دليل على حصول علاقة
الهوهوية والاندماج بين صورة اللفظ وصورة المعنى، بحيث أن حضور اللفظ
خارجا حضور للمعنى بلا حاجة لتصور اللفظ أولا ثم الانتقال منه لتصور
المعنى كما هو مبنى السببية والتلازم.
الثانية: ما ورد في ألسنة الأصوليين من حصول الفناء بين اللفظ
والمعنى، فاللفظ قد فني في المعنى إلى درجة أن اللفظ صار ما به ينظر والمعنى
ما فيه ينظر، فإذا ذكر اللفظ ينتقل الذهن للمعنى عبر اللفظ مع عدم التفاته
147

اطلاقا إلى اللفظ وخصوصياته الصوتية والبنائية والاعرابية.
وهذه الحالة المعبر عنها بالفناء هي علاقة الهوهوية والاندماج، فلولا
اندكاك صورة المعنى في صورة اللفظ بحيث ترى صورة واحدة لما كان اللفظ
مغفولا عنه حين الانتقال للمعنى، إذ السبب لا يغفل عنه حين الانتقال
للمسبب، فرؤية النار التي تنقل الذهن لتصور الاحتراق أو الدخان لا
تستوجب الغفلة عن النار وخصوصياتها مع أنها سبب والاحتراق مسبب، اذن
فلو كانت علاقة اللفظ بالمعنى علاقة السببية لم تستلزم هذه العلاقة حصول
الفناء والغفلة عن اللفظ بينما الفناء والغفلة حاصلة، فهذا دليل على كون
العلاقة هي الهوهوية والعينية لا السببية والتلازم.
الثالثة: ما طرحه الأصوليون أيضا من تحقق المرآتية بين اللفظ والمعنى،
وبيان ذلك أن تصور الشئ على قسمين:
1 - تصوره بنفسه كما إذا تصور زيد بنفسه.
2 - تصوره بوجهه كما إذا تصور الكلي المطابق له، فتصور الكلي المطابق
- بالكسر - تصور لمطابقه - بالفتح - لا بنفسه بل بوجهه، وقد ذكر هذا التعليل
بالنسبة للفظ فإنه تارة يتصور المعنى بنفسه كتصور المولود قبل وضع اسم له
وتارة يتصور المعنى بوجهه وذلك بتصور اللفظ ولما كان تصور اللفظ تصورا
للمعنى بوجه كان اللفظ مرآة للمعنى. ومعنى المرآتية وجود صورة واحدة
طبيعتها المرآتية للمعنى الواقعي لا وجود صورتين متلازمتين كما هو معنى القول
بالسببية.
فهذه ملامح علاقة الهوهوية بين صورة اللفظ وصورة المعنى.
وأن المقصود ليس هو الهوهوية المفهومية إذ من الواضح الفرق المفهومي بين
اللفظ والمعنى، ولكن المقصود الهوهوية المصداقية أي أن الموجود في الذهن
صورة اللفظ ذات الطبيعة المرآتية الحاكية عن المعنى إما على نحو دخول التقيد
148

والقيد فهي صورة مركبة حاوية لماهية اللفظ والمعنى وإما على نحو دخول التقيد
بإراءة المعنى وخروج القيد.
النقطة الثانية: في منشأ علاقة التلازم والسببية و منشأ علاقة الهوهوية
والاتحاد، أما منشأ علاقة السببية فهو القانون المطروح في المدرسة التحليلة
لعلم النفس، وهو قانون تداعي المعاني أي تلازمها واقترانها في الخطور الذهني.
والقانون المذكور له ثلاثة عوامل:
1 - العامل الأول: كثرة التقارن في الاحساس، فإن الشيئين إذا اقترنا
في الاحساس، سواءا كانا لفظين كلفظ (قال محمد) ولفظ (هو ابن مالك) فإنهما
يتلازمان في الخطور ذهنا، أم كانا معنيين كطلوع الشمس وصحوة الناس من
النوم، فإنهما يقترنان ذهنا لتقارنهما خارجا وحسا.
2 - العامل الثاني: التشابه، فإن شبه شئ بشئ إذا كان شبها كبيرا
يكون عاملا في تصور الشبيه عند خطور شبيهه في الذهن، كالتشابه بين
الصورة الفوتغرافية وبين الانسان المصور فإن تصور الصورة عامل في تصور
نفس الانسان المصور بها.
3 - العامل الثالث: التضاد، فإن التضاد الحقيقي بين الشيئين اللذين
لا ثالث لهما كالظلمة والنور يكون عاملا في تقارنهما ذهنا، كما قيل إن الأشياء
تعرف بأضدادها.
والمرتبط بمحل كلامنا هو العامل الأول فقد ذكروا في مقام تقريره أنه
أقيمت تجربة عملية مع الكلب، حيث قام شخص بالقرن الحسي فترة طويلة
بين إحضار الطعام وطرق الجرس فكانت النتيجة أنه كلما طرق الجرس سال
لعاب الكلب استعدادا للطعام، وهذا التلازم الذهني سببه كثرة التقارن
الحسي. فكذلك في محل كلامنا ينطبق القانون نفسه بنفس العامل المذكور،
فإنه إذا قام الأب بالقرن الاحساسي بين اسم مولوده وبين المولود نفسه
149

واستخدم في ذلك القرائن والمثيرات الموجبة لتصور المعنى تتحقق العلاقة الوثيقة
بين اللفظ والمعنى، وهي علاقة السببية والتلازم لعامل الاقتران الحسي المؤكد،
وهو ما يعبر عنه بالاقتران الشرطي عند علماء النفس.
وأما منشأ علاقة الهوهوية بين اللفظ والمعنى فهو وإن لم يتعرض له
الفلاسفة لكن تحديده بنظرنا راجع لكثرة الحمل، وبيان ذلك يتم في أمرين:
أ - إن الفلاسفة قسموا الحمل لقسمين، مواطاة واشتقاق، فالأول حمل
هو هو والثاني حمل ذو هو، والتقسيم المذكور انما هو بحسب ظاهر النسبة
الاسنادية في القضية، حيث إن المسند إن صح اسناده للموضوع بلا واسطة
فالحمل مواطاة وان احتاج اسناده لتوسيط مفهوم ذو وصاحب فهو حمل
اشتقاق، لكن كلا القسمين عند التأمل والتحليل هو حمل مواطاة، إذ المفهوم
الحقيقي للحمل هو خلق الاتحاد والالتحام بين الموضوع والمحمول بحيث
يكون المحمول وجها للموضوع إلا أن يكون مقصودهم بحمل الاشتقاق أنه
مصداق مجازي للحمل لا مصداق حقيق لان حقيقة الحمل معناها الهوهوية كما
ذكرنا وسيأتي بيانه.
ب - إن الفارق الجوهري بين كثرة التقارن الحسي بين أمرين وبين كثرة
الحمل: أن الأول لا يذيب الاثنينية بين الطرفين ولا يزيل الفواصل الغيرية
عنهما وإن أوجب تلازمهما وسببية أحدهما لحضور الآخر، أما كثرة الحمل فإنها
تمحو الفواصل والاثنينية بين الموضوع والمحمول وتلبس أحدهما لباس الآخر
بحيث تتحقق علاقة الهوهوية والاتحاد بينهما.
إذن فعامل الحمل - أي حمل اللفظ على المعنى - سواء في جانبه الكمي
وهو الكثرة أم في جانبه الكيفي وهو انضمام المثيرات والأساليب الدعائية
والاعلامية المختلفة يوجب رسوخ العلاقة بين اللفظ والمعنى، بحيث يصبح
اللفظ وجها للمعنى وتندمج صورته في صوره المعنى ذهنا، نظير حمل الكرم
150

بألفاظه وقصصه وايجابياته على حاتم فإنه يؤدي بالنتيجة لاكتساب اللفظ ماهية
اعتبارية وهي ماهية الكرم مضافا لماهيته التكوينية.
فالخلاصة: أن كثرة حمل اللفظ على المعنى مع مساهمة بعض العوامل
الأخرى أدت لحصول الهوهوية والاندماج بين صورتي اللفظ والمعنى، فصار
اللفظ وجها للمعنى فانيا فيه والمعنى تتجلى صورته من نفس صورة اللفظ.
وهذا الاندماج الحاصل نتيجة تأكد الحمل له عدة ثمرات علمية في
الفكر الأصولي والفقهي، فمثلا في مبحث الأحكام الوضعية قد ذهب الشيخ
الأنصاري إلى كونها منتزعة من الأحكام التكليفية بل نقل عن بعضهم العينية
وأن الأحكام الوضعية هي عين الأحكام التكليفية (1)، ونحن نرى رجوع القولين
لمسلك واحد وهو مسلك الاندماجية بين الحكمين، وذلك لان حمل احكام على
محور واحد بصورة متكررة يؤدي لحصول الاندماج بينهما واستبطان أحدهما
للآخر.
فاستبطان الملكية مثلا لجواز التصرف الحسي والاعتباري وترتب جميع
شؤون السلطنة حصل نتيجة كثرة حمل هذه الأحكام على محور واحد وهو العقد
المفيد للملكية، فكثرة حمل الاحكام القانونية على العقد أدى لاندماج هذه
الأحكام التكليفية في ماهية الملكية واقترانهما كماهية واحدة، بحيث أصبح أنه
لا معنى للملكية الا جواز التصرفات ولا معنى لها الا بالملكية.
وكذلك في مبحث مقدمة الواجب حيث اخترنا هناك أن وجوب المقدمة
وجوب شرعي لا عقلي كما ذهب له الأستاذ السيد الخوئي (قده)، لكن على نحو
الوجوب الاندماجي المستبطن في نفس وجوب ذي المقدمة، فكأن كثرة حمل
وجوب المقدمة وتعليقه على مورد وجوب ذيها وربطه به أنتج اندكاك الوجوب
الغيري في النفسي على نحو الوجوب الواحد اثباتا.

(1) فرائد الأصول 2: 601.
151

وكذلك في بحث خيار الغبن الذي أرجعه الأستاذ لسيد الخوئي (قده)
إلى خيار تخلف الشرط لوجود شرط ضمني ارتكازي عند العقلاء وهو عدم
نقصان ما قبض عما دفع في المالية، ونحن أرجعناه إلى الشرط الاندماجي
بمعنى أن المعاوضة بين المبيع والثمن مستبطنة لمساواتهما في المالية، وهذا
الاستبطان نتج عن كثرة حمل هذا الشرط على كل من أوجد المعاملة. وغير ذلك
من البحوث التي يمكن تصوير نظرية الاندماجية والهوهوية فيها.
النقطة الثالثة: في عرض الشواهد الدالة على كون العلاقة الوضعية هي
علاقة الهوهوية والاتحاد بين اللفظ والمعنى، وهي خمسة شواهد:
الأول: الفارق بين قانون تداعي المعاني وظاهرة اللغة عند الانسان،
فإن قانون التداعي قانون غريزي موجود عند جميع الحيوانات فلا يحتاج تطبيقه
إلى تأمل وتخطيط، فالحيوان بطبيعته وغريزته يصدر أصواتا تعبر عن الألم
وأصواتا تعبر عن الجوع وأصواتا تعبر عن الفرح ويفهمها افراد نوعه بقانون
تداعي المعاني، فمثلا الدجاجة كما يذكر في عالم الحيوان إذا أرادت ان تغذي
صغارها فإنها تضرب بمنقارها الأرض ثم تصدر أصواتا معينة تفهمها صغارها
وتستجيب للحضور.
فالقانون الذي دفع الدجاجة الام لهذا العمل ودفع الصغار للحضور
هو قانون تداعي المعاني وهو مركوز في غريزة الحيوان لا يحتاج اجراؤه لعمل
عقلي أو فكري، بينما اللغة ظاهرة حضارية حية كما يعبر عنها علماء الاجتماع
وتعتبر الدليل على ثقافة المجتمع وحضارته ومستواه الفكري والمادي، باعتبار
انها لابد أن تمر بالمراحل الأربع التي ذكرناها، وهي مرحلة الانتخاب و مرحلة
الإشارة ومرحلة التلازم ومرحلة الهوهوية.
وهذه المراحل لا يحتاج لها قانون تداعي المعاني الذي يعني الانتقال من
الملزوم إلى اللازم كالانتقال من النار للاحتراق، لأنه قانون غريزي فلا يتوقف
152

على هذه المراحل المخططة عقلا بخلاف العلاقة الوضية اللغوية بين اللفظ
والمعنى فإنها مرحلة راقية للتطور الابداعي عند الانسان. ولعل الآية الكريمة:
(خلق الانسان * علمه البيان) (1) تشير لهذه النقطة، حيث اعتبرت البيان نعمة
خاصة بالانسان مع أن الأصوات الخاصة بالحيوانات والحركات التي يقوم بها
للتعبير عن حالاته النفسية والجسمية نوع من البيان، فلماذا خص الله نعمة
البيان بالانسان؟
فلعل في ذلك إشارة إلى أن بيانية اللغة البشرية أعمق وأرسخ من بيانية
بقية الأصوات الحيوانية في الدلالة على المقاصد، وعمق البيانية يتقوم برسوخ
العلاقة بين اللفظ والمعنى بحيث تعد مرحلة أرقي من مرحلة التلازم والسببية
الموجودة حتى في لغة الحيوانات وبقية الملازمات، وهي مرحلة الهوهوية
والاتحاد.
وإذا تأملنا في الفرق بين إشارات الأخرس ولغة الفصيح - مع أن كليهما
مندرج تحت عنوان الدلالة - وجدنا أن بيانية اللفظ لمعناه أرسخ وأقوى من بيانية
الإشارة الصادرة من الأخرس لنفس المعنى مع وجود قانون السببية فيها بناءا
على نظرية تداعي المعاني، مما يكشف عن كون العلاقة الوضعية أرقي من
علاقة السببية، وهي علاقة الهوهوية.
الشاهد الثاني: ويتضمن أمرين:
أ - إن حركة الذهن على لونين:
1 - حركة الاستنتاج.
2 - حركة الاستمتاع والاستذكار.
فأما حركة الاستنتاج فهي حركة تصديقية تستتبع جزما واعتقادا، لأنها
انتقال من المقدمات للنتائج كحل المسائل الرياضية أو القانونية وشبهها، وهذه

(1) الرحمن 55: 3 و 4.
153

الحركة كما ذكر الفلاسفة تتضمن ثلاثة انتقالات:
1 - انتقالا نحو المعلوم.
2 - انتقالا بين المعلومات.
3 - انتقالا من المعلوم للمجهول.
وقد ذكر ابن سينا والمحقق الطوسي في شرح الإشارات ان هذه
الانتقالات الذهنية تكون بألفاظ ذهنية (1)، والسر في ذلك أن هذه الحركة لما كانت
تصديقية تستتبع اذعانا أو رفضا أو تشكيكا من النفس فلابد من صياغتها على
شكل قضايا تعرض على النفس لتحدد موقفها تجاهها، إذ العلم التصديقي لا
يتعلق بالتصورات الافرادية وإنما يتعلق بالتصورات الاسنادية، إذن فحركة
الاستنتاج والاستدلال والانتقال من المعلوم للمجهول تتقوم بقيام الذهن
بصياغة المعاني المعلومة على شكل القضايا المرتبة المؤطرة بإطار أحد الاشكال
الأربعة للقياس المنطقي. وهذا هو معنى كون الانتقالات الذهنية تتم بألفاظ
ذهنية كما ذكر المحقق الطوسي (2).
وأما حركة الاستذكار فهي كمن يقوم باستعراض ذكريات طفولته في ذهنه
من أجل التألم أو التمتع وكمن يقوم بمشاهدة لوحة فنية زاهية لأجل الاستمتاع فإن
هذه الحركة لا تحتاج لاستخدام ألفاظ ذهنية معها، لأنها حركة تصورية لا
تستتبع اذعانا من النفس فلا حاجة لصياغتها من قبل النفس في شكل القضايا
الاسنادية.
ب - ان الحركة الذهنية الاستدلالية المتقومة بالألفاظ الذهنية لا يمكن
ان يكون دور اللفظ فيها دور السبب المستلزم لمسببه بل دور الهوهوية والاتحاد،
وذلك لأنه لو كانت هذه الألفاظ الذهنية سببا في اخطار المعاني المعلومة المعدة

(1) الإشارات 1: 22.
(2) الإشارات 1: 22.
154

للاستنتاج لاستغنى عنها بعد حضور المعاني وتمت الانتقالات بعد ذلك بين
المعاني نفسها بدون الألفاظ، إذ الهدف من خطور اللفظ سببيته لخطور المعنى
فلا حاجة له بعد حضور المعنى، مع أن هذه الانتقالات لا يمكن تحققها بدون
الألفاظ.
فلا محالة يكون علاقة اللفظ هنا بالمعنى المعلوم علاقة الهوهوية والاتحاد،
والا فإن علاقة السببية بين اللفظ والمعنى لو كانت موجودة في هذه الصورة أيضا
مع خطور المعاني وحضورها في الذهن وعدم حاجتها للألفاظ فهي من باب
تحصيل الحاصل وهو محال، إذ الغاية من تصورها هو تصور المعاني والمفروض
أن المعاني متصورة حاضرة، فلابد أن تكون علاقة اللفظ بهذه المعاني المعلومة
علاقة الهوهوية والاتحاد التي لا تتأثر بحضور المعاني وخطورها.
الشاهد الثالث: لقد ذكر علماء النفس أن طريقة التفكير ترتبط ارتباطا
وثيقا باللغة المستخدمة عند التفكير، فإن اللغات العالمية لا تختلف اختلافا
لفظيا فقط بل إن كل لغة تتضمن بين ثناياها طريقة معينة للتفكير والتحليل،
فمثلا كثير من اللغات تختلف عن اللغة العربية في تقديم المسند على المسند إليه
بعكس اللغة العربية وهذا له تأثير كبير في طريقة التفكير والتحليل الذهني.
كما أن اللغة الفارسية واليونانية تستلزم تصور القضايا الحملية على أنها من
باب ثبوت شئ لشئ، لذلك يذكر فيها الرابط بين الموضوع والمحمول وهو (است
أو استين)، بينما اللغة العربية تصور للذهن أن القضية الحملية من باب
الهوهوية بين الموضوع والمحمول نحو زيد قائم، ولذلك عندما يعبرون عن نسبة
الربط فيها يذكرون ضمير الشأن وهو - لفظ هو -.
ومما لا شك فيه أن تصور القضية على النحو الأول يختلف عن تصورها
على النحو الثاني، فلو كان ارتباط اللفظ بالمعنى ارتباط السبب بالمسبب لم نجد
تلازما بين طبيعة اللغة وطريقة التفكير، إذ شأن اللفظ حينئذ اخطار المعنى فقط
155

كاخطاره بأي لفظ من لغة أخرى فلا يتغير نوع تصور المعنى لتغير طريقة
اللفظ، بينما تأثر أسلوب التفكير باللغة المستخدمة كاشف عن علاقة الاندماج
والهوهوية بين اللفظ والمعنى وانعكاس المعنى في اللفظ نفسه.
الشاهد الرابع: الاستعمال غير التفهيمي: ان الانسان حينما يستعمل
اللفظ فتارة يكون مقصوده تفهيم الآخرين أو تفهيم نفسه وتارة يستخدمه
لأهداف أخرى كهدف الدعاء أو التلقين أو الترويح النفسي، فبالنسبة لهدف
الدعاء مثلا لو تلفظ الانسان بألفاظ المناجاة مع الله تبارك وتعالى فهنا لا يقصد
الداعي تفهيم المخاطب لعلمه بعلم الله بجميع ما يخلد في ذهنه قبل النطق،
وأيضا لا يقصد من طرح هذه الألفاظ اخطار معانيها في ذهنه لحضور هذه
المعاني مسبقا قبل تلفظه بألفاظها، ولو قصد اخطارها بتلك الألفاظ لكان من
قبيل تحصيل الحاصل وهو محال.
وإنما مقصوده بذلك اظهار العبودية والذلة أمام الحق تبارك وتعالى، فلولا
شعور الداعي بحضور المعاني الروحية في نفس حضور الألفاظ لما استخدمها
في مقام الدعاء، إذ لو كان دور اللفظ بالنسبة لمعناه دور السبب بالنسبة
للمسبب لم تكن هناك حاجة للتلفظ لحضور المعاني في ذهنه، لكن اندفاعه
للتلفظ بهذه المعاني كاشف عن شعوره اليقيني باندماج صورة المعنى في صورة
اللفظ، بحيث أنه إذا أحضر اللفظ فقد أحضر المعنى خارجا بحضور اللفظ.
ومعلوم أن العبودية أنما هي في المعنى لا في اللفظ، ومقصوده الأساسي
هو تحقيق تلك المعاني الروحية خارج ذهنه، فلولا ادراكه علاقة الاندماج بين
صورة اللفظ وصورة المعنى وحضور المعنى بحضور اللفظ لما قام بالتلفظ في
مقام الدعاء والمناجاة.
وكذلك عند الكلام مع النفس بهدف التلقين النفسي الذي ذكرت
المدرسة السلوكية في علم النفس أنه من طرق العلاج للأمراض النفسية
156

الكثيرة، فإذا أصيب الانسان في حياته بظروف قاسية سببت تأخر مسيرته
العلمية أو العملية فقد يصاب بمرض القلق والتوتر النفسي، ومن طرق العلاج
لمثل هذا المرض هو عملية التلقين النفسي بأن يتحدث مع نفسه بألفاظ
التشجيع والتحضيض والدفع لمواصلة مسيرته.
فعملية التلقين لم يكن المقصود بها اخطار المعاني في الذهن لخطور هذه
المعاني مسبقا قبل الألفاظ فتحصيلها باللفظ من باب تحصيل الحاصل وهو
محال، ولم يكن المقصود بها تفهيم الآخرين لان الخطاب مع النفس لا مع الغير،
بل المقصود بها تلقين النفس كفاءتها وقدرتها، وحينئذ لو كانت علاقة اللفظ
بالمعاني التشجيعية علاقة السببية لم يكن هناك حاجة للتلفظ، لكن ادراك
المتكلم اندماج صورة المعنى في صورة اللفظ بحيث أنه إذا أحضر اللفظ فقد
أحضر المعنى التشجيعي للنفس هو الذي دفعه للتلفظ، حيث أن علاج مرضه
في المعنى لا في اللفظ فلولا حضور المعنى بحضور اللفظ لما تمت عملية
التلقين.
و كذلك أساليب الترويح عن النفس أو تأليمها أو توبيخها أو تفريحها من
خلال التلفظ بألفاظ الألم والفرح كاشف عن شعور وجدان المتكلم بهوهوية
صور الألفاظ وصور المعاني، وحضور المعاني بحضور اللفظ على نحو الاندماج
والاتحاد، وكون المعنى ماهية أخرى قد اكتسبها اللفظ مع ماهيته التكوينية كما
سبق بيانه.
الشاهد الخامس: سراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ.
مما لا ريب فيه وجدانا الشعور بكراهة بعض الألفاظ كلفظ هتلر ويزيد
لقبح معانيها واستحسان بعض الألفاظ الأخرى كالحسن وعلي ومحمد لحسن
معانيها، فلولا علاقة الاندماج بين اللفظ والمعنى واتحاد صورتيهما لما سرى
الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ.
157

لكن ربما يقال: بأن كراهة اللفظ واستحسانه لا يكشف عن كون علاقة
اللفظ بمعناه علاقة الهوهوية بل لان ذكر اللفظ سبب لاخطار المعنى القبيح،
فهذه السببية لخطور القبيح أوجبت النفور من اللفظ لا لكون العلاقة بينهما هي
علاقة الاتحاد والاندماج.
ولكن الذي يظهر بالتأمل الوجداني هو دلالة سراية الحسن والقبح من
المعنى إلى اللفظ على وحدة العلاقة واندماجيتها، وذلك لان القبح والحسن
بمعنى النقص والكمال وعاءه هو المعنى بوجوده الخارجي وإنما يسري للصورة
الذهنية أولا ثم منها إلى اللفظ، وسريانه للصورة الذهنية والألفاظ لا بمعنى
الكمال والنقص الواقعيين بل بمعنى القبول والرفض النفسيين، ولولا اتحاد الصورة
الذهنية مع ما في الخارج في ماهية واحدة وذات فاردة لما سرى الحسن والقبح
من المعنى الخارجي للمعنى الذهني، فكذلك لولا وحدة الصورة الذهنية
للمعنى مع صورة اللفظ بحيث يعد حضور اللفظ حضورا للمعنى لما سرى
الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ.
الشاهد السادس: ان المناطقة قسموا الدلالة للمطابقية والالتزامية،
فإن دلالة اللفظ على تمام معناه مطابقة ودلالة اللفظ على جزء معناه أو ما هو
خارج عنه لازم له التزام، لرجوع الدلالة التضمنية في الواقع للدلالة
الالتزامية، حيث إن الكل والجزء متلازمان خارجا وذهنا بمعنى كون حضور
الكل حضورا للجزء ولا عكس، فمثلا لفظ الشمس موضوع للجرم الناري
ودلالته مطابقية ولكن لتلازم هذا الجرم مع الشعاع صارت دلالة لفظ الشمس
على الشعاع دلالة التزامية، لكون اللزوم من اللزوم البين بالمعنى الأخص.
وحينئذ نقول: لو كانت علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الملزوم باللازم لم
يكن هناك فرق بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الخطور الذهني
أصلا، حيث أن دلالة اللفظ على معناه المطابقي بالملازمة لتلازمهما ذهنا في
158

الخطور، وكذلك دلالة اللفظ على الشعاع مثلا بالملازمة لتلازمهما ذهنا نتيجة
تلازم المعنى المطابقي والالتزامي في الاحساس.
نعم بينهما فرق في مرحلة الانتخاب باعتبار أن اللفظ قد انتخب للدلالة
على المعنى المطابقي لا للدلالة على المعنى الالتزامي، لكن هذا الفرق لم
ينعكس على مرحلة الإشارة ولا مرحلة التلازم والسببية، فإن اللفظ ملزوم
لكليهما دال عليهما من باب السببية والملازمة مع أن الفرق بينهما واضح عند
الوجدان وأن انتقال الذهن للمعنى المطابقي أرسخ وأقوى من انتقاله للمعنى
الالتزامي.
ولو كانت درجة الانتقال للمعنى الالتزامي مساوية لدرجة الانتقال
للمعنى المطابقي لكان المعنى الالتزامي مطابقيا بلا اشكال، فالفرق الوجداني
بين الدلالتين من حيث القوة والضعف كاشف عن كون علاقة اللفظ بالمعنى علاقة
الاندماج والهوهوية وهي حاصلة في المعنى المطابقي لأنه المعنى الوضعي دون
الالتزامي، فعلاقة اللفظ به علاقة السببية والملازمة.
وربما يقال: بأن الفارق بين الدلالة المطابقية والالتزامية بأن سببية اللفظ
لخطور المعنى المطابقي بلا واسطة بينما سببية اللفظ لخطور المعنى الالتزامي
بواسطة خطور المطابقي أولا، فهذا هو الفارق بين الدلالتين والا فكلاهما
مندرج تحت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى.
ولكن الصحيح أننا لا نرى وجدانا حضور ثلاث صور ذهنية في الدلالة
الالتزامية، صورة اللفظ وصورة المعنى المطابقي وصورة المعنى الالتزامي بل لا
نرى غير صورتي المعنى المطابقي والالتزامي، مضافا إلى أن الفلاسفة فرقوا بين
اللزوم البين بالمعنى الأخص والبين بالمعنى الأعم وغير البين بأن الأول ما كان
تصور الملزوم كافيا في تصوره دون الثاني وبنوا الدلالة الالتزامية. على البين
بالمعنى الأخص، فلا يحتاج حينئذ بناءا على هذا التحديد في الانتقال للمدلول
159

الالتزامي إلى تصور اللفظ أبدا بل تصور الملزوم وهو المعنى كاف في تصور
اللازم.
فلو كانت علاقة اللفظ بالمعنى المطابقي علاقة السببية لكان تصور
المعنى المطابقي بعد ذلك كافيا في تصور اللازم بلا حاجة لتصور اللفظ مرة
أخرى ليدل على المعنى الالتزامي بالواسطة وتتحول الدلالة الالتزامية حينئذ
من كونها لفظية إلى كونها عقلية، وهي التلازم بين المعاني، وهذا ما التزم به
بعض الأعاظم (1) (قده)، مع أن المناطقة يعدونها من الدلالات اللفظية.
بينما لو قلنا بأن علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الهوهوية فتصور اللفظ هو
تصور للمعنى وتصور المعنى المطابقي ملازم لتصور المعنى الالتزامي، فيصح
حينئذ أن ينسب خطور المعنى الالتزامي إلى اللفظ وتبقى الدلالة الالتزامية
دلالة لفظية لا عقلية، بخلاف ما لو كانت علاقة تصور اللفظ بتصور المعنى
علاقة السببية فإن اللفظ ينتهي دوره بمجرد تصور المعنى المطابقي، والانتقال
حينئذ للمعنى الالتزامي يكون بواسطة المعنى المطابقي نفسه بلا نظر لصورة
اللفظ، فلا تكون الدلالة لفظية بل عقلية وللبحث مقام آخر.
والحاصل بعد عرض هذه الشواهد هو كون علاقة المعنى باللفظ الموضوع
علاقة الهوهوية والاندماج، وأما علاقة الإشارة والسببية فهي من مبادئ العلاقة
الوضعية لا هي نفسها.
وعدم حصول علاقة الهوهوية في بعض الأذهان بالنسبة لبعض
الألفاظ، كمن يتذكر اللفظ وهو نابر للمعنى أو بالعكس، أو لا يكون انتقاله
للمعنى عبر اللفظ ومن خلاله كالمتعلم للغة معينة الذي ينتقل ذهنه للمعنى
بنحو السببية لا الهوهوية، فهذا لم تتحقق العلاقة الوضعية بالنسبة له، فإن

(1) السيد الخميني في كتاب البيع 1: 70.
160

العلاقة الوضعية أمر ذهني يختلف باختلاف الأذهان والظروف ففي بعض
الأذهان لبعض العوامل ربما لم تتحق بعد ولكنها تحققت في غيره.
إذن فما نريد قوله هو: أن الملحوظ وجدانا عندنا أنه بعد الاحساس
باللفظ تكون هناك صورة واحدة في الذهن وهي صورة اللفظ وهذه الصورة
نفسها مشيرة للمعنى على نحو يكون المفهوم اللفظي مغفولا عنه والتوجه
الأساسي للمعنى، وليس هناك صورتان إحداهما مستلزمة لحضور الأخرى،
والشواهد التي عرضناها محاولات لتقريب هذه الفكرة عندنا والا فالدليل
الوحيد في القضايا النفسية والذهنية هو الوجدان.
161

المقام الثاني: بيان حقيقة الوضع
اختلف الاعلام في تحديد حقيقة الوضع وطرحوا عدة نظريات في هذا
المقام، وقبل التعرض لمناقشات نظرياتهم في الوضع نذكر مقدمة نشرح فيها
وجهة نظرنا في حقيقة الوضع اجمالا مما يساعدنا على فهم النظريات الأخرى
ومعرفة كيفية مناقشتها.
المقدمة: وتتضمن أربعة أمور:
أ - ان البحث في نشأة اللغات، ومتى بدأت أول كلمة على لسان البشر،
ومن هو الواضع اللغوي، وكيفية تكامل اللغات وتطورها، بحث لا نتعرض
له لوجهين:
1 - عدم وصول العلماء في الفلسفة واللغة والأصول حتى الآن إلى أدلة
قاطعة وقناعات كافية في هذا المجال وما زال الرأي تخمينا وتقريبا فقط.
2 - عدم مدخلية ذلك في البحوث الأصولية، لعدم توقف البحث
الأصولي عليه على الصعيدين العلمي والعملي، لذلك نقتصر على بيان حقيقة
الوضع اللغوي في العصر الحاضر، وبيان مراحله وصور تطوره. وفهم حقيقة
الوضع اللغوي المعاصر يفيدنا في تحديد انطلاقة اللغة ونشأتها عند الانسان
ما دام الاندفاع نحو عملية الوضع والقيام بها أمرا فطريا عند الانسان ومقوما
لانسانيته، والامر الفطري لا يتغير بتغير العصور والحضارات والمجتمعات،
فيمكن استكشاف كيفية بداية اللغة وتطورها من خلال تحديد حقيقة الوضع
في العصر الحاضر.
ب - ان العلاقة بين اللفظ والمعنى الموضوع له كما سبق تمر بمراحل
162

أربع:
1 - مرحلة الانتخاب: وهي المسماة عندهم بالوضع.
2 - مرحلة الإشارة: وهي الإشارة باللفظ للمعنى لعوامل كمية أو كيفية
تساعد على ذلك.
3 - مرحلة التلازم والسببية الذهنية: وهي كون صورة اللفظ سببا
لتصور المعنى.
4 - مرحلة الهوهوية: وهي اندماج تصور المعنى في تصور اللفظ.
وهنا بحثان يتعلقان بهذه المراحل:
الأول: هل ان نتيجة المرحلتين الأوليين حصول المرحلة الثالثة فقط
بحيث تكون العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى هي مرحلة التلازم والسببية
فقط، أم تتطور العلاقة إلى مستوى المرحلة الرابعة بحيث تكون هي حقيقة
العلاقة الوضعية وما قبلها مبادئ ومقدمات لحصولها؟
وهذا ما تعرضنا له سابقا في المقام الأول، واخترنا التصور الثاني وهو كون
العلاقة الوضعية عبارة عن الهوهوية والاندماج بين تصور وتصور المعنى.
الثاني: يتعلق بالمرحلتين الأوليين، وهو أننا سواء قلنا بأن العلاقة
الوضعية - أي الوضع بالمعنى الاسم المصدري - تعني التلازم أو قلنا بأنها تعني
الهوهوية ما هو الطريق الممهد لحصول هذه العلاقة، وهو المعبر عنه بالوضع
بالمعنى المصدري؟
وهل هذا الطريق عبارة عن التخصيص أو التعهد أو القرن المؤكد أو غير
ذلك من النظريات؟
وهذا ما يتم البحث عنه في هذا المقام الثاني.
ج - في تحليل المرحلة الأولى، وهي مرحلة الانتخاب بحسب مسلكنا
ووجهة نظرنا، فنقول: مرحلة الانتخاب والوضع بالمعنى المصدري لها حقيقة
163

ولها مصحح، أما حقيقتها فهي اعتبار أدبي من الاعتبارات الأدبية، فإن
الاعتبار الأدبي معناه اعطاء حد شئ لشئ آخر لنقل الأحاسيس للشئ
الآخر وتوجيهها نحوه، فعندما يقال على سبيل الاستعارة جاء أسد ويقصد به
الرجل الشجاع فإن الشجاع هنا قد اعطى حد الأسد المفترس لنقل أحاسيس
الهيبة والخوف من الأسد الحقيقي إلى الأسد المجازي وهو الرجل الشجاع،
فكذلك عملية الوضع لون من ألوان الاعتبار الأدبي، فعندما يقال هذه نار
ويكرر الاطلاق فإنما المقصود بذلك اعطاء حد النار وهو الصورة الخاصة لمفهوم
النار للفظ نفسه ولتظل الحالة الاحساسية للانسان عندما يرى النار موجودة مع
سماع لفظ النار أيضا.
وأما المصحح لهذا الاعتبار الأدبي فهو التمهيد لحصول العلاقة الراسخة
بين اللفظ والمعنى، فالوضع والجعل والتخصيص اعتبار أدبي غير متأصل قصد
به التمهيد لحصول العلاقة بين اللفظ والمعنى، لما ذكره علماء البيان من كون
المجاز طريقا للحقيقة، فالاعتبار في بدئه أدبي غير متأصل وبوصوله لمرحلة
الإشارة والتفهيم يتحول الاعتبار لكونه حقيقة متأصلة تكوينية بين اللفظ
والمعنى.
د - في بيان نظريتنا في الوضع؟ خلاصة وجهة نظرنا في الوضع تبرز في
نقاط:
الأولى: إن الأصوليين عندما بحثوا عن تحديد حقيقة الوضع كانوا
مهتمين بعدة ملاحظات، منها ان الهدف الأساسي من الوضع هو الوصول
للعلاقة الذهنية الراسخة بين اللفظ والمعنى، ولذلك تسائلوا عن أقرب الطرق
وأقوى الأسباب المؤثرة في حدوث العلاقة المذكورة، فهل هذا السبب القريب
هو التخصيص أو التعهد أو القرن أو جعل الملازمة.
ومنها ادراكهم ان العملية الاعتبارية وهي جعل اللفظ بإزاء المعنى غير
164

كافية في حدوث العلاقة المذكورة، فإن مليار تعهد ومليار جعل وتخصيص لا
يخلق تلازما بين تصور اللفظ وتصور المعنى ما لم تنضم المرحلة الثانية إليه،
وهي مرحلة وضوح المعنى من اللفظ عبر القرائن المساهمة في هذا الوضوح
بكمها أو كيفها. المعبر عنها سابقا بمرحلة الإشارة.
ومنها أن المرحلة الثانية لا تنفصل عن المرحلة الأولى في حيثية التمهيد
للعلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى، بل هذه مترتبة على المرحلة الأولى ترتبا
طبعيا كترتب اجزاء العلة الاعدادية، فمن الواضح ان المرحلة الثانية هي
مرحلة اظهار المعنى باللفظ واظهار المعنى باللفظ ولو بالقرينة فرع وجود ربط
واختصاص بين اللفظ والمعنى ولو كان ربطا اعتباريا الذي هو المرحلة الأولى،
فالمرحلة الثانية متفرعة من المرحلة الأولى في مقام التمهيد للعلاقة الوضعية،
كما قال علماء الأصول بأن مرحلة الاتباع فرع مرحلة الاختراع.
وبناءا على هذه الملاحظات الثلاث يحاول كل مسلك من المسالك
المذكورة في باب الوضع صياغة الوضع صياغة تجمع بين المرحلتين الأولى
والثانية، لمدخليتهما معا في حدوث العلاقة الوضعية وعدم انفكاك الثانية عن
الأولى وتفرعها عنها. وظنوا ان ذلك هو أقرب الأسباب والطرق لحدوث العلاقة
الوضعية المذكورة.
فقال بعضهم كصاحب الكفاية بمسلك الاختصاص بين اللفظ
والمعنى (1)، لتصوره أن الاختصاص عنوان جامع بين المرحلتين المؤثرتين، وذهب
الأستاذ السيد الخوئي (قده) لمسلك التعهد (2)، وقد يعمم للتعهد الفردي
والعقلاني والتعهد بالجعل والتعهد عبر الاستعمال حتى يكون شاملا

(1) الكفاية: 9.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 38 و 43، تعليقة أجود التقريرات 1: 12.
165

للمرحلتين الأوليين، وذهب بعضهم إلى كون الوضع هو القرن الموثق بين
اللفظ والمعنى، الخ.
الثانية: ان هذه المسالك المذكورة ان كانت تعبر عن مرحلة واحدة من
المراحل الثلاث للوضع، وهي مرحلة الجعل أو مرحلة الاستعمال مع القرينة أو
مرحلة الترابط بين صورة اللفظ وصورة المعنى، فهي غير وافية بعكس حقيقة
الوضع وتجليتها على واقعها، لان حقيقة الوضع تعنى تدرج هذه المراحل
ومساهمتها معا في حصول الترابط الوضعي بين اللفظ والمعنى، فلا يمكن فصل
مرحلة منها عن مرحلة أخرى.
وان كانت المسالك - كما ذكرنا في النقطة السابقة - تحاول أن تدمج
المرحلة الأولى والثانية وتصهرهما في صياغة واحدة تعبر عن حقيقة الوضع فهذا
خطأ واضح، لان المرحلتين متغايرتان فالأولى وهي مرحلة الجعل اعتبارية
والثانية وهي مرحلة اظهار المعنى باللفظ مع القرينة مرحلة واقعية تكوينية ترجع
لسببية اللفظ مع القرائن المولدة للانتقال إلى المعنى بكمها وكيفها.
فدمج المرحلتين حينئذ في صياغة واحدة ولو بعنوان انتزاعي جامع بينهما
لا يعكس اختلاف المرحلتين في درجة التأثير وتفرع الثانية على الأولى وترتبها
عليها، فهذا التدرج والترقي من بداية الجعل ثم للاستعمال مع القرينة ثم
لحصول الترابط بين اللفظ والمعنى لا ينعكس في صياغة واحدة تجمع
المرحلتين.
الثالثة: ان حقيقة الوضع في نظرنا هي الهوهوية بين تصور اللفظ وتصور
المعنى الحاصلة من مقدمات ثلاث:
1 - الجعل.
2 - الاستعمال مع القرينة.
3 - التلازم.
166

أما مرحلة الجعل والانتخاب فهي عملية اعتبارية كما سبق بيانه، وتعني
جعل اللفظ بإزاء المعنى. وهذا الاعتبار الأدبي يمكن صياغته بعدة صور
وألوان، منها التخصيص ومنها جعل الملازمة ومنها جعل الهوهوية ومنها التعهد
ومنها القرن المؤكد، فهذه المسالك كلها مقبولة عندنا على مستوى المرحلة
الأولى، لأنها صياغات متعددة لاعتبار أدبي واحد.، واختلافها يكشف عن
اختلاف المستوى الثقافي والذوقي والظرف الحضاري الذي ينمو فيه هذا
التفكير وهذا المسلك.
وأما مرحلة الإشارة فقد تكون عملية مقصودة من قبل الواضع في تكراره
الاستعمال وتكثير القرائن المشيرة والعوامل المرسخة للعلاقة بين اللفظ
والمعنى، وفي الغالب لا تكون عملية مقصودة بل هي أمر تكويني، وهو كثرة
الاستعمال والاطلاق وحمل اللفظ على المعنى مع القرائن وهذا ما يسمى بالعامل
الكمي، أو توافر قرائن سياقية ومقامية مع، عوامل مثيرة تساعد على تأكد العلاقة
الوضعية بين اللفظ والمعنى وهذا ما يسمى بالعامل الكيفي.
وأما المرحلة الثالثة فهي مرحلة تحقق العلاقة الوضعية في نظرية المشهور،
وهي سببية تصور اللفظ لتصور المعنى. وهي عندنا مقدمة قريبة لحصول
العلاقة الوضعية، والعلاقة عندنا هي درجة أرقي من ذلك وهي حصول
الهوهوية والاندماج بين صورة اللفظ وصورة المعنى، وهذا ما تعرضنا لشرحه
سابقا.
167

المسالك في حقيقة الوضع
وهي عدة مسالك ونظريات نتحدث عنها تفصيلا:
الأول: مسلك الملازمة: وقد طرحه المحقق العراقي (قده) وبيانه يتم
بذكر نقطتين:
أ - ان تعبيرات المحقق العراقي مختلفة، فتارة يقول: بأن الوضع هو
الملازمة الاعتبارية، وتارة يقول: بأنه الملازمة الواقعية، وصار هذا سببا للايراد
على المحقق المذكور من قبل الاعلام بأن الملازمة الاعتبارية تختلف عن الملازمة
الواقعية فهما مسلكان متغايران لا مسلك واحد فكيف جعلهما مسلكا
واحدا؟!
ولكن الصحيح أن مقصود المحقق العراقي (قده) أن الوضع عبارة عن
كلي الملازمة الجامع بين مراحل الوضع ودرجاته، فهذه الملازمة في المرحلة الأولى
من مراحل الوضع ملازمة اعتبارية، وهي عبارة عن جعل التلازم بين اللفظ
والمعنى واعتبارهما متلازمين. وهذه الملازمة أيضا في المرحلة الأخيرة من الوضع
ملازمة واقعية، وهي عبارة عن استلزام تصور اللفظ لتصور المعنى، فاختلاف
التعبير عن الملازمة ناظر لاختلاف مراحلها ودرجاتها، والا فالوضع بالمعنى
العام الشامل هو العنوان الانتزاعي، وهو عنوان الملازمة الشامل للملازمتين
الاعتبارية والواقعية.
ب - ليس المقصود بالملازمة معناها اللغوي، وهو المفاعلة القائمة
بالطرفين، إذ الاستلزام هنا قائم بطرف واحد وهو اللفظ لكون تصور اللفظ
مستلزما لتصور المعنى ولا عكس حيث لا يكون تصور المعنى مستلزما لتصور
اللفظ في نظرهم. فلا توجد ملازمة لغوية بل استلزام من طرف اللفظ فقط،
اذن فالمقصود بالملازمة طبيعي التلازم القائم بتصور اللفظ، كلفظ المهاجرة
168

والمسافرة المراد منه طبيعي المبدأ لا المشاركة القائمة بالطرفين (1).
وتعليقنا على هذا المسلك يتلخص في ملاحظتين:
الأولى: ان التعبير عن الوضع بأنه الملازمة الجامع بين الملازمة الواقعية
بين اللفظ والمعنى والملازمة الاعتبارية لا يكشف عن حقيقة الوضع لامرين:
أولا: لان هذا الجامع هو عين الملازمتين المذكورتين وكلاهما لا يعبران
عن حقيقة الوضع، فالملازمة الواقعية يلاحظ عليها أنا قد أقمنا البرهان فيما
سبق على كون الوضع بالمعنى الاسم المصدري هو الهوهوية والاندماجية بين
تصور اللفظ وتصور المعنى لا الملازمة بين التصورين، والملازمة الاعتبارية
يلاحظ عليها أنها لون من ألوان الاعتبار الأدبي والاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح،
والمصحح المذكور سابقا وهو جعل الملازمة بين اللفظ والمعنى لأجل التمهيد
والاعداد لحصول الملازمة الواقعية بين صورة اللفظ وصورة المعنى، هذا
المصحح مشترك بين صياغات الاعتبار الأدبي المختلفة التي منها التعهد ومنها
القرن المؤكد ومنها الاختصاص، فلا يوجد مصحح معين لهذا الاعتبار الأدبي
الخاص وهو جعل الملازمة، فما هو المصحح لاعتباره بخصوصه؟
ثانيا: ان هذا التعريف للوضع فاقد لركيزة مهمة في مسيرة العلاقة
الوضعية بين اللفظ والمعنى، وهي المرحلة الثانية من مراحل الوضع التي هي
عبارة عن سببية اللفظ مع القرينة للانتقال إلى المعنى، حيث لا يوجد في
تعريف الوضع بأنه الملازمة أي إشارة لهذه المرحلة الضرورية لمسيرة الوضع،
وهي مرحلة سببية اللفظ مع القرينة للمعنى.
الثانية: ما طرحه في المحاضرات بقوله: أن الملازمة ان قصد بها الملازمة
الواقعية فهي تارة تقاس بالنسبة للجاهل بالوضع وتارة تقاس بالنسبة للعالم

(1) مقالات الأصوليين: 13 - 15.
169

به، فإن قيست بالنسبة للجاهل فهو مستحيل، إذ لا يمكن للجاهل بالوضع
ادراك الملازمة بين اللفظ والمعنى والا لاستحال الجهل باللغات كلها إذا كان
هناك ملازمة واقعية بين اللفظ والمعنى شاملة للجاهل والعالم، وان قيست
بالنسبة للعالم بالوضع فهي حاصلة عنده لكنها متفرعة عن الوضع مترتبة عليه
لا أنها هي الوضع نفسه.
وان أريد بها الملازمة الاعتبارية فتارة تلاحظ بالنسبة للجاهل بالوضع
وتارة تلاحظ بالنسبة للعالم به، فإن لوحظت بالنسبة للجاهل بالوضع فصدورها
لغو لان الجاهل بالوضع لا علم له به حتى ينتقل من تصور اللفظ لتصور المعنى
فاعتبار الملازمة في حقه لا يجدي شيئا ولا اثر له، وان لوحظت بالنسبة للعالم
بالوضع فيرد عليها أنها تحصيل حاصل لان العالم بالوضع عنده ملازمة ذهنية
بين اللفظ والمعنى فتحصيل هذه الملازمة باعتبارها في حقه تحصيل ما هو
حاصل بالوجدان عن طريق التعبد، وهو من أردأ أنحاء تحصيل الحاصل (1).
ولكن هذا النقاش مدفوع:
أولا: إننا نختار ان المراد بالملازمة الواقعية هي المقاسة بالنسبة للعالم
بالوضع لا بالنسبة للجاهل به ومع ذلك لا يرد الاشكال بأن هذه الملازمة ليست
هي بالوضع بل هي متفرعة عن الوضع، وذلك لان الوضع على نوعين الوضع
بالمعنى المصدري والوضع بالمعنى الاسم المصدري، والملازمة الواقعية وان
كانت متفرعة عن الأول لكنها هي الوضع بالمعنى الثاني ومراد صاحب هذا
المسلك عندما يعرف الوضع بالملازمة الواقعية هو المعنى الثاني لا الأول، فلا
يرد الاشكال المذكور.
وثانيا: اننا قد نختار أن المراد بالملازمة في التعريف الملازمة الاعتبارية

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 39 - 40.
170

لكن في حق الجاهل بالوضع لا في حق العالم به لئلا يلزم تحصيل الحاصل،
والاشكال المذكور بأن الملازمة الاعتبارية في حق الجاهل لغو لعدم انتقاله من
اللفظ للمعنى بمجرد هذه الملازمة فيه: ان اعتبار الملازمة في حق الجاهل لم
يقصد منه حصول الانتقال للمعنى عن طريق اللفظ بعد اعتبار الملازمة مباشرة
وبدون واسطة حتى يرد اشكال اللغوية، بل المقصود منه حصول الانتقال
للمعنى بواسطة المرور بالمرحلة الثانية وهي سببية اللفظ مع القرينة للمعنى،
فالاعتبار للملازمة مع شريطة المرحلة الثانية من مراحل الوضع لا يكون لغوا
بالنسبة للجاهل بهذا الوضع.
المسلك الثاني: مسلك الهوهوية:
وحاصله: ان الاعتبار الأدبي الصادر من الواضع فردا أو مؤسسة أو
مجتمعا هو جعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى بهدف الوصول للهوهوية، وقد
أورد الأستاذ السيد الخوئي (قده) على هذا المسلك ثلاثة إيرادات:
الأول: ما ذكر في المحاضرات ومحصله: ان تنزيل شئ مكان شئ آخر
يحتاج إلى مصحح والمصحح للتنزيل ترتيب آثار المنزل عليه على المنزل، فمثلا
في قول الشارع (الطواف بالبيت صلاة) (1) نوع من التنزيل لم يصح ذلك الا
باعتبار ترتيب آثار الصلاة ولوازمها على الطواف، وهنا في مقامنا عندما يقوم
الواضع بجعل الهوهوية بين اللفظ والمعنى فهذا نوع من التنزيل أي تنزيل
وجود اللفظ منزلة وجود المعنى للهوهوية بينهما، مع أنه لا تترتب آثار المعنى من
طلبه أو النفور منه على اللفظ بمجرد هذا التنزيل فلا مصحح له (2).
ويلاحظ على هذا الايراد بأن اعتبار الهوهوية بين صورة اللفظ وصورة

(1) عوالي اللآلي 1: 215، سنن النسائي 5: 222.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 41.
171

المعنى لون من ألوان التنزيل والاعتبارات الأدبية المتوقفة على وجود المصحح،
والمصحح كما ذكر هو ترتب آثار المنزل عليه على المنزل، الا ان هذا الترتب
يكفي في كونه مصححا حصوله ولو بالواسطة ولا وجه لتوقف مصححيته على
الترتب المباشر.
فتنزيل الشجاع منزلة الأسد من الهيبة والعظمة في النفوس يتم ولو
بواسطة كثرة الحمل والاطلاق ولا يحتاج المصحح إلى الترتب المباشر، وكذلك
في محل كلامنا يكفي في تنزيل وجود اللفظ منزلة وجود المعنى واعتبار الهوهوية
بينهما ترتب لوازم المعنى وآثاره على الوجود الذهني للفظ ولو بواسطة كثرة الحمل
والاطلاق بدون حاجة للترتب المباشر.
الثاني: إن الهدف من الوضع هو حصول الدلالة أي دلالة اللفظ على
المعنى، ومن الواضح ان الدلالة تتوقف على طرفين متغايرين دال وهو صورة
اللفظ ومدلول وهو صورة المعنى فجعل الهوهوية بينهما لا ينسجم مع الهدف
وهو الدلالة، اذن هذا النوع من الوضع وهو جعل الهوهوية لا يتلائم مع هدف
الوضع من حصول الدلالة المتوقفة على الطرفين (1).
ويلاحظ على هذا الايراد: ان الدلالة في نظر المورد عبارة عن علاقة
السببية والتلازم بين تصور اللفظ وتصور المعنى لذلك يراها متقومة بطرفين فلا
وجه لاعتبار الهوهوية بينهما، بينما الصحيح ما ذكرنا سابقا من كون الدلالة
والعلاقة الوضعية عبارة عن الهوهوية واندماج صورة المعنى في صورة اللفظ
لذلك يكون اعتبار الهوهوية بينهما منسجما تماما مع نتيجة الوضع وهدفه.
الثالث: ان تفسير الوضع بالهوهوية بين اللفظ والمعنى تفسير يحتاج إلى
عمق في النظر ودقة في التفكير وهذا بعيد عن الأذهان العامية التي بيدها عملية

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 41 - 42.
172

الوضع غالبا، بينما إذا تأملنا في حقيقة الوضع نجدها أمرا ميسورا يصدر حتى
من الأطفال والمجانين بل من الحيوانات فكيف يصح تفسير هذا الامر الميسور
بهذا المعنى الدقيق الذي لا تناله الافهام السطحية الساذجة (1).
ويلاحظ على هذا الايراد:
أولا: النقض بمسلك التعهد فإن الأستاذ السيد الخوئي (قده) مع ايراد
هذا الاعتراض على مسلك الهوهوية يتبنى مسلك التعهد النفساني بين الواضع
ونفسه - أي أنني متى ذكرت اللفظ الكذائي فاقصد المعنى الفلاني - مع أن
مسلك التعهد مورد لنفس الاشكال، وهو بعده عن الأذهان العامية
الساذجة التي تمارس عملية الوضع غالبا.
ثانيا: ان جعل الهوهوية امر سهل يسير لا يحتاج لعمق الفكر ولا دقة
التأمل لأنه لون من ألوان المجاز، وهو ما يسمى بالاستعارة أي إلباس أحد
الشيئين لباس الآخر وهذا ما يقوم به أغلب أبناء العرف في محاوراتهم، فمثلا
قولهم فلان أسد وهي قمر وجاءني أسد لا اشكال أنه من مصاديق الاستعارة،
وهي اعتبار الهوهوية بين النوعين وأن الرجل الشجاع مصداق للأسد بل هو
أسد حقيقي.
وكقول الشاعر:
قامت تظللني ومن عجب * شمس تظللني من الشمس
بل اعتبار الهوهوية يصدر حتى من الأطفال كما في مقام الشتم حيث
يقال (يا كلب بن الكلب) فإن هذا الاطلاق استعارة حقيقية واعتبار
للهوهوية. فإذا كان اعتبار الهوهوية من المرتكزات المستقرة في أذهان
المجتمعات فلا مانع من تصوير الوضع بالمعنى المصدري بمعنى الهوهوية

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 43.
173

ودخوله تحت هذا المرتكز العام وإن لم يعبر هذا المفهوم عن تمام مراحل الوضع
ودرجاته
المسلك الثالث: مسلك التعهد: وقد ذهب إليه مجموعة من أعلام
الأصول، أولهم كما نعلم المحقق ملا علي النهاوندي في كتابه تشرح الأصول،
والمحقق الحائري في كتاب الدرر (1)، وآغا رضا الأصفهاني في كتاب وقاية
الأذهان (2)، ووافقهم الأستاذ الخوئي (قده) (3).
وقبل استعراض الملاحظات الواردة على هذا المسلك نطرح مقدمة تشتمل
على تصويره:
مقدمة: سبق ان قسمنا الدلالة إلى الدلالة الانسية وهي خطور المعنى
عند خطور اللفظ وتحدثنا عن حقيقتها وأنها من باب التلازم أو من باب
الهوهوية، والدلالة التفهيمية وهي الحكم على كون المتكلم الملتفت قاصدا
لتفهيم الظاهر من كلامه، والدلالة التصديقية وهي الحكم على كون المتكلم
مريدا للمعنى الظاهر من كلامه إرادة جدية فالظاهر حجة له وعليه.
وما نركز عليه الآن من الأقسام هو القسم الثاني وهو الدلالة التفهيمية
أي كون المتكلم الملتفت قاصدا لتفهيم معنى كلامه، وأما الدلالة الانسية فقد
سبق البحث عنها وعن حقيقتها ومنشئها، وأما الدلالة التصديقية فليست دلالة
لفظية بل دلالة سياقية مقامية، أي ظاهر كون المتكلم في مقام البيان والتفهيم
هو كونه مريدا واقعا للمعنى الظاهر، وكلامنا الآن في الدلالة اللفظية أي
الدلالة المستندة للفظ، ودلالة الكلام على كون ظاهره مرادا جديا للمتكلم وان
اكتسبها اللفظ ولكن حقيقتها هي ظهور حال المتكلم في كون ظاهر كلامه مرادا

(1) درر الفوائد 1: 4.
(2) وقاية الأذهان: 62.
(3) أجود التقريرات 1: 12، محاضرات في أصول الفقه 1: 38 و 43.
174

جديا له، فهي دلالة مقامية أولا وبالذات ودلالة لفظية ثانيا وبالعرض، وكلامنا
في الدلالة اللفظية النابعة من اللفظ.
فالحديث مختص بالدلالة التفهيمية وبيان حقيقتها وأنها هل هي دلالة
عقلية أم دلالة عقلائية، فهنا نظريتان:
1 - مختارنا، وهو كونها عقلية بناءا على قانون السببية.
2 - مختار الأستاذ السيد الخوئي (قده) من كونها عقلائية بناءا على قانون
التطابق.
أما مختارنا: فهو ان الدلالة التفهيمية عبارة عن حكم العقل بكون
المتكلم الملتفت قاصدا لتفهيم معناه بناءا على قانون السببية.
وشرح قانون السببية في ثلاث مقدمات:
أ - كون المتكلم في مقام البيان ذاتا وقصدا، فبالنسبة لذاته لا يكون
ساهيا ولا نائما ولا فاقدا للوعي، وبالنسبة لقصده أن لا يقصد بالتلفظ هدفا
نفسيا يعود لذاته كالتدريب على الكلام أو التخفيف عن النفس أو الدعاء،
وطريق احراز كون المتكلم في مقام البيان القرائن الحالية والعقلية.
ب - بعد تمامية المقدمة السابقة فإننا ندرك أن لكل فعل غاية سواء كانت
غاية سفهية أم غاية عقلائية، والغاية عندهم علة لفاعلية الفاعل بوجودها
الذهني ومعلولة لفعله الخارجي، والكلام فعل من أفعال الانسان فلابد له من
غاية بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان.
ج - حكم العقل ان من أوجد سببا معينا وهو ملتفت لمسببه فلا محالة
يريد بذلك السبب التوصل للمسبب، فمن وضع الماء على النار وهو ملتفت
لكون النار سببا للحرارة فهو قاصد بذلك العمل التوصل لتسخين الماء.
وتطبيق ذلك في المقام أن يقال: بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان
واحراز ان لكلامه غاية بمقتضى حكم العقل، والمفروض ان المتكلم قد أوجد
175

السبب وهو اللفظ مع التفاته للمسبب وهو كون ذكر اللفظ سببا لخطور المعنى
في ذهن المخاطب، سواء كان ذلك الخطور على نحو التلازم أم على نحو
الهوهوية، اذن فهو قاصد للتوصل للمسبب وهو تفهيم المعنى من اللفظ.
وهذه هي الدلالة التفهيمية التي هي في الحقيقة حكم عقلي أولا
وبالذات ويكتسبها اللفظ ثانيا وبالتبع بحيث تعد من الدلالات اللفظية،
مع أنها في الواقع مصداق من مصاديق قانون السببية الذي يكون محصله: ان
من أوجد سببا وهو ملتفت لسببيته - هذا القيد إشارة للمقدمة الأولى وهي
احراز التفات المتكلم - فهو قاصد للتوصل لمسببه، والحكم عليه بأنه قاصد
بمقتضى المقدمة الثانية وهي ان لكل فعل غاية، فغايته التوصل لاخطار المعنى
بعد التفاته للسببية المذكورة.
وهذه الدلالة كما ترى لا تتوقف على وجود تعهد من المتكلم بأني إذا
ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد المعنى الفلاني بل هي تتحقق وتحصل إذا تحققت
المرحلة الثانية من مراحل الوضع وهي سببية اللفظ مع القرينة للانتقال إلى
المعنى، فإنه إذا تمت هذه المرحلة وترسخت العلاقة بين اللفظ، والمعنى، سواء
أكانت العلاقة على نحو التلازم أم على نحو الهوهوية، فإن الدلالة التفهيمية
تتحقق بعد ذلك، سواء أكان هناك في المرحلة الأولى للوضع عملية تعهد
نفساني من الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أم لم تكن هناك هذه العملية،
بل كانت صياغة أخرى للوضع كالتخصيص أو جعل الملازمة أو غيره من
المسالك.
مختار الأستاذ السيد الخوئي (قده): من كون الدلالات التفهيمية ناشئة
عن التعهد، وبيانه في خمس نقاط:
الأولى: حاجة الانسان للتعهد: لما كان الانسان اجتماعيا بالطبع
احتاج للتعايش مع المجتمع، والتعايش لا يتم الا عن طريق التفهم والتفهيم،
176

وبما أن الإشارات غير وافية بذلك تعهد الانسان بأني كلما ذكرت اللفظ الفلاني
فأنا أريد المعنى الفلاني، وهدفه من هذا التعهد تكوين العلاقة الراسخة بين
اللفظ والمعنى بحيث يستطيع تفهيم مقاصده وتفهم مقاصد الآخرين عن
طريق اللغة بلا حاجة للإشارات في مقام التفاهم.
الثانية: شمولية التعهد: لا فرق في اجراء وثيقة التعهد بين الواضع
والمستعمل، فكما أن الواضع تعهد باطلاق اللفظ عند إرادة المعنى فكذلك
المستعمل تعهد السير على هذا القانون الموضوع وهو ذكر اللفظ الفلاني عند
إرادة المعنى الكذائي، ولولا تعهد المستعمل كالواضع لم تحصل الدلالة
التفهيمية بين أبناء اللغة.
الثالثة: متعلق التعهد: ان الطرف الذي يتعلق به التعهد هو قصد
التفهيم، حيث أن صياغة التعهد هي أني أذكر اللفظ الفلاني عندما اقصد
المعنى الكذائي، و إنما لم يجعل متعلق التعهد هو خطور المعنى - بأن يقول كلما
ذكرت اللفظ خطر المعنى - بل جعل المتعلق قصد التفهيم لوجهين:
أ - أن التعهد عملية اختيارية فلا بد أن يكون متعلقها أمرا اختياريا
وقصد التفهيم عمل اختياري، بينما خطور المعنى أمر غير اختياري فكيف
يتعلق به التعهد الاختياري.
ب - أن موضوع عملية الوضع تحدده الحاجة إلى الوضع، وما دام المنطلق
لشرارة الوضع هو الحاجة للتفهيم والتفهم فلا محالة لابد ان يكون متعلق
التعهد الوضعي هو قصد التفهيم، لأنه الباعث لنفس عملية الوضع، والنتيجة
بحدود بواعثها وأسبابها.
الرابعة: الدلالة المتفرعة عن الوضع: لقد اتضح من النقاط السابقة
ان الدلالة المتفرعة عن الوضع هي الدلالة التفهيمية مباشرة، إذ لا وجه لتفرع
الدلالة التصورية عنه مع كون متعلقه هو الدلالة التفهيمية فكيف تتفرع عنه
177

الدلالة الخالية من التفهيم والنتيجة تتبع أخس المقدمات ولا تكون أوسع منها،
ومؤدى ذلك كون الدلالة التصررية الانسية من قبيل الأمور الانتزاعية لا من
الأمور الواقعية المتأصلة، وهي التي لها ما بإزاء في الخارج كالدلالة التفهيمية
حيث إن وراءها خارجا وهو قصد تفهيم المعنى، ولا من الأمور الاعتبارية
كصياغة التعهد نفسه حيث إنه اعتبار أدبي هدفه التمهيد لعلاقة اللفظ
بالمعنى.
بل الدلالة التصورية من الأمور الانتزاعية الناشئة عن ترتب الدلالة
التفهيمية على التعهد والمندرجة تحت قانون تداعي المعاني، فإن كثرة حصول
الدلالة التفهيمية بعد التعهد الاستعمالي توجب خطور أصل المعنى بمجرد سماع
اللفظ ولو لم يكن معه تعهد.
الخامسة: نتيجة التعهد: ان الانتقال للمدلول التفهيمي عند سماع
اللفظ - أي الحكم على المتكلم بكونه قاصدا لتفهيم المعنى من اللفظ - منشأه
أصل عقلائي، وهو أن الانسان العاقل يسير على وفق القانون الذي التزم به،
وهذا هو مدرك أصالة الصحة في عمل الغير، فإن أساسها أن الانسان المسلم
يسير على طبق القانون الاسلامي الذي يدين به ويلتزم به.
وكذلك في المقام فإن الانتقال للمدلول التفهيمي لا يستند لقانون
السببية بل لهذا الأصل العقلائي وهو سير العاقل على القانون الذي التزم به،
وبما أنه تعهد كواضع أو مستعمل بذكر اللفظ عند إرادة المعنى فمقتضى
الأصل العقلائي المذكور هو قصده تفهيم المعنى الكذائي بعد ذكره اللفظ
الفلاني.
هذا تمام الكلام في شرح مسلك التعهد.
178

الاعتراضات الواردة على مسلك التعهد
الأول: ان صياغة التعهد تتصور على عقدين، العقد الايجابي والعقد
السلبي.
العقد الايجاب: وهو الموجود في كلمات المحاضرات، وله صيغتان:
1 - كلما ذكرت اللفظ فأنا أريد تفهيم المعنى.
2 - كلما أردت تفهيم المعنى ذكرت اللفظ.
ويرد على كلا الصيغتين أنهما غير وافيتين بتحقيق الدلالة التفهيمية
بحيث لا يمكن استكشاف المدلول التفهيمي من خلال الصيغتين فقط، لكون
النسبة بين ذكر اللفظ واردة تفهيم المعنى العموم من وجه فلا يدل أحدهما على
الآخر، فقد يذكر اللفظ من باب التمرين على النطق أو بداعي التلقين النفسي
أو الدعاء أو التغني، وقد يقصد تفهيم المعنى من غير طريقة ذكر اللفظ بل عن
طريق الإشارة أو احضار المعنى بنفسه خارجا، فلما كانت النسبة بينهما هي
العموم من وجه لم يصلح ذكر اللفظ للكشف عن المدلول التفهيمي، فهذا
العقد الايجابي لصياغة العهد غير واف بتحقيق الدلالة التفهيمية، مع أنها
الهدف الأساس لهذا المسلك.
العقد السلبي: وهو المطروح في كلمات تشريح الأصول للنهاوندي، وله
صيغتان:
1 - لا أذكر اللفظ الا عند قصد تفهيم المعنى.
2 - لا أقصد تفهيم المعنى الا وذكرت اللفظ.
179

ويرد على كلا الصيغتين أنهما وان كانتا كافيتين لاستكشاف المراد
التفهيمي بخلاف العقد الايجابي الا أنهما لا يتطابقان مع واقع استعمال اللفظ
خارجا، ولذلك يعد هذا التعهد تعهدا غير عقلائي وغير قانوني لعدم وفائه
حينئذ بتلبية جميع الأهداف المنشودة وراء استعمال اللفظ، فإن اطلاق اللفظ لا
ينحصر الهدف منه بقصد تفهيم المعنى بل قد يكون بداعي الاهمال والاجمال
أو بداعي التمرين على النطق أو بداعي التلقين النفسي أو بداعي الدعاء أو
بداعي التغني، فهناك دواعي وأهداف متعددة تبعث على التلفظ، فحصر
اللفظ بقصد تفهيم المعنى لا يتطابق مع حاجة الانسان ودواعيه النفسية
المختلفة، فتعهده بالحصر المذكور تعهد غير عقلائي لعدم وفائه بالحاجات
البيانية عند الانسان.
الثاني: ما أورده بعض المعاصرين (1) على مسلك التعهد بأنه لا يجتمع مع
الاستعمال المجازي، فإن المتعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى الكذائي
بناءا على العقد السلبي لمسلك التعهد كيف يتسنى له المجاز وهو استعمال
اللفظ في غير ما وضع له وهو المعنى المتعهد به، فإن هذا مخالف لتعهده السابق.
وإن تعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة أحد المعنيين على نحو العرضية
بينهما صار الاستعمال المجازي استعمالا حقيقيا لرجوعه للوضع.
وان تعهد بعدم ذكر اللفظ وحده وبدون قرينة الا عند إرادة المعنى
الحقيقي بحيث لا يتنافى ذلك مع الاستعمال المجازي المستلزم لذكر اللفظ مع
القرينة، فإن هذا التعهد يتنافى مع الاستعمال المجازي المستند إلى غير القرينة
اللفظية، إذ يصدق عليه أنه ذكر اللفظ وحده بلا قرينة لفظية ومع ذلك أريد
به غير معناه المتعهد به.

(1) لعل المقصود به السيد الصدر في بحث الوضع من أصوله 1: 79.
180

وإن تعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى الكذائي فإذا لم يكن
مرادا فالمعنى الملازم له - بأي نوع من أنواع الملازمة المصححة للتجوز واستعمال
اللفظ فيه - فهذا يعني أن مصحح الاستعمال المجازي هو الوضع لا الطبع،
وهو خلاف مسلكه في هذه النقطة (1).
ولكن الصحيح عدم ورود الاعتراض عليه، لان الاستعمال المجازي فيه
مسلكان:
أ - استعمال اللفظ في غير ما وضع له بقرينة.
ب - عدم تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، بمعنى أن المعنى
المستعمل فيه اللفظ والمراد تفهيمه في مرحلة الدلالة التفهيمية هو المعنى
الحقيقي لكن هذا المعنى ليس مرادا جديا على صعيد الدلالة التصديقية.
ومختار الأستاذ السيد الخوئي (قده) في بحث المجاز هو المسلك الثاني،
وبناءا على ذلك فلا يرد عليه هذا الاشكال بجميع تفريعاته، إذ لا تنافي بين
مسلكه في الوضع وهو التعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى الكذائي
وبين مسلكه في المجاز وهو استعمال اللفظ في نفس المعنى المتعهد به على صعيد
الدلالة التفهيمية مع عدم كونه مرادا جديا على صعيد الدلالة التصديقية، فإنه
بهذا النحو من الصياغة لا يتناقض مع تعهده الأول ولا يخالفه.
نعم لو كان مسلكه في المجاز هو الأول لورد الاشكال عليه بأن التعهد
بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى الحقيقي لا يجتمع مع استعمال اللفظ في
غيره وهو المعنى المجازي.
الثالث: إن نظرية التعهد أما أن تلاحظ على صعيد الوضع بالمعنى
المصدري، أو على مستوى الوضع بالمعنى الاسم المصدري، أو تلاحظ على

(1) بحوث في علم الأصول 1: 79.
181

صعيد استكشاف المدلول التفهيمي، أما بالنسبة للوضع بالمعنى المصدري
فصياغة التعهد في تلك المرحلة - وهي مرحلة الانتخاب والجعل - مجرد اعتبار
أدبي كسائر الاعتبارات الأدبية الأخرى لكن لا يوجد له مصحح بخصوصه،
فإن الاعتبار الأدبي يحتاج لمصحح معين له من بين الاعتبارات الأدبية المختلفة
ولا يوجد ذلك بالنسبة لصياغة التعهد، فإن الهدف من هذا الاعتبار الأدبي هو
التوصل والتمهيد للعلاقة الراسخة بين اللفظ والمعنى، وهذا مصحح مشترك
بين مسلك التعهد وغيره من الاعتبارات الأخرى كمسلك التخصيص أو القرن
أو الهوهوية.
بينما مسلك جعل الهوهوية له مصحح خاص به كاعتبار أدبي، وهو
تمهيده للعلاقة الوضعية التي هي الهوهوية بين تصور اللفظ وتصور المعنى، ومن
التناسب الفني والذوقي هو التشاكل بين المعد والمعد له وبما أن المعد له هو
علاقة الهوهوية فمقتضى التناسب والمشاكلة كون المعد هو جعل الهوهوية
أيضا.
وان لوحظ مسلك التعهد بالنسبة للوضع بالمعنى الاسم المصدري، وهو
عبارة عن الدلالة التصورية التي بحثنا عنها سابقا وأنها عبارة عن التلازم أو
الهوهوية، فقد ذكر الأستاذ السيد الخوئي (قده) ان هذه الدلالة منتزعة من
مسلك التعهد، أي ان الذهن إذا رأى واضعا يتعهد بعدم ذكر اللفظ الا عند إرادة المعنى فإنه ينتزع من هذا التعهد تصور المعنى، فالدلالة التصورية أمر
انتزاعي من نفس عملية التعهد.
ولكن يلاحظ على ذلك: ان الامر الانتزاعي واقعيته بمنشأ انتزاعه وإذا
ارتفع منشأ انتزاعه فلا وجود له، بينما نرى بالوجدان ان حصول الدلالة
التصورية سواء أكانت هي التلازم أو الهوهوية لا تتوقف على التعهد بل تتوقف
على مرحلة الإشارة، وهي العوامل الكمية أو الكيفية المولدة للعلاقة بين اللفظ
182

والمعنى سواءا وجد تعهد أم لا، فقد يوجد تعهد ولا تحصل هذه العلاقة لعدم
جري المجتمع وفق ذلك التعهد وعدم احترامه وقد لا يوجد تعهد لكنها حاصلة
بسبب العوامل الأخرى، فبينهما عموم من وجه، وحينئذ فلا تتوقف الدلالة
التصورية على التعهد توقف المنتزع على المنتزع منه.
وقد اعترف بذلك السيد نفسه في تعليقته على أجود التقريرات، حيث
ذكر أن منشأ الدلالة التصورية هو كثرة الاستعمال (1) مع أنه ذكر في التعليقة
نفسها أنها منتزعة من عملية التعهد (2).
فإن قلت: لو قصدنا بالتعهد التعهد الشخصي من قبل الواضع فحينئذ
لا نرى تلازما بينه وبني الدلالة التصورية كما ذكرتم في الاعتراض، لعدم توقف
الدلالة التصورية على ذلك بل على العوامل الأخرى، ولكن المقصود بالتعهد
هو التعهد العقلائي العام، أي تعهد الواضع والمستعمل أيضا بالصياغة
المذكورة، وإذا كان المقصود بالتعهد هو هذا فهو نفس كثرة الاستعمال فإن كثرة
الاستعمال عبارة أخرى عن تعهد المجتمع بما تعهد به الواضع، فلا تهافت بين
الكلامين في عبارات السيد (قده)، ولا ينتفي بذلك كون علاقة الدلالة
التصورية بالتعهد علاقة المنتزع بالمنتزع منه.
قلت: أولا: لو سلم ما ذكر لكن يبقى ان علاقة الدلالة التصورية
بكثرة الاستعمال أو غيرها من العوامل علاقة المسبب بسببه لا علاقة المنتزع
بالمنتزع منه كما هو واضح.
وثانيا: ان السبب المعد للعلاقة التصورية ليس هو التعهد النفسي،
سواء أكان من الواضع أم من المجتمع، بل هو نفس ذكر اللفظ مع القرينة

(1) أجود التقريرات 1: 31.
(2) أجود التقريرات 1 / 12.
183

بقصد الإشارة للمعنى فإن هذا هو الدخيل في حصول العلاقة التصورية،
سواء أكان هناك تعهد نفساني من قبل المجتمع أم لم يكن، فالتعهد نفسه لا
دخالة له اطلاقا في حصول هذه الدلالة التصورية لا على نحو الانتزاع ولا على
نحو السببية.
وثالثا: أن دعوى كون التعهد تعهدا اجتماعيا عاما لا نرى له شواهد
وملامح في المجتمع العقلائي، بل نرى المجتمع يسير على نهج الاستعمال التابع
لما حدده الواضع من دون قيامه بتعهد نفساني كما هو المدعى.
وإن لوحظت نظرية التعهد بالنسبة لمرحلة استكشاف المدلول التفهيمي
فيرد عليه: أن الطريق لاستكشاف كون المتكلم قاصدا تفهيم المعنى لا ينحصر
في العلم بالتعهد بل له طريق آخر وهو قانون السببية، فهذا القانون كما ذكرنا
سابقا يستكشف الانسان به المدلول التفهيمي وكون المتكلم قاصدا للتفهيم،
سواءا كان هناك تعهد أم لم يكن، اذن فلا يوجد مبرر لنظرية التعهد على مختلف
الأصعدة.
184

استعمال اللفظ في عدة معاني
والحديث عن ذلك في مقامين:
المقام الأول: في بيان محل النزاع.
المقام الثاني: في شواهد الوقوع.
الأول: في تحرير محل النزاع ونطرح عدة نقاط:
الأولى: اننا لو رجعنا إلى تاريخ هذا البحث لوجدنا أن صياغته تدور
حول الامكان والاستحالة، ففي الذريعة للسيد المرتضى (1) وشرح النهج للشيخ
ميثم (2) الذي نسب الجواز للشافعي والباقلاني والقاضي عبد الجبار - وكتاب
الشوكاني في الأصول الذي نسب الجواز لائمة الزيدية - والامتناع لأبي هاشم
شواهد واضحة على أن مورد البحث عندهم حول الامكان وعدمه، وحذى
حذوهم المتأخرون كما يظهر من الكفاية (3) وغيرها (4).
ولكن الأولى بالبحث الأصولي صرف الحديث للوقوع وعدمه، فإذا تبين
لنا توفر الشواهد على وقوع استعمالي اللفظ في عدة معاني فالوقوع أقوى دليل
على الامكان وان لم يتحقق الوقوع فالبحث عن الامكان حينئذ لا تترتب عليه
ثمرة عملية في مقام تشخيص الظواهر كما لا يخفى.

(1) الذريعة: 1: 17.
(2) شرح نهج البلاغة 1: 16.
(3) الكفاية: 35 - 36.
(4) محاضرات في أصول الفقه 1: 210.
185

الثانية: ان العبارة السائدة عند الباحثين هي: أنه هل يصح استعمال
اللفظ في عدة معاني أم لا، بينما مناط البحث شامل لموارد الاستعمال والايجاد
ولموارد تعدد المراد الجدي أيضا مع وحدة المراد الاستعمالي، ببيان ذلك إن
اطلاق اللفظ على قسمين:
1 - إطلاق إيجادي.
2 - إطلاق استعمالي.
فالاطلاق الايجادي هو ذكر اللفظ بدون قصد لمعناه بل يذكر لأمر
إسنادي، مثلا إذا قلنا (زيد لفظ) فهنا لا يقصد بزيد أي معنى بل المقصود هو
الكلمة نفسها وأن هذه الكلمة لفظ، وهذا ما يسمى بالايجاد أي إيجاد موضوع
القضية بنفسه في الجملة بدون حاجة لجعل حاك عنه ومشير إليه.
فهذا الايجاد داخل في بحثنا امكانا ووقوعا، فإذا قلنا (زيد من الزيادة)
فنحن نريد هنا الاطلاق الايجادي، لان مقصودنا أن اللفظ مأخوذ من مادة
الزيادة، ونحن نريد أيضا الاطلاق الاستعمالي أي استعمال لفظ زيد في معناه
اللغوي وهو معنى الزيادة، فجمعنا في إطلاق واحد المعنى الايجادي والمعنى
الاستعمالي، وهذا مندرج في البحث إمكانا ووقوعا.
وأما الاطلاق الاستعمالي إي إطلاق اللفظ مع القصد لمعناه فهو على
نوعين:
1 - كون المعنى متعددا سواءا كانا حقيقيين أم مجازيين أم مختلفين، وهذا
هو محط البحث في المقام.
2 - كون المعنى المستعمل فيه واحدا لكن المراد الجدي متعدد، وذلك
في المجاز بناءا على كون المجاز عبارة عن عدم تطابق المراد الاستعمالي مع المراد
الجدي، فإذا قلنا أسد يرمي وأردنا المعنى الحقيقي جدا وهو الحيوان المفترس
186

وأردنا المعنى المجازي جدا أيضا وهو الرجل الشجاع، فهنا - في المثال - المراد
الاستعمالي واحد الا أن المراد الجدي متعدد، وإطلاق اللفظ مع إرادة معنيين
منه جدا وأحدهما مراد استعمالي دون الآخر داخل في محل البحث إمكانا
ووقوعا.
إذن فمحل البحث هو الشمول لموارد الايجاد ولموارد الاستعمال، مع
تعدد المستعمل فيه ومع وحدته ككونه مجازا، والمجاز مراد جدي لا استعمالي.
النقطة الثالثة: مورد البحث هو اطلاق اللفظ مع إرادة عدة معاني على
نحو يكون هذا الاطلاق الواحد في حكم الاطلاقات المتعددة بعدد المعاني،
لإرادة كل معنى باستقلاله من اطلاق اللفظ، ومتى أريد باللفظ وحدة جامعة
بين كثرات المعاني خرج الاطلاق عن مورد البحث.
والوحدة المتصورة على أربعة أقسام:
الأول: الوحدة الحقيقية، وتعني إرادة الجامع المنطبق على المعاني انطباق
الكلي على أفراده، فمثلا قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) (1) قد
استعمل فيه لفظ الصلاة في الجامع بين صلاة الله وصلاة الملائكة وهو العطف،
لا أن المستعمل فيه متعدد كما هو ظاهر بعض المفسرين، حيث قالوا بان صلاة
الله رحمته وصلاة الملائكة استغفارهم.
ومثل ذلك قوله تعالى: (ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض
والشمس والقمر والنجوم) (2) فالمستعمل فيه لفظ السجود معنى واحد وهو
الخضوع وان كان خضوع كل شئ بحسبه، لا ان المستعمل فيه متعدد باعتبار
ان سجود الملائكة هو الخشوع وسجود البشر وضع الجبهة على الأرض وسجود
الشمس انقيادها التكويني لأمر الخالق عز وجل.

(1) الأحزاب 33: 56.
(2) الحج 22: 18.
187

الثاني: الوحدة الانتزاعية، وتعني استعمال اللفظ في عنوان أحد المعاني
فإن هذا الاستعمال استعمال اللفظ في معنى واحد لا معاني متعددة، وان تأمل
فيه البعض بأن المراد بالأحد ان كان الأحد بالحمل الأولي فهو باطل لوضوح
عدم الترادف بين اللفظ وعنوان الأحد، وان كان عنوان الأحد بالحمل الشائع
فلا وجود للأحد اللابعينه لا في الخارج ولا في الذهن. ولو صور على نحو يكون
وضع اللفظ لعنوان أحد المعاني بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص
فالمستعمل فيه حينئذ متعدد لا واحد، لكن سيأتي الاشكال في صحة الاستعمال
المذكور.
الثالث: الوحدة الاعتبارية، وتعني عندهم استعمال اللفظ في مجموع
المعاني لا في جميعها، فإن المجموع معنى واحد لا معاني متعددة. وأشكل على
ذلك المحقق الإيرواني في حاشيته علي الكفاية (1) بأن استعمال اللفظ في المجموع
هو محل البحث أيضا لا أنه خارج عنه، إذ لا يمكن إرادة معاني متعددة من
اللفظ الا مع تصور المجموع بحيث تحصل صورة لحاظية واحدة للمعاني كلها.
ولكن الصحيح أن اطلاق اللفظ مع إرادة المعاني على صور:
1 - أن يراد بالمعاني صورة واحدة تشكل ائتلافا لحاظيا بحيث يكون كل
معنى جزءا من هذا الكل، وهذا هو مقصودهم بلفظ المجموع، ولا اشكال في
خروجه عن مورد البحث لوحدته وعدم تكثر المعاني.
2 - أن يراد بذلك خطور جميع المعاني في لحاظ واحد من دون وحدة
اعتبارية بينها بحيث يكون اطلاق اللفظ كالاطلاقات المتعددة بعدد المعاني،
وهذا داخل في مورد البحث قطعا لتكثر المعنى.
3 - أن المراد بذلك تصور الذهن للمعاني بلحاظات متعددة متتالية مع

(1) حاشية الإيرواني على الكفاية: باب الاشتراك.
188

اطلاق اللفظ وإرادة تلك المعاني، وهذا داخل في مورد البحث، وهو المعبر عنه
بعنوان الجميع.
الرابع: الوحدة العنوانية، وهي الوحدة في عنوان المسمى، بأن يطلق
اللفظ ويراد به المسمى بهذا اللفظ من جميع الأشياء، وهو خارج عن موضوع
النزاع لوحدته وعدم تعدده.
المقام الثاني: ويدور حول خمس جهات:
الأولى: في طرح شواهد وقوع اطلاق اللفظ مع إرادة المعاني المتعددة،
وذلك يحتاج لمقدمة خلاصتها ان التورية على قسمين:
1 - التورية البديعية.
2 - التورية العرفية.
أما الأولى فتعني اطلاق اللفظ مع إرادة عدة معاني منه متساوية في
الظهور كما قيل شعرا:
خاط لي عمرو قباء * ليت عينيه سواء
فلم يعرف أن ذلك مدح أم هجاء، فإن المراد الجدي والمراد الاستعمالي
متعدد.
وأما الثاني فتعني طرح اللفظ الذي له معنيان أحدهما جلي والآخر خفي،
ويكون المراد الجدي للمتكلم هو المعنى الخفي لكن المتبادر للسامع هو المعنى
الجلي، كما نقل ابن قتيبة في كتابه اختلاف الحديث: " ان خارجيا طلب من
أحد الشيعة أن يتبرأ من علي (عليه السلام) وعثمان، فقال: أنا من علي ومن
عثمان برئ " (1). وقد خلط بعض أهل البديع بين القسمين، والمناسب لمورد
الاستشهاد هو التورية البديعية كما هو واضح.

(1) تأويل مختلف الحديث: 39.
189

وبعد هذه المقدمة نستعرض الشواهد على الوقوع وهي على قسمين:
الأول: ما يتعلق باطلاق اللفظ مع إرادة عدة معاني.
الثاني: ما يتعلق باستعمال اللفظ في عدة معاني.
الأول: وهو اطلاق اللفظ وإرادة صنفه أو نوعه أو مثله مع إرادة معناه،
وله عدة أمثلة:
أ - ما ذكر في مقدمة كتاب الصحاح في اللغة للجوهري أن أبا عبد الله
الفيومي أنشد في حضرة الأمير محمد المصري شعرا يذم به كتاب الصحاح ويثني
على كتاب القاموس في اللغة وهو:
لله قاموس بطيب وروده * أغنى الورى من كل معنى أفخر
نبذ الصحاح بلفظه والبحر من * عاداته يلقي صحاح الجوهري
ولكن حين الانشاد قرأ لفظ الصحاح مكسور الصاد، فقال الأمير:
الصحاح لا تكسر (1)، وظاهر ذلك أنه أطلق لفظ الصحاح وأراد أمرين:
1 - نفس اللفظ فإنه مفتوح لا مكسور، إذ المكسور جمع صحيح وهو لا
يريد الجمع بل يريد المصدر.
2 - معناه وهو كتاب الصحاح للجوهري، وقوله لا تكسر كناية عن قيمة
الكتاب وانها لا يمكن كسرها.
وهذا شاهد على اطلاق اللفظ مع إرادة عدة معاني.
ب - ما ذكر عن بعضهم أنه قال: (قلب بهرام ما رهب) وهذا من باب
اطلاق اللفظ وإرادة أمرين:
1 - أن لفظ بهرام لو قلبت كانت ما رهب فهو يريد أن ينبه على مقلوب
اللفظ، نحو قولهم: سر فلا كبا بك الفرس، ونحو: كل في فلك، فإنها تنقلب

(1) مقدمة الصحاح: 111.
190

كنفسها في اللفظ.
2 - أن المراد ببهرام هو رجل شجاع فقلبه ما رهب، أي ما تخوف من -
الأعداء لشجاعته، وهذا شاهد على اطلاق اللفظ وتعدد المراد منه.
ج - ما قال بعضهم: كل ساق قلبه قاس، فإنه أطلق اللفظ وأراد
أمرين:
1 - القلب اللفظي لكلمة ساق إلى كلمة قاس.
2 - القلب المعنوي فإن قلب الساقي بنظره قاس، وهو شاهد على محل
البحث.
القسم الثاني: في ذكر شواهد استعمال اللفظ في عدة معاني وهي كثيرة،
ذكرها المحقق أبو المجد الأصفهاني في كتابه وقاية الأذهان منها:
أ - ما ورد في مدح الرسول صلى الله عليه وآله:
المرتمي في دجى والمبتلى بعمى * والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا
يأتون سدته من كل ناحية * ويستفيدون من نعمائه عينا (1)
فلفظ العين قد استعمل في المقام في أربعة معاني:
1 - الشمس وهو المناسب لقوله المرتمي في دجى.
2 - الجاري وهو المناسب لقوله المشتكي ظمأ.
3 - الباصرة وهو المناسب لقوله المبتلى بعمى.
4 - الفضة وهو المناسب لقوله المبتغي دينا.
ب - قال بعضهم:
أي المكان تروم ثم من الذي * تمضي إليه أجبته المعشوقا (2)

(1) وقاية الأذهان: 87.
(2) وقاية الأذهان: 87.
191

فلفظ المعشوق استعمل في معنيين:
1 - المعشوق الوصفي، وهو من تعلق به العشق.
2 - المعشوق الاسمي، وهو قصر بسامراء مقابل قصر العاشق كما ذكر
بعض المؤرخين (1).
ج - ما ذكر في جواهر البلاغة:
ورب الشعر عندهم بغيض * ولو وافى به لهم حبيب (2)
وقد استعمل لفظ حبيب في المعنى الوصفي وهو المحبوب والمعنى
الاسمي والمراد به أبو تمام.
د - ما قاله بعضهم: (وما لليلي وما لها فجر).
وأراد بلفظ الفجر معنيين:
1 - الوقت التالي لذهاب الليل.
2 - انفجار الدماميل المنتفخة في بدنه.
الجهة الثانية: في مناقشة الاستشهاد ببعض الشواهد المتقدمة،
وتتلخص في عدة موارد:
الأول: قد يقال: المراد بكلمة الفجر في الشاهد الرابع الجامع بين
انفجار الضوء عقيب الظلام وانفجار الدماميل، وهو مطلق الانفجار كما ذكر
الراغب الأصفهاني في مفرداته أن من معاني كلمة الفجر: مطلق الانشقاق لها (3).
ولكن المناقشة غير وجيهة لوجهين:
أ - إن اللطف الأدبي والابداع الشعري لا يتحقق الا مع إرادة معنى

(1) وقاية الأذهان: 87.
(2) جواهر البلاغة: 363 وقائله سراج الدين الوراق.
(3) المفردات: 373.
192

يقابل الليل ومعنى يقابل الدماميل المنتفخة حتى يحصل التماثل بين طرفي
البيت، ومع إرادة الجامع بين الفردين لا يتحقق هذا الحسن في المقابلة.
ب - لو تصورنا الجامع بين المعنيين في هذا البيت لم يتصور ذلك الجامع
بين اللفظ والمعنى في قوله: قلب بهرام ما رهب، إذ لا جامع بين الكيف
المسموع وهو اللفظ والجوهر المادي الصنوبري، وكذلك لا يتصور الجامع بين
معاني كلمة عين في البيت الوارد في مدح الرسول صلى الله عليه وآله، إذ لا
جامع بين الشمس مثلا والعين الباصرة.
الثاني: قد يناقش في الاستشهاد بقوله: (أجبته المعشوقا) بأن المراد بلفظ
المعشوق الجامع بين الحال والمحل، أي الحبيب المعشوق الحال في القصر
المسمى بالمعشوق، للعلاقة الارتباطية بينهما، والجامع معنى واحد لا متعدد.
ولكن هذا النقاش مردود بوجهين:
أ - إن ظاهر المقابلة بين السؤال والجواب هو تعدد المقصود من الجواب
كتعدد المقصود من السؤال، فكما أن السؤال وقع عن المكان - أي المكان تروم
- وعن المكين - ثم من الذي تمضي إليه - فكذلك الجواب فيه تحديد للمكان
وللمكين.
ب - إذا تصورنا العلاقة الارتباطية بين المعنيين هنا لعلاقة الحال والمحل
فلا نتصورها بين المعاني الأربعة للفظ العين وبين لفظ الصحاح ومعناه، لان
اللفظ وان كان بينه وبين المعنى علاقة الحكاية لكنها ليست علاقة عرفية توجب
استعمال اللفظ في الجامع بين الحاكي والمحكي، بخلاف ما بين الحال والمحل
في المقام فإنه قد يتصور وجود جامع المحبوبية بين الحبيب الحال والمحل المحبوب
لحب الحبيب.
الثالث: وقد يناقش أيضا في المقصود بلفظ عين في البيت الوارد في مدح
الرسول صلى الله عليه وآله ويقال: لعل المراد بلفظ عين الجامع العنواني بين
193

المعاني الأربعة وهو عنوان المسمى، أو أن المراد به الجامع الاعتباري وهو مفهوم
المجموع، فيخرج الشاهد حينئذ عن مورد البحث، لان موضوع البحث هو
استعمال اللفظ في عدة معاني على نحو إرادة كل معنى منها وحده، فكان
الاستعمال الواحد استعمالات متعددة.
وأما لو أراد مجموع المعاني لا بقيد الوحدة في كل معنى منها لخرج عن
كونه استعمالا للفظ في عدة معاني بل استعمال للفظ في معنى واحد.
ولكن يمكن دفع هذه المناقشة الواردة على جميع الشواهد من القسم
الثاني بوجهين:
أ - إن ظاهر البيتين الواردين في مدح الرسول صلى الله عليه وآله تعدد
الطالب والطلب للرسول صلى الله عليه وآله، ومقتضى ذلك تعدد المطلوب فلا
يحسن إرادة معنى واحد من لفظ العين بحسب الذوق الأدبي. مضافا إلى قبح
كون المطلوب لهؤلاء المحتاجين هو عنوان المسمى بلفظ العين لا المعاني الواقعية
الملبية لحاجاتهم.
ب - ان الطرف الآخر من المناقشة غير واضح، وذلك لما طرحناه سابقا
في تحرير موضوع البحث من تصور حالات ثلاث:
أ - اطلاق اللفظ وإرادة الصورة المؤلفة من الأربعة للفظ الشمس - مثلا
بحيث تعد الصورة كلا والمعاني أجزاء لها، وهذا معنى واحد لا متعدد فيخرج
عن محل الكلام. ولا اشكال في امكانه ووقوعه لكنه غير مراد في هذا البيت
وأمثاله، لان المحتاجين للرسول صلى الله عليه وآله لا يستفيدون من المجموع
المؤلف من الأمور الأربعة وإنما يستفيد كل طالب منهم مطلوبه الوافي بحاجته
الخاصة، فالظاهر هو تعدد المراد لا وحدته.
ب - اطلاق اللفظ وإرادة المعاني المتعددة الحاضرة في لحاظ واحد على
نحو القضية الحينية لا المشروطة والمركبة، وهذا هو محل النزاع امكانا ووقوعا،
194

وقد عرفت الشواهد على وقوعه.
ج - اطلاق اللفظ وإرادة المعاني المتعددة المتعاقبة في اللحاظ الذهني،
وهذا أيضا داخل في مورد البحث لشمول أدلته له امكانا ووقوعا.
وما قيل من كون مورد البحث هو إرادة المعاني من اللفظ على نحو يكون
المراد منه كل معنى بقيد الوحدة.
ففيه: ان كان المراد بقيد الوحدة مقابل التقييد والتركيب مع المعاني
الأخرى فهذا راجع للصورة الثانية التي ذكرناها والتي لا تتنافى مع وحدة
اللحاظ أو تعدده، وان كان المراد بقيد الوحدة عدم إرادة معنى آخر معه من
اللفظ في لحاظ واحد فقد ذكرنا ان وحدة اللحاظ بنحو القضية الحينية فتعدده
لا دخل له في ملاك البحث امكانا ووقوعا، وان كان المراد بقيد الوحدة عدم
إرادة معنى آخر معه مطلقا لا في لحاظ واحد ولا متعدد فهذا مستحيل، لا من
باب استحالة استعمال اللفظ في عدة معاني بل من باب استحالة إرادة معنى
وحده مع إرادة غيره، لاستحالة اجتماع الضدين الراجع لاجتماع النقيضين،
سواء استعمل اللفظ في ذلك أم لم يستعمل.
فالصحيح هو امكان اطلاق اللفظ مع إرادة المعاني المتعددة، والشاهد
على الامكان وقوعه في باب التورية البديعية المعروفة في علم البديع.
الجهة الثالثة: في بيان القانون العرفي، وبه يتضح عدم ورود
الاشكالات التي طرحت لاثبات استحالة استعمال اللفظ في المعاني المتعددة في
الكتب الأصولية المعروفة.
وتفصيل ذلك يحتاج لمقدمة، وهي ان الأصوليين قسموا دلالة اللفظ على
معناه لثلاثة أقسام:
الأول: الدلالة التصورية.
الثاني: الدلالة التفهيمية.
195

الثالث: الدلالة التصديقية.
فالدلالة التصورية: هي المتفرعة من حصول العلقة الوضعية بين اللفظ
والمعنى على كلا المسلكين في حقيقة العلقة الوضعية، المسلك المشهور من كون
العلقة الوضعية عبارة عن استلزام تصور اللفظ لتصور المعنى، و المسلك المختار
من كونها عبارة عن الهوهوية بين اللفظ والمعنى وكون تصور اللفظ مندمجا في
تصور المعنى لا أن أحدهما مستلزم للآخر.
وهذه الهوهوية الذهنية تنعكس خارجا فيكون الوجود اللفظي وجودا
للمعنى، إذ لا مانع في الفلسفة من أن يكون للوجود الواحد ماهيتان إحداهما
بالأصالة والأخرى بالتبع، فالوجود اللفظي له ماهية بالأصالة هي مقولة
الكيف المسموع وماهية بالتبع وهي المعنى أي الصورة الذهنية الحاضرة عند
اطلاق اللفظ، شأنها شأن أي ماهية عند الاحساس بوجودها المشخص لها.
والدلالة التفهيمية: هي ظهور اللفظ في كون المعنى مقصودا، لظهور
حال المتكلم الملتفت في إرادة تفهيم معنى اللفظ، وهي متفرعة على التصورية.
والدلالة التصديقية: هي ظهور مقام المتكلم العارف بأساليب المحاورة
العرفية في كون المراد الاستعمالي مرادا جديا له، وهي متفرعة على التفهيمية.
وما يرتبط بموضوع بحثنا - وهو استعمال اللفظ في عدة معاني - القسمان
الأولان، سواء كان التعدد مرادا جديا للمتكلم أم لا.
وبعد بيان هذه المقدمة نقول ان عندنا صورتين:
الأولى: اطلاق اللفظ مع إرادة شخصه ومعناه كقوله (الصحاح لا
تكسر).
الثانية: استعمال اللفظ في عدة معاني.
والحديث عن الصورتين من جانبين:
1 - الدلالة التصورية.
196

2 - الدلالة التفهيمية.
الجانب الأول: وهو البحث عن القانون العرفي المصحح للاطلاق في
الصورتين بلحاظ الدلالة التصورية.
أما الصورة الأولى: فالمصحح لها اندراجها تحت قانونين من قوانين
المحاورة العرفية.
فالقانون الأول: يتلخص في عدم الحاجة في مقام الحكاية لجعل الحاكي
ما دام من الممكن احضار المحكي بنفسه، فإذا أراد الانسان ان يتحدث عن
نسبة معينة فإن كان الموضوع بنفسه حاضرا فلا حاجة لوضع لفظ حاك عنه بل
تقتصر القضية اللفظية حينئذ على ذكر المحمول. وهذا ما ينطبق على الصورة
المذكورة، فإذا قال (الصحاح لا تكسر) وهو يقصد لفظ الصحاح فالموضوع
الواقعي للنسبة حاضر بنفسه فلا حاجة لجعل لفظ حاك عنه كما لو قلنا - مثلا -
زيد لفظ، فكلا المثالين تحت قانون واحد.
القانون الثاني: وهو قانون الاستعمال، ومؤداه: أنه يصح للانسان
استعمال اللفظ إذا كانت هناك علقة وضعية بينه وبين المعنى، فكما يصح لك
استعمال لفظ قائم لتضمنه للعلقة الوضعية كذلك يصح استعمال الصحاح لا
تكسر بقصد معنى اللفظ وهو كتاب الصحاح.
فالخلاصة: أن اجتماع القانونين في هذا الاطلاق الواحد هو المصحح
العرفي له في مقام المحاورة والخطاب.
وأما الصورة الثانية: وهي استعمال اللفظ في عدة معاني فالقانون المخول
له هو نفس قانون الاستعمال العرفي المبني على وجود العلقة الوضعية بين اللفظ
والمعنى، فسواءا قلنا بأن الوضع - بالمعنى الاسم المصدري - هو الاستلزام أو
قلنا بأنه الهوهوية فلا اشكال في كون اللفظ الواحد مستلزما لعدة معاني أو
متحدا معها، على التصوير السابق من عدم المانع العقلي في كون الوجود الواحد
197

له ماهيات طولية متعددة فتصوره تصور لعدة معاني.
ولا ينافي ذلك عدم انسباق بعض المعاني حين التصور لهجرانه أو ندرته
أو عدم علم الشخص باستعمال اللفظ له، ففي مثل هذه الموارد لم يتحقق
الوضع بمعنى الهوهوية لا أنه تحقق على نحو آخر كالاستلزام مثلا.
اذن فما دام تحقق الوضع للفظ في عدة معاني ممكنا، سواءا كان الوضع
عبارة عن الاستلزام أو عن الهوهوية، لم يكن اشكال في الاستعمال أصلا، إذ
لا يراد بالاستعمال بحسب الدلالة التصورية الا اطلاق اللفظ بما يتبادر منه
لذهن السامع لا أكثر من ذلك.
الجانب الثاني: وهو يدور حول البحث عن القانون العرفي المتبع في
اطلاق اللفظ وإرادة شخصه مع معناه، وفي استعمال اللفظ في عدة معان
بلحاظ الدلالة التفهيمية، وهنا مسلكان في وجود هذا القانون وعدمه.
المسلك الأول: وهو المختار وهو مسلك السببية، ومحصله: أن الارتكاز
العقلائي قائم على أن كل شخص تصدى لايجاد سبب لمسبب ما مع التفاته
للسببية فهو قاصد للمسبب، سواء في ذلك الأمور التكوينية كتصويبه
رصاصا تجاه شخص معين مع التفاته لكونه سببا للقتل أو الأمور الاعتبارية
كما إذا أوجد البيع في الخارج مع التفاته لحصول الملكية بعده فيعد قاصدا
لاعطاء الملكية لغيره أيضا، كذلك من مصاديق هذه الكبرى ما هو محل
كلامنا.
فالألفاظ عند العقلاء من أي لغة كانت وسائل وأسباب لايجاد المقصود
الواقعي واحضاره بنفسه خارجا كما إذا قلنا زيد لفظ أو لايجاد المعنى في ذهن
المخاطب كما إذا قلت " زيد " إشارة للمسمى به، والسببية المذكورة سببية واقعية
وان لم يكن كلا طرفيها خارجيين.
وكون العلاقة بين اللفظ والمعنى في مقام الدلالة التفهيمية علاقة السببية
198

لا ينافي كون العلاقة بينهما هي علاقة الهوهوية على صعيد الدلالة التصورية
والعلقة الوضعية، لان العلاقة الوضعية على المسلك المختار هي اندماج صورة
المعنى في صورة اللفظ لا اندماج صورة قصد تفهيم المعنى التي هي الدلالة
التفهيمية في صورة اللفظ، فلا تلازم بين الدلالتين.
فالنتيجة في محل الكلام: أن قانون السببية عند العقلاء هو المصحح
لاطلاق اللفظ وإرادة شخصه مع معناه نحو الصحاح لا تكسر، وهو المصحح
لاستعمال اللفظ في عدة معان كلفظ العين في معانيه المختلفة، مع التوسل
لذلك بالقرينة لا مع عدمها كما سيأتي بيانه.
المسلك الثاني: ما هو مبنى الأستاذ السيد الخوئي (قده)، وبيانه كما في
المحاضرات: ان القانون العرفي المتبع في مقام الاستعمال والدلالة التفهيمية هو
قانون تطابق العمل مع المعتقد، وهو قانون عقلائي يؤخذ به في بحث أصالة
الصحة أيضا، والوضع - بالمعنى المصدري - لما كان عبارة عن التعهد الشخصي
بأن المتكلم إذا ذكر اللفظ الكذائي فهو يريد المعنى الفلاني كان اطلاع العرف
على ذلك منشأ لحصول الارتباط بين ذكر اللفظ والدلالة التفهيمية التي هي
الدلالة الوضعية على هذا المبنى.
وأما الدلالة التصورية فهي داخلة في باب تداعي المعاني لا باب
الدلالة، فالمصحح للاستعمال والتفهيم هو العلاقة الحاصلة من التعهد
والالتزام بناءا على قانون تطابق العمل مع المعتقد (1).
ولكن هذا القانون لا يجري في محل الكلام وهو استعمال اللفظ في عدة
معاني، وذلك لان الارتباط العرفي الحاصل بين اللفظ والمعنى نتيجة التعهد غير
واضح في هذا المقام، لان التعهد المقوم للدلالة التفهيمية لا يتصور في المقام

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 153 - 155.
199

الا بصورتين:
الأولى: أن يقول المتعهد: " متى ما ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد المعنى
الكذائي باستقلاله " وحينئذ إذا أراد استعمال نفس اللفظ في معان متعددة على
نحو الجميع لا المجموع فلا يجتمع ذلك مع تعهده السابق، فلابد ان يتوسل
لذلك بتعهد آخر وهو: " أني متى ما ذكرت هذا اللفظ فأنا أريد المعنى الفلاني
الآخر باستقلاله " وهو مناقض للتعهد الأول.
الثانية: ان يتعهد من البداية: " بأني إذا ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد
أحد المعاني " على نحو يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا، وإذا أراد
بعد ذلك استعمال اللفظ في جميع المعاني لم يحصل التطابق بين المتعهد به
والمستعمل فيه، ومع عدم التطابق بينهما فلا يوجد قانون عرفي مصحح لهذا
الاستعمال وموجب لظهور اللفظ في جميع المعاني.
نعم لو نصب قرينة على ذلك صح الاستعمال تجوزا مع القرينة، اذن
فاستعمال اللفظ في عدة معان دائر بين عدم الامكان وعدم الصحة الا تجوزا،
وهذا هو الذي اختاره الأستاذ السيد الخوئي (قده) في المحاضرات حيث قال:
بأن استعمال اللفظ في عدة معافي بناءا على مسلك التعهد في الوضع إما غير
صحيح أو صحيح على نحو المجاز لا على نحو الحقيقة (1).
ولكننا نطرح الآن بعض الملاحظات على مسلك التعهد التي يتبين بها
أمران:
1 - إن الصياغة التي ذكر الأستاذ السيد الخوئي (قده) أنها تصحح
استعمال اللفظ في عدة معان بناءا على مسلك التعهد تجوزا لا حقيقة غير نافعة
حتى على نحو المجاز.
2 - وجود صياغة أخرى تصحح استعمال اللفظ في عدة معان على نحو

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 208 - 209.
200

الحقيقة فضلا عن المجاز بناءا على مسلك التعهد.
فنقول: إن صياغة التعهد متصورة بثلاثة أنحاء:
الأول: أن يتعهد " بأني إذا أردت تفهيم المعنى الفلاني فأنا أذكر اللفظ
الفلاني "، وبناءا على هذا لا يكون ذكر اللفظ منشأ للدلالة التفهيمية، لان
اللفظ قد يذكر بقصد التدريب للغير على التلفظ وقد يذكر بداعي الحديث مع
النفس فلا ينحصر ذكره في تفهيم المعنى، ومن الواضح عدم دلالة اللازم
الأعم على ملزومه فلا يوجد حينئذ قانون عرفي مصحح للاستعمال ومحقق
للظهور لا في الاستعمال في معنى واحد ولا في معان متعددة.
الثاني: أن يتعهد " بأني إذا ذكرت اللفظ الفلاني فأنا أريد أحد المعاني "
على نحو الوضع العام والموضوع له الخاص، وبناءا على هذا لا يصح الاستعمال
في جميع المعاني لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز مع القرينة أو بدونها بل
يكون الاستعمال غلطا، وذلك لان المتعهد به هو تفهيم العام البدلي والمستعمل
فيه هو العام الاستغراقي ومع عدم التطابق لا يكون الاستعمال حقيقيا كما هو
ظاهر.
ولا يصح مجازا أيضا، لان المجاز في نظره (قده) ليس في الكلمة بأن
تستعمل الكلمة في غير ما وضعت له مع القرينة بل المجاز عنده عبارة عن عدم
تطابق المراد الاستعمالي الذي هو عبارة عن الموضوع له مع المراد الجدي،
كاستعمال لفظ الأسد في معناه وهو الحيوان المفترس مع إرادة الرجل الشجاع
ثبوتا بقرينة.
فالتجوز متقوم بعنصرين:
1 - كون المراد الاستعمالي هو الموضوع له، بناءا على نظريته من أن
الوضع هو التعهد المستلزم لحصر المدلول الوضعي في المدلول التفهيمي.
2 - عدم تطابق ذلك المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، وفي المقام عند
201

استعمال اللفظ في العام الاستغراقي مع أن الموضوع له هو العام البدلي لم
يتحقق التجوز، لتطابق المراد الاستعمالي وهو العام الاستغراقي مع المراد
الجدي، فلم يحصل العنصر الثاني، ولعدم كون المراد الاستعمالي هو المدلول
الوضعي وهو العام البدلي، فلم يحصل العنصر الأول، ونتيجة ذلك عدم
صحة هذا الاستعمال أصلا فلا يفيد نصب القرينة عليه.
الثالث: أن يتعهد " أنه كلما ذكر اللفظ الفلاني فهو يريد المعنى " وحينئذ
يرد الاشكال عليه بأن هذا التعهد لا يجتمع مع استعمال اللفظ في عدة معاني
كما ذكر في المحاضرات (1).
ولكن طريق التخلص من الاشكال لا ينحصر في النحو الثاني الذي
سبق تصويره وهو وضع اللفظ لعنوان أحد المعاني كما ذكر السيد (قده)، بل
هناك طريق آخر يلتقي مع القوانين العرفية، وذلك بأن يقول المتعهد " بأني إذا
ذكرت اللفظ فأنا أريد المعنى الأول الا أن أنصب قرينة على عدمه وأتعهد
إذا ذكرت اللفظ فأنا أريد المعنى الثاني الا أن أنصب قرينة على عدم ارادته "
وإذا استعمل اللفظ في كلا المعنيين مع قرينة ارادتهما فالاستعمال حقيقي لعدم
نصب قرينة على عدم إرادة أي واحد منهما، ومطابق للموضوع له، وحينئذ
فلهذا الاستعمال حتى على مبنى التعهد قانون عرفي مصحح له وموجب لظهور
اللفظ في كلا المعنيين مع ذكر قرينة على عدم إرادة أحدهما وحده.
وهذا القانون العرفي المتبع في استعمال اللفظ في عدة معان هو نفسه
المتبع عند استعمال اللفظ في المعنى الواحد، فما ذكره في المحاضرات (2) من دوران
هذا الاستعمال بين عدم الصحة بناءا على النحو الثالث من صياغة التعهد أو

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 202 - 203.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1: 208 - 209.
202

صحته مع القرينة على التجوز غير تام، بل هو استعمال حقيقي مطابق لقوانين
المحاورة بناءا على النحو الثالث من صيغ التعهد أيضا.
الجهة الرابعة: في أن اطلاق اللفظ مع تعدد المراد هل هو حقيقة أم
مجاز، وهنا صورتان:
الأولى: اطلاق اللفظ مع إرادة شخصه وإرادة معناه، كقوله: الصحاح
لا تكسر.
الثانية: استعمال اللفظ في عدة معاني، كاستعمال لفظ العين في عدة
معاني.
أما الصورة الأولى فلا ريب أنها ليست مجازا على جميع المباني، لان
اطلاق اللفظ مع إرادة شخصه ليس من باب الاستعمال في شئ والحقيقة
والمجاز من شؤون الاستعمال لا مطلق الاطلاق، وأما إرادة معنى اللفظ فهو
استعمال للفظ في معناه الموضوع له فهو استعمال حقيقي لا مجازي.
وانما الكلام في الصورة الثانية، أعني استعمال اللفظ في عدة معاني، هل
هو حقيقة أم مجاز؟
ويتضح المطلب باستعراض المسالك في الحقيقة والمجاز وهي ترجع
لاتجاهين، فالأول هو القائل لا مجاز في الكلمة وانما المجاز في الحمل، والثاني هو
القائل بالمجاز في الكلمة.
أما الاتجاه الأول فله صياغات ثلاث سيأتي التعرض لها في بحث الحقيقة
والمجاز، ونشير إليها هنا بصورة موجزة، وهي كما يلي:
الأولى: ما هو منقول عن السكاكي ان التصرف في أمر عقلي لا لفظي (1)،
وذلك لأنه إذا قيل زيد أسد على نحو المجاز المرسل أو رأيت أسدا يرمي على

(1) مفتاح العلوم: 369، محاضرات في أصول الفقه 1: 93، أجود التقريرات 1: 59.
203

نحو الاستعارة فليس التجوز والتصرف هنا في لفظ الأسد بأن يراد به الرجل
الشجاع والا لم يكن فرق بين قولنا زيد أسد وقولنا زيد شجاع والفرق الوجداني
لا ريب فيه، بل التصرف في أمر عقلي، وذلك باعتبار زيد فردا من أفراد الأسد
ادعاءا مع استعمال لفظ الأسد في نفس مفهومه، فالتجوز بحمل لفظ الأسد بما
له من المعنى على زيد.
الثانية: ما طرحه الأستاذ السيد الخوئي (قده) بأن المجاز عبارة عن عدم
تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي، ففي قولنا زيد أسد يراد بلفظ الأسد
الحيوان المفترس على صيد الدلالة الاستعمالية والرجل الشجاع على صعيد
الدلالة التصديقية (1).
الثالثة: ما هو المختار عندنا من أن المجاز عبارة عن اعطاء حد شئ
لشئ آخر بدافع نقل التأثير الاحساسي من المشبه به للمشبه، وبيان ذلك:
أننا لو قلنا رأيت أسدا يرمي فليس المراد بلفظ الأسد الرجل الشجاع، لان
حلول الشجاع محل الأسد في الجملة مستهجن في الذوق العرفي، فإننا لو قلنا
زيد شجاع بل أسد أو ليس زيد شجاعا فقط بل هو أسد لعد ذلك اضرابا
وترقيا مستلطفا مع أنه لو كان المراد بلفظ الأسد الرجل الشجاع لكان هذا
الاضراب مستهجنا.
فالتجوز الحقيقي حينئذ في اعطاء حد الحيوان المفترس وهو الأسد لزيد
الانسان بدافع نقل التأثير الاحساسي لشخصية الأسد في النفوس المولد للهيبة
والخوف إلى زيد الشجاع. وبين هذه الصياغات الثلاث فروق تعرضنا لها في
بحث الحقيقة والمجاز.
والنتيجة على ضوء هذا الاتجاه بصياغاته الثلاث هو كون استعمال اللفظ

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 93.
204

في عدة معان استعمالا حقيقيا، لاستعمال اللفظ في معانيه المتعددة بلا تصرف
في الاسناد والحمل أصلا.
الاتجاه الثاني: ان المجاز في الكلمة، وهو - كما عبر عنه في علم البيان -
استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع القرينة في مقام التخاطب.
والنتيجة على هذا الاتجاه أيضا كون استعمال اللفظ في معانيه المتعددة
استعمالا حقيقيا لا مجازيا، سواءا فسرنا الوضع - بالمعنى المصدري - بأنه جعل
اللفظ بإزاء المعنى أم فسرناه بالتعهد كما يراه الأستاذ السيد الخوئي (قده)، أما
على الأول فلان لفظ العين - مثلا - لما وضع بإزاء معانيه الأربعة فاستعماله فيها
- على نحو الجميع لا المجموع - استعمال فيما وضع له فهو حقيقي، وأما على
الثاني - وهو مسلك التعهد - فقد ذكرنا سابقا أن صياغته على ثلاث أنحاء:
الأول: التعهد " بإرادة معنى معين عند ذكر اللفظ " وعلى هذا النحو
يكون استعمال اللفظ في المعاني المتعددة غير معقول لمناقضته للتعهد السابق الا
أن يكون وضعا تعهديا جديدا.
الثاني: التعهد " بإرادة أحد المعاني عند ذكر اللفظ " وهو ما اختاره السيد
(قده) وبنى عليه كون استعمال اللفظ في جميع المعاني مجازا مع القرينة، مع أنه
استعمال غلط، وليس حقيقة لعدم التطابق بين المتعهد به والمستعمل فيه ولا
مجازا في الحمل لوجود التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدي، ولكنه مجاز
في الكلمة لو وجد له مصحح وضعي أو طبعي، ووجوده محل تأمل.
الثالث: التعهد بالصيغة التي طرحناها، وهي " إرادة المعنى عند ذكر
اللفظ ما لم تكن قرينة على الخلاف ثم التعهد بإرادة معنى آخر عند ذكر اللفظ
ما لم ينصب قرينة على الخلاف " ومع استعمال اللفظ في الجميع يكون استعمالا
حقيقيا لعدم نصب قرينة على خلاف أحدهما.
الجهة الخامسة: وتدور حول القاعدة المتبعة عند اطلاق اللفظ بدون
205

نصب قرينة على إرادة معنى واحد أم جميع المعاني أم مجموعها، وهنا صورتان:
أ - إذا دار المقصود بين إرادة معنى خاص أو إرادة جميع المعاني من
ب - إذا دار أمر الاستعمال بين إرادة جميع المعاني على نحو العام
الاستغراقي أو المجموع على نحو العام المجموعي.
أما بالنسبة للصورة الأولى فهناك رأيان:
1 - حمل اللفظ على إرادة جميع المعاني.
2 - الحكم بالاجمال والرجوع للأصل العملي.
وذهب للأول جماعة كما في المعالم (1) والفصول (2) وبعض قدماء العامة
والخاصة كما في هداية الأبرار (3) واختاره من المتأخرين السيد البروجردي
(قده) (4)، بينما ذهب الأكثر للثاني.
دليل القول الأول: ويتلخص في أمرين:
أ - بما أن اللفظ يتضمن علقة وضعية مع جميع المعاني فإذا دار أمر
المقصود بين إرادة معنى واحد أم إرادة الجميع فمقتض أصالة الحقيقة الحمل
على إرادة الجميع.
وفيه: ان أصالة الحقيقة موردها دوران الاستعمال بين كونه حقيقيا أم
مجازا، وأما لو دار الاستعمال بين استعمالين حقيقيين كما في المقام فإن استعمال
اللفظ في معنى معين كاستعماله في جميع المعاني حقيقي فلا مرجح لأحدهما على
الاخر، ونتيجة ذلك الحكم بالاجمال.

(1) معالم الأصول: 38.
(2) الفصول: 53.
(3) هداية الأبرار: 243.
(4) الحاشية على كفاية الأصول، تقريرات البروجردي 1: 107.
206

ب - ان القانون العرفي الكاشف عن الإرادة التفهيمية هو المقتضى
لحمل اللفظ على جميع المعاني، والقانون العرفي حسب المبنى المختار هو قانون
السببية الذي مر شرحه، وهو أن كل من أوجد سببا لمسبب ما مع التفاته للسببية
فهو قاصد لايجاد المسبب عند العقلاء، وبما أن اللفظ ذو علقة وضعية مع جميع
المعاني فلابد من حمله على إرادة جميع المعاني، بناءا على قانون السببية المذكور
مع عدم نصبه قرينة على المقصود.
وكذلك لو اخترنا مسلك الالتزام والتعهد، فبما أن متعلق التعهد هو
جميع المعاني فلابد من حمل اللفظ عليها جريا على وفق التعهد المذكور.
أولا ان النكتة العرفية التي يبتني عليها قانون السببية هي نكتة الفرار
من محذور اللغوية، وذلك لان الموجد لسبب يؤدي لمسبب ما مع التفاته للسببية
انما يتعين حمله على إرادة المسبب للزوم للغوية من ايجاده للسبب لو لم يقصد
المسبب، وفرارا من هذا المحذور وصونا لافعال العقلاء عن اللغوية والعبث
- كما عليه سيرتهم في جميع الأمور - يحمل على أنه قاصد للمسبب، وكذلك في
عالم الألفاظ انما يحمل على ارادته للمعنى الكذائي صونا لكلامه عن اللغوية.
ومن المعلوم أنه يكفي في دفع محذور اللغوية في المقام حمل اللفظ على
إرادة معنى واحد من بين المعاني - معين ثبوتا وان لم يعرف اثباتا - بلا حاجة
لحمله على إرادة جميع المعاني خصوصا مع عدم القرينة على إرادة جميع المعاني،
وانتقال الذهن لجميع المعاني على فرض حصوله فهو من لوازم العلم بالعلقة
الوضعية.
ولا يصح جعله مقصدا وغاية وهدفا نظر إليه المتكلم مع عدم مساعدة
قانون السببية على الحمل عليه، والفرق بين النتيجة اللازمة والغاية أوضح من
أن يخفى.
207

ثانيا: ان المتفاهم العرفي في مقام الاستعمال هو استعمال اللفظ في معنى
واحد وأما استعماله في عدة معان فهو خلاف المتبادر عرفا لا يصار إليه الا مع
القرينة، ولعل هذا هو مقصود صاحب المعالم والقوانين (1) عندما أخذا في الموضوع
له قيد الوحدة، لان جعل الوحدة جزءا من الموضوع له واضح الفساد، إذ لا
يجتمع ذلك مع قصد معنى آخر من اللفظ لا حقيقة ولا مجازا، فالمناسب حينئذ
أخذ الوحدة في مقام الظهور لا في مرحلة الوضع، بمعنى أن الظاهر عرفا من
الاستعمال هو استعمال اللفظ في المعنى الواحد.
ولذلك ترى البناء العقلائي على حمل اللفظ على معنى واحد لا متعدد في
جميع شؤون المحاورة، فعندما يحصل اقرار من شخص باشتغال ذمته بمال لزيد
وكان زيدا مرددا بين أشخاص لا يحكم العقلاء بإرادة الجميع، ولو طلق رجل
زوجته فلانة وكان اسمها مشتركا بين زوجتين له أو أكثر لا يحكم العقلاء بطلاق
الجميع، وكذلك الفقهاء في مشتركات الرواة، فلو أسند صاحب التهذيب
رواية لأحمد بن محمد المردد بين ابن عيسى وابن خالد فإنهم لا يسندون الرواية
للجميع.
وهذه كلها شواهد على تبادر الوحدة في مقام الاستعمال وان المتكلم
يقصد معنى معينا ثبوتا لكن لعدم القرينة عليه اثباتا يحكمون بالاجمال.
ثالثا: بناءا على مسلك التعهد في الوضع فالنتيجة في دوران اللفظ بين
إرادة معنى واحد أو معاني متعددة هو الحكم بالاجمال أيضا عند العقلاء،
وذلك على كلا صيغتي التعهد، أما على الصياغة التي اختارها الأستاذ السيد
الخوئي (قده) وهي التعهد بإرادة أحد المعاني عند ذكر اللفظ فحمل اللفظ على
إرادة الجميع مضافا لكونه خلاف الاستظهار العرفي كما سبق فهو خلاف

(1) معالم الأصول: 39، القوانين 1: 68.
208

المتعهد به، فلا يصار له الا مع القرينة ويتعين الحكم بالاجمال.
وأما على الصياغة المختارة عندنا، وهي التعهد عند ذكر اللفظ بإرادة
معنى معين الا مع القرينة على الخلاف ثم التعهد مرة أخرى بمثل ذلك لمعنى
آخر، فأيضا لا يوجد بناء عقلائي على حمل اللفظ على الجميع مع عدم قرينة
دالة، وذلك لاخذ الوحدة في مقام الظهور فالمتعين الحكم بالاجمال.
الصورة الثانية: العلم بأن المتكلم أراد أكثر من معنى من اللفظ، ولكن
هل قصد الكثرة على نحو أجزاء لمركب واحد وهو المعبر عنه بالعموم
المجموعي، أو قصد الكثرة العرضية وهو المعبر عنه بالعموم الاستغراقي، وهنا
احتمالان:
الأول: أن أصالة الحقيقة التي هي من صغريات أصالة الظهور تعين
كون المراد هو العموم الاستغراقي، باعتبار ان استعماله في العموم المجموعي
مجاز واستعماله في العموم الاستغراقي حقيقة فهو المتعين.
الثاني: الحكم بالاجمال، وذلك لان دلالة اللفظ على العموم المجموعي
خلاف الظاهر عرفا، إذ لا يتبادر لأذهانهم صورة مركبة من مجموعة معاني،
وحمله على العام الاستغراقي خلاف الظاهر عرفا ولا قرينة تعين أحدهما ولم
يقم بناء من العقلاء على جريان أصالة الحقيقة تعبدا بل يرون جريانها في مورد
تكون الأصالة منقحة للظهور فيه لا مخالفة له، فالنتيجة هي الاجمال والرجوع
للأصل العملي.
209

المشتق
بحث الأصوليون في أن لفظ المشتق ظاهر وضعا في خصوص المتلبس
بالمبدأ أم ظاهر في الأعم، وذهب للقول بالأعم المعتزلة والمتقدمون من علمائنا
وذهب للقول بالخصوص الأشاعرة والمتأخرون منا (1)، وكلامنا في هذا البحث
في مقامين:
الأول: في تحرير محل النزاع.
الثاني: في دوافع القول بالأعم ومناقشتها.
المقام الأول: تحرير محل النزاع يعتمد على عدة مقدمات:
الأولى: في بيان معنى المشتق، فهل المراد بالمشتق المبحوث عنه المشتق
بالاصطلاح النحوي أم المشتق بالاصطلاح الأصولي؟
وبيان ذلك: أن المشتق له اصطلاحان:
أ - الاصطلاح النحوي، ويراد به اللفظ المأخوذ من لفظ آخر مع
توافقهما في الحروف وترتيبها كالضارب والضرب، ويعتقد البصريون أن المصدر
أصل المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول واسم الزمان والمكان والمصادر
المزيدة ونحوها (2) بينما يعتقد الكوفيون أن الأصل في الاشتقاق هو الفعل (3)، وكلاهما
غير تام بنظر الأصوليين المتأخرين بل الأصل عندهم هو المادة السارية في جميع
المشتقات.

(1) كفاية الأصول: 45.
(2) الانصاف للأنباري: 235.
(3) الانصاف للأنباري: 235.
210

ولكننا نسجل ملاحظة على جميع هذه الأقوال بأن نقول: لا يخلو أصل
المشتقات من أن يكون هو المادة أو المصدر أو اسم المصدر، فأما المادة فهي وإن
كانت موجودة بحروفها وترتيبها ومعناها في جميع المشتقات الا أنها ليست أصلا
للاشتقاق، وذلك لان كونها أصلا للمشتقات معناه: أن الواضع وضعها أولا
مجردة عن أي هيئة كانت وضعا نوعيا تتعاقب عليه الهيئات المختلفة.
والوضع النوعي المجرد المدعى في المواد والهيئات بعيد عن ذهنية الواضع
البدائي الأول الذي يقوم بوضع الكلمات إما بدافع الحاجة للتفهيم والتفاهم
وإما بداعي التغني كما يراه الفيلسوف جون لوك وإما بداعي الخوف والفزع من
حادث كوني معين كما يراه بعض آخر، فالمتصور في الواضع البدائي
الساذج هو الوضع الشخصي للكلمة مادة وهيئة بأحد الدوافع المذكورة لا
الوضع النوعي، فإنه حالة متطورة من الابداع الفكري البعيد عن الواضع
الأول.
وأما المصدر وهو الدال على الحدث المنتسب لفاعل ما فلا يصح جعله
أصلا للمشتقات، باعتبار أن الأصالة إن أريد بها كونه أول لفظ موضوع فذلك
يحتاج لدليل تاريخي.
لان أريد بها سريان المعنى والصياغة البنائية في جميع المشتقات فالمصدر
لا يطرد معناه في جميع المشتقات كاسم المصدر مثلا، فإن معناه يغاير المعنى
المستفاد من المصدر فكيف يكون متفرعا عنه، كما أنه لا يمكن سريان الهيئة
البنائية لجميع المشتقات لاستحالة كون المادة متشكلة بهيئتين متغايرتين.
وبنفس هذا الايراد نورد على القائلين بان أصل الاشتقاق هو الفعل وأما
اسم المصدر وهو الدال على الحدث بما هو، فإن أريد به الدلالة على أصل
211

الحدث مع كونه لا بشرط بالنسبة لحيثية الانتساب لفاعل ما فهذا هو الجامع
الانتزاعي بين جميع معاني المشتقات، وهو فكرة متطورة يتوصل لها الذهن
البشري. بعد مروره على ألفاظ المشتقات، فالمناسب كونه متأخرا عن المشتقات
في الوضع لا أصلا لها.
وإن أريد به الدلالة على الحدث مع كونه بشرط لا عن معنى الانتساب
فهو مغاير حينئذ لمفاهيم بقية المشتقات فلا يصلح كونه أصلا لها.
2 - المشتق الأصولي: وهو العنوان المنتزع من الذات بلحاظ انضمام أمر
خارج عنها لها، وهذا العنوان له عنصران:
أ - منشأ الانتزاع وهو الذات نفسها.
2 - مصحح الانتزاع وهو المبدأ المنضم للذات، والفرق بين منشأ
الانتزاع ومصححه: أن المنشأ هو الذي يحمل عليه العنوان الانتزاعي حملا
هوهويا، بينما المصحح هو المادة التي يصاغ منها العنوان الانتزاعي من دون
صحة حمله عليه.
وينقسم المشتق الأصولي بلحاظ المبدأ الذي يصاغ منه إلى خمسة أقسام:
1 - ما كان المبدأ من الاعراض المتأصلة خارجا وهي المقولات التسع
كالقائم والقاعد، فإن مبدأهما من القيام والقعود وهما عرضان خارجيان.
2 - ما كان المبدأ من الأمور الاعتبارية كالواجب والحرام، باعتبار انضمام
الوجوب والحرمة لشئ ما.
3 - ما كان المبدأ من الأمور الانتزاعية الواقعية لواقعية منشأ انتزاعها
كالابن والأخ المأخوذين من الأبوة والبنوة والاخوة، وهذه مفاهيم انتزاعية محمولة
على الذات من باب الخارج المحمول لا من باب المحمول بالضميمة كالقسمين
السابقين.
212

4 - ما كان المبدأ من الجواهر كاللابن والتامر، بناءا على كون مبدئه هو
التمر واللبن ثم أطلق المشتق على المتلبس ببيعها، وسيأتي مناقشة ذلك.
5 - ما كان المبدأ من سنخ الوجود والعدم لا من سنخ الماهيات بشتى
أنواعها من المتأصلة والاعتبارية والانتزاعية والجوهرية، ومثاله لفظ موجود
ومعدوم.
وبين المشتق النحوي والأصولي عموم من وجه، لشمول الأول للمصدر
المزيد الذي لا يندرج تحت الثاني لعدم حمله على الذات حملا هوهويا بل يحمل
عليها بالعناية، وشمول الثاني للجوامد المحمولة على الذات كالزوج والرق
والام.
والآن نطرح السؤال: هل المراد بالمشتق المبحوث عنه هو المشتق النحوي
أم المشتق الأصولي، وقد أجيب عن ذلك بجوابين
1 - إن المراد به المشتق النحوي، لأنه هو معنى المشتق لغة فإن المشتق
لغة هو المأخوذ من الشئ الآخر فيتلائم المفهوم النحوي مع المفهوم اللغوي،
وإنما نلتزم بالخروج الحكمي لبعض المشتقات والدخول الحكمي لبعض
الجوامد، فمثلا المصادر المزيدة وأسماء المصادر وإن كانت من المشتق موضوعا
لكنها خارجة عن حريم البحث حكما، لعدم تصور النزاع فيها بعد عدم حملها
حملا هوهويا على الذات، كما أن بعض الجوامد كالأخ والرق داخلة في البحث
حكما وإن خرجت عن المشتق موضوعا، باعتبار صحة جريان النزاع فيها.
2 - إن المراد به المشتق الأصولي، وذلك أولا: لملائمته المعنى اللغوي
باعتبار اشتقاقه وانتزاعه من الذات بلحاظ انضمام أمر لها، فإن الاشتقاق
العقلي كاف في صحة تسميته بالمشتق وإن لم يكن هناك اشتقاق لفظي.
213

وثانيا: إن قانون انتخاب الأسهل هو الذي يعطينا القناعة بأن المراد
بالمشتق المشتق الأصولي، باعتبار أنه ما دام الاصطلاح الأصولي موجودا ووافيا
بتحديد موضوع البحث بدون استثناءات أو استدراكات فلا حاجة لتبني
الاصطلاح النحوي ثم تعقيبه بالاستثناء.
المقدمة الثانية: في بيان مفهوم التلبس بالمبدأ وفقدانه بالنظر الفلسفي
والعرفي:
إن النزاع في كون لفظ المشتق ظاهرا في خصوص المتلبس أم في الأعم
إنما يتصور بعد كون المشتق ذا حالتين، حالة تلبس الذات بمبدئه وحالة
فقدانها، بحيث يعد الوجدان والفقدان من الحالات الطارئة على الذات مع
عدم تغير حقيقتها.
وأما لو كان التباين بين الحالتين ذاتيا، بحيث تكون الذات حقيقتين
متغايرتين عند التلبس وعدمه فليس ذلك داخلا في البحث بلا ريب، إذ لا
يصح إطلاق حد حقيقة على حقيقة أخرى الا تجوزا.
وكلامنا الآن في معيار التمايز بين حالة التلبس وحالة الفقدان واعتبارهما
حالتين أو حقيقتين، فهل المعيار فلسفي أم عرفي؟
وبعبارة أوضح: لا ريب أن شيئية الشئ - التي بها يمتاز عن غيره
ويكون حقيقة منفصلة عن الحقائق الأخرى - بصورته لا بمادته، ولكن ما هو
المعيار في الصورة الفاصلة للحقيقة هل هو النظر العرفي أم النظر الفلسفي؟
المعيار الفلسفي: ويرى الفلاسفة أن الصورة المقومة للحقيقة هي
الصورة النوعية المعبر عنها بالفصل، فالانسان مثلا بناطقيته لا بجسمه، فلو
تحول الجسم إلى تراب فالانسان باق باعتبار عدم تغير صورته الانسانية وهي
روحه الناطقة.
المعيار العرفي: وهو الذي يرى تمايز الأشياء بالصورة الشكلية والآثار
214

الملموسة عند العرف.
وبينهما عموم من وجه، فالجسد البشري - مثلا - بعد فقدانه للحياة يراه
العرف بأنه هو الانسان وأنه مات، والموت والحياة حالات طارئة لا حقائق
مختلفة، بينما الفلاسفة لا يعتبرون الجسد الميت إنسانا بل يعتبرونه جمادا
والانسان غيره فيختلفان حقيقة بالموت والحياة. كما أن الحليب واللبن المصنوع
منه حقيقتان عرفا وذات واحدة فلسفة، لاتحاد الصورة النوعية فيهما.
وبعد البيان المذكور نقول: بأن المعتبر في الصورة الفاصلة للحقيقة هو
النظر العرفي لا النظر الفلسفي لعدة أسباب:
أولا: إن الرؤية الفلسفية لا دليل على واقعيتها وصحتها، فربما يكون
المعيار الواقعي في الفصل بين الأشياء هو الفصل بالعوارض والآثار كما ورد في
بعض الروايات: " وخلق خلقا مختلفا بأعراض وحدود " (1).
ولا دليل على لزوم كون الفاصل بالصور النوعية والفصول، ولعل
الاتجاه الفلسفي في جعل معيار التمييز مبنيا على الصور النوعية والفصول
تعبير عن عرف خاص في المجتمع اليوناني الذي نشأت فيه بذرة الفلسفة، ومن
الواضح أن الأعراف والمجتمعات تختلف في معيار التمييز كما نلاحظ اختلاف
المجتمعات في جعل بعض الفواكه أو الحيوانات تحت عنوان واحد أو عناوين
متعددة.
فمن المحتمل جدا كون الفلسفة اليونانية في اعتمادها على الصور النوعية
كمعيار للتمييز بين الحقائق تعبر عن عرف خاص ورؤية إنسانية معينة لا أن
ذلك هو المعيار الواقعي المعتمد.
ثانيا: قد ذكر الفلاسفة أنفسهم أن الاطلاع على الحقائق الواقعية غير

(1) التوحيد: 430، باب 65، ضمن ح 1.
215

متيسر والفصول التي يطرحونها ما هي الا فصول مشهورية لا فصول حقيقية،
فالناطق - مثلا - الذي جعل فصلا للانسان إن أريد به النطق فهو كيف
مسموع وإن أريد به الفكر فهو كيف نفساني أو فعل ذهني، ومن المعلوم عندهم
عدم تقوم الجوهر بالاعراض من الكيف والفعل، إذن فالناطق فصل مشهوري
لا فصل حقيقي. ونتيجة ذلك: أنه كيف يمكن لنا أن نعتبر المعيار في تمييز
الحقائق هو النظر الفلسفي مع قصوره - كما مرح الفلاسفة أنفسهم - في
الوصول لفرز الواقعيات وتحديدها.
ثالثا: إن البحث في ظهور المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم بحث
لغوي يرجع في تشخيصه إلى العرف واللغة لا إلى البحوث الفلسفية.
ولكن هنا سؤالان:
1 - إن بحثنا في المائز الحقيقي بين الشئ وغيره وأنه مائز عرفي أو
فلسفي، وهذا بحث عقلي وليس بحثا لغويا حتى يرجع فيه إلى اللغة والعرف؟
والجواب: إن الظهور يعتمد على عناصر مندمجة في نفس الظهور بحيث
تكون هناك وحدة وائتلاف بين الظهور وعناصره ولا يمكن البحث في الظهور
منفصلا عنها، فمثلا إذا بحثنا في أن صيغة افعل ظاهرة في الوجوب أم لا
فالبحث في هذا الظهور معتمد على عنصر آخر وهو ما يستظهره العرف من
عنوان الوجوب أيضا، وكلا الامرين وحدة مترابطة تقع موردا للبحث.
كذلك في المقام، فإن البحث عن ظهور المشتق في المتلبس أو الأعم
متفرع على ما يفهمه العرف من التلبس وعدمه مع بقاء الحقيقة مقابل تغيرها،
وهذا العنصر مندمج في الظهور نفسه بحيث لا يتحقق ظهور عرفي للمشتق في
المتلبس أو الأعم الا مع ظهور مفهوم التلبس وعدمه في أذهان العرف، فتبين
أن البحث في المقام بحث لغوي يرجع فيه للمفهوم العرفي لا إلى التحقيق
الفلسفي.
216

2 - لا ريب في اختلاف الأعراف في مفاهيمها وأفكارها، وحينئذ إذا
كانت الرؤية العرفية الآن تعني أن المشتق ظاهر في المتلبس أو الأعم أو تعني أن
الفاصل الحقيقي بين الماهيات هو بالاعراض والآثار فلا يعني ذلك أن الارتكاز
العرفي في زمان النص الشرعي كذلك؟
والجواب: إن كلامنا في ظهور المشتق بصفة عامة وليس خاصا بالمشتق
الموجود في النصوص الشرعية حتى نركز على العرف المعاصر للنص الشرعي،
مضافا إلى أنه إذا ثبت ما هو المرتكز في عرفنا رأينا كيف نتوصل للعرف في زمان
النص من عدة طرق طرحناها في بحث علامات الحقيقة والمجاز.
المقدمة الثالثة: في بيان معنى الحال: عندما يقول الأصوليون هل أن
المشتق ظاهر في المتلبس بالمبدأ في الحال أم في الأعم فماذا يقصدون من لفظ
الحال؟
هناك ثلاثة معاني للحال:
1 - حال النطق.
2 - حال النسبة.
3 - حال التلبس.
أما المعنى الأول: فهو غير مراد قطعا لوجهين:
أ - لو كان زمان النطق مدلولا لكانت الأوصاف دالة على الزمان وليست
كذلك بدليل اسنادها إلى نفس الزمان بدون عناية أصلا فيقال الزمان مسرع،
واسنادها إلى المجردات الخارجة عن وعاء الزمان نحو الله عالم وخالق والملائكة
قائمون ونحوه، فإذا صح إطلاقها على المجرد عن الزمان وعلى الزمان نفسه
وعلى الزماني بلا عناية تبين خلوها من الدلالة على الزمان، فانسباق زمان النطق
في بعض الاستعمالات نحو زيد قائم لاتحاد زمان النطق مع زمان الجري
والانطباق، فلو لم يتحدا لم يتحقق هذا الظهور نحو " لا تكرم الفاسق " فإن
217

الظاهر منها فعلية الفسق حين الاكرام لا حين النطق بالجملة.
2 - إن لازم هذا القول كون قلنا زيد قائم أمس وكان زيد قائما مجازا،
لعدم التلبس حال النطق مع أنه حقيقة بلا ريب عندهم.
وأما المعنى الثاني: وهو أن المراد بالحال حال الجري والنسبة، أي حال
انتساب المحمول للموضوع، سواءا تقدم عليه النطق أم تأخر أم قارن،
فظاهره أن البحث في المشتق بحث في مرحلة التطبيق والاسناد لا بحث في
المدلول الافرادي للمشتق، أي أنه بعد الفراغ عن المفهوم المتبادر من لفظ
المشتق بما هو لفظ نبحث في صدقه وتطبيقه على الموضوع، فنقول: هل يشترط
في صدقه على الموضوع تلبسه بالمبدأ حال النسبة والاسناد أم يصح صدقه عليه
بمجرد تلبسه به في الزمان السابق وإن لم يكن متلبسا به فعلا، إذن فعلى هذا
القول لا يكون البحث بحثا لغويا حول مدلول لفظ المشتق بل هو بحث متعلق
بمقام الاسناد والنسبة.
وأما المعنى الثالث: وهو المختار عندنا، فمحصله: أن البحث في المقام
بحث لغوي حول مدلول لفظ المشتق وأن هذا المدلول في حد ذاته هل هو واسع
شامل لحين وجود المبدأ خارجا وحين انقضائه أو ضيق خاص بحين تحقق المبدأ
بغض النظر عن عالم الاسناد، فسواءا كان هناك جملة وإسناد أم لم يكن فإن
البحث متصور في لفظ المشتق بلحاظ مدلوله الافرادي.
وعلى هذا المعنى فلا نحتاج لإضافة قيد الحال للبحث أصلا، فنقول:
هل أن لفظ المشتق ظاهر في المتلبس أم الأعم منه، من دون داعي لإضافة قيد
الحال ما دام المراد منه هو نفس التلبس، بخلاف المعاني الاخر للفظ الحال فإننا
بناءا عليها نحتاج لإضافة قيد الحال، لاختلافها معنى عن معنى التلبس،
وبيان هذا البحث بصورة أوضح وأعمق يعتمد على البحث الآتي.
218

المقدمة الرابعة: حول البحث في المشتق، هل هو بحث عقلي أم بحث
لغوي فهنا نظريتان:
الأولى: إن البحث في المشتق بحث عقلي فلسفي، وذلك لان مفهوم
المشتق مفروغ عنه وهو الواجد للمبدأ بأي لون من ألوان الواجدية فلا نزاع في
مفهومه.
وإنما النزاع في كون الموضوع المحمول عليه المشتق هل هو من مصاديق
المشتق وأفراده مطلقا حتى بعد انقضاء تلبسه بالمبدأ أو أنه من مصاديقه حين
التلبس فقط، فالبحث متعلق بمرحلة الصدق والفردية لا بمرحلة التشخيص
اللغوي للمفهوم، ولذلك يختص البحث بالقضايا والجمل الاسنادية لأنها تعبر
عن مرحلة الصدق ولا ربط له بالمفردات، إذن فالبحث في المقام تصديقي لا
بحث تصوري في مفهوم المشتق.
وقد ذهب لهذه النظرية المحقق الطهراني صاحب المحجة والتبريزي في
المشتقات والبهبهاني في المقالات والسيد البروجردي (1) وبعض الأعاظم (2).
الثاني: إن البحث في المقام حول ظهور لفظ المشتق في خصوص المتلبس
بالمبدأ أو الأعم، فهو بحث لغوي حول مدلول كلمة معينة وأن هذا المدلول
هل هو واسع يشمل المنقضي أم ضيق فيختص بحين التلبس. وهذا ما يسمى
بالشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر كالنزاع في مفهوم الفاسق الخاص
بمرتكب الكبيرة أو الشامل لها ولمرتكب الصغيرة، ومثله النزاع في الصحيح
والأعم أيضا.

(1) الحاشية على كفاية الأصول، تقريرات البروجردي 1: 112.
(2) تهذيب الأصول 1: 98 - 100.
219

إذن البحث هنا بحث لغوي تصوري سواءا كان هناك جملة اسنادية أم
لا، وقد ذهب لهذا الرأي المحققون الثلاثة النائيني (1) والعراقي (2)
والأصفهاني (3) وهو مختارنا أيضا (4).
ونستعرض الان النظرية الأولى وتقريبها وما يرد عليها من الملاحظات:
تقريبها: إن ما نتصوره من كلام المحقق الطهراني في المحجة أحد
وجهين:
أ - إن الحمل على نوعين، حمل مواطاة وحمل اشتقاق، فأما حمل المواطاة
فيعني الهوهوية بين الموضوع والمحمول والهوهوية تقتضي الاتحاد الوجودي
بينهما، ومع حصول الاتحاد المذكور فالموضوع لابد وأن يكون من المصاديق
الفعلية للمحمول ومن أفراده الحالية والا لم يصح حمل المشتق عليه، إذ لا يصح
أن يقال للسائل أنه ماء بعد تحوله بخارا، ولا يصح أن يقال للمائع أنه خل بعد
تحوله خمرا.
فحمل المواطاة متقوم بالهوهوية الوجودية التي تعني كون الموضوع
مصداقا فعليا للمحمول.
وأما حمل الاشتقاق فمعناه: حمل المبدأ على الذات التي تلبست به فليس
معناه الهوهوية بين الطرفين، إذ لا هو هوية بين المبدأ وبين الذات ولذلك لا
يصح حمله عليها فلا يقال زيد جلوس الا مع التأويل، بل معناه مجرد الانتساب
أي انتساب هذا المبدأ إلى الذات.
وحينئذ يقع البحث في أن حمل الاشتقاق الراجع لمعنى الانتساب هل

(1) فرائد الأصول 1: 82 و 93 و 111.
(2) أجود التقريرات 1: 57 و 59.
(3) مقالات الأصوليين: 56 - 57.
(4) نهاية الدراية 1: 68.
220

يعتبر فيه فعلية التلبس بالمبدأ حتى يصح الحمل أو يكفي مجرد ارتباط المبدأ
بالذات في زمن من الأزمنة لصحة الحمل، فالنزاع عقلي في بحث فلسفي وهو
بحث حمل الاشتقاق، وبما أن حمل المشتق كقولنا زيد عالم من مصاديق حمل
الاشتقاق لان عنوان المشتق عنوان انتزاعي مأخوذ من المبدأ وهو العلم مثلا،
فحمله في الواقع وعالم الثبوت هو حمل للمبدأ على الذات وإنما لعدم صحة حمل
المبدأ على الذات صراحة فيحمل عليها بواسطة ذو فيقال زيد ذو علم أو
بواسطة المشتق فيقال زيد عالم فالحمل لبا وثبوتا للمبدأ.
وبما أن حمل المبدأ حمل اشتقاق فكذلك حمل المشتق المأخوذ منه، ولأجل
وجود الخلاف في بحث الاشتقاق وأنه هل يشترط فيه فعلية التلبس أم لا
فيسري هذا الخلاف لصغرياته ومصاديقه ومن جملتها المشتق.
ب - إن الخلاف المذكور ليس كبرويا دائرا حول حمل الاشتقاق نفسه
وإنما هو بحث صغروي أي في خصوص المشتق، بمعنى أن حمل الاشتقاق
يفترق عن حمل المواطاة افتراقا جوهريا، فكما يختلفان في أن المحمول في حمل
المواطاة عنوان مندمج مع عنوان الموضوع متحد به وجودا كقولنا هذا حجر
والمحمول في حمل الاشتقاق هو المبدأ المنفصل عن الذات مفهوما ووجودا، بناءا
على تعدد الموجود خارجا للجوهر والعرض، فكذلك يختلفان في أن المعتبر في
حمل المواطاة كون الموضوع من الافراد الفعلية للمحمول ولا يعتبر ذلك في حمل
الاشتقاق، بل يكفي مجرد انتساب المبدأ للموضوع في زمان سابق.
فهذه الكبريات لا نزاع فيها، وإنما النزاع في الصغرى وهو المشتق نفسه
وهل أنه مندرج في باب حمل المواطاة فلابد فيه من فعلية التلبس أم أنه مندرج
في باب حمل الاشتقاق فلا يعتبر فيه الفعلية.
بيان ذلك: أن حمل الاشتقاق يعني حمل المبدأ على الذات، وبما أنه لا
يصح حمل المباين على مباينه فلابد من وسيلة لتصحيح الحمل وهو إما لفظ ذو
221

فيقال زيد ذو علم وإما لفظ المشتق فيقال زيد عالم، فإذا قيل زيد عالم فهنا توجد
نظرتان:
1 - أن كلمة عالم عنوان حاك عن العلم مرشد إليه ولا موضوعية للفظة عالم
أصلا، وحينئذ بما أن حمل المبدأ على الذات حمل اشتقاق وحمل الاشتقاق لا
يعتبر فيه فعلية التلبس فلا يعتبر في حمل المشتق فعلية التلبس، لان حمل عالم
عبارة أخرى عن حمل كلمة علم وهي المبدأ نفسه.
2 - أن نقول بأن حمل عالم على الذات يعني تحقق حملين مندمجين أحدهما
صريح والآخر ضمني، فالضمني هو حمل المبدأ نفسه على الذات وهو حمل
اشتقاقي لا يعتبر فيه فعلية التلبس، والصريح هو حمل عنوان عالم وهو عنوان
متحد وجودا مع الذات فحمله عليها حمل مواطاة، وبما أنه يعتبر في حمل المواطاة
كون الموضوع فردا فعليا للمحمول فلابد من اعتبار ذلك أيضا في حمل المشتق،
خصوصا وأنه عنوان انتزاعي ولا وجود للمنتزع الا بوجود مبدأ انتزاعه فإن
وجوده بدونه من قبيل بقاء المعلول بلا علة.
إذن فالبحث صغروي حول عنوان المشتق وأنه مندرج تحت باب حمل
المواطاة أم تحت باب حمل الاشتقاق.
وهذان هما الوجهان المتصوران في المقام لاثبات أن بحث المشتق بحث
فلسفي يدور مدار الصدق والانطباق، وهناك عدة اعتراضات على هذه النظرية
بكلا تصويريها:
الأول: ما عن المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية، وملخصه
أمران:
1 - إن الحمل الحقيقي هو حمل المواطاة لان الحمل يعني الهوهوية بين
222

الموضوع والمحمول، الا أن الهوهوية إما مفهومية مع المغايرة الاعتبارية وإما
مصداقية مع التغاير المفهومي، وأما حمل الاشتقاق وهو حمل المبدأ على الذات
الذي يتوصل له إما بلفظ ذو وإما بالوصف المشتق فهو حمل مجازي كما ذكر
المحقق الطوسي في شرح الإشارات (1)، وليس حملا حقيقيا حق يتصور النزاع فيه
كما قرر في الوجه الأول.
2 - إن هذا الترديد والتشقيق، وهو أن حمل كلمة عالم مثلا على زيد إما
حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس وإما حمل اشتقاق فلا يعتبر فيه ذلك، ان
كان تشقيقا لنفس المبدأ أي أن حمل المبدأ على الذات يتصور فيه هذان
الاحتمالان فليس هذا محل كلامنا، لان كلامنا في المشتق لا في المبدأ. وإن كان
تشقيقا للمشتق نفسه وأن حمل كلمة عالم - مثلا - يتصور فيها الاحتمالان ففيه:
إن حمل المشتق حمل مواطاة بلا ريب، لوجود الهوهوية والاتحاد الوجودي بين
الذات والعناوين الاشتقاقية ولا يتصور في حمل المشتق رجوعه لحمل الاشتقاق
أصلا، فلا يتم التصور الثاني للنظرية (2).
ولكننا لا نوافق على هذا الاعتراض، وذلك لان مقصود المحقق الطهراني
- كما يظهر لمن راجع كلامه - أن التشقيق والترديد للحمل لا للمحمول، سواءا
كان مبدأ أم مشتقا، ولذلك صياغتان:
أ - إننا إذا قلنا زيد عالم فنتسائل ما هو المحمول هل هو المبدأ ولفظة عالم
ما هي الا وسيلة لتصحيح الحمل ومفادها مفاد كلمة ذو، فمعنى الحمل حينئذ
هو انتساب المبدأ للذات. وهذا ما نعبر عنه بحمل الاشتقاق الذي يكفي فيه
- بناءا على تسليم الكبرى - مجرد ارتباط الذات بالمبدأ في الزمان السابق وإن لم

(1) شرح الإشارات 1: 30 - 31.
(2) نهاية الدراية 1: 69.
223

يكن هناك تلبس فعلي.
أم أن المحمول هو عنوان العالم فقط والمبدأ ما هو الا مصحح للانتزاع،
فإن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع وهو ما يصح حمله عليه وهو الذات في
المقام ومصحح انتزاع وهو المبدأ هنا، فالمبدأ ليس دخيلا في الحمل ولا جزءا من
المحمول وإنما هو مصحح الانتزاع فقط والا فالمحمول هو العنوان.
وبناءا على ذلك فالحمل حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس، مضافا إلى
أن عنوان المشتق عنوان انتزاعي ولا بقاء للعنوان الانتزاعي مع زوال مصحح
انتزاعه.
إذن فهذا التسائل معقول ولا يرد عليه الاعتراض المطروح من قبل
المحقق الأصفهاني. نعم قد يدعى أن الظاهر من حمل لفظة عالم - مثلا - على
زيد هو حمل عنوان المشتق لا حمل المبدأ المصحح له، ولكن المفروض في كلام
المحقق الطهراني أن البحث عقلي يدور مدار الحمل لا أنه بحث لغوي يدور
مدار الظهور.
ب - إننا إذا قلنا زيد عالم فهنا لا يوجد حملان بالأصالة، أحدهما مواطاة
والآخر اشتقاق، لتباين الحملين فلا يجتمعان في حمل واحد كما هو واضح
لاستحالة اجتماع المتباينين، ولكن يوجد هنا حملان، أحدهما بالأصالة والآخر
بالعرض، فيوجد حمل لعنوان المشتق على الذات وحمل للمبدأ على الذات.
والسؤال حينئذ: أي الحملين بالأصالة؟
فإذا كان الحمل الأصيل هو للمبدأ فالمقصود مجرد الانتساب وهذا هو
المعبر عنه بحمل الاشتقاق الذي لا يعتبر فيه فعلية التلبس، وإن كان الحمل
الأصيل للمشتق فالحمل حمل مواطاة وهو الذي يعتبر فيه فعلية التلبس.
إذن فتصور وجود حملين في القضية أمر معقول، وبناءا عليه فيصح
التساؤل المذكور، وهذا هو مقصود المحقق الطوسي من المجاز في حمل
224

الاشتقاق، أي أن المحمول بالحقيقة في حمل المشتقات هو حمل المشتق - مثلا -
وهو حمل مواطاة، والمبدأ المحمول حمل الاشتقاق محمول على نحو المجاز، لا أن
حمل الاشتقاق بتمام صوره حمل مجازي بل هو حمل حقيقي قصد منه بيان مجرد
الانتساب والارتباط وهذا المدلول مدلول واقعي فالتعبير عنه بلفظ ذو تعبير
حقيقي لا مجازي. نعم ظاهر بعض كلمات الحكماء أن حمل الاشتقاق بتمام
صوره حمل مجازي لان حقيقة الحمل متقومة بالهوهوية والحاصل أن هنا حملين
حملا بالأصالة والآخر بالعرض وإن كان الظاهر.
في صورة حمل المشتق على الذات كون المحمول بالحقيقة هو عنوان
المشتق والمبدأ محمولا بالعرض والمجاز.
كما أن الظاهر أن الكبرى المذكورة في التصوير الأول للمحقق
الطهراني متفق عليها في الفلسفة وهو أن حمل الاشتقاق لا يعتبر فيه فعلية
التلبس، وإنما النزاع في الصغرى وهي حمل المشتق لا في الكبرى فلا يتم
التصوير الأول. الا أن التصوير الثاني معقول ولا يرد عليه اعتراض المحقق
الأصفهاني (قده).
الاعتراض الثاني: ما طرحه المحقق النائيني (قده) في أجود التقريرات (1)
ومحصله أمران:
أ - إن ما ذكره المحقق الطهراني من كون النزاع في المشتق متعلقا بمرحلة
الصدق والتطبيق مبني على مسلك السكاكي في بحث المجاز، حيث اختار
رجوع المجاز للاسناد لا للكلمة.
بيان ذلك: أن المشهور ذهبوا لكون المجاز في الكلمة، فإذا قلت رأيت
أسدا يرمي فالتجوز في لفظ الأسد حيث أريد به الرجل الشجاع، الا أن
السكاكي ذهب إلى أن التجوز في إسناد لفظ الأسد للفظ يرمي لا في لفظ

(1) أجود التقريرات 1: 59.
225

الأسد.
فبناءا على مسلك المشهور يكون الحقيقة والمجاز من عوارض الكلمة
وصفاتها، وبناءا على مسلك السكاكي يكونان من عوارض الاسناد.
وحينئذ فلابد لنا في بحث المشتق عندما نتكلم عن كون المشتق حقيقة
في المتلبس ومجازا في غيره أو كونه حقيقة في الأعم أن ننظر لمرحلة الاسناد
والحمل، حيث لا حقيقة ولا مجاز الا فيه ونفس الكلمة بما هي لا تكون لا
حقيقة ولا مجازا، فلا يصح البحث عن المدلول الحقيقي والمجازي للفظ
المشتق، بل يجب أن ينصرف البحث للاسناد وكونه حقيقيا أم مجازيا، إذن فما
أفاده المحقق الطهراني يتفرع على مسلك السكاكي.
ب - بما أن الأساس لنظرية المحقق الطهراني هي نظرية السكاكي في
باب المجاز فإذا بطل الأساس بطل ما تفرع عليه.
أما بطلان مسلك السكاكي فنقول في بيانه:
إن القضايا على قسمين:
1 - حقيقية.
2 - خارجية.
فأما القضايا الحقيقية فلا يتصور فيها التجوز في الصدق والتطبيق،
وذلك لان القضية الحقيقية لا نظر فيها لعالم الصدق والتطبيق أبدا وإنما الموضوع
فيها هو طبيعي العنوان بعد الفراغ عن صدقه وانطباقه على أفراده المفروضة
الوجود، فمثلا إذا قلنا المستطيع يجب عليه الحج فمحصله: أن طبيعي
المستطيع إذا فرض صدقه على فرد فيجب عليه الحج، فالموضوع للقضية هو
طبيعي العنوان وجهة التطبيق على الافراد أخذت مفروضة الوجود مفروغا
عنها.
ولذلك قيل: بأن القضايا الحقيقية مرجعها لقضية شرطية مقدمها وجود
226

الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.
إذن فما دامت جهة التطبيق جهة مفروضة ومفروغا عنها في القضايا
الحقيقية فلا يمكن أن يكون المجاز فيها بلحاظ عالم التطبيق والاسناد.
وأما القضايا الخارجية فهي تنقسم بحسب مرحلة الصدق والانطباق إلى
ثلاثة أقسام:
1 - ما يكون الصدق فيها حقيقيا بلا خفاء نحو الفرات ماء.
2 - ما يكون الصدق فيها حقيقيا مع نوع من الخفاء نحو " الكبريت
ماء ".
3 - ما يكون الصدق فيها متوقفا على التوسعة نحو زيد أسد، والتوسعة
هنا إما في الموضوع وإما في المحمول وإما في الاسناد، فأما التوسعة في الموضوع
فهو إما بإرادة الحيوان المفترس من لفظ زيد وهذا استعمال لا مصحح له من
وضع أو طبع، وإما باعتبار زيد حيوانا مفترسا ثم يحمل عليه لفظ الأسد وهو
تكلف لا حاجة له بعد التجوز في لفظ الأسد، أو في إسناده.
وأما التوسع في المحمول بأن يراد بلفظ الأسد الرجل الشجاع فهذا هو
مطلوبنا، وهو كون المجاز في الكلمة لا في الاسناد.
وأما التوسع في الاسناد فهو باطل، إذ بعد المحافظة على مفهوم زيد
ومدلوله بلا تجوز والمحافظة على مدلول الأسد بلا تجوز فحمل أحدهما على
الآخر حمل للمباين على مباينه كحمل الحجر على الانسان وهو غلط وليس
مجازا، فالتجوز في الاسناد لا وجه له بعد كون طرفي الاسناد متباينين.
والخلاصة: ان مسلك السكاكي وهو رجوع المجاز للاسناد لا للكلمة
لا صحة له لا في القضايا الحقيقة ولا في القضايا الخارجية، وإذ بطل المسلك
المذكور بطل ما تفرع عليه من كون بحث المشتق متعلقا بالاسناد (1).

(1) أجود التقريرات 1: 59.
227

ولكننا لا نوافق على هذا الاعتراض لوجوه:
أ - إن البحث في صدق المشتق على الموضوع واشتراطه بفعلية التلبس أو
عدم اشتراطه لا يبتني على مسلك السكاكي في المجاز، فيمكن لنا القول
بمسلك السكاكي ومع ذلك نرى أن مسألة المشتق مرتبطة بالظهور الفردي
للكلمة لا بالاسناد.
بيان ذلك: أننا لو اخترنا أن المجاز في الاسناد لا في الكلمة كما قال به
السكاكي فيمكن لنا مع ذلك اختيار المذهب المشهور في البحث حول المشتق،
وهو البحث حول مفهومه الافرادي وهل أنه واسع يشمل المنقضي عنه المبدأ أم
ضيق خاص بالمتلبس، ولا تنافي بين البحث عن المفهوم الافرادي للمشتق
واختيار كون المجاز في الاسناد لا في الكلمة.
كما أنه يمكن اختيار كون المجاز مرتبطا بالكلمة لا بالاسناد كما عليه
المسلك المشهور ومع ذلك يصح البحث في اسناد المشتق وصدقه، فيقال: بأن
الحقيقة والمجاز من أوصاف الكلمة نفسها ولكن المفروض المفروغية عن مدلول
وصف المشتق وأن المراد به معلوم وهو الواجد للمبدأ في زمن من الأزمنة،
فالبحث حينئذ ليس عن مدلوله لوضوحه وإنما البحث عن مرحلة الصدق
والاسناد وأنه هل يصح إسناده للمنقضي عنه المبدأ على نحو الحقيقة أم لا.
إذن فلا تلازم بين مسلك السكاكي في بحث المجاز وبين تعلق البحث
في المشتق بمرحلة الصدق والاسناد، كما لا تلازم بين مسلك المشهور في بحث
المجاز وبين تعلق البحث في المشتق بمفهومه الافرادي.
ب - إن ما ذكره من عدم تصور المجاز في الاسناد في القضايا الحقيقية
لعدم اشتمالها على جهة التطبيق والنظر للافراد غير تام، وذلك لان القضايا
الحقيقية لا تخلو عن جهة التطبيق.
بيان ذلك: ان الحمل على نوعين:
228

1 - حمل صريح. 2 - حمل ضمني.
ومقصودنا بالحمل الصريح ما كان هو المقصود الأساسي من الاسناد،
والحمل الضمني ما كان مستبطنا في الحمل الصريح، سواءا ذكر الطرفان
للحمل الضمني المستبطن أم لم يذكرا، فمثلا إذا قلنا زيد عالم فهذا حمل
صريح، وإذا قلنا زيد العالم جاءني فالحمل الصريح هو حمل المجئ على زيد
إذ هو المقصود الأساسي في الجملة والحمل الضمني هو حمل العلم عليه لرجوع
الأوصاف للاخبار كرجوع الاخبار للأوصاف، وكذلك إذا قلنا جاءني العالم
فيوجد هنا حمل ضمني وهو حمل العالم على الفرد المعهود.
وإذا اتضح ذلك فنقول بأن القضايا الحقيقية لا تشتمل على جهة
التطبيق بلحاظ الحمل الصريح فيها ولكنها تشتمل على جهة التطبيق بلحاظ
الحمل الضمني.
فمثلا إذا قلنا كل مستطيع يجب عليه الحج فهنا إذا لاحظنا الحمل
الصريح في الجملة وهو حمل الوجوب على المستطيع لا نرى نظرا لعالم التطبيق
بل عالم التطبيق مفروغ عنه عند إرادة الحمل الصريح، ومفاد الجملة حينئذ ما
فرض مستطيعا وجب عليه الحج بدون النظر للافراد بل المنظور هو طبيعي
العنوان المفروض صدقه وانطباقه على الافراد، بينما إذ لاحظنا الحمل الضمني
وهو حمل المستطيع على الموضوع الواقعي فهو حينئذ مشتمل على جهة التطبيق،
إذ المنظور هنا هو تطبيق عنوان المستطيع على الموضوع الواقعي فيمكن أن
يكون هذا التطبيق حقيقيا ويمكن أن يكون مجازيا.
ومما يدل على اشتمال القضايا الحقيقية على جهة التطبيق قول المناطقة بأن
الحمل في القضايا يرجع لعقدين، عقد الوضع وعقد الحمل، وأن عقد الوضع
عبارة عن قضية حملية مستبطنة في القضية الأساسية. وقد اختلف الفارابي
والشيخ الرئيس فيه، فقال الفارابي برجوع عقد الوضع للقضية الممكنة، فإذا قلت
229

كل ج ب بالامكان - مثلا - فالمراد بعقد الوضع كل ما هو ج بالامكان فهو ب
بالامكان، لان الامكان هو أعم الجهات فهو القدر المتيقن من الاسناد فترجع
القضية في عقد الوضع إليه (1). وقال الشيخ الرئيس برجوعها للقضية الفعلية (2)،
أي كل ما هو ج بالفعل فهو ب بالامكان، لان الفهم العقلائي العام لباب
القضايا مرتكز على الفعلية والاطلاق العام.
فهذا التحليل لموضوع القضية الحقيقية دليل على وجود حمل ضمني
مشتمل على جهة التطبيق، بل المحقق النائيني نفسه كثيرا ما يقول بأن القضايا
الحقيقية راجعة لقضايا شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول و (3)
له، ومعلوم أن القضية الشرطية تنحل لقضيتين حمليتين تربطهما أداة الشرط،
فرجع الموضوع في القضايا الحقيقية إلى قضية حملية ناقصة، وهذا معنى
الاشتمال على جهة التطبيق.
ج - بعد أن اتضح لنا اشتمال عقد الوضع في القضايا الحقيقية على جهة
التطبيق فلا فرق بينها وبين القضايا الخارجية في ورود المجاز فيها، سواءا رجع
للمجاز في الكلمة أم رجع للمجاز في الاسناد، فإن العنوان المذكور في الموضوع
ان كان هو المراد بالإرادة الجدية كما هو مراد بالإرادة الاستعمالية فالاطلاق
حقيقي، وان لم يكن مرادا بالإرادة الجدية مع كونه مرادا بالإرادة الاستعمالية
فالاطلاق مجازي.
مثلا إذا قلنا كل أسد تحترم أقواله في الحرب فهنا يصح القول بأن لفظ
الأسد اما مستعمل في غير ما وضع له وهو الرجل الشجاع وهذا يعني رجوع
المجاز للكلمة، وإما مطبق على الرجل الشجاع مع استعماله في مفهومه الحقيقي

(1) فوائد الأصول 1: 92، الكفاية: 53.
(2) فوائد الأصول 1: 92، الكفاية: 53.
(3) فوائد الأصول 1: 177 - 178.
230

وهو الحيوان المفترس وهذا هو المجاز في الاسناد، وعلى كلا المسلكين فالمجاز
متصور في القضايا الحقيقية كالقضايا الخارجية.
د - بالنسبة للقضايا الخارجية إذا قلنا زيد أسد فهنا لا يوجد توسعة في
الموضوع لأنه تكلف لا حاجة له، كذلك لا يوجد توسعة في المحمول بأن أريد
به ما يشمل الرجل الشجاع وهو المسمى بالمجاز في الكلمة، باعتبار أننا لا
نتصور هذا المعنى عند الاضراب أو النفي.
مثلا إذا قلنا زيد شجاع بل أسد لو كان المراد بالأسد هنا الرجل الشجاع
على نحو التوسعة في مدلول اللفظ لم يكن هناك وجه للترقي والاضراب أصلا،
وكذلك إذا قلنا ما زيد شجاع لكنه أسد فلا نرى معنى للنفي والاثبات لو كان
المراد بالأسد هو الرجل الشجاع.
فهذه الشواهد ونحوها - كما طرحناها في بحث المجاز - تدل على عدم
رجوع المجاز لمدلول الكلمة، فتعين كون المجاز في الاسناد بعد استعمال كلا
اللفظين المعبرين عن الموضوع والمحمول في معناهما الحقيقي.
وأما ما ذكره المحقق النائيني (قده) بأن لازم ذلك هو حمل المباين على
المباين بعد احتفاظ كل منهما بمعناه الحقيقي المباين للآخر فهذا الحمل مجازفة
وقضية كاذبة (1)، ففيه: إن الحمل ليس حملا حقيقيا حتى بعد كذبا ومجازفة بل
هو حمل مجازي راجع لاعطاء حد شئ لشئ آخر بهدف نقل التأثير الاحساسي
من المشبه به للمشبه كما ذكرناه غير مرة.
فلا يوجد كذب ولا مجازفة أصلا بل هو المناسب للبلاغة والتفنن الكلامي.
الاعتراض الثالث: وهو بعض الملاحظات التي نسجلها على مبنى
المحقق الطهراني (قده):

(1) أجود التقريرات 1: 60.
231

الأولى: ان البحث عن حمل المشتق وأنه مندرج في حمل المواطاة أو مندرج
في حمل الاشتقاق متأخر رتبة عن البحث في نفس مدلول المشتق، إذ لا يصح
الانتقال لعملية الحمل الا بعد معرفة طرفيه، وإذا كان البحث في مدلول
المحمول وهو المشتق يغني عن البحث حولي الحمل ونوعيته فلا مبرر للطفرة
بالانتقال لما هو متأخر رتبة والبحث فيه، مع أن البحث فيما هو متقدم رتبة مغني
عنه.
بيان ذلك: ان النزاع في حمل المشتق على المنتفي عنه المبدأ إنما يصح بعد
الفراغ عن معرفة مدلول المشتق نفسه.
ودعوى أن مدلوله واضح وهو الواجدية غير تامة، لان الواجدية غير
واضحة سعة وضيقا فهل المراد بها الواجدية الواسعة أم الواجدية الفعلية، إذن
فمفهومه غير واضح سعة وضيقا فهل المراد به خصوص المتلبس أم الأعم،
ومع عدم تحديد مفهومه لا يصح الانتقال لمرحلة الحمل المتأخرة رتبة عن تحديد
المفهوم.
وبعد تحديد المفهوم سعة أو ضيقا يكون البحث حول الحمل لغوا،
وذلك لأنه لو اخترنا أن مدلول المشتق يعني خصوص المتلبس فلا محالة يكون
حمله على المنقضي عنه المبدأ مجازا، إما بنحو المجاز في الكلمة كما يراه المشهور
وإما بنحو المجاز في الاسناد كما هو مسلك السكاكي، ولو اخترنا أن مدلوله
الأعم فيصح حمله حقيقة على المنقضي عنه المبدأ بلا حاجة للبحث في نوعية
الحمل وكونه مواطاة أو اشتقاقا، فالبحث اللغوي في مفهوم المشتق يغني عن
البحث الفلسفي في كيفية الحمل.
الثانية: إننا نلاحظ أن اختلاف الحمل من كونه حمل مواطاة أو اشتقاق
متفرع على تحديد مفهوم المشتق أيضا، وذلك لان مفهوم المشتق إذا كان عبارة
عن عنوان انتزاعي والعنوان الانتزاعي لا وجود له بدون المبدأ المنتزع منه
232

فحينئذ لا محالة يكون حمله على الذات حمل مواطاة فتعتبر فيه فعلية التلبس.
وإذا كان مفهوم المشتق عبارة عن المبدأ المنتسب فهو يقوم بنفس الدور
الذي تقوم به لفظة ذو فيكون حمله على الذات حينئذ حمل الاشتقاق الذي
يكفي فيه مجرد الانتساب ولو في زمان سابق فلا تعتبر فيه فعلية التلبس، إذن
النزاع في كيفية الحمل راجع في الواقع للنزاع في مفهوم المحمول، إذ لو كان
مفهومه المبدأ المنتسب لم يصح حمله على الذات حمل المواطاة إذ لا معنى
للهوهوية التي هي مناط حمل المواطاة بين المبدأ والذات، ولو كان مفهومه
العنوان الانتزاعي لم يصح حمله على الذات حمل الاشتقاق لان العنوان
الانتزاعي متحد مع الذات وجودا فبينهما هو هوية مصداقية فكيف لا يحمل على
الذات حمل المواطاة؟!
إذن فالبحث الفلسفي جول نوعية الحمل راجع للبحث اللغوي في
مفهوم المحمول، فلا موضوعية له مقابل البحث اللغوي.
الثالثة: إننا لو سلمنا جدلا عدم ورود الملاحظة الأولى لعدم تقدم
البحث حول مفهوم المشتق رتبة على البحث في كيفية حمله، وسلمنا أيضا عدم
ورود الملاحظة الثانية لان البحث في الحمل لا يتوقف على تحديد مفهوم
المشتق، فمع ذلك نرى بأن البحث حول الحمل لا يلغي البحث اللغوي حول
مفهوم المشتق ولا يغني عنه.
وذلك لأننا لو اخترنا أن حمل المشتق على الذات هو حمل المواطاة لاتحادهما
وجودا وأن عنوان المشتق عنوان انتزاعي فإن هذا لا يرفع النزاع في سعة
المدلول، باعتبار أن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع ومصحح انتزاع، فالأول
ما يحمل عليه العنوان حملا هوهويا وهو الذات في المقام، والثاني ما كان له
مدخلية في تحقق العنوان وصياغته وهو المبدأ. ومصحح الانتزاع على قسمين:
1 - ما يكفي حدوثه في الانتزاع فلا يدور المنتزع مداره حدوثا وبقاءا
233

كعنوان الام، فإن مصححه إما انعقاد النطفة في الرحم وإما الولادة على
الخلاف الفقهي في بحث أم الولد، فإن عنوان الام باق حتى بعد زوال
مصححه.
2 - ما يدور مداره العنوان الانتزاعي حدوثا وبقاءا كالممتلئ، فإن
مصححه عنوان الامتلاء ومع زواله لا بقاء للعنوان الانتزاعي.
وإذا اتضح لنا اختلاف أنحاء المصحح الانتزاعي صح لنا البحث في
المشتق حتى بعد زوال مبدئه في أنه وإن كان محمولا على الذات حمل المواطاة
ولكن هل يدور صدقه الحقيقي مدار مصحح انتزاعه حدوثا وبقاءا أم لا.
وهذا بحث لغوي حول سعة المفهوم وضيقه وإن كان محمولا حمل
المواطاة على منشأ انتزاعه وهي الذات التي لا يصح انتزاعه بدونها، لان علاقة
العنوان الانتزاعي بمنشأ انتزاعه كعلاقة المعلول بعلته بخلاف علاقته مع
مصحح الانتزاع، فلا وجه للخلط بين منشأ الانتزاع ومصححه والقول بان
العنوان الانتزاعي لا يصح اطلاقه بعد زوال مبدئه، فإن ذلك غير تام لان المبدأ
مصحح انتزاع وليس منشأ له فلا يدور العنوان الانتزاعي مداره دائما وجودا
وعدما. هذا إذا اخترنا أن حمل المشتق على الذات حمل المواطاة.
أما لو اخترنا أن حمله على الذات حمل الاشتقاق الذي يعني مجرد انتساب
المبدأ للذات لا الهوهوية بينهما كما في حمل المواطاة فمع ذلك لا يرتفع النزاع
حول مفهوم المشتق نفسه، فمثلا إذا قلنا زيد ذو دار فلا ريب أن هذا الحمل
حمل اشتقاق يعني مجرد انتساب الدار له، ولكن ذلك لا يلغي البحث حول
مفهوم - ذو - وأنه شامل حتى لما بعد انتقال الدار عن ملكه إلى ملك غيره أم لا.
وكذلك لو غيرنا كلمة ذو إلى ما يرادفها من المشتقات فقلنا زيد مالك دار
وكان الحمل حمل الاشتقاق فيصح النزاع حينئذ حول سعة مفهوم مالك وأنه
شامل لمرحلة ما بعد انتقال الدار عنه أم لا، ويصح اختيار عدم ذلك وأنه
234

موضوع للأخص لا للأعم.
إذن فتعيين نوع الحمل من مواطاة أو اشتقاق لا يلغي البحث اللغوي
في مفهوم المشتق ومدلوله.
فالصحيح أن البحث في المشتق بحث لغوي حول سعة المفهوم وضيقه
لا بحث فلسفي حول الحمل ونوعه.
وبناء على ذلك يتضح المراد من لفظ الحال وأن المراد بها حال التلبس،
لان النظر نظر لغوي لمدلول المشتق في حد ذاته وإن لم يكن هناك أي اسناد ولا
جملة، وليس المراد بالحال حال الجري والنسبة الذي يتوقف على وجود جملة
إسنادية، فإن هذا التفسير للحال لا يتناسب الا مع كون البحث في المشتق
بحثا فلسفيا متعلقا بمرحلة الصدق والنسبة، مع أن البحث في المشتق في
مرحلة أسبق من ذلك وهي البحث حول مفهوم المشتق نفسه.
المقدمة الخامسة: في دخول اسم الزمان في محور البحث.
إن مورد البحث في المشتق إنما هو في صورة انقضاء المبدأ المصحح
لانتزاع المشتق مع بقاء الذات، حيث يبحث في أن اطلاق المشتق على الذات
بعد انقضاء المبدأ عنها إطلاق حقيقي أم لا، وأما إذا كان انقضاء المبدأ ملازما لزوال
الذات فلا يعقل لم البحث المذكور حينئذ، ولذلك قال بعض علماء الأصول
بخروج اسم الزمان عن محل النزاع (1)، كلفظ مقتل - مثلا - الذي يطلق على زمن
قتل الحسين (ع) وغير؟، بلحاظ أن مدلوله وهو الزمان لا يعقل فيه البقاء مع
زوال المبدأ الواقع فيه.
وقد طرح عين هذا الاشكال في باب الاستصحاب في مسألة
استصحاب الزمان وأنه كيف يصح استصحابه مع عدم بقائه.

(1) فوائد الأصول 1: 89، الفصول الغروية: 60.
235

وقد أجاب الاعلام على هذا الاشكال بهدف إدخال اسم الزمان في محل
البحث بعدة أجوبة:
الجواب الأول: ما طرحه المحقق الأصفهاني واختاره الأستاذ السيد
الخوئي (قدهما) بأن هذا الاشكال يرد في صورة وجود صيغة خاصة باسم
الزمان، حيث يلاحظ عليها بأن مدلولها لا يعقل فيه البقاء بعد انقضاء المبدأ،
وأما إذا كان هناك صيغة مشتركة بين اسم الزمان وغيره فلا يرد الاشكال المذكور
والامر كذلك واقعا.
فصيغة مفعل هيئة مشتركة بين اسم الزمان واسم المكان لا على نحو
الاشتراك اللفظي، والا لعاد الاشكال مرة أخرى بالنسبة لوضعها لخصوص
الزمان، بل على نحو الاشتراك المعنوي وذلك بوضعها للجامع بينهما وهو جامع
الوعائية والظرفية، وحينئذ فعدم معقولية النزاع في بعض مصاديق الوعاء وهو
المصداق الزماني لا يعني عدم معقولية النزاع في الجامع نفسه وهو مفهوم الوعاء،
ولو بلحاظ بعض أفراده وهو الفرد المكاني الذي يتصور فيه بقاء الذات بعد
انقضاء المبدأ (1).
وقد سجل بعض الأعاظم على هذا الجواب ملاحظتين:
الأولى: هي الملاحظة التي سجلها بعض الأعاظم (قده)،
وملخصها: إن الثابت في الفلسفة أن علاقة الزمان بالفعل وعلاقة المكان
بالفعل أيضا علاقة المقارنة لا علاقة الوعائية والاحتواء، فالعمل والزمان
والمكان موجودات ممتدة في أوعيتها ولا يوجد احتواء ولا اشتمال من الزمان
والمكان على العمل، وحينئذ فلا وجه لفرض جامع الوعائية والظرفية بين
الفردين الزماني والمكاني حتى توضع له هيئة مفعل ويكون النزاع في المدلول

(1) محاضرات في أصول الفقه 1: 233 - 234، نهاية الدراية 1: 71.
236

العام لهذه الهيئة، إذ لا وعائية في الزمان (1).
ولكننا لا نوافق على هذه الملاحظة المذكورة في تهذيب الأصول، والسبب
في ذلك أن النظرة الفلسفية للزمان والمكان في اعتبارهما مقارنين للعمل لا
وعائين له لا دليل على واقعيتها في مقابل الرؤية العقلائية العامة للزمان
والمكان، وهي رؤية الوعائية والظرفية كما تدل عليه اللغات البشرية المعروفة في
تعبيرها عن الزمان والمكان بأدوات الاحتواء والاشتمال.
وعلى فرض صحة النظرية الفلسفية فإن الألفاظ في مقام وضعها لم
تلاحظ مداليلها الفلسفية وإنما وضعت للمفاهيم العرفية العقلائية.
ولا ريب أن العقلاء يرون علاقة المكان والعمل هي علاقة الوعائية
والاشتمال، وبما أن المكان وعاء فالزمان وعاء أيضا، وذلك لان المجتمع
العقلائي إنما تصور الزمان وقام برسمه وانتزاعه من خلال زاوية المكان، فإنه لما
أحس بطلوع نور الشمس على الأرض رسم مفهوم النهار وعندما حل الظلام
على الأرض رسم مفهوم الليل، وعندما نظر لمسيرة القمر وتأمل فيها انتزع
مفهوم الشهر، كما أننا نرى العرف يقولون الآن ليل باعتبار الظلمة المكانية بينما
هذا الآن نفسه في النصف الآخر للكرة الأرضية هو نهار.
فهذه شواهد على اندماج الزمان في المكان وارتباطه به، ولذلك عبر
بعض الفلاسفة المعاصرين عن هذه الرؤية ب‍ (زمكان) مشيرا لعلاقة الاندماج
بين الزمان والمكان بحيث أن المجتمع البشري لم ينطلق لتصور الزمان الا من
نافذة المكان، وبما أن المكان يستبطن الوعائية والظرفية فكذلك الزمان المنتزع
منه، وحينئذ فيصح جعل هيئة مفعل - مثلا - للجامع الوعائي بين الزمان

(1) تهذيب الأصول 1: 104.
237

والمكان، ويتم النزاع في مفهومها (1).
الملاحظة الثانية: وهي التي سجلها شيخنا الشيخ الحلي (قده)،
وخلاصتها أمران:
أ - إنه لا جامع بين الزمان والمكان، باعتبار أن الزمان يعني مقولة المتى
والمكان يعني مقولة الأين كما في المنظومة (2):
هيئة كون الشئ في المكان * أين متى الهيئة في الزمان
والمقولات أجناس عالية متباينة بتمام الذات فلا يوجد لها جامع حتى
يكون اللفظ موضوعا بإزائه.
ب - على فرض وجود الجامع بين المقولتين فهو جامع انتزاعي لا وجود له
في مقام الاستعمال أصلا، فإن هيئة مفعل لا تستعمل الا في خصوص الزمان
أو خصوص المكان ولم نجد من استعملها في الجامع بينهما، فإذا كان الجامع غير
ملحوظ للمستعمل ولا متبادرا في مقام التخاطب فوضع اللفظ له لغو. وعلى
هذا فلا يبعد كون الهيئة مشتركا لفظيا يحتاج للقرينة المعينة كبقية المشتركات.
وجوابنا على هذه الملاحظة من وجوه:
أولا: إن كون مقولة المتى ومقولة الأين مقولتين مستقلتين لا جامع ذاتي
بينهما وإن كان هو المشهور ولكنه غير مسلم، وذلك لذهاب بعض الفلاسفة إلى
كون جميع الاعراض النسبية عرضا واحدا وهو العرض النسبي، ولكن ينتزع
منه عناوين متعددة بلحاظ تفنن الذهن في ابداع أنحاء النسبة وألوانها والمعنون
الخارجي واحد وهو العرض النسبي.
بل ذهب بعضهم إلى كون جميع الاعراض النسبية وغيرها ألوانا للتطور

(1) شرح المنظومة 2: 495.
238

الوجودي الجوهري بدون وجود محمولي بإزائها في الخارج، فعلى هذين المسلكين
لا ترد ملاحظة الشيخ الحلي (قده) وهي عدم وجود جامع ذاتي بين المقولات
العرضية.
وثانيا: ما ذكر في الاعتراض من لغوية وضع هيئة مفعل - مثلا - للجامع
الوعائي مع عدم استعمالها فيه ولا تبادره عن التخاطب والمحاورة مدفوع بأنه
يمكن أن يقال: بأن المستعمل فيه دائما هو الجامع الوعائي واستفادة خصوصية
الزمان أو المكان من القرينة من باب تعدد الدال والمدلول لا من باب إشارة
القرينة للمراد الاستعمالي من اللفظ، فمثلا إذا قلنا: (اليوم العاشر مقتل
الحسين (ع)) فالمستعمل فيه لفظ المقتل هو مطلق الوعاء وخصوصية الوعاء
الزماني مستفادة من دال لفظي آخر، فكلمة اليوم العاشر دالة على خصوصية
الوعاء الزماني لا أنها مشيرة لمدلول كلمة مقتل وأن المراد به هو الوعاء الزماني كما
يدعى ذلك في قرينة المشترك اللفظي.
والحاصل أن قولنا: (اليوم مقتل الحسين (ع)) يحتمل فيه وجهان:
1 - كون لفظة مقتل مشتركا لفظيا يتعين المراد منه بالقرينة، وهي كلمة
اليوم العاشر التي يكون دورها الإشارة للمدلول اللفظي لكلمة مقتل، وهذا
هو مدعى الشيخ الحلي (قده).
2 - كون اللفظة مشتركا معنويا مستعملا في الجامع الوعائي، وكلمة
اليوم دال آخر على مدلول آخر وهو خصوصية الوعاء الزماني.
والاحتمال الثاني أقرب، لأننا نرى استعمال اللفظ في الجامع عرفا بدون
عناية ولا تجوز كما إذا كتب المؤلف على صفحة غلاف كتابه - مقتل الحسين (ع) -
فإن مراده مطلق الوعاء كما هو ظاهر، وكما لو قال لك شخص اشرح لي مقتل،
الحسين (ع) فإن مراده هو الجامع الوعائي مع خصوصياته الزمانية والمكانية
وغيرها.
239

وهنا سؤالان قد يردان على هذا التقرير:
أ - لعل الكاتب عندما يكتب على غلاف كتابه - مقتل الحسين (ع) -
يريد به استعمال اللفظ المشترك في معانيه المتعددة وكذلك قول من يقول - اشرح
لي مقتل الحسين (ع) - يريد به استعمال اللفظ في عدة معاني، وهو أمر جائز
وواقع كما سبق بيانه، لا أن المستعمل فيه في الموردين هو الجامع الوعائي حتى
يستشهد بذلك على وقوع استعمال اللفظ في الجامع.
والجواب عن ذلك: إن استعمال اللفظ في عدة معاني وان كان جائزا
وواقعا ولكن يحتاج لقرينة مفقودة، ولذلك ذكرنا سابقا أن المتبادر في مقام
الاستعمال هو قيد الوحدة والتعدد خلاف المتفاهم العرفي فيحتاج للقرينة
اللفظية أو المقامية.
ب - لو استقر بنا استعمال اللفظ في الجامع الوعائي ووقوعه في المحاورات
العرفية لكن لا دليل على كونه استعمالا حقيقيا فلعله استعمال مجازي مصححه
علاقة الكل والجزء، باعتبار أنه موضوع لخصوص الوعاء الزماني أو المكاني
فاستعماله في مطلق الوعاء مجاز منوط بعلاقة الكل والجزء.
والجواب أولا: إن علاقة الوعاء الزماني والمكاني بمطلق الوعاء علاقة
الجزئي بالكلي لا علاقة الجزء بالكل حتى تكون هذه العلاقة مصححة
للاستعمال المجازي.
وثانيا: ان المجاز إما في الاسناد وأما في الكلمة، فإن كان التجوز في
الاسناد كما هو مسلكنا فالمجاز الاسنادي هو اعطاء حد شئ لشئ آخر لداعي
نقل التأثير الاحساسي من الأصل للفرع وأي تأثير احساسي في المقام للجزء
حتى يكون نقله للكل مصححا للتجوز الاسنادي.
وإن كان التجوز في الكلمة فاما ان تلاحظ علاقة الجزء والكل بين
إحدى الخصوصيتين الزمانية والمكانية بعينها وبين مطلق الوعاء وهذا ترجيح بلا
240

مرجح، واما أن تلاحظ العلاقة بين إحدى الخصوصيتين لا بعينها وبين الكل
وهذا لا يكون مصححا للتجوز، لان المصحح له هو ملاحظة العلاقة بين
المعنى الحقيقي والمجازي واحدى الخصوصيتين لا بعينها ليست هي المعنى
الحقيقي، لان ما وضع له اللفظ كما هو المدعى كل خصوصية بعينها لا إحداهما
لا بعينها.
ونتيجة ذلك كله: ان المستعمل فيه في هذه الموارد العرفية هو الجامع
الوعائي واستفادة الخصوصية الزمانية والمكانية من باب تعدد الدال والمدلول
فهذا هو المتبادر بلا عناية وتجوز، وحينئذ فوضع لفظ اسم الزمان لهذا الجامع
لا يكون لغوا ما دام هذا المعنى مستعملا ومتبادرا في المحاورات العرفية.
فالصحيح هو تمامية الجواب الأول الذي طرحه المحقق الأصفهاني
والأستاذ السيد الخوئي (قدهما) لدفع الاشكال الوارد على دخول اسم الزمان في
محل النزاع، وهو ان النزاع في المقام في هيئة مفعل بمعناها الجامع وهو مطلق
الوعاء، وعدم تصور بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ في بعض مصاديقه - وهو
المصداق الزماني - لا يستلزم عدم تصور ذلك في المفهوم بما هو جامع عام، ولو
بلحاظ بعض افراده ومصاديقه وهو المصداق المكاني. الا اننا لا نلجأ لهذا
الجواب كجواب فاصل في البحث الا بعد عدم تمامية الأجوبة الآخرى
المطروحة في البحث.
الجواب الثاني: ان بقاء الذات الزمانية مع انقضاء المبدأ الواقع في
خلالها امر معقول، وبيان معقولية ذلك بأحد تصويرين:
أ - اعتبار الزمان كليا.
ب - اعتبار الزمان كلا.
التصوير الأول: وهو النظر للزمان بنحو الحركة التوسطية، ويشتمل
هذا النظر على أربعة أمور:
241

1 - ان معنى الحركة التوسطية هو ان يؤخذ الزمان بمعنى الان السيال
الذي تكون نسبته للآنات المتصلة المتعاقبة نسبة الكلي لجزئياته وافراده، فهو
مسبوق بآن وملحوق بآن آخر، وهذا هو مرادهم بالحركة التوسطية.
2 - إن هذا الآن لا امتداد له بالنظر لماهيته بل الماهية محدودة بحد قبلها
وحد بعدها، ولكنه ممتد بالنظر لوجوده بلحاظ تعاقب الآنات واتصالها.
3 - إن هذا الآن غير قابل للتقسيم بل هو كالنقطة لا تقبل الانقسام في
الابعاد الثلاثة، باعتبار لحاظه حدا مندمجا فيما بعده ومرتبطا بما قبله.
4 - ان بقاء هذا الآن ببقاء أفراده المتصلة المتعاقبة كما ذكر في القسم
الثالث من القسم الثالث من استصحاب الكلي، وقد قيل في الفلسفة: " إن
الاتصال الوحداني مساوق للوحدة الشخصية "، فاتصال هذه الآنات مساوق
لوحدتها وجودا، فالآن الذي يقع فيه الحدث باق ببقاء هذا الاتصال الوحداني
وإن انقضى الحدث الواقع فيه.
التصوير الثاني: وهو النظر للزمان بنحو الحركة القطعية، ويشتمل هذا
النظر على أمرين:
أ - ان معنى الحركة القطعية هو ملاحظة قطعة الزمان بنحو الكل المركب
بحيث تكون الآنات أجزاءا لهذه القطعة، كما لو اعتبرنا 24 ساعة كلا مركبا
مسمى باليوم والدقائق اجزاءه.
ب - إن الكل المركب من أجزاء الزمان مفهوم متقوم بالامتداد، لان
معنى التركيب من أجزاء الزمان هو امتداد المركب في تلك الأجزاء والآنات،
إذن فمفهوم الكل امتدادي في حد ذاته وبالطبع يكون وجوده امتداديا أيضا،
ولذلك نسميه بالحركة القطعية إشارة لامتداده وسيرته. وبهذا التصوير يكون
بقاءه بعد انقضاء المبدأ الواقع فيه معقولا، لأنه موجود ممتد بامتداد أجزائه فهو
باق حتى بعد زوال المبدأ الواقع فيه.
242

فإن قلت: إن وجود الزمان بنحو الحركة القطعية أمر وهمي تقوم بصياغته
القوة المتخيلة عند الانسان، كما تقوم المتخيلة برسم النقطة النازلة بخط مستقيم
بصورة خط مائي مستقيم، وبرسم الشعلة الجوالة دائرة نارية متصلة.
ومما يدلنا على موهومية الزمان بنحو الحركة القطعية حكم العقل النظري
بأن المركب لا يوجد الا بوجود أجزائه بالأسر، فإن عنوان الكل هو نفس عنوان
الاجزاء بالأسر فما لم تجتمع هذه الاجزاء فحينئذ لا يوجد الكل المركب منها.
وبناءا على ذلك فإن الحركة القطعية في الزمان لا وجود لها، لان الجزء
الزماني إذا وجد فهو موجود بحده الخاص الذي به يتميز عن بقية الاجزاء
الزمانية وهو بهذا الحد لا يكون وجودا للكل للتغاير المفهومي والوجودي بينهما،
ولذلك لا يصح حمل الكل عليه الا تجوزا، والمفروض أن وجود بقية الاجزاء
مستحيل ما دام هذا الجزء موجودا، لان الزمان كم تدريجي غير قار الذات فما لم
ينصرم الجزء السابق فيستحيل وجود الجزء اللاحق، وحينئذ يكون وجود الكل
الزماني بوجود كل جزء مفروض التحقق وامتداد هذا الكل بامتداد هذه الاجزاء
أمرا وهميا تصنعه القوة المتخيلة عند الانسان.
قلت: إننا نعتقد كما يعتقد بعض الفلاسفة بواقعية الزمان الملحوظ على
نحو الحركة القطعية، وأما وجوده بوجود الجزء الزماني فلا مانع منه، باعتبار أن
الجزء إذا لوحظ بحده الخاص فهو مقيد بشرط لا عن بقية الاجزاء وبهذا اللحاظ
يكون مغايرا للكل فلا يصح حمله عليه ولا وجوده بوجوده.
ولكنه إذا لوحظ بنحو اللابشرط - كما هو مقتضى جزئيته - فهو بذرة
الكل الزماني ولبنة وجوده، فالمركب إما دفعي الوجود فلا تحقق له الا بعد اجتماع
اجزائه في الوجود كالكرسي والبيت ونحوها، وإما تدريجي الوجود كالزمان
والزماني السيال كالصلاة والخطبة ولا تحقق له الا بتدريجية أجزائه خارجا فهو
يتحقق بأول جزء من أجزائه المتصلة المتعاقبة ويمتد بامتدادها.
243

وخلاصة التصويرين السابقين أن الزمان يمكن لحاظه بلحاظين
متقابلين:
1 - لحاظه بنحو الكلي وهو المعبر عنه بالحركة التوسطية، فيصح أن يقال
حينئذ الآن ليل والآن يوم السبت والآن شهر ربيع الأول مثلا.
2 - لحاظه بنحو الكل وهو المعبر عنه بالحركة القطعية، فيصح أن يقال
بناءا على هذا اللحاظ الآن جزء من الليل واليوم والشهر ولا يصح أن يقال الآن
ليل أو يوم أو شهر كذا، وإذا كانت هاتان الحيثيتان واقعيتين فكلا اللحاظين
أمر واقعي وإذا لم تكونا كذلك فاللحاظان عبارة عن تفنن ذهني راجع لنظرية
التكثر الادراكي الذهني التي سبق عرضها إجمالا.
وبعد اتضاح التصويرين المذكورين للزمان يقع الكلام فعلا في أن أي
واحد منهما هو الأنسب بالبحث في المشتق لتصور بقاء الذات فيه وإن انقضى
المبدأ الواقع فيه، وقد اختار المحقق الطهراني التصوير الأول، واختار المحقق
العراقي كما في بدائع الأفكار التصوير الثاني.
مختار المحقق الطهراني: إن بقاء الذات مع انقضاء المبدأ معقول في
التصوير الأول للزمان، وذلك لأننا إذا نظرنا للآن الذي وقع فيه قتل الحسين
(ع) يوم العاشر - مثلا - فهو آن التلبس الذي يعبر عنه بلفظ مقتل الحسين (ع)
على نحو الحقيقة، وبعد انقضاء ذلك الحدث فالآن السيال من آنات ذلك اليوم
ما زال باقيا لبقاء أفراده المتصلة المتعاقبة، ومع بقاءه فيصح النزاع المعقود في باب
المشتق فيه بأن نقول: هل ان اطلاق - مقتل الحسين (ع) - على بقية الآنات من
يوم العاشر إطلاق حقيقي أم مجازي (1)؟

(1) نهاية الدراية 1: 71.
244

وقد تسجل ثلاث ملاحظات على مختار المحقق الطهراني:
الملاحظة الأولى: ما طرحها المحقق الأصفهاني (قده) وبيانها: إن النظر
للزمان بنحو الآن السيال الذي ينطبق على الآنات المتتالية انطباق الكلي على
أفراده مصحح للنزاع في جميع الآنات إلى أبد الدهر وبطلان ذلك واضح جدا،
فإننا إذا لاحظنا الآن الذي قتل فيه الحسين (ع) على نحو الآن السيال المنطبق
على الآنات انطباق الكلي على فرده فمقتضى ذلك صحة اطلاق لفظ المقتل على
جميع الآنات إلى أبد الدهر، لان هذه الآنات مصاديق حقيقية للآن السيال.
وحينئذ لا موجب لتخصيص النزاع بآنات يوم عاشوراء بل يصح النزاع
في آنات الزمان بأجمعها، ويصح الاطلاق بحسبها إما حقيقة أو مجازا على
الخلاف في بحث المشتق، ولا قائل بذلك كما لا يلتزم به صاحب التصوير
المذكور.
ولكننا لا نوافق على هذه الملاحظة التي طرحها المحقق الأصفهاني
(قده)، وذلك لان ما طرحه وإن كان صحيحا تاما بحسب النظر الفلسفي لان
الآن السيال لا يفرق بين أفراده الممتدة إلى أبد الدهر فلا وجه لتخصيص النزاع
بقطعة زمنية معينة ما دام معقولا في جميع آنات الزمان، الا أن هذا المعنى غير
تام بحسب النظر العرفي، والمتبع في مقام الاطلاق والمحاورة هو النظر العرفي
لا النظر الفلسفي.
والوجه في ذلك أن المجتمع العقلائي إنما يتصور الزمان بنحو الآن
السيال في ضمن تصوره للزمان على نحو التركيب والتحصيص، فالنظرة
العقلائية للزمان على نحو الحركة التوسطية التي تعنى علاقة الكلي بأفراده
مندمجة في ضمن النظرة للزمان على نحو الحركة القطعية التي تعني علاقة الكل
245

بأجزائه.
وحينئذ يكون تصورنا للآن الذي اشتمل على قتل الحسين (ع) بنحو
الآن السيال والحركة التوسطية المنطبق على الآنات المتعاقبة انطباق الكلي على
فرده في ضمن تصورنا للآنات المتقاربة مع آن القتل على نحو الحركة القطعية،
التي تعني وجود كل مركب من آنات متتابعة مسمى باليوم العاشر.
فالنزاع المعقود في باب المشتق إنما يصح عند العقلاء في الآنات اللاحقة
لان القتل المحدودة بحدود يوم العاشر لا الممتدة لابد الدهر، لاندماج تصور
الكلي الزماني في تصور الكل الزماني، كما يصح هذا النزاع في الأيام اللاحقة
ليوم العاشر المحدودة بحدود الشهر أو السنة، أو في الشهور اللاحقة لشهر محرم
المحدودة بحدود السنة، أو السنين اللاحقة لسنة 61 ه‍ المحدودة بحدود القرن
الأول، أو في القرون اللاحقة للقرن الأول المحدودة بحدود المركب الزماني
العام.
وكل ذلك لاندماج التصورين عند العقلاء وارتباطهما، فلا يمكن
التفكيك بينهما في مقام البحث عن ظهور لفظ المشتق لدى العرف العقلائي في
خصوص المتلبس بالمبدأ أو الأعم وإن صح ذلك بحسب النظر الفلسفي.
الملاحظة الثانية: إن الاتصال الوحداني والتعاقب بين الآنات المتتابعة
بحيث لا يتخلل العدم بين اتصالها لا يحقق صدق عنوان البقاء بالنسبة للآن
الذي اشتمل على المبدأ الحدثي، وذلك لتباين الهويات الزمانية والآنات
المتصلة تباينا ذاتيا ومع هذا التباين الذاتي والاختلاف الواقعي بينها فلا يمكن
أن يقال أن الزمان الذي احتوى على المبدأ ما زال باقيا حقيقة، بحيث نتسائل
في أنه هل يمكن صدق المشتق صدقا حقيقيا على هذا الزمان بعد انقضاء
المبدأ منه أم لا.
الا أن يقال بأننا إذا لاحظنا الآن الذي وقع فيه المبدأ بحده وخصوصياته
246

على نحو بشرط لا عن الآنات الأخرى فهذا الآن لا يعقل بقاءه، ولا يجدي في
تصور بقاءه تحقق الاتصال الوحداني بين الآنات، وأما إذا لاحظنا آن الحدث
بنحو اللابشرط الذي لا يتميز به عن بقية الآنات من حيث مصداقيتها للآن
السيال، وسلمنا بما هو معروف في الحكمة من بقاء الكلي الطبيعي ببقاء أفراده
ولو على نحو التحصيص، بحيث تكون كل حصة منها كما هي هوية مغايرة لهوية أخرى
فهي مظهر ومصداق للكلي الطبيعي أيضا، فحينئذ يصح القول بأن زمان
الحدث ما زال باقيا وإن انقضى المبدأ الواقع فيه ويتم عقد بحث المشتق فيه
أيضا.
ولكن النزاع في اسم الزمان إنما يكون معقولا بناءا على هذا التصوير إذا
كان هذا التصوير عقلائيا عرفيا والا فالملاحظة المذكورة واردة عليه، فمثلا إذا
صدر من زيد المعين ضرب ثم انقضى هذا المبدأ وانتهى فهل يصح عند العرف
العقلائي تصور النزاع المعقود في باب المشتق بالنسبة لعمرو الفرد الآخر بحجة
أن الطبيعي باق ببقاء أفراده ومن أفراده عمرو الفلاني، فالمبدأ وإن صدر من
زيد لا من عمرو الا أن عمروا مصداق آخر لكلي الانسان وحينئذ يعقد النزاع
في اطلاق لفظ الضارب عليه بعد انقضاء مبدأ الضرب عن زيد.
إذن فصحة النزاع في اسم الزمان بناءا على هذا التصوير تعتمد على
الرؤية العقلائية، فإذا كانت الرؤية العقلائية قائمة على بقاء الذات الزمانية
ببقاء الآنات المتصلة صح النزاع في اسم الزمان والا فلا.
الملاحظة الثالثة: إن صحة النزاع المذكور في باب المشتق وجريانه في
اسم الزمان يتوقف على ثلاثة عناصر:
1 - احتواء الزمان على المبدأ.
2 - انقضاء المبدأ الواقع فيه.
247

3 - بقاء الذات الزمانية بعد انقضاء المبدأ الواقع فيها.
والعنصر الثاني وهو انقضاء المبدأ وزواله أمر وجداني لا يحتاج لإقامة
البرهان، وأما العنصر الثالث وهو بقاء الذات الزمانية بعد انقضاء المبدأ الواقع
فيها كما طرحه المحقق الطهراني (قده) عند النظرة للزمان بنحو الآن السيال
المعبر عنه بالحركة التوسطية المنطبق على الآنات المتتابعة انطباق الكلي على
فرده، فبقاءه بعد زوال المبدأ ببقاء أفراده.
ولكن هذا التصوير لا يثبت لنا توفر العنصر الأول وهو احتواء الآن
السيال على المبدأ الحدثي مع أنه أول العناصر وأساسها، وذلك لان الآن لسير
الزمن لا يمكن تقديره بلحظة ولا ثانية فكيف يتصور احتواؤه على المبادئ
الحدثية مع أنها أوسع منه مساحة وحجما؟!
نعم في بعض المبادئ النادرة كالاتصال والانفصال والمماسة ونحو ذلك
قد يعقل احتواء الزمان الآني عليها، وأما في أغلب المبادئ الحدثية فلا يعقل
ذلك الا أن تؤخذ قطعة زمنية أوسع من ذلك كالساعة والدقيقة ليمكن احتواؤها
على الحدث الواقع، وهذا يعني النظر للزمان بنحو الكل المركب لا بنحو الكلي
الذي هو محل كلامنا.
فتبين لنا بهذه الملاحظة أن العنصر الأول المصحح لجريان النزاع في اسم
الزمان مفقود في أغلب المبادئ، وقد يكون موجودا على نحو الندرة التي لا يعول
عليها في البحوث العلمية.
التصوير الثاني: مختار المحقق العراقي (قده) وبيانه: أننا عندما
نلاحظ الزمان على نحو الحركة القطعية فإنه يرتسم في أذهاننا كلا تدريجيا يوجد
بوجود أول أجزائه بالقوة لا بالفعل، لكونه تدريجيا متصرم الاجزاء فلا يوجد
بتمامه بالفعل، وبعد انقضاء المبدأ الواقع في أحد أجزائه لا يزول بزوال ذلك
248

المبدأ لبقاءه بما هو كل مركب في بقاء الاجزاء المتتالية، فيصح النزاع حينئذ في
أن اطلاق المشتق على بقية الاجزاء الممثلة للكل اطلاق حقيقي أم مجازي.
فمثلا إذا نظرنا لحادثة قتل الحسين (ع) فإنها وقعت في ساعة معينة من
يوم عاشوراء وبعد انقضاء هذه الساعة مع الحدث الواقع فيها يصح النزاع
المذكور في بقية الساعات الأخرى المحدودة بحدود المركب التدريجي وهو يوم
عاشوراء.
وقد يرد على هذا التصوير بعض الملاحظات ونحن نكتفي بعرض واحدة
منها، وهي ان النظر للزمان بنحو الحركة القطعية والوجود التركيبي الامتدادي
على لونين:
أ - لحاظ التغاير بين المجموعات الزمانية كيوم السبت ويوم الجمعة وشهر
جمادى وشهر رجب وعام الحرب وعام الصلح وبهذا اللحاظ لا يعقل بقاء
الذات بعد انقضاء المبدأ الواقع فيها، فساعة القتل من يوم عاشوراء مغايرة ذاتا
للساعة التي بعدها ويوم العاشر مغاير ذاتا لما بعده، وبعد ذهاب هذا الوقت
المقارن للمبدأ لا يعقل بقاء الذات المتلبسة بالمبدأ لمغايرة الذات الزمانية
الموجودة للذات السابقة، ومع عدم معقولية بقاء الذات فلا يعقل جريان النزاع
في إطلاق المشتق على المنقضي.
ب - لحاظ التداخل بين المجموعات الزمانية كالساعة بالنسبة لليوم
واليوم بالنسبة للأسبوع والأسبوع بالنسبة للشهر والشهر بالنسبة للسنة وبهذا
اللحاظ لا يتصور انقضاء المبدأ أصلا فلا يعقل النزاع أيضا.
بيان ذلك: إن الزمان تارة ينظر إليه من زاوية (المتى) وتارة من زاوية
(الكم) فإذا نظر إليه من الزاوية الثانية فهو عبارة عن مقدار الحركة والعمل
كما لو قيل كم استغرقت في زيارة الحسين (ع) فيجاب عشر دقائق، فالزمان
بهذا اللحاظ مساو للعمل لا يزيد عليه ولا ينقص عنه وعلاقته به من هذه
249

الزاوية علاقة مقدارية لا علاقة وعائية ظرفية، والذي يرتبط بمحل كلامنا هو
علاقة الظرفية لا علاقة المقدار الكمي، لان علاقة المقدارية لا بقاء لها بعد
زوال المقدر بهذا المقدار بينما محور النزاع في بحث المشتق يقتضي بقاء الذات
المتلبسة حتى بعد زوال المبدأ وهذا إنما يتلاءم مع علاقة الظرفية والاشتمال لا
مع علاقة الكمية والمقدار.
وإذا نظرنا للزمان من الزاوية الأولى وهي زاوية المتى التي تعني نسبة
الشئ للزمان المشتمل عليه فقد ذكر الفلاسفة أنه يتحقق التلبس بالمبدأ بمجرد
اشتمال الزمان بسعته على ذلك المبدأ حينا من الأحيان.
فمثلا قتل الحسين (ع) لم يستغرق في عمود الزمن الا بعض الدقائق
لكنه يكفي في صدق التلبس به حقيقة مجرد الاشتمال عليه في بعض آنات
الزمان، فيقال الساعة الثانية مقتل الحسين (ع) ويقال يوم العاشر مقتل الحسين
(ع) ويقال شهر عاشوراء مقتل الحسين (ع) ويقال عام 61 ه‍ مقتل الحسين
(ع) ويقال القرن الأول مقتل الحسين (ع).
وكل هذه الاطلاقات على نسق واحد بلا عناية ولا تجوز عرفا مما يكشف
عن كون النظرة للزمان بنحو الكل المركب إذا توجهت للمجموعات الزمانية
المتداخلة فلا يتصور حينئذ انقضاء المبدأ أبدا، بل كلما وسعت الرؤية لمجموعة
زمانية أوسع من المجموعات الأولى رأيت التلبس بالمبدأ ما زال صادقا وما زال
الاطلاق حقيقيا، باعتبار تداخل المجموعات واندراجها تحت عمود زمني
واحد، ومع عدم انقضاء المبدأ لا يصح النزاع في كون اطلاق المشتق حقيقيا أم
مجازيا.
فالخلاصة: ان رؤية الزمان بنحو الكلي وهو الآن السيال لا تصحح
جريان بحث المشتق في اسم الزمان، وعلى نحو الكل المركب لا تصحح جريان
النزاع أيضا، إما لعدم تصور بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ وذلك بلحاظ
250

المجموعات المتغايرة وإما لعدم تصور انقضاء المبدأ بلحاظ المجموعات
المتداخلة.
فلا يصلح كلا التصويرين لتصحيح جريان النزاع في اسم الزمان،
وينحصر الجواب الصحيح في هذا المجال في الجواب الأول الذي طرحه المحقق
الأصفهاني (قده) وهو كون النزاع في هيئة مفعل بلحاظ بقاء بعض أفرادها
- وهو الفرد المكاني - بعد زوال المبدأ وانقضائه. وهذا تمام الكلام في المقام الأول
وهو بيان محور البحث والكلام في المشتق.
251

المقام الثاني:
مناشئ القول بالأعم: المختار عندنا هو القول بوضع المشتق لخصوص
المتلبس بالمبدأ، ولكن ذهب مجموعة من العلماء للقول بوضعه للأعم من
المتلبس والمنقضي عنه المبدأ، وذلك لأربعة مناشئ:
1 تحديد دائرة التلبس. 2 - تشخيص الموضوع. 3 - الموضوعية والمعرفية
للمشتق. 4 - البساطة والتركيب في المشتق.
المنشأ الأول: تحديد دائرة التلبس، إن الخطأ في تحديد دائرة التلبس في
بعض المشتقات أدى للقول بالوضع للأعم، وسبب هذا الخطأ أحد أمرين:
أ - عدم تشخيص مفاد الهيئة.
ب - عدم تشخيص المبدأ.
الامر الأول: وفيه موردان:
أ - أسماء الآلة كالمفتاح والمكنسة والمنشار، فإن القائل بالأعم تخيل أن
مفاد الهيئة في أسماء الآلة هو النسبة الفعلية فحينئذ يزول التلبس بالمبدأ بمجرد
عدم استعماله في المعد له، مع أن اطلاق لفظ مفتاح - مثلا - على الآلة
المخصوصة في حين عدم الفتح اطلاق حقيقي لا عناية فيه، وذلك دليل
الوضع للأعم.
إلا أن هذا التخيل خاطئ، وذلك لان مفاد الهيئة في أسماء الآلة هو
النسبة الاعدادية ولو لم تستخدم في الغرض المعد له أصلا، وحينئذ تتسع دائرة
التلبس بالمبدأ لصورة عدم الاستخدام ما دامت الحيثية الاعدادية موجودة،
ولذلك صح الاطلاق الحقيقي للفظ المفتاح - عرفا - على الآلة الغير مستخدمة
أصلا لوجود التلبس الاعدادي، فلا موجب للقول بالأعم من جهة هذا
المورد.
252

ب - أسماء الزمان، فإن القائل بالأعم تصور أن مفاد الهيئة في اسم
الزمان هو النسبة الاقترانية فيختص بالقطعة الزمانية المقارنة للحدث دون غيرها
من حصص الزمان، مع أنه يصح إطلاق اسم الزمان على بقية الحصص
الزمانية الغير المقارنة للحدث بلحاظ المجموعات الزمانية المتداخلة عند رؤية
الزمان بنحو الحركة القطعية، فيقال لليوم الذي وقع فيه القتل وللأسبوع
وللشهر وللعام وللقرن، أنه مقتل، على نحو الاطلاق الحقيقي عرفا مع انقضاء
زمان التلبس بالمبدأ في هذه الحصص الزمانية المتداخلة على نحو الحركة
القطعية، مما يدل على الوضع للأعم.
ولكن هذا التصور خاطئ، وذلك لان مفاد الهيئة في اسم الزمان هو
النسبة الظرفية لا الاقترانية، والظرفية بمعنى وعاء الحدث صادقة حقيقة على
سائر الحصص الزمانية المتداخلة في مسار الحركة القطعية، فالتلبس بالمبدأ ما
زال متحققا بهذا اللحاظ ولم يحصل انقضاء له حتى يؤدي ذلك للقول بالأعم.
الامر الثاني: إن عدم تمييز المبدأ الجلي من المبدأ الخفي يؤدي لتضييق
دائرة التلبس بالمبدأ ويستلزم القول بالوضع للأعم. ومقصودنا بالمبدأ الجلي مبدأ
الاشتقاق عند النحويين وهو الفعل أو المصدر بما له من المعنى الواضح عرفا،
ومقصودنا بالمبدأ الخفي هو نفس مبدأ الاشتقاق لكن مع إشرابه وتطعيمه معنى
آخر لا ينصرف له الذهن العرفي، ولذلك عدة أمثلة:
1 - ما كان المبدأ بمعنى الملكة نحو الاجتهاد في لفظ المجتهد، فإن لوحظ
هذا المبدأ بالمعنى الجلي وهو فعلية الاستنباط ضاقت دائرة التلبس وكان ذلك
موجبا للقول بالأعم، لصحة الاطلاق الحقيقي عرفا على غير المتلبس
بالاستنباط الفعلي، وإن لوحظ المبدأ بمعناه الخفي وهو ملكة الاستنباط
اتسعت دائرة التلبس بالمبدأ وصح الاطلاق الحقيقي للفظ المجتهد على من
تلبس بملكة الاستنباط وإن لم يستنبط فعلا.
253

2 - ما كان المبدأ فيه بنحو الحرفة والصناعة، وهو قسمان:
أ - ما كان مبدؤه حدثيا كالطبيب والنجار، فإن المبدأ الجلي لهذه الأوصاف هو
الطبابة والنجارة بمعنى الممارسة الفعلية، وذلك هو سبب القول بالأعم، بينما
المبدأ الخفي لها هو معنى الاحتراف والقدرة على الصناعة، وعدم تمييز أحدهما
عن الآخر أدى للقول بالأعم.
ب - ما كان مبدأه عينا من الأعيان كالتامر واللابن والحداد، فإن المبدأ
الجلي بيع التمر واللبن ولكن المبدأ الخفي اتخاذ بيع هذه الأعيان حرفة ومهنة لا
مجرد الممارسة الفعلية لبيعها، وعدم فرز المبدأ الخفي من المبدأ الجلي أدى للقول
بالأعم.
3 - ما كان المبدأ فيه بنحو الاقتضاء لا الفعلية نحو السم قاتل والنار
محرقة، فإن المبدأ الجلي لها بمعنى الفعلية بينما المبدأ الخفي بمعنى الاقتضاء
والاستعداد.
4 - ما كان المبدأ بمعنى الشأنية نحو السيف قاطع، فإن المبدأ الجلي له
هو القطع الفعلي بينما المبدأ الخفي هو شأنية القطع.
5 - ما كان المبدأ بمعنى المضي والحدوث نحو الضارب بمعنى من صدر
منه الضرب والمضروب بمعنى من وقع عليه الضرب، فلو أخذ المبدأ الجلي هنا
وهو الضاربية والمضروبية الفعلية أدى ذلك للقول بالأعم ولكن لو أخذ المبدأ
الخفي وهو الضرب الواقع لم يكن هناك موجب للقول بالأعم.
بيان ذلك: إن المحقق النائيني (قده) ذهب إلى عدم معقولية النزاع
المعقود في باب المشتق في اسم المفعول، لعدم تصور الانقضاء فيه حتى يتنازع
في اطلاقه بعد الانقضاء وهل هو إطلاق حقيقي أم مجازي، فإن المقصود بلفظ
المضروب - مثلا - من وقع عليه الضرب وهذا المعنى لا يقبل الزوال حتى
254

يتصور النزاع بعد زواله، فإن الشئ لا ينقلب عما وقع عليه (1).
ولكننا نلاحظ على هذا الرأي نقضا وحلا، أما النقض فبأمرين:
أ - اسم الفاعل كالضارب - مثلا - بمعنى من صدر منه الضرب، فإنه
بهذا المعنى لا يتصور فيه انقضاء المبدأ أصلا فلا يعقل النزاع فيه أيضا، مع أنه
خصص عدم النزاع باسم المفعول.
ب - اسم المفعول كالمملوء مثلا، فإن الامتلاء يتصور وجوده ويتصور
زواله، ولذلك فالنزاع فيه معقول بعد انقضاء مبدأ الامتلاء وزواله.
وأما الحل فيتم ببيان الفارق بين المبادئ الآنية - عرفا - والمبادئ
الاستمرارية، فالضرب والقتل - مثلا - مبدأ آني - عرفا - غير قابل للامتداد في
عمود الزمان، ولهذا لو أخذنا هذا المبدأ بمعناه الجلي - وهو البقاء والتحقق
ضاقت فترة التلبس به وكانت صحة الاطلاق الحقيقي له بعد انقضاء التلبس
دليلا على الوضع للأعم، ولكن لو أخذنا هذا المبدأ بمعناه الخفي - وهو في
والحدوث - فلا يتصور فيه الانقضاء حينئذ كما لا يتصور الانقضاء - أيضا - في
اسم الفاعل المتضمن لهذا الحدث الآني - أيضا - كالضارب والقاتل.
ومقابل ذلك توجد مبادئ استمرارية ممتدة في عمود الزمان كالامتلاء
والنقش فيقال مملوء ومنقوش، وفي مثل هذا لا يوجد مبدأ خفي وجلي يختلف
باختلافهما الأثر بل له مبدأ واحد مأخوذ بنحو الفعلية، فيتصور فيه الانقضاء
والاستمرار ويكون النزاع فيه معقولا.
6 - ما كان المبدأ فيه اعتباريا نحو المبيع، فإن مبدأه وهو البيع إن لوحظ
بمعناه الجلي وهو البيع المصدري الذي هو أمر تكويني وهو العقد نفسه فبهذا
اللحاظ تضيق دائرة التلبس، وإن لوحظ بمعناه الخفي وهو المملوكية أي البيع

(1) أجود التقريرات: 1 / 83 - 84.
255

بالاسم المصدري فهو باق مستمر، لأنه أمر اعتباري يمتد بامتداد الاعتبار.
وخلاصة الكلام في هذا المنشأ: أن من أسباب القول بالوضع بالأعم
عدم تحديد دائرة التلبس، والخلط بين حالة الانقضاء وحالة التلبس، لعدم
تشخيص مفاد الهيئة أو عدم تحديد المبدأ.
المنشأ الثاني: عدم تشخيص الموضوع، إن القائل بالأعم يتصور أن موضوعات
الاحكام على نسق واحد وهو دوران الحكم مدار صدق عناوينها حدوثا وبقاءا،
فإذا قيل: (قلد العادل) فإن ظاهره دوران التقليد مدار العدالة حدوثا وبقاءا،
ونحوه قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1) و (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (2)، فإن ظاهره دوران الحكم بالحد مدار
هذه العناوين حدوثا وبقاءا، مع أن التلبس بمبدأ السرقة والزنا لا بقاء له عند
الحكم بإقامة الحد بل لا يمكن تقارنهما عرفا وشرعا.
وهذا دليل على الوضع للأعم، فإنه ما دام الحكم يدور مدار صدق
العنوان حدوثا وبقاءا فلا بد فن الصدق الحقيقي لعنوان السارق إلى حين
الحكم بإقامة الحد، وهذا مما يؤكد الوضع للأعم خصوصا مع شهادة العرف
بخلو هذا الاطلاق عن التجوز والعناية.
وتعليقنا على ذلك: أن هذا خلط بين موضوعات الاحكام ناشئ من
تصور أن جميعها على نسق واحد، وهو دوران الحكم مدار صدق عناوينها
حدوثا وبقاءا، مما أدى للقول بالأعم استنادا إلى ترتب الحكم على بعض
الموضوعات مع زوال التلبس بالمبدأ فيه.
والصحيح أن الموضوعات على ثلاثة أقسام:

(1) المائدة: 5 / 38.
(2) النور: 24 / 2.
256

أ - ما يدور الحكم مدار عنوانه حدوثا وبقاءا نحو قلد العادل العالم،
وهذا هو المطابق للقاعدة العرفية، وهي أن تعليق الحكم على الوصف مشعر
بالعلية ودوران الحكم مدار الوصف والعنوان، فلا يصح الخروج عن هذه
القاعدة الاستظهارية العرفية الا بقرينة عقلية أو مقامية أو لفظية كما سيأتي
بيانه.
ب - ما يكون عنوانه مشيرا للموضوع الواقعي من دون دخالته في الحكم
أصلا نحو قوله عليه السلام، " خذ دينك من هذا الجالس " (1) مشيرا لزرارة بن
أعين، وفي هذا المورد خرجنا عن مقتضى القاعدة العرفية وهي دوران الحكم
عرفا مدار العنوان المعلق عليه بالقرينة العقلية، وهي حكم العقل بعدم دخالة
الجلوس في التعلم والاستفادة قطعا، الا أن هذا المورد لا وجود له في الأحكام الشرعية
، باعتبار أن استخدام العناوين المشيرة للموضوع الواقعي إنما يتصور
في القضايا الشخصية والخطابات الفعلية لوجود مناسبة خاصة في التعبير بهذا
العنوان المشير مع عدم دخالته في الحكم أصلا، بينما الأحكام الشرعية مجعولة
على نحو القضية الحقيقية التي لا نظر فيها لمرحلة الفعلية والامتثال حتى تراعى
فيها المناسبات الخاصة، فلا يستخدم فيها الا العناوين الدخيلة في الحكم
القانوني.
ج - ما يدور الحكم مدار عنوانه حدوثا لا بقاءا نحو (السارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما) (2)، فإن السرقة في المثال يكفي حدوثها في ترتب الحد على
السارق مع عدم بقاء التلبس بالسرقة إلى وقت ترتب الحكم بالحد عليه، وإنما
خرجنا في هذا المورد عن القاعدة العرفية السابقة - وهي تعليق الحكم على

(1) الوسائل: 27 / 143، ح 33434.
(2) المائدة: 5 / 38.
257

الوصف مشعر بالعلية - باعتبار وجود القرينة المقامية، وهي مناسبة الحكم
للموضوع، حيث أنه لا يمكن - عادة - الحكم بحد السارق حين سرقته، فلا
وجه حينئذ لدوران الحكم مدار العنوان حدوثا وبقاءا.
وبعد اتضاح أقسام موضوعات الاحكام يتبين لنا أن الدليل الذي اعتمد
عليه في القول بالأعم غير تام، وذلك لان الدليل مؤلف من مقدمتين ونتيجة،
فالمقدمة الأولى أن الاحكام تدور مدار عناوين الموضوعات حدوثا وبقاءا
للقاعدة العرفية القائلة إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، والمقدمة
الثانية ان مقتضى الدوران مدار عنوان الموضوع بقاء الصدق الحقيقي لعنوان
الموضوع في مثل قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1) إلى حين
ترتب الحكم، و النتيجة أن مقتضى بقاء الصدق الحقيقي للعنوان حين ترتب
الحكم حتى مع زوال التلبس بالمبدأ هو القول بالأعم.
ولكننا بعد أن ناقشنا المقدمة الأولى وأوضحنا اختلاف عناوين
موضوعات الاحكام، فلا يتم هذا الدليل بنظرنا ولا يصح الاعتماد عليه في
القول بالأعم.
ملحق: وفيه بيان ثلاثة أمور:
الأول: قد يقال بعدم تحقق القسم الثالث من عناوين موضوعات
الاحكام، وهو ما يدور الحكم مدار العنوان فيه حدوثا لا بقاءا، وذلك لمانع
ثبوتي ومانع إثباتي، أما المانع الثبوتي فخلاصته: أن الأصوليين قالوا بأن علاقة
الحكم بموضوعه علاقة المعلول بعلته التامة فكما يستحيل وجود المعلول وبقائه
بدون بقاء علته التامة فكذلك يستحيل وجود الحكم مع زوال موضوعه.
وأما المانع الاثباتي فمحصله: إن العدلية اتفقوا على تبعية الاحكام

(1) المائدة: 38 / 5.
258

للمصالح والمفاسد، ومعنى ذلك أن ارتباط الحكم بموضوعه نابع من الارتباط
بملاك معين ومصلحة كامنة في هذا الموضوع، وهذا الارتباط يؤدي لدوران
الحكم مدار عنوان موضوعه حدوثا وبقاءا، فلا يمكن الخروج عن هذه القاعدة
الا بشاهد واضح.
وحينئذ فإطلاق لفظ السارق في الآية (والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما) (1) إما أن يكون مجازيا وإما أن يكون حقيقيا، فإن كان الاطلاق مجازيا
فلازمه أن الموضوع قد زال وانتهى ومع زواله فلا يعقل بقاء الحكم للارتباط
الوثيق بينهما، وهو ارتباط الحكم بملاكه ومناطه، وإن كان الاطلاق حقيقيا
فلازمه الوضع للأعم لزوال التلبس بمبدأ السرقة حين فعلية الحكم، وهذا هو
المطلوب.
والجواب عن هذا الايراد بعدة وجوه:
أ - إنه لا توجد علاقة تكوينية بين الحكم وموضوعه وإنما هي علاقة
اعتبارية، فإن المصلحة الكامنة في الموضوع لا تستلزم تكوينا وضع هذا الحكم
الاعتباري المعين كما هو واضح، فإذا كانت العلاقة علاقة اعتبارية فأي مانع
من القول بأن علة الحكم محدثة ومبقية وأن موضوع الحكم يكفي حدوثه في
حدوث الحكم وبقائه؟!.
فإن الملازمة بينهما اعتبارية لا تكوينية حتى يقال: بأن علاقة الحكم
بموضوعه علاقة المعلول بعلته التامة حدوثا وبقاءا، وأن الحكم يدور مدار عنوان
موضوعه حدوثا وبقاءا.
وبعد إنكار هذه القاعدة نقول: إن ظاهر تعليق الحكم على الوصف
العنواني وإن كان دورانه مداره حدوثا وبقاءا لكننا نخرج عن هذا الظاهر أحيانا

(1) المائدة: 5 / 38.
259

لبعض القرائن ومنها قرينة مناسبة الحكم للموضوع، فإن هذه القرينة تقتضي كفاية
حدوث العنوان في ترتب الحكم وإن زال التلبس بالعنوان بعد ذلك، فمثلا في
آية السرقة والزنا نقول: إن مقتضى مناسبة الحكم للموضوع كفاية حدوث
السرقة والزنا في ترتب الحكم بالحد لاستحالة تقارنهما عادة، وكذلك في آية
العهد (لا ينال عهدي الظالمين) (1)، فإن مناسبة الحكم للموضوع تقتضي
كفاية حدوث الظلم في زمان للحكم بعدم تقلد منصب الإمامة كما سيأتي
ب - قد ذكرنا فيما سبق أنه قد يقع الخلط بين المبدأ الجلي للمشتق والمبدأ
الخفي، فلفظ السارق - مثلا - مبدؤه الجلي هو السرقة بمعنى التحقق والبقاء، وهو
بهذا المعنى لا فعلية له حين ترتب الحكم، ولازم ذلك القول بالوضع للأعم.
بينما عندما نلاحظ مبدأه الخفي وهو السرقة بمعنى المضي والحدوث
بحيث يكون المراد بالسارق من صدر منه السرقة فحينئذ لا يتصور انقضاء هذا
المبدأ أبدا، فالاطلاق حقيقي لعدم انقضاء التلبس ويدور الحكم حينئذ مداره
حدوثا وبقاءا لعدم انتهائه.
وبناءا على هذا الجواب لا نحتاج لمناقشة القاعدة القائلة بلزوم دوران
الحكم مدار عنوان موضوعه حدوثا وبقاءا، بل نقول حتى مع التسليم بهذه
القاعدة وكون علاقة الحكم بموضوعه علاقة المعلول بعلته التامة لا نرى في
المثال خرقا للقاعدة، فإن ترتب الحكم بالحد مقارن للصدق الحقيقي لعنوان
السارق ما دام مأخوذا بنحو المضي والحدوث.
ج - ما يستفاد من كلمات المحقق العراقي (قده) وهو أن الموضوع في آية
السرقة والزنا إن كان هو العنوان - أي عنوان السارق وعنوان الزاني - على نحو

(1) البقرة: 2 / 124.
260

الحيثية التقييدية - فحينئذ يرد الاشكال بأن هذا العنوان قد زال حين فعلية
الحكم ولازمه عدم دوران الحكم مدار موضوعه، وإن كان الموضوع - كما هو
الصحيح - ذات السارق وذات الزاني مع كون العنوان حيثية تعليلية فقط وليس
هو تمام الموضوع ولا جزءه حتى يدور الحكم مداره حدوثا وبقاءا فحينئذ لا يرد
الاشكال المذكور.
ولكن هذا الجواب غير واف برد الاشكال:
أولا: لان الظاهر من التعليق على العنوان في الآية كون العنوان حيثية
تقييدية يدور الحكم مداره.
وثانيا: على فرض كونه حيثية تعليلية لا ينحل الاشكال المذكور، لان المراد
بالحيثية التعليلية ما كان واسطة في ثبوت الحكم لموضوعه، أي أن عنوان السارق
علة لثبوت الحكم بالحد لذات السارق، وحينئذ يعود الاشكال مرة أخرى،
لان ثبوت الحكم لموضوعه إذا كان معلولا لعنوان السرقة فكيف يعقل بقاء هذا
الثبوت مع زوال علته وهو عنوان السرقة؟!
وحينئذ فإما أن يلتزم بالجواب الأول وهو كون العلية علية اعتبارية،
فيكفي حدوثها في حدوث الحكم بدون حاجة لبقائها في بقائه، وإما أن يلتزم
بالجواب الثاني وهو أخذ المبدأ الخفي في عنوان السارق والزاني والظالم، وهو مبدأ
المضي والحدوث لا مبدأ الفعلية والتحقق، فلا يكون ما ذكر في كلمات المحقق
العراقي (ره) جوابا جديدا غير ما سبق.
د - ما طرحه الأستاذ السيد الخوئي (قده) في المحاضرات، ومحصله: إن
القضايا على قسمين حقيقية وخارجية، فالقضايا الخارجية بما أنها ناظرة للخارج
فمن المعقول في العناوين المطروحة فيها التلبس الفعلي بالمبدأ و انقضاء ذلك
التلبس، فلو ورد فيها حكم معلق على عنوان زال التلبس به لجاء الاشكال
261

المذكور، وهو أن لازم ذلك عدم دوران الحكم مدار موضوعه حدوثا و بقاءا.
وأما القضايا الحقيقية فبما أنها غير ناظرة للخارج الفعلي بل مرجعها
لقضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له فلا يتصور فيها
حال الانقضاء أبدا حتى يرد الاشكال السابق، فمثلا الآية المذكورة
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1) مرجعها إلى أن من كان سارقا فحكمه
قطع يده فلا يتصور حينئذ انقضاء مبدأ السرقة، لان الموضوع مفروض التحقق
والحصول (2). ولكن هذا الجواب - بنظرنا - غير واف برد الاشكال لامرين:
الأول: إنه لا فرق بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية في التعليق
على عنوان فعلي تارة وعنوان زال التلبس به أخرى فيقال - مثلا - أكرم العالم ويقال أكرم
زائر الحسين عليه السلام، فالأولى قد علق فيها الامر بالاكرام على عنوان فعلي
التلبس والثانية قد علق فيها الامر على عنوان زال التلبس به حين الحكم.
الثاني: إن الفارق الجوهري بين القضايا الحقيقية والخارجية كون الموضوع
فعليا في الخارجية مفروضا في الحقيقية، وكونه مفروض الحصول لا يعني دوران
الحكم مداره حدوثا وبقاءا، فمن المحتمل كون المراد بالمقدم في القضية
الحقيقية فرض حدوث الموضوع والمراد بالتالي فعلية الحكم عند حدوث
الموضوع سواءا بقي ببقائه أم لا، فإن مناسبة الحكم للموضوع في القضية
الحقيقية قد تقتضي تقارنهما حدوثا وبقاءا نحو خذ بقول العادل، وقد تقتضي
عدم تقارنهما نحو اجلد الزاني، مع أن الجميع قضية حقيقية قد فرض فيها تحقق
الموضوع ليترتب عليه الحكم المزبور.
وحل الاشكال حينئذ في النوع الثاني من القضايا - أي القضايا

(1) المائدة: 5 / 38.
(2) محاضرات في أصول الفقه: 1 / 256 - 257.
262

الحقيقية - إما بإنكار دوران الحكم مدار الموضوع حدوثا وبقاءا وإما بأخذ المبدأ
في عنوان الموضوع على نحو المضي والتحقق كما ذكرنا سابقا.
الامر الثاني: في حقيقية الاطلاق ومجازيته، إذا لاحظنا الآية الكريمة
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1) وتأملنا فيها بأن الاطلاق حقيقي أم
مجازي فأمامنا عدة صور، وذلك لان المبدأ إما أن يؤخذ بنحو المضي والحدوث
وإما بنحو الفعلية.
1 - أن يؤخذ المبدأ بنحو المضي والحدوث فالاطلاق حينئذ حقيقي، لعدم
تصور انقضاء التلبس في هذه الصورة، سواءا كان العنوان حيثية تعليلية أم
حيثية تقييدية
2 - أن يؤخذ المبدأ بنحو الفعلية مع كون الاطلاق بلحاظ حال التلبس،
وهو حقيقي حينئذ كما ذكر صاحب الكفاية (ره) (2).
3 - أن يؤخذ المبدأ بنحو الفعلية مع كون الاطلاق بلحاظ حال الجري
والاسناد فهو حقيقي بناءا على القول بالأعم ولا إشكال عليه، ومجازي على
القول بالأخص، ويرد على هذا القول في هذه الصورة إشكال عدم دوران الحكم
مدار موضوعه حدوثا وبقاءا، والجواب عنه ما سبق من كفاية العلة الحدوثية.
الامر الثالث: في تحليل معنى الآية: (لا ينال عهدي الظالمين) (3).
استدل علماء الإمامية بهذه الآية على اعتبار العصمة في الإمام عليه السلام
تبعا لبعض النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام كما يظهر

(1) المائدة: 5 / 38.
(2) كفاية الأصول: 43 - 44.
(3) البقرة: 124 / 2.
263

من تفسير البرهان (1). وخلاصة الاستدلال: أن الآية تنفي لياقة الظالم بمنصب
الإمامة، سواءا كان ظالما فعلا أم كان ظالما سابقا، ولازم ذلك اعتبار العصمة
في منصب الإمامة، إذ لا واسطة بين الظلم وبين العصمة فانتفاء الظلم مستلزم
لثبوت العصمة، وإن كانت العصمة ذات مراتب تشكيكية كسائر الملكات
الأخرى مثل الشجاعة والكرم، وأدنى مراتبها انتفاء الظلم ظاهرا وباطنا سابقا
وفعلا.
وأورد على ذلك الفخر الرازي بأن الاستدلال بالآية على عدم لياقة الظالم
بالفعل بمنصب الإمامة واضح، ولكن الاستدلال بها على عدم لياقة الظالم
سابقا بمنصب الإمامة لا يتم الا على القول بوضع المشتق للأعم وهو قول
خلاف المشهور، فبناءا على الصحيح من وضع المشتق للأخص تختص الآية
بنفي اللياقة عن الظالم الفعلي دون غيره، فلا يتم الاستدلال بها على
العصمة (2).
والجواب عن هذا الايراد: إن الاستدلال بالآية على نفي لياقة غير
المعصوم بالإمامة تام وإن قلنا بوضع المشتق للأخص، وتماميته بوجهين:
أ - إن مناسبة الحكم للموضوع قرينة عرفية ارتكازية تقتضي كفاية
حدوث الظلم ولو آنا ما باطنا أو ظاهرا لعدم تقلد منصب الإمامة الذي هو أعلى
منصب في الاسلام، ويؤيد ذلك الارتكاز العقلائي فإن كثيرا من الدول تمنع
من تقلد بعض المناصب المهمة من قبل من كانت له سابقة مخلة بالشرف،
والنصوص الشرعية ترشد لذلك أيضا، ففي حسنة زرارة عن الباقر عليه
السلام " لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد

(1) تفسير البرهان: 1 / 149.
(2) التفسير الكبير: 4 / 46.
264

الزنا والأعرابي لا يؤم المهاجرين " (1).
فإذا كانت إمامة الجماعة منصبا لا يليق به من له سابقة سيئة فكيف
بأعظم منصب في الاسلام، فتكون الآية بناءا على هذه القرينة شاملة للظالم
سابقا والظالم فعلا ودالة على اعتبار العصمة في الإمامة، سواءا قلنا بأن مبدأ
الظلم أخذ على نحو المضي - والحدوث فالاطلاق حقيقي حينئذ، أو قلنا
بأن المبدأ أخذ على نحو الفعلية مع لحاظ حال الجري والنسبة فالاطلاق
مجازي بناءا على الوضع للأخص، إذن فكون الاطلاق في الآية حقيقيا أم
مجازيا لا ينافي الاستدلال بها على اعتبار العصمة.
ب - ما نقل عن بعض الاعلام، وحاصله: أن مطلوب إبراهيم عليه
السلام لا يخلو من أربعة وجوه:
1 - طلب الإمامة للظالم فعلا.
2 - طلب الإمامة للظالم مستقبلا.
3 - طلب الإمامة للظالم سابقا.
4 - طلب الإمامة لمن لم يظلم أصلا.
لا يمكن أن يكون مطلوبه الوجه الأول والثاني، لان إبراهيم عليه
السلام عاقل عارف بأهمية منصب الإمامة فكيف يطلب تقليده للظالم بالفعل
أو في المستقبل، فإن ذلك تعريض بمنصب الإمامة للضياع والخطر.
ولا يمكن أن يكون مطلوبه خصوص الوجه الرابع وهو من لم يظلم
أصلا، باعتبار نفي الآية اعطاء المنصب للظالم ولولا شمول طلبه للظالم لما نفته
الآية المباركة، فتعين أن يكون مطلوبه اعطاء الإمامة للعادل فعلا سواءا صدر
منه ظلم في السابق أم لا، فلما جاء التصريح الإلهي بنفي لياقة الظالم بمنصب

(1) الوسائل: 8 / 325، ح 10797.
265

الإمامة عرف أن المراد بالظالم المنفي هو الظالم سابقا فقط وبقية الوجوه خارجة
موضوعا كما ذكرنا، فتتم دلالة الآية حينئذ على اعتبار العصمة في الامام، سواءا
كان الاطلاق فيها حقيقيا بلحاظ حال التلبس أو مجازيا بلحاظ حال الجري
والنسبة.
وإذا ثبت دلالة الآية على اعتبار العصمة وانتفاء الظلم سابقا ولاحقا
وظاهرا وباطنا في الإمامة دلت على كون الإمامة بالنص لا بالشورى، وذلك
من وجهين:
أ - نسبة جعل الإمامة لله جل وعلا في الآية المباركة، حيث قال: (إني
جاعلك للناس إماما) (1)، ولو كانت بالشورى لا بالجعل الإلهي لما نسبها الله
لنفسه في الآية.
ولكن قد يقال بأن هذا الجعل جعل خاص صادر على نحو القضية
الخارجية، أي أنه خاص بشخصية إبراهيم عليه السلام أو بالأنبياء عموما،
ولا دليل على كونه عاما لكل إمامة على نحو القضية الحقيقية.
ب - إن الآية تدل باللزوم العقلي على اعتبار النص في الإمامة، باعتبار
أن الآية لما دلت على اعتبار العصمة أي لزوم انتفاء الظلم ظاهره وباطنه
وسابقه ولاحقه في الامام، وذلك أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه من قبل
البشر المنتخبين للامام دلت على كون الإمامة بالنص، لأنه لو كانت الإمامة
بالانتخاب والشورى فهذا يعني اشتراط أمر خفي في الإمامة مع إيكال
تشخيص توفره إلى من لا يمكنه التشخيص، وهو جمع بين المتنافيين.
فالنتيجة: أن دلالة الآية على اعتبار العصمة في الامام مستلزم لاعتبار
النص فيه أيضا.

(1) البقرة: 2 / 124.
266

المنشأ الثالث: (من مناشئ القول بأن المشتق موضوع للأعم) الخلط بين
العنوان المأخوذ على نحو المعرفية والعنوان المأخوذ على نحو الموضوعية، فمثلا
عندما نقول: " خذ الدين من هذا العالم " فالموضوع الاثباتي هو الموضوع الثبوتي
لان عنوان العالم مأخوذ على نحو الموضوعية، بينما إذا قلنا: " خذ الدين من هذا
الجالس " فهنا يحكم العرف العقلائي - بقرينة مناسبة الحكم للموضوع - أن
العنوان وهو الجلوس مأخوذ على نحو المعرفية للموضوع الواقعي، فالموضوع
الاثباتي مختلف عن الموضوع الثبوتي.
والحاصل: أن ظاهر تعليق الحكم على عنوان معين أخذ العنوان على
نحو الموضوعية، ولكن قد يخرج عن هذا الظاهر بقرينة لفظية أو مقامية أو
عقلائية كما سبق في المثال الثاني، فيكون العنوان مأخوذا على نحو المعرفية.
وقد خلط بعض العلماء بين هذين النوعين، فتصور أن جميع العناوين
المأخوذة في القضايا مأخوذة على نحو الموضوعية، وبناءا على ذلك فلا وجه
لتعليق الحكم على عنوان زال التلبس بمبدئه حين فعلية الحكم - كما في المثال
السابق " خذ دينك من الجالس " إذا صار الجالس قائما - الا إذا قلنا بوضع
المشتق للأعم، فإنه على القول بوضعه للأخص لا يتصور تعليق الحكم لأنه
تعليق على عنوان لا فعلية له، لكننا نرى شيوع مثل هذه القضايا وصحة
التعليق فيها مما يدل على الوضع للأعم.
والصحيح أن العنوان المعلق عليه الحكم قد يكون مأخوذا على نحو
الموضوعية فلا يعقل فعلية الحكم بعد انتفاء فعليته نحو " قلد العادل "، الا إذا
أخذ المبدأ بمعنى المضي والحدوث، أو كان العنوان مأخوذا بنحو الحيثية
التعليلية لا الحيثية التقييدية، أو كان مأخوذا على نحو العلية الحدوثية لا
البقائية، كما سبق طرح هذه الوجوه في آية السرقة والزنا.
وقد يكون العنوان مأخوذا على نحو المعرفية للموضوع الواقعي من دون
267

دخالة العنوان في الحكم أصلا نحو " خذ دينك من هذا الجالس " فلا يوجد هنا
تعليق على العنوان حتى ينتفي الحكم بانتفاء فعلية العنوان أو نقول بالوضع
للأعم، بل التعليق على ذات المشار إليه لا على عنوانه.
ومما يتعلق بالحديث حول هذا المنشأ ذكر ثلاثة أمور:
أ - إن الفرق بين هذا المنشأ وسابقه أن الحديث في المنشأ السابق كان
بعد الفراغ عن أخذ العنوان على نحو الموضوعية، أي أن العنوان الاثباتي بعد
كونه هو الموضوع الثبوتي هل يدور الحكم مداره حدوثا وبقاء ا أم حدوثا فقط،
هذا هو المنشأ السابق، وأما الحديث في هذا المنشأ فهو أن العنوان الاثباتي هل
له مدخلية في الحكم ثبوتا على نحو الحيثية التعليلية أم التقييدية، وعلى نحو
العلة المحدثة والمبقية أم المحدثة فقط، أم لا دخالة له في الحكم أصلا بل هو
مشير ومعرف بالموضوع الواقعي، فالفرق بين المنشأين واضح.
ب - لقد جاء في كلمات الأستاذ السيد الخوئي (قده) أن انقسام العناوين
للمأخوذ على نحو المعرفية والمأخوذ على نحو الموضوعية خاص بالقضايا الخارجية
دون القضايا الحقيقية، فإن العناوين المأخوذة في القضايا الحقيقية دائما تكون
مأخوذة على نحو الموضوعية، باعتبار رجوع القضايا الحقيقية لقضية شرطية
مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، فلابد أن يكون العنوان
المأخوذ في المقدم ذا دخالة في الحكم المذكور في التالي إذ لولا دخالته فيه لم يعقل
اشتراطه به وتعليقه عليه (1).
ولكن الصحيح عدم الفرق بينهما، فكما تنقسم القضايا الخارجية
للنوعين المذكورين فكذلك القضايا الحقيقية أيضا، والسر في ذلك أن الفرق
بين القضية الحقيقية والخارجية ليس فرقا إثباتيا حتى يتصور الانقسام الاثباتي

(1) محاضرات في أصول الفقه: 1 / 257.
268

للعناوين في الخارجية دون الحقيقية، بل الفرق بينهما ثبوتي راجع إلى أن القضية
الخارجية متقومة بالموضوع الفعلي، سواءا كان في الماضي أم في الحال أم في
المستقبل، والقضية الحقيقية متقومة بالموضوع الفرضي من دون نظر للفعلية في
زمان من الأزمنة الثلاثة.
هذا بحسب مقام الثبوت، وأما بالنظر لمقام الاثبات فلا يوجد فرق بين
القضيتين، فكما يقال في القضية الخارجية " أكرم هذا الجالس " على نحو
المعرفية و " أكرم هذا العالم " على نحو الموضوعية فكذلك يقال في القضية
الحقيقية " اتبع من كان معصوما " مع كون العصمة مأخوذة على نحو الموضوعية
لدخالتها في وجوب الاتباع، ويقال " اتبع من كان معجزا في أفعاله " مع كون
الاعجاز مأخوذا على نحو المعرفية لعدم دخالته في وجوب الاتباع أصلا بل هو
مجرد معرف ومشير للموضوع الواقعي لوجوب الاتباع وهو النبي أو الإمام عليه السلام
.
ج - في الموثق عن ابن بكير عن الصادق عليه السلام، " إن الصلاة في
وبر كل شئ حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ
منه فاسد " (1)، والملاحظ هنا أن الحكم بالفساد قد علق على عنوان (حرام
أكله) وهو مشتق من المشتقات، فإن قلنا بأن المأخوذ في الموضوع - وهو عنوان
الحرام - مأخوذ على نحو الموضوعية فلازمه انتفاء الحكم الوضعي - وهو الحكم
بالفساد - عند انتفاء الحرمة لطرو إكراه أو اضطرار رافع للحرمة.
وإن قلنا بأن المأخوذ في الموضوع مأخوذ على نحو المعرفية والموضوع
الواقعي هو نفس الحيوانات المحرمة الاكل كالثعالب والأرانب فلا ترابط حينئذ
بين الحكم الوضعي وهو الفساد والحكم التكليفي وهو الحرمة، فارتفاع الحرمة

(1) الوسائل: 4 / 345، ح 5344.
269

للاكراه أو الاضطرار لا يعني ارتفاع الحكم الوضعي وهو الفساد، وقد ذهب
لهذا الرأي المحقق النائيني (قده) في رسالة اللباس المشكوك (1).
المنشأ الرابع: (من مناشئ القول بالوضع للأعم) هو القول بتركيب
المشتق.
بيان ذلك: أننا إذا قلنا بأن مفهوم العالم مفهوم بسيط وأنه عبارة عن
نفس المبدأ وهو العلم، ولا فرق بينهما أي بين العلم والعالم الا باللحاظ الذهني
فإن الذهن إذا لاحظ العلم على نحو اللابشرط عن الانضمام للذات فيعبر عنه
بلفظ العالم وهو المشتق وإذا لاحظه بنحو الشرط لا عن الانضمام للذات فيعبر
عنه بالمبدأ والمصدر، فلا يوجد فرق واقعي بين المبدأ والمشتق أصلا وإنما الفرق
بينهما لحاظي فقط، وهذا هو معنى القول ببساطة المشتق.
ويترتب عليه القول بالأخص، لان المشتق إذا كان هو نفس المبدأ بلا
فرق واقعي بينهما فمع زوال المبدأ لا بقاء لعنوان المشتق حقيقة، إذن فهو
موضوع مخصوص بالمتلبس.
وأما إذا قلنا بأن مفهوم المشتق - كالعالم - مركب فمعناه ذات ثبت لها
العلم، و الفرق بينه وبين المبدأ - وهو العلم - فرق ذاتي لا لحاظي، ويترتب على
ذلك القول بالوضع للأعم، لان عنوان الذات التي ثبت لها المبدأ أو انتسب لها
المبدأ صادق حقيقة حتى بعد زوال المبدأ وانتفائه، إذن فالقول بالبساطة لازمه
القول بالوضع للأخص والقول بالتركيب لازمه القول بالوضع للأعم.
ولكن قد يقال بأن هذه الجهة - أي جهة التركيب والبساطة - لا مدخلية
لها في محل النزاع، باعتبار أننا قد نختار القول بالتركيب ومع ذلك نذهب للقول
بوضع المشتق للأخص، فإن مفهوم المشتق هو الذات الواجدة للمبدأ،

(1) أجود التقريرات: 1 / 79، فوائد الأصول: 1 / 122.
270

والمقصود بالواجدية هي الواجدية الفعلية لا المطلقة حتى يتناسب مع القول
بوضعه للأعم.
وقد نختار القول بالبساطة ومع ذلك نذهب للقول بوضع المشتق
للأخص، باعتبار أن المشتق عنوان انتزاعي بسيط لا مركب، والعنوان
الانتزاعي له عنصران:
1 - منشأ انتزاع يدور مداره حدوثا وبقاءا، وهو الذي يصح حمله عليه.
2 - مصحح انتزاع.
فبالنسبة للمشتق منشأ انتزاعه هو الذات التي يصح حمل المشتق عليها
ومصحح انتزاعه هو المبدأ، فما دامت الذات موجودة فيصح إطلاق المشتق
حقيقة وإن زال التلبس بالمبدأ، لان علاقة المشتق بالمبدأ علاقة الانتزاعي
بمصحح انتزاعه فلا يدور مداره حدوثا وبقاءا بخلاف علاقته بالذات، وهذا
هو معنى القول بالوضع للأعم. إذن فلا تلازم بين القول بالتركيب والقول
بالوضع للأعم، ولا تلازم بين القول بالبساطة والقول بالوضع للأخص، كما
يظهر من بعض تقريرات المحقق النائيني (قده).
البساطة والتركيب
قبل بيان المختار في هذا البحث نطرح مقدمة تساعد على وضوح محل
النزاع وفهم المصطلحات الفلسفية والأصولية المطروحة فيه، والمقدمة تشتمل
على أمور:
الامر الأول: في بيان معاني التركيب والبساطة، وهي أربعة:
المعنى الأول: التركيب اللفظي، وهو الذي عبر عنه علماء النحو وعلماء
المنطق بقولهم " المركب ما دل جزؤه على جزء معناه " كغلام زيد حيث يدل كل
271

من المضاف والمضاف إليه على جزء من المعنى بنحو تعدد الدال والمدلول،
ويقابله قولنا " زيد " حيث لا يدل جزء اللفظ هنا على جزء المعنى، ولذلك يعد
مفردا لا مركبا.
والسؤال المطروح هو: هل أن هذا المعنى من التركيب متحقق في المشتق
أم لا؟
وقد يقال في الجواب: نعم هذا التركيب صادق على المشتقات أيضا،
وتقريب ذلك: أن علماء الأصول قالوا بأن المشتقات مشتملة على وضعين،
وضع شخصي لموادها ووضع نوعي لهيئاتها، فمثلا بالنسبة للفظ (ضارب) قد
وضعت مادته وضعا شخصيا لطبيعي الحدث المعين ووضعت هيئته - وهي هيئة
فاعل - لمن صدر منه هذا الحدث، فهناك وضعان وضع شخصي للمادة ووضع
نوعي للهيئة، سواءا كان السبب في تحقق الهيئة هو زيادة الحروف نحو
(ضراب) و (ضارب) أو تغير الحركات نحو (ضرب) و (ضرب) بالمبني للفاعل
والمبني للمفعول.
وبناءا على ما ذكر - من تعدد الوضع في المشتقات - يكون المشتق مركبا
من جزئين مادة وهيئة وكل واحد منهما يدل على جزء المعنى، فإن المادة تدل على
طبيعي المعنى والهيئة تدل على كيفيته.
ولكن الصحيح عدم شمول هذا المعنى من التركيب للمشتقات، وبيان
ذلك بصياغتين:
أ - إن المقصود بالجزء في تعريف المركب هو الجزء العرفي لا الجزء
التحليلي، ولا يعد الملفوظ جزءا عرفا حتى يكون لفظا مستقلا يمكن لحاظه
دالا على جزء المعنى مستقلا عن الجزء الآخر كما في (غلام زيد) ولذلك نرى
الرضي (ره) في شرح الوافية يضيف قيد التعقب في التعريف، فيقول: " المركب
ما يدل جزءه المتعقب بلفظ على جزء المعنى " ليفيد أن المراد بالجزء هو الجزء
272

العرفي الذي لا ينطبق على كل من الهيئة والمادة إذ هما جزءان تحليليان يعينهما
العقل بالتحليل والتأمل.
ب - قد ذكرنا في بحث الوضع أن الوضع النوعي أمر انتزعه العلماء بعد
تحقق ظاهرة اللغة لا أنه قانون اخترعه أهل اللغة، وذلك لان اللغة ظاهرة
اجتماعية تنبع من حاجة المجتمع للتفهيم والتفهم، والمجتمعات البدائية التي
انطلقت منها شرارة اللغة كانت تقوم بالوضع من وحي الحاجات الشخصية،
ومن الواضح أن الوضع الذي يلبي هذه الحاجات هو الوضع الشخصي
للمشتق بمادته وهيئته معا لمعنى معين كالوضع في الجوامد أيضا بلا حاجة
للوضع النوعي للهيئة المجردة.
مضافا لكون الوضع النوعي إبداعا عقليا يكشف عن تطور عقلي
حضاري في ذهنية الواضع، وهو غير متصور في المجتمعات البدائية. إذن
فالوضع النوعي أمر انتزاعي توصل له العلماء بعد استقرائهم للألفاظ المشتركة
في حروف معينة، فهو أمر حادث بعد اللغة لا أنه من مقومات ظهور اللغة،
فلا يوجد في المشتق تركيب لفظي من مادة وهيئة كما ذكر.
المعنى الثاني: التركيب اللحاظي، والمقصود منه: أن لفظ المشتق إذا
خطر في الذهن فهل تخطر معه صورتان أم صورة واحدة؟ فمثلا إذا سمع
الانسان لفظ (زيد ضارب) خطرت في ذهنه صورتان متقارنتان في الخطور الذهني
لزيد ولضربه، وهذا هو التركيب اللحاظي، بينما إذا سمع الانسان لفظة
الانسان فإنه يخطر في ذهنه صورة واحدة لحاظا وإن انحلت بالتعمل العقلي
لصورتين وهما الحيوان والناطق، الا أن هذا التعدد تحليلي لا ينافي الوحدة
اللحاظية.
فهل لفظ المشتق - كعالم - مركب يستتبع في الذهن صورتين أم بسيط
يستلزم صورة واحدة؟
273

ذهب صاحب الكفاية (قده) إلى أن المراد بالتركيب والبساطة المبحوث
عنهما في المشتق هو هذا التركيب اللحاظي وعدمه، وأن الصحيح هو الوحدة
اللحاظية للمشتق فهو بسيط بحسب اللحاظ لا مركب.
لكن الحق أن التركيب والبساطة المبحوث عنهما في المشتق ليس المراد بهما
التركيب اللحاظي وعدمه:
أولا: لان الدليل على التركيب والبساطة اللحاظيين هو الوجدان بينما
الدليل المستخدم للاستدلال في هذا البحث عند الأصوليين هو البرهان العقلي
لا الوجدان.
وثانيا: لا ريب وجدانا عند أحد في البساطة اللحاظية للمشتق، فلا
يصح جعل ذلك محل النزاع بين علماء الأصول.
المعنى الثالث: التركيب الماهوي، والمراد به: انحلال الماهية عند التأمل
العقلي لجزءين عقليين، وهما ما به الاشتراك وما به الامتياز، سواءا كان المتصور
ماهية حقيقية أم ماهية اعتبارية، وسواءا كانت ماهية مركبة في واقعها كالجوهر
المادي أم بسيطة كالاعراض. وهذا المعنى من التركيب ليس هو محل النزاع
أصلا، باعتبار أنه لا تخلو منه ماهية من الماهيات ولا مفهوم من المفاهيم،
فالمشتق مركب بهذا المعنى قطعا لا بسيط.
المعنى الرابع: التركيب الاسنادي، والمقصود به: أن مفهوم المشتق هل
هو مفهوم إسنادي أخذت الذات فيه أم أنه مفهوم إفرادي لا دخالة للذات
فيه، بغض النظر عن كون ماهية المشتق في واقعها ماهية بسيطة أم مركبة فإن
ذلك أمر لا ربط له ببحث التركيب، بل المرتبط به هو دخالة الذات في مفهوم
المشتق وعدم دخالتها.
فالقائل بالتركيب يرى أن مفهوم المشتق مفهوم إسنادي مشتمل على
الذات، وهذا المبنى يستلزم أمرين:
274

1 - كون الفرق بين المشتق والمبدأ فرقا ذاتيا، باعتبار اشتمال مفهومه على
الذات كلفظ عالم - مثلا - الذي يكون معناه ذات ثبت لها العلم، بينما مفهوم
المبدأ كالعلم أمر مغاير للذات لذلك لا يصح حمله عليها الا تجوزا.
2 - كون الفرق بين عنوان عالم - مثلا - وعنوان ذات ثبت لها العلم فرقا
لحاظيا، بمعنى أن الذهن بمقتضى نظرية التكثر الادراكي قد يتصور الشئ
الواحد بعدة صور، فتارة يتصوره على نحو الاجمال فيعبر عنه ب‍ عالم وتارة
يتصوره على نحو التفصيل ويعبر عنه ب‍ ذات ثبت لها العلم، كالفرق اللحاظي
بين الانسان والحيوان الناطق.
وأما القائل بالبساطة فهو يرى أن مفهوم المشتق مفهوم افرادي، فلا فرق
بينه وبين المبدأ الا باللحاظ، حيث أن المبدأ كالعلم - مثلا - مأخوذ على نحو
البشرط لا والمشتق كالعالم مأخوذ على نحو اللابشرط، بمعنى أن صفة العالم
- مثلا - إن لوحظت بما هي عرض نفساني له حده الخاص فهي المبدأ المأخوذ
بنحو البشرط لا الذي لا يصح حمله على الذات الا تجوزا المعبر عنه بالعلم.
وإن لوحظت بما هي شأن من شؤون الجوهر وطور من أطواره فهو المشتق
المأخوذ بنحو اللابشرط المعبر عنه بالعالم.
الامر الثاني (من الأمور التي ينبغي معرفتها في المقدمة قبل الدخول
في بحث البساطة والتركيب): في بيان معنى الاعتبار وأقسامه.
والاعتبار عمل إبداعي تقوم به النفس بمقتضى خلاقيتها الفعالة، وله
أقسام ثلاثة:
1 - الاعتبار اللفظي: وهو الاعتبار المتقوم بالصياغة اللفظية، بحيث لا
تترتب عليه آثاره الفردية والاجتماعية بمجرد إبداعه النفسي بل لا بد في ترتب
الآثار عليه من إبرازه بمبرز معين، وينقسم لنوعين:
أ - الاعتبار الراجع لاعطاء حد شئ لشئ آخر بهدف التأثير في أحاسيس
275

الآخرين كقولنا زيد أسد، ويسمى بالاعتبار الأدبي.
ب - الاعتبار الراجع إلى صنع القرار الموافق للمصلحة العامة المؤثر في
سلوك الآخرين فعلا وتركا، وهو المسمى بالاعتبار القانوني كالأحكام التكليفية
والوضعية. وقد سبق في هذا الكتاب بيان الفرق بين القسمين.
2 - الاعتبار القياسي: وهو الاعتبار المتقوم بالمقارنة والمقايسة بين ماهيتين
المسمى عند الفلاسفة بباب اعتبارات الماهية.
مخلوطة مطلقة مجردة * عند اعتبارات عليها موردة (1)
ويسمى عند علماء الأصول بباب المطلق والمقيد، وتحليله بثلاث
نظريات:
أ - ما طرحه الحكماء ومشهور الأصوليين من أن الماهية كالرقبة إذا قيست
إلى ماهية أخرى كالايمان فإما أن تلاحظا متقارنتين وهو المعبر عنه بشرط شئ،
وإما أن تلاحظا متنافرتين وهو المعبر عنه بشرط لا، وإما أن لا تلاحظا لا بلحاظ
التقارن ولا بلحاظ التنافر وهو المعبر عنه لا بشرط، وهو الاطلاق عند
الأصوليين مقابل التقييد بأحد نوعيه البشرط شئ والبشرط لا.
ب - ما ذهبنا إليه من أن الذهن عند مقايسة ماهية إلى ماهية أخرى إما
أن يقوم بخلق حالة من الالتحام والارتباط بين الماهيتين وهو التقييد المعبر عنه
بشرط شئ، وإما أن يقوم بالربط بين إحداهما وعدم الأخرى وهو التقييد المعبر
عنه بشرط لا، وإما أن لا يقوم الذهن بخلق أي لون من ألوان الارتباط بين
الماهيتين الملاحظتين، وهذا هو الاطلاق الذي هو في واقعه أمر عدمي راجع
لعدم الربط بين الماهيتين في المورد القابل للتقييد. ويقابله التقييد الذي هو في
نظرنا نوع من العمل النفسي بخلق حالة من الالتحام والاندماج بين الماهيتين،

(1) شرح المنظومة: 2 / 338.
276

لا مجرد لحاظهما مقترنتين تصورا ولحاظا كما طرحه الرأي المشهور سابقا.
ج - ما ذهب له الأستاذ السيد الخوئي (قده) من أن التقييد عبارة عن
لحاظ الماهية متحصصة بالماهية الأخرى وجودا كالرقبة المؤمنة أو عدما كالرقبة
الغير عربية، والاطلاق عبارة عن لحاظ الماهية مرسلة رافضة للقيود
والتحصيص. فالتقييد والاطلاق بنظره لحاظان وجوديان يتقابلان تقابل
الضدين، بخلاف النظريتين السابقتين القائلتين بأنهما وجودي وعدمي
يتقابلان تقابل الملكة والعدم لا تقابل الضدين (1).
3 - الاعتبار الحملي: وهو الاعتبار المتقوم بلحاظين لماهية واحدة عند
الحمل، ومثاله ما ذكره الفلاسفة في بيان الفارق بين الجنس والفصل والمادة
والصورة، فإن العقل إذا تأمل أي موجود مادي قام بتقسيمه إلى عنصرين
أحدهما ما به الاشتراك والآخر ما به الامتياز، وما به الاشتراك إن لوحظ بما هو
قوة واستعداد محض فهو ملحوظ بحده الخاص، وهذا هو المعبر عنه بشرط لا
وهو المادة، وإن لوحظ بما هو متحد مع محصله وبما هو متقوم به فهذا هو المعبر
عنه ب‍ لا بشرط وهو الجنس.
وما به الامتياز إن لوحظ بما هو فعلية صرفة لها حد خاص فهذا هو المعبر
عنه بشرط لا وهو الصورة، وإن لوحظ بما هو محصل ومقوم للجهة المشتركة فهذا
هو المعبر عنه لا بشرط وهو الفصل، ولذلك كان المأخوذ بنحو اللابشرط من
الجنس والفصل قابلين للحمل والمأخوذ بنحو البشرط لا من المادة والصورة غير
قابلين للحمل.
إذن فالماهية الواحدة إذا لوحظت بلحاظين وكانت بالنظر لأحدهما قابلة للحمل
وبالنظر للآخر غير قابلة للحمل فهذا هو الاعتبار الحملي المعبر عنه ببشرط

(1) محاضرات في أصول الفقه: 5 / 344.
277

وبشرط لا.
ومن أمثلته أيضا ما هو محل كلامنا، فإن العرض ماهية إن لوحظت
لحاظا ذاتيا وبما لها من الحد الخاص المقابل للجوهر فهذا هو البشرط لا، ويعبر
عنه حينئذ بالمبدأ كالعلم مثلا، وإن لوحظت بما هي شأن من شؤون الجوهر
وطور من أطواره فهذا هو اللابشرط، ويعبر عنه حينئذ بالمشتق كالعالم.
فالخلاصة: أن الاعتبار إما متقوم بعنصر الابراز وهو الاعتبار اللفظي،
وإما غيره، وغير المتقوم إما لحاظ واحد لماهيتين عند المقارنة بينهما وهو الاعتبار
القياسي، وإما لحاظان لماهية واحدة بالنظر لمرحلة الحمل وهو الاعتبار الحملي.
الامر الثالث (من أمور المقدمة): في البحث حول الحمل ومصححه،
فهنا جهتان:
1 - تعريف الحمل.
2 - مصحح الحمل.
الأولى: تعريف حقيقة الحمل، وهو مستند لامرين:
أ - إن الحمل من مقولة الفعل لا من مقولة الانفعال، بمعنى أن
إذعان النفس بقيام زيد ومشيه في الخارج - مثلا - الذي هو عبارة عن انعكاس
ما في الخارج في صفحة الذهن مع تسليم النفس به لا يعد حملا، وإنما الحمل
عملية إبداعية تقوم بها النفس، وهي إيجاد الاندماج والهوهوية بين الموضوع
والمحمول، ودليلنا على ما ذكرنا هو الوجدان لمن تأمل فيه.
ب - بما أن الحمل عمل نفسي يقوم به الانسان لربط الموضوع والمحمول
لذلك يكون للاعتبار واللحاظ دور فيه، فيختلف الحمل باختلاف اللحاظ
والاعتبار مما يكشف عن كون الحمل عملا نفسيا يرتبط بنوع اللحاظ والاعتبار
للموضوع والمحمول لا انفعالا عما في الخارج فقط، فمثلا بالنسبة لما ذكرناه
سابقا من الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة، حيث أن كل ماهية لها
278

عنصران ما به الاشتراك وما به الامتياز فما به الاشتراك إن لوحظ بما له من الحدود
التي تفصله عما به الامتياز فهو المادة، وإن لوحظ بما هو مبهم تمام الابهام لا
تحصل له الا بالصور النوعية والفصول فهو الجنس.
وبناءا على اللحاظ الأول يكون ما به الاشتراك معتبرا في الذهن بنحو
البشرط لا عن الحمل، وبناءا على اللحاظ الثاني يكون معتبرا
في الذهن بنحو اللابشرط عن الحمل، ويصح للذهن حمل الجنس على النوع،
فيقول: الانسان حيوان بناءا على الاعتبار الثاني ولا يصح للذهن حمل المادة على
الصورة النوعية بناءا على الاعتبار الأول.
فتبين لنا من خلال هذا المثال أن الحمل ليس انفعالا محضا عما في الخارج
بل هو عمل نفسي يتأثر ويتغير بتغير اللحاظ والاعتبار الذهني، كما أن هذه
الاعتبارات ليست مجرد فرض واختراع بل لها مناشئ واقعية، فمثلا ما به
الاشتراك في الماهيات الواقعية له حيثيتان واقعيتان، إحداهما: كونه ذا حد
خاص يتميز به عن غيره، وثانيتهما: كونه مبهما تاما الابهام لولا تحصله
بالفصل. فإذا أدرك الذهن هاتين الحيثيتين فإن لاحظه بالحيثية الأولى أخذه
بنحو البشرط لا، وترتب على ذلك عدم حمله على الذات، وإن لاحظه بالحيثية
الثانية أخذه بنحو اللابشرط، وترتب على ذلك صحة حمله على الذات.
وكذلك مثال العرض المرتبط بمحل كلامنا، فإن العلم - مثلا - كعرض
من الاعراض له حيثيتان واقعيتان، إحداهما: أنه ماهية لها حدها الخاص
ووجودها النفسي المتميز عن وجود الجوهر، وثانيهما: أنه طور من أطوار الجوهر
وشأن من شؤونه وصوره. فإن لاحظه الذهن من الزاوية الأولى أخذه بنحو
البشرط لا عن الحمل، وهذا هو المعبر عنه بالمبدأ كالعلم، وإن لاحظه من
الزاوية الثانية أخذه بنحو اللابشرط عن الحمل، وهذا هو المعبر عنه بالمشتق
كالعالم.
279

إذن فالحمل عمل ذهني مسبوق بنوع من الاعتبار واللحاظ الناشئ
ذلك الاعتبار من مناشئ واقعية وحيثيات تكوينية كما ذكرنا.
الجهة الثانية: مصحح الحمل، وفيه ثلاثة مطالب:
أ - مصحح الحمل: إن الحمل يتوقف على نوع من التغاير بين الموضوع
والمحمول ونوع من الاتحاد، فلولا التغاير بين الطرفين لما كانا طرفين وما صح
الحمل، ولولا الاتحاد لكان حمل المحمول على الموضوع من باب حمل المباين على
المباين.
ب - أقسام الحمل: للحمل نوعان:
1 - الحمل الذاتي الأولي، وهو ما كان متقوما بالاتحاد المفهومي بين
الموضوع والمحمول والتغاير الاعتباري، ولو بالاجمال والتفصيل نحو الانسان
حيوان ناطق أو بإيهام سلب الشئ عن نفسه ثم إثباته له نحو الناطق ناطق.
2 - الحمل الشائع الصناعي، وهو ما كان متقوما بالتغاير المفهومي بين
الموضوع والمحمول والاتحاد الوجودي في أي وعاء من أوعية الوجود ذهنا أو
خارجا، نحو الانسان ناطق والانسان كلي.
ج - أقسام حمل المشتق: تارة يدخل حمل المشتق في الحمل الذاتي الأولي
نحو الناطق ناطق ولا ريب في صحته كما سبق، وتارة يدخل في الحمل الشائع،
وهذا على أقسام:
1 - ما كان من الانتزاعيات نحو الانسان ممكن ولا ريب في صحة حمله،
للتغاير المفهومي بين الطرفين والاتحاد الوجودي الذهني لو كان المراد بالامكان
الامكان الماهوي، أو الاتحاد الوجودي في الخارج لو كان المراد بالامكان
الامكان الوجودي بمعنى الفقر الذاتي.
2 - ما كان من الاعتباريات نحو الخمر محرم والصلاة واجبة ولا ريب في
صحة الحمل فيه، للتغاير المفهومي والاتحاد في وعاء الاعتبار، فإن المعروض
280

للحرمة الاعتبارية هو طبيعي الصلاة الموجود في وعاء الاعتبار، لاشتراط وحدة
الوعاء في حمل شئ على آخر.
3 - ما كان من الاعراض المقولية المتأصلة نحو الانسان قائم وقاعد،
وهذا القسم قد يورد عليه بإيراد مبني على القول ببساطة المشتق، وبيانه: أننا
إذا قلنا زيد قائم فالحمل المذكور حمل شائع صناعي متقوم بالتغاير المفهومي
والاتحاد الوجودي، فأما التغاير المفهومي فهو حاصل بلا ريب ولكن الكلام في
الاتحاد الوجودي، فإننا إن اخترنا القول بالتركيب في المشتق فلا ريب حينئذ في
وحدة الموضوع والمحمول وجودا لان المراد بالمحمول الذات الواجدة للقيام
وهذا المفهوم متحد وجودا مع زيد الخارجي، ولكننا إذا اخترنا القول ببساطة
المشتق وأن لفظ قائم معناه نفس معنى القيام وإنما الفرق اعتباري وهو لحاظ
اللابشرط عن الحمل والبشرط لا عنه فحينئذ لا يوجد اتحاد وجودي بين زيد
والقيام، فإن زيدا يعني الوجود الجوهري القائم بنفسه والقيام يعني وجودا
محموليا آخر وهو الوجود العرضي. القائم بالموضوع فمع تحقق الوجودين كيف
يحصل الاتحاد الوجودي المقوم للحمل الشائع؟!
والجواب: إن هناك مسلكين في وجود الاعراض:
1 - مسلك الآقا علي المدرس وهو المختار عندنا، ومحصله: أن
الاعراض ليس لها وجود محمولي خاص بها وإنما الوجود الجوهري يعيش في
صميمه حركة تطورية تتشأن بعدة شؤون وتتلون بعدة ألوان والاعراض هي
ألوان ذلك الوجود الجوهري المتطور، فحينئذ ليس عندنا وجودان في الخارج
بل وجود واحد والاعراض نابعة من صميم هذا الوجود الواحد من دون أن
توجب تعددا وجوديا له، نظير المادة الهيولائية المتصورة بعدة صور نوعية من
دون أن يكون للمادة وجود آخر غير وجود الصورة المحددة لها، وعلى هذا المسلك
فالاتحاد الوجودي المقوم للحمل حاصل.
281

2 - مسلك المشهور من تعدد الوجود لموجود جوهري قائم بنفسه وموجود
عرض قائم بموضوعه، والاتحاد الوجودي المعتبر في الحمل حاصل حتى بناءا
على هذا المسلك.
بيان ذلك: إن الفلاسفة قسموا الحمل الشائع لقسمين:
1 - حمل حقيقي ذاتي.
2 - حمل مجازي عرفي.
والمراد بالقسم الأول ما كان المحمول فيه منتزعا من ذات الموضوع من
دون وجود واسطة بينهما، لا واسطة في الثبوت ولا واسطة في العروض، نحو
الوجود موجود والضوء مضئ والبياض أبيض، ولا إشكال في صحة هذا الحمل
للتغاير المفهومي بين الطرفين بلحاظ دخالة حيثية اللابشرط في مفهوم المحمول
ودخالة حيثية البشرط لا في مفهوم الموضوع وللاتحاد الوجودي بينهما.
والمراد بالقسم الثاني ما كان المحمول فيه أجنبيا عن الموضوع، وهو
نوعان:
1 - الحمل المجازي الأدبي، أي ما يعد بنظر العرف تجوزا لا حقيقة نحو
الميزاب جاري، فإن الحمل هنا حمل مجازي حتى بنظر العرف لعدم الاتحاد
الوجودي بين الموضوع والمحمول وإنما حمل عليه لواسطة جلية في العروض وهي
جريان الماء فيه، وهذا النوع من الحمل خارج عن محل كلامنا.
2 - الحمل المجازي العقلي، أي ما يعد بنظر العرف حملا حقيقيا وإن
كان بنظر العقل حملا مجازيا، لان هذا الحمل مستند لواسطة في العروض ولكن
لخفاء هذه الواسطة عند العرف عده العرف حقيقيا ولجلائها عند العقل المتأمل
كان الحمل مجازيا عنده، ومثال ذلك الانسان موجود، فإن الموجود في الحقيقة
هو الوجود لا الانسان ولكن لأجل وجود واسطة خفية وهي كون الماهية حدا
للوجود صح حمل الموجود على الانسان، فهو حمل حقيقي عرفا لخفاء الواسطة
282

وحمل مجازي عقلا لمعرفة الواسطة عند العقل.
ومثال ذلك - أيضا - الجسم أبيض، فإن الأبيض في الواقع هو البياض
لا الجسم لكن لوجود واسطة وهي تقوم وجود البياض بوجود الجسم، سواءا
فسرنا هذا التقوم بالتركيب الانضمامي كما هو رأي بعض الفلاسفة أم فسرناه
بالتركيب الاتحادي كما هو رأي البعض الآخر منهم فهذا الحمل حقيقي عرفا
لخفاء الواسطة مجازي عقلا للعلم بها عند العقل.
إذن فهذا الحمل الشائع نحو زيد قائم واجد لكلا عنصريه، وهما التغاير
المفهومي والاتحاد الوجودي ولكن بنظر العرف لا بنظر العقل، والوحدة
الوجودية العرفية كافية في تصحيح الحمل الشائع.
مورد النزاع: بعد فراغنا من شرح المصطلحات الدائرة في محل البحث
نشرع في بيان الآراء المطروحة في البساطة والتركيب، فنقول: ذهب المحقق
النائيني (قده) للقول ببساطة المشتق، بمعنى أن مفهومه خال من الاشتمال على
الذات وأن الموضوع له فيه هو نفس المعنى الموضوع له المبدأ ولا فرق بينهما الا
تضمن المشتق لحيثية اللابشرط عن الحمل وتضمن المبدأ حيثية البشرط لا عنه،
فمفهوم العالم - مثلا - هو نفس مفهوم العلم حيث إن كليهما يعبر عن الكيفية
النفسانية الخاصة وهي كيفية الانكشاف بدون اشتمال فيهما على معنى الذات
أصلا، غاية الامر أن لفظ العالم يحكي عن معنى الانكشاف بنحو اللابشرط
ولفظ العلم يحكي معنى الانكشاف بنحو البشرط لا، فيصح حمل الأول على
الذات دون الثاني (1).
وهذا المسلك للمحقق النائيني (قده) صار مورد اعتراض الاعلام
(قدهم)، ونحن نستعرض هذه الايرادات مع مناقشتها.

(1) فوائد الأصول: 1 / 120.
283

الايراد الأول: ما طرحه بعض الأعاظم، وخلاصته أمران:
أ - إن الحمل متقوم بشرط واقعي وهو الاتحاد المفهومي في الحمل الأولي
والاتحاد الوجودي في الحمل الشائع، فإذا تم هذا الشرط بين طرفين صح حمل
أحدهما على الآخر بلا حاجة لاعتبار اللابشرط بل الحمل صحيح حتى ولو
أخذ الطرفان بنحو البشرط لا، وإذا لم يتحقق هذا الشرط فلا يصح الحمل وإن
أخذ الطرفان بنحو اللابشرط، إذن فالحمل انعكاس عن الواقع لا ينفصل عنه
ولا يتأثر بتدخل الاعتبارات المختلفة فيه (1).
ب - إن ما ذكره الحكماء في باب اعتبارات الماهية، وهو أن الماهية قد
تؤخذ بنحو اللابشرط وقد تؤخذ بنحو البشرط لا وقد تؤخذ بشرط شئ (2) لا يمكن
حمله على ظاهره، وذلك لان ظاهره تغير الواقعيات بتغير الاعتبارات وهو
مستحيل.
بيان ذلك: إن الاعتبار معناه الاختراع والفرض الذهني بهدف التأثير
في مشاعر الآخرين وعواطفهم، وهذا يتناسب مع العلوم الأدبية الذوقية وأما
العلوم الحكمية الباحثة عن الحقائق الواقعية فلا مدخلية للاعتبارات فيها، لأن الاعتبار
لا يغير من الواقع شيئا فاعتبار الماهية لا بشرط أو بشرط لا لا يغير من
حقيقتها شيئا، فلا بد أن يحمل الكلام على غير ظاهره، وهو أن هذه
الاعتبارات انعكاس عن الواقع نفسه، فإن واقع الماهية أنها قد تكون منضمة
للعوارض وهذا ما يسمى بالبشرط شئ وقد تكون مباينة لغيرها وهو البشرط لا
وقد تكون خلوا من الاعتبارات في الذهن وهو اللابشرط، لا أن هذه الحيثيات
اعتبارات محضة وفرضيات ذهنية.

(1) تهذيب الأصول: 1 / 126.
(2) شرح المنظومة: 2 / 340.
284

ولكننا لا نوافق على هذا الايراد لعدة أمور:
أولا: إننا ذكرنا سابقا أن الحمل عمل نفسي لا أنه إدراك للواقع فقط،
فإن الوجدان شاهد بأن الانسان بعد إدراكه للواقع وانفعاله به يقوم بحمل شئ
على شئ بخلق الهوهوية بينهما استنادا للاتحاد المفهومي أو الوجودي بينهما، لا
أن نفس الادراك والانفعال هو الحمل، ومما يؤيد ذلك تدخل الاعتبارات في
صناعة الحمل فأنت ترى أن حمل الشئ على نفسه غير صحيح لعدم المغايرة
بينهما والمغايرة لشرط في الحمل، ولكن بعد قيام الذهن باعتبار الاجمال والتفصيل
يصح الحمل فيقال: الانسان حيوان ناطق، أو بعد قيامه باعتبار امكان سلب
الشئ عن نفسه فيقال: الانسان إنسان لاثبات عدم الامكان المذكور، فهنا
نلاحظ تدخل الاعتبار في صناعة الحمل.
وكذلك - أيضا - قد نرى شيئين متحدين وجودا ولكن لا يصح حمل أحدهما
على الآخر بمجرد ذلك الاتحاد الوجودي، فالمادة والصورة النوعية متحدان
وجودا لان المادة عين القوة والاستعداد والصورة عين الفعلية والتحصل، ومع
هذا الاتحاد الوجودي بينهما وهو اتحاد المتحصل باللامتحصل لا يصح حمل
أحدهما على الآخر، فإذا قام الذهن باعتبار المادة على نحو اللابشرط والنظر إلى
جهة الابهام فيها وأنها لا تحصل لها الا بالصورة والفصل كانت جنسا وصح حملها
على النوع والفصل، فالحمل ليس انعكاسا عن الواقع متقوما بالاتحاد الوجودي
والمفهومي بين الطرفين كما ذكرنا، بل هو عمل نفسي يقوم به الذهن ويكون
خاضعا للاعتبارات الذهنية أيضا.
وثانيا: إننا لا ننكر أن الاعتبارات الذهنية المذكورة في باب اعتبارات
الماهية وباب الجنس والفصل ليست مجرد فرض ذهني فقط بل لها مناشئ واقعية
وحيثيات وجودية، ولكن وجود المنشأ الواقعي لا ينافي تحقق الاعتبار،
فالاعتبارات على ثلاثة أنواع:
285

1 - اعتبار لا يستند لمنشأ واقعي بل هو مجرد اختراع ذهني بلا هدف أو
بهدف التأثير على المشاعر والعواطف كالاعتبارات الأدبية.
2 - اعتبار يستند لمنشأ واقعي استناد المدعو إليه للداعي كالاعتبارات
القانونية، فإنها - عند العدلية - ناشئة عن المصالح والمفاسد، سواءا كان في
الجعل أم في المجعول، فإذا أدرك المقنن مصلحة معينة وأراد الوصول لها أو
إيصال المكلف إليها استخدم الاعتبار القانوني وسيلة للوصول لتلك المصلحة،
فهذا الاعتبار صار مدعوا إليه كوسيلة لتحقيق الهدف.
3 - اعتبار يستند لمنشأ واقعي على نحو الاقتضاء لا العلية التامة، ومن
موارده موردان:
الأول: الانتزاعيات، فإن الذهن بعد إدراكه لمنشأ الانتزاع كادراكه
- مثلا - لنسبة الأرض للسماء ينتزع عنوان الفوقية والتحتية، فبناءا على أن
الموجود الانتزاعي موجود بالعرض كما هو الصحيح لا موجود بالتبع كما ذهب له
بعض الحكماء فليس له وجود خارجي أصلا بل هو اعتبار ذهني يتسبب على
نحو الاقتضاء لا العلية التامة عما في الخارج، والا فليس له وجود في الخارج وإنما
الوجود أولا وبالذات لما في الخارج وهو منشأ الانتزاع وينسب ثانيا وبالعرض
للعنوان الانتزاعي.
الثاني: مورد الكثرة الادراكية، حيث إن انتقال صورة الخارج إلى الذهن
لا تعني كون الذهن صندوقا أمينا يحتفظ بالصورة الخارجية كما هي عليه، بل
الذهن بحكم العوامل النفسية والاجتماعية والرواسب الثقافية يستخدم
خلاقيته وفعاليته في تصور المعلوم على عدة صور، كما تقوم النفس أثناء النوم
بخلق صور وأشكال تتناسب مع رواسب العقل الباطن كما يذكره بعض
مدارس علماء النفس.
إذن فالصحيح أن وجود منشأ خارجي للصورة الذهنية لا يعني أن
286

الذهن لا يقوم بأي اعتبار استنادا لهذه المناشئ الواقعية، فاعتبارات
الماهية اللابشرط والبشرط لا والبشرط لشئ - مثلا - ليست مجرد انعكاسات
عن الواقع من دون تدخل الذهن في صناعة الاعتبار المتلائم مع المنشأ الواقعي
كما شرحناه في الأمثلة السابقة، حيث أن الأمور الانتزاعية اعتبارات يصنعها
الذهن لوجود مناشئ واقعية تستلزم هذا الاعتبار ولو على نحو الاقتضاء لا
العلية التامة، بناءا على عدم وجود الامر الانتزاعي خارجا لا بالأصالة ولا
بالتبع لمنشأ انتزاعه وإنما ينسب إليه الوجود بالعرض.
كما أن الصور الذهنية المختلفة لشئ واحد يقوم الذهن بخلقها لمناشئ
واقعية تدعو النفس إلى خلق تلك الصور، فالاعتبارات التي طرحها الفلاسفة
في باب اعتبارات الماهية وباب الجنس والفصل اعتبارات فرضية ناشئة عن
حيثيات واقعية كما أوضحنا ذلك، فلا مانع حينئذ من كون المشتق متحدا في
المعنى مع المبدأ وكون الفرق بينهما فرقا اعتباريا راجعا إلى اللابشرط والبشرط لا
بحيث يصح الحمل بناءا على أحد الاعتبارين ولا يصح بناءا على الاعتبار
الآخر، ولا دليل عندنا على أن كل اعتبار لابد أن. يكون قابلا للزوال باعتبار
يغايره، فإن ذلك خاص بالاعتبارات الأدبية ونحوها وأما الاعتبار الناشئ عن
حيثية واقعية فلا يزول ما دام المنشأ الواقعي له موجودا.
وثالثا: إن ظاهر كلامه (قده) أن الاعتبارات المجازية لا مجال لها في
العلوم العقلية مع أن الفلاسفة قد عقلوا بحثا في تعريف الواسطة وانقسامها
للواسطة في الثبوت والواسطة في العروض والواسطة في العروض راجعة للاسناد
المجازي المبني على الاعتبار الذهني، فمثلا إذا قلنا الجسم أبيض فإن هذه
الجملة وإن كانت بحسب نظر العرف إسنادا حقيقيا الا أنها اسناد مجازي، بنظر
العقل، لان الأبيض هو البياض في الواقع لا الجسم وإنما أسند للجسم
لواسطة في العروض، وهي حيثية ارتباط البياض به على نحو التركيب
287

الانضمامي أو التركيب الاتحادي على الخلاف في بحث الاعراض.
بل حتى قولنا الانسان موجود إسناد مجازي بنظر العقل في الواقع، لان
الموجودية للوجود لا للماهية ولكن الوجود أسند لها بواسطة كونها حدا وقالبا
للوجود، فإذن الحكماء يرون الاعتبار الذهني دخيلا في الاسناد والحمل،
ويعبرون عنه بالواسطة في العروض، ويستخدمونه في أكثر القضايا العقلية
والواقعية كقولهم الانسان موجود مثلا، مما يدل على دخالة الاعتبار المجازي
العقلي في العلوم الفلسفية وشيوع استخدامه عندهم ودوره الفعال في صناعة
الحمل.
الايراد الثاني: ما طرح في كلمات السيد الأستاذ في المحاضرات في بحث
المشتق وبحث علامات الحقيقة والمجاز، وحاصله يرجع لنقطتين:
الأولى: مناقشة القول ببساطة المشتق من عدة زوايا:
أ - إن الحمل الشائع يعتبر فيه مغايرة الموضوع للمحمول مفهوما
واتحادهما حقيقة ووجودا.
ب - إن العرض له وجود محمولي يختص به غير وجود الجوهر وإن كان
قائما بالجوهر.
ج - بما أن المشتق هو نفس المبدأ العرضي والمبدأ العرضي مغاير في الوجود
لوجود الذات إذن فلا يوجد بين الموضوع والمحمول اتحاد وجوب مصحح
للحمل.
د - إن هذه المغايرة ليست اعتبارية حتى تتغير باعتبار آخر كاعتبار
اللابشرط مثلا، بل هذا الاعتبار لو لوحظ ألف مرة لا يغير من الواقع شيئا،
وهي المغايرة الحقيقية بين المبدأ والذات (1).

(1) محاضرات في أصول الفقه 1 / 275 - 288.
288

إذن فعلى القول بالبساطة في المشتق لا يصح حمله على الذات كما ذكرنا.
الثانية: تصحيح الحمل بناءا على القول بالتركيب، وتوضيحه: إن
المختار عندنا هو القول بتركب المشتق فهو عبارة عن الذات الواجدة للمبدأ،
وبناءا على هذا يصح حمل المشتق على الذات حملا شائعا لتحقق الاتحاد
الوجودي العرضي بينهما.
بيان ذلك: إن الوجود الذي يكون به الاتحاد المصحح للحمل إما أن
يكون وجودا لكلا الطرفين بالذات كما في حمل الطبيعي على فرده، فإن
الطبيعي يوجد بوجود فرده فينتسب الوجود حقيقة وبالذات للفرد وللكلي معا،
فلو قلنا زيد إنسان فكلا الطرفين موجودان بوجود واحد لهما بالذات. وإما أن
يكون الوجود لأحدهما بالذات ولآخر بالعرض كما في حمل العناوين العرضية
على الذات ومنها المشتقات، فإذا قلنا زيد عالم فالوجود الحقيقي هنا لزيد وإنما
ينسب ثانيا وبالعرض لعنوان العالم، والمصحح لحمل لفظ العالم على زيد مع
عدم اتحادهما حقيقة وبالذات وجود حمل ضمني آخر في نفس الجملة يشتمل
على الاتحاد الوجودي الحقيقي، وهو حمل كلي العلم على الفرد الخارجي منه
القائم بزيد، ومن المعلوم أن حمل الكلي على فرده حمل حقيقي للاتحاد الوجودي
الحقيقي بينهما.
والحاصل: أننا إذا قلنا زيد عالم فهنا حملان أحدهما صريح والآخر
ضمني، فالحمل الصريح هو حمل عنوان العالم المركب على زيد والحمل الضمني
هو حمل كلي العلم على الفرد الخارجي من العلم القائم بزيد، والحمل الأول
راجع للحمل الثاني، والسبب في رجوع الحمل الأول للثاني أمران:
أ - إن عنوان العالم منتزع من العلم فلا بد أن يكون الحمل للعالم راجعا.
للحمل في صفة العلم.
ب - إن الفلاسفة قالوا: إن ما بالعرض يرجع لما بالذات، وحيث إن
289

حمل لفظ العالم على زيد يحتاج لمصحح والمصحح له الاتحاد الوجودي العرضي
فيرجع لا محالة إلى حمل كلي العلم على فرده، فإن حمله يعتمد على مصحح أيضا
وهو الاتحاد الوجودي الحقيقي، فرجع بالنتيجة الاتحاد الوجودي العرضي بين
زيد والعالم للاتحاد الوجودي الحقيقي بين كلي العلم وفرده، فما بالعرض يرجع
لما بالذات.
وهذا كله في حمل العنوان العرضي على الذات، وأما في حمل العناوين
العرضية على بعضها نحو الكاتب ضاحك فإن هذا الحمل يستند إلى مصحح،
والمصحح له الاتحاد الوجودي العرضي بينهما الراجع للاتحاد الوجودي الحقيقي
بين كلي الكتابة وفرده الخارجي وكلي الضحك وفرده الخارجي كما شرحناه في
الحمل السابق (1). ولكننا نسجل بعض الملاحظات على ما ذكره السيد الأستاذ
(قده):
الأولى: قد ذكرنا سابقا أن هناك مسلكين في وجود الاعراض، فالمسلك
الأول: هو القائل بأن الاعراض أطوار الوجود الجوهري لا أنها وجودات
محمولية أخرى غير الوجود الجوهري، وبناءا على هذا المسلك فالاتحاد الوجوب
المصحح للحمل الشائع متحقق بين المشتق والذات المحمول عليها وإن قلنا
ببساطة المشتق وأنه عين المبدأ العرضي.
والمسلك الثاني هو القائل بمغايرة وجود العرض لوجود الجوهر، وبناءا
على هذا المسلك فالاتحاد الوجودي العرفي حاصل بين المشتق والذات وهو كاف
في صحة الحمل، فإننا إذا قلنا - مثلا - زيد عالم فالعالم في الحقيقة هو العلم
لا زيد ولكن لاقتران العلم بزيد على نحو التركيب الاتحادي أو الانضمامي صح
حمل العالم عليه، الا أنه حمل مع الواسطة في العروض ومن أجل خفاء الواسطة

(1) محاضرات في أصول الفقه 1 / 166 - 220.
290

عرفا يعد هذا الحمل حملا حقيقيا عرفا للاتحاد الوجودي بين الطرفين بنظر
العرف وهو كاف في صحة الحمل، فلا يتم ما ذكره السيد الأستاذ في النقطة
الأولى من عدم وجود المصحح للحمل - وهو الاتحاد الوجودي - بناءا على
القول بالبساطة.
الملاحظة الثانية: إن ما ذكره في النقطة الأولى من أن المغايرة الحقيقية
بين الموضوع والمحمول لا تتغير باعتبار اللابشرط حتى يصح الحمل بهذا
الاعتبار يرد عليه أمران:
أ - ما ذكرناه سابقا أن الحمل عمل نفسي يتأثر بتدخل الاعتبارات فيه،
فمثلا كل ماهية تتألف من عنصرين: ما به الاشتراك وما به الامتياز، وما به
الاشتراك لو لوحظ بحده الخاص فلا يصح حمله على الذات وهذا معنى اعتبار
البشرط لا، ولو لوحظ بما هو مبهم تمام الابهام لولا الصورة النوعية صح حمله
وهذا هو معنى اعتبار اللابشرط، إذن فالاعتبارات لها تأثير واضح على صناعة
الحمل وتغيره.
ب - إننا لا نقول: بأن اعتبار اللابشرط واعتبار البشرط لا مجرد فرض
ذهني لا منشأ له في الواقع حتى يشكل على ذلك بأن هذه الاعتبارات لا تأثير
لها في الحمل، بل نقول: بأن الذهن إذا أدرك الاتحاد الوجودي بين الطرفين ولو
كان اتحادا عرفيا قام باعتبار اللابشرط في المحمول حتى تتحق حالة الهوهوية
والاندماج بين الطرفين، وهو معنى الحمل، فهذه الاعتبارات لها مناشئ واقعية
لا مجرد فرض ذهني.
الملاحظة الثالثة: إن المصحح لحمل المشتق على الذات في نظره هو
الاتحاد الوجودي العرضي الراجع للاتحاد الوجودي الحقيقي بين كلي المبدأ وفرده
الخارجي، وهذا الكلام يتصور على وجوه:
أ - إن المصحح لحمل لفظ المشتق كعالم على زيد - مثلا - هو الاتحاد
291

الوجودي العرضي، بمعنى أن يكون الوجود أولا وبالذات لزيد وثانيا وبالعرض
للمشتق، والسؤال المطروح حينئذ: ما هو الملاك المصحح لنسبة الوجود الثابت
لزيد بالذات إلى العنوان المشتق ثانيا وبالعرض؟ والجواب: أن المصحح أحد
أمرين:
1 - المصاحبة في الوجود بين الذات ومبدأ المشتق على نحو التركيب
الانضمامي، فإن انضمام كل منهما للآخر في الوجود سوغ لنا نسبة الوجود الثابت
للذات إلى المشتق المنتزع من ذلك المبدأ المنضم لها.
إلا أن هذا المصحح متحقق حتى في الحمل المجازي نحو الميزاب جار،
فإن الوجود الثابت لجريان الماء أولا وبالذات نسب للميزاب ثانيا وبالعرض
لتصاحبهما على نحو الظرفية والمظروفية، إذن فهذا المصحح وهو الاتحاد
الوجودي ولو بالعرض متحقق حتى في الحمل المجازي فلا يكون مبررا مقبولا
للحمل الشائع الصناعي الحقيقي الذي هو محل النزاع.
2 - إن الارتباط بين المبدأ العرضي كالعلم - مثلا - وبين الذات على نحو
التركيب الاتحادي هو الذي سوغ نسبة الوجود الثابت للذات بالحقيقة للعنوان
المنتزع من ذلك المبدأ العرضي ثانيا وبالعرض وهو المصحح لحمله عليه.
ومن المعلوم أن هذا المصحح لا يبرر كون الحمل حملا حقيقيا، فإن اتحاد
الذات مع مبدأ الانتزاع لا يستلزم الاتحاد بين الذات والعنوان الانتزاعي الا
على نحو المجاز، نعم لو رجع كلامه لما ذكره المحقق النائيني (قده) من القول
بالبساطة وكون مفهوم المشتق هو مفهوم المبدأ فوجود الاتحاد الحقيقي العرفي بين
الذات والمبدأ معناه وجود نفس هذا الاتحاد بين الذات والعنوان المشتق، وهو
المصحح للحمل الشائع الحقيقي.
ب - إن المصحح لحمل المشتق على الذات هو الاتحاد الوجودي العرضي
الراجع للاتحاد الوجودي الحقيقي بين كلي المبدأ وفرده الخارجي، لرجوع ما
292

بالعرض لما بالذات.
وفيه: إنه لا يوجد ربط بين الحملين فكيف يكون أحدهما مصححا
للآخر؟ فحمل العالم على زيد مختلف موضوعا ومحمولا عن حمل كلي العلم
على فرده الخارجي القائم بزيد فكيف يصح رجوع الحمل الأول للثاني؟
فإن قلت: بأن السبب في رجوع الحمل الأول للثاني هو قانون الانتزاع،
حيث إن عنوان العالم منتزع من العلم فحمل العنوان الانتزاعي راجع للحمل
في منشأ انتزاعه، وبما أن الحمل في منشأ الانتزاع واجد للاتحاد الوجودي
الحقيقي فهذا كاف في صحة الحمل الشائع الحقيقي للعنوان المنتزع، وهو
المشتق.
قلت: أولا: إننا ذكرنا سابقا أن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع وهو
ما يصح حمله عليه ومصحح انتزاع، ومنشأ الانتزاع بالنسبة للمشتق هنا هو
الذات ومصححه هو المبدأ، فلا موجب لرجوع الحمل في المشتق إلى الحمل في
مصحح انتزاعه وهو المبدأ، لعدم كونه منشأ لانتزاعه حتى يدور مداره في
الحمل.
وثانيا: إن قانون رجوع ما بالعرض لما بالذات يقتضي رجوع الاتحاد
الوجودي العرضي بين زيد والعنوان المشتق إلى الاتحاد الوجودي الحقيقي بين
زيد ومبدأ الاشتقاق الذي هو منشأ الانتزاع عند القائل به، لا إلى الاتحاد
الوجودي بين كلي العلم وفرده الخارجي فإنه لا ربط له بالأول.
ج - إننا إذا قلنا زيد عالم فعنوان عالم بمقتضى كونه مفهوما مركبا يعني
الذات الواجدة للعلم، وحينئذ يكون له انطباقان قهريان، انطباق عنوان
الذات على زيد وهذا هو الحمل الأول وانطباق كلي العلم على فرده القائم بزيد
وهذا هو الحمل الثاني، فمقصود من يقول بالتركيب هو اشتمال لفظ المشتق على
انطباقين وحملين، الا أنه لا دليل ولا موجب لرجوع الحمل الأول للثاني واعتماد
293

مصححه على مصححه كما أوضحنا ذلك مفصلا.
الايراد الثالث: ما في المحاضرات (1)، ومحصله: إن المصحح لحمل
المشتق على الذات المطروح في كلمات المحقق النائيني (قده) وهو لحاظ العرض
بما هو طور من أطوار الجوهر وشأن من شؤونه المعبر عنه باللابشرط هذا خاص
بما إذا كان المشتق من العناوين العرضية المقولية، فإنه تارة يلاحظ من حيث
وجوده النفسي فلا يصح حمله وهذا معنى البشرط لا، وأخرى يلاحظ بما هو
نعت للجوهر فيصح حمله عليه وهذا معنى اللابشرط، أما لو كان المشتق من
العناوين الانتزاعية كالممكن أو الاعتبارية كالواجب والمملوك أو العدمية
كالأعمى - مثلا - فهذه العناوين ليست أطوارا ولا شؤونا للوجود الجوهري
حتى يصح حملها بهذا اللحاظ المعبر عنه باللابشرط، إذن فالمصحح المذكور
ليس عاما لجميع أنواع المشتق (2).
وجوابنا عن هذا الايراد يتم في أمرين:
أ - ذكر الفلاسفة أن الحمل شروط بالاتحاد الوجودي، ومعنى الاتحاد
الوجودي بين الموضوع والمحمول بحسب عباراتهم هو كون أحد الطرفين
متحصلا والآخر لا متحصلا ليتم حمل أحدهما على الآخر، فإن حمل المتحصل
أي ماله وجود وفعلية بإزائه في الخارج على المتحصل غير ممكن لامتناع اجتماع
الفعليتين في موضوع واحد، ولذلك ذهب الحكماء إما إلى أصالة الوجود وإما
لأصالة الماهية، فإن دعوى أصالتهما معا لازمها كون كل شئ شيئين وهذا
مناف للوجدان، ولازمها أيضا عدم صحة حمل الماهية على الوجود فلا يصح أن
يقال زيد موجود لامتناع حمل المتحصل كما ذكرنا على المتحصل الآخر، فلا بد
من أجل تصحيح الحمل من كون الموضوع - مثلا - متحصلا والمحمول لا

(1) محاضرات في أصول الفقه 1 / 279 - 280.
(2) محاضرات في أصول الفقه 1 / 280.
294

متحصلا لتتم عملية الحمل.
ب - بناءا على ما ذكر في الامر الأول لا بد من التفصيل في حمل المشتق
على الذات، حيث أن المشتق على أنواع:
أ - ما كان من الاعراض المقولية كالعالم والضاحك، وفي هذا النوع إن
قلنا بمسلك الآقا علي المدرس من وحدة وجود الجوهر والعرض فلا ريب في
صحة حمل العرض حينئذ على الجوهر لكونه من باب حمل اللامتحصل على
المتحصل، وإن قلنا بمسلك المشهور من تعدد الوجود للجوهر والعرض فهنا
نحتاج في عملية الحمل إلى تدخل الاعتبار المصحح له، وذلك بالنظر للعرض
بما هو طور وشأن من شؤون الجوهر ليصح الحمل بعد ذلك، إذن فقيام
الذهن باعتبار اللابشرط ليس ملاكا عاما لجميع المشتقات وإنما هو خاص بما
إذا كان المشتق من الاعراض المقولية، حيث أنه حينئذ يكون وجودا متحصلا
في مقابل وجود الجوهر بناءا على المسلك المشهور في الاعراض فيحتاج حمله إلى
تدخل الاعتبار كما ذكرنا.
ب - ما كان المشتق من العناوين الانتزاعية كالممكن والممتنع ولا ريب
في صحة الحمل فيها بلا حاجة إلى ملاحظتها بما هي طور وشأن للذات
المحمول عليها، وذلك لأننا إنما نحتاج لهذا اللحاظ عند كون المشتق من
الاعراض المتأصلة وأما عندما يكون المشتق من الانتزاعيات المأخوذة من صميم
الذات المنتزع منها فهي متحدة مع منشأ انتزاعها وجودا ونسبتها له نسبة
اللامتحصل للمتحصل، فشرط الحمل موجود فيها بلا حاجة للحاظ النعتية
فيها أصلا، مع أنها في الواقع نعت وشأن من شؤون الذات أيضا.
ج - ما كان من العناوين الاعتبارية كقولنا الصلاة واجبة والكتاب مملوك
ولا ريب في صحة الحمل حينئذ، للاتحاد الاعتباري مع متعلقه في وعاء الاعتبار
حيث إن نسبة متعلق الاعتبار للاعتبار نسبة الحد المحدود ونسبة الماهية للوجود
295

وهي نسبة اللامتحصل للمتحصل، فلا مانع من حمله عليه بلا حاجة للحاظ
النعتية مع ثبوتها واقعا.
د - ما كان المشتق من العناوين العدمية كالأعمى - مثلا - ولا ريب في
صحة حمله على الذات فيقال زيد أعمى، لان المراد بالعمى عدم البصر في
الموضوع القابل له لا مطلقا، وهو بهذا المعنى يعد نعتا وطورا لموضوعه فيصح
حمله عليه، مضافا لعدم فعليته ومحصليته لكونه عدما فلا يمتنع حمله على
المتحصل.
الايراد الرابع: ما ذكر في المحاضرات أيضا، وحاصله: أن الفرق
المذكور بين المشتق والمبدأ وهو الفرق باللابشرط والبشرط لا هو في الواقع فرق
بين المصدر واسم المصدر، حيث أن المصدر هو الحاكي عن العرض باعتبار
وجوده النعتي وهذا ما نعبر عنه باللابشرط واسم المصدر هو الحاكي عن العرض
باعتبار وجوده النفسي المحمولي وهذا ما نعبر عنه بالبشرط لا.
وفيه ملاحظات:
أ - إن الفارق الجذري بين المصدر واسم المصدر مع دلالة كل منهما على
طبيعي الحدث أن المصدر دال على الحيثية الصدورية من الفاعل واسم المصدر
فاقد لهذا المدلول، لا أن الفارق بينهما هو اعتبار البشرط لا واللابشرط فإن
كليهما مأخوذ بنحو البشرط لا من ناحية الحمل، فلا يصح إسنادهما للذات الا
تجوزا (1).
ب - إن المبنى المختار عند السيد الأستاذ (قده) هو دلالة الألفاظ على
المعاني الواقعية العارية عن قيد الوجود والعدم، فكيف يكون مدلول المصدر
هو العرض بلحاظ وجوده النعتي ومدلول اسم المصدر هو العرض بلحاظ

(1) محاضرات في أصول الفقه 1 / 277 - 278، وص 283 - 284.
296

وجوده المحمولي؟ مع أن لازم ذلك عدم صحة حمل الوجود والعدم على اسم
المصدر، فإذا قلنا - مثلا - ضرب موجود فمؤداه التكرار لرجوعه لقولنا الوجود
المحمولي للضرب موجود، أو التجوز في الكلمة بإلغاء دلالتها على الوجود
المحمولي، وكلاهما مرفوض في الوجدان العرفي. وإذا قلنا ضرب معدوم فمؤداه
تناقض طرفي الجملة لرجوعه لقولنا الوجود المحمولي للضرب معدوم، أو
التجوز في الكلمة بإلغاء دلالتها على الوجود المحمولي، فالصحيح عدم تمامية
الايراد المذكور.
ج - إن تقابل الوجود النعتي مع الوجود المحمولي غير تام، بل الصحيح
في الفلسفة هو التقابل أولا بين الوجود الرابط وهو مفاد كان الناقصة والوجود
المحمولي وهو مفاد كان التامة، والوجود المحمولي ينقسم لوجود نفسي وهو وجود
الجواهر ووجود غيري نعتي وهو وجود الاعراض، فجعل الوجود النعتي مقابل
الوجود المحمولي من باب جعل قسم الشئ قسيما له.
الايراد الخامس: ما في المحاضرات (1) أيضا، وتقريبه: أن المصحح
المطروح في كلمات المحقق النائيني (قده) لحمل المشتق على الذات وهو ملاحظة
المبدأ العرضي بما هو طور من أطوار الجوهر وشأن من شؤونه خاص ببعض
المشتقات دون البعض الآخر لعدم تصوره في بعض المبادئ، ومنها ثلاثة موارد:
أ - اسم الزمان والمكان كلفظ مقتل مثلا، فإن مقتضى القول ببساطة
المشتق هو القول ببساطة اسم الزمان أيضا وكون مفهومه هو مفهوم المبدأ نفسه
وهو القتل في المثال، ولا فرق بينهما الا بالاعتبار، بمعنى أن القتل إذا لوحظ بما
هو حدث خاص فهو المبدأ المعتبر بنحو البشرط لا فلا يصح حمله على الهوية
الزمانية والمكانية وإن لوحظ بما هو طور من أطوار موضوعه فهو المشتق المعتبر

(1) محاضرات في أصول الفقه 1 / 230 - 240.
297

بنحو اللابشرط، ولكن هذا اللحاظ غير ممكن في اسم الزمان والمكان لعدم
معقولية كون الحدث طورا من أطوار زمانه أو مكانه بل علاقته بهما علاقة
الظرفية والحلول لا علاقة الناعتية والصفتية، فلا مصحح حينئذ - بناءا على
القول بالبساطة - لحمل اسم الزمان والمكان على الزمان أو المكان، لان
المصحح هو لحاظ اللابشرط الذي يعني رؤية المبدأ العرضي بما هو طور وشأن
لموضوعه وهذه الرؤية غير متصورة في اسم الزمان والمكان.
ب - أسماء الآلة كمفتاح مثلا، فإنه لا يتصور فيه كونه طورا وشأنا من
شؤون الآلة الخاصة بالفتح بل علاقته بها علاقة الاستعانة لا علاقة الناعتية
والصفتية، ولازم ذلك عدم صحة حمله على الذات المخصوصة بناءا على القول
بالبساطة، لعدم وجود مصحح للحمل حينئذ، مع أن صحة الحمل عرفا لا
ريب فيها.
ج - بعض أسماء الفاعلين، حيث إن اسم الفاعل على قسمين:
1 - ما كان قيام المبدأ به قياما حلوليا كالقاعد والقائم ولا شاهد في هذا
القسم.
2 - ما كان قيام المبدأ به قياما صدوريا كالضارب والمؤلم ومحل الاشكال
هو هذا القسم، باعتبار أن الحدث الصادر من فاعله لا يتصور فيه كونه طورا
وشأنا من شؤونه، لان علاقته به علاقة المعلول بالعلة لا علاقة النعت بالمنعوت
فليس المعلول طورا من أطوار علته ونعتا من نعوتها بخلاف علاقته بالمفعول به
الواقع عليه الحدث وهو المضروب مثلا، فان الضرب قد يعد طورا مات أطواره
على نحو المضروبية باعتبار نسبته إليه نسبة العرض لموضوعه، إذن فلا مصحح
لحمل المشتق في بعض أسماء الفاعلين.
والحاصل: إن المصحح المذكور في كلمات المحقق النائيني (قده) لحمل
المشتق على الذات وهو لحاظه بنحو اللابشرط ورؤيته بصورة النعتية والصفتية
298

لا اطراد له في سائر المشتقات (1)
والجواب عن هذا الايراد بوجهين:
الوجه الأول: إن المشتقات على قسمين.
1 - ما كان اختلاف معناه لاختلاف هيئته كاختلاف معنى الضارب عن
معنى المضروب.
2 - ما كان اختلاف معناه لاختلاف المبدأ الخفي الملاحظ فيه كاختلاف
مفهوم العالم ومفهوم السارق، فإن لفظ العالم - مثلا - لا يصح اطلاقه على
الذات بعد زوال تلبسها بالعلم الا مجازا بينما لفظ السارق يصح إطلاقه بلا
عناية على الذات بعد زوال مبدأ السرقة عنها، فعدم صحة الاطلاق الحقيقي
في الأول وصحته في الثاني مع اشتراكهما في الهيئة دليل على اختلاف المبدأ الخفي
في كل منهما، فإن المبدأ المأخوذ في لفظ العالم مأخوذ على نحو الفعلية لذلك لا
يصح إطلاقه حقيقة بعد زوال التلبس بالمبدأ والمبدأ المأخوذ في لفظ السارق
مأخوذ على نحو المضي والحدوث لا الفعلية ولذلك صح اطلاقه بلا تجوز بعد
زوال التلبس بالمبدأ الفعلي.
وبعد وضوح هذا المطلب نقول: بأن الموارد الثلاثة التي طرحها السيد
الأستاذ (قده) واجدة لمصحح الحمل وهو لحاظ النعتية والصفتية ومتوفرة عليه،
إما من قبل هيئاتها وإما من قبل المبدأ الخفي فيها، وبيان ذلك بعرض الموارد
الثلاثة:
الأول: إن اسم الزمان والمكان له لحاظان:
1 - النسبة الفعلية، بمعنى أن يكون مفهوم مقتل - مثلا - هو مفهوم
القتل نفسه ولا فرق بينهما الا بالاعتبار، وبلحاظ هذه النسبة يرد الاشكال

(1) فوائد الأصول 1: 155.
299

المذكور في المحاضرات من عدم معقولية مصحح الحمل حينئذ، فإن مبدأ القتل
ليس شأنا ولا طورا من أطوار زمانه أو مكانه، مع أن صحة الحمل لا ريب فيها
عند العرف.
2 - النسبة الوعائية والاحتوائية، بمعنى أن يكون المراد بلفظ مقتل
- مثلا - هو الاحتواء والوعائية لحدث القتل، وبهذا اللحاظ يصح حمل اسم
الزمان والمكان على الهوية الزمانية والمكانية فيقال اليوم مقتل الحسين عليه
السلام وكربلاء مقتل الحسين عليه السلام، لوجود المصحح لهذا الحمل وهو
اعتبار الناعتية والصفتية، فإن النسبة الوعائية طور من أطوار الزمان والمكان
وشأن من شؤونهما، فالاشكال الذي طرحه السيد الأستاذ (قده) وهو عدم وجود
المصحح لحمل أسماء الزمان والمكان لعدم تصور الناعتية فيها لنفس الزمان
المكان مبني على أخذ مفهوم اسم الزمان والمكان بنحو النسبة الحدثية الفعلية،
بينما لو أخذ مفهومه بنحو النسبة الوعائية لكان الحمل متوفرا على مصححه وهو
لحاظ الناعتية والصفتية.
نعم استفادة النسبة الوعائية إما من ناحية الهيئة وهي هيئة مفعل، كما
اختاره السيد الأستاذ (قده) نفسه في بحث النزاع في اسم الزمان، باعتبار
اختصاص هذه الهيئة باسم الزمان والمكان، وإما من ناحية المبدأ الخفي لعدم
اختصاص هيئة مفعل باسم الزمان والمكان بل هي شاملة حتى للمصدر الميمي
مثلا، كما في قولك قتل زيد مقتلا عظيما.
وحينئذ لو كانت النسبة الوعائية مستفادة من ناحية الهيئة لتحقق هذا
المدلول حتى في المصدر الميمي وهو مفقود بالوجدان، فلا بد أن يكون هذا
المدلول مستفادا من المبدأ الخفي لاسم الزمان والمكان، بمعنى أن المبدأ الجلي
للفظ مقتل - مثلا - هو النسبة الحدثية الفعلية التي يرد الاشكال المطروح في
المحاضرات بالنظر إليها والمبدأ الخفي له هو النسبة الوعائية التي يصح الحمل
300

بالنظر إليها هذا كله بالنسبة للمورد الأول.
المورد الثاني: أسماء الآلة كلفظ مفتاح مثلا له لحاظان أيضا:
1 - النسبة الفعلية، وعند لحاظ هذه النسبة لا يصح حمل اسم الآلة على
الآلة الحديدية نفسها لعدم وجود مصحح الحمل، وذلك لعدم تصور كون مبدأ
الفتح طورا من أطوار الآلة الخارجية ونعتا من نعوتها.
2 - النسبة الاعدادية، وبهذا اللحاظ يصح حمل اسم الآلة على الآلة
الخارجية لتصور الاتحاد بينهما، باعتبار كون الاعداد نعتا من نعوت الآلة
الحديدية وطورا من أطوارها فمصحح الحمل موجود ومتحقق.
واستفادة النسبة الاعدادية إما من ناحية الهيئة إذا قلنا باختصاصها باسم
الآلة، وإما من ناحية المبدأ الخفي لاسم الآلة على فرض شمول الهيئة وهي
هيئة مفعال - مثلا - حتى لغير اسم الآلة كصيغ المبالغة في قولنا زيد مقدام
مثلا، وحينئذ يصح لنا أن نقول: بأن المبدأ الجلي للفظ مفتاح هو الفتح الفعلي
والمبدأ الخفي له هو النسبة الاعدادية التي يصح الحمل بلحاظها.
المورد الثالث: اسم الفاعل الذي يكون قيام الفعل به قياما صدوريا لا
حلوليا كالضارب مثلا، فإن المبدأ الجلي له وهو الضرب الفعلي ليس مصححا
للحمل باعتبار عدم كونه طورا من أطوار الذات ونعتا من نعوتها ولكن المبدأ
الخفي له وهو الحيثية المصدرية مصحح للحمل لكونه نعتا للذات وطورا من
أطوارها.
فما ذكره السيد الأستاذ (قده) من الاشكال في الموارد الثلاثة مبني على
ملاحظة النسبة الفعلية دون لحاظ النسبة الشأنية من المفهوم الوعائي في اسم
الزمان، والمفهوم الاعدادي في اسم الآلة، والمفهوم المصدري في اسم الفاعل.
الوجه الثاني: قد ذكرنا سابقا أن الحمل الشائع على قسمين:
1 - حمل حقيقي، وهو المتقوم بالاتحاد الوجودي الحقيقي بين الموضوع
301

والمحمول نحو الضوء مضئ والبياض أبيض.
2 - حمل مجازي، وهو المتقوم بالاتحاد الوجودي العرفي، بمعنى أن العرف
يرى صحة حمل أحد الطرفين على الآخر وكونه حملا حقيقيا مع أنه بنظر العقل
حمل مجازي لوجود الواسطة الخفية في العروض نحو الجسم أبيض، فإن هذا
الحمل بنظر العرف حمل حقيقي لوحدة الطرفين وجودا بحسب نظره مع أنه حمل
مجازي بنظر العقل، لان حمل الأبيضية على الجسم مستند لواسطة خفية بينهما
وهي واسطة التركيب الاتحادي بينهما والا فالأبيض في الحقيقة هو البياض لا الجسم.
وبعد وضوح هذا المطلب نقول: بأن الموارد الثلاثة المطروحة في
المحاظرات داخلة تحت القسم الثاني من الحمل الشائع، وذلك لان عدم
الاتحاد الوجودي الحقيقي بين المبدأ كالقتل - مثلا - وزمانه ومكانه بحيث لا يعد
المبدأ من أطواره ونعوته لا يستلزم عدم صحة الحمل الشائع مطلقا بل يصح
القسم الثاني من الحمل الشائع فيه، فيقال اليوم مقتل الحسين عليه السلام
وكربلاء مقتل الحسين عليه السلام باعتبار الاتحاد الوجودي العرفي بينهما بحيث
يرى المبدأ طورا ونعتا لزمانه ومكانه.
ونفس التحليل نطرحه في أسماء الآلة وأسماء الفاعلين المتلبسين بالنسبة
الصدورية لا الحلولية، ففي هذه الموارد كلها يكون القول ببساطة المشتق
مستلزما لعدم صحة الحمل الشائع الحقيقي لعدم تصور الاتحاد الوجودي بينها
وبين موضوعاتها فلا ترى نعوتا ولا أطوارا لهذه الموضوعات، لكن ذلك لا ينافي
صحة الحمل الشائع المجازي لتصور الاتحاد العرفي فيها بحيث ترى بنظره نعوتا
وأطوارا لمبادئها، ولكن هذا الوجه لا يخلو عن المناقشة.
الايراد السادس: إن تصور كون العرض شأنا من شؤون معروضه
وطورا من أطواره بحيث يصح حمله عليه إنما يحتمل فيما إذا كان المعروض من
الجواهر لا من الاعراض، إذ لا يتصور كون العرض طورا من أطوار عرض
302

آخر، وحينئذ لا ينطبق المصحح المذكور للحمل على اسم الزمان، باعتبار أن
الزمان لو قلنا بأنه بعد واقعي لا بعد موهوم ولا بعد انتزاعي فهو بالنتيجة عرض
لأنه من الكميات التدريجية المتصلة لا من الجوهر فكيف تكون الاعراض شأنا
من شؤونه مع كونه عرضا مثلها؟!
والجواب: إن تصور النعتية والصفتية لا يتوقف على كون المنعوت
والموصوف جوهرا كما هو واضح، بل يصح ذلك حتى مع كون المنعوت عرضا
من الاعراض، ولذلك يوصف الخط بالاستقامة والانحناء مع كونهما من
الاعراض ويوصف السطح بالتعرج والاستواء مع كونهما من الاعراض أيضا،
مما يدل على صحة اتصاف العرض بعرض آخر وهو الذي عبر عنه المحقق
النائيني بمتمم المقولة.
الايراد السابع: وهو إشكال لغوي من ناحيتين:
أ - من المعلوم في اللغة عدم ورود الجمع والتثنية على المصادر الا ما شذ
كالأشغال والحلوم كما ذكر في تاج العروس وفي لسان العرب وفي شرح
الكافية للسرخسي (1)، فلو كانت المشتقات عين المصادر في المعنى ولا فرق بينهما
الا بالاعتبار لم يصح ورود التثنية والجمع عليها مع صحة أن يقال ضاربون
وضاربان بلا ريب.
ب - إن الملاحظ في اللغة دوران التثنية والجمع مدار تعدد الذات لا
تعدد الحدث، فلو تعدد الحدث مع وحدة الذات لم يصح الجمع ولا التثنية فلا
يصح أن يقال ضاربان لذات واحدة صدر منها فردان من الضرب، ولو
تعددت الذات مع وحدة الحدث صح الجمع والتثنية فيقال قتلة الحسين عليه
السلام لذوات متعددة اشتركت في حدث واحد.

(1) تاج العروس 2: 536، لسان العرب 12: 146، شرح الكافية 2: 179.
303

والنتيجة أنه لو كان المراد بالمشتقات هو المراد بالمصادر لورد عليها التثنية
عند تعدد الحدث وإن اتحدت الذات فيقال ضاربان لشخص واحد مع أنه غير
صحيح بلا ريب، بينما تصح هذه التثنية مع تعدد الذات وإن اتحد الحدث
مما يدل على التركيب ودخالة الذات في مفهوم المشتق.
والجواب عن ذلك: إن المدعى على القول بالبساطة هو وجود الفارق
الاعتباري بين المشتق والمبدأ وكون هذا الفارق الاعتباري ناشئا عن حيثيات
واقعية، فالعرض عند لحاظه بحده الخاص لا يصح حمله وعند لحاظه بما هو طور
لموضوعه يصح حمله عليه، وبهذا اللحاظ يصح تثنيته وجمعه - أيضا - لأنه حاك
عن الذات ووجهها المعبر عنها فيكتسب خاصية الذات، وهي ورود التثنية
والجمع عليه حين تعدد الذات وإن كان الحدث واحدا.
تركيب المشتق: ذهب معظم الأصوليين المتأخرين لتركيب المشتق،
فمفهومه عندهم ذات ثبت لها المبدأ، أي أن معنى عالم - مثلا - ذات ثبت لها
العلم. وهذا مبنى صار مورد الاعتراض والايراد من قبل القائلين بالبساطة،
ونحن نستعرض الايرادات الواردة عليه بالتفصيل.
الايراد الأول: إن المشتقات على ثلاثة أنواع:
1 - ما يعقل فيه التركيب لتغاير المبدأ والذات فيه مفهوما وواقعا نحو زيد
عالم، فإن التغاير بين زيد والعلم مفهوما ووجودا واضح، لذلك كان التركيب
فيه أمرا معقولا.
2 - ما يتحد المبدأ والذات فيه واقعا ويختلفان مفهوما كصفات الباري
عز اسمه في قولنا - مثلا - الله عالم، ولفظ العالم هنا مما لا يعقل التركيب فيه
لاتحاد الذات المقدسة مع صفاتها، خلافا لمن قال بالزيادة وتعدد القدماء.
3 - ما يتحد المبدأ والذات فيه مفهوما ووجودا كما في الحمل الشائع
304

الحقيقي، ومثاله الوجود موجود والضوء مضئ، فهنا لا يعقل التركيب لعدم
تصور التركيب بين الشئ ونفسه.
والحاصل أن القول بتركيب المشتق إنما يعقل في بعض أنواع المشتق لا
في جميع أنواعه، فالمناسب لاطراد المبنى وشموله لجميع الأنواع هو اختيار
القول بالبساطة لا القول بالتركيب.
ولكننا نجيب عن هذا الايراد بعدة وجوه:
1 - إن مراد القائلين بالتركيب في المشتق هو رجوع مفهومه بالتحليل
العقلي لنسبة إسنادية ناقصة محصلها الذات الواجدة للمبدأ والذات التي ثبت
لها المبدأ، وهذا المفهوم لا يتنافى مع بعض أنواع المشتقات، لان المقصود
بالواجدية أو الثبوت هو المعنى التشكيكي العام الحاوي لمراتب مختلفة أعلاها
واجدية الشئ لنفسه وثبوته لنفسه وأدناها واجدية الشئ لغيره وثبوت غيره له،
وهذا المعنى العام صادق على جميع أنواع المشتق كما هو واضح.
2 - إن الايراد على مسلك التركيب بعدم معقوليته في النوع الثالث من
أنواع المشتق وارد) على مسلك البساطة أيضا، وبيان ذلك:
إن قولنا الوجود موجود والبياض أبيض حمل صحيح بناءا على مسلك
التركيب وغير صحيح بناءا على مسلك البساطة، وذلك لوجود الفرق الواضح
بين قولنا الوجود وجود وقولنا الوجود موجود، فإن الحمل الأول حمل أولي للاتحاد
الوجودي والمفهومي بين الموضوع والمحمول والتغاير الاعتباري بينهما بينما الحمل
الثاني حمل شائع، والحمل الشائع متقوم بالتغاير المفهومي والاتحاد الوجودي بين
الطرفين، ولا يتصور هنا التغاير المفهومي إلا بإرادة المفهوم من الموضوع
والواقعية من المحمول بحيث يكون حاصل معنى الجملة: (أن مفهوم الوجود
واقع ومتحقق)، بناءا على القول بأصالة الوجود في مقابل القول بأصالة الماهية.
إذن هذا الحمل حمل صحيح واجد لشرائطه بناءا على القول بالتركيب،
305

لكنه بناءا على القول بالبساطة حمل غير صحيح لعدم واجديته لشرائطه، حيث
إن الحمل الشائع متقوم - كما ذكرنا - بالتغاير المفهومي والاتحاد الوجودي بين
طرفيه، والاتحاد الوجودي وإن كان حاصلا في قولنا الوجود موجود والبياض
أبيض إلا أن التغاير المفهومي غير متحقق، لان المراد بالمشتق هو عين المراد
بالموضوع المحمول عليه فكيف يتم التغاير المفهومي بينهما؟! فالحمل حينئذ
فاقد لعناصره ومقوماته فلا يكون حملا صحيحا.
فإن قلت: إن المصحح للحمل الشائع في نظر المحقق النائيني (قده) هو
لحاظ المحمول بنحو اللابشرطية عن الحمل، أي ملاحظته بما هو نعت من
نعوت الموضوع وطور من أطواره، وهذا المصحح معقول في قولنا الوجود موجود
والبياض أبيض.
قلت: إن مؤدى الجملة على القول بالبساطة هو اتحاد الطرفين مفهوما
وواقعا، ومع وحدتهما فلا وجه لكون المحمول نعتا للموضوع وطورا من
أطواره، إذ لا يتصور كون الشئ نعتا لنفسه وطورا من أطوار نفسه، فالمصحح
المطروح في كلمات المحقق النائيني (قده) للحمل الشائع غير معقول في النوع
الثالث من أنواع المشتق.
والحاصل: أن الحمل في قولنا الوجود موجود حمل شائع صحيح بناءا على
القول بالتركيب، لتغاير الطرفين مفهوما بإرادة المفهوم من الموضوع والواقعية من
المحمول، ولكنه غير صحيح بناءا على القول بالبساطة، لاتحاد الطرفين مفهوما
ووجودا.
كما أن قولنا البياض أبيض متضمن لحمل صحيح بناءا على القول
بالتركيب، لان المراد بالموضوع هو طبيعي البياض والمراد بالمحمول الأبيضية
الذاتية، فمحصل الجملة ومؤداها هو: (أن بياض كل شئ بالبياض وبياضية
البياض بذاته لا ببياض آخر فالحمل فيها حمل صحيح أيضا. بينما على القول
306

بالبساطة لا نرى مصححا للحمل المذكور، باعتبار اتحاد الطرفين مفهوما
ووجودا، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر حملا شائعا بمجرد اعتبار
اللابشرط، فإنه اعتبار لا يولد التغاير المفهومي المعتبر في الحمل الشائع.
3 - إن هذه الصياغات - نحو الوجود موجود، ونحو البياض أبيض -
صياغات فلسفية لا لغوية ولا عرفية، بيان ذلك: أن الفلاسفة حينما قرروا عدم
صحة الحمل الشائع إلا بالاتحاد الوجودي والتغاير المفهومي اصطدموا ببعض
صور الحمل الشائع التي لا تتوفر على الشرطين المذكورين نحو الجسم أبيض،
فإن الجسم والبياض أمران متغايران مفهوما ووجودا فكيف يتصور الاتحاد
الوجودي بينهما؟! لذلك ذهبوا إلى أن مثل هذا الحمل مشتمل على الاتحاد
الوجودي العرضي الراجع للاتحاد الوجودي الذاتي، حيث إن ما بالعرض لابد
وأن يعود لما بالذات، فيعود قولنا الجسم أبيض لقولنا البياض أبيض، فإن
بياض الجسم بالبياض وبياضية البياض بذاته لا ببياض آخر.
والحاصل: أن هذه الأمثلة إنما طرحها الفلاسفة لتصوير الاتحاد
الوجودي بين الطرفين في مثل قولنا زيد موجود والجسم أبيض، وليست أمثلة
مأخوذة من اللغة والعرف حتى يكون مفهومها ذا مدخلية في تحديد مفهوم
المشتق بساطة وتركيبا، فعدم تصور التركيب في مثل هذه الأمثلة الفلسفية لا
يعني القول بالبساطة في الأمثلة اللغوية والعرفية.
الايراد الثاني: ما في كلمات المحقق النائيني (قده) من لغوية أخذ
الذات في مفهوم المشتق (1)، وبيانه يتم بأمرين:
أ - إن المنطلق الذي انطلقت منه الحركة اللغوية هو الحاجة للتفهيم
والتفهم، ومقتضاه عدم حشوية اللغة وزيادتها على مقدار حاجة التفهيم

(1) أجود التقريرات 1: 64 - 78.
307

والتفهم، سواءا كانت اللغة ظاهرة فردية كما يتصوره معظم علماء الأصول أم
كانت ظاهرة اجتماعية كما هو المختار.
ب - إن المتكلم في مقام الاسناد يحتاج لتفهيم ثلاثة مداليل:
1 - الموضوع.
2 - المحمول.
3 - الربط بينهما.
فإذا قال زيد كاتب فهو محتاج لتفهيم شخص زيد ومعنى الكتابة والربط
بينهما الدال على الموضوع لفظه والدال على المحمول لفظ المشتق والدال على
الربط ملاحظة المحمول بنحو اللابشرط. وبهذه الدلالات الثلاث تتم بنية
الجملة الاسنادية بلا حاجة لتفهيم مدلول آخر، وهو ذات الموضوع في ضمن
تفهيم المحمول، فالقول ببساطة المشتق منسجم مع مقدار الحاجة للتفهيم بينما
القول بالتركيب مستلزم لتفهيم موضوع القضية مرتين، تارة بعنوانه الخاص من
خلال لفظ الموضوع وتارة بالعنوان العام المنطبق عليه وهو عنوان الذات المأخوذ
في المشتق، وهذا التكرار في الإشارة للموضوع لغو لا ينسجم مع مقدار الحاجة
للتفهيم والتفهم (1).
ويلاحظ على هذا الايراد ملاحظات ثلاث:
1 - إن لغوية أخذ الذات في مفهوم المشتق ناشئ من تكرار الدلالة على
الموضوع في الجملة الاسنادية المعتمدة على الاعلام الشخصية، وهذا المنشأ غير
مطرد لجميع موارد استعمال المشتق، فإن الأوصاف المشتقة تارة تعتمد على
الموصوف على سبيل النعتية نحو جاءني زيد الكاتب، وعلى سبيل الاخبار نحو
زيد كاتب، وفي هذه الموارد يتصور اشكال اللغوية. وتارة لا تعتمد على

(1) أجود التقريرات 1: 64 - 78.
308

الموصوف نحو الكاتب عندي وعندي كاتب، وفي هذه الموارد لا يتصور محذور
اللغوية لعدم الإشارة للموضوع فيها إلا مرة واحدة، وحينئذ إما أن يلتزم المحقق
النائيني (قده) بالتفصيل، وهو أخذ الذات في مفهوم المشتق في موارد عدم
الاعتماد على الموصوف وعدم أخذها في المشتق في موارد الاعتماد عليه، وهو
خلاف الارتكاز العرفي قطعا، لانعقاده على وحدة مفهوم المشتق في سائر موارد
استعماله.
وإما أن يلتزم بالبساطة في جميع الموارد، أي عدم أخذ الذات في مفهوم
المشتق، وهذا لا ينسجم مع موارد استعمال المشتق مسندا إليه نحو عندي
كاتب، لان العرف لا يرى الاسناد للمبادئ العرضية في هذه الموارد بل يرى
الاسناد للمتلبس بها، وإلا لم يكن فرق بين قولنا عندي كاتب وقولنا عندي
كتابة، مع أن الفرق بينهما واضح عرفا.
وإما أن يلتزم بالتركيب، وهو أخذ الذات في مفهوم المشتق في جميع موارد
الاستعمال، وهو مدعى الفائل بالتركيب.
2 - إن محذور اللغوية الناشئ عن تكرار الإشارة للذات تارة على نحو
الصراحة وأخرى على نحو الاندماج مشترك الورود بين القول بالبساطة والقول
بالتركيب، فإن القائل بالبساطة يرى بأن مفهوم المشتق هو نفس مفهوم المبدأ
ملاحظا بنحو اللابشرط، وملاحظة اللابشرط عن الحمل تستلزم تصور محمول
عليه ذهنا، فيكون تصور مفهوم المشتق مستلزما لتصور ذات محمول عليها.
ونتيجة ذلك: دلالة لفظ المشتق على الذات بالالتزام، فأي فرق حينئذ
بين القول بالبساطة والقول بالتركيب في ورود محذور اللغوية، فإن لازم القول
بالتركيب تكرار الدلالة على الذات تارة بنحو الصراحة من خلال لفظ الموضوع
وتارة بالتضمن من خلال لفظ المشتق، ولازم القول بالبساطة تكرار الدلالة على
الذات أيضا، تارة بنحو الصراحة من خلال لفظ الموضوع وتارة بنحو الالتزام
309

من خلال لفظ المشتق بالبيان المذكور.
3 - إن اللغة ميثاق عرفي وتسالم عقلائي ناشئ عن الحاجة للتفهيم
والتفهم. عند المجتمع، فتحديد دائرة اللغة تبعا لتحديد مقدار الحاجة لها بيد
البناء العرفي نفسه لا بيد العقل، والارتكاز العقلائي العرفي لا يرى تكرار
الإشارة للذات مخلا بمقدار الحاجة للتفهيم والتفهم، سواءا كان هذا التكرار
على نحو الصراحة نحو زيد زيد قائم، لوجود غرض بلاغي أو فني معين، أم
كان على نحو الاندماج كما في المشتق.
والاستعمالات العرفية شاهدة بذلك، فإذا قيل زيد قائم فهو بناء على
القول بالتركيب مفاده مفاد زيد ذات لها القيام، ومن الواضح عدم اللغوية في
هذا الاسناد عرفا، مع تكرار الإشارة للذات فيه، تارة على نحو الصراحة
وأخرى على نحو العموم.
وكذلك إذا قلنا زيد ضرب، حيث إن الفعل متضمن لفاعل مستتر فيه،
ولازم ذلك تكرار الإشارة للذات مرتين. وهكذا شبه ذلك من الاستعمالات
العرفية التي تشتمل على الإشارة للذات مرتين، مع أنه استعمال مقبول عرفا.
الايراد الثالث: ما في كلمات المحقق النائيني (قده) أيضا،
وخلاصته: إن البرهان الآني قائم على بساطة المشتق لا على تركيبه، بيان ذلك:
إن المشتق لو كان مركبا لكان متضمنا لمعنى النسبة الاسنادية، والنسبة معنى
حرفي فيكون المشتق متضمنا لمعنى حرفي، وكل ما هو متضمن لمعنى حرفي فهو
مبني لا معرب، بحسب القاعدة النحوية، فلازم ذلك كون المشتق مبنيا،
ولكنه معرب، واعرابه دليل بساطته وعدم تركيبه (1).
ويمكن الملاحظة على هذا الايراد من عدة وجوه:

(1) أجود التقريرات 1: 65.
310

أ - لا دليل على واقعية العلل النحوية، باعتبار أن اللغة العربية قديمة
جدا وعلم النحو علم مستحدث، فما ذكره النحاة في كتبهم من التعليلات على
صيد الاعراب والبناء إنما هو تعليل بعد الورود، والا فالمجتمع العربي البدائي
الذي انطلقت منه ظاهرة اللغة العربية - بتشكيلتها الاعرابية والبنائية - لم يكن
في مستوى هذا الفكر الفلسفي الذي طرحه النحاة على نحو العلل والأسباب
لظاهرة الاعراب والبناء.
ب - إذا كان التشابه المعنوي مع الحرف سببا مقبولا لبناء الكلمة بنظر
المحقق النائيني (قده) فلابد له من الالتزام بأمرين:
أ - بناء الفعل المضارع باعتبار تضمنه لمعنى النسبة، والنسبة معنى
حرفي، وتضمن المعنى الحرفي سبب للبناء، مع أن الفعل المضارع معرب لا
مبني بالاتفاق.
2 - بناء جميع المشتقات حتى بناءا على مسلك البساطة الذي هو مسلك
المحقق النائيني (قده)، ودلك لاحتواء جميع المشتقات على الهيئة، والهيئة ذات
معنى حرفي في نظر المحقق النائيني (قده)، فلابد من بناءها مع أنها معربة.
ج - إن البرهان الآني المذكور في كلمات المحقق النائيني (قده) غير تام
على جميع المباني المطروحة في وضع المشتقات، بيان ذلك: إن هناك مسلكين في
وضع المشتقات:
أ - تعدد الوضع والموضوع له، إما بلحاظ اشتمال المشتق على عنصرين:
مادة وهيئة، فالمادة تدل على طبيعي الحدث والهيئة تدل على النسبة الاسنادية
للذات، مع أخذ الذات جزءا للموضوع له أو قيدا خارجا عنه والجزئية للتقيد
به. وإما بلحاظ دلالة الحرف الزائد كالألف في (قائم) على النسبة الاسنادية،
مع دلالة أصل الكلمة على طبيعي الحدث.
ب - وحدة الوضع والموضوع له، بلحاظ وضع المشتق بتمامه مادة و هيئة
311

للنسبة الاسنادية وضعا شخصيا كما هو المختار في ظاهرة اللغة. وبعد وضوح
المسلكين في وضع المشتق نقول: بأننا إن أخذنا بالمسلك الأول - القائل بتعدد
الوضع والموضوع له على نحو تعدد الدال والمدلول - فلا يصدق حينئذ على
المشتق سبب البناء، وهو تضمن المعنى الحرفي، لان المشتق بناءا على هذا
المسلك من قبيل الكلمتين اللتين إحداهما اسم - وهو المادة الدالة على طبيعي
الحدث - والأخرى حرف، وهي الهيئة الدالة على النسبة الاسنادية للذات،
وسبب البناء هو تضمن الكلمة الواحدة للمعنى الحرفي، لا انضمام الاسم
للحرف كما هو واضح.
إذن فلا يتم البرهان الآني المذكور على البساطة بناءا على المسلك الأول.
وإن أخذنا بالمسلك الثاني - القائل بوحدة الوضع والموضوع له كما هو
المختار - فسبب البناء غير متحقق في المشتق أيضا، والسر في ذلك أن السبب
الموجب للبناء تضمن الاسم للمعنى الحرفي التفصيلي، كتضمن كلمة (متى)
للاستفهام، حيث إن الاستفهام هو المعنى التفصيلي الصريح لكلمة (متى)،
بينما وجود المعنى الحرفي في مفهوم الاسم على نحو التحليل والاندماج غير كاف
في بنائه كما هو حاصل في المشتق، فإن مدعى القائل بالتركيب هو دلالة المشتق
على الذات الواجدة للمبدأ، ومؤداه أخذ النسبة الاسنادية في مفهوم المشتق لا
على نحو التفصيل بل على نحو التحليل والاندماج، وهذا غير كاف في البناء،
فلا يتم البرهان الآني المذكور على هذا المسلك أيضا.
الايراد الرابع: ما ذكره المحقق الشريف الجرجاني في حاشيته على
شرح المطالع، فإن صاحب المطالع عرف الفكر ب‍ " أنه ترتيب أمور معلومة
للتوصل إلى مجهول أو اعترض عليه الشارح بأن هذا التعريف غير جامع،
لعدم انطباقه على التعريف بالفصل وحده كما لو قلنا: " الانسان هو الناطق "
المسمى بالحد الناقص، فإن عملية التعريف في المثال مع كونها نشاطا فكريا
312

ليست مصداقا للتحديد السابق للفكر، وهو " ترتيب أمور... "، باعتبار
تماميتها بأمر واحد وهو الفصل وحده بدون حاجة لترتيب أمور، فالتعريف
المطروح للفكر غير جامع.
ثم أجاب الشارح عن اعتراضه بأن الفصل كالناطق - مثلا - وإن كان
بحسب التصور الادراكي أمرا واحدا إلا أنه بحسب التحليل العقلي ينحل
لامرين شئ ونطق، فترتيب هذين الامرين ذهنا للتوصل إلى المجهول
مصداق لقوله الفكر " ترتيب أمور للتوصل إلى مجهول ". ولكن المحقق الشريف
أشكل على جواب الشارح: بأن مفهوم الناطق إذا كان بسيطا فلا محذور في
ذلك، وإذا كان مركبا من الشئ والنطق فإما أن يراد بالشئ الذي هو جزءه
مفهوم الشئ فيلزم من ذلك دخول العرض العام - وهو مفهوم الشئ - في
الفصل وهو مستحيل، لان الفصل جوهر بسيط لا يدخل فيه حتى الجنس
فضلا عن العرض العام، باعتبار أن نسبة الفصل للجنس نسبة العلة المحصلة
للمعلول، ولا يعقل كون المعلول جزءا من العلة. لذلك قال المناطقة بأن
الجنس جنس للنوع لا للفصل، فلا يكون دخيلا فيه فضلا عن دخول
العرض العام فيه، فإن الفصل من الذاتيات والعرض العام من العرضيات،
فكيف يكون العرضي جزءا من الذاتي؟!
وإما أن يراد بالشئ مصداقه فيلزم انقلاب القضية الممكنة للقضية
الضرورية، فإن قولنا الانسان كاتب إذا انحل بالتأمل العقلي إلى قولنا الانسان
إنسان له الكتابة دخل في القضايا الضرورية، باعتبار أن ثبوت الشئ لنفسه
ضروري وسلبه عنه ممتنع، والنتيجة هي بساطة المشتق لا تركيبه (1).
وعندنا عدة ملاحظات على هذا الايراد بكلا شقيه، أما ملاحظاتنا على

(1) حاشية الشريف على المطالع: 11.
313

الشق الأول فهي:
أ - إن هذا البحث بتمامه إشكالا وجوابا مبني على سنخ التفكير الفلسفي
التقليدي الذي يرى أن معرفة الحقائق الواقعية يتم من خلال معرفة عنصرين:
ما به الاشتراك وهو الجنس وما به الامتياز وهو الفصل، إلا أن هذا السنخ من
التفكير غير مقبول عندنا لوجهين:
1 - عدم وجود برهان قاطع على صحته.
2 - كونه عقيما في الايصال لمعرفة واضحة السمات والملامح. وقد اعترف
بذلك المناطقة أنفسهم، فقالوا بعدم امكان الوصول للواقعيات وكنه
حقائقها، لذلك فالطريقة المثمرة في الوصول لمعرفة الحقائق هي الطريقة التي
طرحتها الفلسفة الحديثة، وهي معرفة الأشياء من خلال آثارها الحسية
وعوارضها الفعلية والانفعالية. ولعل ما في الرواية الرضوية إشارة لهذه الطريقة
حيث قال عليه السلام: " وخلق خلقا مختلفا بأعراض وحدود " (1).
ب - ذكر المناطقة بأن الفصول المطروحة في العلوم لتحديد الواقعيات
مأخوذة على نحو المعرفية للفصول الحقيقية لا على نحو الموضوعية، فمثلا
الناطق فصل مشهوري معرف بالفصل الحقيقي، وهو مبدؤه أي النفس
الناطقة، والا فلا يعقل كون الناطق ذاتيا للانسان، فإن المراد بالنطق إن كان
هو النطق الجارحي فهو من مقولة الكيف المسموع، وإن كان هو النطق
الجانحي الادراكي فهو من مقولة الكيف النفساني أو مقولة الفعل أو الإضافة
على اختلاف المباني في بحث العلم في الفلسفة، وعلى كلا التفسيرين فالناطق
من العرضيات لا من الذاتيات، فلا يكون فصلا مقوما لحقيقة الانسان.
وبناءا على هذه المقالة فأي مانع من دخول مفهوم الشئ في مدلول
(1)

التوحيد للصدوق: 430، باب 65، ضمن حديث 1.
314

الناطق، ما دام هذا المدلول بذاته أمرا عرضيا لا ذاتيا، لعدم كونه فصلا حقيقيا
كما ذكرنا.
ج - إن هذا الايراد قد يعد خلطا بين مقام الاثبات ومقام الثبوت،
باعتبار أن النزاع المنطقي في كون الفصل أمرا بسيطا أم مركبا نزاع ثبوتي دائر
حول واقع الفصل وحقيقته، وأنها مركبة في الواقع من الجنس والصفة أم من
العرض العام والصفة أم غير مركبة، بينما الخلاف الأصولي المعقود حول بساطة
المشتق وتركيبه خلاف إثباتي دائر حول لفظ المشتق ومدلوله اللغوي العرفي،
وأن العرف المتأمل هل يفهم النسبة الاسنادية من المشتق أم لا؟.
فلا وجه لخلط المبحثين والاستمداد من أحدهما للآخر، فإن الأول ناظر
لخصوص الفصل بلحاظ حقيقته الواقعية، والثاني ناظر للمشتق بلحاظ مدلوله
اللغوي العرفي، لذلك نرى الشريف الجرجاني في حاشيته على الكشاف
وحاشيته على المطول وحاشيته على الأصول للحاجبي يصرح بتركيب
المشتق، لكنه في علم المنطق يرى بساطة الفصل المشتق، مما يدل على عدم
التنافي بين المقامين واختلافهما موضوعا وحكما.
هذه ملاحظاتنا على الشق الأول من الايراد، وهو استلزام أخذ مفهوم
الشئ في مدلول المشتق لدخول العرض العام في الفصل.
وأما ملاحظتنا على الشق الثاني من الايراد - وهو استلزام أخذ مصداق
الشئ في مدلول المشتق لانقلاب القضية الممكنة للضرورية - فبيانها يتوقف
على ذكر أمور:
أ - إن القضية تحتوي على أربعة عناصر:
1 - موضوع.
2 - محمول.
3 - نسبة.
315

4 - كيفية ثبوت النسبة.
وهذه الكيفية بلحاظ عالم الثبوت تسمى مادة، وبلحاظ عالم الاثبات
تسمى جهة.
ب - إن الجهات أربع:
1 - الضرورة.
2 - الامكان.
3 - الدوام.
4 - الاطلاق المعبر عنه بالفعل.
ج - إن الجهات قد تتداخل، ومن ألوان التداخل انقلاب الممكنة
للضرورية. وهناك ثلاثة موارد يحتمل فيها الانقلاب من الامكان للضرورة:
1 - أخذ المحمول في الموضوع نحو الانسان الكاتب كاتب، وهو المعبر
عنه بالضرورة بشرط المحمول، لان الكتابة وإن كانت ثابتة للانسان بالامكان
الا أنها ثابتة للكاتب بالضرورة. فهذا المورد من موارد انقلاب الممكنة
للضرورية.
2 - دخول الجهة في المحمول نحو الانسان كاتب بالامكان، على نحو
يكون قيد (بالامكان) مرتبطا بالمحمول - وهو كاتب - لا بنسبة المحمول
للموضوع، وهذا المورد من موارد انقلاب القضية الممكنة للضرورية، باعتبار
أن ثبوت الكتابة بما هي للانسان أمر ممكن، الا أن ثبوت الكتابة المقيدة
بالامكان له أمر ضروري، وهذا التصور ليس خاصا بجهة الامكان بل هو عام
لسائر الجهات أيضا.
وقد ذهب شيخ الاشراق السهروردي إلى رجوع جميع القضايا الممكنة
للضرورية، باعتبار أخذ الجهة قيدا في المحمول، لا مرآة معبرة عن نسبة
المحمول للموضوع، وبرهانه على ذلك برهان إثباتي، وهو: أن الظاهر الأولي
316

لكل ظرف كونه ظرفا لغوا لا مستقرا، فلو كان قيد (بالامكان) هنا راجعا
للمحمول فهو ظرف لغو، ولو كان راجعا للنسبة فهو ظرف مستقر، والظهور
العرفي منعقد على رجوع القيود للمحمول دون النسبة، ومقتضاه تحول القضية
الممكنة للقضية الضرورية
ولكننا نلاحظ على هذا الاستدلال: أن البحث في عناصر القضايا بحث
ثبوتي واقعي لا إثباتي، فلا وجه للتشبث فيه بالظهور، فإن القضية واقعا وثبوتا
تنحل عند التأمل لأربعة عناصر متقابلة، ومن المستحيل دخول المقابل في
مقابله، فلا يمكن دخول الجهة في المحمول وتقيده بها، فالجهة مما به ينظر لأنها
مرآة معبرة عن كيفية النسبة واقعا، والمحمول مما فيه ينظر لأنه طرف الاسناد،
فكيف يكون أحدهما قيدا للآخر؟!
3 - أخذ الموضوع في المحمول بعكس المورد الأول (وهو أخذ المحمول
في الموضوع). ومثاله: محل كلامنا، فإنا إذا قلنا الانسان كاتب فبناءا على
التركيب تنحل القضية لقولنا الانسان إنسان له الكتابة، فهل هذا المورد من
موارد انقلاب الممكنة للضرورية أم لا؟!
وهنا تقريبان لتصوير الانقلاب: أحدهما ما طرحه صاحب الكفاية،
والآخر ما ذكره صاحب الفصول.
أ - تقريب الكفاية (1): وخلاصته: أن قولنا الانسان إنسان له الكتابة
مشتمل على عقد الوضع - وهو عبارة عن معرفية عنوان الانسان للموضوع
الواقعي - وعلى عقد الحمل - وهو قضية إنسان له الكتابة - المتضمن لثلاثة
أجزاء: مقيد وهو الانسان، وقيد وهو الكتابة، وتقييد بها، وهذا التقيد معنى
حرفي، والمعنى الحرفي حقيقته المرآتية لأطراف القضية، فإما أن يكون مرآة

(1) الكفاية: 52 - 53.
317

لملاحظة ذات المقيد في نفسه، وهذا ما يعبر عنه بدخالة التقيد مع خروج القيد،
وإما أن يكون مرآة لملاحظة القيد نفسه، وهو ما يعبر عنه بدخالة التقيد والقيد
معا، وعلى كلا الشقين فانقلاب الامكان للضرورة أمر معقول.
أما على الشق الأول - وهو كون التقيد مرآة لذات المقيد وهو الانسان في
المثال - فالتحول حينئذ من الامكان إلى الضرورة واضح، لان مرجع القضية
حينئذ إلى قولنا الانسان إنسان، حيث لا دور للتقيد بالكتابة الا المرآتية لذات
المحمول، من دون دخالة له في الحمل أصلا، ومن المعلوم أن ثبوت الشئ
لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع.
وأما على الشق الثاني - وهو كون التقيد مرآة للقيد بحيث يكون القيد
داخلا في ضمن الحمل أيضا - فتنحل القضية إلى قضيتين بلحاظ عقد الحمل:
إحداهما ضرورية والأخرى ممكنة، لان مرجع قولنا الانسان كاتب - بناءا على
التركيب - إلى مقالتين:
1 - الانسان إنسان.
2 - الانسان له الكتابة.
باعتبار أن التقيد بالكتابة مرآة لدخول القيد في الحمل أيضا، فأولى
القضيتين ضرورية والأخرى ممكنة. هذا هو تقريب ما في الكفاية من دعوى
الانقلاب (1).
ولكننا نناقش في هذا التقريب بكلا شقيه، فنقول: أما الشق الأول فيرد
عليه عدة وجوه:
أ - إن مسلكنا في المعنى الحرفي يختلف عن مسلك صاحب الكفاية
(قده)، وذلك لان مسلكنا هو كون الفارق بين المعنى الحرفي والاسمي بالخفاء

(1) الكفاية: 52 - 53.
318

والوضوح، لا بالآلية والاستقلالية، كما هو مسلك الكفاية (1)، فمع المناقشة في
أصل المبنى لا يتم ما بني عليه.
ب - إن التقييد ليس معنى حرفيا مرآتيا، بل هو عمل إبداعي تقوم به
النفس بهدف الربط بين ماهيتين، وحينئذ فلا يعقل أن لا يكون له أي
موضوعية في الحمل، وأن يكون مجرد مرآة حاكية عن المقيد أو القيد، فإن المرآتية
لا تسمى تقييدا، بل التقييد دخيل في الحمل أيضا، ولذلك قال الحكماء بأن
التقيد جزء لا محالة، وإنما خلافهم في جزئية القيد وعدم جزئيته.
ج - إن التقييد بناءا على مرآتيته: إما أن يكون مرآة لذات المقيد بما هي
ذات، وإما أن يكون مرآة لذات المقيد بما هي مقيدة، فإن كان مرآة لذات
المقيد بما هي ذات فلازم ذلك اللغوية، لان الذات بعد معرفتها بعنوانها
التفصيلي المذكور في الموضوع - وهو الانسان - لا حاجة لمعرفتها مرة أخرى من
خلال مرآتية التقييد أصلا.
وإن كان مرآة لذات المقيد بما هي مقيدة فلا يلزم من ذلك الانقلاب من
الامكان إلى الضرورة، لان حمل الحصة على الكلي ليس حملا ضروريا، فثبوت
الانسانية المقيدة بالكتابة للانسان ليس ثبوتا ضروريا كما هو واضح.
هذه مناقشتنا للشق الأول من تقريب كلام الكفاية لدعوى الانقلاب.
وأما الشق الثاني من كلامه فيرد عليه وجهان:
أولا: إن التحليل العقلي لعقد الحمل في قولنا: (الانسان كاتب) بناءا
على التركيب يقتضي الالتزام بأحد أمرين على سبيل منع الخلو: إما عدم
الانقلاب وإما الانقلاب الصحيح، وذلك لان انحلال كلمة كاتب إلى
قضيتين - إحداهما: الانسان انسان، والأخرى الانسان له الكتابة - لا يعني أن

(1) الكفاية: 12 - 42.
319

كلتا القضيتين مقصودتان بالحمل، بل المقصود بالحمل هو القضية الثانية دون
الأولى، لعدم الفائدة في حمل القضية الأولى كما هو واضح، وإذا كان المقصود
بالحمل هو القضية الثانية فالأولى مذكورة على سبيل الضمنية والاندماج في
مدلول المحمول، تمهيدا للقضية الثانية لا أنها هي مركز الحمل.
وهذا التمهيد لا يسمى انقلابا كما هو ظاهر، فإن كون القضية الممهدة
ضرورية لا يستلزم انقلاب الحمل من الامكان للضرورة، ما دام مركز الحمل
هو القضية الامكانية.
نعم لو قلنا بأن مركز الحمل والمقصود الأساسي منه هو القضية الأولى
فالانقلاب حينئذ صحيح، بينما مدعى الشريف الجرجاني - الذي كان صاحب
الكفاية بصدد تفسيره وتقريبه - هو الانقلاب الفاسد، فإن الشريف قد قال:
(بأن المأخوذ في مدلول المشتق إن كان هو مصداق الشئ فلازم ذلك انقلاب
الممكنة للضرورية، وهو فاسد) (1) فالكلام المفسر وهو كلام الجرجاني ناظر
للانقلاب الفاسد، فكيف يكون الكلام المفسر وهو كلام الكفاية ناظرا
للانقلاب الصحيح، فالخلاصة: أن مركز الحمل إن كان هو القضية الثانية
- وهي له الكتابة - فلا يوجد انقلاب، وإن كان هو القضية الأولى - وهي
إنسان - فالانقلاب صحيح.
وثانيا: إن دعوى انحلال عقد الحمل - وهو قولنا إنسان له الكتابة - إلى
قضيتين معناه أخذ المحمول - وهو لفظ كاتب - على نحو العموم الاستغراقي،
بلحاظ أجزائه التي ينحل إليها بناءا على التركيب، مع أن القول بالتركيب
يقتضي النظر إلى المحمول على نحو العموم المجموعي، وهو كون المحمول
عبارة عن وحدة تركيبية اعتبارية تنتفي بانتفاء أحد أجزائها، فلا توجد حينئذ

(1) الفصول: 61.
320

قضيتان مختلفتان جهة ومحمولا كما هو المدعى.
ب: تقريب صاحب الفصول لدعوى الانقلاب:
نقل صاحب الكفاية عن الفصول قوله: " لان الذات المأخوذة مقيدة
بالوصف - قوة أو فعلا - إن كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة،
والا صدق السلب بالضرورة " (1). ثم أردف ذلك بالمثال، وحكي هذا المثال
بعبارتين:
الأولى: ما في النسخة المصححة عند المشكيني شارح الكفاية، وهي:
" مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب - بالقوة أو
بالفعل - كاتب بالضرورة " (2).
الثانية: ما في النسخة المصححة عند المحقق الأصفهاني (قده)،
وهي: " مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد زيد الكاتب
- بالقوة أو الفعل - بالضرورة " (3)، واختلاف العبارتين أوجب اختلاف التفسير
لكلام الفصول بصورتين.
الصورة الأولى: وهي مختار صاحب الكفاية في تفسير كلام صاحب
الفصول، وبيانها: إن ما طرحه صاحب الفصول راجع للمورد الأول من موارد
انقلاب الامكان إلى الضرورة، وهو أخذ المحمول في الموضوع المعبر عنه
بالضرورة بشرط المحمول، ومعناه ما ذكره الحكيمان السبزواري في المنظومة (4)
وصدر المتألهين في الاسفار (5): من الوجوب اللاحق أو الامتناع اللاحق، فإن

(1) الكفاية: 53.
(2) شرح المشكيني على الكفاية 1: 80.
(3) نهاية الدراية 3: 89.
(4) شرح المنظومة 2: 255 - 276.
(5) الاسفار 1: 224.
321

الموجود محفوف بضرورتين: ضرورة سابقة وضرورة لاحقة، فالضرورة السابقة
عبارة عن تمامية علته وانتظارها لوجوده، وهذا ما يعبر عنه ب‍: إن الشئ ما لم
يجب لم يوجد.
والضرورة اللاحقة عبارة عن وجود الشئ، فإن الشئ إذا وجد فوجوده
طارد بالذات لعدم نفسه، بحيث يكون العدم ممتنع العروض على هذا
الوجود، وهذا هو معنى الضرورة بشرط المحمول، فإن الموصوف بوصف معين
كالكتابة مثلا - في قولنا الانسان كاتب - إما أن يكون واجدا لهذه الكتابة خارجا
وإما أن يكون فاقدا لها، فإن كان واجدا للكتابة خارجا فثبوتها له ضروري،
لان وجودها طارد بالذات لعدمها، وإن كان فاقدا لها فثبوتها ممتنع، لان المعدوم
محفوف بامتناعين: امتناع سابق، وهو عدم وجود المعلول عند عدم تمامية
العلة، وامتناع لاحق، وهو عدمه الطارد بالذات لوجوده. فيصح لنا أن نقول:
الانسان الكاتب خارجا كاتب بالضرورة. هذا هو تفسير صاحب الكفاية
لكلام صاحب الفصول.
ولكن يرد عليه عدة وجوه:
أ - إن هذا التفسير خارج عن محل البحث، فإن محل البحث هو: هل
أن أخذ مصداق الشئ في مدلول المشتق مستلزم لانقلاب الامكان إلى
الضرورة أم لا، بينما التفسير المذكور ناظر لاخذ المحمول وهو الكاتب في
الموضوع، إذن فهما متقابلان، لان الأول يعني أخذ الموضوع في المحمول
والثاني يعني أخذ المحمول في الموضوع، فكيف يكون أحدهما تفسيرا للآخر؟!
ويؤيد ما قلنا: أن محذور انقلاب الامكان للضرورة الناتج عن أخذ
المحمول في الموضوع مشترك بين القول بالتركيب والقول بالبساطة، فإننا حتى
لو اخترنا القول ببساطة المشتق فلا محالة يكون ثبوت هذا المبدأ الذي هو الكتابة
- مثلا - لمن كان واجدا للكتابة - خارجا - ضروريا وسلبه ممتنعا. فلا يختص
322

محذور الانقلاب من الامكان للضرورة المسبب عن أخذ المحمول في الموضوع
بمقالة التركيب، بينما مدعى الشريف الجرجاني - الذي كان صاحب الفصول
بصدد تقريبه وتفسيره - هو استلزام القول بالتركيب بخصوصه لمحذور
الانقلاب، دون القول بالبساطة، وهذا المدعى لا يتم الا بناءا على المورد
الثالث من موارد الانقلاب، وهو دخول مصداق الشئ في مفهوم المشتق، أي
أخذ الموضوع في المحمول لا أخذ المحمول في الموضوع كما أفاد في الكفاية.
ب - إن الأساس الذي يترتب عليه محذور الانقلاب - وهو أخذ الموضوع
بشرط المحمول - غير تام في الموجهات:
أولا: إن هذا الاشتراط - وهو أخذ المحمول في الموضوع - مستلزم لعدم
الفائدة في الاخبار، إذا لا فائدة في الاخبار عن زيد الكاتب بأنه كاتب.
وثانيا: عدم تناسب الجهة مع الاشتراط المذكور، لان جهة القضية تعني
المرآتية لكيفية ثبوت المحمول للموضوع واقعا، وكيفية ثبوت المحمول
للموضوع تستدعي أخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول، حتى يتصور
الامكان أو الفعلية أو الدوام أو الضرورة في هذا الثبوت، ومع اشتراط
الموضوع بالمحمول فلا يتصور حينئذ إلا الثبوت الضروري، بلا حاجة للنظر
إلى عالم الواقع لمعرفة كيفية الثبوت، فالحاصل: أن جهة القضية واشتراط
الموضوع بالمحمول أمران لا يجتمعان، لان معنى جهة القضية هو ملاحظة عالم
الثبوت والواقع لمعرفة كيفية النسبة ولونها، ومعنى اشتراط الموضوع بالمحمول
هو تعين الضرورة بدون ملاحظة عالم الثبوت، إذن فهما أمران متقابلان،
لذلك قد يقال بأنه لا توجد ضرورية بشرط المحمول في الموجهات.
ج - لا ربط بين الضرورة بشرط المحمول وبين الوجوب اللاحق، كما
323

يتوهم من عبارة الحكيمين السبزواري (1) وصاحب الاسفار (2)، فإن الضرورة
بشرط المحمول تعني التقييد الاثباتي بغض النظر عن عالم الخارج، بينما الوجوب
اللاحق يعني نفس الوجود الخارجي الطارد للعدم بغض النظر عن عالم
الاثبات، فبينهما فرق واضح.
الصورة الثانية: وهي المطابقة للنسخة المصححة عند المحقق
الأصفهاني (قده) الراجعة للمورد الثاني من موارد الانقلاب، وهو كون الجهة
جزءا من المحمول. وبيان ذلك يتم بذكر أمور:
1 - لا فرق بين النسبة التامة - وهي التي يصح السكوت عليها - كقولنا
الانسان كاتب، والنسبة الناقصة كالنسبة التقييدية في قولنا الانسان الكاتب،
إلا بالتعدد اللحاظي الراجع لنظرية التكثر الادراكي، فإن الذهن تارة يلاحظ
الوصف والموصوف على نحو الانفصالية وتعدد الوجود فهذا هو ميزان النسبة
التامة، وتارة يلاحظهما على نحو الاندماجية ووحدة الوجود فهذا هو معيار
النسبة الناقصة، فالنسبتان حقيقة واحدة متعددة اللحاظ.
وهذا هو السر في تحقق الضرورة بشرط المحمول، لأننا عندما نقول:
(زيد الكاتب) على نحو النسبة الناقصة ثم نقول: (كاتب) على نحو النسبة
التامة فقد كررنا معنى واحدا بلحاظ متعدد، وأسندنا الشئ - وهو:
كاتب - إلى نفسه - وهو: الانسان الكاتب - وإسناد الشئ إلى نفسه ضروري
وسلبه عنه ممتنع، فتتحقق بذلك القضية الضرورية بشرط المحمول. إذن مناط
الضرورة بشرط المحمول هو: قيام الذهن بتصور النسبة الوصفية على لونين:
لون الاندماج ولون التفصيل، ثم نسبة أحدهما للآخر وربطه به. وليس المناط

(1) شرح المنظومة 2: 275.
(2) الاسفار 1: 224.
324

في الضرورة بشرط المحمول ما يتوهم من عبارة السبزواري وصاحب الاسفار:
من رجوع ذلك إلى الوجوب اللاحق، بل الضرورة بشرط المحمول عملية
ذهنية إثباتية لا حقيقة ثبوتية.
2 - بما أنه لا فرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة في الحقيقة فكذلك
لا فرق بينهما في الاحكام، فكما أن النسبة التامة تحتاج للجهة المعبرة عن كيفيتها
الواقعية فكذلك النسبة الناقصة تحتاج للجهة أيضا.
3 - بناءا على القول بالتركيب: فقولنا الانسان كاتب بالامكان راجع إلى
قولنا الانسان إنسان كاتب بالامكان، وبما أنه لا فرق بين النسبة التامة
والناقصة في الحقيقة والاحكام فكلمة بالامكان التي كانت قيدا للنسبة التامة
وجهة لها تحولت إلى كونها جهة للنسبة الناقصة المستفادة من تركيب كلمة
كاتب، فلا تنسلخ عن جهتيتها ومرآتيتها للنسبة الواقعية غاية الامر أنها جهة
للنسبة الناقصة لا جهة للنسبة التامة المؤلفة من الموصوف والوصف والجهة،
وهي قولنا: (الانسان الكاتب بالامكان) فتحتاج النسبة التامة المذكورة لجهة
أخرى غير هذه الجهة الراجعة للنسبة الناقصة، لأنه من المستحيل رجوع جهة
واحدة لنسبتين طوليتين، بحيث تكون هذه الجهة نفسها جزءا من المحمول في
إحداهما، فإن لازم ذلك كون هذه الجهة جهة لنفسها، وهذا مستحيل.
فلا بد من جهة أخرى للنسبة التامة، وهذه الجهة الأخرى هي
الضرورة، لما ذكرناه سابقا من أن أي جهة إذا تحولت جزءا للمحمول كانت
جهة القضية المشتملة على تلك الجهة المتحولة هي الضرورة، فلابد لنا في
الصياغة الثانية من إضافة قيد الضرورة، فنقول: الانسان هو الانسان الكاتب
بالامكان بالضرورة.
وبعد وضوح الأمور المذكورة نقول: بأن لازم القول بالتركيب هو محذور
انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية، والسبب في هذا الانقلاب ما
325

ذكرناه من الأمور، وهي:
- أولا: رجوع قولنا الانسان كاتب بالامكان إلى قولنا الانسان إنسان
كاتب بالامكان، بناءا على القول بالتركيب، سواءا كان المأخوذ في مدلول
المشتق هو مفهوم الشئ والانسان، أم كان المأخوذ هو مصداق الشئ
والانسان، فإن هذا المحذور مشترك الورود بين الشقين المطروحين، ولذلك
قال صاحب الفصول بعموم الاشكال لكلا الشقين المذكورين.
وثانيا: رجوع جهة الامكان للنسبة الناقصة المستفادة من مدلول
المشتق، إذ لا فرق بين النسبة الناقصة المذكورة والنسبة التامة في القضية
الأصلية - وهي: الانسان كاتب بالامكان - في الحقيقة والاحكام.
وثالثا: ارتباط جهة الامكان بالنسبة الناقصة، يعني تحول هذه الجهة إلى
كونها جزءا من المحمول، فيتولد من قولنا: (الانسان كاتب بالامكان) حمل
جديد يحتاج لجهة أخرى، وهو قولنا: الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان.
ورابعا: إن هذا الحمل الجديد يعرض على الواقع لتعرف جهته
الواقعية، فإن كان صادقا فالجهة هي الضرورة، وإن كان كاذبا فالجهة هي
الامتناع، ولما كان (الانسان الكاتب بالامكان) أمرا صادقا في الواقع كان ثبوت
هذا المحمول بتمامه - من موصوف ووصف وجهة - للموضوع بالضرورة،
فتكون الجهة هي الضرورة، فيرجع قولنا: (الانسان كاتب بالامكان) بناءا على
التركيب لقولنا: الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان بالضرورة. أو كما في
النسخة المصححة عند المحقق الأصفهاني (قده): زيد زيد الكاتب بالامكان
بالضرورة.
وهذا معنى قولهم: بأن الجهة إذا أصبحت جزءا من المحمول كانت
الجهة الواقعية لهذا المحمول بتمامه هو الضرورة، وحيث أن الامكان هنا أصبح
جزءا من المحمول فالجهة العامة لهذا المحمول - المقيد بالامكان - هو
326

الضرورة.
فالخلاصة: أن القول بتركيب المشتق يستدعي القول باشتماله على نسبة
تقييدية، والنسبة التقييدية كالنسبة التامة مفتقرة إلى الجهة، فيكون لفظ
(بالامكان) قيدا لها كاشفا عن كيفيتها الواقعية، وإنه وإن أصبح جزءا من
المحمول إلا أنه لم ينسلخ عن مرآتيته وجهتيته للنسبة التقييدية.
وبناءا على ذلك فلا بد من وجود جهة أخرى للمحمول المؤلف من
الموصوف والوصف والجهة، وليست تلك الجهة إلا الضرورة، فتحقق
الانقلاب من الامكان للضرورة.
وأما لو قلنا ببساطة المشتق فلا توجد حينئذ نسبة تقييدية تحتاج لجهة
الامكان، بل ليس في الجملة إلا النسبة التامة مع جهة الامكان، فلا ينقلب
الامكان من كونه جهة لتمام القضية إلى كونه جزءا من المحمول، ولا يتحقق
الانقلاب من الامكان للضرورة. وبذلك يتبين لنا أن دعوى شيخ الاشراق
السهروردي - وهي انحصار جهات القضايا في جهة الضرورة - تامة وصحيحة
بناءا على القول بتركيب المشتق، لارتباط سائر الجهات المذكورة حينئذ بالنسبة
التقييدية المستفادة من المشتق وتحولها إلى كونها جزءا من المحمول، فتحتاج
القضية بأسرها لجهة أخرى غير الجهات المذكورة فيها، وليس إلا جهة
الضرورة. أما لو قلنا بالبساطة في المشتق فلا تتم هذه الدعوى كما هو واضح
مما سبق بيانه، هذا تمام الكلام حول تقريب كلام الفصول في شرحه لدعوى
الانقلاب المطروحة في كلمات المحقق الشريف الجرجاني.
وتعليقنا على هذه التقريبات كلها يتم بعرض أمور:
أ - إن التوصيف على نوعين:
1 - تقييدي
2 - إخباري.
327

فإن الموصوف إما أن يكون كليا أو جزئيا، فإن كان الموصوف كليا وكان
الوصف أخص منه مطلقا أو من وجه فمرجع التوصيف حينئذ للتقييد،
وتضييق دائرة الموصوف بحيث يعد المؤلف من المقيد والقيد مفهوما واحدا،
وماهية خاصة مغايرة لماهية المقيد وحده وماهية القيد وحده.
نعم لو كان الوصف مساويا للموصوف الكلي فلا يتصور التقييد
والتضييق حينئذ، بل يكون هذا الوصف إخبارا توضيحيا لا قيدا احترازيا.
وإن كان الموصوف جزئيا فلا يتصور فيه التقييد والتضييق لعدم سعته
وتعدد حصصه، بل يرجع وصفه للاخبار بأنه واجد للوصف الكذائي.
فإن قلت: يصح تقييد الجزئي بلحاظ حاله لا بلحاظ ذاته، فإن حاله
مطلق ذو حصص متعددة فيصح تقييده بلحاظه.
قلت: هذا خارج عن محل الكلام، فإن مورد كلامنا في تقييد الجزئي
وعدم تقييده، وأما حال الجزئي فهو كلي طبيعي يتصور فيه التقييد والتضييق،
إلا أن تقييده لا يعد تقييدا للجزئي.
وما ذكرناه من الفرق بين عنوان التوصيف التقييدي والتوصيف
الاخباري هو المطابق للارتكاز العرفي المعول عليه عند الفقهاء، ولذلك ذكر
الفقهاء بأن البائع لو قال: (بعتك الحنطة العراقية) ثم دفع للمشتري حنطة
أخرى فالبيع صحيح، وعلى البائع دفع المصداق الحقيقي للمبيع، فإن المبيع
- بعد التوصيف التقييدي - له حصة خاصة لا تنطبق على ما دفع للمشتري،
فعلى البائع تسليم مصداقها الواقعي.
وأما لو قال البائع: (بعتك هذه الحنطة العراقية) فمرجع الوصف حينئذ
للاخبار والالتزام الضمني بأنها عراقية، لا للتقييد لعدم كون الموصوف كليا
قابلا للتقييد، فالوصف في الحقيقة التزام آخر في ضمن الالتزام بأصل البيع،
ومع تخلف الوصف لا يكون البيع باطلا لبقاء الالتزام الأول بأصل البيع،
328

ولكن يكون للمشتري خيار تخلف الوصف الراجع لتخلف الشرط الضمني،
وهو الالتزام بواجدية المبيع للوصف الكذائي، فهذا التفصيل هو المطابق
للارتكاز العرفي.
ب - بناءا على ما ذكر في الامر السابق نقول: بأن المشتق إذا كان بسيطا
فلا يوجد حينئذ أي توصيف حتى نبحث عن كونه توصيفا تقييديا أو توصيفا
إخباريا، وإذا كان المشتق مركبا فتارة يدعى أنه مركب من مفهوم الشئ
والحدث، وتارة يدعى كونه مركبا من مصداق الشئ مع الحدث، فعلى الشق
الأول - وهو تركيبه من عنصري مفهوم الشئ والحدث - يكون المشتق مشتملا
على توصيف تقييدي، باعتبار أن الموصوف كلي لا جزئي، والتوصيف التقييدي
لا يحتاج لجهة حتى يتصور محذور الانقلاب فيه.
والسر في ذلك يتوقف على بيان مقدمتين:
1 - إن التقييد عبارة عن عمل إبداعي نفسي، وهو خلق نوع من
الالتحام والاندماج بين ماهيتين، بحيث تتولد ماهية خاصة ثالثة مغايرة لماهية
الطرفين، فالحادث بعد التقييد مفهوم واحد وصورة فاردة. لا قضية إسنادية،
أي كما أن صورة الانسان مفهوم واحد ذهنا يعبر عنها تارة بعنوان افرادي فيقال:
(الانسان) وتارة بعنوان توصيفي فيقال: (الحيوان الناطق) فكذلك مدلول
المشتق - بناءا على التركيب - أيضا مفهوم واحد يعبر عنه تارة بعنوان المشتق
- وهو عنوان أفرادي - وتارة بعنوان ما ينحل له المشتق وهو توصيف تقييدي.
2 - إن الجهة من القيود الراجعة للقضايا وهي الجمل المشتملة على
النسب التامة التي يصح السكوت عليها، أو ما يرجع للقضايا كالشرط في
القضايا الشرطية - مثلا - حين تحليله وارجاعه لجملة خبرية تامة، وأما
التوصيف التقييدي الذي ينحل له المشتق فقد ذكرنا: أنه مفهوم واحد وليس
قضية بالاصطلاح المنطقي حتى يكون له جهة من الجهات المنطقية. فكما أن
329

عنوان الانسان - وإن انحل بالتأمل إلى توصيف تقييدي - لا يعد قضية
بالاصطلاح المنطقي حتى يحتاج لجهة من الجهات، فكذلك عنوان المشتق
لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي وإن انحل بالتأمل العقلي لتوصيف تقييدي
بناءا على القول بالتركيب، فلا يكون مقيدا بجهة من الجهات المنطقية.
فإذا قلنا زيد كاتب بالامكان لا يكون قيد (بالامكان) راجعا لمدلول
المشتق، باعتبار. اشتماله على توصيف تقييدي، ما دام لا يعد قضية بالاصطلاح
المنطقي، فلا تتحول الجهة الامكانية إلى كونها جزءا من المحمول بحيث يحتاج
مجموع الموصوف والوصف والجهة إلى جهة أخرى وهي جهة الضرورة، وتنقلب
القضية الممكنة إلى القضية الضرورية. إذن محذور الانقلاب لا يرد على القول
بالتركيب إذا قلنا بالتركيب التقييدي، وهو التركيب من مفهوم الشئ والحدث
لما ذكرناه.
فإن قلت: بأن الشيخ والفارابي قد اختلفا في الجهة الراجعة لعقد
الوضع وأنها جهة الامكان أم جهة الفعلية، مع أن عقد الوضع عنوان مفرد لا
قضية، فمثلا إذا قلنا: (كل إنسان كاتب بالامكان) (1) فهنا مع أن عنوان الانسان
عنوان مفرد الا أن المناطقة أرجعوه لقضية تامة، وهي: كل ما صدق عليه
إنسان بالامكان أو بالفعل - على الخلاف المذكور - فهو كاتب بالامكان، فلولا
حاجة كل نسبة للجهة - سواءا كانت تامة أم ناقصة - لم يختلف الحكماء في تعيين
جهة عقد الوضع.
قلت: إن المناطقة لا يقولون بأن كل توصيف - ولو كان تقييديا - يحتاج
لجهة من الجهات، والا لقالوا بذلك في عقد الحمل، مع أنهم لا يرون عقد
الحمل قضية موجهة بجهة معينة، وإنما قالوا بذلك في عقد الوضع لأنهم

(1) الكفاية: 53.
330

أرجعوا جميع القضايا إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت
المحمول له، فلما كان عنوان الموضوع - بحسب اصطلاحهم - قائما مقام جملة
الشرط صار عقد الوضع عبارة عن توصيف إخباري محتاج لجهة من الجهات،
إذن فلا دلالة في اختلافهم في جهة عقد الوضع على حاجة كل نسبة للجهة، ولو
كانت نسبة ناقصة وتوصيفا تقييديا.
هذا تمام تعليقنا على الشق الأول من التركيب، وهو تركيب المشتق من
مفهوم الشئ والحدث.
وأما تعليقنا على الشق الثاني - وهو تركيب المشتق من مصداق الشئ
والحدث - فهو: أن محذور الانقلاب مستحكم فيه، بلحاظ أن الموصوف
بالحدث جزئي الشئ، والجزئي - كما ذكرنا في الامر السابق - غير قابل
للتقييد، فتوصيفه لا محالة توصيف إخباري لا توصيف تقييدي، والتوصيف
الاخباري يستلزم وجود نسبة متقومة بطرفين مستقلين، فلابد له من جهة من
الجهات، ولا يتطابق معها الا الجهة المذكورة في القضية، كجهة الامكان
- مثلا - في قولنا: (الانسان كاتب بالامكان)، وحينئذ تتحول الجهة الامكانية إلى
كونها جزءا من المحمول، والمحمول بتمامه - من موصوف ووصف وتوصيف -
يحتاج لجهة أخرى، وليست الا الضرورة، ونتيجة ذلك هو انقلاب القضية
الممكنة للقضية الضرورية، فما ذكره صاحب الفصول من دعوى الانقلاب
- بناءا على القول بالتركيب - صحيح وتام بالنسبة للشق الثاني، وغير تام
بالنسبة للشق الأول منهما.
ج - إن الجزئي المأخوذ في مدلول المشتق إما أن يراد به الجزئي الحقيقي
وإما أن يراد به الجزئي الإضافي، فإن كان المراد هو الجزئي الحقيقي فمحذور
انقلاب الممكنة للضرورية وارد عليه، الا أنه احتمال باطل في نفسه، وذلك إما
لاستلزامه المحال العادي وإما لمنافاته للوجدان العرفي.
331

بيان ذلك: إن دعوى دخول مصداق الشئ - وهو الجزئي الحقيقي - في
مدلول المشتق لا تتم الا عن أحد طريقين:
1 - المشترك اللفظي، بأن يوضع لفظ الكاتب - مثلا - لجميع الافراد
الانسانية المتلبسة بالكتابة قوة أو فعلا، منذ أن اخترعت الكتابة وحتى يوم
القيامة، وذلك مستلزم التصور الواضع جميع هؤلاء الافراد واحدا واحدا ووضع
المشتق بإزائه على نحو تعدد الوضع والموضوع له، وهذا مستحيل عادة بالنسبة
للانسان الواضع لهذه الألفاظ.
2 - الوضع العام والموضوع له الخاص، بمعنى أن ما تصوره الواضع
حين الوضع هو عنوان مصداق الشئ وجزئية الحقيقي، ولكن ما قصد وضع
اللفظ له نفس المصاديق الخارجية والافراد المتلبسة بالمبدأ، ولازم ذلك التغاير
المعنوي بين المشتقات، بحيث يكون المتبادر من لفظ كاتب حين اطلاقها على
زيد مغايرا للمتبادر منها حين اطلاقها على بكر، وهكذا، وهذا مخالف للوجدان
العرفي قطعا، حيت يرى العرف جريان الاطلاقات في المشتق على نسق واحد.
إذن دعوى دخول مصداق الشئ في مفهوم المشتق مستلزم لورود محذور
الانقلاب كما سبق بيانه، الا أنها دعوى بينة الفساد في نفسها.
وأما إذا كان المأخوذ في مدلول المشتق هو الجزئي الإضافي للشئ فهو كلي
في الحقيقة لا جزئي، وتوصيف الكلي لا محالة توصيف تقييدي لا إخباري، وبما
أن التوصيف التقييدي لا جهة له فلا يتصور حينئذ محذور الانقلاب أصلا.
فالخلاصة: أن القول بتركيب المشتق محتمل لصور:
1 - كون المأخوذ في مدلوله هو مفهوم الشئ، وهو كلي، وتوصيفه
توصيف تقييدي لا جهة له، فلا يتصور فيه محذور الانقلاب.
2 - كون المأخوذ في مدلوله هو مصداق الشئ وجزئية الحقيقي، ولازم
ذلك ورود محذور الانقلاب، الا أنه احتمال ضعيف في نفسه.
332

3 - كون المأخوذ في مدلوله هو الجزئي الإضافي، أي: عنوان ما يمكن
تلبسه بالمبدأ عادة، وهو كلي لا يرد عليه محذور الانقلاب كما شرحنا.
وبيانه يحتاج لاستعراض عدة نقاط:
الأولى: قد ذكرنا سابقا أن التركيب على أنواع:
1 - التركيب اللحاظي، وهو منفي في المشتق، لبساطته ووحدة صورته
ذهنا.
2 - التركيب الماهوي، وهو رجوع ماهية الشئ - عند التأمل -
لعنصرين:
الأول: ما به الاشتراك المعبر عنه بالجنس.
الثاني: ما به الامتياز المعبر عنه بالفصل.
وذلك كرجوع ماهية الانسان للحيوان الناطق.
3 - التركيب الاسنادي التحليلي، وهو اشتمال مفهوم المشتق على نسبة
تقيدية ناقصة، بحيث يكون مفاد المشتق (ذات واجدة للمبدأ) وهذا النوع
الثالث من أنواع التركيب هو المبحوث عنه في بحث المشتق، وهو المختار
عندنا.
وأما القول بالبساطة الذي اختاره المحقق النائيني (قده)، وهو كون المبدأ
والمشتق متحدين بالحقيقة مختلفين باللحاظ، بمعنى أن الحدث إذا لوحظ بنحو
اللابشرط فهو المشتق إذا لوحظ بنحو البشرط لا فهو المبدأ، فهذا القول موضع
للملاحظة من ناحيتين:
أ - إن الفارق الذي طرحه المحقق النائيني (قده) بين المبدأ والمشتق فارق
لحاظي مرتبط بمرحلة الحمل، وليس فارقا بين المبدأ والمشتق بما هما، مع أننا
نرى بالوجدان أن الفارق بينهما أعمق وأوسع من مرحلة الحمل على الذات.
فالمبدأ يصح حمله على الحدث الخارجي فيقال: (هذا الحدث ضرب،
333

وضربك ضرب شديد) ولا يصح حمل المشتق وهو: (ضارب) عليه، وبالعكس
أيضا، فإن المشتق يصح حمله على الذات ولا يصح حمل المبدأ عليها. كما أن
المشتق يتعدد بتعدد الذات وإن اتحد الحدث والمبدأ يتعدد بتعدد الحدث وإن
اتحدت الذات، والمشتق قابل للتأنيث والتذكير دون المبدأ.
بينما الفارق الذي طرحه المحقق النائيني (قده) بين المشتق والذات فارق
لحاظي مرتبط بالحمل على الذات، وليس فارقا بينهما في جميع الحالات. مضافا
إلى أن لحاظ اللابشرط والبشرط لا من مقومات الحمل وعدمه، لا من الفواصل
بين المحمولات وغيرها، أي أنه من مقدمات الحمل لا من مقومات المحمول،
ولذلك نرى المحمول الواحد يختلف حمله باختلاف اللحاظ المذكور.
فمثلا المشتق نفسه - بناءا على القول بالتركيب - يكون مفهومه هو:
(الواجد للمبدأ) وهذا المفهوم لو لوحظ بما له من الحدود والملامح التي تميزه عن
مفهوم الذات لم يصح حمله عليها، وهذا معنى لحاظه بنحو البشرط لا، بينما
هذا المفهوم لو لوحظ بما هو مرآة حاكية عن الذات المتلبسة بالمبدأ صح حمله
عليها، وهذا معنى لحاظه بنحو اللابشرط. إذن فلحاظ اللابشرط من
مصححات الحمل ومقدماته، سواءا كان المحمول بسيطا أم مركبا، لا من
مميزات المحمول ومقوماته كما صوره المحقق النائيني (قده).
ب - إن القول بالبساطة يقتضي الالتزام بالحمل الشائع المجازي، وهو
خلاف الارتكاز العرفي، فإننا إذا قلنا: (الجسم أبيض) وكان المقصود بالأبيض
هو البياض فلا يوجد اتحاد وجودي بين الموضوع والمحمول حينئذ، فالحمل لا
محالة حمل مجازي. وكذلك إذا قلنا كربلاء مقتل الحسين عليه السلام، فإن
المقتل في الحقيقة هو القتل لا مكانه وإنما حمل على كربلاء حملا مجازيا، ونحوه
ما إذا قلنا الخمر حرام، فإن الحرام في الحقيقة هو الحرمة لا الخمر وإنما يتصف
بها الخمر مجازا، وكل ذلك خلاف الارتكاز العرفي جزما، مع أنه هو المرجع في
334

تشخيص المفاهيم والمداليل مما يكشف عن ضعف القول بالبساطة.
الثانية: إن مختارنا هو كون المشتق عنوانا انتزاعيا، والعناوين الانتزاعية
بسيطة في عالم التصور مركبة في عالم التحليل.
بيان ذلك: إن الانسان إذا رأى شخصا يصدر منه حدث الضرب فإن
ذهنه ينتزع مفهوم الضارب، وهو صورة بسيطة لحاظا، وإن كانت متضمنة على
نحو الاندماج والاندكاك عنصرين، وهما:
1 - منشأ الانتزاع، وهو الذات التي يحمل عليها المشتق ويتعدد
بتعددها.
2 - مصحح الانتزاع، وهو الحدث والمبدأ الذي بلحاظه تتم عملية
الانتزاع وتتعدد العناوين الانتزاعية بتعدده. وهذه الصورة البسيطة في عالم
اللحاظ يقوم الذهن بتحليلها وإرجاعها للعنصرين اللذين انتزعت منهما.
والفرق بين التركيب الماهوي المتحقق في مفهوم الانسان والتركيب
التحليلي المتحقق في مفهوم المشتق أمران:
أ - إن العناصر التي ينحل لها المفهوم الماهوي للانسان ذات دور واحد،
وهو دور تقويم الماهية، فإن الحيوانية والناطقية كلاهما عنصران مقومان لمفهوم
الانسان، بينما العناصر التي ينحل لها مفهوم المشتق ذات دور مختلف، فإن
مفهوم المشتق ينحل لمنشأ الانتزاع - وهو الذات - ومصحح الانتزاع وهو المبدأ،
ودور كل منهما يختلف عن الآخر، فإن دور منشأ الانتزاع دور وجودي، بمعنى
أنه دخيل في وجود العنوان الانتزاعي، ولذلك يتعدد المشتق بتعدده وإن اتحد
المبدأ، بينما دور مصحح الانتزاع - وهو المبدأ - دور ماهوي، بمعنى أنه دخيل
في ماهية المنتزع، ولذلك تتعدد العناوين الانتزاعية وتختلف باختلاف المبادئ.
ب - إن التركيب الماهوي لمفهوم الانسان طارئ عليه، بينما التركيب
التحليلي لمفهوم المشتق سابق عليه ولاحق به، لان الذهن عندما يتصور ماهية
335

كالانسان يتصورها بصورة لحاظية واحدة، ثم يقوم بتحليلها والتأمل فيها،
فيقسمها لما به الاشتراك - وهو الجنس - وما به الامتياز وهو الفصل.
فهنا التركيب طارئ على المفهوم، بينما المفهوم الانتزاعي كالمشتق مسبوق
بالتركيب وملحوق به، لان الذهن يدرك أولا عنصرين، وهما: الذات
والحدث، فيتصور صورتين ثم يقوم بانتزاع عنوان بسيط منهما، وهو مفهوم
المشتق، ثم يقوم بتحليله وإرجاعه للعناصر التي انتزع منها. إذن فالتركيب
التحليلي في المشتق سابق عليه ولاحق به.
النقطة الثالثة: إن دليلنا على مختارنا - وهو البساطة اللحاظية مع التركيب
التحليلي - هو الوجدان، فإن الوجدان شاهد بأن المتبادر العرفي من لفظ المشتق
حين اطلاقه هو صورة واحدة لا متعددة، ولكن مع التأمل العقلي يتبين التركيب
التحليلي فيه.
كما أن الوجدان شاهد بتناسب مقام الاثبات ومقام الثبوت، بمعنى أننا
نشعر باستفادة التركيب التحليلي للمشتق من نفس اللفظ لا من التأمل العقلي
في المعنى، كما في التركيب الماهوي للفظ الانسان، فإن المنعكس في الذهن
وجدانا حين إطلاق لفظ الانسان هو الصورة اللحاظية الواحدة، من دون أن
يشم الانسان رائحة التركيب في اللفظ أصلا، ولكن تأمل العقل في المعنى هو
الذي أوصله للتركيب المعنوي الماهوي، بينما في لفظ المشتق نرى أن الوجدان
لان استفاد صورة لحاظية واحدة حين اطلاق لفظ المشتق، الا أنه يشعر بتضمن
هذه الصورة لعنصرين على نحو الاندماج والامتزاج، بحيث لو قام بتحليل
هذه الصورة اللحاظية لرجعت إلى تصور العنصرين المذكورين تفصيلا.
وبعد وضوح هذه الرؤية الوجدانية فما هو التفسير العلمي لحقيقتها، وما
هو منشأ التناسب الملحوظ وجدانا بين مقام الاثبات ومقام الثبوت؟
فإن المتبادر من اللفظ إذا كان هو الصورة اللحاظية الواحدة فمن أين
336

نستفيد التركيب التحليلي المذكور؟
والجواب عن ذلك يتلخص في طرح ثلاث نظريات محتملة:
أ - إن التركيب التحليلي للمشتق مع بساطة مفهومه لحاظا وتصورا راجع
للتركيب اللفظي فيه، حيث إن المشتق مشتمل على مادة وهيئة، فالمادة موضوعة
وضعا شخصيا لطبيعي الحدث والصفة، والهيئة موضوعة وضعا نوعيا للذات
المتلبسة بذلك المبدأ والصفة، فمنشأ التركيب التحليلي لمفهوم المشتق هو
التركيب اللفظي في المشتق.
ولكننا لا نختار هذه النظرية لوجهين:
1 - ما ذكرناه مرارا من أن الوضع النوعي - وهو تجريد الهيئة عن المادة
ووضعها وضعا نوعيا لمن قام بالحدث وتلبس بالصفة - تفكير حضاري متطور
لا يتصور في المجتمع البدائي الذي انطلقت منه شرارة اللغة.
2 - إن مقتضى التركيب اللفظي للمشتق من مادة وهيئة هو تعدد الوضع
والموضوع له، وذلك يستدعي انسباق صورتين للذهن: صورة لمدلول المادة
- وهو طبيعي الصفة - وصورة لمدلول الهيئة وهو طبيعي الواجد لتلك الصفة،
مع أننا لا نرى وجدانا الا صورة لحاظية واحدة مستبطنة للتركيب التحليلي.
وبعبارة أدق: إن مقتضى التركيب اللفظي وتعدد الوضع والموضوع له
هو انسباق صورة تركيبية في الذهن على نحو التركيب الانضمامي، بينما المنسبق
- وجدانا - للذهن عند اطلاق المشتق هو صورة لحاظية واحدة على نحو التركيب
الاتحادي التحليلي، وبينهما فرق وجداني واضح.
ب - (النظرية الثانية المفترضة لتفسير التناسب بين مقام الاثبات ومقام
الثبوت) أن التركيب التحليلي المستفاد من لفظ المشتق لا يبتني على التركيب
اللفظي من المادة والهيئة، بل يبتني على قانون تداعي المعاني وقانون الاختراع
والاتباع.
337

بيان ذلك: إن هناك قانونين ذكرناهما في مبحث الوضع:
أولهما: قانون تكويني محصله: إن التشابه بين الشيئين موجب لخطور
أحدهما عند خطور الآخر، وهو ما يسمى بقانون تداعي المعاني.
ثانيهما: قانون عقلائي محصله: إن الطبيعة الاجتماعية للبشرية بنيت
على الاختراع والاتباع.
وبناءا على ذلك فمن المحتمل أن شخصا من الأشخاص مثلا رأى
رجلا يضرب، فوضع لتلك الحالة الفاعلية التي رآها من باب الاتفاق لفظ
(ضارب) من دون أن يقصد وضعين: وضعا للمادة ووضعا للهيئة، بل وضع
تمام اللفظ للمعنى الفاعلي من باب الاتفاق، وحيث تحقق للآخرين مشاهدتهم
لحالة فاعلية أخرى مشابهة لتلك الحالة فرض قانون تداعي المعاني خطور
الكلمة الأولى، وهي لفظ (ضارب) التي وضعها الواضع الأول للحالة
الفاعلية، فوضعوا كلمة أخرى مشابهة لها في الهيئة فقالوا: قائم وقاعد مثلا،
وجروا على ذلك في استعمالاتهم بقانون الاختراع والاتباع كما ذكرنا.
ولما جاء العلماء الماهرون في اللغة والاشتقاق انتزعوا جامعا نوعيا بين
الكلمات المتشابهة وسموه الهيئة، كهيئة فاعل ومفعول ونحوها، وإلا فلا يوجد
أي وضع نوعي للهيئة، بل الموجود هو الجامع الانتزاعي بعد ورود اللغة.
وهذه النظرية محتملة ثبوتا إلا أنها تحتاج للشواهد الكثيرة إثباتا.
ج - (النظرية الثالثة المفترضة في المقام) أن التركيب التحليلي المستفاد من
لفظ المشتق راجع لتعدد الدال والمدلول في جذور اللغة العربية، وبيان ذلك
يعتمد على ذكر أمرين:
1 - إن اللغة - كما ذكر علماء الاجتماع - ظاهرة حية كسائر الظواهر
الاجتماعية، خاصة لقانون التغير والتشعب، فاللغة السامية - التي هي أم
اللغات - قد انشعبت لما يقرب من ثلاثة آلاف لغة، واللغة العربية بنفسها
338

تفرعت إلى آلاف اللهجات المختلفة.
2 - إن قانون انتخاب الأسهل - الذي هو قانون طبعي عند الانسان في
التوصل لمقاصده - يقتضي أحيانا النحت والدمج والادغام بين الكلمات، كما
هو مشاهد في اللهجات العامية، حيث يقولون: (شسمك، شنهو)، وكما هو
ملحوظ في الاصطلاحات الحديثة نحو: (الكهرمائية والبترمائية)، لذلك ذهب
بعضهم إلى تبني هذه النظرية في بعض الكلمات نحو: (قطف)، حيث قال:
بان أصله: (قط) و (لف) ثم ادمج أحد اللفظين في الآخر بدافع قانون انتخاب
الأسهل وصارت الكلمتان كلمة واحدة.
وتبنى بعضهم هذه النظرية في باب الحروف، فقال: بأن جميع الحروف
راجعة للأسماء، نحو رجوع (على) الجارة إلى (علاء) مثلا، ورجوع (خلا)
الجارة إلى (خلاء) مثلا. فالحروف ما هي إلا بقايا الأسماء والافعال انتخبت
كرموز دالة على معانيها.
وبناءا على ما ذكر من الامرين فنحن نحتمل أن أصل المشتق كلمتان:
كلمة تدل على الحدث وأخرى تدل على الفاعلية، وبحكم تغير اللغة وقانون
انتخاب الأسهل أدغمت إحدى الكلمتين في الأخرى فصارتا كلمة واحدة،
يستشعر منها بالوجدان التركيب التحليلي الذي هو راجع في الحقيقة إلى التركيب
اللفظي، على نحو تعدد الدال والمدلول في جذور اللغة.
ولعل هذه النظرية أقرب النظريات المفترضة في المقام.
خلاصة البحث: تعرضنا في بحث المشتق لمقامين:
1 - في تحرير محل النزاع.
2 - في أسباب القول بالأعم، وناقشنا جميع الأسباب المذكورة، فتعين
عندنا القول بالأخص بلا حاجة لإقامة الأدلة عليه، كالتبادر وصحة السلب
وأشباهها. وتعرضنا لبحث البساطة والتركيب في ضمن أسباب القول بالأعم،
339

واخترنا القول بالبساطة اللحاظية مع التركيب التحليلي بالبيان السابق.
وقد انتهينا من تحرير هذه الحلقة بعد المقارنة بين ما استفدناه من السيد
الأستاذ السيد السيستاني دام ظله في الدورة الثالثة وما طرحه في الدورة الثانية
بقلم العلامة السيد هاشم الهاشمي حفظه الله في الساعة الثانية من ليلة
الأحد الموافق 26 صفر 1414 ه‍ بالقطيف المحروسة.
340